مجلة المنار

محمد رشيد رضا

مقدمة الطبعة الثانية للمجلد الأول من المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة الطبعة الثانية للمجلد الأول من المنار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المبدئ المعيد، الفعّال لما يريد، الذي جعل إرادة بعض عباده، من أسباب إنفاذ مراده، فهم بقوة الإرادة يمتازون، وبحسن توجيهها للمرادات يتفاضلون، فلولا الإرادة الإنسانية العجيبة لَمَا أشرقت شموس العلوم والعرفان، ولولاها لما ظهرت ثمراتها العملية في الأكوان، والصلاة والسلام على أفضل مريد ومراد، وأكمل مظهر للمشيئة الإلهية في العباد، سيد المصلحين، وخاتم النبيين والمرسلين، المرسَل - وهو الأمي - ليعلم الأميين والمتعلمين، والمبعوث وهو العربي إلى جميع العالمين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وأصحابه المتقين، ومَن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين. أما بعد: فقد أنشأنا هذا (المنار) في العشر الأخير من شهر شوال سنة 1315 وبينا غرضنا منه في الصحيفة الأولى من صحفه، وهو مسائل كثيرة يجمعها الإصلاح الديني والاجتماعي لأمتنا الإسلامية هي ومَن يعيش معها، وتتصل مصالحه بمصالحها، وبيان اتفاق الإسلام مع العلم والعقل، وموافقته لمصالح البشر في كل قطر وكل عصر، وإبطال ما يورد من الشبهات عليه، وتفنيد ما يعزى من الخرافات إليه، وهو عمل قد ملأ في عالم الصحافة الشرقية فراغًا، وأشرع لطلاب الارتقاء من الأمة منهاجا، كان (المنار) فيه - على رأيهم - سراجًا وهاجًا، ظهر على شدة حاجة الأمة إليه، واستعداد هذا القطر لظهور مثله فيه، ولكنه على هذا وذاك بدأ كالإسلام غريبًا، وممقوتًا من السواد الأعظم لا محبوبًا، يعشي نوره خفافيش البدع والخرافات، الذين ألفوا تلك الظلمات، حتى قال لنا خاتمة شيوخنا الأستاذ الإمام: (إن الحق يظهر في المنار عُريانًا في الغالب ليس عليه شيء من الحُلي والحُلل التي تجذب إليه أنظار مَن لم يألفوا الحق لذاته) ، وكتب إلينا أول شيوخنا الشيخ حسين الجسر في 28 ذي القعدة سنة 1315 ما نصه جوابًا عن كتاب: (وصلني كتابكم الكريم بعد مضي أشهر من وصولكم لمصر معتذرًا عن تأخره، فقبلت العذر ودعوت لكم بالتوفيق، وأعقب وصوله ظهور المنار ساطعًا بأنوار غريبة مرغوبة، إلا أنها مؤلفة من أشعة قوية كادت تذهب بالأبصار) ... إلى آخر ما كتبه، وفيه انتقاد لبعض المسائل أجبناه عنها، مبينين له ما عندنا من الحجج عليها، وأنباء بمقاومة الحكومة العثمانية للمنار، وكان ذلك كما قال. إنني لم أُنْشِئْ المنار ابتغاء ثروة أَتَأَثَّلها، ولا رتبة من أمير أو سلطان أتجمل بها، ولا جاه عند العامة أو الخاصة أباهي به الأقران، وأباري به أعلياء الشان، بل لأنه فرض من الفروض يرجى النفع من إقامته، وتأثم الأمة كلها بتركه، فلم أكن أبالي بشيء إلا قول الحق والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكنت إن أصبت هذا بحسب علمي واجتهادي فسيان رضي الناس أم سخطوا، مدحوا أم ذموا، قبلوا المنار أم رفضوا. طبعت من الصحف الأولى ألفًا وخمس مائة نسخة من كل عدد، وأرسلت أكثرها إلى من عرفت أسماءهم في البلاد المصرية والسورية، وكذا في غيرها من البلاد (وهو الأقل) ، فأعيد إليّ أكثر ما أرسلته إلى المصريين، وما نشبت الحكومة الحميدة أن منعت ما يرسل إلى السوريين وسائر العثمانيين، ثم جعلت عدد المطبوع ألف نسخة، ولكن مرت السنة وسنتان بعدها وما كاد المشتركون يزيدون على ثلث الألف إلا قليلاً. ما كان انتقاص عملي منتقصًا شيئًا من أملي، ولا زهد الأمة في المنار، باعثًا على جعله طعامًا للنار، ولا لفائف لبضائع التجار، كما هي سنة أصحاب الصحف في هذه الديار [1] ، بل كنت أحرص عليه، حاسبًا أن الناس سيعودون إليه. وكان يمدني في أملي هذا ما أسمعه من بعض أهل الرأي والعلم بشؤون الاجتماع، من القول بأن هذا المنار حاجة من الحاجات الطبيعية للمسلمين في هذا العصر، لا يستغني عنه بيت من البيوت، فإن لم يفقهوه هذا اليوم فسيفقهونه في يوم ما، وقد اتفق رجلان من غير المسلمين في كلمة حددا بها الأجل لذلك اليوم المجهول، أحدهما إنكليزي كان يقرأ له المنار محمود سامي باشا البارودي والآخر سوري من قرائه، قالا كلمتهما التي تواردت عليها خواطرهما، ولا تعارف بينهما، قالا: (إن المسلمين سيبحثون عن هذا المنار ويعنون بإعادة طبعه بعد خمسين سنة) . وإن أدري أكانا يظنان حين قالا كلمتهما أن المسلمين لا يستيقظون لطلب هذا الإصلاح إلا بعد خمسين سنة، أم كانا يعنيان أن المنار لا بد أن يكون قد بطل في هذه المدة بموت صاحبه أو عجزه، فيبحث الناس عنه؛ لأنهم في الغالب لا يعرفون قيمة الشيء إلا بفقده، ولا يعترفون بقدر العامل إلا من بعده. لعل المسلمين خير مما ظنا فيهم، ولعل الأجل الذي ضرباه أقرب مما حدده رأيهما، فها نحن أولاء قد أعدنا طبع مجموعة السنة الأولى، ويوشك أن نعيد طبع الثانية والثالثة أيضًا فقد قلّت نسخهما وغلا ثمنهما. كانت السنة الخامسة للمنار (سنة 1320هـ) مبدأ رواجه وسعة انتشاره، فمنذ ذلك العهد صار بعض طلاب الاشتراك يطلبون مجموعات السنين الماضية، كما يطلبها بعض المشتركين السابقين رغبة في حفظ المنار من أوله، وضنًّا به أن يضيع شيء منه، حتى إذا قلّت مجموعات السنة الأولى رفعت الإدارة ثمنها حتى صارت تباع المجموعة الكاملة من تلك السنة بمائتي قرش، أي بأربعة أضعاف ثمنها الأصلي، وبِيعت المجموعة الناقصة بضعة أعداد فأكثر إلى 12 و13 عددًا بمائة قرش، ولما لم يبقَ عندنا مجموعة معدة للبيع إلا وهي ناقصة أكثر من 15 عددًا، وكثر الطلب واقترح علينا إعادة طبع السنة كلها، شرعنا في طبعها في النصف الأول من سنة 1325، وهي السنة العاشرة، وقد تم الطبع في النصف الأول من هذه السنة وهي السنة الثانية عشرة. كان المنار في السنة الأولى من عمره جريدة أسبوعية ذات ثمان صفحات كبيرة، وكنا ننشر فيه برقيات الأسبوع وبعض الأخبار التي ليست كلها ذات فائدة تحفظ وتدخر وإن لم تخلُ من فائدة في وقت نشرها لبعض القراء. وقد أعدنا طبعه بشكل المجلة التي هي عليه منذ السنة الثانية، ولم نحذف منه إلا البرقيات وبعض الأخبار التي لا فائدة في تدوينها وحفظها، وأما الأخبار التي فيها عبرة دائمة أو فائدة تاريخية أو غير تاريخية فقد أبقيناها، وحذفنا منه أيضًا نبذ رسالة (قليل من الحقائق عن تركيا) المترجمة عن الإنكليزية لقلة الثقة بأخبارها. وسندقق النظر فيها، فإن وجدناها حَريَّة بالحفظ والتخليد أثبتنا ما حذفناه من السنة الأولى في الطبعة الثانية للسنة الثانية متصلاً ببقيته فيها، وإلا حذفنا باقيها من طبعة السنة الثانية أيضًا، ومع هذا جاء المجلد الأول في حجم المجلدات الأخيرة يناهز ألف صفحة. طبعنا أعداد السنة على ترتيب الأصل، فمن أراد أن يقرأ المقالات المتسلسلة في موضوع واحد (كالمقالات التي عنوانها: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (الأحزاب: 67) متصلة، فالفهرس يجمع له متفرقها بسهولة. وقد أشرنا إلى أوائل الأعداد في الهامش عند المقالات الافتتاحية وفي أعلى الصفحات كما هو ظاهر. المنار في سنته الأولى والمنار في سِنِيه الأخيرة شَرَعٌ، ولو جاز لي أن أضرب له مثلاً شرودًا يُشعر بالمدح، لقلت: (والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل) ، نعم، لا فصل بين أوله وآخره في موضوعه وغايته ومسائله، ولكنا كنا نكثر في السنة الأولى من الخطابيات، لتنبيه الأذهان وإعدادها لما هو آت، ونكتفي في أكثر المسائل بالإجمال، لتتهيأ النفوس لطلب التفصيل، وقلما جرينا فيها على شيء ثم تَبيَّنَ لنا خَطَؤُنا فيه إلا ما أشرنا إليه في هوامش هذه الطبعة وأكثره في المسائل السياسية، المتعلقة بحال الدولة العلية، ومن البديهي أننا ازددنا علمًا وخُبْرًا في جميع المسائل بطول البحث والتمحيص والوقوف على آراء الناس وأحوالهم. قد اقتبسنا أسلوب الإجمال قبل التفصيل، وقرع الأذهان بالخطابيات الصادعة من القرآن الحكيم، فإن أكثر السور المكية لا سيما المنزلة في أوائل البعثة - قوارع تصخُّ الجنان، وتصدع الوجدان، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف، وتدعُّ العقول إلى إطالة الفكر في الخطْبين: الغائب والعتيد، والخطرين: القريب والبعيد، وهما: عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال، أو الفتح الذاهب بالاستقلال، وعذاب الآخرة وهو أشد وأقوى، وأنكى وأخزى، بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية أولئك المخاطَبين إذا أصروا على شركهم، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم وإفكهم، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة، التي هي الحنيفية السمحة السهلة، وليست بالشيء الذي ينكره العقل، أو يستثقله الطبع، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد، يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد. راجع تلك السور العزيزة لا سيما قصار المفصَّل منها ك ? {الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ} (الحاقة: 1-2) ، و {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ} (القارعة: 1-2) ، و {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (الواقعة: 1) ، و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (التكوير: 1) ، و {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} (الانفطار:1) ، و {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق: 1) و {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) ، و {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} (الذاريات: 1) ، و {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: 1) ، و {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} (النازعات: 1) . تلك السور التي كانت بنذرها، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها، تفزعهم من سماع القرآن، حتى يفروا من الداعي - صلى الله عليه وسلم - من مكان إلى مكان {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} (المدثر: 50-51) ، {أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} (هود: 5) ثم ارجع إلى السور المكية الطوال، فلا تجدها تخرج في الأوامر والنواهي عن حد الإجمال، كقوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (الإسراء: 23) ... إلى 37 منها، وقوله بعد إباحة الزينة وإنكار تحريمها وتحريم الطيبات من الرزق {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) . تدبر هذا ثم أَجِلْ طرفك في فاتحة المنار الأولى، وفي أكثر المقالات الافتتاحية [2] تجدها زواجر منبّهة، وبينات في الإصلاح مجملة، ترشد المسلمين إلى النظر في سوء حالهم، وتنذرهم الخطر المهدد لهم في استقبالهم، وتذكرهم بما فقدوا من سيادة الدنيا وهداية الدين، وما أضاعوا من مجد آبائهم الأولين، تزعجهم إلى استرداد ما فقدوا، وإيجاد ما لم يجدوا، بطريق الإجمال، في أكثر الأقوال، وما جاء في سائر السنين فهو من قبيل التفصيل، أو إقامة البرهان والدليل، على تلك الدعوة الإجمالية، والمقالات الافتتاحية، وترى بهذا كله اقتباس المنار لهدي الكتاب العزيز واتباعه لسنته في الترتيب كاتباعه له في المسائل والأحكام، والحمد لله على ذلك. كان لتلك المقالات الخطابية الاجتماعية والفلسفية تأثير

فاتحة السنة الأولى للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة الأولى للمنار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. أما بعد: فهذا صوت صارخ بلسان عربي مبين، ونداء حق يقرع مع سمع الناطق بالضاد مسامع جميع الشرقيين، ينادي من مكان قريب يسمعه الشرقي والغربي، ويطير به البخار فيتناوله التركي والفارسي. يقول: أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك حسبك! فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماءً أو موتاً زؤاماً، تنبه من رقادك، وامسح النوم عن عينيك، وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد بُدِّلت الأرض غير الأرض، ودخل الإنسان في طور آخر خضع له به العالم الكبير. فهذه الجمادات تتكلم بغير لسان، وتكتب من غير قلم ولا بنان، والوحوش حُشرت مع الأنعام، والمراكب تجوب السهوب والفيافي وتفترع الأعلام، بل طارت في الهواء تسابق الرياح، وتساهم ذوات الجناح، واستولى أخوك المستيقظ على قوى الطبيعة، فقرن بين الماء والنار، وولدهما البخار، واستخدم الكهرباء والنور فاخترق بذلك الجبال، واختبر أعماق البحار، وعرف مساحة الهواء، ونفذت أشعة بصره الكثائف، ووصلت أمواج صوته إلى كل مكان سحيق، فقرب أبعاد الأرض وجمع بين أقطارها، بل عرج بهمته للقبة الفلكية فعرف الكواكب ومدارها، ومادتها ومقدارها. حسبك حسبك! هُب من سباتك واستيقظ من هجوعك، فقد ولت حنادس الجهالة، وأشرقت شمس المعرفة، انظر وتأمل ماذا يفعل أخوك المستيقظ يدكّ الحصون والصياصي، ويقوض المعاقل والهياكل، وهو متكئ على أريكته ينظر إليها بالآلة المقربة للبعيد، ويقيم الحصون والأسوار، ويشيد البوارج والأبراج، ولا يتعب له عضل، ولا يندى له جبين، ولا يحتاج في أمثال هذه الأعمال العظيمة إلا إلى إشارة لطيفة، وحركة خفيفة، فالطبيعة تخضع لإشارته، وتسير طوع يمينه، فيتم له كل ما يريد. لا يهولنَّك ما تسمع، ولا يروعنك ما ترى، واعلم أن هذا العصر عصر العلم والعمل، فمن علم وعمل ساد، ومن جهل وكسل باد، {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 29) . كانت العلوم الطبيعية على عهد أسلافك أفكارًا متضاربة، وآراءً متناقضة، وأقوالاً متعارضة، لم تأتِ عن امتحان وعمل، ولم يكد يُبْنَى عليها عمل؛ ولذلك كثر ذامّوها، وقلّ مادحوها، وأما في هذا العصر فليس العلم إلا ما أثبته العمل، أو بُني عليه عمل، فما لم يحتف به العمل من قطريه، لا يعول عليه، فالأعمال تنمي العلوم، والعلوم تمد الأعمال، وشاهد ذلك عندك الحديث الشريف: (مَن عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم) قاعدة وُضعت في الشرق، واهتدى للانتفاع بعمومها أهل الغرب، والذين صدرت بلُغتهم لاهون غافلون. فلا تضيع أوقاتك بالتخيل والتفكر، ولا تجعل حظك من حياتك الأماني والتشهي، ولا تدع للأوهام في ذهنك مجالاً واسعًا ومكانًا فسيحاً {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} (النساء: 123) ، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) . فعليك بالعلم والعمل رُضْ بهما نفسك، ورَبِّ عليهما ولدك، فلقد حَلَّ من لساني عقدة الاعتقال والسكوت، وأطلق قلمي من عقال الدعة والسكون، استغراقُ بعض إخوتي وإخوتك في النوم، وغرق بعضهم في بحار الوهم، وجهل المريض منهم بدائه، ويأس العالم بمرضه من شفائه، فأنشأت هذه الجريدة إجابة لرغبة مَن تنبهت نفوسهم لإصلاح الخلل، ومشايعة للساعين في مداواة العلل، الذين أرشدتهم التعاليم الدينية، وهداهم النظر في الآيات الكونية، إلى أن اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته جل علاه - هو عين الكفر والضلال، وآية الخزي والنكال، فأحبوا أن يعملوا لأمتهم، ويقوموا بخدمة لملتهم، فالجريدة تكون وصلة بينهم وبين الأمة، تبعث بإرشادهم روح الهمة في أفرادها، وتحيي ميت الغيرة من نفوس آحادها. وتجاري الحُدَاة لدى السير في مناهج الترقي، وتنتصب (منارًا) في أخرات الشبهات، ومجاهيل المشكلات. وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين، لا الحط في الأمراء والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة، وطروق أبواب الكسب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبست الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا، وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة الحقائق كفرًا وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات صلاحًا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة والمهانة تواضعًا، والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضًا وتسليمًا، والتقليد الأعمى لكل متقدم علمًا وإيقانًا. تُشَخِّص هذه الأمراض الروحية وأشباهها، وتوضح عللها وتصف علاجها، وتجتهد في تأليف القلوب المتنافرة، ووصل العلائق المتقطِّعة، وجمع الكلمة المتفرقة ما استطاعت، وتحاول إقناع أرباب النحل المتباينة، والمذاهب المختلفة - أن الله تعالى شرع الدين للتحابّ والتوادّ، والبر والإحسان، وأن المعارضة والمناهضة، والمناصبة والمواثبة - تُفضي إلى خراب الأوطان، وتقضي على هدي الأديان. وتحث على التمسك بالدين، وتبين أنه أساس السعادة وأن الكفر فساد العمران، وتدرأ الشبه الواردة على الشريعة الإسلامية، وتدحض مزاعم مَن قال: إنها حجاب كثيف، وسد حائل بين الآخذين بها وبين المدنية الصحيحة، لجهلهم بما انطوت عليه من الحكم الرائعة، والأحكام العادلة، وترشد العاملين إلى أن محاولة الطفور غرور، وأن طلب الغاية في البداية جهل وحرمان، وأن مراعاة السنن الإلهية، ومسايرة النواميس الطبيعية - كافية بتوفيق الله تعالى لبلوغ كل مقصد، ونيل كل مرام، وتنبه العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران، وينبوع العرفان، وأن عليها مدار تقدم أوربا في الفنون والصنائع، لا على الملوك والأمراء، فهي التي تنشئ المكاتب والمدارس، وتشيد المعامل والمصانع، وتسيّر المراكب والبواخر، ونموذج ذلك بين أيديهم، وتحت مواقع أبصارهم، وتنشر محاسن اللغة العربية بالتحلي بفرائدها واقتناص أوابدها، وتقييد شواردها، على سبيل التدرج في الاستعمال. ولا تأتلي أن تذكر ما تفيد معرفته من أخبار السياسة الخارجية، وتثبت ما يهم بيانه من الحوادث المحلية، مع انتقاء الصادق والاعتدال، لا تميل مع ريح حزب من الأحزاب، ولا تتطرف لجانب تفريط أو إفراط، بحسب ما يصل إليه الاجتهاد. لكنها عثمانية المشرب، حميدية اللهجة، تحامي عن الدولة العلية بحق، وتخدم مولانا السلطان الأعظم بصدق، وتتحامى المطاعن الشخصية، والأماديح الشعرية، لكنها لا تني في تقريظ الأعمال العامة الموضوع، وتقريض الكتب المؤلفة لإفادة الجمهور بالقول الصحيح، والانتقاد الرجيح، وتقبل الانتقاد الأدبي من كل أحد، وتقابل عليه بالثناء والشكر، وتذعن للحق كيفما طلع بدره، ومن أين انبلج فجره، وتتلقف الحكمة من حيث أتت، وتأخذها أينما وجدت. هذا ما توجهت إليه النفس واعتزمت عليه بعد تصحيح النية وإخلاص القلب، ولا أجهل أنني حاولت أمرًا جليلاً، وحملت نفسي عبأ ثقيلاً، ينوء بالعصبة أولي القوة ويعوز إلى تأليف لجنة أو عقد جمعية، لكنني مع ذلك أعلم أن للحق أنصارًا، وللصالحات أعضادًا تستمد الجريدة من بحار أفكارهم، وتغتذي بالكلم الطيب من مجاني عرفانهم، وتستقي مداد الحكمة من أنابيب أقلامهم، ومن جراء هذا أو ذاك مر عليَّ حين من الدهر بعد تصور الموضوع والعزم على الشروع، وأنا بين إقدام وإحجام، ويأس ورجاء يحركني الباعثان، ويتنازعني العاملان حتى أعملت الأمل، ورجحت الإقدام على العمل وما أجدرني بموقف الحيرة بين بين، وقد أنذرني بعض عظماء هذا القطر، بما صدقه به الابتلاء والخبر، من أن الجد مرغوب عنه، لا مرغوب فيه، وأن السواد الأعظم من الأمة قد ثار حابلهم على نابلهم، وهضم مفضولهم حقوق فاضلهم، فأصبحوا ومطامح أنظارهم انتقاد الحكومة المحلية، ومطارح أفكارهم العداوات الشخصية، ولا يديرون ألحاظهم، أو يعيرون التفاتهم لما وراء الغميزة والإزراء، إلا ما كان من نكتة هزلية، أو رواية غرامية، فإذا رأوا جريدة تفند أكثر أقوالهم، وتنعي على إسرافهم في أمرهم، وتسجل عليهم التقصير في العمل المفيد عمارة بلادهم، بل التشمير للعمل على خراب أوطانهم، أو تسليمها لأيدي الأغيار، من المهطعين للاستعمار، يوشك أن يلفظوها لفظ النوى، ويضربوا بها عرض الحائط، لكنني وطنت النفس على الاقتناع بمؤازرة الكرام، ومعاضدة الأخيار، نعم إن الكرام قليل، ورجاؤنا أن يكونوا آخذين في النمو لما تقتضيه حالة العصر ويزعج الأمة إليه موقفها الحرج، وبالله المستعان وعليه التكلان، {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) .

اصطلاحات كتاب العصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اصطلاحات كُتَّاب العصر من القضايا المُسلَّمة أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولا مندوحة عن مراعاة ما يتواطؤ عليه الجمهور، ومجاراة الناس على ما يصطلحون عليه في كل زمان ومكان. وقد انطلقت ألسنة أهل هذا العصر، وجرت أقلامهم بألفاظ يريدون بها من المعاني غير ما تدل عليه في أصل اللغة أو في عرف العصور السالفة، ولهم ألفاظ أخرى جاءتهم من الفنون الحادثة والاكتشافات الجديدة، والكثير منها مما لم تستعمله العرب، فرأينا أن نشرح في صحيفتنا هذه الألفاظ حيناً بعد حين؛ لأن الكثير من القراء غير عارفين بها على الوجه الذي نستعمله، وبالمعنى الذي يفهمه العارفون، وقد مر منها في فاتحة هذا العدد لفظ الطبيعة، والطبيعي، والنواميس الطبيعية , وقوى الطبيعة، والكفر. أما لفظ (الطبيعة) : فقد كان فيما مضى مما لا يكاد يستعمله إلا الأطباء والصوفية والفلاسفة، وأكثر من كان يستعمله الأطباء، ويطلق لفظ الطبيعة عندهم على عدة معان: على الهيئة التركيبية، وعلى المزاج الخاص بالبدن، وعلى القوة المدبرة، وعلى حركة النفس، وربما أطلقت (الطبيعة) على النفس الناطقة باعتبار تدبيرها للبدن. والطبائع الأربع في عرف الأطباء والطبيعيين: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وكان يطلق لقب الطبيعي على فرقة تعبد الطبائع الأربع، وعلى من ينسب كل شيء للطبيعة، كما يطلق على صاحب العلم الطبيعي. وقد عرف السيد الجرجاني (قدس سره) (الطبيعة) : بالقوة السارية في الأجسام، بها يصل الجسم إلى كماله الطبيعي، وكان الصوفية يستعملونه في غير هذا المعنى أيضًا، وليس بين يدي الآن شيء من كتبهم أراجعه في ذلك. وأما لفظ (الطبيعة) اليوم فهو كثير الدوران على ألسنة جميع الكُتّاب في الفنون العلمية والأدبية حتى الشعراء والمترسلين، ويجرونه على معناه اللغوي وهو: المخلوقات أو الحالة التي هي عليها. وبيان ذلك أن (الطبيعة) في اللغة بمعنى: الخلقة والخليقة والفطرة، فخلق الله الأشياء وفطرها وطبعها بمعنى واحد، وإذا قلنا: إن هذا الشيء تقتضيه طبيعة الاجتماع الإنساني، فهو كما إذا قلنا: تقتضيه فطرة الله التي فطر الناس عليها بلا فرق، وحاصل القول: أن لفظ (الطبيعة) حيث أطلق فالمراد به الحالة التي طبع الله الموجودات عليها أي خلقهم، وتطلق على الموجودات أنفسها، فيقال: تأمل محاسن الطبيعة أي المخلوقات. وأما (الطبيعي) فهو: المنسوب للطبيعة، كالخلقي نسبة للخلقة، ويستعمل في مقابلة الصناعي، فيراد به ما لا صنع للبشر فيه أي في هيئته التركيبية، كالأشجار والبحار، ويطلق على العالم بالفنون الطبيعية، وإن كان متديناً، ولا يطلق على الملحد من حيث إنه ملحد، وإن نسب الأشياء للطبيعة واعتقد أنها مُوجِدَة لها ومؤثرة فيها من دون الله تعالى، بل يطلقون على من هذا شأنه لفظ: (الكافر) و (الدهري) و (المادي) (لأنه ينكر ما وراء المادة، فلا يعتقد بالإله ولا بالعالم الآخر) وفي بلاد الهند يطلقون عليه لقب: (نيشري) ، وأكثر عامة بلادنا لا يفهمون من لفظ الطبيعي إذا أطلق على إنسان إلا هذا المعنى الأخير، وهو الذي حملنا على هذا البيان لئلا يحملوا كلامنا على ما يفهمون. ويدور هذا اللفظ على الألسنة كثيراً في المحاورات المتعلقة بسائر الشؤون، ويراد به مجرد التأكيد والتحقيق أو أن هذا الشيء ظاهر بالبداهة، تراهم عند سماع شيء من المسلمات يقولون: هذا طبيعي، يعنون أنه بديهي أو محقق لا نزاع فيه، وأما العلماء والكتاب فيعنون بقولهم: (هذا شيء طبيعي) : أن له سببًا طبيعيًّا يعلل به. وأما (النواميس الطبيعية) : فالمراد من الناموس: الطريقة الثابتة المطردة التي يحكم الله تعالى بها على الكون، وهو محرف عن لفظ: (نومس) اليوناني، ومعناه: الشريعة، وكثيرًا ما يدور على ألسنة الطبيعيين (شريعة الطبيعة) و (الشرائع الطبيعية) ، ويستعمله كتاب العربية في المقالات الأدبية والسياسية، مجاراة لهم وعملاً باصطلاحهم، وكان الأولى أن يترجم لفظ: (نومس) بالسنة، فيقال: (سنة الطبيعة) و (السنن الطبيعية) ، وبعض الكتاب يستعمل هذا الحرف وستراه كثيرًا في هذه الجريدة، وقد نعتاض عنه أحيانًا بقولنا: (سنة الكون) و (السنن الإلهية) و (سنة الله في خلقه) . وأما القوى الطبيعية فهي عبارة عما تسند إليه الآثار الطارئة على الأجسام من حركة أو سكون، ومنها ما هو حقيقي كالقوة البخارية والكهربائية، وما هو فرض كالجاذبية، فإن تعليل سقوط نحو الحجر من الهواء على الأرض بأنه سقط بقوة الجاذبية التي في مركز الأرض يوهم أن هناك شيئًا موجودًا له هذا الفعل وأنهم اطلعوا عليه وسموه بهذا الاسم، وليس كذلك، بل إن هذه القوة مفروضة، والتسمية اصطلاحية، ولما كان الفعل الذي نُسِبَ إليها يَصْدُر عنها باطراد صح إطلاق لفظ (الناموس) عليها فقالوا: (ناموس جاذبية الثقل) ، ومثل هذا كثير، وقد أطلنا في البيان حتى كدنا نخرج عن المقصود. وأما لفظ (الكفر) : فيطلق في عرف الكتاب اليوم على الملاحدة كما ألمعنا إليه في عرض كلامنا آنفًا، فمهما أطلقنا لقب (الكافر) أو اسم الكفر في كلامنا فنريد به ما ذكرنا، ولا نطلقه على المخالفين لنا في الدين من أصحاب الملل الأخرى؛ لأنهم ليسوا كفارًا بهذا المعنى، بل نقول بعدم جواز إطلاقه عليهم شرعًا؛ لأنه صار في هذه الأيام من أقبح الشتائم وأجرح سهام الامتهان، وذلك مما تحظره علينا الشريعة باتفاق علماء الإسلام، ولا يصدنك عن قبول هذا القول إطلاق ما ذكر في العصر الأول للملة على كل مخالف؛ فإنه لم يكن في زمن التشريع يرمى به لهذا الغرض، بل كان من ألطف الألفاظ التي تدل على المخالف من غير ملاحظة غميزة ولا إزراء، فضلاً عن إرادة الشتم والإيذاء المخالفة لمقاصد الدين وآدابه. ذلك أن معنى (الكفر) في أصل اللغة: الستر والتغطية، وكانوا يسمون الليل كافرًا؛ لأنه يغطي بظلامه الأشياء، وأطلقوا لفظ (الكافر) على طلع النخل، وأكمام النور (الزهر) لما ذكر، وعلى البحر؛ لأن الشمس تغيب فيه بحسب الظاهر، وعلى ثوب كانوا يلبسونه فوق الدرع يقولون له: (كافر الدروع) ، وقد سمى القرآن العظيم الزراع كفارًا، كما هو المشهور في تفسير قوله تعالى {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} (الحديد: 20) وأمثال هذا في اللغة كثيرة، ويظهر منها أن حقيقة الكفر تغطية المحسوس بالمحسوس، ثم أطلق على من لم يذعن للدين ومن لم يشكر النعمة تجوزًا، وكل ما نقل من العبارات المستعملة من هذه المادة يومئ إلى ما ذكرنا (راجع الأساس وغيره) . وحيث قد اختلفت الحال وتغير الاستعمال فلا ينبغي إطلاق اسم الكفر على صاحب دين يؤمن بالله (ولا نغير كتب الفقه أو نعترض عليها) . ورُبَّ متحمس يرميني بالافتئات على الفقهاء أو مصانعة النصارى أو الميل مع ريح السياسة عن جادة الشرع، فأقول: على رسلك أيها المتحمس؛ فإن أذية الأجنبي المعاهد على ترك الحرب محرمة، فما بالك بالوطني (أي من المخالفين لنا في الدين) ، وإن كان لا يقنعك إلا النص الصريح من كتب الفقه على هذه المسألة بخصوصها فإليك هذين النصين؛ أحدهما عام، والآخر خاص بلفظ الكفر. جاء في (معين الأحكام) ما نصه: (إذا شتم الذمي يعزر؛ لأنه ارتكب معصية، وفيه نقلاً عن الغنية ولو قال للذمي: يا كافر يأثم إن شق عليه) اهـ. ولعل وجدانك لا يسمح لك بأن تقول الآن: إنه لا يشق عليه، وهو سب صريح، وإذا ثبت أنه لا يجوز نداؤه بهذا اللقب في وجهه؛ لأنه يستاء منه فلا شك أن إطلاقه عليه في غيبته غير جائز أيضًا؛ لأن غيبته محرمة، فينتج أن ذلك إثم في كل حال، وسنفرد لهذه المباحث مقالات في الأعداد التالية إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

مشروع مفيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع مفيد سكة حديد بين بورسعيد والبصرة افتتحت جريدة المؤيد الغراء عددها (2421) الصادر يوم الأحد الماضي برسالة وردت عليها من محرر جريدة (وكيل) في بنجاب من العمالات الهندية، ونشرتها تحت هذا العنوان. فرأينا أن نلخص منها ما يلي: قال الفاضل الهندي: (ربما لا يخفاكم أن شركة إنكليزية تبذل جهدها وتعمل بكل همة سعيًا للحصول على امتياز من الباب العالي بإنشاء خط حديدي من بورسعيد إلى البصرة أو الكويت عن طريق الجوف) . وفي شهر ديسمبر أشار كاتب في جريدة (وكيل) إلى مشروع جليل وهو أن تشكل لجنة تحت حماية جلالة مولانا السلطان الأعظم لفتح اكتتاب من المسلمين في جميع العالم لدفع غرامة الحرب الأخيرة إلى روسيا دفعة واحدة، فتخلص بذلك الدولة العلية من تداخلها في أحوالها، أما أنا فلم أوافق على هذا الرأي؛ لأنه لا يمكن لروسيا أن تطلب أكثر من 320000 جنيه في السنة لمدة مائة عام، ولو فرضنا أن اللجنة المذكورة تنجح في عملها وتجمع المبالغ اللازمة لدفع الغرامة الروسية مرة واحدة للزمنا أن ندفع لها مبلغًا إيراده السنوي 120000 جنيه دائمًا، مع أنه لا يمكن لروسيا أن تطلب سوى المبلغ المذكور قبل لمدة مائة سنة. ولكنني بينما كنت أناقش ذلك الكاتب في اقتراحه إذ لاح لي مشروع، وقد كلفت به. ذلك أن تؤلف لجنة عالية تحت رعاية ومراقبة جلالة الخليفة الأعظم لإنشاء سكة حديدية من البصرة، ومنها عن طريق الموصل إلى حلب فالإسكندرونة ثم ينشأ خط من حلب إلى الشام فالحجاز فاليمن. وحيث إن نفوذ جلالة الخليفة المعنوي يزداد انتشارًا شيئًا فشيئًا في جميع أرجاء العالم الإسلامي، فلا شك أن كل مسلم عاقل ينضم إلى هذا المشروع ويساعد في نجاحه، وفضلاً عن استعمال اللجنة لهذا النفوذ بقدر ما يصل إليه صوتها فإنه يلزمها أن تعلن وترسل مندوبين لها إلى جميع الجهات التي يقطنها مسلمون كمصر ومراكش وتونس والجزائر وسكوتو والهند وإيران والصين وتركستان وسومتره وجاوه وغيرها. فإذا نجحنا في عمل مهم كهذا كان أفضل واسطة لاتحاد جميع مسلمي العالم البشري المنتشرين في الأرض، بل كان واسطة لجمع مبالغ كثيرة لعمل مفيد. وإن ألوفًا من شبابنا - الذين هم الآن بلا شغل وعمل - يتمكنون بهذا المشروع من الاشتغال بمعاشهم بافتتاح ممالك فسيحة للتجارة والزراعة والاستعمار. وتكون مواصلاتنا مع الحجاز تامة وبغاية السهولة، فضلاً عن المنافع السياسية والحربية والتجارية التي تحصل للباب العالي من تنفيذ هذا المشروع الجليل. ولقد سردت أبواب هذه الفوائد المهمة في مقالة نشرتها في جريدة (وكيل) بتاريخ 27 ديسمبر سنة 1897 ص 54 وأشرت على المقالة بالحبر الأحمر في جميع النسخ التي أرسلت إلى الجرائد المصرية والتركية، مؤملاً أن تفصح هاته الجرائد عن أفكارها في هذا الشأن، وأنها إن استحسنت اقتراحي عضدتني فيه بما تستطيعه، وطلبت أيضاً من قنصل الدولة العلية تعضيدي فيه. ولكني أتأسف من أن ما كتبته ذهب كالنقش على الماء، فلم يلتفت إليه أحد. أليس من العار على المصريين والعثمانيين وسائر المسلمين أن يروا الأمم الأخرى تسعى في الحصول على امتيازات في أرجاء آسيا وأفريقيا، بل في تركيا نفسها،ونحن معاشر المسلمين في الأرض ننظر إليها نظر المتفرج بدون عمل ولا حركة، كأنه لا يهمنا قط أن نكون في غبطة عيش ونعيم، وكأنه لا يهمنا أن تكون أمتنا سعيدة بتدبير أحوال ممالكها الفسيحة وترقيتها. وفي 21 فبراير كتبت مقالة في هذا الشأن ونشرتها في (الوكيل) اهـ، ثم ذكر أنه دائب على تشويق أهل وطنه إلى هذا العمل العظيم، ورغب إلى صاحب (المؤيد) أن يشوق المسلمين إلى ذلك في جريدته الشهيرة، وقد أجاب المؤيد دعاءه ولبى نداءه، فذيل الرسالة بنبذة تنشيط ملخصها: أن ما يقترحه الكاتب أعظم مشروع ينعش الحياة ويجدد السعادة للدولة، بل للملة الإسلامية. وإن المسلمين إذا لم يبادروا لمثل هذا العمل فلا يبعد أن يأتي يوم يعجزون فيه عن الإتيان بأي عمل. فحبَّذا لو أن جلالة مولانا الخليفة الأعظم الذي اشتهر في العالم كله بحب جمع شتات الإسلام حول عرشه استلم زمام هذا العمل العظيم بنفسه وأنفذه، ليكون الفاتح والمجدد لعصر حضارة الإسلام على ما تقتضي ظروف الأيام اهـ. (المنار) لخصنا هذه المقالة لأمور منها بيان تعلق المسلمين بمولانا أمير المؤمنين - أيده الله تعالى - في أقطار الهند، وآمالهم العظيمة في أن تقدم الأمة كلها منوط بحكمته المشهورة ومساعيه المشكورة وخضوعهم لسلطته الروحية وسيادته الدينية. ومنها: أن المشروع من الأعمال التي لا تقوم إلا بالشركات المالية، والحث على الشركات المالية لأي عمل كان هو من أفضل الأعمال التي أنشئت الجريدة لأجلها. وأما هذا المشروع بخصوصه فلا ننكر عظيم فائدته لكننا نفوض النظر فيه لحكمة سيدنا ومولانا السلطان الأعظم (أيده الله تعالى) ، ولوزرائه الصادقين، فإن لهم من المعرفة بمنافع الأمة ووسائل تقدمها ما ليس لنا، ورأينا أن سبب التقدم الذي يجمع كل الأسباب وترجع إليه جميع الوسائل هو تعميم التربية والتعليم في جميع عناصر الأمة على طريقة واحدة، ولا يمكن الوصول إلى هذه الغاية إلا بشركات مالية تنشئ المدارس الوطنية وتختار لها المعلمين المهذبين وسنواظب على الحث على هذا المشروع ونبين مزاياه فيما يأتي من الأعداد. وإننا نفتخر بما لمولانا أمير المؤمنين من العناية بأمر المكاتب والمدارس حتى أنه أنشأ من جيبه الخاص الكثير منها. ولا ننكر ما لسمو عزيز مصر (عباس الثاني) من الاهتمام بأمر العلم، والأزهر الشريف شاهد عدل، ورجاؤنا بأغنياء المصريين وسائر العثمانيين الاقتداء بسلطانهم الأعظم وخديويهم المعظم في هذا الأمر الذي هو كل أمر والله الموفق. ((يتبع بمقال تالٍ))

مجمل الأحوال السياسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مجمل الأحوال السياسية لم نَرَ عامًا كثرت مشاكله السياسية كهذا العام. فإنا نرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام، في الشرق والغرب، في العالم القديم والعالم الجديد. ففي مياه الصين تتجمع الأساطيل الأوربية، وتتكاثف تكاثف الغيوم قبل نزول الصواعق. وفي إفريقيا تزحف الجنود وتتسابق الحملات إلى أعالي النيل، تسابق خيل الطراد، وفي الهند قد سُقِيَتْ الأرض بدم الإنسان وسمدتها فضلات النسور والعقبان من جثث القتلى، فأخرجت في هذا الربيع نبتًا خصيبًا، وفي كوبا وراء الأوقيانوس العظيم قد صارت الحرب بين الأسبان والأميركان قاب قوسين أو أدنى، وفي كريت لا يزال السيف مصلتًا والإخوة العثمانيون يفني بعضهم بعضًا، وفي النمسا استفحل الخلاف بين العناصر المختلفة، فصار البعض يتوقعون انتشار عقد الوفاق وسقوط تلك المملكة العظيمة، وفي إيطاليا وفينسيا ساد الجوع إثر غلاء الخبز وقلة الأعمال، فثار الشعب ينهب الأفران مقتحمًا حراب البوليس، وهجمت النساء صارخات طالبات لهن ولأولادهن خبزاً، أما في فرنسا فقد مرت الزوبعة السياسية مرور الزوابع الطبيعية على أعشاب الأرض تعبث بها ولا تجر ضرراً. ويطول بنا المقال إن رمنا تفصيل تلك الحوادث السياسية الخطيرة. على أنه لا بد من الإلماع إليها إلماعًا، يطلع قراء المنار على إجمال تفاصيلها الماضية، ويكون توطئة للحوادث الآتية. *** المسألة الصينية قتل بعض أشقياء الصينيين بعض مراسلي الكاثوليك الألمان في البلاد الصينية، فاتخذت ذلك ألمانيا وسيلة إلى احتلال ثغر من أهم الثغور الصينية يدعى كياوتشو، أنفذت إليه أسطولها في الشرق الأقصى فاحتله بلا حرب ولا نزاع؛ لأن الحامية الصينية غادرته حين علمت بقصد الجنود الألمانية. ثم احتل الأسطول الروسي بورت آرثر مقابل احتلال الألمان لكياوتشو، فأرغت اليابان وأزبدت، وقامت إنكلترا وقعدت، وأنفذت الدول بوارجها إلى مياه الصين تباعًا، حتى حسب الناس أن الحرب صارت أقرب من حبل الوريد وظنوا أنه قد حان تقسيم تلك المملكة الواسعة. ثم بان أن الدول لا تنوي التقسيم، لما يحول دون ذلك من الموانع السياسية، وطلبت الصين قرضًا، فتنازع روسيا وإنكلترا عقد هذا القرض، واشترطت إنكلترا على الصين شروطًا أهمها: فتح تاليان وان، فأثار ذلك تأثر روسيا، وآذنت الصين بأنها إن هي فتحت (تاليان وان) أساءت الروسية معاملتها، فتنازع الصين عاملان قويان، فباتت لا تعلم أيهما تعمل، حتى جاء يوم قيل فيه: إن إنكلترا أرجأت البحث في فتح (تاليان وان) إلى فرصة أخرى. وقد وافت الرسائل البرقية في الأسبوع الماضي تقول: إن الصين إجابة لطلب اليابان سألت روسيا عما إذا كان ينسحب أسطولها من بورت آرثر في فصل الربيع، فأجابت روسيا: إن في احتلالها بورت آرثر مصلحة للصين وكوريا معًا. ثم جاء أن روسيا تلح على الصين بأن تؤجر هاربورت آرثر وتاليان وان إلى 99 سنة، كما أجرت ألمانيا ثغر كياوتشو وأنظرتها خمسة أيام، فإذا انقضت ولم تجبها الصين إلى طلبها عملت روسيا في الصين عملاً عسكريًّا. فقامت التيمس بعد هذا الإنذار تقول: إن إنكلترا منذ حرب القريم لم تكن يومًا أفرغ صبرًا مما هي الآن، وخطب ناظر البحرية في مجلس العموم عند عرضه ميزانية البحرية فقال: إن الأسطول في غاية الاستعداد فإن بقيت السلم كانت سلمًا شريفة، وإن نشبت الحرب (لا قدر الله) خرج الأسطول ظافراً. أما ناظر الخارجية الإنكليزية فقد صرح أنه لا يرى دليلاً على ما قيل من أن روسيا قدمت للصين إنذارًا. والله أعلم بمصير المسألة الصينية. *** المسائل الإفريقية قلنا: (المسائل الإفريقية) لا المسألة؛ لأن المشاكل في إفريقيا متعددة. أولها حملة مصر على الدراويش. ثم الحملة الفرنساوية في النيل الأعلى. ثم ثورة أوغندا ثم مسألة النيجر بين الفرنساويين والإنكليز. ثم مسألة الترنسفال بين البوير والإنكليز أيضًا. أما الحملة المصرية، فسنفرد للبحث في أمورها مقالات خصوصية، وأما الحملة الفرنسية السائرة في مجاهل إفريقيا بقيادة الضابط الباسل مرشان، فلا يعلم أحد الغرض الذي ترمي إليه حتى الآن. والمشهور أنها زاحفة لاحتلال الأراضي التي وراء بحر الغزال في أعلى النيل، وبما أن تلك الأراضي هي غرض إنكلترا أيضاً فالمنتظر أن تقوم قائمة الخلاف والنزاع بين الدولتين بشأن تلك الأصقاع في وقت قريب. وقد أنفذت إنكلترا من جهة أوغندا إلى أعالي النيل من شهور عديدة حملة إنكليزية بقيادة الماجور مكدونالد، غير أن تلك الحملة ما قطعت مسافة قصيرة حتى ثار رجالها وهم من السودانيين على القائد مكدونالد، فتحصنوا في حصن هناك، فحاصرهم الماجور قمعًا لثورتهم وإرغامًا لأنوفهم، ولطلب المدد تشديدًا للحصار، غير أن السودانيين رأوا من المحاصرين غفلة، ففروا من الحصن ونجوا بأنفسهم، فرجع مكدونالد أدراجه، ولم يزل مرشان يغذ السير إلى غرضه بخطى واسعة. وأشيع يومئذ أن حملة مرشان قد ذبحت عن آخرها، غير أنه ظهر بعد ذلك أن هذا الخبر كان مكذوبًا. هذا ويرى البعض أن احتلال فرنسا أعالي النيل سيكون بداية فتح المسألة المصرية. وأما الخلاف الذي بين فرنسا وإنكلترا بشأن النيجر فهو ناشِئ عن طمع كل من الدولتين في تلك الأراضي واختلافهما على تحديد أملاكهما فيها. ويقول الفرنسيون: إن شركة النيجر منشأ ذلك الخلاف كله، وقد عقدت في باريس من عهد قريب لجنة من الإنكليز والفرنسيين للبحث في دعاوى الطرفين وحل تلك المشاكل بالطريقة الودية. وقد أضيف في الأسبوع الماضي مشكلة جديدة إلى تلك المشاكل القديمة، فإن حملة الفرنسيين اجتازت نهر النيجر وحاولت الزحف على أرض تقول إنكلترا: إنها تحت حمايتها، وقد أمدت إنكلترا سلطان تلك الأرض بجند يساعده على إرجاع الفرنساويين على أعقابهم، ولم يرد بعد ذلك نبأ جديد. وأما الخلاف بشأن الترنسفال فمَنْشَؤُهُ طموح إنكلترا إلى تقييد تلك الجمهورية الصغيرة بقيود سيطرتها، وقد نظم دكتور إنكليزي يدعى جمسن حملة هجم بها على تلك الجمهورية على حين غفلة، فالتقتها سيوف البوير ونالت منها ما نالته سيوف الأحباش في موقعة عدوه من الطليان، ولا يزال مستر شامبرلين وزير المستعمرات الإنكليزية يؤكد لتلك الجمهورية، حتى الآن أنها تحت الحماية الإنكليزية. ولعمر الحق إن إمبراطورية الأحباش وجمهورية الترنسفال قد أظهرتا بأسلوب عجيب مقدرة الشرقيين على الدفاع عن حريتهم واستقتالهم في سبيل ذلك الدفاع الشريف. وسنتكلم فيما يلي من الأعداد على بقية المشاكل السياسية. *** الحبشة بنى السيف في القرن التاسع عشر إمبراطوريتين عظيمتين؛ الأولى: الإمبراطورية الألمانية، والثانية: الإمبراطورية الحبشية. فإن تسليم سيدان وباريز ألبس غليوم الأول تاج الإمبراطورية الألمانية، وانتصار الأحباش على الطليان في موقعة عدوه أنال منليك رئاسة الحبشة وجعله إمبراطورًا على ملوكها المتحدة. والحبشة أمة شرقية، قد أيقظها دوي مدافع الطليان من سباتها العميق، فهبت إلى دخول التمدن من أبوابه، ولا يبعد أن نراها بعد خمسين سنة تضاهي شقيقتها اليابان الشرقية قوة ومنعة وعزًّا. وإذا بلغت الحبشة مبلغ اليابان كان ذلك دليلاً ثانيًا على استعداد الشرقيين للتقدم العصري والارتقاء، وعلى قابليتهم للانتظام ومقدرتهم على الثبات خلافًا لما يشيعه عنهم الأخصام. وليس غرضنا الآن تبيان ما بلغته الحبشة وما ستبلغه من التقدم إن استمرت على سيرها الحثيث. وانما غرضنا ذكر حديث جرى في بورسعيد بين أحد مكاتبي الجرائد الأوروبية والمسيو أتوجوزف سكرتير منليك الخاص، فإن في ذلك الحديث بعض اللذة والفائدة، وهو بصور السؤال والجواب. س: هل تحب مصر؟ ج: لا أحبها لأنها بلاد قوم لا يحبوننا، فهم يزعمون أن الحبشي ملك يدهم، لذلك يسمونه " عبدا " س: وما رأيك في الإنكليز؟ ج: لا نخشى لهم بأساً وحسبهم الآن الدراويش خصمًا. وإنا لا نحذر غير الفرنساويين، ولو أنا انكسرنا في حربنا مع الطليان لبتنا طعمة للفرنساويين. س: وما صنعتم بأسرى الطليان؟ ج: لقد عاملنا الجميع بكل رفق وتؤدة؛ لأن قوانين الحبشة تنهى عن مضايقة الأسرى أو تعذيبهم، وقد أطلقنا سراحهم جميعهم، فرحل البعض بسلام إلى بلادهم، وعلق البعض نساءنا فاستحبوا الإقامة عندنا. وقبل أن يطلق الطليان أسرانا سمعنا أنهم أساءوا معاملتهم، فلم يحملنا ذلك على مقابلة الإساءة بالإساءة؛ لأنا نعتبر الأسير مقدسًا، لا يجب أن يمس بسوء. س: ما قولك فيما شاع من أن إنكلترا ستمنحكم زيلع على أن تلتزموا الحياد في الحرب التي بين مصر والدراويش؟ ج: لا أعلم في ذلك شيئًا؛ لأني أجهل حوادث بلادي منذ سبعة أشهر، علمًا أني لا أرى أفضل من الحياد في مثل هذا الظرف، فإن المتحاربين مسلمون، ولا أرى ما يوجب علينا اختراط الحسام دفاعًا عن المسلمين. س: وهل تحمل لجلالة الإمبراطور كثيرًا من الهدايا؟ ج: لقد بعث معي جلالة السلطان فرسين من الخيل الجياد، ونيشانًا باهرًا، وبعث جلالة القيصر كلبي صيد وسيفًا ثمينًا وغير ذلك من الهدايا. س: هل لك أن تتفضل عليّ بوصف هيئة الحكومة في بلادكم؟ ج: لا عندنا مجالس شورى ولا دستور ولا نواب، فإن جلالة الإمبراطور هو الحاكم الأعلى وله مجلسان: عقلاء الشيوخ يستدعيهم عند الاقتضاء، وهناك محكمة فيها قاض واحد لا يحكم في قضية إلا عند شهادة رجلين، أما القاتل فجزاؤه القتل، وإن شاء الإمبراطور أن يعفو عن القاتل كان لعائلة المقتول أن تعترض على ذلك العفو ولعائلة المقتول أن تنفذ بيدها حكم الإعدام. س: وهل الملكة نبيهة متهذبة؟ ج: اسم جلالتها تايتيس أعني الشمس وهي نبيهة وشديدة الاهتمام بالآداب العمومية. س: بما أنك ذكرت لي معنى اسم الملكة فأرجو أن تذكر لي ما معنى اسم (منليك) ؟ ج: إن تاريخ هذه الكلمة قديم، فقد جاء في التقاليد القديمة أن ملكة سبأ سمعت بحكمة سليمان الحكيم، فوفدت عليه. ثم وضعت منه غلامًا فراعها ذلك فصاحت: (ماذا يقول سليمان) . فقولها: (ماذا يقول) ترجمته في اللغة الحبشية (منليك) ، ولذلك سمي به ابن ملكة سبأ. س: ما عدد سكان الحبشة؟ ج: عددهم خمسة ملايين من الأحباش المسيحيين ومليونان ونصف من المسلمين، واثنا عشر مليونًا من الوثنيين. س: وهل يعيش هؤلاء كلهم براحة وسلام؟ ج: يعيشون بالراحة الممكنة على أن الأرض مخصبة والهواء معتدل والحرية مطلقة للجميع. أما الآداب العمومية فنقية؛ لأن الاهتمام بها عظيم. وفي المدن الكبرى مدارس للفرير تربي الأولاد أحسن تربية. س: نسيت أن أسألك عن نظام البوليس؟ ج: لا بوليس في الحبشة. فإن كلاًّ منا يحترم ملك الغير وحقوقه، وعنواننا كلنا: (أغلق شفتيك وافتح بابك) - يريد: قلة الكلام وكثرة الضيافة. انتهى على أن تلك الأمة الخارجة من غياهب الهمجية خروج الزهور من أكمامها، لا تزال في ظلمة التعصب الديني والجهل الوخيم، لذلك لا تُحْسِن معاملة المسلمين من رعاياها، على أنها ستعلم خطأها حين يسقط عن عينيها برقع الجهل والغباوة وما سبب التعصب الذميم إلا الجهل الوخيم. اهـ من ترجمة بعض الكتاب. هذا ما اخترناه من العدد الأول وما بعده إلا (الأخبار المحلية) وبرقيات الأسبوع. ((يتبع بمقال تالٍ))

محاورة في سعادة الأمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القول الفصل محاورة في سعادة الأمة [1] نظر بعض أصحاب الأفكار الصافية، والعقول النيرة في كتب التاريخ نظر التأمل والاعتبار، ووقف على شيء من أحوال الأمم في أطوارها وأدوارها، من بداوة وحضارة، وهمجية ومدنية، وقوة وضعف، وصعود وهبوط، وغلبة وانغلاب، ونحو هذا من الصفات المتقابلة، والشؤون المختلفة، فحدا بهمته النظر بعين البصيرة إلى طلب النظر بعين البصر، والسير في الأرض لمشاهدة آثار العالمين، وتطبيق ما يرى على ما علم، فضرب في الأرض شرقاً وغربًا، وخالط الأمم عجمًا وعربًا، واكتنه الأخلاق، واختبر العادات، وشاهد سير العلوم والفنون، ووقف على أمهات الصنائع والأعمال، وسبر قوى العقول والأفكار، ثم شرع في المقابلة والتنظير، فتجلى له أن الاستعداد الفطري والقوى الطبيعية في تلك الأمم واحدة وأن اختلاف الحالات لم يأتِ من اختلاف المدارك، والتفاوت في الاستعداد وإن انتهى إلى درجة يكاد يلتحق بها فريق بالعجماوات، ويخرج من عداد الإنسان، ويرتقي بها فريق آخر عن النوعية الآدمية إلى مصاف الملائكة وإنما جاء من أمور عارضة وظروف خارجية. وأعمل فكره في معرفة مناشئ هذه العوارض، وعلل هاته الطوارئ، وارتقى في الأسباب الكثيرة، وتبصر في تأثيرها، فعرف كيف يمكن اتقاء العوارض المضرة، وإزالة الطوارئ التي دفعت في صدور بعض الأمم فأخرتها، وأمسكت بحجزاتها عن التقدم الذي يرشدها إليه الإلهام الإلهي، والقوى القدسية التي منحها الله للإنسان. ثم رجع هذا العاقل إلى وطنه وقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب، وصار من أطباء النفوس القادرين على مداواة أمراض أمته، وعجب لإغفال الجماهير من قومه هذا النظر وهذه السياحة، حتى كأنهم عميان، وصار يردد في نفسه هذه النصوص {أَفَلَمْ يَنظُرُوا} (ق: 6) {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} (الأعراف: 184) ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ثم وجه عنايته لتنبيه قومه على ما استفاد في سياحته {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) . ولما أن جاء البشير القوم للسلام عليه سألوه عن رحلته من حيث سهولة السفر ومشقته وما كان طعامه وشرابه فيه، وعن منتزهات البلاد التي زارها، فعذلهم بلطف على هذه الأسئلة، واعتذر لهم عن نسيانه لهذه الأمور، وطفق يحدثهم عن معارف البلاد لا عن معازفها، وعن مصانعها لا عن مراقصها، وأطال في الكلام عن الأمم المتمدنة وعما رأى فيها من موارد الراحة السائغة وبرود النعمة السابغة حتى أدهشهم، وكان يتكلم عن انفعال وتأثر، ويشوب كلامه بالتأوه والتحسر، فأثرت حالته في نفوسهم، وحركت منها كوامن الغيرة، وأحب فريق منهم أن يبحث معه في سعادة الأمم وشقائها، وشدتها ورخائها، وهبوطها وارتقائها، فاعترضه آخرون قائلين: إن الكلام في هذا الموضوع يتعب البال، ويزعج الخاطر، وهو عبث لا يفيد شيئًا، فإن الأمر كله لله وليس لإرادة الناس أثر في أعمالهم، ولا لأعمالهم أثر في منافعهم، بل ليس لهم إرادة أيضًا، بل هم في الحقيقة كالريش في الفضاء تصرفه رياح الأقدار المتناوحة وتتلاعب به، ولا إرادة ولا اختيار، نستغفر الله، لا ننكر الاختيار فإنه مذهب أهل السنة، ولكن الحقيقة ما قاله بعض المحققين: (سُني في الظاهر جَبري في الباطن) فأجابهم أولئك قائلين: إنكم تؤمنون بلفظ الاختيار دون معناه وكأنكم ترون أن حركة اللسان بلفظ الاختيار هي الفصل الذي يخرجكم من عداد طائفة الجبرية الذين اتفق أساطين علماء الملة على فسوقهم من الاعتقاد الحق، ونبذهم بلقب الابتداع في الدين. أما علمتم أن الألفاظ لا تدخل في ماهية العقائد وحقيقة المذاهب وأن الخلاف في إطلاق اللفظ على معنى متفق عليه يرجع إلى الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه. أتزعمون أنه لا واسطة بين الجبر والقدر، وأن الذين يسمون أهل السنة هم جبرية في الحقيقة، لكنهم لما عجزوا عن الجواب على ما يستلزمه هذا المذهب من تخطئة تشريع الشرائع وإنزال الكتب تستروا بلفظ الكسب والاختيار {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: 11) . حاشاهم حاشاهم، ونستغفر الله من هذا الضلال البعيد. فأجابهم السائح العاقل: على رسلكم، فما هؤلاء بجبرية ولا سنية ولا قدرية، ولكن عموم الجهل جعلهم {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء: 143) وإنني رأيت الكثير من أمثالهم في سياحتي في البلاد الإسلامية. كنت إذا ذاكرت المصري مثلاً في أمر يتعلق بمصلحة وطنية يتوكأ على عكاز الجبر ويقول: (هو بيدنا إيه) وإذا كلمت سوريًّا في مثل ذلك يستند على هذه العصا أيضًا ويقول: (شو طالع باليد) وربما أردفوها على سبيل الاحتجاج بهذا النص الشريف {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (النجم: 58) . كلمة حق أريد بها باطل، وتمسُّكهم بها عَرَض زائل، أرأيت إن ألمت ملمة بشؤونهم الخاصة كيف يجتهدون بتلافيها بما يستطيعون من الأسباب، بل ويتعدون الأسباب الطبيعية إلى ما ليس بسبب أصلاً ويتخذون الوسائل الوهمية التي يأباها الشرع وينبذها العقل، كالاستعاذة بالعوامل غير المنظورة من الجن والشياطين، والاستعانة بالأموات من العلماء والصلحاء، يخاطبون هؤلاء لدى أجداثهم ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ وتقديم هدايا الفواتح، ويستنفرون أولئك بالعزائم والطلاسم وإحراق البخور في المجامر، ويستنبئون عن حقيقة الأمور بخطوط الرمل أو الطرق بالحصا وحبوب الفول، ويتعرفونها من الدجاجلة والعرافين. فتبين لكم كيف أن هؤلاء الحمقى قد جمعوا بين المذاهب المبتدعة على تضادها وتباينها، وتخطوا أوساط الأمور إلى طرفي الإفراط والتفريط، فهم جبرية بإزاء المصالح العامة، وقدرية تلقاء منافعهم الخاصة. وقد نظرت في التاريخ سير العلوم واختبرت حالتها اليوم فرأيت العلماء الباحثين في مسائل الجبر والقدر والكسب قصروا أنظارهم على مفهومات هذه الألفاظ، وتفلسفوا فيها، ولم يلتفتوا إلى ما تحدث هذه العقائد في الإرادة من الآثار، وما يتبع تلك الآثار من الأعمال، وما ينشأ عن تلك الأعمال من ضعف أو قوة، فينبهوا الأمة عليه. ألّفوا فيها المتون والشروح، وعلقوا عليها الحواشي والتقارير، فما زادت الأمةَ تآليفُهُمْ إلا حيرة وإشكالاً، وكانوا كجواب المجاهيل يغذ أحدهم السير سحابة نهاره وعامة ليله ثم لا يدري هل أراد بسيره قربًا أو بعدًا (سيفرد المنار مقالة مخصوصة لهذه المسألة) . وأما الذين لم يبلغ الجهل منهم مبلغ إنكار الوجدان والقول بالجبر الصراح، فهم يعلمون أن الأخذ بالأسباب عملاً واعتقاد ارتباطها بالمسببات بحيث لا تتخلف عنها إذا تمت شروطها، ولا تحصل إلا معها هو الحق، وأن انكشاف الخطوب على أيدي الآخذين بأسبابها التي سنها الله تعالى لها لا يقتضي أنهم عاندوا الإرادة الإلهية وكانوا هم الكاشفين لها من دون الله تعالى. فخجل المحتجون بالجبر عند هذا البيان، واتفق القوم كلهم على البحث مع السائح العاقل في شؤون ترقية أمتهم، وعن الأسباب التي ينبغي الأخذ بها للحصول على هذه الأمنية الشريفة. وأجمعوا على أن يكون البحث على طريق السؤال والجواب؛ لأنه أدعى إلى إلقاء السمع وتوجيه الفكر، وأقرب إلى التنبه والتبصر وأن يكون السائح هو السائل؛ لأنه أعلم بحاج الأمم؛ لما أفاده العلم والاختبار، ثم إذا اختلفوا في الأجوبة يحكمونه فيما شجر بينهم، ويكون بقوله العمل وعليه الفتوى. فقال: إنني ملقٍ عليكم مسائل متعددة في مواضيع مختلفة، وكلها تتعلق بسعادة الأمم، وأطلب عليها كلها جوابًا واحدًا يؤدى بكلمة واحدة. فقالوا له: يشبه أن يكون كلامك هذا من الألغاز والأحاجي فكيف السبيل إلى حل معماه، وكشف مخباه، وكيف يكون الجواب عن الأسئلة في المواضيع المختلفة واحدًا {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) . فقال: لا عجب، فإن كل كثرة لا بد أن تجمعها جهة وحدة، فكما أن الوحدة التي نسميها سعادة الأمة لا تحصل إلا بأمور كثيرة ترجع إلى شيء واحد وهو (سعادة الأمة) ، كذلك وسائل هذه الأمور الكثيرة التي منها تستمد مسائلي تئول إلى شيء واحد. (وسيلة ترجع إليها جميع الوسائل، وسبب يجمع كل الأسباب) وهو الجواب الذي سأشرحه لكم، ثم أنشأ يسرد الأسئلة فقال: (س) ما هو الناموس الذي يحصل به الجذب والانجذاب بين العناصر المتفرقة، ويحكم الالتصاق بين أفرادها فيكوِّن المجموع أمة واحدة، وبماذا توجد الرابطة التي تجعل مدار هذا المجموع على محور واحد؟ (س) أي شيء يمحو من نفوس أفراد الأمة الأثرة والاختصاص بالمنافع دون قومهم، ويثبت فيها حب الوطنية والجامعة الجنسية، بحيث يرى كل واحد أن منفعته في منفعة أمته ومضرتها عين مضرته، بل ما هي الروح التي تنفخ في آحادها، فتحيا بعد مماتها، وتجتمع بعد شتاتها، وتكون جسدًا واحدًا إذا اشتكى له عضو تداعى له سائر الجسد، فإنني أرى هذا الروح هو المدبر لبعض الأمم، وكأنه فقد من أمتنا بالكلية فانتثر عقد اجتماعهم، وانحل تركيب بنيتهم، وتفرقت كلمتهم، ورُزِئُوا بالتخاصم والتنازع، والتباغض والتحاسد، وأصبحوا و {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر:14) ، وأَنَّى يفقهون معنى هذه الحياة الجنسية، وسر هاته الجامعة الوطنية، وكيف تحصل لهم، وبماذا توجد فيهم، وأنَّى يجتمعون في صعيد واحد مع اختلاف منابتهم وتقطع وشائجهم؟ (س) إذا اعتقدت الأمة بأفرادها انحطاط المدارك وضعف العقول وعدم الاستعداد الفطري لاحتذاء الأمم الأخرى فيما جاءت به من عجائب الصناعات، وما استنبطته من دقائق العلوم والفنون؛ لأنها شاهدت الآثار التي انتهت إليها وهي في غيبة عن مبدئها، وكيفية نموها، فأنى يكون تنبيهها إلى ما أودع فيها من القوى الطبيعية والقدر الوهبية الكامنة في أرواحها، ككمون النار في الحَجَر أن قَدَحْته أورَى، وإن تركته توارى، وإنه ليس عليهم في إبراز آثار هذه القوى إلا استعمالها فيما خلقت كما استعملها الآخرون؟ (س) إذا تمكن في النفوس اليأس من التقدم، والقنوط من الترقي؛ لاعتقاد أن زمن التدارك قد فات، وأنه لا يمكن مجاراة المتخلف لمن بلغ الغاية، وإن كان الاستعداد واحدًا، فغلت لذلك الأيدي عن العمل، كأنما هي مشلولة، ووقفت الأرجل عن السعي حتى كأنها مقطورة. (أي محبوسة في المقطرة، وهي خشبة مثقوبة توضع فيها أرجل المحبوسين) ، فبماذا تنزع الأغلال، وتكسر المقاطر، وتنعم تلك النفوس بحلاوة الرجاء بعد مرارة اليأس، وتندفع اندفاع الجياد القرّح إلى طلب المجد المؤثل الذي تطلبه بحق وتجري فيه على عرق؟ (س) إذا حاول بعض أهل الثراء أن يحتذي شاكلة السابقين، ويتلو تلو الشعوب المتمدنة، فأنشأ يقلدهم في أحوال معيشتهم التي انتهت بهم إليها طبيعة بسطة الملك وسعة الثروة، فشيد القصور، ونقش الجدران وزينها بالأرائك والزرابي والسجوف والمصابيح، وسائر أنواع الآنية والماعون النفيس، الذي يجلبه من بلاد تلك الشعوب، فكيف يمكن إقناع هؤلاء بأ

مجمل الأحوال السياسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مجمل الأحوال السياسية ألمعنا في العدد الماضي إلى أمهات السياسة الحاضرة، وتكلمنا على بعضها، ووعدنا بالكلام على باقيها فيما يأتي من الأعداد، وإنجازًا للموعد نأتي على بيانها بالإجمال على الوجه الذي يوجب العظة والاعتبار مبتدئين بتمهيد في بيان الاستعمار الذي هو منشأ هذه الأحوال فنقول: من طبيعة العمران البشري استيلاء القوي على الضعيف، ومن هنا كان طلب الفتوح والتغلب طبيعيًّا في البشر. ولم يكن في العصور الأولى طريق للفتوح والتغلب إلا الحرب العوان، التي لم يُلْقِ الإنسان أوزارها عن عاتقه في دور من الأدوار، ولقد انطبعت الأنفس عليها بالعمل المتكرر وحتى كادت تكون مقصودة لذاتها، أعني الفتك المجرد عن ملاحظة المنفعة التي عليها مدار جميع أعمال الإنسان. وأول تغيير مهم حصل في تاريخ الحرب فخفف ويلاتها وجعلها في ضمن دائرة معقولة ما جاء به الدين الإسلامي، وإن لم يجر عليه المسلمون في بعض حروبهم وغزواتهم [1] ، وسنفرد للكلام على تاريخ الحروب فصلاً مخصوصًا، ولكنني الآن بإثبات الآية القرآنية الشريفة التي تسمى (آية الجهاد) وما يتلوها من الآيات المبينة حكمة الحرب، وسبب الإذن فيه، وما يشترط في المحاربين إثباتًا لقولنا وهي: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) . وهذه الآيات صريحة في أن الفائدة من الحرب ينبغي أن يلاحظ منها منفعة المحاربين (بفتح الراء) بالإرشاد إلى إزالة المنكرات وعمل المعروف بواسطة التعليم، لا بواسطة الجبر والإلزام، وهذا هو الذي تدعيه الأمم الأوربية اليوم، حيث يزعمون أن غرضهم من الفتوحات نشر المدنية وتهذيب الأمم المتوحشة. وإذا أنكرنا صدقهم في هذه الدعوى، وجزمنا بأن الغرض الصحيح تحويل مجاري الثروة من البلاد التي يفتحونها إلى بلادهم، وفتح أبواب الرزق لأممهم، فلا ننكر عليهم الاجتهاد في تخفيف مصائب الحروب والتباعد عنها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. والأصل الذي تعتمد عليه تلك الأمم في ذلك، وهو أساس مدنيتهم ودعامة قوتهم: الاقتصاد وتوفير الثروة، ولذلك جعلوا وسيلة الفتوح الكبرى الشركات التجارية التي تستولي على الأفكار والعقول بواسطة التربية والتعليم، ونشر لغات أممهم وآدابها، وغيروا اسم الفتوح والتغلب فسموه استعمارًا، واكتفوا بالقبض على زمام السلطة بالفعل، وأبقوا للأمراء الشرقيين ألقابهم الضخمة يتمتعون بها؛ ففي الهند نحو من تسعين ملكًا ما بين: نواب (الأمير المسلم) ، وراجا (الأمير الوثني) ، وليس لهم من الأمر شيء إلا ما ينفذون به إرادة الحكمدار الإنكليزي ويأتمرون بأوامره (إلا قليلاً منهم) . وتبارت تلك الأمم في الاستعمار، وانحدرت على الشرق انحدار الغيث المدرار حتى لم يبق صقع من أصقاعه، ولا قطر من أقطاره إلا وتدفق عليه هذا السيل المنهمر، فمنها ما أدركته بوادره، ولا ندري ماذا تكون أواخره، وبالجملة لم تبق مدينة ولا قرية إلا وأصابها شيء من رشاشه، فإن لم يصبها وابل فطل، هذا هو الاستعمار الذي هو منشأ جميع المشاكل السياسية الحاضرة، ومثار الخلاف بين الأمم، ومولد الفتن بين الدول، وقد ذكرنا لك بعض هذه المشاكل، وإليك بيان بعض آخر. *** الهند مستعمرة عظيمة شرع الإنكليز في تأسيسها عندما أحسوا بخيال الحرية يطوف في أذهان الأميركيين الذين استعمروهم من قبل، وعلموا أن التربية الصحيحة وتعلم الفنون العقلية والعملية لا بد أن ينفخَ فيهم روح الثورة، فيهبوا إلى طلب الحرية والاستقلال. ولقد صدق الظن ووقع ما كانوا يحذرون واستغنوا بممالك الهند الفسيحة عن ولايات أميركا التي اتحدت على محاربتهم، فتسنى لها الظفر عليهم واستقلت، فسميت (الولايات) ، وهم يحذرون اليوم من الهنود ما لاقوه من الأميركيين من قبل، وإن كانت وسائل التربية عند هؤلاء ضعيفة، والعلوم لم تنشر إلى الدرجة التي ينشأ عنها مثل تلك الأعمال التي صدرت من الأميركيين، لكن الأمة الإنكليزية الحكيمة تبني حياطها على أسس الاحتياط، ولذلك عملت على إنشاء مستعمرة عظيمة في إفريقية تستغني بها عن الهند إذا أتيح لها التفصي من عُقُلها، والتملص من سلطتها بواسطة انتشار التعليم، أو بمساعدة دولة روسيا الطامعة فيها، ومع هذا لم تأل جهدًا في سبيل المحافظة عليها، فقد جعلت لها السلطة على ترعة السوسي التي هي طريق الهند بحرًا واكتفت بالسد المنيع الذي بينها وبين روسيا من جهة الشمال، وهو الأمة الأفغانية التي لا تجهل روسيا قوتها ومنعتها، وحفظت بريطانيا العظمى لهذه الإمارة الصغرى حقوق الجوار وساعدتها على تقوية بلادها بالمال والرجال، وعقدت معها المحالفة، كما هو الشأن بين الأكفاء والأمثال. ثم لما شعرت بدبيب الروس نحو تلك الحدود، حاولت امتلاك المضايق وشعاب الجبال، والاستيلاء على جميع المراكز الحربية، وساعد الأمة على ذلك قبض حزب المحافظين على زمام الحكومة، ومن سياسة هؤلاء توسيع دائرة السلطة في كل آن، خلافًا لحزب الأحرار. وفي العام الماضي تحرشت العساكر الهندية الإنكليزية بالقبائل المستقلة في الحدود الهندية الأفغانية ابتغاء إدخالها تحت الحماية البريطانية، فنفرت تلك القبائل خفافًا وثقالاً، ودافعوا عن استقلالهم، واستنفروا مَنْ في جوارهم من القبائل، واستفحل أمر الفتنة، وكانت الحرب سجالاً، بل دارت الدائرة في الأكثر على الإنكليز، فجهزوا جيشًا عرمرمًا يربي على السبعين ألفًا، فجاء الشتاء ولم يقووا معه على إطفاء نار الثورة، فأرجئوا الحرب إلى فصل الربيع. ونادَى اللورد سالسبري رئيس الوزارة بعدم الحاجة إلى توسيع نطاق الملك، وقالت التيمس بعد بحث طويل في حرب الحدود: إن إنكلترا لا تعوزها الأراضي الآن، فيجب أن تغض الطرف عن المضايق التي تسعى لامتلاكها إلا مضيق خبير. ثم قالت بعد: إن قبائل الإفريدس أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم الأمانة، فإذا وكل إليهم حراسة ذلك المضيق قاموا به أحسن قيام. ولا يخفى أن هذه القبائل أشد الثائرين شكيمة، فقول التيمس ينبئ عن تعسر إخضاع العصاة أو تعذره. وقد أعلن قائد الجيش الهندي أخيرًا أنه مستعد لإخضاعهم بالقوة إذا لم يستسلموا بأنفسهم، ويتوقع إعادة الكرة قريبًا والله أعلم بمصير الأمور. وقد منيت الهند في العام الماضي بالطاعون، وعاودها في هذه السنة، ففتك فيها فتكًا ذريعًا. وهو الآن آخذ بالتناقص لذهاب البرد. وقد اتخذت الحكومة وسائل صحية مخالفة لعادات أهل البلاد وتقاليدهم، فثار بعضهم على الحكومة، واعتصب عمال المرافئ كلهم في الاحتجاج عليها، فراجعت الحكومة نفسها وأباحت أمورًا كانت حظرتها، كما ترى في الأخبار التلغرافية [2] . *** كوبا أما جزيرة كوبا فهي أكبر جزائر الأنتيل، وسكانها زهاء مليون ونصف، وعاصمتها هافانا. وهي من مستعمرات الأسبان، وقد ثار سكان الجزيرة على الأسبان يطلبون الحرية، فأرسلت إسبانيا الجنرال ويلر لإخضاعهم بعد إخضاعه جزائر فيلبين في بحر الصين التي انتقضت عليها أيضا. فسلك الجنرال ويلر مع الكوبيين مسلك القسوة والشدة، فازدادت نار الثورة احتدامًا. فأنفذت إسبانيا المرشال بلانكو مكان الجنرال ويلر، فعامل الكوبيين أحسن معاملة، واضعًا السيف في موضع السيف، والرفق في موضع الرفق، وقد أجاب طلب الكوبيين فأنالهم برضى الحكومة الأسبانية حكومة مستقلة تتولى إدارة الجزيرة، ففرح الكوبيون وظن الناس أن الثورة قد خمدت نارها، غير أن هذا الاستقلال الإداري لم يرق للجنة الثورة التي في نيويورك، فإن غرض هذه اللجنة إنالة كوبا تمام الاستقلال، ويزعم البعض أن للولايات المتحدة يدًا في تحريك تلك اللجنة حملاً لها على رفض ما عرضته إسبانيا عليهم من الاستقلال الإداري طمعًا في تمام الاستقلال. وزعمهم هذا مبني على رغبة أميركا في تحرير كل المستعمرات الأوروبية في الأقطار الأميركية عملا بقانون مونرو. والمقصود من قانون مونرو قسمة الكرة الأرضية إلى قسمين: تسوسه الممالك الأوربية فلا تمد إليه أميركا يدا، وقسم تسوسه الولايات المتحدة فلا تمد له أوربا يدا. وبمقتضى هذا القانون يجب أن تتخلى الدول الأوربية للولايات المتحدة عن جميع مستعمراتها في الأقطار الأميركية. فأضرمت اللجنة المذكورة نار الثورة ثانية، فساد الهرج في عاصمة الجزيرة، فأنفذت أميركا إلى مياه تلك العاصمة الدارعة (ماين) ، وهي أضخم دوارعها، فساء ذلك الحكومة الأسبانية، حيث حسبته عدوانًا أو تشديدًا لعزم الثائرين، فأخبرتها حكومة الولايات أن القصد من إرسال الدراعة ماين إلى هافانا حماية رعية الولايات المتحدة وتودد للأمة الأسبانية. فأجابتها إسبانيا: وأنا أيضًا سأنفذ إحدى دوارعي إلى مياه نيويورك توددًا للأمة الأميركية. ثم أخلد الثائرون إلى الاستكانة، فهدأت الخواطر، وشهدت الصحف الأوروبية أن الدولة الأسبانية قد صنعت كل ما يمكنها صنعه، ومنحت الثائرين مع انتصارها عليهم فوق ما كانوا يطلبون. غير أنه لم يطل وقت السكينة حتى نشرت لجنة الثورة في نيويورك كتابًا خصوصيًّا كتبه سفير إسبانيا في واشنطون وسرقه أحد الكوبيين، وقد جاء في الكتاب ما خلاصته: إن رئيس الولايات المتحدة يعد في السياسة من الطبقة السفلى، وهمته في استرضاء رعاع الأميركان. فأكبرت الولايات المتحدة هذا الكتاب، وطلبت عزل السفير إلا أن السفير كان قد قدم استعفاءه عندما علم بنشر الكتاب. ولم تكد تسكن الخواطر إثر هذا الحادث حتى تلاه حادث أقام الأمة الأميركية وأقعدها، وهو انفجار الدارعة ماين انفجارًا ذهب بها في لحظة إلى قاع البحر، فقتل من بحارتها زهاء المائتين، ولم يسلم منهم غير القليل. وحسب الأميركان أن الانفجار كان مسببًا عن نسف خارجي أقدم عليه الأسبان تشفيًا وانتقامًا، فقامت الجرائد تثير خواطر الأمة، وثارت الأمة تطلب الحرب، فأنفذت الحكومة الأميركية إلى موضع الانفجار لجنة لتحقيق تلك الحادثة المحزنة. فوصلت اللجنة إلى موضع الحادثة، وشرعت في التحقيق وهي تكتم ما تتحققه كل الكتمان إلى أن تقدم باكتشافاتها تقريرًا مفصلاً. على أن الدولة الأميركية تجد في الاستعداد للحرب، فاضطرت إسبانيا إلى مجاراتها في ذلك الاستعداد. وقد قررت الحكومة الأميركية خمسين ألف ألف دولار للدفاع، وابتاعت طرادين، وحصنت القلاع والحصون التي على الشطوط، وحشرت عليها نحو مائة ألف من الجنود. وقد نقل البرق في هذا الاسبوع أن إسبانيا أبلغت أميركا أن الحرب لمثل تلك الأسباب جناية على الإنسانية. وقد أرسلت إسبانيا من قبلها لجنة لتحقيق حادثة الدارعة ماين، فقررت اللجن

اليهود في فرنسا وفي مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اليهود في فرنسا وفي مصر قبل أن يلبَس بونابرت تاج الإمبراطورية كانت حجته القوية لدى الشعب الفرنساوي: دفاعه عن الحرية العمومية، وخدمة المبادئ الجمهورية. غير أنه بعد ارتقائه العرش الإمبراطوري لم يألُ جهدًا في محو تلك الحرية، ودوس تلك المبادئ الدستورية. وهذا شأن الإنسان في كل آن، يطلب الحرية مرءوسًا، ويكرهها رئيسًا، يستنجد العدالة مظلومًا، وينبذها ظالمًا، إلا مَن وفقه الله وقليل ما هم. لقد شاعت أنباء المشاكل السياسية الداخلية التي قامت في فرنسا إثر مسألة دريفوس، وقضية زولا، وما قاساه اليهود فيها من الإهانة والاضطهاد وسوء المعاملة، ولا يحسب القراء أن هذا الاضطهاد قد نشأ عن تعصب ديني في الأمة الفرنسوية، وكيف وهي أقرب إلى وهن العقيدة منها إلى التعصب الذي مثاره الغلوّ في الدين. أما مصدر هذا الاضطهاد: فالتعصب الجنسي والحسد الذميم، أثارهما في صدور الأمة فئة من أرباب الجرائد المعادين لليهود الطامعين بما في أيديهم من خزائن الأموال. على أن تلك الحوادث القبيحة لو جرى مثلها بين الشرقيين لطبق السماءَ صراخُ تلك الجرائد، وسلقت الشرقيين وآدابهم بألسنة حداد، وأقلام أنفذ من السهام. بل لو كانت تلك الجرائد في بلاد تكون فيها ضعيفة الجانب ضعف اليهود في فرنسا - لكانت أسرع الناس طلبًا للحرية المطلقة، والعدالة العامة للبشر على اختلاف أجناسهم , وهذا معنى قولنا: يستنجد الإنسان بالعدالة مظلومًا وينبذها ظالمًا. ومن الغريب أن داء الجرائد الإفرنسية قد سرى إلى بعض الجرائد المصرية. فقامت تُصْلِي اليهود نارًا حامية، وتأخذ عليهم في مهارتهم في الكسب، وتفننهم في أساليب الربح، أما نحن فرأينا أن الحرية العمومية ليست مختصة بفريق دون فريق. فإن التمدن الصحيح، والعدالة الحقيقة يفرضان المساواة المطلقة بين جميع بني الإنسان في المنافع العمومية. والعمل والكسب بالطرق الشرعية فضيلة من الفضائل الاجتماعية وللإنسان أن يعمل ويربح بالطرق المشروعة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، ومن يعترضه في ذلك فقد اعترض مبدأ الحرية العمومية. ولذلك لا ترى عاقلاً من عقلاء الأمة الإفرنسية راضيًا عما نال اليهود في فرنسا من الاضطهاد قديمًا وحديثًا. وقد سمى ذلك بعض كبار فلاسفتهم مرضًا من الأمراض العارضة، وأمل ذهابه بتقدم المدنية والآداب العمومية. فالمأمول أن لا يُدْخِل الكُتّاب في هيئتنا الشرقية عاملاً جديدًا للنزاع والشقاق، فحسبنا ما لدينا من تلك العوامل القبيحة، وإنا الآن أحوج إلى عوامل الاتفاق منا إلى عوامل الشقاق. وعسى أن يستفيد إخواننا الشرقيون - لا سيما المسلمون منهم - بما نقصّ عليهم من أحوال الأمم {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) . اهـ ما اخترناه من العدد الثاني.

التريية والتعليم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التربية والتعليم ذكرنا في العدد السابق من جريدتنا مقالة مضمونها: أن مَن ينظر في تاريخ الأمم ويكتنه شؤونها يتجلى له أن القوة والمنعة والغنى وبسطة الملك وسائر موارد السعادة مناطها تعميم التربية والتعليم على الوجه الذي ينبغي. وهذا الأمر وإن كان بديهيًّا عند العارفين بالتاريخ؛ لأن الوجود الإنساني كله شاهد به ودليل عليه، فالسواد الأعظم من أمتنا غافل عنه لا يرجع إليه طرفًا، ولا يصيخ له سمعًا، والمتنبهون أفراد قلائل يرددون الصيحات والنبآت، ولا ملبي ولا مجيب {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) . وإن تعجب فعجب قول من سمع الصيحة منهم: إن هذا لا ينفع ولا يفيد. ويحتجون بحجج داحضة، ذكرنا في المحاورة السابقة منها: حجة الجبر وسلب الاختيار، وأتينا على تزييفها بما يقطع ألسنة المثرثرين بها بقدر ما يحتمله المقام، وبقي لهم حجج أخرى واهية، تنبئ عن قلة الاختبار. وإننا قبل بسط الكلام على التربية والتعليم نورد ما يثرثر به الكثير من الناس في الاحتجاج على عدم الفائدة منهما، ونبين فساده؛ ليكون ذلك أدعى إلى تأمله والنظر إليه بعين الاعتبار، ومن الغريب أن ما ادعيناه في المقالة السابقة [*] من أن سعادة الأمة في التربية والتعليم مبني على المشاهدة والاختبار التام، وكذلك شبه هؤلاء على عدم فائدتها تستند على اختبار ومشاهدة، لَكِنْ ناقصين غير تامين، وإنني مورده عليك فاستمع لما يتلى. احتجاجهم على عدم فائدة التعليم في إصلاح الأمة: قالوا: إنا رأينا كثيرًا ممن درج في حجر المكاتب، ثم عرج منها إلى حجرات المدارس العالية، فتلقى العلوم والفنون، وظهرت عليه أمارات النجابة، حتى صار قبلة آمال الوطن، ومنتهى رجاء أهله، ثم لما ألقيت إليه مقاليد الأمر فيه كان كلاً على كاهله، وقذى في عينه، بل كان جائحة متلفة لثماره، وصاعقة منقضة على دياره، لا يسعى إلا لمنفعة شخصه، وتنمية ماله وإن تلفت في سبيله مصالح العالمين. ومنهم من كان عونًا للأجنبي، وعتادًا على امتلاك بلاده، يمهد له الصعاب، ويزيل من أمامه العواثير والعقاب، ويسهل احتمال سلطته على النفوس، بل منهم من باع للأجنبي بلاده بثمن بخس (وكل ثمن تُباع به الأوطان فهو بخس) ، أو وعد بأن ينيط به بعض الوظائف، أو يكون مقربًا من جنابه الرفيع. فما أغنت التربية عن أمثال هؤلاء، وماذا أفادهم التعليم، أما والله لو لم يتعلموا لما تسنى لهم اقتراف هذه المنكرات، ولما فطنوا لأساليبها واهتدوا إلى طرقها، ولكانت مضراتهم محصورة في دائرة ضيقة مخصوصة بنفر قليل. هذا بالنسبة للذين تعلموا العلوم السياسية والحقوقية، وأما الذين تعلموا العلوم الشرعية الإسلامية، فإننا نرى الكثير منهم أيضًا قد اتخذها فخًّا لصيد الدنيا. يحتال ويعلم الناس الحيل لهضم حقوق الله وحقوق العباد، وإذا تبوأ منصبًا (كقضاء أو إفتاء) ، أو صار محاميًا، لا يأتي أن يجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا، ليشتري به ثمنًا قليلاً، فويل لهم مما كسبت أيديهم، وياليتهم لم يكونوا من المتعلمين. والجواب عن هذا واضح: وهو أن هؤلاء وإن تلقنوا بعض الفنون إلا أنهم لم يتربوا تربية صحيحة، يغارون بها على دينهم ووطنهم، والعلم من حيث إنه إدراك لصور المعلومات لا تقتضي العمل، ولئن اقتضى العمل فهو لا يستلزم أن يكون في وجوه الخير والمنفعة لبلاد العامل إلا إذا تربى على ذلك. ثم ما يدريك أن المعلمين لهؤلاء الخائنين والمربين لهم في المدارس كانوا من الأجانب أو ممن اصطنعهم الأجانب فصبغوهم بصبغتهم، وجذبوا أعنة قلوبهم فقادوها إلى محبتهم، وعلموهم كيف يعملون لمنفعتهم، أو غرسوا في نفوسهم اعتقاد عظمتهم وقدرتهم، وأنه لا يتعاصى عليهم أمر، ولا يعز عليهم مطلب، فذللوهم بذلك واستعملوهم كما تستعمل السوائم من الأنعام، أو أقنعوهم بأن السعادة لا تنال إلا بأيديهم، وأن الإصلاح لا يأتي إلا على أيديهم، وأن قطرًا لم يحتلوه محروم من المدنية ورفاهة العيش، لا ترى فيه القصور المشيدة، والسرر المنضدة، والطرق الفسيحة، ولا تنشأ فيه الحانات والمواخير (أي مواضع الريبة، وليس هذا من التهكم؛ فإن السكر والفحش من لوازم التمدن الحديث) ، إلى غير ذلك من المحسنات فعملوا ما عملوا بناءً على هذا الاقتناع، فهم مجتهدون بأنهم ينفعون أمتهم من حيث ينتفعون بأنفسهم، وفي كل صورة من هذه الصور ترى أن التربية والتعليم أفادا المعلم والمربي، فاجتنى بهما ثمرات المنافع من خصمه ومناصبه، فكيف يكون أثرهما من مجانسه ومناسبه، لعَمْرك إنه لعظيم. احتجاجهم على عدم الفائدة من التربية: قالوا: نرى كثيرًا من الولدان يهمل أمر تربيتهم الوالدان، فلا ينتهرونهم، ولا يضربونهم، ومع ذلك ترى عندهم الدعة ولين الجانب والدماثة والصدق والوفاء والأمانة، إلى غير ذلك من محاسن الأخلاق والأعمال، وبعكس ذلك نرى بعض الناس يعامله والده بالشدة والغلظة، ولا يضحك في وجهه، ولا ينبسط له، وإذا عمل عملاً قبيحًا صب عليه سوط عذاب، أو كما يقول بعض العامة في بلاد الشام: (لعب العصا بجلدو) ، ومع ذلك تراه كذوبًا مرائيًا شرسًا أحمقَ خائنًا ماكرًا فاحشًا متفحشًا سبابًا لعانًا، وبالجملة: منغمسًا في الرذائل، ملطخًا بحمأة المقاذر، مسترسلاً في الفجور، ولولا الاعتناء بتربيته لما بلغ هذا المدى، ولا انتهى في الفساد إلى هذه الغاية. والنتيجة من هذه المشاهدات: أن الأخلاق مواهب وحظوظ، وليست بالتربية. وأن التربية ربما عادت على صاحبها بالخذلان، وكانت كالدواء لم يصادف محله فأودى بمتناوله وأورده مورد الهلكة. فموسى الذي رباه فرعون مُرْسَل ... وموسى الذي رباه جبريل كافر والجواب عن هذا في غاية الظهور وإليك البيان: إن معاملة الوليد باللين والرفق وأخذه بالرأفة والحلم، وعدم إهانته بالسب والشتم، كل ذلك من أفضل أساليب التربية وأنجعها وأنجحها، إذا لم ينتهِ إلى حد الإهمال وإرسال الحبل على الغارب، وإن الشدة والقسوة والإهانة بنبز الألقاب، وضروب الإيلام مفسدة للأخلاق، ومدعاة للشرور والفجور، وإن أمهات الرذائل كالكذب والخيانة والمكر والاحتيال والمداهنة لا تتولد إلا من الظلم والضغط على الحرية الشخصية، كما سنوضحه فيما بعد. فهذه الحجة دليل على نفع التربية وفائدتها، لا على ضررها، على أن زمام التربية ليس بأيدي الوالدين والمعلمين دائمًا، بل ربما كان بأيدي الخلطاء والمعاشرين أكثر مما هو بأيديهم. وهناك أمر آخر حقيق بالاعتبار، وهو ناموس الوراثة، وكل ذلك سنفصله تفصيلاً. وأما قولهم: فموسى الذي رباه فرعون ... إلخ، البيت المار فهو من حجج الشعراء التي لا يتبعهم عليها إلا كل غوي مبين. ويعنون بموسى الذي رباه جبريل السامري الذي اتخذ العجل لبني إسرائيل، ودعواهم تربية جبريل له باطلة وأفيكة، انتحلها هذا الشاعر الغوي الذي جعلوه قدوة لهم ولعمري إن فيها غميزة بمقام روح القدس وأمين الوحي عليه السلام. والحق أن جبريل إنما ربى موسى الرسول؛ لأنه هو الروح الذي يؤيد الله تعالى به الرسل والأنبياء، لا الغواة الأشقياء (نعوذ بالله من غلبة الجهل) . ويا ليت شعري هل يقولون بأن تربية فرعون لموسى كان لها دخل في ارتقائه إلى مقام الرسالة، لا وإنما يحتجون بذلك على عدم وجود فائدة للتربية بالكلية، وجَهِلَ هؤلاء الحمقى أن الذين اجتنوا فوائد التربية من أهل أوربا وثبتت لديهم بالاختبار والمشاهدة، اللذين هما أقوى الأدلة والبراهين، قد جعل بعض ملاحدتهم كلام الشاعر شبهة على الطعن بنبوة موسى عليه الصلاة والسلام، وزعموا أن نشوءه في بيت الملك، وتربيته في حِضْن السياسة والشريعة المصرية قد نبها فكرته للقيام بتلك الدعوة التي حرر بها أمته، وأن ما جاء به من الشريعة مقتبس من شريعة المصريين، مع تنقيح وتحوير يناسب حال شعب إسرائيل (نعوذ بالله من هذا الضلال البعيد) ، وليس المقام هنا مقام رد شبه الملاحدة، ولكن لا بد من كلمة تحول دون تمكن الشبهة من فكر الجاهل، وهي إذا جاز أن يأخذ موسى (عليه السلام) شريعته من شريعة المصريين، فهل يجوز أن يكون ما جاء به من المعجزات التي أدهشتهم وأبطلت السحر الذي كانوا يخدعون به الناس مأخوذًا من المصريين، كلا بل سول لهم الكفر ما يأفكون. ثم إن التربية والتعليم متلازمان بمعنى: أن الثاني لازم للأول، لا يتم إلا به بل هو جزء منه؛ لأن التربية على ثلاثة ضروب: تربية الجسم، وتربية النفس، وتربية العقل، وهذا الأخير هو عين التعليم، ثم كل منها يحتاج للعلم والتعليم، ولكننا نفرد للتعليم مقالات مخصوصة نبين فيها وظائف المعلم والمتعلم، وكيفية التعليم، ويدخل في هذا البحثُ في المصنفات وأساليبها، ونبدأ بالكلام على القسم المهم من التربية، وهو: تربية النفس، المعبر عنه بتهذيب الأخلاق، وموعدنا الأعداد الآتية، إن شاء الله تعالى.

التمدن

الكاتب: محمد عبده

_ التمدن لبعض فضلاء المصريين [*] ما وصلت إليه الأمة إلا وحط عن كاهلها جميع الأتعاب والبلايا والاضطهادات والرزايا. ولا رقي إليه شعب إلا وأمن غائلة الإعنات والاعتساف. وتحصنت أعماله من جائحة السلب والاعتداء. فصاحبه هو الساكن في منازل الرغد والهناء، واللابس حلة الإسعاد، نقول ولا مغالاة في الحق: إنه الضامن لتوطيد أركان العمران، والكفيل بتشييد دعائم الاجتماع، كيف لا وهو الحقيقة الجامعة لكل فرد من أفراد الكمالات، من غير فرق بين أن يكون أدبيًّا أو ماديًّا، حسيًّا أو معنويًّا، فالتفنن في الصنايع فصل من فصوله، والتسابق في ميادين العلوم باب من أبوابه، والتجافي عن مواضع النقيصة جزء من أجزائه، والتجميل بالأخلاق الفاضلة نبذ من جواهره، فإذًا لا بدع إذا قلنا: إن صاحبه هو السعيد والواطئ بنعله غرف النعيم، جد في طلبه من أدرك نتيجته من الأمم، فجنى ثمره اليانع، نراه يتقلب على بساط العز، ويتدرج في معارج الإجلال والجمال، عمرت دياره بعد أن كانت قاعًا صفصفًا بالأبنية العالية، وتزينت بالأسواق الفسيحة والصنائع العديدة، وصارت محط رجال السياسة، ومطمح أنظار النبلاء، ضاق بسيطها عن القيام بنفقاته الواسعة فطار على جناح العلم يستطلع بقاعًا خربتها الجهالة، وثلمتها يد البغي، ليكون فيها هو الوارث بعد بنيها، يستخرج منها الكنوز بحكمته، ويفجر منها الينابيع بقدرته، ليجني وأهلها الغارسون، ويقضي وهم المطيعون. تسمع أهل تلك الديار صدى صوته في العشي والإبكار، والغدو والآصال، ولكن يغالطون الحس ويكابرون بإنكار البداهة، ويسلون أنفسهم بأن هذا الأجنبي لا سطوة له ولا حكم، وإنما هو غريب، دعته الحاجة للتجول في البلاد لطلب الرزق، ثم تحثهم خواطرهم بأننا أرفع شأنًا من أولئك الغرباء، وأسبق منهم يدًا في المدنية، ولئن تأخرنا عنهم حينًا من الزمن لكنا لحقنا بهم في انتظام الهيئة، وحسن السلوك، وهذه قصورنا المشيدة، وثيابنا الملونة، وقدودنا المجملة، وأطعمتنا المتنوعة تشهد بأننا قوم غمسنا في الترف، وحظينا بالثروة، ونهجنا الصراط المستقيم. يحسبون تلك الأوهام حقائق تجعلهم من ذوي النعمة واليسار، والعزة والكمال اعتمادًا على كونها سنة الأمم المثرية، والشعوب المتنورة. وايم الله إنها بالنسبة لأولئك البسطاء لداعية الفقر المدقع، ومجلبة الشر، وإن هذه الصور الظاهرية التي يظنونها تمدنًا كسحابة حُشِيَتْ بالصواعق، يتوهم الغافل من بريقها ولمعانها أنها تأتي بوابل ينعش البقل ويحيي الموات، ولكن إذا حل الأجل أمطرت ما يذهب بالحياة ويبدد الأجسام، وذلك لأن الأمم المتمدنة وإن أنفقت الأموال الكثيرة في تشييد القصور وتزيين الملابس وتحسين الأثاث إلى غير ذلك من المصارف، فإنما يَكُون على نسبة مخصوصة من إيراداتهم الحائزين لها بالكد والتعب في إبراز المصنوعات الجميلة، والمخترعات الجمة التي تكسب صاحبها في قليل من الزمن ثروة واسعة، وقدرًا رفيعًا. ولا يجيزون الإنفاق من رأس المال إلا إذا مست ضرورة لا محيص عنها، ومع ذلك فنفقاتهم هذه لا تتجاوز حد اللزوم ولا تخرج عن دائرة احتياجاتهم، فكلها مؤسسة على قاعدة جلب المصلحة ورفع الحاجة. تدخل منزل الرجل منهم ترى غرفه ومخادعه مشغولات بأمتعته وبضائعه ونقوده، وليس فيه قدر شبر عُمِّرَ لغير حاجة، حتى حديقته، ولا يشتري ثوبًا له أو لزوجته وأولاده إلا بقدر العوز، وحلي آل بيته ثلاثة أرباعه من النحاس مهما كثرت ثروته، وليس في إصطبله سوى عربة أو حمار للركوب، لا يجمع بينهما إلا نادرًا، وفرشه وغطاه لا يخرج عن نوعي القطن والصوف كثيابه. أما أهل تلك الديار الذين يزعمون أنهم قوم متمدنون (وهم في ذلك مخطئون) ، فقد ركبوا الشطط وحملوا أنفسهم ما لا يطيقون من النفقات الباهظة، يصرف الواحد منهم آلافًا من النقود في سبيل تعمير أرض فسيحة، وربما كفاه ما لا يبلغ العشر من مساحتها، ويفرشها من أعلى أنواع الفرش، ويزينها بأبهج أصناف الزينة، فتبقى غرف المنزل بلا ساكن، يعلو التراب على ما فيها من الأثاث والفرش المغشاة بالفضة والذهب حتى يبيدها، وربما لا يستعملها مرة في العام. يتختم في إصبعه بما تجاوز قيمته عقد الألوف من الفرنكات، ولدى زوجته من الألماس والجواهر ما يكفي ربحه لنفقات بيته أو يزيد، لو استعمل ثمنه في شيء يتجر به (إذا كان ممن يفقهون) إلى غير ذلك من المصارف التي يضيق بنا المقام عن تفصيلها، وما حمله عليها سوى الطيش والانهماك في الشهوات والسفه المفرط الذي بلغ مرتبة الجنون. فإن رجعنا إلى سيرهم في طرق جلب المنافع، وتخفيف أتعاب المعيشة، وتحسين وسائل الاكتساب، رأيناهم واقفين على نقطة واحدة من آلاف من السنين. فإيراداتهم الآن واقفة عند الحد الذي كانت عليه قبل أن كانوا يسكنون المنازل المصنوعة من اللبن الأخضر، المفروشة بقصب (الحَلْفاء) ، المعرشة بقضبان شجر (الجميز) وجذوع النخل، مكتفين من الثياب بما يستر البشرة، ومن الطعام بما يذهب النهمة فمزروعاتهم الآن هي على ما كانت عليه في تلك الأيام، لم تغير أشكالها، ولم تتبدل أصنافها، نعم قد زادت حاصلاتها نظرًا للتسهيلات التي أجريت في طرق الري (هذا في بلاد الكاتب) ولكن هذا النمو لا ويعادل في الحقيقة الضعف الذي يلم بتجارة أبناء البلاد، فقد كان يوجد قبل ورود الغريب إليهم في القرية الصغيرة أشخاص عديدون يتجرون في جميع أصناف المزروعات وغيرها من الأقمشة والمأكولات، يربحون من ذلك مالاً عظيمًا. أما بعد ذلك فلا ترى بَنِيهِمْ إلا يتضورن جوعًا، ويئنون تحت أحمال المشقات، لبوار التجارة وكسادها واختصاصها بيد النزيل. ويتبع ذلك سقوط صنعة النجارة والحدادة والحياكة، وغيرها من أصناف الحرف اللاتي نسختها متحدثات الأمم المتمدنين. وربما ينتهي بهم الأمر لو استمروا على الجهالة والسفه إلى خلو أيديهم من الزراعة أيضًا؛ لوجود من يحسنها سواهم. ولا عجب بعد هذا إذا رأينا هؤلاء السفهاء واقعين في وهدة الفاقة والاضمحلال، يئنون تحت أثقال الديون التي تستغرق جميع ما في حوزتهم من الأملاك، وهذا يجعلهم حقراء أذلاء في قبضة الدائن الذي يكونون رهنوه أملاكهم، يتصرف فيهم بما يريد فيلاقون منه شمماً لا تقدر على تحمله النفوس، ولا تستطيعه الطباع، وربما كان الدائن من سفلة قومه، والمدين من أعيان بلاده، ولا تغني عنه يومئذ قصوره العالية ولا ثيابه المزركشة ولا أثاثاته الخَزِّية والحريرية، وهذا فضلاً عما يعتريه من البلبال، وكثرة الوساوس والأفكار، يبيت ليله يتقلب على الفراش ولا تقلبه على جمر الغضا، يقدر محصولات زراعته قبل بذرها وينسبها لمقدار المطلوب في إبان الحصاد، فإذا وجدها على قدره حصل له نوع من الاطمئنان ذاهلاً عما عساه يحدث من الغرق أو الشرق أو الأندية المتساقطة من الجو، حتى إذا حل الأجل ولم يجد لديه ما يفي بالمطلوب لإصابة الزرع بأحد الأسباب التي ذكرناها ضرب كفًّا على كف، واسود وجهه، وساءت حالته، وتسول الناس ليكفلوه عند عميله (دائنه) إذا لم يف ما عنده بالرهن، فلا يجد مجيبًا ولا نصيرًا. لعمر الحق إن المفترش للحصا، المتوسد لحجر الصخر، المستكن في منازل الحيوانات، المتكفف في معيشته، خير من هؤلاء الناس الذين لا يقر لهم قرار، ولا يهدأ لهم بال (ومما يسوؤنا أن نراهم أكثر من الكثير في بلادنا) ، أهذا ما حسبوه تمدنًا وزعموه نعيمًا مقيمًا. كلا، بل هو الشقاء الأبدي الجالب للفقر المدقع والعذاب الأليم. هذه مشاربهم في أحوالهم المعاشية، تحزن المحب، وتفرح قلب العدو، ولعلمنا بأن تلك الحالة لا يرضاها الشرع ولا القانون جئنا بهذه النصيحة، آملين أن تنفع الذكرى، فينهج هؤلاء صراطًا مستقيمًا، وما ذلك على الله بعزيز.

التعصب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اصطلاحات كُتَّاب العصر التعصب مادة (عصب) تدل في أصل اللغة على الليّ والشد، يقال: عصب الشيء، إذا لواه وشده، وعصب الشجرة: ضم ما تفرق من أغصانها، وهو مأخوذ من الشد بالعصابة، فمعنى عصب وتعصب في الحقيقة: شد العصابة، ومنه العصبة لقوم الرجل وقرابته، وكان جمع عاصب (اسم فاعل) ككَمَلَة جمع كامل، والعصبية نسبة للعصبة، والتعصب: ميل أفراد العصبة بعضهم إلى بعض وتشددهم في المدافعة عمن يتصل بهم بجامعة العصبية التي كان مناطها عند العرب القرابة والعشيرة. ولم يكن يطلق اسم التعصب على التشدد في الدين والغلو فيه، بل كانت العرب تسمي هذا تحمسًا، وكُتاب العصر اشتهر بينهم إطلاق اسم التعصب على الإفراط في التشدد في الدين إلى درجة يؤذي بها المتعصب مخالفه فيه، وأجدر بهم أن يسموه: تحمسًا، لولا أن الناقلين له عن لغات الإفرنج إلى العربية لم يتنبهوا للفظ التحمس. ويطلقون التعصب أيضًا على الميل للجنس والإفراط في الحماية له والمحافظة على شرفه، واتساع سلطانه، وإن غمط حقوق سائر الأجناس، وهضم جانبهم، ويخصون هذا الضرب من التعصب بالمدح والإطراء، والأول بالغميزة والهجاء، ولا يخفى أن الأوروبيين سرى بينهم رأي نابليون في أن مناط الجنسية هو اللغة، فكانت هذه الاصطلاحات وبالاً علينا نحن العثمانيين، فإذا كانت سعادة الأمة في وحدتها، والوحدة لا بد لها من جامعة تلتف عليها عناصرها وترتبط بها هاماتها ولَهازِمها فما هي الجامعة العامة والرابطة القوية لهذه الأمة المختلفة في الأديان واللغات؟ ، والجواب: إن سعادتنا تتوقف على رفض مذهب الأوربيين في الجنسية واتفاقنا على أن يكون مناط جنيستنا هو العثمانية، ولا أظن أحدًا من العناصر المستظلة بظل الدولة العلية العثمانية يرفض هذا ويرتضِي اصطلاح أوروبا في الجنسية، وإننا لبيان هذه المهمات ننشئ مقالة في التعصب والجامعة العثمانية في عدد تالٍ (إن شاء الله) . ((يتبع بمقال تالٍ))

الطبيب الدجال

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الطبيب الدجال كلنا في الهوى سوا لدينا قصة نقصها على إخواننا الغربيين الذين يستوقفهم عند أرصفة الأزبكية اجتماع بعض الجهلاء على أحد الدجالين أو العرافين فيقفون ساخرين منهم مستهزئين بالأمم الشرقية كلها، حاسبين أنها على شاكلة أولئك الجهلاء. ذلك أن رجلاً دجالاً سيق إلى المحاكمة في إحدى عواصم أوروبا لإقدامه على التطبيب بلا رخصة من الحكومة. ولما وقف أمام المحكمة سأله القاضي بصرامة: ما حملك أيها الرجل على مخالفة القانون؛ أما علمت أن العقاب مفروض على كل طبيب لا يكون في يده شهادة قانونية؟ فلم يحر الدجال جوابًا، ولكنه مد يده إلى جيبه وأخرج منها ورقة كبيرة ثم قال: إليك شهادتي القانونية أيها القاضي، فإنني ممن أتموا دروسهم الطبية في كلية باريس، وقد نلت منها لقب دكتور في الطب كما ترى في هذه الشهادة. ولما أن أنهيت دروسي خيل لي أنى بلغت أوج السعادة. فاستأجرت منزلاً ونقشت على نحاسة وضعتها على بابه هاته الكلمة: (دكتور في الطب) ، ثم لبثت أنتظر وفود الناس علي للمعالجة، فمرت الأسابيع والشهور ولم يأتني أحد مستشفيًا. فصرت إلى الفقر المدقع وعلمت أن تمسكي بتلك الشهادة لا يغني عني فتيلاً. فألقيت بها إلى جانب، وكسرت الأمَارة النحاسية، وتحولت إلى منزل صغير، وتظاهرت بمظهر الأطباء الدجاجلة، فتقاطر عليَّ الناس للاستشفاء من كل الجهات، ووفد عليَّ ذوو العلل فعالجتهم وربحت أموالاً عظيمة. ومازلت على ذلك حتى ألقى الشرطي القبض عليَّ ظنًا منه أنني من الدجالين. وقد علمتم أن الذي ألجأني إلى إخفاء شهادتي ولقبي رغبتي في اكتساب ثقة الشعب، فأطلب الآن إلى المحكمة أن تحكم ببراءتي. فأَدْهَشَ السامعين هذا الحديثُ وبرأت المحكمة الرجل بالحال! قالت الجريدة - التي نقلنا عنها هذه القصة -: إن هذه الحادثة عار على العلم وعلى الشعب. قلنا: عار على العلم؛ لأنه قد عجز إلى الآن عن تنوير أذهان العامة واكتساب ثقتهم. وعار على الشعب؛ لأنها تدل على جهله وإيثاره أوهام الدجاجلة على الحقائق العلمية الثابتة. وإلا فما معنى إعراض الشعب عن ذلك الرجل دكتورًا، وإقبالهم عليه دجالاً؟ ! هذا، ولا يبعد أن يفقد الرجل ثقة الشعب فيه حين يظهر لهم أنه من الأطباء القانونيين، وإذا وقع ذلك كان منتهى الجهل والغباوة. ونتيجة ما تقدم أنه لا يصح إطلاق القول في ذم شعب أو مدحه استنادًا على اختبار بعض أفراده. وإن لنا أن نعير الغربيين بأولئك الأغمار الذين لا يثقون إلا بالدجاجلة، إذا عُيِّرْنَا بالأغمار الذين يجتمعون في أرصفة الأزبكية لضرب الرمل واستنطاق الحصى، فلا يسخرن أحد من بسطائنا وجهلائنا، فإن لهم في الأمم الأوروبية أقتالاً وأمثالاً من البسطاء (وكلنا في الهوى سوا) . اهـ ما اخترناه من الجزء الثالث.

تبصرة وذكرى لقوم يعقلون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تبصرة وذكرى لقوم يعقلون في بيان أن سعادة الأمة في التهذيب تلك آيات من الحكمة، تتلى على مجتمع هذه الأمة، تنبه فكر الناسي، وتبعث همة الآسي، وشذرات من معدن العلم السماوي، تُهْدَى إلى معمل الفكر الإنساني، ليصوغ منها عقودًا، ويضرب منها نقودًا، تتحلى بها أجياد العقائل العواطل، وتعامل بها أكف المُثْرِي والعائل، لعلهم يفلحون. إذا تأملت في تاريخ هذا الإنسان رأيت أبناءه قد وقع منهم الاختلاف في كل شيء {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) اختلفوا في العقائد والمذاهب، والعادات والمشارب، وجرى هذا الخلاف منهم في مدركات الحس، كما سرى في مدارك العقل، ألا ترى أن بعضهم لا يستطيب أكل اللحوم ذوقًا، كما أن بعضهم يستقبحها عقلاً، أما سمعت أن منهم مَن أنكر مظاهر الوجود وحقائق الأشياء زعمًا أنها خيالات وأوهام تتراءى للحواس ولا تحقُّق لها في نفسها. ومن رام حصر مواد الاختلاف والافتراق بين الأمم والشعوب. وبين الآحاد والأشخاص فقد رام عبثًا وحاول شططًا، وفيما أشرنا إليه من النموذج بلاغ لقوم يفقهون. إن أصالة الخلاف والمنابذة وتمكُّنهما من نفوس أفراد هذا النوع قد جعلته من الخواص اللازمة أو الفصول المقومة لذاته والمقسمة لجنسه، بحيث يصح أن يعرف الإنسان بأنه (حيوان مخالف) ، أفلا يجدر بنا أن نعجب بعد هذا إذا رأينا جميع الناس أو أمة منهم قد اتفقوا على شيء، وأجمعوا على شأن؟ ألا يجب علينا أن نغتنم ذلك الشيء فنتخذه ذريعة لجمع كلمتهم واتفاق وجهتهم، الذي لا قوام لحياتهم على الوجه الذي ينبغي إلا به؟ بلى ولكن أَنَّى لنا الظفر بهذه الرغيبة المفقودة، والاهتداء لهاته الضالة المنشودة، وكيف لنا أن نطمع بما يكاد يخرج به الإنسان عن كونه الخاص به فلا يكون إنسانًا؟ ولعل قائلاً يقول: إنا لا نرتاب في أن الاختلاف المطلق لا ينفك عن البشر، لكن ذلك لا ينافي الاتفاق على بعض الشؤون، فهل تعلم لنا شيئًا لا تخالف فيه ولا تنازع، وهو مما يقصد بالعمل ويتوصل إليه بالسعي، لنجعله معقدًا للارتباط، إذا أخذنا في الدعوة إلى الاجتماع على أصول العلم الصحيح؟ والجواب: نعم، إن هؤلاء الناس مهما تباينوا في الوسائل واختلفوا في المقاصد فهم متفقون على شيء واحد يصح أن يكون علة غائية لكل حركة وسكون يصدران منهم، ألا وهو: التخلص من البؤس والشقاء والظفر بهناء العيش ونعمة البال عاجلاً أو آجلاً، وإن شئت قلت: هو دفع المؤلم واجتلاب الملائم إما لنفس العامل فقط، وإما له ولمن يشاركه في المنزل أو الوطنية أو الجنسية. وما نشاهده من سعي الكثير منهم إلى ما يبلسهم للهلكة، ويتجافى بهم عن مضاجع الراحة والهناء فإنما هو لإِخطاء النهج وضلال الطريق القصد. يظهر هذا في سيرة المحكوم والحاكم، والجاهل والعالم، والتاجر والصانع، والحارس والزارع، والمنفق والممسك، والحليم والسفيه، والشجاع والجبان، والعفيف والشره، كل يسعى لما يرى أن فيه راحته ونعيمه. لكن ربما خفي على البعض في نحو الجاني والمنتحر، ويظن أن الجاني على غيره بما يعود على ذاته بالضرر أو التلف، والمتعمد إزهاق روحه بيده لا يقصدان بعملهما ما ذكر، والحق أن عملهما هذا ليس إلا تخلصًا من بلاء؟ أو توصلاً إلى نعماء؟ بحسب ما وصل إليه الاجتهاد. فالإنسان حريص كل الحرص على تحصيل العيشة الراضية والحياة الطيبة، وكل سعي أفراده إنما هو في هذه السبيل. وكما يطرد هذا في سعي طالبي الحياة الدنيا يطرد أيضًا في سعي مريدي الآخرة، فالصائم والقائم، والزاهد والعابد، إنما يقصدون السعادة الأبدية {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} (الحاقة: 21-23) ، {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: 72) . فقد تبين أن الناس متفقون مبدأ وغاية (في الجملة) ، وإنما وقع الاختلاف بينهم في الأفكار والأعمال (غالبًا) من الخطأ في تصور الغاية بتصور ما ليس بسعادة سعادة الذي يتبعه الخطأ في اختيار المبدأ الذي يستند اليه العمل - كأن يتصور أن سعادته في تحصيل الثروة بأية وسيلة ومن أي طريق، ويختار المبدأ لاكتساب المال السرقة وأمثالها. وقد يكون تصور الغاية صحيحًا ويقع الخطأ في اختيار المبدأ فيختل العمل المترتب عليه: كأن يتصور أن السعادة في كسب المال من الطرق الشريفة في الوجوه المشروعة، ويرى أن المبدأ لذلك صناعة الكيمياء (الكاذبة) بتحويل المعادن إلى ذهب، كما يجوز أن يعرقل العمل مع صحة المبدأ والغاية لعدم السلوك إليه من طريقه والدخول عليه من بابه: كأن يختار التجارة مبدأً للكسب ويتهجم على العمل بغير علم بأساليبها ولا اختبار أو لعدم توفر دواعي النجاح من الخارج، أي من الأمور التي لا تنالها يد الكاسب - كأن يختار التجارة أو الزراعة، ويأتي بجميع أسبابها مستوفياً شروطها فتنزل بالزرع جائحة أو تذهب بالتجارة الأنواء ويحطم السفين اعتلاج الأمواج. فعلينا أن نبحث في الطريق الموصل إلى صحة الغاية ومبادئها وانتظام أمر العمل، بحيث ينطبق على المبدأ ويؤدي إلى الغاية من غير خطأ ولا ضلال، وبالنتيجة في انتظام أمر المعاش والمعاد بما تصل إليه يد الإمكان، ويدخل في اختيار الإنسان. وهو أشرف الأبحاث وأفضلها، لا ينطق لسان ولا يجري يراع بأفضل من الكلام فيه. ولا غرو فإن البحث فيما يوصل الإنسان إلى الراحة والهناء في الدنيا والمثوبة الحسنة في العقبى لَهُوَ أَجَلّ ما يتحدث فيه المتحدثون، ويتنافس فيه المتنافسون، فألقِ إليه السمع وأنت شهيد. أنت تعلم أن قوام الدنيا والدين بالعمل. والعمل لا يكون إلا عن علم، فالأحرى أن نقول بالعلم والعمل (وكلكم حارث - كاسب وعامل - وكلكم همَّام) ، يهم بالأمر فيعمله - لكن الهم مختلف والكسب مختلف {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} (آل عمران: 152) ، ثم كل من القسمين طبقات، فمنهم السائد والمسود والقوي والضعيف والغني والفقير إلى غير ذلك من الطبقات المتقابلة. ولا سبيل إلى المساواة بين الناس بجعلهم في رتبة واحدة، كما ينزع إليه بعض الملاحدة في هذا العصر؛ لأن مُبْدِع العالَم (تعالى) فضَّل بعضهم على بعض في الرزق وغيره، كما اقتضته حكمته في طبيعة الكون، وجرت به سُنته {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) ، وإنما السبيل الذي نقصده والطريق الذي توخينا البحث عنه: هو الذي إذا سلكه العالم الإنساني على اختلاف الطبقات وتنوع المراتب، فاز بالعيشة الراضية والحياة الطيبة ألا وهو: تهذيب الأخلاق، وكماله لا يكون إلا بالاستناد إلى الدين المبين. التهذيب روح للوجود الطبيعي والمدني والسياسي، تنال به هذه الوجودات سعادة الحياة وحياة السعادة، شهد بذلك التاريخ الصحيح وصدقه العقل السليم. لا راحة لفرد من الأشخاص في نفسه إلا بتهذيب أخلاقه في نفسه، ولا في منزله إلا بتهذيب أهل المنزل، وعلى هذا النحو أهل المدينة والمملكة العظيمة. فكما أن التهذيب الشخصي هو مدار انتظام معيشة الشخص الواحد، كذلك التهذيب العمومي هو مدار انتظام معيشة الأمة كلها إذ ليس المهذب إلا من يقوم بحقوق نفسه وحقوق غيره على صراط العدل المستقيم. وإذا كان انتظام أمر الحياة معلولاً لتهذيب الأخلاق، فبالضرورة يكون وجوده بوجود علته وعدمه لعدمها، إذ لا معنى لكونه معلولاً إلا هذا، ومن هنا نفهم السر في اختلال معيشة الأفراد وانتظامها وانفصام عرى الاتحاد بين الجماعات والتئامها وصعود بعض الأمم أعلى درج الارتقاء، وهبوط بعضها إلى أسفل درك الانحطاط ووقوف البعض بين بين، تتنازعه عوامل العلتين، حتى يأتي أمر الله واعتَبِرْ ذلك في سير الإنسان من يوم علم تاريخه إلى الآن تلقه صحيحًا مطرداً. ربما خفي على البعض الارتباط بين الأخلاق والأعمال، فلم يسلم بأن حسنها لحسنها، وقبحها لقبحها، مع تسليمه بأن سعادة الدارين إنما هي بالأعمال، وهذا الخفاء لا يكون إلا عن الجهل بمعنى لفظ الأخلاق وما هو المراد منه، فإذا فهم ما هو المعنى منه انجلى له ذلك الارتباط كالشمس ليس دونها سحاب. الأخلاق جمع خُلُق (بالضم) ، وهو صفة النفس، كما أن الخَلْق (بالفتح) صفة الجسد، وقد عرفه علماء التهذيب بأنه: هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير حاجة إلى روية ولا تفكر. وبيان ذلك أن مما يناجي الإنسان به وجدانه، ويوحي إليه إحساسه أنه لا يصدر عنه عمل اختياري، فعلاً كان أو تركًا، إلا عن داعية من النفس، وإن جميع جوارحه مسخرة لخدمة سلطان الروح، وإن إرادة هذا السلطان التي لا ترد مهما جاءت بالجزم إنما ينفذها إلى الجوارح بريد الفكر والخيال. وإذا دقق النظر رأى أن جميع إرادات السلطنة الروحية تصدر عن داعيتين: الأولى: انفعال وتأثر - كالجوع يدعو إلى الأكل - ومحلها الطبع. والثانية: إدراك وتصور - كتصور خطر المرض يدعو إلى تناول الدواء - ومستندها العقل. وهاتان الداعيتان آلتان لتحريك الأعضاء للعمل والآلة لا تتحرك بنفسها، واليد المحركة لهاتين الآلتين: خلق حسن أو خلق سيئ، إذ لا تخلو الداعية للعمل من مصاحبة أحد أمرين: إما الجور بتفريط أو إفراط؛ كالأكل زيادة عن الشبع شرهًا وجشعًا أو ترك الشبع وما يناسب المزاج من الطعام حرصًا وبخلاً، وكالامتناع عن شرب الدواء عند الاحتياج استبشاعًا لطعمه، أو تناوله مع الاستغناء عنه وسوسة ووهمًا. وإما العدل، بإمضاء ما فيه المصلحة مع التجافي عن طرفي الإفراط والتفريط والجور والعدل جنسان لأنواع الأخلاق الفاضلة والذميمة، فإذا أصيب ملك الروح برزيئة الجور فأمر بما لا ينبغي ونهى عما ينبغي، ورعية الجوارح لا مندوحة لها عن طاعته، لا تلبث مملكة البدن أن يسرع إليها الفساد ويحل بها الدمار. وهذا واضح في مملكة البدن، كما هو واضح في المملكة الظاهرية، بل هو في مملكة البدن أشد وضوحًا وظهورًا. وأما إذا تحلى بفضيلة العدل فيستقيم - ولا ريب - نظام المملكة، وتبلغ من الانتظام غاية الكمال. من فهم ما قلناه من أن جميع الأعمال إنما تصدر بإرادة الروح عن داعيتين، وأن الروح في ذلك لا تخلو عن العدل أو الجور، وعلم مع ذلك أن العدل هو غاية تهذيب الأخلاق، بل هو المحور الذي تدور عليه سيارات الفضائل، وأن الجور ضده، فهم وجه الارتباط بين الأخلاق والأعمال، وأذعن لتفاوتها بحسبها ضعة وخسة ورفعة وشممًا، وإذا لاحظ بعد هذا ما قلناه أولاً من أن الحصول على رغائب الدنيا والآخرة موقوف على العمل لا على الأماني والتشهي، انكشف له مقدار تأثير الأخلاق في المجتمع الإنساني صلاحًا وفسادًا. كيف لا يكون الخلق المهذب أفضل الفضائل وغاية الكمال، وهو ثمرة الأديان السماوية والشرائع الإلهية، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، وقد علمت أنه ثمرة العقل السليم أيضًا. نعم، أكثر آيات القرآن الكريم جاءت في الحث على مكارم الأخلاق (كالعدل، والقسط في الأمور كلها، والبر والإحسان لجميع الناس، والصبر، والحلم، والحياء، والرفق، والرحمة، والوفاء، والصدق، والتواضع، والعفو، والأمانة، وأمثالها) ، وينهَى ويحذر من سفسافها (كالجور، والجزع، والغلظة، والبخل، والجبن، والكبر، والرياء، والكذب، والنفاق، والخ

سؤال وجواب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سؤال وجواب كتب إلينا غير واحد يسألنا عما جاء في مقالة: (القول الفصل) المدرجة في العدد الثاني من جريدتنا، من تخطئة الذين يستعينون بالأموات من العلماء والصلحاء على قضاء المصالح واجتناء المنافع، وقولنا في هذا البحث: (ويستنهضون هممهم بالصياح والصراخ، وتقديم هدايا الفواتح) هل يتضمن هذا القول إنكار كرامات الأولياء أو يلحق بهم شيئًا من الغضاضة، هل فيه إنكار لقراءة الفاتحة أو غيرها من القرآن للأموات؟ والجواب: معاذ الله أن نرمي بكلامنا إلى غمط حقوق أولياء الله تعالى أو ننكر ما أكرمهم الله تعالى به من فضله. وليس كلامنا ذلك في هذا الموضوع، وإنما هو بحث في الأسباب التي بها أناط الله تعالى أمور الكون، ولا شك أن الاستعانة بالأموات على قضاء الحوائج ليس من الأسباب التي سنها الله تعالى لذلك، ولم يقل أحد من أئمة الدين ولا من العقلاء بسببيته، أما نبذ العقل له فظاهر، وأما رفض الشرع له فيدل عليه الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح، وأكتفي الآن من الكتاب العزيز بقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، فهو نص صريح في أنه لا يستعان إلا بالله تعالى، ومن السنة بخبر (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) ، وأما سيرة السلف الصالح فلم يُنْقَل عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يأتون قبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويقبلون عتبة الحجرة ويقولون: يا رسول الله أهلك فلانًا عدوي، وانتقم من فلان ظالمي، وأهلك الدود من زرعي، واشف داء قريبي، وقرب وصال حبيبي، كما نراه ونسمعه من جهة العوام عند قبر السيد البدوي وقبر الإمام الحسين (رضي الله تعالى عنهما) ، بل إن المطالب التي تصدر من هؤلاء تتجاوز هذا الحد، فإنهم يطلبون من الأولياء المستحيلات العقلية، والمنكرات الشرعية التي لا يجوز أن تطلب من الله تعالى. وقد أدى بهم الإهمال وعدم اشتداد العلماء بالإنكار إلى مروق بعضهم من الدين، كما يمرق السهم من الرمية. وكل ذلك معلوم عند السائلين. وأما قولنا: (ويستنهضون هممهم ... إلخ) فهو تمثيل لحالتهم التي يحاكون بها معاملتهم للحكام الظلمة بتقديم الهدايا والرّشى أمام أعراضهم، وقد فاتنا أن نقول: ويرشونهم بالشموع والدراهم ونحوها. وأما مسألة قراءة الفاتحة ونحوها للأموات، فليست مما نحن فيه، وخلاف العلماء في انتفاع الأموات بالقراءة مشهور، وأكثرهم يقول بعدمه؛ لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) ، وبعضهم يقول بإثباته؛ لأدلة قامت لهم، ولا مجال هنا للجولان في هذه المسألة، ثم لا شك أن الأولياء والصلحاء لا يرضون بهذه المنكرات التي يأتيها المعتقدون بهم من غير علم ولا بصيرة، سواء كانوا أحياءً أو أمواتًا، ومن انتصر للشريعة فعرف المعروف وأنكر المنكر فهو المحبوب المرضي عندهم، وسكوت الكثير من المتسمين بسمة العلم والصلاح عن الإنكار لزعمهم أنه أدب مع الأولياء، لا ينهض حجة على أن المنكر صار معروفًا، فإن إمامنا السنة والقرآن، لا صاحب الأردان الواسعة والطيلسان، وإن لنا لعودة إلى هذه المباحث نفصل فيها ما أجملنا، ونسهب بما أوجزنا، ولعل الموعد يكون قريبًا. اهـ ما اخترناه من العدد الرابع.

الموالد أو المعارض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الموالد أو المعارض [*] (بمصر كثير من المضحكا ... ت ولكنه ضحك كالبكا) نعم، إنها أمور تضحك منها السفهاء، وتبكي من عواقبها الألباء، أمور ينظرها الضاحك كما ينظر الصور والتماثيل، ويبصرها الباكي كما يبصر الصواعق والبراكين، أمور تقام لها المعارض في كل صقع، وتحشر إليها الخلائق من كل فج، فيحضرها العالم والجاهل، والأمير والصعلوك، والغني والفقير، والناسك والفاتك، والواهب والسالب، وإن شئت قلت: يحضرها جميع الأصناف من جميع الطبقات، وتعرض منهم وفيهم وعليهم المضحكات المبكيات، معارض تقفل لأجلها بعض مدارس العلم. وتعطل لبعضها مجالس الحكم، وتبطل الزراعة، ويكون حيث تقام أعظم المساجد سوقًا ومرقصًا (بالو) ، وملعبًا وملهى وقهوة وفندقًا (لوكاندة) ، ومستشفى (اسبتالية لكنها روحية) ، وصيدلية (أجزاخانة) ، وماخورًا (موضع الريبة) ، كل ذلك في وقت واحد، معارض قد اشتبهت على العامة حقيقتها فلا يعلمون هل هي دينية أو دنيوية، نافعة أو ضارة. لا شك أن كل مصري يعرف من هذه الأوصاف ما هو المعرض الذي يقام في بلاده، وإن كان يسميه مولدًا لا معرضًا. وأما من لم يكن مصريًا ولا شاهد هذه المعارض في ديار مصر، فإن العجب يأخذ منه مأخذه عندما يقرأ فاتحة هذه المقالة، وربما خيل له أنها كلام سري أو ضرب من الألغاز؛ لأنه يرى الأوصاف لا تنطبق على ما سمع أو رأى من المعارض في البلاد المتمدنة التي يسمع أن مصر ضمت معها في كل سهم، وأخذت من أنواع تمدنها أوفر نصيب. لا تغتر أيها السامع عن تمدن مصر وتقدمها بما ينقله إليك أهل السذاجة أو تموه به عليك الجرائد، فليس في مصر من التمدن والتقدم إلا بعض قصور وحوانيت كلها أو جلها للأجانب، وبعض طرق فسيحة لم تنشأ إلا لجولان مركباتهم، وتِرْكَاض خيولهم ودراجاتهم، وذلك في العاصمة وبعض البلاد الكبيرة (البنادر) فقط. وتوجد أيضًا الطرق الحديدية وأسلاك التلغراف والتليفون، إلا أنها ليست من صنع أبناء البلاد، وإنما هي من صنع الأجانب الذين يجتنون معظم ثمراتها، وهي التي ملكتهم زمام التجارة والمراباة في القطر، فاستنزوفوا ثروة أهله، وامتصوا دماءهم، ثم تخطوا ذلك إلى امتلاك رقبة أراضيهم الواسعة واتخذوهم فيها أجراء ومزارعين. لو أن أحدًا طار في منطاد (بالون) ونزل في الأزبكية وطاف فيما يقرب منها لقال: إن هذه المدينة هي أخت باريس، أو بنتها، وإذا سار إلى القرافة ورأى القصور المشيدة على القبور يذهب به الوهم إلى أن مصر قد عادت لها مدنيتها القديمة، وعما قليل يبني أمراؤها أهرامًا كأهرام الجيزة ويتخذونها قبورًا لهم، ولكنه إذا جال في أنحاء القطر وأرجائه ورأى بيوت السواد الأعظم من الشعب تحاكي زرائب الغنم، ومعاطن الإبل في سائر البلاد التي تفتخر بمصر ويفتخر عليها بعض أهل مصر (كسوريا ولبنان) ، بل هي أقل وأحقر، وإذا خالط مع ذلك هؤلاء المساكين ورأى حالة معيشتهم في مأكلهم وملبسهم حكم حكمًا جازمًا (وربما لم يكن بعيدًا من الصواب) بأن الشعب المصري هو أنكد الشعوب عيشًا وأشدهم بؤسًا وأكثرهم غباوةً وجهلاً، فقد عمل بعض عقلاء المصريين حسابًا للفلاح المصري فوجده ينفق في مدار سنته كلها على أكله ولبوسه: سبعين قرشًا أميريًّا. ولا تحكم على القطر بمثل هذا العاقل، وهذا العالم، وذلك المثري، فإنما كلامنا في الشعب لا في الأفراد، وسننشِئ مقالة مخصوصة في (تمدن مصر) في عدد آخر، ونكتفي الآن ببيان مجمل عن المجتمعات الكبيرة التي تقام في مصر ويسمونها (الموالد) ، فإن مجتمعات كل أمة هي مثال تمدنها وآدابها وعلمها وعملها، وإنني أذكر ذلك بعبارة انتقادية لعله يبعث على تلافي الخلل ومداواة العلل وأبدأ بالكلام عنها من الجهة الدينية فأقول: الموالد إن مصر تلقب بأم العجائب، وما أجدرها بهذا اللقب وأحقها بهذا الاسم، وما أكثر وجوه التفسير والتأويل فيه. وأعجب أولاد هذه الأم شكلاً، وأغربهم وصفًا وفعلاً، هو ما يسمونه: (الموالد) ، اسم يرمي إلى مسمى لم يلاحظ في الأصل مدلوله اليوم، ولم يعرف واضعه إلى أي حد ينتهي. ويظن اللغوي لأول وهلة أن إطلاق المولد على هذا الاجتماع الخاص المعروف ليس له مجاز إلى اللغة، ولا يمس حقيقتها. لكنه لا يلبث ريثما يرجع الطرف إلى المجتمع في مسجد السيد البدوي (رضي الله تعالى عنه) في مثل الأسبوع الفائت إلا وينجلي له وجه للتسمية وجيه. ذلك أنه يرى المجتمع تتولد فيه البدع والمنكرات والسفه والجهالة، وكل فعل مذموم مشؤوم. تدخل المسجد فترى سوادًا عظيمًا وتسمع جلبة وضوضاء. ترى أناسًا قد وضعوا في أعناقهم السلاسل والأغلال، بعضهم عار وبعضهم يلبس الأخلاق والأسمال، وقد تجسدت عليهم الأدران والأقذار، ولبدوا شعورهم المضفورة حتى لا ينفذها الماء، والحشرات ترتع في أجسادهم، تطوف في أطواء مرقعاتهم وأهداب قبعاتهم، وقد قاموا إلى ما يسمونه الذكر {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: 275) وما كان ذكرهم إلا همهمة ودمدمة، وحمحمة وجمجمة، تشوبها صيحات ونَبْآت، وتخالطها شهقات وزفرات، ويعلوها مُكاء (صفير) وتصدية (تصفيق) ، ويتخللها أوامر ونواه ودعاو طويلة عريضة، وتهذار وهذيان (كلام لا يعقل ولا يفهم كالذي يصدر من المريض) ، ويعقبها نوبات صرع وإغماء، يشترك في ذلك كله النساء والرجال، والشيوخ والأطفال، هذا هو حزب (الأولياء) الذاكرين، وثَمَّ أحزاب أخر فرقوا دينهم وكانوا شيعا. فمنهم المتصدرون للرقي والتمائم، وشفاء الأمراض والأدواء، ومنهم العرافون المتصدون لبيان ما غاب علمه عن الناس من مصالحهم الدنيوية، المبشرون البائسين بزوال بؤسهم والانتصار على أعدائهم، وسائر أرباب الحاجات بقضاء حوائجهم إذا هم رضخوا لهم بشيء من الفلوس. ولهم أعمال دون ذلك هم لها عاملون. ثم ارجع الطرف إلى مقصورة السيد - قدس الله تعالى سره - عن الرضا بهذه البدع والمنكرات، فإنك ترى أن قبره كعبة ثانية، تطوف بها الناس كما تطوف بالكعبة، ويزيدون على ذلك الدعاء وطلب الحوائج من السيد نفسه معتقدين أنه هو الذي يفعل ذلك بنفسه، لما تلقوه من القصص والحكايات في ذلك، التي منها: أن رجلاً أضل جاموسة له أو سرقت منه، فجاء إلى قبر السيد وطلبها منه، فلم يجئه بها، فأغلظ عليه في القول وأهانه بالكلام وهدده بانتقام الحكومة منه، فلم يلبث بعد ذلك إلا قليلاً حتى رأى القبر يضطرب، وسمع خوار الجاموسة من تحت الستار الذي على القبر، ثم خرجت الجاموسة من القبر وتمثلت بين يديه، فأخذها من المسجد وانصرف. فمثل هذه الأساطير التي ترويها الآباء للأبناء، ويقرهم عليها شيوخ العلم والإرشاد هي التي قادتهم بسلاسل التقليد إلى الاعتقاد بأن السيد يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وتفضيله على الأنبياء، بل نقل عن اثنين من الجهلة كانا يتساءلان عن المفاضلة بين السيد والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال أحدهما للآخر: (اسكت يا واد دا السيد أفضل من ربنا) ! ! ! (تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا) ، وهذه الحكايات سارت بها الركبان، وعرفها أهل الشرق والغرب، كل هذا والعلماء ساكتون حذرًا من الوقوع في إنكار الكرامات، والاعتراض على الأولياء الذي يخشى معه أن يتصرفوا بهم ويوقعوهم في الرجز الأليم. ثم إن للوليات من هؤلاء أعمالاً غير التي أشرنا إليها، ذلك أنهن يفضن الخيرات والبركات على الناس بواسطة المصافحة والتقبيل والعناق، ويقذعن عند ذلك بألفاظ من الفحش لا يليق أن تحكى فضلاً عن أن تسطر في الأوراق. رأى كاتب هذه الكلمات بعينه ولية منهن صبيحة الوجه، وفي معصمها أَسْوِرَة، وفي أصابعها خواتيم، وفي عنقها عقود، وقد جمع رأسها إلى رأسَيْ رجلين والتفَّت الأيدي على الأعناق، فكان عناقا مثلثاً … ورأى منهن فتاة مدت يدها لمصافحته فأعرض عنها، فوثبت عليه كالثعبان وقبَّلته في وجهه قبلات متتابعة. وفعلت ذلك مع غيره أيضًا. كل هذا يجري في بيت الله على مرأى من العلماء ومسمع، وهم له مقرون، وبه راضون، يحذرون أن يغضب عليهم السيد إذا غضبوا لله وانتصروا لدينه وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. إن سكوت العلماء بل مشايعتهم لعاملي هذه الأعمال بترك دروس العلم وتخلية المسجد لهم، وغشيانهم مجالسهم من غير نهي ولا إنكار وتهنئتهم بهذا الموسم الشريف والدعاء لهم بالحياة لمثله أعوامًا وأحوالاً - كل ذلك وأمثاله أوقع في أذهان العامة أن هذه الأعمال من مهمات الدين التي تضاعف بها الحسنات وتمحى معها السيئات، فلقد أنكرت بعض المحرمات التي رأيتها على عصابة ممن في المسجد فأجابني بعضهم قائلاً: (أبو فراج ساحتو واسعة) فسألته الإفصاح عن هذه العبارة وبيان معناها فقال: (يعني ما علهشي هم العلماء قالوا: إن لمس المره في أيام المولد ما ينقضشي الوضوء) ولعمري إنه جدير بأن يقول هذا، فإن لديه كل حجة لو عرضها على منبر جامع السيد أمام الآلاف المحشورة فيه من شيوخ العلم والطريق وغيرهم لظلت أعناقهم لها خاضعين. ولم ينبس أحد ببنت شفة في تكذيب روايتها أو بيان أنها لا تفيد المطلوب على تقدير ثبوتها، وما هي إلا حكاية من الحكايات التي تروى عن كرامات السيد وتؤخذ مسلمة، سواء كان راويها عدلاً أم فاسقًا عاقلاً أم مجنونًا. وهذه من المزايا التي يميز الجماهير بها ما يؤثر عن الأولياء من العجائب والخوارق على ما يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الحكم والأحكام. وتلك الحكايات كثيرة، وكلها ترجع إلى شيء واحد، وهو أن من يعترض على منكر يحصل في مولد السيد فلا بد أن ينكب بنكبة أو يصاب بمصيبة، وقد غلا بعضهم غلوًا كبيرًا حيث زعم أن في ذلك خطراً على العقيدة، وأن المعترض لا يكاد يموت على الإيمان، وجهل القائلون بهذا والمصدقون به أن هذا الخطر من الاعتراض لا يحيق إلا بهم؛ لأنهم هم الذين نقصوا السيد حيث جعلوه زعيم الفاسقين، وقواد الفاجرين، ورئيس العاملين على هدم الدين. (نعوذ بالله من هذا الجهل الفاضح) ، أما والله لقد طاشت سهامهم، وامتلخت أحلامهم (انتزعت عقولهم) ، وضل رشادهم، وعظم فسادهم، فإذا حدثتهم بما ينابذ الشرع والعقل قبلوه، وإذا جئتهم بما يؤيدهما رفضوه ولم يتقبلوه. وأهون ما يحكون عمن اعترض على ما يحصل في مسجد السيد أيام مولده ثم رجع إلى الإقرار، وانضوى إلى أهل الرضى والتسليم: أن رجلاً من المغرب جاء لزيارة السيد في أيام المولد، فشاهد من المنكرات ما ضاق له صدره، وعظم عليه أمره، فترك الزيارة، وخرج مغاضبًا ومنكرًا ولاية السيد، إذ لم يتصرف بهؤلاء العصاة الذين ينتهكون حرمة حماه، ويأتون المحرمات في مشهده ومغناه، فلما انتهى إلى البحر بالت بغلته في الماء فتأثر ذلك (أي خرج إثره) رجل خرج من الماء وقال للمغربي: يا رجل قد نجست الماء، فأجابه، وهل ينجس البحر، فقال له: وهل السيد إلا بحر، فكيف يعكره أو ينجسه ما رأيت؟ فرجع المغربي يحدث بما رأى، وقد أيقن أن الذي خرج من الماء وكلمه بهذا القول الهراء هو السيد البدوي. وأنا أروي لهم رواية صحيحة المتن والسند، فهل يقبلها منهم أحد، أم يرفضونها، لأنها أليق بمحاسن الدين، وفيها تعظيم صحيح للأولياء والصالحين، وهي: كان بعض طلبة العلم العقلاء يحضر العلم في الجامع الأحمدي في طنطا من نحو 30 سنة، ولما كانت أيام المولد أراد أن يصلي مع ب

المنار في بلاد الشام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار في بلاد الشام جاءنا في رسالة خصوصية من طرابلس أن صاحب العطوفة والي ولاية بيروت الجليلة أصدر أمرًا إلى متصرفية طرابلس بوجوب جمع العدد الثاني من جريدتنا (المنار) وإعدامه، فوقع عندنا الريب في شأن هذا الخبر، فإن المنار قد عاهد الله تعالى على خدمة الدولة والملة بالصدق والأمانة، في ظل أمير المؤمنين السلطان الأعظم أيده الله تعالى، وخطته علمية تهذيبية من أفضل أعمالها تأليف القلوب وجمع كلمة العناصر المؤلف منها جسم الأمة العثمانية تحت لواء جلالة السلطان الأعظم، وقد حمد مبدأه هذا جميع العقلاء والفضلاء ومحبو خير الدولة العلية. وليس في العدد الثاني منه سوى مقالة تهذيبية خلاصتها: أن سعادة الأمة لا تكون إلا في تعميم التربية والتعليم بواسطة الشركات المالية الوطنية التي تنشئ المكاتب والمدارس، وتعهد بها للعقلاء والفضلاء. وهذا لا يمكن أن يشك فيه أحد، فإن أعداء الدولة العلية الذين يطعنون بجهل شعوبها وهمجيتهم يلقون تبعة ذلك على مولانا السلطان الأعظم، مع أنه باذل قصارى همته الشريفة وموجه قواه المقدسة إلى ترقية معارفها فكم أنشأ من المكاتب والمدارس على نفقة الجيب الهمايوني الخاص [*] ، لكن يستحيل أن تكفي خزينة أي ملك أمة عظيمة كالأمة العثمانية، وعليه فلابد لأغنياء الأمة من التأسي بمليكهم والاقتداء بإمامهم. هذا ما قاله المنار، وأثبت أيضًا أن تقدم الأمة وسعادتها لا يأتي من مداخلة الأجانب واستلامهم زمام الأحكام ولا من حرية الجرائد، وكل هذا مما يكثر الثرثرة به أعداء الدولة. والمنار قد رد عليهم فخدم الدولة ونصح للأمة. وفيه أيضًا مقالة تبين أن الاستعمار الذي يدعي الأوربيون خدمة الإنسانية به لا توجد حقيقته إلا في الديانة الإسلامية التي بينت في آية الجهاد أن الحكمة في الإذن للمسلمين بالقتال هو: (1) اضطهاد المشركين لهم وإخراجهم من ديارهم (مكة) بغير حق إلا أنهم يعبدون الله تعالى دون الأصنام. (2) وكون المدافعة تحفظ الأديان السماوية، وتمنع من هدم البيع (معابد النصارى) ، والصلوات (معابد اليهود) ، والمساجد (معابد المسلمين) . (3) وقيام المسلمين إذا مكنوا في الأرض بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتعليم الناس عمل المعروف وترك المنكر. وليس في ذلك العدد وراء ما ذكرنا إلا أخبار مجملة عن الهند وكوبا واليهود في فرنسا والسودان وبعض أخبار تلغرافية نشرتها جرائد الآستانة العلية وجرائد سورية فضلاً عن جرائد مصر التي لم تمنع من بلاد الدولة العلية. فليس بعد هذا إلا احتمال أن يكون الأمر صادرًا بجمع جريدة غير جريدة المنار، وذكر اسم المنار غلطًا، أو أن بعض السعاة المَحَّالين أراد أن يبيض وجهه بسواد الكذب فكتب للحكومة السنية أن في العدد الثاني من المنار ما لا ينبغي نشره، وهو في هذا إما متوقع جائزة على عمل ضار في صورة نافع، وإما عدو للدولة والأمة، يريد أن يعرقل عمل من يخدمها بصدق ومشرب صحيح يرجى نفعه، وكان بعض العقلاء في بلاد الشام فطن إلى أن مثل هذا العمل الشريف لابد أن يعرض له عثرات، وتقام في طريقه عقبات، فقد جاءنا في البريد الأخير كتاب من بعض فضلاء الأمراء في تلك البلاد يقول فيه ما نصه بالحرف: (اطلعت على العدد الأول والثاني من جريدتكم الغراء فوجدتها وايم الله من أحسن الجرائد لهجة، وأنبلها مقصدًا، وأسماها غاية وأصدقها حديثًا، وأفصحها لسانًا، وأكثرها بيانًا، وظهر لي أن وراءها رأيًا صائبًا، وفكرًا ثاقبًا، وعلمًا واسعًا، وحكمة بالغة، ونظرًا دقيقا، وقد راق في عيني إفصاحها عن مواضع الداء، ومواطن الخلل بما ليس معه زيادة لمستزيد، أو انتقاد لمنتقد أو استفهام لمُسْتَفْهِم، مما جعلنا نوطد الآمال على انتفاع الأمة بها انتفاعًا عظيمًا، واهتدائها بهديها نهجًا قويمًا وصراطاً مستقيمًا، سائلين المولى لكم التوفيق والثبات في هذا الطريق وأن يقيها شر الحاسد وكيد المفسدين الذين يرمونها بالترهات ويقيمون في سبيلها العقبات) . اهـ. وعندنا من قبيل هذه الشهادة في المنار شهادات كثيرة. فإذا كانت الخطة التي ذكرناها وذكرنا نموذج شهادة العقلاء والفضلاء لها خطة ضرر وعداء، فما هي الخطة النافعة التي يجب انتهاجها في خدمة الدولة والأمة؟ ليفدنا عنها الطاعنون، ونحن لهم شاكرون، وإلا فليمعنوا في التبصر والانتقاد قبل رفعه إلى أولياء الأمور، لئلا يقعوا في إيذاء الأبرياء، والإساءة إلى المحسنين. ونحن نقول: لا بأس بالمراقبة على الجرائد التي تشوش الأفكار، وتنشر ما لا يليق بحالة الأمة نشره، لكن نرجو من أولياء الأمور أن ينيطوا بهذا الأمر جماعة من أهل الفضل والصدق والاستقامة، ليعطوا كل شيء حقه وبالله التوفيق.

الشرقين الأدنى والأقصى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشرقين الأدنى والأقصى إن زل بالجمل منسم، فهوى إلى الأرض صار نهوضه متعسرًا لضعف قوائمه، وقد ينكسر له في سقوطه عضو، فلا يبقى لدائه دواء غير سكين الجزار، وهذا الذي جرى للصين من حين أن زلت بها قدمها في حربها مع اليابان. وقد سقطت قبلها بروسيا تحت ضربات نابليون وفرنسا تحت سيوف الألمان، إلا أنهما نهضتا نهوض الجياد من عثراتها، لما في جسم الأمتين من الحياة الأدبية، أما الصين فهيهات أن يتسنى لها النهوض لخلوها من تلك الحياة. ما عمرت الصين هذا العمر الطويل إلا بانغلاق أبوابها دون أوروبا، واجتنابها مخالطة الأوربيين، حتى قد كان في شرائعها أن الصيني الذي يخرج منها لا يعود إليها، على أن هذا الانغلاق الذي كان سبب حياتها فيما مضى يكاد يكون سبب موتها في هذا الزمان، فإن السبب الكلي في هجوم أوروبا عليها هو فتحها للتجارة والصناعة الأوروبية. فلو أن الصين انفتحت من تلقاء نفسها، واقتبست فضائل التمدن الحديث، نابذة رذائله، وسارت سيرة الدول المتمدنة في طريق العمران، لكفت نفسها شر الوقوع في أيدي الأمم الأوروبية، ولكانت بما فيها من مئات الملايين من السكان مرهوبة الجانب عزيزة المكان. ويجدر بسائر الأمم الشرقية أن ترى العبرة في غيرها فتعتبر. فإن الغرب زاحف بقوة وشدة على الشرق، فإن لم يجاره الشرق ويقابله بعزم وطيد، وبأس شديد، صار لقمة في فيه، وباتت خيراته مطمعًا لبنيه. وأول أمة شرقية أدركت هذه الحكمة الدولة العلية والأمة اليابانية. أما اليابان فمذ بان لها خطر الوقوع في يد الغرب تهافتت على اقتباس تمدنه لمدافعته بسلاحه فما مضى عليها زهاء 50 أو 60 عامًا حتى اقتعدت في المجد مقعدًا قصيًّا وأصابت وسادًا مثنيًا. وأصبحت وهي لا تخشى للغربيين بأساً ولا ترهب لهم بطشًا. وأما الدولة العلية - أيدها الله -، فقد أخذت تنحو هذا النحو، واندفعت إلى اقتباس فضائل التمدن العصري، رغبة في الوصول إلى وسائل القوة والسعادة، فأنشأت دور الفنون والعلوم والمكاتب في كل جهات المملكة، والمستشفيات، وملاجئ العجزة، وانصرفت إلى الاهتمام بالزراعة والصناعة، ولا تزال تسعى في تلك الحلبة سعيًا حميدًا. وقد تجرأ بعض الكتاب على تشبيه الشرق الأقصى بالشرق الأدنى وهو تشبيه يدفعه عقلاء الغربيين أنفسهم ووجه الشبه عندهم أن في الشرقين خللاً واحدًا والدول راغبات في التهامهما رغبة واحدة. نقول: أما رغبة الدول فمما لا يجب البحث فيها، وهن قد يرغبن في تناول النجم إذا استطعن إليه سبيلاً، وأما الوجه الثاني: فمما يقتضي دقة النظر وإمعان الفكر. الصين أمة قديمة مغلقة، لا يعلم عنها ما هو كاف للحكم عليها، فقد يكون في باطن تلك الولايات الشاسعة المغلقة قوة وبأس وحياة، وقد يكون فيها عفن وظلمة وانحطاط شنيع، غير أنه قياسًا على بلدانها المفتوحة، لا نظن بلدانها المغلقة أصلح حالاً وأنعم بالاً، وبيانًا لحال البلدان المفتوحة حسبنا أن نقول: إن ألمانيا احتلت كياوتشو بلا حرب ولا نزاع، ولما نزلت الجنود الألمانية إلى المدينة أخلتها الجنود الصينية على الفور، خارجة منها بخوف وهلع، خروج الغنم من صيرها، فأين هؤلاء من أبطال ملونا ودوموكو. أين تلك الشعوب الجاهلة البليدة من هذه الأمم المتعددة الصاعدة في مراقي التمدن في الشرق الأدنى تحت أكناف الدولة العثمانية. زر بيروت وأزمير والآستانة، ألا ترى نفسك في بلاد متمدنة. إن أمم الشرق الأدنى خارجة من ظلمة الماضي خروج الزهور من أكمامها وما يشبهها بالشرق الأقصى إلا كل من يريد أن يتمحل عذراً لأطماعه فيها. والخلاصة: أن الشرق الأقصى لا يشبه الشرق الأدنى، كما ذهب إليه بعض كتاب الغرب ونقله عنهم بعض كتابنا. ونحسب إهانة للأمة التركية والمصرية والسورية والعربية تشبيههم بالأمة الصينية. وكفى فارقًا بين الأدنى والأقصى كون الأول مستيقظًا عاملاً على اقتباس التمدن الحديث، مجاراة لمقتضيات العصر وعنده من القوة ما يقاوم به أخصامه، والثاني نائمًا ببلادة وكسل فوق فوهة الهاوية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ف)

منكرات الموالد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منكرات الموالد [*] ألمعنا في العدد الماضي من جريدتنا إلى كثير من البدع والمنكرات التي تحصل في المسجد الأحمدي في طنطا في إبان الموسم الذي يسمونه: (مولد السيد) ، أتينا عليها في عرض القول وإطواء الكلام، وإننا نعد منها الآن ما يعن لنا نشره سردًا مع إجمال من الشرح، ثم نبحث في إزالته فنقول: (الأول) من تلك المنكرات: إبطال قراءة العلم وإفادة المتعلمين، تخلية للمسجد لتلك الجمعيات التي شرحنا بعض حالتها بحيث يصح أن يقال لنا على ذلك باختيارهم {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61) . (2) ترك صلاة الجماعة الراتبة التي يحضرها أهلها المواظبون عليها في ذلك المسجد، نعم، إن تلك الجمعيات يتخللها بعض صلوات تقام بين عزف العازفين وصراخ الصارخين ومدافعة المارين، إلى غير ذلك مما يخرجها عن صورتها الشرعية الكاملة. (3) التشويش على المصلين بدق الطبول والدفوف، والنفخ بالشبابات والمزامير، وصراخ المستصرخين بالسيد (قدس سره العزيز) ، وصياح المنادين له، وجلبة الذاكرين، وضوضاء الوفود والجموع الذين يموج بعضهم في بعض ومرور الجم الغفير بين يدي المصلي، حتى لا يدري ماذا يعمل. (4) الصلاة إلى قبر السيد (رضي الله تعالى عنه) الذي يلجئ إليه الازدحام مع الجهل، نعم إن هذه البدعة السيئة لا تختص بأيام الموالد، ولكنها تزيد فيها، وإزالتها من أهم مهمات الدين، فقد فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، وهو يحذر منها، ويبين أن الله تعالى لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد من الأمم السالفة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. (5) الطواف بقبر السيد (رحمه الله تعالى) كما يطاف بالكعبة سواء بسواء. وتمثيل هيئة أي عبادة مشروعة منهي عنه كما هو معروف في الفقه، والزيارة لا تتوقف على هذا الطواف. (6) تقبيل أعتاب المقصورة التي فيها قبر السيد (سقى الله لحده) ، ولمس قفصه والتمسح به وتقبيله " وكل ذلك بدع منكرة إنما يفعلها الجهال "، كما قال السبكي وغيره من الأعلام. (7) طلب الحوائج والمصالح من السيد (تغمده الله تعالى برحمته) ينادونه بصريح القول: يا سيد اشفِ مريضي، يا أبا فراج فرج كربتي، يا شيخ العرب تصرف بعدوي، إلى غير ذلك من المهمات التي تعرض للناس، ومنها ما لا ينبغي ذكره، ومن عجيب أمر هؤلاء الجهلاء أنهم يستنهضون همة السيد ويتقربون إليه لقضاء مصالحهم بالدراهم، فقد وضع بجانب القبر صندوق كبير مخروق سطحه خرقًا مستطيلاً بحيث يلقى منه كل نوع من النقود المتداولة، وبنذور أخرى تحار العقول في فهمها وفي سفاهة من ينذرها ويتقرب بها. منها: أن المرأة تنذر أن تلبس لبوس الرجال وتركب فرسًا وتطوف بالأسواق والشوارع الغاصة بالناس في يوم المولد، وكذلك يفعلن. ترى كثيرات متسرولات بالسراويل الرسمي (البنطلون) ، ومرتديات بالكساء المعروف (بالبالكو) ، ومتلفعات فوق (الطربوش) بمنديل من النوع الذي يسمى (الشال) ، وراكبات على الخيول بين الجموع والوفود، ومنهن من تنذر الوقوف مع الذاكرين في الحلقات، وغير ذلك مما يُستحيا من ذكره. ومن سفهاء المعتقدين من يتغوث ويستنصر بالسيد مدلاًّ عليه بألفاظ البذاء والهجر والتهديد والوعيد، لاسيما إذا طلب منه حاجته بلطف ورفق، ولم تقض عن قريب. ولا سبيل إلى حصر وسائلهم الجهلية ومقاصدهم الجاهلية، كما لا سبيل إلى تعميم الحكم على نذورهم المالية بالفساد. لعدم إمكان استقراء جميع الأفراد. ولكن كلامنا في المنكرات الظاهرة للعيان. التي لا ينكرها ولا العميان. (8) تقذير المسجد وتنجيسه، لا سيما من الأطفال الصغار الذين يكون المسجد ملعبهم ومبيتهم، وقد نص بعض الفقهاء على أن تنجيس المسجد ردة ومروق من الدين، ولعله محمول على ما إذا قصد به الإهانة، ومهما كان من أمر الحكم بالكفر والمروق. فلا خلاف في العصيان والفسوق، يشترك فيه أولياء الولدان وأولياء الشيطان الذين يغشون مجالسهم في العشي والإبكار، ويستبدلون الإقرار بالإنكار. (9) تمكين الأحداث والمعتوهين من تبوء المسجد والتمكن منه، وقد جاء في الحديث الصحيح: (جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم) . (10) اختلاط النساء بالرجال في كل نوع من أنواع الاجتماع، حتى في النوم وما يسمونه: (الذكر) . تبصر النساء في الليل مضطجعات على جنوبهن، ومستلقيات على ظهورهن يتخللهن كثير من الرجال (اللهم إنهن مستترات) ، وتتخطاهن جموع الوفود الذين يردون المسجد ذهابًا وإيابًا. وتراهن في الذكر قائمات قاعدات. وإن شئت قلت: متثنيات أو راقصات. ومنهن من يأخذها اضطراب وارتجاف وانتفاض وقشعريرة، كما يحدث للمحموم والمصروع. رأيت (شيخة) منهن تضطرب جميع أعضائها وتتخبط تخبط من أخذته نوبة عصبية، وقد أمسك بها ثلاث كيلا تقع على الأرض، وأحدق بها الناس والممسكات بها مزدهيات معجبات، قريرات العين بإقبال الناس على هذه الأسرار والكرامات، وربما كانت المرأة مصابة بالهستيريا وجاءتها النوبة في المسجد، وربما كان كل ذلك تعملاًّ وتصنعًا. (وأما كرامة الله لأوليائه فهي أجلّ من هذا الهزء والجنون الذي لا ينخدع به إلا الجاهلون) . (11) العزف والتطريب في الذكر بضرب الدفوف والطبول، والنفخ في الشبابات والمزامير، وقرع الصنوج وغيرها، إلى ما يلتحق بذلك من الأغاني الغرامية. (12) إحياء ما أماته دين الإسلام من المكاء والتصدية الذي كان في عهد الجاهلية قال تعالى {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (الأنفال: 35) ، تراهم يصفقون في الذكر وينفخون ويصفرون. (13) العرافة والتكهن (الإخبار عن شؤون الإنسان الخفية الماضية والمستقبلة) ، يتصدى لذلك أفراد من الشيوخ والشيخات فيلقون بكلامهم الفتن بين الناس والعداواة والبغضاء بين الأقارب والأصدقاء، لما يأتون به من العبارات المجملة والكلمات المبهمة، التي تذهب النفس بتأويلها كل مذهب، ويسهل على معتقدها حملها على شؤونه وأحواله في كل زمان ومكان. ذلك أنهم يقولون للمستنبئ: إن لك عدوا من أهلك طويل القامة، وفي بدنه علامة، يهيئ لك المهالك، ويوعر أمامك المسالك، إن الذي سرق متاعك رجل أسمر اللون، واسع العينين، نحيل القوام، قليل الكلام، سوف تقبل عليك السعادة، ويصدها عنك جماعة يظهرون ودك، ولا يحفظون عهدك، تصدقهم وهم كاذبون، وتأمنهم وهم خائنون. وأمثال هذه الجمل التي تثير رواكد الأوهام وتبعث على سوء الظن بالأبرياء، وتوقظ عين الفتنة بين الأهلين والجيران وتمثل الأصدقاء الأبرار، بصور الأعداء الأشرار، ولا تسل عن عاقبة الجاهلين. (14) الدجل والتمويه بادعاء الولاية الذي قال فيه بعض العارفين: إنه يورث سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، ويتبع هذا المنكر منكرات منها: (15) التعويذ والتنجيس (تعليق خرق أو عظام نجسة للوقاية من الجن) يخدع الناس هؤلاء المعوذون المنجسون بتمائم وتعاويذ وتناجيس يوهمونهم أنها تجعل العاقر ولودًا، والعقيم منتجاً، وتقي من الجن والشياطين، وتحفظ من كيد العادين والظالمين، وتمنع الحرث والنسل من الجوائح السماوية، والهوام الأرضية. وتجذب قلب المعشوق إلى العاشق، وتنفر به عن صحبة العذول المماذق، وتشفي من الأمراض المزمنة، والأدواء المستحكمة إلخ إلخ، ومنها. (16) تشويه الخلقة ولباس الشهرة، وقد ألممنا بشرحه في مقالة العدد السابق ومنها. (17) أكل أموال الناس بالباطل، فإنهم إنما يأكلون بدينهم، وقد فصل الإمام الغزالي القول في حظر هذا الأمر أحسن تفصيل. (18) مَسَن الرجال، وفُتوك النساء (أي مجونهما) ، وما هو إلا مداعبة وملاعبة. وهجر وبذاء يتحاماه المتدين ويأباه كل مهذب، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك في العدد السابق. (19) البيع في المسجد: يباع فيه الأكل واللبوس من نسيج وأكسية والكتب والسبح والأمشاط والأعطار وأنواع من الأدوية وغير ذلك. ويرون أن ما يشترى من المسجد له فضيلة وبركة. وبعض العلماء لا يحرم البيع في المسجد إذا وقع عرضًا ونادرًا، ولم يشغل المصلين ولم يضيق المسجد ولم يكن فيه امتهان له بجعله كالحانوت. وأظن أنه لا يبيحه أحد بالصورة التي تحصل الآن في الجامع الأحمدي. (20) الإنفاق من مال الوقف على إضاءة المسجد الليل كله لأجل هذه الأعمال الممزوج حلالها بحرامها، والغالب قبحها على حسنها. وربما كانت هذه النفقات من النذور أو بعضها من الوقف وبعضها من النذر، ومهما كانت هذه الأعمال محظورة وواجبة المنع فالوقوف والنذر عليها غير صحيحين. هذا ما تذكرناه الآن مما علق بذهننا من منكرات الموالد وهو أشدها نكرًا، ومن هذه المنكرات: ما يحصل في غير أيام الموالد، لكنه يزيد فيها. ونحن إنما ننكر الأفعال المخالفة لهدي الدين، لا الموالد نفسها؛ لأن المولد عبارة عن اجتماع الناس من أرجاء القطر وأنحائه في بقعة واحدة لأعمال مخصوصة. والاجتماع له فوائد مادية وأدبية لا تنكر، بل ليست المدنية إلا الاجتماع للتعارف والتآلف والتعاون على الأعمال النافعة للأمة. وبحثنا في المنكرات بمناسبة الموالد إنما هو لكثرتها فيها. ونمسك الآن عن الخوض في فوائد هذه المجتمعات التجارية والأدبية، حتى نقف عليها بالاختبار في المولد الكبير، إن أمهلنا الزمان، ونطلب الآن من علماء الشريعة وأنصار الدين أن يوجهوا أنظارهم الشريفة لإبطال هذه البدع والمنكرات، وينتصروا للدين الذي ائتمنوا عليه، فإنهم هم المسؤلون عن ذلك عند الله تعالى، ولا يغني عنهم التأفف في بيوتهم، والحوقلة والاسترجاع في زوايا خلواتهم، والتبرؤ من الحول والقوة إذا طلب منهم السعي والعمل فإن لهم بالله قوة على تلافي ذلك كله، فقد أعطاهم سلطة روحية على شعب عظيم، هو أشد الشعوب خضوعًا وانقيادًا إلى رؤسائه، وبذلك كان أعظم الشعوب قابلية للتربية والتهذيب. إن سكوت العلماء في مصر على هذه الطامات الكبر، مع بروزها بالصبغة الدينية لمما يوقع في الدهشة والعجب. يقرون في دروسهم أنه يكره المواظبة على بعض السنن والمستحبات لئلا تتوهم العامة أنها واجبة، (ولو اعتقدوها واجبة ما زادتهم إلا إيمانًا) ، ولا يبالون باعتقاد العامة أن تلك البدع والمنكرات من الدين، مع أن في استحلال بعضها ردة ومروقًا منه. إذا هان على بعض المتسمين بسمة العلماء الذين لم يرسخ علم الدين في قلوبهم، ولم يملك القرآن أعنَّة نفوسهم أن يتهاون في شؤون هذه المنكرات بحيث يغشى مجالسها ويهنئ المقترفين لها (وهم الذين نددنا بهم في المقالة السابقة) ، فلا نرتاب في أن الراسخين في العلم يتململون من اجتراح الأمة لهذه السيئات، كما يتململ السليم، ويودون أن تقلع عنها. لكنهم يظنون أن هذه العادات رسخت بكرور السنين، فلا ينجع في الآتين بها وعظ واعظ، ولا تنبيه منبه. وهذا هو السبب في سكوتهم وسكونهم، لا الرضا والتسليم، أو الخوف من تصرف السيد (قدس الله روحه) فيهم إذا انتصروا للدين، وتواصوا بالحق، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. بخلاف الذين يشاركون العامة في أوهامها، ويشايعونها على أفعالها، وهم الذين أطلقنا القول في العدد الماضي بالانتقاد عليهم. والذي نستلفت [1] إليه أنظار هذا الفريق من العلماء الذين وصفهم الله تعالى بخشيته أن يسلكوا في إبطال هذه البدع والمنكرات طريقي

صدمة جديدة على اللغة العربية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صدمة جديدة على اللغة العربية (1) كان من مقتضى ناموس الارتقاء أن تبلغ اللغة العربية الشأو الأعلى من التقدم بعد ظهور الإسلام، لكن هذه اللغة لم تخط مع تقدم الإسلام إلا بعض خطوات، حتى اعتورتها العثرات، وانتابتها الصدمات، ولولا أن الله تعالى قيَّض لها قومًا من الأخيار تداركوا الخرق قبل اتساعه لمحيت رسومها، وطمست حدودها، ولم يبق منها إلا ما بقي من بعض لغات الأمم البائدة - كالكلدانيين والآشوريين -، ولكن علماء المسلمين مع عنايتهم الكبرى في علوم اللغة، واشتغالهم بها عن علوم كثيرة كانوا في حاجة إلى التوسع فيها لم يتنبهوا في أكثر عصورهم للطريقة المثلى في التعليم التي تحفظ ملكتها في الألسنة، وتجري في ميدانها فرسان الأقلام، فخرجوا بالعلوم العربية عن الغرض منها، وسلكوا في قواعدها ومسائلها مسلك العلوم النظرية من: التعليل والتدقيق، حتى صار تحصيل ملكة هذه العلوم غير تحصيل ملكة اللغة في القول والكتابة، ثم اعتاصت الكتب المؤلفة فيها على الأفهام؛ لدقتها التي أشرنا إليها، والإيجاز المخل في متونها، والخلط في شروحها وحواشيها بين الفنون وكثرة الآراء التي ليست من الفن في شيء. فآل الأمر إلى قلة الطالبين لها، ثم إلى قلة من يحصل ملكة الفن من هؤلاء الطالبين، بل صار قصارى ما يصل إليه الطالب أن يحصل ملكة الفهم في كتبها، وعند ذلك يسمونه عالمًا أو علاَّمة في العربية (صاحب كرّاس) ، وإذا اتفق لأحد تحصيل ملكة الفن فإن ذلك لا يفيده في تقويم لسانه بالكلام العربي الفصيح، ولا يقتدر معه على الكتابة العربية البليغة؛ لأن ملكة هذه الفنون لابد في الحصول عليها من سلوك طريق آخر كما ألمعنا. ولقد تنبه جماعة من عقلاء هذا العصر وفضلائه إلى إحياء اللغة التي يئس الجماهير من إحيائها، وذلك بإصلاح كتب الفنون وطريقة التعليم (اللتين صارتا عقبة في طريق العربية) ، وبالتنبيه على الطريقة التي تطبع ملكة اللغة في النفوس بحيث تقتدر على الإتيان بالكلام العربي الصحيح من غير روية ولا تكلف. لكن الدهماء من أبناء أهل هذا اللسان لم يلتفتوا إلى هذا الإصلاح، بل منهم من يستنكره ذهابًا مع العادة أو ترفعًا واستنكافًا من الاستفادة. والساعون في إماتة هذه اللغة الشريفة مجدون في سيرهم، ثابتون في جهادهم، يقيمون العقبات، ويوالون الصدمات، والصدمة الجديدة التي أشرنا إليها في عنوان هذه المقالة هي: إحياء اللغة العامية المصرية، بجعلها لغة كتابة، لكن أتدري بماذا تكتب؟ تكتب بحروف إفرنجية اخترعت لها، والهمة مبذولة في نشر ذلك وتعليمه للمصريين. لهفي على اللغة العربية المقدسة. ألم يكفها تحقيرًا وامتهانًا أن المصريين ينشؤون الجرائد باللغة العامية؟ كان في الأمل أن كثرة الجرائد باللغة الصحيحة تكون من أنجح وسائل إحيائها، فقامت جريدة (الحمارة) و (اللجام) و (الغزالة) و (الشيطان) تعارض الإسلام، والمقتطف والهلال والمؤيد والأهرام والمنار، بل سقطت مجلة البيان الفصيحة، ونهضت الحمارة باللجام (واخجلتاه) ، ألم يكفها هذا حتى قام جماعة يسعون لتعميم تعليم اللغة العامية بحروف إفرنجية يقربون بها المصريين إلى تناول لغاتهم من حيث يبتعدون عن لغة علومهم ودينهم التي فيها عزهم وشرفهم. ومما يضحك الثكلى ويبكي المسْتَيْئِس الذي جاءته البشرى: قول صاحب الكراسة في بيان فوائد هذه الحروف: (والذين يرتئون استعمال هذه الحروف الجديدة لكتابة اللغة المصرية العامة التي يتكلمها سكان مصر على اختلاف طبقاتهم يحسبون أن نتيجة ذلك ستكون خيرًا عظيمًا على القطر المصري) . وقوله بعد بيانها: ونتيجة ذلك كله جعل الأمة المصرية أمة متعلمة عزيزة الجانب متحدة الكلمة. فليت شعري ما هي العلوم والآداب المودعة في هذه اللغة العامة التي ينتج حفظها في الكتابة الإفرنجية هذه العزة والمنعة، ويمنحها هذا الاتحاد في الكلمة، ومع من يكون هذا الاتحاد، هل هو مع سائر إخوان المصريين في اللغة من الحجازين والسوريين والمغاربة والعراقيين أم مع غيرهم؟ ؟ مَن أعطى هذه الخلابة بعض حقها من النظر تجلى له أن أهل هذا الاختلاب يعتقدون فينا الجنون والاختبال، وأننا فقدنا الإدراك والشعور بوجوه المنافع والمضار، فلا نفرق بين الخير والشر، ولا نميز بين الإصلاح والإفساد؛ فإن الغوائل التي أبرزها صاحب الكراسة في صورة الفوائد لا يمكن أن ينخدع بها عاقل مهما كانت مموهة الظاهر، وهي أربع، أشير إليها هنا إجمالاً، ثم أفصل الكلام في المناقشة عليها تفصيلاً في العدد التالي إن شاء الله تعالى، وهي: (1) تسهيل التجارة. (2) تعميم التعليم. (3) حفظ اللغة العربية (العامية) ، ولم يخجل مؤلف الكراسة عند ذكر هذه الفائدة من بيان أن اللغة العربية الصحيحة آخذة في الاضمحلال بتعلم اللغة الإنكليزية واللغة الفرنساوية، وأنه ينبغي الاعتياض عنها بلغة العامة. (4) قلة نفقات الطبع وتوحيد اللسان بين الوطنيين والأجانب، وأن ذلك مما يقوي الوطنية (انتهت الفوائد) . وأنت ترى أنه ألحق بالفائدة الرابعة فائدة أخرى أهم منها، ولعله إنما عدهما فائدة واحدة، وجعل توحيد اللسان وقوة الوطنية تابعًا لقلة نفقات الطبع مع عدم المناسبة بينهما؛ لشدة ظهور الخلابة والخديعة في دعواه " قوة الوطنية بتوحيد اللسان العامي بين الأوربي والمصري ". وأي شيء يكون أوضح من بطلان دعوى من يدَّعي أن الشمس مظلمة، والطاعون الجارف نعمة، والعسل قوي المرارة، والحنظل شديد الحلاوة. وهَبْني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء وإذا صح هذا التعليل فإننا نشكر لحضرة المخترع اعتقاده أنه ربما يوجد عند البعض منا قليل من الفهم والتمييز يفطن به لخلابته هذه فأوردها في عرض القول وأخريات الكلام. ((يتبع بمقال تالٍ))

خبر واعتبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خبر واعتبار جاء في باب المسائل من مجلة المقتطف المفيدة (جزء 4 مجلد 22) الصادرة في غرة أبريل الجاري سؤال وجواب فيما تحدثت به جرائد العالمين من إجلاء اليهود عن الممالك التي تضطهدهم ومهاجرتهم إلى فلسطين، فرأينا أن نبين ذلك للقراء ونذيله بما يعنّ لنا بشأنه من التنبيهات الموجبة لليقظة والاعتبار وها هو بحروفه: (س) فرنكفورت على نهر الماين: أ. س. جودا، لا بد أنكم سمعتم عن الحركة التي حدثت فجأة منذ ستة أشهر بين اليهود في بلاد النمسا وألمانيا وإنكلترا وأمريكا وهي المعروفة باسم الصهيونية. ويظهر من الجرائد الأوروبية أن غاية الصهيونيين إنشاء مساكن في فلسطين لليهود المضطهدين في روسيا وبلغاريا ورومانيا وبلاد الفرس والمغرب، وذلك بإذن الدولة العلية وكفالة الدول الأوروبية وتحت حمايتهن. ومرادهم تعمير أراضي فلسطين بالفلاحة والصناعة، فيعيشون آمنين في ظل الحضرة الشاهانية، ويقل عدد الفقراء في أوروبا وتتسع أسباب التجارة بين الشرق والغرب، وقد أسهمت الجرائد الشهيرة كالتيمس والدايلي كرونكل والديلي تلغراف وأشهر جرائد النمسا في استحسان هذا الرأي وقالت: إنه قريب المنال؛ لأن الدولة العثمانية ترغب في عمار بلادها، والدول الأوروبية لا تمنع فقراء اليهود من ترك بلادهن والانتقال إلى البلدان الشرقية لكي ينشروا فيها المعارف ويوسعوا التجارة والصناعة، لا سيما وأن اليهود قد اشتهروا بولائهم للدول التي تحميهم وتحسن إليهم، فتجد الدولة العثمانية منهم كل ولاء وأمانة. وأريد أن أعلم من المقتطف: هل اعتنت الجرائد العربية في مصر وسورية بهذا الأمر، وما ورائكم في إمكان إجرائه؟ (ج) لا يظهر لنا مما نطالعه من الجرائد العربية أنها اعتنت بهذا الأمر اعتناءً خاصًا، وإنما ذكره بعضها مع سائر الأخبار التي يذكرها. واليهود الذين أتوا فلسطين حتى الآن أهل صناعة وتجارة كما تقولون، وقد أفلحوا فيها وقبضوا على أكثر فروع التجارة والبيع والشراء، وإذا زاد عددهم قبضوا على كل موارد التجارة وأساليب الصناعة، أما الفلاحة فلا نظن أنهم يعكفون عليها، لأنهم ليسوا أهل فلاحة في بلاد من البلدان التي هم منتشرون فيها. وقد صار كل شيء ممكنًا لأهل المال، فلا يستحيل عليهم أمر إذا بادروه وعقدوا النية عليه، فإذا اتفق أغنياء اليهود في أوروبا على ابتياع الجانب الأكبر من أراضي فلسطين ونقل إخوانهم الفقراء إليها لم يتعذر عليهم ذلك، ولم يتعذر على هؤلاء الفقراء أن يعيشوا في فلسطين بالراحة والرخاء؛ لأن الأرض وسيعة وخيراتها كثرة، وكانت تمون أضعاف سكانها الحاليين، ولكن بين ما يمكن للإنسان وما يقدم عليه بونًا شاسعًا، فإن الناس إذا عملوا أعمالهم عن اختيار لا عن اضطرار جروا في الطرق التي يلاقون فيها أقل المقاومات، وأغنياء اليهود لا يرون أنفسهم مضطرين إلى نقل إخوتهم إلى فلسطين، ولا هذا النقل من الهنات الهينات، نعم إنه تقوم بينهم أحيانًا أناس محسنون أهل غيرة وحمية، كالبارون هرش، فينفقون النفقات الطائلة على نقل جماهير كبيرة من إخوانهم إلى بلاد يبتاعونها لهم ويسكنونهم فيها، ولكن ذلك نادر، ونقل اليهود إلى فلسطين وابتياع الأرض من الحكومة ومن أصحابها أصعب من نقلهم إلى أرجنتين، ولذلك نستبعد نجاح الصهيونيين، ونحسب أن السعي لدى حكومات روسيا ورومانيا والبلغار في إصلاح شأن اليهود فيها أقرب منالاً، لا سيما وأن طلب كفالة الدول الأوروبية وحمايتهن لليهود الذين يراد نقلهم في فلسطين عقبة كبيرة في سبيل هذا الغرض، لأن الدولة العثمانية لا ترضى بها. اهـ بحروفه. (المنار) قد أوردنا هذه المسألة لعدة فوائد: (1) أن المضطهدين في جميع ممالك الأرض يرغبون الجلاء إلى بلاد الدولة العلية ليكونوا في مأمن من الظلم والاضطهاد في ظل الحضرة السلطانية الظليل. وما ذلك إلا لاعتقادهم أنه ليس في بلاد الدولة من الغلو في التعصب وإيذاء المخالف ما في سائر الممالك التي يرغبون الجلاء عنها، كروسيا وبلغاريا، والتي لا يودون الجلاء إليها كبقية ممالك أوروبا، ولا التفات لقول القائل: تحت حماية أوروبا؛ لأننا نرى جميع اليهود في بلاد الدولة العلية سواء لا يرون فيها ثورة ولا شغبًا، ولا يمنعون حرفة ولا كسبًا، ودانية عليهم ظلالها، ومساوية بينهم أحكامها، نعم إن المرجح لاختيار اليهود فلسطين كونها بلادًا مقدسة وموضع آمال منتظرة. ولكن الأمن والراحة شرط للاختيار. (2) توجيه الأنظار وتحويل الأفكار إلى ما فيها من مطارحات الجرائد ومداولات الساسة في أوروبا بشأن تعمير فقراء اليهود لبلاد فلسطين، وبث المعارف، وتوسيع التجارة والصناعة في ربوعها، لعل أهل بلادنا تجيش في نفوسهم مراجل الغيرة، فتندفع إلى طلب ما تتوقف عليه سعادة أوطانهم من علم وعمل، ولا شك أنهم لا يعدمون عند الطلب رشادًا. (3) إيقاظ قوم قد رُزئوا بالخمول، وكاد يعمهم الذهول، واستلفاتهم إلى الروابط المحكمة بين اليهود مع تفرقهم في الممالك وتشتتهم في الأقطار، وكيف يمدون سواعدهم لمساعدة إخوانهم، ومعاضدة قومهم من وراء البحار وشعوف الجبال. ولم يصدهم تنائي الديار، عن المواصلة في الأفكار، والتعاون بالدرهم والدينار، الذي يحقق به كل أمل، ويناط به كل عمل. فيا أيها القانعون بالخمول أقنعوا رءوسكم (ارفعوها) ، وحدقوا أبصاركم وانظروا ماذا تفعل الشعوب والأمم. أصيخوا لما تتحدث به العوالم عنكم، أترضون أن يسجل في جرائد جميع الدول أن فقراء أضعف الشعوب الذين تلفظهم جميع الحكومات من بلادها هم من العلم والمعرفة بأساليب العمران وطرقه بحيث يقدرون على امتلاك بلادكم واستعمارها، وجعل أربابها أجراء وأغنيائها فقراء ... تفكروا في هذه المسألة واجعلوها موضوع محاورتكم، لتتبينوا هل هي حقة أم باطلة، صادقة أم كاذبة، ثم إذا تبين لكم أنكم مقصرون في حقوق أوطانكم وخدمة أمتكم وملتكم، فانظروا وتأملوا وتفكروا وتذاكروا وتحاوروا وتناظروا في مثل هذا الأمر فهو أخلق بالنظر من اختلاق المعايب، وانتحال المثالب، وإلصاقها بالبرآء، وأَحْرَى بالمحاورة من التذقح والتجني على إخوانكم، فإن في الخير شغلاً عن الشر، وفي الجد مندوحة عن الباطل {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .

رئيس الولايات المتحدة والحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رئيس الولايات المتحدة والحرب يتشوف العالم الآن للوقوف على ما عساه يحدث بين الولايات المتحدة وأسبانيا والأنظار كلها شاخصة إلى مستر ماكنلي رئيس جمهورية الولايات المتحدة، وكتاب السياسة يقولون: إن الحرب والسلم بين يديه، وربما يخطر في بال القارئ أن حكومة تلك البلاد جمهورية، والحكم في البلاد الجمهورية للأمة، والرئيس ليس إلا منفذًا لما يقرره نواب الأمة وشيوخها. ونحن ننقل من القانون الأميركي ما يتعلق بسلطة الرئيس؛ ليعلم القراء أن ما يقوله الكتاب هو عين الصواب، فنقول: إن شرائع جمهورية الولايات المتحدة تختلف عن شريعة الجمهورية الفرنساوية وغيرها اختلافًا كثيرًا. ذلك أن السلطة في تلك الولايات موزعة على أصحابها توزيعًا لا يدع للبعض حق المداخلة في شؤون البعض الآخر. وغني عن البيان أن السلطات في هيئة كل حكومة ثلاث: (تشريعية - وتنفيذية - وقضائية) ، فكل واحدة من هذه السلطات منفصلة في أميركا عن الآخرين انفصالاً تامًّا، ولا يد لها ألبتة في غير شؤونها الذاتية. فرجال السلطة التشريعية يضعون القوانين، ورجال السلطة التنفيذية ينفذونها، ورجال القضاء يراقبون سير السلطتين. فلا يجوز مثلاً للوزراء المداخلة بالشؤون التشريعية، كتقديم مشروع قانون إلى مجلسي الأمة، أو البحث في أمر من أمورهما، بل ليس لهم دخول ذينك المجلسين ألبتة. وكذلك لا يجوز لرئيس الجمهورية أن يعرض مشروع قانون على المجالس أو المداخلة بشؤونها التشريعية، فإنه مع الوزراء أصحاب السلطة التنفيذية ولا يد لهم في الأمور التشريعية. وقد يظن البعض بناء على ما تقدم أن رئيس الجمهورية آلة بيد المجالس النيابية، والحقيقة أن له من السلطة القانونية ما ليس لكثير غيره من رؤساء الحكومات الجمهورية. فهو إذا أراد وضع قانون لم يقدم به مشروعًا إلى المجالس من عند نفسه، بل يوعز إلى أحد أنصاره السياسيين من أعضاء مجلس الأمة أو السنات فيقترح هذا العضو على المجلس الاقتراح المطلوب، فيضعه المجلس موضع البحث والمناقشة، وبذلك يتم ما أراده الرئيس. فهو إذًا قادر على اقتراح وضع القوانين، إن لم يكن مباشرة فضمنًا، وهذا ما جرى أمس في مشروع العشرة ملايين جنيه التي قررتها المجالس للدفاع عن الوطن، فإن الرئيس أوعز إلى صديقه النائب مستر كنون أن يقترح ذلك على المجلس، فتم ذلك على ما نقلته إلينا الرسائل البرقية. أما وقد علمنا الآن أن للرئيس حيلة في وضع النظامات التي يرى لزومها، بقي لنا أن نعلم مقدار ما للرئيس من السلطة وما يكون من أمره عند خروج أحد المجلسين عن سواء السبيل بتقريره ما لا ينطبق على المصلحة العامة، وسياسة الرئيس. نقول: إن للرئيس - والحالة هذه - سلطة الاعتراض على المجلس فيما قرره وإرجاع قراره إليه ليعيد النظر فيه مشفوعًا برسالة منه يظهر فيه وجه الخطأ ورأيه في الوجهة التي يجب على المجلس قصدها، مراعاة للحق أو للصالح العام. وعلى الرئيس حينئذ أن يطبع صورة ذلك القرار والرسالة التي بعث بها إلى المجلس وينشرها في البلاد، لتطلع الأمة عليها، وتبدي رأيها فيها. وعند بحث المجلس في هذا القرار المردود لا يكون تقرير رفضه أو قبوله إلا بأكثرية ثلثي الأعضاء، وبعد قراءته ثلاث مرات في المجلس، فإن بقي المجلس مصرًّا على قراره كان للرئيس إرسال ذلك القرار للمجلس الثاني بالصورة الأولى بعد نشره، ونشر آرائه فيه، لتقف الأمة عليها وتكون الحكم فيها. وغني عن البيان أن المجلسين لا يستطيعان في هذه الحال أن يحكما حكمًا لا يرضاه الرأي العام؛ لأن الشعب لهما بالمرصاد وهو الحكم الأعلى في تلك البلاد المتمدنة. ومن المعلوم أن إشهار الحرب مختص بالمجلسين لا برئيس الجمهورية. غير أن للرئيس حق الاقتراح ضمنًا، وحق الاعتراض مباشرة كما ذكرنا، فإن أراد المجلسان إعلان الحرب الآن كان له أن يقترح على أنصاره الأعضاء أن يقاوموا مريدي الحرب أشد مقاومة. فإن غلبوا على رأيهم وتقرر إشهار الحرب، كان للرئيس أن يرد ذلك القرار للمجلسين ليعيدا فيه النظر، ويقرره بأكثرية ثلثي الأعضاء لا بأكثرية قليلة بعد أن ينشر سلامة آرائه في المسألة. ولا يعدم حينئذ من عقلاء الأمة الأميركية من يرون رأيه الصحيح في إيثار السلم على الحرب، والتمدن على البربرة، فيتكاتفون على الوقوف في وجه من يريدون إضرام نار الحرب للتشفي والانتقام، أو للربح من وراء المضاربة والالتزام. ففيما مر بك تفسير لما رواه روتر من عزم أسبانيا على استرجاع سفيرها من الولايات المتحدة حين تصديق الرئيس مكنلي على قرار مجلس الأمة. ذلك أنها ترى في تصديق الرئيس إعلانًا للحرب، وقطعًا للأمل في السلم، أما تقرير المجلس فلا تعبأ به إذ للرئيس مكنلي أن يرده بالصورة الآنفة. إذًا صدق مَن قال بأن السلم والحرب بين يدي مستر مكنلي رئيس الجمهورية، فحبذا لو يحقق آمال محبي السلام في تغليب الحلم والعقل على الطيش والجهل وحب الانتقام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ف)

كيف السبيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كيف السبيل؟! [*] قلنا: إن الطريقة المثلى لإبطال منكرات الموالد (وغيرها) إنما هي طريقة الوعظ والتعليم، وقلنا: إن ذلك على ثلاثة ضروب: الخطابة - وقراءة علم الأخلاق والآداب - وسلوك طريق التربية عملاً وتحققًا وهو المعبر عنه بالتصوف. ولا شك أن هذه الثلاثة لو أعطيت حقها من العناية لنهضت الأمة نهضة الأسود، فاستردت مفقودًا، وحفظت موجودًا، وبعثها الله مقامًا محمودًا، هذه الثلاثة هي الأركان التي قام عليها بناء الإسلام، وحفظ مجده بمراعاتها إلى أجل مسمى، وما انثلمت هذه الأركان في مكان إلا انثلم شرف الإسلام، وما تقوض صرح عزة في قطر إلا بعد أن تقوضت هذه الأركان الثلاثة، يشهد بهذا تاريخ هذه الأمة لمن نظر بعين التأمل والاعتبار. ولا نطلق للقلم العنان للجري في هذا المضمار، كما يشاء، فقد وعدنا أن نخص القول فيما يتعلق بمنكرات الموالد، ووفاء بالوعد نقول: الركن الأول: الخطابة يمكن للجنة العلماء التي تجتمع للمذاكرة في إبطال المنكرات أن تكلف أحد أعضائها الفصحاء بإنشاء خطب تزجر عن هذه المنكرات زجرًا مفصلاً، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وتبني للناس حقيقة التوحيد، وأن الأولياء أحياءً وأمواتًا {لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} (الفرقان: 3) ، بل توضح لهم أن القرآن صرح بأن النبي (بله الولي) بشر مثلنا وإنما يتميز على سائر الناس بما منحه الله به من الوحي الذي يعمل به على الوجه الأكمل، ويعلمه الناس، وأنه ليس عليه إلا البلاغ والتعليم، فلا يقدر على هداية أحد من نفسه {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (البقرة: 272) {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) ، وإذا كانت الهداية التي جاء لأجلها لا يقدر على إيصالها للناس، وإنما عليه بيان طريقها فقط، فهو لا يقدر على إيصال المنافع الدنيوية إليهم بالطريق الأولى (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، إلا ما يكون مما يتعاون به الناس بعضهم مع بعض، وتنبه على أن المعجزات والكرامات ليست من الأسباب التي تناط بها مصالح المعاش، وتبنى عليها الأعمال الكونية، بل هي من الأمور النادرة التي لا يبنى عليها حكم، وليست مما يحصل بقدرة من تصدر على يديه وإرادته، كالأفعال الاختيارية التي يتمكن من فعلها متى شاء، بل لا يجريها الله تعالى على أيدي أصفيائه إلا لحكمة بالغة، كإقامة الحجة على صدق الأنبياء في دعواهم النبوة، وتشرح لهم أن الله تعالى تفضل على عباده فجعل لكل شيء يحتاجه الإنسان في حياته أسبابًا تؤدي إليه، وهدى الناس إلى اتباع هذه الأسباب، فجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يشكرونه باستعمالها فيما خلقت له على الوجه الذي تجتنب فيه المضار، وتجتلب المنافع، وإذا هم شكروه باستعمالها زادهم نعمًا بهدايتهم إلى ما لم يكونوا يعلمونه من أسباب السعادة بما علموه وعملوا به منها: (من عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم) ، وإذا هم كفروا النعمة بإهمال أسباب السعادة التي أنعم عليهم بها تكاسلاً، أو اعتمادًا على الخوارق وإبطال سنة الله تعالى في الكون، فإن الله يعذبهم بالحرمان من السعادة، كما هو منصوص في الكتاب السماوي ومشاهد في كتاب الكون الإنساني {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) ، وكفى بكتاب الله تعالى حجة، وبمشاهدة سنته في خلقه عبرة (ولكن أكثر الناس لا يعقلون) . بمثل هذه المواضيع تنشأ الخطب ويوحى إلى الخطباء أن يخطبوا بها لا بمدح الأيام والشهور، وذكر المواسم التي يعرفها الجمهور، بل والناس أجمعون. فإذا أنشأت اللجنة خطبًا منبهة على الحق، منذرة بخطر الانحراف عنه في الدنيا وفي الآخرة، وعهدت بها إلى خطباء القطر في جميع البلاد، فلا شك أن الخطباء تلبي طلبها وتمتثل أمرها ويكون لذلك أثر ظاهر {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) . ثم إن الخطابة لا تنحصر بمنابر المساجد فينبغي للعلماء الأتقياء الذين يغشون مجامع الناس في الموالد أن يخطبوا فيهم في كل مجتمع، ويحذروهم من اجتراح السيئات واقتراف المنكرات، ويبينوا لهم ما نزل إليهم بعبارة واضحة، يسهل عليهم فهمها، وإذا كانت عامية أو قريبة منها يكون حسنًا. أما وسر الحق لو انتهج أهل العلم هذا المنهج مع العامة لما رأوا منهم إلا إقبالاً وقبولاً، فإنهم قوم لا يتمارون بالنذر، ولا يستنكفون عن الخضوع للحق، لا سيما إذا جاء بعنوان الدين على لسان العلماء والصالحين. إن الذي يستمسك بالباطل إذا توهمه دينا كيف يكون حاله إذا سطع نور الحق في قلبه بالإرشاد والتعليم الصحيح، لا جرم أن استمساكه به يكون عظيمًا. انظر تاريخ الشعب المصري وتأمل حالته اليوم. تراه في جميع الطوارئ وأدواره خاضعًا لرؤسائه، لا يفتات عليهم، ولا يستبد دونهم بشيء. فجميع ما طرأ على هذا الشعب وجميع ما هو فيه الآن إنما مبدؤه ومصدره الرؤساء سواء كان ذلك في الأمور الدينية أو الشؤون الدنيوية. ربما أضر هذا الخُلُق (الخضوع والانقياد) بالمتخلقين به في بعض الأطوار. لكنه يكون في طور الإصلاح والإرشاد أكثر للخير إسراعًا وأشد في مضماره إيجافًا وإيضاعًا. دخل كاتب هذه الكلمات إحدى الخيام في المولد فرأى شيخًا من البهاليل المعتقدين، وقد التفت عليه النساء، وأحدق بهن الرجال، والبعيد من هؤلاء وهؤلاء يجتهد في أن تصل أطراف بنانه إليه فتلمسه، وعند ذلك يرى نفسه سعيدًا، وقد شبرق القوم من التجاذب ثيابه، يرجون بركة ذلك وثوابه، فسألت مَن في حاشية المجتمع عن الشيخ فقيل لي: هو الشيخ عبد الغني أبو الغيط، وهو من الأولياء الذين يفيضون البركات، ويكشفون الكربات، فأنشأت أبين لهم معنى الولي، وأنه إنما يمتاز عن الدهماء بالعلم والعرفان، وتقوى الله تعالى في السر والإعلان ... إلخ. ثم بينت لهم غلوهم في الأولياء، وغرورهم وانخداعهم بالدجل، أمزج الكلام في ذلك بآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، ومنثورات مما يؤثر عن الصالحين، فأقبل القوم علي بعد إنكار قليل، وتركوا الولي والنساء، ثم أجلسوني وأحاطوا بي، وطفقوا يسألون وأجيب. وألقيت عليهم في خلال ذلك ما يجب اعتقاده في الله تعالى، وأطلت بعض الإطالة في بيان الوحدانية، ثم أفهمتهم معنى سلوك الطريق، وأن جماهير المنتسبين للصوفية اليوم منحرفون عما كان عليه أسلافهم من الحق والاعتصام بالكتاب والسنة، وأدخلوا في الطريق بدعًا وعادات لم يكن يعرفها الأولون. فسلموا بجميع ما قلته لهم تسليمًا، ورغبوا إلى أن أسلكهم الطريق على وفق الكتاب والسنة، كما حكيت لهم عن سلف الأمة، فاعتذرت لهم وفارقتهم وهم آسفون، وما كادوا يسمحون لي بمغادرتهم حتى أظلنا الليل وشيعوني باحتفال حافل، وتقبيل أنامل. هؤلاء هم المصريون، إن شئت قل في سوادهم الأعظم: إنه من شر الشعوب حالة في الدنيا والدين، وإن شئت قلت: إنه خير الشعوب وأفضلها؛ لأن خير ما يمتاز به الإنسان هو قوة قابليته للتربية والتعليم. وللشعب المصري من ذلك السهم الأوفر والقدح المعلى، وإنما قصر بهم الأساتذة والمعلمون. فيا هداة الأمة ويا وُرَّاث الرسل أدركوا هذا الشعب بالإرشاد والتعليم الصحيح الذي يهديهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية. أدركوا قومكم من قبل أن يخرج أمرهم من أيديكم، فإن آراء وتعاليم أخرى تدب إلى نفوسهم من حيث لا يشعرون. إن الخرافات التي يتراءى للبعض أنها تعطيهم قوة وصلابة في الدين، حيث قد أخذت بعنوان الدين، هي التي يخشى أن تكون العاملة على هدم الدين وتلاشيه، إذا تنبهوا لفسادها، وحالة العصر تقضي أن سيتنبهون. إن الحق لا يأتي من طريق الباطل، وإن الهدى لا يحتاج في حفظه إلى الضلال. فأدركوا الأمة قبل أن تفقدوها، فأنتم عنها مسؤولون {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) . الركن الثاني: قراءة علم الأخلاق والآداب الدينية هذا العلم هو الذي يعرّف الإنسان حقيقة الدين، ومنه تستمد الخطابة والوعظ. فإن من درس هذا العلم ومارس أحكامه وتوسع فيها يعطيه ذلك قوة على الوعظ والإرشاد، وإذا حاول الوعظ وزاوله وثابر عليه حينًا من الدهر انطبعت في نفسه ملكة صحيحة وصار خطيبًا حقيقيًّا (في هذا الموضوع) ، فنرجو من سادتنا علماء الأزهر الشريف أن يعطوا هذا الفن حقه من الاعتناء، ليخرج الطلاب من هذا الجامع متفقهين في الدين عارفين بحقيقته عاملين على إحيائه في بلادهم وأوطانهم {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) . إلا أن قراءة أحياء العلوم خير من قراءة الكتب التي تميتها - كحاشية الصبان ونحوها - من الكتب المملوءة بالآراء التي هي أمشاج وأخلاط من فنون شتى، بل ليست بشيء من الفنون. وإن البحث عما يطبع ملكات الفضائل في النفس، أفضل من التفرقة بين اسم الجنس وعلم الجنس، وإن معرفة أمراض الروح وعللها وكيفية معالجتها والأدوية التي تعيد إليها صحتها هي أحرى بالعناية وأجدر بالتوسع والتطويل من التوسع في معرفة علل الكلام، والتطويل بالقيل والقال، لا سيما على الوجه المعروف الذي يفسد الأذهان، ولا يقوِّم اللسان، بل إن إشغال الوقت في عرفان طريق التخلية عن الحسد والعجب والكبر، والترفع عن الكذب والخيانة والوقاحة وسائر الرذائل التي تفسد أعمال الإنسان، وتهبط بذويها إلى أسفل درجات الذل والهوان، هو أولى من إشغاله السنين الطوال بمعرفة دقائق أحكام المدبر والمكاتب وأمهات الأولاد، ونوادر الفروع في الجنايات، والحدود والعقوبات وما أشبه هاتا من المسائل الفقهية التي أهملها أهلها، فصارت آثارًا تاريخية. فما بالك بالأبحاث العقيمة لذاتها، التي يهبها الإنسان عمره النفيس جزافًا بلا عوض، كالبحث في الماهيات هل هي مجعولة أو غير مجعولة. وعن الجعل البسيط والمركب، والهيولي والصورة، والوجود هل عين الموجود أو غيره، والجزء الذي لا يتجزأ، وعن مناكحة الجن، وصحة الاقتداء بهم، ونجاستهم إذا تشكلوا بصورة حيوان نجس أم لا، وعن الحيوان المتولد بين نوعين مختلفين، وغير ذلك المستنبطات التي وصلوا بها إلى حد فرض المستحيلات العقلية والمادية (كما صرح بعضهم) والتي بها عاب الإمام حجة الإسلام فقهاء عصره، وبيَّن أنهم أهملوا الفقه في الدين (التهذيب) ، واشتغلوا عنه باستنباط مسائل تمضي الأعمار ولا يحتاج إلى شيء منها. ولا أطيل في القول فإن كل من لاحظ أن العلم إنما يراد للعمل وأن العمل ينتج السعادة يعلم علم اليقين أن علم تهذيب الأخلاق هو أحق بالعناية من سائر العلوم، وأولى بالتقديم على ما سوى العقائد، بل قال بعض الأئمة (وأظنه إمام الحرمين) : (إن الأخذ بتهذيب الأخلاق علمًا وعملًا هو أول ما ينبغي أن تتحلى به نفس الإنسان) . وقد بينا في العدد الرابع: أنه سعادة الدنيا والآخرة في التهذيب، وأيدنا ذلك بالآيات العقلية والنقلية، وقد صرح الفقهاء بأن هذا العلم من الفروض العينية التي يجب على كل م

صدمة جديدة على اللغة العربية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صدمة جديدة على اللغة العربية (2) ألمعنا في العدد السالف من جريدتنا إلى أن الساعين في محو اللغة العربية الصحيحة من الوجود قد استنبطوا لهذه الغاية حروفًا لإحياء اللغة المصرية العامية، حروفًا إفرنجية تقرب من يتعلمها من اللغات الإفرنجية، وتقصيه عن لغة كتابه ودينه وأسلافه الذين يفتخر بهم، ويباهي بعلومهم وآدابهم، وتقطع النسبة بينه وبين مشاركيه في الدين واللغة من أهل البلاد الحجازية المقدسة، وسائر البلاد العربية التي تكتنف البلاد المصرية وترجو أن يلمع نور إحياء العربية من ربوع مصر وأكنافها، فيستضيء به كل من ينطق بالضاد. جاء في أول الكراسة التي ألفت في بيان فوائد هذا الاختراع أن الذي (استنبط هذه الحروف (ولهلم سبتَّا) بك أمين الكتباخانة الخديوية، اللغوي الألماني المحقق، الذي توفي سنة 1883، وهو في الثلاثين من عمره. وقد استعد لذلك بدرس حروف الهجاء وأساليبها في كل لغات الأرض، ولا سيما تغييرات حروف الهجاء اللاتينية المستعملة الآن في أوروبا وأمريكا) . وجاء فيها أيضًا ما نصه: (وألف سبتا بك كتابًا ألمانيًّا في صرف هذه اللغة العربية المصرية ونحوها، وهو الكتاب العلمي الوحيد الذي وضع للغة من اللغات العربية العامة. وجمع كتابًا أيضًا في الأمثال العامة، وقصصًا في اللغة العربية المصرية، وترجمها إلى اللغة الفرنسوية. وكان عارفًا تمام المعرفة باللغة المستعملة في كل القطر المصري، ومحبًا للمصريين، وغيورًا على مصلحتهم ومهتماً بخيرهم ونجاحهم) . اهـ. أما هذه المحبة والغيرة فإن آثارها تشبه آثار العداوة والبغضاء. متى وجد غربي يسعى في خير الشرق للشرق؟ أما إنه لم يوجد إلا أناس تظاهروا بأعمال مفيدة لأهل الشرق، فساعدهم عليها أهل الشرق، لكنهم لم ينالوا منها إلا الحرمان، واجتنى ثمارها دونهم العاملون (تأمل ترعة السويس وغيرها) إنهم ليختلبون عقولنا بالقول المموه الظاهر الذي ينخدع به المعتقدون عظمتهم، والمشاهدون صدقهم في بلادهم، ولبني أوطانهم، ولكن أصحاب البصائر يعرفونهم في لحن القول، ويتنسمون أغراضهم في مطاوي الكلام، بل يتهمونهم في كل ما يدعون، وإن لم يظهر فيه وجه للخديعة، عملاً بالقاعدة العامة التي عرفوها بالاختبار، وهي أن الغربي لا يعمل عملاً إلا لمنفعة وطنه وأمته. على أن بعض دعاويهم الكاذبة لإصلاح الشرقيين هي من الظهور بحيث يراها العميان، ولا تخفى على الصبيان (نعم إنها تخفى على الخشب المسندة) ، كالمسألة التي نحن فيها الآن. أما حجج صاحب الكراسة الأربع، فهي داحضة عند من يبصر ويسمع، وإنَّا نشرح ذلك بالتفصيل الذي يسمح به المقام على ما وعدنا في العدد السالف، فنقول: قال مبين فوائد الاختراع ومؤلف الكراسة (ولا ندري مَنْ هو ولا سبب إخفاء اسمه، ولعله للإخلاص في هذه الخدمة) : إن نتيجة ذلك ستكون خيرًا على القطر المصري: أولاً: أن استعمال هذه الحروف يفيد تجاريًّا؛ لأنه إذا قدر التجار الأجانب والعملاء الذين يرسلونهم إلى القطر المصري أن يتعلموا اللسان المستعمل هنا بحروف سهلة التعلم، فكثيرون منهم يتعلمون هذا اللسان فيصير التاجر المصري قادرًا على المعاملة معهم بلسانه من غير أن يتعلم اللغة الإنكليزية أو اللغة الفرنسوية، فتسهل المعاملة التجارية والاجتماعية على كل طبقات الناس. (المنار) إن سهولة المعاملة التجارية على الأوربيين وتعميمها في القطر هي نكبة شديدة على المصريين، بل جائحة تتلف عليهم ثمار أعمالهم، بل تنتزع منهم جميع ما بأيديهم من مال وعقار، وجعلهم أجراء للسادات الذين يمتلكون بلادهم، بما لهم من المهارة في الكسب والحذق في استعمار الأرض، ثم يعم بلادهم الفجور والخمور التي تسلبهم ما ينقده لهم السادة المالكون من الأجور على أعمالهم اليومية، وتكون فائدتهم أنهم خرجوا من كل شيء، وفقدوا كل شيء، وانقطع أملهم من كل شيء إلا الحركة الدائمة في خدمة سادتهم العظام، كسائر الدواب والأنعام. والسعادة لمن يفوز بدوام خدمتهم، فإنهم إذا تمكنوا في الأرض يستغنون بالآلات الصناعية عن العمال والصناع إلا قليلاً منهم، ويضطر أهل البلاد الأصليون إلى المهاجرة والجلاء، إلا من يلتصق بهم، ويتجنس بجنسيتهم، لغةً وديناً. لا مبالغة في القول، فهذه طبيعة الوجود الإنساني، تنطق بكل لسان بأن العالم يستخدم الجاهل، والقوي يستولي على الضعيف، ما وجد الأول للوصول إلى الآخر سبيلاً، وليس بعد المشاهدة معاندة، ومع العيان لا يحتاج إلى برهان. قال مختلق الفوائد: (ثانيًا) : إن لاستعمال هذه الحروف فائدة كبيرة في التعليم؛ فإن عامة المصريين مثل عامة الشعوب الأخرى، لا يمكن تعليمهم ما لم يتعلموا في المدارس اللغة التي يتكلمونها، ويتعلموها بواسطة حروف هجائية بسيطة سهلة المأخذ ... إلخ. (المنار) إن الغرض من تعليم وتعلم القراءة والكتابة هو نشر العلوم والفنون، فأي علم وضعت فيه المصنفات، وأي فن دونت فيه الدواوين باللغة العامية المصرية، فيسهل تناوله من كثب، على من قرأ وكتب، يوجد في اللغة العربية الصحيحة ألوف وألوف ألوف من كتب العلوم والفنون في اللغة وآدابها، وفي الدين من عقائد وأخلاق وشريعة، وفي جميع الفنون القديمة والحديثة، فهل يكون صعود المصريين في مراقي التعليم إلى قنة السعادة العليا بترك هذا كله، وتعلم اللغة العرفية في المدارس بحروف إفرنجية؟ ! أظن أن الكتابة بالحروف الإفرنجية تكون عزاءً لهم عما فقدوا، وعزًا وشرفًا فيما وجدوا؛ لأنها إفرنجية. لعل الساعي بنشر هذا الاختراع يقول في تمويهه وخلابته: إن المصريين إذا أقبلوا على تعلم هذا الخط، وعم أرجاء القطر، يتعلم الأجانب لغتهم، وإذا تعلموها ومازجوا أهلها كمال الممازجة، يحملهم حب الإنسانية على تأليف كتب بها في جميع الفنون، فيصبح القوم في جنة من المعارف عالية، قطوفها منهم دانية. ويسهل علينا أن نقول في جوابه: (أولاً) - إن هؤلاء الأجانب لا يحبون منفعة أحد من العالمين إلا أبناء جنسهم. ومن يوجد منهم محبًا للإنسانية لا تتناول محبته أهل الشرق؛ لأنه يعتقد خروجهم من نوع الإنسان. (ثانيًا) - إذا سلمنا أنهم محبون لكل إنسان، ومخلصون بنشر المعارف في كل مكان، فلا نسلم أنهم يقتدرون على إبراز علومهم في قوالب هذه اللغة السخيفة، وإلباسها هذه الخلقان الضيقة، كيف وهم يزعمون أن اللغة العربية (سيدة اللغات) لا تفي ببيان مخترعاتهم، وقاموسها المحيط لا يحيط ببعض مكتشفاتهم، وأنها هي التي قصرت ببنيها عن التوسع في العلوم والفنون العصرية، كذب الخالبون إن اللغة العربية ما قصرت، لكن قصرت الهمم، وإن الأمم لا ترتقي بلغاتها ولكن اللغات ترتقي بالأمم، والوجود أعدل شاهد، لا ينكره إلا مكابر أو معاند. (ثالثًا) - إذا فرضنا أنهم يقدرون على جعل هذه اللغة الفقيرة لغة علوم وفنون، وأنهم بعد أن يتعلمها الشعب المصري بحروفهم يتعلمونها ويؤلفون فيها الكتب المطلوبة - فهل يكون هذا إسراعًا في ارتقاء المصريين، مع أن الشروع به لا يمكن إلا بعد عشرات من السنين؟ كلا، إن قوله: (إن المصريين لا يمكن تعليمهم ما لم يتعلموا في المدارس لغتهم التي يتكلمون بها بحروف سهلة كهذه الحروف) ، قول جاء على خلاف الحقيقة، والصواب: أنهم إذا اقتصروا على تعلم لغتهم هذه يحرمون من كل علم، سواء كان تعلمها بحروف إفرنجية، أم بحروف سماوية، وإذا تعلموها مع غيرها من اللغات التي يمكن تحصيل العلم بها، كلغة أجدادهم، أو لغات الطامعين فيهم، فإنها تكون عائقًا لهم عن التعلم والتحصيل؛ لأنها تزاحم العلوم النافعة، وتأخذ زمنًا من وقتها، فإذا قيل: إنه لا يمكن تعلمها هي (اللغة العامية) إلا بمثل هذه الحروف السهلة. قلنا: إن نهيق (الحمارة) وصلصلة (اللجام) وتزيب (الغزالة) وبغومها (صوتها) يكذب هذا القول؛ فإن لم يقنع قائله سلطت عليه (الشيطان) [*] ، فهو أولى بإقناعه من الحيوان. نعم، يعسر تعلم العامية بالحروف العربية إذا كان مشروطًا معه عدم تعلم شيء من العربية (كما هو المقصود) ، ولكن هذا ضرر على المصريين، لا نفع لهم، فليكن متعذرًا لا متعسراً. قال مبتدع الفوائد: (ثالثًا) إن استعمال هذه الحروف يحفظ اللغة العربية (أي العامية) ، فإن كل تلميذ في المدارس العليا يتعلم الآن الإنكليزية أو الفرنسوية، ولا تمضي مدة طويلة حتى يشيع تعليم اللغات الأجنبية في المدارس الابتدائية أيضًا، في المدن والأرياف، فيضطر أغلب السكان إلى تعلم لسان أجنبي، فكم تبقى اللغة العربية بعد ذلك، سواء كانت معربة أو غير معربة؟ كم بقي إلى الآن من اللغة القبطية، وقد كانت اللغة العامة في هذا القطر؟ وكم تبقى عربية أهل الجزائر، حيث صارت المدارس فرنسوية؟ فالطريق الوحيد لحفظ اللغة العربية - مما حل باللغة القبطية - هو حفظ اللسان الحي من الضياع باستعمال حروف هجائية يُكتب بها. (المنار) إن هذه النصيحة (لو كتبت - كما قال ألف ليلة وليلة - بالإبر، على آماق البصر، لكانت عبرة لمن اعتبر) ، إذا كان أدهى الناس وأشدهم حذقا في الخلابة والخديعة هو الذي يستطيع أن يبرز المضرة في صورة المنفعة، ويقيم من الخزي والشقاء مثالا للفوز والسعادة، فلا جرم أن من ينخدع له يكون أحمق الناس وأرسخهم قدمًا في البلادة والهمجية. لقد وضع صاحب هذه الكراسة أصلاً صحيحًا وبنى عليه حكمًا باطلاً. الأصل الصحيح: هو أن اللغة العربية معرضة للتلاشي والإمحاء من القطر المصري الذي يتبعه سائر الأقطار؛ لأن من سنة الله تعالى في الكون أن الضعيف يقلد القوي، والمغلوب يحتذي مثال المتغلب عليه في سائر شؤونه، وبذلك انتشرت اللغة العربية في بلاد الروم والفرس والبربر، وانتشرت اللغة الإنجليزية في أميركا وأستراليا ... كانت هذه السنة جارية مع عدم مجاراة المتغلبين لها ومساعدتها بقهر المغلوبين وإجبارهم على تقليدهم، وانتحال عوائدهم ودينهم ولغتهم، أو بأخذهم بالتربية والتعليم اللذين يفيدان ما لا يفيد الإلزام والإكراه، كما تعلم من تاريخ دولتي الإسلام العظيمتين العربية والتركية. فكيف يكون سيرها إذا ساعدها المتغلب عن عقل وحكمة، فسهل أمامها الطرق، ومهد لها العقبات؟ إن المعارضة كما تكون في القواعد الفكرية والشرعية، تكون أيضًا في السنن والنواميس الطبيعية، ويمكن للإنسان في هذه أن يقوي المرجوح، ويضعف الراجح، بما يهديه إليه العلم، فيختلف الترجيح. كانت اللغة العربية سائرة على سنن الطبيعة مع فتوحات الإسلام، فعارضها ما أوقف سيرها في بلاد الفرس وغيرها، ثم أرجعها القهقرَى، ولو كان لها أنصار عارفون بعلم طبيعة الكون لأمكنهم إزالة تلك العوارض، وجعلها لغة جميع من أظله لواء الإسلام. إن الأمم الغربية هي التي أفادها العلم الطبيعي ما تقدر به على محو كل لغة تبوأت أرض أهلها إذا لم يعارضها أهل تلك اللغة بما يدفع تيارها عن علم وبصيرة. وما يقال في اللغة يأتي في الدين، وفي سائر الشؤون. هذا هو الأصل الصحيح الذي جاء به صاحب الكراسة، وأشار إلى إثباته بشهادة التاريخ وقد زدناه بيانًا وإيضاحًا. وأما الفرع الباطل الذي بناه على هذا الأصل فهو: أنه يجب معارضة الناموس الطبيعي الذي ذكره بنبذ اللغة العربية ظهريًّا، وتعلم العامية (التي سماها: عربية) بحروف إفرنجية، أيها الأحمق، بل الع

رواية اليتيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رواية اليتيم إن قراءة القصص المعروفة (بالروايات) من أنجح الذرائع في نشر الأفكار الصحيحة بين جميع طبقات القرّاء، ومن أكبر وسائل التهذيب. ولها الشأن العظيم في البلاد المتمدنة. وقد انتشرت الروايات بيننا باللغة العربية، ما بين منشأة ومعرَّبة، لكن أكثرها غرامي، يشرح أحوال العشاق، ويبين طرقهم ومذاهبهم، بحيث لا يكاد يلتفت القارئ لما عساه يوجد في الرواية من الفوائد التي وراء ذلك، لا سيما إذا كان في سن الصبا، ولسنا الآن بصدد شرح فوائد الروايات وبيان مساوئها ونسبة ما عندنا منها لما في البلاد المتمدنة، فنؤجل ذلك لفرصة أخرى، ونكتفي الآن بأن نقول: إن أفضل موضوع تؤلف فيه الروايات هو ما ينبه الشبان - عمومًا - وتلامذة المدارس - بوجه خاص - على حب بلادهم وأوطانهم، وجعل غرضهم من حياتهم خدمة مِلَّتهم وأمتهم على الوجه الذي تقتضيه حالة العصر، ويبين لهم أن ذلك لا يتم إلا بالتمسك بالأعمال والفضائل التي يوجبها الدين، ومعرفة الفنون التي عليها مدار المدنية الصحيحة. وقد أهدانا الشاب المهذب أحمد حافظ أفندي عوض الدمنهوري رواية من تأليفه سماها: (رواية اليتيم) أو: (ترجمة حياة شاب مصري) ، تدخل في هذا الموضوع الشريف الذي ذكرناه، ويظهر من كلامه أنها قصة واقعية لا مخترعة. ولا بُعْد في ذلك، فقد تصفحناها فلم نر فيها ما يستبعد وقوعه، إلا ما كان من حال عشق الفتى (المترجم) لبنت جاره وصديق والده، فإنه ذكر أنهما كانا يجتمعان في حديقة الدار منفردين يتشاكيان الغرام، ويعرف باجتماعهما والدا الفتاة ويرضيان به، بل كان الفتى يجلس مع الفتاة ووالديها على المائدة، مع أنه يصف أهل بيته وبيت الفتاة بالاعتصام بالدين والتمسك بالعوائد الإسلامية. وأستبعد أن يكون التهاون في الحجاب سرى في هذه الطبقة (التي وصفها في الرواية) من المصريين إلى ذلك الحد. إلا أن يقال: إن هذه الواقعة نادرة، وإن إرخاء العِنان للفتيان من والديهما كان سببه ثقتهما بحسن تربيتهما، فقد نشآ من سن الطفولية معًا كأخوين. ويغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء. ومما تفضُل به هذه الرواية كثيرًا من الروايات المتداولة أن ما يذكره فيها من الغرام لا يخرج عن حدود الأدب والعفاف والنزاهة والشهامة. وأكثر وقائع الرواية حوادث محزنة وفجائع مشجية، ينفطر لها القلب الرقيق، وتنهمل من تصورها العبرات، ومن أحسن ما جاء فيها من التنبيهات المفيدة قوله في وصف حالة أبناء المدارس الخارجية (الذين يقيمون خارج المدرسة) ما نصه: (وجدنا أغلبهم - إن لم نقل جميعهم - فاسدي الأخلاق، وذلك من عدم انشغالهم بالدروس، بل بأشياء أخرى، وخصوصًا الذين يأتون من البلاد خارج القاهرة فإنهم لعدم وجود من يقوم بأمرهم لا يهنأ لهم عيش من جهة المطعم والملبس، وربما يسكنون في بيوت مُضرّة بالصحة، وربما لا يذهبون إلى الحمامات إلا كل شهر أو شهرين أو ثلاثة، ثم لعدم وجود من يراعي سيرهم تراهم يسيرون حسب أهوائهم، والشباب مطية الجهل، يقود المرء إلى كل منكر وفاسد، هذا فضلاً عن أن التعليم في المدارس لعدم مزجه بأصول الدين الذي هو أس الفضائل يجعل الشبان لا يعبأون بالآداب، ويرتكبون المحرمات ولعمري إن مصر في احتياج إلى شبان يعرفون واجب بلادهم وأنفسهم وإخوانهم؛ ليكونوا مجموعًا يدعى بالأمة المصرية، وهذا لا يكون إلا إذا مزج التعليم بالآداب والفضائل) . وقوله في الشبان الذين يرجى بتعلمهم رفعة الوطن، وإعلاء مناره (وذلك من جملة وصية ونصيحة) : (ولا شك أنك اطلعت على كثير من تواريخ الأمم التي ارتفع شأنها بعد انحطاطها، ورأيت أن الشبان هم الذين أقاموا عمادها وانتشلوها من وهدة الدمار والانحطاط. فاعلم يا ولدي أن مصر في احتياج إلى أفراد يسعون لصالحها، كما يسعون لصالح أنفسهم، مُتّحدين مرتبطين بالجامعة الوطنية، لا فرق بين المسلم والمسيحي والإسرائيلي، ولا يعرف ذلك إلا المتعلمون، ما لهم وما عليهم، وأنتم ذخيرة هذا الزمن، وكأني بمصر وهي تنتظركم انتظار المريض للطبيب؛ لتقوّم بكم ما اعوجّ من أمورها فكونوا معها لا عليها) . وقوله في وصية أخرى: (إن تقدم بلادكم مرتبط بكم وأنتم زهرة مصر، فانشروا رائحتها الذكية، يشمها القاصي والداني، ولا تتكاسلوا أو تتهاونوا في أمرها استخفافًا بأنفسكم أو استصغارًا لقدركم. ولا أخالكم إلا تعرفون عن شبان أوروبا ما أعرفه وزيادة، وليكن في علمكم أن تأخر بلادكم تُسألون عنه كما يُسأل أكبر الكبراء، وأثرى الأغنياء، وأفقر الفقراء، والقوي والضعيف، فكونوا في أمتكم بمثابة الخطباء المذكرين بمجد أجدادهم، حاثّين على اتباع الفضائل ونفي الرذائل، وبذلك تقوى عصبيتكم، وتجدون من أهل بلادكم من ينشّطكم على أعمالكم، فأنتم أحوج إلى التعاون والتضافر منه إلى الشقاق والتنافر، ولا تفرَّقوا فتذهَبَ ريحكم، ودونكم تاريخ الأندلس وكيف تفرَّقوا شذَرَ مذَرَ، كأن القوم ما كانوا، حين انقسموا طوائفَ طوائفَ ودبت فيهم روح حب الرئاسة، وتركوا الدين وراء ظهورهم، ففتك بهم الغير بما تشق له المرائر، وتفتت الأكبدة، وانظروا إلى كتب الفرنساويين الابتدائية كيف أنهم يكتبون أول جملة فيها: (الإلزاس واللورين أخذتها ألمانيا. يجب على كل فرنساوي أن يردها إلى بلاده) . ومثل ذلك من العبارات الوطنية ليغرسوا في قلوب الناشئين حب بلادهم، والسعي وراء الحصول على ما أخذ من حقوقهم. وانظروا إلى الأمم التي نجحت في رفع شأنها، ولا تستبعدوا الطريق فمن جَدّ وَجَدَ، ومن لَجَّ وَلَجَ، ومن سار على الدرب وصل) . وقوله في الانتقاد على تلامذة المدارس وبيان مغامزهم: (لا يعرفون للمنتديات العلمية فائدة، ولا يقبلون على الجمعيات الأدبية، ولا يعرفون إلا اليسير عن جغرافية بلادهم، حتى يضعها الغريب أمام أعينهم، وهذا ما يجعلني أعتقد أن السفر إلى الخارج بالنسبة للشبان المصريين لا يفيد الأمة، فالأَوْلى أنهم يتجولون في بلادهم لا لكي ينظروا الآثارات فقط، بل لكي يعرفوا القرى وعوائد الفلاح المصري في الوجهين القبلي والبحري، ليكونوا على بصيرة من أحوال أمتهم، ودرجتها في الهيئة الاجتماعية، والعالم المتمدن، ليضعوا أمام أعينهم رفع شأنها بالطرق المفيدة لها، وأنا أؤكد لك أن بعض الشبان الذين حازوا الشهادات العالية في المدارس لا يعرفون كيف يُزرع القمح، ولا القطن، بل لا يعرفون محصولات بلادهم، ونحو ذلك، مع أنك لو سألته عن محصولات مملكة أجنبية لذكرها لك، وعَدَّد لك شهرة كل مدينة، وتِعداد أهلها، وإذا رأى فلاحًا مصريًّا هزأ به وظنه بهيمًا، مع أن ذلك الفلاح العاري الصدر والرجلين هو عماد البلاد، ومنه تتكون معظم الأمة المصرية، حتى إن بعض هؤلاء الشبان يظن أن الأمة المصرية هي الفئة التي تجلس على القهاوي تدخن النرجيلة، وتلعب النرْد والشِّطْرَنج والورق وتقرأ الجرائد وتتكلم في السياسة، لكن مع ذلك فأنا أبشر حضرتكم أن الوقت أخذ في التحول، وأن بعض الشبان عرفوا واجب بلادهم وتولد عندهم حب العمل والنشاط، اقتداء بأميرهم، والناس على دين ملوكهم) . اهـ. فنحثّ الكتبة على إنشاء الروايات في هذا الموضوع المفيد، وعسى أن يواصل مؤلفها الأديب الجري في هذا المضمار، مع مراعاة حسن السبك وسلامة العبارة مع سلاستها التي هي فيها، فما أجدر المعنى الصحيح، بالأسلوب الفصيح، ونرجو أن يقبل القراء على روايته فينشطوه على متابعة العمل، فبالعمل يحقق كل أمل. اهـ من العدد السابع.

الأدب الصحيح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأدب الصحيح [*] رغَّب إلينا غير واحد أن نكتب في جريدتنا بعض نبذه في الأدبيات، يعنون بذلك ما عليه الجماهير من أن الأدب هو عبارة عن: الشعر والأمثال والنوادر والأفاكيه، وإلا فإن معظم ما نشرناه في الجريدة هو من المباحث التي تنظر إلى تهذيب النفوس وتحليتها بالفضائل، بعد تطهيرها من أدران الرذائل، وليس الأدب الصحيح إلا هذا، فقد قال العلماء: إن الأدب ملكة تعصم من قامت به عما يَشينه. ولا ريب أن أية رذيلة من الرذائل تَشين الإنسان إذا تلبّس بها واقترف ما تدعو إليه من الأفعال المنكرة. فإن قيل: إن القوم يريدون بالأدب أدب اللسان وهذا التعريف إنما هو لأدب النفس أَقُلْ: إن أدب النفس لا يكون كاملاً إلا بأدب اللسان، فالأول يستلزم في كماله الثاني، وكان كلا القسمين متحققاً في فضلاء سلف الأمة من أهل الصدر الأول. ولما وضعت العلوم والفنون باتساع عمران الأمة، وانفرد بكل نوع منها طائفة من الناس، اختص الباحثون بأدب النفس علمًا وتخلقًا باسم الصوفية، وسمي علمهم: (التصوف) . وخص الباحثون بأدب اللسان باسم: (الأدباء) ، وسمي مجموع فنونهم أو ثمرتها: (بعلم الأدب) على إطلاقه، ولقد كان لكل من الفريقين حظ من أدب الفريق الآخر. لكن الأدبين كليهما معًا لم يكملا إلا لأفراد منهما. وإننا نقتدي بالقوم في التسمية، ونبحث في الأدب بحثًا نبين به العلاقة بين أدب اللسان وأدب النفس والجنان؛ لأن سعادة الأمة لا تتم إلا بهما كليهما فنقول: كان الأدب عند أسلافنا عبارة عما يحترز به عن الخطأ في كلام العرب قولاً وكتابة، وأصوله عندهم: اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والعروض والقوافي وقَرْض الشعر والإنشاء والمحاضرات والتاريخ، وربما أطلقوا الأدب على ثمرة هذه الفنون وهي: الإجادة في المنظوم والمنثور في كل موضوع، ولابد في هذا من وقوف الأديب على كل فن من الفنون المتداولة في عصره. ومن ثم قال الفيلسوف العربي ابن خلدون عند الكلام على علم الأدب في مقدمته: (هذا العلم لا موضوع له، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فنَّيْ المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم) ، إلى أن قال: (ثم إنهم إذا أرادوا حدَّ هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف، يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية، من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث؛ إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كَلَفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسّلهم بالاصطلاحات العلمية، فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائمًا على فهمها) . اهـ. وأمَسّ الاصطلاحات العلمية بالأدب: اصطلاحات علم الأخلاق، بل هو الجدير باسم علم الأدب دون غيره؛ لأن أدب اللسان ثمرة من ثمرات أدب النفس، وقد لاحظ أدباء العرب هذا في أيام نهضتهم العلمية، لذلك ترى كتبهم الأدبية ملأى بالكلام على الأخلاق والسجايا وأعمال ذويها من حيث هي ممدوحة أو مذمومة (وإن كانوا أفردوا للأخلاق مصنفات يبحثون بها عنها من حيث هي قوى نفسية تنشأ عنها الأعمال البدنية، وهو المسمى بالفلسفة الأدبية أو العملية أو علم تهذيب الأخلاق) . فمن لا يقدر على الكلام الفصيح في التنفير عن الرذائل والترغيب في الفضائل وفي سائر المواضيع المتعلقة بمنافع الأمم ومصالحها، قولاً وكتابة لا يكون أديباً. ويستمد علم الأدب اليوم من ينابيع لم تكن مفجّرة في أرض أسلافنا من قبل، ويحتاج في تحقيق نتيجته التي علمت إلى فنون كثيرة لم تكن في العصور الأولى أو كانت لكن على غير هذه الحالة التي هي عليها اليوم، كالتاريخ الذي كان مجموع قصص وأساطير لا تكاد تفيد غير التسلية والتفكّه، وهو اليوم علم من أفيد العلوم التي عليها مدار العمران. ذكر بعض المؤلفين في الأدب أن الكاتب والشاعر يحتاجان في كمال صناعتهما (الأدب) إلى معرفة كل ما في العصر من الفنون والصنائع في الجملة؛ ليقتدروا على مخاطبة كل صنف من الناس بما يناسب ذوقه، ويتصرفوا في كل موضوع بما هو أمسّ بحالة أهله. نعم هذه سنة الذين خلوا من قبل، كانوا لا يمنحون لقب الأديب إلا لمثل ابن العميد والصاحب بن عباد وأبي إسحاق الصابي وبديع الزمان والحريري. فمَن ذا الذي يستحق هذا اللقب اليوم؟ ! لا جرم أن من يأخذ هذا اللقب بحق لا بد أن يكون أعلم من هؤلاء وأكْتَب، وأشْعَر وأخْطَب، لأن هذا العصر قد زخرت بحار فنونه، وكثر التشعب في أفانينه، ومع هذا فإنك ترى الدهماء لا يتحامون إطلاق لقب الأديب على كل مَن يلفق كلمات موزونة، أو يأتي بسجعات ولو كانت ملحونة، بل ابتذل هذا اللقب الشريف حتى صار يلفظ به إلى من لا لقب له من ألقاب الحكومة التي تشير إلى رتب الشرف المعلومة، وليس مستلاًّ من سلالة الأمراء، أو من الصنف الذي يدعى ذووه بالعلماء، وقد سُجِّلَ هذا مع أمثاله من (التشريفات) الكاذبة في جرائد التملق والنفاق، وصحف المَين والاختلاق، حتى صار محب الصدق في حيرة، إن أرضى نفسه أسخط غيره، وحتى صار يمقت هذا اللقب، من لديه رَسّ (طرف أو ذرو) من علم الأدب، وأجدر به أن يتقذره وهو مبذول للعامة، والجرائد تحلي من لا أدب عنده بلقب عالم أو علاّمة، مما لم يكن يطلق إلا على الراسخين في المعقول والمنقول كالشيرازي والتفتازاني وأضرابهم. هذه حال أمتنا اليوم تركوا صدق أسلافهم للأوربيين واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن صَدَقهم النصح حَمَلوا كلامه على الإهانة ونبذوه ظِهّريا (وقد يستفيد الظَّنة المُتنصّح) . يحْسَب قوم أن إعطاء الألقاب الشريفة لغير أهلها ليس إلا من جزئيات الكذب التي لا ينجم عنها ضرر، ولا يتأثرها خطر، وغفلوا عن كون منح ألقاب الفضل والكمال لغير مستحقها، كمَنْح رتب الشرف والوسامات لغير الجدير بها، وإن كلا الأمرين من أرزاء الأمم التي تودي بحياتها الأدبية والسياسية، وتقذفها في مهاوي الجهل والضعف. وليس هذا من موضوع كلامنا الآن، فلنغضّ عنه الطرف ولنرسل أشعة نظره إلى رياض الآداب، لعله يجتني شيئًا من أرطابها وثمارها اليانعة وأزاهيرها البهيجة العطرة، يهديها لقوم كان لهم من الآداب النفسية واللسانية جنتان، {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} (الرحمن: 52) ، فطوّحت بهم الطوائح، واجتاحت ثمارهم الجوائح، وصوّحت رياضهم البوارح، وبدلوا {بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} (سبأ: 16) . يهديها لهم لعلها تبعث هممهم إلى إحياء الموات، واسترجاع ما فات، واحتذاء مثال الأمم القوية، التي جعلت آدابها معارج لمنافعها الصورية والمعنوية، فيعود للعربية بهاؤها، وللأمة مجدها وسناؤها، في ظل مليكنا الأعظم، ونصير المعارف الأعصم، أيَّده الله تعالى، وزاده عظمة وجلالاً. لعمرك قد طفت المعاهد كلها، واستسقيت وابلها وطَلّها، فلم أر كلامًا في الأدب حكيمًا، قد انتهج صاحبه صراطًا مستقيمًا، ونبه الناس على الطريقة المثلى، وأرشدهم إلى المرتبة الفضلى، إلا ما جاء في (العروة الوثقى) التي لا انفصام لتعاليمها تحت عنوان (نصيحة في الأدب) منسوبة لحضرة الفاضل مولوي عبد الغفور شهباز بمدينة كلكتا. وإنَّا نوردها بنصها وهي: (ليس الأدب كما يظن بعض الناس: مجموع قصص تتلى للفكاهة، أو أساطير تنقل في المسامرات، أو منظوم من القريض يمتاز بحسن الاستعارة ورقة التشبيه، مع مراعاة المحسنات اللفظية والمعنوية، من التورية والجناسات ونحوها من فنون البديع، أو منشآت ورسائل تتضمن إطراء في المدح أو مغالاة في القدح، فإن جميع هذا بمجرده لا يتصل بمعنى من معاني الأدب. وإنما الأدب في كل أمة هو الفن الذي يقصد به تهذيب عاداتها وتلطيف إحساسها وتنبيهها إلى خيرها لتجتلبه، وإلى ما يخشى من الشر فتجتنبه، فالأدباء في الحقيقة هم ساسة أخلاق الأمم، بل هم أجنحتها، تطير بهم إلى ذروة فلاحها، فإنهم بما يعلمون من طرق التفهيم يمكنهم أن يقربوا إلى العقول ما يبعد عن إدراكها، ويسهلوا على الأذهان ما يعسر عليها النظر فيه، ويعبروا عن المعنى الواحد بالطرق المختلفة، فتستفيد منه العامة، ولا تنكره الخاصة، فيأخذون على الظالم ظلمه ويعظونه بسوء عواقب الظلم، وينكرون على الفاجر فجوره، ويحذرونه مَغَبّة الفجور، حتى يردّوا كلاعن غَيّه بما يروضون من طبعه بدون أن يقولوا له: إنك ظالم أو فاجر. وإذا رأوا في أمتهم عوائد يأباها سليم الذوق، أو وجدوا منها أخلاقًا وأعمالاً لا تنطبق على شريعة الفضل، وقوانين الشرع، عمدوا إلى تغيير العوائد، وتطهير الأعراق، وأخذوا في ذلك سبلاً متنوعة في إنشاءاتهم، تارة بالقصص والحكايات التي تمثل شناعة الرذيلة وبهاء الفضيلة وما آل إليه أمر المتدنسين بالأولى وما ارتقَى إليه حال المتحلّين بالثانية، وتارة بقريض الشعر، يخيلون فيه ما يحرك الهمم ويبعث الأفكار وينبه خواطر الكمال، وإحساسات الشرف الصحيح، لا بما يوقظ الشهوة ويقوي الغرور ويخرج الأنفس عن أطوارها، والأخذ به من وجهه، والدخول إليه من بابه هو الذي صعدت به الهند الأولى إلى أوج المجد، وبلغ به العرب أقصَى غايات الرفعة، وهو الذي وصل بالأمم الأوربية إلى ما وصلوا إليه مما لا يخفى على ذي بصيرة، وإنا لنأسف على ما نراه من أدباء المسلمين وشعرائهم، فإنهم يقصرون منشآتهم وأشعارهم على ما يكوّن عد الصفات، إما مذمومة أو محمودة، ونسبتها إلى شخص يريدون مدحه أو ذمه، ويحصرون رواياتهم في حكايات مضحكة وقصص هزيلة وبعض تواريخ ماضية، بدون أن يلاحظوا تأثير ما يكتبون وما ينقلون في أفكار الأمة وأطوارها، ورجاؤنا فيهم أن يسلكوا مسالك أدباء الأمم المتقدمة أو المعاصرة لهم، حتى يكون للأمة الإسلامية نصيب من فوائد ذكائهم وفطنتهم، وسعة بيانهم، وطلاقة ألسنتهم، وأن يأخذوا في منشآتهم وأشعارهم طريقاً ينهضون فيه الهمم الخوامد، ويحركون القلوب الجوامد، ويحيون مكارم الشيم، ويوردون الأمة موارد سابقيها من الأمم، وإننا نرى بداية هذا المنهج الحميد في بلادنا ونسأل الله حسن ختامه) . اهـ. ونحن أيضاً نقول: إن بعض أهل بلادنا قد انتهج هذا المنهج، كما أومأنا إلى ذلك عند تشبيه حالتنا الأدبية الحاضرة {بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ} (سبأ: 16) فقد عنينا بالسدر القليل - الذي هو من الثمار الطيبة -: بعض الأفاضل من ذوي الأدب الصحيح. وثمرات أدواحهم ظاهرة في جنات الجرائد والمصنفات الحديثة النافعة، ومنها يُعلم أن الترقي في المنشور أكثر منه في المنظوم، ويدخل في المنظوم فن الأغاني، وهو من مهذبات الأمم، ولم يترق في بلادنا، بل هو في حالة ضارة غير نافعة؛ لأنه مقصور على العشق والغرام. وسنتكلم على الشعر والشعراء في العدد الآتي إن شاء الله، وندع الكلام على الأغاني لفرصة أخرى، والله الموفق.

سعي مشكور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سعي مشكور تألفت لجنة للسعي في جمع إعانة لجرحى الجيش المصري وعائلات قتلاه، وقد بعث لنا كاتب سر اللجنة الفاضل برَقِيم يذكر فيه تأليف اللجنة مصحوباً بمنشور الدعوة إلى هذا العمل المبرور، فنشرناهما بحروفهما وهما: حضرة الفاضل المحترم صاحب جريدة المنار: في يوم الثلاثاء 26 أبريل سنة 1898 اجتمع بمنزل صاحب السعادة أحمد سيوفي باشا بالعباسية حضرات أمين فكري باشا ناظر الدائرة السنية، ومحمد ماهر باشا محافظ مصر، والأستاذ الشيخ محمد عبده القاضي بمحكمة الاستئناف، ويوسف سليمان بك رئيس نيابة مصر والشيخ عبد الرحيم الدمرداش، وسيدي الحاج محمد الحلو وكيل دولة المغرب الأقصى، وأحمد بك أرناود، وعبد الرحيم بك حجازى من أعيان العاصمة والخواجه شمعون أربيب وأحمد فتحي زغلول بك رئيس محكمة مصر، وشكلوا منهم لجنة للقيام بفتح اكتتاب عام لمساعدة جرحى الجيش وعائلات قتلاه وأيتامهم في الوقائع الأخيرة تحت رعاية الجناب العالي الخديوي، وانتخبوا حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده رئيساً، وسعادة أحمد سيوفي باشا أمينًا للصندوق، وحضرة أحمد فتحي زغلول بك كاتب سر اللجنة، وقرروا إرسال منشور لأهل الخير وأولي البر والإحسان. وفي يوم الخميس تشرف وفد من اللجنة بمقابلة سمو الأمير المعظم، عرضوا ما قرروه على مسامعه الشريفة، فلقوا من جنابه العالي كل رعاية وتلطف، فكان أول المكتتبين، وجرى على ذلك أيضًا صاحب العطوفة مصطفَى فهمي باشا رئيس مجلس النظار وحضرات النظار، واجتمعت اللجنة بعد ذلك بمنزل سعادة أمين الصندوق بالغورية وبعد تحرير المنشور والإقرار عليه كلف كاتب السر بإرساله إلى الجرائد. فقيامًا بما تقرر أبعث لحضرتكم بصورة المنشور رجاء نشره في جريدتكم لتعليم العلم به، واقبلوا مزيد تحياتي. ... ... ... ... ... ... ... ... كاتب سر اللجنة 7 مايو سنة 1898 ... ... ... ... ... ... أحمد فتحي زغلول ... 16 ذي الحجة سنة 1315 (المنشور) قد عرف الكافة ما جاء به الجند المصري الذي سِيقَ على البلاد السودانية، مما يخلّد له ولبلده المجد والفخار، ولم يَخْفَ على أحد ما أصاب تلك الجنود في الأيام الأخيرة، من قَتْل بعض ضباطهم وأفراد عساكرهم، وجَرْح عدد كثير منهم وإن كان ما أصابهم قليلاً في جانب الظفر الذي نالوه بمعونة الله وثباتهم وشجاعتهم. ومن المعلوم أن من قتل منهم ترك أيتامًا وأهلاً فيهم الضعفاء وذَوُو البأساء، ومن جرح قد يعجز عن الكسب لو شفي ويحتاج إلى ما يقيم أوده ولو إلى أجل، ومكان هؤلاء الشجعان من أهالي البلاد هو مكان الأخ الكريم من أخيه، أو العضو الشريف من البدن السليم، ولا يسمح أخٌ ذو مروءة أن يدع أخاه في مثل هذا المصاب يذهب فريسة الحاجة، والبدن السليم لا بد أن يألم لما يصيب أعضاءه، ولهذا كان لأنباء ذلك المصاب هزة في قلوب الكثير من أهل الإحساس الطاهر في جميع الطبقات، وأفاض كثير من الجرائد في استنهاض الهمم لمساعدة أولئك الرجال أو أهليهم، وكان لكل واحد من سكان القطر المصري أن يبتدئ بدعوة باقيهم إلى هذا العمل المجيد، والبادئ في الخير الداعي إليه هو في الحقيقة خادم لمن يستنهضه، فإنه إنما يفتح سبيلاً لظهور كرم السجية، وسطوع ضوء الحَمِيّة، وقد قام بعض الأعيان من أهل العاصمة بتأليف لجنة للسعي في جمع إعانة لمساعدة أولئك الجرحى وأهالي القتلى، وعرضوا ما أرادوا الشروع فيه على الجناب الخديوي الفخيم؛ ليكون العمل تحت رعايته، فتفضّل جنابه السامي بقبول ذلك على جاري سننه الشريفة في تعضيد الأعمال الخيرية، فاجتمعوا في يوم الثلاثاء 5 ذي الحجة سنة 1315 الموافق 26 أبريل سنة 1898 بمنزل صاحب السعادة أحمد سيوفي باشا، وانتخبوا الداعي رئيسًا، وسعادة أحمد سيوفي باشا أمين صندوق للإعانة، وحضرة أحمد فتحي زغلول بك كاتب سر اللجنة، ثم عرض الأمر على الجناب السامي فسُرَّ به، وكان أول من شرّف العمل بالاكتتاب وتفضّل به، وكذلك اكتتب صاحب العطوفة رئيس مجلس النظار وبقية حضرات النظار، ثم أخذت اللجنة تتابع أعمالها في دعوة أهل الخير للاشتراك في مساعدة إخوانهم، وحيث إن حضراتكم من أهل الفضل وذوي الهمة والمروءة رأيت أن أبعث إليكم بهذا رجاء أن يرى لهمتكم الأثر الجليل في هذا العمل الجميل، مع العلم بأن من يتفضل بدفع شيء من المعونة لإخوانه المصابين، فإنما يفعل ذلك لمحض الشفقة والمرحمة، وصدوراً عن الهمة والمروءة، ومن المعلوم أنه لا ينقُص مال من صدقة، ولن تُخذل أمة كان التعاون من سجاياها، فأرجو أن تساعدوا بما استطعتم، وأن تقبلوا المساعدة ممن يليكم ويقرُب منكم، وما يجتمع لديكم تتفضلون بإرساله إلى سعادة أمين الصندوق أحمد سيوفي باشا بمصر، ويرسل لكم الإيصال حسْب العادة، والله لا يضيع أجر المحسنين. رئيس اللجنة محمد عبده (اهـ من العدد الثامن) .

ما أكثر القول وما أقل العمل

الكاتب: محمد عبده

_ ما أكثر القول وما أقل العمل [*] لحضرة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده الشهير من أخس الأوصاف وأدناها أن يقول الإنسان ما لا يفعل، وأن يدل غيره على ما ضل هو عنه، وأن يَعِيب على الناس ما لا يَعِيبه هو على نفسه، وذلك أن مَنْ كانت هذه صفته فهو جاهل من وجه ومعترِف بنقصه من وجه آخر، وخبيث المقصد دنيء الهمة من الوجه الثالث. أما جهله: فلأنه إذا ادّعى بما ليس فيه من علم أو فضل مع كون الناس لا يرون أثرًا ظاهرًا لعلمه أو فضله بمعنى أنه لم يؤلف تأليفًا نفيسا مثلاً ينتفع به عموم الناس، ويعترف بنفاسة ما فيه العقلاء والمتبصرون من أي أمة، ولم يكشف حقيقة ولم يحل مشكلة، وإذا اعتقد أن سامعيه يصدقونه فيما يدعيه فقد جهل أن النفوس مجبولة على تطبيق المسموعات على المشاهدات وواقع الأمر، فإن لم تجدها مطابقة رمت بها في وجه قائلها، فتنقلب دعواه مقتًا عليه، ويسقط من قلوب الناس أجمعين، إذ لم يروا له أثرًا يفيدهم سوى أن يخبر عن نفسه بأوصاف لا حقيقة لها. وكذلك إذا أرشد إلى غاية هو متوجه صوب ضدها، ويظن أن الناس يسترشدون بإرشاده، فهو لا محالة مُطْبِق الغفلة مركَّب الجهل، إذ يعلم أن الأفعال تؤثر في النفوس أضعاف ما تؤثر الأقوال، فإن القول عند النفس يحتمل التصديق والتكذيب، فتتردد في مفهومه، فلا يقودها إلى العمل إلا بعد تكرار وتذكار، أما الفعل فهو أمر مشهود ينطبع في النفس أشد انطباع فتندفع إليه خصوصًا إن كانت فيه لذة معجَّلة. وإن عاب على غيره وصفاً هو موجود فيه، فقد جهل أن ذكره لعيب الغير ينبه الأذهان للنقص القائم بنفسه، فإن المتكبر مثلاً إذا ذم الكبر في غيره فقد ذم نفسه من حيث هو لا يشعر، فهو جاهل بنفسه وما يعود عليها وهو ظاهر. وأما اعترافه بنقصه وعجزه: فإنه لم يصدر عنه ذلك (أي الدعوى بما ليس فيه، وترغيب الناس فيما لا يرغبه لنفسه، أو فيما ليس بمتصف به، بل هو منحرف عنه وذكره لمثالب الغير وهي فيه) إلا لأجل أن يبين للسامعين كماله وفضله، ويظهر لهم وصولهم لما يهديهم إليه، وخلوه من النقص الذي يلوم عليه الغير، حتى يعظّموه ويقوموا له بقضاء بعض حاجته، حيث علم أن الكمال الذي يدعيه هو مَناط التعظيم وجلْب المنافع، وكأنه بذلك ينادي على نفسه بأنه لم يبلغ من ذلك شيئاً؛ لأنه لو بلغ الكمال الذي يدعيه لكانت نتائج ذلك الكمال ناطقة برفعة قدره، شاهدة بعلو مقامه، سواء ادّعى ذلك عن نفسه أو لم يدّع، وسواء نقص غيره أو كمل، ولم يكن هناك داع لمدحه نفسه أو ذمه لغيره، بل تكون آثار فضله فاعلة في النفوس جاذبة لها إليه بذاتها، فمن تكلف الإطراء على نفسه بوصف من الأوصاف الفاضلة أو رَامَ إظهار كماله بالحط من قدر غيره، فذاك معترِف بأنه خال من الفضيلة، حيث لم تشهد له الحقيقة، فاضطر إلى النداء بالكذب ليقنع السامعين بأنه كذلك. وأما خبث مقصده ودناءة همته: فلأن مَن هذه صفته لا يريد أن يكون ذا فضيلة قط، ولا يبتغي الوصول إلى كماله، ولكنه يطلب عيشاً حيثما اتفق، فإذا جلس إلى بعض البسطاء أو غيرهم طلب التلبيس على عقولهم، ليقرر في نفوسهم أنه متصف بالصفة التي يذكرها عن نفسه أو يرشد إليها، وأنه خالٍ من العيب الذي يسبّ به غيره ليوقّروه، فيكتسب منه مساعدة على بعض أغراضه الخسيسة، أو يستفيد منهم حطامًا يسد به بابًا من أبواب نَهْمَتِهِ وشَرَهِهِ، فهو في ذلك بمنزلة المشعبذين أو المختلسين أو السارقين، ونحو ذلك من كل ذي حياة خسيسة لجلب الأموال، ولا يختلف عن هؤلاء، لا بالاسم فقط حيث يقال: إنه غش الناس بحكاية الكذب، وهو المسمى في عرفنا (بالفشْر، ويقال لصاحبه: فشّار) . فالقول الذي لا يعضده الفعل يحسب من أردأ الأوصاف وأقبحها؛ لأنه يشعر بوجود أوصاف تشهد البداهة بقبحها، ومن الأسف أن هذا الوصف يوجد في كثير من أهالي بلادنا، بل في الغالب منهم، بل لا يوجد القائل الفاعل إلا قليلاً جدًّا (وإننا نخجل من تسجيل مثل ذلك في الجرائد، ولكن أي فائدة في إخفاء عيب فينا عرفه الغير منا، فحق علينا أن نذكّر به لعله تنفع الذكرى) . إننا إن طرقنا المجالس الخصوصية في بواطن البيوت والأندية العمومية في الأماكن العامة لا نعدم قائلاً عن نفسه: إنه قرأ من العلوم معقولها ومنقولها، وطالع الكتب العالية، ووقف على المباحث الجليلة، وكشف بواطن الدقائق الخفية، واستطلع الأسرار، وكان مع ذلك مشهورًا في زمن الاشتغال بالفطنة والذكاء، ووَقْد الفكرة، وقوة الحافظة، ونحو ذلك. وآخر يقول: إنه بلغ من الاقتدار على الإقناع في الجدل، والإفحام عند المخاصمة، وتفهيم الطالب عند الاستفادة حدًّا لا يصل العالمون إلى غباره، وإن له من طرق الإقناع والإفهام ما لا يتيسر لغيره معرفتها، وإنه يُحْيِي بكلامه الأذهان الميتة، ويحشر إليها صور المعلومات، ويودع فيها أسرار الكائنات. ولو سألت كل واحد من الذين يظن فيهم وصف العلم والتعليم لرأيته يحدث عن ذاته بكل الذي قلناه ويقول: لو كان الناس يسلكون هذا المسلك الذي أسلكه لانتشر العلم وعمت المعرفة. لكننا إذا رجعنا إلى الواقع ونفس الأمر رأينا أن التآليف والتصانيف مفقودة، وإن وجد منها شيء كان ناقصًا، إما من جهة المعنى، وإما من جهة اللفظ، بحيث لا تدل عبارته على ما قصد منه، فيكون كعدمه، والطالبون للعلوم على اختلافهم قاصرون عن إدراك ما أضاعوا عمرهم فيه، ودليلنا على ذلك: احتياجهم دائماً إلى غيرهم، وعدم قدرتهم على الاستقلال بعمل يعملونه في نفس العلم أو الصناعة التي تعلموها، فتارة يحتاجون إلى الأجانب، وأخرى إلى بعض الوطنيين (وربما نبيّن هذه الجملة في وقت آخر) . ومن الناس من إذا ذاكَرْته في المنافع العامة والمصالح الكلية أخذ يشرح غوامضها ويبيّن الواجب فيها والطرق الموصِّلة إلى جلب النافع ورفع الضار، والوسائل المؤدية إلى تقويم حال الأمم وارتفاع شأنها، من رفع منار العدالة وبث روح العلم، وتقرير المساواة، وما شاكل ذلك، ثم إذا فُوّض إليه أمر من تلك المصالح رأيته أبعد الناس عن الخير، وأقربهم إلى الشر، واستنكف من المساواة واستهجن معنى العدالة، وإن كان يعبر من نفسه بلفظها، وسار مع أغراضه وشهواته، وجعلها قانونًا يُتّبع، ويعد كل ذلك حقًّا، وهو في درجة وعظه الأولى لم يخجل ولا يتلعثم له لسان في النصح ودعوى معرفة الحق، ولو أن أحدًا عارضه بحق في أي جزئية عقب ترغيبه في قبول النصح والمساواة لرأيته يتذمر ويتضجر ويود أن يفتك بمَن يناقضه في بعض آرائه، ويهدي إليه نُصحًا في بعض أعماله. ومنهم من يقول: إن كل مصيبة ألمت بالنوع الإنساني لم يكن منشؤها إلا التباغض والتحاسد، وتفرق الكلمة والميل إلى المنافع الشخصية وعدم الاكتراث بمنافع العامة , ونحو ذلك من الأقوال الصحيحة المسلّمة، ولو أنك لاقيت كل يوم ألف شخص لرأيته يُقرّ بذلك ويعترف به، مدعيًا أنه يميل كل الميل إلى الاتحاد والائتلاف، وإنما تأتي النفرة من غيره، ثم لو أتى إليه مُطالب بحق في وقت المذاكرة لرأيته يعد هذه المطالبة أمرًا كبيرًا، وإن كانت بغاية من اللطف والإنسانية، والْتَوى من الغيظ التواء الثعبان. ولو دعي إلى إغاثة ملهوف أو إزالة مكروه عن بعض إخوانه أو الداخلين تحت إمرته رأيته يتعلل ويعتذر، أو يتمنع ويستكبر ويقول: (ليس هذا من اختصاصي) ، ولو طلب إلى تأسيس أمر خيري يفيد الزراعة أو الصناعة، أو يساعد على التربية الحقة، وجدته يستصغر ذلك ويُسفّه آراء طالبيه ويقول: ماذا يعود على شخصي من ذلك، وما لي وللعامة، دعهم في شأنهم يرزقهم الله من غيري. كأن جنابه يظن أن المحبة والاجتماع والألفة التي يدّعيها ويميل إليها يجب أن تكون له من الغير لا في مقابلة منفعة ولا جزاء لدفع مضرة، بل لا بد أن ينفعه الناس وهو لا ينفعهم! ! وما أجهلَ أمثال هؤلاء السفهاء وأضلَّ رأيهم (ومن العجب أنهم كثير جدًّا) . ومنهم من يُرشد إلى العدل ويدعو إلى الإنصاف، ولكن إذا عرض له حق في طريق منفعة خاصة له داس الحق برجله طلبًا للوصول إلى غايته، وكأنه يعد ذلك من قبيل الإنصاف الذي يدعيه أو أضربَ عن النصح والرشاد إلى وقت آخر. ومنهم من ينتقد على الظَّلَمة ومرتكبي الجرائم وفاسدي الإدارة وسيئي التدبير، ثم تراهم واقعين فيما ينتقدونه على الغير، كأن محل الانتقاد أن يكون الفعل صادرًا عن سواهم، أما إذا كان صادرًا عنهم فقد اكتسب الحسن من ذواتهم المقدسة. فأمثال هؤلاء الذين ذكرتهم لا يعرفون في العالم قبيحًا ولا حسنًا ولا صحيحًا ولا فاسدًا، وإنما هي ألفاظ ورثوها نطقًا ولا يتفهمونها حق الفهم، وأَلِفُوا استعمالها في مواقع مخصوصة، فهم يستعملونها كما سمعوها بدون أن يعلموا لها حقيقة، ووجودهم في الهيئة الاجتماعية شؤم عليها، وهم في رتبة الحيوانية الأولى، لا يعترفون بالحقائق الثابتة، بل لا يرون حسنًا إلا ما يصل إلى إحساساتهم الظاهرة من اللذائذ الوقتية، فإذا مضى وقتها ذهلت أذهانهم عنها، ولا ينتبهون لحسنها إلا إذا وردت عليهم مرة أخرى وهكذا، ولا يرون قبيحًا إلا ما يصل إلى إدراكاتهم من المؤلمات الوقتية، كذلك فإذا زال ألمها غفلوا عنها كأنها لم تمسهم، فإن رأوها لاحقة بغيرهم لم يعدوها مؤلمة ولم ينظروا إليها نظر الآسف المستنكر، فيختلف عندهم حسن الشيء وقبحه، بالإضافة إلى أنفسهم تارة وإلى غيرهم تارة أخرى، وليس عندهم صورة ثابتة لماهية الحسن وماهية القبيح، ولا حقيقة النافع أو حقيقة الضار، وإنما هي أهواؤهم يعبّرون عنها بالألفاظ المطنطنة كالمصلحة العامة والمنفعة العمومية والحقوق الوطنية، وما شاكل ذلك من المحفوظات الخالية عن المعاني، يلوكونها بألسنتهم، ومع ذلك فهم لا يَسْلَمون من شر ما يقولون، فجهلهم لا محالة يعود عليهم بعاقبة بئست العاقبة. ولكنا لا نحب ذلك ونود أن يكون الفعل أكثر من القول، وأن يكون كل شخص من أبناء بلادنا صغيرًا كان أو كبيرًا مُجِدًّا في نيل الفضيلة الثابتة التي يلهج بتحسينها، وإجراء مقتضاها حتى تكون بذاتها شاهدًا، عدلاً على أهلية صاحبها لما يقول، وتنتشر الأعمال الصالحة المنطبقة على الشرائع الحقّة، فتسير المصالح على صراط مستقيم، وينال كل شخص حظه الحقيقي من ثمرات أتعابه الآتية على وجه منتظم، فيعود النفع على العامة والخاصة، أما الفخفخة وكثرة اللغو، فإنها من شدة العجز لا تعيد ولا تبدي والله الموفق.

الشعر والشعراء ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشعر والشعراء (1) الشعر ضرب من ضروب الكلام، يمتاز عن سائره بأوزان وأساليب مخصوصة وتصرُّف في التخيل، بحيث يؤثر في نفس المنشد والسامع، فيحرك انفعال النفس، ويؤثر في عاطفتها. ويوجد في جميع اللغات وعند كل الأمم هو معيار أفكارها، وقسطاس مداركها. يتوهم قوم أن اشتراط التأثير في النفوس غير صحيح بالنسبة للشعر العربي، وإنما هو للشعر اليوناني الذي يذكر في المنطق، ومَن وقف على سيرة شعراء العرب، ولاحظ أغراضهم ومقاصدهم، تجلى له أنها دائرة بين ترغيب وترهيب، واستماحة واستعطاف، وتشويق وتنفير، وإثارة شجون، وتسهيل حزون وما أشبهها. يشهد لهذا قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (الشعر جزل من كلام العرب، يسكن به الغيظ، ويطفأ به النائرة، ويبلغ له القوم في ناديهم) نعم، إن هذا لا يطابق ما عليه المتطفلون على موائد هذه الصناعة في هذه الأيام وقبلها بأحوال وأعوام الذين: يجهلون الصواب منه ولا يَدْ ... رُونَ للجهل أنهم يجهلونا ولا يوجد عند هؤلاء من الشعر إلا صورته وتَمثاله. فإن كانت صورة الإنسان تسمى إنسانًا، فأجدر بكلامهم الذي ليس فيه غير الوزن أن يسمى شعرًا. ويُؤذن بما ذهبنا إليه قول ابن رشيق الذي وفَّى هذه الصناعة الشعرية حقها من البيان في كتابه (العمدة) كما يعلم من مقدمة ابن خلدون حيث قال من قصيدة: إنما الشعر ما تناسب في النظم ... وإن كان الصفات فنوناً فأتى بعضه يشاكل بعضًا ... وأقامت له الصدور المتونا كل معنى أتاك منه على ما ... تتمنى لو لم يكن أن يكونا فتناهى من البيان إلى أن ... كاد حسنًا يبين للناظرينا فكأن الألفاظ منه وجوه ... والمعاني ركبن فيها عيوناً إلى أن قال بعدما ذكر المدح ثم الهجاء: فجعلت التصريح منه دواء ... وجعلت التعريض داء دفيناً وإذا ما بكيت فيه على العا ... دين يومًا للبين والظاعنينا حلت دون الأسى وذللت ما كا ... ن من الدمع في العيون مصونا ثم إن كنت عاتبًا جئت بالوعد ... وعيدًا وبالصعوبة لينا فتركت الذي عتبت عليه ... حذراً آمنًا عزيزًا مهينًا وذكر بعضهم مذاهب الشعر في قصيدة قال فيها: وإذا بكيت به الديار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شؤونه وإذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره وبطونه فجعلت سامعه يشوب شكوكه ... بثبوته وظنونه بيقينه وأنت ترى أن هؤلاء صرحوا بأن التأثير في النفوس من مقاصد هذه الصناعة ولك أن تجعل ذلك شرط كمال، وترمي من أَخَلَّ به بالنقص والاختزال. الشعر ديوان العرب، وينبوع الأدب، وقد ورد فيه من الحديث الشريف (إن من الشعر لحكمًا) قيل: إن سبب الحديث أن أحد جرحى الصحابة تعسر عليهم إمساك دمه، حتى جاء حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه، فأشار بالكافور، وأنه يمسك الدم أن يسيل، فكان كما قال، فسأله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: من أين أخذه؟ فقال: من قول امرئ القيس: فكرت ليلة هجرها في وصلها ... فجرت مدامع مقلتي كالعندم فطفقت أمسح مقلتيَّ بخدها ... إذ عادة الكافور إمساك الدم فقاله. ولا يصدّ عن قبول هذا أن إطلاق الحكمة على الطب عرف حادث، فقد كان يراد من الحكمة العلم النافع، والطب منه بلا خلاف. كان الشعر عند العرب يتناول جميع معارفهم وحكمهم وأخبارهم، في حروبهم ومعايشهم وسائر شؤونهم، ولولا الشعر لما تسنى لعلماء الملة ضبط العربية كما ضبطوها؛ لأن المحفوظ من المنثور قليل لا يفي بالغرض. إن الصنائع القولية والعلمية تنمو بنمو الأمم، وترتقي بارتقائها. والشعر صناعة من الصناعات اللفظية، لكنها لم ترْقَ مع رقي العرب في مدنيتهم التي أفادها لهم الإسلام إلا قليلاً، حتى هبطت من أوج عزها وكادت تندرس رسومها وتُمحى أطلالها بالكلية، صدمها بعد صدمة اللغة المعروفة صدمة أخرى خاصة بها، أوقفتها في موقف ضيّق حرج، وهو وصف الأناسي أحياءً (بالمدح والهجاء) وأمواتًا (بالرثاء) إلى ما يلتحق بذلك من الغزل والنسيب، الذي يستهلون به قصائد المديح. وبيان ذلك أن اللسان لما ملكت عليه أمره العجمة الطارئة (وهي الصدمة الأولى) ، ووضعت الفنون لضبط العربية، صار تحصيل ملكة الشعر عسيرًا، والعسير لا تتوجه النفس لطلبه إلا بباعث قوي، وتصور فائدة توازي العناء في تحصيله، ولم يكن يتوقع منتحل الشعر فائدة في غير ما ذكرنا من أنواعه، لما كان الملوك والأمراء من المستعربين والعجم يسنون من الجائزة على المدح دون سائر ضروب الشعر التي كان يجاز عليها في أيام دولة بني أمية وصدر دولة بني العباس، حبًا بالشعر نفسه، وإحياءً لسنة العرب الذين هم من صميمهم، بل كانوا يجيزون النَّقَلَة والحُفَّاظ، حرصًا على تعرف أخبار العرب وآثارها، وإحياء لغتها. صار الغرض من الشعر: الكدية والاستجداء (الشحاذة) ، وكثر فيه الكذب (في المدح) والبذاء (في الذم) ، فأنف منه أهل الهمم، وترفع عنه أرباب المراتب، فهبط بمنتحليه في مهواة عميقة مظلمة ضيقة. سنذكر في العدد القابل ما ينبغي أن يكون عليه الشعر والمقابلة بين قديمه وحديثه. ((يتبع بمقال تالٍ))

اكتشاف

الكاتب: محمد أفندي رحيم الطرابلسي

_ اكتشاف جاءتنا رسالة من صديقنا العالم الفاضل الشيخ محمد أفندي رحيم الطرابلسي سماها: (اكتشاف مسألة جديدة من الجغرافيا الرياضية، أي علم هيئة الأرض) يدعي فيها: (أنه لا بد وأن يوجد على وجه الكرة الأرضية نقطة معينة يكون اليوم في الأماكن التي في جهتها الغربية غير اليوم في الأماكن التي في جهتها الشرقية في أكثر الدورة اليومية، بل يكون ذلك في المكانين الملاصقين لها من جهتيها دائماً تقريبًا، وكلما بعدت الأمكنة التي في جهتين من تلك النقطة عن بعضها قل مقدار ما بينها من الاختلاف، فلو كان في المكان الملاصق لتلك النقطة من جهة الغرب زوال يوم الإثنين، يكون في المكان الملاصق لها من جهة الشرق مضي لحظة لطيفة من زوال يوم الأحد، وفي المكان الذي يبعد عنها درجة نحو الشرق مضي أربع دقائق من زوال يوم الأحد، وفيما يبعد (15ْ) نحو الشرق مضي ساعة من زوال يوم الأحد وهكذا، وحينما يكون في المكان الذي يبعد عن تلك النقطة (15ْ) نحو الغرب زوال يوم الإثنين يكون في المكان الملاصق لتلك النقطة من جهة الشرق مضي ساعة واحدة من زوال يوم الأحد، وفيما يبعد عنها (15ْ) نحو الشرق مضي ساعتين من زوال يوم الأحد وهكذا) . ثم بيّن علة وقوع هذا الاختلاف على وجه الأرض والناحية المرجح وجود ذلك الاختلاف فيها، وأقام على دعواه أدلة أوضحها بأشكال هندسية في غاية الضبط والإتقان. ومعلوم أن الذين طوّقوا الأرض بالسياحة كانوا عندما يرجعون إلى المكان الذي ابتدأوا منه سيرهم يظهر لهم اختلاف بيوم عن حسابهم الذي جروا عليه بالاستصحاب من أول سياحتهم. وقد يتوهم من لم يقرأ الرسالة بإمعان أن هذا عين ما يدّعيه مؤلفها المكتشف، وليس كذلك، بل هو يدَّعي أن الاختلاف واقع فعلاً بين موقعين من الأرض معينين بذاتهما، وإن كانا غير معروفين له جزمًا، وأن سكان هذين الموقعين (إن كان فيها سكان) حاصل عندهما الاختلاف المذكور باعتبار البعد الذي حرره. وقد طلب في مقدمة رسالته وخاتمتها من علماء الهيئة أحد شيئين: إما بيان محل الاختلاف الذي يدعيه إن كان مصيبًا، أو الرد عليه إن كان مخطئا، وقد اطلع عليه الدكتور روبرت وست أستاذ مرصد المدرسة الكلية الأميركانية في بيروت وهو الذي انتهت إليه رئاسة هذا الفن في بلاد سوريا فكتب لمؤلفها كتابًا يقول فيه بعد رسوم المخاطبة: (اطلعت وفقًا لإشارتكم على رسالتكم الموسومة باكتشاف مسألة جديدة من الجغرافيا الرياضية، أي علم هيئة الأرض، فلم أجد غب ترجمتها لي ما يعترض به عليها فإن مبدأها الأساسي وما ذكرتموه من وجود الاختلاف على سطح الأرض صحيح لا يشك فيه وفقًا للمعروف المقرر من الحقائق الفلكية، وكذلك الأشكال التوضيحية التي أثبتموها فإنها في غاية الضبط، وفقًا لما أردتم إيضاحه ... ) اهـ. وليس هذا كل ما يريده المصنف، بل هو يريد تعيين محل الاختلاف. وحيث كان لهذا التعيين فوائد كثيرة من أهمها: اتفاق سكان الأرض كلهم على تعيين نقطة واحدة مبدأ للطول ومبدأ لنصف النهار، نستلفت أنظار علماء هذا الفن المدققين للوقوف على تلك الرسالة، وإعطائها حقها من النظر وإجابة طلب مصنفها الفاضل، إما التعيين والبيان، وإما التخطئة بالبرهان، والرسالة تطلب من إدارة جريدة المنار في مصر القاهرة، ومن حضرة مؤلفها في طرابلس الشام.

الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب لا تغادر الجرائد اليومية من أخبار الحرب متردمًا، بل تكاد الرسائل البرقية أن تحيط بجزئيات أخبارها وكلياتها، والجرائد إنما تضع لها الشروح وتضيف إليها الأبحاث بحسْب مشاربها وأهوائها التي تساعدها عليها أهواء شركتَيْ روتر وهافاس، إذ الأُولى تتحزب للولايات المتحدة والثانية لأسبانيا، كما يظهر من استقراء رسائلهما في غير جريدتنا؛ لأننا لا نكاد نذكر ما هو موضوع خلاف من تلك الرسائل، وإننا ننظر الآن في هذه الحرب من جميع وجوهها، ونلم بشيء من أخبارها فنقول: الحرب والتمدن: تلهج الأمم المتمدنة بلفظ السلام عالمها وجاهلها، وحاكمها ومحكومها، ويخدعون أنفسهم أو سواهم من الناس بأن الحرب قد وضعت من بينهم أوزارها، وغلب أولياء العقل والفلسفة أولياءها وأنصارها، حتى بلغت منهم هذه الخِلابة أن قالوا: إن جميع الاستعدادات الحربية برية وبحرية إنما هي لأجل منع الحرب من العالم، ثم ترقوا في مدارج الاختلاب (الخِلابة والاختلاب: الخديعة بالقول) فقالوا: (إن الحرب نفسها لأجل السلام) . قال ذلك الرئيس السياسي لأعظم أمة متمدنة بعيدة عن الطمع بالنسبة لغيرها، وهي الأمة الأميركية، ورئيس آخر من رؤساء الدين فيها! يفتحرون الكلام (أي يأتون به من عند أنفسهم ولا يطاوعهم عليه أحد) ، وينفذونه بالقوة لا بالإلزام. إذا أمكن النزاع بالاستدلال على كذبهم في دعواهم حب السلم، والسعي إليها بوقوع الحرب فعلاً، فهل يمكن النزاع في الاستدلال على ذلك بحالة مجموع أممهم في جميع طبقاتها؟ ألم تر أن الجنس اللطيف قد ألف أسرابًا من الغادات الحسان عرضن أنفسهن للانتطام في سلك الجنود، كما ينتظم اللؤلؤ والمرجان في العقود، وستسمع ما نهض له النساء في أسبانيا. أما علمت أن المدارس الجامعة، كمدرسة هرفرد، ومدرسة يال (في أميركا) وغيرهما قد ترك التلامذة فيها دروس العلم للخوض في معامع الحرب. وأن بعض تلك المدارس أقر مديروها على أن كل تلميذ من الصف الأخير ينتظم في سلك الجيش البري أو البحري يعامل معاملة من أتم مدة المدرسة، ويأخذ الشهادة، وأما سائر التلامذة فيمتحنون امتحانًا خصوصيًّا بعد العود من الحرب للمدرسة، وأن كثيرًا من شعراء الولايات المتحدة وكتابها قد تطوعوا للخدمة العسكرية ليشاهدوا بأعينهم آيات الخراب والدمار، وآثار الفتك والانتقام، ثم ينظموها في عقود القصائد والقصص لتكون مفخرًا لهم إذا انتصروا، ومهيجًا لأمتهم على أخذ الثأر إذا هم انكسروا، ولقد كان من شأن طلاب العلم الأسبانيين مثل ما كان من أخصامهم الأميركانيين، فقد جاء في أخبار رومية: إن تلامذة الأسبان الذين يتعلمون فيها اجتمعوا وأجمعوا على ترك المدارس والذهاب لأسبانيا للانخراط في العسكرية. ألم تقرأ بأن التطوع للحرب عم جميع الطبقات، حتى إن الإسرائيليين والسوريين قد تطوع جماعة منهم في الولايات المتحدة. وجاء في بعض الأنباء أن المتطوعين في الولايات المتحدة بلغوا (700) ألف رجل، ومنهم كثير من النزلاء، لا سيما الإنكليز، ألم يأتك نبأ الأطباء الذين عرضوا أنفسهم لخدمة الجيش الأميركي وهم (1200) طبيب. الحرب والدين: أهدى إمبراطور ألمانيا وسامًا للفيلسوف سبنسر الشهير، فأبى قبوله قائلاً: إنني أنا مقاوم للحرب وقائل بوجوب إبطالها، فقبولي الوسام من رئيس حربي من أعظم قواد الحرب دليل على رضاي منه. فليت شعري هل الديانة النصرانية ديانة سلم أم ديانة حرب؟ يقول الآخذون بها: إنها ديانة سلم، لكن هؤلاء المحاربين وأمثالهم مخالفون لهديها، فإذا سلمنا لهم قولهم تصديقًا لقول القس لوازون الخطيب الشهير: (إن ظِل الديانة قد تقلص من أوروبا) - وأميركا مثلها - أو ذهابًا مع القول العام: (إن السياسة لا دين لها) ، فهل يسوّغ لنا أن نقول: إن ذلك الظل قد تقلص، حتى عن قلانس القسوس وقباب الكنائس والهياكل الدينية، أو إن تلك الهياكل مدارس سياسية ورجالها خطباء الحروب، ومسهلو الكروب؟ وكيفما كان الحال، فليس في كلامنا إيماء للاعتراض على الديانة النصرانية، سواء كانت حربية أم سلمية. وإنما هو مسوق لبيان أن جميع الطبقات في الأمم الإفرنجية تؤيد الحروب، وأن المحاربين لا يرون أنهم منحرفون بخوض معامع الحرب عن دينهم، بل يرون أنهم يسعون في سبيل الله، ويبتغون مرضاته. ذلك أنهم يواصلون البِيَع والكنائس، ويقيمون فيها الصلوات، ويكرون الدعوات بأن يهبهم الله النصر على الأعداء، ويعقدون التحالف في الهياكل العظمى على الاستبسال والاستماتة. وأكثر المظاهرات الدينية في هاته الحرب يقع من أسبانيا ومن أخبارها أن الأميرال فيلاميل قائد أسطول الحراقات (التوربيد) زار هو وبحارته هيكل العذراء وخطب فيهم خطبة حماسية. ثم استحلفهم على الاستبسال فركعوا أمام المذبح وأقسموا أغلظ الأيمان أنهم لا يعودون إلا ظافرين. ومنها: أن نساء الأشراف أنشأن جمعيات دينية برئاسة رؤساء الدين لإقامة الصلاة ليلاً ونهارًا، والدعاء إلى الله بنصر أسبانيا. ومنها: أن أسقف مدريد أصدر منشورًا عن الحرب أمر الكهنة أن يتلوه في جميع الكنائس التابعة لإبرشيته، وهو يلقي التبعة على الولايات المتحدة. ولا تحسبنَّ الأميركانيين لم يصبغوا حربهم هذه بصبغة الدين وأنهم لم يقيموا لها الصلوات، ويرفعوا للاستنصار أكف الدعوات، فمن أخبارهم أنه لما اجتمع مجلس الأمة لسماع رسالة الرئيس عن الحرب قام أحد القسيسين وصلى صلاة حارة، طلب فيها من الله أن يشدد قوى الولايات المتحدة وقال: (لتحلّ نعمتك على الآباء والأمهات الذين طلب منهم أن يقدموا أبناءهم للحرب، وليكن عزاؤهم أن ضحاياهم إنما هي لخدمة الإنسانية والتمدن، أَرْشِدْ الرئيس ومشيريه بحكمتك ليعززوا قواتنا في البر والبحر، حتى تنتهي الحرب سريعًا بخدمة العدل والحرية والسلام الدائم) (تأمل) . ولما أن جاءت بشرى انتصار الأسطول الأميركاني في منيلا اجتمع مجلس الشيوخ وجيء بالقسيس، فوقف وصلى صلاة الشكر، وهي: (نشكرك على الأخبار الحسنة التي وافتنا من البحر، وعلى النصر الذي أوليتنا وكللت به هام ضباطنا في أسطولنا الآسيوي، ونحمدك لأنك أوقفتنا موقف فخر لم يسبق له مثيل، وهو موقف أمة تحارب لا طمعًا بأرض ولا مال ولا بقوة ولا انتقام، بل دفاعًا عن المساكين المحتاجين المظلومين) . ولا يجهل جناب القس أن أمته حضت نار الفتنة في كوبا، وحضت الثوار على مواصلة القتال، ومنّتهم بالمساعدة على الاستقلال، ولولا ابتغاء الفتنة لدفعت بالتي هي أحسن، ولما عمدت إلى شفاء الداء بما هو أدوأ، ولو أن حضرات القسوس يرون الحرب مأثمًا لتأثّموا من مُثافَنة أهلها، والافتخار والتبجح بتمكنهم من إزهاق الأرواح، وتقويض معالم العمران، والدعاء لهم بالحصول على هذه المقاصد، ولكان شأنهم في ذلك شأن الفيلسوف سبنسر الذي لم يقبل الوسام الذي أهدي له على خدمته للعلم والفلسفة؛ لأنه من رجل حربي. فالأصل أن تكون الأعمال الاختيارية منبعثة عن التأثرات والاعتقادات القلبية. والخلاصة: أن الحرب ليست لأجل الدين، لكنها مؤثرة حتى على رجال الدين [*] . الحرب والدول: أجمعت جرائد الممالك على الطعن في سياسة الولايات المتحدة وإظهار الاستياء منها، ما عدا جرائد إنكلترا، وقد أظهر الكثير من الدول ضلعًا مع أسبانيا، وإن كن اعتزلن رسميًّا، وقد طلب كثير من فرنسا وغيرها التطوع في الجيش الأسباني، فحال دون ذلك أن القانون لا يجيزه، وقد بذل الإمبراطور فرنسوا يوسف خمسمائة ألف فرنك في الإعانة التي تُجمع لتقوية الأسطول الأسباني، وبلغ مجموع الاكتتاب في سفارة أسبانيا في باريس أربعمائة ألف فرنك، كما جاء في بريد أوروبا الماضي. وروي أن البورتغال أرسلت في 23 أبريل الماضي 900 صندوق من المِيرة والذخيرة من لسبون عاصمتها إلى الأسطول الأسباني الذي كان في سنت فنسنت (قريبًا منها) ، وأن الهياج في المكسيك شديد، والأهالي يطلبون من الحكومة الاتحاد مع أسبانيا والانتصار لها فعلاً. وألفوا لجنة برئاسة بعض الوزراء فجمعت 12 مليون فرنك. ويقال: إن اللجنة التي تنقل المال لأسبانيا مأمورة بعقد المحالفة (مع أن المكسيك أعلنت العزلة رسميًّا) ، وأن الولايات المتحدة عززت حاميتها على حدود المكسيك. وروت الطان: أن الجمهوريات الصغيرة في أميركا الجنوبية يميلون لمساعدة أسبانيا، وإن كانوا لا يودون بقاء سلطتها على كوبا؛ ذلك أنهم يرون أن الولايات المتحدة تريد الاستيلاء على كوبا؛ لأنها مفتاح خليج المكسيك، والبوغاز الذي سيصل بين المحيطين (الأتلانتيكي والباسفيكي) ، وذلك مقدمة لاستيلائها على أميركا الجنوبية كلها. وقد أظهر الفرنسويون غيرة على أسبانيا أكثر ممن عداهم، حتى صرح بعضهم بأن فرنسا لو لم تكن جمهورية لساعدت أسبانيا فعلاً. وذكرت جرائد أوروبا أن حكومة الولايات المتحدة اعترضت على الإمبراطور فرنسوا يوسف، وعلى البورتغال في مساعدة أسبانيا. أما الدولة الإنكليزية التي لا تعلم كيف تستفيد من كل حادث عظيم، فقد أظهرت الميل التامّ للولايات المتحدة، فتوَهّم بعض الناس أن ذلك للموافقة في المذهب، وزعم قوم أن العلة فيه اتحاد اللغة والحنين إلى الأصل. والمحنكون في السياسة يعرفون أن المنفعة هي الأصل الذي تبنى عليه جميع أعمال هذه الدولة، لكنهم اختلفوا في هذه المنفعة، فذهب البعض إلى أنها تطمع في أخذ جزيرة فيلبين من أميركا؛ لأن استيلاءها عليها مرجح، ويظهر من سياق الحوادث الأخيرة أن الغرض من هذا الولاء والتقرب هو المحالفة بين الدولتين، فإن حوادث الشرق الأقصى الأخيرة انكشفت لإنكلترا عن الحاجة لمحالفة دولة قوية، فقد اشتدت المناظرة لها من الدول الكبرى المتحالفة، حتى تتعذر مقاواتهن ومقاومتهن مع الوحدة. ومن الأنباء الواردة في ذلك أن مكاتب التيمس اجتمع بالرئيس مكنلي وتكلما في حياد الدول ووداد إنكلترا، ثم في إمكان التحالف بينهما، فقال الرئيس: ذلك أمر طبيعيّ، ولكن الساعة لم تأتِ للإقرار على شيء نهائي بهذا الشأن. (راجع الرسائل البرقية) . الحرب والمتحاربون: تشترك الأمتان المتحاربتان بالتهيج وإظهار الحميّة الوطنية، أو الجاهلية،وإن الأسبانيين أرسخ عرقًا في ذلك من الأميركانيين، وأكثر صخبًا وشغبًا، بل أربى غلواء وهم في الطيش على ما كان من حمقى اليونان، حتى حاولوا الفتك بسفير الولايات المتحدة عندما بلغ مدينة فلادولين مسافرًا من مدريد. ولما صدتهم الشرطة (البوليس) عن الدمور (الدخول بغير إذن) في مركبة القطار الحديدي طفقوا يقذفونها بالأحجار، حتى كسروا زجاج النوافذ، فأصابت شظية مكاتب جريدة باريسية. ولا تسل عما يأتونه في مدريد ليلاً ونهارًا. بلغ عدد الشاغبين في إحدى الليالي (6000) آلاف طافوا معاهد العاصمة، وألمّوا بالسفارة الفرنسوية وبدار الوزير سغستا، وأحرقوا هناك الراية الأميركية بصراخ وهتاف، ثم ساروا إلى المراسح وخطبوا الخطب الحماسية. ويمتاز الأميركيون بأن الثوار في كوبا وفيلبين لهم ضلع معهم فهم عون لهم على أسبانيا، كما هو شأن ثوار كريد مع اليونان، وأن داخليتهم في مأمن من الفتن والشغب على الحكومة والقحط، والأسبانيون بخلاف ذلك. قال الوزير سغستا في خطبته: (يسوءني أن الأسبانيين ليسوا متّحدين كلهم في الأحوال الحاضرة) . وقال

إحصاء الحجاج سنة 1315

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إحصاء الحجاج سنة 1315 [*] بلغ عدد الحجاج الذين مروا من قنال السويس جائين من طريق بورسعيد أو الإسكندرية 8352 عثمانيًا و 1113 إيرانيًّا، والذين جاءوا عن طريق البصرة إلى السويس ومروا من القنال 190، والذين لم يمروا منه 153. وبلغ عدد الحجاج من بوسنة وهرسك 86، ومن مغاربة الجزائر 27، (وذلك لأن فرنسا أحصرت مسلمي بلادها منذ خمس سنوات) ، ومن مغاربة الدولة العلية 141، وبلغ عدد الروسيين الذين جاءوا عن طريق الإسكندرية 209، وبلغ عدد المصريين 4541، سافر زيادة عن ثلثيهم في وابورات الشركة المخصوصة العثمانية، والباقي في وابورات البوسطة الخديوية والوابورات النمساوية. وزد على ذلك 240 حاجًا من المغاربة والدكارنة والسودان سافروا في وابورات الشركة العثمانية مجانًا؛ لأنهم فقراء. ذكر المؤيد هذا الإحصاء بزيادة تفصيل، وقال: إنه أضبط إحصاء حصل للحجاج. بلغ عدد الحجاج الذين غادروا مِنًى بعد التضحية مائتي ألف نفس (السلام) .

منار عجيب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منار عجيب قد أقام الأميركيون منارًا عجيب التركيب لمراقبة حركات الأعداء بحرًا في مكان يقال له ساندي هوك يصيّر الليل نهارًا، ويقصد بهذا المنار مشاهدة حركات الأعداء الحربية فيما لو تسنّى لها تعطيل كل أو بعض نساف الاستحكامات، ففي ظروف كهذه يعرّض سفن الأعداء ومراكبهم لنار مدفعية حامية السواحل التي بسببها يجبرون على التقهقر والخيبة. واخترعوا أن يعطوا إشارة بالمشاعيل من حصن لآخر (ما هو معروف عند العرب بنار الأسد، أو نار الحرب) . ولم يقصد بالمنار أولاً مراقبة حركات الأعداء، بل استعمل لنقل الرسائل بالإشارة لإبلاغ المرصد الفلكي النيويوركي من ذروة صرح في ساندي هوك، وقد تمكن بعضهم من قراءة كتاب على مسافة ثمانية أميال منه، وقوة نور المنار هي عبارة عن (194000000) شمعة، وبواسطة الكهربائية يمكن إخراج نور يغني عن مائتي مليون شمعة. فسُرَّ رجال الحرب من هذا الاختراع الذي هو من أكبر الوسائط في مراقبة حركات الأعداء ليلاً. فسبحان مَن علّم الإنسان بالقلم ما لم يعلم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... كوكب أميركا

أنيس التلميذ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنيس التلميذ [*] جريدة أسبوعية علمية فكاهية أدبية لمديرها ومحررها حضرة الكاتب موسى أفندي بنروبي، انتهجت أسهل منهج في الإفادة وهو إيراد المسائل العلمية في ضمن القصص الواقعية. وهذه الطريقة أول من اختطها فقهاء الإسلام في الصدر الأول، حيث كانوا يوردون الأحكام في ضمن الواقعات. فنحث التلامذة ومحبي الفنون على الإقبال عليها، وعسى أن تتوجه عناية حضرة محررها لتصحيح عبارتها إتمامًا للفائدة. *** أخبار سوريا تطوع خمسون رجلاً من السوريين في جيش الولايات المتحدة.

الاعتبار بما هو جار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاعتبار بما هو جار الحرب والتهذيب: يقولون: إن القوة بالرجال، والرجال بالمال، فأية دولة كثر مالها مُكّن لها في الأرض، وأمكنها أن تنال منها ما تشاء ما لم تعارضها دولة أخرى تساويها أو تربي عليها في كثرة المال، الذي هو مناط جميع الأعمال. ويقولون: إن المال لا ينمو إلا في بلاد أظلها العدل، فحجب عنها هجير الجور الذي يحرق المال، ويجتاح ثمار المكاسب، ويمني بالشرور والمصائب، وهؤلاء إذا رأوا في بلاد فقرًا مدقِعًا، أو ضعفًا مُطْمِعًا، نَحَوْا على حكامها باللوم والتعنيف، والعذل والتأنيب، بل ربما لجأوا للشتم والسباب، وسعوا بالهدم والانقلاب، وذلك شأن الأمة الأسبانية اليوم يسعى بعض الأحزاب فيها إلى ثل عرش الملك، واستبدال الجمهورية بالملكية، والذي نراه نحن كما يراه أكثر العقلاء هو أن لوم الحكومات وعذلها لا يكاد يفيد شيئًا، وأن العدل في الحاكم والثروة في الأمة، وجميع أسباب القوة من حسية ومعنوية ترجع إلى التربية والتهذيب، وانتشار العلوم والفنون في جميع طبقات الأمة، وبين جميع أفرادها من ذكرانها وإناثها. واعتَبِرْ ذلك في حال الأمتين المتحاربتين لهذه الأيام يظهر لك جليًّا واضحًا. قد سمعت صدى الأحزاب السياسية في أسبانيا، وكيف اتخذوا مصائب البلاد ذريعة إلى قلب هيئة الحكومة. وعندك نبأ من الثورات الداخلية التي أدت إلى إعلان الأحكام العرفية في تلك البلاد. أما أهل الولايات المتحدة، فقد كانت الحرب وسيلة إلى جمع كلمتهم، واتفاق وجهتهم، فصافح شرقيهم غربيهم، وصافى شماليهم جنوبيهم، بعمد حقد وعداء، ومناهضة ومناصبة، استلّتْ الحرب سخائمهم، ونزعت ما في صدورهم من غل وجعلتهم إخوانًا متقابلين، كأنهم في جنات النعيم. علمت من قبل أن نساء الأشراف في أسبانيا أنشأن جمعيات دينية، لأجل استمداد القوى الروحية، والاستنصار بالأسباب الغيبية أما الأميركيات فقد اتفق بعض جمعياتهن على عدم ابتياع شيء من بضائع الأمة الفرنسوية؛ لأنها أظهرت الميل عن الولايات المتحدة إلى أسبانيا. فقل لي بعيشك كيف تكون تربية أمثال هؤلاء النساء لأبنائهن، وبأية درجة يكون حبهم لوطنهم؟ بل كيف تكون حالة أبناء أولئك اللواتي رغبن الانتظام في سلك الجيش من حب الفنون العسكرية والاستماتة في المدافعة عن الوطن العزيز؟ لا جرم أن شأن أبنائهن يكون كشأن أزواجهن الذين يبذلون النفس والنفيس في المدافعة عن بلادهم، بل يكون أعلى وأرقى؛ لأن الترقي سُنَّة من سنن الله في خلقه، سار فيها أولئك القوم فنهضوا وارتقوا، وصاروا هم الأعلون، وتنكبها الذين أرشدهم إليها الكتاب السماوي، بل عَمُوا عنها فأنكروها وزعموا أن الإنسان دائمًا في تدلٍّ وهبوط، وأن كل يوم شر مما بعده، فهبط بهم اعتقادهم هذا حتى صاروا يعدّون الفنون الحربية والأعمال العسكرية من المصائب، وبذل المال للمدافعة عن الوطن من المغارم. تبصرْ حال النساء في هذا القطر وكثير من الأقطار عندما تؤخذ أبناؤهن للخدمة العسكرية! يعقدن المآتم ويأخذن المآلي (جمع مِئلاة وهو مِنديل النائحة) ، ويواصلن النواح، ويرددن النشيج، كما يفعلن لو اخترمته المنية من غير فرق. فإذا كان الفرق بين الأميركيات والأسبانيات عظيمًا، فإن الفرق بين هؤلاء وبين المصريات والسوريات أعظم. نعم إن نساء سوريا اليوم آنس بالعسكرية منهن منذ بضع عشرة سنة، وإن نساء مصر أشد منهن في ذلك ابتآسًا وأبعد استئناسًا. لاحظ ناظر بحرية أسبانيا السنيور (موري) أن العمل على قلب هيئة الحكومة لا يزيد الأمر إلا فسادًا، وأن الفائدة منحصرة في التهذيب، ولقد احتج بهذا على الحزب الجمهوري المتطرف عندما فَوَّقَ على الحكومة سهام الملام، فكان سهم حجته أفلج. وإنني مورد قوله الذي صفقت له الأحزاب، وهتفت له جموع النواب، وهو: (إذا كنتم لا تصلحون الرجال ولا تحسنون التهذيب الاجتماعي والسياسي فماذا يفيد تغيير الحكومات، فإن ثورة أخرى وعاملاً آخر من عوامل الضعف كافيان لاضمحلال جسم أمتنا الضعيف وسقوط جدارها المتداعي، ولا حاجة للحكومة في زمن الحرب إلا إلى أمر واحد، وهو إرشاد مجلس حكومتها إلى طرق السداد، وإلا فلا نفع منه للبلاد) . صدق الوزير، ولقد رمى عن قوس الحكمة فأصاب كبد الحقيقة، ولو أن كل النواب ورؤساء الأحزاب مثله لما حدثت تلك المشاغب السياسية التي جاءت فوق الحرب والقحط ضِغثًا على إبالة. التطوع والتبرع في الحرب: إن تطوع الإنسان بنفسه وتبرعه بماله في سبيل الأمة والوطن هما أفضل الفضائل عند الأمم الغربية المتمدنة، ولذلك ترى التطوع والتبرع في الولايات المتحدة وأسبانيا يزدادان يومًا فيومًا على نسبة المدنية في الأمتين. يستوي في ذلك النساء والرجال، والأغنياء والفقراء استواءهما في الوطنية. ومن أخبار الأميركيين في التطوع أن المتطوعين مائة ألف أو يزيدون استولى قيادتهم ثلاثة من أمراء العسكرية منهم المستر تيودور روزفلت معاون ناظر البحرية سابقًا أو نائب ناظر الحربية (خلاف) . وروي أن هذا لما تطوع جعل قائد آلاي من الفرسان، ولما علم بتطوعه أصحابه والعارفون به نفر كثير منهم للتطوع خفافاً وثقالاً، ومنهم كثير من الشرطة (البوليس) الذين كان رئيساً عليهم، وكثير من رعاة البقر في الولايات الغربية التي كان فيها، وقد صار الكل تحت لوائه سواء، لا فرق بين الأمراء، ورعاء البقر والشاء، (هكذا تكون الوطنية وهكذا يكون التهذيب) . ذكرنا في العدد الماضي أن كثيرًا من أبناء المدارس الكلية في أميركا، قد تطوعوا، وقد جاء في بعض الجرائد أن أولاد الأغنياء من أولئك التلامذة المنغمسين في الترف والتنعم يأتون في البوارج المِهَنَ المهينة، والأعمال المتعبة، كحمل الفحم على كواهلهم، وإيقاد النار، وتعهد آلات البوارج التي تطوعوا فيها، (فليعتبر أغنياء بلادنا الذين يتفادون من الخدمة العسكرية بالاحتيال، وإن لم تَفْدِهم الحيل الكاذبة فبالمال) ، ومن أخبارهم في التبرع أن المستر أستور تبرع بتجهيز فرقة (أورطة) من المدفعية بعشرة آلاف جنيه، وبنقل الجنود ومِيرتهم وذخائرهم على سككه الحديدية، وأنه عرض يخْته على نظارة البحرية، وبالختام تبرع بنفسه وبذلها للجهاد في سبيل الوطن. وقد تبرعت الفتاة العذراء هيلانة بنت غولد المُثري بمائة ألف ريال، وروي أن الحكومة لم تقبل ذلك منها فجهزت به فرقة من الفرسان لتنضم إلى الثائرين في كوبا. هذا بعض من حال تلك البلاد وحال حكومتها في الثروة، ولذلك يقول العارفون بالسياسة: إن التقاء الأسطولين (الأميركي والأسباني) المنتظر لا يكون خاتمة الحرب إلا إذا كانت الغلبة فيه للأميركيين؛ لأن هؤلاء إذا غلبوا فإن لديهم من المال ما يقتدرون به على استئناف القتال، فإذا فرغت خزائن الحكومة فإن خزائن الأمة لا تفرغ، وقد جاء في بعض الجرائد الأميركية: أن أعضاء إدارة الرسومات تداولوا في تخصيص ستمائة مليون ريال للحرب، فأين الأسبانيون من هذه المبالغ. إن وطنية هؤلاء لا تنكر، ولكنهم مُقِلّون في الأكثر؛ ولذلك لم يرو عنهم من التبرع ما يستحق الذكر إلا ما كان من الأسبانيين الذين في جمهورية الأرجنتين بأميركا الجنوبية، فقد نقل أنهم أرسلوا للحكومة مليوني فرنك، مليونًا في أول الحرب ومليونًا في أثنائها. فعسى أن يتنبه الشرقيون مما يساق إليهم من أخبار الأمم إلى الفضائل الحقيقية، ويميزوا بين الإسراف والتبذير، وبين الكرم والسخاء، فقد تلاشى الكرم الشرقي من بلاد الشرق أو كاد. وليس من الكرم ما يأتيه محبو المحمدة الباطلة والمجد الكاذب من إنفاق الألوف من الدراهم والدنانير في عرس ونحوه، بل ذلك من السفه الذي يتبرأ من صاحبه الدين والفضيلة، ويمقته العقلاء والفضلاء، وإنما يظهر الكرم في مثل إعانة التأسيسات العسكرية وإعانة جرحى حرب السودان التي تجمع في هذه الأوقات، وفي نحو ذلك من الوجوه التي تعود بالخير على الوطن وأهله، كإنشاء المكاتب والمدارس. ومن الأسف أن نرى أغنياء بلادنا لا يلتفتون إلى الأعمال التي تفيد البلاد إلا قليلاً منهم، وفي قليل من الأعمال، بل يكلون ذلك كله للحكومة، ثم ينسبونها للتقصير وهم يعلمون أن جميع وارداتها لا تكاد تفي بحاجة الأمة من ذلك. فكم أنفق مولانا السلطان الأعظم أيّده الله تعالى من جيبه الخاص على المعارف فوق ما تنفقه الحكومة، وكم للحكومة الخديوية من العناية في ذلك لا سيما في عصر العباس حفظه الله تعالى. ولكن لا يقوم بحاجة البلاد إلا أغنياء البلاد، فنسأل الله أن يوفقهم لعقد الجمعيات المالية، لمثل هذه الأعمال الخيرية، إن ربي سميع مجيب.

الشعر والشعراء ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشعر والشعراء (2) وعَدْنا في العدد السابق أن نبين في هذا العدد ما ينبغي أن يكون عليه الشعر، والمقابلة بين قديمه وحديثه، وإنجازاً للموعد نذكر المادة التي تبنى منها بيوت الشعر بوجه عام، ثم نقابل بين بناء المتقدمين والمتأخرين بالنسبة للشعر العربي فنقول: مادة الشعر وبناؤه: قلنا: إن الشعر ضرب من ضروب الكلام، ووظيفة الكلام تمثيل المعلومات بصورة محسوسة، إما بحاسة السمع إذا كان الممثل لها اللسان، وإما بحاسة البصر إذا كان المصور لها القلم (فإن المكتوب يسمى كلامًا) ، وإنما يكون المرء شاعرًا إذا كان يجول بكلامه المنظوم في جميع المعلومات التي تأتي من الحس الظاهر، من مسموع ومرئي ومشموم ومذوق وملموس، أو من الحس الباطن وهي: الوجدانيات، كالشعور باللذة والألم مهما كان مثارهما، أو من العقل، كالمسائل التي ينتزعها الفكر من المعلومات الحسية ويبني عليها أحكامًا لا تبنى على مقدماتها. نعم، إن من المعلومات ما لا يتعلق به غرض الشعر، كاصطلاحات الفنون الوضعية المحضة، التي لا تشرح شيئًا من الحقائق الكونية، ولا تحكي عن العوارض الطبيعية، كمصطلحات النحو والبيان وسائر فنون اللغة، وإن كان المتأخرون من الشعراء المستعربين تناولوا بعضًا من ذلك وأودعوه أشعارهم، وهو ما يسمونه بالتوجيه. وأَمسّ المعلومات بالشعر وأعلقها به يدًا: قوى النفس وأخلاقها وملكاتها وعواطفها وانفعالاتها، من الحب والشوق والكراهة، والبغض والسرور والحزن، والخوف والجبن والشجاعة، والعفة والحياء والخجل والحلم والوقاحة والجهل، إلى غير ذلك، ثم نواميس طبيعة العوالم الأخرى (أي غير الإنسان) علوية سفلية. أما المادة اللفظية فهي العلم بحقيقة اللغة ومجازها وكنايتها وتصريحها. والوقوف على مناهج التركيب والتأليف، وطرق الترتيب والترصيف، ومَناحِي الانتقال، مع التناسق في الأقوال، من كمل له كل هذا وكان ذا قريحة صحيحة وسليقة قويمة ملك زمام الشعر (كما ملك زمام النثر أيضًا) ، وسَلِسَتْ له صعابه، وانقادت له جوامحه، وتمكن من الجري في كل مجال، والانطلاق في كل فج، وكلما ارتاض بالسير قويت شرة جياده، ولم تخرج عن مراده، حتى يشرف على غايات هذه الصناعة. علم مما قررنا أن الشعر في مادته اللفظية والمعنوية يتبع العلم، فمن كانت مادته في العلوم وفي اللغة أغزر، كانت قدرته على التصرف في ضروب الشعر أكبر، أما الوزن فهو مما اهتدت إليه الأمم بالفطرة، وتنوع بالترقي، كما هو الشأن في غيره، ويوجد منه عند أمة ما لا يوجد عند أخرى، وربما اتفقت أمتان أو أكثر في بعض الأوزان. ونحن نرى في أشعار عامة المستعربين أوزانًا لا تدخل في أوزان العرب المعروفة. ومن أراد الشعر العربي، فلابد له من معرفة أوزانه وأحسن طابع يرسم في نفسه تلك الأوزان: كثرة قراءة الشعر المنظوم في أسلاكها، وقد وضع لها أدباء الأمة فنًا مخصوصًا (هو العروض والقوافي) ، والنظر فيه مزيد كمال في ذلك. ما شرحناه في مادة الشعر وبنائه يكفي في بيان ما ينبغي أن يكون عليه الشعر إذا لوحظ معه ما وصفناه به من قبل، وقد آن لنا أن نقابل بين قديمه وحديثه بالنسبة إلى الشعر العربي فنقول: طبقات الشعراء أربع: جاهليون: وهم الذين لم يدركوا الإسلام كامرئ القيس وعنترة وطرفة. ومخضرمون: وهم الذين أدركوا الإسلام وأسلموا كحسان وكعب ولبيد (رضي الله تعالى عنهم) . ومولدون: وهم الذين تولدوا من العرب في الإسلام ونشأوا بينهم كعمر بن أبي ربيعة وذي الرمة وجرير. ومحدثون: وهم الذين نشأوا بعد فساد اللغة فتعلموها من الفنون المدونة في الكتب والدفاتر كالبحتري والمتنبي والشريف الرضي ومهيار وهلُمّ جرًّا إلى هذا العصر. أما النظر في أساليب هذه الطبقات ودرجاتها في البلاغة فقد كان الأوائل من الإسلاميين أطول في ذلك باعًا، وأرسخ قدمًا، وقد كان في القرون المتوسطة من ناهز المقدمين لكنهم أفراد قلائل، يعدون على الأنامل، وفي المتأخرين المجيد بالنسبة لأهل عصره، ولم يدرك أحد منهم للسالفين شأوًا، أو يشق لهم غباراً، وأما النظر في تصرف الطبقات في المعاني، والجَوَلان في ميادين المعلومات، فقد كان الجاهليون ينظمون جميع ما يعلمون من أحوال الخليقة، يتناولون بأشعارهم السماء وكواكبها، والجو وأرواحه، والأرض وما عليها من معدن ونبات وحيوان، والإنسان وسائر شؤونه الحيوية والاجتماعية، ويضربون في فجاج التصورات، ويطيرون في جو الخيالات، فلا يغادرون مدركًا من المدركات حقيقيًّا كان أو وهميًا إلا نظموا دره في أسلاكهم، ووضعوا حجره ومدره في بناء أبياتهم، وإنا موردون ههنا مثالين من أشعارهم؛ أحدهما في حال من الأحوال الاجتماعية، وثانيهما في وصف مجلي من المجالي الطبيعية. المثال الأول: كان لقيط بن يعمر الإيادي كاتبًا في ديوان كسرى، فعزم كسرى يومًا على غزو إياد، فلما رآه لقيط مجمعًا على غزو قومه كتب إليهم قصيدة ينذرهم فيها بطشته، ويرشدهم السبيل القصد في مُدافعته، ولقد وقعت القصيدة في يد كسرى، فقطع لسان لقيط وغزا إيادا (الذي غزا إيادا من الأكاسرة هو سابور ذو الأكتاف، وكل من ملك الفرس كان يلقب بكسرى كما هو مشهور) ، ومما جاء في تلك القصيدة قوله بعد أبيات: بل أيها الراكب المزجي مطيته ... إلى الجزيرة مرتادًا ومنتجعا أبلغ إيادًا وخلل في سراتهم [1] ... أني أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا يا لهف نفسي إن كانت أموركم ... شتى وأحكم أمر الناس فاجتمعا إني أراكم وأرضًا تعجبون بها ... مثل السفينة تغشى الوعث والطبَعا [2] ألا تخافون قومًا لا أبا لكم ... أمسوا إليكم كأمثال الدَّبى سرعا [3] أبناء قوم تأووكم على حنق [4] ... لا يشعرون أضر الله أم نفعا أحرار فارس أبناء الملوك لهم ... من الجموع جموع تزدهي القلعا [5] فهم سراع إليكم بين ملتقط ... شوكا وآخر يجني الصاب والسلَعا [6] لو أن جمعهم راموا بهدته ... شم الشماريخ من ثهلان لانصدعا [7] في كل يوم يسنون الحراب لكم ... لا يهجعون إذا ما غافل هجعا ثم وصف من يقظة العدو وأنهم لا يشغلهم عن الاستعداد للحرب ما يشغل قومه من الحرث واستدرار اللقاح والانهماك في موارد العيش، وقال: وتلبسون ثياب الأمن ضاحية ... لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا وقد أظلكم من شطر ثغركم ... هول له ظلم تغشاكم قطعا ما لي أراكم نيامًا في بُلَهْنِيَةٍ [8] ... وقد ترون شهاب الحرب قد سطعا فاشفوا غليلي برأي منكم حصد [9] ... يصبح فؤادي له ريان قد نقعا ولا تكونوا كمن قد بات مكتنعًا ... إذا يقال له أفرج غمة كنعا [10] ثم أوصاهم بالاستعداد للحرب في أنفسهم وفي سلاحهم وجيادهم، وحذرهم من الاشتغال عن ذلك بتثمير مال يؤول للعدو إذا تغلب عليهم، ثم قال: يا قوم إن لكم من إرث أولكم ... مجدًا قد أشفقت أن يفنى وينقطعا ماذا يردّ عليكم عز أولكم ... إن ضاع آخره أو ذل واتضعا يا قوم لا تأمنوا إن كنتم غيرا ... على نسائكم كسرى وما جمعا يا قوم بيضتكم لا تُفجعن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذَعا [11] هو الجلاء الذي يجتث أصلكم [12] ... فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمعا قوموا جميعًا على أمشاط أرجلكم ... ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا ثم وصف قائد الحرب وما يعتبر فيه من الصفات فقال: وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذرع بأمر الحرب مضطلعا لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عضّ مكروه به خشعا لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه [13] ... همّ يكاد سناه يقصم الضلعا مسهد النوم تعنيه أموركم ... يروم منها إلى الأعداء مطلعا ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعًا طورًا ومتبعا حتى استمرت على شزر مريرته [14] ... مستحكم الرأي لا قحمًا ولا ضرِعا وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرِّفعا ثم ختم شعره بقوله: لقد بذلت لكم نصحي بلا دخل ... فاستيقظوا إن خير العلم ما نفعا هذا كتابي إليكم والنذير لكم ... لمن رأى رأيه منكم ومن سمعا المثال الثاني: قال عبيد بن الأبرص يصف عارضًا فيه برق وينتهي بمطر: يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض كبياض الصبح لماح دانٍ مسفٌّ فويق الأرض هيدبه [15] ... يكاد يدفعه من قام بالراح فمن بنجوته كمن بمحفله ... والمستكن كمن يمشي بقرواح [16] كأن ريقه لما غلا شطبا [17] ... [18] أقراب أبلق ينفي الخيل رماح فالتجّ أعلاه ثم ارتجّ أسفله [19] ... وضاق ذرعًا بحمل الماء مُنصاح [20] كأنما بين أعلاه وأسفله ... رَيْط [21] منشرة أو ضوء مصباح كأن فيه عشارًا جُلة شُرُفا [22] ... شعثًا لهاميم قد همت بإرشاح بُحّا حناجرها هُدْلاً مشافرها ... تسيم أولادها في قرقر ضاح [23] هبت جنوب بأولاه ومال به ... أعجاز مزن يسح الماء دلاح [24] فأصبح الروض والقيعان ممرعة ... من بين مرتفق فيه ومنطاح [25] ((يتبع بمقال تالٍ))

تونس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تونس اطلعنا في جريدة الحاضرة الغراء على الخطاب الذي ألقاه الوزير المقيم العام (الفرنسوي) لأعضاء الجمعية الشوروية الفرنسوية في مأدبة أدبها لهم في (دار السفارة) ، وقد وصفته الحاضرة بأنه موضح للمحجة التي سلكتها إدارة الحماية في ذلك القطر، ويصح أن يكون معياراً لهم في الظروف الحالية. فرأينا أن نثبت في جريدتنا عيونه، ليقف عليها من لم يعرف سير الفرنسويين في ذلك القطر فنقول: بدأ جناب الوزير كلامه بعبارات الابتهاج بخصب القطر التونسي في هذا العام إثر جدب سابق، ثم قال: (وقد لحق العطب بالتجارة لغضاضة مغرسها، وقلة الرميات (كذا) ، ولذلك يتأكد علينا أن نعلق الأمل على تنقيح قانون 1890 الكمركي لإحداث صناعات، وجلب الأموال وتحرير مصالحنا التجارية من قيود المعامل العمومية (الأجنبية) التي نستمد منها المصنوعات. ولقد قاومتم بشهامة تيار الرياح المضادة، وأقمتم برهانًا جديدًا على حياة الأمة الفرنسوية بالإيالة التونسية) . ثم ذكر من مودته لهم: وإن على فرنسا أن تفتخر بهم، وبين العلة بقوله: ذلك أنكم جبلتم على سداد الأفكار، ولم تنقادوا لتلك الأميال الناشئة عن عدم التبصر التي تحير وجه قطرنا بدون أن تبلغ طبقاته العميقة (ما هي تلك الأميال والطبقات العميقة يا ترى) ، ولقد لازمتم الرزانة أثناء انبثاق البغضاء بين الأجناس، وهو أثر من آثار السلف السابق، والقرون الحالية، دفعته ريح عاصفة من أصقاع فرنسا والجزائر (تأمل) ، ولما ظهرت بأقسام الحاضرة التونسية الأهلية شائبة الاضطراب أمكن بتمام سداد آرائكم إخماد تلك الشرارة في يومين، ولولا ذلك بأن نفختم في رمادها لتسعرت نيرانها (وهل ذلك من شأن أمثالهم؟ نعم إذا اقتضه السياسة) ، فأشكركم على مؤازرتكم للحكومة، وإعانتكم لها على إبلاغها مقصودها. (ومن علامات السعادة في هذا القطر: خلوه من المحترفين بالسياسة، وهم أناس انحصرت أسباب تعيشهم في السياسة، وإن شئت قلت: في الصخب والجلبة والنفير (كذا) ، والعبارات الخالية من المعاني، والرشوة في الانتخاب، فالناس كلهم في هذه الديار منكبّون على الشغل، فأعضاء الجمعية الشوروية مثلاً كل منهم له حرفة وصناعة، وكل منهم يتكلم بخصوص مصالح مهمة أتقن معرفتها ودرس أسرارها (هكذا فليكن) ، وهو ما يستحيل تصوره في جهة أخرى، نفق فيها سوق السياسة) . ثم فضل الخطيب الفرنسويين في إيالة تونس على أمثالهم في نفس فرنسا، ودفع ما يرمون به من قلة السعي والحزم بأنهم أسسوا مدينة حادثة بجميع فروعها في أقطار مهملة، ومن قلة الشركات بأن الشركات ملأت الطبقات، ثم ذكر أن القطر التونسي قامت فيه الإدارة بأعمال جسيمة بقليل من الموظفين الفرنسويين، وبأن الحكومة والنزلاء على وفاق إذا تنازعا، فبمجرد الفراغ من المناقشة يتصافح المنافسون، يردّ بذلك على من يقول إن الفرنسوي ميال للوظائف لأجل الراحة وإن عادة الفرنسويين مُنَاصَبة الحاكم للمحكوم. ثم قال: (وأحثكم في ختم هذه البدع الجليلة (كذا) على نبذ التحزب الفاشل (لعله يريد الموقع في الفشل) بمعنى ترك التعصب الأعمى على بقية الأجناس، والمِلل المتمدنة (تأمل) ، فإن طلبتم منا الثبات والحزم فاطلبوا منا أيضاً الإنصاف مع أبناء البلاد، ولا تصمموا عن فرط تسرع، كدار لا يدوم إلا كما يدوم السحاب (هكذا) فلا تستنتجوا من سرقة أعرابي بقرة مؤامرة عموم المسلمين (انظر إلى هذا الإفراط في الحذر) ، ولئن لحقكم الأذَى من جهل بعض المسلمين أكثر من مكرهم فلا تلومونا على السعي في تنوير عقولهم بأنوار المعارف، ولكن لا تسألونا الصرامة والحدة أكثر مما أنتم عليه معهم. ولقد أصبحتم قائمين في هذه الديار بمهمة حفت بالمشاكل، ولكنها كللت بالمفاخر وأسست على دعامة التمدن، حسًا ومعنًى، تلقاء التربة والنوع البشري بخلاف المعمّر في أقطار أميركا وأستراليا، فإن همته إنما صُرفت للأرض خاصة لا لتثقيف العقول وتهذيب النفوس، وحضارة أمة شريفة النسب جليلة المدنية وتغذية نفوسها بلبان الحضارة الفرنسوية، حتى يكون أفرادها من أعوانكم طبعًا (لينظر الجهلاء المنكرون فوائد التربية والتعليم وأن عليهما مدار العمران) ، فكل عمل من أعمال يدنا وتساهلنا يكون موضوع تأويل وشروح لا تحصى، فهو بمنزلة حبة تسفيها الرياح، وربما أنبتت سنابل في شاسع الأقطار كأقطار بحر السودان وبحيرة شاد، وفي كل مكان خفق فيه العلم الفرنسوي، إزاء العلم الإسلامي المهلل (كذا في الأصل ومعناه المتقوس أي المنحني، ولعل مراده المهلهل أي الرقيق! !) ، بالمصلحة وأحسنهن خبرة بكشف غوامض أسرار تلك الأقاليم المجهولة وأكثرهن تحقيقًا للعلوم وأعلاهن كلمة وأوفرهنَّ رغبة! ! أيها السادة، طوبى لمن جبل على الخير، وأشفق على الغير، وتوجع حنانا لمن لحقه الضير، وتنازل تواضعًا لسماع نداء الفقير، وتلقى شكاية الجاهل الحقير، وويل لمن غرته علياؤه، وعجبه وخيلاؤه، ففي التواضع قوة عظمى تمتد بها الكلمة ويعلو بها الشأن، وربما عاد ذلك بأخذ الثأر في مستقبل الأجيال، فإنه وإن حالت ظروف تاريخية لا تخفى دون مساعينا في الاستعمار المبني على حب الأثرة والأنانية، وهو الاستعمار الذي قوامه القوة المادية، فلا غرو إن كان تقدمنا في إفريقيا وآسيا ناتجًا عن خصال يشاركنا فيها مُحالِفُونا الروس، وهي حسن المعاشرة وكرم الأخلاق) . اهـ. (انظر إلى غرضه من نصائحه وحثه على التساهل والتواضع ترى أنه حسن الذكر المساعد على امتداد السلطة في شعوب داخل أفريقية المسلمين) . ثم ذكرت جريدة الحاضرة الغراء أن أعضاء الجمعية أَدَبوا مأدبة فاخرة للوزير عمدة الجمهورية، وعند إدارة كئوس المدام بعد تناول الطعام أَلْقى كاتب سر اللجنة خطابًا أثنى فيه على جناب الوزير بأعماله المفيدة للنزلاء لا سيما (حل مسألة الكمارك المهمة الدالة على تأييد مبدأ الحماية) و (بعنايته بترقي شبان التونسيين في مدارج المعارف بما تقتضيه ضرورياتهم) فأجابه الوزير عن ذلك بخطاب قال فيه: (ولقد سررت جداً إذ رأيت كاتب سر الجمعية أبدى ملحوظات فائقة في شأن تهذيب الأهالي وتثقيف عقولهم بالمعارف، فإن تلك الملحوظات موافقة كمال الموافقة لمقاصد الحكومة ولرغبة جميع أهل الصلاح من المسلمين، فإنهم على رأينا في عدم استحسان ترشيح من لم تستكمل معارفهم، فيشردون وهم أناس نبذوا عوائدهم وعقائدهم فأصبحوا من سقط متاع الأوروباويين. وجمهور القوم متمسكون بدينهم ولهم الحق أن يتمسكوا به، ونحن على رأي أكثرهم معرفة واستنارة في أن هذا الدين لم يَنْهَ عن تحصيل المعارف الثابتة وعلوم التحقيق. أما صرف وجهة المسلمين في التهذيب للصنائع النافعة فيمكن أن يقال: إنه من شواغل مدير العلوم والمعارف. أما الأوامر الصادرة في معاوضات وأَكْرِيَة الأوقاف فهي حديثة عهد بالصدور، ولا يمكن الحكم عليها الآن، بل لا بد من كرّ الزمان للتأنس بالعمل بهذه الطريقة الجديدة، على أننا نتلقى باهتمام كل تحسين وتنقيح جزئي يرد لنا في هذا الخصوص بشرط أن لا يمس ذلك بجوهر هذه المصلحة الدينية) . اهـ ما أردنا نشره محافظين فيه على الأصل في الأكثر كما رأيت.

كتاب الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب الإسلام [*] للكونت هنري دي كاستري يعلم مَن له وقوف على التاريخ الحديث أن الحروب الصليبية هي مبدأ جميع المشاكل بين المسلمين وبين أوروبا، بل بين هذه وبين جميع الشرق، ولقد كان مبدأ تلك الحروب تحمسًا وغلوًا في الدين وتعصبًا من أوروبا على الإسلام، وما كانت لتهب تلك الأمم كلها وتندفع على الممالك الإسلامية وتعمل على إبادة الإسلام وهي تعتقد أنه دين قيم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحفظ العهد والذمة، ويقيم القسط في بلاد كان له السلطان عليها، إذ لا يجوز اتفاق أمم كثيرة على حب الشر وكراهة الخير، والرغبة في محوه واصطلامه وإن جاز أن يجنح إلى ذلك أفراد أو جماعات من الناس نشئوا على الشرور، وتربوا على الفساد، أو أعمتهم الحظوظ وشهوات النفوس من حب الرياسة وغيره، وإنما طوح بأمم أوروبا إلى ذلك أن قوماً من أرباب الهواء مثلوا لهم الديانة الإسلامية بتمثال مشوه، اجتمعت فيه المعايب والرذائل المتفرقة في العالم كله، وزايلته جميع المحامد والفضائل والمحاسن إلى ما لا محل لشرحه هنا. تفجر طوفان تلك الفتن، فجرف ما جرف، وفاضت بحار الانتقام، فغشي الناس من اليم ما غشيهم، أعقب ذلك الجزر إلى أجل مسمى، ثم فاض نائب تلك البحار باسم جديد، وتلون بألوان المدنية الحديثة المدهشة ببهاء منظرها وغرابة مخبرها، مدنية روحها الثروة، وجسدها الثروة، قرب طلاب الكسب فيها الأبعاد، وخالطوا جميع الأمم حتى كادت الأرض تكون مدينة واحدة. بهذا أمكن لأهل أوروبا الوقوف على حالة المسلمين في سيرتهم الدينية، ولكن بعدما (دب إليهم داء الأمم السابقين) و (اتبعوا سَنَن من قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) ، فكان لمن رآهم بعين السخط دليل من أنفسهم على ما رماهم به الطاعنون، حتى بما يسمونه (عبادة القديسين) ، كما هو منصوص في كتبهم، ومسموع من كلمهم، ومنهم من نظر بعين الإنصاف، فرأى من أعمالهم حسناً وقبيحاً، وتبين له أن قومه مفرطون في ذمهم للإسلام، وغالون في تحزبهم وغمطهم للمسلمين. ومن هؤلاء من ذهب به حب اكتشاف الحقيقة إلى النظر في القرآن وغيره من كتب الدين، حتى أدى به البحث إلى الإعجاب به، ثم اعتناقه أو الثناء عليه. ومن المثنين على الإسلام في مصنفاتهم (الكونت هنري دي كاستري) كتب كتابًا سماه: (الإسلام خواطر وسوانح) ، بحث فيه عن صدق سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في نبوته، ففند مزاعم قومه فيه، لا سيما أصحاب (أغاني الإشارات) ، التي كانت السبب في الحروب الصليبية، وتكلم على الإسلام في زمن الفتح وما بعده، وعلى القضاء والقدر، وغير ذلك من المسائل التي يطعن بها أهل أوروبا على الإسلام، وتكثر المباحث بها في هذه الأيام، لا سيما من المستشرقين في أوروبا، ويستشهد في كلامه بالقرآن العزيز ويحتج بآياته. كل هذا وعلماء المسلمين لا يدرون في الغالب ماذا يقال في دينهم مدحاً ولا ذمأ، بل تركوا الأمر لأهل أوروبا يفتاتون عليهم بما يشاؤون، وكيف يدرون، وهم لا يعرفون لغات القوم، ويذمون في الأكثر من يتعلمها، ويختبر حالة أهلها، وينظر في كتبهم، وربما طعنوا في دينه من جراء ذلك، حتى كادت الطبقة العارفة بلغات أوروبا والناظرة في فنونها تكون منفصلة عن الطبقة المشتغلة بعلوم الدين انفصالاً تامًا. ولا مجال هنا لبيان الضرر في ذلك على الأمة الإسلامية، وإنما نقول: إنه يوجد في علماء الدين من يعلم وجه حاجتنا إلى علوم أوروبا حق العلم، ويوجد في العارفين بعض لغات الأوروبيين والناظرين في فنونهم من يحب خدمة الملة والدين بعلمه، ومن هذا الفريق العالم القانوني الفاضل عزتلو أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر الابتدائية، فإنه يختلس الفرص من أشغاله القضائية الكثيرة لترجمة الكتب النافعة، ولقد ترجم غير كتاب، ولا يزال يدأب في هذه الخدمة. وآخر كتاب نقله للعربية وطبعه كتاب: (الإسلام) للكونت دي كاستري المشار إليه آنفاً. أحب القاضي الفاضل أن يعرف قومه ماذا يقال عنهم، رجاء أن تنهض هممهم للمدافعة عن أنفسهم بالاستدلال وإصلاح الحال، فإننا إذا أقنعنا أوروبا بأن ديننا دين علم وتهذيب (وهو الواقع) يوشك أن يتغير فيها الرأي العام فينا، ولنا في ذلك من المنافع العلمية والسياسية ما لا يجهل. وقد أحببت أن أتحف قراء المنار بمقدمة حضرة المترجم؛ لما فيها من الفائدة، والتنبيه لما ينبغي أن تتوجه إليه أفكار المسلمين، لا سيما العلماء منهم، فإننا نحن المسلمين نعتقد أن القرآن هو أول كتاب سماوي أَلَّفَ بين الدين والعقل، وجمع بين مصالح الدنيا والآخرة بالعدل، وأن نبينا عليه الصلاة والسلام إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ويضع حدود الفضائل والآداب، وأوروبا ترمينا نقيض ذلك كله، ونحن نكاد نصدقها بأعمالنا وأحوالنا، حيث نعرض عن الفنون العصرية، ولا نكذبها بأقوالنا، حتى قام منها من يدافع عنا، فكان أولى بنا منا، ولو كنا نحن المناضلين عن أنفسنا لكانت الفائدة أتم، والمنفعة أعم، فعسى أن يلتفت إلى هذا الأمر الجليل أهل الرشاد، كيلا نكون مع مناظرينا كالنعامة مع الصياد. مقدمة المترجم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فإنى عثرت على كتاب فرنساوي ألفه حضرة الكونت هنري دي كستري في الدين الإسلامي سنة 1896 ميلادية، ولما فرغت من قراءته وجدتني منساقًا إلى ترجمته، فلم يدركني ملل ولا نصب حتى أتيت على آخر الكتاب، وعدت فراجعت الترجمة فإذا هي تكاد أن تكون حرفاً بحرف، ثم توجهت الفكرة إلى طبع هذه الترجمة ونشرها على الناطقين بالعربية، فاعترضني بعض الأصدقاء بعد أن أريته شذرات من الترجمة، وكان من رأيه عدم النشر بالطبع، واحتج بأن الكتاب غاية في التدقيق قاصدًا نهاية التحقيق غير أنه اضطر إلى ذكر ما كان وإن كان يعتقده أو يتوهمه مسيحيو العصر الخالية في الدين الإسلامي من الشناعات والسباب، وذكر مثل هذه الأشياء وإن كان على سبيل الرد عليه ربما اشمأزت له النفوس، ووقع من المطلعين عليه موقع الاعتراض وعدم القبول، فهو لا يروق من هذه الجهة جماعة المسلمين، وإنني لم يكن ليخطر ببالي مثل هذا الخاطر، ولم يدر في خلدي أن يعترض واحد على ذكر هذه الأشياء في الكتاب، وهي لم تذكر من المؤلف وهو مسيحي على أنها حقائق، بل أوردها على أنها أوهام علقت بأذهان المسيحيين من تلك الأعصر، وترتب عليها ارتسام المسلمين في مخيلاتهم بالصور الشنعاء، وأراد المؤلف محو هذه الصور من مخيلات الأجيال الحاضرة، فبرهن وأقنع واستدل بالحجة القاطعة على أن تلك موهومات لا نصيب لها من الحقيقة، وذكر أسباب إيجادها في النفوس، ورغب إلى قومه أن يستبدلوا تلك الصور المشوهة بصورة الإسلام الحقيقي، وما يدعو إليه من خير وإصلاح، فلذلك لم أعول على استشارة ذلك الصديق في التأخر في الطبع، إلا أنه أوجب عندي استشارة غيري وغيره، فرأيت أمام الصديق المعارض أصدقاء موافقين وغيرهم مستحسنين وغيرهم آمرين، وبالطبع غلب رأي الأكثرين رأي الواحد، خصوصًا وأنه لم يستند إلا على شيء قال: ربما يحصل، ونحن نقول: ربما لا يحصل، وإن حصل فهو من عدد قليل، وأنه لو لم يذكر المؤلف ما ذكره من تلك الموهومات ونبه على فساده وبرهن على خلافه، لبقي مركوزاً في أذهان قومه، وبقينا ونبينا عندهم على ما توهمه السابقون منهم، أما وقد فعل فلا شبهة في أنه خدم ما استطاع، ووجب علينا شكره ما استطعنا، ومن تمام شكره إعلام قومنا بكتابه، ولكنا لم نرد أن نأخذه بدون إذنه واستمنحناه الإذن فيه، فتفضل بالإجابة وكان له بذلك الشكر والامتنان. على أن إمكان اشمئزاز البعض مما جاء في هذه الكتاب من الأقوال التي ردها المؤلف ودل على خطئها بالبرهان، لا يقابل الفائدة التي نراها من نشره، والذي يقصد الفائدة ويتحرى مآخذها لا ينبغي له أن يلتفت إلى ما عساه يكون من تقزز بعض القراء، فإنهم لو أنصفوا لما نفروا. هذا وإن قومي لعلى علم تام من أن مقصد مثلي حسن، وغرضي إنما هو التنبيه على أنه قد وجد من غيرنا من قام للدفاع عنا بذكر الحقائق، وسرد الوقائع التاريخية الصادقة، فسفه رأي قومه فينا، وأبان لهم وجهي الخطأ والصواب، ومن الواجب علينا أن نعرف ما قيل، وما دفع به الدافعون وليتهم كانوا منا، وأن نتعرف صاحبي الرأيين، فنعرف المخطئ، ولا ندع له باباً آخر للطعن علينا، ونعرف لذي الصنيعة صنعه الجميل، فنزيده اعتقاداً باستحقاقنا لما صنع. وفينا كتاب الله أعظم مرشد لهذا السبيل، فقد حكى بعض المذاهب بنصها وفصها، ورد عليها بغاية الإيضاح والتبيين، وعندنا كتب سادتنا الأولين في علوم الأصول والكلام، وكأنها تحكي المذاهب الباطلة مفصلة، وترد عليها، ومن علمائنا السابقين من يوجب حكاية المذهب الفاسد، ليتمكن المطلع من الرد عليه بالدليل، فإذا كان هذا هو الحال في المذاهب التي قررها أصحابها، ويخشى حقيقة من انتشارها؛ لأنها مبرهنة بنوع من البرهان، وإن كان فاسد المقدمات، فما الظن بما حكاه الغير عنا على وجهه، إما غلطاً أو قصداً لغرض مخصوص. أظن أنه لا يختلف اثنان في أنه من ألزم الواجبات حكاية ما حكوه، وإشهار ما قالوه، وإذا كان الغرض في القسم الأول هو الرد عليه، فليكن الغرض من هذ القسم معرفة ما رمينا به، وهذا بلا ريب ينتج الرسوخ في العقيدة عندنا، وينتج أيضًا اقتناع الواهمين بضد ما توهموه، وهذه النتيجة تقصد لكبار العقلاء، ويحبها أفاضل العلماء. وفوق هذا فإنا بذكرنا ما قالوه قدحاً علينا أو طعناً في ديننا أو صاحبه عليه الصلاة والسلام نرجع إلى أنفسنا، ونبحث عما إذا كان لأقوالهم من إهمالنا منتزع أم لا، فإن كان لهم منها منتزع علمنا كما هو الصواب أنه ليس من أصل الدين، فلا نلبث أن نتباعد عنه، ونرجع لأصل الدين القويم، ولا نحيد عن العمل به في أي حال من الأحوال، وإن لم يكن لهم من أعمالنا منتزع أدركنا أن لهم غرضاً مخصوصاً، وعملنا على ما يزيل هذا الوهم من أنفسهم، أو يدفع بهم إلى تغيير غرضهم فينا، وهم لا شك مجتنبوه إذا رأوا منا ذلك المنهج المعتدل، والسير على الصراط المستقيم، فإن مقاومة الوهم بمثله لا تفيد. ثم إنه لا ينكر أن في همتنا قصوراً عن البحث فيما يعتقده الناس فينا، فإذا قيض الله لنا من بحث بدلنا ورد الشبه عنا فما أجدرنا بقبول عمله وإظهار الرضا به، وما أولانا بنشر تحقيقاته بيننا، حتى تعم فائدتها جميعاً، وربما جرنا هذا إلى الاشتغال بأنفسنا، فإنه ما حك جسمك مثل ظفرك، ولا أحسن من أن يتولى الإنسان مصالحه بيده مع حفظه حق مرشديه وعدم إنكار صنيعهم الجميل. ولقد رأيت للمؤلف من التثبت في العقل والاعتدال في الحكم واستعمال الذوق في الرد وإعمال العقل في النقد وطريقه والاستشهاد بالوقائع التاريخية، ما فاق به سواه من مؤلفي زمانه، فبان لي أن غرضه الحقيقة أيًّا كانت، ولا أؤاخذه في بعض مواضع كتابه، مما لم يطابق نقله الأحكام الشرعية، إذ ربما اعتمد فيه على قول بعض النقلة، وربما كان نقله صحيحًا على بعض المذاهب التي لم أقف أنا عليها، ولذا لم ألاحظ عليه في الهامش ملاحظات مستقلة، وفضلاً عن هذا فإنني رأيت أن تكون الترجمة نقلا للأصل برُمّته؛ ليعلم ماذا قصد وماذا كتب، ويكفينا منه أنه طال

الشعر والشعراء ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشعر والشعراء (3) التراكيب اللفظية كالأجساد، والمعاني أرواحها، وكأين من ذي جسد مليح لا تشويه في جثمانه، لكن صفاته الروحية مشوهة، فهو لذلك يُمْقَت من كل ذي طبع سليم وفطرة صحيحة. والشكل والخفة في الأرواح ... أملح ما يعشق في الملاح كذلك الكلام منظومًا ومنثورًا لا تكمل محاسنه إلا بحسن معانيه، ومتانة مبانيه، ولقد جئنا بمجمل من البيان عن حالة الشعر من حيث مبانيه ومعانيه في العدد التاسع والعاشر من جريدتنا، وأبنّا أن شعراء الجاهلية كانوا يتصرفون بأشعارهم في جميع معلوماتهم، وأرجأنا الكلام على بقية طبقات الشعراء إلى هذا العدد. والآن نقول: إن المخضرمين لا فصْل (فرق) بينهم وبين الجاهليين، إلا بما كانوا به أغزر علماً، وأفلج سهماً، لما أعطاهم القرآنُ الكريم والحديثُ الشريف اللذان تقاصرت عنهما من أولئك أعناق العتاق السبق، وَوَنت دونهما خُطى الجياد القرح، لكنهم مع قدرتهم السامية، ومعارفهم العالية، كانوا أقل نظماً من الجاهليين، كان لهم شاغل من عبادة الله تعالى ونصرة دينه عن الشعر، وكان أكثر شعرهم في مدح النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم، وفي الذَّبّ عنه وعن الإسلام، وأشعار حسان في ذلك مشهورة، ولغيره من أكابر الصحابة أشعار تدخل في الطبقة العالية، لكنها لم تشهر، وإليك هذه الأبيات، الأبيّات من قصيدة سيدنا الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه، نسبها له سليله سيدي مصطفى البكري صاحب ورد السحر، ونسب له غيرها خلافًا لمن قال من المؤرخين: إنه لم يقل الشعر قط، على أنه مروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أما الأبيات فهي: أمن طيف سلمى في البطاح الدمائث [1] ... أرقت وأمر في العشيرة حادث ترى في لؤي فرقة لا يردها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه وقالوا لست فينا بماكث إذا ما دعوناهم إلى الحق أدبروا ... وهرّوا هرير المحجرات اللواهث [2] فكم قد متتنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شيء لهم غير كارث [3] فإن يرجعوا عن كفرهم لعقولهم ... فما طيبات الحل مثل الخبائث وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم بلابث [4] ونحن أناس من ذؤابة غالب ... لنا العز منها في الفروع الأثائث [5] يميناً برب الراقصات عشية ... جراجيج تخدى في السريح الرثائث [6] كاذم ظباء حول مكة عُكّف ... يردن حياض البئر ذات النبائث [7] لئن لم يفيقوا عاجلاً من ضلالهم ... ولست إذا آليت قولاً بحانث [8] لتبتدرنهم غادرة ذات مصدق [9] ... تحرم أطهار النساء الطوامث يغادرن قتلى تعصب الطير حولهم ... ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة ... وكل كفور يلتقي الحرب باحث فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم ... فإني عن أعراضكم غير شاعث [10] وأما المولدون فقد أكثروا من النسيب والمديح والهجاء، وأقلوا من غيرها، مع قبضهم على جميع أزمة القول، ومعرفتهم بطرقه وأساليبه، واتساع معارفهم العلمية والأدبية والمادية والمدنية، ثم جرى المحدثون على آثارهم، وساروا منحرفين عن محجة العربية الفصحى، حتى بعدوا بها عن معاهدها، وملكت العجمة عليهم ألسنتهم، حتى صار أمرهم إلى ما علمت، أعرضوا عن النظر في كلام الأقدمين، وقصروا همهم على محاكاة المعاصرين، ولم يبق لديهم من النسيب والغزل إلا تشبيه سواد عقائص الشعر بأساود الحيات، والعيون السود ببيض المرهفات، والقدود بسمر الرماح، والرضاب بالضرَب والراح، والثنايا بالدرر والإقاح، والجبين بالهلال والصباح، والخدود بالورود وشقائق النعمان، والثدي بحقاق العاج والرمان، إلى ما يلتحق بهاتا من ذكر الهجر والوصال، والتيه والدلال، وغير ذلك مما هو مشهور عنهم من الكلام في الغراميات، وربما قرنوا ذلك بذكر الوقوف على الديار واستنطاق الرسوم والآثار. وأما المديح فما بقي منه إلا ألفاظ يفيضونها من مكارمهم على كل ممدوح، كالمجد والسعد، والسخاء والرفد، والفضل والكمال، والرفعة والجلال، والشرف والعلاء، والسناء والبهاء، والمعارف والعوارف، والفضائل والفواصل، والسماحة والرجاحة، والبلاغة والفصاحة، يجعلون الممدوح أسخى من حاتم، وإن كان أبخل من مادر، ويقولون: إنه أفصح من سحبان وائل، وإن كان أعيا من باقل، ويزعمون أنه أصدق من القطا، وهو أكذب من مسيلمة، وأنه أحلم من أحنف وأذكى من إياس، وهو أحمق من هَبَنَّقة وأبلد من الذباب، وإذا أخذوا في الرثاء يقدمون على ذكر هذه الأوصاف تهويلاتهم المشهورة، كقولهم: إن الشمس كسفت، والنجوم انكدرت، والجبال تصدعت، وعيون الدموع تفجرت، وألسنة العوالم استرجعت، وقلوب الخلائق تفطرت، وأبواب الجنان فتحت، والحور في القصور تزينت، ونحو هذا مما ملته الأسماع، وسئمته الطباع، ويكاد يحيط به كل إنسان. وحاصل القول في الشعر والشعراء: أن العرب كانوا مندفعين إلى الشعر من طبيعتهم، فكانوا يتناولون بشعرهم كل ما في الطبيعة، وما ينتزعه الذهن منها، كالخيالات والأوهام. وإن الجاهليين بلغوا به قبيل عصر النبوة الشأو البعيد، والغاية التي لا وراءها بالنسبة لمعارفهم، وإن الإسلاميين ارتقت في أول الإسلام ملكاتهم في البلاغة على ملكات الجاهليين، فكان كلامهم في المنظوم والمنثور أحسن ديباجة وأرصف مبنى وأعلى معنى، لكن لم يلبث الشعراء أن حصروا كلامهم في مواضيع قليلة (كما علمت ولما علمت) برز فيها أفراد من كل عصر، وما كانوا يخرجون عنها إلا أحيانًا. وأنه جاء في القرون المتوسطة - لا سيما الثالث والرابع والخامس - من ساهم السابقين، وخاطر المقرمين، وناهيك بابن دريد المتوفى في أوائل القرن الرابع، فلقد ضربت مقصورته بكل سهم، وطرقت كل باب، ولا تنس حكم أبي تمام، وأبي الطيب، وفلسفة أبي العلاء، لكن طرق هؤلاء كانت عقيمة، ومذاهبهم دارسة، لا سيما مذهب أبي العلاء في فلسفة الأفكار؛ فإنه كان فيه نسيجَ وَحْدِهِ، لم يحذُ فيه مثال أحد، ولم يتلُ تِلْوه فيه أحد. وإن المتأخرين هبطوا بالشعر إلى أسفل الدركات، وإن كلامهم في الأكثر خَطَل (فاسد فاضطرب) وعسلطة (لا نظام له) ، وإنه لا يكاد يوجد المجيد، ولو في موضوع واحد إلا نادراً. وكان في القرن الماضي (الثالث عشر) عبد الباقي العمري، له شعر رصين متين في مدح آل البيت عليهم السلام والرضوان. هذا ما نبه أفكار الفضلاء وأهل الغيرة على الآداب العربية، وحدا بهممهم إلى حَلّ الشعر العربي من عُقُله وإطلاقه من قيوده فأرشدوا الناس إلى التصرف في المعاني الجديدة والنظم في المواضيع الشريفة على ما تقتضيه حالة هذا العصر. طَرَقَ هذا التنبيه مسامع منشئ هذه الجريدة في أوائل طلبه للعلم من أستاذنا العلامة الشهير الشيخ حسين أفندي الجسر، فجنحت النفس للعمل، وكان أول نظم نظمته في ذلك قصيدة أشرت فيها إلى مذاهب المتأخرين في الشعر بصيغة الإنكار، وشيبت ذلك بالمعاني الجديدة التي تعطيها الفنون والصناعات العصرية. القصيدة في تهنئة صاحب السعادة محمد باشا نجل الأمير عبد القادر الجزائري الشهير يوم صار ياور حرب لمولانا السلطان الأعظم، أيده الله تعالى، وهي نحو من مائة وعشرين بيتاً، نأتي على بعضها هنا على سبيل النموذج فنقول: (مطلع القصيدة) نصرت دولة المهى التركية ... بلحاظ قامت بها العصبية ثم ذكرت من حرب دولة الحسان المشبهات بالمهى أن لديها عوالي القدود السمهرية، وحراب السواعد، وخناجر الحواجب، وزدت على هذا تشبيه غدائر الشعر الملتوية أطرافها بالبنادق ثم قلت: أي حسن نرى بهذي الغواني ... كل عضو كآلة حربيه ما لنا نحسب الحسان ظباء ... ولها فتكة بنا قسوريه ونسمي خدر الفتاة كناسًا ... ونرى الغاب يدعي الأولويه ونذوق الغرام عذبًا وإن كا ... ن عذابًا لدى النفوس الأبيه يا رقيقًا لذات خصر رقيق ... برئت منك ذمة الحريه قد أذلتك نسوة يتبرجن ... دلالاً تبرج الجاهليه تلك سلوى أن التخيل يدعو ... رقة العقل رقة طبعيه (ومنها) كم تناجي الدجى وما أنت ممن ... يفتري عن ضاوعة المفريَّه وتبيح الرياح كل غدوّ ... ورواح شؤونك السريه وتصيخ الآذان تسترق السمع ... جوابًا يأتي من العامريه قد أقامت لك الأماني سلكًا ... لأداء الرسائل البرقيه ولكم أنت في عتاب وشكوى ... لحبيب دياره مقصيه إن نأى يدنه الخيال من التمثيل ... في آلة له رصديه وعلام الوقوف حول رسوم ... دارسات ما ثَمَّ منها بقيه تمطر السحب من عيونك ما ثار ... بخارًا عن نارك القلبيه بحر دمع وفُلْك جسمك فيه ... سيرته أنفاسك الصدريه (ومنها) خل عنك التمويه بالغيد وأسلم ... إنما الحب لذة وهميه قد أقامت على الحقائق سترًا ... فاستسرت نجومها الدريه حجبت عنك شمسها بسحاب ... ظله قام صورة شمسيه ومنها في إثبات أن الحب اختياري في مبدئه: أنت أشعلت نار قلبك بالتحديق ... نحو الحدائق الحسنيه صاد رسم الحبيب طرفك منها ... بانعكاس الأشعة النوريه فسرى من زجاجة العين للقلـ ... ب شعاع كجذوة ناريه ومنها في مدح مولانا السلطان المعظم: جر ذيلاً عن المجرة إذ جا ... وز هام الجوزاء بالفوقيه ما علاه نبتون والعقل كم كذب ... حكم المشاعر الحسيه نافذ الرأي مسقب كل ناء ... من عويص المشاكل الفكريه يومض الذهن من تلاق لإيجا ... بية الحكم فيه والسلبيه فكأن السداد والحزم فيه ... برلمان أقيم أو جمعيه حرر الملك بعد رق فقرت ... فيه عين الإسلام والحريه أيد الملة الحنيفية السمحة ... فيه والشرعة الحنفيه فهو والملك إذ تولى عليه ... فتوالت نعمى وولت رزيه شبح صافحته أم لهيم ... فسرت فيه قوة روحيه فأباح العمران سر الترقي ... لنفوس الجمعية البشريه فأفاضت ماء الزراعة عين ... أيقظتها الصنائع العمليه وأقامت لها التجارة سوقًا ... أحرزت في مجالها السبقيه وبغيث العلوم أينع روض ... صوحته البوارح الدهريه فيه شمنا شمس الهدى وشممنا ... منه عرف المعارف الحكميه ووجدنا جسم الوجود صحيحًا ... بارتقاء الصناعة الطبيه ورياضي فكره ظل يبدي ... من زوايا الفنون كل خبيه وتدلت زهر النجوم إلينا ... بل عرجنا للقبة الفلكيه هل كعبد الحميد يلفى مليك ... أو تولى من عهد آل أمية عُمريٌّ عدالةً علوي ... سطوةً والسمات عثمانيه سار في نهج ملكه وكلاء ... مثلوا نور عدله للرعيه بالشمس نظامها فيه دارت ... واستنارت سيارة بشريه ومنها بعد ذكر وفود أصناف الناس على المابين حتى الملوك، وكان ذلك عقب زيارة إمبراطور ألمانيا الآستانة. فكأن المابين والناس ما بين ... مجدّ سعيًا وذي بطئيه كعبة والحجيج من كل فج ... ينتحيها أو مركز الجاذبيه ومنها في مدح الأمير وهو ختامها: لم أقل إنني خصيص علاه ... فهي دعوى بمدحتي ضمنيه وكفاني قرب القرابة أنّا ... بوأتنا البنوة النبويه وبكلي له تسلسل ود ... دار فيه كالدورة الدمويه يا عريقا بالمكرمات فليست ... هبة تستردّ أو عارِيّه هاك بكراً جاءت بمبتكرات ... من مجاني جناتها معنويه أشربت رقة الحضارة لكن ... رويت بالجزالة البدويه أعجبت بالمديح فيك فقامت ... تتهادى كأنها حوريه رامت الحلي في الثناء فلبتـ ... ها عقود الكواكب الدريه فبدت تنتحي علاك وناهيك ... بباد أوفى على المدنيه تستميح الرضى لكي تغتدي را ... ضية عند ربها مرضيه

بهتان عظيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بهتان عظيم [*] رمى بعض السفهاء سهمًا فأصاب أمته وملته، فحملنا ذلك على كتابة التذكرة، ورأينا أن نفتتحها بنبذة بليغة جاءت في العروة الوثقى الشهيرة تصف أخطارها، حتى كأنها وضعت لها فنقول: أسف يصهر الجسم، ويذيب الفؤاد، وحسرة تفلذ الأكباد، على قبيل من أمة، أو شخص منها ذي همة، يستعين الله في عمل ينقذ أمته من ضعة، أو يرجع إليها بمنفعة، ثم يوجد له في وجهة عمله من تلك الأمة من ينجم، كقرن المعز، ليفقأ عين العامل الفاضل، فيقطع عليه أسباب العمل، ويعرقله عن القصد، ليكسب مدحة باطلة، أو منفعة عاجلة، وإنما مثل من يكون على هذه الصفة في الأمة، كمرض السكتة في البدن، أو الصرع في الرأس، أو الخبل في العقل، أو الشجي في الحلق، أو القذى في العين، هؤلاء هم الذين يقعدون بكل صراط يوعدون ويصدون عن سبيل الله والحق، ويبغونها عوجًا. لو كان لهؤلاء العضال الطباع (الأعصل المعوج في صلابة) بقية من الإنسانية أو أثر من العقل، يدركون به ما ينشأ من أعمالهم الجزئية من المضار الكلية، ويشعرون بهذا الجرم العظيم الذي يدك الرواسي ويهد الشامخات، لذابوا خجلاً، واستتروا عن الناس بحجاب العدم، وتمنوا لو محيت أسماؤهم من لوح الوجود، ولكن يظهر من جرأتهم على خطيئتهم أنهم ذهلوا عن أنفسهم، فلا يعلمون ماذا يعملون. هذا العمل الصغير الذي يجلب على الأمة شراًّ كبيرًا، ويحرمها من خير عام، ليس في وسع حكيم من البشر أن يحدد درجته من الخسة والسفالة، ولا في طوعه أن يحيط بكُنْه الفساد الذي ضرب في طبع شخص يقدم على مثله، ولا توجد كلمة ولا جملة ولا كتاب يفي ببيان حاله سوى أن يقال: خائن ملته ووطنه. أولئك أشخاص كثيرًا ما يوجدون في الأمم المعتلة، يشبه أن يكون منهم أصحاب النهج الأعوج [1] والسبيل الملتوي، الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فيتذقحون ويتجرمون على البرآء (تذقح له وتجرم عليه أي: تجنَّى، وادعى عليه الجرم باطلاً) ، يقولون كذباً، ويخلقون إفكاً، ويحرفون الكلم عن مواضعه، يطفئون بذلك نار الحسد، أو يشترون به ثمنًا قليلاً، فويل لهم مما كسبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون. إن للتجرُّم والتجنى ضروبًا كثيرة، وأشدها ضررًا على الأمم ما كان من ذلك على علماء الأمة وعقلائها، الذين يسعون في إعلاء شأنها، ورفع منارها، ويرشدونها إلى جوادّ المجد، ويعرجون بها في معارج الشرف والكمال، وقد مضت سنة الأولين في هؤلاء الأخيار بأن التجني عليهم كان أكثر، والبهتان في حقهم كان أعظم، بل سكت السواد الأعظم من أهل القرون الخالية عن الطعن بدين الذين ملئوا كتب الدين والعلم بالكذب على الله ورسوله، ومزجوها بالخرافات والأساطير، وطعنوا بالأئمة الأربعة المجتهدين، ووضعوا في ذلك الأحاديث، وكفّروا ناصر السنة الإمام أبا الحسن الأشعري، وطلبوا جثته عند موته ليحرقوها، فمنعتهم الحكومة وأخفت قبره لذلك، وكفّروا الإمام حجة الإسلام الغزالي، وذمّوا كتابه: (إحياء علوم الدين) الذي لم يؤلف مثله في الإسلام، بأنه مزج فيه الفلسفة بالدين، وأحرقوه في العراق ومصر والأندلس، وحكموا على الإمام السبكي مراراً بالكفر. هذا بعض ما كان من شأنهم مع أئمة الشرع وأنصار السنة، وأما الحكماء وعلماء المعقول فلم يبقوا على أحد منهم حتى جعلوا الدين عدو العقل، قال ابن الوردي المؤرخ في ترجمة العلاّمة كمال الدين بن معية الذي فضَّله أثير الدين الأبهري على الغزالي ما نصه: (ولغلبة العلوم العقلية على كمال الدين اتُّهِمَ في دينه، وهذه هي العادة) ، فتأمل قول المؤرخ: وهذه هي (العادة) - تعلم ما كان من عداوة الدَّهْمَاء من الأمة للعقل، ومن عجيب ما يروى عنهم في ذلك، ما نقله ابن الوردي في ترجمة ابن معية هذا قال: إن ابن الصلاح الفقيه الشافعي سأل كمال الدين أن يقرأ له المنطق سراً، فقرأه عليه مدة ولم يفهمه، فقال: يا فقيه، المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن؛ لأن الناس يعتقدون فيك الخير، وهم ينسبون كل من اشتغل بهذا الفن إلى فساد الاعتقاد، فكأنك تفسد عقائدهم، ولا يصح لك من هذا الفن شيء! اهـ هذا ما كان من شأن الجماهير أيام كانت سوق العلم رائجة وتجارته رابحة، فكيف يكون شأنهم في هذا العصر الذي كسد فيه ما كان رائجًا، وخسر ما كان رابحًا، وفسدت التعاليم، وانحرف الكثيرون عن الصراط المستقيم. انتدب بعض مَن آتاهم الله نصيباً من الحكمة، وحظًّا من فصل الخطاب، وحبس نفسه على إنارة العقول بالعلوم العالية، وتنبيه الأفكار إلى طرق التعليم المفيدة [2] ، فعقد مجلساً في الجامع الأزهر لقراءة علم الكلام الأعلى، فازدحم عليه لشهرته الألوف، وضاق الرواق العباسي، حيث يقرأ بالطالبين، وتوقع أعداء العقل في الأستاذ تأييد مذاهب الفلاسفة وترجيحها على مذهب المتكلمين؛ لأنه فيلسوف، وأذكوا عليه العيون والجواسيس، ووقفوا لكلامه بالمرصاد، فبدا لهم منه ما لم يكونوا يحتسبون، وألفوا أن مذهبه في العقائد مذهب السلف الصالح، وأنه يرى مزج كتب الكلام بأقوال الفلاسفة مضرًّا في التعليم، كما يضر مزج أي فن من الفنون بآخر. ولما لم يجدوا مجالاً للطعن، ولا مساغاً للقدح، لجئوا إلى الانتحال والاختلاق، وصمموا على الإفك والبهتان، وألقوا في مسامع العامة أن فلانًا أنكر وجود الله تعالى أو وحدانيته، ونفثوا في روع الذين يدعون بالخاصة أن الشيخ قال: إنه يستغنى بلفظ (الرحمن) عن لفظ (الرحيم) ، وإن ذلك كان في الجامع الأزهر على رءوس الأشهاد! ! ما أسرع سريان الباطل، في الشعب الجاهل، لم يمضِ بعض أيام، حتى انتشرت الكلمة الخبيثة (إنكار الوجود أو الوحدانية) في مصر، وكادت تعم سائر أنحاء القطر، فرددها أصحاب المحفل والنادي، وتحدث بها الملاح والحادي، حتى إن من يتلقفها من أفواه الناس يتوهم أنها منقولة بالتواتر، وإنما مرجعها أفاك أثيم، ألقاها لبعض السفهاء من أصحاب الوغم واللغم (الإخبار بالشيء عن غير يقين) فأذاعوها، وساعد على انتشارها شهرة من نسبت له مع غرابة الخبر في نفسه وفي مكانه. ورب قائل: هل من شبهة في كلام الأستاذ كانت متكأ لمن أذاع ذلك عنه أم اختلقوا عليه إفكاً؟ والجواب عن هذا يُعلم مما أقصه في المسألة، وهو أصدق القصص فيها؛ لأنني كنت حاضراً مجلسه الذي يحضره مع الطلاب كثير من المدرسين. كان المتجرم عليه يشرح لحاضري مجلسه أن طريقتهم التي هم عليها في تحصيل العلم عقيمة، وأن دعواهم أنها تشحذ الأذهان وترهف حد الفكر فيقوى على الفهم غير مُسَلَّمة بالنسبة لمسائل العلم. وأن قوة الذهن في إيراد الاحتمالات والمحاورة في أساليب الكتب غير مفيدة، بل هي مضيعة للعلم نفسه، ولذلك لا نكاد نرى محصلاً لثمرة الفنون العربية، وهي فهم الكلام العربي الفصيح والإتيان بمثله، ولا لثمرة العلوم العقلية، وهي الاقتدار على الاستدلال الصحيح، وإنما قصارى ما عند القوم: حكاية ألفاظ الكتب التي بين أيديهم، قال: وإنني أعطي مائة جنيه لمن يفسر لي منكم (يعني طلاب العلم) آية من القرآن الكريم، أو يقرر لي مبحثاً من مباحث المنطق على فهم تام، أو يقيم لي برهانًا عقليًّا على وحدانية الله تعالى، يثبت مقدماته ويدفع عنها الشبه التي ترد عليها قبل أن يسمع ذلك مني، وكان كل حاضر في ذلك المجلس يعلم أن غرض الأستاذ أن يقرر لطلاب العلم تقصيرهم، يستنهض بذلك همتهم، ويثير حميتهم لتكميل أنفسهم بسلوك الطريقة المثْلَى لتحصيل العلم. فحرف المتذقح الكلم عن مواضعه، وأشاع قطع الله لسانه أن الأستاذ ينكر الوحدانية، حيث ينكر إمكان إقامة الدليل عليها، واشتبه على قوم الوحدانية بالوجود، فوقع الخلاف في الإشاعة، فقال جماعة: إنه أنكر الوحدانية، وآخرون: إنه أنكر الوجود. ولو كان لهؤلاء الغوغاء عقل يرجعون إليه، أو علم بالدين يحكّمونه في القول، لعلموا أنه لا يمكن لعاقل أن يصرح بعقيدته الفاسدة على ملأ من الناس في أشهر المساجد ومدارس العلم الديني، وأنه لو فرض أنه قال: لا يمكن إقامة برهان عقلي على وحدانية الله تعالى، فلا يقتضي ذلك إنكاره الوحدانية، لجواز اكتفائه بالدليل الشرعي، ولأنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول. على أن الأستاذ المتجرَّمَ عليه قد أقام على الوحدانية أقوى البراهين العقلية في رسالته التي يقرؤها في الأزهر، وهي بين الأيدي، ونسخها تعد بالألوف، وقد قرر في الدرس ذلك البرهان وأوضحه بأجلى بيان. ويل للأفاك الأثيم، أراد أن يطعن بمحسوده، فطعن بدينه، فقد وصلت أفيكته إلى القسوس الدعاة إلى النصرانية، فطفقوا يحتجون على عوام المسلمين بأن أحد أكابر علمائكم قد قال في أشهر جوامعكم ومدارسكم على ملأ من شيوخكم ورؤساء دينكم: لا يمكن إقامة دليل على وحدانية الله تعالى، ومن أقام على ذلك حجة قيمة فأنا أعطيه مائة جنيه. وقد عجزوا عن إجابته أجمعون. كبرت كلمة هو قائلها، فقد جاءت كلمته مصداقًا للحديث الشريف (إن الرجل لَيتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً) . وأما الكلمة الأخرى، فقد كانت اختلافًا بحتًا، وبهتانًا محضًا، فإن الأستاذ بيَّن وجه إثبات (الرحيم) مع (الرحمن) بما هو أقوى من المشهور في الكتب المتداول بين أهل العلم فقال ما مثاله: أن صيغة (فعلان) تدل في اللغة على الصفات العارضة، كعطشان وغرثان وغضبان، وصيغة (فعيل) تدل على الصفات الثابتة الراسخة، كعليم وحكيم ورحيم. وكلام القرآن جاء بالأسلوب العربي، حتى في الحكاية عن صفات الله تعالى التي تتنزه عن مشابهة صفات المخلوقين من العروض والزوال، ومن مقتضى الأسلوب العربي عدم الاستغناء في مقام المدح بالصيغة التي تدل على الوصف العارض، عن الصيغة التي تنبئ عن النعت الثابت، وإن كان في الأولى زيادة في المبنى، تدل على زيادة في معنى الصفة. ولا يخفى على بصير أن هذا أوجه من قول الجمهور: إن (الرحمن) هو المنعم بجلائل النعم، و (الرحيم) هو المنعم بدقائقها، إذ يمكن أن يقال فيه: إن المنعم بالجلائل يكون منعمًا بالدقائق بالأولى، وإن ردوه بما لا مقنع فيه. على أن بعض العلماء قال: إن (الرحيم) تأكيد (للرحمن) . ولكن المتقدم يجب التأويل له وإن صادم الحقائق، والمتأخر يجب الطعن فيه وإن أظهر الدقائق، وباب الاحتمال يسع جميع الغابرين، ولا يجوز أن يلجه واحد من المعاصرين، بل يُتجنى على المعاصر وإن لم يجن، ويُتجرَّم عليه إذا لم يجرم، هذا هو مذهب علماء السوء في كل عصر، وهذه شنشنتهم في كل قرية ومصر، وبمثل هذا القيل والقال يفسدون اعتقاد العامة، ويرفعون من نفوسهم الثقة بالعلماء، ولعمر الحق إننا قد شاهدنا عند هذا الأستاذ (المتقوَّل عليه ما مر) من الأدب مع القرآن، ما لم نر مثله في هذا الزمان، حتى إنه لينهر طلاب العلم كل يوم عن إساءة الأدب في الأسئلة عن كلام الله تعالى وصفاته، ولقد أنب من قال له يستغنى بوصف (الصراط المستقيم) عن قوله تعالى {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) ووبخه أشد التوبيخ على سوء أدبه، وإن كان غرضه الاستفهام لا الجزم، ويعرف هذا كله جميع من يحضر درسه وليسوا بالقليل. فالله الله في العلم والدين، واعلموا أن مضرة الفتن في هذا العصر تربو وتزيد على مثلها في العصور السالفة، وعداوة العقل والعقلاء، والطعن بالفلاسفة

البوفيه وما فيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البوفيه وما فيه مراتب الرذائل والشرور خمس: (الأولى) : أن يقترف الجاهل ما تدعوه إليه صفاته الرذيلة من الفواحش والمنكرات وراء الستر وحيث لا ترمقه عيون الناس. (الثانية) : أن يأتيها حيث تعنّ له سرًّا أو جهراً، فلا يبالي أطار اللوم أم وقع! (الثالثة) : أن يدعو إليها ويرغب فيها، وأهل هذه المرتبة هم الذين أطلق عليهم القرآن العزيز لقب الشياطين {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً} (الأنعام: 112) . (الرابعة) : أن يفتخر ويتبجح باجتراح السيئات وارتكاب المنكرات، ويباهي بها الأقران، وينافس فيها الأقتال، وأهل هذه المرتبة هم شر الأشرار على الإطلاق، كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء. (الخامسة) : أن يعتقد أن ما هو فيه فضيلة وكمال، بحيث يود البقاء وينتقص من يخالفه فيه، وأصحاب هذه المرتبة هم الأخسرون أعمالاً والأرذلون أخلاقًا، هم أصحاب الدرك الأسفل من الجهالة وسفاهة العقل وأفن الرأي. وليس كل مجاهر بالقبيح أو داعٍ إليه يعتقد حسنه ونفعه، ويحقر المحسنين الأخيار، بل لا يصدر هذا إلا من المسخاء الذين انسلخوا من الإنسانية، وهبطت بهم تربيتهم السوأى إلى مرتبة جمعوا فيها بين شهوة البهائم وخبث الشياطين، ولا يمكن للقلم أن يصف شناعة هذه المرتبة، ويحيط بنقائص ذويها، وإنما يمكن أن يحكم حكمًا جازمًا بأن يشتق لهم صيغة (أفعل) من كل نقيصة ورذيلة، ويعجبني في هذا الموضوع قول الفيلسوف أحمد بن مسكويه الرازي رحمه الله تعالى في كتابه (تهذيب الأخلاق) ، حيث قال: (ثم ارجع إلي القهقرَى إلى النظر في الرتبة الناقصة التي هي أدون مراتب الإنسان، فإنك تجد القوم الذين تضعف فيهم القوة الناطقة، وهم القوم الذين ذكرنا - أنهم في أفق البهائم، تقوى فيهم النقائص البهيمية، حتى يرتكبوها، ولا يرتدعوا عنها، وبقدر ما يكون فيهم من القوة العاقلة يستحيون منها، حتى يستتروا منها بالبيوت، ويتواروا بالظلمات إذا هموا بلذة تخصهم، وهذا الحياء منهم هو الدليل على قبحها، فإن الجميل بالإطلاق هو الذي يتظاهر به، ويستحب إخراجه وإذاعته، وهذا القبح ليس بشيء أكثر من النقصانات اللازمة للبشر، وهي التي يشتاقون إلى إزالتها، وأفحشها هو أنقصها، وأنقصها أحوجها إلى الستر والدفن، ولو سألت القوم الذين يعظمون أمر اللذة ويجعلونها الخير المطلوب والغاية الإنسانية: لم تكتمون الوصول إلى أعظم الخيرات عندكم، وما بالكم تعدون موافقتها خيراً ثم تسترونها؟ أترون سترها وكتمانها فضيلة ومروءة وإنسانية، والمجاهرة بها وإظهارها بين أهل الفضل وفي مجامع الناس خساسة وقحة؟ ، لظهر من انقطاعهم وتبلدهم في الجواب ما تعلم به سوء مذهبهم، وخبث سيرتهم، وأقلهم حظًّا من الإنسانية إذا رأى إنسانًا فاضلاً احتشمه ووقره، وأحب أن يكون مثله، إلا الشاذ منهم، الذي يبلغ من خساسة الطبع ونزارة الإنسانية ووقاحة الوجه إلى أن يقيم على نصرة ما هو عليه من غير محبة لرتبة من هو أفضل منه) اهـ. ومن الأسف العظيم أن ما عدَّه هذا الحكيم شاذًّا من شواذ الأشرار الذين هم في المرتبة السفلى من مراتب الإنسانية، بل في أفق البهيمية قد أصبح في زماننا هذا كثيراً جداً، ومعظم ذويه من الطبقة العالية (بحسب العرف العام) في هذه البلاد. {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) تنظر أحدهم فتراه مرآة لرذائل الغرب، وتصغي لكلامه فتسمع (فونغراف) هجر الشرق، أضاع فضائل أسلافه الأولين، ولم يحفظ شيئاً من فضائل أئمته الآخِرين،] إن هذا لهو البلاء المبين [. كثرت شكوى فضلاء البلاد من هؤلاء المتفرنجين، لعلمهم أن سيرهم هذا هو الذي يؤدي إلى خراب البلاد، ويودي بحياتها الصورية والمعنوية، ولما رأوا (المنار) قائمًا على سواء الصراط (بعون الله تعالى وتوفيقه) ، يدعو الناس إلى السير في الجادة، وينهاهم أن يتبعوا إلى السبل المتفرقة، وأن يسلكوا الشعاب المضلة، طفقوا يقترحون علينا أن نندد بمضار التفرنج، وننتقد عادات مدعي التمدن، لا سيما الدعوات والمآدب التي يقيمونها على الطراز الإفرنكي، وقد استمهلناهم في العدد التاسع ريثما نختبر ذلك فلم يمهلوا، وجاءنا عن جماعة منهم إفصاح عن الدعوة إلى ما يسمى (بوفيه) ، وما فيها من المجاهرة بالمنكر، والمنافسة في الرذيلة. وإننا نذكر الآن ملخص رقيمين وردا إلينا من ذلك: (الرقيم الأول) حضرة الأستاذ الفاضل منشئ جريدة المنار الغراء حفظه الله تعالى. بعد تقديم واجبات الاحترام، نرجو التكلم في موضوع التقاليد القبيحة التي صارت عند المسلمين في مصر المحروسة عادة يأتيها معظم أهل الطبقة العليا، لا سيما التظاهر بالمحرمات في الولائم والدعوات. تنقسم الدعوة إلى قسمين، سواء كان سببها زواجًا أو ختانًا أو نذرًا: القسم الأول: أطعمة اعتيادية. والقسم الثاني - ويقال له: (ذواتي) ، يعد له أحسن محل في المنزل يسمى عندهم: (بوفيه) ، يحتوي على أصناف من المسكرات والفواكه، وما يلزم شرب الخمر حسب العادات الإفرنجية، يتباهون بإتقانها، ويحسبونها عادة مباحة، ويسمونها تمدنًا جديداً. والمصيبة (الكبرى) في الليالي التي يتلى فيها القرآن الشريف، يجعلون التلاوة في محل الخدم، وأما المحلات المفتخرة فيضعون فيها (البوفيه) ، ويفتح بابه الساعة 9 مساء (إفرنكي) بمعرفة أعز الأحبة باحتفال كبير، بنطلونات وعمائم، ومنهم المكلفون بتهذيب الأخلاق وتربية الأطفال في المدارس وغيرها، ولا تجد مستمعًا للقرآن الشريف إلا الخدم وقليل من الأصاغر الطاعنين في السن، أما سادتنا المتمدنون (على زعمهم) ، فإنك تجدهم منكبين على معاقرة الراح ومنادمة الصباح. إذا تأخر أحد الموجودين عن الدخول في قاعة (البوفيه) يقولون: (إنه عديم الذوق) ، وقد فسدت أخلاق الذرية من مشاهدة هذه الأعمال اهـ. (الرقيم الثاني) (وهو من جماعة) حضرة السيد الفاضل منشئ المنار الأغر: ... كنا نظن أن بدعة التفرنج محصورة في مصر، ويُخشى من انتشارها في جميع القطر في بضع سنين، وأنه إذا تكلمت الجرائد المعدة لخدمة الأمة والدين مثل المنار في الإنكار على ذويها - ربما تتلاشى أو تقف محصورة في قليل من الناس، ويعلم الأجانب أن هذه البدعة مغايرة للدين، وأنه ينهى عنها، وإن كانت صادرة من وجهاء وأفاضل متنورين، ويا ليتها كانت من مجاذيب مولد السيد رضي الله تعالى عنه؛ لأنها حينئذ لا تتعداهم (حيث لا يُقتدى بهم) ، وتحسب من ضمن أمورهم المخالفة للشريعة الغراء، ولكن هذه المفسدة إنما تصدر من حضرات المعوّل عليهم في الهيئة الاجتماعية. وبينما نحن وكثير من الناس منتظرون همة أمثال حضرتكم، وإذ قد ظهر أن المصيبة عمت أغلب جهات القطر، ومن الاطلاع على تذكرة الدعوة بإسكندرية والتلغراف الخصوصي المرسل من الزقازيق إلى المؤيد (الواصلين لفا) ، تعلم حضرتكم أن هذه البدعة صارت عادة يفتخر بفعلها في الجرائد، وتعلم أيضاً سرعة سيرها في أقرب وقت، ولا يخفى ما ينتج عنها في المستقبل، فهل بعد هذه مصيبة يلتفت إليها انتصارًا للدين القويم اهـ. أما التلغراف المرسل ضمن الرقيم فخلاصته أن وجهاء مركز منيا القمح احتفلوا بمأدبة فاخرة على النمط الإفرنكي الذي تقدم شرحه في الرقيم الأول، فويل لأولئك الوجهاء مما كسبت أيديهم ويا خسارتهم في دينهم ووطنهم، ويا ضيعة فخرهم بالفسق الذي أذاعوه بلسان البرق. وأما رقعة الدعوة فهي مشتملة على هذه الأبيات مطبوعة. سنة الهادي تنادي ... آل ودي بالحضور عندنا القرآن يتلى ... فهو نور فوق نور شرفونا يا أحبه ... للتهاني والسرور وظاهر الأبيات أن الدعوة إلى شيء من الفضائل الدينية التي تسن إجابتها شرعًا، وأن تلاوة القرآن تضاف إليها فتكون نوراً على نور، ولا يختلج في الذهن أن ذلك الداعي الأثيم إنما يدعو الناس لمعاقرة الراح ومنادمة الصباح ويستهزئ بالدين القيم الذي يتبرأ منه بافترائه على الله، وجرأته على رسوله صلى الله عليه وسلم، بزعمه أن سنته تدعو لحضور مجالس الشراب، واحتساء الكئوس والأكواب وقرنه بين نور القرآن، وظلمة الدِّنان، مشايعة لشاعر الفجور، في تسميتها بالنور. كُتب على ظهر الرقعة التي أرسلها أصحاب الرقيم (أن المدعو بها توجه ليلاً إلى دار الداعي فرآه غاصًا بأًولياء الشيطان، من الأحباب والخلان، وأكواب الخمر تدار على الجميع جهاراً، لا يخشون عاراً، ولا يتوقعون إنكارًا، فسأل عن المشايخ، فقيل له: إنه استعار لهم قاعة في دار جاره، فوافاهم هناك وهم عشرة من المعتبرين، والمستمعون للقرآن الشريف ثلاثة ليس غير، ولدى الاستفهام من الداعي عن علة هذا الخلط المنكر أظهر تأسفه وألقى ذلك على عاتق أكثر إخوانه الذين وضعوا هذا الترتيب الإفرنكي محاكاة لليالي المتمدنين في مصر) . ويظهر من هذه الكتابة أن هذا الداعي لم تتمكن منه البدعة تمام التمكن، وأنه إنما أجاب طلب قرناء السوء، ووافق رغبتهم حياء منهم (تأمل كيف انقلب الأمر وانعكس حتى صار يستحى من ترك القبيح) في أن يكون من الذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون من قريب، وأن لا يتمادى مع هؤلاء الأشرار الذين يتلفون عليه دينه وماله، ويوهمونه أنه يكون بذلك متمدناً، فوالله إن أمثال هؤلاء هم الذين يهدمون بنيان المدنية، ويقوضون سروحها، حيث يفيضون ثروة البلاد على الأجانب، يستبدلون بها ألقاباً لا تصدق عليهم، وأسماء لا مسميات كلقب: (التمدن) و (المتمدن) . ليس التمدن تقليد الأوروبي ... فيما انتحاه من العادات والزي ولا التقدم في رفع القصور ولا ... نقش الجدار ومبثوث الزرابي إن المقلد لا ينفك معتنقاً ... للضعف يخبط في ليل دجوجي بل التمدن ملزوم التقدم مدعاة ... الرفاهة منفاة الألاقي [1] روح شريف به تحيا الشعوب بما ... يبث فيها من العلم الحقيقي حتى ترى كثرة الأفراد راجعة ... لوحدة والفرادى كالأثابي [2] والاختلاف بآراء الرجال لأجل ... الاتفاق على نيل الأماني روح يفاض بأرض الكاملين على ... جسم الوجود من الجود الإلهي قوم قد انفردوا من بين أمتهم ... لخدمة الكل في الشأن العمومي هذا هو التمدن، لا تقليد مترفي الإفرنج في تشييد القصور ومعاقرة الخمور والمجاهرة بالفجور تحت اسم الحرية والتمدن. إن هذه الخبائث وإن كانت موجودة عند القوم، إلا أنها ليست ممدوحة عند فضلائهم وعقلائهم، ويعتبرونها من آفات مدنيتهم لا من مقوماتها، وهي آخذة بالنقصان، لا سيما السكر، فقد أثبت المقتطف الأغر في بيان تاريخ المسكرات أن السكر قَلَّ في أوروبا بالنسبة لما كان منذ ستين عاماً، مع أن أوروبا تستحل الخمر، وشدة البرد فيها يدعو إلى السكر، وقد ألفوا جمعيات للسعي في إبطاله، ولم نسمع أنهم بلغوا من التفنن بالفسق والاستهانة بالدين أنهم يشوبون مجالس الشراب بقراءة الكتاب أو يدعون إلى معاقرة الراح باسم الإنجيل. أهذا هو الدين الذي فقدته أوروبا وحرص عليه الشرق؟ أهذا هو الاعتناء بشأن القرآن الذي تفتخر به مصر على جميع البلدان؟ فاتقوا الله أيها الوجهاء في دينكم فلا تنتهكوه، وفي وطنكم فلا تضيعوه، فقد حكم غير واحد من عقلاء أوروبا بأن انقراض الأمم المتوحشة سيكون على يد الأشربة الروحية، ولا يعنون بالأمم المتوحشة إلا أنتم وأمثالكم من الذين فرطوا في حقوق أوطانهم، فغل

دار السعادة

الكاتب: كاتب تركي كبير

_ دار السعادة ورد إلينا من بعض أفاضل الكتاب في الباب العالي كتاب بليغ يقرّظ به (المنار) ، فعهدنا إلى بعض العارفين باللغة التركية من كتاب العربية البلغاء بترجمته، فترجمه ببعض تصرف لتناسب الترجمة الأصل في بلاغته، وإننا ننشرهما بنصهما لما فيهما من التنبيه. (الأصل) فضيلتبناه أفندم: منار واصل يد افتخار أولدي؛ محاكمة انتقاد أيله أو قودم، أو قدر بكندم كه ملكمزده هنوز مثلى نشر أو لنمد يغنه حكم ايتدم. بلاغتي حكمتله مزج ايدوب بر سحر حلال ابداع ايتمشسكزكه ذوق آشنيايان ومعنى شناساني مفتون ومسحور ايتمامك قابل دكلدر. ملتك احوالنه نظر حكمتله باقوب مصاب أولد يغمز وهن وانحطاط علت مهلكه سنك سببنى علاجني كشف ايتديكز تربية وتعلم كافل سعاد تمز درد يديكز بو حكمكز بك مصيبدر. اخلاقمز جدا فاسد در، تربيه يه محتاجز حقيقة جاهلز، تعلمه مفتقرز. سبزك كبي أولي الأبصار بزبيجاره لري نوم أصحاب الكهفى كجن موتى آكديران شوكرا بخواب غفلتدن ايقاظ ايتمليدرار. سائقه عماي نادانى ايله صايد يغمز شوكريوه ضلالتدن دوشد يكمز شوكرداب مذلتدن قورتاروب شهراه هدايته منهاج عزته ارشاد ايلمليدرار. اخلاقمز اوقدر فاسد دركه، وطن. حب وطن. حميت تعاون، ميل معالى نه در بيلميورز، أو قدر جاهلزكه معارف؛ زراعت، تجارت، صنعت، اقتصاد، ترقي، عمران، نه ديمكدر فهم ايتميورز، بويله شيلر له اشتغال ايدنلري استحقار ايدرز. بزكميز نه ايدك شمدى نه يز صكره نه أوله جغز بيخبرز بهايم كي سوق طبيعتله حركت ايديورز: الناس في غفلة عما يراد بهم ... كأنهم غنم في دار جزار منار ايجون اختيار بيورد يغكز منهج قويم بك مستقيمدر، بونده ثبات ايديكز كه جريدة فريدة كز زمانمزده كي غزته لره بكزه مسون. فساد نيت وسوء مقصد له نشر أو لنوب خيانت وخبائتي رداءت ودنائتي مرام ايدينان غزته لردن قطع نظر ظاهراً سلامت فاكار أو زرينه مؤسس أو لديفى ظن ايديلن غزته لربيله أغراض ايله أوغراشوب، وبعضاً اعراضه قدر تجاوز ايدوب مشاتمه دن جكنميورلر. شوني ده عاجزانه عرض أيده يم: مباحثاتده قانون مناظره دن زنهار آير لمايكز اعلاى مدعاية دل إظهار حقه جالشما ليسكزكه خدمتكز مبرور سعيكز مشكور خطيئتكز مغفور أولسون سرك كبي دهاة وهداته لا يق أولان بودر. باقي عرض احترام ومخابرة ده تمنئ دوام أفندم. (التعريب) سيدي الفاضل: تناولتُ مناركم الأغر وقرأته معملاً الفكر في تنقُّده، فذهب بي الإعجاب إلى أنه خير ما نشر في بلادنا من الصحف إلى الآن، ولقد مزجتم فيه البلاغة بالحكمة مزجاً يصف السحر ويختلب الفكر [1] ، صرفتم البصر تلقاء شؤون الأمة وأحوالها، وذهبتم إلى أن ما رهقها من الوهن ورزئت به من التقهقر ليس له علة سوى الجهل وفساد الأخلاق، وأن العلاج الناجع إنما هو تعميم التربية والتعليم الصحيح فهما الكفيلان بإسعاد الأمة، ولعمر الحق إنكم لم تتعدوا الحقيقة في هذا الحكم. لا يعترض الشك في فشو الجهل بين أفراد الأمة، وغلبة سوء الأخلاق على طباعها، فالأمة إذن في أمسّ الحاجة وأشد الافتقار للتربية والتعليم. لا يسأل أحد عن إهماله مثلما سئل ذوو البصائر عن تقاعدهم في سبيل تنبيهنا وإيقاظنا من سبات الغفلة التي تحكي نوم أهل الكهف، بل تكاد تكون موتًا. عليهم أن يرشدونا إلى جواد العزة وَلَاحِب المجد ويوضحوا لنا سبيل الهداية وينتاشونا من هوة المذلة التي سقطنا فيها، وشعاب الضلالة التي ساقنا إليها الجهل، وسفالة الأخلاق. كيف لا نكون في الدرك الأسفل من الأخلاق ونحن لا نعلم ما هو الوطن، ما هي الحمية، ما هي الفتوة، ما هو التعاون، وما هو الميل إلى المعالي. أم كيف لا نكون في أشنع الجهل ونحن لا نفقه للمعارف والزراعة والتجارة والصناعة والاقتصاد والترقي والعمران معنى، بل بلغ بنا السفه إلى أن ننتقص من يهتم بالسعي إلى هذه الأمور المقدسة، أعندنا علم بحقيقة أمرنا؟ أليس من العجب أن لا نتبصر فيما كنا عليه وما نحن عليه، وإلى ما نحن صائرون؟ وما أرانا إلا كالبهائم المرسلة تتقلب في تكاليف الحياة بسائق الفطرة وحادي الطبيعة. والناس في غفلة عما يراد بهم ... كأنهم غنم في دار جزار إن النهج الذي آثرتموه في إنشاء المنار لَمِنْ أمثل الطرق وأقصدها، فالزموا هذا النهج وثابروا على هذه الخطة، فتصبح صحيفتكم فريدة في بابها، منقطعة القرين بين نظرائها، غُضّ الطرف عن الأوراق التي نشرها مرضى القلوب ملوثين باسم الخيانة والشرارة، مسترسلين في الإفساد والدعارة، وألقِ أشعة بصرك نحو الصحف التي يزعم ذووها أنهم إنما أنشئوها خالصة للوطن، عاملة على نشله، متفانية في خدمته، لا جرم أنك تجدها تذهب مع الأغراض، وتصغي لوسوسة الأهواء، ولا ناهية لها عن البذاء والسباب، بل تتعدى تارة إلى نبش الأسرار، ونهش الأعراض، ومما يجدر بكم المضي عليه في صحيفتكم هذه أن لا تتنكبوا في مباحثاتكم عن أصول المناظرة، واحرصوا كل الحرص على أن يكون غرضكم إظهار الحقيقة، والأخذ بيد الحكمة، لا إثبات مدعاكم، وتأييد رأيكم كيف ما كان، هذا هو الأحجى بمن كان مثلكم من هداة الشعوب، وقادة أفكار الأمم، وبذلك تكون خدمتكم لوطنكم مبرورة، ومساعيكم لدى أهله مشكورة، وهفواتكم عند الله مغفورة. وفي الختام أقدم الاحترام وأتمنى مراسلتكم على الدوام. مولاي.

صيحة حق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صيحة حق [*] أيها الشرقي كيف يطيب لك النوم على غوارب هذه الأمواج المضطربة، وفي مهابّ هذه العواصف العاتية، أما أزعجك هذا الموج الملتطم، وأرهبك هذا اللجُّ المغتلم، أما أقلقك هزيز [1] هذه الرياح المتناوحة، وهزت جسدك زعازعها المتراوحة، أما صخّت آذانك، [2] وخدّرت جثمانك، فتعذر إسماعك وتحسيسك [3] ، ووقع اليأس من إيقاظك وتنبيهك، لو أنك يقظان لكنت أجدر بالأطيط [4] من الغطيط [5] ، وأخلق بالزفير والشهيق، من المكاء والتصفيق، ويحك هل أنت فاقد الرشد لصغر سنك، واختبال عقلك، أم أنت زمِن عاجز؟ إذا كنت صحيح العقل والجسم فكيف رضيت أن تقيم الأجنبي وصيًّا، وقيماً عليك بحيث إذا لم يقدم لك مادة طعامك ولبوسك وكنّك وأدوات الوصول إليها تموت من الجوع والعري، وهو لا يسمح لك بهذا اللماج [6] الذي تأكله، والسمول [7] الذي تلبسه، إلا ليستخدمك ويستعملك كما يستعمل الآلات الميكانيكية، لا يخدعنك ما ترى في بلادك من مظاهر الثروة على بعض أفراد التجار، فلو أقفلت في وجوههم مصارف (بنوك) أوروبا، وغُلَّت أيدي تجارها عن إمدادهم لحاصوا حيصة الحمر، واضطربوا اضطراب الأرشية [8] في الطويّ [9] البعيدة القعر، لا تغرنك أرض بلادك (أطيانك) الواسعة؛ فقد نقصها الغربيون من أطرافها، بل كادوا يحيطون بأكتافها، وقبضوا على موارد الثروة فيها، حتى أنهم ليبيعونك ماءها الذي تحتسيه، ويتقاضونك أجرة طريقك الذي تجول فيه، لا تزدهينك عظمة حكامك، فقد أمسوا مغلوبين على أمرهم، ومنفذين لإرادة غيرهم، إلا قليلاً ممن أنجاه الله تعالى منهم، ولست أخص بهذا ما يفتات به رجال الإنكليز على الحكومة المصرية من نحو بيع سفنها وصفاصفها [10] مثلاً، بل أعمّ به كل قانون جادت به الحكومات الشرقية (لا سيما الإسلامية) على أهل أوروبا، فجارت بذلك وعدلت عن طريق الفضيلة الدينية، كإباحة السكر والبغاء والكشف الطبي على البغايا الذي تقشعر لتصوره جلود الذين آمنوا، وينفعل لتذكره روح كل معتقد بدين سماوي. قلنا: إنهم مغلوبون على أمرهم، لكن هذا الغلب لم يجبروا عليه بكُرَى [11] المدافع ورصاص البنادق، وإنما كان لضعف في الدين، ووهن في العزيمة، وجهل بعاقبة الأمور. أدهشتهم عظمة أوروبا، واستهوتهم زخارف مدنيتها، فطفقوا يتقربون إليها، ويقلدونها بأقبح ما لديها، عن غير روية ولا بصيرة، ألا ساء ما كانوا يعملون. دع عنك التفكر بسيئات الحكومات، واصرف بصرك إلى وطنك، وماذا يجب له عليك. حدق النظر واستطلع الخفايا واسْتَجْلِ الدقائق يتجلّ لك أنك دعامة وجوده، وروح حياته، بك يعيش ويحيا، وبك يموت ويفنى، بك يعز ويغنى، وبك يذل ويشقى، وإذا تجلى لك هذا تشعر بأن لك شأنًا عظيمًا في الوجود، وتحس بقواك المقدسة التي أودعها مدبر الكون في جرثومتك الإنسانية، فتندفع إلى طلب الفضيلة الحقيقية، والكمال الصحيح الذي أنت له أهل، ولا ترضى أن تكون نقاعًا [12] انفجانيًا [13] أو إمعاً [14] أو غطاريًّا [15] ، وإن رضي بذلك الجماهير الذين فقدوا هذا الشعور والإحساس الشريف. كل من يرى نفسه في قصور عن إسعاد وطنه وإعلاء منار أمته، فهو كافر بنعمة العقل، محروم من الكمالات الإنسانية التي ارتفع بها البشر، عن مرتبة الحمر والبقر. مَنْ أحط شأنًا ممن يرى أن السعادة الإنسانية، في التمتع بالشهوات الحيوانية، ويقنع بأن يفوقه الثور في أكله، والعصفور في سفاده، والطاووس في لبوسه، والفرس في خيلائه، والثعلب في حيله، ويطيب له العيش وهذه العجماوات أفضل منه وأكمل فيما حسبه فضيلة وكمالاً. إيه، إن من الحشرات ما يعمل ويسعى لجنسه ووطنه كالنحل والنمل، أفترضى أيها الشرقي أن تكون أخس من الحشرات وأنقص من الهوامّ؟ إلى متى هذا التفرق والتبدد، والتوحيد والتفرد، مد يدك لمواطنك ومشاركك في مواد حياتك، وتعاهدوا وتعاونوا جميعاً على ما فيه منفعة الجميع، أخلط مالك بماله، تختلط نفسك بنفسه، واعملوا مجتمعين، فقد كفاكم ما جناه عليكم التفرق والانفراد. بادروا الزمان، قبل فوات الإمكان، فيوشك أن لا يدع الدخيل لكم باباً من أبواب الثروة إلا أقفله، ولا سبباً من أسباب النجاح إلا قطعه، فماذا ينفعكم التنبيه إذا أغلقت دونكم الأبواب، وتقطعت بكم الأسباب، ألِّفوا الشركات المالية، وشيدوا المدارس الوطنية، وربوا أبناءكم وبناتكم على ما تقتضيه مصالحكم الوطنية، وآدابكم الدينية، فلا نجاة ولا نجاح لكم إلا بهذا. وأما التشدق بالقيل والقال، والجلاء والاحتلال، وقطع الزمان بالأماني والتشهي، وتأسف العجائز والزمنى، فهو مما يضيع الفرص، ولا يغني عنكم شيئاً، والماضي عنوان الآتي. معاشر العثمانيين، وأنتم أول مَن أعني بالشرقيين، ليذكِّرْ عالمكم جاهلكم، ولينذر متنبهكم غافلكم، ألفوا الشركات وعلموا البنين والنبات] وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ [16] شَنَآنُ [17 {قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} (المائدة: 8) ، ولا يصدنَّكم اختلاف المذاهب عن الاتفاق على المكاسب، فقد رأيتم العبر في البلاد التي أصاخت لوساوس الأعداء، وعملت بدسائس الدخلاء، وكيف خربت ديارهم، واجتثت أشجارهم، وسفكت دماؤهم، ويُتِّمَتْ أبناؤهم، وما كان من قلب أوضاع، واستباحة أبضاع، والدين من وراء ذلك ينهى عن انتهاج هذه المسالك. تفكروا في معنى الأمة والوطنية، واقدروا حق الشعب قدره، يتضح لكم أن الأمة تتكون بالاجتماع على الانتفاع، وبالاتحاد على نيل المراد، وتربية الحاكمين الذين يقيمون النظام، ويحفظون الأمن العام، يسهل على الشعب أن يربي أفرادًا وأممًا، ويعسر على الآحاد أن تربي شعباً كبيراً وأمة عظيمة، لاسيما مع قلة المال، وسوء الحال، فحتام التعلق بأذيال الحكومة، والتشبث بأهداب الآمال الموهومة، والإنحاء على الدولة بالتقصير، والانخداع بالغش والتغرير. تنبه جماعة من إخواننا الأتراك إلى أن الأمة في حاجة إلى إصلاح، ولكنهم جهلوا طريقه أو تجاهلوه، فلجأ بعضهم إلى أوروبا، وبعضهم إلى مصر، وأنشأوا جرائد للتنديد بسياسة المابين الهمايوني، ونالوا من مقام الحضرة السلطانية ما نالوا، وطعنوا في رجال الدولة العلية، وسوَّأوا أعمالهم وأحكامهم، والتفّ عليهم قوم آخرون، ولا يخفى على الناس ما يسرون جمعيهم وما يعلنون، ولو صرفوا أقلامهم إلى التعليم، لهدوا إلى صراط مستقيم. أو لم يكفهم أن سلطانهم وإمامهم هو مقاوم بسياسته وحكمته لأوروبا كلها، وأنه قد أوقف بقواه العقلية الباهرة من تيارات الحوادث، وسكن من عواصف الكوارث ما تعجز عنه الجماعات، بل الأمم، حتى قال فيه رئيس ساسة الإنكليز الذين يفوقون ساسة كل الأمم وهو المستر غلادستون الشهير: (إن السياسة الحميدية تغلبت على السياسة البريطانية وقهرتها في المسألة الأرمنية) ، والفضل ما شهدت به الأعداء، واعترف به الخصماء، فإذا تفرغ من هذا شأنه لإعارة الأعمال الداخلية نظراً ألا يعد ذلك من خوارق العادة في القوى البشرية؟ ! بلى وإن مولانا السلطان الأعظم قد بذل من العناية في داخلية ممالكه ما لو ساعده عليه أهلها ولم تَعُقْ سيره فتن السياسة، لنهض بها نهضة عظيمة، كما يشير إلى ذلك قول (الأستاذ اللغوي فمبيرى الرحالة المجري) من بضع سنين في ترجمة مولانا السلطان - أيّده الله تعالى - وهو [18] : (أقول عن ثقة وروية: إنه إذا استمر الأتراك سائرين في المنهج الذي نهجه لهم سلطانهم، وإذا لم تعرقلهم مشاكل السياسة ومخاطرها - بلغوا مبلغًا يُذكر فيُشكر بعد زمان وجيز، وتوطد أساس ارتقائهم العقلي والاقتصادي ووجودهم السياسي في مستقبل الأيام. ولقد قال لي جلالة السلطان يوماً: (قد جعلت السلم غرضي، أسعى إليه جهدي، إذ السلم هو الدواء الذي يشفي ما أصابنا في الماضي من قروح التقصير، وأدواء الإهمال، وسوء التدبير) ، وذكر أنه سمع من جلالته أيضًا ما ترجمته: (إن أوروبا قد عزقت أرضها، ومهدت تربتها أعوامًا وعصوراً، حتى جاءت بما نراه فيها من مصادر الحرية والمنشآت الحربية، والآن يطلبون إليَّ أن أقتلع فسيلة من منابت الحرية فيها، وأغرسها في أراضي آسيا الوعرة البائرة القاحلة. دعوني أتعهد هذه الأراضي قبلاً بما يحسنها، فأقتلع أشواكها، وأرفع أحجارها، وأفلح تربتها، وأخدّ الأخاديد، وأحتفر الأقنية لإروائها؛ لأن أمطار آسيا قليلة نادرة، ثم أنقل تلك الفسيلة إليها، وأكون أول من يطيب نفسًا ويقر عينًا بنمائها ونضارتها وغضاضتها) [19] . نعم إن إطلاق الحرية للشعب الجاهل يزجّ به في الفواحش ويفضي به إلى الهرج والفوضى، فلا بد من السعي في تعميم التربية والتعليم، مع نوع من الحجر والتقييد، وإطلاق الحرية لأصحاب الأفكار والأقلام رويدًا رويدًا في ضمن دائرة الشرع، خلافًا للمفتونين من حزب تركيا الفتاة، الذين يسيرون في طرق مجهولة، ويرمون لأغراض غير معقولة، ولقد صدق مولانا أيده الله تعالى فيما أشار إليها من كون أراضي نفوسنا قاحلة من المعارف، وفيها أشواك وتضاريس ينبغي إزالتها قبل إلقاء بذور الحرية فيها، ولقد صدقنا وعده بالاجتهاد في إزالة الموانع وإدالة المنافع، ولكننا لم نساعده على تحقيق أمانيه الشريفة، بل منا من تعدى الحدود وما وفّى بالعهود [20] . أين الشركات التي عقدناها، والمدارس الوطنية التي شيدناها، أما منحنا امتيازات لإنشاء سكك حديدية فحملت الجهالة من نعدّهم من أمثلنا وأنفسنا، على إيثار الأجانب على أنفسنا، وبيع الامتيازات بأبخس ثمن، مع أن بيعها بمعنى بيع الوطن، أنشأ الأمير العاقل سعادتلو محمد باشا المحمد مدرسة في عكار فحباه برتبة عالية (ميرميران) ، ووسامات زاهية، وأنعم على المدرسة بكتب قيمة، ونسبها إلى ذاته المعظمة، (الحميدية) ، فإن وراء هذا ترغيب وتنشيط، وهل ينبغي أن يكون معه تقاعد وتفريط، ولولا اشتغال مولانا أيده الله تعالى بحل المشكلات ومعالجة المعضلات، لأنال الملك بحزمه وهمته آماله، وبلغنا من الارتقاء فوق ما قدر بذلك الرحالة. وخلاصة القول: أن مولانا السلطان الأعظم سدّده الله تعالى جار على قاعدة تقديم درء المفاسد على جانب المصالح، وما يعلم أنه الأهم على المهم، ومع ذلك لا يأتلي أن يكافئ من أصلح خللاً، وأحسن عملاً، وأنه يتعين على علماء الأمة وأغنيائها أن يوافوا رغبته في إصلاح داخلية البلاد، والعمل على ترقيتها، لا سيما تعميم التربية الحقة والتعليم الصحيح، فهما الكافلان باستئصال الأمراء الخونة والحكام الظلمة، والعاملان على اصطلام [21] الغي والفساد، والبغي والإداد [22] هما المطهران للنفوس من أدران الرذائل، والمسبغان على الأرواح حلل الفضائل، بل هما الروح الذي تحيا به الشعوب والأمم، والنور الذي تستضيء به في دياجير الظلم، ولا يمكن الحصول على الغرض منهما إلا بإرشاد العلماء، وإرفاد الأغنياء، فمن قصر في وظيفته منهما فهو خائن لأمته ودولته، عدو لوطنه وملته، فالجهل خير من علم لا ينفع، والإملاق (الفقر) أفضل من ثراء (غنى) لا يرفع، ومن يرغب عن الحكمة إلى اللهو، ولا يعرض عن مجالس اللغو، فهو جهول، وإن وسموا بالعلم تدجيله، وصاحب فضول، وإن سموه صاحب الفضيلة، ومن يحرز المال في صناديق الحديد، ويمسكه عن كل مشروع مفيد، وهو يرى بلاده تباع للدخلاء، وأزِمّة ثروتها تتنازعها الغرباء، وأبناءها منغمسين في الترف، وبناءها على

القوة في المال

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القوة في المال رسالة حكيمة وردت إلينا من أحد كتاب دمشق الشام الأفاضل، فأثبتناها لما فيها من التنبيه والفائدة، شاكرين فضل مُرْسِلها وغيرته وهي: نِعْمَ المُعِينُ على المروءة للفتى ... مال يصون عن التبذل نفسه لا شيء أنفع للفتى من ماله ... يقضي حوائجه ويجلب أنسه وإذا رمته يد الزمان بسهمه ... غدت الدراهم دون ذلك ترسه المال ولا أزيد القراء به علماً من أعظم أسباب السعادة والرفاه، وبواعث السؤدد والمنفعة والجادة، بل هو المحور الذي تدور عليه الأعمال، وتناط به الآمال، وتحط عنده الرحال، وتوجه إليه همم الرجال، فلا يستغنى عنه في حال من الأحوال. لابد للمرء من مال يعيش به ... وداخل القبر محتاج إلى الكفن بالمال تقضى الحاجات، تنال الرغبات، وترد اللهفات، وتضاعف الحسنات، وتستجلب الدعوات، وتعمل الخيرات، وترفع الدرجات، فهو زينة الحياة، وغاية الغايات. شيئان لا تحسن الدنيا بغيرهما ... المال تصلح منه الحال والولد زين الحياة هما لو كان غيرهما ... كان الكتاب به من ربنا يرد والفقر أعاذنا الله وإياكم منه، هو البلاء الأكبر، والموت الأحمر إذا قل مال المرء قل حياؤه ... وضاقت عليه أرضه وسماؤه وأصبح لا يَدْرِي وإن كان حازمًا ... أَقُدَّامُه خير له أم وراؤه كم صير العزيز ذليلاً، والشريف وضيعاً، وقد ورد فيه: (كاد الفقر أن يكون كفراً) وما ضرب العباد بسوط أوجع من الفقر. غالبت كل شديدة فغلبتها ... والفقر غالبني فأصبح غالبي إن أبده أفضح وإن لم أبده ... أقتل فقبح وجهه من صاحب فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده وفي الحديث الشريف: (لا خير في مَن لا يحب المال ليصل به رحمه، ويؤدي به أمانته، ويستغني عن خلق ربه) ، ومن كلام الإمام الثوري: المال في هذا الزمان عز للمؤمن. ومن كلامه أيضًا المال سلاح المؤمن في هذا الزمان. هذا قليل من كثير مما قيل في فضل المال وفوائده ومنافعه، بالنظر للأفراد، وأما بالنظر للأمة ففوائده أعظم وأجل، وفقده أدهى وأمر، قال حكيم: لا دولة إلا بالرجال، ولا رجال إلا بالمال، ولا مال إلا بالعمارة. فالمال هو ميزان قوة الأمة، وداعية مجدها واستقلالها، خصوصاً في هذا الزمان الذي أضحى مدار الأعمال فيه على المال؛ إذ بالمال تسد الثغور، وتشاد القلاع والحصون، بالمال تجمع الجموع، وتحشد الجيوش، بالمال تصان الحدود من هجمات الأعداء، وتسير الأساطيل في عرض البحار، بالمال تبتاع العدد من أسلحة ومدافع وذخائر، فالقوة كل القوة في المال، كما أن كل الصيد في جوف الفرا، ولا حياة للأمة بلا مال، ولا وجود ولا استقلال، ومعلوم أن ثروة كل دولة من ثروة أمتها، وثروة الأمة من ثروة الأفراد، فإذا كان الأفراد أغنياء كانت الأمة غنية، وإذا كانت الأمة غنية كانت الدولة قادرة على حفظ دمارها، وحماية بيضتها وصد هجمات الأعداء عنها، ومنع مطامع الطامعين فيها، إذ لا يخفى أن الجسم المادي كبيرًا كان أو صغيرًا - من الكرة التي يلعب بها الأولاد الصغار إلى أكبر الثوابت - هو مؤلف من جواهر فردة، وقوته عبارة عن مجموع قوة هذه الجواهر، فكذلك الدول العظيمة مؤلفة من مجموع أفراد تبعتها، وقوتها عبارة عن قوة تلك الأفراد، فإذا أعنت صانعاً على إحياء صناعته، أو تاجراً على توسيع تجارته، أو زارعاً على إتقان زراعته، فقد أحسنت إلى ذلك التاجر والصانع والزارع (أولاً) ، وزدت في ثروة بلادك (ثانيًا) ، وفي أمتك ودولتك (ثالثاً) ، والعكس فالصانع والتاجر والزارع يجب أن يكون لهم المقام الأول في الهيئة الاجتماعية؛ لأن عليهم مدار الثروة والقوة. فإذا علمت هذا ظهر لك خطأ بعض الجهلاء، المُتَّسِمين بسمة العلماء، الذين يُزهِّدون الناس في الأشغال والأعمال، ويثبطون هِمَمهم عن العمل بحجة أنهم يُزهِّدونهم في الدنيا الفانية، ويقربونهم من الآخرة الباقية، وإن الساعة على وشك القيام، فلا حاجة إلى هذا الاهتمام، يحسبون بذلك أنهم يُحسنون صنعاً، ألا ساء ما يعملون، يعتاضون بهذا عن تنشيطهم الناس بصفة أنهم قادة العقول، إلى النهوض من سنة الخمول، إلى الكد والجد ومناظرة غيرهم في جهاد الأعمال والأشغال، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، والشرع الإسلامي لم يحظر على أحد الكسب والارتزاق بالوجوه المشروعة، وقد جاء في الحديث: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا) ، وما ورد من التزهيد في الدنيا يراد به الزهد بما في أيدي الناس. وأما احتجاجهم على وشك قيام الساعة، فالساعة علمها عند الله سبحانه وتعالى، كما جاء في الكتاب، وما يعنينا إن كانت قريبة أم بعيدة، فعلينا أن نعمل بتلك القاعدة الذهبية التي وضعها أحد الفضلاء، وتربى أولادنا عليها وهي: (إذا أخبرنا مَلَك من السماء بأننا سنموت غدًا فيجب أن نتم واجباتنا اليوم ونموت غدًا) ، ومعلوم أن موارد الكسب ثلاثة: الزراعة والتجارة والصناعة (سنفرد لكل واحد منها مقالة في المستقبل) ، وقوامها كلها بالتوفير والاقتصاد، وليس المراد بالتوفير الشح والبخل المذمومين شرعًا وعقلاً، بل إتقان أساليب الكسب والارتزاق وتوفير الثروة العمومية وإصلاح التجارة والزراعة والصناعة على الطرق التي يجري عليها الغربيون، ورائد ذلك كله العالم الصحيح، كما سنبينه في فرصة أخرى. والقصد من هذا التمهيد كله ذكر بعض ما شاهدته في الديار المصرية مما يُذْهِب ثروة أهلها وملاشاتهم، إن ظلوا على سباتهم وغفلتهم، وذلك أني زرت الديار المصرية منذ عشرين سنة وزرتها في العام الماضي، فوجدت فرقاً كليًّا في الزيارتين، وجدت في الزيارة الأولى مصر للمصريين، وفي الثانية مصر للدخلاء والغرباء، وجدتهم قابضين على الوظائف المهمة، والأشغال العظيمة، وجدت المالية بيدهم، وكذا التجارة، والبنوكة، والأشغال العمومية، وجدت الوطنيين آلة صماء بأيديهم، وجدت أكثر أبناء الأعيان الذين هم رجال المستقبل منغمسين في المنكرات، عاكفين على اللذات، ينفقون المال جذافاً في سبيل البذخ والشهوات، وكثيرين منهم باعوا ما تركه لهم أسلافهم من الأطيان والعقار وأضاعوه في المقامرة وأخواتها من الفواحش، وجدت الوطنيين مثقلين بالديون للأجانب، وجدت أكثر سراتهم ووجهائهم عاكفين على اللهو والبطالة، وأحوالهم في تأخر وتقهقر، والأجنبي يبتز أموالهم ويتملك أطيانهم، وإذا سافر أحدهم إلى البلاد الأوربية، كما هي عادة بعضهم في زمن الصيف وإبان القيظ، فلا يعود منها بتجارة أو صناعة تعود عليه وعلى بلاده بالنفع والفائدة، بل بأحمال من الأزياء والعادات الإفرنجية، التي تذهب بجانب كبير من ثروته إذا لم تذهب بمجموعها. وقد شاهدت واحداً منهم فتح مخزناً كبيراً لتجارة واسعة قرب الأزبكية، فتنازل الخديوي أيده الله يوم فَتْح المخزن لتشريف مخزنه بذاته الكريمة، وهنأه بذلك تنشيطًا لغيره باحتذاء مثاله. ثم جُلت في الأرياف حتى انتهيت إلى الحدود، فرأيت مثل ما رأيت في البنادر الكبيرة وزيادة: رأيت الدخلاء قد نصبوا فيها للفلاحين المساكين فخاخ المسكر والميسر والفواحش والربا الفاحش، يوقعونهم فيها ويستولون على أطيانهم. رأيت في الأقصر دارًا كبيرة حمراء على هيئة البرابي المصرية القديمة لرجل أجنبي، قدم البلاد منذ بضع سنين، فسمع أن الفلاحين يستدينون الجنيه الواحد بخمسة غروش في الشهر، فاستوطن ذلك المحل، وأخذ يقرض الفلاحين الدنانير بذلك الربا الفاحش، فأثرى إثراءً مفرطاً، وبنى تلك الدار على الهيئة التي ذكرناها، وقلما مررت بكفر إلا ورأيت فيه المواخير والحانات ومحلات المقامرة والفحش، والعمد والفلاحين عاكفين عليها أي انعكاف، وكنت إذا مررت بعزبة عامرة وفيها الآلات المتقنة لري الأرض أسأل عنها فيقال لي: إنها لفلان الأجنبي ابتاعها حديثًا من فلان الوطني، وإذا مررت بعزبة عامرة تسقَى بالشادوف أو الساقية أسأل عنها فيقال لي: إنها لفلان الوطني، وهو على وشك أن يبيعها؛ لأنه مثقل بالديون بالبنك، أو لفلان الأجنبي، وفي الجملة إنني رأيت تنازع البقاء في هذا القطر بالغاً أشده بين الوطنيين والدخلاء، ولا بد أن يؤدي إلى نتيجته المعلومة (بقاء الأنسب) أي ملاشاة الوطنيين (لا سمح الله) إذا ظلوا على حالتهم الحاضرة، وقيام الدخلاء مقامهم، فيصبحون لديهم أجراء يستخدمونهم كما يستخدمون البهائم، فبمثل هذا يجب الوعظ والإنذار، ولمثل هذا يجب توجه الأفكار وتنبه الهمم، ولما كانت جريدتكم من الغيرة والحمية بالمكان الذي نعلمه ويعلمه الجميع كتبت إليها بهذه العجالة مع علمي أني بذلك كمهدي السمك إلى البحر، والتمر إلى هجر، وبالله التوفيق.

بيع الحكومة المصرية لسفنها وأطيانها وسككها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيع الحكومة المصرية لسفنهاوأطيانها وسككها [1] باعت الحكومة المصرية لأجل حملة السودان البواخر الخديوية لشركة إنكليزية وكانت قررت بيع تفتيش الوادي لكن لم يبرم الأمر فيه؛ لأنه وقف، وقررت أخيرًا بيع الدائرة السنية لشركة إنكليزية فرنسوية مصرية، لكن الشركة تطلب تحويرًا في شروط البيع، فلم يحصل القبول للآن، وعزمت على بيع سكك حديد السودان، فأرسل الباب العالي رسالة برقية للجناب الخديوي في ذلك وهذا ملخصها على ما جاء في جريدة الأهرام الغراء. (إن إنكلترا باحتلالها مصر قد أعلنت مرارًا احترام حقوق السلطة العثمانية على وادي النيل، مما نشكرها عليه، ولما كانت سكك حديد السودان طريقاً حربية، فإنه يستحيل بيعها إلى شركة، ولا سيما إذا كانت أجنبية، ونحن نعلم احتياج مصر إلى المال للقيام بنفقة الحملة السودانية، ولكن الأموال متوفرة في صندوق الدين، فيمكنها أن تتناول منه ما تحتاج إليه، ومع ذلك فإن الباب العالي يسمح لمصر بعقد سلفة لنفقات السودان، وهو مستعد لإصدار فرمان شاهاني بذلك) اهـ.

بيع سكك الحديد السودانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيع سكك الحديد السودانية أهم ما يشغل الأفكار، وتلهج به الألسنة في هذه الديار: مسألة بيع سكك حديد السودان لشركة إنكليزية، كثرت في المسألة الإشاعات، وأنشأت الجرائد اليومية فيها المقالات الضافية، وقد ذكرنا في العدد الماضي ما نقل من اعتراض الباب العالي على الحكومة المصرية، وإبطال احتجاجها باحتياجها للمال للنفقة على حملة السودان، ويروى عن السبب في ذلك أن اللورد كرومر طلب من سمو الخديوِ المعظم المصادقة على البيع، وأطلعه على رسالة برقية جاءته من اللورد سالسبري يأمره فيها بإلزام الحكومة الخديوية بتنفيذ هذا البيع، فأبى سموه الرضا والقبول، ورفع الشكوى من هذا التشدد إلى مقام المتبوع الأعظم، فترتب عليه الاعتراض. ويشيعون هنا أن الجناب العالي الخديوي سيشتري تلك السكك بماله الخاص، إذا رأى أنه لا مندوحة عن بيعها، وأن الشركة الإنكليزية لا تبت البيع إلا بعد الاستيلاء على الخرطوم، هذا مخلص الأخبار في ذلك وما وراءه فتأسُّف عجائر، وتفجُّع ثواكل، ورثاء وعزاء، ونشيج وبكاء، هذه عاقبة الشعوب الجاهلة بحقوقها وواجباتها، المسرفة في أمرها، التي يظن كل فرد من أفرادها أنه كون برأسه، يرمي ترك التعاون والاجتماع إلى أيدي الذئاب والسباع، لا تفارق الجماعة فتفارق دينك وأنت لا تدري، فإنما " يأكل الذئب من الغنم القاصية ".

رسالة التوحيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة التوحيد قد نجز طبع (رسالة التوحيد) تأليف الأستاذ الفاضل والعلامة الكامل الشيخ محمد عبده، العضو العامل في إدارة الأزهر الشريف، ومستشار محكمة الاستئناف في مصر. أما الأستاذ فهو من آيات الحكمة البينات، فلا يزيده التعريف بيانًا. وأما الرسالة فهي في فن الكلام غاية الغايات، لا تطاولها على اختصارها المطولات، تحقيق بديع في أسلوب رفيع، وحكمة بالغة في عبارات سابغة، يعرف قدرها مَن نظر في كتب المتقدمين والمتأخرين في هذا العلم. أثبت مؤلفها - شكر الله سعيه - في مقدمتها نبذة في تاريخ هذا العلم، ثم بيَّن حقيقة الدين المطلق، وأفاض في شرح ما امتاز به الدين الإسلامي على غيره من الأديان السماوية الحقة، وكشف الحجاب عن السر في كونه آخر الأديان، ومن جاء به خاتم النبيين، وحرر فيها مسائل الخلاف الذي رَمَتْ أهل الاجتماع والتوحيد، بسهام التفريق والتعديد، فذهبت بهم في دينهم مذاهب مختلفة، ولبَّستهم شيعًا، وأذاقت بعضهم بأس بعض، غفلة عما جاء به القرآن من الأمر بإقامة الدين وعدم التفرق فيه. بيَّن أن ذلك الخلاف مما لا يصح أن يكون مفرقاً لو نصف أحد الفريقين وطلب الحقيقة من غير عناد ولجاج، ومراء في الاحتجاج، استدل بالعقل في موضعه، وبالنقل في موضعه، وسلك في العقائد مسلك السلف. ولم يَعِِبْ في سيره آراء الخلف. وبَعُدَ عن الخلاف بين المذاهب، بُعْده عن أعاصير المشاغب، فلا قيل ولا قال، ولا مراء ولا جدال، ولا تمويه ولا تغرير، ولا تفسيق ولا تكفير، وقد راعى فيها حالة العصر، فأغمض عن شبه المتقدمين ووساوسهم في الدين، وأسهب في الكلام على الرسالة العامة وبيان حاجة البشر إليها، وعلى إمكان الوحي ووقوعه، وكونه كمالاً لنظام الاجتماع، وطريقاً لسعادة البشر، ودفع ما يورده فلاسفة أوروبا من الاستدلال بسوء حالة أهل الأديان عموماً، والمسلمين خصوصاً على نقيض ما ذكر من مَزِيّة الدين المطلق، ومن كون الإسلام هو الدين الذي خاطب الله به البشر عند بلوغ النوع الإنساني رشده، ودخوله في طور العقل، وأنه يمكن أن يكون عليه الناس كلهم من مدنيتهم الحاضرة وما بعدها إلى يوم الدين. وبالجملة: إن هذه الرسالة هي التي يصح تبليغ الدعوة بها في هذا العصر على الشرط المعروف (وهو أن يكون على وجه يستلفت النظر) ، وأنها هي الدليل على ترقي العلم عند المسلمين، فقد مرت علينا قرون ونحن نسمي النقل من الكتب تأليفًا، وإن كان نسخًا يشبه المسخ، ظهر فيه للعيان أن كل عصر دون ما قبله، حتى كدنا نجزم أن سنة الله تعالى في الخلق أن يكونوا دائماً في تدل وهبوط، والحق أن سنة الله تعالى في خلقه أن يكونوا دائماً في تَرَقٍّ وصعود، وأن تدلينا وانحطاطنا كان لعلل طارئة، وأمراض عارضة، والأمراض في الأمم كالأمراض في الأفراد. ويسرنا أن الله تعالى أنعم علينا في هذا العصر بأطباء عارفين، يشرحون لنا عللنا، ويصفون علاجها، وقد نقه منا أقوام وأبلَّ آخرون، ولا نزال إن شاء الله تعالى في تقدم ونمو، ورفعة ورقي، وبالله التوفيق. *** قرظ الرسالة بقصيدة غراء حضرة الشاعر الأزهري الأديب الشيخ حسين محمد الجمل ابتدأها بمدح فضيلة الأستاذ المؤلف وانتقل إلى ذكر الرسالة، وقد رغب إلينا أن ننشر القصيدة، ولكن ضيق المقام يحول دون نشرها بتمامها، فاقتطفنا منها ما يلي، ترغيباً في العلم، وحثًّا على اجتناء فوائد الرسالة. قال - بعد أبيات -: يميناً بما أولاك ما أنت أهله ... لقد غبطت نعماءك العجم والعرب وما غبطوا نعماك إلا لأنهم ... رأوا لك فضلاً كل ثانية يربو بك الشرق قد أضحى عزيزاً وطالما اسـ ... تطال عليه واستهان به الغرب ولما أراد الله إسعاد أزهر الـ ... علوم وقد كانت معارفه تخبو أتاحك مرعيًا فشيدت صرحها ... قوّمت منها هيكلاً كاد ينكب ورصعت في التوحيد أسمى رسالة ... وضعت بها ما لم تحم حوله الكتب فراحت بها تزهو عقود عقائد ... كاها على لألائه اللؤلؤ الرطب فداؤك نفسي إذ جلست مبيناً ... سائلها لله فانجلت الحجب ولم نر في الطلاب إلا مدرساً ... آخر منه في العلوم له قرب وصمت بها آذان قوم نأت بهم ... خاف طباع عن نِدَاها فما لبوا وليس لهم فكر سوى أن عندهم ... فاهة أحلام يضيع بها الطب

أهم أخبار العدد 13

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم أخبار العدد (13) (البنك الأهلي) اتفق بعض متمولي أوروبا على إنشاء مصرف (بنك) في مصر يسمونه (البنك الأهلي) ، يقنع من الفلاحين بربا قليل بالنسبة لغيره مع ضمان الحكومة للمقترضين. ويقال: إن نصف رأس مال هذا المصرف من متمولي الإنكليز، فعسى أن يتنبَّه المصريون للشركات المالية من هذه الحوادث المتوالية قبل أن تفوتهم منفعة التنبه. *** (حقد الإفرنج) ذكرت جرائد أميركا أن الحكومة الأميركية قد طبعت على كل رغيف من الخبر الذي تقدمه لعساكرها (اذكروا الدارعة ماين) ، وهي التي نسفت في مياه هفانا، تقصد بذلك تهييج الجند على الانتقام. وذلك نحو مما تربي عليه فرنسا أبناءها من التذكير بمسألة الإلزاس واللورين، وإحفاظ قلوبهم على ألمانيا. فليعتبر الذين لا يبالون بأمر بلادهم وأوطانهم إن كانوا يعقلون. *** (جريدة الأصمعي) جاءتنا الأعداد الثلاثة الأوائل من جريدة عربية يومية سياسية، أنشئت في سان باولو من البرازيل سميت (الأصمعي) لصاحبيها الكاتبين البارعين خليل أفندي ملوك وشكري أفندي الخوري، وقد سرنا ما ذكر في العدد الثالث من إقبال النزلاء السوريين على الجريدة، حتى إنه لم يرد الجريدة منهم إلا نحو عشرين رجلاً، وكانوا يُقدّرون أن يرد لهم ربع ما وزعوا على الأقل لأنهم أكثروا من العدد الأول جداً، فهكذا يكون حب المعارف وتعضيد أهلها. لعمري إن السوريين عموماً واللبنانيين خصوصاً يجدر بهم الافتخار على كل أبناء العرب في ذلك، ونحن نرجو لرصيفتنا الجديدة زيادة الإقبال والرواج مادام لذلك في بلادهم مجال. *** (تدبير المنزل) أهدانا حضرة الفاضل فرنسيس أفندي ميخائيل مدير مطبعة التوفيق كتاب (تدبير المنزل) من تأليفه، ضمنه ما تمس إليه الحاجة من هذا الفن، وعباراته في غاية السهولة، لا تسمو على إفهام البنات المبتدئات فنحثهن على الإقبال عليه، إذ لا يجدن في بابه مثله في العربية. *** (شكر وثناء) نسدي خالص الشكر والثناء إلى الجريدة الهندية الغراء، التي قرظت بلغاتها جريدتنا المنار على خطتها ومشربها، ورغبت أهل العلم في الإقبال عليها، ونخص بالثناء التي نقلت وتنقل عنها ما تختاره وتنتقيه من المواضيع التهذيبية، فالتعاون مفتاح السعادة (كان الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) . وبهذه المناسبة نثني على أنصار المعارف من أفاضل تلك البلاد الذين يطلبون الاشتراك، ويقدمون ثمن الجريدة سلفًا. كثَّر الله من أمثالهم في الأمم الشرقية. *** نقترح على الشعراء تشطير الأبيات الآتية ونظم معناها بأبيات أخرى: يقولون ما نار بقلبك أوقدت ... ومن أين تأتي النار أدركك السلب فقلت لهم بلورة العين قابلت ... أشعة شمس الحب فاحترق القلب *** قال لي مَنْ أحب مِنْ أين نار ... هي في القلب منك قلت اعتذارا إن عيني بلورة قذفت في ... وسط قلبي من نور وجهك نارا *** (عبادة الغربان) استهل أبو العلاء المعري إحدى مراثيه بقوله: نبي من الغربان ليس على شرع ... يخبرنا أن الشعوب إلى الصدع ولو علم أن في الناس مَن يعبد الغربان لأودع ذلك في شعره الذي كان يجري فيه مع الخواطر، وهل يعبد الغربان أحد في العالم؟ نعم، قرأنا في مجلة أنيس التلميذ الغراء أن اليابانيين على تمدنهم واتساع دائرة العلوم والفنون العصرية عندهم - لم يزالوا يعبدون الغربان، ويعتقدون أن الغراب هو الطير الذي قلع عين الشيطان بمنقاره، ومنعه بذلك من أن يطفئ نور الشمس المشرقة؛ ولهذا يقدسونه كثيرًا، ويتحملون أذاه. *** (دفاع عن صاحب جريدة معلومات) ساءنا ما تجرأ به بعض الرعاع في الآستانة على رصيفنا الفاضل عزتلو طاهر بك أفندي، صاحب جريدة (معلومات) الغراء، وما علمنا الحامل لأولئك السفهاء على التعدي على مثل هذا الفاضل حتى ضربوه فأدموه. ولقد تناقلت هذا الخبر جرائد الأقطار مقرونًا بالتأسف والاستياء، ولقد علمنا أن لا خطر من ذلك على حياته، فنهنئه بالسلامة ونرجو له البرء العاجل.

النميمة والسعاية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النميمة والسعاية [*] قلنا في مقالة سابقة: (إن التهذيب روح للوجود الطبيعي والمدني والسياسي، تنال به هذه الوجودات سعادة الحياة وحياة السعادة) ، وقد يخفى على كثير من القراء وجه الارتباط بين التهذيب وبين حياة هذه الموجودات وسعادتها، وإن كنا أثبتناها في تلك المقالة بالبرهان، ونحن نشرح لهم الآن حال خِلّة واحدة من الخلال المذمومة، وتأثيرها في إفساد المجتمع الإنساني، وصدها عن المدنية الصحيحة التي هي سعادة الأمم، وهي النميمة والسعاية فنقول: النميمة كشف ما يكره كشفه سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول له أو غيرهما، وإذا كان الكشف إلى مَن يخشى جانبه سمي: سعاية. اتفقت التعاليم الدينية والعقول البشرية على أن هذه الخلة الذميمة إحدى الكبر، لا تذر شملاً إلا فرقته، ولا جمعاً إلا شتته، وأنها مولدة الفتن، ومقطعة الروابط الاجتماعية، تدع الإنسان يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وتقلب الحقائق، فتجعل المحسن مسيئاً، والصديق عدوًّا، وتسم الأمين بسمة الخائن، وتبرز النافع في صورة الضار، وتلبس الإصلاح ثوب الإفساد، وتقيم من الفضائل تمثالاً للرذائل فهي من أدواء الأمراض الروحية التي تعرض في الأمم فتفسد نظامها، وتمزق نسيج التئامها، وتقوض هيكل عمرانها، هذه الرذيلة تبنى على ثلاث رذائل هن أثافي الذل (كما قال بعض الفضلاء) : (1) الكذب الذي هو شر الشرور، ومفجر طوفان الفجور، ورافع الثقة من بين الجمهور، مقرب البعيد ومبعد القريب، وطامس أعلام العلم، ودارس منار الحق، ومقرر أصول الجهالة، آفة التجارة والكسب وسائر المعاملات، محلل العقود، وناكث العهود، فلا يتم له نظام، ولا يتأتَّى معه التئام. (2) الحسد الذي يقطع صلات الأرحام، ويزعزع أركان النظام، ويعشي عين البصر والبصيرة، فتبصر الحق باطلاً، وتشاهد الحالي عاطلاً، يحول دون التعاون والتناصر، والتكاتف والتعاضد، ويبعث على التخاذل والتدابر، ويحمل ذويه على أن يبخسوا الناس أشياءهم، ويعيثوا في الأرض مفسدين، فهو عدو المدنية الألد، وخصمها اليلندد. (3) النفاق الذي يفسد الطباع، ويغير الأوضاع، ويذهب ببهاء المحمدة الحقة من الوجود، بما يمنح من الألقاب الجليلة، والنعوت الجميلة، لأصحاب مظاهر الفخفخة الكاذبة، والنفخة الباطلة، يختلس أجور العاملين فيهبها للكسالى من أهل البطالة، وينتهب ثمرات زرّاع المنافع فيغذي بها العائثين من ذوي المطامع، فهو بما يحبط من العمل، مدعاة للبطالة والكسل، ومفسد لنظام الإنسان، ومقوض لدعائم العمران. رذيلة واحدة من هذه الرذائل الثلاث كافية لإشقاء أمة تَلبَّس بها أفرادها، فكيف بها إذا اجتمعت؟ وإنما تجتمع مع السعاية والنميمة، حمانا الله تعالى منها. إن أقبح الوشاية أثرًا، وأشدها ضررًا، هو ما يسمونه (بالمحل والسعاية) ، وهو ما يقتُّه المذَّاعون [1] ، ويبثُّونه للأمراء والسلاطين، عن أحوال العمال ونحوهم من خَدَمَة الدولة والأمة. هذا هو النوع من الوشاية لا يتجرأ عليه إلا الخائنون لسلطانهم، العاملون على خراب أوطانهم. مَثَلُ السعاة والمحَّالين في الأمة مثل الدود الخبيث الذي يدب في الزرع، فيهلك الحرث، ويحول بين العاملين وبين ثمرات أعمالهم، بل يحرم الأمة كلها من الانتفاع بأبنائها العاملين، وإن شئت قلت: مثلهم كمثل ميكروبات الأوبئة والأدواء، تفسد نظام البنية الإنسانية الشريفة من حيث لا يرى دبيبها، وتفتك بالأجسام، ولا تنال منها عوامل الانتقام، {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} (النساء: 108) . رب صاحب عزيمة، وطريقة قويمة، ينهض لخدمة دولته، ويسعى في منفعة أمته، يتجشم المصاعب ويتحمل، لكنه لا يكاد يخطو إلا بعض خطوات، حتى يتصدى له السعاة المحالون، فيقيمون في بعض طريقه العقاب والتضاريس، ويلقون فيه الشوك والحسك، ويخدون في بعضه الأخاديد، ويحتفرون العواثير، فإما أن تصد السالك عن المضي في سبيله العقاب التي تساوره، والصعاب التي تدافعه، فتنحل عزيمته، وتنفصم عرى إقدامه، فينكص على عقبيه، ويرتد إلى ورائه، فيسرح في مسارح الكسالى، ويرتع في مراتع محبي الراحة والخمول، حيث مرعى النفاق خصب مريع، ومورد اللهو عذب نمير. وإما أن يتردى في إحدى العواثير ويتدهور في بعض الهوى والأخاديد، فيندق عنقه، وتفيض روحه، ويلتحق بشهداء الحق الذين قضوا نحبهم تصبراً، وما قضوا من نجاح أوطانهم وطرًا، وذهبوا بما كانت تنتظر أممهم من قواهم الفائقة، وعزائمهم الصادقة. يا سبحان الله! ماذا يسهل على نفوس بعض البشر حمل هاتيك الأوزار، ويدفع بها إلى الاستهانة بتلك الأخطار؟ يفتك قاطع الطريق برجل ليبتز ماله، ويتعدى اللصوص على بيوت الناس ليسرقوا متاعهم، فيتبلغوا به في معيشتهم، أو يمدوا به أديم ثروتهم، فمضرات هؤلاء محصورة، ومثاراتها معقولة، وهي لا تمس المصالح العامة التي هي مناط سعادة الأمم، وبها قوام مدنيتهم. لكن الوشاة والسعاة ينسفون منافع أممهم من حيث لا يعود على نفوسهم الخبيثة إلا ما يشفون به غيظهم، ويبتردون من أوار حسدهم، فتبًّا لمن يبيع أمته وملته بهذا الثمن الخسيس. ربما يتوقع بعض هؤلاء الأشرار جائزة على سعايته فيلتحق بصنف اللصوص وقطاع الطرق، لأكله أموال الناس بالباطل، ويمتاز عنهم في الشر بتلك الصفة الشيطانية، وهي تقطيع الروابط العامة والصد عن سبيل الحق. أكرر القول بأن الناهبين والسارقين تختص جنايتهم بالأفراد، والسعاة تتعلق مضرتهم بالأمم والشعوب، فويل لكل هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، ربما تغشّ الماحلَ نفسُهُ الخبيثة بأنه ناصح لسلطانه خادم لوطنه؛ لأنه يرى بمقلته العشواء أن عمل العامل الذي دبت عليه عقارب سعايته مضر في الأمة، فهو يسعى في إزالة الضرر، وفرق عظيم ما بين النصيحة، والمحل والنميمة، والحلال بَيِّنٌ والحرام بين، لو كان صادقًا في زعمه لألقى بنصيحته أولاً للعامل، وبين له مضرة عمله، وأنذره مغبته إذا هو لم يقلع عنه، فإن وضح الأمر، وأصر الآخر على باطله من غير عذر، يرفع أمره للحاكم علنًا وتحكم فيه الشريعة على رءوس الأشهاد. هذه حجة ناهضة يتجلى نصوعها على كماله بالنسبة للناهضين بالأعمال المفيدة لأممهم على مرأى من الناس ومسمع، وعلى أكمله بالإضافة للذين يرفعون منار الحق بنشر المعارف النافعة في الكتب أو الجرائد، لاسيما إذا صرح أربابها كما صرحنا في فاتحة جريدتنا هذه بقولنا: (وتقبل الانتقاد الأدبي من كل أحد، وتقابل عليه بالثناء والشكر، وتذعن للحق كيفما طلع بدره، ومن أين انبلج فجره، وتتلقف الحكمة من حيث أتت، وتأخذها أينما وجدت) ، أمثال هؤلاء لا يمكن أن يكابر نفسه، من يمحل بهم إلى الحكام بأنه ناصح بمحاولته إبطال باطلهم (على زعمه) ؛ لأن الباطل لا يمحوه إلا إحقاق الحق، وأما الضغط فإنه يوجب الانفجار، والمقاومة يترتب عليها الاشتهار. الإنسان عرضة للخطأ والخطل، ولا يكاد يخلو عمل من خلل، وتشهد بذلك كتب المؤلفين، وأعمال المتقدمين والمتأخرين، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، يخطئ قوم فيصلح خطأهم آخرون، وبذلك تنجلي الحقائق وتتمحص العلوم، حتى تبلغ كمالها، ولا يزال الحق والباطل في مجادلة ومجالدة حتى يغلب أحدهما الآخر، لكن الحق يعلو وإن عمي عنه الأسفلون، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) . نعم، يوجد في بعض الأمم والدول جمعيات سرية تسعى في الإخلال بالنظام، وتهدد الأمن العام، كالفوضويين في أوروبا، والعدميين (النهليست) في خصوص روسيا، وبعض الأرمن في بلاد الدولة العلية، فمن يكايد أمثال هؤلاء، ويحمل بهم إلى الحكمين، فهو ناصح للدولة والأمة، مع مراعاة الصدق والوقوف عند حدود العدالة. وهناك أمور أخرى تشتبه على بعض الناس فيها النصيحة بالنميمة والسعاية، ومن صدق في طلب الحق لا يزج نفسه في أمر خطير من غير بينة فيه (الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) إلى آخر الحديث الشريف. هذا بعض من كل في بيان مخازي النميمة (السعاية) ومفاسدها، ولو استقصينا ما ورد في ذلك من الآيات والأخبار، وشرحنا ما يحتف به من الآثام والأوزار، لأدى بنا ذلك إلى التطويل، ولعل ما ذكرناه كافٍ في التنفير والترهيب، وما يتذكر إلا مَن ينيب. آثار في السعاية جاء رجل إلى علي كرم الله تعالى وجهه يسعى إليه برجل آخر فقال له الإمام: (يا هذا إن كنت صادقاً مَقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك) . قال: أقلني يا أمير المؤمنين. ذكرت السعاية عند بعض الصالحين فقال: (ما ظنكم بقوم يحمد الصدق من كل طبقة من الناس إلا منهم) . قال مصعب بن الزبير: نحن نرى قبول السعاية شرًّا من السعاية؛ لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس مَن دل على شيء فأخبر به كمَن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي، فلو كان في قوله صادقًا كان في صدقه لئيمًا، حيث لم يحفظ الحرمة، ولم يستر العورة. دخل رجل على سليمان بن عبد الملك فاستأذن في الكلام وقال: إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله وإن كرهته، فإن وراءه ما تحب: قال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين إنه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، ولا تصخِ إليهم فيما استحفظك الله إياه، فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً، والأمانة تضييعًا، والأعراض قطعًا وانتهاكًا، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجلّ وسائلهم الغيبة والوقيعة، وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا بمسئولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً مَن باع آخرته بدنيا غيره. رفع بعض السعاة رقعة إلى الصاحب ابن عباد نبه فيها على مال يتيم يحمله على أخذه، فكتب على ظهرها السعاية قبيحة، وإن كانت صحيحة، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله.

الدين والمدنية في الشرق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدين والمدنية في الشرق نحن الشرقيين في أشد الحاجة إلى سلوك سبل المدنية القويمة مع المحافظة على الدين، فالشرق هو مهبط الوحي، ومشرق شموس الأديان، وهو الجدير بالمحافظة على الدين، وإن استهان به سائر العالمين، الدين وضع إلهيٌّ حق، يأمر بتزكية النفس وتطهيرها، ويحث على الحب والائتلاف، وينهى عن العداء والاختلاف، فهو باعث الاجتماع على التعاون، وداعي الرشاد إلى الاتفاق والاتحاد، يجمع المتفرق، ويوحد المتعدد، وذلك مبدأ المدنية أو هو هي. يذهب قوم إلى أن البشر قد يستغنون عن الدين في انتظام شملهم، وقوام مدنيتهم، وأن الإنسان يمكن أن يصل بعقله إلى كل ما فيه سعادته من غير وحي إلهي، ولا إرشاد سماوي، اكتفاء بالعقل والمشاعر والوجدان والإلهام، التي وهبها مدبر الكون لكل إنسان، وأعظم شبهة عند هؤلاء على إنكار الوحي زعمهم أنه لا حاجة إليه، فإذا قام البرهان ونهضت الحجة على حاجة البشر إلى الوحي، وأنه كمال، لا يتم نظام العالم الإنساني بدونه، يذعنون إلى أن صانع الكون الحكيم لا يبخل عليهم في إيتائهم ما هو مكمل لوجودهم النوعي، متمم لسعادتهم الإنسانية. ولما كان المنار يدعو إلى المدنية مع التمسك بالدين أحببنا أن نتحف قراءه من مسلمين ونصارى ويهود بما جاء في (رسالة التوحيد) من بيان الحاجة إلى الوحي ووقوعه، فهو البيان الكامل، والتحقيق الذي لم تأتِ بمثله الأوائل، وناهيك بحكمة مؤلف تلك الرسالة ورسوخه في العلوم الدينية، مع وقوفه التام على حقيقة المدنية، قال حفظه الله تعالى: (حاجة البشر إلى الرسالة: سبق لك في الفصل السابق ما يهم الكلام عليه من الوجه الأول، وهو وجه ما يجب على المؤمن اعتقاده في الرسل، والكلام في هذا الفصل موجه إن شاء الله إلى بيان الحاجة إليهم، وهو معترك الأفهام، ومزلة الأقدام، ومزدحم الكثير من الأفكار والأوهام، ولسنا بصدد الإتيان بما قال الأولون، ولا عرض ما ذهب إليه الآخرون، ولكنا نلزم ما التزمناه في هذه الوريقات من بيان المعتقد، والذهاب إليه من أقرب الطرق، من غير نظر إلى ما مال إليه المخالف، أو استقام عليه الموافق، اللهم إلا إشارة من طرف خفي، أو إلماعًا لا يستغني عنه القول الجلي) . وللكلام في بيان الحاجة إلى الرسل مسلكان: (الأول) : وقد سبق الإشارة إليه، يبتدئ من الاعتقاد ببقاء النفس الإنسانية بعد الموت، وأن لها حياة أخرى بعد الحياة الدنيا، تتمتع فيها بنعيم، أو تشقى فيها بعذاب أليم، وأن السعادة والشقاء في تلك الحياة الباقية معقودان بأعمال المرء في حياته الفانية، سواء كانت تلك الأعمال قلبية كالاعتقادات والمقاصد والإرادات، أو بدنية، كأنواع العبادات والمعاملات. اتفقت كلمة البشر - موحدين ووثنيين، مِلِّيّين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم وزن - على أن لنفس الإنسان بقاءً تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء، وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس فيه، وتباينت مشاربهم في طرق الاستدلال عليه، فمن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومن ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال: إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة، حافظة لما فيه لذتها، أو ما به شقوتها، ومنهم مَن رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية، ألطف من هذه الأجسام المرئية، وكان اختلاف المذاهب في كُنْهِ السعادة والشقاء الأخرويين، وفيما هو متاع الحياة الآخرة، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم. وتضارب آراء الأمم فيه قديمًا وحديثًا، مما لا تكاد تحصى وجوهه. هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة، المنبث في جميع الأنفس عالمها وجاهلها، وحشيّها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن يعد ضلة عقلية، أو نزعة وهمية، وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا النوع، فكما ألهم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا - وإن شذ أفراد منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى أنه لا يمكن للعقل أن يوقن باعتقاد، ولا للفكر أن يصل إلى مجهول، بل قالوا: إن لا وجود للعالم إلا في اختراع الخيال، وإنهم شاكُّون حتى في أنهم شاكون، ولم يطعن شذوذ هؤلاء في صحة الإلهام العام، المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما ركن الحياة، وأس البقاء إلى الأجل المحدود، كذلك قد ألهمت العقول وأشعرت النفوس أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقياً في طور آخر وإن لم يدرك كنهه. ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء، يشعر كل نفس أنها خُلقت مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة، شيقة إلى لذائذ غير محدودة، ولا واقفة عند غاية، مهيأة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب والغايات، معرضة لآلام من الشهوات ونزعات الأهواء ونزوات الأمراض على الأجساد، ومصارعة الأجواء والحاجات، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عدّ، ولا تنتهي عند حدٍّ، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع إنما قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل الجزاف، فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات، وآلام ولذائذ وكمالات لا يصح أن يكون بقاؤه قاصراً على أيام أو سنين معدودات. شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي، وما عسى أن تكون عليه، ومتى وصلت إليه، وكيف الاهتداء، وأين السبيل، وقد غاب المطلوب وأعوز الدليل، شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم يكفنا في الاستقامة على المنهج الأقوم، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد، وقضاء الأزمنة والأعصار، في تقويم الأنظار، وتعديل الأفكار، وإصلاح الوجدان، وتثقيف الأذهان، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب، لا ندرى متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة، ولا نعلم متى ننتهي إليها. هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم بما في عالم الغيب، هل فيما بين أيدينا من الشاهد، معالم نهتدي بها إلى الغائب، وهل في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها، وبأن لا مندوحة عن القدوم عليها، ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما أعد له فيها، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه، أو إلى معرفة بيد من يكون تصريف تلك الشؤون؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى اليقين بمناطها من الاعتقادات والأعمال، وذلك الكون مجهول لديك، وتلك الحياة في غاية الغموض بالنسبة إليك، كلا فإن الصلة بين العالمين تكاد تكون منقطعة في نظر العقل، ومرامي المشاعر، ولا اشتراك بينهما إلا فيك أنت، فالنظر في المعلومات الحاضرة لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم المستقبلة. أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم، والكتاب للتراسل أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعد لها بمحض فضله بعض من يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة، يبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنور علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العاملين، نهاية الشاهد وبداية الغائب، فهم من الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها، ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله وما خفي على العقول من شئون حضرته الرفيعة، بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قدر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم، في ذلك الكون المغيب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله، ويدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة، ثم يؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات، حتى تقوم بهم الحجة، ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه، مبشرين ومنذرين. لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيراً ولا جليلاً من خلقه، يكون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره، أن ينقذه من حيرته، ويخلصه من التخبط في أهم حياتَيْهِ، والضلال في أفضل حاليه. يقول قائل: ولِمَ لَمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم؟ ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل، وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟ وهو قول يصدر عن شطط العقل، والغفلة عن موضوع البحث، وهو النوع الإنساني. ذلك النوع على ما به وما دخل في تقويم جوهره من الروح المفكر، وما اقتضاه ذلك من الاختلاف في مراتب الاستعداد باختلاف أفراده، وأن لا يكون كل فرد منه مستعدًّا لكل حال بطبعه، وأن يكون وضع وجوده على عماد البحث والاستدلال، فلو ألهم حاجاته كما تلهم الحيوانات لم يكن هو ذلك النوع، بل كان إما حيواناً آخر كالنحل والنمل، أو ملكاً من الملائكة، ليس من سكان هذه الأرض. (المسلك الثاني) في بيان الحاجة إلى الرسالة يؤخذ من طبيعة الإنسان نفسه، أرتنا الأيام غابرها وحاضرها أن من الناس من يختزل نفسه من جماعة البشر، وينقطع إلى بض الغابات أو إلى رءوس الجبال، ويستأنس إلى الوحش، ويعيش عيش الأوابد من الحيوان، يتغذَّى بالأعشاب وجذور النبات، ويأوي إلى الكهوف والمغاور، ويتقي بعض العوادي عليه بالصخور والأشجار، ويكتفي من الثياب بما يخصف من ورق الشجر، أو جلود الهالك من حيوان البر، ولا يزال كذلك حتى يفارق الدنيا، ولكن مثل هذا مثل النحلة، تنفرد عن الدبر، وتعيش عيشة لا تتفق مع ما قدر لنوعها، وإنما الإنسان نوع من تلك الأنواع التي غرز في طبعها أن تعيش مجتمعة، وإن تعددت فيها الجماعات، على أن يكون لكل واحد من الجماعة عمل يعود على المجموع في بقائه، وللمجموع من العمل ما لا غنى للواحد عنه في نمائه وبقائه، وأودع في كل شخص من أشخاصها شعور مَّا بحاجته إلى سائر أفراد الجماعة التي يشتملها اسم واحد، وتاريخ وجود الإنسان شاهد بذلك، فلا حاجة إلى الإطالة في بيانه، وكفاك من الدليل على أن الإنسان لا يعيش إلا في جملة ما وهبه من قوة النطق، فلم يخلق لسانه مستعدًّا لتصوير المعاني في الألفاظ، وتأليف العبارات إلا لاشتداد الحاجة به إلى التفاهم، وليس الاضطرار في التفاهم بين اث

أخبار الآستانة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار الآستانة جلاء جنود الدولة عن تساليا: كان جلاء الجنود السلطانية المظفرة عن تسالينا بغاية الأدب والانتظام الذي لم يعهد له نظير من أعظم جنود الأمم المتمدنة، وقد جرت مبادلة الوداع بين القائد العظيم صاحب الدولة أدهم باشا وأركان حربه وبين قناصل الدول ووجهاء الأهالي، وقد أعجب الأهالي بحسن معاملة الجيش الفاتح الظافر، وودعوا الضباط بكل احترام، وقدموا لهم الهدايا شكرًا على مجاملتهم، وقد سافر دولة أدهم باشا ومن معه على اليخت السلطاني (طليعت) ، وجاء سلانيك، وهناك صدرت له الإرادة السنية بالقدوم إلى الآستانة العلية. أدهم باشا بالآستانة: صبح الآستانة والناس لم يهبوا من رقادهم، ومع ذلك وجد الناس قد غصت بهم المحطة والطرقات من شدة الازدحام، ولما نزل من مركبته ترامى عليه الناس للسلام، حتى كادوا يكونون عليه لِبدًا، وطفقوا يقبلونه بشوق واحترام وسار مع أكابر القواد وأركان الحرب الذين معه، تحدق بهم الألوف، وتحوم عليهم القلوب، حتى بلغوا قصر يلدز الأعلى. تشرف كل من القائد الباسل صاحب الدولة أدهم باشا وصاحب السعادة سيف الله باشا بالمثول بين يدي الحضرة السلطانية المعظمة، وتناولا الطعام على مائدته الكريمة. وقد أنعم على أدهم باشا بوسام الافتخار المرصع، وعلى أصحاب السعادة سيف الله باشا وإبراهيم باشا ورضا باشا (الذي ترقى عن رتبته) بالوسام العثماني الأول. وعلى كل من أصحاب السعادة خيري باشا وحمدي باشا وحيدر باشا وحقي باشا وحلمي باشا وحليم باشا وثابت باشا بالوسام المجيدي الأول، وعلى كل من ممدوح باشا وعمر رشيدي باشا بوسام اللياقة الذهبي، أنعم عليهم ذلك مكافأة لهم على ما أبدوه من المهارة والبسالة في الحرب اليونانية التي نالت فيها الدولة العلية بحكمة هؤلاء القواد الصادقين من المنافع المعنوية ما هو أفضل من مملكة اليونان الحقيرة برمتها. وقد بلغهم مولانا أيده الله تعالى أنه لا ينسى خدمتهم لسدته العلية وسلطنته السنية. هذا جزاء الصادقين في الدنيا {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الإسراء: 21) . فتعس الخائنون ولا انتعشوا {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} (الأحزاب: 61) . ما ذكرناه عن استقبال دولة أدهم باشا هو زبدة ما نشرته جرائد الآستانة، وذلك يكذب ما قالته جريدة التان من أنه لم يستقبل دولته سوى عشرين ضابطًا، وصاحب الدار أدرى بما فيه. التخوم بين الدولة واليونان: حددت التخوم بين الدولة العلية واليونان، وأخذت الدولة العلية المواقع الحربية الحصينة التي تحول دون تعدي اليونان مهما غرهم بقوتهم الغرور. وقد أخذت الدولة العلية قطعة من الأراضي اليونانية في جهة دمكو لتقيم فيها بناء على نفقة مولانا السلطان الأعظم، يكون تذكارًا لشهداء الحرب، وسيحاط البناء بقفص من الحديد، ويتولى حراسته رجلان من طرف الحكومة اليونانية، وينقدان أجرتهما من الجيب السلطاني الخاص، أدام الله المكارم السلطانية مصدرًا للأعمال الشريفة المرضية. *** نصيحة للمنار من عظيم بالآستانة ورد لنا رقيم كريم من جانب أحد العظماء المقربين لدى الحضرة السلطانية، يحثنا فيه على الثبات في الخطة التي جرينا عليها في المنار، من عدم التملق والنفاق، ومن النزاهة عن السب والثلب، ويأمرنا فيه بالمواظبة على خدمة الدولة العلية، ومقام الخلافة الإسلامية، وسائر الأمة، مع الصدق والإخلاص، فإن ذلك مفتاح النجاح والفلاح. وقد تلقينا الأمر بالامتثال ونسأل الله التوفيق في كل حال.

أهم الأخبار المحلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم الأخبار المحلية (بيع الدائرة السنية) اجتمع مجلس النظار يوم السبت الماضي تحت رئاسة الجناب العالي، وكان المنتظر أن تحصل المذاكرة في بيع سكة حديد السودان فلم تحصل، لكن المجلس أقر على بيع الدائرة السنية التي هي أهم من سكة الحديد من الوجه المالي والإداري، وإن كانت هذه تفوق من الوجه السياسي كل الأعمال المالية التي حصلت في مصر في عهد الاحتلال، كان أشيع أولاً إقرار الحكومة المصرية على بيع الدائرة السنية بمبلغ ستة ملايين وأربعمائة ألف جنيه (وهو مقدار الدين الذي على الدائرة السنية) بشروط مخصوصة بينها وبين الشروط التي أقر عليها الآن فرق كبير، ومحصل ما تم عليه الاتفاق الآن أن الشركة - التي نصف رأس مالها من الإنكليز (الخواجات .... [1] كسل، وشركاؤهم أصحاب رأس مال الخزان العمومي) ونحو ربعه من المصريين، والباقي من جماعة من الفرنسويين والألمانيين - تُصدر سهامًا بقيمة 600 ألف جنيه تعطى 500 ألف جنيه منها للحكومة، وتبقى مائة ألف جنيه لإدارة الأعمال، والحكومة تعطيها 31 في المائة ربًا على الخمسمائة ألف جنيه، ويقتسمان الأرباح مناصفة بعد طرح 5 في المائة أولاً لأصحاب السهام، فائدة ما لهم ومنها 31 في المائة المذكورة آنفاً، وبعد طرح النفقات كما هو ظاهر. وستدفع الشركة الخمسمائة ألف جنيه للحكومة في شهر أغسطس (آب) المقبل، ولا يحسب هذا المبلغ من أصل الثمن، وتدفع في شهر يوليو (تموز) من سنة 1899 القادمة 2150090 جنيه، تأخذ بنسبتها من الثمن أراضي وأملاكًا تعرضها للبيع قطعاً، ثم بعد ذلك تدفع في كل سنة ثلاثمائة ألف جنيه وتأخذ بنسبتها أملاكًا وأراضي إلى سنة 1905، تدفع باقي الثمن الذي ذكرنا مقداره. وكيفية البيع تحصل بتعيين الحكومة أثمان الأراضي والتفاتيش، وعرضها على الشركة، فإن لم تقبل بها تعرضها الحكومة للبيع العلني، وما يزيد عن الثمن الذي عينته يكون ربحًا لها. وبعد تمام المدة الباقية للدائرة السنية يتعين على الشركة أن تشتري كل أطيانها وإلا عاد للحكومة. وستكون إدارة الشركة في لندرة، ولها شعبة في مصر تتولى إدارة الأعمال. ورؤساء القسم الوطني من الشركة الخواجات سوارس وقطاوي وشركاؤها، وأصحاب السعادة سيوفي باشا وشواربي باشا وحسن بك عبد الرزاق وعلي بك شعراوي، وقد تكاثر طلاب الاشتراك من المصريين في السهام التي تصدرها الشركة بقيمة 600 جنيه كما ذكرنا، وحيث لم يخصص للمصريين إلا نحو ربعها أسقط الخواجة سوارس طلب الأكثرين. *** (الاستعداد لفتح السودان) ذكرت إحدى الجرائد اليومية أنه وصل من إنكلترا إلى جيش الاحتلال مقادير عظيمة من الديناميت، وكثير من المهمات والذخائر، فأرسلت تباعًا إلى السودان لاستعمالها في فتح الخرطوم ودك أسوارها ومعاقلها. تسير الجنود المصرية والإنكليزية من القاهرة تباعًا إلى السودان، لأجل الاستعداد للزحف على الخرطوم وأم درمان، ويسافر مساء اليوم سعادة السردار إلى الحدود، ويسافر في أطواء الأسبوع إلى بربر اللورد إدوارد سسل نجل اللورد سالسبوري الذي كان ملحقًا بأركان حرب السرادار في حملة السودان الأخيرة، وهو الآن في القاهرة. *** كنا ذكرنا أن فرنسا سيرت حملة إلى السودان عن طريق النيل الأعلى (حملة مرشان) ، وما زالت أخبار تلك الحملة تطفو وترسب، ولا يعلم عنها شيء يقيني، وكان أشيع من مدة أنها وصلت إلى فشودة، ويؤخذ من بعض الجرائد الأوروبية الآن ما ترجح أنها وصلت لنفس الخرطوم، وفي أثرها مدد معلوم، والمستقبل يظهر كل مكتوم. *** (ثورة اليمن) من أخبار بريد أوروبا أن الفريق حقي باشا عين مشيرًا للفيلق الهمايوني الخامس في دمشق الشام خلفًا لعبد الله باشا الذي تقرر إرساله إلى اليمن لإخماد الثورة فيها، وقد زعمت بعض الجرائد الأوربية أن عبد الله باشا أَبَى الذهاب إلى اليمن، لكن بريد سوريا الأخير أفاد أن دولته كان على أهبة السفر، ولعله قد سافر الآن. *** (تلغراف الحجاز) جاء في جريدة (ثمرات الفنون الغراء) نقلاً عن جرائد الآستانة أنه قد تقرر تشييد مخافر بين المدينة المنورة وبين دمشق الشام، للمحافظة على الخط البرقي المَنْوِيّ مده بينهما، وتعيين خفراء له من مشايخ العربان ومن الجند. وبعد ذلك يمد الخط إلى اليمن، والمذاكرات جارية بتخصيص المبلغ اللازم لذلك. *** (والد وولد) كان السنيور (فنسنت هواريا مارتينس) يقطن عدد 228 في الشارع الحادي والعشرين غربًا بمدينة نيويورك، وهو أسباني المولد، كان منذ عهد غير بعيد يتجر بالخمر الأسباني، ولكنه بعد ذلك استخدم في إحدى شركات ضمانة الحياة، واشتهر بالصدق والأمانة، وكانت قرينته قد أصيبت بمرض عضال، فسافرت إلى بلادها، وهناك توفيت مؤخرُا، فحزن الرجل حزنًا عظيمًا، واستدعى نجله المدعو (ريشار) وابنته الوحيدة، وأخبرهما أنه يرغب العودة إلى الوطن؛ للانتظام في سلك الجندية الأسبانية، وطلب منهما أن يذهبا معه فينتظم ولده أيضًا في سلك الجندية، وابنته تدخل في صف الممرضات في خدمة الجيش، فتطير الولدان عند سماعهما هذا الخبر، وأوضحا لوالدهما أنهما لا يرغبان بالعود إلى الوطن، وقال: إنني أميركي، ومن الشهامة أن أدافع عن وطني، وقالت الابنة: وأنا كذلك، فمن أكبر واجباتي أن أقصد الجيش الأميركي لتمريض جنوده، وهكذا عظم الخلاف بين الوالد وولديه، وكاد يفضي بينهم إلى الضرب لولا مداخلة الجيران. وأما الوالد فسافر إلى وطنه، وأراد أن يودع ابنه الذي لم يودعه، ولكنه خاطبه قائلاً: إذ لم تقصد كوبا فأنت جبان، وهناك سألتقي بك وأذيقنك من ضربات حسامي الموت الأحمر، فاستعد أيها الأسباني لمقابلتي، وكن على حذر. وبعد سفر الوالد ذهب فانخرط في العسكرية الأميركية، وكذلك الابنة (السي) تطوعت مع الممرضات، وربما يجدان والدهما هناك. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (كوكب أميركا)

المدارس الوطنية في الديار المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المدارس الوطنية في الديار المصرية [*] سعادة الأمم بأعمالها، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها، فكل أمة ترغب عن العلم فمآلها إلى الشقاء، شقاء الاستعباد وفقد الاستقلال، لا يعصمها منه اتساع مساحة بلادها، ولا كثرة أفرادها، ولا عظمة حكامها، ولا صحة دينها، ولا شرف أسلافها، ولا شيء مما يتعلل به المسترسلون مع الأوهام، المنقادون بأزمة الغرور، وكل أمة نشطت لاقتباس العلوم والاستضاءة بنور الأعمال النافعة، فأقامت أساس مدنيتها على هدى، فبشرها بالسعادة، سعادة المدنية الفاضلة، والحرية الشاملة، والسيادة الكاملة، لا يمنعها من هاته قلة أفرادها، ولا احتلال الأجانب لبلادها، ولا استبسال حكامها، ولا اختلال نظامها، ولا فساد عقائدها، ولا قبح عوائدها، إذ العلم يصلح كل خلل، ويشفي من جميع العلل، يشهد بجميع ما قلته العيان، وينطق بصحته البرهان. سل التاريخ عن أحوال الأمم والشعوب التي سقطت في مهاوي العدم، وماذا كان من السبب في سقوطها، وعن الأمم الواقفة على شفا الخطر، وما علة يأسها وقنوطها، سله عن الدول التي طاولت السماء في رفعتها، وفاخرت الجبال في قوتها ومَنَعَتها، وهزأت بعقاب الجو في عزتها وعصمتها، أصرح لك في القول: سله ما الذي أحل بالممالك التيمورية (الهندية) الدمار، وأوقف دولة الصين العظيمة على شفا جرف هارٍ، تنقص من أطرافها، وتتناوش من جميع أكنافها، ما الذي انتاش الولايات المتحدة الأميركية، وأنقذها من مخالب السلطة الإنكليزية، ما الذي نهض بالأمة اليابانية، حتى طارت مع الأمم الأوروبية في كل جو، وسبحت معها في كل بحر، وضربت من الفنون بكل سهم؟ أَصِخْ بسمعك للتاريخ، واستمع لما يتلوه عليك تجد أن جوابه عن هذا كله محصور في كلمتين وهما: (علم وعمل، وجهل وكسل) ، فبالعلم والعمل يقرن كل تقدم ورقي، وعن الجهل والكسل ينشأ كل تأخر وهوي، فلكل غاية مبدأ، ولكل رغيبة طريق يوصل إليها، وكل من سار إلى الدرب وصل {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) . كل هذا من البديهيات الثابتة بالمشاهدة والاختبار، فلا ينازع فيها إلا الصم البكم العمي الذين لا يعقلون، فلنصرف النظر عنه إلى تعميم التعليم المفيد، والتربية على العمل النافع، ولنجعل موضوع كلامنا في ذلك البلاد المصرية، وليس تخصيص القول بهذه البلاد مخرجًا له عن خدمة عامة الشرقيين؛ فإن أحوال الأمم والشعوب يشبه بعضها بعضًا في الأمور الكلية، وتشابه البلاد الشرقية في أكثر شؤونها الجزئية، لا سيما موقفها الحرج أمام أوروبا، فليعتبر بما نذكره في شأن مصر كل شرقي عاقل. تُذاكِر المصري من أي طبقة في سعادة بلاده؟ فيجيبك: أن ذلك لا يكون إلا بجلاء الإنكليز عنها، نعم إن منهم من يقول: إن الاحتلال أذهب سابق الاختلال، فكان شفاء وشقاء في وقت واحد، لكنهم مع ذلك يعقلون حكمة شاعرهم القائل: إذا استشفيت من داء بداء ... فاقتل ما أعلَّك ما شفاكا والصواب أن السعادة أمر وجودي، لا يحصل بمجرد الجلاء الذي هو أمر بمعنى العدمي، لكنه شرط لكمالهما، مثل الاحتلال الأجنبي في الأمم، كمثل جراثيم الأمراض الوافدة، وميكروبات الأدواء العارضة، لا يفتك كل منهما إلا بالضعيف، المختل نظام المعيشة، وعلاجهما يشبه بعضه بعضًا، تعالج الأمم الأدواء الحسية الوافدة بعلاجين كل منهما مفيد في نفسه، ويحصل الكمال باجتماعهما كليهما. أحد العلاجين خارجي، تكله الأمة إلى حاكمها، كالمحاجر الصحية، وثانيهما داخلي يتيسر على الأهلين القيام به بدون مساعدة الحكام، ويتعذر على الحاكمين القيام به على كماله بدون مساهمة المحكومين، وهو نظام أمر المعيشة بالنظافة العامة المصلحة لفساد الهواء والغذاء اللطيف والماء النقي المصفى المقوي ذلك كله لمزاج البدن، بحيث يقدر على مدافعة كل عارض، ومقاواة كل طارئ، كذلك ينبغي أن تعالج الاحتلال الأجنبي، الذي هو مرض معنوي، الحكومة تصده عن الإيغال في شؤون الأمة، والولوغ في أحشائها، والأمة تجتهد في تقوية بنيتها بتعميم التعليم الصحيح، والتربية الوطنية الحقة، حتى يحررها العلم والتهذيب، فلا تفتك فيها ميكروبات الاستعباد، ولا تتأصل فيها جراثيم الاستبداد، وأعني بالحرية: أن لا تخضع إدارة الأمة إلا لشريعة بلادها التي تنفذها فيها حكامها، لا السفه والفجور الذي هو في مصر أكثر من الكثير. فعلى المصريين أن يكلوا مصادمة هجمات الاحتلال على مصالحهم ومنافعهم لسلطانهم الأعظم، وأميرهم الأفخم فهما (أيدهما الله تعالى) يذودان عنهم ما أمكن الذود، كما وقع قريبًا في مسألة بيع طرق حديد السودان، ويعملوا هم على إصلاح الخلل الداخلي بتأليف الشركات المالية، وعقد الجمعيات الوطنية، اللذين لا أمة ولا وطن بدونهما، اللذين يمكن بهما مقاواة ما تفلت إلى البلاد من جراثيم مرض الاحتلال (كبيع الدائرة السنية) ، بحيث لا ينهك جسم الأمة فيتعذر علاجها، وتقوية مزاجها، اللذين يتسنى بهما نفخ روح القوة والعزة في الأمة، بتعميم التربية والتعليم الذي يحض عليه الناصح، ولا يعارض فيه الطامع، ويثني عليه لسان الحال، ولا يثني عنه عمل الحالّ (اسم من الحلول بمعنى الاحتلال) ، بهذا تتكون سعادة الأمة، وإذا حلت السعادة زال كل شقاء، وتقشع سحاب كل بلاء، لكن المصريين قد تركهم الاحتلال في أمر مريج، فبعضهم يقول: إن السعادة تحصل بمجرد الجلاء وبعضهم مرتكس بين أمواج الحيرة، وبعضهم في يأس وقنوط من استقلال بلاده ونجاحها، وبعضهم هداه النظر في أحوال العالم الإنساني إلى أن تعميم التربية والتعليم هما مناط السعادة، لكن أكثرهم غافل عن قوة الأمة والشعب على مثل هذا العمل العظيم، ومعتقد أنه لا يمكن أن يأتي إلا من جانب الحكومة، وهو يرى أن تعليم الحكومة ناقص كمًّا وكيفًا، فلا ترجى به الحياة الوطنية. أما نقصه كمًّا فمعناه أن مدارس الحكومة قليلة لا تفي بحاجة البلاد، ولا يرجى أن تفي بها مع العسر المالي الذي يلجئها إلى بيع أملاكها شيئًا فشيئًا. وأما نقصه كيفًا فهو أنه ليس مبنيًّا على المحافظة على الدين وآدابه، ولا مصطبغًا بالصبغة الجنسية والوطنية. وبغير ذلك لا يمكن أن تنهض البلاد وتحيَى الأمم والشعوب. ألم تَرَ أن الأمم الأوربية تعهد بالمدارس إلى القسوس ورجال الدين غالبًا في داخلية البلاد. وأما في المستعمرات ونحوها من البلاد الخارجية التي ينشرون فيها مدنيتهم - فإنهم يتخذون الدين فيها عاملاً من عوامل السياسة، ولذلك ينيطون التعليم فيها بالجمعيات الدينية دون سواها. ومدارس الحكومة المصرية لا أثر فيها للصبغة الدينية، بل قيل: إن الوليد يدخلها بدين ويخرج منها مارقًا والعياذ بالله، إلا إذا كان له أهل وعشيرة أتقياء بُصَراء يتعاهدون سيره ويحكمون ربط عقيدته، ولا أثر فيها للصبغة الوطنية، ولا الجنسية أيضًا، فقد استبدلت اللغة الأجنبية باللغة العربية في التعليم، وأقيم التاريخ الإنكليزي مقام التاريخ العثماني والمصري، واستغني عن الآداب العربية بالآداب الإفرنجية، ويعتاض عن المعلمين الوطنيين بالأجانب شيئًا فشيئًا. وكل ذلك مما يغرس في قلوب المتعلمين عظمة الأمم التي يتعلمون تاريخها وآدابها، واحتقار أمتهم وجنسهم ودولتهم، ماضيها وحاضرها. فأي خير يرجى من تعلمهم بهذه الصفة، واصطباغهم بهاته الصبغة؟ ! أما إنه ليتوقع شرها، ولا يرجى خيرها. وكيف ترجى الحياة الوطنية من العامل على إماتتها، ويؤمل ثبوت الجنسية الأصلية من الساعي بإزالتها، فإنْ هذا إلا غرور. فيا موقدًا نارًا لغيرك ضوءها ... ويا حاطبًا في غير حبلك تحطب وخلاصة القول: أن التعليم النافع للوطن والبلاد هو ما تحيا به الشعائر الدينية بتهذيب الأخلاق وإصلاح الأعمال، وتقوى به الرابطة الجنسية والوطنية بإحياء اللغة العربية، ونقل جميع الفنون إليها بالتدريج، وجعل التعليم بها دون سواها، وبتمكين رابطة الأمة المصرية بالجامعة العثمانية، ومادام زمام التعليم بأيدي الأجانب يجذبونه كيف أرادوا، فلا يمكن أن نحصل إلا على خلاف هذه الرغائب، وهو استبدال حرية الفساد والفحش بآداب الدين، واللغة الإنكليزية أو الفرنسوية باللغة العربية، وتمزيق الوطنية والجنسية شذر مذر وبعد ذلك، إما أن يتجنس المتعلمون بجنسية معلميهم ومربيهم، وإما أن يكونوا عونًا لهم على مصالحهم، وفي كل ذلك إماتة للجنس، وتضييع للوطن الذي يراد إحياؤه وإعزازه بالتربية والتعليم. المصريون صِنفان: مسلمون وأقباط، وقد نهض الأقباط من سنين فألفوا الجمعيات، وعقدوا الشركات، فأنشؤوا المدارس الكثيرة لتعليم الأبناء والنبات متبعين في ذلك سنن الأمم المتمدنة، محافظين على شعائرهم الدينية، وحقوق جنسهم ووطنهم، مما يحمدهم عليه التاريخ، ويحفظ لهم فيه مجدًا مخلدًا، أوشك أن يعم التعليم أفراد هذا الصنف النشيط، فقد قدر بعض البصراء أنه لا تمضي خمس عشرة سنة وفيهم ذكر أو أنثى يجهل القراءة والكتابة، كل هذا ولم يكن للمسلمين غير جمعية خيرية واحدة لم تقدر على إنشاء أكثر من أربع مدارس حتى الآن. فما الذي منع المسلمين عن مجاراة جيرانهم ومواطنيهم مع امتزاجهم معهم امتزاج الماء بالراح؟ هل صدف بهم عن ذلك دينهم القائم على قاعدة حديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم) ، ما أجهل صاحب هذا الوهم بدين الإسلام، وما أبعده عنه، هل صدَّهم عن ذلك قلة الطَّوْل، (الغنى والعطاء) ، وفقد القوة والحول؟ كيف وهم أكثر عددًا، وأوفر مددًا، وأبسط يدًا، ولو بذلوا معشار ما ينفقون في احتفالات الأفراح والأحزان وضروب الترف والرفه على المعارف لكان كافيًا في تعميمها، هل حجبهم عن ذلك الجهل بما ينجم عنه من الفوائد، وما يترتب على فقده من الغوائل، أَنَّى وفيهم من العقلاء المنبهين، والفضلاء المرغبين، عدد ليس بقليل، ولا يحتاج فيما نحن فيه إلى أن تكون الأمة كلها عالمة، لأنه خلاف المفروض. إذًا ما هو السبب الصحيح، والعلة الحقيقية لهذا الأمر العظيم، والخطب الجسيم؟ يظهر لنا أن ذلك ناشئ عن علل كثيرة، لا محل لشرحها، وكلها ترجع إلى انقطاع الروابط والصلات التي ترتبط بها الجامعة العامة، وتبرّؤ الأمة من حولها وقوتها في جميع شؤونها ومصالحها الكلية إلى حول الهيئة الحاكمة وقوتها، ألم يأن لسُحُب الأوهام المتكاثفة أن تقشع، ولشمس الحقيقة المحتجبة أن تبرز وتسطع، أما حان للنفوس أن ترجع إلى رشادها، وللهمم المعقولة أن تحل من وثاقها؟ ، بلى إن لدينا ما يبشرنا بأن المصريين قد أحسوا بالقوة الإلهية المودعة في مجموع الشعب والأمة، وأنها أعلى من كل القوى والقدر الكونية، وطفقوا يستعملونها كما استعملها غيرهم. نبهتهم وخزات الحوادث الكونية فتنبهوا، وأزعجتهم الأخطار المحدقة بهم إلى العمل فعملوا. قرأنا في المؤيد الأغر الصادر في غرة صفر الخير رسالة من مكاتبه في أسيوط - فحواها أن سعادة الفاضل أحمد بك فائق مدير جرجا قد أهاب بنفوس أهل مديريته فهبت سراعًا، واستنفرها فنفرت خفافًا وثقالاً، بيَّن لهم فوائد التعليم ومزاياه ودعاهم إلى تأليف جمعية لهذا العمل الشريف، فلبوا طائعين، قال المكاتب: (وبدأ أعيان بندر جرجا في أول هذا العام بافتتاح مدرسة في بندرهم، ثم تلاهم أعيان طهط

حاجة البشر إلى الرسالة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حاجة البشر إلى الرسالة (تابع ما قبله) يحب الكلب سيده، ويخلص له، ويدافع عنه دفاع المستميت، لما يرى أنه مصدر الإحسان إليه في سداد عوزه، فصورة شبعه وريه وحمايته مقرونة في شعوره بصورة من يكفلها له، فهو يتوقع فقدها بفقده، فيحرص عليه حرصه على حياته، ولو أنه انتقل من حوزته إلى حوزة آخر وغاب عنه السنين، ثم رآه معرَّضًا لخطرٍ ما عادت إليه تلك الصور، يصل بعضها بعضاً، واندفع إلى خلاصه بما تمكنه القوة. ذلك لأن الإلهام الذي هُدي به شعور الكلب ليس مما تتسع به المذاهب، فوجدانه يتردد بين الإحسان ومصدره، وليس له وراءهما مذهب، فحاجته في سد عوزه هي حاجته إلى القائم بأمره، فيحبه محبته لنفسه، ولا يبخس منها شوب التعاوض في الخدمة. أما الإنسان - وما أدراك ما هو - فليس أمره على ذلك، ليس ممن يلهم ولا يتعلم، ولا ممن يشعر ولا يتفكر، بل كان كماله النوعي في إطلاق مداركه عن القيد ومطالبه عن النهايات، وتسليمه على صغره، إلى العالم الأكبر على جلالته وعظمه، يصارعه بعوامله وهي غير محدودة، وإيداعه من قوى الإدراك والعمل ما يعينه على المغالبة، ويمكنه من المطالبة، بسعيه ورأيه، ويتبع ذلك أن يكون له في كل كائن مما يصل إليه لذة، وبجوار كل لذة ألم ومخافة، فلا تنتهي رغائبه إلى غاية، ولا تقف مخاوفه عند نهاية {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: 19-21) ، تفاوتت أفراده في مواهب الفهم، وفي قوى العمل، وفي الهمة والعزم، فمنهم المقصر ضعفًا أو كسلاً المتطاول في الرغبة شهوةً وطمعًا، يرى في أخيه أنه العون له على ما يريد من شؤون وجوده، لكنه يذهب من ذلك إلى تخيل اللذة في الاستْئثار بجميع ما في يده ولا يقنع بمعارضه في ثمرة من ثمار عمله، وقد يجد اللذة في أن يتمتع ولا يعمل ويرى الخير في أن يقيم مقام العمل، إعمال الفكر في استنباط ضروب الحيل ليتمتع وإن لم ينفع، ويغلب عليه ذلك، حتى يخيل له أن لا ضير عليه لو انفرد بالوجود عمن يطلب مغالبته، ولا يبالي بإرساله إلى عالم العدم بعد سلبه، فكلما حثه الذكر والخيال إلى دفع مخافة أو الوصول إلى لذيذ، فتح له الفكر بابًا من الحيلة، أو هيأ له وسيلة لاستعمال القوة، فقام التناهب مقام التواهب، وحل الشقاق محل الوفاق، وصار الضابط لسيرة الإنسان إما الحيلة وإما القهر. هل وقف الهوى بالإنسان عند التنافس في اللذائذ الجسدانية، وتجالد أفراده طمعاً في وصول كلٍّ إلى ما يظنه غاية مطلبه، وإن لم تكن له غاية؟ كلا ولكن قدرالله له أن تكون له لذائذ روحانية، وكان من أعظم همه أن يشعر بالكرامة له في نفس غيره ممن تجمعه معهم جامعة ما حسبما يمتد إليه نظره، وقد بلغت هذه الشهوات حداً من الأنفس كادت تتغلب على جميع الشهوات، وأخذت لذة الوصول إليها من الأرواح مكانًا لا تصعد إليه سائر اللذات، وهي من أفضل العوامل، في إحراز الفضائل، وتمكين الصلات بين الأفراد والأمم، لو صرفت فيما سِيقتْ لأجله 0 ولكن انحرف بها السبيل كما انحرف بغيرها، للأسباب التي أشرنا إليها من التفاوت في مراتب الإدراك والهمة والعزيمة، حتى خيل للكثير من العقلاء أن يسعى إلى إعلاء منزلته في القلوب بإخافة الآمن، وإزعاج الساكن، وإشعار القلوب رهبة المخافة، لا تَهَيُّب الحرمة. هل يمكن مع هذا أن يستقيم أمر جماعةٍ بُني نظامهم وعلق بقاؤهم في الحياة على تعاونهم، ورفد بعضهم بعضًا في الأعمال؟ أَوَلا تكون هذه الأفاعيل السابق ذكرها سبباً في تفانيهم؟ لا ريب أن البقاء على تلك الأحوال من ضروب المُحال، فلا بد للنوع في حفظ بقائه من المحبة أو ما ينوب منابها. لجأ بعض أهل البصيرة في أزمنة مختلفة إلى العدل وظنوا كما ظن بعض العارفين ونطق به في كلمة جليلة: إن العدل نائب المحبة، نعم، لا يخلو القول من حكمة، ولكن مَن الذي يضع قواعد العدل، ويحمل الكافة على رعايتها؟ قيل: ذلك هو العقل، فكما كان الفكر والذكر والخيال ينابيع الشقاء، كذلك تكون وسائل السعادة وفيها مستقر السكينة، وقد رأينا أن اعتدال الفكر وسعة العلم، وقوة العقل وأصالة الحكم تذهب بكثير من الناس إلى ما وراء حجب الشهوات، وتعلو بهم فوق ما تخيله المخاوف، فيعرفون لكل حق حرمته، ويميزون بين لذة ما يفنى ومنفعة ما يبقى، وقد جاء منهم أفراد في كل أمة وضعوا أصول الفضيلة، وكشفوا وجوه الرذيلة، وقسموا أعمال الإنسان إلى ما تحضر لذَّته وتسوء عاقبته، وهو ما يجب اجتنابه، وإلى ما قد يشق احتماله، ولكن تسر مغبّاته، وهو ما يجب الأخذ به، ومنهم من أنفق في الدعوة إلى رأيه نفسه وماله، وقضي شهيدًا في دعوة قومه إلى ما يحفظ نظامهم. فهؤلاء العقلاء هم الذين يضعون قواعد العدل، وعلى أهل السلطان أن يحملوا الكافة على رعايتها، وبذلك يستقيم أمر الناس. هذا قول لا يجافي الحق ظاهره، ولكن هل سمع في سيرة الإنسان، وهل ينطبق على سنته أن يخضع كافة أفراده أو الغالب منهم لرأي العاقل، لمجرد أنه الصواب؟ وهل كفى في إقناع جماعة منه كشعب أو أمة قول عاقلهم: إنهم مخطئون، وإن الصواب فيما يدعوهم إليه، وإن أقام على ذلك من الأدلة ما هو أوضح من الضياء، وأجلى من ضرورة المحبة للبقاء؟ كلا لم يعرف ذلك في تاريخ الإنسان، ولا هو مما ينطبق على سنته، فقد تقدم لنا أن سبب الشقاء هو تفاوت الناس في الإدراك، وهم مع ذلك يدعون المساواة في العقول، والتقارب في الأصول، ولا يعرف جمهورهم من حال الفاضل، إلا كما يعرف من أمر الجاهل، ومن لم يكن في مرتبتك من العقل، لم يذق مذاقك من الفضل، فمجرد البيان العقلي لا يدفع نزاعًا ولا يرد طمأنينة، وقد يكون القائم على ما وضع من شريعة العقل ممن يزعم أنه أرفع من واضعها فيذهب بالناس مذهب شهواته، فتذهب حرمتها ويتهدم بناؤها، ويفقد ما قصد بوضعها. أضف إلى ما سبق من لوازم نزعات الفكر ونزغات الأهواء شعورًا هو ألصق بالغريزة البشرية وأشد لزومًا لها. كل إنسان مهما علا فكره، وقوي عقله، أو ضعفت فطنته، وانحطت فطرته يجد نفسه أنه مغلوب لقوة أرفع من قوته، وقوة ما آنس منه الغلبة عليه مما حوله، وأنه محكوم بإرادة تُصرِّفه تصرُّف ما هو فيه من العوالم في وجوه قد لا تعرفها معرفة العارفين، ولا تتطرف إليها إدارة المختارين، تشعر كل نفس أنها مسوقة لمعرفة تلك القوة العظمى، فتطلبها من حسها تارة، ومن عقلها أخرى، ولا سبيل لها إلا الطريق التي حددت لنوعها، وهي طريق النظر، فذهب كل في طلبها وراء رائد الفكر - فمنهم من تأولها ببعض الحيوانات لكثرة نفعها أو شدة ضررها، ومنهم من تمثلت له في بعض الكواكب لظهور أثرها، ومنهم من حجبته الأشجار والأحجار لاعتبارات له فيها، ومنهم من تبدت له آثار قوى مختلفة في أنواع متفرقة، تتماثل في أفراد كل نوع وتتخالف بتخالف الأنواع، فجعل لكل نوع إلهًا، ولكن كلما رق الوجدان، ولطفت الأذهان، ونفذت البصائر، ارتفع الفكر، وجلت النتائج، فوصل من بلغ به علمُه بعضَ المنازل من ذلك إلى معرفة هذه القدرة الباهرة، واهتدى إلى أنها قدرة واجب الوجود. غير أن من أسرار الجبروت ما غمض عليه، فلم يسلم من الخبط فيه، ثم لم يكن له من الميزة الفائقة في قومه ما يحملهم على الاهتداء بهديه، فبقي الخلاف ذائعًا، والرشد ضائعاً، اتفق الناس في الإذعان لما فاق قُدَرَهم، وعلا متناول استطاعتهم، لكنهم اختلفوا في فهم ما تلجئهم الفطرة إلى الإذعان له، اختلافًا كان أشد أثرًا في التقاطع بينهم، وإثارة أعاصير الشقاق فيهم، من اختلافهم في فهم النافع والضار لغلبة الشهوات عليهم. إن كان الإنسان قد فُطر على أن يعيش في جملة، ولم يمنح مع تلك الفطرة ما منحه النحل وبعض أفراد النمل مثلاً، من الإلهام الهادي إلى ما يلزم لذلك، وإنما ترك إلى فكره يتصرف به على نحو ما سبق، كما فطر على الشعور بقاهر تنساق نفسه بالرغم عنها إلى معرفته، ولم يفض عليه مع ذلك الشعور عرفانه بذات ذلك القاهر، ولا صفاته، وإنما ألقى به في مطارح النظر، تحمله الأفكار في مجاريها، وترمي به إلى حيث يدري ولا يدري، وفي كل ذلك الويل على جامعته، والخطر على وجوده، أفهل مُنِيَ هذا النوع بالنقص ورُزِئَ بالقصور عن مثل ما بلغه أضعف الحيوانات وأحطها في منازل الوجود؟ نعم هو كذلك لولا ما آتاه الصانع الحكيم من ناحية ضعفه. الإنسان عجيب في شأنه يصعد بقوة عقله إلى أعلى مراتب الملكوت، ويطاول بفكره أرفع معالم الجبروت، ويُسامَى بقوته ما يعظم عن أن يسامي من قوى الكون الأعظم، ثم يصغر ويتضاءل وينحط إلى أدنى درك من الاستكانة والخضوع متى عرض له أمرٌ مّا لم يعرف سببه، ولم يدرك مَنْشَأه، ذلك لسرٍّ عرفه المستبصرون، واستشعرته نفوس الناس أجمعين. من ذلك الضعف قِيدَ إلى هداه، ومن تلك الضِّعَة أُخِذَ بيده إلى شرف سعادته، أكمل الواهب الجواد لجملته ما اقتضت حكمته في تخصيص نوعه بما يميزه عن غيره أن ينقص من أفراده، وكما جاد على كل شخص بالعقل المصرف للحواس، لينظر في طلب اللقمة وستر العورة والتوقي من الحر والبرد، جاد على الجملة بما هو أَمسّ بالحاجة في البقاء، وآثر في الوقاية من غوائل الشقاء، وأحفظ لنظام الاجتماع، الذي هو عماد كونه بالإجماع، منّ عليه بالنائب الحقيقي عن المحبة، بل الراجع بها إلى النفوس التي أقفرت منها، لم يخالف سنته فيه من بناء كونه على قاعدة التعليم والإرشاد، غير أنه أتاه مع ذلك من أضعف الجهات فيه، وهي جهة الخضوع والاستكانة، فأقام له من بين أفراده مرشدين هادين، وميزهم من بينها بخصائص في أنفسهم، لا يشركهم فيها سواهم، وأيد ذلك زيادة في الإقناع بآيات باهرات تملك النفوس، وتأخذ الطريق على سوابق العقول، فيستخذي الطامح، ويذل الجامح، ويصطدم بها عقل العاقل فيرجع إلى رشده، وينبهر لها بصر الجاهل فيرتد عن غيه، يطرقون القلوب بقوارع من أمر الله، ويدهشون المدارك ببواهر من آياته، فيحيطون العقول بما لا مندوحة عن الإذعان له، ويستوي في الركون لما يجيئون به المالك والمملوك، والسلطان والصعلوك، والعاقل والجاهل، والمفضول والفاضل، فيكون الإذعان لهم أشبه بالاضطراري منه بالاختياري النظري، يعلمونهم ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، وما أراد أن يعلموه من شؤون ذاته وكمال صفاته، وأولئك هم الأنبياء والمرسلون - فبعثة الأنبياء صلوات الله عليهم من متممات كون الإنسان، ومن أهم حاجاته في بقائه، ومنزلتها من النوع، منزلة العقل من الشخص، نعمة أتمها الله لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وسنتكلم عن وظيفتهم بنوع من التفصيل فيما بعد. اهـ

الحرب بين أمريكا وأسبانيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب بين أمريكا وأسبانيا لقد طال على الحرب أمد المطاولة، وكاد يقع اليأس من المناجزة والملاحمة، إلا ما كان ويكون من المناوشات الصغرى التي تقع بين شراذم الأمريكيين الذين نزلوا إلى سنتياغو وبين الأسبانيين، والحرب بينهما سجال، ولقد كان الفلج أخيرًا للجنود الأسبانية، كما ترى في الأنباء البرقية. أما حركات الأساطيل فقد علمت أن براعة الأميرال سرفيرا الأسباني في قطع عرض القاموس العظيم (الأتلانتيك) تحت حجاب الخفاء، قد انتهت بحصر أسطوله في ميناء سنتياغو، وأما أسطول الأميرال كمارا الأسباني، فقد وصل أمس إلى بورسعيد قاصدًا جزائر فيلبين من طريق السويس الأمين. وقد ورد على جريدة المقطم رسالة برقية من بورسعيد، بأنه صدر الأمر إلى ولاة الأمور فيها باتخاذ التدابير اللازمة لمنع الأسطول من شحن الفحم منها، حتى تأتيهم أوامر أخرى بذلك، وقد ذكرت جريدة السلام (أن من شروط ترعة السويس أن لا يصح لدوارع إحدى الدول المحاربة أن تأخذ فحمًا من بورسعيد إلا مقدار ما يكفيها للوصول إلى نقطة الحرب، أي أنه لا يصح لها أن تأخذ فحمًا وتحارب به بعد وصولها؛ ولذلك فإن أسطول أسبانيا إذا مر بترعة السويس فلا يأخذ منها إلا كفاية وصوله فقط، ثم تنقطع بعد ذلك المواني التي تعطيه الفحم؛ لأن إنكلترا والدولة العلية وسواهما معتزلة الحرب، فلا تمده بشيء، والمرجح أن هذا الأسطول سيتضايق جدًّا إلا إذا صحب معه سفنًا خاصة مشحونة بالفحم، وعلى هذا ربما كانت عاقبة هذا الأسطول شرًّا من عاقبة ذلك، والله أعلم بمصير الأمور. أخبار بريد أوروبا عن الحرب متعارضة: نفي وإثبات ونقض وإبرام، والمتفق عليه أن جزائر فيلبين التي يقصد أسطول كامارا إغاثتها قد تفاقمت خطوبها، وعظمت كروبها وأضر بمنلّا حصار الثائرين، وقد أضوى الأسبانيين الجوع فخارت قواهم، وخانتهم عزائمهم، وقد طلب الأميرال ديوي الأميركي من حكومته نجدة، فسيرتها إليه، ولا بد أن تصل قبل وصول أسطول كامار، حتى إذا كان لديه من الفحم ما يبلغه موضع قصده لا يرجى أن يستفيد من سعيه وكده، وربما وجد الأسطول ديوي له بالمرصاد، فكان كما قيل: مثل الغريق نجا ووافى ساحلاً ... فإذا الأسود روابض بجواره أما أخبار كوبا: فقد نقل أن الأسبان في رضا عنها، وأن الأميركان أجَّلوا الهجوم العام عليها إلى الخريف القادم، حيث يقل فتك الحمى وإنهم يكتفون الآن بالاستيلاء على سنتياغو وأسر أسطول سرفيرا، ولذلك أرسل الأسبانيون إليها جيشًا من هفانا بقيادة الجنرال باندو للدفاع عنها، كما أن الأميركيين أرسلوا نحو عشرة آلاف رجل إمدادًا للجنرال شفتر الذي أنزل جنوده إليها، والثائرون يمدون هذا ويصدون ذاك. إن الأسبانيين برهنوا على بسالتهم وثباتهم في جميع مواقف الحرب، ولكن خصمهم أكثر منهم عَددًا وعُددًا، وأهالي البلاد في مواقع الحرب يناوئونهم ويمالئون خصمهم، وهذه عواقب الجهل بحالة العصر، وكون النجاح فيه منوطًا بالعلم والثروة أكثر مما هو منوط بالبأس والشدة. ((يتبع بمقال تالٍ))

مراكش

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مراكش جاء في جريدة السلام الغراء ما نصه: تفيد الأخبار الواردة من مراكش أن حالها في اضطراب شديد، وهي تتأخر كل يوم تأخُّرًا سريعًا، سيفضي إلى اضمحلالها، وذلك لشدة تداخل الأجانب فيها ومعاكستها لهم، حتى أصبح ذلك همها الوحيد، ولم يعد لها صناعة سوى دفع ديات القتلى، ومفاوضة الحكومات الأجنبية في شأنهم، ذلك عدا ما ينتابها من الثورات الداخلية التي لا تكاد تنقضي بالرغم من صرامة الحكومة، وتعليقها رءوس القتلى على أسوار المدن أو حملها على الرماح وعرضها على الناس في الشوارع، ويظهر أن نصيب هذه المملكة التعيسة سيكون كنصيب الجزائر وتونس ومصر، فيكون هذا الخط الجنوبي الطويل الممتد من بورسعيد إلى طنجة مصابًا بعلة واحدة، وهي الاحتلال الأجنبي، ولا يبعد من بعد نهاية هذه الحرب الأميركية أن تتفرغ الأذهان إلى شأن مراكش لمجاورتها لأسبانيا، فيقضي عليها القضاء الأوروبي كجارتها، ولكننا نظن أن امتلاك مراكش كلها صعب جدًّا إلا بدهر طويل؛ لأن أكثر أهلها محاربون ذوو بأس شديد وأنفة عربية، ولهم من صعوبة السير في بلادهم ومنعة معاقلهم الطبيعية ما يرد عنهم كل يد، ولكن إذا كان لابد من التداخل فيها فلا يكون إلا بامتلاك شواطئها وثغورها، ولعل هذا هو المهم عند أوروبا، أما هذه القسمة فالأرجح أنها تكون لفرنسا؛ لما لها من شفاعة الجوار، فضلاً عما يقال من أنها تسعف أسبانيا الآن لتتنازل لها عما يخصها من شفاعة الجوار، وسيكشف لنا المستقبل ذلك بعد قريب. اهـ (المنار) أما نحن فنقول: إن الأوربيين لا تقف أمامهم المصاعب، والأمم الهمجية لا تقدر على مناوأة الأمم المتمدنة، وإذا دام أهل مراكش على جهلهم بالفنون العصرية التي عليها مدار العمران اليوم، تقليدًا لآبائهم، وإبقاءً لما كان على ما كان - فلا بد أن يغمرهم طوفان أوروبا كما غمر جيرانهم، وإذا وفق الله مولاي عبد العزيز، وفتحت عين بصيرته، فرأى أن الاتباع للأولين؛ لأنهم أوَّلون مذموم غير محمود، سواء في ذلك نظر الشرع والعقل، وإنما هدانا الشرع ودلنا العقل على أن نعتبر بأحوال الأمم في صعودها وهبوطها، وأن نستمع القول فنتبع أحسنه، لا أن نقول {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) إذا تبصر بهذا واعتبر بما بين يديه وما خلفه، واتعظ بما عن يمينه وشماله - فلا شك أنه يندفع بهمته كلها إلى التربية والتعليم اللذين تقضيهما حالة العصر، ولا يتم له هذا إلا بالاستعانة بسيدنا ومولانا أمير المؤمنين والسلطان الأكبر لجميع المسلمين؛ إذ لا يجد معلمين للفنون العسكرية والمدنية والاقتصادية من أهل الإسلام إلا عند الدولة العلية، وحالة بلاده لا تقبل غير المسلمين، الذين لم يصطبغوا بالصبغة الأجنبية، وإذا اندفع بهمته إلى ما ذكرناه، وأمده مولانا السلطان الأعظم بالمعلمين البارعين، وهم كثيرون، لا سيما في الآستانة العلية - يرجى أن يندفع ذلك الطوفان الذي يتهدد بلاده، وما هو إلا النفوذ الأجنبي الذي غمر جيرانه. والله الموفق وبه المستعان.

مشاكل الدول

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشاكل الدول (فرنسا) : في شغل شاغل من تأليف وزارتها، فلقد طال الأمد على انحلالها، ولم يتيسر لأحد ممن عهد إليهم رئيس الجمهورية بتأليفها أن يؤلفها، وفي ذلك غض من مقام هذه الأمة، ودليل على أن الشأو البعيد الذي بلغته من التمدن لم يقو على الخلاف والشقاق المتأصل فيها، كما أن فيه مدحة لها بانتظام شؤونها الإدارية، بحيث تستغني عن الحكومة بتهذيبها زمنًا مديدًا. (إيطاليا) : لم تزل في قلاقل ومشاكل في داخليتها، ولم تنجح في تأليف وزارة تحفظ النظام وتعيد الالتئام، ولعمري إن التلميذ المصري لم يبعد عن الصواب في الحكم عليها بالسقوط من عداد الدول العظام، منذ محاربتها للحبشة، سئل ذلك التليمذ عند امتحانه في فن تقويم البلدان (الجغرافيا) في إحدى المدارس الأميرية عن عدد الدول العظام ومن هن؟ فقال: هن روسيا والدولة العلية وإنكلترا وفرنسا وألمانيا وأوستريا. فقيل له: لم ذكرت الدولة العلية وأسقطت إيطاليا؟ فقال: ما معناه: إن إيطاليا أسقطتها محاربة الحبشة، حيث تغلبت عليها دولة همجية، والدولة العلية أظهرت عظمتها الحرب اليونانية حيث بهرت بقوتها وانتظامها جميع الدول والأمم. (روسيا) : حملت قساوة الأحكام الروسية بعض مسلمي فرغانة على التألب على الحكومة، ومصادمة رجالها، فطير مكاتب روتر الأخبار في البرق بأن ذلك ناشئ عن تعصب المسلمين، دفعهم إليه نشأة السرور بانتصار الدولة العلية على اليونان. ثم بينت الجرائد الأوروبية أن الحركة كانت بدسيسة جماعة من رجال الإنكليز جاءوا من الهند وغروا بعض المسلمين بلها مُوهِميهمْ أن ذلك يخفف عنهم وطأة الأحكام الروسية الثقيلة. ولعمري إنه لا يعقل أن شرذمة من المسلمين تحاول الانتقام من الروس الجبارين لمخالفتهم لهم في الدين. (الصين) : قد فتحت هذه الدولة الشرقية بابًا جديدًا لامتلاك الغربيين بلاد الشرق تحت أسماء لا تدل على الامتلاك، وهو باب الإجارة، فقد آجرت ثغورها لألمانيا وروسيا وإنكلترا، فأمتلكوها باسم الإجارة، وعظم نفوذهم، وكثر تداخلهم فيما لم يستأجروه من تلك البلاد، أراد الإنكليز أن ينظموا لها شؤون عساكرها البرية والبحرية بضباط منهم يستلمون زمامها، وكان نقل أن الصين ترفض هذه المنحة، فجاء بريد أوروبا يحمل إلينا تكذيب اللورد سالسبوري لما نقل من قبل ويثبت أنها لم ترفض الطلب، وإنما تأبى إطلاق التصرف لضباط الإنكليز، وتجعل سلطتهم محدودة. وقد أنبأنا البرق أخيرًا باحتجاج وكيل روسيا في الصين على القرض الذي عقدته حكومتها مع مصرف (بنك) هونغ كنغ لمد سكة الحديد من بكين إلى كين وأن نظارة الخارجية الصينية أجابت روسيا بأنها تنازلت باستئجارها بور آرثر عن التعرض لشؤون الصين الداخلية، وجهلت هذه الدولة الخرقاء أن وعود السياسة لا وفاء لها وأن إيجارها سيكون سبب بوارها. (الدولة واليمن) : هولت بعض الجرائد في حادثة اليمن، حتى زعمت أن الثوار حاصرت صنعاء، وأن زعيم العصاة قام يطالب بالخلافة، وأن الإنكليز يمدونهم، وقد بينت جرائد الآستانة العلية من قبل أن الاضطراب في اليمن نشأ عن القحط، وامتد بعض الامتداد، فبادر لعلاجه مولانا السلطان الأعظم، أيده الله تعالى، بإرسال القوت؛ لإشباع الجائع، والعساكر؛ لتأديب الشاغب، وقد جاء في أخبار الآستانة: أن الدولة العلية قررت إرسال 16 ألف عسكري لليمن لإعادة الأمن، ومن يستغرب حصول الشغب في اليمن من جراء القحط، وقد حصل في إيطاليا أضعاف أضعافه، على أنه ورد في أنباء اليمن الرسمية أن زعيم الفتنة المسمى: ناصر العمر قد خضع واستسلم للحكومة، وقد أرسل مع ابنه حمود وعشرة من مشايخ القبائل إلى صنعاء، وهذا يعد مِنْ يُمْنِ طالع مولانا أمير المؤمنين وتوفيقاته الإلهية. (اليونان) : لم تطأ أقدام اليونانيين أرض غولوس بعد جلاء الجنود المظفرة عنها، حتى طفقوا يعيثون في الأرض فسادًا، من هدم المساجد، وقتل المسلمين، وحرق جثث البعض منهم، ونحن نستلفت الأنظار إلى التفرقة بين عساكرنا المهذبة وما كان من أدبها مع انتصارها، وبين هؤلاء السفهاء وماذا يفعلون، مع خذلانهم، وانكسارهم، ولا نملأ الدنيا صراخًا وعويلاً بالتنديد بالقوم، ورميهم بالتعصب الذي ترمينا به جرائدهم، إذا قلنا: بلادنا أو.. وإنما نسأل كل عاقل عن رأيه في بغي هؤلاء، لو انتصروا هل يصل خياله إلى تصوره وتحديده؟ وقد استاء الباب العالي لذلك جدًا، وأرسل مذكرة شديدة اللهجة إلى حكومة اليونان، وأخبر سفراء الدول بالأمر رسميًّا.

خلاصة البهجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خلاصة البهجة مؤلف في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية، مختصر من كتاب يحيى بن أبي بكر العامري التهامي، المسمى: (بهجة المرام في سيرة سيد الأنام) ، اختصره الشاب الناشئ في العلم والعبادة صديقنا الشيخ مصطفَى وهيب أفندي البارودي الطرابلسي، وقد ذكر مؤلفه: أنه التزم فيه صحيح الأخبار، وحذف منه ما هو بالفقه والتاريخ أشبه، والكتاب سهل العبارة، قريب المتناول، أجدر به أن يقرأ في المكاتب الإسلامية الابتدائية، فإن معرفة السيرة النبوية من مهمات الدين، وربما لا يوجد مؤلف مختصر أليق بالغرض المذكور من هذا الكتاب، وقد طبع في المطبعة الأميرية على نفقة صاحب الدولة مختار باشا الغازي، بإشارة الأستاذ المعتقد صاحب الفضيلة الشيخ علي أفندي العمري الشهير، جزى الله تعالى الجميع خيرًا بمنِّه وكرمه.

اختيار الوزراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اختيار الوزراء جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه: حكي أن المأمون رضي الله عنه قال - في اختيار وزير -: إني التمست لأموري رجلاً جامعًا لخصال الخير، ذا عفة في خلائقه، واستقامة في طرائقه، قد هذبته الآداب، وحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها، وإن قلد مهمات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم، وينطقه العلم، وتكفيه اللحظة، وتغنيه اللمحة، له صولة الأمراء، وأناة الحكماء، وتواضع العلماء، وفهم الفقهاء، إن أحسن إليه شكر، وإن ابتلي بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترق قلوب الرجال بخلابة لسانه، وحسن بيانه، وقد جمع بعض الشعراء هذه الأوصاف، ووصف بعض وزراء الدولة العباسية بها فقال (الوافر) : بديهته وفكرته سواء ... إذا اشتبهت على الناس الأمور وأحزم ما يكون الدهر يومًا ... إذا أعيا المشاور والمشير وصَدْر فيه للهمّ اتساع ... إذا ضاقت من الهم الصدور فهذه الأوصاف إذا كملت في الزعيم المدبر- وقل ما تكمل - فالصلاح بنظره عام، وما يناط برأيه وتدبيره تام، وإذا اختلت فالصلاح بحسبها يختل، والتدبير على قدرها يعتل، ولئن لم يكن هذا من الشروط الدينية المحضة، فهو من شروط السياسة الممازجة لشروط الدين، لما يتعلق بها من مصالح الأمة واستقامة الملة. اهـ

إلى أي تعليم وتربية نحن أحوج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إلى أي تعليم وتربية نحن أحوج؟! [*] إذا نظرنا إلى ما بين أيدينا من لوازم حياتنا ضرورية وحاجية وكمالية، ألفينا أننا عالة على أوروبا في كل شيء منها، إما بالذات وهو الأكثر، وإما بالواسطة وهو الأقل، فمن يخيط منا ثوبه إنما يخيطه بالآلات والأدوات والخيوط الأوروبية، ونسيج الثوب من أوروبا في الغالب، وما عساه يوجد من أداة وآلة للقطع أو الحرث والعذق من صنع أهل البلاد، فحديدها مجتلب من أوروبا، إذ لا يوجد في بلادنا من يستخرج الحديد من معادنه، ويهيئه لعمل الآلات منه، بَلْهَ (أي اترك وهي بمعنى فضلاً عن كذا) البواخر البحرية بأنواعها، والمركبات البرية وأصنافها، وسائر المعامل والمصانع، وما فيها من الآلات البخارية والكهربائية. السواد الأعظم منا ينظرون إلى هذه الأعمال والمصنوعات فيقولون: إن الإفرنج عقولهم في عيونهم وأيديهم، ونحن عقولنا في رءوسنا وقلوبنا، يعنون أن عقولنا لا يمكن أن تنشأ عنها أعمال عظيمة؛ لأنها لم تكن في أعضاء عاملة. تلغط بهذا القول عامتنا، ولو أن لهم عقولاً لعلموا مواضعها ووظائفها، واستنزلوها من رءوسهم إلى أعينهم وأيديهم وأرجلهم، وجعلوها المحرك لكل أعضائهم وجوارحهم، والمدبر لجميع منافعهم ومصالحهم، أستغفر الله؛ إن وجود الشيء لا يقتضي العلم به، ولو بوجه ما، فكيف يقتضي كمال العلم والحكمة بالوصول من كل شيء لثمرته، والإشراف من كل مبدأ على غايته؟ هذا لا يهتدى إليه إلا بكمال التعليم والتربية على العمل، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وأما خاصتنا ونبهاؤنا فإنهم ينظرون من تلك الأعمال العظيمة إلى مناشئها ومبادئها، فيرون أنها ثمرة علوم وفنون كثيرة رياضية وطبيعية واقتصادية ... إلخ، يتأملون فيرون أن عمل الإبرة يحتاج فيه إلى كثير من هذه العلوم والفنون، فضلاً عن الجواري المنشآت في البر والبحر ونحوها من المصنوعات العظيمة التي قامت بها المدنية الحادثة، وكل أمة تنكبتها فهي معرضة للزوال. ربما طاف في نفوس هؤلاء طائف الغيرة على بلادهم وقومهم، وفكروا في مجاراتهم للأمم القوية، وكيف تكون هذه المجاراة وبماذا تكون؟ لكن التفكير من غير تشمير، ينتهي في الغالب إلى سوء المصير، انتهى بالأكثرين إلى اليأس والقنوط، الذي هو أدوأ الأمراض النفسية وأقتلها. رأوا أننا نحتاج في هذه المجاراة إلى المال الكثير لإنشاء مدارس للفنون وللصنائع، وإلى كثير من المعلمين الناصحين لأجل تعميم ذلك في البلاد، ولا مال عندنا يفي بالغرض، ولئن وجد المال عند قوم منا فهم لا يبذلون للمدارس، لجهلهم بفائدة العلوم والفنون، ولا للصنائع؛ لعدم ثقتهم بنجاح العمل، ثم برواج المصنوع الوطني إذا نجح مع معارضة مصنوعات أوروبا له، وهي أجود صنعاً وأرخص ثمناً، لقلة النفقات ووفرة الآلات، وكثرة المهرة من العمال، ولأن ذويها أقدر على نشرها في الممالك الدانية والقاصية بالتجارة، وأرضى باليسير من الربح، لكثرة المال والثقة بالمآل. ولا يوجد عندنا من المعلمين الوطنيين معشار ما نحتاج إليه لتعميم التعليم اللازم، ولا ثقة لنا بالأجانب؛ لأنهم لطمعهم في بلادنا وللعداوة السياسية التي بيننا وبينهم، لا يمكن أن ينصحونا ويعلمونا ما نستقل به عنهم ونقطع طرق المطامع عليهم، بل ننازعهم أسباب الحياة والبقاء، ونضارعهم في التقدم والارتقاء. وما يؤمنهم إذا ساهمناهم في صنائعهم وساميناهم في معارفهم أننا نسمُوهم ونَبَذّهم (نعلوهم ونغلبهم) ، وقد كنا نحن السابقين في ميادين المدنية إلى كل اكتشاف في العلم واختراع في الصناعة، وقد أخذوا عنا فأربوا علينا وآثارنا عندهم تدل علينا. هذا ما يحملهم على استبدال الغش بالنصيحة، وسلوك سبل الإفساد عوضًا عن انتهاج طريق الإصلاح، ولقد انخدع بهم بعض أسلافنا من قبل، فألقوا إليهم من أزمة التعليم، ومهدوا لصناعتهم وتجارتهم الطرق، فكانوا وبالاً على كل بلاد تبوءوها، استأثروا بجميع منافعها وعمدوا إلى ما فيها من لغة وجنسية وأدب ودين ونفوذ حكومة وصناعة وتجارة، فأماتوا بعض ذلك، وأضعفوا البعض الآخر، فمنها ما فقد استقلاله بالكلية، ومنها ما ينتظر ذلك، وكانت تلك عاقبة المغرورين. هذا ما أوقع أكثر المفكرين في هاوية اليأس، وقطع بهم أسباب الرجاء، نظروا إلى أوروبا في نهايتها، وإلى أهل بلادهم في بدايتهم (على أنهم لم يبدءوا بعمل، وهذه البداية مفروضة) ، فقالوا: لا يبلغ الظالع شأو الضليع، ولا يمكن أن يسابق الفُسْكل (الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل) . المُجلِّي (أول خيل الحلبة في السباق) ، ثم نكصوا على أعقابهم، بل نكسوا على رءوسهم مسجلين على أمتهم الهبوط. وعدم الرجاء بالنهوض إلى أبد الأبيد، أما المتفكرون الأقلون عددًا، والأكثرون هدًى ورشدًا، الذين لم يسمح لهم يقينهم باليأس من رَوْح الله والقنوط من رحمته، فقد ردوا على أولئك قائلين: من طلب الغاية في المبدأ لا ... يؤب إلا بالقنوط والشقا ومن يسِرْ سيرًا طبيعيًّا لها ... يبلغ بالتوفيق منها المنتهى فيجب أن نطلب الأمر في إبانه، ونأخذه بربانه وأوله) ، ولا نحتاج في هذا أن نساهم الأوروبي في اكتشافه واختراعه من أول الأمر، بل نحن أحوج إلى مساهمته في ما هو أفيد من هذا وأسهل من ضروب التربية والتعليم، وهو التعليم الذي لا يتوقف على الآلات والأدوات، ولا يحتاج فيه إلى الأساتذة والمعلمين من المكتشفين والمخترعين، والتربية التي نستغني فيها عن الأظآر والمربيات الأوروبيات. نحن أحوج إلى التربية والتعليم اللذين يشعران قلوبنا معنى الأمة والوطن والجنس، إذ لسنا الآن إلا أفرادًا متبددين متفرقين متنافرين متخاذلين متدابرين متنازعين متباغضين، لا جامعة تجمعنا، ولا رابطة تضمنا وتربطنا، لا يحن قريب لقريب، ولا يرعى حبيب ود حبيب، ولا يرقب أحد في آخر إلاًّ ولا ذمة، وانتهى بنا الأمر إلى أن وضع لنا بعض المحققين في علم الاجتماعي البشري هذه القاعدة، وهي أن العداوة والبغضاء فينا مرتبة على نسبة القرب، فهي على أشدها للأقرب، فالقريب فالبعيد فالأبعد. لا جرم أن هذا يكاد يكون خروجًا عن البشرية، وهبوطًا إلى أخس أنواع الحيوان الأعجم، كالسمك الذي يأكل بعضه بعضًا، فهل نحن مع هذه الحالة أمة، ولا يكون مجموع الأفراد أمة إلا إذا كان كل فرد منهم يشعر في نفسه بأن منزلته من سائر الأفراد منزلة يده أو عينه مثلاً من سائر بدنه، ولسنا كذلك كما نعلم ويعلم الناس أجمعون. هل لنا وطن نعمل لترقيته وإعلاء شأنه، ونحتاج للفنون والصنائع لكي نستعين بها على ذلك، أنَّى والعمل للوطن من خواص الأمم المجتمعة لا الآحاد المتفرقة؟ هل لنا لغة نحافظ عليها فنجتهد في نقل العلوم إليها؟ كيف والمتفرغون للغتنا الشريفة يستغرقون العمر في البحث عن عوارض الألفاظ التي وضعها النحاة والصرفيون، فيتعلمون اللغو لا اللغة، ومن يقضي بضع عشرة سنة ليعلم أن (زوايا) ما صارت زوايا إلا بعد خمسة أعمال، هل يتفرغ لمعرفة زوايا الأعمال الحقيقية وهي ثلاث لا خمس؟ وهل ترك لغتنا وتعلم الفنون باللغات الأجنبية فيه حياة لنا وسعادة لأمتنا، إذا أردنا أن نكون أمة كسائر الأمم المتمدنة؟ هل لنا جنسية نسبية أو لغوية تقرب البعيد وتجمع الشتيت؟ كيف ونحن أمشاج وأخلاط من أجناس وشعوب شتى، هل لنا دين نأتمر بأوامره، وننتهي عن مناهيه، ونتأدب بآدابه التي تؤلف بين القلوب مهما كانت فاسدة، كما ألفت بين قلوب الهمج من جاهلية العرب، فجعلتهم إخوانًا على سرر متقابلين، يفتخر التاريخ بفضائلهم ومناقبهم، وبعد ما كانوا عارًا على النوع الإنساني، كادوا يرتقون عنه إلى مصاف العالين من ملائكة رب العالمين. كيف ونحن في الدرك الأسفل من فساد الأخلاق، كما أومأنا إلى ذلك آنفًا وذكرنا قاعدة عالم الأخلاق والاجتماع فينا. وأما أعمالنا فهي على نسبة أخلاقنا طبعًا فشا فينا السكر والبغاء والميسر (القمار) والظلم والتعدي والبغي ... إلخ إلخ إلخ. وحيث قد تبين أننا فاقدون لكل الجوامع التي تتكون بها الأمم، وتقوم بها الممالك والدول، فنحن أحوج الآن إلى التربية والتعليم اللذين يوجدان لنا هذه الجوامع المفقودة، حتى إذا ما عادت لنا نمدها ونقويها بالفنون الرياضية والطبيعية التي فيها عظمتها وكمالها، وإلا فإن تعلم تلك الفنون بصيغة غربية، ولغة غربية تكون عونًا للغرباء من أهل تلك اللغة أو الصبغة على تمكنهم من البلاد، والقبض على أزمة منافعها، بل وعلى امتلاكها بالمرة. هؤلاء الحكام الشرقيون الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق، فيمهدون بذلك السبل لتداخل الغربيين في بلادهم باسم الإصلاح، أليسوا من المتعلمين تلك الفنون والراطنين بتلك اللغات؟ أليس منهم الخائنون لسلطانهم، البائعون لأوطانهم بثمن بخس، دراهم معدودات، وكانوا فيها من الزاهدين، كل هذا مشاهد معروف حتى عند العامة، فلا حاجة للتطويل فيه والاستشهاد عليه. فيجب على العلماء والكتاب الشرقيين أن يوجهوا عنايتهم الكبرى إلى هذا الأمر (تكوين الأمن) ، ويجتهدوا فيه قولاً وعملاً، ويجب على مؤسسي المكاتب والمدارس الوطنية ومعلميها وأساتذتها أن يجعلوه نصب أعينهم، وأهم ما تدور عليه تعاليمهم، بحيث يغرسون في قلب كل تلميذ أن حياته كلها لأمته وبلاده، وأن علمه وعمله لا شرف له فيهما إلا إذا صرفهما لمنفعة الأمة والبلاد، ويجب على جميع العقلاء من الشرقيين أن يساعدوا هؤلاء الذين يجاهدون في سبيل الأمة والوطن، ومن تقاعد عن مؤازرتهم ومعاضدتهم فهو خائن لأمته ودولته، وعامل على خراب وطنه، فما بالك بمن يعاكسهم ويشاكسهم ويقاومهم ويصادمهم. كل خائن ملعون، يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون، فنسأل الله تعالى أن يقي أهل بلادنا من هذه اللعنات، وان يوفقهم للعمل بما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم [1] ، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله تعالى، وهو الموفق.

محاورة في دعوى ضرر الدين والجامعة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاورة في دعوى ضرر الدين والجامعة الإسلامية ضمنا مجلس مع مكاتبي أشهر الجرائد في الديار المصرية فذكر بعضهم (المنار) وأثنوا عليه بما فضلوه به على جميع الجرائد العربية، فقال أحدهم: إني ما رأيت المنار إلا قليلاً، ولقد تراءى لي منه أنه يدعو إلى الجامعة الإسلامية، كما هو لسان علماء الإسلام الذين يتكلمون في السياسة، ولا ريب في أن هذا الرأي خطأ؛ لأنه يدعو إلى التفرقة بين المسلم والقبطي في مصر مثلاً، ومصلحتهما واحدة، والاتفاق بين المصري والهندي المسلمَيْنِ، ومصلحة بلادهما مختلفة، ومآل ذلك إلى خراب البلدين، وما أضرّ بالشرق وأوقع به الدمار إلا الدين، فينبغي للجرائد الشرقية الحرة التي تريد أن تخدم الشرق خدمة نافعة أن تبين للنشء الجديد فيه أنه لا يمكن النجاح والترقي إلا بنبذ الدين ظِهريًّا. فقلت له: أنا لا أنكر أن اختلاف الدين أضر بالشرق ضرراً بينًا، ولكن هذا الضرر لم يأتِ من طبيعة الدين، وإنما جاء من عدم فهم حقيقته، ومن عوارض أخرى، كجهالة الرؤساء ودسائس الطامعين، الذين جعلوا الدين عاملاً من عوامل السياسة، وإنني أعتقد أن لا شيء يؤلف بين القلوب كالدين، إذا أُخذت تعاليمه وآدابه على طهارتها كما جاءت في الكتب السماوية، ومن مقاصد (المنار) بيان ذلك والحث عليه؛ ولذلك قلت في مقدمة العدد الأول منه التي بينت فيها مشرب الجريدة ما نصه: (وتحاول إقناع أرباب النِّحَل المتباينة والمذاهب المختلفة أن الله تعالى شرع الدين للتحابّ والتوادّ، والبر والإحسان، وإن المعارضة والمناهضة والمناصبة والمواثبة تفضي إلى خراب الأوطان، وتقضي على هدى الأديان) . ومن المقاصد أيضًا: بيان أن السعادة الدنيوية تتوقف بعد التهذيب على أعمال تبنى على علوم وفنون لا بد منها، ولا غناء عنها، وأعطيته العدد الخامس عشر الذي ذكر فيه أن صحة العقائد لا تكفي لهذه السعادة، إذ تنكَّبَتْ الأعمال النافعة والفنون التي تمدها وترقيها. ولقد أفصح لي هذا الكاتب عن رغبته في إنشاء مقالة يبين فيها رأيه في الدين والعمران بالحرية التامة، ويبعث بها إليّ إذا كنت أنشرها له في المنار، فقلت له: إن الاستدلال بسوء حالة أهل الأديان على مضرة الدين قد رده الأستاذ صاحب (رسالة التوحيد) التي طبعت حديثاً، وقد وعدته أن أنشر ذلك في المنار، وها أنا ذا أنشر ما جاء في تلك الرسالة من بيان (وظيفة الرسل عليهم السلام) وهي حقيقة الدين، وبيان اعتراض الكاتب ورده، وقد تقدم لنا نشر بيان (حاجة البشر إلى الرسالة) ، وأغضينا عن نشر إمكان الوحي وبيان وقوعه، لما فيه من الغموض بالنسبة لأكثر قراء الجريدة. وأرغب إلى حضرة الكاتب أن يمعن النظر فيما أنقله، ويكتب إليّ مفصحًا عن رأيه فيه، فإن كان تسليمًا فبها ونعمت، وإلا فبمراجعة القول ومرادة الكلام تتضح الخفايا وتتجلى الحقائق، والله الموفق.

وظيفة الرسل عليهم السلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وظيفة الرسل عليهم السلام (من رسالة التوحيد) تبين مما تقدم في حاجة العالم الإنساني إلى الرسل أنهم من الأمم بمنزلة العقول من الأشخاص، وأن بعثتهم حاجة من حاجات العقول البشرية، قضت رحمة المبدع الحكيم بسدادها، ونعمة من نعم واهب الوجود ميز بها الإنسان عن بقية الكائنات من جنسه، ولكنها حاجة روحية، وكل ما لامس الحس منها فالقصد منه إلى الروح وتطهيرها من دنس الأهواء الضالة، أو تقويم ملكاتها أو إبداعها ما فيه سعادتها في الحياتين. أما تفصيل طرق المعيشة والحذق في وجوه الكسب وتطاول شهوات العقل إلى درك ما أعد للوصول إليه من أسرار العلم، فذلك مما لا دخل للرسالات فيه، إلا من وجه العظة العامة، والإرشاد إلى الاعتدال فيه، وتقرير أن شرط ذلك كله أن لا يُحْدِث ريبًا في الاعتقاد، بأن للكون إلهًا واحدًا قادرًا عالمًا حكيمًا متصفًا بما أوجب الدليل أن يتصف به، وباستواء نسبة الكائنات إليه في أنها مخلوقة له، وصنع قدرته وإنما تفاوتها فيما اختص به بعضها من الكمال. وشرطه: أن لا ينال شيء من تلك الأعمال السابقة أحدًا من الناس بشرٍّ في نفسه أو عرضه أو ماله، بغير حق يقتضيه نظام عامة الأمة على ما حدد في شريعتها. يرشدون العقل إلى معرفة الله، وما يجب أن يعرف من صفاته ويبينون الحد الذي يجب أن يقف عنده في طلب ذلك العرفان، على وجه لا يشق عليه الاطمئنان إليه، ولا يرفع ثقته بما آتاه الله من القوة، يجمعون كلمة الخلق على إله واحد، لا فرقة معه، ويخلون السبيل بينهم وبينه وحده، وينهضون نفوسهم إلى التعلق به في جميع الأعمال والمعاملات، ويذكرونهم بعظمته بفرض ضروب من العبادات فيما اختلف من الأوقات، تذكرة لمَن ينسى، وتزكية مستمرة لمن يخشى، تقوي ما ضعف منهم، وتزيد المستيقن يقينًا. يبينون للناس ما اختلفت فيه عقولهم وشهواتهم، وتنازعته مصالحهم ولذاتهم، فيفصلون في تلك المخاصمات بأمر الله الصادع، ويؤيدون بما يبلغون عنه ما تقوم به المصالح العامة، ولا تفوت به المنافع الخاصة، يعودون بالناس إلى الألفة، ويكشفون لهم سر المحبة، ويستلفتونهم إلى أن فيها انتظام شمل الجماعة ويفرضون عليهم مجاهدة أنفسهم ليستوطنوها قلوبهم، ويشعروها أفئدتهم. يعلمونهم لذلك أن يرعى كلٌّ حق الآخر، وإن كان لا يغفل حقه، وأن لا يتجاوز في الطلب حده، وأن يعين قويُّهم ضعيفهم، ويمد غنيُّهم فقيرهم، ويهدي راشدهم ضالهم، ويعلم عالمهم جاهلهم. يضعون لهم بأمر الله حدودًا عامة، يسهل عليهم أن يردوا إليها أعمالهم، كاحترام الدماء البشرية إلا بحق، مع بيان الحق الذي تهدر له، وحظر تناول شيء مما كسبه الغير إلا بحق، مع بيان الحق الذي يبيح تناوله، واحترام الأعراض مع بيان ما يباح وما يحرم من الأبضاع، ويشرعون لهم مع ذلك أن يقوِّموا أنفسهم بالملكات الفاضلة، كالصدق والأمانة والوفاء بالعقود، والمحافظة على العهود، والرحمة بالضعفاء، والإقدام على نصيحة الأقوياء، والاعتراف لكل مخلوق بحقه بلا استثناء، يحملونهم على تحويل أهوائهم عن اللذائذ الفانية، إلى طلب الرغائب السامية، آخذين في ذلك كله بطرف من الترغيب والترهيب، والإنذار والتبشير، حسبما أمرهم الله جل شأنه. يفصلون في جميع ذلك للناس ما يؤهلهم لرضاء الله عنهم، وما يعرضهم لسخطه عليهم، ثم يحيطون بيانهم بنبأ الدار الآخرة، وما أعد الله فيها من الثواب، وحسن العقبى لمن وقف عند حدوده، وأخذ بأوامره وتجنب الوقوع في محاظيره، يعلمونهم من أنباء الغيب ما أذن الله لعباده في العلم به مما لو صعب على العقل اكتناهه لم يشق عليه الاعتراف بوجوده. بهذا تطمئن النفوس، وتثلج الصدور، ويعتصم المرزوء بالصبر، انتظارًا لجزيل الأجر، وإرضاءً لمَن بيده الأمر، بهذا ينحل أعظم مشكل في الاجتماع الإنساني، لا يزال العقلاء يجهدون أنفسهم في حله إلى اليوم. ليس من وظائف الرسل ما هو من عمل المدرسين ومعلمي الصناعات، فليس مما جاءوا له تعليم التاريخ، ولا تفصيل ما يحويه عالم الكواكب، ولا بيان ما اختلف من حركاتها، ولا ما استكنَّ من طبقات الأرض، ولا مقادير الطول فيها والعرض، ولا ما تحتاج إليه النباتات في نموها، ولا ما تفتقر إليه الحيوانات في بقاء أشخاصها وأنواعها، وغير ذلك مما وضعت له العلوم، وتسابقت في الوصول إلى دقائقه الفهوم، فإن ذلك كله من وسائل الكسب وتحصيل طرق الراحة، هدى الله إليه البشر بما أودع فيهم من الإدراك، يزيد في سعادة المحصلين، ويقضي فيه بالنكد على المقصرين، ولكن كانت سنة الله في ذلك أن يتبع طريقة التدرج في الكمال، وقد جاءت شرائع الأنبياء بما يحمل على الإجمال بالسعي فيه، وما يكفل التزامه بالوصول إلى ما أعد الله له الفِطَر الإنسانية من مراتب الارتقاء. أما ما ورد في كلام الأنبياء من الإشارة إلى شيء مما ذكرنا في أحوال الأفلاك أو هيئة الأرض، فإنما يقصد منه النظر إلى ما فيه من حكمة مبدعة، أو توجيه الفكر إلى الغوص لإدراك أسراره وبدائعه، وحالهم عليه الصلاة والسلام في مخاطبة أممهم لا يجوز أن تكون فوق ما يفهمون، وإلا ضاعت الحكمة في إرسالهم، ولهذا قد يأتي التعبير الذي سيق إلى العامة بما يحتاج إلى التأويل والتفسير عند الخاصة، وكذلك ما وجه إلى الخاصة يحتاج إلى الزمان الطويل حتى يفهمه العامة، وهذا القسم أقل ما ورد في كلامهم. على كل حال لا يجوز أن يقام الدين حاجزًا بين الأرواح وبين ما ميزها الله به من الاستعداد للعلم بحقائق الكائنات الممكنة بقدر الإمكان. بل يجب أن يكون الدين باعثًا لها على طلب العرفان، مطالبًا لها باحترام البرهان، فارضًا عليها أن تبذل ما تستطيع من الجهد في معرفة ما بين يديها من العوالم، ولكن مع التزام القصد، والوقوف في سلامة الاعتقاد عند الحد، ومن قال غير ذلك فقد جهل الدين، وجنى عليه جناية لا يغفرها له رب الدين. (اعتراض مشهور) قال قائل: إن كانت بعثة الرسل حاجة من حاجات البشر، وكمالاً لنظام اجتماعهم، وطريقًا لسعادتهم الدنيوية والأخروية، فما بالهم لم يزالوا أشقياء، عن السعادة بعداء، يتخالفون ولا يتفقون، يتقاتلون ولا يتناصرون، يتناهبون ولا يتناصفون، كل يستعد للوثبة، ولا ينتظر إلا مجيء النوبة، حشو جلودهم الظلم، وملء قلوبهم الطمع، عَدَّ كل ذوي دين دينهم حجة لمقارعة من خالفهم فيه، واتخذوا منه سببًا جديدًا للعداوة والعدوان فوق ما كان من اختلاف المصالح والمنافع، بل أهل الدين الواحد قد تنشق عصاهم، وتختلف مذاهبهم في فهمه، وتتفرق عقولهم في عقائدهم، ويثور بينهم غبار الشر، وتتشبث أهواؤهم بالفتن، فيسفكون دماءهم، ويخربون ديارهم، إلى أن يغلب قويّهم ضعيفهم، فيستقر الأمر للقوة لا للحق والدين فها هو الدين الذي تقول إنه جامع الكلمة ورسول المحبة، كان سببًا في الشقاق ومضرمًا للضغينة، فما هذه الدعوى وما هذا الأثر؟ نقول في جوابه: نعم إن كل ذلك قد كان، ولكن بعد زمن الأنبياء وانقضاء عهدهم، ووقوع الدين في أيدي من لا يفهمه أو يفهمه ويغلو فيه، ولكن لم يمتزج حبه بقلبه أو امتزج بقلبه حب الدين ولكن ضاقت سعة عقولهم عن تصريفه تصريف الأنبياء أنفسهم أو الخيرة من تبعتهم، وإلا فقل لنا: أي نبي لم يأتِ أمته بالخير الجم والفيض الأعم، ولم يكن دينه وافيًا بجميع ما تمس إليه حاجتها، في أفرادها وجملتها؟ أظن أنك لا تخالفنا في أن الجمهور الأعظم من الناس (بل الكل إلا قليلاً) لا يفهمون فلسفة أفلاطون، ولا يقيسون أفكارهم وآراءهم بمنطق أرسطو، بل لو عرض أقرب المعقولات إلى العقول عليهم بأوضح عبارة يمكن أن يأتي بها معبر لما أدركوا منها إلا خيالاً لا أثر له في تقويم النفس، ولا في إصلاح العمل، فاعتبر هذه الطبقات في حالها التي لا تفارقها، من تلاعب الشهوات بها، ثم انصب نفسك واعظًا بينها في تخفيف بلاء ساقه النزاع إليها، فأي الطرق أقرب إليك في مهاجمة شهواتهم وردها إلى الاعتدال في رغائبها؟ من البديهي أنك لا تجد الطريق الأقرب في بيان مضار الإسراف في الرغب، وفوائد القصد في الطلب، وما ينحو نحو ذلك مما لا يصل إليه أرباب العقول السامية إلا بطويل النظر، وإنما تجد أقصد الطرق وأقومها: أن تأتي إليه من نافذة الوجدان المطلة على سر القهر المحيط به من كل جانب، فتذكره بقدرة الله الذي وهبه ما وهب، الغالب عليه في أدنى شؤونه إليه، المحيط بما في نفسه، الآخذ بأزمَّة هِممه، وتسوق إليه من الأمثال في ذلك ما يقرب إلى فهمه. ثم تروي له ما جاء في الدين المعتقد به من مواعظ وعبر، ومن سير السلف في ذلك الدين ما فيه أسوة حسنة، وتنعش روحه بذكر رضا الله عنه إذا استقام، وسخطه عليه إذا تقحم، عند ذلك يخشع منه القلب، وتدمع العين، ويستخذي الغضب، وتخمد الشهوة، والسامع لم يفهم من ذلك كله إلا أنه يُرضي الله وأولياءه إذا أطاع ويسخطهم إذا عصى، ذلك هو المشهور من حال البشر، غابرهم وحاضرهم، ومنكره يسم نفسه أنه ليس منهم، كم سمعنا أن عيونًا بكت، وزفرات صعدت، وقلوبًا خشعت لوعظ الدين، لكن هل سمعت مثل ذلك بين يدي نُصَّاح الأدب وزعماء السياسة، متى سمعنا أن طبقة من طبقات الناس يغلب الخير على أعمالهم لما فيه من المنفعة لعامتهم أو خاصتهم ويُنفى الشر من بينهم لما يجلبه عليهم من مضار ومهالك؟ ، هذا أمر لم يُعهد في سير البشر، ولا ينطبق على فِطَرهم، وإنما قوام الملكات هو العقائد والتقاليد، ولا قيام للأمرين إلا بالدين، فعامل الدين هو أقوى العوامل في أخلاق العامة، بل والخاصة، وسلطانه على نفوسهم أعلى من سلطان العقل الذي هو خاصة نوعهم. قلنا: إن منزلة النبوات من الاجتماع هي بمنزلة العقل من الشخص، أو منزلة العلم المنصوب على الطريق المسلوك، بل نصعد به إلى ما فوق ذلك ونقول: منزلة السمع والبصر، أليس من وظيفة الباصرة التمييز بين الحسن والقبيح من المناظر، وبين الطريق السهلة السلوك والمعابر الوعرة، ومع ذلك فقد يسيء البصير استعمال بصره، فيتردى في هاوية يهلك فيها وعيناه سليمتان تلمعان في وجهه، يقع ذلك لطيش أو إهمال، أو غفلة أو لجاج أو عناد، وقد يقوم من العقل والحس ألف دليل على مضرة شيء، ويعلم ذلك الباغي في رأيه من أهل الشر، ثم يخالف تلك الدلائل الظاهرة، ويقتحم المكروه لقضاء شهوة اللجاج أو نحوها، ولكن وقوع هذه الأمثال لا ينقص من قدر الحس أو العقل فيما خُلق لأجله، كذلك الرسل عليهم السلام أعلام هداية نصبها الله على طريق النجاة، فمن الناس من اهتدى بها فانتهى إلى غايات السعادة، ومنهم من غلط في فهمها وانحرف عن هديها فانكب في مهاوي الشقاء، فالدين هادٍ والنقص يعرض لمن دُعوا إلى الاهتداء به، ولا يطعن نقصهم في كماله واشتداد حاجتهم إليه {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} (البقرة: 26) ، ألا إن الدين مستقر السكينة، ولُجأ الطمأنينة، به يرضى كلٌّ بما قُسم له، وبه يدأب عامل حتى يبلغ الغاية من عمله، وبه تخضع النفوس إلى أحكام السنن العامة في الكون، وبه ينظر الإنسان إلى من فوقه في العلم والفضيلة، وإلى مَن دونه في المال والجاه، اتباعًا لما وردت به الأوامر الإلهية، الدين أشبه شيء بالبواعث الفطرية الإلهامية منه بالدواعي الاختيارية، الدين ق

إيران

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إيران كتبنا في العدد السالف نبذة وجيزة في مشاكل الدول ومنها: مسألة الوزارة في فرنسا وإيطاليا وسكتنا عن وزارة إيران، التي أخبرنا البرق من مدة باستقالة رئيسها (الصدر الأعظم) ، ولما يرد نبأ آخر بتعيين غيره، وقد انتهت المشكلة في فرنسا وإيطاليا، وتشكلت الوزارة كما ترى في الأخبار البرقية. وقد علمنا من الأنباء الخصوصية أن الأزمة في بلاد إيران على أشدها، فإن شركة أجنبية (إنكليزية) تطلب من الحكومة الإيرانية امتيازًا بحصر التنباك، وقد أحدث هذا الطلب هزة في البلاد الإيرانية، أوجس منها المرشحون للصدارة العظمى، خيفة من قبولها، وتحمل تبعة التصديق على الامتياز المطلوب أمام الأمة التي أشعرها جميعها بعظيم ضرره ما كان من أمره في أواخر عهد الشاه ناصر الدين السابق (رحمه الله) . طلب هذا الامتياز يومئذ وأقرت عليه الحكومة الإيرانية، لما كان من عوج وزيرها الأول وضلعه مع إنكلترا، فنبه بعض العقلاء الناصحين رئيس العلماء الحاج الميرزا محمد حسن الشيرازي (رحمه الله) الملقب بحجة الإسلام لمضار هذا الامتياز، وأنه نافذة للتداخل الأجنبي الذي يذهب باستقلال البلاد، وطلب الناصح من الحجة أن يفتي بتحريم التدخين المستلزم ترك زراعة التنباك فأفتى، وكان ذا نفوذ روحي عظيم، فاضطربت لفتواه بلاد العجم كلها، وامتنعوا عن التدخين، حتى إن الشاه نفسه طلب يومًا نارجيلة (شيشة) فلم توجد في قصره، وشغب الناس على الشاه، وحاولوا قتله، أو يبطل المقاولة التي عقدها مع الأجانب لحصر التنباك (الرزي) ، فاضطر الشاه إلى الانصياع، وأبطل المقاولة، ودفع للشركة خمسمائة ألف جنيه إفرنكي إرضاءً لها. نعم، ربما لا يوجد اليوم في تلك البلاد إمام ذو نفوذ يستنفرها لمقاومة الحكومة، لكن الإحساس والشعور الأول لم يزل من النفوس، إذ العهد به قريب، فعسى أن يأخذ جناب الشاه المعظم بالحزم، ويرفض طلب كل شركة أجنبية، ويجتهد بتأسيس الشركات الوطنية، فإذا قوي نفوذ الأجانب في بلاده يحولون بينه وبين كل إصلاح وعمل، يعود على بلاده بالنفع والترقي، ويجعلونه آلة لتنفيذ رغائبهم ورعاية مصالحهم، بحجة المحافظة على أموال رعيتهم أصحاب الشركات، ومن رأى العبرة في غيره فليعتبر.

تعصب اليونان واعتداؤهم على المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعصب اليونان واعتداؤهم على المسلمين ألمعنا في العدد الماضي إلى ما كان من عبث اليونانيين في تساليا وبغيهم على المسلمين فيها بعد جلاء الجنود المنصورة، وقد جاءت جرائد الآستانة العلية بعد ذلك بزيادة تفصيل، منه: أنهم نهبوا جميع ما في جوامع (يِنِي شهر) ، وحطموا بعض المنابر، وهجموا على دور المسلمين وبيوتهم ومخازنهم وحوانيتهم، فكسروا مغلق الأبواب وانتهبوا جميع ما لديهم من المال والعروض والماشية، وعمدوا إلى حقول الذين هاجروا مع الجيش العثماني وجنانهم فأحرقوها، وإلى مساكنهم فدمروها تدميرًا، وأحرقوا اثنين من المسلمين في (ترحالة) بالنار وهم أحياء، وأماتوا آخرين بضروب من التعذيب ومثَّلوا بكثير ممن قتلوا تمثيلاً، ولقد حبسوا قومًا. وصادروا قومًا ليستكملوا صنوف الانتقام، وفر أكثر مسلمي تلك البلاد بأهليهم إلى موقع (ألاصونيا) مغادرين أموالهم ومتاعهم للغادرين الباغين، هذا بعض ما جرى في البلاد الكبيرة والشهيرة، كترحالة، ويني شهر، وحاجي إياس، وصارقولي، فكيف يكون حال القرى والمزارع الصغيرة النائية , أومأنا في العدد السالف إلى أن الباب العالي احتج على اليونان، وأنبأ بذلك الدول العظام، لكن لا يبعد أن يكون لهذا النبأ العظيم عندهن أحسن موقع، ويطربن له ولا يضطربن؛ لأن تأديب العصاة، والأخذ على أيدي البغاة وحب الإنسانية والسعي في الإصلاح، كل ذلك له مواضع عند تلك الدول نعرفه نحن ويعرفه الناس أجمعون.

قضية البرنس أحمد سيف الدين بك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قضية البرنس أحمد سيف الدين بك أحصت الجرائد اليومية جزئيات هذه الحادثة من يوم وقعت إلى يوم حكم فيها حتى جاءت بالذرة وأذن الجرَّة، ولا يصدف هذا بجريدة أسبوعية كالمنار أن تطرف قراءها، خصوصًا الذين لا يطَّلعون على الجرائد اليومية، بمجمل من خبر المحاكمة، مع الملاحظة عليها بعد ما أخبرناهم بمجمل الواقعة من قبل، وإنا موردون في ذلك سبع جمل: (1) أن هذه أول دعوى وقعت في القطر، سِيقَ فيها أحد عائلة الإمارة، بل أسرة الملك إلى المحكمة، وأوقف فيها في موقف المجرمين، وحُكم عليه بالعقوبة، وكان من شهودها الوزراء: كعباني باشا ناظر الحربية، ومظلوم باشا ناظر المالية، ويعقوب أرتين باشا وكيل نظارة المعارف. (2) أن انتظام أمر المحاكم تحقيقًا وتدقيقًا وضبطًا وعدالة أطلق الألسنة بالثناء واللُّغي المختلفة على حضرة القاضي الفاضل صاحب العزة أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر الأهلية وافتخر به المصريون بحق واحتجوا به على أنهم قادرون على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وبمثل سعادته تنهض لهم الحجة، ولولا ضيق المجال لأسهبنا بما شاهدناه كما أسهبت الجرائد اليومية ولكننا نكتفي بتصديقها بما حكت وأثنت. (3) حكمت المحكمة على المتهم بثبوت تهمة الشروع في قتل دولة البرنس فؤاد باشا وبسجنه سبع سنين تحسب منها مدة الحبس الاحتياطي وبتعويض للمجني عليه قدره 1845جنيهًا إفرنكيًّا وذلك قيمة ما صرفه البرنس فؤاد على الأطباء والأدوية فقط وبإلزامه بالمصاريف ورفضت طلب الحجر عليه. (4) قد استأنف المحكوم عليه الحكم ولم تستأنف النيابة العمومية. (5) قد أهين المتهم بالدفاع عنه حيث رمي بالعته وضعف العقل وبالحكم عليه حيث ذكر الرئيس في تعليلات الحكم وحيثياته أن الذي دفع به إلى الجناية عدم التربية الصحيحة، وهاك عبارة الرئيس في ذلك: (وحيث إن سيرة المتهم منذ صغره لا تدل على أنه تربى كما يليق بشأنه، وقد تيتم قبل أن تتمكن منه صفات الرجال ووجد نفسه ذا ثروة واسعة مطلق السراح ولم يكن له من معاشريه ومخالطيه من يطلب له السعادة بإهداء رشيد النصح وتمثيل الفضائل له بما يحرضه على اعتناقها، فمال طبعًا إلى ما يميل إليه من خلص من كل القيود وكان له مكانته الاجتماعية نصيرًا على عدم التصادم بجزئيات الحوادث كل يوم) . (6) إن هذه الحادثة قد كشفت الستار عن كثير من الشؤون الداخلية لهذه العائلة العظيمة القدر، تمس مقام غير أمير وأميرة منها، وترميهم بالطمع الشائن مع واسع ثروتهم، وما سبب ذلك إلا التربية الإفرنجية الخاسرة. دع ذكر المبالغ العظيمة التي طلبتها دولة الأميرة (البرنسس) نازلي هانم من المتهم لإنقاذه، وذكر المعاملة القاسية التي كان يعامل بها دولة فؤاد باشا قرينته الأميرة شويكارهانم لأجل توكيله على أمور مالية، حتى كان من تبرمها وشكواها لأخيها سيف الدين بك ما حركه على الانتقام منه، كما شكت لعمها صاحب الدولة أحمد كمال باشا ولغيره. (7) كان من شؤم هذه الحادثة أن طلق البرنس فؤاد باشا قرينته المشار إليها فأسقط في يدها وأرسلت له الكتب تستعطفه وتعتذر له، وقد احتج في المحاكمة بكتبها له، كما احتج بكتبها لدولة عمها وعمتها وأخويها وغيرهم، حيث كانت تشكو منه، وإننا نكتفي من كتبها بنشر هذا الرقيم الاعتذاري تفكهة للقراء وهو: عزيزي فؤاد ... أكتب لك هذا وأنا باكية، وقلبي ألف قطعة، بل وأنا في حالة الجنون ولا أصدق أن فؤادي لا يريدني؛ لأني عالمة أنك تحبني شديد الحب. نعم، أنا أعترف بأني مخطئة فيما كنت أقول من الأقوال الفارغة، ولكن أنت تعلم أنني عصبية، فأنا أقبل قدميك وأستحلفك بأمك وبقبر والدك كي تسامحني. فإن لم يكن صفحك نظرًا لخاطري فنظرًا لخاطر بنتنا (وكيجه) وللجنين الذي سيولد بعد سبعة أشهر. إنني سأعتبر نفسي جارية لك، كأنك اشتريتني بالمال من عند الياسرجي، وأكون مطيعة لأوامرك، ولا أحسب نفسي مطلقًا أنني من عائلة (أحمد) المتهم - وهل تظن أيها العزيز أني قادرة على تحريض أحمد-هذا الأهبل - أن يفعل أمرًا شنيعًا كالذي فعل. هل أحرضه على أن يقتل زوجي والد وَلَدَىَّ. إنني أقسم لك بأن مثل هذا الأمر ما خطر بفكري قط. ارحمني يا فؤادي، اشفق عليَّ وسامح جاريتك؛ إذ لا يمكنني أن أعيش دونك، إن غاية ما كنت أتمناه لك من صميم فؤادي الصحة ولله الحمد قد رجعت لحبيبي فؤاد. والآن أقبّل قدميك وأبقى في ظلك واسمح لي فقط باللقاء ولو مرة واحدة وأموت بعدها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (شويكار)

الجيوش الغربية المعنوية في الفتوحات الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجيوش الغربية المعنوية في الفتوحات الشرقية [*] الغرض من الفتوح والاستعمار تكثير المال وتنمية الثروة، والثروة أو المال مبدأ الأعمال المدنية وغايتها، وبه تتألف مقدمات العمران، وتحصل نتيجتها، ولما علم الغربيون أن الحروب تتلف الثروة، وقد يستوي في خسائرها الغالب والمغلوب، عمدوا إلى الفتوح من طريق الكسب، والتغلب على الأمم بالقبض على أزمة معايشها، وامتلاك نواصي مكاسبها، ثم بتقطيع روابطها، وإبطال الجوامع التي تضمها وتجمعها، إلى أن يقضي التفرق على الأمة بقضائه الذي رددناه مرارًا، وبمثل هذا التفرق يتسنى للعدد القليل الاستيلاء على شعب كبير وأمة عظيمة، يصرف الرجل الواحد من الغالبين الأثابيّ والجموع، ويسوقهم حيث شاء، كما يسوق الراعي الإبل والشاء، وقد يتراءى للغافل، ويخيل للغر الجاهل، أن حقيقة هذا الأمر كما يعطيه ظاهره: تصريف واحد لثُبات، وسوق فرد لجماعات، وذلك غير صحيح، بل هو مخالف لطبيعة الوجود. ومن نفذت أشعة بصره من ظواهر الأشياء لبواطنها رأى أن ذلك الفرد في الحقيقة جمع، والواحد في نفس الأمر أمة، وأن تلك الأثابي والجموع أفراد لا رابطة تربطهم، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى؛ ذلك بأنهم قوم لا يفقهون معنى القومية والأمية، فاجتماعهم وتفرقهم سواء، أما كون هذه الجموع ليست أمة، فهو مما لا خفاء فيه كما ترى، إذا أهين أحدهم، بل إذا سحقت عظامه بأيدي الغرباء يقولون: هذا بعض ما يستحق من الجزاء، وأما كون تلك الآحاد التي يدير كل واحد منها شؤون جماعة أممًا، فمعناه: أن أحدهم يدير الجماعة باسم أمته وبقوتها، وأن أمته كلها معضدة له في عمله وممدة له بقوتها ونفوذها، بحيث تعز لعزته وتذل لذلته، فلو هضم جانبه أو غمط حقه تشعر الأمة كلها بنفس الألم الذي شعر به، وتهب كلها لإزالته، كما هو شأن الأمم الغربية في هذه الأيام: يهان أوروبي في أقصى المعمور، فتسمع الصياح والصراخ يدوي له فضاء أوروبا والجرائد تنشئ الفصول الطوال تقول: قد أهينت الدولة والأمة فأجمعوا كيدكم وألزموا الدولة التي أهانه أهلها بالترضية، إما منًّا بولاية من تلك البلاد، وإما فداءً بمبلغ عظيم من المال. بقي علينا البحث في هذا الفتوح المعنوي، وبيان القوى التي تسلطها الأمم العاملة على الجاهلة فتقطع روابطها، والجيوش التي تحشرها وتسوقها لهدم جوامعها مع سلامة أفرادها، وبقاء آحادها، وكيف تفتقر الأمم وتدمّر الممالك بهذه الجيوش المعنوية، التي يقودها جماعة من أهل الوداعة والسكينة، ومحبي الأمن والسلام، وهو بحث طويل الذيل نأتي منه على إجمال ينبئ عن تفصيل، فنقول: علم الأوروبيون بما أفادهم البحث في طبائع الأمم أن الترف مدعاة الدمار والفناء الاجتماعي إذا لم يقرن بتربية صحيحة تقي من أدوائه، وتعصم من بلائه، وعلموا بالاختبار أن الشرق فقدت منه التربية، وانفصمت عُرَى الوحدة التي كانت لأممه ودوله، ولم يبق لهم من روابط الاجتماع إلا بقايا موروثة، لا متعهد لها ولا حافظ، فيكفي لتقطيعها جذبة لطيفة من جذبات الترف، فكرُّوا على الشرق بجنود منه لا قبل لأهله بها، وحملوه أوزارًا أثقل من الجبال فحملها، وكان الشرق ظلومًا جهولاً. ساقوا عليه خمسة فيالق وهي: الخمر والميسر والربا والبغاء والتجارة، فنسفوا بذلك ثروته، وقتلوا غيرته وأضعفوا همته، وأفسدوا ما كان من بقايا أدب ودين، فتكت هذه الفيالق والجحافل في الأمم الشرقية فتكًا ذريعًا، وبلغت نكايتها ومضرتها في هذه البلاد ما لم تبلغه في غيرها، ولو شئنا الشرح والتفصيل عن كل فيلق من تلك الفيالق، وما كان عنه من السلب والنهب والخراب والتدمير لاحتجنا إلى تصنيف الأسفار والدواوين، ولكننا نجمل في القول على ما شرطنا: (الخمر) : أم الخبائث، وداعية الفجور، وموقظة الفتن، وآفة الثروة، ومولدة الأمراض، ومقصرة الآجال، فمضرتها في الجسم والعقل، وإفسادها للدنيا والدين مما لا يجهله أحد، وإنما يدمنها الفساق تغليبا للذة على المصلحة، وترجيحًا للشهوة على المنفعة. إن مضرات السكر في هذا العصر تربي على مضرته في العصور السالفة التي لعن الأنبياء فيها السكارى، وسجلوا عليهم الحرمان من ملكوت السماء، فإن الأشربة الروحية التي اخترعها الإفرنج في هذا العصر هي أشد إتلافًا للجسم والعقل والمال. اجتمعتُ في أواخر سنة 1310 بالدكتور فانديك الشهير في بيروت، وتذاكرنا في تقدم سوريا وبيروت وتأخرهما، لا سيما من جهة الأدب والتهذيب، فقال: أنا أعرف بيروت من نحو ثلاثين سنة، وليس فيها إلا بعض حانات قليلة (نسيت العدد الذي عينه ولا أراه يبلغ عدد الأنامل) يباع فيها خمر البلاد، وأما الآن فيوجد في بيروت عشرات من الحانات، وياليتها تبيع من خمر البلاد القليل ضرره، المحدود خطره، وإنما هي ملأى بهذه السموم الإفرنجية، التي يسمونها الأشربة الروحية، وقد اتفقنا في المذاكرة إلى أن هذه السموم مميتة للآداب والفضائل، وموت الآداب والفضائل موت للشعوب والقبائل. إن مصر تفوق بيروت في هذه الرذيلة، بل تفوق جميع البلاد، تجول في شوارع القاهرة وأسواقها، فلا يغيب عن نظرك مرأى الحانات دقيقة واحدة، حتى يخيل للجائل أن هذه الحانات تزيد على حاجة السكان، ولو كانوا كلهم من السكارى، وإنها تتمثل لعيني ناظرها كأنها ثكنات عساكرها القوارير المصفوفة المرتبة ترتيب الجنود المنظمة، وقوادها الغيد والغادات من اليونان والتليان، وسائر أصناف الإفرنج كلا إن القوارير أكثر للأرواح انتهابًا، وللأموال استلابًا، فربما ينفق المصريون في يوم واحد على الخمور أكثر مما أنفقته الحكومة في حرب السودان في بدايتها إلى الآن، فقد بلغنا أن من أمرائهم ومثريهم من ينفق في الليلة الواحدة العشرات والمئات من الجنيهات على معاقرة الراح، ومنادمة الصباح، ويوشك أن يمتص من الزجاجة مصة، ثم يلقيها جانبًا ويطلب أخرى، يرى الفَدْم (البليد الأحمق) أن الشرف في معالجة المفدّمات (الدنان والأباريق) ، ومجالعة الجالعات (الجالعة: المرأة التي تتبرج وتترك الحياء، والمجالعة المجاوبة بالفحش أو التنازع في شراب أو قمار) ، لبئس ما سوّلت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم، فأنفقوا أموالهم على تخريب بيوتهم وإتلاف أمتهم وتسليم بلادهم للأجانب، لا أعني أنهم سلموهم أزمَّة سياستها، بل أريد رقبتها وجملتها. (الميسر) : فشا القمار في البلاد الشرقية فشوًا خرب دورًا، وقوض صرحًا وقصورًا، وأمسى أكثر مُزاوِليه قومًا بورًا. ولقد كان لأهل هذه الديار منه أوفر السهام وأقتلها. سرت عدواه من الرجال إلى النساء، كما سرت عدوى سائر الموبقات، لا سيما في الأمراء وأهل الطبقات الدنيوية العالية، ذلك أن الرجال يجاهرون فيما يجترحونه من السيئات، وهم قدوة النساء وأسوتهم فيقلدْنَهم بجميع ما يفعلون، فكيف حال الأبناء والبنات الذين يتولدون من هذه الأصول الخبيثة ويتربون في أحضانهم النجسة. إلا أن حالة البلاد مظلمة، ومستقبلها أحلك ظلامًا وأعظم خطرًا إن لم تُدارَكْ بتربية دينية شريفة. كان من شأن النساء أن تحفظ المال وتدير شؤون العائلة على محور الاقتصاد، وتدع الأعمال العامة مالية وغير مالية للرجال، لكن نساء كبرائنا شببن عن الطوق، وتشبثن بأذيال من التمدن الأوروبي مسحوبة على أرض قذرة، تجر من تعلق بها عليها، حتى يكون عبرة للناظرين. إن في المدنية الأوروبية من المحاسن والفضائل ما هو أجدر باقتباس سيدات بلادنا له، لا سيما ما هو أليق بهن وأمس بوظيفتهن، كتربية الأولاد وتدبير المنزل والاقتصاد، فما بالهن فضَّلن الخمر والميسر واخترن ما يُشقي على ما يسعد، واستبدلن الذي هو أدني بالذي هو خير؟ ! أما كفاهن ما يقترفه رجالهن الأشرار، ويجترحه أولادهن الأغرار، من الإسراف والتبذير، الذي ينتهي بالعائلات - بل وبالبلاد - إلى شر مصير. (البغاء) : وما أدراك ما هو؟ ! ارتياد الفاحشة الكبرى، وتطلب النقيصة السوأَى من جماعة من النساء يستعددن لذلك ويتجاهرن به. الزنا مولد الأدواء المشوهة القاتلة، ومقلل النسل، ومضيع الأنساب، ومتلف الأموال، ومفسد نظام العائلات، وإن المجاهرة به مدعاة لتعميمِهِ وتعميمُهُ فتنة في الأرض وفساد كبير، وبلاء على الأمم وبيل، فشا في الأمة الفرنسوية وهي مفيضة العلم على أوروبا وقدوتها في التربية العملية التي بها قوام المدنية، فصدمها صدمة وقفت بنموها، وقللت رجالها، فقد كان متوسط المواليد فيها أوائل هذا القرن 32 في الألف، فهبط في بعض بلادهم إلى 14، وفي بعضها إلى 22 في الألف، ولقد كان سكان أوروبا يومئذ نحو مائة مليون، ربعهم من الفرنسويين، فزادت بروسيا في مدة القرن خمسة أضعاف، وبريطانيا أربعة أضعاف، وروسيا ثلاثة أضعاف، وفرنسا ضعفًا واحدًا، وأصبح أهل فرنسا عُشر أهل أوروبا، وسبب ذلك الأكبر فشوّ الزنا فيهم، وساستهم الآن في حيرة من تلافيه. هذا، وإن لهذه المصيبة من الضرر المالي في مثل هذه البلاد ما لا نظير له في فرنسا، وذلك لأن معظم المال الذي ينفق على الفحش هنا إنما ينقصه الأجانب من ثروة البلاد؛ لأن معظم المسافحات وذوات الأخدان فيها من الإفرنج، لا سيما صواحب الأمراء والوجهاء اللواتي يفاض عليهن المال جزافًا بلا عدّ ولا كيل، وبهذا المعنى نعد البغايا والمومسات من الجند الفاتح للبلاد، فإنهن ما نزلن في عراص قوام إلا مهدن لأبناء جنسهن فيها المقام، وأورثنهم أرضهم وديارهم وأموالهم وشاهد ذلك بين يدينا وتحت مواقع أبصارنا، فعلى من ابتلي بذلك أن يقلع حفظًا لدينه ودنياه، وإن كان استحوذ عليه الشيطان وملك عليه أمره فليستتر، لا سيما عن أهله وبنيه؛ لئلا يجني عليهم فيفسدهم، كما فسد ويضيع الأمل من مستقبل البلاد بهم، وليحجبهم ويمنعهم من قرناء السوء أمثاله، ولا يأتمن عليهم الخدم، فإنهم في الغالب على دينه ومشربه الخبيث، ولقد بلغنا أن هؤلاء الخدم يغشون مواخير المومسات ومعهم الأولاد الصغار الذين عُهد إليهم بخدمتهم، فيتربون على مشاهدة الفاحشة وبئست التربية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم: 6) . (الربا) : هو الآفة المجتاحة للثمار، والمخربة للديار، التي جعلت الأغنياء فقراء، والأعزاء أذلاء، هو الذي مكن للأوروبيين في أرض مصر (كغيرها من ممالك الشرق) ، فاستولى دائنوهم على صفاصفها (أرضها السهلة المستوية) وأثباجها (ترعها) ، وساستهم على إتاوتها وخراجها، ثم على سائر دوائر الإدارات، حتى أوشكت تكون بلادًا أوروبية حاكمًا ومحكومًا. ضغط الربا على جثمان هذه البلاد رويدًا رويدًا، حتى اشتبكت الأضلاع بالأضلاع، واختلط اللحم بالعظم، وما شعرت حكومتها بضغط، ولا أحست أفرادها بألم، حتى سحق الضغط كلًّا من الحاكم والمحكوم، ما أُكل الربا أضعافًا مضاعفة في بلاد كهذه البلاد، وما أضر بقوم كما أضر بأهلها، ظلم حكامها رعيتهم، فألجئوهم إلى الاستدانة بالربا الفاحش، ومَن ظلم رعيته كان لنفسه أظلم. {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} (غافر: 21) . {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) . (التجارة) : لقد علم ا

الشعر العصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشعر العصري بَيَّنَّا في مقالاتنا السابقة في (الشعر والشعراء) : أن الشعر ينبغي أن يكون في كل عصر مناسبًا لحالته، وأنه ينبغي للمشتغلين بهذه الصناعة أن يَنْظُموا في المواضع الشريفة، ويصوغوا المعاني الجديدة التي تعطيها الاختراعات الصناعية والاكتشافات العلمية. وذكرنا أن أول مَن نبهنا على فك الشعر من وَثاقه فضيلة أستاذنا العلامة الشيخ حسين أفندي الجسر، صاحب الرسالة الحميدية، ولقد كان تنبيه هذا الأستاذ لهذا الأمر بالقول والفعل، ومما نظمه من الشعر الذي نسميه (بالعصري) - قصيدة يحث فيها على إعانة العساكر السلطانية، اقتداءً بمن انتدبوا لذلك من ولاية سلانيك سنة 1304، ويمدح بها الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى، وقد نشرت وقتئذ في جريدة الاعتدال التي كانت تصدر في الآستانة العلية، وقد أحببنا أن نزين جريدتنا بها لما فيها من التنبيه، ومدح مولانا أمير المؤمنين وهي: أحبَّتنا الترك الأكارم والعربا ... أنادي الموافي الشرق منكم أو الغربا أصيخوا لقولي يا صباحا فإنني ... أنا المنذر العُرْيان ينذركم خطْبا بذلت لكم نصحي وإني وحقكم ... محب وأولى بالقبول امرؤ حبا أهيم بسعدى والأماني سعودكم ... أمانيّ من سعدى أذوق بها العذبا وأذكر نجدًا والفؤاد بذكره ... لنجدتكم يطوي مدى عمره وثبا ويا طالما أسهرت جفني في الدجى ... أراقب في أعلى مفارقه الشهبا وما بي وَجْد غير أني مفكر ... بكل الذي عن نهجكم يطرد الصعبا إذا نظرت عيناي مجدًا لغيركم ... تفيضان دمعًا يخجل الدم والسحبا أئنُّ وأبدي من زفيري لواعجًا ... أشيب بها لما أرى غيركم شبّا إذا شمت برقًا في سماء سعادة ... أقول عساه عنكم يخرق الحجبا ولي مقلة بصارة إنما يدي ... بها قصر عما شغلت به القلبا فجِدُّوا لإدراك المعالي فإنها ... لغاية آباء لكم مجدهم أربى بِعلم وَجُود شامخ وبسالة ... وملك عزيز باذخ حيَّر اللبا أَمَا منكم تلك البحار التي غدت ... معارفها ما بيننا اللؤلؤ الرطبا أناروا بأنوار العوارف والهدى ... مناهج حق واستحثوا بها الركبا فأوفوا على بحبوحة الدين تزدهي ... بشمس يقين نورها مزق السحبا وأوموا إلى الدنيا فذلّت وأصبحت ... إلى ربعهم أفلاذ غبرائها تجبى أما منكم تلك الأسود التي سعت ... إلى الموت لا توليه ظهرًا ولا جنبا يعدون لقيا الحرب أوفر حظهم ... كأن لديها ودهم يصحب القربى وحازو فَخارًا دون هامة السهى ... وملكًا عزيزًا شامخًا باذخًا رحبا وأبقوا لنا هذا التراث فهل نرى ... من الحزم أن نلقيَه بين الورى نهبا خليق بتُرب خالطته دماؤهم ... دعانا له مسك الترائب لا تربا أما منكم تلك الكرام الأولى رموا ... بأموالهم عن مجد أوطانهم ذبّا سخوا بكنوز للمحامي عن الحمى ... وهم كنزوا في بذلها الشرف الصلبا فقوم رأوا بذل النفوس سعادة ... فطاب لديهم شرب كأس الردى عبّا وقوم رأوا بذل العقائل منه ... عليهم ففاض الجود من راحهم سكبا وكلٌّ شَرَى من ربه جنة الرضى ... وقد ربحت تلك التجارة في العقبى أما منكم تلك الملوك التي غدت ... سياستها للملك تستغرق الكتبا قد استخدموا للعلم كل يراعة ... وسلّوا لحفظ الملة الصارم العضبا وساقوا لإرغام العدا كل فيلق ... يهدّ الرواسي الشامخات إذا دبا وكم قلبوا من دولة مشمخرّة ... وكم دوخوا في كل ناحية شعبا وكم فتحوا من بلدة ذات منعة ... صياصيّها دكت بوطأتهم رعبا وكم عمروا بالعدل دارًا وصيروا ... قفار البراري يزدهي وعرها خصبا لنا اليوم منهم في المَلا خَيْرُ شاهدٍ ... أطاع له المولى الأعاجم والعربا خليفتنا (عبد الحميد) الذي له ... سوابق خير لا نطيق لها حسبا رأى أن هذا العلم نور وأنه ... لكل نجاح في الملا أصبح القطبا فسهل في إدراكه كل منهج ... وأركبنا عند السُّرَى نحوه نجبا أتى الملك والأخطار محدقة به ... فأنهض في أعبائه كاهلاً صلبا وأفرج عنه كلّ غماء عندها ... يطيل غراب البين في دارنا النعبا وقام بأمر الدين يحمي ذماره ... ويولي صدوع الملك من رأيه رأيا وسار على متن العزيمة يقتفي ... لتشييد سلطان له المنهج الرحبا فباشر وصل المدن في دار ملكه ... بطرق حديد تجمع الشرق والغربا مناهج قد أصبحن أسّ تجارة ... كما قد غدت في حرب أعدائنا قطبا إذا ما خلت منهن مملكة غدت ... تخاف الأعادي وهي لا تأمن الجدبا إذا ما بساط الريح راقك ذكره ... فهذا بساط النار تقضي به الأربا وقد شاد في غمر البحار شوامخًا ... تمر مرور السحب في سيرها خبا دوراع قامت للخطوب روادعًا ... روائع أعداء متى سحبت سحبا إذا انشق صدر البحر منها تشققت ... قلوب العدا من هول منظرها رعبا إذا قذفت نيرانها خِلْتَ أنها ... براكين هاجت واللهيب بها شبّا وجهز للفرض الذي عز ديننا ... به كل جيش يعشق الطعن والضربا ترى في ثنيات الثغور عساكرًا ... تضيء ثغورًا كلما تشهد الحربا أسود شرى قد أشبلت فهي في الوغى ... تجيد بأرواح العدا السلب والنهبا مخالبها تلك الحراب وزأرها ... صراخ بواريد تصبّ البَلا صبا وتقذف إذ يحمى الوطيس على العدا ... صواعق كرّوب بها تفرج الكربا أقامهم سلطاننا عز نصره ... لحفظ حمى الأوطان سربًا يلي سربا وهم بذلوا الأرواح صونًا لدارنا ... أليس علينا أن نهيم بهم حبا ونبذل في راحاتهم كل ممكن ... لدينا من الإسعاف كي نأمن العتبا أيجمل فينا المكث ما بين أهلنا ... نلذ بمأكول ونستعذب الشربا وتلك الأسود الحاميات ديارنا ... نآة عن الأهلين قد فارقوا الصحبا ونحن بأكنان على الفرش رُقَّد ... وهم تَخِذوا بين الثلوج لهم سربا وناهيك برد الروم لا درّ درّه ... إذا اشتد يومًا فتت الحجر الصلبا ألا فاقتدوا يا قومنا بأكارم ... سَعَوْا بالهدايا نحوهم تملأ الرحبا فنالوا ثواب الله جل جلاله ... وشكر مليك لم يزل سيله سكبا فما ضاع عند الله مثقال ذرة ... وللعُرف عَرف كم يضوع بنا حقبا أدام إله العرش سلطاننا لنا ... غياثًا ونصر الله دام له حزبا

المنار في سوريا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار في سوريا يشكو قراء المنار في الديار السورية من حجب الكثير من أعداده عنهم، وعدم وصولها إليهم، وأخبرنا الوكلاء أن المشتركين توقَّفوا عن دفع بدلات الاشتراك، بل وقفت الرغبة بالناس عن الاشتراك، يتوهمون عند احتجاب كل عدد أن المنار مُنع من دخول بلادهم بأمر من الدولة العلية. وكيف يمنع من دخول بلاد الدولة وهو الصادق في الخدمة لأمير المؤمنين ودولته، والمخلص في نصيحة العثمانيين جميعًا، والساعي في تأليف القلوب وجمع الكلمة، والحاثّ على التعاون على الأعمال المفيدة نجاح الأوطان، ولقد كان نمى إلينا أن منع تلك الأعداد كان بأمر من جانب صاحب العطوفة، ملجأ ولاية بيروت المعظم، فسألنا من بعض ثقات بيروت الوجهاء عن حقيقة ذلك وسببه لنجتنبه إذا كان معقولاً، فكتب لنا ذلك الثقة أن حضرة الوالي يقول: إن مراقبة الجرائد مكلف بها غيره، فالمنع إنما يأتي من قبل المراقب لا من قبل عطوفة الوالي، وكتب لنا الثقة أن المراقب له أعوان، ويؤكد أن منع الجريدة إنما يكون من قبل أحد أولئك الأعوان. بقي لنا لمحة نظر إلى العلة الباعثة لأولئك الأعوان على منع ما منعوه والمرجح الذي رجحوه به. امتازت جريدتنا على الجرائد العربية بدوام الحث على التربية والتعليم، والنهي عن المنكرات، والترغيب في الفضائل، فلا يكاد يخلو عدد من أعدادها من ذكر هذه الأشياء كلها أو بعضها؛ لأن الجريدة منشأة لهذا، وأما الشؤون السياسية فإنما نلم بها في بعض الأحايين إلمامًا، وأكثر ما نورده من ذلك نمزجه بمزيج الأدب، ونفرغه في أكواب التهذيب. كنا نظن أن سبب عدم وصول بعض أعداد الجريدة إلى أصحابها إهمال البوسطة العثمانية في بيروت، ونعجب كيف أن جريدتنا تصل إلى كثير من بلاد الهند، بل وجزيرة سومطرا في أقصَى المعمور، ولا تصل إلى مشتركي بيروت المجاورة لمصر، حتى تبين لنا أن لا تبعة عليها في ذلك، لكننا نرجو من مدير عموم البوسطة أن يرد لنا الأعداد التي منعت وتمنع؛ لأنها ملكنا ولا يجوز اغتصابها منا وأخذها بغير حق، ونحن ننتفع بها هنا ببيعها، فإذا علم أن هذه أعداد منعت في بيروت وأرجعت إلى إدارة الجريدة، تتوجه رغبات المصريين للاطلاع عليها، ويتهافتون على ابتياعها بزيادة عن ثمن المثل، وتلك عادتهم. ردوها علينا ليزداد المصريون علمًا بقيمة العلم والنصيحة في بيروت، ويسبروا غور صدق الموظفين وأمانتهم، وليقارنوا بين هذه المعاملة المبنية على أن الجريدة مضرة وبين قول شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية: (يا ليت كل الجرائد كالمنار) ، ووافقه على ذلك قولاً كل من كان لديه من أكابر علماء الأزهر في مجلس إدارته، حيث قال الكلمة، وقول العلامة الأستاذ الشيخ حسن الطويل أحد أكابر علماء الأزهر: (إن ما يُكتب في المنار هو خير ما يُكتب في الجرائد) ، وأمثال ذلك مما يلهج به فضلاء المصريين وعقلاؤهم. وإننا نختم هذه الكلمات بقولنا الذي نعلنه على رءوس الأشهاد: إننا نخدم بهذه الجريدة أمتنا وسلطاننا بقدر فهمنا واجتهادنا، فمن كان يزعم من مراقب أو حاكم أو غيرهما أن في الجريدة ما يضر بمصالح الأمة أو الإمام فلينبهنا عليه ونحن ننشره له في الجريدة إن شاء، ونعمل بموجبه إن ظهر لنا أنه الصواب، وإلا فإننا نراجعه القول حتى تتضح الحقيقة فنتبعها إن شاء الله تعالى، والله على ما نقول وكيل، ومن منع الجريدة أو سعى بمنعها من غير تنبيهنا على ما يراه مضرًّا فيها لنجتنبه فهو مستبد خائن لأمته وسلطانه وعليه إثمه {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (يوسف: 52) .

الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب أثبتنا في النبذ التي كتبناها عن الحرب في العدد 12 و15 أن أسطول الأميرال سرفيرا الأسباني قد حصر في ميناء سنتياغو، فإذا حاول الخروج أسره أسطول الأميرال سمبسون الأميركاني أو دمره تدميرًا، وأن الأسبانيين قد أضر بهم السغب واللغوب (الجوع والتعب) ، بحيث لا يستطيعون التمادي في المطاولة، ولا بد أن يلجئوا قريبًا للاستسلام أو الاستبسال والاستماتة، وإن حالة جزائر فيلبين في خطر مبين، وإن أسطول الأميرال كمارا الذي جاء بورسعيد قاصدًا إغاثة تلك الجزائر لا يرجى أن يستفيد من سعيه وكده، وإنه إذا كان لديه من الفحم ما يبلغه مقصده يخشى عليه من فتك الأسطول الأميركاني به. قلنا هذا ورأينا جريدة التيمس وافقتنا على ما قلنا، كما وافقنا بعض كتبة الجرائد في الولايات المتحدة، ثم جاءت الحوادث مؤيدة له، فلقد حاول الأسطول الأسباني الفرار فهاجمه الأسطول الأميركاني ودمره تدميرًا، وأسر الأميرال سرفيرا مع بعض جنوده، وهلك الباقون غرقًا وحرقًا، والأخبار مفصلة في الأخبار البرقية، أما أسطول كمارا فقد ألجأته الحكومة المصرية إلى مبارحة بورسعيد من غير أن يحمل منها فحمًا؛ لأن الدولة العلية صاحبة البلاد قد أعلنت الحياد في هذه الحرب، وإقامته في ثغورها أو أخذه الفحم منها يعد مساعدة منها لأسبانيا على الولايات المتحدة. ولقد بلغ من تشديد الحكومة المصرية على الأسطول: أن النار شبت في مستودع الفحم في إحدى البوارج وهي في السويس، فطلبت الإعانة على إخمادها فلم تصادف معينًا، لكنها سمحت لبارجة الأميرال التي تعطل بعض آلاتها البخارية في القنال أن تمكث ريثما يصلح الخلل فيها. مر الأسطول في القنال وهو مؤلف من 12 سفينة، وقد دفع عنه رسم المرور لشركة القنال في باريس 344106 فرنكات، وجاوز السويس ما عدا بارجة الأميرال، فإنها بقيت في ميناء البلد بحجة إصلاح الخلل الذي أصابها، وقد ظن بعض الناس أن دعوى الخلل حيلة للمُكْث حتى ترد عليها الأوامر من أسبانيا، وربما كان صاحب هذا الظن غيدارًا (الغيدار الذي يظن سوءًا فيصيب) ، ولم يكد يبعد الأسطول مسافة عشرة أميال في البحر الأحمر حتى تأثره الأميرال كمارا ببارجته المتخلفة وأمره بأن يرجع أدراجه (أي من حيث أتى) ، فمر في القنال راجعًا إلى بورسعيد، وقد سافر بعضه إلى قرطاجنة وسيتبعه الباقي، والسبب في ذلك الخوف عليه من الأميركان أن يدمروه كما دمروا أخويه من قبل في منلا وسنتياغو، وقيل: إن هنالك سببًا آخر وهو أن حكومة الولايات المتحدة سيرت أسطولاً إلى نفس أسبانيا فإرجاع الأسطول إنما هو لأجل حماية جزائر كناري (الجزائر الخالدات) وسواحل البلاد من أسطول الأعداء المنتظر، ويوشك أن يكون السبب إرادة الصلح وتوقعه. لقد كان لتدمير أسطول سرفيرا أسوأ وقع في أسبانيا، وَجِلَتْ لِنَبَئِهِ القلوب، وذرفت العيون ورثى مَن في قلبه أثر للرأفة والرحمة لملك هذه البلاد الصغير، ورق لوصيته ووالدته الأسيفة، وكتمت الحكومة الأمر عن أهل البلاد فرقًا من حدوث اضطراب وهياج من مفاجأة الخبر، ومن العجيب أنها كتمته حتى عن أسطول كمارا، فلقد أنكر هذا الأميرال الخبر عندما أُعلم به في السويس. كل هذا الخذلان والخسران لم يخمد حمية الأسبانيين، ومازال فيهم من يقول باستمرار الحرب مادام في كوبا عسكري واحد منهم، وجاء في أخبار بريد أوروبا أن أسقف سيغوفيا أصدر منشورًا حض فيه على الحرب المقدسة. لكن البلاد لم تعدم الهادئين المتبصرين الذين يودون الصلح ويشعرون بخطر الاستمرار على الحرب، سواء كانت مقدسة أو منجسة، وقد أصدرت جمعية الحزب الاشتراكي منشورًا قالت فيه: إن الاستمرار على الحرب - بعد أن فقدت أسبانيا عُدد الدفاع - ضرب من الجنون، وإن جميع العمال يطلبون الصلح. بل أحس ماعدا الحرب العسكري بما أحس به الحزب الاشتراكي والعمال، وأمسوا يودون الصلح ويتوقعونه، وإن أظهر ناظر الحربية وناظر البحرية الإصرار على الاستمرار؛ لأن المستبسل لا ينظر إلى ما وراءه. يصر هذان الناظران الأعميان على ما يضر بدولتهما ضررًا يكاد يكون موتًا، أما كفاهما تحطيم الأسطولين وفناء العسكرين (البري والبحري) ، فقد ورد في رسالة برقية من سنتياغو لمدريد أنه لم يبق من الأسبانيين سوى ألفي مقاتل، فكيف يلقون نيفًا وعشرين ألفًا من الأميركيين والكوبيين كاملي العدد؟ ! ويزعم السنيور سغستا وزير أسبانيا الأول أن في جزيرة كوبا الآن نحو مائة ألف جندي خلا المتطوعين، وتعجز الولايات المتحدة عن الظفر بهم إذا غادرت سنتياغو وأوغلت في الجزيرة بعد ظفرها بأسطول سرفيرا، ولقد قال الوزير هذا القول قبل تدمير الأسطول، ولعل فكره قد تغير بسبب الانكسار وجنح للسلم، وإن كان فيها ترك كوبا بالكلية وإعطاء الامتيازات للفيلبين فإن عاند أجهز الأميركيون على أسبانيا، وقضوا عليها قضاءً، لا تنجو منه إلى أبد الآبدين.

مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة [*] اقترح هذا المشروع محرر جريدة وكيل الهندية الغراء في جريدته وكتب إلى جريدة المؤيد المصرية الغراء يدعوها إلى الحث عليه فلبت دعوته وكان ذلك أثناء صدور جريدتنا فأكبرنا شأن المشروع ونقلناه في العدد الأول عن جريدة المؤيد ملخصًا مع أن النقل في العدد الأول من جريدة عن غيرها يرمق بنظر الانتقاد. اعترفنا بعظيم فائدة المشروع لذاته ولأنه من الأعمال التي لا تقوم إلا بالشركات المالية وقلنا عند ذلك: إن الحث على الشركات المالية لأي عمل هو من أفضل المقاصد التي أنشئت جريدتنا لأجلها. طلب مقترح المشروع أن تكون اللجنة التي تؤلف لفتح الاكتتاب لهذا العمل تحت رئاسة مولانا السلطان الأعظم ففوضنا النظر في المشروع لحكمة مولانا ورجاله الصادقين الذين من شأنهم إظهار فوائد هذه الأعمال ومنافعها قبل تصديق الحضرة السلطانية عليها. وحيث كانت لهجة جريدة وكيل وجريدة المؤيد الغراوين تصرح بأن هذا المشروع أعظم مشروع ينعش الحياة ويجدد السعادة للأمة والملة، بيَّنا رأينا في سعادة الأمة فقلنا: (ورأينا أن سبب التقدم الذي يجمع كل الأسباب وترجع إليه جميع الوسائل هو تعميم التربية والتعليم) وبينا في ذلك العدد وفي سائر الأعداد أن مرادنا بالتربية والتعليم ما يشمل التنبيه على الأعمال النافعة والحث عليها مثل هذا المشروع العظيم. وقد أعاد الفاضل الهندي الكرَّة على المشروع فكتب فيه رسالة مطولة لحضرة الأستاذ الفاضل صاحب جريدة المؤيد أشرنا إليها في العدد الماضي ووعدنا بنشر ملخصها والكلام على انتقاده علينا وعلى المشروع نفسه ووفاءً بذلك نقول: بدأ الفاضل رسالته بالشكر والثناء على صاحب المؤيد لاعتنائه بهذا المشروع وإظهار التأسف لأن الرأي العام الإسلامي لم تدب فيه روح النشاط لإنجاز مثل هذا العمل ثم قال: وغير خافٍ على مَن لهم دراية بمثل هذه الأعمال أن مشروع سكة الحديد بين بورسعيد والبصرة يحتاج إلى نحو من ثلاثين مليونًا لإبرازه، فإذا كان العالم الإسلامي بأجمعه لا يقدر على الحصول على مثل هذا المقدار أو لا يثق بنفسه في جمعه، فعلى العالم وعلى الدنيا السلام! وإني لأشكر أيضاً رصفائي الذين ساعدوني بأفكارهم الصائبة في هذا المشروع الجليل، ولكن لا أوافق حضرتَيْ الفاضلين صاحبي جريدتي المنار ومعلومات فيما كتبا؛ لأن الأول بعد أن استحسن المشروع وعدَّد منافعه أبدى ملاحظتين: الأولى أن مولانا الخليفة الأعظم ورجاله هم أدرى بمنافع بلادهم من غيرهم وهذه حقيقة لا مراء فيها ذكرها الشاعر المشهور حافظ الشيرازي من سنين مضت في بيت شعر له (وقد ذكره بنصه فأغفلناه) . وليس هذا المشروع من المسائل السياسية بل هو مشروع تجارة ليستفيد منه المسلمون في جميع الأقطار، فضلاً عن أنه لا يليق بنا أن نقعد كسالى وننتظر عمل كل صالح لنا من رجل واحد أو من فئة مخصوصة؛ لأن هذا فوق طاقة البشر ومن الواجب على كل وطني غيورٍ مخلص الولاء لأمته وبلاده أن يعرض ما لديه من المشروعات على الجمهور وخصوصًا ذوي السطوة والنفوذ مؤمّلاً منهم تحقيقها. والملاحظة الثانية التي أبداها صاحب جريدة المنار الغراء هي أن أول ما يجب علينا القيام به تربية الشعب وبعد التربية يكون إنجاز مثل هذه المشروعات الجسيمة؛ ولهذا يرى أن من الواجب على ذوي اليسار أن يتعاونوا على فتح المدارس أولاً، ثم يتعاونون بعد ذلك على المشروعات الكبرى. وحقًا لقد صدق الأستاذ في أن التربية أساس نجاح الشعوب غير أن هذا لا يصح أن يكون عقبة في طريق كل عمل يرى فيه النفع العام خصوصًا، وأن الثروة المحلية من أقوى عوامل التربية، كما أن التربية من أقوى عوامل تنميتها. على أنه إذا كان الناس يتقاعدون عن المشروعات التجارية التي تعود عليهم بالفوائد المادية الجُلَى فكيف يجودون بالمال في سبيل التعليم الذي هو من المشروعات الخيرية وفوائده أدبية إلى زمن مديد. وزيادة على ذلك فإن إهمال مشروع جليل كهذا إلى أن تتربى الأمة التربية التي يريدها حضرته قد يضيع عليها فوائد جُلَى ربما تعذر عليها بعد ذلك إدراكها بل ربما تكون الأمم الأجنبية قد أسقطتنا بسبب فقرنا في مهواة الدمار وأمكنها بذلك أن تطردنا من بيوتنا. والتاريخ أعظم شاهد ونواميس الطبيعة دالة على أن العمل أعظم تأثيرًا في حياة الشعوب من نظريات التعليم البطيء، فضلاً عن أنه لدينا الآن في كل شعب إسلامي طبقة عالية متعلمة كافية لأن تجري أعمالنا على قواعد علمية راسخة ويمكنهم أن يكونوا قادة الهمم وأئمة الأفكار، فليس من عار علينا أن ندعوهم في مقدمة مَن ندعوهم. وإذا كان الواجب على الحكومات أن تقوم بكل المشروعات الكبيرة كما تقوم بتربية الشعوب فما بالنا نحمل واجب الحكومات على كواهلنا. نعم، إن كثيرًا من الحكومات لا يقوم بواجباته تمام القيام، أفلا يجب على الأمة في مثل هذا أن تعمل ما أهملت عمله الحكومة وخصوصًا في مشروع كهذا هو في اعتقاد ذوي النظر السديد أنفع من بضع مدارس علمية يتخرج منها مَن لا يعرف في الغالب سوى الكتب والنظريات. إن هذا المشروع مدرسة عملية في حد ذاته وهو ينجب لنا مئين وألوفًا من الشبان في الهندسة العملية، والأشغال التجارية، والمالية، والصناعية، وتكون هذه المدرسة التجارية الجديدة أساسًا لثروتنا ومهدًا لمستقبل اتحادنا وسعادتنا. ولست أراني بعد هذا في حاجة للرد على جريدة المنار الغراء؛ ففيما تقدم وفي ذكاء حضرات القراء كفاية لاستنتاج الحقائق من هذه العبارة القليلة. أما ما جاء في جريدة (معلومات) فإنه أدهشني للغاية؛ إذ كيف يخطّ قلم حضرة صاحب هذه الجريدة السيد محمد بك طاهر ما جاء فيها من الملاحظات حيث كتب في جريدته أن الدول الأجنبية ربما عارضت الباب العالي في قيامه بهذا المشروع وأن جلالة مولانا السلطان الأعظم ربما أبى أن يقبل مثل هذا المشروع تحت حمايته فإن كان الأمر كذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون. ولكن كيف يتاح لي أو لغيري أن يصدق هذا الكلام وهو لو قيل عن سلطان غير مولانا السلطان الحالي لاضطررنا لتصديقه إذا صدر عن مثل محرر جريدة معلومات الغراء. وإنما يستحيل علينا أن نصدق مثل هذا القول عن سلطاننا الحالي الذي اشتهر بحب جمع كلمة المسلمين وتوثيق عرى الروابط بين شعوب العالم الإسلامي وبديهي أن هذا المشروع التجاري من أجلّ وسائل تحقيق آماله فيما يريد. ومولانا السلطان الحالي الذي هو واسطة عقد الإسلام وروح حياة جامعته قد ملأ النفوس أملاً في المستقبل، فأنا لا أصدق ما قالته عنه جريدة معلومات أبدًا أبدًا. ونحن من الجهة الأخرى نرى الملوك فضلاً عن قبولهم المشروعات العظيمة تحت رعايتهم يشتركون قلبًا وقالبًا في أقل المشروعات التي تنجم عنها فائدة ما لبلادهم. إذن فكيف نصدق بأن جلالة مولانا السلطان عبد الحميد الذي يصرف جميع أوقاته ويشتغل بكل قواه في صالح رعيته يتأخر عن قبول مشروع جسيم كثير الفوائد لبلاده ورعيته مثل هذا المشروع الذي نحن بصدده. وبصفته أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين يرى جلالته أن من أوجب الواجبات عليه العمل فيما ينفع رعيته، وليس من نافع أجلّ وأعظم من هذا المشروع الجليل، وهو المشروع الوحيد الذي يساعده على مبدئه الحميدي من جمع كلمة المسلمين ولمّ شتات ثروتهم. ومن المحقق أن جلالته لو اهتم بهذا المشروع كان نجاحه مكفولاً، بل لو أخذه جلالته تحت حمايته لاستطعنا جمع أضعاف أضعاف نفقته. نعم، إن الكثيرين منا أصبحوا فقراء، ولكنَّا - والحمد لله - لا تزال فينا بقية تؤهلنا لجمع ثلاثين أو أربعين مليونًا. نعم، إن أغنياءنا قسمان: إما غني مبذر يصرف أمواله في الأمور التافهة، وإما بخيل يخاف على دراهمه من هبوب النسيم، فيدفنها في أعماق الأرض إلى أجل غير مسمى، وفي كلتا الحالتين وبال علينا، ولكن ثقة العالم الإسلامي في جلالة مولانا أمير المؤمنين تدعو الفريقين إلى تلبيته فيما يريد، وبمثل ذلك نتمكن من حفظ مال المبذر والانتفاع بمال البخيل فيما يعود عليهما وعلى الأمة بالخير الجزيل. وكتب لي صديق من الآستانة يقول: إن المسلمين ليسوا بأغنياء كثيرًا ليقدموا على هذا المشروع ويؤكد لي أني إذا وعدته باشتراك الهنود بالمال الكثير فإنه مستعد لعرض الأمر على جلالة الخليفة الأعظم، فجاوبته - كما ذكرت آنفًا - بقولي إنه إذا سمحت مكارم مولانا بأخذ هذا المشروع تحت رعايته فليكن آمنًا مطمئنًا باشتراك كثير من أغنيائنا بالأموال الطائلة. أما خوف جريدة معلومات من تداخل الدولة الأجنبية فذلك ما لا أفهم له معنى، وكيف يمنعنا أي إنسان على سطح الأرض من العمل لمستقبل بلادنا ونجاحنا فيه ومع أني من رعايا الحكومة الإنكليزية والعلائق بين الدولتين كما لا يخفى ليست بذاك - فلست بخائف أبدًا، بل أنا على وقوف تام من اشتراك ومساعدة جميع الرؤساء المسلمين لنا ولجميع المشروعات التي تعود بفائدة على العالم الإسلامي. حقًّا إني أعتقد أن زمنًا مملوءًا بالمعارضات والمشاكل والقلاقل والاضطرابات يجعل الإنسان هيَّابًا للأمور ويولد الإهمال والفتور في النفوس وما يقال في جانب الأفراد يقال في جانب الأمم والدول، ولكن ألم يحن - يا تُرَى - الوقت لنفض غبار هذا الخوف والفتور عن كواهلنا؟ ! لا شك أن الدولة العلية كانت عرضة لعدة مشاكل داخلية وخارجية ولكن ذلك أمر لا تكاد تخلو منه حكومة فلننظر إلى ما يعملون، إنما وقوفنا في موقف المُدافع طول هذا الزمن هو الذي سبَّب لنا فتور الهمم وضعف العزائم وساعد أعداءنا على معاكستنا. وإني لأستغرب صدور هذا المقال من رجل اشتهر بحب الخليفة وخدمة الإسلام من المبدأ إلى الختام، وإذا كنا أصبحنا بهذه الدرجة من الخوف من جيراننا حتى ضاقت الدنيا في وجوهنا فإذا أقدمنا على عمل تجاري كهذا يعد لنا العمل جريمة لا تغفر، تتخذها الدول حجة للتداخل في جميع شؤوننا؛ ليقضوا على حياتنا، فلنودع هذا العالم - بأمتعتنا ورحالنا - متمثلين بقول ألد أعداء الإسلام الذي قُضِيَ (يشير إلى خطبة ألقاها المستر غلادستون في مجلس الشيوخ أيام الحوادث الأرمينية قال فيها: من الواجب علينا أن نطرد الأتراك من أوروبا بأمتعتهم ورحالهم!) . ولنغرق نفوسنا في البحار أوْلى لنا من البقاء واحتمال هذا العار وكيف تسنَّى لصديقي ورصيفي الفاضل أن يقول ما قال، وهو تحت أشعة شمس الإسلام الساطعة وفي مركز دائرة المجد والرفعة؟ ! ألم يقدر صديق مولانا السلطان حق قدره؟ ! وكيف يصدق إنسان أن الرجل الذي يقاوم دول أوروبا جمعاء - حينما كان أعداؤه كلما تخيلوا قرب سقوط عرش آل عثمان، يكادون يطيرون طربًا وسرورًا وبينما كانت سحائب الأكدار منتشرة في جو الأقطار الإسلامية - ثم يخرج بعد ذلك جلالته ظافرًا منصورًا من هذه المعمعة، ولا يقبل هذا المشروع تحت رعايته خوفًا من اعتراض الدول الأجنبية ليس إلا. ومع أن بيني وبين جلالته أقطارًا شاسعة، وبحارًا واسعة، قد عرفت مقدار درجته وسمو مقامه وقدره في عالم السياسة، فكتبت رسالة في أيام تلك الشدائد باللغة الإنكليزية والهندية قلت فيها: إن مولانا السلطان سوف يخرج من هذه المشاكل بعون الله وقوته متوجًا بتيجان المنتصر الظافر على أعدائه، ولله الحمد قد صدقت فراستي

رسالة لصاحب الاكتشاف في الهيئة الأرضية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة لصاحب الاكتشاف في الهيئة الأرضية تزييف ما ذُكر في بعض كتب الهيئة واشتهر عند الكثير من ذويها من صحة كون اليوم الواحد جمعةً عند شخص وخميسًاعند آخر وسبتًا عند ثالث، ثم إرجاع ما ذكر دليلاً على ما ادعيناه في رسالتنا الاكتشافية الذي نشرتموه في العدد التاسع من جريدتكم الحكيمة تحت عنوان (اكتشاف) . سمعت أن بعض رجال هذا الفن يزعم صحة المسألة المذكورة، وأنها عين ما ادعيت به رسالتي، ثم بعد أن نشرتم ما نشرتم من تلك الرسالة على وجه لا يبقى معه لأحد عذر في السكوت - تبين لي أن مَن يزعم ذلك من أولئك كثيرون؛ حيث لم يحرر أحد عما نشرتموه شيئًا، لا بيانًا ولا ردًّا، وليس لذلك من سبب في الغالب سوى ما ذكرنا، (مع أن بين هذه المسألة وبين ما أدعيه فروقًا كبيرة نذكرها في آخر المقالة) ، لكن ذلك إنما يصلح سببًا في حق المتوسطين بهذا الفن، أما المبرَزون فيه، فلا لبداهة بطلان هذه المسألة عندهم. وأما إمساكهم عن الكلام فلا أقدر على تعيين سببه، وعسى أن يتكلموا في هذه الكرّة؛ لذلك أحببت أن أزف لأسماع قراء (منار) الهداية الكلام على بطلان تلك المسألة، وبيان منشأ الخطأ فيها وكلامي على ذلك - وإن كان مقصودًا به تنبيه أمثاله من الضعفاء بهذا الفن، وبمقدار ما تناله أيدي أفكارهم - لكنه مع ذلك يهم رؤساء هذا الفن الاطلاع عليه، حيث انتزعت من ذلك دليلاً على دعواي التي سبق نشرها، التي هي من الأهمية بمكان؛ لأنها ستكون الدليل والمرشد الوحيد على تلك النقطة، التي يجب أن يتفق العموم على اعتبارها مبدأ الطول؛ لذلك أرجو من أساتذة هذا الفن أن ينظروا كلامي الآتي بعين الناقد البصير، لاحتمال أن أكون مخطئًا أو واهمًا، ثم يذكروا ملاحظاتهم عليه من تصويب أو تخطئة؛ فإنه أحسن ما أهدانيه المرء خطئي وعيوبي. وقبل الشروع في الكلام على ما ذكرنا نذكر الأصل الذي تفرعت عليه تلك المسألة، إفادة لمَن لا يعلم ذلك، وتوصلاً لبيان منشأ الخطأ فيها، وهو: لو تفرق شخصان من موضع معين بقصد الدوران حول الأرض، فسار أحدهما نحو الشرق، والآخر نحو الغرب، وأقام آخر ثالث حتى عاد إليه المُغرب (السائر نحو الغرب) من الشرق، والمُشرق (السائر نحو الشرق) من الغرب، وفرض عودهما إليه في وقت واحد، كما كان تفرقهما عنه كذلك - لكانت الأيام التي عدَّها المغرب في مدة الدورة أنقص من أيام المقيم بواحد، وأيام المشرق أزيد بواحد، فلو كانت مدة الدورة عند المقيم (80) يومًا لكانت في حساب المغرب (79) ، وفي حساب المشرق (81) ، وهذه المسألة صحيحة، وهي من لوازم كروية الأرض؛ لأن من يسير نحو الغرب يصير يومه أكثر من 24 ساعة، بقدر ما يقطع في يومه ذلك من درجات الطول، فتنقص أيام دورته واحدًا عن المقيم، حيث يصير معيار يومه أكبر ومن يسير نحو الشرق يصير يومه أقل من 24، بقدر ما يقطع فيه من الطول أيضًا، فتزيد أيامه واحدًا عن المقيم، حيث مقياس يومه أصغر. (أما لو نظرنا لمقدار تلك الدورة من الساعة فنجدها متساوية في نظر الثلاثة؛ حيث تكون (1920) ساعة في حسابهم جميعًا) . ثم فرَّعوا على ما ذكر صحة كون اليوم الواحد جمعة عند شخص (هو المقيم) وخميسًا عند آخر (هو المغرب) ، وسبتًا عند ثالث (هو المشرق) ، وحقًّا أن هذا الاختلاف يكون على ما ذكروا من الصحة، لولا أن هناك مسألة أخرى من مقتضيات كروية الأرض، يعارض ما لها من الأثر السائرين في حسابهما، بحيث لو لم يراعياها لظهر خلل في حسابهما، وقد فات مَن فرَّع هذه المسألة على السابقة أن يراعي في تفريعه تلك المسالة أيضًا؛ فلذلك ترى عند تطبيق هذه المسألة خللاً في حساب السائرين من وجوه، وها نحن نطبقها على محل معين لينجلي لك ما قلنا فنقول: خرج زيد وبكر من دار السعادة -حرسها الله تعالى - في وقت واحد بقصد الدوران حول الأرض، فسار زيد نحو الشرق (لجهة الأناضول) ، وسار بكر نحو الغرب (لجهة الروم إيلي) ، وصار يحسب كل منهما الأيام في جميع سيره على ترتيبها المعروف، غير مراعٍ لتلك المسألة التي يجب على السائر مراعاتها، حتى رجعا لدار السعادة في وقت واحد، (فكان رجوع زيد من جهة الروم إيلي، وبكر من جهة الأناضول) ، وعلى هذا فغير خافٍ أنه لو كان اليوم عند أهالي الآستانة الجمعة - لكان في حساب زيد السبت، لكن نرى في حساب هذين حينئذ خللاً من وجوه: (أولاً) : أنه لم تقع تلك المخالفة بينهما وبين أهالي دار السعادة فقط، بل وقع مثل ذلك بينهما وبين البلاد التي مرا عليها في آخر دورتهما، ولولا ذلك لم يقع بينهما وبين أهالي دار السعادة اختلاف، كما هو ظاهر، فكان بين زيد وبين أهالي الروم إيلي، بل وجميع بلاد أوروبا أثناء مروره عليهم في آخر دورته من الاختلاف شبه ما وقع بينه وبين أهالي دار السعادة حين وصوله إليها، كذلك كان بين بكر وبين أهالي الأناضول، بل وعموم سكان آسيا أوان مروره عليهم في آخر دورته من الاختلاف شبيه ما وقع بينه وبين أهالي الآستانة، ولا يمكننا القول بوجود خطأ في حساب أولئك السكان، لما يأتي. (ثانيًا) : أن كلًّا منهما يرى صحة حساب من خالفهم الآخر، فزيد يرى صحة حساب أهالي آسيا الذين خالفهم بكر، وبكر يرى صحة حساب أهالي أوروبا الذين خالفهم زيد. (ثالثًا) : أنهما لو أرادا أن ينشئا دورة ثانية قبل تصحيح حسابهما، ونحا كل منهما الوجهة التي نحاها أولاً، فعند رجوعهما للأستانة إذا كان اليوم عند قاطنيها الجمعة يكون في حساب بكر الأربعاء وفي حساب زيد الأحد، وفي ثالث دورة كذلك، لو كان في دار السعادة الجمعة لكان في حساب بكر الثلاثاء وفي حساب زيد الإثنين وهلم جرًّا. بل عمل كل منهما بعد إتمام الدورة يدل على وجود خلل في حسابه السابق، حيث يكون مجبورًا في نفسه على تصحيح حسابه ليطابق حساب المقيمين. فإن قيل: نسلم أن الاختلاف المذكور بين السائرين والمقيم ينتج ما ذكرت من الخلل، لكن هل من طريقة لو درج عليها السائران لسلما من مخالفة المقيم عند إيابهما إليه بعد تسليم ما ذكرت سابقًا من أن أيام المشرق تزيد عن أيام المقيم واحدًا، وأيام المغرب تنقص عنه واحدًا؟ قلت: نعم، وذلك بتبديل التاريخ أثناء السير، بمعنى أنه بينما يكون اليوم في حساب السائر الأربعاء مثلاً وإذ به بعد لحظات عند وصوله لنقطة معينة يقول: صار اليوم في حسابي الآن الخميس، وليس ذلك لكونه انقضى اليوم الأول، بل ربما لم يمض منه سوى ساعة أو أقل، (إنما ذلك لمراعاة تلك المسألة التي تقدم أنه يجب على السائر مراعاتها وسيأتي بيانها) ، وهذا إذا كان السائر مغربًا في سيره. أما إذا كان مشرقًا فيلزمه أن يبدل التاريخ باسم اليوم الذي مضى في حسابه، أي بينما يكون اليوم في حساب الأربعاء وإذ به عند وصوله لنقطة معينة يقول: صار الآن في حسابي الثلاثاء، فيبدل المغرب اسم يومه ذلك وتاريخه من الشهر باسم وتاريخ اليوم الآتي، والمشرق باسم وتاريخ اليوم الماضي, وبهذا يزول جميع أنواع الخلل التي تقدم ذكرها، ولا يبقَى بين السائر وبين أحد اختلاف أصلاً، مع ما في ذلك من بقاء زيادة أيام المشرق عن المقيم في العدد، ونقصان أيام المغرب عنه (وتبديل التاريخ هذا أمر مشهور عند عظماء هذا الفن معمول به عند السواح في هذه الأعصار) ، ولو تأملت في حالة السائر لوجدته منساقًا لتبديل التاريخ على جميع الحالات؛ لأنه إذا لم يبدل التاريخ أثناء السير كما قلنا فهو مجبور لذلك بعد إتمام الدورة، وهو المعبر عنه سابقًا بتصحيح الحساب، فهلا كان ذلك منه أثناء السير في محله المناسب. فإن قيل: نعم، لو جرى السائر على ما ذكرت لسلم مما لحقه في الحساب السابق من الخلق، لكني أرى ذلك أعرق بالفساد من تلك المسألة التي حاولت تزييفها. وذلك أن السائر كان لا شك موافقًا في حساب الأيام للسكان الذين مر عليهم قبل تبديله التاريخ، لكن لما وصل للنقطة التي بدل عندها، سواء كان في محل معمور أو بعيدًا عن العمران، فلا يخلو حاله بعد ذلك من أحد أمرين: (1) إما أنه يكون مخالفًا في الحساب لمن سيمر عليهم بعد ذلك. (2) أو يكون موافقًا. فإن كان الأول تكون هذه أعلق بالبطلان، كما هو ظاهر، وإن كان الثاني فيلزمك على ذلك القول بوقوع اختلاف في حساب الأيام بين أمتين متجاورتين، بأن يكون اليوم الواحد في حساب إحداهما خميسًا، وفي حساب الأخرى الأربعاء مثلاً، وبعبارة أخرى يلزمك القول بوجود نقطة على وجه الأرض، يختلف في جهتيها حساب الأيام، فيكون اليوم الواحد عند الأقوام الذين في الجهة الغربية من تلك النقطة الخميس مثلاً، وهو عند الذين في الشرقية منها الأربعاء، وهذه المسألة لم يروها لنا أحد، بل تحكم بداهة العقل ببطلانها. أقول: إني قائل بالحالة الثانية (وهو أن السائر يكون موافقًا لمن سيمر عليهم بعد تبديل التاريخ، كما كان موافقًا لمن مر عليهم قبل ذلك) ، وأجزم بتحقق لازم هذه الحالة من وجود نقطة على وجه الأرض يختلف في جهتيها اليوم على ما ذكرت، وإن طالبتني بالدليل على ذلك فأقول: هو ما يجري عليه السواح في هذه الأعصار من تبديل التاريخ أثناء سيرهم، وهو أمر مشهور عند رؤساء هذا الفن فعليك السؤال منهم، وما ذكرته في الاستدلال على بطلانه لا يصنع شيئًا، كما لا يخفى. على أنا نرخي معك العنان إن كنت في ريب مما ذكرنا ونقول: إن السائر إذا لم يبدل التاريخ أثناء سيره لا شك أنه يصبح في آخر دورته مخالفًا في حساب الأيام للثالث المقيم، بل ولجميع من مر عليهم في آخر دورته، كما تقدم، وما لذلك من سبب سوى ما ذكرنا من الاختلاف الذي كان يقضي عليه بتبديل التاريخ عند انتقاله من إحدى جهتي نقطة الاختلاف للجهة الأخرى، لكن لما لم يراع ذلك حين انتقاله للجهة الثانية من نقطة الاختلاف ظهر بينه وبين من فيها من السكان اختلاف في حساب الأيام، ثم بقي هذا الاختلاف ممتدًّا بينه وبين كل من مر عليهم من السكان بعد ذلك، حتى وصل للمحل الذي ابتدأ السير منه، وهناك ظهر بينه وبين المقيم الاختلاف المتقدم، ومن يَدَّعِ أن سبب الاختلاف بين المقيم والسائر الذي لم يبدل التاريخ غير ما ذكرنا فعليه البيان. فإذًا مسألة السائر كيفما مشيتها تكون دليلاً قطعيًّا على ما ذكرنا من وجود نقطة يختلف في جهتيها حساب الأيام، وهذه هي المسألة التي قلنا فيما تقدم إنه يجب على السائر مراعاتها، وإذا لم يراعها يختل حسابه، ومراعاتها إنما تكون بتبديل التاريخ الذي تقدم شرحه. فإن قيل: إنما يتم استدلالك بذلك على ما ذكرت إذا كانت جميع السواح متفقين على تبديل التاريخ في نقطة واحدة، أما إذا كانوا يبدلون في نقطة مختلفة فلا؛ إذ ربما يدل على ذلك أن هذا التبديل أمر اعتباري لا أثر له، فهل عندك علم من هذا؟ أقول: إن السواح غير متفقين على التبديل عند نقطة واحدة، لكنهم متفقون على إيقاعه في الإقيانوس الباسفيكي؛ لأن منهم من يصنع ذلك عند منتهى الطول على اصطلاح قومه، ومعلوم أن منتهى الطول في جميع اصطلاحات أوروبا واقع في ذاك الإقيانوس، ومنهم من يلتزم ذلك عند بلد معين، فقد وقفت على أن بعض رباني (قبطاني) السفن يلتزم ذلك عند بلوغه مدينة (مانيلا) من جزائر فيلبين، فاتفاقهم على إيقاع التبديل في الإقيانوس الباسفيكي يدل على أن سكان غربي أميركا مخالفون شرقي آسيا في حساب الأيام على ما تقدم ذكره، واختلافهم في النقطة التي يحصل عندها التبديل من ذاك الإ

حال الجرائد المصرية والغميزة بالشيخ محمد عبده

الكاتب: سليمان العبد

_ حال الجرائد المصرية والغميزةبالشيخ محمد عبده في مصر والإسكندرية جرائد كثيرة لا نعرف عددها منها بضع جرائد معتبرة تجري لمستقر لها معقول، وتستقي كل واحدة منها من مشرب مورود أو معلول، والبواقي يعشن بما يأكلن من العوارض، فإن لم يُتَحْ لهن منها شيء وهن مما لا ينال العبيط - أنشأن ينهشن الأعراض الطيبة، ويملأن مواضغهن بلحوم الميتة، إلا أن يفتدي صاحب العِرض عِرْضه بشيء من المال، يعرضن أولاً ببعض الوجهاء، فإن جاء التعريض بالغرض فذلك، وإلا صرحن بالقول وإن كان تذقحًا وتجرمًا، من هذا النوع جريدة في القاهرة تسمى (النهج القويم) ، عرضت بغميزة حضرة الأستاذ الكامل والعلامة الفاضل الشيخ محمد أفندي عبده الشهير، فلم يبل، فصرحت بغميزته في مقالة نشرتها عن حال الأزهر الشريف، قلبت فيها الحقيقة ما شاءت. فأقامت النيابة العمومية الدعوى على صاحب الجريدة الشيخ محمد الشربتلي، ولدى الاستنطاق زعم أن الأستاذ الشيخ سليمان العبد أحد شيوخ الأزهر المشهورين هو الذي جاءه بالخبر الذي نشره عن الأزهر، وأغراه بنشره ووعده بترويج الجريدة بإزاء ذلك، فاستحضرالأستاذ الشيخ سليمان العبد للمحكمة وسئل من قبل النيابة عن علاقته بالأستاذ الشيخ محمد عبده وعن صحة ما يدعيه صاحب جريدة النهج، فأجاب بعد اليمين بأن علاقته بالأستاذ علاقة صداقة ووداد وصفاء ووفاء، وأن صاحب النهج كاذب في دعواه، وأيدت قوله شهادة الأستاذ الشيخ حمزة فتح الله وآخرين ضد شهادة صهر صاحب تلك الجريدة وعمال مطبعتها، وبعد هذا طفق محرر النهج يستعطف الأستاذ الشيخ محمد عبده، ويطعن بالأستاذ الشيخ سليمان العبد زعمًا أنه أغراه، ثم فنده وأنكر مدعاه، بسبب هذا كثر الإرجاف بأن الصداقة بين الشيخين منفصمة العُرى، فلاحظ هذا الشيخ سليمان، فكتب رقيمًا إلى أشهر الجرائد المصرية يقول فيه: بعد الحمد لله والصلاة والسلام على سيد رسله سيدنا محمد. إني أعلن في جريدتكم الغراء فوق ما قلته أمام النيابة العمومية كذب مَن ادعى أنني حرضت على تنقيص أخي وصديقي الأستاذ الشيخ محمد عبده، وإني أعتقد فيه حُسن الخِلال، وصفات الكمال، وليس بيني وبينه إلا كمال الصفاء والوفاق أدامهما الله بين رجال العلم وأمناء الأمة في ظل تعطفات مولانا الخديو المعظم، وتحت عناية مولانا صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر، آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه بقلمه ... ... ... ... ... ... ... ... ... سليمان العبد بالأزهر ويقال: إنه كان بين الشيخين بعض فتور وأنهما قد تصالحا على يد فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع، وستبرئ النيابة الأستاذ الشيخ سليمان وتقيم الدعوى على صاحب النهج، وعسى أن يتربَّى في هذه الكرَّة وينيب.

العلم والحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العلم والحرب [*] ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى ... ولكنها الأهواء عمت فأعمت يلهج الناس في الشرق بأن العلم قد ركدت في هذا العصر ريحه، وخبت مصابيحه، وأن الجهل قد عَمَّ بلاؤه، وحلكت ظلماؤه، فأصبح الناس في ظلمات لا يبصرون فيها، وحيرة لا يهتدون معها، يلهجون بهذا ولا يحركون لسانًا في البحث عن إنارة الظلمة، وكشف الغمة، لاعتقادهم بأن سُنَّة الله تعالى في الخلق أن يكون دائمًا في تدلٍّ وهبوط، وأن هذا العصر هو الدور الأخير من عمر الدنيا، فلا جرم أن أهله يكونون في الدرك الأسفل من الجهل والغباوة، والتواكل والتناوة (ترك المذاكرة والمدارسة) ، وكذلك لهجهم واعتقادهم في الدين، يعترف كافّتهم بأنه قد تركت أحكامه، واشتبهت أعلامه، بل تصرح خطباء المسلمين على منابر مساجدهم بأنه (لم يبق من الإسلام إلا اسمه ولا من القرآن إلا رسمه) وأنه (عظم البلاء واشتد على الناس الأمر، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر) ، وما أشبه هاتا. إن اعتقاد الناس بأن هذا من علامات الساعة ومن خصائص آخر الزمان قد سَهَّلَ على غويهم ارتكاب الفواحش، واجتراح السيئات، وأمسك لسان رشيدهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالعلماء (أكثرهم) يَغْشَوْن مجالس الظلمة والفساق ويعظمونهم ويمدحونهم ويعزونهم ويعززونهم ويغرونهم ويغرونهم، وإذا استفتوهم في بعض المحظورات يفتونهم، فما بالك ببقية الناس، وسائر الأصناف والأجناس، لكن الحالة السيئة التي انتهوا إليها من علم وعمل وعادات وتقاليد، يحافظون عليها أشد المحافظة، وينكرون على من أخل بها أشد الإنكار، واخترع الحذاء المعرّف بالكندرة أو الجزمة، فقامت قيامة العلماء على محتذيها، وألفوا الرسائل في إثبات أنها بدعة محرمة في الدين، ولا يزال فيهم مَن يتأثم من احتذائها ويذم فاعله ويقدح في دينه (والذم والقدح من المحرمات إجماعًا) ، ولو نظر هؤلاء الغلاة إلى أشخاصهم لرأوها محاطة بأمثال هذه البدعة من قنازعهم وعماراتهم (ما يُلبَس على الرأس) إلى أحذيتهم ونعالهم، ولو التفتوا إلى نفوسهم وأعمالها لرأوها منغمسة في البدع الحقيقية، أشار بعض العلماء الواقفين على سير العلوم العارفين بفن التعليم (البدجوجيا) إلى ترك قراءة الحواشي لطلبة العلم، فاضطرب لهذه الإشارة كثير من علماء الأزهر، واستكبروا الأمر واستنكروه؛ لأنه مخالف لما اعتادوه وألفوه، وهم يشاهدون البدع والمنكرات الحقيقية في أفضل عبادتهم في نفس أزهرهم ولا ينبس أحد منهم ببنت شَفَة في الإنكار على فاعليها، على أن الحواشي التي يتمسك بها جمهورهم الآن، بحجة أنها من آثار سلفهم - ليست مما يعرفه سلف الأمة الصالح، وإنما هي من بدع الخلف السيئة، بدليل انحطاط العلم وضعفه بعد شيوعها، كما يعرفه مَن له أدنى إلمام بالتاريخ، أنكرنا في جريدتنا على البدع والأضاليل التي تحصل في الجامع الأحمدي أيام الاحتفال المسمى بالمولد في مصر، فاهتزت لإنكارنا بلاد الشام، وأكبر الناس ذلك الإنكار، وما ذلك إلا لأن تلك المنكرات صارت عادات راسخة، نعم إن قومنا أصبحوا ينكرون المعروف، إذا لم يكن من المألوف، وينتصرون للمنكر، إذا اعتِيدَ وتكَرَّرَ، فكما أنكر علينا بعضهم الكلام في منكرات الموالد من قبل، قام اليوم آخرون ينكرون علينا قاعدتين صحيحتين وردتا في عرض كلامنا: (إحداهما) : أن سنة الله تعالى في الخلق أن يكونوا دائمًا في ترقٍّ ونمو، حتى يبلغ كل كماله، وأن الأمم التي تتدلى وتضوى فإنما ذلك لمرض ألم بها فأضواها، أو ضغط طرأ عليها فدلاها. (والثانية) : أن العلم والتعليم أفضل من الحرب والجهاد، وإننا ندَع الكلام في الأولى لعدد تالٍ، ونتكلم على الثانية فنقول: مهما أطلقنا العلم في مباحث التربية والتعليم فنريد به ما يهدي الناس إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية، فيدخل فيه علم العقائد وتهذيب الأخلاق، وإصلاح الأعمال والفنون الحربية والسياسية والاقتصادية، وهو بهذا الإطلاق لا يرتاب في تفضيله على كل شيء إلا عُمي القلوب كُمْه البصائر، وكيف وإن الجهاد الذي يغلطون بتفضيله على التعليم، لا يمكن أن يحصل بدون التعليم، بل أصل الدين والإيمان علم مدوَّن يؤخذ بالتعليم، وإذا كان العلم أفضل كل شيء - فتعليمه إفادة للأفضل، كما قال الإمام الغزالي، والاشتغال بإفادة الأفضل أفضل من الاشتغال بالفاضل والمفضول، فالعلم والتعليم أفضل الأعمال على الإطلاق، ومرتبة العلماء المعلمين تلي مرتبة النبوة، كما ورد في الأخبار الكثيرة. هذا أمر مُجمَع عليه إجماعًا مؤيَّدًا بالكتاب والسنة والقياس والشواهد العقلية، نعم وقع الخلاف في المفاضلة بين العالم والشهيد، والجماهير على تفضيل الأول لعموم الأدلة، ولحديث (يوزَن يوم القيامة مِدَاد العلماء بدم الشهداء، فيرجح مداد العلماء) وأثر ابن مسعود (والذي نفسي بيده ليودنّ رجال - قُتلوا في سبيل الله شهداءَ - أن يبعثهم الله علماء لما يرون من كرامتهم، وإن أحدًا لم يولد عالمًا، وإنما العلم بالتعلُّم) ومثل هذا الأثر له حكم المرفوع وأمثال هذا كثير وصرح بمضمونه جماعة من أئمة العلم كالغزالي وغيره. مَن نظر بعين البصيرة إلى مقاصد الشريعة علم أن الدين إنما ينتشر بالدعوة والتبليغ، لا بالإكراه والإلزام {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: 256) ، ورأى أن الحرب شر عظيم، وأن الوحي لم يأذن بالجهاد إلا بالضرورة، جريًا على قاعدة ارتكاب أخف الضررين، فالفضيلة فيه عرضية، لا ذاتية، والضرورة بالنسبة للمدافعة عن الحق الذي يعتقد المجاهد فيه سعادته، وسعادة البشر كلهم ظاهرة، وأما بالنسبة للمهاجمة وابتداء القتال، فالضرورة تعذر نشر الحق وتهذيب الناس بالإرشاد والتعليم، قولاً وعملاً بدونه لأن ابتداء القتال مشروط بعدم قبول المخالف الدخول في الذمة المعبر عنه بإعطاء الجزية التي هي شرطه، فإذا قبل الدخول في الذمة يحرم قتاله؛ لأنه يطلع حينئذ على أحكام الدين، وأخلاق أهله وأعمالهم وأحكامهم فإن راقت له واقتنع بحقيتها اتبعها عن رضى وإذعان وإلا كان هو المقصر ولا تبعة علينا ببقائه على باطله، وعلينا أن نعامله بالعدل ونساويه بالحقوق (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) {لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) . وأول ما نزل في الجهاد من الآيات مصرح بوصف المجاهدين بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ} (الحج: 41) ، وبأنه لولا إذن الله الناس بالمدافعة عن الحق لهدمت صوامع العباد، وبيع النصارى، وصلوات اليهود (معابدهم) ومساجد المسلمين. وقد أوردنا هذه الآيات بنصها في العدد الثاني والخامس، وأشرنا لما فيها من الحكمة. لما كان المنتقدون علينا تفضيل التعليم على كل ما عداه جامدين على تقليد الأوائل - أحببنا أن نذكر هنا نبذة في ذلك عن الإمام الغزالي فنقول: بيَّن هذا الإمام فضيلة العلم والتعليم والتعلم بالآيات والأخبار والآثار، ثم كتب فصلاً بيَّن فيه ذلك بالشواهد العقلية ابتدأه بذكر معنى الفضيلة في نفسها، وقسم الشيء النفيس المرغوب فيه إلى ثلاثة أقسام: ما يُطلب لغيره كالنقود، وما يطلب لذاته كسعادة الآخرة، وما يطلب لغيره ولذاته معًا كسلامة البدن، ثم قال ما نصه: وبهذا الاعتبار إذا نظرت إلى العلم رأيته لذيذًا في نفسه، فيكون مطلوبًا لذاته ووجدته وسيلة إلى دار الآخرة وسعادتها، وذريعة إلى القُرب من الله تعالى، ولا يُتَوَصَّلُ إليه إلا به، وأعظم الأشياء رتبة في حق الآدمي السعادة الأبدية، وأفضل الأشياء ما هو وسيلة إليها، ولن يتوصل إليها إلا بالعلم والعمل، ولا يتوصل إلى العمل إلا بالعلم، بكيفية العمل، فأصل السعادة في الدنيا والآخرة هو العلم، فهو إذًا أفضل الأعمال، وكيف لا وقد تعرف فضيلة الشيء أيضًا بشرف ثمرته، وقد عرفت أن ثمرة العلم القرب من رب العالمين والالتحاق بأفق الملائكة ومقارنة الملأ الأعلى هذا في الآخرة، وأما في الدنيا فالعز والوقار ونفوذ الحكم على الملوك ولزوم الاحترام في الطباع، حتى إن أغبياء الترك وأجلاف العرب يصادفون طباعهم مجبولة على التوقير لشيوخهم لاختصاصهم بمزيد علم مستفاد من التجربة بل البهيمة بطبعها توقر الإنسان لشعورها بتميز الإنسان بكمال مجاوز لدرجتها. هذه فضيلة العلم مطلقًا، ثم تختلف العلوم كما سيأتي بيانه وتتفاوت فضائلها بتفاوتها. وأما فضيلة التعليم والتعلم، فظاهرة مما ذكرناه، فإن العلم إذا كان أفضل الأمور كان تعلمه طلبًا للأفضل، وكان تعليمه إفادة للأفضل، وبيانه أن مقاصد الخلق مجموعة في الدين والدنيا، ولا نظام للدين إلا بنظام الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، وهي الآلة الموصلة إلى الله عز وجل لمن اتخذها آلة ومنزلاً لا لمن يتخذها مستقرًّا ووطنًا، وليس ينتظم أمر الدنيا إلا بأعمال الآدميين، وأعمالهم وحرفهم وصناعاتهم تنحصر في ثلاثة أقسام: (أحدها) : أصول لا قوام للعالم دونها، وهي أربعة: الزراعة وهي للمطعم، والحياكة وهي للملبس، والبناء وهو للمسكن، والسياسة وهي للتأليف والاجتماع، والتعاون على أسباب المعيشة وضبطها. (الثاني) ما هي مهيئة لكل واحدة من هذه الصناعات وخادمة لها، كالحدادة فإنها تخدم الزراعة، وجملة من الصناعات بإعداد آلتها، وكالحلاجة والغزل فإنها تخدم الحياكة بإعداد محلها. (الثالث) ما هي متممة للأصول، ومزينة لها، كالطحن والخبز للزراعة وكالقصارة والخياطة للحياكة، وذلك بالإضافة إلى قوام أمر العالم الأرضي مثل أجزاء الشخص بالإضافة إلى جملته، فإنها ثلاثة أضرب أيضًا، إما أصول كالقلب والكبد والدماغ، وإما خادمة لها كالمعدة والعروق والشرايين والأعصاب، والأوردة وأما مكملة لها ومزينة كالأظفار والأصابع والحاجبين. وأشرف هذه الصناعات أصولها وأشرف أصولها: السياسة بالتأليف والاستصلاح، ولذلك تستدعي هذه الصناعة من الكمال، فيمن يتكفل بها ما لا يستدعيه سائر الصناعات، ولذلك يستخدم لا محالة صاحب هذه الصناعة سائر الصناع. والسياسة في استصلاح الخلق وإرشادهم إلى الطريق المستقيم المنجي في الدنيا والآخرة على أربع مراتب: (الأولى) وهي العليا: سياسة الأنبياء عليهم السلام، وحكمهم على الخاصة والعامة جميعًا في ظاهرهم وباطنهم. (الثانية) : الخلفاء والملوك والسلاطين، وحكمهم على الخاصة والعامة جميعًا، ولكن على ظاهرهم لا على باطنهم. (الثالثة) : العلماء بالله وبدينه الذين هم ورثة الأنبياء، وحكمهم على باطن الخاصة فقط، ولا يرتفع فهم العامة إلى الاستفادة منهم، ولا تنتهي قوتهم إلى التصرف في ظواهرهم بالإلزام والمنع. (الرابعة) : الوعاظ، وحكمهم على بواطن العوام فقط. وأشرف هذه السياسات الأربع - بعد النبوة - إفادة العلم وتهذيب نفوس الناس عن الأخلاق المذمومة المهلكة، وإرشادهم إلى الأخلاق المحمودة المُسعدة، وهو المراد بالتعليم. وإنما قلنا: إن هذا أفضل من سائر الحرف والصناعات؛ لأن شرف الصناعة يُعرف بثلاثة أمور: إما بالالتفات إلى الغريزة التي بها يتوصل إلى معرفتها كفضل العلوم العقلية على الل

مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة كنا اقتصرنا عند الكلام على هذا المشروع لأول مرة على الاعتراف بعظيم فائدته، وتفويض الأمر فيه لحكمة مولانا السلطان الأعظم ووزرائه الصادقين، وذلك لأمرين: أحدهما: ما ذكرناه في العدد الماضي من كون المقترح هو أن تكون لجنة العمل تحت رئاسة مولانا أيده الله تعالى؛ لأنها لا يمكن أن تنجح بدون ذلك. وثانيهما: أن للمشروع وجهة سياسية نبينها هنا، لا كما زعم محرر جريدة (وكيل) الغراء من أنه عمل تجاري صُرَاح لا شائبة للسياسة فيه، ووافقه على ذلك المؤيد الأغر، وطفقا يعذلان المنار ومعلومات على تفويض الأولى الأمر للمرجع الأعلى، وقول الثانية بمداخلة الأجانب، أو معارضتهم، وإننا نذكر الآن فوائد هذا المشروع العظيم وغوائله، وبماذا تُتَّقَى الغوائل، وكيف ينبغي أن يكون طلبه سالكين طريق الاختصار والإيجاز فنقول: فوائد المشروع: (1) التمكن من إنشاء نواشط (ج ناشط وهو الطريق ينشط يخرج من الطريق الأعظم يمنة ويسرة) ، ومد فروع من الطريق الأكبر إلى الحجاز والشام والأناضول ثم إلى اليمن، وبذلك تتصل بلاد الدولة العلية بعضها ببعض وتكون جسمًا واحداً. (2) إقدام المسلمين على الأعمال الكبيرة وتمرنهم عليها، وهي لا شك منشأ الثروة والقوة والعزة، بل الحياة القومية. (3) كوْن هذا العمل ينبوع ثروة للمسلمين القائمين به لا ينقطع ولا يغيض. (4) انتفاع الألوف الكثيرة من الصناع والعمال وتعيشهم به زمنًا مديدًا، ولا شك أن أكثرهم يكونون من العثمانيين وسائر الشرقيين. (5) كون هذا المشروع (كما قالوا) مدرسة عملية ينجب لنا مئين وألوفا من الشبان في الهندسة العملية والأشغال الصناعية والمالية (وهذه الفائدة مغايرة للثانية بالضرورة) . (6) عمران بلاد السلطنة الداخلية، لا سيما بلاد العراق والجزيرة، فإذا وطئت المسالك للمهاجرة إلى تلك البلاد، وسهل النقل منها وإليها، فلا تَسَلْ عن مستقبلها، وكيف لا وتربة دجلة والفرات تربي على إبليز النيل. قال هيردوتس المؤرخ: إن حاصلات الحبوب في تلك البلاد تزيد عن البذر مائتي ضعف إلى ثلاثمائة ضعف، وإن ساق القمح والشعير يبلغ عرضه غالباً أربعة أصابع، وأمسك عن ذكر ارتفاع نبات الدخن والسمسم، قال: لأنه لا يكاد يصدقه السامع، وقال سترابو: إن غلة الشعير تكون قدر البذرة ثلاثمائة مرة، وقال بليني: إن الغلة هناك تكون مائة وخمسين ضعفًا، وقد يتوهم السامع أن في الكلام مبالغة، وقد قال شسناي: لو بذلت في تلك الأرض بعض عناية الأقدمين لرأينا من خيراتها مصداقاً لقول هيرودتس. (7) توسيع دائرة التجارة شرقية وغربية، فإن هذه البلاد التي ينشأ فيها السخط هي معقد الارتباط والاتصال بين الخافقين (الشرق والغرب) . (8) التعارف والتآلف واجتماع الكلمة بين العثمانيين والهنديين والإيرانيين العاملين في المشروع والمشتركين فيه، ويدخل في ذلك قوة نفوذ الدولة العلية المعنوي في الممالك الهندية وغيرها من البلاد الإسلامية. (9) اتصال الشرق الأدنى بالشرق الأقصى، وذلك مبدأ لجمع كلمة الشرقيين عموماً والمسلمين خصوصًا، واتحادهم إذا أرادوا العمل للاجتماع والاتحاد. (10) صيرورة طرفي الخط وهما: البصرة والعريش من أهم المراكز التجارية في العالم. (11) تسهيل السبيل وتقريب المسافة على حجاج الشرقيين من الصين والجَاوَا إلى سوريا وفلسطين. (12) إغناء البلاد الحجازية عن الحاجة إلى الأجانب في القوت، فإن أكثر قوت عرب الحجاز جوز الهند الذي يرد إليهم من مواني البحر الأحمر الذي قبضت إنكلترا على قطريه، فصارت تعتقد أن حياة الحجاز أصبحت في قبضتها حكماً، وأنه لا بد أن يأتي يوم يمكنها فيه قطع موارد الرزق عنه لإخضاعه أو إعدامه -والعياذ بالله تعالى -، وإذا تسنى لها الاستقلال بالسلطة على البحر الأحمر- لا قدر الله تعالى - فإن ذلك لواقع ما له من دافع، إلا بامتداد السكك الحديدية من الحجاز إلى بلاد الدولة الخصبة، ولا تحسبنَّ أن هذا القول منا ناشئ عن التخيل والذهاب مع الأفكار في إساءة الظن بالإنكليز، بل هو من مقاصدهم الأولى في احتلال مصر، كما يؤخذ من مطاوِي كلامهم في خطبهم وجرائدهم ومن تقفَّى سير سياستهم، ولقد تمثل المقطم في أثناء الفتنة الأرمنية بأبيات منها: ها مصر قد أودت وأودي أهلها ... إلا قليلاً والحجاز على شفا (13) تمكن الدولة العلية في أي وقت من جمع قواها العسكرية في أي رجا من أرجاء بلادها. (14) الحطّ من شأن ترعة السويس التجاري والسياسي التي كانت مجلبة الشقاء لمصر؛ لأن هذا الطريق أقرب الطريقين إلى الهند وسائر أنحاء الشرق الأقصى، وإذا تقشع سحاب النفوذ الأجنبي عن مصر وعادت الترعة خالصة لها من دون الأجانب فإنها ترضاها على انحطاط شأنها، بل لا تراها منحطة إذا كان ما نقص من منافعها عاد بالزيارة على السلطنة التي هي جزء منها ونقول كما يقول العوام في أمثالهم: (من الكيس إلى الجيب) . (15) نكاية الإنكليز فإن هذا المشروع جائحة على تجارتها وسياستها؛ لأنه أقرب الأبواب إلى الهند، فإذا أمكن إنفاذه تضطر بريطانيا العظمى إلى السعي في مرضاة الدولة العلية ومسالمتها إن لم نقل إلى محالفتها ولو بتسوية المسألة المصرية، وإلا تفعل فالهند على خطر من طروق نفوذ روسيا العسكري ونفوذ الدولة العلية الروحي والعسكري إذا هي اتفقت مع روسيا وما ذلك يومئذ ببعيد. (16) احتياج روسيا وفرنسا وألمانيا لمحالفتنا أو مصافاتنا ومرضاتنا لمصالحهن التجارية في الشرق، ولمقاصد الأولى السياسية على الأخص، فإن تم لنا هذا المشروع قبل أن نتحالف مع أحد فلنا الخيار في حلاف من نشاء وإلا فالسابقون السابقون أولئك المقربون هذا ما عنّ لنا من فوائد هذا المشروع. غوائل المشروع: ليس هناك غوائل كثيرة وإنما هما غائلتان: (الأولى) أن ما ينتظر من فوائد هذا المشروع الحسية والمعنوية للدولة العلية وللعالم الإسلامي - الذي يسيء أوروبا كلها - وما ينجم عنه من المضرات التجارية لشركة ترعة السويس، لا سيما إنكلترا وفرنسا، ولسائر شركات البواخر التجارية، وما تخشاه بريطانيا من مضرته السياسية، كل ذلك يحمل هذه الدول على عرقلة المشروع ومعارضته قبل إيجاده ما استطعن إلى ذلك سبيلاً، ثم على اتخاذه ذريعة لتداخلهم في شؤونه إذا هو وجد بحجة حقوق رعاياهم الهنديين وغيرهم. يقول الفاضل محرر (وكيل) : إن هذا عمل تجاري محض لا يقدر أحد من الدول أن يعارض فيه؛ لأنه لا دخل له في السياسة البتة. ونحن نقول أيضًا: إن الدولة إذا أرادت إنفاذ هذا المشروع لا تقدر الدول على معارضتها فيه رسميًّا، ولكنها تُحدث لها فتنًا ومشاكل، وتتهمها بأنها تؤلف شركة من مسلمي الأرض لأجل إحياء التعصب الديني الذي يتجرمون علينا به دائمًا مع بعدنا عنه، ويتنصلون منه مع ملابستهم له، ولعل حضرة الفاضل لم تنسَ اتهام الجرائد الإنكليزية للدولة العلية بثورة الهند الأخيرة ومنعها جرائد الآستانة العلية من دخول الهند، وهذا هو الذي لاحظه السيد طاهر بك صاحب (معلومات) الغراء حيث قال: (أما ما أشار به الكاتب الهندي، من حصول هذه الأمنية على يد لجنة تؤلف تحت مراقبة الحضرة الشريفة السلطانية الشاملة النفوذ في العالم الإسلامي، فمع كونه مصيبًا في نفس الأمر لا يخلو في الظاهر من محاذير عظيمة لا تخفى على اللبيب، إذ لا فائدة لدولتنا العلية في أن تستدعي لنفسها عراقيل جديدة وصعوبات متنوعة من جارتها الدول الأوربية اللاتي لا يغفلن عن تأويل كل أعمالها بما يوافق أوهامهن - ليته قال أهواءهن -، ولا يفترعن اتهامها بما لم يخطر لها ببال في كل أقوالها وأفعالها، فالأجدر بنا أن نقنع بالممكن القريب ونجتنب كل ما يَئُول بالتهلكة على العالم الإسلامي والوطن العزيز العثماني، فنأتي الأمور من مقدماتها متنبّهين إلى عواقبها. وما أصوب قول رفيقتنا الجديدة (المنار) من أن صاحب البلاد أدرى بمصالحها ومنافع أهلها نصره الله تعالى ووفقه في كل الأمور) اهـ. هذا ما قالته جريدة معلومات، وله وجه ظاهر، نعم إنها بالغت بالتهويل لا سيما قولها: (يئول بالتهلكة ... إلخ) . (الغائلة الثانية) : أن سهولة المواصلات وتمهيد طرق التجارة في داخل بلاد السلطنة السنية من موجبات تداخل الإفرنج في أحشائها ونسلانهم إليها من كل حدب، وكيف لا ينسلون إليها مع السهولة، وهم الآن يتغلغلون فيها مع الحزونة، وهؤلاء الإفرنج إذا دخلوا قرية أفسدوها، وإذا عمدوا إلى ثروة قوم أبادوها، وإذا تبوَّأوا بلادًا شرقية استأثروا بمنافعها واستخدموا أهلها؛ لأن أهل الشرق كسالى متقاعدون، وهم نشطاء مجدون، وأهل الشرق فقراء جهلاء، وهم أغنياء علماء، وهذه بلاد الشرق كلها تشهد بصحة ما نقول لا سيما التي تمهدت سبلها، وأنشئت الخطوط الحديدية فيها كالبلاد المصرية، وكفاهم جهلاً وغباوةً أن الدولة تمنحهم امتيازات بأعمال عظيمة نافعة، فيبيعونها للأجانب الطامعين في بلادهم، كما جرى في امتيازات الخطوط الحديدية بين بيروت والشام، وبين الشام وبره جك، وبين بيروت وجبيل أو طرابلس التي باعها أكابر تجارنا للفرنساويين، فإذا كان هذا حال أغنيائنا وكبرائنا، فكيف لا يكون كل مشروع نافع سببًا لبلائنا وشقائنا، وغنيمة وسعادة لأعدائنا، ولا يكتفي أولئك الدخلاء بالقبض على أزمة المنافع، والاستئثار بالثروة، بل يخلقون الفتن، ويستثيرون الإحن، وإذا وقعت فتنة بشؤمهم أو مما لا تخلو عنه طبيعة الوجود، يغرمون الدولة العلية الأموال الطائلة باسم التعويض عما فات تجارهم من المكاسب، أو أنفقوا عند نزول المصائب، والشاهد على هذا قريب، فلا تكاد تخلو جريدة من جرائد العالم اليوم عن ذكر مطالب الدولة الأوروبية من الباب العالي التعويض عما خسره أتباعهم في أطواء فتنة الأرمن الأخيرة. بقي علينا البحث في التوقي من هاتين الغائلتين وبماذا يكون. ورأينا أن الغائلة الأولى لا يمكن تلافيها إلا بمحالفة روسيا أو ألمانيا أو إنكلترا، والأرجح لنا ما يظهر أن سيدنا ومولانا أمير المؤمنين مرجح له، وهو حلاف ألمانيا أو الدول الثلاث لما نبينه في النبذة التالية. وأما الغائلة الثانية فعلاجها: السعي الحثيث في تعميم التربية والتعليم على الوجه الذي شرحناه في العدد السادس عشر. ولا يقال: إن هذا يحتاج لزمن طويل؛ لأننا نقول: إن إتمام المشروع أيضًا يحتاج لزمن طويل إذا أخذنا في غضونه بالتربية والتعليم اللذين يشعران قلوبنا معنى الأمة والوطن، ويزعجان نفوسنا للتمسك بهما ووقف حياتنا على خدمتهما، لا يتم المشروع إلا وروح الوطنية والقومية قد انتشر فينا انتشارًا نرجو معه أن تكون فوائد عملنا لنا، لا لأعدائنا فعلى هذا فلتحض الجرائد في كل حين ولمثله فلتتوجه همم العاملين. كيفية الطلب: إن دعوة الجرائد إلى هذا العمل قبل عرضه على المرجع الأعلى، والوقوف على موقعه من ذلك الرأي الأسمى، دعوة تشبه البناء على غير أساس، والاستنباط بدون مراعاة شروط القياس، والذي نراه في هذا أن يشرح الموضوع شرحا تامًّا، ويعرض على الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى بواسطة أحد رجال الما بين المقربين منها [1] ، فإذا آنس الوسيط منها ارتياحًا وقبولاً للمشروع يؤخذ في الدعوة إليه، وتتألف اللجان للاكتتاب، وتتصدى الجرائد للحث والحض والتنش

من نحالف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ من نحالف؟! تحالفت الدول الأوروبية ذوات الشأن في السياسة العامة إلا الدولة العلية وإنكلترا. ولقد كان اختيار الحياد من مولانا السلطان الأعظم ومن ساسة بريطانيا العظمى عن حكمة ودهاء وحفظ للموازنة الأوروبية وخدمة للسلام العام إلا أن تحالف روسيا وفرنسا أثار في جو السياسة رياحًا سوافي شاهت لها الوجوه، وتزعزعت لها أركان الشرق الأقصى، عصفت فلم تقو على مجاراتها إلا الريح المنبعثة من مهب بلاد الألمان، جرثومة التحالف الثلاثي وملاك أمره، ولقد أحست إنكلترا بأنها لا سبيل لها إلى مقاواة هذه الرياح المتناوحة ومصادمتها منفردة، بل تحتاج في مجاراة المحالفتين إلى دعامة تدعمها وحليفة تشد أزرها، فألانت القول للدولة العلية بعد إغلاظه، وأظهرت الميل والانعطاف، بعد الغطرسة والانحراف، أملاً بالعود إلى الود والولاء الذي تحفظ به منافعها في الشرق الأدنى، فقد شاهدت أن تجارتها فيه أمست بائرة، وسياستها باتت في ربوعه خاسرة، ووجدت بالحرب الأميركية الأسبانية منفذًا للدخول على الولايات المتحدة مرتدية برداء الحب والوداد، مدلة بوشيجة الرحم، مدلية بأواصر القرابة، لتحمي حقيقتها، وتمنع وثيقتها في الشرق الأقصى، فقد شعرت بأن ظلها ثمة في تقلص، ومدها جزر أمام روسيا وألمانيا وفرنسا. وأما الدولة العلية فلم تدع المسألة المصرية موضعًا للصلح بينها وبين الإنكليز وأصعب شيء، دون المسألة المصرية سهل، وأما الولايات المتحدة فقد آنس الإنكليز منهم ميلاً لحلافهم، وربما قضي الأمر بعد انقضاء الحرب. كذلك شأن الدولة العلية في الحاجة إلى الانضمام والانضواء إلى إحدى المحالفات، فإن البقاء على الانفراد خطر على سياستنا بعد اجتماع الدول العظمى والتئامها، ولكن: من نحالف وأوروبا بأسرها عدوة لنا، وإنما ترغب دولها التقرب منا لنيل مآربها وتحقيق مطامعها. إنكلترا تختار بقاءنا وإضعافنا، وروسيا رئيسة التحالف الثنائي تود إتلافنا، وألمانيا رئيسة التحالف الثلاثي تقنع منا برواج تجارتها في بلادنا، فليس لها مطمع في بنية المملكة وجثمانها، ولا مستعمرات إسلامية لها تخاف من قوتنا عليها، ولم تغتصب منا بلادًا فتحذر الحقد منا عند العجز، والتألب لاسترجاعها عند القدرة، ولا هي منتحلة للرياسة الدينية ومدَّعية حماية النصارى فنخشى من دسائسها في إلقاء الفتنة بين أبناء مملكتنا من المسيحيين والمسلمين، وإحداث المَشاغب والهرج كما هو شأن الدول الأخرى ذوات المآرب التي رمزنا إليها، إذًا إن الأجدر بنا أن نفضل محالفة الألمان ونصطفيهم على سائر الأقتال والأقران. عَرَفَ هذا وغيره مما لا تصل أفكارنا إليه سيدنا أمير المؤمنين السلطان الأعظم عبد الحميد خان الثاني أيده الله تعالى وسدده، وأنس من الإمبراطور العظيم غليوم الثاني ميلاً للوداد ورغبة بالاتحاد، فكال له مولانا الصاع بالصاع، وزاده من مكارمه كما هو شأنه في حب التفضل، وشدت في زيارة الإمبراطور الأولى للآستانة أواخي التآلف، وسيبرم في الزيارة الثانية مرير التحالف، بل صرحت بعض الجرائد الأوروبية بأن هناك وفاقًا سريًّا، وحلافًا خفيًّا، والذي لا ريب فيه أن الود محكم العُرى. أظهر الإمبراطور ضلعه مع الدولة العلية في الحرب الأخيرة، فعرف له مولانا هذا الجميل، ولما آذن مولانا بعزمه على زيارة الآستانة العلية والقدس الشريف صدرت الإرادات السنية آمرة بالاستعداد للاحتفال بالزائر الكريم، ولقد أكبرت جرائد أوروبا أمر الاستعداد، وذكره بعضها في معرض الانتقاد لأغراض في النفوس. ومما جاء في جرائد بريد أوروبا ما ذكرته (الديلي ميل) وملخصه: أن الإمبراطور لما زار الآستانة من قبل بنى له جلالة السلطان قصرًا في حديقة يلدز بثلاثين ألف ليرة، وأمر الآن بأن يزاد في زخرفه وزينته، حتى قاولوا فراشًا على فرش غرفة واحدة من غرفاته بأربعة آلاف ليرة، فما بالك بفُرشه كلها، وسينفق على تزيين العاصمة سبعين ألف ليرة، وأربعين ألف ليرة على إصلاح جسر غلطة، وتقدر هذه الجريدة أن نفقات الزينة مع نفقات الخمسة عشر ألف عسكري - التي صدرت الإرادة السنية بأن يعمل لها ملابس جديدة، وتكون في فلسطين مدة زيارة الإمبراطور لها -لا يقل المجموع على مائتي ألف ليرة، هذا ما عدا الإحسانات والإنعامات، التي تنالها حاشية الإمبراطور من المكارم السلطانية، وقد صدرت الإرادة السنية بأن تسافر فرسان الحرس الشاهاني في يلدز إلى فلسطين لحراسة الإمبراطور مدة إقامته هناك. إن مظاهر الابتهاج ومعدات الحفاوة والإكرام للإمبراطور العظيم هي أهم ما تشتغل به الجرائد الأوروبية في هاته الأيام، لا سيما الجرائد الروسية والفرنسوية والإنكليزية، فمن هذه الجرائد ما ينصحنا بحفظ أموالنا وعدم الإسراف فيها، ومنها ما يحذرنا من مطامع الإمبراطور في سوريا والأناضول، وأنه لا بد أن يأخذ منا إحدى المواني السورية، بل نقل سعادة مدير جريدة الأهرام عن محدث له من الإنكليز في الآستانة العلية - أنه قال نقلاً عن السفير هويت الإنكليزي المتوفى: (ليست فرنسا هي الدولة الطامعة في سوريا، بل هي ألمانيا وحدها) ، وتقول الجرائد الإنكليزية: إن جلالة الإمبراطور سيجزينا على حفاوتنا واحتفالنا به بإجازة الاحتلال الإنكليزي في مصر والتصديق عليه، وذلك عندما يرى إصلاحاتهم وفتوحاتهم في أثناء زيارته لمصر. أما وسر الحق إن هذا النصح والإنذار لم ينشأ عن الحب والود، ولم يكن الحامل عليه الإخلاص والصدق، وإنما ساء القوم اتفاقنا واتحادنا مع هذه الدولة القوية التي يعززها دولتان أخريان، علمًا منهم بأن ذلك يقطع أسباب مطامعهم في بلادنا فعمدوا إلى التنفير، لكنهم أفرغوه في قالب النصيحة والتحذير، ولكن قد تفجر من أنابيب أقلام بعضهم الحسد، فرقم على صفحات جرائدهم جملاً تُشعر بتوقعهم ضياعَ مصالحهم وذهاب منافعهم من الشرق الأدنى، والإدالة بها لألمانيا بسبب ولائها لنا واتفاقها معنا. نسأل الله تعالى أن يوفق سلطاننا ودولتنا لما فيه خير البلاد والرعية إنه سميع مجيب.

مقتبسات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتبسات من الجرائد قررت نظارة الحربية إنشاء ثلاث وخمسين قلعة على التخوم العثمانية مقاربة بعضها لبعض، وأن تبذل العناية الكبرى في تحصينها تحصينًا متينًا على الطراز الجديد. وقررت أيضًا أن يكون في حدود تساليا ستة عشر تابورًا من العساكر، وأربع كتائب مدفعيات جبلية، وألاي سواري تحت قيادة الفريق سعادة عمر نشأت باشا، ويكون في جهة يانيا اثنا عشر تابورًا من البيادة، وثلاث كتائب مدفعية جبلية بقيادة خيري باشا. لما هاجر اليونان من (يِنِي شهر) حين الحرب اليونانية أودعوا مفاتيح ديارهم عند أحد القسيسين، وأمنوا جانبه في المحافظة على ما بها من الأمتعة، وبعد انتهاء الحرب ورجوعهم إلى أوطانهم تفقدوا منازلهم فوجدوها خالية من كل متاع نفيس، فسألوا القسيس عن الأمر فقال لهم: إن العساكر العثمانية هي التي نهبتها وسلبتها، وكادوا يصدقونه لولا أن أحد العارفين بأحوال ذلك القسيس دلهم على حقيقة الحال، وأعلمهم بأنه هو المختلس الناهب لأمتعتهم، وأرشدهم إلى بئر في بيته أخفيت الأمتعة فيها، فتوجهوا إليها فرأوا بئرًا تحفّها الأشجار، ولما فتحوها وجدوا جميع ما نُهب منهم تحت غطاء البئر، وعلموا أن القسيس ردم البئر أولاً بأحجار، ثم وضع فيها تلك الأمتعة وغطاها ووضع الأشجار حولها تمويهًا على العيون، ومثل هذه الوقائع - مما لم يظهر أمرها - تدلك على أن العساكر العثمانية بريئة من كل ما يرميها به ذَوُو الأغراض من وصمة السلب والنهب، وأن الجماعة هم الذين ينهبون أنفسهم بأنفسهم، وإذا كان مثل القسيس يقدم على هذا الفعل، فما لك بمن ليس عنده زاجر من دين، ولا رادع من تحريم. ... ... ... ... ... ... (مصباح الشرق) *** قال اللورد سالسبوري أثناء الحوادث الأرمنية: إن المرحوم المستر غلادستون - ومَن على شاكلته - هم المسؤولون عن كل نقطة دم تُسفك؛ لأن مذابح الأرمن نتائج تحريضات خطباء وكُتاب الإنكليز. وقال هذا اللورد - عقيب انكسار اليونان-: إن الواجب أن يُرهن المائة وعشرة نواب الإنكليز عند الدولة العثمانية حتى آخر درهم من الغرامة الحربية، هذا ما قاله كبير وزراء جلالة الملكة وهو بمثابة اعتراف رسمي بأن الخسائر التي أصابت رعايا الدول الأجنبية في بلاد الدولة لم تكن إلا بسبب الدسائس الإنكليزية، ومع هذا فإن حكومات أوروبا تطالب الباب العالي بالتعويضات، ولو أنصفت لطالبت اللورد سالسبوري بأقواله، وطالبته بما أصاب رعاياها من الخسائر، ولكن من أين يأتي الإنصاف والخلاف بين دولة شرقية وبين بعض الدول الأجنبية؟ ! ... ... ... ... ... ... ... ... (الرائد المصري)

منتدياتنا العمومية وأحاديثها

الكاتب: محمد عبده

_ منتدياتنا العموميةوأحاديثها [*] لفضيلة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده الشهير إن أحاديث الأمم تدور على محور أفكارها؛ إذ اللسان هو المترجم عما يختلج بالضمير من الصور المحفوظة والمعاني المتخيلة على اختلاف أشكالها وتنوع فنونها، فباختلاف صنوف البشر في المعارف والأمزجة تتباين مفاوضاتها وأحاديثها وتتشعب مجادلاتها ومحاوراتها، وإن تواريخ الأمم الغابرة وحوادث الملل الحاضرة لترشدنا إلى ذلك بأجلى بيان، فهذه الأمة العربية في صدر الإسلام وقُبيله لما مال عنصرها إلى التحبب في خُلُق الجرأة، وحملتها شهامة النفس على الجولان في ميادين الغزو والفتوح، قصرت أحاديث رجالها على ما يتعلق بحرب ماضية، ومعركة آتيه، تعقد مجالسها على ذكر جياد الخيل ومحاسنها، شارحة معايب الأقواس وأوتارها، منتقلة إلى الكلام عمن اشتهر من رجالها بالإقدام والبسالة والانتصار، وقصائدهم الشعرية مشحونة بأوصاف الحماسة، وخطبهم النثرية موقوفة على مدح النزال والبراز، وبقيت هكذا أحاديثهم إلى أن ضعفت تلك الحواس، واستعيض عنها بالميل إلى الراحة والانغماس في النعيم، فتولد فيهم من ذلك المحبة والعشق، ولهجت شعراؤهم بأوصاف الغزل بعد الحماس، وبِنَعْتِ الحاجِبيْن والخصر بعد الإسهاب في وصف القوس والوتر. وهذه اليونان لما كانت ديارها مهد الحكمة ومطلع شموس العرفان، دارت أحاديث قومها في المجامع على تحديد العلوم، وتبيين مهايا الأجناس والفصول، يطلب الواحد منهم منزل صديقه ليتحاور معه في كيفية إنتاج الأقيسة المنطقية مع تغاير أشكالها، فيطول بينهما الحديث، وهما بين مثبت وسالب، ومعترض ومجيب، وهذا في حال كون المجالس الأخرى غاصة بجماهير النبلاء. فئة تغوص في البحث عن أمزجة المواد وعناصرها، وأخرى تطلق عنان اللسان لاستكناه حركات الأفلاك ومراكزها، فإذا عقدوا عزائمهم على المزايلة والانصراف، ودعتهم أوقات أحاديثهم شاكرة لهم على ما أودعوا فيها من تقرير المسائل، وإزالة الحجاب عن كثير من المشكلات والمعضلات، واستقبلتهم الأيام بوجه باش، وثغر باسم، فرحة بما سيكون لها في بطون التواريخ مرسومًا بمداد الثناء على صفحات الأعصار والدهور، لما ستبرزه فيها أفكار هؤلاء القوم إلى عالم الوجود من المطالب العالية المؤيدة بالبراهين الصحيحة والحجج السديدة، وهذا مع محافظتهم وقت المحاورة والجدال على رعاية الآداب، وحرمة قوانين المباحثة. وهذه أمم أوروبا تشعبت مجالسها، وتنوعت مواضيعها، تحمل إلينا الجرائد من أخبارها ما لا نكاد نصدقه لولا علمنا بوفرة معلوماتهم وكثرة مخترعاتهم، فيومًا نسمع بأن ذوي الشركات التجارية اجتمعوا للمداولة فيما يلزم اتخاذه لإنشاء بنك مالي يكون مركزه في إحدى الممالك الأسيوية مثلًا، فتطول بينهم المخابرة في ذلك، ويعلو صوت الخلاف بين أعضائها، فمنهم من يرجح إنشاءه في الأملاك الفلانية من تلك القارة محتجًّا بأن فلاحي تلك الديار يقترضون النقود بفوائد باهظة لاحتياجهم وشدة فقرهم، فتكون الثمرة أجزل والربح أوفر مما لو أنشئ هذا البنك في إحدى الديار الأفريقية التي أصبحت لخصب تربتها ووفرة حاصلاتها وأخذ الأموال الأميرية منها بتقسيط عادل لا تحتاج إلى استقراض من مالنا، بل ربما إذا دامت لنا هذه الحال يتوفر لها كثير من إيراداتها التي تقتدر بها على إنجاز مشروعات عمومية حتى تصير بذلك معادلة لأعظم ممالك أوروبا في الثروة واليسار، فيجاوبه الآخر قائلًا: إن الأجدر بنا أيها الشريك أن نعدل عن إنشائه في أي مركز من مراكز آسيا مطلقًا إلى اتخاذه بديار مصر، وأما ما قيل من أن تخفيف الضرائب عنها مع حسن تربتها وكثرة إيراداتها يجعلانها غنية عن الاستقراض، فذلك إنما يكون لو رجع فلاحها عن سرفه وسفهه، وإلا فما دام على هذه الحال فإنه يكون أبدًا مثقلًا بديوننا، يقرع أبوابنا آناء الليل وأطراف النهار، ولو أثمرت أرضه ذهبًا وعوفي من جميع الضرائب سرمدًا، فإنه - على ما يقال - رهن عند أحد البيوت المالية فيها ما يجاوز العشرين في المائة من أطيانها تأمينًا على ما أخذ منه من النقود في مدة لا تزيد عن العام كثيرًا، فيستحسن الحضور بيانه، ويختم الجلسة بالعزم على المشروع فيما قصدوا ليدركوا من الربح مثل من سلفوا. وبينما هم كذلك ترى فئة أخرى تتروى في مد سكك حديدية في إحدى الإيالات المشرقية وإنشاء أسلاك برقية فوق البحار وتحتها تسهيلًا للمواصلات التجارية، وإحكامًا للعلاقات الدولية، وأخرى مجتمعه لتتخير من بينها نبيلًا يكون رسولًا من قِبلها عند رجال إحدى البلاد، فيعقد معها شروط التزام مصالح عديدة، وأراضي فسيحة، ومياه عذبة ما كانت أهل تلك الديار في حاجة إلى التزامه. ونرى على مقربة من هذه الفئات جماهير متألبة، وجماعات متضافرة يحسنون صنع الخطابة، ولا يجهلون تاريخ الخليقة، يقلبون العالم بين أصابعهم، ويقطعون وجه البسيطة في أقل من لمح البصر، وهم جلوس يتحادثون يعينون أوقات الفرص الملائمة للاستيلاء على تلك الجزيرة أو هذه الإمارة أو ذلك الإقليم. يستطلعون الرسائل المتوالية الورود من أبناء جلدتهم المنبثين في أنحاء المعمورة لاستكشاف خبايا القبائل والشعوب التي هم بين ظهرانيهم، يذللون المصاعب ويمهدون طرق الاستيلاء والفتوح، ونحن عن كل ذلك غافلون نواصل الليل بالنهار في اللهو واللعب. بلغت منا الخرافات والهذيانات مبلغًا جسيمًا، حتى استحوذت علينا فأنستنا ذكر الحقائق النافعة والمصالح المهمة، وصارت تلك الأخلاط الفاسدة كملكات للنفس، يتعسر زوالها إلا بذهاب الأرواح والأشباح، تعقد عندنا المجالس ولكن على ذكر أنواع الخمور والمسكرات، يطرب المجتمعون فيها بذكر أوصاف الغيد الحسان ويصرفون ثلثي الليل على قهاويهم (هكذا اصطلح وإلا فهي مواضع رجس ودنس) يشربون فيها من المواد الممزوجة بالعقاقير السامة قدرًا لا تسوغه طباع الوحوش الضارية ولا الأسود الكاسرة، وفي خلال ذلك يتناقشون ويتخاصمون، حيث إن كلاًّ منهم يفضل مألوفه من ذلك، بل مألوفات أصحابه، ويعدد أوصافه ويذكر محاسنه ويشرح مزاياه، من حَوَر عيون، ورقة خصور، وعذوبة منطق، ومما شاكل ذلك. ويحتج عليه بأن فلانًا لا يبيت في ذلك المخدع ولا يطأ ذلك الموضع حتى يدفع عشرين أو ثلاثين جنيهًا وما شابه ذلك. والآخر يناقضه وينافسه ويروم إقناعه في مقام الجدل، ولا يروق لهم الحديث إلا إذا انتقلوا إلى القذف في شرف من بينه وبينهم جامعة ديوانية، وعلاقة مجاورة منزلية، أو لا هذه ولا تلك، وإنما حدتهم شهرة ذكره إلى معرفته، فيرمونه بالجبن وعدم الذوق، لكونه نزيه النفس، أنف من سلوكهم، ويرومونه بغلظ الطبع والتقشف، ويسمونه (نطعًا) وهم في خلال ذلك يهزؤون ويسخرون ويضحكون بصوت جهوري (ولا يبكون وهم سامدون) يتبارون في ميادين البذاء، واستحضار كل ما قبح وخبث من الألفاظ، وهو المسمى عندهم (تنكيتًا) فقسموا الألفاظ العرفية أبوابًا وفصولًا ليستعملوها في هزلياتهم السخيفة، حتى كثرت الفصول وتنوعت المواضيع، وإذا تبارى اثنان منهم في باب منها استداما ساعة أو أكثر، وهما مع الحضور في خلال ذلك يرفعون أصواتهم بالضحك المزعج، فمن عجز منهما قبل صاحبه أوسعوه توبيخًا، وصفقوا للمنتصر إعلانًا بظفره، وأجلسوه مكانًا عليًّا، ويسمونه المعلم الماهر، وهذه فئة غير قليلة في المدن، وأكثرها من أبناء الأغنياء عديمي التربية. وأما مجالس ذوي الكمالات من أهل المدن فإنها إن اتفق وتجردت عن الحديث في منكر، فهي لا تخلو عن حشو، فإنه على الأقل لا بد أن يتشرف المجلس ولو زمنًا قليلًا بحلول الغيبة أو النميمة المرافقتين لنا مرافقة الشخص لظله، اللهم إلا إذا سمحت الصدفة وكان زمن المجلس قليلًا جدًّا لا يسع سوى التحية دون ردها. وإنهم لن يستطيعوا أن يبرهنوا على خلاف ذلك، فإني قائل: إذا لم يجلسوا مستديمين الصمت ومنصرفين كذلك، فبمَ ينطقون؟ هل بعلم شرعي وقد جهلوه أو تجاهلوه؟ أم بعلم صناعي وقد عادوه؟ أم فن طبي وقد تناسوه؟ أو حديث عن منفعة عمومية وقد أغفلوها؟ أم استفسار عن حوادث سياسية، وقد زعموا أن الاشتغال بها لا ينفع؟ فإذًا لا سبيل إلا الاشتغال بألعابهم المعتادة كالشطرنج والنرد (الطاولة) وغيرهما من أصناف الملاعب، وإنها دون ريب لتحملهم إلى أسوأ مما فروا منه، كما هو مشاهد. نعم يوجد بيننا بعض الأذكياء الذين يتحدثون عن المعارف والسياسة، ولكن فضلًا عن كونهم نزرًا يسيرًا فإن أعمالهم غير منطبقة على ما يقولون، لكونها جملًا حفظوها من غير أن يعقلوا لها معنى، أو لكونها أمورًا إجمالية ضيقة المجال لم يبحثوا في تفاصيلها. هذه هي المجالس المنزلية. وأما المجالس التي تعقد على قهاوي الشعراء والحشاشين المخرفين، فلا نستطيع تفصيل ما فيها من العجائب والأحاديث الجنونية، لكثرتها وتشعب مسالكها سيما حديثهم فيما يتعلق بالجن والشياطين، أو خرافات المعاتيه والمجانين. كما أننا نكتفي في الكلام على منتديات الأرياف؛ لأنها وإن قيل فيها ما يتعلق بالزراعة ومصالحها، ولكن لا تخلو من كلمات تدل على تمكن الحسد والحقد في أفئدتهم، وأن العداوة والبغضاء راسختان في ضمائرهم، بحيث يعسر زاولهما، وهذا مع مساواة غالبهم لأهل المدن في البغي والفجور، وإن بعض عمد البلاد أسوأ حالًا وأقبح عملًا من أهل المدن كما هو معروف. فهذه أحاديثنا في مجالسنا، وتلك أقاويل غيرنا في مجامعهم، سردناها لذوي النقد والبصيرة، معرضين عن كثير مما نتفوه به وقت اجتماعنا، ولعلنا نذكره وقتًا ما، إذا رأينا لهذه البذرة أوراقًا يانعة وثمارًا طيبة، فيقوى فينا ضعيف الأمل ويحيا ميت الرجاء، ونشمر عن ساعد الاجتهاد ونطلق لسان العظة، داعين إلى طرق النجاح. وإنا لنخشى أن تقابَل هذه الجملة بما قوبلت به أخواتها من قبل، كأن يقول زيد: ما كتبت هذه الجملة إلا للتنديد على أقوالي، ويظن مثله عمرو، فيصرفونها عما وضعت لأجله من خالص النصح ومحض الإرشاد، من غير أن تناط بشخص مخصوص أو فئة معينة، فالملحوظ فيها - كسابقاتها - الخُلُق من حيث تعلقه بالأفراد أيًّا كانت، كما هو الشأن في جميع المواعظ والنصائح العمومية، لا المرء المخصوص المتصف بتلك الأخلاق حتى تكون تنديدًا وطعنًا، فعسى أن لا نسمع بعد بمثل تلك التصورات من أحد من الناس، ويعلموا أن ما كتب وسيكتب صادر عن نفوس تسعى في تهذيب الأخلاق ما استطاعت، ويسرها أن ترى أبناء الديار رافلة في حُلل من الكمالات متحلية بالعزة والفخار، حقق الله آمالنا وختم لنا بحسن مآلنا. اهـ. (المنار) كتب الأستاذ هذه المقالة في 10 ربيع الأول سنة 1298 أي: من بضع عشرة سنة، وفيها من المناسبة لحال هذه الأيام ما ترى. أما ما ذكره عن أحاديث الأوروبيين ومقاصدهم من ذلك فهو: (1) إنشاء شركاتهم بنكًا في مصر؛ لأن أغنياء المصريين وعمدهم ما داموا لا ينفكون عن السفه والتبذير فهم في غمرات الديون التي تجلب على بلادهم رَيْب المَنُون، وإن أنبتت تربتهم الذهب الوهاج، وأعفتهم الحكومة من كل إتاوة وخراج، وقد تقرر الآن إنشاء البنك في مصر. (2) إنشاؤها سككًا حديدية في بعض الأيالات الشرقية. وقد جاء في الجرائد الأوروبية أن (الكونت ولدمير كاينتز) ابن أخت س

نهضة مسلمي الهند ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نهضة مسلمي الهند (1) شعرت جميع الشعوب والأمم من جميع المِلَل والنِّحَل في الشرق بشدة حاجتها إلى التربية والتعليم المفيدين للقوة والعزة المنميين للثروة الموصلين للسعادة، إلا أن المسلمين كانوا أبطأ شعورًا وأضعف إحساسًا بذلك، وأجدر بهم أن يكونوا هم السابقين لجميع الشرقيين؛ إذ الغربيون لم يهتدوا لذلك إلا بما اقتبسوه من أنوارهم من قبل. ولم يكن السبب في ذلك ضعف قابلية المسلمين واستعدادهم؛ لأن الاستعداد الطبيعي لا يختلف باختلاف الاعتقاد، ولا تعاليمهم الدينية؛ لأنهم كانوا أشد تمسكًا بالدين علمًا وعملاً أيام أخذوا الفنون عن مخالفيهم وجدُّوا في إنمائها واستثمارها، ولكن العلوم لما دالت إلى الغرب وغمرته بخيراتها وبركاتها، ثم اندفع أهله إلى الشرق مكتسبين ومستعمرين - كان أول من أخذ عنهم معارفهم النصارى للتناسب بينهم في الدين ومذاهبه، ثم تبعهم الوثنيون في الهند وفي اليابان، وعادى المسلمون علومهم لعداوتهم السياسية، حتى توهم عامتهم وجهالهم أن تلك العلوم مضادة للدين نفسه، وبقي المسلمون أجيالاً في الكسل والخمول، لا يرجعون إلى آداب دينهم التي نهضت بهم في النشأة الأولى، ولا يتمسكون بالفنون العصرية التي نهض بها غيرهم عادوا الأولى عملاً، والثانية قولاً وعملاً، وتقيدوا بسلاسل العادات المضرة والتقليدات المكسلة، حتى صاروا مضغة بين الأفواه ولماظة بين الشفاه، تلوكهم دونُ الأمم وتلفظهم لفظ النواة، وحتى ساغ لمثل رزق الله حسون أن يقول: أي قطر وليس فيه يهود ... ونصارى وفيه بيع وشراء ولقد صدق الشاعر؛ فإن المسلمين أصبحوا أفقر الأمم مع أن دينهم يأمر بالجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، وجمهور أئمتهم يفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، وكتابهم يعلمهم أن يقولوا في دعائهم: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 201) وقد وصف حال بعض الناس بقوله: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الحج: 11) . أليس من العجيب أن يفوق أبناء هذه الملة في الكسب أهل كتاب ينص على أن الغني لا يدخل ملكوت السموات حتى يدخل الجمل في سم الخياط، ثم يرمونهم بأن دينهم هو الحجاب بينهم وبين الرقيّ في مراقي العمران، والصعود على مدارج المدنية العزيزة، كما نراه في جرائد أوروبا كل يوم، وكما نسمعه من أهلها وعنهم في كل مجتمع، وقد أقررناهم على انتقاصهم لنا حيث لم نكذبهم بقول ولا عمل. نعم قد دافع عنا بعض المدافعة من ليس من أبناء ديننا، كصاحب جريدة الأهرام الغراء، فقد رأيت فيها غير مرة القول بأن المسلمين يساوون أو يقاربون غيرهم في الاستعداد للترقي، وأن دينهم لا يمنعهم اقتباس العلوم من غيرهم، وإننا نشكر سعادة صاحب الأهرام على مدافعته عن هؤلاء الذين رضوا بأن يكونوا مع القاصرين، ولولا ذلك لدافعوا عن أنفسهم بالبرهان القوي وهو العلم النافع والعمل الرافع، ولا سبيل إلى هذا إلا بالتربية الصحيحة التي أهملوا أمرها فكانوا من المهمَلين. هذا مجمل من خبر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها: تلدغهم عقارب الحوادث، وأفاعي الكوارث من الجحر الواحد ألف مرة، وهم على ما هم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا يلدغ المؤمن من جُحر مرتين) حتى إذا ما بلغ السيل الزبي طفقوا يشعرون بحقيقة شؤونهم، ويبصرون ما يحدق بالوسط الذي يعيشون فيه من الأخطار إذا ظلوا على سكونهم وخمولهم، إلا أن هذا الشعور والإبصار لم يهديا إلى الطريق القصد ويزعجا إلى السير والسلوك فيه إلا مسلمي الهند، فقد رأينا جرائدهم تلهج دائمًا بالتربية والتعليم، لا سيما جريدة (محمديان) التي تُطبع باللغة الإنكليزية في مدراس، فقد اقترحت هذه على المسلمين إنشاء رسائل في التربية الإسلامية وما هو وجه الصواب فيها، ووعدت بجائزة نفيسة لمن يصيب الغرض وتكون رسالته أفيد للمطلوب، ولا تزال الرسائل ترد عليها في ذلك، وإذا تسنت لنا ترجمتها فإننا ننتقدها انتقادًا. (البقية بعد) ((يتبع بمقال تالٍ))

مناقشة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناقشة انتقدت جريدة (الاتحاد المصري) الغراء على جريدتنا (المنار) وعلى جريدتي (المؤيد ووكيل الغراوين) بمواصلة الكلام على مشروع سكة الحديد بين البصرة وبورسعيد، بل زعمت أننا جعلنا أبحاثنا وقفًا على ترويج هذا (المشروع الإسلامي الخطير) وكررت أسفها لأن أبحاثنا ذاهبة سدى، وأننا لم نتمكن من إتمام ما نسميه (المشروع الإسلامي) وقد انحرفت زميلتنا عن الجادة في هذا الانتقاد في أربعة أمور: (1) قولها: إننا جعلنا أبحاثنا وقفًا على ترويج المشروع، ولا تصح هذه المبالغة فيمن ذكر شيئًا مرتين أو ثلاثًا، لا سيما إذا كان هناك أسباب عارضة دعت لإعادة القول ومرادَّة الكلام، كمراسلة محرر وكيل الفاضل للمؤيد الأغر، وكمدافعة المنار عن نفسه حيث خطئ في بعض قوله. ولا نعني بهذا الكلام التنصل من وقف أبحاثنا على المشروع لأن فيه غضاضة تقتضي ذلك، كلا إن المشروع جدير بأن توقف عليه الأبحاث وتفتل له الأنكاث، ولكننا توخينا بيان الحقيقة فقط. (2) قولها: إننا لم نتمكن من إتمامه. وإنما نحن باحثون لا عاملون، وقد وفينا البحث حقه بحسب ما عنّ لنا حتى نسبتنا للإفراط. (3) قولها: إننا سمينا المشروع: (بالمشروع الإسلامي) وتسميته (بالمشروع التجاري العظيم) كانت أتم وأوفق لاتصاله بكثير من البلدان، ومروره في وسط بلاد تدين بكثير من الأديان، ولأن مشروعًا عظيمًا كهذا لا يمكن أن يقوم به أفراد معدودون، ولا بد فيه من الاكتتاب، وهذا لا يمكن أن يحصر في يد فئة معلومة، ومن الضروري أن تساعده البانكات وهي لغير المسلمين، وهذا من عجيب القول، ونرده بأننا لم نسمِّ المشروع بما قال (المشروع الإسلامي) بل سميناه جميعًا: (مشروع سكة حديد ... إلخ) ، وإن أرادت بالتسمية الجعل، أي أننا جعلناه إسلاميًّا، نقول: إن مقترحه اشترط أن تكون الشركة المؤسسة له من المسلمين، وتكلمنا عليه بناء على ما اشترط، وذكرنا منافعه الإسلامية باعتبار كون أصحابه من المسلمين، كالنفع العائد إلى بلاد الحجاز، وكزيادة نفوذ خليفة المسلمين الديني في الممالك التي تشترك في العمل به، كالممالك الهندية، كما هو شأن نفوذ حضرة البابا عظيم النصرانية في بلاد الدولة العلية وغيرها من الممالك التي يسكنها النصارى، وذكرنا منافعه لأهل الشرق عمومًا والعثمانيين خصوصًا؛ لأنه يقع منهم وفي بلادهم، بل ذكرنا منافعه لأهل الغرب أيضًا لسبقهم في ميادين التجارة، وأي مانع يمنع أن يكون للمسلمين شركة مالية، وإن للنصارى شركات مثلها كثيرة. إن كان هذا يعد إجحافًا بحقوقهم فهم السابقون إلى الإجحاف، وما ذكره من العلل للعدول عن جعله إسلاميًّا محضًا، ضعيف لا يفيد المطلوب؛ لأن (مروره في وسط بلاد تدين بكثير من الأديان) لا يضر بأهل تلك الأديان، ولا يمس حرمة معتقداتهم، كما أن السكة الحديدية وسائر المعاملات التجارية التي للإفرنج في بلادنا لا تمس حرمة ديننا، ولم نعارضها بناء على أن أصحابها مخالفين لنا في الاعتقاد. على أن البلاد بالنسبة لمثل هذه الأعمال العامة لا تنسب لساكنيها وإنما تنسب لحكامها، وحكام البلاد التي يمر فيها المشروع مسلمون، ومع هذا كله فإن مشرب جريدتنا (المنار) حث العثمانيين من جميع الملل على الاشتراك في الأعمال النافعة؛ لأنه أدعى إلى التآلف وأسرع في عمارة البلاد، وهذا المشروع من الأعمال النافعة التي نود اشتراكهم في مثلها، وما منعنا عن اقتراح اشتراكهم فيه بخصوصه (مخالفة لمحرر وكيل) إلا أننا اقترحنا امتداد الخطوط الحديدية للحجاز الشريف، ولا يجوز في ديننا أن يكون لغير المسلمين ملك في تلك البلاد؛ لأنها بمثابة الجوامع والمساجد (معابد دينية) . وأما قولها - الاتحاد الغراء - (إن مشروعًا عظيمًا كهذا لا يمكن أن يقوم به أفراد معدودون ... إلخ ما مر) ، فهو ناشئ عن ذهول لا يحتاج إلى الرد، وإلا فكيف يتسنى لصاحبها أن يقول: إن المسلمين أفراد معدودون، وإن الاكتتاب لا يمكن أن يحصر بين فئة معلومة (يعني المسلمين) . وقولها: (من الضروري مساعدة البانكات لها وهي لغير المسلمين) في غاية الغرابة؛ إذ كيف يتصور جناب كاتب تلك الجملة أن جمعية مؤلفة من مسلمي الأرض (كما هو المفروض) تحت رئاسة السلطان الأعظم يمنع عنها مثل البنك العثماني المال الذي قد تحتاجه منه؛ لأنها جميعه إسلامية، ومال البنك لغير المسلمين. يمكننا أن نستدرك على رصيفتنا فنقول: إن جمعية كهذه لو أرادت أن تبني جوامع ومساجد لم يمنع عنها أي بنك المال ما دام في مأمن عليه؛ لأن البنوكة لا دين لها، ولا قوانينها دينية. وإن قالت: إن الشركات المالية أيضًا لا دين لها، فلمَ خصص مشروعكم بالمسلمين، قلنا لها: إن ذلك لما ذكرناه آنفًا من الوجهة الدينية، وكما أن (جلالة السلطان الأعظم لا يفرق بين مذاهب رعيته، ولا يعرف إلا العثمانيين الصادقين) كما قالت، فكذلك نحن تبع لسلطاننا، لا نفرق بين المذاهب في الأعمال التي لا تمس الدين ولا تتعلق به، وأما الأمور التي لها علاقة بالدين فنتمسك فيها بديننا، ولا نعارض أحدًا في دينه، بل نقول كما قال كتابنا العزيز {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) . (4) قولها في مباحثنا: (إنها ذاهبة سدى؛ لأن مشروع سكة حديدية تصل بين سواحل الأناضول والبصرة قد منح امتيازه إلى كوتار الفرنساوي) كما روينا ذلك مفصلاً في عدد سابق، ولو تنازل زملاؤنا المعتبرون إلى تلاوة ما كتبناه في هذا الشأن لما تحملوا مشقة البحث والتنقيب لإثبات أمر ونفي آخر. ونحن نقول: إن منا من قرأ ما كتبتْ في ذلك، بل نقلناه في العدد 18 من المنار عن الاتحاد، وذلك - إن سلم - لا يمنع من بيان فوائد مشروع عظيم، عرض للبحث والمناقشة والفائدة من البحث الحث على إنشاء ما بقي منه، والترغيب في الاشتراك بالامتيازات التي أعطيت لكوتار ولأنطون بك ما أمكن. أجل إن نيل كوتار امتياز خط من قونية إلى البصرة، والامتياز الذي ناله سعادة أنطون بك يوسف لطفي بخط من مصر إلى الشام عن طريق العريش لم يبقيا من مشروع الفاضل محرر (وكيل) إلا النزر القليل، كما قالت الاتحاد الغراء، فكيف بنا إذا ضممنا إلى هذا ما جاء في الأخبار الأخيرة من طلب الكونت ولدمير كانيتر ابن أخت سفير روسيا في فيينا امتيازًا بإنشاء سكة حديدية جديدة من ميناء طرابلس الشام إلى الكويت على خليج العجم، لا جرم أن هذا إذا تم يذهب بالمشروع المبحوث عنه، حتى لا يبقى له أثر، لكن يبقى بعض النواشط والفروع التي أومأنا إليها، فإذا لم نبادر إليها يغلبنا عليها الغالبون، ويمتلك الأجانب أعصاب بلادنا وعروقها، ويبقى بأيديهم موتها وحياتها، بل تحيا لهم ونحن الذين نموت، لكننا لا ننكر على زميلتنا الاتحاد أننا في شك مما جاءت به من خبر امتياز قونيه والبصرة، وامتياز العريش والشام، وأننا نعتقد أن مولانا السلطان لا يجيب طلب الكونت ولدمير الأخير، فأهمية المشروع الإسلامي باقية على حالها، ولا نفتأ نحث عليها، ولئن فات بعضها فإننا نحض على باقيها، وبالله التوفيق.

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد (الآلة الكاتبة - تايب رايتر-) إن رجلاً فرنساويًّا اسمه فوكول استنبط آلة يكتب بها العميان، قدمها لمعرض باريس سنة 1855، فكانت قاعدة لاصطناع الآلة الكاتبة المشهورة، فشاع اصطناعها واستخدامها، وبرع بذلك الأميركان بنوع خاص، وكثرت معالمها وتنوعاتها، وذاع استعمالها حتى لم تبق مدينة في العالم المتمدن لم تستعملها، وحملها السياح والرواد المستعمرون إلى أواسط إفريقيا وأطراف آسيا شمالاً إلى القطب الشمالي، وجنوبًا إلى اليابان والصين والهند وإلى أستراليا، وفي الإقيانوس المحيط وغيرها، وما ذلك إلا لسهولة استخدامها، وكثرة فوائدها. وكانت في بادئ الرأي لا تكتب إلا بالأحرف الرومانية المشهورة التي يستخدمها الفرنساويون والإنكليز والأسبان والإيطاليان في كتابة لغاتهم. ثم رأى الألمان أن تكون أوامرهم الرسمية بالحرف الغوطي، فاصطنعوا لهم آلة تكتب به، واصطنعوا نوعًا منه يكتب اللغة الروسية، وآخر يكتب العبرانية، وآخر لليونانية، وآخر للسيامية، وأخيرًا اصطنعوا آلة تكتب اللغة التبليغية من اللغات الهندية، وكانوا يظنون كتابة هذه اللغة بهذه الآلة أمرًا مستحيلاً؛ لكثرة حروفها وتنوعها، وكان الساعي في اصطناعها مبشرًا إنكليزيًّا اسمه الدكتور شامبرلين أراد أن ينشر الكتاب المقدس بين الهنود بتلك اللغة، فكتب إلى بعض الشركات في أميركا يصف لها الحروف التبليغية، ويطلب إليها اصطناع آلة تكتب بها فقط وجاءت متقنة. ولما كان ملك سيام في أوروبا أحب (التايب رايتر) فأوصى أن يصنع في لغة بلاده فصنعوه. فالتايب رايتر الآن بالحروف الرومية والجرمانية والروسية والسيامية والهندية، وأما العربية، فقد حاول بعضهم اصطناع آلة تُكتب بها فلم يصادف توفيقًا؛ نظرًا لاختلاف أشكال الحروف العربية باختلاف مواقعها، كما لا يخفى، ولكننا علمنا أن المصور الماهر سليم أفندي حداد بالقاهرة قد فاز باصطناع تايب رايتر عربي، جاء في غاية الدقة والسهولة، ولكنه لم ينشره بعدُ، فعساه أن يوفق إلى ما فيه خدمة اللغة والوطن. *** (إحصاء الحروب في هذا القرن) وضع ضابط مجري إحصاءً في الحروب وخسائرها من الرجال والأموال ونسبة ذلك بين الدول المتحاربة، يؤخذ منه أن أكثر الدول حروبًا في هذا القرن الدولة العثمانية، فقد بلغت مدة الحروب عندها من سنة 1800 - 1896 نحو 37 سنة، ومدة السلم 59، ويليها في ذلك أسبانيا؛ فقد حاربت 31 سنة، وارتاحت 65، ثم فرنسا ومدة الحرب عندها 37 سنة، والسلم 69، ثم روسيا وسنُو حربها 24 سنة وسلمها 72، وتليها إيطاليا مدة حربها 23، وسلمها 73، ثم إنكلترا حربها 21، وسلمها 75، ثم النمسا والمجر حربها 17، وسلمها 79، ثم هولندا حربها 14 وسلمها 82، ثم جرمانيا (ماخلا بروسيا) حربها 17 وسلمها 83، ثم بروسيا حربها 12 وسلمها 84 وأسوج حربها 10 وسلمها 86 والدانمارك حربها 8 وسلمها 88. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الهلال)

طول الحيوة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طول الحيوة زعم مافنس المؤرخ الهندي أن رجلاً يقال له كونيا من أهالي بنغال طوى من الأعوام 370، والمؤرخ المذكور يأخذ بناصره لويز كستفدس المؤرخ الملكي البرتغالي الذي كان في إبان وفاة كونيا السنة الـ 1556، وعلى الرغم من قول المؤرخين المومأ إليهما لا يخلو هذا الأمر من الريب، ولكن سواء كان كونيا أو ذوو قُرباه أو خُلطاؤه يجهلون حقيقة الحين الذي برز فيه إلى حيز الوجود، فذلك لا ينفي أن هذا المرء قد انتهى إلى حدود عمر طويل، قلّما صار إليها سواه، وقد وصف كونيا بأنه كان إنسانًا متحليًا بصفات بسيطة، وعائشًا عيشة هادئة راضية، وقسرًا عن كونه أميًّا كان يستطيع أن يورد بالإسهاب والتدقيق كل الحوادث الهامة التي جرت منذ قرنين ونصف في حياته. وقيل: إنه اتخذ له زوجات عديدة في أثناء عمره الطويل الأسباب، وقد تغير لون شعره مرات جمة من الأسود إلى الرمادي ومن الرمادي إلى الأسود وهلم جرا (يا ليت الراوي ذكر شيئًا عن أسنان الفقيد رحمه الله) وأن الشخص الذي يتلو كونيا في طول العمر هو أكار فرنساوي يدعى بطرس زكترن قضى نحبه اليوم الـ 25 من شهر كانون الثاني السنة الـ 1724 في السنة الـ 183 من أجله، وبعد (زكترن) تُذكر زنجية اسمها: لوزا تركسوا من أهالي توكوميا في أميركا الجنوبية، وكانت السنة الـ 1780 قد وصلت إلى السنة الـ 175 من سنها، وهي لا تزال ذات صحة جيدة، ومن الأمور التي تستحق الانتباه إليها أنه كان يوجد في فرنسا أسرة يطلق عليها اسم روفن نذكر عنها ثلاثة أشياء غريبة: (أولاً) أن مجموع عمر الوالدين كان 338 سنة، فالأب يوحنا روفن كان عمره 174 سنة، والأم سارة كان عمرها 164. (ثانيًا) أنهما بقيا مرتبطين بحبل الزواج 147 عامًا، ومن الأمور الغريبة التي يندر حدوثها أنهما عاشا هذا العمر الطويل في السلام والمحبة والوفاق. (ثالثا) عندما تصرمت أسباب حياتهما كان لهما ثلاثة بنين لا يزالون في قيد الحياة أصغرهما عمره 116 حولاً. وفي إنكلترا يوجد ثلاثة أشخاص فاقوا سواهم في طول العمر: الأول هنري جنكنس من بوركثير عاش 169 عامًا، وقيل: إنه وقف ذات يوم أمام مجلس العدلية وأدى شهادة عن حادث من 140 حجة قبل ذلك العهد، ومات هذا الرجل السنة الـ 1670 في ألرتن. الثاني عقيلة أكتن، فإنها كانت عائشة عيشة بسيطة، وكانت أرملة يوحنا فرنسيس إدورد أكتن وجدة أكتن ولدت السنة 1736 وماتت السنة 1873 في السنة 137 من عمرها. الثالث توماس بار ولكن لسوء الحظ لم نحظ بعدد السنين التي عاشها. ولا امتراء أن أقوى العوامل وأكبر الوسائل لأولئك الذين عاشوا هذه السنين الطويلة وطووا هذه الأعوام المديدة كانت السذاجة في معيشتهم، والبساطة في أخلاقهم وعاداتهم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحويك إلياس ... ... ... ... لبنان

شؤونات إسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شؤونات إسلامية جاء في أحد أعداد جريدة (لاغوس ديكل ويكورد) التي تصدر باللغة الإنكليزية في مدينة لاغوس من إفريقيا الغربية ما نصه: الذي يظهر للعيان أن المسلمين هنا آخذون بازدياد ونمو يومًا فيومًا. والذي يظهر من الحالة الحاضرة أن هؤلاء المسلمين سوف يستدخلون في دائرة الإسلامية جميع من في جهاتهم من أهل الملل والنحل. والأمر الحقيقي بإمعان النظر أن أهل الملل والنحل الموجودين في تلك الجهات غير المسلمين كلهم مصابون بفساد الأخلاق ميالون إلى ما فيه هلاكهم وموتهم حسا ومعنى، فلو دخل أصحاب هذه الملل في دائرة الإسلامية، وتخلصوا من الأحوال السيئة العديدة، وذميم الأخلاق الشديدة، وأصبحوا كلهم مسلمين، لكان موجبًا ذلك لسعادة حياتهم بدون ريب ولا اشتباه. *** إعلان مخصوص ورد من لدن ملجأ الصدارة أمر سامٍ مآله أن بيع البنات النصيريات كالأسيرات باسم الإيجار الجاري في هذه الجهات منذ عهد طويل مما ينشأ عنه أنواع عديدة من القيل والقال والشكايات بل ربما تسبب عنه ما لا يوافق الطريق المستقيم، وإن بعض أفراد من الطائفة الهدائية يسلمون بناتهم إلى زيد وعمرو مدة طويلة في مقابلة أجرة معلومة، مما ينشأ عنه ما لا يرضى من الأحوال، ولا تحمد عقباه من الأمور، ولما كانت هذه العادات الفظيعة مما يجب إبطاله فقد أبرم مجلس الوكلاء المنعقد على صفة خصوصية قراره على منع هذه الأعمال التي تقع باسم الإيجار منعًا محتمًا، فلا تقع بعد الآن أصلاً وأبدًا. وعليه تذرعت حكومتنا بالوسائط اللازمة وأوعزت لإدارة البوليس والضابطة بالتيقظ والانتباه إلى معارضة هذه القضية، ولكون الحال معلومًا عند العموم ابتدرنا إعلانه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (فرات)

مراقبو الجرائد في سوريا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مراقبو الجرائد في سوريا كتب إلينا بعض المشتركين في جريدتنا من أهل دمشق الشام في3 ربيع الأول ما نصه: احتجب المنار عنا بضعة أسابيع، ونهار أمس الخميس وزع منه العدد المؤرخ في 23 صفر، وكان حقه أن يوزع يوم السبت غير أنه بقي خمسة أيام في حجرة المراقب في دمشق ليفحص فحصًا ميكروسكوبيًّا على طريقة باستور وكوخ، فيحلل حبره وورقه، وتعرف الأجزاء المركب منها، والألياف المؤلف منها الورق إلخ، وإلا فما معنى حبسه خمسة أيام بلياليها. نعم، إن للدولة حقًّا في منع الجرائد المضرة المعادية للدولة والملة من الدخول إلى بلادها، غير أن المراقبين في دمشق وبيروت قد أساءوا إلى استعمال وظائفهم بسبب جهلهم وغرضهم اللذين لا يفرقون معهما بين الغث والسمين، والهجان والهجين، فيمنعون مثل جريدة المنار العثمانية البحتة، المتفانية بحب الدولة والأمة، وكثيرًا ما منعوا الجرائد العلمية، أو قطعوا منها صحفًا معدودة، مما لا موجب لمنعه سوى جهلهم المركب، وغرضهم الدنيء، وأغرب من هذا اختلاسهم الكتب والجرائد التي يستحسنونها. قال بعضهم: وردت لي رسالة في التوحيد، فضبطت في بيروت. وقال غيره: وردت لي جريدة تصويرية فضبطت أيضًا، ولا موجب لضبطهما سوى طمع المراقبين فيهما للحصول عليهما مجانًا، وأغرب من هذا وذاك أن عددًا معلومًا من جريدة معلومة يراقبه المراقب البيروتي، ويأذن بتوزيعه، ولما تصل الأعداد إلى المراقب الدمشقي يأمر بضبطها وعدم توزيعها على المشتركين في دمشق؛ لأن رأيه في ذلك يخالف رأي البيروتي، وقد تدخل الجريدة الآستانة العلية والقدس - مثلاً - عن طريق يافا، وولاية حلب عن طريق إسكندرونة، ثم تمنع عن بيروت وسورية للسبب نفسه، والمراقب البيروتي أشد جهلاً من الدمشقي، فقد بلغني أنه لا يعرف من القراءة والكتابة غير النزر اليسير، فيستعين بأعوانه الذين هم أشد جهلاً منه، وكلاهما عقبة كؤود في سبيل المعارف، وضرر محض على الدولة وماليتها، يفعلان ما يفعلان إما جهلاً أو لغرض أو ليظهر لأولياء الأمور أهمية مأموريتهم ولزومها غير عالمين بما ينجم عن ذلك من الأضرار المادية والمعنوية، فقد هجر كثيرون من الناس البوستة العثمانية، وصاروا يبعثون رسائلهم مع البوستات الأجنبية التي لا تصل إليها أيديهم، وقد ترد صحبة هذه البوستات جرائد ومطبوعات، مما هو ممنوع حقيقة، فيدخل البلاد بسلام وأمان، ويحجز المنار وأمثاله. تلك حقائق أكتبها إليكم لتنشروها في جريدتكم حرصًا على المصلحة العامة، وأظن أنها لا تؤثر بهؤلاء المراقبين الذين لا يبالون بما يفعلون وما يجلبون من الضرر على البلاد والعباد، فعسى أن ترفعوا الشكوى عليهم للمراكز العالية في الآستانة العلية، فالحق لا يحرم نصيرًا، وغاية ما نرجوه استبدالهم بغيرهم وإراحة الناس من شرهم وجهلهم، وبالله التوفيق. (المنار) إن جريدتنا لم تمنع إلا في ولايتي بيروت والشام، وإن الرسائل ترد إلينا من نواحي السلطنة بالثناء على صدقها في خدمة الدولة العلية والسلطان الأعظم، بل جاءنا من الآستانة أن من عظماء المابين من يخصها بالثناء الفائق، فنستلفت أنظار صاحبَيِ الدولة والي سوريا ووالي بيروت المعظمين أن يعهدوا بمراقبة الجرائد لبعض أهل الفضل والاستقامة الذين ينهاهم علمهم ولا تسمح لهم أمانتهم أن يؤذوا أرباب الجرائد والكتب بغير ما اكتسبوا، ويحرموا الأمة من كثير من المعارف، ويحملوا أعداء الدولة على رميها ببغض المعارف والتضييق عليها من غير تزييل بين ما ينفع وما يضر، وإن لم يسمع نداؤنا في هذه الكرة فإننا نرفع ظلامتنا لأعتاب سيدنا ومولانا السلطان الأعظم، ونبين لجلالته أنه لا ذنب لنا إلا اختصاص مولانا بالثناء والصدق في خدمة دولته العلية، والنصيحة للأمة مع انتمائنا للعلم وانتسابنا للعترة الطاهرة النبوية، كأنه يثقل على مراقبي جرائد سوريا أن يكون مثلنا خادمًا لدولته وأمته، راضيًا مرضيًا عند إمامه وسلطانه [*] (وعسى أن يكفينا الأمر هذان الواليان الجليلان خدمة للحقيقة، ونكون لهما من الشاكرين) .

كريت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كريت استرجعت دولة إيطاليا جنودها من كريت، ويقال: إن جواد باشا واليها قد استقال لافتئات أميرالية أساطيل الدول، لا سيما إصرارهم أخيرًا على منع إنزال الجنود العثمانية في خليج السواد، ولعمر الحق إن عداء الدول الأوروبية وعمالها في كريت لمما يقضي بالعجب من هذا التمدن المبني على أساس البغي والعدوان. وقد جرت عادتهم في غير هذه المسألة بتمويه البغي وزخرفته، لكنهم لم يبالوا فيها بتشويهه بدلاً من تمويهه. أنشأ الكاتب البارع عبد الوهاب عثمان بركات التونسي صحيفة سماها السودان المصري، وكأنها صادفت رواجًا، فجعلها جريدة ذات أربع صحائف، وهي سياسية إخبارية تاريخية تجارية، تصدر في يومي السبت والثلاثاء من كل أسبوع مؤقتًا، وثمنها 70 قرشًا في السنة لأهل الديار المصرية، وهي تستقصي أخبار السودان ما استطاعت، فنرجو لها النجاح والفلاح.

بارقة نجاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بارقة نجاح لقد مر على البلاد المصرية زمن طويل ورياح الحوادث تدك مبانيها، وتنسف أراضيها، وتغرق سفنها، وتفعل فيها الأفاعيل، ولا جرم فهي الريح العقيم، التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، عصفت صرصرًا عاتية، فتركت القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، ولم تكد تُبقي لمعالمهم من باقية، لكن عهدنا برياح الحوادث والكوارث أنها كالرياح الطبيعية، منها ما يأتي بالعذاب والخراب، ومنها ما يجيء بالخير والبركات، وكم من بصير موفق استفاد من البلاء، فعاد عليه بالسعادة والنعماء، وكم من مخذول أخرق أصابته النعمة فأساء استعمالها؛ فكانت عليه نقمة، فما بالنا نُغتال من جانب الفائدة، ونشقى من حيث تُرتجى لنا السعادة، وغيرنا يستفيد حتى من الغوائل، ويربح من حيث يتوقع الخسران؟ كيف أمست معارفنا عافية، ومدارسنا دارسة، وتعليم أولادنا أخوف ما نخافه على استقلال بلادنا؟ كيف صرنا نَفرَق من المعارف وهي روح حياة الأنام، أن تأول بنا إلى الموت الزؤام، وكفاك بإضعاف اللغة إضعافًا ينتهي بالإعدام. أما آن لمرار الرجاء بالحكومة أن تسحل، ولحبال الآمال بمعارفها أن تُقطَّع، ويرجع المصريون إلى رشادهم، ويعتمدوا على قوتهم الشعبية واستعدادهم؟ أما آن لهذه الرياح التي تعصف في بلادهم أن توقظ قومًا نيامًا، وتثير في جوّهم سحابًا رُكامًا، يجودهم بالغيث الذي تحيا به الأرض بعد موتها، وتعشوشب الأحراز بعد إقفارها، وتزدهي بكل زوج بهيج؟ ، بلى قد رأينا في أوائل هذا العام قزعًا من سحاب الهمم في جو مديرية جرجا، وقد لاحت قزعة أخرى من عهد قريب في جو الإسكندرية، وإن بريق الأمل والرجاء يلمع في هذه وتلك، يبشر بأن وراءه ربيعًا، وغيثًا مريعًا، لكنه يأتي رويدًا رويدًا. كعهدك في صوب العهاد مرتبا ... رذاذًا وتهتانًا إذا ما تحدَّرا أعني بهذا ما ذكرناه في العدد الخامس عشر من الجمعية التي تألفت في مديرية جرجا بهمة سعادة مديرها الفاضل، وما كان من نجاحها في افتتاح المدارس الوطنية الأهلية، وما بشرتنا به الجوائب (الأخبار الطارئة) الأخيرة من نشاط أهل الإسكندرية لمثل ذلك، وتأليف جمعية للاكتتاب، وجمع النقود لإنشاء مدرسة للبنين والبنات، وما ظهر على العمل من علائم النجاح وأمارات الفلاح. طلب أهل الإسكندرية من الحكومة أن تنشئ لهم أربع مدارس من قبل نظارة المعارف، فأجابت النظارة بعدم إمكان إجابة سؤالهم لإعسار خزينتها الآن، فأخذت الأريحية بعض سكان (باب الحديد) و (محرم بك) من ذلك الثغر وحرَّكتهم الحمية الوطنية لجمع المال بالاكتتاب وإنشاء مدرسة للبنين والبنات، فلم تمضِ طائفة من الزمن حتى جمعوا نحو مائتي جنيه، وقد عرضت اللجنة المنتدبة لذلك على جمعية العروة الوثقى أن يجعلوا لديها ما يجمعونه من المال، ويعهدوا لها بفتح المدرسة، فأجابت الجمعية سُؤْلهم وقررت فتح المدرسة وتعيين المعلمين والمعلمات لها، وقد أصاب الأهالي الغرض في تفويض هذا الأمر لجمعية العروة الوثقى، فإنها بالمكان الذي يعرفه الجميع من السداد والانتظام. تبشرنا هذه الأعمال الغُرَر في الجهات المختلفة من القطر بأن العناية الإلهية قد أعدت النفوس لنهضة عامة وأن وراء هذا الطل البكور وابلاً عامًّا غدقًا (كثيرًا) وظهر خطأ من يقول: إن جماهير المصريين لا يبذلون الأموال إلا في سبل الشهوات واللذات والزينة الباطلة والفخفخة الكاذبة، وكل ما يسمى الإنفاق فيه إسرافًا وتبذيرًا. إن المصريين لا قيمة عندهم للمال، وإلا لما أسرفوا فيه وبذروه، نعم إنهم ككل البشر لا يبذلون المال إلا في اجتلاب المنافع واجتناب المضار، بحسب إدراكاتهم وعاداتهم التي تربوا عليها عملاً وتخلقًا؛ فإن الأعمال كلها - ومنها الإنفاق - تنشأ إما عن الانفعال الطبيعي، وإما عن الاعتقاد الراسخ في النفس بالعمل والعادة، فاختلاف العمل وفساده إنما يأتي من فساد التربية الذي يرى الحسن قبيحًا، والضار نافعًا، ألم تر إلى هؤلاء الشبان المسترسلين في الفجور، المستهترين في العشق الفاسد، كيف يتبارون في تنازع الكؤوس والأكواب، ويتنافسون في الاستئثار بالبغايا والقحاب، ولولا أنهم يرون ذلك فضيلة ويعتقدونه كمالاً لما تفاخروا في المسابقة إليه، وتفانوا في إحراز الغاية منه، نعم إنهم لا يطلقون عليه لقب الفضيلة والكمال؛ لأن الاستعمال اللغوي والاصطلاح الشرعي لهما الغلبة في المواضعة اللسانية وقد مضت سنة الأولين في فساد الأديان والقوانين المدنية، وسائر الروابط للأمم بأن الفساد يطرأ أولاً على الأخلاق والآداب النفسية، ثم على الأعمال البدنية بالتدريج، وآخر ما يبقى للأمة المنحطة من دينها وآدابها وقوانينها الاصطلاحات اللفظية والشارات والشعائر العامة، لكنها تبقى ألفاظًا لا معاني لها، وأفعالاً لا فائدة منها، أو كما يقول الصوفية: قشورًا بلا لُباب، وأشباحًا بغير أرواح. ما ذكرنا من مناشئ الأعمال إنما هو في الأعمال التي تندفع إليها النفس من ذاتها مع الارتياح إليها وترجيح فائدتها عن إذعان وطمأنينة. وإن من خصائص الإنسان أن يقدر على الإتيان بعمل لا يكون مندفعًا إليه من طبيعته، ولا ترتاح إليه نفسه، وإنما يتكلفه تكلفًا إذا ترجح عند عقله أنه يدفع عنه بلاءً، أو يعود عليه بنعماء، فإذا كان السواد الأعظم من المصريين عادم التربية الصحيحة التي تدفع إلى الإنفاق على تعميم المعارف التي فيها سعادته - فهو ليس فاقدًا للإنسانية التي من خواصها أن يتكلف الإنسان العمل النافع تكلفًا إذا اقتنع بفائدته. فإذا قام خيار المصريين وأصحاب العقل والفضيلة الملتهبون غيرةً على وطنهم وألفوا جمعية كبرى للاكتتاب العام وجمع المال من جميع أنحاء القطر - فلا شك أنهم يلاقون إقبالاً ويصادفون نجاحًا؛ لأن الكثير من الناس يعتقدون أن نجاح البلاد واستقلالها إنما يكون بالتربية والتعليم، وأن تعليم الحكومة على قصوره قد اصطبغ بالصبغة الأجنبية، فصار الخوف منه على البلاد أكثر من الرجاء به، وإذا ظل على سيره الذي هو عليه الآن فلا يمضي زمن طويل إلا ويكون ضررًا بحتًا، وبلاءً صُراحًا قاضيًا على الاستقلال، قاطعًا للأمل في الاستقبال، ومَن عدا هؤلاء، فإنهم وإن لم يكونوا مدركين هذه الحقائق وأمثالها، فقد أعدهم لإدراكها الشعور العام بثقل وطأة الأجنبي وضغطه على بلادهم واستئثاره بمنافعها الكلية من دونهم، والجرائد الوطنية الصادقة تنبههم على ما غفلوا عنه، وتعلمهم ما جهلوه من الأخطار التي تتهددهم، والأرزاء التي تتوعدهم، هذا ما عنيناه بقولنا: إن العناية الإلهية قد أعدت النفوس لنهضة عامة. وإذا تألفت الجمعية برئاسة أحد العظماء الذين تركن إليهم النفوس، وتطمئن بهم القلوب، كدولة الوزير الخطير رياض باشا، وكانت تحت رعاية الحضرة الخديوية الفخيمة، وأقيمت لها لجان فرعية في أنحاء القطر على نحو ما كان من جمعية الإعانة العسكرية السلطانية، وسايرتها الجرائد المحلية في جميع سبلها وشعابها: تكرر النداء، وتواصل الحداء، وترفع للمحسنين رايات الثناء، إذا كان هذا كله فلا تسل عما تصادف الجمعية من إقبال، وما تجمع من مال. إن بعض الناس ينفق في هذا السبيل ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبعضهم يجود عن أريحية وكرم سجية، وبعضهم يبذل رغبة في اقتطاف ثمار الثناء، وطمعًا بتخليد اسمه في سجل الأسخياء، ومنهم من يعطي محبةً في تعزيز وطنه وإعلاء شأنه، ومنهم من يحبو مجاراة لجيرانه، ومباراة لأقتاله وأقرانه، ومنهم من يرضخ بالقليل، خوف القال والقيل. ولا إخال أحدًا من الوجهاء والمشاهير يمسك يده عن البذل في هذا المشروع، وهو يعلم أن الممسك فيه مذموم ومذؤوم، عند أهل الدين وأهل الدنيا، عند المتمدنين والمتوحشين، بل عند الله وملائكته ورسله والناس أجمعين. إذا تسنى للمصريين تأليف هذه الجمعية وأسسوا إدارة معارف وطنية، يسهل عليهم تحويل الأوقاف الخيرية الأهلية المخصصة لمثل هذا العمل إلى صندوق الجمعية، ومطالبة نظارة المعارف بما تأخذه من مال الأوقاف كل سنة لتنفقه على المكاتب الأهلية (وهذا ما اقترحه المؤيد الأغر) وتحول الجمعية تلك المكاتب إلى إدارتها وتنفق عليها مراعية لشروط الواقفين، أو تبقى تابعة لإدارة نظارة المعارف فيجري عليها نظام النظارة كغيرها بأن تكون عامة لجميع المصريين مسلمين وغيرهم، وينفق عليها من صندوق المعارف الذي هو من مال جميع المصريين. فيا أيها المصريون اعتبروا بحال إخوانكم الهنديين الذين فرطوا وقصروا فاعتورتهم المصائب وانتابتهم النوائب، حتى علاهم الوثنيون، ووطأهم الأوروبيون، فندموا على تضييع الفرص، وهبوا لاغتنامها بعد نوم طويل وخمول مستغرق، اعتبروا بمن هو أقرب، لينظر المسلمون منكم إلى الأقباط يروا أن لجمعيات الأقباط وهي عديدة ومتشعبة في جميع القطر نحو أربعين مدرسة سوى المدرسة الكلية للبطريقخانة، وليس للمسلمين إلا جمعية خيرية واحدة، وكل ما لها من المدارس أربع فقط، ونسبة الذين يتعلمون في أوروبا من الأقباط سواء كان على نفقاتهم الخصوصية أو نفقة السكة الحديدية أو المعارف إلى أمثالهم من المسلمين كنسبة الجمعيات الخيرية والمدارس الأهلية إلى كل فريق، مع أن الأقباط لا يبلغون في الحقيقة عشر المسلمين عدًّا، والمسلمون أوفر منهم ثراءً وأكثر سخاءً (كما قلنا من قبل) وأوقافهم الخيرية أوسع من أوقافهم. أيها المصريون قد سنحت لكم الفرصة فلا تضيعوها، وفتحت لكم أبواب العناية، وما عليكم إلا أن تلجوها، إن الزمان لكم بالمرصاد فيوشك أن يعارضكم غدًا بما يعرض عنه اليوم، وأن يمنعكم بعد حين ما يمنحكم الآن، فبادروا الزمان قبل فوات الإمكان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} (المائدة: 2) .

نهضة مسلمي الهند ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نهضة مسلمي الهند (2) (تابع ما قبله) أول مَن نهض لنشر التعليم وتعميم التربية في مسلمي الهند هو الرجل العظيم (السيد أحمد خان) مؤسس مدرسة (دار العلوم الشرقية الكبرى) . نظر هذا الرجل المجدد في شؤون بلاده فرأى أن الوثنيين قد سبقوا المسلمين في العلوم والمعارف والعمل والكسب، وفي نتائجها من الثروة الواسعة والعزة الرافعة، وسائر ما أسأره (أبقأه) الإنكليز لأهل تلك البلاد من سلطة ومنفعة، رأى هذا كما يراه كثيرون من أهل البصيرة، ولكن أشعة بصره تخطَّت المعلولات إلى العلل، وانتقلت من العلل إلى كشف علاج الأمراض التي منت أفكار المسلمين بالسكون، وألسنتهم بالسكوت، وأيديهم بالشلل، وأرجلهم بالقزل، حتى باتوا بلا علم ولا عمل - نظر نظرة حكيم، فاهتدى إلى الصراط المستقيم، وما هو إلا تعميم التربية والتعليم. كم من عالم لا يعمل بعلمه، وكأيِّن من طبيب لا ينفع مريضًا بطبه،ولكن السيد أحمد خان علم فعمل، وطب لمن حب فنفع وأفاد، وهدى إلى سبيل الرشاد. كان زيت هذا الرجل في مشكاة نفسه الزكية صافيًا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فلما زار إنكلترا ورأى ما فيها من الجد والكد، مسته نار الغيرة، فاشتعل نورًا على نور، واعتزم من ذلك الحين على إنشاء مدرسة جامعة في وطنه تشابه إحدى المدرستين الكبيرتين في إنكلترا (كلية كامبردج) أو (كلية أكسفورد) فرجع إلى وطنه بلسان خاطب وسعي دائب، يذكر ويحذر وينذر ويبشر، فقابله قومه بالسخرية والاستخفاف، وكثر في شأنه اللغط والإرجاف، سنة الله في المصلحين مع المفسدين، وفي المحقين بين الواهمين، وفي العالمين لدى الجاهلين، وفي الأنبياء والمرسلين مع الأمم الكافرين، ولكن الرجل لم يثنِ عزيمته عن الإيضاح والإيجاف ما قوبل به من الاستخفاف، ولم يبالِ بعدم المساعدة والمؤازرة، فبدأ بالعمل على نفقة نفسه، فحمل ذلك بعض عشيرته الأقربين وأصحابه الصادقين، على أن يساعدوه ويعضدوه، فانتشر رأيه رويدًا رويدًا، كما هو الشأن في كل مشروع مفيد، وكان هو المبدأ لهذه النهضة الحاضرة في الهند، والمفيض لروح التربية والتعليم على جثمان مسلمي تلك الممالك. أسس مدرسته الشهيرة (دار العلوم الشرقية الكبرى) في مدينة (عليكره) من أنحاء الهند الشمالية الغربية في سنة 1289 هـ 1872 م، وفي سِنِيها الأولى لم يرد إليها إلا قليل من الطلبة، ولم يكن فيها إلا بعض الأساتذة الوطنيين، ولم يأتِ عليها بضع سنين حتى تحولت إلى مدرسة كلية جامعة، وتلامذتها اليوم يكادون يبلغون بضع مئين، وأحضر لها بعض الأساتذة والمعلمين من الأوروبيين، وقد تخرج منها شبان بارعون في جميع الفنون، وهم موضوع فخر البلاد الهندية، وموضع أملها ورجائها في تعميم التربية الفاضلة والتعليم الصحيح مع الاستغناء عن الأجانب. مات السيد أحمد خان من نحو ثلاثة أشهر، فكان لمصابه رنَّة أسف في تلك الديار، وطيَّر البرق نعيه إلى سائر الأقطار، ولقد أبَّنه بعض الفضلاء عند جدثه، فقال كلمة جليلة نقلتها الجرائد وحفظها التاريخ، كلمة كانت أبلغ نعت للفقيد، وأحسن تعريف له وهي قوله مشيرا إلى القبر: (هذا قبر أمتنا) ولعمري إن ذلك المفرد العَلَم هو الذي يصح أن يقال فيه (يا مفردًا هو في أثوابه أمم) لأن من أوجد الأمة وأحياها كان هو إياها. عظُم قدر الرجل في نفوس قومه بعد فقده، ولا يزال يعظم وينمو بنمو تعاليمه وانتشارها، ولا يعرف أقدار الرجال العظام في حياتهم إلا الأمم العالمة الراقية أعلى مراقي التمدن، كذا أفادنا التاريخ القديم والحديث. اتفق مسلمو الهند العارفون بقدر الرجل الذين قدروا الروح الذي أفاضه على الأمة بخطبه وسعيه حق قدره - على إنشاء مدرسة جامعة مشابهة لمدرسته تسمى باسمه، وتكون تذكارًا لحياته الطيبة واعترافًا بفضله، وتألفت جمعية لتنفيذ المشروع سميت: (جمعية أحباء المرحوم السيد أحمد خان) وقد بعث كاتب سر الجمعية (السكرتير) رقيمًا إلى جميع أعيان المسلمين وفضلائهم الدين يعرفون فضل الفقيد يدعوهم فيه إلى مد ساعد المساعدة للجمعية، افتتحه بالثناء الأوفى على فقيد الملة والوطن، مصرحًا فيه بمعنى قول الشاعر: هيهات أن يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل ثم قال: (ولكننا لا نرتاب في أن الحركة الفكرية والنهضة العلمية، اللتين أوجدهما المرحوم السيد أحمد خان لا يعتريهما سكون ولا سقوط ما لم يفاجئنا الدهر بحادث غير منتظر، ومن أعظم واجباتنا وأقدسها أن نعمل بكل ما في إمكاننا لإتمام مشروعاته الجليلة، والسير على منهاجه في أعماله) . ثم ذكر أن أول من اقترح هذا العمل المفيد هو السيد قطب أحمد خان، وأن مليون روبية (مائة ألف جنيه) تكفي لإنجازه، واستنهض همم الشبان الأذكياء لتأليف اللجان في جميع المدائن والقرى للحض على الاكتتاب، وخصص بالذكر الشبان الذين تخرجوا من مدرسة (عليكره) وحتم على جميع الجرائد الإسلامية موالاة الكتابة في الموضوع والتحضيض على الاكتتاب، وأوجب على رئيس الجمعية وكبار أعضائها المؤسسين التجوال في البلاد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وصرح بأن على الجمعية أن تقبل قليل التبرع وكثيره، مع الشكر والامتنان، ليتمكن مجموع الأمة من الاشتراك في هذا المشروع الشريف. ولقد لبى الهنديون النداء بكل رغبة وحمية، فانبرت جرائدهم للكتابة، وفصحاؤهم للخطابة، وعامتهم وخاصتهم للإجابة، انتهازًا للفرصة، واغتنامًا للنهزة، فعسى أن يقتدي بهم المصريون وسائر العثمانيين، فيلتفتوا إلى هذا الأمر الذي هو كل أمر وهو (التربية والتعليم) والله يهدي من شاء إلى صراط مستقيم.

تأثير الاعتقاد في العمل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأثير الاعتقاد في العمل يحكى أن رجلين اصطحبا في بعض الأسفار، أحدهما مجوسي من أهل كرمان، والآخر يهودي من أهل أصفهان، وكان المجوسي راكبًا على بغلة له وعليها كل ما يحتاج المسافر إليه في سفره من الزاد والنفقة، فبينا هما يتحدثان إذ قال المجوسي لليهودي: ما مذهبك وما اعتقادك يا هذا؟ قال اليهودي: أعتقد أن في هذه السماء إلهًا عبده بنو إسرائيل، وأنا أعبده وأسأله وأطلب إليه ومنه سعة الرزق وطول العمر وصحة البدن، والسلامة من الآفات، والنصر على الأعداء، أريد منه الخير لنفسي، ولمن يوافقني في ديني ومذهبي، ولا أفكر فيمن يخالفني في ديني ومذهبي، بل أعتقد أن من يخالفني في ديني ومذهبي، فحلال لي ماله ودمه، وحرام علي نصيحته ونصرته ومعاونته والرحمة له والشفقة عليه. ثم قال للمجوسي: قد أخبرتك عن مذهبي واعتقادي لما سألتني، فأخبرني أنت أيضًا عن مذهبك واعتقادك. قال المجوسي: أما اعتقادي ورأيي فهو أني أريد الخير لنفسي ولأبناء جنسي كلهم، ولا أريد لأحد من الخلق سوءًا، لا لمن كان على ديني ووافقني، ولا لمن يخالفني ويضادني في مذهبي. فقال اليهودي: وإن ظلمك وتعدى عليك؟ قال: نعم. قال: لأني أعلم أن في هذه السماء إلهًا خيِّرًا فاضلاً عادلاً حكيمًا عالمًا، لا يخفى عليه خافية من أمر خلقه، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم. فقال اليهودي له: فلست أراك تنصر مذهبك وتحقق اعتقادك. فقال المجوسي: كيف ذاك؟ قال اليهودي: لأني من أبناء جنسك، وأنت تراني أمشي متعبًا جائعًا وأنت راكب شبعان مرفه. قال: صدقت، فما تريد؟ قال اليهودي: أطعمني شيئًا واسقني واحملني ساعة، فقد بليت لأستريح ساعة. فنزل المجوسي عن بغلته وفتح سفرته وأطعمه وسقاه حتى أشبعه وأرواه، ثم أركبه ومشى معه ساعة يتحدثان، فلما تمكن اليهودي من الركوب، وعلم أن المجوسي قد عيي حرك البغلة وسبقه، وجعل المجوسي يعدو ويمشي ولا يلحقه فنادى له (يا موشا) قف لي فقد عييت واحملني معك ولا تتركني في هذه البرية، فتأكلني السباع أو أموت جوعًا وعطشًا، وارحمني كما رحمتك، وجعل اليهودي لا يفكر في ندائه ولا يلوي عليه حتى مضى وغاب عن بصره، فلما يئس منه المجوسي وأشرف على الهلاك تذكر تمام اعتقاده وما وصف له بأن في هذه السماء إلهًا خيِّرًا فاضلاً عالمًا عادلاً لا يخفى عليه من أمر خلقه خافية، فرفع رأسه إلى السماء فقال: يا إلهي قد علمت أني أعتقد مذهبًا ونصرته وحققته ووصفتك بما سمعته وعلمته فحقق عند (موشا) ما وصفتك به ليعلم حقيقة ما قلت، فما مشى المجوسي إلا قليلاً حتى رأى اليهودي وقد رمت به البغلة فاندقت عنقه، وهي واقفة بالبعد منه تنتظر صاحبها فلما لحق المجوسي بغلته وركبها ومضى لسبيله وترك اليهودي يقاسي الجهد ويعالج كرب الموت ناداه: (يا مضا) ارحمني واحملني ولا تتركني في هذه البرية فتأكلني السباع أو أموت جوعًا وعطشًا وحقق مذهبك وانصر اعتقادك. فقال المجوسي: قد فعلت مرتين ولكن بعد لم تفهم ما قلت لك، ولم تفعل ما وصفت لك، فقال اليهودي: فكيف ذلك؟ قال: لأني وصفت لك مذهبي ولم تصدقني بقولي حتى حققته بفعلي، وأنت بعد لم تعقل ما قلت لك، ذلك أني قلت: إن في هذه السماء إلهًا خيرًا فاضلاً عالمًا عادلاً لا يخفى عليه خافية، وهو يجازي المحسنين بإحسانهم، ويكافئ المسيئين بإساءتهم. قال اليهودي: قد فهمت ما قلت وعلمت ما وصفت (يا مضا) . قال المجوسي: فما الذي منعك أن تتعظ بما قلته لك (يا موشا؟) قال اليهودي: اعتقاد قد نشأت عليه ومذهب قد اعتقدته وألفته، وصار عادة وجبلة بطول الدؤوب فيه، وكثرة الاستعمال له، اقتداء بالآباء والأمهات والأستاذين والمعلمين من أهل ديني ومذهبي، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة يصعب علي تركها والإقلاع عنها، فرحمه المجوسي وحمله معه حتى جاء به إلى المدينة، فسلمه إلى أهلها مكسورًا وحدث الناس بحديثه وقصته معه، فجعل الناس يتعجبون من أمرهما، فقال بعض الناس للمجوسي: كيف رحمته بعد شدة جفائه بك وقبيح مكافأته إحسانك إليه؟ فقال المجوسي: اعتذر إلي وقال: مذهبي كيت وكيت، وقد صار جبلة وطبيعة ثابتة لطول الدؤوب فيه وجريان العادة، يصعب الاقتلاع عنها والترك لها. وأنا أيضًا قد اعتقدت مذهبًا قد صار عادة وجبلة وطبيعة أخرى يصعب علي تركها والاقتلاع عنها.

رواية الفتاة الشركسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رواية الفتاة الشركسية أهدانا جناب الشاب النبيه المهذب زكريا نامق أفندي نسخة من (رواية الفتاة الشركسية) التي ألفها وطبعها حديثًا، وهي قصة وقعت في غضون المحاربة الأخيرة بين الدولة العلية واليونان، قصها عليه من وقف عليها، فأدخلها هو في سمط التأليف وزينها بالصور؛ لتكون حوادثها أكثر وقعًا في النفوس. موضوع الرواية أدبي وطني غرامي، وهي من النزاهة بالمكان المحمود، وقد تصفحناها فلم نر فيها منتقدًا معنويًّا إلا ما ذكره في فاتحتها من أن أصل الشراكسة من عرب قريش، وأن (السبب في مبارحتهم بلاد العرب هو أن كبيرهم كساء بن عمرو بن عبد ود العامري آذى أحد الأنصار في مدة خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي أراد أن يقتص منه طبقًا للشرع، فلم يقبل كساء وسرى هو وقومه، فقالت العرب: سرى كساء أو جرى كساء، ومن هذا جاء اسم الشراكسة أو الجراكسة ولما سكنوا شمال جبال القوقاز حفظوا دينهم وعوائدهم، وفقدوا لغتهم العربية) . نقل المؤلف أصل هذه الدعوى (كون الجركس من العرب) عن محدثه بخبر الرواية وتفصيلها عن التاريخ، والذي يعرفه التاريخ الصحيح أن الشركس من سكان بلاد القافقاس أو القوقاس الأصليين، وكانوا متوحشين لا يدينون بدين، إلا أنهم اتخذوا لهم شجرة يسمونها (قودوش) وصاروا يعبدونها هم وقبائل الإبازة المجاورون لهم، ومظهر الألوهية في تلك الشجرة عندهم أنها مكونة من وشائج أشجار مختلفة، وشجت واشتبكت، فكانت دوحة واحدة، وأنه يأتيها في كل سنة طائر عظيم يسمى (بوغه) فيهوي إليها ويجثم بجانبها، يبتغي أن يكون قربانًا لأجلها، ولذلك لا ينفر من مريد اصطياده عندها، وقد جرت عادتهم أن يأخذوه ويذبحوه ويصبوا على رأسه وعينيه خمرًا، ثم يرفعون عماراتهم (جمع عمارة بالفتح وهي كل ما يلبس على الرأس) عن رءوسهم ويجأرون بالدعاء قائلين: إلهنا إن عنايتك بعبيدك ليس لها كم ولا كيف، فلا تحصر ولا تحدد، ثم يسجدون للشجرة مخبتين متضرعين، وبعد ذلك يقسمون لحم البوغة وجلده بينهم، وينصرفون شاكرين معبودهم، ويتخذون لإلههم (قودوش) نوابًا من الشجر في الأرجاء المختلفة، يجعلون للشجرة التي تعجبهم حظيرة تحجب عن العيون ساقها وأطرافها ويلفون على أعلاها أكداسًا من الحشيش، يربطونها بالحبل ويكورونها كالعمامة، ويسمون هذا النائب الإلهي (طغالك) ويسجدون له ويطلبون منه سائر المصالح والحوائج، ولهم في ذلك خرافات غريبة، ولقد أسلم كثير من قبائلهم على أيدي العرب عندما بلغوا بلادهم وسرى إليهم الإسلام أيضًا من ممازجتهم التتار واختلاطهم بهم في بلاد القرم، وما زال إسلامهم ممزوجًا بالباطل والخرافات، حتى جاءهم فرح علي باشا واليًا من قبل المرحوم السلطان عبد الحميد الأول، وفي عهده عمهم الدين ونزعوا عن التقليدات والشوائب التي كانت تشوب عقيدة المسلم منهم. أين هذا مما جاء في الرواية من كونهم عربًا مسلمين وليسوا من أهل تلك البلاد الأصليين، وإذا التفتنا إلى التاريخ الطبيعي نراه أيضًا يفند القول بكونهم من عرب الحجاز كما هو ظاهر للعيان، ولا لوم على المؤلف في ذكره، فإنه ناقل، لكن كان عليه أن يشير إلى ضعفه على الأقل، ولقد أطلنا في ذكر عقيدتهم الأقل مناسبة لما فيه من الغرابة والفائدة. أما المنتقدات اللفظية في الرواية فهي كثرة اللحن والغلط، فعسى أن يعتني حضرة المؤلف بضبطها وتصحيحها في طبعة ثانية. وفي الختام نحث الأدباء على مطالعة الرواية ونرجو لها الرواج. ـــــــــــــــــــــــ

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد (هبات علمية) لا نظن أن قارئًا يقرأ عنوان هذه النبذة إلا ويعلم أننا سنذكر فيها بعض الهبات الأميركية، ولو كان أهالي أميركا مشغولين بالحرب المستعرة نارها بينهم وبين الأسبانيين، نعم، إن الهبات لأميركية، فقد جاء في جريدة سينس (العلم) أن الدكتورة إليصابات باتسن تركت لمدرسة مشيغان الجامعة 125 ألف ريال لينفق ريعها في تعلم أمراض النساء والأطفال، وأن زوجة مستر باتون في نيويورك تركت مائة ألف ريال لمدرسة برنستن الجامعة، وأن زوجة المستر هارست ستبني بناء في مدرسة كليفورنيا الجامعة لأجل تعليم الهندسة المعدنية تنفق عليه 300 ألف ريال، وأن المستر بونت ترك لمدرسة بنسلفانيا الغربية 300 ألف ريال تستولي عليها بعد وفاة زوجته، والمستر فيليب أرمور وهب مدرسة الصناعة في شيكاغو خمسمائة ألف ريال، وقد وهبها قبلاً مليونًا وخمسمائة ألف ريال، فصارت هباته لها مليوني ريال، أي أربعمائة ألف جنيه، وأن المستر وشنطون ديوك وهب مدرسة الثالوث في درهم مائة ألف ريال، فصارت هباته لها 425 ألف ريال، ووهب الدكتور بيرسنس مدرسة بحيرة الملح الكلية خمسين ألف ريال مشترطًا أن يجمع أصحابها مائة ألف ريال أخرى في مدة سنة. هؤلاء أناس يعلمون أن عظمتهم وعظمة بلادهم تقومان بالإنفاق على العلم، لا على المآدب والولائم. وهم وأمثالهم سيملكون الأرض، ويصير المتباهون بالباطل عبيدًا لهم. *** (رواتب الملوك) جاء في مجلة كاسل أن راتب قيصر الروس السنوي 1800000 جنيه، وراتب إمبراطور ألمانيا 700000، وراتب إمبراطور النمسا 900000، وراتب ملك إيطاليا 580000 جنيه، وراتب شاه العجم 480000 جنيه، وراتب ملكة الإنكليز 385000 جنيه، أما رؤساء الجمهوريات، فأولهم رئيس جمهورية فرنسا، وراتبه السنوي 49000 جنيه، وراتب رئيس جمهورية الولايات المتحدة 10000 جنيه فقط، وهو رئيس أعظم الجمهوريات وأغنى البلدان، وأقل الرؤساء راتبًا رئيس جمهورية سويسرا وراتبه السنوي 600 جنيه أي أقل من راتب أصغر مدير في القطر المصري، وسكان سويسرا نحو ثلاثة ملايين نفس. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقتطف) *** يبلغ عدد الجرائد في القطر المصري على اختلاف أنواعها 87 جريدة ما عدا الجرائد الرسمية، منها 60 جريدة تطبع في مصر، و22 في الإسكندرية، و5 في بورسعيد، والجرائد العربية: 30 جريدة سياسية، و4 هزلية، و9 مجلات علمية أدبية صناعية، و3 زراعية، و3 قضائية، و3 طبية، و3 دينية، و2 نسائية، و1 مدرسية، ومن الإفرنجية: 21 سياسية، و1 هزلية، و3 مجلات علمية أدبية صناعية، و1 تجارية، و1 قضائية، و1 مدرسية، و1 خاصة بطوابع البوسطة، فمجموع الجرائد الإفرنجية: 29 جريدة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقطم)

تقريظ المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المنار لم يكد ينتشر العدد الأول والثاني من المنار حتى طفق الأدباء يقرّظونه، وقد اعتذرنا في العدد الثالث عن نشر ما يرد إلينا من التقاريظ (إذ من المنتقد عندنا أن ينشر الإنسان مدح نفسه، لا سيما إذا كانت الأماديح تخيلات شعرية، وألقابًا ونعوتًا، كما عليه أكثر المقرظين) فقلّ ورودها، لكن لم يكاتبنا أحد من الفضلاء في قطر من الأقطار إلا ويثني على المنار أطيب الثناء، كما نسمع الثناء شفاهًا من الفضلاء وعنهم، وقد اضطرنا الضغط من مراقبي بيروت إلى الإلماع بذلك غير مرة، لأجل الاحتجاج عليهم، وإننا ننشر الآن رقيمًا ورد علينا من فضيلة الأستاذ الشيخ علي أفندي رشيد الميقاتي من أشهر علماء طرابلس الشام المعروفين بمحبة الحضرة السلطانية المعظمة، والمواظبين على الدعاء لها بالنصر والتأييد، قال فيه بعد رسوم المخاطبة ما نصه: إن يكن قد مضى الوقت العرفي لتقديم التبريك لحضرتكم والثناء على المنار الذي ضربت أشعة نوره في سائر الأقطار، فإن أداء الدعوات مطلوب في جميع الأوقات، وعلى الخصوص صار أمامي مجال واسع وميدان فسيح لمدح المنار، وترتيل آيات الثناء عليه، فقد مضى زمن تحققت فيه غايته النبيلة ومقاصده الشريفة الجليلة، وتجلت آيات فضله البينات وتوالت محكمات حكمه التي هي غاية الغايات في إرشاد الخلق إلى طريق الكمالات، فالآن يا سامي الكعب على الأقران الذي إن شاء الله ستفخر به الأوطان، أقدم لك التبريك بما وفقت إليه من السير على النهج القويم، وأثني على المنار المنير، وأعيذه من شر كل حاسد وكيد كل شيطان رجيم. أيها الرشيد: دم على ما أنت عليه من الميل القويم والإخلاص الصادق لدولتنا العلية دولة الإسلام، أيّدها الله، ولمليكها مولانا وسيدنا السلطان الأعظم، نصره الله، وانشر مآثره الغراء وأياديه البيضاء وابذل الجهد بأن لا يخلو المنار دائمًا مما فيه مسرة قلوب المسلمين عمومًا والعثمانيين خصوصًا، وادفع بالتي هي أحسن ما يصلكم من عوامل الإساءة، كما تدفع بعدم المبالاة عوامل الاعتراضات، فالإساءة لكل مشروع والاعتراض عليه قبل سبر غوره وظهور خيره أو شره، هو سنة فينا ولن تجد لها تبديلاً عنا إلا بعد تعميم التعليم والتربية (كما أفاد المنار) . هذا وإني أرفع أكف الضراعة لحضرة الحق المتعال، متوسلاً بروحانية حضرة صاحب الشفاعة والكمال صلى الله عليه وسلم، أن يديم عرش الخلافة العظمى، وسرير السلطنة العثمانية الأسمى، وينصر حضرة سيدنا ومولانا أمير المؤمنين السلطان الأعظم الغازي عبد الحميد خان، وأن يوفق رجاله لما فيه خير الملة والدولة والوطن، وأن يأخذ بيدكم في مهامكم، وينيلكم رغائبكم ويمدكم بالتوفيق فهو نعم الرفيق، ويقطع بسيف قلمكم الباتر رقاب جيوش الأباطيل، ويكثر رجال الحق من أمثالكم، كما يكثر بين الصحف العربية الإسلامية العثمانية من أمثال المنار، آمين.

مشائخ الطرق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشائخ الطرق إننا نرى بعض المتصدرين للإرشاد - عن غير أهلية ولا استعداد - قد جعلوا الطريق زعامة سياسية وأنشأوا لهم جرائد يبثون أفكارهم المضرة فيها، ولقد تسلق بعضهم إلى الكلام في مقام الخلافة، والإرجاف بأن بعض العظماء يسعى لها سعيها يوهمون الناس أن الخلافة على طرف الثمام، وأنها يمكن أن تنال بالسعي والإقدام وهم مع ذلك يعلمون أن هذا المرمى بعيد المنال، لا تتطاول إليه أعناق الرجال ويعتقدون - كما يعتقد العقلاء أجمعون - أنهم يتذقحون ويتجرمون، ويقولون الكذب وهم يعلمون، ولكن إرجافهم لا يخلو من تغرير بعقول العامة وخداع البسطاء، كما أنه جرأة على مقام الخلافة الرفيع، ولو صدقوا في قولهم أنهم يخدمون الخليفة لسكتوا عن إذاعة هذا الدث والرجم من القول - حتى لو فرض أنه واقع - لئلا يوهموا الناس إمكانه، وهو ليس بالممكن، ويسوؤنا أن نرى أرباب المظاهر فينا يتصدى أحدهم للأمر الذي لا يحسنه، ويعمل بغيره مما لا يحسنه فيضل عن رشاده، ولا يكون ظافرًا بمراده. يوشك أن يكون بعض هؤلاء المرجفين مندفعًا إلى عمله السيئ بدسيسة أجنبية، فقد استخدمت فرنسا أرباب الطريقة التيجانية لنفوذها في الجزائر وتونس، واستخدمت إنكلترا أرباب الطريقة الميرغنية لنفوذها في شرقي إفريقيا، وسنكتب في هذا الموضوع رسالة مسهبة في العدد التالي، إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

هكذا فليكن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هكذا فليكن يحضر في هذا اليوم من أوروبا رجل العلم والفضل، ومثال الهمة والإقدام صاحب العزة سعد بك زغلول، المستشار في محكمة الاستئناف الأهلية. لماذا رحل إلى أوروبا وبماذا رجع؟ هل كانت رحلته لأجل أن يستنشق هواءً غير هواء بلاده، ويحتسي ماءً غير ماء النيل، مبالغة في الترف والرفاهة؟ أم ذهب ليستحم في المياه المعدنية خدمة لجسده؟ أم ظعن لمعاقرة الخمور ومعانقة الحور، والتمتُّع بالشهوات، والانغماس في اللذات؟ أم سافر للتشرف بتلك البلاد والتفاخر بمخالطة أهلها وتقليدهم واحتذاء مثالهم في حركاتهم وسكناتهم وسائر عادهم (جمع عادة) . وهل رجع يحمل أثقالاً من الأزياء والحلي والماعون النفيس كما يفعل المتطرزون (المتأنقون في الملبس) من المصريين الذين يتبجحون في المسابقة إلى احتذاء الإفرنج في آخر طراز (مُودَة) يبتدعونه. أم عاد بأوزار من الخمور والأشربة الخبيثة، وأنواع من الأعطار النفيسة، كما هو شأن المتنوقين والمتورنين (المبالغين في التنعم والتطيب) من هذه البلاد؟ أم راح يملأ ماضغيه فخرًا بما نال من الشرف الرفيع بمثافنة المسيو فلان، ومخاصرة المدام فلانة، وبما رأى في الأوبرا والباللو والأوتيل؟ كل ذلك لم يكن، وما كان لهذا الفاضل أن يقضي أيام إجازته كما يقضيها السفهاء من الناس، وإنما سافر ليؤدي الامتحان النهائي لنوال شهادة الحقوق (لسانسيه) فأداه أحسن أداء، ورجع نائلاً الشهادة على أكمل وجه. رُبَّ ناظر فيما كتبنا يعجب أن مستشارًا في محكمة الاستئناف يذهب إلى أوروبا لأداء الامتحان وأخذ الشهادة في علم الحقوق، ويُحب أن يقف على شيء من سيرة الرجل العلمية، وإننا نشير إلى مجمل منها بوجيز القول لتكون أسوة للمجدين وحجة على المقصرين، فنقول: جاور سعد بك في الأزهر، وأخذ من علومه جملة صالحة، ونهض به من خمول الأزهريين، إنه صادف أستاذًا حكيمًا نفث في روعه روح الإقدام والهمة، وحبب إليه أن يكون عضوًا عاملاً في الأمة، ألا وهو العلامة الشيخ محمد عبده الشهير، فجدَّ الرجل واجتهد، وارتقى من حرفة المحاماة إلى مرتبة القضاء في الاستئناف، ولم يكن هذا كله بالذي يقنعه أو يقف بهمته عن تحصيل المعارف، تعلم اللغة الفرنساوية بإتقان ودرس فيها علم الحقوق، وما أدراك ما علم الحقوق، حتى نال الشهادة التي علمتَ، كل هذا ومدرسته بيته، ولقد بلغ من اجتهاده أنه يدرس في اليوم والليلة ست عشرة ساعة إلى ثماني عشرة ساعة رغمًا عن كثرة عمله القضائي وغيره، ولقد اعتراه من كثرة الدرس أرق شديد بقي له ليالي لا يطعم النوم، فكان يقضي الليل كله بالمطالعة، لعمر الحق لو أنجبت الملايين العشرة من المصريين ألف رجل مثل هذا الرجل لنهضوا بمصر نهضة الأبطال، وأنالوها سعادة الاستقلال، داحضين بأعمالهم حجة الاحتلال، فنرحب بالقادم ونهنئه ببلوغ الآمال منشدين قول الشاعر: هكذا هكذا وإلا فلا لا ... ليس كل الرجال تدعى رجالا

سلطة مشيخة الطريق الروحية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سلطة مشيخة الطريق الروحية [*] لقد أتى على الإنسان في طور اجتماعه أدوار، ومرت عليه أجيال وأعصار، وهو مغلول الإرادة ومقيد الجوارح بسلطتين عظيمتين قويتين، للقائمين عليهما النفوذ التام في أفراده، والتصرف المطلق في آحاده، وهما: سلطة الدين وسلطة السياسة، أو كما يقول أهل العصر: السلطة الروحية والسلطة الزمنية. سلطتان لا يتم نظام الاجتماع بدونهما، ولا تحصل السعادة إلا بهما، بل لا تتكون الأمم والشعوب إلا بإحداهما أو كلتيهما؛ لأن معنى الشعب: المجتمع أو الأمة المتمدنة، أفراد من صنف واحد، وأصناف متعددة تجمعها وتضمها رابطة توحد المتعدد بوحدة الاعتقاد والعمل، أو وحدة الحكم والنظام، ولا معنى للسلطتين المتحدَّث عنهما إلا بما به قوام هاتين الوحدتين من القوانين الاعتقادية والأدبية، والشرائع العملية والقضائية، ولما كانت سعادة الأمم بالوحدة القائمة بالسلطة كان شقاؤها بانفصام عرى الوحدة الناشئ عن نقص القوانين والشرائع عن حاجة الأمة وعن نكوب القائمين بتعليمها وتنفيذها عن جادة الحق فيها، وهكذا ينزل البلاء من جهة النعماء، ويأتي الضعف من جانب القوة؛ لأن النسبة بين السعادة والشقاء ونحوهما، كالنسبة بين البصر والعمى، فإذا تُصُور العمى فإنما يُتصَور حيث يكون البصر؛ لأنه فقدُه وعدمُه، وكذلك يقال في سائر ما يسمون المقابلة فيه مقابلة العدم والملكة أو النقيضين وما بمعناهما، كالسعادة والشقاء، والقوة والضعف، والغنى والفقر، والعزة والذلة، وما أشبه هاتا. إذا فوض أمر السلطة الزمنية أو الروحية في الأمة لرجل واحد، طاعته واجبة، ومشيئته نافذة، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، فسعادة تلك الأمة وشقاؤها وعلمها وجهلها وغناها وفقرها، إنما يكون ذلك كله وأمثاله تابعًا لحال ذي السلطة، فإذا كان خيِّرًا فاضلاً حكيمًا خبيرًا أحوذيًّا (هو المشمر للأمور، القاهر لها الذي لا يشذ عليه شيء) شمّريًا (بتثليث المعجمة وتشديد الميم: المجرب الماضي في الأمور) نهض بالأمة ورقاها في معارج الفلاح، وصعد بها إلى قمة السعادة، وإذا كان شريرًا جاهلاً أخرق أو إمعاء (بكسر الهمزة وتشديد الميم: الذي لا رأي له ولا عزم، يتابع كل أحد على رأيه في الدين وغيره) أو غِملاجًا (بكسر المعجمة: وهو الذي لا يثبت على حالة، يكون تارة حسن الخلق، وتارة سيِّئَه، فمرة ظالمًا، ومرة عادلاً، وآنًا محسنًا وآخر مسيئًا) انحط بالأمة إلى درك الشقاء، ويضرب عليها الذلة والمسكنة، وينتهي بها إلى شر مصير. وبالجملة: إن أمة هذا شأنها تكون دائمًا متقلقلة كقدح الراكب، لا تثبت على حال ولا تستقر على شأن، وجميع ما انتاب الأمم من رفعة وضعة، وعلم وجهل، وسعادة وشقاء، فقد كان مرجعه لتصرف الأمراء والحاكمين والرؤساء الروحيين ولقد كان الشر أغلب على الأمم من الخير، والضلال أكثر استحواذًا عليها من الهدى، والشقاء أشمل لها من السعادة؛ لأن الرئيس الفاضل الحكيم لا يأمن من العثار، وإذا عثر عثرت معه الأمة وهوت، وقد يهدم الرئيس الجاهل الغوي في مدة قليلة ما بنته الحكماء في الأجيال الطويلة. لهذا كانت سعادة البشر موقوفة في نوالها أو كمالها على تحديد القوانين والشرائع الروحية والزمنية، وجعل الناس فيها شَرَعًا - بالتحريك، أي: سواءً - لا مزية لرئيس على مرءوس إلا بما يمتاز به المرءوسون بعضهم على بعض، وبما لا تقوم الرياسة بدونه، كوجوب الطاعة للسلطان، ولا طاعة لأحد على أحد فيما وراء الشريعة والقانون، ولكن لم تأت شريعة سماوية ولم يوضع قانون بشري لهذا التحديد والمساواة، حتى جاءت الديانة الإسلامية فحددت الشريعتين (الزمنية والروحية) معًا، وجعلت الناس فيهما سواء، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم والعمل، واقتلعت جذور الطاعة العمياء، وبينت أن الدعوة إلى الحق لا تكون إلا بالحجة والبرهان بمثل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فسر العلماء (البصيرة) بالحجة الواضحة، وقوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) . وبناءً على هذا كان الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم الرأي قائلين: هل هذا شيء قلتَه من عندك يا رسول الله أو نزل به وحي؟ فإن قال: هو من عندي جاءوا بما عندهم من الرأي بما يُرجع النبي إلى رأيهم، كما جرى في بعض الغزوات، وأوقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام عليًّا مع رجل من آحاد يهود للمحاكمة، وعاتبه عليٌّ بعدَ المحاكمة بأنه لم يساوِ بينه وبين خصمه؛ لأنه كناه وسمى خصمه، وفي التكنية تعظيم، وتعظيم أحد المتخاصمين ولو بمثل هذا منافٍ للعدالة والمساواة، وراجعت امرأة عمر وهو على المنبر في مسألة تحديد المهر محتجة عليه بآية: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) فقال: (أصابت امرأة وأخطأ عمر) . وأبلغ من هذا كله أن النبي عليه الصلاة والسلام طعن سواد بن غزية بقدح (سهم لا نصل له ولا ريش) في بطنه وهو مكشوف ليستوي في الصف يوم بدر، فقال: قد أوجعتني فأقدني، فكشف له عن بطنه ليقتص منه، فطفق يتمسح به، وكان ذلك منه توسلاً للتوصل إلى هذا الشرف العظيم. وآذن صلى الله عليه وسلم الناس قبل موته بأن مَن له حق عنده فليطلبه، وإذا كان نحو ضرب فليقتص منه، وأذن لرجل أن يضربه حين ادعى أنه ضربه يومًا، فقال الرجل: إنني كنت عاري الكتف أو الظهر، فألقى له الرداء عن عاتقه الشريف، وكان شأنه في ذلك شأن سواد بن غزية. والنتيجة أن الإسلام قرر العبودية لله وحده، والحرية في ضمن دائرة الشريعة، والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وإطلاق الإرادة والفكر من سلطة كل زعيم، وسيطرة كل رئيس روحي، ومقتضى ذلك أن يكون المسلم عبدًا كاملاً لله، حرًّا كاملاً بالنسبة لما سواه. لقد ولينا وجهنا في هذه المقالة شطر السلطة الروحية، وأما الشطر الآخر، فالتاريخ يشرح ما كان من شأن حكام المسلمين وأمرائهم بإزاء تحديد الشريعة وتقييد السلطة الذي جاءت به الديانة الإسلامية، وكتب الفقه تشرح حقوق ووظائف الإمام الأعظم والقضاة والحكام، فليرجع إليهما. ونعني بالسلطة الروحية: سلطة العلماء والوعاظ والمتصدين للإرشاد وتهذيب الأخلاق، وتقويم الملكات، مضى الصدر الأول من سلف الأمة والمسلمون كما قال الله تعالى إخوة، وعلوم الدين مبذولة لهم على السواء، يتناول كل أحد من الكتاب والسنة ما وصل إليه فهمه، فإن عرضت واقعة لأحد ولم يهتدِ للحكم فيها راجع غيره من إخوانه، فإن وجد عند مَن راجعه نصًّا أخذ به وإلا رجع إلى اجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد، أو قلد من تثق به نفسه ممن يعتقد بهم العلم على تفصيل في ذلك ليس هذا محله، وما كان عالم يترفع على جاهل، ولا مرشد يترأس على مسترشد، ولم يدَّعِ فرد من الأفراد أو صنف من الأصناف الامتياز في الدين لذاته أو الوساطة بين الله وبين سائر الناس في عرض أعمالهم عليه، والتوسل إليه في قبولها أو إيصال الخير منه سبحانه إليهم، ولم يكن هناك إلا العلم والتعليم من غير حجر ولا استئثار، بل كان أعلم الناس بدين الله وأشدهم تمسكًا به أبعدهم عن دعوى الامتياز، وأكثرهم خوفًا من ربه أن يأخذه بذنبه وعمله السيئ، ولا يقبل منه عمله الصالح لاتهام نفسه بالرياء وعدم الإخلاص، فضلاً عن دعوى الوساطة بين العباد وربهم. كان الأمر على ذلك حتى ظهرت في الأمة فرقة الصوفية العظيمة، وتصدى شيوخها للإرشاد والتربية العملية ونعمَّا هي. ساروا في هذه التربية على منهاج الكتاب والسنة، وأظهروا ما فيهما من دقائق الآداب والتهذيب علمًا وعملاً وتخلقًا وتحققًا، فصلحت بذلك سرائر، واستضاءت بصائر، وظهر لمن يعرف التاريخ الفرق بين التهذيب العقلي المحض - كتهذيب فلاسفة اليونان المشوب بالرذائل، الملطخ بحمأة المقاذر - وبين التهذيب الديني العقلي الصافي من الأكدار، الراقي بذويه إلى مصاف الملائكة الأخيار (سننشئ مقالات في تراجم الفريقين للمقابلة بينهما إن شاء الله تعالى) لكن لما كانت التربية العملية تدور على قطب التأسي والاقتداء، ولا تسكن النفس المميزة للاقتداء إلا بمَن تعتقد به الكمال - بالغ القوم في التسليم لشيوخهم والأدب معهم، والاعتقاد بكمالهم إلى درجة ألزموا فيها المريد بالطاعة العمياء لأستاذه، واعتقاد أن جميع ما يصدر عنه من قول وعمل هو فضيلة وكمال، وأوجبوا عليه أن يؤول له ما يتراءى له أنه ذنب أو نقيصة، وغالوا في ذلك حتى قال بعضهم: إذا رأى المريد شيخه يشرب خمرًا فينبغي أن يعتقد أن الخمر استحالت ماء أو عسلاً قبل أن تدخل إلى فمه المبارك كرامة له. وحتموا عليه أن يعتقد بأنه لا يصل إلى مقام المعرفة بالله تعالى، ولا ينال الزلفى والرضوان من لدنه إلا بهذا الاعتقاد، والطاعة من غير إنكار في الظاهر ولا في الباطن، وإن خالف في ذلك أو ترك الشيخ لغيره أو مطلقًا فهو على خطر حتى على أصل إيمانه ودينه. قلنا: إن السلطة المطلقة، والطاعة العمياء تكون فيها سعادة المرءوس منوطة بحال الرئيس، وكذلك كان الشأن في طريقة الصوفية، فلقد قام فيهم أئمة عارفون يهدون بالحق وبه يعدلون، سلكوا سبيل السلف الصالح في التواضع والتبرؤ من دعوى الامتياز والترفع على الناس، والتنصل من الشطحات والطامات التي لا يشهد لها الشرع، وحصروا الإرشاد بالعلم النافع والعمل الصالح، والتخلق بالأخلاق الفاضلة، واهتدى بهم خلائق لا تحصى، وكيف لا يهتدي من يقتدي بالعالم العامل، ويطيع الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر. نعم، قد اهتدى بالسلطة الروحية المطلقة والطاعة العمياء لشيوخ الطريق أقوام، ولكن الذين ضلوا أكثر من الذين اهتدوا، وفاقًا لما قررناه آنفًا، فقد قام بعد أولئك الشيوخ العارفين شيوخ جهال، ألقوا بذور الضلال في نفوس أتباعهم فنبتت وأثمرت ثمرًا خبيثًا، تجني الأمة منه حنظلاً، وتطعم زقومًا. لقنوا الناس الجبر بعنوان التوحيد واسم القضاء والقدر، وعلقوا نفوسهم بالشيوخ أحياء وأمواتًا، وعلموهم الاستعانة بهم في مصالحهم بحجة أنهم أصحاب كرامات، وشفعاء عند الله، يتوسطون بينه وبين عباده في حاجهم وإن كانوا رممًا في قبورهم، حتى قال بعضهم: لا فرق في طلبنا الحاجة من الحي وطلبنا إياها من الميت؛ لأن كلاًّ منهما لا فعل له ولا تأثير في الإيجاد، وكلاًّ منهما قد يكون واسطة - الحي واسطة جسدية والميت واسطة روحية - وكسلوهم عن الأعمال النافعة والمصالح العمومية باسم الزهد والتسليم للقدر، وغير ذلك مما لا سعة في هذه المقالة لشرحه. ولم تقف مضرات جهلهم عند هذه الوساوس الدينية، بل استعملوا نفوذهم لخدمة سياسة الأجانب وتمكينها من الاستيلاء على أمتهم، وإننا نروي لك بعض شأنهم في ذلك فاعتبر بما يروى. (البقية للآتي) ... ... ((يتبع بمقال تالٍ))

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [[*] ألممنا في المقالة السابقة ببعض تعاليم الجهلاء من شيوخ الطريق، وذكرنا أن منها تعليق النفوس وإناطة الآمال بالشيوخ أحياءً وأمواتًا، وتعليم الناس الاستعانة بهم على قضاء الحاج، بحجة أنهم أصحاب كرامات وشفعاء يتوسطون بين الله تعالى وبين عباده في درء المفاسد والمضار، وجلب المنافع والمصالح، ولما كان هذا من الاعتقادات المضرة التي هدمها الإسلام كما ألمعنا في المقالة المتقدمة، وكان ما كتبناه سابقًا في منكرات الموالد لم يكفِ لإقناع جميع الآخذين به - لإيجازه وإجماله - أحببنا أن نزيده إيضاحًا ليتميز الحق من الباطل، فنقول: الذاهبون إلى أن من الدين الاستغاثة بمَن يعتقد فيهم الولاية أحياءً وأمواتًا، والوقوف على الأجداث والقبور لطلب المصالح التي عز طلابها، والحاج التي جُهلت أسبابها وأُغلقت أبوابها - ينقسمون إلى قسمين: عامة وخاصة. أما العامة: فمنهم من يعتقد أن صاحب القبر حي في قبره، يخرج لقضاء الحاج فيقضيها بنفسه مهما كانت، ولا يفتكر في تدقيق الأشاعرة في الفرق بين الجبر والكسب وخلق الفعل، وحجة هؤلاء على اعتقادهم الحكايات التي يتناقلونها عن كرامات صاحب القبر، وإن هي إلا أكاذيب اخترعتها الخيالات والأوهام، فإذا سئل هؤلاء عن التأثير وعدمه تحير أكثرهم، وإذا لقنوا أية عقيدة في ذلك ممن يظنون به خيرًا أخذوها بالقبول، وهؤلاء هم الأكثرون فيما يظهر للمختبر، ومنهم من له بعض إلمام بما يقول الخاصة. وأما الخاصة: فيحتجون بالشبهتين اللتين أشرنا إليهما وهما: الكرامات والشفاعة، وإننا نستعين بالله تعالى وحده في بيان فساد الاحتجاج بهما على وجه مختصر مفيد فنقول: أما جواز وقوع الكرامة فلا يقتضي أن من قواعد الإسلام وأحكامه أن يستعين الناس على حوائجهم بمن يجوز أن تصدر منه، وذلك لوجوه: (1) أن الله تعالى أقام هذا الكون على سنن حكيمة، ونواميس ثابتة، وأمر الناس بالعمل بحسب القوى التي منحهم إياها - كما يعرفون ذلك بالوجدان - مراعين سنن الله تعالى ونواميس خليقته، وأن يعتقدوا أن لا متصرف في الوجود سواه، ولا قدرة غيبية إلا له، وأمرهم أن يخصوه بالاستعانة على ما لا يبلغه كسبهم، كما يخصونه بالعبادة، حيث قال في السبع المثاني التي يثنونها في صلاتهم كل يوم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) نعم أمر الناس بالتعاون في الأمور الكسبية بقوله {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) ، والناس في ذلك سواء، وفي الحديث الصحيح: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) والكتاب والسنة طافحان بأمثال هذه النصوص. (2) أن ذلك لم يُعهد في الصدر الأول من سلف الأمة الذين يقتدى بهم، فلم يُنقل أن الصحابة كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبون منه رد ضوالهم، وشفاء مرضاهم ودفع الجوائح عن زرعهم ونحو ذلك، مما يطلبه العوام من الأولياء عند قبورهم في هذه العصور المظلمة، وقد جاء في حديث الموطأ وغيره (لا تتخذوا قبري وثنًا) وهو مما أوصى به صلى الله عليه وسلم عند موته، بل ما كانوا يعتمدون على الخوارق في زمن حياته، وهو زمن المعجزات القطعية لا الخوارق المشكوك بها، وإنما يعتمدون على عملهم وكسبهم، فإن أعانهم الله تعالى بخارقة شكروا وإلا عملوا وصبروا. (3) صرح العلماء بأن الخوارق أمور نادرة، مجهول أمرها، فلا يُبنى عليها حكم. (4) صرح السبكي وغيره بأن الولي لا يجوز له إظهار الكرامة إلا لضرورة، وعدوا هذا من الفرق بينها وبين المعجزة الواجب إظهارها، وليس من الضرورة حاجة الناس إليها في دنياهم مثلاً، وقد التمس السبكي في الطبقات الكبرى أسبابًا ضرورية، لما نقل عن بعض السلف من الخوارق، وقد قال سيدي أحمد الرفاعي الكبير قُدس سره: (إن الولي يستتر من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض) فإذا كان هذا حال الكرامة عندهم، فكيف نرخي للعامة العنان في الاعتماد عليها. (5) صرح الشيخ الأكبر - قُدس سره - بأن الكرامة لا تتكرر؛ لأنها أمر خارق للعادة، وإذا تكررت كانت معتادة، فلا تكون خارقة، وظاهر أن ما يطلبه العامة من ذلك يشبه بعضه بعضًا، ويزعمون أنه وقع مثله من كل ولي يطلبون منه، فتكرار الطلب عبث وغرور. (6) قسم بعض المتأخرين الخارقة إلى أقسام، من مقتضاها أنها تظهر على يد كل صنف من أصناف الناس، لا فرق بين بر وفاجر، وتختلف أسماؤها باختلاف من ظهرت على يده، فإن ظهرت على يد فاسق أو كافر سميت: استدراجًا فإذا أضفنا إلى هذا عدم التفرقة بين الحي والميت في اعتقاد أن الفعل لله تعالى وأن الخارقة سبب لنيل الحاجة، فلا بأس بأن يذهب الناس لقبور الفساق والكفار، ويطلبوا منها حاجتهم، بناء على جواز أن يحصل ذلك لهم استدراجًا لأمثال الأموات، وإن شئت فرضت ذلك مع الأحياء من المذكورين. (7) إن الاعتماد على الأمر النادر الغير موثوق به كالكرامة، كالاعتماد على ما يسمونه فلتات الطبيعة، أو على الكنوز - وهو من الجهل والغرور الذي ينبغي إنكاره وعدم تقرير فاعله عليه. وأما طلب قضاء الحاج وتقويم الاعوجاج من الأضرحة والقبور بناء على أن أصحابها شفعاء يتوسطون إلى الله تعالى فيها، فهذا بعيد عن دين الإسلام ومخالف لعقائده وآدابه أيضًا؛ لأن الذين أثبتوا الشفاعة من المسلمين - وهم أهل السنة - قالوا: إنها إكرام من الله تعالى لنبيه أو له ولمن شاء الله من المصطفين في الآخرة لا في الدنيا، والشفاعة المتفق عليها عند المسلمين هي التي ترجع الأخبار فيها إلى حديث معناه: أن لكل نبي دعوة مُجابة على سبيل القطع، وكل نبي قد دعا بها في الدنيا فاستُجيبت له، ونبينا صلى الله عليه وسلم قد ادخرها للشفاعة في الآخرة، ولا محل هنا لإيراد الخلاف في الشفاعة، وما لكل فريق من مثبتها ونافيها من الأدلة القرآنية على ذلك، ويكفي فيما نحن فيه أنها مختصة بالآخرة، وأنها لا يقطع بها (ولا في الآخرة) لأحد من هؤلاء الأولياء والصالحين الذين يطلب الناس منهم حاجاتهم المتعسرة عليهم، ويحملنا محسنو الظن على التأويل لهم بأنهم يعتقدون فيهم الشفاعة والتوسط بينهم وبين الله تعالى، لا الإيجاد والتأثير، كأن الإنكار لا يكون إلا على الشرك المحض والكفر الصريح. إن عباد الأوثان والأصنام والبشر، منهم من كان يعبدها لأنها شافعة لا لأنها خالقة وموجدة، وقد أنكر القرآن عليهم بآيات منها قوله تعالى حكاية عنهم في معرض الإنكار {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) الآية وقوله تعالى {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} (يونس: 18) الآية وهي ترشدنا إلى أنه لا يجوز لنا أن نفتات عليه سبحانه باتخاذ شفعاء لم يأذن لنا باتخاذهم، وإعلامه بما لا يعلم فيما إذا لم يكونوا ممن ارتضاهم للشفاعة. وإن فيما تقدم في بحث الكرامة، وفي الآيات والأخبار الكثيرة التي تأمرنا بالالتجاء إلى الله وحده؛ لأنه أقرب إلينا من حبل الوريد، في العقيدة المقطوع بها عند جميع فرق المسلمين من أن الله تعالى لم يجعل واسطة بينه وبين خلقه في الإعدام والإيجاد، وإنما جعل الواسطة للتعليم والإرشاد، وهم الأنبياء (ومن جرى على آثارهم فهو كالنائب عنهم) وقد انقطعت هذه الوساطة بخاتم الأنبياء الذي هو آخر وسيط، وفي الحديث الشريف الذي أشرنا إليه من أن الله تعالى منح كل نبي دعوة واحدة مستجابة فما يدعو به وغيرها موكول لفضل الله تعالى غير مقطوع بإجابته، وفي الأحاديث الكثيرة التي بينت أن الرخصة في زيارة القبور بعد النهي عنها إنما هي لأجل الاعتبار بالموت وتذكر الآخرة، لا لأجل الانتفاع بالميت، ولذلك يزار قبر الكافر والفاسق، وفيما ورد في الأحاديث من أن الميت تحت رحمة الله تعالى كالغريق المتغوث (طالب الغوث) وأنه يستحب الدعاء له، وفيما شاهدنا من فساد عقائد العامة بإقرارهم على ما يصدر منهم عند زيارة الصالحين (وهو ما فصلناه سابقًا) الذي انتهى ببعضهم إلى اعتقاد التأثير لهم، وإلى تسييب السوائب، كالعجول ونحوها باسمهم، كما كان المشركون يسيبونها للأصنام، ونهى عنها القرآن، وإلى المفاضلة بينهم وبين الأنبياء، وإلى الحلف بالله باطلاً والتحرج والتأثم من الحلف بالولي كاذبًا، وإلى ترك الأسباب في المصالح الكلية اعتمادًا على الأولياء، كما جرى في بخارى عند زحف الروسيا عليها، حيث أجاب العامة وكثير من الخاصة من أمرهم بالتأهب والاستعداد للمدافعة عن البلاد بقولهم: إن شاه نقشبند رضي الله تعالى عنه هو حامي بخارى وهو الذي يرد الأعداء عنها، وفيما ورد في الكتاب والسنة من أن آباء بعض الأنبياء وأبناءهم كانوا كفارًا، وأبناء كثير من الأولياء كانوا فساقًا أشقياء، ولو كان الأمر في يدهم فعلاً أو شفاعة لما كانوا كذلك. في ذلك كله وفي غيره من الآيات والعبر ما يوجب على العلماء أن يبينوا للناس قولاً وكتابة أن لا يعتقدوا بقدرة غيبية إلا لله تعالى، وأن يسيروا في مصالحهم الدنيوية على السنن والنواميس التي طبع الله الكون عليها، ودلتهم المشاهدة على صدق الكتاب في عدم تبديلها وتحويلها، وأن لا يعتمدوا على الخوارق الموهومة، ولا على الشفاعات التي هي في الدنيا معدومة، وفي الآخرة غير معلومة، بمعنى: أنه لا يعلم لولي بخصوصه شفاعة في الآخرة، على أنهم {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28) وإن سيد الشفعاء عليه السلام كان يقول لأهله وعشيرته الأقربين (اعملوا، لا أغني عنكم من الله شيئًا) وأمثال هذه الإرشادات التي فيها سعادة الدنيا والآخرة، لا أن نسكت للعوام على منكراتهم المشاهدة هي ومضراتها بناء على حسن الظن المبني على أمور مشكوك في حصولها، وهل مع مشاهدة المنكر مجال لحسن الظن؟! والقاعدة أن اليقين لا يزول بالشك. نعم إن لزيارة العلماء والصالحين أحياءً وأمواتًا فائدة معقولة، لم يرد بها الشرع فيما نعلم، وهي تأثر الزائر بتذكر ما أوتيه المزور من الفضيلة والكمال، وانفعال روحه بما ينهض الهمة ويبعث على التشبه والاقتداء إذا كان الزائر ذا بصيرة صافية تتمثل لها شمس الكمال، فيفيض عليها من أنوار الهمة والعزيمة ما يبعث على احتذاء ذلك المثال، والنسج على ذلك المنوال، ولعل هذا ما يعنيه السادة الصوفية بقولهم: (التبرك بالزيارة واستمداد الهمة من مزور) {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) .

الشعر العصري

الكاتب: حسين أفندي الجسر

_ الشعر العصري من نظم صاحب الفضيلة أستاذنا الشيخ حسين أفندي الجسر الطرابلسي الشهير. بالجد يبلغ ذو الآمال ما طلبا ... وبالوفاق ينال المرء ما رغبا يا عصبة الملة الغراء أنشدكم ... ربًّا بعزة علياه قد احتجبا ما السر في أن أسلافًا لنا سلفوا ... سادوا البرية فيما أورث العجبا يا جاهلاً قدْر علياهم وما اكتسبوا ... سل الأناسي أو سل عنهم الكتبا تخبرك أنهم سادوا الأنام علا ... ودوخوا الكون حتى السبعة الشهبا يجيء إليهم خراج الأرض قاطبة ... بذاك خاطب هارون الهدى السحبا هل كان ذاك بغير الجد حالَفَه ... حُسن الوفاق وإلا فاذكروا سببا لله در علوم بينهم برزت ... من كل فن عن الأفكار قد حجبا أصول فقه وتوحيد وفلسفة ... وهيئة وسياسات غدت نخبا جغرافة وتواريخ مهذبة ... وفن حرب وما نكفي به النوبا صنائع وفلاحات ونافعة ... وجملة من علوم أصبحت أدبا نحوًا وصرفًا وإنشاء وقافية ... وقرض شعر ونظمًا يبعث الطربا بلاغة وبيانًا والبديع وما ... قد يعجز الحاسب المطري إذا حسبا ما في الطبيعة علم فات مقصدهم ... ولا الرياضة فن عنهم احتجبا أكان تدوينهم هذي العلوم لأن ... ينال منها سوانا كل ما رغبا أم أنهم وضعوا تلك الصنائع كي ... تكون في سلب أموال لنا سببا أم أنهم رتبوا فن الفلاحة كي ... يعود ربع سوانا عامرًا خصبا أم (الشفاء) تقول الشيخ ألفه ... لغيرنا فاستفادوا منه ما وجبا ودونوا كتبًا منه وقد نسبوا ... إبداعها للذي في دارهم نجبا أم (الحريري) أبدى من بلاغته ... تلك المقامات كي تغدو لهم أدبا لو شام ناظره بين الأنام لها ... تلك التقاليد أنَّ الدهرُ وانتحبا كلا وربك ما راموا بما سمحوا ... إلا لنكسب منه خير ما اكتسبا فلا يليق بأن الغير وارثه ... ونحن فيه كمن عن إرثه حجبا وإن ترى من ديار الغير لامعة ... بروقه ونراه منهم انسكبا فنغدو كالبحر تنهل السحاب به ... من مائه وترى ذا البحر قد نضبا هذا وقد أذعنت قهرًا لسطوتهم ... كل الطوائف ممن شط أو قربا لو رمت تعداد ما نالوه من عظم ... على البرايا غدوت اليوم منغلبا لكن عليك بأخبار الصحابة إذ ... فيه شفاء , ومن في نهجهم سربا مثل الذي أنضج الآلاف صارمة ... من قبل ما أنضجت شمس الضحى العنبا أو المقيم على أرباض خرشنة ... أشقى العدا بجيوش أسعدت حلبا أو الذي بفتوحات له اتصلت ... غدا له فاتح بين الورى لقبا فيا عصابة دين الله حيهلا ... على الذي فيه حقًّا نبلغ الأربا واسترجعوا ذكر أسلاف لكم تركوا ... مفاخرًا لم ينلها غيرهم حسبا وجانبوا الحسد المذموم مسلكه ... وجردوا سيف عزم يقصم الهضبا كونوا بجمع قلوب عند سعيكم ... إلى المعالي تنالوا كل ما طلبا إن القداح إذا ما جمعت عجزت ... عنها الأكف وإذا ما فرقت فهبا هذا الخليفة قد أبدى لنا طرقًا ... من الهدى وإلى ساحاتها ندبا أنشا مدارس تعليم وزينها ... بكل فن علينا قبلُ قد صعُبا ولم يدع سببًا يفضي لثروتنا ... إلا بهمته قد سهل السببا فما عليه من الإحسان أرسله ... فما علينا سوى أن نهجر اللعبا إن لم نكن بهداه نهتدي فلنا ... يقال ما في ثمود قد أتانا نبا يا صاحبي لا يكون المرء مفتخرًا ... إلا إذا عزمه مع رأيه اصطحبا رأي يريك الدجى صبحًا يصاحبه ... عزم يقد الصخور الصم والقضبا فلا يفيدك تصقيل الشعور إذا ... لم يغد عقلك مصقولاً بما كسبا ولا يصونك " بسطون " بحربته ... إن لم يكن منك عزم يشطر الحربا يا سعد عرج على ربع العلوم فقد ... أقوى لعلك تحييه لمن طلبا ويا كواكب ذي الفيحا وجيرتها ... كونوا طوالع سعد عندها ارتقبا واستسلموا لهدي المولى خليفتنا ... فلن يفوز امرؤ عن هديه انقلبا إذ جل مقصده أنَّا بنعمته ... بين البرايا نفوق العجم والعربا أدامه الله شمسًا تهتدي أبدًا ... ألبابنا بسناها ثم لا غربا ما نال بالجد والآمال ما طلبا ... وبالوفاق حوى ذو الجد ما رغبا

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد (التسلح في العثمانية) نشرت جريدة (الستندرد) منذ أيام رسالة وردتها من فيينا موسومة بهذا العنوان، معربها كما يأتي: الظاهر أن الحكومة العثمانية تروم أن تسالم جيرانها بالإصلاحات العسكرية، فهي ليست فقط باذلة جهدها وعنايتها في تحسين أحوال جيشها، بل قد ورد أخيرًا من الآستانة أن المساعي مبذولة فيها لزيادة هذا التحسين والمبالغة في ذلك التنظيم. وقد ظهر تقدم جدير بالذكر في جميع أنواع السلاح التي لديها، ولا سيما المدافع، فقد كانت مدافعها في الحرب الأخيرة من طرز كروب الحديث، ولكن منذ زمن وجيز بدئ في الطوبخانة بإنشاء معمل لصنع مدافع سهلية من طرز هويتزر فأصبحت كياتر بذلك تسابق معامل ألمانيا وأوستريا في صنع هذه المدافع، وستجهز مدفعية السهل بمدافع من ذوات الطلق السريع، ويقال: إن الحكومة تخابر الآن معمل كروب بشأن إرسال هذه المدافع، ولا يمضي زمن طويل حتى تصبح جميع العساكر مسلحة ببنادق موزر، وهي قد أنشأت منذ مدة معملاً لصنع البارود الذي بلا دخان في موضع يدعى زيتون برنو قرب الآستانة، ولكن البارود الذي يصنع فيه ليس وافيًا بالمراد، فلذلك أرسلت وزارة الحربية توصي معامل ألمانيا على صنع مقدار منه برسمها، وعمل مائة مليون من قراطيس البارود (الخرطوش) . ثم إن مسألة القلاع والحصون شاغلة أفكار رضا باشا وزير الحرب، ويقال إن المعاقل التي حول أدرنة ومعاقل دجوماجا الواقعة على الحدود البلغارية ستعزز بأسلحة جديدة، ويكمل تسليح استحكامات كرك كيليس (لعله يريد قرق كليسا) الواقعة بين أدرنة والبحر الأسود. أما فيما يتعلق بتنظيم الجيش، فقد تقرر منذ بضعة أيام إنشاء 170 أورطة جديدة من الجنود الاحتياطية التي لا تخدم خدمة منتظمة، والتي تتمرن على الفنون العسكرية في أوطانها في أيام الأعياد والعطلة، وقد صدرت الأوامر الآن إلى حكام الإقليمين المجاورين للجبل الأسود وصربيا وبلغاريا بتشكيل ذلك العدد من الأورط من أهاليها، فتستدعى في زمن السلم مدة شهر أو شهرين، وتقدر نفقاتها بثلاثة ملايين فرنك في السنة، ثم إن الخيالة المعروفة بالحميدية المؤلفة الآن من 61 فرقة سيغير نظامها ويشكل منها ستة ألوية من الفرسان، وينفذ المشروع القديم القاضي بإضافة كوكبة أو نصف كوكبة من سائر الفرسان إلى كل فرقة من الفرق الحميدية، ومما يذكر في هذا السياق أن جماعة من الضباط الأتراك قد اشتروا أخيرًا عددًا كبيرًا من الخيول من هنغاريا الشرقية برسم الخيالة العثمانية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام) *** (ترقي الصنائع في ألمانيا) نشر مؤخرًا في برلين إحصاء جدير بالاعتبار، تفهم منه درجة ارتقاء الصنائع في ألمانيا، فقد كان عدد المشتغلين في معاملها عام 1882 غربية 5831622 من الرجال و1509167 من النساء، وفي سنة 1895 بلغ عدد الصناع 7921942 رجلاً و2339325 امرأة، وكان عدد الأنوال التي يشتغل بها من العامل الواحد إلى الخمسة عام 1882 نحو 2882718 نولاً، وعدد عملتها 4435882، وفي سنة 1895 بلغ عدد هذه الأنوال الصغيرة 2924732 نولاً، ومقدار عملتها 47765 شخصًا، والأنوال المتوسطة التي تستخدم من الستة صناع إلى خمسين صانعًا كان عددها سنة 1882 نحو 112715 نولاً، وعدد عملتها 1391720 عاملاً، وعام 1895 بلغ عدد الأنوال 191299، وعدد العملة 2454257 عاملاً، وسنة 1882 كان عدد المعامل الكبيرة التي تستخدم من الواحد وخمسين عاملاً إلى ألف عامل 9974 معملاً، وعدد عملتها 1613247 عاملاً، وفي عام 1895 بلغ عدد هذه المعامل 18955 معملاً وعدد عملتها 3404343 عاملاً، وما زال عدد المستخدمين والمستخدمات في هذه المعامل يزداد آنًا فآنًا، حتى كان عدد المستخدمين عام 1882 نحو 205061 مستخدمًا فبلغوا عام 95 نحو 448134 مستخدمًا. أما عدد الذين لم يبلغوا السادسة عشرة من العمر المشتغلين في هذه المعامل فهم عبارة عن 464424 ولدًا و138736 بنتًا، وعدد الذين جاوزوا هذه السن هم كناية عن 6871504، وقد بلغت قيمة مصنوعات هاته المعامل عام 1882 زهاء 1279900000 مارك (المارك فرنك وربع) وبلغ مقدار ما صدر منها 17200009 طن (الطن أربع قناطير شامية) وقد بلغت صادرات عام 92 نحو 2380000000، وقيمة الصادرات 3424000000 مارك، فهذه الزيادة المهمة تدل على ما وصلت إليه البلاد الألمانية في خلال السنين الأخيرة من الترقي الخارق للعادة، فلله ما يفعل الإقدام والثبات. *** (نبات يُضحك بالعَهُ!) قالت جريدة (آهنك) الأزميرية: إنه قد اكتشفت في بلاد العرب شجيرة خضراء الأوراق لامعتها، لها ثمر يشبه الفاصولية، يحتوي على حبتين أو ثلاث سوداء اللون، وهذه الحبات ذات رائحة تميل للأفيون حلوة الطعم، فإذا سحقت سحقًا جيدًا وبلع منها الإنسان مقدارًا، يستغرق حالاً في الضحك الطويل بصفة لا تقاوم، ويزداد ضحكه بالتدريج، فيطفق يقفز ويلعب ويتغنى ويتحرك فيه هذا الهوس مدة ساعة ثم يسكن، وعندها يستولي النعاس عليه فينام ملء جفونه ساعات طوال، ومتى أفاق من غفلته يصبح ما اعتراه نسيًا منسيًّا، فإذا ضاق ذرع المرء أو بكى بكاءً مرًّا، وبلع من هاته الحبات يعتريه ذلك الحال، على أنه إذا أدمن على ابتلاعها يعرض نفسه لمرض الأعصاب، وقد أوصى الأطباء كل عبوس قمطرير أن يبتلع من هذا النبات على نحو ما قررناه، فيزول ما به من الكآبة. هذا كلام الجريدة ترجمناه على سبيل الفكاهة، والله أعلم بحقيقة الشجيرات وثمراتها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الشام) *** من أخبار الآستانة العلية أن مولانا السلطان الأعظم أنعم على قواد الأساطيل الأجنبية في كريت بوسامات مختلفة باختلاف درجاتهم العسكرية؛ جزاء حسن خدمتهم في الجزيرة، وصدرت الإرادة السنية بإنشاء مأوى للأرامل اليونانيات في سلانيك، فما هذا الإنعام الشامل والحنان الكامل؟ ومنها: أن رائف أفندي أحد الحذاق من رجال المدفعية قد اخترع طربوشًا يصنع من النبات والكلأ بدلاً من الصوف، وهو اختراع مفيد جدًّا، لا سيما للعسكر، وهو يسعى الآن في أخذ براءة الامتياز به، فعسى أن ينالها مع الجزاء الحسن. ومنها: أطلق 5 آلاف جندي انتهت مدة خدمتهم فانصرفوا حاملين رتب الشرف العسكري، داعين لمولانا السلطان بالنصر والتأييد والعمر المديد. ومنها: يهتم الباب العالي بتجهيز وتعبئة 170 كتيبة (طابور) من العسكر في جهات أدرنة ومناستير، ويقال: إن وزير الحربية يسعى بإلغاء إعفاء أهل الآستانة من الخدمة العسكرية الذي هو نظام السلطان محمود، وقد أظهر أن ذلك يزيد في الجنود 20 ألفًا من مسلمي الآستانة ما عدا البدلات المالية التي تؤخذ من سائر الملل. ومنها: أعلنت السفارة الألمانية رسميًّا أن الإمبراطور والإمبراطورة يصلان إلى الآستانة في 17 أكتوبر (أيلول) القادم. ومنها: صدرت الإرادة السنية بالإصلاح في مدينة القدس الشريف، فشرع في توسيع شارع باب الخليل الموصل للحرم الشريف، وفي إقامة الأبنية الجميلة على جانبيه.

سلطة مشيخة الطريق الروحية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سلطة مشيخة الطريق الروحية [*] (تابع ما قبله) لما رأى الفرنسويون عند تداخلهم في الجزائر نفوذ شيوخ الطريقة التيجانية الروحي وشدة خضوع العامة وتسليم الخاصة لهم، اكتنهوا شؤونهم فألفوهم قد اتخذوا هذه الرياسة وسيلة للمال والجاه، وذريعة للمكاثرة والمفاخرة، وظهر لهم إمكان استخدام هذا النفوذ لمد ظلال فرنسا وتمكين سلطتها في تلك البلاد، وكذلك كان. أظهر جماعة من الفرنسويين العارفين بالعربية الإسلام، وامتزجوا بشيوخ الطريقة امتزاج الماء بالراح وأمدوهم بالمال، ففرقوا الكثير منهم في مراتب الطريقة، كالنقابة والخلافة، وجعلوا منهم شيوخًا مسلكين، ثم صاروا أئمة وخطباء ومدرسين، وناهيك بالأوروبي إذا صار رئيسًا مطاعًا كيف يخدم أمته وحكومته، ولقد ساعد رؤساء هذه الطريقة البعوث الفرنساوية التي أرسلتها فرنسا للصحراء الكبرى والسودان الغربي، ومكنوا لهم في أرض الجزائر وتونس، وكانوا أكبر الخاذلين للأمير عبد القادر في محاربة فرنسا، حتى أنهم حاربوه جهاراً عند حصار مدينة (عين المهدي) وبمساعدتهم حصل ليون روس الفرنساوي الذي تظاهر بالإسلام على فتوى من علماء القيروان اتخذها الفرنسويون مع الفتوتين اللتين حصل عليهما هذا الدخيل من مصر ومكة (بوسائط لا محل لها هنا) أدلة لإخماد حمية مسلمي الجزائر ليقعدوا عن محاربة فرنسا، ونقلت الجرائد الفرنسوية عنهم في تلك الأيام أنهم كانوا يلقون في نفوس عامة العرب: (أن الخوف من الفرنسويين هو الخوف من الله تعالى) ولا غرابة في ذلك؛ فإن لشيوخ الطريق الجهال في كل البلاد من الوساوس التي يمكن الاستعانة بها على مثل هذا الغرض ما لا يحصى. منها: الرضا بالقضاء والاستسلام للقدر. ومنها: أن هذا من علامات قيام الساعة وانتهاء الزمان، وإنه لواقع ما له من دافع، فمعارضته عبث. ومنها: أن وقوع هذه المصائب على المسلمين أمور أخبر بها النبي صلى الله علية وسلم، فالسعي في إبطالها سعي في إظهار عدم صدقه، ولقد سمعت مثل هذا التعليل الغريب عمن يدعي العلم ويُعرف بالصلاح. ومنها: أن الولي الفلاني أو الشيخ الفلاني علم بالكشف والاطلاع على الغيب أن الأمر الفلاني لابد من إنفاذه، ومن عارضه يخسر ولا يظفر. ومنها: أن هذا شيء أشارت إلى حصوله الجفور، فمعارضته جهل وغرور. ومنها: أننا نقاوم هذا الخَطب بالدعاء والتوجهات، أو بالخوارق والكرامات، كما نقل عن أهل بخارى أنهم قالوا أن شاه نقشبند يرد روسيا عن بلادهم، وكما نقل عنهم وعن غيرهم من الاجتماع لقراءة البخاري الشريف لرد الأعداء عن بلادهم. أمثال هذه الوساوس المصادِمة للعقل والدين، منتشرة بين المسلمين في جميع الأقطار، وهي على ضررها وعللها مأخوذة بالتسليم من غير إنكار، ومن أنكر عليها وقال: إنها تَعِلاَّت غير صحيحة، أقاموا عليه النكير، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فبعضهم يقول: هذا معتزلي أو وهابي، لا يعتقد بالدعاء والكرامات وشفاعة الأولياء، ولا يؤمن بالقضاء والقدر. وبعضهم يقول: إن هذا فلسفي لا يصدق بقرب الساعة وانتهاء الزمان، وينكر بركة الحديث الشريف، وبعضهم يقول: إن هذا عدو مبين؛ لأنه ينكر على المسلمين. وهكذا تشيع بينهم تسمية خادم الدين عدو الدين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولننقل عن الفرنسويين أنفسهم ما يشهد بصحة كلامنا في استخدامهم أهل تلك الطريقة، قال علامة تقويم البلدان (الجغرافيا) المسيو أليزيه روكلوا في الصفحة 639 من المجلد الحادي عشر من كتابه المسمى: (رسم الأرض) ما نصه: (إن بعضاً من رؤساء الطرق في الجزائر شرهون طامحون لنيل المال والجاه، بُعَداء عن التمسك الحقيقي بالدين، لا يتحامون إدخال كثير من النصارى في زمرة إخوانهم ولا يتخلفون عن مساعدتهم عند الحاجة) . وجاء في رسالة طويلة للمسيو دوكنستان، نشرت في مجلة (العالمين) الشهيرة في العدد الصادر في أول مارس سنة 1886 شرح فيها الكاتب المساعدات العظيمة التي يأتيها شيوخ الطريقة التيجانية خدمة للفرنساويين، فهي الطريقة المثلى التي ينبغي أن تسلكها حكومة فرنسا في موالاتهم السرية؛ لأن المجاهرة قد تضر، كما حصل في إبان محاربة الأمير عبد القادر. ومما جاء في تلك الرسالة قوله: (إنني - بغاية الأسف - ألاحظ انكباب ضباطنا الفرنساويين في الجزائر على الدخول في زمرة الطريقة التيجانية وتهافتهم على أخذ العهد بتظاهر زائد، وإلى حد لا يقبله الذوق والاستحسان، وإن كان من الحكمة والرشد أن يدخل بعض رؤسائنا العارفين بلغة العرب في زمرة الطريقة التيجانية، توصلاً للفوائد السياسية التي تنتج من ذلك، إذ لا ينكر أنهم بهذه الوسيلة يمكنوننا من نشر الأمن في الأقطار والصحاري، ومن تقوية نفوذنا على العرب، كما هو حاصل الآن بكل سهولة بسبب المصالح المتبادلة والمتكافئة بيننا وبين رؤساء هذه الطريقة، فإذا أردنا أن نستفيد بانتظامنا فيها، ويقوى سلطاننا على المسلمين وينتشر نفوذنا السياسي، وجب أن نقف في طريق أخذ العهود عند الحد الملائم المقبول، وإلا صرنا وإياهم (أرباب الطريقة التيجانية) في موضع هزؤ وسخرية أمام أعين العرب أجمعين. ثم تكلم عن الشيخ السنوسي وما يجب من الوسائل لمقاومته وتشتيت طائفته، ثم قال ما نصه: (يلزم أن يكون على حدود مستعمراتنا رجال من أصحاب الدهاء والخبرة التامة بأحوال الطوائف الإسلامية الذين يعلمون دخائلها وعيوبها ليستعملوا كل خلل يجدونه لصالح وطننا، ولا يصح للحكومة أن تغيرهم من مراكزهم إلا إذا تعذر بقاؤهم فيها، على أنه لا ينبغي تغييرهم إلا بعد فرصة من الزمن، يوقفون فيها من يخلفهم على تلك التجارب ويحيطونهم علمًا بكل من يوالينا محبة وإخلاصًا، ويلزم أن يكون لهؤلاء العمال ارتباط تام وعلاقات شخصية مع الأهالي ومشايخ الطرق ومن على شاكلتهم من أرباب المظهر الديني، مثل ما لضباطنا العسكريين مع التيجانية، ولكن ينبغي أن تعطى لهم أوامر تقضي عليهم أن لا يتظاهروا بالمحبة الزائدة للطوائف الخاضعة لنا، ولا بالكراهة الزائدة للطوائف المخالفة لنا، فإن السياسة الممزوجة بالدهاء والمهارة تستلزم أن نتجافى ظاهرًا عن المصافين لنا، ونتظاهر بالميل لأعدائنا، وتَنَكُّب هذه الطريقة يُنتج إضاعة نفوذ أولئك الأصفياء، ويقوي نفوذ أعدائنا عليهم، وبعبارة أجمل: ينبغي أن تكون فوائدنا الظاهرة موجهة منا إلى أعدائنا، إذ لا يصعب علينا أن نستميل من كان شرهًا ناقص الشجاعة والدين، ونلجؤه إلى الدخول في زمرتنا والخضوع لنا، ثم نوالية سرًّا بهدايانا الخفية، لكيلا يأسى على ما فرط في جنب الله من ترك دينه وخيانته وطنه. أما تلك الطوائف الشديدة البغضاء لنا التي يخشى اجتماع كلمتها علينا، فمن الحمق والغباوة أن نظهر لها الكراهة وعدم الرضا؛ لأننا بذلك نحملها على التألب علينا والاجتماع لمصادتنا، وإنني لا أنكر أن مثل هذه السياسة عديمة الشرف، ولكنها مملوءة بالفوائد العائدة على بلادنا، ولهذه الوجهة أرفض رأي القومندان (رين) الذي يرى أن السياسة الحالية مع العرب لا تليق بشرف مملكة عظيمة مثل فرنسا، فما على حكامنا الفرنساويين في تلك الجهات إلا أن يحصروا كل قواهم في جلب أكابر مشايخها واستمالتهم بالمال والفوائد المادية والتظاهر بعلامات الاحترام؛ إذ بهذه الطريقة وحدها نحصل على سكوت هؤلاء الرؤساء وسكوت المرءوسين تبعًا لهم، والإغضاء عن كل ما يحصل، وغض الطرف عن جميع أعمالنا ومساعينا، فضلاً عن كوننا نتمكن بغاية السهولة من إلقاء بذور الشقاق والفتن بينهم، وأقرب منفعة لنا من ذلك أننا نفرق شمل هذه الطوائف الدينية. انظر إلى كم شظية شظينا الطريقة القدرية التي شتتناها ومزقنا لفيفها، وبمثل هذا نتمكن من جعل القوة السنوسية التي هي أشد صلابة من الحجر الصلد مفتتة كأجزاء الرمل، فلا يبقى ارتباط بين أجزائها، وإنما يكون ذلك إذا ثابرنا على بث الدسائس ونفخ روح البغضاء فيها، وواظبنا على إسناد كل وصمة تلحق العار بها وتوجب احتقارها والإزراء بها) . اهـ. (البقية للآتي)

حالنا

الكاتب: محيي الدين الخياط

_ حالنا حضرة الفاضل صاحب الإمضاء كلمة صدق أقولها، وإن كنت أعلم أن الصدق قد صار تقريعًا والنصح والإخلاص تضييعًا. إن جل شباننا (وأخص من يدعي التنبه منهم) تائهون في فيافي الغرور، زائغون عن محجة السداد، لا يعرفون هريرًا من غرير، ولا قبيلاً من دبير، إن بحثوا فبغير رابطة تربط عروة بحثهم، ولا ثبات على فكر يؤيد حجتهم، وإن سكتوا فبغير نتيجة ولا وصول إلى حقيقة، وإن انتقدوا فمن وراء حجاب، وإن استصوبوا فبغير اهتداء إلى الصواب. بينما ترى المتمدن منهم يطنب في فوائد العلم العصري ومزاياه وذم كل شيء سواه، إذ تراه خاض بذم ما مدحه، ومدح ما ذمه من غير أن يشعر، وإن ادعى أنه شاعر، فلا نكاد نعرفه هل هو عدد للعلم ما له هم ولا سلام، أم حليف له يدافع عنه بالسيف والقلم، وفي الحقيقة هو لا في العير ولا في النفير، وهذه على ما أرى من النقط الموعرة التي وقفنا بها وتعذر علينا قطع مجاهلها ومفاوزها، والسير في جدد التقدم والنجاح، والتدرج في معراج الترقي والفلاح. وما تلك إلا نتيجة الجهل وعدم دراسة العلم الصحيح وسوء التربية الحقة، وإن شئت التفصيل فقل: هو نتيجة حب الأثرة ممن لا نسميهم ... ، وعدم الاعتناء بتعميم العلوم وتسهيلها للعموم والاكتفاء بشقشقة اللسان، ولوك الألفاظ المصنعة الموهمة بالعلم، والانكباب على حب الترقي الشخصي مع الجهل والرغبة في التنافس والتحاسد، والمزاحمة بالمناكب في المراتب، والافتخار بما يوجب العار، والعار بما يوجب الافتخار، والادعاء ولو بغير حق، وغمط الحقوق، وعدم الاعتراف بالجميل، والذهاب مع ... وعدم الانقياد لمن يصدع بالحق، وتفرق الكلمة وتشتت الآراء، والاكتفاء من العلوم العصرية باللباس الفاخر والفرش الباهر، والتحلي بالأحجار الثمينة التي لو قومت كلها لبلغت ما استهلكته من الدراهم مبلغًا يقوم بفتح المصانع العمومية والمدارس العلمية، من طبية وصناعية وزراعية وتجارية ونحو ذلك. فإن افتخارنا معشر الشرقيين بآثار أسلافنا لا يجدينا نفعًا ما دمنا لا نرى شيئًا من حاجياتنا - فضلاً عن كمالياتنا - إلا وهو من صنع الأغيار الذين استنزفوا منا البصائر والأبصار، فضلا عن الدرهم والدينار، ومع ذلك لم يزل أكثرنا مكتفيًا بقوله: إن التمدن الغربي استمد من التمدن الشرقي، نعم إن هذه الحقيقة لا ينكرها الغربي، فضلاً عن الشرقي، لكن يا ترى هل يفيدنا مجرد معرفتها إن لم تكن آثارها ظاهرة علينا، وهل يا ترى لو كانت معنا جوهرة ثمينة وسلبها الغير منا واستفاد وأفاد غيره، وعجزنا نحن عن الاستفادة منها - فضلاً عن استردادها - فأي فخر يبقى لنا، بل أي عار يبقى علينا، فليجبني المفتخر بعظام أجداده من الشرقيين بشرط إنصاف الضمير، وصفاء الفكر عن شوائب التحيز لأضوائه، ومزالق الاستبداد بمنشوراته، بعد أن يعلم أن الفخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية. ورب منصف حلب الدهر أشطره وسبر حلوه مره أسمعه في عالم الخيال يقول: لقد أصبت وصمصام الحق كبد الحقيقة، وسلكت من صراط الصدق أقوم طريقة، وشخصت المرض العضال الذي أصاب جسم أكثر الشرقيين وتركهم يتخبطون كالذي تتخبطه من المس الشياطين، ولكن أين من يسمع، أين من يعي، أين من يتفكر؟ وكل يدعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا بل كل يغني على ليلاه، والعارف معهم يقول: وا ويلاه، خشب مسندة، لا تجر بالآلات الميكانيكية التي تجر الأثقال، وقلوب موصدة، لا تنفذ فيها أشعة رانتجن التي تخرق الجبال، وعقول عقم لا تعرف نتيجة الاختراع، وألسن بكم، لا تعرف من الإفصاح إلا وصف المقرطق أو ذات القناع، وآذان صم لا تسمع بالتليفون الذي يسمع الصم الجماد، وعيون عمي لا تنظر بالمكبرات (المكروسكوبية) التي تقرب الأبعاد، بل لا تنظر بنور الكهرباء التي هي كالقمر، ولا بالغاز الذي هو كالزهر أو الزهر، حتى ولا بشمس النهار هي التي تُستمَد منها الأنوار، بل ولا بنور الذي خرق طبقات الأرض، بل اخترق ما فوقنا من الطباق، فأرانا سير الكواكب في الأفلاك، والبرق في الآفاق، وتموج صدى الإنسان تحت الماء، حيث تنقله الأسلاك، وتسمع صريره الأسماك، إنك لا تجني من الشوك العنب، كما لا تستنشق رائحة العود من الحطب. مَساوٍ لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق هذه آيات القرآن العظيم، هذه أحاديث الرسول الكريم، هذه الكتب المقدسة كالتوراة والإنجيل، كل ما ذكر يأمر بجلب الخير لبني الإنسان، وتحصيل العلم ولو بالصين، بل أينما كان، والتقاط الحكمة حيثما وجدت. هذه جرائدنا تنادي بالنصح على رءوس الأشهاد على حد قول القائل: أنادي فلا ألقى مجيبًا سوى الصدى ... فأحسب أن الحي ليس بآهل منها ما هو له ربع قرن ونحو ذلك (كالثمرات والأهرام) ، ومنها ما هو له أقل من ذلك (كالمؤيد) ومنها ما هو ابن سنته لكنه يعد في مصاف الكهول (كالمنار) ومنها ومنها إلخ، فأين الذي جنى ما أثمرته (الثمرات) وأين الشعب الذي أيد استقلاله بإرشادات (المؤيد والأهرام) وأين الأمة التي استنارت من (المنار) وأين وأين إلخ ... ، فأقول له مجيبًا: مهلاً مهلاً أيها المنتصر للحق والحقيقة، فلعلنا نجد للإقناع بالحسنى طريقة، فإن الحقيقة بنت البحث، ولا تتولد إلا بازدواج در الأفكار، وتصادم زند البصيرة، حتى يندلع منها لسان الحق بساط الأنوار، وقد يركب الصعب من لا ذلول له، ويستصحب الإنسان من لا يلائمه. إذا لم يكن إلا الأسنة مركبًا ... فما حيلة المضطر إلا ركوبها والاعتدال في الكلام أوقع في النفوس من وقع السهام، وليس من العدل سرعة العذل (لعل لهم عذرا وأنت تلوم) فإن الغربى دخل بيننا أيها الشرقي باللطف والملاينة، فنال منا ما أراد، أفلا يجدر بنا ونحن من وطن واحد وعنصر واحد المجاملة بقيام الحجة حتى نصل إلى المحجة. من المعلوم أن الغير بلغ من التقدم شأوًا بعيدًا ليس بعده شأو لراكب ولا مجال لطالب، بل لا أبالغ إذا قلت: زاحم الكواكب بالمناكب (شأن أسلافنا الأندلسيين والمصريين وسواهم) وهو مع ذلك لم يخرج عن الطور البشري، ولا تنزلنا عنه، غير أن تقاعسنا عن تحصيل العلوم وإهمال الآباء عن تعليم الأبناء، وعدم اتحاد قلوبنا على نجاحنا ونجاح بلادنا هو الذي أخرنا وثبط همم رجالنا وشبابنا، فإن أحدًا منا لو جاء بنصيحة أو قام بمشروع يفيد البلاد ويستفيد هو منه بالطبع، لعكر عليه آحاد بل عشرات بل مئات بل ألوف وأفسدوا عمله وقاموا ضده وظنوا فيه الظنون، غير ناظرين إلى نصيحته أو مشروعه، بل إلى شخصه، وهو عين الغفلة عن حقوق الأشخاص نحو البلاد، والعبث بمصالحهم ومصالحها، وهو الداء القتال الذي فتك فينا وفي بلادنا فتكًا ذريعًا، وما علينا إلا أن نتداركه قبل أن يزمن ويتعذر علينا علاجه بأن نكون يدًا واحدة على نفع البلاد، وجلب كل ما يعود بالخير عليها وعلى متوطنيها أيًا كانوا، مقتفين بذلك آداب الشرائع الغراء، وأثار من ساروا على آثارنا وجاسوا خلال ديارنا واستمدوا من أنوارنا - وهو أمر سهل على الكل - بأن ينبذ كل منا النفع الخاص، ويتمسك بالنفع العام الذي يدخل فيه الخُلّص، فإننا باحتياج زائد إلى ترقية بلادنا بنشر العلوم والمعارف فيها، وترويج مصنوعاتها، حتى نستغني عن مصنوعات الغير، وتبقى ثروة البلاد في البلاد، واتحاد القلوب وحده هو الكفيل بحسن الاستقبال وبلوغ البلاد معارج الكمال. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين الخياط

الإسلام في الصين

الكاتب: محمد ضيا

_ الإسلام في الصين مترجمة بقلم حضرة الفاضل صاحب الإمضاء جاء في جريدة الكرسنت الإسلامية التي تصدر في لفربول بالإنكليزية تحت هذا العنوان ما نصه: لقد نشرنا قبل الآن التقارير التي وضعها اثنان من رصفائنا عن انتشار الإسلام وتقدمه في بلاد الصين، وهذان الاثنان هما الأستاذ فيوسلوف، والمستر تيرسنت. أما الأول فيقول: إن الإسلام سائر بسرعة عظيمة في سبيل التقدم والنجاح، وإن الصينيين يحبونه حبًّا كثيرًا، ويميلون إلى أهله ميلاً كبيرًا، وإن كثيرًا منهم يتسابق إلى التدين به. ويقول أيضًا: وفوق ذلك، فإن من يمعن النظر في تقدم الدين الإسلامي الحاضر يرى أنه ليس من المستحيل أن جميع أهل الصين ربما يتدينون بالإسلام، ويصير هذا الدين أخيرًا الدين الرسمي لبلادهم. وإذا استمر الإسلام في تقدمه الحاضر وانتشاره السريع وازداد عدد الداخلين فيه إلى أن تصير الصين بحذافيرها بلادًا إسلامية وجزءًا من العالم الإسلامي، فإنه من المحقق أنه يخشى على النصرانية؛ لأنها تعدم وسائل التقدم في تلك الأصقاع؛ لأن رسوخ الإسلام في بلاد الصين يفقدها كل سلطة فيها. أما الكاتب الثاني: فإنه قد اتفق مع الأول لكنه زاد في قوله بأنه منذ شرع الصينيون ينتحلون الدين الإسلامي بكثرة هائلة تزايدت عداوة الروسيين للإسلام في الشرق، فإنه لا يروق في أعينهم أن يروا الصينيين يدخلون في دين الإسلام أفواجًا؛ لأن انتشار الإسلام بهذه السرعة مما يضاد أغراضهم السياسية، ولذلك لا يفترون عن إيجاد القلاقل في آسيا الوسطى، وفي قلب المملكة الصينية، لكن عناية القادر قدَّرت أن ينتشر الإسلام في مقاطعات تبلغ مساحتها سبعة آلاف ميل مربع تقريبًا. ودخول الإسلام في الصين كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه - بزمن قصير، فكان أول بزوغ شمسه فيها في عهد الخلفاء، والتاريخ ينبئ بأنه كانت بين العرب والصينيين علاقات تجارية في عهد الخليفة الأول من الخلفاء الراشدين، وأوضح أيضًا التاريخ الإسلامي أن أحد الصحابة رحل إلى الصين بتجارة طائلة مع جماعة من قومه، وكانوا يحملون معهم سلعًا تجارية وكتاب نبيهم المقدس، ونعني به القرآن، وقد قام هو وجماعته بالدعوة إلى الإسلام، فلم يلتفت إليه أحد ويترك دين الوثنية، فذهب الصحابي وجماعته إلى مقاطعة كانتون واستعمروا فيها، وأخيرًا أتيح له النجاح وأسلم على يديه الجم الغفير من أهالي هذه الجهة، وابتنى فيها جامعًا. وقد منحت المملكة الصينية امتيازات كثيرة للعرب، واختلط الصينيون بهم وتشبهوا بآدابهم وأخلاقهم خصوصًا وأن مكارم الأخلاق وحسن المعاشرة والآداب التي اختص بها هؤلاء الغرباء جذبت إليهم قلوب الصينيين فدخلوا في دينهم وازدادت محبة أهل الصين للدين الإسلامي بثبات أهله على الاستقامة وحسن السلوك، وبالتدريج أصبح الفريقان أصدقاء، وتزوج كل فريق من الآخر وهو ما قوى الرابطة بينهم. وبمرور الزمن أصبح العرب مساوين للصينيين من كل الوجوه، وأصبح الصينيون مسلمين، وعلى هذا فقد العرب شيئًا من عاداتهم الأصلية، وفقد الصينيون دينهم القديم. وتوجد أسباب أخرى انتشر بها الإسلام هذا الانتشار السريع، وهي أن الأغنياء من المسلمين يشترون أولاد الوثنيين وبناتهم ويربونهم بمعرفتهم، وهم فوق ذلك يتصدقون على الفقير ويطعمونه، ويكسون العريان، ويساعدون المحتاج، ويشفقون على المريض، وكانوا لا يتأخرون عن تشييع جنازات الوثنيين، فبهذه الخطة التي اتبعها العرب جذبوا إليهم عقول الصينيين وقلوبهم، ونما بذلك دين الإسلام بقوة في المملكة الصينية. ومما يناسب ذكره في هذا المقام أنك لا تجد فرقًا عظيمًا بين المسلمين في الهند والمسلمين في الصين، فكلاهما يتبعان كتابًا سماويًّا واحدًا هو القرآن الكريم، فتراهم متشابهين في الأخلاق والعادات والآداب، إلا أنهم يختلفون في أمر واحد وهو الزواج، فالصيني لا يتزوج بأكثر من واحدة، والهندي يميل إلى تعدد الزوجات، وهم في ذلك لم يخرجوا عن أصول الإسلام وأوامر القرآن؛ لأنه مباح للمسلم أن يتزوج بأربع نساء إن استطاع مرضاتهن جميعًا، والمسلم الصيني لا ينكر حقيقة هذه الإباحة، لكنه لا يحب تعدد الزوجات، وسبب ذلك ناشئ من معاشرة المسلمين للصينيين الوثنيين الذين لا يستحسنون تعدد الزوجات طبقا لعاداتهم. ومن أهم دواعي حب الصينيين للمسلمين أن هؤلاء المسلمين لم يخرجوا عن طاعة أولياء أمورهم، ونحن لا نستطيع أن نصف المسلمين بالخيانة لرؤسائهم، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، بل نقول: إنهم مطيعون للرؤساء من أي دين، سواء كانوا في أوطانهم أو في أي بلاد يذهبون إليها ويختلطون بأهلها، فهم قوم مطيعون لكل حاكم - عادلاً كان أو ظالمًا شفوقا أو قاسيًا مسلمًا أو غير مسلم - لأنهم مكلفون بذلك طبقًا لأصول الدين الإسلامي، لذلك تجد المسلمين دائمًا يطيعون أولياء أمورهم، ويظهرون الولاء لهم، ويكرهون كل مشاغبة؛ لأن قلب الحكومات لا يروق في أعينهم، هذه هي أكبر الدواعي وأهمها التي جعلت الصينيين يميلون بكليتهم إلى المسلمين اهـ. مصر في 16 أغسطس سنة 1896 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ضيا

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد (تربية البنات) نشرت جريدة (مصباح الشرق) الغراء في عددها الأخير ضمن رسالة مكاتبها في الآستانة العلية الفقرة الآتية: (كانت إحدى الجرائد في دار السعادة قد نشرت بروجرام مدرسة الألمان، وذكرت أن المدرسة المذكورة مستعدة لقبول البنات المسلمات، ولما كان تعليم بنات المسلمين في مدارس الأوربيين ممنوعًا بمقتضى نظام الدولة عادت تلك الجريدة فكذبت نفسها بنفسها) اهـ. وخليق بالمصريين أن يتخذوا هذه القاعدة التي جعلتها الدولة العلية أساسًا في نظام التعليم منهجهم القويم في تربية بناتهم؛ لأن الحكمة في هذا الحظر ظاهرة لا تكاد تخفى على عاقل. ذلك أن الغرض الأول من تعليم البنات: تربية نفوسهن وتهذيب أخلاقهن، وجعلهن صالحات لتربية أولادهن صغارًا، وتدبير أمور منازلهن بما يضمن السعادة والراحة في داخلية العائلات، وظاهر أن أشد التعاليم تأثيرًا في النفوس - وخصوصًا نفوس النسوة - تعاليم الأديان القويمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، المُعْلِمة أن القصد في النفقات فضيلة، وأن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وأن الشيطان كان لربه كفورًا، الباثّة روح المحبة العائلية والحنان الوالدي، الحاضة على حسن المعاملة واصطناع المعروف مع ذوي القربى والجيران، الملقنة أن النظافة من الإيمان، وأن أشرف فضيلة للمرأة طهرها وحصانتها، ورعاية حقوق زوجها كما ترعى حقوق الله عز وجل. هذه هي التعاليم التي تجعل المرأة صالحة في بيتها، وأساس نظام العائلة، وهي التعاليم التي خص الدين الإسلامي بأوفر حظ منها. وما نُكب المسلمون في جامعتهم إلا بعد ما نُكبوا في نظام عائلاتهم بسبب إهمال تربية المرأة الدينية الصحيحة النافعة. فإذا أريد تعليم البنات - بعد ما أهمل أمرهن لقرون، فتناسين مبادئهن الدينية - على نمط التعليم الإفرنجي، فقد جاء تعليمهن ضغثًا على إبالة الذهن، إذ هن يكرهن بعد ذلك جامعتهن ولا يهمهن شأنها، يكرهن عاداتهن الأولى، ويتبعن العادات الجديدة، فلا يأتلفن بذلك مع بقية العنصر الذي نشأن منه، فلا يقوم معوج للعادات القومية، ولا يمكن إرغام مخالطيهن على قبول ما لذ لهن، فيقع التنافر الذي يفسد به نظام العائلات. وبالله ماذا ينفع العائلة المصرية أن تربي بناتها في مدرسة أوروبية، فتستفيد اللغات الأجنبية التي لا يمكن أن تخاطب إحداهن بها أمها وأباها، وربما أخواتها وزوجها. وأن تتقن عمل الأزهار الصناعية، وكيف تلبس النطاق (البسط) الضيق في خصرها وتضرب البيانو على أضبط نوتة (نقطة) من الألحان الإفرنجية. ثم هي إذا رجعت إلى المنزل الذي نشأت منه وجدت من أهلها عالمًا غير العالم الذي ألفته في المدرسة، ووقع التنازع بينه وبينها في كل شيء ألِفت ضده، وكان منها أن تمج وتبغض كل ما ألفوا وأحبوا دون أن تستطيع تغييرشيء من الوسط الذي عادت إليه. ألا يكون التعليم على هذه الحالة شقاء دائمًا للبنات، وبترًا في العائلة، وبذر شقاق بين بعض أفرادها والبعض الآخر لا يداوي جرحه غير أن تتزوج تلك الفتاة المتعلمة في مدرسة أوروبية بمتعلم في مدرسة الفرير والجزويت، وتنشأ منهما عائلة لا تعرف على أي دين هي، وربما أنكرت نسبتها لمصر لو وجدت إلى ذلك سبيلاً؟ أو لم يكن الأوفق والأليق بأن تتعلم البنت تلك المبادئ الشريفة التي أشرنا إليها لتعود إلى بيت أهلها مُصلحة ما فسد من أموره بلا جفاء ولا نفور، ولتكون مثالاً صالحا لأخواتها، أمًّا وربة بيت قادرة على إدارة شؤونه، فتكون كاليد الكريمة لزوجها والقلب الرحيم لأولادها، والصدر الرحب للجار ذي القربى بلا أذى للجار الجنب. وإذا وجدت العائلة المصرية على هذا الأساس وجدت الجامعة المصرية كلها على أشرف أساس، وعاشت سعيدة تحس بوجودها وتلتذ بنعيمها، وتلك الحياة الطيبة التي يكون بها الإنسان إنسانًا، وإنسان عينه قرير. *** (اختراع عجيب لمعرض باريس) شرعت إحدى الشركات بإنشاء قصر ذي خمسة وعشرين طبقة من الفولاذ النقي المغطى بألواح زجاجية ذات ألوان شتى، وهو يدور على محور متين، بحيث يتمكن جميع من يوجد في غرفه أن ينظروا غرائب المعرض وهم جلوس في نوافذه وشرفاته، وسينار بأربعين ألف مصباح كهربائي، تنعكس أنوارها على زجاجه من الداخل والخارج، وسيكون ارتفاعه 350 قدمًا، وهو على شكل هياكل الصينيين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (لبنان) *** (جامع ليفربول) جادت مناهل الحضرة السلطانية بإهداء شمعدانين من الفضة الخالصة المقدر ثمنهما بمائتين وخمسين ليرة عثمانية للجامع الشريف الذي استشاده (كذا) المسلمون في ليفربول، وقد جاء في أخبار المدينة المذكورة أن المسلمين القاطنين بها احتفلوا احتفالاً شائقًا بوضع هذين الشمعدانين في المسجد المشار إليه، ثم رفعوا عريضة شكر للأعتاب الملوكية لما أنعمت عليهم بهذا الأثر الملوكاني، لا زالت بيوت الدين ودور الموحدين آهلة مزدانة بإحسان الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (طرابلس) *** (الكتب والجرائد) ذكرت جرائد دار السعادة أن نظارة البريد والبرق العلية قد أوعزت إلى جميع إدارات البريد العثماني بأن تسلم الكتب والجرائد التي ترد إلى أصحابها للحال، لأن في تأخيرها ضررًا بينًا لا يسوغ إتيانه، وقد قالت: إن النظارة المشار إليها طالما أنذرت الإدارات بالجري، كما تقرر آنفًا، فإذا حدث بأن تكرر وقوع مثل هذه الأحوال فإن المسئولية ترجع إلى مديرية البريد، فتبوء بالعقاب الواجب. (المنار) إن إدارات البريد لا تفتأ تتلف الكتب والجرائد تارة، وتؤخر تسليمها لذويها تارات، ما دامت تحت إدارة مراقبين جهلاء، وولاة وحكام عميان، يعتقدون أن الحث على التربية والتعليم مضر بالدولة والأمة، وأن النهي عن البدع والمعاصي مضر بالدين، وأن الحض على الاتفاق والائتلاف والتعاون على المنافع الوطنية ومساعدة الحكومة على تعميم المعارف منبه للأفكار (وهو جرم عظيم) فسواء على إدارات البريد في السلطنة أنذرتهم النظارة العليا في الآستانة أم لم تنذرهم. وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يعقلون. تقول النظارة: إذا تكرر هذا الجرم - وهو تأخير تسليم الكتب والجرائد إلى أربابها من أي مديرية - فإن المسئولية ترجع على تلك المديرية بالعقاب الواجب. فليت شعري من السائل ومن المعاقب؟ ليسأل لنا إدارة بريد دمشق الشام لماذا حبس العدد السابع من المنار خمسة أيام بلياليها؟ ولماذا حبس العدد التاسع منه نحو عشرة أيام ثم أعطي لذويه ممزق الغلف مقطع الحزم؟ ولماذا أعدم العدد 18 و20 و21 بله غيرها من أعداد سابقة؟ وإنما طلبنا سؤال إدارة الشام لأن خللها محدود، وذنبها معدود، أما إدارة بيروت فهي لا تسأل عما تفعل، لا يعبأ الناس بالقول ولا بكتابة الأوامر والنواهي، فإذا عاقبت النظارة بعض المديرين الخائنين يَعتبِر باقيهم ويسلكون طريق الاستقامة، فتعود للناس الثقة بهم - المفقودة الآن - التي اضطرت العثمانيين، حتى أصدق المخلصين منهم للدولة العلية، إلى إرسال الكتب والرسائل بالبرد الأجنبية ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، ياليت إدارتَي بريد بيروت والشام كإدارتَي بريد طرابلس الشام واللاذقية، وما كان أجدر موقع بيروت المهم أن يكون مدير البريد فيه مثل سعيد بك مدير بريد طرابلس. لتبرهن النظارة الكبرى على إتقان العمل بالعمل، لا بالقول الذي هو رماد يذر في العيون، ولتعلم أنه إذا أمكن ذر الرماد في الأبصار، فلا يمكن ذره في البصائر والأفكار. هذه نصيحة غيور يود أن لا يُنسب لبريد دولته خلل ولا قصور، لكنه يعلم أن الخِلابة اللسانية غرور، لا تقنع سامعًا ولا تخدع ناظرًا، فإنما العبرة بالأعمال وعلى الله الاتكال.

عيد الجلوس الهمايوني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عيد الجلوس الهمايوني [*] في مثل هذا اليوم (19 و31 أغستوس) من سنة 1293هـ الموافقة سنة 1876 م بويع سيدنا ومولانا أمير المؤمنين والسلطان الأعظم على جميع العثمانيين السلطان ابن السلطان، السلطان الغازي عبد الحميد خان (نصره الله تعالى وأيده) بالخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية، وهو يوم يحتفل فيه العثمانيون على اختلاف مِلَلهم ونِحَلهم، والمسلمون على اختلاف أقطارهم وحكوماتهم، ويظهرون فيه الابتهاج والسرور، ويزينون المعاهد والقصور، ويهنئ بعضهم بعضًا بهذا الموسم الحميد، ولقد طفق المصريون يستعدون للاحتفال وإقامة معالم الزينة من أول شهر أغستوس، والجرائد العثمانية - وفي مقدمتها جريدة المؤيد الغراء - تحدو بهممهم، وتحرك من نفوسهم الأريحية العثمانية والمكارم العربية. تجول في شوارع القاهرة وأسواقها، فتسمع فوقك في كل بقعة حفيفًا كحفيف الأجنحة الخافقة، وما هو إلا خفقان الرايات الحمر ذات الأهلة والنجوم البيض التي تمثل لك سماء من الياقوت، كواكبها من الماس واللؤلؤ، أو تخيل لك النيل يجري من فوق الرءوس وقد عم فيضانه حتى رؤي ماؤه الأحمر مزينًا بزبده الأبيض في كل جو، كما روي منه كل قاع. وإذا أصخت بسمعك لخفقان الراي (جمع راية) والأعلام سمعتها تتناجى مع أرواح النسيم بأن ارتباط مصر بالدولة العلية كارتباط الروح بالجسد، وأن كل ذرة من ذرات مصر تنجذب إلى العثمانية بطبيعتها، وكل نفس منفوسة في مصر تخضع لجلالة السلطان الأعظم بطوعها وإرادتها. قال قائل: إن الاحتلال الإنكليزي أنمى محبة الحضرة السلطانية في قلوب المصريين، وفسره بما يبعد عن الصواب، ونحن نقول: إن لم يكن الاحتلال أنمى ذلك الحب فقد أيقظه ونبهه، وإن لم يكن أوجد الرابطة العثمانية فقد أحكمها وقوَّاها؛ لأن السلطان أذن للإنكليز في احتلال مصر وإصلاحها، كما زعم الزاعم، بل لأن استبداد الإنكليز في البلاد وتهديدهم استقلالها وإفسادهم معارفها واستيلاءهم على سفنها ومراكبها وأراضيها وأموالها، كل ذلك نبه المصريين إلى رحمة حكامهم الأتراك، وعرفهم أن من وجد في الأتراك إخوانهم من حاكم ظالم، فإن ظلمه ناشئ عن جهله، لا عن إرادة الدولة العلية بمجموعها -سلطانها وحكامها- لهم السوء، على أن مصر جزء من أجزاء السلطنة، وعضو طبيعي من أعضائها، تربطها بها رابطة الجنس والدين، فلو أن الحضرة السلطانية أو أي حاكم عثماني اختص نفسه بشيء من مصر لكان ذلك في نظر المصريين كانتقال الخاتم من أصبع إلى أصبع، أما أخذ الإنكليز له فهو إضاعة وفقد لا يرجى عوضه. هذا ما نبه المصريين على شدة التعلق بأذيال الدولة العلية، والإخلاص في الحب للذات الشاهانية، مقتدين في ذلك بخديويهم عزيز مصر عباس حلمي باشا، الأمين المخلص لسلطانه، والخليفة عليه. وستقام في مساء هذا النهار (ليلة الخميس) الزينة الكبرى في حديقة الأزبكية وقد استعدت الجمعية المصرية المؤلفة برياسة سعادة حسن بك مدكور التاجر الشهير لهذه الزينة أتم الاستعداد، وقد صدرت أوراق الدعوة لحضور الاحتفال ببيتين كل شطر منهما تاريخ للسنة الهجرية الحاضرة وهما: أعز الإله خليفتنا ... متين التجاريب عبد الحميد ... 78 67 ... 1172 500 647 76 93 ـــــــــــــ ... ـــــــــــــ ... ... 1316 ... ... ... ... 1316 وأبلغه في دوام المنى ... سعود المفاخر في كل عيد ... 1044 90 51 131 ... 140 952 90 50 84 ... ـــــــــــــ ... ـــــــــــــ ... ... ... 1316 ... ... ... ... 1316 أما الزينات الخاصة التي تقام في القاهرة وفي سائر مدن القطر، فهي لا تدخل تحت الإحصاء، فإنك لا تكاد تجد بيتًا من بيوت الوجهاء، ولا إدارة جريدة من الجرائد العثمانية، ونخص بالذكر إدارة جريدتي المؤيد والفلاح الغراوين، وإدارة هذه الجريدة (المنار) ولا مكتبًا من مكاتب المحامين إلا وترى الأعلام خافقة في رحابه، والمصابيح تتألق على جدرانه وأبوابه، وبالجملة أن القلم ليعجز عن إعطاء هذه المظاهر الاحتفالية حقها من الوصف، ولا سيما إذا أراد أن يصف ما تمنحه من الشعور العام بمعنى الوطنية، وما تحكمه من روابط الجامعة العثمانية، لكننا أشرنا للإجمال وندع التفصيل للجرائد اليومية. وإننا نرفع على أعمدة الجريدة هذه القصيدة لأعتاب مقام الخلافة العظمى، ومقر السلطنة الكبرى، مسترحمين من مكارم مولانا إتحافها بالقبول وهي: يوم الجلوس على العرش الحميدي ... أجلُّ عيد على الدنيا سياسي ذاك الجلوس قيام بالأمانة أو ... نوم مع الأمن أو نيل الأماني قيام راعٍ يبيت الليل منتبهًا ... كيما ينام قريرًا كل مرعي قيامه بشؤون الملك تابعة ... حكم الخلافة في الدين الحنيفي عبد الحميد وذو الرأي الرشيد بنا ... وخير هادٍ ومأمون ومهدي مقرونة طاعة الباري بطاعته ... كما قرأناه في النص القرآني ذو همة تحسب الأفلاك أنجمها ... دارت على محور منها مجازي إذا خبا البرق في الآفاق أومض في ... أفكاره بين إيجاب وسلبي يعارض البرق منهلاً ومنسجمًا ... بعارض من نداه حافل الري بين المحيا وكفيه مناسبة ... كالبدر والبحر في الجذب الطبيعي تقلد الملك والأخطار مهطعة ... من كل صوب كأعناق البخاتي فاستَّل صارم عزم من إضاءته ... تنصلت صبغة الخطب الدجوجي فلم يدع هام خطب غير منفلق ... ولم يذر عنق كرب غير مفري وشاد للدولة العظمى دعائمها ... من دنيوي به تسمو وديني شكت له البؤس والضرا فأتحفها ... بمعنوي من النعمى وصوري وبث روح الترقي في عناصرها ... من عسكري ومالي وعلمي وكف عنها زحوف الطامعين ... وقد كانت تهدد منهم بالآلافي مآثر كهتون المزن هامية ... تواترت بين مروي ومرئي قد طوقت كرة الدنيا مناطقها ... منها بنور ولكن غير شمسي بالكَمِّ والكيف تأبى الاشتراك بها ... بالرغم عن هذيان الاشتراكي تعزى إلى شخصه السامي فلست ترى ... سوى حميدية اسم أو حميدي يا خادم الحرمين الأشرفين ويا ... رب النفوذين حسي وروحي وحاملاً راية السلم الشريف وميـ ... ـزان السياسة للقطر الأوروبي يخشى خلافك بل يرجى حلافك من ... ملوكه كل مرجو ومخشي يهنيك عيد به عاد السرور ... على كل الرعية من عرب وتركي وعش لأمثاله بالله معتصمًا ... مؤيدًا منه بالنصر الإلهي وإننا نختم القول بأبيات ذات تاريخ، قدمها لنا حضرة الأستاذ الشهير الشيخ سليمان العبد من علماء الجامع الأزهر الشريف وهي: عيد الجلوس مبشر ... بالنصر والفتح المبين وسعوده تزهو بسعـ ... ـدك يا أمير المؤمنين وتقلدت مصر بطا ... لع يمنه عقدًا ثمين وتيمنت ببهائه ... واستبشرت بالمخلصين وأضاء في أرجائها ... فزهت وضاء بها الجبين في كل عيد تجتلي ... صفو الهناء مع البنين ونراك خير خليفة ... تحمي البلاد من المهين ونرى الرعايا في صفا ... في ظل عدلك آمنين ونرى لملكك عزة ... ونراك في عز متين ونراك يقظان العيو ... ن على صلاح المسلمين ونراك في سعد السعو ... د وأنت أرقى الظافرين ونراك تحفظ حوزة الـ ... إسلام فينا كل حين ونراك فياض العطا ... كرمًا لكل الطالبين ونراك بسامًا لدى ... بذل الندى للسائلين ونراك وثابًا على ... محق البغاة المارقين ونرى سهامك والموا ... ضي في نحور المعتدين وعلى دياجي المشكلا ... ت بنور وجهك تستعين ومن الحوادث والكوا ... رث دمت في حصن حصين واسلم فما في الأمر من ... خلل إذا كنت الأمين واسعد فما في الملك من ... عوج إذا كنت المعين واهنأ بعيد جلوسك الزا ... هي على مر السنين أرخته في بيت شعـ ... ـر فائق الدر الثمين عيد الجلوس كمال بشـ ... ـر يا أمير المؤمنين 1316

فادعوا الله مخلصين له الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*] ورد علينا رقيم من مصر بإمضاء (أحد مشتركي المنار) ينتقد صاحبه علينا ويخطئنا في أمور هو فيها مخطئ، وأغلاط الرقيم اللفظية تحاكي أغلاطه المعنوية، ولذلك أضربنا عن نشره ونكتفي بذكر المسائل التي أنكرها وبيان الحق فيها فنقول: (المسألة الأولى) : قولنا في العدد الرابع: إن أكثر العلماء ذهبوا إلى عدم انتفاع الأموات بقراءة القرآن من الأحياء. زعم صاحب الرقيم أن الأكثرين ذهبوا إلى الانتفاع والإثابة. دلالتنا ما صرح به العلامة المحدث الشمس محمد بن علي العسقلاني أحد شيوخ الحافظ ابن حجر في رسالته (القول بالإحسان العميم) وقد لخصها الزبيدي في شرح الإحياء، فليراجع صاحب الرقيم الصفحة 369 من الجزء العاشر من ذلك الشرح إن لم يكن له وصول للرسالة. (المسألة الثانية) : قولنا في العدد الماضي: إن الرخصة في زيارة القبور إنما هي لأجل التذكر والاعتبار، ولذلك كانت عامة لزيارة قبر المسلم والكافر، والصالح والفاسق. ولقد أنكر صاحب الرقيم هذا القول أشد الإنكار، وأتى بكلمات تنبئ عن دعوى مع جهل وقلة اطلاع، حيث قال: (ومن الغريب الذي تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع الذي ما سمعنا به ولا من قبلنا ولا أحد نطق به أو قال بطلبه، زيارة قبور الكفرة والفساق، سوى حضرتك، مع أن المروي والمتلقى هو طلب الإسراع بالمشي عند المرور صوب قبورهم، فكيف هذا مع مدعاكم بطلب زيارتهم، فهل عندكم لهذا دليل من كتاب أو سنة أو عن سلف صالح؟) . اهـ. نقول بعد الاستعاذة بالله من افتئات الجهلاء على الدين وأهله: إن هذه المسألة منصوص عليها في شروح البخاري ومسلم، وفي كثير من كتب الفقه والتصوف، ولنذكر بعض النقول في ذلك من الصفحة 361 من الجزء العاشر من شرح الإحياء: قال الشارح في الكلام على حديث (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة غير أن لا تقولوا هجرًا) : قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قد أذن النبي صلى الله عليه وسلم في زيارتها بعد النهي، وعلله بأنها تذكر الموت والدار الآخرة، وأذن إذنًا عامًّا في زيارة قبر المسلم والكافر، والسبب الذي ورد عليه لفظ الخبر يوجب دخول الكافر، والعلة موجودة في ذلك كله إلخ. ثم نقل عن شرح المناوي للجامع الصغير: أن هذه الزيارة يستوي فيها سائر القبور، ولا يخص قبر دون قبر، قال: قال السبكي: متى كانت الزيارة بهذا القصد لا يشرع فيها قصد قبر بعينه، ولا تشد الرحال لها، وعليه يحمل ما في شرح مسلم من منع شد الرحال لزيارة القبور، وكذا بقصد التبرك إلا للأنبياء فقط. اهـ (فليعتبر الذين يشدون الرحال لزيارة قبور الشيوخ) . قال: وقال بعضهم: استُدل به على حِل زيارة القبور، هب الزائر ذكرًا أم أنثى، والمزور مسلمًا أم كافرًا، قال النووي: وبالجواز قطع الجمهور، وقال صاحب الحاوي (مقابل قول الجمهور) : لا يجوز زيارة قبر الكافر. وهو غلط اهـ. وبهذا القدر مقنع لمن يطلب الحق، وجزم الإمام النووي بغلط صاحب الحاوي في مخالفة الجمهور هو مساوٍ للقول بأن المسألة لا خلاف فيها، فليعتبر صاحب الرقيم. (المسألة الثالثة) : تخطئتنا للذين يستغيثون بالأموات ويستعينون بهم على قضاء حاجهم في معاشهم وسائر شؤونهم الدنيوية، وقد خبط صاحب الرقيم في هذه المسألة خبط عشواء في مدلهمة ظلماء، وزعم أنها من أصول الدين، وأن الأحاديث في الطلب من الموتى مستفيضة ومجمع عليها، ونُقول السلف فيها كثيرة، مع أن السلف ما سمعوا بهذا الضلال، ولم يرد فيه إلا حديث واحد مكذوب موضوع لعن الله واضعه (وستعلمه) وعجبت كيف لم يورده صاحب الرقيم وقد أورد ما هو أبعد منه في الدلالة على المقصود، كحكاية الشهيد الذي قاتل ثم نام فإذا هو ميت، فعلموا أنه قام من بين الأموات من باب الكرامة وحياة الشهداء. ونحن نقول: إن هذه المسألة من المسائل الاعتقادية، والاعتقاد لا يؤخذ من الحكايات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا من أقوال الشيوخ وأفهامهم، وإن سماهم صاحب الرقيم أو أصحاب المطابع الذين يطبعون كتبهم (أئمة) كما سمى الشيخ داود البغدادي إمامًا لأنه اقتدى به في قوله: إن الأموات يتصرفون في قبورهم. فلنضرب بالحكايات وأقوال الشيخ التي استنبطتها أفكارهم أو أوهامهم عرض الحائط، ولنتكلم على الآيات القرآنية التي أوردها واشتبه عليه معناها، كما اشتبه على كثير من المحرفين أو المخرفين، فإن القرآن هو الإمام الحق الذي لا يضل من اتبعه. أما هذه الآيات فهي قوله تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: 57) وقوله تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: 5) ولقد وفى مسألتنا حقها في تفسير الآية الأولى العلامة الآلوسي المحقق في تفسيره روح المعاني، وإننا ننقل زبد كلامه وعيونه في ذلك. قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَة} (المائدة: 35) : هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل، من فعل الطاعات وترك المعاصي، من وسل إلى كذا، أي تقرب إليه بشيء. ثم قال ما نصه: واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد، والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا. ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى لي ليرزقني كذا وكذا. ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون - وهم كاذبون - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور) أو فاستغيثوا بأهل القبور. وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل، وتحقيق الكلام في هذا المقام: أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة - بمعنى طلب الدعاء منه - لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيًّا، ولا يتوقف على أفضليته من الطالب، بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في العمرة: (لا تنسَنَا يا أخي من دعائك) . وأما إذا كان المطلوب منه ميتًا أو غائبًا فلا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف. ثم ذكر الدعاء للأموات وقال: (ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئًا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرًا: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ، ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك، ولا يطلب من سيد العالمين صلى الله تعالى عليه وسلم أو من ضجيعيه المكرمين - رضي الله تعالى عنهما - شيئًا، وهم أكرم من ضمته البسيطة، وأرفع قدرًا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة) . ثم ذكر الدعاء في ذلك المحل، وأنه لم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء، ونقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يُستقبل، بل ويُستدبر، وأن المعول عليه استقبال القبر وقت السلام، واستقبال القبلة وقت الدعاء. ثم قال: (فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة، وعلة الإيجاد على الحقيقة صلى الله تعالى عليه وسلم، فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام، ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد) . ثم ذكر مسألة القسم على الله تعالى بأحد من خلقه، وذكر أن ابن عبد السلام أجازه في النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وأنه نقل عن أحمد مثل ذلك، وأن (من الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه) قال: (وهو الذي يَرشَح به كلام المجد بن تيمية، ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبى يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام) . وأطال في البحث وذكر فيه مسألة استسقاء الصحابة بالعباس، وأن معنى التوسل به طلب الدعاء منه، ولذلك دعا وأمنوا على دعائه، ثم قال: والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه - عز شأنه - بمن ليس في العير ولا في النفير، وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة، وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر: إذا أعيتكم الأمور إلخ، وهو حديث مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك. فكيف يتصور منه - عليه الصلاة والسلام - الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها، سبحانك هذا بهتان عظيم، وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ومن كلام السَّجَّاد رضي الله تعالى عنه: إن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه، وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام: وبك المستغاث. وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) الخبر. وقال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) . ثم ذكر أنه لا يرى بأسًا بالتوسل بجاه النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - وحرمته اللذين هما من فضل الله تعالى ورحمته عليه، وكذلك القسم، فكأن المتوسل توسل وأقسم على الله بصفة من صفاته، قال: إذ معناه: اللهم اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، ثم صرح بقوله: (ولا يجري ذلك في التوسل والإقسام بالذات البحت، نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولعلَّ ذلك كان تحاشيًا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك - وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام - شيء، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين) . ومن العجيب أنه مع هذا قال: لا بأس بالتوسل بجاه غير النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إن كان المتوسَّل بجاهه مما عُلم أن له جاهًا عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يُتوسَّل بجاهه، لما فيه من الحكم الضمني على الله - تعالى - بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى. وفي هذه الإجازة انتقادات: الأول: خروجها عن سنة سلف الأمة، وفي الحديث الصحيح: (فعليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن ذلك بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) . الثاني: أن الولاية ظنية فلا يقطع بها لأحد إلا بنص من الشارع، وأين النص إلا ما ورد من بشارة بعض الصحابة بالجنة. الثالث: أنه يخشى من عموم الجهل في هذه الأيام ما لم يكن يخشى في زمن نزول الوحي وبيان الحق من الباطل، والتمسك بالتوحيد على أكمل وجهه، وإنه يعلم كما يعلم كل مختبر أن النزغات الوثنية عادت إلى الناس من جراء ذلك، ولا منكِر ولا مرشِد. الرابع: أن التوسل بالمعنى الذي ذكره لا يعقله إلا عالم فقيه في دينه، وإنه لتأويل حسن لمن يفهمه؛ لأن تفسيره التوسل بقوله: (معناه: اللهم اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا) هو كقولك: اللهم اشملني برحمتك التي رحمت بها فلانًا وأعطني من فضلك الذي أعطيته

رأي في موضوع المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي في موضوع المنار ورد لنا هذا الرقيم الحكيم من بعض الفضلاء في دار السعادة فعهدنا بترجمته لبعض البلغاء العارفين باللغتين العربية والتركية فترجمه بتصرف ونشرناه مع ترجمته لما فيه من الفائدة والتنبيه وهو: فضائلمند أفندم: بويكتا، بوبي همتا جريدة كز ايجون رأيمي صوريور سكز، نه ديه يم! آنك شاننده نه ديسه م ازدر: لسانم قاصر قلمم عاجز أولمسه كو كلمك اسيتديكني سويلردم. فقط تفاخر وياتمدح ده أولى شوني ديه جكم: بنده كز سويلديكم على الخصوص يا زدينم هرسوزي إعمال فكر ونظر دن صكره سويلر يازارم (أول انديشه وانكهي كفتار) بنديني هنوز كوجوك ايكن آلمشدم. بودرس حكمتي نصل دستور عمل اتخاذ ايتمه يه يم كه (إنسان هرسويلد يكني بيلمه لي فقط هربيلد يكنى سويلمه ملي) در. اولكي مكتوبمده جريدة كزدن كناية (أوقدر بكندم كه ملكمزده هنوز مثلي نشرا ولنمديغنه حكم ايتدم) ديمشدم بوسوزم نه برفلتة لسان نه زلة قلمدر، برامعان برتأمل بر انتقاد نتيجة سيدركه كلمة حق قدر طوغريدر. سز منهج مستقيمكز ده دوام ايتدكجة بن ده حكمده ثبات ايدرم. سزدن شوني رجا ايدرم كه يازد قلر كزي فهم سقيم بلا سيله معوكسا تلقي اييتسه لرده فتور كترميكز. عزم وحزمكزدوجاروهن وخلل أولمسون. حق انكار أولنور ابطال أولنه ماز. قره بلوطلر كونشي أورتر فقط كيز له يه مز. شبيره متأذي أولورديه كونش ضياسني نشر ايتمسونمي؟ جاهللر يا كلش اكلارديه طوغري سوز سويلنمسونمي؟ سز دائمًا حقه اتكال وانكله اشتغال ايديكز. جاحدلر البته دوجار نكال اولور. (منارك) أوغرا مقده اولد يغي صدماتدن بن سزدن أول خبر اليورم وسزدن زيادة متأثر أوليورم. بونكله متسلى أوله لم كه بيك أوج يوز بوقدر سته أول ده منكرين كلام الله بويله يا بمشلردي. كنديسني احيا ايدني افنايه جاليشمق، خير وشرايله حق وباطل بينني آييره ما مق جاهللرك اك اجينة جق حاللر ندندر. سزاقد سحر آفرين فصاحت أو اعجاز نماي بلاغت أو ناطق حق وحكمت أوتربيه أموز امت أولان قلمكزي الكزدن براقميكزهمان يا زيكز. بزي منهاج رشاد وسهراه سداد سوق يجون مشعل كش هدايت أو لكز. أو كمزده وادئى ويل قدر مخوف وخطرناك ورطة لر واردر دوشمة يه لم. بزده نه بصرنه بصيرت قالمشدر. يا زيكزكه انسا تلغمزي اكلايه لم. ترقي وكمالمزه جاليشه لم. هر قاريش طوبراغي اجداد مزدن برقاج شهيدك قاني بدلي أولان وطنمزدشمنك حرص وطمعندن نعمل محافظة أو لنور أوكره نه لم. دشمنه عرض افتقار مذلتندن قور تلمق نه ايله ميسر أو لور بيله لم. نصل برجهل وغفلت ايجنده بولند يغمزي فهم ايده لم. بلكه كندي مزدن اوتانبرز ونفسمزه خصو صيلة اخلافمزاوله جق اولا دمزه اجيرزد، بر آزكوزمزي آجارزبلكه (فرق فاحكم) سياستتك نتيجة سيئة سي أو لمق اوزره عدد مجموعمز قدر متفرق اولان افرادملتمر له اتحاد أو لمق وجوبني تقدير ايدرز باقي عرض سلام واحترام ايله ختم كلام ايلرم. *** التعريب سيدي صاحب الفضائل: رغبتم إلي في إبداء رأيي بشأن صحيفتكم المنزهة في مشربها وأسلوبها عن الكفء والنديد، وأحببتم بأن أتناولها بشيء من النقد، وآخذ عليها الطريق ببيان سقاطها، والتبحث في عثرتها، يارب ماذا أقول؟ مهما أغرقت في نعتها وغلوت في تبيين مزيتها أكن مضجعًا منقطعًا دون الحقيقة، لو أن لي قوة غير النطق والكتابة أعبر بها عما يحوك في نفسي من وصف مناركم؟ فإن لساني قاصر وقلمي حصير كليل، وأيم الله إن في مناركم من حر الكلام وبليغ المعنى وثاقب الرأي ونافذ البصيرة وخالص النصح ورائع الحكمة وواسع العلم، ما لا يحسن واصف وصفه، ولا طاقة له بتحديده، إني محدثك ببعض خلائقي وإن عُدَّ مني تمدحًا وتبجحًا، لا أخط حرفًا ولا أنبس بكلمة ما لم أعمق النظر وأجيل قداح الفكر فيما أكتب أو أقول، ولقد ألقي في نفسي منذ الحداثة كلمة نصح لم تزل تشملني بركتها إلى الآن، وهي: (فكر أولاً ثم تكلم) وما أذكر أني سمعت أحسن من قول بعض الحكماء: (ليعلم المرء كل ما يقول، ولا يقولن كل ما يعلم) وقد اتخذت هذا الذي أُسيِّر به قلمي قانونًا أعرض عليه جميع أقوالي. كنت أتيت على وصف المنار في مكتوبي السابق بقولي (ذهب بي الإعجاب إلى أنه خير ما نشر في بلادنا من الصحف إلى الآن) أجل والله، إن كلمتي هذه ليست فلتة لسان ولا زلة قلم، بل هي نتيجة الروية وبنت الإمعان، وإن شئت قلت: توازي كلمة التوحيد في الصحة والصدق، اللهم غفرًا، وأرى أن ثباتكم على هذه الشاكلة المثلى، ومواصلتكم السير في هذا اللقم القاصد، يضطرني للِّجاج في حكمي والتصميم على رأيي، ومما أتقدم إليكم بالنصيحة فيه أن لا يلحقكم يأس وقنوط ولا يرهقن همتكم فتور أو كلال، من أناس مُنوا بضعف المدارك وسفه العقول، فغدوا يحرفون كلامكم، ويفهمون منه ما لا تريدون، ويحملونه على عكس ما تقصدون، فويل لهم مما يأفكون، بل قاتلهم الله أَنَّى يؤفكون. الحق يُنكر ولا يُبطَل، السحب السوداء تستر قرص الشمس ولا تخفى آياتها (شعاعها) تَأَذي الخفاش من ضوء الشمس هل يمنعها من نثر نضار أشعتها على العالم، ألفة الجهلة لخطأ القول هل يصرفنا عن النطق بصوابه؟ لا أرى إلا أن تعمدوا أنتم إلى نصرة الحق، وتعكفوا على خدمته وإعلاء كلمته، ثم تعرضوا عن أغمار القوم وشذاذهم، فإن مصيرهم إلى زاوية الخزي وهاوية الخذلان. سيدي: وجمت جدًّا لما يصادفه مناركم من العقبات، وساءني أمره أكثر مما ساءكم ونما إليّ خبره قبل أن تخبروني، فلنتحصن من زحوف الملمات بمعاقل الصبر والثبات، ولنبدد جيوش الأسى بالأسي (ج أسوة) بكلام الله الذي قاومه الجاحدون منذ ألف وثلاثمائة سنة، وحاولوا إطفاء نوره، وأبى الله إلا أن تكون العاقبة للمتقين، وارحمتاه للجهلة الأغبياء؛ يجتهدون في إماتة ما يحييهم ويحرصون على إطفاء نورهم الذي يسعى بين أيديهم، لا يفرقون بين الخير والشر، ولا يفاضلون بين الحق والباطل، ألا ساء ما يفعلون. أليس فعلهم هذا مما يبعث الأسف والرقة لحالهم، ويثير الحذر والإشفاق على مستقبل هيئة اجتماعهم؟ لا يلفتنكم ما يعرض لكم من العقبات عن الجد في أمركم والسعي وراء مقصدكم، ولا يجرمنكم ويحملنكم جهل الجاهلين على نبذ القرطاس والقلم، وإنزال آية الحجاب على ما عندكم من مخدَّرات الحقائق والحكم، دعوا قلمكم وهو خالق سحر الفصاحة، ومظهر إعجاز البلاغة، والناطق بالحق والحكمة، المعلم تربية الأمة، يعرج بالأمة إلى مستوى العزة والفخر، ويريها الجادة، ويحذرها ملتويات الأمور. احملوا أمامنا نبراس الهداية، لنرى سبيل الرشاد، ونسلك نهج السداد، فلا نقع فيما نُصب في طريقنا من المخاتل، ونتردى فيما أعد لنا من العواثير والمهاوي التي تضارع وادي الويل الجهنمي. كلَّتْ والله منا البصائر، بل والأبصار. فاكتبوا لنفهم أننا لم نزل بعد في أفق الإنسانية، لنجِدَّ في بلوغ مراتب المدنية والكمال الاجتماعي. لنتعلم كيف نحسن الذود عن حوضنا، والذب عن حقيقتنا، والدفاع عن وطننا الذي شرينا كل شبر من صعيده بدم عدة شهداء من أفراطنا (أجدادنا) ونعرف كيف ننتاشه من مخالب الأعداء التي ضريت بتمزيقه وتكالبت على نهشه، لنعلم كيف يتسنى لنا التلُّفت من حبائل الذلة والاستخذاء للعدو، والتفصي من أثر الحاجة والافتقار إليه. لنكون على بينة من تلك الغفلة التي أظلنا ركامها، وذلك الجهل الذي نحن في غيابته. استنهضوا الهمم الخامدة، ونبهوا الأفكار الجامدة، لعلنا نخجل من أنفسنا ونتبصر في أن لها حقوقًا لا ينبغي إهمالها، فنرثي لحالها، ونفكها من أغلال الأخلاق والملكات الفاسدة، ومقاطر العادات والتقاليد الخبيثة، ثم نتدرج في التدبر والحزم فنضع على إحدى عينينا نظارة معظمة، وعلى الأخرى نظارة مقربة، ونستشرف بهما عماء المستقبل، فنمهد لأعقابنا وأنسالنا فيه مستقرًّا ومتاعًا إلى حين، ونبوئهم فيه ما نأمن معه على حفظ استقلالهم وجامعتهم، وصيانة دينهم ووطنهم، لعلنا نتدبر عاقبة التفرق والتشعب، والتخاذل والتواكل، فتسمو هممنا لجمع الأقوام المتفرقة، وضم الأهواء المتمزقة، ألم يأنِ لأبناء الملة الواحدة أن يقدروا وجوب الاتحاد والالتحام قدره؟ ألم يأن لهم أن يتفلتوا من شرك هذه السياسة المضرة، سياسة (فرِّق تَسُدْ) التي مكنت يد العدو من نواصيهم؟ ونير حكمه في رقابهم؟ هل في قدرة غير الله أن يحول هذا البدد إلى لبد، وأن يديل الاتحاد والانضمام من التصدع والانقسام. وأختم كلامي بعرض سلامي واحترامي. (المنار) إن مثل والي بيروت هو الذي يحمل مثل هذا الفاضل من العثمانيين الصادقين في حب دولتهم المخلصين لسلطانهم على التأفف والتضجر وإطلاق القول في الانتقاد. قرأ صاحب هذا الرقيم في المنار المقالات الكثيرة التي حضضنا فيها على اتفاق العثمانيين على الأعمال النافعة التي ترقي أوطانهم، وحذرنا فيها من الإصغاء لوسوسة الأجانب والأعداء الذين أوضعوا خلال الديار يبغون الفتنة وفيها سماعون لهم، ورأى أن هذا المنهج لم يرض والي بيروت ومراقبي الجرائد فيها فسعوا بمنع المنار، ولذلك أشار بقوله: (سياسة فرِّق تَحْكُمْ) وهذه السياسة الخرقاء يتهم الأعداء فيها الدولة العلية بجريرة بعض الولاة الخائنين الذين يحبون التفريق لمنافعهم الخاصة، وكفاك بمن ألقى الخلاف والنزاع بين طوائف النصارى في بيروت، فتحيز لبعضهم وأعرض عن بعض، ولولا أن لرؤسائهم من العقل ما أمسك بحجزاتهم لوقعت الفتنة وفاض طوفانها على المسلمين والإفرنج، وتداخلت الدول الأوروبية وكان ما لا تحمد مغبته. ينهي والي بيروت عطوفتلو رشيد بك بمنع المنار؛ لأننا لم نسر فيه مسراه في (تقويم وقائع) أيام كان يكتب فيها ما كان جزاؤه عليه من الحضرة السلطانية: الغضب والحرمان من خدمة الحكومة خمس سنين. إذا كان يدعي أن ما ينشره المنار - وما هو إلا الحث على الاتفاق تحت لواء الدولة والتربية والتعليم- مضر، فلم لم يرشدنا إلى النافع عندما طلبنا ذلك منه كتابة غير مرة! هل من العذر اتباعه في ذلك بشارة مراقب الجرائد العربية الذي طُرد من المكتب الإعدادي طردًا لما لا حاجة لذكره، وخرج جاهلاً لم يتعلم غير السعي في إيذاء الناس وأكل أموالهم بالباطل! أليس هو الذي سافر في خدمة محمد أفندي سلطان مصر وأنشأ الأفندي المذكور جريدة (الرياض المصرية) فجاء خادمه عبد الرحمن الحوت لسوريا، وجمع من بلادنا قيم الاشتراك في الجريدة سلفًا وأستأثر بها دون صاحب الجريدة، فعطلت لذلك الجريدة وضاعت الأموال على أربابها، حيث التقمها الحوت وهو مليم؟ هل يعذر الوالي في إناطة مراقبة الجرائد والكتب التي ترد إلى الولاية بمثل هذا الجاهل الخائن، ليتحكم في العلم والدين بما تربى عليه، ويكون سببًا في الطعن بالدولة العلية، ونسبتها إلى حب الجهل والفتن وبُغض العلم والوفاق بين رعاياها؟! إن كان هذا عذرًا فهو كما يقولون (عذر أقبح من ذنب) أو هو أعظم ذنب. إنما كتبنا هذه النبذة مع أن مشربنا عدم الكلام في الشخصيات؛ لأجل تبرئة الدولة العلية مما يرمي إليه رقيم فاضل الآستانة، وبيان أن سياسة الجهالة والتفريق التي يجري عليها بعض الولاة وأذنابهم لا ترضي سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، وهو بريء منهم ومنها، وهؤلاء الخائنون يوجد مثلهم في كل مملكة، فنسأل الله تعالى أن يظهر مولانا السلطان ال

نصيحة في معالجة فضيحة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نصيحة في معالجة فضيحة البغايا على قسمين: مسافحات، وهن اللواتي يجاهرن بالفاحشة، ولهن في مدن القطر المصري مواخير رسمية يتخذنها بمعرفة الحكومة التي تكشف عليهن أطباؤها الكشف الطبي، وتعطيهن براءات تعلن سلامتهن من الأمراض المُعدية، وتأخذ منهن رسومًا مالية، كما هو الشأن في مدن أوروبا. وذوات أخدان، وهن اللائي يزنين سرًّا ولهن أخدان (زبونات) مخصوصون، وكان العرب يسمونهن: (ذوات الأخدان) ويكنى عنهن في البلاد المصرية لهاته الأيام: (بصواحب البيوت السرية) . وقد عزمت خيرًا الحكومة المصرية أن تنقل مواخير المسافحات رسميًّا من داخل المدن وتجمعها من أحشائها إلى بقعة مخصوصة من كل بلد، وقد أحصت أخيرًا هذه المواخير في الإسكندرية فكانت 82 ماخورًا، قالت جريدة البصير: (أي عبارة عن بلدة صغيرة من بلاد القطر) وزادت عليها جريدة السلام بقولها: (لو أضيف إليها المحلات المستترة لكانت بلدة كبيرة تقتضي مأمور مركز أو قائمقام) . ونحن نقول: إن صواحب البيوت السرية يكدن يكن من المسافحات؛ لأنهن إنما يبالغن بالاستتار من الحكومة هربًا من الكشف الطبي، ومن أداء المفروض على أمثالهن من المسافحات، ولابد في كل بلد من وجود ذوات أخدان يتحامين حتى البيوت السرية ويستترن وأخدانهن من كل أحد، فإذا ضممنا هؤلاء وهن لا يحصين إلا بالخَرْص والحدس إلى أولئك اللواتي قدرن بأهالي بلدة كبيرة - تجلّى لنا مقدار ضرر حرية الفحش وإهمال التربية الدينية التي هي الدواء الوحيد لهذا الداء المبيد، وعلمنا أننا في حاجة - أي حاجة - لاستبدال المدارس الوطنية بهذه المواخير الجهرية والسرية، وهيهات أن يقاومها مثلها عددًا والشر أغلب، والفحش أرغب، فالتربيةَ الدينيةَ التربيةَ الدينيةَ، عالجوا بها داء البلاد قبل استحكامه، وانتاشوا بها الوطن من مخالب حِمامه، فالفسق مدعاة الخراب والدمار، وما للظالمين من أنصار.

سجايا العلماء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سجايا العلماء [*] العلماء والحكماء من مجموع الأمة بمنزلة العقل المدبر والروح المفكر من الإنسان، فصلاح حال العلماء والحكام يُصلح حال الأمة، وفساد حالهما مُفسد لحال الأمة بأسرها، فإذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها من الرذائل فاشية في أمة فاحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد، وعلى علمائها ومرشديها بالبدع والفساد، والعكس بالعكس، ولا يصدنك عن الجزم بهذا الحكم المؤرخون الكاذبون والشعراء الغاوون، الذين يرفعون هياكل الإطراء، وينصبون تماثيل المدح والثناء لكل رئيس من أولئك الرؤساء، بما ينشئونه من الجرائد، وما ينظمونه من القصائد، ولا تعول في الاحتجاج والاستدلال، إلا على الآثار والأعمال، فهي التي تشرح الحقائق وتترجم عن السجايا والخلائب، من غير كذب ولا محاباة وبلا مصانعة ولا مداجاة. خذ بيد عقلك هذا الميزان وطف به جميع عالم الإنسان، يظهرك على ما في الضمائر ويطلعك على مخبآت السرائر، ويبين لك الراجح من المرجوح والعادل من المجروح، بشرط أن تقيم الوزن بالقسط ولا تخسر الميزان ولا تطغى فيه، كما أشار إلى ذلك الفرقان الحكيم. إذا التزمت الشرط فلا ريب أنك لا تقيم وزنًا لكثير ممن يزعم الدهماء أنهم يوازنون الجبال، ويرجحون في الفضل والكمال، وربما رجح في قسطاسك المستقيم من يَنقِصه وزنه أكثر الأقران والأقتال. قلنا: لا يعول في الاستدلال على حال الإنسان إلا على أعماله؛ لأن الأعمال تنشأ عن الأخلاق والملكات الاعتقادية والأدبية، ولا أخالك تذهل عن كون الكلام من جملة الأعمال اللسانية، ودلالته مقبولة فيما نحن بصدده، من حيث كونه مظهرًا لمعلومات المتكلم، ومَجلًى لأخلاقة وآدابه، لا من حيث مدلول الألفاظ في المدح والذم، فإن هذا هو الذي لا يعول عليه، إلا بعد تطبيقه على ما في الخارج وشهادة الأعمال والآثار له. من علامات علماء السوء الذين يفسدون آداب العامة وأخلاقهم ويزعزعون اعتقادتهم وأديانهم، الانتصار لأنفسهم الخبيثة وحظوظهم وأهوائهم الباطلة، بعنوان الانتصار للدين والغيرة على الحق، فيذمون من يحسدون وينالون من دينه وعرضه قولاً أو كتابة، بحيث يوهم أحدهم سامعه أو الناظر في كتابته أنه ينتصر للدين ويبين الحق من الباطل، وينقسم هؤلاء إلى أقسام: منهم من لا يذم إلا ما يراه باطلاً ومن يعتقد صدور الباطل منه، ومن أدلة كذبه في دعواه إذا لم يذم إلا الباطل، حقيقة كونه يأتي بهذه المذمة غيبة، ولا ينصح من جاء بالباطل بينه وبينه، وكونه يحب أن تشيع الفاحشة وينتشر الباطل، حيث لم يسعَ بمنعه من قِبل من جاء به، وكونه يمدح صاحب الباطل في وجهه ويعظمه بدلاً من نصيحته وتقريعه، وكونه ينكر ما نسب له أمام مذمومه أو بعض ذويه سيما إذا كان المذموم ذا مكانة عالية ومنزلة سامية، وكونه يدفن الحسنات ويعلن السيئات، إلى غير ذلك مما لا يخفى على ذوي البصائر، ومنهم من يريه حسده وهواه الحق باطلاً، والصحيح فاسدًا، ويكفيك عمى بصيرته دليلاً على كذبه في دعواه الانتصار للحق أو الغيرة على الدين، ومنهم الذين يقولون كذبًا ويخلقون إفكًا، لا يكتفون بإخفاء المحاسن والمناقب وإبداء المساوى والمثالب، بل يتذقحون ويتجرمون، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (أنه كذب) {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) ومن علاماتهم أنهم لا يكادون يعترفون بخطأ، بل يؤولون لأنفسهم ولمن يوافق قوله أهواءهم، ولو بتحريف الكلم عن مواضعه والخروج باللغة عن أساليبها، كما يفعلون للغميزة والإزراء بمن يحسدونه، ومن لا يطابق قوله أغراضهم وأهوائهم، وأن لباب الحق كما علمت. من علامات علماء الآخرة وأنصار الحق الذين يهتدى بهديهم، وتصلح أحوال الأمم بالاقتداء بعملهم، أنهم إذا رأوا معروفًا وخيرًا من أحد إخوانهم يذيعونه، وينوهون به ويثنون على صاحبه بما هو أهله، وإذا رأوا سوءًا وأمرًا منكرًا يسترونه وينصحون فاعله، من غير أن يشعروا أحدًا آخر به، فإن أصر على منكره عامدًا متعمدًا، وكان المنكر مما يتعدى ضرره، حذروا منه من يُخشى عليه منه، سواء كان في غيبة صاحب المنكر أم في مشهده، ومن علاماتهم أنهم يقبلون النصيحة من أي ناصح، ويقابلون عليها بالثناء والشكر، ويرجعون عن الخطأ متى علموا به، ضالتهم الحكمة ينشدونها حيث وجدوا، ويأخذونها حيث وجدت. كل من نظر في كلامنا هذا يعلم بما أعطيناه من الفرقان أن علماء الحق أمسوا أندر من الكبريت الأحمر، وأن علماء السوء أعمّ وأكثر، ولا يغتر بالعمائم المكورة والأردان المكبرة والأذيال المجررة، وإن كانت محل غرور الأكثرين والعنوان عندهم على العلم والدين، وإذا تنبه لعدم الاغترار بالمظاهر، وعول على الاستدلال بالأعمال والمآثر، وأحب معرفة سيرة بعض رجال العلم والدين، بما أشرنا إليه من السلطان المبين، فإننا نقص عليه خبر رجلين منهما، مع الإشارة إلى ضدهما فنقول: ألف حكيم الأمة الأستاذ الفاضل، والعلامة الكامل الشيخ محمد عبده (رسالة التوحيد) التي لم يؤلف مثلها في الإسلام، فطفق بعض علماء السوء يوسوسون إلى أوليائهم ويوحون إلى تلامذتهم وأصحابهم أن هذه الرسالة فيها نزغة اعتزالية، وبعضهم تهور فقال: إن فيها إنكار الوحدانية، وهذا في غيبة المؤلف، وفي مشهده يثنون عليها أطيب الثناء، ويطرونه عليها أشد الإطراء، ومنهم من قيد ذلك الثناء والشكر بالكتابة، وهؤلاء كما علمت من الذين يجعلون الحق باطلاً والحالي عاطلاً، حسدا أو عمى بصيرة. وقد كشفنا بهتانهم من غير أن نعرف أعيانهم في مقالة مخصوصة نشرناها في العدد 12 من جريدتنا. هل أتاك حديث علماء الآخرة وأنصار الحق، وما كان من شأنهم تلقاء (رسالة التوحيد) قرأ الرسالة العلامة المحدث الذي انتهت إليه رئاسة علوم اللغة والحديث في هذه الديار، لا سيما علم الرواية للحديث الشريف ولأشعار العرب والمخضرمين، ألا وهو الأستاذ الفاضل الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، فتوقف في بعض حروف وفي بعض مواضيع منها، فولى وجهه شطر بيت الأستاذ المؤلف، حتى إذا ما جاءه طلب منه أن يقرأ الرسالة معه، فقرآها في يومين وتذاكرا فيما توقف فيه، فأزال له الأستاذ المؤلف بعض ما أشكل عليه، واعترف له بالإصابة في بعض ما انتقده، وانتهى الأمر بشكر كل منهما للآخر. ومن حسن أخلاق الأستاذ المؤلف واعترافه بالحق وشكره عليه: أنه قص هذه القصة على تلامذته في الجامع الأزهر، وأثنى لهم على أخلاق الأستاذ الشنقيطي وعلمه ودينه، وقال: هذه هي مزايا العلماء. أما الانتقاد الذي اعترف المؤلف فيه للمنتقد بالإصابة فهو نحو قوله: (دعيت للتدريس) وكان ينبغي أن يقول: (دعيت إلى تدريس) فسبق القلم. هذا من حيث اللفظ، وأما من حيث المعنى فمسألة البحث في خلق القرآن، انتقد الشنقيطي بأن فيها مخالفة لما التزمه المؤلف من سلوكه في العقائد مسلك السلف، قال: والسلف لم يبحثوا في هذه المسألة، فاعترف له المؤلف بذلك وقال: إنني خالفت في هذه المسألة بخصوصها الشرط لأهميتها واشتباه كثير من الناس فيها. لم يكتف الأستاذ الشنقيطي بالشكر للمؤلف في مشهده وعلى سمعه على هذا الأثر الجليل، بل قرظه بقصيدة غراء ذات حكم ونصائح، وجاء الرواق العباسي في الجامع الأزهر الشريف، ولما حشر العلماء والطلاب لسماع درس الأستاذ المؤلف استأذن منه بقراءة القصيدة عليهم، وصعد كرسي الدرس وافتتح الكلام بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على خير الأنام، وأنشد القصيدة والناس مصيخون، والأستاذ المؤلف بينهم وهي: ألا إن خير الناس من كان قصده ... لنفع الورى أو كان في الضر زهده لقد مات دين الله وانحل عقده ... فأحياه بالذكرى (محمد عبده) فذكر من يخشى بذا الدين وحده ... ومن كان لا يخشى وبالله أيده ونشر للإسلام من بعد طيه ... لواء على الأعلام يخفق بنده ونوه بالإسلام تنويه ماجد ... بتنويهه بالدين يزداد مجده وجدد للآنام توحيد ربهم ... براهينه المهداة إذ طال عهده براهين عقل ثم نقل مبينة ... حباهم بها عفوًا وما جد جده وسار بها سير المجد نصيحة ... لطالب دين الله فاشتد عقده ولم يستعن في ذا الرئيس وجنده ... ولكن جنود الله والعلم جنده ولم يستعن أهل الإدارة كلهم ... ولا بعضهم فالله منه ممده ولم يستعن بالأزهريين إنهم ... إذا استقدحوا زندًا ورى قبل زنده ولم يتخذ حكم المحاكم عُدة ... ولكن حكم الدين قسطًا يعده ولم يعتبر في حسن تأليفه الرضي ... تقاريظ من في الجهل لم يدر حده ولم يسترق تأليف أستاذه الذي ... به لاح برق العلم يحدوه رعده وخير كلام المرء ما زان نفسه ... بصدق حديث ليس يمكن رده وشر مقال الحر ما شان ربه ... ببهتان قول لا يحاول جحده فلازم دليل العقل والنقل صادعًا ... بأمر إله الخلق يلزمك رشده ولا تعدون عيناك عنه فإنه ... إلى الله هذا الخلق طرًا مرده ولا تسلكن سبل الضلالة سادرًا ... ففيها نرى المخذول يمتد كده وإياك والتقليد في الجهل إنه ... بناء لدى النحرير يسهل هده وجادل بسلطان مبين أولي النهي ... به كل من ماراك قهرًا ترده ودع عنك تقوال الحسود وبغيه ... ففي نار غيظ الحقد يشويه حقده ودع عنك بهتان الجهول وغيه ... فإخوانه في الغي كل يمده فعاموا كعوم الحوت في بحر جهلهم ... وفي بحر طغواهم وقد طم مده فإن تعددن ما حرفوه وصحفوا ... لجهلهم بالعلم يتعبك عده أراك نصرت الدين بالحق حسبة ... إليها الفتى المقدام يشتد شده وننصر مولانا ونعلم أنه ... هو الله فقر العبد منه ووجده وينصرنا المولى ويصدق وعده ... وأصدق وعد النصر لا شك وعده فدونك نصحًا مخلصًا واعلم أنه ... هو الدين نصح يا (محمد عبده) واحمد رب الناس سرًّا وجهرة ... على كل حال يلزم الناس حمده

فادعوا الله مخلصين له الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [[*] (تابع ما قبله) (إن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء، الأحياء منهم والأموات وغيرهم، مثل: يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك، وأن لا يحوم حول حماه، وقد عده أناس من العلماء شركًا، وأن لا يُكِنُّه فهو قريب منه، ولا أرى أحدًا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو - الحي الغائب أو الميت المغيب - يعلم الغيب أو يسمع النداء، ويقدِر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى، وإلا لما دعاه ولا فتح فاه. وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم. فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد. ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - من هذا المنافق، فجاءوا إليه فقال: (إنه لا يُستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى) لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه - أمر يجب اجتنابه، ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه. ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تُقضى حاجته، وتنجح طلبته، فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به، فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات، إنما هو شيطان أضله وأغواه، وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام ... إلخ) . اهـ. أقول: إن شياطين الأوهام والخيالات كافية لخداعهم بكل ما ذكر، ويوجد مثل ذلك عند جميع الأمم والملل، ومَن قرأ التاريخ وكتب الأديان رأى من أمثال الحكايات التي يتناقلها هؤلاء عن شيوخهم شيئًا كثيرًا، ولو روعيت في نقلها شروط رواية الحديث لم يكد يثبت منها شيء. هذا وإن ما أورده هذا المفسر الواسع الاطلاع في الآية مغنٍ عن البحث في غيرها. وأما قوله تعالى {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: 57) فمعناها كما عليه جماهير المفسرين: أن أولئك الآلهة الذين يدعونهم - أي يعبدونهم أو ينادونهم لكشف الضر عنهم - يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، أي القربة بالطاعة والعبادة، وأيهم أقرب معناه: من هو أقرب منهم يطلب الوسيلة إلى الله تعالى، كسيدنا عيسى (عليه الصلاة والسلام) فكيف بالأبعد. وجوز الحوفي والزجاج: أن (أيهم أقرب) في محل نصب (يبتغون) والمعنى: يبتغون أيهم أقرب فيتوسلون به، أي بدعائه لا بذاته، كما قال المحقق الآلوسي، وهذا التجويز إنما هو من حيث وجوه الإعراب، لا أنه متبادر من اللفظ أو مأثور عن السلف فيحتج به، لا سيما في الاعتقاد، ومع ذلك فقد تعقبه في (البحر) بأن في إضمار الفعل المعلق نظرًا، قال: ومع هذا هو وجه غير ظاهر. وصاحب الرقيم قد حرف الكلم عن مواضعه، وتعدى على كتاب الله، وافترى على رسوله وعلى السلف الصالح، حيث قال ما نصه: (أمر الله تعالى بابتغاء الوسيلة، وفسرها تعالى في الآية الآخرى، أعني قوله: يبتغون أيهم أقرب فيتوسلون به إلى الله تعالى، وهو عام سواء كان التوسل بدعائه أو بشفاعته أو بجاهه أو بكرامته أو بذاته في حياته وبعد مماته، ولكلٍّ شاهد من الكتاب وصحيح الأخبار والآثار عن السلف الصالح) . اهـ. نعوذ بالله من الجرأة على الله ورسوله، والتلاعب في الدين بمحض الهوى. إذا كان عند هذا الجاهل المنحرف آيات قرآنية وأحاديث صحيحة على التوسل بذوات الأموات والأحياء تشهد لما أخذه من وجه الإعراب الضعيف المردود الذي اتخذه عقيدة فما باله لم يأتِ بها؟ ! وأما قوله تعالى {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: 5) فقد قال بعضهم: يحتمل أن تكون المدبرات: الأرواح بعد انفصالها من الجسد، وفسروه بأن الإنسان قد يرى أباه في المنام فيرشده إلى شيء مفيد أو يرى شيخه فيحل له مسألة عويصة، ومثل هذا واقع استشهدوا له بما ينقل عن جالينوس أنه مرض فرأى في المنام من أرشده إلى علاج فتناوله في اليقظة فبرئ من مرضه. وقد اعترف المفسرون بأن هذا الاحتمال لم يرد في خبر نبوي ولا أثر سلفي، وأوردوه بصيغة الضعف، فهل يصح أن نمده مد الأديم، ونضيف إليه الإضافات، ونلحق به الملحقات التي انتحلتها الأوهام والخيالات، ونجعل ذلك كله عقيدة دينية ونقول {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا} (الزخرف: 22) {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} (الأعراف : 28) حاش لله! لا تؤخذ العقائد من الاحتمالات، ولا يُستدل عليها بالأحلام والمنامات. هذا ما يحتمله المقام من الكلام على الآيات. وأما الأحاديث فليس في الباب إلا حديث استسقاء عمر بالعباس رضي الله تعالى عنهما، وهو حجة على صاحب الرقيم ومَن على رأيه ومذهبه من وجهين: (الأول) : قول عمر: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا صلى الله عليه وسلم، وإننا لنتوسل بعم نبينا فاسقنا، فهو دليل على أن المراد بالتوسل طلب الدعاء من الحي، كما نقلنا ذلك في تفسير الآلوسي، ولو صح التوسل بالذات لما عدل عمر عن التوسل بالنبي - وذاته الشريفة موجودة - إلى التوسل بعمه العباس، على أن وقائع الأحوال يعروها الاحتمال، فيكسوها ثوب الإجمال، فيسقط بها الاستدلال، كما قال الأصوليون، وذلك بالنسبة للأحكام التي يكتفى فيها بالأدلة الظنية، فما بالك بالعقائد التي تبنى على البراهين اليقينية. (الثاني) : قول العباس رضي الله تعالى عنه في دعائه على ما في رواية الزبير بن بكار: (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة) إلخ، وهو نص صريح في أن كشف البلاء لا يكون إلا بتوبة من خلاف الشريعة الإلهية الذي أوجب البلاء والرجوع إلى العمل بها، والنفي يشمل التوسط الذي ما أنزل الله به من سلطان، ولو شئنا لنأتين بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تنفي الوسائط الشركية والشفاعات الوثنية، وإن كادت تكون غير محصية، لكن من لا يقنعه القليل لا يقنعه الكثير، والمدار على التربية العملية والتعليم. هذا وإن سابق كلامنا ولاحقه لم يُبنَ على إنكار الكرامات، ولا على نفي شفاعة الأصفياء في الآخرة، وصرحنا بأن زيارة قبور الصالحين فيها من الفائدة والاعتبار ما ليس في زيارة سائر القبور، وهو الذي عبر عنه الغزالي بالبركة، وقد فسرناها تفسيرًا معقولاً في العدد (22) وأن هذه الفائدة أو البركة إنما تحصل لأهل القلوب المتفقهة والعزائم الصادقة، ولكن كثيرًا من الناس لا تطمئن قلوبهم بالتوحيد الخالص لله تعالى، وإنما يلوكونه بألسنتهم، ولا تنشرح صدورهم لأن يعبدوه مخلصين له الدين حنفاء، ولذا اتبعوا سنن من قبلهم حتى في النزغات الوثنية وتحريف الكلم عن مواضعه، فضلوا كثيرًا وأضلوا عن سواء السبيل، ومحوا مزايا الإسلام وخصائصه، فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، إنا لله وإنا إليه راجعون.

العقيدة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العقيدة الإسلامية (كتاب يحتوي على ذكر شهادات علماء أوروبا وأشهر كتابها بفضل الدين الإسلامي في نشر المدنية وارتقاء العمران، مع بيان الأساسات الجوهرية التي بني عليها الدين المبين، وتطبيقها على القواعد العقلية والأصول الفلسفية) . هذا عنوان كتاب ألفه بالإنكليزية الشيخ عبد الله كويلبام، شيخ المسلمين ورئيسهم في ليفربول من بلاد الإنكليز، وقد عربه الفاضل محمد أفندي ضيا المصري، وأهدانا نسخة منه تصفحناها فألفيناها جديرة بالمطالعة، ولكن عنوان الكتاب أكبر منه، فإنه وإن بين الكثير من الأسس الجوهرية التي بني عليها هذا الدين، لم يستوفها مع التطبيق الذي يشعر به العنوان، ومما يحسن ذكره في تقريظ هذه العقيدة: أنها تتكلم عن الإسلام من الوجوه التي تستلفت نظر الأوروبيين وسائر أبناء التمدن العصري إليه، من ذكر محاسنه وفوائده للنوع الإنساني، وتأثيره في سوق من يأخذ به على حقه للمدنية الصحيحة، والجواب عن انتقاد متمدني العصر على بعض أحكامه: كالطلاق وتعدد الزوجات، وبمثل هذا ينبغي أن يدعى إلى الدين في هذه الأيام، لا بمثل كتب العقائد التي يتداولها طلاب العلم: كحواشي السنوسية والجوهرة التي تبحث عن مزايا الدين وفوائده وتأثيره في سعادة أهله، بناءً على أن هذا ليس من أصول العقائد، لكنها تذكر أن خوارق العادات تقع من كل صنف أو على يد كل صنف من أصناف البشر، حتى الكفار والفساق وتسمى كل نوع من تلك الأنواع باسم، ولم يرد شيء من ذلك في كتاب الله ولا سنة رسوله وسيرة أصحابه وسائر سلف الأمة الصالح، وإنما هو تقسيم لاح في ذهن بعض المؤلفين الذين لا يؤخذ بقولهم في فروع الدين فضلاً عن أصوله وعقائده، التي اختُلف في صحة إيمان المقلد فيها، ولو للأئمة المجتهدين. ومما نقله في هذه العقيدة عن علماء أوروبا في وصف الإسلام، مسألة حقيقة بأن يلتفت لها طلاب العلم، بل والعلماء المسلمون، وهي أن دين الإسلام سهل قريب من الفهم يمكن لكل إنسان أن يتناوله من طرف الثمام مع التعقل والإذعان في مدة قليلة جدًّا، وإنما أستلفت لهذه المسألة أهل العلم مع أنها لا نزاع فيها؛ لأن كتبهم وتآليفهم التي يتداولونها اليوم قد جعلت السهل حزنًا والقريب بعيدًا، وصار تناول الدين الذي كان يأخذه الأعراب من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في مجلس واحد يحتاج فيه إلى سنين طويلة، فعسى أن يضعوا لنا كتبًا سهلة العبارة، خالية من الحشو والأبحاث الغريبة والمسائل المبنية على الفرض واحتمال الوقوع، لأجل تعليم الناس الدين بها، فإن أكثر منتحلي علوم الدين - إن لم نقل كلهم - في عجز عن إلقاء الدروس الدينية من غير كتب يقرءون بها، والكتب كما تعلم، فالحاجة إلى غيرها شديدة، وما ينتقد به على هذه العقيدة أنها تنقل مسائل دينية عن علماء أوروبا مخالفة لما عليه المسلمون، وتقر أصحابها عليها، مثل: الجزم بأن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يعبد النجوم، كما يلوح لغير العالم بدين الإسلام من آيات سورة الأنعام، ومثل: نقله عن بعض كتب التاريخ الإفرنجية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان شاعرًا، وعبارته المنقولة هي: وهكذا انتهت حياة الرجل الوحيد في تاريخ العالم الذي جمع في آن واحد بين شاعر ونبي، ومتشرع ومؤسس لدين ومملكة، ومثل: نقله أن أكثر القرآن منزل بالنثر المسجع، وليس كذلك، ومثل: نقله عن بعضهم في القرآن أنه يثبت انقلاب هذه الأرض القاحلة على بغتة أرضًا طيبة تجري من تحتها الأنهار، وهو ناجم عن عدم فهم القرآن. هذا ما سنح لنا الآن، وربما نطالع العقيدة ثانية بدقة وإمعان، ونوفيها حقها في التقريظ والانتقاد، ونختم الكلام بالثناء على حضرة المترجم، ونستلفته إلى العناية بتصحيح الترجمة في طبعة ثانية، ونحث أبناء العربية على الإقبال على هذه العقيدة كما أقبل عليها أهل اللغات الأجنبية.

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات الجرائد (شاه العجم ومنظوماته) إن لشاه العجم شغفًا شديدًا بنظم الشعر، وهو يعد نفسه من أشعر شعراء مملكته، ففي ذات يوم طرق أذنه خبر وجود شاعر مجيد من مدينة طهران، فاستقدمه على جناح السرعة إلى بلاطه، ودفع إليه منظوماته ليرى رأيه فيها ويعلمه علم اليقين عنها، فلما طالعها ذلك الشيخ الشاعر التفت إلى الشاه بدون خشية وقال له بحرِّية ضمير: إن قصائدك يا مولاي متباينة القوافي، وعارية عن المعاني، ولما كان الشاه ينتظر من الشاعر تقريظها، وسمع منه بجرأة هذه العبارات أخذت منه الحدة مأخذها، وكاد يتميز من الغيظ، فأمر حالاً بأن يساق الشاعر إلى الإسطبل ويجلد، ونفذ على عجل أمره فيه، وبعد مضي مدة أيام استحضره الشاه إليه وكلمه برقة وبشاشة عن الشعر والشعراء، فأخذ ذاك يتداول معه الحديث حتى اتصل بالشاه أن يتلو عليه أبيات كان قد نظمها مؤخرًا، فما كاد الشاعر يسمع منها بيتين حتى نهض حالاً من حضرته وسار متخذًا وجهة الإسطبل لا يلوي على شيء، فناداه الشاه قائلاً له: إلى أين أنت متوجه؟ فأجابه الشيخ الشاعر بكلام متقطع وهو يهز رأسه: إنني ذاهب يا مولاي إلى الإسطبل لأستعد للجلد ثانية، فما كاد يتم هذه العبارة اللطيفة حتى استغرق الشاه في الضحك ثم عينه عضوًا في بلاطه. *** (النساء في مملكة سيام) كل فرد من المدرينيين في تلك الجهة يقتني من النساء من اثنتي عشرة إلى ثلاثين امرأة بحسب قلة ثروته أو كثرتها، ولا يمتاز الشريف منهم إلا بكثرة عدد حرمه وجمال هيئتهن. ثم إن بين حرم الواحد منهم من تسمى: (كبرى) وهي التي يكون قد اقترن بها بعد خطبة رسمية، أما الباقيات فيسمين: (صغريات) وكلهن تقريبًا يشترين بالمال، فإن المدريني منهم يمكنه أن يشتري عدة نساء جميلات بسبعمائة أو بثمانمائة فرنك بالأكثر، وإذا دفع ألف وخمسمائة فرنك يحصل على نساء يحاكين حور الجنان، أما زوجته الكبرى التي أشرنا إليها فهي التي تشتري له بقية زوجاته بحسب مطلوبه، وهي التي يلقي إليها أيضًا مقاليد رئاستهن، فتذهب بهن إلى التنزه وتكون المقدَّمة عليهن في كل ما يتعلق بشؤون بيته، وبعد وفاته تكون وحدها وريثته، ويكون ولدها خلفًا لأبيه، ولا يمكن بيعها ألبتة. *** (الآلام العصبية والبيانو) يزعم أحد علماء الفرنسويين أن أغلب الآلام العصبية التي تعتري السيدات تنجم عن لعب البيانو. *** (ميتة شنيعة) نشرت جرائد بريكسول خبر ميتة شنيعة، وهو أن بعض العملة كانوا يتعاطون المدام في إحدى الحانات، فمر بهم بائع سمك فاستوقفه أحدهم ليشتري منه، فرأى بين السمك فرخ انقليس (حنكليس) حيًّا، فقبض عليه للحال، وخاطر رفاقه على شرب كأس خمر على نفقتهم إذا قطع رأس ذلك الفرخ بأسنانه، فحالما فغر فاه وأدنى الفرخ منه انتفض هذا من يده وانساب في حلقه إلى جوفه، وبعد مضي دقيقة انتابت ذاك المسكين آلام شديدة في أمعائه، وملأ صراخه تلك الناحية، ومع كل الوسائط التي أجريت له لم يلبث إلا بضع ساعات ومات مأسوفًا عليه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (لبنان) *** (فتح أم درمان والقضاء على السودان) لم تكد ترتفع الشمس في يوم الأحد الماضي إلى ربع السماء حتى فاجأتنا أصوات المدافع من قلعة مصر، وأول ما خطر لنا من السبب في ذلك، فتح أم درمان والنصر على السودان، وكان كذلك، فقد بعث سعادة كتشنر باشا سردار الجيش المصري في صبيحة ذلك اليوم (الأحد) رسالة برقية رسمية إلى صاحب السعادة فخري باشا، نائب القائم مقام الخديوي يؤذنه فيه باحتلال الجنود المصرية المظفرة (أم درمان) فصدر أمره سريعًا بإطلاق واحد وعشرين مدفعً من القلعة إعلامًا بالنصر، فأطلقت الساعة التاسعة صباحًا. وأرسل سعادته رسالة برقية يبشر فيها سمو الخديوي المعظم ورسالة أخرى لعطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس النظار (وهما في أوروبا) . كانت الملحمة الكبرى في صباح يوم الجمعة الماضي، وكان البادئ بالهجوم التعايشي بدراويشه، ولقد جالدوا مجالدة الأبطال، لكنهم رأوا بأعينهم أنه لا قبل لهم بالسردار وجنوده وما لديهم من المدافع والعدد الكاملة والأهب التامة، وما هم عليه من التنظيم والشجاعة، فولوا الأدبار وأركنوا إلى الفرار، وكان التعايشي يقاتل في قلب الجيش فتقهقر، ثم ولى وأدبر، فَكَرَّ رجاله على أثره، كما هو شأن الجيوش الغير منظمة إذا قتل أو ولى رئيسها لا تقوم لها قائمة، اتباعًا لنظام الشطرنج، وهاك تفصيل خبر الملحمة والفتح نقلاً عن الأخبار البرقية الواردة من مكاتب شركة روتر (نقلاً عن المؤيد الأغر) . كان أول من رأى العدو قادمًا هم طلائع السواري، حيث رأوا جيوش الأعداء زاحفة كالسيل على بعد ثلاثة أو أربعة أميال، وهم بين راجل وفارس، رافعين الأعلام، مترنمين بالأناشيد الحربية الحماسية. حينذاك اصطفت البيادة وعلى يسارها الأورطة العشرون والأورطة الخامسة من الريفل والجاردس، وانضمنت إليها أورطة مكسيم فيوزلرس الأيرلندية، وأورط وارويكس وكمرون وسيفورث ولينكولن ورويال وتيلري، وأورطتا مكسويل ومكدونالند السودانيتان، ثم وضعت المدافع على الجانبين، وأقيمت ألوية لويس وكولنسن وراء الجيش للحاجة. وما جاءت الساعة 7 والدقيقة 20 حتى زحف العدو من المرتفعات جملة واحدة وقبل ذلك أطلقت مدافعنا حيث كانت الساعة 6 والدقيقة 40 فجاوبتها بنادق الدراويش، ثم حملوا حملة منكرة مندفعين من الأعالي على الجناح الأيسر، إلا أننا أسرعنا وصوبت نحوهم البنادق من كل صوب وحدب، وانصبت عليهم النيران من جميع الجهات، فاضطروا إلى الانسحاب نحو قلب الجيش ليحملوا حملة أخرى، وكان فرسانهم يقابلون النيران بقوة ثبات، إلا أن أورط الكمرون واللينكولن والسودانيين سحقوا العدو سحقًا، فتأخر وتقدمنا، وصارت بعد ذلك الأرض مغطاة بجثث القتلى، ولا يمكننا أن نقدر خسائرنا تمامًا، ومهما وصف الكاتب شجاعة الدرويش وحملتهم وثباتهم، فإنه لا يعد مبالغًا ولا متغاليًا، فإنك ترى حاملي الأعلام منهم يجدون في الزحف وليس بيننا وبينهم سوى مائة ياردة. أما الأمراء الممتطون صهوات الجياد، فكانوا يبذلون أرواحهم عن طيب خاطر ثباتًا واستماتة. وقد أوقف العدو إطلاق الرصاص هذه الساعة، وربما كان لغرض اجتماع قوتهم لكي يحملوا حملة ثانية، ولذلك كان هذا اليوم يومًا مشهودًا، قتل فيه من الدراويش ألف، وتقدمت فيه جيوشنا، حتى صارت على أبواب أم درمان، وإليك ما عرفته لهذه الساعة من القتلى والجرحى: قتل الليفتنت غرنفل من الأورطة الثانية عشرة اللانسرس، والكبتن كالديكوت من الوارويكس وجرح كثيرون. (الجمعة مساءً) زحفت الجنود وأخذت أم درمان وفر التعايشي وخلص نيوفلد. جرح الكولونل رود (مكاتب التيمس) ولما تأخر الدراويش وراء التلال أعطى السردار الأوامر لألوية لويس وكولنس بأخذ الحذر والتيقظ التام، وحاول الدراويش الهجوم على الجناح الأيسر ولكنهم فشلوا في أمرهم ونكصوا على عقبهم، وقد تقدمت قواتنا أورطة أورطة نحو أم درمان. وبينما كانت الألوية الإنكليزية تسير على الجانب المكون لشكل هلال من النيل (قرب أم درمان) وإذا بالدراويش قد هجموا على الجناح الأيمن من الجنود المصرية التي كانت تسير من المعسكر، وقد تجمعت الدراويش وراء صخور مرتفعة عالية تبعد نحو ميلين عن المعسكر، وساروا تحت لواء أسود للتعايشي ليقاوموا ما استطاعوا، فكانت القوة المهاجمة للجنود المصرية مؤلفة من خمسة عشر ألفًا من الأشداء الأقوياء، قد جعلوا قبلتهم الجناح الأيمن، فصدرت في الحال أوامر السردار بتطويح الجناح الأيسر والقلب حول الأعداء، وتركت الأورطة الأولى من برتيش بريجاد لنقل المهمات، بينما احتلت أورطة مكسويل السودانية (الاكت) التي كان يجتمع عندها الدراويش، وانضمت بقية لواء مكدونالند لضرب النار. في خلال عشر دقائق تمكنت جنودنا الباسلة من حصر قوة الدراويش (قبل تمكنها من الرجوع إلى المنازل) تحت نيران ثلاثة ألوية وبعض مدافع للطوبجية. ولطالما حاول الدراويش المخلصون أن يقاوموا مقاومة شديدة بكل شجاعة وإقدام، ولكنهم كانوا يُسحقون سحقًا، ويرتدون على أعقابهم المرة بعد المرة، ومع ذلك كانوا يرفعون أعلامهم بكل زهو وخُيَلاء ويموتون تحت ظلالها، ولا ريب أن مثل هذه الأعمال أكثر ما يقدر على مقاومته الجسم البشري، إذ كلما مُحيت كتيبة تقدمت أخرى، حتى فني أكثرهم وولى الباقون الفرار تاركين الأرض وراءهم مغطاة بالجثث المتلحفة بالمفرقعات. تلغراف آخر: ناوشت الأورطة الحادية والعشرون اللانسرس بعض الأعداء، فوجدت كتيبة من فرسان الأعداء مستترة، فصبت عليها رَصاص البنادق، حتى أوقفتها مكانها، ولكن قتل من جنودنا ضابط وقتل أيضا 21 جنديًّا وجرح 20، هذا بينما كانت الخيالة المصرية مشتبكة القتال طوال النهار مع فرسان البقارة الذين أخذوا مدفعًا بقي معهم مدة من الزمان، ولكن جنودنا ردته ثانية بعد ذلك بهمة وإقدام غريبين. وإن الإنسان ليأخذه الإعجاب والتأثر الزائد من شجاعة الدراويش وإقدامهم، فكلما انفرط عقد اجتماعهم واضمحلت قوتهم تألبوا ثانية مقدمين للحرب حتى يقطعوا إربًا إربًا، ولا يبقى لهم أثر ما، وترى الأمراء يقتحمون الأهوال ويدفعون بأنفسهم للموت، تنشيطًا لأتباعهم حتى كاد بعضهم يصل صفوفنا قبل أن يحترق جسمه بالرصاص المذاب المنصب عليه، وكم من جريح يعالج سكرات الموت يدير رأسه ليطلق من بندقيته طلقة الوداع. وعند الساعة 11 والدقيقة 15 أمر السردار بالزحف، فتقدمت القوة وطردت من بقي من الأعداء أمامها في عرض الصحراء، بينما كان الفرسان يقطعون خط رجعتهم عن أم درمان. وعند الساعة 12 والدقيقة 15 دخلت الجنود جميعها أم درمان، تحت قيادة السردار وراية التعايشي السوداء مرفوعة. وأنا أكتب هذا في ضواحي هذه المدينة المضمحلة منتظرًا احتلال المدينة بأجمعها هذا اليوم. وتقدر خسائرنا تقريبا بنحو 200 نفر، وخسائر الدراويش بالألوف، وقد انقرضت المهدوية بذلك انقراضًا لا تقوم لها بعده قائمة. اهـ. وأنت ترى أن تهور هؤلاء الدراويش وغرورهم دفع بهم إلى مبارحة حصون عاصمتهم (أم درمان) المنيعة والهجوم على الجيش الذي يفوقهم تنظيمًا واستعدادًا، وهكذا إذا وقع القضاء عمي البصر.

مأثرة جليلة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مأثرة جليلة نفتخر بالكرم الشرقي، ونخص القطر المصري بالنصيب الأوفر من هذا الفخر، ولكننا إذا نظرنا في تواريخنا الحاضرة أو في جرائدنا التي تجعل الحبة قبة، والحصاة جبلاً، لا نكاد نرى فيها نبأ عن آثار الكرم الحميد والسخاء الصحيح، وما ثم إلا منافسة الإسراف والتبذير عند الولائم والوضائم، ونحوها من مجتمعات الحزن والأفراح، اللهم إلا ما يكون أحيانًا قليلة من بعض رجال الفضيلة، ولقلة هؤلاء سارت كلمة السموأل: (إن الكرام قليل) مثلاً. أفضل الإنفاق ما كان في أفضل الأعمال، ولا أفضل من العلم، فالذين ينفقون أموالهم ويبذلون كرائم مقتناهم لتعزيز العلوم والمعارف وتوسيع دوائرها، هم فضلاء الكرماء وكرماء الفضلاء، وهم أقل القليل في كل قطر وجيل. نقول هذا تمهيدًا لذكر المأثرة الجليلة والمكرمة الجميلة، التي يحق للتاريخ أن يفتخر بها، وهي وقف السروات الأفاضل أبناء سليمان باشا أباظة (تغمده الله برحمته) مكتبة والدهم الشهيرة على طلبة الأزهر الشريف. هذه المكتبة تدخل في نيف وألفي مجلد، منها نحو ألف كتاب من نفائس الكتب الخطية، ومنها ما هو بخط ابن مقلة وابن هلال الشهيرين، وغيرهما من مشاهير قدماء النساخ، وفيها أكثر من مائة كتاب بخطوط مؤلفيها من العلماء السالفين، ولقد أنفق سليمان باشا - رحمه الله تعالى - على جمع هذه الكتب الأموال الكثيرة؛ لأنه كان من الأفاضل المغرمين بالعلوم، والمشغوفين بجمع كتبها النفيسة، وأحب أولاده البررة أن تكون تذكرة له في أشهر معاهد العلم، وصدقة جارية ينتفع بها من بعده، فعهدوا بتنفيذ ذلك لأخيهم الفاضل الكامل محمد بك أباظة، وهو أمضاه وأنفذه بمعرفة وإرشاد العلامة المفضال الأستاذ الشيخ محمد عبده العضو العامل في إدارة الأزهر الشريف، وقد جاء البك المشار إليه بتلك الكتب القيمة النفيسة إلى الأزهر الشريف في (10 ربيع الآخر سنة 1316) فاستُقبل أحسن استقبال، وتلقاه الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بالشكر والترحاب، وكتب له كتابًا يتضمن الثناء عليه وعلى إخوته الكرام، والدعاء للمرحوم والدهم، ويعده بتخصيص خزانات للكتب (يكتب عليها ما يفيد أنها كتب المرحوم سليمان باشا أباظة التي وقفها ورثته الأكرمون) . ونحن نرفع أعلام الشكر والثناء في منارنا لآل أباظة السراة الكرام، ونرجو أن يكونوا خير قدوة لأبناء الأمراء والأغنياء في الديار الذين أصبحوا على أمتهم عارًا، وحملوا أنفسهم وأهليهم أوزارًا، وكانوا لأوطانهم خرابًا ودمارًا، أصلح الله شؤوننا وشؤونهم بمنه وكرمه. *** أنِسنا بلقاء حضرة الفاضل محمد أفندي مصطفى الدرملي الإسكندري وكيل جريدة (معلومات) وقد أهدى إلينا أبيات مطرزة باسم (المنار) يقرظه بها، فننشرها شاكرين له وممتنين من لطفه وهي: اأنعِمْ بمَن أنشا وصاغ (منارا) ... ببديع دُرٍّ قد زها وأنارا ل لاحت معارفُهُ بنور فضائل ... وبلاغة تدع الفهوم حيارى م مالت عقول أُولي العقول له كما ... عنه أخو الجهل انثنى وتوارى ن نِعم المؤسس للمنار وحبذا ... طرق لخير الناس فيها سارا االله يمنحه (رضا) ويزيده ... (رشدا) ونُجْحًا دائمًا ووقارا ر رام الهدايةَ للأنام فمَن نحا ... نهج الهدى فليتخذه منارا

التعصب ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعصب [*] (1) قد علمت أن التعصب هو عبارة عن القيام بالعصبية، وأن مناط العصبية في اصطلاح هذا العصر هو: الجنس أو الدين، وأن الإفرنج ومن احتذى مثالهم من أبناء المشرق حذو القذة للقذة يغرقون في مدح التعصب للجنس على إطلاقه، ويعدونه المشكِّل للدول، والمقوِّم للأمم، ويفتخرون بالتغالي به والاستبسال في سبيله ويرون أن الشرف الأعلى والكمال الأرفع في بذل النفس والنفيس في تقوية الجنسية ونصب الأشراك والأحابيل لإيقاع سائر الشعوب فيها. ويخصون التعصب للدين بالإزراء والازدراء والثلب والسب والطعن والقدح، ويعدونه منبع الشرور، ومولد الفتن، وعدو المدنية، ومنار الحروب، ومقطع الصلات بين الأمم، ويتقذرون الاتصاف به، ويتنصلون من الانتساب إليه، بل استعملوا لفظه للسباب والشتيمة، ويزعمون أن صاحبه خابط في ظلمات الجهالة، والتعصب غشاوة على عينه، أو حجاب كثيف يحول بينه وبين نور المعرفة، بل هو أكمه، لا قابلية فيه لإدراك نور المدنية الصحيحة! فليت شعري، هل يرى هؤلاء الدين المطلق هو منبع الشرور ومصدر الرذائل، والعقبة الكؤود في طريق المعارف! وأن اللغة من حيث هي لغة مجمع أزِمّة الفضائل، ومنبعث أشعة العلوم والعرفان! كيف وجلهم أو كلهم ينتسب للدين تشرفًا به، ولو رمي بلقب الكفر تقوم قيامته ويتبرأ من هذا اللقب الشائن الذي رماه به الشانئ، بل إن عقلاء الكفار من هؤلاء المتمدنين يعترفون بفضل الدين، وإن كانوا لا يدينون به، ويشهدون أنه المهذب للنفوس، الرادع لها عن الشرور، وأنه يَزَعُ ما لا يزع السلطان؛ لأنه مهيمن على النفوس لا يفارقها في حنادس الليالي، ولا يزايلها وراء الحجب والأستار، حيث تنام أعين القضاة، ولا تصل أيدي الشرطة والأعوان. لا ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر فلم يبق من شبهة لمن يخص التعصب الديني بالمقت والذم، والجنسي بالشرف والإطراء - إلا الغرض، وأنا أقص عليك غرض الأوروبيين منه، فاستمع لما يتلى. أنت تعلم أن المنفعة مدار كل عمل عند هؤلاء القوم. فأما انتفاعهم من التعصب للجنس وتربية الأمة على حب جنسهم مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم، فهو أنهم تمكنوا به من توحيد أممهم، وأمنوا من عواصف الثورات التي كانت تهب في بلادهم كالريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، وهو الذي نقاسي اليوم عناءه ونساور بلاءه، في أرمينيا وكريت وغيرهما من البلاد العثمانية، التي فقد منها هذا التوحيد؛ لإهمال التربية على التحاب والتواد والاعتصاب بالجنسية العثمانية الجامعة. وأما انتفاعهم من التعصب الديني فهو أنهم شكلوا الجمعيات الدينية، وجعلوها من آلات الفتوح، وأرسلوها إلى آسيا وإفريقيا أوزاعًا أوزاعًا (جماعات متفرقة) تحت حماية دولهم، فعملت ما لا يعمل السيف، بل كانت تسير على أثرها الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، تحمل المدافع الفوهاء التي تدمر كل قطر ينظر فيه لأحد المرسلين شزرًا، أو تستعمره استعمارًا. انظر تاريخ أوروبا مع المشرق كله، وبين يديك الآن شاهد قريب وهو اندفاع دول أوروبا الكبار على الصين، ومبدؤه احتلال ألمانيا لكياوتشاو بسبب قتل بعض المرسلين، ولم يكتفوا بهذه المنافع والمغانم، بل هم ينفخون هذا الروح (التعصب) في نصارى الشرق بواسطة جمعياتهم السرية والجهرية، ويربونهم عليه في المدارس السياسية الدينية التي ينشئونها في بلادهم، يمثلون لهم لدى تعليم التاريخ صورة ماضيهم مع بني وطنهم مشوهة، تنفر منها النفوس وتقشعر الجلود، ليوقعوا بينهم العداوة والبغضاء، ثم يعدونهم بالحماية والنصر، ويمنونهم بالاستقلال إذا هم شقوا عصا الطاعة، وخلعوا رداء السلطة. ذلك وعد غير مكذوب، يجتهدون في الوفاء ما وجدوا للوفاء سبيلاً. واعتبر ذلك في الفتن الأخيرة في بلاد الدولة العلية من عهد مقدمات الحرب الروسية إلى عهد المسألة الأرمنية، والمسألة الكريدية، تَلْقَه واضحًا جليًّا. ومما يقضي على العاقل بالعجب أن هذه الدول لا تتحاشى المجاهرة بالانتصار للنصارى بعنوان حماية الديانة النصرانية. ولو أن دولة أو إمارة إسلامية سألت عن حال المسلمين في مستعمرات تلك الدول من حيث زراعتهم أو تجارتهم، فضلاً عن الانتصار لهم، لقامت عليها قيامة أوروبا، وأجمع دولها على وجوب تأديبها؛ لأنها حركت سواكن التعصب الديني الذي يقوض أساس العمران، بل لو انفجرت براكين العدوان في بلادهم، فأحرقت جميع أرباب المذاهب لا تتحرك لهم عاطفة رحمة، ولا تجيش في صدورهم حمية، سواء كان المحترقون بتلك النيران نصارى أم غير نصارى، اللهم إلا إن كانوا من جنسهم، فالفرنساوي لا يحن في أوروبا إلا للفرنساوي، والإنكليزي لا ينظر إلا للإنكليزي، وهلم جرا. فالتعصب الديني عندهم محرم في الغرب واجب الشرق، اللهم أنه واجب كونه مذمومًا لفظه لا فعله، وعلى اجتناء المنافع المدار، وهو المبدأ وإليه المآل. وأما ما يثرثر به هذا النشء الجديد في الشرق من لفظ التعصب والمتعصب في معرض الذم، فهو لفظ عن غير عقل ولا بصيرة، بل ليس إلا صدى ما يقوله أولئك المختلِبون [1] ، يرجّعه هؤلاء المختلَبون، أو هو حكاية أصواتهم من غير ملاحظة ما ترمي إليه، ألا تراهم يرددون كثيرًا لفظ (فناتيك فناتيك) أي تعصب ديني. يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا إلا من انفصل من جنسيته الشرقية واتصل بهؤلاء الإفرنج، كما تنفصل النيازك من كوكب فيجذبها إليه كوكب آخر تتصل به، وتكون جزءًا داخلاً في بنيته. ومن تجرد من جلابيب الحظوظ والأغراض، وترفع عن التحزب للأديان والأجناس، ونظر في الشؤون بعين الإنصاف، جاعلاً مطمح نظره الحقيقة - تجلى له أنه لا فرق بين التعصب للجنس والتعصب للدين، إلا بما يكون به الأول أشرف رابطة وأقدس مناطًا، وأن كلاًّ منهما فضيلة، إذا وقف عند حد الاعتدال، وأن الغلو في كل منهما رذيلة تدعو إلى ايذاء المتعصب لمخالفه فيما قامت به العصبية، وتحمله على التعدي وهضم الحقوق واختلاس المنافع. والعقل المجرد عن الشوائب يحكم بقبح ومذمة التعدي والإيذاء لذاتهما، من غير نظر إلى سببهما، ومن نظر في التاريخ يرى أن كلاًّ من هذين النوعين للتعصب قد نشأ من الإفراط فيه منازعات وحروب أهريقت فيها الدماء، ويتمت الأطفال، وأيمت النساء. نعم إن للحروب وجهًا يرجع إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين، وليس هنا مجال للبحث فيه. يرمي الإفرنج والمتفرنجون المسلمين بالتعصب الديني الذميم، أي الإفراط فيه المؤدي إلى إيذاء المخالف، وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا، تحملهم عليه الأغراض السياسية، وهم يعلمون أنهم كاذبون، هذا الإفراط في التعصب لم يوجد في ممالك المسلمين إلا بين أرباب المذاهب الإسلامية، كالمعتزلة والخوارج والشيعة من أهل السنة، وأما بين أهل الأديان المختلفة فلم يكن له أثر، إلا ما لا تخلو عنه طبيعة الوجود مما يكون مثله ببن أبناء المذهب الواحد، حتى أضرمت ناره أوروبا بالحروب الصليبية، فاستضاءت هي بنورها، ورمي بشرر شرورها آخرون. ومن يجهل التاريخ ينخدع بما يلغط به المذاعون من الإفرنج والمتفرنجين، ويصدق جرائدهم فيما تزعم من براءة أوروبا من التعصب الديني، ويغتر بتلفيقهم وتمويههم الحقائق وإبرازها في أثواب الزور المدبجة بألوان التمدن العصري، لكن أسفار التاريخ على علاتها واختلافها تشهد على أوروبا بالتعصب المشوه منذ دخلت في النصراينة إلى ما بعد الحرب الصليبية، وبالتعصب المموه في هذه القرون الأخيرة. غض بصرك عن إبادة أسبانيا للمسلمين في بلاد الأندلس، وعن معاملتها هي وروسيا لليهود الذين أجبروا على النصرانية، ومن لم يقبل كان جزاؤه القتل أو الإجلاء عن وطنه، ومصادرته في ماله وعقاره، وارم بأشعة النظر إلى الأمتين العظيمتين زعيمتي التمدن وناشرتي لواء الحرية والعدالة والمساواة ... إنكلترا وفرنسا، لم تكتف الواحدة منهما بتأليف الجمعيات لتنصير المسلمين وغيرهم، ولا بغرس التعصب الذميم في نفوس تلامذة المدارس التي ينشئونها في البلاد الشرقية، وعلى الأخص بلاد الدولة العلية، ولا إلقاء الدسائس والفتن بين النصارى والمسلمين في البلاد التي قوي نفوذهم وتداخلهم فيها، لكثرة النصارى الآخذين عنهم والمخالطين لهم، ولا بالتحامل على الدولة العلية والاجتهاد في سلخ بلادها التي يكثر فيها المسيحيون، وإعطاء تلك البلاد الاستقلال عن الدولة أو إلحاقها بحكومة مسيحية، بل لا يزال روح التعصب الذميم محركًا لألسنتهم، ومالكًا أزمة عامتهم وخاصتهم، وناهيك بعظيم إنكلترا وفقيدها المستر غلادستون وخطبه ضد الإسلام، وكلمته الأولى في وجوب إعدام القرآن، وكلمته الآخرة في وجوب تطهير أوروبا من المسلمين، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى. ودونك كلمة أخرى من عظماء الإنكليز عُبر بها عن قاعدة من قواعد السياسة التي يجب على أوروبا العمل بها، وهي كلمة اللورد سالسبري في وجوب إعادة ما أخذه الهلال من الصليب للصليب دون العكس، كبرت كلمة هو قائلها، وعليه وزرها ووزر من عمل بها، ولا تنس معاملة البريطانيين لمسلمي ليفربول، ورجمهم بالأحجار في مصلاهم، بله معاملتهم للهنود وغيرهم من البعداء عن أرض التمدن والحرية، بل لا تنس تعصبهم على كاثوليك أرلنده وعدم مساواتهم بالبورتستان!! واذكر ما نقله (المقطم) من عهد غير بعيد عن الفرنساويين واستنكافهم من السفر مع المسلمين في حوامل (عربات) السكك الحديدية في تونس والجزائر، ولديك الآن في فرنسا مسألة دريفوس التي أقامت الأمة الفرنسوية وأقعدتها، فتألب حكامها ومحكوموها على اليهود جميعهم بجريرة أسندت إلى بعضهم كذبًا وبهتانًا وتعصبًا ذميمًا، ومن وقف على دخائل هذه المسألة ودقائقها يتعجب من غلواء الفرنساويين وطيشهم وتعصبهم الأعمى، ويحكم بأن التهذيب لا يمكن أن يلابس النفوس إلا بالدين السماوي من غير غلو فيه ولا تفريط ولا إفراط، وهو ما فقده الأوروبيون في الجملة والفرنسويون في الجملة والتفصيل. قال قائل: إن ظل الديانة قد تقلص عن فرنسا وعن عامة أوروبا، وإن الحكومة الفرنسوية صرحت رسميًّا بأنه لا دين لها، فكيف تغلو في التعصب للدين وهي ليست على دين؟ ونحن نقول: صدق القائل فيما حكاه عن فرنسا وسائر أوروبا، ويؤيد قوله هذا ما نقل عن كثير من العارفين بأحوال أوروبا: كالخطيب لوازون الفرنسوي في خطبته في الأوبرا الخديوية بمصر وغيره، وجاء في مجلة المقتطف الغراء عن الدكتور يعقوب أفندي صروف أحد منشئيها أنه دخل إحدى كنائس باريس متفرجًا، فرأى فيها جماعة -ولم يكن يوم أحد- فقال: ما أراكم إلا متدينين يا أهل باريس، فقال له الدليل وهو فرنسوي: لا تغرنك الظواهر، لكن التعصب على المخالف في الدين لا يستلزم تمسك المتعصب بالدين حقيقة، وإنما يكفي فيه الانتماء له ولو اسمًا، فكيف إذا انضم إلى ذلك جعله عاملاً من عوامل السياسة، وأداة من أقطع أدواتها، وتأيد بالوراثة الطبيعية عن الآباء والأجداد، والغرائز والسجايا المورثة لا تنزع وتمحى آثارها بمجرد اعتقاد بطلان مناشئها وقبح مصادرها ومواردها. قال القائل: إن تحامل الدول الأوروبية على الدولة ناجم عن محض المطامع السياسية، أو خدمة الإنسانية بإزالة الظلم

اقتراح القيصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اقتراح القيصر اهتز العالم للمنشور الذي أبلغه قيصر روسيا بلسان ناظر خارجيته لعامة دول أوروبا يقترح فيه عقد مؤتمر للبحث في وضع حد للاستعدادات الحربية التي أثقلت كواهل الدول، واستنزفت ثروة الأمم واستأصلت منها الخيرات والبركات والقوى المادية والأدبية، وما صرح به المنشور أن آلات الهلاك والدمار الحديثة التي أنفقت عليها القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ربما تمسي بعد قليل من الزمن ألقاء [1] لا ينتفع بها بمخترعات جديدة يبطل فعلها، وذلك مما يجتاح الثروة، والخطر الناجم عنه يجعل السلم المسلح وقرًا ينوء بالأمم، فإذا طال الأمد، فلا بد أن يفضي إلى الويل الذي ترغب الدول في مجانبته، ويروع العقل البشري توقعه. الاقتراح لا خلاف في شرفه، ولم تذكره جريدة في أوروبا إلا وأثنت على مقترحه، وإنما وقع الخلاف والنزاع في أمور: (1) هل اقترحه القيصر حبًّا بالسلام عن سلامة نية وإخلاص طوية، أم هناك أغراض سياسية. (2) هل استشار أحدًا من الدول فأجازه عليه أم افتحره افتحارًا. (3) هل الاقتراح في هذا الوقت ابتسار وإرغال، أم جاء في إبانه وأوانه، وصادف محله وأهله. (4) أي الدول يوافق مصلحتها وأي الدول يخالفها. (5) هل تجيب جميع الدول أو العظام منها الدعوة وينفذ الاقتراح. (الامر الأول) : قال بعض السياسيين: إن القيصر قد جعل الاقتراح تمويهًا على مقاصده السياسية، والغرض منه كيد إنكلترا ليتم مقاصده في الصين ومأربه في حدود الهند من غير أن يتهم بشيء يوجب حذر إنكلترا وزيادة قوتها في تلك الأصقاع، وإذ تم أمر المؤتمر فهو واثق بأن الرأي العام يوافقه ضد إنكلترا في التحكيم فيقضي لباناته براحة وسلام، ولم أر من ذكر مأربه في الشرق الأدنى ومعاكسته للدولة العلية التي رآها ناشطة في هذه الأيام لزيادة قواتها البرية والبحرية، وحاول صدها عن ذلك بطلب الغرامة الحربية فلم يفلح، وإذا كان الرأي العام يوافقه ضد إنكلترا فهو يوافقه ضد الدولة العلية بالأولى. ومن الناس من يقول: إن القيصر مخلص في اقتراحه، لا يقصد نكرًا ولا يحاول مكرًا؛ لأنه متشبع في حب السلم الحقيقي الذي يمكنه من ممالكه الواسعة وإسعادها، حقق الله ذلك بمنه وكرمه. (الأمر الثاني) : الجرائد والسياسة تضرب من أجله في أودية الخرص والتخمين، ويرجح الكثيرون أنه استشار إمبراطور ألمانيا، وزعم البعض أنه ربما كان استشار حليفته فرنسا، لكن لهجة الجرائد الفرنسوية وتبرمها من الاقتراح يقضي بخلاف هذا، والأرجح أنه افتحره افتحارًا، ويقال: إن الإمبراطور غليوم كان عازمًا على هذا الاقتراح في أثر زيارته للقدس الشريف فسبقه إليه قيصر. (الأمر الثالث) : من الناس من يقول فيه بالابتسار [2] وأن هذه الأمنية التي يتمناها كل العقلاء يحتاج في تحققها إلى قرن كامل على الأقل، ولذلك قد أوجب الاقتراح غرابة ودهشة. (الأمر الرابع) : مما لم يقع فيه اختلاف أن هذا الاقتراح يوافق مصلحة كل من أوستريا وإيطاليا؛ لأنهما مثقلتان بالنفقات الحربية، مستغرقتان بالديون التي لا يجدان لها وفاء مع هذه الاستعدادت الحربية، ويوافق مصالح جميع الدول الضعيفة أيضًا، اللهم إذا كانت في مأمن على بلادها ومنافعها، ولم يكن للمؤتمر حق بأن يهب ما يشاء من غير معارضة ولا منازعة، فإن أعطى المؤتمر هذا الحق فيكون معنى الاقتراح: اتفاق الأقوياء على ابتلاع الضعفاء وهضمهم بدون تعب ولا نصب، والاتفاق عزيز، والاقتراح على هذا سلمي في مظهره، حربي في حقيقته، ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب، اللهم أجر اللهم سلم سلم. (الأمر الخامس) : أوستريا وإيطاليا قد أجابتا الدعوة وسلمتا تسليمًا، وألمانيا تظهر بألسنة جرائدها الابتهاج، وكذلك إنكلترا، إلا أن هذه تقول: إن الوضع من قوة السلاح ينبغي أن لا يتناول البحرية، يعني أنه يجب على الدول كلها أن تضع من أسلحتها إلا بريطانيا العظمى، فيجب أن تزيد قواها، وتستأثر بمنافع العالم وحدها، ومتى جاء وقت العمل يلغى هذا القول ويبطل الأمل، ولا ريب أن ثناء الجرائد الإنكليزية على القيصر وإظهارهم الابتهاج بالاقتراح وفوائده، كل ذلك من المصانعة والدهاء المعهود من سياسة الإنكليز، ونقل عن جريدة إقدام وغيرها من الجرائد التركية مثل ذلك، وكيف لا يكون ما تظهره جرائد البريطانيين والعثمانيين مصانعة وأهم فوائد الاقتراح عند المقترح: إيقاف الأولى، وتلقف منافع الثانية على ما يرى البصراء، وأقل ما يقال: إن ذلك يحذر منه ويحتاط لأجله. وأما الجرائد الفرنساوية فقد ملأت الأرض صراخًا وعويلاً، فلا يرون في الآذان منعكسًا عن صفحاتها إلا: ألزاس لورين! ألزاس لورين! جاء في بعض الجرائد أن إنكلترا هي العقبة الكؤود في سبيل إنفاذ الاقتراح، ولا شك أن فرنسا هي العقبة العنود. أليس من العجب أن يتوقع العالم مقاومة أعظم ثمرات المدنية والمعارف من أعظم الدول مدنية ومعارف؟ ! بلى وهذا العجب يضاهي العجب من طلب وضع السلاح وتحديد قواعد السلم من ملك أقوى دولة حربية، وصاحب حكومة استبدادية. إن أمام هذا الاقتراح عقبة كبرى تتبعها عقبات عظيمة، وهي الاتفاق على قانون التحكيم ومكان المحكمة التي تفصل المنازعات. وإذا تيسر حل المشكلات الحاضرة كالإلزاس واللورين ومصر وكريد، فما وراءها من المستقبل أيسر حلاًّ، وقد رأينا من عجز الدول العظام في صغرى هذه المشكلات - وهي مشكلة كريد - ما دلنا على أنهم عن غيرها أعجز، وإن إلى ربك المنتهى وهو على كل شيء قدير.

ثورة السودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ثورة السودان (من 1881 إلى 1898) وضعت زميلتنا جريدة الإجبشن غازت تاريخًا موجزًا لحوادث السودان من بدء ثورتها إلى الآن، أي من سنة 1881 إلى 1898، فرأينا تلخيصه فيما يلي: سنة 1881. في أغسطس كان بدء الثورة المهدية. سنة 1883. في يناير سقطت بارا والأبيّض في يد المهدي. في 4 نوفمبر فنيت حملة هكس باشا عند شيكان في طريقها إلى الأبيض. في أكتوبر فصلت سنكات عن سواكن. في ديسمبر سلم سلاطين في أم شنجر. سنة 1884. في يناير سقط جيش باكر باشا قرب التيب. في 18 فبراير وصل غوردون إلى الخرطوم. في فبراير وصل إلى سواكن 4000 جندي إنكليزي بقيادة السير جرالد كراهام. في 29 فبراير جرت موقعة التيب وقتل فيها 1500 من الدراويش. في 14 مارس جرت موقعة طماوى وقتل فيها 2000 درويش. في 28 أبريل ترك لوبتون بك من رجاله. في 20 مايو سقطت بربر في أيدي الدراويش، فسدت الطريق منها إلى سواكن، وانقطعت المواصلات مع غوردون. في 30 أغسطس برح اللورد ولسلي لندرا قاصداً مصر لاستلام قيادة الحملة الذاهبة لإنقاذ غوردون. في سبتمبر قتل محمود باشا في أم دبان بعد فوزه في بعض المواقع حول الخرطوم. في 10 سبتمبر بعث غوردون إلى القطر الكولونل ستيوارت والمسيو هربين قنصل فرنسا والمستر فرانك بيوير على سفينة بخارية. في 18 سبتمبر جنحت هذه السفينة على صخر على بعد 30 ميلاً من أبي حمد، فذبح الدراويش الكولونل ستيوارت ورفقاءه في منزل في الهبة. سنة 1885. في 17 يناير جرت موقعة أبو قلية. في 19 يناير الوصول إلى كوبات. في 21 منه التقت سفن غورودن بالإنكليز بعد إقامتها اثني عشر يومًا في النيل. في 24 منه سافر السير ويلسون على سفينة بخارية من كوبات إلى الخرطوم. في 26 منه سقطت الخرطوم وقتل غوردون في 28 يناير نظر السير ويلسون الخرطوم في مسيره إليها. في 7 فبراير وصلت إلى اللورد ولسلي أوامر من لندرا بتقويض سلطة الدراويش في الخرطوم. في 10 فبراير جرت مسألة كربيكان وقتل الجنرال أول. في 15 فبراير بدأ نكوص الحملة النيلية. في 22 مارس الهجوم على زريبة ماك نايل وخسرت الإنكليز خسارة عظيمة. في شهر مايو تجمع الدراويش للحملة على مصر. في 14 يونيو وفاة محمد أحمد المهدي وخلافة التعايشي. في 15 يونيو انسحب الإنكليز من دنقلة وصرفت حملة النيل ونكصت جنود الحدود مع المعسكر العام إلى أسوان. في 26 نوفمبر برح ولد النجومي أم درمان محاولاً شن الغارة على القطر المصري. في 30 ديسمبر كسر الدراويش في جينيس. سنة 1886 في شهر أبريل جرى تحديد التخوم تحديداً نهائيًّا عند وادي حلفا، فانسحبت كل المراكز العسكرية التي إلى جنوبيه. سنة 1887 في يناير جرى إعداد الحملة لإنقاذ أمين باشا. سنة 1888 في 20 ديسمبر قهر الدراويش في سواكن. سنة 1889 في ديسمبر وصلت حملة أمين باشا إلى زنجبار. سنة 1896 في 13 مارس استؤنفت الحملة على السودان. في 7 يونيو قهر الدراويش في فركه. في 8 يونيو احتلال سوارده. في 9 سبتمبر موقعة الحفير. في 23 سبتمبر دخل الجيش إلى دنقلة. سنة 1897 في 7 أغسطس أخذ أبي حمد. في 7 سبتمبر احتلت القبائل المصافية للحكومة بربر. في شهر أكتوبر انتهى مد السكة الحديدية من وادي حلفا إلى أبي حمد. في 31 أكتوبر أطلقت المدفعيات قنابلها إلى حصون المتمة. سنة 1898 في 2 أبريل الاستيلاء على شندي. في 9 أبريل قهر الدراويش في النخيلة على الأتبرة، وأسر الأمير محمود. في 13 أغسطس استئناف الزحف إلى الخرطوم. في 2 سبتمبر دخول أم درمان. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام) ... ... ... ... *** السودان المصري أهم ما يذكر من أخبار السودان المصري رفع الراية الإنكليزية بجانب الراية العثمانية المصرية في أم درمان والخرطوم، وتحقق وجود حملة مرشان الفرنسوية في فشودة. أما رفع الراية الإنكليزية فقد اضطرب له أهل مصر أي اضطراب، وكان النصر على التعايشي عندهم شرًّا من الانكسار، لا سيما وقد بشرهم المقطم بأن رفع الراية دائم، والمقصود منه أن بريطانيا شريكة لمصر فيه؛ لأنه فتح بالجيشين وأنفق عليه من المالين. ولكن سائر الجرائد المصرية تهون الأمر وتقول: إن رفع الراية مؤقت، لا يقصد منه حماية رسمية، ولا اشتراك بالملكية، وإنما هي عادة كل جيش ظافر يرفع رايته عند احتلاله العسكري في أي مكان، ثم يرجع كل شيء إلى أصله، ولقد رفع الإنكليز رايتهم على قلعة مصر عند احتلالهم لها مدة وما عتموا أن أنزلوها، ولكن لا ريب أن نفوذ الإنكليز في السودان سيكون أقوى منه في مصر على أنه في مصر ليس بالقليل. وأما تحقق احتلال الفرنسويين لفشودة، فهو أعظم خذلان للإنكليز في السودان، بل في إفريقية؛ لأن فشودة وما يليها هي البلاد الخصبة من السودان، والموقع المهم الذي يتمكن محتله من الاستيلاء على كردفان ودارفور وبحر الغزال والسودان الغربي كله، ولأن ذلك يقطع رجاء الإنكليز من امتداد نفوذهم من رأس الرجاء الصالح إلى الإسكندرية، وتحقيق أماني المسترسل رودس في إنشاء مستعمرة إفريقية تضاهي المستعمرة الهندية. لكن إذا خابت مساعي الإنكليز بقبض الفرنسويين على قلب إفريقيا (الأقاليم الاستوائية) وحيلولتها بينهم وبين ما يشتهون، فماذا يكون نصيب مصر من ذلك؟ إذا كان تنازع الذئب والضبع يؤدي إلى حفظ الغنم فحبذا التنازع، وإذا كان يؤول إلى فتك هذه ببعضها، وذاك بالبعض الآخر، فهل ثَم من فائدة غير التشفي بخذلان أنكى العدوين في الجملة؟ اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدًا واحفظ لنا بلادنا، وكف يد الطامعين عنا يا أرحم الراحمين.

متفرقات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ متفرقات جاء في الأنباء الرسمية أن الحضرة السلطانية قد أمرت بأن يُكتفَى بإيقاد المصابيح دون الألعاب النارية المعتاد إجراؤها ليلة عيد الجلوس السلطاني بجوار قصر يلديز الهمايوني، وأن توزع قيمة ذلك - ما بلغت - على طلبة (مدرسة نشين) كما صدرت الإرادة السنية أيضاً بأن يتلى المولد النبوي الشريف في جميع مدارس الآستانة، وأن يعطى لكل مدرسة منها ألف وخمسمائة قرش من الخزينة الخاصة، وذلك لابتياع قراطيس من الحلوى توزع على التلامذة، وبتوزيع الباقي على الطلبة استجلاباً للدعوات الخيرية بتأييد الحضرة السلطانية. وذكرت جرائد الآستانة أن مولانا أمير المؤمنين قد أصدر أمره الكريم ببناء أربعة مساجد صغيرة في محلات (مائدة) و (ناقة) و (مصلى) و (بغلة) الكائنة بباب الجمعة ظاهر المدينة المنورة على صاحبها أفضل الصلوات وأتم التسليم، على أن تكون نفقاتها المقدرة بثمانية عشر ألفاً و500 قرش من الخزينة السلطانة الخاصة. *** وجاء أيضا في صحف الآستانة أن حضرة النظام حاكم حيدر آباد من أعمال الهند قد أمر رئيس وكلائه باستنساخ جميع كتب التفسير والحديث بواسطة نساخ مخصوصين. *** نقلت صحف الآستانة عن جريدة (الستندارد) الإنكليزية فصلًا قالت هذه فيه: إنه لما كانت الدولة العثمانية لا تضمر لليونان إلا كل ما فيه الولاء والسلم، فلا حاجة إذ ذاك إلى تداخل الدول بحسم الأمور التي يختلف فيها موظفو هاتين الحكومتين، فإن فيهما الكفاءة التامة لحلها حلاًّ مرضيًا، دون تداخل قط، ويستفاد من التقرير الذي رفعه هنري بك الكاتب الأول في السفارة العثمانية بأثينا بعد أن تفقد أحوال تساليا: أن مسلمي هذه المقاطعة قد نالهم من بني وطنهم اليونانيين ظلم واعتداء، كما فصلناه في حينه، فلذا أمر الملك جورج ملك اليونان بأن تعاد المحكمة الاستئنافية في مدينة (يكي شهر) التي ألغيت بأمره سابقًا، وذلك لكي تنهي هذه الدعاوي المتعلقة بالمسلمين وتجازي الذين ظلموا. *** جاء في أخبار بريد أوروبا أن حملة السودان كانت تقتل في الحرب نساء الدراويش، وحجتهم على هذه الغلظة الوحشية أن أحد الضباط رأى جثة امرأة بين القتلى وفي يدها عصا مشظاة، فاستنبط من ذلك أنها كانت تذفف بها على الجرحى، ولا يستغرب هذا الخبر عن حملة قوادها من الإنكليز (حماة الإنسانية؟) فإنهم ينتقمون أقبح الانتقام لذنوب مزعومة أو موهومة، ولا تنس ما جاء في رسائل روتر البرقية الخاصة عن السودان من (أن مئات من جرحى الدراويش المهشمة أبدانهم تهشيمًا زحفوا إلى أقذر حي في المدينة، وأن سيول الدماء تجري من الأكواخ وتشرق عليها الشمس فتصير بركًا سوداء، ولكن هؤلاء لا يستحقون الشفقة والرحمة؛ لأنهم نبشوا جثث موتانا من قبل!) . هذا قول الكاتب الإنكليزي وهو يحكي عن عمل القواد الإنكليز، فما قولك بهذه المدنية والخدمة الإنسانية؟ ! أما وسر العدل لو جرى مثل هذه الأعمال الوحشية لهذه العلل الواهية من الدولة العلية لقامت عليها قيامة أوروبا، وفي مقدمتها الإنكليز، ونالوا منها ما نالوا، ونسبوا لها الغلو في التعصب للدين إن كان عملها هذا مع المسيحيين، وكنا نحن لهم من المصدقين.

التعصب ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعصب [*] (2) تتمة ما سبق لم يكن الاستمساك بعروة الدين على عهد العباسيين كما كان على عهد الخلفاء الراشدين، فيساووا بين رجل من آحاد يهود وبين أعظم مسلم علمًا ودينًا ومكانة وقربًا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كعلي كرّم الله تعالى وجهه، ويحاسبون أنفسهم وينكر بعضهم على بعض إذا أخل بالعدل والمساواة ولو في اللقب والكنية كما علمت، ولكنهم (أي العباسيين) لقربهم من عهد النبوة كانوا على مقربة من ذلك: يحكمون بالشريعة ويتأدبون بآدابها بالجملة، والشاهد الذي أريد إيراده من تاريخهم قريب من الشاهد الذي أوردته عن عمر وعلي (عليهما الرضوان) في معاملة اليهودي وهو بعض خبر أبي إسحاق الصابئ. لا أعني بذلك اعتراف الخلفاء بفضله، وتقليدهم إياه الأعمال الجلائل مع ديوان الرسائل، وإنما أعني ما كان بينه وبين الطبقة العليا من المسلمين من الموادة والمحالفة، نذكر منها بعض خبره مع الشريف الرضي، وهو مَن علمت مكانه من الشرف الباذخ والسؤدد الرفيع، وكان في العلم لا يضاف إليه كفيح، ولا يقرن به نديد، وهو من أئمة الشيعة، وكفاك أنه اجتمعت له الإجادة في المنظوم والمنثور معًا، وهي كما قال ابن خلدون: لا تتفق إلا للأقل، ولقد كان يعامل أبا إسحاق معاملة الأكفاء والنظراء، مع أنه كان يسامي الخلفاء ويطاولهم في مجالسهم، حتى إن الخليفة القادر بالله كان يتهمه بالتطلع إلى الخلافه لأنه يرى نفسه أحق بها لمكانة نسبه وعلمه، هذا وأبو إسحاق من الصابئة الذين هم أضعف وأحقر فرقة من فرق الأديان، لكنه كان فاضلاً بليغًا، فلم يحُل خلاف دينه وضعف طائفته دون معاملته بما يستحق فضله من الإجلال وتقليد الأعمال. ولقد كان مثل الشريف يجله لفضله وأدبه، لا لوظيفته ومنصبه، ومن آية ذلك مرثاته التي رثاه فيها بعد موته، فإن فيها من الثناء عليه ما يربي على ما كان يكتبه له في حياته من المراسلات المنظومة والمنثورة، وإننا نأتي ببعض أبياتها وإن كانت مشهورة زيادة في البيان. مطلع القصيدة أعلمتَ مَن حملوا على الأعواد؟ أرأيتَ كيف خبا ضياء النادي؟ ومنها: بعدًا ليومك في الزمان فإنه ... أقذى العيون وفتَّ في الأعضاد لا ينفد الدمع الذي يبكي به ... إن القلوب له من الأمداد كيف انمحى ذاك الجناب وعطلت ... تلك الفجاج وضل ذاك الهادي قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى ... لكن أراد الله غير مرادي سودت ما بين الفضاء وناظري ... وغسلت من عينيّ كل سواد ثكلتك أرض لم تلد لك ثانيًا ... أنى ومثلك معوز الميلاد ليس الفجائع بالذخائر مثلها ... يا ماجد الأعيان والأفراد لا تطلبي يا نفس خلاًّ بعده ... فَلَمَثله أعيى على المرتاد الفضل ناسب بيننا إن لم يكن ... شرفي يناسبه ولا ميلادي إن لم تكن من أسرتي وقبيلتي ... فلأنت أعلَقُهُم يدًا بودادي إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن ... حيًّا إذًا ما كنت بالمزداد ضاقت عليّ الأرض بعدك كلها ... وتركت أضيقها عليّ بلادي لك في الحشا قبر وإن لم تَأوِه ... ومن الدموع روائح وغواد إلى أن قال في آخرها: صفح الثرى عن حر وجهك إنه ... مغرى بطي محاسن الأمجاد وتماسكت تلك البنان فطالما ... عبث البلى بأنامل الأجواد وسقاك فضلك إنه أروى حيا ... من رائح متعرس أو غاد إن الشريف الذي قال: إن الفضل ناسب بينه وبين أبي إسحق، وأنه كان أعلق نسبائه وأسرته بوداده هو الذي أنشد الخليفة القادر بالله هذه الأبيات (من قصيدة) في مجلسه وهي: مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدًا كلانا في المفاخر معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق وهو الذي رثى الخليفة العادل والإمام المجتهد عمر بن عبد العزيز الذي رفع من شأن آل البيت الكرام بعد اضطهادهم من سلفه الأمويين، والذي مناقبه ومآثره لا تحصى، فاقتصر من مدحه على مثل قوله: يا ابن عبد العزيز لو بكت العين ... فتى من أمية لبكيتك غير أني أقول إنك قد طبت ... وإن لم يطب ولم يزكُ بيتك وعجيب أني قليت بني مروان ... طُرًّا وإنني ما قليتك يقول: إنه لا يمكن البكاء على عمر بن عبد العزيز، وقال: إن الدمع الذي يبكي به أبا إسحق لا ينفد؛ لأن له مداداً من القلب، ويعجب أنه لم يقْلُ عمر ويبغضه، ولم يقل أنه يحبه، وقد عهد إلى نفسه أن لا تتخذ خلاًّ بعد أبي إسحق، وقال: إنه أعلق أهله وأنسبائه بوداده، وهذا مما يؤيد قولنا السابق: إن الإفراط في التعصب الديني لم يُعهد من المسلمين إلا مع المخالفين في المذهب دون المخالفين بأصل الدين، كما أنه وقع منهم التعصب للجنس أحياناً، ولا حاجة لبيان ذلك؛ لأنه مما لا نزاع فيه. وهذا الشاهد الذي أوردناه له نظائر كثيرة يعرفها من نظر في كتب التاريخ الإسلامية، لا سيما قبل الحروب الصليبية. وأما الدولة العلية العثمانية فحسبك من حسن معاملتها للمخالف لها في الدين، وهي في أوج عزها ومنتهى قوتها، ما كان من السلطان محمد الفاتح مع الروم يوم فتح القسطنطينية، وإقراره للبطريق على امتيازه وامتياز طائفته، وإعطائهم الحرية الكاملة، ومنحهم الرعاية الشاملة، وتسجيل ذلك في قوانين المملكة، وجعله عهدًا مُتبعاً في الدولة لا ينقض، تعطى للبطارقة به الوثائق (الفرامين) السلطانية من ذلك العهد إلى الآن، خلافاً لما كان يعاملهم به الكاثوليك من القسوة والاضطهاد. ولقد كان عرض على الروم الخضوع لكنيسة رومية بإزاء انتصار إخوانهم الكاثوليك لهم وإغاثتهم من العثمانيين، فائتمروا بينهم وأقروا على أن رؤية تاج السلطان محمد في مذبح كنيسة أيا صوفيا أهون وأحب إليهم من رؤية عراقية (قبعة مخصوصة) كردينال من جماعة البابا فيه، ولولا أنهم كانوا يعلمون من العثمانيين العدل والإحسان والمجاملة لما فضلوا سلطتهم على الاتحاد مع إخوانهم في بعض قضايا الدين، وبقاء سلطتهم لهم، ولم تزل تلك الامتيازات مرعية إلى اليوم، وربما نذكرها في فرصة أخرى لمناسبة تعن. ولقد ساهم العثمانيون من سبقهم من العباسيين والأمويين في رفع مخالفيهم في الدين لا سيما النصارى إلى المناصب العالية، فجعلت الدولة حكاماً للصرب وللمملكتين من اليونان فخانوها وكانوا لنعمتها من الكافرين، ولقد كان منها مثل ذلك في عهد كانت ترتعد فيه أوروبا من بأسها، وما فتئ جاريًا بحركة الاستمرار إلى هذا الحين، نعم لم يكن السير على نحو واحد لما تقتضيه طبائع الأوقات من اختلاف الحالات، وكلنا شاهد رعاية الدولة العلية لطائفة الأرمن حين رأت من جدهم واجتهادهم في العلم والعمل حتى إنها قلدتهم الأعمال الجليلة، لا سيما في المالية، ورفعت غير واحد منهم إلى مقام الوزارة، وبالجملة قد ميزتهم حتى على العرب الذين أكثر رعاياها وأخلصهم وأكثرهم على دينها، فقابلوها على ذلك بالكنود والكفران والخيانة والعصيان. كان منهم من يظهر المضرة في صورة المنفعة، ويُلبس الأمانة ثوب الخيانة بحجة توفير المال في الخزينة، وهو يعلم أنه يضطرهم بذلك إلى الرشوة التي تفسد السلطنة وتضعضع بنيانها. ويعلم أكثر القراء (المصريون) ما كان من خدمة نوبار باشا لإنكلترا في مصر التي ثبتت أقدامهم فيها، على حين كانت في زلزال، وأمر الاحتلال قرين الاختلال. وقد انتهى أمر الأرمن في الدولة إلى الثورات والفتن والسعي في إحراق الباب العالى ونسف البنك العثماني، وإن شئت فقل: بمحو الدولة العلية - حماها الله تعالى- من دول الأرض. كل هذا يكون بدسائس أوروبا، ثم لا يخجل عظماء ساستها أن يقولوا: إن الدولة متعصبة تهين رعاياها المسيحيين، فيجب إنقاذهم. وإنما هي القوة تقول للضعف ما تشاء، ما أصاب المسيحيين من حسنة في ظل الدولة العلية فتزعم أوروبا أنه كان خوفاً منها أو تعمية عليها، وما أصابهم من سيئة فتقرنه بتعصب الدولة وتحمسها، وإن تاريخ الدولة يكذبها في زعمها الذي تغش به الجهلاء والمخدوعين. كانت أوروبا على عهد السلطان سليم ياوز ترتعد فرائصها من خشية الدولة العلية، وكانت الولايات المسيحية الأوروبية العثمانية تكثر الخروج على الدولة، لا سيما في إبان إشتغال الدولة بالحرب، وما كان يجرؤها على ذلك إلا خفض العيش وفرط الطيش، فارتأى السلطان سليم - رحمه الله تعالى- أن يجبرهم على الإسلام أو يمزق عصبيتهم بالتشتيت والتفريق بإجلائهم عن أوطانهم، فاستفتى شيخ الإسلام العلامة أبا السعود فأفتاه بعدم جواز ذلك شرعاً، فعدل عن رأيه وإن كان لرأيًا سياسيًّا حكيمًا. فهل كان ذلك عن خوف أو مصانعة لأوروبا، أم هو الدين الإسلامي الذي يقول كتابه العزيز {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) وتصرح سنته بأن من آذى ذميًّا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خصمه يوم القيامة، ونحو ذلك من النصوص. وخلاصة القول: إن الغلو في الدين أو التحمس الديني وهو ما يطلق عليه أهل العصر: التعصب، هو مما نهى عنه الدين الإسلامي صريحًا {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171) وآداب الإسلام وأحكامه تنافيه كما تنافيه أيضاً آداب الإنجيل ومواعظه، ولم يضرم الأوروبيون نيرانه في العالم قديمًا وحديثًا اتباعًا للإنجيل، وان كانوا أظهروه بمظهر ديني، بل لم يلابس الدين قلوب الأوروبيين في عصر من الأعصار، وما كانوا متبعين للإنجيل يومًا من الأيام، وأما قول الإنجيل: ما جئت لألقي سلامًا، إنما جئت لألقي سيفًا إنما جئت لألقي ناراً، فليس معناه الأمر بالحروب والفتن، وإنما هو إخبار عن المستقبل، أي أنه بسببه يحصل هذا، وإن لم يكن مأموراً به ولا مرضيًّا، هذا ما نفهمه من تطبيق مثل هذا النص على سائر النصوص التي تصرح بوجوب الخنوع والتسليم لأي حاكم، وإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وهي كثيرة ولا تسمع من رجال هذا الدين إلا إنه دين سلام واستسلام، وإنما حارب الأوروبيون لأجل الدين المسيحي وأكرهوا الناس عليه أجيالاً، وغلوا فيه غلوًّا كبيراً، حتى سرت عدوى غلوهم وإفراطهم في تعصبهم إلى غيرهم ممن جاورهم؛ لأن روح الحرب والفتنة كان صاحب السلطان الأكبر عليهم، والمصرف لأجسادهم قبل دخول الدين المسيحي في بلادهم، ولقد تناولوا الدين من أبناء الرومانيين وهم -كما قال في العروة الوثقي -: (على عقائد وآداب وملكات وعادات ورثوها عن أديانهم السابقة، وعلومهم وشرائعهم الأولى، وجاء الدين المسيحي إليهم مسالمًا لعوائدهم ومذاهب عقولهم، وداخلهم من طرق الإقناع ومسارقة الخواطر، لا من مطارق البأس والقوة، فكان كالطراز على مطارفهم، ولم يسلبهم ما ورثوه عن أسلافهم، ومع هذا فإن صحف الإنجيل الداعية إلى السلامة والسلم لم تكن لسابق العهد مما يتناوله الكافة من الناس، بل كانت مذخورة عند الرؤساء الروحانيين، ثم إن الأحبار الرومانيين لما أقاموا أنفسهم في منصب التشريع، وسنوا محاربة الصليب ودعوا إليها دعوة الدين، التحمت آثارها في النفوس بالعقائد الدينية وجرت منها مجرى الأصول، ولحقها على الأثر تزعزع عقائد المسيحيين في أوروبا، وافترقوا شيعًا، وذهبوا مذاهب تنازع الدين في سلطته وعاد وميض ما أودعه أجدادهم في جراثيم وجودهم ضرامًا. ثم أرشدهم النظر في طبائع الكون والاعتبار بحالهم وماضيهم إلى استعمال الدين آلة سياسية، وهذا ما يحمل حكومة تصرح رسميًّا بأنه لا دين لها، على إعلان حمايتها النصارى الكاثوليك في الشرق، وهذا بعينه

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد (المكاتب الشهيرة في العالم) أكبر مكتبة في العالم مكتبة باريس، ففيها أكثر من مليوني مجلد مطبوع، و160 ألف مجلد بخط اليد. ولا يوجد فرق يذكر بين المكتبة الملوكية في بطرسبرج ومكتبة المتحف البريطاني في لندن وفيه نحو مليون و500 ألف مجلد، هاتان هما كبريا المكاتب الموجودة في العالم0 أما المكاتب الشهيرة دونهما فهي: المكتبة الملوكية في مونيخ، وفيها الآن أكثر من 900 ألف مجلد ومن ضمنها كثير من الكتب الصغيرة، ومكتبة برلين الملوكية فيها 800 ألف مجلد، ومكتبة كوبنهاغن فيها 510 آلاف، ومكتبة درسدن فيها 500 ألف مجلد، والمدرسة الجامعة في كوتنجتن لها مكتبة فيها 600 ألف مجلد، والمكتبة الملوكية في فيينا فيها 400 ألف مجلد، ومكتبة مدرستها الجامعة فيها 370 ألف مجلد، وفي بودابست مدرسة جامعة فيها 300 ألف، ومدرسة المراسلات في كراكو فيها مثل هذا العدد تقريبًا، والتي في براجو فيها 205 آلاف مجلد، أما المكاتب الأميركية، فإنها آخذة في نمو سريع حتى إنه يوجد في مكتبة بوسنن الآن ما يقرب من مليون مجلد. *** (مشروع الخط التلغرافي) (بين مصر ورأس الرجاء الصالح) إن المسترسل رودس ليس هو صاحب هذا المشروع العظيم، بل المؤسس له إنما هو الكولونل جرانت في سنة 1876، حيث كان عرضه على مؤتمر الجغرافية الذي كان منعقدًا في مدينة بروسل من تلك السنة، وخطط المواقع اللازمة له. فما أعظم الإرادة الفعالة عند الإنكليز. *** (أطول مسافة قطعها الحمام الزاجل) أطول مسافة قطعها حمام الزاجل هي من بحيرة تشارلس في لوسيانا إلى فيلادلفيا، وهي مسافة طولها 1300 متر قطعتها حمامة اسمها (سادي جونس) وأسرع الحمام طيراناً حمامة للمستر واتن من سكان نيويورك، فإن حمامته قطعت 106 أميال و 29 دقيقة في ساعة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (محمدان) ... ... ... ... ... ... ... *** (وكل من لا يسوس الملك يخلعه) لكل بداية نهاية، ولا يبقى إلا وجه ربك الكريم. مضى على الأسبان أربعمائة وست سنوات وتسعة أشهر وسبعة عشر يوماً، وهم يحكمون العالم الجديد، وقد وصل إليهم الحكم عن خريستو فوروس كولمبوس الرحالة الشهير. نشر ذلك الهمام الراية الأسبانية لأول مرة في العالم الجديد فوق سان سلفادر وذلك يوم الجمعة 12 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1492، وقد ذهبت تلك البلاد من أيدي الأسبان، وهي الآن تابعة للمستعمرات البريطانية. وكانت جيوانا تابعة لأسبانيا فطويت رايتها هناك عام 1613، ودخلت البلاد في حوزة الإنكليز والفلمنكيين والإفرنسيين، وفي 1634 طويت الأسبان في البرازيل وأراغوا فاستولت البورتوغال عليهما، وهما الآن جمهوريتان. وفي عام 1655 لحقت جاميكيا بما سبقها من الولايات الأسبانية، ودخلت في حوزة الإنكليز. وفي سنة 1680 استولت بريطانيا العظمى أيضًا على جزائر باهاماس. وعام 1795 خسر الأسبان هايتي، وكانت يومئذ تدعى سان دومينيك، فدخلت في حوزة الحكومة الإفرنسية وهي الآن جمهورية مستقلة. وفي سنة 1817 استقلت بلاد شيلي ورفعت عنها نير الأسبان الثقيل. وفي عام 1819 انضمت فلوريدا إلى الولايات المتحدة، وقد كانت ولاية أسبانية. وعام 1821 استقلت البلاد المكسيكية. وأشأم عام كان على أسبانيا عام 1824 حيث استقلت كولمبيا وغرانادا الجديدة وبيرو وباراغوا وأكوادور وبوليفيا بهمة البطل الشجاع سيمون بوليفار. وسنة 1845 استقلت فنزويلا ولم يبق لأسبانيا غير كوبا وبورتوريكو وبعض جزر صغيرة، وهذه قد خرجت من يدها في 19 آب (أغسطس) الجاري عام 1898 حسب منطوق البروتوكول الذي وقع عليه من الدولتين الأميركية والأسبانية، وبذلك أصبحت أسبانيا لا تملك ما يساوي شروى نقير في العالم الجديد. بعد أن كانت صاحبة السلطان والسؤدد وسيدة أميركا الوسطى وأميركا الجنوبية. فمن آلة الدست ما عندها الآن غير الفقر والمشاغب والمتاعب والثورات، كل ذلك نتيجة الظلم الوخيم، فليحذر الظالمون فما من ظالم إلا ويبلى بأظلم. فأين كل هذه الأملاك الواسعة، وأين تلك السطوة والعز؟ لقد ذهب في خبر كان من جراء الاختلال وسوء السياسة فتم ما قيل: (وكل مَن لا يسوس الملك يخلعه) . *** (أموال مصارف الدول) في بنك إنكلترا ثلاثون مليونًا و270 ألفا و78 ليرة إنكليزية ذهبًا، وفي بنك فرنسا أربعة وسبعون مليونًا و313 ألفا و332 ليرة إنكليزية من النقود الفضية. وفي بنك ألمانيا 28 مليونًا و558 ألف ليرة إنكليزية ذهبًا و 14 مليونًا و711 ألف ليرة إنكليزية نقودًا فضية، وفي بنك روسيا 117 مليونًا و227 ألف ليرة إنكليزية ذهبً و4 ملايين و274 ألف ليرة إنكليزية من الفضة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (كوكب أميركا)

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ (كتاب الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) سفر كبير ألفه منشئ هذه الجريدة في سنة 1308 عندما اشتد النزاع وعظم النفور بين الرفاعية والقادرية، وطفق بعضهم يطعن بالبعض الآخر بالقول والكتابة، وألفوا الكتب الكثيرة في ذلك، ونسبوا بعضها للمتقدمين، ليروجوا ادعاءهم المنازعة بين القطبين الجليلين سيدي عبد القادر الجيلي وسيدي أحمد الرفاعي (قدس سرهما) ويقبل كلامهم في المفاضلة بينهما ... ولقد طالعت قبل الشروع في التأليف وفي أثنائه كتب الفريقين التي طبعت حديثًا، وبعض الكتب الخطية بكل دقة وإمعان، وتصفحت وجوه الخلاف، وأحصيت مواد النزاع وحررتها تحريراً، وحكمت الشرع في القبول والرد، واستدللت بالعقل والتاريخ، وبكلام شيوخ الصوفية كل في موضعه، ولشدما ألجمت الخصم بلجامه، وألزمته الحجة من كلامه؛ لأن هذا أدعى إلى الاقتناع وأقرب إلى الإفحام , ولقد ألف أحد علماء تونس الفضلاء كتابًا سماه: (السيف الرباني في عنق المعترض على الغوث الجيلاني) وطُبع هذا الكتاب وأُتيح لي النظر فيه، فألفيته على حسنه نقطة من بحر كتابي. ولقد رتبت الكتاب ترتيبًا حسنًا، وقسمته تقسيمًا يشوق المطالع، وكتبته بأسلوب لا يملّ منه قارئ ولا سامع، وأودعته من الفوائد الأدبية والسياسية والحكم والتنبيهات العصرية والأشعار والأفاكيه ما يكفل لكل طالب بطلبته، ويجذب كل صنف لمطالعته، وسنقدم منه نموذجًا للقراء بعض نبذ ننشرها في المنار، ثم نفتح بابًا للاشتراك في طبعه، وإن ألح علينا بعض العارفين به على التعجيل بالطبع، فنستلفت الأنظار إلى الأعداد التالية سلفًا. *** وقفنا على تقريظ لرسالة التوحيد من نظم المفضال صاحب الإمضاء فنشرناه بعنوانه وهو: (حضرة مولانا الأستاذ الأكبر، رب الحكمة وعنوان المعارف، فضيلتلوأفندم الشيخ محمد عبده) . هو الله يحبو من يشاء بهدايته ... ويمنح من يختاره بعنايته ومن خير من أولي (محمد عبده) ... فقد حفَّه فوق الورى برعايته له فكرة تعنو المعارف عندها ... ففاق السوا علمًا بوقاد فكرته غدا فيلسوف الشرق فليفتخر به ... بنوه لدى الغرب الشهير بحكمته له الله قد أهدى من الفكر جوهرًا ... بتأليفه يزدان رونق بهجته وإن كنت في التبليغ لاقيت جفوة ... فما فاتح إلا يعاني لشدته أقمت براهينًا هي الشهب فوق من ... تصدى فما يجديه وقع أسنته على أنها مثل الثوابت يهتدي ... بتقويمها الراجي قويم محجته ومع صغر في الحجم وازت كبيره ... فأبدت لدى الإعجاز أكبر آيته ففيها ترى ضوء المطالع ساطعًا ... وما كوكب إلا سرى في مجرته وإن كان في سير المواقف مطمع ... ففيها انطوى ذاك الفضاء بجملته زهت في مقاصير العلوم خريدة ... على عفة جادت لكل برغبته بروحي منها دقة في اختصارها ... فمنطقها يزري النسيم برقته بروحي ما فيها من الدقة التي ... تشاكل رمزًا من حبيب لعترته فقل بكمال إن تؤرخ جمالها ... محمد عم الكل نور رسالته ... ... ... ... ... ... ... سنة 1315 ... ... ... ... ... ... ... ... محمد جودة الدمياطي

تصريح إنكلترا بامتلاك السودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصريح إنكلترا بامتلاك السودان تناقلت الجرائد المحلية خبرًا كَلَم كل فؤاد، وفَتَّ في جميع الأعضاد، بل كان قارعة من القوارع، تمزقت من وقعها المسامع، وهو أن الدولة الإنكليزية بعثت إلى نظارة خارجية مصر برسالة برقية تقول فيها: (إن حكومة إنكلترا أنفقت في محاربتها السودان النفقات العظيمة، وخسرت في فتحها الخرطوم وأم درمان دماء رجالها، ومن هذا هي تعدّ نفسها ذات الحق الأول في السودان، ولمصر الحق الثاني، فيحتم على إنكلترا أن تكون هي الآمرة الناهية فيه، وعلى مصر أن تقبل إرشادها ونصائحها فيه) . انظر إلى هذه المقدمات البينة والحجج القيمة؟ من قال من بني الإنسان: إن المتطفل أو المتفضل بمساعدة إنسان على دفع مضرة عن أرضه، أو اجتلاب منفعة لملكه، يكون له الحق الأول في ذلك الملك، والتصرف المطلق في تلك الأرض، ويجب على صاحب الأرض المالك أن يكون عبدًا خاضعًا له، ومنفذ أوامره؟ أي قانون أم أية شريعة تبيح لصاحب الهدية أن يمتلك بيت المهدى إليه بحجة أن الهدية كانت حجرًا أو خشبة ودخلت في البناء؟ أقول: إن شريعة البغي والظلم المؤسَّسة على قاعدة (القوة تغلب الحق) هي التي تبيح هذا دون سواها، سمحت إنكلترا لمصر بثمانمائة ألف جنيه لكنها ابتزت منها ألوف الألوف من الجنيهات من مدة الاحتلال، فهل كان ذلك ذريعة لامتلاك بلادها؟ نعم، إنهم ليأكلون أموالنا ويسفكون دماءنا بتسليط بعضنا على بعض لأجل فتح بلادنا وامتلاكها، ونسميهم مع ذلك مصلحين، ولا يزال فينا من يحسن بهم الظن وينخدع لهم، وأولئك هم الغافلون. أما الحكومة المصرية فقد ارتاعت - كما قيل - لهذا النبأ العظيم، وإن كانت مستسلمة للإنكليز في جميع الشؤون، وطيرت الخبر لسمو العزيز في أوروبا، ورفعته للآستانة العلية أيضًا، ولا نعلم ماذا يكون الجواب عنه، وإن بعض الناس لم يزالوا في ريب من صحة الخبر لغرابته وبعده عن مسلك الإنكليز في التمويه، وعدم انطباقه على قاعدة من قواعد حقوق الأمم والدول، وستنكشف الحقيقة عما قليل. *** جاء في بعض الجرائد المحلية أن مولانا السلطان الأعظم تعلقت إرادته السنية بمنع جميع الجرائد المصرية من دخول ولايات السلطنة، ماعدا ثلاثًا مسيحية، ولقد كذبت هذا الخبر جريدة الأهرام، وتكذبه دائمًا جرائد سوريا التي تنقل الأخبار في كل أسبوع عن الجرائد المصرية مع العزو الصريح إليها، ولا وجه لتخصيص الجرائد المسيحية بخدمة الخلافة الإسلامية، بل المسلمون العارفون بحقوق الخلافة - لأنها من مهمات دينهم - أحق بهذه الخدمة وأهلها، وهم والمسيحيون سواء في خدمة الدولة العلية والجامعة العثمانية؛ لأنهم في بنوتها سواء، ويجب عليها العدل فيهم والمساواة بينهم في الحقوق والأحكام بحسب نصوص الشريعة الغراء. إننا لنعلم أن ذلك الخبر قد خلقه بعض المذاعين في الآستانة ليوهم بعض أرباب الجرائد هنا أن مولانا السلطان لا يرضى إلا عن الجرائد التي تشهد لبعض الشيوخ في الآستانة بالقطبية الكبرى، والولاية العظمى ومقام المعرفة بالله تعالى، أو ما يقرب من هذه الشهادة، لكن من أراد أن يوهمهم ذلك الخداع لا يسيرون في ظلمات الأوهام، ولا يشهدون الزور، ولا يتسلقون لإعطاء مراتب الصوفية لأهل الضلال. وإذا كان أولئك الشهداء معتقدين صدق أقوالهم، فلماذا لا يدينون بدين العارفين بالله تعالى وأقطاب دينه وأهل سره؟ تبًّا لمن يبيع دينه ووجدانه بالأماني الوهمية، وويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.

مقدمة كتاب الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة كتاب الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية [*] بسم الله الرحمن الرحيم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 103-105) . تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ولا ينكب عن نهجها ويرغب عن هديها إلا القوم الضالون. {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الجاثية: 6-8) . هذا خطاب الله تعالى لنا في كتابه المعصوم، وهو الإمام الحق الهادي إلى سواء السبيل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، أمرنا بالاعتصام بحبله المتين، ونهانا عن تفرق الكلمة واختلاف الوجهة، وامتن علينا بتأليف القلوب والاتحاد في سبيل الحق حتى أصبحت رابطتنا الملية كالعصبية الجنسية، وأفراد أبناء الملة باجتماعهم واتحادهم الديني كالإخوة في القرابة النسبية، الذين يرجعون إلى أصل واحد يعرفونه ولا ينكره منهم أحد. وأنذرنا بأن المتفرقين عن الحق والمختلفين فيه بعد مجيء البينات وتبيين الآيات، هم الذين يمسهم العذاب العظيم، وأكد لنا النهي بتكريره لكيلا نكون كالفريق المتفرق فيجري علينا حكم سنته العادلة وحكمته البالغة، هذا بعد ما نبهنا على أنه ما بين لنا ذلك إلا رجاء اهتدائنا بالتمسك بهديه والاعتصام بحبله، وفرض علينا القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لئلا يجهل أحد منا ما أمر الله به ونهى عنه، فينبذ الطاعة ويشذ عن الجماعة، فيسقط في مهاوي الهلكة، وتفترسه الذئاب العادية، ويكون عبرة للمعتبرين. لقد صدقنا الله تعالى وعده ووعيده، وظهر فينا تأويل كتابه، ونفذ في أبناء ملتنا حكم سنته في أهل الشقاق والافتراق، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. كانوا من عهد نبيهم (عليه الصلاة والسلام) والخلفاء الراشدين المهديين من بعده متمسكين بكتاب الله المبين، ومعتصمين بحبله المتين، كلمتهم واحدة، ووجهتهم متفقة، فافتتحوا الفتوحات، ونشروا لواء العدل، واتسع سلطان ملكهم بما أزالوا من سلطة الفرس والرومان وغيرهما، حتى كان في أواخر مدة الخلافة الراشدة ما كان من الاختلاف والافتراق، أثار ما أثار مما لا يخفى على أولي الأبصار، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم لما سكنت الزعازع، وسكت المنازَع للمنازِع، وخضع المسلمون لأمير واحد، انشعب صدعهم واندمل جرحهم وتنبهوا لمصالحهم وتيقظوا للقيام بشؤونهم، فاندفعوا كالسيل يتسابقون لاكتساب الكمال وإدراك المجد المؤثل، فتغلبوا على الممالك، وتوسعوا في مجال الفنون من العلوم والصنائع، وأظهر الله تعالى دينهم على الدين كله، حتى دخل فيه في أقل من قرن واحد أكثر من مائة ألف نفس من غير حرب ولا كفاح، وافتتحوا في نحو ثمانين سنة زيادة عما افتتحه الرومانيون في ثمانمائة سنة، فامتد ملكهم من القاموس الأتلاتنيك من جهة المغرب، إلى تونكين الصينية في أطراف المشرق، ودام لهم هذا السلطان باتفاقهم وتضافرهم إلى أمد ليس بقريب، وهم في خفض من العيش ورغد من الحياة، لا يضارعهم في ذلك مضارع، ولا ينازعهم فيه منازع، ثم لما تعددت فيهم الأمراء، وانقسم ملكهم إلى عدة ممالك، كل مملكة تستقل تحت رياسة سلطان، وذهلوا عن مخالفة ذلك لأصول دينهم الراسخة جذورها في تربة الحكمة الطيبة، الضاربة فروعها في سماء المجد والعزة، وإنما بمراعاتها جنوا ما جنوه من ثمرات السعادة - انظر ماذا آل إليه أمرهم، لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون بينهم، حتى تناكرت الوجوه، وتقلبت القلوب، واختلفت رغائب الأمراء، وعكف كل على شأن نفسه يعمل لها لا للأمة، فصار نهارهم ليلاً ووزنهم كيلاً، فنزلت بهم المصائب، وانتابتهم النوائب، فمزقت بمخالبها أديمهم، ومضغت بأنيابها لحومهم، وصاروا سلفًا ومثلاً للآخرين. فلو راجعت تاريخهم واستقريت أنباءهم ورأيت كيف عاث في بلادهم جنكيز خان التتاري وأحفاده، وكيف فتك بهم تيمور لنك وأضرابه، ثم كيف فاض عليهم طوفان أوروبا في الحروب الصليبية، وسمعت صدى أصوات نسائهم منعكسًا عن صفحات الكتب تدعو بالويل والثبور لهتك الستور وعظائم الأمور - لفاضت عيناك حزنًا، وتمزق فؤادك أسى وشجنًا. ثم ارجع البصر كرتين نحو غربي بلادهم وشرقيها، وتأمل ما حل بهم في الأندلس، واسحب أشعة نظرك على ما نزل بغيرها من بلادهم، حتى تنتهي إلى البلاد الهندية والمماليك التيمورية، التى تغلبت عليها الأمة البريطانية، ولعلك قد شاهدت أو حدثك من شاهد ما رزءوا به بعد ذلك من جور المتغلبين، وطمع الطامعين، ولا تزال الفتنة ترمي في بلادهم بشرر كالقصر، وكادت تعم كل بادية ومصر. ولا أرى عاقلاً يرتاب في أن كل ذلك نتيجة تفرقهم واختلافهم وتشتت أهوائهم، وهو ما حذرهم الله غايته، وأنذرهم مغبته، فتماروا بالنذر، فأخذهم الله بذنوبهم، وما كان لهم من الله من واق، وما ربك بظلام للعبيد. ولا رجاء في الأمن على ما بقي لهم - فضلاً عن استرجاع ما سلب منهم - إلا أن يتحدوا جميعاً تحت لواء الخلافة، ويكونوا كجسم واحد: إذا تألم له عضو تداعى له سائر الجسد، وكالبنيان يشد بعضه بعضًا، كما جاء في هدي صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم. إن الدين الإسلامي كان أول ظهوره في الأمه العربية، وهى أشد الأمم تعصبًا للجنس وتحزبًا له، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وانتزع من قلوبهم حمية الجاهلية، وامتلخ من نفوسهم التعصب للجنس والمشرب، ومن كلام صاحب النبوة عليه السلام (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية) حتى لم يبق للآخذين بهذا الدين عصبية في غير دينهم، وسواء في ذلك العربي والعجمي، ألم تر أن الوالد كان يقتل ولده لأجل الدين ولا تصده عن الفتك به رحمة الأبوة، والولد يقتل أباه ولا تمنعه من سفك دمه حرمة الوالدية، نعم، إنهم كانوا يقفون في تعصبهم موقف الاعتدال ولا يتعدون - ولا سيما في حال السلم - حدود الفضيلة والكمال، كما ترشد إليه آداب الشريعة. ولم يرسخ في نفوس المسلمين في أوائل نشأتهم خلق إلا ما كان مستنداً إلى أمر ديني، ولم تجتمع كلمتهم للقيام بشأن من الشؤون إلا أن يكون عن باعث الدين. ثم لما افترق المسلمون شيعًا، وانقسموا في الأصول إلى عدة مذاهب، وكان كل يدعو إلى مذهبه عن وازع الدين، كان لهذا الاختلاف اليد الطائلة في تفرق الكلمة وفساد بعض الملوك والأمراء، وكان لذلك من سوء العاقبة ما لا يجهله من نظر في دواوين المؤرخين وأسفار الأخبار، وهذا من أوضح الشواهد وأبين الآيات على أن الحق في الأصول لا يتعدد، وأن المصيب واحد، ومن عداه كافر أو مبتدع، وأن اختلاف المذاهب تفرق في الدين، والله تعالى يقول {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) فالدين يدعو إلى الاجتماع والتوحيد، والتمذهب يدعو إلى الفرقة والتبديد، فهو ضد الدين وأثره مناقض لأثره. ومن مقومات سعادة هذه الأمة أن يجتمع علماء المذاهب والفرق، لا سيما الفرقتان العظيمتان: أهل السنة والشيعة، ويفرغوا وسعهم لإدالة الحلاف من الخلاف، واستبدال الوفاق بالشقاق، ومتى جعلوا غرضهم الحق، ورائدهم الإنصاف اهتدوا إلى الصراط المستقيم. إن الخلاف في الأصول زعزع أركان الإسلام، بخلاف اختلاف الأئمة المجتهدين في الفروع، ولا سيما في المعاملات والأحكام القضائية التي يحكم فيها العرف وتختلف باختلاف الزمان، فإنه قد يتعدد الحق فيها، ويمكن أن يكون القولان المختلفان ولو في النفي والإثبات مشروعين، وكل منهما حق في الواقع، وإنما اختلافهما لاختلاف الأزمنة أو الأمكنة أو الأشخاص، ذهب إلى ذلك بعض الأصوليين، وكاد يطبق عليه أهل الكشف والشهود، وفيه ألف العارف الشعراني كتاب (الميزان) الشهير، الذي تلقته علماء الأمة بالقبول، وقد نسب الإمام النووي القول بأن كل مجتهد مصيب، إلى جمهور المحققين (كما في شرح مسلم) . ألم تر أن اختلاف أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد لم يثر في الملة نزاعًا يذكر، ولم يضرم نارًا بوقود الفتن تتسعر، ولم يكن من أثره إلا منافسات شخصية بين بعض أرباب الظهور من علماء الرسوم والقشور، عندما بعد عهد الأئمة وطال الأمد على أتباعهم، ففسق الكثير عن هديهم وانحرف بهم السبيل عن سيرتهم، أما اختلاف الخوارج والمعتزلة والشيعة وأهل السنة بعضهم مع بعض، فقد كان من أهواله وسوء مآله ما أشاب النواصي، وانقضت له شوامخ الصياصي. إن أولى الاختلاف بعدم إثارة النزاع وإضرام نار الفساد: اختلاف مناهج شيوخ الطرق والمسلكين في كيفية الدلالة على رب العالمين، بل لا يجدر بنا أن نسمي التفنن في وسائل الهداية اختلافًا، إذ لا اختلاف في الحقيقة كما أشار إليه قائلهم: عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك المقام يشير وقال سيدي عمر بن الفارض مشيراً إلى ذلك: فكم بين حذاق الجدال تنازع ... وما بين عشاق الجمال تنازع أولئك القوم لا مثار في طريقهم للبغضاء، ولا مبعث للشحناء، ولا مهب لرياح الأهواء، أولئك القوم لا مواقد في منهاجهم تضرم فيها نيران الفتن، ولا مجال تتراكض فيه خيول الإحن والمحن، أولئك القوم لا سعة في سبيلهم للتقاذف والتنابز، ولا فسحة للتقاطع والتدابر، قوم قاموا بخدمة مولاهم، وأخلصوا له في سرهم ونجواهم، {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 23) {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} (مريم: 59) اغتروا بآداب الناس مع القوم وتسليم أحوالهم إليهم، وإن أشكل ظاهرها وساء مشهدها، فخلطوا في الطريق ما ليس منه، وهم مخالفون في السيرة والسريرة لمن يدعون اتباعهم، ويزعمون انتحال نحلتهم، وانتحاء مناحيهم، ويحتجون على ناصحهم بألفاظ يقولونها وكلمات يلوكونها، يشبهون فيها الظُلمة بالضياء، ويشتبه عليهم الغرور بالرجاء، {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْ

التعصب ـ 3

الكاتب: محيي الدين الخياط

_ التعصب لحضرة الكاتب الشاعر صاحب الإمضاء من تأمل بعين البصيرة في سير الأمم والشعوب، والقبائل والبطون، والحلل والأسر، وما يستتبع ذلك من العز والذل، والرفعة والسقوط، والحياة والممات علم أن قائد الجميع ومدبر الكل والمحور الذي تدور عليه، والروح الذي يبعثها من العدم ويجعلها في مصاف الأمم هو (التعصب) ، وما أدراك ما التعصب؟ لعل القارئ لأول وهلة يستغرب ذلك أشد الاستغراب، حيث إن تلك اللفظة صورتها بعض الأمم - التي ما قامت لها قائمة إلا بها - بحيوان هائل المنظر، ناشب الأظفار يبطش بكل من خالفه من بني الإنسان، وما ذلك التصوير إلا لمآرب وغايات، سوف تتضح لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. ليسمح القارئ أولاً بتعريف تلك اللفظة، ثم ليتدبر ما نشأ عنها وعن تركها من رفعة الأمم وانحطاطها وعزها وذلها: التعصب رابطة تربط القلوب المتفرقة، والآراء المتشتتة، والأهواء المتباينة والوشائج المتقطعة، إلى أرومة واحدة، تسقى بماء واحد في صعيد واحد. التعصب به حياة الأمم الميتة، وسعادة الشعوب المضطهدة، ولولاه ما قامت قائمة لأمة من الأمم، ولا حفظ استقلال لشعب من الشعوب أو جنس من الأجناس. تأمل بالأسفار من لدن آدم عليه السلام، ترى ما قامت دعوة نبي من الأنبياء إلا إذا تعصب له من قومه من أدرك كنه الدعوى وذب عن حوزتها، وإلا كان عرضة لأذاهم وعبثهم بما أتى به، كما جرى لكثير من الأنبياء. إن الإنسان لا يعيش منفردًا، فهو اجتماعي طبيعة، تأمل لمَ لم يكن الكون تحت سطلة واحدة، لمَ لم تدخل إنكلترا تحت حوزة روسيا، أو لم يكن الأمر بالعكس؟ لمَ شعوب البلقان وما جاورها من العناصر دائمًا في نزاع؟ لم لم إلخ. لم لم تكن الأديان وما يتفرع عنها من المذاهب واحدة؟ لمَ لم يجتمع أصحابها إلى دين واحد ومذهب واحد؟ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (هود: 118) ولكن.. أما - وسر الاختلاف، وما نشأ عنه من الحِكم التي تحار فيها العقول - ما فرق تلك الدول عن بعضها البعض (مع أنها من دين واحد كما تزعم) إلا التعصب لجنسيتها، والتحيز لقبيلها وبالأولى لمذهبها، تأمل بما وصل إليه الرومانيون، والفينيقيون والعرب الأندلسيون والمصريون وسواهم، بل وبما وصلت إليه أوروبا الآن من العلوم، وما يتبعها من القوة والمنعة، هل كان ذلك بالانفراد، أو بالعصبية الجامعة للأفراد؟ . تأمل بماذا جرّت الحرب على بني الإنسان، هل باعث لذلك سوى التعصب للطمع أو للاستيلاء أو لإهانة لحقت أو لدين من الأديان؟ تأمل بماذا نشبت حروب القرون الوسطى، هل سبب لذلك سوى تعصب دين .... على دين.... . تأمل بماذا اتفقت أوروبا على روسيا في حرب القريم، وعلى الدولة العثمانية في جملة مواقع أقربها حرب الروسيا الأخيرة وما تلاها من مؤتمر برلين ... تأمل بماذا أغرت بعض الدول الأرمن والدروز والكريديين على العصيان، واليونان على احتلال كريد بعد إعطائها الامتياز وتعيين المسيحي (جرجي باشا) وتنظيم الضابطة من طرف أوروبا، وما نتج عن ذلك من الحرب العثمانية اليونانية، وتعصب الدول على عدم إنالة الفاتح أرضاً كانت له! ! إلى غير ذلك في كون أن الدول ابتلعت جملة أراضي من الفاتح وغيره بمجرد وضع اليد أو الاغتصاب، لا بإراقة دماء واستنزاف أموال. تأمل لمَ لم تُحَلَّ إلى الآن مسألة كريد، وحبل ثائريها متروك على غاربهم؟ تأمل لمَ بعض الدول متشبثة بتعيين من حورب أبوه لأجلها؟ تأمل لمَ لم تترك صاحبة الملك تفعل ما تريده من إعادة النظام عليها؟ تأمل لمَ لم تترك تبدل عسكرها كما بدل غيرها، كأن عسكرها ليسوا من الإنسان وليس لهم أهل تتفتت أكبادهم لرؤياهم!! سبحانك اللهم إن هذا بهتان وظلم عظيم، بل هو ليس من التعصب في شيء. تأمل لمَ إذا أرادت عمل شيء يعود عليها بالفائدة نصبت لها أوروبا العراقيل ورمتها بالتعصب، ولا ترمي نفسها! . تأمل لمَ نشبت الحرب بين أمريكا وأسبانيا الآن، ولم أوروبا تقريباً متألبة على أمريكا. تأمل لمَ اتفقت أوروبا على اليابان في حربها مع الصين، ولمَ اتفقت الآن على ابتلاع الصين بطرق لم نسمع مثلها في آبائنا الأولين؟ تأمل لمَ علائق روسيا وإنكلترا الآن على غير ما يرام؟ . تأمل لمً إنكلترا طامحة بنظرها إلى ابتلاع السودان، ومجردة عليه من جيوش التمدن لا التعصب براكين النيران؟ . تأمل لمَ كانت الجرائد الأوروبية وغيرها مختلفة النزعات متباينة المشارب، وكل يوم تنشب بينها الحروب القلمية بمقذوفات الأفكار وسهامها، لا بمقذوفات المدافع ونيرانها، كل يدافع عن أهوائه، ويدعي العصمة لآرائه: هذه لسان حال البرنس فلان، وهذه لسان اللورد فلان، وهذه للمحافظين، وهذه للأحرار، وهذه للاشتراكيين، وهذه للعملة، وهذه للأسرة المالكة وهذه وهذه إلخ. أقول والصدق خير ما يقال: حبذا حبذا زمن التعصب، حبذا حبذا تلك الأيام التي مرت كأنها أحلام، أيام كنا والقول قولنا، والقوة قوتنا، والأمر والنهي بيدنا، ومع ذلك لم نعبث بما كان تحت سلطتنا مما يخالف ديننا، ولم نتألب عليه، بل عاملناه بمقتضى الشرع الذي يأمر بالعدل والإحسان لجميع بني الإنسان (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وكم حملت دولتنا من ملوك الدول المتألبة علينا الآن ما لا نطيل بذكره فانتثر بهذا الوقت عقد {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) سنة الله في الخلق {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) ، نثرنا ذلك العقد حتى لا يرمى منا أحد بالتعصب، الذي به قوام الجامعة الدينية، الدنيوية فصدقت علينا هذه الجملة (تركنا الدنيا والدين حتى لا ندعى متعصبين) . أما - وسر التعصب وما به من الاتحاد - إن أوروبا ما خلقت لنا تلك اللفظة وصورتها لنا بغير صورتها الحقيقة ورمتنا بها إلا لتفريق شملنا وتبديد كلمتنا وتمزيق قوتنا وحل رابطتنا الدينية، لتقوى على أخذنا بسهولة، مما يعلم ذلك كله الخبير، وفي هذا القدر كفاية، ولعلني أغتنم الفرص وأحدث بما يخطر لي من هذا القبيل والله الموفق. ... ... ... ... ... ... ... ... (محيي الدين الخياط) (المنار) إن كلام الكاتب الفاضل في التعصب المطلق، فيدخل فيه الديني والجنسي، وقد ذكر من آثاره ما هو مذموم وما هو ممدوح، يحتج ببعض ذلك على منفعة التعصب، وببعضه على تلبس أوروبا به على إطلاقه، ومزج القول في ذلك مزجاً، وما يؤخذ عليه فيه من جماهير علماء الدين قوله: إن دعوة الأنبياء ما قامت إلا بالتعصب، وقد تبع في ذلك الحكيم الإسلامي ابن خلدون، والجماهير يقولون: إن الدعوة قامت بالتأييد الإلهي، وإنما الفتوحات التي اتسعت بها سلطة الدين هي التي قامت بالعصبية كما تقتضيه طبيعة الملك، ولعلنا نبسط الكلام في هذا الموضوع في فرصة أخرى، والله الموفق وبه المستعان.

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد (مثال للفرق بين أمة تحيا وأخرى تموت) كتبنا منذ أيام بضعة سطور في محليات المؤيد اشتملت على مثال يوضح الفرق بين حالتي التعلم عند مسلمي ومسيحيي مصر، قياسًا على إحصاء مدارس وتلامذة الفريقين في مدينة أسيوط أكبر مدن الصعيد. والآن نريد أن نقدم مثالاً من هذا القبيل أكبر من ذلك، يوضح الفرق بين حالة الأمة المصرية بحذافيرها، وحالة أمة أخرى في ولاية ممتازة بين ولايات الدولة العلية، قد منحت منذ عشرين سنة الاستقلال الإداري الذي منحته مصر منذ ستين سنة وأكثر، ليرى القراء كيف تحيا أمة بإزاء أمة تموت. ونعني بتلك الولاية الشبيهة بولاية مصر في الامتيازات وإن كانت أحدث منها عهدًا في الاستقلال الإداري: ولاية بلغاريا التي تجدُّ السير في طريق الحضارة والترقي بواسطة تحصيل العلوم، وهي الواسطة الوحيدة التي بها حياة الأمم وسعادتها. ففي صوفيا (عاصمة بلغاريا) كلية جامعة مؤلفة من ثلاث مدارس عليا، إحداهن تاريخية فلسفية، والثانية طبيعية رياضية، والثالثة حقوقية. وفي الولاية 150 مدرسة للتعليم الثانوي (التجهيزى) منها 85 للطلاب الذكور و44 للبنات و14 للفريقين معًا، وست مدارس للمعلمين وواحدة حربية. وأما المدارس الابتدائية في الولاية فعددها 4481 مدرسة، تنقسم كما يأتي: 3079 مدرسة بلغارية أرثوذوكسية، و19 بلغارية كاثوليكية، و 8 بلغارية بروتستانية، و 25 بلغارية إسلامية، و1243 تركية، و16 تاتارية، و29 يونانية، و13 أرمنية، و27 إسرائيلية، و4 كاثوليكية، و3 فرنساوية، و2 رومانية، وواحدة ألمانية، وواحدة روسية. وتدفع الحكومة ثلثي نفقات 3079 مدرسة من هذه المدارس وهي المدارس البلغارية الأرثوذوكسية. أما الثلث الباقي من نفقات تلك المدارس الوطنية الملية فتقوم به مجالس البلديات في الولاية، وأما بقية المدارس التي للمسلمين وغيرهم من المذاهب الأخرى وعددها 1402 مدرسة، فعلى نفقة أصحابها ومؤسسيها. وميزانية المعارف العمومية في الحكومة البلغارية مقدرة بمبلغ 9188560 فرنكاً (عبارة عن 367542 جنيهًا إنكليزيًّا) . وبما أن عدد سكان هذه الإمارة حسب إحصاء سنة 1893 يبلغ 3309816 نسمة، فيكون مثل هذه الأمة عنوان أمة تسير في طريق الحياة الحقيقية بعد أن عرفت كيف تحيا وتسعد. وإذا ذكرنا تلقاء ما تقدم أن الأمة المصرية يبلغ عددها عشرة ملايين إلا ربعًا، أي نحو ثلاثة أمثال عدد بلغاريا إلا قليلاً، وأن كل ما فيها من المدارس التجهيزية اثنتان ونصف بدل 150، وأن كل ما تنفق الحكومة عليها نحو 115 ألف جنيه بما في ذلك ما تتناوله نظارة المعارف من ديوان الأوقاف وغلة أرض موقوفة، وأن أكثر هذه الميزانية ضائع على ثمن أدوات وكتب غير نافعة تستورد من أوروبا، ومرتبات باهظة لأساتذة أكثرهم يجهل ما هو منوط بتعليمه، وأن عدد المدارس صائر - فضلاً عن ذلك - من الكثرة إلى القلة - بينَّا كيف يكون تقهقر الأمم ومصيرها في خمود حركتها إلى الموت والفناء. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المؤيد) ... *** (محاولة قتل الملوك منذ خمسين عامًا) في شهر يونيو عام 1848 حاول شقي قتل البرنس دي بروس في لندن، وذلك قبل أن يتولى عرش الإمبراطورية الألمانية. وفي سنة 1849 حاول هاملتون قتل الملكة فيكتوريا، وفي شهر مايو عام 1850 ضرب رجل اسمه روبرت بهات الملكة فيكتوريا بعصاه وهي خارجة من قصر الدوق دي كمبردج. وفى 22 مايو عام 1851 حاول فوضوى قتل فردريك غليوم في واتذر. وفي 2 فبراير عام 1852 طعن رجل اسمه مارتين مارتينوس الملكة إيزابل وهي تصلي في كاتدرائية مدريد. وفي عام 1852 حاول ضابط إنكليزى قتل الملكة فيكتوريا، وفي تلك السنة دبرت مكيدة لقتل الإمبراطور نابليون الثالث وهو ذاهب إلى مرسيليا. وفي 13 فبراير عام 1853 طعن خياط نمساوي اسمه لابريت الإمبراطور فرنسوا جوزيف بمُدية وهو سائر في فيينا. وفي تلك السنة حاول طلياني قتل الملك فيكتور عمانوئيل والد الملك أمبرتو، وحاول فوضوي قتل الإمبراطور نابليون الثالث تجاه الأوبرا. وفي 27 مارس عام 1853 حاول رجل قتل الملك شارل الثالث في بارم. وفي شهر أبريل عام 1855 أطلق ثوروي مسدسه على نابليون الثالث وهو خارج للنزهة في شان اليزه. وفي 8 سبتمبر عام 1856 حاول فوضوي قتل نابليون في بللامار. وفي 28 مايو عام 1856 قبض البوليس على رجل يتحفز لطعن الملكة إيزابل. وفي 8 ديسمبر عام 1857 طعن جندي الملك فردينند ملك نابل بحربة بندقيته. وفي 4 يونيو عام 1858 حاول أورشيني قتل نابليون. وفي شهر يوليو عام 1861 أطلق أحد طلبة العلم في باد عيارين ناريين على ملك بروسيا غليوم ولم يصبه. وفي عام 1862 أطلق طالب عيارًا ناريًّا على ملك اليونان فأخطأه. وفي 24 ديسمبر عام 1863 حاول رجل قتل نابليون الثالث. وفي 6 أبريل عام 1866 حاول رجل اسمه كارا كوزوف قتل القيصر إسكندر في بطرسبرج، وفي شهر يونيو من السنة ذاتها أطلق برزووسكي عيارًا ناريًّا على القيصر في باريز فأخطأه. وفي سنة 1868 قُتل البرنس ميشال ولي عهد الصرب. وفي سنة 1869 حاول شقي قتل الخديوي. وفي سنة 1869 حاول شقي قتل نابليون وهو خارج للنزهة في غابة بولونيا. وعام 1869 حاول فوضوي قتل الملكة فيكتوريا. وفي عام 1871 كيد الشر للملك أميديه صاحب أسبانيا. وفي 11 مايو عام 1888 أراد المسمى هوديل قتل الإمبراطور غليوم الأول، وفي 2 يونيو من السنة ذاتها أطلق بيلنغ عيارين ناريين على الإمبراطور غليوم فأصابه. وفي 25 أكتوبر عام 1878 أطلق مونكازي على ملك أسبانيا مسدسه. وفي 17 نوفمبر عام 1878 استل باسانتلي مُدْيته وأغار على الملك همبرتو ليطعنه. وفي 14 أبريل عام 1889 هجم سولوييف على إسكندر الثالث ليقتله، وفي اليوم ذاته أغار شاب على البرنس ميلان (الملك ميلان) ليقتله. وفي ديسمبر عام 1889 تآمر النهلستيون على نسف قطار القيصر. وفي 30 ديسمبر عام 1879 حاول فرنسيسكو أوتيرو قتل ملك أسبانيا والملكة قرينته. وفي 17 فبراير عام 1880 أُلهب الديناميت في قصر القيصر في بطرسبرج وفي 13 مارس من عام 1880 طُعن القيصر إسكندر الثاني فتوفي على إثر جراحه. وفي 2 يوليو عام 1881 أطلق رجل اسمه غيتو عيارين ناريين على الجنرال غارفيليد رئيس جمهورية الولايات المتحدة، فأصابه وتوفي الجنرال من جراحه. وفي شهر مارس عام 1882 أطلق رودريك عياراً ناريًّا على الملكة فيكتوريا فلم يصبها. وفي 24 يونيو عام 1894 قتل كازيريو المسيو سادي كارنو رئيس جمهورية فرنسا في ليون. وفي أبريل عام 1897 هوجم الملك همبرتو. وفي 8 أغسطس عام 1897 قتل المسيو كانوفاس. وفي 10 سبتمبر الجاري عام 1898 قتلت إمبراطورة النمسا في جنفا، فتكون هذه الإمبراطورة هي الملكة الوحيدة التي فتكت بها يد الفوضوية؛ لأنها لم تكن تصدق بأن شقيًّا كقاتلها ينظر إليها بسوء، وهي أم كل فقير وأخت كل فاعل وعامل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الأخبار) *** (حرية الأديان في الدولة العلية) جاء في جريدة محمدان الهندية ما ترجمته: حصلت مشاحنة في سالونيك بأراضي الدولة العلية بين جماعة من اليهود الأسبانيين وبين جماعة من البرغال، فأتى الأتراك في الحال إلى محل الواقعة وانتصروا لليهود، حيث كان الحق في جانبهم، وهذه المشاغبة كانت ناشئة من أحقاد سيئة بين الفريقين من زمن مديد. وقد نُشرت هذه الحادثة على إثر ذلك في أعمدة جريدة (جويش كرونكل) وليس من الضروري أن نأتي على نصها، لكنه يهمنا أن نقتطف منها ما له علاقة بالدولة العلية من حيث الأديان وهو: (لا يوجد بلد واحد في أوروبا على وجه الإجمال يتمتع فيه اليهود بنعمة الحرية الدينية التامة كما يتمتعون بها في أرض الدولة العلية، ولا يمكن أن يجدوا من الارتياح وحسن المعاشرة كما يجدون في ظل الحكومة العثمانية، فحكومة السلطان - والحق يقال - ساهرة على راحتهم، ولديهم الأدلة القاطعة على ذلك، خصوصاً أيام الحرب العثمانية اليونانية الأخيرة) اهـ. نقلاً عن (جويش كرونكل) الرائد الإسرائيلي الصادر في 10 يونيو سنة 1898. *** (إنكلترا وفرنسا في السودان) أرسل سعادة السردار بعد فتح أم درمان والاستيلاء على الخرطوم سرية بحرية مؤلفة من المدفعيات النيلية التي لديه، وأمَّر عليها هنتر باشا وسيرها في النيل الأزرق لاحتلال القضارف وقتال أحمد الفضيل. وسار السردار نفسه بسرية مؤلفة من فرقة (أورطة) سودانية ومائة جندي إنكليزي، والمدفعية التي خصصها لذلك لأجل الاستيلاء على فشوده وإخراج مرشان الفرنسوي وسريته منها. أما السرية الأولى فقد استولت على القضارف، وهي بلاد خصبة بالقرب من بلاد الحبشة، وكان أشيع أن الأحباش احتلوها مدعين أنها لهم، ولذلك كان السردار أصدر أمره لبرسونز باشا محافظ سواكن بأن يرسل حامية كسلا لمساعدة السرية والقضارف في جنوبي كسلا، وقد حصل بين المصريين والدراويش معركة قتل فيها من الأولين أحد عشر جنديًّا وجرح اثنان وثمانون، وقتل من الآخرين خمسمائة درويش. وأما السردار وسريته فقد وصلوا إلى فشودة، وطلب من مرشان الفرنسوي أن يأتي القطر المصري - قيل: أو أم درمان - فأجابه بأنه احتل فشوده باسم الحكومة الفرنساوية فلا يغادرها إلا بأمر منها. فأنشأ السردار في الحال موقعًا عسكريًّا في جانب فشودة، ورفع عليه الرايتين الإنكليزية والمصرية ورجع أدراجه، وظهر للناس أن إرجاف الجرائد الإنكليزية وزعمها بأن السردار يخرج مرشان من فشوده طوعاً أو كرهاً من تغريرها وإيهامها المعهود مثله من الإنكليز، ثم إنهم يفعلون ذلك مع المستضعفين. تخفق الآن في جو فشودة ثلاث رايات: راية شرعية وهي المصرية العثمانية وأخريان طامعتان وهما: الفرنساوية والإنكليزية، واجتماعهما هو الذي فتح باب المسألة السودانية، بل والمصرية، كما صرحت بمقتضي ذلك الجرائد الفرنساوية من قبل، فإن تم الفلج لبريطانيا وألقيت إليها مقاليد مصر والسودان وأقرت على السيادة على وادي النيل كله، تتحقق أماني سسل رود، وتعلو إنكلترا على أوروبا كلها علوًّا كبيرًا، يصح أن يقال فيه: لبريطانيا العظمى الحياة السعيدة والعز والرفعة ولأوروبا الصغرى الغباوة والبلادة، ولفرنسا الحقيرة الجهل والحمق والطيش والتعصب الأعمى، ولتركيا المظلومة السقوط من عداد الدول، بل ما هو أعظم، والعياذ بالله تعالى.

الاتحاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاتحاد [*] ملخص خطاب كان ألقاه منشئ هذه الجريدة (المجلة) في منتدى حافل بعلماء طرابلس الشام وحكامها ووجوهها أيام كان فيها لمناسبة اقتضت ذلك. {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) . الاتحاد والالتئام حياة للهيئة الاجتماعية، بها قوامها ومحور لسعادتها الصورية والمعنوية، عليه مدارها. الاتحاد والالتئام في الأمة كالفصل المقوم في الهيئة النوعية، فمن شذ عن الاتحاد من أفراد الأمة يعد خارجًا منها، وينبغي أن يحرم من حقوقها، كما أن فاقد القوة الناطقة من آحاد النوع الإنساني يعد منسلاًّ من الإنسانية لاحقًا بالعجماوات. الاتحاد والالتئام في المجتمع الإنساني كالجذب والانجذاب في العالم العنصري من حيث التكوين والانتظام، أما الأول فكما أن الله تعالى فتق رتق الهباء الأول بناموس الجاذبية العامة، وسوى منه الأجرام السماوية والكرة الأرضية - ولولا ذلك لكانت هباء منبثًّا- كذلك يؤلف الله تعالى الأمم والدول بناموس الاتحاد والالتئام العام، ولولا ذلك لسعى كل شخص في محيط نفسه، فلا يكون إلا هنيهة حتى تنقرض الأمة ويمحى اسمها من لوح الوجود، وبمقتضى هذا الناموس يفهم سر {مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: 32) . ويجدر أن يسمى العامل - أي عمل ينفع الناس - خادم الإنسانية، والجاني على أي فرد من أفرادهم جانيًا على الآدمية، وبهذا الاعتبار يتبين أن العالم والحاكم والزارع والصانع والتاجر والناظر كلهم أكفاء، وفي درجة واحدة، وإن كانوا يتفاضلون باعتبار آخر. وأما الثاني فكما أنه بمقتضى الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحفظت النسبة بينه وبين سائر الكواكب بتقدير العليم الحكيم، كذلك بمقتضى الاتحاد والالتئام يقوم كل فرد من أفراد الأمة بالعمل الذي يحسنه، ويحفظ النسبة بينه وبين سائر أفراد الأمة من الحقوق والواجبات التي تأمر بها الشريعة العادلة {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) فلو نُزع روح الاتحاد والالتئام من نفوس الناس لرزءوا باختصام واصطدام، كما تتصادم أجرام الكواكب، لو فقد منها الارتباط الإلهي المعبر عنه بالجاذبية لظلوا في مباغضة ومناصبة، ومناهضة ومواثبة، حتى يأذن الله تعالى بانقراضهم وما ذلك من الظالمين ببعيد. فضيلة الاتحاد والالتئام والوفاق والوئام، هي أقدس السجايا وأنفس المزايا، رغيبة تنبعث عن المحبة والألفة، وتبعث على القيام بالمصالح العامة، مع الاتصاف بالأخلاق الفاضلة، وتلك غاية الغايات المشار إليها بحديث (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) . لا جرم أن صدق المحبة والألفة للناس الكافل لحصول الغرض المطلوب، لا يتأتى إلا بعد شعور المرء بأن مجموع الأمة كالشخص الواحد، وأن كل صنف من أصناف العاملين فيها كعضو رئيسي في البنية الشخصية وأن تفاوت الأصناف في المظاهر والرتب في النظر العام، لا يخرجهم عن كونهم أكفاء متساوين في المزية تجاه الهيئة الاجتماعية، كما أن تفاوت الأعضاء الوضعي في تركيب البنية لا يوجب تفضيل العينين على القدمين بالنسبة للمصالح الشخصية، لعلو تينك وتسفل هاتين؛ لأن الكمال الاجتماعي والشخصي وإبراز مزاياهما متوقف على كلا الأمرين على السواء. ولا التفات لأهل البطالة المتكبرين بالأوهام، حيث يحتقرون الصناع والزراع، فإنما مثل الفريقين كالأعمى والأصم والسميع والبصير، والنسبة بينهما كالنسبة بين الأيدي والأرجل، وبين زوائد الأظافر والشعور لو كانوا يعقلون. لست أعني بالشعور بما تقدم أن يمر في التصور أو يقع في الذهن، فإن ذلك لا يغني شيئاً، وإنما أعني أن يكون أمرًا وجدانيًّا، وملكة نفسانية راسخة في النفس تزعج المرء على العمل، وتنكب به على مزالق الزلل، ولا وسيلة لهذا إلا التربية العملية، والتهذيب على أصول الحكمة الدينية العقلية، بنشر المعارف الصحيحة بين جميع طبقات الأمة، وتلقينها للأحداث من الذكران والإناث، ونقشها في ألواح نفوسهم من أول النشأة، لتثبت فيها ملكات الفضائل، وتقف بحب الذات الذي هو علة العلل للشقاء موقف الاعتدال، فيسلكون في أعمالهم مهيع العدل الذي هو مركز دائرة الكمال، ومدار فلك الفضيلة، ومبدأ السعادة الحقيقية بشهادة {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) . ولقائل أن يقول: إن العلم غير العمل كما أشرت، فتلقين الأحداث المعارف ليس كافلاً تهذيبهم، فلابد من مراعاة شيء آخر يساعد المعارف على التهذيب، ويمد التربية العملية وينميها، حتى تؤدي إلى الغاية المقصودة منها، فإننا نرى كثيرًا من الناس يعنون بتربية أولادهم ولا تنجع فيهم التربية، كما نرى الكثير من حملة العلم بعداء عن التهذيب، فما هو الأمر المساعد للتربية والتعليم على هداية الصراط المستقيم؟ والجواب: ذلك هو (التشبه والاقتداء) والكلام فيه طويل الذيل، متدفق السيل. وإنني أقتصر منه على كلمة تقتضيها الحال، وتعد الزيادة عليها من الإرغال [1] ، وهي أن الإنسان مولع بالاقتداء بالكبراء والعظماء ومحاكاتهم، فالحالة التي يكون عليها الأمراء الجالسون على منصات الأحكام، والشيوخ المتصدرون لإرشاد الأنام، لها تأثير عظيم في نفوس السواد، فإذا كان هؤلاء الرؤساء معتصمين بحبل الوفاق والوئام، أثرت حالتهم في المرءوسين أثرًا محمودًا، وتضاعف نفوذهم الحسي والروحي بالحق تضاعفًا مبينًا، وفي ذلك من التقدم الديني والمدني ما ينهض بالأوطان، ولا يرتاب فيه إلا العميان. (بقية الخطاب كلام خاص لا فائدة في نشره)

التشبه والاقتداء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التشبه والاقتداء يعلم الناظرون فيما نكتب أن التشبه بالأوروبيين في أزيائهم وعادهم قد جرى في الشرق جريان الدم في العروق، فأبناء الدنيا يرون في ذلك شرفًا ورفعة، والمنتصرون للدين يرونه ذنبًا وبدعة، وغلوا في ذلك حتى ذموا تقليد المخالف في كل شيء وإن كان نافعًا مفيدًا، ولكن لما كان الأمراء والكبراء يتفاخرون ويتبارون في التشبه بالإفرنج، وهم موضع إجلال الدهماء وتعظيمهم، صار سائر الناس يقلدهم في ذلك؛ لأن ناموس التقليد مطرد باحتذاء لهازم الناس وأدنائهم مِثال عليتهم وكبرائهم، وسرت العدوى في ذلك لبيوت العلماء ورجال الدين، وقد ذكرنا في كتابنا (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) جملة مسهبة في التقليد والتشبه، بينا حكمه من الجهة الدينية والسياسية، وإننا نذكر هنا نبذة منها تتعلق بأصول سياستنا لمناسبة ما مر وهي: إذا نظرنا إلى التقليد والتشبه من طرف السياسة تجلى لنا أن الصواب امتناع أمتنا عن التشبه أو التقليد لغيرها من الأمم في الأزياء والعاد، وكل ما لا فائدة فيه، لا سميا المناصبين والمحادين لنا، والانتداب لتقليدهم في كل ما يعود علينا بالمنفعة وعلى الخصوص المنافع التي تتعلق بالقوة على (الذب) والدفاع عن الحوزة، وبتوسيع دائرة الثروة، بأن نجتهد بمجاراتهم ومماراتهم، بل بمنافستهم ومسابقتهم إلى أصول المنافع ومقدماتها وأسبابها، لا أننا نقتصر على اجتلاب نتائج صنائعهم وأعمالهم، كالآلات الحربية والبوارج البحرية، إذ تقليدهم في النتائج باتخاذها منهم واحتذائهم فيها، لا يخرجنا عن كوننا عيالاً عليهم، ولا يُرْجَى أن ندانيهم ونقاربهم فضلاً عن أن نساهمهم ونحاذيهم، فضلاً عن أن نساميهم فنسموهم ونبذهم (نغلبهم) لا سيما ونحن الآن كما ترى هذاذيك بذاذيك، ولا كفران لله. وأما أخذ العلوم والفنون وأصول الصنائع عنهم فلا محذور وراءه، ولا محظور أمامه، ومن هي في أيديهم الآن من أهل المغرب أخذوها منا فهذبوا ونقحوا واستنبطوا، وكنا أخذناها من غيرنا فهذبناها ونقحنا، نعم لم نصل إلى مداهم وغايتهم التي انتهوا إليها الآن في استثمارها، واستدرار ضروع إنعامها، ولا نيأس من روح الله في السبق عند الكرة الأخرى {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) ولا التفات لسفهاء الأحلام، المستغرقين في أودية الأحلام حيث يغمزون الناظرين في تلك الفنون ويلمزونهم، ولا شبهة لهم إلا أن من تُنقل عنهم ليسوا من المسلمين. والخطب سهل، فقد روي عن النبي - صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم - أنه قال: (الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها) ورواه الترمذي عن أبي هريرة، ورواه العسكري عن أنس مرفوعًا بلفظ: (العلم ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها) وفي رواية عند القضاعي أنه قال آخر الحديث: (حيثما وجد المؤمن ضالة فليجعلها إليه) وروي عن ابن عمر (رضي الله عنه) موقوفًا عليه أنه قال: خُذِ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت. وفي نهج البلاغة أن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه قال: (خذ الحكمة أنَّى كانت، فهي الحكمة تكون في صدر المنافق، فتلجلج من صدره حتى تخرج، فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن) وقال أيضًا: (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق) واستدل بعض أهل العلم على مشروعية طلب العلم من أي طريق كان، بحديث (اطلبوا العلم ولو بالصين) ، في زمن لم يكن يسكن الصين فيه غير أصناف المجوس، والحديث أخرجه ابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان والمدخل وابن عبد البر في العلم والخطيب في الرحلة والديلمي في مسند الفردوس وغيرهم، وله طرق كثيرة يقوي بعضها بعضًا. ولا غرو فإن شرعاً أساسه الحكمة، ودعامته الفضيلة، وغايته سعادة الدارين والظفر بالحسنيين، يأمر بسلوك الجادة، وعدم الاستنكاف عن الاستفادة، وهذه كتب أعلام الملة في تفسير الكتاب الكريم وشرح الحديث الشريف والتصوف والأدب والتاريخ محشوة بكلام حكماء اليونان الذين نقلت علومهم إلى الأمة، وحكماء الفرس الذين خالط أمتهم العرب، وبحكايات أحوال عباد بني إسرائيل ورهبان النصارى ما استحسن منها (بل وما لم يستحسن لكنه لا حجة في هذا) . ولقد كان الشارع - صلى الله عليه وسلم - يعجبه كلام بعض المشركين ويعجب به وكثيرًا ما كان يستنشد شعر أمية بن أبي الصلت ويستزيد حتى أنشد مرة مائة قافية. أخرج مسلم عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: ردفت النبى صلى الله عليه وسلم فقال: (هل معك من شعر أمية شيء؟) قلت: نعم، قال: هيه، فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، حتى أنشدته مائة بيت، فقال: (إن كاد ليسلم) . ولو أردنا الإطالة لأوردنا ما لا يحصى من النصوص على لزوم الأخذ بهذه الفنون التي هي مبدأ الصنائع, ناهيك أن الركن الركين للمحافظة على الدين ونشر تعاليمه الصحيحة بين المخالفين هو الجهاد، وهو يتوقف في هذا العصر على الفنون المذكورة، وما لا يتم الواحب المطلق إلا به فهو واجب. ولكن الجهل الذي عم في هذا الزمان وطم، والإغراق في التعصب على المخالف من غير روية ولا فهم، وعدم معرفة مقاصد الشرع، وانتفاء الوقوف على طرائق الضر والنفع - يحمل كل ذلك الغوغاء من أبناء هاته الأيام على رشق من ينسب لحكماء الفرنجة علمًا أو فهمًا بسهام الملام، وربما طعنوا في دينه وهم ليسوا في ذلك على دين، ولا تنهض لهم حجج قيمة، ولا يأتون بسلطان مبين {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) . وحاصل القول: إن جملة ما يتأتى به التقليد والاحتذاء ينحصر في ثلاثة أمور: (الأول) الفنون والصنائع المفيدة، وهذا ربما يصل طلب التقليد فيه إلى الوجوب الشرعي، وذلك كالفنون التي تتعلق بالقوى الحربية والصحة الجسدية وسائر ما لا يستغني عنه العمران، ولا وصول إليها أولاً إلا بالتقليد والاقتباس. (الثاني) ما لا نفع فيه ولا ضرر منه، والأَولى تركه وإن كان مباحاً، وإن لم يكن بد من فعله فينبغي أن لا يلاحظ التشبه بهم ولا يتوخى احتذاؤهم فيه. (الثالث) ما فيه ضرر لنا، والحكم الشرعي في إتيان المضرات المحققة: الحرمة. والمظنونة: الكراهة. وهناك شبهات يخشى ضررها ولا يرجي نفعها، وربما لا يظهر ضررها إلا باستعمال السواد الأعظم لها، لا الآحاد والعشرات مثلاً، أعني بهذا: التهافت على استعمال أدوات الزينة والترف الغالية الأثمان، وهم في كل آونة يخترعون لنا زيًّا، ويبتدعون لنا طرزاً جديداً، يبطلون به ما سبقه، ونحن نتلو تلوهم ونحتذي شاكلتهم في نضد العقار [1] والدياسق [2] والفواثير [3] والجفان [4] والزلح [5] والقعون [6] والصحاف [7] والسكرجات [8] والأباريق والسعوف [9] والورسيات [10] والأكواب [11] والسوملات [12] والبهار [13] والكؤوس والمثابن [14] والعكوم [15] والعتائد [16] والجناجيد [17] والسرو المرسلة [18] والمنصات [19] والأرائك [20] والنمارق [21] والزرابي [22] والكراسي والشجاب [23] والغدن [24] والمصابيح والزهريات، وسائر الآنية والماعون النفيس وفي التهاويل [25] والأكاليل [26] والمناجد [27] والمناطق [28] والكبائس [29] والأسورة والخواتيم وجميع أصناف الحلي البديع، وفي القنازع [30] والعمارات [31] والغواشي [23] والكلل [33] والظلل [34] والسجوف [35] والشفوف [36] والرياط [37] والخميل [38] والقطائف [39] والأقبية [40] والحصير [41] والنههة [42] وأبي قلمون [43] والخفاف [44] والتساخين [45] والجوارب [46] والكوث [47] والقفاز [48] ، وغير ذلك من أنواع اللبوس والنسيج. يتخذ ذلك أولاً المتطرسون المتطرزون في الملبس والمأكل والمشرب، من أهل النفع والثراء للزينة والتفاخر والتكاثر والخيلاء، فتتسع به دائرة السرف والترف، ويسري سمه في روح الأمة فيهب المعوزون للتقليد، وتجنح نفوسهم للإفناق (التنعم بعد البؤس) وتعدم الصبر على حالة الإملاق لا سيما أرباب المظاهر الذين منحهم صنفهم نظر الاعتبار، وحالتهم في الاشتهار لا تساعدهم عليها حالتهم في الدينار فتسقم العواطف الشريفة، وتفسد السرائر والضمائر الصادقة، وتعتل الأفكار الصحيحة، وتغلب على أفراد الأمة الأثرة ويستحوذ عليهم الضعف، ويكون مآلهم شر مآل. من نواميس الكون وسنة الله تعالى في الخلق أن الاسترسال في الترف والتوغل في الرفه والانغماس في التنعم مبدأ لانحلال الأمم، وعلة لسقوطها في هاوية العدم، إذا لم يقترن ذلك بعلم وتربية يكونان علاجًا لأبنائها، يقيهم أمراض تلك الصفات وأدواءها، ولقد كان سلف الأمة الذين تنجلي بهديهم كل غمة متيقظين لعلل الترف وأدوائه، محذرين من فتنته وبلائه. هل أتاك حديث عمر بن الخطاب إذ كتب إلى عتبة بن فرقد الذي أَمَّرَهُ على جيش العجم: يا عتبة بن فرقد إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك - انظر كيف أمره بمساواة الجيش وهو أميره - وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير قال: إلا هكذا، ورفع لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصبعيه، رواه مسلم، قال الإمام النووي: وقد جاء في هذا الحديث زيادة في مسند أبي عوانة الإسفراييني بإسناد صحيح قال: (أما بعد: فَائْتَزِرُوا وارتدوا وألقوا الخفاف والسراويلات وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل وإياكم والتنعُّم وزي الأعاجم، وعليكم بالشمس؛ فإنها حمام العرب، وتمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وابرزوا وارموا الأغراض) ، قال النووي: ومقصود عمر رضي الله تعالى عنه حثهم على خشونة العيش وصلابتهم في ذلك ومحافظتهم على طريقة العرب في ذلك. اهـ. قلت: يعني أنه خشي أن يضعفوا عن الجهاد إذا هم أخلدوا إلى التنعم الذي يستدعي حب الراحة، لا أن كل واحدة من هذه الأشياء التي نهاهم عنها محرمة أو مكروهة لكونها من زي العجم، كيف وقد كان النبي وأصحابه يلبسون الطيالسة الكسروية وغيرها من لبوس العجم، حيث كانوا في مأمن من الاستغراق في الترف الذي خشيه عمر على جيشه بسبب مخالطة الأعاجم والاستئناس بنسائهم وأحوالهم الذي ينتجه تكرار النظر. ومما نهاهم عنه الخف والسروايل، وكانوا يلبسونهما في الحجاز بلا نكير ... إلخ.

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد (العادات المصرية) ثلاثة تشقى بها الدار ... العرس والمأتم والزار مضى الكلام على العرس والمأتم، وهما آفتان من آفات الجمعية المصرية، سالبتان للأموال، جالبتان للأحزان، وبقي الكلام على شر الثلاثة وهو: (الزار) ولا تجد في مفردات اللغة كلمة تفي ببيان ضرره وشره، بل ولا جملة تكفي لإيضاح ما يجمع من القبائح والفضائح، وكفى به عارًا أن تكون المخدرة مطية من مطايا الجن. ولو اجتمع جماعة من المجانين في مكان لما بلغت غوغاؤهم معشار ما يحصل في مجلس الزار من الصياح والجلبة، ولو اجتمع في المستعطف المستميح ما تظهره السيدات الأميرات المترفعات المتكبرات من الخضوع والخشوع والذلة والمسكنة أمام شيخة الزار أو كودية الزار - لكفى لانعطاف أشد القلوب قسوة، ولو حُسب ما يُنفق على الزار من سائر الطبقات وما يصاغ له من الحلي من الذهب والفضة في مدة قصيرة لبلغ مبلغًا يمكن أن تشاد به مدرسة للبنات من أعظم المدارس، يخرجن منها متعلمات مطهرات من أدران هذه المفسدة الشيطانية، ولو تنبهت المشيخة الأزهرية إلى الإعلان بتحريم هذا الزار وتفسيق من يعين عليه وتبكيت من يرضى به لأهله، لكتب لها به عمل صالح، ولكن بعض علمائنا الأعلام وجهابذتنا العظام يرون أن وظيفتهما العلمية توفي بمثل الاعتراض والتنديد على من يدخل المسجد برجله اليسرى مثلاً، وما لهم ولما يكدر خواطر الكبراء ونساء الأمراء، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولو امتنع الرجال على الإنفاق على الزار لكان أجدر وأحرى بمن يطيع الشرع والعقل ويخالف الشيطان والمرأة، ولكن المصيبة كل المصيبة أن ينتهي أمر المرأة مع الرجل بعد تسخيره إلى تبخيره، فقد سمعنا عن كثير ممن يجلبهم الناس ويعظمونهم أنهم قد طأطأوا رءوسهم إلى الكودية تبخرهم وتناجي عفاريتهم. والله لولا أن يعاقب صاحب ... ويقول بعض القارئين تعمدا لذكرت أسماء عظيمًا قدرها ... اتخذت لها ورد الضلالة موردا وأحكم ما جرى على لسان أحمد بن الحسين قوله: ولم أر في عيوب الناس شيئاً ... كنقص القادرين على التمام ولو وقفت في مجلس الزار ورأيت ما يجري فيه من المضللات والمكفرات بتزيين القرابين والركوب عليها والطواف بها وشرب الدماء وتلطيخ الوجوه والثياب بها، وشي أحشاء الذبيحة - لرأيت نفسك كأنك واقف في معبد من معابد اليونان لعبادة الأصنام والأوثان. أما ما يجري في الزار فإننا نذكره ببعض التفصيل؛ لأن كثيرًا من الناس يسمعون فيه إجمالاً ولا يعرفونه تفصيلاً وإليك البيان: إن السبب الصحيح في انتشار الزار هو التقليد لا غيره، فترى المرأة تدعي المرض، ومن يتمارض يعجز الطبيب فيه، فإذا عجز الطبيب طلبت الزار وأقنعت زوجها بأن فلانة كانت مريضة بمثل مرضها ولم تبرأ إلا به وكأنها تنشد: ألا يا طبيب الجن هل لك حيلة ... فإن طبيب الإنس أعياه دائيا ثم تستحضر شيخة الزار، وهذه تطلب منها إجراء العقد على اصطلاحهن، والعقد عبارة عن ربع ريال يوضع في إناء ويصب عليه ماء الورد ويوضع هذا الإناء على كرسي محاطًا بأطباق فيها من أنواع الجوز واللوز والبندق واللبن الحامض، ثم تغتسل الممسوسة وتلبَس ثيابًا بيضاء وتخضب يدها ورجليها وتضع هذا الكرسي بما عليه عند رأسها تلك الليلة، وفي الصباح تحضر الشيخة، فتثقب ربع الريال، ثم تضع فيه خيطًا وتعقده على عضدها، ثم تصنع رقاقًا بالسمن والعسل وتطعمه الممسوسة، وتكلفها بأن تجهز لنفسها في مسافة ما بين ليلة العقد وليلة الزار حليًا معروفة لهم عند الصائغ، وهي عبارة عن خلاخل ودمالج ومعاصم ومعاضد وخواتم وأقراط مرصعة باللؤلؤ والمرجان، ومناطق وقلائد وخناجر وسيف ومصقلة وسوط وصولجان، وخوذة وسكاكين وغيرها، وجميعها إما أن تكون ذهبًا خالصًا او فضة صافية، وتكلفها أيضًا بإحضار كثير من ملابس الرجال والنساء المختلفة من أردية وملاءات وأوشحة وأخمرة، وكلها من الحرير الملون المزركش بالذهب والفضة، فإن لكل عفريت وعفريتة لباسًا خاصًّا، وقد تكون الممسوسة ذات أخدان كثيرة يترادفونها، فإذا حانت ليلة الزار دعت صاحبته صواحبها، ونصب الكرسي ووضعت عليه الحلي، وقامت الشيخة عليها مع توابعها وفي أيديهن الدفوف يضربن عليها، ثم يبخرن الحلي، وبعذ ذلك يفتتحن مجلس الزار بكلام مقفى ملحن تدور فيه أسماء العفاريت وكُناهم، فإذا بدأن بالنقر والألحان وذكرن أسماء من هذه الأسماء قامت الممسوسة من صاحب هذا الاسم أو صاحبته وعملت ما يعمله، فإن كان العفريت هو البدوي وضعت اللثام وأخذت الحسام، ولعبت به لعب الريح بفضل منطقتها، وسط حديقتها، وصالت كما تصول الأبطال، وقالت للأتراب: نزال نزال. وإن كان العفريت هو المغربي احتدَّت وغضبت، وحسرت عن جبهتها وقطبت، وأبدلت الجيم بالزاي، وقالت لفتاتها: يا مولاي، وأسرعت في الكلام، وابتدرت بالخصام. وإن كان العفريت هو أوروبي، لبست الطربوش على حرف، وغمزت بالحاجب والطرف، ثم اختالت وتمايلت، واستمالت وغازلت. وإن كان العفريت هو الصعيدي، علقت في الهِرّاوة جراب الزاد، وأكثرت من قولة: عاد. وإن كانت العفريتة رينة، كشفت عن ساقيها، وشمرت عن ذراعيها، وأخذت المصقلة وأومأت إلى العمل بها، فلا تزال كأنها تنشر ثيابًا وتطوي، وتصقل وتكوي. وإن كانت العفريتة سفينة، لعبت برأسها في طست من الماء لعب السفينة في الدأماء. وإن كان العفريت طفلاً أو طفلة تكلمت بألفاظ الأطفال، وحذفت من كلامها الحروف الثقال، فكمل جمالها بهذا النقص، كما كمل حسنها بذلك الرقص. وهكذا كل واحدة في دورها تلبس لبس عفريتها، وتمثل عمله، حتى تتأثر صاحبة الزار عند ذكر اسم عفريت من هذه الأسماء، فتقوم وتعمل عمل صاحبه، فيعلم حينئذ أنه العفريت الذي مسها. ولا يزلن في رقصهن وتمثيلهن حتى تضعف القوى، وتنحل الأعصاب فيترامين مغشيًّا عليهن، ولا يفقن حتى تأخذ الشيخة في فمها شيئًا من ماء الورد، ثم تمجه في وجوههن، فإذا أفقن عدن إلى ما كن عليه من دق الدفوف ودعاء العفريت حتى يقلقن الجيران، وكلما هم جار بالشكوى اعترضته زوجته خوفًا عليه أن يمسه عفريت، وقالت له: (إياك والاعتراض) حتى إذا أشرقت الغزالة برز الكبش يتهادى في الحلي والحلل، بين الخدم والخول، بعد غسله وتطهيره، وتعويذه وتبخيره، وقد ركبته صاحبة الزار، وأحاط بها ضاربات الدفوف، فتطوف بهذا الزفاف سبعًا حول ذلك الكرسي الذي بات وعليه النقل واللبن والشموع متقدة بين يديها، فإذا انتهت من الطواف أخرجنه إلى الجزار فذبحه، وتلقين الدم في إناء فتدهن الممسوسة به قلبها وتلطخ وجهها ويديها وثيابها، وتشرب منه، ثم يتناوب الحاضرات ذلك فيفعلن فعلها، وبعد ذلك يستحضر إناء كبير من المزر (البوزه) ويشربن منه، ويأكلن أحشاء الكبش بعد شيها، ثم تدق الدفوف ويحرق البخور ويخلن في المكان راقصات صائحات بقولهن: (يا شايل الدم، يا شارب البوزه، يا رينه يابتاعة الزار، يا رينه حلقك مرجان، سفينة في البحر عوامة، تقلع وتلبس وهدومها غرقانة) ولا يزال الحال على هذا المنوال إلى أن ينضج الشواء، فتضع الكودية على كل قرص من الفطير قطعة من الشواء، وتناول كل واحدة نصيبها. وهذا الترتيب بعينه من تطهير الذبيحة وتبخيرها وتحليتها وزفها والطواف بها وذبحها والتلطخ بدمها وشي أحشائها وتفرقة أجزائها مع الفطير، كان يعمل عند عبدة الأوثان في تقديم قرابينهم ونذورهم. وبعد الأكل يعدن إلى ما كن فيه إلى أن يطوى النهار، فتذهب كل واحدة من الحاضرات إلى بيتها بعد أن تقبل يد الشيخة وتتبرك بها. ولا تسل عما يصيب كل واحدة منهن من وهن الجسم واضطراب الأعصاب واختلال الصحة، فما أشبههن في هذه الحالة التي يعتبرنها شفاء لأمراضهن بحالة أولئك الذين كانوا يقومون من تحت حوافر الفرس مرضضين في تلك العادة القبيحة (عادة الدوسة) التي أحسنت الحكومة كل الإحسان في إبطالها، وياليتها تلتفت الآن لإبطال هذه العادة الوثنية، فتطهر الآداب من أرجاسها، إذا لم يكن بالأزواج نخوة تدفعهم لمحو هذا العار من بيوتهم، وتنزيه نسائهم أن يكُنَّ من مطايا الجن. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مصباح الشرق)

تعصب أوربا على الدولة العلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعصب أوربا على الدولة العلية لقد ظهر من خبث الدول الأوروبية وإفراطها في الطمع والتعصب الأعمى على الدولة العلية ما لم يكن في الحسبان، وأشوه مظاهر خبثها وطمعها وتعصبها ما كان في هذه السنين الأخيرة في أرمينيا وكريد وغيرهما، ولقد عادت هذه السياسة السوأى من أوروبا بالضرر على النصارى والمسلمين معًا، فكان ذلك فضيحة لدعواها حماية النصارى في بلاد الدولة، فلم يبق في هذه البلاد عاقل ينخدع بهذا التمويه، وقد اعترف بهذا كل بصير، حتى الذين يقدسون أوروبا كأصحاب جريدة المقطم، فعسى أن يعم هذا العلم جميع المسيحيين بواسطة عقلائهم وفضلائهم، فيتفقوا مع بني وطنهم على إعلاء شأن الوطن في ظل الدولة العلية ورعاية المراحم السلطانية، وما ذلك على الله بعزيز.

ما لا بد منه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما لا بد منه [*] قلنا ولا نزال نقول: إن التربية والتعليم هما الركنان اللذان يقوم عليهما بناء السعادة، والعاملان الرافعان إلى قنة السيادة، وهما أمران متلازمان لا يفارق أحدهما الآخر إلا إذا أمكن وجود العمل من غير علم العامل بما يعمل. التعليم إفادة العلم - أي علم - والتربية هي القيام بشؤون الصغير حتى يميز ويقدر على العمل، وإرشاده إلى وجه الصواب في العمل عند القدرة عليه، وفهمه ما يلقى إليه، حتى يتم له رشده، ويكمل له عقله، وهذا لا يحصل إلا بالعلم النافع، فالعلم هو الينبوع الذي يستمد منه القائمون بالتربية والتعليم. العلم كثير والعمر قصير، فلا يمكن أن يحصل جميع أفراد الأمة جميع العلوم ولو استغرقوا جميع الأوقات، وتركوا الأعمال وهي المقصودة بالذات، فما هي العلوم والفنون التي لابد منها لجميع الأفراد، ولا تسع جهالتها واحدًا من الآحاد؟ . إن الشريعة الإسلامية قسمت العلوم التي فرضت على الأمة تعلمها إلى قسمين: واجب عيني وواجب كفائي. فالأول: ما يطلب من كل فرد من أفراد الأمة ذكرانها وإناثها، كالفنون الباحثة عن تصحيح الاعتقاد وتهذيب الأخلاق وتطهير النفوس وكيفية العبادات، وما هو الحلال ليُنتقى والحرام ليُتقى. والثاني: ما يطلب من مجموع الأمة، لتعلقه بالمصلحة العامة، فإذا قام به في كل قطر من الأقطار طائفة يكفون الأمة ما تحتاجه منه سقط الحرج عن الباقين، وإلا حرجت الأمة كلها وكانت آثمة، وإذا أثمت الأمة كلها نزل بها البلاء وحل بها السخط الذي يقتضيه ذلك الإثم الكبير الذي ضاعت به المصلحة العامة ولكل ذنب بلاء على قدره، وذنوب الأمم لا ينالها العفو ولا ترجأ عليها العقوبة كما هو مشاهد {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) . المصالح العامة ما بها قوام الدين كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلوم التفسير والحديث والأصول والفقه إلخ ما هو مشهور، وما بها قوام الدنيا كالزراعة والصناعة والطب والحساب والهندسة إلخ ما هو معروف، وقال العلماء: لا يكون الإنسان كاملاً في علمه حتى يأخذ من كل فن من الفنون المتداولة في عصره طرفًا يعرف به موضوع الفن وفائدته، ونسبته لغيره من الفنون، لكيلا يعادي العلم ويناكر أهله عن جهل، ويحكم عليه خطأ، ثم يصرف همه إلى التوسع في العلم الذي يريد العمل به والانفراد فيه. وكأين من علم يكون في عصر من العصور من الكماليات فيصير في عصر آخر من الضروريات، كعلم تقويم البلدان (الجغرافيا) الذي كان في عهد العباسيين تقصد به اللذة أكثر مما تقصد به الفائدة (كعلم الهيئة الفلكية حتى الآن) وقد أصبح اليوم من الضروريات التي لابد منها، سعدت بالتوسع فيه دول ساعدها على الاستواء على البلاد، والاستيلاء على العباد، من غير سيوف تسل ونفوس تسيل، وبدون مدافع تسائل وصياصي تجيب، وشقيت بالتقصير فيه أمم ذهبت بلادها من أيديها من غير أن تشعر، وجاس العدو ديارها تحت مواقع أنظارها ولم تبصر، نعم يتوقف اليوم على هذا العلم الحرب والجهاد، وسياسة الممالك والبلاد، فهو دعامة الحرب وأساسها، ومعيار السياسة وقسطاسها، وكذلك الهندسة والفلسفة الطبيعية وفنون أخرى. جرت الأمم القوية في التربية والتعليم على طرق لا مندوحة لنا عن محاكاتها فيها ومجاراتها عليها كمًّا وكيفًا، مع اعبتار حالة بلادنا الدينية والاجتماعية، ومراعاة مقدرتنا المالية والعلمية، لأننا نعلم أن عزة تلك الدول وتقدمها على نسبة تقدم التربية والتعليم فيها. ومن يلاحظ سير الأمم والدول في هذا العصر ويقيسه بمقياسه، ويزن تقدمها وتأخرها بميزانه، يتجلى له بالبرهان الرياضي الصحيح أن ذلك لا بد أن ينتهي بفناء بعضها وتلاشيه، وبلوغ بعضها من مراتب الوجود الممكن أقاصيه وأعاليه، إلا إذا عثر المُجدّ وكبا الجواد، أو نهض العاثر من سقطته وجدَّ المتخلف، وإذا وقع الأمران معاً فذلك التوفيق القاضي بسعادة فريق لشقاء فريق، ولا نيأس من روح الله في إنالة أمتنا من ذلك ما تتنمناه، شعر بهذا بعض خاصتنا فطفقوا يلهجون بالتعليم والتعلم، وسرى هذا الشعور في كثير من العامة، ولكنه شعور إجمالي لا يشرح الحقيقة ولا يهدي إلى محجة الصواب. يذهب كثير ممن يسعون بإنشاء المدارس وتعميم التعليم إلى أن العلم الذي يكفل السعادة للأمة هو ما يعلم في مدارس الحكومة، كبعض اللغات الأجنبية والفنون الرياضية والطبيعية، والقوانين الأوروبية الذي يؤهلهم للوظائف لأن السواد الأعظم منا يرى أن الغاية من العلوم والفنون خدمة الحكومة، بمعنى أن يكون للإنسان وظيفة فيها تعطيه مالاً يعيش منه وجاهًا يعتز به، ولا يبالي مع ذلك بأي مجلى ظهر، وبأي لون اصطبغ، ومن ينحو بتعليمه هذا المنحى فهو جاهل، ومن يرمي بتعليمه إلى هذا الغرض فهو خاسر، لأنه غرض خسيس لا يتجاوز المنفعة الشخصية، ولا يبالي صاحبه بشقاء الأمة - بل ولا بفنائها - إذا كان وسيلة لمصلحته وطريقًا لمنفعته، وأجدر بتعليم هذا شأنه أن يعد من البلاء لا من النعماء، وأن يرغب عنه ولا يرغب فيه، وأن يسعى في إزالته لا في إنالته. والغاية الصحيحة التي نقصدها نحن وجميع العقلاء من التربية والتعليم هي التي شرحناها في مقالة (إلى أي تربية وتعليم نحن أحوج) من العدد السادس عشر، أعني ما يجعلنا أمة عزيزة سعيدة، يحافظ كل فرد منها على جامعته الجنسية والدينية والوطنية، ويشرب في قلبه أن ما أصاب أمته من حسنة فنعمتها شاملة له، وما أصابها من سيئة فمعرتها لاحقة به. ولقد قال أستاذنا الأكبر العلامة الشيخ محمد عبده كلمة بليغة في العلم الذي نحن أحوج إليه لإسعادنا وهي: (العلم ما يعرفك من أنت ممن معك) وإنها لكلمة حكيمة لمن وعاها وما يعقلها إلا العالمون. وإننا نذكر في هذه المقالة (ما لا بد منه) من الفنون لكل فرد من أفراد الأمة بحسب ما تقتضيه حالة العصر فنقول: (1) علم أصول الدين، أعني علم ما هي القضايا الأساسية للدين وما أدلتها وما وجه الحاجة إليه، وماذا كان من أثره وفائدته في العالم، لا البحث في غوامض علم الكلام، كالوجود، هل هو عين الموجود أو غيره، والصفات هل هي عين الذات أو غيرها أو لا عينها ولا غيرها، ولا ما ألحق به توسعًا في البحث وانطلاقاً مع الخواطر والأفكار وليس منه، كقول بعضهم إن خوارق العادات تصدر من جميع أصناف الناس مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وفاسقهم، وإنما تترك أمثال هذه المباحث للذين يحبون الانفراد بالتوسع في الفن ومعرفة كل ما قيل فيه، ولا فائدة منها للجماهير إلا تهويش الأذهان، وربما أضرت بالعقول والأديان. (2) علم تهذيب الأخلاق وإصلاح العادات، فهو العون على التربية الصحيحة، ويحتاج في كماله إلى الفلسفة العقلية وعلم النفس. (3) علم فقه الحلال والحرام والعبادات (ويسميه الأتراك علم حال) وإنما فقهها أن تعرف على الوجه الذي تحصل به فائدتها للعامل بها، كأن تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر لما تعطيه من مراقبة الله تعالى وخشيته، ويكف الصوم عن الشهوات ويبعث على الشفقة، وتمنع الحيلة في الزكاة وتعطى عن طيب نفس مع معرفة فائدتها في إصلاح حال الهيئة الاجتماعية والقيام بحقوق الإنسانية، ويلاحظ في الحج فائدة المساواة بين الناس حيث يقفون في صعيد واحد بهيئة واحدة لا زينة معها ولا طيب، ولا فرق فيها بين ملك ومملوك، وعظيم وصعلوك ] سواء العاكف فيه والباد [. وفائدة التعارف بين المسلمين والإخاء حيث يجتمع في تلك الأماكن المقدسة العربي والتركي والفارسي والهندي والصيني إلخ، ويتآخون في الله تعالى. وإني رأيت المسلمين لا يزالون يلاحظون معنى الإخاء في الحج ويسمون من يتعرفون به هنالك أخًا ونعما هي. وفائدة تمثلهم بهيئة الأموات الخارجين من الدنيا ومعاهدة الله تعالى على التوبة والإنابة والبر والتقوى، وفائدة الخضوع والامتثال لأمر الله تعالى ولو فيما لا يعقلون له معنى ولا يعرفون له فائدة، كرمي الجمار وتقبيل الحجر الذي لا ينفع ولا يضر كما قال عمر رضي الله تعالى عنه. (4) علم الاجتماع وأحوال البشر في بداوتهم وحضارتهم ومِلَلهم ونِحَلهم وعاداتهم وسائر شؤونهم. (5) علم تقويم البلدان (الجغرافيا) وقد مر بك الإيماء إلى فائدته وعظيم شأنه. (6) علم التاريخ وينبغي أن يتوسع كل أحد في معرفة تاريخ أمته وملته وبلاده، وأن يأخذ طرفًا من التاريخ العام. والتاريخ - ولا أزيدك به علمًا - هو مادة السياسة وممد العقل ومغذيه، والمفيض على الأرواح حب الجنس والوطن، والهادي النفوس إلى مصالح بلادها والمحافظة على استقلالها. (7) علم الاقتصاد الذي يبحث عن إنماء الثروة وحفظها، وهو من أركان المدنية الحاضرة، وما أضر بهذه البلاد (المصرية) إلا البعد عن العلم والعمل بالاقتصاد، ولما كان هذا العلم من مقومات الأمم والدول سمي (علم الاقتصاد السياسي) . (8) علم تدبير المنزل وينبغي أن تتوسع البنات في هذا العلم؛ لأنه وظيفتهن، والعمل به منوط بهن، وجهلهن به داعي الخلل في المعيشة، ومن لم تكن أمور منزله منتظمة فلا عيش له وإن ملك الدنيا بحذافيرها. (9) علم الحساب ولابد من معرفة القدر اللازم منه للبنين والبنات، ويتوسع فيه الذكور؛ لأن الأعمال المالية الكبرى إنما تناط بالرجال. (10) علم حفظ الصحة (الهيجين) وهذا من أهم المهمات لتربية الأولاد وهناء العيش، فكم أسقم الجهل به صحيحاً وأمات مريضاً، وكم فتك بالأطفال فتك الأوبئة والأدواء، ومن نظر الإحصاءات الصحية في البلاد المتمدنة يعلم فائدة انتشار العلوم الطبية في الصحة العمومية. (11) علم لغة البلاد، ترى الإفرنج الذين يفتخر كبراؤنا ومدعو التمدن فينا بتقليدهم عن جهالة وعماية، يفتخرون بلغاتهم، ويدأبون على خدمتها، ويسعون في تعميمها، وقد جعلوها مناط الجنسية، فهلا قلدوهم في ذلك عوضًا من تقليدهم في تعلم لغتهم؟! للغتنا العربية علينا من الحق ما للغة الإنكيزية على الإنكليز، والفرنساوية على الفرنساويين، ولها حق آخر علينا هو أقدس من سائر الحقوق، يوجب علينا إحياءها حتمًا وهو حق الدين الذي لا يمكن حفظه إلا بها، وهو ركن سعادتنا الدنيوية والأخروية، لست أعني بتعلم اللغة الذي جعلته مما لابد منه لكل فرد من أفراد الأمة حفظ متونها ومعاجمها، ومدارسة كتبها الأزهرية بحواشيها وتقاريرها، فإن ذلك ربما يمضي العمر على مُتوخّيه بغير ثمرة ولا فائدة، وإنما أعني أن يدرس التلامذة جميع ما يتعلمونه بلغة عربية فصيحة، وأن يتدارسوا الكلام العربي البليغ منظوماً ومنثوراً مع التفهم لمعانيه، وملاحظة أساليبه ومناحيه، لتنطبع في نفوسهم ملكة صحيحة يقتدرون بها على الإتيان بمثل ذلك الكلام بسهولة، ويضاف إلى هذا تلقينهم كتبًا مختصرة سهلة في النحو والصرف والمعاني والبيان بالطريقة المفيدة، وكل هذا يمكن تحصيله في مدة وجيزة إذا كانت الكتب سهلة والمعلم حاذقًا حكيمًا، فإن قيل: وأَنَّى يوجد هذا وذاك؟ أقول: متى وجد الطالب يوجد المطلوب: (12) فن الخط ولا تخفى فائدته على أحد. يؤخذ من هذه الفنون القدر اللازم، ولا بد مع تعلمها من الوقوف على مواضيع العلوم المتداولة في العالم وفوائدها وبعض مسائلها في الجملة، كما ألمعنا إلى ذلك آنفًا؛ ليكون كل فرد على بصيرة من حالة

رسالة الحاسد والمحسود للجاحظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة الحاسد والمحسود (للجاحظ) منقولة عن نسخة بخط علي بن هلال الكاتب الشهير بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، وهب الله لك السلامة، وأدام لك الكرامة، ورزقك الاستقامة، ودفع عنك الندامة. كتبت إلي - أكرمك الله - تسألني عن الحسد، ما هو ومن أين هو، وما دلائله وأفعاله، وكيف تفرقت أموره وأحواله، وبم يعرف ظاهره ومكتومه، ولم صار في العلماء أكثر منه في الجهلاء، ولم كثر في الأقرباء، وقل منه في البعداء، وكيف دب في الصالحين أكثر منه في الفاسقين، وكيف خص به الجيران من جميع الأوطان؟ الحسد - أبقاك الله - داء ينهك الجسد، ويفسد الأود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم (دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء) . وقال بعض الناس لجلسائه: أي الناس أقل غفلة؟ فقال بعضهم: صاحب ليل إنما همه أن يصبح، فقال: إنه لكذا وليس كذاك، وقال بعضهم: المسافر، إنما همه أن يقطع سفره، فقال: إنه لكذا وليس كذاك، فقالوا له: فأخبرنا بأقل الناس غفلة، فقال: الحاسد، إنما همه أن ينزع الله منك النعمة التي أعطاكها فلا يغفل أبداً. وروي عن الحسن أنه قال: الحسد أسرع في الدين من النار في الحطب اليابس، ما أتي المحسود من حاسد إلا من قبل فضل الله إليه ونعمته عليه، قال الله تبارك وتعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً} (النساء: 54) . والحسد عقيد الكفر وحليف الباطل، وضد الحق وحرب البيان، وقد ذم الله أهل الكتاب فقال: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًّا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} (البقرة: 109) فمنه تتولد العداوة، وهو سبب كل قطيعة، ومنتج كل وحشة، ومفرق كل جماعة، وقاطع كل رحم بين الأقرباء، ومحدث التفرق بين القرناء، وملقح الشر بين الخلطاء، يكمن في الصدور كمون النار في الحجر، ولو لم يدخل - رحمك الله - على الحاسد بعد تراكم الهموم على قلبه واستمكان الحزن في جوفه، وكثرة مضضه ووسواس ضميره، وتنغيص عمره وكدر نفسه، ونكد لذاذة معاشه، إلا استصغاره لنعمة الله عنده، وسخطه على سيده بما أفاد الله عبده، وتمنيه عليه أن يرجع في هبته إياه، وأن لا يرزق أحدًا سواه - لكان عند ذوي العقول مرحومًا، وكان عندهم في القياس مظلومًا، قال بعض الأعراب: ما رأيت ظالمًا أشبه بمظلوم من الحاسد: نَفَس داثر، وقلب هائم، وحزن لازم، والحاسد مخذول ومأزور، والمحسود محبوب ومنصور، والحاسد مهموم ومهجور، والمحسود مغشى ومزور. والحسد - رحمك الله - أول خطيئة ظهرت في السموات، وأول معصية حدثت في الأرض، خص به أفضل الملائكة فعصى ربه، وقايسه بخلقه واستكبر عليه، وقال {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف: 12) فلعنه وجعله إبليس، وأنزله من جواره، وشوه خلقه تشويهًا، فموه على أنبيائه تمويهًا. نسي عزم ربه فواقع الخطيئة، فارتدع المحسود فتاب عليه وهدى، ومضى الحاسد اللعين على حسده فشقي وغوى، وأما في الأرض فابْنا آدم حيث قتل أحدهما أخاه، فعصى ربه وأثكل أباه، وبالحسد طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، فأصبح من الخاسرين، لقد حمله الحسد على غاية القسوة، وبلغ به أقصى حدود العقوق، وإذ ألقى عليه الحجر شادخًا، فأصبح عليه نادمًا صارخًا، فمن شأن الحاسد إن كان المحسود غنيًّا توبيخه على المال، وقال: جمعه حرامًا، ومتعه أثامًا، وألب عليه محاويج أقاربه وتركهم له خصماء، وأعانهم في الباطل، وحمل المحسود على قطيعتهم في الظاهر، وقال له: كفروا معروفك، وأظهروا في الناس ذمك، فليس أمثالهم يوصلون، فإنهم لا يشكرون. وإن وجد له خصماً أعانه عليه ظلمًا، فإن كان ممن يعاشره فاستشاره: غشه، أو تفضل عليه بمعروف: كفره، أو دعاه إلى نصره: خذله، أو حضر مدحه: ذمه، وإن سئل عنه: همزه، أو كانت عنده شهادة: كتمها، وإن كانت منه إليه زلة: عظمها، يحب أن يعاد ولا يعود، ويرى عليه العقود. وإن كان المحسود عالمًا قال: مبتدع، ولرأيه متبع، حاطب ليل، ومتبع نيل، ما يدري ما حمل، قد ترك العمل، وأقبل على الحيل، قد أقبل بوجوه الناس إليه، وما أحمقهم إذا مالوا عليه، فقبحه الله من عالم ما أعظم بليته، وأقل رعيته، وأسوأ طعمته، وإن كان المحسود ذا دين قال: متصنع يغزو ليوصى إليه، ويحج ليثنى عليه، ويقرأ في المسجد ليزوجه جاره ابنته، ويحضر الجنائز لتعرف شهرته، وما لقيت حاسداً قط إلا تبين لك مكتومه بتغيير لونه، وتخويص عينه، وإخفاء سلامه، والإعراض عنك، والإقبال على غيرك، والاستثقال لحديثك والخلاف لرأيك، ولذلك قال القائل: طال على الحاسد أحزانه ... فاصفر من كثرة أحزانه دعه فقد أشعلت في جوفه ... ما هاج منه حر نيرانه الغيب أشهى عنده لذة ... من لذة المال لخزانه فارم على غاربه حبله ... تسلم من كثرة بهتانه وكان عبد الله بن أبي قبل نفاقه نسيجًا وحده بجودة رأيه وبعد همته، ونبل شيمته، وانقياد العشيرة له بالسيادة والسعادة، وإذعانهم له بالرياسة، وما استوجب ذلك إلا بعد ما استجمع له لبه، وتبين لهم عقله، وافتقدوا منه جهله، ورأوه لذلك أهلاً لما أطاق له حملاً، فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة ورأى عز رسول الله صلى الله عليه وسلم، شمخ بأنفه فحسده، فهدم إسلامه وأظهر نفاقه، وما صار منافقًا حتى صار حسوداً، فحمق بعد اللب، وجهل بعد العقل، وتبوأ النار بعد الجنة. ولقد خطب النبي - صلى وعليه وسلم وآله وسلم - بالمدينة فشكاه إلى الأنصار فقالوا: يا رسول لله، لا تلمه؛ فقد كنا عقدنا له الخرز قبل قدومك لنُتوِّجه. ولو سلم المخذول من الحسد لكان من الإسلام بمكان، ومن السؤدد في ارتفاع، فوضعه الله بحسده وإظهار نفاقه. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه، ورجل آتاه الله قرآنًا فهو يقوم به في آناء الليل والنهار) كان ما سواهما مذمومًا، وصاحبه عليه مقليًّا، وربما نتج الحسد الكبر فيبلغ صاحبه في المقت غايته، وفي البغض من جميع الخلق نهايته، فلا يمر بملأ إلا مضغوه، ولا يذكر في مجلس إلا سبوه، وأشهد أنه في ملكوت السماء أشد مقتًا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنتم شهداء الله في الأرض، فما رآه المسلمون حسنًا كان عند الله حسنًا، وما رآه المسلمون قبيحًا سيئًا فهو عند الله سيئ) . وقال بعضهم: إني أشتري اللحم فأخفيه من جيراني مخافة أن يحسدوني. وذلك أن الجيران - رحمك الله - طلائع عليك، وعيونهم نواظر إليك، فعسى كنت بينهم معدمًا فأيسرت فبذلت وأعطيت، وكسوت وأطعمت، وكانوا في مثل حالك فاتضعوا، فسلبوا النعمة وألبستها أنت، فعظمت عليهم بلية الحسد، وصاروا منه في تنغيص آخر الآبد. لولا أن المحسود بنصر الله إياه مستور، وبصنعه محجوب، لم يأت عليه يوم إلا كان مقهوراً، ولا بات ليلة إلا كان عن منافعه مقصوراً، ولم يمس إلا وماله مسلوب، ودمه مسفوك، وعرضه بالضرب منهوك. وقال مالك بن دينار: (تقبل شهادة القراء في كل شيء إلا بعضهم في بعض؛ فإني وجدتهم أشد تحاسدًا من التيوس تشد النعجة، فيهب عليها هذا التيس مرة وهذا التيس مرة) . وضرر المحسود إلى صديقه أكثر منه إلى عدوه، وإلى خليطه أظهر منه إلى مفارقه، وإلى قريبه أسرع منه إلى بعيده، وذكر حميد الطويل أنه سأل الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد هل يحسد المؤمن؟ فقال: أنسيت - لا أبا لك - إخوة يوسف؟ ! المؤمن يحسد، ولكن ما لم يظهر بلسانه ويده. وأقول: ما خالط الحسد قلبًا إلا لم يمكنه ضبطه، ولا قدر على تشحينه وكتمانه، حتى يتمرد عليه في ظهوره وإعلانه، فيستعبده ويستعمله ويستنطقه لقهوره عليه، ولهو أغلب على صاحبه من السيد على عبده، ومن السلطان على رعيته، ومن الرجل على زوجته، ومن الآسر على أسيره. وكان ابن الزبير بالصبر موصوفًا، وبالدهاء معروفًا، وبالعقل موسومًا، وبالمداراة متهومًا، فأظهر بلسانه حسدًا كان أضب عليه لما طال في قلبه طائله، حتى ظهر عليه مع صبره على المكاره، وحمله نفسه على حتفها، وقلة اكثراثه والتفاته على أحجار المجانيق التي تمر عليه فتذهب بطائفة من قومه ما يلتفت إليها. حُدثنا عن علي بن مسهر عن الأعمش عن صالح بن حباب عن سعيد بن جبير أنه قال: قدت ابن عباس حتى أدخلته على ابن الزبير، فقال له ابن الزبير: أنت الذي تؤنبني؟ قال: نعم؛ لأني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره طاو) فقال له ابن الزبير: قلت ذاك، وأتبعه بقول يدل على حسد كان ابن عباس من شره معصومًا، وكان ذاك بما في قلبه لبني هاشم مهزومًا، وكانت وخزة ثقيلة فلم يبدها له، وفروع بني هاشم حول الحرم باسقة، وعروق دوحاتهم بين أطباقها راسية، ومجالس بني هاشم من أعاليها غامرة، وبحورها بأرزاق العباد زاخرة، وأنجمها بالهدى زاهرة، فلما تجلت البطحاء من صناديدها استقبله بما أمكن في نفسه، والحاسد لا يغفل عن فرصته، إلى أن يأتي الموت على رمته، وما استقبل ابن عباس ذلك إلا لما رأى عمر يقدمه على أهل القدم، ونظر إليه وقد أطاف به الحرم، فأوسعهم حكماً، وتعقبوا منه رأيًا وفهمًا، وأشبعهم علمًا ولحمًا، ويروى عن ابن سيرين أنه قال: ما رأيت أكثر علمًا ولحمًا من منزل ابن عباس. وأما أنا فحقًّا أقول: لو ملكت عقوبة الحاسد لم أعاقبه بأكثر مما عاقبه الله بإلزامه الهموم قلبه وتسليطها عليه، فزاده الله حسدًا، وأقامه عليه أبدًا. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد (دماغ الرجل ودماغ المرأة) يبدأ دماغ المرأة بالتقهقر في سن الثلاثين، أما الرجل ففي الأربعين. (الدخان لقياس رطوبة الهواء) إذا أشعلت سيكارتك ورأيت دخانها يصعد مسرعًا فاعلم أن الهواء رطب، وإذا رأيته يهبط أو يبقى سابحًا فالهواء جاف، وتعليل ذلك واضح لما تعلمه من ثقل الهواء إذا كان رطبًا، فإذا سبح الدخان فيه كان أخف منه فيتصاعد، والعكس بالعكس. (نمو الأطفال) معظم نمو الأطفال إنما يكون أثناء النوم. (نفقات السلطان) يقدرون نفقات جلالة السلطان بألف جنيه في اليوم. (إمبراطور الصين) تعلم اللغة الإنكليزية عن يد بعض المرسلين الأميركان حتى أتقنها جيداً. (طوابع البريد) يبلغ عدد هذه الطوابع في كل العالم نحو 13000 نوع. (حياة التاجر والزارع) يؤخذ من الإحصاءات الصحية أن معدل حياة التاجر نحو ثلثي حياة الزارع. (العمل الجسدي والعملي العقلي) يفقد الجسم من القوة في العمل العقلي ربع ما يفقده في العمل العضلي على الأقل. (طول الحياة والنوم) وجد بالاستقراء أن أكثر الذين يعمرون طويلاً ينامون باكراً، ولا غرو فإننا نرى من أول العوامل في تقصير مدة الحياة في مصر السهر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الهلال) *** (تقسيم إفريقيا ومساحتها) قسمت بعض الجرائد القارة الأفريقية بين الدول، فكان لإنكلترا خمسة ملايين و800 ألف كيلو متر مربع، ولفرنسا تسعة ملايين و600 ألف، ولبلجيكا مليونان و300 ألف، ولألمانيا مليونان، وللبورتغال مليونان و250 ألفاً، ولمصر مليون فقط، وللدولة العلية مثلها، ولأسبانيا 610 آلاف، ولإيطاليا 675 ألفًا، وللولايات المستقلة مليونان، والغير مأهولة ميلونان و478 ألفًا، فتكون مساحة إفريقيا كلها 30 مليون كيلو متر مربع. أما الولايات المستقلة في إفريقيا فهي مراكش ومساحتها 620 ألف كيلو متر، والحبشة ومساحتها 250 ألفًا والترنسفال 335 ألفا، وجمهورية أورانج 130 ألفاً. والذي يظهر مما تقدم أن لإنكلترا وفرنسا أكثر إفريقيا، ولكن حظ فرنسا من أملاكها أقل من حظ إنكلترا؛ لأن في جملة ما تمتلكه صحراء إفريقيا العظيمة، وهي لا تنفع شيئاً، وأما الحظ الحقيقي فهو حظ مصر؛ لأن المليون كيلو متر التي تمتلكها تسوى إفريقيا كلها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (السلام) ... ... ... *** (اليمن) من أخبار صنعاء اليمن (الرسمية) : أن الحكومة قررت بناء ميناء أمين تسع ست بواخر ومائة سفينة شراعية، وذلك لأن الريح الجنوبية التي هبت في هذا العام قد خربت ميناءها، ولأن هذه الفرضة من أهم الفرضات، تبلغ قيمة الصادر والوارد منها نحو مليوني ليرة سنويًّا، وقد استؤذن الباب العالى بذلك. وفي النية إصلاح فرضة (مخا) من أعمال تعز التي أصبحت مأوى لمئات من الصيادين بعد أن نزح سكانها وتجارها منها لضيق ذات اليد فيها وتقهقرها في العمران منذ خمسين أو ستين سنة، على أنها من القابلية لأنواع الترقي بمكان. أخذ بإنشاء المخافر التي ذكرنا فيما سلف صدور الأمر الكريم بتشييدها بين الحديدة وصنعاء. وصل الحديدة السفينة (ريودريا) السلطانية وهي إحدى السفن التي أصدر الباب العإلى أمره بأن تحافظ على الثغور اليمانية منعًا لتهريب الأسلحة، وكبحًا لجماح الذين اعتادوا تهريبها. أنفذ حضرة ملاذ الولاية اليمانية رقيمًا إلى ملحقات الولاية قال فيه: إنه قد استبان من التحقيقات المهمة أن جباية الأعشار وزكاة الأغنام والخراج في الولاية هو على أصول غير مطردة مما حصل عنه غدر وخسارة للخزينة والأهلين، وبقيت أكثر واردات الدولة المشروعة في زوايا البقايا، فلهذا تقرر وضع تعليمات لجباية الخراج، وهي تقسيم المبالغ المقيدة صفقة واحدة باسم العزلة بين أهالى القرى المؤلفة منها تلك العزلة بنسبة نفوسهم وثروتهم، وتقيد حصة كل قرية على حدتها في قلم المال وبعد إعطاء مضبطة لكل قرية بما عليها توزع تلك الحصة في القرية على المكلفين، ثم تحصل منهم بمعرفة المختارين المنتخبين، أي العقال. أما جباية الأعشار فهي قريبة من ذلك، أي أن المبالغ والحبوب التي تجبى بدلاً وعينًا، والتي تقيد مرة واحدة باعتبار العزلة والمخلاف التي توزع على القرى، وبعد تفريق حصة كل قرية منها، تحتال كل قرية على حدتها أو تدار أمانة على حساب الحكومة. أما الأغنام فتعد بموجب تعليماتها اعتباراً من أول آذار (مارس) . ذلك ما نرجو أن يكون من ورائه حفظ أموال الخزينة وصيانة الأهلين من سوء المعاملة والمغدورية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ثمرات الفنون) ... ... ... ... (المنار) نسأله تعالى أن يحسن على ولايتنا البيروتية بوالٍ مثل والي اليمن عطوفتلو حسين حلمي بك أفندي الموصوف بالديانة والعفة والاستقامة، ونرجو مثل ذلك لجميع ولايات السلطنة السنية. *** (التنازع على السودان) تؤكد بعض الجرائد أن الأحباش كانوا محتلين ل سوبات ثم غادروها وعسكروا على مسافة 400 كليو متر منها، وأن الرأس ولد جورجيوس هو القائد لهم، وأنهم نحو 80 ألفًا من المدربين، وأن السردار لما سار من فشودة إلى سوبات علم بذلك، ولكنه رفع العلم المصري عليها بالاحتفال المعتاد، ويقال: إنه أرسل الرسل إلى صاحب الحبشة، ويظن أنه يحمله فيها على المصافاة مع الحكومة الخديوية. ويظنون أن هنتر باشا الذي سار في النيل الأزرق وانتهى إلى سنار ورفع عليها العلم المصري، وجد الأحبوش قد سبقوه فرفعوا عليها العلم الحبشي. ويؤكدون أيضًا أن الرأس منغاشيا معسكر بستين ألف مقاتل في فازوغلي. وهذه خير بلاد السودان المصري. ويقولون: إن مرشان بنى في فشودة ثلاث قلاع، وأن عنده خمسة قوارب مدرعة، وأنه عقد مع شيخ قبيلة الشلوك عهدًا لم ينكثه الشيخ، ولذلك أبى مقابلة رجال السردار الذين ألحوا بطلب مقابلته في فشودة. إذا صح هذا وصح ما قيل: إن بين الأحبوش والفرنساويين معاضدة ومساعدة، ولولا ذلك لما نجح مرشان في حملته، فالأمر جلل ومسائل السودان معضلة، والله أعلم بمصير الأمور. *** كتب والي كريت إلى الأميرالية: أن الحكومة استردت من المسلمين جميع الأسلحة في شهر أبريل سنة 1897، فلا معنى لمطالبتهم الآن بغيرها، وبلغ جواد باشا حاكم قنديا أهلها المسلمين بأن الجنود العثمانية لا تخرج من كريت إجابة لطلب الدول.

وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [[*] توالت الفتن على الممالك الشرقية، وأوغلت الدول الفاتحة في بلادها، وولغت في أحشائها بعد ما نقصتها من أطرافها، واستدرت بالتجارة أخلافها، تفنن الطامعون بها في أطماعهم، ولونوا الفتوح والامتلاك بألوان كثيرة، منها ما يزعج مظهره، وتفزع رؤيته، ويخشى مخبره، وتحذر مغبته. ومنها ما يبهج منظره، وتسر رؤيته، وتخدع غايته وتغر عقباه. ما هي تلك الألوان؟ حماية رجال الديانة المسيحية. رعاية المصالح الخصوصية. وقاية البلاد من الأعداء. إصلاح البلاد ونشر المدنية فيها. الاحتلال المؤقت لمعاهدات مخصوصة. الحماية. الاستئجار! كل هذه ألفاظ لا معنى لها إلا الاستيلاء والتملك بدون حرب ولا كفاح. وقد نجحت الدول القوية في هذه الحروب السياسية والفتوحات السلمية، وكادت - لولا تنازعها - تستولي على جميع بلاد آسيا وإفريقيا. على أن التنازع ما أوقف تسيارها ولا صد تيارها، وقصارى ما فعل أنه أطعمها الفريسة لقمة لقمة، فأفادها بما أمنها من تعسر الازدراد وتعذر الهضم إذا هي التهمتها مره واحدة. هل تنبه الشرقيون لهذه القوارع التى تقع على رءوسهم، والصواخِّ التى تطرق آذانهم، وأصابع الحوادث التى تكاد تفقأ عيونهم؟ نعم، قد تنبهوا وشعروا بالرجز الأليم، وطفقوا يتململون كما يتململ السليم، إلا قليلاً منهم (صم بكم عمي فهم لا يعقلون) . نعم قد تنبهوا لمصابهم، ولكن هل علموا بعلته وأسبابه؟ كلا سوف يعلمون، ثم كلا سوف يعلمون. لو علموا السبب لاندفعوا لإزالة العلة قبل استحكامها، ومداواة الداء قبل الإيداء (الهلاك) فلا بد من العلم قبل العمل {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْئَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 26) كيف يهلك الله الشعوب ويبيد الأمم، وكيف يديل من الدول دولاً وينزع السيادة من قوم، ويستخلف من بعدهم قومًا آخرين؟ يقول المسلمون: إن الدين هو الذي كان سبب سيادتهم وسعادتهم، وإن الإعراض عنه هو الذي أوقعهم في الشقاء وأنزل عليهم البلاء. ويحتجون بآيات من الكتاب العزيز، كقوله تعالى {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) وقوله تعالى {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) حقًّا قالوا، ولكن أكثرهم يلهج بالقول عن غير فهم ولا بصيرة، متوهمين أن في الدين سرًّا روحانيًّا غير معقول، يمد الآخذين به بالنصر والقوة ويعطيهم الغلب بالخوارق والكرامات! ويقول الناظرون في سير الإنسان في زمانهم الحاضر والواقفين على تاريخه في الزمن الغابر: إن ضعف الأمم وانحلالها، وهلاك الشعوب وانقراضها، وعزة الدول وامتناعها، وسيادتها وارتفاعها، كل ذلك جارٍ على نواميس طبيعية، وسنن إلهية، لا تغير ولا تحور ولا تبدل ولا تحول، وقد هدى الله بفضله النوع الإنساني النجدين، وبين له الطريقين، فمن سار على طريق الترقي والسيادة، مراعيًا سنن الله تعالى فيهما وصل إليهما، سواء كان مؤمنًا أم كافرًا، فالدين لا أثر له في عزة الأمم ولا في ضعفها واستكانتها، والشاهد على ذلك أن جميع الدول الإسلامية اليوم ضعيفة، ودولة اليابان الوثنية في أعلى درجات القوة والعزة، بل إن الأمم المتمدنة تعتقد أن الدين حجاب كثيف يحول دون الارتقاء، لولا أن مزقته لما لاح لها نور العلم بطرق السعادة، وقيد ثقيل لولا أن فكوه لما أمكنهم الإيجاف والإبضاع والتزلل والارتفاع، ولظلوا يرسفون رسفان (مشي المقيد) من لا تزال القيود في أرجلهم، والأغلال في أعناقهم، ومن رأي هؤلاء: أن العقبة الكبري في طريق تقدم الدول الإسلامية هو الدين نفسه، وأنهم إذا مرقوا منه رجي لهم اتباع خطوات أوروبا وتقدموا كما تقدمت! من كان مبغضًا للمسلمين من هؤلاء يسجل عليهم الضعف والانحطاط، بل يعدهم بالحِمام والموت الزؤام. ومن يحب المدافعة عنهم لأمر ما يقول: إن فيهم قابلية للنهوض والترقي والأخذ بأساليب المدنية الجديدة التي ساد فيها غيرهم، مستدلًّا بأن الحكومة المصرية مثلاً لا تأبى قبول أي عمل تأتيه الحكومات الأوروبية حتى إباحة الموبقات من السفاح والسكر ونحوه، لكن الشعوب الإسلامية لجهلها لا تجاري حكامها التي نزعت إلى الإصلاح الأوروبي، ولذلك يحكم علماؤها بكفر الآخذين بالتمدن الأوروبي من حاكم ومحكوم، فدليل الترقي (وهو تقليد أوروبا على رأيهم) هو عند تلك الشعوب دليل على الانحطاط والتدلي؛ لأنهم يعتقدون أن التقدم محصور في التسمك بالدين، والجري على آثار آبائهم الأولين، فيجب على الحكومة تعليمهم وتنبيههم ليساعدوها على الإصلاح، وإلا تعذر النجاح واستحال الفلاح. هذا ملخص ما يقوله فينا المتمدنون، ويكتبه في سياستنا الكاتبون، وقد اشتبه على الدهماء منا حقه بباطله، ورأى فيه المنحرفون شبهة على بطلان الدين، وهبوطه بالآخذين به إلى أسفل سافلين؛ لأن من المشهود الذي لا يمكن إنكاره أن المسلمين أمسوا أفقر الأمم وأكسلها وأجهلها، ودولهم باتت أضعف الدول وأظلمها. ولا فرق بينهم وبين جيرانهم يضاف إليه هذا التقهقر والانحطاط إلا في الدين، فلا جرم أن الناظر في طبائع الملل يضيف ذلك إليه ويقرنه به، وإننا نكشف الغطاء عن تحقيق الحق في المسألة لينجلي الصبح لذي عينين فنقول: قول المسلمين: إن الدين هو الذي كان سبب سيادتهم وسعادتهم، وإن خسران تلك السيادة والسعادة إنما جاء من الانحراف عن هديه - صحيح، وقول القائلين: إن الله - تعالى - قد جعل لارتقاء الأمم سننًا حكيمة من سار عليها فاز ومن تنكبها خسر مهما كان دينه - صحيح أيضًا، وقد صرحنا بمثله غير مرة (انظر العدد 15 من المنار) وقد غالى كل فريق في رأيه، فزعم المسلمون أن الانتساب للدين فيه أسرار غير معقولة تعطي أصحابه قوى غيبية تكون بها غلبتهم على من سواهم، وزعم الآخرون أن الدين لا أثر له في الإسعاد، بل هو موقع لأربابه في الشقاء، فأفرط الغالون وفرط المارقون، اغترارًا بأولى المسلمين، وآخرة الأوروبيين، ولم تخرج سيادة المسلمين في أول نشأتهم عن نواميس الكون إلا ما أمد الله به نبيه (صلى الله تعالى عليه وسلم) عند ضعف المسلمين ووهنهم بالمعونة الربانية زيادة عن المحافظة على السنن العامة، وتلك سنته تعالى مع أنبيائه. ألم تر كيف كان الظفر كاملاً والتأييد شاملاً في غزوة بدر ووقعه الأحزاب ونحوهما مع قلة المسلمين وضعفهم، ويوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئاً وولوا مدبرين؟ وكيف انكسروا في واقعة أحد لإخلالهم بالسنة الإلهية، وهي طاعة الرئيس بالحق. وأما أوروبا فإن الدين لم يكن صادًّا لها عن التقدم إلا بما زاد عليه الرؤساء من المنع عن النظر في نواميس الكون وسائر الفنون العقلية، وسلب الاستقلال في الإرادة والرأي، والحرية في القول والعمل، بحجة الدين. فلما اهتدى القوم إلى هذا بما اقتبسوه من الإسلام في حروبهم الصليبية أقاموا في ضوئه أساس مدنيتهم، ولما أحسوا بلذة المدنية طفقوا ينسلون من الدين الذي كان مانعًا لهم منها، ولكن نبذ الدين رماهم بشرور ستضطرهم إلى الرجوع إلى الدين يومًا ما؛ لأن كمال البشر لا يتم إلا به كما قال وعلى الوجه الذي بينه أستاذنا في رسالة التوحيد. والاعتدال في مسألتنا الذي نريد أن نبينه هو: أن الدين الإسلامي دين الفطرة لما كان مرشدًا إلى سعادة الدنيا والآخرة معًا بيّن للناس أن لله في خلقه سننًا حكيمة، لا تبدل ولا تحول، وهداهم إلى السير عليها، وشرع لهم من الأحكام ما إن تمسكوا به لن يضلوا عن طرق السعادة أبدًا، ومن السنن التي بينها القرآن بيانًا كافيًا وكرر القول فيها سنته تعالى في إهلاك الأمم وسقوط الدول، قال تعالى {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} (يونس: 13) وقال تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) وقال تعالى {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص: 59) وبيَّن تعالى أن الظلم إذا وقع في أمة يعمها العذاب، وإن لم يواقع الظلم جميع أفرادها، فقال {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال: 25) والآيات الناطقة بأن الظلم مؤذن بهلاك الأمم وفساد العمران كثيرة جدًّا، وتقابلها الآيات المبينة أن التقوى والصلاح، والإصلاح والعدل ونحوها من صفات الكمال واقية من حلول البلاء، وسبب لزيادة النعماء، وهي كثيرة أيضًا منها {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) الصالح في عرف المسلمين من يقوم بحقوق الله وحقوق العباد، وقال الشيخ الأكبر- قدس الله سره -: المراد بالصالحين هنا الذين يصلحون لعمارتها وإدارة أعمالها ومنها {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) . وقد صدرنا هذه المقالة بآية كريمة وموعظة حكيمة وهي {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) قوله تعالى] وَمَا كَانَ رَبُّكَ [ ... إلخ معناه: ما كان من شأنه ذلك، ولم تجر سنته به، فكل آية مصدرة بذلك فهي قاعدة عامة تنبئ عن سنة ثابتة، وفسر الظلم في الآية بالشرك، وهي نص على أن إصلاح الناس فيما بينهم مانع من إهلاكهم وتسليط الأعداء عليهم وإن كانوا مشركين بالله تعالى، وفيها دليل على أن الإيمان بالله من غير إصلاح الأعمال وعدل العمال لا يمنع الإهلاك، يؤيده قوله تعالى {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأنعام: 48) وقوله عز وجل {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) وتأمل قوله] كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم [ففيه إشارة إلى أن سنته تعالى واحدة، وأما آية {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) فيحمل الإطلاق فيها على التقييد في الآيات الكثيرة أو يراد بالتعريف: التعظيم، والمراد: المؤمنون الكاملون الذين يقومون بحقوق الإيمان، على أن الإيمان يطلق كثيرًا على التصديق والعمل الصالح معًا، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة، ومنها ما ورد: أن الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق. أرشد الدين الإسلامي إلى السنن الإلهية وأمر بالنظر في الكون والتفكر والاعتبار، وفصل ما تمس إليه الحاجة، وهدانا إلى أن لكل عمل أثرًا لا يتعداه، وأن الأسباب مربوطة بمسبباتها، وكل سبب يفضي إلى غاية، والأمور الدنيوية لا يمنعها الله عن طلابها إذا أتوا البيوت من أبوابها، والتمسوا الرغائب من طرقها وأسبابها، سواء كانوا مؤمنين أم كافرين، وإنما الإيمان شرط للمثوبة في العقبى وكمال السعادة في الدنيا {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَ

رسالة الحاسد والمحسود للجاحظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة الحاسد والمحسود (للجاحظ) منقولة عن نسخة بخط علي بن هلال الكاتب الشهير (تابع ما قبله) وكيف يصبر من استقر الحسد في قلبه على أمانيه، وقد كان إخوة يوسف علماء حلماء ولدهم الأنبياء، فلم يغفلوا عما قدح في قلوبهم من الحسد بيوسف صلى الله عليه وسلم، حتى أعطوا أباهم المواثيق المؤكدة، والعهود المقلدة، والأيمان المغلظة، أنهم له حافظون، وهو شقيقهم وبضعة منهم، فخانوا العهود، ووثبوا عليه بالظلم فألقوه في غيابة الجب، وجاءوا على قميصه بدم كذب، فبظلمهم يوسف ظلموا أباهم طمعًا أن يخلو لهم وجه أبيهم ويتفردوا بحبه، وظنوا أن الأيام تسليه، وحبه لهم عن بعده عنه يلهيه، فأسالوا عبرته وأحرقوا قلبه. وكيف لا تقر عيون المحسودين بعد يوسف، وقد ملكه الله خزائن الأرض بصبره على أذى حساده، ومقاصته إياهم بالعفو والمكافأة وحسن العشرة والمؤاخاة، بعد إمكانه منهم لما أتوه ممتارين، ووفدوا عليه خائفين، وهم له منكرون، فأحسن وفدهم وأكرم قراهم، فأقروا له لما عرفوا بالإذعان، وسألوه بعد ذلك الغفران، وخروا له سجدًا لما قدموا عليه وفدًا. فاذا أحسست - رحمك الله - من صديقك بالحسد، فأقلل ما استطعت من مخالطته، فإنه أعون الأشياء لك على مسالمته، وحصن سرك منه تسلم من شذاة شره وعوائق ضره، وإياك والرغبة في مشاورته، فتمكن نفسك من سهام مساورته، ولا يغرنك خدع ملقه وبيان زلقه، فإن ذلك من حبائل ثقافه، فإن أحببت أن تعرف آية مصداقه، فدس له من يهجنك عنده ويذمك بحضرته، فإنه سيظهر لك من تشبيبه لك ما أنت به جاهل، ومن خلال المودة ما أنت عنه غافل، لهو ألجٌّ في حسده لك من الذباب، وأسرع في تمزيقك من السيل إلى الحدور. وما أحب أن تكون عن حاسدك غبيًّا، ولا عن فهمك بما في ضميره نسيًّا، إلا أن تكون للذل محتملاً وعلى الدناءة مشتملاً ولأخلاق الكرام مجانبًا وعن محمود شيمهم ذاهبًا، أو تكون بك إليه حاجة قد صيرتك لسهام الرماة هدفًا وعرضك لمن أرادك غرضًا، ولو نلت بذلك كنوز قارون لم يكن ذلك مما بذلت عوضًا، وقد قيل على وجه الدهر: (الحرة تجوع ولا تأكل بثدييها) . وربما كان الحاسد المصطنع إليه بالمعروف أكفر له وأشد اجتهادًا وأكثر تصغيراً لذاك من أعدائه. وكان الحسن بن هانئ يرتع على مائدة إسماعيل الهاشمي، وكان من المطعمين للطعام المسرفين، فعارض الحسن بن هانئ يومًا بعض أصحابه فقال له: من أين؟ فقال له: من عند إسماعيل، فقال له: ما أطعمكم؟ فقال: أطعمنا دماغ كلب في قحف خنزير! فلم يكن منه هذا القول إلا على وجه الحسد، ولم يسلم منه مع كثرة أنسه به وكثرة سيبه إليه حتى احتشد واحتفل في الذم له والتهجين لطعامه. ولولا شدة ورع ابن سيرين وصدق لهجته لم يكن قوله فيما قال وأخبر عن نفسه من اطراح الحسد عن قلبه مرويًّا عنه، وعند ذوي العقول معجبًا حيث قال: (ما حسدت أحدًا على شيء، إن كان من أهل الجنة فما حسدي لرجل من أهل الجنة؟! وإن كان من أهل النار فما حسدي لمَن يصير إلى النار؟ !) . ومتى رأيت حاسدًا يصوب لك رأيًا وإن كنت مصيبًا؟ أو يرشدك إلى صواب وإن كنت مخطئًا؟ أو نصح لك في غيبة عنك أو قصر في عيبة لك؟ هو الكلب الكلِب والنمر الحرِب والسم القشب والفحل القطم والسيل العرم، إن ملك قتل وسبى، وإن ملك عصى وبغى، حياتك موته وثبوره، وموتك عرسه وسروره، يصدق عليك كل شاهد زور، ويكذب فيك كل عدل مرضي، لا يحب من الناس إلا من يبغضك، ولا يبغض إلا من يحبك. عدوك بطانته وصديقك علاوته، وإنك ربما غلطت في أمره لما يظهر لك من بره، ولو كنت تعرف الجليل من الرأي والدقيق من المعنى، وكنت في مذاهبك فطنًا نقابًا، ولم تكن في عيب من أوضح لك عيبه مرتابًا - لاستغنيت بالرمز عن الإشارة، وبالإشارة عن الكلام، وبالسر عن الجهر والخفض عن الرفع، وبالاختصار عن التطويل، وبالجمل عن التفصيل، وأرحتنا من طلب التحصيل، ولكن أخاف أن قلبك لصديقك غير مستقيم، كما أن ضمير قلبك غير سليم. إنك غير سالم منه وإن رفعت القذى عن لحيته، وسويت عليه ثوبه فوق منكبه، ولبست ثوب الاستكانة عند رؤيته، واغتفرت له الزلة بعد زلته، واستحسنت كل ما يقبح من شيمه، وصدقته على كذبه، وأعنته على فجرته. فما هذا العناء؟ وما هذا الداء العياء؟ كأنك لم تقرأ المعوذة ولم تسمع مخاطبة الله نبيه صلى الله عليه وسلم في التقدمة إليه بالاستعاذة من شر حاسد إذا حسد؟ أتطلب - ويحك - أثرًا بعد عين؟ أو عطراً بعد عروس؟ أو تريد أن تجني عنبًا من شوك؟ أو تلتمس حلب لبن من حائل؟ إنك إذاً لأعيا من باقل، وأحمق من الضبع، إن كنت تجهل بعد ما علمناك وتعوج بعد ما قومناك، وتبلد بعد ما ثقفناك، وتضل إذ هديناك، وتنسى لما ذكرناك، وتغبى عما فهمناك، وأنت كمن أضله الله على علم فبطلت عنده المواعظ، وعمي عن المنافع، فختم على قلبه وسمعه، وجعل على بصره غشاوة، نعوذ بالله من الخذلان، إنه لا يأتيك ولكنه يناديك، ولا يحاكمك ولكنه يوازنك، أحسن ما تكون عنده حالاً أقل ما تزيد مالاً وأكثر ما تكون عيالاً، وأعظم ما تكون ضلالاً، وأفرح ما يكون بك أقرب ما يكون بالمصيبة عهدًا، وأبعد ما تكون من الناس حمدًا، فإذا كان الأمر على هذا فمجاورة الأموات ومخالطة الزمنى والاجتنان بالجدران ومص المصران وأكل القردان، أهون من معاشر مثله والاتصال بحبله. والغل نتيج الحسد ورضيعه، وغصن من أغصانه، وعون من أعوانه، وشعبة من شعبه، وفعل من أفعاله، وحدث من أحداثه، كما أنه ليس فرع إلا له أصل ولا مولود إلا من مولد، ولا نبات إلا بأرض، ولا رضيع إلا له مرضع، وإن تغير اسمه فإنه صفة من صفاته ونبت من نباته ونعت من نعوته، ورأيت الله جل ثناؤه ذكر الجنة في كتابه فحلاها بأحسن حلية وزينها بأحسن زينة، وجعلها دار أوليائه ومحل أنبيائه، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فذكر في كتابه ما منَّ به عليهم من السرور والكرامة عندما دخلوها وبوأها لهم فقال {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ * لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر: 45- 48) . فما أنزلهم دار كرامته إلا بعد ما نزع الغل من صدورهم، فبافتقاد الغل والحسد تهنوا بالجنة وقابلوا إخوانهم على السرر وتلذذوا بالنظر في مقابلة الوجوه بسلامة صدورهم ونزع الغل والحسد من قلوبهم، ولو لم ينزع ذلك من صدورهم ويخرجه من قلوبهم لافتقدوا لذاذة الجنة، ولتدابروا وتقاطعوا وتحاسدوا، وواقعوا الخطيئة، ولمسهم فيها النصب وأعقبوا فيها الخروج، لأنه عز وجل فصل بينهم في المنازع ورفع درجات بعضهم فوق بعض في الكرامات وسني العطيات، فلما نزع الغل والحسد ظن أدناهم منزلة فيها وأقربهم بدخول الجنة عهدًا أنه أفضلهم منزلاً وأكرمهم درجة وأوسعهم داراً، بسلامة قلبه ونزع الغل من صدره، فقرت عينه وطاب أكله، ولو كان ذلك لصاروا إلى التنغيص في النظر بالعيون والاهتمام بالقلوب، ولحدثت فيهم العيوب والذنوب، وما أرى السلامة إلا في قطع الحاسد، ولا السرور إلا في افتقاد وجهه، ولا الراحة إلا في صرم مداراته، ولا الربح إلا في ترك مصافاته، فإذا فعلت ذلك فكل هنيئًا واشرب مريئًا ونم رخيًّا وعش في السرور مليًّا، ونحن نسأل الله الجليل أن يصفي كدر قلوبنا ويجنبنا وإياك دناءة الأخلاق، ويرزقنا وإياك حسن الألفة والاتفاق. أحسن الله توفيقك، والسلام.

الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المناقشة السادسة من الشعب الأول من المقصد الثاني من كتابنا الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية قد علم من الشاهد الثامن والعشرين والتاسع والعشرين أن صاحب لباب المعاني جهل الشيخ القادري بأنه لا يفرق بين السحر والكرامة ولا بين أهلهما، وذلك لأنه قال: إن أكل الحيات ودخول النار من السحر - كما تقدم - وقال: إن قلب الخارقة بدعة منكرة من الضلال أو الكفر. أقول: قد نقل جماهير المؤرخين أن الطائفة الرفاعية فشا فيها بعد الشيخ أحمد الكبير الرفاعي - رحمه الله تعالى - اللعب بالحيات وأكلها في الحياة، أي من غير تذكية ولا طبخ، وتسلق النخل ونحوه من الأشجار، وإلقاء أنفسهم منها إلى الأرض، وركوب الوحوش البرية، ومن الناقلين لذلك من أثبت القول على غره، ولم يتبعه باستقباح ولا استحسان ولا تخطئة ولا تصويب، ومنهم من صرح بتخطئتهم وكون أعمالهم هذه من البدع المنكرة في الدين كشيخ الإسلام أحمد بن تيمية والحافظ ابن كثير والحافظ الذهبي والفقيه المحدث العيني، نقل هذا الشيخ أبو الهدى أفندي أحد مشاهير أرباب الطريقة الرفاعية في عصرنا في الصفحة الثانية عشرة بعد المائتين من كتابه (قلادة الجواهر) وأطال المباحث فيه في عدة صفحات تلي الصفحة المذكورة، صرح في بعضها بنصوصهم، ومن ذلك ما كتبه في صفحة 216 ونصه: (وانظر قول الذهبي في تاريخه عند ذكر سيدي أحمد الكبير الرفاعي رضي الله تعالى عنه: وكان المنتهى إليه في التواضع والقناعة ولين الكلام والذل والانكسار والإزراء على نفسه وسلامة الباطن، ولكن أصحابه فيهم الجيد والرديء، وقد كثر الزغل فيهم وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق، من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات، وهذا لا عرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه) اهـ بحروفه، قلت: ثم آخذ الحافظ الذهبي بعد نقل عبارته هذه بأنه قصر في ترجمة الرفاعي حيث لم يذكر كراماته التي منها دخول النار، إلى آخر ما ذكره الذهبي عن طالحي أتباعه ونفاه عنه، وكذلك فعل غيره في صفحة 217: (إنهم تصدروا لقلب الكرامة إلى البدعة وجعلوها من الأمور المنكرة لأجل الحسد - قال -: وقالوا عند ذكر كراماتهم: ما عرفها الشيخ ولا صلحاء أصحابه، فكيف لا يعرفها وهي كراماته الباهرة) . قلت: وعلى هذا جرى في كتاب (لباب المعاني) على ادعاء أن تلك الأمور كرامات، وأن المنكر عليها حوّل الكرامة إلى البدعة، ورتب على ذلك القول بجهل الشيخ القادري مؤلف (الفتح المبين) والحكم بأن ذلك من الضلال والكفر، فللشيخ القادري أسوة حسنة في أئمة دين الله عز وجل، وحفاظ أحاديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، حيث طعن فيه هؤلاء الرفاعية بمثل ما طعنوا فيهم. والحكم الصحيح في المسألة: أن بعض ما ينقل عنهم معصية قطعًا باتفاق أئمة الإسلام، كأكل الحيات حية، وبعضها يحصل بالتعوّد والتمرّن لكل من حاوله وزاوله، كإلقاء الرجل بنفسه من شاهق إلى الأرض وهو من الصناعات المستفادة بالتجربة، وقد برع به الأوروبيون منذ نما عمرانهم واتسعت حضارتهم، ومبناه على تحصيل ملكة حفظ الموازنة في كل حال من الأحوال التي يتقلبون بها في ألعابهم، بحيث يتغلبون على سلطان الوهم المعارض لمن يحاول مثل تلك الأعمال من غير تحصيل ملكتها، هذا ما يفهمه الفقير من التعليل على ذلك. والقائمون بهذه الصناعة مشاهدون في كل قطر، وانما يكثرون حيث تكثر مواد الرفاهة باتساع العمران، وكذلك اللعب بالحيات وأكلها يناط بالتعود كما هو ظاهر. وأما دخول النار والدنو من السباع الضارية، فقد يكون كرامة وقد يكون حيلة وشعوذة وغير ذلك. ومعلوم أن علماء الدين يشترطون لكون الخارقة كرامة أن تصدر من ظاهر الصلاح، سالك سبيل التقوى، والرفاعية المشهور عنهم ذلك ليسوا كذلك، كما هو مسطور في زبر الأولين والآخرين من العلماء، بل وفي كتب هؤلاء الرفاعية المدعين لذلك، قال العلامة المدقق شهاب الدين السيد محمود الآلوسي البغدادي في تفسيره (روح المعاني) ما نصه: (وما يشاهد من وقوع دخول النار لبعض المنتسبين إلى حضرة الولي الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره من الجهلة الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفارًا، فقيل: إنه من باب السحر المختلَف في كفر فاعله وقتله، فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح، ولا يبعد أن تكون كفرًا، وإن كان معها ما لا كفر فيه) ثم نقل من العبر مثل ما تقدم عن الذهبي، وذكر أنه شاهد منهم من دخل النار وجعل يشرب الخمر فيها، وقد أطال العلامة ابن أمير حاج في بيان أن هذه الأمور الشيطانية لا تكون كرامة، وليس فاعلوها بأهل للكرامة، ولا أرى الشيخ القادري إلا ناقلاً عن هؤلاء الأجلة والبحريني نسب له ذلك توسلاً وتوصلاً للنيل من دينه وعرضه، وإن نقل عند أجوبته عن هذه الأمور صورة استفتاء يقول فيه السائل ما ملخصه: (ما القول في جماعة يدخلون النار ويأكلون الحيات ويشربون السم ويفعلون أمثال ذلك من الأشياء المبتدعة الخارقة للعادة التي لم يتفق وقوعها في الصدر الأول، والكثير منهم على غير الطريق المستقيم؟ اهـ) ومضمون هذا مسلم عندهم، وقد أجابوا عن ذلك بما لا يخلو عن نظر، بل هو فاسد على الغالب، وسيأتي بسط هذا المقام بتحرير الإيرادات والأجوبة، وتمييز الحق من الباطل، ونقول العلماء في ذلك في المقصد الخامس إن شاء الله تعالى، وقد اشترط الشيخ أبو الهدى أفندي في صفحة 39 من كتابه (هداية الساعي) المرخصة في عمل هذه الأشياء (اللعب بالنار والدبوس والحيات وأكلها) : (أن يكون لإزالة إنكار كافر على الدين بشرط أن يؤمن بعد ذلك، قال: وإلا فلا رخصة في عمل شيء منها قطعًا، وإن من اشتغل بها آثم، واقع في الحرام، عاصٍ للشرع) اهـ. وسيأتي البحث في هذه الجملة وفيما ينافيها من كتب قائلها الأخيرة.

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد قرأنا في رفيقتنا (ترجمان) الغراء التي تطبع في القريم ما تعريبه: إن المسلمين ببلدة باطوم اتحدوا على جمع إعانة لتأسيس مدرسة، فتسدد لهم في مدة وجيزة الحصول على ألفين وخمسمائة روبل. ثم لما بلغ ذلك حضرة السري الوجيه نوري بك خاليف أحد أهالي تلك البلدة تبرع بأرض واسعة الأرجاء تحتوي على بستان فاخر وبها أماكن مبنية بالأحجار المتينة. بلغنا أن هيئة المالية البلجيكية قد راجعت الحكومة السنية في الحصول على امتياز يخولها إنشاء ترامواي في مدينة بيروت. حدث زلزال في ليلة الأربعاء الماضية بجزيرة ساقس بأربع هزات متوالية، فاستولت الدهشة على سكانها وراحوا يتسابقون إلى خارج البلد، حيث قضوا ليلتهم، أما الأضرار فقد أصابت بعض الجدران وسقطت بعض قطع القرميد من سطوح المنازل. ... ... ... ... ... ... ... (كوكب العثماني) *** (التعليم في الجامع الدسوقي) لما كان الجامع الدسوقي من أجل المواقع لتعليم العلم الشريف، وكان حوله وأمامه كثير من البلاد التي لا يقدر أهلوها على تعليم أولادهم العلم في الأزهر المنيف؛ لما يعوزهم من ضروريات الحياة، وكان هذا الجامع الدسوقي ملحقًا بإدارة الجامع الأزهر - اشتغل مجلس إدارته بوضع نظام لسير التعليم والامتحان عليه من دسوق، فجاء والحمد لله وافيًا بالمقصود منه. ثم رأى مجلس الإدارة أيضًا أن إصلاح التعليم في الجامع الدسوقي يتوقف على إرسال بعض من حضرات العلماء الأزهريين إليه زيادة عمن فيه من حضرات علمائه السابقين، فعين له ثلاثة من علماء الأزهر: اثنان مالكيان وهما حضرتا الشيخ يوسف فيوص والشيخ رفاعي عامر، وواحد شافعي وهو حضرة الشيخ مصطفى نفادي، وقد سافر حضراتهم من الأزهر إلى دسوق يوم الخميس الماضي، ويشتغلون بتدريس العلوم الشرعية ووسائلها في الجامع الدسوقي على حسب النظام الذي وضع للتدريس فيه، وعلى حسب قرارات مجلس الإدارة المبينة لآداب الطالب والأستاذ وللكتب التي تمنع قراءتها بالحواشي والتي يسوغ تدريسها معها بطريق التخيير، وغير ذلك من النظامات. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المؤيد) *** (نور اليقين في سيرة سيد المرسلين) ذكرنا في المقالة التي صدّرنا بها العدد الماضي أن التاريخ من العلوم التي ينبغي أن تعلم لجميع أفراد الأمة، ولا سيما تاريخ الأمة والملة والوطن، وأومأنا إلى الفائدة في ذلك، وعلى هذا تجري جميع الأمم المتمدنة في تربية أبنائها وبناتها. يسمي المسلمون التاريخ الذي يبحث عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم علم السيرة. ولدراسة هذا النوع من التاريخ فوائد كثيرة؛ لأنه تاريخ أمة ودين وبلاد ورجال عظام، فهو يسمو بقارئه إلى معرفة كيفية ظهور الدين الإسلامي، واشتراع شريعته، وتأسيسه أمة كانت أحقر الأمم وأبعدها عن التهذيب والمدنية، وارتقائه بها إلى أسمى مراقي التهذيب والسعادة. ولذلك يتنافس فيه الإفرنج، وقد ألفوا فيه كتبًا كثيرة، لهم فيها مذاهب كثيرة، ولا يزالون يدأبون في البحث عنه ويعنون بالتوسع فيه. وما أجدر أتباع هذا النبي وأصحاب هذا الدين بمثل ذلك. ولكن من الأسف أن نراهم معرضين عنه كل الإعراض، وكتبهم فيه قليلة وغير منقحة! وطالما كنت أفكر في حاجتنا إلى كتاب موجز في ذلك ليتدارسه من لا تسمو هممهم إلى قراءة المطولات، وليقرأ في المدارس الإسلامية فيكون عونًا لأبنائها على فهم الدين وتحبيبه إليهم، فإن قراءة السير لها من الشأن في تقوية الاعتقاد ما ليس لكتب العقائد. وقد أدركت الضالة ووافتني الرغيبة في كتاب: (نور اليقين في سيرة سيد المرسلين) فإن مؤلفه الأستاذ الفاضل الشيخ محمد الخضري قد اعتمد فيه على صحاح الأخبار، وأغضى عن الخرافات والغرائب التي ولع بها أكثر المؤلفين، فجاءوا بالغثّ والسمين، ومهد لكثير من الحوادث تمهيدات تشرف بالقارئ على سرها، وأرشد أهل العصر للاعتبار بها بإشارات لطيفة ومقارنات منبهة، وتعليل يشفي العليل مع أنه قليل، ولولا ضيق المقام لأوردنا من ذلك شيئًا، ولعلنا نوفق لذلك في عدد آخر. وعسى أن يزيد الأستاذ المؤلف تنقيحه في طبعة ثانية، ويعنى بنفسه في تصحيح الطبع، فيزيل بين ألفاظ الأحاديث النبوية وما أدرج معها وامتزج بها، بوضعها بين أقواس، وكذلك الآيات القرآنية، ولقد فعل ذلك بالطبعة الأولى ولكن لم يكن تامًّا. وأقترح على حضرته أيضًا عزو الأحاديث إلى مخرجيها والإشارة إلى صحتها أو ضعفها وبذلك تتم الفائدة. وبالجملة: إن هذا الكتاب لا يوجد مثله في هذا الفن، فهو على اختصاره أنفع من المطولات التي تثير على الدين بعض الشبهات بما جاءت به من الغرائب التي يتوهم أصحابها أنهم يقوون بها الدين، ويعظمون سيد المرسلين. فنشكر حضرة المؤلف ونثني عليه بلسان الإسلام أطيب الثناء، ونحث جميع المسلمين على مطالعة الكتاب وقراءته لنسائهم وأبنائهم، ونستلفت على الخصوص رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية وأعضاءها وجمعية العروة الوثقى إلى تقرير قراءته في مدارسهما، والله الموفق. *** (مرآة المرأة) أهدانا حضرة الفاضل الماس أفندي فوزي ناظر المدرسة العثمانية ومؤسسها نسخة من كتابه: (مرآة المرأة) وهو كتاب مصور يبحث في الشؤون العائلية، ويهدي أرباب البيوت إلى كيفية إدارتها على وجه السداد. *** (التعليم والتربية عند نساء الآستانة) وأهدانا حضرة الفاضل محمد أفندي ضيا مترجم العقيدة الإسلامية رسالة: (التعليم والتربية عند نساء الآستانة) وهو ترجمة خطاب في تربية المرأة في الإسلام خصوصًا والشرق عمومًا ألقته السنيورتيه السميرالده سرفانتس على مؤتمر النساء في معرض كولومبيا في يوليو سنة 1893م. ولا يخفى أن موضوع الكتاب والرسالة من أشرف المواضيع التي نحن في أشد الحاجة إليها، فنشكر سعي الفاضلين ونحث على اقتناء الكتابين، ولم تسمح لنا الفرصة بمطالعتهما لنقرظهما وننتقدهما. *** دفعت حكومة مراكش 150 ألف فرنك لحكومة البرتغال و 200 ألف فرنك لإيطاليا تعويضًا عن تعدي عصائب الريف على رعاياهما، فهكذا الجهل يدمر البلاد، وتقول بعض الجرائد الإسلامية: إننا هوَّلنا في شأن مراكش حين أنذرناها بالهلاك إذا لم تصلح شؤونها، وهؤلاء غاشُّون للمسلمين، وأولئك عارٌ على الإسلام.

ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*] اللهم غوثًا غوثًا ورحمةً ولطفًا. اللهم عونًا عونًا ومِنَّةً وفضلاً. انظر اللهم إلى هذه الأمة التي شقيت بعد السعادة، واستعبدت بعد السيادة، وذلت بعد العز، وافتقرت بعد الغنى، وضعفت بعد القوة، وجهلت بعد العلم، وظلمت بعد العدل، وفسقت بعد الطاعة، و {كَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل: 112) . اللهم قد مسن الرجال وفنك النساء وعم الجهل وساءت التربية وأرسلت الحبال على الغوارب، فصار المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والأخرق وليًّا والعاقل مقليًّا، وهضمت الحقوق وكثر العقوق وفشا الكذب وأكل السحت، فأنزلت على الأمة الغضب والمقت: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (البقرة: 61) . اللهم إن حكامنا قد أطلقوا الحرية في الفسق والكفر، وقيدوا الحرية في العلم والفكر، وتركوا شريعتك السماوية واستبدلوا بها القوانين الوضعية، وشرعوا للرئيس الأكبر سلطة مقدسة ينسخ بها ما أحكمتَ ويبيح ما حظرتَ ويحظر ما أبحتَ ويعفي عمن عاقبت (أي حكمت عليه بالعقوبة) {فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} (النحل: 113) . اللهم إن علماءنا قد تركوا القرآن والسنة وأخلاق الدين، وعكفوا على الخلاف والبحث في ألقاب المؤلفين وأهملوا إرشاد الأمة لأن بعض فقهائهم قال: لا يجب على العالم أن يُعلِّم ما لم يُسأل، وأَنَّى يسأل الجاهل المطلق؟ وأولوا قولك {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وقولك {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} (التوبة: 122) . اللهم إن قراءنا ومرشدينا قد اتخذوا دينهم هزؤًا ولعبًا وغرتهم الحياة الدنيا: يقرءون القرآن تغنيًا في الأزقة والشوارع والملاهي والمجامع، لا يجاوز حناجرهم. وقد استبدلوا بذكرك التغني والرقص والتثني، وما كان ذكرهم إلا جمجمة وحمحمة ودمدمة وهمهمة. {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزمر: 22) قادوا الأمة بزمام الذل إلى مقاصدهم فماتت هممها وتراكمت غممها زعمًا بأن شيوخهم كانوا من الأذلين، وأنت تقول: {َلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) علموها الاحتجاج على الشر بالقضاء والقدر الذي نهى نبيك عن الخوض فيه، ودحضت فيه احتجاج المشركين، وعنفتهم على سوء أدبهم، حيث قلت في كتابك العزيز {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) . اللهم إنهم قد حولوا قلوب عبادك عنك إلى شيوخهم، فصاروا يستعينون بهم في رغائبهم ويستغيثون بهم في نوائبهم ويطوفون بقبورهم متضرعين، ولأحجارها مقبِّلين ولحاجهم منهم طالبين، ويقولون: إنهم شفعاؤهم عندك، يقربونهم إليك زلفى. وما كان الشرك الذي محاه كتابك وعابه على من قبلهم إلا مثل هذا. ولكنهم حرفوا وأولوا، وغيروا وبدلوا، احتجاجًا بكرامتك لأوليائك المخلصين. نعم إن فضلك يمنح من أطاعك الكرامة، ولكن ما كنت لترضى بقول هؤلاء: إن سمواتك السبع بمن فيها من ملائكتك المقربين وأرواح أنبيائك المرسلين صارت في رجل أحد شيوخهم كالخلخال، وهو الذي من لمسه أو لمس أحد خلفائه وذريته لا تمسه النار، وأن أحدهم يسعد ويشقي ويفقر ويغني ويميت ويحيي (كما قالوا في سيدي أحمد الرفاعي وعبد الرحيم الرفاعي قدس الله سرهما من هذا الضلال) وأنت تقول: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48) أي لا ليقترح عليهم كما قال البيضاوي وغيره. وقد أمرت سيد أنبيائك أن يتنصل من الاستطاعة على مثل ما يدعون بقولك: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ * وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأنعام: 50-51) . اللهم أصلح الراعي والرعية، وألف بين قلوب عبادك، وألهمنا رشدنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وانصر سلطاننا، وأيد برهاننا ولا تجعلنا ممن قلت فيهم {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 43) . أما بعد: فقد روي أن بعض الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - كان يسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الشر والبلاء الذي يقع على الأمة، وعن أسباب ذلك، وقد قيل له في ذلك فقال: أعرف الشر لأتقيَه، فنظم هذا المعنى بعض الشعراء فقال: عرفت الشر لا للشر ... لكن لتوقيه فمن لا يعرف الشر ... من الخير يقع فيه لا جرم أن العلم بعوارض الأمم من السعادة والشقاء هو العلم بالإنسان الذي هو أشرف الموجودات في هذا العالم، وهو من أشرف العلوم وأهم مباحثه ما يشرح أسباب أمراض الأمم وهلاكها، وقد نبه عليه القرآن الحكيم بمثل قوله {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) أي للأنبياء الذين جاءوا لتهذيبهم وإصلاح شؤونهم وهدايتهم إلى سعادتهم، ويظن من لا فقه لهم بأسرار الدين: أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة إكرامًا لمن كذبوهم وانتقامًا لهم، ولو كان ذلك صحيحًا لكان وجود الأنبياء فيهم عذابًا ولم يكن رحمة. والحق أن حالتهم في الفساد والفسق والظلم، والحيد عن سنن الله في بقاء الأمم هو الذي كان سبب هلاكهم، كما هو صريح الآيات الكثيرة جدًّا والمطابق للعقل، وإنما الأنبياء والمصلحون أزالوا عذرهم وأبطلوا احتجاجهم على الله تعالى بأنهم كانوا غافلين عن سنن الإصلاح {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) فبين لهم طرق سعادتهم بآيات الطبيعة، ثم آيات الوحي {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأنعام: 48-49) . هذا العلم هو الذي ينير البصائر ويصلح السرائر، ولله در الإمام الغزالي حيث قال: أفضل العلوم العلم بالله تعالى وبسنته في خلقه. ولكن المسلمين تجاوزوا بأنظارهم آيات الكتاب الكثيرة التي أرشدتهم إليه، والآيات الكونية في الآفاق وفي أنفسهم، وحسب جمهورهم أنه لا يمكن الكلام على مستقبل الأمم إلا بالاطلاع على الغيب، وحملوا كل ما ورد في السنة على ذلك. وزاد عليها الزنادقة والمنحرفون أحاديث وضعوها وافتروها لمآرب، فكان للباطنية وأضرابهم من المبتدعة فيها ملاعب، وفي التوسع بالتأويل مشارب، وفي انفصام عرى الوحدة بالتفرق في الدين مذاهب. لنمسك عنان القلم عن الجري في هذا المضمار الآن، ولنأخذ من التاريخ قبسًا نستضيء به في بحثنا عن إضلال رؤسائنا لنا وانحرافهم بنا عن جادة السعادة إلى تيه الشقاء والخزي. مالوا مع الهَوَى، فطرحونا في الهُوَى (بضم الهاء ج هوة) وانتهى بهم الاستبداد إلى توهين قوى الأفراد، وان شئت قلت: إلى اضمحلال الأمة وإعدامها، إذ ليست قوة مجموع الأمة إلا قوة الأفراد بعينها. رؤساؤنا هم الأمراء الذين تولوا أمر الأحكام، والعلماء الذين بيدهم أزِمَّة العلم والتعليم، والمرشدون الذين تصدوا للتربية والإرشاد. وإننا نكتب مقالات نبين فيها كيف كان إضلالهم لنا، حتى انتهينا إلى هنا، ونبدأ بالكلام في الخلافة والخلفاء والسلاطين والأمراء. فانتظر الأعداد التالية. ((يتبع بمقال تالٍ))

الرسالة الحاتمية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرسالة الحاتمية وتسمى (الموضحة) لأبي علي محمد بن الحسن بن المظفر الكاتب اللغوي البغدادي المعروف بالحاتمي، شرح فيها ما جرى بينه وبين أبي الطيب المتنبي من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره، وإنا نورد ما ذكره في مقدمتها من السبب في ذلك قال: لما ورد أحمد بن الحسين المتنبي مدينة السلام منصرفًا عن مصر ومتعرضًا للوزير أبي محمد المهلبي بالتخييم عليه، والمقام لديه، التحف رداء الكبر، وأذال [1] ذيول التيه، ونأى بجانبه استكبارًا، وثنى عطفيه جبرية وازورارًا. فكان لا يلاقي أحدًا إلا أعرض عنه تيهًا، وزخرف القول عليه تمويهًا، تخيل عجبًا إليه: أن الأدب مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يرد نمير مائه غيره، وروض لم يجن نواره سواه، فهو يجني جناه، ويقطف قطوفه دون من تعاطاه. وكل مجر في الخلاء يسر، ولكل نبأ مستقر، فعبر جاريًا على هذه الوتيرة مدة مديدة، أجررته رسن البغي فيها، فظل يمرح في تيهه حتى إذا تخيل أنه السباق الذي لا يجارى في مضمار، ولا يساوى عذاره بعذار، وأنه رب الكلام، ومفتض عذارى الألفاظ، ومالك رق الفصاحة نثرًا ونظمًا، وقريع دهره الذي لا يقارع فضلاً وعلمًا , وثقلت وطأته على كثير ممن وسم نفسه بميسم الأدب، وأنبط [2] من مائه أعذب مشرب، فطأطأ بعض رأسه، وخفض بعض جناحه، وطأمن [3] على التسليم له طرفه، وساء معز الدولة أحمد بن بويه - وقد صورت حاله أن يرد حضرته وهي دار الخلافة، ومستقر العز وبيضة الملك - رجل صدر عن حضرة سيف الدولة بن حمدان، وكان عدوًّا مباينًا لمعز الدولة، فلا يلقى أحدًا بمملكته يساويه في صناعته، وهو ذو النفس الأبية والعزيمة الكسروية. والهمة التي لو همت بالدهر لما تصرفت بالأحرار صروفه، ولا دارت عليهم دوائره، وتخيل الوزير المهلبي - رجمًا بالغيب - أن أحدًا لا يستطيع مساجلته، ولا يرى نفسه كفؤًا له، ولا يضطلع بأعبائه، فضلاًعن التعلق بشيء من معانيه! ! ، وللرؤساء مذاهب في تعظيم من يعظمونه، وتفخيم من يفخمونه، وتكرمة من يراعونه ويكرمونه، وربما حالت الحال، وأوشكوا عن هذه الخليقة الانتقال، وتلك صورة الوزير المهلبي في عوده عن رأيه هذا فيه. ولم يكن هناك مزية يتميز بها أبو الطيب عن الهجين الجذع من أبناء الأدب فضلاً عن العتيق القارح إلا الشعر، ولعمري إن أفنانه فيه كانت رطبة، ومجانيه عذبة، فنهدت [4] له متتبعًا عواره، ومقلمًا أظفاره، ومذيعًا أسراره، وناشرًا مطاويه، ومنتقدًا من نظمه ما تسمح فيه، ومتحيّنًا أن تجمعنا دار يشار إلى ربها، فأجري أنا وهو في مضمار يعرف به السابق من المسبوق، واللاحق من المقصر عن اللحوق، وكنت إذ ذاك ذا سحاب مدرار، وزند في كل فضيلة وار، وطبع يناسب صفو العقار، إذا وشيت بالحباب، ووشت بها سائر الأكواب، هذا وغدير الصبا صاف، ورداؤه ضاف، وديباجة العيش غضة، وأرواحه معتلة، وغمائمه منهلة، وللشبيبة شرة [5] وللإقبال من الدهر غرة، والخيل تجري يوم الرهان بإقبال أربابها، لا بعروقها ونصابها، ولكل امرئ حظ من مواتاة زمانه، يقضي في ظله أرب، ويدرك مطلب، ويتوسع مراد ومذهب. حتى إذا عدت عن اجتماعنا عوادٍ من الأيام، قصدت مستقره، وتحتي بغلة سفواء [6] تنظر عن عيني باز، وتتشوف بمثل قادمتي نسر، وهي مركب رائع، وكأنني كوكب وقاد، من تحته غمامة يقتادها زمام الجنوب، وبين يدي عدة من الغلمان الروقة [7] مماليك وأحرار، يتهافتون تهافت فريد الدر عن أسلاكه، ولم أورد هذا متبجحًا ولا متكثرًا بذكره، بل ذكرته لأن أبا الطيب شاهد جميعه في الحال، ولم ترعه روعته، ولا استعطفه زبرجه [8] ولا زادته تلك الجملة التي ملأت أتهمة طرفه وقلبه إلا عجبًا بنفسه، وإعراضًا عني بوجهه، وقد كان أقام هناك سوقًا عند أغيلمة لم ترضهم العلماء، ولا حركتهم رحا النظراء، ولا أنضوا أفكارًا في مدارسة الأدب، ولا فرقوا بين حلو الكلام ومره، وسهله ووعره، وإنما غاية أحدهم مطالعة شعر أبي تمام، وتعاطي الكلام على نبذ من معانيه، أو على ما تعلقت الرواة مما يجوز فيه، فألفيت هناك فتية تأخذ عنه شيئًا من شعره. فحين أوذن بحضوري، واستؤذن عليه لدخولي، نهض من مجلسه، وإذا تحته أخلاق عباءة قد ألحت عليها الحوادث فهي رسوم دائرة، وأسلاك متناثرة، فلم يكن إلا ريثما جلست فأتانا فنهضت فوفيته حق السلام، غير مشاح له في القيام؛ لأنه إنما اعتمد بنهوضه عن الموضع أن لا ينهض إليَّ، والغرض كان في لقائه غير ذلك، وحين لقيته تمثلت بقول الشاعر: وفي الممشى إليك علي عار ... ولكن الهوى منع القرارا فتمثل بقول الآخر: يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقوامًا بأقوام وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام كالصيد يحرمه الرامي المجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي وإذا به لابس سبعة أقبية كل قباء منها لون، وكنا في وغرة القيظ وجمرة الصيف، وفي يوم تكاد ودائع الهامات تسيل فيه. فجلست مستوفزًا [9] وجلس متحفزًا، وأعرض عني لاهيًا، وأعرضت عنه ساهيًا؛ أؤنب نفسي في قصده، وأستخف رأيها في تكلف ملاقاته، فغبر هنية [10] ثانيًا عطفه، لا يعيرني طرفه، وأقبل على تلك الزعنفة [11] التي بين يديه، وكل يومي إليه، ويوحي بلحظه، ويشير إلى مكاني بيديه، ويوقظه من سنته وجهله، ويأبى إلا ازوراراً ونفاراً، وعتوًّا واستكباراً. ثم رأى أن يثني جانبه إليّ، ويقبل بعض الإقبال عليّ، فأقسمت بالوفاء والكرم؛ فإنهما من محاسن القسم، أنه لم يزد على أن قال: إيش خبرك؟! فقلت: بخير أنا، لولا ما جنيته على نفسي من قصدك، ووسمت به قدري من ميسم الذل بزيارتك، وجشمت رأيي من السعي إلى مثلك، ممن لم تهذبه تجربة، ولا أدبته بصيرة، ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى قرارة الوادي، وقلت له: أبِنْ ممَ تيهك وخيلاؤك، وعجبك وكبرياؤك، وما الذي يوجب ما أنت عليه من الذهاب بنفسك والرمي بهمتك إلى حيث يقصر عنه باعك، ولا يطول إليه ذراعك، هل ههنا نسب انتسبت إلى المجد به، أو شرف علقت بأذياله، أو سلطان تسلطت بعزه، أو علم تقع الإشارة إليك به؟ إنك لو قدرت نفسك بقدرها، أو وزنتها بميزانها، ولم يذهب بك التيه مذهبًا، ما عدوت أن تكون شاعرًا مكتسبًا. فامتقع لونه، وغص بريقه، وجعل يلين في الاعتذار، ويرغب في الصفح والاغتفار، ويكرر الأيمان أنه لم يتبيَّني ولا اعتمد التقصير بي، فقلت: يا هذا إن قصدك شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغرت أدبه، أو متقدم عند سلطانه خفضت منزلته، فهل المجد تراث لك دون غيرك، كلا والله لكنك مددت الكبر سترًا على نقصك، وضربته رواقًا حائلاً دون مباحثتك. فعاود الاعتذار، فقلت: لا عذر لك مع الإصرار، فأخذت الجماعة في الرغبة إليّ في مباشرته وقبول عذره، واستعمال الأناة التي تستعملها الحرمة عند الحفيظة، وأنا على شاكلة واحدة في تقريعه وتوبيخه وذم خليقته، وهو يؤكد القسم أنه لم يعرفني معرفة ينتهز معها الفرصة في قضاء حقي، فأقول: ألم أستأذن عليك باسمي ونسبي، أما كان لك في هذه الجماعة من كان يعرفني لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك ألم تر شارتي، أما شممت عطر نشري، ألم أتميز في نفسك عن غيري؟ وهو في أثناء ما أخاطبه - وقد ملأت سمعه تأنيبًا وتفنيدًا - يقول: خفض عليك، اكفف من غربك [12] أردد من سورتك [13] استأن فإن الأناة من شيم مثلك، فأصحب [14] حينئذ جانبي له، ولانت عريكتي في يده، واستحييت من تجاوز الغاية التى انتهيت إليها في معاتبته، وذلك بعد ما رُضته رياضة الصعب من الإبل، وأقبل عليّ معظمًا، وتوسع في تقريظي مفخمًا، وأقسم أنه ينازع منذ ورد العراق ملاقاتي، ويعد نفسه بالاجتماع معي، ويسوقها التعلق إلى أسباب مودتي. فحين استوفى القول في هذا المعنى استأذن عليه فتى من فتيان الطالبين الكوفيين فأذن له، فإذا حدث مرهف الأعطاف تميل به نشوة الصبا، فتكلم فأعرب عن نفسه، فإذا لفظ رخيم ولسان حلو وأخلاق فكهة وجواب حاضر وثغر باسم في أناة الكهول ووقار الشيوخ، فأعجبني ما شاهدته من شمائله وملكني ما تبينته من فضله، فجاراه أبياتًا. قال ابن خلكان: ومن ههنا كان افتتاح الكلام بينهما في إظهار سرقاته ومعايب شعره، والرسالة طويلة تدخل في 12 كراسة، تشهد لصاحبها بالفضل الباهر مع سرعة الاستحضار وإقامة الشاهد.

سوانح وبوارح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب أو التحكيم (سوانح وبوارح) قال بعض العلماء: إن مَن برع في فن من الفنون يهتدي به إلى سائرها، ومراده أن بين مسائل العلوم مشابهة، فمن قويت ملكته في مزاولة بعضها سهل عليه فهم البعض الآخر. ولدينا الآن مسألة من علم السياسة تشبه مسألة من مسائل النحو، وقد اختلفت فيها الجرائد السياسية، كما اختلفت النحاة في مسألتهم، المسألة السياسية: مسألة فشودة، والنحوية: مسألة التنازع، يقول النحاة: إذا تنازع عاملان في اسم فلابد من إعمال أحدهما؛ إذ يمتنع اجتماع مؤثرين على أثر واحد، كما ثبت في علم الكلام، واختلفوا في الأولى بالعمل من العاملين، فذهبت طائفة إلى أن العامل الأول أولى، وقالت أخرى: بل الأولى هو الثاني، واستدل كل فريق بدليل، كذلك المتكلمون في السياسة اتفقوا على أن الذي يستولي على فشودة واحد، ولكن اختلفوا في تعيين ذلك الواحد، واستدل كل فريق بما لاح له أنه يؤيد جانبه. تقرأ في الجرائد الإنكليزية وما على مشربها من الجرائد المصرية أن الحق واضح في جانب بريطانيا العظمى؛ لأنها فاتحة بمالها ورجالها مع مصر، فهي شريكة لها في كل بلاد السودان الذي يعتبر ملكًا للفاتحين؛ ولأن السر إدورد مونسون سفير إنكلترا في باريس أبلغ المسيو هانوتو ناظر الخارجية الفرنسوية السابق في 10 ديسمبر سنة 1897 أن الحكومة الإنكليزية لا تسلم لدولة أوروبية بدعوى تحتل بها جزءًا من وادي النيل وأن وزارة اللورد سالسبوري توافق وزارة اللورد روزبري على أنه: إذا كانت فرنسا قد أرسلت حملة بأوامر سرية إلى بلاد اشتهرت دعوانا عليها من زمن بعيد فإننا نعد عملها هذا غير ودي أو (عدائيًّا) كما قال السر إدورد غراي في مجلس النواب الإنكليزي في 28 مارس سنة 1895. وتقول الجرائد الفرنسوية والجرائد التي على مشربها في مصر وغيرها: إن توفيق باشا الخديوي السابق قرر إجابة لطلب الإنكليز ترك السودان المصري، وكتب في 26 يناير سنة 1884 إلى غوردون باشا حاكم السودان من قِبله يأمره بإجلاء الجنود والعمال المصريين من بلاد السودان كلها، فصار بذلك السودان مباحًا لكل فاتح، كسائر الأراضي الأفريقية المقرر في مؤتمر برلين: أن من سبق إلى شيء منها ملكه، وقد شرعت الحكومة الإنكليزية تتصرف في السودان المصري من عام 1890، فأخذت زيلع وأعطت هرر لإيطاليا، ولادو لولاية الكونغو، بل خصت نفسها بالأقاليم الاستوائية الخصبة، وأجرت للكونغو ما شاءت. فإن كان تصرفها هذا صحيحًا فلماذا لا يكون تصرف فرنسا صحيحًا مثله؟ وإن كانت البلاد لما نزل ملك الحكومة الخديوية العثمانية، فما هذا التصرف وما هذا الامتلاك والاشتراك بالفتوح الذي تدعيه؟ وأما قولها: إنها لا تسمح لأية دولة باحتلال أي جزء من وادي النيل، فهو لا يقتضي امتلاكها لوادي النيل وإعطاءها الحق بالاستئثار به، وإلا لأمكن لكل دولة أن تمتلك من الأرض ما تشاء بكلمة كهذه تقولها. وقد زعمت بعض الجرائد أن المسيو هانوتو لم يرد على كلمة السر إدوارد السابقة، لكن الكتاب الأزرق الذي أصدرته الحكومة الإنكليزية من عهد قريب وضمنته المذاكرات التي جرت في مسألة فشودة بين إنكلترا وفرنسا من شهر ديسمبر سنة 1897 إلى 3 أكتوبر الجاري مع ملحق فيما دار بين الحكومتين من أغسطس سنة 1894 إلى أبريل سنة 1895، قد جاء فيه أن المسيو هانوتو أجاب سفير إنكلترا (عن بلاغه الذي تقدم) بأن سفير فرنسا في لوندره اعترض على ذلك في إبانه، وأنه هو رد ذلك القول في مجلس الشيوخ في 5 أبريل سنة 1894، ولم ترد الحكومة الإنكليزية على رده. أما نحن معاشر العثمانيين عمومًا والمصريين خصوصًا فنقول: إن حجج الفريقين داحضة، فالبلاد السودانية هي من الممالك الشاهانية، والخديويون لا يملكون إخراجها منها، لأن الذي يولي الخديوي على البلاد يحدد له سلطة ليس هذا منها. فتخلي توفيق باشا عن السودان لا يجعله مباحًا لمن سبق، وغنيمة لمن فتح، ما لم يُجزه على ذلك السلطان الأعظم إجازة رسمية. وإذا فرضنا صحة التخلي فلا مندوحة عن القول بأن جميع ما احتلته فرنسا صار ملكًا لها، وكذلك ما أخذته إنكلترا من زيلع وغيرها وما وهبته جائز صحيح، وما فتح باسم الحكومة الخديوية فهو للحكومة الخديوية ليس لإنكلترا فيه شيء؛ لأنها لم تكن إلا مساعدة على سبيل التبرع، ولو كانت شريكة لم يكن السردار (باشا) ولابسًا للطربوش! ! ولم تكن النفقات كلها من الخزينة المصرية، بل كانت مناصفة وكانت ألف جنيه داخلة في ضمن الحساب ولم تعط دينًا ويسمح بها بعد ذلك سماحًا. لكن السياسة ليس فيها حق وباطل وصحيح وفاسد، وإنما هي قوة تفعل وضعف ينفعل، ولذلك نرى الجرائد الإنكليزية ترمي في الاحتجاج إلى غرض آخر، وهو أنها تطلب من فرنسا أن تمثل نفسها مكان الإنكليز في مصر، وعاملة عملها في الاجتهاد بفصل السودان ثم بإعادته، وتعبها في القبض على أزمة الحكومة المصرية وإدارة مصالحها على الوجه الذي تتحقق به أمانيها! ! أفيسهل عليها وترضى بعد وشك الوصول إلى الغاية الأخيرة، والحصول على الرغيبة المتوخاة أن تحول إنكلترا أو غيرها دون مرامها، وتصد سهمها عن غرضها ومرماها؟ لا ريب أن فرنسا إذا تمثلت هذا وتنكبت خطة السياسة واتبعت خطة الإنجيل الشريف الذي يأمر بما اتفقت عليه الشرائع من عهد كونفوشيوس الصيني إلى الآن من أن يعامل الناس كل أحد بما يحب أن يعاملوه به، فهي تسلم فشودة للإنكليز وتترك لهم وادي النيل. ونحن نطلب من إنكلترا أن تعامل مصر والدولة العثمانية بما تحب أن تعامل هي به إذا فرض أن القوة أمكنتهما من احتلال بلادها. السياسة وراء الدين والأدب، وليس تقوم عليها حجة أو تنصاع لآية غير القوة، ولذلك نرى الدولتين الآن تتهيآن للحرب والكفاح، وتعدان الأساطيل العظيمة التي لا يوجد عند غيرهما مثلها قوة وكثرة. ويظهر أن الفريقين مصممان على عدم الاقتناع بالمذاكرات الودية، إذ لا حجة قيّمة لواحد منهما تقنع به خصمها، وتعتذر به الحكومة المنصاعة لأمتها التي تناقشها الحساب، وإنما هما طعمان يتناطحان، فإذا لم يحل بينهما حائل فلا بد أن ينتهي الأمر بغلبة أحدهما بالقوة. كل من الدولتين تخاف الحرب لعلمهما بأن خسارتها أكثر من ربحها، ولا سيما مع الأكْفاء، ولكل واحدة منهما صوارف ليست للأخرى. أما إنكلترا فانفرادها بعدم حليف لها، وحليفة خصمها أقوى الدول بأسًا وأصعبها مراسًا، وكون الملكة تأبى أن تختم أعمالها السلمية في عمرها الطويل بالحرب الهائلة التي يذهل تصورها العقول ويدهش الألباب، وكونها شديدة الحرص على المال مبالغة في الاقتصاد، وخوفها من خروج مستعمراتها عليها إذا هي اشتبكت بمحاربة دولة قوية تشغلها عن كل ما سواها. وأما فرنسا فتعطيل معرضها الذي تستعد له من سنين وفتنة دريفوس التي أقامت الأمة وأقعدتها، وعدوتها الكبرى ألمانيا. ومن رأينا أن الحرب ربما كانت مسكنة لحركة فتنة دريفوس؛ لأن المهم يتلاشى في الأهم، وأن ألمانيا تود أن تقع الحرب بين الدولتين وتبقى هي على الحياد، حتى إذا ما ضعفتا معًا أمنت شر فرنسا، وطلبها الإلزاس واللورين، ومعارضة إنكلترا في الاستعمار والتجارة، بل وفرنسا أيضًا، وفي ذلك أعظم نهضة لها، وماذا تتوقع من التعرض لفرنسا، وروسيا القوية حليفة فرنسا من وراء ظهرها وفي تعرضها الخطر على أوروبا كلها! فإذا قلنا: إن الجرائد حمست الأمتين، ونفخت في قلوبهم الحمية، حمية الجاهلية، وعلمنا أن الحمية وعزة النفس أخوف ما يخاف من أمم أوروبا على حكوماتها اللاتي لا يمكنها مخالفة الشعب إذا هو طلب شيئًا - فلا جرم أنه لم يبق من مانع للحرب إلا التحكيم، وهو ما أشارت به بعض الجرائد الروسية. إذا اتفق الخصمان على تحكيم الدول العظام في المسألة فلمن يكون الفلج والظفر؟ هل تنصف تلك الدول فتقول لهما: لا حق لكما فأديا صاحب الحق حقه واخرجا من السودان بسلام وسلماه للحضرة الخديوية نائبة السلطان الأعظم صاحب السيادة الحقيقية؟ وإذا قالت الدول هذا فهل ترضى فرنسا به والاحتلال الإنكليزي في مصر على حاله؟ أم تقول: إن هذا التسليم لا يتم إلا بالجلاء عن مصر، وهو ما تنتظر نهزة مثل هذه لتقوله؟ وهل يرضي اللورد سالسبري المناقشة الأوروبية في المسألة المصرية بعد ما أكد في الكتاب الأزرق رسميًّا: أنه يأبى مثل هذا كل الإباء؟ أم تقسم أوروبا السودان بين الدولتين وتسكت عن الاحتلال؟ كل ذلك غيب مجهول ولكن الذي نعلمه أن ميزان سياسة أوروبا الآن في يد القيصرين العظيمين نقولا وغليوم، والأول حليف فرنسا، والثاني عدوها، ولكنه صديق جلالة السلطان صاحب مصر والسودان، فإذا كانت هذه الصداقة توازي تلك العداوة فيترجح السكوت وعدم الميل لأحد الجانبين، لكن ألا يوجد مرجع آخر يجذب الإمبراطور غليوم ليحصل الترجيح لمن يميل هو له؟ نقول: كان يرجى أن يستميله القيصر؛ لأن مسالمة وموادة ألمانيا لروسيا من أهم الأسس السياسية التي أسسها بسمارك وحافظ عليها طول حياته ولم يظهر ما يكدرها من بعده إلا ما نقله لنا البرق في هذا الأسبوع من أن سفارة روسيا في الآستانة لم ترفع رايتها لقدوم الإمبراطور كسائر الدول، والسفن الروسية ثمة لم تزين بالرايات والأعلام كغيرها، فاستوقف ذلك الأنظار وحرك سواكن الأفكار، ولا يزال البرق والبريد ينقلان لنا منذ عزم الإمبراطور على زيارة الآستانة والقدس أخبار اهتمام روسيا وفرنسا لذلك، خشية من زيادة نفوذه المضعف لنفوذهما في بلاد الدولة، وحذر من مداخلته في حماية المسيحيين (وهي أشد عوامل الدولتين في بلادنا) وقد صرحوا بأن شدة تقرب ألمانيا من تركيا يخل بموازنة الدول! ولعمري لا معنى لهذا إلا توقع المحالفة. فإذا استطاع مولانا السلطان الأعظم أن يستفيد من هذه الأحوال ما يضمن له حفظ بلاده بالتوفيق بين ضيفه الإمبراطور وروسيا وفرنسا وإجماع رأي الأربع على حل عقدة المسألة المصرية - فهو أحكم حكماء السياسة وأشدهم دهاء وأبعدهم غورًا وأحصفهم رأيًا، وتظهر حكمة سكوته عما جرى في مصر والسودان إلى الآن، ويُنسي الأمة رزء كريت، وما بين يديه وما خلفه من المصائب والأرزاء، وإن كانت نتيجة زيارة الإمبراطور شدة نفور روسيا وفرنسا منا في هذا الوقت الحرج الذي طرقت فيه أبواب المسألة المصرية، ويرجى باتفاق من ذكرنا أن يفتح رتاجها ويقوم اعوجاجها، وفوز الضيف العظيم بالأمنية ودولة المضيف الكريم بالرزية! فإنها نتيجة خسيسة، ومغبة تعيسة، وأجدر بمولانا السلطان الأعظم أيده الله تعالى أن لا ينيل الإمبراطور غليوم شيئًا من رغائبه، إذا هو أعرض عن موافقته على أجل مآربه، فقد حلب الدهر أشطره، وعرف حلوه ومره، وابتلى نفعه وضره، وهو خير كفؤ كريم لهذا، شد الله تعالى أزره، ويسر أمره، ورفع ذكره، آمين.

رسالة التوحيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة التوحيد كما دلت هذه الرسالة على ترقّي العلم بترقيتها دلت على رواجه برواجها، وإننا نرى ونسمع كل يوم أحاديث الإعجاب بها والتنافس فيها، وقد اطلعنا على رقيم لحضرة الكاتب البليغ صاحب العزة الأمير شكيب أرسلان بعث به إلى فضيلة الأستاذ المفضال مؤلف الرسالة قال فيه: (قرأت رسالة التوحيد ولم أزدد بكم علمًا إلا إنني سررت لكم بنشرها بعد أن حجبت المحاكم بين الأنظار وبين تلك الآثار، وبعد أن ظن أن القضاء صرف نظركم عن كل ما سواه، ولعمري إن أحسن عمل يؤتى هو مثل هذا الأثر، ولم أقرأ من مكتوب العصر شيئًا أبدع من هذه الرسالة ولا ما يدانيها، إلا إن كان بعض كلام المرحوم السيد جمال الدين، وعليه فالدائرة واحدة لا حق لي في الحكم من جهة الفن وتعديل الآراء والمذاهب، ومع هذا فحيث كان الأمر من المعقول تأملت فوجدت أن طريقة هذه الرسالة هي أقصد الطرائق، وأنها غاية ما يرتاح إليه العقل ويرتاح فيه، فما أشكل بعدها من مغلقات أسرار الوجود فهو مما حتم الله بإشكاله، وخبأ نوره عن عباده، وأما البيان فقد طالما اعتقدت أن الإنشاء ما رق به المحسوس حتى كاد يسهل، أو تجرد منه مثال للتخييل، ولقد وجدتني في تلك الرسالة في عالم معنوي، قادت البراعة أسراره ومجرداته بزمام التعبير، إلى أن تخيلت أني قابض على المعاني بيدي، فضلاً عن أني متمثلها في خلدي، فهذا غاية الخلق من البيان وهو ما أتت به الرسالة) ا. هـ وقد كتب إلينا من بلاد الشام أن بعض فضلاء النصارى اطلعوا على الرسالة فقال أحدهم: (إذا كان الإسلام هو ما تشرح فأنا أول مسلم، ولكن مؤلفها فيلسوف ديني يقول: ينبغي أن يكون الإسلام كذا) فرد عليه مسلم بأن مؤلفها هو من أكابر علماء الأزهر أعظم المدارس الدينية، وهو يقرأها فيه ولم ينكر أحد من علمائه عليها، ولا قال إنها زادت في الإسلام ما ليس منه. وقال فاضل آخر: أود أن تقرأ هذه الرسالة في جميع المدارس النصرانية بعد حذف الكلام عن نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم) أي لأجل وقوف الناس على سر الدين المطلق. ولعمري لم يتجلَّ فضل الدين في مؤلف يمثل السعادة للبشر في اتباعه كما تجلى في هذه الرسالة. ولذلك مزار بعض أبناء المدارس الأستاذ يومًا، وقال: إنني أشكرك أن جعلتني رسالتك مسلمًا، فإنني ما كنت أفهم معنى الدين وفائدته قبلها، وقد اجتهدت على ذلك ونظرت في التفسير فلم أفهم المقصود من القرآن لكثرة المباحث اللفظية ونكت البلاغة. . .

جرائد سوريا المستعبدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جرائد سوريا المستعبَدة (نغمة جديدة) وارحمتاه للجرائد السورية المستعبدة لكل ذي سلطة وجاه، ولا سيما إذا كان شأنه الإيذاء والإضرار بالناس، يبيعون دينهم بدنيا غيرهم مكرهين، وما كان أغناهم عن هذه المهنة الحقيرة إن كانوا متّقين. نشرت جريدة طرابلس في عددها 279 الأخير رقيمًا بإمضاء حسن خالد الصيادي أي ابن سماحتلو الشيخ أبو الهدى أفندي المشهور، كتبه لبعض أتباعهم الرفاعية الذي استأذنه بالرد على كتابنا (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) لأنه اطلع على النبذة التي نشرناها من مقدمته في العدد الثامن والعشرين من جريدتنا المنار. وقد كتبت الجريدة المذكورة مقدمة للرقيم تحت عنوان: (الإنصاف وصف الأشراف) وفي هذا العنوان براعة تامة لأن صاحب الجريدة يعتقد بشرف نسبنا ولا يعتقد شرف صاحب الرقيم، فعنوانه فيه اعتذار خفي لنا على أنه مجبور، ومرضاة لصحاب الرقيم، ولذلك لم نؤاخذه على نشره، ولكن آخذناه على مدحه بقوله: (كان فصل الخطاب وزينَّا جريدتنا بنشره إلخ) وكان له مندوحة عن هذا. فإذا عادت هذه الجريدة لمثل هذا فإننا نقنعها بما عندنا من الحق بالصفة التي يعرفها صاحبها. أما كتابنا (الحكمة الشرعية) فقد اطلع عليه أشهر العلماء في بلاد الشام وأعجبوا بعلمه وبلاغته، ونذكر أسماءهم إذا اقتضت المناسبة، وأما في بلاد مصر فكل من قرأ النبذة التي كتبناها منه فقد أطرانا وأطراه، حتى قال بعض الكتاب البلغاء: إننا حين قرأنا مقالة العدد الثامن والعشرين من المنار كدنا أن لا نميز بين كلام تلك المقدمة وما فيها من آيات القرآن لولا الحفظ. أما الرد على المقدمة المذكورة فليس فيها شيء من مسائل الخلاف يرد عليه، وإنما فيها ذكر مضرة الخلاف في الأمة، والحث على الاتفاق تحت لواء الخلافة، ولكن القوم يستطيعون الرد على كل شيء كما نعلم من كتبهم، وعلى نحو الرقيم الذي نحن بصدده وما هو إلا عبارة عن (شقاشق مزالق. هتك الإنسانية بالإفساد. السفلة. السفهاء. أرباب المقاصد السيئة والأغراض الدنيئة. هتك شرف. إضرار. يجعل الباطل حقًّا والحق باطلاً. والكذب صدقًا والصدق كذبًا. والرفيع وضيعًا. والوضيع رفيعًا. والكريم لئيمًا واللئيم كريمًا. يحط مقادير الكرام ويهضم حقوقهم. يحرف مقاصدهم ويشمت بإساءتهم حسادهم. ذي غرض لئيم. جريء على الناس لمقاصد دنية. أمة ساقطة جاهلة. الأوساخ الدنيوية. نار الشقاق. التهجم بغيًا وعدوانًا. العاجز الباغي هوانه. طيشًا. الأحقاد خدعتهم. آذوا الحضرة. الفتنة. الحاسدين. بدسائس المفسدين. أهل النفاق. الشقاشق الزائدة. المباحث الباردة. بوال زمزم. مذبذب جاهل. قبيح فعاله. سفاسف آماله. حرف المحرف. قلب الخير شرًّا والشر خيرًا بمجرد قياسه العقلي الفاسد، ورأيه المعكوس الكاسد. الخسيسة الدنيوية للمفسدة، يثير ضغائن. للطعن أهل الباطل. الحاسدين. المفسدة. صريع فالج دائه. ذنب الغرائب. الخزعبلات. الترهات) . هذه هي ألفاظ الرقيم وقد ضمنه بعض أحاديث واهية منكرة يقصد بها التهديد كحديث: (أهل الشام سوط الله في الأرض ينتقم بهم ممن يشاء من عباده، وحرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم وأن يموتوا إلا همًّا وغمًّا وحزنًا) ولا يصح هذا إلا عند مثلهم، وقد ذكرني الحديث الذي وضعوه لإثبات إفساد القادرية للدين وهو: (يفسد هذا الدين عالم وابن ولي) (انظر صفحة 3 من مقدمة لباب المعاني) . ونحن لا يسمح لنا ديننا وأدبنا بمثل ذلك السفه والكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، لنجعله ردًّا عليهم مقابلة للفاسد بالفاسد. وإن في القطر جرائد وكتبًا قد كفتنا مؤنة الأول، كجريدة الحشاش التي تصدر في الإسكندرية، وكتاب المسامير الذي يتم طبعه قريبًا، أما كتابنا وجريدتنا فلا تنشر غير الحقائق مع النزاهة التي تليق بأدب المسلمين، وإذا ادعى حسن بك خالد أنه وأبوه لم يهتما لكتاب الحكمة الشرعية، فلماذا حركا نوري باشا لكتابة رد علينا، وطفقا يردان بكلامهما الفاسد! ! وأجبرا جريدتي بيروت والثمرات على نشر رسالة نوري باشا، وربما يجبران جريدة طرابلس على نشرها بعد امتناعها، كما جبراها على نشر كلامهما! ! وإذا كان قومهم على وفاق مع القادرية فليصرح أبو الهدى أفندي في الجرائد بتكذيب (لباب المعاني) وسائر كتبه التي تطعن بهم وتكفرهم! !

المسلمون في جاوا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسلمون في جاوا طلب المسلمون الذين تحكمهم دولة هولندا كأهالي جاوا وأمثالهم من حكومة هذه المملكة أن يتجنسوا بالجنسية العثمانية، فاهتمت لذلك حكومة هولندا والباب العالي، ولكن هولندا قد ساءها هذا الأمر، فطلبت من الباب العالي أن يسترجع قناصله من مستعمراتها؛ لأنهم يزرعون محبة الدولة العلية في قلوب المسلمين! أما الباب العالي فطلب إليها إجابة هذا الطلب ولا يزال البحث جاريًا في شأنه.

ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*] (الخلافة والخلفاء) (1) ليس من غرضنا في الكلام على الخلافة بيان شروطها وانطباقها على القائم في مقام الخلافة لهذا العهد أو عدم انطباقها، فإن هذه المباحث إنما يأتيها أرباب الأغراض الدنيوية، بل الأمراض الروحية، الذين يثيرون رواكد الأوهام ويسيرون في دياجير الظلام، ونقول قبل الدخول في البحث: إن كل من يحاول إشراب الأفهام وجوب نزع الإمامة من بني عثمان فهو عامل على الإجهاز على السلطة الإسلامية ومحوها من لوح الوجود، وما لهؤلاء النوكى من تكأة يتكئون عليها إلا قولهم: (الخلافة في قريش) وغفلوا أو أغفلوا الشروط المهمة التي لا توجد اليوم في قرشيّ: كالعدالة على شروطها الجامعة، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام، والرأي الصحيح المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح وجمع الكلمة. وكل الذين توسوس لهم أمانيهم بالخلافة وتطريهم جرائدهم باستحقاقهم لها عراة من هذه الصفات التي هي أركان بناء الخلافة. وما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة في قريش إلا لما كان لهم من المكانة في النفوس التي من أثرها اجتماع القلوب عليهم، والإذعان لسلطانهم عن رضا واختيار، وقد نال هذا المعنى آل عثمان، فحصل المقصود الشرعي به. إنما نتوخى في هذه المقالة الإلماع إلى أهم وظائف الإمامة، وكيف خرجوا بها عن حدّها حتى صارت مثار النزاع والشقاق، بعد أن كانت معقد الاعتصام والاتفاق فضلت الأمة بذلك عن رشادها، وفتنت في دينها، ووقعت في نيران الاختلال، وأصليت جحيم فقد الاستقلال، وحق لأفرادها أن يقولوا: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (الأحزاب: 67) وهذا عين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم التي أمرنا بها في الحديث الصحيح. الإمامة الكبرى هي خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، فهي جامعة لما يسمونه السلطة الروحية والسلطة الزمنية معًا. وقد بينا في العدد الثاني والعشرين من جريدتنا أن نظام الاجتماع البشري لا يتم بدون هاتين السلطتين، بل لا تتكون الأمم والشعوب إلا بإحداهما أو كلتيهما، واجتماعهما في رئيس واحد أعظم مبدأ للوحدة القومية الكاملة، وبينا أن تفويض أمر السلطتين للقائمين عليهما بحيث تكون إرادتهم شريعة ومشيئتهم قانونًا لا رادّ لأمرهم ولا معقب لحكمهم - تغرير بالأمم، ويؤدي غالبًا إلى تطويحها في مهاوي العدم، وإن سعادة البشر موقوفة على تحديد القوانين والشرائع الروحية والزمنية، وجعل الناس فيها شرَعًا لا مزية لرئيس على مرءوس إلا بما يمتاز به المرءوسون بعضهم على بعض، ولا طاعة لأحد على أحد فيما وراء الشريعة والقانون، وإن الديانة الإسلامية هي التي حددت الشريعتين، وقيدت السلطتين، وألمعنا هناك إلى بعض سيرة الصحابة مع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في ذلك، فليرجع إلى العدد المذكور من شاء. بهذا فتح للنوع الإنساني باب كان مغلقًا عند كل الأمم والشعوب المتمدنة، وهو ما يسمونه المبدأ الديمقراطي الذي يظهر به استعداد الأفراد، وتتجلى به قوى الشعوب، ويرقى به أوج السيادة، وتنال به غاي السعادة. فتح هذا الباب بمصراعيه فدخل الناس منه إلى مدنية جديدة، ما عتّم الداخلون فيها أن صاروا بعد شدة العداء إخوانًا، وبعد الأثرة والتعدي والطمع يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وبعد المحاباة متساوين في الحقوق، لا فرق فيها بين أعظم عظمائهم وبين أخس مخالفيهم في دينهم وجنسهم، وما كان لملك من ملوكهم أن ينال امتيازًا في الحق على صعلوك من صعاليكهم، ومن شواهد ذلك أن إمامهم عمر بن الخطاب عليه الرضوان أبى إلا أن يقتص من جبلة بن الأيهم ملك بني غسان حين لطم أعرابيًّا مجهولاً، ففر جبلة من هذه المساواة حيث لم يكن وقر الإسلام في صدره، ولجأ إلى النصرانية. وصاروا بعد العبودية للأوهام والخضوع للأصنام أحرارًا، لا يخضعون لغير الحق، ولا يداجون أحدًا في الحق، فمحيت بذلك السلطة المقدسة والطاعة العمياء، ومحق التمرد والاستبداد، وترفعت النفوس عن الدنايا والخسائس وتوجهت إلى معالي الأمور. حسبك دليلاً على تقيد سلطة الخلافة في الإسلام مع الشورى قول عمر - وكفى باسم عمر مدحًا الذي سارت به الركبان وصار مثلاً عند جميع الأمم -: (مَن رأى منكم فيّ عوجًا فليقوِّمْه، قاله على المِنبر، فقال رجل: لو رأينا فيك عوجًا لقومناه بسيوفنا، فقال: الحمد لله الذي جعل في المسلمين مَن يقوم عوج عمر بسيفه) . يظن قوم أن هذا القول جاء به عمر من نفسه، والحق أنه نطق بالشريعة التي قلبت طبيعته من أسوأ الأحوال إلى أحسنها، وقول عثمان في خطبته التي خطبها في الناس - يوم جاء أهل الأمصار ينتصفون إليه في شأن بني أمية -: (يا أهل الأمصار قد جئتم من البلاد البعيدة تطالبونني بأمور لم أكن أنا الذي ارتكبتها وحدي - إلى أن قال - وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه؛ فأمري لأمركم تبع) . فتأمل قوله: (فأمري لأمركم تبع) . ولقد كان الأمراء وقواد الجيوش من الصحابة يُسألون من الروم وغيرهم عن الإمارة، يقال لأحدهم: هل أنت أمير هؤلاء القوم؟ وإنما يسألونه لأنه مساوٍ لقومه، لم يتميز عنهم في شارته وزيه فيقول: هكذا يقولون ما دمت على طاعة الله تعالى، فإذا خالفت وعصيت فلا طاعة لي عليهم، أو لا إمارة لي عليهم. ومثل هذه الشواهد في كلامهم كثيرة جدًّا، وحسبك من القلادة ما أحاط بالجيد. لولا أن المسلمين كافة كانوا يعلمون أن الإمام مقيد بالشريعة التي توجب عليه تحري مصلحة الأمة في كل عمل يعمله لها، وأنه مؤاخَذ على كل خطأ، لما وفد أهل الأقطار على المدينة المنورة يناقشون عثمان - عليه الرضوان - الحساب على ظلم عماله الأمويين، وتألبوا على خلعه أو قتله ثم قتلوه - ظلمًا - بغير محاكمة شرعية، فأهين بهذا التطرف في الحرية والغلو في الافتئات مقام الخلافة الذي كان حفاظ الدين، وأعقبه التفرق والشقاق، وكانت تلك الصدمة الأولى التي لم يندمل جرحها حتى اليوم. أهين ذلك المنصب الشريف الذي كان المرجع في حل المشكلات، والضياء في ظلمة الشهبات، فانفصمت عروة الوحدة وانحلت ربط (بضمتين جمع: رباط) الاجتماع، ونجم عن التفرق في الخلافة التفرق في الدين نفسه بحدوث المذاهب المختلفة، ومن الذي يرد ذلك التعدد إلى توحد، والافتراق إلى اجتماع وهو من وظائف الخلافة التي نحدث عنها. من غُص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يصنع من قد غص بالماء؟ كانت حرمة الخلافة تبيح لعبد حبشي كبلال - رضي الله عنه - أن يعتقل سيد بني مخزوم، وفاتح بلاد الرومان (الشام) بعمامته في ملأ من الناس ويقوده إلى أبي عبيدة ليناقشه الحساب، أو يبعثه إلى الخليفة الذي أمر بذلك. ومن هنا تعلم فائدة استخلاف الإمام قبل موته من توفرت فيه الشروط، وهي قطع عروق الخلاف الذي هو مدعاة الفتنة ومبعث الشقاق والهرج كما حصل، سنة استنها الخليفة الأول وأجمع الصحابة على قبولها، وجنوا ثمار منافعها، ولكن الأمة إذا انتكست - والعياذ بالله تعالى - انقلبت منافعها إلى مضار، وتحولت وجوه مصالحها إلى مفاسد، وكذلك كان شأنهم في الاستخلاف، اتخذوه وسيلة إلى جعل الخلافة إرثًا محضًا محصورًا في الأقربين والأهل، وإن كانوا ليسوا بأهل، واشترعوا في ذلك شرعًا لم يأذن به الله، وفات بهذا التوارث معنى اختيار أهل الحل والعقد من الأمة من يرونه صالحًا لهذا المنصب، فوسد الأمر إلى غير أهله، وهي الصدمة الثانية التي صدم بها الإسلام وأهله، وإذا أضفتها إلى الصدمة الأولى وهو تعدد الخلفاء يتجلى لك أنهما كانتا كافيتين لمحو السلطة الإسلامية من القرن الأول وعدم امتدادها، ولكن روح الدين نفسه كانت في ريعان شبابها فقويت على أعراض هذه الأمراض العارضة، فلم يظهر أثرها إلا بعد ضعف الدين نفسه، كذلك يطرأ على الجسم في طور الشباب داء دوي فتدفع أعراضه قوة المزاج، حتى لا تكاد تظهر، فإذا ألمّ بالمزاج ما أضعفه من كبر أو غيره نَمَتْ جراثيم الداء وظهرت أعراضه، نعم تغلّب الإسلام بقوته المساوقة للفطرة فكانت طبيعة الوجود مساعدة له على تدفق سيله الذي أروى العالم وامتداده الذي لم يعهد له نظير في التاريخ. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

اليأس والرجاء في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اليأس والرجاء في مصر للأطباء في معالجة الأدواء ومداواة الأمراض طريقتان معروفتان؛ إحداهما: مقاومة المرض بمناولة الأدوية في أوقات معينة بمقادير معلومة، وهي معالجة المريض بما هو خارج عن ذاته منفصل عن ماهيته. والثانية: الأزم بمنع المصاب من كل ما يزيد المرض ويطيل أمده، وهو الذي يسمونه: (الحمية) ومحاولة تقوية المزاج بذلك وبما يستلزمه من تدبير الغذاء المناسب والنظافة التامة واستنشاق الهواء النقي وحسن الخدمة وإزالة ما يهيج الانفعال ويؤلم النفس من كل شيء. وهذه الطريقة هي المثلى، وعليها يعتمد الحكيم النطاسي وبها يثق؛ لأن إشعارها تقوية المزاج حتى يقتدر على دفع المرض بذاته، والعلاج بالأدوية والعقاقير إنما هو مساعد لقوة المزاج على دفع المرض؛ لأنه هو الدافع له، فهو كالسلاح: لا عمل له في نفسه ولكنه مساعد للشجاع على الظفر. وعادة السيف أن يزهو بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل وقد ضرب سيدنا الزبير بن العوام رجلاً فقدَّه نصفين، فقيل له: ما أمضى سيفك! فقال: كلا إنما هي قوة الساعد، فإذا ضعف المزاج وحرض البدن لاستحكام الداء، فالعلاج الخارجي لا يكاد يفيد شيئًا، وإذا قوي فربما يطرد المرض من غير مساعدة الدواء، وأكمل المعالجة ما كانت بالطريقتين معا. فإن القوي الأعزل إذا غلب اليوم فلا يأمن أن يغلب غدًا، هذا كله معروف في معالجة الأشخاص. ما أشبه أمراض الأمم بأمراض الأفراد، وما أشبه معالجتها بمعالجتها. إذا مرضت الأمة بانتشار الجهل فيها واستبداد حكامها، أو فقد المحبة منها والغفلة عن الجامعة التي تضمها وتجمعها، أو الانخداع لعدو في ثياب صديق طوح بها وعمل على تفريق كلمتها بعنوان الناصح المصلح، أو الاغترار بنعيم يزول وصفو عيش لا يدوم، وأعقب هذه الأمراض افتقاد الثقة بين الحاكم والمحكوم له، وبين الأفراد بعضهم مع بعض والالتجاء إلى الأجنبي واتخاذه بطانة والاعتماد عليه والثقة به، وكثرة الرشوة والمصادرة والسخرية والتعذيب من الحاكم للمحكوم له، والسفه والتبذير من الخاصة والعامة، وصارت الأمة بهذا كله طعمة لكل طاعم، ونهبة لكل ناهب طامع، وضريت الأمم القوية بصيد بلادها، وضربت الدول الفاتحة في أحشائها، فعظم عليها الخطب وأنساها هذا المرض الأخير جميع ما تقدمه من الأمراض المتولد هو منها؛ لأنه هو الذي يودي بحياتها وينتهي بمماتها (وهو فقد الاستقلال) إذا كان هذا كله، فهل الصواب الاهتمام بمعالجة هذا المرض دون ما تقدمه من الأمراض؛ لأنه المذفف على تلك الجروح والمجهز على حياة الأمة، أو الاعتناء بمعالجتها جميعًا؟ أقول: إن السعي بمعالجة مرض نتج من أمراض أخرى تقدمته مع بقاء تلك الأمراض متأصلة في الجسم عبث وضلال، وقصارى ما تفيد هذه المعالجة إزالة بعض أعراض المرض بأدوية خارجية، ولا يؤمَن بعد إزالته أن يعود هو أو مثله ما دامت العلة الأولى موجودة بمقدماتها كلها. وبعد هذا فموضوع كلامنا المسألة المصرية واستقلال مصر، مرض مصر الأخير الذي تولد من تلك الأمراض التي أشرنا إليها هو الاختلال الذي انتهى بالاحتلال الإنكليزي لها، وأعني بالاختلال: فقد الانتظام من المعيشتين العائلية والوطنية، ومن السلطة الحاكمة والاحتلال الإنكليزي. من شأن المريض الاهتمام بإزالة أشد أعراض مرضه إيلامًا بأقرب الطرق وبأسرع الأدوية فعلاً، ولذلك قد تعلقت آمال المصريين بأوروبا وكلما عنَّ سبب لذكر المسألة المصرية أقلعوا مادِّين أعناقهم إليها وطامحين بأبصارهم إلى فرنسا التي تحسد إنكلترا على سبقها لهذه الغنيمة (الاحتلال) واستئثارها بوادي النيل الذي يعطيها السيادة على كل دولة عظيمة، وصار الرأي العام المصري كما قيل: كلما ذاق كأس يأس مرير ... جاء كأس من الرجا معسول وأرى أن مسألة فشودة هي آخر ما في طوامير النفوس من الرجاء والأمل بأوروبا وفرنسا، فإذا انتهت على ما تحب إنكلترا وترضى، أو على ما فيه منفعة الأمتين دون مصر، فلا جرم أن مرائر الرجاء تسحل، وأسباب الأمل تقطع، ولكن هل ييأس المصريون من الاستقلال وجلاء الإنجليز؟ أقول: من الحمق أن يعتمد المريض على الضماد والطلاء الخارجي الذي عسى ألا يفيد، وإذا أفاد فإنما هو تسكين ألم أو إزالة عرض ربما يكون زواله وقتيًّا. والواجب الذي لا تخيير فيه إنما هو الاعتماد على المعالجة الداخلية والعمل على اجتثاث جراثيم المرض واستئصال ميكروبات الداء وتقوية مزاج الأمة حتى يكون في مأمن من مضرة أعراض المرض، كما وقع لقبائل المرتة في الهند، ثم يدفع بطبيعته أصل الداء كما اتفق للولايات المتحدة في أمريكا. كل قارئ لهذه الجريدة عنده علم من خروج الأمريكيين على حكامهم البريطانيين وإخراجهم من بلادهم قهرًا، واستقلال بلادهم عندما عمتها التربية وانتشر في ربوعها التعليم الصحيح، وأما قبائل المرتة الهندية فقلما يوجد عند أحد من هذه البلاد علم عن حالها، وإننا نشير إلى مجمل من خبرها فيه عبرة لمن يعتبر. امتازت تلك القبائل بتهذيب الأخلاق ومحبة جنسها ووطنها واتفاق أفرادها وتضافرهم على كل ما فيه مصلحة ومنفعة لهم، واتخذوا لهم رؤساء فضلاء لا يشذون عن طاعتهم، ومن سجاياهم حب المسالمة والاتفاق مع مجاوريهم والطاعة لحكامهم، ولما دخل الإنكليز بلادهم واستولوا عليها أصفقوا [1] على عدم قتالهم وسلموا تسليمًا، ولو كانوا حربيين كقبائل الأفردين لما تسنى لبريطانيا إخضاعهم أبدًا، بل لكانت سلطة بريطانيا على خطر منهم في الولايات المجاورة لهم إن لم نقل في الممالك الهندية كلها؛ لأن الاتفاق والالتئام في الأمم لا يغالب. سلموا للإنكليز ولكن أتدري بماذا؟ عقدوا مجالس الشورى وأقروا باتفاق الآراء على التسليم للإنكليز بشيء واحد وهو: دفع الإتاوات التي يفرضونها عليهم مهما بلغت، وما وراء هذا فكل من تحاكم إلى حاكم إنكليزي يقتل قتلاً، محقًّا كان أو مبطلاً، ومن اشترى من تاجر إنكليزي سلعة يقتل مهما اشتدت حاجته إليها. وعلى ذلك جروا من غير ما إخلال، وظلوا على عادتهم في لبوسهم وماعونهم وسائر حاجهم، حتى تعلم طائفة منهم الصناعات الإفرنجية في أوروبا، بعثهم قومهم لهذه الغاية، فتعلموا ورجعوا يعلمون ويصنعون ومن ذلك الحين كثر استعمال الماعون والنسج الأوروبيين ونحوهما. ولما كانت الطرق الحديدية مما يختص بالحكومة لم يمكنهم إنشاؤها في بلادهم، وقد كانوا متفقين على عدم الركوب ونقل البضائع في السكك الحديدية التي أنشأها الإنكليز في بلادهم، والاعتماد في ذلك على الإبل ونحوها، ثم وجدوا أن في ذلك تأخرًا في التجارة فصاروا يركبون ويتجرون فيها. واتفق يومًا أن أحد وجهائهم أراد السفر في الرتل (القطار) الحديدي فأخذ تذكرة من تذاكر الدرجة الأولى ولما دخل العربة صادف فيها رجلاً إنكليزيًّا أراد منعه من الجلوس معه ترفعًا فأطلعه على التذكرة التي تؤذن بأن له الحق بالركوب في تلك العربة، فأصر الإنكليزي على منعه وأصر المرتي على عدم الامتناع، فلطمه الإنكليزي ودفع به إلى خارج العربة فأقلع الرجل عن السفر، ولم تمض على الحادثة أيام حتى بلغ الخبر لجميع قبائل المرتة الضاربين ما بين كلكته وحيدر آباد (ولهم وسائط مخصوصة لنقل الأخبار وإيصال صوتهم إلى سائر أطراف بلادهم) وحتم عليهم أن لا يركبوا بعد ذلك في الأرتال الحديدية ولا ينقلوا فيها عروض تجارتهم. وكان الأمر كذلك ورجعوا إلى جمالهم ونياقهم وكادت السكك الحديدية المارة في بلادهم الواسعة تبطل، إذ معظم عملها معهم ولا شغل فيها لغيرهم إلا ما كان من مسافر سائح أو عسكر ينقل من مكان إلى آخر، وبعد البحث من مدير المصلحة علم السبب واجتهد في مرضاة القوم، وما قدر على مصالحتهم حتى بلغ منه الجهد، واشترطوا عليه أن ينقل أشخاصهم وبضائعهم مدة ستة أشهر بدون أجرة ولا مقابل، فرضي بذلك. فهذه ثمار بعض الحب والاتفاق الناجمين عن حسن التربية القومية، فهل أضرت بأولئك القبائل سيادة الإنكليز عليهم؟ هل أذلت نفوسهم وملكت عليهم أمرهم؟ هل استحوذت على أراضيهم واستأثرت بتجارتهم وصناعتهم؟ هل استبدت على أمرائهم ورؤسائهم وافتاتت عليهم؟ هل استطاع القبض على زمام تربيتهم وقيادتهم بها إلى الخضوع لعظمتهم والخنوع لعزتهم، بله التجنس بجنسيتهم؟ هل فعلت بهم شيئًا من الأفاعيل والتي فعلتها بسائر الهنود التي تفعلها في مصر، وهي لم تستول على مصر استيلاء شرعيًّا رسميًّا كاستيلائها عليهم؟ كل ذلك لم يكن، فعلامَ لا يعتبر المصريون بهؤلاء القوم، ويندفعون إلى التربية الوطنية القومية، وإلامَ يعرضون عن العلاج الصحيح لمرضهم، وهو تقوية بنية الأمة بالتربية الصحيحة، ولا سعادة لهم إلا بها، وحتامَ يمدون أعناقهم ويقنعون رءوسهم ويرفعون بأبصارهم على من لا يسعى إلا لمصلحته، فإن وافقت مصلحتهم فالعمل لنفسه لا لهم، والنظر إليه والرجاء به لا يزيدانه سعيًا في مصلحة نفسه؟ فيا أيتها الأمة التعسة الحظ النكدة العيش هبي من نوم الغفلة وانفضي عن رأسك غبار الخمول، ولا تنخدعي لكلام المغررين، لا تيأسي من روح الله ولا تعتمدي بعد التوكل عليه إلا على سعيك، فالعلاج الصحيح الذي يدفع عنك جميع الأمراض ويذهب مع العرض الأكبر (الاحتلال) بسائر الأعراض - إنما يطلب منك لأنه يتعلق بداخليتك وما هو إلا تعميم التربية الصحيحة والتعليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

الإنصاف من مزايا الأشراف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإنصاف من مزايا الأشراف عثرنا على مقالة في بعض جرائد سوريا المستعبدة - بإمضاء (الفقير السيد محمد نوري الكيلاني) - ملخصها: أنه اطلع على النبذة التي نشرناها من مقدمة كتابنا الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية في جريدتنا (المنار) ووصف الكتاب رجمًا بالغيب (بأنه بذر بذور شقاق جديد بين الطائفتين، وافتتح باب فتنة سده الله) وإننا إن زعمنا الحب لجده الكيلاني فعلينا أن نحترم الرفاعي وإن غير ذلك من مزالق المهالك، ويجب على أتباع الشيخين أن يضرب به وجه صاحبه، وختمها بالتهديد والوعيد على طريقة الذي حركه لهذه الكتابة، وتمثل ببيتين من الشعر يومئ بهما إلى أنه متحد مع رئيس الرفاعية سماحتلو الشيخ أبي الهدى أفندي وأنهما يمزقان بالسر خصمهما ويذيبانه ولو كان من حديد! وذكر أن هذا الخطاب لعصبية الطائفتين. وقد ذيل الرسالة صاحب الثمرات الفاضل بأنه يرجو إقفال هذا الباب، وأن مقام القطبين محفوظ لا تؤثر فيه العوامل مهما تلونت صبغتها، ونحن نقول في الجواب: إن ما وصف به الكتاب سعادة نوري إنما هو وصف غير صحيح، والكتاب إنما ألف في وقت احتدام النزاع لأجل سد باب الفتنة، وبيان الحق في مسائل الخلاف والنزاع، لكن لا ينخدع أحد بتلك الشعب التي ذهبت بحرمة الطريق ورجاله ومست الدين نفسه ويستحيل على قارئها أن يعتقد بأحد القطبين، بل يخشى عليه إن لم يكن راسخًا في العلم والدين أن يختل اعتقاده الأساسي، والكتاب يبرئ الشيخين من كل غميزة غمزا بها، ويؤول ما انتقصتهما به تلك الكتب إن أمكن تأويله، وإلا يرده ويثبت بطلانه، ويضع حدًّا للإطراء الذي غالى به جهال أتباعهما فرفعوهما به إلى مقام الألوهية، فقول سعادة الباشا: إذا كان يحب فلانًا فليحب فلانًا أيضًا، نجيب عنه بخصوصه بأننا نحب الاثنين محبة اقتداء بهديهما، ولا نخرجهما عن كونهما عبدين لا يملكان لنا، بل ولا لنفسهما ضرًّا ولا نفعًا، ونحترمهما الاحترام الشرعي، ولا نعترف بشيء يخالف الشرع؛ فهو الحق {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} (يونس: 32) وإذا فهم هذا سعادة الباشا يعلم أن كتاب الحكمة الشرعية لم يؤلف مرضاة لعصبيته؛ لأن فيهم أغنياء ومساكين، ولا لعصبية الرفاعية؛ لأن لهم رئيسًا يهب الرتب والنياشين، وإنما مرضاة للحق الذي لا يعدم نصيرًا وظهيرًا في كل حين، فسقط بهذا تهديده، سواء كان على ظاهره أم إشارة التي تمكنه مع الآخر من الإيذاء، وعلى كل حال فتهديده وتهديد الآخر سواء. ومن آية صدقنا قولنا: إننا لم نؤلف الكتاب إلا لسكب مياه النصح على نيران الضغائن لتتلاقى القلوب على الصفاء والوداد، ما كتبناه في التنبيه السادس من المناقشة العاشرة من الشعب الأول من المقصد الثاني من كتابنا (الحكمة الشرعية..) المذكور، وتلك المناقشة هي في قول (لباب المعاني) في القادرية (يجازون على الحسنة بالسيئة وعلى الحسن بالقبيح) الوارد في الشاهد التاسع والأربعين من شواهد السفه والشتم والهجو الشعري في ذلك الكتاب، وإننا نورد هنا ملخص ذلك التنبيه وهو: تخصيصه - أي مؤلف لباب المعاني - صاحب القلادة (هو أبو الهدى أفندي) بالإحسان للقادرية دون غيره مع قوله: إنهم يجازون على الإحسان بالإساءة - فيه إيماء إلى أن من القادرية من أساء إلى مؤلف القلادة نفسه، وتخصيصه ذلك بغالب القادرية يكاد يخرجه من الإيماء إلى الظهور ولم يصرح بتلك الإساءة اكتفاء بوضوح الإشارة، وتحاشيًا من زيادة شيوعها وعلم من لم يعلم بها، وهي على ما ظهر لنا إنكار غالب القادرية (الشرقيين) على كيلانية حماة الذين صاهروا الأفندي المشار إليه ووقوع النفور بين بعض وجهائهم وبين من صاهره ومن رضي عنهم، وشايعهم على ذلك الاعتقاد، أولئك المنكرين الناقمين أنه ليس كفؤًا لهم من حيث شرف النسب، إذ يرون أنه ليس من ذرية أبي الخير أحمد الصياد - قدس سره - وأن الصياد هذا ليس من الأشراف وإنما هو من عرب اليمن، والقائلون بشرفه بانون على أنه عراقي، قلت: وممن صرح بأن الشيخ أحمد الصياد هذا يمني شيخ الإسلام التاج السبكي في الطبقات الكبرى ... هذا ما بلغنا - والعهدة على الراوي - وإذا صح فهو لا يقتضي القطع بإنكار النسب المذكور، لجواز أن يكو صحيحًا، ولم يقفوا على صحته وسيأتي البحث في ذلك في محله. ولعله صح عند سماحة أبي الهدى أفندي طعنهم في نسبه وقولهم: إنه تمكن من إشاعة دعواه بواسطة الجاه الدنيوي حتى عرض بنسب جدهم الغوث الأعظم في كتبه ورسائله المنشورة باسمه، وإنما لم يطعن بنسبتهم إلى حضرة الغوث قدس سره؛ لأن طعنه بها لا يقدح في تواترها، ولا سيما بعد العلم بأن ثمة غرضًا باعثًا عليه، واتصال نسب الغوث بالبضعة الطاهرة، وإن كان متفقًا عليه ومعلومًا بالتواتر كما يستفاد من عبارة العلامة الآلوسي المارة - وتفصيله في المقصد الرابع- فالطعن فيه ربما يوهم أن ثمة مطعنًا لأن قائله لم يقله من عند نفسه وإنما يسنده إلى بعض المتقدمين الذين هم مظنة للصدق والخلو من الأغراض والمنافسات القائدة إلى هذه المساوي، والقاذفة في هاته المهاوي. فإن قيل: من البيّن أن مقصد هذه الشرذمة من الرفاعية إعلاء قدر الرفاعي وتغليب صيته على كل أولياء الأمة وعلى الجيلي بوجه خاص، فلأي شيء صرح الشيخ أبو الهدى أفندي وهو رئيسهم على ما صرح به البحريني في الصفحة 79، بأن الأقطاب الأربعة سواء في النسب والمرتبة والقدم والفيض، ألا يدل هذا التصريح على أنه لا يرتضي بكلام تلك الجمعية من الرفاعية، ولا يذهب مذهبهم في كتبهم الحديثة التي اختلقوها على بعض الغابرين فضلاً عن كونه رئيسًا لهم كما يعلم من كتاب لباب المعاني؟ … فالجواب: لا دلالة في عبارته على ما ذكر؛ فإنه كتب تلك العبارة قبل التصدي للإنكار على القادرية، والشروع أو التمادي في الغلو في شأن الرفاعي المقارن لغمط حقوق الجيلي، بل الذي يترجح لناظر نحو (هداية الساعي) من كتبه الأولى: أن غاية قصده إشراب الأفكار مساواة الشيخين، وربما لم يكن طامعًا بمساواتهما في الشهرة، على أن له في تلك الكتب عبائر تشعر بتفضيل الرفاعي على غيره، إلا أنه اعتذر عنها قبل إيرادها بأن أتباع كل شيخ يحق لهم تفضيله على غيره، لكونه وسيلتهم وواسطتهم ... إلخ. ويوشك أن يكون كتاب هداية الساعي أول دفتر أنشأه في شأن الطريقة الرفاعية، كما يؤخذ من مقابلته بغيره من كتبه في اللفظ والفحوى، سواء كانت المقابلة في النظم أم في النثر، وسواء كان ذلك في مقوله أم منقوله (وربما ننشر في المنار شيئًا من هذه المقابلة) ولقد طبع الكتاب المذكور في استانبول سنة 1289، وكان مؤلفه يومئذ نقيبًا في جسر الشغراي أوائل رقيه في مراقي الجاه الدنيوي، وكان من أخلاقه وعاده في تلك الأيام التملق لأشراف البلاد ووجهائها وتمداحهم بالأشعار ككيلانية حماة وكيلانية حلب، وخلق التملق هو الخلق الفرد الذي ينهض بذويه إلى الحصول على سعادة الدنيا من المال والجاه، ولو توخينا الاستدلال على عدم صحة ما ينسب لذلك الرجل في حق الجيلاني والجيلانية من الكتاب المذكور لكان لنا في غير تلك العبارة المشار إليها في السؤال دليل واضح على احترامه للقادرية وتعظيم طريقهم، والثناء على الإمام الجيلاني ثناء لا يحتف به تعريض بطعن، ولكن الاستدلال بما في ذلك الكتاب المؤلف من نحو عشرين عامًا على أحوال مؤلفه وعلاقاته مع غيره الآن غير معتبر إلا إذا أيده تكذيب ما نُشر بعده من الكتب المخالفة له، ومع ذلك فلا بأس بذكر ما هو من شعائر الود والصفاء، وعلائم المحبة والوفاء، استمالة للقلوب، وتذكارًا للعهود، وتزييلاً بين أيام المناصبة والمناواة، وأيام المصاحبة والموالاة، لعلهم يرجعون. ذلك أن سماحة الشيخ أبي الهدى أفندي قد نص في الكتاب المذكور على أنه قد تشرف هو ووالده الشيخ حسن وادي بخدمة الطريقة القادرية على يد بعض أكابر مشاهير شيوخها، وتفصيل ذلك في خاتمة الكتاب من الصفحة 111 - 113، ونص عبارتها بحروفها نشرناها برمتها في الكتاب، ونأتي بملخصها هنا على ما شرطنا. قال - بعد البسملة والحمدلة والتصلية -: وبعد فمِن مَنِّ ربّي علي لي شرف ثانٍ بخدمة طريقة سلطان الأولياء الشيخ عبد القادر الجيلاني - قدس سره العالي - وقد تشرفت بالانتساب لخدمة طريقته البهية وحضرته القادرية وأذنت بالخلافة المباركة من حضرة والدي الأمجد السيد الشيخ حسن وادي بن علي بن خزام بن علي بن الشيخ حسين البغدادي ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمود الصوفي دفين شط الموصل الحدبأ الصيادي الخالدي نسبًا الرفاعي طريقة ومشربًا، نفعني الله بهم أجمعين، وسيدي الوالد تخلف ولبس الخرقة القادرية من يد حضرة شيخه زبدة العلماء وكوكب الصلحاء شيخ السجادة القادرية في حماة، لا زال قطره عامرًا بوجوده وحماه، القائم لله على قدم الوفا، الشارب من خمر الصفا، مفتي الإسلام، بضعة الأولياء العظام، كعبة الطالبين، ومورد السالكين، مرشد هذه الطريقة بكل المعاني، والبدل الحاضر عن حضرة جده الجيلاني، سيدنا الأمجد المحترم السيد الشيخ محمد مكرم أفندي ابن المرحوم شيخنا الكبير، وإمامنا الشهير الشيخ محمد أفندي الأزهري دفين بغداد بجوار جده الغوث الأعظم ابن حضرة المرحوم الشيخ عمر بن شيخ مشايخ زمانه وأستاذ عصره وأوانه قرة العين الشيخ ياسين ابن قطب الدائرة القادرية بالاتفاق دفين حماة الشام السيد الشيخ عبد الرازق - وساق النسب إلى أن قال: ابن حضرة الغوث الأعظم سلاب الأحوال أستاذ الرجال الدرة البيضاء، الجامع بين المعشوقين، الكبريت الأحمر، الهيكل الصمداني والقنديل النوراني، سلطان الأولياء، باز الله شيخ مشايخ العرب والعجم، كنز المعارف، ومعدن المعاني السيد الشيخ عبد القادر الحسني الحسيني الصديقي الفاروقي المعروف بالجيلاني - رضي الله عنه - وساق نسبه بلقب السيد لكل فرد إلى الإمام الحسن السبط - رضي الله عنه - ثم قال: هذا النسب الصلبي المتصل من مرشدنا وشيخنا السيد الشيخ مكرم أفندي لجده الأعلى صلى الله عليه وسلم. ثم أثنى على شيخه وشيخ والده المذكور كثيرًا، منه أنه تمت له الكلمات في الظاهر والباطن، وختم ذلك بهذه الأبيات: يا طالبًا مدد الجناب القادري ... مل للحما الحموي وقف بالحاضر وانزل بباب الأزهري إمامنا ... شيخ الطريق بباطن وبظاهر أسد غيور قادري هاشمي ... حصن من الزمن الخؤون الغادر علم له النسب الرفيع وشأنه السا ... مي سما بحقائق ومآثر مدد له المدد العظيم وسره ... سيف القضا المردي لكل مكابر حبر عليّ مناقب أنواره ... كالشمس لامعة لعين الناظر سر خفي ليس يدركه الفتى ... إلا بعين بصيرة وسرائر بدل عن الجيلي حل بحينا ... فمقامنا عال بعبد القادر قل للجهول عميت عن أحواله ... وله العناية كابرًا عن كابر وعظ الغبي وقل تقدم والتمس ... مدد العلا من خير ركن عامر فوحقه لا شك عندي أنه ... بدل وقد شهدت بذاك بصائري وتحققت نفسي حقائق فضله ... يا عاذلي في حبه كن عاذري أنا لا أمل ولا أميل وإن جفا ... أبدًا وإن قطعت لذاك مرائري (قال) : (وهنا ذكرنا هذه النبذة الجزئية من أحوال السادة القادرية، وأرجو من كرم الله أن يمن علي بجمع رسالة في ذكر أحوالهم الكريمة لتحصل لي بسببها بركات همهم العظيمة والسلام ختام) اهـ. ملخصًا بالحرف. قلت: فالشيخ أبو الهدى أفند

عبرة المنار وجريدة طرابلس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عبرة المنار وجريدة طرابلس وقفنا في جريدة طرابلس - والمنار تحت الطبع - فرأينا فيها مقالات ترد على (الحكمة الشرعية) أو على ما نشر منه في المنار، بعضها لصاحب الجريدة وبعضها لآخرين، بعضها بذاء وسفاهة، وبعضها اعتدال ونزاهة، والعجب أن يرد المسلم الصادق على شيء لم يطلع عليه، وكفى بذلك دليلاً على نفاق أولئك الكاتبين وافترائهم، وكان يمكن من عنده مسكة من الدين أن يرضي من احتاج إلى مصانعته بعبارة نزيهة صادقة، كما فعل أحدهم، ولكن النفاق ليس له حد يقف عنده، وقد اتخذت جريدة طرابلس هذه الحادثة فرصة لإظهار حسدها للمنار وراء هذا الستار، فطعنت في مشرب الجريدة في أول صدورها؛ لأنها نددت بالعادات المنكرة المذمومة، وبنت هذا الطعن على أن ذلك لا يرضي الناس!! وفاتها أن إرضاء الحق مقدم على إرضاء الناس، وإن كانت لنفاقها تقدم الثاني على الأول، ولولا حسدها للمنار الذي فضح ضعف كتابتها ونفاقها بعبارته العربية ونزاهته الدينية - مع كون صاحبه من بلدة طرابلس - لما خصته بالذم على ذلك. وهذه جريدة (مصباح الشرق) الغراء تجري مع المنار في مضمار واحد، وتنتقد العادات المصرية حتى المتعلقة بالمنتمين للطريق بأشد مما انتقدت المنار، فلم لم تذمها على ذلك؟ ولكن الحسد إنما يقوى حيث تكون الصلة أقوى من نحو وطنية أو قرابة أو جوار، ومن العجيب أن جريدة طرابلس طعنت في المنار بما فيه من (تنديدات بتقصيرات على أهل الشرق وتحذيرات من تغلب أهل الغرب بما حازوا من قصب السبق) وكأن نفاقها يسول لها أن الأولى بنا غش أمتنا، وقولنا للمريض: أنت صحيح قوي، فكل ما شئت وإياك والدواء؛ لأن ذلك يسره فيرضى عنا، وزعمت أن الناس كلهم نقموا علينا وعلى المنار، وهذا كذب؛ فوالله العظيم إن أفاضل الناس كتبوا إلينا من مشارق الأرض ومغاربها يفضلون جريدتنا على كل الجرائد الشرقية، وأما الثناء الذي سمعناه ونقل إلينا ممن سمعه شفاهًا من علماء مصر وفضلائها فهو أكثر من أن يذكر، ولا تزال الجريدة في نماء، ومن عجيب الإقبال عليها أن أكثر من يتجدد لنا من المشتركين يطلب الجريدة من أول سنتها، حتى تحدثنا بإعادة ما مضى منها، ولئن شئنا لنفضحن هذا النفاق ونبين حقيقة أهله، فنحن أعرف بهم ولكن نعفو ونصفح. وليعلم المنافقون أن كتابنا وجريدتنا لم يوضعا للطعن في أبي الهدى أفندي ولا لإساءته فضلاً عن الطعن بالقطبين الكبيرين الجيلاني والرفاعي - رضي الله عنهما - وكأنهم به وقد علم بحقيقة مقصدنا الشريف، ومشربنا النقي الطاهر، فرضي عنه، وكأنهم بالمنار يضيء فوق جبال سوريا فيعم أغوارها وأنجادها فيخطف أبصار الشامتين وتنقطع بذلك ألسنة المنافقين وتحترق قلوب الحاسدين. {وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} (يوسف: 52) .

ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*] (الخلافة والخلفاء) (2) بيّنّا في العدد الماضي معنى الخلافة وأهم شروطها ووظائفها، وفائدة الاستخلاف ومضرته، وأومأنا إلى ما كان من خلاف في الدين بسبب التنازع في الخلافة، وقد ورد في الحديث أن الخلافة تكون بعد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثين سنة، ثم تصير ملكًا عضوضًا، وإذا أمكن النزاع في صحة رواية الحديث فلا مجال للنزاع في معناه، فلقد خرج بنو أمية بالخلافة عن حدها، وبعدوا بها عن عهدها، وقام الملك بالعصبية وانحرف القائمون عليه عن جادة العدالة العامة والعلم الديني وهما أقوى أركان الخلافة، وانغمسوا في الترف والنعيم واستبدوا بالأعمال كافة وأسرفوا في النفقات من بيت المال إلا أنهم أعطوا الملك حقه من الفتوح والتغلب والعدل في القضاء وحفظ الأمن والراحة، وكيف لنا بمثل ذلك اليوم؟ ولذلك كان الفقهاء يعتبرون خلافتهم شرعية، وقد احتج الإمام مالك في الموطأ بعمل عبد الملك بن مروان، ومع هذا فقد أذن الله تعالى بانقراض ملكهم لفسق ملوكهم وإسرافهم في أمرهم، ولا سيما بعد عمر بن عبد العزيز العادل، فقد كان يزيد بن معاوية أفسق الفساق، وكان عبد الملك جبارًا عنيدًا، على أنه كان سياسيًّا ماهرًا، وكان سليمان همه في قضاء شهواته، وكان الوليد الثاني بن يزيد سفيهًا مستخفًّا بالدين، وقد حفظ عليهم التاريخ سيئاتهم، ولم يكد يبلغ ملكهم قرنًا واحدًا حتى حدث فيه من البدع والفوضى في العلم والدين ووضع الأحاديث واختلاقها على الرسول ما زعزع قوائم الدين، ولبس أهله شيعًا، وفرقهم مذاهب، وذاق بعضهم بأس بعض، فكان مذهب الخوارج ثم المعتزلة والجبرية، ولو لم يخرج الأمويون بالخلافة عن رتبتها العلمية الدينية لجمعوا أمر المسلمين على أصول الدين الأساسية، وأطلقوا لهم الحرية في النظر فيما وراءها، وأنشأوا جمعية علمية دينية تحت رياسة الخليفة للحكم في مسائل الخلاف ومواضيع النزاع، تحظر الدعوة إلى ما تحكم ببطلانه وتعذر بعده من لم يتضح له ظهور برهانها على برهانه. ثم دالت الدولة إلى العباسيين، فساروا سيرة حسنة إلى عهد أبناء الرشيد والفوضى العلمية على حالها، وقام المأمون العباسي على علمه وفضله ينتصر للمعتزلة، ولكن انتصاره كان علميًّا فقط، وغالى بعده المعتصم في الاعتزال، وكانت فتنة القول بخلق القرآن التي اضطهد فيها الأئمة المجتهدون، وطبعت النفوس على الغلو المفرط، وظهر في زمن العباسيين الرواندية الذين قالوا بعبادة الخلفاء وقد قاتلهم المنصور والزيدية. بل ظهر ما هو أدهى من ذلك وأمر، وهو مذهب الباطنية الذي ظهر بمظاهر كثيرة وسمي بأسماء مختلفة، وأشهر فرقه الإسماعيلية، وقد اجتهد رئيس الباطنية حسن الصباح في إفساد الدين الإسلامي والخروج به عن حقيقته. ولا ريب أن ضرر هذا المذهب - وأكثر فرقه من الدهريين - كان من أشد المصائب على الدين؛ لأنه تعضد من القوة السياسية بانتصار الخلفاء الفاطميين له، ودعوتهم إليه، ومن القوة العلمية الدينية بما كان من اختلال أقوال غلاة المتصوفة الذين خاضوا في الكلام على ما وراء الحس استنادًا على الكشف، فشايعوا الباطنية على أن للقرآن معاني غير ما تعطيه اللغة وأساليبها، وفتحوا على الأمة باب التأويل الذي ضلت فيه الأمم من قبل. هذا التفرق في الدين كان منتشرًا في البلاد الإسلامية، والخلفاء وادعون ساكنون لا يهتمون لجمع الناس على عقيدة واحدة، بل تركوا هذا السيل وما يجرف حتى بلغ مدّه غايته، ووقعت الفوضى الحقيقة بالتظاهر بالمفاسد، والخروج على السلطان، فنهب القرامطة الكوفة سنة 285 في خلافة المعتضد، وأغاروا في خلافة المكتفي على الشام وفلسطين، وأوقفوا تجارة العراق والحجاز، ثم حاصر رئيسهم أبو طاهر مكة وأخذها عنوة، وهدم الكعبة، وكان ذلك في أوائل القرن الرابع، واستباح الحرم بسفك الدماء، وأخذوا الجزية من الخليفة القاهر والخليفة الراضي، ثم سخر الله ملوك الهمدانية والإخشيدية للتنكيل بهم، ولولا ذلك لاستفحل أمرهم ودامت لهم السلطة، ولكن الباطل قد يطول أمده، ولكنه لا يدوم {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) اجتهد الأمويون في إضعاف سطوة العرب في الحجاز؛ لأن ضلعهم كان مع الهاشميين، وتمكنوا من ذلك بواسطة عمالهم الظلمة كالحجاج وغيره، حتى إن المؤرخين قالوا: إن الوليد بن عبد الملك ما بنى تلك القبة على صخرة بيت المقدس وجعلها بحيث يطاف بها إلا ليحول الناس إليها عن الكعبة، وكثر اضطهاد العلويين في زمنهم، فكان ذلك مغريًا لقلوب محبيهم على زيادة الشغف بهم، وانتهى بالغلو الذي تعلم، ولما أمنوا في عهد العباسيين بعض الأمان ظهر من شأنهم ما غير قلوب بني العباس عليهم، ولما عهد المأمون بالخلافة لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق أرادوا خلعه واستبدال آخر به منهم، فبايعوا عمه إبراهيم بن المهدي وكان من اضطهاد هؤلاء للعلويين وقتل الكثير من عظمائهم سرًّا وجهرًا ما جمع كلمتهم ودفع بهم إلى تأسيس خلافة مستقلة، فكانت الخلافة الفاطمية، وظهر معها مذهب الشيعة كمال الظهور، فامتزج بمذهب الباطنية أتم الامتزاج، كما أنشأ الأمويون خلافة أخرى في الأندلس بعد تغلب العباسيين عليهم، ونزع الأمر من يدهم. اضمحلت الخلافة العباسية وتلاشت بما اضمحلت به الخلافة الأموية، من الخروج بها عن العلم والعدالة وبعوارض أخرى عرضت عليها، منها: كثرة الفتن والبدع التي فرقت الكلمة، ومنها: إعطاء المأمون طاهرًا ولاية خراسان يستقل بالحكم فيها؛ لأنه قتل أخاه الأمين، ففتح باب الاستقلال بالحكم دون الخليفة، فكان منفذًا للخلل وتفريق السلطة الممزق للمملكة، ومنها: الاعتماد على الدخيل من العجم والترك الذين استفحل أمرهم، فعجز المتوكل وغيره عن تلافي ضررهم واجتناب شرهم، ومنها: عزل الخلفاء وقتلهم، كما فعل الرشيد بالبرامكة حين استبدوا بالأحكام وكادوا يتفردون بالسلطة، ومنها: إهمالهم أمر ممالكهم الغربية، ولا سيما في إفريقيا وإرخاؤهم العنان فيها للأغلبية، كإهمالهم أمر بلاد الأناضول، حتى تمكن التتار منها. ولو ساروا بالخلافة على منهاجها الشرعي لقيدوا أنفسهم بالشورى حتى تحفظ لهم سيادتهم بحفظ سيادة الأمة وقوتها. وأين منصب الخلافة من الاستبداد والانفراد بالأحكام الذي كانوا يتوارثونه بقوة العصبية التي تقلد الخلافة للجهلاء كالمعتصم، إلى غير ذلك من إطلاق التصرف الذي سوغ لهم الإسراف في مال المسلمين وصرفه في الشهوات؟ ومكن المتوكل من حرق وزيره وتسليط الوحوش على داره وإعداده المأدبة لرجال حكومته وقتله إياهم. فأين المسلمون يومئذ من المسلمين في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه، وأين هذا الاستعباد والرضا بالضيم من تلك الحرية والعزة؟ أين هذا التفريط في الأخذ على أيدي الحاكمين من الإفراط المؤدي إلى قتل الخليفة؛ لأن بعض عماله كانوا ظالمين، ولم يعجل بالانتقام منهم مع أنه قال على المنبر: أمري لأمركم تبع. لا جرم أن التفريط شر من الإفراط؛ لإن الإفراط فيه الكمال المطلوب وزيادة، واعتبِر ذلك في السخي المبذر والشجاع المتهور وفي ضدهما تلقه واضحًا جليًّا، فإن الشحيح المقتر يذهب إمساكه بفائدة المال حتى كأنه معدوم، والجبان الهلوع ينتهك عرضه ويجنى على حقيقته وهو واجم مستكين، وهذا التفريط في الأمم مطوح لها في مهاوي العدم، وإن شئت مثالاً للإفراط والتفريط في الحرية، من حيث الأخذ على أيدي الحاكمين أو العبودية لهم، فارم ببصرك إلى الأمة الفرنسية والأمة العثمانية يتضح لك المراد وتهتدي إلى سبيل الرشاد، ومما شرحناه تفهم السر في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية) فإن العصبية الجنسية (أي النسَبية) التي أراد محوها وجعل النفوذ للأمة كلها في ضمن دائرة الشريعة هي التي فعلت بالمسلمين تلك الأفاعيل، وأول من عمل على قلع المبدأ الديمقراطي الذي جاء به الإسلام بصورة معتدلة هم الأمويون، وجرى العباسيون من بعدهم على آثارهم، حتى عاد لأمراء المسلمين وملوكهم الاستبداد الآسيوي على أشده، والعصبية النسبية على أتمها، ولم يبق من المساواة التي جاء بها الإسلام إلا العدل في القضاء والأمن العام في غير أيام الفتن التي كانت مهب رياحها من قبل طلاب الملك أو الدعاة إلى المذاهب، وكان أهل الذمة يرتعون في بحبوحة الراحة ويتفيأون ظل الأمان الكامل لبعدهم عن مثار النزاع والشقاق. هذا مجمل خبر الخلفاء العباسيين، بدأ في سلطتهم الخلل من زمن أعظمهم دولة وعلمًا (المأمون) واستفحل بعد ذلك حتى آل إلى استبداد مواليهم عليهم كما علمت، ثم إلى مشاركة السلاطين لهم في ذكر أسمائهم في الخطبة، ثم إلى قناعتهم باسم الخليفة مع فقد السلطة بالكلية (انظر إلى غرور الشرقيين كيف يقنعون بلقب ضخم لم يمسهم شيء من حقيقة معناه) ولو قام بوظيفة الخلافة واحد منهم حق القيام فجمع الكلمة على مذهب واحد وعقيدة واحدة، وقيّد السلطة وحقق معنى الشورى - لما تمزقت السلطة وتضعضع الدين وأضعف الأمة ضعفًا مكّن سيوف جالية التتار من رقابهم من غير ما مقاومة، كان التتاري يقول للرجل: أعطني سيفك ونَمْ لأذبحك، فيفعل. واتفق أن أحدهم ذبح مائة رجل في مكان واحد، وهم ينظرون إليه يذبح الواحد بعد الآخر، ولا يعدو عليه منهم أحد! ! هكذا هدم أولئك الرؤساء أركان السيادة الإسلامية بهدم التعاليم التي جاءت بها الشريعة واتبعها الخلفاء الراشدون، فحق للأمة أن تقول فيهم {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (الأحزاب: 67) . (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الجرائد وظائف أصحابها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجرائد (وظائف أصحابها) حالها في الشرق والغرب لأصحاب الجرائد ثلاث وظائف لم تجتمع لطبقة من طبقات الناس، وهي التعليم العام والخطابة العامة والاحتساب (الأمر بالعروف والنهي عن المنكر) وموضوع تعليمهم وإرشادهم وأمرهم ونهيهم الأمة، حاكمها ومحكوميها، عالمها وجاهلها، صانعها وزارعها وتاجرها. فهم الذين ينهجون للساسة طرق السياسة المثلى، وينصبون لهم الأعلام والصُّوى، كيلا يضلوا في مجاهلها ويغتالوا في معاميها وأغفالها، وهم الذين يبينون للقضاة والحكام خفايا القضايا وحقائق الواقعات، مقرونة بما ينطبق عليها من أحكام الشرائع والقوانين، وهم الذين يصحبون أمراء العساكر في إقامتهم، ويرافقون قواد الجيوش في غزواتهم فيشرحون لهم في الحل والترحال حال جنودهم، وما يلزمها ويكونون لهم عيونًا يتجسسون لهم أخبار أعدائهم، ويطلعونهم على خفايا أعمالهم، ويرسمون لهم (خرائط) البلاد التي يطرقونها، ويصورون لهم طرقها ومضايقها وموارد المياه فيها، فالملوك والسلاطين والقضاة والحكام والأمراء والقواد، في حاجة إليهم يقتبسون من علومهم ويغترفون من عيالمهم (بحارهم) . وهم الذين يرشدون الأساتذة والمعلمين إلى طرق التعليم القريبة، وأساليب البحث المفيدة، ويوصلون إليهم ما اهتدى اليه أبناء صنفهم من الاستنباطات الحديثة والاكتشافات الجديدة، وينتقدون مصنفاتهم، فيظهرون غثها من سمينها ويميزون بين فاسدها وصحيحها، فيساعدونهم بذلك على تمحيص الحقائق وإظهار الدقائق، فالعلماء والأساتذة تلامذتهم والمؤلفون عيال عليهم. وشأنهم مع الزراع والصناع والتجار كشأنهم مع الأمراء والحكام والعلماء سواء بسواء. وهم الذين يهدون الآباء والأمهات والقائمين على التربية إلى فضائل الأخلاق وكرائم السجايا، وكيفية طبع النفوس عليها لتكون ملكات راسخة، كما يهدونهم إلى كيفية التوقي من الصفات الذميمة والاحتراز من غوائلها والتملص من حبائلها، فهم أساتذة الأمة في مجموعها وأصنافها وأفرادها، وهم الوصلة فيها بين الهيئة الحاكمة والهيئة المحكومة لها يبينون لكل فريق الحقوق التي له والواجبات التي عليه بإزاء الفريق الآخر، فصناعتهم أشرف الصناعات وعملهم أفضل الأعمال. يتسع نطاق هذه الصناعة في الأمم باتساع عمرانها ورواج أسواق العلوم والمعارف فيها وذلك ما نشاهده في الممالك الغربية، اتسع نطاق الصحافة فيها حتى صار لكل صناعة ولكل فن جرائد مخصوصة لا تبحث إلا فيها وفيما هو من لوازمها، وبديهي أن جريدة تقصر أبحاثها على موضوع واحد لا بد أن تبلغ منه غاية لا يمكن أن تبلغها مع تعدد المواضيع وكثرة الأبحاث المختلفة، ومن هنا يتجلى أن هذه الصناعة في الشرق أصعب منها في الغرب. ولو فرض أن القائمين عليها أكفاء وفي درجة واحدة في الإنشاء والتحرير والمعارف، ومع أن البعد بين أصحاب الجرائد في الخافقين كالبعد بين أممهما في العلوم والفنون. ترى هذه الصناعة عند الغربيين تزداد ترقيًا وإتقانًا عامًا عن عام، حتى عزموا في هذه الأيام على أن يجعلوا لمن يتصدى لإنشاء الجرائد دراسة مخصوصة، حتى إذا ما أتمها وأخذ الشهادة المدرسية بها يؤذن له بالتصدي لهذا العمل العظيم. هذه إشارة إلى ما عند القوم في ترقي هذه الصناعة، وأما عندنا فهي كما قيل: لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس في بلاد الدولة العلية لا يعطى الامتياز إلا لقوم يشترط أن يكونوا في سن مخصوصة، وعلى مقدرة مالية مخصوصة وسيرة أدبية معلومة، وهي شرائط يحسن مراعاتها وإن كانت غير كافية، إلا أن المصيبة في سيرة القائمين على تنفيذ القانون، فإنهم لا يعجزهم جعل المستحق غير مستحق وحرمانه من امتياز الجريدة إذا طلبه، وإعطاؤه لغير المستحق له، فالشروط هناك ترجع إلى شرط واحد وهو بذل الدراهم والدنانير، ولهم أعذار في رد طلب من يمسك يده عنهم: بعضها له شبهة قانونية، وبعضها لا ينطبق على عقل ولا قانون، ولكنهم ليسوا بمسئولين، ومن غريب هذه الأعذار ما وقع لمدير جريدتنا، فإنه طلب امتياز مطبعة وجريدة تسمى (الفيحاء) في طرابلس الشام، وبعد استيفاء المعاملات القانونية لدى حكومة طرابلس أعطي مضبطة من مجلس إدارة اللواء بأنه مستحق للامتياز قانونًا، وقد أخذت عليه العهود اللازمة ورفعت أوراقه لوالي بيروت لأجل إعطائه أمرًا بما تقتضيه المضبطة ليرفع الجميع إلى الآستانة العلية، فتربص الوالي بالأمر مدة طويلة لم ير في غضونها إلحاحًا بالطلب … ثم بعد ذلك أجاب بأن إعطاء امتياز بالمطبعة لا مانع منه، وأما الامتياز بالجريدة فهو غير جائز! (لأن طرابلس فيها جريدة فإذا صار فيها جريدة ثانية يتعب المراقب لتلك الجريدة - السنسور - حيث يصير مكلفًا بمراقبة جريدتين!) وهكذا اقتضت رحمة عطوفتلو رشيد بك وشفقته على المراقب الطرابلسي أن يحرم الطالب من نيل رغيبته، وهو نسيب المراقب فياليت هذه الرحمة كانت عامة من عطوفة الوالي لجميع الرعية، ولقد كان هذا الإفراط في الرحمة على رجل واحد مدعاة الاستغراب من جميع الذين سمعوا العذر واختلفوا في العلة الحقيقية، فقال بعضهم: إنها تقصير طالب الامتياز وعدم إرضاء الوالي. وقال آخرون: إن صاحب جريدة طرابلس قد شق عليه وجود جريدة مزاحمة لجريدته في بلده فاتخذ الوسائل التي لا ترد عند عطوفة الوالي لمنع إجابة الطلب، وعلى ذلك فقس. وأما في مصر فقد أهملت بالنسبة للمطبوعات القوانين، وصار الناس فيها فوضى، فهجم على إنشاء الجرائد من ليس في العير ولا في النفير، فصار كالعرض المباح لكل أحد، ولا شك في أنه شر من العرض الذي يباع ويستأجر؛ لأن الأخير لا يخلو من بعض الصون والعزة، والتفاوت بهذا الاعتبار لا ينافي ترقي بعض الجرائد في مصر عن الجرائد في سوريا، وفي الآستانة عمومًا، ولذلك سببان: أولهما: أن شدة الضغط هنالك على المطبوعات عامة وعلى الجرائد خاصة واحتياج طالب امتياز الجريدة إلى ارتكاب جريمة الرشوة يصرف أفاضل الناس عن الإقدام على هذا الأمر، فيبقى في غير أهله. وثانيهما: أن فقد الحرية والإغراق في المراقبة والأخذ على الأيدي والإكراه على مدح المذموم وذم الممدوح من شأنه إفساد الأخلاق وإضعاف الاستعداد، والهبوط بالمعارف والفضائل إلى أسفل درك الانحطاط، وأَنَّى ينمو علم من هو مضطر إلى كتمانه والعلم - كما قال سلفنا - لا يزكو إلا بالإنفاق؟ وكيف تبقى فضيلة من هو مجبر على الكذب والنفاق، مع أن العمل هو الذي يطبع الملكات في النفوس؟ وإننا نعلم أن بعض من ابتلوا بهذه الصناعة (وأكثرهم ابتلي بها قبل هذا الضغط الشديد) أصحاب فضائل، وهم يجاهدون أنفسهم ويودون التملص من هذا البلاء، ولقد حاول صاحب جريدة الثمرات الفاضل ترك جريدته أكثر من مرة ولكن كان يُلزمه بالصبر والثبات بعض أفاضل القارئين لها، وأشهد أنها أقرب الجرائد السورية إلى الصدق وأبعدها عن التملق والنفاق، ولقد عهد في إدارتها وكتابتها أخيرًا إلى من لم يخرج بها عن خطتها الأولى من التحري بقدر الإمكان. هذا بعض نتائج الضغط وفقد الحرية، ولا يقل عنه الإفراط في الحرية، فخير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. إن إهمال أمر المطبوعات في مصر وترك الناس وشؤونهم فيها قد جاء بنتائج خسيسة، منها: تهجم السفهاء على أصحاب المقامات الرفيعة بحق وبغير حق، ونشر الكلام المخل بالآداب والمضلل للأفكار، حتى ارتفعت الثقة من كل جريدة تحدث ما لم يكن لها عون وظهير من وجهاء البلاد. والنفور على أشده من الجرائد السياسية، وعسى أن يكون عن ترق في الفكر فيدعو إلى الإعراض عما لا ينبغي والإقبال على ما ينبغي. تردد بعض الجرائد الشكوى وتظهر التبرم من الحكومة؛ لأنها حكمت على الكثيرين من أصحاب الجرائد في الدعاوي التي أقيمت عليهم، ولم تراع حقوق هذا المنصب الشريف الذي هو إرشاد الأمم وهداية الشعوب، ولم تحفظ كرامة أصحابه. والصواب: أن الحكومة المصرية مقصرة في تربية أصحاب الجرائد الذين تطفل أكثرهم على هذا المنصب الشريف على غير استعداد فصيروه خسيسًا، فهم أهل غواية وإغواء لا أهل هداية وإرشاد. جعلوا الجرائد سبابة شتامة كذابة أفاكة مذاعة خداعة، يشترون بهذه الرذائل ثمنًا قليلاً. حتى صارت الجرائد العربية محتقرة مرذولة، قال بعض الظرفاء الأذكياء: إن أصحاب الجرائد والمشتركين بها يصدق عليهم قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42) الأول للأواخر، والآخر للأوائل. وقال صاحب السعادة مصطفى ذهني باشا متصرف بولي (في ولاية قسطموني) عندما كان متصرفا في طرابلس الشام: إن الله تعالى يكره لنا الاشتراك في الجرائد وابتياعها بدليل حديث البخاري الشريف (ويكره لكم قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال) وهذه المكروهات الثلاثة تجتمع في الجرائد. ولكن إضاعة المشترك المال وأكل صاحب الجريدة السحت قد قل كل منهما في هذا الوقت، فإننا نرى أكثر الجرائد تشكو من مماطلة المشتركين وليّهم في الدفع، وإن كانوا واجدين. فنسأل الحكومة المصرية مع السائلين أن تتلافى هذه الفوضى في المطبوعات وتضع لها قانونًا عادلاً يوقف القائمين عليها عند حدودها، ويغل أيدي العابثين الذين شوهوا وجهها ومثلوا بها شر تمثيل، فلا يليق بحكومة قانونية أن تترك أهم المصالح الوطنية وأشرفها ألعوبة للاعبين وسخرية للساخرين، وإن وقعت الأمة من ذلك في ضلال مبين.

تقويم الأفكار ـ 1

الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي

_ تقويم الأفكار لحضرة الفاضل حموده أفندي (بك) عبده المحامي إن جهل الناس بكنه الحقائق لمما يقودهم إلى التخبط في السير والعماية في الأفعال، ويؤدي بهم إلى الانقلاب في الأحوال والارتباك في الأفكار، وبقدر ما يفيد معرفة الحقيقة في الناس تعظم أهميتها ويكون الجهل بها من أشد الأضرار على الأفراد ومن أقوى عوامل الانحطاط. لهذا كان من اللازم على كل أمة ناشئة أن تجعل من أهم واجباتها تبيان الحقائق، خصوصًا ما كان منها متعلقًا بالنظام. والجرائد بما لها من الانتشار وتعميمها الجهات المختلفة والأصقاع المتباعدة هي التي تقوم ببث تلك الحقائق وكشف الغموض عنها، ولا سيما وأن الناس يألفون مطالعتها وتشتاق نفوسهم إلى تلاوتها، ولا فرق في ذلك بين العامة منهم والخواص، وهذه هي حكمة إنشاء الجرائد في الأمم، بيد أنه يلزم أن يكون القائمون بأمرها من أحسن الناس سيرة في الأخلاق والصفات، وأوسعهم اطلاعًا في المعارف والمعلومات، وأن يكونوا أكثر الناس اختبارًا بأحوال الأمم وأطوارها، هذا مع قوة في التعبير وبلاغة في التحرير حتى يكون لكلامهم أثر في النفوس وسطوة على الأرواح، فأرباب الجرائد في الحقيقة وعاظ الأمة ومرشدوها إلى ما يلزمها وما تحتاج إليه من آداب وإصلاح حال، أما إذا تقلد بالأمر في الجرائد قوم سفهاء جهلاء، فإنهم يقودون الأمة إلى مهاوي الجهالة، ويثبِّتون فيها عوامل الفساد والسفاهة، ويكونون أشد نكبة على الناس، فإن العامة ببركة ما طبعوا عليه من السذاجة في الطباع يعتقدون أن ما يقال في الجرائد هو حق مهما تنكر على نفوسهم، وأنه صواب مهما كان خطؤه ثابتًا في قلوبهم، لهذا كان ما ينشر فيها من الباطل يظنونه حقًّا، وتتغير في عقولهم معالم الحقائق، ويتخبط في خيالهم تصور اليقين، ويصبحون لا يصيرهم غير التضليل والتمويه. فالواجب على الأمة التي تطلب ارتقاءً أن يكون لمطبوعاتها قانون يوقف كل فرد عند حده، وتحجر على المتطفلين على موائد التحرير أن يخطوا خطًّا واحدًا، وتُعاقِب بأشد العقوبات من اقترف جناية التحرير إذا كان من غير أهلها؛ فإن الجناية على الأخلاق لأشد مفسدة منها على الأجسام. ما أحوج بلادنا اليوم إلى مثل هذا القانون! فإن الفساد الذي ظهر في أخلاق أمتنا هذه الأعوام سببه إطلاق السراح لبعض السفهاء في إنشاء الجرائد لكسب الدراهم، وأصبح الفقير اللئيم الذي لا حيلة له في نيل معيشته يستعملها لجلب قوته، فهو يهجو ويهذي ويهتك الأعراض ويقدح في الأديان لجلب القرش والدينار. فمثل هؤلاء الأنذال يجب قطع دابرهم واستئصال شأفتهم وإبعادهم عن الأوطان كي لا يضلوا الناس ويفسدوا الطباع. أين مقام هذه الجرائد السافلة من مقام الجرائد الحقيقية التي تدعو الناس إلى التمسك بالفضائل، وتنبيهم إلى ترك الرذائل، وترشدهم إلى استقامة الطباع والتمسك بالآداب، وتهديهم إلى إصلاح الأحوال وتنوير الأفكار؟ هذه هي الجرائد التي يجب أن تنشر بين أفراد الأمة لتجني ثمارها وتنتفع بآرائها وتعمل على هداها. في بلادنا ثلاث حقائق عامة هي: الوطنية والحرية والسياسية، قد اختلفت فيها أفهام الناس وتغيرت مُثلها في الخيالات، وما علموا إلى اليوم ماهياتها، اللهم إلا اذا كانوا من الخواص والمتعلمين، وهذا جزء في الأمة قليل، وكان على أصحاب الجرائد الصادقة اللهجة أن يجعلوا تبيانها للناس نصب أقلامهم، حتى يقف الناس على مفهوماتها تمام الوقوف ولا يضلوا عن مبانيها ولا ينحرفوا في العمل عن جادتها. فحقيقة الوطنية هي أن يحب الإنسان وطنه وبني جنسه إلى حد يحمله على تفضيل فوائدهما على منافعه الشخصية، فالوطني هو الذي يجاهد بنفسه في إتيان ما يفيد الوطن وأهله، وقد تغيرت حقيقة الوطنية في أذهان بعض الناس وتشكلت بصور مختلفة. يعتقد بعض الناس أن الوطنية هي عبارة عن ألفاظ وأقوال لا يخرج مؤداها عن دائرة أفواههم، فإذا دعوا إلى عمل يفيد الوطن وكان القيام بأعبائه يمس دراهمهم قالوا: إنما نحن فقراء والله يتولى غنى الناس!! وإن دعوتهم إلى سعي مبرور يعود بالفائدة على أفراد ملتهم ودينهم أطلقوا ألسنتهم على من طُلب السعي له وقالوا: إنه غير جدير بالمساعدة ولا مستحق لها!! همم خامدة وقلوب محشوة بالحِقد والنفرة لبني جنسهم، وأميال لا تلوي على شيء فيه نفع لبني جلدتهم، ومع هذا يدَّعون أنهم الوطنيون وغيرهم المنافقون، أليس هذا من أشنع الجهل وأشد العار؟ هل هؤلاء فهموا معنى الوطنية؟ كلا فإن المعرفة الكاملة بالشيء تؤدي إلى تشبع الذهن به، ومتى صار كذلك أصبح عقيدة راسخة تؤثر في حركات الجسم والحواس فتجرى الأميال على ما تقتضيه تلك العقيدة، وإن ادعوا أنهم فهموا معنى الوطنية وعملوا بضد ما يفهمون وقعوا في شر ما هم فيه؛ لأنهم حينئذ يسمون منافقين وتكون أقوالهم وألفاظهم آلة لتنبه الناس إلى أنهم وطنيون وهم في الحقيقة مموهون، وبعض الناس يعتقد أن الوطنية يكفي فيها تأليف جمعية يبثون فيها الأفكار ويذكرون عن الوطن شيئًا وعن الآداب أشياء، ثم هم لا يلبثون أن تنحل رابطتهم ويتفرق شملهم، وهؤلاء وإن كانوا يعملون شيئًا مفيدًا إلا أن انحلالهم سريع، وهم - في الغالب - غير أَكْفَاء للقيام بأمر الجمعيات، فإن هذه تستلزم شروطًا لا تتوفر إلا في أكابر الأمة وعظمائها، والقائمون بأمرها يلزم أن يكون لهم مادة غزيرة في العلوم والآداب وصناعة في الخطابة والإلقاء، وأصحاب جمعياتنا ليسوا من هذه الطبقة، ولا أتعرض في كلامي إلى الجمعية الخيرية الإسلامية، فإنها جمعية خارجة عن موضوع كلامي بمقتضى موضوعها، فإن موضوعها مادي خيري، وحضرات الأعضاء من كبار الأمة وعظمائها، لا يوجه إليهم طعن ولا يجوز عليهم لوم، وإنا ندعو الله أن تدوم إلى ما شاء الله. فالوطنية - على ما قدمنا - هي أن يكون الشخص غيورًا على بني جنسه، محبًّا لخيرهم، معينًا لهم، يسعى في تقدمهم كما يسعى لنفسه، ويرقي في شؤونهم كما يتمنى لأهله، ومتى جُمعت هذه الصفات وما شابهها في شخص عد وطنيًّا كاملاً مفيدًا لوطنه. الحقيقة الثانية: هي الحرية - يعتقد العامة أن الحرية هي إتيان الموبقات جهاراً، وأن هذا كمال من الكمالات الأوروبية التي يجب أن يتحلوا بها! لهذا ترى كثيرًا من الآداب التي كانت قبل شيوع هذا اللفظ قد انتهكت حرمتها وأصبح فساد الطباع عامًّا في أخلاقهم، وأصبح هذا المعنى عقيدة من عقائدهم وقوي في أذهانهم، وكم جر هذا إلى نقض الآداب وأدى إلى فقد رأس الخصال البشرية اللازمة للهيئة الاجتماعية ونظام الإنسانية وهو خصلة الحياء، ولو علموا أن الحرية هي تخويل الشخص الاختيار في أداء ما له وما عليه ليس إلا، لبُدل فساد الطباع بالارتقاء في المدارك، وكانت الآداب اليوم راقية أوجها الأسمى، وطهارة الأخلاق مطمئنة في برجها الأعلى، وكانت الناس في سعادة بدل هذا الشقاء. فترى من ذلك أن جهل الناس ببعض الحقائق أدى بهم إلى الاعوجاج في الطباع والانقلاب في الأخلاق وضياع الآداب، فلو قامت الجرائد الصادقة اللهجة تذكر الناس بما طرأ عليهم وتنصحهم بتبيان المعاني التي جهلوها وأفسدت أحوالهم، حتى يقفوا على الحقيقة، لكان خيرًا للناس وأفيد مما يسمعونه ويتلى عليهم، نعوذ بالله من الغواية ونسأله الهداية، وسيأتي الكلام على معنى السياسة إن شاء الله. ((يتبع بمقال تالٍ))

أدبيات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أدبيات نظم كثير من الشعراء أبياتًا من كل بحر من بحور الشعر، ضبطوا بها الأوزان بعروضها مع الإشارة إلى أسمائها، ومنهم من جاء فيها بالاقتباس، وقد رأينا في مجلة المقتطف المفيدة تقريظ كتاب في النحو لأحد علماء الألمان ختمه بالكلام في العروض وقرض الشعر، وأورد أبياتًا في ضبط موازين الشعر مزينة بالاقتباس، فأحببنا تفكيه قراء المنار بها وهي: الطويل طويل مدى الهجران من كنت أهواه ... أذاب فؤادي والتصبر أفناه فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن ... ولا تقتلو النفس التي حرم الله الكامل يا كاملاً سلم وقل تعظيمًا ... للمجتبى خير الورى تسليما متفاعلن متفاعلن متفاعلن ... صلوا عليه وسلموا تسليما الوافر أوافر كيد شعري في مزيد ... على رغم الأعادي والحسود مفاعلتن مفاعلتن فعولن ... ألا بعدًا لعاد قوم هود الهزج هزجتم يا منى النفس ... عن الأوطان بالأنس مفاعيلن مفاعيلن ... كأن لم تغن بالأمس المديد فاعلاتن فاعلن فاعلاتن ... يا لبكر انشروا لي كليبا البسيط يبسط في أملي أني أراهنهم ... خوفًا من الجور لما أن أعاينهم مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن ... فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم الرجز الرجز الموزون إذ يقدر ... أجزاؤه بين الورى لا تنكر مستفعلن مستفعلن مستفعلن ... يا أيها الذين آمنوا اصبروا الرمل رمل أكرم به من رمل ... لذة للمختفي والمجتلي فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ... والذي أطمع أن يغفر لي السريع سريع بحر قد سداه الحكيم ... كرر على سمعي به يا نديم مستفعلن مستفعلن فاعلن ... ذلك تقدير العزيز العليم المنسرح منسرح الشعر صاغه الأول ... ممن تراهم عن الهوى نكلوا مستفعلن فاعلات مستفعلن ... بدا لهم سيئات ما عملوا الخفيف خف لما أردت أشدو الخفيفا ... لذ في مسمعي فكان طريفا فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ... إن كيد الشطيان كان ضعيفا المقتضب اقتضبه حين حبا ... فن معشر الأدبا فاعلات مستفعلن ... ماله وما كسبا المجتث مجتث شعري ألقى ... في القلب مني عشقا مستفعلن فاعلاتن ... والله خير وأبقى المتقارب تقارب موعد جمع العصاة ... فيا أيها الناس أدوا الصلاة فعولن فعولن فعول ... أقيموا الصلاة وآتوا الزكوة وقد نبه المقتطف على بعض ما وقع في الكتاب من السهو أو الغلط فقال: (جاء في تفعيل المنسرح أنه: مستفعلن فاعلات مستفعلن، والصواب: مستفعلن فاعلات مفتعلن. وكذلك في تفعيل المقتضب أنه: فاعلات مستفعلن، والصواب: فاعلات مفتعلن. وفي تفعيل المتقارب أنه: فعولن فعولن فعولن فعول، والصواب: فعولن مكررة أربع مرات، وفي هذا الانتقاد على إطلاقه مقال سنذكره في العدد الآتي إن شاء الله تعالى. ولا تخلو الأبيات من تحريفات لم ينبه عليها.

شذرات علمية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شذرات علمية يؤخذ من الإحصاءات الأخيرة: أن عدد لغات البشر - وفي جملتها اللهجات المتقاربة - 275 لغة. يقول أحد علماء الألمان: إن دماغ الإنسان مؤلف من ثلاث مائة مليون حويصلة عصبية. تنفق إنكلترا على جنودها برًّا وبحراً 63.500.000 جنيه، وتنفق فرنسا 36.387.000 جنيه، وألمانيا 35.226.000، وروسيا 38.569.000. يقدرون مساحة مملكة الإنكليز في العالم بنحو 11.000.000ميل مربع، وهي تشغل خمس اليبس، وسكانها خمس سكان الأرض وفيها 10.000 جزيرة، و2.000 نهر، وتحتوي على خمس ماشية الأرض وواحد من اثني عشر من خيولها. (عوالم الميكروب) : لا شيء يمثل عظمة الخالق كالتأمل في عالم الميكروب؛ فإن كثرته تكاد تفوق التصديق، ومن غرائب ذلك أنك إذا جمعت من تلك الأحياء ما وزنه 1000 من (أو جزء من خمسين من القمحة) لبلغ عددها خمسة أضعاف عدد سكان الأرض. (وزن الميكروب ومساحته) : اتصل الدكتور كلاين في إنكلترا إلى تقدير وزن الميكروب وهو الحُييوين الصغير المشهور فوجد أن كل 127.000.000 منه تزن غرامًا واحدًا، وقدر أيضًا مساحته فوجد أن كل500.000.000 منه لو رتبت محاذية لشغلت مساحة بقدر مساحة طابع البريد. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الهلال)

كريت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كريت تم جلاء الجنود العثمانية عن خانيا واحتلتها الدول الأربع ورفعت عليها أعلامها مع العلم العثماني، وطلب الأميرالية من إسماعيل بك الإسراع بإخلاء الحصون والقلاع كلها في الجزيرة من الجنود، فأجابهم أنه لابد من بقاء الألفين والخمس مائة جندي لجمع الذخائر الحربية وإخراجها، وهي بنادق ومدافع حصار ومدافع نحاسية ثمينة وبارود وتوربيد، وقدر ثمنها بمليوني ليرة عثمانية، وقد أجابت الدول طلب القيصر الروسي أن يكون البرنس جورج ابن ملك اليونان حاكمًا للجزيرة، ولكنهم الآن يسمونه مندوبًا للدول (ما زلنا نخضع للألفاظ والألقاب حتى حكمت فينا شر حكم) وسواء سموه مندوبًا أو وكيلاً أم أجيرًا أم أميرًا فالمعنى واحد يفهمه كل واحد ... وطلب الأميرالية من دولهم الإذن لكريت باقتراض خمسة ملايين فرنك تعطى للأهلين مسلمين ومسيحيين لترميم بيوتهم. ولا يزال الإنكليز يشنقون المسلمين بحجة أنهم هجموا على الجنود الإنكليزية! ! وقد أتمت الدول وضع القواعد الأساسية لحكومة الجزيرة وسيجردن المسيحيين من السلاح، وإننا نكتب هذه السطور والقلب يضطرب والأعضاء ترتجف والروح تناجي جبار السموات والأرض بأن يهبنا حكمة وسدادًا وقوة واستعدادًا وصلاحًا وإصلاحًا تحول بيننا وبين طمع الطامعين، وتمنعنا من كيد المحادِّين وما ذلك على الله بعزيز.

ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*] الخلافة الأموية في الأندلس والخلافة الفاطمية في مصر (3) أثبتنا في العددين السابقين مجملاً من خبر الخلافة الأموية والخلافة العباسية، وألمعنا إلى أن عدم سير الخلفاء بهذا المنصب العظيم على منهاجه الشرعي هو الذي قوض دعائم السلطة الإسلامية ورمى المسلمين بالفشل والوهن، وأشرنا إلى تعداد الخلافة، ونذكر في هذا العدد مجملاً من خبر الخلافة الأموية في الأندلس والخلافة الفاطمية في مصر وما تبعها ونختمه بذكر الخلافة التركية فنقول: كان بُعد بلاد الأندلس (أسبانيا) عن مركز الخلافة مع صعوبة المواصلات سببًا في اختلال النظام ومجرِّئًا لولاتها وحكامها على تكليف الرعية فيها فوق وسعهم، وكان من ثم من القبائل الحميرية والشامية والعراقية ينازع بعضهم بعضًا وينفسون على قبائل البربر الإفريقية، وانتهى ذلك بنزوع حزب عظيم إلى تأليف حكومة مستقلة، وفي أطواء ذلك علم القوم أن عبد الرحمن حفيد الخليفة هشام الأموي فر من السفاح ولجأ إلى قبيلة زناتة أعظم قبائل إفريقية، فطمحت إليه الأبصار، وتعلقت به القلوب، ثم استقدموه فقدم، وكان في قرطبة رئيسان من لدن الدولة العباسية يتنازعان السلطة وقيادة العسكر، فقاوماه أولاً ثم سلما إليه وبايعه أهل الأندلس على الخلافة سنة 139 هـ 757م، فصارت الخلافة خلافتين: أموية في الغرب وعباسية في الشرق. كان خلفاء الأمويين في الأندلس خير خلفاء المسلمين بعد الراشدين وأقرب في سيرتهم إلى الشرع وأبعد عن الفسوق والبدع التي انغمس فيها أكثر أمويي دمشق وعباسيي بغداد، فقد كان عبد الرحمن الأول عادلاً مصلحًا، وكان ولده هشام حليمًا محسنًا، وكان عبد الرحمن الثاني كجده هشام في الكرم والحلم ويزيده بالأدب والعلم، وكان محمد الأول والمنذر وعبد الله عادلين مصلحين، وجاء في آثارهم عبد الرحمن الثالث، فجمع أشتات الفضائل؛ لأنه أعطي القوتين العلمية والحربية، فاجتهد في رفع منار العلوم والفنون، وأدخل في أسبانيا علوم بغداد وبنى المباني العظيمة التي كانت زينة قرطبة ومفخر الأندلس كلها وانقاد له المغرب الأقصى. سار هؤلاء الخلفاء - كما قلنا - سيرة حسنة بالنسبة إلى غيرهم، ولكن روح الشقاق والخروج على السلطان كان قد تمكن من الأمة، وطمع في الخلافة كل من له وشيجة رحم بالخلفاء أو عصبية تناط بعصبيتهم، ولو جرى المسلمون على أصل الاختيار والانتخاب لسلموا من بلاء كبير. عهد الخليفة عبد الرحمن الأول لولده الثالث هشام الأول فكبر ذلك على أخويه الكبيرين سليمان وعبد الله فخرجا عليه وحاولا سلب الخلافة منه أو الاستقلال في بعض الأعمال (الولايات) فتغلب عليهما وعفا عنهما، ثم خرجا بعده على ولده الحاكم وطلبا قسمة البلاد. أحدث هذا في نفوس العمال طمعًا في الاستقلال كانوا يخفونه في إبان القوة خوفًا على مناصبهم، ويظهرون كمال الطاعة والانقياد ويستعدون لنيل مطامعهم سرًّا ويتربصون بالخلفاء الدوائر، فلما آنسوا منهم الضعف ظهر المضمَر وتوالى العصيان في الأقاليم، وكان أشد الولاة عيثًا وفسادًا في أرض الأندلس والي طرسوس فقد كان شديد الساعد بمساعدة سليمان وأخيه عبد الله على عصيانهما المتوالي الذي أشرنا اليه. ثم أضرم القتال في شمالي البلاد ولاة سرقُسطة ومريدة وطُليطلة وحوسقه بإغواء رجل يدعى عمر وقد استقل عمر هذا وولده كالب بين بلاد المسلمين والإفرنج نحو ثلاث سنين، وادعى أنه يعتبر الديانتين معًا، وكان ينتهز الفرصة ويضرم نار الثورة، وقد غلبه الخليفة محمد ثم عاد، ولم يزل يوالي الثورات حتى زلزل المملكة زلزالاً، وأورثها خبالاً ووبالاً، وعصت قرطبة الحاكم ابن هشام سنة 202 هـ 817 م حين رتب لكلاءته خفراء جعل لهم مكوس ما يرد من عروض التجارة، فكانت ثورة أراد الخليفة العقاب عليها فانقض الناس على خفرائه وقتلوا منهم عددًا عظيمًا، وقد كان الخلفاء بعد عبد الرحمن الأول يتخذون الخفراء من مغاربة الزناتة، ثم أحضر عبد الله في سنة 288 هـ 900 م أرقاء سلاوونية من القسطنطينية فعلموهم حركات السلاح واتخذوهم خدمًا، فاستراحوا بذلك من المشاجرات التي كانت تحصل بين الخدم من العرب والبربر، وزاد ثقة الخلفاء بهؤلاء الخدم إعراضهم عن السياسة، ولكن لما رأوا الخلل والضعف في الدولة زجوا بأنفسهم في المنازعات السياسية كما فعل أقتالهم وأمثالهم في العباسيين، وقويت هذه الأمراض الداخلية حتى أضعفت مزاج الدولة، فلما جاءتها الصدمات الخارجية زعزعتها ثم دمرتها تدميرًا. قلنا: إن سيرة خلفاء الأندلس كانت أحسن من سيرة غيرهم في الجملة، ولكن لا نقول إنهم ساروا بالخلافة في منهاجها الشرعي، وهو جعل الحل والعقد والنكث والفتل وسائر الشؤون العامة مقيدة بالشورى المتبعة كما كان الراشدون، ولو فعلوا ذلك لما نزل بهم البلاء ولكن السلطة كانت محصورة في شخص الخليفة، ومتى كان الأمر كذلك فإن الشقاء يكون أقرب إلى الأمة من السعادة؛ لأنها تكون تابعة لشخص واحد إذا استقام استقامت وإذا زل زلت أو زالت. وكذلك كان شأن هؤلاء الخلفاء، فقد بدأ الضعف والانحطاط فيهم في عهد هشام الثاني لأنه كان سيئ التدبير، بعيدًا عن السياسة، والأمر كله في يده، فعجز عن مقاومة الأعداء، فانحطت مهابة الخلفاء، وخضدت شوكتهم، واستفحل أمر الثوار والخارجين، وكان الإفرنج في أثناء ذلك في تقدم مستمر في الأعمال الحربية، فتجرءوا على المسلمين وطفقوا يناوشونهم القتال وينتقصون بلادهم من أطرافها، وأولو الأمر مشغولون بالفتن الداخلية، وسائر الناس قسمان: العلماء: وقد أوغلوا في فنون الأدب إيغالاً صرفهم عن كل ما سواه، بل قادهم إلى الترف والانغماس في النعيم المضعف للنفوس عن الحرب والجهاد، والصناع والزراع وهم أتباع كل ناعق ولا سيما في الأمم التي ليس فيها تربية قومية أمية، وليس لها رأي عام. وتربية الأمة وتعميم العلم والتهذيب فيها وإن كان من أهم ما جاء به الدين الإسلامي إلا أن استبداد الخلفاء والسلاطين واستئثارهم بالأمور العامة وتقصير العلماء والمرشدين ذهب بهذين الأمرين اللذين هما روح الأمم وحياتها. أما الخلافة الفاطمية، فقد كانت شر خلافة أخرجت للناس، تولدت فيها جراثيم الفساد التي قضت على غيرها من أول عهدها، كتفويض السلطة إلى الوزراء والقواد، واستخدام الدخلاء وجعلهم قوادًا. فقد كان الخليفة الثاني (العزيز) أول من اتخذ وزيرًا قرن اسمه باسمه، وأول من استخدم الترك وجعل منهم قواداً، فكانوا سلاً في رئة الدولة نمت جراثيمه رويدًا رويدًا حتى كان من أمره ما سنشير إليه قريبًا. صدمت هذه الخلافة الثوراتُ من أوائل نشأتها أيضًا، فقد خرج على الحاكم وهو الخليفة الثالث قوم ادعى زعيمهم أنه من ذرية هشام بن عبد الملك، فاشتعلت نار الحروب الداخلية، وكانت سجالاً، ثم ظفر الحاكم بهم فأمات الزعيم شر ميتة. ومن سيئاتهم: كثرة العهد في الخلافة إلى الأحداث، فكان ذلك مدعاة لتلاعب الوزراء والقواد بالأمر، فقد بويع الحاكم وسنه إحدى عشرة سنة وكان الوصي عليه الوزير أرجوان، فانفرد بالنفوذ وتجاوز الحد في الاستبداد، وولي المستنصر الخلافة في السابعة من عمره، وكانت أمه أمة سوداء اشتراها أبوه الظاهر من يهودي، فتصرفت بالأمر كما أحبت، وجعلت مولاها الأول مستشاراً، فكانت الخلافة الإسلامية تدار بيد يهودية، واستخلف الحافظ لدين الله أصغر أولاده إسماعيل الظافر بأمر الله وسنه سبع عشرة سنة، فاستبد وزيره العباس بالأمر، ثم ضاق ذرعًا من استهتار الخليفة وإسرافه في الخلاعة والشهوات، ورأى أن عاره يمس شرفه وشرف ولده لامتزاجهما به، فأمر ولده أن يكيد له ويقتله ففعل، ثم قتل أخويه به ليبرأ من تبعة قتله في أعين الناس، وولي ولده الفائز وعمره خمس سنين وقيل سنتان!! ومما حكاه عنه المؤرخون أنه جمع الأمراء لمبايعته وحمله على كتفه، ولما أمرهم بالطاعة والانقياد له صاحوا بالإجابة صيحة شديدة منكرة فزع لها الخليفة الحدث، فبال على كتف الوزير! وصار يصرع بعد ذلك (فيا رباه هل هذه هي خلافة النبوة التي يقوم بها دينك ويستقيم أمر عبادك) . وقد انحطت مصر في أيام الفائز هذا حتى كانت تعطي ضريبة عظيمة للصليبيين في القدس ليكفوا عن الإغارة على غزة وعسقلان. استغاث أهل القصر من وطأة الوزير عباس الثقيلة بصالح بن رزيك الأرمني الأصل، الشيعي المغالي، فقدم إلى مصر وتولى الوزارة بعد هرب عباس، ولما مات الفائز أراد الصالح أن يولي مكانه شيخًا من الفاطميين، فأسر له في مجلس المبايعة أحد أصدقائه بأن سلفه في الوزارة كان أحسن تدبيراً منه؛ لأنه لم يسلم نفسه لخليفة لم يتجاوز الخمس سنين، فاعتدها نصيحة وسمى الحدث عبد الله بن يوسف خليفة ولقبه بالعاضد لدين الله، فنشأ مستعبداً للوزير صالح وتزوج ابنته وسماه ملكًا ثم سلطانًا، وأشرب منه الغلو في التشيع، وقد أحفظ لقب الملك أو السلطان قلوب أهل الخليفة على الوزير، فأرسلت له عمته من ضربه ضربًا مبرحًا انتهى بموته (انظر إلى الاعتناء بشرف الألقاب الضخمة عند أرباب العقول السخيفة، فقد قتل الصالح لقبه مع أنه لم يزده سلطة ونفوذاً) . أما سيرة هؤلاء الخلفاء ووزرائهم: فقد كان العزيز أديبًا شجاعًا محبًّا للصيد، وفوض أمر الجند إلى جوهر القائد فاتح مصر ومؤسس الأزهر، وولى الوزارة يعقوب بن يوسف وقرن اسمه باسمه وأمر أن تكون المكاتبات الرسمية باسمه، وتختم الأوامر بختمه، فأحسن هذا الوزير السيرة وكان فاضلاً مصلحًا، فحسنت حال البلاد في عهده، ولكن تفويض الأمر إلى الآحاد إذا جاء بالخير يومًا يجيء بالشرور أيامًا، فقد ولي بعد العزيز ولده الحاكم، فطغى الوزير أرجوان الوصي عليه وبغى، كما قلنا آنفا، ثم لما رشد الحاكم كان رشده عين الغي، فإنه لم يكد يستبشر العلم ببنائه (دار الحكمة) وما اجتلبه إليها من الكتب القيمة وإباحتها لكل قارئ وناسخ حتى غشيت العلم والدين والمسلمين والذميين ظلمات من ظلمه واستبداده وكفره وعناده المتولد ذلك كله من مرض في دماغه وخلل في عقله. فقد ظهر في عهده مذهب الضرارية نسبة لرئيسهم ضرار أستاذ حمزة صاحب الرسائل الكثيرة في بيان المذهب الذي يدعو إلى عبادة الحاكم، فنصرهم الحاكم، ثم ادعى الألوهية وفتح سجلاًّ لكتابة أسماء المؤمنين به، فكتب بالتسليم له نحو سبعة عشر ألفا، ولقد كانوا كلهم أو جلهم مكرهين لأنه كان ينتقم أشد الانتقام ممن يخالفه، ولكن مدرسته (دار الحكمة) ودعاته دعاة الفتنة قد أضلا خلقًا كثيراً، وتأسس بذلك مذهبه وثبت، حتى إن في الناس من يعبده حتى اليوم! ! فهل كان المسلمون بهذا الاستسلام مهتدين بهدي الإسلام!! حاش لله، أليس هؤلاء الرؤساء الضالون هم الذين شوهوا وجه الدين وانحرفوا بأهله عن صراطه المستقيم، ألا يحق لمجموع الأمة أن يقول في هؤلاء السادة {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) . والحاصل أن الحاكم كان يسفك الدماء بغير سبب ويظلم أهل الذمة بدون سند، فقد هدم الكنائس في مصر والقدس، ثم ب

ظلم الدول للمسلمين في كريت

الكاتب: كاتب من قنديه

_ ظلم الدول للمسلمين في كريت مكاتب من قندية اختلف كتاب الجرائد الأوروبية وتبعتها الجرائد المصرية في شرح الحوادث المحزنة التي جرت في (قندية) أخيرًا، ثم اتخذت وسيلة لتعجيل القضاء على هذه الجزيرة المنكودة الحظ. وأحمد الله على أن جريدتكم الغراء قد دخلت الممالك المحروسة الشاهانية بإرادة سنية، إذ هي الجريدة الوحيدة الإسلامية التي يمكنها شرح حالتنا التعيسة وإيصالها إلى جميع إخواننا العثمانيين. ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع ونحن وإن لم نرد من شرح حالتنا رفع الشكوى إلى جميع قراء المؤيد؛ لأن مقامنا الآن لم يبق مقام شكوى ولا تنفع فيه الدعوى، إلا أننا نفرج كربتنا بشرح حالتنا؛ لأننا نعتقد أن جميع إخواننا العثمانيين سيتوجعون لمصابنا ويتألمون بآلامنا، ولذلك رأيت أن أوافيكم بالحقيقة كما هي ليتدبر من أراد أن يتعظ بحوادث الأيام، وليتذكر من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قضى الله على جزيرة كريد أن تكون مأوى لدسائس ذوي الغايات السياسية أعداء الإسلام والمسلمين؛ إذ كبر عليهم أن تبقى جزيرة كبيرة مثل هذه الجزيرة في أيدي تلك الأمة التي يحسبونها الخصم الألد مدى الدهر، وبذلك جرت الفتن والثورات فيها منذ ثلاث سنوات، وكان شبوبها بأيدي أبناء وطننا المسيحيين الذين اتخذهم الأجانب خصوم الدولة آلات لتنفيذ غاياتهم السيئة في بلادنا، ولم تكد تشب نيران هذه الفتن في الجزيرة حتى أسرعت الدول الأوروبية الكبرى بسفنها ولها حجتان: الأولى: حماية المسيحيين في بلاد الدولة العلية من ظلمها، وهم الثائرون. والثانية: حماية الإنسانية والعمل لما فيه راحة النوع البشري الذي وقفت أوروبا نفسها على خدمته في مدى القرن التاسع عشر!! ولكن الدول نفسها وجرائدها وكل ذي مسكة عقل وشفة ولسان شهدوا - والله خير الشاهدين - على أن الفتن لم تزد نارها شبوبًا والإنسانية لم تهتك حرمتها، والنوع البشري لم ير العذاب المهين في عهد مثل ما كافح فيه مسلمو الجزيرة وشاهد جميع سكانها في ظرف السنتين اللتين تولت فيهما الدول الأوروبية إدارة شؤون كريد. والكريديون أنفسهم شاهدوا بأعينهم الأمور التي كانت الدول تجريها ضد بعضها في السر والعلن، وغاية كل منها أن تمهد لنفسها مستقبلاً ليس للأخرى في الجزيرة وهو السبب الوحيد في زيادة اضطراب أحوالها ومضاعفة خلل الأمور، وإن كانت للجميع وجهة واحدة هي اضطهاد المسلمين والتنكيل بهم في كل حركة أو سكون. وبعد ما طال المطال على هذه الأحوال - بل الأوحال - قرر أمراء بحرية الدول إنشاء لجنة عليا مؤلفة من خمسة أشخاص من مسيحيي الجزيرة للنظر في المحاكم وتدبير وإصلاح الأمور والمحافظة على الأمن العام … والنظر في صرف ماهيات (الجندرمه) وكيفية تحصيل الضرائب المفروضة على الأهالي لهذه الغاية. والغريب أنه لم يكن لهذه الحكومة المؤقتة من وظيفة غير مطالبة المسلمين بالضرائب المفروضة على أملاكهم، مع أن أملاكهم هذه كانت محصورة في أيدي المسيحيين يتصرفون فيها كيف يشاءون. فما لم يجنوا ثمرته استأصلوه من جذوره قطعًا بالفؤوس أو حرقًا بالنيران، فضلاً عن الإيقاع بكل من يخاطر بنفسه ويخطر على باله أن يسعى لأخذ شيء من حاصلات أرضه. فقام المسلمون يشكون من هذا الظلم الفادح ويصيحون: يا للعدالة يا للإنصاف من هذا الجور والعسف! ولكن أهل العدالة كانوا قد وضعوا أصابعهم في آذانهم حذر صواعق النداء الحق، فازدادت بالمسلمين الحيرة وذهبوا فوجًا بعد فوج إلى سعادة أدهم باشا محافظ قندية ورفعوا له العرائض الطوال العراض أن يسمح لهم بالخروج إلى حقولهم ليتأتى لهم الحصول على شيء مما يسدون به بعض المطلوب منهم، فخاطب الأميرالية في ذلك فأعرضوا عنه كل الإعراض. وبينما المسلمون في الضنك الشديد بين هذه العوامل المختلفة إذ قرر الأميرالية طرد مأموري الأعشار المسلمين من وظائفهم، وعهدوا في أمر هذه المصلحة في قندية إلى رئيس هو من زعماء الثورة، وأحد صنائع الإنكليز المشهورين في الجزيرة واسمه (ألكسي) وعينوا له أيضًا سكرتيرًا وأمينًا للخزينة ونحو عشرين كاتبًا من المسيحيين، وأرسلوا الجميع إلى محل ديوان الأعشار مخفورين بجماعة من عساكر الإنكليز للمحافظة عليهم من جهة ولتسليمهم أزمة الأعمال من جهة أخرى. والقارئ يفهم من أول وهلة ما هو الغرض من هذا الانقلاب الذي يحتاج العمال معه في الوصول لمحل مأموريتهم إلى حراسة عسكرية وخصوصًا في ظروف كهذه. وعند ذلك اجتمع المسلمون حول الإدارة عزلاً من كل سلاح وعارضوا في تسليم زمام أحكامهم إلى أعدائهم الذين اختلسوا أموالهم وانتهكوا حرمة الدم والعرض بينهم. ولكنهم لم يكادوا يعارضون حتى جاءت فرقة من العساكر الإنكليزية تحت إمرة قائدها الكبير يصحبه ابن فيس قنصل إنكلترا ووكيل قنصل أمريكا في قندية. وقد أخذ هو وعساكره يعاملون المسلمين بكل أنواع التحقير والإهانة من سب وضرب، وطردوهم على ما هم فيه من الكدر وشدة التغيظ، يطلبون حقًّا ويدافعون عن أشرف حق للإنسان، وهو أن لا يكون خصمه حاكمه، وبذلك تمكن هذا القائد من طرد العمال المسلمين وغير العمال منهم، وتسليم مركز الحكومة للمسيحيين. أما المسلمون فقد تضاعف حنقهم وغيظهم وتجمهرهم وهو ما كان يطلبه ويعمل له ذلك القائد، ثم استقر رأيهم على إرسال أربعة أشخاص من كبارهم إلى القائد ليحتجوا على فعله، ولم يكد هذا الوفد يصل إلى باب دار الحكومة حتى أطلق عليهم الرصاص من العساكر الذين كانوا واقفين بجانبي الباب، عملاً بأمر قائدهم من إطلاق الرصاص على كل من يعود إلى دار الحكومة من المسلمين، فوقع الأربعة مضرجين بدمائهم وفارقوا الحياة شهداء بلا ذنب ولا جريرة غير كونهم ظنوا أن لدى القائد بقية رحمة وعدالة فقصدوه للاستنصاف من عمله بالشكوى إليه! ! وبديهي أنه لم يكن ينتظر من المسلمين الواقفين صفوفًا على بعد من دائرة الأعشار بعد أن رأوا إخوانهم يتخبطون في دمائهم سوى أن يغلبوا على صبرهم ويفقدوا الرشد وينادي بعضهم بعضًا: سلاحكم، سلاحكم، وهكذا كان. وبعد برهة وجيزة كنت لا ترى إلا أفظع المناظر وأشدها وحشة ورعبًا؛ لأن المسلمين المساكين تقلدوا السلاح خيفة أن يكون صدر الأمر بإطلاق الرصاص عليهم أجمعين، فبمجرد رؤيتهم على هذه الحال أطلقت العساكر الإنكليزية الرصاص عليهم وصارت الرجال تسقط عشرات عشرات على الأرض صرعى يتخبطون في دمائهم وهم كذلك كانوا يطلقون النيران على أعدائهم. أما المسيحيون فقد ظهر أنهم كانوا متقلدين الأسلحة مستعدين للحرب عند أول حادثة، وقد رأوا الفرصة التي لم يكونوا يحلمون بها، وصاروا في جانب صف العساكر الإنكليزية يطلقون الرصاص على المسلمين، علمًا منهم بأن هذه المذبحة عائدة مسئوليتها - أو شرف الافتخار بها - على إنكلترا وجيشها، وقد زاد اشتراك المسيحيين الكريديين في المذبحة مع الإنكليز هياج المسلمين وجعلهم يخاطرون بأرواحهم رخيصة في سبيل الدفاع عن شرفهم والانتقام من أعدائهم. وفي هذه الأثناء ظهر حريق في أحد بيوت المسلمين فاشترك الإنكليز والمسيحيون والنار التي أضرمها الثوار في هذه الفظائع ضد المسلمين. ثم ظهرت عدة حرائق أخرى من الجانب الذي كان الثوار ينحازون إليه مما أكد الظن بأن الموقد للنار هم الثوار ليشغلوا المسلمين بها - إذ هي في أملاكهم - عن القتال فيتمكن هؤلاء من الإنحاء عليهم. ومما يذكر هنا على سبيل تقرير الحقيقة التاريخية أن فريقًا من المسيحيين الثائرين كان يشترك مع الإنكليز وفريقًا آخر كان ينهب ويفتك ويهتك في حرمات النساء المسلمات في البيوت التي أشعلوا فيها النار. ثم انضم إليهم بعد ذلك بعض العساكر الإنكليزية. والخلاصة: أنه لم يكن فتك النار بالنساء والأطفال بأقل من فتك العساكر الإنكليز والثوار المسيحيين بالرجال جانبًا وبالأعراض والأموال جانبًا. وكنت ترى الطفل مضمومًا على صدر أمه والنار تلعب في أردانها، والثائر يقطع في أقراطها ويجذب في عقودها وأساورها، بل ويراودها عن نفسها! ثم يتركها على أفظع الحالات تتقلب في وسط النار وهي تحاول أن تقي ولدها بين أضلاعها فترى النيران بين جوانحها أشد عليه حرارة وسعيرا من نيران أشعلتها يد الطغاة الآثمين. ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، فإن القائد الإنكيزي لم يكفه ما شاهده الكريديون من عظم قوته البرية، فأراد أن يفتن ألبابهم بقوته البحرية، ولذلك بعث برسالة إلى قومندان إحدى الدوارع الإنكليزية الراسية بالميناء أن يطلق مدافعه على الجهات التي يحتمي فيها المسلمون، وهناك انصبت كرات المدافع عليهم كالصواعق واستمر إطلاقها زمنًا حتى بلغ عدد ما أطلق ستًّا وثلاثين كرة، وأترك للقراء حساب عدد الأنفس التي فتكت بها كرات المدافع في بيوت حشر فيها عشرات المئات، بل ألوف من المسلمين للاحتماء فيها، وقد ذهبت جملة عائلات برمتها شهيدة تحت ردم المنازل التي انهارت على الملتجئين إليها بحجة أنها كانت مأوى رؤساء الثائرين من المسلمين. وكان القائد العثماني يوالي الاحتجاج بعد الاحتجاج على القائد الإنكليزي الذي أوقف إطلاق المدافع بعد بلوغ ذلك العدد، كما أن الثوار المسيحيين اختبأوا وقتئذ حتى لا يظهروا أمام الجميع مشاركين للإنكليز في فعلتهم، ولكن من لنا بمن كان يقنع النار أن تقف عند حد بعد ما استطار شررها وملأ شواظ نارها الجو، وبعد ما استطالت في تدمير المنازل والأسواق، وقد أبى الله أن تنطفئ إلا بعد أن دمرت 162 منزلاً، فضلاً عن السوق الكبير المسمى (سوق الوزير) وقد التهمته النار برمته، ودامت مستمرة مدة ثماني ساعات حتى لم يبق فيه ما تلتهمه. أما القتلى والجرحى فقد بلغ عددهم في هذه الحادثة المحزنة 292 نفسًا. ويا ليت القائد الانكليزي وقف عند هذا الحد أيضًا، فإنه طلب إخراج إحدى وأربعين عائلة من فقراء المسلمين من منازلهم لكونها واقعة على ربوة عالية خشية أن تثور فتنة أخرى ويتخذ المسلمون هذه المنازل العالية كمتاريس وملاجئ يطلقون منها النار أو يعتصمون فيها، فأخرجت تلك العائلات من ديارها ذليلة طريدة وسلطت على هذه الدور معاول الهدم، فسويت مع التراب، ولكن السكان شهدوا لذلك القائد الإنكليزي بالشفقة الإنسانية والرحمة البالغة إذ لم يكلف أصحاب تلك الدور بنقل أنقاضها على رءوسهم وأكتافهم!! وفرح هؤلاء بهذه النعمة الكبرى وأسرعوا إلى الشوارع التي يقيم فيها إخوانهم الذين أحرقت دورهم بالنيران فبقوا والأرض فراشهم والسماء غطاؤهم إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولاً. هذه هي الحادثة التي سمتها الجرائد الإنكليزية (فتنة المسلمين في قندية) وطلبوا من أجلها تجريدهم من السلاح وعاقبوا اثني عشر منهم بحكم الإعدام أنفذوه على سبعة منهم في 15 أكتوبر الماضي وسينفذونه على خمسة آخرين، كما عاقبت أوربا المتمدنة الدولة العلية عليها بإخراج عساكرها من كل الجزيرة، كأنهم كانوا يريدون أن تشترك هذه العساكر مع العساكر الإنكليزية والثوار المسيحيين في قتال أولئك المسلمين، فلما لم تقم بهذا الواجب عليها لم يكن لها مقام في الجزيرة فلتشهد أوروبا وليعتبر المسلمون. شرحت لكم في مقدمة هذه الرسالة حادثة قندية المحزنة التي يسمونها (فتنة المسلمين) وهي

تقويم الأفكار ـ 2

الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي

_ تقويم الأفكار لحضرة الفاضل حموده أفندي (بك) عبده المحامي (2) الحقيقة الثانية هي السياسة، وهي النظر في شؤون الأمة والسير بها في منهاج يقودها إلى مواطن الراحة والسعادة، وهي نوعان: سياسة داخلية، وسياسة خارجية، فالسياسة الداخلية هي التي تلزم الملك في إدارة شؤونه الداخلية، ولا بد للملك الراغب فيها أن يحيط بأحوال رعيته ويقف على ما يجري فيها، ويتعرف سيرة بطانته وكبار أمته، ويراقب أعمالهم وينظر في حركاتهم، ومتى ظهر له وتحقق أن منهم من ينحرف عن سنن الاستقامة ويبيع الذمة ويبيح المظلمة وينفذ الغرض والشهوة - وجب عليه أن يبعده ويحل به نكبته. أما إذا استوثق من استقامة أحدهم فعليه أن يكافئه ويحله محلاًّ من رعايته، وينزله منزلة الكرامة، ويمنّ عليه بعلو المكانة، فإن ذلك مما يشجع المعتدلين في سيرهم ويقوي من آمالهم ويحبط عمل المنحرفين، فيرجعون عن غيهم ويتركون سبيل اعوجاجهم، فبهذا تصفو له القلوب وتحوم عليه الأفئدة، وبهذا تخضع له الطباع المتحجرة والرقاب المستعصية. أما المستقيمون منهم فلركونهم إلى عدله واطمئنانهم بفضله، وأما المنحرفون فلخشيتهم من بأسه ومهابتهم من صولته، إنما على الملك أيضًا أن لا يأخذ بالريب ولا يبطش بالظن ولا يحكم بالوهم ولا يجعل كلام الجاسوس سندًا يؤاخذ به أو حجة يعاقب بها، وأن يبعد أهل الوشاية ولا يقرب أولي السعاية، فإن ذلك مما يغير القلوب ويوغر الصدور ويولد الحقود، فيصبح البريء مؤاخذًا، والجاني منعمًا، والمعتدل مبعدًا، والمنافق مقربًا، وهذا حال لا يستقيم معه شأن ولا يتوطد به نظام، فتضيع الثقة من الحاكم وتصبح أحكامه مظالم، ويعسر عليه أن يسوس الرعية ويقود الأمة. قالوا: بالراعي تصلح الرعية، ولكن هذا المفهوم لا يؤخذ على إطلاقه، فإن استقامة الحاكم وحدها لا تكفي في ارتقاء الأمة إذا كانت هذه فاقدة التربية وتعوزها العلوم والمعرفة، وأمر بديهي أن الحاكم الأكبر وظيفته أن يأمر ويسن قوانين وينشر لوائح، ولكن المنفذ والواقع عليه التنفيذ ليسوا إلا رجال الدولة والرعية، وحينئذ لابد لتوطيد سياسة الملك من نشر التعليم والاعتناء بأمر التهذيب، حتى تثقف العقول ويفهم الناس إراداة الحاكم ويفرقوا بين الحق والباطل، خصوصًا وأن صاحب الأمر في الأمة مهما كان علمه محيطًا بأحوالها، فإن هناك أشياء يتعلق بها النظام ولكنها لا تصل إلى علمه ولا يحس بها غير الرعية المباشرين لحركتها، فلا بد لإيجاد هذا الإحساس أن تستشعر الأفراد بما يلزمهم وما يصلحهم حتى يرشدوا الحاكم إليها، وقد يعرض للحاكم أحوال كثيرة وصعوبات شديدة، لا يمكن أن يفكك مشاكلها أو يذلل شدائدها إلا باتفاق مع رعيته والاستعانة بآرائهم، وهذه حالات هي في غنى عن البيان. فإذا كانت الأمة فاقدة الحركة العقلية عارية عما يلزمها من المعرفة كيف يستقيم للحاكم أمر في مثل هذه الحالة؟ ومن دعائم السياسة في الدولة أن يكون المستظلون برايتها يحكمهم قانون واحد، ولا يفرق بين وطني وأجنبي، ولا أريد بلفظ القانون إلا معناه الخاص وهو الذي يفصل بين الناس في معاملاتهم وما يقع بينهم من الجنايات والجرائم، فإنه إذا ميز فريق عن آخر في دائرة الحكم انصدع النظام وانتكست العدالة، خصوصًا إذا كان هذا التمييز للأجنبي كما هو حاصل اليوم في بلادنا، فإن الوطني يرى نفسه أحق بالامتياز من الأجنبي الذي ارتحل عن بلاده وحل في أرض أخرى طلبًا للقوت وطمعًا في جلب الثروة، فكم يستشعر الوطني بآلام هذا الامتياز وكيف يحب حكومته مع حرمانه من امتيازات بلاده، بل حرمانه من أهم حقوقه؟ وإذا بغض حكومته كيف يمكن أن تسوسه وتأمل منه خيرًا؟ نعم إذا كان هذا الامتياز للوطني فالأجنبي لا يخالج ضميره هذا الإحساس لعلمه أن المميز أهل لذلك وأحق به لأن البلاد بلاده والحاكم من جنسه يميزه كيف يشاء. ويظهر من هذا خطأ إنشاء المحاكم المختلطة والمحاكم القنصلية في الديار المصرية وإنها لطريق وعر في إقامة السياسة الداخلية وتوطيد الراحة العمومية، واليك مثلاً من نظام تلك المحاكم: إذا قتل وطني أجنبيًّا نصبت للقاتل الشباك وقبضت عليه المصايد وزُج في السجن وجيء به إلى المحاكم وحوسب على ما اقترف وحكم عليه بالإعدام في يوم معهود ومشهد معلوم، وهذا عدل لا يرتاب فيه أحد، ولكن إذا كان القاتل هو الأجنبي فلا تنصب له الشباك ولا تصطاده المصايد، بل يبعث بأوراق التهمة إلى القنصلية فإذا رآها القنصل وكان رجلاً عادلاً حكم بنفيه إلى بلاده، ثم يعود الجاني بعد قليل من الزمان ويعيش بيننا بالسلام وبالأمان، وإن كان القنصل ممن يتهاونون بالقانون خلى سبيل الجاني وقال: إن عندنا من الأشغال السياسية ما لا يسمح معه بالنظر في القضايا، فلسنا قضاة. ولهم العذر، وبهذا تضيع حقوق أهل المقتول وحق النيابة في النظام والسلام، فهذا هو طرز القضاء في الجنايات الذي عليه قطرنا وبه حفظ الأمن وراحة السكان. ومن دعائم سياسة الملك الداخلية: عدم التفريق بين طبقات الأمة في تولي الأعمال ونوال الوظائف، فلا يصح قصر الوظائف على أبناء الطبقة العليا، فإن الكثير منهم بل الأغلب فيهم هم غير أكفاء لتقلد الوظائف وإدارة الأعمال، بل على العكس من ذلك فإن في الطبقات الأخرى من هو أكثر استعدادًا وأقوى ذكاء وأحسن طباعاً وأشد محافظة على الشرف والآداب من أبناء الطبقة العليا، وحينئذ فلا بد للحاكم من أن يحكم الكفاءة في تولي الأعمال وإدارة الشؤون حتى يؤمل أن تسود رعيته وتصلح أمته. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الموسوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الموسوعات مجلة جديدة ظهرت في مصر القاهرة تصدر في غرة ومنتصف كل شهر عربي، تبحث في كل فن وترمي إلى كل غرض، يتولى تحريرها لجنة من أفاضل الكتاب في مصر، وينشر شاعر مصر اليوم أحمد أفندي (بك) شوقي فرائد أشعاره ومحاسن رواياته فيها، وقد عهدت اللجنة في إدارة المجلة إلى حضرة الأديب الفاضل أحمد حافظ أفندي عوض، وقد أودع العدد الأول منها بعد المقدمة وبيان غرض المجلة نبذة تاريخية شرعية كان خطب بها على جمعية المعارف المصرية العالم الفاضل علي أفندي بهجت مترجم نظارة المعارف، تبحث في عقد زواج القائد (جاك فرنسوا منو) بإحدى بنات أشراف رشيد بعد تظاهره بالإسلام الذي مكنه من خداع المسلمين وخدمة أمته الفرنسية بما لم يكن ليناله لو لم يتظاهر بالدين الإسلامي. ومقالة في السكك الحديدية ومنزلتها. وبعض نبذ متفرقة من (رواية الإرياس - أو آخر الفراعنة) لحضرة الشاعر المجيد أحمد أفندي (بك) شوقي. والرجاء معقود بأن هذه المجلة ستصادف إقبالاً ورواجًا؛ لأن أصحابها من أعرف الناس بمرامي أفكار القارئين في هذه البلاد، وبما يرون أنفسهم في حاجة إليه، وهم محل ثقة من الأمة المصرية نجح الله مقاصدهم ونفع الوطن بمجلتهم بمنّه وكرمه.

أدبيات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أدبيات ذكرنا في العدد الماضي انتقاد المقتطف تفعيل بعض البحور التي نقلها عن كتاب الألماني وقلنا: إن في ذلك الانتقاد على إطلاقه مقالاً وعدنا بذكره في هذا العدد فنقول الآن: قوله في تصحيح (المنسرح) أنه: مستفعلن فاعلات مفتعلن، يوهم أن هذا هو أصل أجزائه، ويعلم أبناء الصناعة أن الأصل: مستفعلن مفعولات مستفعلن، وإنما يكون كما قال إذا عرض له الزحاف المسمى بالطي، وهو حذف الرابع الساكن، كما هو المستعمل، وبالنظر للأصل يكون قد أقره على الخطأ في (فاعلات) واعترض على الصواب في (مستفعلن) . وقوله في تصحيح (المقتضب) إنه: فاعلات مفتعلن، يوهم أن هذا هو الأصل في أجزائه، ومعلوم أن الأصل: فاعلاتن مستفعلن مستفعلن، إلا أنه يجب أن لا يستعمل إلا مجزوءًا فيكون: فاعلات مستفعلن، كما جاء في كتاب الألماني، ثم يدخله الطي فيكون: فاعلات مفتعلن، كما قال المقتطف، وقد نبهنا على ذلك لئلا يشتبه الأمر على الطالبين.

ما أشبه اليوم بالأمس

الكاتب: أبو العلاء المعري

_ ما أشبه اليوم بالأمس لأبي العلاء المعري أعوذ بالله من قوم إذا سمعوا ... خيرًا أسروه أو شرًّا أذاعوه ما حم كان ولم تدفعه مشفقة ... ويفعل الأمر في الدنيا مطاعوه إن ابن يعقوب [1] نال الملك عن قدر ... برغم ناس لبعض التجر باعوه وخالد بن سنان ليس ينقصه ... من قدره الكون في حي أضاعوه ما لي رأيت دعاة الغي ناطقة ... والرشد يصمت خوف القتل داعوه لا يفرحن بمولود ذوو شرف ... فإنما بُشَرَاء الطفل ناعوه كذلك الدهر عنَّى من يصاحبه ... ولم يعد بسوى الخسران ساعوه والله حق وإن ماجت ظنونكم ... وإن أوجب شيء أن تراعوه

ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَاوَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*] أهل العلم والتعليم (4) قلنا: إن سادتنا وكبراءنا هم الخلفاء والأمراء الذين بيدهم أمر الأحكام، والعلماء الذين بيدهم زمام التعليم، والمرشدون الذين تصدوا للتربية العملية، وقد مضى الكلام على الخلافة والخلفاء وفي غضونه إلماع إلى سيرة الأمراء، وأبنَّا أن ذنب الخلفاء الأكبر الذي ضيع الدين وفرق أهله شيعًا هو عدم جمع المسلمين على عقيدة واحدة لا مجال للخلاف فيها، والإقرار على أن كل ما وراءها يعد من الأبحاث العلمية والتفنن في طرق الفهم، ولا يمس أصل الدين، والحظر على الدعوة والتعليم بما يمس العقيدة الأساسية المتفق عليها، كما كان عليه الأمر في عهد خلافة الراشدين، فقد خاض صَبِيغ (كعَلِيم) التميمي على عهد عمر رضي الله تعالى عنه في المتشابه وسأل عن تأويل القرآن فجلده عمر حتى اضطربت الدماء في جلده، وفي رواية: حتى شجه وسال الدم على وجهه، ولما قال: جئت أبتغي العلم، قال له: بل جئت تبتغي الضلالة، ثم قال: احملوه على قتب وأخرجوه إلى بلاده، ثم ليقم خطيبًا فليقل: إن صبيغًا طلب العلم فأخطأه، وكتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوه، فكان بينهم كالبعير الأجرب، لا يجلس إلى قوم إلا تفرقوا عنه وتركوه وحده. ولكن الخلفاء والملوك تركوا الناس وشأنهم من الفوضى العلمية والدينية زمنًا، وانتصروا للبدعة طورًا، ودعوا إليها، بل إلى الكفر في طور آخر (كالفاطميين الذين دعوا إلى مذهب الباطنية) وكل ذلك مرت الإشارة إليه في المقالات السابقة. ومن جراء هذا قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) : فيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين إذ لم يستجمع ذلك غيرهم. ومن سوء حظ المسلمين أن فساد الخلفاء والأمراء تبعه في الغالب فساد العلماء الذين كان يرجى منهم تقويم العوج وإصلاح الخلل ومداواة العلل، واتبعوا خطواتهم في كل فج، وساعدوهم باسم الدين على كل أمر، وفي كل عصر من العصور السالفة لم يُرج في سوق العلوم حتى الدينية إلا ما راج عند الأمراء والسلاطين، قال الإمام حجة الإسلام الغزالي في بيان سبب إقبال الخلق على علم الخلاف، في كتاب العلم من (إحياء علوم الدين) ما نصه: (اعلم أن الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرًا في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم كما نقل من سيرهم، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفو الدين (بكسر الصاد أي جانبه) ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات [1] فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء وإقبال الأئمة والولاة عليهم مع إعراضهم عنهم، فاشرأبوا لطلب العلم توصلاً إلى نيل العز ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم وطلبوا منهم الولايات والصلات، فمنهم من حرم ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم إلا من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على علم الفتاوى والأقضية لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات. ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يستمع مقالات الناس في قواعد العقائد ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها، فغلبت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله والنضال عن السنة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى، الدين وتقلد أحكام المسلمين؛ إشفاقًا على خلق الله ونصيحة لهم. ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه، لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم وانثالوا (انصبوا) على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد رحمهم الله تعالى وغيرهم، وزعموا أن غرضهم: استنباط دقائق الشرع وتقرير علل المذاهب وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات وهم مستمرون عليه إلى الآن، وليس ندري ما الذي يحدث الله فيما بعدنا من الأعصار. فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير، ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة أو إلى علم آخر من العلوم لمالوا أيضًا معهم، ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين وأن لا مطلب لهم سوى التقرب من رب العالمين!) اهـ. أقول: هذا ما قاله حجة الإسلام في جماهير علماء المسلمين إلى عهده في أواخر القرن الخامس، والقرون الخمسة الأولى خير زمن المسلمين علمًا وعملاً وتمسكًا بالدين، وقد كان الأمر من بعد ذلك أدهى وأمر: جهالة عمياء، وليالٍ ظلماء، وانتشار غوغاء، ولا يعني الحجة بكلامه إلا الغالب الذين كان بيدهم الزمام، فأضلوا الأمة بغش الإمام، وقد تولد من خلافهم في قواعد العقائد التفرق في الدين وتكفير بعضهم بعضًا إعراضًا عن القرآن واتباعًا لشهواتهم وحظوظهم. أخبر الله تعالى أنه وصى الأنبياء {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وكفى بذلك تهديدًا، وأي تهديد أعظم من إثبات أن المفرقين لا تجمعهم بصاحب الدين جامعة ما؟ وقد نهى عن ذلك نهيًا صريحًا زيادة عما تضمنه هذا الإخبار من النهي حيث قال {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 31-32) قال المفسرون: أي فرقًا تشايع كل فرقة إمامها الذي أضلها عن دينها. والآيات القرآنية الآمرة بالاتحاد في الدين وعدم التفرق فيه كثيرة {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 52) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) . ولو أن غرضهم قمع المبتدعة والنضال عن الحق كما زعموا لما حدث عن ذلك ما حدث من التفرق والتشيع الذي شق عصا الجماعة ورمى المسلمين بالانقسام الذي أوصلهم إلى ما نرى. أليس قد كان الخلاف بينهم لفظيًّا في كثير من المسائل كما أوضحه المتأخرون بعد انتهاء عصور المشاغبات والغلو في التعصب والتحزب؟ فكيف خفي عليهم ذلك وهم أعلم من المتأخرين الذين اهتدوا إليه؟ لولا غشاوة الهوى على أبصارهم ووقر الانتصار للنفس في أسماعهم! ! أليس منها ما لا فائدة من الخلاف فيه ولا يترتب عليه حكم، كمسألة من هو الأحق بالخلافة من الصحابة؟ التي كانت أعظم صدمة على الإسلام والمسلمين، ولا تزال كذلك إلى اليوم؛ إذ هي التي قسمت المسلمين إلى قسمين كبيرين وهما: السنية والشيعة. وقد أطال في بيان التلبيس في تشبيه هذه المظاهرات بمشاورات الصحابة ومفاوضات السلف الإمام حجة الإسلام في الإحياء، فليرجع إليه من شاء، وما أحسن ما قاله في هذا المقام أستاذنا الأكبر صاحب رسالة التوحيد وهو: (بقيت علينا جولة نظر في تلك المقالات الحمقى التي اختبط بها القوم اختباط إخوة تفرقت بهم الطرق في السير إلى مقصد واحد، حتى إذا التقوا في غسق الليل صاح كل فريق بالآخر صيحة المستخبر، فظن كلٌّ أن الآخر عدو يريد مقارعته على ما بيده، فاستحرّ بينهم القتال ولازالوا يتجالدون حتى تساقط جلهم دون المطلب، ولما أسفر الصبح وتعارفت الوجوه رجع الرشد إلى من بقي وهم الناجون، ولو تعارفوا من قبل لتعاونوا جميعًا على بلوغ ما أملوا، ولوافتهم الغاية إخوانًا بنور الحق مهتدين) . ولو شئنا بيان الفتن والحروب التي تولدت من هذه الخلافات لاحتجنا إلى تأليف مجلدات. وأما الخلاف في الفروع فهو وإن كان دون الخلاف في قواعد العقائد فقد نجم عنه فتن كبيرة وأضر بالمسلمين ضررًا عظيمًا، ناهيك بالفتنة التي أثارها دخول العلامة ابن السمعاني في مذهب الشافعية، والفتنة التي هاجر بسببها إمام الحرمين والإمام القشيري وأضرابهم من وطنهم، والفتنة التي دفعت بالشافعية للانتصار بالتتار على الحنفية، فكان ذلك سبب هلاك الفئتين، ولم تزل كتب الفقه محشوة بما يخجل المنصف من قراءته، كقول بعض الحنفية: يجوز للحنفي أن يتزوج بشافعية قياسًا على الذمية، وقد أفتى بعض حنفية طرابلس الشام لهذا العهد بعدم جواز الاقتداء بشافعي، قال: لأن الشافعية يشكون في إيمانهم!! (والشك في الإيمان كفر) ؛ لأن أئمتهم جوزوا قول: أنا مسلم إن شاء الله، فذهب بعض الشافعية إلى مفتي طرابلس وطلب منه قسمة المساجد فتلافى الأمر المفتي (جزاه الله خيرًا) واستحضر ذلك الحنفي ووبخه ونهاه. والحاصل أن المسلمين بدأوا ينحرفون عن هدي الدين الإسلامي من العصر الأول، فقد نقل العلامة الشاطبي في الاعتصام وغيره أن الصحابة الذين عمروا كثيرا كانوا ينكرون ما رأوا في آخر حياتهم أشد الإنكار، حتى قال أبو الدرداء وأنس بن مالك (رضي الله عنهما) : لو رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا لم يعرف من دينه إلا هذه الصلاة، وقد روينا عن شيخنا أبي المحاسن القاوقجي رحمه الله تعالى حديثًا مسلسلاً بقولهم: رحم الله فلانًا، فكيف لو رأى زماننا هذا وهو ينتهي إلى عائشة رضي الله عنها، فإنها أنشدت قول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب وقالت: رحم الله لبيدًا فكيف لو رأى زماننا هذا. وفي كلام أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه من شكوى الانحراف عن الدين العجب العجاب. هذه هي الدلالة القولية، وحسبك بدلالة الأثر فلولا انحراف العلماء والخلفاء لما انحرفت العامة، ولما وقع المسلمون بهذه الرزايا والمصائب التي انتهت بهم إلى فقر العقول وفقر الأيدي وضياع السلطة وتمزقوا كل ممزق. وجملة ذنوب العلماء: (1) الاختلاف في الدين. (2) ا

تقويم الأفكار ـ 3

الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي

_ تقويم الأفكار لحضرة الفاضل حموده أفندي (بك) عبده المحامي (3) (تابع لما قبله) ومما يزعزع سياسة الملك الداخلية ويسبب تقويض أركان الدولة: كثرة الأجناس واختلاف الأديان، ولهذا كلما كانت رعية الدولة مؤلفة من أجناس متعددة كلما صعبت قيادتها، وكانت أقرب إلى الهياج من السكينة، وإلى القلق من الراحة، فإن اختلاف الأجناس والأديان مما يؤدي إلى الاختلاف في الطباع والعادات، ومتى كانت هذه متغايرة والأخلاق متباينة جر ذلك إلى النزاع في المعاملة والتنافس في المصلحة، ثم إن أبناء الجنس الواحد متى وجدوا بين أجناس أخرى ينبت فيهم نوع من العصبية والتآلف يحملهم على الثورة والخروج عن الطاعة لأقل سبب وأوهى حجة، ولهذا كانت سياسة الدولة العلية في أمورها الداخلية من أصعب السياسات؛ لأن رعيتها مختلفة الأجناس والأديان، فقد كانت من وقت غير بعيد صاحبة السيادة على الصرب وبوسنة والجبل الأسود واليونان والبلغار وقبرص، وقد أصبحت هذه البلاد اليوم في معزل عن حكمها وسيادتها، فأكبر عامل ترجع إليه هذه الحركات هو الاختلاف الذي بينته. فلابد للدولة المؤلفة من الأجناس المختلفة من أن تكون راقية أوجًا عاليًا من المدنية، وأفرادها بالغين مبلغًا عظيمًا من الكمال والهداية، حتى يمكن أن يستتب فيها نظام ويقوم لها حال؛ لأن ذلك الكمال يعرفهم أنهم باجتماعهم تحت راية واحدة أصبحوا يدًا واحدة، يهمهم المحافظة على تلك الراية؛ لأنها هي التي تقيهم من كوارث الدهر وعوادي الأيام، وأنهم متى كانوا يقطنون أرضًا واحدة فعلاقات المعيشة تحوجهم إلى تحسين المعاملات فيما بينهم، ويجب عليهم احترام تلك العلاقة والسعي في توطيدها حتى تدوم فيهم المعاشرة ويصل كل منهم إلى غايته ومنفعته، وأرباب الأديان المختلفة لو رجعوا إلى أصول كل دين لرأوها متحدة، ولوجدوا أن كل دين ما نزل إلا لأمر واحد، هو تهذيب النفس وتحسين علاقتها مع من يخالطها، فكل دين قد أتى لهذه الغاية، حث على الفضائل وحض على التوفيق بين الناس، ولو فهمت كل طائفة حقيقة دينها لما نشأ بين الناس تباغض، ولا حدث بين أهل الأديان المختلفة تنافر، وتلك سنة الله تعالى في خلقه وهو القائل {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} (هود: 118) ولكن ضل أناس في كل دين واعتقدوا أن الاختلاف في الدين يوجب النفرة من غير أهله ويأمر بالتباعد عمن خالفهم فيه، ومن هذا تخالفت العلاقات بين أرباب الأديان المختلفة، وأصبح اختلاف الدين عَلمًا على المعاداة والتنفير، وهذا كله سببه الجهل، وهو راجع إلى تقصير أنصار الدين في كل أمة فإنهم هم الملزمون بتبيان ما يصلح العقائد ويقوم الأفكار فيما يختص بالأديان. ربما يعتقد القائمون بأمر الأديان أن انتشار التعليم يكشف الغطاء عن الحقيقة ويمحو أثر هذا العدوان المنتشر بين أهل الأديان، ويركنون إلى ذلك ويقولون: لا لوم علينا ولا تثريب. نعم، لا ننكر أن التعليم له بعض التأثير في تحسين العقائد الساقطة ولكن الأشياء الراسخة التي تلقن إلى الطفل في طفوليته على أنها من الدين تبقى لا يقاومها التعليم مهما كانت درجتها من السخافة، وكثيرًا ما نسمع بعلماء في الهند يغوصون بحار العلوم، ويمضون أزمانهم في سبر غور الفنون، ومع ذلك تراهم يعتقدون أن إلههم هو الشمس، والبعض يعتقد أنه النار، والآخر يعتقد أنه القمر، وغير ذلك من عقائد التخريف والهذيان، فلو كان التعليم يحسن العقائد لكان هؤلاء أولى بتركهم هذه الخزعبلات، فالواجب على أهل الدين من كل أمة أن يقوموا ببث معالم الدين حق القيام ويزيلوا هذا العدوان. هذا بعض ما تقوم به السياسية الداخلية في الدول، وتتوطد به دعامتها. ولنتكلم الآن على السياسية الخارجية. أما السياسة الخارجية: فهي ما تلزم الملك في علاقته مع الدول الأخرى، ودعامة هذه السياسة هي: المحافظة على حقوق الملك وعدم التفريط في شيء يعود ضرره عليه، ومن أقوى أساساتها: حب السلم وعدم تعريض الدول إلى حرب تنشب بينها وبين دولة أخرى أعز منها قوة وأكبر انتظامًا، وقواعدها الحقيقية هي معرفة الأمم الغابرة ودرس العلوم الجغرافية والتاريخية، والوقوف على الأحوال الحاضرة التي تجري بين الدول والعلاقات التي تتجدد بينهم حتى إذا دعي القائم بأمرها في الدولة إلى أمر يشترك فيه معهم كان بصيرًا في الإقدام عليه، ويلزمه أن يكون مجربًا يقيس مجريات الحوادث بعضها على بعض، وهذه السياسة لا قانون لها، وإنما قد يحصل بين الدول معاهدات تختص بأمور يجري العمل عليها، إلا أنها لا تراعي حرمتها عند تحكم الأغراض السياسية والأهواء الذاتية، فالمدار الحقيقي لها هو الأخذ بالحزم والروية، والنظر إلى العاقبة، هذا ما يمكن أن يقال في معنى السياسة، وبعضهم يخلطها بالنفاق، فيجعله من ضروب السياسة، وهذا شطط في سوء الأخلاق، وفساد الطباع، ونقص الآداب، نعوذ بالله من سوء النية ومن خبث الذمة والرياء، ونسأله الهداية ونسترفده العناية.

مقتطفات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات من الجرائد (السكك الحديدية) يبلغ طول السكك الحديدية التي قد أنشئت سنة 1897 في أوروبا 5605 كيلو مترات، أما السكك التي قد أنشئت في سنة 1896 فيبلغ طولها 5172 كيلو متراً، ولحكومة روسيا الجزء الأكبر من هذه الطرقات؛ لأنها قد أنشأت خطًّا طوله 1524 كيلو مترًا، وتليها في ذلك حكومة أوستريا (النمسا) حيث أنشأت ما يبلغ طوله 1488 كيلو مترا، أي 548 كيلو مترًا في أوستريا و941 في بلاد المجر، وتعد ألمانيا في هذا الميدان بعد أوستريا؛ لأن عندها من الخطوط الحديدية ما يبلغ طولها 788 كيلو مترًا، ولفرنسا فقط 393 كيلو مترًا. وإذا قورنت الطرقات الحديدية في بلاد أوروبا بعدد الأهالي كان لحكومة السويج السبق؛ لأن الذي يخص مليونًا من النفوس من طرقاتها الحديدية 2050 كيلو مترًا، وحكومة سويسرة يخص المليون من أهلها 1200 كيلو متر، ومن أهالي الدنيمارك 1100 كيلو متر، وفرنسا 1070. وإذا نظرت مساحة الأرض وكثرة الطرقات عدت حكومة بلجيكا في المقدمة لأن الألف كيلو متر مربع من أرضها يخصها ألفا كيلو متر من السكك الحديدية، وتتبع إنكلترا بلجيكا في هذا الاعتبار، فإن الألف كيلو متر مربع منها يخصها 1080 كيلو مترًا من الطرق الحديدية، وألمانيا 890 وهولندا وسويسره 880، وفرنسا 870 كيلو مترًا. *** (التجارة في ألمانيا) نشر تقويم إحصائي عن تجارة ألمانيا وما حازته من الرواج في ظرف تسعة أشهر، وقد قارن فيه أصحابه بين تجارة ألمانيا في هذا العام وفي سنة 1897 فظهر أن الزيادة: ثمانية وخمسون مليون وست مائة وتسعة وخمسون ماركًا، ومما لاحظه واضعو التقويم هو أن ما يرسل من البضائع لأمريكا قد زاد في ثلاثة أرباع العام الحالي زيادة عجيبة، كما أن الوارد من أمريكا قد كثر، ولكن كثرة لا تتجاوز مئات الألوف من الماركات. *** (التجارة بين الولايات المحروسة الشاهانية وبين أوروبا) كانت منسوجات إنكلترا وفرنسا ترد إلى الولايات المحروسة وتصادف الرغبة التامة فتباع بالقناطير المقنطرة من المال، غير أنها قد قلت منذ أجرت ألمانيا المراقبة التجارية الشهيرة، وقد كسدت البضائع الإفرنسية والإنكليزية لرواج تجارة ألمانيا. ففي سنة 1895 ميلادية دخل من إنكلترا ما تساوى قيمته 110.750.000 ومن فرنسا5.115.000 وفي سنة 1896 دخل من إنكلترا 106.626.000، ومن فرنسا ما يساوي40.598.000 وفي سنة 1897 تناقصت إدخالات إنكلترا 100.025.000 وفرنسا400.000.000 كل ذلك بحساب المارك. وكل من اطلع على ما قدمناه ورأى تجارة ألمانيا وتقدمها يعلم أن ما صادفته تجارة إنكلترا وفرنسا من الكساد قد عاد بالتقدم على التجارة الألمانية لأن ما كان يرد من المصنوعات الألمانية قد بلغ في سنة 1895 ما يساوي 31.295.000 مارك فقط، ولكن المقدار المذكور قد بلغ في سنة 1896 من الزيادة ما يساوي 25.486.000 وفي سنة 1897 بلغ ما يرد من تجارة ألمانيا ما تساوي قيمته 28.561.000 مارك. يظهر من التقويم العمومي أن عدد الأهالي في ولاية سمرقند 857، 847 نفسًا منهم 837، 990 مسلمًا و 12، 437 مسكوفيًّا و129 راسقولنيكيًّا و176 بروتستنتيًّا و1304 من الكاثوليك و281 أرمنيًّا و6000 يهودي و30 مجوسيًّا. ... ... ... ... ... ... ... (الكوكب العثماني) *** (الألقاب والرتب الشريفة في فرنسا) كتب (الفيكونت دي) رواية فصولاً طوالاً عن الشرف والشرفاء في فرنسا والألقاب العديدة التي يحصل عليها زعانف القوم بالغش والخداع، فأظهر أن الألقاب تباع وتشترى بالأموال، وأنه يوجد الآن في فرنسا 45 ألف عائلة من الشرفاء، منها أربع مائة عائلة قادرة على إثبات شرفها وألقابها منذ القديم، وما بقي فقد تجدد جديدًا بواسطة المال والخداع، وأكد الكاتب أن الجمهورية الإفرنسية ترفع 40 رجلاً مع عائلاتهم في كل عام إلى درجة الشرف، وكثيرون يبدلون أسمائهم، فإن المسيو دلاك أحد أغنياء باريس استأذن حكومتها بتغيير اسمه فصار اسمه دي لاك دي يوجون وبعد تغيير اسمه بعامين أصبح كونتًا من أصحاب الشرف. وعدا عن ذلك فقداسة البابا ينعم سنويًّا بلقب كونت وأمير على ستين من أغنياء فرنسا. وعدا عن ذلك فإن خمسين في المائة بين بارون ومركيز وكونت وأمير يتزوجون بالأمريكيات الأغنياء، والإسرائيليات الألمانيات ذوات الثروة، وهؤلاء يصبحن حائزات على ألقاب رجالهن عند هذا الزواج. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (كوكب أميركا)

الإباء والصدق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإباء والصدق قرأنا في الطبقات الكبرى للتاج السبكي هذه الأبيات الحكيمة، قال: أنشدها الإمام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الشافعي الشهير، ولم يسم قائلاً وهي: صبرت على بعض الأذى خوف كله ... وألزمت نفسي صبرها فاستقرت وجرعتها المكروه حتى تدربت ... ولو حملته جملة لاشمأزت فيا رُب عز جر للنفس ذلة ... ويا رب نفس بالتذلل عزت وما العز إلا خيفة الله وحده ... ومن خاف منه خافه ما أقلت سأصدق نفسي إن في الصدق حاجتي ... وأرضى بدنياي وإن هي قلت وأهجر أبواب الملوك فإنني ... أرى الحرص جلابًا لكل مذلة إذا ما مددت الكف ألتمس الغنى ... إلى غير من قال اسألوني فشُلَّت إذا طرقتني الحادثات بنكبة ... تذكرت ما عوفيتُ منه فقَلَّت تبارك رزاق البرية كلها ... على ما رآه لا على ما استحقت فكم عاقل لا يستنيب وجاهل ... ترقت به أحواله وتعلت وكم من جليل لا يرام حجابه ... بدار غرور أدبرت وتولت يشوب القذى بالصفو والصفو بالقذى ... ولو أحسنت في كل حال لملت (مؤاخذة) : قال الإمام السبكي بعد إيراد هذه الأبيات: قلت: قوله: (تبارك رزاق البرية) البيتين أصدق من قول أبي العلاء المعري: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأحلام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقًا فقبحه الله ما أجرأه على الله، وقد أحسن من قال نقضًا عليه: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل شبعان ريانا هذا الذي زاد أهل الكفر - لا سلموا - ... كفرًا وزاد أُولِي الإيمان إيمانا

آثار عن إمبراطور ألمانيا في الشام والقدس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار عن إمبراطور ألمانيا في الشام والقدس زار إمبراطور ألمانيا وقرينته في دمشق الشام ضريح السلطان صلاح الدين الأيوبي، ومكث عنده برهة واقفًا ثم بسط يديه كأنه يستنزل عليه الرحمة الإلهية وأطراه في الثناء قائلاً: إنه كان الآية الكبرى في زمانه في الشهامة والعدل والكرم ولما انفتلا صنعت الإمبراطورة بيدها إكليلاً بديعًا من الزهر إجابة لطلب الإمبراطور، وأمر أن يكتب عليه بالعربية: (ويلهلم الثاني قيصر ألمانيا وملك بروسيا تذكار للبطل السلطان صلاح الدين الأيوبي) . ألقى الإمبراطور خطبة حيث أقيمت له المأدبة من بلدية دمشق أثنى فيها أطيب الثناء على الحفاوة التي لقيها في زيارته للشام، وذكر فيها أن من أسباب سروره وجوده في بلدة عاش فيها من كان أعظم رجال عصره وفريد دهره شجاعة وبسالة، من كان قدوة الشهامة وطائر الشهرة في الآفاق، السلطان صلاح الدين الأيوبي الشهير، وأثنى فيها على مولانا السلطان الأعظم صديقه المخلص، وشكره ثم ختم خطابه بقوله: وليوقن حضرة صاحب الشوكة السلطان عبد الحميد خان الثاني والثلاث مائة مليون من المسلمين المرتبطين بمقام خلافته العظمى ارتباطًا قويًّا، والمنتشرين في جميع أنحاء الكرة الأرضية أن إمبراطور ألمانيا سيبقى محبًّا لهم إلى الأبد (وفي رواية معضدًا لهم) . اتفقت الجرائد العربية والأوروبية على شدة سرور الإمبراطور بما لقيه من الحفاوة في دمشق الشام، وروي عنه أنه قال: إنه لم ير منذ جلس على سرير الملك جمعًا رحب به وابتهج بلقائه أكثر مما رحب به أهل دمشق الفيحاء. وقد ابتهج في دمشق بأمور كثيرة، ورأى فيها ما لم يره في غيرها، منها: لعب العرب بالرماح وبالسيف والترس، ومنها: الرقص المعروف (بالدبكة) ومنها: آثار قديمة رآها في منزل أحد أمراء بني العظم، وقد أبيح له أن ينتقي منها ما أحب ويأخذه، فانتقت الإمبراطورة بعض أوانٍ نفيسة، وأعجب بما أهدي إليه من المصنوعات الشامية من أثاث ورياش. منها: عباءة من الحرير عسلية اللون موشاة بخيوط الذهب والفضة، وكوفية من الحرير المرزكش أيضًا، وعقال - أهداه تلك متصرف لواء حماة - فلبسها في الوقت وكان يخرج بها إلى البرية. وقد أهدى الإمبراطور والإمبراطورة لكثير من الرجال والنساء هدايا نفيسة. ومما نقلته الجرائد الأجنبية: أن جلالة الإمبراطور أقام احتفالاً في البقعة التي أهداه إياها صديقه السلطان الأعظم في جبل صهيون، وهي التي يقول المؤرخون: إنها كانت منزل السيدة العذراء عليها السلام. وقد أهداها الإمبراطور لأبناء رعيته الكاثوليك، وطير في إثر الاحتفال للحضرة البابوية رسالة برقية قال فيها: (أعد نفسي سعيدة برفع هذه الرسالة البرقية إلى قداستكم لأعرب لكم عن سروري وامتناني من رجل الكرم والفضل السلطان عبد الحميد الذي أهداني بقعة أرض مقدسة في أورشليم، ليبرهن لي على صداقته التي لا أشك بصدقها، فقد وفقني الله للحصول على منزل السيدة العذراء في أورشليم، وقد وهبته لأبناء بلادي الكاثوليكيين، وإني ليسرني جدًّا أن أؤكد لقداستكم أن الآثار المقدسة عزيزة لدي، لا سيما ما يختص منها بالكاثوليك الذين هم تحت حماية إمبراطوريتي ومستظلين بالراية التي جعلتني العناية الإلهية حاميًا لها. وأرجو من قداستكم قبول خالص شكري واعتباري لكم، وتحققوا صدق إخلاصي للكرسي الرسولي) فأجابته الحضرة البابوية بالشكر على هذه الهدية الثمينة التي أهداها للكاثوليك الألمانيين قائلة: إنهم لا شك يقبلونها من جلالتكم بالشكر الخالص. لما استعرض الإمبراطور العساكر السلطانية في دمشق أعجب بانتظامها وأثنى على المدفعية قائلاً لسعادة القومندان: (إنى أهنئك بحسن انتظام مدفعيتك التي هي كأحسن مدفعيات الدول، وبمثلها تخاض معامع الحروب) وقد شهد للجيش الشاهاني عقب استعراضه في دار السعادة قائلا: (بمثل هذا الجيش ينبغي أن يحارب المحاربون) وفي هذه الشهادة من أعظم إمبراطور ما يحق لنا معاشر العثمانيين الافتخار به لأن سيد القول ما يقول الرئيس. *** تعصب أوروبا الديني إمبراطور ألمانيا رجل حربي لأنه رئيس أعظم جيش منظم في العالم اليوم، وقد كان السلطان صلاح الدين الأيوبي أعظم رجل حربي في عصره، ومن سجايا البشر أن البارع في شيء يحترم من هو مثله في طبقته، وإن كان خصمه، ولذلك شواهد كثيرة، وقد عهد في تاريخ الحروب أن الشجاع الباسل يأسف على قرنه الباسل إذا قتل، ولو بسيفه، وفي هذا المعنى قال بشر لما قتل الأسد: وقلت له يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدًا وفخرًا من أجل هذا افتخر الإمبراطور في دمشق بأنه في (بلد عاش فيه ذلك البطل الهمام الذي دوخ الألمان وسائر الصليبين وأعاد للإسلام سلطته) وأهدى لضريحه ذلك الإكليل، وقد أعمى التعصب جرائد الألمان عن هذا المعنى، فأقام أصحابها النكير على الإمبراطور قائلين: إن هذه اللهجة لم تكن تنتظر من إمبراطور يتظاهر بأنه حامي المسيحيين وملكهم، وزعم بعضهم بأنه نسي التاريخ وأورد نبذة من تاريخ صلاح الدين، وأنه أسس دولة عظيمة وقهر الفرسان المسيحيين في ملحمة طبريا وأخذ الصليب الحقيقي وكسر الدولة النصرانية، فاضطر الإمبراطور فردريك بربروس بأن يأتي لمحاربته، فكسر السلطان جيشه ومات غريقًا، وملك صلاح الدين البلاد المقدسة النصرانية. قال: هذا هو السلطان الذي كسر الجيوش المسيحية الغربية، قد قام الإمبراطور الألماني الجديد اليوم يطريه بالمدح والثناء، فكيف استطاع أن يحرك لسانه بالثناء على رجل هدم معالم الدولة النصرانية وسد طريقها في أوجه الزائرين … كل هذا عند القوم وهم يرموننا بالتعصب ويدعون البراءة منه، فمن لنا بمن ينصفنا منهم بالحجة، ولا حجة إلا القوة، فمن لا يستطيع أن يفعل لا يستطيع أن يقول. ومن تعصب أوروبا (والشيء بالشيء يذكر) : اضطهاد اليهود والهياج عليهم في فرنسا المتمدنة بسبب مسألة دريفوس الذي اتضحت براءته، وقد سرى لهيب هذا الهياج من باريس إلى الجزائر، وطار بعض شرره إلى تونس ويوشك أن يعم كل بقعة لفرنسا فيها نفوذ، فليعتبر المعتبرون.

انتقاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتقاد رأينا في المقالة الافتتاحية من العدد 182 من جريدة (السلام) الغراء عبارة ينبغي أن لا تصدر من مسلم وهي: (إن الأقدار إذا جرت وتمادى ظلمها على الإنسان) إلخ ونحن نعلم أن الذين يحررون هذه الجريدة ليسوا من المسلمين فنستلفت أنظارهم إلى مراعاة مذهب من تصدر الجريدة باسمه، ولو أنهم أسندوا ذلك الظلم إلى الطبيعة لم يكن بذلك بأس؛ لأنه مجاز مطروق، أما القدر فيعتبر فيه إسناد ما يوجد إلى علم الله تعالى وإرادته وقدرته، وبهذا الاعتبار لا يجوز وصفه بالظلم.

فلسفة التربية الحقة

الكاتب: محمد عبده

_ فلسفة التربية الحقة [*] بقلم حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد عبده الشهير وهي رسالة نقلها عن درس للأستاذ العلامة الفيلسوف الشيخ جمال الدين الأفغاني الحسيني رحمه الله، كان ألقاه على طلبته الأفاضل عندما كان يدرس كتاب الإشارات للشيخ الرئيس أبي علي بن سيناء، وجعل ذلك الموضوع فاتحة تدريسه. قال حفظه الله: إذا وجه العقل نظر الاعتبار إلى الأجسام الحية بالحياة النباتية أو الحيوانية أو الإنسانية علم أن قوام حياتها بتفاعل العناصر الداخلية في قوامها تفاعلاً متناسبًا بحيث لا يتميز أحد تلك العناصر بالغلبة على باقيها، غلبة تقضي بظهور بعض خواصه وتسلطها على خصائص البقية، فبذلك التناسب يتم للبدن الحي ما يسمى بالمزاج المعتدل الحامل لروح الحياة، فإن غلب أحد العناصر على سائرها واضمحلت خواص بقيتها فيه انحرف المزاج وخرج عن حد الاعتدال واستولى المرض على الجسم. وكما يكون الاختلال وفساد البنية بتغلب بعض العناصر على ما سواه منها كذلك يكون بمغالبة المزاج للحوادث الخارجية وغلبتها عليه، كالبرد الشديد المذهب لروح الحرارة الغريزية، والحر الشديد الموجب للاحتراق وتحلل الرطوبة الضرورية المنتهي إلى اليبس نذير الموت والفناء. ومن ثم وضعوا علوم النباتات والحيوانات والطب البشري والبيطري ليبحث في تلك العلوم عما به يحفظ التوازن بين البسائط التي يتركب منها الجسم، ويحترز من تسلط الحوادث الخارجية عليه ويعاد به المزاج إلى حالة الاعتدال إن خرج عنها لتتم حكمة الله في بقاء الأنواع إلى آجالها المحددة بحكم الحكمة الأزلية. فالنباتيون يعينون الأراضي القابلة للزراعة والغراسة لكل نبات ويحددون الفصول الملائم هواؤها لنموه، ويوضحون مواد التسميد وغير ذلك مما لا بد منه في تربية النباتات، وكذلك الأطباء يبحثون عن مواد الأغذية وماذا يجب أن يتخذ منها لكل مزاج، ومضار الأهوية ومنافعها، ويقفون بتجاربهم الصادقة على الأدوية النافعة لرد البدن إلى حالة الصحة وآلات العلاج المفيدة، حتى يحفظ بذلك على البدن صحته ويرجع إليها إن انحرف عنها. ولن يكون الطبيب طبيبًا يترتب عليه غايته حتى يكون على علم بالتاريخ الطبيعي وعلوم النباتات ليعلم خواصها ويميز نافعها من ضارها، وعلى بصيرة من اختلاف الأمزجة ومقتضياتها وما يلائم كل واحد على حسبه وخبيرًا بعلل الأمراض وأسبابها وكيفياتها من شدة وضعف، وتاريخها من قدم وحدوث، حتى يعالج كلًّا بما يليق به، فإن جهل من ذلك شيئًا كان فقده خيرًا من وجوده، فإن الطبيب الجاهل رسول ملك الموت، إذ بجهله يستعمل من الأدوية ما عساه يهيج المرض، ويعين من الأغذية ما يساعده على قسوته، فيفضي كل إلى هلاك المريض، وقد كان بدونه محتمل الشفاء بمقاومته الطبيعية لولا مساعدة الجاهل وعونه، وكما يلزم للطبيب أن يكون عالمًا بجميع ما قدمنا يجب أن يكون شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا، لا يكون قصارى عمله ما يناله من جُعل المعالجة، فإنه إن كان قاسيًا عديم الرأفة، أو كان خائنًا فلربما صار آلة في أيدي أعداء المريض، يستعملونه لهلاكه بإلقائه السم في الأدوية مثلاً أو إهماله في العلاج بما يقدمون إليه من العرض الفاني، وكذلك إن قصرهما على ما يناله من الدينار والدرهم، فإنه إن كان على تلك الصفة لم يكترث بحال المريض ما دام يوفى أجر عمله، فإن هلك فقد نال ما يزيد عن مكافأته، وإن امتد المرض زاد الإيراد بتوارد الأوقات فعدمه أيضًا خير من وجوده. وكما أن روح الحياة البدني إنما يستقر حين تجتمع أصول متضاربة ينشأ من تغالبها مزاج معتدل كامل، وبغلبة أحدها يفسد التركيب ويذهب الروح الحيوي من حيث أتى كذلك روح الكمال الإنساني إنما يكون حيث تجتمع أخلاق متضادة وملكات متخالفة، يقوم من تضادها وتخالفها حقيقة الفضيلة المعتدلة التي هي ركن لبيت سعادة الإنسان، وعليها مدار حياته الفاضلة، فإن تغلب أحد الخلقين على الآخر فسد نظام الفضيلة واستحكمت الرذيلة وبات شقيًا سيئ الحال وسقط في مهواة التعب والعناء المفضيين إلى الحَين والهلاك. ألا ترى أن النفس الإنسانية لا بد لها من خلق الجراءة وخلق المخافة وهما متضادان؟ ومن مقاومتهما على وجه معتدل بحيث يستعمل كلاًّ فيما يليق به من المواقع تتحقق فضيلة الشجاعة التي لو فقدت بتغلب المخافة لكان فاقدها عرضة لتعدي جميع الحيوانات عليه ولم يستطع عن نفسه دفاعًا، وكانت حياته على خطر يتهدده في جميع أوقاته. ولو أن الجراءة تغلبت على المخافة حتى ذهب أثرها كانت تهورًا وعدم اكتراث بالمهالك لحق ولغير حق بدون تبصر ولا مراعاة حكمة، فيلقي بروحه في مهاوي الهلكة بلا طائل يعود على نفسه أو وطنه. وكذلك لابد لها من خلق الإمساك والبذل وهما متخالفان متعارضان يتقوم من تغالبهما في النفس فضيلة السخاء والبذل في موضع الاستحقاق إذا اعتدلا، ولو أن الإمساك تغلب على ضده حتى اضمحل فيه لأمسك عن قضاء لوازمه الضرورية، فلا يأتي باللائق من الأغذية مثلاً والألبسة فيضر ببدنه، ولم يوف بحقوق مشاركيه في المعيشة كزوجته وولده، أو في التعامل كجيرانه وأهل بلده، فيقع الشقاق بينهم ويتأدى به إلى شقاء دائم وغير ذلك من مفاسد البخل التي لا تنحصر، ولو تغلب البذل لأنفق جميع ما بيده في المفيد وغير المفيد، حتى يصبح فقيرًا لا يجد ما ينفقه في ألزم لوازمه فيهلك، وهكذا جميع الملكات الفاضلة الإنسانية إنما هي وسط لطرفين متضادين لابد من ظهور أثر كل منهما على نسبة معتدلة وبغلبة أحدهما على الآخر يختلف نظام الفضيلة ولا محالة، وينهدم بيت السعادة دنيوية كانت أو أخروية، ولا يسعنا المقام لتفصيل ذلك. وكما يقع العناد بتغلب أحد الضدين على الآخر في النفس يقع أيضًا بتغلب أمر خارج على مزاج الفضيلة، كغلبة التربية الفاسدة المغذية للعنصر الفاسد بمخالطة ذوي الملكات الرذيلة والغرائز الناقصة وانفعال النفس بحركاتهم وسكناتهم، وتقليدها لأعمالهم وتقلدها بعاداتهم أو باستماع إغواء ذوي الأهواء وتمويهات أرباب الأغراض الفاسدة الدنيئة المذيعين للأفكار الرديئة المؤيدين للعقائد الباطلة التي ينبعث منها سوء الأخلاق المؤدي إلى فساد المعيشة فللنفوس علل وأمراض كما للأبدان ذلك. ومن ثم قد وضعت علوم التربية والتهذيب لتحفظ على النفس فضائلها وتردها عليها إن اعتلت وانحرفت عنها إلى جانب النقص والاعوجاج، كما وضع الطب ولوازمه لحفظ صحة الأبدان كما بينا. فالحكماء العمليون القائمون بأمر التربية والإرشاد وبيان مفاسد الأخلاق ومنافعها وتحويل النفوس من حالة الكمال - بمنزلة الأطباء. وكما لزم للطبيب أن يكون عالمًا بالتاريخ الطبيعي والنباتات والحيوانات وعلل الأمراض وأسبابها ودرجاتها من شدة وضعف، كذلك يلزم للحكيم الروحاني طبيب النفوس والأرواح إذا رقي منبر الإرشاد أن يكون عالمًا بتاريخ الأمة التي قام بإرشاد أبنائها وتاريخ غيرها من الأمم أيضًا، وأن يسبر أخلاقها بمسبار الحكمة، ليعلم أسباب أمراضها النفسية ويقف على درجات الداء وتمكنه فيهم وأنه حديث أو قديم، قوي في النفوس أو ضعيف، وما هو العلاج اللائق بكل صنف. وكما أنه يجب على الطبيب البدني أن يكون على علم تام بمنافع الأعضاء وغايتها، كذلك على الطبيب الروحاني أن يكون عالمًا بمنافع الأخلاق ومضارها على طِبق ما في نفس الأمر والواقع. وكما يلزم أن يكون الطبيب شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا لا ينظر إلى الدنيا ولا ينحط إلى المقاصد السافلة، كذلك على النصحاء والمرشدين أن يكونوا من ذوي الاستقامة والفضيلة مرتفعي الهمم أولي مقاصد عالية لا يبيعون الفضيلة بحطام الدنيا ولا بالتقرب والتزلف إلى الأمراء والكبراء. أولئك هم المرشدون الحقيقيون، فإن رزقت الأمة بمثلهم فبشرها بالسعادة، وإن رزئت بمطببين لا أطباء بأن صعد على منابر النصح فيها الجهلة والأغبياء والسفلة والأدنياء، فأنذرها بالعناء والشقاء، فإن المرشد الضال والنصوح الجاهل يودع النفوس رذائل الأخلاق باسم أنها فضائل، ويغرس فيها جراثيم الشر باسم أنها أصول الخير، ولربما كان مقصده حسنًا ولا يريد إلا خيرًا ولكن جهله يعميه عن سلوك طريقه، ويبعده عن اتخاذ وسائله، فتقع الأرواح في الجهل المركب وهو شر من الجهل البسيط فإن دق الثاني على باب الفضيلة لا يلبث إن فتح له أن يلجه، وصاحب الأول قد بعد عن المقصد بمراحل واستتر تحت نقع الرذيلة واعتقد ذلك ظلاًّ ظليلاً فلا يمكن العدول عما وقع فيه إلا بعد مكابدة شديدة وعناء طويل، فلا ريب إذا كان عدم هؤلاء المرشدين خيرًا من وجودهم. وكذلك إن كان خائناً أو دنيئًا ينحط إلى سفاسف الأمور، أو عديم الشفقة الإنسانية فإنه يتخذ النصيحة سلمًا للوصول إلى أغراضه الفاسدة ومطالبه الذاتية، فلا يبالي أوقع الأفراد في خير أو شر، صفت النفوس أو تكدرت، ارتفعت الآداب أو انحطت، صحت الأرواح أو اعتلت، فيكون آلة بيد الأشرار وذوي الأهواء، يستعملونه في فساد الأمة والعشيرة لقضاء أوطارهم. ألا وإن القائمين بأمر الإرشاد يحصرون في قبيلين: قبيل الخطباء والوعاظ، وقبيل الكتبة والمصنفين، ومنهم أرباب الجرائد فإن كانوا على نحو الأوصاف الكاملة اللازمة لمقامهم هذا كما تقدم فقد استحقوا التعظيم والاحترام والتبجيل والإجلال، واستوجبوا الشكر والثناء من كل قلب مخلص، وقاموا بخدمة أوطانهم وأبناء جلدتهم، وإلا استحقوا الرفض والطرد والإبعاد ووجب على كل من يهمهم أمر الإصلاح أن يقذفوا بهم من البلاد كيلا يفسدوها بمرضهم الوبائي الذي لا يقتصر على المبتلى، بل يتعداه بالسراية إلى كل مَن سواه. اهـ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الموسوعات)

ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَاوَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ [[*] المرشدون والمربون أو المتصوفة والصوفيون (5) الإسلام دين علَّم الناس أن يعتمدوا في سعادتهم الدنيوية والأخروية على أعمالهم النفسية والبدنية، وفضَّل أهل العمل والكسب على المنقطعين لعبادة الله المعتمدين في أمر معاشهم على من يمونهم من أهليهم أو غيرهم وأقام لكل قاصر وليًّا يتولى شؤونه ويعنى بتربيته، حتى يرشد ويقوى على العمل، وعند ذلك يدعه وشأنه، وجعل لكل عاجز قيمًا يتعهده وينفق عليه ويقوم بأمره الذي عليه مدار حياته، وجعل هذه الولاية والقيام في الأقربين؛ لأنهم أولى بالمعروف، وأقرب إلى العناية الصحيحة بأمر الصغير والعاجز، على ترتيبٍ معروفٍ في فن الفقه، فمن لم يكن له أقارب فعلى أهل وطنه من المسلمين الذين جعلهم الإسلام عائلة واحدة، وفرض عليهم القيام بأمر بعضهم، على ترتيب يراعى فيه الأقرب فالأقرب نسبًا وجوارًا ووطنًا وديناً. بل فاض عدل الإسلام وعمت رحمته فعلم الآخذين به أن يشملوا بعنايتهم هذه كل من تفيأ ظلالهم ودخل في سلطانهم من أي دين كان، فهو يحض على تربية اليتيم وإطعام الجائع وكسوة العاري واعتهاد الضعيف وتجهيز الميت من غير المسلمين إذا لم يوجد لهؤلاء أولياء من ذويهم وأقاربهم، وجعل ذلك حقًّا على المسلمين للذميين، على تفصيل يعرف من الفقه. ومن وظائف الحكام إلزام المسلمين بما ذكر مع مراعاة شروطه إذا هم قصروا فيه. وغرضنا من هذه الكلمات هنا بيان أن تعميم التربية واجب في الإسلام، وكما تجب تربية كل صغير حتى يكبر ويرشد، يجب الأخذ على يد كل كبير إذا اجترح السيئات واقترف المنكرات، أو أخل بالآداب العامة وعبث بمصالح الناس، وذلك بإلزامه بترك المنكر فعلاً أو إرشاده إلى ذلك قولاً. ومن أخل بهذا الواجب هبط إلى أسفل درج الإسلام وسقط في أضعف الإيمان الذي ليس بينه وبين الكفر إلا خطوة واحدة (إذ لا معنى لكونه أضعف الإيمان إلا هذا) وهذا على تقدير أنه ساخط على من فعل القبيح منكرًا له في قلبه، كما ورد في الحديث الشريف. وفرض مع هذا أيضًا القيام بالأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير وإنذار الناس بعواقب التفريط لعلهم يرجعون. على هذا كان الإسلام في مبدأ ظهوره، ولو ظل أهله على منهاجه القويم وصراطه المستقيم لما ضل أحد منهم عن سعادته، ولما أهمل أمر التربية والإرشاد من الكافة، انفردت به فئة من الناس سارت في الجادة زمنًا، وانحرفت عنها أزمانًا، وجعلت عنايتها في التربية الروحية فقط، وأفرطت في الزهادة، كما أفرط الذين من قبلهم، فأهملوا مصالح الدنيا ولم يوفوا البدن حقوقه، وذلك مما جاء الإسلام لتعديله … وبالجملة: إنهم حتى في طور كمالهم لم تكن تربيتهم وإرشادهم على الوجه الذي يكفل للأمة سعادة الدارين. ولذلك لم يتبع طريقتهم في كل عصر إلا بعض الناس، وصاروا فرقة مستقلة سميت الصوفية، عدها بعض المؤرخين من الفرق المشتقة من الإسلام المخالفة لسائر الفرق في الأصول، كالمعتزلة والشيعة وأهل السنة. وكيف لا وقد عاملهم فقهاء أهل السنة وحكامهم بأشد ما عاملوا به سائر الفرق، فحكموا ببدعة بعضهم وكفروا كثيرًا من أكابر شيوخهم وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، ثم غلوا بعد ذلك في تعظيمهم والتسليم الأعمى لهم غلوًّا كبيرًا. مَن هم الصوفية وما هو شأنهم؟ قال الإمام القشيري في رسالته ما حاصله: إن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتسم أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم سوى الصحابة، إذ لا أفضلية فوقها، ثم سمي من أدركهم التابعين، ثم من أدركهم تابعي التابعين، ثم تباينت المراتب، فقيل لخواص الناس ممن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزهاد والعباد، ثم ظهرت البدع وحصل التداعي من الفرق، فكل فريق ادعوا أن فيهم زهدًا، فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف، واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة اهـ. وقال العارف الشهاب السهروردي في عوارف المعارف بعد ما ذكر الصحابة والتابعين ما حاصله: (ثم لما بعُد عهد النبوة وتوارى نورها واختلفت أيضًا الآراء وكدر شرب العلوم شرب الأهوية، وتزعزعت أبنية المتقين، واضطربت عزائم الزاهدين، وغلبت الجهالات وكشف حجابها، وكثرت العادات وتملكت أربابها، وتزخرفت الدنيا وكثر خطابها - تفرد طائفة بأعمال صالحة وأحوال سَنية، واغتنموا العزلة واتخذوا لنفوسهم زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى، أسوة أهل الصُّفة، تاركين الأسباب، مبتهلين إلى رب الأرباب، فأثمر لهم صالح الأعمال وسَني الأحوال، وتهيأ صفاء الفهوم لقبول العلوم، وصار لهم بعد اللسان لسان وبعد العرفان عرفان، وبعد الإيمان إيمان، كما قال حارثة: (أصبحت مؤمنًا حقًّا) لما كوشف بمرتبة الإيمان غير ما عهد، فصار لهم بمقتضى ذلك علوم يعرفونها تعرب عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف من السلف، حتى صار رسمًا مستمرًّا وخبرًا مستقرًّا في كل عصر وزمان، فظهر هذا الاسم بينهم وتسموا به، فالاسم سمتهم والعلم بالله صفتهم والعبادة حليتهم والتقوى شعارهم وحقائق الحقيقة أسرارهم) اهـ أقول: يعلم من كلام هذين الإمامين في التصوف وغيرهما أن ما كانوا عليه لا يمكن أن تكون عليه الأمة بتمامها؛ لأن العزلة والانفراد وترك العمل للدنيا يفضي إلى ضعف الأمة واضمحلالها وينتهي ذلك بزوالها. وأنه قد تجددت لهم علوم ومعارف وأحوال لم تكن تعهد عند سلفهم من الصحابة والتابعين، وذلك كالكلام على ما وراء الحس والعقل من العوامل الغيبية، وهو ما يسمونه علم الأسرار، قال ابن الفارض رحمه الله تعالى: وثم وراء العقل علم يدق عن ... مدارك غايات العقول السليمة ولهم علوم كثيرة جدًّا تعلم أسماؤها من كتاب الفتوحات المكية، وإنما جاءهم ذلك من الرياضات والمجاهدات النفسية، والعناية بمعرفة ما انطوى عليه الروح الإنساني من الخواص والمزايا، والقوى الإدراكية والتأثيرية، ومن ذلك ما يسمونه الكشف والإمداد والتصرف بالهمة. ولقد سبقهم إلى ذلك فلاسفة اليونان والهنود، ولكن الصوفية وصلوا منه إلى غاية لم ينته إليها غيرهم. وكل هذا من علم أسرار الكون وطبائع الخلق، كالعلم بنواميس النور والكهربائية وخواصهما، ولكنه لما جاء بصبغة دينية من رجال الدين حدث عنه ما أشرنا إليه من حط الفقهاء والحُكام على أهله وتكفيرهم وسفك دمائهم، كما فعلوا مع الفلاسفة الذين بحثوا في بقية أسرار الخلق، وصبغوا علمهم بصبغة الدين وخلطوه بعلم العقائد الذي سموه (علم الكلام) وكان اضطهادهم للصوفية أشد من اضطهادهم للفلاسفة، كما يعلمه من قرأ التاريخ، وما ذلك إلا لأن علم الصوفية الغريب عن فهم الفقهاء أمَسُّ بالدين، بل هو ثمرة التمسك بفضائل الدين وآدابه، كما يقول عامة أصحابه، ولذلك مزجوه بالقرآن والسنة مزجًا، ولكن جاء بعضه مخالفًا لظاهر الشرع. ليس غرضنا من هذه المقالة بيان مواضع الخلاف بين الفقهاء والصوفية، ولا بيان الصواب والخطأ في ذلك، وإنما نقول إن الصوفية انفردوا بركن عظيم من أركان الدين، وهو التهذيب علمًا وتخلقًا وتحققًا، ولم يكن أمرهم في أول العهد إلا عملًا صالحًا وتخلقًا بالأخلاق الفاضلة. ثم لما دونت العلوم في الملة كتب شيوخ هذه الطائفة في الأخلاق ومحاسبة النفس، فجاءوا بما قصرت عنه الفلاسفة الأولون، ثم حدث فيهم الخوض في الكلام على ما وراء الحجاب، وشرح ما تنتجه المجاهدة من الأذواق والمواجد وعجائب الخيال، ومزجوا كلامهم بالفلسفة العقلية والطبيعية والعلمية، وسلكوا في فهم القرآن مسلك طوائف الباطنية الذين كانوا أعظم صدمة على الإسلام، فذهبوا إلى أن للقرآن معاني غير ما تعطيه اللغة وأساليبها وإشاراتها، وزعم الباطنية أنها هي المقصود بالذات، وقد جاء الصوفية من ذلك بالصحيح والفاسد والباطل الذي ينابذ القرآن والدين بالكلية، وقد ورد في حسان الأخبار وصحاحها: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) والمراد برأيه هواه الذي يؤيد مذهبه. نعم، إن لبعض الصوفية فهمًا في القرآن ترقص له العقول، وتعجز عنه العلماء الفحول، وقد أنكر الإمام الغزالي على المتصوفة نحو تأويل فرعون بالقلب القاسي، والاحتجاج على مجاهدته بقوله تعالى {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه: 24) وإن كان الغرض به صحيحًا، ولهم من تحريف الكلم عن مواضعه ما هو أشد من هذا كقول بعضهم في قوله تعالى: {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (النمل: 34) : الملوك هي الله (تعالى عن ذلك) ، والقرية: (القلب) والإفساد: تبديل الصفات المذمومة بالممدوحة، وكقول بعضهم في قوله تعالى {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِه} (البقرة: 255) : من ذل ذي يشفع، أي: من أذل نفسه ينال مقام الشفاعة عند الله تعالى. وقد قال ابن الصلاح الفقيه الشهير في فتاويه: وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي المفسر أنه قال: صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير، فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر، ثم قال: وأنا أقول: إن الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئًا من ذلك أنه لم يقله تفسيراً، ولا ذهب مذهب الشرح للكلمة، فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك منهم تنظير ما ورد به القرآن والنظير يذكر بالنظير، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا بمثل ذلك؛ لما فيه من الإيهام والإلباس اهـ أقول: وقد وقع بالفعل الالتباس فضلّ به كثير من الناس، وما كان من غرائب الصوفية صحيح المعنى في ذاته كان خطوة موصلة لأباطيل الباطنية عند غير البصير المحقق، والذي يدرك الفرق قليل، والتفسير المطبوع المنسوب لسيدي الشيخ الأكبر هو لبعض الباطنية، وفيه من تحريف القرآن ما لم يأت بمثله محرفو التوراة، ومع ذلك تزين به المكاتب وتحترمه العلماء، وقد قال العلامة النسفي في عقائده: النصوص على ظواهرها، والعدول عنها إلى معانٍ يدعيها أهل الباطن إلحاد. قال العلامة التفتازاني: وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية. هذا من شر ما ترتب على مذهب التصوف من مضرة الأمة، وهو ما ذكرناه أولاً من الإفراط في الزهادة وترك الفعل للدنيا، وقد نفر أهل العلم والتعليم من النظر في كتبهم، لا سيما في هذا الزمان. ومن العجيب أن أهل هذا العصر يقدسون شيوخ الصوفية ولا يعترضون على أحد منهم، ولا على شيء من عادات أهل طرائقهم، وإن كان بدعة وضلالاً، بل يقيمون النكير على من أنكر عليهم ولو بالحق، ومع ذلك لا يلتفتون لكتبهم ولا يتدارسونها، وإن كانت لأئمتهم الذين جمعوا بين علمي الظاهر والباطن زعمًا أن هذه كماليات لا يطالعها إلا من أراد أن يتفرغ لها! وبذلك اندرس علم تهذيب الأخلاق الذي هو روح الدين وقوامه، لأنه لا يوجد إلا في كتبهم وكتب الفلاسفة، وكتبهم هي التي تذكره على الطريقة الدينية. أليس من العجيب أن الأزهر - أعظم المدارس الدينية عند المسلمين - لا يُقرأ فيه علم تهذيب الأخلاق الذي لا دين بخلافه؟ إنني كنت أطالع في كتب الأخلاق والتصوف قبل طلب العلم، وكنت مولعًا بها، وأذكر أنني قلت لبعض شيوخنا: اقرأ لنا الجزء الثالث من إحياء علوم الدين بدلاً من مقامات الحريري القليلة الجدوى، فأبى علي ذل

شبهة وجوابها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهة وجوابها ورد علينا رقيم من بعض قارئي جريدتنا، انتقد فيه صاحبه ما كتبناه في شؤون الخلفاء وسيئاتهم وتقصيرهم في وظيفتهم الدينية، ونصحنا بأن لا نعود إلى الخوض في مثل هذه المواضيع؛ لأن كتابتها في جريدة سيارة يطلع عليها الأجانب وأعداؤنا وأعداء ديننا فيشمتون فينا ويتخذونها حجة علينا. والجواب عن هذه الشبهة من وجهين: أولهما: أن ما كتبناه في ذلك هو قطرة من بحار التاريخ الزاخرة عند أولئك الأجانب أو الأعداء الذين يعنيهم المنتقد، فإذا سكتنا عنه فسكوتنا كتمان له عن أبناء ملتنا الذين يجهله أكثرهم لإهمالهم علم التاريخ وظنهم أنه لا فائدة فيه إلا التسلية، بل سمعت بعض الشيوخ الذين يدعون الفقه يقول: إن قراءة التاريخ مكروهة؛ لأن فيه كذبًا. وتعليله هذا يقتضي أن قراءة أكثر كتب الحديث والتفسير مكروهة؛ لأن فيها أحاديث موضوعة وضعيفة ومنكرة، وقصصًا كاذبة باطلة، بل لا يبعد أن يقال على ذلك: إن قراءتها محرمة؛ لأن الكذب في تفسير كتاب الله تعالى، والاختلاق على نبيه من أعظم الكبائر، لا يقاس بها الكذب في سيرة ملك أو حاكم أو خليفة أو عالم. وفي كتب الفقه التي يشغل بها المتفقه المذكور كثير من الأقوال الباطلة التي لا يصح العمل ولا الإفتاء بها، والصواب أن شوب الحق بشيء من الباطل لا يقتضي ترك الحق، وإنما يقتضي النظر الدقيق والتمحيص ليخرج الحق من بين الأباطيل، كما يخرج اللبن من فرث ودم خالصًا للشاربين. وإنما ذكرنا هذا لنبين لحضرة المنتقد قول شيوخنا في التاريخ الذي هو من أشد المنفرات عنه، ليعلم مقدار حاجتنا إلى استخراج فوائده وعرضها على أمتنا وإشعارهم أنهم لا يمكن لهم الوقوف على حقيقة مرض الأمم إلا منها، ومن لم يعرف مرضه لا يسعى لعلاجه وإذا سعى فإن سعيه يكون عبثًا وضلالاً، بل خيبة ونكالاً، وما مثلنا مع الأجانب الذين يرتأي أصحاب الأفكار الضعيفة أن نستر ضعفنا عنهم بأسبابه ونتائجه إلا مثل النعامة التي ترى الصياد يريد اقتناصها فتخبئ رأسها وتستره لكيلا تراه، توهمًا أن عماها عنه يوجب عماه عنها، وأن ذلك عين النجاة، وحرام على من يجهل تاريخ الغابر وحالة العصر الحاضر أن يقول: هذا شيء يضر الأمة، وهذا شيء ينفعها، وقد منينا - والصبر بالله - بقوم جهلاء في ثياب علماء يغشون الأمة، ويغررون بها، توهمًا أن كل من يقرأ تنازع العوامل في النحو يعلم تنازع الأمم، وكل من يعرف أحوال تقديم المسند والمسند إليه وتأخيرهما يعرف أسباب تقدم الأمة وتأخرها، وكل من تصدر للفتوى في مسائل الرضاع والطلاق وصحة الإجارة والسلم له أن يفتي في صحة الشعوب من أمراضها، وإطلاقها من وثاقها، بل وقعنا في فوضوية الأفكار والعلم، فصار كل فرد منا مِعنًّا مِفنًّا [1] ، ولا برهان يتوكأ عليه، ولا رئيس يرجع إليه. سياسة السواد الأعظم منا اليوم هي كتمان الأمراض والسيئات، وإن انتهى ذلك بالممات، وتكبير ما عساه يوجد من حسنة حتى تكون الحبة قبة والذرة جبلاً، بل اختلاق الحسنات، والكذب فيها على الأحياء والأموات، لتسبح الأمة في بحر الغرور إلى أن تهلك وتبور، وقد رأينا من سير الأمم الحية أن كتابها وخطباءها يملأون الدنيا صراخًا وعويلاً إذا صدر من أمتهم سيئة، ويهولون أمر تلك السيئة بما يزعجون به إلى إزالتها، وربما يخفون الحسنات، ولا سيما الاستعداد الحربي لما لا يخفى من الأسباب. (الوجه الثاني) : أن كل مما نكتبه في الانتقاد على خلفاء المسلمين وأمرائهم وعلمائهم وأهل الطرق وجميع رجال الدين، غرضنا الأول به بيان براءة الدين الإسلامي نفسه مما يرميه به أعداء المسلمين من الأوروبيين الذين يزعمون أن جميع ما حل بهم من الضعف والضعة والظلم والاستبداد وفساد الأخلاق واختلال الأعمال الذي يكاد يمحو سلطتهم من لوح البسيطة ويجعلهم أذل الشعوب وأفقرها - كل ذلك ما حل بهم إلا بسبب دينهم، فهو الذي جر إليهم البلاء، وطوحهم في مهاوي الشقاء، والحق أن هذا البلاء والشقاء ما جاءهم إلا من الانحراف عن الدين، وما كانت أمة لتنحرف عن دينها دفعة واحدة، وإنما يكون ذلك بالتدريج، ينحرف الرؤساء والأمراء فتؤوّل لهم العلماء - علماء السوء - فتتبعهم الدهماء، وهكذا كان شأن الذين جاءوا من قبلنا واتبعنا سننهم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، ولا يتم ذلك إلا بعدة قرون. لا ريب أن إظهار براءة الدين برمي أهله - رؤسائهم ومرءوسيهم - بالتقصير فيه والميل عن هديه، هو أعظم خدمة له ولأهله، وإلا كان النقد بل النقض موجهًا للأصل والفرع معًا، وما يعقلها إلا العالمون. ويدخل في تبرئة الدين مما ذكر بيان أنه أساس للسعادة متين، لا يمكن أن يقوم صرح مجد أهله إلا عليه خلافًا لمن أعشى أبصارهم شعاع مدنية أوروبا فرأوا أن التقليد الأعمى لها هو الذي ينهض بالأمة. وهل زادنا هذا التقليد الأعمى إلا شقاء وتعاسة؟ هل نهضت أمم أوروبا إلا باستقلال الفكر والإرادة، واتفاق الكلمة، والجد في العمل، والاعتماد على النفس في الأعمال الكسبية، مع الاعتقاد بأنه لا قوة ولا سلطان وراء ما يحس به ويعلمه الناس إلا الله تعالى وحده؟ وهذا عين ما جاء به القرآن وقرره الإسلام. واعترف بعض المنصفين من علماء أوروبا وحكمائها بأن نشأة مدنيتها الحديثة إنما كان رشاشًا من نور الإسلام فاض عليها من الأندلس بأيدي تلامذة ابن رشد الفيلسوف الإسلامي، ومن صفحات الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين في الغرب والشرق. والغرض الآخر من انتقاداتنا: النصيحة لرؤسائنا اليوم أن يتداركوا ما فرط من بعض سلفهم، ويصلحوا ما فسد من أمور أنفسهم، ويعطوا وظائفهم حقها ويسيروا بالأمة في المنهاج الذي نهجه الله تعالى لها والله على ما نقول وكيل.

المنار في بلاد البرازيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار في بلاد البرازيل نقدم خالص الشكر لرفيقتنا جريدة الأصمعي الغراء على تنويهها بشأن جريدتنا وتكرار الثناء عليها، مما يزيد النزالة السورية في بلاد البرازيل رغبة فيها، كما نشكر أبناء وطننا السوريين في تلك البلاد على مؤازرتنا، فلقد أقبلوا على الجريدة مع أنهم مسيحيون ومشرب الجريدة إسلامي، لكنها تحترم الدين المطلق، وتقرر أنه مبعث أشعة الفضائل والكمالات، وأن الرجوع إلى تعاليمه الصحيحة، لا سيما مواعظ القرآن والإنجيل هو الذي يجمع القلوب على الاتفاق والائتلاف المؤدي إلى سعادة الأوطان، والانحراف عن ذلك ميلاً مع ريح السياسات الأوروبية هو الذي يلقي العداوة والبغضاء في النفوس بحجة الدين، كما هو مشاهد في كل مكان ثبتت فيه أقدامهم وانبثت فيه تعاليمهم. ويسرنا أن نرى العقلاء من العثمانيين وعلى الخصوص المسلمين والمسيحيين قد تنبهوا لهذا الأمر، وقد قام الكتاب يسعون في نشره بين الناس وتقريره في عقولهم، وقد امتازت جريدتنا بكثرة الخوض في هذا الموضوع والاجتهاد في إقناع الأمة العثمانية به واعترف لها بهذه المزية المسلمون والنصارى، فقد قالت جريدة المقتطف الشهيرة: إن الجرائد العربية النافعة للأمة قليلة جدًّا والمنار منها. وقد قرأنا في العدد 15 من جريدة الأصمعي الغراء التي ذكرناها في صدر هذه النبذة ما نصه: (المنار أحسن جريدة في جرائد الإسلام، كنا نطالع أعدادها منذ صدورها بإمعان فلا نجد إلا كل مقالة بليغة مملوءة بالأقوال الحكيمة الفلسفية، مما يدل على اقتدار صاحبها وتمكنه من العلم، وقد حمل على عاتقه - وفقه الله - أن يبث في صدور أهل الشرق من الإسلام روح التهذيب الحقيقي، وأن ينسخ من عقولهم الخرافات والأضاليل، وربما أنشأنا مقالة عن قريب عنوانها (جرائد الإسلام والمنار) . (وفي العدد الأخير منها (يعني 17) مقالة عنوانها: (الجيوش الغربية المعنوية في الفتوحات الشرقية) بالغة منتهى الإعجاز من منطق العقل وحسن السبك، ذهب فيها إلى أن الجيوش المعنوية هي الخمر والميسر والربا والبغاء والتجارة، خمسة فيالق أدخلها الغرب إلى الشرق ففاز عليه الفوز المبين، وقد شرح مفصلاً عن كل فيلق منها فوفاه حقه، ويا ليت أن دولتنا العلية أيدها الله تصم أذنها عن أقوال الوشاة، وتسمح لهذه الجريدة النادرة المثال أن يدوم دخولها إلى بلادها، فقد قرأنا فيها أنهم يسعون في منعها) اهـ. فتأملوا رعاكم الله أيها القراء هذا الإنصاف والبعد عن التعصب، فهكذا ينبغي الاتفاق والائتلاف والتعاون على خدمة الأوطان، لا سيما من أرباب الجرائد الذين نصبوا أنفسهم للخدمة العامة، فحسبنا ما رأيناه من العبر في الخلاف والخصام.

الإصلاح في الدولة العلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح في الدولة العلية تولدت جراثيم الضعف في الدولة العلية العثمانية في عهد السلطان سليمان القانوني (رحمه الله تعالى) الذي بلغت الدولة في عهده أعلى مراقي القوة والعزة، ومن مائتي سنة إلى الآن يظهر الضعف في الدولة شيئًا فشيئًا، وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، كيف وقد اعترف بها السلطان عبد المجيد عليه الرحمة واجتهد في الإصلاح وخط كلخانة شاهد رسمي على ذلك، واعترف بها أيضًا مولانا وخليفتنا السلطان الحالي عبد الحميد خان أيده الله تعالى ونصره في النطق الشريف الذي ألقاه على مجلس المبعوثان عند تأسيسه، وذلك شاهد رسمي آخر، وقد فصل جودت باشا في تاريخه الخلل بعلله وأسبابه، وهو تاريخ يُستقى من دفاتر الحكومة وأوراقها الرسمية. صدمت الدولة العلية في هذين القرنين صدمات شديدة، ما كانت دولة أخرى لتقوى على احتمالها في نهاية قوتها، فجميع الدول الأوروبية القوية خصيماتها يتربصن بها الدوائر، ويعاملنها بالمكر والخداع والمخاتلة، ورعاياها مؤلفة من ملل وأجناس لا توجد في مملكة من ممالك الأرض، وهم باستيلاء الجهل عليهم ألاعيب في يد أوروبا تحركها متى شاءت، فلا جرم كانت سياستها أصعب سياسة في العالم: جهل وفقر في الرعية، وضعف في الدولة، وأعداء أقوياء في الخارج. إذا تمهد هذا فاعلم أن مولانا السلطان الأعظم قد حمل على عاتقه حملاً لا تستطيعه أمة بمجموعها، ومن ثم ألف أحد الأمريكيين رسالة في مناقبه موضوعها: (هل ينهض بأعباء أمة عظيمة رجل واحد) وقد ظهر كتاب جديد في مناقبه لأحد الألمان أتى فيه بالعجب العجاب، وسننشر نبذًا منه في بعض الفرص إن شاء الله تعالى، والمشهور من سياساته الحكيمة في الشؤون الخارجية أكثر من الشؤون الداخلية، فإنه حفظه الله تعالى مقاوم بشخصه الكريم لأوروبا كلها، والمنتقدون على سياسته ينسبون لها التقصير في إصلاح داخلية المملكة، مع أنه قد أجرى فيها ما تعْلمه من الكتاب الذي ننشره تباعًا تحت عنوان (قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني) لكن الذي يذهب ببهاء هذه الإصلاحات والأعمال الجليلة، العمال والحكام الخائنون، وهم كثيرون في الدولة جدًّا، وما كان السلطان ليقدر على تقويم الأفكار وإصلاح النفوس في سنة أو سنين، وإنما يحتاج هذا إلى عناية عظيمة بتعميم التربية والتعليم على أحسن الطرق وأفيدها، وفي ذلك الضمان الكافي لإصلاح المستقبل، وسنشرح رأينا في الإصلاح في اقتراح نرفعه إلى مقام الخلافة على صفحات هذه الجريدة، وقد أنبأنا البرق في هذه الأيام بأن سماحتلو شيخ الإسلام ودولتلو ناظر العدلية قد رفعا للحضرة السلطانية عريضة يلتمسون فيها الإصلاح الذي تضطر إليه الدولة في هذه الأوقات الحرجة، ولعل هذا لا يتم إلا بانتقاء الرجال الفضلاء الصادقين وتقليدهم الوظائف، وإلقاء التبعة عليهم في كل ما يوجبها، وإن في الدولة رجالاً قادرين صادقين، كما أن فيها قومًا ظالمين، وهكذا شأن كل الأمم، وشيخ الإسلام وناظر العدلية بيدهما زمام القضاء الذي هو أساس الإصلاح المتين وركنه الركين، فعسى أن يبدآ بالإصلاح القضائي ومولانا يساعدهما عليه بغير ريب، وقد تعلقت إرادته بتأليف لجنة برياسة ناظر المالية تبحث في شؤونها، ويتلو ذلك البحث في الأعمال الإدارية والمعارف إن شاء الله [*] .

أخبار تونسية ملخصة من جريدة الحاضرة الغراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار تونسية ملخصة من جريدة الحاضرة الغراء بواعث التحصيل لا يخفى أن المرء بكماله لا بجماله، وأن فضل الأدب أسمى وأجل من فضل النسب، وأن منهل العلوم ومورد الكمالات يسعى إليه من كل صوب وحدب، وجريًا على هذه القاعدة قد قررت الحكومة المحمدية أن لا يتولى الوظائف الإدارية في المستقبل إلا من توفرت فيه شروط اللياقة والأهلية، فزيادة على تحصيل العلوم الغربية يتعين على طالب الوظيفة أن يبرهن على إحرازه الملكة الكافية في تثقيف الذهن بالفنون الوقتية من العقلية والنقلية التي اقتضتها الظروف الحالية، كالجغرافيا والحساب والتاريخ، ولا شك أن هذا التنظيم من بواعث التنشيط على اقتناء الكمالات والمعارف النافعة، ولذلك نحث عموم الشبان التونسيين الذين يقصدون الانخراط في سلك الخدمات الإدارية أن يقبلوا على مناهل التعليم بجد وهمة تمكنهم من إحراز قصبة السبق في هذا الميدان، وهذا نص الأمر العالي الصادر في هذا الشأن: من عبد الله - سبحانه - المتوكل عليه، المفوض جميع الأمور إليه: علي باشا باي - صاحب المملكة التونسية، سدد الله تعالى أعماله، وبلغه آماله - إلى من يقف على أمرنا هذا من الخاصة والعامة: أما بعد، فبناء على أنه من اللازم أن تكون للمستخدمين المسلمين بسائر الإدارات التونسية معارف عمومية في علم الحساب والتاريخ والجغرافيا، وبمقتضى ما قرره مدير العلوم والمعارف وتقرر من وزيرنا الأكبر - أصدرنا أمرنا هذا بما يأتي: (الفصل الأول) جعلنا شهادة في المعارف العملية يقع إعطاؤها عقب امتحان يشتمل قانونه على المواد المذكورة في الفصل الثالث. (الفصل الثاني) الأنفار الحائزون على هذه الشهادة يفضَّلون على غيرهم من المترشحين الغير المحصلين على غيرها من الشهادات التي تراها الدولة مساوية لها، وبقطع النظر عن الامتحانات الفنية، وذلك للحصول على الخطط الآتي ذكرها: خطة الخلفاء، وخطة مستخدمي إدارة المال، وإدارة الأداءات، وجمعية الأوقاف، وخطة الوكالة، وخطة حكام بالمجالس العدلية. (الفصل الثالث) يشتمل قانون المعارف على المواد الآتي ذكرها: علم الحساب: العمليات الأربع والكسور العشرية والكسور الاعتيادية وقاعدة الثلاث وقاعدة الشركة والنسب والطريقة الميترية ومكاييل المساحة والجرام. علم الهندسة: القواعد الابتدائية والعملية وقواعد المساحة علم الجغرافيا - جغرافيا أقطار الدنيا الخمسة الابتدائية، وجغرافيا حائط البحر المتوسط من حيث الطبيعة والسياسة والثروة، وجغرافيا القطر التونسي والجزائر منفصلة. علم التاريخ: تاريخ شمال إفريقيا والقطر التونسي خصوصًا، وتاريخ التمدن الأورباوي ملخصًا، وتاريخ العرب. اهـ باختصار.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ أهدانا حضرة الفاضل الكامل سيدي محمد بن الخوجة، رئيس قلم الحساب في الدولة التونسية كتابًا نفيسًا، جمعه بأمر حكومته السَّنية، يشتمل على سبع رسائل مفيدة، ألفها أكابر مشايخ الإسلام من السادة الحنفية والسادة المالكية في مسائل الإنزالات والخلوات والكردار، وما يتبع ذلك من النصبة والجلسة والحزقة وبيع الوقف الخرب، وقد حررت هذه المسائل في تلك الرسائل تحريراً، جعل المهدي الفاضل هديته هذه (صلة الأدب ورابطة الوداد الخالص) بمنشئ هذه الجريدة، ووصفنا بما هو أهل له من خدمة الملة والدين، فنشكر لهذا الوديد الجديد هديته، ونستمسك مخلصين بعروة صلته.

الإصلاح المطلوب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح المطلوب [*] يجب على مَن يتكلم في الإصلاح أن يكون على علم بوجوه الإفساد ومثاراتها في الأمة التي يبحث في إصلاحها، وإلا خبط خبط عشواء، فإن اتفقت له الإصابة في بعض كلامه فرمية من غير رامٍ، وإن أخطأ فهو ما ينتظر منه. وقد قلنا في مقالة سابقة: إنه يحرم على من يجهل تاريخ أمة أن يقول: هذا شيء يضرها، وهذا ينفعها. وها نحن أولاء نأتي بمجمل من خبر الخلل الذي طرأ على الدولة العلية قبل الكلام على الإصلاح الواجب، نستقي ذلك من تاريخ جودت باشا الذي يعتبر تاريخًا رسميًّا للدولة العلية، كما علمت من العدد الماضي، ولذلك نعتقد أن الدولة العلية لا تستاء من بحثنا هذا؛ لأن التاريخ المذكور منتشر في جميع البلاد العثمانية، وهو من جملة الكتب التي أهداها مولانا السلطان الأعظم عبد الحميد خان أيده الله تعالى لمكتبة المدرسة الحميدية في عكار، وفي ذلك دليل على أنه يرضى بأن يدرس لطلاب العلم. وهذا يدحض ما يزعمه بعض الكتاب وأصحاب الجرائد من كراهة مولانا السلطان دراسة أحوال الدولة العلية ومعرفة الخلل الذي طرأ عليها [**] . فصل جودت باشا - رحمه الله تعالى - في الفصل الخامس من الجزء الأول من تاريخه أخبار الخلل الذي طرأ على قوانين الدولة العلية، فرماها بالضعف الذي هي عليه، وبين أسباب ذلك وعلله، فنقتطف من ذلك ما ترى ملخصًا: لما بلغت الدولة على عهد السلطان سليمان القانوني (رحمه الله تعالى) درجة الكمال في القوة البرية والبحرية وفي الإدارة، احتجب السلطان وترك حضور الديوان والسفر إلى الحرب، فضعف اهتمامه بالأمور وقلَّ اطلاعه على الحقائق، وبعد ما رتب قوانين الدولة أحسن ترتيب كان هو أول من خالف النظام وتلاعب بالأحكام، فكانت سنة سيئة فيمن جاء من بعده وهاك أنموذجًا من ذلك: المناصب الملكية والعسكرية: كان منصب الصدارة العظمى لا يناط إلا بأهله الذين تنقلوا في مراتب الأعمال تدريجًا من الألوية إلى الولايات الأناضولية، ثم الروملية، ومن ذلك إلى رتبة الوزارة مع العفة والاستقامة، فخالف السلطان سليمان نفسه هذا النظام، فجعل إبراهيم أغا (خاص أو طه جي) صدرًا أعظم، وهو ممن تربى في القصر السلطاني لا في مناصب الدولة، فطفق خلفاء السلطان سليمان يلقون مقاليد الوزارة لمن أحبوا من الشبان الأغرار الجهلاء فاقدي التربية، ولاغترار هؤلاء بإقبال السلاطين عليهم كانوا يعرضون عن الاستشارة ويستنكفون أن يستفيدوا من العارفين وما كانوا يراعون القوانين، بل يسيرون بحسب أهوائهم (قال جودت) : وذلك مخالف للقاعدة الكلية المبنية على منطوق آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) فصارت الأمور تجري على الرغائب، واختل بذلك نظام الدولة وتبدلت قوتها ضعفًا، وكذلك الشأن في أمراء الألوية وأمراء الإمارات (الذين يسمون اليوم متصرفين وولاة) ولم يكن يعزل أحد من غير ذنب، ولذلك كانت تنحصر قواهم في أعمالهم فيتقنونها. كان أصحاب التيمار والزعامة (الأول من يبلغ راتبه من ثلاثة آلاف درهم إلى عشرين ألفاً، والثاني من كان راتبه فوق ذلك) من ذوى الوجاهة والمستحقين الذين يقومون بحماية الأمة والدولة، ويأخذون المال المرتب لهم بحق، ولما ولَّى السلطان سليمان القانوني خسرو باشا منصب إمارة الأمراء من غير استحقاق ولا أهلية؛ لأنه لم يكن له عمل قبل ذلك إلا ذوق طعام السلطان قبل إحضاره له، ابتدع هذا الباشا الذواق بدعة توجيه التيمار بالرشوة، وناهيك بمضرتها، وكان أمراء الأمراء من قبله يوجهون التيمار المحلول إلى مستحقيه، وتصدر الإرادة السنية بتنفيذ ذلك، ولا يوجه التيمار أو زيادته من دار السعادة ابتداء، بل بمقتضى توقيع أمير الأمراء. كان السلطان ووزراؤه يتذاكرون في شؤون الدولة وينفذون الأعمال من غير دخول أحد بينهم، فصار ندماء السلطان - مراد الثالث والمقربون إليه - يتعرضون لمصالح الدولة ويكلفون الصدر الأعظم بأمور غير معقولة، فإذا لم يجب طلبهم يكيدون له عند السلطان بالمحْل والسعاية، وكانوا يتوصلون بذلك إلى قتل الصدور ونفيهم، وكان أولئك المقربون لا يبالون بما يفعلون، فاضطر الصدور لاتباعهم ومجاراتهم على أهوائهم فتمادوا في طغيانهم. كان الوزراء ينشأون في تعلم الفنون الحربية والتمرن عليها من الصغر، ويحضرون الحرب بأنفسهم، فارتقى بذلك قوادهم (كالسردارية والسرعسكرية) إلى أعلى الدرجات من المهارة، ثم جعل السلطان هذه المناصب في جماعة من رجال حاشيته الجهلاء، فاختل بذلك نظام التمرن الحربي، وسرى الفساد في جسم القوة العسكرية. كان قانون الإنكشارية (الذين كانت الدولة ترعب بهم دول الأرض) قاضيًا بأن جنودهم لا تنتظم إلا من الأولاد المقيمين في الثكنات المخصوصة المختارين لذلك، وفي سنة 900 حشر الناس من البلاد لحضور الاحتفال بختان نجل السلطان محمد، ورغب جماعة من الأجلاف الانتظام في سلك الإنكشارية لزيادة الفرح فصدرت الإرادة بذلك، وانتدب أوهاد آغا رئيس الإنكشارية لتنفيذها، فشاور في ذلك رؤساء قومه، فقالوا: إن هذا مخالف للقانون ومضر بالدولة العلية، واتفقوا على عدم قبولهم، فألح بعض الندماء والمقربين الذين لم يتأملوا عواقب الأمور بتنفيذ ذلك، فصدرت به الإرادة السنية ثانيًا، ففضل فرهاد آغا الاستقالة على هذه الرئاسة الخائنة (هكذا هكذا تكون الفضلاء والأمناء) وتولى مكانه يوسف آغا فأدخلهم، فدخل بذلك الخلل في هذا السلك، فقطع عروته ونثر منظومه، حيث صار يدخل فيه من لا يعرف له أصل ولا وصف، وصارت علوفتهم وأرزاقهم تجري على خدم المقربين والوزراء، وصار معاش التقاعد الذي كان يعطى للشيوخ والعاجزين يعطى للشبان والأقوياء، وكثر عديد الإنكشارية بهذا الخلل، حتى عجزت الدولة عن كفايتهم، ولما كان هؤلاء الخدم والأتباع الذين يأخذون الأموال والمعاشات التقاعدية لا يحضرون الحرب ولا يقومون بالخفارة، اضطرت الدولة إلى استئجار خفراء، ففقدت رجال الحرب الذين كانت الدول تضرب بهم هذا المثل: (يجب على من يكافح العثمانيين أن تكون رجلاه من رصاص ويداه من حديد) . كان نظام أصحاب الزعامة والتيمار ونسق الفرسان (النسق - محركة - ما كان على نظام واحد من كل شيء ويسمى نسق العسكر بالتركية: وجاق) محفوظًا من الدخيل والأجنبي عنها إلى سنة 992 تولى عثمان باشا سردار إيران ابن أوزدمير، فأدخل في ذلك جماعة أراد نفعهم لاستحقاقهم، فسن بذلك سنة عادت بالخلل على النظام، وصارت مرتبات هؤلاء كمرتبات الانكشارية عرضة للنهب والسلب، وزاد عدد العساكر الذين يأخذون المرتبات وسائر الطوائف من أصحاب العلوفة فاضطرت الدولة إلى زيادة الإتاوات والرسوم الأميرية، فكان ذلك مدعاة الظلم والاعتداء وانتهى بفقر الأهالي وخراب البلاد. كان من مقتضى القانون أن يكون أرباب التيمار والزعامة من أهل البلاد في الألوية، فلما منحهما السلطان مراد الثالث لخدمة الوزراء ساءت الحال وجرت الأرزاق على المجهولين ممن لا عمل له، ولم يجد أرباب الاستحقاق سبيلاً للشكوى في دار السعادة لأن العلة من هناك، وطغى المقربون من هذا السلطان وندماؤه، فاغتصبوا بعض القرى والمزارع التي كانت خاصة بالغزاة والمجاهدين وتسمى (أربه لق) ولما فاض ينبوع ثروتهم أفاضوا منه على أتباعهم وحواشيهم، وتأسى بهم وكلاء الدولة، فصار الفريقان يوجهون التيمار والزعامة المحلولة إلى من ذكرنا وبعضها ألحق بالأملاك الهمايونية (الأراضي السلطانية) وبعضها خصص لتقاعد أناس صحيحي الأبدان، وقسم اغتصبه أرباب الوجاهة فضموه إلى أملاكهم وسموه بغير اسمه، وصار يناله كل أحد، حتى أهل الدعابة (المساخر والمهرجون) وبعضها قيد بأسماء خدمهم ومماليكهم ببراءات سلطانية، وبعضها جعله الندماء والمقربون وسائر الحاشية وقفًا لجهات مختلفة (قال جودت) : مع أن وقف هذه الأراضي لا يجوز مطلقًا؛ لأنها من حقوق المجاهدين والغزاة، وبدعة وقف الأراضي السلطانية قد ظهرت في أيام السلطان سليمان؛ فإنه عندما جعل صهره رستم باشا صدرًا أعظم ملكه بعض القرى التي فتحها أجداده، فجعلها هذا الباشا وقفًا على جهات مختلفة. وأطال في ذلك بما بين به أن ذلك كان وسيلة لإضاعة حقوق بيت المال (وكم جعل الوقف ذريعة لأكل حقوق بيت المال وحقوق الناس في غير الدولة العثمانية أيضًا) حيث اقتدى برستم باشا في ذلك من جاء بعده وأضاعوا حقوق المجاهدين، وانقرض بذلك أصحاب التيمار والزعامة انقراضًا، واضمحلت القوة العسكرية العظيمة، وكان من أثر ذلك زوال اعتبار الفرمانات السلطانية من النفوس بعد ما كانت تحترم احترامًا عظيمًا. ولما نقص ريع بيت المال لما ذكرنا أحدث رستم باشا السابق ذكره بدعة التزام الأموال الأميرية لأجل زيادتها، فأعرض أرباب العفة والأمانة المتمسكين بالدين عن الالتزام، وتهافت عليه الأسافل الفاسدو الأخلاق، فكان ذلك سببًا آخر لخراب الأقطاع والأملاك الهمايونية، فعم الاعتداء وخربت المدن وافتقر الزراع الذين هم خزانة الدولة الحقيقية. ولم تكتب حاشية السلطان بقطع رواتب الغزاة، بل فتحوا باب الرشوة على الشفاعة بتوجيه إمارة الولايات والألوية وسائر المناصب إلى من يبذل لهم، وما كانت شفاعتهم عند الصدر الأعظم إلا أمرًا مطاعًا، كما علمت، فتقدم الأشرار وتأخر الأخيار، ولم يبق للرتب قدر ولا اعتبار، وكثرت أصحاب المناصب والرتب من كل فسل ذميم ونذل لئيم، وكثر الجور والتعدي بكثرتهم، حتى انتهى بما تعلم. فتبين مما شرحناه أن أسباب الخلل والفساد ترجع كلها إلى أصل واحد، وهو حاشية السلطان وخاصته. أما أمر الإسراف والتبذير والانغماس في النعيم، المتولدة جراثيمه في عهد السلطان سليمان (رحمه الله تعالى) ثم سرت في جميع طبقات الأمة، فمما لا يتعلق بغرضنا شرحه الآن. ومن المسلمات أن الترف هو الذي أباد الأمم السالفة، وأنه لا نجاة للأمم منه إلا بتعميم التربية والتعليم اللذين اهتدى إليهما الغربيون في هذا الزمن، وإذا انضم إلى ذلك الاعتصام بعروة الدين الحق والتأدب بآدابه الصحيحة، فهنالك الكمال والأمان من الزوال ما دامت الأمة متمسكة بعروة الحق وقائمه بالشكر {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) . الرتب والمناصب العلمية: كان السلاطين العثمانيون يبذلون العناية في ترويج العلوم والمعارف، ولما فتح السلطان محمد القسطنطينية جعلها موئل العلماء والأدباء بما سهل من سبل العلم وما عمل لترقيته، ثم لما جاء السلطان سليمان خدم العلم ووسع دائرته بزيادة نشر الفنون الرياضية والطبية، فهو الذي أنشأ مدرسة مخصوصة للطب وأنشأ بجوارها مستشفى (اسبتالية) ولم تكن أوروبا لذلك العهد تعرف هذا. وكانت رتب المدرسين 12 رتبة لا يرقى أحد إلى رتبة منها إلا بعد تمكنه من التي دونها، وبذلك كانت المناصب العلمية في أهلها، وكانت حرمة العلماء محفوظة، حتى إذا قال أحدهم: هذا حكم الله، خضعت له الرقاب، وقال جميع الناس: سمعنا وأطعنا. وكان القضاة عدولاً تذعن لحكمهم النفوس في السر والجهر. طرأ الخلل على ال

السعادة الحقيقية

الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي

_ السعادة الحقيقية لحضرة الأصولي الفاضل حموده أفندي عبده المحامي جسم السعادة يتألف من مقومات الحياة المادية والملاذِّ الجسمانية، ولا حياة لجسم إلا بروح، ورورح السعادة هي الفضائل النفسانية والكمالات المعنوية والمزايا البشرية. شطت عقول الناس عن معنى السعادة الحقيقية، وصرفوا آمالهم وسعيهم إلى ما يجلب لذة جسمانية وراحة بدنية، واعتقدوا أن لا سعادة لهم إلا بالاستحواذ على ما تقوم به معيشتهم، وظنوا أن الظواهر المادية تكسبهم ثوبًا من الفضل، وحلة من الكمال، فبهذا انصرفوا عن التطلع إلى الكمالات، وكسب الممدوح من الأخلاق والصفات. والناس في حياتهم المادية قسمان: قسم يستحوذ على المال من طريق الحق والعقل، وقسم تاه في بيداء العماية، وسلك طريق الغواية، يطلب المال مهما كانت ذريعته، ويسعى إليه مهما كانت وسيلته، إلا أنه لم ينل من الكمال حظًّا، ولا أصاب من الفضل غرضًا، ومثله في مثل ذلك: العجماء التي تطعم لما تقدم من العمل. فجمعه المال وإن كان بطريق حق ثابت لا فضل له فيه، ولا يعد فاضلاً إلا بالفضائل التي نبينها. والقسم الآخر هو أقل بكثير في الدرجة من القسم الأول، ومثله مثل الحيوانات الضارية التي لا ينال الناس منها سوى الضرر. الإنسان نوع ميزه الله عن الحيوانات بمزايا العقل والفضائل، فإذا لم توجد تلك المزايا فقد انحط عن درجة الحيوانات؛ لأنه إذا عري عن تلك المزايا صار حيوانًا ضارًّا وصارت هي أنفع منه. ثبت حينئذ أن الاستحواذ على مناهل الثروة وينابيع الكسب ليس كافيًا وحده في لبس ثوب الفضل، وإنما يصح أن يُتخذ المال آلة للوصول إلى بعض الفضائل، ومن جعله غرضًا لا يسعى إلا إليه فقد جهل حقيقة نفسه، وأضاع الغاية المطلوبة من حياته. والناس متقاربون في حياتهم المادية مهما اختلفت الثروة، فلربما تلذذ الفقير بعيشه القليل، ونُغص الغني ذو النعيم العظيم، على أن موارد الثروة لا تدوم لصاحبها، فكم من غنى زال وما دام، وكم من فقير أصبح يجر ذيول النعيم. فلا تفاوت في الحقيقة بين الناس إلا بالفضائل والمحامد؛ لأنها هي المزايا الموطدة لروابط الجمعية البشرية، المؤسسة لبناء هيكل الإنسانية، وما دامت في أفراد دولة يدوم معها الارتقاء، واذا انحطت هوت تلك الدولة في مهاوي الدمار، وبعدت عنها السعادة بعد السماء. نقرأ في سير الغابرين ونشاهد في أمم الحاضرين أن الدولة ترتقي أوج الكمال وتبلغ الفضائل من نفوس أهليها مبلغًا عظيمًا، ثم تنحط من تلك الرفعة إلى حضيض المذلة، وربما خيل أن الفضائل مع تمكنها من نفوس تلك الدولة الراقية لم تفدهم شيئًا في سعادتهم، ولم توقف مجاري انحطاطهم، وحينئذ يبطل القول بأن الفضائل هي الموصلة للسعادة، ولكنا نجيب على ذلك بأن الدولة إذا وهنت بعد عظمتها فقد فقدت عنصر الفضائل من نفوسها، والعلة المؤثرة في السقوط هي في الحقيقة ضياع تلك الفضائل من أفرادها، فإن الوهن الذي يطرأ على أفراد الدولة الراقية سببه أنهم عندما يحسون بلذة العيش ونعيم الراحة يروق في طباعهم محبة الحياة المادية، وبعد قليل تغلب عليهم تلك المحبة، ثم ينتهي بهم الحال إلى أن تنحجر في طباعهم وتصبح طبيعة لا مرد لقضائها، وعند ذلك ينسون الفضائل وما توجبه على نفوسهم من المزايا، وتبتدئ عندهم كراهية تلك الفضائل؛ لأنها لا تبيح لهم كل ما تشتهيه الحواس ويطالب به الميل الجسماني، ثم تتدرج الكراهية في نفوسهم وينتهي الأمر بأن تصبح الفضائل كالعدو القائم عليهم بالمرصاد، فيمجونها وينبذونها، وحينئذ يستولي السقوط على الدولة بذهاب الكمال من الناس وانحلال الرابطة، وتصبح حكومة الطباع الفاسدة هي المؤيدة للسلطة، وتذهب سنن النظام أدراج الرياح. فلأجل صيانة الدولة من السقوط لابد حينئذ من طائفة في كل أمة تقوم بأمر الحث على الفضائل، خصوصًا إذا بلغت من الارتقاء الحد الذي نوهنا عنه؛ لأن الفضائل أخلاق مكتسبة، كما سنبينه ولأجل أن ترسخ في النفوس لابد أن يكون هناك ما يقومها ويطالب بها دائمًا. ثبت حينئذ أن ارتقاء الأمم وحفظ سعادتها لا يكون إلا بالفضائل والكمالات. بقي علينا أن نعرف: هل الفضائل غريزة في النفس أو مكتسبة. وإذا كانت مكتسبة فما هو طريق اكتسابها. ثم لنا كلام بعد ذلك على بعض الفضائل إن شاء الله. لم يخلق الإنسان ميالاً بطبعه وغريزته إلى الفضيلة، وإنما خلق وفيه استعداد لتلقي الفضيلة على حسب ما يوجهه إليه القائمون بأمره. والدليل الحسي ناطق بذلك فإن سكان البادية تشاهد في طباعهم خشونة، وفي أخلاقهم يبوسة، وهم أبعد الناس عن الفضائل (في هذا الكلام نظر سيظهره المنار عند المناسبة) ولولا ما يبث فيهم من العقائد الدينية الحاضة على التمسك بالفضائل لأصبحوا شر الناس، ولكانوا كالحيوانات في سيرهم ومعيشتهم، أما أهل المدن فنجد في طباعهم لينًا، وفي أخلاقهم رقة، ولابد حينئذ من أن يكون هناك عامل مؤثر في طباع أهل المدن لا يوجد في طباع سكان البادية، وذلك العامل هو: التربية، فأهل البادية لبعدهم عن المربي والمرشد لهم كانوا على ما ذكرنا، وأهل المدن لوجود المربي بينهم اكتسبوا ما هم فيه من الفضائل، وثبت حينئذ أن الفضائل أمور كسبية مناطها التربية فالتربية هي الطريق الحقيقي الموصل للفضائل. فالمؤثر الحقيقي الذي تجنى به جميع الفضائل هو التربية، لهذا كان الاعتناء بأمرها مقرراً عند الأمم التي رتعت في مروج المدنية وبحبوحة السعادة. يخيل للإنسان من تغلب قوته الحيوانية على روحه الشفافة البشرية أن الفضائل أمور شاقة، والأخذ بها مما يضيق على النفس في التصرف بحريتها، وربما كان هو السبب في انحراف أغلب الناس عن الأخذ بالفضائل واكتسابها، ولكن هذا خيال باطل، وإن لذة المتمسك بالفضائل لهي أعلى وأرقى من ملاذِّ المتمسك بالطباع الفاسدة؛ لأن الفضائل هي كمالات تترفع بها درجة النفس وتصيرها معظمة سائدة على غيرها، وأي لذة تضارع لذة تلك الرفعة المعنوية التي يشرق نورها على الروح بتأثيرها، لا كما يحصل في اللذائذ المادية من سرعة الزوال، لهذا كانت الشرائع متفقة كلها على الحث على الفضائل، ولم تتخير موضوعًا أعلى ولا مقامًا أسمى من ذلك المقام العظيم المنوط به السعادة الدنيوية والأخروية. وعلى فرض أن في تحمل الفضائل مشاق على النفس أمام ما يصادمها من الملاذ الحسية، فالتربية تصير الفضائل طبائع وتغرسها في النفوس كالنقوش، ويشب الشخص دائبًا عليها تلازمه في حركاته وسكناته إذا قصر في بعضها يجد من ضميره زاجرًا وموبخًا، ويأخذه في نفسه انقباض وكدر، وعلى العكس من ذلك تجده مسروراً مشروح الصدر إذا أرادها وواظب عليها ووقف عند حدها. بقي علينا أن نعرف متى تغرس الفضائل في النفوس، وما هو دور الحياة اللائق لغرسها. للحياة ثلاثة أدوار طبيعية: دور الطفولية والشبوبية والرجولية، ففي دور الطفولية يكون ذهن الطفل أكثر استعدادًا لتلقي مبادئ التربية وعناصر الفضائل، وهو ببركة ما له من السذاجة في هذا الدور يكون قلبه كالمرآة ينطبع فيه جميع ما يلقى إليه، ولا يصح حرمان الطفل من تلقينه تلك المبادئ في هذا الدور؛ لأن ذلك يوعر عليه طرق الاكتساب في الدورين الآخرين من حياته. ثم إن بعض الناس يعتقد أن الترهيب هو السبب الوحيد لتلقين المبادئ في هذا الدور، وهذا من الشطط؛ لأن تأثير الترهيب نجده في الغالب قاصرًا على ردع الشخص أمام زاجره، ومتى انتهز فرصة غياب الزاجر يأتي المحذر منه ولا شيء يمنعه، أما الترغيب في الفضيلة مع بيان منفعتها للطفل على قدر ما يقبله عقله بطريق الوداعة والمداعبة، فمما يطبع الطفل عليها ويحببها لنفسه؛ لأنها أتت من طريق يلائم طبعه، بخلاف ما يأتي من طريق المكروه والترهيب، فإنه دائمًا يكون مكروهًا عند الطفل، لهذا كانت معالم التربية في بلاد الريف من كل أمة هي أكثر انحطاطًا منها في المدن، وهذا سببه أن معالم الفضائل لم تغرس في نفوس الأطفال على وجه معقول مقبول، بل كلها تغرس بطريق الترهيب المكروه الذي اعتاده أهل البادية. دور الشبوبية: هو الدور الذي تتحكم فيه الشهوة ويتغلب فيه سلطان الملاذ الجسمانية بحكم الطبيعة، ولابد من معالجة النفس في قبول الفضائل، وهنا تبذل جميع الوسائل من ترهيب وترغيب يختلفان باختلاف الاستعداد الموجود في الأفراد ولطالما وقعت شبان في شرك الشهوات بسبب ترك التربية في هذا الدور، وقضوا حياتهم في ملاذ حيوانية وشهوات بهيمية. دور الرجولية: هو دور إلقاء النصيحة على الناس وتذكيرهم بما غرس في نفوسهم من معالم الفضائل في الدورين السابقين، وهذا الدور لا حد له من العمر، بل الواجب على أمة تطلب فخارًا وتنوي ارتقاءً أن يقوم من أفرادها نفر أعطاهم الله قوة سليمة في إلقاء النصائح والحث على الفضائل وبلاغة في التعبير وصناعة في الإلقاء وقوة في البرهان ودرجة عالية في القلوب، وبالجملة يكونون من خيار الأمة وعظمائها، حتى يكون لقولهم تأثير على النفوس، وتذكيرهم يبقى له أثر في الأرواح، وسلطة في القلوب، لهذا كان من حكمة الدين الإسلامي أن فرض علينا الخطبة في صلاة الجمعة تذكيراً للناس بالفضائل والمواعظ، حتى لا يغيب عن عقولهم خيالها؛ لأن الإنسان بما له من كثرة الأشغال طبع على النسيان، فلابد من منبه ينبهه ووازع يذكره. هذا مجمل من الكلام يختص بماهية السعادة الحقيقية، ويذكر أن الفضائل هي غرائز مكتسبة بالتربية، وسنأتي إن شاء الله تعالى على بيان الفضائل، وكيف أنها روح السعادة. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الشعر العصري

الكاتب: شكيب أرسلان

_ الشعر العصري نظم فارس اليراعة عزتلو الأمير شكيب أرسلان عما بصباح العلم رغدًا وأنعما ... ربع ظلام الجهل عنه تصرما قد انصاح [1] صبح السعد في ليل نحسه ... فغادره شيئًا فشيئًا مهزّما وثاب إليه العلم عدوًا بعوده ... إليه فلا لوم ما تلوّما [2] فأصبح داجي أفقه اليوم زاهرًا ... وقد كان زاهي أفقه قبل مظلما وأينع ذاوي روضه اليوم بعد أن تصوّح ... من عصف البوارح في الحمى [3] ترنح عطف السعد فيه بعيد ما ... رأى لثغور العلم فيه تبسما وباتت غصون العز تخطر عندما ... رأت فوقها طير المعارف حوّما لعمرك إن الشرق ردّ بهاؤه ... فيرفل في ثوب الثناء منمنما وعاد إليه الفضل والعود أحمد ... عليه إذا كان الغياب مذمما وما الشرق إلا ذلك الشرق لم يزل ... مدى الدهر أعلام العلى متسنما فإن نابه يومًا من الدهر صرفه ... فلم تك إلا برهة فتثلما وإما تطش دهم الليالي سهامه ... فهيهات لم تسلبه للحظ أسهما وإن فاته للفضل غيث فإنما ... وخي إليه الرجع جما فعتما [4] وإن تعره الأحداث من بعد بسطة ... أي الورى لم يلق بؤسًا وأنعما وإن يك يومًا سوّد الجهل أفقه ... فقد طالما في الفضل أطلع أنجما نجوم علوم أخجلت بضيائها ... نجوم علوم لحن في كبد السما بهن اهتدى في سيره كل بارج ... توغل في بحر الكيان الذي طما رجال بهم جاد الزمان وعله ... على مثل هذا الجود يومًا تندما أقامهم في الشرق يحيون أهله ... فأذهل عما نال عادًا وجرهما هم الملأ الأخيار والعصبة الأولي ... رأينا لعمري الرشد فيهم مجسما تظلم منه الفخر قبل مجيئهم ... فجاءوا فلما أثقلوه تظلما [5] لكم أرهفوا بالجد للمجد مخذمًا ... وكم أرعفوا بالنبل للفضل مخطما [6] وكم صرفوا وجه الصروف عن الورى ... وكم عفروا بالحزم للدهر مرغما [7] وكم سهلوا حزنًا علا وثنية ... وكم بدلوا بالشهد صابًا وعلقما وسلُّوا من الآراء أبيض صارماً ... ففلوا من الأرزاء جيشًا عرمرماً أماطوا قناع المكرمات وقد جلوا ... محيا المعالي بعد أن كان أسحما وأعلوا منار الرشد في أفق شرفهم ... وخلو سبيلاً للمآثر أقوما وأجروا ينابيع المعارف في الملا ... فطال بها نبت المعاني وقد نما وشادوا أصولاً للفنون وأوضحوا ... لها سبلًا أضحت إلى النجح سلما (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

عجيبة عجيبة أو العدل في القضاء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عجيبة عجيبة أو العدل في القضاء عجيبة: مُغنية كانت في مصر على عهد السلطان الملك الكامل بن أيوب، ويذكر أن الكامل كان مع تصميمه بالنسبة إلى أبناء جنسه يحضرها إليه ليلاً وتغنيه بالجنك على الدف في مجلس يحضره ابن شيخ الشيوخ وغيره، وأولع محمد الكامل بها جدًّا ثم اتفقت قضية شهد فيها الكامل عند القاضي ابن عين الدولة وهو في دست ملكه، فقال ابن عين الدولة: السلطان يأمر ولا يشهد، فأعاد عليه السلطان الشهادة فأعاد القاضي القول، فلما زاد الأمر وفهم السلطان أنه لا يقبل شهادته قال: أنا أشهد أتقبلني أم لا؟ فقال: لا ما أقبلك، وكيف أقبلك وعجيبة تطلع إليك كل ليلة وتنزل ثاني كل يوم بكرة، وهي تتمايل على أيدي الجواري، وينزل ابن الشيخ من عندك أعيا ما ينزل، فقال له السلطان: (يا كنواخ) وهي كلمة شتم بالفارسية، فقال له: ما في الشرع (يا كنواخ) اشهدوا عليَّ أني قد عزلت نفسي ومضى. فجاء ابن الشيخ إلى الملك الكامل وقال: المصلحة إعادته لئلا يقال: لأي شيء عزل القاضي نفسه وتطير الأخبار إلى بغداد، ويشيع أمر عجيبة، فقال له: صدقت، ونهض إلى القاضي وترضاه، وعاد إلى القضاء، وهذه الحكاية سماها بعض الناس: (عجيبة عجيبة) وفيها بحث فقهي يراجع في طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي.

اقتراح على مجلس إدارة الأزهر الشريف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اقتراح على مجلس إدارة الأزهر الشريف رددت بعض جرائد سوريا ومصر خبر صدور الإرادة السلطانية السنية لطائفة أو طوائف من طلاب العلم في دار السعادة بالتجوال في البلاد والقرى والمزارع (الأبعديات والعزب) لبث النصائح الدينية وإرشاد الناس وتعليمهم مدة ثلاثة أشهر (رجب وشعبان ورمضان) وهذه المنقبة من أجلِّ المناقب لمقام الخلافة الإسلامية أعزّه الله تعالى ويا حبذا لو أصدر سيدنا ومولانا الخليفة أمره لجميع البلاد الإسلامية بالقيام بهذه الفريضة الدينية. وبهذه المناسبة نقترح على فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشريف وعلى أعضاء مجلس الأزهر أن يعهدوا بمثل هذا العمل الشريف إلى المدرسين ونجباء الطلبة الذي يقضون مدة إجازاتهم في بلادهم وقراهم، وأن يضعوا لها سننًا معينة يسيرون عليها في عملهم هذا، ثم يتعرفون أبناءهم فيكافئون من أحسن عملاً. ومن فائدة ذلك للقائم به التمرن على النصيحة والإرشاد ولاختبار سيرة العامة في دينهم ومعرفة ما يحتاجون إليه في ذلك، وذلك يهديه إلى تعلّم ما ينفع به وعدم شغل الوقت بما عساه لا يلزم له. ومن أفضل ما نتوقعه من مجلس إدارة الأزهر اختيار جماعة من نجباء المجاورين من كل قطر من الأقطار وترشيحهم للوعظ بأن تلقى إليهم دروس مخصوصة في الأخلاق والعادات، ويمرنون على الخطابة بحيث تصير ملكة لازمة لهم، وترغيبهم في ذلك بالمكافآت وزيادة الرزق (الجراية) بقدر الإمكان. وسنوفي الموضوع حقه من البيان في مباحث (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و (الخطابة) و (التمسك بالقرآن) إن شاء الله تعالى.

مدارس الخرطوم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدارس الخرطوم طيّر البرق إلينا من أيام خبر اقتراح كتشنر باشا لورد الخرطوم وسردار الجيش المصري فتح اكتتاب لجمع مائة ألف جنيه لإنشاء مدرسة كلية في الخرطوم باسم غوردون باشا الإنكليزي الذي هلك فيها. ولم يكد يلج الخبر المسامع ويجول في المجامع حتى جاء في إثره خبر آخر مع البرق بأن الفرنساويين هبوا لمجاراة الإنكليز في هذا، ولابد أن ينشئوا في الخرطوم وغيرها من بلاد السودان مدارس متعددة باسم فشودة ومرشان أو بأسماء أخرى، لئلا يستأثر الإنكليز بنشر نفوذهم السياسي والديني والأدبي في تلك البلاد الواسعة، فهل يوجد في أغنياء المصريين أو المسلمين من يبذل المال للمحافظة على دينهم ولغتهم وآدابهم وتنميتها وهي موجودة كما يسعى أولئك لإيجادها وهي مفقودة؟ إن كان في العالم الإسلامي أغنياء لهم غيرة على دينهم ولغتهم وآدابها فإننا نرى آثارهم في مجاراة الأوروبيين بمثل هذه الأعمال، وإن كانوا لا يقلدونهم إلا بالترف ولوازمه من المنكرات والفواحش فلهم اللعنة ولهم سوء الدار.

الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*] لا تقوم مصلحة عامة إلا برياسة، ولا تسير رياسة في منهاج الصواب ما لم تكن مقيدة بقانون عادل. والدين مصلحة عامة، ورئيسه في الإسلام بعد زمن النبوة الخليفة الذي يتولى أمور المسلمين، فهو المطالَب بحراسته الصورية والمعنوية، المسئول بتعميم نشره في البرية، وقد بيّنّا في مقالات (الخلافة والخلفاء) أن خلفاء المسلمين بعد الراشدين قصروا في حفظه فضلاً عن نشره، ولم ينتشر انتشاره السريع في أقطار الأرض إلا بسهولة تعقل عقائده ويسر أحكامه، وتأثير فضائله وآدابه، لا بعناية الخلفاء، ولا سعي الملوك والأمراء. أي خليفة أقام للدين دعاة تحت حمايته في بلاده أو في البلاد الأخرى إلا ما كان من دعاة الفتنة ورواد الإضلال على عهد العبيديين في مصر؟ أي خليفة سعى في جمع كلمة المسلمين التي فرقتها المذاهب، ومزقها اختلاف المشارب؟ كل ذلك لم يكن كما علمت من المقالات السابقة، ولو كان لما وقف سير الإسلام، أو تقلص ظل سلطته عن أحد من الأنام، ولما أصيب فيضانه بالجزر أو يبلغ مده غاية حده. ما رعوا الخلافة حق رعايتها، بل صيروها ملكًا عضوضًا كما ورد في أعلام النبوة، فساءت الحال، وانتهت إلى هذا المآل. وهذا لا يمنع من تدارك ما مضى وتلافي ما فرط فيه. ولما كانت لمولانا المتبوئ مقام الخلافة لهذا العهد أمير المؤمنين عبد الحميد الثاني (أعزه الله تعالى وأيده) عناية عظيمة في إحياء منصب الخلافة الأسمى، والقيام بشؤونها بقدر الاستطاعة، رأينا من واجب النصيحة للإمام التي ورد بها الحديث الصحيح الذي أوردناه في مقالة (الإصلاح) السابقة أن نبين ما نعلم أنه من مقومات الإصلاح الديني، كما بينا رأينا في مقومات الإصلاح السياسي المدني، على أن الإصلاحين متلازمان في الأمة الإسلامية لا يقوم أحدهما حق القيام إلا بالآخر، والشريعة الإسلامية هادية للإصلاحين، إذ كل خير وصلاح للعباد، يتعلق بالمعاش والمعاد، قد قرره الإسلام واعتده من مقاصده. وقد عرف علماء المسلمين الدين بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل. ولهذا قلنا في العدد الماضي: إن مرادنا بالإصلاح الديني (ما يؤدي إلى المحافظة على الدين والعمل به وجمع كلمة المسلمين) ولا يحصل هذا بعمارة المساجد والتكايا، ولا بالإنعام على بعض الشيوخ أو أهل الحجاز بالرتب والرواتب والوسامات، بل لابد في ذلك من أعمال تناط بالحكام وأعمال تطلب من العلماء وأصحاب الوظائف الدينية، كالأئمة والخطباء والمدرسين، وأعمال تتعلق بمجموع الأمة، وأعمال تختص بالبلاد الحجازية، وإننا نتكلم على ما يسنح لنا في ذلك بوجيز من القول مستمدين التوفيق للتي هي أقوم ممن علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم. أهم ما جاء به الإسلام هو التوحيد في العقائد الدينية والتعاليم الأدبية والأحكام القضائية والمدنية، فأهم أركان الإصلاح الإسلامي جمع المسلمين على عقيدة واحدة وأصول أدبية واحدة وقانون شرعي واحد، لا يحكم عليهم غيره في أي نوع من أنواع الأحكام، ولغة واحدة. ويتوقف هذا الإصلاح على تأليف جمعية إسلامية تحت حماية الخليفة يكون لها شعب في كل قطر إسلامي، وتكون عظمى شُعبها في مكة المكرمة التي يؤمها المسلمون من جميع أقطار الأرض ويتآخون في مواقفها ومعاهدها المقدسة، ويكون أهم اجتماعات هذه الشعبة في موسم الحج الشريف، حيث لا بد أن يوجد أعضاء من بقية الشعب التي في سائر الأقطار يأتون الحج فيحملون إلى شعبهم من المجتمع العام ما يستقر عليه الرأي من التعاليم السرية والجهرية. وهذا أحد مرجحات وجود الجمعية الكبرى في مكة المكرمة على وجودها في دار الخلافة، وثم مرجحات أخرى من أهمها: البعد عن دسائس الأجانب ووساوسهم، والأمن من وقوفهم على ما لا ينبغي وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله. (ومنها) : أن لشرف المكان ولحالة قاصديه الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص والتنزه عن الهوى والغرض فضلاً عن الغش والخيانة، وينبغي أن يكون للجمعية الكبرى جريدة علمية دينية تطبع في مكة أيضًا، وأية شعبة استطاعت إنشاء جريدة تنشئها. ولنذكر كل توحيد من التواحيد التي يجب في الإصلاح جمع الأمة كلها عليها، وما يكون من عمل الجمعية فيها، ثم نذكر أهم ما يناط بالجمعية وشُعبها من الأعمال وهو تلافي البدع والتعاليم الفاسدة التي تحدث قبل انتشارها، وإصلاح الخطابة والدعوة إلى الدين، وأهم نتائجها وهو ارتباط الحكومات الإسلامية واتحادها فنقول: (الأول والثاني: توحيد العقائد وتوحيد الآداب) : تؤلف الجمعية كتابًا فيما أجمع عليه المسلمون بجميع فرقهم التي يعتد بإسلامها من أصول الدين الثلاثة: صحة الاعتقاد، وتهذيب الأخلاق، وإحسان الأعمال. لا يذكر فيه شيء من مسائل الخلاف، لا سيما بين الطوائف الإسلامية التي لها إمارة وفيها كثرة كالشيعة، بل ينحى فيه منحى " رسالة التوحيد "، التي ألفها حديثًا أحد علماء الأزهر الشريف، ولا يتعرض فيه أيضًا لمباحث الفلسفة التي مزج الأولون بها علم الكلام، ويكون الكتاب بعبارة في غاية السهولة، ويترجم لجميع اللغات المتداولة، ويعلم من مقام الخلافة بأن هذا هو الإسلام وجميع الآخذين به إخوة في الدين يجب على كل منهم أن يعتد مجموع الأمة جسمًا واحدًا هو عضو فيه كسائر الأعضاء، وأنه لا قوام له ولا حياة ولا شرف إلا بسلامة المجموع من كل ما يعرض على الحياة من العلل أو يمس الشرف، ولا يمنع من هذا الاختلاف في المسائل الفرعية والتي ليست من أسس الدين وأركانه، كالمفاضلة بين الصحابة (عليهم الرضوان) في الخلافة وغيرها، كما لا يمنع الإنسان من تكريم أعضائه، تلونها بلون غريب عن لون الفطرة، أو كما لا يمنعه من محبة إخوته وأبنائه دمامة أو مرض يعرض لبعضهم، بل ينبغي أن تكون العناية بأمر المنحرف أشد، والانعطاف عليه أقوى. (الثالث: توحيد الأحكام) : لا يمكن أن تنال الأمة حظها من السعادة المدنية إلا بخضوعها ظاهرًا وباطنًا للقوانين القضائية والمدنية التي تسير عليها حكامها، ولا يمكن أن يخضع مسلم لقانون وضعه البشر إلا كرهًا وإجبارًا، ومن يراعي منهم القانون ويخضع له في الظاهر كرهًا يعصيه في السر إذا أمن العقوبة، كأن علم أنه لا يمكن إثبات عصيانه ومخالفته أو أنه يتسنى له إرضاء لحاكم بالشفاعة أو الرشوة، وما اضطر الحكومة العثمانية والمصرية إلى العمل بالقوانين الأوروبية إلا عدم وجود كتب شرعية إسلامية تنطبق على حالة العصر، وعجز الحكام عن أخذ ذلك من الشريعة لجهلهم بها وغفلة العلماء عن حالة العصر وما تقتضيه، والتقيد بمذهب واحد. فإذا أمر الخليفة الجمعية بتأليف كتب تؤخذ من جميع المذاهب الإسلامية تنطبق على حالة العصر لأجل الحكم بها فعلت، وهو أيسر شيء عليها. ولا يتوقف هذا على التلفيق الذي يمنعه الجمهور لأنه مفروض في مسألة واحدة، وإذا صادقت على هذه الكتب شُعَبُ الجمعية كلها صار متعينًا للاتفاق عليه من علماء الملة على اختلاف مذاهبهم، ثم إذا أمر الخليفة بالعمل به تذعن له النفوس وتخضع سرًّا وجهراً. ولا يختلج في ذهن عاقل أن ذلك يسوء أصحاب الملل الأخرى في الدولة، ويتولد منه نفورهم منها؛ لأن العنصر الكثير في الدولة منهم هو عنصر النصارى، ولا يمكن نفور هؤلاء من قوانين الشريعة الإسلامية بحجة الدين؛ لأن دينهم يأمرهم بالخضوع لأى سلطان يحكمهم وأية شريعة يحكمون بها، ولا بحجة المصلحة والمنفعة؛ لأن مصالحهم ومنافعهم تحفظ بشريعة يذعن لها مشاركوهم في تلك المصالح وأعمالها، ومجاوروهم في وطنهم سواء فيها حاكمهم ومحكومهم - ما لا تحفظ بشريعة يعتقد الحاكم والمحكوم أن العمل بها غير واجب، بل تعدي حدودها لازم لا يمنع منه إلا الأمن من العقوبة، لا سيما وهم يعلمون أن الشريعة الإسلامية تأمر بالعدل والمساواة بين المسلم وغير المسلم في الحقوق، وتفرض على المسلم من الواجبات ما لا تفرض على غيره. وكاتب هذه السطور يعلم من مذاكرة نبهاء النصاري وعقلائهم أنهم يتمنون لو تكون الأحكام شرعية إسلامية، ولا ينتقدون مما يعلمونه من أحكام الفقه الإسلامي إلا مسائل قليلة ليست من مسائل الإجماع ومهمات الدين في الغالب. وفي توحيد الأحكام الشرعية على ما ذكرنا إرضاء لجميع مذاهب المسلمين في الفروع، وقطع لعرق التعصب الذي أضر بهم في الأيام الخالية، وغير ذلك من الفوائد التي لا محل في هذه المقالة لشرحها. ويوشك أن تحكم الدول الأجنبية مستعمراتها الإسلامية بهذا القانون إرضاء لأهلها واستمالة لهم واطمئنانًا بخضوعهم للأحكام سرًّا وجهرًا. ولا حاجة هنا لبيان كيفية التأليف من الضبط والسهولة والترتيب، وإن لنا في مجلة الأحكام العدلية لخير مثال. ولا دليل على أن جميع الحكومات الإسلامية تأخذ بهذا القانون حالاً ولكن لا مندوحة لهم عن الأخذ به مآلًا. (الرابع: توحيد اللغة) : كل من كان قصير النظر لا يتجاوز شعاع بصره ما بين يديه - وكل من كان جاهلاً بأحوال الأمم الحية وسعيها في نشر لغاتها في جميع الأقطار- وكل من ضعف عقله ودينه فوقع في هوة اليأس من حياة الأمة ونجاح عمل كبير على يدها - وكل من تمكن منه الطيش والعجلة وقلة الاحتمال فصار يطلب الغاية في البداية - كل هؤلاء الأصناف يعتقدون أن محاولة جمع الأمة الإسلامية أو شعوب الدولة العثمانية على لغة واحدة غرور وجهل لأنها محاولة محال، وطلب ما لا ينال، ولكن لا يوجد ذو مسكة من العقل يرتاب في أن نجاح الأمة التام وارتقاءها الكامل يتوقف على وحدة لغتها، فاللغة هي مناط الجنسية ومعقد الارتباط عند الأمم المرتقية، وما دامت الدولة مختلفة الأجناس فهي على خطر من حياتها السعيدة، وبين يدينا من الشواهد ما يقطع لسان كل معاند. هذه دولة أوستريا - النمسا والمجر - تعد من الدول القوية المتمدنة في أوروبا، ومع ذلك قد رماها اختلاف الأجناس بالفتن التي يخشى أن تؤدي إلى تمزيقها بتفريقها وتودي بعظمتها التي يمسكها الإمبراطور الحالي أن تزول لما له من المكانة والمحبة في نفوس الجميع. العمل الأول في توحيد اللغة إنما يكون من الخليفة صاحب السلطان، وعمل الجمعية فيه كعملها في نشر الدين والدعوة إليه كما يأتي. والحكومة العثمانية تجتهد في تعميم لغتها التركية العذبة في بلادها ولا يتسنى لها ذلك أبدًا. وتترجح اللغة العربية على التركية في وجوب تعميمها بأمور: (منها) : كونها لغة الدين، فإحياؤها إحياء له، وتعميمها وسيلة لتعميمه وفهمه. (ومنها) : إمكان نشرها بسهولة؛ لأن التركي يدعوه إلى تعلمها كونها لغة دينه أما العربي الذي لا طمع له في مناصب الدولة فلا تتوجه نفسه إلى تعلم التركية، وهذه الدولة العلية لم تقدر في بضعة قرون أن تستبدل لغتها بالعربية في قطر من الأقطار، ولو سارت على ما كان يرغب السلطان سليم ياوز- رحمه الله تعالى - من جعل العربية لسان الدولة الرسمي وتعميمه لكان معظم الأتراك اليوم ينطقون بالضاد. (ومنها) : محو الامتياز الجنسي بين الترك والعرب؛ فقد أضر هذا الامتياز بالدولة ضررًا مبينًا، ولا تزال أخطاره تهددها. نعم إن الرابطة الإسلامية بين العنصرين كافية للاتحاد والاعتصام، ولكن أين التربية الإسلامية التي تنفخ هذا الروح في ال

ليلة المعراج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ليلة المعراج احتفل المسلمون في ليلة الأحد الماضية بتلاوة قصة المعراج الشريف، وهذا الاحتفال من المواسم الحادثة في الملة، لم يكن على عهد السلف الصالح، وقد أُلف في هذا الموضوع قصص كثيرة، منها ما تحرى أصحابه الروايات المنقولة من صحيح وحسن وضعيف ومنها ما جيء فيه بما لا يصح من منكر القول وموضوعه، ومزج الروايات الواهية بالصحيحة مزجًا لا يتميز فيه الصحيح من الفاسد، والذين يقرءون هذه القصص منهم العلماء الذين يشرحون القصة للناس ببيان يقرب من عقولهم، وتتناوله أفهامهم، من غير أن تجول خيول خيالاتهم في معاني من تنزه عن صور الخيال، وتسري قنافذ أوهامهم إلى حضرة من تعالى عن خطرات الأوهام، ومنهم الجهال الذين ينفثون السم في الأرواح، ويزعزعون العقائد الصحاح، حيث يوقعون في أذهان العامة ما يمثل حضرة الربوبية بجسم من الأجسام، كان يراجعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الكلام، مع النظر المعهود بين الأنام. فوقع الكثير من العامة بسبب ذلك في شرك التجسيم، لعدم التمييز بين الصحيح والسقيم، فإنني قد بلوت الناس في هذا الأمر وخبرتهم. وقررت العامة فيه وما أقررتهم. اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء ليس من القضايا الأساسية وأركان الإيمان في الدين الإسلامي، وقد اختلف العلماء فيه هل كان يقظة أو منامًا، والأكثرون على الأول، ومن هؤلاء من يقول: إنه بالروح، واحتج الآخرون بقوله - عليه السلام - في رواية صحيحة: (ثم استيقظت) وأجاب عنها الأولون، وللقصاص والشعراء مبالغات في ذلك حملهم عليها التفنن في تعظيم النبي بما هو مستغنٍ عنه، فأين قول بعضهم: (وشرف العرش بوطء نعله) من قول حجة الإسلام الغزالي: (والصحيح أنه لم يرتق إلى العرش) ويخوضون في القصة في مسألة رؤيته ربه تبارك وتعالى ومناجاته له، وهي مسألة خلافية لا يتوقف الدين على إثباتها، ولا يختل بإنكارها، والعلماء يقربون ما ورد فيها للأفهام ويطبقونه على القواعد المعقولة التي هي أساس الدين. وملخص القول في ذلك أن أصل الدين اعتقاد تنزيه الله سبحانه عن مشابهة الخلق؛ لاتفاق البرهانين العقلي والنقلي على ذلك. وقد ورد في جميع الكتب السماوية كلام عن الباري تعالى، وهو مما يستعمله المخلوقون بعضهم في بعض، ويوهم التشبيه وهو ما يسميه المسلمون المتشابه، وللعلماء فيه طريقتان مشهورتان: إحداهما: الإيمان بحقيته وعدم الخوض في تأويله، بل يفوضون الأمر فيه إلى الله تعالى، لئلا يحملوه على غير المراد منه لله تعالى. والثانية: حمله على ضرب من ضروب المجاز بقرينة دليل التنزيه العقلي النقلي المانع من إرادة ظاهره، ولهم في هذا المقام تفصيل وأقوال لا محل هنا لشرحها. فالعالم المحقق إذا قرأ قصة المعراج، وأراد البحث في مسألة الرؤية يقول إنه لم يرد فيها شيء قطعي، وكانت عائشة زوج النبي صلي الله علية وسلم تنكرها، وقالت لمن سألها عنها لقد: (قَفَّ شعري) واستدلت على نفيها بقوله تعالي {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} (الأنعام: 103) وقد ثبت ذلك عنها في الأحاديث الصحيحة، وينقلون عن ابن عباس رضي الله عنهما القول بإثباتها ويرجحه الكثيرون على قول عائشة، وعلية فإما أن نفوض معنى هذه الرؤية إلى الله تعالى مع القطع بأنه تعالى لا تدركه الأبصار ولا يُرى كما تُرى الشخوص والأشباح؛ لأنه لا تحصره جهة ولا يحويه مكان، فلا هو في السماء ولا على العرش {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى: 11) وإما أن نؤول الرؤية بنوع كامل من العلم والمعرفة خص الله تعالى به نبيه في تلك الليلة، ولا فرق حينئذ بين قول بعضهم أن ذلك العلم خلقه الله تعالى في قلب النبي علية الصلاة والسلام، وقول بعضهم أنه خلقه في عينيه؛ لأن الله تعالى له أن يخلق ما يشاء حيث يشاء، وكلهم متفقون على تنزيهه تعالى عن الرؤية المعتادة للناس. ومما يستدلون به في هذا المبحث قوله تعالى {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم: 11) وينقلون عن ابن عباس أنه كان يفسر قوله تعالى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) بما كان ليلة المعراج، فهو إذاً جازم بأنها رؤيا منامية، وتأويل بعض الناس الرؤيا (المنامية) بالرؤية (اليقظية) بعيد بل ممنوع. واتباع جماهير السلف في المسألة أسلم والله تعالى أعلم. هذا ملخص ما يقال في المسألة، ولكننا بُلينا بالفوضى العلمية الدينية، فكل من اعتمّ بعمامة يتسنى له تلقين العقائد والخوض في أصول الدين، وإذا لبس مع ذلك الفرجية وجرذيلة ووسع أردانه وهزّ سبحته فهو القدوة الذي لا يعارَض مهما أفسد في عقائد العوَامّ، وأثار من رواكد الأوهام، وعاث في الإسلام، وهذه الفوضى لم ترزأ بها ملة من الملل، فلكل أهل دين رئاسة دينية يرد ويصدر عنها معلمو الدين وناشروه، ويرجعون إليها في المشكلات، ونحن قد رزئنا من عدة قرون بالتبدد والتفرد في كل شيء، حتى كأن كل فرد منا كون تام بنفسه لا علاقة له بالآخر، فمن لنا بمن يؤسس لنا جامعة تنضبط بها شؤون هذه الأمة: دينية ومدينة، فإيجاد هذه الجامعة إيجاد للأمة وإحياء لها {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: 32) .

السعادة الحقيقية

الكاتب: حموده أفندي (بك) عبده المحامي

_ السعادة الحقيقية لحضرة الأصولي الفاضل حموده أفندي عبده المحامي (تابع ما سبق) السعادة الحقيقية هي راحة القلوب وكمال النفوس، فكل ما أدى إلى ذلك كان موصلاً للسعادة، والفضائل هي المعدات الحقيقية لنوال تلك الغاية كما نبينه الآن. قدمنا فيما سبق أن الشرائع الدينية لم تتخير مقامًا أعلى من الحث على الفضائل، ولهذا ما تركت فضيلة إلا وحضت على الأخذ بها، وكلها اتحدت على أن الناس لو عملوا بما جاءت به من الفضائل لنالوا سعادتهم واستكملوا ارتقاءهم. وكان يكفينا في هذا المقام أن نطالب أفراد كل أمة بالرجوع إلى ما دوِّن في كتبهم الدينية والوقوف عند حدها؛ لأن للآيات الدينية عند ذوي العقائد تأثيرًا في نفوسهم وسطوة على قلوبهم يعلوان أثر كل تعبير مهما أجهد فيه البليغ نفسه إلا أننا مع ذلك توفية للموضوع نذكر بعض الفضائل، ونبين كيف أنها روح السعادة وقوامها، ليكون أنموذجًا للقارئ يقيس عليه باقي الفضائل. فضيلة الصدق مثلاً: هي أساس لراحة القلوب وارتفاع النفوس عن كثير من الدنايا والرذائل؛ لأن الصدق هو رواية ما يطابق الواقع، وهو قوام للجامعة البشرية ورباط الألفة وحفيظ المعاشرة. الإنسان مدني بالطبع وهو في حاجة إلى كثير من المعاملات، ولأجل أن يحفظ علاقته بمن يحوطونه يلزمه أن يكون صادقًا في رواياته ومعاملاته. والعلة الأولى في فساد الأسرات (العائلات) هي تطرق الكذب إلى معاملاتهم، وضياع الصدق من صدورهم وألسنتهم؛ لأنه متى ظهر الكذب فيهم جهل كل عضو من أعضاء الأسرة ما ينويه الآخر، ورأى من إقبال غيره ما لا يسمع من أقواله، بهذا تتنافر القلوب وتحقد الصدور وتتزعزع الرابطة ويجر ذلك إلى مفاسد أخرى كالغيبة والنميمة وما شاكل ذلك من الشرور التي تتولد عقب فساد الطباع. ومتى ظهر الكذب في أسرة انتقل إلى من يخالطها من الناس، وصار كالداء النقال يسري في غيرهم، وينتهي الحال بأن تكون روابط الملة التي لا تتكون من الأسرات المتعددة مزعزعة الأركان فاقدة الجامعة، وينحل فيها النظام. إذا تأيد الصدق في نفوس أمة سهل حكمها وثبت نظامها وأصبح القضاء فيها ميزانًا للعدل وأضحى ظهور الحقائق فيها يسطع كضوء الشمس، وعند ذلك تستريح قلوب الناس من عناء البحث والتنقيب عن كشف غامض أو تبيان خاف، ومتى تمكن الصدق من نفوس أمة أصبح زاجرًا لهم عن إتيان الموبقات؛ لأن فاعل الموبقة إذا ثبت في طبيعته فضيلة الصدق خاف عاقبة الإقدام عليها حيث يصبح مسؤولاً ويلزمه طبعه بالاعتراف بما أتاه ويؤاخذ بما جناه. ومن ذلك فضيلة الأمانة: وهي أعظم الوسائل الموصلة لراحة النفوس؛ فإنها إذا انتشرت بين الناس اطمأنت القلوب وحسنت العلاقات وأصبح الناس يتآلفون ويتعاضدون، وكم يكون رب الأسرة سعيدًا إذا كان أهله وخدمه وحشمه أمناء على عرضه ومصرفه وخدمته، وكم يصبح أمير البلاد مشروح الصدر إذا كانت بطانته ورجال دولته أمناء على أعمال الدولة ومهامها. ماذا يكون من حال الدولة إذا بيعت الأمانات ونقضت العهود وفسدت القلوب وبدلت بالخيانات؟ هل لها من عاقبة سوى الانحطاط والدمار؟ وهل يغنيها حينئذ وفرة المال أو كثرة الرجال. انظروا إلى حال الخائن وتعاسته وعذاب قلبه وتعب نفسه، وعرجوا بالطرف نظرة إلى حال الدخلاء الذين خانوا عيش هذه البلاد. أتوا إليها حفاة عراة والجوع يكاد يقضي عليهم، ومع ذلك وسعتهم البلاد ورحبت بهم رأفة على حياتهم. وأول هدية قدموها إليها هي سب الأمراء والعلماء والكبار. ما الذي نالوه بذلك؟ هل نالوا بذلك غير سخط الله والناس، وهل بقي لهم ذرة من الشرف لو كانت أرواحهم التي تشغل أجسادهم أرواحاً بشرية ما كانت فارقتها من مدد وأزمان. هل لهؤلاء حياة حقيقية بين الناس؟ كلا إنهم أموات وستفني الأرض أشباحهم ويحيق بهم العذاب الأليم. ومن ذلك فضيلة الألفة واتحاد الكلمة: إذا تنافرت القلوب وتفرقت الكلمة وضاعت الألفة بين أفراد الأسرة ماذا يكون الحال؟ ألا يصبحون أفرادًا بعد جامعتهم، وأذلاء بعد عزتهم، وضعفاء بعد قوتهم. ماذا يكون الحال إذا فقدت الشجاعة من صدور الرجال، وسكن فيها الجبن القتال؟ هل تبقى راحة في القلوب، وهل تبقى أمانة على الحياة؟ كم يركب الناس من أهوال الذل ويحوطهم من الويل ويستهويهم من المصائب؟ ماذا يكون من عاقبة الحسد إذا انتشر بين الناس؟ كم يصبح الناس في شقاء من شر الحساد؟ وكم تزعزع روابط وتنحل ثقات، هل يبقى للحاسد دين، هل له قلب، كم يكسبه الحسد من الرذائل، ويغريه على إتيان القبائح؟ كم تهينه نفسه ويلعنه ضميره والله يبغضه؟ فعلى الأمة التي تبغي أن يعلو لها شأن أو يرقى لها حال أن تعتني ببثّ الفضائل في جميع الطبقات من أفرادها؛ لأنها إذا فقدت الفضائل من نفوس أهلها تصبح آلة لفساد طباعهم، وتمكنهم من استتباع شهواتهم، وبالفضائل ترتفع الأمة وإن كانت فاقدة المال، وبلادنا ولله الحمد بلاد الثروة، لا يعوزها غير التربية ولا يحجبها عن الارتقاء إلا فقد التربية، فعلى كل أسرة أن تعتني بتهذيب أفرادها وتثقيف أذهانهم بالفضائل الدينية أولاً وبالعلوم الحديثة ثانيًا، حتى يكون لنا الأمل الوطيد في الوصول إلى السعادة الحقيقية إن شاء الله تعالى. هذا مجمل الكلام على بعض الفضائل ليتخذها القارئ منوالاً له، وإلا لو استرسلنا في الكلام على كل فضيلة مع بيان فوائدها في الحياة بالتفصيل لأدى بنا ذلك إلى التطويل الموجب للملل والسآمة، ونعوذ بالله من الغواية ونطلب منه الهداية. اهـ

الشعر العصري

الكاتب: شكيب أرسلان

_ الشعر العصري (من القصيدة السابقة) فنعم رجال الشرق قومًا ومعشرًا ... إلى جدهم أصل المعاني قد انتمى جروا في رهان الفضل في أول المدى ... سباقًا كما أجريت أجرد شيظما [1] ولم يرهبوا من دونها في جهادهم ... خطارًا فقد خالوا التوقي تقحما [2] فهم أسسوا ركن الحضارة في الورى ... ولم يفعلوا إلا لندرك مغنما وهم أكنهوا سر المعارف أولاً ... وهم عرفوا نفع العلوم مقدما [3] فلما أحل الله فيهم قضاءه ... ووافاهم داعي الردى متخرّما [4] طوتهم أيادي البين من بعد أن رموا ... من الهمة الشماء أبعد مرتمى فغار ضياء الشرق عند غيارهم ... وأظلم وجه الشرق وقتًا وأقتما [5] ودالت إلى الغرب العلوم مع العلى ... كما حكم المبدي المعيد وأبرما وأوجف ركب السعي في طلب العلى ... فكان بذا الجري الجواد المصمما [6] فهادنه صرف الزمان مسالمًا ... ونوله الخير الأتم المعمما وباتت بلاد الشرق من بعد عزها ... كأن لم تنل مجدًا ولم تحو مقرما [7] إلى أن تجلى طالع العصر بعد أن ... تحجب عن تلك الجوانب واكتمى [8] فثابت إلى إشراقه الهمم التي ... عن العلم قبلاً قد تقاعسن نوما ومنها: ألا يا بني الأوطان إن عليكم ... إلى السعي في تلك المعالي التقدما عليكم بها فاسعوا لها وتشبهوا ... فمن يتشبه بالكرام تكرما ومن قصرت أيديه فليسع طوقه ... ومن لم يجد ماء بأرض تيمما وقد نكتفي بالطل إن بان وابل ... ونحجو اعورار العين خيرًا من العمي أما نحن من سَنُّوا المآثر واقتفى ... مآثرنا من بعدنا حاز مستمى ألم نُعلِ أعلام العلوم بقطرنا ... على حين حد السيف يرعف بالدما ألم نك أهل الأولية في العلى ... ليالي لا نثني عن المجد معزما بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... زمان توخى حيفنا وتحكما وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا ... من الفضل ما أبدوا مدى الدهر معجما متى يذكر الإفضال فيهم خطيبهم ... على منبر صلى علينا وسلما فلا تحسبونا قد عرينا وطالما ... جررنا من الفضل الرداء المرقما وهم أثروا عنا العلوم فهذبوا ... فجروا علينا مطرف المجد معلما تباروا بعلم بينهم وتنافسوا ... ولا جرم أن العلم سُر فأشكما [9] وقد بلغوا من باذخ العز منزلاً ... يظل لسان الحال عنه مترجما إذا نظر الشرقي حال صلاحهم ... بكى صاحبي منها دمًا سال عندما فيا وطني حتام تلبث غافلاً ... وحتام يا شرقي أراك مهوِّما [10] ألم تدُر بالغربي في الأرض سائحًا ... على سابح من علمه ليس ملجما فلله در العلم إن جداءه ... لمما يفوق العارض المتسجما لكم نال من فخر وأيد صاغرًا ... وكم عال من فقر وقلد معدما [11] وكم حل من عِيّ وأطلق حبسة ... وكم فل من غي وأنطق أبكما ومنها: فذو العلم يلقى العز حينًا ومفردًا ... وذو العلم يلقى العز دهرًا وتوأما ومن نال أخطار اليراع فإنما ... ستقرن كفاه يراعًا وصيلما [12] فسعداً لمن في حلبة العلم قد جرى ... وسحقًا لمن في حلبة العلم أحجما ومنها: لئن تبذلوا فيه النفيس فغيركم ... لإحرازه هلك النفوس تجشما وما غيركم والله لا أصولكم ... نخبر عنهم لا حديثًا مرجما وقوم هدوا في الحق هدي جدودكم ... إلى أن غدوا الأعلون في الأمر مثلما أولئك قد سادوا وأقصى نكاية ... لنا فيهم ألقاب علج وأعجما بعلم إذا ما بات فيهم متوجًا ... فيا طالما قد كان فينا معمما فإما لعمري قدوة بمعاصر ... وإما تراث للذي صار أعظما ولا نحسب الأحوال وهي عوارض ... غير في أصل المبادي فنسأما ومنها: وإن الفتى مَن زان مسقطَ رأسه ... بما ناله مِن حكمة وتعلما فذاك الذي في بردة الفضل ينثني ... وليس الفتى مَن بالعقيق تختما فإن ينتظم شمل الرجال بقطرنا ... ترتب فيه أمرنا وتنظما لأن نجاح الصقع في حسن أهله ... إذا كان أصل الود في القوم محكما فكونوا كجسم واحد إن تألمت ... له علة تلق الجميع تألما تفوزوا بتذليل الصعاب إذا عصت ... وتقووا على ذا الدهر إما تهضما وتحظوا بأعلاق المنى وتحققوا ... بهمتكم من عصرنا ما توسما هو العصر وافى ضاحكًا عن فنونه ... وقد كان من قبل عليكم تأجما وختامها: كفى عصرنا فخرًا وعزًّا إذا دعى ... أمير الورى عبد الحميد المعظما ليجهد في استرجاع رونق شرقنا ... وتجديد ما من مجده قد تهدما فلا زال في عصر الخلافة قائمًا ... لما أناد من أمر العباد مقوما ينث عليه الخافقان بعدله ... ناء جميلاً بالدعاء مختما

تاريخ دول العرب والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ دول العرب والإسلام مؤلف هذا الكتاب هو الأديب الفاضل محمد طلعت أفندي حرب من موظفي الدائرة السَّنية، وأحد أعضاء الجمعية الجغرافية الخديوية، وقد تم الجزء الأول منه وطبع في المطبعة الأميرية في مصر، وهو يشتمل على تمهيد وبابين، أما التمهيد ففي حدود بلاد العرب الأصلية، ومواطن العرب، وحاصلات بلادهم، ومساحة جزيرة العرب وعدد سكانها، وتشوُّف الإفرنج إليها، وذكر أشهر سياحيهم الذين دخلوها. وأما البابان فأحدهما: فيما كان عليه العرب قبل الإسلام، وفيه أربعة فصول. وثانيهما: في العرب بعد الإسلام، وفيه فصلان. وقد اقتبس المؤلف في هذا الباب جملة صالحة من (رسالة التوحيد) التي ليس لها في شرح حقيقة الإسلام نظير، والكتاب مفيد في بابه على اختصاره، وهو مطبوع على ورق نظيف، وثمنه اثنا عشر قرشًا أميريًّا. ويطلب من مكتبة الترقي في القاهرة، فنحث على مطالعته كل ناطق بالضاد. وإننا نورد هذه النبذة المفيدة نموذجًا منه وهي: (تشوف الإفرنج إلى بلاد العرب وذكر أشهر سياحيهم الذين دخلوها لا سيما بلاد الحجاز) : مَن تصفح كتب الغربيين علم أنهم متطلعون من زمن غير قريب لمعرفة تلك البلاد، طامعون فيها، متشوفون للوقوف على حقيقة أحوالها، حيث لم يشف غلتهم ما ذكره عن بعضها جماعة من مؤرخي اليونان والروم الأقدمين، مما لا يخلو من النقص في مواضع والحشو والرجم بالغيب في غيرها، ولا يخفى على القارئ اللبيب دواعي هذه الأطماع، فلكل دين طباع وعوائد وتجارة وصوالح يتمنى أن تسود على ما سواها، وأن يتلاشى ما عداها. وكان معظم اهتمام الفرنج باكتشاف تلك البلاد في القرن الماضي، وجاء في كتاب الجغرافي الفرنساوي لانيه عن كلامه على بلاد العرب: أن أول من باشر البحث عن هذه البلاد من الأوروبيين هو الألماني نيوبهر المشهور رئيس الإرسالية الدانيمركية (سنة 1762) وكانت رحلته لبلاد اليمن لاكتشافات علمية على ما يؤكدون. وبعد ذلك بنحو نصف قرن توصل الأسباني باديا بواسطة تغيير زيه واسمه ملقبًا نفسه: (علي بك العباسي) إلى مدينة مكة المكرمة، وكان أتى مصر أولاً وتظاهر بالإسلام، ومنها ذهب لبلاد العرب بالصفة السابقة في سنة 1807، بعد أن تحصل في حلب على أوراق رسمية تثبت نسبته إلى الأشراف [1] . وفي سنة 1809 تمكن الفرنساوي روش - وكان مترجمًا مقربًا عند الأمير عبد القادر الجزائري - من الدخول بصفة وزيّ عربي إلى مكة المكرمة، حيث حظي بلقيا وحفاوة شريفها سيدي محمد بن عون وأعلمه أنه وافد من قبل الأمير ليحصل على التصديق من علماء العرب على فتوى أفتاها علماء مصر والقيروان [2] ، وسافر من مكة للطائف، ولدى عودته لمكة حضر جمع الحج الشريف، ولكن دل عليه بعض الحجاج الجزائريين، فكشفوا خبره وفضحوا أمره وقبضوا عليه وساقوه إلى السجن، والناس حوله تحاول الفتك به، فسلمه شريف مكة كتاب أمان وبعض نقود يستعين بها على سفره، وأشخصه إلى جدة. وفي سنة 1810 ذهب الألماني شيتزن لبلاد اليمن وقُتل هناك. وفي سنة 1814 وسنة 1815 احتال السائح السويسري يورك هارد حتى دخل مكة والمدينة، ورجع مستمدًّا ببعض معلومات عن حالة البلاد الجغرافية وعن أهاليها، وتظاهر في آخر أمره بالإسلام وعليه مات وقبره بمصر، واسمه عليه هكذا: عبد الله يوركهارد، ومشهور عند العامة باسم الشيخ بركات. ثم حمل المصريون في هذا الوقت على الوهابيين، فسهلوا بعض التسهيل دخول الأجانب بلاد العرب، فتمكن بعض الفرنساويين من وصف مكة والمدينة المشرفتين وضواحيهما، وأول مَن اجتاز الطريق من الخليج الفارسي للبحر الأحمر كما ورد بكتاب لانيه المذكور هو الضابط الإنكليزي سادليه بأمر من حكومة الهند. والألماني رابيل عبر بلاد الحجاز في سنة 1826 والجهات المجاورة لخليج العقبة. وفي هذا الوقت بينما كان بعض الضباط البحريين من الإنكليز مكلفين من قبل حكومتهم بعمل خريطات لسواحل البحر الأحمر، تطوف أحدهم وهو الملازم ويلشتيد وذهب إلى عمان في سنة 1828. وفي سنتي 1837 و 1842 قام الطبيعي بوبا والملازم باسانا بما قام من قبل ينوبهر الألماني، ونجحا بعض النجاح في اكتشافاتهما العلمية. وفي سنة 1843 زار العالمان أرنولد وفولحانس فريسنل شواطئ بلاد العرب الغربية والقبلية، فزار أولهما مدينة سبأ وآثار مأرب، ونقل صور كتابات كثيرة حميرية، وفي هذا الوقت اجترأ العالم الألماني البارون وريد على التوغل حتى بلاد حضرموت التي لم يسبقه ولم يلحقه إليها أحد من الأجانب، كما قال لانيه السابق ذكره. وفي سنة 1845 دخل العالم الفنلاندي أوجستون والبين في الجوف وجبل شمر بزي مسلم، واجتاز بلاد العرب من الغرب للشرق. وفي سنة 1853 رافق الحج المسيو ريشار برتون بزي مسلم أيضًا، ووصل إلى مكة والمدينة المكرمتين. وفي سنة 1862 و 1863 تمكن ويليام بلجراف الإنكليزي من زيارة بلاد العرب من جهة الشام وشواطئ عمان، وملخص ترجمته وقصته على ما جاء في الكتاب السالف الذكر هو: أنه ولد بوستمنستر من أعمال إنكلترا سنة 1822، وكان أبوه متشرعًا ومؤرخًا إنكليزيًّا شهيرًا، وتخرج بمدرسة أوكسفورد، ثم خدم في الجيش الهندي، وأقام بعدها عدة سنين في الشام، تعلم في أثنائها العربية وتعرف ببعض الآباء اليسوعيين بها، ثم حدثته نفسه بالرحيل لبلاد العرب، وساعده هؤلاء الآباء على إنماء هذه الفكرة، وحصلوا على تعضيد نابليون الثالث إمبراطور فرنسا وقتئذ له، وصبغوا رحلته بصبغة دينية سياسية سرية، نفقاتها دفعت من جيب الإمبراطور المذكور فسافر بلجراف مؤملاً الوصول لتحريك الدم العربي الراكد - حسب زعمه - وتمدين بلاد العرب بواسطة تسهيله طرق اختلاطهم بالغربيين، ومضمرًا انتهاز فرصة الشقاق الذي كان بين أهالي نجد لإحداث ثورة دينية سياسية، عله يستفيد منها أن يستبدل دينهم بالدين المسيحي، كما ثبت في مخيلته، فتزيَّى بزي أحد أغنياء العرب، وادعى أنه حكيم، واستصحب معه بعض أهل البادية يحرسونه، ومسيحيًّا شاميًّا جعله تلميذًا له، وكان يحمل معه على ظهر ركائبه بعض أدوية وعقاقير تدل على صنعة الطب التي انتحلها لنفسه، ولما وصل إلى نجد أقام مدة بالرياض عاصمة الوهابيين، وكان يحكم عليها وقتئذ الأمير فيصل، وقد كاد هذا المخاطر بنفسه أن يلقى منيته هناك من يد ابن هذا الأمير الذي توجس منه خيفة، وقد افتضح بعض أمره، لولا تخلصه بالفرار فاجتاز النفود الشرقية وأقام بالهفوف من أعمال الأحساء، وزار القطيف وجزائر البحرين وتوجه لعمان مارًّا على هرمز ومسقط، ثم قفل راجعًا إلى الشام مارًّا بالبصرة والموصل وماردين وديار بكر. وفي سنة 1864 رسم الإيطالي كارلو جوارماني قطعة من بلاد العرب على حدود الشام، ثم إن الألماني وتيزتيد قنصل بروسيا بدمشق إذ ذاك وضع كتابًا في جغرافية بلاد العرب حسب ما التقطه من أفواه بعض الحجاج ورؤساء القوافل التجارية. وفي سنتي 1869 و 1870 ساح الألماني مالتزان والسوسيري مونزنجر والفرنساوي هالفي منفردين بالجهة القبلية الغربية من جزيرة العرب، وحصلوا كما يقولون على بعض معلومات مهمة. وفي سنة 1879 اجتاز الإنكليزي بلونت وامرأته بلاد الأردن، ومنها إلى الفرات، ثم وصل إلى حائل من بلاد نجد. وفي سنة 1881 اجتاز هوبرا صحاري بلاد العرب البحرية والغربية. وفي سنة 1882 جعل الفلكي النمساوي جلازير بلاد اليمن موضع أبحاثه. هذا ولا زلنا نسمع كل يوم بالجرائد وغيرها: أن بعضًا من الفرنج قد بارح بلاده قاصدًا السياحة والتروح ببلاد العرب، والله أعلم بما يضمرون وما يلاقون هنا وما يكتشفون. وكذلك قرأنا أن بعض الدول يحاول من سنوات الاستيلاء على شواطئ الخليج الفارسي طمعًا في أهمية مركزها وفي وفرة خيراتها، ولنترك للمستقبل كشف الستار عن هذه الأطماع ونتيجة تلك الغايات اهـ.

إحياء سنة أو سنن وإماتة بدع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إحياء سنة أو سنن وإماتة بدع لقد كانت حياة الفاضلة مُنجبة الفضلاء والدة أصحاب العزة سعد بك وأحمد فتحي بك زغلول خيرًا؛ لما كانت تأتيه من أعمال البر والإحسان، وكان في مماتها خير لما أمات من البدع وأحيا من السنن. مَن كان يخطر على باله أن العادات السيئة التي أضرت بالدين والدنيا تحكم على العلماء وأهل الهداية والإرشاد، فلا يحاولون التفصي من عقلها والانطلاق من قيودها، ثم تكسر مقاطرها (جمع مقطرة: خشبة فيها ثقوب توضع فيها أرجل المحبوسين وقد فسرت قبلاً) بأيدي علماء القانون وقضاة المحاكم الأهلية النظامية الذين يتوهم المعتزلون عن العالم في خلواتهم ومساجدهم أنهم لا يبالون بخدمة الدين والانتصار لأصوله الشريفة والتدقيق في أحكامه والعمل على إحياء سننه وآدابه الكافلة لسعادة الأمم. يقضي الميت في بيوت رجال الدين، فتنشر الشعور، وتدق الصدور، وتلطم الخدود، وتشق الجيوب، وتسودّ الوجوه والملابس، وتقلب أوضاع المساكن، وتصيح الصائحات، وتعدِّد النائحات، وتسير الجنازة والنار توقد أمامها، ودخان البخور يتصاعد من المجامر الفضية (إذا كان الميت غنيًّا) أو غير الفضية، ويعلو الضجيج من فرق أهل الطريق، فمنهم من يقرأ الأوراد، ومنهم من ينشد الأشعار، كالبردة والمنبهجة، فتختلط أصواتهم بأصوات النساء الصارخات إلخ ما هو مشاهد لجماهير القراء، ثم تعقد محافل المآتم ويكون فيها من الإسراف والتبذير والعادات السيئة المستثقلة التي ينكرها الشرع وينبذها العقل ويتبرم منها كل ذي علم وفضل ودين وأدب ولكنهم يقولون: العادات محكمة لا مرد لقضائها. ربما تراءى لكثير من الفضلاء أن يتفلتوا من أسر هذه العادات، ولكن يصدهم عن ذلك خوف اللائمة من المقيدين بتلك السلاسل ورميهم بالبخل والفرار من النفقات. ولكن للحق رجالاً لا تأخذهم فيه لومة لائم، يؤيد الله تعالى بهم الفضائل ويحيي السنن الدوارس. مرضت الفاضلة التي ذكرناها في صدر هذه النبذة في بلدها خارج القاهرة، فلما اشتدت عليها وطأة المرض وأحست بدنو الأجل طلبت الانتقال إلى العاصمة لتموت فيها هربًا من العادات الجاهلية التي يجري الناس عليها في المآتم، ولا مناص منها في الأرياف، وكأنها واثقة بحسن تربية نجليها وقوة عزيمتهما في مقاومة العادات القبيحة مع مظهرهما العظيم، وكذلك كان. فقد أبطلا في تجهيزها وجنازتها بدعة النواح وما يلتحق به مما أشرنا إليه آنفًا، وبدعة حمل النار والتبخير أمام الجنازة التي سرت إلى المسلمين من أهل الملل الأخرى، وبدعة رفع الأصوات في الأوراد والأشعار التي مر ذكرها، وبدعة الاحتفالات ليالي الجمع إلى أربعين يومًا وأعلنا أنهما يقبلان التعزية ثلاث ليال فقط؛ اتباعًا للسنة الشريفة. وقدرا ما ينفق عادة في الاحتفالات المعتاد أمثالها من الذوات أصحاب المظاهر، وقررا إعطاءه للجمعية الخيرية الإسلامية لتوزعه على الفقراء، فسنا بذلك سنة حسنة تسهل السبيل على من يريد ترك الاحتفالات التي يسمونها (المياتم) ويخشى اللائمة والرمي بالبخل. ومعلوم أن جنازة هذه الفاضلة قد حضرها خواص المصريين من جميع الطبقات: العلماء والأمراء والحكام والتجار، كما فصلت ذلك الجرائد اليومية، فعسى أن يجري الجميع بعد هذا على إماتة البدعة وإحياء السنة وإصلاح العادات الفاسدة المضرة بالدين والمال، فقد رأوا أن ما كان يحذر من الذم والقدح على ترك هذه العادات قد استبدل به الثناء والمدح، فما من عاقل إلا وهو يلهج الآن بالثناء على سعد بك وفتحي بك الفاضلين، وأجدر بشيوخ العلم والطريق أن يكونوا من السابقين إلى ما ذكر على الوجه الأكمل، والله ولي المتقين.

الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية [*] تكلمنا في العدد الماضي على أهم أركان الإصلاح الإسلامي وهو: التوحيد في العقائد والتعاليم الأدبية والأحكام القضائية والمدنية واللغة، وقلنا: إن هذا الإصلاح يتوقف على تأليف جمعية إسلامية على الوجه الذي ذكرناه، وإنما التوقف بالنسبة لكمال الإصلاح وسرعة إنجازه وتعميمه، حتى في الأحكام وفي جميع الشعوب الإسلامية، كما هو ظاهر، لا بالنسبة لأصل الإصلاح، وإن كان بطيء السير وغير شامل لجميع الفروع، وقد وعدنا بأن نذكر بعد التواحيد الثلاثة أهم ما يناط بالجمعية وشُعبها من الأعمال (وهي ثلاثة) وأهم نتائجها، وإنجازًا للموعد نقول: العمل الأول: تلافي البدع والتعاليم الفاسدة قبل انتشارها: لو تنبه الخلفاء لهذا العمل من القرون الأولى - وهو أهم وظائف الخلافة - لما انتشرت التعاليم الباطلة التي زعزعت العقائد وأفسدت الآداب، ولبست المسلمين شيعًا، وأذاقت بعضهم بأس بعض، ولا تزال هذه التعاليم تنجم كقرون المعز، فتزيد الأمة تفريقًا، فإن المذاهب التي حدثت في هذا القرن من فروع الباطنية قد انتشرت بسرعة غريبة استلفتت أنظار الأمم المتيقظة، وإن عمي عنها الذين لا يبصرون، وصم عنها الذين هم عن السمع معزولون، لاعتقادهم أن التربية والتعليم لا يفيدان، وأنه لا يؤثر في الأمة إلا الملوك والحكام. وأن تعاليم أخرى باطلة تنشر بين المسلمين آنًا بعد آن، منها ما يزعزع العقائد، ومنها ما يفسد الآداب ويجرئ على استباحة المحظورات، وتتلقاها العامة - وأكثر الناس عامة لا علم لهم بالدين - بالقبول، ويكون لها أقبح الأثر في أعمالهم وأخلاقهم. أذكر منها الآن شيئًا واحد، أطلعني عليه من عهد قريب بعض الإخوان المتنبهين، وهو دعاء طبعه (عبد اللطيف القباج) المقيم في مصر ووزعه مجانًا ليعم نشره، وسماه: (دعاء سيدي عبد الله بن سلطان) صدَّره واضعه بحديث مكذوب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ملخصه: أن رجلاً من الصحابة اسمه (محمد بن سلطان) كان يفعل القبيح ويشرب الخمور ويداوم على الفسوق والفجور، وكان لا يصلي ولا يصوم ولا يتصدق، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر إلا أنه كان يقرأ استغفارًا في أول شهر رجب، فلما حضرته الوفاة نزل جبريل على النبي يبلغه أمر الله بحضور وفاته وتجهيزه، ففعل ووجد الملائكة والحور العين قد اجتمعوا صفوفًا، لا يحصي عددهم إلا الله يحضرون جنازته … ولما وقف النبي عليه السلام على سبب ذلك من زوجته وأنه الاستغفار الذي ذُكر آنفًا أمر عليًّا كرم الله وجهه بكتابته وقال: (مَن قرأ هذا الاستغفار أو جعله في داره أو متاعه أو حمله معه في سفره، جعل الله له ثواب ثمانين ألف ملك وثواب ثمانين ألف صديق وثمانين ألف شهيد وثمانين ألف كذا وكذا ... ومن قرأ هذا الاستغفار في عمره مرة واحدة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وليس عليه حساب ولا عقاب، وبني له ألف قصر في الجنة في كل قصر ثمانون ألف حجرة في كل حجرة ثمانون ألف سرير على كل سرير حورية من الحور العين وشجرة تظلها وفيها ثمانين ألف ورقة كل ورقة مثل الدنيا. ومن قرأ هذا الاستغفار في عمره مرة واحدة، فإن الله تعالى يعطيه ثواب أهل مكة والمدينة وبيت المقدس، وإن مات أمر الله سبعين ألف ملك يشيعون جنازته، واذا قام من قبره يوم القيامة يضيء وجهه مثل القمر فيقول الخلائق: هذا نبي مرسل أو ملك مقرب، فيقول جبريل: لا ورب الكعبة لا نبي ولا ما لك، بل هو عبد من بني آدم أكرمه الله بقراءة هذا الاستغفار، ثم يأتي الجنة فيدخلها بغير حساب ولا عقاب) ثم يذكر له فوائد دنيوية، ويختم الكلام بقوله: (ومَن شك في ذلك فقد كفر) يعني من شك في هذا الحديث الموضوع لهدم الدين وإبطاله بالمرة وإباحة جميع المحرمات فهو كافر، وبعبارة أخرى: من شك في الكفر الحقيقي، وهو ما ذكرناه من فوائد الاستغفار فهو كافر في عرفه واصطلاحه، (نعوذ بالله) . ما الذي أثار هذه الأوصاف في ذهن واضع هذه الفرية، وما الذي أغواه حتى وضع هذه الأضلولة؟ أثارها في خاطره موضوعات أخرى من قبيلها، تلقَّى بعضها من الدفاتر وبعضها من خطباء المنابر، وأقربها إلى فتنته ما يسمونه: (دعاء عكاشة) وهو مطبوع تتداوله الأيدي وتقرأه الألسن ويتخذه الناس عوذة (حجابا) للحفظ من الشياطين ومن الأمراض، وهو أكذوبة موضوعة كذبها على النبي عليه السلام بعض الدجالين المضلين، كواضع هذا الاستغفار. وأخف من ذلك في الإضلال والإغواء، ومثله في الكذب على سيد الأنبياء: ما نسمعه من خطباء الجهل والفتنة من الغلو في مدح الشهور، وبيان فضائلها، ومنها أحاديث كثيرة في صوم رجب، ومنها الحديث المشهور عند الخطباء في فضل رمضان، وهو: (إن الله يعتق في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق من النار، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق بقدر ما مضى) ويروى بغير هذه الألفاظ وهو موضوع لا أصل له. ومما يحسن التنبيه عليه هنا كيلا يغتر به الجهلاء أن جريدة طرابلس التي تدَّعي خدمة الدين قد أوَّلت هذا الحديث بما حسب صاحبها أنه يقربه من الأفهام (وما هدم الأديان إلا تأويل الأباطيل) لأنه مع كذب روايته بعيد عن العقل، وفي تأويله غش للعامة بتصديقه والاغترار بوعده الذي يستلزم عتق جميع أفراد الأمة من النار، وعدم مؤاخذة أحد منهم بذنب فيما يتبادر إلى الأذهان، ونعوذ بالله من الخذلان (وسنوفي هذه المسائل حقها من البحث في مواضعها إن أمهل الزمان ووفق الرحمن) . تراقب الجمعية بواسطة أفراد شُعبها جميع المطبوعات، كما تراقب دعاة الفتنة وكلما وقفت على شيء من البدع والأباطيل تنبه عليه في جرائدها، وتوعز إلى الخطباء والمدرسين بالتنبيه عليه والتحذير منه، وبذلك يقف تسياره ويمتنع انتشاره. العمل الثاني: إصلاح الخطابة الخطابة: ركن من أركان العبادة في الديانة الإسلامية. ومن وقف على ما لها من الأثر الحميد في الأمم المتمدنة، وما لها من الشأن في جمع كلمتهم وتأليف قلوبهم. وتنشيطهم إلى العمل في إسعاد أمتهم ووطنهم فقه سر جعلها من أركان العبادة المشروط فيها الاجتماع. وقد مات روح الخطابة في المسلمين، وصار هذا الركن رسمًا ماثلاً، بل يكاد يكون دارسًا، بل صارت الخطابة وظيفة يقصد بها التعيش، فتناط بالجهال وتنال بالوراثة، مع أنها وظيفة الإمام الأعظم أو نائبه، وإنما كانت كذلك لأن من شأن هؤلاء أن يكونوا عارفين بمصالح الأمة واقفين على سائر شؤونها، وأصحاب الكلمة المسموعة والسلطة النافذة فيها. ولا سعة في هذا المقام لتوفية هذا الموضوع حقه فنؤجله لفرصة أخرى ونكتفي بالإشارة إلى عمل الجمعية فيه، وهو أمران: أولهما: تأليف خطب في مصالح الأمة، تطبع وتوزع على الخطباء الذين لا يحسنون الخطابة بأنفسهم، وهم الأكثرون، ويأمر الخليفة بأن يخطب بها دون سواها إلى أن يوجد خطباء حقيقيون، والأولى أن تجدد هذه الخطب كل عام. والثاني: تعيين الطريق لتحصيل ملكة الخطابة، ليسلكه كل مرشح لها، فيكون خطيبًا مصقعًا طبعًا لا تكلفًا، ولا يوجه الإمام هذا المنصب على أحد إلا بعد اختياره من شعبة الجمعية التي في بلاده بأن تقترح عليه أن يخطب في مواضيع مختلفة على البداهة، والشهادة له بالإجادة. العمل الثالث: الدعوة إلى الدين نعني بالدعوة إلى الإسلام ما يشمل الدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى فضائله وآدابه وأعماله التي تؤدي إلى سعادة الدارين، ويدخل في هذا النهي عن المنكرات والفواحش. وأن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم دعائم الديانة الإسلامية، وسنفرد لها مقالات خاصة إن شاء الله تعالى. من قرأ التاريخ الحديث علم أن المسلمين الضاربين في أحشاء إفريقية ويعدون بعشرات الملايين ما تناولوا الدين الإسلامي بدعوة من العلماء والخطباء، ولا اعتنقوه بإلزام من الملوك والأمراء، وإنما دخل بلادهم بعض التجار والمحترفين من نحو مزين وحجام، فرأوا منهم ثيابًا وأبدانًا نظيفة، ونفوسًا عفيفة، وسجايا شريفة، واعتقادات معقولة، وفعالاً جميلة، فقلدوهم مختارين، ودخلوا في دينهم طائعين. من وقف على هذا وعلى الأسباب الصحيحة لانتشار الدين الإسلامي في كل قطر وكل عصر من العصور تجلى له أن هذا الدين لو وجد له دعاة كدعاة الأديان الأخرى لما بقي للوثنية هيكل يقصد، ولا صنم يعبد، ولظل الناس يدخلون فيه أفواجًا من جميع الملل، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. ولكن أهله لم يكتفوا بعدم الدعوة إليه، بل أوقفوا سيره بأقوالهم وأعمالهم المخالفة لهديه. فإذا وفق الله المسلمين للاستعداد للدعوة، كما تستعد الدعاة من الملل الأخرى، وطافوا بلاد الله مبشرين ومنذرين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كما أمرهم الكتاب العزيز - رأيت للإسلام شأنًا عظيمًا وانتشارًا عميمًا. إن وجود الجمعية التي نتكلم عنها يكون عونًا عظيمًا للوصول إلى هذه الرغيبة ولكن لا يتوقف عليها إلا في كماله. أهم نتائج أعمال الجمعية إذا تحققت الآمال ونجحت هذه الأعمال، فلا ريب أن الحكومات الإسلامية يتقرب بعضها من بعض، وتظهر فيهم الأخوة الإسلامية، ويتحدون على صد هجمات أوروبا عنهم، وإيقاف مطامعها عند حدود معينة، ولا يمنع اختلاف المذاهب من ذلك بعد ما قررناه، ولا يصعب على السلطان الأعظم أن يأذن للشيعة بإقامة إمام لهم في مكة المكرمة إذا توقف الاتحاد والالتئام على ذلك. ولقد كان للعثمانيين في ذلك من الإباء المنبعث عن تعصب بعض شيوخ الإسلام وجهله بسياسة الملة ما رمى هاتين الدولتين الإسلاميتين (العثمانية والإيرانية) بالانفصام والافتراق، بعد وشك الاعتصام والالتصاق، أما حرص كل ملك وأمير على كمال الاستقلال في بلاده وامتناعه عن الاعتراف للآخر بالرئاسة الدينية، فهو من عقبات الإصلاح المطلوب، ولكن الشعور العام بالخطر الذي يتهدد الجميع بالافتراق مع الأمن من مس الاستقلال الإداري والسياسي يسهل على الجميع إسناد الرياسة الدينية لأرفعهم مكانة، وأعلاهم منزلة، وأقواهم دولة. وغاية هذا الاتحاد أن تكون هذه الدول كالدول المتحالفة بالنسبة للأمور الخارجية وكالولايات المتحدة في الإصلاحات الداخلية، كالتربية والتعليم، ووحدة الأحكام والآداب واللغة، ولو لم يتم ذلك إلا في زمن طويل، وأن لا يكون لأحد منهم سيطرة في ملك الآخر أو إمارته، بل تسير كل مملكة وكل إمارة في إدارة بلادها بإرشاد مجلس الشورى الذي ينتخبون أعضاءه من عقلاء بلادهم. هذه إشارات مجملة في هذا المقام سنحت للخاطر، ومتى وفق الله للعمل تنحل بأيدي القائمين به عقد كل إشكال، وصحة القصد تهدي كل ذي ضلال. لا سلامة للجمعية الكبرى إلا بسلامة البلاد الحجازية وإغنائها عن الأجانب فيما تتوقف عليه حياة أهلها، وقد قلنا في مقالة سابقة: إن معظم قوت تلك البلاد يجلب إليها من مواني البحر الأحمر، فإذا تسنى لمثل إنكلترا الاستبداد فيه وحصر موانيه، فإن أهل الحجاز يموتون جوعًا. فيجب على الدولة العلية على كل حال (وإن ذكرناه بمناسبة الجمعية التي اقترحناها) العناية الكبرى في عمارة تلك البلاد: أولاً: بإنشاء طريق حديدي من دمشق الشام إلى مكة والمدينة والطائف. وثانيا: بتسهيل السبل لإحياء ما فيها من الأراضي الموات الصالحة للزراعة والانتفاع بالينابيع التي تفور في

الغرب الأقصى

الكاتب: ن. الفويكي

_ الغرب الأقصى (هل يمكن استرجاع مجد الشرق بقوة الإسلام) طنجه (مراكش) في 6 ديسمبر لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء وردت هذه الرسالة الآتية لجريدة المؤيد الغراء، فأوردناها بحروفها وذيلناها بما عندنا من الجواب على السؤال الذي بُنيت عليه، وهي: مسألة نلقيها على أصحاب النُّهى والأقلام، نعرضها على أرباب السيادة والأحكام، نكشفها لأفراد الأمة كبيرها وصغيرها، رفيعها ووضيعها، عاقلها وجاهلها. مسألة حان الخوض في عبابها، وآن الزمان لكشف نقابها، والبحث عن أسبابها، فقد طفحت الكأس، وسئمت الناس، وبلغت الروح الحناجر. ألا ترى إلى الإسلام كيف رقّت حواشيه، وحطت معاليه، وعبثت أيدي البغاة فيه، حتى صارت سماؤه الزاهرة بغيوم الكروب سوداء، وأرضه الناضرة من دماء أبنائه حمراء. ألا ترى إلى الشرق كيف تناوشته الأنواء، وتكالبت عليه الأعداء، فخرقت أحشاؤه، وفتحت أرجاؤه، وضيق عليه من جميع الأنحاء. توفرت للإفرنج المعدات، وكثرت لديهم القوات، ورأوا الشرق يغشاه سبات الخمول، ويعتري أهله داء الضعف والنحول، فحملوا عليه بجيوشهم وأعوانهم، وزاحموا بنيه في بيوتهم وأوطانهم، حتى امتلكوا بكرة أقطاره، وزهرة أمصاره، ووطدوا العزم لغزو ما بقي مستقلاًّ من أراضيه. يقولون: من فاتنا اليوم فميعادنا معه إلى الغد، ومن عاهدناه بالأمان فليطمئن إذا شاء على هذا العهد. هذا وعشائر العرب وجموع المسلمين وشعوب الشرق جمعاء تنظر إلى هذا البلاء ولا تستفيق، وترضى بالهوان وتطيق، كأنما فقدت بينهم الحمية، وماتت من رجالهم روح الأنفة والاستقلال، أو استحكمت فيهم رهبة العدو فمدوا أعناق التسليم وأقروا له بالخضوع والإذلال، وأنت إذا حسبتهم تراهم يعدون مئات الملايين يملأون البطاح والوهاد، بينهم رجال الحروب وأبطال الوغى، منهم العلماء وأرباب النهى، دولتهم فيما مضى وصلت الغرب بالشرق، انبسطت إلى أطراف المعمورة، خضعت لها برابرة إفريقية في الجنوب، وهابتها جلالقة الروم في الشمال، لكن يا للأسف كثرتهم لم تغن عنهم آفة العدو، ومجد أسلافهم لم يدفع عنهم سيف الأجانب، فقد امتلكت اليوم دول الإفرنج القسم الأعظم من بلادهم، واسترقت العدد الأوفر من شعوبهم. انظر: دولتان قد افترستا زهرة بلدانهم، وأعملتا السيف في أبنائها، ودولة أخرى تتحفز للوثوب، وتتهيأ لقلع أركان مملكتهم، فرنسا اغتصبت الجزائر وتونس في الشمال، وغلبت على سودان المغرب في الجنوب، شقت بطن الصحراء وضيقت على سلطان مراكش، دافعة عساكرها كل يوم ومن كل ناحية إلى الأمام حتى لا تترك أثراً للسيادة العربية في المغرب. إنكلترا حكمت سيوفها في سبعين مليونًا من مسلمي الهند، قبضت على باب المندب وبوغاز السويس في البحر الأحمر، بسطت جناحيها فوق زنجبار، قعدت بكلكلها على مصر، أهلكت في أم درمان في ظرف ساعتين فقط نحو خمسة عشر ألفا من الدراويش، بل من نخبة رجال العرب ونخوة رجال السودان. روسيا تستعد كل يوم، تجند الجنود وتحشد الألوف على الحدود، تتربص الفرص للوثوب، وتنتهز يومًا مناسبًا للزحف. وماذا يفعل المسلمون؟ في الهند ملايين المسلمين تدعو بالنصر لملكة الإنكليز علانية، وتتغلل صدورها بالغيظ والسخيمة عليها سرًّا، وقد ملئت قلوبهم بالذل وفقدوا كل نخوة وحمية. في تركيا اختلفت الأهواء وتعاكست الآراء، ووقف السلطان وحده يذود عن بيضة الخلافة والملك، حيث أوروبا بأجمعها تحاربه بالسلم، وقد تمكن الدخيل في الرعية وانحرفت الأحكام عن جادة الحق في الغالب، فاختلت لذلك الحكام، وامتلأت القلوب ضغنًا فوهت بذلك أركان قوة الدولة، وأخذ الأعداء ينقصون من أطرافها كل يوم وناهيك بما انتهى إليه أمر كريد عبرة. مصر مسند العرب وعماد الإسلام، سلمت السيف وخضعت للقدر، وسكانها الذين استنارت أذهانهم بروح هذا العصر انقسموا إلى حزبين: حزب يفاخر بمعاضدة إنكلترا، وآخر يباهي بمسالمة فرنسا. سيد البلاد ينام والكدر ملء جفنيه ورجال البرلمان بإنكلترا يبيتون على فرح كامل وسرور شامل. في تونس والجزائر كلمة (بونجور) خلفت كلمة (السلام) وخلاعة الإفرنج حلت محل آداب العرب، وكادت تهتك حرمة الإسلام، ومراكش المملكة الوحيدة العربية التي حفظت استقلالها إلى الآن استحكمت فيها الفوضى، ورسخ بأرجائها الجهل، وحكومتها عوضًا عن أن تكون حامية للشعب وحافظة لحقوقه تهتك أعراضه وتبيح دماءه وتستلب أمواله، لا ينجو منها عالٍ ولا وضيع. أما أقطار الصحراء الواسعة وما والاها من سودان الجنوب فسل عنها فرنسا بالغرب، وإنكلترا بالشرق، فهما بها أدرى، وبالكلام عنها أحرى. هذه هي اليوم حالة الإسلام وحالة الشرق أجمع. سردنا لك حقائقها بأبسط الوجوه وأوضحها، لم نوشحها بنامق العبارات، ولم نطلها بزخرف الكلام؛ حتى تظهر لك ساطعة كالشمس في رابعة النهار. حتى تعلم أن نصيب الشرق في كفة الميزان وأن حالته الحاضرة تنذر بفناء الأمة وذهاب العرب. هل يمكن إذن رد هجمات الشمال عن الجنوب، ودفع غارات الإفرنج عن أمم الإسلام، واسترجاع ما فقد المسلمون من الأملاك والممالك، والشمال كما تعلم قواته تفوق الآن الحصر، ومعدات تدهش الفكر، لم تدركها العرب ولا الترك ولا غيرهم من أمم الجنوب. نقول: إنه لا يمكن إن دام الحال على هذا المنوال. ونقول: يمكن إذا صاح صوت من غربي إفريقية وقطع مجاهل الصحراء فرددته أعجاز النيل، ثم تناقلته وِهاد العربية ووديانها، فارتجت لدويه الهند وتداولته سهول الشام وجبالها، فاهتزت لصداه أركان الآستانة العلية، مكان عرش الخلافة وموضع التاج من رأسها. أو إذا لفحت ريح من الشرق فزعزعت أهرام مصر وهبت نحو الغرب، فنبهت أحياء إفريقية واستيقظ الناس واجتمعت الكلمة. ولكن بأي واسطة أو أي سبيل يتم هذا الأمر؟ ذلك نتركه لفطنة القارئ وحكمته. ومتى تذكر أن الدولة التي قوضت دولة الرومان وبسطت سلطتها من الهند إلى الأطلنطيك إنما قامت عن قبائل متوغلة في الخشونة والهمجية، أقوى سلاحها الاتحاد والحمية، يعلم أننا لم نفرض المستحيل، وأن الدهر أبو الغرائب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الامضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ن. الفويكي) (جواب المنار) قول الكاتب الفاضل: إن رد هجمات الشمال عن الجنوب ودفع غارات الإفرنج عن أمم الإسلام غير ممكن إذا دام الحال على هذا المنوال - قول صحيح لا ريب فيه. وقوله: (يمكن إذا صاح صوت من غربي إفريقية إلخ أو إذا لفحت ريح من المشرق إلخ) محل نظر وبحث، إذ يتبادر أن مراده بالصوت الصائح، والريح اللافح، قيام المسلمين بثورة عامة تبتدئ من الغرب فيليها الشرق، أو تهب من الشرق فيتزعزع لها الغرب، وتنهض الأمة نهضة واحدة للتنكيل بالدخلاء الذين عدوا على البلاد مفتاتين، فاستبدوا بالسلطة واستأثروا بالرياسة. وهذا مراد لا ينال وغاية لا تدرك، فالمسلمون لا تجمعهم لغة ولا حكومة، والرابطة الدينية قد سحل مريرها وانتكث فتلها من أجيال طويلة، بما اعتورها من اختلاف المذاهب، وتنوع المشارب، وتمزيق السلطة بتفريقها، وما تولد عن ذلك من دماء سفكت، وحرمات انتهكت، وأرحام قطعت، وقد آل أمر هذه الفتن فيهم إلى أن استعان كثير من أمرائهم وسلاطينهم بأعدائهم على إخوانهم في الدين، وأعانوهم عليهم في بعض الأحايين، ولا أبعد عليك في الشاهد ذهابًا إلى تاريخ الدول المنقرضة، فإن في هذه الدول المواثل (جمع ماثل وهو الرسم الذي بقي له أثر) ما يغني عن الاستشهاد بالأوائل. إن بريطانيا ما استقرت قدمها في الهند إلا بمعونة الأفغانيين، وإن فرنسا ما تم استيلاؤها على الجزائر إلا بمساعدة المراكشيين والتونسيين، وكفى بخذل القريب، مساعدة للغريب، وقد كان لدولة الإيرانيين يد عاملة في انتصار روسيا على العثمانيين، وإن الأمراء الذين أضلوا الأمة عن سواء السبيل، وفعلوا بها هذه الأفاعيل، هم الذين يصدونها عن سبيل الاتحاد، ويحولون بينها وبين كل مراد، فأَنَّى تتألف عناصرها وتتلاصق جواهرها، وهذه الآلات المحللة لا تبرح عاملة فيها بالتفريق، ومتى تبلغ هذه الغاية والقائد هو الذي ينكب بها عن جادة الطريق، لم يدع أمراء المسلمين وسلاطينهم في بلادهم زعيمًا يرجع إليه، ولا رجلاً تجتمع القلوب عليه، إلا وخضدوا شوكته، وحصدوا نبتته، إلا ما يكون في البلاد الهمجية من زعماء الفتنة الذين يخرجون على سلاطينهم، ويعملون قوتهم فيما يصب البلاء عليهم وعلى أمتهم ودولتهم، كالذين أضرموا نيران الثورة في السودان، والذين لا يزالون يضرمونها في اليمن ومراكش، وكل أولئك يصح أن تتمثل الأمة فيهم بقول الشاعر: وإخوان حسبناهم دروعًا ... فكانوها ولكن للأعادي وخلناهم سهامًا صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي وأقول: إن بلاد المسلمين قسمان. قسم له حكومة منظمة، وجنود معلمة، كالدولة العلية والدولة الإيرانية [*] . وقسم ليس كذلك كدولة مراكش، والقسم الأول فيه بلاد ههمجية لم يسسها النظام، ولم تنفذ فيها القوانين والأحكام، فالحكومات أنفسها لا تقدم على محاربة دول الشمال لما تعلم، ولا يمكن أن يثور الأهالي في البلاد التي لها حكومات منظمة على الإفرنج الذين تبوءوا بلاد الإسلام، لأن حكوماتهم هي التي تكبح جماحهم، وتنكث قواهم، فيكون ذلك سببًا في زيادة ضعفها، وأما البلاد الأخرى فليس شأنها بأبعد من شأن هذه، فحضرة الفاضل صاحب المقالة أعلم منا بما يجنيه أهل الريف في بلاد مراكش على حكومتهم من إغارتهم على السواحل وانتهابهم مراكب الإفرنج وتعديهم على أهلها، فلقد أثقلوا غارب الدولة وحملوها من المغارم التي تدفعها للحكومات الأجنبية باسم الترضية ونحوه ما إذا طال عليه العهد يخرج عن طوق احتمالها، ويؤدي إلى طموح الأجانب لاحتلالها، وإذا ضممت إلى تفرق الكلمة وتنكيث القوى وضعف الحكومات حتى عن الرعية في البعض ما عليه دول الشمال القوية الحازمة من الاتفاق والاتحاد على ابتلاع أمم الجنوب وهضم حقوقها، على اختلاف الوسائل والتنازع في اقتسام الممالك - لاح لك أن الثورة والقيام على الأجانب خطر عظيم عاقبته مظلمة جدًّا، والنتيجة أن هذا أمر لا يقع، ولئن وقع فقد يضر ولا ينفع. إن الشعور بحالة الأمة السيئة صار عامًّا لا يكاد يجهله في جملته أحد، ولكن الذين يتوقع منهم شعب الصدع ومداواة الكلم، قد اكتفى أهل النظر والفكر منهم بتأسف العجائز، وتحسر الزَّمْنى، بل بما هو أشبه بحزن النسوان، ومنهم العميان والمخدرو الجثمان الذين لا يبصرون، ولا يتألمون، وهم متفقون على أن إصلاح الحال وإزالة الاختلال، لا يمكن أن يأتي إلا من قبل الحكام، والحكام ميئوس منهم في أكثر البلاد فالإصلاح كذلك. هذا هو الرأي الغالب على الناس إلا من هداه الله وقليل ما هم. ومن الناس من يتكلم في الإصلاح بغير هدى ولا عقل منير، فإما كلام مقطع غير معقول، وإما تغرير بالعقول، وأغرب ما كتب في ذلك الكاتبون الحث على الالتجاء لدول أوروبا والاعتماد عليها في إلزام الدولة العلية بالإصلاح على الوجه الذي يرونه أو تراه تلك الدول، وغاية هذا تسليم البلاد لها، وقد فندنا هذا الرأي الفاسد من قبل، وهو لبعض الغارِّين أو الأغرار، الذين يسمون أنفسهم بالأتراك الأحرار، والذي نعرف عن النبهاء والمتعلمين في مدارس الحكومة من الأتراك والمصريين أن الإصل

قضايا مسلمة في طعن عوام الشرقيين في الأوربيين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قضايا مسلَّمة في طعن عوام الشرقيين في الأوروبيين من القضايا المسلمة عند جماهير الشرقيين أن الأوروبيين ما بلغوا شأو الشرقيين في الطب ولا قاربوا، وأن الذين يسيرون على آثارهم في مداواة الصحة وفي التطبب تضعف بنيتهم وتضوى أجسادهم وتفشو فيهم الأمراض والأدواء. وأن عقولهم ضعيفة لا تدرك العلوم العويصة ولا تصل إلى المسائل الدقيقة، وما امتازوا على الشرقيين بشيء من العلم إلا بالصناعات العملية، ويعبرون عن هذا الاعتقاد بقولهم: (الإفرنج عقولهم في أيديهم، وبعضهم يقول: في أعينهم) وأن الفضائل بعيدة عنهم بمراحل، فهم أصحاب خفة وطيش، سريعو الحركة يعدون في المشي عدوًا، قليلو الأدب، يجلسون مادين أرجلهم مهما كان جلساؤهم عظامًا، بخلاء أشحاء لا يرحمون فقيرًا، ولا يحضون على طعام المسكين، يستأذن أحدهم زائره في القيام إلى المائدة ولا يدعوه إلى مشاركته في تناول الطعام الذي حضر، سواء كان الزائر صديقًا أو حبيبًا أم قريبًا أم غريبًا، شهواتهم غالبة على أمرهم، وأرواحهم في وحشة من جسومهم، ولا يكتفون بالاستدلال على ذلك بكثرة شربهم للخمور، وتهتكهم في الفجور، بل يعدون من أدلته شدة تكريمهم وتعظيمهم للنساء، بحيث يشرك الرجل قرينته معه في جميع الشؤون، ويشاورها في كل أمر، ويرافقها إلى الملاعب والمنتزهات العامة والخاصة، ويسافر بها إلى البلاد القاصية لمحض التنزه بل ارتقوا في تعظيم أمرهن إلى تصديرهن في المجالس وتقبيل الملوك أيديهن، بل إلى تقليدهن الأعمال والوظائف في الحكومة. ما كل مسلَّم بصحيح، فالأوروبيون أربوا على الشرقيين في الطب، وأما ضعف أبدان الذين يسيرون على آثارهم في مداواة الصحة، فليس السبب فيه الطب ومداواة الصحة على طريقتهم، وإنما سببه الترف والانغماس في الشهوات والإفراط في اللذات التي يتولد منها ما ذكر من الأمراض. ومن لاحظ الإحصاءات الصحية في بلادهم ينجلي له كيف قلَّت بتقدم الطب الوفيات، وخف فتك الأمراض والأدواء. وأما قولهم: إن عقولهم ضعيفة إلخ. فهذا يقوله من لا يعرف ما عندهم من العلوم، ومن يعتقد أن العلوم الصحيحة هي التخيلات والسفسطات الفكرية التي لا ترشد إلى عمل ولا تنطبق على حقيقة واقعة، وأما كلامهم في أخلاقهم وآدابهم فمنها الصحيح والفاسد، وأكثر رذائل القوم مبنية على فساد الاعتقاد، فهم لا يأتون ما ننتقده عليهم إلا وهم يرون حسنه في الغالب. وأما إفراطهم في تعظيم النساء، فيقابله تفريطنا في ذلك، وليس ذلك التعظيم لمجرد الشهوة، بل فيه مصلحة عظيمة للأمة، ولكنهم أفرطوا كما قلنا، وإن لنا كلامًا آخر في هذه المسائل نرجئه للفرص.

خطبة ناظر خارجية ألمانيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة ناظر خارجية ألمانيا (ألقى ناظر خارجية ألمانيا خطابًا تكلم فيه عن المسائل الخارجية، فآثرنا منه ما يتعلق بمصالحنا نقلاً عن جريدة الأخبار الغراء لما فيه من العبرة) (المسائل الشرقية) إن المسألة الشرقية بوجه عام واقفة في حض السلم والأمن، ولا أريد من ذلك أن أقول: إن هذه المسألة قد حُلت حلاًّ نهائيًّا؛ لأن المسألة الشرقية كخيلة البحر إذا اختفى منها جزء ظهر آخر، والحل النهائي لهذه المسألة لا يراه أحد منا، إذ لا بد أن ندع لأبنائنا وأحفادنا من بعدنا بعض النوى لتكسره أسنانهم (ضجيج عظيم) أما الآن فإن هذه المسألة ليس فيها الخطر الداهم الذي كان موجودًا منذ سنوات ماضية. ولربما كانت في كيفيتها وفي جوهرها قد أصبحت أكثر إشكالاً وتعقيدًا مما كانت عليه منذ عشرين سنة. (المسألة البلقانية) إنه منذ ذاك العهد حتى الآن أصبح الخلاف بين الشعوب البلقانية أشد من الخلاف بين المسيحيين والمسلمين؛ لأن تلك الشعوب يزيد اختلافها كلما زادت رغبتها في استقلالها وسلطتها ونجاحها، فإذًا يوجد في البلاد البلقانية بعض ظروف يمكن أن تمسي ذات يوم ثمرة الخلاف والشقاء، على أنها طفيفة لا تهدد السلم العام أما ألمانيا فإنها لا تنوي نيل نفوذ في الشرق تختص به دون سواها، وهذه الخطة ليست فقط نتيجة أخلاقنا وطباعنا، بل هي المبدأ العام الذي يستند عليه نفوذنا في قرن الذهب. ونحن قد اكتسبنا ميل تركيا إلينا؛ لأن هذه الدولة ترى أن ألمانيا تود مراعاة الحقوق الدولية معها، وأن يستتبّ في الشرق سلم دائم وأمن أكيد، وبما أنّا بذلك لا نقف حائلاً في وجه دولة من الدول فنحن أصدقاء الدول كلها. وإني أورد هنا بكل مسرة أن رومانيا لها اليد الكبيرة في حفظ النظام وتأييد السلم، وإنماء المدنية في الولايات البلقانية. (المسألة الكريدية) أما المسألة الكريدية، فإن انسحابنا منها واستدعاءنا باخراتنا الحربية كان سببه تغيير وجهها، ولا ننكر أبدًا أن كيفية سياق المسألة تدلنا على أن كثرة الطهاة ولا تجيد الطعام أحسن من قلتهم (ضجيج) فنحن إذًا نسر بعمل الدول الأربع التي تولت الحل النهائي (ليعتبر العثمانيون) . (سفر الإمبراطور) إن رحلة الإمبراطور إلى فلسطين وعودته منها تدل صريحًا على أن الإشاعات التي أذيعت عن مقاصده وعن إمكان حصول الخلاف والشقاق لا صحة لها. والذي يقول لي: كيف تتفق مطالب الأمم المختلفة الأجناس والأديان، أشكره وأعترف له بالمهارة. والألمان والمسيحيون لا يقرون لأحد بحق منازعتهم بأن يكون لهم كنيسة في الأراضي المقدسة. (وهنا ذكر الوزير النواب برغبة الإمبراطور فردريك غليوم الرابع وبرحلة ولي العهد فردريك عام 1869 وقال) : فرغبة الإمبراطور غليوم الثاني في أن يفتتح هو نفسه كنيسة إنجيلية كانت ناتجة عن مبرة بوالده وجده، وعن عواطف دينية تخامر لبه، وهذه العواطف ليس فيها شيء عدائي لدولة من الدول (برافو) . وإمبراطور ألمانيا الذي هو إمبراطور الألمان جميعهم بدون استثناء دل بإعطائه الأرض التي كان عليها مسكن العذراء مريم أنه يريد أن يسر جميع رعاياه المسيحيين على السواء من رحلته، والمساعي التي بذلت لإقلاق بال السلطان من هذه الرحلة لم تنجح. وجلالة السلطان يرى جيدًا فلم يقدر أحد على خداعه بأن الإمبراطور غليوم يريد من رحلته أن يفعل ما فعله الصليبيون بأخذه من تركيا سوريا وفلسطين (ضحك) .

مستقبل الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مستقبل الإسلام [*] يسرنا أن شعور المسلمين بالخطر الذي يتهددهم في مشارق الأرض ومغاربها قد نبه الأفكار إلى البحث في أسبابه والسعي في علاجه، فكأن أرواح العقلاء والنبهاء تتناجى في كل قطر من الأقطار، وكأنني أسمع كريرًا (هو صوت من الصدر كصوت المنخنق) وزفيرًا يفصحان عن الخطب ويمثلان الكرب، فائضان من صدور أهل الشرق والغرب، ويتلاقيان في مركز الدائرة وبهرة الإسلام مصر المحروسة أعزها الله تعالى. بالأمس سمعنا صوت الكاتب المراكشي يحذر وينذر ويسأل ويجيب، واليوم نسمع صوت الكاتب الهندي يوقظ وينبه ويستنهض الهمم، ويستسقي الديم، بكاء ونواح، وعويل وصياح، وإثارة رياح، أسف واستياء، واتفاق على الداء، واختلاف في العلاج والدواء، فمتى تتفق الأفكار في النتيجة كما اتفقت في المقدمات؟ وأيان تشترك في الأعمال، مثلما اشتركت في الأقوال؟ ما هي النتيجة؟ قالوا اجتماع كلمة، اتفاق قلوب، التفاف حول لواء الخلافة، اتحاد المشرق مع المغرب الإسلاميين، علوم ومعارف، فنون وصنائع، معاهدة ملوك الإسلام، تأليف جمعيات، عقد شركات… كلمات متقطعة، بين همهمة وهينمة، أو ضوضاء وجلبة، لا تظهر حقيقة، ولا ترشد إلى طريق. نشرنا مقالة المغربي في العدد الماضي من جريدتنا وأجبنا عن سؤاله، وننشر الآن نبذة من مقالة المشرقي (الهندي) ونجيب عنها، وما الجواب إلا واحد، ولكن الأساليب تتلون بألوان كثيرة وتتجلى في أشكال متعددة. قال الكاتب الهندي الفاضل فيما ترجمه المؤيد الأغر عن جريدة محمدان الغراء بعد كلام شكر فيه صاحب هذه الجريدة (محمدان) على نقله عن الجرائد الإسلامية ما يهم المسلمين ويبعث على تقوية رابطتهم: (وإن أحدنا ليحزن حقًّا إذا جال بخاطره في بلاد الإسلام وممالكه ورآها جميعًا على غاية من التأخر والاضمحلال، وأنه لا توجد دولة واحدة من بين الدول الإسلامية تستحق الإعجاب بها والمباهاة بتقدمها) ثم قال: أجل إن الوقت حرج، والمركز صعب، والحياة مريرة، فإذا لم يعمل المسلمون بكل جهدهم ويستيقظوا من سباتهم العميق، فإنهم بلا ريب يصبحون كأمة اليهود لا وطن ولا دولة لهم (ولكن ليهود اليوم المال يحميهم ويرفع شأنهم، أما يهود الغد الفقراء فلا يكون نصيبهم سوى الذل والهوان) . (وإذا قيل: أين الوقت وأين الفرصة؟ قلنا: الساعة التي نحن فيها على بقية من الرمق، فالواجب على أصحاب المدارك السامية من المسلمين أن يقدحوا أزند أفكارهم، ويبحثوا عن المسالك النافعة والطرق المؤدية إلى منفعتهم) . (هذا هو الوقت الذي يلزم فيه أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد الثاني المشهور بالعقل والدهاء، وحب توثيق عرى الجامعة الإسلامية حولها أن يبرهن للعالم الإسلامي على أنه الأحق بالخلافة من كل خليفة لبس تاجها) . ثم تكلم في موضوع تأسيس مجتمع إسلامي في الآستانة العلية تحت رئاسة مولانا أمير المؤمنين (وذلك ما لا يكون) ثم قال: وإذا أردت زيادة التوضيح فاسمح لي أن أقول: إن هذه البلاد الإسلامية لا يرتفع لها شأن إلا إذا حمل الأفراد على مشاركة الحكومات فيما تجريه، وفي جميع مسئولياتها، فإن الحمل أصبح الآن على أكتاف الحكومات التي يديرها رجل واحد أو رجلان على الأكثر ثقيلاً جدًّا، فالحكومات الأوروبية الآن تحمل على حكومات الإسلام بوطأة شديدة، وإذا نوقشت بالعقل أفحمتها بأن وراءها البرلمانات التي تمثل الأمم في قوتها تقهرها على السير في السبيل الذي تسلكه. أي رجل معتوه يقول: إن وزيرًا من وزراء دولة العجم مثلاً يقدر أن يقف وحده تجاه برلمان إنكلترا أو مجلس نواب فرنسا؟ إن كل فرد من أفراد ممالك أوروبا يعتقد في نفسه أنه عضو عامل في حكومة بلاده، بينما المسلم لا يعتبر إلا أنه حجر ينقل إلى حيث ينقل، ويستقر حيث يلقى أو يقذف به من حالق، وزد على ذلك أنه جاهل يدعوه جهله إلى الابتعاد عن وسائل المدنية الحقة. وفي بلاد الإسلام تجد الجزء الأكبر من الشيوخ الذين لهم تأثير عظيم في النفوس لا يحبون الإصلاح ولا الانتقال عما اعتادوه وورثوه عن آبائهم، ثم هم مع ذلك يشغلون أوقاتهم بالأمور التافهة، والمشاكل الشخصية، فلا يجد الحكام مجالاً لبث أشعة نور الإصلاح مع كل هذه الأحوال، فكيف ينتظر لنا مع هذه الحال نجاح، أو ارتقاء في مدارج الإصلاح. (يتضح لك مما تقدم أن تأخرنا ناتج عن جهل المجموع وخموله، فإذا نحن عقدنا النية على ترقية شأننا فعلينا أولاً أن نرقي المجموع، ونقيم ما اعوجّ من أموره، ولا تكون هذه التربية النافعة قاصرة على المكاتب الصغيرة القديمة العقيمة. بل تترجم إلى لغاتنا جميع مباحث العلوم العصرية وفروعها، وتدخل الصنائع والإدارات التي رفعت درجة العالم الأوروبي، وتهب حكومات الإسلام رعاياها حرية الكلام في الخطابة والكتابة مع بعض امتيازات تسمح بأن يكون لهم صوت ويد في سير الحكومة وتدبيرها، حتى يتمكنوا من إدخال الإصلاح) . ثم تكلم عن دولة الفرس وعدم التفاتها إلى التعليم والتنظيم العسكري، وذكرها بما يتهددها من قوة الروسيا ثم قال: شهد العالم في العام الماضي فوز الدولة العلية وانتصار جنودها الباسلة واستعداد ضباطها. فَلِمَ لا تأخذ دولة الفرس ضباطًا من الأتراك بدل الضباط من الروس؟! أو لماذا لا ترسل دولة الفرس شبانًا من عندها ليتعلموا الفنون العسكرية في المدارس الحربية العثمانية، ليعودوا ضباطًا ماهرين أَكْفَاء للقيام بأعباء وظيفتهم. إنه وإن تكن البلاد الهندية لم تصل إلى درجة عظمى من المعارف لكن مدرسة (عليكره) التي أسسها المرحوم السيد أحمد خان قد أنتجت رجالاً أفاضل نابغين في المعارف والعلوم، أفلا تحسن حكومة الفرس لو استعارت من أمثالهم معلمين في مدارسها أو لخدمتها أولى من تعيين البلجيكي والطياني أو غيرها؟ وإذا أدار الإنسان نظره إلى شطر بلاد الافغان رأى أن أميرها حفظه الله يجتهد كل الاجتهاد في إيجاد مملكة قوية حربية، ويضاف إلى ذلك ظهوره بمظهر الولاء لإنكلترا في أحرج المواقف وأصعبها، ولكن النجاح الذي تناله الأفغان ليس مما يعظم الأمل في مستقبلها. (وإن الإنسان يتولاه الاندهاش حين يرى رجلاً عظيمًا مثل الأمير عبد الرحمن خان لا يهتم بالتعليم والتربية في بلاده، وقد شهدت له الناس بالغيرة الشديدة على إنجاحها، فلا تزال مدرسة (غازني) كما كانت من قديم، لم يحور في تعليمها شيء، ولم تزد عليها من العلوم العصرية زيادة، ولا يلزم أن تبقى الحالة على الصناعة الحربية، بل من الواجب إرسال بعض أتباعه إلى البلاد الأجنبية للنظر في حالة تلك البلاد والنقل عن معارفها وآدابها. أما المصريين فهم الآن قابلون للتقدم والارتقاء، والأَوْلى بهم أن ينتهزوا الفرص ويقوموا يدًا واحدة لتربية الناشئين، والاعتناء بأمر التعليم، حيث لا ينفع قول: ليت ولعل، وقد طالعت في رحلة مولانا شبلي أن التعليم في الأزهر الشريف ليس كما يرام، ولا ينتظر منه لبلاد الإسلام منفعة كبرى وعائدة جليلة، وفضلاً عن ذلك فإن مسلمي مصر أغنى بكثير من مسلمي الهند، وأنهم إذا أرادوا ووطدوا العزيمة قادرون على تأسيس مدارس جامعة كبرى مثل (أكسفورد) و (كمبردج) الإنكليزية، فهلا يتنبهون للمستقبل وما يأتي به الغد من الحوادث الخطيرة. اعترف الأعداء قبل الأصدقاء أن جلالة السلطان عبد الحميد أمير المؤمنين أقدر الملوك وأعظم سلطان جلس على أريكة سلطنة آل عثمان، ولكنه وحيد يشتغل وحده، لا يشرك ولا يجد من يساعده من الأفراد على العمل [**] ، وهذا مركب صعب، ولكن أهم شيء هو الاتحاد الإسلامي وجمع الكلمة على العمل يدًا بيد، وقد تكلمت الجرائد الإنكليزية أخيرًا عن هذا الاتحاد وقالت: إنه قريب الحصول، ولكن هذه الأخبار لم تتحقق الآن، غير أني أقول لإخواني المسلمين في كافة بقاع الأرض: إن الإسلام جسم واحد، رأسه الدولة العلية، وساعداه الأفغان ومراكش، ورجلاه مصر والعجم، ولا يمنع الدول الأجنبية من الاعتداء والتداخل في بلاد الإسلام غير هذا الاتحاد، فاجمعوا الكلمة ونادوا بذلك أولاً، ثم متى حصلتم على مرادكم منه رقوا شأن داخلياتكم، وكونوا مع العصر يومًا بيوم في الآلات الحربية وغيرها، وإلا كان الاتحاد قليل الجدوى، نسأل الله الهداية إلى اقوم سبيل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (لا. ي) (ملاحظة المنار) يدور كلام الفاضل الهندي على ستة أقطاب: (1) بيان خطر الحال الحاضرة. (2) ذكر أن سببها الجهل والخمول. (3) ذكر ما اقترحه بعض الكتاب (صاحب رسالة نشرت في جريدة محمدان بإمضاء الباحث الإسلامي) من تأسيس جمعية إسلامية في الآستانة العلية، للنظر في تأخر المسلمين في وسائل تقدمهم والسؤال كيف قوبلت في البلاد الإسلامية. (4) الجزم بأن البلاد الإسلامية لا يرتفع لها شأن إلا إذا شارك الأفراد الحكومات فيما تجريه. يريد أن يكون للأمة رأي في أعمال الحكومة الكلية كالحكومات الشوروية الحية. (5) العمل أولاً على ترقية شأن المجموع بترجمة جميع مباحث العلوم العصرية وفروعها إلى لغاتنا، والعناية بالصناعات والإدارة التي رفعت درجة العالم الأوروبي وحرية الخطابة والكتابة. (6) استعانة الأمم الإسلامية بعضها ببعض بأن تستبدل دولة الفرس الضباط العثمانيين بالضباط الروسيين، وتستعين بالمعلمين من مسلمي الهند على نشر التعليم العصري. ما أحسن هذا البيت المسدس الأركان لو وجد له صناع يبنونه ويملأونه من عسل المدنية الفاضلة، أو يودعون فيه نتائج السجايا الإنسانية، كما يبني النحل بيته المسدس ليودع فيه نتاجه، ثم مؤنته من العسل، النحل ينبعث للتعاون على عمله الذي تتوقف عليه حياة نوعه بحادي الإلهام الفطري، وفطرته سليمة لا يطرأ عليها فساد ولا انقلاب، والإنسان فطر على التنازع والخلاف، وأعطي قوة على تعديل فطرته الروحية، وإجابة داعي العقل إلى الوفاق والاتحاد برابطة الدين أو الجنسية أو الوطنية، فإذا انحلت الرابطة بما يعرض على الروابط الاجتماعية فيحلها، فلابد من العمل قبل كل شيء على عقدها، ومع كل شيء على حفظها وتقويتها، والمسلمون لا تجمعهم إلا رابطة الدين كما قلنا غير مرة، وقد انحلت بالتراخي وكادت تبطل بالمرة. فليس أول عمل يجب علينا هو ترجمة العلوم العصرية إلى لغاتنا كما قال الكاتب، بل أول عمل يجب علينا هو ما قلناه آنفًا من إعادة الرابطة الدينية التي تجمع القلوب وتوحد بين الشعوب. لا خلاف في أن الشعوب الإسلامية في أسوأ الأحوال، وأنه ما من أمة من الأمم ولا ملة من الملل إلا وفيها من أخذ من ترقي العصر بأوفر نصيب إلا الأمة الإسلامية. الوثنيون لهم دولة قوية جارت أوروبا وسايرتها خطوة بخطوة، وضربت معها بكل سهم، وهي الآن أعز دولة شرقية وأقواها ألا وهي (اليابان) اليهود سابقوا أوروبا في جميع أنواع الكسب بأسبابه ووسائله فسبقوها، وهي الآن تتبرم منهم وتضطهدهم في كل مكان، فإذا كان في الشرق روح خبيث يحول دون الترقي كما يتوهم المتوهمون، فلماذا لم يلابس هذا الروح غير المسلمين؟ أليس اليابان واليهود من الشرقيين؟ إذا كان النجاح متوقفًا على أعمال الحكومة فأية حكومة نهضت بالإسرائيليين؟ أجمع الباحثون في علم الاجتماع على أن تأخر المسلمين ما جاءهم من اختلاف طبائع الأقطار؛ فإنهم يسكنون كل أرض، ومتبوئون كل قطر، فمن بلادهم الحار والب

عالم قريش الإمام محمد بن إدريس الشافعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عالم قريش الإمام محمد بن إدريس الشافعي (رضي الله تعالى عنه) نذكر شيئًا من سيرة هذا الإمام الجليل بمناسبة احتفال العلماء في هذه الأيام بما يسمونه: (مولد الإمام) وقد احتفلوا قبل ذلك بأيام احتفالاً غير هذا يسمونه: (الكنسة) وهو اجتماع يكنسون فيه الضريح ويقسمون الكناسة بينهم للتبرك بها، والموالد في هذه الديار كثيرة جدًّا، تكاد تستغرق أيام السنة، ولذلك كان السيد عبد الله نديم الكاتب المصري يقول: للإفرنج في كل عام كرنفال ولنا في كل يوم كرنفال [*] ولا يتولى العلماء بأنفسهم الاحتفال في مولد منها إلا مولد الإمام الشافعي، وإن كان لا يخلو منهم مولد من الموالد، وكأنهم لاحظوا أن هذا المولد لإمام من أعظم أئمة العلم، فكان المناسب أن يتولى الاحتفال بمولده العلماء الذين من صنفه، بخلاف سائر الموالد، فإنها للأولياء وشيوخ الطريق، والمناسب أن يتولى شأنها أهل الطريق. وقد ذكرنا في مقالات سابقة ما في هذه الموالد من البدع والأضاليل، فلا نعيد ذلك بتفصيله، ولكننا ننقل من سيرة الإمام ما تعلم منه أن الذين ادعوا الاهتداء بهديه أو حاولوا مرضاته أو مرضاة الله تعالى باحتفالهم بمولده، لم يصيبوا الغرض. أو نقول كما قال الإمام حجة الإسلام الغزالي عند تراجم الائمة المجتهدين -: (ما تعلم به أن الذين انتحلوا مذاهبهم ظلموهم، وأنهم من أشد خصمائهم يوم القيامة. وأن ما ذكرناه ليس طعنًا فيهم، بل هو طعن فيمن أظهر الاقتداء بهم منتحلاً مذاهبهم، وهو مخالف لهم في أعمالهم وسيرهم) . واذا كان هذا قول حجة الإسلام في الفقهاء منذ ثمانية قرون، فماذا عسانا نقول الآن، ذكر الغزالي أن كل واحد من الأئمة المجتهدين كان عابدًا وزاهدًا وعالمًا بعلوم الآخرة، وفقيهًا في مصالح الخلق في الدنيا، ومريدًا بفقهه وجه الله تعالى، قال: فهذه خمس خصال اتبعهم فقهاء العصر من جملتها على خصلة واحدة وهي: التشمير والمبالغة في تفاريع الفقه؛ لأن الخصال الأربع لا تصلح إلا للآخرة، وهذه الخصلة الواحدة تصلح للدنيا والآخرة إن أريد بها الآخرة، قل صلاحها للدنيا، فشمرو لها وادعوا بها مشابهة أولئك الأئمة وهيهات؛ لا تقاس الملائكة بالحدادين اهـ. قلت: وهذه الخامسة قد فقدت أيضًا، إذ لا يكاد يوجد اليوم فقيه في مصالح الخلق قادر على الإتيان بتفاريع في الفقه على حسبها. بل يكاد يكون من خواص فقهاء هذا العصر عدم معرفة شيء من أحوال الزمان ومصالح الناس فيه، ومن المقرر عند الحنفية حملة المذهب المعمول به في الجملة عند الحكام أنه لا يجوز لأحد في مثل هذا العصر أن يستنبط حكمًا من الأحكام، بل ولا أن يصححه، ومن أقدم على ذلك لا يقبل استنباطه ولا تصحيحه، وشيخ الإسلام في دار الخلافة لا يأذن لمفتٍ أن يفتي من مجلة الأحكام العدلية الموافقة الحالة العصر، وإن صدر أمر الإمام بالعمل بها؛ لأن فيها ما هو ضعيف عند الفقهاء الذين يفتى بقولهم بحسب رسم المفتي المتبع عندهم، وإن كان موافقًا لما هو الصحيح عند غير أولئك الفقهاء من أئمة العلم. فماذا يقول الإمام الغزالي في هؤلاء الفقهاء، وأين هم من تعريف بعض القدماء للفقيه بأنه: (المقبل على شأنه البصير بأحوال زمانه) وقد أطلنا في هذه المقدمة، فاستمع لما نقصه عليك من الترجمة. كان الإمام عليه الرضوان من أعظم أنصار السنة وخذال البدعة، والعلماء بدين الله تعالى، الواقفين على أسرار كتابه العظيم، وكلام رسوله الكريم. محافظًا أشد المحافظة على حفظ الأوقات أن تصيع في غير ما ينفعه وينفع الناس، بعيدًا عن اللغو في القول، بمعزل عن العبث في العمل، وكان يقسم الليل ثلاثة أثلاث: ثلث للعلم، وثلث للعبادة، وثلث للنوم. فثلث العلم للناس، وثلث العبادة لآخرته، وثلث النوم لنفسه، ولكل حق يجب أداؤه، وهذه القسمة أفضل من قيام الليل كله؛ لأن النوم لابد منه في حفظ الحياة، وقد جعل الله الليل سكنًا، وفي حديث البخاري (قم ونم) وهذا من الجلي الذي لا يحتاج لزيادة البيان، وأعظم خدمة خدم بها الشريعة المطهرة: وضعه لقواعد أصول الفقه، التي هدى بها العلماء إلى كيفية استنباط الأحكام من الكتاب والسنة على وجه السداد، وسهل على المشتغلين بالفقه الاجتهاد. ومن محافظته على السنة ووقوفه مع نصوصها ما تواتر عنه من أن كان يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) وأنه كان يأمر أن يضرب بكلامه عرض الحائط إذا خالف الحديث، وقال في الرسالة: (وهي أول ما كتب في علم الأصول) أخبرني أبو حنيفة بن سماك بن الفضل الشهابي قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: (من قُتل له قتيل فهو بخير النظرين إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القَوَد) ، قال أبو حنيفة: قلت لابن أبي ذئب أتأخذ بهذا يا أبا الحارث، فضرب صدري وصاح صياحًا كثيرًا ونال منى وقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: أتأخذ به؟ ! نعم آخذ به، وذلك الفرض عليّ وعلى من سمعه، وإن الله تبارك وتعالى اختار محمدًا صلى الله عليه وسلم من الناس فهداهم به وعلى يديه، واختار لهم ما اختار له وعلى لسانه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين لا مخرج لمسلم من ذلك. قال: وما سكت حتى تمنيت أن يسكت. وكان يعظم النبي (عليه أفضل الصلاة والسلام) عند ذكره بمثل قوله: فداه أبي وأمي، وبصلوات بليغة لم يلهمها أحد من قبله، وقال يصف هداية القرآن في الرسالة بعد جملة طويلة في الصلاة المشار إليها محفوفة ببليغ الثناء: (وأنزل عليه كتابه فقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41-42) فنقلهم من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى، وبين فيه ما أحل مَنًّا بالتوسعة على خلقه، وما حرم لما هو أعلم به من حظهم في الكف منه في الآخرة والأولى، وابتلى طاعتهم بأن تعبدهم بقول وعمل وإمساك عن محارم حماهموها، وأثابهم على طاعته من الخلود في جنته والنجاة من نقمته، ما عظمت به نعمته جل ثناؤه، وأعلمهم ما أوجب على أهل معصيته، من خلاف ما أوجب لأهل طاعته، ووعظهم بالإخبار عمن كان قبلهم ممن كان أكثر منهم أموالاً وأولادًا، وأطول أعمارًا وأحمد آثارًا، فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم، فآزفتهم [**] عند نزول قضائه مناياهم دون آمالهم، ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في أنف الأوان [1] ويتفهموا بجلية التبيان، ويتنبهوا قبل رين الغفلة، ويعملوا قبل انقطاع المدة، حين لا يعتب مذنب ولا تؤخذ فدية، وتجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا. فكل ما أنزل الله في كتابه جل ثناؤه رحمة وحجة علمه من علمه وجهله من جهله، لا يعلم من جهله ولا يجهل من علمه. والناس في العلم طبقات موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العمل به، فحق على طبلة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه، والصبر على كل عارض دون طلبه، وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصًّا واستنباطًا، والرغبة إلى الله في العون عليه، فإنه لا يدرك خيرًا إلا بعونه، فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصًّا واستدلالاً ووفقه الله للقول والعمل بما علم منه فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الريب، ونورت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة، فنسأل الله المبتدي لنا بنعمه قبل استحقاقها، أن يديمها علينا مع تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب به من شكره بها، الجاعلنا في خير أمة أخرجت للناس، وأن يرزقنا فهمًا في كتابه ثم في سنة نبيه، وقولاً وعملاً يؤدي به عنا حقه، ويوجب لنا نافلة مزيده. (لها بقية) ... ... ... ... ... ((يتبع بمقال تالٍ))

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (الشعر في شكوى الزمان) كتب الأدب العربية ملأى من شكوى الزمان، فما من أديب ولا عالم قال الشعر إلا وشكا من سوء حظه، وعتب على الزمان، وأنحى على الدهر بالذم على رفعه قدر الجهلاء وغمصه حقوق الفضلاء، منهم المكثر في ذلك كأبي العلاء المعري، ومنهم المقلّ. ومن المتبرمين من كان لهم عند الأمراء والعظماء القدر الرفيع والجاه المنيع، لكنهم كانوا يرونه دون ما يستحقون، وقد ذكر حكيم زمانه العلامة ابن خلدون في مقدمته: أن رجال العلم والدين قلما تكون عندهم الثروة. وهذه القاعدة قد تغيرت، أو هي تتغير تدريجًا بأساليب العمران الجديدة المبنية على العلم ورفعة قدر العلماء والأدباء، فقد كان لفيكتور هيكو شاعر الفرنسيس من الحرمة عند قومه ما لم يكن للملوك أو الإمبراطورين، وليس من غرضنا في هذه النبذة الخوض في هذه المسألة من الجهة العلمية الفلسفية، فنتوسع في البيان ونأتي بالشواهد عليه، وإنما أوردناه في باب الأدبيات، فنأتي عليه ببعض الشواهد الأدبية، قال بعضهم: عتبت على الدنيا لرفعة جاهل ... وخفض لذي علم فقالت خذ العذرا بنو الجهل أبنائي لهذا رفعتهم ... وأهل التقى أبناء ضرتي الأخرى وقال الإمام تقي الدين بن دقيق العيد: أهل المناصب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهم قد أنزلونا كأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم فما لهم في توقي ضرنا نظر ... ولا لهم في ترقي قدرنا همم فليتنا لو قدرنا أن نعرفهم ... مقدارهم عندنا أولو دروه هم لهم مُريحان من جهل وفرط غنى ... وعندنا المتعبان العلم والعدم وقد ناقضه الفتح الثقفي المنسوب للزندقة فقال وأجاد: إن المراتب في الدنيا ورفعتها ... عند الذي نال علمًا ليس عندهم لا شك أن لنا قدرًا رأوه وما ... لقدرهم عندنا قدر ولا لهم هم الوحوش ونحن الأنس حكمتنا ... تقودهم حيثما شئنا وهم نعم وليس شيء سوى الإهمال يقطعنا ... عنهم لأنهم وجدانهم عدم لنا المُريحان من علم ومن عدم ... وفيهم المتعبان الجهل والحشم ولعمري إن ابن دقيق العيد كان في عصره محل التعظيم والتمجيد؛ لأن عصره كانت الأمة فيه حية، تقدر الفضل قدره بالنسبة لما هي فيه الآن، وله من الشعر ما يومي إلى أن العلماء كانوا معظمين ومكرمين، فقد قال في التوجيه باصطلاحات الأصول: قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثلما يرتضي فقلت لما لم يكن ذا تقى ... تعارض المانع والمقتضي *** (الجمعية الخلدونية في تونس) طالما نوهنا بأن الجمعيات المالية هي التي تنفخ في الأمم روح التقدم والعمران ولا نُسر بشيء نكتب عنه في جريدتنا كما نسر بذكر الجمعيات الإسلامية الناجحة. وقد حملت إلينا جريدة الحاضرة التونسية الغراء خبر الاجتماع السنوي الذي عقدته الجمعية الخلدونية في تونس فلخصنا من تقرير رئيس الجمعية صاحب الفضائل والفواضل السيد البشير صفر عيونه. بين الرئيس أولاً أن الجمعية دائبة على العمل بلا افتخار ولا نفخ في المزمار، لأن الغاية أجل وأسمى من سفاسف التباهي وحب الاشتهار، وأن المقصد منها بث المعارف التي عليها مدار العمران. (قال) : سيما وقد صيرتنا صروف الأحوال أحوج إليها من الظمآن إلى الماء الزلال، ثم السير بالتعليم في منهاجه القويم. وتكلم عن المالية، فأبان أن أربعين ونيفًا من الأعضاء المشتركين تأخروا عن تسديد معلوم اشتراكهم (يا للأسف والعار) قال: ولو زادت الموارد لاتسع النطاق بنشر مجلة في الآفاق وإعانة بعض المبرزين من أبناء مدارسنا على مزاحمة غيرهم في حلبة السباق، إذ هذا العصر كما تعلمون عصر صارت فيه قيمة العباد بحسب الاستعداد، لا بمجد الآباء والأجداد. ثم تكلم عن التعليم والمتعلمين بما نصه: (التعليم) أما طريق التعليم فقد سارت فيه لجنتكم بفضل الله سيرًا حثيثًا، وذلك أنها اعتبرت أولاً لزوم تسهيل المطالعة والمراجعة فأحدثت مكتبة احتوت على نيف ومائتي مجلد كبير وصغير في فنون شتى، كالجغرافيا والحساب والهندسة والجبر وحفظ الصحة وغيرها، وجميع هذه الكتب عربية العبارة سهلة المأخذ فانتفع بها المعلمون والمتعلمون، ولا زالت هذه المكتبة قابلة للكمال والتحسين والمأمو ل أن توجه نحوها عناية اللجنة القابلة. ثم رأت لجنتكم أن التعليم أخذ في مفهومه وجود المعلم والمتعلم وأن الأول ربما انفصم حبل استمراره على التدريس إذا لم يشد بوثاق الأجر العاجل، والثاني يوشك أن ترتخي عزيمته إذا لم تعالج بمنشطات الخير الآجل، ولذلك طلبت من الحكومة المحمية بواسطة جناب مدير العلوم والمعارف أن تؤجر المعلمين إذ لا تسمح بذلك الآن مواردنا المالية، وأن تضع امتيازات للمتعلمين كي يجتنوا ثمرة إقبالهم على الفنون العصرية، وقد أجابت الدولة هذين السؤالين فتكرمت من جهة بتخصيص مرتبات وقتية للقائمين بالتعليم المستمر، ومن وجهة أخرى أصدرت أمرًا عليًا تعلمون أيها السادة فحواه ومداره على ترشيح الجامعين بين العلوم العربية والفنون النافعة وتقديمهم على من سواهم في كثير من الوظائف الإدارية وهي عناية من الحكومة تستوجب الثناء الجميل والشكر الجزيل، وبذلك أصبح اليوم هيكل جمعيتكم في قرار مكين إذ أقيمت دعائمه على أساس متين. (المتعلمون) ابتدأت دروس الخلدونية أثناء السنة الفارطة وأوائل السنة الجارية وعدد الطلبة زهيد، ولا عجب فقد كان مشروعنا ككل جديد موضوعًا للقال والقيل، وذهبت الأفكار في شأنه مذاهب بين مستحسن ومنتقد فلا غرو أن كان الطلبة يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى في وقت كانت الخلدونية فيه مرمى السهام، من بعض ذوي الأفهام، مع أننا بحمد الله لسنا ممن ينحرف مع الإلحاد، أو يسعى في الأرض بالفساد، وأي ذنب لنا في هذا الباب يا أولي الألباب، سوى غيرة مِلّية بعثتنا على السعي بقدر الاستطاعة في بث فنون كانت ولم تزل محط الرحال لفحول الرجال، في كثير من الأجيال، إذ عليها مدار العمران، وما بعد العيان بيان، فإن كنا في ذلك آثمين، وعن منهج الإصابة ضالين فقد أثم من قبلنا ذوو همم ما نحن منهم إلا كقطرة من يم، أثم من قبلنا الخليفة المأمون، ناشر لواء هذه الفنون، وأثم ابن سينا والفارابي وابن رشد وابن الهيثم وابن طفيل وغيرهم من الجهابذة الأعلام، الذين وسعوا دائرة هذه العلوم في الإسلام، فأكسبوا أمتهم فخرًا بين الأقوام، ومجدًا لم يزل حديثه موضوع الكلام لدى الخاص والعام، فإن كان هذا الذنب ونحن في البداية، فنعم الذنب ونعمت الغواية، نسأل الله أن يمدنا فيها بالعناية حتى النهاية، لكن لا لوم ولا عتاب، فقد انتقد المنتقدون قبل أن يتبينوا، وهاهم اليوم أدركوا كنه المقصود، فصاروا - جزاهم الله خيرًا - من المساعدين بعد أن كانوا من المثبطين، ولذلك لم تفتح دروسنا منذ شهرين إلا وتقاطرت عليها أفواج الطلبة من كل حدب، وفيهم من أحرز رتبة التطويع بالجامع الأعظم دام عمرانه، وكثير من طلبة المطولات وفيهم من هم دون ذلك ولجميعهم أفكار وقَّادة وقابلية كبرى للتحصيل. وهنا لابد من الاعتراف بأن الفضل في ذلك راجع إلى السادة العلماء الأعلام، هداة الأنام، إذ عن إشارتهم حققت الآمال بهذا الإقبال. أما عدد الطلبة المثابرين اليوم على دروس الخلدونية فمعدله مائة وخمسون، جعلناهم ثلاثة أقسام، مع المحافظة على الشرط الذي التزمناه من عدم التداخل في الأوقات بين ساعات التعليم هنا وساعات التدريس بالجامع الأعظم، فجاء التقسيم على الصورة الآتية: القسم الأول: معدل تلامذته عشرة، ودروسه من الساعة الخامسة إلى الساعة السابعة مساء بالتعديل العربي، وهذا القسم مؤلف من تلامذة الخلدونية من حين نشأتها فكانوا بذلك على درجة حسنة في التحصيل إذ قد أتموا فن الجغرافية السياسية والطبيعية لأقسام الأرض الخمسة، مع تفصيل الجغرافية التونسية والإلمام بجانب مهم من الجغرافية التجارية والتاريخية، كما درسوا أيضًا دراسة إتقان فن الحساب بجميع عملياته صحيحًا وكسرًا، وجميع قواعده المحتاج إليها في المعاملات، وحساب المكاييل والمقاييس الجاري بها العمل في هذا القطر. ودرسوا ما به الحاجة من المساحة والهندسة العملية، وهم الآن بصدد تعلم الهندسة النظرية بحيث يمكن أن يقال: إن هذا القسم أحرز المطلوب (إلا في التاريخ) للتحصيل على شهادة الترشيح غير أن إقبال تلامذته على العلوم النافعة سما بهم إلى حب الترقي والتقدم، ولذلك جُعل لهم درس في الجبر وعن قريب إن شاء الله توضع لهم دروس في التاريخ العام وفي قياس المثلثات وما يلزم لتعاطي الرياضيات من اللوغر ثم استخراج الجذور. القسم الثاني: من مُضي ساعة إلى ساعتين بعد الزوال، ومعدل تلامذته مائة وعشرون وهؤلاء باشروا الدروس منذ شهرين فأتموا جغرافية أوروبا وآسيا وإفريقيا، وهم الآن بصدد الجغرافية التفصيلية للبلاد التونسية، ودرسوا من الحساب عملياته الأربع للأعداد الصحيحة والكسرية: الأعشارية والاعتيادية، مع ما يتبعها من التمرينات وحل المسائل الحسابية، وبعد قليل يشرعون في الهندسة العملية ثم التاريخ. القسم الثالث: من الساعة السابعة إلى الثامنة، ومعدل تلامذته أربعون وهي كالقسم الثاني في التحصيل. هذه هي الدروس الرسمية وما عداها جعلنا مسامرة طيبة في كل أسبوع ودرسين أسبوعين في اللغة الفرنسوية ودرسين للترجمة. وبما تقرر يظهر لسيادتكم أن لجنتكم لم تألُ جهدًا في ترتيب الدروس على وجه كافل إن شاء الله للحصول على المقصود من بث مبادئ المعارف النافعة تدريجيًّا بين نجباء هذا القطر وعلى الله الاتكال في بلوغ الآمال. وقبل الختام أستسمح سيادتكم في إسداء عاطر الثناء لإخواني أعضاء اللجنة الذين شاركوا فيما شرحناه لكم من الأعمال وأخص منهم بالذكر الفاضلين الأكملين: سيدي العربي العنابي كاتب اللجنة، وسيدي عبد العزيز الحيوني حافظ ماليتها على ما أظهراه من الحزم والاجتهاد واختلاس نفيس الأوقات للقيام بما عُهد إليهما من الكتابات والحسابات، وفقنا الله جميعًا إلى خدمة الأوطان بما تقتضيه حالة الزمان اهـ. ثم تلا الرئيس أمين صندوق الجمعية الفاضل السيد عبد العزيز الحيوني فبين دخل الجمعية في هذا العام وهو بحساب الفرنك 3961.16 وبين نفقاتها وهي بحساب الفرنك أيضًا 1498.14، وقد فصل ذلك تفصيلاً. فنسأل الله تعالى أن ينجح مساعي هذه الجمعية المفيدة، ويجزي أعضاءها الكرام وكل من يساعدها ويعضدها أفضل الجزاء بمنّه وكرمه. *** (الاحتفال السنوي لإعانة التلامذة الفقراء) ذكرت جريدة الحاضرة الغراء خبر الاحتفال السنوي لإعانة التلامذة الفقراء في المكاتب، وأنه كان في هذه السنة على أحسن حال إذ أقبل على المشاركة فيه سمو الباي المعظم وولي عهده الأكرم وسائر آل بيته الكرام، وكذلك أولو الحل والعقد من الفرنساويين والتونسيين. وذكرت أن حضرة الأمير سيدي محمد الناصر باي تفضل فوق الإعانة المالية بإعارة آلة ناطقة (فونغراف) لتفكهة من حضر الاحتفال من الذين لا يعرفون هذا المخترع العجيب، وقد ابتهج القوم لحسن منطق الآلة بالألحان والأغاني والأناشيد التي من ألطفها أبيات لحضرة العلامة الفاضل سيدي سالم بو حاجب نظمها عن لسان حال الآلة فأنشدتها الآلة بمقالها، مطلعها: لكم يا سادتي أهدي سلامي ... وأبدي سر صنع ذي اكتتام فهل قبلي رأيتم أو سمعتم ... جمادً

محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر [*] لولا أن اليأس من رَوْح الله مقصور في كتاب الله على القوم الكافرين لقلنا: كيف يرجى إصلاح حال أمة يعتقد علماؤها أن الإصلاح محال، وأن العمل على إرجاع مجد الدين عبث وضلال، لأن الزمان فسد والساعة قربت وظهر في الناس مصداق الأحاديث بغوايتهم وتركهم للدين، ولا يوجد أحاديث أخرى تدل على أنهم يرجعون إلى هديه. وأن العلوم العصرية حتى الحساب والتاريخ مضلة للأمة صادَّة لهم عن سبيل الحق مسجلة عليهم الحرمان من السعادة. وأن السعادتين الدنيوية والأخروية اللتين حث عليهما الإسلام لا تُنالان إلا بدراسة هذه الكتب المطولة في النحو والفقه، وإن كان أكثرها عقيمًا لا يُصلِح لسانًا ولا عملاً، ولا يقي الآخذ به زيغًا ولا زللاً، وأن ما سوى ذلك من علوم التفسير والحديث والتهذيب لا ضرورة تدعو إليها، بل لا حاجة لتعلمها، إذ تقليد الفقهاء هو المحتَّم على كل فرد من أفراد الأمة، ومن اعتقد صحة حديث نبوي مخالف لقول فقهاء مذهبه وقال: آخذ بالحديث دون قول الفقيه، فذلك زنديق (نعوذ بالله تعالى) . وهل يوجد في علماء المسلمين من هبط بدينه وعقله إلى هذه الاعتقادات والآراء؟ نعم، وإننا لنخجل من كتابة ذلك عنهم ونشره بين الناس، ولكن الضرورة تلجئنا إلى نشره؛ لأنه أدوأ أمراضنا ومن كتم داءه قتله. اجتمع بعض الناس بشيخ من أكابر علماء الأزهر وتذاكرا فيما لهجت به الجرائد من الإصلاح، وأن تعليم الأزهر لا يرجى منه خير للملة كما جاء في بعض الجرائد الهندية، ونقلته الجرائد المصرية (المؤيد والمنار) فقال (الإنسان) : لا حاجة إلى تكليف كل طالب للعلم أن يدرس جميع مطولات كتب الفقه، لا سيما ما لا يتعلق به عمل، كفقه المالكية والشافعية ما عدا العبادات وما في معناها، فمن الإصلاح في التعليم أن يخصص بعض فقهاء المالكية مثلاً لقراءة المطولات لمن يرغب في ذلك، وتتوجه همته إليه من الطلاب، إذ هذا الفريق هو الذي يرجى منه حفظ المذهب وإتقانه، ويقتصر باقي الطلاب على درس الكتب المختصرة أو المتوسطة بحيث يعرفون الواجب عليهم من ذلك، ويعرفون أساليب الفن، حتى إذا ما دعتهم الحاجة إلى التوسع فيه أمكنهم ما أخذوه من تحصيل ما لم يأخذوا، وأن يصرف هؤلاء الوقت الذي كانوا يصرفونه في قراءة مطولات الفقه إلى علم القرآن والحديث وأخلاق الدين التي هي الفقه الحقيقي عند الله ورسوله؛ لأنها هي التي يكون بها الوعظ والإرشاد والبشارة والإنذار، قال عز وجل: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) . قال حجة الإسلام الغزالي في هذا المقام ما معناه: ومعلوم أن علم الإجارة والسَّلَم ونحوه مما يسمونه فقهًا لا يحصل به الإنذار، ولا يرجى به الحذر من أسباب الشقاء، فليس مما عناه القرآن. فأجاب (الشيخُ) هذا (الإنسانَ) بما محصله: أن علم الحديث لا حاجة إليه في هذه العصور ألبتة، أما من حيث الرواية فقد فرغ منه من قرون، وأما من حيث الدراية فلا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث، بل الواجب الأخذ بكلام الفقهاء، ومن ترك كلام فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف له فهو زنديق (كبرت كلمة هو قائلها) فتعجب الإنسان وقال: أنا أرى أن الذي يترك كلام صاحب الشريعة المعصوم الذي يعتقد صحته وأنه قاله ويأخذ بكلام فقيه يجوز عليه ترك الحق عمدًا وخطأ - هو الزنديق، فقال الشيخ صاحب الكلمة: يجوز أن يكون الحديث الذي يأخذ به ضعيفًا أو موضوعًا، فقال الإنسان: إنما كلامنا في حديث يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، ولا أقدر أن أفهم معنى إسلام رجل ينبذ ما يعتقد أن نبيه قاله لقول أي إنسان من الأناسيّ. ومن الغريب أن كثيرًا من الشيوخ يعتقدون صحة قول صاحب هذه الكلمة الأثيمة وسنبين في الكلام على تقصير العلماء أن هذه الكلمة لبعض المتفقهة الذين لا يؤخذ بقولهم في الترجيح والتصحيح فضلاً عن الاستنباط أو التشريع، ولم تنقل عن أحد من المجتهدين (حاشاهم) بل صح عنهم الأمر بالأخذ بالحديث وضرب عرض الحائط بكلامهم إذا هو خالفه، كما رأيت في العدد الماضي عن الإمام الشافعي. وكما يقولون تلك الكلمة في شأن الحديث يقولونها في شأن القرآن أيضًا، وهي أعظم ضلالة وقع فيها أصحاب العمائم الإسلامية، وقد اتبعوا فيها سنن من قبلهم. فقد كان الكتاب المقدس عند الأمم النصرانية مقصورًا على رجال الدين، لا يجوز لأحد أن يتناوله إلا على سبيل التبرك، ومن قال فهمت منه كذا أو أعمل بما أفهم منه، وإن خالف كلام قسوس الكنيسة وأحبارهم - حكموا بمروقه من الدين، وهكذا كان شأن اليهود من قبل أيضًا. ومع هذا فإن هؤلاء الشيوخ يفسرون حديث: (لتتبعن سَنَن مَن قبلكم) إلخ، بما يشتهون، فإذا خاضوا في غيبة الحكام وأبناء الدنيا قالوا: واأسفاه قد ضاع الدين، وصدق فينا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فاتبعنا سنن من قبلنا، فترك حكامنا العمائم والجبب والفرجيات والبوابيج الصفر ولبسوا الطربوش والبنطلون والجزمة إلخ إلخ، وأكلوا على الموائد المرفوعة بالآنية الإفرنجية ... إلخ إلخ، فكأن الدين إنما أنزل لبيان الأكل واللباس، ولا يقوم إلا بذلك، وفاتهم أن النبي عليه السلام لبس الجبة الرومية والطيالسة الكسروية ولكنه لم يوسع أردانه ويجر أذياله كما يفعلون. وقد جمح بنا القلم فلنعد إلى المحاورة. قال (الإنسان) : إذا سلمنا أن الأخذ بكلام الفقهاء متعين وإن خالف الحديث الصحيح، فهل يفيد ذلك أن الحديث لا فائدة فيه مطلقًا؟ أليست آداب الدين وفضائله مبثوثة في الأحاديث النبوية؟ ألا يكون المتفقه الواقف على الحديث على بينة من مذهبه؟ ألا ينبغي له إذا رأى فقهاء مذهبه قد تركوا الأخذ بحديث أن يبحث عن السبب في ذلك ليطمئن قلبه لقولهم؟ ومن هنا انتقلا إلى البحث في ترقية الأمة الإسلامية. فقال الإنسان المشار إليه: إن الدين انتشر بالتعليم والإرشاد، فإذا صلح أمر التعليم والإرشاد يصلح حال المسلمين ويعود للدين شأنه. فخالفه الشيخ في كل ما ذهب إليه غير قيام الدين بالدعوة والتعليم والإرشاد قائلاً: إن الحكومة هي ترقي الأمة وتقويها وبدونها لا يكون في الأمة ترقٍ أو إصلاح. فرد عليه بنحو ما كتبناه في إبطال هذا الزعم غير مرة. ثم قال له: نحن نتكلم في إصلاح شؤون الأمة المِلّية لا الإدارية والسياسية، فقال الشيخ بعد غض النظر عن كون هذا يُطلب من الحكام أيضًا، أقول: إن الذي حل بالمسلمين هو مصداق الأخبار الصحيحة، ولا يمكن زواله فهو دليل قرب الساعة وانقضاء عمر الدنيا (هذا غاية استفادته من علم الحديث، فإن كان كل من يقرأ الحديث في الأزهر يقع في القنوط واليأس من إصلاح الأمة فنحن على رأيه في عدم لزومه أو في لزوم عدمه) وأورد عليه حديث: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ) . فقال له الإنسان: إن هذا حجة لي فأنا أقول: إن الإسلام غريب ويعود كما بدأ بالدعوة والتعليم والإرشاد، فيجب على المسلمين عامة والعلماء خاصة أن يعملوا على إعادته. هذا بعض من كل، أوردناه على سبيل الاعتبار بحالتنا والتصديق لما كتبه العلامة شبلي النعماني مدرس العلوم العربية في كلية عليكره في الهند من أن تعليم الأزهر لا يرجى منه خير للإسلام إذا بقي على حاله. ولكن لنا الأمل بعلمائه العقلاء أن يتبصروا ويتدبروا، ويمعن النظر من لم يقف منهم على أحوال الزمان بأقوال من وقف واختبر ويتعاونوا جميعًا على إصلاح التعليم، ومتى أنصفوا في المذاكرة تنجلي لهم شبههم التي يحتجون بها على اليأس من الإصلاح، وأن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وقد ورد أنها كالمطر لا يدرى الخير في أوله أو في آخره، وسنعود إلى هذه المواضيع إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق.

انتشار الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتشار الإسلام جاء في جريدة (الحاضرة) الغراء تحت هذا العنوان ما نصه: ظهر للبعثات الدينية التي ذهبت حديثًا إلى مجاهل آسيا وإفريقيا على أثر دخول دول أوروبا إليهما أن الإسلام منشور في كثير من البلدان، وأن أهله على غاية الرقة واللطف بخلاف بقية الطوائف من البربر والمجوس والوثنيين وغيرهم، ممن لا يدينون بدين. والمسلم هناك ممتاز عن غيره بالفضائل والكمالات الإنسانية وبحسن البزة والنظافة، بخلاف بقية الأهالي الذين لا يعرفون شيئًا، والطهارة عندهم مفقودة لا وجود لها. ولا أحد يعلم كيف كان دخول الإسلام إلى مجاهل تلك البلاد، ولكن يُظن أنه كان من نتائج أسفار المسلمين وتوغلهم في داخلية البلاد بقصد الكسب والاتجار، فلما آنس الأهالي منهم الأمانة والوفاء اقتدوا بهم، فتناسلوا وتكاثروا ونما بينهم الدين الإسلامي، فأنار أبصارهم وبصائرهم وأخرجهم من حطة البهيمية إلى خطة الإسلامية. قال المسيو ريمون الرحالة الشهير إنه أثناء طوافه في مجاهل إفريقيا لم يكن ليأمن على نفسه وعلى رجاله إلا عند المسلمين، فكان يصادف منهم أنسًا ولطفًا وحسن ضيافة، بخلاف جيرانهم من الناس الذين لا دين لهم، فكثيرًا ما غدروا به وبرجاله، حتى كان يضطر إلى استعمال الأسلحة النارية دفاعًا عنه وعن رجاله. وقد كتب رسالة طويلة في الإسلام والمسلمين مدحهم بها وفضلهم على سائر الأمم والشعوب وقال: إن نور الإسلام انتشر كثيرًا في جهات إفريقيا وآسيا، وكان انتشاره طبيعيًّا؛ لأن المسلمين كانوا قدوة في أعمالهم الحسنة لسائر جيرانهم فلحقوا بهم وحذوا حذوهم، وبالتدريج عرفوا ما الإسلام فاعتنقوه وصاروا مسلمين. الإسلام مظهر الاحترام من جميع الشعوب، ولهذا أخذ يتوسع نطاقه وينتشر نوره في جميع أطراف الدنيا، ولا محل هنا للكلام عما هو عليه في الهند والصين واليابان وغيرها؛ لأن أمره صار معروفًا لدى الخاصة والعامة، وإنما الذي يستحق الذكر ما ظهر للرحالات والطوافات من أن المسلمين كثيرون وهم يزيدون على ثلاثمائة مليون، فإن الفرنسويين والبلجيكيين وجدوا عددًا وفيرًا من المسلمين في البلاد التي فتحوها حديثًا، ووجد الألمانيون والإنكليز مثل ذلك أيضًا. وفي بعض الروايات أنهم استخدموا كثيرين من المسلمين في معسكراتهم فصادفوا منهم غاية الأمانة وحسن الوفاء إلى غير ذلك. ويُظن أن أهل الجغرافية متى وقفوا على مجاهل البلاد وعلموا ما فيها من المسلمين صححوا جغرافياتهم، وعلموا أنه يوجد في الأرض من أهل الإسلام ما يزيد على 400 مليون من النفوس، والله أعلم.

خطاب اللورد كرومر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب اللورد كرومر ألقى اللورد كرومر في 4 يناير خطابًا في أم درمان على جمهور من عُمد السودان ومشايخه وأعيانه، حضره سعادة السردار وبعض الإنكليز وعدَ فيه السودانيين بأن حاكمهم من قِبل الحكومة الإنكليزية والحكومة الخديوية هو السردار؛ لأن جلالة الملكة وسمو الخديوي يثقان به، وأنه يكون مستقلاًّ في حكمه قال: فلا تساس بلادكم من مدينة القاهرة ولا من مدينة لندن، بل إن الذي يسوسكم هو السردار، ومنه تطلبون العدالة وحسن الأحكام، وأنا على يقين من أن أملكم لا يخيب، ثم بين لهم أن جلالة الملكة ورعاياها متعلقون بدينهم ويعلمون كيف يحترمون دين غيرهم، وأن المسلمين الذين تحكمهم، وهم أكثر من كل ما يحكمه غيرها من الملوك، يعيشون في الراحة والاطمئنان تحت حكمها الهنيء، وكذلك يكون السودان (فلا يتعرض لكم أحد في دينكم على الإطلاق) فقاطعه بعض المشايخ سائلاً: هل يتضمن هذا الوعد الجري على الشريعة؟ فقال اللورد: (نعم) ثم وعدهم بالعدالة والانتظام ومحو آثار العسف المصري القديم، وأنه لا يؤخذ منهم إلا الضرائب التي تضرب عليهم، وأن الموظفين من الإنكليز ستقيم في كل مركز لإجراء الأحكام طبق هذه المبادئ. خطب اللورد بالإنكليزية، وترجم خطابه سكرتيره حرفيًّا.

وميض لمع في ظلمات بدع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وميض لمع في ظلمات بدع الحمد لله قد تنبه المسلمون من جميع الطبقات إلى الإصلاح، فهم يعرجون في مراقيه تدريجًا، فكما نسف بعض الفضلاء بدعًا كثيرة من المآتم قام بعض شيوخ الطريق يمحو أضاليل ومنكرات من الموالد، وعسى أن يستمر السير ويقلد الناس بعضهم بعضًا في طريق الخير. كتبنا غير مرة في منكرات الاجتماعات والاحتفالات التي تقام في الديار المصرية للأموات من الصالحين ورجال الطريق، ويسمونها الموالد، وقد توهم مرضى اليأس من الإصلاح أن هذه الموبقات قد رسخت ولا أمل بالرجوع عن شيء منها، وقد فندنا رأيهم الفاسد بالبرهان، وكذبه أهل الإصلاح بالفعل، ففي الأسبوع الماضي احتُفل بمولد الولي الشهير سيدي دمرداش المحمدي (قُدس سره) فجاء أهل الغواية إلى ضواحي المسجد الدمرداشي يضربون الخيام للبغايا والمومسات وباعة الحشيش ونحوه من متلِفات العقول والأموال، فانتدب الأستاذ الكبير للطائفة الدمرداشية الشيخ عبد الرحيم الدمرداش لتقويض خيامهم، وطردهم من ضواحي المسجد، ولم يمكِّن أحدًا من المكث هناك. وهذا أول مولد أقيم في الديار المصرية، ولم تقم فيه سوق مخصوصة للبغاة وشرب الحشيش والأفيون والرقص والتهتك في الفحش الذي يسمونه: (المساخر) وغير ذلك من الشعوذة والميسر (القمار) والتخنث، بل ومن الألاعيب المعتادة كالأراجيح وخيمة الخيل والطبول والزمور، وقد انتهى المولد طاهرًا من هذه الرذائل، وكانت ليلة أمس (الجمعة) موعد خروج الشيخ المومأ إليه ومريدي الطريقة من خلواتهم، فاحتفل بذلك الاحتفال المعتاد، وحشر الناس لحضوره أفواجًا، ومما امتاز به أهل هذه الطريقة على غيرهم: نظافة ملابسهم، فقد كانوا جميعًا لابسي البياض، وعدم وجود الأغاني وآلات الطرب في ذكرهم. فما أجدر كافة أهل الطريق بالاقتداء بهم في ذلك، وعسى أن يكون الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرحيم قدوة لهم في تطهير الطريق من كل البدع، وتحريره على السنة السَّنية ولو بالتدريج. وهنا ننبه الذين يقيمون الموالد بأسماء شيوخهم وأجدادهم أن يجروا على سنن المولد المحمدي الدمرداشي، فيبطلوا الفواحش والمنكرات، فإن لم يفعلوا فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، وليعلموا أن سهام التوبيخ تصيب صدورهم وقوارع التقريع تقع على رءوسهم، لا سيما إذا كانوا من المنتسبين للعلم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

رمضان المبارك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رمضان المبارك [*] استهل هذا الشهر الشريف وثبت بالرؤية شرعًا أن أوله الجمعة (أمس) فأصبح المسلمون صائمين، فأهلاً بشهر أنزل فيه القرآن، وهو أكبر نعمة من الله على نوع الإنسان؛ لأنه صدق المرسلين، وزعزع أركان الوثنيين، ووضع أصول الوحدة في الاعتقاد والاجتماع، ودعا إلى الحب والتأليف، وأسس أركان العدالة في الأخلاق والآداب النفسية والعملية، والأحكام القضائية والمدنية، وساوى بين الناس في الحقوق، وأعتقهم من رق العبودية لغير الله، وتمم مكارم الأخلاق، وأرشد إلى الكمالات الروحية، مع عدم إهمال الحقوق الجدية، بل حث على طلب سعادة الدارين معًا، وخاطب العقل وجعله مشرق أنوار الدين، ونبه الناس إلى أن للكون سننًا ثابتة لا تتبدل وهداهم إلى مراعاتها والاعتبار بها ليصلوا إلى كمالهم النوعي. فأجدر بالمسلمين أن يجعلوا القرآن في هذا الشهر سميرهم ومرشدهم وأميرهم، وأن يضموا إلى قراءته وإقرائه التدبر لآياته والمذاكرة في معانيه الشريفة والاعتبار بحكمه، والاتعاظ بمواعظه، والتأدب بآدابه، لئلا يكون حجة عليهم، فما أقبح من يَقرأ أو يُقرأ عليه مثل قوله تعالى {لَّعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} (آل عمران: 61) وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (النحل: 105) وهو من الكاذبين، يسمع المقروء عليه وهو يكذب ويفرغ القارئ من قراءته فيخوض في الكذب مع الخائضين فيكون قد لعن نفسه. أخرج الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (اقرأ القرآن ما نهاك، فإن لم ينهك فلست تقرأه) وأخرجه أيضًا أبو نعيم والديلمي وله شواهد عند غيرهم. وأخرج الطبراني أيضًا من حديث أنس وكذا أبو نعيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان، فيقال لهم: ليس من يعلم كمن لا يعلم) وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى للقراء: إنكم قد اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملاً فأنتم تركبونه وتقطعون به مراحل وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار. وقال ابن مسعود الصحابي الجليل: (أُنزل القرآن ليعملوا به، فاتخذوا دراسته عملاً، إن أحدكم لَيقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته، ما يُسقط منه حرفًا، وقد أسقط العمل به) وفي حديث ابن عمر وأبي ذر جندب الغفاري رضي الله عنهما قالا: لقد عشنا دهرًا وأحدنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم، فيعلم حلالها وحرامها، وآمرها وزاجرها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، ثم لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته، لا يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثره نثر الدقل (محركة: الرديء من التمر) . قال بعض العلماء: يدل قوله: (لقد عشنا) ... إلخ على أن ذلك إجماع من الصحابة. وفي حديث سعد عند ابن ماجه مرفوعًا: اقرءوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكَوْا. قال الإمام الغزالي: (مثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرره مثال مَن يكرر كتاب الملك في كل يوم مرات، وقد كتب إليه في عمارة مملكته وهو مشغول بتخريبها ومقتصر على دراسة كتابه، فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء واستحقاق المقت) فعسى أن يعير القراء والمستمعون هذه البينات التفاتًا ولا يكتفوا بالتلذذ بالنغم وحسن الصوت والإلقاء. أما الصوم الذي هو عبادة الشهر فرياضة بدنية، وتأديب للشهوة البهيمية، وإشعار للغني المنعَّم، بحاجة الفقير المعدم، بحيث تتحرك عاطفة الشفقة بالإحسان إليه، ويعظم في نفسه مقدار نعمة الله عليه؛ لأن الأشياء تدرك قيمتها بفقدها، والأمور تعرف بضدها، فمن غلبته الشهوة على نفسه وملكت عليه أمره فلم يصم، فهو حيواني الطبع يزاحم الخنزير والقرد في خاصيتهما، وإن من الحيوان ما يمسك عن الطعام والشراب لعلة الشرف فيقال: إن الأسد لا يأكل من فريسة غيره. وتجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب ولغن فيه والذي يفطر في رمضان أحد رجلين: إما كافر، لا يدين بالإسلام كبعض الذين قتلت أرواحهم أدواء التمدن الإفرنجي، وإن لنا معهم كلامًا نوجهه إليهم في وقت آخر. وإما جهول لئيم ليس له من الإنسان إلا صورته ولا من الدين إلا أنه من طائفة يسمون مسلمين. والصوم الصحيح يهيئ الإنسان للتقوى فتكون مرجوة منه {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) . ومن أدب الصيام كف الجوارح كلها عن المحرمات، وأي اعتبار للكف عن الشهوات المباحة كالأكل والوقاع في الحل مع الانهماك في الشهوات المحرمة كالخوض في الباطل من كذب وغيبة وفحش. وفي الحديث الصحيح: (إنما الصوم جُنة، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث الرفث محرَّكة: فحش في القول، والجماع ومقدماته - ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم، إني صائم) (أخرجه الشيخان وغيرهما) . وقد ضرب الإمام الغزالي للصائم المنهمك في المعاصي مثل من يبني قصرًا ويهدم مصرًا قال: فإن الطعام الحلال يضر بكثرته لا بتنوعه، فالصوم لتقليله، وتارك الاستكثار من الدواء خوفًا من ضرره إذا تعداه إلى تناول السم كان سفيهًا، والحرام مهلك للدين والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره، وقصد الصوم تقليله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) (أخرجه النسائي وابن ماجه) . ومن سجايا المسلمين المحمودة في رمضان كثرة الصدقات وكثرة التزاور، وهما من أسباب التحابّ والتآلف، ولو أنهم يجعلون حظًّا من سمرهم في ليلهم المذاكرة في شؤون الأمة والبحث في الأساليب والوسائل التي يمكنهم بها القيام لتربية النشء الجديد في بلادهم وتعليمه ما ينفعه وينفع أمته كلها معه، لأمست منتدياتهم مهبط الفضائل ومبعث روح الحياة العزيزة. وإننا نرفع التهنئة إلى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وإلى سمو مولانا العباس عزيز مصر، ثم قراء جريدتنا الكرام، بالشهر، ونسأل الله تعالى أن يعيده على أهله بالعز والسعادة.

سيرة الإمام الشافعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سيرة الإمام الشافعي (رضي الله عنه) (بقية ما سبق) ذكرنا في العدد الأسبق من سيرة الإمام أثارة من علمه وشدة تمسكه بالسنة، ووقوفه عند حدودها، وتعظيمه بالحق لمن جاء بها، وخذله للبدعة ونفوره منها، وذلك كافٍ للتذكير بفضائله المسلَّمة ومناقبه الكثيرة، ومما يؤثر عنه أنه قال: (من كان فيه ثلاث خصال فقد استكمل الإيمان: من أمر بالمعروف وائتمر، ونهى عن المنكر وانتهى، وحافظ على حدود الله تعالى) . وحسبك هذا الأثر وحده حجة على الذين يحتفلون بمولده وكنسة ضريحه، فإن صورة هذا الاحتفال بدعة مصبوغة بصبغة الدين، ومواظبة أكابر العلماء عليها يوقع في قلوب العامة أنها مشروعة، جاعلين إياها من زيارة القبور المأذون بها من الشارع، ولكن زيارة القبور التي رخص فيها الشارع لأجل تذكر الموت لم تكن بهذه الكيفية من تعظيم القبر وجميع ما يحتف به حتى الكناسة والنسيج الذي يوضع عليه من نحو ستر وعمامة، والوقوف حوله بغاية الذلة والخضوع، بل والصلاة في جانبه، فقد نطق التاريخ بأن مثل هذا وجد أولاً عند الوثنين، وسرى لبعض أهل الكتاب بالامتزاج بهم، وقد كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يلعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، حتى في مرض موته، كما في الصحاح، وكان يقول في مرض موته أيضًا: (لا تتخذوا قبري عيدًا) أخرجه في الموطأ. ويتوهم من لم يقف على نبأ الأولين والقوم الذين أشارت الأخبار إلى اتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد وأوثانًا ونطق القرآن بأنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا - أنهم كانوا يسمونهم آلهة ويعبدون أشخاصهم أحياء - وقبورهم أمواتًا -عبادة حقيقية، وليس كذلك، بل كانوا يعظمونهم تعظيمًا لم يأذن به الله، فيجعلونهم وسطاء بينهم وبينه في قضاء حاجهم الدنيوية، ووسيلة لعرض أعمالهم على رحمن البرية، ويحتفلون الاحتفالات الدينية عند قبورهم كالصلاة والدعاء، ويزعمون أن الله أعطاهم قوى يتصرفون بها في الكون بإذنه بما لا يصل إليه سعي غيرهم، ويطبقون أفعالهم واعتقاداتهم على نصوص الدين بالاستنباط والتأويل [1] . وكتبهم الدينية وكتب التاريخ شاهدة بذلك. أي معنى لإنكار العلماء باسم الدين على موحد لم يرضَ أن يضع العمامة التي توضع على ضريج الإمام على رأسه مثلهم، وعلى قوله: إن أكل هذا البرتقال خير لي من وضعها على رأسي؛ لأنه ينفعني وهي ليست من أسباب النفع مثله؟ أليس هو من إنكار المعروف؟ لو ورد مثل هذا عن الشارع لوجب أن نعده من الأمور التعبدية التي لا يقاس عليها، ولذلك قال سيدنا عمر في الحجر الأسود: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع [2] ولولا أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبِّلك لما قبَّلتك. وقطع هذا الخليفة الذي أعز الله به الإسلام الشجرة التي حصلت تحتها بيعة الرضوان، واجتمع عندها النبي وخيرة أصحابه، وما قطعها رضي الله عنه إلا لأنه رأى بعض الناس يعظمها، فحذر أن يعتقد فيها سببية النفع أو وسيلة الزلفى إلى الله تعالى، وتلك الوثنية بعينها، لم لا ينكرون المعاصي والمكروهات التي تقع هناك وهي كثيرة جدًّا. كان كاتب هذه السطور يومًا ما في قبة الإمام، وكان ثَم جماعة من أكابر علماء الأزهر وأشهرهم، فأذن المؤذن العصر مستدبرًا القبلة، فقلت لهم: لم لم يستقبل هذا المؤذن القبلة كما هو السنة؟ فقال أحدهم: (إنه يستقبل ضريح الإمام) !! أو ليس هذا من الإقرار على المنكر؟ وكذلك لا ينكرون على من يستقبل قبر الإمام في صلاته، والإمام يتبرأ من ذلك لأنه من المحظورات والمنكرات في الدين، ومذهبه في ذلك معروف. هذا قليل من كثير، والتعظيم الصحيح للإمام هو إحياء علمه واقتفاء أثره في الاجتهاد في العلم والعمل والفضائل وذكره بالخير - كالدعاء له - فإن حسن الذكر هو الشرف الباقي، وبمثل هذا كان يعظمه الإمام أحمد بن حنبل بعد موته، فقد جاء في الإحياء عنه أنه قال: ما صليت منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي، قال الغزالي: (فانظر إلى إنصاف الداعي وإلى درجة المدعو له، وقس به الأقران والأمثال من العلماء في هذه الأعصار، وما يجري بينهم من المشاحنة والبغضاء لتعلم تقصيرهم في دعوى الاقتداء بهؤلاء، ولكثرة دعائه له قال له ابنه: أي رجل كان الشافعي حتى تدعو له كل هذا الدعاء؟ فقال أحمد: يا بني كان الشافعي - رحمه الله تعالى - كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس. فانظر هل لهذين من خلف، وكان أحمد يقول: ما يمس أحد بيده محبرة إلا وللشافعي رحمه الله في عنقه منّة) وأورد في الإحياء شواهد على الإمام تدل على تبحره في علم القرآن وأخلاق الدين محتجًّا على الفقهاء الذين يزعمون اتباعه وهم أخلياء منها، وذكر أيضًا بعض الوقائع التي تدل على خشيته من الله تعالى وزهده في الدنيا، ثم قال: (ولا يحصل ذلك إلا من معرفة الله تعالى، فإنما يخشى الله من عباده العلماء، ولم يستفد الشافعي هذا الخوف من علم كتاب السلم والإجارة وسائر كتب الفقه، بل من علوم الآخرة المستخرجة من القرآن الكريم والأخبار، إذ حِكم الأولين والآخرين مودعة فيهما) . أقول: فليعتبر المخذولون الذين يقولون: إن الدين كله في هذه الكتب الفقهية، فينبغي صرف الهمة إليها ونبذ الكتاب والسنة ظهريًّا، إلا ما يكون من التغني بالقرآن والتبرك بقراءة نحو البخاري أو الشفاء، ولم تنحرف أمة عن هدي الدين أكثر من هذا الانحراف. وقال الإمام أبو ثور: ما رأيت ولا رأى الراءون مثل الشافعي. وقال أبو زرعة الرازي: ما أعلم أحدًا أعظم منّة على أهل الإسلام من الشافعي. ومحاولة استقصاء كلام الأئمة والعلماء في الثناء عليه محاولة محال، ولكن لم ينقل عن واحد من أولئك الأخيار الذين كانوا يجلونه كل هذا الإجلال أنه أخذ شيئًا من كناسة ضريحه، أو تبرك بثياب توضع عليه. فبمن نقتدي إذا اختلف الأدلاء، وإذا تفرقت السبل، فأيها يسلك الجهلاء؟ لا جرم أن النجاة في سلوك سبيل الأولين والاقتداء بالسلف الصالحين، فلا تغتري أيتها العامة بالعمائم المكورة، والأردان المكبرة، والأذيال المجررة، فالحق لا يموت بانتشار البدع في العالمين، والله ولي المتقين. أما مذهب الإمام في الفقه فهو أقصد المذاهب. ذلك أن الفقه إنما نفقت سوقه وزخرت بحاره في الحجازيين والعراقيين، فأهل الحجاز وأشهر أئمتهم مالك بن أنس كانوا أصحاب رواية كثيرة، ولذلك مهروا في فقه الحديث، وأهل العراق وأشهر أئمتهم أبو حنيفة النعمان وصاحباه برعوا في فقه القياس، والإمام الشافعي برع في الفقهين معًا كما حققه ابن خلدون حكيم المؤرخين. وحسبك أنه واضع علم الأصول الذي لم يصل الفقه إلى درجة الكمال إلا به. مناظرات الإمام: كان له مناظرات مع أئمة عصره يُعلم منها علو مداركه ودقة نظره في القياس نذكر منها هنا ملخص المناظرة الشهيرة بينه وبين الإمام محمد بن الحسن صاحب أبى حنيفة رضي الله تعالى عنهم. قال محمد: ما تقول في رجل غصب من رجل ساحة فبنى عليها بناءً أنفق فيه ألف دينار، ثم جاء صاحب الساحة فأثبت بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبه هذه الساحة وبنى عليها هذا البناء، ما كنت تحكم؟ قال الإمام: أقول لصاحب الساحة: تحب أن تأخذ قيمتها، فإن رضي حكمت له بالقيمة، وإن أبى إلا ساحته قلعتها ورددتها عليه. فقال محمد: فما تقول في رجل اغتصب من رجل خيط إبريسم فخاط به بطنه، فجاء صاحب الخيط فأثبت بشهادة عدلين أن هذا اغتصبه هذا الخيط، أكنت تنزع الخيط من بطنه؟ . فقال الإمام: لا. فقال محمد: الله أكبر، تركت قولك. فقال الإمام: لا تعجل، أخبرني لو لم يغتصب الساحة من أحد وأراد أن يقلع هذا البناء منها أيباح له ذلك أم يحرم؟ فقال: بل يباح. فقال الإمام: أفرأيت لو كان الخيط خيط نفسه فأراد أن ينزعه من بطنه أيباح له ذلك أم يحرم؟ فقال محمد: بل يحرم. فقال الإمام: فكيف تقيس مباحًا على محرم؟ فقال محمد: أرأيت لو غصب رجل لوحًا وأدخله في سفينة ولجَّج في البحر، أكنت تنزع اللوح من السفينة؟ فقال الإمام: لا، بل آمره أن يقرب سفينته إلى أقرب المراسي إليه ثم أنتزع اللوح وأدفعه إلى صاحبه. فقال محمد: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) ؟ فقال الإمام: هو أضر بنفسه ولم يضر به أحد. ثم قال الإمام له: ما تقول في رجل اغتصب من رجل جارية فأولدها عشرة كلهم قد قرءوا القرآن وخطبوا على المنابر وحكموا بين المسلمين، فأثبت صاحب الجارية بشاهدين عدلين أن هذا اغتصبها منه، ناشدتك الله بماذا كنت تحكم؟ قال: كنت أحكم بأن أولاده أرقاء لصاحب الجارية. قال الإمام: فأيهما أشد عليه ضررًا أن يجعل أولاده أرقاء أو يقلع البناء من الساحة. (ومثله أن يقلع اللوح من السفينة) . اهـ. (حكم منثورة تؤثر عنه) منها: وددت أني إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الله الحق عليه يديه. ومنها: طلب العلم أفضل من صلاة نافلة. ومنها: أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مودة من لا ينفعه وقبل مدح من لا يعرفه. الوقت سيف وأفضل العصمة أن لا تضيع دقائقه، جمال العلماء كرم النفس وزينة العلم الورع والحلم، فقر العلماء اختيار وفقر الجهلاء اضطرار. أقول: يعني أن العلماء يفضلون الاشتغال بما هم فيه من العلم على الاشتغال بالكسب الذي يخرج الإنسان من مأزق الفقر إلى باحة الغنى، ففقرهم اختياري بخلاف الجهلاء، فإنهم لا يدعون سبيلاً علموه للغنى إلا اتخذوه، ففقرهم اضطرار. ومنها: المراء في العلم يقسي القلب ويورث الضغائن. أقول: وما وسع خرق الخلاف بين علماء المسلمين حتى فرقوا دينهم بددًا، وذهبوا في مذاهبهم طرائق قددًا، إلا المراء وعدم إرادة الحق بالجدال. ومن مناقبه رضي الله عنه أنه قال: ما كذبت قط ولا حلفت بالله صادقًا ولا كاذبًا، وما تركت غسل الجمعة في برد ولا سفر ولا حضر، ولا شبعت منذ 16 سنة إلا شبعة واحدة طرحتها من ساعتي. وكان يقول: من لم تُعزُّه التقوى فلا عز له. ومن حكمه: من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها. ومنها: من أحب أن يفتح الله عليه بنور القلب فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء وبغض أهل العلم الذين لا يريدون بعلمهم إلا الدنيا. أقول: لأن هؤلاء يميلون مع الهوى ويشترون الضلالة بالهدى، يقول أحدهم {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} (البقرة: 200) بخلاف الذين يقولون: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (البقرة: 201-202) فالذي يريد بعلمه سعادة الدارين تنير صحبته القلب. ومنها: لو اجتهد أحدكم كل الجهد على أن يرضي الناس كلهم فلا سبيل له، فليخلص العبد عمله بينه وبين الله تعالى. ومنها: لا يعرف الرياء إلا المخلصون. ومنها: سياسة الناس أشد من سياسة الدواب. أقول: لأن الدواب لا تنازعك الرأي وأفرادها على طبيعة واحدة. قال الشاعر: وليس يزجركم ما توعظون به ... والبهم يزجرها الراعي فتزجر ومنها: العاقل من عقل نفسه عن كل مذموم. ومنها: لو علمت أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته. أقول: بهذه الشهامة والعزة تسود الأمم وتبلغ المعالي، فليعتبر الذين يعدون الذل والمهانة من الدين. ومنها: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته (وما أجلها كلمة وأروعها حكمة) . ومنها: من علامة الصاد

موافقة وانتقاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ موافقة وانتقاد قرأنا في جريدة المقطم الصادرة في 4 يناير مقالة تحت عنوان: (الرأي العام- امتيازات الأجانب) بإمضاء (يوسف نحاس) بيَّن فيها كاتبها النبيل أن العلماء الذين بحثوا في سبب إباحة الدولة العَلِيّة للدول الأجانب الامتيازات الشاذة عن القوانين الدولية المقدسة، اتفقوا على أنها لم تمنحهم إياها مضطرة (اضطرارها الآن إلى تلبية مطالب أوروبا) لأنها كانت وقتئذ في عنفوان دولتها ذات قوة ومنعة، لا يُرهبها وعيد ولا يَهولها تهديد. وثانيًا: لأن الدول المسيحية لم تطلب منها تلك الامتيازات بصوت واحد، ولا توعدتها بحشد الجيوش ومعاملتها بالقوة والإكراه إذا هي لم تُعطها ما طلبت عفوًا، فالسلاطين لم يفعلوا ما فعلوا إكراهًا، بل عن طيب نفس و (خاطر) ثم قال: إن السلاطين لم يعتنوا بمزج الشعوب التي أخضعوها وجعلها أمة واحدة (بل حفظوا لتلك الشعوب صبغتها وتقاليدها الأصلية، وعدُّوها كأجنبية عنهم، واستشهد على ذلك بأن السلطان محمد الفاتح نصب بطريركًا للروم في القسطنطينية (وأعطاه الأمان على دينه وسلطة مدنية على أبناء طائفته، فبقي الروم ممتازين عن الفاتحين، ولم تسعَ الحكومة قط في مزجهم بسائر رعيتها، ولا حاولت تغيير عوائدهم ودينهم، فكان بين الفريقين حد فاصل، ولكل أمة منهما حياة خاصة بها، وهذا التفريق هو الذي مكن الشعوب الخاضعة للسلطان من حفظ جنسيتها وحياة أمتها على ممر السنين وإنعاشها عندما استطاعت التنصل من ربقة العبودية (وكان الصواب أن يقول: عندما كفرت النعمة وخرجت عن الطاعة؛ إذ العبودية بعيدة بمراحل عن الاستقلال الديني والمدني، بل الامتياز على سائر الأمة، ولو استُعبدوا لمُحيت جنسيتهم وماتت عزتهم، حتى لا يمكنهم أن يثوروا، بل ولا أن يتفكروا في الثورة والخروج، وإذا أمكنهم شيء من ذلك بعد طول الأمد فالنجاح يكون بعيدًا عنهم بمراحل، كما تشاهد فيمن تستعبده دول أوروبا من الشعوب الشرقية) ثم قال حضرة الكاتب البارع: (فإذا كانت هذه سياسة الحكومة العثمانية مع الأمم الخاضعة للعمل العثماني، فكيف تحاول مزج الأجانب النزلاء برعاياها، وبسط أحكامها عليهم) ثم علل ذلك بقوله: (والذي ساعد في البدء على حفظ ذلك الحق للأجانب هو تقاليد الإسلام نفسه، فإنه يخص أهل الإسلام وحدهم بشريعته، ولا يبيح إطلاقها على غيرهم من الأجانب) . وهنا محل الانتقاد الذي كتبنا لأجله هذه السطور، فما ذكره حضرة الكاتب غير صحيح، فإن الشريعة الإسلامية عامة يجب على الحكام القضاء بها بين جميع الأمم التي تدخل في سلطة أهلها وبين كل من يتحاكم إلى حكامها من الأجانب، أما في الذميين فلأننا - كما قال البيضاوي - أُمرنا بالذب عنهم ودفع الظلم منه. وأما في الأجانب: فلأنه لا حكم إلا لله ولإراءتهم عدلنا واستمالتهم به وغير ذلك. وكان القرآن خيَّر النبي عليه السلام في الحكم بين الأجانب وعدمه، فقال في شأن اليهود الذين لم يكونوا أهل ذمة: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) ولذلك اختلف الفقهاء في تخيير القاضي بالحكم بينهم، ومذهب الحنفية الذي عليه الدولة العلية أن الحكم بينهم واجب مطلقًا، وكأنهم يرون التخيير مخصوصًا بالنبي أو بتلك الحال أو يرون نسخه بقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة: 48) الآية، نعم، إن الإسلام منع الإكراه في الدين وأعطى حرية لأهل كل دين في شؤونهم الدينية، ولم يجعل لأمراء المسلمين سلطة عليهم في ذلك. وأما الحقوق فإذا تراضوا بينهم فيها فالحكام المسلمون لا يعارضونهم في ذلك ما لم تُنتهك الحقوق العمومية، أما إذا تحاكموا إليهم في أي نوع من أنواع الحقوق فإنهم يحكمون بينهم بالشريعة لا محالة. وكأن الكاتب اشتبه عليه معنى حرية الدين في الإسلام، فظن أنها تشمل الأمور المدنية والقضائية، ويوشك أن يكون أخذ ذلك من فعل السلطان محمد الفاتح، ظنًّا منه أن فعله حجة شرعية وليس كذلك. ولقد غلط بتساهله في هذه المسألة غلطة لا تغفر عند أرباب السياسة، والدولة تذوق مرارتها إلى اليوم. هذا وإن الجامعة العثمانية لا تقوم إلا بوحدة الأحكام، إذ يستحيل عادة أن يجمع شعوبها دين أو لغة. ومحاكم الدولة العلية جارية على ما ذكرنا حتى المحاكم الشرعية، فإن الذميين يتحاكمون إليها في المواريث وغيرها، فيحكم القضاة بينهم بالشريعة الغراء كما هو معلوم للجميع.

الاستعمار الأوربي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاستعمار الأوربي جاء في جريدة ثمرات الفنون الغراء تحت هذا العنوان ما نصه: ما استعمر الأوروبيون قرية أو بلدة إلا واستبدلوا أخلاق أهليها واستنزفوا ثروتهم إذا لم نقُل دماءهم، وارتكبوا فيها أنواعًا من الفظائع المنكرة، مما تستك من هوله الأسماع وتتبرأ منه المدنية الحقة، وذلك بزعم إرهاب البلاد التي يستعمرونها، فلا يعصون لهم أمرًا، ومن المشهور عن عدلهم أنهم لا يعاملون أهالي المستعمرات معاملة رعاياهم الأصليين، فالذي يجوز للإنكليزي الأصل مثلاً أن يعمله في الهند لا يجوز للهندي عمله، أو أن يتمتع هذا بالحقوق التي يتمتع بها ابن التاميز، وبالأخص إذا كان سكان المستعمرة من المسلمين، وكثيرًا ما يقتلون الأنفس بغير ذنب أو بمجرد الوهم والتصور إلى غير ذلك من الأعمال الوحشية. ومن العجيب أنهم مع هذا كله ينادون (نداءً جهوريًّا عريضًا) أنهم نصراء الإنسانية وحلفاء المدنية، وأنهم لا يودون إلا خير بني الإنسان وراحتهم بوجه عام، دون الالتفات إلى الأجناس والأديان. دعوى باطلة وتشامخ كاذب، فيا شقاوة العباد الذين قضى عليهم الدهر فكانوا سكان بلاد اتخذها الأوروبيون مستعمرة لهم. ولكيلا يذهب الوهم بالقارئ الكريم أننا امتطينا في قولنا هذا مطية المغالاة، نورِد له هنا حادثة قالها القوم أنفسهم، ومعلوم أن الإنسان قد لا يذكر فظائع نفسه بالتمام، بل كثيراً ما يسدل عليها ثوبًا من التمويه. قالت جريدة التيمس وألايكو بتاريخ 30 حزيران سنة 1894 عدد 861 صحيفة 518 تحت عنوان: (الفرنسيس في غربي إفريقية) ما تعريبه: (نقل إلينا ركاب الباخرة المسماة (ايل رمز) وبحَّارتها حادثة حدثت في مستعمرة جبون الإفرنسية، وهي أن أحد التجار الفرنسويين قد عامل أربعة رجال من أهالي المستعمرة بسلع تجارية، ولما استحق له عندهم مبلغ قليل من المال ذهب إلى قريتهم وطالبهم بذلك، فاستمهلوه مدة ريثما يتأتى لهم جمع المال، فأبى وشدد عليهم النكير بالطلب وأخذ يؤنبهم ويشتمهم مما أفضى إلى المخاصمة، فاستلَّ الفرنسي مسدسًا وأطلق رصاصة على أحد الأربعة فقتله، ولما رأى الثلاثة رفيقهم يتخبط بدمه قبضوا على القاتل الإفرنسي ونزعوا المسدس من يده وراموا وثاقه وتسليمه إلى الحكومة، فلم يستطيعوا ذلك إذ فر من بينهم بواسطة ... ولم يكتفِ القاتل بما عمل، بل ما بلغ مقر حكومة المستعمرة إلا وشكَا أولئك الثلاثة، فأرسلت الحكومة إليهم عدة من رجال الدرك فجاءوا مكبلين دون أن يعبأ أحد بالدم المسفوك ظلمًا وعدوانًا. ولما أُحضر الثلاثة لدى المحكمة الفرنسوية وقصوا عليها دعواهم بالحق لم يستطع الفرنسي القاتل الإنكار، بل أقر بفعله وقال: إنني قتلت منهم نفسًا غير أنهم أوسعوني بعد ذلك ضرباً وراموا وثاقي والإتيان بي إلى هنا موثقًَا ففررت، فصدر حكم المحكمة العادلة إذ ذاك: لا يُقتل القاتل، بل يُقتل الثلاثة الذين ضربوه لقتله رفيقهم بدعوى أن ليس لهم حق بإماتة رجل إفرنسي ولو كان قاتلاً. ولما كان اليوم التالي سِيقَ أولئك الثلاثة المساكين إلى فسحة في ظاهر البلدة، ورُبطوا بالأشجار وأطلق عليهم الجندي الفرنسي الرصاص حتى فارقوا الحياة، وتُركوا مدة على حالهم هذا دون أن يُوارَوا التراب ليُعتبر بهم، ولا يتجاسر أحد على إهانة الفرنسوي وإن كان قاتلاً. اهـ. هذه ثمرة من ثمر الاستعمار الأوروبي، وهذا هو نظام تمدنهم وشغفهم بخير النوع الإنساني ونصرتهم للمدنية، فليتدبره أولو الألباب. ومن غريب الاتفاق أنه في ذلك الشهر الذي حدثت فيه هذه الحادثة التي لم يرو لنا التاريخ أفظع ولا أقبح منها، حتى ولا من أشر خلق الله وأشدهم غلظة وهمجية - فرجت دولتنا العلية العثمانية عن كثير من أشقياء الأرمن الذين سعوا في الأرض فسادًا. وقالت الجريدة الإنكليزية ذاتها بتاريخ شهر آب سنة 1893 تحت عنوان (قتال شديد) ما نصه (مترجمًا) بالحرف: لما وصلت المدرعة الإنكليزية (بنش) أنزلت بحارتها مدججين بالسلاح وذهبوا بقيادة الكونت لوفاتلي مع من عنده من الجند إلى التل المعروف بتل الأتراك، ومن ثم إلى مدينة هجوان وداهموها على حين غفلة من أهلها، فلم ينجُ منهم أحد، ثم أوقدوا النار بمنازلها، فمن لم يمت بالرصاص قتلاً مات بالنار حرقًا، ولم يمض عليها بضع ساعات حتى أصبحت قاعًا صفصفاً، كأنها لم تكن بالأمس، ثم قالت الجريدة: ولقد أحسن الكُنت المذكور في عمله هذا غاية الإحسان، إذ بهذه الأعمال يُرهب أهل البلاد ويفزعون. اهـ. هاؤم أيها القوم نغمة أخرى من نغمات المدنية الأوروبية في مستعمراتها، ولو رامت دولتنا العلية قصاص أحد المفسدين من الأرمن وغيرهم ممن ارتكبوا ما ارتكبوه من أنواع الفظائع وضروب المنكرات لثار ثائر القوم في أوروبا ينادون: يا للإنسانية، يا للمدنية، يا.... يا.... .، ولما كانوا هم قاتلي الأبرياء الذين بينهم الأطفال الرضع والعجائز كما مر آنفاً، قاموا يحمدون هذا الفعل الفظيع الذي لا يسعنا إلا أن نعده ضربًا من ضروب التمدن الجديد، وقانا الله شره. قال حضرة المطران كولونصو الإنكليزي في كتابه المدعو (خراب بلاد الزولو) وهو مجلدان مطبوع في عاصمة البلاد الإنكليزية عام 1884، وقد صدر الوجه الأول من المجلد الأول منه برسمه وكتب تحته ما تعريبه بالحرف: (إنه لمخيف ومحزن أن نرى تيار الشرور قد طغى طغيانًا عظيمًا في البلاد (أي بلاد الزول) وليس بالإمكان إيقافه، وأن أمنع من إظهار المظالم وبيان الجور من هذه الحرب الزولية، حتى كان ما كان، ولم يتمكن من إيقاف سفك الدماء ومنع خراب البلاد وتدميرها ظلمًا وعدوانًا، حتى فات الوقت لحفظ حياة ألفي جندي إنكليزي ووطني (ممن يستخدمه الإنكليز) وعشرة آلاف رجل من الزوليين. كما فات حفظ اسم إنكلترا من أن يصبح عَلمًا عند أهل هاتيك البلاد للظلم والجور والخيانة، والعسف بعد أن كان علمًا للعدالة والأمانة والرأفة والإحسان. اهـ. وذلك كلام رئيس روحي ترجم التوراة إلى لغة الزولو، وقد كان بودِّنا نشر ما أودعه في كتابه هذا من أنواع المظالم وضروب الرشوة وسفك الدماء، إلى غير ذلك مما نرجع إليه إن شاء الله. اهـ.

بسمارك والدين

الكاتب: محمد عبده

_ بسمارك والدين [*] معرَّبة عن الفرنسوية بقلم الأستاذ الحكيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده الشهير قال حفظه الله: رأيت في وقائع بسمارك التي نشرت بعد موته بقلم كاتم أسراره موسيو بوش كلامًا جاء به البرنس وهو على مائدة الطعام مع جلسائه يتعلق بالدين، فاستحسنت ترجمته ليطلع عليه من لم يُعن بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعُدون النسبة إلى دينهم سُبّة، والظهور بالمحافظة عليه مَعَرّة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي الإلهي إلى أنبيائه ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في الرياسة، ولا ضعفًا في السياسة. جلس البرنس بسمارك على مائدة الطعام فرأى بقعة من الدهن على غطاء المائدة فقال لأصحابه: كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئاً فشيئاً، كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق قلوب الشعب، ولو لم يكن هناك أمل في الأجر والمكافأة، ذلك لِما استكنَّ في الضمائر من بقايا الإيمان ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحدًا مهيمنًا يراه وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه، فقال بعض المرتابين: أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة، فأجابه البرنس: ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس وهوى فيها كأنه غريزة لها، ولو أنهم لاحظوا لفقدوا ذلك الميل وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليه إن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي، واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة، ثم ساق الوزير كلامه على هذا النمط بأسلوب آخر فقال: لو نقضت عقيدتي بديني لم أخدم بعد ذلك سلطاني ساعة من زمان. إذا لم أضع ثقتي في الله لم أضعها في سيد من أهل الأرض قاطبة، لكن انظروا إلي تجدوني قد ملكت من موارد الرزق ما يكفيني، وارتقيت من المناصب ما لا مطمع بعده، فلماذا أشتغل؟ ولمَ أُجهد نفسي في العمل؟ ولمَ أُعرضها للهموم والآلام؟ لا يبعثني على شيء من هذا إلا شعوري بأنني في جميع ذلك أعمل عملي لوجه الله. لو لم يكن لي إيمان بالعناية الإلهية التي قضت بأن يكون لهذه الأمة الألمانية شأن كبير وأثر في الخير عظيم، لطرحت لساعتي ما حملته من أثقال وظائف الحكومة. ماذا أقول؟ بل لولا ذلك الإيمان لما قبلت شيئًا من هذه الوظائف؛ لأن الرتب والألقاب لا بهاء لها في نظري. لولا يقيني بحياة بعد الموت ما كنت من حزب الملكية، لو لم يكن هذا اليقين لكنت جمهوريًّا. نعم، أنا جمهوري بالفطرة، يتبين ذلك من الغارات التي أشنها على هنات (خصال الشر) رجال الحاشية من مدة تزيد عن عشر سنين. من هذا يظهر أن إيماني قد بلغ من القوة أعلاها، حتى حملني بقوته على أن أكون ملكيًّا. اسلبوني هذا الإيمان. اسلبوني محبتي لوطني، اعلموا أنني لو لم أكن مسيحيًّا مخلصاً لم يكن لكم وزير كبير مثلي، يدبر أمر الاتحاد الألماني، لو لم أكن مخلصاً في ديني لوليت ظهري جميع الحاشية، ولو وجدتم لي في الغد خلفًا يكون أخلص مني في يقينه لانفلتُّ من المنصب في الحال، ما أعظم مسرتي بهجر الوظائف، لو تعلمون أني أحب المعيشة في القرى والحقول، أحب الآجام ومناظر الخليقة. انزعوا مني هذه الرابطة التي تصلني بالله تجدوني من الغد رجلاً يأخذ أهبته للسفر إلى (وارزين) ليشتغل بحراثة أرضه وتنمية غرسه. إن لم أكن خاضعاً لأمر إلهي فلمَ أضع نفسي تحت طاعة هذه العائلة المالكة مع أنها تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالأنبل من الأصل الذي تتصل به عشيرتي. هذا كلام بسمارك، وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان يعتقد أن عظائم أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه، وأن الاعتقاد بالله والتصديق باليوم الآخر هما الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه مُفاخر ولم يكثره مُكاثر.

الجزية والإسلام

الكاتب: شبلي النعماني

_ الجزية والإسلام رسالة لشمس العلماء الشيخ شبلي النعماني أستاذ العلوم العربية في مدرسة العلوم في عليكره (الهند) بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وأصحابه أجمعين. اعلم أن الجزية من أعظم ما تعلق به الأوروباويون في القدح على الشريعة الإسلامية والحط من شأنها، فمِن ظانّ يظن أن الجزية لم يكن لها عين ولا أثر في جيل من الأجيال ودولة من الدول، وإنما الشريعة الإسلامية هي التي أحدثت هذه البدعة وأسست بنيانها ومهدت لها أصولها وأركانها، ومِن زاعم يزعم أن وضع هذه القاعدة لم يكن إلا إذلالاً لأهل الذمة، وإهانة لهم، فهي آية الذل وسمة الهوان وشعار الخزي وعلامة العار، حتى إنه هان على كثير من الأقوام الدخول في الإسلام هربًا عن احتمال الضيم والرضاء بالذل. ولأجل هذا ترى الأوروباويون إذا قرع سمعهم هذا اللفظ يمجه سمعهم وتشمئز منه نفوسهم. والحق أنهم غير ملومين في ذلك، فإن من أحاط علمًا بنصوص المتأخرين من الفقهاء يستبين له في أول الأمر أن وضع أمثال هذه الرسوم أقصى ما يُقصد به إذلال قوم وإرغام أنفهم، مع أن الشريعة الإسلامية أبعد مجدًا وأرفع شأنًا من أن يمسها عار أو يلحقها عيب، وأبى الله إلا براءتها عن كل جور وحيف. ولما رأيتهم يتهافتون في أمثال هذه الأغلاط أردت أن أكشف لهم عن جلية الحال، حتى لا أترك لنفسهم ريبه ولا شكًّا فنقول: إن لنا في إثبات دعوانا أبحاثًا. (الأول) : في تحقيق لفظ الجزية والفحص عن مادته وصيغته. (الثاني) : في تحقيق أن الجزية متى كان حدوثها ومَن أسسها أولًا. (الثالث) : في تحقيق الغرض الذي كان سببًا لاختيارها في الإسلام. (الأول) : لَم يتعرض الجوهري ولا المجد لبيان أصله واشتقاقه. ومال بعضهم (وهم ليسوا ممن يثبت بهم اللغة) إلى أنه مشتق من الجزاء بناءً على أنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه. وهذا ما اختاره الزمخشري في تفسيره. أما العارفون بلغة الفرس، فأطبقوا على أن اللفظ فارسي محض، وأن أصله: كزيت، وأن الجزية إنما هي تعريب له، واستشهدوا في ذلك بورود هذا اللفظ في كلام شعرائهم على زِنته الأصلية. قال الحكيم سوزني: كتاب خويش نخوانيم وزو عمل نكنيم ... كه تا كزيت ستانند خودز أهل كتاب وقال النظامي: كهش قيصر كزيت دين فرستد ... كهش خاقان خراج جبن فرستد ونقول: لما ثبت من تصريحاتهم (وهم أعرف بلسانهم) أنها فارسية، فإما أن يقال: إنها عربية أيضاً كما هو شأن توافق اللغات، وذلك احتمال بعيد لا يُلجأ إلى أمثاله إلا عند ضرورة محوجة. وإما أن يقال: إنها فارسية الأصل، وإنما سبيله في تداوله عند العرب سبيل الدعي والدخيل في القوم. وهذا الاحتمال تعاضده قرائن وأمارات: منها: العرب خالطوا العجم قديمًا وعاشروهم، فأغاروا على جانب عظيم من لغتهم واستباحوها وتصرفوا فيها كيف ما شاءوا ولعبوا بها كل ملعب. وذلك كالكوز والإبريق والطست والخوان والقصعة وغيرها مما أحصاها الثعالبي في كتابه فقه اللغة. فليس من المستنكر أن تكون الجزية أيضًا من جملتها. ومنها: أن العرب كانوا قبل الإسلام أصحاب البؤس والشقاء، رعاة الإبل والشاء، وما ملكوا أرضًا ولا استعبدوا قومًا. فلم يتفق لهم وضع الألفاظ بإزاء المعاني التي هي من مختصات المدنية والعمران، ولذلك لا تجد في كلام العرب العرباء ألفاظًا تقوم مقام الوزير والصاحب والعامل والتوقيع والدست وغيرها، ولما كانت الجزية أيضًا من خصائص الملكية كفوا مؤنة وضع لفظ بإزائها. ومنها: أن الحيرة (وكانت منازل آل نعمان) كانت تدين للعجم وتؤدي إليهم الإتاوة والخراج. ولما كان كسرى أنوشروان هو الذي سن الجزية أولاً كما نبينه فيما سيأتي - يغلب على الظن أن العرب أول ما عرفوا الجزية في ذاك العهد وتعاوروا اللغة العجمية بعينها. ومن مساعدة الجد أن اللفظ كان زنته زنة العربي، فلم يحتاجوا في تعريبه إلى كبير مؤنة، بعد ما أبدل كافها جيمًا صارت كأنها عربي الأصل والنجار. ومع هذه كلها فإن هذا البحث لا يهمنا ولا يتعلق به كبير غرض، فإن إثبات ما نحن بصدده لا يتوقف على الكشف عن حقيقة اللفظ، فنحن في غنى عن إطالة الكلام وإسهابه في أمثال هذه الأبحاث. (الثاني) : أول من سن الجزية - فيما علمنا - كسرى أنوشروان، وهو الذي رتب أصولها وجعلها طبقات. قال الإمام العلامة المحدث أبو جعفر محمد بن جرير الطبري - يذكر ما فعله كسرى في أمر الخراج والجزية -: (وألزموا الناس ما خلا أهل البيوتات والعظماء والمقاتِلة والمرازبة والكُتاب ومن كان في خدمة الملك، وصيروها على طبقات اثني عشر درهمًا، وثمانية، وستة، وأربعة؛ بقدر إكثار الرجل أو إقلاله، ولم يلزموا الجزية من كان أتى له من السن دون العشرين وفوق الخمسين) . ثم قال: (وهي الوضائع التي افتدى بها عمر بن الخطاب حين افتتح بلاد الفرس) . وقال المؤرخ الشهير أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري (وهو أقدم زمانًا من الطبري) في كتابه (الأخبار الطوال في ذكر كسرى أنوشروان) : ووظف الجزية على أربع طبقات، وأسقطها على أهل البيوتات والمرازبة والأساورة والكتاب ومن كان في خدمة الملك، ولم يلزم أحدًا لم تأت له عشرون سنة أو جاوز الخمسين. وقريب من هذا ما ذكره شاعر العجم ولسانهم فردوسي في كتابه: (شاهنامه) : همته بادشاهان شدند انجمن ... زمين را بسنجيدو برزدرسن كزيتي نهادند بريك درم ... كرايدون كه دهقان نمودي درم كزيت زبارور شش درم ... بخراستان برهيمن زد رقم كسي كش درم بود ودهقان نبود ... نبودي غم ورنج كشت ودرود كزارنده ازده درم تاجهار ... بسالي أزوبستدي كاردار دبير وبرستنده شهريار ... نبودي بديوان كسي راشمار ومن وقف على هذه النصوص يظهر له أن الجزية مأثورة من آل كسرى، وأن الشريعة الإسلامية ليست بأول واضع لها، وأن كسرى رفع الجزية عن الجند والمقاتلة، وأن عمر بن الخطاب اقتدى بهذه الوضائع. أما المعنى الذي توخاه كسرى في هذا الاستثناء، فبينه العلامة ابن الأثير في كتابه (الكامل) ناقلاً عن كلام كسرى فقال: (ولما نظرت في ذلك وجدت المقاتِلة أجراء لأهل العمارة، وأهل العمارة أجراء للمقاتِلة، فإنهم يطلبون أجورهم من أهل الخراج وسكان البلدان لمدافعتهم عنهم ومجاهدتهم عمن وراءهم، فحق أهل العمارة أن يوفوهم أجورهم، فإن العمارة والأمن والسلامة في النفس والمال لا يتم إلا بهم، ورأيت أن المقاتلة لا يتم لهم المقام والأكل والشرب وتثمير الأموال والأولاد إلا بأهل الخراج والعمارة، فأخذت للمقاتلة من أهل الخراج ما يقوم بأودهم، وتركت على أهل الخراج من مستغلاتهم ما يقوم بمؤنتهم وعمارتهم، ولم أجحف بواحد من الجانبين. وحاصله أنه يجب على كل فرد من أفراد الملة المدافعة عن نفسه وماله، فمن كان يقوم بهذا العبء بنفسه فليس عليه شيء، وهؤلاء أهل الجند والمقاتلة، وأما من كان يشغله أمر العمارة وتدبير الحرث على المخاطرة بالنفس فيحق عليه أن يؤدي شيئًا معلومًا في كل سنة، يصرف في وجوه حمايته والدفاع عنه. وهذا هو المعني بالجزية؛ فإنها تؤخذ من أهل العمارة وتعطى للمقاتلة والجند الذين نصبوا أنفسهم لحماية البلاد واستتباب وسائل الأمن والسلامة لكافة العباد. (البقية بعد) ((يتبع بمقال تالٍ))

الاختلاف والتفرق في الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاختلاف والتفرق في الدين ذكرنا في عدد سابق أن تقصيرات العلماء التي وصلت بنا إلى ما نحن فيه اليوم عشرة، ووعدنا بالكلام عليها تفصيلاً في مقالات متعددة، وأهمها: أولها في الذكر وفي سوء التأثير، وهو التفرق في الدين واختلاف المذاهب في أصوله بالأخص، ولما كان هذا يحتاج إلى شهادة التاريخ رأينا أن نذكر بعض الوقائع التاريخية في الموضوع؛ لما فيها من الفائدة والاعتبار، ولرغبة النفوس في الاطلاع عليها وعنايتها بقراءتها. وهاؤم اقرءوا في أولها هذه الواقعة التي وقعت في مثل هذا الشهر المبارك، إنها من أهون الوقائع وهي: (الواقعة الأولى) : لما اتصل بالملك الأشرف موسى ابن الملك العادل في دمشق (قبل خروجه إلى مصر) ما عليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام من العلم والدين، وأنه سيد أهل عصره وحجة الله على خلقه - أحبه وصار يلهج بذكره، ويؤثر الاجتماع به، والشيخ لا يجيب إلى الاجتماع به، وكانت طائفة من مبتدِعة الحنابلة القائلين بالحرف والصوت، ممن أحبهم السلطان في صغره، يكرهون الشيخ، ويطعنون فيه، وقرروا في ذهن السلطان الأشرف أن الذي هم عليه اعتقاد السلف واعتقاد أحمد بن حنبل وفضلاء أصحابه، واختلط هذا بلحم السلطان ودمه، وصار يعتقد أن مخالفه كافر حلال الدم. ولما مال السلطان إلى الشيخ عز الدين دست إليه هذه الطائفة أن الشيخ أشعري العقيدة، يخطِّئ من يعتقد الحرف والصوت ويبدِّعه، ومن جملة اعتقاده أنه يقول بقول الأشعري: (إن الخبز لا يشبع، والماء لا يروي والنار لا تحرق) . فاستهول ذلك السلطان واستعظمه ونسبهم إلى التعصب عليه، فكتبوا فتيا في مسألة الكلام وأوصلوها إليه مريدين أن يكتب عليها فيسقط وصفه عند السلطان، وكان الشيخ قد اتصل به ذلك، فلما جاءته الفتيا قال: هذه الفتيا كتبت امتحانًا لي، والله لا أكتب فيها إلا ما هو الحق، فكتب العقيدة المشهورة، فلما فرغ منها رماها إليهم وهو يضحك عليهم، فطاروا بالجواب وهم يعتقدون أن الحصول على ذلك من الفرص العظيمة التي ظفروا بها، ويقطعون بهلاكه واستباحة دمه وماله، فأوصلوا الفتيا إلى الملك فاستشاط غضبًا وقال: صح عندي ما قالوه عنه، وهذا رجل كنا نعتقد أنه متوحد في زمانه في العلم والدين، ويظهر بعد الاختبار أنه من الفجار، لا بل من الكفار، وكان ذلك في رمضان عند الإفطار، وعنده على سماطه عامة الفقهاء من جميع الأقطار، فلم يستطع أحد منهم أن يرد عليه، بل قال بعض أعيانهم: السلطان أولى بالصفح، ولا سيما في مثل هذا الشهر، وموه آخرون بكلام موجه يوهم صحة مذهب الخصم يظهرون أنهم بموافقته (انظر إلى علماء السوء وفقهاء الضلال كيف استُعبدوا للسلاطين وأغضبوا الحق لإرضائهم فضاع بينهم الدين) فلما انفصلوا تلك الليلة من مجلسه بالقلعة اشتغل الناس في البلد بما جرى في تلك الليلة عند السلطان، وأقام الحق سبحانه وتعالى الشيخ العلامة جمال الدين أبا عمر بن الحاجب المالكي، وكان عالم مذهبه في زمانه، وقد جمع بين العلم والعمل، فتكلم في هذه القضية ومضى إلى القضاة والعلماء الأعيان الذين حضروا هذه القضية عند السلطان وشدد عليهم النكير. وقال: العجب أنكم كلكم على الحق وغيركم على الباطل، وما فيكم من نطق بالحق وسكتُّم وما انتصرتم لله تعالى وللشريعة المطهرة، ولمَّا تكلم منكم من تكلم قال: السلطان أولى بالعفو والصفح، وهذا غلط يوهم الذنب، فإن العفو والصفح لا يكونان إلا عن جرم وذنب، هلا أعلمتم السلطان بأن ما قاله ابن عبد السلام مذهبكم ومذهب أهل الحق، وأن جمهور السلف والخلف عليه لم يخالفهم فيه إلا طائفة مخذولة يُخفون مذهبهم ويدسونه على تخوف إلى من يستضعفون علمه وعقله، وقد قال تعالى {وَلاَ تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 42) ولم يزل يعنّفهم ويوبّخهم إلى أن اصطلح معهم على أن يكتب فتيا بصورة الحال، ويكتبوا فيها بموافقة ابن عبد السلام، فوافقوه على ذلك وأخذ خطوطهم بموافقته. والتمس ابن عبد السلام من السلطان عقد مجلس للشافعية والحنابلة ويحضره المالكية والحنفية وغيرهم من علماء المسلمين، وذكر أنه يعتقد أن السلطان إذا ظهر له الحق يرجع إليه ويعاقب مَن قوّى الباطل عليه، وأنه أولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل تغمده الله برحمته، وأنه عزر جماعة من أعيان الحنابلة المبتدعة، وأنه أخذ خطوط الفقهاء الذين كانوا بمجلس السلطان في ذلك الوقت. فلما وقف السلطان على ذلك أجابه كتابة بجواب يذكر فيه أنه رأى من عقيدته ما يغنيه عن الاجتماع به، وأنه (أي السلطان) يتبع ما عليه الخلفاء الراشدون، وذكر فيه ما إذا كان الشيخ يدعي الاجتهاد. فأجابه الشيخ بجواب مطول يصدع فيه بالحق، فاستشاط السلطان غضباً، وأمر أن لا يفتي الشيخ ولا يخرج من بيته، وأن لا يجتمع بالناس، ففرح الشيخ لما بلغه ذلك فرحًا شديدًا وقال لرسول السلطان: لو كان عندي خلعة تليق بك لخلعت عليك، ولكن خذ هذه السجادة فصلِّ عليها ونحن على الفتوح، فقبِلها وقبَّلها (وكان الرسول يعتقد صلاح الشيخ) ولما ذكر للسلطان ما دار بينه وبين الشيخ قال لمن حوله: قولوا لي ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة اتركوه بيننا وبينه الله، وبقي الشيخ على هذا ثلاثة أيام. ثم إن الشيخ العلامة جمال الدين الحصري شيخ الحنفية في زمانه، وكان قد جمع بين العلم والعمل ركب حمارًا له وحوله أصحابه وقصد السلطان، فتلقاه خاصته وأدخلوه إلى دار الملك راكبًا كما أمرهم، ولما رآه السلطان مشى إليه وأنزله عن حماره وأكرم مثواه، وكان ذلك في رمضان قريب غروب الشمس، فلما صلوا المغرب أحضر السلطان قدح شراب وناوله للشيخ فقال له الشيخ: ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك، فقال له السلطان: (يرسم الشيخ ونحن نمتثل مرسومه) فقال له: إيش بينك وبين ابن عبد السلام؟ هذا رجل لو كان في الهند أو في أقصى الدنيا كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حلوله في بلاده ليتم بركته عليه وعلى بلاده، ويفتخر به على سائر الملوك. فقال السلطان: عندي خطه باعتقاده في فتيا، وخطه أيضاً في رقعة سيَّرتُها إليه فيقف الشيخ عليهما ويكون الحكَم بيني وبينه، ثم أحضر السلطان الورقتين فقرأهما الشيخ إلى آخرهما وقال: هذا اعتقاد المسلمين، وشعار الصالحين ويقين المؤمنين، وكل ما فيهما صحيح، ومن خالف ما فيهما وذهب إلى ما قاله الخصم من إثبات الحرف والصوت فهو حمار. فقال السلطان: نحن نستغفر الله مما جرى ونستدرك الفارط في حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء، وأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته ومخاللته. وكان الحنابلة قد استنصروا به على أهل السنة وعلت كلمتهم عليهم، بل صاروا يسبونهم ويضربونهم، فأمر السلطان الفريقين بالإمساك عن الكلام في مسألة الكلام، وأن لا يفتي فيها أحد سدًّا لباب الخصام، فانكسرت نفوس المبتدعة بعض الانكسار، وفي النفوس ما فيها، ولم يزل الأمر على ذلك حتى قدم السلطان الملك الكامل من مصر إلى دمشق، وكان اعتقاده صحيحًا ومتعصباً لأهل الحق، فاستقصى ما وقع في المسألة وقال للملك الأشرف: يا خوند، ماذا صنعت في أمر الشافعية والحنابلة؟ فقال: يا خوند، منعت الطائفتين من الكلام وانقطع بذلك الخصام، فقال الملك الكامل: والله مليح، ما هذه إلا سياسة وسلطنة تساوي بين أهل الحق والباطل وتمنع أهل الحق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يظهروا دين الله وأن يشنق من هؤلاء المبتدعة عشرون نفسًا ليرتدع غيرهم، وأن يمكَّن الموحدون من إرشاد المسلمين وأن يبينوا لهم طريق المؤمنين. فعند ذلك زلت أعناق المبتدعة وانقلبوا خائبين ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرًا، وكفى الله المؤمنين القتال على يد الملك الكامل، وانقشعت المسألة للملك الأشرف، وصرح بخجله وحيائه من الشيخ وقال: لقد غلطنا في ابن عبد السلام غلطة عظيمة، وصار يترضاه ويعمل بفتاويه ويقرأ مصنفاته.

شكوى الزمان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شكوى الزمان ذكرنا في عدد سابق أننا روينا في الأحاديث والآثار المسلسلة أن عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها كانت تنشد قول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب وتقول: (رحم الله لبيداً، فكيف لو رأى زماننا هذا) ويتلو هذا البيت بيتًا آخر روي أنها كانت تنشده أيضاً وهو: يتأكلون خيانة ومشحة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب ويروى أن أعرابيًّا قال لابن عباس رضي الله عنه: إني سمعت عائشة تذم دهرها وهي تتمثل ببيتَيْ لبيد؟ فقال ابن عباس: لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت عاد دهرها. قيل: وُجد في خزائن عاد سهم مفوق كأطول ما يكون من رماحنا، وإذا عليه مكتوب: أليس إليَّ أجياد صبح بذي اللوى ... لوى الرمل فاعذر للنفوس معاد بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد وعن ابن أحمر قال: كنا عند أبي نعيم، فذكروا قول لبيد، فقال أبو نعيم: ذهب الناس واستقلوا فصرنا ... خلفا في أراذل النسناس من أناس نعدهم من عديد ... فإذا كوشفوا فليسوا بناس كلما جئت أبتغي النيل منهم ... بدأوني قبل السؤال بياس وبكوا لي حتى تمنيت أني ... عند هذا خلصت رأساً براس (النسناس) بفتح النون وكسرها: حيوان على شكل الإنسان، هكذا يذكر في معاجم اللغة، والعامة تسمي به نوعاً من القردة، فإذا كان يوجد حيوان أقرب إلى الإنسان من القرد وكان هو المسمى بالنسناس فلعله إذا اكتُشف عليه حيًّا أو ميتًا متحجرًا يكون هو الحلقة المفقودة التي يتوقع الظفر بها أهل مذهب النشوء، ونحن معاشر المليين نقول: إن الإنسان خلق ابتداءً على صورته هذه، سواء وجدت تلك الحلقة أم لم توجد. وروي أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ذهب الناس وبقي النسناس. قيل: وما النسناس؟ قال: (الذين يشبهون الناس وليسوا بالناس) . وفي كتاب تفضيل الكلاب، بعد ذكر بيتي لبيد قال: أخبرنا أبو العباس محمد ابن يزيد النحوي قال: ذكر لي بعض المشايخ قال: كنت عند بشر بن الحارث عشية فرأيته مغمومًا، فما تكلم حتى غربت الشمس، ثم رفع رأسه فقال: ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكل أمر منكر وبقيت في خلف يزين بعضهم ... بعضًا ليدفع معور عن معور وأنشدنا أيضًا غيره: ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً ... سُروا وقالوا مرحبًا بالمقبِل وبقي الذين إذا رأوني مقبلاً ... سيئوا وقالوا ليته لم يُقبل (وقال آخر) : ذهب الذين إذا غضبت تحملوا ... وإذا جهلت عليهم لم يجهلوا وإذا أصبت غنيمة فرحوا بها ... وإذا بخلت عليهم لم يبخلوا قال: وأنشدني أبو عبد الله الدستواني: ذهب الذين هم الغياث المنزل ... وبقي الذين هم العذاب المرسل وتقطعت أرحام أهل زماننا ... وكأنما خلقت وليست توصل الناس مشتبهون، مَن كشفته ... كشفت منه عن الذي لا يحمل أما الفقير فحاسد متفطر ... حسدًا وأما ذو الثراء فيبخل ويظن أن له بكثرة ماله ... فضلاً عليك وغيره المتفضل وأنشدني أبو يعقوب الأديب: ذهب الكرام فأصبحوا أمواتًا ... ورقًا تطير به الرياح رفاتا وتبدلت عرصاتهم من بعدهم ... بسوى ثبات الصالحين ثباتا وبقيت في خلف أحاذر شره ... وأخاف فيه من الصديق بياتا (وقال آخر) : ذهب الناس وانقضت دولة الناس ... فكلٌّ إلا القليل الكلاب غير أن الوجوه في صور الأنس ... وأبدانهم عليها الثياب لست تلقى إلا بخيلاً كذوبًا ... بين عينيه للإياس كتاب إن من لم يكن على الناس ذئبًا ... أكلته في ذا الزمان الذئاب وقال الشاعر: ذهب الذين فضولهم معلومة ... ولهم إذا قحط الزمان جِفان ذهبوا فليس لهم نظير واحد ... إذ لا تراهم - لا أبا لك - كانوا لم يبق من أهل الفضائل والنهى ... إلا فلان باسمه وفلان وقال الشاعر: ذهب الذين عليهم وجدي ... وبقيت بعد فراقهم وحدي سلف مضى وبقيت بعدهم ... وكذاك يذهب من بقي بعدي هذا ما يقوله الشعراء في كل زمن، سواء كان ما قبله شرًّا منه أو خيرًا منه، فلا يصح للمؤرخ أن يحتج بقولهم في تفضيل زمان على زمان؛ لأن الدليل مشترك الإلزام.

أيها المسلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أيها المسلم إن كنت تترك الصوم لارتيابك في أصل الدين فمصيبتك أعظم المصائب ومرضك أقتل الأمراض، ويجب عليك بحكم العقل -إن كنت تعقل - أن تبحث قبل كل شيء عن علاج الكفر الذي كمُن في قلبك بسبب الجهل. سل العلماء العقلاء عن الشُّبه التي عنَّت لك فأوقعتك في الريب، ويسهل عليك أن تورد السؤال مورد البحث والاستفهام من غير تظاهر بأن الشبهة متمكنة من نفسك، وإذا كانت شبهتك جائية من الفنون الطبيعية، فإياك أن تسأل عنها من لا وقوف له على تلك الفنون، فإنه يزيدك مرضًا ولا يصيب منك غرضًا. وإذا كان يصعب عليك قصد العلماء أو الظهور بالسؤال فاكتب إلى إدارة هذه الجريدة، ولك الخيار في التصريح باسمك وعدمه، إلا إذا كنت تحب أن يكون الجواب خالصًا لك من دون الناس لأمر ما. هذا هو الاحتياط، والعلم لا يعطيك إلا نورًا، والسكوت قد يكون سبب هلاكك الأبدي. قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تُبعثُ الأموات، قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما وإن كنت تترك الصوم مغلوبًا للشهوة البهيمية، فعليك أن تعالج نفسك لتكون إنسانًا يغلب شهوته، لا حيوانًا لا يحول بينه وبين شهوته إلا العجز عن تناولها، يساعدك على هذا تصور فوائد الصوم الرياضية، من تجفيف الرطوبات البدنية، وإفناء المواد الرسوبية التي تكون من آثار الطعام (هكذا سماها الرئيس ابن سينا الحكيم الشهير) وقد يتولد منها أمراض. وتصور الفوائد الأدبية التي أشرنا إليها في العدد الماضي، مع تذكر ما أعد الله تعالى للصائمين من الأجر، وما على تاركي الصوم من الوزر والإصْر وأنت مؤمن بكل هذا. (كلمة أخرى) : وإذا أعيتك الحيلة في شهوتك واخترت أن لا يكون لك تفوق على القرد والخنزير اللذين لا يصبران عن شهوة الأكل والوقاع متى عرضت لهما، فاستتر بحجاب، فإن معصية العلانية أشد وأقبح من معصية السر؛ لأن في العلانية هتك الحرمة وعدم المبالاة بالدين وآدابه، وإيناس الناس بالرذيلة وتجريئهم على ارتكاب المنكرات واجتراح السيئات، فتحمل بذلك أوزارهم مع أوزارك، وليكن احتجابك على أشده على ولدك وأهلك، لكيلا تفسد أخلاقهم وتسيء تربيتهم، فينشأون عبيد الشهوات وحلفاء الإسراف وأولياء الشيطان. بالتربية الحسنة تسعد العائلات والأمم، ومدار التربية على الاقتداء، والرجل قدوة المرأة، والآباء والأمهات هم الأسى (جمع أسوة بمعنى القدوة) التي تأتسي بها الأبناء، والدين هو المرشد الأمين والنور المبين، فمتى ضل عن نهجه الآباء لحقه الأمهات، إما مشايعة ومتابعة وإما إقرارًا وسكوتا، فكيف يكون مع هذا حال الأبناء والبنات؟ ليل بهيم، وفساد عظيم، فلا تكونوا معاشر المسلمين أعوانًا للشياطين على أبنائكم وأنصارًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم: 6) .

الحكم بالشريعة في السودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحكم بالشريعة في السودان ذكرنا في عدد سابق ملخص خطبة اللورد كرومر في أم درمان وأنه حين وعد بالعدالة وقال: إن الإنكليز متعقلون بدينهم، ويعلمون كيف يحترمون دين غيرهم، وخاطب السودانيين بقوله: (فلا يتعرض لكم أحد في دينكم على الإطلاق) سأله أحد المشايخ: هل يتضمن هذا الوعد الجري على الشريعة والعمل بها؟ فقال اللورد: نعم. ولا يصدق وعد اللورد وجوابه إلا بأمرين اثنين: أحدهما: عدم إرسال أحد من دعاة النصرانية إلى السودان، بل عدم تمكنيهم من الذهاب إليه، فإذا وفد المبشرون بالإنجيل من قسوس البروتستان أو غيرهم إلى السودان يدعون أهله إلى دينهم فالوعد يكون مكذوبًا، قصد به الخداع والتغرير؛ لأن التعرض للدين في هذا العصر لا يكون إلا بالدعوة، وهذا التعرض لم تسلم منه مصر، فإذا سلمت منه السودان فلا مندوحة لنا عن القول بأن هذه السلامة نعمة يحق لبريطانيا أن تمتنها على السودانيين، ويحق عليهم أن يشكروها لها. وثانيهما: أن تكون جميع الأحكام القضائية والمدنية بالشريعة الإسلامية الغراء والأحكام الشرعية لا تكون صحيحة ونافذة إلا إذا كانت تولية القضاء من جانب خليفة المسلمين وإمامهم الأعظم، أو من مأذونه. وقد صرح اللورد في خطبته بأن الذي يؤسس المحاكم ويولي القضاة هو اللورد كتشنر، وأن الموظفين من الإنكليز هم الذين يقيمون الأحكام في كل مركز من السودان، فأنى لهؤلاء الإنكليز معرفة الشريعة الإسلامية؟ ومتى كان اللورد كتشنر خليفة على المسلمين أو مأذونًا بتولية القضاة من الإمام الأعظم؟ وإذا لم يكن هذا ولا ذاك فما معنى جوابه للشيخ بنعم. إن وعده يتضمن الجري على الشريعة إلا أننا لم نفهم لهذا معنى ولم تتصور أذهاننا كيف يكون صادقًا. والذي يتبادر إلى الذهن أن الوعد بالحكم بالشريعة واحترام الدين في السودان يكون كالوعد السابق بأن السودان كله للحكومة الخديوية كمصر، وأن بريطانيا العظمى تساعد على قطع دابر الثوار الخارجين، وإرجاع البلاد إليها. أو كالوعد بعد الفتح بأن البلاد السودانية ستكون مشتركة بين مصر وإنكلترا؛ لأن الثانية ساعدت الأولى على الفتح، وشريعة العدل تقضي أن من يساعد أحدًا في شيء يكون شريكه فيه، وإن كان في مساعدته متبرعًا، والمساعَد (بفتح العين) هو صاحب الشيء وصاحب العمل، ويقدر على القيام من دون مساعدة، ثم تفسير هذه المشاركة بأن صاحب الملك والعمل ليس له في الشركة شيء إلا الإنعام عليه بلفظ (شريك) بشرط أنه لا يملك في المشترَك فيه قولاً ولا عملاً.

بغداد والتجارة

الكاتب: حافظ عبد الرحمن الهندي

_ بغداد والتجارة لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء قراء (وكيل) يعرفون ما اشتهرت به هذه المدينة من قديم الزمان حتى إنه لم يكن يوجد لها نظير في المدائن الشرقية، لا سيما أن ما حوته من الفضل وحازته من الرونق والبهاء تشهد به آثارها الباقية للآن، ومما يزيد الشهرة فيها ضريح سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله سره وأفاض علينا بره، فبهذا فاقت على أمثالها من البلاد الشرقية حتى إن جميع المسلمين من أنحاء الكرة الأرضية يأتون لزيارته أفواجًا أفواجًا، ويتبركون بزيارة قبره الشريف، ففي مثل هذه البقعة المباركة التي جذبت قلوب المسلمين إليها لا عزم لتجارها أن يساعدوا الزوار والسكان فيما يحتاجون إليه من أمورهم الدنيوية، وما أقصده من هذا هو أن تجار بغداد يلزمهم أن يهتموا في تأسيس فابريقات كما اهتم إخوانهم في الآستانة؛ ليتمتع البغداديون بحاصلات بلادهم، ويتمول التجار من حاصلات أوطانهم. فما هذا الكسل الذي أخبرنا به مكاتب جريدة وكيل الغراء في بغداد، فقد كتب أن التجار يرسلون الصوف في كل سنة بمقدار ملايين جنيهات إلى لندرا ومارسيليا، وبعد نسجه فيها يرجع للبلاد، فيبيعه هؤلاء التجار بأثمان غالية جدًّا للوطنيين، والظاهر أن البغداديين إذا اهتموا بتأسيس الفابريقات يكون ذلك سببًا لمعيشة الفقراء المساكين، وعونًا لهم برخص الملابس، ولا يخفى أن كل ما ينفع به الصناع في لندرا ومارسيليا يعود ذلك على أهلها، فهذا العمل أنفع الأعمال للبلاد، فإنه يضعف ثروة التجار ويقوي أهل الديار. أفلا ينظر البغداديون إلى سكان أوروبا كيف تغلبوا على البلاد الشرقية وتملكوا عليها بتأسيسهم الفابريقات ورواج تجارتهم مع كثرة المصنوعات، فقلما يوجد بيت خالٍ من مصنوعاتهم، ومجلس عارٍ عن مفروشاتهم، حتى إن الخيط والإبرة والأزرار التي يحتاج إليها الإنسان في كل حين كل ذلك من مصنوعاتهم، وجُلّها من عمل فابريقاتهم، ومع ذلك فإنها متقنة الصناعة ورخيصة القيمة. فعجبًا لقوم يعجز أفرادهم عن تحصيل لوازم المعيشة، ويحتاجون في ذلك إلى قوم دون قومهم، فهذه والله أسباب الانحطاط فيا لها من مصيبة. ... ... ... ... ... ... ... ... حافظ عبد الرحمن الهندي (المنار) صاحب هذه النبذة هو المُكاتِب الخصوصي في القاهرة لجريدة وكيل الغراء التي تصدر في بلدة أمرتسر (بنجاب) وقد أخبرنا أن مكاتب هذه الجريدة في بغداد خاطبنا بواسطته، ورغب إلينا وإليه في نشر مقالة في الترغيب بإنشاء المعامل (الفابريقات) الصناعية الوطنية، خدمة للبلاد، وقد أجاب هو الطلب بهذه المقالة الوجيزة، وسنكتب نحن أيضاً في الموضوع، إن شاء الله تعالى.

في القضاء المبرم على السودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القضاء المبرم على السودان جاء في الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) ما نصه: (وفاق) بين حكومة جلالة ملك الإنكليز وحكومة الجناب العالي خديو مصر بشأن إدارة السودان في المستقبل. حيث إن بعض أقاليم السودان التي أخرجت عن طاعة الحضرة الفخيمة الخديوية قد صار افتتاحها بالوسائل الحربية والمالية التي بذلتها بالاتحاد حكومتا جلالة ملكة الإنكليز والجناب العالي الخديوي. وحيث قد أصبح من الضروري وضع نظام مخصوص لأجل إدارة الأقاليم المفتتحة المذكورة، وسن القوانين اللازمة لها بمراعاة ما هو عليه الجناب العظيم من تلك الأقاليم من التأخر وعدم الاستقرار على حال إلى الآن، وما تستلزمه حالة كل جهة من الاحتياجات المتنوعة. وحيث إنه من المقتضى التصريح بمطالب حكومة جلالة الملكة المترتبة على ما لها من حق الفتح، وذلك بأن تشترك في وضع النظام الإداري والقانوني الآنف ذكره، وفي إجراء تنفيذ مفعوله وتوسيع نطاقه في المستقبل. وحيث إنه تراءى من جملة وجوه أصوبية إلحاق وادي حلفا وسواكن إداريًّا بالأقاليم المفتتحة المجاورة لهما. فلذلك قد صار الاتفاق والإقرار فيما بين الموقعين على هذا بما لهما من التفويض اللازم بهذا الشأن على ما يأتي وهو: (المادة الأولى) : تطلق لفظة السودان في هذا الوفاق على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض وهي: أولاً: الأراضي التي لم تُخلِها قط الجنود المصرية منذ سنة 1882 أو. ثانيًا: الأراضي التي كانت تحت إدارة الحكومة المصرية قبل ثورة السودان الأخيرة، وفُقدت منها وقتيًّا ثم افتتحتها الآن حكومة جلالة الملكة والحكومة المصرية بالاتحاد أو. ثالثا: الأراضي التي تفتتحها بالاتحاد الحكومتان المذكورتان من الآن فصاعدًا. (المادة الثانية) : يستعمل العلم البريطاني والعلم المصري معًا في البر والبحر بجميع أنحاء السودان، ما عدا مدينة سواكن، فلا يستعمل فيها إلا العلم المصري فقط. (المادة الثالثة) : تفوض الرئاسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد بلقب (حاكم عموم السودان) ويكون تعيينه بأمر عالٍ خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عالٍ خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية. (المادة الرابعة) : القوانين وكافة الأوامر واللوائح التي يكون لها قوة القانون المعمول به، والتي من شأنها تحسين إدارة حكومة السودان، أو تقرير حقوق الملكية فيه بجميع أنواعها، وكيفية أيلولتها والتصرف فيها يجوز سنها أو تحويرها أو نسخها من وقت إلى آخر بمنشور من الحاكم العام، وهذه القوانين والأوامر واللوائح يجوز أن يسري مفعولها على جميع أنحاء السودان أو على جزء معلوم منه، ويجوز أن يترتب عليها صراحة أو ضمنًا تحوير أو نسخ أي قانون أو أية لائحة من القوانين أو اللوائح الموجودة. وعلى الحاكم العام أن يبلغ على الفور جميع المنشورات التي يصدرها من هذا القبيل إلى وكيل وقنصل جنرال الحكومة البريطانية بالقاهرة، وإلى الرئيس ومجلس نظار حكومة الجناب العالي الخديوي. (المادة الخامسة) : لا يسري على السودان أو على جزء منه شيء ما من القوانين أو الأوامر العالية أو القرارات الوزارية المصرية التي تصدر من الآن فصاعدً إلا ما يصدر بإجرائه منها منشور من الحاكم العام بالكيفية السالف بيانها. (المادة السادسة) : المنشور الذي يصدر عن حاكم عموم السودان ببيان الشروط التي بموجبها يصرح للأوروبيين من أية جنسية كانت بحرية المتاجرة أو السكني بالسودان أو تملك ملك كائن ضمن حدوده، لا يشمل امتيازات خصوصية لرعايا أية دولة أو دول. (المادة السابعة) : لا تدفع رسوم الواردات على البضائع الآتية من الأراضي المصرية حين دخولها إلى السودان، ولكنه يجوز مع ذلك تحصيل الرسوم المذكورة على البضائع القادمة من غير الأراضي المصرية، إلا أنه في حالة ما إذا كانت تلك البضائع آتية إلى السودان عن طريق سواكن أو أية ميناء أخرى من مواني ساحل البحر الأحمر لا يجوز أن تزيد الرسوم التي تحصل عليها عن القيمة الجاري تحصيلها حينئذ على مثلها من البضائع الواردة إلى البلاد المصرية من الخارج، ويجوز أن تقرر عوائد على البضائع التي تخرج من السودان بحسب ما يقدره الحاكم العام من وقت إلى آخر بالمنشورات التي يصدرها بهذا الشأن. (المادة الثامنة) : فيما عدا مدينة سواكن لا تمتد سلطة المحاكم المختلطة على أية جهة من جهات السودان، ولا يعترف بها فيه بوجه من الوجوه. (المادة التاسعة) : يعتبر السودان بأجمعه ما عدا مدينة سواكن تحت الأحكام العرفية، ويبقى كذلك إلى أن يتقرر خلاف ذلك بمنشور من الحاكم العام. (المادة العاشرة) : لا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأموري قنصلاتات بالسودان، ولا يصرح لهم بالإقامة به قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية. (المادة الحادية عشرة) : ممنوع منعًا مطلقًا إدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره منه، وسيصدر منشور بالإجراءت اللازم اتخاذها للتنفيذ بهذا الشأن. (المادة الثانية عشرة) : قد حصل الاتفاق بين الحكومتين على وجوب المحافظة منهما على تنفيذ مفعول معاهدة بروكسل المبرمة بتاريخ 2 يولية سنة 1890 فيما يتعلق بإدخال الأسلحة النارية والذخائر الحربية والأشربة المقطرة أو الروحية وبيعها أو تشغيلها. تحريرًا بالقاهرة في 19 يناير سنة 1899. الإمضاءات ... ... ... ... ... ... ... ... ... (كرومر) (بطرس غالي) (المنار) الخلاصة أن السودان أصبح وأمسى مستعمرة إنكليزية بإقرار الحكومة المصرية رسميًّا، وإقرار الدولة العثمانية سكوتًا (إن سكتت بحجة انتظار الفرص أو غيرها من الأحوال التي نراها تضيع فيها حقوقها) ولمصر فيه شركة لها منها الراية التي ترفع بجانب الراية الإنكليزية، وعليها أن تقدم الأموال لإدارة السودان والعساكر لحفظه تحت السلطة الإنكليزية. فهكذا تقضي القوة على الضعف، وهكذا يسود العلم على الجهل. فلتنتقل الحكومات الإسلامية من النوم إلى الموت، حتى لا يبقى لها عين أو أثر، ولتعتقد الشعوب الإسلامية أن لا قوام لها ولا نهوض إلا بحكوماتها التي هي أشد بلاءً عليها من أعدائها، أو لتنهض إلى العمل بنفسها مقاومة لحكامها قبل الأجانب، والله لا يضيع أجر العاملين.

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقاريظ (كيفية انتشار الأديان) رسالة نفيسة صنفها صديقنا الكامل والكاتب الفاضل صاحب العزة رفيق بك عظم زاده من أمراء القطر السوري. وقد قسمها إلى خمسة فصول: الفصل الأول: في حاجة البشر إلى الاجتماع وبيان أن دعامته الدين. الفصل الثاني: في ترقي الشرائع بترقي الإنسان. الفصل الثالث: القوة في الشرائع. الفصل الرابع: الجهاد في الشرائع الإلهية. الفصل الخامس: كيفية قيام الشرائع وانتشارها. وسننقل منها في الأعداد التالية نبذًا يتبين منها عظيم فائدتها إن شاء الله تعالى، وقد طبعت في مطبعة جريدة الإسلام في مصر. *** (الدر المنتخب في تاريخ المصريين والعرب) كتاب يؤلفه وينشره حضرة الأديب النبيل أتربي أفندي أبو العز، وقد طبع في هذه الأيام الجزء الثالث منه، وهو في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، جرى فيه على النهج الحديث في الترتيب والتقسيم، وأكثر فيه من الشعر؛ لأنه ديوان العرب ومظهر أفكارهم وأدبهم، حتى صار الكتاب أشبه بالأدب منه بالتاريخ، وذلك مما يستميل إلى مطالعته، وقد طالعنا منه: (الفصل الرابع: في أخلاق العرب) فانتقدنا عليه أنه لم يذكر فيه ما كان فاشيًا فيهم قبل الإسلام من الأخلاق المذمومة، فعساه يستدرك ذلك بذكر أخلاق العرب بعد الإسلام، والمقابلة بين الحالين، فوظيفة المؤرخ بيان الحقيقة محمودة كانت أو مذمومة، والكتاب يُطلب من حضرة مؤلفه ومن مكتبة الحاج محمد حجاج في مصر، فنحث على اقتنائه ونشكر مصنفه على اجتهاده في خدمة هذا الفن المفيد.

من المسئول الحكومة أم الشعب؟!

الكاتب: رفيق بك العظم

_ مَن المسئول الحكومة أم الشعب؟! [*] لحضرة الكاتب الفاضل عزتلو رفيق بك عظم زاده من أمراء الشام إن من لوازم العمران ومقتضى الحضارة ترقي قوة العلم بالاختصاص بمزايا الاجتماع القائم على دعائم التعاون بين الشعوب، وكلما نمت هذه القوة في قوم كانوا آخَذ بنواصي المدنية، وأقرب لتسنم ذرى الحضارة، لما يترتب على وجود سنن الاختصاص بين الشعوب من تحديد المقاصد وتوزيع الأعمال على قانون مخصوص تشعر به كل نفس بطبيعة الترقي والعلم بما يفرض عليها عمله، ويسوغ لها تركه في عالم الاجتماع. وهذا ما نريده من معنى الاختصاص بمزايا الاجتماع المدني، أو هو بعبارة أصرح: معرفة كل فرد ما أنيط به من العمل في مجتمعه على حدود وأحكام تمنع اختلاط المقاصد وتغالب النفوس المؤديين إلى تشويش نظام الاجتماع وفقد توازن القوى العاملة بين الأفراد البشرية في أي قبيل كان. فإذا فقد التوازن رجح القوي على الضعيف، وأكل الغني الفقير، فينشأ عن ذلك فوضى الأعمال التي بها تتهافت النفوس على حب الأثرة، ويتغالب الناس على مناط الحاجات، فيستهلك فريق كبير من الشعب في سبيل تحصيل القوت وتنتهك القوى المتضافرة، فتخمد النفوس السامية، ويختل نظام الحياة القومية، وتنفصم عرى التعاون والاختصاص بين أفراد الشعب، ومن ثم يأخذون بالهبوط إلى دركات الضعة، فينتهون إلى حيث يبدأ غيرهم بالعصور من الشعوب {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ} (الأحزاب: 38) . ومن المقرر أن أس الاجتماع في هذا الوجود البشري، ومناط الرجاء في انضمام الأيدي العاملة هي الحكومة، التي اختصت بالهيمنة على نظام الهيئة المحكومة، والقيام بإجراء قوانين الاجتماع الطبيعية والوضعية، ونريد بالأولى: العوائد والأخلاق التي تتدرج في مهد الأمة وتترقى بترقي الزمان، فالحكومة مكلفة بمراعاة جانب هذه القوانين والمحافظة عليها من عبث العابثين، تفاديًا من تطرق العوارض الفاسدة، والعلل المضرة على أخلاق الأمة ومألوفات النفوس. وبالثانية: قوانين التشريع الكافلة لاستمرار سير نظام المعاملات الدنيوية على وتيرة العدل، القاضي بحياة المجتمعات وعمران الممالك في كل زمان ومكان، فالحكومة مكلفة بتنفيذ أحكام هذه القوانين على وجه يبيح لكل فرد من أفراد الشعب التمتع بثمرات عمله دون مغالبة عليها من سواه أو مزاحمة ممن عداه. فمتى فرطت الحكومة بشيء من خصوصيات الهيمنة العادلة على القوانين المذكورة، أو عبثت بتلك السنن الطبيعية، فقد بدأت بتشويش نظام الاختصاص ومهدت للشعب سبيل التغلب وطريق الفوضى في الأعمال والتباين في المقاصد، فأودت به إلى الهلاك وبحياتها إلى خطر الارتباك. لهذا كان لا بد لإنماء قوى العلم بالاختصاص بمزايا التعاون من سلامة سنته الناجحة وقوانينه النافعة، وإنما تكون سلامتها بالمسيطر عليها، وهو الحكومة، فالحكومة بهذه المثابة مربية الشعوب، فإذا ربت شعبًا على مبادئ احترام القوانين الاجتماعية نشأ كل فرد من أفراده على معرفة الواجب والعلم بما له وعليه، وهذا غاية ما يطلب من أسباب الترقي للمتجمعات البشرية، والعكس بالعكس، ولا يحتاج إثبات هذه القضية لأكثر من النظر إلى حكومات المغرب المتمدنة التي احترمت عندها قوانين الاجتماع، فأنمت في شعوبها قوة الإحساس والشعور بمزايا التعاون والاختصاص، فعرفوا طرق الواجب التي تؤدي إلى خير المجتمعات فسلكوها غير متلكئين، وأدركوا من الحضارة شأوًا أعجز الأولين. والأمر في المشرق بخلاف هذا؛ فإنك ترى الحكومات الآن فيه بالغة منتهى الضلال في تربية الشعوب على نبذ قوانين الترقي والاجتماع، وهتك حرمة الاختصاص، حتى أدى ذلك إلى اختلال نظام المجتمع الشرقي، وانحلال عرى دوله العظيمة، ذلك من جراء استرسال الأهواء وتغالب النفوس التي ضلت عنها المقاصد، فكلَّتْ دونها الهمم وخمدت العواطف، ففقد الشعور بحاجات العمران ومقتضيات الزمان. هذا كله وقد بلغ الأمر بتلك الحكومات إلى أنها لا تزال تهدم بيدها أهم القواعد في قوانين الاجتماع وسنن الطبيعة وهي كثيرة، ومنها: ما تذكره مثالاً يؤيده ما ذهبنا إليه في هذه المقالة، ويبرهن على منتهى ما بلغت إليه في هذا العصر حكومات المشرق - وأخصها الإسلامية - من سوء التدبير في سياسة الأمم وإليك المثال. قضت سنن الوجود الطبيعية أن يكون العقل في الإنسان رائد العلم الضروري لحياة البشر، وتدبير أصول المعيشة، فلا يزال هذا العقل دائبًا في تتبع هذه الغاية، حتى يبلغ مبلغ الكمال الاكتسابي الذي يؤهل الإنسان لبسط يد السلطة على العلم بمقتضيات الحياة الأدبية، ويرفعه إلى ذرى الحضارة والتمدن، وهذا معنى قولهم: الإنسان مدني بالطبع. فإذا كانت طبيعة الوجود البشري نفسها تقضي بتسريح العقل في مناحي العلم لاكتساب معرفة مواد الحياة المدنية، فأي خرق في الرأي وإفساد في سنن الطبيعة أعظم من حيلولة الحكومة بين الشعب وبين مناحي عقول أفراده التي تؤهله لأن يكون مدنيًا عارفًا بواجبات الإنسان القاضية بتفضيله على سائر الحيوان. هذا الخرق في الرأي والإفساد في سنن الطبيعة هو ما تفعله الآن حكومات الإسلام في المشرق، وذلك باتخاذها الوسائل القاضية بإضعاف قوة النزوع إلى العلوم في سائر أفراد الشعب لأسباب * وظنون تضحك الثكلى. نعم نرى أن بعض تلك الحكومات لا تحصر العقول في دائرة ضيقة من العلم الذي لا يتعدى الضروري من أمر الدين، كما يفعله البعض الآخر، بل هي تبيح تلقي العقول لعلوم الدنيا، وتؤسس لها المدارس، ولكن تغفل عما وراء ذلك من لزوم تنشيط النفوس على العمل، بل تحظره ألبتة تفاديا من ترقي العقول إلى متناول المعرفة بالحقوق والواجبات التي تلزم كل فرد من أفراد الشعب بالنسبة إلى الحكومة والوطن، فهي تحظر الاجتماعات العلمية وتحجر على الجرائد وتختم على الأفواه وتغل الأيدي وتبعد النوابغ وتدني الجهلاء، إلى آخر ما يدعوا لمنع الفوائد التي يترقبها الشعب من تلك المدارس، ويرجو الحصول عليها من تلك العلوم. إذن فلا تفاوت في الوجهة بين سائر حكومات المشرق في سوء التدبير الذي انتهى إلى ما أصبحنا فيه معاشر الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا من الفوضى في الأعمال والتباين في المقاصد والضعف في النفوس والانحلال في العزائم والفتور في الهمم، وغير ذلك من بواعث التقهقر الذي مزق الأحشاء، وأدمى القلوب، وأودى بحياة الأمة، وقضى على الشرق قضاء لا مرد له إلا بتنبه حكوماته من سنة الغرور وإطراحهم لعجرفة الأيام الغابرة، والعمل مع الشعوب بما يدفع هذه الرزايا، ويصرف هذه المحن، وإلا فتالله إن تلك الحكومات لمسؤولة أمام الله وإمام الإنسانية وأمام العدل عن تلك الحرمات المهتوكة، والدماء المسفوكة، والربوع المستباحة لسلب السالبين ونهب الناهبين، والممالك الممزقة، والشعوب المفرقة، وما لا يعلم بنهايته إلا الله، والله بكل شيء عليم اهـ. (رأي المنار في الجواب) ما ذهب إليه حضرة الكاتب الفاضل من أن المسئول بإسعاد البلاد وترقي الأمة حكامها، هو المذهب المتبع عند الشعوب الشرقية كافة، وسببه استعباد حكام الشرق وملوكه لتك الشعوب، واستبدادهم فيها بحيث صار هذا الفعل والانفعال راسخين في النفوس بالوراثة، وقد جاء الإسلام بالتعليم الديمقراطي المعتدل، وقيد سلطة الملوك والأمراء والرؤساء بشرعه الذي جعل الناس فيه شرعا (بالتحريك أي: سواء) ولكن مُحِيَ هذا التعليم بعد الخلفاء الراشدين كما شرحناه في مقالات (الخلافة والخلفاء) وغيرها، وصار ملوك المسلمين وحكامهم بتمادي الزمان أشد استبدادًا ممن عداهم. ولما سرى روح هذا التعليم في أوروبا بسبب انتشار العلوم والمعارف فيها - وإنما كان مبدأ فيضانه من الإسلام - تَرَبَّتْ بحسن تربيتهم ملوكهم وحكامهم، وقيدوا السلطة، حتى انتهوا إلى الجمهورية، فارتقوا بذلك ارتقاء لم يعهد في تاريخ الإنسان، حتى كاد يتم لهم الاستيلاء على العالم كله. فخذل الجاهل أمام العالم، ودحر الظالم تجاه العادل، وأوشك تنازع البقاء أن يقضي بمحو السلطة الشرقية أو الإسلامية خاصة من لوح الوجود بما ظهر من عجز مقاواة السلطة الاستبدادية للسلطة الدستورية الشوروية، وأحست الشعوب الشرقية أو الإسلامية بالخطر الذي يتهددها وهو العدم والفناء القومي والملي، لكن الجهل بحقيقة الداء والدواء تركها في أمر مريج، تنظر إلى ملوكها وحكامها فتشاهد البلاء ينصب عليها من قِبلهم، فتقع في هوة اليأس وتهوي إلى وهدة القنوط. وكيف لا ييأس من يشاهد الطبيب يقتل المرضى بما يجرعهم من السموم؟ وكيف لا يقنط من يرى البلاء والشقاء ينصب عليه من ميازيب السعادة والنعماء؟ اليائس لا عمل له، اليائس لا يرجى منه خير، اليائس في عداد الموتى، فمن أراد أن يخدم أمة يئست من الحياة العزيزة القومية بيأسها من حكامها، فليقنعها قبل كل شيء بأن قوة الشعب فوق كل قوة؛ لأنها مظهر القوة الإلهية، وأن الأمم إذا تربت وتعلمت تربية وتعليمًا صحيحين تعتز وتسعد بقسميها الحاكمين والمحكومين، وأن الأمة في استطاعتها أن تقوم بهذه التربية وهذا التعليم من دون الحكومة بهمة علمائها العقلاء وأغنيائها الفضلاء، وبهذا نهضت أوروبا التي بهرت مدنيتها أبصارهم وحيرت ألبابهم. وهذا الموضوع الشريف هو أهم المقاصد التي أنشأنا لأجلها جريدتنا (المنار) ، فقد قلنا في مقدمة العدد الأول: فعليك بالعلم والعمل، رُض بهما نفسك، ورَبِّ عليهما ولدك، فلقد حل من لساني عقدة الاعتقال والسكوت، وأطلق قلمي من عقال الدعة والسكون، استغراق بعض إخوتي وإخوتك في النوم، وغرق بعضهم في بحار الوهم، وجهل المريض منهم بدائه، ويأس العالم بمرضه من شفائه، فأنشأت هذه الجريدة إجابة لرغبة من تنبهت نفوسهم لإصلاح الخلل، ومشايعة للساعين في مداواة العلل، الذين أرشدتهم التعاليم الدينية، وهداهم النظر في الآيات الكونية، إلى أن اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته جل علاه، هو عين الكفر والضلال، وآية الخزي والنكال، فأحبوا أن يعملوا لأمتهم، ويقوموا بخدمة لملتهم، إلخ. ثم قلنا في بيان مقاصد الجريدة من المقدمة أيضا: (وغرضها الأول: الحث على تربية البنات والبنين، لا الحط على الأمراء والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة وطروق أبواب الكسب والاقتصاد) . ومنها أيضًا: (وتُنبه - أي الجريدة - العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران، وينبوع العرفان، وأن عليهما مدار تقدم أوروبا في الفنون والصنائع لا على الملوك والأمراء، فهي التي تنشئ المكاتب والمدارس، وتشيد المعامل والمصانع، وتسير المراكب والبواخر، ونموذج ذلك بين أيديهم وتحت مواقع أبصارهم) . وكتبنا في العدد الثاني محاورة في سعادة الأمة، أوردنا فيها أسئلة كثيرة تتعلق بتحصيل هذه السعادة، وفندنا في الكلام عن أجوبتها جواب مَن حَصَرَ السعادة في الحكام، فقلنا بعد إيراد الأسئلة: فلما فرغت المسائل وسكت السائل، وطلب ما عند القوم من الجواب، ابتدر أحدهم فقال: لا شك أن الأمراء والحكام هم الذين يكونون بِنى (جمع ب

الجزية والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجزية والإسلام (تتمة ما سبق) الثالث: أن الشريعة الإسلامية وإن لم تكن شأنها شأن الملكية والسلطنة، بل الغاية التي توخاها الشرع ليست إلا تكميل النفس وتطهير الأخلاق والحث على الخير والردع عن الإثم، ولكن لما كانت هذه الأمور يتوقف حصولها على نوع من السياسة الملكية، لم تكن الشريعة لتغفل عنها كليًّا فاختارت جملة من الوضائع تكون مع سذاجتها كافلة لانتظام أمر الناس وإصلاح ارتفاقاتهم. ومن ذلك: الجهاد والقتال المقصود بهما الذب عن حِمى الإسلام والدفع عن بيضة المُلك وإزاحة الشر وبسط الأمن واستتباب الراحة، فجعل الجهاد فرضًا محتومًا على كل أحد ممن دخل في الإسلام، إما كفاية، وهذه إذا لم يكن النفير عامًّا وعينًا إذا هاجم العدو البلد وعم النفير. قال في الهداية: الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به فريق من الناس سقط عن الباقين، فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه، إلا أن يكون النفير عامًّا فحينئذ يصير من فروض الأعيان. فالمسلم لا يخلو من إحدى الخطتين: إما مرتزق، وهو من دخل في العسكر ونصب نفسه للقتال. أو متطوع، وهو مَن لم يأخذ نصيبه من الجهاد، ولكن إذا جاءت الطامة ووقع النفير لا يمكنه الاعتزال عن القتال والتنحي عنه، بل عليه أن يدخل فيما دخل المسلمون طوعًا أو كرهًا، وإذا كان من المسلَّم الثابت أن المرتزق والمتطوع سيان في الحقوق الكلية التي تمنح للعسكر، كان من الحق الواضح أن يعفى المسلمون كلهم عن ضريبة الجزية، أما أهل الذمة فما كان يحق للإسلام أن يجبرهم على مباشرتهم القتال في حال من الأحوال، بل الأمر بيدهم إن رضوا بالقتال عن أنفسهم وأموالهم عُفُوا عن الجزية، وإن أبوا أن يخاطروا بالنفس فلا أقل من أن يسامِحوا بشيء من المال وهي الجزية، ولعلك تطالبني بإثبات بعض القضايا المنطوية في هذا البيان، أي إثبات أن الجزية ما كانت تؤخذ من الذميين إلا للقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم، وأن الذميين لو أدخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعُفُوا عن الجزية، فإن صدق ظني فأصغِ إلى الروايات التي تعطيك الثلج في هذا الباب وتحسم مادة القيل والقال. (فمنها) : ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل فيها، وهذا نصه: (هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه، إني عاهدتكم على الجزية والمَنعة، فلكم الذمة والمنعة، وما منعناكم (أي حميناكم) فلنا الجزية وإلا فلا. كتب سنة اثنتي عشرة في صفر) . (ومنها) : ما كتب نواب العراق لأهل الذمة وهاك نصه: (براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها خالد والمسلمون. لكم يد على من بدل صلح خالد ما أقررتم بالجزية وكنتم. أمانكم أمان وصلحكم صلح، ونحن لكم على الوفاء) . (ومنها) : ما كتب أهل ذمة العراق لأمراء المسلمين وهذا نصه: (إنا قد أدينا الجزية التي عاهدَنا عليها خالد على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم) . (ومنها) : المقاولة التي كانت بين المسلمين وبين يزدجرد ملك فارس، حينما وفدوا على يزدجرد وعرضوا عليه الإسلام، وكان هذا في سنة أربع عشرة في عهد عمر بن الخطاب وكان من جملة كلام نعمان الذي كان رئيس الوفد: (وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم وإلا قاتلناكم) . (ومنها) : المقاولة التي كانت بين حذيفة بن محصن وبين رستم قائد الفرس، وحذيفة هو الذي أرسله سعد بن أبي وقاص وافدًا على رستم في سنة أربع عشرة في عهد عمر بن الخطاب، وكان في جملة كلامه: (أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك) . فانظر إلى هذه الروايات الموثوق بها كيف قرنوا بها بين الجزية والمنعة، وكيف صرح خالد في كتابه بأن لا نأخذ منكم الجزية إلا إذا منعناكم ودفعنا عنكم، وإن عجزنا عن ذلك فلا يجوز لنا أخذها. وهذه المقاولات والكتب مما ارتضاها عمر وجل الصحابة، فكان سبيلها سبيل المسائل المجمع عليها. قال الإمام الشعبي، وهو أحد الأئمة الكبار: أخذ (أي سواد العراق) عَنوة، وكذلك كل أرض إلا الحصون، فجلا أهلها فدَعوا إلى الصلح والذمة، فأجابوا وتراجعوا فصاروا ذمة، وعليهم الجزاء ولهم المنعة، وذلك هو السُّنة، كذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدومة. ولا تظننَّ أن شرط المنعة في الجزية إنما كان يقصد به تطييب نفوس أهل الذمة وإسكان غيظهم، ولم يقع به العمل قط، فإن من أمر النظر في سير الصحابة واطلع على مجاري أحوالهم عرف من غير شك أنهم لم يكتبوا عهدًا ولا ذكروا شرطًا إلا وقد عضوا عليها بالنواجذ، وأفرغوا الجهد في الوفاء بها، وكذلك فعلهم في الجزية التي يدور رحى الكلام عليها، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن مكحول أنه لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم صاروا أعداء على عدو المسلمين وعيونًا للمسلمين على أعدائهم، فبعث أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعًا لم يُر مثله، فأتى رؤساء أهل كل مدينة الأمير الذي خلَّفه أبو عبيدة يخبره بذلك، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة، فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبو عبيده إلى كل والٍ ممن خلَّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردوا عليهم ما جُبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم. فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم قالوا: (ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا وأخذوا كل شيء بقي حتى لا يدعوا شيئًا) . وقال العلامة البلاذري في كتابه (فتوح البلدان) : حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: (قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم) فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد. وقال العلامة الأزدي في كتابه (فتوح الشام) يذكر إقبال الروم على المسلمين ومسير أبي عيبدة من حمص: (فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم، فإنه لا ينبغي لنا إذ لا نمنعهم أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن على ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنَّا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم) فلما أصبح أمر الناس أن يرتحلوا إلى دمشق، ودعا حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال، فأخذ يرد عليهم وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل البلد يقولون: ردكم الله إلينا ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا بل غصبونا وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا. وقال أيضًا - يذكر دخول أبي عبيدة دمشق-: (فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين وأمر سويد بن كلثوم القرشي أن يرد على أهل دمشق ما كان اجتبى منهم الذين كانوا أمنوا وصالحوا، فرد عليهم ما كان أخذ منهم وقال لهم المسلمون: نحن على العهد الذي كان بيننا، ونحن معيدون لكم أمانًا) . أما ما ادعينا من أن أهل الذمة إذا لم يشترطوا علينا المنعة أو شاركونا في الذب عن حريم الملك لا يطالبون بالجزية أصلاً، فعمدتنا في ذلك أيضًا صنيع الصحابة وطريق عملهم، فإنهم أولى الناس بالتنبه لغرض الشارع وأحقهم بإدراك سر الشريعة، والروايات في ذلك وإن كانت جمة ولكن نكتفي هنا بقدر يسير يغني عن كثير. (فمنها) : كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان وهاك نصه بعينه: هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، إن لكم الذمة وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك، شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن محرمة وعتيبة بن النهاس، وكتب في سنة 108. اهـ. (طبري) ص 2658. (ومنها) : الكتاب الذي كتبه عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا نصه: (هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم، الأمان على أنفسهم وأموالهم ومِللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك. اهـ. طبري صحيفة 2262) . (ومنها) : العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر بن الخطاب وبين شهربراز، كتب به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه وهاك نصه: (هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهربراز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وملتهم أن لا يضاروا ولا ينقضوا، وعلى أرمينية والأبواب الطرّاء منهم والتّناء [1] ، ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحًا، على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء، فإن حشروا وضع ذلك عنهم، شهد عبد الرحمن بن ربيعة وسلمان بن ربيعة وبكير بن عبد الله، وكتب مرضي بن مقرن وشهد اهـ) (طبري صحيفة 2665و2666) . (ومنها) : ما كان من أمر الجراجمة، وقد أتى العلامة البلاذري على جملة من تفاصيل أحوالهم فقال: حدثني مشايخ من أهل أنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل لكام عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقا يقال لها: الجرجومة، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطريق أنطاكية وواليها، فلما قدم أبو عبيدة أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم، وهموا باللحاق بالروم، إذ خافوا على أنفسهم، فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم، ثم إن أهل أنطاكية نقضوا وغدروا، فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلم الفهري، فغزا الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بادروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين وعيونًا ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يؤخذوا بالجزية، ثم إن الجراجمة مع أنهم لم يوفوا ونقضوا العهد غير مرة لم يؤخذوا بالجزية قط، حتى أن بعض العمال في عهد الواثق بالله العباسي ألزمهم جزية رءوسهم، فرفعوا ذلك إلى الواثق فأمر بإسقاطها عنهم. ولما بلغت من التعمق في البحث والإمعان في الفحص إلى هذا الحد حان لي أن أقول: أطفئ المصباح، فإنه قد طلع الصباح، وماذا بعد الحق إلا الضلال، وبالله ثقتي وعليه اعتمادي، وهو العلي الكبير المتعال.

اسطقس الحق

الكاتب: مولوي عبد الرحمن

_ اسطقس الحق رسالة للعلامة الفهامة مولوي عبد الرحمن صاحب سيستاني الهندي أحد تلامذة بحر العلوم مولانا محمد لطف الرحمن صاحب بروداني حرر بها مؤلفها القول في (حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة من الرضاعة) وبيَّن غلط الفقهاء فيها، وقد أرسلها لنا العلامة محمد لطف الرحمن، وعهد إلينا بنشرها في المنار (كي تشتهر في الأمصار اشتهار الشمس في رابعة النهار) فإجابة لطلبه ننشرها كما هي، وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم) نحمده ونصلي على رسوله الكريم. اعلم أنه قد مضت الدهور وانقضت الشهور، وطالت المناظرة وشاعت المكابرة وظهرت المشافهة وزهرت المسافهة، وحبطت الأعمال وخبطت الأقوال في حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة من الرضاعة، وهما شر البضاعة، فنحن نبين دليلاً كافيًا، وبرهانًا شافيًا، بلطف الرحمن، وفضل المنان. فاعلم أن الأصل في باب الحرمة الرضاعية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) معناه: أن الأفراد التي تحرم من النسب تلك الأفراد بعينها من الرضاعة أيضًا، ولا يخفى عليك أن ما يحرم من النسب هو ما تعلق به خطاب التحريم بقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} (النساء: 23) فلو فرضنا أن زيدًا مثلاً ارتضع من هندة، وولد هندة المرضعة لم يرتضع من امرأة، فتحرم من رضاع زيد - بحكم الحديث - الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، فتكون المرضعة وما فوقها مصداق الأمهات للرضيع، وفروعه مصداق البنات للمرضعة وزوجها، وبناتها وأخواتها وأخوات زوجها وبنات أبنائها وبنات بناتها يكن مصاديق الأخوات والخالات والعمات، وبنات الأخ وبنات الأخت له. فهذه المجموعات السبع تحرم من رضاع زيد الرضيع، كما تحرم تلك المجموعات بعينها في النسب. وأما حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة فغير ثابتة من الحديث. فإن قلت: معنى الحديث أن كل من يحرم من النسب يحرم من الرضاع، ومما يحرم من النسب هو بنت الأخ، ولا شك أن بنت الرضيع بنت الأخ لولد المرضعة فتحرم عليه. قلت: ويحك هذا الذي أوقعك في ورطة الظلماء، إذ هذا المعنى باطل من وجهين: أما أولاً: فلأنه يلزم من هذا ثبوت حرمة مجموع الأفراد السبع من رضاع الرضيع وزيادة حرمة فرد، وهي حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة، وهو باطل إذ النص الشريف أعني قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} (النساء: 23) الآية، ينادي بأعلى نداء أنه من نسب كل واحد ثبتت حرمة هذه المحرمات السبع بلا زيادة، وكذلك في الرضاع بمقتضى الحديث، وأيضًا الصورة المزعومة غير متحققة في النسب الذي قيس الرضاع عليه، فلم يكن القياس صحيحًا وبطل مقتضى الحديث وهو محال. أما ثانيًا: فلأنه ماذا أراد بقوله هذا؟ إما أراد أن تحرم في النسب بنات الأخ فقط، فكذا في الرضاع، أو أراد أنه تحرم فيه العمات والخالات وبنات الأخ وغيرهن، فتحرم بنات الأخ في الرضاع. والأول باطل؛ إذ يستحيل في النسب أن تحرم بنات الأخ وفقط، كما لا يخفى، وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى. والثاني أيضًا باطل من وجهين: أما الأول: فلأنه كما تحرم في النسب بنات الأخ كذلك تحريم فيه العمات والخالات أيضًا، فيلزم أن تحرم على ولد المرضعة العمات والخالات من الرضاع. وأما الثاني: فلانه مستحيل بهذه المقدمات المسلمات: (الأولى) : أن الله بين الآية الكريمة، أعني قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} (النساء: 23) الآية بالواو العاطفة وهي للجمع، فإن قلت: يجوز أن تكون الواو بمعنى (أو) التي هي أداة الانفصال. قلت: أف لك، هذا الاحتمال مع كونه ههنا من المحالات يقطع دابر القوم الذين ظلموا بقولهم من حرمة بنت الرضيع فقط على ولد المرضعة إذ لفظة (أو) وضعت لأحد الأمرين في أصل الوضع، فمقتضاها: ثبوت حرمة إحدى المحرمات، لا على التعيين لكل واحد واحد، فمع كونه صريح الاستحالة يقدح ما يرومه الرائمون بقولهم من جهة مجموع الأفراد السبع من رضاع الرضيع مع زيادة حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة، إذ بنوته محال من النص، سواء كانت الواو بمعناها أو بمعنى لفظة (أو) . (والثانية) : أن العلة المحرمة في المحرمات السبع واحدة تامة. (والثالثة) : أنه لو كانت لعدة معلولات علة واحدة تامة للزم أنه إذا وجدت إحدى المعلولات وجدت العلة التامة ووجدت المعلولات الأخر ألبتة. (الرابعة) : أن الآية الكريمة موجبة لحرمة مجموع الأفراد السبع باقتضاء تلك الواو العاطفة التي تقدم ذكرها في المقدمة الأولى. (الخامسة) : أن حرمة بنت الأخ في النسب ثابتة بقوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (النساء: 23) الآية، فمن كان محكومًا عليه فيه بحرمة بنات الأخ يجب دخوله تحت خطاب قوله: (وبنات الأخ) في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} (النساء: 23) الآية، وإلا لم يكن ثبوتها من الله، وهو كما ترى. (السادسة) : أنه لو دخل أحد في النسب تحت خطاب قوله {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) لاستحال أن لا تتحقق المحرمات الباقية (أي: الأمهات والعمات والخالات وغيرهن) وجودًا أو صلوحًا بحكم المقدمة الرابعة، وأيضا من المقدمة الثانية والثالثة. (السابعة) : أنه من كان داخلاً تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) في النسب يستلزم دخوله فيه تحقق المحرمات الباقية وجودًا أو صلوحًا بحكم المقدمة السادسة. (الثامنة) : أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة) يبين ببيان شافٍ أن وزان الرضاع وزان النسب بعينه، وأن المحرمات من الرضاع محرمات من الله قطعًا. (التاسعة) : أن العلة المحرمة في المحرمات السبع من الرضاع أيضًا واحدة تامة. (العاشرة) : أنه من كان محكومًا عليه بحرمة بنات الأخ من الرضاع وجب دخوله تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) بحكم المقدمة الثامنة، وأيضًا منها ومن الخامسة. (الحادية عشرة) : أنه من كان داخلاً تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) في الرضاع يستلزم دخوله فيه تحقق المحرمات الباقية وجودًا أو صلوحًا بحكم المقدمة الثامنة، وأيضًا منها ومن السابعة بانضمام التاسعة. فإذا تمهدت هذه المقدمات المسلَّمات نقول: إنه لو حرمت بنت الرضيع على ولد المرضعة من الرضاع يجب دخوله تحت خطاب قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) بحكم المقدمة العاشرة، ودخوله فيه يستلزم تحقيق الحرمات الباقية أي العمات والخالات وغيرهن من الرضاع بحكم المقدمة الحادية عشرة، وهو محال، إذ حينئذ مصداق العمات والخالات الرضاعية لولد المرضعة، إما العمات والخالات النسبية للرضيع أو لغيره، والأول ظاهر لاتحاد العلة المحرمة فيهن، وهو باطل إذ لم تثبت من الدليل الشرعي حرمتهن على ولد المرضعة، وكونهن عماته وخالاته، فحرمتهن محال. والثاني أيضًا باطل من وجهين: أما أولاً: فلأنه يماثل قول ذي جنة: إذ استلزم حرمة بنت خالد مثلاً لحرمة عمات بكر وخالاته محال جدًّا لعدم القدر المشترك بينهن. وأما ثانيًا: فلأن العمات والخالات الرضاعية ليست بثابتة له وجودًا أو صلوحًا فيما نحن فيه، أي فيما إذا صدر فعل الرضاع من الرضيع، ولم يتحقق الرضاع من ولد المرضعة فحرمتهن محال. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

مصاب مصر بالسودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب مصر بالسودان إن الفجيعة الأخيرة بالسودان قد جرحت قلوب المصريين جرحًا لا يندمل، وجميع عقلائهم متفقون على أن ترك السودان لإنكلترا خالصًا لها من دون مصر كان أولى من هذه الشركة الاسمية التي عقدت بين إنكلترا ومصر في (وفاق 19 يناير) بل منهم من يقول: إن التصريح بحماية الإنكليز لمصر والسودان معًا هو أهون مصابًا من هذا الوفاق الجائر، ويرون بالإجماع أن كل من رضي بهذه القسمة الضيزى من حاكم ومحكوم فهو خائن لأمته ووطنه، بائع بلاده بيعًا مقلوبًا شرط فيه أن يكون الثمن على البائع يؤديه للمشتري. ذلك أن الإنكليز قد بلغت ضرائبهم على مصر بهذه الشركة 1141286 جنيهًا مصريًّا في السنة، منها 84825 نفقات جيش الاحتلال والباقي للحربية العمومية وللإدارة والعسكرية في السودان (كما بينه المؤيد الأغر في عدد يوم الاثنين الماضي) ويدخل في هذا البيع أو الوفاق أو الشركة أن للإنكليزالحق في أن يفتحوا ما شاءوا من بلاد إفريقيا برجال مصر وأموالها من غير رضاء أمير ولا سلطان، ولا لوم على الإنكليز في إخلاف الوعود ونقض العهود، فإن هذا كله حرب وجهاد، و (الحرب خدعة) باتفاق العباد، وإنما اللوم والتثريب بل اللعن من الله وملائكته والناس أجمعين على من يفضل الموت فما دونه على تسليم بلاده ووطنه لأعدائه المحاربين، والله عليم بالظالمين.

الوعظ والوعاظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوعظ والوعاظ [*] قال أستاذ حكيم: (إن الإيمان نائم في قلوب العامة يحتاج إلى إيقاظ) وهي كلمة صحيحة لا ريب فيها، والذي يوقظ الإيمان حتى تصدر عنه آثاره الحسنة وتتشعب فوائده وفضائله التي أدناها إماطة الأذى من الطريق - هو التذكير الصحيح والموعظة الحسنة، فلو وُجد فينا علماء مخلصون لهم غيرة على الدين بعدد مساجدنا، وتولى كل واحد منهم الوعظ والتذكير في مسجد منها، وإرشاد خطيبه إلى الخطب النافعة ولو بإنشائها له - لأمكنهم إيقاظ الإيمان في قلوب الناس، ومتي استيقظ الإيمان صدرت عنه آثاره وتلك سعاد الدنيا والآخرة. لا أعني بالعلماء من قرأ حواشي الصبان على الأشموني، ومطولات الفقه بحيث يقدر على التنكيت في قوله وانتحال العلل لتقديم الأبواب والفصول وتأخيرها، ولا من يحفظ فروعًا كثيرة في أبواب الرقيق ونحوها مما لا يتعلق به عمل في هذا العصر، ولا مَن عنده كثير من الأحكام الغريبة التي لا تقع فيحتاج الناس إلى معرفة حكمها كجواز التناكح بين الإنس والجن وعدمه، وإنما أعني بالعلماء كل من له وقوف على سر الدين وحكم التشريع وانطباق أحكام الإسلام على مصالح البشر وتأثيرها في سعادتهم في الدارين وحكمة في وضع الأشياء في مواضعها ومخاطبة الناس على قدر عقولهم وإعطائهم ما تمس إليه حاجتهم، وإنما تجتمع هذه الصفات لمن يجمع بين العلم بأخلاق الدين وعقائده وآدابه، والعلم بأحوال الناس وشؤونهم ومرامي أفكارهم، وكيفية معاملاتهم، لا لمن يقول: لا يمكن الجمع بين العلم واختبار شؤون الناس كما سمعناه من بعض مشاهير الشيوخ. الطب الروحاني الذي هو تهذيب الأخلاق وتقويم الملكات والعادات والوقوف بالنفس الناطقة الإنسانية موقف الاعتدال، هو كالطب الجثماني الذي غايته اعتدال مزاج البدن. وأهم ما في الطبين معرفة حقيقة المرض ثم معرفة علاجه، العلاج ووصف الدواء مشروح في الكتب، ولكن بدن الإنسان ونفسه لا يوضعان في الكتب فلا بد من النظر فيهما بما ترشد إليه المعرفة الصحيحة، وكل من يتصدى لمعالجة الأبدان أو الأرواح قبل الوقوف على حقيقة مرضها فهو خادع أو مخدوع ولا يزيد علاجه المريض إلا بلاء وعناء. تدخل مسجد سيدنا الحسين (عليه الرضوان والسلام) في هذه الأيام فتشاهد كثيرًا من الوعاظ والمدرسين، وقد حشر الناس إليهم حتى كادوا يكونون عليهم لبدًا، ولكن أكثر هؤلاء الوعاظ من أطباء النفوس الكاذبين الذين يضاعفون الداء فيُنهك من يعالجونه مرضًا حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين! يزيدون الخاملين خمولاً بما يكررونه من عبارات التزهيد في الدنيا، ويزيدون الفجار استرسالاً في فجورهم بما يعِدونهم، ويمنونهم المغفرة والعتق من النار مهما عظمت الذنوب وتراكمت الأوزار، نعم إن منهم من يأمر بالتوبة ويستتيب الناس، ولكن تلك التوبة كلام بكلام فهي أيضًا من جملة أنواع التغرير، فبتزهيدهم في الدنيا أمسكوا بالهمم عن تحصيل سعادتها الصحيحة وبتمنيتهم بالمغفرة والرحمة أمنوهم من العقوبة فبطُل الخوف الذي يزجر عن المحرمات وصار الرجاء الذي يبعث على الجد في العمل غرورًا، والخوف والرجاء هما الجناحان اللذان يطير بهما صاحب الدين إلى مرضاة رب العالمين، وهي غاية السعادة الأخروية، فهكذا تضافر الخطباء والوعاظ على قطع طريقي السعادتين، وطمس معالم النجدين، وتركوا المسلم مقصوص الجناحين. فمتى يفوز ومن عداه بعضه ... ومتى يفيق ومن ضناه طبيبه حدثنا بعض أبناء المدارس الأذكياء أنه جلس إلى أحد أولئك الوعاظ المدرسين، فكان الدرس - وهو في تقليم الأظافر - مدعاة لاستغراب هذا الذكي؛ لأنه لم يكن يتصور أن الدين شرع لتعليم الناس كيف يقلمون أظافرهم، ومتى يقلمونها. ولا أنكر أن بعض الكتب النافعة يوجد فيها كثير من اللغو الذي لا يصح في السنة ولا يرشد إليه العقل، يشتغل به من لا قيمة للوقت عندهم فيضيعون الأعمار باللغو والعبث. ومن هذا اللغو بحث تقليم الأظفار، وقد أوردوا فيه كلامًا غريبًا وجعلوا له ترتيبًا وكيفيات وانتحلوا له فوائد وغوائل تختلف باختلاف الأيام، منها: أن التقليم يوم الخميس يورث الغنى، ويوم الجمعة يورث العلم، ويوم السبت يورث الأكلة ... إلخ. على أن هذا الدرس الذي لا ينفع ولا يضر إلا بتضييع الوقت الذي لا قيمة له عند أكثر قومنا أخف مصابًا على الأمة من الدروس الأخرى التي تنفث في الأرواح سم التكسيل عن الكسب والتجرؤ على الاسترسال في اللهو والمعاصي والاعتذار عن التقصير بالقضاء والقدر، وبمثل هذه السموم يموت روح الدين. يا رباه ماذا أقول؟ لو كان هؤلاء الوعاظ يقرءون للناس شيئًا من الأحكام الفقهية لمَا وصل إضرارهم إلى هذا الحد، فالخطأ في الاعتقاد يُنتج الكفر والخطأ في تهذيب النفوس ينتج فساد الأخلاق واختلال الأعمال وشقاء الأمة في الحال والمآل. أما الخطأ في الأحكام الفقهية فالأمر فيه أهون؛ لأنه لا يكون غالبًا إلا في الأحكام الخفية التي يُعذر جاهلها ولا يؤاخَذ المخطئ بها، على أن هذه الأحكام لما يكثر فيها من الخلاف لا يكاد يعدو المدرس قول فقيه يؤخذ بقوله، ومع هذا كله تجد علماءنا لا يبالون إلا بهذا الفن الذي يسمونه فقهًا، وقد أهملوا في الأكثر فقه الدين، وهو تهذيب الأخلاق الذي هو موضوع البشارة والإنذار اللذين لم ترسل الأنبياء إلا لأجلهما بشهادة قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: 105) وقد بينا من قبل أن الفقه في الدين هو ما تعلق به الإنذار بدليل قوله عز وجل: {لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} (التوبة: 122) لا علم الإجارة والبيع والسَّلَم ونحوها. يظن أكثر شيوخنا أن علم الأخلاق الذي هو مادة الوعظ والتذكير بديهي، لا حاجة إلى دراسته وتلقيه لسهولته بخلاف الفقه - وهذا من أغرب الظنون الأثيمة، فإن موضوع هذا العلم قوى النفس الإنسانية، وصفات الروح العاقل المدبر للبدن المتصرف له في أعماله وغايته السعادة الحقيقية؛ لأن السعادة ثمرة الأعمال الصالحة النافعة، والأعمال تابعة للأخلاق حسنًا وقبحًا، كما أوضحناه في مقالة سابقة، لا جرم أن هذا العلم من أدق العلوم وأعوصها كما أنه من ألذها وأنفعها. كان من أهم وظائف الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والأستاذ الفاضل السيد علي الببلاوي انتقاء الوعاظ والمدرسين للمسجد الحسيني من أعلم الشيوخ بالتهذيب وأفقههم في الدين، وأكثرهم وقوفًا على ما تمس إليه حاجة الناس في مصالحهم، وامتحان من يتصدى لذلك مدعيًا الكفاءة، كما امتحن الإمام علي كرم الله وجهه الحسن البصري، فقد روي أنه دخل مسجد البصرة أو الكوفة فرآه كالمسجد الحسيني في هذه الأيام مملوءًا بالقُصَّاص، فطردهم إلا الحسن، فإنه رأى عليه سيما العلم والصلاح، فقال له: يا فتى إني سائلك عن شيء إن أجبت عنه وإلا طردتك كما طردت أصحابك، ثم قال له: ما مِلاك الدين؟ فقال الحسن: الورع، فقال له: وما فساد الدين؟ قال: الطمع. فقال: اثبت، فمثلك من يتكلم على الناس. وإنما اكتفى الإمام منه بهذا لأنه مع صحته يؤذن بأن الحسن يعظ لوجه الله تعالى، لا طمعًا في نوال المستمعين واستمالة قلوبهم كما عليه أكثر القصاص من ذلك العصر إلى اليوم. ومن كان يريد الحق يهتدي إليه، ومن كان يريد التقرب من الناس فإن الهوى يعميه ويصده عن سبيل الحق فيقص عليهم ما يرى أنه يسرهم، وإن كان يغرهم وما يرضيهم وإن كان يضرهم فيكون ضالاًّ مضلاًّ. وإن على من يعلم الحق ويكتمه مثل ما على من يعلّم بغير الحق من الوزر أو أكثر، ومثلهما في ذلك من يقدر على إزالة المنكر ووضع المعروف في موضعه، ولا يفعل. فعسى أن يحاسب العلماء أنفسهم ويقوم كل بما يجب عليه، فترى المساجد في جميع الشهور (لا في رمضان فقط) ينابيع لعلوم الدين وتهذيب المسلمين، وينتفي بعلم الراسخين جهل الجاهلين، والله ولي المتقين. يمكنني أن أذيل كلامي هذا بكلمة ثناء على أمثل مجلس حضرته في وعظ العامة في مصر، اعترافًا بالحق لأهله وتنشيطًا للواعظ والموعوظ، ذلك مجلس الأستاذ الفاضل الشيخ علي الحربي، فلقد خطب في أحد المساجد خطبة ما سمعت على منبر أحسن منها، وعقد بعد الصلاة مجلس وعظ لا يتناوله شيء من انتقاد هذه المقالة {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) .

الإسلام والترقي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام والترقي امتازت جريدتنا (المنار) بالتنويه المتواصل بأن الإسلام جاء بتعاليم كافية لعروج الأمم إلى سماء السيادة العليا، وبلوغها مراتب السعادة القصوى؛ لأنها أبطلت جميع الاعتقادات التي تحول بين الإنسان وبين كماله، كالاعتقاد بأن الإنسان ناقص حقير لا يصح له أن يرفع أعماله الحسنة إلى الجناب الإلهي الأقدس، ولا أن يطلب من مولاه الحقيقي العفو عن تقصيره وتفريطه بالتوبة الصحيحة بينه وبين ربه الرءوف الرحيم إلا بواسطة رؤساء الدين المعبر عنهم بالقديسين أو الأولياء المقربين، فأبطل الامتياز الصنفي وألغى هذه الوساطة والرئاسة التي تهبط بالطباع، وجعل الناس كلهم عبيدًا لله وحده أحرارًا بالنسبة لما سواه، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم والعمل والكمالات المكتبسة، وكما أبطل سلطة الرؤساء الروحانيين قيد سلطة الملوك والحكام (كما بينا ذلك من قبل) بشريعة حقة مبنية على أصول الحرية الصحيحة والعدل والمساواة التي سادت بها أوروبا في ممالكها واعتز سلطانها ولم تقتبسها إلا من الإسلام، وستضطر أوروبا إلى الأخذ بما لم تأخذ به من قواعد الإسلام، كإيجاب الزكاة التي هي العلاج الوحيد لمرض من أشد الأمراض الاجتماعية وهو الاشتراكية، وكإعطاء المرأة حقوقها التي كانت مهضومة قبل الإسلام عند جميع الأمم في الشرق والغرب، فجاء القرآن يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) واحدة وهي القيامة بالرعاية والحراسة والإنفاق؛ لأن الفطرة والطبيعة تعطيه حق رئاسة المنزل وحراسته والإنفاق عليه؛ لأنه أقوى وأقدر على الكسب. وفي الحديث الشريف: (النساء شقائق الرجال) فاقتبست أوروبا ذلك وعظمت شأن النساء ولكن لم تأخذ بكل ما جاء به الإسلام في ذلك؛ لأن الأوروبيين ما فتئوا يمنعون المرأة التصرف بمالها والمدافعة عن حقوقها بنفسها ويقيدونها في ذلك بزوجها، وهذا التقييد مبني على الاعتقاد القديم بضعف عقلها وعدم أهليتها للتصرف. وكمحو التعصب الذميم بالعدل الذي جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يساوي بين الإمام علي بن أبي طالب ورجل من آحاد اليهود. والفرنسويون أئمة المدنية الأوروبية الذين يشير عَلَمهم إلى العدل والحرية والمساواة، لا يزالون يضطهدون اليهود إلى اليوم، وتنشئ الجمعيات المؤلفة لاضطهادهم الجرائد وتؤلف الرسائل في التحريض عليهم والتنفير منهم، إلى غير ذلك من التعاليم الصحيحة التي تكفل لمن يأخذ بها السعادة الحقيقة. هذا ما يحملنا على تكرار القول بأن أمة هذه قواعد دينها لا يصلح حالها إلا بالتمسك بها، وما كنا ممن يسند إلى الإسلام ما ليس له أو يضيف إليه ما ليس منه، فإن الدين نفسه يحظر علينا هذا. كيف وقد اعترف للإسلام بمزاياه الشريفة مما ذكرنا وما لم نذكر جميع الناظرين في التاريخ، والباحثين في الملل والشرائع بالإنصاف من غير المسلمين حتى إن ذلك ليفيض من أنابيب أقلامهم فيما يكتبون، ويجري على ألسنتهم عند ما ينطقون، من غير روية ولا تكلف، ولا مصانعة ولا تصنع، ونذكر هنا على سبيل الاستشهاد مقالة لبعض الكتاب الأفاضل نشرت في المقطم (عدد 2989) من عدة مقالات في أسباب انحطاط الشرق، وهاكها بحروفها: أسباب انحطاط الشرق (الهيئة الاجتماعية الشرقية) لحضرة الأفوكاتو الفاضل نقولا يوسف دبانة بينما كان ملوك الغرب لا يقيدهم دستور ولا يعرفون قانونًا إلا قانون استبدادهم، كان ملوك الشرق مقيدين بدستور يمنعهم عن كل استبداد وظلم ولم تحلهم منه إرادتهم الخاصة ولا إرادة الشعب، وذلك القيد هو القرآن الشريف. أفليس الحكم الذي هذه صفاته الأصلية أفضل من سائر الأحكام؛ لأنه مبني على أساس الحرية الصحيحة والعدل والمساواة، وهل ينكر أحد بعد هذا أن الشرق مهد المبادئ الجمهورية والحكومة الدستورية. ولا يغرب عن البال أنا إنما نتكلم عن المبادئ لا عن الحوادث، فقد قام في الشرق حكام مستبدون زادوا عددًا عن الذين قاموا في الغرب، لكن ذلك لا يقدح في قولنا: إن مبادئ الأحكام في الشرق مبادئ دستورية، فإذا تعدى الإنسان الشريعة فتعديه لا يبطل وجودها، وشبيه ما في الشرق ما جرى في فرنسا لمَّا حكمها نابليون الأول، فإنه كان من أعظم الملوك استبدادًا، ومع ذلك كان يلقب رسميًّا نابليون إمبراطور جمهورية فرنسا، فقيام حاكم كالحاكم بأمر الله لا ينافي قولنا أن مبادئ الهيئة الاجتماعية الشرقية مؤسسة على الجمهورية والمساواة. ومما يدل على أن حق الملك في الشرق ليس حقًّا شخصيًّا هو أن الشرق ميال إلى إلقاء مقاليد الأحكام إلى الأرشد في العائلة لا إلى الابن ولا إلى الوارث الأقرب كما في أوروبا، فتختلف وراثة الحكم بذلك عن وراثة المقتنيات، ولو كان الحكم حقًّا شخصيًّا لكان يرثه الذي يرث المقتنيات والأموال، فكأن الشعب الشرقي يقول عند إعطائه الحكم للأرشد: إننا لما كنا نبايع حاكمنا حق الحكم علينا وجب أن نطلب منه أن يكون أهلاً للحكم متمكنًا فيه، فالأرشد في العائلة أولى بذلك من ابن الحاكم السابق؛ لأن خبرته أكثر ومادته أوفر وإرادته أمضى وعزمه أشد. هذا ويتضح من البحث الدقيق أن المبادئ الجمهورية والاشتراكية المنتشرة الآن في الغرب والتي يعدها الغرب تقدمًا وتمدنًا وجدت في الشرق من البدء وهي: أولاً - حقوق المرأة المدنية، فإن المرأة في الغرب لا تستطيع أن تتصرف بدرهم من مالها الخاص، ولا أن تعقد عقدًا، ولا أن تدافع عن حقوقها أمام المجالس ولا ولا ... بلا إذن من زوجها، على حين أن المرأة الشرقية مُطْلَقة الحرية في ذلك كله. ثانيًا - إعانة الفقراء بالأموال الإجبارية، فإن الحكومات الغربية تسعى الآن في إلزام الأغنياء بإعانة الفقراء فيلتزم كل غني أن يدفع شيئًا معلومًا من ماله لإعانة الفقراء والمساكين، وهذا جل ما يسعى إليه الاشتراكيون، ولكن الشرق سبقهم إليه والزكاة وبيت المال شاهدان عليه. ثالثًا - إبطال الجمعيات المستقلة بنفسها وبقوانينها عن الهيئة الاجتماعية كالأكليروس والرهبنة، والشرق قال قبل الغرب: لا رهبنة في الإسلام، ولا حاجة في الإسلام إلى الواسطة بين الله والعبيد، إذ كل إنسان له الحق أن يكون إمامًا وخطيبًا إلخ. رابعًا - عدم تعرض الحكومات للأديان، وأحسن قاعدة للحكومات في معاملة أديان الشعوب هي ما تجري حكومات الشرق عليه مبدئيًّا في ذلك. فتبين مما تقدم ما هي مبادئ الشرق الأصيلة، ولو اتُّبعت لارتقت بالشرق إلى أعلى درجات التقدم والتمدن، ولكن الحكام لم يتبعوها فجاروا وما عدلوا، وداموا على ذلك مدة طويلة، والشيء إذا دام صار عادة، والعادة إذا طالت صارت فطرة، فاتبع الحكام الظلم فصار عادة، واعتاد المحكومون الخضوع فصار فطرة، وجعل الحكام يعدون عدم الاستبداد ضعفًا، وعليه قال الشاعر: (إنما العاجز مَن لا يستبد) وأضاع المحكومون معرفة حقوقهم فباتوا طعمة لكل آكل، وكيف يمنعون الغريب من التسلط عليهم وهو هاضمهم بقوته الأجنبية على حين أنهم لا يستطيعون منع الحاكم الوطني من أن يجور عليهم وهو لا يقدر أن يظلم إلا بواسطتهم ومساعدتهم له، إذ هم الحاشية والحرس والجلادون والسجانون وسائر منفذي الأوامر - هذه العاقبة الأولى. وأما الثانية: فهي أن الحكام خافوا قيام الشعب المظلوم فاحتالوا لذلك باستخدام الفُرس والخزر والتركمان والانكشارية والمماليك، فصارت الآفة آفتين الأولى: أن ذلك الجند الغريب طغى على الشعب أيضًا مع حكامه، وتاريخ المماليك والانكشارية شاهد على ذلك، وأصل الدولة التركية من ذلك الجند الغريب. وأما الآفة الثانية: فهي أنه لما كان جيوش البلاد مؤلفة من الأجانب نسي الوطنيون حمل السلاح حتى جعلوا يظنون الدخول في العسكرية من أعظم المصائب، وفقدوا الروح العسكري، فإذا جاء العدو لم يجد وطنيًّا يريد مقاومته أو يستطيعها إذا أراد. والعاقبة الثالثة: أنه لم يقم في الشرق عائلات شريفة ولا قوية، نعم إن زيادة سطوة تلك العائلات ماديًّا تكون خطرًا على الحكومة، ولكن إذا كانت سطوتها أدبية فقط ساعدت الحكومة على التقدم والارتقاء؛ لأنها تضطر إلى المحافظة على شرفها والبعد عن كل ما يشينه، وتكون أمينة على كنوز الحب الوطني، جامعة تحت لوائها جميع تابعيها وخدمها ومجاوري قصورها، وأعظم شاهد على ذلك حالة العائلات الشرقية (كذا) في إنكلترا، فهي رأس الشعب وزهرته وثمره ومستودع حب الوطن والمعين الأعظم للحكومة، أما في الشرق فالعائلات الشرقية لا تكاد توجد، فضلاً عن العائلات البسيطة كما تقدم.

اسطقس الحق

الكاتب: مولوي عبد الرحمن

_ اسطقس الحق (تتمة ما سبق) وأما القول بأن العمات والخالات النَّسَبية لولد المرضعة هن العمات والخالات الرضاعية له بعينها - فباطل؛ إذ مع أنه يشبه هذا هذيانات المجانين، نفرض أن ولد المرضعة لم يرتضع من أمه، فحينئذ لا يتحقق له الرضاع رأسًا، لا بالمعنى اللغوي ولا بالمعنى الشرعي، وليس هذا مجرد فرض بل هو متحقق في نفس الأمر، ألم تعلم أنه كم من ولد لا يرتضع من أمه ولا من ثدي آدمية، بل ينشر لحمه وعظمه من حليب بقرة، وأيضًا الشق الأول من الترديد الثاني يهدم بنيانه كما لا يخفى فحصحص لك أن دخوله تحت خطاب قوله: {وَبَنَاتُ الأَخِ} (النساء: 23) مستحيل، أي: حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة محال، وإلا لزم المحال وكل ما هو مستلزم للمحال محال، ويتألف منه قياس اقتراني منتج للمطلوب هكذا: حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة يستلزم المحال، وكل ما يستلزم المحال محال، فحرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة محال. ولك أن تؤلف قياسًا استثنائيًّا منتجًا للمطلوب أيضًا هكذا: لو حرمت بنت الرضيع على ولد المرضعة لدخل تحت خطاب قوله تعالى: (وبنات الأخ) لكن دخوله تحت خطاب قوله تعالى: (وبنات الأخ) محال، فحرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة محال. وأيضًا تقرر الدليل بوجه حسن جامع مختصر هو أن حرمة المحرمات من الرضاع ثابتة بقوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فالمحكوم عليه بحرمة هذه المحرمات إما أن يكون ممن صدر منه فعل الرضاع أولاً، والثاني: صريح الاستحالة من وجوه. أما أولاً: فلأن قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يحكم بأعلى صوت أن الحرمة الرضاعية متحققة من الرضاع ألبتة، فلزوم الحرمة من دونه مخالف لحكم الحديث. وأما ثانيًا: فلأن الرضاع هو علة تامة لحرمة المحرمات من الرضاع كما ينص به الحديث، فعدم العلة التامة ووجود المعلول محال قطعًا. وأما ثالثًا: فلأنه يلزم منه أن يثبت لكل فرد من أفراد أمة النبي صلى الله عليه وسلم، تلك المحرمات من الرضاع من دون صدور فعل الرضاع منه، وهو كما ترى. وعلى الأول: إن حرمت بنت الرضيع على ولد المرضعة فإما أن يكون هو كالرضيع ممن يصدر منه فعل الرضاع أو لا يكون، فعلى الشق الأول يلزم أن تحرم من الرضاعة مجموع العمات والخالات والأخوات وغيرهن من الرضاع كما تحرم مجموع تلك المحرمات في النسب من نسبه وإلا بطل مقتضى الحديث وهو محال. وعلى الثاني: حرمة بنت الرضيع على ولد المرضعة صريح البطلان والوجه ما تقدم. (فإن قلت) : إن ولد المرضعة وإن لم يكن ممن يصدر منه فعل الرضاع لكن له علاقة رضاعية لارتضاع الرضيع من أمه فتحرم بنت الرضيع عليه من رضاع الرضيع. (قلت) : ليت شعري ما شجعه على هذا القول؟ إذ هو باطل من وجوه: أما أولاً: فلأن علة الحرمة لكل واحدة من بنات الأخ والعمات والخالات وغيرهن سواء كن من النسب أو الرضاع واحدة، فلو حرمت بنت الرضيع على ولد المرضعة بناء على أنها بنت الأخ له من الرضاع من رضاع الرضيع للزم أن تحرم عليه العمات والخالات من الرضاع أيضًا. أما ثانيًا: فلأن ثبوت الحرمة من رضاع الرضيع بعلاقة رضاعية بما رويناه من الحديث غير مسلَّم، ومن ادعى فعليه البيان من الحديث والقرآن. أما ثالثاً: فلأن ولد المرضعة وإن كانت له علاقة رضاعية لكنه ليس ممن يصدر منه فعل الرضاع، وثبوت الحرمة لمن لا يصدر منه فعل الرضاع باطل من الوجوه التي تقدم ذكرها. أما رابعًا: فلأنه ههنا شخصان: أحدهما هو الذي صدر منه فعل الرضاع وهو الرضيع، فقد حرمت من رضاعه الأمهات وبنات الأخ والعمات والخالات وغيرهن من الرضاع بمقتضى الحديث، وثانيهما: هو الذي لم يصدر منه الرضاع لكن له علاقة رضاعية، وهو ولد المرضعة، فحينئذ إن حرمت عليه بنت الرضيع من رضاعه فإما تثبت الحرمة بقوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) أو لا، والثاني: صريح الاستحالة إذ الحرمة الرضاعية ثابتة بهذا الحديث، فهل يجترئ أحد على القول بالحرمة بدونه. وعلى الأول: لو سلم ثبوتها منه للزم أن تحرم من هذا الرضاع مجموع الأمهات والعمات والخالات وغيرهن من الرضاع بمقتضى الحديث، وإلا بطل مقتضاه، وهو صريح الاستحالة، وأما ثبوت حرمة بنت الرضيع فقط على ولد المرضعة فمحال قطعًا. واعلم أن حكم الرضاع والجزئية واحد، إذ على القول بعلِّية الجزئية وتسليمها لا بد أن يعبر عن الرضاع والنسب في قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) بالجزئية النسبية، إبقاءً للحديث الذي هو المستدل به عند الكل، فهما سيان في الحكم، وهذا هو المحقق لدى المحققين الكاملين، وإن كان القوم عنه غافلين. (وأيضًا) تقرر دليلاً آخر أحسن، وهو يقتضي تمهيد مقدمات: الأولى: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة) يحكم بأن الولادة هي علة تامة لحرمة المحرمات السبع من النسب، وينص بأن وزان الرضاع وزان النسب بعينه. والثانية: أن الظاهر من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} (النساء: 23) أن المخاطبين بقوله تعالى: (حرمت عليكم) الآية: كل فرد من أفراد أمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في المقدمة الأولى أن الولادة هي علة الحرمة في المحرمات السبع، فوجب أن تكون علة الحرمة، وهي الولادة كما يفصح من الأحاديث أن الله حرم من الرضاعة ما حرم من الولادة، فلو لم توجد العلة لم يوجد السبب، وانعدام السبب يستلزم انعدام المسبب، فالحرمة كما ترى، على أن وجود الحرمة بلا قيام علة الحرمة بالمخاطب باطل من وجوه: أما أولاً: فإن الخطاب بأنه حرمت عليكم أيها المخاطبون عماتكم من الولادة، والولادة قائمة بغيرهم مستحيل؛ إذ هو ينبئ عن السفاهة والجهالة، والله تعالى عنهما علوًّا كبيرًا. وأما ثانيًا: فلأن حرمة العمات لزيد عليه لما كانت مُعلَّة بالولادة لزم قيام العلة به، فلو لم تكن العلة قائمة به لزم وجود المعلول بلا وجود العلة، وهو مُحَال، على أن حرمة المحرمات السبع إذا كانت معللة بالولادة فمن قامت به الولادة حرمت عليه لا على غيره، كما لا يخفى. وأما ثالثًا: فلأنه يلزم منه أن تحرم أخت عمرو على زيد مثلاً من العلة المُحرِّمة القائمة بعمرو، ومآله أن يرتفع حينئذ عقد النكاح الذي هو متحقق من الله ورسوله عن سطح الأرض إذ يلزم منه أن تحرم بنت كل واحد وأخته مثلاً على الآخر بالعلة القائمة به وهو كما ترى. وأما رابعًا: فلأن المخاطبين بهذا الخطاب كل واحد واحد على حياله، وكل واحد من العباد سواء عند الله في الحق، فثبوت الحرمة من العلة القائمة بالغير تخصيص بلا مخصص، وهو محال، والتخصيص من الله أيضًا باطل إذ نسبته إلى جميع الممكنات واحدة كما لا يخفى. وأما خامسًا: فلأنه لما كان كل واحد مخاطبًا ومحرمًا عليه بعلة الولادة، وجب قيام الولادة بكل واحد حتمًا، وإلا استحال وجود المخاطب والمحرم عليه فضلاً عن ثبوت المحرمات له، وكذا الحكم في الرضاع بعينه بحكم المقدمة الأولى. والثالثة: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) يحكم بأن حرمة المحرمات الرضاعية ثابتة من الرضاع كما أن حرمة المحرمات النسبية ثابتة من النسب، وإن الرضاع علة تامة للمحرمات من الرضاع كما أن النسب علة للمحرمات من النسب. والرابعة: أن الحرمة الرضاعية مستحيلة بدون الرضاع بحكم المقدمة الثالثة. والخامسة: أن الضرورة شاهدة بأنه لا بد من قيام علة الحرمة بالمحرم عليه أو المحرم بالذات، وإلا حكم بحرمة المباحات بأسرها كما لا يخفى. فإذا تمهدت هذه المقدمات فنقول: إنه لو فرضنا أن زيدًا مثلاً ارتضع من طلحة لحرمت رضاعة المحرمات السبع من الرضاع بحكم المقدمة الثالثة. وأما ولد المرضعة فلا يخلو إما أن يكون حصُل له الرضاع أم لا، فعلى الأول لزم أن تحرم من رضاعه أيضًا المحرمات السبع من الرضاع بلا فرق بحكم المقدمة الثالثة، وعلى الثاني ثبوت الحرمة له مستحيل جدًّا بحكم المقدمة الرابعة، وأيضًا القول بأن بنت الرضيع محرمة على ولد المرضعة من رضاع الرضيع محال قطعًا بحكم المقدمة الثانية وأيضًا من الخامسة، فقد استبان لك أن بنت الرضيع غير محرمة على ولد المرضعة ألبتة، هذا حكم حديث الرسول الكريم، والحق عند الرحمن الرحيم. (المنار) أثبتنا هذه الرسالة بحروفها، ونرغب إلى أفاضل علماء الأزهر الشريف انتقادها، إجابة لطلب مؤلفها وبيانًا للحق ونحن ننشر ما يكتبون لنا في ذلك، ونرجو منهم مراعاة الاختصار.

الاعتقاد بالجمادات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاعتقاد بالجمادات ذم القرآن التقليد، ووبخ المقلدين، وفرض على المسلمين أن لا يعتقدوا ما لا يقوم عليه برهان، وخاطب الآخذين بالخرافات بقوله: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فسر العلماء البصيرة بالحجة الواضحة، والغرض من ذلك تطهير العقول من دنس الأوهام ورجس الخرافات، فأي عقيدة خرافية تطمس نور العقل، وتعمي عين البصيرة بما تحمل على قياس المثل على المثل، حتى تستحوذ الأوهام على النفوس وتكون سدًّا بينها وبين المعارف الصحيحة المرشدة إلى سعادة الدارين، ومن هنا تفهم السر في نهي الشارع عن التصوير وعن اتخاذ الصور بهيئة معظَّمة، فإن صور الأنبياء كانت مرسومة في الكعبة، وتعظم كما تعظم سائر الأصنام، وأزالها النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ورأى عليه الصلاة والسلام قرامًا (ستارًا) عليه صور عند عائشة فهتكه ثم اتخذوا منه وسائد؛ لأن الصورة في الوسادة ممتهَنة غير معظَّمة كما تكون في القرام المنصوب. وقطع الإمام عمر - عليه الرضوان - الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان بين النبي وأكابر أصحابه، حيث علم أن بعض من لم يفهم الإسلام حق الفهم يعظمها ويتبرك بها، وتلك شعبة من شعاب الوثنية، لكن المسلمين لم يسلموا من الخرافات مع كل هذا الاحتراس منها في دينهم، لا سيما أهل هذه القرون الأخيرة، فقد انتهى بهم الغلو في اعتقاد الصالحين وتصرفهم في الأكوان إلى الاعتقاد بالجمادات من الأحجار ونحوها، ففي المسجد الحسيني في القاهرة عمود من الرخام يطوف به الرجال والنساء من العامة ويتمسحون به التماسًا للبركات وتقربًا إلى السيد البدوي الذي يزعمون أنه يجلس بجانبه عند زيارة جده الحسين، ومنهم من يزعم أن روح السيد توجد دائمًا هناك، ولا ترى أحدًا من العلماء ينكر عليهم، فأجدر بخطيب ذلك المسجد أن يزجر الناس عن هذا العمل، ويأمرهم بتركه في كل خطبة جمعة ما لم يقلعوا ويرجعوا، ولعامة هذه البلاد اعتقادات بأحجار ومساجد أخرى كمسجد أبي العلاء في بولاق، ومسجد عمرو بن العاص في مصر العتيقة. وكالعمود الذي يضربونه في جامع عمرو والعمودان اللذان يختبرون العاصي بالمرور من بينهما، وربما نتكلم على ذلك في عدد آخر.

عجائب أمريكا

الكاتب: محمود سامي

_ عجائب أمريكا لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء حقًّا، إن بلاد الأمريكان جديرة بأن تسمى بلاد الغرائب والعجائب، إذ هي ميدان الصناعة والأعمال، ومهد التفنن والاختراع، قد امتاز أهلها بعدم الوقوف عند أوساط الأمور في أعمالهم وصنائعهم، بل يميلون في كل أشغالهم إلى التناهي إما في الضخامة والعظم، وإما في الدقة والصغر، حتى إن الإنسان ليجد عندهم ما بلغ حد الضخامة المتناهية، وحد الصغر المدهش الغريب. فالقادم على هذه الديار الآهلة العامرة بالسكان المجدين في العلوم والصنائع يجد القناطر الهائلة المريعة، والعمارات المرتفعة المنيعة , مع الضخامة والاتساع الفائق، مما يدل على مهارة القوم ودرجة تقدمهم، ومقدار ثروتهم ونعيمهم، فقد بلغ عدد طبقات بعض دورهم زيادة عن العشرين عدًّا، وذلك مثل عمارة (سان بول بلدنج) الشهيرة في نيويورك بحسن نظامها وإتقان بنيانها واتساع أرجائها. ومع هذا فإن الأمريكانيين الذين هم أصحاب هذه الأعمال الهائلة هم أيضًا أصحاب الأعمال الدقيقة العجيبة، ومخترعي الآلات الصغيرة الغريبة التي تنبئ عن اقتدارهم وقوتهم الفائقة. فقد عمل المسيو (ج. هـ. شريفر) الصائغ بمدينة (دنفر) من أعمال كلورادو الأمريكية آلة بخارية (وابورًا) يجر قطارًا مركبًا من 8 عربات تقل ثمانية عشر مسافرًا ذات ثقل خفيف، بحيث يتيسر لكل إنسان رفعها بيده. وقد جعل قطر أسطوانة الوابور المحركة له ثلاثة سنتمترات ونصف، وقطر عجلاته عشرين سنتمترًا، وطوله مترين وعشرين سنتمترًا، وجعل عرض عرباته الثمانية 36 سنتمترًا، وطول كل واحدة من ستة منها مترًا واحدًا، ولا تُقِل غير رجلين فقط وأما العربتان الباقيتان، فطول كل واحدة منهما متر وعشرون سنتمترًا، ولا تسع غير ثلاثة ركاب. وطول القضبان الحديدية التي يسير عليها القطار لا تزيد عن 135 مترًا، والمسافة الفاصلة بينهما عشرون سنتمترًا. ولم يحتج المعلم شريفر صاحب هذا القطار لمساعد في تسييره، بل باشر كل ما يلزم له بنفسه، فكان يؤدي وظيفة ناظر وسائق ومساح، وبالجملة كل ما يستلزمه حسن سير وانتظام القطارات العادية. وقد عاد عليه هذا الاختراع بالفوائد الجمة والأرباح الطائلة، إذ قلما يجد الإنسان قطاره خاليًا من المسافرين، وإن شئت فقل من المتفرجين. وأغرب من ذلك ما أتاه المعلمان (يانج وماك شي) في مدينة (أطلانطق ستي) التابعة لولاية نيوجرسي الأمريكية، فإنهما صنعا قطارًا يمكن الإنسان وضع وابوره في جيبه، كل عربة من عرباته تُقِل ولدين يدفع كل واحد منهما خمسة صلديات (مليم تقريبًا) أجرة المسافة بين كل محطتين، ويقال: إن هذا القطار أصغر قطار وجد إلى يومنا هذا. وكذلك عمل الخواجات (و. س. بانيول) قطارًا لطيفًا أعدوه للتنزه في أملاكهم الواسعة، وجعلوه على منوال القطار السريع السير (اكسبرس) الذي يخترق طريق جريت نورثرن الأمريكية الشهيرة إيابًا وذهابًا بين المحيط الأطلانطيقي والأقيانوس الأعظم، وقُطر أسطواناته المُحركة له نحو عشرة سنتمترات، وأما عجلاته فمحيطها أربعة وسبعون سنتمترًا، وزنة الوابور بلغت 2500 كيلو جرام، ويسير خمسة وعشرين ميلاً في الساعة الواحدة. ومما يوقف نظر الغريب عن هذه البلاد ويوجب التأمل والاستغراب ما يشاهده من الضخامة البالغة حد التناهي المفرط مثل الأدوار التي ذكرناها في ابتداء كلامنا، ومثل النظارة الفلكية (تلسكوب) العجيبة التي صنعها المسيو (سارلس بركيس) في مدينة سنتياغو؛ إذ جعل مقاس زجاجتها 1945 مترًا. ومما لا يُصدَّق لغرابته لولا إجماع الجرائد على ذكره وإخبار بعض المشاهدين له ما عمله المسيو يردنج، إذ تيسر له بعد 6 سنوات أن يوجد مركبًا بخاريًّا لا يزيد طوله عن خمسة وسبعين سنتمترًا. فتأمل ما وصل إليه القوم من البراعة الفائقة والتقدم العظيم، ولتعلم أن لا شيء يصعب على المُجِد المجتهد مع الإرادة الصادقة والعزيمة الثابتة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود سامي ... ... ... ... ... ... ... ... بمدرسة الحقوق الخديوية

الشعر عند الإنكليز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشعر عند الإنكليز نقص على قراء الأنيس حكاية جديرة بالذكر، تدل على محبة الأوروبيين للعلم وحفاوتهم بالشعر خاصة، ذلك أن غلامًا فقيرًا جدًّا في لندن كان يشتغل بأحد معامل الغِراء، وهو لا يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، فاتفق مرة لبعض رؤسائه أنهم وجدوه متعلقًا على نظم الشعر فراقبوه وقرءوا شعره فوجدوا فيه من الآراء الحسنة والمعاني الغريبة ما يدل على أن الفتى شاعر مطبوع، وأنه يبشر بمستقبل حسن، فأشاعوا أمره بين الناس، ونشرت جريدة لندن شيئًا من شعره في ذلك العهد، فأعجب به رجال الشعر هناك فجاءته المساعدة من كل ناحية حتى نقلوه من تلك الصناعة الحقيرة ووضعوه في مدرسة يتعلم بها علم النحو وسواه ليكون شِعره سليمًا من الخطأ، فأخذ الفتى يتعلم ويتهذب مدة السنتين وهو يزداد شاعرية وذكاء حتى تضايق أبوه الفقير من مكث ابنه كل هذه المدة دون أن ينتفع منه بشيء، فجاء إلى المدرسة وألح جدًّا بإخراج ابنه منها وإرجاعه إلى معمل يكتسب منه، فعارضه الرئيس في ذلك أشد المعارضة، ونَشَرَ حكاية هذا الغلام على الجرائد، وقال: إنه إذا خرج من المدرسة واحترف الحرف اليدوية فإن دولة إنكلترا، بل كل العالم الإنكليزي يخسرون أعظم شاعر للمستقبل يعظم به شرف المملكة، ويزداد فخرها، ثم قال: إن مائة جنيه فقط تُعطى لوالد هذا الغلام تكون كافية لافتداء الشعر والحرص على مجد إنكلترا. فما شاع قوله هذا حتى جاءته تلك المائة جنيه من أحد الفضلاء العارفين بقيم العقول، فلبث الغلام في المدرسة يزرع فيها حبوب الشعر لتصبح بعد ذلك حديقة غناء يجني منها المال والشرف، ويجني قومه اللهو والإعجاب والطرب. وقد نشرت الجرائد شيئًا من شعره الذي نظمه الآن وهو في السابعة عشرة وقالت: إنه لا يزال فيه شيء من الخطأ النحوي، ولكن معانيه باهرة تدل على أنه متى اتسع عقله باتساع عمره فقد يرد إلى إنكلترا شكسبير وبرنس وبيرون وتنسون وأمثالهم من الشعراء المخلدين، ويكون كل ذلك من كلمة واحدة قالها رئيسه في ذلك المعمل الحقير فدوت في إنكلترا حتى كان منها ظهور هذا الغلام. ومما نذكر في هذا الباب دلالة على فضل العرب في أيام دولتهم، وعرفانهم مراتب العقول وأقدار الشعراء - كما يعرفها الأوروبيون الآن - أن ابن الزقاق البلنسي كان فقيرًا جدًّا، وكان أبوه حدادًا لا يكتسب قوت يومه، ولكن الولد كان مولعًا بنظم الشعر حتى كان سهر من أجله الليل، فكان أبوه يعاتبه ويردعه عن النظم ويقول له: نحن قوم فقراء لا نملك ما نشتري به الخبز فكيف نضيف علينا ثمن الزيت للمصباح، فلم يكن الولد يعبأ لهذا القول على شعوره بذلك الفقر، بل ظل ينظم الشعر ويصقل قريحته به حتى جاء بلدته أبو بكر بن عبد العزيز فمدحه بقصيدة يقول فيها: يا شمس خدر ما لها مغرب ... أرامة دارك أم غرّب ذهبت فاستعبرت طرفي دما ... مفضض الدمع به مذهب ناشدتك الله نسيم الصبا ... أين استقلت بعدنا زينب لم نسر إلا بشذا عرفها ... أولاً فماذا النَّفَس الطيب فأعجب بها الحاكم إعجابًا شديدًا، وأجازه عليها بثلاث مائة دينار، فأخذها الفتى وجاء بها إلى أبيه وهو يشتغل بالحدادة ورماها بين يديه وقال له: خذ هذه فاشترِ بها زيتًا فإنها جاءت من الشعر الذي أنفقنا عليه الزيت. فانظر كيف كان العرب في عهدهم الأول من العلم والفضل، وكيف كان الإفرنج في ذلك الحين من الغباوة والجهل، ثم انظر كيف صرنا الآن وكيف صاروا وقل: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أنيس الجليس

الجنسية العثمانية المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجنسية العثمانية المصرية وضعت نظارة الحقانية لائحة في الجنسية المصرية ملخصها أن المصري: (1) مَن استوطن مصر من عهد محمد علي باشا الكبير غير محمي من الأجانب. و (2) من وُلد في مصر وظل مستوطناً لها. و (3) كل عثماني أقام في مصر 15 سنة فما فوقها، وأبلغَ ذلك المحافظة أو المديرية التي استوطنها. و (4) كل مَن وُلد في مصر من أبوين مجهولين من غير الأجانب. وإنه يُشترط في الحصول على الجنسية المصرية أن يكون مريدها قد قام بواجبات القُرعة التي يفرضها القانون العسكري، وأن المتجنسين بالمصرية من العثمانيين الذين أقاموا 15 سنة بشرطها، وكانوا قضوا الخدمة العسكرية في بلادهم، أو كان عمرهم وقت إبلاغهم المحافظة أو المديرية خبر استيطانهم أكثر من 19 سنة - لا يطلب منهم الدخول في الخدمة العسكرية في مصر، بل يكلفون دفع البدل العسكري وقدره 20 جنيهاً. هذا ملخص اللائحة، وقد انتقدت الجرائد السورية هنا تكليف العثماني الذي أدى الخدمة العسكرية في بلاده الأصلية دفع البدل العسكري، وهو انتقاد وجيه، فعسى أن يصادف التفاتًا.

المدرستان الروسيتان بطرابلس الشام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المدرستان الروسيتان بطرابلس الشام كُتب إلينا من طرابلس الشام أن المدرسة الروسية التي افتتحت حديثًا فيها لتعلم الذكور قد بلغ عدد تلامذتها نحو الثلاثمائة، والتي افتتحت في مينائها لتعليم الإناث قد بلغ عدد تلميذاتها نحو الخمسمائة. وأن المدرستين تعطيان الكتب والورق للتلامذة مجانًا، ويعلم فيهما البائس الفقير. فيا أيها القوم الذين يزعمون أن التعليم لا دخل له في اتحاد الأمم وتقدمها، ولا أثر له في قوة الشعوب وتمدنها، أخبروني لماذا تبذل الدول الأوروبية العناية في تأليف الجمعيات لإنشاء المدارس في البلاد الأجنبية التي تطمع بامتلاكها، أو بتوسيع دائرة نفوذها فيها، سواء كان في السياسة أم في التجارة، إذا كان التعليم يقوي نفوذ الدولة المعلمة من غير أمتها، بل في بلاد أعدائها، فكيف يكون أثره في بلادها وأمتها؟ لا جرم أن قوام الأمم ورقيها في مراقي التمدن وتقدمها على غيرها من العزة والمنعة ونفوذ الشوكة وعموم السيادة وسائر ضروب السعادة، كل ذلك منوط بالتربية والتعليم الصحيحين، وإنما يقوم بذلك عقلاء الأمة وأغنياؤها لا حكامها وأمراؤها، فليعتبر الذين سجلوا على أنفسهم الحرمان، بل وطنوها على الموت الزؤام، لاعتقادهم أن نهوضهم لا يأتي إلا من قِبل حكامهم الميئوس منهم.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار وآراء (فتن مكدونية) تفيد الجرائد الأوروبية أن الدولة العلية في قلق من القلاقل في مكدونية، وأنها تحشد الجيوش وترسل الذخائر إلى حدود البلغار، فنسأل الله أن يجعل النهاية خيرًا. *** (إعانة مسلمي سنغافورة للدولة) أرسل مسلمو سنغافورة 249 ليرة عثمانية إلى الآستانة إعانة لأولاد الشهداء. *** (مرصع الزاج) أهدانا عالم الشعراء وشاعر العلماء في حاضرة تونس سيدى محمد النيفر نجل العلامة الكامل الشيخ القاضي المالكي - أرجوزة حِكمية مِن نظمه سماها: (مرصع الزاج، من سلسلة واسطة التاج، فيما إليه من عيون الحِكم والوصايا يُحتاج) جعلها ثمانية أبوب: (1) فيما يستعان به على فضيلة العلم والعقل. و (2) على الزهد والعبادة. و (3) على أدب اللسان. و (4) على أدب النفس. و (5) من مكارم الأخلاق. و (6) على حسن السيرة. و (7) على حسن السياسة. و (8) على حسن البلاغ. وقد رخص لكل من أراد إعادة طبعه أو ترجمته لأية لغة تعميماً للنفع، ولولا ضيق المقام لأوردنا في العدد شيئاً من تلك الحِكم، فجزى الله الناظم فوق ما تستحقه عنايته وإخلاصه ونفع بحِكمه وآدابه.

طائفة من الأخبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طائفة من الأخبار اليمن أرسلت الدولة العلية إلى اليمن ذخائر تساوي قيمتها مليوني فرنك، وتفيد الأخبار الأخيرة أن الدولة العلية ظفرت بالثائرين. *** الخط الحديدي بين الإسكندرية ورأس الرجا يقول المسترسل رودس: إن المسافة بين مدينة رأس الرجاء والإسكندرية ستة آلاف ميل، منها 3229 ميل لم تمد فيها الخطوط الحديدية، ويحتاج إلى نحو 250 مليون فرنك إلى مد الخطوط فيها؛ لأن نفقة الميل الواحد نحو 75 ألف فرنك، وهو يسعى لدى حكومته باتخاذ الوسائل لمد هذه الخطوط ووصل الإسكندرية برأس الرجاء، ليتم لها الرجاء السابق بامتلاك شرقي إفريقيا من الرأس إلى الذنَب، وستكون المسافة بين مصر والكاب عشرة أيام في الأكثر. *** ميزانية روسية الحربية والبحرية كانت ميزانية روسية في العام الماضي 298 مليون روبل للجيش و67 مليونا للبحرية، وقد جعلتها في هذا العام 324 مليونا للجيش، و83 مليونا للبحرية، فما معنى اقتراح القيصر نزع السلاح أو تخفيفه مع زيادة 15 مليون روبل في ميزانية الحربية، وقد كانت جرائد ألمانيا وإنكلترا تقول منذ شهرين: إن القيصر وافق على بذل 280 ألف روبل في تنظيم بطَّريات الميدان، فكيف يطابق عمله اقتراحه.

الصنائع والتربية والتعليم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصنائع والتربية والتعليم [*] الصنائع ركن من أركان المعيشة الإنسانية لا يستغني عنها البشر في طور من أطوار حياتهم وهي تترقى بترقي النوع في مدارج الحياة، فتبتدي في طور البداوة بما يناسبه من البساطة والسذاجة والبعد عن الزخرف والزينة، ولا حد لنهايتها، وإنما يسوق الناس إلى الترقي فيها الحاجة، فكلما ازدادوا عمرانًا وعلمًا تجددت لهم حاجات تناسب الطور الذي ارتقوا إليه، والحاجة أم الاختراع، فهي التي تهديهم إلى الاستنباط والعلم. مطالبة الأمة في طور من أطوار الحياة بالصنائع التي تناسب طورًا أعلى منه، إعجاز وإعنات، لا سيما في هذه الأزمنة التي بنيت فيها الصنائع على أسس العلوم الطبيعية والرياضية والاقتصادية، فإذا كلفنا تجار بغداد - الذين طلب منا مكاتب جريدة وكيل الهندية الغراء أن نحثهم على إنشاء المعامل - أن ينشئوا معملاً للقطن أو للصوف، ونحن نعلم أنهم يحتاجون في ذلك إلى اجتلاب جميع آلات المعمل وأدواته من أوروبا بأثمان أغلى مما هي عليه في بلادها، وإلى نفقات النقل مع صعوبة المواصلات، وإلى دفع المكوس والضرائب للحكومة، وإلى عمال من الأجانب يشتغلون في المعمل لجهل الوطنيين بذلك، فهل نقدر على إقناعهم بأن مصنوعهم هذا يمكن أن يباع بالسعر الذي يباع به مثله من المصنوع الأوروبي مع الربح الذي يساوي أو يُربي على ما يربحونه من تصريف أموالهم في تجارتهم الحاضرة؟ لا بد لمن يحث هؤلاء على عمل كهذا أن يعرف جميع ما أشرنا إليه مفصلاً تفصيلاً. التجار والعمال أعلم بموضوع عملهم من أرباب الجرائد، وإن كانوا لا يستغنون عن إرشادها، وما توصله إليهم من أنباء أبناء صنفهم وأعمال البعداء عنهم مما يتعلق بالموضوع نفسه، وغير ذلك مما يحتاجون لمعرفته فيما هم فيه، كما تحتاج السياسة إلى الجرائد السياسية. ربما تنبه الجرائد أهل السياسة أو التجارة والصناعة إلى ما لم يحيطوا به علمًا؛ لأنها وصلة الهيئة الاجتماعية وملتقى أفكار الأصناف، ولكن لا يقول أحد: إن قوام السياسة أو غيرها بالجرائد، وأن كتابها أعلم من السياسة والتجار والصناع في مواضيع أعمالهم. من مست حاجته إلى شيء وتهيأت له أسبابه تكفيه الإشارة الإجمالية إلى الأخذ به، ويزيده التفصيل بصيرة، ومن يؤمر بما تنافيه حالته في نفسه وفي قومه ووطنه، فجدير بأن لا يمتثل الأمر ولا يعي الخطاب. إذا شئت أن تُعصَى وإن كنت ناصحًا ... فمُرْ بالذي لا يستطاع من الأمر مما شرحنا تفهم السر في اكتفاء الديانة الإسلامية - التي جاءت لسوق الناس إلى سعادة الدارين - بالإرشاد الإجمالي في المصالح الدنيوية، كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) ونحوها، وقوله عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وقوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) والشكر إنما يكون باستعمالها فيما خُلقت لأجله، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِياًّ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 14) الابتغاء من فضله مفسَّر بالتجارة. اكتفى القرآن بمثل هذا الإجمال والتنبيه على أن للكون سننًا لا تتغير ينبغي الاهتداء بها، وأفاض في تقبيح العقائد الباطلة والحث على الأخذ بالبرهان في الاعتقاد، كما أفاض في الحض على تهذيب الأخلاق ومحاسن الأعمال؛ لأن هذا هو الذي يجمع كلمة الأمة ويرقيها في معارج الكمال الاجتماعي، وعند ذلك تهتدى إلي ما في ذلك الإجمال من الإرشاد إلى السعادة، فتندفع له عن بصيرة وعقل، فتبلغ الغاية منه بإذن الله تعالى. والخلاصة أن لكل مقام مقالاً، ولكل طور من أطوار الحياة أعمالاً، ونحن معشر المسلمين اليوم منحطون في كل شيء ومحتاجون أشد الاحتياج إلى مجاراة مجاورينا في كل ما هم فيه من التقدم الاجتماعي والمدني والعسكري، ويتوقف ذلك على علوم وفنون وأعمال وصناعات نحن في بعد عنها كلها بقدر ما نحن في حاجة إليها، وما يبعدنا عنها أمور كثيرة ترجع إلى شيئين، وهما: الدين، والحكومات. أما الدين فمن وجهين: (أولهما) : الإعراض عنه تخلقًا وعملاً؛ لعدم تعلمه والتربية عليه على الوجه الذي ينبغي، ولذلك تفرقت الكلمة وارتفعت الثقة وصار الإخوة أعداء، ولا يمكن مع هذا القيام بالصنائع والأعمال النافعة التي تتوقف على الاجتماع والتعاون وروحهما الثقة، وهي لا تحصل بالتكلف ولا بالإجبار، بل يكون الإنسان أهلاً لأن يوثق به لصدقه وأمانته ونشاطه، وكل هذا يكون بالتربية والتعليم الصحيحين. (وثانيهما) : فهمه على غير وجهه؛ فإن أكثر المسلمين يعتقدون أن العلوم الطبيعية والرياضية كفر، وكل من تعلمها تفسد عقيدته، ويحتجون على ذلك بأن متعلميها لا يبالون بالدين، والسبب الصحيح في عدم المبالاة هو عدم تعلم الدين وعدم التربية عليه، وربما كان قول بعض شيوخ الدين لمن تكلم في مسألة من هذه الفنون يعتقدها بالبرهان: أنها من الكفر ومخالفة للدين - سببًا في اعتقاده بطلان الدين؛ لأن كل ما خالف الحقيقة الثابتة بالبرهان باطل، ويقع مثل هذا كثيرًا. وأكثر المسلمين يعتقدون أيضًا أن السعة في الدنيا خاصة بالكافرين، ومن الجمل المسلَّمة الدائرة على ألسنتهم: (لهم الدنيا ولنا الآخرة) وقد جاءهم هذا الوهم من الوعاظ وخطباء الفتنة، وقد أوردنا لك آنفًا قوله تعالى: {هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وهو صريح في أن الزينة والطيبات هي موهوبة من الله تعالى للمؤمنين باستحقاق؛ لأنهم الذين يشكرون عليها ويأخذونها بحقها، وإن كان غيرهم يشاركهم فيها كما أفاده قوله: ] خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ [ولهم غير ذلك من الاعتقادات المأخوذة من الدين على غير وجهها، وهي من عقبات التقدم والإصلاح، وقد ألممنا بها في المقالات السابقة إجمالاً وتفصيلاً. وأما الحكومات فهي متمكنة بما لها من الاستبداد المطلق والسلطة النافذة من تمهيد العقبات والنهوض بالأمة في أقرب الأوقات كما فعل ميكادو اليابان، ولكنها تُعسِّر ولا تُيسِّر، وتمنح الأجنبي وتحرم الوطني، وتفصيل ذلك يطول، والشواهد عليه كثيرة جدًّا، نكتفي هنا بواحدة منها، وهو ما كُتب إلينا حديثًا من سوريا، قال المكاتب ما مثاله: احتكر المسيو موسى فريج من بيروت من عدة سنين بضاعة إفرنجية، وهي نوع من نسيج الديباج أو الإستبرق يتخذ سجوفًا للمناظر (ستائر للنوافذ والشبابيك) وظهارات للأرائك والمقاعد، يبيع الذراع منه بثمانين قرشًا إلى 150 قرشًا، فاطَّلع على ذلك أحد المهرة في صناعة الحياكة والنسيج من أهل دمشق الشام، فأنشأ يقلد هذا النسيج حتى جاء بخير منه متانة وحسنًا وأرخص منه ثمنًا، فهبطت أسعار النسيج الإفرنجي، ونقص ربح فريج الفاحش، فطفق يتجسس الأخبار ويبحث عن السبب حتى اهتدى إلى ما كان من النساج الدمشقي، فابتغى إلى رشيد بك والي بيروت الوسيلة في منعه، فقابل الوالي ذلك بما تقتضيه عثمانيته من الاهتمام، واستحضر ذلك الوطني المسكين، وحتم عليه ترك العمل وهدده بالعقوبة إذا هو عاد إليه، ولم يكتفِ بذلك، بل كسر له المنوال الذي يحوك عليه، لكن حلاوة الربح حملت العامل على اتخاذ منوال آخر يحوك عليه سرًّا، قال الكاتب: وهذا النسيج الوطني يباع الآن في بيروت سراً كما يباع البارود والديناميت، إنا لله وإنا إليه راجعون. هذا هو الوالي الذي تقدسه جرائد سوريا، ويشفع له بعض المقربين كلما أراد مولانا السلطان عزله، أي خزي تخزى به أمة أشد من نزول البلاء عليها من حيث تُرتجى النعماء لها، وفيضان طوفان الشقاوة عليها من سماء السعادة؟ أمة هذا شأنها بماذا يكون إرشادها؟ ما هو الأهم الذي يقدَّم على المهم؟ بماذا ينبغي الإسهاب والتفصيل، وما الذي يكفي فيه الإجمال والاختصار؟ يذهب قوم إلى أن الأهم المقدَّم هو التحامل على الأمراء والحكام وإظهار معايبهم، وآخرون إلى الترغيب في الأعمال والصنائع وما تتوقف عليه من العلوم والفنون، وهذا ما تلهج به الجرائد العملية والسياسية. أما رأينا فهو: أن أهم ما يجب تقديم العناية به وتفصيل القول فيه هو الحث على التربية والتعليم الصحيحين، إذ بهما تتآلف القلوب وتجتمع الكلمة وتُعرف الحقوق والواجبات الملية والقومية والوطنية معرفة كاملة تبعث الإرادة على العمل، ومتى تكونت الأمة وتربت وتعلمت فهي تصلح حكامها، وتندفع بطبيعتها إلى الأعمال النافعة والصنائع المفيدة؛ ولهذا أنشأنا المنار وعليه جرينا، نعم إننا ما قلنا ولن نقول: إنه لا ينبغي أن يكون مع التربية والتعليم شيء آخر، بل حثثنا ولا نزال نحث على تأليف الشركات المالية للقيام بالأعمال النافعة، زراعية وتجارية وصناعية، بحسب ما تقتضيه حالة الزمان والمكان، ونبين أن ذلك لا ينافي الدين، بل يحفظه ويعزه، ونكل التفصيل في ذلك لأهله، جريًا على سنة الدين، فقد كان الشارع عليه السلام يرغب في الأعمال بمثل قوله: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فَسيلة فليغرسها) وهو أبلغ ما يقال في التنشيط على العمل الدنيوي، وقال في حادثة تأبير النخل: أنتم أعلم بأمور دنياكم. هذا هو رأينا، ومن أُشربه في قلبه لا يعذلنا فيه، وبالله التوفيق.

صلاة الجمعة في جامع عمرو

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صلاة الجمعة في جامع عمرو هذا الجامع أقدم جوامع مصر وأعظمها، ولا يُصَلَّى فيه إلا آخر جمعة في رمضان من كل سنة، وللناس فيه اعتقادات وهمية غريبة، منها: أنه سيكون هناك في آخر الزمان ملحمة عظيمة، ويتأولون بذلك ما تطلقه الحربية من المدافع إجلالاً لأمير البلاد، وعناية الحكومة بتجريد من يدخل الجامع من السلاح، بل ومن العصي (على ما يقولون) وكأن السبب في هذا هو الاحتراس من قوع مشاجرة تُفضي إلى فتنة كبيرة يشتعل ضرامها بريح الاعتقاد الوهمي، وكنت عازمًا على الصلاة في هذا الجامع لأنظر بعيني ما يكون من أمر الناس في الأعمدة التي أشرنا إليها فيما كتبناه تحت عنوان (الاعتقاد بالجمادات) في العدد الماضي، فلم يتح لي ذلك ولكن حدثني منتقد فاضل بما أذكره ملخصًا، قال: كان الطريق مفروشًا بالرمل النظيف، وطائفة من الجند تذود عنه المسلمين دون الإفرنج، مع أن الأولين هم المقصودون بالذات الذين تقام بهم الصلاة، ولولا ذهابهم لما ذهب الإفرنج، فكيف جاز لهم إهانة المصلين واضطرارهم إلى المشي في الطريق الذي تسوخ الأرجل فيه، فتثير غبارًا يملأ أفواههم وخياشيمهم وهم صائمون، وتتسخ منه أبدانهم وثيابهم، ويستحب أن يصلوا وهم منظفون، وقد جرى هؤلاء الجنود على قاعدة الاستصحاب في تعظيم الإفرنج والمتفرنجين، وتحقير الوطنيين، لا سيما إن كانوا صالحين، ولا شك أن سمو العباس أعزه الله تعالى لا يرضى بهذه المعاملة الجائرة، فقد سمعه منشئ هذه الجريدة يقول: إنه يحب التنقل في المساجد لصلاة الجمعة، ويرى من فائدتها إصلاح الطرق، لا سيما في المساجد البعيدة كجامع أبي العلا في بولاق - وكان الحديث بعد صلاته فيه - فعسى أن يلتفت لهذا الأمر من يناط بهم مثله بعد الآن. قال محدثي: أما المسجد، فقد كان مملوءًا بالمنكرات والمنتقَدات، فمِن ذلك أن صدره كان مفروشًا بالزرابي والطنافس والبُسُط الجميلة، وقسم منه كان مفروشًا بالحصير، وباقيه غير مفروش، فصَلَّت الألوف من الناس على الأرض الوسخة الرطبة. ومنها: أن أبناء الطريق (العاقِّين) قد اجتمعوا بعد الصلاة يرقصون ويعزفون بدفوفهم ومزاميرهم. ومنها: أن الإفرنج وغيرهم دخلوا المسجد رجالاً ونساءً بأحذيتهم، وازدحم الذكران والإناث على حِلق المنتسبين للطريق، ولا تسل عما في هذا الازدحام من المنكرات، وأقلها الضوضاء والجلبة. ومنها: التبرك بالعمود الذي كانوا يضربونه من قبل، وقد سألهم محدثي عن سبب ما كان من إهانته وضربه أولاً وما استبدل بذلك من تعظميه والتبرك به، بل بحظيرة الحديد التي أقامتها الحكومة الخديوية حوله؟ فقالوا له: أنه كان عصى عمرو بن العاص عندما أراد الإتيان به للمسجد، فكانوا يضربونه لذلك، ثم إن الخديوى رآه في نومه وقد هَمَّ أن يفتك به فسأله عن السبب فقال: لأنك لا تمنع هؤلاء الناس من ضربي وايذائي، فهذا ما حمل سموه على الأمر ببناء الحظيرة عليه، وتبين أن فيه سرًّا يتمكن به من التصرف في الناس. ومنها: العمودان اللذان يختبر الطائع والعاصي بالمرور من بينهما، وقد شاهد ذلك محدثي بعينيه. أما الخطبة: فأخبرني أنها كانت بعض سجعات في وداع رمضان. وأجدر بمن يخطب في مسجد تؤتى فيه المنكرات، وتشاهد فيه البدع والخرافات ويحضره الألوف وعشرات الألوف - أن يخطب الناس في الموضوع الذي يناسب المقام، وتمس إليه الحاجة، نعم إن من أسباب الخروج بالخطب عما شُرعت لأجله مرضاة الأمراء والسلاطين، ولكن أميرنا العباس ليس من أولئك الأمراء الذين يجعلون الحق تابعًا لأهوائهم، بل هو من أمراء الإصلاح [*] الذين يحبون أن يَصدُق عليهم الحديث الشريف: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) ومن آية ما أقول صلاته الجمعة في جامع أبي العلاء، فإنه أيده الله تعالى قصد بذلك نسخ آيه خرافية، وإبطال عقيدة وهمية، ذلك أن عامة المصريين يعتقدون من زمن بعيد أن بلاءً كبيرًا يحدث إذا صلى أمير مصر في مسجد أبي العلاء، وكنت أحب أن تكون الخطبة يومئذ في موضوع هذا الاعتقاد وتوَخي العزيز حماه الله تعالى إبطاله، وبيان أن في صلاته تلك تربية عملية للأمة. وأي عمل إصلاحي يمكن أن يعمله سمو العباس في هذا المقام أشرف من هذا؟ أمر النبي عليه الصلاة والسلام الناس بالحَلق يوم الحديبية، فتوقفوا عن الامتثال، فلما حَلَقَ بادروا للاقتداء به؛ لأن التربية بالعمل أنفع من بالتربية بالقول، فلو أن الخطيب قال: أيها الناس إن الله تعالى خالق كل شيء قد جعل بحكمته لكل شيء سببًا، وقد هدانا لهذه الأسباب بمشاعرنا وعقولنا وبما أرشد إليه في كتابه وعلى لسان نبيه لنعمل لمعاشنا ومعادنا على بصيرة، وقد ضل كثير من الناس فجعلوا ما ليس بسبب سببًا للنفع أو للضر، فكان ذلك عقبة في طريق سعادتهم في دينهم أو دنياهم بحسب الاختلاف في موضوع الضلال. وإن مما شاع بينكم من الأسباب الباطلة مما لم ينزل الله تعالى فيه وحيًا ولم يرشد إليه بعقل ولا حس: اعتقاد بعضكم أن صلاة عزيز مصر في هذا المسجد يتولد منها مضرة، وأن في زيارة بعض أعمدة الرخام في المسجد الحسيني والتمسح بها منفعة. وإن من عناية مولانا العباس في إرشاد أمته أن جاء وصلى في هذا المسجد ليزيل هذا الاعتقاد الوهمي الفاسد، وينبهكم على أن تقيسوا على ذلك سائر المواقع والمساجد، فالنفع والضر والبلاء والنعماء كل ذلك بيد الله تعالى، ويُطلَب من أسبابه العادية التي يعرف الضروري منها، وما عدا ذلك ينكشف بعلوم مخصوصة قد سعد المشتغلون بها في دنياهم من حيث شقينا، واستغنوا من حيث افتقرنا، وقووا من حيث ضعفنا، وإن شقاءنا وفقرنا وضعفنا في الدنيا من ضعف الدين؛ لأن حماية الحق والتمكن من القيام به لا يُمكِنان إلا بالقوة والثروة، فلا تعولوا في نيل مصالحكم وتحصيل سعادتكم إلا على الأسباب الصحيحة التي خلقها الله تعالى، وجعلها سننًا ثابتة لا تتغير ولا تتحول، واعلموا أنه ليس وراء سنن الكون قوة إلا القوة الإلهية التي يستند إليها كل شيء، واتفق على هذا برهانا العقل والوحي، قال الله عزو جل فيما أوحاه إلى نبيه الأكمل: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) بمثل هذا كان ينبغي أن يُخطَب في مسجد أبي العلاء أو في مسجد عمرو عند ما صلى الأمير فيهما لا بمدح الشهور ووداعها. وفق الله خطباءنا لما فيه الخير للأمة بمنّه وكرمه.

دمشق الشام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دمشق الشام علمنا من أنباء سوريا أن حضرة دولتلو ناظم باشا والي الولاية المشار إليها أصدر أمره باجتماع بعض الأعيان وأرباب الغيرة الوطنية في نادي دولته، وذَاكَرَهم بما فيه ترقي الوطن ونجاح أهله، وكان أهم بحث طال الأخذ والرد به: لزوم الزراعة التي عليها مدار الثروة والنجاح، وفي ختام هذه الجلسة قرأ حضرة عزتلو عبد القادر بك مُحرر المؤيد العظمى مقالة مهمة في هذا الباب وهي: بنا على استدعاء دولتكم بعض الذوات لحضوركم العالي لطفًا وتنزلاً، وفي جملتهم هذا العاجز، للتداول في ترقي الزراعة التي هي ينبوع ثروة الولاية، ومصدر سعادة الأهالي ورفاهيتهم، بظل سيدنا الخليفة الأعظم عناية مخصوصة من قِبل دولتكم بهذا الأمر المهم، بادرت لتحرير هذه اللائحة في بيان الوسائل التي تأول لترقي الزراعة في ولايتنا وتحسين أحوال الفلاحين، وقدمتها وأنا لا أشك في أن الحكمة والصواب في رأي دولتكم، فأقول: إن الوسائل والتدابير اللازمة لترقي الزراعة هي كثيرة جدًّا تحتاج لزيادة شرح وإسهاب لا يحتملها المقام، فأذكر منها ما يأتي بوجه الإيجاز والاختصار: (1) تأليف مجالس زراعية في مركز الولاية التابعة لها للنظر في الأمور الزراعية والاهتمام على الدوام باتخاذ التدابير والوسائل المقتضية، وكل ما يأول لترقي الزراعة وتحسين شؤون الفلاحين، وعرض قراراتهم المتعلقة بذلك على مقام الولاية العالي؛ لأجل النظر فيها. (2) إصلاح الطرق الوعرة المسالك بين القرى والقصبات بإلزام كل فرد مكلف من الفلاحين بالشغل بها أيامًا معدودة في السنة، وفقًا لنظام الطرق والمعابر، وذلك تحت مناظرة مجلس الزراعة، بشرط أن لا يقع سوء استعمال في سَوْقهم وتشغليهم. (3) فتح مكاتب ابتدائية في القرى الكبيرة والاستئذان من المرجع الإيجابي بأن تكون نفقاتها من حصة المعارف على وجه أن تعم بعد ذلك كل القرى. (4) إرسال تلميذين في كل سنة من أولاد الفلاحين النجباء إلى المدارس الزراعية العالية في الآستانة العلية والممالك الأوروبية، لتعلم علم الزراعة النظري والعملي على الأصول الجديدة، واستخدامهم بعد عودتهم في المصالح الزراعية. (5) توحيد أسعار النقود في كل الولاية، واعتبار المجيدي أساسًا لها، وتنزيل سعره إلى عشرين قرشًا في التداول بين الأهالي، وتسعة عشر قرشًا في الصاغ، كما هو متداول في الآستانة العلية، وهكذا تتنازل أسعار النقود المتنوعة فيخلص الفلاحون من الفرق الذي بين الصاغ والرائج. (6) تسهيل أسباب الاستدانة على المضطرين للنقود من الفلاحين من المصارف (البنوك) الزراعية التي إنما فتحت رحمة بهم في ظل الحضرة العلية السلطانية، لوقايتهم من ظلم الصيارفة ورباهم الفاحش، وذلك بمنع المصاعب التي يقيمها بعض مأموري هذه المصارف، وإزالة العقبات التي يضعونها في سبيل الفلاح المسكين جرًّا للمنفعة الشخصية. (7) وقاية الفلاحين من أعمال بعض صغار الموظفين وحركاتهم المخالفة للرضاء العالي، وخصوصًا أنفار الدرك (الجاندرمة) الذين يعاملون الفلاح معاملة مخالفة للقانون. (8) التنبيه على الجباة (التحصيلدارية) بأن لا يطلبوا تقاسيط الخراج (الويركو) منهم قبل إدراك مواسمهم، حتى لا يضطروا للاستدانة من الصيارفة وتحصيلها دفعة واحدة عند إدراك الموسم، وإلزامهم بأعشار قراهم بالبدل اللائق، وفقًا للرضاء العالي، ووقايتهم من ظلم الملتزمين وغدرهم. (9) فتح معرض زراعي في مركز الولاية مدة ثلاثة أو أربعة أيام في السنة، تحت حماية دولتكم ونظارة مجلس الزراعة، تعرض فيه أدوات الزراعة القديمة والحديثة، والفواكه الغضة والمجففة، وأنواع البقول والبذور والخضر والأزهار والنباتات والماشية، وتخصص أربع أو خمس جوائز من البلدية أو من واردات المعرض لا تتجاوز الجائزة عشر ليرات عثمانية لمن ينالون قصب السبق في إتقان آلات الزراعة وأدواتها، وتربية الماشية وتنمية الأثمار والخضر وتربية الأزهار والنباتات، والحكم في ذلك راجع لمجلس الزراعة، أو لجنة يختارها من كبار المزارعين. (10) مكأفاة المجتهدين من الفلاحين مكافأة مادية لقاء تربيتهم عددًا معلومًا من الأشجار النافعة، مثلاً: أن من يغرس مائة شجرة زيتون يعفى من دفع العشر عنها 15 سنة، ومثله: من يغرس 500 شجرة توت أو مشمش و4000 جفنة كرم، وحيث إن ذلك لا يكون إلا بإرادة سنية سلطانية، فإذا سنحت به العواطف الملوكانية بعد الاستئذان من طرف الولاية الجليلة يصير إعلانه للفلاحين. (11) حث الفلاحين على زراعة الحراش الصناعية في الأماكن القابلة لذلك، كجبال الكلبية في لواء حماة وجبل الشيخ وجبل عجلون والقنيطرة والقلمون وبعلبك وغيرها. (12) تعيين مكأفاة نقدية من صندوق بلدية كل لواء تُعطى لمن يشتغل أوفر غلة من الحنطة أو الذرة من فدان من الأرض بمعرفة مجلس الزراعة وبعض أهل الخبرة. (13) إبدال المحراث القديم بالمحراث الجديد الأوروبي تدريجًا، وذلك بتشويق بعض الذوات لجلب عدة محاريث من أحدث نوع وأبسطة وأقله كلفة مما يجره فدان واحد من البقر ليستعملوه في أراضيهم، فإذا رأى الفلاحون فوائده اقتدوا بهم أيضًا، وهكذا يجلب غيره من أدوات الفلاحة الحديثة والبذور والأغراس الغربية. (14) تسهيل الزواج بين الفلاحين تكثيرًا لنسلهم، وذلك بالإيعاز إلى الخطباء والمشايخ بالوعظ على المنابر وحلقات المساجد والاجتماعات بتخفيض المهور وعدم المغالاة بالجهاز، مما يكون سببًا في إفقار بعض الفلاحين أو وقوعهم تحت طائلة الدَّين أو إبطائهم عن الزواج، وخصوصًا في لواء حوران وقضاء المرج وغيرهما. (15) توزيع المهاجرين الوافدين للولاية على القرى ليشتغلوا في الأرض التي هي في احتياج شديد إلى العمال، فتستفيد البلاد منهم ويستفيدون هم منها. (16) ترجمة بعض الكتب الحديثة الزراعية من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، وطبعها في مطبعة الولاية، ونشرها بين الناس، وهذا كله مفتقِر لمساعدة دولتكم وعنايتكم، وبه تزداد الزراعة ترقياً والأهالي راحة وسعادة في أيام دولتكم، بظل الحضرة العلية السلطانية الساهرة على راحة تبعتها ورعيتها، خلد الله ملكها إلى ما شاء الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (طرابلس) ... ... ... ... (المنار) إن مثل هذه الآراء السديدة والإرشادات المفيدة جديرة بأن تصدر من مثل هذا الأمير العاقل والسري الفاضل، كما أن صاحب الدولة ناظم باشا في همته وإقدامه جدير بتنفيذها، ونرى أن بعض ما يتوقف على إذن الآستانة العلية، كإنشاء المكاتب الزراعية من حصة المعارف من الأموال الأميرية يعسر الوصول إليه إلا إذا ساعدت المقادير وما لا يدرك كله لا يترك قله.

وعود فرنسا في تونس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وعود فرنسا في تونس أرسل بعضهم رسالة إلى التيمس يذكر فيها وعود فرنسا وعهودها التي فاهت بها عند احتلالها تونس، وهذه صورتها: كتب المسيو سان هيلار ناظر خارجية فرنسا حينئذ في 27 أبريل سنة 1881 يقول عن احتلال تونس: (إننا لا نفكر ألبتة في ضمها إلى أملاكنا، بل كل ما نسعى إليه عقد معاهدة مع الباي تضمن لنا حدودنا ومصالحنا) . وكتب في 19 مايو يقول: (لا يمكن أن تكون تونس سببًا للخلاف بيننا (بين فرنسا وإنكلترا) فقد صرحنا لأوروبا بأننا لا نروم ضمها ولا فتحها، ولا نحاول ذلك، بل نحتل بنزرت وأماكن أخرى، ما دمنا نرى احتلالها لازمًا، ولكننا لا نجعل بنزرت ميناء لنا، ولن تمتلك فرنسا تونس، وستشهد أعمالنا بأننا لا نقول غير الحق) . وكتب أيضًا في 23 مايو يقول: (إن ما صرحتُ به عن مقاصدنا في تونس هو الحق الذي لاريب فيه، وضمها حمق وجهل، ثم إننا لا نريد أن نفعل شيئاً في بنزرت) . وكتب أيضًا في 9 يوليو ما يأتي: (إننا سنخمد الثورة، ولكن ذلك لا يغرينا بالفتوحات؛ لأننا لا نريدها، وليس في زيادة سطوتنا على تونس إجحاف بالمصالح الإنكليزية ولا بغيرها، وسترى أوروبا عن قريب أن وعودنا ليست من قبيل العبث، وأن مقاصدنا في تونس حسنة؛ لأننا لا نطلب شيئًا غير سلامة مستعمرتنا الأفريقية العظيمة الجزائر) . وكتب في 27 منه: ولي الأمل أن ما أجبت به أول أمس يقنع إنكلترا بحسن نيتنا وبصدق السياسة الفرنسوية وإخلاصها. وكتب في 15 أبريل سنة 1884 - ولا أعلم ما إذا كان لا يزال ناظرًا للخارجية حينئذ - يقول: (إني على رأيكم في سياسة إنكلترا المصرية فما عليكم إلا أن تفعلوا ما قلناه نحن في تونس، حيث الأحوال على ما يرام، فإن في ذلك مصلحة بلادكم ومصلحة التمدن والإنسانية معًا) . وكتب الكونت دي باري عدو الجمهورية الفرنسوية إلى المستر ريف في 17 سبتمبر سنة 1884 عن حملة تونكين فقال: (إن السياسة الاستعمارية سارت على خطة غير منتظمة، فتشددت عزائمها في تونكين وارتخت في مصر، وقد كان يمكن اتخاذ مسألة مصر قاعدة للاتفاق مع إنكلترا، فعوضًا عن ذلك لم ترد فرنسا مساعدتها، بل حنقت عليها لأنها أقدمت على العمل وحدها، ولما بدأت المشاكل والمصاعب في سبيل إنكلترا لم تتفق فرنسا معها على حلها، ولا توارت وراء أوروبا حينئذ حتى لا تقع المسئولية عليها عند الإخفاق في المؤتمر) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقطم) (المنار) فليعتبر الذين لا يزالون ينخدعون بأوروبا ويغترون بعهودها ووعودها، فقد علَّمتهم الحوادث والوقائع الكثيرة إن كانوا يفقهون.

فرنسا والسودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فرنسا والسودان لا تزال الجرائد الفرنسوية تقيم الحجج والبراهين على مخالفة (وفاق السودان) لجميع الأصول القانونية والشرائع الدولية، ومما نشرته جريدة الديبا في ذلك من عهد قريب رسالة من القاهرة ملخصها: أن مصر ولاية تابعة للدولة العلية في جميع شؤونها الداخلية الكبرى والخارجية العظمى، مقيدة بفرامين سلطانية أقدمها فرمان سنة 1810، وأحدثها فرمان سنة 1892، فلا حق لحكومتها أن تعقد وفاقًا أو معاهدة مع دولة ما، وأوضح دليل على هذا أن الدول تأبى عليها تعيين وكلاء ومعتمدين في بلادها، وما وكلاء الدول في مصر إلا قناصل جنرالية لا يمكن أن يعطى لهم غير هذا اللقب، وأن جلالة السلطان هو الذي أذن للخديوي في سنة 1874 بأن يوافق الدول على معاهدات الإصلاح القضائي، وفي سنة 79 بأن يعقد قرضًا في البلاد الأجنبية لحل المسائل المالية. ولما أذن له في فرماني سنة 79 وسنة 92 بعقد المعاهدات التجارية والجمركية قيد ذلك بهذا النص: (ليس للخديوي أن يتنازل لآخرين بأية حجة وسبب عن الامتيازات الممنوحة لمصر كلها أو بعضها، ولا عن أي جزء من الأراضي) . وعلى هذا كان يجب أن يكون وفاق السودان بإذن خاص من جلالة السلطان ليكون صحيحًا، وأما الاعتراض بأن إنكلترا مشاركة في الفتح والفاعل مستحق أجرته على قول الإنجيل الشريف، فهو ضعيف لأن الولايات السودانية لم تخلها الجنود المصرية على الإطلاق منذ سنة 1882، وإنما هي ولايات ثارت وعصت وأدبت، فإخماد الثورة شيء والفتح شيء آخر، وقد صرحت إنكلترا بلسان حكومتها وجرائدها بأن مصر أبقت حقوق سيادتها على السودان غير ممسوسة، وأن الحملة لم يك المقصود منها إلا تسكين مقاطعات ثائرة. وصرح اللورد كرزون وكيل خارجيتها - حاكم الهند الآن - في مجلس العموم سنة 1896 بأن شرق السودان التي تقرر أمرها عائد كله إلى الحكومة المصرية وحدها، والنتيجة أن وفاق السودان فيه غمط لحقوق السلطان وحقوق أوروبا، وقد أورد الكاتب كلمتين من كتب فن الحقوق الدولية محتجًّا بهما على الإنكليز: الأولى: (أن المعاهدة المعقودة بين مملكتين تنفذ في جميع الأملاك والأراضي التي تنفذ فيهما سلطتهما، وتقرر عليهما سيادتهما) . والثانية: (أنه حينما تضم الدولة دولة أرضًا ما إليها، فكل المعاهدات التي تربط بها هذه الدولة تنفذ لساعتها في الأرض التي تضمها إليها) . وختم كلامه بأنه سوف يرى إذا كانت تصبر أوروبا على هضم حقوقها أم لا، انتهى. (المنار) قد ذكرت جريدة الأهرام ما نشرته الديبا بإسهاب، ونحن نقول كما قلنا من قبل: إن المسألة مبنية على القوة لا على الحق، وإلا فما بال سواكن ووادي حلفا، فلو كان عند الفرنسويين أسطول كأسطول الإنكليز لنهضت حججهم، وأصابوا غرضهم، نعم إن فرنسا ليست كفؤًا لإنكلترا، ولكنها دولة قوية، والاحتجاج لا بد أن يمنحها فائدة ما، فقد جاء في أنباء البرق العمومية ما يُشعر بأن إنكلترا قد تسمح لفرنسا بمنفذ في النيل، ولكن المصيبة الكبرى على من له كل شيء ولا يسمح له بشيء؛ لأنه لا يستطيع أن يقول لأنه لا يستطيع أن يفعل، فعلى المصريين أن لا يغتروا بأحد ولا يثقوا بأحد، وأن يتفكروا في كيفية حياتهم في هذه الأطوار الجديدة التي طرأت عليهم، فالإنكليز لا يمنعونهم من منافعهم إن لم يقوموا بها بعنوان مناهضتهم ومعاداتهم، فليشيدوا المدارس الوطنية، وليعقدوا الشركات المالية، وليسابقوا الأوروبي إلى السودان للاتجار وابتياع الأراضي الواسعة الرخيصة، فهم أقدر على سكنى السودان واستعماره من الأوروبيين، إن كانوا يعقلون.

إنكلترا والسودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إنكلترا والسودان خطب اللورد سالسبوري في مجلس الأعيان خطبة رد فيها على اللورد كمبرلي زعيم الأحرار في اعتراضاته في مسألة السودان، وأبدى ارتيابه في كون بلاد السودان غدت في زمن من الأزمان جزءًا من بلاد السلطان، وأعرب عن حسن نية حكومته في هذه البلاد، وتكلم عن حقوق الحضرة الخديوية كلمة نتمنى أن تكون صادرة عن الإخلاص لا عن التمويه السياسي المعهود، لا سيما عند الإنكليز وهي: هذا وليس في كل الكلام الذي قلناه حتى الآن ما يفيد أن السودان صار ملكًا لجلالة الملكة، فإننا استحوذنا على أملاك الخليفة بحقين: الأول: أنها جزء من أملاك مصر التي نحتلها الآن. والثاني: حق الفتح وهو أقدم الحقوق وأقلها إشكالاً وأقربها إلى الأفهام؛ لأن الجنود الإنكليزية والجنود المصرية فتحت تلك البلاد. وقد بنيت حجتي على السودان في البلاغ الأول الذي كتبته إلى فرنسا على حق الفتح، علمًا مني أن هذا الحق أفيد وأبسط وأقرب إلى التؤدة والسلام من الحق الآخر، ولكنني دحضت كل ما يمكن استنتاجه من ذلك، وهو أننا ننوي أن ننازع الجناب الخديوي حليفنا على حقوقه أو أن نظلمه بشيء من الأشياء، بل قد اعترفت له بمقامه في السودان.

الصوم والفطر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصوم والفطر تناقلت الجرائد المحلية أن كثيرًا من أهل الريف أفطروا في يوم السبت (30 رمضان) بناء على أن التقاويم (النتائج والإمساكيات) متفقة على أن الشهر 29 يومًا، ولا سبب لهذا إلا الجهل بالحكم الشرعي، فمن عرف الحكم لا يبالي بالتقاويم، ومن الغريب أن بعض أهل القاهرة قد أفطروا بحجة اتفاق التقاويم وتوهموا أن فطرهم صادف الواقع، حيث تبين أن الهلال رؤي في ليلة الأحد مرتفعًا وكبيرًا بحيث يجزم أنه ابن ليلتين، وكل هذا لا اعتبار له في نظر الشرع. الدين الإسلامي لم يجعل أمر العبادة منوطًا برئيس ولا عالم، بل جعله مما يتناوله الكافة؛ لأن إناطة العبادات بالرؤساء قد جر على الأمم السابقة شقاءً طويلاً، فلو أن إثبات الصوم والفطر موكول إلى الفلكيين، ولو على تقدير وجودهم لجاز أن لا يوجد في البلد الكبير أو القطر العظيم إلا واحد منهم، وربما كان هذا الواحد أو الآحاد من أصحاب الأهواء الذين يتلاعبون بأمر الدين، إجابة لداعي الشهوة، أو لرغائب الأمراء والكبراء، أو لغير ذلك من الأسباب، وفي ذلك فساد كبير لا يخفى على المستبصرين. لاحظ الشرع الحكيم هذا فجعل أمر الصوم والفطر مبنيًّا على رؤية الهلال، فإن لم يُر فعلى كمال عدة الشهر ثلاثين يومًا، وأول ليلة يُرى فيها الهلال من الشهر هي أول الشهر في الاصطلاح الشرعي، سواء كان مرتفعًا أم منخفضاً، ولا مشاحة في الاصطلاح، والحكمة ظاهرة، إذ يتساوى بهذا الحكم جميع المسلمين، لا فرق بين الأعرابي في باديته والحضري في مصره، يعمل كل مسلم بعلمه إلا إذا ثبت شرعًا برؤية الهلال أن يوم الثلاثين من شعبان هو أول رمضان، أو يوم الثلاثين من رمضان أنه العيد، فيصوم ويفطر بحسب رؤيته، وإن لم يثبت ذلك شرعًا بأن لم يشهد أو لم يحكم بشهادته، ولكن ينبغي أن لا يتظاهر بخلاف ما عليه الناس، لئلا يظن به السوء. ينحي أكثر الناس باللوم فيما حصل من الخطأ في الفطر على الحكومة ويقولون: كان من وظيفتها إعلام سائر جهات القطر بعدم ثبوت العيد ليلة السبت، وقالت جريدة المقطم: كان ينبغي الإعلام بعدم إمكان رؤية الهلال. والصواب: معرفة الحكم الشرعي كافية لعدم الخطأ، وأن التعريف به من وظيفة الخطباء والمدرسين، فأكثر المسلمين يحضرون صلاة الجمعة، فلو استبدل الخطباء في آخر جمعة من رمضان بيان هذا الحكم بوداع رمضان وإعلام الناس بما يعلمونه من إيقاد المصابيح وإطفائها ونحو ذلك مما لا فائدة فيه - لاهتدى الناس ولما وقعوا في هذا الالتباس، فعسى أن يلاحظوا هذا في السنين المقبلة، وبالله التوفيق.

تنازع أوربا الممالك الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنازع أوربا الممالك الإسلامية يقول خطباؤنا في خطبهم التي هي عبارة عن (روزنامة دينية) كلمة في فضل الشهور تناسب ما نريد أن نقول عن تنازع أوروبا في الممالك الإسلامية وهي: (فلا يمضي عنكم شهر شريف إلا ويأتيكم نظيره في الشرف، فإن كان شهر رجب قد رحل عنكم وبان، فهذا نور شعبان قد وضح لكم وبان) . وحكومات أوروبا يقول بعضها لبعض: لا تستولون على مملكة إسلامية، إلا ويعرض لكم مثلها في المنافع الاستعمارية، فإن كان قد انتهى أمر مملكة السودان فقد فتح باب ممالك بورنو ووداي وعمان، فهذه فرنسا قد سبقت إلى الأخيرة، فتنازل لها سلطانها عن مرفأ بندر جبار في خليج عمان، وهو على بعد خمسة أميال من مسقط عاصمة المملكة، ويساوي ميناءها في الاتساع وإذا حُصِّن يكون من أمنع المعاقل الحربية، وتتحدث بعض الجرائد الأوروبية بإنشاء قنصلية روسية في مسقط، وهذه مبادئ الاستيلاء على المملكة كلها، وقد وجهت إنكلترا أنظارها إلى منازعة فرنسا أو مشاركتها في هذه الغنيمة الجديدة، ولا ندري كيف تنتهي المناظرة. ((يتبع بمقال تالٍ))

سلطانا العثمانيين والمغرب الأقصى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سلطانا العثمانيين والمغرب الأقصى يسوء المسلمين جميعاً أن أمراءهم وملوكهم لا صلة بينهم، ويتمنون أن يرتبط بعضهم ببعض بالوداد والحلاف مع استقلالهم في داخلية بلادهم، وأن يستعين ضعيفهم بقويهم، وجاهلهم بعالمهم على إصلاح البلاد وترقية الأمة، وقد سرَّنا ما نقلته الجرائد من عهد قريب من تكرم مولانا أمير المؤمنين وكبير سلاطين المسلمين بهدايا نفيسة من الخيول الجياد وغيرها، أرسلها إلى مولاي عبد العزيز سلطان مراكش، فعسى أن تكون هذه الهدية فاتحة الألطاف وبداية الإسعاف.

القوة والقانون

الكاتب: محمد عبده

_ القوة والقانون [*] من مقالات الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده الشهير قبل الكلام على خصائص هذين الركنين لهيئة الوجود الإنساني، نريد أن نبين حقيقة كل منهما؛ ليكون القارئ على علم بما يلقى إليه بعد، فلا يخطئ الغرض ولا يجاور المرض، ولا تلحقه شبهة توقعه في ظلام الحيرة، وغيهب التردد - أما القوة فلا نعني بها إلا ما يستعمل لجلب الملائم، ودفع المكروه سواء كان من شخص واحد أو جماعة متآلفة أو شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، وسواء كانت آلة تحصيل الملائم ورفع المصادم هي القوة البدنية مجردة عن سواها، كما تراه في السباع الضارية والحيوانات الكاسرة، أو هي منضمة إلى السيوف القاطعة والآلات المحرقة، وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في مواطن الغلبة والصيال. أما القانون فهو الناموس الحق الذي ترجع إليه الأمم في معاملاتها العمومية، وأحوالها الخصوصية، وهيئاتها النفسانية أعم من أن يكون متعلقاً بروابط المماليك وعلائقها، أو منوطًا بالسياسة الداخلية، كالإدارة المدنية والتدابير المنزلية، أو باحثًا عن الأخلاق الفاضلة، وما ينبغي أن يتحلى به الإنسان منها، وما يجب أن يبتعد عنه من أضدادها، وسواء كان في أمة واحدة أو أمم متعددة. وهاتان الحقيقتان هما موضوع كلامنا الآن، أما القوة فكانت شرعة الأمم الغابرة والشعوب السالفة، وقت أن كان الإنسان جبلي الطبع، لا يمتاز عن غيره من أنواع الحيوانات إلا بالفصل المميز، أعني: قابلية النطق المجرد عن نور المعارف وشعار التمدن، فكانت له الحاكم الفيصل، يرجع إليها في تحصيل غرضه ونوال مطلوبه، وباختلافها وتفاوتها اشتدادًا وضعفًا وتقدمًا وتقهقرًا كانت تختلف الأمم وقتئذ في الشرف والضعة والسطوة والفقر والغنى، من غير نظر إلى شيء من وسائل تلك الوجوه مهما كانت طرائقها، فكان الرجل يمتاز بين قومه بصفة الإقدام والجراءة وكثرة السلب والنهب والبتك والفتك، وكانت القبيلة التي هي أشهر القبائل في هذه الصفات تعرف بالمجد الأثيل، والشرف الباذخ، والمكانة العالية، فيدين لها مجاوروها، ويخضع لسطوتها كل أمة قرع أسماعها ما هي عليه من علو المنزلة وشدة الأنفة وقوة الشمم، وتساق إليها الهدايا من تخوم الأقطار وشاسع البلدان، وتأتيها الغنائم أفواجًا يقتادها رجالها الأبطال من ساحات الصدام والنزال، ولم تزل الأزمان الغابرة محكومة بسلطان القوة، تقلب الأمم على جمر الخوف والاضطراب، وتضرب بصولجانها جراثيم القلوب الضعيفة، فتلقي بها في مهاوي الذل والهوان، حتى خضعت لها الأمم، ودانت لها الشعوب، وصارت هي الديان المسيطر على كل شئ، فإذا تمت لقوم تبعتها السلطة التامة والحكم المطلق، فيتسلطون بقدر مكنتهم على ما شاء الله من الشعوب والقبائل، ويتخيرون واحدًا منهم سلطانًا أو ملكًا، قد امتاز بالتهور والجراءة وجلالة المنظر والنضارة، يملكونه زمام الحكم والسلطة، ثم ينتخبون من عشائرهم رجالاً يعدونهم حفاظ الملك وأرباب النجدة والنصرة على العدو والعدة لفتح الممالك والأمصار، ويتسلطون بهؤلاء على بقية من هم تحت سلطانهم بالرهبة والقساوة، لئلا يتخلصوا من ربقتهم فيذعنون لملكهم قهرًا لا طوعًا، وينظرونه مقتًا لا حبًّا، ويحملون إليه الخراج وهم صاغرون، وذلك دون مراعاة طرق عادلة أو أحكام مؤسسة على أصول المساواة واستعمال الشفقة والمرحمة، بل بحسب ما تقتضيه القوة التي سفكت الدماء، وذللت الشعوب، وانتهكت حرمات الأمم وسجنت حرية الإنسان في مطمورة الرق والاستعباد. هذا ما ولدته القوة في تلك الأعصار الخالية التي كانت مشحونة بظلمات الجهالة، مسربلة بجلابيب الغباوة، مغمورة في بحار الوحشية، وما أظن تلك الشريعة المشار إليها كانت خاصة بأمة من الأمم، أو صنف من أصناف البشر، بل كانت عامة بين أبناء الإنسان على اختلاف أجناسه وتباين مواطنه، فكنت ترى عامة القبائل وكافة الشعوب مقسمة إلى ممالك متعددة، وإمارات متباينة، تجول فيها يد القوة، ويحكمها مجرد الرهبة، ويطويها الخوف وينشرها الفزع ويشملها الاضطراب والاختلال، وتتبادلها أيادي السلب، يبيت ضعفاؤها غير أمنين على أنفسهم، ويصبح أقوياؤها غير مطمئنين على حياتهم، فانبعثت في قلوب هؤلاء الأوزاع الذين ضربتهم يد السطوة بعصى القوة علة الضغف، ودبت فيها سخائم الحقد، فاختلفت الأغراض، وتباينت المشارب، وتفرقت القلوب، وتنوعت وحدة الإنسان الحقيقية إلى أنواع لا يجمعها سوى جامعة الحيوان الناطق، وتبدلت فطرته السليمة إلى أخلاق لا مناسبة بينها وبين جوهره المقدس الشريف. ولقد تمكنت سطوة القوة في قلوب أولئك الشعوب وارتسمت صورها في مخيلاتهم، وانسحبت معانيها إلى ذاكراتهم، وصارت محفوظة في خزانة حافظاتهم، قائمة نصب أعينهم، حتى توهموها مقلب القلوب والأحوال، حافظ القوى والأكوان، إليها مرجع الحوادث، وعليها تدبير النوازل والكوارث، فاحتسبوها المدبر في المكونات بأجمعها، وصوروا تماثيل على صور مختلفة، وأنواع متباينة، تشير ظواهرها إلى القوة وتؤدي هيئاتها معاني العظمة والسطوة، ووضعوها في أماكن عبادتهم ليؤدوا لها فرائض السجود والركوع، ويقربوا إليها القرابين من نوع الإنسان وأنواع الحيوان، وهذه أصنام العرب والصين والعجم، وآثار قدماء المصريين، وآلهة اليونانيين المصنوعة على أشكال الحيوانات العادِية والملوك العاتية، يشرح التاريخ أحوالها، فلا داعي إلى الإسهاب في تفاصيل شؤونها، ومن تتبع تواريخ هذا الإنسان الوحشي بإمعان وتبصُّر ظهر له أن القوة هي التي دوخت قوى الإنسان السلمية وبددتها أحدثت به من القبائح ما أحدثت، ولولا أن القانون كسر سورتها وذلل صعوبتها لما أشرق نور الحق على صفحات الوجود، ولا تمتع الإنسان في الأزمان الأخيرة بلذة الراحة والسعادة، فالحق للقانون لا للقوة. وبينما الإنسان تائه في أغوار الاستعباد في هاتيك الأزمنة أزمنة القوة والاستبداد، والجور والعيث والعار، ليس له حق يصان، ولا عر ض إلا ويهتك ويهان - إذ أشرقت عليه قرائح الذين جادت بهم مراحل الفضل، وعرفوا بمناهج الخير، فأبصر من طلائع أفكارهم ما يهديه إلى سبيل الرشاد، ويوقظ فكرته إلى التماس الصواب من أبواب السداد، فعلم أن القوة هي منحة جليلة، ونعمة كبيرة، يستعين بها على حاجاته الضرورية، ولوازم معيشته المرضية، قد غرزها الله تعالى بالاتحاد والائتلاف، حتى إذا عجز الفرد الواحد عن ما لا طاقة له عليه من نفائس المطالب، وجلائل الرغائب استعان بعشيرته ثم بقبيلته ثم بأمته التي يجمعها دين أو ملك، ثم بجميع أفراد نوعه، وإن القوة إذا لم تكن على قانون لا تتعداه، وخط لا تتخطاه، بأن استعملت على أي وجه، وفي أي زمان أو مكان، لا ينال ثمرتها المحبوبة، وغايتها المطلوبة، فأسف على ما كان، ونزع من رقدة الغفلة يحاول لها النظام المعبر عنه بالقانون، فكان نورًا يهتدى به، وقائدًا رشيدًا يسلك بالإنسان إلى ما أهله له من الكرامة والنعيم، فاتبع سبيله المهتدون، ومال عن سننه الضالون. أما الإنسان الذي ساعده التوفيق بالانقياد لأحكام القانون، فإنه حفظه باطنًا وظاهرًا، وتمسك به غائبًا وحاضرًا، حتى صار ركنًا من لوازم حياته، وعدة لمقاصده وغاياته، ولهج لسانه في بكره وعشياته، إلى أن عرف به واجباته الحقوقية، وفرائض معيشته العمومية والخصوصية، وأمن به من مصائب الظلم ونوازله، والجور وغوائله، واطمأن به على نفسه وعرضه وماله، فسكن قلبه بعد اضطراب، وقرت عينه برياض الأمن والأمان، وتولد فيه أمل حمله على إدمان العمل، فأعمل فكرته الخامدة، وأجرى حركته الراكدة، ولا زال يرتاد مواطن العلم ومعاهده، ويقتنص بحيالة الاستكشاف كل فائدة، ويستعمل قواه في حل المبهمات، ويستطلع ببصيرته ما خفي من مجهول الكائنات، إلى أن حداه العلم إلى معرض الاختراع والإبداع، فطار على جناح البخار بدل الشراع، واستخدم النضار لقضاء الأوطار، واستعمل البرق على بعد الديار، رسولًا للأخبار، وجعل المدافع والقنابل ليبيد بها مضاديه ومعانديه، وانغمس في النعيم مطعمًا ومشربًا وملبسًا ومسكنًا، إلى غير ذلك مما أتيح له من محاسن الحضارة، ولطائف الرفاهة والنضارة، ولا زال يضرب في تخوم البلاد ويذلل بقوة عزمه أخلاق العباد إلى أن أصبحت البسيطة في قبضة زمامه، ولا غرو فإن فائدة الاتحاد والائتلاف، وباعثه الوفاق لا الاختلاف، وهو الآن كما بدأ يحافظ على القانون بإنسان مقلته، ويصرف في حراسته ما يدخل تحت قوته، فإنه ملاك سعده، وأساس مجده، ومنتهى جده. أما الذي ضرب عن القانون صفحًا، وطوى عنه كشحًا، فهو هو على رذالة أخلاقه وبساطة أفكاره، يصبح مضغة تحت أضراس الظلم، ويمسي كرة لصولجان البغي، فليحيَ صاحب القانون على بساط النعمة الهني. فيا أيها الذين ينحرفون عن القوانين ويعدلون عن طرق النظامات لغرور وقتي، ارفقوا بأنفسكم واعتبروا بمن يماثلكم في الصورة الإنسانية، وانظروا إليهم كيف عظموا القوانين، ورفعوا شأن الحقوق، فأصبحوا في غاية من القوة والعزة، فانهضوا لمجاراتهم في الصدق إن كنتم تعقلون، وإياكم والتمادي فيما تسوله النفوس من الاغترار بظاهر من السلطة فالأيام تغلب وتقلب، لكن صراط الحق واحد وسالكه لا يضل إن عثر يومًا استقام أعوامًا، أما طرق الاعوجاج فهي وعرة خطرة كثيرة الغوائل، سالكها معارض لمدبر العالم سبحانه وتعالى في أحكامه فإنه عز شأنه قد أقام الكون بنظام الحكمة، ورتب لكل شيء حدودًا هي سور بقائه وسياج دوامه، فإن خرج عنه انحدر إلى مهاوي العدم والفناء، ومن تأمل الكون الأعلى وما فيه من الكواكب والشموس والأقمار، ثم نظر إلى العالم الأسفل وما احتوى عليه من نبات وحيوان يشهد في الجميع لكل نوع منها قانونًا خاصاً في سير وجوده، تقوم البراهين القاطعة على أنه لو انحرف عنه لحكم عليه السلطان القهر الإلهي بالعدم والانقلاب وأنه يباهر حكمته قد جعل للهيئة الإنسانية حدودًا عامة، هي الشرائع وقوانين الآداب التي تحدد سير الإنسان في معيشته الخاصة نفسه، أو معاملته مع غيره، وقد أودعها العلماء والحكماء بطون كتب التهذيب والتربية البشرية، بعد أن نطقت بها الشرائع الإلهية، وقد شهدت التجارب بالأخبار المتواترة، عن الأمم الماضية والمشاهدة الحالية في الأوقات الحاضرة، أن من تخطى حدود هذه الحقائق رماه القهر الإلهي بسهم لا يخطئ مرماه، فالقانون هو سر الحياة وعماد سعادة الأمم، وإن القوة لا تأتي بثمرتها الحقيقة إلا إذا عضدت باتباع الشرع والقانون العام الذي أقر العقلاء بوجوب اتباعه. فكيف يصح لذي شوكة أو صاحب سلطة أن يغتر بعد رؤيته هذه البراهين الباهرة بقوته، أو يعجب بصولته، ويدع الأمور لإرادته ومشيئته، ويزدري ما للقانون من حفظ القوة ونمو الثروة في من هم تحت إمرته، فيفعل ما تسول له نفسه، ويأتي كل ما يسوقه إليه حسه، فيسري الإهمال في طبقات رجاله، ويجارون حاكمهم في عوائده وأخلاقه، وتصير الأموال لديهم مباحة، والحقوق مبتذلة، والأعراض منتهكة، ووسائل الربط والضبط معطلة، وعقد المواثيق والعهود محللة، فيكثر فيما وليه غوائل الخسران، وتنمو به جوائح البهتان، حتى تصير أفراد المحكومين أخلاطًا رع

حجة ناهضة وشبهة داحضة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجة ناهضة وشبهة داحضة من عَذِيرِيّ من قومٍ لا يكادون يفقهون حديثًا، يرون القبيح حسنًا ويحسبون الطيب خبيثاً، يهيجون على من قال الحق، ويحتمون على من نطق بالصدق، وأما الأعمال فقيمتها عندهم بحسب تسميتها لا بحسب حقيقتها، فإذا سموا الرذيلة فضيلة والمنكر معروفاً والفجور برًا والفسق طاعة والكفر إيمانًا، فتعظيم هذه الأشياء واعتبارها يكونان عندهم بمقدار ما تستحق مفهومات هذه الأسماء في الأصل، كما أن الجاهل منهم يفرح ويسر إذا سمي عالمًا أو أطلق عليه لفظ الأستاذ ونحوه، والغر الأهبل يتبجح بلقب بك أو باشا، والدَّعِي يفتخر بكلمة السيد الشريف، وهكذا قد جارت علينا مملكة الألفاظ، حتى جعلت بيننا وبين الحقائق سدًّا منيعًا، لا ندري متى يدك أو يخرق. انحرف المنتسبون لطريق التصوف عن هدي سلفهم الصالح، حتى صاروا معهم على طرفي نقيض، ومع ذلك ترى العامة تخضع لهم؛ لأن العلماء يقرونهم على ما هم فيه ويحترمونهم على مقدار مظاهرهم الدنيوية، وقد كان العلماء من قبل واقفين بالمرصاد لأهل التصوف الصادقين، حتى إذا آنسوا منهم انحرافًا بقول أو عمل أقاموا عليهما النكير وسلطوا عليهم الحكام، يجلدون ويسجنون، بل يصلبون ويسلخون، فأين صوفيتنا من أولئك الصوفية، وعلماؤنا من أولئك العلماء؟ الحمد لله قد بقي عندنا من الحق التسليم بأن سلف الفريقين خير من هذا الخلف المخالف له في عمله والمتخلف عنه في علمه. إن سكوت العلماء، بل سكونهم إلى هؤلاء المنكوسين المركوسين الذين اتخذوا دينهم هزؤًا ولعبًا وحرفة وكسبًا، أثبت في اعتقاد العامة أنهم على شيء، ولذلك عذلنا في الكلام على منكرات الموالد ونحوها منهم العاذلون، وأنكر علينا معروفنا من سفائهم المنكرون، أما العلماء فقد قالوا: إن ما كتبته كلام شرعي صحيح، ويا ليته يُقبل ويُنتفع به! ولقد قرأت في مجلس إدارة الأزهر الشريف مقالة (المرشدون والمربون أو المتصوفة والصوفيون) وهي إحدى المقالات التي كتبتها تحت عنوان {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ} (الأحزاب: 67) فأعجب بها شيخ الإسلام، وأثنى عليها هو ومن حضر مجلسه ذاك من العلماء الأكارم، والعجيب في هذا المقام أن بعض مَن يعتقدون أن جميع ما أنكرناه منكر لا ريب في قبحه وبعده عن هدي الدين، اعترضوا علينا بنشره في الجريدة محتجين بأن في ذلك نشرًا لمعايب قومنا، وإطلاعًا لأعدائنا الأجانب عليه، وفاتهم أن الجريدة لا يكاد يقرأها أحد من الأجانب، وإن من الجهل وسفه الرأي أن يكتم المريض داءه وهو ظاهر حذرًا من شماتة عدوه به، وإن الأجانب أعلم منهم بهذه القبائح، بل الفضائح، وإنهم يعيبون بها المسلمين بل الدين الإسلامي نفسه، وإن المجامع الهذيانية الجنونية التي تسمى (حضرات) و (أذكارًا) مصورة في كتبهم وجرائدهم، وإنهم استأجروا نفرًا من هؤلاء الأشرار وأخذوهم لمعرض شيكاغو لعرض عبادات المسلمين وأسرارهم المضحكة على أنظار العموم. وقد حدث في هذه الأيام ما فيه عبرة لمن يعتبر وعظة لمن يتدبر ويزدجر، وهو حجة لنا يذعن لها المنتقدون من أهل الإنصاف، وتنقطع بها ألسنة اللاغطين من ذوي الاعتساف، وهاك الخبر نقلاً عن المؤيد الأغر، وهو ما جاء في عدد يوم الثلاثاء الماضي بنصه قال: وأين باب مشيخة الطرق لنقرعه؟ كانت ليلة الأمس من أبهج الليالي وأبهاها في منزل جناب البارون أوبنهايم الموظف في الوكالة الألمانية، حيث كان جنابه قد وزع رقاع الدعوة على الكثيرين من السياح لحضور (حفلة ذكر) فلم تأت الساعة الرابعة مساء حتى ازدحم شارع الكُبرِي الكائن فيه منزل جنابه بالعربات على اتساعه ازدحامًا يفوق ازدحام شارع السيوفية أيام الجمع في الشتاء بعربات المتفرجين من السياح على تكية المولوية، وأخذ المدعوون يدخلون فرادى وجماعات من سائحين وسائحات، ليشنفوا الأسماع برخيم الغناء ويمتعوا الأنظار بجميل الرقص المعبر عنه بالذكر. وبعد أن أخذ الجميع مجالسهم وتناولوا ما طاب من مأكل وشراب، وكان مجلس الذكر قد استعد للرقص هب المتفرجون من مجالسهم وانتشروا حول حلقة الذاكرين يلعبون ويمرحون، ويهزءون ويضحكون من قوم ترى عمائمهم على شكل دائرة تمثل قوس قزح أو ألوان الطيف، من بيضاء ناصعة، وصفراء فاقعة، وحمراء قانية، وخضراء صافية، وسوداء حالكة، وهم بين شاب في مقتبل العمر غض الشباب، وشيخ هرم تهوي السنون برجله إلى القبر، قد أخلقت لباس جدته الأيام، فلم تكسُه غير شيب وعيب، حيث جعل دينه هزؤًا وسخرية أمام قوم يظنون ذلك من الدين، وهو بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولم يفعلوا ذلك إلا طمعًا في بعض دريهمات لا تكفي لشراء غداء، فبئس هذا الحال، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهلا يوجد في مصر من علماء الإسلام وأهل الطرق من يمنع هؤلاء من تحقير ديننا في أعين الأجانب، حتى صيروه لعبة وهزؤًا، وصرنا نحن أمامهم كالأنعام وساء ما يفهمون اهـ. وفي عدد اليوم التالي (الأربعاء) ما ملخصه: أين باب مشيخة الطرق لنقرعه؟ تحققنا اليوم أن (الليلة الراقصة) التي جاد بها جناب البارون أوبنهايم على ضيوفه من السياح بواسطة (قرود الذاكرين) كانت تحت إدارة حضرة الروحاني الكبير الذي يسمي نفسه: (الشيخ عليش) وقد كان جالسًا على تخته أثناء انعقاد مجلس الرقص وشيبته تتصبب أسرارًا روحانية يوجهها إلى دراويشه الذين كانوا ببركته يأكلون النار ويزدردون الزجاج، ويبرزون من الكرامات (الباهرات) ما يعجز عنه مهرة المشعوذين، بل كبار السحرة المتفننين اهـ. (المنار) أما جوابنا عن سؤال المؤيد (وأين باب مشيخة الطرق لنقرعه) فهو إذا كان رب البيت بالطبل ضاربًا ... فلا تلم الصبيان فيه على الرقص وما منعنا أن نوجه الملام فيما كتبناه عن منكرات أهل الطرق من قبل إلا أن شيخهم ورئيسهم الأكبر سماحتلو الشيخ محمد توفيق البكري كان يعدنا ويمنينا بالإصلاح، وقد عيل الصبر ولم نر للوفاء بالوعود وتحقيق الأماني أثراً. فعسى أن تزعجه وخزات هذه الحوادث المؤلمة إلى العمل والتجافي عن مضجع الكسل، فيبطل الغرور ويستنير الديجور، ويستبدل المدح والثناء باللوم والإزراء. حضرات أهل الطريق كنا كتبنا من بضع سنين نبذة في حال المنتسبين للطريق في الديار السورية، أودعناها فاتحة المقصد السادس من كتابنا (الحكمة الشرعية) أحببنا أن نوردها هنا بمناسبة الحادثة التي كشفت القناع للمغرورين بهؤلاء القوم من كون فعلهم إهانة للإسلام، تجعله سخرية عند جميع الأنام، قلنا هناك بعد كلام في حقيقة التصوف وأهله ما نصه: قد علمت مما شرحناه أصل طريقة القوم وما كانوا عليه علمًا وعملاً، وكيف صرح أئمتهم من بضعة قرون بأنهم قد انحرفوا عن الصراط السوي، ولم يبق عندهم إلا الرسوم، وأما الآن فقد محيت تلك العلوم، واندرست هياتيك الرسوم، وطاحت تلك الإشارات، وذهبت تلك العبارات، واعتكر الإظلام، واشتبهت الأعلام، وتمسكوا بحبال الأوهام والإيهام، فاتخذوا الطريق أحبولة للجاه، وحيلة للمفاخرة والمباراة، فبعد أن كان عملاً وحالاً صار صناعة وعلمًا، ثم انتكس حال المتظاهرين بذلك فأخذوا أولاً بالتقليد والتشبه بالقوم تيمناً وتبركًا على حد قول القائل: إن لم تكونوا مثلهم فتشبهوا ... إن التشبه بالكرام فلاح وسارت أيام وسرت ليال على ذلك وهم، تعرفهم بسيماهم: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها ثم غلبت الأهواء، وعمت اللأواء، فلا خيام ولا نساء، إلا ما كان تحت حجاب الخفاء، ولم يبق عند المتأخرين من علم القوم إلا شقشقة اللسان وزخرفة الكلام بألفاظ لا يفكرون بمعناها، وكلمات لا يعقلون مرماها، كالسكر والوجد، والإدلال والشطح، والفرق والجمع، والتلوين والتمكين، وما أشبه هاتا من الكلم الذي تلقفوه من الكتب مع تحريفه عن مواضعه، وأما العمل فليس لهم منه الآن إلا ضرب الدفوف ودق النقارات والصنوج، والنفخ بمزمار الشبابة، بل والضرب بآلات الأوتار عند البعض، والتغني بالأشعار الغرامية المهيجة للنفوس المنغمسة في الترف والنعيم، والباعثة لها على التوغل في الحظوظ النفسية، والاستهتار في عشق الأحداث والنساء، بما فيها من التخيلات في أوصاف الحسان المهيجة للانفعال، المحركة للوجدان، وشرح أحوال العشاق وأطوارهم كالهجر والوصال، والتيه والدلال، كأشعار سيدي عمر بن الفارض وغيره، ويسمون كل ذلك عبادة؛ حيث يأتونه في حالة الذكر الذي جعلوه كيفية من الرقص يتعلمها حسان الأحداث وغيرهم، ويتمزجون أثناء الذكر بالرجال، ويتواجدون ويصيحون، وإذا أنكر عليهم منكر وعذلهم في صنعهم هذا عاذل فالعذر لهم أن بعض الشيوخ الصادقين والأولياء السالفين، قد اتفق لهم شيء من مثل ذلك، وهذا لا تقوم به حجة؛ لأن من ينقل عنه لم يقل أحد: إنه كان متعمداً له ومتخذه صناعة، وإنما قيل: إنه كان لغلبة الحال عليه، وذلك مما صرحوا بأنه لا يقتدى بصاحبه فيه، وهذا فيما لا يقطع بتحريمه في نظر الفقه، وأما ما صرح الفقهاء بتحريمه فلا يلتفت لفاعله، سواء كان متعمدًا أم مغلوبًا على أمره. ينطبق على هذا الخلف الصالح لذلك السلف الصالح أتم الانطباق ما نقله الحفني في حواشيه على الجامع الصغير عن المناوي عند الكلام على الخبر الذي أخرجه الديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف، وهو: (إن الأرض لتعجّ إلى الله تعالى من الذين يلبَسون الصوف رياءً) قال: أي إيهامًا للناس أنهم من الصوفية الصلحاء الزهاد، ليعتقدوا ويعطوا وما هم منهم، قال المعري: أرى حبل التصوف شر حبل ... فقل لهم وأهون بالحلول أقال الله حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي وقال آخر: قد لَبِسُوا الصوف لترك الصفا ... مشايخ العصر بشرب العصير بالرقص والشاهد من شأنهم ... شر طويل تحت ذيل قصير انتهى ما نقله الحفني رحمه الله تعالى. أقول: وقد أكثر العلماء والأولياء من الكلام في السماع، فقال به أقوام ومنعه آخرون، وللمحققين فيه تفصيل معروف، ومنه أنه محظور في حق مَن يحركهم على فعل محرم، أو يحملون ما يسمعون من الغزل والنسيب على أمرد أو أجنبية، وما أكثر هذا في أبناء هاته الأيام وما قبلها بسنين وأعوام، وقد شاهدت بعيني غير مرة بعض من عرف واشتهر بحب الأحداث، وقد حضر مجلس ذكر وفيه قوال حسن الصوت، خبير بصناعة الإنشاد والتغني، فكان الشاب العاشق يبكي كلما غرد المنشد حتى ينقطع عن الذكر لغلبة البكاء والنشيج، ومعظم الحاضرين على علم بأن سبب بكائه استيلاء عشق الحدث عليه، وقهره إياه تحت سطوة سلطانه. ولعمر الإنصاف إنه لا يعذل على بكائه، وإنما العذل والملام على من عقد له ولأمثاله مجلس سماع يتوخى حضوره وينتحيه حيث كان، لعجزه عن إنشاء مثله، ومعلوم أن الإنسان لا يخلو في وقت من الأوقات من حال حاكمة عليه، وناهيك بحال العشق الذي: كم ملك الأحرار للعباد ... وأوجد الرقة في الجماد وحكم الظبا على الآساد ... وصوب الخطأ على السداد وألبس الغي بعين الرشد وهو من أشد أمراض النفوس، قاهرًا ومذللاً لها، حتى إنه يهبط بطباع أعاظم الأشراف من أوج عزها إلى الاستكانة والخضوع لأحقر فتيان السوقة أو فتيات الأعراب من ذوي النذالة والمهانة، وإن السماع من أمسّ الدواعي لتحريك سواكنه، وإنشاب براثنه، وأَنَّى

ملوك المسلمين والتاريخ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ملوك المسلمين والتاريخ كان الملوك ولا يزالون في الشرق فتنة للأمم وبلاء على التاريخ، إذ هم الذين يحملون الكاتب على ستر الحقائق، والتمويه على الناس بجعل الباطل حقًّا، وإلباس القبيح ثوب الحسن، وكلما ترقت الأمم والدول الغربية وعلت تتدلى الشعوب والحكومات الشرقية وتسفل، فلقد كان مؤرخو الشرق الغابرين - لا سيما المحدثين منهم - أكثر حرية من مؤرخيه الحاضرين، لذلك كانوا ينتقدون أعمال الخلفاء والملوك الذين كانوا أحسن حالاً من خلفهم، ويشرحون سيئاتهم من غير مبالاة، ومؤرخو عصرنا هذا عامة وأصحاب الجرائد منهم خاصة يقدسون الملوك الأمراء وينزهونهم، خداعًا لعامة الناس، وتغريرًا بهم، ولولا أنهم صبغوا ذلك بصبغة دينية لما كنا نحفل بالبحث فيه، ونعنى بكشف الحجاب عنه، فإننا وقفنا جريدتنا على خدمة الملة والأمة، لا على القدح والهجاء، أو المدح والإطراء، وسنبين الحق في جميع ما يتعلق بشؤون الملوك والأمراء الدينية، حفظاً للدين وأحكامه أن تكون سياجًا للظلم وآلة للغش، ونكتفي الآن بذكر مسألة نعرضها على أرباب الجرائد المتملقة من المؤرخين الكاذبين، ونرغب إليهم بيان ما عندهم من الأعذار المنتحلة وهي: الحج ركن من أركان الدين الإسلامي، وقد ورد في الأحاديث الشريفة ما معناه: أن مَن مات ولم يحج وهو مستطيع فلا عليه أن يموت غير مسلم وقال الخليفة الأعظم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عليه الرضوان: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار، فينظروا كل من له جِدة ولم يحج فليضربوا عليهم الجزية، فما هم بمسلمين) . قال العلامة ابن حجر: ومثل ذلك الحديث لا يقال من قِبل الرأي، فيكون في حكم المرفوع، ومن ثم أفتيت بأنه حديث صحيح، ثم إن اجتماع الحج هو أعظم اجتماع في العالم؛ لأنه مع كونه دينيًّا فيه من الفوائد المدنية والسياسية ما لا يخفى، ولإمام المسلمين في الموقف الأكبر فيه وظيفة الخطابة التي تجمع القلوب وتوحد وجهتها بوحدة التعليم والإرشاد، إذا جاءت على وجهها الصحيح. وقد كان الخلفاء والملوك يؤدون فريضة الحج مع بُعد عواصمهم، وتنائي ممالكهم، وعدم إمكان الوقوف على ما يجري فيها مدة سفرهم، فلماذا أهمل ملوك المسلمين في هذه الأزمنة أمر هذه الفريضة ولم يبالوا بهذا الركن العظيم الذي هو دعامة بقاء سلطتهم، لو اهتدوا إلى إقامته وحافظوا عليه، كما يجب مع أنه يتسنى لأكثرهم الوقوف على أحوال مملكته تفصيلاً في كل زمان وفي كل مكان. فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إن ملوك أوروبا وقياصرتهم وعواهلهم (إمبراطوريهم) لو وجدوا سبيلاً إلى شهود هذا الجمع الأكبر (الحج) لأقبلوا عليه، فما بال أهله - وقد فُرض عليهم - لا يسعون إليه؟ ! نرجو الجواب (من الجرائد) عن هذا السؤال، ولنا على كل جواب مقال.

ولي العهد للخديوية المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ولي العهد للخديوية المصرية ألا يا بشير السعد كرر لنا البشرى ... ويا أيها الأقوام حسبكم بشرا فقد أنجز (الإقبال) ربي وعده ... وجاد على مصر بما أثلج الصدرا هلال تيقنا بحسن نموه ... بأن سنراه في سما قطرها بدرا أحب بنوها أن يدوم أميرهم ... بأبنائه طول المدى لهم ذخرا مرام توقعناه قبل وقوعه ... فكان وحققنا العيافة والزجرا فقم أيها العباس لله شاكرًا ... وإن كنت لا تحصي على فضله الشكرا وقل للذي أنجبت قم وارق للعلى ... معي فهو واعٍ يعقل النهي والأمرا وعش يا ولي العهد بالله واثقًا ... بمنّة تاريخ نغيث بها مصرا سنة ... ... 1316 ... ... ... ... ... ... 1899 طالما ترقبت الآمال بزوغ بدر الكمال من فلك الإقبال، وتشوفت نفوس الناس لتحقق الأماني بولي عهد العباس، إذ قد سبق لسموه ثلاث ودائع، كانت شموسًا طوالع، شموس خدور مقصورات في الخيام، لا شموس سياسة وأحكام، ثم نادى بشير السعد يقول: قد أنجز الزمان الوعد بولادة ولي العهد (في الساعة الثامنة العربية والثانية الأفقية من ليلة الإثنين 9 شوال سنة 1316 هـ و 20 فبراير سنة 1899 م) . وبلغت نظارة الداخلية الخبر رسميًّا، فطيرته مع البرق إلى جميع أنحاء القطر، وأطلق من كل موقع عسكري مائة مدفع ومدفع، احتفالاً بالمولود الميمون، وبلغ الجناب العالي ذلك لمولاه الأعظم سيدنا أمير المؤمنين في دار السعادة العلية. أما ما كان من ابتهاج المصريين واحتفالاتهم من جميع أنحاء القطر بهذا المولود الميمون فحدث عنه ولا حرج، فلقد كان لهم في شهر شوال عيدان: عيد الفطر الأصغر، وعيد ولي العهد الأكبر، الذي سيبقى مستمرًّا إلى ما شاء الله تعالى. ولو أردنا أن نصف الزينة التي تقيمها دولة والدة الجناب العالي في قصر عابدين وميدانه أو الزينات التي تقوم بها اللجان المؤلفة من كبراء المصريين أو أفرادهم - لضاقت ببعضها صحائف الجريدة، وقد عجز مكتب (عموم التلغرافات) في القاهرة كما عجزت جميع المكاتب في أنحاء القطر عن أداء رسائل التهاني إلى قصر المنتزه من جماهير المهنئين، وما قولك برسائل عجز البرق في سرعته عن أدائها وإيصالها؟ ما هو السبب في كل هذه البهجة والحبور، والحفاوة والاحتفال بصورة لم يعهد لها نظير؟ السبب في ذلك هو الحب الصادق لشخص سمو العزيز عباس حلمي باشا، فلقد صدقنا فيما كتبناه في عدد سابق من أن قلوب المصريين لم تجمع على حب عزيز بعد يوسف الصديق، كإجماعها على حب العباس بن توفيق، ومن صدق في حب شيء أحب بقاءه، وبقاء الإنسان لا يكون إلا بأبنائه الذين يعد وجودهم نسخة من وجوده، ويحفظ بهم اسمه ونسبه، فنسأل الكريم المنان الذي أفاض هذا الإنعام والإحسان، أن يحفظه بعين عنايته، ويحرسه في ظل سمو والده ورعايته، وأن يبلغ هذا القطر في أيامهما مراده، ويسبغ عليه حلل السعادة، وأن يجعل هذه السلسلة بهما متصلة الحلاق إلى آخر الزمان ونهاية الدوران، إن ربي سميع الدعاء. *** جاء في مصباح الشرق المنير: أن مرتب ولي العهد في الشهر ثلاثة عشر ألفًا وثلاثمائة جنيه، وكانت تستولي عليه دولة والدته المعظمة قبل ولادته.

ليلة الجمعية الخيرية الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ليلة الجمعية الخيرية الإسلامية ما رأى الراءون منظرًا أبدع، ولا محضراً أروع (المحضر: القوم النازلون على المياه) مما كان في ليلة السبت الماضية من الزينة التي أنشأتها الجمعية الخيرية الإسلامية في حديقة الأزبكية والجمع لها، وحبذا الاجتماع على الصفاء والوداد، المنبعث من حب سعادة البلاد، كنا نقابل من الحديقة فتاة من أحسن الجواري، متمنطقة من المصابيح بالدرر بل الدراري، ولها من كل باب وجه يتلقى وجوه الناس بغاية البشر والإيناس، فإذا ما دخلتها تجدك من ليلك في نهار، في جنة تجري من تحتها الأنهار، لا تسمع فيها إلا قيلاً سلامًا سلامًا، وألحانًا مشجية وأنغامًا، ولا تبصر إلا مواكب تواكب (تساير) مواكب، وأشجارًا مثمرة بالكواكب، ومادة تطير في الجواء، وتتحد بإكسير الهواء، فتعود إلى الأرض بهيئة قلائد من العقيان، أو عقود من الياقوت والزمرد واللؤلؤ والمرجان، وبحيرة قد أحاطت بها أشكال من الأضواء، وانطبعت فيها نجوم المصابيح، فخايلت بذلك السماء، بل حاكت شمس النهار، بما انعكس من سطحها من الأنوار، قد أقيمت على جوانبها هياكل ونصب نورانية، ذات أشكال هندسية، وألوان طيفية، ما أحاط بها الطرف، فيحيط بها الوصف، وبالجملة: قد كانت ليلتنا تلك جدًّا في صورة هزل، وبرًّا وإحسانًا في قالب لهو ولعب، وخبر اجتماع عام على مصلحة الإسلام، عليها مدار تربية المئات والألوف من أبناء الفقراء والمساكين، وكل فرد من أفراد الحاضرين قد سر بأنه ركن من أركان هذا الخير العظيم، إذ مجموع الأمداد من هذه الأفراد.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار وآراء (مراكش) كل يوم تبدي صروف الليالي ... خلقًا من أبي سعيد عجيبا ما كفى بلاد مراكش فتنها الداخلية حتى تشن عليها دول أوروبا كل يوم غارة جديدة ينتحلون لها سبباً، فلا يزالون يمتصون دماءها باسم التعويض عن إهانة أو خسارة لمن يلم بأطرافها من رعاياهم، حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين. كانوا يطلبون منها المغارم فرادى، فصرن يطلبنها مجتمعات، فقد جاء في الأهرام أن وكلاء الدول في طنجة اجتمعوا في دار السفارة الإنكليزية في 14 الجاري ليقرروا طلب تعويض عام من سلطان مراكش عن القلاقل التي وقعت في سنة 1896 في ناحية ميزاب؛ لأن جواب حاكم كازابلانكة على مطالب التجار الإنكليز وغيرهم لم يكن مرضيًا لهم. *** (التعايشي وفارة السودان) انضم إلى التعايشي ومن انهزم معه بضعة أوزاع من الفارِّين بعد هزيمته، فألف منهم جيشًا عظيمًا، وكان نازلاً على بحيرة شركلة على مسافة 112 ميلاً من النيل، فغادرها وتوجه شمالاً وقاتل بعض الأعراب، فهزمهم ونكل بهم، بهذا جاءت رواد الأخبار من كردفان إلى أم درمان، وطير الخبر مع البرق إلى العاصمة، وفيه أن التعايشي قطع بجيشه ثلثي المسافة بين بحيرة شركلة والنيل. وقد صدر أمر السردار حاكم السودان إلى ضباط الجيش المصري الذين هنا من الإنكليز والسودانيين أن يعودوا إلى أم درمان ليكون دائمًا على أهبة واستعداد للقائه وهم يسافرون تباعًا.

حرية الجرائد في السودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حرية الجرائد في السودان نشرت جريدة السلام الغراء مقالة بينت فيها أن نسخها ونسخ جريدتي المؤيد والأهرام تحرق في عمل (مديرية أو قومندانية) أسوان، بأمر اللورد كتشنر باشا حاكم السودان العام، منعًا لهما من دخول البلاد السودانية، ويؤذن لجرائد الاحتلال التي تسبح بحمد الإنكليز وتقدسهم في كل أصيل، وقابلت الجريدة بين هذا الفعل المنكر من حماة الفوضويين وأنصار الحرية، وبين مراقبة الجرائد في بلاد الدولة العلية التي قصاراها قص بعض أوراقها أو ترميج بعض سطورها (إفسادها بعد كتابتها) وعبارة السلام (أو الضرب بالقلم الأحمر على بعض سطورها) . *** عالم الأرواح لقد انتشر الاعتقاد بعالم الأرواح وتعاليمه، ومحادثة الذين ماتوا بواسطة وسيط أو وسيطة، وكثر في إنكلترا إلى حد يفوق الوصف، وحمل البرق عن لندن في 29 الجاري (يناير) أن إحدى السيدات الباذلة كل ما في وسعها لنشر هذا المعتقد قد ارتأت مؤخرًا تعليم هذا المذهب في المدارس العالية، كما يعلم فن الطب وارتأت بناء كليات كبرى لتدريس الوسطاء والوسيطات فيها، أما السيدة التي اهتمت بهذا المشروع فهي (لادى ستاثرد) من البارعات المتقدمات في هذا المذهب الجديد الذي يُحدِّث عنه الناس غرائب عجائب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (كوكب أمريكا) (المنار) لم تزل الأبحاث في هذا الموضوع غامضة، وأكثر العلماء في أوروبا على أن ما يزعمون مشاهدته من الأرواح لا حقيقة له إن هو إلا تخيلات وأوهام وستُظهر مواصلةُ البحث حقيقة الأمر ولو بعد حين.

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (مجموعة سعادة الدارين) أهدانا نسخة منها جامعها المعن المفن، الضارب بسهمه في كل فن، الملا عثمان الموصلي الغني بشهرته عن التعريف، مشطر اللامية والباقيات الصالحات، والمجموعة تحتوي على (المنظومة الموصلية العثمانية في أسماء السور القرآنية) وهي من نظمه، ومتن الحِكم للعارف ابن عطاء الله السكندري، ومنظومة (أسماء الله الحسنى) المنسوبة للإمام العارف بالله تعالى سيدي عبد القادر الجيلي مخمسة بأسماء النبي صلى الله عليه وسلم من نظمه (أي الملا عثمان) وقد أذن لمن شاء بطبعها ليعم في الناس نفعها فجزاه الله تعالى خير. *** (حافظة الآداب وموقظة الألباب) كتاب صغير منشور لمؤلفه الأستاذ الفاضل الشيخ محمد الجنبيهي حملته على تأليفه وطبعه الغيرة الدينية على حرمة الأدب من هؤلاء الشبان الفاسدي التربية، المنغمسين في المنكرات والفواحش، فنحث محبي الفضيلة الذين لم تطمس من قلوبهم أعلام الهداية، ولم تدرس من نفوسهم رسوم الخير من هؤلاء الشبان على مطالعة الكتاب، وهو يباع عند السيد عبد الواحد بك الطوبي والسيد محمد صالح في السكة الجديدة، والشيخ حسنين محمد في درب الجماميز وعلي أفندي أبي زيد في الحلوجي ومحمد أفندي حبيب في باب الخلق. *** (آداب الفتاة) كتيب لطيف ألفه الفاضل علي أفندي فكري من الموظفين في نظارة المعارف المصرية، جمع فيه كثيرًا من الحكم والوصايا الدينية والأدبية والصحية، التي لا تستغني عنها الفتيات، وعبارته في السهولة بحيث لا يتوقفن في فهمه مهما كن جاهلات، بل فيه كثير من المفردات والأساليب المولدة والعصرية، وأقل ما فيه الوصايا الدينية، فلو استبدل بغسل الوجه والفم والوجه كل صباح وتنظيف الأسنان (بواسطة الخلة أو من منظف الأسنان) الوصية بالوضوء والسواك لكان أولى وعسى أن ينتبه الشبان إلى أنه لا يمكن صيانة النساء وتهذيبهن إلا بالدين (فعليك بذات الدين تربت يداك) . *** (الجامعة العثمانية) مجلة سياسية أدبية علمية ذات عشرين صفحة، تصدر ثلاث مرات في الشهر، وستكون شهر مارث المقبل مبدأ ظهورها، وهي لمديرها الوجيه ميخائيل أفندي كرم، ومنشئها الكاتب الفاضل فرح أفندي أنطون، وأحسن ما يكتب الآن عنها إعلام قراء الجرائد بأن صاحبيها كفؤان لإدامة إصدارها على الوجه الذي سيرونه من نموذجها لما عندهما من المادة الوافرة: مالية وقلمية، فنحث عليها سلفًا. *** (البريد المصري) يشتكي كثير من قراء المنار في مصر من عدم وصوله إليهم في أوقاته، ومن احتجاب بعض أعداده عنهم، ولقد كنا من قبل ننيط الإهمال بمستخدمي إدارة الجريدة الذين يتولون تغليفها وإرسالها إلى البريد، ثقة بأمانة إدارة البريد المصري وانتظام أعمالها، ثم لما تكررت الشكوى بعد التنبيه على مستخدمي الجريدة ممن ذكر، والاستيثاق منهم، علمنا أن التقصير من مُستخدمي البريد، ويشكو وكلاؤنا في القطر التونسي منذ شهرين من تأخر وصول الجريدة إليهم عن مواعيدها الأولى، فقد كانت تصل إلى تونس في نحو تسعة أيام، وهي لا تصل الآن إلا في سبعة عشر يومًا، فنستلفت المكلفين بهذا الأمر أن يتداركوا الأمر ويكفونا مؤنة الشكوى.

الأخوة والصداقة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأُخوَّة والصداقة [*] ] إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [[**] الصِّنْو أشبه بالصنو منه بالشجرة التي يخرجان من أصلها، أو الثمرة التي تخرج منهما، والأخوان صِنْوَان متساويان في الأصل والمنشأ، وفي النبات والنمو، ويتعاهدان بتربية واحدة في الغالب، فأجدر بالأخ أن يأنس بأخيه، ما لا يأنس بأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لما ذكرنا من كمال المناسبة والمشاكلة التي هي علة الأنس والحب، ولأن للوالدين من الرفعة وحقوق الاحترام والاحتشام ما يقف بالأنس بهما دون كماله، كما أن القيام على البنين بالتأديب والسيطرة منافٍ للاسترسال في الأنس بهم والانبساط إليهم في جميع الشؤون والأطوار، فكم من كلام وعمل مما يرتاح إليه يعرض عنهما الإنسان إذا كان على مرأى ومسمع من أصوله وفروعه، ويقبل إليه مع إخوانه وصنوانه، أما الصاحبة (الزوجة) فلا يظهر هذا الوجه بالإضافة إليها؛ لأن الأنس بها لا يكاد يساويه أنس، ولكن الأخ يفوقها في مناسبة الاتفاق في المنبت والتربية، فإن لاختلاف التربية أقوى تأثير في الألفة والمحبة والنفور والوحشة، وهو العلة في التنازع بين الأزواج، واختلال نظام العائلات المؤدي إلى سقوط الأمة في عواثير الشقاء ومهاوي الهلكات. ومزية أخرى يفضل بها الأخُ الزوجَ، وهي: أن الاستعاضة عنه إذا فقد ليست مما يناله الكسب، ويتوصل إليه بسعي أخيه الذي فقده. يحكى أن امرأة كان لها ابن وأخ وزوج وقعوا في غضب الحجاج، فأراد الإيقاع بهم، وعهد إلى المرأة أن تختار أحدهم كفيلاً لها ليقتل من عداه، فاختارت الأخ قائلة: إن الابن والزوج يمكن الاعتياض عنهما، وأما الأخ فلا عوض عنه، فأعجب الحجاج بقولها؛ لأنها غلَّبت العقل والحكمة على الحنان والشهوة، وعفا عن الجميع وقال: لو اختارت غير الأخ لقتلت الكل ولم أدع لها أحداً. وبالجملة إن لكل قريب ونسيب مكانة تفضله من وجه على الآخر، فللوالدين: التعظيم والاحترام، وللولد: الرأفة والحنان وللأخ والزوج (يطلق على الذكر والأنثى كما لا يخفى) ارتياح المساواة، وأنس الكفؤ والنديد، ولذلك يسمى الأخ شقيقًا، كأن الأخوين شيء واحد شُق نصفين، ويسمى صنوًا، والصنوان هما فسيلتا النخل تخرجان من أصل واحد، ويسمى كل من الرجل والمرأة المقترنين زوجًا للآخر بملاحظة أنهما شيء واحد في المعنى، ظهر بصورتين ثَنَّت إحداهما الأخرى، وقد علمت أن مكانة الأخ لا يحلها سواه، وأن الميل إليه ميل إلى كفيح ونديد، ترى له عليك مثل ما لك عليه، بخلاف سائر الأقربين، ولهذا سمي الصديق أخًا، وجاء القرآن يعلم الناس ويرشدهم لأن يكونوا كلهم أصدقاء وإخوة، ويجعلوا أباهم في هذه الأخوة الإيمان بالله تعالى بما نزل من الحق فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، ورتب على ذلك قوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: 10) ، وفي الحصر بـ (إنما) والعطف بالفاء ووضع الظاهر في (أخويكم) موضع الضمير - ما لا يخفى من تأكيد هذه الأخوة وتقريرها، ثم قال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} (الحجرات: 10) بأن تقوموا بحقوق هذه الأخوة، وما ترتب عليها من الإصلاح بالمساواة إذ لا وجه لمحاباة أحد والكل إخوة: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10) في الدنيا والآخرة، وما أجدر من يقوم على هذا الصراط السوي بأن يرحم. يسمي الناس كل صاحب صديقًا وأخًا، وأين الصداقة والأخوة من كل تصحبه، أذكر هنا ملخص رقيم كنت أرسلته في سنة 1304 لصاحب آخيته في بعض البلاد السورية [***] وهو ما جاء بعد كلام: إنني أحب أن أكتب إليك الآن كلمات تتعلق بهذا اللقب الشريف (الأخ الصديق) الذي أطلقته عليك وهي: قد اعتاد الناس إطلاق هذا اللقب الشريف على كل من ارتبطوا معه برابطة من روابط الاجتماع، ولو كانت الرابطة منفصمة العرى مقطعة الأسباب، أو انتكث فتلها بعد إبرام، وتداعت دعائمها بعد إحكام، فإذا كانت رابطة المصاحبة هي الاجتماع على القيل والقال وإضاعة المال، بنحو أكل وشرب ولهو ولعب، فيجدر بنا أن ندعو ذويها أصحاب الوجوه وهم كثيرون حيث تكثر البطالة وتقل دواعي العمران، وإذا كانت الجامعة بينهم الاشتراك في المنافع المالية والعلائق الشخصية العملية، فينبغي أن نسمي صحبتهم صحبة المصالح والحظوظ، وهؤلاء يكثرون بكثرة الأعمال التجارية والصناعية في المدن النافقة الأسواق الكثيرة السكان الوافرة العمران، وإذا كانت جامعتهم هي المشاكلة في الأخلاق والسجايا، فهؤلاء هم الذين يصح إطلاق لقب الصاحب على آحادهم بغير قيد، وصحبتهم هي الصحبة الحقيقية، وهم فرق كثيرة لاختلاف السجايا وتباين الأخلاق، وأكثر أفراد المتصاحبين من الأنواع المتقدمة الذكر لا يعرفون معنى الصدقة، وإن أكثروا من الثرثرة بلفظها؛ لأن أساسها الذي يقوم عليه بناؤها هو الصدق في السر والعلن، والغيبية والشهود، والقرب والبعد، وفي السراء والضراء، والزعزع والرخاء، وهو أعز من الكبريت الأحمر، ولذلك أنكر الصديق الوفي المنكرون فقال أحدهم: سمعنا بالصديق ولا نراه ... على التحقيق يوجد في الأنام وأحسبه محالاً أو مقولاً ... على وجه المجاز من الكلام وقال آخر: أيقنت أن المستحيل ثلاثة ... الغول والعنقاء والخل الوفي لعمرك إن غير الصدوق معذور باعتقاد استحالة وجود الصديق، لما عنده من الدليل الوجداني على ذلك، والصدوق يعذر أيضًا إذا ارتأى أنه انفرد بالصدق في بعض الأحايين، لما يعانيه من الابتلاء بمراوغة المنافقين ومخادعة الكاذبين، ونظير ذلك ما تُنوقل عن السلطان محمود أنه أقسم مرة أنه لا يوجد في إستانبول مسلم غيره وغير فرسه وسيفه، يريد عليه الرحمة أنه لم يصدق معه غيرهما، وأنه لا يثق إلا بهما، فإذا ظفر مثل هذا الصديق بآخر مثله ربما ادعى انحصار الصداقة فيه وفي صديقه، وإنما يصح ذلك بالنسبة لاختباره في وطن إقامته. ثم إن أقوى الصداقة أساسًا وأضوأها نبراسًا، وأمنعها من الانحلال وأبعدها عن الاختلال، صداقة أرباب المبادئ الشريفة والمقاصد الجليلة، فمهما كان للصديقين منزع واحد ومشرب واحد هو مقصدهما من حياتهما تعاهدا عليه وتآخيا من أجله، فلا جرم أن أخوتهما تكون أقوى من الأخوة النَّسَبية، ورابطة صداقتهما أقوى من سائر الروابط الاجتماعية. نعم، إن الثبات على الصداقة - كغيرها - مشروط بحسن الخلق وتهذيب النفس؛ لأن فاسد الأخلاق عرضه للتغير والانقلاب، تتلاعب به عواطف الأهواء فتقلبه ذات اليمين وذات الشمال، فلا يستقر له شأن، ولا يثبت على حال، فكم تألفت في أوطاننا شركات تجارية وصناعية، فبدد فساد أخلاق أفرادها شملها، ونثر منظوم أهلها، وفرق اجتماعهم وجعلهم عبرة للمعتبرين، ربما كان التنازع على شيء لا يبالي به عاقل ولا يلتفت إليه مهذب، سبباً للفشل ونفض اليدين من العمل، بل في نقض أساس رفع بناؤه وحل عُرى أُحْكِم فتلها، وذلك كالتقدم في المجلس أو في الختم على الأوراق أو التحلي بلفظ رئيس أو مدير ونحوهما من الألقاب، أو مراعاة مصلحة شخصية (واخجلتاه) . وهذا هو السبب الذي قضى على الأمم الشرقية أو الإسلامية في هذه الأزمنة الأخيرة بالتقاطع والتنازع، حتى رزءوا بالضعف والهبوط، بل بالخسف والسقوط وصارت حالهم - كما نرى - شر الأحوال، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قام فيهم مصلحون مجددون، نبهوا الأفكار الغافلة وحركوا سواكن الهمم، فاستضاءت بنور الحقيقة بصائر، ونشطت للعمل أعضاء سلكت الجادة وأتت البيوت من أبوابها، حتى كادت تبلغ الغاية، لكن عارضها في سيرها وحال دون تمام العمل نفوذ العدو الغربي المتيقظ لما يعقب نهضة هذه الفئة المصلحة من إيقاف مطامعه في الشرق عن الامتداد، بل من تحويل مده إلى جزر لا يفيض بعده ثائب، وساعد العدوَّ الغربي على معاكسة (كذا) الإصلاح الأمير الشرقي الجاهل، فكان عاملاً على ثل عرشه وانتزاع سلطانه، ولقي أولئك المصلحون من الألاقي (الدواهي) ما لا محل لشرحه هنا، وهم لا يزالون على سعيهم، وتعاليمهم الشريفة لها من ذوي النفوس الزكية والعقول الصافية، المحل الأول والمقام الأسنى، وبانبعات أشعتها في أفكارهم، وإضاءتها أرجاء قلوبهم، تدب فيهم حرارة الغيرة على الدين والوطن، وما بعد انفعال الغيرة إلا الأخذ بوسائل العمل ومقاصده، {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (النور: 46) . إن لكل عاقل غرضًا صحيحاً من حياته، وغرض هذا العاجز إنما هو خدمة أمته ووطنه من طريق علمي تهذيبي على ما يرشد إليه سير المصلحين، ولما كان هذا أمرًا عامًّا كليًّا - وكل أمر كلي عام لا يفي به الواحد - احتجت لانتقاء الإخوان المؤازرين المساعدين الذين يوثق بثباتهم لتهذبهم وحسن مقاصدهم ونياتهم، فلم اصطف في طرابلس إلا واحدًا أو اثنين من صنفنا (أهل العلم) وقد اصطفيتك أنت من أهل (....) [1] لما رأيته فيك من سمو الأفكار والنظر في حوادث الكون بعين الاعتبار، مع التبصر والتدبر والتأسف والتحسر، بحيث لم يبق عندي ريب في أنك على المشرب الذي نستقي منه، والمنحا الذي ننتحيه، ولم يبق من شروط الأخوة الكبرى إلا الصدق والثبات الناتجين عن تهذيب الأخلاق (كذا في الأصل ولا أرى أن قول الناس: نتج كذا عن كذا عربيًّا) وعندي أن اكتناه المرء واختباره التام الذي تُعرف به أخلاقه وسجاياه لابد فيه من المعاشرة والمخالطة عدة سنين، لكن لما كان مشربنا الذي أومأنا إليه محالفًا للتهذيب غالبًا لا يكاد يجنح إليه إلا محب للكمال، ولا يرسخ في نفس فاسدة الأخلاق والآداب، وكنتم مع قوة ميلكم إليه قد توفقتم (الصواب: وُفِّقتم) للمطالعة في كتاب إحياء العلوم، الذي هو أحسن كتاب تهذيبي إسلامي، وهو أستاذي الأول - فهذان الأمران أثبتا لي أملاً قويًّا وحسن ظن بصدقكم وثباتكم فعاهدتكم على الولاء، وأطلقت عليكم لقب: (الأخ الصديق) وسيزيد الرجاء قوة وتمكنًا بكرور الأيام، ويصير الظن عين اليقين [2] ، ونكون في جنة الأعمال المفيدة إخوانًا على سرر متقابلين، يوم ينفع العالم منا بعلمه، والمتمول بماله، ونعم أجر العاملين اهـ.

حقوق الأخوة ـ 1

الكاتب: أبو حامد الغزالي

_ حقوق الأخوة والصحبة قال الإمام الغزالي: اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين، وكما يقتضي النكاح حقوقًا يجب الوفاء بها قيامًا بحق النكاح، فهكذا عقد الأخوة؛ فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء والإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف والتكليف، وذلك يجمعه ثمانية حقوق. (الحق الأول) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى) وإنما شبههما باليدين لا باليد والرجل؛ لأنهما يتعاونان على غرض واحد، فهكذا الأخوان إنما تتم أخوتهما إذا توافقا في مقصد واحد، فهما من وجه كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المساهمة في السراء والضراء، والمشاركة في المال والحال وارتفاع الاختصاص والاستئثار. والمواساة بالمال مع الإخوة على ثلاث مراتب: (أدناها) أن تُنزله منزلة عبدك أو خادمك، فتقوم بحاجته من فضل مالك، فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء، ولم تُحوِجه إلى السؤال، فهو غاية التقصير في حق الأخوة. (الثانية) : أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك، ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال، قال الحسن: (كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين أخيه) . (الثالثة) وهي العليا: أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين. (أقول في هذا بحث أوردته في كتابي (الحكمة الشرعية) وبينت فيه أن مرتبة الإيثار على النفس ليست عُليا المراتب، وسأذكره في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى) . ومن تمام هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضًا، كما رُوي أنه سُعي بجماعة من الصوفية إلى بعض الخلفاء، فأمر بضرب رقابهم وفيهم أبو الحسين النوري. فبادر إلى السياف ليكون هو أول مقتول، فقيل له في ذلك فقال: أحببت أن أوثر إخواني بالحياة في هذه اللحظة، فكان ذلك سبب نجاة جميعهم - من حكاية طويلة - فإن لم تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك، فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد في الباطن، وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية، لا وقع لها في العقل والدين، فقد قال ميمون بن مهران: (مَن رضي من الإخوان بترك الأفضال فليؤاخِ أهل القبور) . وأما الدرجة الدنيا فليست مَرضية عند ذوي الدين؛ روي أن عتبة الغلام جاء إلى منزل رجل كان قد آخاه، فقال: أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف، فقال: خذ ألفين، فأعرض عنه، وقال: آثرتَ الدنيا على الله، أما استحيت أن تدَّعي الأخوة في الله وتقول هذا. ومَن كان في هذه الدرجة من الأخوة فينبغي أن لا تعامله في الدنيا، قال أبو حازم: إذا كان لك أخ في الله فلا تعامله في أمور دنياك. وإنما أراد به من كان في هذه الرتبة. وأما الرتبة العليا: فهي التي وصف الله تعالى المؤمنين بها في قوله {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الشورى: 38) أي كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض، وكان منهم من لا يصحب من قال: مالي أو نعلي؛ لأنه أضافه إلى نفسه. وجاء فتح الموصلي إلى منزل أخ له وكان غائبًا، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته، وأخبرت الجارية مولاها فقال: (إن صدقتِ فأنت حرة لوجه الله) سرورًا بما فعل. وجاء رجل إلى أبي هريرة رضي الله عنه وقال: إني أريد أن أواخيك في الله، فقال: أتدري ما حق الإخاء؟ قال: عرفني، قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني. قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد، قال: فاذهب عني. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل: (هل يُدخِل أحدكم يده في كُم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه؟ قال: لا، قال: فلستم بإخوان) . ودخل قوم على الحسن رضي الله عنه فقالوا: يا أبا سعيد، أصليت؟ قال: نعم، قالوا: فإن أهل السوق لم يصلوا بعد، قال: ومن يأخذ دينه من أهل السوق، بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم. قاله كالمتعجب منه، وجاء رجل إلى إبراهيم ابن أدهم رحمه الله وهو يريد بيت المقدس فقال: إني أريد أن أرافقك، فقال له إبراهيم: على شرط أن كون أملك لشيئك منك، قال: لا، قال: أعجبني صدقك. قال: فكان إبراهيم رحمه الله إذا رافقه رجل لم يخالفه، وكان لا يصحب إلا من يوافقه، وصحبه رجل شرَّاك (هو الذي يعمل الشُّرُك للنعال) فأهدى رجل إلى إبراهيم في بعض المنازل قصعة من ثريد ففتح جراب رفيقه وأخذ حزمة من شُرُك وجعلها في القصعة وردها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه قال: أين الشُّرُك؟ قال: ذلك الثريد الذي أكلته إيش كان؟ قال: كنت تعطيه شراكين أو ثلاثة، قال: اسمح يُسمح لك. وأعطى مرة حمارًا كان لرفيقه بغير إذنه رجلاً رآه راجلاً، فلما جاء رفيقه سكت ولم يكره ذلك. قال ابن عمر رضي الله عنهما: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة فقال: أخي فلان أحوج مني إليه، فبعث به إليه، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخر، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر، حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة. وروي أن مسروقًا ادَّان دينًا ثقيلاً وكان على أخيه خيثمة دين، قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم، ولما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والأهل، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك فيهما، فآثره بما آثره به، وكأنه قَبِله، ثم آثره به وذلك مساواة والبداية إيثار والإيثار أفضل من المساواة. وقال أبو سليمان الداراني: (لو أن الدنيا كُلَّها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له) . وقال أيضا: (إني لألقم اللقمة أخًا من إخواني فأجد طعمها في حلقي) . ولما كان الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء قال علي رضي الله عنه: لَعشرون درهمًا أعطيها أخي في الله أحب إليَّ من أن أتصدق بمائة درهم على المساكين. وقال أيضًا: (لأن أضع صاعًا من طعام وأجمع إخواني في الله أحبُّ إليَّ من إعتاق رقبة) . واقتداء الكل في الإيثار برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه دخل غيضة مع بعض أصحابه فاجتنى منها سواكين: أحدهما معوج، والآخر مستقيم، فدفع المستقيم إلى صاحبه فقال: يا رسول الله، كنت والله أحق بالمستقيم مني، فقال: (ما من صاحب يصحب صاحبًا ولو ساعة من النهار إلا سئل عن صحبته، هل أقام فيها حق الله أم أضاعه) . فأشار بهذا إلى أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر يغتسل عندها، فأمسك حذيفة ابن اليمان الثوب وقام يستر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اغتسل، ثم جلس حذيفة ليغتسل، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوب وقام يستر حذيفة عن الناس، فأبى وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا تفعل، وأبى عليه السلام إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل، وقال صلى الله عليه وسلم: ما اصطحب اثنان قط إلا كان أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه. وروي أن مالك بن دينار ومحمد بن واسع دخلا منزل الحسن وكان غائبًا، فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت سرير الحسن، فجعل يأكل، فقال له مالك: كُفَّ يدك، حتى يجيء صاحب البيت، فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل، وكان محمد أبسط منه وأحسن خلقًا، فدخل الحسن وقال: يا مُوَيْلِك، هكذا كنا لا يحتشم بعضنا من بعض، حتى ظهرت أنت وأصحابك، وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في الأخوة، كيف وقد قال الله تعالى:] أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [ (النور:61) كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه ويفوض إليه التصرف كما يريد، وكان أخوه يتحرج من الأكل بحكم التقوى، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية، وأذن لهم في الانبساط في طعام الإخوان والأصدقاء.

الاشتراكية والدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاشتراكية والدين (ملخص من كتابنا: الحكمة الشرعية) علم مما تقدم عن الإحياء للإمام الغزالي أن عُليا درجات الأخوة ورُتبها هي كون الإخوان كلهم خُلطاء في الأموال وشركاء، لا يميز بعضهم رحله عن بعض، ومعلوم أن المؤمنين كلهم إخوة - كما في نص القرآن - وإن كان الكثير بل الأكثر منهم غير قائم بحقوق هذه الأخوة، وإذا كان بلوغ الرتبة العليا من الأخوة مستحسنًا ومطلوبًا شرعًا، فهو دليل على أن الاشتراكية التي ينزع إليها بعض الجمعيات في أوروبا مستحسنة ومطلوبة في الجملة؛ لأن لها أصلاً في الشريعة الإسلامية الحقة المؤيدة بالعقل الصحيح، مع أننا نرى الحكماء والعقلاء، لا سيما رجال الدين منهم يطلقون القول في ذمها وذم ذويها، فهل ذلك من الصواب أم لا؟ الجواب الذي يتراءى لنا هو أننا إذا نظرنا في المسألة بعين الحق المجرد تجلى لنا أن للاشتراكيين مطالب عادلة في الجملة، وأنهم معذورون في تحزبهم للتحامل على الأغنياء الذين هم يُرَاءون ويمنعون الماعون، وينفقون إسرافًا وتبذيرًا، ولا يرحمون مسكينًا ولا فقيرًا، لكن بعض مطالبهم جائرة، لا يمكن أن ترضى بها أمة من الناس، كما ينقل عن بعضهم القول بأن الاشتراك ينبغي أن يكون في كل شيء، حتى في الأبضاع، وهو سفه من القول لا يقول به إلا السفهاء، وإلى الآن لم يستطع أحد من زعماء الاشتراكيين أن يأتي بتعاليم للاشتراكية مقبولة عند جماهير العقلاء المنصفين، ولو طلبوا هاته الرغيبة في الدين الإسلامي لظفروا بها، ذلك أن الشريعة الإسلامية الغراء تفرض في أموال الأغنياء من عين أو تجارة، وفي نتائج زراعة الزارعين فرضًا معينًا يخف عليهم أداؤه، تصرفه لمن يعجز عن كسب يقوم بكفايته من فقير ومسكين وللغارمين وأبناء السبيل إلخ التفصيل المعروف في كتب الفروع. وهذا الفرض يُلزم به الأغنياء إلزامًا ويُجبرون عليه إجبارًا، وتُحث الناس بعد ذلك على التنفل في الصدقة، وعلى الصلة والهدية والمواساة وإكرام الضيوف وعلى الصداقة والأخوة التي أرفع درجاتها أن يتصرف الصديق في مال صديقه كما يتصرف في مال نفسه، ولا يصادف منه على ذلك إلا الرضا، بل الفرح والاستبشار. نعم هذه الرتبة لا يُحمل عليها الناس كرهًا وإنما يُقادون إليها بسلاسل الآداب الدينية مع الرفق والحكمة إلى أن يأتوها راغبين، وذلك بنشر تلك الآداب والتربية للأحداث ذُكرانًا وإناثًا على أصول تعاليمها. لا ريب أن انتهاج هذا المسلك يأتي بفائدة كبرى للأمة، هي السعادة بعينها، وإن كان وصول جميع الأفراد لمرتبة الأخوة الكبرى بعيد المنال، لما يعترض التربية من العوارض الخارجية والأحوال، فضلاً عن كون تعميمها لا يتم إلا بالقوة وكثرة المال، وفي إكراه العموم على ذلك حرج شديد، لا يقول به ذو رأي سديد، ولا يزال أولئك الاشتراكيون كلاًّ على كاهل أوروبا، ولا يصلون إلى تمام ما يطلبون؛ لأن رجل الدين ورجال السياسة جميعاً يرفضون تعاليمهم ويسفهون أحلامهم، إلا ما كان من الجمعية الفرنسوية التي تسمى: جمعية الأخوة، فأولئك تشبه أحوالهم وتعاليهم ما كان من الأخوة في شبيبة الملة، كما تقدم عن الإحياء، وقد صدر عن هذه الجمعية آثار نافعة لأمتهم من نشر العلوم والفنون الرياضية والفلسفية مقرونة بالدين المسيحي على المذهب الكاثوليكي، وقد انتشرت مدارسهم في ممالك الشرق يوطئون المسالك ويمهدون السبل لامتداد نفوذ فرنسا وتسلُّطها على البلاد التي ينشرون فيها تعاليمهم، كما يفعله غيرهم من جمعيات دول أوروبا في ممالك الشرق، وأهل الشرق لاهون غافلون عما يراد بهم. (قاعدة في الطاقة، والكلب يأكل في العجين، يا كلب كُلْ واتهنَّا ما للعجين أصحاب) بل أهل الشرق نيام، فإذا ماتوا باستعباد الأجانب لهم ونوقشوا الحساب، وحاق بهم العذاب، انتبهوا، وأَنَّى ينفع الانتباه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأجدر بالمسلمين أن يكونوا هم السابقين لمثل تلك الجمعية، بل ولكل مزية مفيدة مرضية من المزايا التي سبقتنا بها الأمم الغربية، وما كنا لنستفيق فصبر جميل. هذا، وإن للاشتراكيين والمتآخين في أوروبا حجة في كتابهم الديني الذي عليه مدار النصرانية وهو المسمى بالعهد الجديد، فقد ذكر فيه ما نصه: وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن أحد يقول: إن شيئًا من أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركًا وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم، إذ لم يكن فيهم أحد محتاجًا لأن كل الذين كانوا أصحاب حقول أو بيوت كانوا يبيعونها ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها على أرجل الرسل، فكان يوزع على كل واحد له احتياج، ويوسف الذي دعي من الرسل برنابا الذي يترجم ابن الوعظ لاوي قبرسي الجنس، إذ كان له حقل باعه وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل، ورجل اسمه حنانيا وامرأته سفيرة باع ملكًا واختلس من الثمن وامرأته لها خبر ذلك وأتى بجزء ووضعه عند أرجل الرسل، فقال بطرس: يا حنانيا، لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس وتختلس من ثمن الحقل، أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر أنت لم تكذب على الناس، بل على الله، فلما سمع حنانيا هذا الكلام وقع ومات، وصار خوف عظيم على جميع الذين سمعوا بذلك، فنهض الأحداث ولفوه وحملوه خارجًا ودفنوه، ثم حدث بعد مدة نحو ثلاث ساعات أن امرأته دخلت، وليس لها خبر ما جرى فأجابها بطرس قولي لي: أفبهذا المقدار بعتما الحقل؟ فقالت: نعم بهذا المقدار، فقال لها بطرس: ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب، هو ذا أرجل الذين دفنوا رجلك على الباب وسيحملونك خارجًا، فوقعت في الحال عند رجليه وماتت، فدخل الشباب ووجدوها ميتة، فحملوها خارجًا ودفنوها بجانب رجلها، فصار خوف عظيم على جميع الكنيسة وعلى جميع الذين سمعوا بذلك. انتهى من أواخر الإصحاح الرابع وأوائل الإصحاح الخامس من سفر أعمال الرسل (ابركسيس) . وفيه أن الاشتراك كان في كل شيء متمول عندهم وهو مصرح به في الإصحاح الثاني أيضًا، وأن الاشتراك كان مانعًا لأحدهم أن يتصرف في ماله كيف يشاء ويختار، أو يمسكه عنده، بل كانوا يلزمونه أن يؤديه إلى الرسل، وهم ينفقون عليه كما يريدون، ألم تر إلى (بطرس) كيف عد (حنانيا) مختلسا عندما أمسك بعض ثمن الحقل، وهذا الحد من الإفراط لم تقل به الشريعة الإسلامية، ولا في أوائل مدة الهجرة التي شارك فيها الأنصار المهاجرين في أموالهم طوعًا واختيارًا، وحيث كان التوارث بالإسلام لا بالقرابة، لما تقتضيه حالة ذلك الوقت، وأما تعاليم العهد الجديد الذي هو أصل النصرانية، كما ألمعنا إليه قريباً فجميعها ناطقة بالإفراط في التمسك بالفضائل، وتلزم الآخذ بها أن يكون أزهد الزهاد، لا يتخذ مالاً، ولا يبتغي جاهًا، ولا يدافع عن نفسه، بل يكون خافضًا ضارعًا مستسلمًا لتصرف الحاكمين، مستبسلاً لتعدي المعتدين، وقد رفض النصارى تلك التعاليم من حيث التخلق والعمل، وادعوها بقول الجدل، كما أن المسلمين قصروا بنشر تعاليم دينهم الخالصة من الشوائب ولم يتخلقوا بأخلاقه على وجه الكمال الذي حدده، نعم إلا قليل منهم، مع أنه الكافل لهم سعادة الدارين والفوز بالحُسنيين؛ ولذلك جدت أمم النصارى في مصالح الدنيا وهم قاعدون، فازوا بالتغلب وهم خائبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (المنار) هذا ما كتبناه في (الحكمة الشرعية) من بضع سنين، ولم نقصد به الاعتراض على أعمال هذه الملة النصرانية، ولا على تعاليمهم؛ لأننا نعلم أن الإفراط في التنفير من الدنيا، وفي التزهيد بالمال والسلطة كان مناسبًا لحال ذلك العصر، لما كان عليه الناس من الفساد والبغي، وطغيان الشهوة والقوة بسبب مدنية الرومانيين المعروفة، وإنما تتعجب من أحوال الأمتين وعدم انطباقها على تعاليم الديانتين، وفي العروة الوثقى مقالة نفيسة في هذا الموضوع، سننشرها في عدد تالٍ، إن شاء الله تعالى.

الإصلاح الإسلامي والجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح الإسلامي والجرائد عندما عزمنا على إنشاء المنار كاشفنا بعض أهل النظر والخبرة بعزمنا، وشاورناهم في الأمر، فقال أوسعهم اختبارًا: إن الجريدة لا تروج إلا إذا جاءت بمشرب جديد وطرقت سبلاً لم تكن تُطرق، وهي مما يحتاج إلى السلوك فيها. ولما ظهر المنار، اعترف صاحب هذا الرأي كغيره بأنه جاء بما لم تأتِ به الأوائل من بيان الأمراض الاجتماعية التي طرأت على الأمة الإسلامية والشرق كله، والبحث في أسبابها وعلاجها، وحمد سعينا وعملنا العقلاء والفضلاء وأصحاب الجرائد خاصة قولاً وكتابةً، إلا أن جريدة معلومات العربية انتقدت علينا مرة ما كتبناه عن مراكش من سوء الحال، ودوام الاختلال، المُؤْذِن - إن لم يُتدارك - بالزوال، وبَنَت انتقادها على أن تلك البلاد متمسكة بالدين، ومن لوازمه الانتظام وحسن الحال، وأنه ما كان ينبغي لنا أن نهول ببيان ضعفها واختلال شؤونها، محافظة على كرامتها، نعم، إنها مع ذلك استحسنت ما نصحنا به سلطان مراكش من الاستعانة بمولانا السلطان الأعظم على الإصلاح بأن يطلب منه رجالاً لِبثِّ المعارف والفنون العسكرية في بلاده، ومن الغريب أن بعض أكابر رجال الدولة كتب إلينا يومئذ يستحسن ما نشرناه في شأن مراكش إلا الاستعانة بسلطاننا، قال: لئلا ترسل إليه الدولة مثل فلان، وذكر رجلاً من موظفي المعارف يعلم أننا واقفون على جهالته، وانتقد علينا أيضًا من إدارة جريدة طرابلس، فكتب لنا أولاً [1] بأننا بيَّنَّا معايب المسلمين، وكشفنا الستار عن جهالتهم وضعف دولهم وأنه كان ينبغي لنا أن نسدل الستار على هذه المخازي والمقاذر، ونؤول للمخطئين على أعين الناس من الأجانب والأعداء، ثم كتب في الجريدة شيء من هذا، ووافق طرابلس على هذا الرأي جريدة مصرية واحدة لا قيمة لها فنذكر اسمها. ثم ماذا - لم يمضِ على المنار إلا أشهر حتى رن صوته في الآذان، ولهجت بمواضيعه الألسن، وظهر لها أثر في الجرائد، واتفق أن الآلام التي دفعت بنا إلى الكتابة في هذه المواضيع، حركت بعض من ألمَّت بهم من الكُتاب في المشرق والمغرب، وحملتهم على الكتابة في الأخطار التي تتهدد الشرق كله والمسلمين فيه بخصوصهم، فكانت جريدة المؤيد ملتقى أفكارهم، ومنعكس صدى أصواتهم، ولم يطُل الأمد على نشر مقالة المراكشي ومقالة الهندي فيها (وفي المنار) حتى جاءته رسالة ضافية من حضرة جودت بك محرر جريدة (إقدام) في الآستانة العلية في ضعف الأمة الإسلامية أو الأخطار التي تحدق بها، وما عساه يقيها منها، وليس في تلك الرسالة جملة لم يرد مثلها في المنار، حتى توهم بعض المصريين أنها قد لخصت من المنار تلخيصًا. ثم نشرت جريدة معلومات العربية مقالة وجيزة في الموضوع وجهت إليها نظر المؤيد، فنشرها ثم جاءنا العدد الأخير من جريدة طرابلس، فإذا هي مفتتحة بمقالة لخصت فيها ما كتبه جودت بك، وما جاء في معلومات معترفة بما أنكرته علينا من قبل، فالحمد لله على الوفاق بعد الخلاف. ذكرت معلومات أن للإصلاح 13 أصلاً لا بد منها، وذكرت أصولاً مجملة مبهمة متداخلة، الأول منها: (الاعتصام بالدين القويم) ويا ليت شعري ما مراده به؟ فإن كان مراده التعاليم الشائعة التي يسميها الناس دينًا، فهي التي أوقعتهم فيما هم فيه، وذلك كالتوحيد أو التوكل الذي رماهم بالجبر والكسل، فمنعهم من الاعتماد على الأسباب التي ناط الله بها مصالح الكون دون الاعتماد على الشيوخ أحياءً وأمواتًا، وطلب الحوائج من قبورهم ... إلخ ما شرحناه غير مرة في المنار، ومَن فهم الدين مقلوبًا مما يأتيه بعض المتديّنين من أمرائنا وأغنيائنا من بذل الأموال الوافرة لعمارة الأضرحة والقُبَب عليها باسم الدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عمارة القبور في أحاديث كثيرة. ومن ذلك ما نقل إلينا أخيراً عن السلطانة عديلة عمة مولانا السلطان الأعظم التي ماتت من عهد قريب مِن أنها أرسلت جميع ما عندها من الحلي والجواهر إلى المدينة المنورة ليزيّن بعقد منها - يساوي 180 ألف جنيه - قبر السيدة فاطمة عليها السلام، ويصنع من الباقي - وثمنه نحو 150 ألف جنيه - ثُريا (نجفة) تعلق في روضة النبي (عليه الصلاة والسلام) ولو أنها كانت تعلم أن النبي وبنته لا يحبان الزينة، لا سيما بعد الموت، وأنهما يحبان العلوم والمعارف - لأوصت بأن تُصرف هذه الأموال لفتح المدارس في تلك البلاد التي كانت مشرق أنوار المعارف للكون، فأمست من أجهل البلاد، وضيقت الدولة في أمر المطبوعات التي تدخلها، حتى إن كل عدد من أي جريدة لا يدخل الحجاز إلا بأمر من الآستانة، على ما بلغنا، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله تعالى، وقيل: إن حلي السلطانة أرسل للمدينة لغير تلك الغاية. (الأصل الثاني: الاعتصام بحبل الخلافة) : وهذا يدخل في الأول، كما يدخل فيه قيام الخليفة بحقوق الخلافة على ما شرحناه في مقالات الإصلاح الديني. (الثالث: علم العلماء وأعاظم الأمة ما عليه الأمة وتركهم ترجيح النفع الخاص على العام) ومَن الذي يقلب تربيتهم، وأكثرهم عالِم بحال الأمة ويائس من إصلاحها؛ ولذلك يعمل لنفسه فقط. (الحادي عشر: إصدار جريدة في كل بلدة إسلامية تختص مباحثها بما يناسب شأن تلك البلدة وارتقاء أهلها علمًا وأخلاقًا) وهذا الأصل يمكن أن يوجد فيما عدا بلاد الدولة العلية من بلاد الإسلام، فإننا قد أنشأنا المنار لهذه الغاية، فكانت تمنع أعداده من بلاد سوريا بحجة أننا نرمي المسلمين بالجهالة ونقول: إنهم في حاجة إلى التربية والتعليم بالصبغة الدينية، ثم صدرت الإرادة السنية من مقام الخلافة الإسلامية بمنعها من البلاد العثمانية بكلمة كتبها للمابين والي بيروت (رشيد بك) الذي يعرف مولانا السلطان فمن دونه حقيقة حاله السيئة، فبلاد يمنع فيها عمل عظيم عام الفائدة بكلمة من جهول فاسد الأخلاق سيئ الأعمال، هل يمكن يجري فيها إصلاح؟ ونحن قد سبقنا معلومات لمثل هذا الاقتراح في مقالات الإصلاح الديني. أما بقية الأصول التي ذكرها فهي ترجع إلى شيء واحد هو: تأليف شركات مالية لتعميم المدارس للذكور والإناث، ولطبع المؤلَّفات النافعة، وإنشاء المنتديات العلمية، وتوظيف خطباء طوافين، وكل هذه المباحث قد فصلنا القول فيها تفصيلاً وإنشاء المنتديات العلمية متعذر في دار السلطنة ومتعسر في سائر بلاد الدولة؛ لأن كل اجتماع يكون مدعاة لبث الدسائس من الجواسيس كما هو معلوم، ومن العجب أنه ذكر التعليم ولم يذكر التربية، وهي الركن الأهم الأنفع. وفي الختام نسأل الله تعالى بكمال الإخلاص أن يوفق حكامنا وعلماءنا وجرائدنا لما فيه خير الأمة والملة، ونحمد الله ونثني عليه أن وفق الجرائد في بلاد الدولة على مشاركتنا في البحث في أمراض الأمة وعلاجها، ونرجو من فضله أن يقي أصحابها من ولاة السوء الذين يصدون عن سبيل الله مَنْ آمن ويبغونها عوجاً، فيواظبوا على هذا العمل المبرور الذي يُحيي الهمم، ويبعث على النهوض، وبالله التوفيق.

منتدى سمر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منتدى سمر ضمّنا وبعض فضلاء السُّمَّار سامر من السمار (السمر الحديث في الليل ويسمى فاعله ومكانه سامرًا، وجمعه في معنَيَيْه: سُمَّار) فجرى ذكر الطرق وما كتبه المنار في عدده الماضي بمناسبة الحادثة الأخيرة في شأن ذويها، وتحدثوا بأن شيخ الشيوخ سيجمعهم للمذاكرة في الإصلاح، فقال قائل: لا يمكن أن يأتي الإصلاح من جانب هؤلاء الشيوخ؛ لأنهم إذا تركوا الرقص والغناء وآلات الطرب ينفضُّ أكثر الناس من حولهم، فيقل سوادهم الذي يفيض عليهم بالأبيض والأصفر، ومدار معاشهم وجاههم على هذا، إنهم ليعلمون - كما نعلم أو أكثر علمًا - أنهم لو اقتصروا على الذكر الشرعي لا يحضر مجالسهم إلا بعض الأتقياء العقلاء الذين لا يقدمون لهم نذرًا ولا ينقدونهم شيئاً، وهذا ما يضطرهم إلى استمالة الغوغاء من الناس باللهو والباطل، فلغواً يكتب المنار، وعبثًا يحاول مبتغي الإصلاح (وأشار إليَّ) فقال سامر آخر: نرجو أن يظلوا واقفين عند هذا الحد في الاستمالة ولا يتعدوه إلى نحو الحشيش والأفيون، فانبرى له آخر وقال: وما يدريك أنهم لم يتعدوا الحدود التي ذكرتَ، إن الخيام التي يُشرب فيها الحشيش في الموالد هي مأوى المجاذيب المعتقدين ومنتحى العفاة والطالبين، ولا يمكن لأحد أن ينبس ببنت شفة في الاعتراض على ذويها لئلا يتصرفوا فيه، فتذكرت بكلام هذا السامر ما كنت سمعته من بعض القضاة الشرعيين في غضون مدة مولد السيد من أن بعض الحشاشين من الأولياء أصحاب الكشف وأنه سُرق لبعض الناس متاع، فوقف على خيمة حشاشين فأشار واحد منهم إلى أن متاع الرجل قفة، وأنها في مكان كذا، فجاء الرجل المكان المشار إليه فوجد متاعه هناك في قفة كما قال الحشاش. ولم أحدث السمار بالقصة، لكنني قلت لمن قال إن الكلام في إصلاح الطرق عبث: إنني يغلب علي اليأس من الشيوخ في الغالب، ولكن رجائي في الأمة كامل، وأنا أكتب لأبين لها الحق من الباطل، فمتى علمَتْ أعرَضَتْ عن هؤلاء المضلين الذين يأكلون أموالنا باسم الدين ويشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، وإن الحق يعلو ولا يُعلَى عليه، والعاقبة للمتقين.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار وآراء (ولي العهد للخديوية) سمى الجناب العالي الخديوي نجله وولي عهده (محمد عبد المنعم) فجمع بين فضيلتي الأسماء المشار إليها في حديث (أفضل الأسماء ما عُبد وحُمد) فنسأل الله تعالى الذي ألهم سمو والده بأن يضع له خير الأسماء أن يجعله خير مسمى، ويقر به عيون الأمة والوطن المصري العزيز. *** (اشتراك يوناني بالجمعية الخيرية) كتب الموسيو أكيلو بولو من وجهاء التجار اليونانيين في الإسكندرية إلى الجمعية الخيرية الإسلامية بأنه يعتد مصر وطناً ثانيًا له، لطول إقامته فيها، ومن حق الوطن مساعدة الأعمال الخيرية فيه؛ ولذلك يلتمس من الجمعية أن تعتبره من المشتركين بمبلغ سنوي قدره أربعون جنيهًا إنكليزيًّا، فأجابته الجمعية معترفة له بالفضل ومكافئة عليه بالشكر، فليعتبر الذين يرجئون دفع ما عليهم من سنة إلى أخرى، بل ليعتبر سائر أغنياء القاهرة، ثم أغنياء القطر الذين يقصرون في مساعدة هذه الجمعية، ولو كان للكثير منهم روح شريف ومعرفة بقيمة الوطن كمعرفة الموسيو أكيلو بولو - لعمَّت مدارس هذه الجمعية جميع مدن القطر ولكن الكرام قليل، فنسأل الله تعالى أن يزيد في أوطاننا عددهم، ويضاعف مددهم، فبالأغنياء الفضلاء تحيا البلاد وتنهض الأمم، وبهم تسقط في مهاوي العدم.

خاتمة السنة الأولى للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الأولى للمنار الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى. أما بعد: فقد تم لمنارنا بفضل الله تعالى سنة قمرية كاملة (إذ كان صدور أول عدد منه في 22 شوال سنة 1315) أنبته صدق الخدمة فيها نباتًا حسنًا، وتقبله فضلاء الأمة بقبول حسن، ولا يزال في نمو تدريجي يبشر بالكمال، ولقد صدق الله تعالى إلهامنا، وحقق رجاءنا بمؤازرة الكرام ومعاضدة الأخيار، وها نحن أولاء نراهم يزدادون يومًا فيومًا، أما الرجاء الذي أشرنا إليه فهو ما جاء في آخر فاتحة الجريدة - بعد بيان منهاجها والإشارة إلى مشارب الناس في الجرائد، وأنه انتقاد الحكومة أو المدح والذم في الأشخاص أو النكت الهزلية والروايات الغرامية - وهو: (فإذا رأوا جريدة تفند أكثر أقوالهم، وتنعي على إسرافهم في أمرهم، وتسجل عليهم التقصير في العمل المفيد لعمارة بلادهم، بل التشمير للعمل على خراب أوطانهم، أو تسليمها لأيدي الأغيار من المهطعين إلى الاستعمار، يوشك أن يلفظوها لفظ النوى ويضربوا بها عُرْض الحائط، لكنني وطَّنت النفس على الاقتناع بمؤازرة الكرام ومعاضدة الأخيار، نعم، إن الكرام قليل ورجاؤنا أن يكونوا آخذين في النمو لما تقتضيه حالة العصر ويزعج الأمة إليه موقفها الحرج ... ) إلخ. كانت الجريدة تُرسَل إلى المشهورين من القراء فيردونها من غير أن يزيلوا غلافها وينظروا فيها، ثم يتفق لهم النظر فيها عند بعض أصحابهم، فيطلبونها، وأكثر الذين اشتركوا في أثناء هذه السنة - حتى في الشهرين الحادي عشر والثاني عشر - طلبوا الجريدة من أولها، حتى احتجنا لإعادة طبع ما نفد من أعدادها، ولو أن لنا وكلاء يسعون في نشرها لكان نموها أسرع وانتشارها أعم. أما رد الناس للجرائد الحادثة من قبل الاطلاع عليها فهو لِما رأوه من كدورة مشاربها وعدم ثباتها في الغالب: وذنب جرّه سفهاء قوم ... وحل بغير فاعله العقاب الانتقاد على المنار: قلنا: إن المنار نال رِضَى العلماء والفضلاء، ولكنه لم يسلم من الانتقاد، أما علماء الأزهر الكرام، فقد أنكر بعضهم علينا مسألة واحدة وهي ما جاء في (محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر) من وجوب العمل بالحديث الشريف دون قول الفقهاء المخالف له، ووعدناهم بأننا سنبسط الكلام في هذا الموضوع في مقالة نكتبها في (الاجتهاد والتقليد) وأشار علينا بعض الفضلاء والكُتاب بأن نقلّ من الألفاظ الغريبة والاصطلاحات العلمية، ونختار السهولة في الأسلوب ليتسنى لكل الطبقات أن تفهم ما يُكتب؛ ولذلك ترى أن الأعداد الأولى من المنار أرقى في الغالب أسلوبًا، وأكثر غريباً. وأما غوغاء الناس فقد قام جماعة من سفهائهم فسلقونا بألسنة حِدَاد في جرائد البذاء والنفاق لنبذة نشرناها في سبب الخلاف الذي كان وقع بين الرفاعية والقادرية، وإنما ساقهم إلى هذا حب التقرب من صاحب السيادة والسماحة أبي الهدى أفندي الرفاعي الشهير، وذلك أن عطوفة مخدومه حسن بك خالد كتبت مقالة في الموضوع ينهى أتباعهم فيها عن الرد على المنار، ولكن طاش سهمهم وخاب ظنهم، وقد علمت سماحته أننا لم نقصد بما كتبناه إلا خيرًا، وكتبت إلينا تقول بأن جميع ما كُتب في الرد علينا غير ما كتبه المخدوم، ولم يكن مرضيًّا عندها، وأنها اعتقدت إخلاصنا وحسن قصدنا. وانتقد علينا من مصادر مختلفة مقالات منكرات الموالد ومسألة نفي الواسطة بين الله تعالى وبين الناس إلا في الهدى والإرشاد، ومسائل في زيارة القبور وتعميمها والقراءة للأموات، وفي الاقتصار على الحث على التربية والتعليم دون الأعمال المادية، بل الإكثار من الأول والإقلال من الثاني، وفي تفضيل العلم على الحرب، وفتح المدارس على فتح البلاد، وقد أجبنا عن ذلك كله بما فيه مقنع. وعود المنار: جاء في أطواء الكلام وتضاعيفه وعود كثيرة، منها ما وفينا به، ومنها ما أرجأناه للفرص والنهز، ومن هذا الأخير الوعد بالكلام على القضاء والقدر والجبر، وعلى التربية الجسدية والنفسية والعقلية، وعلى أن الأصل في الأمم الترقي لا التدلي، خلافًا لما هو شائع عند المسلمين، وعلى تمثيل الروايات وموعدنا الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى، ويدخل في هذا ما كتبناه وقلنا أن له بقية، ولم نأتِ بها كمقالات (سلطة مشيخة الطريق الروحية) ورسالة (فكاهة العلوم) لمكاتبنا الإسكندري، أما تتمة مقالات مشيخة الطرق فقد منع من إكمالها مانع، وأما فكاهة العلوم فاستطلناها على غير فائدة. مستقبل المنار: علمنا أن أكثر المشركين يحفظون أعداد المنار لأجل تجليدها في آخر السنة، ومن ثم اقترح علينا كثيرون أن نجعله مجلة بشكل الموسوعات والهلال؛ لأن شكله الآن يخرج في التجليد كبيراً وورقه يخسر بالطي بعض حسنه ومتانته، واقترح علينا آخرون من الأفاضل أن نودعه نبذًا تعليمية للناشئين من البنين والبنات - تكون في غاية البساطة والسهولة؛ لأن هؤلاء يرونه أحكم معلم للآداب والفضائل الدينية والوطنية الخالية عن الشوائب ونزغات البدع، المسقمة للأخلاق الشريفة، المضنية للعقول، المكسلة عن العمل، الباعثة على الغلو في الدين من جهة، والضعف والتقصير فيه من جهة ثانية. واقترح آخرون أن نضرب صفحًا عن الكلام في جزئيات المسائل السياسية والجرح والتعديل فيها، ونكتفي بذكر الأخبار المهمة على الوجه الصحيح، كما هو شأن المؤرخ البعيد عن الأغراض، فإننا قد انحرفنا عن هذه الخطة في بعض المسائل انحرافًا، وقد صادفت هذه الاقتراحات عندنا قبولاً. وها نحن أولاء نجعل جريدة المنار في أول سنتها الثانية مجلة أسبوعية، ونجعل فيها - بعد المقالات الافتتاحية التي تبحث في جميع المواضيع - باباً مخصوصاً لمباحث التربية والتعليم، ويدخل في التربية والتعليم علم تدبير المنزل بجميع شُعبه وفي التعليم البحث في أساليبه ودروس مختصرة في فنون شتى، يسهل تناولها على الناشئين والناشئات من تلاميذ المدارس وغيرهم، ووراء ذلك باب الآثار العلمية الأدبية وتدخل فيه الأفاكيه والمُلَح، وبعده باب الأخبار التاريخية تُذكر فيه الجوائب (الأخبار الطارئة) الداخلية والخارجية، مع ما يرشد إلى الاستفادة منها والاعتبار بها من غير غميزة ولا إزراء بالحكومات أو بسواهم. ونرجو من إخواننا الأفاضل الذين استعذبوا مشرب الجريدة وراق في أعينهم ما تحلَّت به من صادق الخدمة - أن يشدوا أزرنا بتعميم نشرها، ونحن نعدهم ببذل الجهد في ترقية شأنها، واختيار ما نراه أفيد للأمة، وأنفع للوطن {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) . ... ... ... ... ... ... ... ... (محمد رشيد رضا)

خطاب وعظي للإنسان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب وعظي للإنسان بسم الله الرحمن الرحيم {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) . أما بعد: فيا أيها الإنسان خلقك الله وسطًا بين العوالم الجسدية والروحية وأعطاك سلطانًا على العوالم السفلية والعلوية، منحك المشاعر البادية والكامنة وأسبغ عليك نِعَمه ظاهرة وباطنة، ولم يجعل لاستعدادك حدًّا معروفًا، ولا لرقيك منتهى محدودًا، فلماذا قنع بعض أبنائك بالمرتبة الدنيا فوقفوا عند الدرجة السفلى؟ يتخطى إخوتهم رقابهم وهم سائرون، ويطؤون هامهم وهم صاعدون، ولكنهم وادعون ساكنون، كأنهم لا يحسون ولا يشعرون، العبر أمامهم ووراءهم والمنبهات عمت أرضهم وسماءهم. ولكنهم لا يعتبرون ولا يتنبَّهون {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} (يس: 9) . يا أيها الإنسان، ما هذا الفرق الكبير الذي بين أفرادك. واحد كألف، وألف كأف. بل واحد يدبر شؤون أمة كاملة حتى كأنه روح مدبرة، وهي أعضاء مسخرة فأجدر بالإنسانية أن تقر لهذا بنسبته، وتنكر أولئك وإن كانوا على صورته {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) . ويا مَن خُلق على صورة الإنسان، ولكنه يعيش بروح أخس حيوان. أَفِقْ من سكرتك، وهب من رقدتك، واكفُفْ عن التمادي في الشهوات البهيمية، والاسترسال في التعديات الوحشية. واعلم أن لك روحًا أخرى إذا غلبتها على هواك، وحكَّمتها في قواك. فإنك ترتقي إلى حال جديدة تحيا بها حياة سعيدة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) . ويا أيها الشرقي تذكر وتدبر، واعلم أن ذنوب الأمم لا تُغفر، فما من أمة فشا في آحادها الكذب والخيانة والنفاق، وفسدت من آحادها الآداب والأخلاق. فانحرفت عن الشريعة الإلهية، ولم تسترشد بالسنن الكونية - إلا وصب عليها مدبر الكون سوط عذاب {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: 25) ، {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأنفال: 21) . إن شر الدوابِّ عند الله الصم الذين لا يسمعون سماع تعقل وتدبر، البُكم الذين لا ينطقون بالحق فلا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر. فاسمعوا وأطيعوا واعلموا واعملوا. وألفوا الشركات المالية، واعقدوا الجمعيات العلمية والأدبية {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (التوبة: 41) . وهاكم هذه المجلة التهذيبية. الخادمة لجامعتكم الملية والوطنية. تنتقي لكم ما هو أمسّ بمصلحتكم، وأقرب - إن شاء الله تعالى - لمنفعتكم، وأدعى - بفضل الله تعالى - إلى نهضتكم. وأرجى - بتوفيق الله عز وجل - لجمع كلمتكم. فتبين البدع التي مازجت العقائد، والمفاسد التي عرضت للسجايا والعوائد؛ فأمرضت العقول وانحرفت بالنفوس عن سواء السبيل، وتهدي لعلاج هذه الأمراض الروحية والأدواء الاجتماعية. بكشف الحجاب عن وجوه التربية النافعة، وتسهيل سبل التعاليم الناجعة. وتختار من الآثار العلمية والأدبية، والملح والنوادر الفكاهية، ما ترتاح له مع الفائدة النفوس، وتنجلي به على نزاهته الهموم والبؤوس. أما جوائب الأخبار، وحوادث الأقطار والأمصار فنذكر منها أهم ما يفيد القارئين - لا سيما المصريين والعثمانيين - وسالكين فيه منهج المؤرخ العادل، من غير طعن ولا تحامل. فالخدمة الصحيحة للدولة والأمة إنما تكون بتبيين الرشد من الغي، وتمييز الخطأ من الصواب، والتزييل بين النافع والضار؛ إذ التجريح والترجيح، والذم والمديح - لا يخفض شيء منها قدرًا، ولا يرفع ذكرًا، ولا يكون مناطًا لعزة ورقي، ولا لذلة وهُوي، وسواء كان ذلك في الأمم والدول، أم في الآحاد والأشخاص. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا في سنتنا هذه لأحسن ما وفقنا له في سنتنا الخالية. ونرجو من فضلاء الأمة الذين استعذبوا مشرب الجريدة. واعتقدوا أن مباحثها نافعة مفيدة أن يشدّوا أزرنا، ويساعدونا على تعميم نشرها {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وتمسكوا من الإصلاح بالسبب الأقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (البقرة: 189) ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) . خلق الله الإنسان عالمًا صناعيًّا، ويسّر له سبيل العمل لنفسه، وهداه للإبداع والاختراع، وقدر له من الرزق من صنع يده بل جعله ركن وجوده، ودعامة بقائه، فهو على جميع أحواله من ضيق وسعة، وخشونة ورفاهة، وتبدٍّ وحضارة صنيعة أعماله: أقواته من معالجة الأرض بالزراعة أو قيامه على الماشية، وسرابيله وما يقيه من الحر أو البرد والوجى من عمل يديه نسجًا أو خصفًا. وأكنانه ومساكنه ليست إلا من مظاهر تقديره وتفكيره، وجميع ما يتفنَّن فيه من دواعي ترفه ونعيمه إنما هي صور أعماله ومَجَالِي أفكاره، ولو نفض من يديه من العمل لنفسه ساعة من الزمان، وبسط أكفّه للطبيعة يستجديها نفسًا من حياة - لشحت به عليه بل دفعته إلى هاوية العدم. وهو في صنعه وإبداعه محتاج إلى أستاذ يثقفه، وهادٍ يرشده، فكما يعمل لتوفير لوازم معيشته وحاجات حياته - يعمل ليعلم كيف يعمل، وليقتدر على أن يعمل؛ فصنعته أيضًا من صنعه، فهو في جميع شؤونه الحيوية عالم صناعي كأنه منفصل عن الطبيعة بعيد من آثارها، حاجته إليها كحاجة العامل لآلة العمل. هذا هو الإنسان في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه. دعْه في هذه الحالة وخذ طريقًا من النظر إلى أحواله النفسية من الإدراك والتعقل والأخلاق والملكات والانفعالات الروحية - تجدْه فيها أيضًا عالمًا صناعيًّا: شجاعته وجبنه، وجزعه وصبره، كرمه وبخله، شهامته ونذالته، قسوته ولينه عفته وشرهه وما يشابهها من الكمالات والنقائص. جميعها تابع لما يصادفه في تربيته الأولى، وما يودع في نفسه من أحوال الذين نشأ فيهم وتربَّى بينهم، مرامي أفكاره، ومناهج تعقله ومذاهب ميله ومطامح رغباته ونزوعه إلى الأسرار الإلهية، أو ركونه إلى البحث في الخواص الطبيعية، وعنايته باكتشاف الحقيقة في كل شيء، أو وقوفه عند بادئ الرأي فيه وكل ما يرتبط بالحركات الفكرية، إنما هي ودائع اختزنها لديه الآباء والأمهات والأقوام والعشائر والمخالطون. أما هواء المولد والمربي ونوع المِزَاج وشكل الدماغ وتركيب البدن وسائر الغواشي الطبيعية فلا أثر له في الأعراض النفسية والصفات الروحانية، إلا ما يكون في الاستعداد والقابلية، على ضعف في ذلك الأثر؛ فإن التربية وما ينطبع في النفس من أحوال المعاشرين وأفكار المثقفين تذهب به كأن لم يكن أودع في الطبع. نعم، إن أفكارًا تتجدد، ومعقولات من أخرى تتولد وصفات تسمو، وهممًا تعلو حتى يفوق اللاحقون فيها السابقين، ويظن أن هذا من تصرف الطبيعة لا من آثار الاكتساب، ولكن الحق فيه أنه ثمرة ما غرس، ونتيجة ما كسب؛ فهو مصنوع يتبع مصنوعًا، فالإنسان في عقله وفي صفات روحه عالم صناعي. هذا مما لا يرتاب فيه العقلاء والسذج، ولكن هل تذكرت مع هذا أن الأعمال البدنية، إنما تصدر عن المهلكات والعزائم الروحية، وأن الروح هي السلطان القاهر على البدن؟ أظنك لا تحتاج فيه إلى تذكير؛ لأنه مما لا يعزُب عن الأذهان، إنما قبل الدخول في موضوعنا أقول كلمة حق في الدين ولا أظن منكرًا يجحدها: إن الدين وضع إلهي ومعلمه والداعي إليه البشر تلقاه العقول عن المبشرين المنذرين فهو مكسوب لمن يختصهم الله بالوحي [1] ، ومنقول عنهم بالبلاغ والدراسة والتلقين، وهو عند جميع الأمم أول ما يمتزج بالقلوب، ويرسخ في الأفئدة وتصبغ النفوس بعقائده وما يتبعها من المَلَكات والعادات، وتتمرن الأبدان على ما ينشأ عنه من الأعمال عظيمها وحقيرها، فله السلطة الأولى على الأفكار وما يطاوعها من العزائم والإرادات، فهو سلطان الروح ومرشدها إلى ما تدبر به بدنها. وكأنما الإنسان في نشأته لوح صقيل، وأول ما يخطّ فيه رسم الدين، ثم ينبعث إلى سائر الأعمال بدعوته وإرشاده. وما يطرأ على النفوس من غيره فإنما هو نادر شاذ، حتى لو خرج مارق عن دينه لم يستطع الخروج عما أحدثه فيه من الصفات بل تبقى طبيعته فيه كأثر الجرح في البشرة بعد الاندمال. وبعد هذا، فموضوع بحثنا الآن الملة المسيحية والملة الإسلامية، وهو بحث طويل الذيل، وإنما نأتي فيه على إجمال ينبئك عن تفصيل: إن الديانة المسيحية بُنيت على المسالمة والمياسرة في كل شيء، وجاءت برفع القصاص واطِّراح الملك والسلطة ونبذ الدنيا وبهرجها، ووعظت بوجوب الخضوع لكل سلطان يحكم المتدينين بها وترك أموال السلاطين للسلاطين والابتعاد عن المنازعات الشخصية والجنسية بل والدينية، ومن وصايا الإنجيل: (مَن ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له خدك الأيسر) ومن أخباره أن الملوك إنما ولايتهم على الأجساد وهي فانية، والولاية الحقيقية الباقية على الأرواح وهي لله وحده. فمَن يقف على مباني هذه الديانة ويلاحظ ما قلنا من أن الدين صاحب الشوكة العظمى على الأفكار مع ملاحظة أن لكل خيال أثرًا في الإرادة يتبعه حركة في البدن على حسبه - يعجب كل العجب من أطوار الآخذين بهذا الدين السلمي المنتسبين في عقائدهم إليه؛ فهم يتسابقون في المفاخرة والمباهاة بزينة هذه الحياة ورفَه العيش فيها، ولا يقفون عند حد في استيفاء لذَّاتها [2] ، ويسارعون إلى افتتاح الممالك والتغلب على الأقطار الشاسعة، ويخترعون كل يوم فنًّا جديدًا من فنون الحرب، ويُبدعون في اختراع الآلات الحربية القاتلة، ويستعملها بعضهم في بعض ويصولون بها على غيرهم، ويبالغون في ترتيب الجيوش وتدبير سوقها في ميادين القتال، ويصرفون عقولهم في إحكام نظامها حتى وصلوا إلى غاية صار بها الفن العسكري من أوسع الفنون وأصعبها، وإن أصول دينهم صارفة لعقولهم عن العناية بحفظ أملاكهم فضلاً عن الالتفات إلى طلب غيرها. الديانة الإسلامية وُضع أساسها على طلب الغلب والشوكة، والافتتاح والعزة، ورفض كل قانون يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها؛ فالناظر في أصول هذه الديانة، ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكمًا لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم وأن يسبقوا جميع المِلَل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية، والتبحُّر فيما يلزمها من الفنون كالطبيعة والكيمياء وجرّ الأثقال والهندسة وغيرها. ومن تأمل في آية {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) - أيقن أن مَن صُبغ بهذا الدين فقد صُبغ بحب الغَلَبَة وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له سبيلها والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية فضلاً عن الاعتصام بالمَنَعَة والامتناع من تغلب غيره عليه. ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق والرماية - انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرن عليها. ولكن مع كل ذلك تأخذه الد

الإيثار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإيثار جعلت الديانة الإسلامية الأعمال الفاضلة على قسمين: قسم حُكمه الوجوب، وهو ما لا حرج فيه ولا مشقة على الناس كلهم باتباعه: كأداء الزكاة وإنظار المعسر والمساواة والمماثلة في العقوبة. وقسم حكمه الندب والاستحباب؛ وهو ما لا يمكن أن يكون عليه الناس كلهم: كالعفو عن الجاني، وإبراء المعسر والإيثار على النفس مع الحاجة والخَصاصة، والأعمال الواجبة التي كلف بها جميع الناس جزمًا أفضل من الأعمال المستحبة التي طُلبت طلبًا غير جازم في الغالب؛ فإن إبراء المعسر أفضل من إنظاره كما لا يخفى، ويتراءى لغير المحقق أن الإيثار - ولو بالضروري - أفضل من الإنفاق مما زاد على الحاجة الذي هو أصل الشريعة، ودونك ما أوردناه في كتابنا (الحكمة الشرعية) من تحقيق هذا البحث وفاءً بوعدنا في العدد الماضي وهو: إن كتب السنة وأخبار السلف وآثارهم؛ تشهد لهم بفضيلة الإيثار على أنفسهم، وقد مدح الله - عز وجل - به الأنصار بقوله - عز من قائل -: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) وأقوال العلماء المصرِّحة بأن المؤاثرة أفضل درجات البذل مالئة بطون الدفاتر، ومع هذا فقد حقق إمام العارفين الشيخ الأكبر محيي الدين أن مقام أكمل الكملة تقديم أنفسهم وعدم المؤاثرة، فقد ذكرنا في رسالته (روح القدس) كلامًا في مناظرة نفسه أقنعها فيه بأن ليس لها قدم مع الأنبياء ولا مع الصحابة، وأراد أن يقنعها بذكر أحوال بعض التابعين بأنها لم تبلغ لهم أيضًا شأوًا أيضًا، فقصَّ عليها أحسن القصص من أحوال أُويس القَرني (رضي الله عنه) وسيرته في الإنفاق. قال قدس سره [1] : فقالت النفس - يا سيدي -: ارفقْ بي ولا تعجل، فقد ظهر لي في مسألة أويس هذا أمر خرج الحَلاَّج فيه فوقه، وذلك أن الحلاج رضي الله عنه قال مخبرًا عن حالته: إذا قعد الرجل عشرين يومًا دون غذاء، ثم جاءه طعام فعرف أن في البلد مَن هو أحوج منه لذلك الطعام فأكله، ولم يؤثر ذلك المحتاج به فقد سقط. وهذا مقام عالٍ كما رأيته. وهذا أويس - رضي الله عنه - ما كان يتصدق إلا بفضل طعامه وثيابه، فيأخذ حاجته أولاً، ثم يعطي ما فضل عن قُوته كل، ليلة وهو يعلم أن ثَمَّ جائعًا ولم يعطه وهذا كما رأيته قال: قلت لها: يا نفس ما أنتِ إلا اعترضت اعتراض من لا يعرف الحقائق، ولكنك جهلت المقال، فاسمعي الجواب، واعلمي أن أويس هو الإمام الذي لا يلحق. واعلمي أيتها النفس أن العارف إذا كان صاحب حال مثل الحلاج فرق بين نفسه وبين غيره، فعامل نفسه بالشدة والقهر والعذاب، وعامل نفس غيره بالإيثار والرحمة والشفقة، وإذا كان العارف صاحب مقام وتمكين وقوة صارت نفسه عنه أجنبية، لا فرق عنده بينها وبين نفوس العالم، فما يلزمه في حق نفوس الغير من الرحمة والشفقة - يلزمه في حق نفسه؛ لكونها صارت عنه أجنبية وارتفع هو علويًّا، وبقيت، هي مع أبناء جنسها سفلية، فلزمه العطف عليها كما لزمه على غيرها؛ فإن صاحب الصدقة العارف إذا خرج بصدقته ولقي أول مسكين يدفع إليه الصدقة، فإن تركه ومضى إلى مسكين آخر، فقد انتقل من رضى ربه إلى هوى نفسه وخرج من ديوانهم، فإنها مثل الرسالة لا يخص بها شخصًا، أول مَن يلقاه يقول له: قل: (لا إله إلا الله) . ولا شك أن هذا العارف إذا وهبه الله تعالى رزقًا يعلم أنه مرسَل إلى عالم النفوس الحيوانية فينزل من حضرة عقله إلى أرض النفوس، ليؤدي إليهم ذلك القدر الذي وُجه به، فأول نفس تلقاه نفسه لا نفس غيره، وسبب ذلك أن نفوس الغير غير ملازمة له ولا متعلقة به؛ لأنها لا تعرفه، ونفسه متعلقة به ملازمة لبابه فلا يفتحه إلا عليها فتطلب أمانتها منه فيقدمها على غيرها؛ لأنها أول سائل. وإلى هذا السر أشار الشارع بقوله: (ابدأ بنفسك ثم بمَن تعول والأقربون أولى بالمعروف) ؛ لتعلُّقهم بك ولزومهم بابك والغير لا يتعلق بك ولا يلازمك ملازمة نفسك وأهلك، فلما تأخروا أخروا كما هي حال الأسرار سواء؛ تخرج من عند الحق على باب الرحمة، فأي قلب وجد متعرضًا سائلاً عند الباب دفع إليه حظه من الأسرار والحكم، وحظه منها على قدر ما يرى فيه من التعطش والجوع والمذلة (أي: لله) والافتقار، وهم خاصة الله تعالى. وإلى هذا المقام أشار المشايخ وعليه حرضت الشريعة بقولها: (تعرضوا لنفحات ربكم) ومن تأخر أُخِّرَ، ومَن نَسِيَ نُسِيَ، فانظري كم بين المنزلتين: منزلة الحلاج ومنزلة أويس؟ ! وانظري هذا المقام على علوه وسموه كيف اشترك في الظاهر صاحبه مع أحوال العامة، فإن العامة أول ما تجود على نفوسها، وحينئذ يتعدى جُودها إلى غيرها , وإنما يتصرفون تحت حكم هذه الحقيقة وهم لا يشعرون، ولما عموا عن هذا السر وصاروا مثل البهائم لا يعرفون مواقع أسرار العالم مع الله تعالى حرصوا على الإيثار ومدحوا به، وهو مقام الحلاج الذي ذكرت عنه ورأيت أنه غاية فهكذا فلتُغزل الحقائق، وتُحاك حُلل الرقائق. فقالت النفس: هذا شيء -واللهِ - ما قرع قط سمعي، و {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ} (الواقعة: 95) ، و {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) وفي مثل هذا {فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26) ، لقد شرحت صدرًا ورفعت في المعارف قدْرًا. اهـ هذا ما جاء في (روح القدس) بنصه الشائق، الذي هو صفوة الحقائق، هو جدير بما وصفناه، لكن ربما توهم منه الغبي أنه يقتضي تفضيل أويس على الصحابة في هذا المقام الذي أثنى به عليهم الملك العلام وأنَّى لأويس -على فضله - بذلك؟ ! والذي يتجلى لنا في الجواب ما نقصّه عليك مفصلاً تفصيلاً. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

التربية والتعليم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التربية والتعليم (التربية) هي مساعدة القوى التي من شأنها أن تربو وتنمو على بلوغ الكمال في نموها المستعدة هي له في أصل الفطرة والخلقة، وذلك بإزالة الأسباب التي تعيق النمو أو تنحرف بالقوى عن جادة الاعتدال المطلوب، وبإمداد هذه القوى بما تغتذي به من المواد (في القوى المادية) والمعلومات (في القوى المدركة العاقلة) الخارجة عنها. وأحوج العوالم الحية إلى التربية الإنسان؛ لأن سائر الحيوان والنبات يصل غالبًا إلى كماله في الجملة من غير تربية إلا الطبيعة، وما يهبه البارئ تعالى للحيوان الأعجم من الإلهام. أما الإنسان فهو - كما مر في مقالة (العروة الوثقى) - عالم صناعي في جميع أطواره الجسدية والروحية، فمتى أُطلق علم التربية ينصرف لتربيته، وإن كان الكثير أو الأكثر من النبات والحيوان يصل بتربية الإنسان له إلى درجة من الكمال لا يرتقي إليها بنفسه إذا تُرك لطبيعته، ولعِلْمَيْ تربية النبات والحيوان أسماء أخرى عند الذين قسموا العلم. اختلف علماء التربية في ابتداء تربية الإنسان: أتكون من يوم العلم بالحمل به أو من يوم يولد؟ وأرى أن هذا الخلاف لفظي؛ إذ لا خلاف بينهم في أن أحوال الأم الجسدية والنفسية يكون لها أثر في نمو الجنين واستعداده؛ ولذلك يأمرونها بالرياضة المعتدلة وتناول الأغذية اللطيفة وعدم التعرض لما يهيج بالانفعال ولا سيما الخوف والفزع والحزن. وكأيِّن من وليد خرج ذا عاهة لم يكن لها من سبب إلا ما ألمَّ بوالدته وهي حامل به. ومن جراء هذا سنبتدئ مباحثنا في تربية الإنسان بالكلام على الحوامل وما ينبغي لهن بعبارة واضحة تفهمها السيدات وإن كن غير متعلمات. (التعليم) له إطلاقان: أولهما: إمداد القوى المدركة بعرض الأشياء عليها تدريجًا بالقول والفعل بحيث تدركها وتقدر عن التصرف فيها قولاً وعملاً (كل شيء بحسبه) وهذا المعنى داخل في مفهوم التربية ويشمل، تعليم العلوم الاعتقادية والأدبية والفنون الصناعية. وثانيهما: علم أساليب التعليم وطرقه القريبة، وهو فن نفيس ارتقى المشتغلون به الدرجات العلى في العلوم والفنون، حيث أمكنهم تحصيل الكثير في الوقت القصير، ولا يأذنون في أوربة وأمريكة بالتدريس والتعليم إلا لمن أتقن هذا الفن في مدارسه التي أنشئت له. هذا، ونحن لا علم لأكثرنا بأن أساليب التعليم قد وُضع لها علم مخصوص، واختيار المعلمين عندنا يكون بالشفاعات التي تُبنى غالبًا على كون هذا المعلم مستحقًّا للمساعدة المالية لفقره أو كونه من الأسرة أو الطائفة الفلانية مثلاً. وأبعدُنا عن معرفة التعليم هم الشيوخ الذين يعلّمون الدين وفنون اللغة في الجوامع والمساجد. وسنكتب في ذلك نُبذًا مفيدة إن شاء الله تعالى في الأعداد الآتية. ((يتبع بمقال تالٍ))

الحوادث والأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحوادث والأخبار التاريخية أهم الحوادث الخارجية: ما نُكبت به دولة فرنسة في 5 مارس وهو احتراق خمسين ألف كيلو من البارود في دار الصناعة البحرية في طولون، حصل منه انفجار عظيم كانفجار البراكين دمر به في المدينة مسطح عشرة آلاف متر وهلك جميع مَن في دار الصناعة من الجند والصناع وخلق كثير من غيرهم. وأما الخسائر فهي عظيمة لا تكاد تُقدر، وقد أرسل الملوك والأمراء رسائل التعزية لحكومة فرنسة على المصاب بعد تعزيتهم لها على موت رئيس جمهوريتها السابق فلكس فور الذي مات قبل هذه الحادثة الهائلة بأيام. وقد قام الفرنسيس يكتتبون لجمع المال من أول يوم وقعت فيه النكبة إعانة للمصابين وإغاثة لأهالي المنكوبين، فهكذا تكون الحياة الوطنية، وهذا هو الفرق بين الإنسانية والحيوانية. وأهم الحوادث الداخلية: ثبوت وقوع مرض في جدة يشبه الطاعون، وقد سمي طاعونًا كما كان في العام الماضي، وضربت المحاجر على ما يرد من جدة، وأخذت الحكومة المصرية الاحتياط كالعام الماضي، ونقل البرق أنه قد حدثت إصابة في مكة أيضًا. نسأل الله السلامة. اقتُرح علينا أن نفتح في المنار بابًا للسؤال والاقتراح، وجوابنا أننا نقبل ما يرد علينا من الأسئلة والاقتراحات، ونُدخلها في الأبواب التي تناسبها.

الإيثار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإيثار (تتمة لما سبق) إن لما أنزل الله لنا من الرزق ثلاث مراتب: (الأولى) الضرورة وهي ما لا بد منه للمحافظة على حياة المرء الجسدية كرغيف يأكله وكساء يستره، بحيث إذا لم يحصل عليه تضرَّر جسمه غالبًا أو خشي عليه التلف، وهي مرتبة الزهاد. (الثانية) الحاجة وهي ما زاد على الضرورة ولم ينتهِ إلى الترف والرفاهة، كأن يجد الإدام الواحد أحيانًا والحلوى والفاكهة أوقاتًا بمقدار ما يكفيه أو يزيد قليلاً وهي مرتبة المتوسطين. (الثالثة) الرفاهة وهي الحالة التي يحصل صاحبها ما شاء من الملاذ تُستطاب له كل يوم الألوان باللحوم والبقول والفاكهة والحلوى كما يشاء ويُختار بحسب حالة الزمان والمكان، وهي مرتبة المترفين من أهل الثراء والدثور. فإلايثار بما زاد عن الضرورة عند هؤلاء - لا شك أنه أفضل من تمتيع النفس به، وهو الذي كان شائعًا في الصحابة ومَن اهتدى بهدْيهم من أهل القرون الأولى في الأمة. ومَن كان له أهل وأقارب تجب عليه نفقتهم فضرورتهم كضرورته. ويدل لهذه الأفضلية حديث أبي هريرة عند البخاري والنَّسَائي قال: قال النبي صلى الله عيه وسلم: (أفضل الصدقة ما ترك غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمَن تعول) وفي رواية: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنىً) ومثل الصدقة غيرها من الإنفاق المشروع كالهدية ومواساة الإخوان الذي تقدم عن بعضهم تفضيله على الصدقة. وربما يفهم من الحديث أن الصدقة الفُضلى إنما تكون مما زاد عن الحاجة لا عن الضرورة فقط، وهو ظاهر ولا ينافيه قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) ؛ إذ ليس في الآية أن ذلك الإيثار هو أفضل الإنفاق، بل قصاراه أنه فضيلة يمتدح بها، وقد رجح الإمام الرازي وغيره أن الآية نزلت في إيثار الأنصار والمهاجرين بالغنيمة مع مشاركتهم لهم في دورهم وأموالهم، وجعلوا ما نقل عنهم في الصحيح من المؤاثرة للضيف وغيره مما يدخل في عموم الآية، لكن أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا - وفي رواية غير الماء - فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا رجل يضيف هذا الليلة يرحمه الله) فقام رجل من الأنصار وفي رواية: فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله. فذهب به إلى أهله فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية. قال إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي بطوننا الليلة. ففعلت، ثم غدا الضيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد عجب الله أو ضحك (الشك من الراوي) من فلان وفلانة [1] وأنزل الله تعالى فيهما: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ورُوي أن الآية نزلت في حكاية رأس الشاة الذي دار على ثمانية من الصحابة. وقد تقدم. قلت: وقد يكون الإيثار للغير أفضل في حق ذي الحاجة وذي الضرورة في بعض وقائع لخصوصية كأن يرى ذو الضرورة مضطرًّا مشرفًا على الهلاك، ولا يخاف ذلك على نفسه لو آثره بقوته، بل لا يبعد هنا وجوب الإيثار. وفي مثل ضيف النبي عليه الصلاة والسلام الذي أجهده الجوع، وفي ذي الحاجة الشحيح، أو الذي يتهم نفسه بالبخل والشح ويحاول تطهيرها من هذه الرذيلة؛ لترجع إلى الاعتدال الذي هو أكمل الكمال. والحاصل أن أصل الشرع يأمر بأن يقدم الإنسان المعصوم نفسه بالنفقة، ثم الأزواج والأقارب من فروع وأصول الخدم على الترتيب المذكور في الفقه، ثم يتصدق ويهدي من العفو والفاضل عمن تجب عليه نفقته ممن ذُكر، والأفضل أن لا يتصدق بجميع ما يملك ويدع ورثته عالة يتكففون والثلث كثير كما في حديث سعد في الصحيح (عند الستة) ومن ثم قال الإمام النواوي في شرح مسلم: إن بعضهم استدل بالحديث على تفضيل الغني على الفقير وسكت عليه، ويأمر (أي: الشرع) بالجود والسخاء والصلة والإحسان، وبالغ في ذم البخل والبخلاء؛ لأنه من الأخلاق المذمومة التي تدنس النفوس الإنسانية، وتقف بها عن الصعود إلى المراتب العلية، فالمهذب الكامل الذي زكيت نفسه من أدران الشح والبخل كأويس القرني وأضرابه يقفون عند حدود الشرع في الإنفاق بتقديم أنفسهم ثم الأقرب فالأقرب ملاحظين في ذلك ما تقدم شرحه عن الشيخ محيي الدين - أعني أن تقديم أنفسهم ليس لأجل التمتع والتنعم - وإنما كان يبذل أويس رضي الله عنه جميع ما فضل عن حاجته؛ لأنه لم يكن له أهل ولا ولد يرثه، بل كان سائحًا منفردًا، والأفضل في حقه إنفاق العفو مع التوكل بخلاف المعيل أو من يضطرب قلبه؛ لأنه لم يقم في مقام التوكل. وأما مَن لم يوق شح نفسه فالأفضل له المبالغة في البذل والإيثار بما وراء سد الرمق من الحاجيات إلى أن ترجع نفسه إلى الاعتدال الذي هو السخاء الحقيقي، وما دام السالك لم يبلغ مرتبة الكمال القصوى، فهو يتهم نفسه بالطمع والوقوف مع الحظوظ، ولا يطمئن لما توسوس به إليه من أنها تزكت من أدران البخل، وتحلت بحلي السخاء والجود، وإن كانت في واقع الأمر قد تزكت والتحقت بنفوس الأولياء العارفين الأبرار، فصاحب هذه النفس يظل يؤثر الغير؛ لاتهامه نفسه بما ذكر. يؤثر ذلك عن جماعة من مشاهير الأولياء كالحسين بن منصور الحلاج [2] والشيخ أحمد بن الرفاعي. وكان أحمد يقول: طريقتنا مبنية على ثلاثة أشياء: لا تسأل ولا ترد ولا تدخر. نقله عنه العارف الشعراني وغيره، ونقله البحريني نفسه في (ص36) وهنا أوردنا في كتابنا (الحكمة الشرعية) كلامًا نفيسًا في الادخار عند الصوفية لا ينبغي ذكره في الجرائد؛ لأنه خاص بأهله، ثم قلنا: ويحتمل أن الإيثار من بعض الصحابة عليهم الرضوان، والمبالغة في الإنفاق التي لا تنطبق على الوجه الذي قلنا: إنه أصل الشرع - كان يقصد به تهذيب النفوس لاتهامها بالبخل والشح، وربما يشعر بذلك قوله تعالى بعد مدحهم بالإيثار: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا يلزم منه تفضيل مثل أويس على هؤلاء؛ لأنه من أحوال بدايتهم، وما تقدم عنه هو حاله في نهايته. على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وهم قد سبقوا بفضيلة الصحبة التي لا تُوزن بها فضيلة ولا تعادَل بها منقبة لذاتها فضلاً عما يحتفّ بها من الفضائل والمزايا. وخلاصة القول أن البخل مذموم والتبذير أو الإسراف مذموم والسخاء - الذي هو وسط بينهما - هو المحمود والممدوح شرعًا وعقلاً. بين تبذير وبخل رتبة ... وكلا هذين إن زاد قتل ومَن خرج عن مرتبة الاعتدال في خلق من الأخلاق فسبيل إرجاعه إليها حمْله على المبالغة في الطرف المقابل، أعني أنه يؤمر بالإفراط إن كان في جانب التفريط وبالعكس؛ ومن ثم ورد الشرع في ذم الإفراط والتفريط ومدح الاعتدال والعدل، مع أنه جاء في سيرة الشارع وأصحابه وتابعيهم بإحسان - حكايات كثيرة في المبالغة في السخاء والحِلم والتواضع وغيرها من السجايا الفاضلة، بحيث تصل إلى حد الإفراط، والمراد بذلك الإرشاد والتهذيب لمن هو في طرف التفريط؛ ليرجع إلى الاعتدال، ومن ذلك إيثار صاحب الضرورة أو الحاجة غيرَه بما هو محتاج أو مضطر إليه مثله أو أزيد، والمرجع إلى محكم التنزيل القائل بالقسط والاعتدال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً} (الإسراء: 29) والله أعلم وأحكم وهو أقوم قيلاً.اهـ. فعُلم من هذا أن الاقتصاد أصل من أصول الفضائل الإسلامية، ولكن المسلمين أهملوا مراعاته، والأوربيون أعطوه من العناية ما ينبغي له. وألَّفوا فيه الكتب، وأوجبوا تعليمه في جميع المدارس؛ لأنه من مقومات المدنية، فحتَّامَ - يا قوم - لا نكاد نرى من أغنيائنا إلا سفيهًا مبذرًا، أو شحيحًا مُقترًا، بل كاد يعم الإسراف والتبذير كل غني وفقير، يتلهى المستمسك منهم بدينه بإلهيات شعرية، وجُمل خطابية، كقولهم: (أنفقْ ما في الجيب يأتيك ما في الغيب) والمنحرف عن هدْي الدين لا تسلْ عن جنونه وفنونه، وسنعود إلى مباحث الاقتصاد والبخل والسخاء في فرصة أخرى، إن شاء الله تعالى.

حقوق الأخوة ـ 2

الكاتب: أبو حامد الغزالي

_ حقوق الأخوة (الحق الثاني) في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال، وتقديمها على الحاجات الخاصة. وهذه أيضًا لها درجات كما للمواساة بالمال، فأدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة. وقال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضِها فكبِّرْ عليه واقرأ هذه الآية: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} (الأنعام: 36) وقضى ابن شبرمة حاجة لبعض إخوانه كبيرة فجاءه بهدية فقال: ما هذا؟ ! قال: لما أسديتَه إليَّ. قال: خذ مالك - عافاك الله - إذا سألت أخاك حاجة فلم يُجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة وكبرْ عليه أربع تكبيرات وعُدّه في الموتى! قال جعفر بن محمد: إنى لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني. هذا في الأعداء، فكيف في الأصدقاء؟ ! وكان في السلف مَن يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم ويموِّنهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يَرَوْا من أبيهم في حياته. وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم مِلح، هل لكم حاجة؟ وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفقة والأخوة، فإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن مهران: (مَن لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته) وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب، فأحبّ الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها على الإخوان. وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك وأهم من حاجتك، وأن تكون متفقدًا لأوقات الحاجة، غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، تتقلد منه بقبول سعيك في حقه وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة، بل تجتهد في البداية بالإكرام في الزيادة والإيثار والتقديم على الأقارب والولد. كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا. وقال عطاء: تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث؛ فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا نسوا فذكِّروهم. روي أن ابن عمر كان يلتفت يمينًا وشمالاً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه. فقال: (إذا أحببت أحدًا فسلْه عن اسمه واسم أبيه وعن منزله؛ فإن كان مريضًا عدته وإن كان مشغولاً أعنته) وفي رواية: (وعن اسم جده وعشيرته [1] ) وقال الشعبي - في الرجل يجالس الرجل، فيقول: أعرف وجهه ولا أعرف اسمه -: تلك معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: مَن أحب الناس إليك؟ قال: جليسي. وقال: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثًا من غير حاجة له إليَّ فعلمت ما مكافأته من الدنيا. وقال سعيد بن العاص: لجليسي عليَّ ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقد قال تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) إشارة إلى تمام الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في مسرة دونه، بل يتنغَّص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه. اهـ. من (الإحياء) فهكذا تكون الأخوة، وهكذا تكون آداب الأمم في طور الحياة، وكأنِّي بالذين في قلوبهم مرض تنفر نفوسهم من هذه الآثار، ولو نقل مثلها عن الإفرنج لأُعجبوا بها وتنافسوا فيها. ((يتبع بمقال تالٍ))

الحبالى وتربية الأجنة ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحبالى وتربية الأجنة (1) نعني بتربية الجنين:عناية الحامل به بصحتها لما؛ لذلك من التأثير في صحته. فقد قلنا في الجزء الماضي: إن لأحوال الأم الجسدية والنفسية أثرًا في نمو الجنين واستعداده. ولا نعني بالأحوال النفسية إلا ما مثّلنا به من نحو الخوف والحزن لا ما هو شائع من أن أية شهوة من شهوات الوحمى تؤثر في الجنين حتى تظهر صورة المشتهى في جسده إذا هي لم تصبه؛ ولذلك يجتهد الناس في إنالة الوحمى كل ما تشتهي. ويستدلون على هذا بحكايات قصاراها أنها تنهض استقراءً ناقصًا لا يثبت به المدعى قطعًا. ولكن المعقول الذي يريده العلم أن الانفعالات القوية تؤثر في الصحة، ويتبع هذا تأثيرها في الجنين، وبيانه باختصار: أن الجهاز التناسلي يتأثر بالانفعال الشديد كالجهاز العصبي والهضمي وغيرهما، وهو في أثناء الحبل يكون مشغولاً بأداء وظيفته؛ فما يطرأ عليه إما أن يساعده في عمله، وإما أن يعوقه عنه. ولا يحسبنَّ الحبالى أن أقل كدر عادي أو حزن عارض أو خوف خفيف يؤثر في أجنتهن فيستولي عليهن الوسواس كلما ألمّ بهن شيء مما لا يخلو عنه الإنسان في الغالب. كلا، إن الجنين شخص مستقل في نفسه صلته بأمه صلة المظروف بالظرف، وإنه يتغذَّى من دمها؛ ولذلك لا يؤثر فيه إلا ما يحدث أثرًا في الدم الذي يتغذى به، وحصول هذا نادر، أو في الرحم الذي هو بيئته ووطنه، وما كل انفعال يُحدث هذا الأثر، نعم، إن الأمراض الوراثية وما يطرأ على الأعضاء ولا سيما البطن من نحو ضرب ووكز ولبس الثياب الضيقة إذا كانت تضغط البطن؛ كل ذلك مقطوع بسوء تأثيره وضرره، ومن العلماء مَن زعم أن كل ما يعرض لعضو من أعضاء الحبلى ينقل منها إلى مثله من الجنين، فعلى الحامل أن تراعي ما سنذكره في النبذة الآتية في الجزء التالي لهذا. ((يتبع بمقال تالٍ))

التعليم بالعمل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم بالعمل جاء في الحدث الشريف: (مَن عمل بما علم ورثه اللهُ علمَ ما لا يعلم) ويؤثر عن الإمام علي - كرم الله وجهه - أنه قال: (يهتف العلم بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل) ، وقد أخذ الإمام هذا الأثر من مفهوم الحديث. وغاية ما انتهى إليه الباحثون في فن التعليم أن الأعمال هي التي تطبع ملكات العلم والعمل في النفوس، وأن المسائل العلمية التي تعرض على العقول من طريق السمع مرة أو مرات - لا تكاد تثبت، وإذا ثبت بعضها فإنما يكون كآلة موجودة في بيت رجل لا يُحسن استعمالها، بخلاف ما إذا عرضت المعلومات بأعيانها أو أمثلتها عند الكلام عليها وكلف المتعلم أن يستعمل علمه ويطبقه على المعلومات. وهذا مما أرشد إليه النبي والإمام من 13 قرنًا واهتدى إليه الأوربيون من عهد قريب. فمَن أحب ألا ينسى ما يتعلمه من قواعد العربية مثلاً فليُكثرْ من الأمثلة في كل مسألة، وليراعِ القواعد في كلامه بالتكلف قولاً وكتابة؛ حتى تنطبع في نفسه، وتصير ملكة راسخة يصدر عنها الكلام العربي الصحيح بغير رويَّة ولا تكلف، ونحن نرى الذين لا ينهجون هذا المنهاج يقضون أعمارهم في مدارسة الفنون العربية، ولا يحسنون قولاً ولا كتابة. ولا بد في تحصيل ملكة الفصاحة والبلاغة من كثرة قراءة الكلام البليغ مع تفهم معانيه وملاحظة أساليبه ومناحيه. ومعرفة القواعد تعين على هذا ولكنها لا تفيد في الوصول إلى المطلوب بدون هذا العمل، فكأيِّن من أستاذ قرأ كتب السعد وغيرها مرارًا وهو أعيى باقل، وأعجز عن الكتابة البليغة من صبية المدارس. وقد أحسنت نظارة المعارف المصرية بحظرها على معلمي العربية الكلام العُرفي (البلدي) في أثناء الدروس، وإلزامها إياهم بأن يجعلوا شرح الدروس وتلقينها للتلاميذ بالكلام العربي الصحيح. وأجدر بشيوخ الأزهر الأفاضل ونحوهم من معلمي المدارس الدينية - أن يكونوا هم السابقين إلى هذه السُّنة الحسنة، وعسى أن يتداركوا ما فاتهم من السبق في البداية، بالسبق والتبريز في النهاية؛ فإن السبق في نفس العمل المقصود خير من السبق في الابتداء والشروع. ((يتبع بمقال تالٍ))

ما قيل في الخال

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما قيل في الخال قال مظفر الأعمى: لا تحسبوا شامة في خده طبعت ... على صحيفة خد راق منظره وإنما خده الصافي تخال به ... سواد عينيك خالاً حين تنظره وأحسن منه في هذا المعنى قول بعضهم: صقيل الخد أبصر مَن رآه ... سواد العين فيه فخال خالا وقال ابن حمديس: يا سالبًا قمر السماء جماله ... ألبَستني في الحب ثوب سمائه أشعلت قلبي فارتمى بشرارة ... علقت بخدك فانطفت في مائه ومثله قول المقري في مزدوجته: وما أرى في خدك اليسار ... أنقطتا مسك بجلنار أم ذاك لهيب النار ... رمى شرارتين في الأوار ... ... ... ... فانطفتا في ماء ذاكالورد ... وينظر إليه قول الأستاذ الشيخ عبد الغني الرافعي الشهير وأحسن ما شاء: وما نقط ذاك الخال في الخد خلقة ... ولا حيلة جاءت بها صنعة السحر ولكننا لما اجتمعنا عشية ... وقدمت من أهوى اعتناقًا إلى صدري تقاطر دمعي فوق جمرة خده ... فكان سواد الخال من ذلك القطرِ وينظر إلى قول المقري: (أنقطتا مسك بجلنار) قول بعضهم: ومهفهف من شعره وجبينه ... يبدو الورى في ظلمة وضياء لا تنكروا الخال الذي في خده ... كل الشقيق بنقطة سوداء وقال ابن رشيق في خال تحت الحنك: حبذا الخال كائنًا منه بين الـ ... ـخد والجِيد رقية وحذارا رام تقبيله اختلاسًا ولكن ... خاف من سيف لحظه فتوارى وأحسن منه في بابه قول الشاب الظريف: وبين الخد والشفتين خال ... كزنجي أتى روضًا صباحا تحير في الرياض فليس يدري ... أيجني الورد أم يجني الأقاحا ويناسبهما قولي في الخال تحت الشعر: والخال لص شام ثغرك ضاحكًا ... فأتى ليسرق منه ذاك الجوهرا لكنه خاف اللحاظ وقد رأى ... آس العذار مخيمًا فتسترا وقال غوث الدين العجمي في العذار والخال: لهيب الخد حين بدا لعيني ... هوى قلبي عليه كالفراشِ فأحرفه فصار عليه خالاً ... وها أثر الدخان على الحواشي وللشيخ ناصيف اليازجي معنى في الخال غريب وهو: مليح شهدنا أن نارًا بخده ... لأنا وجدنا بينها فحم خاله وأنت ترى أنه أهان الخال ونقصه قدره، وهو ذنب لا يغفره له عشاق الحسان، ويستحق عليه الهجر من الغوان! وقريب من هذا قوله: في خدها نار المجوس التي ... قام لديها الخال كالموبذان وقال في مطلع قصيدة وأحسن ما شاء: ما بال تلك الشامة الخضراء ... في النار وهي كأنها في الماء وقد تفننوا في تشبيه الخال بالمسك والعنبر، ومما قاله ابن سهل في ذلك من قصيدة: غزال براه الله من مسكة بري ... بها الحسن منا مسكة المتجلدِ وأبدع فيها الصنع حتى أعارها ... بياض الضحى في نعمة الغصن الندي وأبقى لذاك الأصل في الخد نقطة ... على أصلها في اللون إيماء مرشدِ وله في الخال أيضًا: لا أرى الخال فوق خد ... يك ليلاً على فلق إنما كان كوكبًا ... قابل الشمس فاحترق

الجامع الأزهر الشريف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامع الأزهر الشريف من جملة التنظيم الجديد في الأزهر الامتحان السنوي لمن شاءه من طلاب العلم فيه، ويمتحن في العلوم والفنون التي يختار الطالب أن يمتحن فيها، وقد خَصص مجلس إدارة الأزهر ستمائة جنيه لمكافأة النابغين في التحصيل سنويًّا. ويؤخذ من الرقيم الذي رفع من فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع إلى عطوفة رئيس مجلس النظار أن الذين طلبوا الامتحان في العام الماضي كانوا نحو ستمائة وامتحنوا في ثمانية عشر علمًا. وأما الذين طلبوا في هذا العام فكانوا 1502 وامتحنوا في ثمانية وعشرين علمًا، والذين نجحوا يعرفون بحساب النسبة المئوية مما يأتي: الناجحون في علم التوحيد 18 في المائة، وفي علم التفسير 19 (نحذف لفظ في المائة اختصارًا) والحديث 66، والفقه 50، والميراث 78، والنحو 47، والصرف 26، والمعاني 75، والبيان والبديع، 49، والمنطق 43، ومصطلح الحديث 60، والحساب للسنة الأولى 62، وللسنة الثانية 80، وتقويم البلدان (الجغرافية) للسنة الأولى 65، والثانية 85، والهندسة 70، والميقات 75، والتاريخ 85، والعَروض والقافية 70، وعلم الإنشاء 25، والخط 77، والأخلاق الدينية 50، وآداب البحث 75. وفي كل من علم الحكمة والوضع والاشتقاق نجح جميع الذين امتحنوا، ولم ينجح في علمي الجبر والمقابلة والهيئة أحد ممن امتحنوا، ولم يحضر للامتحان في علم أصول الفقه أحد ممن كان طلبه! والذين طلبوا الامتحان في كل من التفسير والحديث ومصطلحه والميراث والبديع والعروض والقافية والتاريخ والإنشاء والميقات كانوا فوق العشرين ودون المائة - وفي كل من علم الأصول والحكمة وآداب البحث والوضع والاشتقاق، والأخلاق الدينية والجبر والمقابلة والهيئة أقل من عشرة، والذين امتحنوا في كل علم مما عدا هذه العلوم - لا سيما التوحيد والفقه والنحو والمنطق والبيان والحساب والهندسة وتقويم البلدان - يعدون بالمئات. أما أخذ المكافآت فهو بحسب درجات التحصيل التي تقدر ويعبر عنها (بالنمر) وقد جعلت الدرجة الثانية عشرة (نمرة 12) علامة النجاح، وكل من انتهى إليها في العام الماضي أخذ المكافأة التي أقلها جنيه واحد، وأكثرها ثلاثة. وأما في هذا العام فقد خصصت المكافأة بالنابغين لقلتها وكثرة الطالبين،وجعلت درجة النبوغ 16، فأصحاب الدرجة 12 إلى 15 عدوا ناجحين غير نابغين فلم يستحقوا مكافأة، وأصحاب الدرجة 16 فما فوقها أخذوا المكافآت على هذه الطريقة العادلة، وهي أنه جمعت درجات النبوغ في العلوم كلها وقسم عليها مبلغ المكافأة بتمامه، فما أصاب الدرجة الواحدة جعل سهمًا لمكافأة النابغ في فن واحد بدرجة واحدة، فمن بلغت درجاته في العلوم التي امتحن فيها مائة مثلاً نال مائة سهم، وهكذا، وظاهر أن هذه الطريقة أعدل وأحكم من الطريقة الأولى؛ لأن كل طالب يأخذ فيها على قدر استحقاقه. هذا ملخص الرقيم، ويسرنا منه حسن النظام الذي يجري عليه مجلس إدارة الأزهر الشريف، ونرجو أن يترقى به إلى أعلى درج النجاح الممكن، فإن النظام روح السعادة في أعمال الإنسان وساءنا أن الذين امتحنوا في علم الأخلاق - وإن شئت قلت: علم الدين - جمعهم جمع، قلة؛ بل علمنا أنهم أربعة أخذ الجائزة منهم اثنان، وعسى أن يكون في الأزهر ممن لم يطلب الامتحان عدد كبير من المشتغلين بهذا العلم؛ فإنه هو الأساس الذي يقوم عليه بناء السعادة الدنيوية والأخروية.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الحج والوباء) اجتمع مجلس النظار اجتماعًا خصوصيًّا للمذاكرة في أمر منع الحج الذي يراه مجلس الصحة البحرية ضروريًّا لمنع انتقال الوباء من بلاد الحجاز إلى مصر، ولما كان المنع من الحج منعًا من ركن ديني أساسي لم يكن للنظار أن يبرموا فيه أمرًا إلا بعد الاستفتاء من العلماء؛ ولهذا طلب عطوفتلو رئيس مجلس النظار لحضور الاجتماع صاحب السماحة قاضي مصر وأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية والشيخ عبد الرحمن النواوي مفتي الحقانية والشيخ عبد القادر الرافعي رئيس المجلس العلمي سابقًا، فحضروا وتذاكروا مع النظار وبعد أن انفضوا من المجلس اجتمعوا، وأجمعوا على كتابة هذه الفتوى وإرسالها إلى مجلس النظار وهي بحروفها: الحمد لله وحده.. لم يذكر أحد من الأئمة من شرائط وجوب أداء الحج عدم وجود المرض العام في البلاد الحجازية؛ فوجود شيء منها فيها لا يمنع وجوب أدائه على المستطيع. وعلى ذلك لا يجوز المنع لمن أراد الخروج للحج مع وجود هذا المرض متى كان مستطيعًا. وأما النهي عن الإقدام على الأرض الموبوءة الواردة في الحديث، فمحمول على ما إذا لم يعارضه أقوى؛ كأداء الفريضة، كما يستفاد ذلك من كلام علمائنا. وأيضًا فإن النهي عن الدخول أو الخروج تابع لاعتقاد الشخص الذي يريد الدخول أو الخروج كما يفيده ما في تنوير الأبصار متن الدر المختار؛ حيث قال: (وإذا خرج من بلدة بها الطاعون وهو الوباء العام- فإن عَلِمَ أن كل شيء بقدر الله تعالى فلا بأس بأن يخرج ويدخل، وإن كان عنده أنه لو خرج نجا ولو دخل ابتُلي به كُره له ذلك، فلا يدخل ولا يخرج) اهـ. وأيده شارحه السندي. والله أعلم. في 2 ذي القعدة سنة 1316. (المنار) ولو قيل بجواز المنع إذا تحقق أن فيه المصلحة العامة لنِيطَ بالإمام الأعظم؛ لأنه من وظائفه ولم يكن لغيره أن يُقْدم عليه إلا بإذنه، وسوف نشرح هذه المسألة في مقالة نكتبها في موضوع (ثبوت العدوى) إن شاء الله. *** ورد على صاحب الدولة الغازي مختار باشا رسالة برقية من دولة والي الحجاز ملخصها أن الاحتياطات الصحية في جدة في غاية الإتقان، وأنه لم يُصب أحد في مكة بعد ذلك البخاري، وأن الوفيات في جدة بين واحدة واثنتين في اليوم، ورسالة أخرى في 15 مارث ملخصها أنه لم يحدث في جدة إصابة ولا وفاة في تاريخها. *** كتبت (ثمرات الفنون) الغراء مقالة وجيزة في (الانتقاد والجرائد) ومما انتقدناه عليها فيها أنها جاءت بنبذة من (العروة الوثقى) في أطواء الكلام ولم تسندها إليها أو تميزها بوضعها بين قوسين ليعلم أنها تضمين. *** يؤخذ من الجرائد الإنكليزية أن سفير إنكلترا الجديد في الآستانة آنس من الحضرة السلطانية ارتياحًا؛ لما أبداه لها من رغبة دولته في إعادة الوداد السابق بين الحكومتين. *** صدر الأمر العالي بفصل (تفتيش الوادي) عن نظارة المالية وإلحاقه بديوان الأوقاف العمومية، ولكن بشرط أن تتولى نظارة الأشغال العمومية أعماله، لتصلح شؤونه إحدى عشرة سنة، ثم يتولاه ديوان الأوقاف مباشرة. *** وقفنا على قصيدة لطيفة في التهنئة بولي عهد الخديوية حرسه الله بعين عنايته الأبدية، لناظمها الأديب الفاضل مصطفى صادق أفندي نجل الأستاذ الكامل الشيخ عبد الرزاق أفندي الرافعي قاضي مديرية الغربية الشرعي مطلعها: بزغت شموس الأنس من أفق الهنا ... وتبسم الإسعاد أي تبسم ومنها وفيه تاريخ هجري: فالكون أرّخ مصر يُنبي سعدها ... بولي عهد القطر (عبد المنعم) (1316) (وختامها) راق الهنا أرخ له شمس الكما ل محمد الأفضال عبد المنعم (1899) فنعتذر بضيق المقام عن شرحها كلها، كما نشكر لحضرة الناظم ما تفضل علينا به من تقريظ المنار وتهنئتنا نظْمًا ونثرًا بإكماله السنة الأولى. *** رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء - تعتذر فيها عن العلماء الذين أهملوا وظائفهم الدينية بما يمثل الذنب ويؤيده، وسنرد عليها في العدد الآتي إن شاء الله تعالى.

تأثير العلم في العمل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأثير العلم في العمل ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ [[1] أنشأ الله الإنسان يعمل بإرادة تأتمر في تحريك الأعضاء على العمل بأمر العلم الذي تنكشف به وجوه المصالح والمنافع، فمتى كانت علوم الإنسان في أفراده ومجموعه صحيحة منطبعة في النفس بتكرر العمل أو بالنظر والاعتبار تصدر عنه أعمال جليلة وآثار جميلة. ومتى كانت العلوم مضطربة بامتزاجها بالأوهام أو غير منطبعة في النفس لعدم التربية عليها والعمل بها والنظر فيها بعين التأمل والاعتبار، فلا جرم أن الأعمال تأتي مختلة سيئة. والسعادة إنما تُنال بالأعمال؛ فالأمة الجاهلة بعيدة عن السعادة. العلم الإجمالي قلما يفيد صاحبه؛ لأنه دائمًا عرضة للجهالة بما يرد على جزئياته من الشكوك التي لا تُنفى إلا بالعلم التفصيلي الكامل. ألا ترى أن أكثر الناس يعلمون بالإجمال أن أمهات الرذائل وكبائر المعاصي من أسباب الشقاء، ولو كان هذا العلم صحيحًا كاملاً لا اضطراب فيه لصدرت عنه آثاره حتمًا، وهي ترك تلك الرذائل والمنكرات، وكذلك يقال في أصول الفضائل والأعمال الصالحة النافعة يعلمها عامة الناس علمًا إجماليًّا سطحيًّا يلوح في الخيال، ولكن لا أثر له في النفوس والأرواح؛ لأن كل صفات الروح تظهر على الجسد بالأعمال، ومن كان علمه كاملاً بشيء ما، وظهر من أعماله ما لا ينطبق عليه، فإنما يكون ذلك لأثر في النفس أقوى من ذلك العلم كالوجدانات والانفعالات العارضة؛ فإن النزيه ربما ينطق بالسب والهجر من القول لغضب شديد يعرض له، لكنه لا يلبث أن يعود إلى رشده، وأمثال هذه النوادر التي تعرض للعلماء والمهذبين لا تحبط أعمالهم ولا تنحرف بهم عن جادة السعادة {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء: 17) . خفيت هذه المسألة عن الجاهلين بعلم النفس وعلم فلسفة الأخلاق، فزعموا أن العلم لا يؤثر في الحمل على العمل، وربما يكابر بعض الذين يحسبون أنهم على شيء من العلم ويمارون في القول؛ لأنه جاء مجملاً، ولذلك رأينا أن نزيده بقليل من التمثيل. إن الذي يعلم علمًا ناقصًا أن الحسد والكبر هو (غمط الحق واحتقار الناس) رذيلتان ممقوت صاحبهما عند الله والناس، وأنه يجب عليه أن يجاهد نفسه ويطهرها من رجسهما - يشتبه عليه الأمر في الجزئيات، فيحسد ويتكبر ويرى أنه غير حاسد ولا متكبر، وإذا قيل له في ذلك لجأ إلى الاعتذار والتأويل فيقول في الحق الذي غمطه ولم يخضع له - لأنه جاء من قِبل مَن يرى نفسه فوقه مثلاً -: إنه ليس بحق. وينتحل ما تجود به قريحته من الشبه لإثبات أنه ليس بحق، وإذا لم يجد شبهة يطفئ بها نور؛ الحق لقوة شعاعه يقول: إنه حق ولكن جاء في غير وقته ووضع في غير موضعه، فأنا أغمطه لا لذاته بل لأنه لم يأتِ على منهاج الحكمة. (وكأن الحكمة مختصة به لا يعلم مواقعها غيره، نعوذ بالله من الغرور) ويقول - في الإنسان الذي احتقره -: إن ما صدر مني في شأنه مما يدل على انتقاصه واحتقاره لم أقصد به إلا بيان الحقيقة أو إسداء النصيحة للناس كيلا ينخدعوا به. والدليل على أن جهله بأخلاق نفسه هو الذي أراه باطله حقًّا وأعماه عن جزئيات رذائله - أن ما وقع منه لو عرض على مَن هو أعلم منه بالأخلاق لجزم بأنه حسد وكبر لا يحتمل التأويل وعجيب أن مثل هذه التعلاَّت تصدر من أمثل العلماء. اجتمع الأستاذ فضيلتلو الشيخ حسين أفندي الجسر محرر جريدة طرابلس بالسيد جمال الدين الحكيم الشهير فقال له السيد: إن جريدتكم قد جمعت بين الكفر والإيمان! تكتب مقالة في تحريم الكذب وقبحه ثم تُملأ بعد ذلك بالكذب وغش الأمة بمدح الجهلاء الأشرار الذين تجعلهم أئمة علماء: وأتقياء صلحاء. قال: (وإننا لا نخطو خطوة واحدة إلى الأمام ما لم نعطِ كل ذي حق حقه، فنقول في العالم: عالم. وفي الجاهل جاهل وهكذا) فقال له الأستاذ المحرر: (إن هذا تَقِيَّة؛ لأن مَن عنيت مُضِرُّون يُخشى شرُّهم) فقال له السيد: (التقية مذهب الشيعة) . ومثال آخر للشكوك التي ترد على العلم الناقص فتزلزله حتى ما تصدر عنه آثاره - ولولا ضعفه وزلزاله لصدرت - أن عامة المسلمين الذين يأتون الفواحش والمنكرات وهم يسلمون بأنها موجبة لسخط الله وعذابه في الآخرة لا يأتونها في الغالب إلا لأن علومًا أخرى مسلمة مثلها؛ لأنها جاءت من الدين عارضتها وصارعتها فقويت عليها بمساعدة الهوى والغرض كالمكفرات للذنوب من الأعمال الصالحة فإنهم يسمعون من الوعاظ والخطباء أن مَن صام يوم عاشوراء غُفرت له ذنوب سنة، ومن صام يوم عرفة غفرت له ذنوب سنتين - السنة السابقة والسنة اللاحقة - ومن صام يومًا من رجب استوجب رضوان الله الأكبر، وأن من سبّح كذا في وقت كذا غفرت له ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج أو زبد البحر، وأن الله يعتق في كل ليلة من رمضان كذا، والمجموع يستغرق الأمة، وكالشفاعات فقد توسع فيها الوعاظ والقُصَّاص وفي الكتب منها العجب العجاب، فيقولون: إن العالم يشفع في كذا بيتًا من جيرانه بعد الشفاعة لأهله وخلانه. ويتوهم علماء السوء ويوهمون الناس أنهم هم الشفعاء؛ ليعطوهم ويعظموهم. وبعض ما يوردونه في ذلك باطل لم يرد في الشرع (كما بيناه في مقالات سابقة) وبعضه له معانٍ صحيحة لا يترتب عليها هذا الغرور الذي أبطل فائدة الإنذار الذي جاءت به الرسل والأديان. مثلاً: إن ما ورد في المكفرات للذنوب مقصود به الترغيب في الطاعة، وإنما المراد بالذنوب التي تكفَّر هي الصغائر والهفوات التي لا يخلو الإنسان من الإلمام بها لا العظائم والموبقات كأكل أموال الناس بالباطل وشهادة الزور والكذب والخيانة وعدم الوفاء بالوعد؛ فإن مثل هذه لا تكفر إلا بالإقلاع عنها ورد الحقوق إلى أربابها، وإلا لكان هدي الدين عبارة عن كلمات أو أعمال قليلة يباح للإنسان معها كل شيء، ولبطلت فائدة النصوص المنفرة عن المعاصي والرذائل. كيف يصح أن نقول: إن حركة اللسان بكلمات أو صيام يوم أو أيام يكفر هذه السيئات الفاشية التي دهورت الأمة في مِهواة الشقاء وأنزلت بها صواعق البلاء. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث مَن كُنَّ فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر: وقال إني مسلم - إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان) رواه بهذا اللفظ أبو يعلَى بسند محتج به، ورواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ أخرى بمعناها في رواية مسلم التصريح بقوله: (وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم) وظاهر هذا الحديث أن مَن كانت فيه هذه الثلاث فهو ليس بمسلم حقيقة ولا يغني عنه ادعاء الإسلام والإتيان بأعماله العظيمة الظاهرة كالصوم والصلاة والحج، ولكن العلماء أوَّلوه وقالوا: إن المراد به (النفاق العملي) ولكن لا يستطيع أحد منهم أن يقول: إن هذا النفاق العملي يكفَّر بالصوم والصلاة والتسبيح؛ لأنه إبطال للحديث ورفْض له. وأما العفو وشفاعة النبي - وهي عبارة دعاء يدعو به يوم القيامة فيستجيبه الله تعالى له - فالحكمة في الأول أن لا ييأس المسرف على نفسه؛ لأنه إذا يئس يسترسل في الفجور، ومراد الشريعة رجوعه عنه والحكمة. في الثانية إظهار كرامة للشافعين، على أنهم لا يشفعون إلا بإذنه ولمَن ارتضى. والكتاب والسنة طافحان ببيان ما يرتضيه تعالى وما لا يرتضيه ونكتفي هنا بقوله تعالى: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (البينة: 8) على أن العفو والشفاعة مبهَم أمرهما، والأصل أن الجزاء على الأعمال {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وفي الصحيحين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أُنزل عليه] وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [ (الشعراء:214) فقال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله تعالى؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف؛ لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس يا عم رسول الله؛ لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية يا عمة رسول الله؛ لا أغني عنكِ من الله شيئًا، يا فاطمة يا بنت محمد سَليني من مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا. وأضرب لهم مثل العفو والشفاعة عند الملوك والأمراء الذين تتغير انفعالاتهم ويمكن للمقرب منهم أن يؤثر في نفوسهم ويحملهم على ما يريد منهم ونحو هذا مما هو ممتنع في جانب الله تعالى - هل يتجرأ آحاد الناس على الجرائم والجنايات جهرًا اتكالاً على عفو الأمير أو السلطان أو توقعًا لاحتمال الشفاعة له من أحد المقربين إليه؟ ! كلا، إن مَن يجاهر من الناس بالجناية رجاء العفو أو الشفاعة لا بد أن تكون له مكانة عند السلطان أو المقرب إليه؛ بحيث يجزم أو يرجح أن العفو يناله، بل إنه لا يُسأل عما يفعل، وإنما يكون هذا في الحكومات الاستبدادية التي لا يتقيد سلطانها بشريعة ولا نظام، ومثل هذا مستحيل في جانب أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى. وهذه المسألة دليل واضح على مسألتنا؛ وهي أن العمل إنما ينشأ عن العلم الأثبت والأقوى في النفس. وإليك مع هذا البيان المعقول من البراهين النقلية الآية التي صدَّرنا بها هذه المقالة: {إِِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) وحديث: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) . ثبت بما ذكرناه أن العقل والنقل متفقان على أن العلم الصحيح السالم من الشوائب والعلل هو الباعث لإرادة الإنسان على تحريك الأعضاء للعمل. فيصح أن يستدل بأعمال الأفراد وأعمال الأمم على مكانتها من العلوم بوجوه منافعها ومصالحها وما عندها من الفنون التي يزيد العمل بها إتقانًا وارتقاءً. ومعلوم أن سعادة الأمم بأعمالها، وأعمالها لا ترتقي في مدارج الكمال إلا بالاتفاق والتعاون، والاتفاق والتعاون لا يأتيان إلا من تهذيب الأخلاق وتقويم العادات وتصحيح العقائد التي يُبنَى عليها الترغيب والترهيب اللذان يقودان إلى التهذيب، وحسبك من الدليل النقلي على ذلك حديث: (إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وتعليم التهذيب هو وظيفة العلماء ورثة الأنبياء، وإهمال أصحاب هذه الوظيفة لها هو الذي يدهور الأمم في مهاوي الشقاء. فثبت بهذا كله أن مبدأ ما حل بالشعوب الإسلامية من التأخر والانحطاط إهمال العلماء وظائفَهم في الإرشاد والتهذيب، والداء إنما يُشفَى بإزالة علته وسببه واصطلام الجراثيم التي يتولد هو منها؛ ولذلك جعلنا من مقاصد جريدتنا الأولية بيان تقصير العلماء وأسبابه، والبحث في العلل التي أفسدت التعليم وحالت بين المتعلمين وبين غايات العلوم والفنون التي يتدارسونها، ومزج هذه المباحث بلوم العلماء تارة، وحثهم على الإصلاح تارة أخرى، وقد رأينا من أفاضل علماء مصر المنصفين - وبلغنا عن مثلهم من علماء تونس والهند - استحسان عملنا هذا وتقريظه، وأنه يُرجى الانتفاع به؛ فزادنا هذا نشاطًا واجتهادًا، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم.

مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس كم أداوي القلب قلَّت حيلتي ... كلما دويت جرحًا سال جرحُ ذكرنا في العدد الماضي أننا رأينا في جريدة طرابلس مقالة - كليالي الشتاء - أي: طويلة مظلمة باردة، تعتذر فيها عن العلماء الذين أهملوا وظائفهم في إرشاد الأمة وتزعم أنهم غير مؤاخَذين بترك الواجب عليهم لأوهام وتخيلات، ذكرتها ولولا خشية انخداع الناس بقولها وتوهم صاحبها أنه جاء بحق مقنع؛ لما تعرضنا للرد عليها ولكن هذه المسألة التي تنفيها هي ونثبتها نحن (مؤاخذة العلماء بترك إرشاد الأمة الذي هو مناط سعادتها بالاتفاق حتى من جريدة طرابلس) - هي القطب الذي يدور عليه ما نرجوه من إصلاح حال الأمة؛ ولذلك نرى من الواجب أن نزيح عنها شُبه المشتبهين، ونزيل تمويه المموهين {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 42) ؛ أي، ليظهر للمرتاب - في كونه مؤاخَذًا- أنه مؤاخَذ، فيكون هلاكه بترك الواجب إذا هو تركه عن بينة، وحياته بالقيام به إذا هو فعل عن بينة، والله سميع لأقوالنا عليم بنياتنا؛ فيجازينا عليها. أما كون المقالة باردة فقد عنينا به ما فيها من التنديد بأحد الكُتاب ونبزه بالألقاب. وقد انبعق قلم كاتب المقالة في هذا، ونضح إناؤه بما لعله يعيبه على غيره إذا هو صدر منه، وعهدنا بأناته أنه لا ينطق بمثل ذلك الكلام إلا إذا غلب على أمره بانفعال شخصي قوي، أما المصالح العامة فإنه فيها هين وكلامه لين. وأدب الشرع في الوعظ معروف، وهو الشدة في الكلام العام الذي يوجه إلى صِنف من الناس بحسب درجة انحرافهم، حتى جوَّز لعن الفاسقين ولم يجوِّز لعن كافر معين بالشخص أو الوصف الذي يتعين به، ويا ليت شِعْري هل يقول: إن رمي أحد الناس بالغلظة والفظاظة والسفه والحُمق - يكون من الرقة واللطافة والحلم والعقل التي ينضح بها إناء الإنسان الكامل؟ ! وأما كونها مظلمة فلما فيها من العسلطة، واشتباه الحق بالباطل وتمويه الصواب بالخطأ الذي يرمي الأمة في هوة اليأس والقنوط؛ بزعمها أن العلماء سقط عنهم وجوب إرشاد الأمة مع الاعتراف بأن نهوض الأمة منوط بإرشادهم، وأن التبعة ينبغي أن تُلقى على الأغنياء، وعللت ذلك بقولها: (إن المطالب أولاً وبالذات بالإنشاءات العمومية التي بها نجاح الأمة هم أهل الثروة وذوي (كذا) الغِنى) ثم اعترفت: (بأن أرباب الثروة ليسوا كلهم عارفين ثمرات تلك المشروعات العمومية) وأنهم يحتاجون إلى موقظ ينبههم من هذا السبات، وأنه (ليس ثمة من موقظ من ذلك الإيقاظ ومنبه ذلك التنبيه وباعث ذلك البعث - إلا قيام العلماء نافذي الكلمة؛ يعظون المواعظ الحسنة ويخطبون الخطب الطنانة ويتكبدون مشاق الأسفار وينشرون في الجرائد خطاباتهم دون إسرار) وأنت ترى أن هذا يرجع باللائمة على العلماء أولاً وبالذات خلافًا لقوله الأول؛ لأن الأغنياء لا ينبعثون إلى العمل إلا بإرشادهم كما قال فهم المطالِبون بالإصلاح قبل كل أحد. إن صاحب العلم الإجمالي عندما يتكلم في مسألة غير محيط بأطرافها، وعلى غير بيِّنة من جميع دخائلها وعوارضها ربما يحتج على النفي بما يقتضي الإثبات، وعلى الإثبات بما يقتضي النفي، ويقر بالشيء في معرض الإنكار وينكره في معرض الإقرار؛ فتأتي في تضاعيف كلامه القضايا الصحيحة في غير مواضعها، فلا يكاد يستفاد منها، ولكن عندما تقوم الحجة عليه بنفي شيء أو إثباته - يتنصل ويخطِّئ صاحب الحجة مستدلاً بأنه قال كذا في مكان كذا! ومن هذا القبيل ذكرت جريدة طرابلس أن المطالب بنجاح الأمة - أو وبالذات الأغنياء - فإنه لا معنى لذكره في مقام رقع التبعة عن عواتق العلماء إلا إذا كان صحيحًا على إطلاقه، لكنه ليس بصحيح؛ لأن الأغنياء يحتاجون قبل ذلك إلى مَن يعرِّفهم بمنافع الإنشاءات العمومية كالمدارس والمصانع، وقد اعترفت الجريدة بذلك كما علمت، وأهم من هذا حاجتهم قبل ذلك إلى تهذيب يجمع كلمتهم وينفخ فيهم روح الثقة الوطنية؛ فإن أهل الشرق الآن لا يكادون يثقون في الأعمال العمومية إلا بالأجانب! الأعذار الثلاثة: اعترفت الجريدة المذكورة بأن الواجب على العلماء إرشاد الخلق إلى مصالح المعاش والمعاد، ولكن زعمت أنهم بتركه معذورون وبتفويته (كذا في الأصل) غير موزورين وانتحلت لذلك أعذارًا ثلاثة نذكرها ونبين فسادها: (العذر الأول) ملخصه أن العلماء - في الغالب - ليسوا أصحاب ثروة، وأن أغلبهم يعيش من نحو تدريس أو إمامة أو خطابة ومداخيل (كذا في الأصل) ، هذه الوظائف قلّ أن تزيد عن الكفاية، قال الكاتب: فإذا أرادوا أن يقوموا في تلك (كذا) الوظيفة التي نقول: إنها واجبة عليهم. وهي وظيفة تحتاج لتفريغ أوقات كثيرة للقيام بالخطب والمواعظ ونشر المقالات الحادثة في الجرائد وتجشُّم أسفار - فمَن يا تُرى يقوم بمصارفهم (كذا) إن قاموا بتلك الأعباء؟ ! .. إلخ. الجواب: إن هذا العذر ممثل للذنب تمثيلاً لا يدع للتمويه والانتحال سبيلاً؛ ذلك أن ما هو مورد رزقهم من الخطابة والتدريس لو قاموا به حق القيام لأدوا الواجب عليهم للأمة، ولكن دروسهم وخطبهم هي مما يفسد الأخلاق والأعمال بما تنفثه من سُم الجبر باسم القضاء والقدر والتكسيل عن العمل بحجة الزهد والتوكل، والتجرئة على المعاصي بالتمنية بالشفاعات والمكفرات، والإياس من قوة الأمة وترقيها بما يزعمون من أن سعادة الأمة وعزتها لا يكونان إلا على يد المهدي المنتظر، وأن هذا الشقاء الذي وقعت فيه لا مفر منه؛ لأنه علامة على قرب الساعة وانتهاء الزمان، ولأن القاعدة المقررة أنه لا يمضي يوم إلا والذي بعده شر منه، ونحو ذلك من التعاليم الغامضة والفاسدة المنتشرة في الكتب والخطب وبها، يعظون ويعلِّمون. وقد فصلنا القول في بعضها، وموعدنا - ببيان سائرها - الأعداد الآتية إن شاء الله تعالى. سبحان الله! كيف يعتذر بمثل هذا العذر سوري وأكثر العلماء المدرسين في سوريا لا يقرؤون الدروس الوعظية إلا في شهر رمضان، ويأخذون من مال الأوقاف أجور سنة كاملة، ويقضون معظم أوقاتهم في البطالة، وشأنهم في نواديهم وسُمَّارهم الخوض مع الحائضين في اللغو واللهو، فهل نظرت للواقع - يا أستاذ طرابلس - وراقبت الله تعالى عندما قلت: إن قيامهم بالواجب منه السفر الذي هم عاجزون عنه لفقرهم؟ ! ورتبت على هذا أنهم عاجزون عن القيام بوظيفتهم على الإطلاق، وقلت إن: (أهل الغفلة لا يعذرونهم وإنهم عند الله لمعذورون) ، ألا تذكر - يا أستاذ طرابلس - أننا اقترحنا عليك أن تقرأ للطلبة في مدرستك درسًا في أخلاق الدين كالجزء الثالث من الإحياء فاعتذرت بضيق الوقت، فقلت له: استبدل هذا الدرس بدرس مقامات الحريري القليل الجدوى، فاعتذرت بما ملخصه أن التلامذة يستثقلون مثل هذا الدرس ولا يرتاحون له، مع أن هذا العلم فرض عين وتعليمه من فروض الكفاية، ولم يقم به في بلدك أحد، ومرت السنون ولم تقرأ في الأخلاق شيئًا، قلت: لا يكفي مجرد وعظ العلماء في دروسهم المقامة في بعض المساجد لقلة مَن حضره. فهل تقول مثل ذلك أيضًا في خطب الجوامع إن كنت تحب إرشاد الناس؟ ! فاعقد بالله مجلس وعظ بعد صلاة الجمعة، واجعلْه كل أسبوع في مسجد وانظر أيجتمع عليك الناس أفواجًا أفواجًا أم لا؟ ! قل لي - يا رعاك الله - هل يُنقص هذا من رزقك الذي تأخذه من الأوقاف أو من خزينة الدولة أو من المطبعة والجريدة؟ وهل تخشى منه على عيّلك الفقر والمسكنة. اللهم بصِّرنا نفوسنا وأرنا الحقائق كما هي كيلا نضل ونشقى. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

أيها الفتى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أيها الفتى ما هذا اللهو واللغو، والفرح والمرح؟ ! تميل كالغصن مع الهوى. وأنت ريَّان من ماء الشباب والصبا. ولكنك لا تجد على نار الحوادث هدى. أتحسب أنك خُلقت عبثًا. أو أنك تترك سدى؟ ! كلا، إن أمامك خطوبًا فادحة. ونصالاً جارحة. وأثقالاً بَيْتية ووطنية. تنوء بالعصبة أولي القوة، ولكن سُكر الشباب يفعل ما لا يفعله سكر الأكواب. فهو الذي جعل في أذنيك وقرًا وعلى عينيك غشاوة. وران على قلبك ما تعمل من السيئات. وتجترح من الخطيئات. تصور أن هذه الفتاة الهيفاء والغادة الحسناء التي تغازلها وتناغيها. وتسايرها وتجاريها - ستكون ربة بيتك. ومربية ولدك. ومالكة زمام أمورك، سعادتك بيدها. وراحتك في راحتها. وشرفك بشرفها. ومستقبل ذريتك بآدابها ومعارفها. أفتحسب أن هذه الغر التي تميل مع كل ريح. وتلين لكل صبيح أهل لما يُطلب منها. وكفؤ لما يناط بها؟ ! أفتحسب أنها - بعد أن تتشرف بالاقتران بك تتغير طباعها. وتنقلب أوضاعها. وتتبدل صفاتها. وتستحيل ملكاتها. أم ترضى بها قرينة على ما تشاهد من علاَّتها. وتعلم من هفواتها وسيئاتها؟ ! كلا، إنك سادر [1] في غفلتك، ملتخ [2] في سكرتك، لا تفكر في أنك تجني على نفسك، وعلى جميع أبناء جنسك بإفساد آداب الفتيات بتعرُّضك لهن حتى في الطرقات. وستذوق مرارتها في بيتك. إن لم تقلع عنها من وقتك (دقة بدقة، ولو زدنا لزاد السَّقَّا) [3] . *** أيتها الفتاة لقد طوى الزمان الذي كان قدرك فيه مجهولاً. وجنسك اللطيف عند أهله مفضولاً أو مرذولاً. وجاء زمان تنبه فيه الفضلاء والعظماء لما للمرأة من الشأن الكبير في الارتقاء. وأنتِ مستقبلة عصر الكمال. الذي فيه يظهر سر قول النبي: (النساء شقائق الرجال) ولكن من سماء عقلك يُشرق بدره. ومن بين ثناياك اللامعة يتنفس فجره؛ لأن والدتك - وأعيذك بفضلك - جاهلة. وعن مقامها في المجتمع الإنساني غافلة. فاعذريها على جهلها. ولا ترضي بأن تكوني مثلها. أتدرين - يا سيدتي - بماذا يرتفع قدرك في هذا الزمن. وتكونين عقد زينة في جيد الوطن؟ ! إذا سألت عمتك (الست هانم) عن هذا السؤال، تقول لك: إن الذي يرفع المقدار، ويستلفت الأنظار إنما هو تجعيد الطرة وعقص الذوائب. وكحل العيون وتزجيج الحواجب. وحسن الالتفات والتثني. وأساليب الدلال والتجني. واللطف في الإشارة. والظرف في العبارة. وإن خفة الحركات هي زينة البنات. وما وراء ذلك إلا الثياب الحريرية. والحلية الذهبية والجوهرية. ولكن عمتك غالطة كالسيدة الوالدة؛ فإن هذه الأمور هي التي أضرت بالوطن من قبل؛ لأن المرأة التي تجعل همها في هذه الأمور، وتحسب أنها كالرياحين والزهور - ما خُلقت إلا نزهة للناس. وزينة للحواس. يدل حسبانها هذا على أنها رضيت بما دون رتبة الحيوان. (أي: حيث رضيت أن تكون قيمتها قيمة الزهر وهو من النبات والحيوان أشرف منه) ، فكيف يقبل حكمها في رفعة شأن الأوطان. وهي من خصائص الكاملين من نوع الإنسان؟ ! ولكن إذا سألت (المدام) فلانة أو تربك (المدموازيل) عن هذا السؤال نفسه تسمعين جوابًا عجيبًا؛ لأنها تقول لك: إن قدر الفتاة إنما يكون رفيعًا بعلومها وآدابها وفضائلها، وباستعدادها لمساعدة الرجل على إسعاد منزله وأهله وإسعاد وطنه وأمته، فإذا كانت غير متخلقة بالأخلاق الفاضلة كيف يمكنها أن تغرس فَسِيل الفضائل في نفوس أبناء الوطن الذين يعهد إليها بتربيتهم من يوم يوجدون بحكم الطبيعة والشريعة معًا؟ وإذا كانت لا تعرف قيمة العلوم والفنون والآداب التي تسعد بها البلاد فهل يخطر في بالها أن ترغِّب أولادها في ذلك وتسلك بهم في هذه المسالك؟ ! بل ربما قالت لك حضرة المدموازيل: إن الفتاة كالفتى، والمرأة كالرجل والوطن يطالبهما بحقوقه مطالبة واحدة؛ فيجب أن ترشح الفتاة نفسها لأي عمل من الأعمال العظيمة النافعة التي يقوم بها الرجال حتى الأعمال الحربية والسياسية. لكن هذا الأخير إفراط عظيم يقابله ما ترين عندنا من التفريط والإهمال. والصواب أن البيت مثال المملكة الجمهورية؛ فالرجل هو الرئيس وناظر الخارجية (أي: ما هو خارج البيت) ووظيفة المرأة نظارة الداخلية. والممالك العظيمة إنما تتألف من هذه البيوت، فمتى كانت الحياة فيها سعيدة سعدت بذلك المملكة كلها. هذه إشارة لطيفة إلى مقامك السامي - أيتها الفتاة - وأفضل ما تستعدين له هو تربية الأولاد، بل هو أفضل الأعمال كلها، والاستعداد له إنما يكون بمعرفة عقائد الدين الصحيحة والتخلق بأخلاقه الفاضلة والتأدب بآدابه الكاملة ثم معرفة مبادئ الفنون لا سيما حفظ الصحة وتدبير المنزل والحساب والتاريخ، فإذا التفت إلى هذه الأشياء ووفيتها حقها من العناية؛ عرف لك الوطن العزيز حقك، ورقاك فضلاؤه إلى الأوج الذي تستحقين ولا يغرنك هؤلاء الشبان الأغرار الذين يختالون في الشوارع والمهايع ويرمون بأبصارهم إلى الكُوَى والنوافذ يفتنون الفتيات الغافلات، ويستهوون السيدات المصونات. فليس تحت طرابيشهم المائلة إلا أحلام (عقول) سفهة وأخلاق سافلة. وسيذهب فساد طباعهم وقبح أعمالهم. بما بقي لهم من دثورهم وأموالهم. فويل لمَن اتصل بهم وقرب منهم، وهنيئًا لمَن إذا عرفهم قلاهم وبعُد عنهم.

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (الوشاح في شرح عروض المِفتاح) أهدانا نسخة من هذا الكتاب مؤلفه حديثًا العالم الفاضل القاضي ظفر الدين أحمد أستاذ الكلية الشرقية بلاهور، الهند ولما تتسنى لنا مطالعته فقصارى ما نقول في هذا المقام: إن إحياء كتب فرسان البلاغة وجهابذة علوم اللسان (كالعلامة السكاكي صاحب المفتاح) بالشرح والدرس - عمل شريف تحيا به اللغة العربية إن شاء الله تعالى. ثم نشكر لحضرة الأستاذ فضله. ونثني عليه كما أثنى علينا بما هو أهله، ومن الله نسأل تحقيق ما أمله في خدمتنا (المنارية) من جمع كلمة الأمة الإسلامية. ولا غرو؛ فقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) وعد لمَّا يتحقق كما قال بعض المحققين الأجلة. ولا بد من تحقيقه بفضل الله تعالى. *** (الجامعة العثمانية) ظهر العدد الأول منها يتدفق بالمباحث المفيدة لا سيما مباحث التربية والتعليم التي نحن أحوج إليها من كل شيء، وأحسن تقريظ لها أن ننقل نبذة من أنفع نبذها وأفيدها، فإليكها نموذجًا حسنًا، قال الكاتب: (إن المدارس الأجنبية في بلاد الدولة العثمانية قد صنعت خيرًا عظيمًا، ولكنها قد صنعت شرًّا عظيمًا أيضًا. فعلينا أن نجد دواءً لهذا الداء، قد أنشأ الغرب للشرق مدارس يعلم فيها أبناء الشرق الميل عن دولتهم إلى دولة غريبة عنهم، فلتنشئنَّ - أيها العثمانيون - بإزاء تلك المدارس مدارس جديدة، يكون أساس تعليمها حب الوطن والأمة، وتعليم ما هو الوطن وما هي الأمة. لنؤسس مدارس جديدة نُدخل إليها طرق التعليم الحديثة ووسائل التربية الحديثة، وندخل إليها قبل ذلك عناصر الأمة كلها، فنربيها فيها على مقاعد واحدة ونلقنها دروسًا واحدة ومبادئ واحدة؛ حتى تكون بعد خروجها من حياة المدرسة إلى الرجولية بقلوب واحدة وأفكار واحدة، فإن هذا هو السبيل إلى تقوية جدار الوطنية العثمانية ووقايته من الثلم أو الهدم) . فشكرًا لك - أيها الكاتب الفاضل - ونجَّح الله تعالى الجامعة العثمانية بمبادئك الصحيحة. *** (أنين مظلوم) جريدة ظهرت في القاهرة تشكو من ظلم رجال الدولة لا سيما في ولاية بيروت، وتستصرخ مولانا السلطان الأعظم طالبة تفويض الأعمال إلى الأَكْفَاء الصادقين. وعسى أن يكون كلام صاحبها صادرًا عن غيرة صحيحة وتألم حقيقي، فعهدنا بالذين ينشئون الجرائد للطعن بالحكام والشكوى منهم أنهم طلاب رزق ووظيفة أو رتب ووسامات، كما ثبت ذلك للدولة العلية بالاختبار؛ ولهذا ارتفعت الثقة بكلام أمثال هذه الجرائد من الدولة والأمة، فاشتبه الحق بالباطل والإخلاص بالنفاق، ولا علاج لهذا إلا أن تقرر الدولة حرمان أصحاب الجرائد عمومًا من الرتب والرواتب والأعمال والوظائف؛ لينقطع أملهم مما وراء عملهم وثمراته الذاتية، فمن أحسن ونجح في عمله فحسبه إحسانه شرفًا وكسبًا، ومن ساء فعليه ما يلاقيه من الجزاء، وما دامت الدولة تغدق النعم على السفهاء منعًا لسفههم؛ فإنها تغري بذلك غيرهم، فتضيع الأجور ويكثر الفجور ومحاولةُ إرضاء جميع الناس غرورٌ.

أخبار الحجاج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار الحجاج بلغ عدد الحجاج الذين قصدوا الأقطار الحجازية عن طريق الإسكندرية لغاية 16 الجاري 7602، والذين برحوا هذا الثغر في ذلك اليوم فقط 801، منهم 509 عثمانيون و136 مصريون و58 روسيون و40 فارسيون و29 من الزولوس و26 من البوسنيين و3 من البرتغاليين. أما الذين سافروا من القاهرة فيبلغ عددهم إلى اليوم نحو الثلاثمائة حاج. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المؤيد

اعتذار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اعتذار ضاق هذا العدد عن النصائح والوصايا التي أعددناها للحبالى، وعن باب الأخبار والحوادث، وموعدنا العدد الآتي إن شاء الله تعالى.

الاتحاد

الكاتب: أحد علماء الأزهر

_ الاتحاد لأحد أفاضل العلماء المدرسين في الجامع الأزهر الشريف الاتحاد هو الاتفاق على أمر من الأمور وبه يقوى هذا الأمر ويعظم، إلا أنه تارة يكون ممدوحًا وتارة يكون مذمومًا، فإن كان المتفق عليه ممدوحًا كمقاومة العدو الصائل كان ممدوحًا، وإن كان مذمومًا كالسلب والنهب واللهو واللعب ومنع خير وجلب شر كان مذمومًا. ومما هو في المرتبة العليا في المدح - اتفاق أهل المملكة أو المدينة أو المنزل على ما به صلاح مملكتهم أو مدينتهم أو منزلهم وعلى ما فيه حفظها من الاضمحلال والتلاشي مما يضمن لهم بقاء المجد والشرف ويحفظ لهم القوة والمَنَعَة، ألا وهو تدبير أمورهم بالقوانين العادلة والأفكار النيِّرة والتحابُب والتوادد وعمل كلٍّ لنفسه ولغيره من أهل مملكته أو مدينته أو منزله، فيجتمعون بالروح والجسد على من له العراقة في الإمارة عليهم، المحافظ على ترقيهم ومجدهم، ويساعدونه في تدبير أمورهم بالقوانين المرضية مخلصين له ناصحين لا يتساهلون فيما فيه النفع العام ولا يتغافلون عما فيه الضرر اللاحق بهم وبغيرهم، ولا يتخالفون فيما بينهم لغرض نفساني أو حظ مالي؛ فتفتر همتهم وتضعف شوكتهم فيكونون عرضة لتسلط الغير عليهم وتمكنه منهم واستيلائه عليهم، فيصيرون في ربقة الرق ذليلين مقهورين لا يُبالَى بهم، ولا يكترث بكبيرهم ولا صغيرهم، ولا يُعتنى بشريفهم ووضيعهم، ولا يتباغضون ولا يتحاسدون ولا يُؤْثِر أحدهم نفسه بالعمل فيعمل لحظ وقتي له يراه وقت العمل ثم يكون كالهباء المنثور، بل كالسراب يحسبه الظمآن ماءً وهو عدم، بل يعمل لأمته ومستقبله لا لنفسه فقط؛ لأن الإيثار ليس من الكمال في مثل هذا، ولأن وقته الحاضر قد انكشف له ما فيه وظهرت له شؤونه إن كانت سارة أو ضارة، وأما المستقبل فلم ينكشف له ما يكون فيه؛ فحقه أن يعمل ما يحفظ له حاله فيه بحسب طاقته. على المرء أن يسعى إلى الخير جهده ... وليس عليه أن يساعده الدهر فيا ذوي الأبصار، يا أولي الأنظار، عليكم بالتأمل في تقلبات الدهر وحوادثه؛ فإنه يكون لمن اتحدت كلمتهم واجتمعت قلوبهم، ويكون على من اختلفت كلمتهم وتنافرت قلوبهم، فوحدوا كلمتكم واجمعوا قلوبكم {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) وسارعوا جميعًا إلى ما به حفظ الأمة والدين كما تسارعون إلى ما به حفظ المال والبنين، ولا يقعدكم عن هذا الانهماك في اللذات والتقلب في الشهوات؛ فإن الإنسان ما خُلق للشهوة واللذة لما فيه كمال النفس التي هو بها إنسان من التخلق بالأخلاق الحميدة التي منها عدم الاسترسال في الشهوات واللذات، بل يأخذ من ذلك قدرًا يسيرًا يروِّح به نفسه فقط ويردعها عما زاد؛ لأن الزائد تتعاصى به عليه فلا يطيقها فتجره إلى ما ليس فيه كماله وحفظ عشيرته، ولا يحول بينكم وبين ذلك توهم أنه يصيبكم مكروه؛ فإن الإنسان لا يصيبه إلا ما قدر عليه حتى لا تكونوا أكلة ذئب ولا فريسة أسد، لا سيما العلماء؛ فإنهم أئمة لغيرهم ويُقتدَى بهم ويُهتدَى بهديهم، فعليهم أن يتحدوا وأن يتخلوا عن الرذائل والدناءات، وأن يتجردوا من التعصب ورد الحق على قائله، وأن يتبعوا الخطة الحميدة والطريقة المفيدة؛ ألا وهي ما أمر به أمير البلاد وخديويها المعظم، وارتضاه مشاهير العلماء من ترك قراءة الحواشي وصرف الزمن في المناقشات والمشاغبات؛ فإنه اشتغال وضياع للوقت في خدمة كلام المخلوق، وإعراض عن الاشتغال بكلام الخالق، وتفويت للإحاطة بأحكام الشريعة الغراء والفنون الأدبية. وما يتوهم من أن الاشتغال بالحواشي يقوي الذهن دون ما دعاهم إليه مجلس إدارة الأزهر - فغلط أَوْقَعَهُمْ فيه حكم العادة التي شبُّوا عليها وذلك لأنه بترك الحواشي والمناقشات يتيسر لهم الاشتغال بالفنون العقلية من الحساب والهندسة، فتفيدهم في الذهن قوة أكثر مما يستفاد بالحواشي؛ ولذا كان الحكماء يشتغلون بالرياضيات قبل العلوم الحكمية وقد أمرهم أمير البلاد بالخطة الجديدة لأجل أن يكون لهم إحاطة بالعلوم وترقٍّ في المعارف؛ ولأنه رأى ما لم يروه من تعييب أهل الوقت لخطتهم حتى كان من الحسن عندهم تفريق هذا الجمع، فعسى أن يلتفت قومنا لما هو الأحرى والأنفع دنيا وأخرى.

مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مؤاخذة العلماء والرد على جريدة طرابلس (تتمة ما سبق) (الاعتذار الثاني) ملخصه: إذا شرع العلماء في الخطب في المجامع والنوادي، وركبوا الأخطار للمواعظ، ونشروا المقالات في الجرائد والدفاتر، واجتمعوا للمذاكرة وتدبير شؤون الأمة واستنباط القواعد المتكفلة بالإصلاح،وجمعوا الثروة لإقامة الشركات العمومية وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. قالت (طرابلس) : (لا سيما لأهل السطوة والنفوذ، وشدوا على الكثير من فاسدي الأخلاق، وحاولوا نزع خلالهم الفاسدة عنهم إلى أمثال ذلك من الشؤون التي يرجى عندها نهضة الأمة، فهل يروق ذلك منهم في كل نظر، ويساعدون عليه من أهل البدو والحضر، أو يعارضون أشد المعارضة ويقصدون بالأذى من ذوي الشرور وحقائب الريب والعيب، ولا يقوم بمساعدتهم إلا من لا تجدي مساعدته نفعًا، وربما نسب إليهم أنهم جماعات إفساد ودسائس ضد الحكومة أو الأمة أو مثل ذلك ويرشقون بسهام الملام من أكثر الأنام حتى يقول قائلهم: ما لهؤلاء القوم يتعرضون لما لا يعنيهم. إذا منوا بالأذى ظهرت الشماتة بهم حتى من أهليهم وقيل: هكذا جزاء التعرض لما لا يعني الإنسان. فما كان أغنى هؤلاء العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) اهـ. الجواب: إذا كان وجوب الإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطًا بأن يروق عند الشروع فيه في كل نظر، ويساعد عليه أهل البدو والحضر كما يفهم من صريح كلام الجريدة (طرابلس) ، فلا شك أن الوجوب ساقط عن العلماء بل لا ريب في أن هذا الفرض لم يتحقق شرطه في عصر من الأعصار. وإن إيجابه في الشرع لا معنى له، ولكن هذا الشرط لم يقل به شرع ولا عقل، فذِكره في معرض الاعتذار عن العلماء وبيان سقوط الوجوب عنهم - لغو لا معنى له وأما المعارضة والقصد بالأذى؛ فالأولى منهما لا معنى لذكرها أيضًا، ولكن القصد بالأذى محل نظر ويحتاج القول فيه إلى تفصيل نكتفي بموجز منه؛ لأن كلامنا مع أهل العلم، فنقول: أولاً - لأن القصد بالأذى لأجل الإرشاد غير محقق، وإنما هو احتمال يصح أن يفرض وقوعه في كل عمل. ثانيًا - أن القصد لا يوجب الإيقاع لاحتمال الموانع من جانب القاصد أو المقصود أو الأحوال الخارجية. ثالثًا - أن الأعمال الواجبة على العلماء كثيرة جدًّا، وغير جائز أن يكون كل عمل متروك منها يعود على فاعله بالضرر والأذى، فيجب على العالم أن يأتي ما يغلب على ظنه السلامة فيه حتى إذا ما ساوره البلاء وواثبه الإيذاء وتحقق أنه لا يستطيع الغلب - يعدل عنه إلى عمل آخر. رابعًا - أن الأذى أو الضرر الذي يخافه من يقوم بخدمة الأمة له درجات سنفصل القول فيها عند الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونكتفي هنا بقول أئمة العلماء: إن توقع الإيذاء الشديد حقيقة كالضرب المُبَرِّح والقتل والسلب إذا غلب الظن بأَمارات واضحة - يُسقط وجوب الحسبة ويبقى الاستحباب، وأما الرشق بسهام الملام - الذي يخاف منه أستاذ طرابلس وذكره في الاعتذار - فلا يسقط الوجوب. قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: (ولو تُركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمه أو تعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله - لم يكن للحسبة وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفكّ الحسبة عنه) . ثم إن ما نحن في أشد الحاجة إليه من إرشاد العلماء يحصل بإصلاح التعليم والخطابة الجمعية وكثرة المذاكرة في مواضيع الإصلاح في المنتديات والسّمار، ولا خطر على العلماء في شيء من ذلك إلا في دار السلطنة حيث يمنع الاجتماع والكلام في الإصلاح الذي يمس السياسة فقط، فعليهم أن يستبدلوا ما لا خطر فيه بما فيه الخطر. ووراء هذا كله نقول: أين وراثة النبوة التي هي مفخر العلماء؟ أَمَا كان الأنبياء يُضربون في سبيل تعليم الحق وإرشاد الناس ويهانون ويسبون ويشتمون ويهجرون ويطردون بل وكثير منهم يقتلون؟ أليس العلماء أحق الناس بالأخذ بآية {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِر} (الأحزاب: 21) أما يعلم صاحب الأعذار أن رسوله أوذي في الله فأُلقي عليه سلا الجَزور وهو يصلي ورمي بالأحجار وأُلجئ إلى ترك وطنه وشج رأسه وكسرت رباعيته؟ أين الذين لا يخافون في الله لومة لائم؟ هل يرضى العلماء أن يكونوا ممن قال تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) ؟ إذا كانوا يعلمون أن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم وكلفهم بأن يبذلوهما في سبيل الحق فكيف يعرضون عن عمل يعترفون بأن فيه قوة الملة ومنعتها وعزها وشرفها إجابة لداعي الوهم وإخلادًا إلى الراحة والكسل، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) . (العذر الثالث) ملخصه: كما في أسئلة جريدة طرابلس ما ترى: (هل لديك من يضمن حسن العاقبة لهؤلاء الأخيار ويؤمّنهم على مستقبل حالهم إن تجشموا هذه الأخطار) تأملوا - أيها الناس - وتعجبوا: (وتالله لئن كان لديك - أيها اللائم حضراتِ العلماء على تقصيرهم المزعوم - من يضمن لهم أمر معاشهم ومعاش عيالهم ويؤمنهم على حياتهم وشرفهم إن هم قاموا بما به عليهم حكمت أني أنا الضمين بأنهم يتهالكون على إرشاد الأمة وبعث نفوس أهل الثروة إلى خدمة الأوطان والسعي على مقتضى نوايا جلالة السلطان - نصره الله تعالى فهم - والله - ليسوا في هِمَمهم دون همم سواهم من وعاظ الغرب، ولا أقل نشاطًا ولا أضعف قوةً، بل فيهم الهمم العالية والنفوس السامية والإيمان الذي يحملهم على إخلاص النصيحة إن قدروا وسلموا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) . الجواب: إن هذا العذر مبني على سابقيه؛ لأن حاصل العذر الأول أن الإرشاد المطلوب يتوقف على الثروة فإن كان يوجد من يمد العلماء بالمال؛ فإنهم يقومون به. وحاصل الثاني أن الذي يقوم بالإرشاد يكون عرضة للوم اللائمين وإيذاء المفسدين واتهام المتهمين (وما أغنى العلماء عن المطاردة في هذا الميدان) نعوذ بالله من الغفلة، وأما الثالث هذا فحاصله أن القيام بالإرشاد يشترط لوجوبه مع احتمال ما ذكر من الأخطار أن يكون هناك ضامن يضمن للمرشد ولعياله حياتهم ومعاشهم وشرفهم، ويدخل في ضمان الشرف ضمان الألسنة اللائمة والقلوب الشامتة، ولا شك أن شركات الضمان الأوربية التي تضمن الأموال والأعمار إلى أجل مسمى لا تُقْدم على ضمان الألسنة والقلوب التي يخاف صاحب طرابلس من لومها وشماتتها. فإن كان يتنزل لنا عن ضمان الألسنة والقلوب اتباعًا لحكم الشرع واسترشادًا بنور العقل - فإننا نضمن له ما عداهما. ليؤلف في بلده جمعية من العلماء الذين وصفهم بما مر عنه، وليبحثوا في أساليب التعليم النافعة والخطب المفيدة، وليتعاهدوا على التعاون بما يظهر لهم أنه الأنفع، ثم ليعملوا، وليكن مما يتعاهدون عليه أن يكون كلامهم في النوادي والسمار في مصلحة الأمة والملة عوضًا عن الكلام الذي يضيعون به الحياة العزيزة، وهو ما نعلمه نحن ويعلمه هو. ليكفوا عن جعل الخطب في فضائل الشهور وبعض وقائع الدهور. وليجعلوها سهلة العبارة. خالية من غريب المجاز والاستعارة ولا يتكلفوا فيها التسجيع ولا أنواع البديع؛ ليفهم الناس جميع ما يقولون ويعلموا أنهم به مخاطَبون، لا أنه مقصود بالذات، مكفر بأسراره للسيئات. ليجعلوا الخطب والمناظرات والدروس والمذاكرات في هذه الأمراض الروحية والأدواء الاجتماعية وفي مناشئها من العقائد الزائغة ومثاراتها من طريق الإرشاد الرائغة وبيان الحق بالحجج البالغة وزهق الأباطيل بالحقائق الدامغة. ليبينوا للناس حقائق التوحيد والتوكل والزهد والتواضع والاقتصاد؛ ليعلموا أن مراعاة سنن الخلقة والتمسك بالأسباب الظاهرة هو طريق السعادة في الدنيا، كما أن موافقة الأعمال للشريعة الحقة هو سبب السعادة في العُقبى، وأن طلب الشهادتين بغير هاتين الوسيلتين غرور وأن الكسل والذل والخمول والسرف والمخيلة والاحتجاج بالقدر والاستعانة بغير الله تعالى والاعتماد على العفو والشفاعات مع التقصير في العمل - كل ذلك من أسباب الشقاء والخذلان. ولينظروا (أي: العلماء) مع ذلك في طرق التعليم والتأليف الجديدة، ويعتمدوا على أقربها وأفيدها، ويرشدوا الناس إلى ما هم في أشد الحاجة إليه من الفنون الرياضية والطبيعية، ويوضحوا لهم أن الدين والدنيا لا يُحفظان إلا بها. هذه إشارة إلى ما تطلبه الأمة من العلماء، فهل يقول أستاذ طرابلس إن قيامهم به يعود عليهم بالضرر والأذى -وإن الوجوب سقط عنهم لذلك أو يوجد ضامن يضمن لهم ما ذُكر؟ إن كان يقول هذا فأنا الضامن له ولمن شاء من أهل بلده وغير بلده ما سوى الألسنة والقلوب. حقًّا أقول: إنه إذا تدبر في الأمر فإنه يرجع عن أحكامه واعتذاراته ويتثبت - بعد ذلك - في مثلها من الأحكام والإيمان وما يتذكر إلا مَن ينيب.

اختيار المعلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اختيار المعلمين لا ينبغي أن يكون الغرض من إنشاء المدارس إفادة التلامذة بعض مسائل من العلوم والفنون التي تدرس فيها بحيث تكون تلك المسائل مخزونة في أذهانهم مع سائر المعلومات التي يستفيدونها من خارج المدرسة في عامة أحوالهم. وإنما يجب أن يكون الغرض من المدارس نفخ روح السعادة الإنسانية في التلامذة. ولا يُنفخ هذا الروح إلا بتربية النفس وتهذيبها ثم دلالتها على طرق الحياة وكيفية سير الناس فيها على الوجه الذي يؤدي إلى المقصد من غير ضلال وبأقل تعب وعناء وبيان قُطاع هذه الطرق التي تحول بين سالكيها وبين الغاية. كل علم لا يهدي إلى طرق الحياة السعيدة فهو لغو، وأجدر به أن يسمى جهلاً، والمشتغلون بهذا اللغو أو الجهل كثيرون بل هم الذين جعلوا العلوم والفنون المرشدة إلى الأعمال النافعة لغوًا؛ إذ لا يوجد علم لا يهدي إلى عمل نافع للإنسان؛ فالعلم إما بيان للعمل اللساني أو العضوي أو القلبي، وإما ركن تستند إليه الهداية كعلم العقائد، ولكن هؤلاء خرجوا بالعلم في التعليم والتأليف عن كونه مرشدًا هاديًا يبعث الآخذ به ويزعجه إلى ما هداه إليه وجعلوه مقصدوًا لذاته. جعلوه عالمًا مستقلاًّ لا مندوحة لمن يشرف عليه عن الانفصال عن العالم الوجودي. وعندما ينفصل عن العالم الوجودي يمكنه أن يتصل بذلك العالم الخيالي (الذي يسمونه العلم) ويشاهد بعض ما فيه من العجائب التي يتأتَّى له بها أن يحكم على بعض الجزئيات في عالم الوجود بالصحة أو الخطأ إن هي عرضت له. ويرى هؤلاء أن عالم الخيال الذي هو علمهم له الحكم والسلطان على عالم الوجود. فإذا قرر بعض علمائهم مسائل مخالفة لما في الوجود، ولا تنطبق على سنن الخليقة ومصالح البشر يذهبون إلى صحة ما قاله عالمهم وفساد ما في الوجود والواقع، وإلى وجوب تبديل سنن الخلق وتحويل المصالح؛ لتوافق ما جال في خيال المرحوم الأستاذ المؤلف، وهو في غرفته منقطعًا عن العالم أو ما أُلهمَه وهو في خلوته بعيدًا عن الناس يستمد العلوم والحقائق من عالم الغيب، ولكن من عرف سنن الخليقة يعلم أن محاولة تحكيم الخيال فيها عبث وجنون، وأن كل خيال يخالف الحقائق ويصادم النواميس والمصالح جهل لا علم، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. ولا في دينه حرجًا. تعليم أمثال هؤلاء مضر غير نافع فينبغي أن لا يفوض إليهم أمر التعليم فإنهم إذا حكموا في نفوس الأحداث الضعيفة يجورون في الحكم ولا يعدلون، ويفسدون في أرضها ولا يصلحون. إن اختيار الأساتذة والمعلمين أهم ما تحتاج إليه الأمم المريدة للإصلاح والطالبة للترقِّي كالأمم الشرقية عامة والمسلمين خاصة، أوّاه أواه! ينهض رجل غيور محب للمجد الصحيح والكمال الحقيقي فيؤسس مدرسة وطنية لخدمة أمته ورفعة شأنه فيختار لها مكانًا حسنًا، ويجلب لها من الأثاث والأدوات أحسن ما يكون في أمثالها، وماذا يكون من أمره في اختيار المعلمين وهم روح ذلك الهيكل الحسن؟ ما هي المرجحات التي تلاحظ في الاختيار من صاحب المدرسة ومستشاريه؟ يختار في الغالب من لديه شهادة بالتحصيل، ولهم الحق في ذلك؛ لأن أصحاب الشهادات أعلم من غيرهم في الأكثر، فلا ينبغي العدول عنهم إلا لمن يفضلهم بالمزايا التي سنذكرها، ثم يرجح من هؤلاء من يتصل بأهل الترجيح والاختيار بقرابة أو صحبة أو من يتخذ وسيطًا من الوجهاء. ومن المرجحات المسلمة عند الشرقيين في مثل هذا من الأمور العامة حتى أعمال الحكومة ووظائفها حاجة الرجل إلى التعيش بالوظائف يقولون: فلان صاحب عيال، فلان من آل البيت الفلاني الذي انتابته النوائب، فمن المروءة والكمال السعي في حفظ كرامته وإبقاء مظهره وبذلك نستحق الأجر من الله تعالى، يقولون هذا ويعملون به وهم في غفلة عما يخربون من البيوت بعمران هذا البيت وعما يذهبون به من كرامة الأمة كلها إذا كان الموظف غير أهل لعمله، وعن حرمان الأمة من أبنائها النبلاء إذا لم يكن قادرًا على تربيتهم وتعليمهم على الوجه الذي يكون هاديًا إلى سعادتهم وسعادة بلادهم. أول ما تجب مراعاته في الأستاذ المعلم: * حسن الخلق والآداب؛ فإن سيء الأخلاق يبني بتعليمه قصرًا ويهدم بإفساده آداب التلامذة مصرًا. * ويلي هذا معرفة أساليب التعليم وتمرنه عليها، فليس كل عالم يحسن التعليم. * ثم معرفة جملة من علم الفلسفة العقلية وعلم الهيجين (مداراة الصحة) ليعرف ما ينبغي أن يلقَّن للتلميذ بحسب سنه واستعداده العقلي. * وبعد هذا وذاك يُشترط أن يكون الأستاذ واقفًا على أحوال عصره الاجتماعية عارفًا بمواضيع جميع العلوم والفنون المتداولة فيه وغاياتها في الجملة، لئلا ينفر التلامذة من غير الفن الذي يقرؤه لهم مما يكون نافعًا للبشر. ومعاداة العلوم والفنون إنما تكون من الجهل بها، وهي من أكبر أسباب تأخر الأمم وضعفها لا سيما إذا كانت من رجال الدين الذين يذمون ما يجهلون وينفرون عنه بحجة أنه مخالف للدين، فتأخذ آحاد الأمة كلامهم بالقبول، فيُحرَمون من الإقبال على تلك الفنون النافعة واجتناء ثمارها. * وصفة أخرى من الصفات التي يرجح بها اختيار المعلمين وهي الغيرة الملية والحمية القومية؛ فمن فقد هذه الصفة قلما تستفيد الأمة من تعليمه أبناءَها. صاحب هذا النعت الشريف هو الذي ينفخ الكمال في جسوم التلامذة، ويحبب إليهم أوطانهم، ويغرس في نفوسهم مبدأ الميل إلى المنافع العامة. وهذه الصفة من كمال تهذيب الأخلاق الذي ذكرناه أولاً وإنما أفردناها بالذكر؛ لأن أكثر الناس لا يخطر لهم هذا المعنى ببال عندما يذكر تهذيب الأخلاق، وقد قال بعض الباحثين في فن التربية والتعليم من الإفرنج: إن مما تنبغي مراعاته في الأستاذِين: حسن الوجه ونظافة الثياب لما لهما من التأثير في حب التلامذة لهم واقتدائهم بهم. ولَعَمري إن حب التلميذ لأستاذه من أعظم أسباب انتفاعه به، ومن ينفر من معلمه لأي سبب من الأسباب قلما ينتفع به. هذا ما عَنَّ لنا في هذا المقام فعسى أن يلتفت إليه أصحابُ المدارس الوطنية وطلابُ العلم المختارون في انتقاء الشيوخ، والله الهادي إلى سواء السبيل.

وصايا للحوامل أو تربية الجنين ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وصايا للحوامل أو تربية الجنين 1- تجتنب الحبلى المآكل الغليظة العسرة الهضم والكثيرة الدسم والتوابل، ولا تزيد من تناول الأطعمة اللطيفة عن الاعتدال لا سيما في أوائل الحمل؛ حيث تكون معرضة لسوء الهضم، وما تزعمه النساء الجاهلات من أن الحبلى تحتاج إلى كثرة الأكل في أوائل الحمل خطأ، والصواب أن ضرر التخمة في أوله أكثر منه في آخره، والاعتدال أسلم في كل حال. 2- تجتنب أشد الاجتناب شرب المسكرات؛ فإنها تهيج الدم وتكون سببًا في قلة نمو الجنين فيأتي صغيرًا وضئيلاً، ولا تُكثر من شرب المنبهات كالشاي والقهوة. 3- ينبغي أن تكون أوقات أكلها ونومها مرتبة ومعينة بانتظام. 4- تلبَس من الثياب والأحذية الواسع الذي لا يضغط الجسم والرجلين، أما الجسم - لا سيما البطن - فظاهر، وأما الرِّجلان؛ فلأنهما في مدة الحمل يكونان عرضة للتورم. 5 - تعتني بتنظيف جسمها، وتجتنب الاغتسال بالماء الحار والبارد؛ وفي مهاب الهواء كالبحر والنهر، وأفضل الماء للاغتسال ما كانت حرارته كحرارة الجسم أو تزيد قليلاً. 6- من أهم النظافة نظافة غرفة المنام وتجديد هوائها، وتعريضها للشمس؛ فإن استنشاق الهواء النقي ضروري لحفظ الصحة. 7- من المهمات التي تهملها نساء الأغنياء الرياضة، وهي ركن من أركان الصحة، وتتأكد العناية بها في وقت الحبل. أما نساء الفقراء فهن مضطرات إلى الرياضة، وإنما يؤمرن بمراعاة الاعتدال في أثناء الحبل؛ لأن الرياضة العنيفة تضر، وربما تفضي إلى الإسقاط، على أن اللواتي يعتدن الراحة والكسل أكثر تعرضًا للإسقاط، وتألمًا من الولادة، فعلى الغنية الوهنانة (الكسلى من التنعم) أن تكلف نفسها الرياضة المعتدلة ولو بالخدمة في البيت، وأن تمشي أحيانًا في الأماكن النقية الهواء، وتجتنب العَدْو والوثبان والرقص. ونرى الكثيرات من الحوامل يقضين معظم النهار مستلقيات، فيستولي عليهم الضجر والسآمة والإقهاء (فقد شهوة الطعام) والاستلقاء أحيانًا لازم لا سيما عندما تثقل الحامل، وحيث يخشى من الإسقاط. 8- ينبغي الاحتراز من كل ما يهيج الانفعال الشديد كالخوف والفزع والحزن، وذلك بالتباعد عن أسبابه، وبالتلاهي والتسلي إذا وقعت الأسباب. 9- ينبغي أن لا يحسب الحبل مرضًا من الأمراض، فتتوهم صاحبته أن الأخطار محدقة بها؛ فإن هذا الوهم ربما يضنيها ويؤثر - إذا قوي - في جنينها. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (دائرة المعارف) كل مشتغل بالعلوم والفنون تعرض له عند المطالعة أو التأليف مسائل يحتاج إلى المراجعة عنها في كتبها الخاصة بها، كما يعرض له ألفاظ مفردة لا يعرف ضبطها أو معناها، فيفتقر إلى مراجعتها في معاجم اللغة، ولا يخفى أن في مراجعة كل مسألة في كتب الفنون كلفة وإنفاق جزء كبير من الوقت؛ ومن ثم كانت الحاجة شديدة إلى تأليف كتب في اصطلاحات العلوم والفنون، وأسماء المدن والأمكنة والمعادن والنبات والحيوان، وتراجم مشاهير الرجال، وقد ألف علماء الإسلام في كل نوع من هذه الأنواع كتبًا خاصة بها في أيام حضارتهم ومدنيتهم، ثم دالت العلوم والفنون إلى الغرب فألفوا في ذلك كتبًا شتى، ومنها النوع الذي يسمونه (إنسكلوبيديا) . ولما اشتغل أهل المشرق بالعلوم الغربية لم يكن لهم بد من هذا النوع، ولم ينتدب له من الناطقين بالعربية غير الحسن الذكر والأثر المعلم بطرس البستاني أحد أركان النهضة العلمية الأخيرة في بيروت، فشرع في تأليف إنسكلوبيديا عربية سماها (دائرة المعارف، قاموس عام لكل فن ومطلب) وساعده في ذلك ولده سليم أفندي الذي كان خير مثال له في علمه وفضله وهمته وإقدامه. وبعد أن اخترمت المنون الوالد ظل يشتغل بها الولد، ثم من بعده لم يؤلَّف إلا جزء واحد هو التاسع، وتوقف العمل، ولكن بيت البستاني بيت العلم والهمة، وقد انتدب أخيرًا لإتمام الدائرة منهم العلماء الأفاضل سليمان أفندي ونجيب أفندي ونسيب أفندي فأصدروا الجزء العاشر على منوال الأصل في الفوائد والرسوم، ويزيد على الأجزاء السابقة بما زاد في العلم من التحرير والاكتشاف وهو مفتتح بمادة (سليكون) من حرف السين، ومختتم بترجمة السلطان (صلاح الدين) فنشكر لهؤلاء الأفاضل سعيهم، ونرجو لهم النجاح والتوفيق لإكمال عملهم، وعسى أن يساعدهم قراء العربية في ذلك بالإقبال على الكتاب. *** (تاريخ المشرق) التاريخ من العلوم التي لم تبلغ كمالها إلا في الغرب، ولقد كان أقرب إلى الأفاكية المسلية منه إلى العلوم المفيدة، فأمسى أعظم مرشد للناس في جميع الشؤون؛ لأنه هو الذي يشرح سير البشر في بداوتهم وحضارتهم، وفي علومهم وآدابهم وأديانهم وأعمالهم، وما يحتف بها من أحوال معايشهم في كل قطر من أقطار الأرض. وإن الأمم الشرقية في أشد الحاجة إلى كتب التاريخ المؤلفة على الطراز الجديد النافع؛ لأنها ركن من أركان التقدم لا يقوم بدونه. وقد أهدانا حديثًا الكاتب الشهير عزتلو أحمد بك زكي السكرتير الثاني لمجلس النظار نسخة من ترجمته لكتاب (تاريخ المشرق) الذي ألفه بالفرنسية المسيو ماسبيرو، وهو كتاب قد جمع على اختصاره ملخص التاريخ القديم لمصر والكلدانيين والآشوريين والفينيقيين والماديين والفرس، وفيه من الرسوم والخرائط ما تتم به الفائدة منه، وقد علق عليه جناب المترجم شروحًا في ضبط بعض الأسماء المبهمة وبيان أصلها وغير ذلك مما لا غِنْية عنه، وقد قدرت نظارة المعارف الكتاب المترجم قدرَه، فطبعته على نفقتها وأمرت بتدريسه في المدارس الأميرية. فنشكر لحضرة المترجم فضله عسى أن يكون الشكر سببًا في المزيد.

الحدود بين القطر المصري والسودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحدود بين القطر المصري والسودان جاء في جريدة الوقائع المصرية ما نصه: صورة ما صدر من الداخلية لمحافظة النوبة بتاريخ 26 مارس سنة 1899 نمرة 9 إدارة بشأن الحدود الفاصلة بين مصر والسودان. قد اطلعنا على إفادة حضرتكم رقم 14 مارس سنة 1899 نمرة 19 محاسبة المتضمنة أنه بناءً على طلب جناب قومندان حلفا، وتنفيذًا للوفاق المبرم بين حكومة جلالة ملكة إنكلترا والحكومة المصرية بتاريخ 19 يناير سنة 1899 فيما يختص بالحدود الفاصلة بين مصر والسودان - قد تقرر فيما بين حضرة القومندان المُومَى إليه وضابط بوليس التوفيقية من جهة، وبين مأمور فرقة أملاك الميري بمحافظة ذلك الطرف ومعاون بوليس مركز حلفا من جهة أخرى على جعْل نهاية حدود بلاد السودان شمالاً من الجهة الغربية على مسافة 200 متر شمالاً من البربه بناحية فرص ومن الجهة الشرقية على البريّة الكائنة بناحية أدندان، وأنه وضع هناك علامتان مكتوب على وجهة كل منهما الشمالية (مصر) والجنوبية (السودان) وكان ذلك بحضور عُمد ومشايخ الناحيتين المذكورتين. ونتج عن هذا أن ناحية فرص التي تتبعت للسودان تُرك من زمامها لمصر 3 أفدنة وقيراطان أطيانًا و58 نخلة، وترك السودان من زمام ناحية أدندان التابعة لمصر 99 فدانًا و7 قراريط أطيانًا و150 نخلة، وأنه بهذا التحديد دخل حدود السودان من بلاد المحافظة عشرة بلاد، زمامها 4094 فدانًا و12 قيراطًا و2 سهمًا أطيانًا بما في ذلك 112 فدانًا و5 قراريط و11 سهمًا أطيانًا غير مربوطة و2206 نخلة ومقدار أهاليها 13138 نفسًا، وأنه بناءً على ما ذكر رأيتم تقسيم البلاد الباقية من مركزي حلفا والكنوز على مركزين كما كانا حسب الآتي بعد: أولاً: مركز حلفا يُسَمَّى بمركز الدر ويكون مقره ناحية كروسكو ويتبع له 22 بلدًا من أدندان إلى شاترمه شمالاً، حيث يكون امتداده 152 كيلو متر وزمامه 9117 فدانًا و10 قراريط و8 أسهم أطيانًا و254193 نخلة وتعداد أهاليه 31703 نفسًا. ثانيًا: مركز الكنوز يسمى بمركز أبي هور ومقره بناحية أبي هور ويتبع له 18 بلدًا تبتدئ جنوبًا من ناحية المضيق إلى ناحية الشلال شمالاً، حيث يكون امتداده 144 كيلو متر وزمامه 8025 فدانًا و5 قراريط أطيان و110440 نخلة وتعداد أهاليه 22319 نفسًا. وهذا حسب المبين بالكشف الوارد مع الرسم النظري على إفادتكم المذكورة، وقد تصادف ورود مكتوب من نظارة المالية نمرة (5) أموال مقررة بأنها وافقت على ما ذكر بناءً على الإخطار الذي أرسلتموه لها أيضًا، ولكنها ترى أن مركز حلفا يكون اسمه مركز كروسكو لا الدر كما رأيتم وأن المديرية تسمى مديرية (أصوان) وقد أوضحت في مكتوبها علاوة على ما بينتموه في إفادتكم الداخلية أسماء العشرة بلاد المذكورة وهي نواحي سره شرق وفرص وجزيرة فرص ودبيرة وسره غرب وأشكيت وأرفين ودغيم وعنقش وديروسه وأن فيها عدا الزمام الذي ذكرتموه و720 فدانًا، و5 قراريط و8 أسهم أطيانًا من أملاك الميري الحرة، وحررت لحضرتكم بذلك. وحيث إننا قد وافقنا أيضًا على هذا التحديد الشامل لعدد البلاد والأهالي ومقادير الزمام المذكورة مع تسمية مركز حلفا بمركز كروسكو كما رأت المالية وكاسم الناحية التي سيكون بها وتسمية المحافظة بمديرية أصوان فاقتضى ترقيمه لحضرتكم بذلك ولنظارات الحقانية والأشغال والمالية للعلم به. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ناظر الداخلية ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مصطفى فهمي)

الإصلاح الإسلامي

الكاتب: أحد أفاضل الكتاب في دمشق ـ الشام

_ الإصلاح الإسلامي لأحد أفاضل الكتاب في دمشق -الشام رنّ في هذه الأيام صدى كلمة الإصلاح في هيئة المجتمع الإسلامي لتقويم أوده وإرجاع سالف مجده، وهي الكلمة التي أصغت لسماعها الآذان حينًا من الدهر، ورصدت لها العيون ظهورًا في هذا العصر، وقد أخذ نبهاء الكتاب، ممن أوتوا الحكمة وفصل الخطاب - في سلوك سبل توصل إلى هذا المقصد العزيز، وأناروا مصباح رأيهم في هذا الميدان الرحيب، الذي ضربت عليه سرادق ظلام الجهل، وخفيت فيه أنوار العلم والفضل، حتى تاهت في بيدائه العقول وحارت في أرجائه الألباب، إلى أن أسفر للبعض منهم صبح من الإصلاح سار تحت ضيائه، وأرشد الكافة إلى نوره وسنائه، والبعض لاح له حباحب يضيء، فظن أنه سيظهر شمسًا، أو يكون في عالم الإصلاح بدرًا، والبعض رأى ما رأى مما وقفتم عليه في الجرائد، ولكلٍّ وجهة اتجه إليها، وعول فكره عليها، إلا أن من سبر غور الحوادث وتتبع سير تقلباتها وتنوع أطوارها - علم أن سيرها على جادة مستقيمة وخطة قويمة ما كانت تحدث طفرة بل بسير متتابع بعضه خبب وبعضه عنق. ونحن إذا نظرنا إلى ما اقترحه الكتاب من الأخذ بالأسباب المزعوم بها الإصلاح وجدنا مقترحهم من نوع الطفرة التي هي محال في سير الزمان وتقلبات الأحوال، وقد تبرعوا به في غير وقته، وكان الأجدر أن يلتفتوا إلى ما هو أمامه من العقبات التي تعيق دون الوصول إليه فإذا مهدت ظهر نجاح مقترحهم [1] (لا ندري من يريد بطالبي الطفرة) . وما دامت هذه الأطواد الشوامخ حائلة في طريق الإصلاح ولها السيطرة القوية والنفوذ التام على الخاص والعام فمن المحال الوصول إلى المطلوب إلا بالطريق الذي سلكت عليه أوربا أول حضارتها، وقد علمتم أسبابه وكشفتم نقابه. وفي مقدمة تاريخ (شرلكان) ما فيه كفاية للوقوف على نهضة الأمم الغربية من رقدتها، وكيف زحزحوا العقبات الناشبة في طريق تقدمهم حتى ظفروا ببغيتهم، ولم يتنبه المعترضون في سبيلهم إلا والقوة كانت في طرف أخصامهم فهبوا إلى إثارة شرار الشر ضدهم فلم ينجحوا، وخاب مسعاهم فلم يفلحوا، أو بالطريق الذي سلكت عليه اليابان في تقدمها ونشأة حضارتها إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك الإسلام وإمدادهم فيه. فأُولى هذه العقبات عقبة النفع الذاتي الذي يتخلل الأعضاء والجوارح وتنمو الأجسام عليه حتى صار ملكة راسخة يعسر زوالها ولا يرجى برؤها، وهي أعظم حائل دون المرام من الإصلاح، وما دامت هذه الروح الخبيثة تتردد في شغاف القلب وتجول في ميدان اللب، فلا وأبيك نرى إصلاحًا لفسادنا ولا نجاحًا لأعمالنا (إنما يضر حب الذات الذي تضيع به الحقوق العامة وهذا عرض يزول بالتربية والتعليم الصحيحين) . والثانية من هذه العقبات العصبية القومية التي إذا التفتنا إلى جهتها نقضي لأول نظر باليأس من النجاح في خطة التقدم والفلاح؛ فإن ما نراه ونسمعه من السعي في إفساد ذات البين الذي جاء الإسلام بحظره وخطره يحملنا على إنكار القول بإمكان الإصلاح (هذا غلو في اليأس) ولا يخفى أن الأمة الإسلامية وحدت كلمتها وضمت متفرقها برفع المغايرات الجنسية، فإذا انحلت هذه الرابطة ونظر كل شعب وقبيل إلى نفعه حكم بتفريقها وتوزيع سلطتها ضرورة كالحبل المؤلف من أجزاء، فإذا انحلت أجزاؤه ذهبت متانته وتلاشت منه القوة التي يقتدر بها على حمل الأثقال، وقد استلفت الدين الإسلامي الجمهور إلى التمسك بعروة الإخاء الديني كيلا تتمكن الدسائس الإبليسية والشهوات النفسانية من حل عُرَاه، وقد أبت السياسة الخرقاء إلا أن تفرق هذه القبائل والشعوب التي أمر الله بتعارفها وائتلافها لوجهة من السياسة مظلمة وطريق من التحكم وعر. وإذا نظرنا إلى تقابل الطوائف الإسلامية التي فرقتها اللغات وجمعها الدين نراه كالتقابل بين الأمم التي فرقتها الألسن، والأديان ولا يسعنا الحال الحاضر أن نبين مقدار الانفراج الحاصل بين الشعوب الإسلامية؛ لئلا ينكشف الطلاء. الثالثة منها الاختلافات الطرائقية والمذهبية، ولا يحقر شأن هذه الاختلافات التي باعدت بين الأمة وقد أحدثت خللاً عظيمًا يصعب تلافيه. الرابعة منها السعي في إفساد الأخلاق والآداب من أفراد يعلم شأنهم. الخامسة منها السعي في انحطاط درجة علماء الدين من أنظار الأمة، وقد أخذ بعضهم في لومهم لتقصيرهم عن القيام بإرشاد الأمة، وقد ذهل اللائم عن السبب الباعث على سكوتهم وسكونهم وما هو إلا ما اتُّخِذَ من الحجر على أسباب معاشهم وحصرها تحت يد مَن يتسنى له تسييرهم على مقتضى أغراضه وأهوائه (تأملوا أيها العلماء بماذا يدافع عنكم من يعذركم من الأمة فما بال من يعذلكم؟ !) ولم يزل السعي بتقليص نفوذهم من أنظار الأمة بأسباب معلومة واتخاذ من تشبه بهم من أراذل الناس في الوظائف؛ لتتسع دائرة التهم عليهم فينحط شأنهم ويسقط سلطانهم. ويكفي لانحطاط شأنهم ما يلقى في بعض المكاتب العالية إلى التلامذة من بعض المعلمين من أن علماء الدين هم السد بين الأمة والترقي (ولماذا لا يكذبونهم بفعلهم؟) وهذا الفكر تلقفوه من الأورباويين وقلدوهم في إطلاقه، وما علموا الفرق بين سلطة العلماء في الدين الإسلامي وسلطة رؤساء الدين المسيحي؛ فإن من تتبع تواريخ الأمة الإسلامية لا يقدر على إثبات حادثة تسند إلى علمائه تداخلاً في شؤون الحكومات إلا ما كان من ضمن دائرتهم، ولم يكونوا في عصر ما حاجزين الناس عن تعلُّم ما يفيد في معاشهم ومعادهم (في هذا نظر ظاهر إلا إذا أراد الحجز بالقوة وليس من شأنهم) والتصانيف العديدة في أنواع العلوم والمعارف شاهدة (أين مصنفات علماء هذا العصر من الفنون؟ !) وإعطاء حرية الأفكار ضمن صحائفها مما يعلم به درجة التقدم، وثمة عقبات وسدود أرجأتها لوقت آخر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (م. ع. م) (المنار) لقد جمعت هذه المقالة على إيجازها ما لم تجمعه المطوَّلات التي كُتبت في موضوعها، لكن فيها إجمالاً وإبهامًا لا بد معهما من بعض البيان والتفصيل. أشار الكاتب إلى أن للإصلاح طريقين اثنين لا ترتقي أمة إلا بأحدهما أو كليهما. ذلك بأن الارتقاء إما أن يكون من قبل الأمة كارتقاء أوربا، وإما أن يكون من جانب الحكومة كارتقاء اليابان التي نهض بها إمبراطورها (الميكادو) نهضة واحدة وقد أشار الكاتب إلى هذا بقوله: (إلا أن هذا متوقف على نشاط ملوك الإسلام وإمدادهم فيه) ، وكان الأَوْلى أن يقول: متوقف على نهوض ملوك المسلمين وأمرائهم وقيامهم به. وأما الأول فقد بينه بعض البيان بذكر العقبات الخمس. ذكر خمس عقبات وسكت عن بعض العقبات والسدود أو أرجأها، ولكنه أهمل بيان الأطواد الشوامخ التي يسهل بالنسبة إليها كل حَزَن وتقتحم كل عقبة. تلك الأطواد مؤلفة من سلسلتين عظيمتين، وهما: رجال الدين، ورجال الحكم والسلطان. فقد كان الفريقان متحدين في أوربا على مقاومة: كل ما يسمى علمًا واكتشافًا واختراعًا وحرية وعدالة ومساواة، وإن شئت قلت: مقاومة كل ما يصرف قلوب الناس عن العبودية لهما ويجعلهم مستقلين في إدارتهم كاملين في إنسانيتهم. أما رجال الدين، فكانوا يعادون بالعقل والعلم ونتائجهما باسم الدين وكانوا يزعمون أن كل علم أو عمل لم ينطبق على ما في كتبهم الدينية - فهو كفر وإلحاد، ومن جاء به مباح الدم والمال. وكان الملوك والحكام تبعًا لهم ومنفذين لإرادتهم، وما ذلك إلا لأن الفريقين كانا مشتركين في تلك السلطة المطلقة والمشيئة النافذة، وما كانا يقابَلان به من الخضوع الأعمى والطاعة التامة. نعم، كانوا يعادون العلم؛ لأنهم جهلاء، والناس أعداء ما جهلوا، فلما علموا صاروا أنصار العلم وأعوانه، كانوا يرون أن العلم يصدهم عن حفظ الدين، فصاروا يعتقدون أنه لا يمكن حفظ الدين وإبقاء شرفه إلا بالعلم؛ ولذلك ترى نظار المدارس وأكثر أساتيذها من الرهبان والقسيسين، بل معظم المدارس في الغرب والشرق للجمعيات الدينية، وهل الترقي إلا بالمدارس وفي المدارس ومن المدارس. فمبدأ ترقي أوربا الإصلاح الديني وإمام المصلحين فيها هو الرجل العظيم (لوثر) . ونتيجة هذا كله أن الإصلاح الإسلامي يتوقف قبل كل شيء على إقناع العلماء ورجال الدين بأن العلوم الرياضية والطبيعية - التي هي محور الثروة والقوة والعزة - ضرورية لا مندوحة عنها، ويجب أن تُعلم مع الدين وأن يقوم بتعليمها رجال الدين؛ لأن تركها للمدارس الأميرية والأجنبية التي يقولون: (لا دين فيهما) - يجعلها خاصة بمن لا دين لهم وهؤلاء لا يرجى منهم خير للأمة والملة ولا يسقط الوجوب بهم، وتركها بالكلية مُذهب للدنيا والدين؛ إذ الدين لا يمكن حفظه إلا بالدنيا فتعين أن يجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا (الرياضيات والطبيعيات) . وإن الشريعة الإسلامية تصرح بأن تعلم الصناعات التي يحتاج إليها البشر في معاشهم واجبة على مجموع الأمة، وأن ما يتوقف عليه الواجب المطلق كالجهاد واجب أيضًا، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن الجهاد والصناعات ممكنة بغير هذه الفنون، مع هذا كله نجد أكثر رجال الدين عندنا يعادون هذه الفنون وأهلها بل يكفرونهم، ومنهم من عمي عن الوقت والزمان فزعم أنها لا حاجة إليها ألبتة. ومن العجيب أن فقههم يقتضي أن تعلُّم الفنون العسكرية التي يتوقف عليها الحرب - فرض عين في أكثر البلاد الإسلامية وهذا الحكم الذي لا نزاع فيه بينهم يستلزم أن جميعهم فساق تاركون للفريضة، وربما يستلزم أكثر من هذا لا سيما باستحلال هذا الترك. هذا وإن هناك عقبات أخرى في طريق الإصلاح دخلت على الأمة من خروق وكوى فتحت في جدار الدين، فإذا لم تسد هذه الخروق والكوى فإن الإصلاح يكون كالعلاج مع تناول الأغذية المضرة، وقد أخذنا على نفسنا الدأب في هذا العمل الشريف طول حياتنا، ولنا الرجاء في عقلاء العلماء أن يوازرونا ويعضدونا ولا بد أن ينتهي هذا الجهاد بانتصار الحق وانكسار الباطل والعاقبة للمتقين. وأما السلسلة الأخرى (الأمراء والحكام) فإنها لا تغلب إلا بالعلم فهي تستبد في الأمر وتستعبد الرعية ما دامت الرعية جاهلة خرقاء، فإذا علمت ما لها وما عليها، وصارت رشيدة عاقلة؛ يرتفع الحجْر والاستبداد بالطبع. ولله در السيد جمال الدين الحكيم الإسلامي الشهير حيث كان يقول: (إن العاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) ؛ ولهذا نقول: إن المطالِب بالإصلاح قبل كل أحد العلماء وهذا. هو المراد بكونهم ورثة الأنبياء. وكل العقبات التي ذكرها الكاتب الفاضل تزول بإرشادهم وإصلاحهم إذا هم قاموا به على وجهه إن شاء الله تعالى. ثم إن لنا كلامًا في العقبة الخامسة: وهو أن ما ذكره من السبب في سكون العلماء وسكوتهم عن الإرشاد صحيح إلا أنه لا ينهض حجة شرعية ولا عقلية على أنه عذر لهم عند الله والناس، إلا إذا كانت الرشوة حجة على عذر المرتشي إذا هو ظلم وضيع الحقوق، نعم، إن الحكومة استمالتهم إليها بجعل معاشهم من الأوقاف في قبضتها، وبإعطائهم الرتب والوسامات حتى أذعنوا لباطلها وسكتوا على انحرافها عن جادة الشرع، بل صاروا يمدحونها ويعظمونها تملقًا ونفاقًا حتى سقطوا من عين الأمة والحكومة معًا، وضعف نفوذهم فيهما، ولو وقفوا عند الحدود المشروعة وقاموا، بوظيفتهم المقدسة مع مراعاة الحكمة لزادهم الحكام والمحكومون تعظيمًا وتبجيلاً، ولكل هذا أمثال مشهودة لا

تأثير الوعظ والتذكير

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأثير الوعظ والتذكير كان منشئ هذه الجريدة جالسًا يومًا من أيام رمضان في مقصورة ضريح سيدنا الحسين (عليه السلام والرضوان) وبجانبه شيخ من أكبر علماء القطر المصري فنظرنا إلى القوم الذين يُقبّلون الأرض وقفص النُّحَاس الذي على القبر ويستغيثون ويطلبون حاجاتهم، فقرأ الشيخ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) وأشار إليهم، فقرأت أنا: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 53) ثم قلت له: ما بالكم - معاشرَ العلماء - ساكتين على هذه المنكرات وقد وصلت إلى هذا الحد؟ ! فقال: إن الزمان قد فسد فلا يلتفت الناس إلا إلى الباطل. قلت: إن الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه، فإذا تصارع هو والباطل وثبت - فلا بد أن تنتهي المصارعة بالغلب له، فقال: (إذا ثبت!) قلت: وما يمنعه من الثبات؟ ! قال: إن المشتغلين بالوعظ المضر والتعليم الممزوج بالخرافات يسعون في منع من يُعلِّم تعليمًا صحيحًا ويَعِظ وعظًا نافعًا، ويساعدهم من يتصلون به من الكبراء، ويطعنون بالواعظ الصادق المطاعن الدينية والسياسية. قلت له: على كل حال يجب على صاحب الحق أن يُظهره حتى يُمنع، ويجاهد به جهادًا كبيرًا أو يُغلب على أمره. قال الشيخ: لو تصدّى عالم لقراءة التوحيد الصحيح والأخلاق لا يُقبِل عليه الناس؛ ولكنهم يقبلون على القُصّاص الذين يوافقون أهواءهم. قلت: الأمر يخالف ذلك؛ فإن حوادث الزمان قد أعدت النفوس إلى قبول الحق وطلب الإرشاد الذي ينتاشهم من هذه المهاوي وينقذهم من هذا الشقاء، وإنني قد بلوت الناس فألفيتهم كما حدثتك، وها أنا ذا أقرأ درسًا هنا وقد أقبل عليَّ الناس إقبالاً لم يكن يُنتظر، وصاروا يتحدّثون من أول يوم بنفعه، حتى قال بعضهم: لو أن عندنا مائة مدرس كهذا لما حلَّ لنا ما نحن فيه من الرزايا. قال الشيخ: وهل أقبلوا عليك كما يقبلون على فلان؟ فنقول إن التعليم النافع يروج كما يروج غيره مثلاً؟ ! قلت له: لا، ولكن السبب في زيادة إقبالهم على فلان ليس هو تفضيل تعليمه، ولكنهم اعتادوه بطول الزمن مع موافقته لرغائبهم كما قلتم، وأنا أرجو أن يرجحوا جانب الحقيقة الذي فيه مصلحتهم على جانب التمويه الذي فيه لذّتهم إذا وجد من يُمَيِّزُ ذلك لهم. هذا ما دار بيننا من المحاورة والتَّجْرِبَة تشهد لما قلته آنًا بعد آن، وإليك هذه الواقعة التي حدثت في هذه الأيام. قام أحد الشيوخ في هذه الأيام يرغِّب الناس في الحج في مديرية الشرقية ويحثهم على أدائه في هذا العام فجوَّل في مديرية الشرقية بهذا الوعظ، فأثّر في نفوس الناس حتى استسهلوا المصاعب واستخفّوا بالنوائب وارتكبوا معصية الربا الفاحش فاستدانوا ورهنوا أملاكهم للدائنين ثم استأجروا منهم الفدان الواحد بأربعة جنيهات؛ فكان مجموع الفضل الذي أُخذ منهم عشرين في المائة وهو ربا لا يصح في شرع ولا قانون، ارتكبوا هذه الكبيرة عالمين بأن في بعض البلاد الحجازية وباءً يُخشى أن يعلق بهم مكروبه وتلحق بهم كروبه ومستيقنين أن النفقات في هذا العام تكون مضاعفة، كما أن أثقال السفر ومشقاته مضاعفة، وربما كان بعضهم يعتقد أن زيادة الأجور والنفقات عن قدر الاعتدال تُسقِط الوجوبَ عن المستطيع. لماذا حمل هؤلاء هذه الأوزار والأثقال وأقدموا على هذه الأعمال؟ ! أليس إجابةً لداعي الوعظ الذي حملهم عليه العالم باسم الدين؟ ! بلى، قد امتثلوا أمر الواعظ ولم يلتفتوا إلى قول الشاعر: إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجت العيرُ لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل مَن حج بيت الله مبرورُ فإذا كان قول العلماء يقبل بمثل هذا، وتنتهي طاعتهم إلى هذا الحد؛ فماذا يكون من أمرهم إذا أنشأوا يبيّنون للناس طرق سعادتهم في دينهم ودنياهم من الوجوه التي تتغذى بها عقولهم وتتشرَّبها نفوسهم وقلوبهم؟ ! لَعَمْرُك، إن الأمة تنهض بذلك نهضة الأسود؛ فتحفظ موجودًا، وتسترد مفقودًا، وتنال عند الله مقامًا محمودًا.

عبرة لمن يعقل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عبرة لمن يعقل كان أحد أعيان الشرقية الأغنياء مغرمًا بحب الأولياء. معتقدًا بركاتهم ملتمسًا لنفحاتهم. وكان يرى أن أفضل ما يتقرب به إليهم المتقربون. ويستحق به رفدهم ونوالهم الطالبون - إنما هو الاحتفال بموالدهم وإنفاق الأموال في معاهدهم. فكان يشد في كل سنة إليها الرِّحَال وينفق بَدر الأموال، حتى إنه كان يُسَيِّرُ إلى مولد السيد البدوي مائة وسبعين راحلة. وإلى مولد البيومي مثل هذه القافلة. ويضرب في تلك المعاهد الخيام ويذبح لإقراء الضيوف الأنعام حبًّا في أولئك السادات. وتعرضًا لتلك الفيوضات. وما كان ريع أرضه الواسعة الخصبة ليفي بنفقاته وبهذه القربة؛ ولذلك كان يستدين النقود من بعض صرافي اليهود. وأنت تعلم أن شعب إسرائيل لا يقنع بالرباء القليل. فما زالت تلك البركات الوهمية. والفيوضات الخيالية تمحق بالرباء أمواله. كما تُحبط بالمعاصي أعماله. حتى جعلته أفقر أهل زمانه. وأمسى الصراف اليهودي يتمتع بمائتين وثمانين فدانًا من أطيانه، ولم يزل ذلك الأحمق السفيه حيًّا يعيش في حجر أخيه! فهذه الواقعة الحقيقية تفيد أحد أمرين: إما أن الأولياء - كسائر الأموات - لا يملكون للناس (ولا لأنفسهم) ضرًّا ولا نفعًا لا بالذات ولا بالواسطة والشفاعة، وإما أن الاحتفال بالموالد يُغضبهم ولا يرضيهم ويسوءهم ولا يسرهم؛ فلذلك يتصرفون بفاعله أسوأ التصرف. ويتوسلون إلى الله أن ينتقم منه أشد الانتقام. فليتبصر المسرفون في أمرهم الذين ذهبت الاعتقادات الفاسدة بدينهم ودنياهم. وليخش الله أهل العمائم الذين يؤولون لهم بأنهم لا يعتقدون أن للولي قدرة يقدر بها على النفع والضر فيكونون وثنيين مشركين وإنما يعتقدون أن البركات تنزل عليهم من عند الله تعالى؛ فتزيد في أرزاقهم وأعمارهم وتشفي مرضاهم بواسطة الولي الذي يعظمونه ويحتفلون في مولده، وليرجعوا بالمسلمين إلى السنة الصحيحة وسيرة السلف الصالح؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن عِمارة القبور وعن تعظيمها، وما كان السلف يعرفون شيئًا من هذه البدع، وما كان يخطر ببال أحد منهم أن يوسّط ميتًا في قضاء حاجته، كما سبق لنا تفصيل ذلك غير مرة.

إحصاء الأوقاف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إحصاء الأوقاف في يوم الأحد الماضي احتفل ديوان الأوقاف العمومية هنا بافتتاح محله الجديد الذي شيده في باب اللوق تابعًا لوقف المرحوم عباس باشا الأول. وشرف هذا الاحتفال مولانا الخديوِ المعظم عباس باشا الثاني. وفي خلال الاحتفال رفع سعادة فيضي باشا مدير عموم الأوقاف - خلاصة تضمنت إحصاء ما جدده الديوان وعمَّره من المباني منذ سنة 1893 إفرنجية إلى الآن وهو العهد الذي تولى هو إدارة الديوان فيه عقيب تولي الجناب الخديوي المعظم أريكة الخديوية والنظر على الأوقاف، فكانت كما يأتي: 10200 ... مساجد وملاجئ خيرية إنشاءً. 100 ... ... مساجد وملاجئ خيرية ترميمًا. 10300 ... جملتها. 90 ... ... عمارات ريع إنشاءً. 2750 ... عمارات ريع ترميمًا. ـــــ 2840 ... جملتها 60 ... ... مباني زراعية إنشاءً. 300 ... مباني زراعية ترميمًا. ــــ 360 ... جملتها. 4230 ... جملة جميع المباني التي عُمرت. وتلى ذلك إحصائية عامة شاملة لواردات ونفقات الأوقاف من تاريخ تولية الجناب الخديوي (سنة 1892) إلى هذا العهد مع فوائد أخرى كما ترى. باب الإيرادات ... ... ... إيرادات ... ... ... إيرادات جملة ... ... ... الأوقاف الخيرية ... ... الأوقاف الأهلية جنيه ... ... ... جنيه ... ... ... ... جنيه 190735 ... ... 153775 ... ... ... 36960 ... سنة 1892 223114 ... ... 178487 ... ... ... 44627 ... سنة 1893 255131 ... ... 205451 ... ... ... 49680 ... سنة 1894 293841 ... ... 238941 ... ... ... 54900 ... سنة 1895 326097 ... ... 236962 ... ... ... 89135 ... سنة 1896 350644 ... ... 221474 ... ... ... 129170 ... سنة 1897 344303 ... ... 213112 ... ... ... 131190 ... سنة 1898 فيظهر مما تقدم أن الفرق بين إيرادات سنة 1892 وبين سنة 1898 هو الآتي: ... ... سنة ... ... سنة الفرق ... ... 1892 ... ... 1898 153568 ... 190735 ... 344303 مصروفات ديوان عموم الأوقاف من سنة 1892 إلى سنة 1898: جملة ... ... ... ... مصروفات الأوقاف الخيرية إقامة الشعائر حفظ وترميم ... مصاريف ... مصاريف ... المساجد والأملاك عقارية وزراعية الإدارة العمومية جنيه ... جنيه ... جنيه ... جنيه جنيه ... 117129 47774 20378 16010 32967 ... ... سنة 1892 172472 44354 42772 49665 35681 ... ... سنة 1893 206518 51528 74143 43521 27326 ... ... سنة 1894 197882 50125 54487 53493 39777 ... ... سنة 1895 234402 58644 46742 73296 55720 ... ... سنة 1896 194532 50919 34785 38134 70694 ... ... سنة 1897 185847 56759 31124 38470 59494 ... ... سنة 1898 فيظهر أن الفرق في المصروفات بين سنة 1892 وببن سنة 1898 هو الآتي: ... ... سنة ... ... سنة الفرق ... ... 1892 ... ... 1898 جنيه ... ... جنيه ... ... جنيه 8985 ... 47774 ... 56759 ... إقامة الشعائر. 10746 ... 20378 ... 31124 ... حفظ وترميم. 22460 ... 16010 ... 38470 ... مصاريف عقارية وزراعية. 26527 ... 32967 ... 59494 ... مصاريف الإدارة.

تنازع الدول الأوربية على الممالك الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنازع الدول الأوربية على الممالك الإسلامية (تابع) أشرنا في عدد سابق إلى تنازع الدول الأوروبية على الممالك الإسلامية وخصصنا بالذكر وداي وبرنو وعمان، وقد كتبنا ملخص ما جرى في شأن هذه الممالك وفاتنا أن ننشره في العدد الأسبق وهو: أما عمان فقد انتهى النزاع فيها الآن ورضيت إنكلترا بأن تأخذ فرنسا محطة في ميناء مسقط بشرط أن لا تضم إليها أرضًا أخرى؛ وذلك بعد أن أجبرت أمير مسقط على الرجوع بقوله فرجع. وأما وداي فقد جاءنا البرق من أيام بخبر اتفاق الدولتين أيضًا في مسألة بحر الغزال، وهو: (من لندرا في 22 مارس - أُمْضِيَ أمس الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا فكان ذيلاً ملحقًا باتفاق النيجر. وقد أخذت إنكلترا بموجبه بحر الغزال ودارفور وأخذت فرنسا وادي وبقرمي والبلاد الواقعة شرقي بحيرة تشاد وشماليها، واعترفت إنكلترا بأن الأراضي التي في غربي الخط الممتد من جنوبي كانين على طول صحراء ليبيا حتى الدرجة 15 من خطوط العرض الشمالي واقعة في منطقة النفوذ الفرنسوي، وقد اتفق الفريقان على أن الحقوق التجارية بينهما متساوية في الجهات التي بين النيل وبحيرة تشاد من الخط الخامس من خطوط العرض إلى الخط 15، فصار بذلك لفرنسا منفذ إلى النيل. وقد تعاهدت الدولتان على أن لا تدعي واحدة منهما بحقوق سياسية أو ملكية في الأراضي الخارجة عن الحدود المرسومة في هذه العهدة) . مساحة وداي وبقرص نحو 172 ألف ميل مربع وسكانهما نحو الثلاثة ملايين ومساحة كانم 30 ألف ميل مربع وسكانها مائة ألف نفس. وفي الجوائب الأخيرة أن الدولة العلية احتجت على هذا الاتفاق؛ لأنه يمس حقوقها لا سيما في طرابلس الغرب. جاء في رسالة برقية من طنجة أن حكومة مراكش خنعت لبلاغ ألمانيا؛ فدفعت التعويض الذي طلبته منها وهو 60 ألف مارك.

الإصلاح الإسلامي

الكاتب: رفيق بك العظم

_ الإصلاح الإسلامي بعدل القوام أو التكافل العام لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء قضت سنن الوجود المدني منذ فطر الله الإنسان على حب الاجتماع - أن تشد أواخي الألفة العمومية بنظام شامل تطمئن إليه النفوس الخيِّرة وتتلاشى دونه الأهواء النزَّاعة إلى الشر، ومناط ذلك النظام إنما هي الشرائع المؤسسة على العدل المبنية على أساس المصلحة العامة دون أن يخالطها شيء من الحشو التابع لأغراض النفوس، وإنما تتكفل هذه الشرائع بسعادة الأمم واستمرار نظام الألفة بأحد شرطين: عدل القوام أو تكافل الأقوام. ومتى فقد هذان الشرطان امتنع الانتفاع بالشرائع مهما كانت في نفسها عادلة، وتعذر التأليف بين النفوس المتغالبة والعناصر المتباينة، وناهيك بما ينشأ عن فقد الألفة من التعطيل في سائر ما تدعو إليه الحضارة ويتطلبه الاجتماع، كما يؤيده الاستقراء ويشهد به الحس في كل عصر وعند سائر الأمم. وهذه صفحات التاريخ الاجتماعي تنبئ عن جميع الدول الغابرة والشعوب الماضية كالفرس واليونان والرومان وغيرهم من جماعات الإنسان ودول الحضارة التي كان يتناوبها الشقاء والسعادة بنسبة حال قوام الشرائع وحفاظ القوانين، وفي النظر إلى تاريخ الإسلام ما يغني عن التوغل في العصور القديمة والأمم البائدة؛ فإن الشريعة الإسلامية في صدر الإسلام لما كانت قائمة على أساس التكافل العام بلغت بالأمة مكانة من الألفة الاجتماعية ضمت تحت كنفها مئات الملايين من البشر كانوا في أبسط أطوار المدنية الإسلامية أنعم حالاً وأرقى نظامًا وأعظم قوةً ومجدًا من سائر مَن أقلتهم يومئذ الغبراء وأظلتهم السماء، حتى بلغ من الشعور عند المسلمين بمنافع قيام شرائع الإسلام على أساس التكافل العام - أن بني أمية لما حاولوا حل عُرى هذا النظام وتفريق ذلك الالتئام رغبة بالاستئثار بالسلطة بما كانوا يدسُّونه على المسلمين دون علم الخليفة عثمان رضي الله تعالى عنه وسرى ذلك في أفكار الأمة سريان الشرارة الكهربائية في سائر الأقطار الإسلامية - هب الناس من مضاجع الراحة منكفئين على المدينة المنورة من كل صوب يطالبون عثمان رضي الله تعالى عنه بكف يد المستأثرين من عشيرته وقومه عن التسلط المطلق على النفوس والأموال ثم استحكم أمر الفتنة وفعلوا به ما فعلوه مع أنه - علم الله - كان بريئًا من تبعة فعل الأمويين، ولكن لا حيلة لتسكين الأفكار العامة إذا اندفع تيارها وتأججت نارها، لا سيما وإن ما أتاه بنو أمية يومئذ من المبالغة في الاستئثار بمصالح المسلمين - كان أهم دواعي الجرأة على هتك حرمة الخلافة وزوال هيبة عثمان رضي الله تعالى عنه من نفوس المسلمين بخلاف ما كان عليه الحال على عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من الاطمئنان الشامل والتكافل العام، بحيث لم يكن من ذوي العصبيات في الإسلام مَن تحدثهم النفس بأدنى عمل من شأنه الإخلال بقاعدة التكافل مهما بلغ بهم الأمر من حب الأثرة والميل إلى التسلط، وأين حادث عثمان رضي الله عنه من حادث خالد بن الوليد لما كان في أرمينيا يقود خمسين ألف مقاتل، كلهم طوع إشارته، وبلغ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما كدّر خاطره عليه فأرسل إلى أبي عبيدة في الشام أن استدعِ إليك خالدًا وسلْه عن الأمر الفلاني فإن أقر فأقم عليه حد الشرع، وإن أنكر فابعث به إليَّ مع الرسول مقودًا بعمامته. فاستدعاه أبو عبيدة إلى الشام وأبلغه أمر أمير المؤمنين أمام جماهير المسلمين، فسمع وأطاع ثم ذهب مع الرسول قاصدًا المدينة المنورة دون أن ينبث ببنت شَفَة؛ فإن هذه المبالغة بالطاعة والخضوع من مثل خالد بن الوليد وهو مَنْ علمت مقاتل أهل الردة وفاتح العراق العربي والشام وأرمينيا - تدل على أن هناك قوة أسمى من هيبة الخلافة في نفوس المسلمين، وهي قوة التكافل العام في حفظ شرائع الإسلام، وقد كان منها على كل نفس رقيب عتيد يحمل سائر المسلمين على معرفة الحقوق والواجبات التي تُلزم كل فرد منهم بالوقوف عند الطاعة والامتثال لأمر الخليفة، ما لم يمس جانب الشرع أو يخل بنظام ذلك المجتمع الإسلامي العظيم، ولا يخفى ما في هذا من نفوذ كلمة الخليفة وسلامة حياة الأمة. هذا ومع ما عقب حادث عثمان رضي الله تعالى عنه من قيام الفتنة التي مهدت لبني أمية سبيل الاستيلاء على الدولة والانفراد بالسلطة - فقد راعى بنو أمية أمر التكافل في قيام الشريعة لارتباطها بقيام الملك، وكان قُوام الشرع بعدُ محافظين أشد المحافظة على شرط العدل حتى تسنى للأمويين أن ساسوا الأمة سياسة أنتجت بسط السلطة الإسلامية على معظم أنحاء المعمور. ولما أفضى المُلك إلى بني العباس ورأى الخليفة السفاح وهو أولهم ما دخل على قاعدة التكافل العام من الفساد لاختلاط الأمر باختلاط العناصر الداخلة في الإسلام - اتخذ له وزيرًا أبا سلمة حفص بن سليمان؛ ليستعين به على بسط جناح العدل والمراقبة العامة، فكان أول مَن لُقب بالوزير في دولة الإسلام، وكانت وزراته يومئذ وزارة تنفيذ لا وزارة تفويض، فلم تستقم بها الأمور للدرجة التي تقوم مقام التكافل العام وما زالت كذلك حتى قيام الرشيد بأعباء الخلافة الإسلامية، حيث رأى أن الأقرب لقاعدة التكافل والأحسن في تنظيم شؤون الدولة وسلامة أحكام الشرع - أن يجعل الوزارة وزارة تفويض تكون مسؤولة أمام الناس والخليفة عن نتائج كل عمل تعمله في الدولة، وكان ذلك كذلك. ووزارة التفويض هذه هي بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المسؤولة عند الحكومات المعتدلة؛ لأن من مقتضاها أن يفوض إلى الوزير تدبير الأمور بنفسه وإمضائها باجتهاده، وأن يقلد وزارة الحرب والمظالم وغيرهما من شاء أو يتولى ذلك بنفسه وبالجملة فقد قال العلماء فيها: إن كل ما صح عن الإمام صح عن الوزير إلا في أمور ثلاثة استثنوها لتعلقها مباشرة بالخليفة. ووجه جواز هذه الوزارة في الإسلام مأخوذ من قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32) قالوا: فإذا صح مثل هذه الوزارة في النبوة فهي في الخلافة أولى. ومنذ تأسست هذه الوزارة في دولة الإسلام أثرت في نظام الدولة آثارًا صالحة دعت إلى ترقي الأمة في معارج التمدن ترقيًا ما زال ولن يزال مسطَّرًا على صفحات الوجود إلى الأبد، ومن ثم أصبحت وزارة التفويض في الإسلام - بما ارتبطت به من المسؤولية أمام الراعي والرعية - من أهم دواعي العدل عند قوام الشريعة وحفاظ القوانين، ثم ما زالت تُجرَى عليها القوانين وتدون لها الدواوين على أشكال شتى تترقَّى بترقِّي الدول الإسلامية وتتدلَّى بتدليها حتى استحكمت الصبغة الأعجمية في الدول الإسلامية، وغلت يدي الوزارة وقيدتها بقيود الاستبداد المطلق؛ فانمحت آثار العدل الصالح من تاريخ الوجود الإسلامي، وزاغ قوام القانون عن مناهج الاستقامة أجيالاً عديدة، لا يبالون بما يفعلون ولا يحذرون غائلة عدو ربما يغتنم فرصة هذا الخمود المطلق والضعف المستمر، ولكن الدول الأخرى كانت يومئذ أضعف حالة وأشد جهالة، ثم ظهرت بوادر النهضة الغربية وأخذت تنكفئ قوى المدنية الجديدة على أنحاء المشرق تتزاحم فيها بالمناكب وتخترق الأمم وتسلب حرية الشعوب وحاول منذ ذلك الحين - بعض قوام الشريعة والقانون وسُوَّاس الأمة أن يتداركوا هذا الخطر المحدق، ولكن بوسائل بطيئة السير عديمة النفع؛ لابتعادهم فيما حاولوه عما قام عليه الإسلام، وصِين به نظام الأمة وهو التكافل العام وعدل القوام، وهما الركنان اللذان قامت على دعائمهما دول الإسلام ولا تحيا إلا بحياتهما الأمم وإنما أصاب المسلمين ما أصابهم من التقهقر ودخل على دولهم الضعف بضعف هذين الشرطين، كما رأيت لا بضعف القانون أو حاجة الأمة إلى وضع أوضاع جديدة أو تراتيب مفيدة في نظام الأمة وانتظام شؤون الدولة؛ إذ لو كان يغني وضع القوانين وتدوين الدواوين عن هذا التقهقر المريع والضعف السريع - لأغنت الشريعة الإسلامية نفسها وهي أعدل ما جاء من الشرائع وأعظمها مرشدًا لمصالح البشر هاديًا لطرق السعادة وإنما هي تغنى عن ذلك بعدل قوامها، وهذا مفقود بفقد المسؤولية، ولا يفيد دون هذه وضع الأوضاع العقلية والمنشورات السياسية بل هي تكون كخط على ماء أو نقش في هواء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. اهـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق) ... ... ... ... ... ... (استدراك المنار) يريد الكاتب الفاضل بقوله: (التكافل العام) . معرفة مجموع الأمة بحقوقها العامة ومصالحها المشتركة معرفة صحيحة تحملهم على الاتفاق على حفظها وصيانتها، بحيث إذا عبث بها عابث أو نال منها ظالم ينفعل ذلك المجموع ويهبّ للذود عنها وحفظ كِيانها، وهذا الأمر هو روح سياسة الإسلام. وقد بيناه في المقالة التي تكلمنا فيها عن السلطتين - الروحية والسياسية - وفي مقالات (الخلافة والخلفاء) وغيرها، ولكن هذا الروح الشريف الذي جاء به الوحي عاش به الخليفتان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقرراه بعملهما في نفوس المسلمين حتى كاد يكون عامًّا، وظهر أثره في زمن عثمان عليه الرضوان فنسل الناس إليه من كل حدب يلقون عليه تبعة ظلم عُماله، وبرهن لهم على احترامه سلطة الشعب واعترافه بسيطرته اللتين جاءتا من ذلك الروح بقوله على المنبر: (أمري لأمركم تبع) كما قال من قبله الخليفة الثاني على المنبر: (مَن رأى منكم فيَّ عِوَجًا فليقوِّمْه) . وبنو أمية هم الذين اعتزوا بالعصبية وبدؤوا بإزهاق هذا الروح من عهد عثمان (حاشا مثل عثمان وعمر بن عبد العزيز) لكن الروح كان قويًّا بنفسه والتعاليم الإسلامية الأخرى: ككون إجماع الأمة واجب الاتباع وكقاعدة: لا طاعة على أحد فيما يخالف الشريعة. وكوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو كان الآمر والناهي عبدًا مملوكًا والمأمور المنهي خليفة أو مليكًا تمده وتغذيه؛ ولذلك قدر على مقاومة سعي أكثر الخلفاء والملوك في إعادة الاستبداد والانفراد بالسلطة على نحو ما كان معهودًا عند الدول والأمم السابقة على الإسلام والمعاصرة له مع أن ذلك كان معززًا بالوراثة، وكان كلما ضعف الدين بانتشار البدع والفسوق وفساد التعاليم واتباع علمائه لأهواء الحكام والسلاطين يضعف ذلك الروح. واشتد ظهور الضعف عندما صارت السلطة في أيدي الأعاجم؛ لأن هؤلاء قد رثوا شدة الخضوع لملوكهم ولو بالباطل عن أسلافهم الذين عبدوا كثيرًا من الملوك ولم يتناولوا الإسلام إلا بعدما دخلته البدع ووهت أركان سياسته وقد انتهينا إلى زمان انقلبت فيه الأحكام وجهلت أصول الإسلام، حيث يعتقد أكثر الناس أن الخليفة أو السلطان مقدس، وأن من يقول: يجب عليه كذا أو يحرم عليه كذا؛ فهو منابذ للدين، وقد خلق علماء الفتنة أحاديث في مدح السلاطين والخضوع الأعمى لهم يتبرأ منها الإسلام. وسنبين ذلك كله في مقالة مخصوصة. نحن على اتفاق مع صاحب المقالة في أن الإصلاح إنما يكون بعدل القوام أو بالتكافل العام، وهذا هو معنى ما نكرره دائمًا من أن الإصلاح يكون إما من جانب الحكام وإما من جانب الأمة وحيث كان أملنا في حكامنا ضعيفًا - جعلنا معظم كلامنا في تربية الأمة على الوجه الذي تعرف به حقوقها وتقوم بحفظها بالتع

عداء وخداع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عداء وخداع أوغلت الدول الطامعة في الاعتداء وغلت في هضم الحقوق غلوًّا كبيرًا تتحالف وتتخالف. وتتعادى وتتناصف. وتتنازع على الممالك والبلاد. ويرضي بعضها بعضًا بحقوق العباد. وأما العدل والفضيلة والإنسانية والمدنية وحقوق الدول والأمم فهي تارة تكون طلاءً قوليًّا يموهون به أفعالهم الشنعاء وتعديهم المشوه، وطورًا تكون سلاسل وأغلالاً يقيدون بها الضعيف؛ لكيلا يكدر صفاء كأسهم ويضطرهم إلى شيء من التعب في كبحه إذا حمله اليأس على الاستبسال في المدافعة عن نفسه. تنازع أمس الأشعبان [الإنكليز والفرنسيس] في النيل الأعلى، وانتهى التنازع باقتسام تلك الأراضي الفيح والملك الفسيح، فأرضت إحداهما الأخرى بحقوق غيرهما حتى كأن بلاد الضعفاء مختصة بهما، وهذا هو حكم الجبروت الظالم والقوة القاهرة التي عبر عنها فقيد السياسة (بسمارك) بقوله المشهور: (القوة تغلب الحق) وقد وقعت وداي وبقرمي في سهم فرنسا وهما من البلاد الداخلة في ظل سلطان الدولة العلية. وكانت إيطاليا تنتظر في مثل هذه القسمة أن يكون لها سهم فتفوز بطرابلس الغرب مطمح نظرها ومنتهى أمنيتها، ولقصر نظرها توهمت أن إنكلترا تساعدها على هذا الأمر، فلما خاب الأمل طفقت جرائدها تسلق الإنكليز بألسنة حِدَاد، ولكن العجب أن فرنسا التي تطمع في طرابلس لمجاورتها لها في تونس والتي زاد طمعها فيها أخذ وداي وبقرمي في جنوبيها ذكرت إحدى جرائدها المعتبرة (الطان) كلمة إغراء لإيطاليا باحتلال طرابلس الغرب، وطير هذا الخبر البرق إلى سائر الأقطار. فإذا لم يكن هذا القول تهكمًا وسخرية فهو خداع لإيطاليا كما أنه عداء ظاهر للدولة العلية. أما وجه الخداع فهو أن ولاية طرابلس ليست مذللة بالظلم أو الترف ولا مفتونة بمدنية أوربا، وأهلها أولو قوة وأولو بأس شديد، وعندهم النظام العسكري والسلاح الجديد، فإذا قدرت إيطاليا أن تدك بأسطولها الحصون والمعاقل الحربية المنشأة على الطراز الحديث وتحل بعساكرها في الولاية؛ فإنها تلاقي من الطرابلسيين ما ينسيها ألم الخذلان والانكسار في الجيش ويخرجها خاسئة خاسرة فتستفيد فرنسا بذلك زيادة ضعف إيطاليا وهي من أعدائها والفلّ من حد الطرابلسيين الذين يطمعون فيهم ويخشون بأسهم. أعظم حسنات مولانا السلطان عبد الحميد: ثِنْتان - الآلايات الحميدية، وتعميم التعليم العسكري، ولا يوجد في الدنيا بلاد إسلامية قائمة بواجب التعليم العسكري؛ بحيث يقدر جميع أهلها على المدافعة المفروضة شرعًا إذا دخل العدو البلاد إلا طرابلس الغرب وأفغانستان، ولقد قوي الأفغانيون من قبل على الإنكليز وأخرجوهم من ديارهم كرهًا بعدما احتلوها، ولم يكونوا كما هم الآن، وهم حتى الآن ليسوا كأهل طرابلس فيما نعلم. الطرابلسيون أرمى من الثعلبين، لا تكاد تخطئ الغرض لهم رصاصة، ولا يكلفون الدولة في الحرب شيئًا؛ فإن جراب الدخن الذي يضعه أحدهم على ظهره وقت المجالدة والمكافحة - يكفيه شهرًا كاملاً! وهم يحتقرون عسكر الأتراك الذين يذهبون إلى بلادهم، وقد علم الناس أجمعون أنه عسكر شهدت له أوربا كلها بأنه لا يفوقه عسكر في العالم، ومن الطرابلسيين جماعة السنوسي وهم الذين قال فيهم الفرنسيون: إنهم أشد من الصخور؛ لأن هذه قابلة للتفتت وهم لا يتفتتون. ووراءهم أهل وداي وبقرمي وسائر السودان الغربي، وكلهم خاضعون للدولة العلية فإذا ألمَّ بإخوانهم في طرابلس ما يكرهون كانوا أعوانًا لهم، والله نعم المعين.

تربية الأطفال ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تربية الأطفال {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) ، فأول ما يشعر به الطفل ألم الجوع وألم البرد وأول ما يُلهَمه امتص حلمة الثدي ثم تزيد الإدراكات فيسمع ويبصر من غير تمييز بين مدرك وآخر ثم يميز بين مرضعته وغيرها حتى إن بعض الأطفال الذين يعودون على الرضاع من امرأة واحدة إذا اتفق أن حاولت مرضع أخرى إرضاع أحدهم يأباها وينفر منها، وهو نوع من التمييز في سن اللبان ظاهر لكن التمييز بين النافع والضار ووعي الخطاب والاعتبار به إنما يتم في بضع سنين؛ ولذلك قال الفقهاء والحكماء: إن السنة السابعة هي سن التمييز. وأوجبوا على قيِّم الطفل أن يأمره بالعبادة كالصلاة والصوم إن أطاقه في هذا السن، ويتوهم كثير من الناس أن الابتداء بالتربية يكون من هذا الوقت، وهو خطأ لا يحتمل الصواب، والحق ما قدمناه في نبذة سابقة من أن التربية تكون منذ الولادة أو الحمل في قول، ولا نعني بهذا التربية الجسدية فقط بل التربية بأنواعها الثلاثة - الجسدية والنفسية والعقلية - يُبتدأ بها من يوم الولادة. يقول قائل: إن دماغ الطفل لا عمل له في أول طور الطفولة كما أنه لا عمل عضويًّا اختياريًّا له يطبع في نفسه ملكات الفضائل أو الرذائل، فما معنى تربية نفسه وعقله حينئذ؟ ! والجواب: إن خلايا الدماغ - الذي هو محل الإدراك - تنمو بنمو الجسد؛ فالعناية بتربية جسد الطفل عناية بتربية عقله، وقد قلنا: إنه يدرك في سن اللبان بعض الجزئيات ويميز أيضًا بينها تمييزًا ما. وكل إدراك وتمييز له أثر في الدماغ، وكل عادة يعود عليها الطفل يكون لها أثر في نفسه وإن لم تظهر آثار ذلك كله إلا في المستقبل، فالمعاملة التي يعامَل بها الوليد من أول النشأة هي بمنزلة الأساس لأخلاقه وملكاته وعاداته ومدركاته، لكن الغافلين يرون البناء الرفيع ولا يتفكرون في أنه قائم على أساس خفي في الأرض وأن ثباته وقوته بذلك الأساس. ومن الجهل الفاضح أن ينكر الإنسان الآثار التي لا تظهر فورًا. ألم تر أن الكبير إنما تنطبع العادات في نفسه بتكرار العمل حتى تصير ملكات راسخة تتعسر عليه مقاومة آثارها. يشرب من لم يكن معتادًا على التدخين سيجارة مسايرة لصديق له، ثم أخرى إجابة لصديق آخر، فينصحه بعض العقلاء بترك هذه المسايرة والمجاراة محذرًا له من صيرورة التدخين عادة، فلا يلتفت إلى قوله، وربما يصرح له بأن من المُحال أن يعتاد هذا أو ينفق عليه درهمًا! فلا يزال يعمل التكرار في دماغه في مركز مخصوص منه حتى تنطبع الملكة وتدفع الرجل إلى المواظبة وإنفاق المال مهما كانت حاجته إليه شديدة. وهكذا شأن من يتعود على الميسر (القمار) وغيره من الأعمال القبيحة أو الحسنة. فإذا كان العمل الاختياري من المميز والعاقل لا يظهر أثره إلا في نفسه إلا بعد زمن طويل فهل يصح لنا أن نحكم بأن ما نعامل به الطفل لا يؤثر في نفسه؛ لأننا لا نشاهد الأثر عقيب المعاملة؟ ! كلا. فليعلم الآباء والأمهات أن سعادة أولادهم بل سعادة أوطانهم وبلادهم - تتوقف على تربية أولئك الأولاد من أول النشأة، فالمرأة التي لا تعتني بتنظيف وليدها وبإرضاعه وتقريمه [تعليمه الأكل] وتنويمه في أوقات معينة وبكيفيات منتظمة، والتي تكذب عليه بالقول أو العمل لأجل الترغيب أو الترهيب، وتسبه وتفحش عليه وتهينه وتضربه عند الغضب، والتي لا تبالي بسيئاته إذا أساء وتسترضيه إذا غضب ولو بالباطل بالشهوات المضرة، والتي تؤْثر أحد أولادها على الآخر ذكرًا كان أم أنثى - التي تعامل أولادها في الصغر بما ذكر لا ينبغي أن تعتب على الحظ أو تحيل على القدر إذا رأتهم في الكبر قذرين متهاونين في شؤونهم وشؤون أوطانهم لا يتقنون عملاً ولا يتحامون زللاً، كذَّابين منافقين مسرفين ظالمين فاحشين أرذلين متعادين متباغضين يؤثر كل واحد شهوته على كل شيء ويزاحم أخاه بما يتسامح بمثله مع الأجنبي. بل يجب أن تعتقد هذه الأم الشقية أن هذا البلاء هو ثمرة ما غرست وعاقبة ما قدمت، وسنفصل القول في أنواع التربية الصحيحة تفصيلاً. *** التعليم الفطري جميع العلوم والفنون مأخوذة قواعدها الكلية من المحسوسات؛ فالصغير يدرك في أول أمره الجزئيات الحسية ثم ينتزع الكليات من التوافق والتباين اللذين يراهما فيها. ولا يخفى على العلماء أن تمحيص الحقائق وصيرورة حدود القواعد العامة جامعة مانعة لم يصل إليهما الإنسان إلا بعد بحث طويل في سنين كثيرة. فإدراك الكليات والإشراف منها على الجزئيات هو غاية العلم ومنتهى التحصيل، ومن الحماقة والجهالة أن يطالَب الأحداث في ابتداء تعليمهم بغايات العلماء بعد الأبحاث الطويلة في العصور والأجيال، وهو فهم القواعد الكلية واستنباط الجزئيات منها. والصراط المستقيم لحسن التعليم هو صراط الفطرة والطبيعة وهو أن تلقي للتلميذ أمثلة محسوسة كثيرة ثم تنبهه على أن هذه الجزئيات يجمعها أمر كلي يسهل على من تعقله أن يلحق كل ما يعرض له من الجزئيات به وهو كذا، ثم يطالَب بأن يأتي بعدة أمثلة من عند نفسه، ويلي هذا الطريق أن يفهم التلميذ القاعدة إجمالاً ثم توضح له بكثرة الأمثلة. وبهذا التعليم يستغني بقراءة كتاب واحد مرة واحدة عن قراءة الكتب الكثيرة وتكرارها، وبهذا التعليم تُحفظ المسائل فلا تُنسى إلا ما شاء الله، وكل طالب علم يعرف من نفسه أنه ينسى أو يذهل عن أكثر المسائل التي لا يستعملها، ولا يأتي عليها بأمثلة كثيرة ما لم تكن المسألة من البديهيات. الإتيان بالأمثلة الكثيرة على القواعد نوع من العمل، وقد كتبنا نبذة سابقة في (التعليم بالعمل) بينا فيها أن العلم إنما يثبت وينمو بالعمل، والعلم الصحيح الذي يجدر أن يسمى صاحبه عالمًا - هو ما كانت ملكته راسخة في النفس تصدر عنها آثارها بلا تعمُّل ولا رويّة. وقد علمت مما تقدم آنفًا في نبذة (تربية الأطفال) أن الملكات لا تنطبع في النفس إلا بتكرار العمل. وإن تعجب فعجب قولهم: إن العالم مَن إذا قرأ الكتب التي درسها مرارًا يفهم أساليبها ونكتها ويقدر أن يأتي في المسألة الواحدة باحتمالات كثيرة - وربما لا يجزم بشيء منها - ولا يشترط فيه أن تكون المسائل والقواعد راسخة في نفسه بحيث يأتي بجزئياتها بغير تكلف ولا ملاحظة قاعدة. حقًّا أقول: إن كل هذا هو العلم فما أقل فائدة العلم! وما أبعد المسافة بينه وبين سعادة البشر، بل أقول: إن العلم الذي لا يؤثر في أخلاق النفس ولا يبعث ويزعج إلى إصلاح أعمالها لغو لا فائدة فيه ألبتة ولا يصح أن يسمى علمًا. فإن قيل: فائدته القيام بإفادة الناس به بالتعليم. نقول: ولماذا يتعلم الناس ما لا أثر له في أخلاقهم وأعمالهم التي هي مصدر سعادتهم؟ ! قال بعض علماء التعليم من أهل الغرب: إن كثرة المطالعة تورث النسيان وكثرة المكث في المدرسة تورث البلادة. وقال: قد ثبت بالاستقراء أن أكثر النابغين كانت مدة إقامتهم في المدارس قليلة. فعسى أن يتنبّه طلاب العلم - لا سيما الأزهريين ومَن على شاكلتهم - إلى طريقة التعليم المثلى، فيستفيدون في الوقت القصير علمًا كثيرًا وما يتذكر إلا مَن ينيب. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (غرائب الزمان في فتح السودان) صدر الكتاب الأول من هذا التاريخ لمؤلفه الأديب محمود أفندي طلعت وفيه الكلام على السودان من أيام فتحه في عهد إسماعيل باشا إلى أيام الفتنة العُرابية. وصاحبه قد سافر إلى السودان وكان من عمال الحكومة المصرية فوصف ما شهده واختبره بنفسه، ووضع الكتاب في شرح رحلته، وذكر فيه ما وقع معه من الشؤون الغرامية فكان رواية تاريخية غرامية صحيحة، وهذا يضمن له الرواج. وقد تصفحنا بعض صفحاته، فاستعذبنا القول على أن فيه غلطًا كثيرًا، لكنه مدرك بالبداهة. *** (المناظر) جريدة عربية جديدة ظهرت في (سان باولو - البرازيل) رئيس تحريرها الكاتب الأديب نعوم أفندي لبكي ومديرها الأديب فارس أفندي سمعان. فماذا عسى نقول في الثناء على همة أبناء وطننا السوري وحبهم للمعارف والآداب، وهذه الشرذمة منهم في بلاد البرازيل لم تكتفِ بجريدة ولا جريدتين فهكذا هكذا وإلا فلا لا. *** (شكوى الاحتلال بلسان الحال) قصيدة غراء مما نسميه بالشعر العصري لناظمها الشاعرالمجيد أحمد أفندي محرم وقد علق عليها شرحًا لطيفًا وطبعها به، وربما نذكر بعض غُرر أبياتها في فرصة أخرى.

الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجمعية الإسلامية الهندية في لاهور حملت إلينا جريدة (بيسه أكبر - لاهور) الهندية علاوة تبين فيها حال هذه الجمعية وهذه ترجمتها: وصل إلينا التقرير السنوي الذي أذاعه كاتب سر هذه الجمعية ومحصله أن مسلمي بنجاب أسسوا منذ 14 سنة في مدينة لاهور بحاضرة بنجاب جمعية إسلامية لتعليم أولاد المسلمين وتربيتهم وسموها (أنجمن حماية إسلام لاهور) والغرض منها: (1) تعليم العلوم الدينية والتربية عليها؛ لينشأ المتعلمون على الفضائل والكمالات الصحيحة. (2) تعليم العلوم الدنيوية واللغات الأجنبية؛ تسهيلاً لطرق المعاش. (3) العناية بتربية اليتامى؛ إنقاذًا لهم من دعاة الديانة المسيحية ومن الموت بالجوع. ثم توسعت الجمعية في عملها فأنشأت مدارس للبنات، وأرسلت وعاظًا إلى كثير من الأقطار؛ ليبينوا حقيقة الإسلام ويثبتوا حقيقته لمن يجهلها من الأنام. والأمر الذي يستلفت الأنظار هو أن مؤسسي الجمعية ليسوا من الأمراء ولا من كبراء الموظفين وإنما هم أفراد من عامة أهل العلم والمستخدمين، وكان زعيمهم وصدرهم أحد مشاهير العلماء صاحب الفضائل الحاج مولوي خليفة حميد الدين (رحمه الله تعالى) وابتدأ القوم عملهم بالاكتتاب العمومي وكانوا في أول الأمر يجمعون الدقيق كل يوم من البيوت بواسطة شيوخ الحارات ويأخذون الصدقات من الولائم والوضائم (طعام الخزن) حتى كان يخيل أن الجمعية إنما هي لإطعام الفقراء والمساكين المضطرين. ولما شاهد الأمراء وكبراء الموظفين وعامة الناس ثبات المؤسسين وحسن نظامهم ونجاح عملهم الذي كانوا يعتنون منه بالتربية وحسن السيرة أكثر مما يعتنون بالتعليم - أقبلوا على الجمعية وتنافسوا في أن يكونوا من أعضائها حتى إن بعض أمراء الحاضرة رضي بأن يتولى إدارتها وبعض موظفي نظارة المعارف قبلوا أن يكونوا مفتشين فيها، كانت الجمعية في أقصى الهند، ولما طار صيتها توالت عليها الوكلاء من كل جانب، وهُرِع الناس لحضور احتفالاتها السنوية من كل صوب، وتنافس الخطباء والشعراء بإلقاء الخطب المؤثرة وإنشاد القصائد البليغة في تعظيم شأنها حتى صارت منتجع العلماء ومورد الأمراء، وبلغ شهود احتفالها ستة آلاف رجل في السنة، وأجمع أهل الحِجَا والفهم وأصحاب الغيرة والهمة على مساعدتها وتعضيدها، فرسخت جذورها وامتدت فروعها وتشعبت أفنانها فأنشأت بناءً فسيحًا للدروس الخارجية وشيدت غرفًا خاصة لليتامى، فهم في معاهدها يأكلون وينامون ويصلون ويتعلمون ويشتغلون ويرتاضون. أما عدد التلامذة فقد كان في السنة الماضية كما ترى في الأرقام: أقسام المدرسة ... العدد في أول السنة ... العدد في آخرها القسم الكلي ... ... ... 62 ... ... ... 63 القسم التجهيزي ... ... 52 ... ... ... 67 القسم المتوسط ... ... 205 ... ... ... 192 القسم الابتدائي ... ... 516 ... ... ... 561 المجموع ... ... ... 835 ... ... ... 883 وأما الواردات والنفقات والتوفير فقد كانت في السنة الماضية كما تراه بحساب الروبيات والجنيهات: التوفير من سنة 1897 (18902) ... ... روبية أو 1260 جنيه واردات سنة 1898 ... ... (31043) ... روبية أو 2069 جنيه المجموع إلى آخر ديسمبر منها (49945) ... روبية أو 3329 جنيه النفقات إلى آخر ديسمبر منها (33837) ... روبية أو (2255) جنيه فيكون الموفر لسنة 1899 ... (16108) ... روبية أو (1074) جنيه وتجتهد الجمعية في اقتناء الأملاك وتشتغل بتأليف الكتب المدرسية وتطبعها على نفقتها؛ لتربح من بيعها. وبيان مجموع ما عند الجمعية من النقود، الكتب المطبوعة والأملاك المشتراة والتي تبرع بها أهل الغيرة والحمية إلى آخر ديسمبر سنة 1899 ما يأتي: قيمة الأملاك ... ... ... 32445 ... روبية أو 2163 جنيه قيمة الكتب ... ... ... 13904 ... روبية أو 927 جنيه النقود الموفرة من سنة 98 ... 16108 ... روبية أو 1074 جنيه المجموع ... ... ... ... 62457 ... روبية أو 4164 جنيه وقد أسست الجمعية منذ سنتين مدرسة خصوصية لتعليم العلوم العربية والدينية على طريقة المتقدمين سمتها (المدرسة الحميدية) نسبة لرئيس الجمعية سابقًا المرحوم مولوي خليفة حميد الدين وتذكارًا له. وتعد هذه المدرسة فرعًا من مدرسة (أنجمن حماية الإسلام) وكان أكثر الناس تبرعًا بالنقود لتأسيس هذه المدرسة المولوي خليفة عماد الدين أكبر أنجال المرحوم وأحد مفتشي المدارس الأميرية في لاهور اهـ. من ترجمة الفاضل عبد الرحمن الهندي مُكاتب جريدة وكيل الهندية الغراء. فهكذا تكون الهمم وهكذا تكون العلماء، نجَّح الله مقاصد هذه الجمعية وجزى الأفاضل الذي أسسوها وعضدوها أفضل الجزاء.

الأعياد

الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي

_ الأعياد ] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ [[1] لحضرة الفاضل الأزهري صاحب الإمضاء عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري العيد اسم لما يحصل فيه الاجتماع العام على وجه معتاد، سواء كان سنويًّا أو شهريًّا أو أسبوعيًّا، زمانيًّا أو مكانيًّا وقد يصدق على مجموع اليوم وما يصنع فيه، وعلى المكان وما به وعلى الاجتماع وحده أو مع ما يصحبه من العبادات والعادات وبضرورة تباين العرب في المذهب والمشرب - تباينت أعيادهم في الزمان والمكان ولمناسبة عيدنا الأكرم أردت توضيح ذلك على وجه الإجمال والاختصار تفكهة لقراء (المنار) بهاته النبذة التاريخية. اعلم أن العرب كانوا في الجاهلية شيعًا متفرقين وفرقًا مختلفين فقد كانت (النصرانية) في ربيعة وغسان وبعض قضاعة، وكانت (اليهودية) في حِمير وبني كنانة وبني الحارث بن كعب وكِندة، وكانت (المجوسية) في تميم، وكانت الزندقة في قريش، أخذوها من الحيرة، والمراد بالزندقة هنا عدم الإيمان بالآخرة والربوبية وكان بنو حنيفة اتخذوا في الجاهلية إلهًا من حيس فعبدوه دهرًا طويلاً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقال فيهم رجل من تميم شعرًا: أكلت حنيفة ربها ... زمن التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربهم ... سوء العواقب والتباعة ولا شك أن الأعياد من الديانات ولواحق العبادات، وإلى ذلك ذهب بعض المفسرين في قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوه} (الحج: 67) حيث فسروا المنسك بالعيد، فلم يكن العرب يومئذ متفقين في الأعياد كما لم يتفقوا في الدين والاعتقاد. أما المشركون من عَبَدَة الأصنام فقد كان لهم في الجاهلية أعياد كثيرة، منها مكانية، ومنها زمانية: أما (المكانية) فكثيرة وهي مواضع أصنامهم وأوثانهم وأمكنة طواغيتهم، وكانت الطواغيت الكبار التي كانت تشد إليها الرحال وتقام عندها الأعياد ثلاثة: (اللات) و (العزى) و (مناة الثالثة الأخرى) وكل من هذه الثلاثة لمصر من أمصار العرب؛ فكانت اللات لأهل الطائف، والعزى لأهل مكة، ومناة لأهل المدينة، يهلّون لها شركًا بالله تعالى. وكانت لهم مواسم من السنة مخصوصة للاجتماع عند هذه الثلاثة وتقصدها العرب من كل فج وتعظمها كتعظيم الكعبة، وكان لها سدنة وحُجَّاب، وكانوا يهدون إليها كما يهدون للكعبة ويطوفون بها وينحرون عندها مع اعترافهم بفضل الكعبة؛ عليها لعِلمهم أنها بيت أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام ومسجده. وكان ذو الخلصة بيتًا باليمن لخثعم وبجيلة فيه نُصُب يعبدونها ولهم فيه من السنة موسم وعيد، وكان أهل نجران يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم لها في كل سنة موسم وعيد، وإذا كان ذلك العيد علقوا عليها كل ثوب حسن وحُلي النساء ثم خرجوا إليها وعكفوا يومًا. وأما (الزمانية) فهي كثيرة، منها أيام مسراتهم وأفراحهم لظفرهم على عدوهم ونصرتهم على خصومهم ومحاربيهم، وذلك يختلف باختلاف الشعوب والقبائل، فيتفق أن يكون يوم عيد لقوم يوم حزن وبؤس على آخرين. وكان لأهل المدينة يومان يلعبون فيهما فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال لهم: قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما يوم الفطر والأضحى. ومنها يوم السبع وهو عيد من أعياد قبيلة من قبائل العرب في الجاهلية، كانوا يشتغلون فيه باللهو واللعب، وكذلك يوم السباسب. وأما أعياد المجوس - وهم الفرس وشرذمة من العرب وغيرهم - فهي كثيرة جدًّا، إلا أنَّا نقتصر على المشهور منها الذي أولع الشعراء بذكره واعتنى الأمراء بأمره وهو (النيروز) والمهرجان والسذق - فهو تعريب نوروز وهو أعظم أعيادهم ويقال: إن أول مَن اتخذه جمشاد وهو أحد ملوك الطبقة الأولى من الفرس، وسبب اتخاذهم هذا اليوم عيدًا أن طمهورة لما هلك ملك بعده جمشاد فسمي اليوم الذي ملك فيه نوروزًا؛ أي: (اليوم الجديد) ومن الفرس من يزعم أن النيروز هو اليوم الذي خلق الله تعالى فيه النور، وأنه كان معظمًا قبل جمشاد. وبعضهم يزعم أنه أول الزمان الذي ابتدأ الفلك فيه بالدوران ومدته عندهم ستة أيام، أولها اليوم الأول من شهر أفرود ريزماه الذي هو أول شهور سنتهم، ويسمون اليوم السادس النيروز الكبير؛ لأن الأكاسرة كانوا يقضون في الأيام الخمسة حوائج الناس على اختلاف طبقاتهم ثم ينتقلون إلى مجالس أُنسهم مع خواصهم فيه، وهو يعمل في 17 حزيران، وقيل: في 11 منه. وأما المهرجان فوقوعه في 16 تشرين أول من شهور السريان، ومن شهور الفرس في 16 من مهرماه وهو ستة أيام ويسمى اليوم السادس المهرجان الأكبر. وسبب اتخاذهم له [2] أن بيوراسب وهو الضحاك ويقال له: أوذهاق. ذو الحبتين والأفواه الثلاثة والأعين الست الداهية الخبيث المتمرد لما قتل جمشاد وملك جاءه إبليس في صورة خادم فقبَّل منكبيه فبدت فيهما حبتان وكانتا تؤلمانِه فوصف له دمعة الناس فكان يقتل كل يوم غلامين لذلك، فأجحف بقتل الولدان في الرعية، فخرج رجل بأصبهان يقال له: كابي. وعقد لواءً من جلد أسد ودعا الناس إلى محاربة الضحاك، فاجتمع له خلق كثير ولما تحقق عند الضحاك ذلك هابهم وهرب منهم فاجتمع الفرس إلى كابي ليُملِّكوه فقال: ما أنا من أهله. وذكر لهم أن معه صبيًّا من ولد جمشاد يسمى فريدون وقال: أرى أن تملكوه وتعيدوا المُلك إلى أهله. فملكوه، فخرج فريدون في طلب الضحاك فوجده، فأخذه وشده وحبسه في جبل دنياوند وجعل ذلك اليوم عيدًا وسماه المهرجان. وقيل في سبب اتخاذه غير ذلك. وكانوا يتهادون في النيروز والمهرجان بالمسك والعنبر والعود الهندي والزعفران والكافور. وأول من رسم هداياهما في الإسلام الحجاج بن يوسف الثقفي، وأول من رفع ذلك عمر بن عبد العزيز واستمر ذلك إلى أن فتح الهدية فيه أحمد بن يوسف الكاتب، فإنه أهدى فيه للمأمون سفط ذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه وكتب معه: (هذا يوم جرت فيه العادة بألطاف العبيد للسادة) .. إلى آخر ما قال. وأما السذق فيعمل في ليلة 11 من شهر أيار - مايو - ويسمى هذا اليوم عند الفرس روزابا؛ لأن لكل يوم من أيام الشهر عندهم اسمًا، ويقال في سبب اتخاذهم له أن فراسياب لما تملك سار إلى بلاد بابك فأكثر فيها الفتنة وخرب ما كان عامرًا منها فخرج عليه زفرب بن طهمازشب فطرده عن مملكة فارس إلى بلاد الترك، وكان ذلك في يوم روزابان فاتخذ الفرس هذا اليوم عيدًا وجعلوه ثالثًا لعيدي النيروز والمهرجان ولما تملك وضع عن الناس خراج سبع سنين فعمرت البلاد. وقيل في السبب غير ذلك، وللفرس أعياد دون ما ذكرناها منها عيد يسمى نيركان وأيام الفيروزجاة، أي: تربية الروح وركوب الكوسج وبهمنجه. أما القبط والنصارى فقد قيل: إن أعيادهم أربعة عشر عيدًا، سبعة يسمونها كبارًا وسبعة أخرى يسمونها صغارًا. فالكبار: البساره (1) والزيتون (2) والفصح (3) وخميس الأربعين (4) وعيد الخميس (5) والميلاد (6) والغطاس (7) ، وأما الأعياد الصغار: فالخنان (1) والأربعون (2) وخميس العهد (3) وسبت النور (4) وحد الحدود (5) والتجلي (6) وعيد الصليب (7) . وأما اليهود فقد قيل: إن أعيادهم خمسة، يسندونها إلى التوراة وهي: (1) عيد رأس السنة يعملونه عند رأس سنتهم وينزل عندهم منزلة عيد الأضحى عندنا. (2) وعيد صوماريا وهو عندهم الصوم العظيم الذي فرض عليهم صومه ومدته خمس وعشرون ساعة، (3) وعيد المطل (4) وعيد الفطير (5) وعيد الأسابيع - وهذه الثلاثة الأخيرة حجوج عندهم - والذي أحدثوه بعد الخمسة عيد الفور وعيد الحنكة. وأما المسلمون فلنذكر ما اشتهر من أعيادهم على سبيل الاختصار والإيجاز فنقول: قد تقدم أصل مشروعية عيدي الفطر والنحر وأنهما استبُدلا بيومين كان أهل المدينة يلعبون فيهما في الجاهلية وقيل: هما النيروز والمهرجان. وسبب الاستبدال أنه ما من عيد إلا وسببه إقامة شعار ديني أو تعظيم بعض أئمة الدين أو شيء مما يضاهي ما ذُكر، فكان في هذا الاستبدال محو ما عساه يكون منشأ اللعب في ذينك اليومين من شعار الجاهلية وإقامة سنة سلفهم الضالين وإثبات شعائر الملة الحنيفية وإقامة سَننها، وشرع فيهما مع التجمل والتوسع والفرح والسرور - ذكر الله تعالى وطاعات أخرى تنزهًا عن إمضاء الوقت كله في اللهو واللعب وخلوّه من إعلاء كلمة الله. أحد العيدين يوم الفطر من صيامهم وأداء نوع من زكاتهم، فيجتمع فيه الفرح الطبيعي بالتفرغ من مشقة الصيام، وبتوسعة الأغنياء على أنفسهم وأخذ الفقراء الصدقات، والفرح العقلي بالتوفيق لإكمال العدة والتعرض للمثوبة والأجر وببلوغ الموسم مع النعم في الأهل والمال بالنسبة للأكثرين. والثاني يوم الفراغ من معظم أركان فريضة الحج الواجب على مجموع الأمة، ويقوم به بعضها في كل عام، وتذكار محاولة سيدنا إبراهيم ذبح ولده إسماعيل (عليهما الصلاة والسلام) وإنعام الله تعالى عليهما بأن فداه بذِبْح عظيم. وناهيك بتذكر أئمة الملة الحنفية والاعتبار بهم في بذل المهج والأموال في طاعة الله تعالى وقوة الصبر، وفيه تشبّه بالحجاج وتنويه بهم وتشويق لما هم فيه. وشرعت في الأول زكاة الفطر وهي واجبة، وفي الثاني الأضحية وهي سنة عند بعض الأئمة وواجبة عند آخرين. وبهذين النوعين من الصدقة تكون أيام العيدين أيام سعة على الأمة كلها وهو معنى كونها ضيافة الله تعالى، وشرع في كل منهما التكبير والصلاة المخصوصة والخطبة؛ ليجتمع لهم السرور الروحاني والجسماني معًا، وفي العيدين مقصد من أهم مقاصد الشريعة وهو الاجتماع العام للتعارف والتآلف، ومعلوم أنه لا بد لكل ملة من اجتماع في صعيد واحد؛ لتظهر شوكتهم وتعلم كثرتهم؛ ولذلك استحب في العيدين خروج جميع المسلمين إلى المصلَّى حتى الصبيان والنساء، ومن لا يصلي من النساء يعتزلن المصلى ويقفن جانبًا يشهدن المصلين؛ ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يخالف في الطريق ذهابًا وإيابًا؛ ليطلع أهل الطريقين على شوكة المسلمين. ولما كان الأصل في العيد إظهار الفرح والسرور بالزينة ونحوها استحب فيهما حسن اللباس والتقليس - ضرب الدفوف - وروي عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان - وفي رواية تغنيان - بما تقاولت الأنصار يوم بُعاث، والنبي صلى الله عليه وسلم متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه وقال: دعْهما يا أبا بكر؛ فإنها أيام عيد، وفي رواية: (يا أبا بكر لكل قوم عيد وهذا عيدنا) حديث متفق عليه. وتفصيل القول - فيما يُطلب شرعًا في الأعياد - يراجع في كتب الفقه. ... ... ... ... ... عبد الحق حقي البغدادي الأعظمي الأزهري

الساكت عن الحق شيطان أخرس

الكاتب: أحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام

_ الساكت عن الحق شيطان أخرس لأحد أفاضل الأمراء والكتاب في الشام عثرت - بطريق المصادفة والاتفاق - على مقالة في جريدة طرابلس في العلاج الشافي من داء التأخر الملمّ بنا برّأ بها محررها ساحة العلماء من تبعة هذا التأخر، وادعى أن العلاج الشافي هو عقد الشركات، وسكت عما سوى ذلك من الأمور المهمة مكتفيًا بالعَرَض عن الجوهر، فلم أشأ أن أسكت عن بيان الحق؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس فأقول: أما تبرئته ساحة العلماء فلا أراه مصيبًا فيه؛ لأن العلماء هم هداة الأمة ومرشدوها وهم المطالبون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهم إذًا المسئولون بعد الأمراء الذين بيدهم الحل والعقد؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ألا كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) ، ولقوله أيضًا: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة) إلى غير ذلك من الآثار الكثيرة التي نكتفي منها بما تقدَّم. ووجه مسئولية العلماء هي لأنهم عدلوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى التزلف والتملق للأمراء وأصحاب الجاه واليسار، وعن الإرشاد الصحيح إلى التضليل، وعن بث العلوم الصحيحة إلى التعلق بأهداب الخرافات والتُّرَّهَات، أما الأول فهو ظاهر فيما نراه من إقبالهم على الأمراء وإطرائهم إياهم وتزيينهم لهم سوء أعمالهم لرتبة ينالونها أو مال يصيبونه أو جاه يحصلون عليه؛ حتى إن واحدًا منهم ألف كتابًا ضخمًا في مجلدين في إطراء أحد الظلمة الخونة. وأما الثاني فهو معلوم من وعظهم وإرشادهم بحكايات يحكونها وروايات يروونها، ما أنزل الله بها من سلطان؛ يُضلون بها العقول، ويفسدون الأفهام ويثبطون الهمم ويُقْعدون العزائم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا ساء ما يعملون. وأما الثالث فلعدولهم عن العلوم الصحيحة الحقة إلى السفاسف، ومزْجهم الحق بالباطل كما هو مثبت بتقاريرهم التي يلقونها في دروسهم المشحونة بالأقاصيص والحكايات، وبتآليفهم السخيفة البعيدة عن التحقيق الحاوية ما تمجّه الأذواق وتأباه العقول السليمة. نكتفي منها بإيراد ما يأتي من كتاب (الفواكه الجنوية في الملتقَطات النجوية تأليف العالم العلامة البحر الفهامة مَن فضله في الأقطار ساري الأستاذ الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري أمد الله في حياته ونفع المسلمين بمؤلفاته، آمين) (كذا في الأصل) ، فقد جاء في الصحيفة 145 من النسخة المطبوعة في القاهرة ما نصه بالحرف الواحد: (ومما جرب للقرينة وأخذناه عن بعض الأكابر أن يسقى الطفل لبن معزى حمراء، ويدهن جسده كله من هذا اللبن، وأن يعلق عليه بندقى، وأن يحك عود الصليب الهندي الأصلي في لبن البز، ويسقى له، وأن يؤخذ فراخ الحمام الصغار وينتف ما على دبرها من الوبر ويوضع منفذ الدبر منها على منفذ دبر الصبي، فكل حمامة ماتت توضع غيرها وهكذا. إلى أن يصيب الأخيرة شيء فيعلم أنها ذهبت، ومما جربناه للقرينة أيضًا أن تحضر عجوز قد آيست من الحيض وتوضع وجه الطفل أمام … وهو مفتوح، وتوضع إصبعها فتلطخه برطوبة ... وتخط به (صليبًا!) على جبهة الطفل، ثم تأخذ قطعة شبه زفرة قدر البندقة وتخط بها (سبع) خطوط على جبهته أيضًا، ثم تحرقها وتضعها في رغيف وترميه لكلب أسود يأكله، والشب المذكور إذا وضع على رف في البيت بعد أن حك به جبهة الصبي مرارًا وأحرق وكان بالصبي نظرة - فإنها تذهب ولا تعود) (انتهى) . فهؤلاء هم العلماء والمرشدون في هذا العصر، وفي كل يوم نسمع منهم أشياء كثيرة تماثل ذلك أو تزيد عليه ومن أنكر عليهم رموه بالزندقة وقالوا: إنه مارق من الدين. ونفروا العامة منه، فعلى مثل هذا الجهل يؤاخَذ العلماء. أما ما ذهب إليه من عقد الشركات فهو من الأمور الثانوية و (حاجتنا الكبرى) إنما هي إلى عمال أمناء صادقين أكْفَاء عفيفين متهالكين متفانين في حب الدولة والوطن، يساعدون سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم على إنفاذ رغائبه في تعميم الإصلاح بنشر ألوية العدل والضرب على أيدي الظلمة الخونة؛ فإن الظلم مُؤْذِن بخراب العمران، كما أثبت ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمته. وهذا لا يتم إلا بتوسيد المناصب إلى أهلها، وتعميم العلوم والمعارف بين طبقات الناس والسيطرة على الأعمال ومكافأة الأمين الصادق ومجازاة الخائن المارق ونهضة العلماء لإرشاد الناس لما فيه صلاح دينهم ودنياهم فعندها تتوفر الأموال وتتوطد الأمنية فتعقد الشركات وتحيا الصنائع وتنمو الثروة..إلخ، فعلى الجرائد الصادقة أن ترمي إلى هذا الغرض وتبوح بهذا السر وتكشف عن هذا المُعمى؛ فإن كتمان الداء يزيده عياءً، والناصح الأمين لا يماحك ولا يوارب ولا يغش ولا يخادع. وبالله التوفيق. (المنار) طفقت الأمة تتنبه إلى عذل العلماء ولومهم على تقصيرهم في إرشادها إلى ما تقوم به مصالحها المعاشية والمَعادية وفقًا لدينها القويم، فهذه رسالة من أحد بلاد سوريا، وعندنا رسالة أخرى أشد عذلاً من هذه. تنبهت الأفكار في جميع الأقطار فإذا لم يلتفت العلماء إلى النظر الدقيق في أحوال العصر وما تقتضيه مصلحة الأمة فيه، ويقوموا بالإرشاد الصحيح الموصل للغاية يوشك أن لا يمر بضع سنين إلا والرأي العام منحرف عنهم أشد الانحراف بل ينتظر ما هو أعظم من هذا. نعم، إن هذا مما تتوقع مضرته وتخشى مغبته، ولكنه ليس بأضر من الخضوع الأعمى لهم، وهم على ما هم من الشؤون التي تكلمنا عنها في مقالات كثيرة وسنزيدها شرحًا وبيانًا، أليس من العار أن تكون كتب المشهورين بالنباهة منهم مملوءة بالخرافات والهذيان والغش من غير نكير، وأن ينقل عن بعض أكابرهم القول بأن فن تقويم البلدان - بل وسائل الفنون الرياضية والطبيعية - لا لزوم لها ألبتة؟ ! أليس من الفضيحة أن يقول بعضهم: إن الانتظام والترتيب مفسد للأزهر ومُذهب لبركته؛ لأن في الخلل القديم سرًّا روحانيًّا؟! كفى كفى؛ مَن كتم داءه قتله. ليأخذ من لم يعرف أحوال العصر برأي من عرف. ليخضع من تقوم عليه الحجة لها، وليتفقوا جميعًا على العمل قبل أن يخرج الأمر من يدهم. والسلام.

تربية الأطفال ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تربية الأطفال أول خدمة يخدم بها الطفل بعد فصله من أمه - غسله ودهنه وإلباسه ما يقي بدنه من البرد وإرضاعه، وأما الغسل فينبغي أن يكون بماء فاتر مساوٍ لحرارة البدن أو قريب منها، وأن لا تطول مدته، وأن يلف جسم الطفل كله بمنشقة ويدلك دلكًا لطيفًا بغاية الرفق، ثم يدهن بزيت الزيتون ويلبَس ثيابًا واسعة لا تضغط جسمه، ويحسن أن تكون في أيام الشتاء دافئة ولو بالعرض على النار، وأن تكون جافة؛ فالثياب الرطبة تضر الأطفال بل والكبار أيضًا، وبلغنا أن الإفرنج يمسحون في كل يوم أجساد أطفالهم بماء فاتر وماء بارد على التعاقب مرة من هذا ومرة من ذاك ويقولون: إن تعويد الطفل على هذا يمنع سرعة تأثره بالتغيرات الجوية كالانتقال الفجائي من الحرارة إلى البرودة ومن الجفاف إلى الرطوبة وبالعكس، وقريب من هذا ما يؤثر في كتب الأدب العربية من أن رجلاً رأى أعرابية تغطس طفلها في النهر في أيام الشتاء فسألها عن السبب في ذلك فقالت: أريد أن أجعله كله وجهًا. تعني أن الوجه إنما لا يضره البرد لما اعتيد من تعريضه له من الصغر فإذا عُود الجسم كله على برد الماء والهواء يصير يحتمله كما يحتمله الوجه. ولكن هذا القول لا يؤخذ على إطلاقه؛ فالذين اعتادوا الترف والتنعم والاحتراس من البرد وتوارثوا ذلك خلفاً عن سلف إذا عرض أحدهم طفله للبرد الشديد وحاول جعله وجهًا بالتعويد يوشك أن لا يتم له ما يريد فيولد الماء البارد في ولده الالتهابات التي ربما تنتهي بالممات! وقياس مترفي الحضر على الأعراب قياس مع الفارق. أما المسح بالماء الفاتر فالبارد بإسفنجة في نحو بضع دقائق ثم تنشيف البدن ودلكه، فلعله ينفع ولا يضر حتى المترفين أصحاب الأجسام النحيفة الضاوية، ولا بأس أن يغطس الطفل في الماء البارد فالسخن على التوالي والتعاقب بعد أن يكون قد اعتاد جسمه على ذلك المسح، وبعد طور الرضاعة يكتفى بمسح الوجه والرقبة والصدر بما ذكر؛ فهو يغني عن مسح البدن كله أو تغطيسه. أكثر الأمراض التي تفتك الأطفال في سن الطفولية تكون من التغيرات الجوية؛ لأن الجسم فيه يكون سريع التأثر لا يقوى على الحر والبرد والرطوبة فضلاً عن مقاومة مكروبات الأمراض العفنة الوبائية كالنزلة الوافدة أو الصدرية. وهذا العمل يقولون: إنه يقي من هذه النزلة ومن التهابات الرئتين والشعب وأنواع الزكام وسائر الأمراض الصدرية والمتولدة من التغيرات الجوية حتى قالوا: إنه يُذهب بالاستعداد للسل. وحسبك هذا. أما الرضاعة فيراعى فيها أمور، أهمها: أن ترضع الطفل أمه إن لم يكن مانع من نحو مرض معدٍ أو هزال وضعف يضر المرضع أو الرضيع، فإن أرضعته امرأة أخرى فينبغي أن تكون في سن الشباب سليمة من الأمراض المعدية جيدة الصحة حسنة الخُلق والخَلق. وحسن الأخلاق من أهم شروط المرضع؛ لأن اللبن كما يؤثر في انتقال المرض بالوراثة يؤثر في الأخلاق وإذا قلنا: إنه لا يؤثر في الأخلاق. فمعاملة الفاسدة الأخلاق للطفل تكون غير منتظمة وقد قلنا من قبل إن المعاملة التي تعامل بها الأطفال يكون لها تأثير كبير في عاداتهم وسجاياهم. يحكى أن إمام الحرمين أرضعته مرة امرأة كافرة فاسدة الأخلاق فعلم والده بذلك فأقاءه (جعله يقيء) ما رضعه، ثم إن الإمام بعدما كبر وصار علاّمة عصره كان إذا عسر عليه حلّ مشكلة علمية أو بدرت منه بادرة غير مُرضية قال: إن هذا من آثار تلك الرضعة. وقد ورد في الحديث الشريف: (لا تسترضعوا الحمقاء ولا العمشاء؛ فإن اللبن يعدي) ويحسن أن يكون سن ولد المرضع مساويًا لسن الرضيع، وأن يكون قد سبق لها إرضاع اختبرت به التربية. وإذا لم يتيسر وجود مرضع بهذه الصفات فالأولى أن يغذَّى الولد بلبن الحيوانات كالمعز والبقر بواسطة الآلة المعروفة؛ فإنه أسلم، ولكن لبن الأنعام أغلظ من لبن البشر وربما اشتمل على مكروبات مرضية، فينبغي أن يضاف إليه قليل من الماء والسكر بحسب تقدير الطبيب، وأن يسخن بحيث تموت مكروباته، ويكفي في تسخينه حرارة 70 درجة بميزان سنتغراد. واللبن المغليّ أعسر هضمًا فلا يغلي لبن الإرضاع غليانًا. ويجب أن تكون الآلة جديدة صالحة فإن كانت مما استعمل في الإرضاع يجب تنظيفها وتطهيرها مما عساه يكون بها من التعفن ومكروبات الأمراض. هذا ما يراعَى في المرضع واللبن بالاختصار، أما الإرضاع نفسه فينبغي أن يكون موقتًا بأوقات منتظمة لا يقل الزمن بين الرضعة والأخرى عن ساعتين في أول الأمر، ثم تزيد المدة بينهما تدريجًا؛ لأن الطفل يأخذ في أول الأمر قليلاً من اللبن وكلما كبر زاد مقدار ما يرضعه،والزيادة تقتضي زيادة المدة لأجل الهضم، وإن كانت القوة تزيد معها أيضًا. وأكثر النساء لجهلهن لا يقصرن الإرضاع على التغذية بل يجعلنه وسيلة للترضية، فكلما بكى الطفل يلقمنه الثدي، وربما يتوهمن أنه لا يبكي إلا لطلب الرضاع أو أن كل بكاء يسكته الرضاع فهو لأجله، وإلا فهو عن مرض. والصواب أن الطفل يبكي لأقل سبب كابتلال لفائفه وتألم بدنه ولو من عقدة خيط في ثوبه. وإذا حاول الطفل الحركة التي تقتضيها طبيعته فحال دون ذلك شد القماط عليه يبكي، فليتجنب الإرضاع في غير وقته لأجل البكاء، وليعلم أن أكثر قيء الأطفال من الإرضاع قبل الهضم، وناهيك به بلاءً على الأمهات والأطفال جميعًا. أما مدة الرضاع فأكملها حولان تامان وأقلها واحد وعشرون شهرًا؛ أخذ ذلك العلماء من قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233) ، وقوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) وذلك بطرح مدة الحمل الغالبة (9 أشهر) من مدة الحمل والفصال (أي: الفطام) معًا، كما استنبطوا من الآيتين أن أقل مدة لحملٍ ستة أشهر، وسيأتي الكلام على إطعام الأطفال وتقريمهم إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (كتاب تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) لكل عصر من الأعصار مناهج مخصوصة في شؤون أهله الحسية والمعنوية أو المادية والأدبية والأمور الثابتة التي تتغير بتغيُّر الزمان يطرأ التغيير على وسائلها وعوارضها، وقد قال العلماء: إن من أسباب تغير الشرائع حتى السماوية اختلاف شؤون البشر باختلاف الزمان. وأجمع المسلمون على أن الدين الإسلامي آخر الأديان وشريعته خاتمة الشرائع. وإنما كان كذلك؛ لأنه جاء بقواعد عامة تنطبق على مصالح البشر في عصر التشريع وفي كل عصر يأتي بعده مهما بلغوا من الترقي في العلوم والأعمال، لكن هذه القواعد الصحيحة الثابتة تحتاج إلى من يجليها في هذا العصر بما يناسبه ويستنبط منها الأحكام التي توافق مصالح أهله، ولا يمكن أن يقوم بهذا العمل الشريف الذي يتوقف عليه حفظ الإسلام وأهله فضلاً عن انتشاره وعزة أهله - إلا مَنْ عرف وقته وعرف الدين معرفة صحيحة. ومن الأسف أن أكثر التصانيف الإسلامية في القرون الأخيرة أو كلها مأخوذة من كتب المتقدمين نسخًا يشبه المسخ، وأنه لم يكن يوجد عندنا كتاب في الدين إذا عرض على متمدني هذا العصر يأخذ من قلوبهم مأخذًا يستلفتهم إلى النظر في الدين بتمثيله سائقًا لهم إلى سعادة الروح والجسد على الوجه الذي يناسب زمنهم وعمرانهم حتى قام حكيم المسلمين في هذا العصر العلامة الشيخ محمد عبده وألف (رسالة التوحيد) الشهيرة. وأمامنا الآن كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) الذي نوهنا به في العدد 33 من السنة الأولى لجريدتنا عند الشروع في طبعه وذكرنا أن مؤلفه صديقنا هو القاضي الشاب الذي فاق الشيوخ أناة وكمالاً وعملاً بعمله محمد فريد أفندي وجدي. أما الكتاب فقد تم طبعه وقرأناه فإذا هو قد وافق اسمه مسماه، افتتحه بمقدمات في الدين والعلم والإسلام، بيَّن فيها أن الدين ناموس عام ضروري في الكون كسائر نواميسه، وذكر آراء مشاهير فلاسفة أوربا في النسبة بين الدين والعلم وفيما ينبغي أن يكون عليه الدين، وبيّن أن العلوم الطبيعية خدمت الإسلام وأنها كلما ترقت وزاد الناس رسوخًا فيها زادوا قربًا من الإسلام، وأن القواعد التي وضعها الفلاسفة للديانة الطبيعية موجودة في دين الإسلام، وهي أربع: (1) الاعتقاد بأن الله غني عنا وعن أعمالنا. (2) وأنه رحيم بنا ويود صلاحنا. (3) أن العبادة يجب أن تنطبق على النواميس الثابتة للحياة وتلائم الطبيعة البشرية لا أن تعارضها وتسعى في ملاشاتها. (4) وأن العبادة الجسمية يجب أن تعتبر وسائل لتطهير النفوس وتهذيبها لا أغراضًا مطلوبة لذاتها. واستدل على وجواد هذه الأشياء في الإسلام بالكتاب والسنة، ثم عقد فصولاً في نواميس المدنية وانطباقها على الإسلام مبينًا النواميس بأقوال علماء أوربا مستشهدًا على الانطباق بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وأراني مضطرًّا لأن أقول: إن من الأحاديث التي أوردها ما لا يصح رواية وإن كان معناه صحيحًا ومسلّمًا في الدين ولو راجع كتب الحديث لوجد في معنى تلك الأحاديث الواهية الإسناد أحاديث صحيحة، وعساه يستدرك هذا في طبعة ثانية. وقد خاض الكتاب في كثير من المسائل العصرية وبيّن نسبتها إلى الدين الإسلامي: كالحرية بأنواعها، والواجبات بأنواعها، وبراءة الإسلام من الحقد الديني المعبر عنه بالتعصب والاسترقاق، وأن الإسلام راعى فيه ناموس، الحضارة وكون الإسلام هو الدين الوحيد الذي راعى حقوق الروح والجسد معًا، وختم الكتاب بنظرة في الإسلام والمسلمين أجمل فيها القول في أمراض المسلمين وبيان دوائها الذي هو الإسلام نفسه. وكفى هذا الكتاب شرفًا أننا جعلناه ثاني كتاب رسالة التوحيد التي لم يؤلّف مثلها في الإسلام قط، ولعمري إن مؤلفه الفاضل جرى على آثار الأستاذ في الرسالة أسلوبًا وبحثًا، ولا يعيبه أنه لم يبلغ شأوه بلاغةً وتحقيقًا وتحريرًا؛ فالأستاذ حكيم الأمة في هذا العصر وأبلغ كُتاب العربية أجمعين. ومن جملة ما تبع فيه رسالة التوحيد تشبيه النوع الإنساني كله بشخص منه، وبيان أن جميع الأديان والشرائع السابقة كانت مناسبة لأطوار النوع من الطفولية ومبادئ التمييز، وأن الإسلام هو الدين الذي منَّ الله به على الإنسان عند ابتداء دخوله في طور الرشد والعقل؛ ولهذا كان آخر الأديان، على أن في الكتاب من الفوائد الكثيرة ما ليس في الرسالة كما أن فيها ما ليس فيه، فلا يُستغنَى بأحدهما عن الآخر. ومما يمتاز به الكتاب سهولة التناول؛ فيتسنى لجميع طبقات الناس فهمه. وسننقل منه نموذجًا تعرف به مكانته من الفائدة إن شاء الله تعالى. ومما انتقدناه على صديقنا الفاضل مؤلفه أنه هضم حقنا في خدمتنا في المنار؛ حيث قال - في فاتحة الكتاب - ما نصه: (نسمع كل جمعة على المنابر قائلاً يقول: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. ولكنا لم نسمع قط بأن عاقلاً قام يبحث بدقة وثبات عن أسباب هذا الاضمحلال الشديد الذي وقعت فيه الأمة الإسلامية من منذ (كذا) قرون كثيرة، أما والعلم لو بحث باحث عن علل هذا الهبوط الهائل بعد ذلك الصعود السريع - ما وجدها إلا في ترك السنن واتباع البدع) . نحن قد سبقناه إلى هذا في المنار إجمالاً وتفصيلاً؛ حتى إن عبارة الخطباء التي قالها قد ذكرناها في مقالة افتتحنا بها العدد 19 من السنة الأولى أو تكلمنا فيها على البدع. وقد كتب المؤلف - لهذا العاجز منشئ المنار - كتبًا كثيرة يثني فيها على خدمتنا للإسلام، وكأنه ذهل عن ذلك عند كتابة ما ذكر، وسبحان المنزه عن الذهول والنسيان. *** (إظهار لفضل وإصداع بحق) لبعض الأدباء التونسيين لا يخفى على حضرة القراء أنه ظهر في عالم المطبوعات من عهد غير بعيد جريدة المنار المصرية لمنشئها الفاضل السيد محمد رشيد رضا وهو أحد فضلاء الشرقيين، ومن يوم بروز هاته الجريدة إلى عالم الوجود أخذت تنشر مقالات علمية في مواضيع شتى، يكتب مضمونها بالنور على نحو الحور، ولقد تصفحنا ما صدر منها عددًا عددًا؛ فوجدناها قد بينت الأسباب التي هدمت الهيكل الإسلامي وقوضت مجده إلى أن أوصلته إلى حالة اليوم. منها مقالة في الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية في تلافي البدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا أضر بجامعتهم. ومنها مقالات في أعمال المنتسبين للأولياء والصوفية التي خالفت الشرع ظاهرًا وباطنًا والاحتجاج عليهم بكتاب الله وسنة رسوله وأعمال السلف الصالح، إلى غير ذلك من المقالات التي وقع لها دوي عظيم في الأصقاع الإسلامية، وحيث كانت هاته الأفكار لا تخفى على مَن له اطلاع على ما جاءت به شريعتنا السمحاء وعلى ما يعتقده غالب الإسلام من الخرافات الباطلة والأوهام الفاسدة - وجب علينا أن نعضد هذا الفكر بكل ما في الوسع، ونعلن بفضل هاته الجريدة على رؤوس الملأ. ولا فائدة لنا في بيان ما اشتملت عليه من الحقائق المسلّمة، وإنما نحثّ أبناء العلم والوطن على اقتناء هاته الجريدة الغراء؛ فإنها المرشدة الوحيدة واللؤلؤة الفريدة والناصحة الأمينة والدرة الثمينة، ونقدم إلى صاحبها خالص الشكر والثناء عما قام به من النصيحة نحو المسلمين، والله لا يضيع أجر المحسنين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الحاضرة) (المنار) إذا كان الإخلاص في النصيحة حسنًا فتوجيه النظر إلى سماعها يكون حسنًا أيضًا، وإذا كانت خدمة الملة والأمة محمودة فلا شك أن المساعدة عليها محمودة، وحيث كان الساعي بالخير كفاعله فصاحب هذه النبذة الحاضَّة على زيادة انتشار المنار - هي مشاركة لنا في الخدمة به، فحمدًا له وشكري، ونسأل الله تعالى أن يكثر في الأمة أمثاله من أهل الغيرة والفضل.

استنهاض همم ـ 1

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم رسالة مطولة لأحد فضلاء الكُتاب في سوريا (1) لم نر الحديث تسلسل في هذا الموضوع بين الكتاب مثلما رأيناه لهذا العهد، ولم نعهد للأقلام جولة في هذا المضمار كجولتها في هذه الأزمنة المتأخرة شعور سماوي قام في نفوس النبهاء من المسلمين وعقلائهم، وروح زكي هبط عليهم من عالم القدس فبعث راقد هممهم. إذا تهامس أبناء طنجة بحديث في الإصلاح رنَّ صداه بين أبناء سنغابور وحوّموا عليه، أو قدح هؤلاء زناد رأي في عمل لاح له وميض في جو أولئك واشرأبُّوا إليه، وإن تموج الهواء من أقصى الجنوب لهمهمة مسلميها أصاخ له إخوانهم في أقصى الشمال، وإن تناجَى اثنان هنا انتقلت نجواهما إلى هناك انتقال الكهربائية بدون أسلاك، أهاب المتيقظ بالمهوّم [1] ، وصاح المنتبه بالغافل وتلتل العامل المقصر واستحث السابق المتأخر، وهم - في حوارهم هذا - مجمعون على أن الأمة في مرض يقرب من الحَرَض، وكادوا يصفقون على أن علاجه الناجع هو تعميم التربية والتعليم. هل الأمة في عوز لتناول هذا العلاج، وهل يتسنى لها تناوله، وإن أحجمت عن تناوله كيف يكون مصيرها وإلى أي بيئة تتحول بيئاتها؟ استدعى هذا السؤال جوابًا مسهبًا واستثار حديثًا طويلاً، وكنت في ملأ من أهل اليسار والجاه والنعمة والرفاه؛ فأحببت أن أرفعه على صفحات (المنار) علّ فيه موعظة وذكرى لأولي الأبصار. قلت أولاً: إن الحكومات الإسلامية التي ما برحت تحافظ على استقلالها هي أربع:العثمانية، والفارسية، والأفغانية، والمراكشية.أما بقية الجماعات الإسلامية فهي إما إمارات مستضعفة تلوذ بالدول الإفرنجية أو تستظل بحمايتها. وإما قبائل رُحَّل تضرب في صحارِ إفريقية ومجاهل آسيا، وهناك أقوام سقطوا في مهاوي الاستعمار الأوربي وخنعوا لصولجان الحكم الأجنبي، ولا جرم أن النهضة في إصلاح الخلل ورتق الفتق، إنما تُرجَى على أكملها في الحكومات الأربع المستقلة. إذا لم تسعَ تلك الحكومات في التقرب من بعضها ولم تتدبر عاقبة أمرها فبشِّرْها بسوء المنقلب وشؤم المآل. كيف يؤمّل الإصلاح العام إذا لم يمشِ رجالات [2] من أهل المشرق إلى رجالات من أهل المغرب، ويتحاوروا في إصلاح شؤونهم ويديروا الرأي في مواساة عللهم وتضميد كلومهم؟ كيف تتحد القلوب وتلتئم الأهواء وعلماء تلك الحكومات متخاذلون ومن الصراط السوي ناكبون، لا يعترف أحدهم للآخر بشأن ولا يستصوب له رأيًا إلا إذا وافق هواه ولاءم ما قام في نفسه؟ إذا آنس أحدهم من الآخر معارضة أو مخالفة بهره [3] بالزندقة والمروق، وزنه [4] بالكفر والإلحاد! - كل ذلك ليلوي عنه أعناق السامعين ويصرف قلوب المعجبين، ويستأثر بالشهرة بين العالمين. كيف يرجى الإشراف على الغاية التي تتوخى الوصايا إليها وأولو الأمر في تلك الحكومات لا يهمهم سوى حفظ مراكزهم وصيانة جثمانهم؟ قصروا أيدي نبهاء الأمة عن مشاركتهم في إدارة شؤونها ومشايعتهم في رأب صدوعها، وأخذوا بأكظامهم [5] دون التفوه بكلمة تؤْذِن بإنعاشها وتعمل على إسعادها. فعلوا ما فعلوا إرادة المحافظة على الإطلاق والاستئثار بالسلطة والانفراد بالأمر، ليتهم يعلمون أن ذلك الإطلاق الذي توخوه هو عين التقييد والحجز، أليسوا في هلع دائم وجبن خالع من حدوث ثورات تقضي على سلطتهم وتبزهم إطلاقهم واستبدادهم؟ أليسوا في حذر وإشفاق من تألب الأمة عليهم وأخذها على أيديهم؟ أليس كل خطأ في سياسة البلاد أو خلل في إدارة مصالحها وأعمالها يُنسب في العادة إلى عاهلها أو أميرها إذا كان مطلق التصرف ويُعزَى إلى أفن رأيه وسوء تدبيره؟ هذه شؤون المطلقين المستأثرين بالسلطة. اصرفوا أبصارَكم تلقاء أولئك الذين زحزحوا عن عواتقهم عبء المسؤولية، وألقوا معظمه على رجال من أممهم، وقيدوا أنفسهم بآراء المنتخبين والشرائع والقوانين - تروهم يتقلبون في شؤونهم وملء عيونهم غمض، وحشو أجسامهم أمن، لا تسمع في بلادهم لاغية شكوى عليهم، ولا تحس برِكْز أو حسيس [6] لثورة في خضد شوكتهم وثل عروشهم إذا ألمَّ بسياسة الأمم ضعف أو فساد، أو حدث في مصالحها العامة تراخٍ أو خلل - كان المسؤول بتلك التبعة والمطالب بسوء نتائجها هو الذي جناها واجترحتها يده، لا ينحى على الزعيم الأكبر بلائمة ولا ينبس في النيل منه بكلمة. لا جرم أن المسمى بالإطلاق هو عين التقييد، والمسمى بالتقييد هو عين الإطلاق. أنى يُتاح للأمة إفاقة من هذا الخمار أو تفلت من أحابيل الجهل والضعف والاستخذاء (المذلة) وروحها التي هي المال في قبضة أناس لا يهمهم سوى إنفاقه في سبيل شهواتهم؟ ليت شعري بماذا يمتاز المسترسلون في ملاذهم المنغمسون في شهواتهم عن البهائم المرسلة إذا لم يبذلوا جزءًا من دثرهم - مالهم الكثير - في إنقاذ أمتهم من الجهالة، وتنوير عقول شبانها بالعلم والعرفان. مهما تنعَّم المرء في ضروب الترف وتقلب في أنواع الرفه كان حظ البهيمة في ذلك أكمل ولذاتها أتم، البهيمة تسعى في تلمس شهوة نفسها واستيفاء لذة حواسها، فالخليق بالإنسان أن يباينها في ذلك ويسعى في تطلُّب شهوة عقله واستيفاء لذة وجدانه وشعوره، شهوة العقل هي الارتياض بالكمالات والقيام بالواجبات. لا كمال أرفع ولا واجب أقدس من خدمة المرء لأمته وسعيه في إصلاح قومه. لا عمل يحفظه التاريخ ويشكره الله مثل عمل المرء في صيانة وطنه وإنقاذه من المخاطر المحتفَّة به. ما ينتظر المتقاعدون عن العمل؟ ماذا يرجو المخلفون عن مشايعة العاملين؟ ما الذي يثبط الهمم عن السعي؟ ما الذي يُضعف العزائم عن الجهر بالحق والنصيحة؟ أينتظرون صيحة من العالم العلوي تثير الراكد وتوقظ الراقد؟! أيرتقبون هُتافًا من عالم الأرواح يزعج الأنفس المطمئنة ويتلتل الهمم المستكنة؟! أيصيخون إلى نبآت وهمسات من خلل برازخ الأموات تجمع البدد وتصلح ما فسد وتعلم الجاهل وتنبه الغافل؟ ! جلت عظمة الله وتقدست حكمته، إن هي إلا نواميس كونية وسنن إلهية وضعها تعالى من العالم موضع القطب من الرحى أو الروح من الجسد، فمَن رعاها حق رعايتها، وتوخى السير عليها ظفر، ومن دابرها أو تنكّب جددها عثر تلك النواميس والسنن لا تبديل فيها، ولا تخلف يعترض دون اطرادها إلا ما كان في أزمنة النبوات أزمنة التحدي بالخوارق والمعجزات. وبالجملة، إن ما تواتر على الأمة من القوارع وتتابع من وخزات الحوادث كافٍ لإماطة غشاوة الغفلة عن أبصار آحادها وتفكيك هممهم من العقل والأغلال التي كبلتها. وما رأيناه لهذه الآونة من تلك الروح العلوية الفائضة عن ألسنة عقلائنا والطائفة على أسنان أقلامهم في خطبهم وكتاباتهم - جدير بإحياء ميت الآمال فينا وإثارة رواكد الأماني في نفوسنا وحقيق بأن يبعثنا على اطِّراح اليأس والقنوط والأخذ بأسباب الحيطة والحزم قبل تقلص الفرص وتجافي الأسباب وحدوث ما لم يكن في الحسبان. فلنلُف اليأس بالكسل ونرمي بهما من حالق جبل. ولنضع أمام أعيننا نور الأمل ثم لنُقبل على العلم والعمل، وعلى الله سبحانه العصمة من الزلل. ((يتبع بمقال تالٍ))

التعليم القضائي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم القضائي بينا في نبذة سابقة أن مُثْلَى طرائق التعليم هي التعليم بالعمل، وذلك إجمال لو فُصل ببيان كيفياته بالنسبة إلى كل علم وفن - لاحتاج إلى مجلدات كثيرة، ولكن العالِم بفن من الفنون تكفيه الإشارة؛ لأنه مهما كان جاهلاً بطريقة التعليم وغير عامل بعلمه فلا بد أن يكون عالمًا بكيفية العمل وما عليه في تحصيل المَلَكَة إلا أن يزاول العمل مرة بعد أخرى، وكلما مضى فيه سهل عليه حتى يصير بغير تكلف. وهو ما يعبر عنه بالملكة. ونريد الآن أن نقول كلمة في التعليم القضائي بالعمل وهي: يعلم القراء أن الحكومة المصرية تحاول في هذه الأيام إصلاح المحاكم الشرعية بناءً على ما جاء في (تقرير المستشار القضائي) الإنكليزي من نسبة الخلل إليها، وتريد أن تبتدئ هذا الإصلاح بتعيين قاضيين من قضاة محكمة الاستئناف الأهلية النظامية في المحكمة الشرعية، يحضران الدعاوي المهمة. ويعلمون أن مجلس شورى القوانين رفض هذا الاقتراح بناءً على فتوى شرعية صدرت من جانب سماحة قاضي القضاة وفضيلة مفتي الديار المصرية وشيخ الأزهر، ملخصها: أنه ليس للحكومة المصرية ولا لأمير البلاد الحق في نصب قاضٍ شرعي؛ لأن هذا خاص بالخليفة ونائبه الذي هو في مصر قاضي القضاة، لا سمو الخديو، وأن القاضي الشرعي يجب أن يحكم بالصحيح والراجح من المذهب النعماني، وأن يكون عالمًا بهما، وأن يكون قد مارس المرافعات الشرعية والحكم فيها. وبناءً على اعتبار هذا الأمر الأخير في القضاة - سواء أكان واجبًا وشرطًا كما يفهم مما مرّ أَمْ (لا) - نقول: لا يجوز أن يراد بممارسة المرافعات ما يكون بالقضاء الحقيقي؛ لأنه يلزم منه الدور، ولكن الممارسة تكون بأحد أمرين: أحدهما حضور المرافعات في المحاكم وهو لا يتيسر لجميع المتعلمين الذين يترشحون للقضاء، ويلزم له زمن طويل يصرف بعد طلب العلم في المحكمة. وثانيهما (التعليم القضائي) الوضعي الذي نريده ونقترحه على فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومجلس إدارته؛ لأنه أسهل الطرق للتحقق بما جاء في الفتوى. هذا النوع من التعليم يُختار له الكتب التي تذكر الأحكام في ضمن الوقائع وأكثر كتب المتقدمين - لا سيما قبل المئة الخامسة - كذلك؛ لأنهم كانوا يتعلمون الفقه للعمل، وأول عمل ضاع به الفقه كغيره من العلوم والفنون الإسلامية - تأليف المتون الوجيزة المختصرة، والعمل الثاني للضياع: اختيار هذه المتون للتدريس والاستعانة على ذلك بشرحها، والعمل الثالث - وهو الذي تم به الضياع - هو وضع الحواشي ثم التقارير عليها والخروج بذلك كله عن كون العلم مبينًا للعمل شارحًا للوقائع إلى البحث في الألفاظ والأساليب وخلط الفنون بعضها ببعض. ولم يكن وضع المختصرات في أول الأمر لأجل التعليم والتعلم، وإنما كان الغرض منها تذكرة المنتهي لا سيما في السفر الذي يعسر فيه حمل الأسفار الكبيرة سيما في تلك الأزمنة. ومما يوجب لأسلافنا الفخر ويُظهر أننا شر خلف لهم أن الباحثين في فن التعليم اهتدوا بعد العناء الطويل إلى أن خير طرق التعليم وأقربها هو (التعليم بالعمل) وبيان المسائل في ضمن الأمثلة والأحكام الشرعية في صور الواقعات، وهو ما كان عليه سلفنا من قبل ألف سنة، وإنما يكمل هذا النوع من التعليم بتأليف هيئة للمحاكمات الوضعية كهيئة المحكمة الحقيقية - رئيس وقضاة (أعضاء) ومدَّعٍ ومدعَى عليه أو وكلاء (محامون) وبينات وتحقيق وحكم. وينبغي أن تكون المرافعة علنية وأن يتناوب طلاب العلم القضاء فيها وأن تكون العناية بالدعاوى التي يحكم فيها بالشرع في هذه الأيام أشد من العناية بغيرها. يقول قائل: أي حاجة للعناية بالأحكام التي لا يعمل بها؛ لأن أمراء المسلمين نسخوها بالقوانين الوضعية؟ والجواب: أن عدم التعليم القضائي جعل الشريعة السماوية الواسعة ضيقة لا تفي بحاجة العصر، والأمراء والحكام يرون أنفسهم مضطرين إلى مجاراة العصر في شؤونه العامة، ويجب أن تكون الأحكام مطابقة لحاجات الناس في كل عصر بحسبه لا أن تقاوم الطبيعة، وتغير أساليب العمران؛ لتوافق ما يفهمه العلماء على تقصيرهم من الكتب الشرعية القديمة؛ لأن هذا غير ممكن للناس. فإذا حسنت حال التعليم ووجد في الأمة علماء يعرفون حال العصر ويستنبطون من قواعد الشريعة العامة التي نفتخر بها بأنها تنطبق على أحوال كل زمان ومكان ما يوافق مصلحة الناس بحسب زمنهم هذا؛ فلا شك أن الأمراء والحكام المسلمين يحكمون بها مهما وَهَى بناء دينهم وسحلت مرائر يقينهم، لعلمهم بأنها أقرب لصلاح الناس لخضوع السواد الأعظم لها ظاهرًا وباطنًا، اللهم إلا إذا غلبوا على أمرهم بالسلطة الأجنبية. ولا نقصد مما ذكرنا تبرئة الأمراء من تبعة ذنب الانحراف عن الشريعة وحصره بالعلماء! ! كلا ثم كلا، وإنما غرضنا بيان السبب، وقد بلغنا أن إسماعيل باشا الخديوي الأسبق طلب من علماء الأزهر أن يؤلفوا له كتابًا شرعيًّا في الحقوق والجنايات سهل العبارة مرتبًا على ترتيب كتب القوانين وموافقًا لحال العصر (كمجلة الأحكام الشرعية التي يُعمل بها في محاكم ولايات الدولة العلية) فأبوا عليه ذلك وسمعت أن إحجامهم كان خوفًا من طعن العامة في دينهم إذا هم وضعوا الأحكام الشرعية في أسلوب كتب القوانين. ومهما كان من السبب فالتبعة الكبرى فيه على العلماء كما هو ظاهر. يقول المعترض إن الحكومة المصرية مغلوبة على أمرها للأجانب فكيف نرجو تحويل المحاكم الأهلية شرعية ونحن نرى الحكومة تحاول إلغاء المحاكم الشرعية والاكتفاء بالمحاكم الأهلية؟ وإذا لم يكن لنا أمل في الحكم بالشرع فعَلامَ العناية وإِلامَ احتمال العناء في تعلمه تعلمًا قضائيًّا أو غير قضائي؟ ! ونقول في الجواب: أولاً - أن التعليم موجود في الأزهر بالفعل، ونحن إنما نطلب تحسينه، وقد ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه وما ذكر قد يمنع من أصل التعليم ولكنه لا يمكن أن يمنع من تحسينه مع وجوده. ثانيًا - أن الأزهريين يشتغلون جميعًا فيما لا يتعلق به عمل في هذا العصر كأحكام الرقيق بأنواعها بناءً على أن مرادهم حفظ هذه العلوم وإن لم تكن تستعمل؛ ولذلك تبرم شيوخهم من زيادة بعض الفنون في الأزهر، لئلا تشغلهم عنها. وتعلمها بالكيفية التي نريدها أقرب لتحصيلها ولحفظها. ثالثًا - أن الأمل لم ينقطع من العمل بها ولا ينقطع إلا إذا بقي تعلمها على حاله أو رجع القهقرى كما هو الشأن في أمتنا منذ قرون. فإذا نفضنا عن رؤوسنا غبار الخمول والكسل واجتهدنا في تحصيل العلوم على الوجه الذي يؤدي إلى إتقان العمل فلا يمضي زمن قليل إلا ونكون أمة من الأمم، لها قول يُسمع ورأي يُحترم، وعند ذلك نحكم بما نريد ونرغب؛ لأن قوة الشعب قوة إلهية لا تُغلب، فمن عمل لهذا الرجاء فأولئك هم المفلحون. {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56)

تربية الأطفال ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تربية الأطفال تكلمنا في العدد الماضي عن طور الرضاعة ووظائفه، ووعدنا بأن نتكلم عن إطعام الأطفال وتقريمهم (تعليمهم الأكل) ، فنقول: لا هادي إلى تربية الطفل كالطبيعة والفطرة، فعلى المربي أن يسترشد بها؛ لأنها هداية إلهية ممنوحة للجميع. قلنا في بحث الرضاع: ينبغي أن ترضع الطفلَ أمُّه، وإلا فمرضع يكون ولدها الرضيع في سنه والحكمة في ذلك أن الله تعالى جعل اللبن في الأم موافقًا لسن ولدها، ففي أول الأمر يكون سهل الهضم جدًّا وكلما تقدم في السن وقويت معدته على الهضم تزيد المواد المغذية في اللبن. أما الأكل فيرشد إليه من الطبيعة ظهور الأسنان فمتى أسنَّ الطفل (نبتت أسنانه) وصار قادرًا على المضغ يُطعَم، ولكن يبتدأ في إطعامه بما كان سهل الهضم كلبن الحيوانات والأرروط والنشا، ولا يكون هذا إلا بعد بلوغه بضعة أشهر حتى إذا ما كملت مواضغه (أضراسه) يطعم من سائر أنواع الطعام، ويراعَى فيه سنة الفطرة بالتدريج؛ لأن آلات الأكل تظهر فيها تدريجًا. وإطعام الأطفال الأطعمة النشوية والسكرية في سن اللبان يولد فيهم الأمراض ويكثر فيهم الموتان. ويحسب الأمهات الجاهلات أن معالجة الطعام وتلويقه (جعْله لينًا) ، بحيث لا يحتاج إلى مضغ يسهل هضمه على الوليد ويغتررن بواحد من عشرات ومئات يطعم فيسمن، ولا يعتبرن بالعشرات والمئات الذين يمرضون ويموتون؛ وذلك لأنهن لا يعرفن سبب مرضهم وموتهم، وهو في الغالب من المآكل الغليظة العسرة الهضم، لا سيما مع عدم الوقاية من البرد. ولا بد من التوقيت والانتظام في تقريم الأطفال، فيطعمون أربع مرات في اليوم - بعد القيام من النوم وعند الظهر وعند العصر وبعد المغرب - فطعام الصباح والعصر: اللبن والبيض والخبز وشيء من الحلوى، وطعام الظهر: اللحم والبقول والفاكهة، وطعام المساء: الشوربا والبقول ولو باللحم والرز، أما مقدار ما يأكله الطفل فليس بمحدود، بل يُترك وشأنه، يأكل ما شاء، لا يلزم بالزيادة، ولا يمنع من الاستزادة، إلا إن كان شرهًا يأكل فوق طاقته، وقلما يكون الشره إلا من سوء التربية. ويمنع الأطفال الإكثار من الفاكهة والحلوى، ويمنعون من شرب الشاي والقهوة فضلاً عن المسكرات والأشربة الروحية التي هي سموم قاتلة، لا يقل فتكها بالكبار عن فتك سائر الأمراض الخبيثة.

المتكلمة بالقرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المتكلمة بالقرآن قرأنا في كتاب روضة البلاغة للعلامة أبي الحسن البارزي ما نصه: عن أحمد بن عبد الله الواسطي قال: خرجت إلى مكة فإذا بامرأة على الطريق تتلو آية من كتاب الله تعالى وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: (من يهدِ الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له) [1] ، فلم أشك أنها ضالة، فقلت لها: يا أمة الله، أحسبك ضالة، فقالت (بعد البسملة - وهكذا كان كل الأجوبة مصدّرًا بالبسملة فحذفناها للاختصار) : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء: 79) فقلت لها: يا أمة الله، أين تريدين؟ قالت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) فقلت: يا أمة الله، من أين؟ قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) فعلمت أنها من بيت المقدس، فقلت: يا أمة الله، ما لك لا تكلمينا؟ فقالت: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: 18) فقلت لصاحبي: أحسبها حَرورية. قالت: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36) ، فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنها لا تكلمنا إلا من كتاب الله، فقلت: يا أمة الله، آخُذ بعيرك، فأقوده إلى مكة؟ قالت: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: 215) ، فأخذت بعيرها أقوده، فبينما نحن كذلك إذ أشرفت من طريق الشام قافلة، قالت: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل: 16) قلت: يا أمة الله ما تريدين؟ قالت: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَه} (يوسف: 19) الآية، فقلت: في القافلة قرابة لها. قال: فلما أقبلت القافلة قلت: يا أمة الله، بمَن أصيح ومَن لك في القافلة؟ قالت: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ} (مريم: 12) {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} (مريم: 7) {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْض} (ص: 26) فصحت: يا يحيى، يا زكريا، يا داود. فأجابني ثلاثة نفر، فقالوا: ما تريد؟ قلت: معي عجوز لا تكلمنا إلا من كتاب الله تعالى. فقالوا: إنها أمنا، قد ضلت منذ ثلاثة أيام قال: فلما أبصرتْهم تبسمت، وقالت: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} (الكهف: 19) ، قال: فعلمت أنها تريد أن تزودني وتبرني، فقلت: لا حاجة لي في زادكم وفي بركم، أخبرونا عن هذه العجوز ما لها لا تتكلم إلا من كتاب الله تعالى؟ ! قالوا: إنها - منذ أربعين سنة - ما تكلمت إلا من كتاب الله مخافة الكذب. اهـ (المنار) إن المحافظة على الصدق من أفضل الفضائل على الإطلاق، وقد يبلغ الغلو بالشيء والتعمق فيه إلى ما يُستغرب وقوعه كما ينقل عن الأسخياء والشجعان. ومن ذلك خبر هذه المرأة، ويلوح للذهن أن الحكاية مخترعة، لا لأن استحضار الآيات التي تشير إلى المقاصد عسير؛ بل لأن الصبر عن الكلام هذه السنين الطوال محل غرابة، ولكن الأصل في الكلام - لا سيما كلام أهل العلم - أن يكون صادقًا، ولله في خلقه شؤون. هذا، وقد نص بعض الفقهاء على أن استعمال القرآن للتخاطُب في الأمور العادية محظور.

مقتطفات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات (اليابان) يؤخذ من تقرير وزير المعارف في اليابان عام 1894 أن عدد سكان اليابان بلغ- إذ ذاك -: 42426921 نفسًا وعدد الطلبة: 7320191 ولم تكن تجد ثلثهم عام 1873 وبلغ عدد المدارس: 23874 مدرسة وعدد المعلمين والمعلمات: 69845. وبلغ عدد سكان اليابان في الإحصاء الصادر في السنة الجديدة: 43 مليونًا و229 ألفًا من النفوس، نصفهم ذكور ونصفهم إناث على وجه التقريب، وقدرت ميزانيتها للسنة الجارية: 189 مليون (ين) للواردات و113 مليونًا للنفقات؛ فتكون الزيادة في النفقات: 30 مليون (ين) والين - من الفضة - يساوي فرنكين ونصفًا وهو يقابل (الكروان) الإنكليزي قيمة. *** أهدانا الفاضل الأديب الشيخ محمد بشير ظافر المدني الأزهري قصيدة من نظمه في التنفير عن المدارس الأجنبية؛ لأنها أُسست على دعائم الدعوة إلى النصرانية والاستمالة إليها ونقش تعاليمها في ألواح نفوس الولدان، حتى كان الذي يرسل ولده إليها لا يبالي أخرج مسلمًا أم غير مسلم! ، فنحثّ معه سائر الشعراء على النظم في مثل هذا من المواضيع الاجتماعية، والخروج بالشعر من مضيق الأماديح والأهاجي الشخصية.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (مراكش) لمكاتبنا الفاضل في تونس لم تزل الأخبار تتوارد علينا يومًا فيومًا بسوء حالة هاته المملكة الإسلامية وتعاسة سكانها إلى درجة يخشى معها سوء العاقبة وفساد المنقلب. ولا تزال رجالها في غفلة عما هم عيه من موجبات السقوط والاضمحلال فداخليتها على غاية من الاحتلال والفوضى قد ضربت أطنابها بسائر أنحائها، فالقبائل بعضها لبعض عدو، والدولة عدوة للجميع، والدول الأورباوية قد اشتدت وطأتها عليها بنزف أموالها ولولا التحاسد لفقدت استقلالها من قديم فدولة الأسبان تود الاستيلاء عليها منذ عهد بعيد وترى أنها أحق الدول بذلك؛ لقدم المجاورة التي بينهما وكل من فرنسا وإنكلترا وألمانيا يزاحمها ويسعى في احتلال جزء منها، ولهذا السبب عاشت دولة المغرب العليلة ولم يفارق جسمها المنهوك الروح. كان على عهد السلطان مولاي الحسن نهضة تحريرية في جرائد الإسلام حذرته وأنذرته سوء العاقبة وأطلعته على ما يجب عليه سلوكه لحفظ مملكته من السقوط والتلاشي، ولم ينجح شيء. وبقي متماديًا في شأنه يقاتل رعاياه ويبتز أموالهم التي حرم الله، وازداد نفوذ الأجنبي في أيامه زيادة لها بال، إلى أن وقعت حادثة مليلة الشهيرة التي دفعت حكومة المغرب لأجلها عشرين مليونًا من الفرنكات لحكومة الأسبان إرضاء لها عن تعدي قبائل الريف على حدودها وعلى رعاياها. وهكذا كان يدفع الأموال الطائلة بغير انقطاع، وكانت أيامه كلها منقسمة إلى عملين عظيمين: وهما سفك دماء الرعايا لأخذ أموالهم، ودفعها للأجانب على وجه الترضية. ولم يصدر عنه أدنى عمل لإصلاح المملكة. ولما تولى السلطان عبد العزيز عليها أملت الناس أن يجري فيها بعض الإصلاحات لحداثة سنة المقارنة لنور التمدن الحالي الذي وقع له طنين لسمع الصم ونطق به البكم فضلاً عن السامعين المبصرين، فذهب ذلك الأمل أدراج الرياح، وسار في إدارة المملكة سير أبيه وجده الخالي عن كل تنظيم وخروج عن المعتاد. ومن تأمل في أحوال هاته الدولة وفيما هي عليه من سوء التدبير يدخله الذهول والحيرة والاستغراب، فإن الإصلاح ولاسيما الابتدائي ضروري لكل ذي عقل سليم وفكر مستقيم، ويحكم بعدم لياقة هاته العائلة الحاكمة وعدم صلوحيتها لأقل الأعمال (وهنا ذكر الكاتب جملة غالى بها في ذم كل أفراد الأسر الإسلامية المالكة لا سيما دولة المغرب اضربنا عن ذكرها صفحًا) . هذا، ولقد كتبنا هذه الأسطر القليلة تمهيدًا لما سنكتبه بعد في هاته المملكة الحاضرة وفيما يجب عليها اتباعه في الاستقبال لاستقامة أحوال المسلمين طبق الشريعة المطهرة، وكتاب الله وسنة رسوله بين أيدينا وسيرة السلف الصالح بين أظهرنا. وحيث كانت جريدتنا المنار موقوفة على خدمة المسلمين وموسمة بذلك نطلب من محررها الفاضل ومن براعة قلمه ومن عموم جرائد الإسلام أن يعضدونا في هذا العمل ويفوقوا سهام اللوم والتنديد نحو هاته المملكة أو تستقيم، والله بالسرائر عليم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ش. د) (المنار) كلنا على علم إجمالي بحال هذه المملكة وبعدها عن الإصلاح، وكتبنا في ذلك نبذًا متفرقة، وما كنا نظن أن ملوكها بهذه الدرجة التي ذكرها بل لا نزال نظن أن في وصفه لهم مبالغة في الذم ونرجو أن يبين في مقالاته الآتية عنها الحقائق من غير مذمة شعرية. في ليلة الثلاثاء الماضية اخترمت المنية رجلًا من خيرة رجال العلم والفضل وحملة الأقلام وهو السيد وفا أفندي زغلول أمين الكتبخانة الخديوية. مات رحمه الله تعالى عن خمسين عامًا قضاها في خدمة العلوم والآداب، وقد ترك آثارًا علمية نافعة منها كتاب الرد المبين، وكتاب البرهان الساطع على وجود الصانع. وكتاب التحفة الوفائية في اللغة العامية، ورسالة في الرد على ابن خلدون. وكان محرر جريدة الكوكب المصري التي كانت تصدر قبل الثورة العرابية، وكتب مدة في الوقائع الرسمية، وله في الجريدتين مقالات تؤذن بفضله، أما وفاؤه ومحاسن أخلاقه فقد رأينا وروينا عنها ما يدل على طيب أعراقه وكمال تهذبه، فنسأل الله تعالى أن يحسن عزاء شقيقه المفضال السيد نصر الدين أفندي المحامي الشهير وسائر آله الكرام. *** (تطبق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) كتب إلينا صديقنا الفاضل مؤلف كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) يعترف بأن انتقادنا عليه بهضمه حق المنار في محله، ويعتذر واعدًا بتوفيته حقه في طبعة ثانية قال: (فأثر لدي خطئي في بخس حق المنار كثيرًا وهو في الحقيقة خطأ يخجل منه كل مؤلف لأنه جرم ضد التاريخ، ولكن لي من كرم أخلاقكم أكبر شفيع على إسدال سترة المعذرة على هذه الهفوة وسأجعل أول واجب علي عند الشروع في الطبعة الثانية إصلاح تلك الغلطة البينة.. إلخ) . وهذا كما ترى دليل على فضل الرجل وأنه ما قال في الكتاب بأنه لم يسمع بأن عاقلاً قام يبحث عن أسباب اضمحلال الأمة الإسلامية إلا ذهولاً عن المنار كما هو ظننا الحسن به. *** أقبل الحر على مصر وأقبل معه وفود حزب الأحرار من الأستانة العلية، ولا يقدمون في مثل هذه الأيام إلا لأمر ذي بال، وممن حضر من زمن قريب الفاضلان محمد توفيق أفندي مدير المكتب الإعدادي سابقًا في بلدتنا طرابلس الشام، وعلي مظهر بك، فعسى أن تتلا في الحضرة السلطانية أيدها الله تعالى هذه الحركة التي كادت تكون عامة بالتي هي أحسن.

الاعتماد على النفس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاعتماد على النفس ] وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [ {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) يجني على نفسه ويلحق بها البلاء بسعيه، ويهمل أسباب سعادته، ويتنكب طرق رفاهته ثم يتجرم على الناس أو يتذقح ويتجنى على الطبيعة زاعمًا أنه ما مني بالنوائب ومنع من الرغائب إلا من نكد الزمان وتقصير الإخوان، فإن ضاقت به سبل الأعذار أنحى باللوم على المقدار، وقال: ما تنفع حيلة البشر إذا كان خصيمهم القضاء والقدر! وغدَا يعتب القضاء ولا عذ ... ر لعاصٍ فيما يسوق القضاء كل ملي يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق بإرادته واختياره على حسب ما سبق في علمه، وممن خلق نوع الإنسان الذي يعمل بإرادة واختيار ينشآن عن العلم بوجوه المصالح والمنافع والمفاسد والمضار، وهذا العلم منه ما يكون له بالضرورة، ومنه ما يكتسبه اكتسابًا من طرق واضحة تؤدي إلى غاياتها إذا لم ينحرف السالك عن جادتها فهل الاعتقاد بعلم الله وإرادته يكون عذرًا للإنسان إذا زاغ عن الصراط المستقيم فوقع في الرجز الأليم؟ ! وهل إذا فرض أن العالم وُجد بالاتفاق من غير خالق أو أن خالقه - تعالى وتقدس - جاهل أو مكره (سبحانه سبحانه) يزول عذر الإنسان؟ كلا، إن هذا هذيان لا يقول به عاقل. ولكن ما بال المسلمين يحتجون بالقضاء والقدر حتى صاروا سخرية عند سائر البشر. واعتقدت الأمم المتمدنة أن هذا الاعتقاد سد بينهم وبين الارتقاء. وإن ساد به من قبل آباؤهم القدماء. بل وإن كانوا يعتقدون معهم أن الله لم يخلق شيئًا إلا بإرادته. وأن جميع ما وجد في الكون موافق لما سبق في علمه أو مشيئته. ولا يخرج معنى القضاء والقدر عند أئمة المسلمين عن هذا الذي قلناه، ولم يقل أحد منهم بأنه يجوز الاحتجاج بالقضاء والقدر على تقصير الإنسان في علمه وإخفاقه في سعيه، بل صرحوا بالمنع منه تصريحًا؛ لأن فيه مع إساءة الأدب بنسبة القبيح إلى الله تعالى - مخالفة هدي الكتاب والسنة ونصوص الأئمة؛ فقد ساق القرآن احتجاج الكفار بالمشيئة مساق التوبيخ والتقريع حيث قال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) وقد فسر البيضاوي وغيره (الخرص) هنا بالكذب ولو لم يكن في المسألة غير هذه الآية لكانت كافية في الزجر والردع عن الاحتجاج بالقدر، كيف وهناك آيات كثيرة منها ما هو صريح في المعنى كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) ومنها ما هو غير صريح. والأحاديث وآثار الصحابة وأكابر السلف من الأئمة المجتهدين وغيرهم في الأمر بالإمساك عن الكلام في القدر والنهي عن الخوض فيه - لا تكاد تُحصى. الإسلام دين الفطرة (أي: الطبيعة والخليقة) فليس فيه شيء يخالف الواقع الذي ثبت وجودًا أو ينابذ العقل الصحيح؛ أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء (كاملة البدن) هل تحسون فيها من جدعاء؟ !) ثم يقول: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) . والفطرة تدلنا بالوجدان الذي هو أقوى البراهين أننا نعمل باختيارنا، والاختبار والاستقراء الصحيحان يثبتان لنا أن سعادة الإنسان في أفراده ومجموعه نتيجة أعماله، وأن شقاءه من آثار كسبه وأنه متى استوفى الأسباب الطبيعية لأمر من الأمور- بلغه وأدركه، وأنه لا يخيب أمله ويخفق سعيه إلا لأسباب أخرى تحول بين المبدأ والغاية، وأنه قلما تتعاصى هذه الأسباب الحائلة عن قدرة الإنسان. وجاء الإسلام موافقًا للفطرة فصرح كتابه الحكيم بقوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى: 30) وبقوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 39-40) وبقوله: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء: 123) الآية. والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وأكثرها عام لأعمال الدنيا وأعمال الآخرة. وأما قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء: 79) وقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) فلا ينافيان ما تقدم؛ لأن الثاني بيان لأن الله تعالى خالق كل شيء، وقد جاء ردًّا على الذين {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِك} (النساء: 78) وهم اليهود، وكانوا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعنى: {مِنْ عِندِك} (النساء: 78) بشؤمك علينا، فنفى القرآن اعتقاد الشؤم، وأثبت أن الأشياء إذا أضيفت إلى غير أسبابها الظاهرة فلا تضاف إلا إلى خالق الأكوان الذي يرجع إليه الأمر كله، وأما الأولى فمعناها أن جميع ما خلقه الله تعالى للإنسان من الحسنات والنعم فهو فضل منه وإحسان لا في مقابلة عبادتهم له؛ لأن العبادة لا تنفعه وعدمها لا يضره، ومهما بلغ العبد من العبادة فلا يكافئ نعمة الوجود فكيف يقتضي غيره؟ وأن جميع ما يصيبه من السيئات فهو من نفسه؛ لأن الله تعالى بيّن له أسبابها بما هداه إليه من سنن الكون وأحكام الشرع التي تؤدب النفس وتقف بها عند حدود الاعتدال في الأعمال والمعاملات كلها، فمن استرشد بسنن الكون ووقف عند حدود الشرع لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكر الله المبين لها فإن له معيشة ضنكًا في هذه الحياة الدنيا ولَعذابُ الآخرة أشد وأبقى. فهذه الآية كالتي صدرنا بها المقالة في بيان أن شقاء الإنسان إنما هو من نفسه بسوء أعماله وقبيح كسبه، وإعراضه عن هداية الله تعالى في الاعتبار بكتابه وبخليقته. وأما الآية: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) فهي مبينة للاعتقاد بالله تعالى لا للأسباب والمسببات، والكل حق لا يرتاب فيه عاقل وإن لم يكن مسلمًا. إذا علمنا هذا، فعلينا أن نرجع على أنفسنا بالتعنيف، وننحّي عليها بالعذل والتوبيخ. ونطالبها بجميع ما نزل بنا من البلاء. وحل في أمتنا من الأرزاء، لا أن نعتب الأقدار. ونحيل على الأغيار؛ فإن الله تعالى ما ظلمنا ولكن ظلمنا أنفسنا، أليس قد هدانا النجدين وبيَّن لنا السبيلين، وجعل لنا السمع والأبصار والأفئدة لعلنا نشكره باستعمالها فيما خُلقت له. ألم يخبرنا بل لهذا الكون سننًا لا تتبدل ولا تتحول فَلِمَ نُعرض عن مراعاتها؟ ! ألم نقرأ في كتابه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) فعلامَ لا نعتمد على أنفسنا ونتكل - بعد الثقة بالله - على أعمالنا؟ ألم يأمرنا بالسير في الأرض والاعتبار بأحوال الأمم وها نحن أولاء نشاهد الأمم النشيطة في الكسب العظيمة الهمة المعتمدة أفرادها على أنفسهم مع مراعاة نواميس الخليقة قد سادوا على العالم واستخدموا الأمم واستأثروا بالسلطان، وأصبح أضعف أفرادهم أكبر همة وأعز نفسًا من أعظم الأمراء والملوك. أنكتفي في مصائبنا الشخصية بمعاداة إخواننا والعدوان على أبناء أوطاننا وفي مصائبنا القومية ينبز الذين سلبوا استقلالنا بالألقاب ونسبتهم للظلم والغشمرة؟ ونحن نعلم أن من سنن الكون استيلاء القوي على الضعيف وامتصاص الغني ثروة الفقير. والاعتراض على نواميس الخلق اعتراض على الحكيم العادل. وانتظار خرقها أو تغييرها لا يصدر إلا من أخرق أو جاهل. سبحان الله، كلنا يحب أن يكون غنيًّا غير فقير، وعزيزًا غير ذليل وسعيدًا غير شقي. كل مصري يتألم من احتلال الأجانب لبلاده واستيلائهم على ينابيع الثروة والسيادة فيها حكامًا وتجارًا، حتى من يقول: إن الاحتلال نفع ولا يزال نافعًا من بعض الوجوه. كل شرقي يتململ من استعمار الغربيين لجزء كبير من الشرق وطموحهم لاستعمار باقيه، فإذا كان غير المسلمين من الشرقيين يعذر لتقاليده الدينية بالجهل وعداوة العقل والتشاؤم من علم الاجتماع البشري ومن الفنون الطبيعية التي تبين له طرق السيادة والسعادة، فهل يصح للمسلمين ذلك والقرآن بين أيديهم يحذرهم وينذرهم ويستصرخ عقولهم ويستنجد هممهم ويرشدهم إلى سنن الخليقة ويبين لهم الطريقة ويلحق بهم عار التقصير ويقول لهم: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (الشورى: 30) .

استنهاض همم ـ 2

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (2) أما زعماء هذه النهضة والعاملون عليها والقائمون على مجاري الإصلاح فيها فهم ثلاثة: حاكم، وعالم، وذو فضلة من مال. أي امرئ مسلم يمكنه أن يقتصد شيئًا من نفقاته ويستبقي فضله من ماله فيعده لخير المسلمين وفائدتهم ودفع الضر عنهم وتعليم نشئهم وأحداثهم ولم يفعل - كان آثمًا إن لم يكن إثمًا شرعيًّا كان إثمًا عقليًّا سياسيًّا. كل عالم في طاقته وعظ العامة وإرشادهم لما فيه خيرهم وتعليمهم ما يجب عليهم وحثهم على الألفة وحسن المعاشرة والتخلق بالأخلاق الفاضلة والسعي وراء الكسب وترك البطالة أو تأليف الكتب وإيداعها مسائل العلم الحق الذي ينور الأذهان ويرشد إلى العمل ويبث روح النشاط في الأفراد أو إنشاء صحيفة سيارة يكتب فيها ما فيه فائدة للأمة؛ كحثها على بذل المال في سبيل نجاحها وإشراع مناهج الإصلاح، لها وإرشادها إلى ما به قوام وحدتها وحفظ جنسيتها وتحذيرها من مقاصد الطامعين فيها وتنبيهها إلى الواجب لها وعليها، كل ذلك في طاقته ولم يفعل - كان مجرمًا بغيضًا ممقوتًا إن لم يكن من جانب الشرع [1] فمن قِبَل العقل والطبع. كل حاكم يلي عملاً من أمور المسلمين فيسلبهم الأمن ويأخذ عليهم الطريق في أعمالهم المفيدة ويخزل (يعوق) العاملين منهم عن النهوض لما توخوه من الإصلاح، ويوصد دون مشروعاتهم النافعة أبواب النجاح، ويتقاعد عن حماية حوزتهم، ويتغاضى عن مصالحهم العامة أو يكون كنافذة يطل منها الأجنبي على أسرارهم ومطويات شؤونهم - كان مذؤومًا (مذمومًا) مدحورًا على لسان العقل والشرع والناس أجمعين. أي فرد من أفراد الأمة دُعي إلى عمل فتقاعس عنه وهو مقدور له أو اعترض في سبيل العاملين أو ثبط الهمم عن مشايعتهم ومظاهرتهم، أو طفق يقع في أعراضهم وتناول منهم لؤمًا وخبثًا - كان مرذولاً مذمَّمًا عند الله والناس وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين. هذا ما يحسن بالأمة أن تتجه إليه أفكارها وتلهج به ألسنتها وتخفق لأجله أقدام رجالها: العلماء يصلحون كتب العلم وينقحون كتب التعليم، ويضعون في كل فن كتبًا سهلة المأخذ فصيحة العبارة، ويعقدون اللجان للمذاكرة في إنجاز ذلك، ويلقنون العامة والدهْماء عقائد الدين وتعاليمه الحقة ويطهرون نفوسهم من لوث الرذائل والخرافات والأوهام. والحكام من وراء العلماء يؤيدون أعمالهم ويعضدون أفكارهم ويحملون الكافة على تلقي ما وضعوه وتقبل ما دونوه. المتمولون يؤسسون الشركات المالية ويؤلفون الجمعيات الخيرية بغية نشر الصنائع وأشغالها وتأييد الزراعة وأعمالها وافتتاح المكاتب الابتدائية والإعدادية لتهذيب الأحداث وتثقيف عقولهم وتخريجهم على حب دينهم ووطنهم والذب عن حوض جامعتهم. وليكن نشر العلم بين كافة الطلاب على وتيرة واحدة وطريقة فاذة (واحدة) والحكام من وراء أصحاب الأموال تحافظ على حقوقهم وتحمي مصالحهم وتمنحهم امتيازات تعضد مصنوعاتهم وتروج محصولات [2] مزروعاتهم وتخفف عليهم الضرائب والمكوس والوضائع [3] بحيث يسهل عليهم العمل والقيام بالمشروعات المفيدة للوطن والأمة. هذا هو الدواء لمرض الأمة والعلاج الناجع بمعونة الله في شفائها وإبلالها، وما عليها إلا أن تُقدِم على تناوله بهمم عالية وتتقحم مخاطره بعزائم صادقة، وعلى الله قصد السبيل. عظمة الأعمال وجلالة المشروعات يعوزها تخوّض [4] مشاق تَعذُب لديها سكرات المنون، وتشرف بالقائم بها على مهاوي من الأخطار ينعكس من أعماقها صدى أنين أرواح الشهداء من أنصار الحق ممزوجًا بخرير دمائهم وخشخشة عظامهم. ما أجدر القائمين بتلك الأعمال المتعرضين لهاته العظائم والأهوال بأن يكونوا ذوي سجايا جليلة ومزايا سماوية ومواهب قدسية ونفوس كبيرة، تقوى وتقاوم وتصبر وتصادم وتستقبل الموت الزؤام بفرح وابتسام! ما ظنكم يا قوم؟ ! أليس في الأمم الإسلامية رجال من هذا القبيل في الفتوة والإقدام وعلى هذا النمط في الغيرة والشهامة؟ ألا يوجد فتيان من سلالة أولئك الغطارفة الأمجاد يبذلون مهجهم في خدمة بلادهم وإنقاذ أمتهم؟ ألا يوجد بيننا من يشري ثناء الدهر وعز الأبد ببذل فضلات أمواله - وهي حطام نافد وعرض زائل- في افتتاح المدارس وإنشاء أندية العلم لتدريب أبناء أمته وأطفال قومه وترشيح أنسالهم وأعقابهم في أنواع العلوم وضروب العرفان علّهم يقوون بذلك على مساورة الأمم الطامحة ويدفعون عنهم غارات الشعوب الطامعة؟ ألا يوجد في سلائل أولئك الأبطال العظام ذو نجدة يغلي في عروقه دم النخوة والحمية فيلوي عن زهرة الدنيا وزبرجها (زينتها) يواصل العمل ويدأب في السعي وراء جمع شتات المسلمين وإزاحة عللهم وتوحيد المتعدد من آرائهم وضم المتفرق من أهوائهم؟ ألا يوجد بقية من سلالة أبطال بدر واليرموك ومغاوير القادسية ونهاوند تجيش نفوسهم وتضطرب أرواحهم؛ حذرًا وإشفاقًا مِن فَقْدِ تراثِ أجدادهم، وثمن دماء آبائهم؛ حذراً وإشفاقاً من أن ترى المعاهد الشريفة والمشاهد المكرمة والحضرات المباركة موطئاً لنعال الأجنبي أو تكون في كلاءته وتحت حمايته. ألا يستحي مستحٍ ممن استودعنا كتابه المنزل واستحفظنا شريعته المطهرة واستوثق منا في العمل بهما والقيام بالدعوة إليهما أن يرانا مفرطين في العمل عاكفين على الشقاق متفقين على عدم الوفاق؟ أهذا ما أوصانا به نبينا من الاستمساك بأسباب الوحدة وتوثيق وشائج [5] الأخوة بيننا؟ أهذا ما عهد إلينا به أن نكون كالبنيان المرصوص يشد بعضنا بعضاً أو كالجسد إذا تداعى منه عضو تداعى له سائر الجسد؟ أهذا ما أمرنا به من إعداد وسائل القوة وتوفير ذرائع المنعة للدفاع عن حمى الإسلام والذود عن حقيقة الدين والذب من وراء حوزة الأمة؟ أيطيب لنا عيش ونحن نرى نسور المطامع الأجنبية تحوّم حول جزيرة العرب وتحلق في أجوائها؟ أينعم لنا بال ونحن نسمع أن الأجنبي يحلم باستعمار تلك الجزيرة المقدسة ومد رواق سلطته فوق الحرمين الشريفين؟ ! ألا نفوس أبِيَّات لها همم ... أما على الخير أنصار وأعوان الله الله يا قوم في مستقبلكم، احموا حقائقكم، اجمعوا أمركم، كونوا في ذات الله إخواناً وأصلحوا إن الله يحب المصلحين. الإصلاح المطلوب هو اتحاد الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، بحيث تبقى كل حكومة منها مطلقة اليد في إدارة شؤونها الداخلية مرتبطة مع باقي أخواتها بالمصلحة العامة والوجهة السياسية الخارجية ومداره دفع غارات الناهبين وقطع أطماع الطامعين. ولا يتم هذا إلا باتفاق الحكومات الأربع وارتباط كل منها بالأخرى ارتباطًا دينيًّا سياسيًّا، وأن تتفق تلك الحكومات الأربع على توحيد التعاليم الدينية فتنتشر بين كافة المسلمين عقائد دينية سمحة وتعاليم أدبية بسيطة، وتحمل أولئك الشعوب على تقبلها وممارسة العمل بها. إذا نجح ذلك المشروع وصدقت تلك الأمنية يوشك أن لا يأتي على الشعوب الإسلامية حين الدهر حتى ينقلب خوفها أمناً وبؤسها رخاءً وشغفها عزةً وقوةً وتصل بمشيئة الله من رفعة الشأن ونفوذ السلطان إلى مكانة عليا لا تسموها مكانة الاتحاد الألماني ولا الاتفاق الأمريكي. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (الدين القويم) كتاب ألّفه حديثًا الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد زناتي ناظر (مدرسة العزبة المتمدنة) من مدارس سمو مولانا الخديوي الخصوصية بإرشاد سعادة أحمد شفيق بك رئيس قلم التحريرات الفرنساوية الخديوية، وجعل الكتاب برسم تلك المدارس. وهو بأسلوب جديد نافع حاوٍ - على اختصاره - أهم ما يحتاج إليه المبتدئ من الاعتقادات والعبادات والأخلاق والآداب الدينية، وفيه بعض أحكام المعاملات أيضًا، وقد جرى في الأحكام على مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ولقد كنا نشكو من كتبنا الدينية أننا لا نكاد نجد فيها كتابًا مختصرًا سهل العبارة خاليًا من اصطلاحات الفنون العربية والحشو، حاويًا أهم ما تمس إليه حاجة الناس، ليقرأ للعوام والأطفال، وهذا الكتاب من هذا النوع إلا أنه أهمل بعض الأبواب المهمة كالأيمان والنذور والصيد والذبائح والأضحية ونحو هذا مما هو أهم من الإجارة والحوالة والرهن. *** (متانت) وصل إلينا بعض الأعداد الأولى من هذه الجريدة التي تصدر في (قنديا - كريت) وهي جريدة تركية أسبوعية سياسية أدبية لمديرها الفاضل قدسي زاده نوري أفندي وهي عثمانية اللهجة، فنرجو لها الثبات والنجاح. *** (المدارس) جريدة علمية تهذيبية مصورة يحررها جماعة من الكتاب المصريين، وهي تصدر مرة في الشهر، وقيمة الاشتراك فيها خمسة غروش في السنة، ولعل رخص ثمنها يكون سببًا في سرعة انتشارها وإن كانت أربع صفحات صغيرة، لا سيما وهي مزينة بالرسوم وورقها جيد ولا ينال أصحابها منها كسبًا ما لم يعد المشتركون فيها بالألوف فنحث التلامذة على تعضيدها. *** (تاريخ إنكلترا) صدر الجزء الأول من هذا التاريخ لمؤلفه الكاتب الفاضل جرجي أفندي زيدان منشي الهلال الزاهر، وفيه تاريخ هذه الدولة من أول عهدها إلى انقضاء الدولة اليوركية، وكان نشر فصولاً متتابعة في مجلد السنة الثانية من الهلال. ودقة مؤلفه وذوقه وإنصافه في التاريخ يغني عن الإطناب في تقريظ الكتاب، وهو يُطلب من مكتبة الهلال في مصر، وثمنه 4 غروش وأجرة البريد غرش واحد. *** (جريدة الصبح) لقد كنا قرظنا هذه الجريدة الغراء بعد ورود عددها الأول إلينا، وضاق يومئذ عدد المنار عن نشر التقريظ، والجريدة سياسية أدبية تجارية أسبوعية، أصحابها من أدباء وطننا السوري وهم: خليل أفندي ملوك، وشكري أفندي الخوري، ومحررها الأول الكاتب الأديب خليل أفندي شاول، وقد قرأنا في العدد السادس منها مقالة مفيدة في (السوري وتباين أخلاقه) بحث فيها كاتبها بحثًا فلسفيًّا، وحث فيها أصحاب الجرائد على جمع الكلمة وأهل الوطن على تربية البنات، وهذا من أفضل ما يكتب في الجرائد، فنتمنى للصبح أن يزيد ضياءً ولضيائه أن يزيد انتشارًا.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (الدعوة إلى الدين) كثر حديث الناس في هذه المدة الأخيرة بدعوة المرسَلين الإنجيليين من الإنكليز وغيرهم إلى ديانتهم، واستفاض الخبر في مصر بأنهم يخدعون الناس بإيهامهم أنهم يعطون مبلغًا معينًا من المال لمن يعتنق مذهبهم، وأنهم استعملوا الخشونة في كيفية الدعوة، ولكن رئيس الجمعية التي نسب إليها هذا كذَّب خبر إعطاء النقود وقال: إنه غير صحيح. ونشر ذلك في جريدة المؤيد، وصرح به الدعاة في مجتمعهم الذي عقدوه في المدرسة الإنكليزية ليلة الاثنين الماضية. وقد تكلمت الجرائد المسيحية في هذه المسألة، ونددت بالمرسلين الإنكليز، وقد نقلت جريدة المؤيد مقالة في ذلك عن جريدة الرأي العام، وإننا ننقل ما كتبته جريدة الفلاح في ذلك؛ لئلا نُنسب إلى التحامل والتعصب إذا تكلمنا من نفسنا، قالت الجريدة ما نصه بحروفه: شيء جديد حضر إلينا بعض المعتبرين من الإسلام الكرام وأفادنا بأنه بينما كان مارًّا بشارع محمد علي شاهد بعض المرسلين البروتستانت واقفين أمام المدرسة الإنكليزية الكائنة في تلك الجهة، يحثون المسلمين على اعتناق الدين المسيحي على شكل خارج عن دائرة الأدب؛ إذ إنهم كانوا يطعنون على الدين الإسلامي ويغررون الناس بإعطاء الأموال إذا ارتدوا إلى الدين المسيحي، ويا ليتهم يقفون عند هذا الحد، بل إنهم كانوا يجذبون الناس إلى داخل المدرسة كي يقنعوا بصحة دعواهم، حتى إنه ترتب على ذلك اجتماع خلق كثير أمام المدرسة وعلت الغوغاء وكثرت الرِّعَاع وتنوعت الأقوال بما استفز بعض صغار الوقوف إلى الرمي بالحجارة والسب واللعن وخصام استوجب مداخلة البوليس، إلى غير ذلك مما لا يليق، وقد التمس منا هذا البعض التنبيه إلى ذلك، واستلفات نظر الحكومة إلى منع مثل هذه الأفعال حذرًا من أن يتولد من ورائها ما لا يستحسن، والبلاد في حاجة إلى الراحة والسكينة لا إلى الفتن والثورات. ثم بلغنا بعد ذلك أنه على إثر مداخلة البوليس طار الخبر إلى الحكومة، وأن حضرة مستشار الداخلية بحث في هذه المسألة، ونبه على أولئك المرسلين أن لا يتجاوزوا حدود الإرشاد بالمعروف. هذا ما بلغنا وكيفما كان الحال فنحن نعلم أن الدين المسيحي يوجب علينا احترام كافة الأديان والإرشاد بالمعروف فضلاً عن أننا في بلاد تحكمها الأمة الإسلامية تحت ظل الشريعة الإسلامية والسواد الأعظم فيها من المسلمين، والسيد المسيح في الإنجيل الجليل أوجب علينا بل حتم علينا الطاعة لكل حاكم والخضوع لكل سلطة؛ فإنه قال عليه السلام: (اخضعوا للسلاطين فإن كل سلطة من الله) ، بل إنه عليه السلام امتثل لشريعة حكام زمانه ودفع الجزية لهم.. إلخ، مما لو أردنا استيفاء البحث عنه لطال بنا المطال، ومع ذلك الإنجيل الجليل يثبت لنا أن السيد المسيح عليه السلام كان يرشد إلى الدين بالكلام المعقول وفعل المعجزات لا باستعمال القوة ولا بالتغرير بالأموال بل إنه عليه السلام نهى تلامذته عن حمل المال بالكلية، فإذا عرفنا ذلك وكان ما فعلناه صحيحًا - يكون تصرف أولئك المرسلين مخالفًا للشرع المسيحي من جهة ومخالفًا للآداب لعدم احترامنا السلطة الحاكمة من جهة أخرى. ونحن لا ننكر أنه يجب على علماء كل ملة الإرشاد إلى ملتهم ولكن بطريقة أدبية، وطالما نددنا على علماء الإسلام الكرام بالنسبة لتقاعدهم عما هو واجب عليهم من هذا القبيل خصوصًا، بينما يرون أن أرباب كل دين يجاهدون في نشر دينهم ويتجشمون المتاعب والمشقات لمثل ذلك، وكم تمنينا أن تتشكل جمعية من كرام المسلمين باسم جمعية الإرشاد الديني الإسلامي، ويجمعون لها الأموال من ذوي الخير وينفقونها على العلماء؛ لكي يطوفوا البلاد للإرشاد إلى الدين الإسلامي كما تفعل الأجانب، ولكن لسوء الحظ لم نجد من يلبي هذا الطلب الذي لا صعوبة فيه غير السعي والحركة. ولا نظن أن كرام الأمة تأبى المساعدة في دفع شيء طفيف من فضلات ما لهم إلى مثل هذه الغاية الحميدة. والمصيبة كل المصيبة أن كبارنا يتقاعسون عن مثل ذلك، وصغارنا يبذرون الألوف من الجنيهات بسخاء لا مزيد عليه في المنكرات وعلى المفاسد والملاهي.. إلخ إلخ، ونحن في غفلة عن مواجبنا، ولو فرضنا وتحرك فريق من المسلمين وشكل جمعية إسلامية تحت اسم عمل خيري لاستدرار أموال المسلمين وبحثنا بدقة عن نتيجة العمل فلا نرى من نتيجة هذا العمل شيئًا يذكر. هذا، إن فرضنا أن ذلك الاجتماع خالٍ من المقاصد والغايات والمنافع الشخصية. وحاصل القول: إن الإفرنج في مساعيهم الدينية تجاوزوا حدود الآداب والكمال في طرق الإرشاد واستعمال المنكر مثل التغرير بالأموال والمنافع وما شاكل مما ينكره الدين المسيحي نفسه والإسلام قد قصروا في مساعيهم الواجبة لتنشيط علمائهم فتقاعسوا وقصروا مع أنهم يعلمون أن كل مَن سار على الدرب وصل. وهذا التقاعس قد أفاد الأجانب؛ لأنه ليس أمامهم من ذوي الإرشاد في الدين الإسلامي في القطر المصري والجهات المتوحشة من يناظرهم فإن بقيت الهمم الإسلامية في القطر المصري فاترة لا يعجبهم إلا الغرور الظاهر والتعصب في الغايات وعدم معرفة النافع من الضار والسقيم من السليم. فعلى القطر المصري والسودان (الذي ستنشأ فيه مدرسة إنكليزية كلية في الخرطوم ونحن في غفلة عن كل سعي يقاوم ما يماثلها وغير جهات من إفريقيا وسواها) السلام؛ فإن الأقوال لا تقوم مقام الأعمال، فالعبرة بالعمل، وألا نكون عبرة لمَن يقول ولا يفعل. وعلى الأمة الإسلامية أن تفتكر في مستقبلها وتنتبه من رقدتها وتفعل ما ينفعها في الحال والاستقبال، وإلا لو ملأت الدنيا صياحًا وهي واقفة وغيرها ماشٍ، فالهواء يبدد الكلام، والعمل يغير الحال ولا تشعر إلا وهي في دور الاضمحلال. فيا أمة الإسلام، هذه نصيحة من سليم ملخص في الخدمة للأمة بحسب ما تقتضيه الهمة والذمة، فإن الحق أولى أن يقال على كل حال، وعلى الله الاتكال. اهـ (المنار) نشكر لسعادة الكاتب غيرته ونصحه، ونقول لإخواننا المسلمين: أما كفاكم أن المخالفين لكم في الدين يسجلون عليكم تقصيركم في خدمة دينكم بأموالكم وأنفسكم وعلمكم وعملكم، ويحثونكم على القيام بحقوقه يائسين منكم، {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) . قد انتدب الفقير منشئ هذه المجلة صديقه الفاضل رفيق بك العظم ناظر المدرسة العثمانية بأن يلقي في القسم الليلي الذي افتتح في المدرسة دروسًا في الدين واللغة والمناظرة، أما درس الدين فبيان حقيقته وكيفية إسعاده للبشر، وأما درس اللغة فهو عمل يخرج به المتعلم كاتبًا خطيبًا، وأما المناظرة فيتقدم العمل فيها دروس في فن المنطق وآداب البحث، وقد شرعنا في هذه الدروس، فعلى الراغبين أن يبادروا، والله الموفق. *** (سوق تمشي) رأت لجنة معرض 1900 أن الوسائط التي استعملت في معرض شيكاغو وبرلين لانتقال المتفرجين على أقسام المعارض لم تكن كافية لراحتهم، وأن قطارات (داكوتيل) التي استخدمت عام 1889 في باريس ما كانت لتفي بالمطلوب مع شدة الاعتناء بها، وقدرت تلك اللجنة أن معرضها الآتي سيحشر فيه عدد يزيد ثلاثة أضعاف العدد الذي كان في معرض 1889؛ فمن الضرورة إذًا أن تكون وسائط الانتقال أهم وأوفر وأكثر سرعة وسهولة. وبعد مباحث عنيفة واختبارات دقيقة اعتمدوا أن يضعوا سوقًا تمشي بعجلات تدار على خطوط حديدية تدفعها قوة الكهرباء وتديرها الآلات بأيدي الساقة الماهرين. أما تلك السوق أو بالحري تلك المدينة البهية فهي مؤلفة من ثلاث طبقات، كل طبقة منها مستقلة بحركتها عن الثانية. فالطبقة السلفى لا حركة ذاتية بها بل هي مرقاة إلى الطبقتين العلويتين. أما الطبقة العالية فتدور 4 كيلو مترات بالساعة، وهي معدل مشي الإنسان المسرع، وأهم من كلتيهما الطبقة العليا؛ لأن سرعتها مضاعف سرعة الثانية وأدق صنعًا وألطف منظرًا. وكل طبقة من هذه الطبقات تقسم إلى أقسام متتابعة مرتبة بغاية اللطف والهندام، ولا يعيب هذه السوق غير أصوات العجلات المزعجة على أن المهندسين تعهدوا إزالة كل علة. اهـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الصبح)

التصرف في الكون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التصرف في الكون ] سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [ واحسرتاه على أمة أعطيت أمثل التعاليم. وهديت إلى الصراط المستقيم. فأُلبِست تاج السيادة. وأُفرغت عليها حلل السعادة. ثم ما عتمت. أن حرّفت وانحرفت. وتمزقت بعدما اجتمعت، حرفت التعاليم فاشتبه عليها الباطل بالحق، واتبعت السبل فتفرقت بها عن سبيل الحق. وكانت أمة واحدة. فأمست شيمًا متعددة فذاق بعضها بأس بعض. ثم امتهنت في جميع بقاع الأرض {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} (الأنعام: 46) . سعادة الإنسان في هذه الحياة الدنيا في معرفة المنافع والمصالح بأسبابها، وإتيان البيوت من أبوابها. ويحصل هذا بالنظر والتأمل. والاختبار والتعقل. وبناء اللاحق على عمل السابق. حتى تظهر السنن الكونية. والنواميس الطبيعية. التي لا يضل من اهتدى إليها. ولا يصل إلى الغاية إلا من سار عليها. ولكن دون الوصول إلى معرفة سنن الله في خلقه عقبات. وفي طريق النظرين - العقلي والحسي - شبهات {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) . ما أعظم عناية الله بالإنسان؛ منحه أنواعًا من الهداية ليصل بها إلى سعادته: الإلهام الفطري والوجدان الطبيعي والمشاعر الظاهرة والباطنة والعقل والدين وكل هداية من هذه الهدايات تُصلح ما يقع من الخطأ الذي يعرض للهداية الأخرى ولا يصل الإنسان إلى حد كماله إلا بمجموعها، ولكن الإنسان خُلق ضعيفًا، فمع هذه الهدايات كلها لم يزل الضلال آخذًا بزمامه والشقاء في شعوبه ضاربًا بجرانه، وما ذلك إلا لغلبة ناموس الارتقاء التدريجي على جميع هذه الأشياء ولا بد أن يصل الإنسان به إلى كماله ولو بعد قرون، فانتظروا إنا منتظرون. الدين أعلى أنواع الهداية ومرشدها ومدبرها وقد سار كغيره على سُنَّة الارتقاء فكان آخره (وهو الإسلام) أكمله، وإلى ذلك الإشارة بما جاء في إنجيل يوحنا عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام من قوله: (16 إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي 16 وأنا أطلب من الآب فيعطيكم (فَارْقِلِيط) آخر ليثبت معكم إلى الأبد) أي: تثبت تعاليمه فلا يأتي بعدها تعاليم إلهية، ثم قال: (26 و (الفارقليط) روح القدس الذي يرسله الآب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم) ، ومعلوم أنه لم يبعث نبي علَّم البشر كل شيء يحتاجونه في سعادتهم إلا نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام؛ فموسى جاء بشريعة عملية، وعيسى جاء بأخلاق روحية، ومحمد علّم الناس العقائد والأخلاق وأحكام الشريعة بأنواعها وجمع بتعليمه بين مصالح الروح والجسد ومنافع الدنيا والآخرة ووفق بين العقل والدين وأرشد إلى سنن الكون والاعتبار بها، فكان من مقتضى هذه التعاليم أن تكون أتباعه أسعد الناس حالاً وأن يسودوا على سائر الأمم، ولقد كان هذا كله ثم اتبعوا سَنَن مَن قبلهم، فلما زاغوا عن ذلك الصراط المستقيم في أخلاقهم وأعمالهم أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفاسقين. قال لهم هذا الدين: اطلبوا الأشياء بأسبابها {وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} (البقرة: 189) وأرشدهم إلى أن سعادتهم وشقاءهم نتيجة أعمالهم وأنه {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ، فقام فيهم محرفون زعموا أنه ليس في وسعهم شيء من العمل ولا طاقة لهم على القيام بمصالحهم ومنافعهم، زاعمين أنهم يعظمون الله تعالى بمصادمة فطرته ومصادرة شريعته. وقد فندنا هذا المذهب في مقالة (الاعتماد على النفس) من الجزء الماضي وهو العقبة الكبرى في طريق الإصلاح الإسلامي، وأنشأنا هذه المقالة لتمهيد عقبة أخرى ضررها يوازي ضرر الأولى في الحيلولة بين الأمة وسعادتها وإن كانت في حقيقتها مناقضة للأولى عقلاً ودينًا ألا وهي: عقيدة تصرُّف بعض العباد في الكون. أليس من العجيب أن يسلب قوم أنفسهم العمل الثابت لهم بالوجود والوجدان سواء كان بمبدئه أو بغايته لأجل تعظيم جانب الألوهية التي منحتهم إياه، ثم يزعمون أن منهم من يتصرف في الكون ويقدر على قلب نواميسه وتبديل سننه وتحويلها فيسعد ويشقي ويفقر ويغني من غير سبب غير مجرد تصرفه ذلك أو الاستعانة بطلاسمه مما اختص الله تعالى بالقدرة عليه من دون عبادة كما هو ثابت بالدلائل العقلية والنقلية جميعًا. أليس من الجهالة العمياء أن تُنبذ البراهين العقلية وتُصرف الآيات القرآنية عن ظواهرها لأجل تصحيح هذه المسألة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ ! أليس من البلاء العام أن تكون قلوب معظم أفراد الأمة متعلقة بالأضرحة والقبور وبجماعة من الدجالين والمشعوذين أو البُلْه والمجانين؟ ! معتقدة بهم أنهم يدفعون مصابًا ويزيلون أوصابًا. أو يملكون نفعًا وإسعادًا. وينيلون هدايةً ورشادًا بمجرد أسرارهم الباطنية، وقواهم الغيبية؟ أليس من الانحراف عن الدين أن تلهج الألسنة بالأموات، وتستعين بالعظام الرفات كلما نزل خطب أو ألمَّ كرب؟! هذه العقيدة المضرة نفث سُمَّها في روح الأمة الإسلامية قومٌ من مدعي الصلاح والإرشاد الذين رمقتهم العامة بعين الاعتقاد وذلك بعد امتزاج المسلمين بأهل الملل الأخرى الذين خضعوا لرؤسائهم الروحيين خضوعًا أعمى بل اتخذوهم أربابًا، وجعلوهم عن الحضرة الإلهية نوابًا. وما من أمتين تتمازجان إلا ويسري لكل واحدة من الأخرى شيء مما هي عليه، تأخذه برمته أو تصبغه بغير صبغته. ولقد تلاعب الدجالون بعامة هذه الأمة فزعزعوا بمثل هذه الأوهام عقائدها. وهدموا بالتمويهات قواعدها؛ طلبًا للمال والجاه. ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولقد آل بهم الأمر إلى جراءة أفسق الفساق وأفجر الفجار من شيوخ الطريق على دعوى التصرف في الكون والانتقام ممن لا يخضع له! فضلاً عمن ينال منه بقول أو عمل، ويستدلون على ذلك بما لا يخلو عنه الكون من مصائب تنزل بأعدائهم لحصول أسبابها الطبيعية، وبمثل هذا يستدل المعتقدون بتصرف الأموات يقولون: حلف فلان بالولي الفلاني كاذبًا فرماه بسهم أمرضه أو أمات ولده أو قريبه ونحو ذلك ولا يقولون ذلك فيمن يحلف بالله كاذبًا، ويوجد في المسلمين ألوف كثيرة يتجرؤون على الحلف بالله كذبًا ولا يحرك أحدهم لسانه بالحلف بالولي أو الشيخ الذي يعتقده؛ لا سيما إذا كان عند قبره. وقد صرح الفقهاء بأنه لا يجوز الحلف بغير الله مطلقًا وقالوا: من حلف بغير الله معظمًا له كتعظيم الله تعالى في ذلك كان كافرًا، فماذا عساهم يقولون فيمن يزيد في تعظيم الشيخ على تعظيم الله تعالى كالذي علمت؟ ! ومن هؤلاء الدجالين من يسعى بإيقاع الضرر بعدوه بأسبابه العادية؛ لا سيما النفوذ والجاه الدنيوي كمساعدة الحكام الظالمين وغيرهم، ثم يدعي بعد ذلك أنه تصرف فيه بسره ومدد شيوخه وأجداده فيقول: إن فلانًا تكلم فيَّ فقُطع لسانه وفلانًا ناوأني فعُزِلَ من وظيفته. وفلانًا آذى بعض أتباعي فحُبِسَ ونُكِبَ. ويغفل الأنوك عن وقوف الناس على أسباب هذه النكبات وعرفانهم أن مثلها من تصرفات الأشرار لا من تصرفات الأسرار، ولا يعتبر المغرور بما ينزل بأنصاره من البلاء كالنفي والجنون ونتف اللحى وقلع العيون بل بما ينزل به نفسه أحيانًا؛ وذلك لأنه يؤوّل لنفسه عند نزول البلاء بأن أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فإذا كشفت عنه قال: إنما نزل به ما نزل لتظهر أسراره وعناية الله تعالى به نعوذ بالله من الاستدراج بالغرور والتغرير. ألم يعلم المدعي الجاهلي بل الخادع المتجاهل أن الناس يعلمون بأن أكابر شيوخهم كانوا يشتمون ويهانون وما كان يحل بمن أهانهم بلاؤه. هذا الشيخ أحمد الرفاعي الكبير (رحمه الله تعالى) كان يغمطه ويغمزه أكابر العلماء في عصره [1] ولم ينقل أنه تصرف بأحد منهم فقطع لسانه مثلاً مع أن أكثر أهل طريقته يدعونه أكثر مما يدعون الله تعالى، وقد نسبوا له العظائم حتى قالوا إنه كان يتصرف في الدنيا والآخرة وكان يبيع قصورًا في الجنة كما يفعل بعض رؤساء الأديان الأخرى ويكتب بذلك صكوكًا [2] ويغفل الخادع والمخدوع عما أورده الإمام حجة الإسلام الغزالي في الرد على الذين يدعون أن نزول البلاء بأعدائهم يكون انتقامًا لهم على سبيل الكرامة من أن الذين كانوا يؤذون الأنبياء ويقتلونهم ما كان يحل بأشخاصهم البلاء والعذاب، فهل كان هؤلاء الأشقياء أو الصلحاء أكرم عند الله من الأنبياء (سبحانك هذا بهتان عظيم) ومما يقضي بالعجب أن مسألة التصرف في الكون لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كل مفلس يدعيها الدجال المسترسل في الفجور الذي أغواه الشيطان بشهادة الفساق أو الكفار له بالقطبية والغوثية من مراتب الولاية لينالوا منه مالاً أو جاهًا، وحسب العاقل هذا في النفور عن أهل هذه الدعوى وتكذيبهم، فكيف والوجود بكذبهم والشواهد التي أشرنا إليها تفند مزاعمهم؟! وفوق ذلك كله كتاب الله يخاطب نبي الله إرشادًا لعباد الله بمثل قوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ} (الأعراف: 188) وقوله: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: 21) نعم إن الدجالين قد جعلوا مسألة التصرف من باب كرامة الله لأوليائه. وسيأتي الكلام على الكرامات إن شاء الله تعالى.

استنهاض همم ـ 3

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (3) قال قائل من مستمعي حديثي: وإذا تخاذلَتْ - والعياذ بالله - تلك الحكومات وتباطأت عن الشروع في تأسيس هذه الوحدة ووضع مقدمات الإصلاح، وأخفق سعي عقلاء الأمة العاملين على النهضة الساعين في تنبيه الأفكار وتنوير الأذهان، كيف تكون النتيجة، وإلامَ تؤول حال المسلمين، وإلى أي منقلب ينقلبون، وهل يسلم لواحدة من تلك الحكومات استقلالها أم يعجز كل منها عن الدفاع ويسقط بين يدي العدو؟ هذا السؤال هو الذي حملنا على وضع هذه المقالة كما ألمعنا إلى ذلك في فاتحتها. ونقول في الجواب بالإجمال: إن عاقبة تفريط المسلمين في لمِّ شعثهم وإفراطهم في لهوهم وغفلتهم وتثاقلهم على مداركة الخلل الساري في شؤونهم - سقوط حكوماتهم بين أيدي الأمم الغربية شيئًا فشيئًا، ثم تقلص ظل شعائرهم وشرائعهم عن وجه البسيطة حالاً فحالاً. ولا إخالك إلا راغبًا في تقصّي الأحوال غير مجتزئ بهذا الإجمال لما أنه قلما يجهله إلا مَن ران على قلبه وطمست عين بصيرته. (المسألة الشرقية) وكل واحد على شيء من العلم بالمسألة الشرقية. هي اقتسام دول الغرب لحكومات الشرق. ما منشؤها؟ هو ذلك الينبوع الذي انبثق في ربوع الحجاز ثم تعاظم مده وطما سيله حتى غمر معظم الأصقاع الشرقية في آسيا وأفريقيا وتنفست أمواجه على السواحل الجنوبية من قارة أوربا وتدرجت رويدًا رويدًا حتى كادت تصافح أمواج البحر الشمالي لو لم يقف شارل مارتل (ملك فرنسا) في وجهه ويعترض جريته، ففلّ سورته وعرامه [1] وأرجعه أدراجه. ما غرض ساسة أوربا في المسألة الشرقية، وما الذي حملهم على التداخل في خُويِّصة الشرق وشؤونه وأي عذر لهم في اقتسامه واستباحة التهامه؟ يزعمون أن شعوب الشرق مسلوبو الخلال التي ترشحهم للمدينة فاقدو المزايا التي تؤهلهم لتكوين أمة ذات حضارة وعمران على نسق حضارة أوربا وعمرانها. عامتهم جهلاء لا إلمام لهم بشيء مما تتوقف عليه راحة الإنسان وانتظام معيشته الصحية والأدبية أذلاء مستعبَدون لحكامهم، لا يعرفون كيف يطالبون بحقوقهم، ولا كيف يلزمون حكامهم حدود العدل والإنصاف. عمالهم على جهل تام بأمور الإدارة الداخلية وكيفية ارتباطها بسياسة الأمة الخارجية لا يعلمون الواجب عليهم ليقفوا عنده ولا يحفلون بالحقوق ليبذلوها إلى أصحابها. معظم همهم في مخالسة رشا (جمع رشوة) أو مجالسة رشا. أمراؤهم لاهون وعن النصيحة معرضون، لا يهمهم صلاح رعيتهم ولا يبالون بشقوتهم، ولا يصيخون لشكيتهم. يتفننون في ابتداع الأساليب لابتزاز أموال الرعايا وإنفاقها في ضروب ملاذهم وشهواتهم سعادة. أحدهم في مراوحته بين الافتراش والاكتراش. وبالجملة إن حكام الشرق وأمراءه استذلوا رعاياهم وتهضموهم وبخسوهم حقوقهم وتلاعبوا بهم، كما تتلاعب الزعازع بالنباتات الغضة والغصون اللينة. ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها وهم أجراؤها وتدّعي دول الغرب أن إبقاء أهل الشرق على هذه البيئة السيئة والشؤون البهيمية وتركهم وتعاليمهم المختلة وآدابهم المعتلة وحكمهم الظالم واستبدادهم الغاشم جناية على الإنسانية وضربة قاضية على المزايا البشرية وإخلال بتعاليم الشريعة الأدبية، وأن الواجب والضمير يأمران أولئك الدول بالدمور [2] على أهل الشرق والاستيلاء عليهم شاؤوا أو أبوا، ثم إن كان الشرقيون عاجزين عن إدارة بلادهم الداخلية قصروا أيديهم عنها وتناولوها منهم وكان استعمارًا صرفًا، وإلا خلوا بينهم وبينها واستبدوا بسياسة البلاد الخارجية ومصالحها العمومية الكبرى، وسموا ذلك حماية. ويموهون بأن هذا الحجر إنما هو مُوَقَّت بزمن عجز المحجوزين وقصورهم حتى إذا أدركوا وبلغوا الحالة التي يمكنهم معها القيام بشؤونهم الإدارية والسياسية خلوا بينهم وبين بلادهم وودعوهم وانصرفوا مأجورين لا مأزورين. هكذا يزعمون. ومما يقدمون عذرًا - بين يدي فعلتهم هذه - قولهم: إننا قد أرخينا الطِّوَل [3] لحكومات الشرق منذ نصف قرن وأكثر، وانتظرنا إفاقة أمرائهم من غفلتهم وانتعاشهم من عثرتهم، وما زلنا في أطواء تلك المدة نتقدم إليهم بالوعظ تارة وبالإنذار أخرى، وننصح لهم بأن يصلحوا شأنهم ويرعَوُوا عن غشمرتهم، ويعرفوا لشعوبهم حقوقهم وهم عن ذلك معرضون وبالترف لاهون وبالترهات مغترون. هل المسألة الشرقية تقتصر في تناولها على الشعوب الإسلامية أو يتعدى حكمها إلى سائر الأمم الأخرى؟ إنما وضعت تلك المسألة في أول أمرها لأجل مقاومة الإسلامية ومساورة أهلها، واسترجاع ما افتتحوه من الأقطار المسيحية والولايات الرومانية التي سقطت أمامها وعنت لسلطانها، فمن هذا تعلم أن حقيقة المسألة الشرقية دينية، لكنها مموهة الظاهر بالصبغة السياسية التي تقدم شرحها. ومن جرّاء ذلك لم يقتصروا في مدلول تلك الكلمة على الشعوب الإسلامية فقط، بل تجاوزوا بها إلى سائر الشعوب على اختلاف أديانهم وتعاليمهم. وما لي لا أتوخَّى في بحثي الصدق وأتحرى في حكمي الحق. إن فَسيلة تلك المسألة وإن كانت زرعت حبتها الأصلية لأول عهدها في تربة التحمُّس الديني وسقيت بمياه الأحقاد الملية، لكنها - والحق يقال - لم تستغلظ وتستوِ على ساقها إلا في هذه الأزمنة المتأخرة وبين الأمم الغربية، حيث تعهدوها بالأسمدة السياسية وأتموا تشذيبها وعذق تربتها بمعاذق الأطماع والأغراض والأثَرَة الجنسية؛ فبذلك أصبحت تلك الفسيلة شجرة عظيمة غليظة الساق ممتدة الفروع ضاربة الأغصان تظل بأوراقها وغصونها بقاع آسيا وإفريقيا وجزائرها وشبه جزيرة البلقان، بما يسرح فيها من الشعوب المختلفة والأمم المتباينة والقبائل المتنوعة، لا فرق تحتها بين دين ودين، ولا تمييز بين مذهب وآخر. ((يتبع بمقال تالٍ))

التربية النفسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التربية النفسية من الناس من يرغب عن قراءة ما يُكتب في شؤون الأطفال احتقارًا له كما أن الأطفال محتقَرين عندهم ولا يلذّ لهؤلاء إلا الكلام عن الملوك والحكام وشؤون الدول والأمم، وهذا دليل على أنهم أصحاب أهواء لا نفع لقراءتهم؛ فإن الملوك والحكام كانوا أطفالاً وأحوالهم - في كبرهم - مبنيَّة على تربيتهم في صغرهم، والأمم مؤلفة من الأفراد الذين لم يوجد واحد منهم كبيرًا قط. فتربية الأطفال هي المسألة الأساسية في حياة الأمة، فمَن لا يكترث لها لا يكترث للأمة كلها، مهما ثرثر وتشدق في الكلام عنها. يرى المراقب للأطفال والولدان أن الكذب والشراسة والظلم والتعدي والأثرة والدناءة والشَّرَه ونحوها من الرذائل - أغلب عليهم من الصدق والدَّعَة والإنصاف والرضى بالحق والمؤاثرة على النفس والشهامة والعفة وأشباهها من الفضائل؛ ولهذا ذهب بعض علماء الأخلاق إلى أن الإنسان شرِّير بالطبع وإنما يكتسب الخير بالتربية والتعليم. وهذا باطل كمقابله وهو أن الإنسان خيِّر بالطبع ويطرأ عليه الشر من فساد التربية والتعليم. والحق أنه - في أصل فطرته - قابل للأمرين على السواء وهناك مرجِّحات ترجّح أحدهما على الآخر أضعفها حالة القطر ونوع المزاج وأقواها الوراثة والتربية والتعليم وغلبة الشرور والرذائل على الأطفال، إنما هي من سوء الوراثة والتربية معًا؛ لأن أهل التهذُّب والتهذيب في الدنيا قليلون. ولا يكفي في وراثة الخير والفضيلة أن يكون الأبوان خيِّرين فاضلين؛ لأن الطفل كما يرث من والديه يرث من أجداده وإن علوا، وهذه الوراثة لا يحجب الأدنى فيها الأعلى كإرث الأعيان شرعًا. يتهاون الناس بتربية الطفل الأدبية من أول النشأة زاعمين أنه لا يفهم ولا يعقل فيغرسون في تربة نفسه الطيبة بذور الرذائل، فلا يلبث أن ينمو ذلك الغرس فيجنون منه حنظلاً ويطعمون ضَريعًا وزقُّومًا. أول شيء يتعلمه الطفل الكذب الذي هو منبع الشرور وجرثومة الرذائل، أرأيت كيف تُسكته جدته أو عمته إذا بكى في غيبة المرضع بإلقامه ثديها الذي لا لبن فيه؟ ! أرأيت كيف يلاعبون الوليد فيأخذون منه الألهية (ما يُتَلاهَى به) ويحجبونها عن عينه، قائلين: أخذها البعبع أو الغراب! ثم يُظهرونها له؟ ! فيثبت مثل هذا الكذب في نفسه بالتكرار، ويكون ملكة راسخة لا يتأتى الرجوع عنها بعدُ بمجرد قول أبيه أو معلمه: إن الكذب قبيح أو حرام إلا إذا عقل وقويت إرادته وجاهد نفسه على الاحتراس من الكذب وتحري الصدق زمنًا طويلاً، فقد جربنا هذا وقاسينا منه العناء عدة سنين ورُبَّ كلمة واحدة يتعلم بها الولد عدة رذائل، وذلك كأن تعطيه أمه تفاحة وتقول له: اخفِ خبرها عن أخيك. تعلِّمه بها الكذب والأَثَرَة والبخل والظلم، حيث لم تساوِ بينه وبين أخيه وسوء المعاشرة والسرقة؛ لأن مبدأها أخْذ الشيء خُفية وغير ذلك. ومن الجهالة الدائمة والمنتشرة ما يعتقده أكثر الناس من أن الكذب على الصغار مباح، وأصل هذا قول بعض العلماء: يجوز ترغيب الصبي أو ترهيبه في حمله على الذهاب إلى المكتب ونحوه، ولو بما لا ينوي المرغب والمرهب الوفاء به، وهذا إذا تعذر حصول المصلحة بغير ذلك وكيف يعقل أن الشريعة الحكيمة تبيح إفساد نفوس الولدان بطبع هذه الرذيلة في نفوسهم؟! روى ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (مَن قال لصبيه: ها أعطيك. فلم يعطِهِ كُتبت كذبة) ومن حديث ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا من حديث طويل: (وأن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا يعِد أحدكم صبيًّا ولا ينجز له) وجميع ما ورد في الكتاب والسنة من التشديد والوعيد على الكذب يتناول الكذب على الصغار، بل ربما كان هذا النوع من الكذب أقبح من غيره؛ لأن المكذوب عليه يتضرر منه بطبع ملكة الرذيلة فيه، بخلاف الكبير فإنه يبقى على ما رُبي عليه غالبًا، فليعتبر الآباء والأمهات بما ذكرنا وما سنذكر بعد. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (ثمرات الفنون) قد تم لهذه الجريدة الغراء بانتهاء عام 1316 خمس وعشرون سنة ربع قرن قمري كامل في خدمة الملة والدولة، فاحتفل صاحبها المفضال سعادتلو عبد القادر أفندي القباني بموسمها الفضي في أول العام الجديد عام ست وعشرين للجريدة احتفالاً بديعًا في ثلاث ليال، كان منزله فيها موردًا عذبًا للعلماء والوجهاء والأدباء من جميع المذاهب والأصناف، وقد افتتح الاحتفال سعادته بخطاب لطيف خُتم بالدعاء للحضرة السلطانية من الجميع ثم تأثره الخطباء والشعراء بألسنة تفيض الثناء على هذه الجريدة الوطنية الصادقة ومؤسسها بما هما أهله. وقد استغرق منظومهم ومنثورهم العدد الأول من السنة الجديدة الذي طبع بحبر مذهب على ورق فضي كالورِق وبقي بقية. فنهنئ سعادة رصيفنا بالتوفيق لبلوغ هذه الغاية في جهاده الأدبي، ونسأل الله تعالى أن يديم له التوفيق والنجاح حتى يهنأ بالموسمين الذهبي والماسي وتبقى جريدته إلى ما شاء الله. *** (تقويم المؤيد) طبعت نفوس الغربيين على الترقي في كل شيء ولم يجدوا سبيلاً لترقية التقاويم السنوية إلا بإيداعها كثيراً من الفوائد المقتطفة من كل فن وكذلك يفعلون. ولم يتلُ أحد من أصحاب التقاويم العربية تلوهم في هذا إلا حضرة الكاتب البارع محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الشهيرة؛ فقد أنشأ تقويماً أودعه فوائد شتى من جميع الفنون، بحيث يجد حامله منه معلماً ومسلياً إذا نظر فيه، لا سيما في أوقات الفراغ وقد انتقدنا عليه أن ذكر فيه مسألة خرافية وهي (معرفة حظ الإنسان بمواقيت ميلاده) ، وإن كان يُسر بها أكثر الناس. *** من عجيب تحامل الأوربيين وأنصارهم من العثمانيين نسبة الدولة العلية إلى إهانة النصارى وعدم مساواتهم بالمسلمين، والواقع أنها تفضلهم على المسلمين في كثير من الشؤون ونذكر الآن مسألة الصحافة فقد رقت الدولة أصحابها من النصارى أكثر مما رقت أصحابها من المسلمين، ففي مصر يوجد مَن ارتقى من أولئك إلى رتبة (مير ميران) وصاروا من باشاوات الدولة، ومن ارتقى إلى الرتبة الأولى، ولا يوجد مسلم نال رتبة ما، وهذا عطوفتلو نجيب بك ملحمة رقته الدولة بسبب ما كان يكتب في جريدة البصيرة إلى أهم مركز سياسي في بلادها، حيث جعلته مندوبًا ساميًا في البلغار وما أدراك ما البلغار وفي هذه الأيام أنعمت عليه الحضرة السلطانية مجددة مجد الدولة برتبة (بالا) الرفيعة ولا يمكن أن يحلم بهذا صاحب جريدة مسلم. وأعظم من هذا في معناه أنه بعد صدور جريدتنا المنار الإسلامية أراد بعض كهنة المسيحيين إصدار جريدة دينية بهذا الاسم، فأنهى ملجأ ولاية بيروت رشيد بك إلى ملجأ الخلافة العظمى بإصدار إرادة سنية بمنع المنار الإسلامي من بلاد الدولة العلية، وإرادة أخرى بإصدار المنار المسيحي فصدرت الإرادتان على حسب الطلب من مقام ثالث العمرين - أيد الله ملكه وأجرى في بحر التوفيق فُلْكه - وفي هذه الأيام قرأنا في جرائد سوريا بأن مولانا أمير المؤمنين أنعم بالوسام العثماني الرابع على حضرة الشماس أرسانيوس حداد صاحب جريدة المنار المسيحية الغراء مكافأة له على إخلاصه وصدق تابعيه وهذا الإنعام وإن كان لم ينله ابتداءً صاحب جريدة إسلامية - لكن قد نال مثله العلامة الشيخ حسين أفندي الجسر بعد تأليف (الرسالة الحميدية) فهو ليس بامتياز عظيم، ونبشر رصيفنا الشماس بأن أول الغيث قطر ثم ينهمل. ولا يختلجنَّ في فكر أحد أن في نفسنا شيئاً من رفيقتنا وسَمّيتنا (المنار المسيحية) الغراء. كلا، إننا نعتقد أن الجرائد الدينية أنفع لوطننا المحبوب من الجرائد السياسية إذا كانت كتابتها في تعاليمهم الدين الأصلية وقد بينا في مقالات التعصب أن الغلو في التحمس الذميم لا يستأصله من نفوس المسلمين والنصارى إلا الرجوع إلى آداب القرآن ومواعظ الإنجيل. ولذلك نرجو أن تدعو جريدة المنار وجريدة المحبة وأمثالهما إلى الاتفاق والائتلاف باسم الدين، كما دعوا إلى ذلك باسم الدين عندما كانت جريدتنا تدخل البلاد العثمانية، وإنما غرضنا من هذه النبذة إعلام قراء منارنا في الشرق والغرب بأن من ينسب إلى الدولة العلية تمييز المسلمين على النصارى متحامل عليها، وأن الأمر بخلاف ذلك في كثير من الشؤون، وأما نحن فلا يسعنا إلا الرضى من دولتنا وسلطاننا كيفما عُوملنا؛ إذ لا دولة لنا نلجأ إليها إذا هُضمت حقوقنا، وإلى الله المصير. *** كتبت جريدة المجلة العثمانية الغراء مقال في صدر العدد الثاني بيَّن فيها منشئها الفاضل فرح أفندي أنطون أن المسلمين والمسيحيين في بلاد الدولة العلية على غاية الوفاق والوئام وأن ما تتهمهم به أوربا من خلاف ذلك مبني على الأغراض السياسية، وأن إمبراطور ألمانيا أدرك هذه الحقيقة في سياحته الأخيرة، وأن قول جلالته للخطيب المسيحي - الذي خطب أمامه بين أكابر المسلمين في مأدبة بلدية دمشق: (إن خطابك بقي الليل كله يرنَّ في أذني) معناه أنه استدل منه على حسن حال النصارى مع المسلمين، ويؤكد ذلك قوله لوزير خارجيته - بعد خروجه من المأدبة -: (إن المسيحيين في بلاد الدولة أحسن حالاً من الأيرلنديين في إنكلترا، والمسلمين في الهند والروسيا، واليهود في الجزائر وأكثر ميلاً إلى مسالمة إخوانهم المسلمين والمسلمون أكثر رغبة في مسالمتهم مما يصفهم به الواصفون) ولم نكد نقرأ هذه المقالة حتى صارت ترد علينا جرائد أميركا وفيها مقالات متسلسلة تحت عنوان (حبذا الموت في سبيل الإصلاح) لإلياس أفندي أنطون شقيق منشئ الجامعة، زعم كاتبها أن طرابلس الشام (التي قتل فيها رجل من أسافل النصارى رجلاً من سراة المسلمين) فضلاً عن غيرها - قد خضبت أرضها بالنجيع الأحمر من دماء النصارى، وأن المسيحيين في بلاد الدولة يكرعون السم، ويحث إخوانه ويهيج نفوسهم على إضرام نار الثورة في سوريا لتحرير المسيحيين من الاستعباد والظلم الذي مثَّله في مقالاته تمثيلاً يشبه تمثيلات بطرس الراهب التي فاض عنها طوفان حرب الصليب. كل هذا - وأعظم منه - يُكتب في تلك الجرائد، ولا تنبس الجرائد التي تدَّعي خدمة الدولة في مصر بكلمة في الرد عليها، ولكنهم يُظهرون الغيرة على الدولة، بقولهم: إن المصريين الذين احتفلوا بعيد الجلوس الهمايوني ليسوا مخلصين للدولة والسلطان وإن المؤيد يظهر خدمة السلطان والدولة لأجل مصلحته. هكذا يشقون الصدور ويردون على ما في القلوب، أما الكلام الشائن والطعن الصريح فلا يردون عليه، فهكذا يكون الإخلاص في الخدمة!

حياة الإسلام في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حياة الإسلام في مصر كلما ذاق كأس مرير ... جاء كأس من الرجا معسول يزداد في كل يوم طوفان السياسة الإنكليزية فيضانًا على مصر فيجرف كل ما يعترض في سبيله ويغمر المصالح ويعلو جميع المنافع، حتى إنه ليتراءى للمشرف على مجاري سيوله أن الأمة المصرية قد غرقت منه في بحر لُجي تعلوها أمواجه والفيض على ما جاورها أثباجه. ففقدت بذلك الحياة السياسية. وأضاعت المزايا القومية. وانقطعت منها الآمال في الحال والمآل. حكم ناموس تنازع البقاء العام الذي لا يقبل النقض بعد الإبرام. فيلتهم القوي بمقتضاه حق الضعيف ويسود العالَمَ الجاهلُ. ويقيس الناظر مصر على الهند وجاوا وسائر البلاد الإسلامية التي أظلتها السلطة الأوربية؛ فحالت بينها وبين كل تقدم وارتقاء. كل هذا يخطر في البال ويجول في فضاء الخيال، ولكن حديد النظر بعيد الفكر يعلم أن من مقتضى ناموس تنازع البقاء أيضًا مجاراة كل أمة لمجاورتها في أسباب الارتقاء وتقليد القوية للضعيفة في وسائله إذا كانت على علم بها ولو بالإجمال (وكل مَن سار على الدرب وصل) وإن قياس المصريين على الهنديين والجاويين قياس مع الفارق. والفرق من وجوه شتى: أحدها - أن الأجانب استولوا على الأولين وهم على جهل تام بأحوال الاجتماع البشري؛ فكان أهم عمل لهم بعد فقد استقلالهم معاداة كل ما عليه الأوربيون من العادات، ومحاربة ما عندهم من العلوم والفنون وطرق السياسة والاقتصاد وسائر الشؤون الاجتماعية، والمصريون ليسوا كذلك. وثانيها - أنه لم يكن عندهم جرائد حرة تعرِّفهم ما لهم وما عليهم وما هم فيه، ولم يكن لهم روح اجتماع بحيث تتلاقى أفكارهم في جو واحد، وإن تلاقي الأفكار في جو واحد نافع وإن كان هواؤه فاسدًا؛ لأن التفرق لا يأتي إلا بالشرور، والاجتماع ولو على الباطل والخطأ مبدأ للوحدة لِما يتوقع بعده من الانتقال إلى الاجتماع على الحق والصواب. والمصريون قد سبق لهم اجتماع من عهد قريب باسم الأمة والوطن وهو ما كان من أمر الثورة العرابية العشواء ثم ما كان من الغيرة على الدولة العلية في حالة الحرب الأخيرة ثم في حالة الإعانة العسكرية الشاهانية، فقد ظهر من المصريين في هاتين الحالتين من الإخلاص والغيرة والبذل مع ما يعتقدون من عدم ارتياح حكومتهم لذلك ما لم يظهر من غيرهم من العثمانيين. ثم إن لهم اجتماعات من دون هاتين كالاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني الذي بُذلت فيه أموال كثيرة، وكالعناية والاهتمام بمحاكمة صاحب جريدة المؤيد التي يعتقد السواد الأعظم بصدق وطنيتها وابتهاجهم بما كان له من الفلج على الحكومة التي كانت خصمه في تلك المحاكمة، وهذا وما قبله ليس بالأمر الصغير من شعب هو أشد الشعوب هيبة لحكومته وخضوعًا لها، وعندهم جرائد يعرفون من مجموعها ما لهم وما عليهم، نعم، إن الدهماء منهم يرجحون فيها الوهم على الحقيقة ويختارون الهزل على الجد وهذه هي العقبة الكبرى في طريق ارتقاء الجرائد. ثالثها - أن المصريين يمتازون على سائر الشعوب الإسلامية بأمرين عظيمين وهما: المنافسة، وسرعة قبول الإصلاح إذا جاء على يد عظيم محترم إما لدينه وإما لما يُرجى من خيره أو يُخشى من شره، فإذا تسنى لبعض الكبراء فيهم إشراع مناهج الارتقاء الاقتصادي والأدبي، وإن شئت قلت الديني والدنيوي، فلا يلبثون أن يتباروا ويتنافسوا في السباق؛ حتى لا تدرك شأوهم الشعوب الأخرى التي تفوقهم في الهمة والإقدام والثبات كالسوريين وغيرهم. إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًّا منيعًا من الوهم يحُول بينهم وبين السير في طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقبوه، ولا أقول: أن يدركوه. يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع الواسع. وإن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم وسلاسل في أيديهم وقيودًا في أرجلهم وغشاوة على أبصارهم ووقرًا في أسماعهم ورينًا على قلوبهم. وكل ما نزل بالمسلمين من بلاء فإنما نزل من سماء عظمتهم واستبدادهم. وإن تعجب فعجب قول مَن ليس للدولة العثمانية في بلادهم أمر ولا نهى ولا نفوذ ولا سلطان: (إن حياتنا بين يدي المابين! وإن السعادة ستهبط علينا من أفق الباب العالي) وهم يعلمون أن البلاد التي تحت جناح المابين ونفوذ الباب العالي تنقص من أطرافها ويتمزق أهلها كل ممزَّق، ولا ينال تلك البلاد وأهلها من المابين والباب العالي إلا الاعتراض على من مزق الأشلاء وشرب الدماء! ماذا جنى ويجني أهل جاوا والهند ومصر من الظهور القولي في حب مظاهرة الدولة العثمانية؟ لعمرك إنهم لا يجنون إلا الحنظل والزقوم؛ فإن هولاندا وإنكلترا كلما آنستا منهم إليها ميلاً أو سمعتا منهم فيها قولاً - تزيدان عليهم الضغط والاضطهاد والقهر والاستبداد. أَوَ لا يرَوْن أن الدولة لا تُرجِع إليهم قولاً ولا تملك لهم ضرًّا ولا نفعًا؟ ! لا أقول لهؤلاء المسلمين: أبغضوا الدولة العثمانية. ولكني أقول: إذا أحببتموها فاكتُموا حبها ولا ترجوا منها ما لا ينال واعتمدوا في رقيكم على المعونة الإلهية ثم على جدكم وكدكم وعلمكم وعملكم، فإن رأيتم من الدولة نهضة فعلية فانهضوا معها إن كنتم صادقين. كل عاشق يحذر العذال والرقباء فكيف لا تحذرون؟ ألم تعلموا أن الدولة لا ينالها من كثرة لغطكم بذكرها إلا مثلما ينالكم من الضغط الأوربي والاضطهاد؟ نعم، إن السلطان يفرح ويسر من خضوعكم له ولهجكم بتمداحه، ولكن هل تشترون فرح شخص وسروره بمصالحكم ومصالح الدولة؟ أقول هذا، وأنا اعتقد أنه لباب النصح الذي يوجبه علينا ديننا وإخلاصنا لأمتنا ودولتنا، ومن بين لنا بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه. وإذا كان القول صوابًا، فعلى إخواننا المسلمين أن يتدبروه، وعلى جرائدهم أن ترجع صداه، والمنتظر من الجرائد الهندية التي تتفضل دائمًا بترجمة مقالات المنار أن تنقله إلى لغتها ليحيط به قراؤها علمًا. أيها الإخوان المصريون، لا يروعنّكم طوفان الاحتلال، ولا تقنطوا من النجاح لاستئثار الأجانب بالوظائف والمناصب وعبثهم بالمصالح والمنافع، فنجاح وطنكم بالزراعة والاقتصاد وحياة أمتكم كلها بالمعارف، وإن الإسلام لينتظر منكم ما لا ينتظر من سواكم، فأنتم أكثر المسلمين بذلاً للدرهم والدينار، وأشدهم منافسة ومباراة في طرق الفخار، تبذلون الألوف والملايين للدنيا وباسم الدين، ولا حاجة للإسلام بعمارة المساجد؛ فإنها تزيد على حاجة المصلين، ولا لإقامة الموالد؛ فإنها من بدع المحدثين، وليس الفخار بالنفقات الواسعة في الأفراح والمآتم والوضائم، ولا ببناء القصور و (الأحواش) على القبور. وإنما حاجة الإسلام - وفيها الفخار الحقيقي والشرف الصحيح - إلى بناء المدارس، والنفقات الواسعة على تعميم المعارف، لكن لا لأجل خدمة الحكومة، بل لأجل خدمة الأمة، أفلا يوجد فيكم - يا قوم - عاقل فهم هذا ووقف على سر أن تقدم أوربا هو الهبات المالية للعلم فأقدم على العمل لتقدم أمته؟ ! ألا يوجد مسلم يوقن بأن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم لإعلاء كلمته ونصرة دينه فيبذل ماله في سبيل الله؟ ألا يوجد فيكم محب للمحمدة الحقة والمجد المؤثل يعمل عملاً، كهذا يحفظه له التاريخ إلى الأبد. ويكون مفخراً لقومه ما بقي منهم أحد؟ ، بلى، إن الاستعداد لهذه الأعمال متأصل فيكم وأنتم أحق بها وأهلها، ولكن عَدَتْ على الروابط العمومية عُوَّاد، اشتبه بها على الناس سبيل الرشاد، و {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} (يوسف: 51) وبادر إلى العمل أهل الإخلاص والصدق {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 10-11) . أول مَن فتح هذا الباب صاحب السعادة المِفضال عثمان باشا ماهر الذي كان رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية إلى عهد قريب، فإنه وقف منذ سنين 250 فدانًا على الأزهر الشريف، ومنذ أيام ألحق بهذا الوقف أحد عشر فدانًا أخرى ثم وقف بقية أطيانه - وهي 445 فدانًا أو تزيد، يبلغ ريعها في السنة نحو مائة جنيه - على إنشاء مدرسة إسلامية تعلم العلوم الشرعية. والآلية من معقول ومنقول وفروع وأصول. وقام في إثره الفاضل الغيور علي بك فهمي المهندس المقاول الشهير بالبر والإحسان يشرع في عمل عظيم، ألا وهو إنشاء (دار علوم) على نحو دار العلوم التي أنشأها الطيب الذكر والأثر علي باشا مبارك ناظر المعارف المصرية سابقًا (رحمه الله تعالى) على نفقة الحكومة، تعلم فيها العلوم الدينية العالية وجميع الفنون الرياضية والطبيعية التي يتوقف عليها ارتقاء الأمة ومجاراتها الأمم القوية العزيزة وهذه هي الخدمة الكاملة للإسلام الذي بُني على دعائم السعادتين، ووُضع لفوز الآخذ به بالحُسنيين، وستكون تلامذتها من نجباء طلاب العلم في الأزهر، يُختارون بالامتحان، ويوقف عليها وقفًا يبلغ ريعه في السنة أربعة آلاف جنيه، وهذا هو السخاء الحقيقي والكرم الحميد. إذا قام في المصريين عدة رجال مثل هذين الرجلين الكريمين ومثل العالم الفاضل عزتلو علي بك رفاعة (وكيل وزارة المعارف سابقًا) الذي بنى مدرسة في طهطا ووقف عليها ما يكفي لقوامها ودوامها إن شاء الله تعالى، ومثل الفاضل الهمام سيد أحمد بك زعزوع الذي بنى مدرسة للذكور ومدرسة للبنات في بني سويف ووقف عليهما سبعين فدانًا من أحسن أطيانه، فبمثلهم تنهض البلاد وتحيا الأمة، وإذا حييت مصر فلا ريب أن روح الحياة يسري منها إلى جميع العالم الإسلامي. نعم، نعم، إن الحياة في تعميم العلوم الدينية والدنيوية جميعًا لا بكون قاضينا من الآستانة ولا حاجة لنا مع هؤلاء الرجال الأخيار الذين يجودون بالدرهم والدينار إلا إلى معلمين أكْفاء ومدرسين أحياء، يستخدمون الدين والعلم لكشف الغمة ونفخ روح الحياة في جسم الأمة، ولا يخفى على نبيه أن فاقد الشيء لا يعطيه، فإلى هذا نوجه أنظار هؤلاء المؤسسين، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى نحو رتبة ينالها أو حكومة يتقرب إليها فهجرته إلى ما هاجر إليه.

استنهاض همم ـ 4

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (4) هل تفلت من حبالة المسألة الشرقية شعب من شعوب الشرق؟ نعم قد تفلت من أطماع أوروبا وتخلص من نير تغلبها أمة حديثة في نشأتها حكيمة في حَزْمها وتدبرها، وهي أمة اليابان ونهضت نهضة الأسد من عرينه فأماطت غشاوة الجهل عن عينيها، ونزعت رداء الكسل عن منكبيها، وقرنت العلم بالعمل، وجمعت بين الإرادة والسعي في إنجاز المراد وإنقاذه فاقتبست من أوروبا فنونها وآدابها النافعة، وأعرضت عن مَقَاذِرِها ورذائلها الفاضحة، فلم يمض عليها قرن حتى أمر (عظم) أمرها وعظم شأنها وعدت في مصاف الدول العظمى، وسميت بإنكلترا الشرق. وقد أمست دول أوروبا تتوقى ضيرها، وتتوخى خيرها، وتخطب مجاملتها، وتود محالفتها. يكفيك أنها قهرت الصين الضخمة وهي منها بمنزلة الواحد من العشر بل الألف من الصفر (كذا) ولعمري إن الإصبع الواحدة السليمة تقاوي عشرًا من الأصابع المشلولة ولو عززت بالذراعين. وهناك دولة أُخرى من دول الشرق وهي وإن لم تكن كهذه في التمدن وحسن الانتظام واقتباس أساليب الحضارة الأوربية لكنها يوشك أن تأمن على استقلالها وتحافظ على مركزها، وتستبد بإدارة شؤونها الداخلية والخارجية وهي أمة الأحبوش فإن ذلك الشعب تحرشت به دولة إيطاليا وهي دولة متمدنة منظمة وهو شعب فيه توحش وعلى غير نظام، فعاثت في أطراف بلاده، وعبثت بحقوقه السياسية، ولم تبال بحرمته، فصمد إليها وصدمها صدمة زحزحتها عن موقف ثباتها، وكادت تقضي على قوتيها العسكرية والمالية، فانسلت من بلاده، صاغرة انسلال الأفعى من حجر الورل [1] ولما رأت أوروبا منه ذلك وأنست منه الرشد وتوسمت فيه القوة ومنعة الجانب، وأحست بأن في نفسه شيئًا من الشهامة وفي دمه بقية من النخوة والحمية؛ عرفت ذلك له، وحادت عن طريقه، وهابت التعرض له وخلت بينه وبين نفسه؛ حاسبة أن تلك المزايا التي فيه والأخلاق الشريفة التي قامت بنفسه كافية لسوقه إلى المدينة، وحمله على تناول العمران الأوروبي وهصر أفانينه، واقتباس فنونه. وطفقت الدول من يومئذ تتزلف إلى ذلك الشعب وتدلي إليه بالوسائط المختلفة. إنكلترا تمت إليه بالجوار ووحدة المصلحة في دفع غارة المهدويين أعدائها وأعدائه، وصد هجمتهم وفلّ غرارهم وروسيا وفرنسا تمتان إليه بوحدة المذهب، واشتباك الطقوس الكنائسية (كذا) وفائدتها من إمداده وارفاده اتخاذه ظهيرًا لهما على مساورة إنكلترا في ضفاف النيل، ومقاومة نفوذها ثمة. إلا أن في بلاد الأحبوش رؤساء وقوادًا تتكالب على تسنم الرئاسة وأحزابًا سياسية، كل حزب يعضد رأسًا من تلك الرؤوس، ويقوم معه في منازعه العاهل الأكبر (النجاشي) زمام السلطة والأمر. وهذا لا ريب يضعف البلاد قليلاً، ويباعد بين قلوب رجال الشعب ويعده لنمو مكروب الداخلة الأجنبية فيه، ويوقعه تحت أحكام مسألتنا الشرقية، ومن متناولات فروعها، اللَّهم إلا أن يقال: إن الدين مهما تضاءل أثره في أعمال دول أوروبا وضعفت عوامله في أفكار ساستها لا بد أن تكون له في بعض الأحايين صولة على السياسات فيصرف مهابها، وسلطة على القلوب والنفوس؛ فيبعث بعواطفها وأميالها. فالدين الذي شُدَّت أواصر تعاليمه بين الشعب الحبشي والشعوب الإفرنجية وتوثقت وشائج طقوسه بين الكهنة ورجال الإكليروس من القبيلتين جدير بأن يشفع بالأمة الحبشية لدى دول أوروبا ويثير في نفوس تلك الدول عواطف الرأفة والحنان عليها فتمهلها لبينما تهب من الرقدة، وتستأنيها ريثما تستقيم على الطريقة، بل ربما تواطأت الدول على أرفادها ومؤازرتها بالأموال والدثور، وتبرعت بإنشاء مدارس وكليات لتهذيب أبنائها وناشئتها، ومتاحف وكتبخانات لتثقيف عقول طلبتها، وتخريج شبانها كما يصنع بعض الدول لهذه الآونة في أمة اليونان وشعوب البلقان. هل ابتدأ العمل بالمسألة الشرقية ومناجزة أهل الشرق في هذه الأعصر المتأخرة أم كان الشروع قبل ذلك؟ حدثت مناوشات عديدة بين الفريقين في القرون الوسطى كان أمرها سجالاً وأعظم تلك المناوشات وأظهرها أثرًا وأبعدها ذكرًا وأشدها صدى ودويًّا في بطون التواريخ حملتان صادقتان، بل بركانان منفجران، وقد أنجحت إحدى هاتين الحملتين وأخفقت الأخرى. أما الحملة المُنْجحة فهي حملة الشعب الأسبانيولي على عرب الأندلس وإجلائهم عن تلك البلاد بعد رسوخ قدمهم في ترتبها قرابة عشرة قرون. وتلك الحملة وإن تكن دينية النزعة فإن فيها شَوْبًا من النزعات السياسية وعليها مسحة من الحقوق الدولية. وأما الحملة الأخرى التي أخفقت فهي حملة دينية محضة لا شائبة للمنازع الساسية فيها، يدلك على هذا أن الذين حضوا نارها وأثاروا غبارها إنما هم رجال الدين وحزب الكهنوت، وتلك حملة أمم أوروبا على مسلمي فينقية وفلسطين. تداعت شعوب الإفرنج إلى تلك البلاد من كل صوب ونسلوا إليها إرسالاً من كل حَدَبٍ وأغاروا عليها بقضهم وقضيضهم [2] أو شابًّا [3] من أجناس مختلفة وأروم متباينة، حتى أصبحت سواحل البحر المتوسط لذاك العهد كأرض بابل مذ تبلبلت فيها الألسنة، وتفرقت اللغات، وبعد طول مراس وعراك بين تلك الشعوب وأهالي البلاد نكصوا بالخذلان، وباءوا بالخيبة والخسران، ومهما كان من شأن هاتين الحملتين وما حدث فيهما من إراقة الدماء، وإزهاق النفوس؛ فإن بعض حُذًّاق المؤرخين يذهب إلى أن ما حصل في أصقاع الغرب من الانقلاب الفلسفي والسياسي والمذهبي وما أعقب ذلك من الإصلاح العام في سائر الأوضاع والأعمال والشؤون إنما نشأ عن تينك الحملتين ونتج من مخالطة أمم أوروبا للمسلمين، وإشرافهم على مجاري أعمالهم في السياسات وأطوارهم في الإدارات ووقفوا على طرائِقِهم في الصناعة والزراعة، وأساليبهم في الفنون والمعارف فتخيروا من فسائل حضارتهم أجودها وأنضرها وغرسوها في تربة بلادهم وسقوها من عرق جبينهم؛ فنمت وربت وأثمرت من كل زوج بهيج؛ وكأن أهل الغرب قبل أن يُظْعِنوا من رُبوعنا تقصوا كل جراثيم العمران فيها، وتأثروا كل وسائل المدنية التي بين أهليها فسلبوهم (واحرباه) إياها ثم تحملوا واستقلوا بها إلى أوطانهم. أراك تتلع وتتشوف إلى معرفة الأسباب التي قضت بنجاح حملة الأندلس وخيبة حملة فلسطين. الذي مَكَّنَ يد العدو من مسلمي الأندلس إنما هو انغماسهم في الترف، وإكبابهم على الشهوات، وتخاذلهم في الموازرة، وتواكلهم دون النجدة، ومناوأة أولى الأمر بعضهم بعضًا، وتحرش المحاظي، وحاشية القصر بأعمال الإدارة والسياسة، وقيام كل أمير في صقع يدعي الخلافة، ويجاذب الآخر زمام السلطة والرئاسة. وتفرقوا شيعًا فكل مدينة ... فيها أمير المؤمنين ومنبر بل بلغ بهم السفه والخرق إلى أبعد مما استفظعه شاعرنا فإن آخر مدن الأندلس سقوطًا في يد العدو وهي غرناطة كان العدو محدقًا بها من الخارج متكالبًا على نهشها عاملاً في تقويض أسوارها وافتتاحها وإجلاء أهلها. وهل تعلم ماذا يصنع جندها ومقاتلها في داخلها؟ لعلك تسارع وتجيب لا شأن لهم إلا الاستبسال في الدفاع واستفراغ الجهد في حماية الحوزة والاستماتة في صيانة الشرف والحريم، بل يمثل لك الخيال أن سكان هذه المدينة في تلك السويعة شاكيهم وأعزلهم، ذكرهم وأنثاهم، تألبوا على قلب رجل واحد وتراكضوا إلى الأسوار مصلتين سيوفهم مشرعين رماحهم يكادون من شدة تغيظهم وفوران دم النخوة والحمية في عروقهم يلقون بأنفسهم على عدوهم؛ يمضغون لحمه ويرشفون دمه. نعم إن ذلك العمل الشريف لجدير بأن تأتيه شرذمة مقتطعة من إخوانها مختزلة عن سائر بني جنسها منتبذة في ناحية عن أهل ملتها، جدير بأن تأتيه شرذمة أوشكت تغادر معاهد دينها وأضرحة عظمائها وأبطالها ومعالم مدنيّتها وعمرانها لوطء أقدام عدوها، وعبث يده الجائرة؛ جدير بأن تأتيه شرذمة استنزلها الدهر على حكمه ونزع عنها لباس عزها ومجدها وسلبها تراث آبائها وأجدادها، ومكن يد العدوّ من نواصي أوطانها. جدير بأن تأتيه شرذمة هي بقية ملايين من أبطال المسلمين، وغطاريفهم عَمَّروا تلك البلاد وتكونوا من ترابها، واقتبسوا أرواحهم من هوائها، نعم نعم ذلك جدير بهم حق عليهم لو كانوا يفعلون. اسمع - كان العدو يصطدم بأسوار المدينة من خارجها والأهالي داخلها يتخالسون مهجاتهم ويسفكون دمائهم بأيديهم؛ ذلك أنه كان في غرناطة لذلك العهد حزبان، أهل المدينة حزب، وأهل البيازين وهي محلة كبيرة من محلات غرناطة حزب آخر، وقلما يتفق الحزبان على بيعة خليفة واحد، فمن جري ذلك كانت غرناطة لا تخلو من استشراء الفتن [4] واستعار نار الثورات فيها حتى كان ذلك اليوم العصيب الذي أحدق فيه العدو بالمدينة وأخذ يناطح أبراجها فلم يلفتهم ذلك عن المناهدة [5] والمناصاة [6] والمواثبة ولم يكن كافيًا لجمع أهوائهم وتوحيد مشاربهم ريثما يدفعون بصدر العدو عن عقر دارهم [7] فامتشقوا الصفاح وقوموا سمر الرماح، ونشبت بينهم في شوارع غرناطة وساحاتها وأرباضها ملحمة بيعت فيها الأرواح بيع السماح. ماذا أصاب هؤلاء القوم يا رب؟ ما الذي فتَّ في أعضادهم؟ ما الذي طأطأ من أعناقهم؟ ما الذي سلبهم مزايا أجدادهم؟ ما الذي أذال (أهان) نفوسهم وطأمن من أشرافها، ما الذي تلاعب بطبائعها وأوصافها؟ أي شيء طرأ على أرواح أولئك القوم حتى غَيَّرَ تكوينها؟ أي شيء لابسها حتى كاد يمسخها؟ أليست هذه النفوس نفحات منبثقة من نفوس أولئك الفاتحين فما الذي دنسها؟ أليست هذه الأرواح أنوار مقتبسة من أرواح أجدادنا الأولين، فما الذي أطفأها؟ تبارك شأن الله وتنزهت صفاته، حكيم فَطَرَ هذا الكون على سنن ونواميس مطردة فلن تتبدل. عادل وضع لسير هذه الخلائق أحكامًا منتسقة فلن تتخلف. سبحانه ما أجل شأنه. ذلك يا أخي قصص مسلمي الأندلس فكف من عبراتك، ونهنه من زفراتك، وسل الله الحماية من أمثال هذه الغواية. ((يتبع بمقال تالٍ))

الطاعون واتقاؤه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الطاعون واتقاؤه إن الطاعون يعد من الحميات الخبيثة الضعيفة، وأظهر ما يستدل الناس به عليه دبول في الجسد وجمرات على الجلد، ولكن الأطباء يعتمدون اليوم على مكروبه، فمتى وجدوا هذا المكروب في مصاب جزموا بأنه مطعون. وهو يبتدئ عادة كما يبتدئ أكثر الحميات بتعب وضعف في القوى وقشعريرة وغثيان ووجع في الرأس مع دوار وشعور بثقل فوق المعدة ثم يسخن الجلد ويشتد العطش وتخبث رائحة النفس وربما تقيأ العليل قيئًا أسود اللون وربما أصابه رعاف؛ فنزل الدم من أنفه ويغلب الذرب في معدته على القبض ثم لا يمضي على ذلك بضعة أيام حتى تظهر أورام غُدية في العليل تسمى بالدبول ويغلب ظهورها في الرقبة والإبط والأربية وتظهر الجمرات بعدها على أقسام متعددة من الجسد وهذا الطاعون هو المشاهَد في الإسكندرية الآن وهو أقل شرًّا وأخف وطأةً من الطاعون الذي لا تظهر الدبول فيه، لأن الأول يعدي بالملامسة فلا يتفشى ولا يكثر انتشاره، بخلاف الثاني فإنه يعدي بالملامسة وبلا ملامسة، فهو شديد التفشي كثير الانتشار. وقد ثبت قديمًا وحديثًا أن الطاعون يزداد انتشارًا غالبًا في البيوت الواطئة المزدحمة الفاسدة الهواء الحارة الرطبة، حيث تكثر القاذورات والفضلات الحيوانية والنباتية الفاسدة، وأن معظم الذين يصابون به يكونون من الفقراء الذين لا تغتذي أبدانهم بما يكفيها، أو بما يلائمها من الطعام، حتى لقد سمي في بلاد الإنكليز قديمًا بوباء الفقراء. وأما الذين يعتنون بنظافة منازلهم وإطلاق النور والهواء النقي فيها ويعتنون أيضًا بنظافة أبدانهم ويأكلون ما يغذيهم ويقويهم، فقلما يصابَون بالطاعون؛ ولذلك لا يكاد يطعن أحد من الطبقات العليا في الناس إلا نادرًا؛ ولذلك أيضًا زال من أوربا شيئًا فشيئًا بإحكام التدابير الصحية وزيادة النظافة بين الخاصة والعامة، حتى إنه إذا دخل إليها ينقطع منها ولا يتفشى بين أهلها. فأحسن الوسائط لاتقاء السليم شر الطاعون أن يعتني بنظافة جسده وثيابه ومسكنه وكل آنيته وأمتعته ويطلق الهواء والنور في غرفه ويعتني اعتناءً تامًّا بكنفه، فيتعهدها بالنظافة ومزيلات الفساد؛ حتى لا يجد مكروب الطاعون سبيلاً إليه. ومن الحكمة في أيام الطاعون أن لا يُشرب ماء إلا بعد إغلائه لقتل الجراثيم التي تكون فيه، ولا يؤكل طعام إلا بعد ما يُقتل كل ما عليه من الجراثيم، إما بالطبخ أو بالسلق أو بالشيّ وما شاكل، ومن الحكمة أيضًا الابتعاد عن جميع الذين يتكاسلون عن تنظيف أبدانهم وأثوابهم ومنازلهم. هذا في ما يختص بالسليم، وأما إذا أصيب أحد بالأعراض التي ذكرناها فأحسن ما يفعله محبوه لخيره أن يخبروا رجال الصحة حالاً بأمره ولا يخفوا خبره؛ لأن رجال الصحة لا يفعلون شيئًا إلا ما يكون فعله واجبًا لشفاء المصاب ووقاية الذين حوله، وفي خلال ذلك يقفل المنزل الذي يكون فيه ويمنع الناس من الدخول إليه ومن الخروج منه حتى يأتي رجال الصحة ويطهروا ما يطهرون ويشيروا بما يشيرون. ومن أعظم الضرر أن يخالط الأصحاء المطعونين؛ فلذلك تجتنب هذه المخالطة إلا حيث تجب وجوبًا لتمريض المطعونين والاعتناء بصحتهم وحينئذ يجب على الممرضين أن يعتنوا أتم الاعتناء بالنظافة ويكثروا من غسل الأيدي ويجتنبوا نفس المطعونين ومبرزاتهم على قدر الإمكان ويحذروا من التعب وكثرة السهر؛ لئلا يضعفوا فيتعرضوا للخطر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المقطم

كتاب تحرير المرأة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب تحرير المرأة أهدانا صديقنا الفاضل محمد أفندي كامل صاحب مكتبة الترقي نسخة من كتاب (تحرير المرأة) الذي ألفه حديثًا العالم الفاضل والقانوني المحقق عزتلو قاسم بك أمين المستشار في محكمة الاستئناف الأهلية وقد عهد إلينا المؤلف بانتقاد الكتاب؛ ولذلك أرجأنا الكلام عليه إلى أن نُتم مطالعته وهو مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد كما يليق به، وثمنه عشرة قروش ويطلب (من) مطبعة الترقي.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مشروع المحكمة الشرعية) قد أشرنا في كلام سابق إلى مشروع المحكمة الشرعية الذي قامت له قيامة الجرائد وقد قُضي الأمر وصدر الأمر العالي بالمشروع، وقد انتدبت الحكومة أولاً للمحكمة الشرعية الأستاذ الكامل الشيخ محمد عبده والفاضل عِزَّتْلُو سعد بك زغلول من قضاة الاستئناف الأهلي فلم يقبلا، فانتدبت بعد ذلك عزتلو أحمد بك عفيفي وعزتلو يوسف بك شوقي فقبِلا وصدر الأمر العالي بتعيينهما عضوين في المحكمة الشرعية العليا. ومن حجة المنتقدين على الحكومة أن هذين القاضيين لم يدرسا الفقه الإسلامي، فكيف يكون الإصلاح بمشاركتهما لأهل المحكمة في عملها وهو الحكم والإفتاء الشرعيين، وقد رفض صاحب السماحة قاضي مصر المشروع قطعيًّا فعزمت الحكومة على عزله وتعيين قاضٍ بدله من علماء مصر والموعد هذا النهار؛ حيث يلتئم مجلس النظار تحت رئاسة الجناب الخديوي في الإسكندرية. وقد كثر القيل والقال وظهر لجماهير المصريين أن تولية قاضي مصر من حقوق السلطان الأعظم، لا من حقوق الجناب الخديوي ومما يلهج به الناس الآن أن أحكام المحكمة لا تنفذ ولا تكون صحيحة شرعًا إذا كانت تولية القضاء من قبل الجناب الخديوي، وهذا القول غير صحيح، وربما نوضحه في الجزء الآتي بالأدلة إذا قُضي الأمر. صدرت الإرادة السَّنِية بأن يلتزم منتخبو القرعة العسكرية الحق والعدل، وهذه الإرادة يكون أثرها كأثر الإرادات التي صدرت بمعناها لسائر الولاة والحكام، ولا شك أن مولانا السلطان الأعظم - وفقه الله تعالى - يعلم أن الطفل لا يتربى بالكلام فكيف يترك الولاة والحكام - الذين أضلهم الله على علم - الظلم وهم يأتونه متعمدين، وإنما التربية النافعة تكون بالمعاملة وقد ضجت السماء والأرض بالشكوى من والي بيروت فلم يعزل ويناقش الحساب على عمله. *** انعقد مؤتمر السلام في مدينة لاهي (عاصمة هولندا) وسنذكر ما يتفق عليه الرأي وفي وقته ملخصًا. ترسل جمعيات الأرمن في مكدونية ومصر وسائر البقاع رسائل الاستغاثة إلى مؤتمر السلام لأجل استقلال بلادهم، فهكذا كل الشعوب تحيا والعرب، بل والترك يموتون وتذهب بلادهم من أيديهم مملكة بعد مملكة. يؤخذ من جرائد أوروبا أن الفتنة في اليمن قد استفحل أمرها وظهر الثوار على عبد الله باشا، فمتى - يا رب - يهتدي حُكامنا للعدل الذي تسكن به العباد وتسعد البلاد. *** أمر الباب العالي سفيريه في لندن وباريس أن يعترضا كتابةً على وفاق النيل الذي أبرمته إنكلترا وفرنسا؛ لأنه مجحف بحقوقه وراء طرابلس الغرب وقد امتثلا الأمر ولكن الدول القوية لا تبالي بقول مَن لا يستطيع أن يفعل، لا سيما بالنسبة للأمور التي انتهت، وليس الإجحاف واقعًا وراء طرابلس فحسب، بل في كل مكان، فحسبنا الله، على أن الله لا يرضى بالحسبلة والاتكال مع الإهمال وترك الأعمال.

استنهاض همم ـ 5

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (5) ولنعد بك إلى الحملة الصليبية وذكر السبب الذي كان عاملاً في إخفاقها: قيض الله للإسلام في ذلك العهد رجلين نبيلين أو وليين مقربين بل مَلَكين سماويين - هبطا إلى العوالم السفلية وتجلببا بجلباب البشرية وسُميا بنور الدين وصلاح الدين، يقولون: لكل اسم من مسماه نصيب. وما أظهر انطباق قولهم هذا على الرجلين. فلقد كان الأول نورًا انسلخت بأشعته ظلمات الظلم واستبان بوميضه مهيع العدالة والحكم وكان الثاني صلاحًا لأمته وعماد وجودها وملاك راحتها وقوام سعادتها. لم يكُ الرجلان من صميم العرب ولا من سروات عدنان ولا من بيوتات قريش ولا من معادن الخلافة، فإن أحدهما تركي والآخر كردي، لكنهما وصلا في استجماع المزايا الإنسانية واستتمام الكمالات البشرية إلى مرتبة هي أقصى ما يُتاح لغير الأنبياء والمرسلين، وبلغا من التزام حدود الشرع والاستمساك بعروة الدين وانتهاج منهج السلف الصالح مبلغًا لم يبلغه - بعد الخلفاء الراشدين -أحد غيرهما. هذا ما حمل بعض نقاد المؤرخين على إدماجهما في مصاف الخلفاء الراشدين وطي اسمهما في سجل أسمائهم. وحق ما فعل. دين وعلم وعفة ونجدة ونخوة وبسالة وحزم ودهاء وبصارة وحماية وزهادة ورأفة وتواضع، وهل يعوز الخلافة الراشدة غير هذه الخلال؟ أليس نور الدين هو الذي كان يتبحث عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ويتقصى شؤونه كلها؛ ليقتدي بها ويهتدي بهدْيها؟ أليس هو الذي كان يخاطر بنفسه في الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، فقال له بعض عظماء دولته: الله الله في نفسك يا مولاي، ارفق بها ولا تعرض المسلمين بعدها للخطر، فغضب من مقالته وقال: (مَن يكون محمود - يعني نفسه - حتى تتوقف سلامة المسلمين عليه إن للمسلمين ربًّا يتولى حفظهم وكلاءتهم) ، الله أكبر هذا القول من نور الدين جدير بأن يُتَّخذ قانونًا في معاملة الملوك لأممهم، فلا يرون لأنفسهم عليهم فضلاً ولا منة، فضلاً عن استدراجهم في العبودية وامتهانهم بسلب إرادتهم واختيارهم وإماتة نفوسهم وهضم حقوقهم وحرمانهم من واجباتهم بل إنزالهم منزلة البهائم تغدو وتروح في حاجات أصحابها، ولا ينالها من سعيها إلا بعض العلف يلهو به كرشها. أما صلاح الدين فكان آية من آيات الإسلام في القرون الوسطى. كان جامعًا بين شهامة الملوك وعظمة السلاطين وبين دعة الزهاد وسكينة النساك، وشؤونه في إدارة بلاده الداخلية وفي سياستها الخارجية، وأعماله في إبان السلم وأوقات الحرب، ومعاملته للعدو في كلتا الحالتين - كل ذلك لو دوِّن كان خير نظام للدول وأحسن قانون تحذو على مثاله الشعوب والأمم. لو عرضت وقائع هذا البطل وأعماله وأطواره وأقواله على ما اخترعته أوروبا ودعته حقوق الدول - لكانت منطبقة عليه، بل ربما كانت على وضع أقرب إلى طبائع الناس وأضمن لمصالحهم وأوفق لنواميس الاجتماع البشري وأكفل لانتظامه. وقد كان - رحمه الله - كريم الأخلاق طيب النفس واقفًا عند حدود الشرع مع معاهديه وأهل ذمته، يبذل لهم في حالة السلم والهدون من العدل والمساواة بينهم وبين غيرهم والرحمة والرفق بهم وحسن المعاشرة والمجاملة معهم ما لا يطمعون به إبان الحرب وساعة الطعن والضرب، ويريهم بعد انسلاخ الهدنة ومُضي مدة العهد من الصلابة والحمس الديني والشدة والغلظة ما لا يتخيلونه فيه وقت السلم ولا يستشعرونه منه في سُويعات الأُنس والمباسطة. بينما هو نور بسيط يبهج النفس ويلذ المشاعر في وقت السلم إذا هو في الحرب شرارة كهربائية وصاعقة جوية تقتنص الآجال. وتدك راسيات الجبال. نسيم لطيف ينعش الحواس ويفرح القلب، فما أسرع ما يتحول إلى إعصار فيه نار ينسف الأبراج والحصون وينزل بمن لحقه ريب المنون ماء زُلال سائغ للشاربين، حتى إذا استصرخته الحرب عاد سيلاً أتيًّا (غريبًا) يقتلع ما يمر عليه ويجرف ما اعترض في سبيله. هكذا فليكن الرجل المسلم، هكذا أُمرنا أن نكون. هكذا كان شأن الأمة في الصدر الأول. محاسنة ملائكية في وقت السلم، مخاشنة غضنفرية في وقت الحرب. بهذا امتد رواق الدين على رؤوس الأمم. بهذا خضعت الرقاب لتعاليم الإسلام. بهذا تقبَّلت الناس دين الله ودخلوا فيه أفواجًا أفواجًا. وكان صلاح الدين نور الله مرقده غيورًا على مصالح أمته ولوعًا برفع شأنها مقبلاً بشراشره (بكُليته) على حمايتها والذود عنها، ألا تعيرني إصغاءك وتسمع من نجدة هذا الرجل وبُعد همته وكبر نفسه ما يُحدث لك عجبًا وتهتز نفسك له طربًا؟ لما كانت تضع الحرب العَوان أوزارها بين المسلمين والصليبيين ويتهادن الطائفتان ويتحاجز العسكران - كان صلاح الدين يأذن لجنوده وأبطاله أن ينقلبوا إلى منازلهم ويقضوا لباناتهم من لقيا أهليهم ومناغاة أطفالهم، وما تظنه فاعلاً هو؟ ! ما كان يناغي ويباغم [1] ويلهو وينادم، بل كان يعمد إلى هضبة مشرفة على حدود العدو فينصب عليها خيمته ويرتبط بجانبها فرسه ويركز على بابها رمحه ويعلق فيها شكته [2] ويرفع فوقها رايته، ويلبث هناك في نفر من مماليكه وبطانته طول مدة الهدون والمتاركة، تتلاعب بخيمته الرياح المتناوحة. وتهطل عليه السحب الغادية الرائحة. كل ذلك ليكون متبوَّؤه بمثابة مسلحة [3] للمسلمين تدرأ عنهم الطوارئ. وهو فيها كربيئة [4] وعين تحرسهم من العدو المفاجئ. يا سبحان الله! ما أشد كلف هذا الرجل ببذل ما وجب عليه. وما أنشطه للقيام بحماية ما أُسند من أمر الأمة إليه. أما والله لو كان في الإسلام منقبة فوق الخلافة الراشدة لوجبت لهذا البطل وكان أحق بها وأهلها. لِمَ نضنّ على الرجل بهذه المفخرة الجليلة وهو قد سعى إليها سعيها؟ لِمَ لا نشيد بذكره وننوه باسمه على تعاقب الأيام والسنين؟ لم لا يحفظ لنا تاريخنا شأنه ويوفيه حقه من الإطراء والثناء والشكر؟ وحق الإنصاف لو كان هذا البطل في أمة اليونان القديمة لجذبوا بضبعه إلى مصاف الآلهة وبوّءوا تمثاله أرفع مكان في (بانتيون) [5] . أستغفر الله، إن هذا الإغراق في القول والتنطع في الوصف والتفنن في الألقاب إنما بعثه في نفوسنا وهاجه في خواطرنا وحرك به ألسنتنا وأقلامنا ما نراه لهذا العهد في أمراء المسلمين وملوكهم من التفريط في شؤون أممهم والتواكل في العمل للمّ شعثهم، وإلا فالرجل لم يأتِ ببدع ولم يعمل عجبًا ولم يفعل ما فعل عن تبرع وتطوع، ولم يلزم نفسه بمزاولة ما وراء المطلوب منه، ولم يكلفها بغير ما تتقاضاه الذمة إياه، فهو إنما أتى بالواجب عليه لأمته وقضى حقًّا لها وقام بما تستوجبه بيعتها؛ فإن للأمة على خليفتها حقوقًا وواجبات كما له عليها طاقة وإتاوات. وهذا لم يكن بالشيء المجهول بين أهل الإسلام حتى عند عجائزهم. ألم يبلغك قصة تلك العجوز مع الخليفة الثاني؟ حكي أن عمر رضي الله عنه كان يعسّ حول المدينة فمر في تطوافه على خباء سمع فيه دندنة فتسمّع فإذا بعجوز في صبية يتضاغَوْن (يتصايحون) من الجوع وهي تلهيهم وتعللهم بقدر وضعتها على النار وجعلت فيها ماءً وألقت فيه حصيات، فجعل الأولاد كلما سمعوا أزيز القدر هدءوا وهوَّموا فلامها عمر وقال: لِمَ لَمْ تأتِ الخليفة وتأخذي من بيت مال المسلمين ما به كفايتك وكفاية أطفالك؟ فرفعت إليه بصرها وقالت له - كالمتعجبة-: على أي شيء بايعناه إذا لم يتفقد حاجتنا ويتعهد ذوي الفاقة منا، بما يسد عوزهم، ثم ذهب عمر إلى بيت المال واحتمل لهم بنفسه طعامًا وطلب من العجوز أن تجعله في حل من هذه التبعة وكتب بذلك (قطًّا) أوصاهم أن يدسوه في مَطاوي أكفانه. كل ذلك منه خشية أن يلقى الله وفي الأمة التي بايعته عجوز تدعي أنه لم يفِ بحقوق البيعة. هذه هي الخلافة في الإسلام. هذه هي واجبات الخلافة المقدسة. هذا هو الخليفة الذي يخشى أن تلحقه تبعة ولو من إحدى عجائز رعيته. هذه هي الأمة التي تطالب بحقوقها. هذه هي الأمة التي خالط حب الحرية لحمها ودمها. هذه هي الأمة التي يعرف كل فرد من أفرادها حتى العجائز، ما هو له وعليه. بهذه المبادئ الشريفة سادت تلك الأمة على مَن ناوأها. بهذه المبادئ الشريفة غمرت آداب تلك الأمة وتعاليمها سائر الآداب والتعاليم. لا ريب أن الذكي الألمعي قد فهم مما ذكرناه عن نور الدين وصلاح الدين أن البلاد الشامية لعهدهما كان فيها روح يمكنها به صد غارات الحملة الصليبية وفلّ غربها، لكن بقي من شؤون تلك البلاد حينئذ شأن هو منها بمنزلة الأعصاب من الجسم الحيواني، أو نسبة الشؤون إلى ذلك الشأن نسبة العين إلى بؤبئها الذي تجتمع فيه الأشعة ويتوحد متعددها فتبصر العين المرئيات. ذلك الشأن هو الوفاق والوحدة ليس ذلك بين الملكين المذكورين فقط، بل بين لفيف الأمراء والقواد والأبطال ومساعر هاتيك الحروب. ومما يسر السامع ويزيد من ثلجه واستبشاره أنه لم يكن تجاه الحملة الصليبية خليفتان كخليفتي غرناطة المشؤومة بل كانت الزعامة الكبرى والسلطة العظمى في يد نور الدين والكل خاضعون له عارفون حقه واقفون أنفسَهم على شد أزره وموازرته حتى إذا استأثر الله به وزفت الملائكة روحه المباركة إلى حيث تسرح أرواح المقربين، قام بعده بالأمر صلاح الدين خير قيام وساور وحده جميع ملوك الإفرنج ومارس أقيالهم وعلوجهم ودافع عن الوطن دفاعًا قانونيًّا عرفه له الغربيون قبل الشرقيين، ولم تزل تلهج به ألسنة الإفرنج على اختلاف اللغة والدين. اتفاق أمراء الشرق حينئذ والتئام أهوائهم هو الذي سدد سهامهم في نحر العدو ومكن عواليهم من مقاتله. نظروا - رحمهم الله - في سَوْرة تلك الحملة وشدة بأسها وطغيان مدها وحدة تذمرها (تغيظها) ، فقابلوها من بأسهم بأشد، ومن طغيان هممهم وحدتها بأطغى وأحدّ. علموا أن مغبة التفريط في صدها وخيمة، وعاقبة التخاذل عن تلافيها مشؤومة فتآمروا وتذامروا [6] وأرهفوا أشفار العزائم ووطنوا النفوس على استعذاب الموت الكريم أو تسترد عليهم بلادهم ويخلص إليهم استقلالهم. لا جرم أنهم لو قصروا حينئذ في مدافعة العدو عن هذه البلاد وتقاعدوا عن تحريرها من استرقاقه وانتياشها من فخ سلطته لما علم أحد غير الله ماذا كانت حالة الشعوب الإسلامية الآن، ليست الشعوب المتوطنة في فينيقية وفلسطين فقط، بل كل الشعوب المنتشرة على سواحل البحر المتوسط وسوريا وبين النهرين وجزيرة العرب؛ فإن ثمانية قرون كفاية لضعضعة دين ومحو تعاليم وتغيير لغات وتبديل عادات. فالذي حفظ علينا ديننا وتعليمنا ولغتنا وعادتنا منذ ثمانية قرون إلى الآن - هو تلك الشرذمة التي كان يقودها البطل صلاح الدين. تلك الشرذمة العربية التي اصطدمت بتلك الزحوف الأعجمية؛ فأركستها وجعلت عاليها سافلها وأبلت في مصابرتها بلاءً حسنًا، تلك الشرذمة التي تقحَّمت ذلك البحر الخضم وعرضت نفسها للهلك فيه أو تنتشل من لججه الإسلام ومَن يَدين به إلى أبد الأبيد؛ خشية امِّحائه من لوح الوجود وتجلجله في أعماق العدم، حيث تختلط نغيته بزمزمة [7] مادي وآشور وبابل والكلدان والرومان، تلك الشرذمة التي اعترضت ذلك السيل المتحدر بغية وقايتنا - نحن الذين أدركتنا أوائل هذا السيل ولما نتفق بعدُ على كيفية سكره [8] أو تحويله عن دراجه [9] . واعجبًا! شرذمة تفعل ما لا تقدر مئات من الملايين أن تفعله لا جرم، أما أن تكون هذه الشرذمة ارتقت من أفق الإنسانية إلى عالم سماوي أعلى، أو تكون الملاي

التربية النفسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التربية النفسية تدور التربية النفسية على قطبي الترغيب والترهيب؛ إذ هي عبارة عن الحث على الفضائل والكمالات والتنفير عن الرذائل والنقائص، فالترغيب يحدث الرجاء والأمل بالمثوبة وحسن الجزاء على العمل الصالح، والترهيب يورث الخوف والرهبة من العقوبة. ووقوع البلاء على العمل القبيح. والخوف والرجاء هما الجناحان اللذان يطير بهما المؤمن في جو السعادة الدنيوية حتى ينتهي إلى مقعد الصدق في جوار الحق. الترغيب حليف اللين، والرأفة والترهيب قرين الشدة والغلظة، ولكل من الأمرين موضع يليق به ووقت لا يصلح فيه سواه. ووضع الندى في موضع السيف في العلى مضر كوضع السيف في موضع الندى وقد بحث علماء التهذيب في مسألة تغليب الخوف على الرجاء وعكسه وليس هذا موضع بيان ذلك، وإنما نقول هنا: إن تربية الأطفال يُختار فيها اللين على القسوة ويغلب الترغيب على الترهيب. خلافًا لجماهير الشرقيين الذين لا يفهمون من تربية الطفل إلا شفاء الغيظ بنهره وسبه وإهانته وضربه كلما عمل عملاً لا يرضى به أبواه أو أستاذه أو غيرهما من الأولياء والقُوَّام. وجدير بمن يسلك هذا المسلك في تربية أولاده أن يعتقد أن التربية لا تنفع ولكن قد تضر؛ لأن هذه المعاملة - معاملة الغلظة والإهانة - تُفسد الأخلاق وتسيء الأعمال. ولا أذم هذا لأنني أستحسن ما يقابله عند الأغنياء والمترفين من قومنا الذين يرخون لأولادهم العنان ويتركونهم لطبيعتهم يتمتعون بأهوائهم ويسمونهم (مدلَّلين) . كلا، إن هذا شر من ذاك وليس هو مرادنا باللين الممدوح. وكيف نجعل هذا الإهمال من التربية والعامة أنفسهم لا يسمونه تربية، أمَا تسمعهم يقولون: (فلان مدلل لم يتربَّ) ! وهذا القول صحيح وإن كان مبنيًّا على فاسد وهو أن التربية هي الإهانة والغلظة في المعاملة كما علمت تفريط وإفراط، والحق في الاعتدال وهو المطلوب في كل حال. أما مضرة الغلظة والخشونة وآثارهما فهي من وجوه كثيرة، وإننا نمثل لك بعضها تمثيلاً. إذا كنت تهين ولدك وتشتمه عند صدور الذنب منه لأجل أن يكف عنه ولا يعود إليه - فلا شك أنك تطبع في نفسه بذلك رذائل كثيرة تتولد منها ذنوب لا تُحصى، كل واحد منها ربما تزيد مضرته على مضرة الذنب الذي كان سبب الإهانة، وإذا كان الذنب الذي أُهين من أجله مما يتولد من تلك الرذائل فيزداد رسوخًا ويقوي الملكة؛ لأن الأعمال حسنها وقبيحها تطبع الملكات في النفوس، وقلما تكون الإهانة - لا سيما القولية - سببًا لترك الذنب وكثيرًا ما تكون مغرية به وباعثة للإصرار عليه. وإنما يحال بين الوليد وبين الأفعال الذميمة التي يكون معرضًا لاقترافها بقطع أسبابها عليه، من حيث لا يدري كما سنوضحه فيما بعد.

الشعر العصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشعر العصري أبيت ومن نفسي لنفسي لائم ... يخاصمني طورًا وطورًا أخاصم تجردت من نفسي فأبصرت أنها ... سواي ولي منها سمير ينادم فأشكو له بثي وحزني وتارة ... يبث لي الشكوى وما هو ناقم يخاطبني أربع على ظلمك [1] الذي ... تريد محال عن ما أنت رائم وقال ألم تدرِ بأنك عائل ... بمظهر مثر والمجالي حواكم وإن ما في نفع أمته غدًا ... مرومًا به ما لا تطيق الروائم [2] فقلت له هيهات ما أنا يائس ... ولو أن لي هذا الزمان مقاوم فقد خاب من هاب العوادي وإنما ... (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) فقال اتل لا تلقوا فبسملت قارئًا ... ولا تيأسوا من روحه فهو راحم كذلك شأني في الدجى طول ليلتي ... أراني في لوم وما ثَم لائم وأرضك [3] للتسهيد والنوم أعيني ... فلا أنا يقظان ولا أنا نائم وكيف يذوق النوم ولهان قرحت ... محاجر عينيه الدموع السواحم له من جيوش الفكر كل ليلة ... وقائع يصلَى نارها وملاحم أبيت على ذا كله وعواذلي ... على سُرُر فوق الحشايا نوائم رجال بهم طبع الأنوثة سائد ... فلم تغنِ عنهن اللحى والعمائم يريهم قصور العقل أن الظهور في ... عوالي قصور للظهور قواصم وإن بتقليد الأوربي عزهم ... وما هو إلا ذلة ومآثم وأعرق كل الناس بالنقص مقهل [4] ... تكلف أن تجبى إليه الذمائم سعادته أن لا يزال ممتعًا ... بما فضلته في جناه البهائم وأُشرِب حب المال في قلبه فلا ... تراه يبالي كيف تأتي الدراهم يبيع بها الأوطان والدين يشتري ... بها وصل حب أغيد الجيد باسم وضل على علم به فإلهه ... هواه وتلك الواجبات المحارم لئن هام في حب الحسان فإنني ... بحب جمال الدين لا الجسم هائم حكيم بأفق الشرق لاح فأشرقت ... بأنواره تلك في الغرب تلك المعالم وطاف بقاع الأرض طائر صيته ... فنعمت خوافي ريشه والقوادم وجاء لدين الله بالحق حجة ... تقصر في البرهان عنها الصوارم دنت منه أفنان الفنون يوانعًا ... فنال جنى جناتها وهو ناعم أحاذر أن آتيه بعض حقوقه ... فتفطن بي عذّالنا واللوائم ولست أسمي عذّلي في تعلقي ... بأسباب حبيه لما أنت عالم (ومنها) وأزلف من غير ازدلاف ولم تكن ... دواعي ترقيه رقى وطلاسم ولكن سجايا قد سمت ومعارف ... بها هتفت في الخافقين العوالم عفاف وعدل حكمة وشجاعة ... فهل بعد هاته في السجايا كرائم فإن زاحم الشاني علاه بمظهر ... فثم مزايا أعجزت من يزاحم وما اشتبها في مظهر بل تشابها ... كما شابهت بعض الذباب التوائم [5] فهل يتساوى بالمراد المريد أم ... تفاخر أملاك السماء البهائم وبالضيف يسوى واغل متطفل ... لأن كِلا الشخصين حاس وطاعم فهيهات ما البدء السري كمقنس ... دَعِي وذو جهل كمَن هو عالم [6] ورُب حسود راح ينكر بعض ما ... خصصت به والله للفضل قاسم لقد قرعت آي انفرادك في الورى ... مسامعه لكنه يتصامم وباح لعينيه الوجود بسرها ... ولكن تعامى وانثنى وهو كاتم يصانعه بالمدح قوم تَقِيَّة ... ولا حجة فيما يقول المآثم [7] إذا ما دُعي رب الفصاحة والندى ... فبأقلهم قس وما در حاتم ومن طمست بالعجب عين فؤاده ... فليس له من أمر ربك عاصم فيا أيها الحبر الذي لطف طبعه ... كروض أريض باكرته النسائم ويا أوحدًا في حبه لست أوحدًا ... فثم الأثابي جمة والتوائم [8] ومن فصلت من عالم القدوس روحه ... ونِيطت بجثمان له الأم فاطم نفخت بجسم الشرق روح تنبه ... وقد كاد يقضي وهو بالجهل نائم فهبَّ بَنوه للمعالي وحاولوا ... نهوضًا فحالت دون ذاك الصواكم [9] فأوضحت أعلام السلوك وإنما ... بآفاقهم غيم الونى متراكم غزلت ولم ينسج سواك دقيق ما ... غزلت ولم تكسر لديك المبارم [10] وأبديت من سحر البيان عجائبًا ... هي العروة الوثقى لمَن هو حازم ولو أن أعمال الإدارة قارنت ... إرادتكم ما قاربتها المآزم ولكن أباها الحاكمون فكارِه ... لها جاهل أو مُكرَه وهو عالم يدليه شيطان العدا بغروره ... وللوهم سلطان على النفس حاكم فأواه من دهر يقدم معشرًا ... مغانم هذا الشرق فيهم مغارم (ولها بقية)

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع عدد 36 من السنة الأولى) (دَيْن تركيا) : جرت بين تركيا ودائنيها مخابرات على خطة من الصدق ارتاحت إليها أنفس هؤلاء فأحلوها محلها من القبول وسارت من على نمط من الحنق عجيب يشاكل المعجزة في خواصها فأفضت إلى حل مسألة الدين في 20 ديسمبر سنة 1881. وكان كل الدين قد بلغ في ذلك الوقت 254292000 جنيه إنكليزي؛ لأن القروض التي حصلت في عهد السلاطين السالفة من سنة 1858 إلى سنة 1875 وفي ضمنها قرض السهام التركية ذات الفائض وهو رأس مال إيراده السنوي 14000 فرنك عن كل كيلو متر من السكك الحديدية التي تنشأ في تركيا تضمنه سكة حديد الرومللي كل هذه القروض مجموعها يبلغ 218436540 جنيهًا إنكليزيًّا وكان الذي دفع من هذا المبلغ إلى وقت تأخر تركيا عن دفع أقساط الدين (الكوبون) هو 25947825 جنيهًا إنكليزيًّا فنقص بذلك الدين إلى 192488715 جنيهًا إنكليزيًّا، لكن بسبب زيادة مبلغ 61803915 جنيهًا وهو متأخرات الفوائد المستحقة من شهر سبتمبر سنة 1875 قد وصل مجموع الدين العمومي في 20 ديسمبر سنة 1881 إلى المبلغ السائب ذكره أي: 254292000 جنيه. يجب أن يضاف إلى هذا المبلغ هذه المبالغ الأخرى وهي: أولاً: مبلغ 8590000 جنيه مجيدي وهو مجموع مبالغ اقترضت من مصارف غلطة قبل حلول سنة 1880 سدًّا لحاجات الخزينة وذلك الفرع من الدين قد تنازلت بسببه حكومة تركيا لدائنيها بمقتضى الاتفاق المبرم في 22 نوفمبر - عن إيرادات الِملْح والتبغ و (المشروبات الروحية) وطوابع البوستة والحرير والأسماك. ثانيًا: الغرامة الحربية المستحقة لروسيا بمقتضى معاهدة الصلح وهي تقرب من مبلغ 802500000 فرنك. ثالثًا: التعويض المستحق للتجار الروسيين بسبب خسائر الحرب من سنة 1877 إلى سنة 1878. لم يكن الغرض من الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة 1881 التعويض لما كان يتوقع أن يكون لروسيا قبل تركيا من المطالب؛ فإن معاهدة برلين قد كفت المتفقين مؤنة البحث في ذلك؛ إذ نص فيها صريحًا على أن هذه المطالب يقوم بأدائها حاملو السندات التركية وإنما كان القصد من الاتفاق المذكور حينئذ مجرد البحث في مسألة الدين العمومي. بني هذا الاتفاق على أمرين؛ أحدهما: الحقيقي، وهو مجموع القروض التي حصلت في سنين 1858 و 1860 و 1862 و1863 و 1865 و 1867 و 1872 و1875 والثاني: الأسهم التركية، وقُسم الدين الحقيقي هكذا: أولاً: مبلغ 176756510 جنيهات إنكليزية وهو مجموع القروض الثمانية المذكورة، استنزل منها مبلغ 18932060 جنيهًا إنكليزيًّا هو مجموع تسديدات (استهلاكات) مختلفة حصلت إلى وقت كف تركيا عن دفع أقساط الدين واستنزل منه بعد ذلك أيضًا مبلغ 8668450 جنيهًا إنكليزيًّا، كان إذ ذاك في الخزينة فانحط بذلك رأس المال المقترض إلى 159156000 جنيه إنكليزي. ثانيًا: مبلغ 1829685 أصدرت به سندات وقتية تدعى سندات رمضان بمقتضى إرادة سنية صدرت في 6 أكتوبر سنة 1875 الموافق 6 رمضان سنة 1292 من أجل سداد المبلغ المستحق في سبتمبر سنة 1875 وهذه السندات تعطي لحاملها الحق في نصف الربح ونصف المبلغ المستهلك من الدين بسببها. هذا المجموع العام هو مبلغ 160985688 جنيهًا إنكليزيًّا قد نقص إلى مبلغ 92225827 جنيهًا إنكليزيًّا ومنشأ هذا النقص حط الدائنين لتركيا من رأس المال الأصلي 71. 42 في المائة وهذا المبلغ كان يعطي فائدة سنوية قدرها 1 في المائة وكان في حالة من شأنه فيها أن يزيد ربحه تدريجًا تبعًا للظروف إلى 4 في المائة. أما الأسهم التركية فقد جزئت إلى 1980000 سهم قيمة كل منها 400 فرنك وربحه السنوي 3 في المائة تسدد (تستهلك) في 104 سنين بست سحبات سنوية تحصل في أول فبراير وإبريل ويونيه وأغسطس وأكتوبر وديسمبر من كل سنة. والذي استهلك منها حتى أول أكتوبر سنة 1875 هو 11000 سهم من ذات الأربعمائة فرنك أي: 4440000 أو 177600 جنيه إنكليزي وبقي منها في أيدي حامليها ما قيمته 31512400 جنيه إنكليزي وقد نقصت قيمة كل سهم من هذه السهام بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر سنة 1881 - 09. 45 في المائة فصار ثمن السهم على صورته الجديدة 180 فرنكًا و36 سنتيمًا، وحدد رأس مال السهام التركية الجديدة بمبلغ 14211406 جنيهات إنكليزية. بلغ عدد السندات التركية ذات الفائض التي أصدرت في خلال المدة الفاصلة بين الأمرين العاليين الصادرين في أكتوبر وديسمبر سنة 1875 وجعل استهلاكها في هذه المدة 15350 سهمًا وهي رأس مال اسمي قدره 28180000 فرنك وقد جعلت تركيا لنفسها في هذه السهام الحق في حطيطة 25 في المائة من الدفعة السنوية المضافة إلى السهام التركية من عهد رجوعها إلى دفع الأقساط والمضافة أيضًا مبلغ العشرين في المائة من قيم السهام ذات الفائض المستهلكة. كفت تركيا عن دفع فائدة السهام ولم يكن عليها أن تعود إلى الدفع حتى يتوفر لديها مبلغ يزيد عن اللازم لسد طلبات السندات ذات الفائض، فإذا توفر هذا المبلغ تكون الفائدة مستحقة الدفع هي وقيم السندات المسحوبة. ولما نقص الدين بهذه الطريقة قد خصصت الحكومة التركية لمصلحته جملة إيرادات تنازلت عنها لدائنيها حتى يتولوا إدارتها بأنفسهم وهذه الإيرادات هي ... (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

مسألة القضاء الحاضرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة القضاء الحاضرة بعد أن جعلنا المنار مجلة أخذنا على نفسنا ألا نناقش الحكومة على أعمالها ولو كانت مخطئة في اعتقادنا وقد ذكرنا مشروع المحكمة الشرعية في الجزء الماضي وكدنا نخرج فيه عن جادتنا الجديدة بسبب تأثير الحالة العامة؛ حيث ذكرنا شيئًا من حُجة المنتقدين على الحكومة مع الإقرار عليها، فقلنا: (وظهر لجماهير المصريين أن تولية قاضي مصر من حقوق السلطان الأعظم لا من حقوق الجناب الخديوي) ولكن مع ذلك قام بعض الناس ينتقد عبارة قلناها في الموضوع تمهيدًا لنصيحة دينية أردنا بيانها بالإيضاح إذا عين سمو الخديوي قاضيًا لمصر. قصاراها أن أحكامه تنفد. وقد نقل المقطم عنا تلك العبارة وهذا ما دفع ببعض الناس إلى انتقادها وزعمهم بأنها تدل على أن للجناب الخديوي أن يولي قاضي مصر؛ ولهذا اضطررنا إلى توضيح المسألة بعض التوضيح (وإن قرر مجلس النظار برئاسة سمو الخديوي في يوم الخميس إبقاء قاضي مصر في منصبه وغضّ النظر عن مشروع انتداب القاضيين من الاستئناف للمحكمة الشرعية العليا) ، فنقول: لو ولى الخديوي القاضي فلا يخلو الحال في الواقع من أن تكون التولية بحق بأن يكون مأذونًا بها من صاحب الحق، والأمر حينئذ ظاهر، أو تكون بالتغلب وحينئذ تنفذ للضرورة، كما كانت الأحكام نافذة في السلطة العثمانية في أفضل أيامها من عهد السلطان عثمان إلى عهد السلطان سليم الذي لُقب بالخليفة، وكما تنفذ أحكام القضاة في هذه العصور ومع عدم استيفائها الشروط المنصوصة. ونقول مع ذلك: إن سمو الخديوي ما دام يعتقد أن السلطان العثماني خليفة المسلمين فلا شك أنه لا يجوز له تولية القضاة إلا إذا علم أنه مأذون منه بها وإذا ولى يكون الإثم عليه، ولكن الأحكام الشرعية لا تتعطل؛ لأن تعطيلها أعظم حرج في الدين وهو مدفوع بنص القرآن.

العز والذل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العز والذل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) . قالت السادة الصوفية إن الإنسان مجمع الحقائق ونسخة صغيرة تمثل العالم الكبير، فروحه من عالم الملكوت الأعلى، وجسمه من عالم الملك الأسفل، وقد خُلق في أحسن تقويم، فكان سيدًا لهذا العالم العظيم، وجعله الله في أرضه خليفة، وكفاك بها منقبة شريفة، استعد بها لتسخير الحيوان لخدمته، وجعل قوى الطبيعة تحت مشيئته بحيث يتصرف بجميع ما على وجه البر، ولا يتعاصى عليه شيء مما في قاع البحر، بل بلغت به قدرته أن طار في الهواء، واستنزل البرق من السماء: وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر إذا رُبي الإنسان على مبدأ كرامة النفس التي منحها إياه مُبدِعه وبارئه تظهر فيه استعداداته وتبرز عنها آثارها علمًا وعملاً؛ حتى يفوز بالسيادة والسلطان. وتتم له الخلافة الإلهية في الأكوان. ولكن اعترض الإنسان في سبيل هذه التربية النافعة التي تهديه إليها الفطرة القويمة استبداد الذين أداروا دولاب مجتمعه بسياسة تغلب العصبية. أو باسم السلطة الروحية الدينية، ولا استغناء له عن هاتين السلطتين؛ لأنهما من لوازم الاجتماع المدني وهو مدني بالطبع. ولقد كان من رحمة الله تعالى بهذا النوع الشريف أن منحه الديانة الإسلامية، التي محت الامتيازات الجنسية، وقيدت بشريعتها السلطتين السياسية والروحية، (كما أوضحنا ذلك من قبل) ووضعت أصل المساواة بين الناس، حتى إن الخليفة الثاني لم يبالِ في سبيل المساواة بردة جبلة بن الأيهم ملك بني غسان وكان قد أسلم هو وقومه ولطم أعرابيًّا في المصاف فأراد عمر أن يقتص منه فأبى وفر مرتدًا إلى النصرانية، وقد علمت ما كان من مساواته بين الإمام علي وبعض آحاد اليهود، فأي عزة لمن يدخل في هذا الدين أعلى من مساواته بالأئمة والملوك؟ وأية نهضة وسيادة تكون أرقى من سيادة أمة يرى كل صعلوك من أهلها أنه يزاحم بالمناكب أصحاب العروش والمواكب؟ فإن قيل: إن هذا إذلال للملوك وإهانة للأئمة، نقول: نعم، إنه كذلك في شريعة الاستبداد وقانون الاستعباد أما في شريعة الحق وقانون العدل فإنه لا ذل ولا هوان في المساواة وإنما الذل في النقصان ولا عز ولا كرامة في الاستعلاء وإنما هو بغي وطغيان. عزة النفس تتبعها الشجاعة والمنعة وعلو الهمة وكلها من خلال الإيمان، ألم تر أن الإمام العادل عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص حين استجازه في انتفاع سلب الجالنوس من زهرة بن حوبة وكان زهرة قد قتله وأخذ سلبه يوم القادسية فانتزعه منه سعد، (تعمد إلي مثل زهرة وقد صَلَى بما صَلَى به [1] وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه [2] وتفسد قلبه) ، وأمضى له عمر سلبه. وقد بيَّن الحكيم الإسلامي ابن خلدون أن معاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم، ذاهبة بالمنعة منهم، ومما قال في هذا: (وأما إذا كانت الأحكام بالعقاب فمذهبة للبأس بالكلية؛ لأن وقوع العقاب به ولم يدافع عن نفسه يُكسبه المذلة التي تكسر من سورة بأسه بلا شك وأما إذا كانت الأحكام تأديبية وتعليمية وأخذت من عهد الصبا أثرت في ذلك بعض الشيء (لمرباه) على المخافة والانقياد فلا يكون مدلاً ببأسه؛ ولهذا نجد المتوحشين من العرب أهل البدو أشد بأسًا ممن تأخذه الأحكام ونجد أيضًا الذين يعانون الأحكام وملكتها من لدن مرباهم في التأديب والتعليم في الصنائع والعلوم والديانات ينقص ذلك من بأسهم كثيرًا ولا يكادون يدفعون عن أنفسهم عادية بوجه من الوجوه. وهذا شأن طلبة العلم المنتحلين للقراءة والأخذ عن المشايخ والأئمة الممارسين للتعليم والتأديب في مجلس الوقار والهيبة فيهم هذه الأحوال وذهابها بالمنعة والبأس. ولا تستنكر ذلك بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسًا؛ لأن الشارع صلوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم لما يُتلى عليهم من الترغيب والترهيب، ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي، إنما هي أحكام الدين وآدابه الملقاة نقلاً يأخذون أنفسهم بها بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق، فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم تخدشها أظفار التأديب والحكم، قال عمر رضي الله عنه: (مَن لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله) ، حرصًا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه ويقينًا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد. ولما تناقص الدين في الناس وأخذوا بالأحكام الوازعة ثم صار الشرع علمًا وصناعةً يؤخذ بالتعليم والتأديب ورجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم، فقد تبين أن الأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة البأس؛ لأن الوازع فيها أجنبي، وأما الشريعة فغير مفسدة؛ لأن الوازع فيها ذاتي) اهـ. أقول: وقد اهتدى إلى هذا أهل الغرب فتلافوا بقدر استطاعتهم ضرر السيطرة والحكم وأقاموا جدار التربية والتعليم على أساس العزة والكرامة والحرية والمساواة وإذا كان هذا هو أثر التأديب والحكم بطبيعته أي وإنْ كان عادلاً فما بالك بمَن يحكمون بالظلم والاستبداد؟ ! لعمرك، إن تأخر الأمم على نسبة الظلم فيها شدةً وضعفًا. ثم إن الديانة الإسلامية مع أن الوازع فيها ذاتي لا يذل النفس ولا يُذهب بالبأس، وقد جعلت عزة النفس وكرامتها من سجايا الدين بشهادة {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ومن أحكام شريعتها أنه لا يجب على مَن فقد ثوبًا يستر به عورته في مصلاه أن يستوهبه أو يستعيره لما في ذلك من المذلة للناس، بل يصلي عاريًا. وليس وراء هذا غاية في حفظ كرامة النفس وعزتها. بهذا ساد الإسلام واستخلف أهله في الأرض، وبدلوا من خوفهم أمنًا، ومن بعد فقرهم وضعفهم غنًى وسلطانًا. وبهذا كان المجتمع الإسلامي لا يحتمل الضيم، فهاج تلك الهيجة الشؤمى على الخليفة الثالث انفعالاً من ظلم عماله وسوء أعمالهم دون أعماله ولم تفتأ قدر الهيجان إلا بعد طل دم تأثرته سيوف مسلولة، ودماء مطلولة، ومن كان يعلم ما خُبئ لهذه الأمة في ضمير الغيب من تحريف التعاليم والانحراف عن الصراط المستقيم؟ انحراف الملوك عن هدي الدين فاستبدوا بالرعية وأذلوها حتى انتكث فتلها، وسحبت مرائرها. وصارت طعمة لكل طاعم، وبلغت المهانة من الأمة التي قتلت عثمان في القرن الأول - خير القرون - أن صارت تقدس الملوك والأمراء الذين يمتصون دماءها ويهتكون أعراضها ويستلبون أموالها حتى من الجهة الدينية. وقد بلغ من أمر بعض سلاطين المسلمين لهذا العهد أن أحد المارقين قال: إن حبي للسلطان أشد من حبي لله تعالى! فأمر له السلطان بخمسمائة جنيه جزاءَ هذا التهور، وسرق مصحف من المكتبة السلطانية ثم وجد وأرجع إليها فكتبت إحدى الجرائد أن المصحف قد رُفع إلى الأعتاب السلطانية، فاستكبر ذلك واستنكره بعض رجال الحاشية وأخبر به السلطان طالبًا منه أن ينهى عنه فانتهره وأهانه ... ولا أُسمي هذا السلطان فهو يعرف نفسه ويعرف له هذه الأعمال الألوف من رعيته، ومع ذلك كله ترمي جماهير المسلمين كل مَن ينسب له ولغيره من ملوكهم أدنى تقصير - بالمروق من الدين، ويعدونه عدوًّا للمسلمين، فأي انحراف عن الإسلام أشد من هذا الانحراف؟ ! وحرف بعض رجال الدين التعاليم، وأزاغوا الأمة عن صراطه فطفقوا ينفثون في أرواح المسلمين سم الذل والمهانة باسم الدين حتى أماتوا هممهم ومحوا من ألواح نفوسهم آيات العزة الإيمانية، والشهامة الإسلامية ولولا أولياء الشيطان وخطباء الفتنة لما قدر الملوك بظلمهم على كسر سورة الحمية الإسلامية؛ لأن المسلمين لا يذلون إلا لسلطان؛ ولذلك خلق علماء السوء الأحاديث الموضوعة في تعظيم السلاطين، وإعلاء شأنهم على جميع العالمين. وسنبين فساد ذلك في وقت آخر. ولا شبهة لوعاظ السوء على أن الذل والمهانة من الدين إلا إدخال ذلك في مفهوم التواضع جهلاً وغباوةً وخداع الناس بحكايات عن بعض المتصوفة الذين لا يُحتَج بأقوالهم، ولا يُقتدَى بأعمالهم، وهذا من أعظم المفاسد التي دخلت على الأمة باسم التصوف وأهل التصوف الحقيقيون براء منها. امتازت طائفة الرفاعية على جميع فرق المتصوفة باللفظ في هذا وزعموا أن شيخ الطائفة الكبير أحمد بن الرفاعي قد يسبق جميع الأولياء إلى المقامات العليا بالعدل والانكسار وأنه طرق جميع الأبواب الموصلة إلى الله تعالى فوجدها مزدحمة بمريدي الحق وأهل قربه إلا باب الذل والانكسار فإنه وجده خاليًا فسبق القوم منه (وإذا صح هذا فما دخلوه إلا لكونه غير موصل إلى الله تعالى فالنتيجة باطلة) وينقلون عنه من ذلك أنه كان يتمرغ بتراب المقابر والطرق، وأنه كان ينام على الطريق ويُسجَّى بنحو حصير ليطأ عليه الناس وأنه كان يؤاكل كل الكلاب الجربَى ويسلم عليهم وعلى الخنازير ويحييهم وأنه كان يقبِّل الأرض والأحذية لأهل الجاه والمظاهر ويقبل الشتم والإهانة والرمي بالإلحاد من غير أدنى انفعال وتأثر بل مع التصديق ويزعمون أن هذا من مقامات الدين {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وإذا صح هذا كله فأحسن ما يقال فيه إنه عن جذب خرج به صاحبه عن التكليف فلا يُلتفت إلى عمله ويحذر الناس منه؛ لأن الدين والعقل والفطرة ترشد إلى السعادة البشرية ولا تنال إلا بعزة النفس وكرامتها ما لم ينتهِ إلى الكبر وفي الحديث: (غمط الحق واحتقار الناس) ، فكرم نفسك ما استطعت واجتنب هذين الأمرين، وأما التواضع فهو وسط بين الكبر الذي هو إفراط في العزة وبين الذل الذي هو تفريط فيها وسنتكلم على الكبر والتواضع في مقالة مخصوصة إن شاء الله تعالى. هذا، وإن بعض المؤرخين قد أثنى على الشيخ أحمد الرفاعي الكبير بالصلاح والتفقه وأرى من حسن الظن أن يؤخذ بقول هؤلاء ويرفض ما في كتب المناقب التي من شأنها تؤلف للإغراب والإعجاب؛ فإن شذوذ هؤلاء القوم هو الذي جعل الناس يتهمونهم بالخروج عن الشريعة [3] وقد أقمت الأدلة الكثيرة في كتاب (الحكمة الشرعية) ، على أن هذه الكتب التي نشرها الرفاعية في هذه السنين وفيها من التلاعب بالدين العجب العجاب - كلها مزورة لا تصح نسبتها للمتقدمين، على أنه يحتمل أن يكون ما نُسب لابن الرفاعي من ذلك كان في بدايته ثم رجع عنه وحسنت حاله وإن لم يقل ذلك الذين ينالون فيه بالإطراء حتى كادوا يفضلونه على الإنسان بل حتى إن أشهر شيوخهم يجعل حضرة الذكر أدوارًا - دور يذكر فيه الله ودور يذكر فيه الرفاعي - وهكذا شأن الجاهل يريد المدح فيذم، ويحاول النفع فيضر، وغرضنا من ذكر هذه الكتب أن لا يغتر بها الجهلاء الذين يتوهمون أن جميع ما في الكتب صحيح والله الهادي إلى سواء السبيل.

استنهاض همم ـ 6

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (6) هذا ما كان من أمر المسألة الشرقية في القرون الوسطى، وأما شأنها في الأعصر المتأخرة، فمُباين جدًّا شأنها الأول، رأى القوم أن الزحف على الشرق بالقوة، وإعمال السلاح في شعوبه فيه إنهاك للبشر وضعضعة لأسس الاجتماع الإنساني وهذا مفوت لمقصودهم، مانع مما يتوخونه في قيام دولهم، وراحة شعوبهم إلى تأسيس الدولة ورفع بنيتها لها، يكون على قواعد وأركان، فيها تكاثر أفرادها ونمو مواليدهم وانتشار أمور الصناعة، وطرق الزراعة بين أهلها، ودوران دولاب التجارة فيهم؛ ليكون عاملاً على ترويج المصنوعات، وتصريف المحصولات، وروح كل ذلك الوئام بين الأفراد والطوائف؛ فيورثهم تضافرًا وتعاونًا على تأييد صناعتهم وزراعتهم، وصيانة مصالحهم العامة من الاختلال والاضمحلال، فافتتاح الأقاليم بمقاليد الصوارم، وإخضاع أعناق المماليك بصدور اللهازم، والتغلب على شعوبها بالحرب وسفك الدم، هادم بنيان الدولة قد عثر (مقوض) لقواعدهم وأركانها، الحرب تحصد البشر وتمحق أرواحهم، وتوقف دولاب التجارة، وتبطل حركته، وبوقوفه تتقهقر الصناعة والزراعة، والحرب تشرب قلوب المغلوبين أَوغَارًا وأحقادًا على الغالبين، وتلوث نفوس هؤلاء بالريبة والحذر من أولئك، وزِِد على ذلك ما إذا كان في القبيل المغلوب طوائف متضافرة متناصبة، وكان ضلع القبيل الغالب مع إحدى تلك الطوائف، فإن أخوف ما يخاف على الدولة الغالبة حينئذ استشراء الفتن في داخليتها، وشبوب نارها بين الشعوب المكونة لهيئتها، وفوق ذلك كله: مناظرة الدول بعضها لبعض، وتسابقها في حلبة التمدن، وطمع كل منها في إحراز النصيب الأوفر من الحضارة والعمران، واستتمام النظام الاجتماعي، فلو تهورت إحداهن وتقحمت حربًا جرت عليها ضعضعة في الداخل، وضعفًا في الخارج، كان ذلك باعثًا لأخواتها على مد أيدي الطامعين إلى أطرافها، بل مدعاة لتطلعهن للظفر بقلبها. هذا ما أشعر قلوب الأمم الغربية التخوف من الحرب، والتهيب لسوء عقابها، وحدا بهم لتنكُّب سبيلها، وسلوك سبل أخرى تؤدي إلى ما تؤدي إليه الحرب من الفتح، والتغلب بدون أن يعترض سالكها ما يعترضه في سلوكه سبيل الحرب، وتلك السبل هي شؤون مؤلفة من تعاليم دينية - سرية وجهرية - ومبادئ فلسفية وأدبية، ووسائل تجارية وزراعية وصناعية، تتمشى في الشعوب والبلدان، تمشي الوسن في الأجفان، وراء كل هذه الشؤون المعنوية قوة من الإرهاب والتهويل والتخويف والتهديد، تؤيد تلك الشؤون وتحميها، فإذا أجزأ ذلك، وكفى في التغلب على الشعب المطموع فيه، وافتتاح بلاده والإعزاز بالقوة الجهنمية قوة الموزير والمكسيم، فأنت ترى أن تلك الشؤون السلمية المعنوية التي اعتمدت عليها لدول في قهر شعوب الشرق، وإن لم تكن حربًا، فهي معتمدة على الحرب معضدة بها، أو الحرب منها بمنزلة الروح من الجسد، هو يتقلب في وظائفه، ويراوح بين أعماله، والروح تدبره وتسدد حركاته. منذ اهتدت أوروبا إلى هذه السبل، والشؤون في الاستيلاء والفتح، أعملتها في المسألة الشرقية، وتغلبت بها على جزء عظيم من ممالك الشرق وأصقاعه، وأوقعت في فخاخها كثيرين من أقوامه وشعوبه، وهي لا تزال تنصب هذه الفخاخ، وأمم الشرق لا تزال تقع فيها الواحدة بعيد الأخرى، كأن على البصائر رينًا، أو على الأبصار غشاوة، ولم تكتب السلامة على واحدة منهن سوى أمة اليابان وربما كانت مكتوبة أيضًا لأمة الأحبوش، وقد أتينا على تفصيل ذلك أولاً، أما سائر الأمم، فيختلف قربها وبعدها من تلك الفخاخ باختلاف حسن الإدارة الداخلية في تلك الأمم وقبحها، وانتظام شؤونها المالية والعسكرية وعدمه، وكثرة تنور أهلها بالعلم والعرفان وقلته، وهكذا استعمار أوروبا في الشرق بلغ من النكاية في المسلمين مبلغًا لم يبلغه في سائر أممه على اختلاف أديانها ولغاتها، ونكلت بهم سلطة الأجانب تنكيلاً تركهم مثلاً وعبرة لكل معتبر غيرهم- إنكلترا تسوس من مسلمي الشرق سبعين مليونًا ويتلوها هولانده في الجاوه فإنها تسوس ثلاثين مليونًا ثم البلجيك في الكونغو وتسوس عشرين مليونًا ثم فرنسا وتسوس سبعة عشر مليونًا ولروسيا وتسوس خمسة عشر مليونًا ثم وثم حتى الجبل الأسود يسوس من المسلمين أربعة عشر ألفًا. وبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف ومجموع ما هو تحت سلطة الأجانب من المسلمين يناهز مائتي مليونًا، والذي لم ترهقه بعد تلك السلطة يشارف مئة مليوناً، وهذه المئة المستقلة منها خمسون مليونًا مندمجة في إمارات بسيطة هي أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة، ومطوية في قبائل رحل ضاربة في موامي إفريقيا وفيافي آسيا وجزيرة العرب ليسوا على شيء من الإدارة، لا نظام يسوسهم، ولا انتظام يقود مقاتلتهم، وأما خمسون مليونًا الأخرى، فهي موزعة على الحكومات الأربع على هذا الحرص في الحكومة العثمانية، ثلاثون مليونًا، وفي الفارسية تسعة، وفي المراكشية ثمانية، وفي الأفغانية أربعة، وإنما كان ذلك خرصًا وتخمينًا؛ لأن عدد السكان في المراكشية لم يدخل بعد تحت الإحصاء المدقق، وكذا سكان ولايتي طرابلس الغرب واليمن من ولايات العثمانية [1] . مهما يكن من سائر الشؤون، فإن الخطاب في الإصلاح الإسلامي، والتكليف في القيام بمقدماته، والدعوة إلى الشروع فيه؛ إنما هو موجه نحو زعماء وعقلاء تلك الحكومات الأربع المستقلة [2] التي تسوسها ملوك وسلاطين، وتشغل مركزًا سياسيًّا، ويحكم فيها بشريعة ونظام، ولها وزراء وقواد وقضاة، وخرج ودخل وصادر ووارد. أما درجات تلك الحكومات الأربع في الانتظام، واتساق هيئة الاجتماع، فالعثمانية أولاً، ثم الفارسية، ثم الأفغانية والمراكشية. العثمانية أكثر نفوسًا، وأقوى نفوذًا، وأضخم سلطانًا، وأعظم شأنًا، وأعرق دولة، وأشد صولة، وهي من سائر العالم الإسلامي بمكانة الدماغ من جسد الإنسان. هذا ما حمل عقلاء الأمة ونبهاءها الساعين في دعم ما تداعى من بنائها على اللياذ بالخليفة العثماني، وللصوق بسدته. تراهم متلعين بأعناقهم، شاخصين بأبصارهم، مصيخين بآذانهم، علَّهم يتلقون من ذلك المقام الرفيع كلمات تكون محورًا تدور عليه الوحدة الإسلامية، أو قانونًا يرجع إليه العاملون في إصلاح الشؤون. جدير بالمسلمين أن تتصدى رجالاتهم وساداتهم للتأليف والتقريب بين تلك الحكومات الأربع، وتوثيق وشائج الاتحاد بينها، وتسعى في إحالة الخلاف والمودة من الخلاف والمحادَّة. هذه فرصة على مَقربة منهم فليغتنموها، ونهزة أغضى لهم الدهر عنها فلينتهزوها، ومصلحة عامة يتوقف عليها استقلالهم، وبقاء أمرهم فليبتدروها، ما لأمراء تلك الحكومات لا يميطون عن أنوفهم تلك الخنزوانة (الكبرياء) الجاهلية، ويصطلمون من نفوسهم تلك العزة الوهمية؟ ! ليخفضوا لذي السلطة الكبرى جناح الانقياد والطاعة؛ ليشايعوه في مدافعة تلك المخاطر التي تحتف ببلادهم، وتهدد استقلالهم؛ ليمالئوه على إصلاح حال المسلمين، وتوحيد متفرقهم، والتحلئة (الدفع) عن حرضهم؛ علَّهم بذلك يجددون للأمة عِزَّها، ويرجعون إليها سالف مجدها؛ فيستوجبون من الله جزاء جليلاً، ومن التاريخ ثناء جميلاً. ما لهم لا يأتسون بأمراء الشام؟ ! سالت عليهم الفجاج بشعوب الإفرنج؛ فالتفوا حول أميرهم الأكبر، وتلقوا تلك السيول المنحدرة -غمرة بعد غمرة -بعزائم الأبطال؛ ففلُّّوا عزمها، وبَدَّدوا نظامها. ما أخوفني عليهم أن يتخاذلواتخاذل أمراء الأندلس؛ فيفشلوا- لا قدَّر الله فشلَهم - ويصيبهم من الدواهي مثل ما أصابهم، ومن هنا نلفت إلى ما كان اعترَضنا به في غضون الحديث أحد الحاضرين، وهو قوله: كيف يكون انحلال عقد تلك الحكومات إذا لم نتفق وهل يسلم لواحدة منها استقلالها؟ فنقول: (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (مستقبل الإسلام في الصين) نشر مبعوثو البروتستان من الإنكليز تقريرًا ضافيًا عن أعمالهم في الصين جاء فيه كلام عن حالة الإسلام في مملكة ابن السماء، فبعد أن ذكر كاتب التقرير تاريخ دخول الإسلام في الصين، وكيف كان انتشاره، حتى صار المسلمون هناك أكثر عددًا من سكان أكبر مملكة إسلامية - قال: وإذا نظرنا إلى حالة المسلمين في الصين نجدهم على ثروة وسعادة يتمتعون في ضروب الراحة والهناء، شديدو التمسك بدينهم، فلا تحولهم عنه الجبال، ولا تغيرهم الوعود والآمال؛ إذ هم يعتقدون اعتقادًا لا يشوبه أدنى ريب أن مستقبل البلاد الصينية لهم، وأنهم سيرفعون مجدها يومًا من الأيام. ومن الكُتَّاب الذين كتبوا في هذا الموضوع البروفسور فاسليوف فهو يعتقد مثل ذلك، كما صرح به في كتابه؛ ولذلك هو يخشى عواقب ذلك الانقلاب المنتظر على أوروبا. قال الكاتب: والحقيقة أن الظن ليس من الأمور البعيدة؛ لأن المسلمين في الصين أرقى بكثير من البوذيين وغيرهم، تبعًا لترقي دينهم الذي يرشدهم إلى آداب وفضائل تميزهم عمن عداهم، فضلاً عن اتحاد كلمتهم، وقوة جامعتهم، وتراهم يهتمون كثيرًا بالزراعة والتجارة والفنون الحربية، أكثر من اهتمامهم بالعلوم والمعارف، ولهم شهرة فائقة في خِلال الصدق والأمانة والوفاء، فقوم هذه صفاتهم، وعددهم ليس بالقليل، لا يبعد أن يكون لهم مستقبل هذه البلاد التي أخنى الزمان على سكانها الأصليين، وقضى الله عليهم بالضعة والهوان، والمستقبل كشاف لما تطويه سجلات الأيام. ثم انتقل الكاتب إلى شرح عوائد المسلمين في الصين واختلافها عن عوائد غيرهم من السكان، ثم تكلم عما يعتقده الصينيون في أبناء وطنهم من المسلمين، ومما قال: إن البوذيين لا ينفرون من المسلمين، بل يألفونهم، ويقولون: إنهم على دين الفيلسوف الصيني القديم كونفوشيوس أو هم لا يختلفون عن مذهبه غير قليل. وأما علاقتهم بالحكومة، فهم مخلصون للإمبراطور، لا يميلون إلى حزب من الأحزاب، وجل مآربهم تقوية شأنهم، وازدياد ثروتهم، وما داموا على هذا الدأب فإنَّ ظنَّ البروفيسور فاسليوف سيصدق فيهم، ويصبحون يومًا ما القابضين على أزِمَّة الأمور في مملكة ابن السماء. ثم قال الكاتب: والخلاصة أن الإسلام في الصين عقبة دون تقدم المسيحية هناك، وأن المسلمين لا يفتئون يرشدون الناس إلى دينهم، ويُرَغِّبونهم فيه بكل وسائل الترغيب، ولكونهم من أهل البلاد، ولغتهم لغتها، فهم يعرقلون مساعينا دائمًا؛ لأنهم ينافسوننا، وكثيرًا ما يميل الصيني إلى اعتناق النصرانية، ثم لا نلبث أن نراه مسلمًا، يصلي مع المسلمين في مساجدهم، وهذا ما يحدو بنا إلى القول: بأن الإسلام سيكون له المستقبل العظيم في البلاد الصينية. اهـ ملخصًا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المؤيد) *** (أخبار فرنسية وإنكليزية) من أهم الأخبار الخارجية أن محكمة النقض والإبرام في فرنسا قررت إعادة دريفوس من منفاه في جزيرة الشيطان إلى فرنسا للنظر في قضيته، حيث أسفر الصبح بعد خمس سنين عن التزوير والخيانة والتعصب على دريفوس، وإذا برأت المحكمة دريفوس بعد كل ذلك التحامل عليه، ومع ما فيه من ثلم شرف الجيش الفرنسوي، فلا يسع أحدًا أن ينكر أن الفضيلة في الحكومة الفرنسوية أقوى من الرذيلة، وأن العدل والإنصاف غالب على الجور والاعتساف. ومنها أن مجلس العموم الإنكليزي قرر إعطاء الحكومة للورد كتشنر حاكم السودان العام ثلاثين ألف جنيه مكافأة على خدمته لدولته. ومنها أن الخلاف قد اشتد بين إنكلترة وحكومة الترانسفال فقد أنبأ البرق أن المذكرات في بلومفوتين بين الرئيس كروجر والسر ألفرد ملنر أسفرت عن تعسر الاتفاق في مسألة التجنس بالترانسفالية، ومسألة حرية الانتخاب. ولم يقبل الرئيس البحث إلا بشرط أن تقبل إنكلترا بالتحكيم في مسائل الخلاف، فاستكبر للإنكليز هذا، وظن أن الحرب متوقَّعة. *** (وفاة عالم جليل) نَعَتْ إلينا أنباءُ بغداد الخصوصية وفاة العلامة الفاضل المتفنن السيد الشريف الشيخ نعمان خير الدين أفندي الآلوسي نجل العلامة الكامل الشهير محمود شهاب الدين الآلوسي مفتي بغداد سابقًا وصاحب تفسير (روح المعاني) وللفقيد - تغمده الله برحمته - سيرة حسنة وآثار نافعة -إن شاء الله تعالى - منها كتاب (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) وكتاب (غالية المواعظ) وكتاب في الرد على رسالة الكندي الذي زعموا أنه ناظر الخليفة المأمون العباسي في الدين، وهو كتاب ضخم جليل، وقد كانت وفاته في سابع المحرم الماضي، فاهتزت لها بغداد، بل العراق كله، وكان يومًا مشهودًا شيعت جنازته بالاحتفال الذي يليق بمقامه، ومكانة أسرته الكريمة، عوَّض اللهُ المسلمين منه خيرًا. *** (الأحداث في القطر المصري) بلغ عدد الذين أصيبوا بالطاعون في الإسكندرية إلى يوم الجمعة (أمس) 21 نفسًا، مات منهم 8، وشُفي 4، والباقون تحت المعالجة. صدر الأمر العالي الخديوي بفصل الأستاذ الشيخ حسونة النواوي من مشيخة جامع الأزهر وإفتاء الديار المصرية، ونوط المشيخة بالأستاذ الشيخ عبد الرحمن القطب والإفتاء بالأستاذ الشيخ محمد عبده. وكان ذلك في 24 من المحرم سنة 1317، و3 من يونيه سنة 1899 م. *** (الوشاية في طرابلس الشام) علمنا من أخبار طرابلس الشام أن بعض الوشاة والمفسدين طفقوا يسعون إلى بني الأنجا بمن يحبون التشفي منهم، زاعمين أنهم هم الذين يكتبون للرائد المصري الطعن فيهم، وقد دبت عقاربهم إلينا؛ فزعموا أن فلانًا وفلانًا يكتبان رسائل الطعن ونحن نكتبها للرائد، ولو كَتَبَا، لم تكن حاجة لكتابتنا، وقد أرجف بنا فيما كتب مُسَعِّرُ نار الفتنة، ولكن ليعلم أننا لا نتعرض للمطاعن الشخصية، بل غرضنا خدمة الأمة ونصحها، ولو كان من مشربنا ما نُسب إلينا؛ لخصصناه بوالي بيروت الذي أضرنا وأضر وطننا كله دون أبناء بلدتنا، ولكتبنا في جريدتنا - أو بإمضائنا - فإننا في بلاد لا نخاف فيها غير الله تعالى، ولقد وُشي بنا إلى أعظم عظماء الأمة، فما قدر على أن ينال منا شيئًا، فإذا عاد المرجف إلى إرجافه - تلويحًا أو تصريحًا- فلينتظر ما هو أَمَرُّ مِمَّا مَرَّ … *** (الجمعيات في مصر) تألفت في هذا العام ثلاث جمعيات في القاهرة الأولى (جمعية مكارم الأخلاق) وهي جمعية أدبية إسلامية، رئيسها الأستاذ الفاضل، والخطيب المفوه الشيخ زكي الدين سندوهي تجتمع في كل ليلة جمعة، وتُلْقَى فيها الخطب، والثانية (جمعية التعليم الإسلامي) ولم تزل اجتماعاتها إدارية محضة، ومتى حاولت الاجتماع العمومي يعلن عنها في الجرائد، والثالثة (جمعية النهضة الأدبية) ألفتها فَعَلَةُ المطابع، ووضعت لها قانونًا طُبِعَ، ويباع بقرش أميري واحد، وغرض الجمعية التعاون المالي، والاعتصام الأدبي، والعمل لترقية الصناعة، وارتباط بعض أعضائها ببعض، وهذه أول جمعية للفَعَلَةِ في بلاد الشرق، فيما نعلم. *** قالت (ثمرات الفنون) الغرَّاء: يقال: إن شورى الدولة يبحث الآن في مواد مهمة بشأن المعارف، وإنه استعلم عن الحصة التي برسم الولايات، ومقدار ما يؤخذ من الأوقاف، وكيف تصرف من هذه المبالغ، حتى إذا أورده الحساب بادر بعمل ما ينوي عمله، وعسى أن يكون من وراء هذه الأعمال فوائد تذكر في ترقية أحوال المعارف في البلاد العثمانية؛ لأن النجاح يتوقف عليها كما بَيَّنَّا مِرَارًا. (المنار) يعلم كل عثماني أن ما يؤخذ من الولايات باسم المعارف، لا ينفق فيها أعشار عُشره، وأكثره يُحشر إلى الآستانة فإذا وُفِّقَت الدولة العلية إلى إنفاق مال كل ولاية، أو أكثره فيها، فذلك كل ما تطلبه الرعية من الحكومة في هذا الباب. وقالت الثمرات أيضًا: (إن الأراضي القابلة للزراعة، والتي هي بورغير مأهولة في ولاية سورية - تبلغ مليونين ونصف مليون دونمًا؛ أي أن كل دونم من الأرض يبذر من فيه مد الحبوب) . ونحن نقول: أفليس من سوء إدارة الحكومة أن يهاجر أهل بلاد فيها هذا القدر من الأراضي الجيدة المهملة؛ لاستعمار أميركا وإحياء أرضها؟ !

فهم الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فهم الدين {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الزمر: 27) {قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 28) . قال مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في تفسير قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) ما مثاله بالإيجاز: منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته: أولاها: هداية الوجدان الطبيعي، والإلهام الفطري، وتكون للأطفال. وثانيتها: هداية الحواس والمشاعر. وثالثتها: العقل. ورابعتها: الدين. ثم بيَّن أن الهداية الأولى والثانية، يشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم وأن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى كماله المستعد هو له بهما؛ لما يعرض لهما من الخطأ وسوء الاستعمال، وبعد أن ضرب المثل لهذا الخطأ، وبيّن وجه حاجة الإنسان إلى العقل الذي ينتزع المعلومات الكلية من مدركات الحواس، ويُمَيّز بين خطئها وصوابها، قال: إن العقل أيضًا عرضة للخطأ ومحل للقصور، فلا يمكن أن يحيط بمصالح الإنسان في أفراده ومجموعه، ويحدد أسباب سعادته في معاشه ومعاده، ومن ثَمَّ كان الإنسان في أشد الحاجة، لا سيما بالنسبة لأمر المعاد إلى الهداية الرابعة هداية الدين، وقد منحه الله إياها، ولما كان معظم قصور الحس والعقل في الإنسان إنما هو فيما يختص بسعادة المعاد، كان بيان طريق السعادة الأخروية أهم ما جاء به الدين. وهل يعتور هذه الهداية ما يعتور غيرها من الخطأ وسوء الاستعمال، فيتنكب أهلها جادة السعادة؟ ؟ نعم، فإنه كما يخطئ الإنسان في إدراك المحسوسات؛ لمرض في حواسه، وفي فهم المعقولات؛ لآفة في عقله، أو لسوء استعمال الحس والعقل، كذلك يخطئ في فهم الدين؛ بسبب الأمراض الروحية التي تطرأ على مزاج الأمة. إذا تمهد هذا، فغرضنا الآن كشف الغطاء عن شبهة أوردها على الدين أصحابُ مجلة (المقتطف) في الجزء الصادر في أول يونيو، الذي نحن فيه عند تقريظ كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) وملخص ما هنالك أنه نُشر في القطر المصري كتب وجرائد، حاول كُتَّابُها التوفيق بين الأصول الدينية والحقائق العلمية، قال: (وقد يجدون ذلك سهلاً؛ لأنه قَلَّما يَجْسُرُ أحدٌ على مخالفتهم، ولكن لو كان في البلاد علماء أشداء كالجلال السيوطي ... لشبَّت نارُ الحرب منذ الآن) (انظروا وتأملوا) ثم ذكر أن هؤلاء الكُتًَّاب يجيبون من سألهم عن السبب في عدم وجود هذه المدنية في ربوع المشرق؛ بأن سبب ذلك سوء فهم الدين وحمْله على غير المراد منه، وعلى هذا الجواب بنى شبهته الكبرى، فقال: (ولكن إذا قيل له: ألاينتظر من الدين أن يكون معناه واضحًا؛ حتى لا يقع سوء في فهمه، ولا يحمل على غير المراد منه، وهل أساء كل علماء الشرق فهم دينهم منذ ألف سنة، أو حواليها إلى الآن، ولم يقم منهم من يحمله على المراد منه إلا في هذا العصر وفي هذا العام؟ ! إذا قيل له ذلك لم يكن الجواب عليه بالأمر السهل) . اهـ. ولا يخفى أنه يعني بكلامه الإسلام والمسلمين؛ لأن الكلام معهم، وهم الذين نشروا الكتب والجرائد في القطر المصري، ويسهل عليهم الجواب الذي حسبه صعبًا حضرة السائل، وهو ... إن الكاتب اعترف معنا بأن فهم الدين على غير وجهه، إنما وقع في الإسلام من نحو ألف سنة، أي من بعد انتشار البدع، وتفرق المذاهب في الدين الواحد الذي جاء بالتوحيد والتأليف، ونهى عن التفرق والاختلاف، وبديهي أن أصحاب الآراء والمذاهب من أهل الأهواء يحاولون تعزيز مذاهبهم بالشبه مهما تضاءلت افتضاحًا. ويؤولون الحجج المخالفة لهم، مهما أضاءت اتضاحًا. فهذا هو السبب الأول في سوء فهم الدين الإسلامي، والانحراف به عن صراطه، والسبب الثاني: اختلاط المسلمين بأمشاج من جميع الأمم والملل دخلوا في دينهم، ومنهم الصادق ومنهم المنافق، وهؤلاء اجتهدوا في إفساد تعاليم الدين، وإدخال بعض مسائل من أديانهم السابقة مصبوغة بصبغة الإسلام، ووضع الأحاديث المكذوبة على صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - والسبب الثالث: العدوى المعنوية، وهي أنه ما من رجلين يتصاحبان، أو شعبين يتمازجان، إلا ويسري من أخلاق أحدهما وآدابه شيء للآخر، وكذلك دَبَّ إلى الإسلام داء الأمم قبلهم، وكادوا يتبعون سَنَنَ مَنْ قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع كما في الحديث الصحيح، بُذِرَت بذور هذه التعاليم المضرة في أرض الإسلام، وسُقيت بأمواه التعصبات والأهواء؛ فنمت بالتدريج حتى صارت دوحات كبيرة؛ تتساقط منها الثمرات المضرة، وكان من تنبه لها من العلماء الراسخين إنما يسعى في قطعها، لا في قلعها؛ ولذلك عاد كلما قطع منها أبسق مما كان، نشير بهذا إلى ما كان من مقاومة تلك التعاليم الفاسدة في كل عصر، وإن لم تقوَ عليها، وهو جواب عن قول المقتطف: (وهل أساء كل علماء المشرق فهم دينهم منذ ألف سنة، أو حواليها) نعم، إن القرون الثلاثة الأولى هي التي كان الغلب فيها لتعاليم الدين الصحيحة وأخلاقه وآدابه، كما هو الشأن في كل دين، ووفاقًا للحديث الشريف خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم فقول المقتطف لا يفتش عن فعل الدين في حروف كتبه، بل في أخلاق أتباعه وأفعالهم، غير مسلّم على إطلاقه؛ فإن الكِتَابَ الذي هو أصل الدين، كالقرآن مثلاً، إذا كان مُصَرِّحًا بشيء، فلا مندوحة عن القول بأنه من الدين، وإن خالفه الذين يدَّعون اتِّبَاعَه. نعم، لا يجوز أن يتفق المنتسبون لدين من الأديان على مخالفة أصوله في عصر النبوة، وما يقرب منه، ولكن إذا طال الزمان تُفْتَن الأمةُ بالتحريف والتأويل، وتضل سواء السبيل، إلا أفرادًا لا يكون لهم صوت في الأمة مسموع، وأصحاب المقتطف يعرفون هذا من تاريخ الملل، وإلى هذا يشير قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) أي: خارجون عن هدي دينهم، ونحن نأتي بمثال واحد مما خالف الجماهير فيه هدي الدين الإسلامي، وهو من أصول العقائد، ومن أهم ما جاء به الدين، ومما له أثر كبير في سعادة الأمم وشقائها؛ ألا وهو الاعتقاد بأن لبعض البشر تأثيرًا في النفع والضر بقوة غيبية وراء الأسباب الظاهرة التي اقتضتها الحكمة الإلهية، وجعلتها مناط الأعمال. هذا الاعتقاد هو الذي شَقِيَ به قبل الإسلام مَنْ لا يُحصَى مِنَ الأقوام، هذا الاعتقاد هو الذي يُقَيِّد إرادة الإنسان بإرادة غيره من أبناء جنسه؛ فيفقد استقلال الإرادة الذي هو العامل الأكبر في السعادة البشرية، هذا الاعتقاد هو الحجاب الكثيف بين الإنسان، وبين معرفة السنن الإلهية في الترقي والتدلِّي، وإدراك أسباب الضُّرِ والنفع، هذا الاعتقاد هو المرض الذي يُفسد العقل، ويجعله يرجو ما لا يُرجى ويخاف مما لا يُخاف، هذا الاعتقاد هو شعبة من الشرك كانت أكثر شعابه امتدادًا وانتشارًا في الأمم كلها؛ ولذلك كانت عناية الإسلام بمحوه فوق كل عناية. يتوهم كثيرون أن الكفر والشرك اللذين يندد بأهلهما القرآن كثيرًا، هما عبارة عن إنكار وجود الله تعالى، وعن اعتقاد أن للكون آلهة غيره، يَخْلُقون كما يخلق، ويرزقون كما يرزق، مع أن هذين القسمين من الناس كانوا أقل الكفار والمشركين في كل زمان ومكان، وإنما الشرك الذي كان فاشيًا في العرب، وغيرهم ممن ظهر الإسلام فيهم، هو الذي قال القرآن في أهله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: 9) ومثل هذه الآية آيات. كانوا يعتقدون - كما يعتقد أكثر البشر - أن مبدع الكون وخالقه واحد، ولكنه لمَّا كان غيبًا مطلقًا، جعلوا وِجْهَتَهُم في عبادته بعضَ مظاهر قدرته الباهرة من خلقه، من جماد وحيوان وإنسان، وزعموا أن تلك المظاهر هي الواسطة بين الله وبين عباده في نفعهم وضرهم، ويعلل علماؤهم ذلك؛ بأن عامة الناس من الخطاة والمذنبين لا يليق بخستهم أن يخاطبوا الجناب الإلهي الرفيع بحاجهم، فلا جرم كانوا في حاجة إلى واسطة بينهم وبينه، كما هو الشأن عند عظماء الملوك والسلاطين، وهذا وإن كان في ظاهره تعظيمًا لله تعالى - فقد عدَّه القرآن شركًا، وذكر شبهة ذويه في معرض التشنيع والإنكار، حيث قال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 2-3) ، وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) ، فانظر كيف لم يعتدّ بأن اتخاذهم شفعاء نافٍ لكونهم معبودين لهم، وكيف صرح بأن دعوى الشفاعة افتئات على الله تعالى؛ حيث لم يكن بإعلام منه، وقال فيمن كان يعتقد هذه الوساطة والشفاعة من أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) ومعلوم أن أهل الكتاب لم تقُل فرقة منهم بأن رؤساءهم أرباب حقيقة، يشاركون الله تعالى في الإيجاد والإعدام كما هو معروف من تاريخهم، وإنما هو اعتقاد الشفاعة والوساطة بين الله والناس في مصالحهم [1] . الواسطة الصحيحة بين الله وبين عباده هم الأنبياء، ووساطتهم إنما هي في التعليم والإرشاد، لا في الخلق والإيجاد، وقد بيَّن الله في ذلك آيات كثيرة جاءت بصيغة الحصر؛ لتكون نصًّا قاطعًا لأعناق الأباطيل، منها قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48) ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} (الإسراء: 105) ، وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وقد نفى عن النبي الأعظم السيطرة والوكالة على الناس، بقوله: {لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 22) ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام: 107) ، ونفى عنه الهداية بمعنى الإيصال إلى الخير بالفعل، بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272) ، وقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) ، بخلاف الهداية بمعنى الدلالة بالتعليم؛ فقد قال فيها: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) [2] ، وأمره أن يتنصَّل من دعو

استنهاض همم ـ 7

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (7) إذا بقيت الحكومة المراكشية تتسكع في ظلمات الجهالة، وتتنكب مناهج العدالة واسترسلت في إعراضها عن ملافاة الخلل، وشعب الصدوع التي تودي بمملكتها، وتهوي بها إلى هاوية الاستعباد، وتزجُ بها في عالم الخفاء، لا جرم أنه يصيبها ما أصاب جارتيها الأندلس والجزائر مما يبعث الشجن، ويزيد في الحزن، وتجيش النفوس له حسرة ما نقرؤه لهذه الأيام في صحف الأخبار عن جوائب تلك البلاد من أن المناصبة والمناوأة بلغت مبلغها بين صاحب مراكش مولاي عبد العزيز وبين أخيه الرشيد ولكل منهما حزب يعضده وينافح معه، يا سبحان الله! ما أسرع ما نسي هذان الخليفتان قصص خليفتي غرناطة المشئومين، وما حل ببلادهما؛ بسبب شقاق بينهما، ما أسرع ما ذهلا عن تاريخ الأندلس، وهي على مرمى سهم منهما. لَشَدَّ ما غفلا عن الأعداء المحدقة بالمملكة تتربص بها غير الدهر وكوارثه؛ لتلتهمها. لَشَدَّ ما غفلا عن أمر الشارع بالاتحاد، ونهيه عن التعزي بعزاء الجاهلية، كيف يفسحان بتباعد بينهما مجالاً يجري فيه العدو خيول مآربه وأطماعه؟ يوشك - إن دام الشقاق والنزاع بين هؤلاء القوم - أن تتداخل الأعداء في شؤون مراكش وتستعمرها، أو تتكفل بحمايتها، وتقوم بالوصاية عليها، كما فعلت بصُوَيْحِبَاتِها. لا ريب أن الناشئين من الأسرة الملكية في مراكش إنما يَشُبُّون على ما وجدوا آباءهم عليه؛ من البغضاء والشحناء، فإذا ترشحوا للمناصب العالية كانوا أسرع إلى النزاع والمواثبة من السيل المنحدر إلى قرارة الوادي، وهذا مما يطيل أمد الوبال والشقاء على الحكومة المراكشية، ويُمَكِّن يد العدو من ناصيتها. لا يبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه أعداؤها التي تتربص بها الدوائر جاراتها الثلاث: أسبانيا جارتها القديمة وفرنسا التي تجاورها من جهة الشرق بمستعمرة الجزائر، ومن الجهة الجنوبية بصحراء إفريقية، فإن تلك الصحراء المتسعة كادت تخلص لفرنسا بحذافيرها وأما إنكلترا فتجاور مراكش ببوغاز جبل طارق. وإذا كانت كل من تلك الدول الثلاث تُخفي في نفسها الاستيلاء على مراكش، وتجاذب الأخرى زمام النفوذ فيها، فمَن التي يشتد ساعدُها منهن وتقوى على رفيقتيها وتستخلص ذلك الزمام؟ أسبانيا تود من كل قلبها، وصميم فؤادها، أن تستولي على مراكش لكوْن شفعتها في الجوار أحق وأقدم من شفعة فرنسا، لكنها لا تنال منها شيئًا؛ لتأخرها في الانتظام، وتضعضع قوتها، لا سيما عقب الحرب الأخيرة الأميركية؛ فإنها لُطمت فيها لطمة ألقتها لحلاوة القفا، وقد لا تستطيع معها قيامًا أبد الدهر، على أن أسبانيا عاثرة الجلد لا حظّ لها في الاستعمار؛ فان جُل أميركا كان لها، والآن لم يبق لها قل من ذلك الجل، وربما ودت، أو أملت من مناظرتيها أن يستأنياها ولا يمسا مراكش بسوء؛ ريثما يشتد ساعدها وتقوى على مغالبتهما، لكني لا أظنهما يحفلان برجائها. أما إنكلترا، فليست ممن يؤمل، أو يطمع في شيء من مراكش، لا خجلاً وضعفًا عن مقاواة فرنسا، بل لأن همها الأكبر في نصف إفريقية الشرقي، ووصل الإسكندرية برأس الرجاء الصالح بالسكة الحديدية، فهي إن عارضت فرنسا في مراكش، إنما تعارضها إيهامًا وإرهابًا؛ لكي تحملها بذلك على التساهل معها فيما ترومه من أمر إفريقية، وفي أطماعها في شبه جزيرة العرب وسوريا والنهرين، فإن في هذه الغنائم ما يبعث إنكلترا على السماح لفرنسا بألف مراكش. إذن مراكش لفرنسا، وإذا تمكنت من ولاية طرابلس الغرب كما سيأتي تفصيله في محله، يخلص لها حينئذ نصف إفريقية الغربي، كما يخلص نصفها الشرقي لإنكلترا، ويكونان قد اقتسما القارة شق الأبلمة. [1] (الحكومة الفارسية والأفغانية) مكانتهما في نظر أوروبا، وأطماع سواسها واحدة، وكل منهما مما يتنازعه عاملا الطمعين، ويحوم حوله نسر الأملين، الإنكليزي والروسي. الشعب الأفغاني يغلب عليه البسالة والعزة والتحمس، ولم يزل كارهًا للإصلاحات العصرية، معرضًا عن اقتباس الشؤون المدنية، مستخفًا بهبوب الأعاصير السياسية، مزدريًا باتفاقه مع جارته الفارسية، أو شقيقته العثمانية أميره لهذا العهد، ضابط لسياسة البلاد، مقبل بشراشره على الذياد، يُطمع الروسيا تارة، ويوالي الإنكليز أخرى. فالأفغانية من جرَّاء ذلك في حرز ومأمن من السقوط الآن، لكنها بعد هذا الأمير يوشك أن تقع في أيدي غلمة من الأسرة المالكة؛ يتجاذبون أطراف المملكة، ويتواثبون لتناول تاجها، وتسنم عرشها، فتهوي البلاد في عواثير الاستعباد، كما هوت من عهد غير بعيد أختُها زنجبار ذلك أن النزوان على الرئاسة الكاذبة شِنْشِنَة غريزية في أمراء الشرق، قد تبوَّأت من نفوسهم متبوَّأ النطق والإدراك، بل ربما تضاءل أثر الإدراك في نفوسهم، وضعف بصيصه في زواياها وتلك الشنشنة حية يشتد أصلها، وينمو فرعها، ويستعر شواظها، ويقوي عرامها، ألم يبلغك ما حصل في تلك البلاد منذ ثلاثين سنة من الفتن والملاحم بين أمرائها وأبناء أسرتها؟ حتى كاد يرميها بين يدي العدو، ويُنزلها على حكمه، لولا أن تداركتها الألطاف وانتشلتها يد الأقدار. ((يتبع بمقال تالٍ))

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع عدد 12) (دَين تركيا) : أ- الأنواع الستة من الأموال غير المقررة، أو عوائد المِلْح والتبغ والمشروبات الروحية، وطوابع البوستة، والحرير، والأسماك، التي يردها أصحاب مصارف (بنوك) غلطة بعد تحصيلها إلى حاملي السندات العثمانية. ب- زيادة رسوم الجمرك التي تنشأ من تغيير تعريفة الرسوم عند حصول تنقيح في اللوائح التجارية؛ فتستفيد إدارة الدين العثماني من هذه الزيادة. ت- زيادة الإيرادات التي تنشأ من تعميم تطبيق القانون الخاص بالامتيازات، عند مقارنتها بالإيرادات التي كانت تُحَصَّل فيما سبق من رسوم التمتع. ث- الجزية التي تدفعها إمارة البلغار إلى الوقت الذي حددتها فيه الدول المُوَقّعة على معاهدة برلين بمبلغ 100000جنيه مجيدي يدفع مسانهة من رسوم التبغ. أما إن رأى الباب العالي بعد تقرير الجزية، أو الضريبة بهذه الصفة - أن من صالحه استعمالها كلها، أو استعمال جزء منها في سبيل آخر، وجب عليه أن يُعَوّض هذا المبلغ، الذي يكون بهذه الواسطة قد سحبه من حاملي السندات بمبلغ مساوٍ لعوائد التبغ، وفي حالة عدم كفاية هذا المورد، يؤخذ المبلغ من مورد آخر وافٍ به. ج- الزيادة في إيرادات جزيرة قبرص وتعوض في الحالة التي تخرج فيها هذه الجزيرة من قبضة الحكومة العثمانية بمبلغ سنوي قدره 130000 جنيه مجيدي، يُستنزل من عوائد التبغ، بعد احتساب مبلغ 100000جنيه، الذي استبدلت به جزية البلغار، فإذا لم تكفِ هذه الزيادة لتكملة مبلغ 130000 جنيه، كان على مصلحة عموم الجمارك أن تعطي بالباقي سفاتج في كل نصف سنة. ح- دَين الرومللي الشرقي الذي حُدد بمبلغ 240000 جنيه مجيدي في السنة، مضافًا إليه الإيراد الصافي لعوائد هذا الإقليم، الُمقَدَّر بمبلغ 5000 جنيه مجيدي. خ- إيراد التنباك المحدد بمبلغ 50000 جنيه مجيدي، تضمنه مصلحة الجمارك بسفاتج، تسحب عليها في كل نصف سنة. د- جميع المبالغ التي تدفعها للحكومة العثمانية كل من حكومات السرب والجبل الأسود والبلغار واليونان مما فرض عليها دفعه من الدين الأهلي في معاهدات برلين والاتفاق المبرم في القسطنطينية يوم 24 مايو سنة 1881. الأنواع الستة من الأموال غير المقررة، المذكورة في حرف (أ) ضُمِّنَت كما قلنا لأصحاب مصارف (بنوك) غلطة دَينهم الذي على الحكومة العثمانية، وقدره 8590000 جنيه مجيدي، وقد تنازل هؤلاء بمقتضى اتفاق حصل بين الطرفين في 20 ديسمبر سنة 1881 عن إدارة هذه الأموال؛ لتكون تابعة لنِظَارة المالية في مقابلة إيراد 371363 سهمًا، قيمة كل منها 22 جنيهًا مجيديًا، وربحه السنوي خمسة في المائة، وذلك عبارة عن رأس مال قدره 8169986 جنيهًا مجيديًا. لحاملي هذه السهام حق الأولوية على مَن عداهم من أصحاب قروض الدَّين العثماني العمومي، وهذا الحق يكسبهم مبلغ 590000 جنيه مجيدي، بعضه فائدة، وبعضه من أصل الدَّين، يُستنزل لهم في كل سنة بمقتضى هذا الامتياز من صافي إيراد الأموال المتقدم ذكرها؛ ولذلك سميت هذه السهام بالسهام الممتازة. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار (تداركها يا أمير المؤمنين!) جاءتنا رسالة مطبوعة عنوانها (ضجيج الكون من فظائع عون) ، يُنسب فيها للشريف أمير مكة لهذا العهد من الظلم والإلحاد في الحرم العجب العُجاب. ولم نلقِ لها بالاً لأول وهلة، ولكننا أخذنا صباح أمس بريد الهند وجاوه فإذا فيه كتاب لنا من مُكاتِبِنا في سنغافور يَذْكُر فيه الرسالة، ويعظم من أمرها، ومما قاله: (الرسالة المذكورة تُرجمت، ووزعت في أقطار جمة، وهي حَرية بإمعان النظر؛ إذ الاختلال الجاري بالحجاز أشهر من أن يُذكر، وقد صار لهذه الرسالة تأثير عظيم، حتى إن بعض المساجد قطع الخطبة لمولانا الخليفة - أيده الله - تحاشيًا من الكذب بأنه خادم الحرمين، وقد اغتنم بعض أعداء الدولة هذه الفرصة، وابتدأوا يجوسون ويؤملون أن تجد الدول الأورباوية سبيلاً للتداخل في الحرمين (لا قدر الله ذلك) ، فكان من الواجب التحذير والتنبيه لسد الذريعة، وحسم الداء؛ لعلنا نصل إلى الاتحاد المرغوب، والعاقل حَذور. ولو أَلْفُ بَانٍ خَلْفَهُم هادِمٌ كَفَى ... فكيفَ بِبَانٍ خَلْفَه ألْفُ هَادِم وقد يسوءني - ككل مخلص للدولة - سعي كثير من الجرائد في سبيل التمويه والمواربة، بل غش الدولة وتغريرها، والله المستعان) . اهـ المراد منه. (المنار) إن الذين يكتبون في تنبيه الدولة العلية، وانتقادها ثلاثة أقسام: 1- المخلص الذي يلتهب غَيْرَة عليها وقليلٌ ما هم. ... ... ... ... ... ... ... 2- والشامِتُ المتشفِّي. 3- والطامع بالرفد والنوال. ولمّا ظهر لمُحبي الدولة أنه لم توجد جريدة منتقدة إلا وظهر أنها منبعثة بأحد الغرضين المذكورين آنفًا، مقتوا كل منتقد، فصار النَّاصِحُ في حَيْرَة لا تسمح له ذمته بمجاراة المنافقين الذين يغشون الدولة بتقديس جميع أعمالها، ولا تتسنَّى له النصيحة؛ لأنها تُقابَل بالمقت والظنة، ويرمى صاحبها بالعداوة لدولته وأمته، لا سيما والأكثرون لا يكادون يفقهون حديثًا، والحق أن الذي يبحث عن الخلل - وإن كان متشفِّيًا - أنفع ممن يجعل السيئات حسنات؛ لأن هذا غاشّ خادع، وفي الحديث الشريف: (مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا) . عِدَاتي لهم فضل عليَّ ومِنَّة ... فلا أَذَْهَبَ الرحمن ُعَنِّي الأعاديا هم بحثوا عن زَلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا وكأني بهؤلاء المنافقين، وقد استهانوا بمسألة الشريف، فمنهم مَن كتمها، ومنهم يموه تمويهًا، ولكننا نحن نستلفت أنظار مولانا أمير المؤمنين إليها، ونسأله أن يغضي عن سياسة استدراج الشرفاء، وملاينتهم الآن، ويتدارك هذا الأمر الجَلَل ولو بما يقنع المسلمين في أقطار الأرض باهتمامه في شؤون الحرمين الشريفين (والله له خير ناصر ومعين!) . *** أنبأنا بريد سوريا بأن جماعة سماحتلو الشيخ أبي الهدى أفندي في طرابلس الشام فأنشأوا يضطهدون أهلينا؛ لأن جريدتنا (المنار) غير مرضية عند سماحته، وبلغنا أنهم سيخلقون تهمًا يلصقونها بإخوة هذا الفقير منشئ (المنار) إذا لم يبادر بإرضاء صاحب السماحة، ويشهد له بالإمامة، والقطبية الكبرى، كما شهدت له بعض الجرائد المنافقة. وكيف يسمح لنا ديننا وضميرنا بهذه الشهادة لمن يسعى بعقاب طائفة شريفة نزيهة إذا هو غضب على واحد منهم، وهم لا يعلمون بذنبه، بل كيف يمكننا أن نصف مَن يعمل مثل هذا العمل بالإسلام، ونبي الإسلام، يقول: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ شَرِّ يَدِهِ وَلِسَانِهِ) فإذا كان حاكم طرابلس ومتصرفها، صنيعة الشيخ أبي الهدى وابن عمه بالمصاهرة، فلِمَن يشكو أهلونا، وحاكمهم هو خصمهم، وبينهم وبين السلطان الأعظم حُجُب، أكثفها أبو الهدى نفسه؟ ! نقول: ليشكوا أمرهم إلى الملك العدل، وهو الله العلي الكبير. *** (إعطاء القوس باريها) لا خلاف في أن المحاكم الشرعية في القطر المصري كله في اختلال عظيم تحتاج بسببه إلى إصلاح عظيم، ولكن إصلاحها أعيا أطباء النظام، والجالسين على أرائك الأحكام، فسماحة قاضي القضاة، على فضله ونُبْله - لم يُداوِ لها عِلَلاً، ولم يُصلح خللاً، ولقد مكث في منصبه هذا بضع سنين، بحيث يصح أن يقال له: {أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (فاطر: 37) وحَوَّمَتِ الحكومةُ حول الإصلاح غير مرة، ولكن لم تقع عليه، ورمت إليه عدة سهام، فأخطأت كلها الغرض، فأجمعت آراء أُولي الأمر. عقيب ذلك الأمر الأمَرّ، وبعد إجالة قداح الفكرعلى إعطاء القوس باريها، علمًا بأن صاحب الدار أدرى بما فيها. اتفق الجميع على تفويض العمل إلى علاَّمةِ الشرع والأحكام، وحكيم الإدارة والنظام. الذي لم يُعرف له ثانٍ، متبحر على علم الدنيا والدين، جامع بين الإرادة الفعالة، والغَيْرَة على مصلحة المسلمين. ألا وهو أستاذنا الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية. أناطت الحكومة بفضيلته تفتيش المحاكم الشرعية، ووضع الأصول التي يراها كافية لإصلاحها، فتلقت جميع الجرائد هذه البُشرى بالبِشر والارتياح. واتفقت على اختلاف منازعها ومشاربها، على أن هذا هو طريق النجاح. وأعربت عن الأمل بإصلاح الخلل، وإزالة العلل. فدل هذا على أن الأستاذ هو الرجل الفرد الذي نال الثقة الكاملة من مجموع الأمة، حاكمها ومحكومها، فليتأمل هذا بعض المخدوعين. الذين يأخذون ترجمته من أفواه الحاسدين، وخرص المذاعين. *** (الحياة) مجلة علمية إسلامية شهرية، لصاحبها الكاتب الفاضل محمد فريد أفندي وجدي وقد صدر العدد الأول منها طافحًا بالمقالات المفيدة، منها مقالة في التمدن والتديُّن، وأخرى في (تغذية الجَنان ببدائع الأكوان) ، ومقالة في إثبات وجود الله تعالى، ومقالة في ما وراء المادة، وشذرات علمية مفيدة على فكاهة فيها. وقد سلك في مباحثها مسلك كتابه تطبيق الديانة الإسلامية.. إلخ. والجريدة في حجم المنار (ملزمتين) ، وقد طُبعت في مطبعته بحروفه الصغيرة، وقيمتها 15 غرشًا في القطر المصري، و20 في غيره، ولطلاب العلم 10، فنحث القُرَّاء على الإقبال عليها. تصحيح غلط وقع غلطٌ في بعض الآيات في الملزمة الأولى؛ ففي السطر الذي قبل الأخير من صفحة 3 (ألا لله الخالص) ، والصواب: {الدِّينُ الخَالِص} (الزمر: 3) ، وفي السطر 3 من صفحة 214: (ما في السموات وما في الأرض) ، والصواب {فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْض} (يونس: 18) وفي السطر 15 منها (إن عليك البلاغ) ، والصواب: {إِلاَّ البَلاغُ} (المائدة: 99) ، وفي السطر الذي بعده (وما أنت عليهم بمسيطر) ، والصواب:] لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ [ (الغاشية:22) .

كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية

الكاتب: رفيق بك العظم

_ كتاب الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية ألَّفه حديثًا؛ لتربية أفكار النشء الإسلامي على مبادئ الدين من طريق العلم والعقل، ومبادئ العمل من طريق الدين، صديقُنا الكاتب الفاضل رفيق بك العظْم ناظر المدرسة العثمانية، وإننا ننقل دَرْسًا مُخْتَصَرًا مِن دروسه نموذجًا للقرَّاء، وهو: (الدرس السابع: معرفة الدِّين واجبة) {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) إذا كان الدين ضروريًّا لازمًا للاجتماع، فمعرفة الدِّين أيضًا لازمة لكل فرد من أفراد أهله، بلا استثناء، ولا يكفي في هذه المعرفة كون المسلم مثلاً يعرف الأركان الخمسة للإسلام، بل يلزمه أن يكون على بصيرة من دينه وعلم، ولو إجمالي بشرائعه وسياسته، فإذا سمع قارئًا يقرأ، أو قرأ هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) - يتدبر معنى هذه الآية؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (ص: 29) . ويكون على علم، ولو إجمالي من فوائد هذه الطاعة، وأنه يترتب عليها مصلحة المؤمنين، وترتبط بها سعادة المسلمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يأمر عباده إلا بالخير، والرسول كذلك لايأمر إلا بخير أيضًا، فوجبت الطاعة لهما فيما يأمران به، وينهيان عنه؛ لأنه خير ومصلحة للمؤمنين، وكذلك وليّ الأمر، إنما وجبت له الطاعة من حيث وجبت لله وللرسول؛ لكونه منفِّذًا لأوامر الله والرسول، وهي خير كما تقدم، فالطاعة له خير أيضًا. ولا جرم أن العلم بالشيء - من حيث إنه خير - يوجب الرغبة فيه، والميل إليه، فعلم المسلمين بهذه الطاعة أنها خير يوجب تأصل الشعور في نفس كل فرد منهم بأن هذه الطاعة واجبة لله في جميع ما شرع من الأحكام للمسلمين، فوجب معها العمل بكل ما أمرهم به من التمسك بالعقائد والمحافظة على الدين، والذود على حياض الشريعة، والقيام في وجه العدو، والاتحاد على كلمة الإسلام، وغير ذلك من المصالح المتوقفة على الطاعة التي لا سبيل إلى أدائها إلا بالعلم بها، وما لا سبيل إلى أداء الواجب إلا به فهو واجب، فالطاعة واجبة، والعلم بها واجب أيضًا، وهكذا الحال في سائر ما جاء به الدين؛ لأن التوحيد الذي هو أول ركن من أركان الدين إنما دعانا الله إليه من طريق العلم، فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) فما بالكم ببقية فروع الدين وأصوله؛ لهذا كان العلم بالدين واجبًا على جميع المسلمين، وبمعرفة هذا الواجب عمل الصحابة الكرام بسائر ما جاء به القرآن، وأمر به نبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - فمن لم يكن منهم على علم تفصيلي بأمر الدِّين كفاه العلم الإجمالي، فدعا إلى الله على بصيرة، وعمل بعلم، وبهذا وَصَفَ الله المؤمنين، وإليه أرشدهم في قرآنه العظيم، فقال تعالى - مخاطبًا لنبيه -عليه الصلاة والسلام -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وبهذا أَلَّفَ الصحابةُ الكرام قلوبَ الأمم على الإسلام، وعَمَّموا الدين واللغة والسياسة بين الأنام؛ فملأوا الأمصار علمًا، وضربوا دون الجهالة سدًّا؛ فأخذوا بنواصي الأمم، وانقادت لهم الشعوب، وانحطت دون هممهم الهمم، وأخضعوا قياصرة الروم وأكاسرة العجم، ومرت على ما أسَّسوه من قواعد العمل بالعلم أعوام وأيام، أتى بعدها خَلْف انقلب إلى الشهوات، وقنع بآثار المجد، وخَلْف آخر أحرجه مرض القلوب؛ فلجأ إلى الحشو في الدين، والإكثار من القول على غير يقين؛ ففرقوا وحدة الأفكار، وشتتوا أجزاء الأمة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ألا بئس ما كانوا يصنعون! اهـ.

استنهاض همم ـ 8

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (8) وأما الشعب الفارسي، فهو حسن القابلية للحضارة، سريع الانقياد لدواعي التمدن العصري، واقتباس أساليبه على مقربة من المعارف والآداب، لولا ما مُنِي به من سوء إدارة أُمرائه، وتثاقل هممهم دون النهوض لإصلاح الشأن وبَثِّ العلم، وجمع الكلمة. مضى الشاه السابق لسبيله، وخَلَفه ابنُه الحالي؛ فتطايرت الأنباء بأنه راغب في الإصلاح، عامل على تهذيب أمته، مغذ السير في سبيل إسعادها، ثم لم نلبث عشية أو ضحاها، حتى خاننا الأمل، وخامرنا اليأس، واستطارت أخبارٌ عن شؤونٍ وأطوارٍ لا تنطبق على قانون انتظام الأمم، ولا تتمشى مع نواميس نهضة الشعوب. وأهم ما سُطِّرَ في تاريخ الأمة الفارسية لهذه الأزمنة المتأخرة، ظهورُ أحداث دينية، وتشعباتٍ مذهبية تَفَرَّقَ لها القومُ أحزابًا، وولجوا في أطوائها من المصائب بابًا بابًا. فتح ميرزا علي محمد للشعب بابًا؛ فقلنا: هو باب خير للإيرانيين يدخلون منه إلى جنات النعيم، فجاءهم من قِبَله العذاب الأليم! يا ويح الشرق ولتعاسته! أتعترض السحب المكفهرّة في سماء أهل الغرب، فتمطر عليهم النعماء، وتنبت في تربتهم أعشاب الفوائد، وثمرات المنافع؟ ‍‍‍‍‍‍‍ وإذا اعترض مثلها في أفق الشرق، ورجا أهله منها ما أصاب أهل الغرب؛ رمتهم بحجارة من سجيل، وأنبتت في أرضهم الحنظل والمرار (نبات مر) ، وأشواك المحن والمضار. تُلَوِّحُ في جَوِّ أولئك بوارقُ تُرِيهم في ظلمات أحوالهم مواقع الخلل، وتهديهم الجدد [1] ، وتعقبها صواعق تُقَوِّض صروح الاستبداد، وتمزق مسامع ظالميهم، وتحصد رؤوس منافقيهم. وإذا لاحت بارقة من مثل ذلك في جو هؤلاء المساكين؛ خطفت أبصارهم، وامتلخت قلوبهم، وبهرجت [2] بهم الجادة وأَرَتْهَا لأعدائهم، فسلكوها إلى أذاهم، ومحو صواهم [3] ، وانقضّت معها صاعقة زلزلت ديارهم، ومحقت خيارهم، ولبَّستهم شيعًا يذوق بعضهم بأس بعض. تهب أعاصير الشقاق في ربوع أوروبا؛ فَتَقْتَلِع تماثيل الضلال، وتُقَوِّض هياكل الظلم والاستبداد، حتى إذا هَبَّ في أصقاع الشرق ما يحاكيها؛ قَوَّضت صروح مجدهم، ونسفت معالم عِزِّهم، وكشفت الغطاء لعدوهم عن عوارهم؛ فأغرته بهم، ومَهَّدَت أمامه طرق الاستيلاء عليهم، يا سبحان الله! أما كانت التَّحَزّبات والتشعبات سببًا في نهضة أوروبا وتنبهها؟ أما كانت مدعاة ليقظتها من غفلتها؟ أما هي التي رمت جذوة الغيرة في قلوب الأحزاب والطوائف؛ فنشطوا للأعمال، وتنافسوا في إحراز الكمالات؟ أما هي التي رفعت برجال كل قبيل؛ للعمل في خدمة قبيله، وتفضيله مصلحته على مصلحة القبيل الآخر؟ أما هي التي بعثت رجال كل طائفة على تذليل المشاق، والاستهانة بالأخطار في سبيل بث تعاليم طائفتهم، ونشر لغتها وآدابها وعوائدها؟ مَن يصدق أن الثورة الفرنسوية العظمى، بل الفظاعة البربرية الشؤمى هي كما زعموا جرثومة الإصلاح في الغرب، وأرومة تلك المدنية العبقرية التي يتنافس فيها المتنافسون، وأن صُبْح الحرية لم يتنفس في جو الغرب إلا بعد أن استمد أنواره من نيران ذلك البركان المتفجر، والجحيم المتسعر، فما لحباحب حادثة الباب جرَّت على الشعب الإيراني الويل والبلاء، وسحبت على معالم عِزِّه ذيول الخيبة والعفاء؟ أسباب ذلك كله أسرار مكتومة في مطاوي شؤون معلومة، وما يعقلها إلا العالمون. ومما شرحناه من حال الحكومتين الأفغانية والفارسية؛ يستبين للنبيه أنهما على مقربة من مداخلة الأجنبي، والوقوع في حبالة طمعه، لا سيما والعدو منهما على قاب قوسين أو أَدْنى - عدوهما اثنان الروسية تشرف عليهما من جهة الشمال، وإنكلترا من الشرق، أما الروسية فدعواها بطمعها فيهما اعتراضهما في طريقها إلى البحر؛ لأن لهفها زائد، وشوقها قوي لتوسيع دائرة تجارتها، وهي إن أصدرت من داخليتها مصنوعاتها ومحصولاتها غمرت وجه البسيطة، وإن استوردت حاجاتها من الخارج استنزفت ما للبشر من المصنوعات والمحصولات، كل ذلك لوفرة عدد رعاياها، وكثرت انفساح بلادها، فهي في ظمأ شديد لورود بحار تتناول منها وتناولها وماء البحر الأسود وقزوين والبلطيق ثماد ووشل لا ينفع لها غلة، ولا يشفي علة، ولُجَج المحيط الباسفيكي التي تردها في الشرق الأقصى، وإن كانت كافية لرِيِّها؛ لكنها بعيدة عن مركز التجارة العام، مترامية عن الجادة العظمى التي تصل الشرق بالغرب، وتسلكها شعوب الخافقين، فليس على كثب منها سوى البحر الهندي والذي يصدها عن وروده الحكومتان المذكورتان، وكذا الهند والولايات العثمانية الشرقية، فهي في حاجة إلى احتلال هذه المراكز، وقوتها أحدثت لها طمعًا في الاستيلاء عليها، أوالطمع في الاستيلاء أحدث لها القوة واستحثَّها لتوفير وسائلها، وهذا الذي أَسْهَرَ عَيْنَ إنكلترا، واستطار لُبَّها. وقد شرعت الروسية بالعمل؛ فتغلبت على كثير من الإمارات التترية، وأَلْقَتْ بنفوذها في صحراء مرو المتاخمة لحكومتي الأفغان والفرس، وأنبأتنا الجوائب الأخيرة أن السكة الحديدية التي مَدَّتها الروسية في صحراء مرو، قد أخذت قضبانها تناطح حدود هاتين الحكومتين، فليطرب أفغانيي هرات وفارسي مشهد لسماع تلك الألحان - أزيز مراجل السكة الروسية، وزمير بخارها، وزمزمة رجالها. إنكلترا حرصها على الهند، وتفانيها في حفظه أخرجها من الاعتدال، وزحزحها عن موقف الكمال، وحملها على الجشع في كل ما له مساس بالهند؛ فتراها في ظمأ شديد لعبّ البحار، حتى كان بها داء الاستسقاء، وفي قرم زائد لالتهام الشعوب، كأنها أصيبت بجوع البقر، وما ذلك إلا شغف بالهند، وحذر عليها من أبناء أبيها آدم، والحكومتان الأفغانية والفارسية واقعتان في قارعة الطريق الأعظم المؤدي إلى الهند، فلا غرو أن كان لهما خطر وشأن في نفس إنكلترا. ومما يشحذ من غرار طمعها في هاتين الحكومتين، ما تراه من دأب الروسية في التقرب منهما، والتزلُّف إليهما، والتحويم حولهما؛ فتخشى أن تصيبهما يومًا ما دائرةُ سوء من قِبَلها، أو تمسي الروسية محتفَّة بالهند، وآخذة بأكظامه (مدارج أنفاسه) شمالاً وغربًا؛ فإنكلترا في أوساط آسيا أخشى مَن تخشاه؛ بل لا تخشى أحدًا سوى الروسية، تحذر من أن يشتد بها الظمأ؛ فتهوي بكتائبها الرجراجة من قمم جبال هندكوش على تلك البسائط، ولا تقف إلا حيث تتنفس أمواج البحر الهندي. ((يتبع بمقال تالٍ))

مراكش

الكاتب: كاتب من تونس

_ مراكش لمكاتبنا الفاضل في تونس مضت السنون، وتطاولت الأزمان على سلطنة مراكش وهي على حالتها الطبيعية، لم تسعَ - ولو بعض السعي - في تحسين أحوالها الداخلية، بل راضية بما هي عليه من الحالة الراهنة التي أمست فيها رعاياها، كأمة فوضوية؛ حيث إننا نرى كل يوم في أعمدة الجرائد أن القبيلة الفلانية شقت عصا الطاعة، وسكان الجهة الفلانية نهبوا أو قتلوا بعض الرعايا الأجنبية، ونحو هذا من الأخبار المحزنة التي تفتت لها أكباد مَن كانت لهم أدنى حمية إسلامية. هذا، والسبب الوحيد في استدامة الأمة المغربية هذه السيرة، هو حب ملوكهم للاستبداد والجهل المستولي على عقول الرعايا، ولو فَتَحَت بينهم المكاتب، وتغذت أبناؤهم بلبان المعارف؛ لعرفوا اليوم ما لهم وما عليهم. ألا ترى أن أوروبا كانت أتعس القارات؟ وكان الاستبداد والظلم فيها سائدَين، ولمَّا بثت بين سكانها العلوم؛ عرفوا حقائق الأمور، وقَيَّدوا استبداد حكامهم بسلاسل القوانين، ولم يَقِف في سبيل عملهم هذا عظمة الملوك والإمبراطورين، ولا تَحَزُّب أحزاب الأشراف، وتعصب النُبَلاء والكبراء. إن هاتِه المملكة القائم استقلالها على أسِنَّةِ رماح أوروبا، لولا التحاسد؛ لاحتلتها أقلَّ الدول الأوربوية، ولم ينفعهم ذلك الكَرّ والفَرّ، وتلك الشجاعة البربرية أمام النظام وصواعق الآلات. ومن العجيب أن القوم لم ينتبهوا، وقد تكررت عليهم المصائب الأوربوية، ولم تدخل فيهم روح الغيرة، وقد جعلت أرضهم للاستظهارات الحربية! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ألم يقرأ سلطانهم وعلماؤهم وأعيانهم قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ؟ ألم يطَّلِعوا على الحديث الشريف: (مَنْ قَاتَلَ فَلْيقَاتِلْ كَمَا يُقَاتِلُ) ؟ لقد كان الخلفاء الراشدون - رضوان الله عليهم - عاملين بإرشاد كتابهم، وهَدْي نبيّهم، ولقد كانت وجوههم مشرقة بنور الإسلام، وقلوبهم تخفق بأجنحة الإيمان، ولم يعتمدوا على ذلك، بل فعلوا ما أمرهم الله من وجوب اعتبار السبب قبل الاتِّكَال؛ حتى بلغت الأمةُ الإسلامية في تلك الأزمان أقصى درجات العز، وداست أقدام الجنود الإسلامية غالب المعمور، وعبثت باستقلال مَن هُم أشد منها باسًا وأقوى سلطانًا. وهكذا كانت حالة الإسلام نحو سبعة قرون، مع أن الخلافة انقلبت إلى الملك وانغمست الأمة في الترف، إلا أنهم كانوا محافظين على الشريعة، عاملين بإرشادها، ولا سيما فيما يتعلق بأمر المصاولة والمكافحة، وبذلك دام ملكهم، واتسعت فتوحاتهم، ووصل الإسلام إلى أوْج الفخر، وقصارى العز، ولمَّا نَبَذْنا الشريعة وراءنا، وتَتَبَّعْنَا الأهواء والصالح الذاتي؛ دارت علينا الدوائر، وفُقدت غالب الممالك الإسلامية من أيدينا، وصِرْنَا اليوم موسومين بأننا لسنا قادرين على تدبير الملك. إن الممالك الإسلامية هي التي جعلت الأمم الأجنبية في ريب من شريعتنا السمحة الصالحة لكل زمان ومكان، فزعموا أنها غير كافية في هذا العصر لإدارة الأمور الدنيوية، بل يجزمون بأن ذلك التأخر الضارب أطنانه في كل شعب إسلامي ناشئ عن دواعٍ دينية، ونحن لا نعترض على من يَعْتقد هذا الاعتقاد؛ إذ جهله بالشريعة الإسلامية يجعلنا نضرب عن قوله صفحًا، وقد شَهِد العارفون منهم بحسن شريعتنا، وصلاحيتها دينًا ودنيا، كما أننا لا نحتاج إلى استحسان قول زيد، وانتقاد قول عمرو، وإنما أقول: إن الخلل المُحْدِق بالممالك الإسلامية في هاته القرون الأخيرة، كان منشؤه الانحراف عن الدين؛ بإيثار الملوك منافعهم الشخصية على المنافع العمومية، وانقسام السلطة، والانهماك في اللَّذات، فلم تسقط الممالك الأندلسية التي سقط لسقوطها عِزُّ الإسلام شرقًا وغربًا إلا لانقسامها إلى ملوك طوائف، ولو لم تخرق ملوكها سياج الشريعة؛ لكانت اليوم أعظم الدول نظرًا لما أَبْدَته الأمةُ الأندلسية من الاستقامة والتدبير والمدنية. ولكن أنَّى لها ذلك، وقد سبق في علم الله القديم أن تلك المملكة لا بد أن تُمحَى بسوء تدبير سواسها من لوح الوجود. ولنُثنِ عِنان القلم إلى بيان أحوال مملكة الغرب الأقصى لهذا العهد، فنقول: كلما وقع حادث سياسي في تلك الأصقاع يزداد النفوذ الأورباوي هناك، ويتخذ الأجانب كل واقعة ذريعة إلى تنفيذ أغراضهم، وزيادة التداخل في أحوال المملكة الداخلية، وهذا أمر يُخشى معه على استقلال تلك المملكة؛ إذ الحوادث الماضية أرتنا ما تفعل يد الدسائس الأجنبية في الممالك الشرقية، وقد صارت اليوم هدفًا لنبال الدسائس، وآلة بيد الأجانب، ومع ذلك لم يتعظ القوم، بل مازالوا على ضلالهم القديم، ولو كانوا يتعظون لاتعظوا بحربهم مع فرنسا سنة 1260 الذي تسبب عن دخول الأمير عبد القادر الجزائري الشهير إلى أراضي المغرب؛ إذ إن رجال المغرب في ذلك الوقت كانوا غافلين عما صارت إليه الجنود الأورباوية من النظام؛ فلم يكترثوا بالجند الفرنساوي الذي كان ضاربًا أطنابه بالقرب منهم، وعندما قصد المارشال الفرنساوي بجنوده المنظمة المحلة المغربية، لم يجد أمامه إلا قومًا مذبذبين، ليس لهم نظام ولا معرفة بالمواقع الحربية، وقد قاد هذا الجند المختل الأمير محمد ولم يكن على علم بقيادة الجيوش في ميادين القتال، ولكنه اكتفى بكثرة ما لديه من الجنود، فلما التقى الجمعان، انهزمت الجيوش المغربية الجرَّارة أمام الجيوش الفرنساوية القليلة أسوأ الانهزام، وما ذلك إلا بسبب النظام وحسن الآلات، والمعلومات الحربية التي صارت اليوم علمًا طويلاً يتنافس فيه أولو الغيرة الوطنية، والحمية الجنسية. وكم من حادثة مثلها، أو أشد منها عليهم. وغير بعيد ما حلَّ بتلك الحكومة من المذلة والعار في واقعة مَلِيلَة التي دفعت فيها لحكومة الأسبان عشرين مليون فرنك إرضاءً لها عن تعدي القبائل على حدودها ورعاياها، وليست هذه بالأولى، بل في كل عام تدفع قسطًا عظيمًا من دخلها؛ إرضاءً لزيد، وتسكينًا لغضب عمرو {أَوَ لاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) . ولو حَسَّنت داخليتها، وكَفَّت أيدي رعاياها عن أي تعدٍّ، وجمعت تلك الأموال التي تدفعها كل عام، وفتحت بها مكاتب أماطت بها حجاب التغفل عن عقول أولئك القوم، لكان خيرًا لها، وأقوم لشرفها وبقائها بين الأمم، فكل ذي لب يعلم أن تقدم تلك المملكة متوقف على بث العلوم والمعارف - لا سيما التاريخية والاقتصادية، والزراعية والعسكرية - بين سكانها؛ حتى يعلموا أن وراء البحار أممًا يسهرأهلهاعلى مصلحة بلادهم، والذَّبِّ عن أوطانهم، ويتعاضدون على كل ما يعود عليهم بالفخر، وعلى أوطانهم بالعمران، وأن لهم جنودًا قد فاقت الحد عُدة وعددًا وأساطيل، يَرْتَجُّ لها المحيطُ عندما تعلوه، وتَخِرُّ لها الاستحكامات والحصون، وتميد لها الجبال، وأن العلوم والمعارف عندهم نافقة أسواقها، متدفقة سيولها، ولها أبناء قد تغذوا بلبانها، وشَبُّوا وشابوا على حبها، ومطالعة جمالها، وهاهم اليوم مثابرون على إصلاح أمورهم، ومتعاضدون على مصلحة أوطانهم، وكلما يرون بلدًا مختل النظام كبلادكم، أو إقليمًا عديم التدبيركإقليمكم، يستولون عليه بدعاوي سياسية، ويتخذون ذلك الاختلال حجة للاستيلاء، وإذا دافع عن نفسه ضربوه بحد السيف، وأجبروه على ترك الاستقلال. إِلامَ - أيها الإخوان - أنتم غافلون؟ ! وحَتَّامَ - يا أبناء الأعزاء - وأنتم متكاسلون؟ ! ألم يَدْعُكم كتابُكم إلى تحسين أحوالكم الدنيوية، كما دعاكم إلى تحسين أحوالكم الأخروية؟ ‍‍‍‍‍‍‍ ألم يَدْعُكم نبيُكم - عليه أفضل الصلاة، وأزكى التسليم - إلى الذَّبِِِ عن حوزة المِلَّةِ والدِّين ‍‍‍‍؟ أم لم تُنَبِّهْكم الحوادثُ التي رأيتموها، وتََزْجُرْكم المَذلة التي شاهدتموها؟ أم لم تتعظوا بما حَلَّ بإخوانكم، لمَّا كانوا مثلكم غافلين؛ فعبثت يدُ الأجانب باستقلالهم، وداست أقدام العدو أعناقهم، ولم ينفعهم الندم بعد حلول القضاء، ولم يُنجِ التأسف عند فتح باب البلاء. لِمَ لا تنبذون هذه المذلة وأنتم قادرون على الابتعاد عنها؟ ! . وعَلامَ لا تنتقلون من هذه الحالة التي يجب انتقالكم عنها؟ ! . أترضون أن تدخل بيوتكم الأعداء، أم تحبون أن تستولي على أوطانكم الأخصام الألدَّاء. تلك نصائح صادرة عن حمية إسلامية، والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو على ما نقول وكيل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ش. د)

أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [[1] منشئ هذه المجلة مسلم من سلالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يُعبد غيره، ولا يُستعان إلا به {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، ولا يُتَقَرَّب إليه إلا بالإيمان والعمل الصالح، وترك المحرمات والقبائح، ويشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ما أرسله مسيطرًا على العباد، ولا وكيلاً ولا جبارًا، وإنما أرسله مبشرًا ونذيرًا، ويشهد أن جميع ما جاء به عن الله حق؛ مَن تمسك به سَعِد، وإن كان عبدًا زنجيًّا، ومَن أعرض عنه شقي، وإن كان قرشيًّا فاطِميًّا؛ ففي حديث البخاري مرفوعًا: (يا فاطمة يا بنت محمد سَليني مِن مالي ما شئت؛ لا أغني عنك من الله شيئًا) ويعتقد أن الله تعالى لم يجعل لأحد من عبيده الأحياء - فضلاً عن الأموات - قدرة على التصرف في الكون، وإسعاد الناس وإشقائهم وراء الأسباب العادية التي يصل إليها الإنسان بجِدّه واجتهاده، وكسبه واختياره، وإن هذه الأسباب منها ما هو مشهور يعرفه جماهير الناس، ومنها ما هو خفي لم يصل إليه إلا بعضهم. هذا مجمل ما يعتقده ويدعو الناس إليه في (المنار) ، ولكن هذه الدعوة ساءت الذين بنوا هياكل مجدهم وسيادتهم على أساس الاعتقاد بأنهم هم وشيوخهم يتصرفون في الأكوان، فيُسعدون ويُشقون، ويُميتون ويُحيون، ويغنون ويفقرون؛ فقادوا الناس بسلاسل الوهم إلى الخضوع لهم، حتى فَسَد دِينُهم، وخربت دنياهم. وحَبَّبَ هذا الاعتقاد إلى الدَّهْماء ما فيه من تخفيف ثِقَل التكليف، بل ما فيه من معنى الإباحة. وأي إباحة أعظم من اعتقاد المنتسب للطريقة الرفاعية أن مَن يلمس يد الرفاعي أو أحد خلفائه وذريته لا تحرقه النار! ، كما هو مذكور في كثير من كتب هذه الطائفة التي نشرت بالطبع في هذه العشرين سنة الأخيرة، وأي تغرير بالمسلمين في دينهم أعظم من قول هؤلاء القوم: إن السيد أحمد الرفاعي الكبير قال: إن الولي يصل إلى درجة يقول فيها للشيء كن فيكون! (راجع صفحة 85 من كتابهم المسمى إرشاد المسلمين) ، فناشر هذه الكتب والتعاليم، وهو الشيخ أبو الهدى أفندي، الشهير لا شك أنه استاء مما يدعو إليه (المنار) ، فكتب إلى ابن عمه متصرف طرابلس بدري باشا بأن يضطهد أهلينا، فاتفق مع العسكرية على إرسال إخوتي في العسكرية، مع أنهم من طلاب العلم الذين استثناهم القانون، وأحدهم جاوز الأسنان بهذا الاستثناء، ولم يكتفِ بهذا، بل هددهم بأكثر منه، مما لا نذكره إلا إذا وقع. وقد علمنا من أخبار الآستانة أن سماحته عازمة على إرسال شخص من أتباعه إلى مصر ليقتل منشئ (المنار) ، وليس هذا على أفكاره ببعيد؛ فقد كان صرَّح لمدير الجريدة - عندما كان في الآستانة - بأنه يرسل كتابًا إلى اللورد كرومر يطلب فيه إرسالي إلى الآستانة بالقوة، وإلا يرسل مَن يقتلني في مصر. وكأنه حسب أن اللورد كرومر، كابن عمه بدري باشا متصرف طرابلس - يطيع أمره؛ لأنه يخدم السفارة الإنكليزية أحيانًا، ولكن أخطأ حسبانه. أما عزمه على قتل هذا الفقير، فهو لأجل أن يدَّعي - إذا تم له هذا - بأنه كرامة من كراماته، كما ادَّعى أن موت المرحوم السيد جمال الدين كرامة له. {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (التوبة: 51) ، إذا تم لبدري باشا استخدام الهيئة العسكرية في اضطهاد قومنا، فإننا نأسف على إهانة الشرف العسكري العثماني أشد مما نأسف لإهانة أهلينا، على أننا ممن يرى العسكرية شرفًا وأن تَرَفُّعَ أهل العلم والشرف عن خدماتها خطأ، وعائق عن ترقيها، وبلوغها الكمال، وإننا ننتظر ما يتم في هذه المسألة، فإذا ظَلُّوا متمادين في ظلمهم؛ نكشف الستار عن مخبآتهم في الهيئتين الملكية والعسكرية، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تابع قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني هذا الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة 1881 كثير النتائج الحسنة في زيادة مالية المملكة العثمانية، لا من حيث ما لَقِيه من الفوائد العاجلة فقط، بل من حيث الفوائد المستقبلة التي جعلها سهلة الحصول. وقد وضعت جلالة السلطان بما عهد فيها من الحكمة في الإرادة السنية التي صدرت بهذا الاتفاق في شهر ديسمبر سنة 1881 - مبدأ تحويل الدَّيْن العثماني الذي وحَّده توحيدًا، كان فيه أكبر فائدة لجميع المعاملات العامة ولمصلحة حسابات المالية. لم يتوقف وكلاء البيوت المالية بلندرة وباريس وفينا وبرلين، وهم أصحاب الأغلبية من حاملي السندات العثمانية في قبول هذا المبدأ، فصدرت إرادة سنية في 31 يوليه سنة 1883 بالتصديق على مشروع مجلس إدارة الإيرادات المتنازل منها للدائنين، الخاص بتحويل الدين العمومي الذي نقص مقداره - كما علمت - وبالتصريح بإصدار سهام جديدة. آخر الأعمال التي حصلت في هذا الشأن بعد تاريخ صدور هذه الإرادة - كان في 13 مايو سنة 1884 ولمَّا تعين المندوبون لمراقبة التحويل في 23 يوليه من هذه السنة، ابتدأت الأعمال في 20 نوفمبر منها، وتَحَرَّر لإنجازها ميعاد من أول مايو سنة 1888 إلى 13 منه. غير أن هذا التحويل - أو توحيد الدين العمومي العثماني - إن أردت تسميته باسمه الحقيقي، لم يكن إلا مقدمة لاتفاقات أخرى كان من شأنها - فضلاً عن استمرارها على تقليل مقدار الدين العمومي والدين الداخلي المتداول - أن تورد للخزينة العثمانية مبالغ مهمة. كذا كان تحويل الدين الممتاز وقرض الدفاع في 27 إبريل سنة 1890. وصدرت إرادة سنية مقتضاها، اقتراض مبلغ 19568500 فرنك يكون ممتاز التحويل، بفائدة أربعة في المائة، تضمنه إيرادات الدين العمومي؛ لتحويل السندات التي فائدتها السنوية 5 في المائة الممتازة المضمونة بتلك الإيرادات، أو تسديد قيمها تبعًا لإرادة حامليها. قُسّم هذا القرض إلى 391363 سهمًا لحاملها، قيمة كل منها 500 فرنك، وربحه السنوي عشرون فرنكًا، تُدفع أثمانها على أقساط متساوية في أربع وأربعين سنة، أو على ثمانٍ وثمانين سحبة، تُحصل في كل نصف سنة منها واحدة بالقسطنطينية في شهر فبراير وأغسطس من السنة، تحت ملاحظة مجلس إدارة الدين العمومي، والمصرف (البنك) العثماني، وربح هذه السهام يدفع ذهبًا في كل نصف سنة، يومي 13 مارس و13 سبتمبر من السنة بمدن باريس والقسطنطينية ولندره وبرلين وفرنكفورت وأمستردام في مكاتب المصرف العثماني، أو مكاتب وكلائه، حُدِّد ثمن السهم من هذه السهام الجديدة بمبلغ 411 فرنكًا وخمسين سنتمًا، من 13 مارس سنة 1890 وأعطي الحق لحاملي السندات الممتازة التي ربحها السنوي 5 في المائة في الاشتراك بالأولوية في تلك السهام بسعر 110 فرنكات، بدون أن ينقص هذا الحق شيئًا من حقوقهم، أو أن يدفعوا في نواله شيئًا. إن مقدار الدفعة السنوية الواجبة لحاملي السندات الممتازة التي ربحها 5 في المائة، والتي حُدِّد لتمام سدادها سنة 1906 - كان بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر 1880 مبلغ 537000 جنيه إنكليزي، أما السهام الجديدة، فلما كانت دفعتها السنوية مبلغ 392000 جنيه إنكليزي فقط، فقد نتج من ذلك نقص، فيما كان يدفع مسانهة قدره 145000 جنيه إنكليزي في السنة، خُصص لسداد (استهلاك) أربعة أنواع الدين على نسب متساوية، إلا الأول منها، فإن ما خُصص له من هذا المبلغ هو 10000 جنيه إنكليزي فقط. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

مقتطفات الأخبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات الأخبار نَعى إلينا بريدُ سوريا الأخير رجلاً جليلاً من أشهر سروات طرابلس الشام وأَمَاجِدِها، وهو الحاج عبد القادر أفندي علم الدين توفاه الله تعالى في يوم الأربعاء الأسبق، لستٍ مضين من صفر، عن نحو ثمانين سنة. أما الرجل، فقد كان سيد قومه، ومفخر وطنه، مشهورًا بالتقوى والصلاح، والبر والإحسان، والرفعة والشَّمَم، والرفق والتواضع، وحسن المعاملة قضاءً واقتضاءً. وهل يسود التاجر التجار، ويكون الوجيه في قومه محل الثقة والاعتبار، إلا بمثل هذه المزايا والصفات؟ ! ، فنعزي آل علم الدين الكرام، بهذا الفقيد الجليل، لا سيما شقيقه الهمام، صاحب العزة الحاج عبد الرازق أفندي أحد أعضاء محكمة الجزاء، وأنجاله الفضلاء الذين يُحيون ذكره بغُرر خصالهم، ومحاسن أعمالهم، أحسن الله لهم العزاء، وجزى الفقيد في مقعد الصدق خير الجزاء! *** اجتمع مجلس النُّظَّار في يوم الأربعاء الماضي في نِظَارة الداخلية تحت رئاسة عطوفتلو مصطفى فهمي باشا، وأهم ما قرره التصريح لشركة إنكليزية باحتكار المِلح في القطر المصري، ولشركة طليانية بإنشاء ملاحات في بورسعيد؛ لخزن الملح فيها. وعلى تعيين صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية عضوًا في مجلس شورى القوانين. وقد عَظُم على المصريين أمر احتكار المِلح، ولقد كانوا في حَرج من احتكار الحكومة له، فكيف وقد احتكرته شركة أجنبية؟ ! *** ذكرنا في الجزء الحادي عشر، الذي صدر في 17 محرم أن الباب العالي أَمَر سَفيريه في لندن وباريس بالاعتراض على وِفَاق النيل بين إنكلترا وفرنسا؛ لأنه مجحف بحقوقه، وقد ذَكَر المؤيد الأغر في هذه الأيام أن الباب العالي بلَّغ الحكومة المصرية مغزى الاحتجاج، ومما جاء فيه قوله: إن الباب العالي أبلغ الحكومة الخديوية، بأنه رأى في المعاهدات الإنكليزية الفرنساوية بشأن السودان أخيرًا ما يخالفه مقتضى قانون حقوق الدولة العلية؛ لأنها جعلت ما وراء طرابلس داخلاً في النفوذ الفرنساوي، مع أن المعاهدات الدولية ناطقة من قبل بأن البلاد السودانية من أملاك الدولة العلية؛ لذلك احتج الباب العالي على ما فعلت الدولتان، وسارت العساكر الشاهانية؛ للمحافظة على أملاك الدولة العلية وراء طرابلس؛ مما زعم أنه داخل بمقتضى الاتفاق الأخير ضمن دائرة النفوذ الفرنساوي. وأنه صار من واجب الحكومة الخديوية إرسال قوة (فعلية) ؛ للمحافظة على الأراضي التابعة للخديوية المصرية، التي هي من أملاك الدولة العلية. اهـ. *** (المطالب) جريدة أسبوعية كانت صدرت في القاهرة، ثم أُقْفِلت، وقد أُعيدت في هذه الأيام ثانية، على أن تصدر في أيام الجُمع والآحاد، وانتهى إلينا أن صاحبيها الأديبين حسين بك شاكر وحسن أفندي لبيب سيسلكان بها مسلكًا خيرًا من مسلكها الأول، حقق الله لهما الآمال ورزقهما في عملهما النجاح! *** (انتباه) جريدة تركية، أصدرها في القاهرة الكاتبان البارعان علي مظفربك ومحمد توفيق أفندي، ولم نقرأها، إلا أننا نستدل من تصديرها برسم السلطان مراد على غرض صاحبيها منها، وهنا نستلفت الأنظار إلى ما كنا كتبناه عند ذكر جريدة (أنين مظلوم) ، من أن الطمع في إرضاء الدولة لمَن ينتقد سياستها بالمال، هو الذي أوجب زيادة القيل والقال؛ حتى صار يتعذر التمييز بين الصادق والمحتال، وبين طالب الإصلاح ومبتغي الأرباح.

النهضة الإسلامية في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النهضة الإسلامية في مصر قالوا: إن للأمم ثلاثة أدوار: نموٌ، ووقوفٌ، وهبوط يَتْلوه الموت، ولكن، كيف تتكون الأمة، فتتقلب في هذه الأدوار؟ كانت الأمم تتكون بالعصبية والحرب، وتحيا بقوة الساعد، وكثرة عدد المساعد، وأما في هذا العصر، فقد ارتقى النوع الإنساني عن أن تكون حياته بقواه الحيوانية وكثرته العددية، وصارت حياتُه بالقوّتين: العلمية، والأدبية، وما ينشأ عنهما من القوة الصناعية، وفي اليابان والصين آية مبصرة للناظرين. وكيف تنهض الأمم الخاملة بالعلم، وتحيا بعد موتها بالآداب؟ يسوق الله تعالى إليها، أو ينشئ فيها أفرادًا من أصحاب العقول الكبيرة، والهمم العالية، والفضائل السامية، تكون لهم هذه المزايا بالفطرة، فيدركون بها علل ضعف الأمة وخمولها، وأسباب صحتها ونباهتها، ويجتهدون في نشر هذا فيها بالتعليم الصحيح، فعندما تُُلقى هذه التعاليم في الأمة تضطرب لها - وكيف لا يضطرب الساهي تفاجئه صيحة الحق؟ ! - ثم تقع في حيرة، لا تدري هل الصواب بقاؤها على ما كانت عليه؟ ، وإن أُنذرت بأن فيه حينها وهلاكها، أو الأخذ بما تُدعى إليه، وفيه مفارقة عادها ومألوفها. ثم يكون الناس أزواجًا ثلاثة: (1) مقاومون معاندون ينفرون عن الدعوة إلى الإصلاح باسم الدين. (2) مخضرمون يصيخون إلى الدعوة، فلا يعقلونها كما هي، فيكون من أثرها فيهم: نبذ التعاليم العتيقة - حسنها وقبيحها - والاكتفاء من التعاليم الجديدة بما لا يظهر أثره في الإصلاح؛ فيكونون بما استهانوا به، حتى من محاسن أسلافهم، وبما عساه يوجد فيهم من المغامز الشخصية حجة للمعارضين المعاندين. (3) وعقلاء فضلاء يكتنهون شؤون الأمة، ويقفون على عِلَلها وأمراضها، ولو في الجملة، ومتى أخذوا بالعمل يزدادون بصيرة وعلمًا، ولكن أشعة أفكارهم لا تخترق حجب الأوهام الضاربة في أذهان بني وطنهم إلا رويدًا رويدًا، كما هي سُنة الله في الإنسان، يعرج في سلاليم الترقي درجة درجة، لا أنه يطفر طفورًا. كان مبدأ هذه النهضة في مصر رجل أعجمي الوطن، علوي النسب، وهَبَه الله من ذكاء العقل وذكاء الفطرة، ما يندر مثله في الأجيال الكثيرة والقرون الطويلة، إلا وهو الحكيم الإسلامي الشهير السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني، نوَّر الله مرقده! تربّى الرجل تربية دينية، فقرأ العلوم الإسلامية - وسائلها ومقاصدها - وبرع في الفنون العقلية، كالحكمة القديمة والكلام والأصول، ثم نظر في الفنون الرياضية والفلسفية على طريقة أوروبا الحديثة، وسلك طريق التصوف سلوكًا كاملاً وأضاف إلى علمه الواسع في التاريخ الاختبار بالسياحة، وعني أشد العناية بدراسة أحوال الإسلام، وتعرف أمراض المسلمين الاجتماعية، التي أرجعتهم من مقدمة الأمم إلى ما وراءها.. إلخ، ما هو معروف من سيرته، وقد كان وقف نفسه على تنبيه المسلمين من غفلتهم، وإرشادهم للقيام بواجب شؤونهم؛ لكي تلحق الأمة بالأمم العزيزة، ولكن الأمة أمست كالمريض الأحمق، يأبى الدواء ويعافه من حيث إنه دواء! ، وقد اعتادت منذ قرون على أن لا تقبل إصلاحًا إلا إذا كان صادرًا من جانب القوة الحاكمة؛ ولذلك لم يوجد مستبد ظالم من سلاطينها وأمرائها حاول عملاً مضرًا وقاومته فيه، بل تستبدل المساعدة له بالمعاندة، فإذا استفتى العلماء يحرفون له الكلم، فيفتونه، وإذا استرفد الوجهاء يبذلون له النفس والنفيس، فيرفدونه، ولأجل هذا لجأ السيد جمال الدين إلى عالم السياسة، وحاول أن يكون الإصلاح من جانب الملوك والأمراء؛ لتخضع له الأعناق، ويسري سريان الرياح في جميع الآفاق. ولقد كان سَلَك في مصر طريقة الإصلاح المثلى، وهي التربية والتعليم، فانبرى له علماء السوء الذين أظهر تقصيرهم في العلم وخطأهم في التعليم، فوضعوا في طريقه الأشواك والعواثير، وحاربوه بسلاح الدين الذي جعلوه آلة للدفاع، وأُحبولة للانتفاع، وذلك بأن نفثوا في رَوْع الدَّهْمَاء من الناس بأنه منحرف عن هدْيه، وشارك بعضَ علماء السوء في مظاهرته بعض ُالمخلصين، انخداعًا لهم، وكان لهم في ذلك شبهات ثلاث: (أولاها) : أنه كان يعرف الفلسفة، ومتوغلاً في العلوم العقلية، وهذا النوع من السلاح هو الذي حاربوا به أساطين الأمة من قبل، وبهذه الشبهة كفَّروا الإمام الغزالي وأضرابه وأحرقوا كتابه (إحياء علوم الدين) في الشرق والغرب، ثم كتبوه بعد ذلك بماء الذهب، وسَمُّوا صاحبه (حجة الإسلام) ، وكذلك يفعلون! (الثانية) : عدم التقيد بالعادات التي ألفوها، ولوَّنوا الكثير منها بلوَن ديني؛ فصار في نظر العامة من شعائر الدين، وهو في الحقيقة مخالفٌ لأصوله أو فروعه. (الثالثة) : أن كثيرًا من المترددين عليه والمتلقين عنه، كانوا لا يُبَالون بأمر الدين، وإنما كان لهم هذا من فساد تربيتهم الأولى، لا من الاجتماع به؛ إذ لم يكن هو الذي ربَّاهم وعلَّمهم من النشأة الأولى، والرجل كان يبذل الحكمة لكل مَن يحضر مجلسه، من بر وفاجر، ولا يمنع منه مؤمن ولا كافر، والناس معادن كل يؤخذ ما يلائم معدنه ويناسب مشربه، والحكمة كالمطر تُلقى في أرض النفوس، فتتكيف كل نفس منها بحسب استعدادها، كما يغتذي البِطِّيخ والحنظل النابتين في أرض واحدة من ماء واحد، ويكون ثمر أحدهما حلو المذاق، والآخر مُرًا زعاق: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) . كان فريق ممن يحضر مجلسه يُسيء الفهم، ويُسيء الأداء، ومنهم الذين يلوون ألسنتهم بالكتاب ويحرفون الكلم عن مواضعه، ومنهم الذين يقولون كذبًا ويخلقون إفكًا. وكل هذه الفرق كانت توجد في زمان الإصلاح النبوي، وإبَّان نزول الوحي وظهور الآيات البينات. فما بالك بأتْباع غير الأنبياء ومتبوعوهم مهما عظمت حكمتهم ضعفاء؛ لأنهم - وإن مُنحوا الحكمة - لم يؤيَّدوا بالعصمة. إنني ما لقيت الرجل، ولكنني استقريت أنباءه وتتبعت مواقع الانتقاد عليه حتى عرفت مثارها، ووقفت على مهب أهوائها. علمت أن بعضها كان من سوء الفهم، وبعضها من سوء قصد الناقلين المذاعين، ألا لعنة الله على الكاذبين. أذْكُر لسوء الفهم مثالاً واحدًا، قال لي منتقد من أهل العلم: إنني حضرت مجلس السيد جمال الدين حتى نهانا عن الصلاة في يوم من الأيام، فانقطعت عنه! فقلت له: كيف كانت القصة؟ وهل نهاكم عن الصلاة نهيًا صريحًا بأن قال: لا حاجة إلى الصلاة، أو لا تصلوا؟ ! فقال: لا وإنما تكلم عن الصلاة كلامًا أبان فيه عن أن صلاتنا لا يعبأ اللهُ تعالى بها، ولا يقبلها بأن قال - ما ملخصه -: إن الأعمال الظاهرة في الصلاة، كالركوع والسجود، هي كأعضاء الجسم والإنسان، ليس إنسانًا بأعضاء جسمه، وإنما هو إنسان بروحه ونفسه، وروح الصلاة الشعور بعظمة الله تعالى وكمال سلطانه فيها، وتدبر ما يُتلى من القرآن والذكر المعبر عن ذلك بالخشوع. قال محدثي: وإذا كانت صلاتنا ليست على هذا الوجه الذي لا يرضى الله تعالى إلا به، فلا شك أنه يعني بأن الأوْلى تركها، مع أن قصارى ما قاله فقهاؤنا: إن الخشوع مستحب أو مسنون. فقلت له: يا أستاذ، إن الذي قاله الرجل موافق للقرآن والأحاديث الصحيحة، وقد فصَّل الكلام فيه علماء الآخرة الذين بيَّنوا للناس ما يقربهم من الله، وما يبعدهم عن رضوانه، كالإمام الغزالي في (الإحياء) ، أما الشرنبلالية، والولوالجية، والتتارخانية، ونحوها من كتب الفقهاء فإنما وُضعت لضبط الأعمال الظاهرة، وهلاَّ حملت قول السيد على طلب الخشوع الذي أناط الله تعالى به الفلاح في كتابه دون الحمل على ترك الصلاة بالمرة، فرجع الرجل إلى قولي وكان منصفًا، فلو أنني أخذت منه القول الأول على غرّة وأذعته، كما هو دأب الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا - لما تعديت في ذلك ما عليه الدهماء مِنَّا، ولقد وقع لتلامذة المرحوم السيد جمال الدين كثير من أمثال هذا، لا سيما في المسائل الفلسفية الغامضة ونسبتها للدين. أما سوء القصد وما يتبعه من الكذب والافتراء، فلا تسلْ عن حال أهله مع المصلحين، لا سيما في مثل الدَّور الذي فيه أمتنا اليوم من الضعف والاضمحلال وفساد الأخلاق. وأعجب ما سُمع فيه أن بعض علماء السوء والفتنة أشاع بين الناس في العام الماضي بأن فلانًا من العلماء أنكر وحدانية الله، وبعضهم قال: أنكر وجوده إنكارًا صريحًا على ملأ من العلماء والطلاب في الجامع الأزهر، ومع أن هذا غير معقول - وأين من يعقل؟ ! - أن يصدر ممن له أدنى تمييز، وإن كان فاسد الاعتقاد؛ فإن كتاب ذلك العالم الذي كان يقرؤه في التوحيد بين الأيدي، وفيه أقوى البراهين العقلية على وجود الله تعالى ووحدانيته، وهو من تأليفه، ولكن ماذا تقول فيمن سَفِه نفسه واستخف عقولَ الناس، ولم يراقب الله تعالى، فحمله إغواء شياطينه على ذلك البهتان العظيم، فنزل به - ثم بمستشاره - الجزاء الأليم. لقد جمح القلم في بيان ما يعرض للإصلاح من العلل، فلنرجع إلى ما كنا فيه. قلنا: إن الحكمة كالمطر، يأخذ كل أحد منها ما يلائم تربيته، وقد كان عدد الذين اتصلوا بالسيد جمال الدين من المشتغلين بالعلوم الدينية - قليلاً؛ بسبب تنفير الشيوخ عن حضور مجلسه لما علمت؛ ولذلك ظهرت النهضة القلمية في لابسي الطرابيش أكثر من لابسي العمائم، وكان عدد الذين يسعون في إصلاح العلم والتعليم الديني قليلين. وكما أننا في حاجة شديدة لرجال الأقلام الذين يجيدون الكتابة في جميع المواضيع، لا سيما في الفنون العصرية التي عليها مدار التقدم الدنيوي - كذلك نحن في أشد الحاجة لقوم يفهمون الدين على حقيقته التي ساد وسعد بها سلفنا الصالح، وشَقي واستُعبِد بجهلها خلفُنا الطَّالح، إلى قوم يفهمونه ويحسنون تلْقينه وتعليمه، فيأخذون بما ينبغي، وهو اللباب الخالص، ويلقون ما أُلحق به وتغلغل في كتبه مما ليس منه، ولكنه صار حائلاً دون فهمه وتعلمه. ولقد كانت عناية السيد - رحمه الله - بهذا النوع من إصلاح العلم والتعليم، أشد من غيره، ولكنه لم يجد من المستمعين له إلا قليلاً، والكرام - كما قالوا: - قليل. أمثل مَن اتّصل بالسيد مِن الذين تربَّوا في مهد الدين - علمًا وعملاً - العلاَّمة المِفضال الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد، وهو الرجل المفرد الذي تُشبه فطرته الزكية فطرة السيد جمال الدين، وتُماثِل تربيتُهُ تربيتَهُ، حتى في سلوك طريقة التصوف سلوكًا كاملاً. ولقد كان قبل معرفة السيد زيته صافيًا، يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسَّته بالاتصال به نار غيرته وحكمته، فاشتعل نورًا على نور. ووقف على نتيجة أبحاثه واختباره الطويل في الإصلاح الإسلامي، بل والشرقي أيضًا، وعومل من الشيوخ الذين يخافون أن يُظهر الإصلاح العلمي تقصيرَهم في العلم أو التعليم - بمثل ما عومل به سابقًا؛ حتى لم يكن بينه وبين معهد التعليم الإسلامي في (الأزهر) اتصال قبل هذه السنين الأخيرة؛ وسبب ذلك وشايات الشيوخ به للخديوِ السابق، وتنفيرهم طلاب العلم عنه، بأنه فيلسوف يُخشى من فلسفته على دينهم، وكأن هؤلاء لا ثقة لهم بدينهم؛ لأنهم ليسوا على بينة منه، فيخافون من كل شبهة أن تأتي على زلزاله، أو زواله، والموقِنُ بالشيء لا يتوقع ولا يتصور زواله، ومن لا يكون موقنًا لا يكون مؤم

استنهاض همم ـ 9

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (9) لا يُحَدِّث مُحَدِّثٌ عن النزاع بين إنكلترا والروسيا في أواسط آسيا إلا وتتمثل في مخيِّلة السامع صورة بِرَاز بين إنكليزي وروسي على ذروة جبل هندكوش، أحدهما: مهاجم، والآخر: مدافع، يتساوران ويتواثبان، وينتطحان انتطاح الكباش، ولا يمكننا الجزم والحكم بفلج واحد منهما بعينه وإخفاق الآخر؛ لأن عند كل واحدة من الأمتين الإنكليزية والروسية من وسائل النصرة والفلج، وذرائع الغلبة والدفاع ما يوجد مثله، أو ما يحاكيه عند الأمة الأخرى. ربما يحكم حاكم - ذهابًا مع الوهم - بأن النصرة ستكون للروسية، لما أن الحرب تنتشب بين الدولتين برية، وقد لا يتخللها عمل بحري قط، فقوة إنكلترا البحرية - التي توازن قوة روسيا البرية - لا نجدة تُرتجَى منها في تلك الحرب، وأَحَجَّ بأن يصح هذا الوهم (أي: ما أحجاه وأحراه بالصحة) لو لم تكن إنكلترا قد تداركت أمرها، وأعتدت لدفع ذلك الخطر قوة أدبية منبثّة في البلاد الهندية انبثاث الهباء في الهواء، تؤيد بها قوتها البرية الثانوية، فتقويان معًا على مقاومة القوة الروسية. ذلك أن الشعب الإنكليزي قد امتزج بمعظم الشعب الهندي امتزاجًا تامًا، وقد سعت إنكلترا في أحكام هذا الامتزاج منذ قوي نفوذها ثمة، فمدت شوابك الألفة والوحدة الأدبية بين القبيلين، ومهدت للشعب الهندي سبل تعلم اللغة، حتى كاد تعلمها ينطوي تحت الفرائض الدينية. واللغة كما لا يغرب عن فهم اللبيب مناط الجنسية، أو هي الإكسير السياسي تحوِّل أخلاق الشعب وآدابه وعاداته وعواطفه، بل وتعاليم دينه إلى أخلاق الشعب المتغلّب الذي تعلمت لغته وإلى آدابه وعاداته وعواطفه وتعاليم دينه، فضلاً عن أن إنكلترا ضمَّت إلى تعليم لغتها، تعليم سائر العلوم والفنون العصرية، وتخيرت أمثل الوسائل وأقرب الطرائق لبلوغ غايتها من قلب الشعب الهندي إلى شعب إنكليزي [1] حتى إنها طمعت بما لم يطمع به إلا أبو مرة من العبث بعقائد المسلمين، واستلانة عرائك المستضعفين منهم، فبثّت بينهم مبادئ التعطيل، وتعاليم الإلحاد والكفر (النيشرية) ، وأقامت لها دعاة من أنفس المسلمين ممن استذلهم الشيطان واستهواهم الغرور، وهذا وإن يظهر له أثر في الآباء، يوشك أن يلصق من لوثه بنفوس خلائفهم وأنسالهم، فليتقِ مسلمو الهند شرَّ ذلك بنشر التعاليم الدينية، وتخريج أحداثهم ونشئهم على آدابها وعقائدها؛ حتى ترسخ في نفوسهم وتقيها من ذلك اللوث والطبع. بتعليم أبنائنا لغتَهم ودينهم نصون أمتنا، ونحمي استقلالها الجنسي من الزوال إلى الأبد؛ بذلك نحارب أوروبا ونعترض في طريق أطماعها، بتلك القوة الأدبية نقاوم قوتها، ونفل غرب عاديتها. لا يتخيلنَّ أحدٌّ أن الحرب أو الثورة ضد الأمة المتغلبة هي التي تحرر الشعب الضعيف وتفتكه من عقال سلطتها وتعيد إليه استقلاله. ربما كان الهرج والشغْب من أنفذ العوامل في تضاؤل الشعب وتوهين قوته، وتمكين يد المتغلب من عنقه. حملوا علينا بسلاح علومهم ولغاتهم وآدابهم، فلنتحصن منهم بمثل تلك القوى، ولنحمل على أيدينا تعاليمنا وآدابنا، وننشر ذلك بين أبناء ملتنا. لنأخذ بحُجَز أطفالنا عن الوقوع في أسر العدو الأسر الأعظم، والاندماج في جنسيته والتحول إلى طينته. بعيني رأيت شابًا هنديًا مسلمًا رثََّ الهيئة يلبث الخلقان والأسمال، وعلى رأسه كمة بالية، دأبه السياحة ومواصلة الرحلة - وكل هذا منه على سبيل الزهادة ومحاكاة أهل الرياضة - درس العلوم في المدارس الإنكليزية العالية، وهو يتكلم بالإنكليزية كأحسن متكلم من أهلها، وقد ترشَّح في تلك المدارس، وتثقَّف عقلُه بعلومها وفنونها، ووقف على دقائقها ونتائج أبحاثها، لا سيما العلوم الفلسفية والطبيعية. حدثني مَن باحثَه أنه أدهشه بسعة اطلاعه وغزارة مادته، كان لا يسلك معه مجهلة من مجاهل تلك العلوم إلا ووجده خِرّيتها، ولا هوى به من هوة عن الدقائق الفلسفية إلا وألفاه عِفريتها، ومما حكى عنه - وهو معجب بفرط ذكائه - أنه يشرح ما حققه الفلاسفة الطبيعيون في أبحاثهم العصرية المتأخرة شرحًا يخيل للسامع أن ذلك الشاب هو الذي وضع تلك الأبحاث واستنبط نتائجها، لكنه - واخيبتاه! - لا يعلم من الإسلامية إلا اسمها، ولا يحفظ من تعاليمها سوى فاتحة كتابها! . رجوت محدثي عنه أن يجمعني به ومُذْ وقع طرفي عليه تمثلت لمخيلتي الأطوار الشرقية ملتفة بالغواشي الغربية، رأيت في يده أنبوبة يدخن بها ويعَض عليها مثلما يفعل أصحابه الإنكليز، فكلمته بالعربية فإذا هو لا يعلم منها سوى بضع كلمات، واستنطقته بواسطة ثالثنا عن بعض شؤون إسلامية فألفيته خالي الذهن من أمر الدين، لا يهمه شأنه، ولمَّا سألته عن معلوماته الدينية، قال: إنه يحفظ الفاتحة! قلت: اقرأها فتلكأ أولاً، ثم مضى في قراءتها على غير سداد، فأطرقت حينئذ إلى الأرض واجمًا راثيًا لحال الأمة التي يستولي عليها الأجنبي، ثم حوقلت وانصرفت. وبالجملة، إن إنكلترا طمعت في ركس (قلب) كل شأن من شؤون الهند ومسخه وتغييره، سوى تغيير اللون النُّحاسي الهندي إلى اللون الأبيض الإنكليزي. وما يدرينا أنهم لا يطمعون بذلك أيضًا. علَّهم يلقون على الشعوب الهندية نظامًا عامًّا يقضي بأن لا يتزوج الهندي النحاسي إلا بأوروبية بيضاء، والأوروبي إلا بهندية، وهكذا دهرًا طويلاً، فيقاومون بذلك طبيعة الإقليم [2] ويستولدون شعبًا خِلاسيًا [3] أبيض اللون مكونًا من الشعبين، اللهم غفرًا! . ولم تألُ الحكومة الإنكليزية جهدًا بمد رواق العدالة والحرية والأمن فوق الشعوب الهندية، وقد تحبّبت إليهم بما يملكها أزِمَّة أميالهم وعواطفهم، وأمتن آخية وثقت بها سلطتها في الهند، وأشدها أحكامًا ما فعلته من مزج مالية الشعب الهندي بمالية الشعب الإنكليزي، وأودعت تلك الأموال في المصارف الإنكليزية في جزائر بريطانيا، ووحدت بذلك مصالح الشعبين العامة، بحيث تكونت مشروعاتهم الكبرى وشركاتهم التجارية برجال القبيلين وأموالهم، ثم أخذت تشرف من وراء ذلك على مجاري تلك الأعمال وجداول هاتيك الأموال، وتجتني لنفسها من كل ذلك ثمرات سياسية وأدبية قلما يوفق لاجتنائها أحد غير الإنكليز. وقد مضى على إنكلترا في شد تلك العُرَى والأواخي وتوثيقها سنون وأعوام، وهي لا تزال تواصل العمل في أمثال ذلك ما واتاها الدهر، وهو مواتٍ. فهل بعد ذلك يجزم جازم بأن روسيا تطرد إنكلترا من الهند وتقلص ظلال سلطتها عنها؟ ! ، والسداد في الرأي التوقف كما توقفنا، وترك أمر الغيب إلى مَن تفرَّد بعلمه - سبحانه وتعالى -. وكيفما كان الأمر، فالأحجى بالحكومتين - الأفغانية والفرنسية - أن تكونا على حذر ويقظة من شَرِّ الدولتين اللّتين تتربصان بهما الدوائر، وتنتهزا فرصة الشِقاق بين تلك الدولتين، فتبادرا لرتق الفتق قبل اتساعه، ومواساة العِلَّة قبل استحكامها، وتسارعا لعقد حلاف بينهما، وشدّ عروة وِفَاق تصونان به أمتهما ودينهما من الضياع، وتمد أيديهما إلى الحكومة العثمانية، فهي-إن شاء الله تعالى- تلبيهما كما تلبي الجميع الحكومة المراكشية، فتتم للإسلام وحدة مقدسة؛ يُصان بها شرفه، وتُحمَى حقيقته. ((يتبع بمقال تالٍ))

إزالة شبهة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إزالة شبهة تُعرف أغراض الجرائد ومقاصدها من مجموع كلامها في الأعداد الكثيرة، ولا يصِح الحكم على مقصد جريدة بجملة واحدة، يظهر أنها ترمي إلى غرض ما؛ لا سيما إذا عُهِد منها في الكلام الكثير، تسديد سهامها إلى خلاف ذلك الغرض، أو إلى ما وراءه، وإنما أصابه السهم؛ لأنه عرض في طريقه. ويعلم جميع قرَّاء (المنار) أننا في مجموع كلامنا لم نخطئ الغرض الذي وضعناه له في العدد الأول وهو قولنا: (وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين، لا التحامل على الأمراء والسلاطين، والترغيب في تحصيل العلوم والفنون، لا الاعتراض على القضاة والقانون، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة، وطروق أبواب الكَسْب والاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة.. .) ، إلى أن قلنا: (.. . وتنبيه العثمانيين على أن الشركات المالية هي مصدر العمران وينبوع العرفان، وأن عليها مدار تقدم أوروبا في الفنون والصنائع، لا على الملوك والأمراء..) إلخ إلخ. وقد بيَّنا في أعداد كثيرة من السنة الأولى والثانية، بأن الأمم الشرقية أو الإسلامية إذا لم تعتمد في تقدمها على أنفسها - لا على حكومتها - فإنها لا تنهض من هذا الحضيض إلى أبد الأبيد. ولما كان الإجمال قلَّما ينبه الغافل، والهمس لا يكاد يوقظ النائم المستغرق، صرَّحنا بهذه النصيحة بصوت عالٍ غير مرة. وأشد صيحة أزعجت السامعين قولنا - في العدد الحادي عشر من هذه السنة -: (إن أمام المصريين وسائر المسلمين سدًا منيعًا من الوهم، يحول بينهم وبين السير في طريق الترقي، فإذا استطاعوا أن يَظهروه أو ينقِّبوه - ولا أقول أن يدكوه - يتسنى لهم الإيجاف والإيضاع في ذلك المنهاج الواضح، والمهيع الواسع، وأن ذلك السد هو الاعتماد على دولهم وحكوماتهم التي أمست أغلالاً في أعناقهم، وسلاسل في أيديهم، وقيودًا في أرجلهم، وغشاوة على أبصارهم، ووقرًا في أسماعهم، ورَينًا على قلوبهم.. .) إلخ. ثم تعجبنا من كون المسلمين الذين أظلتهم الأجانب يطمعون بأن يكون ترقّيهم على يد الدولة العلية مع أنه من الجهالة والحمق أن يعتمد العثمانيون أنفسهم في ترقيهم على الدولة من دون أنفسهم ما بالك بغيرهم؟ ! ولكن بعض الذين تمكّنت السلاسل والأغلال والقيود من أعناقهم، وأيديهم وأرجلهم، وتكاثفت الغشاوة على أبصارهم، وقوي الوقر في أسماعهم، وغلب الرين على قلوبهم - سلقونا بألسنة حداد؛ لأننا نَهينا مسلمي الهند والجاوه وأمثالهم عن الاعتماد على الدولة العثمانية، وأراهم سوءُ الفهم أن هذا ينافي ما ندعو إليه في (المنار) من ارتباط المسلمين بعضهم ببعض بجميع أقطار الأرض. ولو كان المعترِض صادقًا في حب المصلحة الإسلامية؛ لكتب إلينا حيث كان بعيدًا عنّا بما يراه صوابًا؛ لأننا قلنا - في المقالة التي ذكرنا فيها ما مرّ - إنه اعتقادنا: (ومن بيَّن لنا بالبرهان أننا مخطئون، فإننا نرجع إلى رأيه) وكذلك فَعَل بعضُ المخلصين من المصريين ذاكرنا وفهم قصدنا تمامًا. ومن البلاء على المسلمين أن كل إنسان يدعي كمال الفهم في علم الاجتماع الإنساني، والمعرفة بأسباب ترقي الأمم وتدلِّيها، لا سيما إن كان لديه شيء من الوساوس السياسية التي يتلقفها من الجرائد، ونرجو أن تزول هذه الأوهام بانتشار علم الاجتماع في الكتب النافعة والجرائد الصادقة. وعسى أن يَعُمّ انتشار كتاب (سر تقدم الإنكليز) الذي طُبع حديثًا، فيفهم المسلمون أن اعتماد الأمة على الحكومات القوية المرتقبة - كفرنسا وألمانيا - فيه خطر على مستقبلها، فضلاً عن الحكومات الضعيفة، فضلاً عن اعتماد الشعوب على الحكومات التي لا تحكمها، وأن مستقبل السيادة إنما هو للشعوب التي يعتمد أفرادها في سعادتهم على أنفسهم وعلى سعيهم وجدّهم، وإلى الله تصير الأمور.

اختبار علم كل عارف من ألباء أرباب المعارف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اختبار علم كل عارف من ألباء أرباب المعارف جاءنا تحت هذا العنوان، السؤال المنظوم الآتي وما يتلوه من الذيل المنثور من حضرة الأستاذ العلامة الفاضل الذي انتهت إليه الرئاسة في علوم الحديث واللغة وآدابها في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي فنشرناه شاكرين له فضله وهو: بسم الله الرحمن الرحيم أسائلكم أهل المعارف من عل ... إلى السفل والنحرير ينسى ويذهل فعمّ السؤال العرب والعجم كلهم ... وخص النصارى ذا السؤال المفصل عن اسمين مشهورين شرقًا ومغربًا ... أتى بهما الخنذيذ الاخطل دوبل أبو مالك القس النزاري نسبة ... ربيب النصارى الراهب المتبتل أتى بهشام ثم بعدُ بنوفل ... خلال مديح خالد ليس يجهل مديح فتى الأعياص خالد مدحه ... فنِعم الفتى يرجى ونعم المؤمل فأدرج ذين ضمن بيت مهذب ... يقر له بالحسن مَن كان يعقل (أمية والعاصي وإن يدع خالد ... يجبه هشام للفعال ونوفل) فمن نوفل بل من هشام وما هما ... أشخصان أم جنسان؟ عن ذاك أسأل مجاز هما أم في المديح حقيقة ... ألا فليُجب منكم عليم مبجل فمَن كان نحريرًا أجاب مبيّنًا ... براهين من علم له فيبجَّل ومن كان ضِلِّيلاً أجاب مموهًا ... أباطيل من جهل به فيجهل وقال الرسول: حدثوني بعد ما ... على صحبه ألقي سؤالاً، فأجبلوا سوى ابن أبي حفص الكبير صغيرهم ... درى، وحياء لم يجب حين هلّلوا وقالوا لِخَير الخلق: ما هي؟ أفتِنا؟ ... وكل امرئ لم يدرِ، يعنو ويسأل فقال النبي المصطفى: النخلة التي ... لها شبه بالمسلم، القلب مسجل وذا في حديث الجامع الفرد عندنا ... عليه اتفاق في الصحيح المعول فهذا الذي سَنَّ الرسول محمد ... لنا؛ لاختبار العلم شرواه نفعل وأنشأ ذاكم؛ لاختبار علومكم ... محمد محمود الأغرّ المحجل وسَمَّيت هذا السؤال: (اختبار علم كل عارف من ألباء أرباب المعارف) . وعَمَّمت ُأهل المعارف من العرب والعجم؛ لعلمي بأن الله عز وجل لم يحصر العلم في أحد الفريقين دون الآخر، بل أعطى كل عبد من عباده قِسطه منه، لكنه فضَّل بعضهم على بعض في العلم، تفضيله بعضهم على بعض في الرزق، والعلم أفضل الرزق؛ لأنه يُعلم به أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والسبب الحامل على إنشاء هذا السؤال: الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، عملاً بما في باب طرح الإمام المسألة على أصحابه؛ ليختبر ما عندهم من العلم من كتاب الجامع الصحيح للإمام البخاري، وذلك الحديث من مكرراته المفيدة، والحامل على تخصيص النصارى بعض التعميم أمور: أولها: كونهم أكثر جنسهم مشاركة للعرب في لغتهم من زمن الجاهلية، وهلمّ جرّا، ثانيها: كونهم أقرب الناس مودة للمؤمنين، ثالثها: شدة اعتناء كثير منهم في هذا العصر بتعاطي لغة العرب ووضع التآليف فيها، رابعها: كون نصارى بيروت هم الذين رفعوا ديوان الأخطل هذا - بطبعهم إياه - من حضيض العدم إلى أعلى طود الوجود، فلهُم بذلك الفضل على غيرهم، والحق يقال.

وفاة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفاة نَعَتْ إلينا أخبارُ وطننا (طرابلس الشام) صديقنا الشاب الأديب، وغصن الكمال الرطيب توفيق أفندي نجل عين الأعيان صاحب الفضيلة شنبور زاده عبد الحميد أفندي العضو العامل في مجلس إدارة طرابلس، فنعزي فضيلة والده، وآله بهذا المُصاب الذي أحزن القلوب وأبكى العيون. {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) *** تخطئة أسندت جريدة (انتباه) التركية الجديدة - في عددها الأول - جملة إلى (المنار) تتعلق بجلالة مولانا السلطان الأعظم، و (المنار) بريء منها، فننبه القرَّاء إلى ذلك.

كان يا ما كان ـ 1

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

_ كان يا ما كان ذكرى تمثل إعراض الناس عن أسباب سعادتهم، وضعها في سمط الأساطير الخرافية التي كان يعتقدها قدماء اليونان المرحوم عالي بك أحد مشاهير كُتاب الأتراك، فهي جد في قالب هزل، وموعظة في ثوب فكاهة، وقد نقلناها عن ترجمة الكاتب البارع عمر خيري أفندي زغلول بتصرف كثير وهي: سنح في خاطر (جوبيتر) الذي كان أكبر المعبودات عند اليونانيين الأولين أن يجعل الناس كلهم سعداء، ويفيض عليهم الخيرات والبركات، فكاشف بما في ضميره مستشاريه (نبتون) إله البحر و (بلوطون) إله الجنة، فأظهرا الدهشة والإعجاب، واستهزآ بفكر مولاهما، ونسباه في أنفسهما إلى أفِن الرأي وسوء التدبير. ولقد كان هذا المعبود لا يتوانى في تنفيذ ما يعن له من الخواطر، ولا يتقاعد عن إخراج مقاصده من القول إلى الفعل، وإن كانت من المستحيلات العادية تفكر مليًا في هذا الأمر، ثم وجه نظره إلى السماء وحدّق إلى الكواكب السبعة السيارة؛ فتراءى له أن يعهد إليها بتنفيذ إرادته، فأمرها بالاجتماع في مكان واحد، فاجتمعت فلما رأى أهل الأرض السيارات مجتمعات أخذتهم الحيرة، وشخصوا بأبصارهم إلى السماء ذاهلين، وطفق المنجمون يخرصون ويخدعون الناس بأن هذا الاجتماع المدهش علامة على قيام الساعة. ولما اجتمعت السيارات عند المعبود الأكبر دارت بينهن وبينه هذه المحاورة. السيارات: ها نحن أولاء قد جئناك - يا مولانا - فمُرنا بما تريد. جوبيتر: عليكن بتجهيز أنفسكن للسفر، فقد اقتضت إرادتي أن تذهبن إلى السياحة على سطح الأرض، فقد جعلت لكل منكن دينارًا للنفقة في كل يوم. السيارات: ما هو العمل الذي انتُدِبنا له، والخدمة التي سنؤديها؟ جوبيتر: قد ارتأيت أن أجعل الناس ناعمي البال، رافِلين في حُلل السعادة والهناء، ورأيت من الصواب أن أبيعهم أسباب السعادة بيعًا؛ لأنني إذا أنعمت بها عليهم إنعامًا بغير مقابل يستهينون بها؛ إذ لا يعرفون قيمتها، ولا يقدرونها حق قدرها. السيارات: سمعنا وأطعنا، فما هي بضاعتنا التي سنبيعها؟ جوبيتر: قفن أمامي صفًا، ثم امررن واحدة واحدة. فامتثلن أمره ولما مرّت الأولى قال لها: أنتِ تبيعين (الذكاء والفَطانة) ، وقال للثانية: وأنتِ تبيعين (العفة والاستقامة) ، وقال للثالثة: وأنتِ تبيعين (الصحة والعافية) ، وللرابعة: وأنتِ تبيعين (طول العمر) ، وللخامسة: (الشرف والجاه) ، وللسادسة: (الصفاء والمسرة) ، وللسابعة: (النقود والثروة) . هذه الأشياء هي أسباب السعادة، ولا تتم للناس السعادة التي يطلبونها من معبوداتهم في صلاتهم ومناجاتهم إلا بها، فعليكن - أيتها السيارات - بالجد والاجتهاد في بيعها منهم؛ ليتمتعوا بالسعادة التي يطلبونها، وينجون من الشقاء المحدق بهم، الذاهب بهنائهم ورفاهتهم. ولقد كان المعبود الأكبر يُشرف على السيارات بالأمر والإرشاد، ويَدُلُّهن على طرق السعادة، والمعبودان (نبتون) ، و (بلوطون) يستهزآن بهذا الرأي المأفون، ويقولان بلسان الاستغراب: إن هذا لشيء عُجاب، وبعد أن تجهزت السيارات للرحلة الأرضية، وأحضرن بضاعتهن السماوية في صناديق بديعة الصنع محكمة الوضع، هبطن إلى العوالم السفلية، فكان نزولهن في عاصمة من عواصم الممالك الشرقية، فطفقت السيارة الأولى تنادي بأعلى صوتها في الأسواق والشوارع (ذكاء وفطانة للبيع، ذكاء وفطانة طرية عال هل من راغب، هل من مريد؟!) فأقبل الناس إليه يزفون، من كل حدب ينسلون فاختلفت فيها الأقوال لاختلاف الوجدان والانفعال، فقال أصحاب الجرائد والمؤرخون ومؤلفو الروايات والممثلون: هل جُنَّّت هذه الفتاة، أم غلبت على بائعة الفطانة بلادة الحيوانات؟ ! وقال الشبان - الذين شاهدوا جمالها الرائع -: بئس المبيع وحبذا البائع؛ فتاة حسناء، وغادة هيفاء، لكننا نغازلها باللحاظ، فلا تدير إلينا طرفًا، ونناديها بأرق الألفاظ فلا نسمع منها حرفًا، فالظاهر أنها مملوءة بالتعصب، وذلك مما يوجب التأسف والتعجب، وقالت النساء: لا شك أن هذه الفتاة مختلة الشعور؛ حيث جاءت بهذه البضاعة التي تكسد في كل مكان وتبور، ولولا نقص عقلها لعلمت أننا لا حاجة لنا بالذكاء والفطانة، ولا بالعقل والرصانة، فإن عندنا الأنسجة الحريرية، والحلي الذهبية والجوهرية، وهل تستلفت الفتاة أنظار الشبان بالفطنة وذكاء الجَنان، أم بالحرير ذي اللمعان والألماس واللؤلؤ والمرجان؟! وقد أجمعت الآراء على أن تلك السيارة ستموت جوعًا إذا بقيت في تلك العاصمة؛ لأنه لا يوجد فيها من يرغب في بضاعتها، وبعدما ملت من الجولان، وتعبت منها القدمان، رأت بابًا مفتوحًا وعليها أمرة (يفطة) أميرية، مكتوب عليها (نِظَارة المعارف العمومية) ، فقالت: ما أحوج أهل هذه الصناعة إلى ما عندي من البضاعة، فههنا يحصل الرواج، وأُقابَل بالترحاب والابتهاج، ودخلت الباب مع الداخلين، وترددت فيه ذات الشمال وذات اليمين، وأنشأت تنادي بصوت يقرع جميع الآذان، ويستلفت كل ذي جَنان، فأثار نداؤها غضب الرئيس والأعضاء، وقالوا: ما لنا وللفطانة وللذكاء! ، ثم قرروا - باتفاق الآراء - طرد السيارة من تلك البطحاء، وصدر أمر الرئيس للحُجَّاب، الذين يقفون خارج الباب، بأن يمنعوا بائعي الأشياء التي لا تنبغي للمجلس من الدخول، وأنه لا عذر لهم - في إدخالها - مقبول، فخرجت السيارة تمشي على استحياء، يتنازعها عاملا اليأس والرجاء، ثم رأت من الحزم تغليب عامل الأمل؛ لأنه لا ينجح بدونه عمل، وقالت: بالصبر تَنفق السلع الخسيسة، فكيف لا تروج البضاعة النفيسة؟ ! ، ثم مضت في تطوافها وتجوالها حتى انتهت إلى بناء كبير، قد اجتمع عنده خلق كثير، أخلاط من الوجهاء والغوغاء، علت لهم جَلَبَة وضوضاء، فصاروا يتخاطبون بالإشارة، حيث لا تُفهم العبارة، فقالت: لا شك أن هؤلاء الناس قد استحوذ عليهم الخبل والوسواس، فهم لهذه البلادة والبلاهة في أشد الحاجة إلى الذكاء والفطنة والنباهة، فخاضت غمار القوم، رافعة صوتها بالسوم، فلم يسمع أحد كلامها، ولا أُجيبت على سوامها، حتى مرّ بالقرب منها رجلان في يد أحدهما نمط صغير (شنطة) ، ومع الآخر قلم ودفتر يكتب فيه أرقامًا، فقالت لهما السيارة: هل لكما رغبة في الذكاء والفطانة؟ ، فتوهم الرجلان أن الذكاء والفطانة نوعان من السهام المالية، قد أُنشئت لهما شركة مساهمة حديثة، فانصرفا ولم يستوضحا منها عما تقول، وعلمت هي أن ذلك المكان هو (البورصة) ، فاستأنفت النداء والسوم، فمر بها أحد الدلاَّلين وجرت بينهما هذه المحاورة، (الدّلال) : ما هي بضاعتك؟ (السيارة) : الذكاء والفطانة، (الدلال) : ذكاء ... فطانة ... ، (السيارة) : ألا تدري ما هو الذكاء والفطانة؟ (الدلال) : لا، ولكن قد بلغني عنهما شيء، وأذكر أنني سمعت هذين اللفظين من قِبَل، (السيارة) : إذن خُذْ لك منهما شيئًا ولو يسيرًا، (الدلال) : هل هما من السهام المقبولة في البورصة؟ (السيارة) : لا، (الدلال) : إذا لم يكونا مقبولين في البورصة، فلأي شيء جئت بهما إلى هنا. وبعد انتهاء الحديث، نُمِّي خبرها إلى الشرطة (البوليس) ، فأُلقي عليها القبض؛ لإقدامها على بيع سهام غير مقبولة في البورصة، ولكن رئيس الشرطة (القومسير) كان دمث الأخلاق رقيق الجانب، فعذر السيارة بجهلها، وعدم وقوفها على طباع أهل تلك المدينة، فلم يعاملها بما يوجبه النظام من السجن والتغريم، واكتفى بطردها وإبعادها عن تلك العاصمة؛ فرجعت أدراجها راضية من الغنيمة بالإياب! (سيأتي خبر بقية السيارات) ((يتبع بمقال تالٍ))

استنهاض همم ـ 10

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (10) بقي علينا من الحكومات الأربع (الحكومات العثمانية) ، وهي ليست بأقل تعرضًا للأخطار من أخواتها الثلاث الأُخَر، بل ربما كانت الدول الغربية أضرى بها وأشد تكالبًا عليها، وزِدْ على ذلك أن الطمع في الحكومات الأُوَل مقصور على دولتين أو ثلاث، أما الطمع بهذه الدولة - صانها الله - فوباء عام قد تفشى وخمه بين الدول - كُبراها وصُغراها - من يُصَدِّقني إن قلت: إن دولة اليونان، ممن يحلم بتبوأ فرق فروق (أي أعلا الآستانة) ؟ مَن يصدقني إن قلت: إنها تعربد بنشر رفات الإمبراطورية الرومانية الشرقية من أجداث العدم؟ نعم، إنها تُعربِد بإنشاء تحالف سياسي يطوي تحته الشعوب البلقانية بأجمعها، ويتولى ملكها زعامة هذا التحالف الكبرى، وتكون قاعدته القسطنطينية متبوأ قياصرة المملكة الشرقية المنقرضة، ويحتفل بتتويجه فيها. وقد أعتدت اليونان لأجل الاحتفال بهذا التتويج كل المُعَدَّات الوهمية والأدوات الخرافية، ولم يبقَ عليها من ذلك سوى شيء واحد أعوزتها الوسائل للوصول إليه، ولم تهتدِ لوجه الحيلة فيه، وأخيرًا فرضت على نفسها جُعلاً وافيًا مما هي فيه من البهر [1] المالي لكل رومي (إذ غير الرومي لا يحسن ما يحسنه) : يجوس خلال برازخ الأموات، ويتلطف ويختلس تاج الباليولوغوس [2] عن مفرق آخر ملوكهم قسطنطين ويأتيها به؛ لكي تضعه على هامة ملكها مُذْ يحتفل بتتويجه إمبراطورًا على ذلك التحالف الموهوم. ولنأتِ على ذكر الأخطار المُحْدِقة بالحكومة العثمانية وولاياتها، والإيماء إلى نسور المطامع التي تحوم عليها. في الممالك العثمانية ولايتان تود الشعوب الإسلامية لو تشيد حولهما أسوارًا من أفئدتها، وتناضل عنهما عِوَضًا من حبَّات الرصاص بحبات قلوبها، ولها كلف ببقاء الاتصال البري بين تينك الولايتين، ولو بجسور من رقابها، وولوع بحفظ السكة العسكرية التي تربطهما، وإمداد تُرَابها وحصاها، ولو بذرات أجسادها وشظايا عظامها، لو أشرفت على شغاف قلوبهم؛ لرأيت فيه رسم هاتين الولايتين ارتسام الصور الفوتوغرافية في ألواحها، بل لو تسمَّعت لخَرير دمائهم في مجاري عروقهم لسمعتها تنطق بلسان فصيح عن ولاية الحجاز - ذودًا ذودًا - عن ولاية الآستانة - دفاعًا دفاعًا - نعم، مهما غَلَوْنَا في وصف مكانة هاتين الولايتين من أنفس المسلمين كنا مضجّعين مقصّرين. الولاية الحجازية مناط قيام دينهم، وأُسّ مكين ترفع عليه صروح مِلتهم، وولاية القسطنطينية منقبتهم السياسية، ومجد حياتهم التاريخية، ففي سقوط الولايتين سقوط للدين والشرف، نستعيذ بالله! نستعيذ بالله! . العناصر الأصلية التي يتكون منها جسم المملكة العثمانية هي العنصر التركي والعربي والكردي والأرمني والأرنؤوطي والرومي. ويندمج في مَطاوي تلك العناصر الستة طوائف أُخَر حقيرة، لا شأن لها ولا غناء عندها. أما العنصر التركي، فمجتمع في صعيد واحد قطبه الآستانة، ويشغل ما على جنابتيها من الولايات المحدودة من جهة الرومللي بحكومة البلغار وولاية مكدونيا ومن جهة الأناضول بولايات الأرمن والأكراد وسوريا، وهذا العنصر هو حياة الحكومة العثمانية وبه قوامها؛ ولذا كان استواء الأجنبي على الآستانة استواء على الممالك العثمانية بحذافيرها. وأما العنصر العربي فيشغل أصقاعًا متشتتة - سوريا طرابلس الغرب والحجاز واليمن وضفاف النهرين. ولا يحدث في الأصقاع التي يقطنها هذان العنصران - التركي والعربي - قلاقل داخلية مهمة وتشعبات سياسية ذات شأن، كما يحدث في الولايات التي تقطنها العناصر الأربعة الأُخَر؛ لأن كلاً من العنصرين التركي والعربي صِرف، لا يمازجه غيره. ونعني بالتركي والعربي مَن يتكلم بالتركية والعربية - مسلمًا أو مسيحيًا -، فما كان من ولاية تركية يقطنها أهل ملتين كولاية أزمير مثلاً، لا تسمع فيها لاغية فتنة قط، وكذا الولاية العربية التي من هذا القبيل كولاية بيروت. وما يصل إلى الآذان أحيانًا من هماهم ودمادم [3] يتساود [4] بها القوم في أنديتهم، فإنما هي كبوارق تعترض من الأفق في ليالي الصيف، لا صواعق تصحبها، ولا سيول تعقبها، ومنشؤها جهل أحداث ونزق أغرار، يتكفل بمحو ذلك من نفوسهم انتشار التعليم والتهذيب [5] ، فالولايات التركية والعربية في مأمن من شبوب نيران فتن الأجنبي، للمداخلة في شؤونها على نورها، وهو إن طَمِع فيها، فإنما يُطمعه ضعف المملكة العمومي، وتراخي إداراتها الداخلية. فانظر إلى اللغة كيف تحنو على المتكلمين بها وترثي لتبددهم؟ ! ، فتسعى في ضم أهوائهم وتوحيد مشاربهم، وتورثهم تحابًا وائتلافًا، وإن كانوا ذوي مِلَل مختلفة ونحل متباينة، فتوحيد اللغة من أقوى العوامل في إسعاد الأمة، وأقرب الوسائل لِلَمِّ شَعَثها، وهي المتكفّلة بتوثيق أواخي الإخاء، وسد منافذ الشقاق بين المتكلمين بها على شريطة أن يكون ذلك الشعب المتوحد في اللغة، المتفرق في المذهب، على مقربة من التهذيب، وفيه عبقة من المدنية، وإلا اعترض علينا بلبنان فإن لغته واحدة مع أن اختلاف ملِلَه أرهق أهله ويلاً، وجَرَّ عليهم من المصائب ذيلاً. ويُقال - في رد الاعتراض -: إن شعب لبنان لعهد استشراء الفتن فيه كان في غمرة مِن توحش، وغشاوة من جهل، مما أعان على ذلك من انتشار شياطين الأغراض بين طوائفه، يوسوسون إليهم بالمواثبة، ويسولون لمناصبهم (زعمائهم وهي كلمة عرفية هناك) المناصبة، حتى كان من أمره ما كان. ولنرجع إلى العناصر العثمانية فنستوفِ أقسامها، بقي شفعان، كل شفع منهما يقطن صقعًا واحدًا، فالشفع الأول الكردي والأرمني يشغل الصقع الواقع في نهاية آسيا الصغرى لجهة الشرق، المحفوف بولايات الأناضول وسوريا والعراق والعجم، والروسية، والشفع الثاني الأرنؤوطي، والرومي يشغل صقعًا واحدًا أيضًا، ويسمى مكدونيا وهو الذي تحتفِ به ولايات البلقان والآستانة واليونان، وهذان الشفعان أضرّ بهما اختلاف اللغة وتباين المشارب، فباعد بين الآحاد المكونة لهما، وخالف بينهم في الأهواء والأخلاق والعادات والآداب؛ فتمهدت بذلك سبل المداخلة الأجنبية فيهم، وانبعثت رسل الأطماع تجوس خلالهم وتوقظ آمالهم، حتى حدث لعهد قريب ما حدث من الفتن الأرمنية التي وقعت رزاياها من تلك الديار مواقع القطر، ورمت أهاليه من وطيس أذاها بشرر كالقصر. وكريد وإن لم تكن من مكدونيا - لكنها كقطعة منها من حيث مشارب سكانها ومنازعهم، وكلنا يعلم ما جرى في تلك الجزيرة، وما آل إليه الحال فيها، وكيف تلاعبت بها السياسات والأطماع تلاعب الرياح بالسفينة ذات الشراع، ولم يكد يهدأ اضطرابها وتفتأ ثوراتها حتى نجمت رءوس الشقاق والفتن في مكدونيا، وانغمس أهلوها بالشغب، وطفقوا ينسجون على المنوال الذي نسجت عليه كريد، ولا نعلم كيف يكون نسيجهم، وماذا يلبسون منه. هذه مصاصة من شؤون ولايات الحكومة العثمانية الداخلية، ولنسردها الآن واحدة فواحدة، ونلم بشيء من تعلق سياسة الدول بها وأطماعها فيها. (طرابلس الغرب) تحالف الدول بتطلب وصالها دولة إيطاليا وهي إن لم تكن تجاورها برًّا، فإنها (تصافها) بحرًا، وقد كان لهذه الدولة أماني أشعبية في تونس؛ لشدة قربها منها، وأكثر ما أرادتها على الخضوع لها واحتالت لتناول قيادها؛ فأخفقت سعيًا لما أن فرنسا أولى لدفعة منها فيها لاتصالها بها برًّا. وقد انتطحت الدولتان في شأن تونس والاستئثار بالنفوذ فيها انتطاح الكباش، وكان الفلج أخيرًا لفرنسا، فاضطرت إيطاليا للتسلي بطرابلس الغرب، والتعلل بأماني وصالها. وليست في هواها هذا بأخسر منها صفقة في هواها الأول، لما أنه إن شاركها في تونس شريك واحد فلها في طرابلس شريكان، فرنسا غربًا وإنكلترا في مصر شرقًا، لا سيما وليس لها من القوة الحربية والمقدرة المالية ما يساعدها على نيل أمانيها، فلا نراها إلا خائبة كما تخيب صاحبتها أسبانيا في مراكش. أما إنكلترا فتطمع في تلك الولاية، لكن طمعها بالولايات المعترضة في سبيلها إلى الهند أشد وأقوى؛ فهي ربما تساهلت مع فرنسا في أمرها وأغضت لها عنها؛ لكي تكافئها هذه بمثل ذلك في مواطن أطماعها ومواقع أمانيها، وربما تذرعت بهذا التساهل لحمل فرنسا على أن تناصفها إفريقيا، وتستأثر هي بالنصف الشرقي كما هو متمناها. فقد ظهر الآن أنه ربما يخلو الجو لفرنسا في شأن طرابلس الغرب، وإعمال أطماعها فيها. ومما يزيدها طمعًا وقوع تلك الولاية في شمالي قسم كبير من الصحراء الإفريقية، وهي عاملة على التِهَام تلك الصحراء برمالها وعواصفها، وإن شئت قلت: بسفائنها وأمواجها لما أنها يأملون بتحويل هذه الصحراء إلى بحر عجاج متلاطم بالأمواج، ويتم ذلك العمل بواسطة بثق البحر المتوسط (أي: كسر حافة وشطه؛ لينفجر الماء إلى ما تحته) من سواحل تونس أو طرابلس. وكيفما كان الحال، فولاية طرابلس ستكون مركزًا مهمًا لإنجاز هذا المشروع الأعظم، وموطنًا لإدارة أشغاله وأعماله (أي إذا تمَّ لهم أملهم، لا سمح الله!) . ((يتبع بمقال تالٍ))

الشعر العصري

الكاتب: نصير الدين أفندي أحمد محرم

_ الشعر العصري لحضرة الشاعر العصري المجيد نصير الدين أفندي أحمد محرم هل الدين إلا ما رأى المتأمل ... فماذا نرجّي أو، فمَن ذا نؤمّل تحمل عنا اليوم، أو كاد ركبه ... حَنَانَيْكَ فينا أيها المتحمل حنانيك فينا إن تكن ثَمَّ ريبة ... فإن عقابًا يدرأ الشر أجمل غوينا، فلا الداعي إلى الخير بيننا ... يُعان، ولا الداعي إلى الشر يخذل ألا رب هادٍ مرشد، خاب سعيه ... وقد كان عهدي أن يخيب المضلل عذلنا غُواة الناس، فازداد غيّهم ... كذاك غواة الناس أيَّان تعذل أيا قومنا، والنفس جمّ عناؤها ... أما فيكم من ذي رشاد فيعقل؟ ! ألمّا يَئِنْ أن تبصروها محجَّة ... هي الحق ما عنها لذي الحق معدل دعونا فأسمعنا إليها كما دعا ... فأسمع رعد في السماء مجلجل وجدناكمو في مجهل من أموركم ... وكل أمور المبغض النصح مجهل لقد قتلت منكم نفوس كرائم ... وقد تتبع الغيّ النفوس فتقتل بنى لكم الآباء مجدًا مؤثلاً ... تساما فما يحكيه مجد مؤثل سلامٌ عليكم كيف مالت عروشه؟ ... وكيف هوت أطواده الشمّ من عل؟ غدا دارسًا كالربع عفى رسومه ... جنوب تجر الذيل فيه وشمأل أصم إذا ساءلته عن قطينه ... وهل يسمع الربع اليباب فيسأل بَني الدين يدعوكم إليه نصيره ... فلا تخذلوه يا بني الدين تخذلوا دعوتكم إني إلى الله راغب ... وإني بأن أدعوكم لموكل وفي النفس مما استودع الدين حاجة ... تجيش لها همًا كما جاش مرجل فإن أبدها هالت وإن أخفها أبت ... فيا ليت شعري أي أمريّ أفعل جهلتم فأنآكم عن الخير جهلكم ... ألا هكذا شأن الفتى حين يجهل عدلتم عن النهج السويّ وجُرتم ... أما فيكم مَن لا يجور ويعدل؟ ! لقد عطلت تلك الحدود ولم نكن ... نخال حدود الله يومًا تعطل ألا ليت شعري والحوادث جمة ... تجدّ بهذا الخلق طورًا وتهزل أبدّلت الأرضون والناس أم ترى ... ليالينا اللائي بنا تتبدل أَهَبْت فهل أسمعت أم تلك دعوة؟ ... تظل بها هوج الرياح تنقّل عفاء على الدنيا إذا الدين لم يسُد ... عليها كما قد كان والدهر مقبل *** هذه قصيدة الشاعر المفلق نابغة شعراء المشرق. حضرة محمد أفندي حافظ يهنئ بها حضرة العلامة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية لتوليه منصب الإفتاء الجليل: بلغتك لم أنسب ولم أتغزل ... ولما أقف بين الهوى والتذلل ولما أصف كأسًا ولم أبكِ منزلاً ... ولم أنتحل فخرًا ولم أتنبّل فلم يُبق في قلبي مديحك موضعًا ... تجول به ذكرى حبيب ومنزل رأيتك والأبصار حولك خُشّع ... فقلت: أبو حفص ببرديك أم علي وخفّضت من حزني على مجد أمة ... تداركتها والخطب للخطب يعتلي طلعت له باليُمن من خير مطلع ... وكنت لها في الفوز قدح ابن مقبل وجردت للفُتيا حسام عزيمة ... بحدَّيه آيات الكتاب المنزّل محوت به في الدين كل ضلالة ... وأثبت ما أثبت غير مضلل لئن ظفر الإفتاء منك بفاضل ... لقد ظفر الإسلام منك بأفضل فما حل عُقد المشكلات بحكمة ... سواك ولا أربى على كل حوّل هذا ما جاء في مصباح الشرق بنصه، وما كان مصباح الشرق مبالغًا في مدح هذا الشاعر البليغ، ولقد هُنِّئ الأستاذ بقصائد كثيرة منها ما نُشر في الجرائد، ولكن ما كان أحد منهم ليداني محمد حافظ أفندي، بل قلَّما رأينا في منظوم العصر مثل هذه الأبيات في جزالتها العربية وبلاغتها، فإذا ظل الحافظ حافظًا لشعره بإحلاله محله، ووضعه في مواضعه، كهذه المرة، وبالنظم في المسائل الاجتماعية (كالقصيدة السابقة) - لا بد أن يكون له في عالم الآداب العربية مكان رفيع.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع مالية الدولة) لو أن تحويل الديون الممتازة كان قاصرًا على تلك المَزِيَّة لم يكن فيه أدنى فائدة عاجلة للخزينة العثمانية، وإن كان قد يفيد من حيث حالة الدين العمومي في تركيا، في هذا المقام قد تجلى لأعين الناس حِذق جلالة السلطان في الأمور بأعجب منظر وأبهاه، فإنه قد حمل أرباب الدَّيْن الداخلي المتداول، وهم حَمَلَة الأوراق المسماة بالسهام المؤقتة والاستقراضية على الانتفاع من هذا التحويل، أخذ الوكلاء الماليون المكلَّفون بتحويل الديون الممتازة على أنفسهم أن يقترضوا خمسة ملايين من الجنيهات المجيدية بإصدار سهام ربح كل منها أربعة في المائة، وله من أجر الاستهلاك واحد في المائة، خصص من هذا المبلغ نصفه (مليونان ونصف) لتحويل الأوراق المسماة بالسهام المؤقتة وغيرها، وخصص 100000 لدفع بعض مطاليب الخزينة العثمانية، أما باقي المبلغ - وهو مليون ونصف - فقد واظب أولئك الوكلاء على أخْذه بسعر 75 باعتبار جملة السهام المصدرة، ودخل بسبب ذلك في خزينة الحكومة التركية مبلغ 1100000 جنيه مجيدي. قد نُشر في 3 يونيه سنة 1870 في جرائد القسطنطينية مذكرة رسمية بيّنت حالة تحويل جزء من سهام الدَّين المتداول؛ فجاء فيها أن الأوراق المسماة بالسهام المتحولة والجديدة والعادية والمؤقتة والاستقراضية ذات التحويلات الأهلية [1] (وهذه السهام هي أوراق الدَّين الأهلي المقترض أثناء الحرب التركية الروسية وبعدها) ، يجب أن تبدل بالسندات الجديدة التي تدفع قيمتها لحاملها المسماة بالسهام التركية. حدد رأس المال الذي أُرِيدَ تحويله على هذه الطريقة، وهي: (1) بالنسبة للسهام المحوّلة والجديدة حدد بمبلغ مساوٍ لربحها مدة عشر سنين محسوبًا هذا الربح بالسعر المقرر لهذه السهام. (2) بالنسبة للسهام العادية والمؤقتة حُدد بمبلغ مساوٍ لربحها مدة ثمان سنين. (3) بالنسبة للدّين الداخلي برأس ماله الموجود. ((يتبع بمقال تالٍ))

أرزاء وطنية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أرزاء وطنية ما مرّ هذا الأسبوع على مصر إلا وهدم للعلم أركانًا، وقوّض للفضائل والمكارم بنيانًا. ففي يوم السبت (الماضي) باغتت المنية العلامة الجليل الشيخ حسن الطويل أحد أركان النهضة العلمية الأدبية في مصر. شَرَع الفقيد في طلب العلم، وهو في سن العشرين؛ فنبغ في العلوم الأزهرية في مدة قريبة، ووجّه عنايته للعلوم الرياضية والفلسفية، وكانت قد ركدت ريحها في الأزهر من عهد بعيد، فتناول منها بنفسه ما يعز تناوله من غير تلقٍّ إلا على أفراد أصحاب العقول الكبيرة، فالتفّت عليه أذكياء الطلاب يتلقون عنه الحكمة، ولما قدم السيد جمال الدين الأفغاني الحكيم الشهير إلى مصر، وتصدى لقراءة العلوم العقلية والحكمة، كان جُل مَن حضر عليه وأخذ عنه من الأزهريين من تلامذة الشيخ، فكان بذلك ممهدًا له، أما الشيخ نفسه فلم يتلقَّ عن السيد شيئًا، وإنما كان يزوره قليلاً، وجاء في المؤيد ما نصّه: (ومع أنه لم تكن بين السيد جمال الدين وبين الشيخ حسن الطويل صلة وداد، كان يقول السيد: ليس في علماء الأزهر كالشيخ الشربيني والشيخ الطويل) ، وبالجملة كان الشيخ - رحمه الله تعالى - في مقدمة الطبقة الأولى من علماء الأزهر الشريف، ومتميزًا عن عامة علمائه بكثير من الفنون، وقضى عمره بالتدريس فيه، وفي مدرسة دار العلوم الأميرية، وتخرّج على يديه كثير من العلماء الأفاضل والشبان النابغين. أما سيرته في أخلاقه وآدابه، فقد كان سليم الصدر، طاهر السّريرة، عفيفًا متواضعًا، زاهدًا حرًا، لا يخاف في الحق لومة لائم، فيُصَرِّح بانتقاد الحُكّام في السياسة، كما يصرح بانتقاد سائر الناس في عاداتهم التي أضرّت بدينهم ودنياهم، ولا سيما الغُلوّ بتعظيم القبور وطلب الحوائج من الأموات؛ ولذلك كان يخوض في دينه بعضُ الناس الذين لا يعرفون من الدين إلا ما عليه الناس، ولا حجة لهم على ما يعرفون إلا سكوت أكثر أرباب العمائم عن المنكرات الفاشية، وتأويل بعضهم لها، وإنني أعد هذا من مناقب الشيخ كما أعد مثله من مناقب السيد جمال الدين؛ لأن جميع الذين امتازوا في عصرهم بالعلوم العقلية والاستقامة كانوا يُرمون بمثل ما رُمي به هذان الفاضلان (راجع تاريخ الإمام الأشعري والإمام الغزالي، وأضرابهما) . تُوفي - رحمه الله تعالى - فجأة عن نحو 75 سنة، ولم تكد الدهشة بفجيعته تزايل القلوب، وتجف لها الغروب حتى تأثرتها. *** الفجيعة الثانية ففي يوم الاثنين (25 صفر) قضى أستاذ العلماء الأكبر، وقطب الفقه النعماني والمحور، مولانا الشيخ عبد الرحمن القطب النواوي شيخ الجامع الأزهر. قضى إثْر أَلَم ألمَّ به في صبيحة ذلك اليوم، ولم يمهله إلى مسائه، ففاضت روحه الزكية وقت العصر من ذلك اليوم، وكان - سقى الله لَحْده - من أكابر علماء الأزهر، وله براعة في الفقه الحنفي قلَّما يساويه فيها أحد، وقد تقلب في المناصب الشرعية الدينية؛ فكان فيها مِثال العفة والاستقامة، وقد أُسنِدت إليه مشيخةُ الأزهر الشريف من نحو شهر، وكان مفتيًا للحقانية، وعضوًا في المحكمة الشرعية العليا، ومن ورعه وتَحَرّيه ما أخبرني به أحد أعضاء هذه المحكمة من أنه كان لا يوافق على حكم من الأحكام ما لم يراجع عنه ويشاهد النص، وإن كان قريب عهد بالموافقة على مثله عن مراجعة؛ لأنه يرى أن الدعاوي - وإن تماثلت - فاحتمال الذهول أو الخطأ في المراجعة التي بُني عليها الحكم الأول يقضي بالتكرار لتطمئن النفس. أما لين جانبه ومكارم أخلاقه، فحدِّثْ عنها ولا حرج. وقد احتُفِل بتشييع جنازته ودفنه في اليوم التالي ليوم موته (الثلاثاء) بما يليق بمقامه ومنصبه -رحمه الله تعالى رحمة واسعة! *** الفجيعة الثالثة وبينما الناس يؤدون سُنَّة التعزية بفقيدي العلوم والفضائل، إذ صاح بهم نعي رب المكارم والفواضل. قد مات عثمان باشا ماهر. صاحب المبرات والمآثر. وكانت وفاته في مساء يوم الثلاثاء على فراش المرض، وماذا عسانا نَذْكُر من خيراته ومبراته، وقد وقف جميع أطيانه الواسعة على إحياء العلوم الدينية والعربية كما ذكرنا ذلك في (المنار) من قبل، وقد تقلب في المناصب والوظائف، وكان رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية إلى قُبيل مرضه الأخير، وعضوًا وطنيًا في مصلحة الأراضي الأميرية حتى الموت. وقد احتُفِل بتشييع جنازته في صبيحة يوم الأربعاء احتفالاً موافقًا للسنّة الشريفة، فلم يمشِ فيها حَمَلةُ المجامر والقماقم، ونحوهم، رحمه الله تعالى عداد حسناته، وأسكنه فسيح جناته! *** المصيبة الرابعة وفي يوم الأربعاء استأثرت رحمة الله تعالى بالعلامة المدقق، والمؤرخ المحقق أوحد علماء الأزهر في فنون الآداب والتاريخ، الشاعر النَّاثِر الشيخ عثمان مدوخ، ومن مزاياه أنه كان أعرف الناس بخطط مصر وآثارها، ويقال: إن علي باشا مبارك كان يَرْجِع إليه في أثناء الاشتغال بتأليف خُطَطِه المشهورة، ويستفيد منه، وقد احتُفل بتشييع جنازته في يوم الخميس الماضي، تغمده الله برحمته الواسعة! ‍‍‍‍‍ *** تعلقت إرادة سمو الخديوي المعظَّم بتعيين العلامة الشهير الشيخ سليم البِشْري شيخ السادة المالكية شيخًا للجامع الأزهر الشريف، فنسأل الله تعالى أن يجعل أيامه أيام نجاح وتقدم في الإصلاح! ونقدم التهنئة لفضيلته بهذا المنصب الجليل!

يستحيل إرضاء الناس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ يستحيل إرضاء الناس لما كان (المنار) في شكله الأول رغب إلينا الكثيرون من القرّاء بأن نجعله مجلة؛ ليسهل عليهم حفظه؛ فإنهم يضِنّون بكل عدد من أعداده، فأجبناهم إلى ذلك، فقام بعضهم يقول: إنه قلّت مادّته؛ لأن الصفحات الثمانِ الأولى كانت تسع زيادة عمّا تسعهُ الست عشرة صفحة في الشكل الجديد. ولكن تلك الزيادة ما كانت مفيدة للمصريين الشاكين من قلة المادة؛ لأنه لم ينقص أقل من صفحة التلغرافات التي كنا ننشرها لأجل المشتركين في خارج القطر المصري، ومع ذلك نتوخى مرضاتهم بزيادة المادة بأن نطبع ملزمة من (المنار) أو أكثر بحروف صغيرة؛ فإن سلمنا من اعتراض أصحاب الأبصار الضعيفة الذين ربما يقولون: يحتاج مَن يقرأ (المنار) إلى نظارة معظّمة (ميكرسكوب) ، فإننا نطْبع الملزمة الأخرى بالحروف الصغيرة أيضًا. ومما يحسن هنا ذكره أن قومنا أمسوا يؤاخذون أخاهم الصادق في خدمتهم بالهفوات، أو بما يخلقونه له من السيئات. ويساعدون الأتاوي (السيل الغريب) على ما يجرف من بنيانهم ويهدم من أركانهم. فقد ورد علينا كتاب بإمضاء (منتقد) يزعم صاحبه أننا أنكرنا في العددين الماضيين وجود الأولياء، وكيف ننكر مَن شاهدْنا بأعيننا {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) ، وما كان مِنَّا إلا أن نصحنا لقومنا بأن لا يتَّخذوا الأولياء أربابًا من دون الله، كما فعل مَن قبلهم من الأمم. وزعم أننا ذممنا فيهما الأمة الإسلامية، وما فهم أن تنبيه المُقَصِّر على تقصيره وإرشاده إلى طرق منافِعه - ليس من الذم المهين الذي يُلام صاحبه، وإنما يلام مَن يغش أمته بالمديح الكاذب الذي يزيدها غرورًا، وإن زاد أغرارها سرورًا. وانتقد علينا استشهادنا على فضل السيد جمال الدين بأحد الأجانب عن الدين - كجرجي زيدان - دون علماء الإسلام، ونجيبه عن هذا بأننا إنما استشهدنا بقول هذا الرجل في مسألة تاريخية، وهو من المؤرخين المدققين، لا على أن السيد كان من أعلام الدين الإسلامي. على أن الاستشهاد بمدح الأجنبي أَبْلَغ؛ لأنه إما أن يقول الحق، وإما أن يذم، ولا يتوقع منه أن يكون ذا ضلع مع المخالف له في دينه. وهذا، وإن للسيد المرحوم المكانة العالية عند عقلاء المسلمين ما لم يرتقِ إليه إلا القليل، وحسبك أن أكبر العلماء المحققين في مصر قد سُروا بدلالته. واغترفوا من فضالته. دعْ ذكر فضيلة مفتي الديار المصرية. وارمِ ببصرك إلى قُضاة محكمة مصر الشرعية تجدْ أكابرهم من تلامذته. والشاهدين بعلوِّ مكانته، كالشيخ بخيت والشيخ محمد أبي خطوة والشيخ عبد الكريم سلمان وغيرهم ... وعجيب من المنتقد كيف لا ينكر على إخوانه المسلمين الذين يسألون مثل جورجي أفندي زيدان عن المسائل الدينية المحضة التي ليس هو من أهلها، وينكر علينا الاستشهاد لكلامه في المسائل التي هو من أمثل أهلها وأشدهم تحريًا وإنصافًا، ثم نوجِّه نظره إلى أن من هدي القرآن الشريف {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) ، وأن الحسنة بعشر أمثالها، فليعذرنا بما عساه يراه من المسائل النادرة التي لا تروق له، ولا يبهتنا بما نحن بَرَاء منه، وليعذرنا على عدم نشر كتابه؛ فإنه على ضعف عبارته لا يفيد القُرّاء، وقد علم ما فيه، والله مع الصادقين‍‍‍!

وتعاونوا على البر والتقوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ] وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى [[1] تأتينا الجرائد الهندية من عدة أسابيع مملوءة بالحثّ والترغيب في مساعدة مشروع شريف أخذ على عاتقه القيام به صاحب الهمة العلية والغيرة الإسلامية محمد سعيد أحد أفاضل الهنديين الكرام، وهو إنشاء مدرسة كبيرة في مكة المكرمة، تُعَلَّم فيها العلوم الدينية والحرف والصنائع النافعة التي تحتاج إليها البلاد الحجازية، وبماذا نُرَغِّب القُرّاء في مساعدة هذا العمل، وهم يعتقدون أن السعي في عمران بيت الله وإغنائه عما سواه من أعظم ما يُتقرب به إلى الله. فمَن أحَبَّ من قُرَّاء (المنار) أن يتشرف بهذه القربة فليكتب إلينا؛ لِنَدُله على طريق إيصال ما يبذله، أو نسعى نحن في إيصاله، وسنعود إلى الموضوع.

كان يا ما كان ـ 2

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

_ كان يا ما كان (2) بينما كانت السيارة تُسام سوء العذاب، وتقاسي مرارة الاغتراب، وحرارة الخيبة والاكتئاب، إذ هبطت السيارة الثانية في تلك العاصمة النائية، وطفقت تنادي بصوت رفيع: (عفة واستقامة للبيع) ! ، هل من طالِب فيُعطَى طِلْبته، هل من راغب فينال رغيبته؟ ! فما سمعها إنسان إلا تخيّل أنها مختلة الشعور، فرت من البيمارستان، ولكن استلفت إليها الأنظار جمالها الباهر، وما يلوح عليها من مخايل الوقار والكمال الظاهر، فأحاط بها الناس إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر، معتقدين صِدق لهجتها، ونفاسة سلعتها، فقالت الأغنياء: لو كانت دُورُنا كبيرة كدُور آبائنا الأولين لاشترينا منها هذا المتاع الثمين، واخترناه في مخازنها الكبيرة، واحتكرناه إلى وقت الضرورة، ولكن مخازن بيوتنا اليوم صغيرة، لا تكاد تسع أثاثنا وبضاعتنا الكثيرة، فكيف نضم إليها من الأزواج (أي: الأصناف) ، ما لا يُرْجَى له رواج؟ ! لا سيما ونحن مضطرون إلى إهماله، أو الوقوع في سوء استعماله، وقالت الفقراء: بماذا نشتري هذا المتاع الفاخر؟ ، الذي هو زينة أرباب الغنى والمظاهر، وحِلْية الكبراء، ومفخر الأمراء، بل ومِعْرَاج العُبّاد الناسكين، يرقون فيه إلى مقامات الأولياء المقربين، وإذا تكلفنا تحصيل ثمن العفة والاستقامة، وإنه لأمَرّ مما يجرعنا الفقر من الضجر والسآمة، فهل يصدق هؤلاء الناس بأننا ملكنا هاتين السلعتين النفيستين، ويعترفون لنا بأننا صرنا أعِفَّاء مستقيمين؟ ، كلا، بل يقولون: إننا نُسمِّي عجزنا عن تناول الشهوات عفة، وإننا ما استقمنا على الطريقة إلا مُكرَهين، وبلجام الفقر مكبوحين، وقالت النساء: إذا اشترينا العفة والاستقامة، فإننا نرجع بالخيبة والندامة؛ لأن هؤلاء الرجال الأشرار لا تحظى عندهم إلا منهتكات الأستار، فما لم تتبرج إحدانا تبرج الجاهلية، وتتجلى لهم بأبهى مجالي الزينة الصناعية - لا تجد فيهم خاطبًا، ولا تلقى منهم راغبًا، فإذا اشترى الرجال فإنَّا مشتريات، وإذا عفّوا واستقاموا فإنا نكون عفيفات نزيهات؛ فالرجال قوّامون على النساء، لا النساء قوّامات على الرجال، ولا نستطيع أن نكون على نقيض ما هم عليه في حال من الأحوال، ثم تقدمت امرأة من الأيامى إلى السيارة مستامة، فقالت (المرأة) : هل هذه العفة غالية الثمن؟ ! (السيارة) : لا (المرأة) : ما ثمنها؟ (السيارة) : أربعة وعشرون درهمًا من الصبر، ومخالفة النفس الأمَّارة بالسوء، (المرأة) : هل يؤخذ هذا الثمن دفعة واحدة وتؤخذ به العفة؟ (السيارة) : لا، وإنما يُدفع أقساطًا في مدة طويلة، ولا تتم هذه الأقساط إلا ويرى المشتري العفة ملك يمينه، (المرأة) : إذن العفة غالية جدًّا، ثم غادرتها المرأة وانصرفت وانفضّ في إثرها الجَمع، فلم تجد السيارة بعد انصراف الناس عنها بُدًّا من التطواف والجولان، وعَرض بضاعتها على كل إنسان، فمرت في طوافها ببناء شاهق، قد ازدحمت عليه أصناف الخلائق، ولما سمعت أقوالها، وتعرفت بالفراسة أحوالهم، رأتهم يتبادلون النظر الشزر، ويتعاملون بالدهاء والمكر، كأنهم خصماء، قد أُلقيت بينهم العداوة والبغضاء، فعَرَضت عليهم بضاعتها الثمينة، وأخبرتهم بأنها تُذهب بالحقد والضغينة، فأعرضوا عن التذكرة، كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، وعَلِمت هي من القرائن الحالية، أن البِناء الشامخ هو نظارة العدلية (الحقانية) ، فطافت في أرجاء المكان، ثم دخلت إحدى غرفه بغير استئذان، وإذا هي محكمة النقض والإبرام، ومكان التشريع العام، وإذا بالقضاة فيها يأتمرون، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (النحل: 19) ، فصاحت السيارة: يا معشر الحُكَّام، القابضين على أزِمَّة مصالح الأنام، هل أدُلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، وتنالون بتناولها الفخر العظيم، تتمتعون منها بالنعماء، وتفيضون من بركاتها على الدَّهماء؛ لأن من ربحها العدل في القضاء، والإنصاف بين الخصماء، وناهيكم به عمرانًا للبلاد، وإسعادًا للعِباد، وذلك أن تبتاعوا مني بعض بضاعتي السماوية، التي أرسلني لبيعها رئيس المعبودات العلية وهي العفة التي تقف بالنفس البهيمية موقف الاعتدال، والاستقامة التي ترتقي بالنفس الناطقة إلى أوْج الكمال، ولا ريب أنكم أيها الأكياس، أوْلى بهاتين من سائر الناس. كانت السيارة تتكلم بقوة روحية، وعيناها النجلاوان تنبعث منهما أشعة نورية كادت تخطف الأبصار، وتحقق الاعتبار، فاعترت القضاة الدهشة، وهزَّتهم الرعشة، وعَلتهم الهيبة، وصمَّموا على التوبة، ولولا ذلك لأوقفوها عن المقال، في أول المجال، وبعد أن أتمَّت الخطاب، وسكن من القضاة الاضطراب، ثَابَت إليهم حالتُهم الأصلية، وعادت إليهم خواطرهم العادية؛ فرأوا أنها تدعوهم إلى محو ملكات، وتبديل صفات بصفات، وتسدل بينهم وبين الاستعلاء على الناس حجابًا، وتغلق دونهم من الثروة أبوابًا، فقالوا: إن هذه الفتاة قد هَتكت حرمة النظام، واحتقرت بكلامها الحكام والأحكام، فيجب أن تُُُزَج في أعمق السجون، حتى يأتيها المَنون، وحَكَم الرئيس بهذا الجزاء، باتفاق الآراء، وعهد إلى الشرطة بتنفيذه في الحال، أو تفتدي بمبلغ عظيم من المال، لا من بِضاعتها المُزْجاة، وسلعتها المزجَّاة فأخرجها رئيس الشرطة (قومسير البوليس) ، من الديوان، وانفرد بها في مكان يريد استنطاقها، وتعرّف أخلاقها، وكان ذا فراسة، وصاحب كياسة، وكفى بالتجاريب عِبْرة وتهذيب، ولمّا رأى من كمالها ما رأى، ووقف على حُسن مقاصدها، وإرادتها الخير لبني الإنسان ببيعهم العفة والاستقامة اللتين هما من أهم أسباب سعادتهم، قال لها: (أي بُنية، اختاري لك محلاًّ آخر لبيع هذه البضاعة النفيسة، وإياك أن تمُري بهذا المكان ثانية؛ فإن أهله أعداء العفة والاستقامة، ونسأل الله السلامة!) ، فعقلت ما قال من الكلام، وتقبَّلت نصيحته الأبوية، وانصرفت بسلام. ثم مرت بمكان آخر يشبه الأول في فخامة بنائه، وكثرة اجتماع الناس في فنائه، فخطر لها أولاً أنها ربَّما تلقى في هذا ما لقيته في الأول؛ لشبهه به وقربه منه، ولكن حملتها قوة الأمل، وشدة الثبات على العمل - وهما سبب كل نجاح، وعُنوان كل فلاح - أن تمازج أهله، فمازجتهم، وأن تساومهم فساومتهم، وابتدأت بقوم جلوس على الأرض، يشتغل بعضهم بمحاورة بعض، فقالت لهم: هل من مريد للعفة، هل من راغب في الاستقامة، فإنني كُلفت باستبضاعهما؛ لأجل بيعهما، فطفِق بعضهم يضحك منها مغربًا، وبعضهم يسخر منها مستغربًا، وقال لها أحدهم: أيتها الفتاة السليمة النية، الصادقة الطوية، إن العفة والاستقامة قد أوقعتانا في الحسرة والندامة، وإن تيارهما هو الذي قذف بنا في هذا المكان؛ حيث نقاسي الذل والهوان، فقال له آخر: دعْ عنكَ هذه الفتاة الحمقاء، لقد كان عندي هذا المتاع. وكنت أحافظ عليه جهد المستطاع. ولولا أنني ألقيته في قاع البحر. لأهلكني الذل والفقر. وقد فاض عليَّ بتركه معين الثروة والغنى، ونلت بعده غاي المُنى، أترقى في الوظائف العالية، وأتقلب في الرتب السامية، وأتحلى بالوسامات الزاهية، وإذا عزلت أجيء هذا المكان، مملوء الجيب بالأصفر الرنَّان، فلا يمر عليَّ شهران، إلا وأنال أقصى ما في الإمكان، ولولا توبيخ الضمير على ترْك ذلك الإكسير، لكنت أنعم بَالاً مِن كل أمير، وأطْيب عيشًا من كل وزير، ولكنها خواطر تمر مرَّ السحاب، لا تداني ذلك البؤس والاكتئاب، وما أنا بمجنون، فأعود إلى ذلك الهون، بابتياع الاستقامة والعفاف، من هذه الفتاة الكاملة الأوصاف، ثم التفتَ إلى السيارة، وقال لها: أنصحك - أيتها الفتاة المسكينة - أن تذهبي بسلام قبل أن يَحُلّ بك الانتقام، فأنت الآن مع المعزولين، وإياك وإيَّا الموظفين، وإذا بالمكان (نظارة الداخلية) ، والذين كلَّموها هم من الموظفين المعزولين (كالمديرين والمأمورين) جاءوا ينتظرون وظائف تخلو من عُمَّالِها؛ ليطلبوها لأنفسهم، فتذكرت السيارة ما لَقِيت من النِظَارة الأولى، وما كانت ناسية، وقالت - في نفسها -: ما أشبه الليلة بالماضية، وانْسَلَّت من النظارة حزينة، ثم طافت قليلاً في المدينة، تَعْرِض البضاعة بالثمن الزهيد، راجية أن تَحْظَى برجل رشيد، فوجدت الناس في سلوكهم، على دين ملوكهم، فخرجت من المدينة خائفة تترقب أن يلحقها العذاب المهين، وتوجهت إلى الملأ الأعلى وهي تقول:] رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ [ ... (القصص: 21) . (وللكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

استنهاض همم ـ 11

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (11) بقية الولايات العربية يكاد يكون الكلام عليها متقاربًا متشابهًا من حيث أطماع إنكلترا فيها؛ لوقوعها في قارعة الطريقين المؤديين إلى الهند البحري والبري، فهي ربما كانت تضمر في نفسها التقام جزيرة العرب برمتها، وتتمنى لو تكرع فوقها الرافِدَين دجلة والفرات. (سوريا) ونعني بها البلاد الواقعة بين آسيا الصغرى شمالاً ومصر غربًا، إن للدول الغربية بواعث جمة للتطلع إلى سوريا والاندساس بينها وبين صاحبها، وأقوى تلك البواعث وأعظمها خطرًا أمران: (الأول) كونها معدِن الديانة النصرانية، ومنبثق الأشعة العيسوية، وكِفافًا [1] يضم المعاهد المقدسة التي تنتابها الأمم المسيحية من كل جنس، وعلى أي نِحلة يتقاطرون إليها على قصد الزيارة والتبرك، و (الثاني) تكاثر النصارى في ربوعها، والتفافهم بمسلمي أهلها، بما أربى على سائر الولايات العربية. أحد هذين الباعثين كافٍ في انبعاث دول أوربا للاهتمام بسوريا، والمساجلة في نيل النفوذ فيها، فما بالك وقد اجتمعا معًا، والمعهود من شِنْشِنَة القوم التحمس في خدمة الدين، ورفع شأن كهنته، والتظاهر بحماية النصارى المنبثّين في الأقطار الشرقية، والتشوف لسبر أغوار سرائرهم، وجس نبض حميتهم، والإشراف على شؤونهم مع متبوعهم ومواطنيهم، فكانت سوريا - لِمَا ذكرنا - أفسح مجال لتسابق خيول أماني هؤلاء القوم، وأوسع فضاء لتحويم نسور أطماعهم. كان المجلي في هذا المضمار قبل احتلال الإنكليز لمصر هو فرنسا، فكادت تخلص إليها أميال نصارى سوريا وتستحوذ على عواطفهم، سيما طائفة الموارنة منهم، بل كاد اسمها يزاحم حكومة البلاد (لا سيما في لبنان) ، ولغتها تتغلب على اللغة الوطنية، فما احتلت إنكلترا وادي النيل حتى أخذت ظلال نفوذها تتقلص من سوريا شيئًا فشيئًا، وجواسيس آمالها تتراجع من خلال تلك الديار قليلاً قليلاً، وبقي لها من ذلك بقية ربما كانت توازي ما خامر البلاد من شأن الإنكليز وأظلها من نفوذها. أما الإنكليز أنفسهم فليس لهم في سوريا روّاد نفوذ، ولا دعاة مدنية، لكن رُزقوا من ذلك أقوامًا هم يزرعون والإنكليز يحصدون، وهم يغرسون والإنكليز يجنون، بل تراهم يأكلون ويشربون والإنكليز يشبعون ويرتوون! نعني بهم الأميركان؛ فإنهم أنشأوا منذ سنين - بين ظهرانينا - مدارس ومطابع وكتبخانات، ولهم قِسيسون ومبشّرون ينشرون اللغة الإنكليزية، ويبثون آدابها بين الفتيان والفتيات؛ فيجني الإنكليز عواطفهم وأميالهم، ويعتدهم كُوى يطل منها على أسرار البلاد وما في زواياها. (الروسيا) لم تفتأ الحروب بينها وبين الدولة العلية حتى حَلَّت من نفوس نصارى سوريا - سيما الروم منهم - محلاً رفيعًا، ولا تزال تسعى في استمالة القلوب وإشرابها حبها. ولها في فلسطين جمعية كبرى تُدْعى (الجمعية الفلسطينية) تحت رئاسة عم القيصر، وقد تبسطت من عهد قريب في فينيقية والشام، وغيرهما من سوريا، وغرض تلك الجمعية الأكبر تعليم اللغة الروسية، ونشر آدابها وتعاليمها بين أهالي البلاد. وقد مَهَّدوا بين يدي مشروعهم السبل، ووطؤا المسالك؛ فهُرعت الأقوام إلى مدارسهم؛ للارتشاف من هذا المنهل العذب، وازدحموا حوله، حتى لم يعد ماؤه المتفجر يكفي وُرَّادهم وناهليهم، وربما أجروا ينابيع أُخَر أغزر ماءً وأشد تفجُّرًا. أنْشَأت تلك الجمعية في طرابلس الشام مدرستين، واحدة للذكور والأخرى للإناث، وبذلت الجهد في تذليل العقبات أمام الطالبين والطالبات، واعتنت في تسهيل الصعوبات عليهم اعتناءً ينطبق على حالتهم في العسر واليسر، والكبر والصغر، فما ظنك بعِداد تلامذة تينك المدرستين الآن؟ ، يَبْلغون قرابة ألف ولد ما بين ذكر وأنثى، أكثرهم أطفال حديثو عهد بمهد، تحنو عليهم المدرسة حنوّ المرضعات على الفطيم، تواسي فقيرهم بحاجاته، وتتعهد صغيرهم بضروراته، وترضعهم لبان العلم والتهذيب من صغر؛ كي يتمكن من نفوسهم تمكُّن النقش في الحجر. (الألمان) تبوَّؤوا من سواحل فلسطين عدة محال ومنازل، ولم يزل نسر طمعهم - علي ما يروون - يحوّم حول البحر المتوسط، طورًا يسفّ، وآونة يُحَلِّق يتخير لنفسه وُكنات أُخر؛ يبيض فيها ويفرخ. وغاية هذا الشعب في بلادنا اقتصادية تجارية، ولا نعلم إن كانت له مآرب سياسية أو استعمارية، بَيْدَ أنه يتراءى من خلال شؤون دول أوروبا أن الألمان أقل نهمًا، وأوفى ذِممًا من سائر الدول، وإن كانوا كلهم سواسية (سواء) في خشونة الطبع عند الحفيظة والطيران إلى معامع الشر، ولو في أقصى الشرق، واستباحة التغلب على الأمم المستضعفة، والصيال عليها بذراع من حديد. لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا كأن ربك لم يَخْلق لخشيته ... سواهم من جميع الخلق إنسانا أما الطليان فقد حاولوا مِرارًا أن يكون لهم في بلادنا من الأثر والنفوذ ما لغيرهم، وسعوا في افتتاح مدارس لنشر لغتهم وتعاليمهم؛ فلم يفلحوا وباؤوا بالخَيبة والحرمان. وأكثر هاته الدول طمعًا في سوريا وأشدهن ضراوة بها - إنكلترا بعد الاحتلال، وربما كسبت الدعوى عليهن وآبت بالفلج، فيما لو جرروها إلى المحكمة الدولية الكبرى. أعظم حجة لها بين يدي دعواها التاريخ؛ فهو يشهد بأن سوريا حريم لنهر النيل، وأن كل مَن ملك النهر حق له وضع اليد على ذلك الحريم، ثم يتبع شهادته بقوله: على ذلك جَرى تعامل الأمم منذ أسَّس الملك (مينا) مدينة (منف) إلى زمن تولية محمد علي باشا وزحف ابنه إبراهيم على سوريا. وبناءً على اعتبار شهادة الواحد في قوانين تلك المحكمة يحكم الرئيس بصحة دعوى إنكلترا، ويمنع دعوى المدّعين. وإذا تلكأ المدّعون في قبول هذا الحكم الجائر وحاولوا استئنافه أو تمييزه إلى محكمة رئيسها المكسيم - يمشي حينئذ بعض أعضاء المحكمة بالصلح بينهم، قائلاً: إن في إفريقيا والصين لَمندوحة عن قعقعة السلاح ومخر السفين. هذا، وإن نسبة مصر وسوريا إلى الهند كنسبة غلقي الباب إلى الدار، فكيف يكتحل رب الباب بغمض قبل أن يطمئن على خزائن داره بإيصاد الغلقين؟ ، وزِد على ذلك أن المداولات لم تَزَل جارية في أمر مشروع السكة الحديدية التي تصل بين سواحل البحر المتوسط وسواحل الخليج العجمي؛ لتكون أقرب طريق بين أوربا والهند والشرق الأقصى، فلا جرم أن يكون لسوريا مكانة عُليا في نفسها. (المنار) لن ترضى الدول بإعطاء سوريا لإنكلترا إلا أن تفنى روسيا وفرنسا! ((يتبع بمقال تالٍ))

الكتابان الجليلان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكتابان الجليلان نوَّهنا في أجزاء من (المنار) بكتاب (تحرير المرأة) وكتاب (سر تقدُّم الإنكليز السكسونيين) ، وكيف لا ننوِّه بهما؟ ! وهما غاية الغايات في فن التربية الذي نحن في أشد الحاجة إليه، ونحن نعتقد - كما يعتقد جميع العقلاء الذين لهم نظر ولو بوجه ما في علم الاجتماع - أن تقدم الأمم وتأخرها، وسعادتها وشقاءها، وغناها وفقرها، واستقلالها واستعباد الأغيار لها - كل ذلك مَنوط بتربيتها، فمتى صَلُحت التربية صَلُح كل شيء، ومتى فسدت فسد كل شيء، ونعتقد أيضًا أن كمال التربية إنما يكون بتربية الذكران والإناث جميعًا؛ فوجود الرجال الكملة متوقف على وجود النساء الكوامل، وبالعكس. وقد استوفى أحد الكتابين المنوَّه بهما أهم مباحث تربية النساء، واستوفى ثانيهما أهم مباحث تربية الرجال؛ لأن مدار كتاب (سر تقدم الإنكليز) على تربية الرجال المستقلين بأنفسهم في معيشتهم، القادرين على الاستعمار وتحصيل الثروة في كل مكان وزمان؛ بحيث تكون أمتهم بمجموعهم أكثر الأمم ثروة، ودولتهم أكبر الدول سيادة , وإنما كان هذا الكتاب غاية الغايات في بابه؛ لأن مؤلفه درس فن الاجتماع، حتى صار من الراسخين فيه، ثم درس أحوال الأمم الثلاث التي هي في مقدمة أمم الأرض في العلم والعمل والمدنية: الفرنسيس (قومه) ، والألمان والإنكليز السكسونيين (بريطانيين وأميركانيين) ؛ فاهتدى بدراسته إلى السر في تقدم الآخرين على مَن قبلهم في الثروة والاستعمار، وهو التربية التي شرحها في كتابه هذا، وفضَّلها على سائر أنواع التربية تفضيلاً. مَن ينكر أن بريطانيا العظمى تَسُود على ربع العالم أو أكثر، وهي أقل الأمم الثلاث عناية بالحرب ومزاولة له، وإذا تم ما يحاوله بعض رجالها من الحلاف والاتحاد مع الولايات المتحدة فلا يمضي قليل من الزمن إلا ونرى عنصر (الأنكلوسكسون) يسود نصف العالم. ربّما يفوق بعض الأمم الإنكليز السكسونيين في بعض ما يسميه الفلاسفة وعلماء الأخلاق أدبًا وفضيلة، ولكن من يلاحظ أن العزة والقوة القائمتين على أصول العلم هما مناط الترقي المادي والأدبي معًا، وأن الذلة والضعف المتولدين من الجهل وفساد التربية يُذهبان بكل فضيلة ويمحوان معالم الآداب، إلا أن يُعالَجا بالعلاج الصحيح - يتجلى له أن ما اعترض به على كتاب (سر تقدم الإنكليز) من أن الإنكليز إذا كانوا أكثر تقدمًا ماديًا من الفرنسويين، فالفرنسويون أرقى منهم في التقدم الأدبي - هو ناشئ عن نظر سطحي وعدم إمعان؛ فإن بعض تلك الأمور الأدبية وهمي أو عرفي غير حقيقي، وما عساه يكون حقيقيًا؛ فإن رُقي الإنكليز في مراقي التقدم يكفل لهم إدراكه والتبريز فيه، ولا يقول صاحب الكتاب ولا غيره: إن الإنكليز يفضلون قومه وسائر الناس بكل شيء. كيف وقاعدة (يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل) - لا يمكن أن ينكرها أحد، وإنما ألممنا بهذا ليتم لنا الاحتجاج بأن الكتاب أمثل الكتب في فنه. هذا ما أُقرِّظ به الكتاب على وجه الإجمال، ولا أرضى لقراء (المنار) بأن يكون هذا كل نصيبهم منه، بل أعِدُهم بأنني سألخص لهم أجَلَََََََََََََّ فوائده، وأصلهم بما يناسب حالهم من مسائله، وربما أتحفتهم بجُل مقدمة معرِّبه الفاضل؛ فإنها آية في الحكمة وتمثيل مرض الأمة. وقد أحسن كل الإحسان في تشخيص مرض الأمة في مقدمة الكتاب، الذي يصف الدواء لأدواء الأمم. فمَن عرف الداء يتناول علاجه من أمم. ولا حاجة للتنويه ببلاغة ترجمته العربية؛ فان القُرَّاء يعلمون أن حضرة فتحي بك زغلول معرِّبه في مقدمة بُلغاء كُتاب العربية، ومَن يقرأ الكتاب لا يكاد يشعر بأنه معرَّب تعريبًا! وأما كتاب (تحرير المرأة) ، فإنني وددت لو يُنشر في (المنار) إلا قليلاً. حكمة رائعة. في عبارة بارعة، ومعنى دقيق. في لفظ رقيق، وما رأيتُ مكتوبًا في الأنام. ما جعل الحكمة على طرف الثمام - مثل الذي رأيت في هذا الكتاب. ومن خصائصه أنه أحدث أثرًا في الأمة التي كِدنا نحسبها ميتة، لا تشعر بمؤلم، ولا ملائم؛ لأننا أمسينا كما قال شاعرنا: غوينا فلا الداعي إلى الخير بيننا ... يعان ولا الداعي إلى الشر يُخذل أثر فيها حتى لا تسمع ممن قرأه كله أو بعضه إلا الإطراء والإطناب. والثناء والإعجاب. أو الانتقاد على بعض ما جاء في باب الحجاب. بالغ جمهور القارئين في هذا الانتقاد، كما بالغ في استحسانه المغرمون بالإصلاح، ولقد كتب إليَّ أحد أفاضل أهل العلم العقلاء في سوريا ما نصه: (اطَّلعنا على بضعة عشر عددًا من (المؤيد) ولقد دُهِشْنا مما قرأناه من (تحرير المرأة) ! - حيَّا الله مؤلفه، وجزاه عن الإسلام والمسلمات خيرًا -، ولَعمري إنه تصدّى لأمر عظيم وبقدر عظم الأمر سيكون أثره عظيمًا في نفع الأمة. ولقد أعَدت قراءة تلك الأعداد مِرارًا؛ لأنها وافقت هوى في فؤادي، وهواجس في خاطري، على نحو ما كتبه ذلك الكاتب الفاضل، ولقد حَملت الأعداد إلى فلان … لأُطلعه عليها؛ إذ كان قد جرى قُبيل ذلك بيننا حديث في هذا المعنى، طالت فيه المناظرة، ونتيجتها أن المرأة إذا تثقف عقلها بالعلم والأدب؛ كان ذلك كافيًا في صيانتها، ومُغنيًا لها عن الحجاب العادي، أما الحجاب الشرعي - الذي مَداره إخفاء مواضع الزينة ومواقع النظر، وعدم الخلوة بالأجنبي - فهذا لا بد منه، كيفما كانت حالة المرأة مهما استكملت علمًا وفضلا ً) . اهـ. هذه خلاصة صدى صوت المؤلف ترجّعه الأقطار البعيدة، ولم يكن قائلاً إلا بالحجاب الشرعي الذي استدل عليه بالكتاب والسنة وأقوال فقهاء المذاهب، ثم بالنظريات العقلية والتاريخية والخطابيات أو الشعريات على بُعد الكتاب عن هذا النوع الأخير في مجموعه، أريد بهذا مثل قوله: (عجبًا، لِمَ لَم تؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟ ! هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتبر الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه؟ ! . واعتبرت المرأة أقوى منه في كل ذلك؛ حتى أُبيح للرجال أن يَكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال. ومُنع النساء من كشف وجوههن لأعين الرجال منعًا مطلقًا؛ خوف أن ينفلت زِمامُ هوى النفس من سلطة عقل الرجل؛ فيسقط في الفتنة بأية امرأة تعرضت له، مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخَلْق؟ ! إن زعم زاعِمٌ صحة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافًا منه بأن المرأة أكمل استعدادًا من الرجل، فلم توضع حينئذ تحت رِقه في الحال؟ ! ، فإن لم يكن هذا الاعتبار صحيحًا فَلِمَ هذا التحكم المعروف؟ !) . اهـ والجواب عن هذا، إن الذين يقولون: يَحْرُم على الرجل النظر إلى وجه المرأة، يقولون أيضًا: يحرم عليها النظر إلى وجْهِه، سواء في ذلك مَن قيّد الحرمة بخوف الفتنة في الجانبين - وهم المتقدمون - ومَن أطلقها في كل حال سدًّا للباب - وهم المتأخرون - وهؤلاء يمنعون حضور المرأة مجلسًا فيه أعمى أجنبي، وإنما أمروا المرأة بستر وجهها - دون الرجل - لأن شأن النساء أن يلزمن الحجال ولا يتعرضن لأنظار الرجال. والتعرض لنظر أحد الفريقين للآخر إنما يكون في الأسواق ونحوها من المجتمعات العمومية، التي هي للرجال بالأصالة، ولا يغشاها النساء إلا نادرًا للضرورات؛ فلا جرم أن الصواب أن يتكلف مشقة الستر مَن يكون وجوده فيها عارضًا على سبيل الندور، وليس له فيها عمل مهم، وهو صِنف النساء ويسهل عليهن لذلك غض أبصارهن، وليس من الصواب أن يؤمر أهل السوق كلهم بالانتقاب؛ لما عساه يعرض من دخول امرأة أو أكثر عليهم فيه. فإن قيل: إن دخول النساء الأسواق كثير وليس بالنادر، وربما ساوين فيه الرجال - أقول: إنهم يبنون كلامهم على أصلهم، وهو لزوم النساء البيوت في الغالب، وما جاء على خلاف الأصل لا يُحتج به، وإن أمكن الاحتجاج على بطلان الأصل، على أن هذا ليس في جميع البلاد الإسلامية؛ ففي نابلس والقدس وبلاد أخرى من سوريا وفلسطين لا تكاد ترى امرأة مسلمة في السوق إلا نادرًا. يقول المؤلف بوجوب الوقوف بالحجاب عند حدود الدين، وقد راعى جانب الحكمة، فقال: لا ينبغي أن تخفف وطأة الحجاب العادي إلا بعد التربية الصحيحة، ولكنه توسَّع في بيان مضار هذا الحجاب، وبيان ما ينبغي أن يكون عليه النساء بعد التربية من مخالطة الرجال ومشاركتهم في الأقوال والأعمال، حتى إنه ذكر من مضاره الاقتصادية حاجة الدار إلى بيتين للمائدة، ومثلهما لاستقبال الزائرين والزائرات. ومثل هذا القول يجرئ المتفرنجين على تعجل ما يشتهون من مشايعة الإفرنج في عاداتهم، مما كانوا يأبونه؛ حذرًا من انتقاد أبناء وطنهم عليهم باسم الدين، فهذه المصادمة للعادات والمألوفات في المسألة هي التي أطلقت الألسن بالانتقاد. والحق أنه (ما كل ما يعلم يقال) ، وأنه ينبغي لمَن يكتب في الإصلاح أن يُجمل في الكلام عن المسائل التي لا يطلب العمل بها في الحال، حتى إذا ما جاء وقت العمل؛ فإن الحاجة تتكفل بالبيان، ولا أنكر أن أكثر المنتقدين يسيرون في انتقادهم على غير هدى، ويثرثرون بما تمليه عليهم خيالاتهم التي أثارتها أهواؤهم وعاداتهم، وموضع النقد الصحيح هو ما عملت أنفًا. وثَمَّ منتقد آخر وهو ما في الكتاب من المَنَازِع الاجتهادية، وقد توسع فيها المؤلف في الكلام على الطلاق، وكان يُنتظر أن ينتقد هذا العلماءُ، ولكن علماءنا أمسوا في الغالب لا ينكرون منكرًا، ولا يعرفون معروفًا. ونحن مع المؤلف في أن الإصلاح الذي يضطر إليه المسلمون لا يتم لهم ما داموا مقيدين بقول إمام واحد في الأحكام والمصالح العامة، وفي أن ما يحتاجون إليه في أمورهم الدينية التي تنطبق على حال هذا العصر موجود في شريعتهم، متفرقًا في كتب المذاهب، فيجب استخراجه والعمل به. ونقول أيضًا: إن ذلك لا يتوقف على التلفيق الذي يمنعه أكثر العلماء، وسنتوسع في هذا عند سنوح فرصة أخرى - إن شاء الله تعالى -. ونختتم التقريظ بكلمة ثناء على الشاب المهذب الفاضل محمد علي أفندي كامل صاحب مكتبة الترقي ومطبعتها لأجل عنايته بطبع ونشر هذين الكتابين ونحوهما من الكتب النفيسة، ككتاب (أسباب ونتائج) ، وتطلب هذه الكتب من مكتبته في مصر وثمن (تحرير المرأة) 10 قروش و (سر تقدم الإنكليز) 20 قرشًا، ويختزل لبائعي الكتب وطلاب العلم 15 قرشًا في المائة، وليس هذا الثمن بكثير على حسن ورقها وجودة طبعها، فضلاً عن فائدتها التي تُقَدّر، ولا تثمن بمال. فنحث كل قارئ على اقتنائها، وتكرار مطالعتها والاعتبار بها.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع مالية الدولة) في سنة 1891 ابتُكر تدبير جديد لا يزال في معرض البحث، إذا تحقق رُجِيَ من ورائه خير كثير لمالية الدولة العثمانية ذلك هو تأصيل المبلغ الذي يتوفر مسانهة من تحويل الديون الممتازة، وهو 145000 جنيه إنكليزي (تأصيله جعله رأس مال) ، ينشأ بهذا المبلغ السنوي قرض قدره 2900000 جنيه إنكليزي بإصدار سهام عثمانية ممتازة بنفس السعر الذي أصدرت به سهام 27 إبريل، أعني: أربعة في المائة من الربح، وواحدًا في المائة من أجر الاستهلاك تدفع قيمة هذه السهام في أربع وأربعين سنة. لما كان الفرعان من الدَّين العثماني المشار إليهما بحرفي (ت) و (ث) ، فيما تقدم مقدّرين بقيمة أقل من الفرعين السابقين لهما، كانت الهمة موجهة طبعًا لإيجاد طريقة استهلاك إضافية لتسديدهما؛ فلهذا القرض أخذ وكلاء الديون على أنفسهم أن يدفعوا فيما يطلب منهم سهامًا من هذين الفرعين، حرصًا منهم على أخذ السهام الممتازة الجديدة التي قيمتها 80، وبما كانت تقتضيه سهام النوعين المذكورين في ذلك الوقت من الثمن الذي لم يغير في رأس مال حقيقي قدره 2320000 جنيه إنكليزي يخرج من أيدي المتعاملين 11600000 جنيه إنكليزي من الدَّين العمومي، هذا المبلغ لما كان للحكومة فيه بمقتضى اتفاق 20 ديسمبر سنة 1881 واحد في المائة، أعني 116000 جنيه إنكليزي، فستكفي مصلحة الدين بسبب تأصيل مبلغ 145000 جنيه إنكليزي مؤنة المطالبة السنوية بمبلغ 116000 جنيه إنكليزي. هذا العمل هو من الأهمية بحيث إن الحكومة العثمانية لا تتسرع في القطع بإجرائه، بل إنها لا تجزم به إلا بعد الإحاطة بجميع وجوهه، وتقدير كل الاعتبارات فيه. وقد استفادت السهام التركية أيضًا استفادة تُذكر من المزايا الناشئة من تحويل السهام الممتازة، فبلغ استهلاك هذه السهام من 58 إلى 72 في المائة، وحينئذ فالذي كان ينال في الاقتراع (يانصيب) على مبلغ 600000 فرنك - جائزة قدرها 348000 فرنك، صار يقبض - من الآن فصاعدًا - جائزة قدرها 422000 فرنك. لننظر الآن في تحويل قرض الدفاع بواسطة تأصيل جزء من الخراج الذي تأخذه الدولة من مصر. في سنة 1887 كانت حكومة جلالة السلطان افتكرت في أن تحول القروض المختلفة المضمونة بهذا الخراج الذي تدفعه مصر للباب العالي إلا أنه قد مَنع من إنفاذ ذلك في حينه جملة موانع سياسية ومالية، ولكن عندما رأت جلالة السلطان أنه قد جاء الوقت المناسب لإنفاذه صَمَّم عليه في سنة 1891، وقد تُوجت مساعيه إلى الآن بالنجاح التام، إن قرض الدفاع الذي أُصدرت سهامه في سنة 1887 - وهو آخر القروض المضمونة بالخراج المصري - يبلغ 5000000 جنيه إنكليزي، وربحه خمسة في المائة وأجر استهلاكه واحد في المائة. في شهر فبراير سنة 1891 نقص أصل هذا القرض بسبب الاستهلاك إلى 4316520 جنيهًا إنكليزيًّا، وذلك في أثناء المذكرات الأولى بين الحكومة العثمانية ووكلاء الدائنين. انحط من الدفعة السنوية التي يضمنها هذا القرض - وهي 280622 جنيهًا إنكليزيًّا بمقتضى الإرادة السنية الصادرة في 2 مارس سنة 1892 الخاصة بتحويل القرض المذكور - مبلغ 1403 جنيهات إنكليزية، نفقات وأجرة عمل (عمولة أو قومسيون) ومبلغ 26543 من أجل الاستهلاك وبقي بهذا النقص من أصل الدفعة 252676 جنيهًا إنكليزيًّا لتأصيله؛ فإذا جُعل ربحه 4 في المائة كان الحاصل رأس مال قدره 6326930 جنيهًا إنكليزيًّا، فبالثمن الذي أصدرت به تلك السهام - وهو 90 - كان رأس المال الاسمي هذا يعطي رأس مال حقيقي وقدره 5685237 جنيهًا إنكليزيًّا، وقد نقص هذا المبلغ بما سقط منه من أجرة عمل الضمانة (العمولة) وهي واحد في المائة على رأس المال الاسمي إلى مبلغ صافٍ وهو مبلغ 5622068 جنيهًا إنكليزيًّا. من هذا المبلغ استغرق تحويل ما يوجد من سندات قرض الدفاع مبلغ 4316530 جنيهًا إنكليزيًّا، وينتج من ذلك للخزينة العثمانية ربح صافٍ قدره 2305538 جنيهًا إنكليزيًّا، وتلك - بلا شك - نتيجة عظيمة لا تحتاج لشرح في تقدير القارئ إياها حق قدرها. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الاحتفال بتذكار المولد النبوي الشريف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بتذكار المولد النبوي الشريف بُدئ من أوائل هذا الشهر بالاحتفال بتذكار المولد النبوي الشريف في العباسية؛ فنُصبت الخيام، ورُفعت الأعلام، كما هو معتاد في كل عام، ولعمر الحق إن كل ذي مسكة من الدين جدير بأن يقشعرّ جلده، ويقف شعره عندما يرى أو يسمع بأن يقام احتفال باسم الدين؛ ليكون ذكرًا لسيد المرسلين، الذي بُعث لتطهير الفساق، وتتميم مكارم الأخلاق، وإزالة المنكرات والرذائل، وإتيان المعروف، والتحلي بالفضائل، وتقام فيه - أي الاحتفال - للفسوق كل سوق، وتؤتى فيه جميع أنواع الفجور والعقوق، وما عساه يوجد فيه من عمل ظاهره خير وبر، فهو مخالف لسنن الدين وأحكام الشريعة، وممزوج بالبدع والمنكرات امتزاج الماء بالراح، وذلك كالرقص الذي يسمونه ذكرًا، ولو أن صاحب السماحة الشيخ محمد توفيق البكري شيخ مشايخ الطرق طلب من الحكومة إزالة مواخير الرقص والبغاء، وحانات الخمر والحشيش لأجابت دعوته، ولو أمر مشايخ الطرق بإقامة الأذكار على الطريق الموافق للسنة لامتثلت أمره، ولو عهد إلى بعض الأفاضل بإلقاء الخُطب المناسبة للموسم التي يحصل بها التذكار الحقيقي للمولد الشريف للبّوا دعوته، فنرجو من سماحته أن يبدأ في هذه السنة بهذا الإصلاح الذي يشكره له الإسلام، ويحفظه التاريخ، وبالله التوفيق. *** اهتمام السلطان بالتعليم الديني إن مولانا السلطان الأعظم - أيد الله دولته وأنفذ شوكته - قد وجه عنايته الشريفة للتعليم الديني، فأصدر إرادته بانتخاب معلمين، يرسلون إلى الولايات لهذا العمل الشريف، وعسى أن يكون للمدارس الأميرية من هذه العناية أجلها؛ فإنها أحق بها وأهلها.

المولد النبوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المولد النبوي الشريف في ليلة الخميس ويومه الماضيين (12 ربيع الأول الأنور) احتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بتذكار مولد سيد الخلق على الإطلاق، ومتمم مكارم الأخلاق، وخاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين، سيدنا ونبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وهذا الاحتفال من المواسم الحادثة في المِلّة وأول مَن سنَّه الملك المظفر صاحب أربل المتوفي سنة 630 للهجرة الشريفة، وقد تقبله المسلمون كافة بقبول حسن، وتنافس الملوك والأمراء وسائر الطبقات بالاحتفال به من ذلك العهد إلى الآن، وألّف العلماء في خبر المولد وما جاء في تاريخه قصصًا تُتلى في الاحتفالات. تتخللها المدائح والصلوات، وتوزع بعدها العطايا والصدقات. وفي هذا العصر يزيد المسلمون على هذه الأعمال إقامة معالم الزينة من رفع الأعلام، وإيقاد الشموع والمصابيح، وإحراق المواد الملتهبة التي تصعد في الجو وتُحدث فيه أشكالاً نورانية ملونة بألوان تَسُرّ النواظر، وتشرح رؤيتها الخواطر. وفي بلاد مصر وكثير من البلاد الإسلامية الأخرى تقام هذه الزينة على نفقة الحكومة، كسائر الزينات التي يعملونها في الاحتفال بتذكار موالد الملوك والأمراء المستقلين بالحكم وأيام جلوسهم على منصات الأحكام. ويا ليت المسلمين وقفوا عند هذه الحدود ولم يتعدوها، وإن كان المعروف في الفقه أن إتلاف المال - في غير غرض شرعي صحيح - مُحرّم؛ لما تقتضيه الأصول الاقتصادية التي جاء بها الإسلام، ولكنهم تعدّوا الحدود، لا سيما في هذا القطر، وصار هذا الموسم الشريف في مصر ينبوع المنكرات، ومحط رحال الفواحش، واتسعت بذلك دائرة الموالد؛ فصاروا يقيمون لكل شيخ معتقد من الأموات مولدًا يحتفل به الأهلون بإذن الحكومة، لا بمشاركتها، حتى إن للسيد البدوي (رحمه الله تعالى) ثلاثة موالد في السنة؛ لشدة اعتقادهم فيه، ويعلم قرّاء (المنار) ما في هذه الموالد من البدع والمنكرات مما كتبناه قبل فلا نعيده، وإنما نذكر رأينا في الاحتفال بالمولد، وما ينبغي له وفيه، وهو: (1) يجب السعي في تطهير الاحتفال من الفواحش والمنكرات، وهذا واجب على الحكومة، ولكنها لا تفعله من نفسها، فيجب على العلماء وشيخ مشايخ الطرق أن يتّفقوا على طلب هذا من الحكومة، وهي - بلا شك - تجيبهم إليه، وإنما خصصنا العلماء بالذكر - مع أن النهي عن المنكر فرض على كل مَن أمكنه، وهو الآن ممكن لكل أحد؛ لأن الحكومة لا تعاقِب أي إنسان على مِثل هذا الطلب - لأن الحكومة قلّما تلتفت في مثل هذا الأمر لقول غير العلماء؛ لا سيما مع سكوتهم ورضاهم به، ويسرنا أن سعادة محافظ مصر قد أزال بعض المنكرات في هذه السنة كرقص النساء، ولا ندري هل كان ذلك عن باعث ديني فيدوم المنع ويتعدى إلى منع سائر المنكرات؟ أم كان عن باعث صحي لأجل تقليل الاجتماع خوفًا من الوباء، فيعود في سنة أخرى كما كان؟ ، وقد كان اجتماع الناس وحضورهم الاحتفال في هذه السنة أقل منه فيما قبلها، فيا تُرى هل السبب في ذلك قلة المنكرات التي كان يسعى إليه الفُجار؟ أم شعور المسلمين بأن مَن يحضر هذا الاجتماع يشاهد منكرات لا يقدر على إزالتها، فيحرم عليه السعي لمشاهدتها وتكثير سواد أهلها؟ ونسأل مَن يعلم السر وأخفى أن يوفِّق الراعي والرعية إلى خير الأمرين وأقصد السبيلين. (2) أن قصص المولد النبوي - التي سمعناها ورأيناها - كلها مشتملة على ما لا يصح، وخالية عن أهم ما ينبغي أن يكون فيها وهو التنويه بالإصلاح العظيم الذي حصل في العالم على يد صاحب المولد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من قواعد المدنية والعمران، وأسباب السعادة للإنسان، وجمْعه أشتات الأمة العربية، وانتياشه إياها من هوة الهمجية، ونفخه في شعوبها روح الوحدة والمدنية، مع ضعف استعدادها، ومنافاة ذلك لأخلاقها وعادها ... إلى غير ذلك من المحاسن والمزايا الصحيحة، والمناقب الفاضلة الرجيحة، التي تجذب قلوب الناظرين في الفنون العصرية، والمغرمين بالمدنية الأوروبية، إلى تعاليم دينهم العالية، التي كانت مبدأ هذه المدنية الزاهية، ولا تقصر عن إفادة سائر الطبقات، وهدايتهم بأبين الآيات، فينبغي تأليف رسائل للمولد تشتمل على ما ذكر، ولعل الله تعالى يوفقنا للسبق إلى كتابة (قصة مولد) تحْسن الخطابة ارتجالاً لإلقاء الخُطَب في المسائل التي أشرنا إليها في كل مجتمع من مجتمعات على هذا النحو. (3) انتداب طائفة الاحتفال؛ فإن الخطب أوقع في النفوس وأشد تأثيرًا في القلوب، وقد أومأنا إلى هذا في (المنار) الماضي، وإذا لم يسعَ في إبطال سائر الموالد فلينحُ فيها هذا النحو، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

كان يا ما كان ـ 3

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

_ كان يا ما كان (3) بعد فِرَار السيارتين الأولى والثانية. جاءت السيارة الثالثة تحمل (الصحة والعافية) . وما كادت تعرض بضاعتها هذه على الناس، من جميع الأجناس، إلا ونفروا خفافًا وثقالاً، وأقبلوا عليها إقبالاً، ولقد كثروا عددًا، حتى كادوا يكونون عليها لبدًا، متسابقين إلى الابتياع، متنافسين في هذا المتاع، وما منهم إلا شاكٍ من ألم، أو باكٍ من سقم، وأهونهم حالاً مَن يشكو الإقهاء (فقد شهوة الطعام) ، أو ضعف عضو من الأعضاء، وقد علمت السيارة أن أكثر القوم هم الجانون على صحتهم، والمضيعون لها بجهالتهم؛ ولذلك توقفت عن المبيع، وأمسكتها عن الجميع؛ لأنها مأمورة بأن لا تبيع سلعتها، إلا لمن يعرف قيمتها، ثم أنشأ بعضهم يساومها، فقال: (المساوم) : هل ثمن الصحة والعافية كثير؟ (السيارة) : لا، وإذا لم يكن بَخْسًا فهو معتدل، (المساوم) : ما هو الثمن؟ (السيارة) : (1) النظافة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن، و (2) أن يكون الأكل معتدلاً وعند الجوع، و (3) الإمساك عن تناول أي نوع من أنواع المُسْكِرات (لغط وجَلَبَة من المستمعين وترديد لفظ: بِضاعة غالية لا يقدر على شرائها إلا العُبّاد والنُّساك!) ، و (4) النوم في أول الليل، و (5) القيام من النوم باكرًا، و (6) المراوحة بين الرياضة الجسمية والعقلية، قالت: وشرط البيع عدم الإفراط في شيء من الأشياء؛ لأن الإفراط في الراحة يضر الجسم، ويُذهب بالصحة، كالإفراط في التعب، وما من تفريط إلا ويقابله إفراط، وملاك الصحة الاعتدال وملازمة الأوساط. فلما فرغت السيارة من كلامها، أعرض أكثر القوم عن سوامها، قائلين: يستحيل أن يشتري هذه البضاعة أحد! ، من أهل هذا البلد؛ فليس عندنا حكماء، ولا عُبّاد أتقياء، يقدرون على الاعتدال في جميع الأعمال والأحوال، ولمّا سمع الأطباء والتُّرَبِيَّة (الذين يدفنون الموتى) أن فتاة من العوالم العلوية، هبطت إلى هذه الدنيا الفانية، تبيع للناس الصحة والعافية، رأوا في ذلك هضمًا لحقهم، وقطعًا لسبب من أسباب رزقهم؛ فعزموا على إبطال هذه التجارة، أو الإيقاع بالسيارة، وبعد المؤامرة، وطول المذاكرة، اتفقوا على أن يتولى الأطباء من تلك الساعة، السعي في إتلاف تلك البضاعة؛ لأنهم مأذونون من الحُكّام، بالعبث بصحة الأنام! ومعهم إجازة قانونية، بالتصرف بأرواح البَرِيَّة، وتوهموا أنهم بإتلاف هذه البضاعة النافعة، يتمكنون من إزهاق روح البائعة، وعندما تُسقى كأس المنية، تأتي في حقها وظيفة التُّرَبية، فيودعونها الرمس، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} (يونس: 24) ، ثم اقترب من الفتاة، أحد التُّرَبيّة العتاة، وخطف منها الصندوق، ومَرّ بأسرع من وميض البروق، فصاحت وأعولت، وبكت وولولت، وقالت: أيها الناس أدركوا الغاصب اللعين، ورُدوا عليَّ متاعي الثمين، فبادر إليها أحد الأطباء، وأوهمها بالمكر والدهاء، بأنه قد أشفق عليها، وعزم على رد بضاعتها إليها، وطلب منها أن تتبعه، وتذهب إلى حيث شاء معه، فأجابته لسلامة نيتها، وخلوص طويتها، فأدخلها إلى بناء، علمت أنه دار الشفاء، فحاولت الرجوع من قريب، فحال دون ذلك الطبيب، وقال لها: أنت ذات مرض، يكاد يبلغ الحرض، فلا تخرجين من هنا بحال، إلا بعد تمام الإبلال (الشفاء التام) ، (السيارة) : كلا، إني في صحة وعافية، ونِعَم ضافية، (الطبيب) لها: كلا، لا مفر؛ فإن علامات مرضك تنذر بالخطر (السيارة) : كيف وأنا أشعر بكمال القوة والنشاط، ولساني نظيف ونبضي نبض الأصحاء، وأكلي وشربي ونومي في غاية الاعتدال، (الطبيب) : علامة منذرة، علامة منذرة، علامة منذرة! ثم أمر الممرضات، فنزعن عنها ثيابها وألبسنها ثياب المرضى رغمًا عنها، وحملنها إلى السرير، فعند ذلك أقبل عليها الدكتور، وكاشفها بما في نفسه قائلاً: كان يجب عليك - أيتها الفتاة- أن تأتينا أولاً ببضاعتك هذه، وتعقدين معنا شركة للاتجار بها، ونحن الأطباء نقدر أن نبيعها بأغلى الأثمان! ، ولكن لجهلك بحال الناس في هذه العاصمة؛ بذلت لهم الصحة والعافية بثمن بخس، يقدر عليه كل أحد، ولم تعلمي أنك بصنيعك هذا قاومت طائفة كبيرة لها مكانة عالية، تبيع لأجلها الأمراض بأثمان غالية، وعاديت أيضًا طائفة التُّرَبية، حيث تقل الوفيات بنشر الصحة العمومية، وقد تبين لك الآن أنك جئت شيئًا فرياً، وكأنك كنت تجهلين قاعدة (ضعيفان يغلبان قويًا فحلّ بك البلاء بمقاومة طائفتين من الأقوياء، ثم دعا الدكتور جماعة من إخوانه لعقد مؤتمر طبي (قونسولتاسيون) ، فكان كل منهم لدعوته أسرع مُلَبٍّ، وكذلك يشترك الجم الغفير، في اقتراف الجرم الكبير؛ ليوقعوا الناس، في الريب والالتباس، بل ليوهموهم بأن الخطر جاء من طبيعة الداء، لا من تقصير الأطباء، وقد أجمع رأي جماعة المؤتمر، على أن السيارة في أشد الخطر، يجب أن تفصد مرتين في كل يوم؛ ليخف استغراقها في النوم، وأن تُحقَن بالمورفين بكرة وعشية؛ لتنجو من آلامها العصبية، وإنما قصدوا إيقاعها في داء يُعَجِّل لها المنية، وإن شئت قلت قتلها بالطريقة القانونية، ومازالوا يزاولون هذه الأعمال المهلكة، حتى وقعت السيارة في الأمراض المنهكة، ولولا أنها من العوالم الخالدات، لأدركها الممات، وتيقنت أنه لا نجاة لها من هذا البلاء، إلا بالفرار من (دار الشفاء) ، فأصابت غِرَّة من الخفراء، في جنح ليلة درعاء، فانسلَّت انسلال الأفعى، وولت مدبرة تسعى، ومرت في طريقها بالمقبرة وهي كما علمت متنكرة، فأبصرت الأموات بالصحة متمتعين، وبحُلل العافية رافلين فعلِمت أن التُّرَبية قد دفنوا الصندوق في ذلك المكان المهجور؛ فصارت الصحة والعافية نصيب أهل القبور، ثم طارت السيارة في الهواء، صاعدة إلى السماء، عازمة أن لا تعود، ولو أمرها جوبيتر المعبود! ((يتبع بمقال تالٍ))

استنهاض همم ـ 12

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (12) ألْمَعْنَا - فيما سبق - أن إنكلترا تسعى جهدها في صيانة هندها، فاستئجارها لقبرص واحتلالها، وفتحها لسودانها واعتراضها في باب المندب واستعمارها لعدن، ومخاللتها للإمارات ومشايخ القبائل المنتشرة على شطوط الشمر وظفار والسارحة في مهامه حضرموت وحمايتها لإمامة مسقط وتبوُّئها بعض المراكز المهمة في خليج العجم وإنشاؤها الشركات التجارية التي تمخر ببواخرها النهرين دجلة والفرات وقيامها بشؤون الملاحة فيهما، ورغبتها في الاستئثار بمد السكة الحديدية من طرابلس الشام إلى الكويت على خليج العجم، كل ذلك ما حمل إنكلترا عليه إلا محافظتها على الهند، أو يقال: إن امتلاكها للهند جرّ للقيام بهذه الأعمال والشؤون مصادفةً واتفاقًا. وهذا لا يعنينا، إنما الذي يجدر بنا أن نفكر فيه، ونمعن النظر في نتائجه هو أن تلك الأعمال التي أتتها إنكلترا في شطوط جزيرة العرب والبلاد التي على جنابتيها يُخشى أن تشعر قلب تلك الدولة طمعًا في الجزيرة، فتصيبها دائرة من قبلها، وتزجّ في سلطتها، وتصبح خالصة لها من دون المؤمنين، فعليهم أن يتآمروا ويستفرغوا وسعهم في تلمُّس الوسائل العاملة في صيانتها وحماية حوزتها، ويندفعوا اندفاع السيل وراء ما تشير به عقلاؤهم، وتتعاهد عليه نبهاؤهم من عقد جمعيات وإنشاء شركات وفتح مدارس، وغير ذلك مما يكوّنهم أمة تعرف لها الأمم حقًا، وتحفظ لها حرمة، وليكن على ذكر منك أن إنكلترا إن طمعت في جزيرة العرب، فإنما تطمع باستعمار سواحلها، ولا وصول لها إلى أحشائها وداخليتها من بلاد حضرموت ونجد. على أنه إن تعذر ذلك على الإنكليز في زمن، فلا يتعذر على أنسالهم فيما يأتي من الأزمان، لا سيما وهم قوم حزم وتدبير، يهتمون لشؤون أمتهم المستقبلة، ولو بعد مئات من السنين، كما يهتمون لشؤونهم الحاضرة؛ لأن حب الذات والجنس بلغ من نفوسهم مبلغًا لم يبلغ مثله من نفوس قوم آخرين. هذه، وأستراليا ملكوها كلها بتبوُّء سواحلها، أما جوفها، فلم يزل مجهولاً غامض الشؤون، لكنهم يستشرفونه شيئًا فشيئًا، ويتبسَّطون في بسائطه رويدًا رويدًا. ليس في الدول مَن يُضارِع إنكلترا في نفوذها في جزيرة العرب، فيعارضها فيما تروم مطامعها منها، ويُسَهِّل عليها أن تلقم فرنسا لقمة من أصقاع إفريقيا وتسقيها من فوقها نهرًا من أنهارها، أو بحيرة من بحيراتها إذا هي وقفت في طريقها. إن تمكن الإنكليز من عدن هو في المعنى تمكنٌ من بلاد اليمن. كَمُنوا في تلك الزاوية ردحًا، ثم طَفِقوا يتجسسون شؤون تلك البلاد، ويتنسَّمون أخبار أهلها، ويتعرفون سِيَر حكامها، فألفوا مجالاً واسعًا لجري خيول دهائهم، وبيئة صالحة لنمو ميكروب نفوذهم، واتفق أن المريض جاهل بعلم الهيجين (حفظ الصحة) ، فتمكنت منه علة (السُّل الرئوي) وطبيبه ممن يرى رأي أهل الطب القديم الذاهبين إلى أن الفصد العام من أنجع الأدوية في شفاء الأدواء، وقد عالجه بتلك الطريقة أولاً وثانيًا، فلم تنجع وهو الآن يعمل في جسمه المباضع، فعسى أن يكون قد اقترب شفاؤه. اتخذ الإنكليز بلدة عدن مستودعًا للفحم الحجري الذي تحتاجه سفنها، وهي ماخرة في عرض تلك البحار، وكانت إذ ذاك بلدة حقيرة قليلة السكان، رديئة الهواء، لا تجارة لها تُذكر، فاهتم الإنكليز بشأنها اهتمامه بكل أرض حلَّها، ومَهَّد للتجارة سُبلاً تئول لاتساعها، وتأمين أصحابها، فتحوَّل إلى عدن معظم تجارة جدة والحُدَيِّدَة وقنفده ومخا والبصرة أيضًا. وتكاثر سكانها حتى أربوا على الأربعين ألفًا. وقد رُفع هيكل الإصلاح فيها على أركان العدل والأمن والحرية، وألزم كلاً من الأهلين بواجباته وعرّفه حقوقه، ونبّهه للمطالبة بها، ووجوب المحافظة عليها، وجد في تحسين حال البلدة، وتوسيع طرقاتها ونظافتها، وإصلاح ماء الشرب فيها حتى اعتدل هواؤها، وتبرّج جمالها، وأضحت تحاكي المدن الأوروبية ومن جري ذلك تقاطر إليها السواح والتجار من كل الجهات، وترددت عليها وفود أهل اليمن للتجارة والنزهة، فكانوا كلما رأوا حسنًا فيها تذكروا ضده في بلادهم، فنغلت نياتهم على حكومتهم، وأرصدوا لها الشر، وهي قد أعيتها الحيلة في أمرهم، وسلكت في إرضائهم كل سبيل إلا سبيل الحكمة، فلم تفلح. ولم تجتزئ إنكلترا بعدن وتقصر طرفها عليها، بل شحت [1] فاها لالتقام ما حولها من البلاد، وطفقت تتبسط في مخاليفها [2] رويدًا رويدًا، حتى أنشأت لنفسها منطقة منفسحة الأطراف تزاحم بتخومها منطقة النفوذ العثماني. أما ولايات الحجاز فلا طمع للإنكليز فيها، حتى لو أُلقيت إليه مقاليدها (والعياذ بالله) قلص يده عنها، لكنه يتمنى لو تنتظم شؤون إدارتها الداخلية؛ ليكون الحجيج الهندي على راحة في أداء نسكه، والإتيان بواجباته الدينية [3] . (ولايات النهرين العربية) المُعارِض لإنكلترا فيها هو الروسية؛ لأنها تطمع - كما قلنا - في الوصول إلى الخليج العجمي؛ لتجعله فوَّهة الطريق لتجارتها، وتستولي في سبيلها على جميع الولايات التي تسقى بمياه النهرين، وإنكلترا تحذر ذلك منها وتكرهه أشد الكره؛ لأن الخليج العجمي يشبه أن يكون خليجًا هنديًّا؛ لقربه من الهند ولكونه طريق التجارة البَريّة بين الهند وبين سائر بلاد العراق والأرمن وآسيا الصغرى وحلب، بل هو فوهة طريق أوروبا التجاري البري. ومما يزيد في أهميته ما قلناه من أنهم يتداولون في إيصال السكة الحديدية إليه من إحدى حواضر (موانئ) البحر المتوسط؛ فيمسي أقرب طريق يصل أوروبا بالهند والشرق الأقصى حتى إنه يقلل من أهمية ترعة السويس أو يزيلها. فأنت ترى أن مصلحة إنكلترا في الخليج العجمي قوية، وما معنى قوة مصلحته فيه إلا قوة مصلحتها في البلاد التي تواصله بمحصولاتها الزراعية وسلعها التجارية، وتتناول منه مثل ذلك: وكما قيل في ولايات النهرين من تعارض سياستي إنكلترا والروسية يقال في: (ولايات الأرمن والأكراد) وتلك الولايات في قلق دائم واضطراب داخلي شديد، كما أشرنا إلى السبب فيه؛ فالأرمن يطلبون من الدولة إصلاحات، أو بعض امتيازات يصعب عليها إجابتهم إليها، أما الأكراد فلا يرغبون فيما يطلبه الأرمن؛ لأنه يئول في المعنى إلى انفصالهم عن تابعيتهم للأتراك، وهذا مما يأنفون منه، ومن جرّاء ذلك حدثت مذابح جمّة بين القبيلين، وقد شايعت دول أوروبا الأرمن على طلباتهم ورغائبهم، وواطأتهم على مناصبة الدول العثمانية، لا سيما إنكلترا؛ فإنها كادت تتظاهر بتعضيدها لهم. واللبيب يفهم غايتها بعد ما قدّمنا من الشرح ما قدّمناه، ولا يخلو التصريح من فائدة. إنكلترا تودُ أن تستقل الولايات الأرمنية؛ لتقوم حاجزًا وسدًّا بين الروسية وبين العراق، فيُصان العراق والخليج العجمي من شَرِّها وكيدها، ثم تتربص هي به الدائرات فتلتهمه. أما الروسية فكان شأنها في ثورة الأرمن عكس شأن إنكلترا؛ وذلك أنها عضدت الدولة العلية في كبح جماحهم، وتسكين ثائرتهم لا حبًّا بالدولة، بل حبًا بمصلحتها وتمهيدًا لآمالها؛ فإنها تتربص بالدولة الانحلال الطبيعي؛ لتكون أول من يُسارِع إلى ابتلاع الولايات الأرمنية، يرشد إلى ذلك أن الروسية أيّدَت مطالب الكريديين، وراشت سهام فتنتهم، فنالوا ما نالوا، وما فضل الكريديين على الأرمنيين لولا ما ذكرنا من أطماعها في هؤلاء دون أولئك؟ إذن التزاحم بين إنكلترا والروسية في شأن الأصقاع الواقعة بين جبل أراراط شمالاً وخليج العجم جنوبًا، شديد جدًا، وكيف النتيجة يا تُرى؟ النتيجة غامضة لتكافؤ القرنين وتوازن القوتين، ولعل إنكلترا تصانع الروسية وتجاملها بإطلاق يدها في المملكة الصينية وتستعيض هي عن ذلك بمد سرادقات سلطتها فوق تلك الأصقاع العراقية والأرمنية بل ما يدرينا أن تتجسم الأطماع في مخيلة الدولتين فيقتسمان آسيا شرقًا لغرب كما تريدُ إنكلترا مناصفةَ فرنسا إفريقيا شمالاً لجنوب، فتستبد إنكلترا بنصف آسيا الجنوبي ويُسلم للروسية نصفها الشمالي. دعنا من عالم الخيال، ولنأخذ في الكلام على العنصرين الأرنؤطي والرومي المتوطنين في مكدونيا. (المنار) لا ينسى أن الكلام في المسألة الشرقية وتمثيل المطامع الأوروبية، وقد صرّح الكاتب بأن هذا من قبيل الخيال، فلا يعترض عليه الأغبياء بأنه يهب بكتابته بلاد الدولة العلية (صانها الله) ويولي عليها أعداءها (خذلهم الله) ((يتبع بمقال تالٍ))

مضار الغلظة في التربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مَضَارُّ الْغِلْظَةِ فِي التَّرْبِيَة تكلمنا في (منار) سابق عن اللين والقوة في التربية، ووعدنا بتفصيل مضار التربية، ونقول: إن مَن يُربي ولده، أو تلميذه بالغلظة والخشونة، ويعامله بالقسوة والإهانة يطبع في نفسه أخلاقًا فاسدة، وسجايا رديئة؛ تكون سبب شقائه في أحواله وعلة خذلانه في أعماله، فمن تلك السجايا: (1) بُغض الوالد المربي ونحوه، والتربية الصحيحة النافعة لا تقوم إلا على أساس المحبة. وبُغض الولد لوالده أو معلمه، يحمله على عدم تلقي شيء من نصائحه بالقبول في نفسه؛ لأنه يُعد تلك النصائح إهانة وتعذيبًا، وتحكمًا سببه القوة والاستعلاء، ومَن لا يُحب والده ومعلمه، لا يحب وطنه وأمته بالضرورة. (2) الظلم عند القدرة، والتحكم بالغير عند الإمكان، والانتقام لمجرد شفاء الغيظ وإجابة داعي الغضب. (3) الكذب، فإن مَن يتوقع الانتقام على عمل أو قول يعتقد أنه لا يُرضي مربيه - يندفع إلى إنكاره. (4) المكر والحِيَل. (5) الذلة والمَهانة. (6) الغِلْظة والقسوة. وهذه الصفات في الظاهر كالمتناقضة، ولكن آثارها تُشاهَد فيمن يتربون هذه التربية السُّوأَى؛ فإن أحدهم يقسو أشد القسوة على مَن دونه، ويذل أقبح الذل لمَن فوقه، فهو بعيد عن الفضيلة وكرامة النفس في كل حال. وإن أمة هذا شأن أفرادها لا يمكن أن تسود على غيرها، أو تستقل في نفسها؛ لأن كرامة النفس وفضيلتها هما روح السيادة والاستقلال. (7) الرضا بالضَّيم وهضم الحقوق - مهما كانا - من قوي أو حاكم ظالم. (8) عدم الرضا بالحق طوعًا؛ حيث يهضم حقوق الآخرين إذا قدر، كما يخنع لهم إذا هضموا حقوقه. وهاتان الرذيلتان مرتبطتان بما تقدم ومِن آثاره، وهكذا ترتبط الرذائل بعضها ببعض؛ فتكون سلسلة واحدة. (9) الخيانة. (10) الحقد. (11) الحسد. (12) الوقاحة والتهتُّك: فإن مَن يُعامَل بالإهانة قولاً وفعلاً يذهب حياؤه بالضرورة، ويزول انفعاله، مما يذم ويجلب اللائمة؛ لاعتياده عليه من أول النشأة، وكفاك بفقد الحياء بلاءً؛ فإنه ينبوع الفضائل والكمال، والزاجر النفسي عن سيئات الأعمال، لا سيما إذا كان ميزان الحُسن والقُبح هو الشرع، وقد جاء في الحديث الشريف: (لِكُلِّ دِينٍ خُلُقٌ، وخُلُقُ الإِسْلاَمِ الْحَيَاءُ) (13) وطوءة الهمة: لأن عُلوّ الهِمَّة لا يكون إلا لأصحاب النفوس الشريفة العزيزة. وإن علوّ الهمم ركن من أركان تقدم الأمم؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: (عُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنَ الإِيمَانِ) . (14) ضعف الإرادة وخمود العزيمة: وأي جوهر لا ينسحق بشدة الضغط؟ وأي نار لا تنطفئ بفيضان طوفان الجَوْر والإهانة؟ ، وهل ينجح فرد من الأفراد تجرف إرادتَه وعزيمتَه سيولُ الجور والاستبداد؟ ! كلا. (15) فَقْدُ الاستقلال الشخصي: لأن الذين يربُّون أولادهم بالشدة والعنف لا يدَعون لهم مجالاً للاستقلال في شؤونهم والاعتماد في مصالحهم على أنفسهم؛ فيكون أحدهم كَلاًّ على مولاه أينما يوجِّههُّ لا يأتِ بخير! ، فهل يستوي هو ومَن يُرَبَّى على مبدأ الاستقلال والاعتماد على سعيه في كل الأعمال؟ ! كلا {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم:9) . (16) فقد الاستقلال الفكري والعقلي: وسببه أن من شِنْشِنَة هؤلاء القُساة - الذين يُربون الأولاد بالشدة والفظاظة - أنهم لا يقبلون لمَن يربونه رأيًا، ولا يستحسنون له فكرًا - وإن كان حسنًا في نفسه- ولا يجعلون لهم حقًا في إبداء رأي أو اقتراح أمر أو المشاركة في مصلحة، وإن ظهر منهم شيء من هذا قُوبلوا بالتفنيد واللّوم الشديد؛ فتَخْمُد نار لَوْذَعيتهم، وينشئون على التقليد الأعمى، فإذا أخذوا بعد الكبر في الاشتغال بالعلوم، أو الأعمال التي يُحتاج فيها إلى الفكر والرَّوِيَّة - لا ينجحون أبدًا، لا سيما إذا كان تعليمهم على نسق تربيتهم كما هو الغالب في بلادنا، أو في الشرق كله؛ وذلك لأن مَن يرى قُصارى نجاحه أن يعلم ما قيل - من غير تمييز ولا تزييل - لا يهتدي إلى تحرير الدلائل، ولا يقف على حقائق المسائل؛ لأن الأقوال في كل شيء متعارضة والآراء في كل مشكلة متناقضة، فمَن لا يجتهد يخيب، (ولكل مجتهد نصيب) . (17) فقد الحرية في القول والعمل: وهو الذي يحمل على ما ذكرنا أولاً من الكذب والمكر والحيلة، وعندي أن التربية الصحيحة الكاملة تتوقف على معرفته جميعَ شؤون المُرَبَّى النفسية والعملية، ولا يمكن أن يقف المربي على هذا إلا بالتحبُّب إلى المربَّى وإعطائه الحريةَ التامة في إبداء كل ما يعنُّ له، وإطلاع مربيه عليه، ولا تنجلي هذه المسألة إلا بشرح طويل لا تسعه هذه النُبذة. ويكفينا أن نقول: إذا علم الوالد أو المعلم أن الذي يربيه قد عرض له الرسيس (أول الحب) ، وخاف عليه الشغف والولوع في العشق، ولم يقدر على أن يحُول بينه وبين الغرام، من حيث لا يشعر - فينبغي له أن يجذبه بزمام اللطف ويسلس له؛ حتى يكاشفه بما في نفسه، ويستشيره في كل أمره؛ وبذلك يتسنّى له أن يقيَه مصارع الهوى، ويقف به في الحب عند حدود الشرف. (18) الدناءة. (19) اللؤم. (20) كُفر النعمة. هذا أقبح وأضرّ ما يتولد من الغلظة والقسوة في التربية من الرذائل، ولو استملينا الفكر لأمْلى علينا غير ذلك؛ لا سيما إذا لاحظنا ما يحتفُّ بالغلظة من هُجْر القول وسيء العمل؛ مما يُهوِّن على الوِلدان القذْع بألفاظ الفُحش وبذاءة اللسان، ولو قلت: إن من سيئات هذه التربية الاندفاع إلى ارتكاب الجنايات الكبرى كالسرقة والغصب والضرب، بل والقتل بنحو سُمٍّ أو غيره - لكنت غير مبالغ، فعلى مَن يهمهم تربية أولادهم أن يُمعنوا النظر فيما ذكرنا، وعسى أن يلتفت إليه الذين يتكلمون في ضعف الأمة، ويبحثون عن أسباب قوتها؛ فيوافقون على أن سوء التربية أصل كل فساد، وبإصلاحها يتم كل رشاد. ونسأل الله تعالى أن يهبنا جميعًا التوفيق والسداد.

تأييد عالم وتفنيد واهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأييد عالم وتفنيد واهم ليس في قوة البشر أن يحيط الرجل بجميع العلوم، أو يتقن جميع الأعمال، ويتوقف نجاح الأمم وتقدمها في العلوم والفنون والصنائع وسائر الشؤون العامة على اتباع قاعدة التوزيع، وإناطة كل علم وكل نوع من العمل بطائفة من الناس ينفردون بالعناية به، حتى يبلغوا درجة التبريز فيه؛ بحيث تكون الأمة - في مجموعها - نابغة في كل شيء، وقد اهتدت إلى هذه القاعدة الأمم المتمدنة، وعملت بها؛ فانتهت في كل علم وعمل إلى الغايات التي نسمع ونشاهد. وقد اتسعت عندهم دوائر المعارف؛ حتى صار ينفرد للفرع الواحد من العلم طوائف مخصوصة، يحررونه، ويفردونه بالتأليف. ولا يزال قومنا في غفلة من هذا؛ ولذلك لا يبرع عندنا أحد في شيء من الأشياء. ومن الخذلان أن تضل الأمة عن طرق رشادها، ومناهج إسعادها، ولكن ماذا نقول في قوم يعيبون الهدى والرشاد، ويذمون مناهج التوفيق والسداد، ويقدحون في عِرض مَن يبرز في علم أو فن، فيُظهر غوامضه، ويبدي خوافِيَه؛ محتجين بأن الأمة أحوج إلى غير المسائل التي حررها منها إليها، وكأني بهؤلاء النوكى يطعنون بمَن يتكلم في دقائق المساحة وتقويم البلدان؛ لأن البلاد المصرية أحوج إلى فن الزراعة منها إلى هذين الفنين، وإن كانوا يعلمون أن الجهل بدقائق تقويم البلدان وعدم التفرقة بين (سرس) و (فرس) اختزل جزءًا مهمًا من البلاد المصرية، وألحقه بالحكومة السودانية. ساق الله إلى هذه البلاد رجلاً من الغرب، قد نبغ في علوم اللغة وآدابها روايةً ودرايةً؛ حتى صار إمامًا يُقتدَى به فيها، ألا وهو العلامة المُحَدِّث الشيخ محمد محمود الشنقيطي، واللغة - كما لا يَخفى على بصير - هي من سائر العلوم بمثابة الجسد من الروح، فمَن يذم المشتغل بدقائقها زاعمًا أن الأوْلى له الاشتغال بعلم الأخلاق الباحث عن صفات النفس مثلاً - هو كمَن يذم المشتغل بدقائق الطب، زاعمًا أن الفلسفة العقلية أفضل منه؛ لأن العقل والنفس أفضل من الجسد. لو كان المصريون على هدى في طلب العلم؛ لأحلّوا الأستاذ الشنقيطي أعلى مكانة في الأزهر، ولكان الطلاب في حلقته يعدون بالألوف، ولكنهم لم يرضوا بهضم حقه، وعدم إحلاله محلَّه؛ حتى وُجد فيهم مَن ينتقصه على إظهار دقائق لغة دينهم وكشف مخبّآتها! نُشر في عدد سابق من (المنار) وفي (مصباح الشرق) سؤال منظوم لهذا الأستاذ، يطلب فيه بيان كلمتين جاءتا في شعر الأخطل وهما لفظ (نوفل) و (هشام) ، هل هما شخصان أم جنسان؟ ولا يَخفى أن مَن لا يفهم كلام أهل الطبقة الأولى من بُلغاء لغته، ولا يفرق بين أسماء الأشخاص والأجناس في لسان أمته ودينه - يكون في دركة من الجهالة سافلة. ولكن لم يكد السؤال ينتشر إلا وأنشأ المتحذلقون ينددون بالأستاذ الذي يشتغل بمثل هذه المسائل، ويعذلوننا و (مصباح الشرق) على نشر سؤاله، ولم يقفوا عند حد الكلام باللسان؛ حتى كتب أحدهم - محمد طلعت - نبذة في جريدة (الرائد المصري) في شأن المسألة - ويا خجلتاه مما كتب! - كتب إلى مدير تلك الجريدة (نقولا شحاده) ، يقول: (إنني - بكل شوق ورغبة - أطالع جريدتكم الغرّاء، وأستوعب كل ما تحويه من المواضيع المستحبة التي تستحقون عليها أطيب الثناء، على أني ألاحظ أنكم نسيتم - أو تناسيتم - أمر العلماء الذين أهملوا واجباتهم الأدبية والدينية، وشُغلوا بسواها) ثم ذكر الأستاذ الشنقيطي ومسألته، وختم نُبذته بقوله: (فأنَّى للأمة المصرية أن تتقدم إذا كان علماؤها يشتغلون بحل مثل هذه المسائل) . اهـ هذا، وإن السماء والأرض تقولان أنَّى للأمة المصرية أن تتقدم إذا كان شبانها يحتقرون التدقيق في لغتهم وفهم كلام بُلغائها ومعرفة تاريخها، ويستوعبون جميع ما يُنشر في مثل (الرائد المصري) ، ويرونها مفيدة للأمة، ويرفعون صاحبها إلى درجة يطلبون منه بمقتضاها أن يُرشد علماءهم إلى واجباتهم الدينية والأدبية، أما خجل هذا المصري - الذي يبحث عن ترقية أمته من العهد إلى الأجنبي عن الدين بتعليم علماء الدين واجباتهم الدينية والأدبية؟ ! لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كُلاها وحتى سامها كل مفلس أما رصيفنا صاحب (الرائد) المحترم، فلا نلومه بمشايعة الكاتب عليه، وقوله بعدم فائدة الاشتغال بهذه المسائل، ولكننا نستلفته إلى مراجعة السؤال، والتأمل فيه؛ ليتضح له أن في تخصيص النصارى بالذكر مدحًا لهم وثناءً عليهم، فإننا تنسَّمنا مما ذيّل به نبذة محمد أفندي طلعت أنه استثقل هذا التخصيص، واستشعر منه ما لم يقصده صاحبه، ولا يدل عليه اللفظ في نفسه. ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا؛ لنمدح عن بينة، وننتقد عن بينة، ونلزم حدودنا عن بينة {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: 40) .

شعر في حب العلم

الكاتب: محمد محمود الشنقيطي

_ شعر في حب العلم أنشدنَا الأستاذ محمد محمود الشنقيطي قال: أنشدني محمد بن حنبل الشنقيطي تغزُّلاً بلوحه: عِم صباحًا أفلحت كل فلاح ... فيك يا لوح لم أطع ألف لاح أنت يا لوح صاحبي وأنيسي ... وشفائي من غلتي ولُواحي [1] فانتصاح امرئ يروم اعتياضي ... طلب الوفر منك شر انتصاح بك لا بالثرى كلفت قديمًا ... ومُحياك لا وجوه الملاح [2] رُبَّ خود ماء النعيم عليها ... جريانَ الزلال في الصُّفاح [3] تستبي المرعوي بنور الأقاحي ... وجبين مثل انبلاج الصباح وبجيد كأنه حين يبدو ... جيد جيداء من ظباء الرُماح [4] وعلى ثغرها بعيد كرها ... طيّب الرّاح بالمعين القراح خدلة غص قلبها وبُراها ... غصص المرط وهي غرثى الوشاح [5] لا تبالي هبّ الرياح إذا ما ... أشفق الرسح من هبوب الرياح [6] بفؤادي من لحظها داميات ... فعل نبل صوائب ورماح قد تسليت عن رسيس هواها ... بك حتى كأنني جدّ صاحٍ [7] بل يمينًا بواردات البطاح ... يتبارين ضمرًا كالقداح قد برى النصّ نيّها والتغالي ... ودؤوب الإمساء والإصباح [8] بعد ليل سرينه بعد ليل ... تصل الهجر بانسلاب الرواح بعد خرق قطعنه بعد خرق ... تقذف الطرف نحو خرق فساح [9] أفتأ الدهر هاجرًا للغواني ... ووصولاً للكتب والألواح وأنشدنا أيضًا لأحد شيوخ مشايخه المختار ابن بونا الشنقيطي من قصيدة طويلة: إِلامَ فِيمَ عَلامَ إذا السكوت لكم ... كأن بينكم حقدًا وهُجرانا ففاكهون بحلو الجد عن أدب ... نجلو به ما على ألبابنا رانا شيئًا من أحسن ما قد قاله عمر ... وما استطبناه من أشعار غيلانا ولابن زيدون قولٌ في الحبيب أنا ... أحق منه به سرًا وإعلانا (أيا نسيم الصَّبَا بلِّغ تحيتنا ... مَن لو على البُعد حيًّا كان أحيانا) ونحن ركْب من الأشراف منتظم ... نُجلّ ذا الخلق قدرًا دون أدنانا قد اتخذنا ظهور العِيس مدرسة ... بها نُبَين دينَ الله تِبيانا

الحياة الملية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحياة المِلِّية (ملخص خطاب ألقاه منشئ هذه المجلة في جمعية شمس الإسلام) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) أيها الإخوان: لا أرى موضوعًا أمَسّ بحالنا من موضوع (الحياة المِلِّية) الذي ذكَّرتني به الآية الكريمة التي جاءت في خطاب الأخ الأكبر رئيس الجمعية، وافتتحت بها كلامي هذا. لا أبحث في التقدم والتأخر، ولا في الترقي والتدلي، ولا في القوة والضعف، ولا في العزة والذلة؛ فإن جميع هذه الشؤون والأطوار إنما تكون للأمم الحية النامية؛ إذ منها الآخذ في النمو بحركة الاستمرار، وهي ذات التقدم والترقي والقوة والعزة، ومنها ما تتجاذبه قوتا التحليل والتركيب، فيكون حظه من هذه الأطوار وما يقابلها تابعًا لغلبة إحدى القوتين اللتين هما ميزان الحياة القومية الأمية ولا شك أن رجحان كفة التحليل يؤدي إلى الفناء وفقد الحياة بالكلية. لقد بدا هذا التحليل في جسم حياتنا الملية من عهد بعيد حتى تلاشى هذا الجسم أو كاد، ولم يبق فيه ما يقبل التحليل فكان أول واجب علينا أن نتلمّس العلاج الذي يعيد إلينا حياتنا المفقودة. يدل على فقدنا هذه الحياة حديث: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ) ، ومن الناس من يفهم من هذا الحديث أن الإسلام إذا وصل إلى هذه الحجالة لا يعود إليه مجده ولا ترد إليه حياته. ولنا أن نقول: إنه صريح في أن نشأته الثانية ستكون كنشأته الأولى. غربة وضعف، ثم معرفة وقوة وسيادة، تجمع أطراف السعادة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 28) . بماذا نحيا؟! لا حياة لنا إلا بما حيي به أسلافنا من قبل، وما كانت حياتهم إلا بروح القرآن، أترون من البعيد أن تعود إلينا حياتنا بهذا الروح الشريف؟! كيف وقد عاش آباؤنا الأولون بالاستقاء من ينبوعه المتفجر من عين الحياة الأزلية الأبدية؟ وإنما مِتنا بترك الاستقاء منه اكتفاء بالوشل الآجن الذي ينضح من آنية أمثالنا المخلوقين، إن القرآن قد صارع الهمجية العربية فصرعها، وغالب جيوش الوثنية فغلبها، وزرع فسيل المدنية الفُضلى في تلك الأرض التي كانت معشوشبة بجميع الأعشاب الخبيثة فاجْتَثَّ هذه الأعشاب، وأنمى ذلك الفسيل فكان أدواحًا عظيمة أثمرت من كل زوج بهيج. اشتهر عند مشركي العرب أن القرآن ما خالط قلبًا إلا وجذبه إلى الحنيفية، وقاده إلى جنة الإسلام بسلاسل الإقناع والبرهان، فحملهم الحرص على عقائدهم، وحب البقاء على تقاليدهم على مقاواته بما يمكنهم، فكان أمثل رأي ارتأوه في ذلك ما قصّه الله علينا بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) رأوا عدم السماع له بالمرة، وهو رأي الجبناء في الهزيمة ورأوا مقابلته باللغو واللغط لئلا يسبق منه إلى الأذهان شيء، فيقتادها إلى ما لم يكن من مرادها، وإن كان فيه هدايتها ورشادها، ولم يكونوا مع هذا على ثقة من الغلب، وإنما هو الأمل والرجاء تتشبث به النفوس في البأساء والضراء، وبلغ من عدائهم للقرآن ما قصه الله تعالى علينا بقوله - عز من قائل -: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الأنفال: 32) . فإذا كان القرآن قد أحيا أولئك الأقوام مع شدة كراهتهم لهذا النوع من الحياة ومقاومتهم له بما عَلِمنا من المقاومة، وكانوا منه في أمر مريج، فكيف لا يحيينا ونحن نوقن بأنه كلام الله الذي {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) . إن الحياة التي تفيض علينا أمواهها من أنابيب القرآن تكفل لنا سعادة الدارين وتمنحنا الفوز بالحسنين، ولا نعلم دينًا جمع بين مصالح الروح والجسد،ومنافع الدنيا والآخرة على وجه الكمال، إلا دين القرآن الذي علّمنا أن ندعو الله تعالى بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201) يقول نبي هذا الدين - صلى الله عليه وسلم -: اليد العليا خير من اليد السفلى، ويقول: لَئَنْ تدع أولادك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون. ويُفَضِّل بمثل هذا علماؤنا الغنيَ الشاكر على الفقير الصابر، والشاكر هو الذي يصرف من فضل ماله في وجوه البر والمنافع العامة، هذا وإن كتب الأديان الأخرى تقول: (لا يدخل الغني ملكوت السماء حتى يدخل الجمل في سم الخياط) . كان من أهل هذا الدين من أفرط في الزهادة وبالغ في البعد عن أعمال الدنيا، بل وفي التنفير عنها وهؤلاء قد عملوا بنصف الدين الإسلامي، وتركوا النصف الآخر، ولا أعيبهم جميعًا فإن منهم قومًا قاموا بخدمة مولاهم، وأخلصوا له في سرّهم ونجواهم، ولكن أقول: إنهم لا يصلحون للقدوة والإرشاد، وإن الذين يتمسكون بركني الإسلام كليهما - ركن الدنيا وركن الآخرة - أفضل منهم. ذُكر رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - ووصف من صيامه وقيامه وانقطاعه للعبادة ما أوجب العجب، فسألهم عن معاشه، فقالوا: إن له أخًا يكتسب وينفق عليه، فقال: أخوه أفضل منه. القرآن صريح في طلب إقامة الركنين معًا، ولكن الغالين في الزهادة أغضوا عن مثل قوله: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) ومثل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة} (الأعراف: 32) وأخذوا بالآيات التي تتعلق بركن الآخرة فقط، إن الأحاديث في الزهادة كثيرة جدًّا؛ ولكن الكثير منها بين ضعيف وموضوع لا أصل له، وما كان منها صحيحًا فالغرض منه كبح جماح النفوس المجبولة من طينة الطمع؛ كيلا تتعدى حدود الحق وتحب المال لذاته؛ فيمسك أصحابها الفضل منه عن المنافع العامة وأعمال البر، بل ويمنعون الحقوق، فيكونون عبيد المال والهوى، أذكر من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (تَعِس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة؛ إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس ولا انتعش، وإذا شيك فلا انتقش) . رواه البخاري من حديث طويل. أشار الأخ الأكبر في خطابه إلى أن مدنية أوروبا مقتبسة من الإسلام، وما قال إلا حقًّا اعترف به فلاسفة الأوروبين ومؤرخيهم من قبل. لا أقول: إن كل فرع من فروع هذه المدنية يوجد في الكتاب والسنة، كما لا أقول: إن كل فرع من فروع الفقه منصوص عليه فيهما، وإنما جاء هذا الدين بقواعد عامة، وإرشادات كلية يمكن للإنسان أن يهتدي بها إلى سعادة الدنيا والآخرة معًا، فكما استنبط الفقهاء وعلماء الأخلاق الأحكام والمسائل القضائية والأدبية، وغيرهما من تلك القواعد، كذلك اهتدى علماء الاجتماع بها إلى المسائل والفروع المدنية التي تتعلق بالعمران وترقي نوع الإنسان، أشير الآن إلى بعض تلك القواعد بالإيجاز،وإذا أمهل الزمان، فإنني أفصل القول فيها تفصيلاً في اجتماع آخر، إن شاء الله تعالى. من تلك القواعد: قاعدة سنن الكون ونواميس الاجتماع والعمران التي بها تعرف أسباب ترقي المجتمع الإنساني وتدليه، ومن راعاها في سيره فاز بأمانيه، وقد أرشدنا القرآن إلى هذه السنن الإلهية، وهي التي يعبرعنها الفلاسفة بالنواميس الطبيعية، وبيَّن لنا أنها تعرف بالسَّير في الأرض والنظر في أحوال الأمم، فقال: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) وقال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) وقد اهتدى الأوروبيون إلى معرفة هذه السنن، ورعوها في سيرهم حق رعايتها؛ فعرجت بهم إلى الأوج الذي نراهم فيه. ومن تلك القواعد: استعمال العقل في العلم والدين، والأخذ بالبرهان، وقد كانت الأمم الأوروبية كغيرها، محجورًا عليها أن تعتقد غير ما يقوله رؤساء الدين، حتى جاء القرآن يخاطب العقل وينعي على أهل التقليد ويقول: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} (البقرة: 111) وينادي على رءوس الأشهاد: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) ومنها حرية الفكر والقول والعمل داخل حدود شريعة الأمة والبلاد، واستقلال الإرادة وتقييد سلطة الرؤساء الروحانيين والسياسيين، إلى غير ذلك مما لا محل لشرحه وتفصيله. على هذه القواعد والأركان قامت مدنية أوروبا، وهي لم توجد في العالم إلا بوجود القرآن. هذه القواعد أهم أركان السعادة الدنيوية، وقد أعرضنا عنها فشقينا في دنيانا، وأخذوا بها فسعدوا وسادوا حتى علينا، ولو أعادوا النظر إلى القرآن كَرَّة أخرى لرأوا فيه أسباب السعادة الأخروية، والقوم إذا علموا عملوا، ولا يبعد أن يسبقونا في السعادة الثانية ما دمنا على هذا الكسل والإهمال، فأقترح على إخواني - أعضاء هذه الجمعية - أن يطالب كل فرد منهم نفسه بتدبر القرآن وفهم معانيه عند التلاوة، ومن وقف فهمه في شيء، فليراجع عنه في كتب التفسير إن كان أهلاً للمراجعة، وإلا فليرجع إلى الذين يفهمون {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) . اهـ هذا ما أحببت نشره في (المنار) مما استحضرته من الخطاب، وربما زِدت كلمات ونقَصتُ مثلها؛ لأنني لم أكن ممن يبقى حافظًا ما يقوله ارتجالاً.

كان يا ما كان ـ 4

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

_ كان يا ما كان (4) بعد ما صَعَدت السيارةُ الثالثة إلى العلاء، هبطت السيارة الرابعة من السماء؛ تريد بيع (العمر الطويل) بالثمن القليل؛ ليتمتع الناس بما اشتروه من السيارات السالفات، من النعم السابغات، وهي الذكاء والفطانة، والعفة والاستقامة، والصحة والعافية، وكفى بها نعمة ضافية، ولم تكن تعلم ما قوبلت به بضاعتهن من الكساد، وماذا حلّ بهن من الطرد والإبعاد، فوقفت في مكان فسيح، ونادت بكلام فصيح: يا أصحاب العقل والفكر! هل لكم في (طول العمر) ؟ فقد أُمرت بأن أبيعه لمن أراد بشرط الأهلية والاستعداد، فهرع الناس إليها، وتكأكأوا عليها حتى صار يموج بعضهم في بعض، كأنهم في يوم العرض، وطمع أحد الأغنياء باحتكار هذه البضاعة لنفسه، والاستئثار ببيعها دون أبناء جنسه، فأرسل وكيل أشغاله، وكبير عمّاله، يساوم السيارة بجميع التجارة، ولمّا عَلِم الناس بذلك، ضاقت بهم المسالك؛ لعلمهم بما وراء هذا الاحتكار، ومن أنواع المِحَن والمضار، وناهيك بطمع التجار؛ فوقع القيل والقال، وحمي وطيس النزاع والجدال، ولما علمت الحكومة أن الجدال أوشك أن يفضي إلى الجلاد، وأن الاسترسال في المحادة سينتهي بالسيوف الحداد، حكمت على مثير الفتنة بالإعدام؛ لإخلاله بالراحة والأمن العام، وأمرت بأن تباع هذه البضاعة للناس بالسواء؛ لأنها من حقوق الدهماء كالماء والهواء، لا فرق فيها بين الأغنياء والفقراء، ولا بين الصعاليك والأمراء، فانحسمت أسباب الضغينة، وثابت إلى الناس السكينة، وطفقوا يساومون الفتاة، طالبين طول العمر والحياة، وعلت الجلبة والضوضاء من الرعاع والغوغاء، فهذا يقول: أعطيني أعطيني، وهذا يقول: أنا جئت أولاً، وأخر يقول: أنا أزيد، فقالت السيارة: قد كشفت لكم عن الحقيقة حجاب الالتباس، حيث قلت لكم: لا يفوز بالمراد، إلا صاحب الأهلية والاستعداد، فصاح بها الناس أجمعون: إننا أيتها الفتاة لمستعدون، فقالت: عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ثم أنشأت تمتحنهم فقالت السيارة: هل اشتريتم من بضائع رفيقاتي اللاتي جئن من قبلي؟ - الناس: ما هي تلك البضائع؟ ومن هن رفيقاتك؟ - السيارة: منهن واحدة جاءت تبيع الذكاء والفطانة - الناس: هذه لم نشتر منها شيئًا، وقد طردتها نِظَارة. - السيارة: منهن واحدة جاءت تبيع الذكاء والفطانة. - الناس: هذه لم نشتر منها شيئًا، وقد طردتها نِظَارة المعارف العمومية. - السيارة: أسامحكم بهذه، فهل اشتريتم من بضاعة الثانية، وهي العفة والاستقامة؟ - الناس: وهذه لم نشتر منها أيضًا، وقد طردتها نِظَارة الحقانية. - السيارة: والثالثة جاءت لتبيع الصحة والعافية. - الناس: قد أتينا لنشتري من هذه، فجاء التُّرَبيّة وخطفوا صندوقها، ثم احتال عليها الأطباء فأخذو ما إلى المستشفى ولا ندري ماذا فعلوا بها. السيارة: الحق أقول لكم: إنني غير مأذونة بأن أبيعكم شيئًا من بضاعتي، وما أردت بالاستعداد والأهلية، إلا هذه الصفات المُرضية، ثم ما هي لذة طول العمر بدون الذكاء والفطنة، ومع فَقْدِ العفة والاستقامة، والصحة والعافية، ألا إن الموت خير من الحياة التعيسة بفقد هذه الصفات النفيسة، على أن طول العمر مع عدم الصحة والعافية مُحال، كما أن الصحة مع فقد العفة غاية لا تُنال. ((يتبع بمقال تالٍ))

استنهاض همم ـ 13

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (13) (مكدونيا) لا تقرأ صحيفة من صحف الأخبار الطائرة في هذه الأيام [1] إلا وترى فيها ذكر مكدونيا، والقلاقل التي تدوي فيها، وأن أهلها يتطلبون إصلاحات داخلية، أو امتيازات إدارية، وكأنهم طمحوا إلى هذه الرغيبة وسمَوا بأبصارهم إلى تلك الأمنية مُذ رأوا فوز الكريديين، وإنجاح طلبتهم، وما بالهم لم يعتبروا بخيبة الأرمينيين وإخفاق مأمولهم؟ ولا نعلم إذا كان مسلمو الأرنؤوط على وفاق مع ثائري مكدونيا في هذا الطلب، أو ليسوا على وفاق معهم؟ يغلب على الظن أنهم متواطئون جميعًا على القيام بهذا الشأن، وإلا لحصل بين القبيلين جدال أو جلاد، وجرى ما كان يجري بين الأكراد والأرمن مذ تمنى هؤلاء على الدولة الأماني وعارضهم أولئك. وكيف نتيجة حوادث مكدونيا يا ترى؟ يظهر أن مقاطعة مكدونيا ربما نالت إصلاحات خاصة، أو امتيازات داخلية تكون بمثابة استقلال إداري، كما هو الشأن في سائر ولايات البلقان وفي كريد أيضًا، ولا يوجد في طريق هؤلاء من العَثرات ما وجد في طريق الأرمن. ليس بينهم من يأخذ بأكظامهم، ويحفر لهم الحفائر كما كان من مقاومة الأكراد للأرمن، ولا تتاخم بلادهم إحدى الدول القوية؛ لتعارضهم الآن وتمالئ الدولة العلية عليهم، فتزعهم وتنقمهم، وتنتظر هي أن تلتهمهم كما فعلت الروسية مع الأرمن في ثورتهم فإنه يجاورهم من الشمال ولايات البلقان، ومن الجنوب اليونان، وكلهم ليسوا ممن تُرهب صولته، أو تخشى شرته، وإن كانت لهم مهارة في إثارة القلاقل، وحذق في إيقاظ نائم الفتن. نعم إن للنمسا شيئًا من جوار لمكدونيا بواسطة البوسنة والهرسك، غير أن النمسا الآن لا تودّ أن تغيظ الدولة العلية، ولا أن تثير عليها حنق إحدى الدول الأوروبية، فهي تواطئ الروسية في حادثة مكدونيا، وتتابعها متابعة الظل، وسياسة الروسية هي حفظ الحالة الحاضرة في تلك الولاية، بمعنى أن تُبقي على تابعيتها الصرفة للدولة العلية، ولا نعلم إذا كانت تحافظ على سياسة الحياد هذه، أو يبدو لها، فتعضد أهالي مكدونيا، وتروج طلباتهم لدى الدول كما فعلت في كريد. المرجح الأول لما أن القيصر الآن يبذل مجهوده في توسيع نطاق نفوذه في أصقاع الشرق الأقصى، ويهتم في شأن المؤتمر الذي ينظر في المشروع السلمي الذي اقترحه على الدول، فمساعدته لثوار مكدونيا ربما كانت منافية لمشروعه لما ينشأ غالبًا عن تأييد مطالبهم من إيغالهم في الشر والفظائع، وارتكابهم ما يزيل الأمن ويخل بالسلم، وحادثة كريد أقرب شاهد على ما ذكرنا، فقد استبان لك الآن مما تقدم أن مصير مكدونيا في الغالب هو الاستقلال الإداري. أما ولايات الأرمن والأكراد، فمصيرها يتردد بين الاستقلال الإداري وبين الاندماج في السلطة الروسية، وأما الولايات العربية فمصيرها إلى مهاوي التغلب الأجنبي - كل ذلك إذا تقاعدت الحكومات الإسلامية عن الحلاف والمؤازرة، وبقيت الحكومة العثمانية على الحال التي نذوق مرارها ونشاهد آثارها، ونسأل الله تعالى أن يحوِّلها إلى أحسن حال. إذا فار التنور، ووقع المحذور، وتجردت الدولة - لا كان ذلك - عن تلك الولايات، فأجدر بها أن تحافظ على ولاية الأستانة التي هي معدن العنصر التركي، ومهد مفاخره التاريخية، فتنهض القسطنطينية حينئذ بما على جنابتيها من البرّين الرومللي والأناضول نهوض الطير بجناحيه. قال الكاتب: اعْترض الحديث حينئذ بعضُ من حضر، وقال: إن عَجْزَ العثمانيين عن حماية سائر الولايات مؤذِن بعجزهم عن حماية ولاية الأستانة أيضًا؟ فأجبته [2] : إن نعرة المرء وحفاظه في الدفاع عن جسمه وشواه (أطرافه) تكون أشد من حفاظه في الدفاع عن سرابيله، وقص الذيل والردن أهون على النفس من جدع الأنف وصلم الأذن، فما بالك إذا آنس المرء من آخر غارة في اختلاس مهجته والإيداء بحياته، لا جرم أنه يستميت مستبسلاً، ولا يموت مستسلمًا، ومن أخص غرائز القوم البسالة والحمية، وقد هذبهم الملك، ودَرّبتهم الآداب العسكرية، وفي نصف القرن الماضي (الهجري) قام بينهم رجال اختطُّوا للأتراك خُطط التقدم، وأشرعوا لهم من السياسة وحسن الإدارة مناهج، لو لم يتنكبوها لأشرفت بهم على الغاية، وأوصلتهم إلى بحابح السعادة، حيث ترتع الأمم المتمدنة [3] ، ونبغ فيهم خطباء، وكتبة أذكياء، فَكّوا عن اللغة التركية أغلال الركاكة والتعقيد، وأطلقوا لسانها في الخطابة، وقلمها في الكتابة، وأشعروا قلوب الناشئين والفتيان حب الحرية والوطن، حتى كثُر اللهج بهاتين الكلمتين بين القوم في أشعارهم، وضروب كتاباتهم، ولا تزال تلك الروح منبعثة في الأمة التركية ما دامت آثار أولئك الكَتبة يدوي صداها في أصماخ الناشئين وتصل نغيتها إلى سويداواتهم - مادام أولئك الناشئون يتذامرون [4] بمثل قول سياسيهم الشهير: (نحن العثمانيين فتحنا القسطنطينية بثلاثة آلاف رجل، ولا نُسَلِّمها إلا إذا بقي مِنَّا ذلك العدد) . لا تشفقن على تلك الروح من ثقل الضغطة وشدة الوطأة، فإن حجر الماس لا يفتته صدم، ولا يسحقه صك، بل لا يغررك سعي الساعين في إزهاقها، ولا تأميلهم استلالها من بين اللحم والعظم والمصل [5] والدم، فإن السعي في استعباد الأمة وهضم حقوقها قد يتسنى للعامل بواسطة حجب نور العلم عن عقولها، واستئصال جراثيم الفضائل من نفوسها، لكنّه لن يتسنى له ذلك قط بواسطة محو التعلق من النفوس، واختلاس العقل من الرءوس، وإلا لم يكن راعي بَشَر، بل راعي بقر. هذا المعنى [6] الذي قام في نفوس العثمانيين وأُشربوه في قلوبهم حلّ من فطرتهم محل الإدراك والنطق. إن قدر أحد على انتزاع الإدراك من الفطرة الآدمية كان قادرًا على انتزاع ذلك المعنى من نفوس القوم وقلوبهم. هذه المزايا التي ذكرنا التصاقها بنفوس العثمانيين، وممازجتها لأرواحهم، هي التي تحملنا على الحكم ببقاء دولتهم، ودوام أمرهم، واقتدارهم على حفظ استقلالهم من صولة الصائل، ولا نخال أن شيئًا من ذلك متوفر في مسلمي الولايات العربية، أو معروف لديهم؛ لأن التعليم المدرسي يكاد يكون مفقودًا من بينهم وتهذيب النشء والأحداث أمسى مقتصرًا على نفر منهم، وعلى غير الوجه الذي ترجى فائدته لهم. أما لغتهم التي يُضرب بها المثل في اتساع نطاقها، وتشعب أقانينها، فقد اكتفوا منها بقطر من بحر، وكلمة من سفر، حتى أضحت أشبه باللغات الميتة التي وظيفتها تصحيح العبادات، وتفهيم النصوص الدينية، وحل أساليب الكتب القديمة، ولولا استحداث الجرائد بين المتكلمين بها لكانت أسوأ حالاً وأظلم مآلاً، ولحاكت اللغة الكرشونية التي يزاول بها الكهنة وظائفهم الدينية. ولم يقم في العرب رجال درسوا السياسات، وتخرجوا في أعمالها؛ كي يلقنوا شعبهم شيئًا من مبادئها، ويلقوا في نفسه بذور الإصلاح، ويعرفوه كيف يكون نظام هيئة الاجتماع، وكيف يحافظ على الحقوق، ويطالب بها، ولم يَنْبُغ بينهم كتبة أو خطباء، أو ذوو نباهة من العلماء يطلقون أفكار الشعب العربي من سلاسل الأوهام ويطهرون نفوس آحاده من لوث الخرافات، ويميطون عن أبصارهم غواشي التقليد الأعمى الذي يطوح بالأمم إلى عماية العدم. منزلة الخطابة في الأمة منزلة الإرادة من الشخص، فاندفاع المرء في أعماله وتقلبه في تلمس مصالحه، وانبعاثه في إنقاذ مقاصده إنما يكون على قدر ما عنده من قوة الإرادة ومضاء العزيمة، فإذا قويت الإرادة فيه بحيث أضحت تتسلط على ضعف نفسه، وتكفكف من جماح هواه بشره بالنجح، وسداد الأعمال، وانتظام المعيشة، أما إذا ضعفت تلك الإرادة فيه وتضاءلت دون مقاومة أهواء نفسه وتقليص غشاوات جهله، تحكمت حينئذ فيه تلك الأهواء، وسلطت عليه الرذائل، فتفسد أعماله ويسوء مصيره، كذلك حال الأمة ومزية الخطابة فيها وتأثيرها في نفوس آحادها. إذا رأيت أمة كثر الخطباء فيها، وانطلقت ألسنتهم في هدايتها لما فيه خيرها، وقَدَروا بسبب ما أوتوه من البلاغة وقوة الخطابة على تحويل أفكار الشعب، وتصريف مهابها من جهة إلى أخرى، وتمكنوا من هيج النفوس الجامدة، واستثارة الحفائظ الخامدة، يوشك أن تنهض تلك الأمة من غفلتها، وتقتحم الأخطار في سبيل صيانة شرفها ووقاية مصالحها، والذود عن استقلالها. فَكّر ماذا يكون حال الأمة التي تفقد صدى الخطابة في نواديها، وتهدأ شقاشق الخطباء على منابرها؟ أجدر بأن تكون حالتها كحالة الأخرس يعجز عن إفهام ما في نفسه. الأخرق لا يحسن شيئًا من الأعمال. القُلّب يشرع بعمل فلا يلبث حتى يدعه ويشرع بآخر، أوهي كالطفل لا إرادة له تُلهمه سداده وتقيه من الغوائل، بل كالنفش السارب، والهمل المرسل، لا راعي له يجمع متفرقه، ويهدي ضاله، وينعق بالسابق المتقدم يسترجعه، وبالمتخلف المتباطئ يستحثه. وبالجملة: إن وسائل النهضة لم تتوفر بعد في مسلمي العرب، كما توفرت في الأتراك، فلذا كان مستقبل هؤلاء على مَقْرُبة من النجاح والاستقلال، ومستقبل أولئك فيه شوب من غموض، وعليه غواشٍ من ظلام. ولولا ما أمرنا الله به من الثقة بوعده، وآذننا بالتسجيل على اليائس من روحه بالكفر، مع ما نستحسه لهذه الآونة من اهتزاز خواطر البعض من نُبهاء الأمة في إصلاح شأنها، وتموج نفوسهم في العمل لإنهاضها وتقوية ذمائها (هو الحركة وبقية الحياة) لولا ذلك لما خامرنا ريب في هويها، ولم يعترضنا شك في إمحاء جنسيتها، وانغماسها في غمار الأمم المتغلبة. ((يتبع بمقال تالٍ))

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع مالية الدولة) بقي علينا مما نسرده على القراء من تحويلات القروض العثمانية سردًا سريعًا، الكلام على مشروع قد تقرر مبدئيًّا، ولاشك أنه لا يمضي عليه زمن حتى يتم إنفاذه، وهو إصدار سهام لقرض قدره خمسة ملايين جنيه إنكليزي، ربحها ثلاثة في المائة، وأجر استهلاكها واحد في المائة، ستتمكن به الحكومة العثمانية من شراء سهام الدين الموحد (وهي سهام إيصال خطوط حديد الرومللي بأوروبا المركزية) وقدر هذا الدينَّ 810000 جنيه إنكليزي. وتتمكن أيضًا من شراء مدرعتين من مدرعات الدرجة الأولى من أوروبا بمبلغ 1400000 جنيه إنكليزي، ولما كانت السهام المصدرة بثمن 60 (في المائة) سيحصل منها 3000000 جنيه إنكليزي، فسيبقى للحكومة العثمانية من هذا المبلغ 700000 جنيه إنكليزي، حددت الدفعة السنوية لهذا القرض بمبلغ 173000 جنيه إنكليزي، وهذا في مقابلة مبلغ 87000 جنيه إنكليزي كان يطلب ربحًا للقرض الموحد، ومبلغ 86000 جنيه إنكليزي كان ينتج من احتكار التنباك الذي كان منح لأصحاب هذا القرض من سنتين (من تاريخ تأليف الرسالة) وبدئ بالعمل به. قد رأى القارئ فيما سلف أن الأمر العالي الصادر في 20 ديسمبر منح لحاملي السندات التركية تلكم الأجزاء من الدين العمومي التي ألزمت بها معاهدة برلين كلاًّ من حكومة البلغار واليونان والجبل الأسود والصرب، ولكن أوروبا قد تساهلت مع هذه الحكومات، ولم تلزمها بأداء ما فرض عليها مع أن الحكومة العثمانية قامت بما فرض عليها في تلك المعاهدة بصدق أضاع كثيرًا من منافعها، وهذا يدل دلالة واضحة على عدم ثبات الدول التي كان لها نواب في مؤتمر برلين، ولولا ذلك لما رضيت قط بنقض تلك الحكومات الصغيرة ما أبرمته الدول الكبرى، ووقّع عليه نوابها. سيتضح للقارئ مما نورده عليه بالاختصار من أجزاء الدَّين التي ألزمت به الحكومات المذكورة، وما عرضته الحكومة العثمانية من طرق تسديدها عرضًا رسميًّا، ومما في هذه الطرق من أمارات العدل ودلائل الإنصاف - أهمية حل هذه المسألة السيئة بالنسبة لتركيا ودائنيها، وما ظهر فيها من اعتدال لحكومة جلالة السلطان ظهورًا واضحًا، حكومة البلغار مدينة لخزينة الحكومة العثمانية - بحسب الأرقام المأخوذة من مصلحة الدين العمومي -بمبلغ إسمي قدره 10888528 جنيهًا مجيديًّا فائدته واحد في المائة، فما يدفع من الفائدة مسانهة يكون 108885 جنيهًا مجيديًّا، وهذا المبلغ (الفائدة) هو الذي كان من الضروري تأصيله، إذا اعتبرنا أن متوسط سعر ربح سهام الحكومات في أوروبا أربع في المائة، نستفيد أنه لا يبقى على البلغار شيء مما لزمها من الدين بعد نهاية المدة المقررة لدفعه؛ فإن ربح الدفعة السنوية من رأس المال الواجب عليها هو أربع في المائة، والمدة المقررة لاستهلاك المال مائة سنة، ففي هذه الأحوال يكون المبلغ اللازم لتعويض الدفعة النسوية وهي 108883 جنيهًا مجيديًا هو 2667240 جنيهًا مجيديًا، فإذا سلمنا أن حكومة البلغار لا يتيسر لها الحصول على هذا المبلغ بفائدة أقل من ست في المائة بشرط تسديده في 25 سنة، لكان ما تدفعه مسانهة هو 208650 جنيهًا مجيديًا، وجدت الحكومة المذكورة في هذا التدبير مزايا عظمى من حيث تقوية الثقة بها، والحصول على الوفور المهمة الناتجة لها من المبلغ التي هي مدينة به للحكومة العثمانية، هذه المزايا كان من شأنها أن تحملها على المشاركة في إنقاذ ذلك المشروع، وفي الحقيقة لو أن حكومة البلغار كانت تسير في دفع القسط الواجب عليها من الدين مسانهة على طريقة الحكومة العثمانية في الدفع (وهو الذي يجب عليها أن تفعله) لاضطرت في هذه الحالة أن تدفع في كل سنة مبلغ 544425 جنيهًا مجيديًّا، وذلك بسبب زيادة هذا القسط تدريجيًا إلى 50 في المئة على حسب زيادة الواردات المتنازل عنها للدائنين، وفوق ذلك ما كان يتيسر لها أبدًا أن تعرف المبلغ الذي كان يجب أن يحتسب لخزينتها من قبل أن تسدد الدين كله، فإذا تحامينا خطر احتمال ما قد يعرض من الشك في لزوم دفع ذلك المبلغ في خلال مدة القرن المقررة لدفع الدين، وقدرنا ما تدفعه حكومة البلغار كل سنة باثنين في المائة، لكانت دفعتها السنوية 217770 جنيهًا مجيديًّا في مدة مائة سنة، فدفعها مبلغ 208650 جنيهًا مجيديًّا مسانهة، مدة خمس وعشرين سنة فقط، هو إذن تدبيرٌ كله فائدة لها. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

مدرسة الجمعية الخلدونية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدرسة الجمعية الخلدونية كما تم في هذه الأيام امتحان المدارس التعليمية في مصر تم في بلاد الهند وتونس وغيرها، وقد جاءتنا كراسة من إدارة (مدرسة محمدي) في مدارس الهند تبين خلاصة أعمالها، وإذا تسنى لنا من يترجمها من لغة أوردو ننشر خلاصتها، ووردت جريدة (الحاضرة) الغراء من تونس شارحة احتفال المدرسة العلوية، ومدرسة الجمعية الخلدونية، وامتحان جامع الزيتونة الشريف، وقد سرّنا جدًّا ترقي (الجمعية الخلدونية) عامًا بعد عام، وقرأنا فيما نشرته الجريدة من خبر الاحتفال خطابًا بليغًا لجناب (الوزير المقيم) في تونس من جانب فرنسا وافق فيه ما كتبه منشئ هذه المجلة من أيام في (المؤيد) الأغر تحت عنوان (السياسة الأدبية) ، حيث قلت: لا بد للمسلمين من الجمع بين علوم الدنيا والآخرة، وقد قال الوزير مثل ذلك، وقابل بين تعليم الجمعية الخلدونية، وبين جامع الزيتونة، كما قابلت أنا بين تعليم (دار العلوم) وتعليم الأزهر، وسائر المدارس الأميرية، وهاؤم اقرؤوا كلامه نقلاً عن (الحاضرة) الغراء بالحرف: قال جنابه: يسرني كل السرور أن حضرت في هذا الاحتفال لمشاهدة تقدم الخلدونية ونجاحها، ولا حاجة لي للإعراب عما يختلج بين أضلعي من دواعي الخير والتقدم لهاته البلاد، أما الجمعية الخلدونية، فلما كنت ممن أعان على غرس شجرتها، يسرني اليوم ما نراه من ثبات أصلها، ونمو فرعها، وتفتق أزهارها، وطيب ثمارها ... ثم قال: وحيث حدا بنا المقام لتشبيه الخلدونية بشجرة يانعة نقول: إن جامع الزيتونة هو الدوحة المباركة العلمية، والمدرسة الخلدونية بمثابة لقاح بها حتى إذا ثبت مغرسها أثمرت ثمارًا شهية مكملة للذة ثمرات الدوحة الأصلية، ووجه التشبيه بالشجرة كما تقدم نراه من وضع الشيء في محله ضرورة أن الجامع الأعظم مسمى بجامع الزيتونة (نسبة للشجرة المباركة) فلا غرو أن كانت الخلدونية فرعًا من فروعها (فاستحسن الحاضرون هذا المجاز) ثم قال: وقد كنت وعدت في مناسبة أخرى بتقديم مَن أحرز على شهادة التحصيل مِن نجباء الخلدونية للوظائف الإدارية، والآن نؤكد ذلك الوعد بوفاق، وبمشهد من رجال الدولة التونسية، وليس معنى تخويل الوظائف إعطاؤها لمستحقيها بمجرد التحصيل على تلك الشهادة، بل بمجرد شغور الخطط بالمصالح الإدارية التي ترشحوا لها بأنوار المعارف، ثم قال: وهاته المعارف، لاتنافيها الشريعة الإسلامية، بل جاءت بالحث عليها حثًّا لاينكر، كما برهن على ذلك الأستاذ العلامة الشيخ سالم بوحاجب في درسه البليغ بمناسبة افتتاح الخلدونية، ثم قال: ومما يدل على نفع العلوم المزاولة بالخلدونية، ما نراه من الاعتناء بتلك العلوم في البلاد الشرقية كالأستانة والقاهرة، ومع ذلك فلا تكاد توجد بها مدرسة تحاكي الخلدونية في وضعها ومقصدها، كما تأكدنا من الفضلاء الثقات، ومن الأميرة نزلي هانم (من الأسرة الخديوية المصرية، وقد كانت بتونس لعهد قريب) فإن طلبة العلم بالجامع الأزهر مثلاً منقطعون لمزاولة علوم الدين وما تعلق بها معرضون عن التعاليم الوقتية التي لا يُنْكَر فضلها ولزومها في الأوقات الحالية، كما أن تلاميذ المكاتب المصرية لا يتعاطون إلا الفنون الوقتية، وليس لهم أدنى إلمام بعلوم الدين، بحيث افترق جمهور الطلبة المصريين فريقان، كلاهما مضاد الآخر في أفكاره ونزعته وأخلاقه، وليس هناك رابطة بين ذينك الفريقين، وإن شئت قلت: بين ذينك التعليمين، بخلاف المملكة التونسية، فقد امتازت بوجود المدرسة الخلدونية التي أضحت الرابطة الجامعة بين التعليم الديني والتعليم الدنيوي، سيما والقائمون بتلك الوساطة نخبة من نجباء المسلمين التونسيين. ثم تخلص جنابه لمبحث سياسي دقيق، فقال: ولفرنسا اهتمام عظيم بشأن الديانة الإسلامية، وثقة تامة بمن حصل على نصابها بحيث إنها تعتمد من كان متمسكًا بأمور دينه محافظًا على شعائر قومه، متثقفًا بالكمالات الإنسانية، وذلك أن الدولة الفرنسوية لا تزال خاطبة ود الإسلام، لما تعلم أن غرس محبتها في قلوب المسلمين، وترويج سياستها في دواخل البلاد الإفريقية معلقان على موالاة المسلمين في شمال أفريقيا، لا سيما عاصمة المملكة التونسية التي تكون مركزًا علميًّا تنبعث أشعته على سائر أرجاء البلاد السودانية (تصفيق استحسان) اهـ ما أردنا نشره. (المنار) أسست مدرسة دار العلوم في مصر قبل المدرسة الخلدونية بسنين، ولكن السياسة الإنكليزية ضغطت عليها حتى كادت تسحقها، واجتهدت في محو ما كان للدين وللغة في المدارس الأخرى من الأطلال والرسوم، وإنما فعلوا هذا بخيانة الأمين ومساعدة المارقين من اللابسين لباس المسلمين، الذين لا يزال يقترح بعضهم تعليم التاريخ الإسلامي بالإنكليزية بدلاً من العربية، وبعضهم إبطال حفظ شيء من القرآن، فصبر جميل والله المستعان.

إحصاء عن عدد سكان أوربا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إحصاء عن عدد سكان أوربا وضعت إحدى الجرائد الفرنسوية إحصاء عن عدد سكان أوربا، فقالت: إنهم يبلغون الآن 380 مليونًا، وكانوا في عام 1887 نحو 343 مليونًا، فيكون عدد سكان أوروبا قد زاد منذ نحو اثنتي عشرة سنة 37 مليونًا، ويوجد من هذا العدد 106 ملايين، و200 ألف نفس في روسيا، و52 مليونًا و800 ألف في ألمانيا، و43 مليونًا ونصف مليون في النمسا، و39 مليونًا و800 ألف في إنكلترا و38 مليونًا ونصف مليون في فرنسا، و31 مليونًا و300 ألف في إيطاليا، و18 مليونًا في أسبانيا، و6 ملايين ونصف مليون في بلجيكا، و5 ملايين و800 ألف في تركيا أوروبا، و5 ملايين و600 ألف في رومانيا، وخمسة ملايين في البرتغال، و5 ملايين في أسوج، و4 ملايين و900 في هولندا، و3 ملايين و300 ألف في بلغاريا، و3 ملايين في سويسرا، ومليونان و400 في الدنمارك، ومثل هذا العدد في سربيا، ومليونان في نروج. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام)

الجنسية والدين الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجنسية والدين الإسلامي البداوة في النوع الإنساني سابقة على الحضارة، ولكن الإنسان مدني بالطبع، ميال للاجتماع بالفطرة، وقد كان مبدأ اجتماعه تكوّن الشعوب والقبائل بالعصبية النسبية، فكانت هي مناط الجنسية، ثم صعد النوع في سلم الارتقاء الاجتماعي، فاتسعت دائرة جنسيته، فكان مناطها اللغة، وكما كانت تتألب القبيلة التي يجمعها نسب واحد، وتزحف لقتال قبيلة أخرى من أهل لغتها لأقل عدوان يقع بين أفراد القبيلتين، صارت تتألب القبائل الكثيرة التي يرتبط بعضها ببعض برابطة اللغة ويلتحم بلُحمتها، على قتال الأجناس التي تجمعها لغة أخرى غير لغتهم، وبهذه الجنسية تكونت الأمم، فكان منها العربي والتركي، والفارسي والهندي والصيني إلى غير ذلك. ما كانت عناية الله تعالي بالإنسان لتقف به عند هذا الحد من الاجتماع والتمدن، بل أعطاه سلمًا ليعرج عليه إلى الأفق الأعلى من المدنية وسعة دائرة الاجتماع، وهو المُعبر عنه بناموس الارتقاء العام، ولما استعد بمقتضى هذا الناموس لامتزاج بعض أجناسه ببعض، ومؤاخاة العربي للعجمي والرومي والفارسي، منحه رابطة أعلى من جميع روابط الاجتماع، رابطة تضم متفرق العناصر وأشتات الأجناس، وتصوغها فتجعلها عنصرًا واحدًا، رابطة يمكن لكافة البشر أن يكونوا بها أمة واحدة، وإخوانًا على سرر متقابلين، هذه الرابطة هي الديانة الإسلامية، التي بُني أساسها على الوحدة في الاعتقاد، والتهذيب والأحكام القضائية والمدنية التي يخاطب قرآنها البشر كافة بقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ويخاطب أهل الكتاب خاصة بقوله: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) . ما كان ليعزب عن شارع هذا الدين - وهو عالم الغيب والشهادة - أن الناس لا يعتنقونه مرة واحدة، وأن هذا موجب للاختلاف والتفرق، وهو إنما وضع للوفاق والتوحيد، ولذلك جعل الرابطة ذات طرفين، طرف يمكن أن يضم جميع البشر على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم، وهو كونهم يحكمون بشريعة واحدة عادلة، تساوي بين مؤمنهم وكافرهم، ومليكهم وصعلوكهم، وغنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، وهذا الطرف هو طرف الجامعة الدنيوية، ويمكن لأهله أن يعملوا لإحراز سعادة الدنيا بالاشتراك، حتى يصلوا إلى الغاية التي في استعدادهم الوصول إليها، والطرف الثاني هو طرف الجامعة الروحية الأخروية، وهو يؤلف بين الآخذين بهذا الدين تأليفًا روحيًّا زائدًا عن ذلك التأليف الجثماني تأليفًا جرثومته وحدة المعتقد والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وغذاؤه الأخلاق الفاضلة، والعبادات الكاملة، وثمرته الإخاء الصحيح، وجعل المؤمنين في تضافرهم وتعاونهم على البر والتقوى كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى له عضو تداعى له سائر الجسد. لا تحقرن أمر الرابطة الأولى، رابطة الشريعة العادلة، فهي على كونها أعم من رابطة اللغة وأشمل، قد كانت أقوى وأكفل، كان أبناء اللغة الواحدة والدين والواحد يفرون من هجير ظلم قومهم، المشاركين لهم في جنسيتهم، ويستظلون بظل العدل الإسلامي الظليل، حتى أن الروم في بلاد الشام لما رأوا في أثناء الفتوح وفاء المسلمين لهم وحسن سيرتهم فيهم، صاروا عونًا لهم على قومهم، وعيونًا للمسلمين عليهم، يتجسسون لهم الأخبار، ويوقفونهم على الأسرار. جاء في رسالة (الجزية) التي نشرت في المجلد الأول من (المنار) أن أبا عبيدة رضي الله عنه لما أراد أن يشخص من حمص إلى دمشق لتألّب الروم على المسلمين وجمعهم لهم، أمر حبيب بن سلمة أن يرد على القوم ما كان أخذه المسلمون منهم من الجزية، فرد عليهم ذلك، وأفهمهم بأن الأمير أبا عبيدة يقول: ما كان لنا أن نأخذ أموالكم، ولا نمنع بلادكم (أي أن أخذ المال هو بإزاء الحماية، وقد عجزوا عنها في ذلك الوقت لاضطرارهم إلى الخروج من البلد، فردوا عليهم المال) فقال أهل البلد: (ردكم الله إلينا، ولعن الذين يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا) هذه الرابطة مناط للجنسية، اتخذه الأوروبيون أحبولة لصيد الأمم والشعوب التي ثقلت عليها وطأة ظلم حكامها، فنجحوا مع بُعدهم عن العدل الصحيح والمساواة اللذين كان عليهما المسلمون عندما كانوا متمسكين بدينهم وحاكمين بشريعتهم، ولكن هذه الرابطة مهما كانت وثيقة وقوية، فهي لن تبلغ مبلغ رابطة وحدة الاعتقاد بعروة الإسلام الوثقى التي لا انفصام لها، ولذلك ترى المسلمين يتململون من سلطة الأجنبي عن دينهم، وإن كان عادلاً، ويودون الفرار من ظل عدل، ولو لفحهم مثل لهيب جهنم من ظلم المتحدين معهم في الاعتقاد والمذهب، وبهذا لم يكن للمسلمين جنسية في غير دينهم، ولا يخضعون باختيارهم سرًّا وجهرًا إلا لحكومة شوروية تحكمهم بشريعتهم، وتقيم حدودها العادلة فيهم، مقتفية آثار خلفائهم الراشدين، بحيث يكون لديها الخليفة والصعلوك في الحق سواء، لو اهتدت لهذا الأمر أية حكومة إسلامية، ووفقت للعمل به مع الحكمة، من غير زيغ ولا زلل، لأمكنها أن تجمع كلمة المسلمين في مدة قصيرة، بل لو أن دولة حكيمة كإنكلترا اعتنقت الإسلام وأقامت شريعته، لتسنى لها امتلاك باقي الشرق وإفريقيا كلها. عرف الأوروبيون من المسلمين ما ذكرنا، فانتفعوا بمعرفتهم واجتهدوا في إزاحة القابضين على أزمَّة الحكومات الإسلامية عن صراط شريعتهم، وأدخلوا عليهم القوانين الوضعية؛ فنفرت قلوب الرعايا منهم وكرهت سلطتهم، حتى صارت تخرج عليهم. واجتهدوا في حل عروة الرابطة الدينية من نفوس المسلمين باسم المدنية الجديدة التي تسمي التمسك بالدين تعصبًّا، وتمثل هذا التعصب بمثال مشوه قبيح ينفث السموم في الأرواح فيقتلها، ويعترض دون شمس العلوم والمعارف فيحجب أنوارها [1] وما كان الأوروبيون ليتمكنوا من خلابة المسلمين بأنفسهم فيجعلوا اسم التعصب (بمعنى التمسك بالدين) بينهم سبة وعارًا، ويتخذوا هذا ذريعة لفصم عروة الدين وتوهين رابطته العامة، ولكنهم تمكنوا من فتنة بعض المسلمين الجغرافيين [2] بمدنيتهم، واتخذوهم أعوانًا لهم على كل ما يقصدونه من المسلمين. يردد المصريون الشكوى مع التوجع والتألم من المستر دنلوب سكرتير المعارف العام، القابض على أزِمَّة المدارس كلها حيث يجتهد في محو معالم اللغة العربية، وطمس آثار الديانة الإسلامية من المدارس، وجعل رسومها مواثل ودوارس، ولا لوم على من يخدم دولته وملته بالصدق والنشاط، وإنما اللوم والتثريب - بل اللعن والتأنيب - على الذين رضوا بأن يكونوا معاول في يديه لهدم بناء جامعتيهم الدينية واللغوية، وهم يعلمون أن هدمهما يعدم جنسيتهم بالكلية، وفي هذا محو الملة والأمة من لوح الوجود، هؤلاء هم الذين يجب أن يحفظ التاريخ ذكرهم محفوفًا بالخزي والمقت، ملوثًا بقذر الخيانة والغش، حيث يحفظ للمستر دنلوب في خدمة ملته اسمًا سميًّا، ويرفعه في صدق وطنيته مكانًا عليًّا، ويوجد في غير مصر كثير من هؤلاء المارقين. فعلى كل مسلم حقيقي أن يسعى جهده في توثيق الرابطة الإسلامية الروحية بين كل من ينتسب للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، بأن يعرف أهل كل بلاد تاريخ أهل البلاد الأخرى، وشؤونها الغابرة والحاضرة، وأن يكون لهم طرق للتعارف، وأمثل هذه الطرق الجرائد، والاجتماع في موقف الحجيج العام، ومما يقضي بالأسف واللهف أن الحجاج بعد ما يرجعون من أداء الفريضة يقضون أعمارهم في الحديث عن سفر الحج، وما لاقوه وجرى لهم فيه، ولا نسمع منهم خبرًا عن أحوال إخوانهم من أهل الأقطار الأخرى الذين ضمتهم وإياهم عرفات حتى كأنهم لم يشهدوا ذلك الموقف الشريف الذي لم يسم بهذا الاسم (عرفات) إلا لأنه موقف التعارف بين الشعوب والقبائل، واحسرتاه، فقدنا كل شيء، حتى معاني أركان ديننا الكبرى، وأسرارها وفوائدها، ومن الضروري في هذا أن يكون منا أمة يدرسون اللغات التي ينطق بها إخواننا في كل قطر، أليس من البلاء أن لغةأوردو التي ينطق بها ثمانون مليونًا من المسلمين في الهند لا يوجد تركي في الرومللي أو الأناضول ولا عربي في العراق أو سوريا أو مصر أو المغرب يتعلمها ليتعرف بها شؤون أولئك الملايين من إخوانه؟ ونرى الجم الغفير من دعاة النصرانية يتعلمون هذه اللغة، وسائر لغات العالم لأجل دعوة أهلها إلى دينهم. متى عرف بعضنا تاريخ بعض، وتعارفنا بما يمكن من طرق التعارف، وتبادلنا الأفكار بالجرائد، يتسنى لنا حينئذ أن نتفق على وحدة التربية والتعليم، وكمال هذه الوحدة إنما يكون بتعميم اللغة العربية، وعلى وحدة الاشتراك في المشروعات والأعمال النافعة، وبهذين الوحدتين تكون (الجامعة الإسلامية) التي أكثر من ذكرها الكُتاب، وبحثوا فيها من وجوه كثيرة غير محررة، فتضاربت أقوالهم، وتناقضت آراؤهم. قلنا: إن الجامعة الإسلامية لها طرفان، أحدهما يضم المعتقدين بالدين الإسلامي، ويربطهم برابطة (الأخوة الإيمانية) حتى يكونوا جسمًا واحدًا، وقد انحلت هذه الرابطة، ولكنها مازالت، ولن تزول، والطريق إلى توثيقها وشدها هو ما قرأت آنفًا، وثانيهما يربط المسلم وغيره من أرباب الملل برابطة الشريعة العادلة، التي يحكمون بها جميعًا بالمساواة، وقد طرأ على هذه ما حل عقدتها في بعض الحكومات، وما أزالها في حكومات أخرى، وعلى كل حال ينبغي للمسلمين في كل قطر أن يسعوا بالاشتراك مع مواطنيهم الذين يحكمون معهم بحكومة واحدة إلى كل ما يعود على وطنهم وبلادهم بالعمران، ويفجر فيها ينابيع الثروة، هذا ما يجب على الأمة الإسلامية في إحياء جنسيتها، بتقوية الرابطتين بقدر الإمكان، وأما الحكومات الإسلامية، وفي مقدمتها الدولة العلية، فيجب عليها أن تساعد رعاياها على هذه الأعمال، وتسهل لهم سبلها، وأن تجتهد بتقوية نفسها بالإصلاحات الداخلية، والاستعدادات الحربية؛ ليمكنها حماية الحوزة والدفاع عن البيضة، وأرى من الضروري لصيانة الدولة العلية من طمع الطامعين أن يسلك مولانا السلطان الأعظم (أيده الله تعالى بروح منه) في جميع الولايات، الطريقة العسكرية التي سلكها في طرابلس الغرب، وهو جعل كل فرد مستعدًّا للقتال إذا دخل العدو بلاده، كما هو الواجب في الدين الإسلامي، وأن لا يحرم ولاية من الولايات من فرسان الألايات الحميدية؛ فإن استعداد الدولة نفسها مهما بلغ، لا يمكن أن تقاوم به أوروبا المتحدة عليها باطنًا، وإن اختلف دولها ظاهرًا، وأما استعداد الرعايا لمصادمة كل قوة أجنبية تدخل بلادهم حتى الفناء، فهو يمنعهم من كل عداء. هذا هو رأينا في تكوين الجامعة الإسلامية بالطرق الممكنة، ولا سبيل لدول أوروبا إلى الاعتراض على شيء من ذلك، أما الإصلاحات الداخلية، فأهم

كان يا ما كان ـ 5

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

_ كان يا ما كان (5) ثم انصرفت السيارة، واضعة طول العمر في صندوقها، فمرت بالببغاء في طريقها، فقالت له: هل أنت في جوع؟ فقال: نعم، وإنه لجوع ديقوع دهقوع، وكان في يدها نموذج بضاعتها، فنفحته به لساعتها، فحسبه طعامًا، فالتهمه التهامًا، ومن ذلك الحين صار الببغاء يعيش ثلاثمائة سنين، وفي إثر ذلك جاءت السيارة الخامسة لتبيع الشرف والفخر، والكمال ورفعة القدر، فسألها الناس عن الثمن، فقالت: هو خدمة الوطن، والقيام بالأعمال المهمة التي ترتقي بها الأمة، أو دفع العدو عن البلاد، وتخليصها من ذل الاستبداد أو الاستعباد، أو اكتشاف حقيقة علمية، أو اختراع آلة صناعية، فقالوا لها: إن الشرف والكمال يشترى عندنا بالمال؛ لأنه إما رتبة أو وسام، أو منصب من مناصب الحكام، ولا يتوقف شيء من ذلك على سلوك تلك المسالك التي تعود بالإسعاد على الأمة والبلاد، فقالت السيارة: ما سمي الوسام بهذا الاسم إلا لأنه علامة ووسم على أعمال عظيمة، يقوم بها أصحاب العزيمة، ولو كان الشرف في التحلي بالمعادن والجواهر، أو التزين بالملبوس الفاخر لكانت الغانيات من ربات الحجال أفضل وأشرف من عظماء الرجال كالفلاسفة والحكماء، والعلماء والصلحاء، ولتسنى لبعض الأغنياء المترفين أن يكون أعلى شرفًا من الملوك الفاتحين، بل ومن النبيين والمرسلين، وأما الألقاب الشريفة التي يتهافت عليها أرباب العقول السخيفة، كصاحب السماحة والسيادة، أو صاحب الدولة أو السعادة، فهي كلام إذا لم يطابق الواقع بأن يكون أصحابها ينابيع المصالح والمنافع، فهي على كونها عرضًا يتلاشى في الهواء، جديرة بأن تدل على السخرية والاستهزاء، كوصف النذل الجبان بأوصاف الشجعان، وكإطلاق ألقاب أكابر العلماء على سفلة الجهلاء، فقالوا لها: إن الشرف والمجد ما قوبل صاحبه بالتعظيم والحمد، ولا يتشرط عندنا أن يطابق مدحه الواقع ولا أن يكون مظهرًا للمنافع، فخير للمرء أن يؤذي فيُكرم ويُعان، من أن ينفع فيؤذَى ويُهان، فقالت: أما وقد فسدت هكذا الطباع، وتغيرت كما ذكرتم الأوضاع، فقد بطل الدليل والمدلول، وظهرت العلة والمعلول، وتبين أنه لم يبق من شرف لهذه الوسامات، ولا لأكسية التشريفات، بل ربما دلت على خسة ذويها، وسخافة رأي الراغبين فيها، وأرى من الفضيلة التنائي عنها، وتطهير صندوقي منها، ثم ألقتها وتخلت، وأذنت لربها وولت، فتهافت لالتقاطها الأشرار، تهافت الفراش على النار، فكان الشرف بهذه الأشياء من نصيب هؤلاء، وما أصاب بعض الكرام من رتبة أو وسام، فإنما كان بالمصادفة والاتفاق، لا لكونه من أهل الاستحقاق. ((يتبع بمقال تالٍ))

استنهاض همم ـ 14

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (14) إن ما ذكرنا من حركة خواطر المسلمين، وتناجي أرواحهم في إصلاح شؤونهم، لابد أن يعقبه انصلات عزائمهم، وتحفز هممهم للوثوب، فيندفعون وراء الأعمال اندفاع السيل المنهمر، تتحاور علماؤهم في شأن العلوم الإسلامية الدينية واللغوية، وتنقيحها وميز كل علم عن آخر، ووضع تآليف جديدة سهلة المأخذ، خالية عن الركاكة والتعقيد في كل فن، مرتبة على حساب مقدرة الطالب، ونبش ما لأسلافنا من الآثار والتآليف النفيسة التي أودع فيها طرائق السلف الصالح وأعمالهم، وأخلاقهم وآدابهم ومشاربهم، ونشرها بين الكافة لينتفعوا بها، وإحياء العلوم الأدبية والأخلاقية والتاريخية، وحمل الطلاب والناشئين على دراستها، ثم النظر في طريقة التعليم وتحسينها، وجعلها بحيث يمكن للطلاب من تحصيل العلم الإسلامي بمدة قصيرة، ثم إذا رأى بعض أولئك الطالبين من نفسه ميلاً للتبحر في العلوم الإسلامية والتعمق فيها، أو الإخصاء [1] في علم واحد منها والتوسع فيه - كان له أن يكب على تقصي الأبحاث في مسائل تلك العلوم، وانخزالاً دون تتبع أبحاثها، وتأثر نتائجها، حق له أن يعكف على دراسة الفنون العصرية في كتب مؤلفة لهذه الغاية، ويتخير له علمًا منها يخصي فيه ويتضلع من مسائله، فيستفيد منه، ويفيد أهل وطنه وأبناء قومه. لا تنهمك الطلبة في علوم عقيمة لا تنتج فائدة ولا تبعث على عمل. العلم هو ما يربي في نفس الطالب ملكات فاضلة وأخلاق شريفة تحركه في تحصيل ما به منفعة تعود على ذاته بالخير الدنيوي أو الأخروي، أو مصلحة عامة تورث مجموع الأمة مجدًا وسعادة وعزًّا، وسيادة العلم ما يتوقف عليه انتظام مصالح البشر، ويحتاجون إليه في قيام شأنهم، وحسن معيشتهم وراحتهم. ليس من العلم النافع في شيء العلم الذي يضعف قوة العقل الحاكمة ويوهنها، ويقتصر أثره على تقوية الذاكرة وتنميتها، ليس من العلم في شيء علم من ينفق عمره ويبذل ثمين وقته في تفهيم أساليب المتقدمين أو المتأخرين، وتحليل عباراتهم، وتفكيك عقد أبحاثهم، وتصحيح أغلاطهم، وتأويل أوهامهم. هذا ما يخلق بالعلماء أن ينظروا فيه، ويتوخوا إصلاحه، ومداركة خلله، والمتمرنون على الخطابة منهم يعظون العامة في المحافل والمجامع، ويحثونهم على العمل والنشاط في الكسب، ويوقظون أفكارهم من سِنَةِ الغفلة، ويشعرون قلوبهم العزة والنخوة، ويشربونها حب المجد والميل إلى المعالي، ويفهمونهم أنهم لم يزالوا بعد في مرتبة الإنسانية، وأن مزاياها الفاضلة لم تزل متأصلة في نفوسهم، وأن تلك المزايا قد يورثونها لخلائفهم وأعقابهم، فتقوى فيهم، وربما ينشأ عنها في بعضهم أعمال شريفة، تكون عاملة في نهضة الأمة، ونشلها من حضيض الخمول إلى بقاع القوة والسيادة، لا ريب أن مثل هذا الكلام يحض العامة على النظر، ويبعث هممهم للعمل، ويحبب إليهم تربية أطفالهم، وتخريج أحداثهم في العلوم والآداب، فينتشر التعليم والتهذيب بين الدهماء وسواد الأمة الذين هم حقيقة الأمة، ومنهم تكون هيئتها ويرتفع بنيانها. وينشئ الكتبة البارعون المقالات المسهبة في العصر ومقتضياته، وفائدة التعاون والتكاتف في قيام المشروعات الكبرى، ويبينون لهم كيف يشرعون؟ ومن أين يبتدأون؟ ويقوم ذوو اليسار والمال بتأسيس جمعيات خيرية، وشركات مالية، تتبارى في خدمة الأمة، والأخذ بعضدها، كل منها يبادر إلى عمل أو مشروع يعلم احتياج الأمة إليه، وتوقف نهضتها عليه، ووراء ذلك السلطة الوازعة، تحدو بالمقصرين، وتأخذ بحُجُز المعتدين الجائرين، إلى آخر ما تكفلتْ باستيفاء تفاصيله وإيضاح طرائقه صحائف مجلة (المنار) الغراء. أما والله لو هبت الأمة للإصلاح كما ذكرنا، وخف كل فرد من أفرادها للعمل كما شرحنا، واستقاموا على الطريقة التي نهجها الله تعالى لإسعاد الأمم، وقيام الدول لما أتى عليها من الزمان الأمثل ما أتي على أمة اليابان حتى تُزاحم السابقين، وتسود مع السائدين، وتأمن على جنسيتها ولغتها، وتبوأ مستقبلها متبوأً رَحْبًا. فما أتممت كلامي حتى اعترض الحديث معترض يسأل: كيف يتسنى للأمة العمل والنهوض، وهذه عقبان المطامع تحوّم حول البلاد، وتهم بالهوىّ عليها لتمزيقها واختطاف أشلائها؟ أم كيف ينفسح الوقت للشروع في الإصلاح، وأراه لو انفسح للشروع فيه لا ينفسح لإنجازه والتمتع بنتائجه فما الفائدة إذن من العمل، ولماذا ننضي العزائم، ونعيي الهمم في تحصيل ما نُصد عن إتمامه، ونُرد دون بلوغ غايته. ومذ سمعت ما قاله هذا القانط الساخط، وجمت [2] وحسبلت [3] ، وقلت: إن بين أيدي العاملين لنهزة تكفي - بمعونة الله - لوضع مقدمات الإصلاح والانتفاع بنتائجها واجتناء ثمراتها، لكن عليهم أن يغتنموا تلك النهزة، ويسارعوا لاختلاسها قبل جموحها وشماسمها، وقد استبان القارئ مما ألممنا به من شؤون الولايات العثمانية، ومطامع الدول فيها أن الاضطراب السياسي والانشقاق الداخلي بلغا مبلغهما في ولايتي الأرمن ومكدونيا بحيث تذهب النفس إلى أن الزمان قد لا ينفسح لترقيهما، قبل أن يُختزلا من بين أخواتهما، أما سائر الولايات التركية والعربية فليست بهذه المثابة، وإن كانت مهددة بالأخطار، ومحتَّفة بالأطماع، فالمدة بين يديها أفسح، والأمل في حفظ استقبالها ووقاية استقلالها أقوى وأرجح. ((يتبع بمقال تالٍ))

تعليم النساء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعليم النساء كانت المرأة مهضومة الحقوق، يعاملها الرجال بالاستبداد في جميع الأجيال والأعصار، حتى جاء الإسلام فسوى بين الرجل وامرأته في جميع الحقوق والواجبات، إلا أنه جعل الرجل كافلاً للمرأة، وأعطاه حق الولاية العامة لقوته وضعفها، فقال القرآن: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) بل رفقت الشريعة الإسلامية بالمرأة، فوضعت عنها بعض العبادات في بعض الأوقات، ومما ساوت به بينهما وجوب التعليم، فجعلت طلب العلم النافع فريضة على كل مسلم ومسلمة. ولكن المبادئ التي وضعها الإسلام لترقية النساء، لم يعتنِ بها المسلمون العناية التي تؤدي إلى بلوغ غاية الكمال، كما كان شأنهم في كثير من المبادئ والقواعد الاجتماعية العامة التي شغلوا عنها بالتوسع في سواها، مما لا يستحق أكثره العناية مثلها، وما صدهم عن مثل هذا إلا ما ورثوه من العادات عن أسلافهم، ولما كانت نصوص الكتاب والسنة المادحة للعلم والمرغبة فيه والحاثَّة عليه، تشمل الرجال والنساء - كما هي القاعدة الأصولية في الدين الإسلامي - زعم بعض الفقهاء أن طلب العلم لا يشمل طلب الكتابة (الخط) ولا يقتضيه، ثم أوردوا أحاديث تدل على منع النساء من تعلم الكتابة، ولما لم يعترف لهم المحدثون بصحة شيء منها رجعوا إلى قياسهم، فزعموا أن في تعلمهن الكتابة مفاسد تقتضي كراهتها على الأقل، وقد أورد عليهم المعارضون حديث الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة رضي الله عنها، فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟ رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وأبو نعيم والطبراني، ورجاله ثقات. فأجاب الذين تمسكوا بأحاديث النهي بأن هذا الحديث يدل على الجواز، وتلك تدل على الكراهة التنزيهية ولا منافاة بينهما ولا حاجة لهذا الجمع؛ لأن أحاديث النهي لا يحتج بها، وأجاب بعضهم بأن تعلم الكتابة خاص بحفصة رضي الله عنها، وهو فاسد لوجوه منها أن الأصل عدم الخصوصية، فلا بد لمن يدعيها من دليل، وأين الدليل هنا؟ ومنها: أنه لو كان تعليم النساء الكتابة مكروهًا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء عن تعليم غير حفصة لئلا تفهم من حضها على تعليمها أن غيرها مثلها، كما هو المتبادر. وأجاب الشيخ علي القاري بأنه يحتمل أن يكون جائزًا لنساء السلف دون الخلف؛ لفساد النسوان في هذا الزمان، وهو كما ترى احتمال لا قيمة له، وقد تبع القاري في هذا أستاذه العلامة ابن حجر، فإنه قال بكراهة تعليمهن الكتابة في فتاواه الحديثية، محتجًّا بالأحاديث التي لا يصح الاحتجاج بها، وأورد حديث الشفاء، وقال: إنما يدل على الجواز، وأن النهي للتنزيه - لما تقرر من المفاسد المترتبة عليه، وما تلك المفاسد إلا احتمالات أو وقائع جزئيات، لا تبنى عليها أحكام ولا ينقض بها قانون عام، وما من عمل مبرور إلا ويحتمل أن تنشأ عنه شرور، فلقد ضل بالقرآن المؤلون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) . وقد أهديت إلينا في هذه الأيام رسالة من الهند في هذه المسألة (تعليم النساء الكتابة) من مؤلفات علامة المعقول والمنقول صبغة الله بن محمد غوث الهندي، وقد طبعت بعناية محمد عبد الله سلمة بن ناصر الدين عبد القادر (ابن المؤلف) جزاه الله خيرًا، بحث المؤلف في المسألة من الوجوه التي خُضنا فيها، وبيَّن تخريج الأحاديث الواردة فيها، وهذه أعظم فائدة استفدناها من الرسالة، فإن إخواننا الهنديين لا يزالون يشتغلون بعلم رواية الحديث الذي أضاعه أهل البلاد المصرية والسورية والتركية، وإننا نورد كلامه في حديث الحاكم الذي هو عمدة المانعين، وهو ما رواه في مستدركه عن عائشة مرفوعًا: لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة (يعني النساء) وعلموهن المغزل وسورة النور. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، يعني الشيخين. قال مؤلف الرسالة بعد ما أورده وغيره من أحاديث النهي وجزم بعدم صحتها والاحتجاج بها ما نصه: (أما حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه أبو عبد الله الحاكم وصححه، ففيه نظر؛ لأن الحاكم قد تساهل فيما استدركه على الشيخين. لموته قبل تنقيحه، أو لكونه قد ألفه في آخر عمره وقد تغير حاله، أو لغير ذلك، ومن ثم تعقب المحدثون على كثير منها بالضعف والنكارة، كما نص عليه الحافظان الذهبي والعسقلاني وغيرهما، وهذا الحديث في سنده عبد الوهاب بن الضحاك الحمصي قال أبو حاتم الرازي: كان يكذب، وقال العقيلي والنسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان يسرق الحديث، لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: منكر الحديث، وقال أبو داود: يضع الحديث، وقال الحافظ العسقلاني في التقريب: عبد الوهاب بن الضحاك بن أبان العُرضي (بضم المهملة، وسكون الراء بعدها معجمة) أبو الحارث الحمصي نزيل سلميه: متروك كذبه أبو حاتم. اهـ مَن يُلاحظ أن هذا الحديث الذي في سنده كذاب وضّاع، قد وصف بالصحة واتُّخِذ حجة على إبطال مسألة من أهم مسائل الاجتماع والتمدن، يتجلى له فساد قول القائلين: إن البحث في رواية الحديث لا لزوم له في هذا العصر؛ لأنه قد فرغ منه المتقدمون - نعم قد فرغوا منه، ولكن يجب علينا أن نقف على جميع ما قاله المحققون، لا أن نُسلم بكل ما نراه في كِتاب مات مؤلفه ويتجلى له نموذج الضرر الذي ألمّ بالمسلمين من اختلاق الأحاديث ونسبتها لصاحب الدين، ومن التسليم بجميع ما قاله أموات المؤلفين.

الشعر العصري

الكاتب: أحمد أفندي محرم

_ الشعر العصري لحضرة الشاعر المجيد أحمد أفندي محرم أهذي ديار القوم غيَّرها الدهر ... فعرجوا عليها - نبكها - أيها السفر محا آيها مر العصور وكرها ... إذا مر عصر كر من بعده عصر فقد أنكرتها العين بعد تعرف ... وللمرء من أيامه العرف النكر عكفنا عليها قد عقلنا ركابنا ... ولا خبر يشفي الفؤاد ولا خبر نسائلها أين استقل أنيسها ... وهل تنطق الدار المعطلة القفر فما من مجيب غير تهطال عبرة ... يروي صداها لا كما هطل القطر وكائن ترى من ذي ثمانين خضبت ... لطول البكى من شيبه الأدمع الحمر وما إن عهدت الشيخ يبكي بدمنة ... ولكن عصاه حلمه فله العذر ولم يبك حتى ضاق بالهم صدره ... وحتى تولّى ما يرق له الصبر بكى وطنًا أودت بسالف زهوه ... حوادث دهر من خلائقها الغدر أغارت عليه دارعات كماتها ... فما برحت حتى أتيح لها النصر إذا عسكر مجر سما لقتاله ... فأعيي عليه جاءه عسكر مجر فقد نهلت منه المثقفة السمر ... وقد كرعت فيه المهندة البتر ألا إنها مصر التي نحن أهلها ... فيا ويح مصر ما الذي لقيت مصر مضى عزها القدموس ما يستعيده ... بنوها فلا عز لديهم ولا فخر همو رقدوا عنها فطال رقادهم ... فديتكمو هُبّوا فقد طلع الفجر أنومًا كِلا يوميكم؟ إن ذلكم ... لوزر كبير لا يعادله وزر ألمَّا تروا أن قد تقسم أمركم ... بأيدي العدى نهبًا فهل لكمو أمر أما فيكم حر إذا قام داعيًا ... إلى صالح أوفى يجاوبه حر كريمان لما يجثما عن عظيمة ... ولا بهما إذ يدعوان لها وقر هما هضبتا عزم وحزم كليهما ... يخافهما الهول المخوف فما يعرو هما الذخر للأوطان إن حل حادث ... فضاقت به ذرعا وأعوزها الذخر أما ويمين الله لولا بقية ... أؤمل أن لا يستبد بها الدهر لقد هلكت منا نفوس كثيرة ... يصبحها أمن ويطرقها ذعر

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع مالية الدولة) إذا بحثنا في أقساط الحكومة الأخرى من الدين، كما بحثنا في قسط دين البلغار وجدناها كما ترى: قسط اليونان هو 574373 جنيهًا مجيديًّا، يسدد في مائة سنة، إن كانت دفعته السنوية 28459 جنيهًا مجيديًّا، وربحه 4 في المائة ويسدد في 25سنة إن كانت دفعته السنوية 44931جنيهًا مجيديًّا، وربحه 6في المائة قسط الصرب هو 568075 جنيهًا مجيديًّا يسدد في مائة سنة إن كانت دفعته السنوية 23182جنيهًا مجيديًّا، وربحه 4 في المائة، وفي 25 سنة إن كانت دفعته السنوية 34084 جنيهًا مجيديًّا، وربحه 6 في المائة. قسط الجبل الأسود هو 26659 جنيهًا مجيديًّا يدفع في مائة سنة، إن كانت دفعته السنوية 1088 جنيهًا مجيديًّا، وربحه 4 في المائة، وفي 25 سنة إن كانت دفعته السنوية 2085 جنيهًا مجيديًا، وربحه 6 في المائة. لوأن الدول التي وقعت على معاهدة برلين اختارت هذا التدبير الذي هو غاية في سهولة الجري على مقتضاه، ولا وجه للنقد عليه، وألزمت الحكومات المذكورة باتباعه؛ لحصلت تركيا عاجلاً على مبلغ 3836347 جنيهًا مجيديًّا، ولنقص دينها بسبب ذلك مبلغ 19000000 في بضع سنين، باستعمالها هذا المبلغ استعمالاً رائده العقل والحكمة، اللذين تبعتهما في تدبير جميع رؤوس أموالها من عهد جلوس جلالة السلطان عبد الحميد على أريكة الملك. للدائنين الأوربيين - إذن - أن يأسفوا على أن حكوماتهم لم يؤيدوا مطالب تركيا الحقة المبنية على الإنصاف، ولكن عليهم أن يتحملوا شهادة حق مدهشة على صدق تركيا في الوفاء بعهودها، وقدرتها على تنفيذ التزاماتها بأحسن طريقة نافعة لمعاقديها، كانت السهام المكونة للدين العمومي العثماني معتبرة إلى ذلك العهد في معظم الأحيان، كأنها وسائل ضمان استرباحية، ويحسن بنا أن نبحث الآن فيها لنرى هل هذه هي قيمتها الحقيقية في الوقت الحاضر أم لا؟ كان الدين العمومي العثماني في خلال العشرين سنة الأولى من تشكيل إدارته يزداد على الدوام بإصدار سهام جديدة، ويستميل عددًا كبيرًا من أرباب الأموال بسبب الفائدة المرتفعة التي كانت تعرض على مشتري سهامه، ولما حدثت حوادث سنة 1875 تفرق من كانوا متكالبين على تلك السهام، وبقيت أسواق الأوراق المالية بأوروبا غاصة بها إلى سنة 1881، ثم ابتدأ دور آخر لإقبال الناس عليها بعد الاتفاق المبرم في 20 ديسمبر سنة 1881، واستمر بلا انقطاع مدة السنين العشر الأخيرة، فإذا لم يتم للآن بيعها، وكان لا يزال جزء عظيم منها في الأسواق؛ فليس ذلك إلا لأن حالة الدين الحالية، وما حصل فيه أثناء هذه السنين العشر من التغيير الكلي الناتج من الإصلاحات التي منشأها عناية جلالة السلطان، لم يفهمها كثير من الناس حق الفهم، ومع ذلك لو أنا نسبنا مبلغ الدين السنوي إلى عدد سكان الدولة العلية، وعدد ما فيها من الأميال المربعة، وقارنَّا بينها وبين البلاد الأخرى لأوروبا في ذلك؛ لنتج لنا من هذا البحث الإحصائي حقيقتان: (أولاهما) إن الدين العثماني أقل بكثير من معظم ديون البلاد الأخرى باعتبار عدد السكان في كل منها. (ثانيهما) إن مساحة أرض الدولة العثمانية لما كانت تسع من السكان أكثر مما فيها الآن بكثير، فيمكن اعتبار أن هذه الدولة لم يعمر إلا جزء منها فقط (لو صح أن يقال هكذا) ولما كانت غنية بأكبر مصادر الثروة الطبيعية كان ينتج من هذه المصادر فوائد خارقة للعادة، لو أنها دبرت أحسن تدبير يؤدي إلى الانتفاع بها. مما ذكر يتضح لك إذن أن ما تنوقل عن سهام تركيا من أنها طرق ضمان استرباحية، غير صحيح. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الجامعة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامعة الإسلامية وآراء كتاب الجرائد فيها أول من كتب وخطب في بيان أحوال المسلمين الاجتماعية، وتمثيل أمراضهم ودلالتهم على علاجها، وإرشادهم إلى الاتحاد وجمع الكلمة، حكيم الأمة الكبير وفيلسوفها الشهير السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني (تغمده الله تعالى برحمته) فإنه كان قد وقف نفسه على تكوين ما نسميه اليوم (الجامعة الإسلامية) وكان أكثر سعيه لها من الطريق الأقرب، طريق تنبيه الحكومات المسلمة المستقلة إلى الاتحاد. ولكن أباها الحاكمون فكاره ... لها جاهل أو مكره وهو عالم ثم أشرب في قلبه مذهبه هذا الحكيم الثاني، صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد (كما ألمعنا إلى ذلك في عدد سابق) ولم يدع الرجلان بابًا للإصلاح الإسلامي إلا طرقاه، وقد بدأا بباب السياسة، فكتبا وخطبا، ما شاء الله أن يكتبا ويخطبا، فلم تأت النتيجة كما طلبا ورغبا، ثم استقر رأيهما على أن هذه الأمة بالدين وجدت وتكونت، وبالدين سادت وعزت، ومن قبِل الدين (أي الإعراض عنه) أُخذت وابتُزَّت، ومن قِبله ضعفت وذلت، وبه يرجع إليها مجدها. ومن أفقه يبزُغ كوكب سعدها، فأنشأ جريدة (العروة الوثقى) لدعوة المسلمين إلى الوحدة الصحيحة، وأن يجعلوا إمامهم الأعظم القرآن الحكيم، أرشدت هذه الجريدة العلماء إلى إماتة البدع وإحياء السنن، كما أرشدت الملوك والأمراء، ولا سيما المختلفين في المذاهب (كأهل السنة والشيعة) إلى الاتحاد والاتفاق، وأن لا يجعلوا الخلاف الفرعي في الدين من أسباب التفرق والانقسام الذي يقضي على الجميع، نبهت وحذرت، وبشرت وأنذرت، بكلام أصاب مواقع الوجدان، وبراهين ملكت قياد الجنان، فاهتز لها العالم الإسلامي هزة، لو طال عليها العهد لزلزلت الأرض زلزالاً، ولنفر المسلمون إلى الاتحاد خفافًا وثقالاً. قال الأستاذ المفتي محرر الجريدة: حدثني بعض أهل العلم من بغداد قال: كنا نقرأ العدد من (العروة الوثقى) في مجلس السيد سلمان أفندي نقيب السادة الأشراف، فيتفق رأينا على أنه لابد أن يظهر في العالم الإسلامي عمل كبير، قبل أن يصدر العدد الذي بعد هذا، ونقل نحو هذا القول عن بعض فضلاء الغرب والشرق، وسمع كاتب هذه السطور الأستاذ الشيخ حسين أفندي الجسر مؤلف (الرسالة الحميدية) يقول ما مثاله: لو طال الأمد على جريدة (العروة الوثقى) لحدث في العالم الإسلامي انقلاب مهم، ولهّب المسلمون من رقادهم، ونشطوا لاسترجاع مجد آبائهم وأجدادهم، ولقد بلغ من تمام غرام نبهاء المسلمين بهذه الجريدة، أن حفظها بعضهم عن ظهر قلب، وبعضهم يحفظ نسخها الأصلية، وبعضهم كتبها فلم يغادر منها شيئًا، وهم يعيدون تلاوتها ويسترشدون بها آنًا بعد آن، يحفظها أكابر العلماء في الشرق والغرب، وإنني وجدت كل ما فاتني من أعدادها عند فضيلة الأستاذ الجسر فنسختها من عنده، وحدثني الفاضل صاحب جريدة (ثمرات الفنون) أنه يحفظها في صندوق الحديد، حيث يحفظ أثمن ما يملك، وبالجملة كانت (العروة الوثقى) قبسًا من نور القرآن، ونفخة من روحه، وجدولاً من ينبوعه، ظهرت في ضوئها العلة والمعلول، وانتعشت بانتشاقها مشام العقول، ورويت من معين نصائحها الأكباد، حتى رجي أن تكون (وهي العروة الوثقى) رابطة الاتحاد، وقد خافت الدولة الإنكليزية يومئذ مغبة الأمر، ولم تكن أقدامها استقرت في مصر فحملت حكومة مصر على منعها من دخول البلاد المصرية، كما منعتها هي من البلاد الهندية. وكان هذان القطران أهم موارد إمدادها ومعاهد امتدادها، فبطلت - وهيهات أن تنفصم عروة تعليمها وإرشادها. ظهرت العروة الوثقى في جمادى الأولى سنة 1301 هـ، وكل ما صدر منها 18 عددًا، ثم مرت فترة من الزمن لم تذكر فيها الشؤون الإسلامية العامة في الجرائد، إلا ما يجيء في عرض القول، أو يصيبها من رشاش أقلام غير أهلها من الكتاب، مما لا يروي غليلاً، ولا يغني فتيلاً، حتى أنشأ نابغة الخطباء والكتاب السيد عبد الله نديم المصري الشهير، مجلة (الأستاذ) في أوائل سنة 1310 هـ، وكتب فيها المقالات الطنانة الرنانة في تنبيه المسلمين إلى الأخطار المحدقة بهم وبسائر الشرقيين، وتنشيط هممهم لتلافيها، إلا أن بيئة النديم (حاله ومحله) وزمنه وسياسته، اقتضت أن يكون أكثر خطابه عامًّا للشرقيين، وفي كليات الأمور الاجتماعية، وأن لا ينحي باللوم على الرؤساء من الأمراء والحكام والعلماء والمرشدين، فكانت فائدة كلامه في التنبيه المطلق، وفي جزئيات وطنية وأدبية، وفروع دينية، وكان كلامه مؤثرًا فيما نقل إلىّ، فلو بقي لأحدث في مصر تأثيرًا سياسيًّا أدبيًّا له شأن، ولكن أخرج النديم من مصر بدعوى أن جريدته تنفخ روح التعصب الديني، وتنفث سموم الثورة، ولم يكن تم لها سنة، ولقد قرأت منها أعدادًا في سوريا رأيته يحترس فيها كل الاحتراس من الوقوع في هاتين التهمتين، وإنما ينفع الاحتراس بالنسبة للمؤاخذة القانونية دون المؤاخذة السياسية التي أخذ بها. فتر بعد (الأستاذ) الكلام الذي يرمي إلى (الجامعة الإسلامية) حتى وفقنا الله تعالى في العام الماضي لإنشاء (المنار) لإحياء تعاليم (العروة الوثقى) فوضعنا قاعدته على أساسها، وأضأنا قمته بنبراسها، إلا ما كان فيها من السياسة التي تتعلق بالمسألة المصرية، والتحريض على الإنكليز، فإن هذا أمر ذهب بذهاب وقته، و (العروة الوثقى) نفسها صرحت مرارًا بأن تلك الفرصة إذا ذهبت لا تكاد تعود، ويستقر قدم الإنكليز في مصر - وقد كان - ولكنها قالت في شأن النهضة الإسلامية الاجتماعية المطلقة التي كانت تعمل لها ما نصه: (إن الرزايا الأخيرة التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط، وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء، وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا في طلب الحق، وعمدوا إلى معالجة المرض وعلل الضعف، راجين أن يسترجعوا بعض ما فقدوا من القوة، ومؤملين أن تمهد لهم الحوادث سبيلاً حسنًا يسلكونه لوقاية الدين والشرف، وأن في الحاضر منها لنهزة تغتنم، وإليها بسطوا أكفهم ولا يخالونها تفوتهم، ولئن فاتت فكم في الغيب من مثلها؟ ! وإلى الله عاقبة الأمور) اهـ من مقدمة العدد الأول، ولا ريب أن المسألة المصرية ليست في هذا العام كما كانت في سنة 1301 هـ (1884م) أما المسألة الإسلامية فهي هي، بل تقدمت إلى الأمام بالنسبة إلى ما كانت عليه في ذلك العام. قلنا: إن (المنار) وافق (العروة الوثقى) في تعاليمها الاجتماعية وقواعدها التي وضعتها للوحدة الإسلامية، وخالفها في وجهتها السياسية المصرية، ونقول أيضا: إنه زاد عليها بالبحث في جزئيات البدع، وتفصيل القول في التعاليم الفاسدة والعقائد الزائغة، والتربية المفيدة، ونحو ذلك مما أرشدت إليه إجمالاً، ولم يتسع معها الزمان لتفصيله، ولهذا يقول قرّاء (المنار) : إنه لم توجد قبله جريدة في موضوعه، وقد اعترف لنا الكتاب المسلمون والمسيحيون، ومن هؤلاء أصحاب (المقتطف) و (المقطم) وصاحب (الأهرام) وصاحب (الهلال) بأننا تصدينا لخدمة نافعة، ولكن أصحاب (المقطم) كانوا يقولون لنا: إن في طريق هذه الخدمة خطرًا عظيمًا، وهو مقاومة أوربا للمسلمين إذا هم حاولوا الترقي من وجهة الدين، وقد كاشف برأيه هذا بعضُ أكابر علماء الإسلام العارفين بالسياسة منذ بضعة أشهر، فراجعه العالمُ القول، وكتب يومئذ صورة المذاكرة في (الأهرام) واجتمع به كاتب هذه السطور بعد ذلك، وكنت في صحبة الأستاذ صاحب (المؤيد) ففتح باب المذاكرة في المسألة، وكان الكلام مشتركًا، ولم نتفق معه على نتيجة واحدة، أما صاحب (الهلال) فإننا لم نر منه إلا استحسانًا وتحبيذًا، وإبانة عن اعتقاد أن هذه الخطة لا أنفع منها للمسلمين، ومثله كتاب (دائرة المعارف) وغيرهما من أفاضل المسيحيين المنصفين، وفي هذه السنة كثرت الكتابة في تنبيه المسلمين، فنشر (المؤيد) كثيرًا من المقالات لكتاب من المسلمين في الشرق والغرب، ومنهم الفقير منشئ هذه المجلة، وبعض تلك المقالات عُرِّب من جريدة (محمدان) الهندية، وكتبت مجلة (الموسوعات) أيضًا عدة مقالات لكتاب متعددين، ورأينا في جريدة (زمان) التركية التي تصدر في قبرص مقالات تحت عنوان (الاتحاد الإسلامي) ولم نظفر بمن يعرّبها لنا، وسرى السر من الجرائد المصرية إلى جريدة (معلومات) العربية في الآستانة العلية، وإلى جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت، فَكُتِبَ فيهما مقالات كثيرة في الموضوع، ولو سمحت لهما حكومة البلاد لتوسعا في الكتابة، ثم أصاب الرشاش غيرهما من الجرائد الإسلامية في الديار السورية، أما الجرائد الهندية فكثير ما كتبت، وقد ترجم بعضها كثيرًا من مقالات (المنار) ، وكذلك جريدة (الحاضرة) التونسية. والحاصل أن أكثر الجرائد الإسلامية قد خاضت في مسألة الاجتماع الإسلامي من نحو سنة أو أكثر، ولم تكن تذكر قبل ذلك إلا نادرًا على ما علمت من صدر هذه المقالة، وفي هذين الأسبوعين كتب فيها (الأهرام) بعنوان (الجامعة الإسلامية) ثم كتب (المقطم) وناقشهما (المؤيد) فيما كتبا، هذا ملخص تاريخ الكلام في هذه المسألة بحسب ما وصل إليه علمنا. وبلغنا أن رجلاً عظيمًا من فضلاء مسلمي القريم في بلاد روسيا اسمه إسماعيل بك، قد أنشأ جريدة سمّاها (ترجمان) جعل جُل مباحثها في الشؤون الإسلامية، وأنشأ مدرستين لتربية أبناء المسلمين، وتعليمهم في تلك البلاد، ولم نقف على شيء من أعماله، ولكن رائحته العطرية تدل على أن عمله عظيم. أما الطرائق التي بحث فيها الكتاب فهي كثيرة، ولم تنجلِ للناس الطريقة المثلى بقول أحد، إذ ما من قول إلا وله وجه يعتمد عليه قائله، وما من شبهة على فساد رأي إلا ولصاحبها تكأة يستند عليها في تقويتها، والأمر في نفسه أكبر من كل هؤلاء الكتاب، وكيف لا وهو ترقية أمة يبلغ عددها ثلاثمائة مليون من النفوس، يتبوأُون كل قطر، وينطقون بكل لغة، وحكامهم من أنفسهم ضعفاء، ومن الأجانب عنهم أقوياء، وأضعفهم هذا الفقير قد اشتغل بدراسة هذه المسألة بضع سنين، وهو في كل يوم يزداد بها علمًا لم يكن عنده، ويزيح جهلاً كان يغشاه، إن لم يكن في أصولها وقواعدها، ففي جزئياتها وشواردها، وما يقف عليه الإنسان في سنين، لا يمكن أن يجليه لمن لم يقف عليه في مقالة أو عشر مقالات (مثلاً) بحيث يؤدي إليه فكره ووجدانه تامّين بتلك المقالات، ولكن الميزان الذي يجب أن نزن به الأقوال والآراء لنعلم النافع منها والغير النافع، هو أن ننظر فيما يعرض علينا، فما كان منها مقومًا لفكر، ومصححًا لرأي أو اعتقاد، فهو نافع، وما كان منها مرشدًا إلى عمل مفيد ممكن، فهو نافع، وما عدا هذين النوعين، فهو إما خيالات وأوهام، وإما غش وتغرير، وأقل ضرر فيه أنه حجاب على وجه الحقيقة، وتعليل للآمال بما لا ينال، وإزاغة للقلوب عن صراط الحق، ومن انحرف عن الصراط المستقيم فهو يزداد بعدًا عن الغاية كلما جد في السير، وأي خذلان أكبر من كون سعي المرء واجتهاده مبعدًا له عن غايته ومراده، لا يعرف الحق بقائله وكونه صديقًا أو عدوًّا، ولا بكونه يستلزم تعظيم كبير ومرضاته، أو عدم ذلك، وإنما يعرف الحق بذاته، فمن رعى هذا حق رعايته، رجي له ا

استنهاض همم ـ 15

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ استنهاض همم (15) ليس الشأن كل الشأن في استقلال الأمة الإداري ومستقبلها السياسي فقط، فإن هذا وإن كان مطمح كل قبيل، وضالة ينشدها كل شعب، وغاية تتزاحم في الإشراف عليها الأمم، لكن وراءه مزية دونها كل المزايا، نسبة تلك المزية إلى الأمة كنسبة الحياة للشخص، هل يقوم المرء بدون حياة؟ فكذا الأمة لا تقوم بدون تلك المزية، إذا تقلصت الحياة عن هيكل الشخص عاد جمادًا، أو كان الجماد خيرًا منه، الجماد يقاوي الفواعل الطبيعية ويصابرها، أما الشخص بعد زوال حياته فلا بقاء له، بل تتلاعب به تلك الفواعل، وتحلل عناصره، وتمحو وجوده، كذلك الأمة إذا فقدت تلك المزية، تسلط عليها الفناء، وانغمست بالعدم، إذا نفث المرء روحه [1] لا يلبث حتى تتحلل دقائق جسمه، وتتفرق عناصرها، فيتناولها ما أحاط به من المكونات، وتدخل في بُنى (جمع بنية) الأجسام الأخرى، وهذا شأن الأمة إذا زايلتها تلك المزية، انفصمت عُرى هيئتها، وعادت أفرادًا متبددة تدخل في تراكيب بقية المجتمعات البشرية، وتتحد بعناصر الفاتحين والمتغلبين، وتلتحم بأجناسهم، مزية هذا شأنها لا تعذر الأمة إذا تهاملت في احتفاظها وتواكلت في توفيرها والذبّ عنها. أي شخص لا يستميت في الذب عن حياته؟ أي شخص لا يستبسل في الدفاع عن روحه؟ من يرى شخصًا يعرض نفسه للتهلكة ويخاطر بحياته، ولا يحكم بأنه مختلط، أو لا يسجل عليه بالجنون؟ لا جرم أن استقلال الأمة الجنسي هو حياتها، وبدونه لم تكن الأمة أمة. الاستقلال الجنسي مناطه اللغة والدين، فكل أمة حافظت على لغتها، واستمسكت بدينها، كان لها أن تأمن على جنسيتها من الضياع، وكل أمة عرضت لغتها للزوال، ودينها للابتذال، فبشِّرها بانطفاء على جنسيتها قليلاً قليلاً، وانغماسها في غمار الأمم شيئًا فشيئًا، الاستقلال السياسي هو أن تحكم الأمة نفسها بنفسها، والاستقلال الجنسي هو أن تحافظ على لغتها ودينها، إذا فقد القبيل استقلاله السياسي كأهالي الجزائر مثلاً، كان عليه أن يصون استقلاله الجنسي، وإلا لم يمض عليه قرون حتى يتحول جنسه إلى جنس الأمة الغالبة، ويدغم فيها، ويسبك معها في قالب واحد. لتجتهد الأمة المغلوبة في تنمية جنسها وتقوية حياته، كي لا ينفعل بفعل جنس الأمة الغالبة، ويتضاءل أمام مساورته ومغالبته فيتحول إليه ويمتزج بعناصره ويدخل في تكوينه، إذا سدك الحيوان (لبث ولزم) بأرض ملاحة، وافترش معدنها الملحي زمنًا طويلاً تبقى له هيئته الحيوانية ما دامت فيه حياة، فإذا زالت حياته يقوى حينئذ عنصر الملح على جسمه، ويغلب على مواده وعناصره، ويحول كل ذلك إلى عنصره الملحي، ويصير ذلك الحيوان جرمًا معدنيًّا بعد أن كان جسمًا آليًّا، هذا أجلى مثال نضربه للأمة التي تحافظ على جنسها، والأمة التي تهمل ذلك أو تقصر فيه. إذا تغلبت أمة على أخرى وابتزت استقلالها السياسي وملكت عليها أمرها، كانت كمن استرق الآخر وحجر عليه، أما إذا عملت في ضعضعة دينها، واستئصال لغتها لتتوصل بذلك إلى محو جنسيتها، كانت كمن يقتل الآخر ويسلبه حياته، إذا فرط المرء بحريته. وتوانى في صيانتها حتى اختلسها العدو واستعبدها، فالأحجى به حينئذ أن يجدَّ في حفظ حياته وتنمية قوامها، لعلّه يتوصل به يومًا ما لاسترداد حريته ومعاودة استقلاله، وما أشد حمقه لو فرّط في الحياة أيضًا، ومكن العدو من الصيال عليها وإعفاء أثرها، إذا زالت حياة الإنسان لا يمكنه استرجاعها، بله استرجاع حريته. لا جرم أن يكون مَثَل الأمة التي تتوانى في حفظ جنسيتها، كمَثَل ذلك الأحمق الذي يلقي بنفسه في الهلكة، ويعرض حياته للخطر. وبالجملة يجب على الأمة صيانة جنسيتها وبذل أقصى الجهد في مقاومة المتعرض لثلمها، كما يجب على الشخص أن يتذرع بكل ما لديه من الوسائل لحفظ حياته، ولو ببذل حياته، نعم، إن الكريم يموت حرًّا، ولا يموت صبرًا. وإذا لم يكن من الموت بُدّ ... فمن العجز أن تموت جبانًا الفرنسويون في الإلزاس واللورين يغلون غلوًّا كبيرًا في حفظ جنسيتهم الفرنسوية، كما هو شنشنة الألمانيين في البلاد النمسوية، مع أن وراء كل قبيل منهما أمة موطدة الأركان، ودولة مشيدة البنيان، تعمل كل من تينك الأمتين في تأييد جنسيتها، وإلباس ردائها لكل من تصل إليه يدها، فكم هو خليق بالمسلمين أن يجتهدوا في حفظ جنسيتهم، ويعملوا في توثيق عُرى دينهم، وتمديد سرادقات لغتهم وليس لهم من الحكومات حكومة ثابتة الأساس، عاملة على نشر الدين وحمايته، وصيانة اللغة العربية من الضياع والاضمحلال، لعمري إن أوجب ما يجب عليهم أن يتفانوا في صيانة جنسيتهم، ويتقحموا المخاطر في سبيل حفظ دينهم ولغتهم، وإلا غشيتهم من الطمطمانية ظلم، وتلاطمت فوقهم أمواج العدو، والعياذ بالله. فرنسويو الإلزاس واللورين لو أُكرهوا على التجرد من الجنسية الفرنسوية، والاصطباغ بالصبغة الألمانية، لاستحبوا الموت، وتجرعوا كأسه دون ما أُكرهوا عليه، مع أنهم لو تجلببوا بالجنسية الألمانية، كان لهم بعض التسلية والعزاء؛ لأنهم يعلمون أن الجنسية الفرنسوية لها رجال على ضفاف السين يخدمونها خدمة العبد الأمين لسيده، يعلمون أن الجنسية الفرنسوية تتألق شمسها في ربوع فرنسا تألق شمس الضحى في سمائها لا يعتري تلك أفول أو تكور هذه، وتنسلخ عن أضوائها، يعلمون أن الجنسية الفرنسوية تنبعث أشعتها من فرنسا، وتمتد إلى كثير من أطراف المعمور، وتخلل في ظلمات أفريقيا الغربية، يعتقدون أنها عمّا قليل تحول ليلها نهارًا، وغياهبها أنوارًا. هذا شأن القول في الحمس الوطني، والغيرة على الجنس، تُرى ماذا يجب أن يكون شأن أحد الشعوب الإسلامية لو عدا عادٍ على جنسيته، وحاول مسّها والعبث بها؟ أما يجب عليه أن يلتهب ويتبخر تأمور قلبه (دمه) حمية في الدفاع عنها، وصيانة استقلالها، وهو يعلم أن كل قبيل من بين جنسه معرض مثله لضياع الجنس وفساد اللغة، وليس ثمة دولة حية تعمل في تنمية الحياة الإسلامية وتقوية جنسيتها الدينية واللغوية. فقد تبين للسائل الآن أن العمل والجد في الإصلاح لا مندوحة عنه، ولا هوادة فيه، وهو واجب متعين على كل من له قدرة على العمل، سواء سلم للأمة استقلالها السياسي والإداري، أو لم يسلم لها شيء من ذلك، كما في البلاد التي ملك عليها أمرها الأجنبي، فكل جماعات الأمة يلزمها النظر في الإصلاح؛ لتحفظ جنسها، وتصون دينها؛ كي يتسنى لها فيما بعد التفلت من أحبولة الاستعمار، والانطلاق من مطمورة الرق والعبودية. ((يتبع بمقال تالٍ))

حقوق الجار ومدح المنار بما يبديه من هدي الكبار

الكاتب: محمد محمود الشنقيطي

_ حقوق الجار ومدح المنار بما يبديه من هدي الكبار تفضل علينا إمام لغة العرب، ومرجع أهل العلم والأدب، الأستاذ محمد محمود الشنقيطي بقصيدة بدوية في أسلوبها، إرشادية في موضوعها، يقرظ بها (المنار) فنشرناها خلافًا لعادتنا لأننا نرى رضاء مثل هذا الأستاذ عن عملنا من موجبات الفخر لنا والشكر له، وما كان لنا أن نمنعه حق شكرنا له؛ لأن فيه فخرًا بشكره لنا (وهذه هي) : (بسم الله الرحمن الرحيم) (الحمد لله تعالى وحده) (حقوق الجار، ومدح (المنار) بما يبديه من هدي الكبار) ألا قف بالديار وقوف دار ... حقوق الجار محترم الجوار وغادر ظلمه ما دمت حيًّا ... وبادر نصره حق البدار وعظم قدره سرًّا وجهرًا ... تحُز فخر الملا يوم الفخار تذكر قولي الحربي صخر ... وجار أبي دواد للمجار تجد قوليهما حكمًا وعلمًا ... مفيدًا للكبار وللصغار وإن تعمل بما قالاه تفلح ... وتندب في الورى يا خير جار وإن جهِل السفيه حقوق جار ... وسيم الخسف من غاوٍ وزار فعلمي الجار محمي حماه ... كجار الدار محفوظ الوقار فجار الدار أجعله دثاري ... وجار العلم أجعله شعاري وكل منهما عندي منيع ... بمنزلة الرداء مع الإزار فجار الدار أمنع باختياري ... وجار العلم أمنع باضطرار غذاء الروح علمي طول عمري ... أجوب له البحار مع البراري أؤم العرب ثم العجم فردًا ... لضبط العلم ليلي مع نهاري وطبع الحر منع الجار دأبًا ... وردع تحوت أوغاد شِرار فدع عنك التحوت [1] وعد عنهم ... ووثق وصل حبلك بالخيار أشاقك بالغميّم ضوء نار ... أم الضوء المضيء من (المنار) فما نار الغميم شوقتني ... ونجل الريب شاقت وهو سار وشاقت قبله الشماخ ليلاً ... على بعد المسافة والمزار ولكن (المنار) حوى اشتياقي ... لما يبديه من هدي الكبار منار هداية للدين يعلو ... مكان النيرات من الدراري على التقوى يحض بلين قول ... وصد المفسدين عن الضرار يحض على اتباع الشرع نصحًا أولي الألباب من كأس وعار ويحمي حوزة العلم احتسابًا ... حماية ضيغم شبليه ضار يؤيد بالدليل عليم صدق ... يسفهه السفيه أخو الصغار يدل التاركين سدى هداهم ... على سبل النجاة من التبار وينكر منكرات صرن عرفًا ... تباشر في البراز بلا تواري فمنشئه (الرشيد) أحل قومًا ... عمين عن الهدى دار القرار ولن يرضى (رضى) أفعال قوم ... أحلوا قومهم دار البوار وأنشد في هداه وفي عماهم ... من الأشعار مطرب كل قاري إذا ازداد العمون عمى عرفتم ... هدى الإسلام واضحة (المنار)

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (المؤيد) مضى على (المنار) زمن لا يفتح فيه باب التقريظ، حتى كثر علينا ما يلزمنا تقريظه، فنفتح الباب في هذا العدد بتهنئة صديقنا الفاضل الأستاذ الشيخ علي يوسف صاحب (المؤيد) الأغر بتوسيع دائرة جريدته السابقة جميع الجرائد العربية في ميدان الانتشار؛ فإنه قد جعل صفحاتها 8 فزادت فوائدها السياسية والأدبية والتجارية، وإنا لنرجو له فوق ذلك مظهرًا. (مجلة الجامعة العثمانية) علمنا من العدد الأخير الذي صدر من هذا المجلة المفيدة أنها ناجحة نجاحًا حمل أصحابها على زيادة صفحاتها، بأن تجعل 40 بدلاً من 30، ولكن بحجم أصغر من حجمها الحاضر الذي تكاثرت شكوى القراء منه، وقد عزموا على زيادة أبوابها وأبحاثها وإتقان رسومها على إبقاء قيمة الاشتراك على حالها، فنهنئ صديقنا منشئ هذه المجلة بنجاحه السريع، ونتمنى له زيادة الإقبال.

الإسلام في البرازيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام في البرازيل ذكرت جريدة (بيروت) الغرّاء خبر القريتين اللتين أسلم أهلهما في الهند، ثم قالت: اجتمعنا بأحد مواطنينا المسيحيين القادمين من البرازيل، فأخذنا معه بأطراف الحديث، وتنقلنا من القديم إلى الحديث، ودار بيننا الكلام على أحوال تلك البلاد، وعادات أهلها، وما هم عليه من السذاجة والبساطة، إلى غير ذلك، ففهمنا منه أن في مدينة ريوجانيرو عاصمة البرازيل قومًا من المسلمين النازحين إلى تلك الديار منذ قرون متطاولة، وأصل هؤلاء القوم - على ما يقولون - من أفريقيا، وقد امتزجوا بالأهالي امتزاجًا عظيمًا، وعلى كر السنين والأعوام قد نسوا لغتهم الإفريقية، واستعاضوا عنها بلغة البلاد، فكان من نتيجة ذلك أنهم نسوا أيضًا قواعد دينهم، إذ لم يتسنَّ لهم المحافظة عليها باللغة البرازيلية. ومع ذلك فهم لم يزالوا مسلمين ينطقون بالشهادتين مع التحريف في لفظهما، مما دل على أنهم لبثوا محافظين على دين أجدادهم، قال: وفي داخلية البرازيل ألوف كثيرة من هؤلاء المسلمين، وأكثرهم مزارعون. وكان الدون بدرو إمبراطورالبرازيل منعهم عن الاسترقاق والاتجار بالعبيد، فامتنعوا، ولكنهم اتبعوا فيه الكيفية التي كانت من عهد غير بعيد مألوفة في روسيا، وهي أن صاحب المزرعة أو القرية إذا أراد بيعها، باعها بما فيها من الماشية والأهالي، فيصبحون كلهم طوع أمر الشاري وفي خدمته، يشتغلون بالأمور الزراعية في مقابل العيش الذي به يتبلغون، أما محاصيل تلك القرية فكلها لسيدهم. قال: وقد سمعت مرة صاحبًا لي من هؤلاء المسلمين يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) قالها بتحريف كثير؛ لأن اللغة المألوفة بينهم لا تساعدهم على لفظ الهاء والحاء، أما أنا فتعجبت جدًّا؛ لأني مكثت في البرازيل نحو سنتين لم أسمع في غضونهما كلمة الشهادة، ولا كنت أعلم أن صاحبي هذا مسلم، فقلت له: وما علَّمَك هذا اللفظ؟ قال: ديني، قلت: وما دينك؟ قال: الإسلام والحمد لله، فما كدت أصدق منه ذلك، ولأجل أن أقف على حقيقة باطنه قلت مداعبًا: إن المسلمين لا ينفعون، فنهض للحال وقد احمرت عيناه، وارتجفت شفتاه، وظهرت ملامح الغضب على وجهه، وكاد يبطش بي لو كان على يقين أن الحكومة لا تقتص منه، فلما رأيته على هذه الحال لاطفته، وأفهمته أن بلادنا بلادٌ إسلامية، وأننا عائشون مع المسلمين على غاية المحبة والولاء، وأني لم أقصد بما قلته له إلا مداعبته واختباره فيما إذا كان مسلمًا حقيقيًّا أم لا، فقال: الحمد لله على الإسلام، وأنت يا صاحبي مخير أن تهزل معي بما شئت، أما الدين فإياك إياك؛ لأنك تبيت عدوي، ثم تصافحنا وتصالحنا، وخرجنا إلى التنزه سوية. قال مخبرنا: وقد فهمت من صاحبي المسلم أن المسلمين كثيرون هناك، وأنهم لا يعرفون من الإسلام إلا الشهادتين، فلا جامع ولا معبد ولا صلاة، ولا ولا ... وما ذلك إلا لأنهم نبذوا لغتهم الأصلية، وتعلموا اللغة البرازيلية المشيدة على أركان المسيحية، ولذلك تراهم يسمون أولادهم بأسماء المسيحيين، وما عدا الشهادتين لم يحافظوا على شيء من سنن الإسلام، إلا سنة الختان، فهم يختنون أولادهم، ولكنهم لا يعلمون لأي شيء. هذا ما فهمنا من مخبرنا القادم من بلاد البرازيل، فلو كان لهؤلاء المسلمين علماء مبعوثون ينبثون بينهم، فيتعلمون لغتهم في بادئ الأمر، حتى إذا أحسنوها علَّموهم أصول الدين الحنيف، فلا يكاد يمضي ربع جيل حتى ينتشر الإسلام في جميع أنحاء أميركا. ولا يخفى أن تعليم هؤلاء القوم أركان دينهم، وأصول عقائدهم لِمَن أسهل الأمور التي يمكن تناولها؛ لأنه ظهر من كلام مخبرنا أن الغيرة على الدين لم تزل مستعرة في صدورهم، فإذا جاءهم العلماء والفقهاء أقبلوا عليهم إقبال الظمآن على ورود الماء؛ لأن أساس الدين الحنيف راسخ في صدورهم. وما أجدر الأغنياء من المسلمين بجمع الدراهم اللازمة؛ ليتسنى لهم إرسال المعلمين إلى هؤلاء القوم أولاً، ثم إلى وثنيي الهند الذين تكلمنا عنهم في الفصل السابق، فإنهم ولا شك يُقبلون على اعتناق الإسلام؛ لأنهم على درجة من الفهم والذكاء يميزون الغث من السمين، ويدركون حقائق الأشياء، فإذا وقفوا على مبادئ الدين الإسلامي البسيطة السهلة التي يقبلها العقل، وتشربها النفس، كان من المؤكد إقبالهم التدين به، والله الهادي إلى سبيل الرشاد. (انتهى)

الدين والدولة أو الخلافة والسلطنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدين والدولة أو الخلافة والسلطنة ارتأى بعض من كتب في (الجامعة الإسلامية) أن هذه الجامعة تتوقف على الفصل بين الدين والدولة، وبين الخلافة والسلطنة، بأن يكون الخليفة رئيسًا روحيًّا، والسلطان رئيسًا سياسيًّا لا علاقة له بالدين، واقترح أصحاب هذا الرأي من كتاب النصارى على كتاب المسلمين أن يكتبوا مبينين رأيهم فيه، وها نحن أولاء قد لبَّينا طلبهم، ونبدأ ببيان معاني هذه الألفاظ، فنقول: (الدين) عرَّفه علماء المسلمين بأنه وضع إلهي، سائق لذوي العقول باختيارهم إلى الصلاح في الحال والفلاح في المآل، وإن شئت قلت: إلى سعادتهم الدنيوية والأخروية. وقواعده عندهم ثلاث: تصحيح العقائد، وتهذيب الأخلاق، وإحسان الأعمال، والأعمال قسمان: عبادات، ومعاملات، ومن الثاني: الأحكام بأنواعها، قضائية ومدنية، وسياسية وحربية، ومن الناس من جعل الأحكام قسمًا مستقلاًّ بنفسه، ولا مشاحة في الاصطلاح، والدين عند النصارى هو - كما في دائرة المعارف - عبارة عن مجموع النواميس الضابطة لنسبة الإنسان إلى الله، أو يبين صفات لتك النسبة، وهو كما ترى لا علاقة له بالأمور الدنيوية، ولا بالأحكام والسلطة، ومن المشهور أن الديانة النصرانية مبنية على الخضوع لأية سلطة حكمت أصحابها، لِما في الإنجيل من أن سلطة الملوك إنما هي على الأجسام الفانية، وأن سلطة الدين على الأرواح فقط، فيجب على كل متبع لهذا الدين أن يدين لكل سلطة، ويذعن لكل شريعة حكمته، بخلاف الدين الإسلامي؛ فإنه مبني على السلطة والغلب، وأن يحكم العالم كله بشريعته، وإن لم يدينوا كلهم به، إذ لا سبيل إلى اتحاد النوع الإنساني وجعله أمة واحدة إلا بإحدى الوحدتين: وحدة الاعتقاد، ووحدة الحكم العادل الذي يساوي بين الجميع، وقد بيَّنا هذا في العدد الأسبق فلا نعيده، فيجب على المسلمين أن لا يدينوا إلا لمن كان على دينهم، وإذا حاول أجنبي العبث باستقلالهم، ودخل فاتح إلى بلادهم يتعين عليهم أن ينفروا خفافًا وثقالاً، ويقاتلوا نساءً ورجالاً حتى يدفعوا العدو، أو يفنوا عن آخرهم، بل يجب عليهم أن يسعوا في نشر دينهم، ورفع لواء سلطتهم حتى تزول الفتنة والشرك من الأرض، ويكون الناس أمة واحدة، تجمعها رابطة الاعتقاد الحق والحكم العادل، أوالثاني فقط كما قدمنا، وبهذا الأخير كان الإسلام لا إكراه فيه، ولا تنافي سلطته تقدم غير متبعيه، فضلاً عن إيذائهم وهضم حقوقهم {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) . (الدولة) لهذه الكلمة إطلاقان، فتطلق على سلسلة من الملوك تجمعهم أسرة واحدة أو جنس واحد، يحكمون مملكة من الممالك، يقال: دولة الأمويين، ودولة العباسيين والعثمانيين، كما يقال: دولة الفرس، ودولة الرومانيين، وتطلق على الحكومة والسلطة، فيقال: الدولة الفرنساوية، ويعني به حكومتها الحاضرة في مجموع بلادها، والحكومة في أصل اللغة: مصدر حَكَمَ، واسمٌ مِن تَحَكَّم بمعنى فصل الخصومة، وفي العرف عبارة عن السلطة ورجالها القائمين عليها. (الخلافة) هي في الشرع الإسلامي النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في حراسة الدين وسياسة الدنيا، فهي جامعة للرئاستين معًا، ويجب تفويض الأمور العامة إلى الخليفة، ولا تصح الأحكام في السعة إلا إذا كانت صادرة عنه مباشرة، أو بواسطة نوابه، قال في الأحكام السلطانية: والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء: (أحدها) حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة؛ فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة، وبين له الصواب، وأخذه بما يلزم من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل. (الثاني) تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم. (الثالث) حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال، و (الرابع) إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك. و (الخامس) تحصين الثغور بالعُدَّة المانعة والقوة الدافعة، حتى لا تظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا، و (السادس) جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يُسلم، أو يدخل في الذمة؛ ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله، و (السابع) جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا واجتهادًا من غير خوف ولا عسف، و (الثامن) تقدير العطايا، وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير، و (التاسع) استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة، و (العاشر) أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعوّل على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وقد قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (ص: 26) فلم يقتصر الله سبحانه على التفويض دون المباشرة، ولا عَذَره في اتباع الهوى، حتى وصفه بالضلال، وهذا وإن كان مستحقًّا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة، فهو من حقوق السياسة لكل مسترعٍ (لعله مسترعى) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته) . اهـ، فهذه وظائف الخلافة بالإجمال. (السلطنة) كلمة أخذها المولدون من لفظ (سلطان) ويعنون بها الدولة أو الحكومة، يسمى حاكمها الأكبر سلطانًا، ولم يطلق لقب السلطان على أحد من خلفاء الأمويين والفاطميين والعباسيين، وإنما حدث هذا اللقب في طور ضعف الخلافة العباسية الذي كان من أثره افتئات العمال في الأقاليم على الخلفاء، واستبدادهم بالأمر من دونهم، واختراع الألقاب الضخمة وتحليهم بها، ثم جعل الخلافة اسمًا مهملاً، ليس لأربابها من الأمر شيء، إلا نحو ذكر أسمائهم في الخطب، وما هو بالأمر المهم في الدين ولا في الدنيا، وكان من تلك الألقاب الضخمة التي تلقب بها العمال والأمراء الذين استبدوا على الخلفاء لقب (سلطان) وأول من تلقب به الأمراء المستقلين في عهد الخلافة العباسية محمود بن سبكتكين الغزنوي الفاتح الشهير في القرن الرابع للهجرة الشريفة. مَن تدبر ما شرحناه من معاني هذه الكلمات الأربع يتجلى له أن الدين الإسلامي جامع لمصالح المعاش والمعاد، ومبني على أساس السلطتين الزمنية والروحية، وأن الديانة النصرانية على خلاف ذلك، وأن الخليفة هو رئيس المسلمين القائم على مصالحهم الدينية والدنيوية، وأن كل حكومة تخرج عن طاعته الشرعية فهي منحرفة عن صراط الإسلام، وأن القول بفصل الحكومة والدولة عن الدين هو قول بوجوب محو السلطة الإسلامية من الكون، ونسخ الشريعة الإسلامية من الوجود، وخضوع المسلمين إلى من ليس على صراط دينهم ممن يسمونهم فاسقين وظالمين وكافرين؛ فإن القرآن العزيز الذي هو أساس الدين يقرع دائمًا آذانهم، بل يناديهم من أعماق قلوبهم قائلاً بلسان عربي مبين {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) . إذا تمهد هذا، فنقول للذين يدعوننا إلى فصل الدين عن الدولة، والتفريق بين السلطة والخلافة لأجل تأييد (الجامعة الإسلامية) إن كنتم تدعوننا هذه الدعوة جاهلين بمعنى هذه الألفاظ عندنا، فها نحن أولاء قد بيناها لكم فارجعوا عن دعوتكم، فقد علمتم أن قياس الإسلام على النصرانية قياس مع الفارق؛ فإن فصل السلطة الروحية عن السلطة الزمنية هو أصل النصرانية، وقد كان رؤساء الدين تعدوا الحدود، وتسلقوا عروش السلاطين والملوك، مخالفين لصاحب الدين الذي: قد جاء لا سيف ولا رمح ولا ... فرس ولا شيء يباع بدرهم يأوي المغارة مثل راعي الضأن لا ... راعي الممالك في السرير الأعظم فلا بدع إذا ترقّى الدين بانصراف رؤسائه إلى خدمته، وتركهم الاشتغال بما ليس منه في شيء. ونحن والنصارى في هذا الأمر على طرفي نقيض؛ فإننا إذا تَلَوْنَا تِلْوَهُم فيه نكون قد تركنا نصف ديننا الذي هو السياج الحافظ للنصف الباقي، كلا إن الدين كله يكون بهذا العمل عرضة للاضمحلال، ومهددًا بالزوال، لا جرم أن ما تدعوننا إليه هو أقرب طريق لإعدام (الجامعة الإسلامية) فكيف جعلتموه طريق إيجادها وهو أقوى علل شقائها، فأني يقنعوننا بأنه علة إسعادها؟ وإن كنتم تدعوننا إليه عن بينة وعلم، ووقوف على حقيقة الحكم، خدمة لمن فُتِنْتم بمدنيتهم، واتصلتم بهم بجاذبية تعليمهم وتربيتهم - فاعلموا أن العلة لم تهبط بنا إلى هذا الحضيض الذي يقال فيه: (حال الجريض دون القريض) وأن الجهالة ما امتلخت أحلامنا وأزاغت أبصارنا، ولا رمتنا بالأفن وضيق العطن، بحيث صِرنا نختبل بهذه الوساوس، ونختلب بتلك الهواجس، أو ننخدع لذي (خواطر خواطر) ونغتر بكلام مارق غادريصف نفسه بأنه (مسلم حر الأفكار) وما جاءت حريته إلا من رق الكفار، فإن كان اتخذ لقب المسلم ذريعة لهدم منار الشريعة فكأين من منتسب مثله للإسلام ينتهك حرماته بالفعل لا بالكلام، ويساعد الأجانب على نقض أساسه وإطفاء نبراسه متبجحًا، بأنه من الأحرار المتمدنين، البرآء من لوث التعصب للدين. ربما كان الحامل لبعض الكتاب المسيحيين على اقتراح ما ذُكِرَ هو اعتقادهم بأن زوال السلطة الشرعية الإسلامية هو الذي يساوي بين طائفتهم وبين المسلمين، ويخمد نيران الغلو في التعصب، فيتفقون على إعلاء شأن الوطن، ويخدم كل دينه من الوجهة الروحية التي لا مثار فيها للتنافر ولا مبعث للتنافس والتفاخر. ويسهل علينا أن نبين لهم خطأهم في اعتقادهم هذا فنقول: (1) إن بناء الشريعة الإسلامية قام على قاعدة العدالة والمساواة بين المسلمين وغيرهم في الأحكام والحقوق المعبر عنها بهذه الجملة التي يتناقلها الإسلام خلفًا عن سلف، وهي (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وقد دلنا التاريخ على أن الحكومات الإسلامية كانت تراعي هذه القاعدة بحسب تمسكها بالدين قوة وضعفًا ومن قابل بين مساواة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام عليًّا صهر النبي وربيبه، وابن عمه، برجل من آحاد اليهود في المحاكمة، وانتقاد علي عليه بقوله له: (يا أبا الحسن) وعده التكنية إخلالاً بالمساواة لما فيها من التعظيم، وبين ما هو جارٍ اليوم في فرنسا من التحامل على دريفوس وهو من أكابر عظماء اليهود، حتى إنهم حاولوا قتل وكيله الذي يحامي عنه، وهم أصحاب العلم الذي ينطق بالحرية والعدالة والمساواة - يظهر له الفرق بين المسلمين في بدايتهم والأوروبيين في نهاية مدنيتهم. فالشريعة في نفسها عادلة، و

كان يا ما كان ـ 6

الكاتب: عمر خيري أفندي زغلول

_ كان يا ما كان (6) ثم هبطت السيارة السادسة، وكانت كانسة آنسة، فنادت: يأيها الناس المتجرعون كؤوس الكدر والابتئاس، إلام تصبرون على هذه الحياة المرة، هلموا أبعكم (الصفاء والمسرة) فأقبلوا إليها يزفون، كأنهم إلى نصب يوفضون، عازمون على انتهاب ما لديها، واغتصاب ما في يديها، شفاءً لغيظهم من صواحبها اللائي كن شبيهات بها، وقد كُن يعرضن بضاعتهن على من لا يشتريها، ويمنعنها من الراغبين فيها، وما بعُد العهد ببائعة الشرف والجاه، وأسباب المفاخرة والمباهاة، وارتأوا أن يُغروا بها الصبيان والمجانين ليختلسوا متاعها الثمين، فاجتذبوا منها الصندوق، وهم ممن لا يطالب بهضم الحقوق، فوقع بين أيديهم فانكسر، وتفرقت البضاعة شذر مذر، فطفقوا يتلقطونها، وحالوا بين الناس وبينها، فأخذوها إسرارفًا وبدارًا , ولم يتركوا لسائر الناس إلا أسارًا، ومن ذلك الآن صار الصفاء والسرور من نصيب المجانين والولدان، وأما تلك البقية فقد تفرقت في جميع البرية، فأصاب كل عروسين منها وشل يتمتعان به في شهر العسل، ثم تعود إليهم الأكدار؛ فيتجرعون كؤوسها إلى منتهى الأعمار , ولا يصيب غير هؤلاء من السرور إلا فلتات، ولا يصفو لهم العيش إلا في لمحات، وأما عامة الأوقات فهي أكدار وحسرات، وأهنأهم عيشًا مَن يمر عليه معظم الزمان مِن غير سرور ولا أحزان، ولا يغرنك ما تشاهده في كثير من المعاهد من غناء وعزف ورقص وقصف، وضحك وغناء، وتصدية ومكاء، فالغم أكثر حروف النغم، والطير يرقص مذبوحًا من الألم، والسبب في هذه المظاهر التي تخدع الناظر أن ما يجلب المسرة والصفاء أمسى مجهولاً عند الدهماء، إذ لم يؤخذ هذا الشيء من معدنه، ولم يشتر بثمنه، ولما بصروا بالولدان والمجانين فرحين في الأغلب ومسرورين، ظنوا أن العقول والأفكار، التي هي تجلب الأحزان والأكدار، فأنشأوا يطفئون نور العقل والفكر، بما يريقونه من أكواب الخمر، ويتغلبون على قوة الأفكار، بتلاحين الغناء ونغمات الأوتار، وما يتبع ذلك مما هنالك، وهيهات أن يظفروا بالمسرة الحقيقية، إلا بتنظيم حال الهيئة الاجتماعية؛ فإن الحالة العامة تؤثر في الأفراد، وهيهات أن يوجد في الأمة الشقية عاقل يهنأ بالإسعاد. ولو سئلت السيارة عن الثمن، لما تعدى طلبها هذا الأمر الحسن. ولما كان ما كان، من أمر المجانين والصبيان، فرت وهم مشغولون بالانتهاب راضية من الغيمة بالإياب، فلقيت في طريقها السيارة السابعة، التي جاءت لبيع الثروة الواسعة، فسألت كل منهما الأخرى عن رحلتها، وبيان نتيجة تجارتها، فكان مما قالت السابعة: إنني جئت هذه العاصمة الواسعة، وما كدت أذكر اسم بضاعتي الثمينة، حتى أقبل علىّ كل من سمع الخبر في المدينة - يعدون سراعًا، فُرادى وأوزاعًا - يتساءلون: ما هي ثروة هذه الغنية؟ وهل هي ذهبية أم فضية؟ وهل تهبها أم تقرضها لطالبها؟ أم جاءت لتدينها وتربيها؟ فقلت لهم: أيها الناس، عداكم الشك والالتباس، إن الهبة تفنى، والرباء يُفني، والقرض بالمماثلة لا يثمر ولا يغني، وإنما جئت لأبيعكم الثروة الحقيقية، بالدلالة على منابعها الأصلية، وتلقينكم علم الاقتصاد الذي هو أساس الإسعاد، ومن لم يعمل بمسائل هذا العلم النافعة، لا يكون صاحب ثروة واسعة؛ لأن الإسراف والتبذير، يُذهب المال الكثير في الزمن القصير، فقالوا: إننا لا نفقه كثيرًا مما تقول، ويوشك أن يكون عقلها مخبول، ولو أنها علمتنا حل الرموز لفتح الكنوز وأسرار الأرصاد والطلسمات، لاستخراج الخبايا العاديات، لأنالتنا المُنى، وحبتنا بالثروة والغنى، ولو أطلعتنا من علم الكيمياء على حقيقة الإكسير، لتحويل المعادن إلى الذهب النضير، لكانت الفائدة أتم والسعادة أعم، فقلت لهم: إن هذا هذيان مبين، وخرافات من أساطير الأولين، فقالوا: إنها تسفه أحلامنا، وتحقر أسلافنا، فهلموا بنا نوقع بها، ونعاقبها على سوء أدبها، فخِفْتُ أن يبطشوا بي طعنًا وضربًا فوليت منهم فرارًا وملئت منهم رعبًا، ولولا المبادرة بالفرار، لتأخرت عنك يا أختي في التسيار. ثم إنهما صعدتا إلى السماوات، واجتمعتا بسائر السيارات، وذهبن جميعًا إلى جوبيتبر رئيس الآلهة الكبير - بحسب ما كان يعتقد في ذلك الزمان من خرافات اليونان - فقصصن عليه ما لقينه من البشر، من إعراضهن عن النفع واختيارهن الضرر، بسبب الجهالة الغالبة، والتقاليد الباطلة الكاذبة، فتولاه الغضب الشديد، حيث لم يتم له ما يريد، وشمت به نبتون وبلوطون، وقالوا له: ألم نقل لك إن هذا لا يكون؟ فسكت واجمًا، وانثنى كاظمًا، ولا غرو فإن نوع الإنسان، لا يسعد إلا بالعلم المؤيد بالبرهان، الذي يشهد له الحس، ولا يكذبه الامتحان. (تمت الأسطورة الحكمية) أقول: إنني عندما كتبت النبذة الأولى منها مستندًا إلى الأصل التركي، كنت لم أقرأ الأسطورة كلها، وبعد ما قرأتها وجدت أكثر كلامها لغوًا، فأنشأتها خلقًا جديدًا، فقد كانت عشر صفحات، حذفنا الكثير منها لأنه هذيان، وجعلناها في قالب مقبول، تنتشي به العقول، ومَن عَلِم أن صاحب الأصل كتب في السيارة التي تبيع الشرف والجاه نحو خمسة أسطر فقط، وفي السيارة التي تبيع الغنى والثروة مثل ذلك، وملخص ما كتبه: إن الناس نهبوا من السيارتين الوسامات وملابس التشريفات والنقود والثروة، مَن عَلِم هذا يتجلى له معنى التصرف الذي ذكرناه أولاً، وأرجو أن لا يكون هذا الأسلوب حجابًا على وجه النصائح التي تضمنتها الأسطورة {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .

خاتمة رسالة استنهاض همم

الكاتب: أحد الكتاب من سوريا

_ خاتمة رسالة استنهاض همم هذا هو حديثنا بالأمس، جلوناه على منصة (المنار) الأغر، وضممناه إلى ما يكتب فيه من قلم منشئه، صديقنا الفاضل، ورَفَعْنَا صوتنا على ذروته مع أصوات أولئك الكتبة الأكارم الذين يلقون إليه بمنشآتهم، ويتخذونه منبرًا لإبلاغ خطبهم وعظاتهم، ولا أكتم القراء أني لم أقتصر فيما كتبته على مجرد الحديث الذي دار بيننا، بل أضفت إليه ما كان يسنح في الخاطر، ويهجس في النفس أثناء كتابته، وزدت فيه بعض أمور يتطلبها المقام، وشيئًا من الشواهد التي توضح خفايا الكلام، وقد أتيت على ذكر معظم الأخطار التي تحدق بالشعوب الإسلامية، والمهاوي التي يُخشى أن يواقعوها، ولم آلُ جهدًا في التحذير، وإمحاض النصح، واستنهاض الهمم؛ لملاقاة الخلل والفساد الذي لصق بنفوسنا، ولابَسَ أعمالنا، صرحت بذلك في بعض المواطن، وفضلت التلميح والتعريض في مواطن أخر. وليس من رأينا ما يراه البعض من وجوب كتم مساوي الأمة، وإخفاء عللها وأمراضها، صونًا لحرمتها عن الابتذال، وكرامتها من الامتهان، وذهابًا إلى أن في الإشادة (رفع صوت والإعلان) بالتشنيع عليها، وتشهير عوراتها، واللهج بسوء حالتها، ووخامة عاقبة توانيها - توهينًا لعزائم آحادها، وتثبيطًا لهممهم، مع ما في ذلك من اطلاع العدو على ضعفها، والإشراف به على تراخي شؤونها، فيحدث له طمع فيها، ويتوسل بذلك للتسجيل عليها بالانحطاط الأدبي والتأخر المدني، وأن الطريقة المثلى في خدمة الأمة إنما هي التمويه والتأويل، والتخييل والتعليل، وإرخاء الحبال على الغوارب، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً. كذا يزعم البعض، ولا أراه إلا خطأ وغبانة (أي ضعفًا في الرأي) من يقول: إن الجهل المركب خير من الجهل البسيط؟ إن كان يقوله أحد فزعم الزاعم صحيح. من يقول: الأحسن في حق المريض الجاهل بفن (الهيجين) أن لا يخبر بمرضه ولا يعرَّف بدرجاته وتطوراته، ولا يحذر من عاقبة إهماله؟ إن كان يقول أحد فزعم الزاعم صحيح. من يقول: إن تربِيت [1] الغلام والبشاشة في وجهه عندما يقترف ذنبًا ويأتي منكرًا، هو الأفضل في تربيته وأقرب طريق لتقويم طباعه؟ إن كان يقوله أحد فزعم الزاعم صحيح. لا يقول بشيء من ذلك أحد فزعم الزاعم باطل. إن اهتمام عقلاء الأمة ونبهائها في إصلاح شؤون أمتهم، وتشخيص أمراضها، وتحديد درجات المرض، وتحذيرها مغبة التفريط في تناول العلاج، والاعتراف بأن هناك خللاً تجب مداركته، وصدعًا ينبغي شعبه، والإقرار بأن البدع التي خالطت تعاليم الأمة وعقائدها، والفساد الذي سرى في عادها وسائر شؤونها يؤدي إلى اضمحلالها، ويودي بحياتها والنعي على أفرادها انحطاط هممهم، وصغر نفوسهم، والتسجيل عليهم بالحرمان من مزايا الأمم الحية إن لم ينشطوا للعمل، ويقوموا بما وجب عليهم، كل ذلك مما تقوى به في الاحتجاج على أوروبا وينهض دليلاً على أن في الأمة رمقًا يتموج، وأنفاسًا من الحياة تترقرق [2] ولا تلبث إن أُمهلت حتى يقوى ذلك الرمق، وتنتعش تلك الحياة، فتنهض بالأمة إلى ذرى المجد والعزة، وتعرج بها في معارج السعادة. مسافر أمامه طريق ذات تضاريس وأشواك، وفيها عواثير وهُوًى، وعلى جنابتيها أضباس [3] تزأر فيها الأسود، وأدغال وأجم تدب تحتها الهوام والأفاعي وعدوه يترصده في معاطف تلك الطريق ومخارمها، ويعترض سيره مجاهل وقفار لا يجد فيها حسوة ماء، ولا لماظة قوت، وذلك المسافر مضطر لسلوك تلك الطريق وبلوغ الغاية التي ينتحيها وهو خالى الذهن مما يوشك أن يشارفه على غفلة من وعورة الطريق وأخطارها، هل من وفاء الذمم ترك نصيحته؟ هل من سداد الرأي ونفاذ البصيرة ترك تحذيره وتخويفه؟ أليس إخباره بما سيلاقيه يكون أدْعَى لأخذ أهبته، وإيقاظ نفسه، وإثارة عزيمته؟ لا جرم أنه حينئذ يبذل من الاهتمام والتأهب، ويستنزف من الحذر والتيقظ على قدر ما يعلم من مخاطر تلك الطريق، وما يصل إلى سمعه من أهوالها ومخاوفها، ويوفر من وسائل الدفاع وأدوات الصيال، ومواد الغذاء ومرافق المعيشة ما يأمن معه على حفظ حياته وبلوغ غايته، بل يبلغ به الحزم وأصالة الرأي أن يستصرخ إخوانه، وكل من يؤم وجهته ويستفز هممهم للمشايعة في العمل، والمرافقة في السير؛ كي يقووا جميعًا على مدافعة الصائل، ومقاومة الغوائل؟ والله الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل. (انتهى)

تنبيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنبيه كثر في هذه الأثناء خوض الجرائد الأسبوعية الحديثة النشأة في المسائل الدينية من غير علم ولا بصيرة، وماذا نقول وجهل الكاتبين مركب، وقد تركت الحكومة أمر الصحافة والطباعة فوضى، ولكننا ننبه هؤلاء الكاتبين إلى أمر لا يرفضه مسلم، وهو أن لا يكتب أحد منهم حديثًا ينسبه للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد العلم بتخريجه، ومعرفة أنه غير موضوع ولا منكر، وإذا أرادوا الاحتجاج به فيجب أن يعلموا بأنه مما يحتج به، وإلا دخلوا في عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر (مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) وبعض الروايات لم يُذكر فيها (متعمدًا) فالخطر فيها أعظم. وأمر آخر مما ينبغي التنبيه عليه، والعناية به، وهو كثرة ذكر الآيات القرآنية في هذه النشرات التي هي عرضة للابتذال والامتهان، وإننا كنا نجد في النفس حرجًا من ذكر الآيات في أعداد السنة الأولى من (المنار) مع علمنا بأن معظم القراء يحفظونها لأجل تجليدها، بحيث كانوا يطلبون منا ما يفقدونه من الأعداد، ولكن شكل الجريدة كان مظنة للابتذال، وهذا هو السبب الأول في جعلنا (المنار) بشكل الكتب، ولا نشك في أن رصفاءنا الأفاضل يعتنون بهذه النصيحة بقدر قوة دينهم وصحة يقينهم، والله الموفق.

دم أضاعه أهله

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دم أضاعه أهله يشكو المصريون من المدارس الأميرية، ويرون أن سعادة البلاد إنما تكون بمدارس الجمعيات الخيرية الوطنية، وأنّى تفي الجمعيات بالغرض إذا لم يكن القائمون بها والنظار عليها من الأطباء العارفين بمرض الأمة، المندفعين بطبيعتهم إلى إصلاحها؟ نوَّهنَا بمدرسة زعزوع بك مع أن بنيّانها أُسِّسَ على شفا جُرُفٍ هارٍ، حيث جعلت السيطرة عليها للحكومة، ورجونا بذلك أن يرغب غيره بمثل عمله، ويأتي سالمًا من علله، وقد رأينا في هذه الأيام إعلانًا من جانب جمعية (العروة الوثقى) الإسلامية في الإسكندرية كاد يذهب ببقايا أملنا بالمدارس الأهلية، إعلانًا يطلب فيه أستاذ للغة الفرنسوية براتب شهري قدره 600 غرش، ومثله للإنكليزية، وأستاذان للغة العربية براتب شهري قدره 200 غرش لكل منهما، واشترط في أستاذي الفرنسوية والإنكليزية المعرفة التامة، ولم يشترط ذلك في أستاذي العربية، وكيف يشترط ذلك، ولا يمكن أن يوجد معلم ماهر بهذا الراتب القليل؟ أليست هذه الجمعيات هي التي تحيي اللغات الأجنبية، وتميت لغة الأمة والدين؟ ! بلى، إنها تفعل ما لا تفعله الحكومة في مدارسها؛ فإن في المدارس الأميرية من معلمي العربية كثيرًا من نخبة النابغين يأخذون الرواتب الكافية، ويعلمون أحسن التعليم، فعسى أن تتنبه جمعية (العروة الوثقى) لملاحظتنا هذه، فتتلافى الأمر، وتنتقي لتعليم العربية في كل مدرسة من مدارسها أفضل المهرة من المعلمين، مهما بلغت أجورهم، لتكون محل ثقة الأمة، وموضع رجائها، ولا تكون مجهزة على الأمة فيقال فيها: (د م أضاعه أهله) .

عناصر النمسا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عناصر النمسا جاء في نبذة سياسية في جريدة (الشام) الغرّاء أن في مملكة النمسا 10690000 نفس من العنصر الألماني، و 7770000 من العنصر البوهيمي، و7508000 من العنصر المجري، و4879000من العنصر الكرواتي والصربي و3900000من العنصر البولوني، و3668000 من العنصر الروتيني، و2940000 من العنصر الروماني، و 1325000 من العنصر السلوفاني، و729000 من العنصر الإيطالي، و 1920000 من اليهود، وكل من هذه العناصر ينزع إلى الاستقلال، ولا سيما العنصر البوهيمي صاحب المجد القديم؛ فإن رجاله أبدًا دائبون وراء إحراز الغاية من الإصلاح، ونشر لغتهم ومباديهم، ويسألون لبلادهم الامتيازات التي نالتا المجر. اهـ

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (تابع مالية الدولة) قد قررت غرامة الحرب الروسية التركية في اتفاق 11 مايو سنة 1882 المبرم بين الحكومة العثمانية وحكومة روسيا وأخذت الحكومة العثمانية تسدد هذه الدين الذي قدره 802500000 فرنك أو 35000000 جنيه مجيدي بدفعة سنوية قدرها 350000 جنيه مجيدي ومدة استهلاكه مائة سنة، ومما خص لتسديده رسوم الأغنام والأعشار التي تجيء من ولايات حلب وقونيه وقسطموني واطنه وسيواس وهي إيرادات كان مجموعها يبلغ إلى سنة 1882 مبلغ 427500 جنيه مجيدي لكن بسبب القحط الذي أكل آسيا الصغرى وتركية آسيا كما أكل المزروعات القليلة واستمر عدة سنين، قد قلَّت تلك الإيرادات عما كان مقدرًا لها وتسبب عن ذلك زيادة دين الغرامة فبلغ في سنة 1888 إلى 600000 جنيه مجيدي. وقد أُبرم اتفاق جديد بين الحكومتين المختصتين بتصفية هذه المتأخرات من أقساط الغرامة أعطيت روسيا بمقتضاه أجزاء الخراج المتحصلة من ولاية حلب مع بقاء هذه حرة، وأعشار ولاية معمورة العزيز وبقيت الروسيا تقبض في الدفعة السنوية مبلغ 450000 جنيه مجيدي عوضًا عن الدفعة الأصلية التي قدرها 350000 جنيه مجيدي وذلك مدة ست سنوات. أما التعويض الذي اشترط دفعه للتجار الروسيين الذين كانوا يقيمون في تركيا وحصلت لهم خسائر من الحرب التي حصلت في سنة 1877 فقد حددته اللجنة التي شُكِّلَتْ للبحث في مطالب أولئك التجار البالغ مجموعها 19000000 فرنك بمبلغ 6000000 فرنك، وفي ديسمبر سنة 1884 دفع أول قسط من هذا الدين وقدره 50000 جنيه مجيدي للدائنين ذوي الشأن. قد نشر جرنال المجلس التجاري بالقسطنطينية في 7 أبريل سنة 1892 مقالة عظيمة الشأن في الإيرادات المتنازل عنها لمصلحة الدين العمومي هاك ترجمتها: (إنا نحفظ لأنفسنا الحق في أن ننشر في أقرب وقت كالعادة تقريرا مفصلاً لمجلس الإدارة خاصًّا بالإيرادات المتنازل عنها لمصلحة الدين العثماني عن أعماله في سنة 1309 هجرية الموافقة لسنة 1893 مسيحية المتداخلة في سنة 1894، إلا إنّا قبل ذلك نقدم للقراء بعض الأرقام الدالة على الحالة العمومية للدين في آخر السنة التي نهايتها 28 فبراير سنة 1894 مقارنة بها في سنة 1892 المتداخلة في سنة 1893 ... ... ... ... ... ... ... سنة ... ... سنة ... ... ... ... ... ... 1893-1894 ... 1892-1893 ... جنيه مجيدي إيرادات مجملة من كل المصادر ... ... 2542735 2508760 مصاريف الإدارة ومصاريف أخرى ... ... 350271 119939 ... ــــــ ... ــــــ ... ... ... ... ... 2192464 2188821 ... ======== ... ======== إيرادات صافية مبلغ ما يوجد في المصلحة المركزية ... 2186405 2184545 باقي المبالغ المخصص للاستهلاك ... ... 21555 2321 في السنة الماضية ... ... ... ... ... ــــــ ...

كلمة في الحجاب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة في الحجاب من علامات الحياة الاجتماعية في الأمة اهتمام أفرادها بما يقال ويكتب في شؤونها بحيث يرتاحون مما يرونه حسنًا ونافعًا، ويسعون في إيجاده أو إنمائه إن كان موجودًا، وينفرون ممتعضين مما يرونه قبيحًا ومضرًّا ويجتهدون في إزالته وإعدامه، أو التوقي منه إذا كان معدومًا يُتوقع حدوثه. ولقد كنا نكتب في انتقاد العادات المضرة التي لونت بلون الدين، والبدع القبيحة التي صبغت بصبغة الإسلام، وأحب شيء إلينا أن نقابَل بالتأييد أو التفنيد وإنما كنا نُسَر بالتفنيد لأنه يدل على وجود رمق من الحياة المعنوية في الأمة تفند به مَن قَبَّح لها ما تراه حسنًا؛ ولأن من يفند الحق لاعتقاده أنه باطل لا يلبث أن يؤيده متى تبين له أنه الحق، وليس ظهور الحقيقة على طالبها ببعيد. لم نر في مكتوب العصر كلامًا أثر في نفوس أمتنا كالذي جاء في كتاب (تحرير المرأة) من بحث الحجاب. مسألة أنطقت الألسن بالكلام، وأجرت في ميادين الجرائد جياد الأقلام، وشغلت السامر والنادي، وتحدث بها الملاح والحادي، وقد قلنا فيها كلمة عند تقريظ الكتاب، ونقول الآن كلمة أخرى: غرض صاحب هذا الكتاب لا يمكن أن ينكره عليه عاقل عرف مكان أمته من الأمم، ووقف على حاجاتها وما يعيد إليها حياتها، ألا وهو تربية المرأة لتكون - كما قال - إنسانًا يعقل ويريد، وتعليمها مقدارًا من العلوم الدينية والعقلية والأدبية يمكنها به إدارة منزلها، ويُعدّ (عقلها لقبول الآراء السليمة، وطرح الخرافات والأباطيل التي تفتك بعقول النساء) وأخذها بالفضائل التي يكون لها أثر في سعادة المنزل، ثم في سعادة الأمة، ومن أهمها أن يكون بينها وبين الرجل مشاكلة ومشابهة في الصفات النفسية والمدارك العقلية، فتكون بين الزوجين منهما محبة حقيقية، محبة يكون منها نصيب العقل والنفس - لا يبعد من نصيب الوجدان والحس، وإن امرأة لا تعرف لها شأنًا من شؤون البشر إلا إنها خلقت لأن تكون فراشًا، بعيدة من أن تحب أو تحب محبة حقيقية من إنسان ذي عقل وفضيلة، ويستحيل أن يتربى ولدها، وينتظم أمر منزلها، فتكون عاملة في سعادة وطنها وترقية أمتها. ويعتقد صاحب الكتاب أن هذه التربية التي لا بد منها تتوقف في حصولها أو في كمالها على مكالمة النساء اللائي يتعلمن ويتربين للرجال ومراجعتهن لهم في الأقوال، ومبادلتهن إياهم الآراء، وقد علم أن اعتقاد قومه في الحجاب، وعادة أهل الطبقة العليا والوسطى من أهل المدن فيه (وهم الذين يرجى منهم المبادرة إلى التربية والتعليم) مانِعان من قبول ما تتوقف عليه التربية والتعليم في اعتقاده، ولذلك توسع في الكلام على الحجاب بما انتقدناه عليه في التقريظ، وحاول إزالة الاعتقاد بما أورده من نصوص بعض الأئمة في جواز النظر إلى الوجه والكفين من المرأة، واجتماعها بالرجال في غير خلوة بين أجنبي وأجنبية، فقام الناس يحاربونه في هذه المسألة النظرية بسلاح جماهير العلماء الذين رجحوا وجوب ستر الوجه والكفين إلا في أحوال مستثناة وردت في الشرع كالإحرام والشهادة والتطبب، وملخص ما يمكن أن يجيب به هؤلاء أن المسألة خلافية، وأن الأولى أن نرجح ما فيه المصلحة والمنفعة، ولا شك أن المصلحة هي في ما يمكن معه التربية والتعليم المحتاجة إليهما الأمة في نهوضها من الحضيض التي هي فيه، فإن سلَّم له المعارضون بأنهما يتوقفان على كشف الوجه ومكالمة الرجال، فلا مندوحة عن التسليم بترجيح القول بالكشف والمكالمة، أو تقليد القائلين به أو تخريجه على قاعدة (يرتكب أخف الضررين) إذ لا ريب أن ضرر شقاء الأمة وتقدم سائر الأمم عليها لا يدانيه ضرر احتمال وقوع الفتنة بكشف الوجه من بعض الناس، وإذا لم يسلموا له بالتوقف فليكن البحث معه في بيان عدم التوقف، لا في إيراد نصوص اللغويين والمفسرين التي لا ينكرها، كما لا ينكر من أوردوها عليه ما جاء هو به من النصوص المعارضة لها، وإنما يتكلمون في الترجيح. والذي نراه نحن في المسألة أن التربية والتعليم لا يتوقفان على كشف الوجه، ولكنهما يتوقفان في كمالهما على مكالمة الرجال، ومبادلتهن الأفكار والأقوال، وربما كان في الأقارب غنية عن الأجانب. والنظر في المكالمة من ثلاثة وجوه: (1) الواقع في الوجود (2) وقعها من نفوس الأمة (3) حكم الشرع. أما الأول: فمن المشاهد أن نحو تسعين في المائة من المُسلِمات يكالمن الرجال جهرًا، ويشاركنهم في أعمالهم، وهن نساء الفلاحين والأعراب، وصنوف الفقراء الذين يشتغلون بالكسب، ويقيمون في المساكن التي لا يتيسر معها الحجاب، فهؤلاء قد حكمت عليهن بيئتهن (أي الوسط الذي يعشن فيه) بذلك، وكلهن أو جلهن لا يسترن الوجوه أيضًا، وأما نساء المدن المحتجبات، وقدَّرناهن بالعُشر فمنهن تسع وتسعون في المائة (تقريبًا) يجُلن في الأسواق، ويشترين من الرجال ما يحتجن إليه، ويراجعنهم في القول، ويتظلمن لرجال الحكم في المحاكم والدواوين وفي البيوت، فالمرأة منهن تكلم الرجال في كل مكان ولو منفردًا - لا في مشهد زوجها ووليها. ولا أطيل في هذا المقام الشرح؛ لأن علم القرَّاء به ربما كان أوسع من علمي، وواحدة منهن في المائة أو واحدة في الألف من مجموع المسلمات لا تخاطب من الرجال إلا المحارم والخدم، وبعض الأقربين من غيرهم إذا كانوا معها في دار واحدة كما هو الشأن في أكثر الأسر (العائلات) التي لها شأن، وأنت ترى أن هذا الواقع غير مطابق لما يعتقده غالب المسلمين في الحجاب ولكنه وقع بحكم الزمان والمكان وأحوال المعيشة، فكان السبب في الحجاب، ولكنه وقع بحكم الزمان والمكان وأحوال المعيشة فكان السبب فيه طبيعيًّا اجتماعيًّا، فرضي به الناس من غير نكير، وأما موقع مكالمة النساء للرجال من نفوس الأمة، فلا شك أن كل رجل اعتاد أهله الحجاب تنفعل روحه ويهيج وجدانه إذا هو تصور في نفسه دخول امرأته أو بنته أو أخته مجلسه مع أصدقائه وزائريه، ومحادثتها له وهو معهم، أو مشاركتهم في الحديث، وإن كانت منتقبة أو متبرقعة، وربما كان يعلم أو يأذن لها بنزول السوق، وابتياع اللبوس والحلي وغير ذلك، فهل ذلك الانفعال والهيج من تصور محادثة أهله للرجال الكملة في مشهده، وسماحه لهن أو تساهله معهن بشراء أدوات الزينة من الرجال بانفرادهن - متولد من الدين أم من العادة، وهل الرد على قاسم بك أمين والتنديد بكتابه (تحرير المرأة) من الانتصار للدين، أم من الانتصار للهوى وحكم الوجدان؟ وأما الأمر الثالث،وهو حكم الشرع في هذه المكالمة، فالمعروف أن الشرع إنما حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأخبار الصدر الأول مستفيضة بمكالمة النساء للرجال، وحديثهن معهم في الملأ دون الخلوة، وكفاك أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وهن اللاتي أمرن بالمبالغة في الحجاب كن يحدثن الرجال، حتى إن السيدة عائشة كانت قائدة عسكر ومدبرة له في وقعة الجمل المعروفة، وما أخال أن مكابرًا يقول أنها لم تكن تكلم أحدًا منهم إلا ذا محرم. وبالختام نقول: إن هذه المسألة من المسائل الاجتماعية التي لا يمكن أن تتغير إلا بتغير أحوال الأمة الاجتماعية، وإننا نرى حركة التغيير تسوق الطبقة العليا وما يليها من الأمة إلى محاكاة الإفرنج في أساليب معيشتهم وتمدنهم، وإن الحجاب ينهتك فيها بالتدريج، فيعود إلى تبذل بعيد من الدين ومذاهبه، وقد دبت مبادئ هذا التفرنج إلى بيوت الشيوخ ورجال الدين، فظهرت بوادره في أزياء نسائهم، ولا ندري ماذا تكون أواخره؟ هذا سير طبيعي لا بد أن يبلغ مَدُّه غاية حده إلا إذا حولت مجاريه تحويلاً طبيعيًّا، فكان منبعه الشريعة الإسلامية، وقراره مصلحة الأمة ومنفعتها، وهذا ما يطلبه كل ذي غيرة على ملته وأمته، وما كتب فيه أحد مثلما كتب الفاضل قاسم بك أمين، فلنساعده في عمله ولا يصدنا عن ذلك مخالفته لنا في بعض الجزئيات، واعتقادنا خطأه في بعض المسائل، فالعصمة إنما هي لكتاب الله تعالى وحده: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) . (خاتمة) (كتاب تحرير المرأة) تبين للقارئ مما سبق أن ما نريد إدخاله من الإصلاح في حالة النساء ينقسم إلى قسمين: قسم يختص بالعادات وطرق المعاملة والتربية، والقسم الثاني يتعلق بدعوة أهل النظر في الشريعة الإسلامية والعارفين بأحكامها إلى مراعاة حاجات الأمة الإسلامية وضروراتها فيما يختص بالنساء، وأن لا يقفوا عند تطبيق الأحكام عند قول إمام واحد، إنما كان اجتهاده موافقًا لمصلحة عصره، وأن يدققوا البحث فيما تغير من الأحوال والشؤون، فإن وجدوا في قول إمام ما تتعسر معه المحافظة على كرامة الشرع، أقاموا مقامه قول إمام آخر يكون في مذهبه ما يسد الحاجة بدون خروج عن أصول الشريعة العامة، والعمل على تحقيق هذين النوعين من الإصلاح هو كغيره من سائر الأعمال النافعة، إنما يتم بالعلم والعزيمة: (1) أما العلم فهو وسيلة الأمة لمعرفة حاجاتها، وبه تتنبه أذهان أفرادها إلى ما هم فيه وما درجوا عليه من الأخلاق والعوائد والكمالات والنقائص، بحيث يكونون على شعور دائم بأحوالهم، وتكون تلك الأمور دائمًا موضوع بحثهم. إن من الغفلة - بل من أسباب الشقاء - أن تكون شؤوننا في حياتنا قائمة بعوائد لا نفهم أسبابها، ولا ندرك آثارها في أحوالنا، بل إنما نتمسك بها لأنها جاءت إلينا ممن سلفنا وورثناها عمن تقدمنا، وذلك كل ما فيها من الحسن عندنا، مع أن هذا وحده لا يكفي لأن يكون سببًا في الأخذ بها، ولا في الثبات عليها، بل يجب أن نفهم أن لنا مصالح ولمن سبقنا مصالح، ولنا شؤون، ولهم شؤون ولنا حاجات لم تكن لهم، وكانت لهم حاجات ليست لنا اليوم، وذلك من البديهي الذي لا يختلف فيه اثنان. فعلينا أن نأخذ من العوائد، وأن نكسب من الأخلاق ما يلتئم مع مصالحنا، فنكون مالكين لمصادر أعمالنا، كما يطلب منا العقل والشرع، لا أن نكون عبيدًا لعاداتنا التي وجدنا عليها آباءنا، فيكون مثلنا مثل رجل وجد لباسه ضيقًا، فرأى أن يجوع ليهزل ويضعف وينحل حتى يصغر جسمه فيسعه لباسه، لا أن يصلح لباسه بتوسعته حتى يتفق مع جسمه. إنا لا نجد عقبة في طريقنا إلى السعادة أصعب اجتيازًا من شدة تمسكنا بعادات مِن سلفنا من غير أن نميز بين تلك العادات: صالحها وطالحها، نعم إن الماضي لا يصح أن يطرح جملة، لكن يجب أن ينظر فيه بالتبصر والروية لمعرفة ما أظهر من منافع ومضار. لا أرى أعجب من حالنا، هل نعيش للماضي أو للمستقبل؟ هل نريد أن نتقدم أو نريد أن نتأخر؟ نرى العالم في تقلب مستمر، وشؤونه في تغير دائم، ونحن ننظر إلى ما يقع فيه من تبدل الأحوال بعين شاخصة، وفكرة حائرة، ونفس ذاهلة، لا ندري ماذا نصنع، ثم ننهزم إلى الماضي نلتمس فيه مخلصًا، ونطلب منه عونًا فنرتد دائمًا خائبين [1] . رأينا في هذا القرن حادثة عجيبة أظنها وحيدة في التاريخ رأينا أمة بتمامها خلعت عوائدها وأبطلت رسومها وتخلت عن نظاماتها وقوانينها وطرحتها وراء ظهرها، فقطعت كل وصلة بينها وبين ماضيها إلا ما كان متعلقًا بجامعة شعبها، ثم همت فبنت بناءً جديدًا مكان البناء القديم فلم يمض عليها نصف قرن إلا وقد شيدت هيكلاً جميلاً على آخر طرز أفاده التمدن، فهبت من نومها، ونشطت من عقالها، وشعرت بأن الحياة تدب في بدنها وتجري في عرو

تهنئة الأستاذ المفتي

الكاتب: عبد الرحمن قراعة

_ تهنئة الأستاذ المفتي قد وقفنا على قصائد كثيرة في تهنئة فضيلة الأستاذ محمد عبده مفتي الديار المصرية بمنصب الإفتاء، وأرسل إلينا أصحابها كثيرًا منها ابتغاء نشرها، فكنا نغضي عنها لضيق نطاق الجريدة عن نشر المدائح الشخصية إلا ماله مزية خصوصية، ومن هذا النوع قصيدة غرّاء للعالم الفاضل عبد الرحمن قراعة مفتي جرجا في تهنئة الأستاذ المفتي وهي: بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي ... ومن فيض هذا الفضل نجدي ونجتدي سَمَتْ بك للعلياء نفس أبية ... وعزمة ماض كالحسام المجرد ورأى رشيد في الخطوب وحنكة ... وتجربة في مشهد بعد مشهد وعلم كَنُورِ الشمس لم يك خافيًا ... على أحد إلا على عين أرمد فضائل شتى في الأفاضل فُرِّقت ... ولكنها حلت بساحة مفرد ولو جاز تعدادي لها لعددتها ... ولكنها جازت مقام التعدد ففيم أطيل القول والشعر قاصر ... وماذا يفي قولي ويغني تزيدي أمولاي يا مولاي دعوة مخلص ... تقول فيصغي أو تؤم فيقتدي لكل زمان مِن بنيه مجدد ... لِما أبلت الأهواء من دين أحمد وقد علم الأقوام أن (محمدًا) ... مجدد هذا الدين في اليوم والغد يمينًا من الفضل خصص (عبده ... محمدًا) الداعي لهدي محمد وقلده عقد الفتاوى فأصبحت ... تتيه به الفتيا بخير مقلد لنخترقن الجب بالرشد لا الهوى ... وتبني منار الحق بالفكر واليد فتوضح من إشكاله كل غامض ... وتفتح من أبوابه كل موصد إليك أزف المدح شعرًا مقصَّدًا ... على بعد عهدي بالقريض المقصد لأبلِّغ نفسي بامتداحك سؤلها ... وأقضي حقًّا لم يمكن بمجدَّد فجاء على قدري ولكن شافعي ... لدى قدرك السامي نبالة مقصدي وهنأت نفسي ثم هنأت معشر ... وهنأت أوطاني بما نال سيدي وقلت لمصر: هنئيه، وأرى ... بهديك في الفتوى إلى الحق نهتدي لقد سبق التاريخ عشرًا فلم أجد ... من الياء بُدًّا بعد طول تردد فزدت كما أبغي ومن يلف مخلصًا ... من النقص بطلب للكمال ويزدد فلا زلت يا مولاي فينا محسّدًا ... وحاسدك المغبون غير محسد

الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني كان المصريون يستعدون للاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني من أول شهر أغسطس، وقد أظلَّنا العشر الأخير منه في هذا العام، ولم نحس منهم عملاً، ولم نسمع لهم ركزًا إلا ما يُتهامس به في هذه الأيام، ويرجى أن يأتي بالغرض بهمة المتفاوضين الكرام، وإن كان الزمن قصيرًا، هذا ما نعلم من أمر الاحتفال العمومي الذي كانت زينته تقام في حديقة الأزبكية بإدارة جمهور من وجوه المصريين، وأما الاحتفالات الخصوصية التي كانت تقام في مواضع كثيرة، فلم نسمع لها حسًّا، ولم نر لها حتى الآن أثرًا إلا ما كان من جمعية (شمس الإسلام) التي أنشئت في مصر حديثًا لأجل الحض على التمسك بالكتاب والسنة، والاعتصام بهدي الدين الذي فسق عن هديه الجماهير، فإن إخلاص هذه الجمعية لمقام الخلافة الإسلامية حملها على الاستعداد لزينة باهرة واحتفال بليلة الجلوس الهمايوني تدعو إليه الوجوه من العلماء الأعلام والموظفين الكرام وسائر الوجوه، وسيكون الاحتفال في سراي حسن بك ساطع التي استأجرتها الجمعية حديثًا لها وللمدرسة التحضيرية التابعة لها والمطبعة المنسوبة إليها، وهي على يمين الداخل من أول درب الجماميز من جهة السيدة زينب رضي الله عنها، أما الحكمة في قيام الرعية بمثل هذا الاحتفال لراعيها؛ فهو أمران، الأول: التقرب من أمير المؤمنين وخليفة المسلمين وابتغاء مرضاته والثاني: إيقاظ الشعور العام بمعنى التابعية، وتقوية روح الوطنية الحقيقية، وتوثيق رابطة الجامعة العثمانية، فإذا كان يوجد في الآستانة عدو للمصريين، بل ولسلطانهم -أمير المؤمنين- يحول دون إبلاغه تهنئتهم في بعض الأحوال، ويسعى بالإساءة إليهم عقيب كل احتفال بحيث يفوتهم الرضوان من مولانا السلطان، فينبغي أن يواظبوا على عادتهم الماضية لأجل الحكمة الثانية، وعسى أن تزول تلك الآلة المحللة، وتعاذ الأمة من هاتيك الوسوسة المضللة، فتتم لهم الحكمتان، والله المستعان.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ (إرشاد شوارد أرباب النفوس إلى رحمة مولانا القدوس) ديوان (خطب جمعية) ألَّفه وطبعه من عهد غير بعيد الأستاذ الشيخ محمد الجنبيهي وقد تصفحنا بعض خطبه، فألفيناه يمتاز على الدواوين التي في الأيدي بالزجر والتنفير عن المعاصي الدائمة المنتشرة في هذا العصر، كأنواع الفحش والمنكرات، ويماثلها في كل ما ننتقدها به من إيراد الأحاديث التي لا تصح رواية ولا معنى، والمبالغة في التزهيد، والكلام في فضائل المواسم والشهور، وغير ذلك مما نبهنا عليه مرارًا، وينتقد عليه شيء آخر لم نره في سائر الدواوين وهو إيراد ألفاظ لا ترضاها النزاهة، ولا يليق أن تلقى على ذرى المنابر، فإذا حذفت هذه الألفاظ، وعني بتخريج أحاديث الديوان، ونقحت خطب المواسم كان من أحسن الدواوين المتداولة إن لم نقل أحسنها، طبع في المطبعة الأميرية مشكولاً، وطبع على هيئة كتاب (متابعة الأسرار) وهو يتضمن أورادًا وحكمًا مأثورة عن الصوفية وأشعارًا إلهية ونبوية، ولنا في هذه الأوراد كلام نرجئه لفرصة أخرى.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع مالية الدولة) ... ... ... ... ... سنة ... ... ... سنة ... ... ... ... ... ... 1893-1894 ... 1892-1893 مبالغ الاستهلاك العادي ... ... ... ... ... ... جنيه مجيدي المخصص لشراء الدخل المدلول ... ... 205047 ... 292895 عليه بحرف (أ) وفيه ربح السندات المستهلكة المخصص لشراء الدخل المدلول ... ... 99206 ... ... 74329 عليه بحرف (ب) وفيه ربح السهام المستهلكة ... ... ... ... ... ... ... ـــــــــــــــ الناتج من تحويل السهام الممتازة والمستعمل ... 11338 ... 11554 عادة في الاستهلاك مبالغ مشتملة على ربح السندات المستهلكة ... 55751 ... 54027 ومستعملة في الاستهلاك الديون المضمونة بالإيرادات المدلول عليها ... 58274 ... 55538 بحروف (أ) ، (ب) ، (ت) ، (ث) ... ... 45448 ... 43139 ... ــــــــــــــــ مجموعها ... ... 565464 ... ... 531482 يضاف إليها هذا المبلغ لأجل استعماله في المستقبل ... 21366 ... ... 21555 ... ــــــــــــــــ المجموع ... ... 586830 ... ... 553037 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ========== ======== ... ... ... ... ... ... ... متوسط الثمن ... متوسط الثمن رأس المال الاسمي المستهلك في ... خلال السنة ... في المائة ... جنيه إنكليزي ... في المائة ... جنيه إنكليزي القسم (أ) ... 30. 57 ... 4899000 ... 53. 64 ... 516000 القسم (ب) 34. 87 ... 404000 ... 30. 70 ... 380000 القسم (ت) 23. 75 ... 232080 ... 21. 58 ... 234000 القسم (ث) 22. 31 ... 285300 ... 21. 08 ... 186000 ... ــــــ ـــــ ... ـــــ ... ـــــ ... 39. 50 ... 1301280 36. 71 ... 2316000 *** ... ... ... مبالغ مخصصة للاستهلاك ... ... ... جنيه مجيدي ... ... ... رأس مال اسمي أصلي ... رأس مال اسمي مستهلك الجملة الأولى قسم حرف (أ) ... ... 1119682 ... ... 5170110 الجملة الثانية قسم حرف (ب) ... 10044825 ... 1234500 الجملة الثالثة قسم حرف (ت) ... 30549251 ... ... 842881 الجملة الرابعة قسم حرف (ث) ... ... 34651965 ... ... 757500 السندات التركية التي ربحها 58 في المائة ... ... ... ... 281000 السندات التركية التي ربحها 20 في المائة 14211407 ... ... 110741 السندات التركية التي ربحها المشتراة ... ... ... ... ... 332548 ... ... ... ... ... ... ــــــــــــــــــــ المجموع ... ... ... ... 105577330 ... 8828479 يتبع هذا حساب تفصيلي للإيرادات والمصروفات وهو سنة 1893-1894 سنة 1892-1893 ... ... ... جنيه مجيدي إيراد المشروبات الروحية والملح ... 1104605 ... ... 1091037 ... وطوابع البوستة والأسماك والحرير ومتأخرات التبغ ... ... أعشار التبغ ... ... 95359 ... 100865 عوائد التبغ ... ... 750000 ... ... 750000 جزء من ربح الرسوم ... 37084 ... ... 22745 خراج الروملي الشرقي ... 152026 ... 152026 سفاتج على مصلحة الجمارك من ... 102596 ... ... 102596 أصل خراج جزيرة قبرص وخراج التنباك ... ... ... ... 50000 ... ... 50000 ... ... ... ... ... ــــ ... ... ـــــ ... ... ... ... 2291630 ... ... 2268269 ... ... ... ... سنة 1893-1894 ... سنة 1892-1893 ... ... ... جنيه مجيدي مصروفات ... مصروفات الإدارة المركزية ... ... 83514 ... ... 67483 لمصلحة الدين ... ... الخسارة الناتجة من تبديل الفضة ... ... 1009 ... ... ... 742 نفقات وأجر عمل (عمولة) ... ... 16188 ... 17735 ... ... ... ... ... ... ــــــ ... ــــــ المجموع ... ... 100711 ... ... 85960 فائدة الحطيطة في بيع الكمبيالات ... 7861 ... ... 2878 ستنزل من ذلك الربح على المبالغ ... 6307 ... 5114 المودعة وهو ...

تحريف الكلم عن مواضعه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحريف الكلم عن مواضعه (رد على مسلم حر الأفكار) يعلم القراء ما كان من خوض الجرائد في مسألة (الجامعة الإسلامية) وأن بعض كتاب النصارى ارتأوا أن تَرقِّي المسلمين يتوقف على الفصل بين الدين والدولة، والخلافة والسلطنة، كما هو مقتضى أصول دينهم، وخالفهم كتاب المسلمين في هذا؛ لأنه مخالف لأصول الديانة الإسلامية وفروعها، ولكن نشر في (المقطم) مقالتان طويلتان بإمضاء: (مسلم حر الأفكار) وافق فيهما صاحبهما كتاب النصارى وجعل قاعدته فيها أن تكون وظيفة الدولة والحكومة (تأمين الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وسن القوانين العادلة لهم) وهذا انحراف عن صراط الإسلام وتحول عنه، لا يقول به إلا مَن لا يعرف ما هو الإسلام، أو مَن يرى أن نجاح المسلمين وترقيهم إنما يكونان بتركهم أصل دينهم والأخذ بأصل النصرانية في هذه المسألة، وقد أسهب (المنار) في الرد على هذا الكاتب وبين حكم الدين الإسلامي في المسألة، والفرق بينه وبين الدين المسيحي، وأثبت أن كل بلاء حلَّ بالإسلام والمسلمين فمرجعه إلى ما طرأ على الخلافة والخلفاء، ففصل بين السلطة الدينية والسياسية، وأنه لا يعود للإسلام كمال مجده إلا برجوع هذا الأمر إلى نصابه، وإناطته بمن يقوم به حق القيام، فإذا سلَّمنا لحضرة الكاتب (أن الغاية التي تسعى إليها الدولة في زماننا هذا دنيوية محضة) وهي ما مر عنه آنفًا من التأمين وسن القوانين، فيجب علينا أن نطالبها بحفظ الدين والعمل بالشرع دون ما يخالفه من القوانين لا أن نشايعها على تعدي حدوده وإبطال شعائره تقليدًا لديانة أخرى تعتبر أن الدولة والدين أمران متبائنان يفترقان ولا يجتمعان، ويجب علينا أيضًا أن نقف مع ذلك عند هذه الحدود العادلة، ونقوم بتلك الشعائر الشريفة ونربي عليها أبناءنا وبناتنا إلى أن يكون للأمة رأي عام تقدر به على إلزام دولتها بالتزام دينها وشريعتها. ووجهة (المنار) في الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي الأمة الإسلامية دون حكوماتها؛ لأن بعض تلك الحكومات أجنبية لا كلام لنا معها، والأمراء والسلاطين من المسلمين قلَّما يلتفتون لإرشاد جريدة، أو يجيبون مطلب رجل إنما شأنه في لسانه وقلمه، فإذا خافوا تأثير كلامه في بلادهم منعوه دونها. وبعد انتشار (المنار) - المشتمل على الرد - بأسبوع رأينا في (المقطم) مقالة بإمضاء ذلك الكاتب (مسلم حر الأفكار) يرد فيها على (المنار) لكنه حرَّف الكلم عن مواضعه، ونسب إلينا ما ليس لنا، فزعم أننا حملنا عليه حملة منكرة؛ لأنه نصح لأبناء ملته في (المقطم) أن يجعلوا اتكالهم على أنفسهم في تدبير مصالحهم، ولا يلقوا كل اعتمادهم على الحكومة، وأن يراعوا دوران الزمان وتغير الأحوال طبقًا لمقتضى العمران ... إلخ، وأننا أنكرنا الخلافة العثمانية، والصواب أن الحملة المنكرة إنما كانت لأجل المسألة المتقدمة التي زعم أن (المنار) موافق له فيها، و (المنار) أول جريدة أنشئت في العربية تحث الأمة على الاعتماد بعد الله على نفسها إلى آخر ما تقدم آنفًا، ولنا في هذا مقالات ونبذ كثيرة في المجلد الأول وفي المجلد الثاني، وما وافقناه ولن نوافقه على جعل الفصل بين الدين والدولة، وإقرار الدولة على ترك الشريعة السماوية وقيامها بتشريع جديد - من اعتماد الأمة على نفسها المطلوب منها ولا على جعله إياه من الأمور التي يجب أن تراعي به الأمة أحكام الزمان وتغيير الأحوال، فإننا نعتقد أن شريعتنا صالحة لكل زمان، ويمكن اتباعها في كل حال بشرط أن لا تتقيد بقول مجتهد واحد من علمائها. أما احتجاجه علينا بما شرحناه من سبب ضعف الخلافة واستبداد العمال بسياسة الدنيا، وإهمال حراسة الدين، وقولنا في إثر ذلك: (فتمزق بهذا نسيج الوحدة، وتفرق شمل (الجامعة الإسلامية) إلى قولنا: (وكان هذا أمرًا اقتضته طبيعة العمران) فهو حجة عليه لا له، وظاهر في خلافه لا في وفاقه، وبيانه من وجهين؛ أحدهما: إننا صرَّحنا بأن خروج السلطة الدنيوية من أيدي الخلفاء واستبداد السلاطين فيها هو الذي مزق (الجامعة الإسلامية) كل ممزق، فكيف نعود فنقول اليوم بأن ما كان سبب النقض والانفصام، يكون اليوم سبب الفتل والإبرام؟ وثانيها: إن ما تقتضيه طبيعة العمران لا يكون ضربة لازب إلا إذا وجدت أسبابه ودامت علله، ويدلنا علم الاجتماع على أن للقوة والترقي نواميس، وللضعف والتدلي نواميس أخرى، وأن لكل أمة من الأمم شؤونًا مخصوصة في تقدمها وتأخرها، وصعودها وهبوطها وأفادنا التاريخ - وهو مورد علم الاجتماع ومصدره - أن الأمة الإسلامية ما بلغت ذلك السؤدد الرفيع وما أشرفت على العالم بالأمر والنهي من شواهق العزة والسلطان، وما أشرقت على كرة الأرض بالعدل والإحسان من سماء العلم والعرفان إلا بدينها من حيث أنه جمع بين السلطتين في رئيس واحد مقيد بالشريعة العادلة التي يدين لها هوومرءوسوه سرًّا وجهرًا، ويرون اتباعها إيمانًا، والإعراض عنها كفرًا، وأن ذلك السؤدد ما تداعى سوره، وزلزل عرشه وسريره إلا بما ذكرنا من إهمال وظيفة الخلافة التي ضمت السيادة من قطريها، وجمعت للسعادة بين طرفيها، وكل واحد من الأمرين اقتضته طبيعة العمران، ولم تخرج فيه الأمة عن نواميس الأكوان، فكيف نظر (ناصحنا حر الأفكار) بإحدى العينين، واختار لأمته أمرَّ الأمرين؟ هذا ملخص ما قلناه في المسألة من حيث هي اجتماعية إسلامية، وجوابنا عن شبهته فيه، وهو صريح في أننا نحن وإياه على خلاف لا على وفاق. وما كان لنا أن نتكلم في مسألة اجتماعية من الوجه النظري من غير أن نبين وجهتها من حيث الوجود والواقع؛ لئلا نغش الناس بإيهامهم أننا نطلب منهم ما ليس في أيديهم، كإمكان توحيد السلطة الإسلامية في هذا العصر بالنسبة لما نحن فيه من البحث، ولذلك بيَّنا في آخر تلك المقالة، مقالة (الدين والدولة والخلافة والسلطة) أن السعي في إعادة مجد الإسلام متوقف على اتفاق المسلمين على إمام واحد يعتقدون الخضوع له سرًّا وجهرًا، ليس من العبث (كما يدعي حر الأفكار) فإنهم إذا لم يكونوا متفقين على خليفة واحد فهم متفقون على القرآن، وهو الإمام الأعظم والمصلح الأول الداعي إلى كل هدى، والناهي عن جميع أسباب الردى، وقلنا: إنه يجب على من يهمه ترقية شؤون المسلمين أن يدعوهم بالقرآن إلى العلم والعمل والقيام بمصالح المعاش والمعاد مع مراعاة سنن الكون في السير، فحرَّف (حر الأفكار) الكلم عن مواضعه، وزعم أنني أنكرت (أن للمسلمين اليوم خليفة حقيقيًّا) و (أن سلاطين الدولة خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم) والحق أنني إنما أنكرت وجود إمام غير القرآن يخضع له جميع المسلمين سرًّا وجهرًا، وهذا لا ينافي وجود خليفة حقيقي يخضع له البعض أو الأكثر دون الجميع، ومعلوم لكل أحد أن مسلمي مراكش وإيران لا يخضعون لخلافة آل عثمان، فإذا كان الإخبار بهذا يدل على الاعتقاد ببطلان خلافة سلاطين آل عثمان، فالإخبار بأن بعض الناس ينكر وجود الله تبارك وتعالى يدل على اعتقاد المخبر عنهم بأنه ملحد مثلهم، والحق أن حاكي الكفر ليس بكافر، وأنني ما تعرضت في مقالتي تلك للخلافة العثمانية بنفي ولا إثبات، لا تصريحًا ولا تلويحًا وأن (حر الأفكار) حرَّف الكلم، ورماني بهذه التهمة عن سوء قصد، لا عن سوء فهم فيما يظهر، والله أعلم بالسرائر. فتبين للبيب مما بسطناه أن صاحب (المنار) ما وافق ولن يوافق ذلك الملقّب بـ (مسلم حر الأفكار) وأغرب من زعمه الموافقة وأعجب أن كتابته تشيد عليه إحدى الغميزتين: عدم فهم الإسلام، أو اعتقاد أن تركه سعادة للأنام، وهو مع ذلك ينفي التهمة عن نفسه بالاعتزاز بالأوربيين، والتبجح بالانتماء إليهم، والأخذ بتعاليمهم، وإنكار إطلاق لفظ الكفار عليهم، أو الحمل على هذا، حيث قال بعد ما زعم أنني موافق له على ما اتهمته فيه بالغدر والمروق ما نصه: وأغرب من ذلك وأعجب أن صاحب (المنار) يعيرني بقوله عني (يصف نفسه بأنه مسلم حر الأفكار، وما جاءت حريته إلا من رق الكفار، فمن هم الكفار الذين يعنيهم؟ الأوروبيون الذين يعيبني على الدرس في مدارسهم أم الإنكليز المحتلون لهذه الديار) اهـ. وأقول في الجواب: (أولاً) إنني ما عبته على الدرس في مدارس الأوربيين؛ بل لا أعرف أين دَرَس، ولا أعرف شخصه الكريم أيضًا. (ثانيًا) إن احتلال المحتلين لهذه البلاد أمر سياسي عسكري لا علاقة له بالكفر والإيمان، ولا نعلم عن الإنكليز أنهم أكرهوا أحدًا على ترك دينه، اللهم إلا أن يُظهر مارق كفره الذي أشربه من قبل، اعتزازًا بهم، واعتمادًا على منعهم قومه من إيذائه أو امتهانه. (ثالثًا) إن الدين الذي ينتسب إليه ويتكلم في ترقي أهله يسمي كل من لم يكن مسلمًا بالكافر، وهذا الاستعمال مستفيض في الكتاب والسنة وكتب الأئمة، وهو اصطلاح شرعي لم يقصد به الذم والإهانة، كما بيّنتُ ذلك في العدد الأول من (المنار) معززًا بالشواهد من كتب الدين واللغة. (رابعًا) إنني أنا قد ذكرت في ذلك العدد أيضًا أن لفظ الكفر صار من أقبح ألفاظ السب والشتم؛ لأنه يطلق في اصطلاح كُتَّاب العصر على من لا دين له، أو على من ينكر وجود الباري تعالى، وأنه ينبغي لذلك أن يخصص في الكتابات العصرية بهذا المعنى، وذكرت هناك صورة فتوى شرعية بعدم جواز مخاطبة الذمي بـ (يا كافر) إذا كان يستاء من ذلك، ولكن الاصطلاحات الشرعية لا تتغير، ومثل هذه المسألة إنما خصصت بالحكم الشرعي المقرر بالإجماع، وهو عدم جواز إهانة الذمي ونحوه، كالمعاهد والمستأمن (خامسًا) إن الذي أملى على الفكر كلمة (رق الكفار) هو النكتة البديعية، فإن في العبارة الطباق بين الرق والحرية، والجناس المطلق بين الأفكار والكفار، وأعني بالكفار الذين يتعلمون العلوم الحديثة وهم ليسوا على شيء من الدين غير ما يتلقونه بالتقليد الناقص وما يرونه بالمشاهدة ممن يعيشون معهم فيخرجون على غير دين بالكلية، لا سيما إذا كانوا مسلمين وتعلموا في مدارس أجنبية، وذلك أن التلميذ المسلم لا يتعلم في المدارس الأجنبية الديانة النصرانية فيكون نصرانيًّا، ولا يعرف الإسلام فيكون مسلمًا وهؤلاء هم أضر على المسلمين من جميع العالمين، ويصدق على المارقين منهم لفظ الكفر بمعنييه الشرعي والاصطلاحي. هذا وإنني أختم كلامي بالنصيحة لحضرة الكاتب، كما ختم كلامه بالنصيحة لي، وأحب كما يحب أن أعيش معه ومع جميع الناس بحب وسلام، فأقول: إذا كنت تحب أن تتكلم في الشؤون الإسلامية، فيجب عليك أولاً أن تقف على علوم الشريعة من عقائدها، وأصولها وفروعها، وتفسيرها وحديثها، وفقهها وآدابها؛ لتكون على بصيرة من أمرك وأمر ما تدعوإليه، كما هو شأن المسلم، بمقتضى قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وإلا فالزم شأنك مكتفيًا بعلومك الأوروبية، والسلام على من اتبع الهدى.

الحديث الموضوع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحديث الموضوع نشرت مجلة (الموسوعات) الغرَّاء مقالة تحت هذا العنوان لأحد الفضلاء رأينا أن ننشرها في (المنار) إفادة للقراء وهي: الحديث الموضوع هو: المختلق المصنوع المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زورًا وبهتانًا، وهو أشد خطرًا على الدين، وأنكى ضررًا بالمسلمين من تعصب أهل المشرقين والمغربين؛ لأنه يصرف الملة الحنيفية عن صراطها المستقيم، ويقذف بها في غياهب الضلالات حتى ينكر الرجل أخاه، والولد أباه، وتطيرالأمة شعاعًا، وتتفرق بِدَادًا بَدَادًا لالتباس الفضيلة وأفول شمس الهداية، وانشعاب الأهواء، وتباين الآراء، وأن تفرق المسلمين إلى شيعة ورافضية وبابية ونصيرية وزيدية وخوارج ووهابية وسنوسية ودرزية ونيشرية إلخ - لهو أثر قبيح من آثار الوضع في الدين، ولقد قام الحُفَّاظ الثقات، وكادوا يزهقون هذا الروح الخبيث بضبطهم الحديث حفظًا وكتابة وتلقينًا، ومازوا الخبيث من الطيب، وقشعوا سحب اللبس فتلألأ نور اليقين أحقابًا طويلة حتى ابتلي الإسلام بموت الحفاظ الذين آخرهم جلال الدين السيوطي رحمه الله، فأطفئ المصباح من مشكاة مصر وأغلب الشعوب الإسلامية، وعدا الباطل على الحق عدوانًا شديدًا، ولولا كتاب الله فينا وبقية من أهل العلم صالحة، لقلت: إن الباطل خذل الحق خذلانًا لا يقوم بعده أبدًا. ورب سائل يقول: أنى ساغ للمسلمين أن يضعوا في دينهم ما ليس منه، فالجواب أن أسباب الوضع كثيرة منها غفلة المُحَدِّث، أو اختلاط عقله في آخر حياته، أو التكبر عن الرجوع إلى الصواب بعد استبانة الخطأ لسهو مثلاً، ومنهم قوم وضعوا الأحاديث لا يقصدون إلا الترغيب والترهيب ابتغاء وجه الله فيما يزعمون، وآخرون وضعوها انتصارًا لمذهبهم، ومنهم طائفة أهمتهم أنفسهم فاختلقوا ما شاءوا للتقرب من السلاطين والأمراء، أو لاستمالة الأغنياء إلى الإعطاء، ومن هذا الصنف القصاص الذين انتحلوا وظيفة الوعظ والتذكير في المساجد والمجامع، وأخذوا يهدمون من أركان هذا الدين لفلس يقتنونه، أو حطام خبيث يلتهمونه، ولقد شاهدت منهم في المسجد الحسيني رجلاً بيده رقاع صغيرة فيها دعاء يقول: إنه دعاء موسى، وأن من قرأه أو حمله تسقط عنه الصلوات المفروضة، والزحام حوله شبيه بزحام الحشر، حتى لا تكاد ترى إلا عمائم وطرابيش وبرانس وخمرًا وأيديًا ممتدة بفلوس أو دراهم، وهو في بهرة حلقتهم كأنه أبوزيد السروجي يوزع الرقاع، ويجمع المتاع، ويخلب الأسماع، حتى كاد يبيح للمتصدقين والمتصدقات كل ما دخل تحت الحرمة وشمله اسم النهي، هذا وقد بلغني أن بعضهم نبه السيد التقي الورع النقي شيخ الجامع والسادات إلى إزالة هذا المنكر من مسجد سبط الرسول، فأجاب بأن هذا تجسس، والله يقول: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} (الحجرات: 12) . ولا أدري - إن صح هذا عنه - من الذي أخطأ؟ أهو أم عمر بن الخطاب الذي كان يطرد القصاصين أمثال هؤلاء من المساجد، مع أنهم لم يكونوا بهذه المثابة من التغرير والتضليل. (ولنرجع إلى الوُضاع) فمنهم زنادقة قصدوا إفساد الشريعة والتلاعب بالدين {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} (التوبة: 32) فعملوا على لبس الحق بالباطل، وخلط السم بالترياق وهيأت لهم الفرص في الأزمان الغابرة مجالاً فسيحًا لهذا البهتان حتى شحنوا الأذهان وسودوا الدفاتر، وأفعموا الكتب بمفتريات ما أنزل الله به من سلطان. وقد سرى هذا الداء في كتب التفسير والسير والتاريخ، وتلقتها العامة عن سلامة صدر، إما لشهرة المعزوّ إليه، أو لاستبعاد كذبه على الرسول صلى الله عليه وسلم، فخبطوا وحادوا عن الجادة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، فمن تلك الكتب التي تحرم قراءتها إلا على العالم المقتدر على درء باطلها تفسير الكلبي، وتفسير مقاتل بن سليمان، وكتاب محمد بن إسحاق في المغازي، وكتب الواقدي، ومنها (فتوح الشام) ، وكتاب (فضل العلماء) للمحدث شرف البلخي ومسائل عبد الله بن سلام في امتحانه للنبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث نسطور الرومي ووصايا علي المبدوءة بـ (يا) إلا (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى) ، وقد وقع لطائفة من متأخري المفسرين والمحدثين كثير من هذا، لا يعرفه تحقيقًا إلا الواقف على الأحاديث الصحاح. (وللحديث الموضوع علامات) (1) منها المجازفات التي لا يقول مثلها الرسول صلى الله عليه وسلم مثل: من قال لا إله إلا الله خلق الله من تلك الكلمة طائرًا له سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف ألف لغة، إلى آخر المفترى. (2) ومنها تكذيب الحس له، كحديث الباذنجان شفاء من كل داء، وحديث إن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه، وحديث رد الشمس إلى علي بن أبي طالب. (3) ومنها سماجة الكلام، وكونه مما يسخر منه كحديث لو كان الرز رجلاً لكان حليمًا، ما أكله جائع إلا شبّعه، وحديث قدس العدس على لسان سبعين نبيًّا آخرهم عيسى عليه السلام. (4) ومنها مناقضته لما جاءت به السنة الصريحة، فمن ذلك أحاديث مَن اسمه محمد وأحمد وأن كل من يسمى بهذا الاسم لا تمس جسده النار، إذ المعلوم من الدين أن النار لا يُجَار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجدة منها بالإيمان والعمل الصالح المقبول. (5) ومنها قيام الشواهد الصحيحة على بطلانه، كحديث عوج بن عنق من أن طوله 3360 ذراعًا، وأنه كان يشوي الحوت في عين الشمس، وأنه قال لنوح احملني على قصعتك، يريد السفينة، وأنه قلع صخرة عظيمة على قدر عسكر وأراد أن يسحقهم بها، فقورها الله على عنقه إلخ. إذ هذا يدل على أنه عاصر نوحًا وموسى وأنه ليس من ذرية نوح مع أن الله يقول: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ} (الصافات: 77) وفي هذا الهذيان مناقضات أخرى تدرك بأقل مسكة، وكحديث إن (ق) جبل من زمرذة خضراء محيطة بالدنيا، كإحاطة الحائط بالبستان، والسماء واضعة أكتافها عليه فزرقتها منه، وحديث الأرض على صخرة، والصخر على قرن ثور ... إلخ (6) ومنها مخالفته لصريح القرآن، كحديث مقدار الدنيا، وأنها سبعة آلاف سنة، وأن الذاهب منها كذا، فإن ذلك يدل على علم الساعة مع أن تعالى يقول: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّه} (الأعراف: 187) . (7) ومنها اقترانه بما يبطله، كحديث وضع الجزية عن أهل خيبر؛ لأنها لم تكن نزلت إذ ذاك، وإنما نزلت بعد عام تبوك، ووضعها الرسول صلى الله عليه وسلم على نصارى نجران واليمن. (8) ومنها مناقضته للفضيلة، كالأحاديث الدالة على الشره في الأكل، كوصفهم أَكْلِه صلى الله عليه وسلم العنب بما لا مساغ لذكره، أو الدالة على ترغيب في شهوة، كحديث النظر إلى الوجه الجميل عبادة. (9) ومنها مناقضته العقيدة كحديث لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه، ولا بد أن يكون هذا من وضع المشركين عُبَّاد الأوثان، ولقد رسخ هذا الحديث المزور في أذهان أغلب أهل هذا الزمان رسوخًا متينًا، حتى كاد يكون معناه ملكة فيهم، فهم يتسابقون إلى العمل بمعناه أكثر مما يتسابقون إلى الجماعة والصف الأول، حتى لو أنك نهيتهم عن التمسك بعامود السيد في مسجد الحسين، أو شجرة الحنفي، أو باب زويلة (بوابة المتولي) أو أخشاب ضريح، لأجابوك جميعًا بهذا الحديث، كأن الشيطان ما ترك نسمة فيهم إلا ولقَّنَها الضلال البعيد. ومن الأحاديث التي لا أصل لها أحاديث الحمام، واتخاذ الدجاج، وذم الأولاد والتواريخ المستقبلة، وفضائل السور، ومدح العزوبة، والنهي عن الطعام في السوق، وفضائل الأزهار والحناء، وحديث إن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم، وغير ذلك مما يطول بي إيراده، ولست أعجب من العامة وصنعهم هذا، ولكن العجب العُجَاب من أهل العلم الذين يرون هذا المنكر رأي العين صباح مساء، ويتأولون له، كأنما أعمال هؤلاء السوقة وحي سماوي متشابه يجب تأويله في رأي العلماء المتأخرين، اللهم ألهمنا السداد، ووفقنا إلى سبيل الرشاد. والداهية الدهياء أن الناس الآن أخذت تروي الأحاديث من غير إجازة ولا تلقين، وحَوَّل العلماء وجهتهم إلى فروع الفقه وآلات التفسير والتوحيد، وانصرفوا عن الحديث إلا ما كان منه قراءة على سبيل التبرك، فراجت سوق الأراجيف المعزوّة للدين، واختلط الباطل بالحق فمهدوا بهذا للطاعنين على الدين سبلاً كانت عذراء، وخططًا كانت وعثاء، فلا تكاد ترى حمَّارًا، أو حوذيًّا، أو خادمًا أو طاهيًا، أو أكارًا أو قصارًا، أو كناسًا أو رشاشًا، إلا ويستشهد في كل شيء من أعماله بالحديث، سواء صح معناه ولفظه، أو لم يصح، فإذا جلست في مرتاض أو نادٍ، أو سوق أو حانوت، أو محفل عرس أو مأتم، سمعت من خلطهم وخبطهم في الدين ما تخرج لأجله النفوس من العيون، وتمشي له القلوب في الصدور، وربما كان في مجلسهم عالم فيسئل عن اختلافهم، فلا يجيب إلا بأظن كذا، ويمكن أن يكون كذا، والورع يقول: لا أدري حتى أراجع الصحاح، وقد يكون الحديث مشهورًا بين كل الطبقات وهو موضوع، فيظن أنه صحيح لشهرته، خصوصًا على ألسنة بعض الأشياخ، فيفتي بأنه صحيح، وهنالك الطامة الكبرى. هذا ومما يؤسف عليه أنك لو سألت عمن هو أقرب إلى درجة الحفاظ في مصر لقالوا: رجلان أحدهما توفي قريبًا وهو المرحوم محمد بك المكاوي، والآخر العلامة اللغوي الشهير الشيخ الشنقيطي رضي الله عنه، ولا تكاد تسمع باسم ثالث. ولقد كنت عقدت النية على أن أجمع طائفة من الأحاديث الموضوعة التي يستدل بها الناس الآن على عقيدة أو حكم أو فضيلة أو نهي عن رذيلة، وأقترح على حضرة الفاضل خادم الأمة والدين صاحب (المؤيد) أن يقف بضعة أسطر من جريدته الغرَّاء على نشر حديث أو حديثين منها كل يوم ليُمَيِّز عامة المسلمين الخبيث من الطيب، ويبتعد حملة القرآن وخطباء المنابر ووعاظ المساجد عن رواية الأكاذيب المضادة للشرع والعقل باسم الدين وهم لا يشعرون، فلما علمت أن السيد السند الجليل الشيخ محمود الشنقيطي هو ابن بجدتها ونسيج وحده في هذا الموضوع، خلعت هذا من عنقي وجعلته في عنقه لتعينه لهذا الأمر الجلل، كما أجمع عليه الثقات، فإن كان في علماء مصر وجهابذة العصر من يحب أن يسبق إلى خدمة الدين ونصح المسلمين، وكان بهذا الشأن أحرى - فليتفضل، فإنما الغرض إحياء السنة وإماتة البدعة ودرء المطاعن الأجنبية بشيء ليس من ديننا، وألتمس من المتصدر لهذا الأمر أن يجمع أولاً الأحاديث المشهورة على ألسنة العامة والخاصة في احتجاجهم وأمرهم ونهيهم ومعاملاتهم، فإن ضررها عميم، وخطبها جسيم، وذلك كحديث حب الوطن من الإيمان الذي لا يفهم منه بعد التأويل والتحليل إلا الحث على تفرق (الجامعة الإسلامية) التي تنشد ضالتها الآن، فإنه يقضي بتفضيل مسلمي مصر مثلاً على من سواهم، وأن من في الشام يفضِّل إخوته هناك على غيرهم، وهكذا، وهو الانحلال بعينه والتفرق المنهي عنه والله يقول: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ولم يقيد الأخوة بمكان، ويقول: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) وأقل ما فيه تفويت فضيلة الإيثار، ومن ذلك (شاوروهنَّ وخالفوهنَّ) إلى غير ذلك. ومما هو جدير بالعناية قصص المولد النبوي الذي اشتمل على كثير من الخيال الشعري والأحاديث التي وضعها المطرون الغلاة، كحديث لولاك ما خلقت الأفلا

الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بعيد الجلوس الهمايوني في مثل يوم الخميس الماضي 31 أغسطس سنة 1876م (12 شعبان سنة 1293 هجرية) بويع سيدنا أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد خان بالخلافة الإسلامية، ورقى سرير السلطنة العثمانية، وقد هبَّ المصريون للاحتفال بهذا العيد الوطني السعيد هبة واحدة، فعملوا في أيام ما كان يعمل في شهر كامل، وأقيمت الزينة في كل مكان، والزينة الكبرى في حديقة الأزبكية، وكان أبهج الاحتفالات الخصوصية احتفال جمعية (شمس الإسلام) احتفال حضره سعادة محافظ العاصمة الهمام، والأستاذ الأكبر شيخ الإسلام والجامع الأزهر، وجماهير العلماء والوجهاء، وبعد افتتاح الاحتفال قام الفقير منشئ هذه المجلة، فألقى خطبة بَيَّن فيها من مآثر مولانا الخليفة ما ارتاحت له النفوس، وتلاه الخطباء والشعراء، وكان تلامذة المدرسة التحضيرية التابعة للجمعية تُنشد الألحان الوطنية في مدح الحضرة السلطانية والحضرة الخديوية، واخْتُتِم الاحتفال كما افْتُتِح بتشريف الأسماع بتلاوة القرآن الكريم، وانفض الاجتماع بكل هدوء وسكون، خلافًا لما جاء في (مقطم) أمس، فنرفع واجب التهنئة إلى أعتاب مولانا بهذا العيد السعيد، ونسأله تعالى أن يعيده على الأمة في ظله بالعز والتأييد، آمين.

كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي جاءنا في بريد (جاوا) الأخير كتاب من أحد الفضلاء في بتاوي يقول فيه أنه قرأ ما كتبناه في حث الأمم الإسلامية على الاعتماد في ترقيهم على أنفسهم، لا على الدولة العلية، لا سيما أهل الهند والجاوا وأمثالهم ممن تحت سلطة الأجانب، ثم قال: (اعلم أيها الفاضل أننا معاشر الجاويين ليس قصدنا بأن تكون ترقيتنا على يد الدولة العلية، ولكن غرضنا الوحيد هو مساعدة الدولة العلية لنا في فك الأغلال التي وضعتها حكومة هولندا في أعناقنا، وقيدت بها أرجلنا، وضيقت علينا في كل أمر نقصده، فليس لنا مدارس، وليس لنا أساتذة، وتداخلت في كثير من أمورنا الدينية كعقود الأنكحة، وتعطيل بعض المساجد من إقامة الجمعة بعد ما استمرت فيها قرونًا عديدة، والتضييق علينا في شأن الاجتماع، فيمتنع أن يجتمع أكثر من سبعة نفر بدون إذن الحكومة، ولو لقراءة المولد الشريف، أو وليمة زواج، ونحو ذلك، هذا كله في وقت الإقامة، وأما التضييق في السفر، فقد فرضت على كل من يريد السفر، ولو ميلين أن يكون معه تذكرة لها شروط طويلة عريضة، بحيث يضيع على الإنسان أكثر وقته في السعي بالحصول عليها، وتسمى عندهم (باسفور) ولو شرحنا هنا شروط التذكرة في حملها وحطها لاحتجنا إلى كراريس، ولكن بهذا القدر كفاية، واللبيب تكفيه الإشارة، فأنَّى لنا الترقي وهذا حالنا، فهل من نصير، وهل من مجير لنا؟ فالمُشْتَكى إلى الله وحده، ونرجو أن تساعدنا الدولة العلية في طلاب المساواة من حكومة هولندا؛ لأن هذه الحكومة تزن بميزانين، وتكيل بمكيالين مختلفين، وتفعل كلَّ ما تريده بالمسلمين من العسف والجور، وليس لها مُعَارِض ولا منازع، فإذا حصلت لنا مساعدة، وإنشاء مدارس في سائر مدائن جاوا، ففي مدة قريبة ترى عجبًا؛ لأن الجاويين أهل ذكاء وفطنة، ليسوا كغيرهم، هذا وإن أحببتم نشر هذا في (المنار) يكون بدون إمضاء والسلام) اهـ. (المنار) لا يخلو حال الدولة معكم معاشر الجاويين من ثلاثة أحوال: (الأول) أن لا تكون عالمة بما حل بكم وما أصابكم من سهام الظلم والاضطهاد، وماذا تنتظرون ممن يجهل من أمركم ما علمه العالمون، ومرت عليه السنون؟ (الثاني) أن تكون عالمة بما أصابكم وهي قادرة على إغاثتكم، ولكنها لا تبالي بكم، والأمر في هذا ظاهر لا يحتاج إلى ناهٍ ولا إلى آمر. (الثالث) أن تكون عالمة بالمصاب والبلاء، ولكنها عاجزة عن الإغاثة والإنجاء، والأمر في هذا أظهر وأبين، وهو الواقع لا ريب فيه، فتبين أن نصيحتنا لكم ولأمثالكم بالاعتماد على جدكم وهمتكم حقيقة صادرة عن إخلاص وغيرة قلبية. ولا تحسبوا أن سبب عجز الدولة العلية عن إنقاذكم ورفع الضغط عنكم هو قوة الدولة المتسلطة عليكم، فإن مملكة هولندا ليست إلا كولاية من الولايات العثمانية، ولو كانت متصلة ببلاد الدولة العلية لأمكن الدولة أن تدمرها في وقت قريب، كما دمرت اليونان، ولكن السبب الصحيح هو أن الدول الأوروبية بعضها لبعض ظهير بإزاء الدولة العلية، فيُلزمنها باتفاقهن إجابة ما تطلبه كل واحدة منهن لنفسها، أو للنصارى في بلاد الدولة، ولا يجبن لها طلبها فيما يتعلق بمصالحها أو مصالح المسلمين الذي هم تحت رعايتهن، على أنه لو كان لها أسطول قوي يليق بموقعها البحري لأجيب لها كل طلب، ولأمكنها أن تتبع للوصول إلى مقاصدها كل سبب. فإن أمرالدول مبني على قاعدة بسمارك (القوة تغلب الحق) وأما ما تُثَرثر به ساستهم وجرائدهم من العدالة والإنصاف، والمرحمة والإنسانية، والتبري من التعصب الديني، فهي تمويهات خادعة وخلابة كاذبة. اشتهر المستر غلادستون بأنه السياسي الفرد الذي أفاض على السياسة أمواه الآداب والفضائل، فلانت قناتها وراعت العدالة رعاتها. ولقد كان يعلم أن أهل جاوا يسامون من هولندا سوء العذاب، ويقاسون من الظلم والاضطهاد ما لم يقاسه أحد في بلاد متوحشة همجية، وما كان ينبض له عرق ولا يهيج له انفعال، هذا ودم القوة يجري في عروقه، وماء الفتوة يترقرق في أديم وجهه، ولما كبحت الدولة العلية جماح بُغاة الأرمن الذين أضرموا نيران الثورة وخرجوا عن الطاعة، قام على شفير قبره، وقد تبيغ دمه بعد ما كاد يغيض من الضعف والكبر، وتدفقت الفصاحة من لسانه بعد ما أوشك يصاب بالحصر، وطفق يهيج الأمة الإنكليزية خاصة، والأمم الأوروبية عامة على التنكيل بالدولة العثمانية، ومحو اسمها من لوح البرية، شفقة على أولئك البغاة اللئام، والعصاة الطغام، حتى قال فيه البرنس بسمارك: (إن المعلم غلادستون أضاع على دولته بغلوه في بضعة أيام ما اكتسبته من وداد الدولة العلية في بضع عشرات من السنين) فليعتبر هؤلاء الشبان الأغرار الذين يسمون أنفسهم بالأتراك الأحرار، وليكفوا عن طلب الإصلاح بواسطة الأوروبيين، وليخدموا أمتهم بالتربية والتعليم إن كانوا صادقين.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع مالية الدولة) لما كان المُطَّلع على الجداول المتقدمة يمكنه أن يقتنع بما جاء فيها، فالنتيجة العامة لأعمال سنة 1893م المتداخلة في سنة 1894م هي أحسن وأدل على التقدم من نتائج أعمال السنين المتقدمة. قد نشر أخيرًا تقريرالموسيو فنسان كيارد عن الدَّين الأهلي العثماني في سنة 1893م المتداخلة في 1894م، وهو يحتوي كالعادة على بيان مفيد لحالة دَين المملكة العثمانية. قال الموسيو فنسان كيارد في هذا التقرير: لا شك في أني أؤمل أن الإيرادات المتنازل عنها للدائنين يمكن أن تزيد في كل سنة زيادة مهمة، كالتي تكلمت عنها في تقريري عن أعمال السنة الماضية، وأن التقدم لم تظهر بعد علائمه كما ظهرت في السنة المذكورة، إلا أن الأمور يظهر أنها ستجري في نفس مجراها. قد زادت جملة الإيرادات إلى أن بلغت 2542735 جنيهًا مجيديًّا، يقابلها في السنة الماضية 3508760 جنيهًا مجيديًّا، أو 1.35 في المائة، لكن من جهة أخرى قد زادت المصاريف مبلغ 30332 جنيهًا مجيديًّا عنها في السنة الماضية، وكان من ذلك أن صافي الإيراد لم تكن زيادته إلا مبلغ 3643 جنيهًا مجيديًّا، فإذا قورنت سنة 1893م المتداخلة في سنة 1894م بسنة 1892م المتداخلة في سنة 1893م وجد أن زيادة الإيرادات في الأولى عن الثانية هي 110631 جنيهًا مجيديًّا أو 5.38 في المائة. السبب الأول في زيادة المصاريف هو زيادة أجر العمال، وهذه طريقة اختارتها إدارة مصلحة الديون؛ لتكفل بها لنفسها الحصول على عمال أكفاء خبيرين بالأعمال، فزيد في عدد المفتشين، وكانت نتائج ذلك حسنة، وسيكون أثر هذه الإصلاحات أظهر في نهاية السنة الحالية. لاحظ المسيو فنسان كيارد أيضًا من جهة أخرى أن تحصيل الإيرادات كان يجري مع صعوبات عظيمة بسبب قلة الحاصلات الزراعية جدًّا، وانحطاط أثمانها في جميع الجهات، ولكنه يفتكر أن المبلغ المتحصل لا بد أن يكون وافيًا بالمطلوب وأردف هذا بقوله بعد في هذا الموضوع (سيتضح لك أن إيرادات سنة 1893م المتداخلة في سنة 1894م أحسن من إيرادات السنة الماضية، نعم إنك لا تسر كثيرًا في هذا الموضوع؛ لأن انحطاط أسعار الحبوب قد ثبَّط همم المزارعين، وقلل موارد أرزاقهم، وهذه المصيبة أصيب بها أمة زراعية بطبعها، وهي الأمة التركية، ولا يبرح عن ذهنك أيضًا الحجر الصحي الذي خرب آسيا الصغرى بسبب وجود الكوليرا بها، وحينئذ ففي سنة لم تساعد فيها الظروف كهذه قد ظهر من أوائلها أن الإيرادات حفظت نسبتها، مع أن الأحوال في هذه السنة كانت أبعد من أن تكون أحسن منها في السنة الماضية، بل كانت أسوأ، لكني أظن من العبث أن نؤمل استمرار زيادة الإيرادات، وإذا جرينا على ما جرينا عليه في السنة الماضية كانت النتيجة راضية) . وإليك عبارة الموسيو فنسان كيارد في تقريره عن مسألة المال الاحتياطي بزيادة ربح الدَّين العمومي قال: إن المال الاحتياطي يصل في نهاية سنة 1893م- 1894م إلى مبلغ 224893 جنيهًا مجيديًّا، وسيصل في مارس سنة 1893ما إلى مبلغ337000 جنيه مجيدي، فالآن إن أريد أن يدفع لمصلحة الدين مسانهة ربع الاحتياطي زيادة عما يدفع لها اقتضى ذلك وجود مبلغ 292700 جنيه مجيدي، وحينئذ يكون الدفع ممكنًا، ولكن لا يستنتج من ذلك إمكان حصوله عاجلاً؛ فإن المادتين 10، 11 من الأمر العالي المكرم يظهر من فحواهما أن سعر الربح يلزم أن يقرر قانونًا، وهذا هو السبب في إيجاد المال الاحتياطي، لم يكن ليتأتى لواضعي هذا الأمر أن يطلعوا على الغيب فيعرفوا ما يتعاور أسعار الربح من التغير، وما ينتج من ذلك من التشويش المشكل في إنقاذ مشروع الاستهلاك، ربما أنهم كانوا يقصدون أن أسعار الربح إذا زادت تبقى على هذه الزيادة، ولكي يقدموا لمجلس إدارة الديون الطريقة الكافلة لتحقيق هذا النتيجة منحوه الحق في إيجاد مبلغ احتياطي يمكن أن يؤخذ منه من المال حسب مقتضيات الأحوال ما يكمل به النقص من أحد نصفي السنة إلى نصفها الآخر، ومع ذلك فها هي عبارة موسيو فنسان كيارد في إبداء رأيه الذي هو متمسك به من غير شك، كما قال في صحيفة 17 من تقريره، قال هذا السيد: (هذه المجازفة دون جميع المجازفات يظهر أنها أحسن تدبير في الأمور المالية، ولا يمكنني مع هذا أن أنكر أن نص الأمر العالي فيه دليل معقول جدًّا لأولئك الذين يريدون أن يدفعوا فورًا واحدًا في المائة من الربح الذي هو أربعة في المائة، وقد دفعه أكثرهم حتى حصل من المال الاحتياطي المبلغ اللازم، ولم يعد ثَم حاجة إلى البحث في أن سعر الربح يمكن أن يبقى على الدوام محفوظًا من التغيير، أو لا يمكن) اهـ. (للرسالة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

كرامات الأولياء ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كرامات الأولياء يعلم الناظرون في تاريخ الأممِِ المختلفةِ الأديانِ والنِحَلِ أن كل أمة منها تدَّعِي وقوع خوارق العادات وأنواع الكرامات على أيدي رجال الدين ورؤسائها الروحيين وتنقل من ذلك في كتبها ما يتوهم الناظر فيها أنه بلغ مبلغ التواتر المعنوي على الأقل، وأن أولئك الرؤساء يتخذون هذا الاعتقاد من الأمة ذريعة للتصرف في إرادتها، ووسيلة للسيطرة عليها، بل لرفع أنفسهم إلى مرتبة الربوبية، وادعاء قوة غيبية مفاضة عليهم من الحضرة الإلهية، يتصرفون بها في العوالم الكونية، وقد كتبنا في العدد العاشر من هذه السنة مقالة في مسألة (التصرف في الكون) بَيَّنَّا فيها أنه لا قوة غيبية وراء الأسباب الظاهرية إلا لله تعالى وحده، وحيث كنا لا ننكر أن الله تعالى قد يهب لبعض أوليائه من الكرامة ما يهب لغيرهم، وَعَدْنَا في تلك المقالة بأن نكتب مقالة مخصوصة في كرامات الأولياء، وقد آن لنا أن ننجز وعدنا. والنظر في هذه المسألة من وجوه: حقيقتها والحكمة فيها، حجج القائلين بجوازها ووقوعها، حجج المنكرين لها، ادعاء جميع الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها ومضرته، تمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات. وقد فَصَّلنَا جميع ذلك في خاتمة كتابنا (الحكمة الشرعية) وافتتحنا الكلام هناك بمقدمة في نواميس الكون وإثبات الألوهية، والكلام في النبوات والمعجزات فالكرامات، وإننا نثبت ههنا معظم تلك المقدمة لتكون أساسًا لبقية المسائل، وهي: ] يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ [[1] جرت سنة الله تعالى كما اقتضته حكمته في هذه النشأة الأولى والحياة الدنيا بأن يكون جميع ما يحدث فيها من الذوات والأعيان الحيوانية والنباتية والجمادية، وما يطرأ عليها ويعتورها من الأحوال المختلفة، ويتناوبها من الشؤون المتبائنة، وما بين أرضنا هذه وسائر كواكب النظام الشمسي من الارتباط - كل ذلك جارٍ على نواميس لا اختلاف فيها، وسنن ثابتة لا يعتريها تبديل ولا تحويل، فهذه الحجارة ونحوها من الأجرام التي تزيد على الهواء بالثقل النوعي تسقط إلى جهة الأرض، والدخان، وجميع الأبخرة التي هي أخف من الهواء ترتفع إلى جهة العلو حتى إذا ما تكاثفت وزاد ثقلها على ثقل الهواء في طبقة من طبقات الجو، وقفت عن التعالي والارتفاع، وربما تكاثف ما فيها من الماء المتبخر بسبب البرودة؛ فعاد كما كان سائلاً أو جامدًا، وهبط لثقله إلى الأرض، ثم تخلل في الأتربة، وفي هذه الحالة يدلي إليه النجم والشجر خراطيم جذوره، فيمتص منه ما يحتاجه لحياته النباتية، وقد يتخلل الأرض ويسري فيها، فيعترض سيره صخور ونحوها، فيجتمع إليها، ويزداد عليه الضغط من الجهة التي جرى منها حتى يندفع إلى سطح الأرض ويتفجر، فيكون ينبوعًا يرد الحيوان الناطق والأعجم فيعل منه وينهل، وللناس في الماء منافع أخرى حاجية وكمالية، وناهيك ببخاره الذي هو روح العمران في هذا الزمان، ولولا أن ذلك كله جارٍ على قوانين ثابتة وسنن مطَّردة لما تيسر الانتفاع به للناس. وهذا النبات الذي يسقى بماء واحد، وثبتت أصوله في تربة واحدة، وسبحت أفنانه وشعابه في هواء واحد - حصل فيه التباين والتخالف في أشكال ثمراته وألوانها وطعومها وروائحها وخواصها، فكان أنواعًا متمايزة، وأزواجًا متعددة، ومع ذلك لا يحمل نوع منها ثمرة نوع آخر، ولا يزاحمه في خاصيته التي أودعت فيه، وإلا لما اهتدى الناس للانتفاع بها، ولضل سعيهم بعدم حصول المرء على مطلبه، أو إصابته غير غرضه، وربما أفضى بهم اختلال هذا النظام إلى التلف، وألقاهم في مهاوي الهلكة، فإن بعض النبات مغذٍّ يقتات منه الإنسان، وبعضها سام تهلك به الأبدان، فلو أن خواص العقاقير تنتقل أحيانًا إلى الفاكهة وبالعكس، لوقع المحذور الذي أشرنا إليه. وهذه الحيوانات العجم من نَعم وطير، ووحش وسمك وهوام؛ فإن كيفيات معيشتها وتوالدها وحفظ ذريتها، وأشكال أعضائها، وبنيتها الموافقة للقيام بأود حياتها، ككون الطير ذا منقار يلتقط به الحبوب، ونحو الصقر والشاهين ذا منسر ومخلب يمزق بهما اللحم ليطعمه، وكون الطويل الأرجل منها طويل العنق على نسبة طول رجليه؛ ليسهل عليه تناول الغذاء حيث لم يكن مما يتناوله بالأيدي، وكون الضعيف منها أقدر على العَدْو والطيران، أو الحيلة والروغان من القوي الذي من شأنه اقتناصه وافتراسه؛ ليكون استيلاؤه عليه من تقصيره لا من طبيعته ونقص خلقته، وكونها تنفر مما يضرها بالطبع والإلهام إلى غير ذلك من الحكم التي لا تحصى، كل ذلك جاء على نظام بديع وسنن مطردة، وبه تيسر للإنسان انتفاعه بما يمكن الانتفاع به، واحترازه مما يخشى ضرره. وهذا الإنسان في جميع أطواره وأدواره؛ من بداوة وحضارة، وشظف ورفاهة، وعلم وجهل، وقوة وضعف، وعزة وسلطان، وذلة وامتهان، وسائر أنواع السعادة والشقاء التي تتناوبه مجتمعًا ومنفردًا، كل ذلك منطبق على السنن الإلهية والنواميس الكونية، فالأعمال - نافعها وضارها - تابعة لمعارف العاملين وما انطبع في نفوسهم من العقائد والأخلاق، وما تربوا عليه من العادات، ولولا أن لترقى الإنسان وتدليه سننًًا ثابتة وقوانين طبيعية مطردة، لما انتظم لهذا النوع حال، ولما طمع ببلوغ مراتب الكمال. خلق الله الإنسان في أحسن تقويم وهداه النجدين، فكان بفطرته مستعدًّا لتعرف سنن الخليقة، واستخراج النواميس من سير الطبيعة، ولكنه ظل غافلاً عن هذه السنن، ومنصرفًا عن استنباطها من جزئياتها إلا ما يبدو للنظر ويسبق إلى الفكر حتى منحه الله تعالى بفضله الدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة بمقتضى قوله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) فاسْتَلْفَتَهُ القرآن إلى هذه السنن، وبين له أنها لن تتبدل ولن تتحول، فالتفت هذا النوع بذلك إلى الخليقة، وصار يتعرف نواميسها رويدًا رويدًا بمقتضى ناموس التدرج في الاتقاء، وقد شرح حكماء العلماء ما وصل إليه علمهم من تلك النواميس والقوانين التي طبع الله عليها هذا العالم، وفصَّلوا ما عرفوه من سننه فيها، وجعلوا ذلك فنونًا كثيرة كتبوا فيها الأسفار، ودونوا فيها الدواوين، ووضعوا لها الاصطلاحات كما هو شأنهم في سائر فنون العلم، ولا ينفكون في كل عصر من الأعصار التي استحكمت فيها الحضارة ينقبون عنها ويبحثون فيها ابتغاء الزيادة، وحرصًا على كمال الاستفادة، وما كان أجدر هؤلاء الواقفين على أسرار الطبيعة (وأعني بالطبيعة النظام الذي أنشأ الله الكون وطبعه عليه) أن يكونوا من أقوى الناس إيمانا بالله الحكيم القدير الذي أحسن هذا الإبداع وأتقن هذا الاختراع و {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) لكن قد ذهل الكثيرون منهم بإتقان الصنعة عن وجود الصانع وعظمته، والمتأخرون الذين وصلوا إلى ما لم يصل إليه من كان قبلهم، وعرفوا من سنن الاجتماع الإنساني ما لم يكن يعرفه الناس قبل هذا العصر الذي مبدؤه ظهور الإسلام - قد غفلوا عن القرآن الذي كان منشأ استلفات الإنسان إلى هذا النوع من العرفان، لا سيما وقد بَعُد العهد وطال الزمان، وأعرض المنتسبون للقرآن عن فنون الطبيعة وعلم العمران. اشتغلوا - كما - قلنا بالصنعة عن الصانع وغرَّهم شيطان الوهم الخادع بأن هذه النواميس هي الفاعلة والمدبرة لهذه الأكوان مع أنهم ما علموا إلا أقل القليل منها {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:85) وعَلَّلوا الكثير من ذلك القليل بعلل لا يقبلها العقل، وقد صرح بعضهم أن النواميس ليست عللاً وأسبابًا للترتيب والنظام الطبيعي، وأنّى يحكم العقل بأن ثبوت كل جرم من الأجرام الفلكية، وحفظ النسبة بينه وبين الكواكب الأخرى إنما هو بِعِلَّة شيء مجهول أو معدوم، وهو الذي سموه الجاذبية العامة، وأين هذه الجاذبية؟ وما حقيقتها؟ وما الدليل عليها؟ نعم إذا قالوا: إنا وجدنا الأمر هكذا، فوضعنا له هذا الاسم، فإننا نسلم لهم إذ لا مشاحة في الاصطلاح، ثم إننا نقيم الدليل من ذلك على أن له صانعًا حكيمًا، وكذلك يقال في جاذبية النقل، وجاذبية الملاصقة والالتصاق وغيرها. وأكثر الناس قد أرشدتهم الفطرة أو هداهم النظر إلى أنه لابد لهذا الكون المحكم الصنع، البديع الإتقان من فاعل مدبر له، ثم أخطأوا في تعيينه لما عنَّ لهم من الشبه في ذلك، فبعضهم زعم أنه الشمس أو كوكب آخر، وتخيل بعضهم أن صانع العالم هو جوهر النار (وإذا التفتنا إلى قول المحققين: إن النار عرض يكون إله العالم عند هؤلاء عرضًا تابعًا في وجوده لغيره) وبعضهم أسند الألوهية إلى بعض الحيوانات، ومنهم من ارتقى به هذا الوهم، فأضافها إلى بعض البشر، إلى غير ذلك من النِحَل التي لا تحصى، وشبهة الذين أشرنا إليهم هي ما شاهدوه من المظاهر العجيبة التي أظهر الله تعالى بها الشمس والنار، أو قوة الحرارة وما خص به بعض الحيوان من المنافع أو المضار، وما ظهر على أيدي بعض البشر من الخوارق والعجائب التي لم تُعْهَد من أمثالهم، قالوا: ولولا أن سر الألوهية في هذه الأشياء لما وجدت فيها تلك الخصائص أو المنافع دون غيرها، والحاصل أن البشر يشعرون بفطرتهم أن للعالم إلهًا ومدبرًا به قامت الأكوان [2] ، ولما كان غيبًا مطلقًا لم تهتد نفوسهم إلى التوجه إليه وعبادته وتعظيمه إلا بتقييده لما يعرفون، فكان من أمرهم ما كان. فتبين بهذا أن العقل البشري لا يستقل بما يجب من المعرفة الحقيقية لله تعالى، وما ينبغي أن يقوم له به العبد من العبادة والشكر في مقابلة نِعَمه التي لا تُحصى، ولذلك تفضل سبحانه وتعالى على الخلق فأرسل إليهم رُسلاً من أنفسهم جعلهم سفراء بينهم وبينه في بيان ما يرضيه من الناس أن يكونوا عليه، وأيدهم بما يدل على صدقهم من خرق بعض تلك النواميس على أيديهم، ووقوع بعض الأمور على خلاف ما تقضيه السنن المطردة التي لم يعهد فيها خرق وانتقاض، أو فعل شيء لم يعهد في العالم، ولا دخل فيه للبشر بصناعة ولا كسب، بحيث يجزم العقل بأنه لا يقدر على ذلك إلا الذي سَنَّ تلك السنن ووضع تلك النواميس وأبدع جميع الأشياء بقدرته الباهرة، فهدى الله تعالى بهم من شاء من الخلق فعرفوه بما يجب أن يُعرف به، وعبدوه بما يجب أن يعبد به، وقد مضت سنة الأولين بأن المؤمنين بالأنبياء يكونون في زمنهم بغاية الطاعة والخضوع وكمال الانقياد للشرائع والاتباع للهدى، وأنه كلما طال الأمد على البعثة، وبعُد العهد بالأنبياء تقسو القلوب، ويميل الناس عن الحق، ويؤولون تعاليم أنبيائهم بحيث تنطبق على أهوائهم، ومنهم من حَرَّفوا حتى في اللفظ، ومن نسوا حظًّا مما ذكروا به، فكان لذلك من رحمة الله تعالى بعباده أنه كلما طال الزمن من بعد رسول يبعث إليهم رسولاً آخر حتى ختم الله النبيين بالسيد الأعظم، والسند الأقوى والأعصم، عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآلهم أجمعين، وكان مما أنذر به أمته في كتابه العزيز قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ

حقوق الأخوة ـ 3

الكاتب: أبو حامد الغزالي

_ حقوق الأخوة (3) كنا شرعنا في بيان حقوق الأخوة والصداقة ملخصة من الإحياء، فذكرنا منها حَقَّين، وهما المتعلقان بالنفس والمال، وحالت كثرة المواد دون شرح سائر الحقوق (وهي ستة) فكففنا عنها ناوين الرجوع إليها عند سنوح الفرصة، وقد سنحت الآن، فنقول: (الحق الثالث) في اللسان بالسكوت مرة، وبالنطق أخرى، أما السكوت فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به، وأن لا يماريه ولا يناقشه، وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة ولم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده لا يسأله عنه، فربما يثقل عليه ذكره، أو يحتاج إلى أن يكذب فيه وليسكت عن أسراره التي بثها إليه، ولا يبثها إلى غيره ألبتة، ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئًًًا منها، ولو بعد القطيعة والوحشة؛ فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث الباطن، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه، فإن الذي سَبَّك مَن بَلَّغَك، وقال أنس: كان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحدًا بما يكرهه، والتأذي يحصل أولاً من المُبَلِّغ ثم من القائل، نعم لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه، فإن السرور يحصل من المُبَلِّغ ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد. وبالجملة: فليسكت عن كل كلام يكرهه - جملة وتفصيلاً - إلا إذا وجب عليه النطق بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، ولم يجد رخصة في السكوت، فإذ ذاك لا يبالي بكراهته، فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق، وإن كان يظن أنه إساءة في الظاهر، وأما ذكر مساويه وعيوبه ومساوي أهله فهو من الغيبة المحرمة، ويزجرك عنه أمران (أحدهما) أن تطالع أحوال نفسك، فإن وجدت فيها شيئًا مذمومًا فهوِّن على نفسك ما تراه من أخيك، وقَدِّر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة، كما أنك عاجز عما أنت مُبتلى به، ولا تستثقله بخصلة واحدة مذمومة، فأي الرجال المهذب، وكل ما لا تصادفه من نفسك في حق الله، فلا تنتظره من أخيك في حق نفسك، فليس حقك عليه بأكثر من حق الله عليك، و (الأمر الثاني) إنك تعلم أنك لو طلبت مُنَزَّهًا عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة، ولن تجد من تصاحبه أصلاً، فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوٍ، فإذا غلبت المحاسن على المساوي فهو الغاية والمنتهى، فالمؤمن الكريم أبدًا يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والود والاحترام، وأما المنافق اللئيم، فإنه أبدًا يلاحظ المساوي والعيوب، قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات، وقال الفضيل: الفتوة العفو عن زلات الإخوان، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: استعيذوا بالله من جار السوء الذي إن رأى خيرًا ستره، وإن رأى شرًّا أظهره، وما من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه، ويمكن تقبيحه أيضًا، روي أن رجلاً أثنى على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الغد ذَمَّه، فقال عليه السلام: أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه؟ فقال: والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم، أرضاني بالأمس فقلت أحسن ما علمت فيه، وأغضبني اليوم فقلت أقبح ما علمت فيه، فقال عليه السلام: إن من البيان لسحرًا [1] وكأنه كره ذلك، فشبهه بالسحر، ولذلك قال في خبر آخر: البذاء والبيان شعبتان من النفاق، وفي حيث آخر: (إن الله يكره لكم البيان كل البيان) [2] ، ولذلك قال الشافعي - رحمه الله -: ما أجد من المسلمين مَن يطيع الله عز وجل فلا يعصيه، ولا أحد يعصي الله عز وجل فلا يطيعه، فمن كان طاعاته أغلب من معاصيه فهو عدل، وإذا جعل مثل هذا عدلاً في حق الله، فلئن تراه عدلاً في حق نفسك، ومقتضى أخوتك أولى، وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساويه يجب عليك السكوت بقلبك، وذلك بترك إساءة الظن، فسوء الظن غيبة بالقلب، وهو منهي عنه أيضًا، وحَدّه أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على وجه حسن، فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة، فلا يمكنك أن لا تعلمه، وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفَرُّسًا، وهو الذي يستند إلى علامة، فإن ذلك يحرك الظن تحريكًا ضروريًّا لا يقدر على دفعه، وإلى ما منشؤه سوء اعتقادك فيه، حتى إذا صدر منه فعل له وجهان فيحملك سوء الاعتقاد فيه أن تنزله على الوجه الأردأ من غير علامة تخصه بها، وذلك جناية عليه بالباطن، وذلك حرام في حق كل مؤمن، إذ قال صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه، وأن يظن به ظن السوء (هو في مسلم بلفظ آخر) وقال صلى الله عليه وسلم: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، أي حديث النفس. وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس، وقال صلى الله عليه وسلم في تتمة الحديث الذي ذُكِر آنفًا: ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك. رواه مالك وأحمد والشيخان والترمذي، والتجسس يكون في تطلع الأخبار، وتعرف الأسرار بالواسطة، والتحسس يكون بالمراقبة بالعين، واستراق السمع بالنفس لا بالواسطة، والتناجش هو أن تستام السلعة بأكثر من ثمنها ليراك الآخر فيقع فيها، فستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين، وقد وُصف الله تعالى بالستر والتجاوز والمَرضيّ عنده التخلق بأخلاقه، فإذا كنت تحب أن يرضى فيتجاوز عنك فتجاوز أنت عمن هو مثلك أو فوقك، وما هو بكل حال عبدك ولا مملوكك. وقد روي أن عيسى عليه السلام، قال للحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائمًا، وقد كشفت الريح ثوبه عنه، قالوا: نستره ونغطيه، قال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان الله! من يفعل هذا؟ فقال: أحدكم يسمع الكلمة في أخيه فيزيد عليها، ويشيعها بأعظم منها. واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما ورد في الصحيحين وغيرهما، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت على المساوي والعيوب ولو ظهر منه نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه، فما أبعده عن الإنصاف إذا كان ينتظر منه ما لا يضمره له، ولا يعزم عليه لأجله، وويل له بنص كتاب الله تعالى حيث قال: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 1-3) وكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما تسمح به نفسه، فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية، ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين في الباطن، وهو الحقد والحسد؛ فإن الحقود الحسود يملأ بطنه بالخبث، ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالاً، وإذا وجد فرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء، ويترشح الباطن بخبثه الدفين، ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى، قال بعض الحكماء: (ظَاهِرُ العِتَاب خَيْرٌ مِنْ مَكْنُونِ الحِقْدِ، ولا يزيد لُطف الحقود إلا وحشة منه، ومَنْ في قلبه سخيمة على أخيه فإيمانه ضعيف، وأمره مخطر، وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله تعالى) اهـ بتصرف (له بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

التقريظ والانتقاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ وانتقاد (التاريخ الأثري من القرآن الشريف) كُتَيّب ألفه حديثًا الكاتب الأديب مصطفى أفندي الدمياطي المشهور فضله بما له من الآثار القلمية في الجرائد، ويدل اسمه على أنه جمع ما جاء في القرآن الكريم من قصص الأنبياء وأحوال الأمم، وبيَّنها بما لا يخرج عن معنى القرآن، وذكر في فاتحة الكتاب أن الذي حمله على هذا التأليف هو مساعدة أهل النهضة العلمية الحديثة على التربية الدينية، فقد قال فيها بعد تعظيم شأن الدين ما نصه: (فضلاً عن ذلك، فقد قص المولى سبحانه وتعالى قصصًا شتى في الكتاب العزيز تكفي لتربية العقول وتأصيل الاعتقاد به وبصفاته الكمالية، فكم في قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من مرشد إلى حسن أخلاقهم وقوة جأشهم، وسعيهم في هداية الخلق وتعليمهم أساليب التوحيد بما يحث على التمسك بالفضائل، ويحض على الكمالات ذلك هو السبب الذي حملني على جمع هذا الكتاب بمثل هذا الأسلوب النافع، لعلي أقوم ببعض الواجب علىّ نحو وطني العزيز) اهـ وهذا الغرض كما ترى من أشرف الأغراض لو وفَّاه الكُتاب حقه، وأذكر أنني ما قرأت القرآن من بضع سنين إلا وتمنيت لو كان له تفسير يجمع الآيات المنزلة في كل مقصد على حدتها ويفسرها؛ فيكون للتوحيد والعقائد باب، وللأخلاق والمواعظ باب، وللأحكام باب، وللقصص باب، ويذكر في كل قصة جميع ما جاء فيها، ويبين الحكمة في تكرار المكرر إلخ ما لا محل هنا لشرحه، ولقد كنت عندما تناولت هذا المؤلف الجديد حسبت أنه وفَّى ببعض مطلبي، ولما تصفحته ألفيته على خلاف الحسبان، بل وجدت أن اسمه لم ينطبق على مسماه، وأنه ما وفَّى بالغرض الذي أشار إليه في فاتحته، فإن الآيات التي أوردها لم يفسرها ويبين بعض ما فيها من الحكم ووجوه الاعتبار، إلا أنه فسر بعض المفردات في ذيول الصحائف، وما كان في الكتاب من كلام المؤلف فأكثره مأخوذ من الإسرائيليات وكتب القصص التي لا يعول عليها عند المسلمين، وقد عاب العلماء المحققون كتب التفسير التي تشتمل على هذه القصص، وحظروا قراءتها وكتابتها، وقد حوى هذا الكتاب على اختصاره جميع ضروب الخطأ التي في تلك الكتب المطولة، فمن ذلك: ... ... (1) تحديده تاريخ الخليقة والأنبياء، وزعمه تبعًا للإسرائيليات أن تاريخ الخليقة يبتدئ من سنة 4963 قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وهذا الزعم يكذبه القرآن بمثل قوله: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} (الكهف: 51) ويكذبه علم الجيولوجيا الذي يدل على أن العالم وجد منذ ملايين كثيرة من السنين، ويكذبه علم الآثار القديمة أيضًا، ومنه: (2) ما ينافي العقيدة الدينية، كقوله في الصفحة 48: (وأمات الله أولاد أيوب عن آخرهم، وابتلاه بالمرض، إلى أن انتثر لحمه، وامتلأ جسده دودًا، وجفاه الناس، وأخرجه أهل القرية إلى الخلاء، ولم يطق أحد شم ريحه إلا زوجته فصبر وشكر) اهـ والذي عليه المسلمون، لا سيما أهل السنة منهم، أن الله تعالى حفظ الأنبياء من العاهات المنفرة للطباع؛ لأنها منافية لحكمة التبليغ، وقالوا: (إن هذا من أصول الإيمان الواجب اعتقادها وتكذيب من خالفها) ومنه: (3) قوله في صفحة 78: (وعلم يونس بالأمر، فذهب مغاضبًا ربه) والصواب أنه غاضَب قومه، لا ربه، ومنه: (4) إيراد ما لا يصح في السنة كحديث إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، يعني عليًّا رضي الله عنه، انظر صفحة 92. وفي الكتاب خطأ وغلط وراء ما ذكرنا، وغير الأخبار التاريخية التي لا دليل عليها من القرآن ولا من السنة، وهذه الأخبار كثيرة ربما تناهز المائة، كقوله في صفحة 31 في إسماعيل عليه السلام: (تزوج بامرأة من جُرهم، وأولادها أولاده الذين كانت منهم العرب) والصواب أن العرب أمة قديمة كانت قبل إسماعيل، ويقال لأولاد إسماعيل منهم العرب المستعربة. وكإدخاله في آية قرآنية ما ليس منها حيث كتب في صفحة 76 ما صورته (وأذن سليمان بإحضار العرش، فلما رآه مستقرًّا عنده قال: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر إذ آتاني به قبل أن يرتد إليّ طرفي) اهـ فما بعد لفظ (أأشكر) ليس من الآية، وكأنه كان يكتب الآيات من كتاب تفسير امتزج عند هذه الآية فيه الأصل بالتفسير، أو نسي أن يضع شبه الضمتين عند انتهاء كلمات القرآن، وكإيهامه بأن الصرح هو الذي اشتبه على ملكة سبأ بعرشها، حيث قال بعد العبارة المذكورة آنفًا في أول صفحة 77 في ابتداء كلام ما نصه: وأمر سليمان ببناء صرح للملكة، فبنوه من قوارير {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُو} (النمل: 42) ثم قال بعد هذا في ابتداء كلام: (وأذن لها بدخول الصرح) إلخ، وكان ينبغي أن يقدم آية (فلما جاءت..) على قوله: وأمر سليمان ببناء صرح إلخ لينتفي اللبس من الكلام. هذا وإننا لم نقرأ الكتاب كله بالتدقيق، ولم نحاول إحصاء كل ما ينتقد فيه، وإنما توسعنا بعض التوسع في انتقاده لأمرين، أحدهما: أن مثل هذه الكتب التي من شأنها أن تقرأ وينتفع بها إذا كانت نافعة يجب أن تنقح وتمحص، وآلة التمحيص هي الانتقاد دون سواه، ثانيهما: أننا نعلم أن حضرة المؤلف من الرجال المهذبين الذين يقدرون الانتقاد حق قدره، فيكون باعثًا لهم على زيادة الكمال، والمنتظر من عاقل مثله أن يعد انتقادنا من العناية بكتابه، وأن يكون باعثًا له على تهذيبه وتشذيبه، وما يتذكر إلا أولو الألباب. *** قصيدة من مديح الأستاذ صفوة المحققين ونابغة اللغويين، الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي من نظم الأديب محمود أفندي خاطر أحد موظفي نظارة المالية: مثلت بالعرب جدًّا ... ونلت بالجد جدًّا وما عرفناك إلا ... إمام علم مبدّى وما سمعنا لسانًا ... يقول قولك قصدًا وما رأينا صحاحًا ... بغير إذنك تهدى ولا قرأنا عبابًا ... يمد مثلك مدًّا وأن نعمة ربي ... لصفوة الخلق تسدى وقد سرى لك منها ... جمع به صرت فردًا لا في العراق نظير ... تراه يومًا تبدى ولا ببغداد، كَلاّ ... يلتمس الناس ندًّا وليس يأوي ببصرى ... وليس يسكن نجدًا أهل الحجاز جميعًا ... فاهوا بحمدك جدًّا أمير مكة فخرًا ... قد عد علمك مجدًا أيام لم يجدن فيها ... لك في العلم بدًّا أيام أبرزت علمًا ... على ذوي الجهل ردًّا في كل قطر ومصر ... يفوح مدحك ندًّا بالحق ما أنت إلا ... جسم من العلم يندى أرسل علومك تبغي ... من الأماجد جندًا يأتوك طلاب علم ... ولن يخافوا مردًّا ومن تصدى لعلم ... أفنى الليالي كدًّا يستسهل الصعب حتى ... ينال بالسعي سعدًا وشيخنا التركزي قد ... مهد للعلم مهدًا فلا يصغِّر خلاًّ ... ولا يُصَعِّر خدًّا ولا يحقر قولاً ... ولا يصدن صدًّا فما علمنا عليه ... شيئًا لذلك ضدًا وقد سردنا قليلاً ... من مكرماتك سردًا أما الكثير فشيء ... كالنمل والرمل عدًّا وأنت في البر بحر ... لم نستبن لك حدًّا

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (الجيش العثماني) ينقسم الجيش العثماني على حسب ترتيبه الحالي الذي هو من عمل جلالة السلطان عبد الحميد إلى ثلاثة أقسام كبيرة وهي (الأول) القسم الموظف العامل، وهو يتألف من قسمين: أولهما القسم النظامي، أي الموجود تحت السلاح، وثانيهما القسم العامل المأذون. (الثاني) الرديف: القسم الاحتياطي من الجيش، وهو يتألف أيضًا من قسمين. (الثالث) المحافظ، ومدة الخدمة العسكرية محددة بعشرين سنة، هاك بيانها: للجيش العامل ست سنوات، أربعة منها للقسم الأول منه، واثنتان للقسم الثاني، وللجيش الاحتياطي ثماني سنوات لكل من قسميه أربعه، وللجيش المحافظ ست سنوات، ولا يُقبل في الخدمة العسكرية سوى المسلمين من رعايا الدولة، وأما غير المسلمين فحق أداء الخدمة العسكرية يستعاض عنه برسم يدفعونه يُسمى البدل العسكري، فكل ذَكَر من الرعايا العثمانيين غير المسلمين يدفع مسانهة من حين ولادته هذا الرسم المسمى ضريبة الدم، وهذه الضريبة تجبيها كل طائفة على حدتها، وتدفعها مسانهة للخزينة. قد قرر قانون تشكيل القرعة العسكرية الصادر في سنة 1889م وجوب تأدية الخدمة العسكرية على كل مسلم في المملكة العثمانية واستثنى من ذلك سكان العاصمة؛ بسبب وجود امتيازات قديمة لهم، وثلاثة أصناف لا تحسب من الجيش وهي (1) رجال الشرطة في العاصمة والولايات و (2) الجنود غير المنتظمة و (3) ما يلزم تقديمه من العساكر على خديوي مصر. حدد سن القرعة من سنة 1886م بواحد وعشرين سنة وحدد من يلزم اقتراعهم في السنة بعدد بين الخمسين والستين ألفًا، القسم الذي لا يطلب من المقترعين لأداء الخدمة متجزئ جزئين، أحدهما: يحسب في صف الجنود، ويلزمه أن يبقى تحت التعليم العسكري في كل سنة من شهر إلى ستة، بل إلى تسعة شهور بحسب درجة أهمية المكان الذي يقيم فيه العساكر المؤلفون له، وثانيهما: لا يلزم بالتعليم إلا مرة في الأسبوع يوم الجمعة بعد الصلاة. في زمن الحرب نرى في تحريك الجيش هذه الأعداد وهي: (أ) 350000 من الجيش العامل بقسميه النظامي والمأذون. (ب) 450000 من الجيش الاحتياطي (الرديف) . (ت) 200000 من الجيش المحافظ، فترى أن الجيش في زمن الحرب يبلغ نحو مليون مع 1512 مدفعًا سهليًّا، و330 مدفعًا جبليًّا، وجميع القوى العسكرية للمملكة العثمانية منقسمة إلى فيالق، يرأس كل فليق منها مشير أو قائد فرقة (فريق) ويدير مجلس التعليمات العسكرية بكل فليق (أركان حرب) نظام الحركات العسكرية، أما مجلس الشعبة لكل فيلق فعليه النظر في الأمور الإدارية. وعدد الفيالق المذكورة سبعة، مراكز إداراتها في هذه الجهات هي، القسطنطينية: فيها الفيلق الأول وهو فيلق الحرس الشاهاني. أدرنه: فيها الفيلق الثاني. موناستير: فيها الفيلق الثالث. أزرنجان فيها الفيلق الرابع. دمشق: فيها الفيلق الخامس. بغداد فيها الفيلق السادس. اليمن: فيها الفيلق السابع. ويلزم أن يضاف على هذه الفيالق الفرقة العسكرية في طرابلس الغرب وفرقة الحجاز. نظارة الحربية أو السر عسكرية هي تحت أوامر جلالة السلطان الذي هو رئيس الجند، وهو يديره ويراقبه بمساعدة المجلس الحربي الأعلى المسمى بدار الشورى العسكرية، وهذا المجلس يتشكل من مشير وستة قواد فرق، وبمساعدة مجلس الطوبجية المسمى بمجلس الطوبخانة العامرة، ولما كان رئيس الطوبجية معينًا من قبل جلالة السلطان، ومتعلقة أعماله بجلالته وبنظارة الحربية بلا واسطة - كان له بطبيعة وظيفته التي تجعل له اليد العليا على الطوبجية والمهندسين من الاختصاصات ما يكاد يساوي في درجة أهميته اختصاصات ناظر الحربية. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

خوارق العادات والخلاف في الكرامات ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خوارق العادات والخلاف في الكرامات عرَّف الجمهور الكرامة بأنها الأمر الخارق للعادة يظهر على يد العبد الصالح، وهو مَن يقوم بحقوق الله تعالى وحقوق العباد، والأمر الخارق للعادة إما أن يكون خرقه لها بمجيئه على خلاف سنن الكون المعروفة ونقيض ما تقتضيه، أو بكونه لم تعرف له سنة طبيعية يندرج فيها، وإن كان في الواقع ونفس الأمر مندرجًا تحت ناموس طبيعي غير معروف عند كافة الناس، مثال الأول العلم والتهذيب اللذين كان عليهما نبينا عليه الصلاة والسلام مع كونه لم يتعلم ولم يتربَّ، وكانت نشأته في قوم هم أبعد الناس عن العلوم التي جاء بها، كعلم التوحيد وعلم الشرائع وعلم الاجتماع والسياسة المدنية والحربية، ومنه إحياء الموتى لسيدنا عيسى وعصا سيدنا موسى عليهما الصلاة والسلام، ومثال الثاني المكاشفات ومعرفة بعض الأمور قبل وقوعها؛ فإن للنفوس البشرية والأرواح الإنسانية استعدادًا لهذا الأمر، ولله تعالى فيه سنة روحية مخصوصة كسائر السنن الكونية، ولكن هذه السُّنَّة لم تزل من الأمور الغامضة التي لم يهتد إليها أكثر الناس، وإن كثيرًا ممن كان لهم نصيب من الكشف ومعرفة بعض ما يجيء به الغد لم يعرفوا حقيقة السبب في كشفهم، وأنه هو ما اشتغلوا به زمنًا من تصفية الباطن وتقوية سلطان الروح بحيث يقدر صاحبه على صرفه من عالم الحس وشواغل الجسد المتشعبة الكثيرة وتوجيهه إلى أمر واحد، وإن من خواص الروح أن ينطبع في مرآته ما يتوجه إليه هذا النوع من التوجه. وقد عرف هذه السنة الإلهية بعض الناس، ولكن طريقها لم يزل مشتبه الأعلام، قاتم الأعماق، لا يستطيع قطعه كل سالك، وربما يجيء يوم ينجلي فيه قتامه، وتظهر فيه أعلامه، فيذهب الالتباس، ويسهل سلوكه على أكثر الناس، وقد بينَّا كون ما جاء به نبينا من العلم خارقًا للعادة في كتابنا (الحكمة الشرعية) عند الكلام على معجزة القرآن العظيم، فنورده هنا إتمامًا للفائدة، وهو: القرآن هو أعظم معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وإعجازه ليس مقصورًا على أسلوبه البديع، وارتقائه أسمى درج البلاغة، وعلى إخباره بالمغيبات المستقبلة، وسرده قصص الماضين من غير اطلاع عليها، بل فيما اشتمل عليه من العلوم والمعارف في تهذيب البشر وبيان مصالحهم في أمور معاشهم ومعادهم - أعظم خارق لحجب العوائد، لا سيما بالنسبة لمن ظهر على يديه، وإلى ذلك أشار البوصيري رحمه الله تعالى بقوله: كفاك بالعلم في الأميّ معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم وبيان ذلك أنه قد جرت عادة الله تعالى في خلقه بأن العلم لا يحصل للإنسان إلا بالتعلم، لا سيما العلم الذي يتعلق برعاية الأمم؛ فإن القائم به يحتاج لمعرفة أحوال البشر في بداوتهم وحضارتهم، واختلاف شؤون الشعوب في مذاهبهم وعوائدهم، ويتوقف هذا على الوقوف على سير الأولين والحاضرين، مع دقة النظر في موارد الأشياء ومصادرها، وعلل الحوادث في صعودها وهبوطها، وغير ذلك من أحوال طبيعة العمران البشري، وإننا نرى المُبرّزين في علم الاجتماع ومعرفة طبيعة العمران البشري وشرائع الأمم من أهل هذا العصر ما بلغوا مبلغهم من العلم إلا بالنظر في معارف المتقدمين عليهم وضمها إلى ما اختبروه بأنفسهم واستنبطوه من نظرهم وتجربتهم، وهم مع هذا كله عاجزون عن الإتيان بقانون كافٍ وافٍ يضبط مصالح البشر في معاملاتهم فحسب، بل نراهم مع أخذهم ببعض ما استنبطه علماء الإسلام من القرآن العزيز والسنة النبوية لا يستقيمون على قانون مدة من الزمان إلا ويرجعون عن كثير من أحكامه ومسائله، ويستبدلون بها غيرها مما يظهر لهم أنها خير منها، ولو أخذوا بأصول الشريعة الإسلامية وراعوا قواعدها العامة لوجدوا فيها ما يطلبون، ونالوا منها ما يرغبون. وإن كان كثير من أهلها عن ذلك غافلون. فهل من المعهود في البشر والمألوف من عادهم أن يأتي بمثل هذه الشريعة أو بما هو دونها رجل أمي نشأ وتربى بين الأميين، فلم يقرأ شيئًا من العلم على أحد من الناس، ولا اطلع على سير الأمم السالفين؟ وقد أشار القرآن إلى ذلك فيما تحدى به الناس بقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23) بناء على أن المراد بالمِثل: النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد تقرير المعجزة على أكمل وجه، وإلا فقد عجز عن الإتيان بالسورة القارئون والكاتبون، والناس كلهم أجمعون. فإن قلت: أراك قد جعلت القرآن هو الأصل في أحكام الشريعة كلها، وهو إن كان مبينًا لجميع ما يجب اعتقاده في الدين ولأصول التهذيب، فليس مبينًا لجميع أحكام العبادات والمعاملات التي تدور عليها مصالح البشر، بل أكثر هذين القسمين قد أخذ من السنة واستنباط الأئمة، أقول في جوابك: إن القرآن أصل السنة وينبوع الاستنباط، وإليه يرجع الدين كله، وجميع ما فاض على لسان النبي صلى الله عليه وسلم مستمد منه، وكل هاتيك الأنوار العلمية مقتبسة من شمسه المضيئة، ولقد كان يفهم منه مالا يفهمه سواه، ولا ريب أن له طريقًا في الأخذ منه غير الطرق المعروفة عند العلماء، وهو فيها على بينة من ربه، ومعصوم من الخطأ في الفهم والأداء لها، قال تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) وقال تعالى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) وربما كان ذلك الطريق هو الإلهام، وهو غير تعليم الملَك المعروف، وقد صرح الأئمة وأهل الأصول بأن السنة مبينة للقرآن وشارحه له، وقد انتهر سيدنا عمر رضي الله عنه مَن تكلم في حضرته كلامًا رغب فيه عن سماع السنة اكتفاءً بالقرآن، واستبان منه معرفة الصلوات الخمس من القرآن، فكان جوابه العي والحصر، وإذا تسنَّى لفهمه تناول كونها خمسًا من نحو قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ} (الإسراء: 78) ومن قوله: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم: 17-18) فمن أين يتسنى له معرفة كون الصبح ركعتين، والمغرب ثلاثًا والباقيات أربعًا أربعًا؟ وقد أرشد القرآن إلى اتباع الرسول، واتباع سبيل المؤمنين، وإلى استنباط أولي العلم، وهذه هي القواعد الثلاث التي يتفرع منها كل ما لم يؤخذ مباشرة من القرآن من أحكام الدين، وظاهره أن المراد بسبيل المؤمنين هو ما يتفق أهل الاجتهاد والنظر الصحيح منهم على أن فيه مصلحة أو درء مفسدة، وهو المسمى في الاصطلاح الأصولي بالإجماع، وللعلماء في الاستنباط من القرآن طرقًا دقيقة المسلك، مَن تأمل فيها لم يستبعد رجوع أمهات الأحكام إليه بلا واسطة، وذلك كاستنباطهم قاعدة (إن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل للموكل لا ينعزل بعزل الوكيل) من قوله تعالى في أهل القرية: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} (يس: 14) حيث أسند تعالى الإرسال إليه، وإنما كان من سيدنا عيسى -عليه الصلاة والسلام - بإذنه. ومَن تأمل ما يتبع هذه القاعدة المستنبطة من هذه الآية من الأحكام، وما تفرع عنها من المسائل التي لم تكن تخطر -عند تلاوتها- بالبال لم يستبعد كون جميع الشريعة راجعة إلى القرآن، وكون السنة مستمدة من بحر كتاب الله الذي لم يفرط فيه من شيء يتعلق بمهمات الدين، لا سيما بعد العلم بأن لمن أنزل عليه فهم خاص بمراد الله منه، والله بكل شيء عليم. اهـ باختصار. ولا ريب أن معجزة العلم من الأمي في مجموع الكتاب والسنة أظهر منها في الكتاب وحده، سواء كانت السنة مبينة للكتاب فحسب، أم كان فيها مع البيان زيادة علم سكت عنه القرآن إثباتًا ونفيًا، تفصيلاً وإجمالاً، بحيث لا يستند إليه إلا بالأمر العام بطاعة الرسول واتباعه. أما الخلاف في جواز الكرامات ووقوعها، فليس من أصول الدين وقواعده الاعتقادية، ولذلك لم يكفر العلماء الأئمة من أنكرها، وهم المعتزلة والأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والعلامة الحليمي من أكابر علماء أهل السنة، قال في (المواقف) وشرحه ما نصه: (المقصد التاسع: في كرامات الأولياء وأنها جائزة عندنا خلافًا لمن منع جواز الخوارق (واقعة خلافًا للأستاذ أبي إسحاق والحليمي منا، وغير أبي الحسين من المعتزلة) قال الإمام الرازي في الأربعين: المعتزلة ينكرون كرامات الأولياء ووافقهم الأستاذ أبو إسحاق منا، وأكثر أصحابنا يثبتونها، وبه قال أبو الحسين البصري من المعتزلة. اهـ ملخصًا بحروفه. وأما حجج المنكرين فهي خمس أوردها التاج السبكي في الطبقات الكبرى وأجاب عنها، واستدل بعد ذلك على الإثبات بحجج خمس ترجع إلى اثنتين، وسنبين ذلك في العدد الآتي، إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

حقوق الأخوة ـ 4

الكاتب: أبو حامد الغزالي

_ حقوق الأخوة (4) ومن حق الأخ على أخيه وصديقه في اللسان أن يسكت عن إفشاء سره الذي استودعه إياه، وله أن ينكره وإن كان كاذبًا، فليس الصدق واجبًا في كل مقام، فإنه كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب، فله أن يفعل ذلك في حق أخيه [1] فإن أخاه نازل منزلته، وهما شخص واحد لا يختلفان إلا بالبدن، هذه حقيقة الأخوة، وكذلك لا يكون بالعمل بين يديه مرائيًا وخارجًا عن أعمال السر إلى أعمال العلانية، فإن معرفة أخيه لعمله كمعرفته بنفسه من غير فرق، وقد قال عليه السلام: من ستر عورة أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة [2] وفي خبر آخر: فكأنما أحيا موءودة. رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، وقال عليه السلام: إذا حدّث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة [3] . وقال: المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام، ومجلس يستحل فيه مال من غير حله [4] . وقال صلى الله عليه وسلم: المتجالسان بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على الآخر ما يكره (هو مرفوعًا ضعيف، مرسلاً جيد) وقيل لبعض الأدباء: كيف حفظك للسر؟ قال: أنا قبره، وقد قيل: (صدورالأحرار قبور الأسرار) ، وقيل: إن قلب الأحمق في فيهِ، ولسان العاقل في قلبه، أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه من حيث لا يدري، فمن ههنا يجب مقاطعة الحمقى والتوقي عن صحبتهم، بل عن مشاهدتهم. وقد قيل لآخر: كيف تحفظ السر؟ قال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر، وقال آخر: أستره، وأستر أني أستره، وعَبَّر عنه ابن المعتز فقال: ومستودعي سرًّا تبوأت كتمه ... فأودعته صدري فكان له قبرًا وقال آخر وأراد الزيادة عليه: وما السر في قلبي كثاوٍ بقبره ... فإني أرى المقبور ينتظر النشرا ولكنني أنساه حتى كأنني ... بما كان منه لم أُحط ساعة خُبرا ولو جاز كتم السر بيني وبينه ... عن السر والأحشاء لم أعلم السرا وأفشى بعضهم سرًّا له إلى أخيه ثم قال له: حفظت؟ فقال: بل نسيت، وكان أبو سعيد الثوري يقول: إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه، ثم دس عليه من يسأله عنك وعن أسرارك، فإن قال خيرًا أو كتم سرك فاصحبه، وقيل لأبي يزيد: مَن أصحبُ مِن الناس؟ قال: مَن يعلم مِنك كما يعلم الله، ثم يستر عليك كما يستر الله. وقال ذو النون: لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصومًا، ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم؛ لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها، وقال بعض الحكماء: لا تصحب مَن يتغير عليك عند أربع: عند غضبه ورضاه، وعند طمعه وهواه، بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتًا على اختلاف هذه الأحوال، ولذلك قيل: وترى الكريم إذا تصرم وصله ... يُخفي القبيح ويُظهر الإحسانا وترى اللئيم إذا تقضى وصله ... يُخفي الجميل ويُظهر البهتانا وقال العباس لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل (يعني عمر) يقدمك على الأشياخ، فاحفظ عني خمسًا: لا تفشين له سرًّا، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا يجربن عليك كذبًا، ولا تعصين له أمرًا، ولا يطلعن منك على خيانة، فقال الشعبي: كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف. ومن ذلك السكوت عن المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به أخوك، قال ابن عباس: لا تُمارِ سفيهًا فيؤذيك، ولا حليمًا فيقليك، وقال صلى الله عليه وسلم: (من ترك المراء وهو مبطل بنى الله له بيتًا في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتًا في أعلى الجنة) (حسنه الترمذي) هذا مع أن تركه مبطلاً واجب، وقد جعل ثواب النفل أعظم؛ لأن السكوت على الحق أشد على النفس من السكوت على الباطل، وإنما الأجر على قدر النصب، وأشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمناقشة؛ فإنها عين التدابر والتقاطع، فإن التناطع يقع أولاً بالآراء، ثم بالأقوال، ثم بالأبدان، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحرمه، ولا يخذله، بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم [5] . وأشد الاحتقار المماراة، فإن من رد على غيره كلامه فقد نسبه إلى الجهل والحمق، أو إلى الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه، وكل ذلك استحقار وإيغار للصدر وإيحاش، وفي حديث أبي أمامة الباهلي قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتمارى، فغضب وقال: ذروا المراء لقلة خيره، وذروا المراء فإن نفعه قليل، وإنه يهيج العداوة بين الإخوان [6] . وقال بعض السلف: مَن لاحى (خاصم) الإخوان وماراهم، قلَّت مروءته وذهبت كرامته وقال عبد الله بن الحسن: إياك ومماراة الرجال، فإنك لن تعدم مكر حليم، أو مفاجأة لئيم، وقال بعض السلف: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم، وكثرة المماراة توجب التضييع والقطيعة وتورث العداوة، وقد قال الحسن: لا تَشْتَرِ عداوة رجل بمودة ألف رجل. وعلى الجملة: فلا باعث على المماراة إلا إظهار التمييز بمزيد العقل والفضل واحتقار المردود عليه بإظهار جهله، وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار، والإيذاء والشتم بالحمق والجهل [7] ولا معنى للمعاداة إلا هذا، فكيف تضامَّه الأخوة والمصافاة، فقد روى ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تمارِ أخاك ولا تمازحه، ولا تعده موعدًا فتخلفه (رواه الترمذي بسند ضعيف) وقال عليه السلام إنكم لا تسعون الناس بأموالكم، ولكن ليسعهم منكم بَسطَُ وَجهٍ وحُسْنُ خُلُقٍ (حسنه أبو يعلى، وصححه الحاكم، وضعفه ابن عدي) وقد انتهى السلف في الحذر من المماراة، والحض على المساعدة إلى حد لم يروا السؤال أيضًا، وقالوا: إذا قلت لأخيك: قم، فقال: إلى أين؟ فلا تصحبه، وقالوا: بل ينبغي أن يقوم ولا يسأل، وقال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في النوائب، فأقول: أعطني من مالك، فكان يلقي إليّ كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته ذات يوم، فقلت: أحتاج إلى شيء، فقال: كم تريد؟ فخرجت حلاوة إخائه من قلبي، وقال آخر: إذا طلبت من أخيك مالاً، فقال: ماذا تصنع به؟ فقد ترك حق الإخاء، واعلم أن قِوام الأخوة بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة، قال أبو عثمان الحيري: موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم، وهو كما قال. اهـ بتصرف نقول: إن بُعدنا عن أخلاق ديننا وآدابه، صَيَّر سيرة سلفِنا في نظرنا من الأعاجيب التي لا تكاد تصدق، وأين الذين يُنسَبون للإسلام اليوم؟ وأحدهم يعادي أخاه في النسب، بل يقتل الأم والأب لأجل قليل من الحُطام - من أولئك الذين كانت (الجامعة الإسلامية) كافية عندهم لأن يلقي أحدهم كيسه للآخر يأخذ منه ما شاء، فلنرجع إلى الآداب، ولنُرَبِّ أولادنا عليها؛ يرجع إلينا مجد آبائنا الأولين، وإلا فإن الأماني ودعوى الإسلام لا تغني عنا شيئًا، والسلام.

الوثنية في الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوثنية في الإسلام جاءنا الكتاب الآتي من حضره الرحالة الشهير، والكاتب الفاضل السيد سيف الدين اليمني نزيل سنكافور لهذا العهد فنشرناه برمته؛ لأن فيه عبرة لمن يعتبر، وذكرى لمن يذَّكر وهو. قال بعد رسوم المخاطبة: السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، ولا زلتم في نعيم مقيم، لم أزل كثير الإعجاب بما ترقمونه على صفحات (المنار) من النصائح المرشدة للمنهج السوي والطريقة المثلى، وما توردونه من الحجج القاطعة الدامغة لشبه الملاحدة المدلسين، أو الجهلة المغفلين وما جاءوا به مضادًّا للشريعة السمحاء من عند أنفسهم، فإنهم استخدموا دقائق الحيل في هدم قواعد الإسلام {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (التوبة: 30) حتى لقد أوهموا ضعاف العقول أنهم يحيون ويميتون، ويخلقون ويرزقون، ولقد رأيت من بعض من تجله العوام أمورًا مضحكة يتلقاها عنه أقوام من الأغبياء الأغنياء بالقبول على أنها شطحات من الكرامات، وأمور من وراء طور العقول إلى غير ذلك مما يضيق نطاق الشرح عنه، وقد نشطني لرقم هذه الكلمات الركيكة ما رأيته في جريدة المعلومات في أعدادها الأخيرة مما يصلح أن يكون صدًا لما في (المنار) وهو نغمة جديدة ومظهر لم نعهده من تلك الجريدة. فلنبتهل إلى المولى أن يجعل التوفيق لنا خير رفيق، ويكفينا جميعًا شر من يتعيشون بترويج الترهات، وشر أنفسنا، وشر كل ذي شر، بمنّه وكرمه. على أن ما أشارت إليه تلك الجريدة من شأن الموالد ليس أول مطر أصاب ذئب الفلاة. ولا أول أذان أقيمت عليه الصلاة، وأن أمر البدع في الموالد والزيارات ومواسمها لخطب جلل، سيما في البلاد الهندية، وعلى كثير من القبور وعلى سدنتها بالهند سيَّما بالممالك الإسلامية أوقاف عظيمة تذهب غلتها الجسيمة طعمة لطغام مضرين للأنام، ولو صرف ذلك في مدارس نافعة لكان فيه سداد من عوز، وقد شافهت بهذا الأمر حضرة وقار الأمراء بهادر كبير وزراء الدولة النظامية بالهند، فلم يصادف قولي قبولاً، ولقد جارى جهالُ مسلمي الهند مشركيها في كثير من العوائد الخسيسة، فتراهم يسجدون للقبور وللدجالين كما يسجد مواطنوهم للأصنام، وقد شاهدت هذا الأمر من عدد وفير وجم غفير، وأنكرت عليهم، فما كان جوابهم لي إلا قولهم: ذلك وهابي ذو جدل، وقد رأيت بعض من يسمونه عالمًا يعتذر لهم ويقول: إنهم لم يقصدوا السجود وإنما قصدوا تعفير الجباه ولثم التراب و ... ومن عجيب ما رأيت أني دخلت على رجل من مشايخ الطريق عندهم له جاه وصيت عظيم، وقد صف تلامذته بحذائه، وكان منهم رجل لي معه بعض معرفة، وكنت أظن صلاحه، فما هو إلا أن خروا لشيخهم ساجدين، فخرجت من عندهم مهرولاً محوقلاً، ولما لقيني صاحبي عذلته على فعلته، فكان من جوابه قوله: إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم لسرٍّ هو بعينه الآن موجود في الشيخ، وقد علمنا ذلك بالذوق، فنحن نسجد له كما سجد الملائكة لآدم لئلا نطرد كما طرد إبليس، أما مَن يعتقد منهم وحدة الوجود والإباحة إلى غير ذلك فهم كثير، وليس اعتقاد إحدى الطائفتين ببعيد من اعتقاد الأخرى، أي أهل الأصنام وأرباب الضريح. وفي شرقي الهند أي ما بين مدراس ومليبار كثير من المشاهد، وهي عبارة عن بناء يبنونه على اسم شخص مشهور، ثم يزورونه ويقيمون له سدنة، وينذرون له، ويعملون له موسمًا، ويبنون له هيكلاً من خشب مزخرف على نحو هياكل الأصنام، ثم يطوفون به وقت الموسم بالنيران والزمر والطبول، كما يطوف المشركون بأصنامهم حذو النعل بالنعل، وبسنقافور منها بعض أبنية، ويسجدون لها، ويوقدون عليها السرج ليلاً ونهارًا كما يفعل الوثنيون، وترى المعظَّم عندهم من يختلق لهم رؤيا كاذبة في شأن تلك المشاهد، ويكثر الاعتكاف عندها، ويحرضهم على ما هم فيه، نعوذ بالله من ذلك. ولما وصلت بلد ناقور الكائنة بين ناقفتام وكاريكال الفرنساوية (محل بشرقي الهند) وجدت هناك مسجدًا كبيرًا يقيم به طوائف من أهل الكسل بجوار قبر شخص يسمونه شاه الحميد - إن سمح لي الزمان شرحت لكم شيء من أخباره - وقد أوقدوا على ذلك القبر سرجًا كثيرة عديدة نهارًا، وبقربه رجال ونساء كثير بين راكع وساجد، بعضهم من جهلة المسلمين، وبعضهم وثنيون، والسدنة يمسحونهم بالدهن من تلك السرج، وينفضون على رؤوسهم ووجوههم الغبار بالمكانس التي يكنسون بها ذلك المكان، فوقفت على مقربة من أولئك القيام، فأتى إليّ أحد السدنة ليوسخ ثيابي بالدهن، فزجرته، فقال لي: ألست زائرًا؟ قلت: لا، بل متفرج، فقال لي: ما مذهبك؟ قلت: الإسلام، فهز رأسه وقال: وهابي، وكان ناظر ذلك المسجد قريبًا، فبصر بي وبنكوص السادن عني، فجاء واستفهم منه، وكان الرئيس يحسن من العربية مقدار ما أحسن من الهندية، فاستفهمني فأخبرته أن ما يعملون مضاد للشريعة السمحة، فأخذ بيدي وقال لي: افقه، ليس المقصود إلا جمع الربيات، وبما ترى من الوسائط نستغل سنويًّا أكثر من مائة ألف روبية، وما نبالي بما هدمنا إذا حصلنا … وأمثال هذا كثير، والمحذر معدوم خوفًا من نفرة العوام، أو لأجل حظ من الحطام، وحسبنا الله ونعم الوكيل. في 15 ربيع أول سنة 1317هـ

تقسيم أوروبا الجديد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقسيم أوربا الجديد ذكرت (الحاضرة) الغرَّاء تحت هذا العنوان عن بعض الجرائد الأوروبية أن سفير ألمانيا في باريز ذاكر الموسيو دلكاسة ناظر خارجية فرنسا بأن الإمبراطور غليوم يرى أن الخطر الذي يتهدد السلم إنما يجيء من طمع إنكلترا وربما تتبعها الولايات المتحدة، ثم قال: وظهر للإمبراطور أنه لا بد في إلزام إنكلترا باحترام بقية الملل، وكفالة السلم من إجراء تقييم جديد للممالك الأوربية على قاعدة معقولة المعنى، وهي أن تفسخ المحالفة الثلاثية وتمحى من لوح الوجود، وتتآلف الدول على أساس طبيعي بحسب جنسيتها الأصلية، بين صقالبة وألمان ولاتين، فيكون جميع شعوب الصقالبة تحت حكم دولة واحدة من جنسهم، وهكذا الألمان واللاتينيون، ويكون فسخ عقدة التحالف الثلاثي في مدة غير بعيدة، نهايتها انتقال الإمبراطور فرنسو جوزف إمبراطور النمسا بالموت، حيث توالت عليه المصائب، وطعن في السن، وحينئذ ينتقض ملك النمسا والمجر حيث كانت هذه السلطنة مؤلفة من عناصر شتى، مختلفي الأجناس والمذاهب، لا يفترون عن معاركة بعضهم بعضًا، ويتم ذلك التقويض لملك النمسا بدون إزعاج، فتنخرط مملكة النمسا والولايات التي سكانها من الألمان في سلك الممالك الجرمانية المتحدة وتضاف لها مملكة هولندا والولايات الفلمنكية التابعة لمملكة البلجيك فتُمْحى دولتا هولندا والبلجيك من لوح الوجود، وتستقل الروسية بجميع مملكة بولونيا ومملكة ترانسيلوانية وبوكوين، ثم تستولي على الجبل الأسود فالصرب فرومانيا، وتستأثر فرنسا ببلاد والونيه وولايات البلجيك التي سكانها يتكلمون باللسان الفرنسوي، كمداين لياج ومونس وشارلروا وغيرها، وتتألف منها الممالك المتحدة اللاتينية بانضمام إيطاليا وأسبانيا والبرتغال إليها، وبهذه الصورة تتألف ثلاث دول متحدة الجنس من الصقالبة والألمان واللاتينيين، فتربطها روابط وثيقة العُرى قادرة بالتئامها على إلزام إنكلترا بحفظ السلم. قال الراوي: فلما أتم السفير كلامه، هتف جناب مسيو دلكاسي وزير خارجية فرنسا قائلاً: ولكن ما القول في ولايتي الإلزاس واللورين، فأجابه السفير قائلاً: إنني مأذون بأن أعلمكم أنه لما كان تشكيل الأمم وتقسيمها مؤسسًا على قاعدة الجنسية، فلا يخطر ببالنا أن نرجع لكم الإلزاس، حيث كانت مملكة ألمانية يسكنها الألمان، ولكن لكم ولاية اللورين، وتضيفون إليها مملكة لوكسانبورغ المتاخمة لولايات البلجيك الفرنسوية، فتدخل في مشمولات حدودها طبعًا، ويرى متبوعي الأعظم أن هذه المسألة من أدق المباحث التي شملها مشروعه، ولذلك لما كانت فرنسا حليفة الروسية أراد أن تكون المذاكرة الأولى بباريز، ثم قال السفير: ويرى الإمبراطور أنه لا يصعب إبراز هذا الغرض من القوة إلى الفعل بمجرد انتقال إمبراطور النمسا كما هو في الحسبان، وبعد تأسيس دول أوروبا على هذا الأساس - أساس الوفاق الصادق - يمكن إلغاء التجهيزات الحربية المهلكة مع إجراء الطرق السياسية واستعمال قوة النفوذ في جميع أصقاع العالم سواء كان ذلك في آسيا أو في أفريقيا لصد الأطماع وكبح الغوائل التي تظهر في الوجود؛ فيسود بذلك العدل، ويرتفع شأن الحرية بين الأقوام، وتتوطد أركان السلم العام. هذه خلاصة ما فاتح به سفيرُ ألمانيا جنابَ وزير خارجية فرنسا بالنيابة عن متبوعه الإمبراطور، وعليه فيكون جناب مسيو دلكاسي قد توجه لعاصمة الروسية على حين غفلة لمذاكرة رجال دولة القيصر حليف فرنسا في هذا الشأن، ويقال: إنه وجد نفس جلالة القيصر مرتاحة كل الارتياح لموافقة ابن خالته إمبراطور ألمانيا في هذا الرأي، وإن الدول الثلاث العظام يتذاكرون الآن في ما جادت به قريحة غليوم الثاني من الرأي الخطير. اهـ

نجاح الجمعيات الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نجاح الجمعيات الإسلامية يسر كل مسلم وكل إنسان يحب الفضائل وترقي أبناء نوعه ما نالته جمعية (شمس الإسلام) وجمعية (مكارم الأخلاق) من الترقي والانتشار، أما الأولى فقد كان احتفالها الباهر بعيد جلوس مولانا السلطان الأعظم - نصره الله تعالى - سببًا في زيادة الإقبال عليها وطيران صيتها، ومن توفيق الله تعالى لها على حداثة نشأتها في هذه الديار أن حضرة الفاضل الشيخ محمد نور مؤسس المدرسة التحضيرية المشهورة وأحد أعضاء الجمعية قد تنازل لها عن هذه المدرسة بجميع أدواتها، وتلامذتها ثلاثمائة ونيف، فنقلت المدرسة من البغالة إلى محل الجمعية في أول شارع درب الجماميز، وقد شرع أعضاء إدارتها ومنهم كاتب هذه السطور بتنظيم شؤونها، وجعل التربية والتعليم فيها على منهاج الدين وسننه القويمة مع عدم الإخلال بما يقتضيه سير المدارس الأميرية، وعزمت الجمعية على إنشاء مدرسة أخرى لتعليم البنات، وكأنكم بالعمل قد ظهر وبهر بفضل الله وتوفيقه. قد ساء هذا النجاح الباهر أعداء الإسلام من المارقين والطغام فحاولوا إطفاء نور الله بأفواههم {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) ، أشاع أصحاب الجرائد الضلالية الذين تأبى النزاهة ذكر أسمائهم، أو أسماء جرائدهم، أن الجمعية لا ترضي الحضرة السلطانية، فقالوا كذبًا وخلقوا إفكًا، وزعموا أنه قد كان ما لم يكن، وحسبنا أن الجم الغفير وفي مقدمتهم فضيلة شيخ الأزهر وسعادة محافظ العاصمة يعلمون أن ما قيل كذب إن كان قد بلغهم، ويكفينا أن (المؤيد) أصدق الجرائد في حب الدولة قد ذكر خبر الاحتفال كما شاهده صاحبه الفاضل ونشر معظم خطبة منشئ هذه المجلة، وفيها الثناء على مولانا الخليفة نثرًا ونظمًا، ولسنا نقصد بهذه الكلمات الرد على الجرائد الضلالية؛ لأنهم أقل من أن يرد عليهم، ولكن نحب أن يعلموا أن الجمعية لم تحتفل بعيد الجلوس، وتجتهد في خدمة الأمة والملة لأجل جزاء تتوقعه من مولانا السلطان فيهمها سعايتهم وأكاذيبهم، وإنما هي مندفعة إلى خدمة الملة بدافع الواجب الديني، وابتغاء مرضاة الله تعالى. وأما جمعية مكارم الأخلاق، فقد زرتها في اجتماعيها الأخيرين، وكنت شغلت عن زيارتها طائفة من الزمن، وفي الاجتماع الأخير اقترح عليّ أن أخطب، فألقيت خطبة ارتجالية في بيان ما يجب علينا أن نعمل، وهو تهذيب أنفسنا ونسائنا، وتربية بناتنا وأبنائنا، وبينت ما يجب الأخذ به في ذلك، وأما الاجتماع الذي قبله فقد افتتحه رئيس الجمعية المنطيق الذليق، واللسن المفوه بتلك الخطبة المؤثرة التي يقابل فيها بين الشرقي والغربي، ويصف فيها المنكرات الشائعة وصفًا بليغًا، وهي الخطبة التي كلما كررها الأستاذ تحلو في الأسماع، وترتاح لها الطباع، ثم تلاه الأستاذ الواعظ، الشهير بالبراعة في التصوف الشيخ علي أبو النور الجربي، فخطب خطبة مطولة، استغرقت نحو ساعة من الزمن، جاء فيها بضروب القول في الوعظ والتذكير من حث وتنفير، وترغيب وترهيب، وتوحيد وأخلاق، وآداب ورقاق، وأعطى الخطابة حقها من الإشارات والتمثيل، والمحاكاة والتخييل، حتى أدهش الحاضرين، فنسأل الله تعالى الثبات ودوام الارتقاء لهذه الجمعيات؛ ليعم نفعها إن شاء الله تعالى.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع الجيش العثماني) قد اشتهرت عساكر المشاة العثمانية في كل زمان بقوة مقاومتها، وبشدة بأسها في الهجوم على عدوها، فإذا هجمت عليه بأطراف الحراب كانت كصواعق آدمية لا يتأتى دفع انصبابها إلا بقوةٍ تفوقها بكثير، وإذا دافعت عن حصن ترى العسكري منها ملازمًا على الدوام لموقفه، كالصخرة ثباتًا ورسوخًا. عدة العساكر المشاة العثمانية هي أبسط أنواع العدد وأكثرها نفعًا، فملابسها هي مؤلفة من سترة وسراويل (بنطلون) ورباط الساق، وكلها باللون الأزرق القاتم وطربوش، ويُستثنى منهم أورط الحرس الشاهاني؛ فإن لباسهم السترة الزواوية (زواوة: قبيلة إفريقية تزيَّت بزيها الجنود الفرنساوية) والسراويل، ولا يمضي زمن كبير حتى تتسلح المشاة ببنادق (موزر) ذات الطلقات السريعة التي قطر الواحدة منها تسعة ملليمتر ونصف، والتي قررت الحكومة العثمانية في سنة 1887م استعمالها بدلاً من بنادق (مرتيني هنري) وبنادق (رومنتون) التي كانت مستعملة إلى ذلك الحين، وقد أبرمت الحكومة العثمانية مع شركة (موزر) اتفاقًا مُؤَدّاه تعهد هذه الشركة بأن تورد لهذه الحكومة خمسمائة ألف بندقية من ذات الطلقات العديدة للمشاة، واثنين وخمسين ألف منها للفرسان، وبدئ بتنفيذ هذا الاتفاق في سنة 1881م، وقد قاربت أقساط التسليم أن تتم. إن الفرسان العثمانية تفوق كثيرًا الفرسان الأوروبية؛ بسبب أنها يمكن أخذها من أمة معتادة من مهدها على ركوب الخيل، على حين أن هؤلاء العساكر في أوروبا حيث يؤخذون من كل طبقة يكثر أخذهم من طبقات العمال والزراع كما يؤخذون من الطبقات المعتادة على الركوب، ولما كانت الخدمة العسكرية للفرسان أربع سنين لا ثلاثًا كما في فرنسا وألمانيا، كان في العساكر الفرسان العثمانية بسبب طول مدة الخدمة مزايا لا ضرورة لإيضاحها؛ لأنها غنية عن ذلك، وقانون التعليم العسكري وإن غير تغييرًا تامًا، الأحوال التي يجب أن تكون عليها تمرينات الفرسان إلا أنه لم يقلل أهمية هذا القسم من الجيش بطريقة ما. لم يبق موجب لاستعمال حشد الجيوش في ساحة القتال وللجهات الكبرى للجيش برمته مع وجود البنادق ذات الطلقات السريعة والمدافع البعيدة المرمى، أما الفرسان فهم عيون الجيش، وستاره الذي يختفي وراءه أثناء إجراء حركاته، وحينئذ فاللازم في تشكيل الجيش تشكيلاً صحيحًا أن يكون فيه عدد عظيم من الفرسان، وعدد الفرسان العثمانية خمسة وثلاثون آلايًا، كل منها مؤلف من خمس أورط، وهذا العدد ربما ظهر للقارئ قليلاً بالنسبة لحالة تركيا الحربية، ولكن جلالة السلطان قد وجد في حب رعاياه المخلصين لأوطانهم طريقة في مضاعفة هذا العدد، بل في جعله ثلاثة أمثاله في زمن الحرب، وسلاح عساكر الفرسان العثمانية يتركب من سيوف منحنية قليلاً، وبنادق صغيرة القطر، وبعض الآلايات لها رماح، والمظنون أنها ستوزع على جميع العساكر الفرسان، وكسوة هؤلاء العساكر تتألف من سترة بسيطة بصف واحد من الأزرار، وسراويل سنجابي اللون، ونعال بروسيه، أما خيلهم فهي في الغالب من الجنس التركي الفارسي، أو العربي الهجين (المختلط النسب) وهذه هي الخيل التي يغلب فيها القصر والضمور، والمزاج العصبي، ومرونة السوق، والصبر على المشاق، وهي عظيمة الإدراك والانقياد. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

ماذا نعمل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ماذا نعمل؟ كثر الخوض في هذه الأيام في شؤون المسلمين والإسلام، فكتب في الجرائد الكاتبون، وخطب في محافل الجمعيات الخاطبون، أما الجرائد فقد غلب على كل منها ما يناسب وجهتها ويوافق مشارب ذويها، و (المنار) لم يختلف رأيه في هذه الأثناء - أثناء خوض الجرائد في مباحث الجامعة الإسلامية - عن رأيه الأول الذي قام يدعو إليه منذ أنشئ، وهو أنه لا يعود للإسلام مجده ويرجع إلى أهله عزهم إلا بتعميم التعليم الصحيح والتربية العملية على ما يرشد إليه هدي الدين الذي كان عليه السلف الصالح، وأن هذين الأمرين يتوقفان على أمور كثيرة منها إزالة البدع، والرجوع إلى كتب الأئمة الأولين في اللغة والدين، والأخذ بكتب أهل هذا العصر في العلوم الدنيوية، وقد بيّنا في السنة الماضية أن الإصلاح المطلوب لا بد لتعميمه من وجود جمعية إسلامية عامة، يكون مقرها في مكة المكرمة، ولها شُعَب في سائر البلاد الإسلامية، وبينا وظيفة هذه الجمعية وأعمالها، مبادئها وغايتها، وقلنا: إن الرجاء فيها ضعيف الآن، ولكن لا بد أن توجد متى استعدت الأمة لإيجادها، وزالت الموانع التي تحول دونه، ومن الأسف أن هذا الفكر قد لعب في الأذهان، فتلاعبت به الخيالات حتى أبرزته في صورة غريبة، فطفق الكُتََََََّاب يطلبون إنشاء مؤتمر إسلامي في الأستانة العلية، وزعموا أن مجد الإسلام وحياته تناط بهذا المؤتمر، ولا يقول هذا القول إلا من انفصل عن عالم الوجود، فلم يعلم ما يجوز وما لا يجوز، وزَجَّ بنفسه في عالم خيالي يجوّز المحال، ويصور نيل ما لا ينال، ولا حاجة للاستدلال على أن إنشاء المؤتمر في الأستانة لا يكون، ولئن كان فإنه يضر ولا ينفع، وإنما نقول شيئًا واحدًا، وهو أن سيدنا ومولانا السلطان الأعظم لا يرضى بإنشاء هذا المؤتمر في عاصمته تحت رئاسته، ومما يصح أن يستدل به على هذا عدم وجود دعوة جرائد الأستانة إليه واستحسانها له، مع علمها بما كتبت الجرائد الأخرى فيه، وأسأل حضرة الكاتب الذي ما فتئ ينوّه به ويشيد، ويبدئ القول ويعيد، أن يكتب مقالة في المسألة لإحدى جرائد الأستانة المعتبرة؛ ليعلم ما يكون من شأنها فيها. وأما الجمعيات، فالمشهور منها في مصر ثنتان: جمعية (شمس الإسلام) وجمعية (مكارم الأخلاق) وهناك جمعيات أخرى تقتضي حالها عدم التنويه بها، فأما جمعية (شمس الإسلام) فقد ابتدأت بالتربية الصحيحة والتعليم القويم، فضمت إليها المدرسة التحضيرية التي أسسها أحد أعضائها كما ذكرنا هذا من قبل، عهدت إلى كاتب هذه السطور بقراءة درس ديني عام للأعضاء (انظر باب التربية والتعليم) وأما جمعية (مكارم الأخلاق) فلم تزل وعظيّة محضة، يحشر إليها الناس في كل ليلة جمعة يسمعون الخطب التي تشرح لهم مجد الإسلام الغابر، وهوان أهله الحاضر، وتزجرهم عما فشا فيهم من الفواحش والمنكرات، وتحثهم على عمل البر والمحافظة على الصلوات، لا يقال: إن هذه الأمور معلومة للجمهور، فالكلام فيها لا يفيد غير التحبيذ لذي الفصاحة، والتأفف من صاحب العي والفهاهة، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وللخطابة شأن في نفوس السامعين، نعم لا مندوحة لمن يتكلم في أدواء الإسلام عن شرح العلاج الحقيقي العام، وقول أولئك الخطباء: عليكم بالاتحاد والإخاء، واعتصموا بالوفاق والوئام، واحذروا من التنازع والخصام، وما أشبه هذه الأقوال التي يلوكها كل قوَّال هي كلمات مجملة، وفي نظر الجمهور كالمهملة؛ لأنها لا ترشد إلى عمل معروف، ولا تهدي إلى الوقاية من مصارع الحتوف. ذكرت في (المنار) الذي قبل هذا أنني خطبت القوم في تلك الجمعية خطبة في التربية، وما حملني على إجابة دعوة الداعي إلى الخطابة إلا أن أحد الخطباء تكلم عن فساد الأمة، وأطنب في شرح حال الفحش وتهتك النساء في الشرق بعد انتشار الغربيين في بلاده، ثم قال: وأما علاج هذا البلاء ودواء هذه الأدواء فكلكم تعرفونه، والصواب أنهم إنما يعرفون الداء الذي شرحه؛ لأنهم هم المتلبسون به كما قال، ولو عرفوا الدواء لعرفوا أن فيه سعادتهم، ومن عرف معرفة صحيحة أن في شيء ما سعادة له، فإن إرادته تبعثه للعمل به طبعًا كما بيناه في مقالة (تأثير العلم في العمل) وقد أحببت أن أكتب ملخص ما بقي في ذهني من تلك الخطبة إجابة لطلب من استحسنها، وهو: (أيها الإخوان، تكلم الخطباء الأفاضل في أمراضنا الروحية، وأدوائنا الاجتماعية، فلم يدعوا مقالاً لقائل، ولا مجالاً لجائل، مثلوا الداء للأنظار حتى كاد يحس، وصوَّروه حتى تخيلت أنه يلمس، فبقي علينا أن نتكلم في العلاج، ونشرع له أقرب منهاج (أشرع الطريق: بيِّنه) وليس من قصدي الخطابة وإنما أحب أن أقول كلمات ثلاث أبين بها ماذا يجب علينا أن نعمله لإرجاع مجدنا، أثار هذه الكلمات في نفسي قول الخطيب الثاني: (كلكم تعرفون الدواء) وربما يكون قالها لتوجيه نفوسكم للبحث في هذه المسألة المهمة، أو لعدم إيقاعكم في وهدة اليأس ولا أخاله يعتقد أن علاج الأمم. يأخذه الكافة من أَمَم (قرب) يصاب أحدنا بوجع في إصبعه، أو يخرج دمل في عضو من أعضائه، فيحار هو والناس في معالجته، فماذا عسى أن يقال في معالجة أمة عظيمة يزيد عديدها عن الثلاثمائة مليون، وقد مر عليها ثلاثة عشر قرنًا ونيف، وتبوأت كل أرض، وتكلمت بلغات كثيرة، وحكمت من أمم ودول متعددة، وطرأ عليها من البدع والأهواء ما لم يطرأ على سواها، فهل يقال: إن إرجاع مجدها إليها يعرفه كل أحد؟ كلا، إن علاج مثل هذه الأمة أمر كبير لا يعرفه إلا الحكماء والراسخون في العلم، وقليل ما هم، كتبنا وكتب الكاتبون، وقلنا وقال آخرون , والبحث لم يزل في أوله، والجماهير لم تزل تتخبط في دياجير الحيرة، وتهيم في أودية المشكلات، يقال لكم: عليكم بالإخاء، عليكم بالاتحاد، وما أشبه هاتا، وهذا كلام إجمالي يخرج كل سامع له غير عالم بما يُطلب منه، وما يجب أن يأخذ به، ولهذا أحببت أن أختصر القول بثلاث كلمات ليعيها الواعون، ويعمل بها الموفقون، وهن بيان ما لما أجمله الخطباء والكتاب في قولهم: إننا لا يرجع إلينا مجدنا إلا بالدين. الكلمة الأولى: كيف نربي أنفسنا تربية دينية صحيحة؟ والثانية: كيف نربي نساءنا؟ والثالثة: كيف نربي أولادنا؟ فهذه هي الفرق التي تتألف منها الأمة. تربية الكبير أمر عسير جدًّا؛ لأن مناشئ العمل من العقائد والأخلاق والصفات تكون راسخة فيه بالعمل يصعب اقتلاعها وانتزاعها، وبيان هذا أن الإنسان إذا عمل عملاً يحدث لعمله أثر مخصوص في مركز مخصوص من دماغه، وكلما أعاد العمل يقوى الأثر حتى يصير المركز العصبي هو الذي ينبه لذلك العمل ويزعج الأعضاء لفعله كلما جاء وقته، أو عرض سببه، فيندفع الإنسان لفعله بلا رويّة ولا تكلف، وهذا هو الذي يسمى الخُلُق والمَلَكة. ثبت هذا التدقيق في الفلسفة الجديدة، ويشير إليه الناس بقولهم: العادة طبيعة خامسة، الأعمال هي التي تطبع الملكات والأخلاق في النفوس، والأعمال التي يندفع إليها المرء بطبيعته من غير تكلف إنما تنبعث عن الملكات والاعتقادات الراسخة الممتزجة بالنفس، وهي التي عليها مدار السعادة والشقاء، لولا أن الإنسان خُلِق قادرًا على التكلف بالعمل على خلاف ما يقتضيه خلقه وعادته لكانت تربية الكبير متعذرة، ولاستحال أن يصلح من خلل أو يرجع عن زلل، ولكن العاقل إذا ثبت عنده شرعًا أو عقلاً أن شيئًا مما اعتاده وتخلق به مضرٌّ له في دينه أو دنياه، يمكنه أن يتكلف ترك العمل الذي ينشأ من تلك العادة أو الخلق، ويتكلف العمل بضدها، وإذا واظب على هذ التكلف زمنًا طويلاً يضعف الخلق الأول، وينشأ له خلق جديد، لا أنكر أنه لا يقدر على هذا العمل كل إنسان، لا يقدر عليه إلا أرباب الفطرة الزاكية، والهمة العالية، والعزيمة الصادقة، ولابد من الاستعانة عليه بأمرين، أحدهما كثرة المذاكرة في قبح القبيح الذي يريد تركه، وحسن الحسن الذي يحاول استبداله به، وثانيهما أن يجعل بعض أصدقائه مهيمنًا ورقيبًا عليه، ويأذن له بأن يذكره إذا نسي، ويؤنبه ويعنفه إذا أخل بما التزمه من ترك الرذيلة والتلبس بالفضيلة، مَن يرضى منا أن يوصف بضعف الاستعداد الفطري للخير؟ من يرضى أن يرمى بوهن العزيمة؟ من يرضى أن يغمز بقلة الهمة؟ لا يرضى أحد مِنَّا بهذه المثالب، فعلى كل منا أن يجعل مرمى نظره، وقبلة عزيمته تهذيب نفسه وتزكيتها، وإلحاقها بنفوس الكَمَلة، إن صح منك الهوى أرشدت للحيل، متى شرعنا في العمل يفتح في وجهنا باب العلم بنفوسنا ومصالحها، فكلما أصلحنا شيئًا يلوح لنا غيره فنشتغل بإصلاحه، وهذا هو معنى الحديث الشريف: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. يجب أن يبدأ كل منا بالرجوع عن كبائر ذنوبه، وبمعالجة أسوأ أخلاقه، وهذه العظائم لا تخفى على أحد منا، الحلال بَيّن والحرام بَيّن، وإنما يجهل الكثير من الناس الشبهات، ولا يتقي الشبهات إلا من اتقى الفواحش والمنكرات. (لها بقية)

دروس جمعية شمس الإسلام ـ 1 ـ الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دروس جمعية شمس الإسلام (الدرس الأول) قرر مجلس إدارة جمعية (شمس الإسلام) باتفاق الآراء انتداب هذا العاجز منشئ (المنار) لإلقاء دروس دينية في الاجتماع العمومي الأسبوعي للجمعية، فتلقيت أمر المجلس بالامتثال، بل أديت فرضًا عليّ لأمتي وملتي، وكان إلقاء الدرس الأول في ليلة الاثنين الماضية، وبعد الفراغ منه اقترح عليّ وكيل الرئيس أن أنشر ملخص هذه الدروس في (المنار) ليكون تذكرة للإخوان، ولينتفع به من لم يحضره، لا سيما شُعَب الجمعية في خارج القاهرة، ورأيت الحاضرين ارتاحوا لهذا الاقتراح، فتلقيته بالقبول، وهاؤم اقرءوا ملخص الدرس الأول. (الدرس الأول - تمهيد ومقدمات) ابتدأت بالبسملة والحمدلة والتصلية والدعاء، ثم قلت: (1) الدين: لم يبق سمع لم يطرقه الكلام في الشكوى من حال الإسلام، وأن علاج ما نحن فيه من البلاء المبين هو الأخذ بتعاليم الدين، مقتفين آثار أسلافنا الأولين، فما هو الدين؟ عرَّف الدينَ علماؤنا بأنه وضع إلهي سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم إلى ما فيه نجاحهم في الحال وفلاحهم في المآل، فهل ينطبق علينا هذا التعريف؟ هل نحن ناجحون في الدنيا؟ كلا إننا أمسينا وراء جميع الأمم والشعوب، فاليهود الذين لا سلطة لهم يفوقوننا بالعلم والثروة وارتباطهم بالإخاء المِلِّي، والوثنيون في الهند سابقون للمسلمين في الفنون والصنائع، والأخذ بزمام الأحكام، ولقد كانت السيادة للمسلمين عليهم في كل شيء مع كونهم أقل منهم عددًا، وإلى الآن لا يقدر الوثنيُّ على بلوغ شأو المسلم إذا هو جاراه، ولو صرخ مسلم بمائة وثني لَوَلَّوا منه فِرَارًا ولَمُلِئوا منه رعبًا؛ بسبب ما بقي له من آثار وراثة أسلافه، من العجيب أنه لا يوجد شعب إسلامي ناجح مع أن النجاح داخل في مفهوم دينه. عدم انطباق تعريف الدين علينا يدل على أننا لسنا على الدين، لا أقصد بهذا أن كل من ينتمي للإسلام ليس على الإسلام، وإنما أريد به ما تدل عليه المشاهدة من أن مجموع المسلمين منحرفون عن تعاليم دينهم القويمة التي تؤدي بطبيعتها إلى النجاح، وتستلزم الفوز والفلاح، كما وقع لأسلافنا الذين سبقونا بالإيمان. صرَّح التعريف بأن الدين يوصل ذويه إلى سعادة الدنيا والآخرة، فعدم وصولنا لإحدى السعادتين دليل على أننا لا نصل إلى الأخرى أيضًا؛ لأنه ناشئ عن عدم أخذ الدين على وجهه الصحيح، القياس جلي ظاهر، وسنزيده تفصيلاً عند الكلام على فروع العبادات والحكمة فيها، ككون الصلاة المَرضية عند الله تعالى تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكفوائد الزكاة الاجتماعية، وغير ذلك (توسعنا بهذه المسألة في الدرس) من التعاليم الفاسدة الزائغة بيننا، قول عامتنا وخاصتنا فينا وفي المخالفين لنا في الدين: لهم الدنيا ولنا الآخرة، وهذا مخالف لصريح القرآن، فإن الله تعالى يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَة} (الأعراف: 32) فقد جعل الله الزينة والطيبات للمؤمنين بالاستقلال، ولولا أن قال: {خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) لما عُلِم أن غير المؤمن يستحق شيئًا منها، أليس من الجهل الفاضح أن نزعم أن ديننا هو الذي قضى بحِرْمَانِنا من سعادة الدنيا، أي جناية على الدين أشد من رجوع أهله به إلى ما هو أشبه بحالة الرهبانية الأولى من الإفراط في الزهادة والخمول ومخالفة القرآن؟ إن الديانة الإسلامية وعزة الدنيا وسلطانها توأمان، ارتفعا معًا وانْحطَّا معًا، ولا يمكن لنا أن نحفظ ديننا إلا بالثروة وبسطة العلم والسلطان، وأن تلك التعاليم المخالفة لهذا المنهاج القويم هي التي أوقعتنا في الرجز الأليم. (2) التعليم: إنما يؤخذ الدين بالتعليم، كذلك تلقاه النبي عن الروح الأمين، وكذلك تلقاه عنه الصحابة وهكذا، كان التعليم بالقول والعمل، ثم صار بعد ذلك صناعة، والصناعات تقوى بترقي العمران، وتضعف بتدليه، وقد ضعف عمراننا؛ فضعف تعليمنا حتى كاد يكون فهم الدين منه متعذرًا، إن دين الإسلام هو دين الفطرة، وهو أسهل الأديان تعقلاً، وأقربها مثالاً، وأسهلها على النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم بعثتُ بالحنيفية السمحة، ليلها كنهارها، وكان الأعرابي يتعلم الدين من صاحبه في مجلس واحد، وإننا نرى اليوم الذين يقدمون لتأدية امتحان التدريس في الأزهر، يخرج الكثير منهم مجروحًا في العقائد والفقه والتفسير، ويكون قد قضى في الأزهر نحو عشرين سنة ولم يفهم الدين، فإذا كان التعليم محصورًا في الطريقة الأزهرية، فمتى يتأتى تعميمه بين المسلمين؟ ترون في الجرائد آنًا بعد آن خلقًا كثيرًا قد دخلوا في الديانة الإسلامية، وأن سبب دخولهم فيها هو سهولتها وتعقل عقائدها وأحكامها، سبب متفق عليه بين الجرائد الأوروبية والجرائد الإسلامية، هذا وإن الدين لم يبق على سذاجته الأولى؛ لأن أحكامه امتزجت بمسائل الفنون الحادثة في المِلَّة، ووجد في كتبه ما يتبرأ الدين منه، فما بالكم لو كان الدين وأهله في هذا الزمن الذي اتصل به العالم بعضه ببعض على ما نعلم من حالهما في النشأة الأولى. (3) البصيرة في الدين: لا يؤدي الدين إلى غايتيه اللتين ذكرناهما ما لم يكن الآخذون به على بصيرة فيه، فإن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) ولا يكون الإنسان على بصيرة فيه إلا إذا كان موقنًا بعقائده لأخذها ببراهينها، ومذعنًا بأن أحكامه وآدابه موافقة لمصلحته ومصلحة الأمة كلها إذعانًا يمازج روحه، ويخالط وجدانه بحيث يصدق عليه قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) ولا يتناوله الويل المشار إليه بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزمر: 22) العلم بالدين على هذا الوجه لا نصيب منه لأهل التقليد الذين يعتقدون لأن قومهم اعتقدوا، ويعملون لأن أباهم أو شيخهم عمل، وقد عاب الله تعالى في كتابه هذا الفريق من الناس في آيات كثيرة، فإن قيل: إنك تحاول بهذا أن يكون كل فرد ولو أميًّا عالمًا دينه بالدليل والبرهان، وهذا لم يحصله إلا القليل ممن انقطع للعلم الديني، فكيف يحصله بتعليمك حتى الصناع والزراع؟ أقول: إن المنقطعين للعلم إنما يتناولون الدين من كتب يتوقف فهمها على إتقان علوم وفنون كثيرة لا يتقنها إلا قليل منهم، لسوء أساليب التعليم، بل إنهم أهملوا المهم منها، كالتفسير والأخلاق، وعلم النفس والاجتماع، وتركوا تطبيق العلم على ما في الوجود، إذا أنا قرأت لكم العقائد بالبراهين المنطقية فلا شك في أنه لا يستفيد منها إلا نفر قليل، ما لي وللقياس الاقتراني والاستثنائي، ولبرهان التطبيق والخلف، أنا أحب أن أشرح المسائل بعبارة يفهمها كل سامع، وأقيم عليها الأدلة الواضحة التي تتقبلها العقول، وتشربها القلوب، وتسكن إليها النفوس بحيث يكون متناولها على نور من ربه، فلا يرجع عنها ولو رجع جميع العالمين، وبهذا القدر يخرج من مضيق التقليد المذموم الذي هو الأخذ بقول الغير بغير بصيرة. (4) قواعد الدين: شرع الله الدين لتصحيح العقائد وتهذيب الأخلاق وإصلاح الأعمال، فمقاصد علوم الدين ثلاثة، أما علم العقائد فخصصوا مباحثه في ثلاث قواعد (1) ما يعتقد في الله تعالى و (2) ما يعتقد في الأنبياء والرسل و (3) ما يعتقد تفصيلاً في عالم الغيب، أي ما جاء به الدين من الأخبار التي لا تعرف إلا بالسمع، كوجود الملائكة والجنة والنار إلخ، يجب الاعتقاد بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعُلِم من الدين بالضرورة غير مختلف فيه، كوجوب الصلاة والزكاة، وتحريم الزنا والخمر، والحسد والكبر، فمن كان لا يعتقد بهذه الأشياء لا يكون مسلمًا، وإنما قصروا علم العقائد على القواعد الثلاث؛ لأن سائر ما يجب اعتقاده يبحث عنه في العلوم التي تبين أحكامه بالتفصيل، وسيأتي كل شيء في محله إن شاء الله تعالى. هذا مجمل الدرس ومن حضره يتذكر منه التفصيل، والله الهادي إلى سواء السبيل. ((يتبع بمقال تالٍ))

المسلمون في روسيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسلمون في روسيا قدم على هذا القطر من عهد قريب العلامة الفاضل أحمد جان أفندي أحد كبار علماء قزان من أعمال روسيا وقد اجتمعنا به فرأينا منه أفضل رجل، وأكمله علمًا وعقلاً، وبصيرة ونبلاً، وذاكرناه في شؤون المسلمين في تلك البلاد، فعلمنا منه أن حالهم أحسن من أحوال المسلمين في البلاد التي نعرفها بالخُبْر والخَبَر، وقد كان صاحب جريدة (ثمرات الفنون) المفضال اجتمع به في بيروت قبل قدومه إلى هذه الديار، واستعرف منه شؤون المسلمين في روسيا، وكتب في جريدته الغرَّاء خلاصة ما اقتبسه منه في شأن النهضة العلمية، فرأينا أن نأخذ ذلك من (الثمرات) نفسها، لا من حيث أخذت، اعترافًا لها بحق السبق، وحيث قد اعترفت هذه الجريدة بأنها كتبت بعض ما استفادته من حضرة أحمد جان أفندي، واعترف هو بذلك بعد اطلاعه عليها، فربما نزيد قرَّاءنا بيانًا في نبذة أخرى، قالت الجريدة: (يبلغ اليوم عدد المسلمين في روسية عشرين مليونًا من الأنفس أو يزيدون، وفي الجغرافية القديمة ثلاثة عشر مليونًا، وهم على جانب عظيم من التقوى وقوة الإيمان، والتربية الحسنة، والغيرة والحمية، وقد شاهد البيروتيون أثناء الحج السابق كثيرين منهم يتكلمون بلسان التتار، أي التركي القديم، فيهم عدد وافر من العلماء يعرفون العربية كتابة وقراءة، ويتكلمون فيها بلسان فصيح، ويعرفون كذلك التركية والفارسية، ولهم في ولاية أوفا من أعمال الروسية محكمة شرعية كبرى هي مرجع المسلمين في جميع قضاياهم وشؤونهم الخاصة، فيها ثلاثة قضاة موظفين من قبل الحكومة، راتب كل منهم في السنة ستمائة روبل (ريال) ومُفْتٍ واحد وراتبه ضعفا ذلك، وهي تقيم في كل بلدة من البلاد التي يقطنها مسلمون إمامًا أو إمامين ومؤذنًا يصلون بالناس في المساجد الصلوات الخمس والجُمَع والأعياد، وفي كل جمعة يأمر الخطيب بالمعروف وينهى من المنكر، ويحض على التسابق في الخيرات، والتعاون على البر والتقوى، وأكثرهم يمتثلون ذلك، ولهذا قلَّما تجد مسلمًا في ملهى أو منتدى عمومي، بل ترى كلاًّ منهمكًا في شغله، فالتاجر في تجارته، والصانع صناعته، والزارع في زراعته، وهلم جرًا، وأبغض الأشياء إليهم تمضية الوقت عبثًا باللغو واللهو، ولهم في أكثر الولايات جمعية أو جمعيتان تستدر الخيرات من أولي البر والإحسان، وتعين البائس الفقير، وللخاصة منهم شغف في مطالعة الجرائد، خصوصًا الصادقة اللهجة، البعيدة عن الإطراء والمدح، إذ يرونها أمرًا معيبًا مسقطًا للجرائد، مشينًا لها، قلَّما تجد امرأة في السوق، بل يَقْررن في بيوتهن، ينظرن في شؤون منازلهن، وتربية أبنائهن، وللمسلمين لباس خاص يمتازون به عن غيرهم، وأكثره من نسجهم، كالأجواخ والأصواف، خصوصًا ألبسة الرأس والرجل، فإنهم لا يحتاجون في اصطناعهما إلى الأجانب قط. ولهم في التجارة اليد الطولى، والقدح المعلَّى، سيما تجار قزان وقاسيم وبنزه، ومنهم من يقيم في الصين ومنهم في الهند وبخارى والعجم والأستانة ومصر وباريز ولندرا وبعض الثغور الأميركية والإيطالية، وهم مشهورون بالأمانة وحسن المعاملة والبر، حتى إنه إذا عقد تاجران أو أكثر شركة تجارية يشترطون بادئ بدء إنفاق الخمس من الربح أو أقل على المدرسة الفلانية أو غيرها من بيوت العلم، وهي لعمري مزية حسنة امتاز بها التجار الروسيون على غيرهم، وللمثرين منهم عدا ما تقدم ذكره مبرات جمة، كتأسيس المساجد والجوامع، وإشادة (كذا) المدارس والمباني الخيرية وغيرها، وفي مدينة قزان وحدها 14 مسجدًا، وسكانها المسلمون يبلغون نحو الخمسة والعشرين ألفًا، والحكومة الروسية تتداخل بالظاهر في شؤون المسلمين الدينية، وهم يتقاضون القضايا الجزائية والجنائية في محاكمها التي ليس لهم فيها أعضاء، غير أن القوم استيقظوا من سباتهم وانتبهوا من غفلتهم، وأيقنوا أن لا قيام ولا قوام لهم إلا بالعلوم والمعارف، وأخذ كثير منهم يدرس اللغة الروسية، وفتحت الحكومة لهم ثلاثة مكاتب في ولاية قزان لتعليم هذه اللغة لمن يشاء منهم؛ إذ هي التي تخولهم الحق في مناصب الحكومة ومجالسها ومحاكمها؛ وهذه المكاتب الثلاثة خاصة بالمسلمين، وأقامت في كل مكتب معلمين مسلمين، أحدهما لتعليم اللغة، والثاني للأمور الدينية، وبالجملة فإن القوم قد قاموا بنهضة علمية جديرة بالذكر، ورجل هذه النهضة العلامة الأستاذ الغيور الهمام عالم جان أفندي البارودي مؤسس المدرسة المحمدية في ولاية قزان التي سيأتي ذكرها، فإنه - حفظه الله وأبقاه - عدا اهتمامه العظيم بترقية هذه المدرسة الكبرى والنهوض بها في مدارج التقدم والنجاح تراه متجولاً من بلدة إلى أخرى، باثًّا في قومه روح الهمة والنشاط، راقيًا بهم في مراقي الحضارة والعمران، حاضًّا لهم على التعاضد والتعاون، وجمع شتات الكلمة، والتفاني في تحصيل العلوم والفنون، والانكباب على إتقان الصناعات والزراعات، إلى غير ذلك من أسباب الإصلاح ووسائل النجاح، وإليك بعض معلوماتنا عن المدرسة المحمدية التي على نظامها يُقاس أكثر مدارس المسلمين في روسية: أسس هذه المدرسة وشيد بنيانها الرجل الكبير والمحسن الشهير محمد جان بن بنيامين علييف والد العلامة عالم جان أفندي المشار إليه، وهو من أكابر تجار قزان، وعيون أعيانها، وذلك في سنة 1300 هجرية، أي منذ سبع عشرة سنة، وقبل أن نخوض عُباب البحث عن هذه المدرسة الكبرى نرى من اللائق أن نلم ولو بشيء يسير عن مؤسس بنيانها ومشيد أركانها، إذ يجدر - لعمري - بأمثاله من مثري المسلمين وأغنيائهم الاقتداء به والنسج على منواله، فتحسن الحال ويعم النوال. الرجل ذو همة علية عجيبة، وحسبك دليلاً على هذا أنه لما رأى البلاد في أشد الحاجات إلى العلم الذي هو لها بمثابة الروح للجسم أشغل من أولاده الأربعة ثلاثة في طلبه، فنشأوا بحسن نيته علماء صلحاء، أكبرهم عالم جان أفندي المنوه بذكره، ثم صالح جان أفندي وهو الآن مُدرس في مدرسة إسلامية أخرى في قزان، وفيها مائتا طالب، ثم عبد الرحمن أفندي وهو اليوم مدرس في المدرسة المحمدية السابق ذكرها، وقد أسس هذه المدرسة من ماله الخاص، وصرف عليها أموالاً طائلة، وأقام لها مديرًا شبله الأكبر الأستاذ عالم جان أفندي الذي حقق آمال والده بما اختصه الله به - مع حداثة سِنِّهِ - من سعة العلم ووفور العقل، وعلو الهمة وفائق الغيرة، فنعم الأب ونعم الابن، وهكذا تكون الآباء، بل هكذا تكون الأبناء، ورتب المدرسة على أبدع نظام وأحسن ترتيب، وقسم طلبتها إلى ثلاثة أقسام: الأول قسم الفقراء الذين لم يك لهم من مكتسب يتعيشون به سوى المسألة، فأغناهم عنها، وهم يقربون من مائة تلميذ، وعين لهم معلمين، الأول لتعليم مبادئ القراءة والكتابة، والثاني للصناعة، وخصص كل تلميذ يوميًّا باثنتين وستين بارة ونصف، وهم يقيمون كل يوم أربع ساعات يتعلمون فيها على مرتين ثنتين القرآن الكريم والضروريات الدينية والدنيوية، والكتابة ومبادئ الصناعات، والنفقات التي تنفق على هؤلاء يقوم بها أغنياء البلدة، منهم من يتكفل بتلميذ واحد، ومنهم باثنين، ومنهم بخمسة وهكذا، فينشأ هؤلاء وقد تلقوا مبادي القراءات والصناعات، يعبدون الله على علم ذوو تربية حسنة تخولهم معرفة التعيش برضاء وهناء. القسم الثاني لتعليم الطبقة الوسطى، وهم يقربون من ثلاثمائة تلميذ يؤخذ من المستطيع منهم راتب يتفاوت بتفاوت غناء آبائهم وذويهم، فمنهم من يؤدي روبلة واحدة في الشهر، أي اثني عشر قرشًا ونصفًا صاغًًا، ومنهم نصف ذلك أو ربعه أو ضعفه أو أربعة أضعافه إلى عشرة أضعاف، ومنهم من لا يؤخذ منه شيء، ومدة تعليم هذا القسم سبع سنين، ثلاث ابتدائية، وأربع رشدية (تجهيزية) حتى إذا أتموها أصبح لكل منهم الخيار في الاشتغال بالتجارة أو الصناعة أو الزراعة، أو غير ذلك مما يصلح لهم، أو يدخل الطبقة العالية في المدرسة، وهي القسم الثالث منها، يشتمل هذا القسم على نيف وثلاثمائة طالب، وتارة يبلغون الأربعمائة، وأكثرهم من البلاد الشاسعة النائية، يقرأون النحو والصرف والمنطق، والمعاني والبيان والبلاغة، والحساب والحكمة، والتاريخ والجغرافيا، والأصول والحديث والتفسير إلى غير ذلك من أنواع العلوم العربية كلها، فيخرج الطالب إمامًا أو مدرسًا في قرية أو بلدة. ولهذا القسم الذي هو الركن الأعظم للمدرسة المحمدية عشرون مدرسًا سوى رئيس المدرسين الأستاذ عالم جان أفندي الذي يدرس فيها مرتين في اليوم أيضًا، ولكل مدرس منهم درسان أو ثلاثة في اليوم، حسب البرنامج (البروغرام) المتفق عليه من هيئة المدرسين، وهذه الهيئة تجتمع خمسة أو ستة أيام متوالية في آخر شهر آب (أغسطس) من كل عام، أي قبيل افتتاح المدارس، وقد تجتمع أيضًا بضع مرات بعد افتتاحها، فإذا انتظم عقد الهيئة يعرض الرئيس عليها رأيه كتابة في بيان العلوم والفنون التي يجب أن تدرس في العام المقبل في المدرسة، وكذلك الطرق التي ينبغي أن تسير عليها في تعاليمها مبينًا ذلك مسألة بعد أخرى، فتوضع هذه اللائحة موضع المذاكرة والمداولة، فإذا وافقت الهيئة عليها، إما بالإجماع أو بالأكثرية يبين الرئيس الكتب التي يناسب إقراؤها، فتذاكر الهيئة بذلك أيضًا ولكل عضو من أعضائها الحرية التامة في بيان الرأي الأصلح والأخذ به، ونبذ غير الموافق منه، فإذا أتمت الهيئة وظيفتها هذه يوضع البرنامج ويسير المدرسون على منهاجه السنة كلها، إلا إذا رؤي خلال السنة لزوم لتبديل شيء أو تغييره، فيكون بالاتفاق من هيئة المدرسين على ما بَيَّنا. أما نفقات هذه المدرسة فبعضها من العقارات الموقوفة عليها من الأغنياء، وبعضها يتبرع به المحسنون سنويًّا، والباقي يجمعه الأستاذ رئيس المدرسة، فيدعو لناديه أغنياء البلدة مرة في السنة، ويبين لهم حالتها ودخلها وخرجها فيتبرع كل بما يلهمه الله به، وفي هذا المجتمع ينتخب خازن المدرسة ومعاونه، فالخازن يأخذ ويعطي، ويقوم بلوازم المدرسة كلها، ويعمر ما اندرس منها، ويصلح ما فسد حتى إذا تمت السنة يعرض حسابه على الهيئة، ولا يأخذ تلقاء ذلك أجرة لا هو ولا معاونه، وهما إنما يكونان من أكابر البلدة، معروفين بالأمانة والصداقة والثراء، ويفتخران بهذه الخدمة أيما افتخار، وكثيرًا ما يؤثرانها على أشغالهما وتجارتهما، ولا بد أن يزورا المدرسة في كل يوم، يفتقدان حالتها ونظافتها، وحسن ترتيبها، ومذاكرة القادم إليها والنازح منها، ويبحثان عن حالة المرضى، ويحضران لهم الطبيب إن احتيج إليه ونحو ذلك، وبالجملة فإن كل ما يقتضي للمدرسة وطلبتها، سوى التعليم والامتحان فهو منوط بالخازن ومعاونِه، وكثيرًا ما يستشيران رئيس المدرّسين أو الهيئة بتمامها إذا رأيا احتياجًا ولزومًا. والامتحان العمومي للمدرسة إنما يكون في شهر نوار (مايو) من كل عام، أي بعد أن يجري اختيار الطلبة - مدة شهر، فتوزع بطاقات (الدعوة) على أرباب المدارس والمكاتب، والعلماء والوجهاء، فيحضر السواد الأعظم منهم، وكثير من المعلمين ما ينظر إلى الامتحان بعين الانتقاد أو الاستحسان، وفي الانتقاد الصحيح من الفوائد الجمة ما لا يخفى، حتى إذا تم الامتحان وزعت الجوائز على مستحقيها، ثم يجتمع الوجوه من الحضو

الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم أفندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم أفندي بلغنا أن وزير خارجية حكومة المغرب الأقصى قد استعلم من الحكومة الفرنساوية عن الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم أفندي وذلك عندما بلغ حكومته أنها قاصدة زيارة بلادهم، فورد له الجواب بأنها لم تزل في الجزائر، ومتى توجهت لمراكش يطير إليه الخبر في البرق، وستلقى هذه الأميرة من الحكومة المراكشية الحفاوة التي تليق بها.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع الجيش العثماني) يتألف معسكر الطوبجية من 252 بطارية، لكل بطارية ستة مدافع، وجميع عدد الطوبجية المعسكرة والقلاعية ومنها المدافع وملحقاتها يستحضر من معامل كروب في آسين ولكن بعض المدافع أيضا يصنع على شاكلة مدافع كروب في المعامل الكبيرة للطوبجية بالقسطنطينية، أعني في الطوبخانة. والبطاريات الجبلية جديرة حقًّا بتنويه خصوصي من حيث الحذق البديع الذي يُرى في تحريكها، فالمدفع وذخيرته تحمله أربعة بغال ترفع أحمالها، ويعد المدفع للعمل في أقل من دقيقتين، وكسوة الطوبجية عبارة عن دولمان أزرق قاتم وقرج أسود، وسراويل سنجابي، ونعلين، وعوضًا عن الطربوش الذي تلبسه المشاة تلبس الفرسان والطوبجية قبعة من شعر أسود شبه بالذي كان يلبسه قبل سنة 1870م الصيادون الفرسان، وفرقة الفرسان الفرنساوية المسماة بالهوسار، تؤخذ فرقة الضباط من (الصف ضباط) وتلامذة المدارس الحربيين في قومبر خانة وبنغالدي والأولى للعلوبجية، والثانية للمشاة والفرسان وأركان حرب، لم تكن فرقة أركان حرب أنشئت في تركيا حتى الحرب الأخيرة (حرب الروسيا) ويمكن أن ينسب بلا شك لعدم وجودها تأثير عظيم في نتيجة الوقائع الحربية، فشكرًا لجلالة السلطان عبد الحميد إذ قد سد هذا الخلل، فإنه قد أنشأ من سنة 1884م في مدرسة بنغالدي قسمًا لأركان حرب يقابل للمجمع الحربي في ألمانيا والمدرسة العالية الحربية في فرنسا، تدخل التلامذة مدرسة الطوبجية والمهندسين في الخامسة عشرة من عمرهم، ويمكثون أربع سنين في القسم التجهيزي، وسنتين في القسم التالي، ثم يرقون إلى وظيفة ملازم ثانٍ، وبعد أن يقضوا سنة في إتمام دروسهم يخرجون من المدرسة برتبة ملازم أول. أما في مدرسة بنقالدي فيمكث التلامذة ثلاث سنين، ثم يخرجون برتبة ملازم ثانٍ، والفائقون منهم لإخوانهم المعدون للدخول في فرقة أركان حرب يقضون في المدرسة ثلاث سنين أخرى، ثم يخرجون بوظيفة يوزباشي. نظام هاتين المدرستين العظيمتين لا يعوزه من الكمال شيء من حيث التربية والتعليم النظري والعملي، وتعليم اللغات الأجنبية فيهما أكثر تقدمًا منه في المدارس الحربية للبلاد الأخرى، ويوجد تحت مدرستي قمبرخانة وبنقالدي مدارس تجهيزية تسمى بالمكاتب الإعدادية الحربية بكل من أدرنه ومناستير وبروسه وأرضروم ودمشق وبغداد وقبيلي وفي ضواحي القسطنطينية على الجنب الأسيوي للبوسفور ويدير هذه المدرسة الأخيرة أميرلواء، أما المدارس الأخرى فيديرها قائمو مقام، أو رؤساء طوابير ويدخل التلامذة هذه المدارس في سن الثانية عشرة ويقضون فيها ثلاث سنين. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

حجج منكري الكرامات ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجج منكري الكرامات أتينا في جزء سابق على ذكر الخلاف بين المسلمين في الكرامات، ووعدنا بذكر حجج المنكرين والمثبتين والنظر فيها، ونبدأ بذكر حجج المنكرين الخمس التي أوردها العلامة السبكي مع ردها وسمَّاها شُبَهًا، ولا يقتضي تسميتنا إياها حججًا، اعترافنا بحقيتها ولا عدمه؛ فإن بعض الحجج داحضة. (الحجة الأولى) قالوا: إن تجويز الكرامة يفضي إلى السفسطة إذ يقتضي تجويز انقلاب الجبل ذهبًا إبريزًا، والبحر دمًا عبيطًا، وانقلاب أوانٍ تركها الإنسان في بيته أئمة فضلاء مدققين، قال السبكي: والجواب من وجوه، الأول: إنا لا نسلم بلوغ الكرامة هذا المبلغ كما اقتضاه كلام الإمام القشيري، الثاني: نسلم (جدلاً) لكن نمنع اقتضاءه سفسطة؛ لأنه بعينه وارد عليكم في زمن النبوة، الثالث: أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم العقلية، وجواز تغيرها بسبب الكرامة تجويز عقلي فلا يقدح فيها. اهـ أقول: كلام السبكي - كغيره - صريح في أن الكلام في جواز الكرامة لا في وقوعها، ومعلوم أن العقل يجوِّز ما دون المحال، وإنما المحال العقلي هو اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما، وأكثر الناس يطلقون لفظ المحال العقلي على كل مستبعد غير مألوف، وفيما أظهرته الصناعة والعلوم الطبيعية الكثير من تلك الأمور المستبعدة التي كان يجزم الناس باستحالتها لو لم تقع فعلاً، كالتلغراف وغيره. ومن الأمور التي تستبعد العقول وقوعها إذا هي تصورتها ما يكون له سبب طبيعي مجهول يوجد بوجوده، واهتداء الناس إليه ومنها ما ليس كذلك، وكلا القسمين جائز الوقوع في نظر العقل، ولكن ما كل جائز عقلاً يقع فعلاً، وقوله: إن الكرامة لا تبلغ هذا المبلغ، هو التحقيق، وإن كان الجمهور على خلافه، وسيأتي بيانه. (الحجة الثانية) قالوا: لو جازت الكرامة لاشتبهت بالمعجزة، فلا تدل المعجزة على ثبوت النبوة، قال السبكي: والجواب منع الاشتباه لقرن المعجزة بدعوى النبوة دون الكرامة، فهي إنما تقرن بكمال اتباع النبي من الولي، وأيضًا فالمعجزة يجب على صاحبها الإشهار والكرامة مبناها على الإخفاء، ولا تظهر إلا على الندرة والخصوص، لا على الكثرة والعموم، وأيضًا فالمعجزة يجوز أن تقع بجميع خوارق العادات، والكرامة تختص ببعضها كما بيناه من كلام القشيري وهو الصحيح. اهـ. أقول: أين هذا مما هو مستفيض بين الناس في هذه الأزمنة من أن الكرامات صارت عند الشيوخ من الأمور الاعتيادية بحيث ينقلون عن الواحد منهم الألوف منها، أو كما قال الأستاذ مفتي الديار المصرية في رسالة التوحيد فيهم: (يظنون أن الكرامات وخوارق العادات أصبحت من ضروب الصناعات، يتنافس فيها الأولياء، وتتفاخر فيها همم الأصفياء، وهو ما يتبرأ منه الله ودينه وأولياؤه وأهل العلم أجمعون) وستقف على توضيح هذا. (الحجة الثالثة) قالوا: لو ظهرت لولي كرامة لجاز الحكم له بمجرد دعواه أنه لا يملك نحو فِلس لظهور درجته عند الله، المانعة له من الكذب في هذا النزر القليل، لكنه باطل بالإجماع المؤيد بخبر البينة على المدعي، قال: والجواب أن الكرامة لا توجب عصمة الولي ولا صدقه في كل الأمور، ونقل إن الجنيد سئل؛ هل يزني الولي؟ فقال: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) ، ثم قال السبكي: وهَبْ أن الظن حاصل بصدق دعواه إلا أن الشارع جعل لثبوت الدعوى طريقًا مخصوصًا، ورابطًا معروفًا لا يجوز تعديه ولا العدول عنه، ألا ترى أن كثيرًا من الظنون لا يجوز الحكم بها لخروجها عن الضوابط الشرعية. (الحجة الرابعة) قالوا: لو جاز ظهور خوارق العادات على أيدي الصالحين لما أمكن أن يستدل على نبوة الأنبياء بظهورها على أيديهم لجواز أن تظهر على يد الولي سرًّا، فإن من أصول معظم جماعتكم أن الأولياء لا يظهرون الكرامات ولا يدعون بها وإنما تظهر سرًّا وراء ستور ويتخصص بالاطلاع عليها آحاد الناس، ويكون ظهورها سرًّا مستمرًّا بحيث يلتحق بحكم المعتاد، فإذا ظهر نبي وتحدى بمعجزة جاز أن تكون مما اعتاده أولياء عصره من الكرامات، فلا يتحقق في حقه خرق العادة، فكيف السبيل إلى تصديقه مع عدم تحقق خرق العوائد في حقه؟ وأيضًا تكرر الكرامة يلحقها بالمعتاد في حق الأولياء، وذلك يصدهم عن تصحيح النظر في المعجزة إذا ظهر نبي في زمنهم. وقال في الجواب: لأئمتنا وجهان: (الأول) منع توالي الكرامات واستمرارها حتى تصير في حكم العوائد، وإنما يجوز ظهورها على وجه لا تصير عادة،فلا يلزم ما ذكروه، و (الثاني) - وهو لمعظم أئمتنا - قالوا: إنه يجوز توالي الكرامات على وجه الاختفاء بحيث لا يظهر ولا يشيع ولا يعتاد؛ لئلا تخرج الكرامات عن كونها كرامات [1] ثم قالوا: الكرامة وإن توالت على الولي حتى ألفها واعتادها فلا يخرجه ذلك عن طريق الرشاد ووجه السداد في النظر إذا لاحت له المعجزة، إن وافقه التوفيق، وإن تعداه التوفيق سلب الطريق ولم يكن بولي على التحقيق. والمعجزة تتميز عمن تكررت عليه الكرامات بالإظهار والإشاعة والتحدي ودعوى النبوة، فإذا تميزت الكرامة عن المعجزة لم ينسد باب الطريق إلى معرفة النبي. قال العلامة السبكي: ومن تمام الكلام في ذلك أن أهل القبلة متفقون على أن الكرامات لا تظهر على أيدي الفسقة الفجرة [2] وإنما تظهر على المتمسكين بطاعة الله عزَّ وجل، وبهذا لاح أن الطريق إلى معرفة الأنبياء لا ينسد، فإن الولي بتوفيق الله تعالى ينقاد للنبي إذا ظهرت المعجزة على يديه، ويقول معاشر الناس: هذا نبي فأطيعوه، ويكون أول منقاد له ومؤمن به، قال: ثم ما ذكره الخصوم من اشتباه النبي صلى الله عليه وسلم بغيره، فقد تبين لك وجه الانفصال عنه، وأنا أقول: معاذ الله أن يتحدى نبي بكرامة تكررت على يد ولي، بل لا بد أن يأتي النبي بما لا يوقعه الله على يد الولي، وإن جاز وقوعه فليس كل ما جاء في قضايا العقول واقعًا، ولما كانت مرتبة النبي أعلى وأرفع من مرتبة الولي، كان الولي ممنوعًا مما يأتي به النبي على وجه الإعجاز والتحدي أدبًا مع النبي. اهـ. أقول: وللشيخ الأكبر في هذا المعنى كلام في الفتوحات اتّفق فيه مع السبكي، وظاهر أن الكلام كله في التجويز العقلي، ولو كان ذلك واقعًا ما اختلف فيه، وقد صرح السبكي بما قلنا من أنه ليس كل جائر واقعًا، ثم ذهب إلى أن هذه النظرية ممنوعة بالنسبة لهذه الأمة؛ لأن نبيها خاتم الأنبياء، ومعلوم أن الكلام في النظريات يكون عامًّا ومطردًا. (الحجة الخامسة) قالوا: لو كان للكرامات أصل لكان أولى الناس بها الصدر الأول، وهم صفوة الإسلام، والمفضلون على الخليقة بعد الأنبياء، عليهم السلام. وقد أجاب السبكي عن هذه الحجة بسرد الكرامات المأثورة عن الصحابة عليهم الرضوان بعد مقدمة أثبت فيها أن الكرامة لا يجوز إظهارها إلا لسبب ملزم وأمر مهم، وبين لكل كرامة ذَكَرها سببًا في إظهارها , وإننا نعد لك تلك الكرامات عند ذكرحجج الإثبات عدًّا، ونتبعها تأييدًا أو رَدًّا، وأما البحث في إخفاء الكرامة فسنخصه ببحث نذكر فيه كلام السبكي وغيره. هذا ما أورده السبكي من حجج منكري الكرامات، وهناك حجتان هما أقوى من هذه الحجج كلها، وهما مخصوصتان في حال كون الكرامات أمورًا خارقة لنواميس الكون، ومخالفة لسنن الله تعالى في الخلق، ولا يردان على من يقول: إن الكرامة هي الأمر الخارق للعادة دون السنن الكونية، كالمكاشفة وشفاء المريض بالرقى، ونحوهما مما له أسباب نفسية وسنن روحية اختص بها بعض العباد من دون الكافة كما ألمعنا إلى هذا في بيان الخوارق والكرامات، ونلحق الحجتين بما مضى في العدد وهما: (الحجة السادسة) أن الله تعالى قد أقام نظام هذا الكون على سنن ثابتة مطردة كما بيناه في المقالة الأولى من هذا البحث، وقال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) وهذا نص قطعي لا يعارَض إلا بقطعي مثله من مشاهدة - وهي إنما تكون حجة على المشاهِد فقط - أو تواتر صحيح، والمثبتون يدعون هذا التواتر، وستعلم ما فيه. (الحجة السابعة) : عقلية، وتقريرها أن غاية ما يقال في خوارق العادات أنها ممكنة عقلاً بالإمكان الخاص، والممكن ما يكون وجوده بوجود علته، وعدمه لعدمها، فمن قال: إن شيئًا يوجد بدون سبب، فقد أخرج الممكن عن معناه، وكذب المشاهد من نظام الكون، فإن قيل: إن الله الذي جعل لكل شيء سببًا قادر على أن يوجد الكرامة بدون سبب كما أوجد المعجزة التي ثبتت قطعًا، نقول: نعم إنه قادر وأوجد المعجزات على غير المعروف في نظام الكون، ولكن مثل هذا الأمر الذي جاء على خلاف الأصل لا يقاس عليه، والسر في المعجزة ظاهر، فلا ينافي الحكمة والنظام مجيئها بغير سبب، بل ذلك مما اقتضته الحكمة، ومن فوائده تقرير أن النبوة لا تنال بالاكتساب , ولا يتوصل إلي آيتها بالأسباب، فإن قيل: إن الحكمة في الكرامة في معنى الحكمة في المعجزة، نقول: كلا، فقد كان كلما طال الأمد على أمة بعد بعثة رسول فيها، يرسل الله تعالى إليها رسولاً آخر، فلا يحتاج إلى كرامة الولي لإذعان النفوس وخضوعها لسلطان الدين، وأما خاتم النبيين فإن معجزته باقية إلى آخر الزمان، ومهما منحُ الأولياء من الكرامات لا يُمنحون مثل القرآن، وكيف يحتاج القرآن وما تواتر من حالة النبي التي كانت من أعظم الخوارق وأظهرها إلى التعضيد بخارقة يجب سترها؟ هذا ملخص الحجة وما يقال فيها، وإذا أمكن إثبات الكرامات بدليل قطعي كالتواتر الصحيح، أو النص القرآني الصريح، فهناك حجة الإثبات الناهضة التي تدع كل حجة على الإنكار داحضة، والموعد لبيان هذا الجزء التالي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

القسم الثاني من خطبتنا في التربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القسم الثاني من خطبتنا في التربية (مكارم الأخلاق) وأما تربية النساء فهي أعسر الأمور، ومن أجدرها بالعناية؛ لأن هناء العيش في الحال وسعادة الوطن في الاستقبال؛ إنما يكونان بتدبير المنزل ونظامه، وبتربية الأولاد، ومقاليد ذلك بيد النساء؛ لأن المرأة هي ربة البيت المنوط بها إصلاحه ونظامه، وهي التي تخط في ألواح نفوس الأولاد المبادئ الأولى التي تكون جراثيم للخيرات أو للشرور، قلنا: إن تربية الكبير عسيرة جدًّا وإنها لا تتسنى إلا لأرباب النفوس الزاكية، والهمم العالية، والعزائم الصادقة، وهذا الكلام مخصوص بتربية الإنسان لنفسه، أما تربية غيره فلابد فيها مع ذلك من الحكمة والبصيرة من جانب المربي، وإذا أضيف إليها الحب والاحترام له ممن يحاول هو تربيته كان الرجاء في حصول المقصود أتم، وحيث كانت هذه الأمنية غير متحققة عندنا بالنسبة للكافة كنا صادقين في قولنا: إن تربية النساء أعسر الأمور. لا نطيل الشرح في المسائل النظرية والقواعد الكلية؛ لأن الإجمال قلما يفيد غير الحكماء الذين يتذكرون به ما انطوى في نفوسهم من التفصيل، لا يصح أن نيأس، فلكل مجتهد نصيب، وعلينا أن نأخذ النساء بالرفق، ونعاملهن بالحكمة واللطف، لا بالقسوة والعنف، وأن نستعين عليهن بدقة شعورهن، ونستميلهن إلى الخير برقة عواطفهن، ونثنيهن عن الشر بزمام حيائهن، شبههن النبي عليه السلام بالقوارير، والضغط على الزجاج غايته التكسير، أضرب من المثل ما يقاس عليه، ويصح أن يرمي المربي إليه، إذا جئت من دكانك أو ديوانك، ووجدت بعض ماعون البيت في غير موضعه المعد له، فلا تنبز ربة البيت بالألقاب، ولا تقابلها بالشتم والسباب، ولكن قل لها: لا شك أن الست [1] كانت مشغولة بأمر مهم صرف نظرها أو أنساها أن هذا الماعون أو الثوب موضوع في غير موضعه، ولذلك ما أرجعتْه إلى مكانه أو لم تأمر الخوادم بذلك، يختلف التعبير باختلاف الطبقات؛ لأن أهل الثراء والبسطة إنما تدير نساؤهم نظام المنزل بالرأي وإرشاد الخوادم إلى الأعمال، ونساء سائر الطبقات يباشرن الأعمال بأنفسهن، وهن المسئولات على كل حال وفي كل طبقة من الطبقات. وإذا كنتَ صاحب همة وأردتَ إتمام الحكمة، فبادر بنفسك إلى وضع ذلك الشيء في موضعه قائلاً: يمكنني الآن أن أقوم بهذا العمل نيابة عن الست، وإن كنت تعبان محرورًا (أقول هذا بالنسبة لغير الطبقات العالية الذين يكتفي أحدهم بالنيابة عن الست بالأمر دون العمل، ولكل مقام مقال) وعند ذلك لا بد أن تسابقه فتسبقه إلى ما نهض إليه، إلا أن تكون لا خلاق لها، ولكل من المعاملة اللطيفة ما يليق بها، وبتكرار مثل هذه المعاملة ترجع عن قريب، فيزول الخلل، ويمنع الخطل [2] . ... ... ... وإذا علم أن بعض الفاسدات الأخلاق والآداب تزور منزله، وتعاشر قرينته، فينبغي أن لا يبادر إلى نهيها عن قبولها وأمرها بطردها، فإن مثل هذا الأمر إغراء، لا سيما مع التحكم والاستعلاء، وإنما يسعى أولاً بقطع رجل تلك المرأة بأساليب لا تشعر بها امرأته، هذا وإن الوقائع الجزئية لا تحصى، واللبيب تكفيه الإشارة، ومن أحس من نفسه العجز عن هذه السياسة فعليه أن يستشير من يثق به من أهله وإخوانه مع ملاحظة أن التهذيب والتربية بالإلزام والإشراف على المرأة بالأمر والنهي من شواهق القوة والسيادة، كل ذلك مما يفضي إلى النفور والبغضاء، واستثقال المرأة كل ما يأمر به الرجل، وتعمدها مخالفته ومنصابته، إذا فقد الحب الصادق الذي هو روح الحياة الزوجية، وملاك السعادة المنزلية، فلا بد من المداراة وتكلف المجاملة، وإلا ساءت الحال، وتفاقم خطب الاختلال. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دروس جمعية شمس الإسلام (2) (أمالي دينية - الدرس الثاني - تمهيد ومقدمات) (5) الدين والعقل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ* إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 1-2) العقل مشرق أنوار الدين، والإيمان هو تصديق العقل بأن جميع ما جاء به النبي حق، فالدين الإسلامي والعقل توأمان، وقد أجمع أئمتنا على أنه ليس في الدين شيء يمنعه العقل أو يحيله، وأن من علامة الحديث الموضوع، أي المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم استحالة معناه عقلاً، ومن المقرر عندهم أن ما عساه يوجد من النقول الصحيحة مخالفًا في ظاهره للعقل، فلا بد من تأويله وتخريجه على وجه صحيح يقبله العقل، وإلا استحال الإيمان به، القرآن لا يخاطب إلا العقل، لا سيما في قضايا الإيمان ومسائل الاعتقاد التي يطلب فيها العلم، ويرفض الظن وإن كان راجحًا، فقد قال ناعيًا على المشركين تمسكهم به: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} (النجم: 23) {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28) وقد أناط الصدق في الإيمان بإقامة البرهان، فقال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) . الآيات القرآنية التي تنيط الدين بالعقل هي من الكثرة بحيث لا يمكنني استحضارها، وما منكم إلا من يقرأها أو يسمعها كل يوم، افتتحنا الكلام بآية منها، وقال تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (الأنفال: 22) وقال عز وجل: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس: 62) وقال عز من قائل: {وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} (يس: 68) وقال تبارك وتعالى: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) وقال تبارك اسمه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمران: 190) وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه: 54) ومثل هذه الآيات كثيرة جدًّا، وأكثر ما ترد بعد وصف ما في الطبيعة من مظاهر القدرة والحكمة، وسرد أحوال الأمم والشعوب، وظاهر أن الألباب والنهى هي العقول، وكذلك ذكر العلم والتفكر في مثل هذه المواضع كثير جدًّا، ولقد قرأت الكتب المقدسة عند بعض الملل الأخرى، فما وجدت فيها شيئًا من هذا، إن أمة هذا كتابها وأصل دينها، حقيقة بأن تكون أبعد الأمم عن الأوهام والخرافات، وأشدها تمسكًا بالحقائق، لا تأخذ إلا باليقين , ولاتلتفت لما لا تقوم عليه البراهين، ولكن لما فسد التعليم، وغلبت الجهالة، وصار القرآن يتلى للتغني لا يتدبره متدبر، ولا يعتبر به متفكر - هجمت علينا زحوف الأوهام والخرافات من الأمم التي جاورناها ومازجناها، ففتكت بنا كما فتكت بهم، وهبطت بعقولنا ومداركنا كما فعلت بهم من قبل، حتى ضعفت الأنظار واختل نظام الأفكار، فطوحت بنا الطوائح، واجتاحت عمراننا الجوائح، ولقد شفي بعض من سرت إلينا عدواهم، ونحن لا نزال مرضى، وانتظمت مدنيتهم ونحن ما فتئنا فوضى. (6) الاجتهاد والتقليد: تكلمنا في الدرس الماضي عن البصيرة في الدين، وبيَّنا أنها من أصول الإسلام، وأنه لا يؤدي إلى غايتيه - سعادة الدنيا وسعادة الآخرة - إلا بها، وبينا أن الكتاب العزيز ذم التقليد وأهله، ونزيد المسألة وضوحًا ليعرف خطر التقليد من لم يعرفه، فيزيد نشاطًا في فهم دينه، ويتبين الحق أخونا الذي زعم أنه رأى في بعض الكتب أن المقلد أفضل من المجتهد (وكان بعض أعضاء الجمعية وقف خاطبًا فقال هذه الكلمة) . ولا أعلم أن أحدًا من العلماء الذين يُعْتَد بقولهم قال هذه الكلمة، ولو كان هذا القول صحيحًا لكان هؤلاء السوقة والغوغاء أفضل من الأئمة المجتهدين، كلا، إن هذا القول مصادم للنقل والعقل، ومحقر للعلم، ومفضل للجهل. إن العلماء قد اختلفوا في صحة إيمان المقلد، فذهب أكثر المحققين - لا سيما المتقدمين - إلى أن إيمان المقلد لا يصح ولا يعتد به، ونقل بعض العلماء الإجماع على هذا القول، واستدلوا عليه بالآيات القرآنية الكثيرة، كقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) وقوله {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا} (يونس: 36) أي فيما يطلب فيه العلم، كالاعتقاد، وقوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) وقوله: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 4) قال البيضاوي: اليقين إتقان العلم بنفي الشك والشبهة عن نظر واستدلال وليس للمقلد من ذلك نصيب. وبالآيات التي تأمر بالنظر والاستدلال، كقوله تعالى: {قُلِ انظُرُوا} (يونس: 101) وقوله: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) وبالآيات التي تذكر المقلدين في معرض التوبيخ والتقبيح، كقوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) وقوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) والآيات في هذه الأنواع الثلاثة كثيرة جدًّا، ومنها جميع ما أوردناه آنفًا في مخاطبة العقل وإناطة الدين به، هذا ما أرشد إليه القرآن، وإذا وَلَّيْنا وجهنا شطر الاختبار ألفينا أن إيمان المقلد عرضة للزلزلة والاضطراب؛ بل وللزوال والانقلاب، ألم تر إلى السحرة الذين آمنوا بموسى عن برهان لتفرقتهم بين السحر والمعجزة كيف هددهم فرعون بما حكى الله بقوله: {قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى * قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (طه: 71-72) إلخ الآيات، فانظروا كيف عرَّضوا أنفسهم لأشد العذاب ولم يضطرب إيمانهم، وانظروا إلى بني إسرائيل الذين سلموا لموسى لأنه منهم، وخلصهم من العذاب لا لأنهم فهموا ما جاء به من الآيات، كيف عندما {أَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون} (الأعراف: 138) فهذا هو الفرق بين الإيمان بالدليل، والإيمان بالتقليد. قال قائل: إننا نرى العامة لا يرجعون عن شيء من الدين مهما أورد عليهم من الشكوك، فقلت له: إن العاميّ لا يقبل كلام مثله فيما أخذه باسم الدين، وإن كان باطلاً ليس من الدين في شيء، ولكن إذا شككه من يعتقد بعلمه أو صلاحه فإنه لا يلبث أن يشك ويرتاب، قال القائل: لا يمكن أن يشك العاميّ في وجود الله تعالى وإن شككه جميع العلماء والصلحاء، فقلت له: سيأتي معنا أن الاعتقاد بوجود الله تعالى هو من الإلهامات الفطرية للإنسان، حتى قال كثير من العلماء: لا حاجة للاستدلال عليه مطلقًا، ولكن أي عامي ألقيت عليه من صالح أو عالم عقيدة فاسدة يتلقاها بالقبول لا سيما إذا كان لها شبهة مما عليه المسلمون، كأن يقول له: إن الله تعالى قد جعل فلانًا النبي أو الولي وكيلاً له في الأرض، وصرفه في خلقه بحيث صارت إرادته كإرادة الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس: 82) [*] أو أن الله تعالى حل فيه، أو أنه قاعد على العرش، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآه كما يرى بعضنا بعضًا وسمع كلامه بصوت وحرف، أو أنه تعالى قد وجد قبل العالم بألف ألف سنة مثلاً، فإنه يعتقد هذا كله، ولا يشك فيه، وقد جربت هذا بنفسي فيهم. لمَّا فشا الجهل في المسلمين رأى العلماء المتأخرون أن القول بكفر المقلد في الإيمان يفضي إلى تكفير معظم المسلمين، فأفتوا بصحة إيمان المقلد بشرط أن يأخذ العقيدة على حقيقتها، ويجزم بها جزمًا قاطعًا بحيث لا يشك فيها مهما شُكك، ولا يرجع عنها، وإن رجع مقلده وجميع العالمين، قال في الجوهرة: إذ كل من قلد في التوحيد ... إيمانه لم يخل من ترديد ففيه بعض القوم يحكي الخلفا ... وبعضهم حقق فيه الكشفا فقال: إن يجزم بقول الغير ... كفى وإلا لم يزل في الضير ولكن لا خلاف بين العلماء في وجوب النظر والاستدلال على من يقدر عليه، وفي عصيان من يتركه مع القدرة ويكتفي بالتقليد، فتلخص أن المقلد إما كافر وإما عاصٍ بترك النظر، اللهم إلا إذا كان ضعيف العقل بعيد الفهم، غير قادر على النظر والاستدلال. المنتسبون للإسلام ينقسمون إلى أربعة أقسام (القسم الأول) المجتهدون الذين يقدرون على إقامة البراهين على كل مسألة من مسائل الاعتقاد، ويُردُّون كل شبهة تَرِد على العقيدة أو على الدليل ومقدماته، ولا يشترط أن يكون هذا على طريقة أهل النظر، ومن هؤلاء من يهبه الله نورًا في بصيرته، فيرتقي علمه بالله تعالى وبدينه إلى درجة تحاكي المشاهدة للمحسوسات، ويعطيه لسنا وحذقًا في صناعة الحجة بحيث يقدر على الإقناع والإلزام، ويبوء مناظره بالحصر والإفحام. (القسم الثاني) العلماء الذين يتعلمون العقائد ببراهينها، فيفهمون الدليل بحيث تطمئن قلوبهم، ويكونون في بعد عن الشبهة والريب، ولكن لا يقدرون على إقامة البراهين من عند أنفسهم، وهؤلاء مقلدون في الدليل والمدلول معًا، وهم في مأمن من الشكوك ما بعدوا عن مَهابِّ الأهواء ومجاري تيارات الشبهات، فإذا تعرضوا لذلك فلا يسلم إلا من أيده الله تعالى بمعونته، (القسم الثالث) المقلدون الذين يأخذون العقائد الصحيحة عن العارفين بها من غير دليل ولا برهان إلا الإقناع، وما يقرّب المسائل للفهم من الأمثلة والشواهد الظاهرة، ومن هؤلاء من يفهم الدليل إجمالاً على بعض العقائد دون كلها، وهؤلاء إيمانهم تابع لإيمان غيرهم، فإن كانوا بحيث لو رجع من قلدوه عن اعتقاده لا يرجعون وإذا شُككوا لا يشكون، كانوا من المؤمنين على ما علمت من الراجح عند المتأخرين، (القسم الرابع) هم الذين لا يعرفون من الإسلام إلا الظواهر والأقوال والأفعال التي يسمعونها ويرونها من الذين تربوا بينهم، فلا يأخذون العقائد عن العلماء العارفين، وهم عرضة لشكوك المشككين وإيهام الواهمين، وما أولئك بالمؤمنين، لا أعني بهذا أن هؤلاء الغوغاء من العامة الذين يغشون مجالس العلم كلهم كفار لا يعاملون معاملة المسلمين، بل لا أكفر أحدًا بخصوصه ما لم أر أو أسمع منه ما يخالف الاعتقا

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (العمارة البحرية العثمانية) إن العمارة البحرية العثمانية وإن كانت قد أبلت أحسن بلاء في حرب سنة 1877-1778م إلا أنها قد خرجت منها بعد أن وضعت أوزارها متضعضعة مختلة النظام بعض الاختلال، واقتضت حالتها هذه تجديدها أيضًا، كما اقتضت التجديد أيضًا حالة الجيش، وقد عملت جلالة السلطان على هذا التجديد حتى تم الآن (مبالغة) بما أوتيته من بُعد النظر في عواقب الأمور، وصدق العزيمة الذي يقارن تنفيذ جميع مشروعاتها الإصلاحية، فلم يبق إلا مجرد الاختبار النهائي الذي يعقب تحريك العمارة تفصيلاً، وهو أمر تابع لأصول الإصلاح التي وضعت، أصبحت العمارة العثمانية اليوم تشتمل كما في الإحصاء الأخير لسنة 1894م هذه السفن وهي: من المدرعات سبع بوارج كبيرة وثلاثة يخوت ملوكية، وثلاث سفن صغيرة وواحدة وعشرون من النسافات (التوربيد) وقد تضاعف هذا العدد الآن، وسفينتان غواصتان من طراز فوردنفيلد تسع جميعها 69697 طونولاتو وقوتها الاسمية قدرها 39946 حصانًا بخاريًّا، وفيهما 360من مدافع كروب واسترونج وفوردنفيلد، وعدة عساكرها5420جنديًّا يديرهم 505 ضباط، واثنتي عشرة من السفن الخشبية التجارية، وثلاث بوارج، وسبع سفن صغيرة، و 12 سفينة من حافظة الشواطئ و18 من ذات الدقلين، فجملتها أربعون سفينة تسع 40912 طونولاتو وقوتها الاسمية 1913 حصانًا بخاريًا، وفيها 318 مدفعًا مختلفة الأقطار، وعدة عساكرها 7454 جنديًا يديرهم 695 ضابطًا، من السفن الشراعية، واحدة من السفن الجارة وأخرى من ذات الدقلين، وواحدة من السفن المستطلعة، و30 من السفن النقالة، وجميعها تسع 8275 طونولاتو، من البوارج المدرعة يجب أن نذكر البارجة الحميدية التي ركبت البحر في سنة 1885م من معمل الأميرالية في القسطنطينية وهي سفينة فاخرة تدل على أن الأتراك في صناعة البوارج البحرية يقدرون على مجاراة الدول الأخرى ذات القوى البحرية، تشتمل الآن المعامل العثمانية في القسطنطينية وأزمير بإصلاح عدد من السفن الكبيرة والصغيرة، وتجربتها لجعلها ملائمة للحركات العصرية. قد اختارت حكومة جلالة السلطان للمدافعة عن شواطئ المملكة وتسليح مدرعاتها المواد النسافة، وذلك لبساطة تركيبها وعظيم أثرها، فلو أن عمارة أجنبية حاولت الهجوم على بوغاز الدردنيل لتدخله، لصبت عليها مصائب عظمى من الخسائر، فإنها تكون محصورة بين نيران الحصون التي على الشاطئين- الأوروبي والآسيوي - ومعرضة في كل دقيقة لنسف النسافات (التوربيد) التي بتوالي صفوفها تقطع عليها طريقها، ولا تمكنها بحال من الأحوال من وصولها إلى رأس نجارا، ومع ذلك لو أن بعض السفن الحربية الأجنبية نجحت بقوة التيار في اجتياز هذا المعقل الأول، فلا بد لها أن تصادف السفن الحربية العثمانية، وتكون ملاصقة له، فتحطم منها هذه في أقرب وقت بمساعدة القلاع المتواصلة على الشاطئ ما بقي سليمًا بعد اجتياز ذلك المعقل، وفضلاً عن ذلك فإن من يملك بوغازالدردنيل فهو الذي يملك الشاطئ الأوروبي؛ لأن الشاطئ الأسيوي أقل منه أهمية، فأي محاولة من العدو في إنزال جنوده عليه - إما في شبهة جزيرة غاليبولي أو غربها - لا بد أن تؤدي به إلى هزيمة فاضحة، وبعد أن تطحن جنودَه قوى الجيش العثماني المراقب الفائق عليه يبلغ به العجز إلى حد أنه لا يمكنه أن يجد سبيلاً للالتجاء إلى مراكبه، ويضطر بلا شك إلى تسليم أسلحته. مدة الخدمة في العمارة البحرية اثنتا عشرة سنة، خمسة منها في القسم العامل (النظام) وثلاثة في القسم الاحتياطي لهذا القسم، وأربعة في القسم الاحتياطي الحقيقي (الرديف) . لا ينقص فرقة الضباط التي تخرج من مدرسة حلقى البحرية شيئًا تحسد عليه ضباط فرنسا وإنكلترا البحريين، قد شغفت جلالة السلطان بأن تمنح للعمارة التجارية ما يلزم لانتشارها من وسائل التشجيع والتنشيط، فالفضل لحكومتها الحالية في إسداء تركيا المدرسة التجارية البحرية التي أسست في حلقى من أربع سنين، وهي تربي رؤساء السفن (القبودانات) الكبيرة والصغيرة التي يتجر بها على الشواطئ، كما تخرج رؤساء السفن المعدة للاتّجار في البلاد البعيدة الذين سيكون لهم خدم مشهورة في التجنيد البحري، يتعلق بنظارة البحرية أيضًا من مشاة العساكر البحرية ما عدده 5000 أو 6000 عسكري، تستحق النظر هنا لأنها مختارة من أحسن جنود المملكة العثمانية. تنقسم تركيا من حيث ترتيب العمارة البحرية إلى تسعة مراكز بحرية وهي: القسطنطينية وأسكودار وتشيو وبريفيزا وسالونيك وكريت وطرابلس الغرب والبصرة وفيها خليج العجم، وجدة وفيها البحر الأحمر، قد قضت فرنسا بعد مصائب حرب 1870و 1871 عشرين سنة في إصلاح خلل نظامها الحربي، وإعادته إلى ما كان عليه، أما تركيا فقد نجحت في إتمام هذا العمل نفسه في نصف هذا الزمن، وهو أحسن مدح يمكن للإنسان أن يمتدح به الدولة العلية ومليكها القادر (مبالغة) . (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

رد على باحث في كتاب سر تقدم الإنكليز السكسونيين

الكاتب: أحد الفضلاء

_ رد على باحث في كتاب سر تقدم الإنكليز السكسونيين (لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء) قامت نهضة الأقلام في هذه الأيام الأخيرة تكيّف الداء الذي ألمَّ بحال الأمة وتُتبعه بوصف العلاج الناجع لها، وقد دارت أبحاثها على أن الدواء الصحيح لشفائها من هذا الضعف القَتَّال هو الرجوع إلى الدين، وهذا ضياء في القلوب قد سطع، ويشرح قلب المؤمن الغيور على أمته، ولكننا نأسف كل الأسف من أن هذا الشعاع الذي ظهر ما أوشك أن يتم نوره حتى خالطه غيم في الأفكار، واختلاط في الشعور، وإفراط في النزعة. فقد ينزع بعض الكاتبين إلى التشديد على كل فكر يبديه صاحبه في إصلاح الأمة إذا لم يفتتحه باسم الدين، ولم يعلق كل مقدمة منه بنص من نصوص الدين، وإلا نقد كل مؤلف عرضت فيه سنن الله في خلقه، وشؤونه في عباده متى لم يذكر فيه اسم الدين، وإن كان جلّ ما فيه من مخ الدين، كما فعل الباحث في كتاب (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) الذي نقله سعادة أحمد بك فتحي زغلول إلى لغتنا العربية الشريفة في مقالته التي نشرت في العدد الأخير من جريدة (الموسوعات) الغرَّاء حيث بنى نقد الكتاب وترجمته على أنه لا يرجى للأمة الإسلامية خيرٌ إلا من الدين حتى يخيل لقارئه أن جميع ما في الكتاب يناقض الدين مع أنه لا شيء مما يوهمه مقاله بمتوهم. نعم، الدين خير الوسائل لإصلاح الأخلاق وتقويم النفوس وتطهير الأرواح، وهو المرشد الأول إلى النظر في دقائق الكون وما أودعه الله من سر ارتباط الأسباب بمسبباتها، وقد دعانا إلى أن ننظر في أحوال الأمم الغابرة، ونحيط بما حولنا من شؤون الأمم الحاضرة، ونتأمل في تاريخ هذا الوجود وفي أطواره، وفي تصرف الله في شؤونه، وفتح لنا مجال الأفكار وميدان الإدراك، وأمرنا بالتفكر والاعتبار، كل هذا لنزداد في عقائدنا قوة، وفي يقيننا ثباتًا ومتانة، وفي أمرنا رشادًا، ولنتقي ما عساه يصل إلينا ممن يطمع فينا، أو يعدو ببغيه علينا. وهذا قرآننا الشريف غالب آياته عبر وروايات عن حوادث الشعوب الأولى، ومرآة للتواريخ الماضية قد ساقها الله لنا في خلال أوامره ونواهيه؛ لتكون أقرع في الحجة وأوقع تأثيرًا في القلوب الحيَّة. وقد مثل لنا كتاب (سر تقدم الإنكليز) حال أمة رقت في المدنية درجة رفيعة عرفها لها أعداؤها، وبهذه المدنية نفسها أصابنا منها ما نشكو إلى الله عواقبه، ونلوم أنفسنا على ما جرَّ بِنا إليه، وقد جعلت من أهم أصول التربية عندها من القوى، ووجهت عنايتها لغرس الوطنية الصادقة في القلوب مع تنظيم أماكن تعليمها، وترقية زراعتها وصناعتها، ثم قابل بينها وبين أمة تركت الاعتماد على العمل، وأهملت كثيرًا من تلك الوسائل في سيرها إلى الغاية التي تسير إليها الأمم، وكانت النتيجة سيادة الأولى وانحطاط الأخرى. أليس يجب أن يكون هذا الكتاب خير موعظة تهدى للاعتبار، وخير ذكرى تقدم لأمة من أصول دينها النظر في الموجودات؛ لتزداد بصيرة في قدرة الله وتدبيره في خلقه، ولتحتاط لنفسها بالعمل على ما تراه من سنن الله في غيرها وفيها، والمقابلة بين السنتين والنظر في سبب تباين الطورين مع الرجوع في ذلك كله إلى أصول دينها. وقد قصد سعادة المترجم بكتابه هذا تنبيه الأفكار إلى معنى جليل ربما لم يخطر على بال الباحث، ولكنه يخطر على بال المتأمل، قصد أن يثبت لأمته أن الأخلاق الفاضلة والتربية الصحيحة أينما حلت في أمة رفعتها لذروة السعادة، وصعدت بها في معارج السيادة، فكيف بنا إذا أخذناها عن ديننا، وهي من أخص مزاياه؟ لا شك أن تأثيرها يكون فينا أعظم، وفعلها في طباعنا أنجح. أي تنديد يسمح به دين الباحث يصح توجيهه إلى مثل سعادة المترجم، وقد أهدى أمته مرآة عِبَر يرى في أحد وجهيها أمة راقية أوج المدنية ببركة التمسك بالعوامل السليمة، وأخرى هابطة من رفعتها بسبب إهمالها تلك العوامل، خصوصًا إذا اعتبرنا أن روح الترقي وهو الاستقلال الشخصي هو بعينه روح الدين الإسلامي، والإسلام هو أول دين أفضى بالعبد إلى ربه مباشرة بلا واسطة رئيس ولا نائب، وهو الذي دعا إلى العمل بالأسباب، وقضى بأن لا سبيل إلى السعادة إلا بالعمل بعد الاستعانة به وحده. وكأني بالباحث يميل إلى القول بأن سعادة المترجم لا يروق في نظره تهذيب الدين وآدابه، ولهذا اختار النصح لأمته من الطريق الذي سلكه، ولكن هذا سَبْق نظر أو سوء ظن بدون قرينة عليه، ومن يطلع على كتابات سعادة المترجم، أو يتلو شيئًا من كتاب (الإسلام) الذي نقله إلى العربية يعلم قوة إخلاصه في دينه وغيرته على يقينه، وهذا كتاب (سر تقدم الإنكليز) قد ختم بفصل في الكلام على الدين، وبيّن أن سعادة الأمم بصلاح الدين، وشقاءها بفساده. وقد ذهب حضرة الباحث في مقالته إلى أن حب الخير وحده ليس كافيًا في سعادة الأمة، بل لابد من بث الرغبة أو الرهبة أو كليهما في الناس، وتلك الرغبة أو الرهبة إن لم تكن من الله تعالى فمن السلطان، وهذا لا نخالفه فيه، وسعادة المترجم لا يطالب الناس بالانسلاخ عن دينهم والابتعاد عن الله تعالى، ولا مخالفة السلطان عند مطالعة كتابه، وأعجب من هذا أن حضرة الباحث قال في مقالته: (لو أراح المؤلف نفسه من عناء التحرير والتحبير، ودعا الناس إلى أخذ علم الدين والأخلاق عن أهله وعلمائه، لأفاد وأجاد، وفينا بحمد الله تعالى من علماء الدين وأطباء النفوس من يعدون بالمئات) . وإنا نسأله بحق دينه أن ينبئنا بأسماء عشرة من تلك المئات حتى ندعو الناس إلى دروسهم، وليخبرنا بدروس الأخلاق والآداب التي يلقونها وأوقاتها، ولا شك أن سعادة المترجم وغيره من أهل الغيرة ينهضون لحث الناس للتربع في حلقات دروسهم. فإن كان من تؤخذ عنه الآداب المصعدة للأمم في درجات الترقي يبلغون هذا العدد، فَلِمَ لَمْ يؤلفوا بأنفسهم الجمعيات لدعوة الناس إلى تلقي الآداب وسماع المواعظ عنهم؟ ولِمَ لَمْ يبدءوا على الأقل بإصلاح خطب أيام الجمعة، ووضعها في عبارة تفهمها العامة، وإيداعها معاني تنفذ في أفئدتهم ويظهر أثرها في عملهم، وأما الجامع الأزهر فإنَّا نسأل الله أن ينبه في علمائه عين الدين، ويوقظ في أرواحهم النظر إلى مصالحه، بل ومصالح أنفسهم. وليت شعري علام عمت الشكوى من المحاكم الشرعية، وحار المصريون في إصلاحها، وما الذي بعث الأجنبي على التداخل في شؤونها، وحمل جميع الكاتبين على الإقرار بوجود الخلل والفساد فيها، وإنما لاموا الأجنبي في الهجوم عليها، وطلبوا منه أن يدع الأمر لأهله، وأن يَكِل إصلاحها إلى أهل الدين حتى يكون قوام الإصلاح هو الشرع القويم. هل قال أحد بأن الشرع قائم في محاكمه؟ هل اعترف أحد بأن العدل غالب على القضاة في تلك المحاكم؟ بل هل أقر أحد بأن النصف من عددهم قائم بالعدل في أحكامه، بعيد عن الهوى في مذاهبه وآرائه؟ فإن لم نجد الصلاح في أولئك القضاة غالبًا، وهم منتخبون من علماء ذلك الجامع المعمور، فهل نجد من يسمع قولنا إذا دعونا العالم لحضور مجالس من تلقوا عنهم. إنهم تلقوا وغيرهم يتلقون دروس الفقه، وشيئًا من دروس العربية، يحضرون تلك الدروس على أنها صناعات، بل على أنها عبارات يجب على الطالب أن يفهمها؛ لأنها ألفت في كتبها لا لأجل أن ينتفع بما دلت عليه كما هو معلوم، أما الآداب السامية فهي في بطون الكتب التي لا يقرءونها، ويعدها الكثير منهم من سقط المتاع، فهل من واعظ يعظ من يحق لهم أن يعظونا؟ تكلم الكاتب على النظافة - نظافة الظاهر ونظافة الباطن - فهل نجد بها عناية في ذلك المحل الذي يجدر به أن يكون أنظف مكان وأقدسه وأشرفه، إلا أننا نستجير بمثل الكاتب في إرشاد أهله ومتولي شؤونه أن يجعلوه ومن فيه قدوة في النظافة ظاهرًا وباطنًا. إن الكاتب لم يذكر إلا شخصًا واحدًا من أهل العلم ألَّف جمعية (مكارم الأخلاق) فنعم الصنيع صنيعه، ونسأل الله أن يرشده إلى أقوم السبل فيما هدي إليه وأن يقيه شر العجلة واستسهال نيل الغاية حتى يظهر لعمله من الأثر ما نحبه لعامتنا. فهذا كله يحملنا على أن ننظر في سِيَر غيرنا لنعلم كيف وصلوا إلى السيادة على غيرهم، فإذا رأيناهم وصلوا بالعمل لا بالقول، ورجعنا إلى ديننا فوجدناه قائمًا على رؤوسنا ينادينا بقوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 105) استحينا وخجلنا، وقلنا: ما كان أجدرنا بأن يعمل كل منا بما هو ميسر له، وما كان أولانا بالجد وترك الهزل، وما أحقنا بالنظر إلى الغايات دون النظر في تحقيق العبارات. وإني أرى من الواجب على حضرة الباحث وهو أعلم منا بمعاهد التربية ودروس الآداب أن يبدأ بتأليف جمعية من الشبان إن كان شابًّا، ومن الكهول إن كان كهلاً، ومن الشيوخ إن كان شيخًا، فنذهب إلى تلك الدروس ونتلقى من الآداب ما يعيد إلى الأمة ما فقدته من دينها، ويحيي فيها ما أماتته التقاليد من عقائدها، وعليه أن يعلن ذلك، فأكون أول الساعين معه إليها، وأنا في انتظار ذلك إن شاء الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ح. ع)

القسم الثاني من خطبتنا في التربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القسم الثاني من خطبتنا في التربية وأما تربية الأطفال العملية فهي التربية النافعة الحقيقية، وبها تناط سعادة الأمة والبلاد إذا هي سارت على نهج الحكمة والرشاد، لنا من نفوس هؤلاء الأطفال ألواح صقيلة قابلة لكل نقش، ومن أدمغتهم قراطيس بيضاء نظيفة مستعدة لكل رسم، فعلينا أن ننقش فيها آيات الحكمة والفضيلة، ونرسم فيها تعليم المبادئ التي تؤدي إلى الغايات الجليلة، علينا أن نعوِّدهم على الصدق في القول والعمل، وعلو الهمة وإطراح الإهمال والكسل، إلى غير ذلك من الأعمال النافعة والخصال الرافعة؛ لتنطبع في نفوسهم الملكات الشريفة على الوجه الذي بينّاه أولاً. تقرؤون في الجرائد الإسلامية، وتسمعون في المجامع الدينية أن نجاح المسلمين لا يكون إلا بالرجوع إلى تعليم الدين، وأن المدارس الأميرية قد نسخت الدين ومسخت العربية، والمدارس الأهلية تحذو حذوها وتقتفي أثرها، فماذا نعمل؟ وكيف السبيل إلى بلوغ المأمل وهذه المدارس لا غناء عنها؛ لأن الموظفين لا يكونون إلا منها؟ وتعليم الأزهر مقصور على كتب مخصوصة، قصاراها فهم أحكامها المنصوصة، لا تجمع بين الدنيا والدين كما هو الواجب على المسلمين. يسهل على الغني منا أن يتخذ لأولاده أستاذًا مخصوصًا يعلمهم الدين، ولكن هل يكفي هذا لحصول الغرض الذي نبتغيه؟ كلا، لا بد من تعميم التعليم، ولا بد من التربية بالعمل، أما تعميم التعليم على المنهاج الديني فلا بد له من تأليف الجمعيات الإسلامية وها أنتم أولاء قد بدأتم بهذا العمل الشريف، فأنشئت فيكم جمعيتان إحداهما هذه (مكارم الأخلاق) التي كنا نخطب فيها، والثانية جمعية (شمس الإسلام) أما شمس الإسلام فقد شرعت بالتربية والتعليم بالفعل، وأما هذه الجمعية فإنها تنتظر من حميتكم الملية، وغيرتكم القومية أن تمدوها بالمساعدة المالية للقيام بتحصيل هذه الأمنية، وكأني بالدعاء وقد أجيب، وبالعمل قد ظهر عن قريب. وأما التربية العملية فهي الركن الأول، وعليها الاعتماد والمعول، ولكن أنَّى لنا بمن يحسنها ويقوم بها. كتبت في مقالة أننا إذا نظرنا في ضعفنا وبحثنا في علاجه نرى أننا في حاجة إلى أشياء كثيرة، وإذا ارتقينا في الأسباب ننتهي إلى شيء واحد إذا وجد أوجد كل شيء ألا وهو الرجال العارفون بطرق المعالجة معرفة صحيحة تبعث على العمل، إذا كنا نرى الأساتذة والمعلمين لا يحسنون التربية التي بها نرجو الحياة السعيدة فمن عساه فينا يحسنها؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه، ولولا أن فينا بعض قوم من العارفين نرجو أنْ يُزْهِقَ حقُّهم الأباطيلَ ويمحو نورُهم هذه الظلماتِ لغلب الخوف على الرجاء، واستحوذ اليأس على الأمل. ما لا يدرك كله لا يترك قِله، فعلينا أن نوجه العناية التامة إلى تربية أبنائنا وبناتنا بكل ما في استطاعتنا. البحث في هذه التربية طويل الذيل، متدفق السيل، وإنما وقفت لأبين بالاختصار ما يجب أن نتوجه إليه، ومتى صح القصد وصدق العزم نهتدي إلى سواء السبيل، فالعمل يمد العلم، والعلم يقوّم العمل، ولكن لا بد من تنبيه وجيز يسهل على كل أحد تعقله والأخذ به، أهم شيء أنبه إخواني عليه أن التربية لا تكون بالقول بل بالمعاملة، لو كان الإنسان يتربى ببيان الرذائل له، وقولنا له: اتركها، وسرد الفضائل له وقولنا له: الزمها، لكان الأجدر بها العقلاء الكبار دون الأطفال الصغار؛ لأن الكبير أوعى للقول وأفهم للخطاب، لا يكاد أحد من الجماهير المجترحين للسيئات - لا سيما الكبائر - يجهل أنها محرمات، وما عساه يوجد من جاهل بها، فحسبه أن يعلم معظمها في حضور مثل هذا الاجتماع، وإنما التربية المثلى تكون بالمعاملة الحسنى، فإذا أردت أن يكون وليدك أو تلميذك صادقًا مثلاً، فعامله بالصدق، وحُلْ بينه وبين الكاذبين لا سيما من أخدانه وأترابه؛ فإن الصغير يقلد كل ما رآه، ويقتبس من كل من عاشره، وتتكيف نفسه بكل ما يرد عليها من أي طريق جاء. سبحان الله ما أشد غفلتنا، يكذب أحدنا على ولده من أول النشأة بالقول والفعل، ولا يمنعه من معاشرة الكذابين والمجرمين؛ فتنطبع في نفسه ملكة الكذب حتى إذا ما شب ورأى والدُه مضرة ذلك ومعرّته فيه قال: يا بنيّ لا تكذب؛ فإن الكذب حرام، فأنّى تمحو هذه الكلمة ما رسخ في نفسه بكرور السنين، وصار صفة من صفاته؟ إن فشوّ وباء الرذائل جعل التربية عسيرة على العارف بها والبصير بدقائقها، فكيف حال الغافل الجاهل؟ ربما يتيسر للغني حجب ولده عن قرناء السوء من أترابه، وأن ينتقي له أصدقاء مهذبين، ويتخذ له ولهم في داره من الألاعيب والألاهي ما فيه غنية عن الرياضة في خارج الدار، ولكن أنّى يتسنى للفقير مثل ذلك، لا يزيل هذه العقاب والعواثير من طريق التربية إلا العزيمة الصادقة المنبثقة عن العلم بأن بوجود هذه التربية حياتنا، وفقدها موتنا وهلاكنا. جماع ما يؤخذ به في تربية الأولاد: (1) المنع عن قرناء السوء، فإن الولد يستفيد من مثله أكثر مما يستفيد من أبيه وأمه؛ لأن أفكار تِرْبِه في درجة أفكاره، ورغباته من جنس رغباته، وأعماله من قبيل أعماله (2) الحيلولة بينه وبين كل ما يضره الاطلاع عليه أو التلبس به في جسده أو عقله ونفسه، ولكن من حيث لا يشعر؛ إذ أحب شيء إلى الإنسان ما منع منه، والمحبوب مطلوب والنهي عنه إغراء به، و (3) أن يحمل على كل ما يطلب منه بالعمل، وأن يكون الباعث له على العمل التشبه والاقتداء، ولذلك كان بعض شيوخ الصوفية يرتاض مع مريديه حتى كأنه سالك مثلهم، و (4) أن يرجح الترغيب على الترهيب. هذا ما يجب أن نأخذه بقوة واجتهاد {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 29) . اهـ. هذا ملخص الخطبة، وقد كتبت منها أكثر جملها وتركت بعضها عمدًا؛ لكونها جاءت في (المنار) من قبل، أو لعدم فائدتها، وما كتبته فهو قريب مما قلته في اللفظ والفحوى، ومن عادة الرئيس أن يتعقب كل خطيب بكلام يثني عليه به ويلم بمعنى ما تكلم به إجمالاً، وقد جاء في تعقبه إياي بكلمات أبان فيها عن ارتياب في كون الأولاد يقتبسون العادات والأخلاق من معاشريهم، وحصر ذلك في الآباء مستدلاًّ بالقول المشهور (الولد سر أبيه) وصرح بأنه يكتفى في تربية الولد التربية الصالحة أن يرى أباه يعمل الصالحات، وهذه غفلة من حضرة الأخ الفاضل الشيخ زكي الدين عن الوجود؛ لأننا نرى أكثر أولاد الصالحين فساقًا لاشتغالهم بأنفسهم عن تربية أولادهم، ومن الأمثال المشهورة في هذا (خبث الرجل الصالح في منيه) وهو تعليل شعري، والعلة الصحيحة هي عدم التربية الصحيحة، أما قول (الولد سر أبيه) فهو إشارة إلى الوراثة، وللوراثة أثر لا ينكر في الاستعداد والقابلية، ولكنّ الاعتماد على التربية فهي التي لا يغلب سلطانها، وليست التربية إلا العملية كما قلنا. وألمَّ أيضًا بما قلته من أن المرأة يثقل على طبعها أن يحملها الرجل على ما يريده بالقوة والإلزام، وأن الأولى أن يأخذها بالرفق واللين، وسبق إلى فهمه أن هذا منافٍ أو مناقض لقولي، ينبغي لمن يحاول تربية نفسه أن يستعين على ذلك ببعض آخوانه وأصدقائه، بأن يجعله مسيطرًا عليه ومنتقدًا له، يذكّره إذا نسي ما التزمه من ترك المنكر وعمل المعروف، ويعاتبه بل ويؤنبه إذا هو نقض العهد عمدًا. وصرحت حضرته في التعقيب بأنه كيف يثقل على المرأة إشراف زوجها عليها بالأمر والنهي من سماء السلطة، ولا يثقل على الرجل مثل ذلك من صديقه وليس له عليه من السلطة مثلما للرجل على المرأة؟ والجواب عن هذا ظاهر من وجوه (أحدها) أن ما يكون من الصديق لصديقه لا استعلاء فيه؛ لأنهما كفئان فلا يثقل على النفس. (ثانيهما) أننا قلنا: إن ذلك ينبغي أن يكون بالمواطأة بينهما، وأنه هو الذي يجعل صديقه رقيبًا عليه، ومهيمنًا على أعماله، ومن يثقل عليه هذا لا يأتيه، وإذا وجدت امرأة عاقلة تواطأت مع زوجها على أن يؤنّبها إذا هي قصرت بما يطلب منها، فيكون حكمها حكم الصديق. (ثالثها) إن النساء أسرع من الرجال انفعالاً، وأقل منهم احتمالاً، ولذلك شبههن النبي صلى الله عليه وسلم بالقوارير، ولو أنه ذاكرنا في المسألتين قبل أن ينتقد لانجلت الحقيقة، ويمكنه بعد ذلك إيضاحها للجمهور، ولكنه تعجل في بيان ما اعتقده عملاً بأثر (خير البر عاجله) وحيث ألقى الكلام للجمهور اضطررنا أن نبينه لهم بهذه الكلمات لئلا تكون الشبهة علقت ببعض الأذهان فتصد أصحابها على العمل الذي حملناهم عليه، ولم نشأ أن نتعقبه بالقول في محل رئاسته أدبًا معه، ولئلا نحفظ قلبه، فإن وداد مثله من الفضلاء نعده من أعلاق الذخائر. إذا تأمل هذا الذين لم يفهموا قولنا الذي نكرره دائمًا: (إن العلم اليقيني الذي يمتزج بالنفس هو الذي يحملها على العمل جزمًا) يتجلى لهم السبب في عدم عمل الناس بالنصائح التي يسمعونها، فإنها إذا كانت مجملة كاتحدوا واتفقوا، واتركوا المحرمات وتمسكوا بالصالحات، لا ترشد سامعها إلى ما يجب أن يعمله، وإذا كانت مفصلة يعرض للتفصيل مثل هذه الشَََُّبَه التي عرضت لرجل من أمثل وعاظنا، فما بالك بالشُّبَه العامة التي ذهبت بالجزم على الوعيد من النفوس كقول بعض العلماء: يجوز أن يخلف الله تعالى وعيده، وكالاعتقاد بالمكفرات والشفاعات إلخ ما بيناه في مقالة (تأثير العلم بالعمل) وعسى أن يحمل حضرة الفاضل الشيخ زكي الدين كلامنا على الإخلاص فيتلقاه بالقبول، فالحكمة ضالة المؤمن، والعصمة في تبليغ الحق إنما هي للأنبياء دون سائر البشر، والسلام.

أمالي دينية الدرس ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دروس جمعية شمس الإسلام (3) (أمالي دينية- الدرس الثالث) (7) الدين توحيد: بسم الله الرحمن الرحيم {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى: 13) دين الله تعالى واحد يجب أن لا يكون فيه تفرق ولا اختلاف؛ لأنه إنما وضع لإسعاد البشر، والسعادة إنما تكون في الاجتماع والتوحيد، لا في التفريق والتعديد ومن فهم معنى الإنسان وشاهد تصرفه في الأكوان علم أنه خلق ليعيش مجتمِعًا لا منفردًا، ومؤتلِفًا لا مختلِفًا، وهذا هو معنى الكلمة المشهورة: (الإنسان مدني الطبع) فإذا جاء الدين على خلاف ما تقتضيه الفطرة كان شقاء لا سعادة، ومحنة لا منحة، وأي جهول يجرؤ على أن يرمي دين الله بهذه النقيصة الكبرى والمَعَرَّة الشنعاء؟ أول اجتماع بشري هو اجتماع الأسرة (العائلة) المؤلفة من أبينا آدم وأمنا حواء - عليهما السلام - ومن أولادهما، وقد كان آدم نبيًّا يتلقى عن الله من الدين ما يسوس به ذلك الاجتماع الصغير، وقد فسق بعض ولد آدم عن هدي والده فقتل أخاه فكانت بذلك مخالفة الدين سُنَّة في الإنسان باقية إلى ما شاء الله، ثم اتسعت دائرة الاجتماع فكانت الشعوب والقبائل والأقوام والأمم، وكان الله تعالى يرسل إلى كل قوم نبيًّا {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) يعلّم التوحيد ويدعو إلى ما يتم به نظام الاجتماع من التهذيب والتأديب، وكانت آفة كل دين شرعه الله تعالى لعباده اختلاف أهله فيه وتفرقهم إلى مذاهب متعددة يضلل أهل كل مذهب أتباع المذهب الآخر، وينصرون مذهبهم ولو بالتأويل والتحريف، وينتهي ذلك باضمحلال الدين وذهاب فائدته بالكلية، بصيرورته مشقيًا لذويه، مخزيًا لمجموع متبعيه. ولما استعد النوع الإنساني بمقتضى سُنة الارتقاء لاجتماع جميع أممه وشعوبه واتصال بعضهم ببعض، وهبه الله تعالى الدين الأخير الذي ترشد تعاليمه إلى نظام هذا الاجتماع الكبير، فجاء كتابه (القرآن) ينهى العالمين عن الاختلاف والتفرق في الدين حيث كان ذلك هو الذي شتت شمل الغابرين، وجعلهم سلفًا ومثلاً للآخرين سمعتم الآية الكريمة التي افتتحنا بها الدرس، وكيف صرحت بأن دين الله تعالى على لسان جميع الأنبياء واحد لا ينبغي التفرق فيه، والمراد به أصول الدين وقواعده العامة في الإيمان والتهذيب واجتماع الكلمة، وكون الأعمال الشخصية دائرة على محور المنافع الشخصية، والمعاملات دائرة على محور المصالح العمومية، وأما قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) فهو بيان للواقع، ومخصوص بفروع الأحكام التي تختلف باختلاف المصالح والمنافع التي تتغير بحسب الأزمنة والأمكنة، بل مثل هذه الأحكام تتغير في الشريعة الواحدة بمثل هذا التغير والاختلاف، ولذلك كان من أصول الشريعة الإسلامية تحكيم العرف الذي تجري عليه الناس، ومثل هذا لا يعد اختلافًا وتفرقًا؛ لأنه تغيير في الصورة والعرَض لا في الحقيقة والجوهر، وفي المعنى اتفاق على اجتناب المضار واجتلاب المنافع، وما هذا إلا لُباب الدين الذي تزداد به المحبة وتنمو الألفة، ويكون أهله جسمًا واحدًا لا شيعًا مختلفة، وإنما نهى الله تعالى عن التفرق الحقيقي الذي يجعل أهل الدين الواحد شيعًا مختلفة يتباغضون ويتحاسدون، يتلاعنون ويتقاتلون، ويزعمون أنهم ينصرون بذلك الدين، ودين الله بريء منهم أجمعين، بالغ القرآن في ذم هذا التفرق حتى قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} (الأنعام: 159) وحسبك تبرئة الله تعالى رسوله منهم في كل شيء دليلاً على بعدهم عن دينه وتنائيهم عن مرضاته، وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم} (آل عمران: 105) كان الخلفاء الراشدون وعلماء الصحابة وأكابر أئمة السلف يحافظون أشد المحافظة على عِقد الدين أن يتناثر بالخلاف والشقاق، ويحذرون على وحدة الإسلام أن تثلم بالتمذهب والافتراق، فما ظهر للبدعة نبت إلا حصدوه، ولا نَجَم في رءوس الفتنة قرن إلا قلعوه، وناهيكم بما فعل سيدنا عمر بصبيغ التميمي، وما كان الأئمة يجيبون به من يسأل عن المتشابه وتأويل القرآن من الزجر والنهر حتى رزئ الإسلام بفتنة الخلافة التي كانت ينبوع الفتن وبركان الإحن. فعمَّ البلاءُ الخلفاء والعلماء والملوك والأمراء، وانقسم المسلمون إلى مذاهب، وظهر فيهم تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض} (الأنعام: 65) وغلا بعضهم حتى صاروا أبعد عن الدين من سائر المشركين، واشتعلت بينهم نيران الحروب فكانوا عونًا لأعدائهم على امتصاص دمائهم وتمزيق أشلائهم، وهدم بنياتهم وأضعاف سلطانهم، وأخص بالذكر الفرقتين العظيمتين أهل السنة والشيعة اللتين لا ينظر في تاريخهما عارف بحقيقة الدين وغيور على المسلمين إلا ويتفطر فؤاده من الغم، ويرسل الدمع ممزوجًا بدم؛ لأن مثار الخلاف بينهما مسألة فرعية ذهب وقتها وذهبت فائدة ظهور الصواب فيها بحيث لا مبعث للتنازع ولا مجال للتقاطع لو أنصف الفريقان وتعاملوا معاملة الإخوان التي يوجبها عليهم القرآن الذي يذعن له الاثنان. اشتد كل فريق في مجادلة الآخر ومجالدته، ومناهضته ومواثبته، ولو سلكوا طريق القرآن لوضح الحق واستبان. أمر الله نبيه أن يحاج المشركين بمثل قوله: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24-25) أين هذا التلطف في الدعوة إلى الحق الذي أسند به النبي - بأمر الله - الإجرام إلى نفسه والمؤمنين مجاراة للمشركين وحكاية لألفاظهم، وسمى به شركهم عملاً، ولم يصفه بكلمة ذم لئلا ينفروا من سماع الحق؟ أين هذا مما جرى عليه المسلمون مع إخوتهم في الدين حيث يسمع أحدهم عن الآخر كلمة يريها إياها فهمه السقيم أو السليم خطأ فيملأ عليه الدنيا تشنيعًا، ويؤلف الكتب في الرد عليه وتضليله أو تكفيره، فيضطره إلى مقابلته بالمثل، ويعمى عن الحقيقة إن كان مبطلاً، وينتصر لكل منهما المنتصرون فتعظم الفتنة وتعم المحنة؟ هذا ما كان وهذا ما هو كائن فالطف اللهم بنا فيما سيكون. أمر الله تعالى نبيه أن يدعو أهل الكتاب بمثل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) وأن يلاطفهم بمثل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) بل ووعدهم بأنهم إذا دخلوا في الإسلام يؤتون أجرهم مرتين، وإذا ظلوا على دينهم كان لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وندافع عنهم بما ندافع عن أنفسنا. فهل يصح لأهل هذا الدين أن يجادل بعضهم بعضًا بالتي هي أسوأ، والله تعالى يقول لهم: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت:46) أما وسر الحق لو أن قومنا ساروا على منهج القرآن في مقارعة البدع لما اتسع الخرق على الراقع، وقد كان شأن قومنا في ذلك كما قال أستاذنا الأكبر في رسالة التوحيد وهو: بقيت علينا جولة نظر في تلك المقالات الحمقى التي اختبط فيها القوم اختباط إخوة تفرقت بهم الطرق في السير، إلى مقصد واحد، حتى إذا التقوا في غسق الليل صاح كل فريق بالآخر صيحة المستخبر، فظن كل أن الآخر عدو يريد مقارعته على ما بيده، فاستحرَّ بينهم القتال، ولا زالوا يتجالدون حتى تساقط جلهم دون المطلب، ولما أسفر الصبح وتعارفت الوجوه رجع الرشد إلى من بقي وهم الناجون، ولو تعارفوا من قبل لتعاونوا جميعًا على بلوغ ما أمَّلوا، ولوافتهم الغاية إخوانًا بنور الحق مهتدين. كتب الأستاذ هذا بالنسبة لمسألة واحدة وهي تصدق علينا في كل مسألة مما اختلفنا فيه، فكنا به شيعًا ومذاهب، وإلى الآن لم نتعارف ولم نطلب الأخوة الإيمانية الصحيحة، وإنما يكون ذلك بتعميم التعليم الذي نريده، وهو مبني على أن الإسلام ضد التمذهب؛ لأنه جاء لجمع الملل وتوحيدها، والتمذهب إنما كان لتفريق الملة الواحدة وتعديدها، فالاعتقاد الذي نعلمه هو ما أجمع عليه الذين يعتد بإسلامهم وكل ما اختلفوا فيه لا يتوقف الإسلام عليه ويجب أن يكون الاختلاف فيه كالاختلاف في سائر المسائل العلمية لا يثير شغبًا ولا يحدث مذهبًا، مثلاً: إن المسلمين مجمعون على أن الله عالم لا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، ومختلفون في ذلك العلم هل هو صفة وجودية زائدة على الذات، أو هي عين الذات، أو لا عين ولا غير، ولا شك أن هذا البحث أقرب إلى الفلسفة منه إلى الدين، وهو لم يذكر في القرآن ولا في السنة، ولا ورد في آثار السلف الصالح، وكذلك مسألة الخلافة التي كانت علة العلل لجميع الانحراف والزلل، فإنها ليست من أركان الدين وأصوله كما قلنا آنفًا. لا أذكر في دروسي هذه من مسائل الخلاف إلا ما عساه يتوقف عليه فهم المتفق عليه، ولا أخوض في شُبَه المبتدعة لئلا يعلق منها شيء في الأذهان الضعيفة فيفسدها ويميتها، فقد علمنا ما فعل ذلك بمن قبلنا ممن كانوا خيرًا منا علمًا وعملاً بحيث لا تقاس علماؤنا في الغالب بعامتهم، فضلاً عن أن نقيس دهمائنا بدهمائهم، ونسائنا بنسائهم، بل لا يجوز لأحد سرد تلك الأقاويل المفرقة والشُّبَه المضللة على العامة، من أحب الوقوف على مسائل الخلاف فعليه أن يتبع قوة الدليل إن كان من أهل النظر، وإلا فليقلد الجمهورالأكبر، ولا يكفرن من خالفه فيما اعتقده، ولا يجعلن الخلاف مانعًا من أخوته الإيمانية، وإذا ذاكره أو كاتبه في ذلك فليسلك معه مسالك الإخوة في مذاكرتهم بمصالحهم ومنافعهم. السنيّ والشيعي والمعتزلي والوهابي إلخ كلهم مسلمون، وإمامهم القرآن، ونبيهم محمد - عليه السلام - فيجب أن يكونوا إخوة، فمن شذ عن هذه الأخوة يجب أن نتلطف بجذبه إليها لا أن نعاديه وننفر منه، هذا هو صراط المؤمنين إذا سلكناه نجونا، وإلا ازددنا هلاكًا ودمارًا، ولا نجد لنا من دون الله أنصارًا. ((يتبع بمقال تالٍ))

شذرات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شذرات احتفلت الحكومة أمس بمولد سمو العزيز أفندينا عباس حلمي باشا الخديوي المعظم، فنسأل الله تعالى أن يعيد على مصر أمثال هذا الاحتفال، وسمو الأمير في كمال عز وإقبال ما تعاقبت الأعوام والأحوال. *** أخّرنا مقالة (حجج مثبتي الكرامات) لنشر المقالة الافتتاحية التي جاءتنا من أحد الأفاضل، فأغنتنا عن الرد على ذلك الباحث الذي اشتبه عليه الأمر، فاشتبهت بكلامه الحقيقة على كثير من الناس لما في كلامه من المسائل الدينية التي هي صحيحة في ذاتها، ولكنها وضعت في غير موضعها، والمسائل التي يحقّر بها الإفرنج وهي غير صحيحة، كقوله إنهم يبتدئون التربية في السنة السابعة للولد وأن اشتباه هذا الأمر على مثله كاشتباه تينك المسألتين على رئيس جمعية (مكارم الأخلاق) التي هي موضع رجائه في إسعاد الأمة - يدلنا على أننا في أشد الحاجة إلى علم واسع واختبار تام لا نجدهما في كتبنا، ولا في دروسنا وجمعياتنا، لا سيما ما يتعلق بشؤون عصرنا الذي اختلفت فيه طرق المعيشة وأساليب العمران عن عصور أسلافنا، وفُتن سادتنا وكبراؤنا - إلا قليلاً - بزخرف مدنية أوروبا وتركوا محامدها وفضائلها؛ فصرنا محتاجين لإرجاعهم إلى القيام بمصالح العامة من الطريق الذي له مكانة عليا في نفوسهم، فجزى الله سعادة أحمد فتحي بك أفضل الجزاء على تصديه لذلك، والله لا يضيع أجر المحسنين. *** حكم على ديفوس بالسجن عشر سنين، ثم عفي عنه لأن الحكم عليه كان سياسيًّا لا قضائيًّا عادلاً، وهذا دليل على براءته التي أفصحنا عن اعتقادنا إياها في ابتداء الفتنة. زار سفير فرنسا في الأستانة العلية سماحة شيخ الإسلام من مدة، وقد ذكرت الجرائد هذا الخبر الغريب؛ لأنه لم يسبق للسفراء من قبل زيارة مشايخ الإسلام، ويظن أن ذلك لأمرٍ مهم لم يظهر سره لأحد. *** صدرت مجلة (الجامعة) في شكلها الجديد، شكل المجلات المعتادة، وقد زيد فيها ثلاثة أبواب: (1) تدبير الصحة و (2) نشر صفحات مطوية، ويذكر فيه منتخبات من كلام كبار الكُتَّاب الذي لم يشتهر (3) صدى المجلات، ويذكر فيه ما تشتمل عليه المجلات العربية من المواضيع إجمالاً، وحق على أصحاب هذه المجلات أن يعترفوا لهذه المجلة بالفضل على هذا ويشكروه لها، ومن الشكر أن ننبه قراء مجلاتنا على فائدة (الجامعة) ونرغبهم في قراءتها، فنهنئ صديقنا الفاضل منشئها، ونرجو له مزيد النجاح والفلاح. *** أرجف المرجفون بأن سفر الأميرة الفاضلة صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم أفندي إلى بلاد المغرب يقصد به السعي في إنشاء الخلافة العربية، فانتقِم اللهم من هؤلاء المفسدين الذين يصورون المحال وينفثون سموم الفتنة بين أمراء المسلمين وملوكهم، آخر ما علمناه من أخبار دولة الأميرة الواردة منها إلى بعض ذويها في مصر أنها تصل في 9 أكتوبر إلى طنجة وبعد أن تقيم هناك أيامًا تعود إلى مصر عن طريق مرسيليا لأن إجازة الصيف قد انقضت، والأميرة- فيما نعلم - أعقل أميرات المسلمين، ومخلصة للخلافة الحميدية أشد الإخلاص، ولكننا بُلينا بقوم يدفعهم ذلك الشيطان إلى إشاعة الزور والبهتان. فما راشنا بالسوء إلا لسانه ... وما خرَّب الدنيا سوى ما أشاعه *** في يوم الإثنين الماضي عصفت في الإسكندرية ريح زعزع أهاجت البحر واقتلعت كثيرًا من الأشجار، وعقبها غيث مدرار. وفي ليلة الأربعاء لاح في سماء القاهرة سحاب مركوم، ثم غلظ واكفهر وتبوجت فيه البروق وارتعجت (اضطربت وكثرت متتابعة) وقصفت فيه الرعود وهدهدت، ثم انبعق بالوابل الهتان نحو ساعة من الزمان، فكان منه سيل جارف دمَّر في القاهرة وضواحيها المساكن والدور، لا سيما في عزبة الزيتون، واخترق المطر سقوف أكثر البيوت حتى قصور القاهرة العظيمة فأتلف الكثير من أثاثها، وانقضَّت صاعقة على حديقة دار عطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس النظار، واتصلت بغرفة مكتبه فاشتعلت النار باتحاد كهربائيتها بكهربائية المكان؛ فأحرقت جميع ما في المكتب من الأسفار والأوراق والرياش، ويقال: إن ثمن الكتب فيها نحو ألف جنيه، ولولا إسراع رجال لمطافئ بطفئها لأحرقت الدار كلها , ولا شكَّ أن المطر كان في بعض الجهات أقوى منه في غيرها، فكل ما نزل في جوار المرصد الفلكي بالعباسية نحو عقدة، ولكن السيل بقي في ضواحي القاهرة بعد انقطاع المطر نحو ساعتين، ويقول الشيوخ: إنهم لم يعهدوا فاجعة كهذه في حياتهم قط.

حجج مثبتي الكرامات ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجج مثبتي الكرامات ذكرنا في مقالة سابقة حجج منكري الكرامات، وبحثنا فيها، ونذكر في هذه المقالة حجج المثبتين وننظر فيها، وهي خمس على ما استقصاه السبكي. (الحجة الأولى) هي ما عبر عنها بقوله: (أحدها) وهو أوحدها ما شاع وذاع، بحيث لا ينكره إلا جاهل معاند من أنواع الكرامات للعلماء والصالحين، وفي هذه الحجة أن ما نقل من الأمور التي سموها كرامات على ضربين: (أحدها) ما فيه خرق لنواميس الكون ومخالفة لسنن الخلق التي ثبت في القرآن وفي العلم الطبيعي أنها لا تتغير ولا تتبدل، وهذا النوع قليل جدًّا ولا يكاد يثبت منه شيء برواية صحيحة توجب الظن إلا قليلاً، والظن في هذا المقام لا يغني فتيلاً لمعارضته للقطعي (ثانيهما) ما ليس كذلك، كمكاشفة وشفاء مرض وقضاء حاجة، وهذا النوع هو الذي شاع وذاع وملأ الأسماع، وطاف في سائر البقاع، وكما يكثر هذا ويقل ما قبله فيما نقل عن صالحي هذه الأمة، كذلك الشأن فيما نقل عن سائر الأمم، وسيأتي بيانه. (الحجة الثانية) قصة مريم من جهة حبلها من غير رجل، وحصول الرطب الطري لها من الجذع اليابس، وحصول الرزق عندها في غير أوانه من غير حضور أسبابه، كما أخبر الله تعالى عنها بقوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 37) ، وبين السبكي بعد ما أورد هذا أنها لم تكن نبية، فتعين أن يكون ما جرى لها من الكرامة، ونقول ننحن في هذا المقام: إن لله تعالى في خلقه آيات تدل على أن قدرته تعالى، حاكمة على سنن الكون لا محكومة بها , وقد قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} (المؤمنون: 50) فحبلها على غير النحو المعهود في الخلق ليس لها فيه كسب ولا عمل بوجه ما، بل كانت كارهة له، فإن كان يعدّ مما نحن فيه فقصارى ما يدل عليه جواز وقوع مثله، وهذا هو مراد السبكي وغيره بالاستدلال به وبنحوه مما يأتي، أما الوقوع بالفعل فلا يثبت إلا بدليل قطعي، كالمشاهدة وكنص القرآن أو الخبر المتواتر تواترًا حقيقيًّا مستندًا إلى الحس الذي لا شبهة فيه. قال بعض المحققين: لو كان ما ينقله قومنا من الكرامات التي لا تُحصى واقعًا حقيقة لما احتاجوا في إقناع المعتزلة إلى الاستنباط من الآيات بالوجوه الخفية التي لا تفيد المطلوب، ولا تثبت المدعى وهو أن الخوارق واقعة فعلاً على أيدي الصالحين، بل كانوا يفقئون أعينهم بكرامة واحدة من تلك الكرامات التي لا تحصى، وإن المتأخرين ليعدون أولياء تلك الأزمنة التي حمي فيها وطيس الجدال بين سلفهم والمعتزلة بالألوف، أما وجه الآية في ابن مريم النبي وأمه المختلف في نبوتها فهو أن الأقسام العقلية في خلق الإنسان أربعة: (الأول) ما كان بغير واسطة ذكر ولا أنثى وقد خلق الله تعالى آدم أول البشر كذلك. (الثاني) ما كان بواسطة ذكر فقط وكذلك خلق أمّنا حواء. (الثالث) ما كان بواسطة ذكر وأنثى وهو الناموس العام والسنة الإلهية المطردة، ولما نفذت قدرته تعالى في الأقسام الثلاثة أراد أن ينفذها في القسم (الرابع) وهو ما كان بواسطة أنثى فقط ليعلم من بلغه ذلك بالخبر الصادق أن قدرة الله تعالى حاكمة على نواميس الكون لا محكومة بها وأن الله على كل شيء قدير، فلا يعتمد فيما وراء الأسباب الظاهرة التي أناط بها الأمور إلا عليه وحده، فانجلى بهذا أن هذه الآية الإلهية ليست مما نسميه كرامات الأولياء، فلا تصدق أنثى غيرها بمثله. وأما حصول الرطب الطري من الجذع اليابس فهو ليس في القرآن، وإنما المذكور في القرآن قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياًّ} (مريم: 25) وهو يصدق بالنخلة المثمرة، بل هو المتبادر ولو كان الجذع يابسًا لوصف باليبس لإ ظهار الآية، ومثل هذا يقال في مسألة الرزق، فإن قولهم: إن زكريا كان يجد عند مريم فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ليس في القرآن ما يدل عليه وإنما فيه أنه كان يجد عندها رزقًا، وقد سألها: {أَنَّى لَكِ هَذَا} (آل عمران: 37) حيث كان هو الكافل لها والقائم بالإنفاق عليها {قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 37) ومثل هذا الجواب معتاد من المؤمنين، فما من أحد منا إلا وقد رأى في بيته في وقت ما رزقًا لم يكن يتوقع وجوده، وسأل عنه فأجيب من أهله بمثل: (الله بعثَه) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (آل عمران: 37) لا يستلزم ما ذكروه لأنه يصدق بالهدية والهبة من حيث لا تنتظران، وقد قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب} (الطلاق: 2-3) وهو يصدق بتهيئة الأسباب التي لم تكن في حسبان الإنسان أيضًا، وليس المعنى أن يرزقه بالكرامات وخوارق العادات، ومن المفسرين من قال: إن معنى الحساب في الآية الاستحقاق، هذا وإن وجود فاكهة الصيف في الشتاء ليس من الخوارق كما لا يخفى على الخبير، رب معترض يستدل بقوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران: 38) على أن ما رآه عند مريم كان من خوارق العادات، ولذلك طلب من الله تعالى أن يمنحه كما منحها، ويهب له الذرية على كبر سنه ويأس أهله، ونقول في الجواب: ما كان لمؤمن أن يقول أن نبيًّا علم جواز خرق العادة من ولي أو ولية، فحمله ذلك على طلب مثله لنفسه، وإن كان يقتضيه كلام طائفة من المفسرين، ويكفي لإثارة ذلك الدعاء في نفس سيدنا زكريا - عليه السلام- عند مريم سماعه إسنادها الرزق لله تعالى والثناء عليه بلطفه بعبده حيث يرزقه بغير حساب، فإن المؤمن الكامل كلما سمع ذكر الله والثناء عليه تنمو عظمته في قلبه، وكلما رأى إنعامه على خلقه يزيد رجاؤه في فضله وكرمه، وحسبنا في هذا الجواب بيان أن الدعاء لا يقتضي أن يكون ما رآه من الخوارق، وإن كان لا ينفيه أيضًا، وسيأتي الكلام على ما روي في تفسير الآيات؛ لأن كلامنا الآن في الدليل القطعي. اعترف بعض منكري وقوع الكرامات بأن ما وقع لمريم - عليها السلام - من الخوارق، وأجابوا عنه بجوابين: (أحدهما) أنها كانت نبية، ونقل السبكي عن القاضي أنه قال: (لم يقم عندي من أدلة السمع في أمر مريم وجه قاطع في نفي نبوتها أو إثباتها) وأنّى يقوم له الدليل وهو على رأي من يقول: ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي، وهؤلاء لم يجعلوا فاصلاًًًًً بين النبي والولي إلا دعوى النبوة والتحدي بالخارقة، وإلا فخطاب الملائكة لمريم وأمرهم إياها عن الله بالركوع والسجود أوضح دليل على نبوتها، فإن هذا تشريع، وقد قالوا: إن النبي هو من أوحي إليه بشرع يعمل به، فإن أمر بأن يعلمه الناس كان نبيًّا ورسولاً وإذا لم تكن مريم نبية كما هو رأي الجمهور الذين يشترطون في النبي الذكورة، فكرامتها الحقيقية هي كلام الملائكة، وهذا ليس من خرق السنن الإلهية، ولكنه من خرق العوائد بالنسبة لمجموع البشر؛ لأنه مما اختص الله تعالى به طائفة من خلقه أهَّلها له باستعداد روحاني مخصوص، والله يختص برحمته من يشاء، و (الجواب الثاني) : إن ما وقع لمريم كان إما معجزة لزكريا وإما إرهاصًا لعيسى - عليهما السلام - والإرهاص عندهم ما يتقدم بعثة النبي من الخوارق؛ لتُعد النفوس لقبول الرسالة وتصديق الدعوة، وأجيب عن الشق الأول بأن المعجزة للنبي هي ما يصدر على يده لا على يد غيره، وعن الثاني بمثل هذا وهو ليس بسديد؛ لأن ما يحصل للأم يصح أن يكون تمهيدًا لتصديق دعوة الابن، لا سيما إذا كانت الخوارق محتفة بحمله وولادته ومتعلقة بشؤونه، وقولهم: (لو جاز هذا لجاز أن تكون كل معجزة لنبي إرهاصًا لنبي آخر يأتي بعده، فيمتنع الاستدلال بها على نبوته) ممنوع، فإنه إنما يتحدى بها مستدلاًّ على صدقه فيما يبلّغه عن الله تعالى، وعجيب من السبكي وأمثاله كيف غفلوا عن هذا. قال السبكي: وقريب من قصة مريم قصة أم موسى وما كان من إلهام الله إياها حتى طابت نفسها بإلقاء ولدها في اليَم إلى غير ذلك مما خصت به. قال إمام الحرمين: ولم يصر أحد من أهل التواريخ ونقلة الأقاصيص إلى أنها كانت نبية صاحبة معجزة. اهـ. ونحن لا نرتاب في أن الإلهامات الصادقة هي مما يكرم الله تعالى بها أصحاب الأرواح الطاهرة والنفوس الزاكية من عباده، وهذا من خوارق العادة بالنسبة إلى الجمهور، ولكنه ليس خارقًا للنواميس الطبيعية، ولا مخالفًا للسنن الكونية، وهكذا تكون الكرامات الحقيقية. (الحجة الثالثة) التمسك بقصة أصحاب الكهف، قال السبكي: فإن لبثهم في الكهف ثلاثمائة سنة أو أزيد من غير آفة مع بقاء القوة العادية بلا غذاء ولا شراب من جملة الخوارق، ولم يكونوا أنبياء، فلم تكن معجزة فتعين كونها كرامة، وادّعى إمام الحرمين اتفاق المسلمين على أنهم لم يكونوا أنبياء، وإنما كانوا على دين ملك في زمانهم يعبد الأوثان فأراد الله أن يهديهم فشرح صدورهم للإسلام ولم يكن ذلك عن دعوة داعٍ دعاهم ولكنهم لما وفقوا تفكروا وتدبروا ونظروا؛ فاستبان لهم ضلال صاحبهم، ورأوا أن يؤمنوا بفاطر السموات والأرضين ومبدع الخلائق أجمعين، ثم أسهب في بيان أنهم لم يكونوا أنبياء، وفي هذه الحجة أبحاث (1) إن أصحاب الكهف كانوا من آيات الله تعالى لقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} (الكهف: 9) وقوله تعالى بعد ذكر حالتهم في الكهف: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ} (الكهف: 17) فليس هذا مما نحن فيه كما سبق القول في حَبَلِ مريم عليها الرضوان، ويوضحه البحثان التاليان له (2) إن قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} (الكهف: 25) هو من حكاية أقوال المختلفين فيهم، صرح بهذا المفسرون، ويرجحه على قول من قال: إنه إخبار من الله تعالى أمران: (أحدهما) أن الله تعالى عندما قص نبأهم بالحق قال: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} (الكهف: 11) قال البيضاوي وغيره: وهذا يحتمل التكثير والتقليل، وإنما ذكر التحديد في العدد في سياق حكاية أقوال الخائضين في قصتهم و (ثانيهما) أنه عقب على هذا القول بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض} (الكهف: 26) وهو كالصريح في أنه غير صحيح (3) قلنا في كتابنا (الحكمة الشرعية) : إن مقتضى كلام إمام الحرمين أنهم كانوا مشركين، ثم هداهم النظر إلى رفض الشرك واعتقاد توحيد الله تعالى كما هو ظاهر القرآن، وعلى هذا، هل تتحقق في حقهم الكرامة التي اشترطوا فيمن تظهر على يديه أن يكون مؤمنًا ظاهر الصلاح، وعرفوا الصلاح بالقيام بحقوق الله تعالى وحقوق العباد؟ وهذا لا يعرف إلا بالشرع، لا سيما عند الأشاعرة، وإمام الحرمين من أجَلّ أئمتهم، والسبكي من أكبر علمائهم الذاهبين إلى أنه لا حكم قبل الشرع لا في الأصول ولا في الفروع. (4) يروى عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنهم كانوا بعد الإيمان على شريعة سيدنا عيسى - عليه السلام - وليس عندنا دليل على أنهم كانوا بعد عيسى أو

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر عبد العزيز محمد ورد إلينا ما يأتي من حضرة الكاتب الفاضل عبد العزيز أفندي محمد وكيل النيابة في محكمة الزقازيق، فتلقيناه بالقبول مُقرِّين بفضله شاكرين له سعيه وهو: حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة (المنار) المفيدة: لما رأيت أن مجلتكم التي هي مجنى الفوائد العلمية وملتقى الشوارد الحكمية قد وسعت في صفحاتها مكانًا لنشر ما يختص بالتربية والتعليم، ورأيتكم تنتقون من ذلك أقوم الطرق وأجلها أثرًا - رجوت أن تتفضلوا عليّ بتخصيص موضع وإن صغيرًا منها أُقدم فيه لقراء هذه المجلة كتابًا جليلاً في التربية العملية، أنا مشتغل بنقله من الفرنساوية إلى العربية، وأود نشره فيها تباعًا، الكتاب من تصنيف الحكيم المربي ألفونس أسكيروس سمّاه (أميل القرن التاسع عشر) عارض به الحكيم الشهير جان جاك روسو في كتابه المؤلف في التربية المسمى (أميل القرن الثامن عشر) . هذا الكتاب النفيس حكى فيه مؤلفه حكاية زوجين فرنساويين قضى عليهما الله بالتفرق لسجن الزوج في فرنسا بسبب جريمة سياسية على ما يظهر، واغتراب الزوجة في إنكلترا، وقد شعرت الزوجة في أوائل أيام الفراق أنها حُبلى، فأخذت تكاتب زوجها ويكاتبها في طرق التربية اللازم اتباعها في شأن الولد، وقد تضمَّنتْ هذه الرسائل من تلك الطرق أصحها وأكفلها بوصول الإنسان إلى السعادة، ولا أريد أن أطيل في وصفها ففي الاطلاع عليها غناء. وفي هذا المقام يجب عليّ أن أخلص الشكر لحضرة الأستاذ الأكبر صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية؛ فإنه - حفظه الله - هو الذي نبهني إلى هذا الكتاب المفيد، وحثني على ترجمته ونشره كما هو شأنه في الإرشاد إلى كل ما ينفع الأمة والوطن، فجزاه الله عنهما خير الجزاء. وها أنا ذا مقدم لحضرتكم ما تيسر لي الآن تعريبه، وواثق منكم بقبول ما طلبته، ولكم مني ومن الناس خالص الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عبد العزيز محمد) (أميل القرن التاسع عشر) (الباب الأول) (الأم) من الدكتور أراسم إلى زوجته في 3 يناير سنة -185 [1] قد مضى عليّ يا عزيزتي هيلانة ثمانية أيام طوال، عجزت فيها عن الكتابة إليك، وأعوزتني العبارة التي أرضاها لوصف ما أعانيه من مضض الألم، ليس ما يقاسيه الأسير من عذاب الأسر هو الحرمان من الغدو والرواح، والعجز عن الشيء مطلق السراح، بل عذابه الأكبر هو ضيق الصدر وابتئاس النفس، تلك القباب التي تواجه المسجون نفسها، وتلك الأعمدة ذاتها، وتلك الدهاليز بعينها هي التي تبلبل منه الأفكار وتوقعه في الدوار حتى يقذفه هذا العناء في مهواة الفناء، وهذه الأحجار- أحجار البناء - تمسخه فتحيله حجرًا مثلها. في أول عهدي بالسجن كنت صنمًا لا أرجع للناس قولاً، ولا أملك لهم ولا لنفسي ضرًّا ولا نفعًا، وكدت أعدم حركة الفكر وبقايا الشعور، بل كان يخيل لي أني فقدت وجودي، وفنيت عن نفسي، وانتقلت حياتي إلى السجن نفسه لحصره إياي في دائرة من الوجود مشؤومة صناعية لا جولان للفكر فيها، وإني أؤكد لك أن مَنْ هذه حاله يلزمه عمل كبير للرجوع إلى وجوده، وهذا العمل قد قمت أنا به، والآن قد ثابت إليّ نفسي وأصبحت مالكا لحسي، لا ترجنّ مني أن أصف لك.... فإن المسجون قلّما يعرف ما يسكنه من المحال، وإني قد نقلت من.... في غروب الشمس، ولما وصلنا إلى السجن كان الليل قد أرخى سدوله، ولم يبق لي من الضياء إلا بقية لا أكاد أميز بها غير الأشباح السوداء لبروج السجن الصغيرة، وأسهمه وأسنته الحجرية المتطاولة إلى السماء المظلمة، وكان يخيل لي أن البناء قصر شيد بالظلمات، نزلنا من العجلة وصعدنا مشاة إلى طريق مدرّج منحوت في الصخر ومؤدٍ إلى سجن الحكومة، وكنت أمشي وأراني كأني في حلم، ومع هذا فقد راعني منظر شيئين، وهما الجمال الباهر في بناء السجن المتوج لقمة الجبل المظلم، والبحر التي تصطخب أمواجه وتضطرب، وقمة هذا الجبل ليست إلا قطعة من الصوان برزت من صحراء رملية، ورمل هذه الصحراء يمتد إلى البحر وعليه علائم الكآبة والحزن، وكنت أميز المحيط من بعد في ضوء الصفائح المائية المضطربة، وليس الحال كذلك في جميع الأوقات؛ لأن المحيط في إبان المد يغمر الساحل ويعلو ويصطخب ويحدق بالجبل من كل جانب فتتكسر عليه أمواجه. يصل النور إلى مخدعي من السجن - وهو مقابل للمحيط - من كوة صغيرة ككوى الأسلحة النارية في المعاقل، أو كالذي يسميه المهندسون (بربخًا) فكانت على ضيقها مسرحًا للنظر لا نهاية له، وهي من الارتفاع بحيث لا أشاهد منها سطح البحر إلا قائمًا على أطراف أصابع الرجلين، فإذا جلست لا يبقى لي ما أُمتع به نظري إلا السماء، ولا بأس في ذلك علي، أليس لي بمشاهدة السماء جزء من الكون؟ ! إني أشاهد في ساعات كاملة طائفة من ظواهر هذا العالم لم تكن تستلفتني إليها إلى هذا العهد وهي ألوان الضوء المتغيرة والصاعقة، وحبوب الثلج المتناثرة، والضباب والجمال الخيالي المظلم للأحداث الجوية، غيري من الناس يحب أن يشاهد السماء في البحر حيث تنظر في مرآته السحب إلى نفسها، أما أنا فعلى العكس منها، فإن البحر بالنسبة إلي هو الذي ينعكس على السماء فأراه في مرآتها. قد رأيت مما ذكرت أن لي منفذًا أشاهد منه العالم، فما الذي يمنعني من أن أتخيل في السحب سلاسل جبال، وفي سهول الأثير أريافًا ومزارع زرقًا، تلك المناظر الخلوية المعلقة في الهواء ليست كما أعلم إلا ظلالاً طافية لأفكاري وما أتذكر من معلوماتي، تبعث الإنسان وحدته على البحث في خياله عن صور الأماكن التي عرفها، والأشخاص الذين أحبهم، فأنا الآن بسبب استحضار مرائي ماضي الجميلة في حيز من النور قد انفتح فوق رأسي، وفي هذا الحيز أراك، هل أقدر على أن أصير خياليًّا؟ إن كان ذلك فهذا آخر عقاب لعقل لم يشتغل منه عشرين سنة بغير العلوم الحقة على أنني لست أشكو من شيء، فطوبى لمن يمكنه عند سقوطه أن يرتكن على فكرة أنه دافع عن حوزة القانون، وكان سبب دفاعه حقًّا، وإذا كنت أتألم فليس ذلك إلا لأني كنت سببًا في تألمك. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (كتاب الوجيز) يَعلم القرّاء أن جمعية تألفت في القاهرة لطبع الكتب العربية النافعة لما في هذا العمل من المساعدة على نشر العلوم وإحياء تصانيف سَلَفِنا الأولين الذين نقتبس من أنوارهم ونفتخر بآثارهم، وقد كان باكورة عملها طَبْع كتاب (الوجيز) في فقه مذهب عالم قريش الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي صنفه حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، وإن نسبته إلى هذا الإمام كافية في تقريظه؛ لأن المشتغلين بالفقه يعلمون أنه هو الذي حرر المذهب، وجمع شوارده وقيد أوابده، وأن كتب الشيخين الرافعي والنووي مأخوذة من كتبه، ولكن لا بد في التقريظ من بيان أمر تعرف به قيمة الكتاب، وهو أنه كان من رأي الإمام أن يؤلف في كل علم وفن ثلاثة كتب: مختصر ومتوسط ومطول، يذكر في المختصر أمهات المسائل التي لا بد منها لمحتاج ذلك العلم، وفي المتوسط ما يحتاج إليه من يريد أن يكون عالمًا به من بسط المسائل وإيضاحها بالأدلة والشواهد، ويكون المطول جامعًا للنوادر مستقصيًا أتم الاستقصاء ليكون مرجعًا عند الحاجة، وقد ألف كتبه الفقهية الثلاثة (الوجيز والوسيط والبسيط) طبق هذا الرأي، وأشار بأن يكون المتعلمون ثلاث طبقات: مبتدئون يقرأون الوجيز، ومتوسطون يقرأون الوسيط، وأن يكون البسيط بمراجعة العلماء المنتهين. ولا تحسبن الوجيز من الكتب المختصرة اختصارًا مخلاًّ التي قلنا من قبل أنها كانت مبدأ ضياع العلم وفساد التعليم، والسبب في وضع الشروح والحواشي والتقارير المضرة، كلا إنه سهل العبارة، وقد طبع في مجلدين، وكان الإمام المؤلف استطاله على المبتدئين فألف لهم الخلاصة، وإن فيه كثيرًا من الفروع النادرة والمسائل التي تكاد تقع، ولو أنه ألف هذه الكتب في نهايته بعد تأليف (الإحياء) ووقوفه التام على مقاصد الشريعة لأدخل الفقه في طور جديد من الإصلاح، فإن انتقاده على الفقهاء بالتوسع وغيره يصيب بعض ما في كتبه الفقهية، ولولا هذا ما اهتدى إلى ذاك، ومن فوائد الوجيز: الإشارة بالرموز إلى خلاف الإمامين أبي حنيفة ومالك وخلاف المزني من أكابر أصحاب الشافعي رحمهم الله أجمعين، وإلى الوجوه البعيدة للأصحاب، والكتاب مطبوع في مطبعة الآداب والمؤيد بحرف جميل على ورق نظيف وثمن النسخة عشرون قرشًا. *** (المسامرة شرح المسايرة) أما (المسايرة) فمتن في العقائد اختصر فيه العلامة الكمال بن الهمام الحنفي الرسالة القدسية للإمام الغزالي، وزاد عليها مسائل كثيرة، فكان كتابًا مستقلاًّ، وشرحه تلميذه العلامة الكمال بن أبي شريف الشافعي شرحًا لطيفًا، وكتب عليها حاشية تلميذه المدقق الشيخ زين الدين قاسم، وقد طبع كتاب (المسايرة) مع شرحه وحاشيته بمعرفة الفاضل الشيخ فرج الله زكي الكردي في المطبعة الأميرية المصرية، فجاء المجموع كتابًا تزيد صفحاته على 350 صفحة بالقطع الصغير، والكتاب من أحسن المختصرات التي ألفت في العقائد تحقيقًا وتحريرًا، فنحث المشتغلين بالعلم على الإقبال عليه. *** (تهذيب الأخلاق) إن الكتب العربية لدينا كثيرة في جميع العلوم والفنون التي ألف فيها سلفنا إلا ما نحن في أشد الحاجة إليه، ولا نحيا الحياة الإنسانية الحقيقية إلا به، وهو تهذيب الأخلاق، بل إن هذا العلم قد كان حظه أقل من حظوظ سائر العلوم في أمتنا أيام كانت أمة عزيزة (إذا الناس ناس والزمان زمان) فكيف يكون شأننا اليوم؟ ويسرنا أن نرى النهضة العلمية الحديثة قد نبهت فينا الشعور بجميع ضروب الإصلاح الذي نحتاجه، ومن ذلك طبع كتب الأخلاق والتربية، فقد طبع حديثًا الكاتب الفاضل عبد العليم أفندي صالح المحامي (كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) للفيلسوف الإسلامي أحمد بن مسكويه من علماء القرن الرابع الهجري، وهذا الكتاب أحسن ما رأيت في لغتنا الشريفة في فلسفة الأخلاق (الحكمة العملية) وقد عشقته عند اطلاعي عليه فطالعته غير مرة وانتفعت به، وقرأته درسًا لبعض طلاب العلم، ولا أزال أحض كل مشتغل بالعلم ومحب للفضيلة على مطالعته المرة بعد المرة، ومن فوائده أنه يعطي مطالعه مادة للكتابة، وعبارته بليغة يستفيد المطالع من لفظها كما يستفيد من معانيها، وقد طبع في مطبعة الترقي ذات الحروف الجميلة والإتقان المشهور، وفي مقدمته مقالة مفيدة للكاتب البليغ الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الكريم سلمان أحد الأعضاء في المحكمة الشرعية العليا في القاهرة وفي مجلس إدارة الأزهر الشريف بَيَّن فيها وجه شدة الحاجة إلى مثل هذا الكتاب، وتليها مقالة من إنشاء ملتزم الطبع في مقاصد المؤلفين، ونبذة في ترجمة المؤلف، وثمن النسخة 15 غرشًا، وهي ليست بشيء في جانب فائدة الكتاب.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (المعارف العمومية والمدارس) كان تعليم المسلمين بتركيا - فيما سبق - محصورًا كله في المساجد، وكان لمدارس القسطنطينية شهرة عامة، وذلك بسبب هذا الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) فكان يوجد في ذلك العهد نوعان من المدارس وهما المكاتب أو المدارس الابتدائية المعهود بإداراتها لأئمة المساجد في الجهات المختلفة، والمدارس أو معاهد تلقي علوم الكلام والفقه والفلسفة، وهي ملحقة بالمساجد الكبرى، وجميعها تنفق عليها إدارة الأوقاف، ولم يكن في تركيا مدارس وسطى، فكانت التلامذة لهذا السبب تنتقل من المدارس الابتدائية إلى المدارس العليا بدون استعداد كافٍ يؤهلها للاستفادة من دروسها، وقد أصبح التعليم في مدارس الحكومة بديلاً من التعليم في المساجد بسبب خروج أمر التعليم العام من يد علماء الدين إلى يد الحكومة، إلا المدارس الدينية العليا فإنها لا تزال في دائرة اختصاص مشيخة الإسلام، ومثل هذا التغير لم يتم دفعة واحدة، فإنه من الضروري في تنفيذ مقتضى ما يكتب في الأوراق من أوامر الإصلاح من مضيّ زمن تحصل فيه التجربة والاختبار، فالقواعد النظرية إن لم تصحبها طريقة مثلى للعمل بها كانت مقضيًّا عليها بالعقم وإن كانت من أسمى القواعد، تلك الطريقة المثلى هي التي كانت تعوز الحكومة العثمانية ولم يتأت لهذه بما بذلته من الثبات والهمة الوصول إلى النتائج المطلوبة. قبل سنة 1876م كانت المعارف العمومية فيما يختص بالمسلمين قد وصلت إلى دائرة ضيقة جدًّا ما عدا بعض مدارس للتعليم العالي أبقتها الحكومة في القسطنطينية، فالمدارس الابتدائية بسبب أنها كانت مؤسسة على نظام قديم جدًّا لم يكن صغار التلامذة المسلمين يحصِّلون فيها إلا تربية في غاية النقص؛ إذ كانوا لا يتعلمون هناك إلا مجرد القراءة والكتابة خصوصًا في مدارس الأقاليم حيث كان درسا التاريخ والجغرافية مهملين لا حظ لهما من العناية، ولم يكن التعليم الثانوي والتعليم العالي أحسن حظًّا وأوفر عناية من التعليم الابتدائي، ثم إنه لا ينكر أن الشبان في القسطنطينية من الطبقات الممتازة من الأمة كان لديهم من الوسائل ما يمكنهم من دخول مدارس الحكومة الخصوصية أو المدارس الأجنبية إلا أن هذا يختص بما عدا المدارس الابتدائية. أما الآن فقد تغير الحال تغيرًا كليًّا، فالمعارف العمومية قد سطعت شمسها في سماء تركيا فقشع ضوؤها ظلام الجهل، ووصل إلى أبعد أرجاء المملكة، فإن جلالة السلطان عبد الحميد لما كان معتقدًا أن في نشر العلم زيادة لصولته وتأييدًا لدولته عمل بمقتضى الحديث الشريف (اطلبوا العلم ولو في الصين) وسار بالمملكة العثمانية في هذا الطريق حتى أحلها المحل الأول في التربية العقلية (مبالغة) قسم القانون الأساسي للمعارف العمومية المدارس تقسيمًا نظريًّا إلى قسمين وهما: المدارس الأميرية التي تتعلق إدارتها بالحكومة دون غيرها، والمدارس الخصوصية التي ليس للحكومة عليها إلا مجرد المراقبة، وهي التي يؤسسها ويديرها بعض الأفراد والطوائف (ومن هذا القسم المدارس الدينية الإسلامية، والمدارس غير الإسلامية) إلى ثلاث درجات وهي التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي والتعليم العالي. (التعليم الابتدائي) يشمل التعليم الابتدائي ثلاثة أنواع من المدارس وهي مكاتب الصبيان التي يمكن تشبيهها بمعاهد تربية الأطفال في أواسط أوروبا والمدارس الابتدائية أو المدارس الابتدائية الحقيقية والمدارس الرشدية أو المدارس العالية الابتدائية، فالابتدائية مدة التعليم فيها أربع سنين، ومواده هي مبادئ التهجية للغة التركية وحفظ آيات من القرآن والقراءة التركية، والخط ونحو اللغة التركية والحساب والجغرافية والتاريخ. التعليم الابتدائي في حق المسلمين مجاني وإجباري فيجب على رؤساء العقارات على حسب ما يقضي به القانون أن يتقدموا إلى رئيس بلدية المحلة التي يقطنونها المسمى (بالمختار) لأجل أن يسجلوا لديه أسماء أولادهم ذكورًا وإناثًا متى كانوا في السادسة من عمرهم في سجلات الصبيان، أو الأبدانية ما لم يُثبتوا أن لديهم وسائل للتربية الابتدائية المنزلية. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

أخبار وآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار وآراء روى مكاتب (الستندرد) في الأستانة أن جلالة السلطان قد اهتم أخيرًا اهتمامًا عظيمًا بأمر حكومة شبه جزيرة العرب، وأنه عازم على إنشاء حكمدارية فيها تشبه خديوية مصر (كذا) فتنقسم ولاية اليمن إلى ثلاث عمالات يتولى حكومتها دولتلو حسين حلمي باشا الذي نال منزلة سامية في عين جلالته، ويكون له الحق قي تعيين رجال الأحكام الذين يريدهم، ولكن بعد موافقة الباب العالي على تعيينهم، ويكون القائد العسكري في الولاية خاضعًا للحاكم العام رأسًا، وربما استقدم القائد الحالي دولتلو المشير عبد الله باشا وعَيَّن قائدًا آخر بدلاً منه، وستوضع أيضًا خطة جديدة للجيش تقضي بتجنيد قبائل العرب، وتأليف ستين إلى مئة فرقة من الخيالة على النمط المتبع في تشكيل الفرق الحميدية، ويكون أكابر ضباطها كلهم من الأتراك، وتنظم الضرائب تنظيمًا جديدًا بحيث يصبح دخل الدولة العلية منها ستة ملايين ليرة عثمانية، قال الكاتب: وإن الحزب العربي في المابين الذي يرأسه سمحاتلو السيد أبو الهدى أفندي الصيادي الرفاعي مجمع على استحسان هذا التغيير، وأنه يحض جلالة السلطان على إجرائه، وأنه إذا تم هذا الإصلاح الجديد اضطرت الدول ذات المصالح في المسألة الشرقية إلى زيادة الحذر والمراقبة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام) *** يتوقع الناس في كل يوم نشوب الحرب بين إنكلترا وجمهورية الترنسفال التي يبلغ أهلها نحو سُبع أهالي لندرة عاصمة بريطانيا العظمى السائدة على نحو ثلث العالم، والأخبار البرقية الأخيرة أفصحت عن وقوع ما يتوقع , ولما ظهرت بوادر الحرب وآياته المنذرة، اشتغل بها العالم المتمدن، فمن عاذل لإنكلترا أو غامز لها على طمعها الذي ألجأت به الترنسفال إلى مناصبتها، ومن متعجب من إقدام هذه الشرذمة الصغيرة على مناهضة هذه الأمة الكبيرة، وسنبين في الجزء الآتي أنه لا لوم على الأولى، ولا عجب من الثانية؛ لأن كلاًّ منهما لم تخرج عما اقتضته طبيعة عمرانها. *** زلزلت الأرض زلزالاً شديدًا في مدينة (آبدين) دَمَّر الألوف من المباني في أقل من دقيقة واحدة، وتصدع كثير من المباني القوية، وتداعى للسقوط، وحصل خسف في بعض الجهات، وكان من شدة الزلزال أن شعر به في جزيرة ساقزومتلين، وتعدَّى أثره في الخراب إلى القرى المجاورة للمدينة، والخسائر عظيمة جدًّا، وقد أنعم مولانا السلطان الأعظم على المصابين بمبلغ عظيم من المال، وصدرت الأوامر بجمع الإعانات لهم، فبوشر بذلك وعسى أن يقدم بعض كرام المصريين بتأليف لجنة لإعانة إخوانهم المنكوبين، فهم أهل المكرمة. *** صدرت الإرادة السنية بإنشاء أربعة مستشفيات في مكة المكرمة والمدينة المنورة وينبع وجدة لأجل معالجة الحجاج الذين يمرضون في السفر، فلا زال مولانا أمير المؤمنين عونًا لهم على ممر السنين.

فلسفة الحرب الحاضرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فلسفة الحرب الحاضرة حكومة صغيرة ينقص عدد رعاياها عن مليون واحد تهضم حقوق دولة عظيمة رعاياها ثلاثمائة مليون أو يزيدون، ثم تنذرها بالحرب ثم تبدأها بالقتال ويكون لها الظفر غير مرة؟ إن هذا لشيء عجاب! ! أما هضم الحقوق فهو دعوى بريطانيا العظمى على الترانسفال الصغرى ويقول الساسة من غير الإنكليز: إنه لا ذنب للترانسفال إلا الإباء من ضيم إنكلترا والمحافظة على استقلالهم في جوارها، وإن الإنكليز خلقوا للترانسفاليين ذنبًا ليتخذوه حجة لهم أمام أوروبا على اضطرارهم للإيقاع بهم وعدم خروجهم عن سنن التمدن والإنسانية في إلزامهم بإجابة ما يطلبون، وإن غرض الإنكليز الحقيقي الأخذ بثأر الدكتور (جمسون) الذي نكل به الترانسفاليون من قبل، والتمهيد لمشروع (سسل رود) في جعل القسم الشرقي من إفريقية مستعمرة إنكليزية من رأس الرجاء الصالح إلى الإسكندرية. ومهما يكن من الأمر فحسب الترانسفال أن معاملتها مع بريطانيا العظمى في السلم والقتال معاملة الأكفاء والأقتال. الجرائد في الغرب والشرق تصف الإنكليز بالطمع والجشع، ويرى ساستها أنه ليس لهذه الدولة حجة قيّمة في التعدي على الترانسفال، ويقولون: إن البريطانيين المقيمين في تلك الجمهورية للتجارة واستخراج المعادن لا يشكون من حكوماتها ولا يبالون بحقوق الانتخاب؛ لأنهم لا ينوون الإقامة فيها واتخاذها وطنًا، وإن حكومتهم هي التي حملتهم على التبرم والشكوى؛ لتتخذ ذلك ذريعة لمناصبة تلك الجمهورية، كما صرح بذلك بعض من عاد إلى أوروبا منهم في هذه الأيام، ونحن نقول: إنْ هذه الحجة إلا كسائر الحجج التي تحتج بها الدول الأوروبية في فتوحاتها تمويهًا للعدوان وإرضاءً للتمدن بالبهتان، كنشر لواء الحرية واستبدال التمدن بالهمجية، وإبطال الاسترقاق، وتعميم المعارف في الآفاق، اتحد المعنى وتعددت العبارات، والصيد واحد والشباك مختلفات. وإنما يعذل الأوروبيون بعضهم بعضًا بالخروج عن التعلات المعتادة، حسدًا من عند أنفسهم للدولة السابقة في ميدان الاستعمار، وما الاستعمار إلا فتوح وتغلب بالحيلة والخداع مهما أفادا، وإلا فبالحرب والجلاد، وما كانت الحرب غاية يلجأ إليها بعد فراغ جراب الحيل إلا لأجل الاقتصاد في المال والرجال، لا كما يقولون: إنها شفقة على الإنسانية، وأدب من آداب المدنية، فقد كان تنكيل الإنكليز بدراويش السودان مما تقشعر له الأبدان، ويدل على أن الأوروبي لا يرى غير قومه من نوع الإنسان، هذا والإنكليز أبعد الأمم الأوروبية من الضراوة بالحرب، وأقربها إلى اختيار السلم. هذا مجمل ما يقال في انتقاد الأوروبيين على الإنكليز وفي حقيقة أمرهم، وأما هذه الجرائد الشرقية فهي تُرجع صدى أقوالهم وتضيف إليها ما شاءت السياسة من ذم الإنكليز وتنكبهم صراط العدالة وانحرافهم عن سنن الفضيلة، وأما نحن فنقول: إن إنكلترا ما جاءت في المدنيّة أمرًا فريًّا، فإن طبيعة الاجتماع البشري كطبيعة كل موجود حي، ألم تر إلى كل جسم حي من نبات وحيوان كيف يطلب التغذية من الخارج ما دام حيًّا، وما يدخل في بنيته من الغذاء ينميه ويمده في بعض الأطوار ويحفظ عليه وجوده وقوته في طور آخر، حتى إذا ما أذن بارئ الكون بانحلاله وعدمه يعجز عن تناول الغذاء الكافي لحفظ وجوده، فتفتك فيه عوامل الانحلال حتى يصير إلى الفناء والاضمحلال؟ وقد تتعطل وظائف التغذي في الجسم لعلة عارضة ثم تزول تلك العلة بسبب من الأسباب كالمعالجة، فترجع إلى الجسم صحته؛ فيعود متغذيًا يطلب المدد لقوام حياته من الأجسام الأخرى التي من شأنها أن تكون غذاء له. هذا الذي نشاهده في أشخاص الحيوان والنبات في الأدوار الثلاثة: النمو والوقوف والانحلال الذي يعقبه الفناء، هو بعينه مشاهد في الأمم والدول، وهو فيها اضطراري لا اختياري، وإن كانت جزئيات الأعمال تؤتى من الأفراد بالاختيار، فليس في طاقة الدولة القوية ذات الأمة العزيزة أن تمتنع عن طلب السيادة على غيرها وتوسيع دائرة نفوذها في الأمم الضعيفة كما أنه لا طاقة للأفراد من الإنسان وغيره من الأحياء على ترك الغذاء بالمرة؛ لأن مصادمة الطبيعة ومقاواتها لإبطال عملها مما لا يستطيعه الناس، نعم يقدر الإنسان على تأخير الغذاء عن وقته أو تقديمه عليه ويفضل غذاء على آخر مما في استطاعته تناوله، والترجيح في هاته الأحوال تابع للعلم بالمصلحة والمنفعة، ولكنه لا يترك الغذاء بالمرة مع الاستطاعة عليه إلا لعلة في الجسم أو النفس. وكذلك شأن الدول في الفتوح والاستعمار لا تتركهما إلا بعلة العجز ولكنها تختار بلادًا على أخرى، وقد تتعجل بشيء من ذلك أو تؤخره عن الوقت المناسب إذا اقتضت المصلحة ذلك، كما تؤكل الفاكهة قبل بدوّ صلاحها والطعام قبل نضجه إما لشدة الجوع وإما خشية أن يحال بينها وبين الأكل، وكما يؤكل اللحم قديدًا حيث لا يوجد غريضًا طريًّا. لا جرم أن تعدي إنكلترا على الترانسفال ومحاولة التهامها من الابتسار (أخذ الشيء قبل أوانه) ولكن الشديد القرم يأكل اللحم النيئ وربما حملته الضراوة على نهش لحوم الأحياء. لا يرتاب أحد في أن شعب هذه الجمهورية شعب حيّ حافظٌ لوجوده متمتعٌ بجميع ما تتمتع به الأمم الحية من المزايا الصورية والمعنوية، ومن طبيعة الجسم الحي المتمتع بالمزاج المعتدل الصحيح أن يدافع ما يعرض لمزاجه ويقاوي ما يعدو على حياته، ولا يستسلم لعوادي البلاء ويستهدف لعوامل الفناء، ومَن يقول: إن طبيعة الأشلاء كطبيعة أولي القوة من الأحياء، فما ظهر من كل من إنكلترا والترنسفال هو ما اقتضته طبيعة عمرانها، فلا لوم على الأولى ولا تثريب، وليس ما جاءت به الثانية بالأمر العجيب، وهذا هو ما وعدنا ببيانه في (المنار) الماضي. يقال: إن بين الإنسان وبين سائر الأحياء فرقًا، فهو يعمل منفردًا ومجتمعًا بالاختيار لا بسائق الفطرة فقط، ويوصف بالاعتدال في أعماله ومناشئها من أخلاقه وسجاياه فيمدح، ويرمى بالتفريط أو الإفراط في ذلك فيذم، وهو مكلف بأن يعدل في تصرفه بالطبيعة ويقف في تحصيل مطالبها عند الحدود المشروعة والمعقولة، وإننا نرى الترنسفال في المدافعة أقرب إلى الإفراط من إنكلترا في التعدي والمهاجمة، بل إنها هي التي ألجأت إنكلترا للحرب بإنذارها الشديد المعلوم، فكأنما هي التي ابتدأت الحرب، بل هي التي ابتدأتها حقيقة. نقول: إن هذا الكلام صحيح، وإن حكومة الترنسفال قد تهورت ولكن لها عذرًا في التعجل بالحرب؛ لأنها علمت أن ذلك واقع ما له من دافع، وأن الفائدة في التأخير إنما هي لعدوتها حيث تستكمل جمع القوة اللازمة لإبادتها، على أنها تُلام على عدم التساهل في الدفع بالتي هي أحسن قبل أن تكتب إنكلترا الكتائب وتسوق الجنود إلى الحدود، اللهم إلا أن تكون على بينة من أن تلك المطالب تعبث باستقلالها، فإنها حينئذ يصدق فيها قول الشاعر: إذا لم تكن إلا الأسنة مركبًا ... فلا يسع المضطر إلا ركوبها فكيف بها إذا شعرت بأن غاية هذه المطالب محو وجودها القومي وإدغامها في المستعمرة الكبرى التي تَجِدُّ بريطانيا العظمى في إنشائها، وقد تجاوزت في التمهيد لها من الشمال الخرطوم وأم درمان وتعلم (أي الترنسفال) أنها هي العقبة الكؤود التي لا بد من تمهيدها في الجنوب؟ أليست جديرة في هذه الحال بأن تتمثل بقول أبي الطيب: وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تعيش جبانًا بلى، الجبن والاستبسال هما عاملا الفناء والزوال، وعاقبة الشجاعة والإقدام، إما الظفر وإما ميتة الكرام، وليس استبسال شعب البويرس واستماتته لأجل الأمر الثاني (ميتة الكرام) كما يظن أكثر الناس، بل هو يطمع بالظفر بعدوّه ويرجو أن يكون له الغلب عليه لأسباب منها إعجابه بنفسه واستهانته بخصمه، لا سيما بعد الظفر بحملة الدكتور (رجمسون) الإنكليزي، فإن البويرس يعتقدون بأنفسهم أنهم أشجع الخلق وأبسلهم، والباسل لا يستبسل، ومنها أن التعليم العسكري عام فيهم، ومتى دخل العدو بلادهم فإنهم يتألبون عليه كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالاً حتى يظفروا به فيفنوه أو يبيدهم عن آخرهم، وبمثل هذه المزية تحفظ الشعوب الصغيرة استقلالها، وبتركها حَل الدمار بأقوى الأمم وأعظمها، ومنها أن لهم من ولاية الأورانج الحرة حليفًا وظهيرًا، ومنها أنهم مدافعون وخصمهم مهاجم، ومنها أنهم يتوقعون أن يثور أبناء جنسهم في مستعمرة الرأس على خصمهم إذا لم يُبقوا فيها حامية كافية لمنع الثورة، وإبقاء الحامية مفرق لقوتهم ومضعف لهم، والظاهر أن بريطانيا العظمى على عظمتها إنما تقدر على التنكيل بالترانسفال بالمطاولة لا بالمناجزة، ولا عار على أمة أن تغلبها أمة يزيد عدد رعاياها على عددها أكثر من ثلاثمائة ضعف، ولها الفخر الأكبر والشرف الأعلى في الشجاعة إذا هي طاولتها في القتال، أو كانت الحرب بينهما سجال، فكيف إذا هي ظفرت ولو في بعض الأحوال؟ ! هذا خير مثال للأمم الحية والأمم التي تعد في الموتى، وبه يفهم قول اللورد سالسبري: إن الأمم الحية تزداد حياة والمائتة تزداد موتًا، ولكننا بَيَّنا أن الأمم التي ظهر فيها الانحلال يجوز أن ترجع إلى صحتها بإزالة العوارض التي طرأت عليها فغَلَّبت التحليل على التركيب، فعسى أن يكون في كلامنا موعظة وذكرى {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (2) من أراسم إلى هيلانة في 6 يناير سنة -185م. حدث بالأمس بين الساعة العاشرة والحادية عشرة صباحًا ضباب كثيف غمر الشاطئ كله، والعادة في مثل هذه الحالة أن تدق الأجراس إيذانًا بالخطر، فلذلك طفقت أجراس القرية القريبة من السجن تطنطن، وتيسر لي أن أفهم المقصود من هذه الإشارة، الساحل المحدق بنا ممتلئ بالأخطار لأن الرمال المتحركة ومستنقعات الماء الراكد والمد والجزر كلها حبائل تترقب اصطياد السائح الضال، كامنة له تحت أستار الضباب، لذلك تناديه أصوات الأجراس وتحذره من الوقوع في الخطر، وترشده بمصدرها إلى الطريق الذي يلزمه سلوكه ليصل إلى سفح الجبل أسرع ما يكون، وقد سألت في مساء هذا اليوم سجانًا لنا يسكن أهله القرية عما حدث، فأخبرني بأن طفلين مسكينين قد فاجأتهما أمواج البحر في إبان المد فأحاطت بها وكادا يغرقان لولا ما بذله من الجهد والهمة صيادو الشاطئ من ذوي النجدة والبسالة في إنقاذهما من مخالب الموت غير مبالين بالخطر الذي كاد يذهب بقواربهم، من هنا ترين أنني على بعدي عن العالم وحرماني من معرفة ما يحصل فيه قد قدرت أن أتحفك بهذا الخبر السار. اهـ (3) من أراسم إلى هيلانة في 8 يناير سنة - 185م أنا في السجن تتعاقب عليّ الساعات، وكلها متشابهة لا اختلاف بينها، فليست الحياة هنا إلا يومًا واحدًا بسبب ما يحرج الصدر ويضيق على النفس من توحد الأشياء وتشابه الأطوار وعدم تغير شيء منها، آه لو عادت إليّ نعمة العلم بما يقع في الخارج، وليتني أعرف شيئًا من أخبارك، قد منحتني إدارة السجن الحق في أن أخرج من مخدعي للتنزه كل يوم ساعة أو ساعتين على رصيف مرتفع للسجن، فأنا أصرف هذا الزمن في إجالة نظري والسياحة به فيما حولي من الأشياء لأتعرفها، فإني للآن ما كنت أعرف شيئًا في هذا المكان، بل كنت أجنبيًّا منه بالمرة إذ كنت كمَيتٍ أُلقي في مكان لا يدري أين هو، وقد ابتدأت منذ أسبوع أن أعرف أين مستقري، فتجدينني الآن أهتم بتعرف شكل الأماكن المحيطة بي تعرفًا صحيحًا، يبعثني على ذلك وجدان لا أشك في أنه عام في جميع المسجونين، لا ينفك ناظراي عن اكتشاف ما لم أكن رأيته حال دخولي في السجن، وأخالني قادرًا على أن أرسم في الورق صورة ما أحدثه البحر في الشاطئ من التقطع؛ فنشأت عنه الخلجان والرؤوس التي تمتد كالألسنة امتدادًا أفقيًّا، وصورة الصخور التي تظهر قممها أحيانًا في ضوء الشمس ويختفي نصفها أحيانًا في ظلام الضباب البعيد، وقد عرفت أيضًا رسم البناء الذي يحويني، وأوضاعه الهندسية الجميلة، وتنظيماته الحربية، ومعاقله الطبيعية ومنحدراته، ومناطق أسواره، لم يكن اهتمامي بمعرفة ذلك مبنيًّا على تدبير حيلة للهرب، كلا، فقد حاول ذلك غيري من المسجونين وردوا بالخيبة؛ لأننا إذا أمكن أن ننجو ممن يقومون على حراستنا من العساكر والسجانين الذين يتعسر أن نخدع يقظتهم والتفاتهم، فإننا لا ننجو من المحيط والرمال الخاتلة بوعوثتها، والعقبات الكثيرة الأخرى، وإنما أنا أبحث في ذلك عن طريقة أُسلي بها نفسي وأشغل بها فكري، فلا شيء مني يريد الهروب والتخلص من السجن سوى عقلي. اهـ. (4) من أراسم إلى هيلانة في 10 يناير سنة -185م أتعلمين ما للسجن عليّ من الفضل؟ إنه ليعلمني أن أكون حرًّا ويرشدني إلى معرفة أن الإنسان عاجز عن الاستيلاء على إنسان مثله، فإني أحس بذلك كلما تعاقبت عليّ الأيام فيه، وأجد في نفسي نوعًا من الفرح مشوبًا بمرارة عندما أشعر من نفسي أنها أكبر وأقوى من أن يبهظها ثقل وطأة الظلم، ليست أسوار السجن الصوانية وأغلاقه الحديدية وحفظته الأيقاظ إلا هباء في طريق العقل، لا حوائل تحبسه وتمنعه من الجولان، بل إن أشعة نوره تتخطى كل هذه العوائق ولا تقف عند شيء منها، إن عزيمة المسجون لتقاوم عزيمة ساجنه ومصفده، وأنه مهما جدّل وصرع فلا يستسلم، وأنه إذا كان على شيء من العدل والحق فهو أشرف وأسمى مكانًا من غالبه، عبثًا يحاول هذا الغالب، فالفكر كالهواء لا يدخل في قبضة أحد، إنه ليتيسر له أن يشد وثاق مسجون، فليصل بعد إلى أعماق قلبه، وليأسر ما هنالك من عزة نفسه ومنعة وجدانه إن كان ذلك في قدرته، هيهات هيهات تلك المنعة التي أجدها في نفسي تدعوني إلى الثقة العظيمة بالمستقبل، لا أقسم بمخادع السجن الضيفة المظلمة ولا بأشباح أولئك الذين ماتوا هنا في زوايا النسيان (مخادع في السجن مسماة بهذا الاسم معدة للمحكوم عليهم بالسجن طول الحياة) أو في أقفاص الحديد، فإن الحق والحرية سيكون لهما النصر والظفر في هذه الدنيا. (5) من أراسم إلى هيلانة في 12 يناير سنة -185م قد اهتديت بعد العناء إلى طريقة إيصال هذا المكتوب إليك، فسيصلك على يد الذي تفضل عليّ بأن يكون رسولاً بيننا، على ما في ذلك من المخاطرة بنفسه، هذا يدلك على أن الإنسان إن كان يحتف به في حالة الرخاء الجلساء المتملقون، فهو لا يعدم في الشدة أن يرى حوله أحيانًا أصدقاء خاملين يخلصون له الود. وأختم قولي بأنى لك طول حياتي. ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دروس جمعية شمس الإسلام (4) (أماليّ دينية - الدرس الرابع) (8) أحكام العقل: الإيمان هو تصديق العقل بقضايا الدين جزمًا في البعض وظنًّا في البعض الآخر، وقد قلنا في درس سابق أن العقل مشرق أنوار الدين، وأنه يجب أن لا يكون في الدين ما يجزم العقل بامتناعه، وأكثر كتب التوحيد التي يعلم بها في المساجد والمدارس مبنية على أن العقيدة الإسلامية هي معرفة ما يجب لله تعالى وما يستحيل في حقه وما يجوز له، وما يجب ويستحيل ويجوز في حق الأنبياء عليهم السلام، وما ثبت بالسمع من أحوال عالم الغيب الجائزة عقلاً، والتصديق الذي فسرنا به الإيمان حكم من أحكام العقل، والوجوب والاستحالة والجواز التي بنيت عليها كتب العقائد التي أشرنا إليها هي أنواع الحكم العقلي التي ترجع إليها جميع الجزئيات، ولذلك أراني مضطرًّا لبيانها وإن كنت أخذت على نفسي أن أجلي لكم المسائل الدينية غير متقيد بالاصطلاحات العلمية. قال إمام الحرمين: من لم يعرف أنواع الحكم العقلي ويفرق بينها فهو ليس بعاقل، أبين مفهوم هذه الكلمات الثلاث بعبارة سهلة أرجو أن يتناولها فهم كل سامع سالكًا مسلك السنوسي في جعلها أقسامًا للحكم العقليّ لا للمعلوم كما جرى عليه بعض العلماء، فقد حقق أستاذنا الأكبر في رسالة التوحيد أن المستحيل لا حقيقة له فَتُعْلَم، وإنما يسمى معلومًا مجازًا، وبين هذا بما لا محل لشرحه هنا لما فيه من الدقة التي تنافي ما توخيناه من التسهيل، أبدأ بالبديهي من ذلك وأوضحه بضرب المثال فأقول: (9) الوجوب والواجب: لا ريب أن الإنسان لا يستطيع أن يتصور جسمًا غير متحيز أي آخذ مقدارًا من الفضاء الموهوم بقدره، فحكم العقل بالتحيز للجسم الذي في يدي مثلاً حكم جازم لا يقبل الانتفاء، وهذا النوع من الحكم العقلي هو الذي يسمونه الوجوب العقلي، والمحكوم به يسمى واجبًا، فالتحيز للجسم واجب عقلاً لا يمكن انتفاؤه، ولا يتصور في العقل عدمه. (10) الاستحالة والمستحيل: إذا قيل لكم: إن هذا الجسم متحرك وساكن في حالة واحدة، فإن عقل كل واحد منكم يحكم بأن هذه الدعوى كاذبة لا تقبل لذاتها الثبوت؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور جسمًا متحركًا وساكنًا في آنٍ واحد، كما لا يستطيع أن يتصور شيئًا موجودًا ومعدومًا في آن واحد، وهذا النوع من الحكم يسمى الاستحالة، والمحكوم عليه بالاستحالة يسمى مستحيلاً ومحالاً عقليًّا. (11) الإمكان والممكن؛ إذا قلت: إن في جيبي الآن تفاحة، فلا شك أن كل عاقل يحكم بأن مفهوم هذا القول يجوز أن يكون ثابتًا متحققًا، ويجوز أن يكون منتفيًا لا حقيقة له، وهذا الحكم هو الذي يسمى الإمكان، فوجود التفاحة في جيبي ممكن قطعًا. (12) البديهي والنظري: لا يرتاب فيما ذكرنا ذكي ولا بليد؛ لأن الأمثال التي ضربناها بديهية، ولا يحتاج في فهمها إلى نظر واستدلال، ومن هذه الأحكام ما لا يعرف إلا بالنظر العقلي والاستدلال، ولكن الدليل الصحيح لا بد أن ينتهي إلى البداهة المعلومة بالضرورة بعمل فكري كثير، بل يحكم العقل بالتفاتة واحدة باستحالة الترجيح من غير مرجح. (13) الترجيح بلا مرجح: هذه الكلمة تدور على ألسنة المتكلمين في الاستدلال على وجود الله تعالى وتنزيهه عن الحدوث، ومشابهة المحدثات، ويعدونها من البديهات في العقليات، كما هي في الحسيات، فإن الميزان إذا تساوت كفتاه لا يمكن أن ترجح إحداهما على الأخرى إلا بمرجح كجسم يقع فيها أو هواء يحركها، ومن هنا يجيء المثال الذي لا بد فيه من عمل فكري كثير، ولنجعله حدوث العالم. (14) حدوث العالم: من العالم ما نشاهد حدوثه بأعيننا كأشخاص الحيوان والنبات، وما لم نشاهد حدوثه، فإننا نلقيه إلى العقل ليحكم عليه بأحد أحكامه الثلاثة، أما الاستحالة فلا تأتي ههنا؛ لأن المستحيل ما لا يتصور وجوده، وهذا موجود قطعًا، ولا سبيل للحكم عليه بالوجوب؛ لأن الواجب هو ما لا يتصور العقل عدمه، ولا موجود في هذا العالم يمنع العقل عدمه، وكل ما تساوى في نظر العقل وجوده وعدمه فهو ممكن، فإذا وجد الممكن فلابد من مرجح لوجوده على عدمه المتساويين؛ لأننا أثبتنا أنهما متساويان، ورجحان أحدهما ينافي التساوي، فيلزم أن يكونا متساويين وغير متساويين في آن واحد، وهذاهو التناقض المحال، فثبت أنه لابد من مرجح لوجود العالم على عدمه والمسبوق بالترجيح حادث لا محالة بل لا معنى للحدوث إلا هذا، ولك أن تقول: إن الترجيح فعل، وهو لا يعقل إلا حادثًا ومتى كان حادثًا فمفعوله حادث، فالعالم حادث لا محالة، وللاستدلال على هذا الحدوث طرق أخرى لا حاجة لبيانها هنا. (15) حكم الواجب والمستحيل: يشترك الواجب والمستحيل العقليان في أنهما لا تتعلق بها قدرة الله تعالى؛ لأن وظيفة القدرة الإيجاد والإعدام، والواجب وجوده لذاته فهو قديم ويستحيل عدمه، والمستحيل منتف لذاته ولو أمكن أن يوجد لم يكن مستحيلاً، فلا يُقال: إن الله تعالى قادر على إعدام الواجب كذاته تعالى وتقدس، أو إيجاد المحال كجعل الشيء موجودًا ومعدومًا، أو ساكنًا ومتحركًا في آنٍ واحد، ولا يقال: إنه ليس بقادر إذ ليس هذا من وظيفة القدرة فيثبت لها أو ينفي عنها، وقد غفل الجلال السيوطي عن هذا فقال في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: 120) هذه العبارة (وخص العقل ذاته فليس عليها بقادر) وفاته أن العموم في كل شيء بحسبه، فإذا قلت: إنني أبصر كل شيء في هذا المكان لا يدخل في عموم قولي الأصوات والروائح؛ لأنها ليس من شأنها أن تبصر، ولا يعد هذا نقصًا في القدرة الإلهية، كما لا يعد عدم إدراك الأصوات والروائح نقصًا فيها. (16) العقليّ والعاديّ: يشتبه على كثير من الناس المُحال العقلي بالمُحال العادي، ولا يكاد يسلم من هذا الاشتباه إلا الذين درسوا العلوم العقلية بالإتقان، ثم سألت القوم: هل يجوز في العقل أن تثمر شجرة النخل تفاحًا أم يستحيل؟ فأجاب طائفة من أمثل الحاضرين (يستحيل) فقلت لهم: إن العقل كما يتصور ظهور الثمرة التي تسمى بلحًا من هذه الشجرة يتصور أيضًا أن تظهر منها الثمرة التي تسمى تفاحًا، ولكن هذا إنما يمتنع في العادة دون العقل، أرأيتم إذ قلت: هل يقدر الله تعالى على إخراج التفاح من شجرة النخل، فما أنتم قائلون؟ فأجاب أنه قادر على ذلك، فقلت: وهل يقال إنه قادر على جعل النخلة موجودة ومعدومة في آنٍ واحد، فقالوا: كلا، فقلت: قد اتضح الفرق، وليس لنا أن نقول: إن هذا الشيء مُحال عقلاً إلا إذا كانت استحالته بديهية أو عليها دليل ينتهي إلى البداهة كالجمع بين النقيضين، وما عدا ذلك مما لم تجر العادة بوجوده إما لعدم وجود سبب وعلة تقتضيه، أو لأنه مخالف لسنن الكون - فهو ممكن في نفسه مُحال في العادة، كما اهتدى الإنسان إلى جعل الشجرة تأتي بثمرة شجرة أخرى من فَسيلتها بالطريقة المعروفة، يجوز أن يهتدي إلى طريقة طبيعية أخرى في الأشجار التي ليست من فصيلة واحدة كالنخل والتفاح، إن هذا الأقرب في نظر العقل من وصول الأخبار إلينا من الصين وأميركا في نحو دقيقة واحدة بآلة التلغراف، ومن مخاطبة أهل الأنحاء الشاسعة بعضهم بعضًا بآلة التليفون، لولا الجمع بين النقيضين وما في معناه أو يؤدي إليه لكان من الصواب ما قال نابليون الأول أن يحذف لفظ المستحيل من معاجم اللغة، وفي هذا القدر من البيان غناء لقوم يتفكرون. ((يتبع بمقال تالٍ))

الشكوى من ظلم هولندا

الكاتب: أحد الأفاضل في بتاوي الجاوه

_ الشكوى من ظلم هولندا لأحد الأفاضل في بتاوي الجاوه لقد سرَّني وسرَّ جميع المسلمين في هذه البلاد ما نشرته جريدة (معلومات) في عددها131 المؤرخ في 23 ربيع الآخر من هذه السنة جوابًا عن الرسالة الواردة إليها من جاوه بتاوي وقد أصابت الغرض الذي نرمي إليه، وجميع المسلمين واثقون بقولها ومرتقبون لنتيجة ما كتبته في عدد 94 في شأن التابعية العثمانية، وما تقرر بين دولتنا العلية وهولندا، ويلهج بقرب وفاء الوعد النساء والأطفال فضلاً عن الرجال، أما هولندا فقد زادها عُتوًّا ونفورًا، وأنشأت تموه وتعلن أن ما جاء في عدد 94 من معلومات قول لا يقصد به الفعل وأمين بك شهبندر الدولة العلية ساكت على ذلك فاعتُبر مُقِرًّا له، وفي الشهر الماضي كتبت جريدة (بنتغ بتاوي) في عددها 188 المؤرخ في 18 (أكوس) سنة 1899م كلامًا أساءت فيه الأدب مع الحضرة الشاهانية اقشعرت له قلوب العالم الإسلامي في هذه البلاد، وكتبوا عرائض الحال للشهبندر أمين بك وقَدّموا له عدد الجريدة المشتمل على الطعن. نشكر لجريدة (المنار) ما كتبته في عدد 25 المؤرخ في 26 ربيع الثاني جوابًا على الرسالة الواردة إليها من (بتاوي - جاوه) وما ذكرت من العقبات التي أمام دولتنا العلية -أعزها الله إلى آخر الدوران- المانعة لها من إنقاذ المسلمين من ظلم هولندا، احتج (المنار) واعتذر عن الدولة العلية أولاً بأن أسطولها ناقص يعوزه زيادة المدرعات، وثانيًا بأن هولندا بعيدة في البر عن حدود الدولة العلية، وأنها لو كانت قريبة لدمرتها بمثل ما دمرت اليونان، ونحن معاشر الجاويين المسلمين نظهر في (المنار) وبواسطة كل من له غيرة على المسلمين، أنه إذا أرادت الدولة العلية إنقاذنا من ظلم هولندا ارتجّ لها العالم بأسره، ونطلب من الدولة بمرأى ومسمع من معتمدها أمين بك أولاً أن تحارب هولندا بالحجة والإقناع، ثانيًا أن باب المندب ليس ببعيد عن دولتنا العلية، وحياة هولندا وموتها هناك، ثالثًا الضغط على رعاياها في الممالك المحروسة وإبطال امتيازات قناصلها حتى لا يبقى لقنصل هولندا إلا المحافظة على بنديرة (عَلَم) دولته كما هو شأن قنصل الدولة العلية في بتاوي، فإنه لا يفوه ببنت شفة أمام الهولنديين دفاعًا عن رعايا دولته وحفظًا لحقوقهم. فإننا تحت ظلم هولندا يكال ويوزن لنا بالموازين والمكاييل الناقصة، وقد فضلت الهرباوين واليابان علينا في الموازين أعني القوانين والامتيازات. ونحن نعتقد أن دولتنا العلية أقوى في جميع الوجوه من اليابان، وإن اليابانين منذ عهد قريب حازوا الامتيازات من هولندا، وكانوا يعاملون مِثلنا ولمّا رفعوا شكواهم إلى (الميكادو) أغاثهم حالاً وأنذر هولندا بأنها إذا لم تعامل رعاياه كمعاملة الهرباوين يعلن عليها الحرب حالاً، وعندما وصل الإنذار إلى والي بتاوي أمر حالاً بأن يعامل اليابانيون في جميع مستعمرات هولندا كمعاملة الهرباوين في جميع الامتيازات. وأخيرًا نستلفت أنظار دولتنا العلية أن ترحمنا وترق لما نحن فيه من الظلم وأن ترسل إلى مياهنا ولو سفينة حربية اقتداء بالدول كي تقرّ أعين المسلمين وتطمئن قلوبهم برؤية الهلال والعساكر الأهلية وما ذلك عليها بعسير؛ فإنها هي المسئولة عن ذلك بين يدي الله عز وجل بما لها من القوة في الوقت الحاضر، وجميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها متمسكون بالسدة الملوكية، والمرجو من حضرات محرري الجرائد التركية والعربية، والفارسية والهندية، ومن له غيرة على المسلمين أن ينادوا ويحرروا ويعلنوا ما نحن فيه من الظلم والاعتساف من هولندا؛ حتى يُسَخِّر الله لنا مَن يُحامي عنّا وأجر الكل على الله وحده، والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محب الدولة والملة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ناصر الدين (المنار) لو أن قناصل الدولة العلية في بلاد جاوه من الرجال المُحَنكين في السياسة، الصادقين في الخدمة، لأمكنهم أن يُخففوا البلاء على المسلمين هناك، ويحملوا حكومة هولندا على إعطائهم حقوقهم كلها أو بعضها، ولكننا بُلينا بقوم خونة يكون أحدهم وكيلاً للدولة العلية ليحافظ على حقوق رعاياها فيتفق مع الحكومة المحلية على أن يكتم عن دولته الحقيقة، ويخبر عما يجري بخلاف الواقع، يشتري بذلك ثمنًا قليلاً {فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُون} (البقرة: 79) أما الوجوه التي ذكرها الكاتب فهي مما يُقال ويخطر بالبال، ولكن هولندا تجيب الباب العالي إذا هو احتج عليها بضياع حقوق رعيته أو سائر المسلمين في جاوه بأن أخبار الجرائد كاذبة، وأن الصحيح ما يقول القنصل الرسمي، وقد علمنا أن القنصل يكتب لدولته ما تحب الحكومة الهولندية وترضى، وإذا وصل للدولة العلية خبر رسمي صحيح ينطق بثبوت تلك المظالم واحتجت به تقابلها هولندا بالوعود الكاذبة حيث هي آمنة من الإلزام بالقوة، وأما التعرض لمراكب هولندا في باب المندب فهو لا يجوز إلا إذا وقعت بين الدولتين حرب رسمية، ولا مجال للحرب لما ذكرنا قبلاً من بُعد بعض البلادين عن بعض وضعف أسطولنا، وأما الضغط على رعايا هولندا في الممالك المحروسة فهو يفيد لو كان لهولندا رعايا في بلاد الدولة العلية، ولكن هولندا دولة صغيرة إذا خرج بعض أهلها من بلادها للاتجار والكسب، فإنما يقصدون مستعمرتهم أو أرضًا غنية أخرى يسكنها قوم من جنسهم كجنوبي إفريقيا، ولا يوجد منهم في بلاد الدولة العلية إلا قليل، على أنه يصعب على هولندا أن تحرمها الدولة العلية الامتيازات الممنوحة لغيرها من دول أوروبا لما فيه من الإهانة لها، ولا نخال أن الدولة تفعل هذا، وأما اعتقاد الكاتب وغيره أن دولتنا أقوى من دولة اليابان فهو إن صح لا يلزم منه أن تعامل الدولة العلية كما تعامل اليابان؛ لأننا مُقِرّون بأنه لا سبيل للدولة إلى حرب هولندا للبعد في البر وعدم استعداد أسطولنا لحرب البحر على أن بحرية هولندا ضعيفة أيضًا. ونحن نرى أن يستصرخ إخواننا الجاويون العالم المتمدن بالكتابة في الجرائد عامة والأوروبية خاصة بأن يبينوا فيها مظالمهم من غير تحامل، ويحددوا فيها مطالبهم تحديدًا وأخال أنه يوجد فيهم من يحسن الكتابة في اللغتين الإنكليزية والفرنسوية. ومع هذا فإننا لا نأتلي أن نستصرخ لهم مولانا السلطان الأعظم، ونستنجد عواطفه الشريفة، ونستغيث بمراحمه، ونستجدي مكارمه، ونرغب إلى سائر الجرائد الإسلامية بمساعدتنا على ذلك، عسى أن يوفقه الله تعالى لحل هذا الإشكال بطريقة لا تخطر على البال، فتتحقق بجلالته وبدولته الآمال، وعلى الله الاتكال.

تهاني الجريدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تهاني الجرائد نهنئ صديقنا الكاتب الفاضل، المؤرخ المدقق جرجي أفندي زيدان بإكمال مجلته الهلال الأغر سبع سنين، بلغت فيها بجده واجتهاده وحسن اختياره للمواضيع المستعذبة مبلغًا في الانتشار سبقت فيه جميع المجلات العربية فيما نعلم بحيث صار هلالها بدرًا كاملاً، فلا زالت بسعيه مشرفة على الأقطار، مشرقة بأنوار المعارف التي هي أنفع من أنوار الأهلة والأقمار. *** ونهنئ الكاتب الأديب عوض أفندي خليل صاحب مجلة (السمير الصغير) باستقبال مجلته السنة الثالثة بشكل المجلات الكبرى؛ فارتقت من أربع صفحات إلى 16 صفحة كبيرة، وبذلك زادت فوائدها، فنحث أبناء المدارس على زيادة الإقبال عليها. *** ونهنئ جريدة (السلام) الغرّاء ببروزها من حجابها، وعنايتها بعده بالمباحث الإسلامية، مستلفتين أنظار من يحررها إلى عدم التحامل في الانتقاد على العلماء، فقد اتخذتهم في إحدى مقالاتها هزؤًا وسخريًّا، ولا ننكر أننا ربما كنا أول من فتح باب الانتقاد عليهم في شؤون العلم والتعليم، ولكننا لم نمس كرامتهم الشخصية، وعلى أن مجلتنا علمية دينية، ونحن من الصنف، وبهذا ربما يقبل منا ما لا يقبل ممن ليس كذلك، ولا يتوهم أننا نقصد حجر هذه الأبحاث على غير (المنار) فإننا - يعلم الله - نحب أن توافقنا كل الجرائد وتساعدنا فيما نحن فيه، وإننا قد سُررنا بمشرب (السلام) الجديد، ولكنا نرجو أن تكون فيه على بينة واعتدال , وأن تتحري في المديح الشخصي كذلك فلا تطلق الألفاظ التي تخصها الجرائد المعتبرة بأمير البلاد (كشرفنا أو شرف الثغر) على أوساط الناس، فضلاً عن أدنائهم. ولما رجونا منها الخير أبدينا لها النصيحة، والله عليم بذات الصدور. *** أخبار الحرب نلخصها في الرسائل البرقية، على أن مصادرها إنكليزية: قضت الحال أن يكون الترانسفاليون مهاجمين مع أن الأصل أن يكونوا مدافعين، وقد أوغلوا في بلاد ناتال الإنكليزية من مضيق لنجسنك وكذلك جند الأورانج حلفاؤهم تعدى حدودها، وهجم البويرس أيضًا على بلدة ما فكنج فحاصروها وربما كانوا قد استولوا عليها وقد دمروا هناك القطر الحديدي الحربي المدرع الذي كان معتمد إنكلترا في حماية تلك الجهة بعد ما أزاغوه عن صراطه،وقد أسروا جميع من كان في القطار إلا رجلاً مهندسًا أو رجلين، وحاصروا أيضًا مدينة كمبرلي التي فيها المسترسل رودس صاحب المشروع الإفريقي العظيم واحتلوا النكس نك، وآخر الأخبار البرقية أن جندهم في تقدم مستمر إلى الأمام، وأنه يقصد إلى الإحاطة بمدينة لادي سميث، والمدد البريطاني متواصل.

وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفاة والدة عبد الحليم أفندي حلمي نعى إلينا بريد سوريا الأخير وفاة والدة مدير جريدتنا عبد الحليم أفندي حلمي قضت نحبها في ميناء طرابلس الشام عن عمر ناهز السبعين، قضت معظمه بالعمل الصالح والبر والإحسان، فرحمها الله رحمة واسعة، وعزّى أولادها وإخوتها، وألهمهم الصبر الجميل.

ذكرى لرؤساء الأمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذكرى لرؤساء الأمة ] إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا [[1] ويلٌ للمفرِّطين الذين هم في غمرة ساهون، تلمع لهم بروق الهداية ولا يبصرون، وتصيح بهم رعود النذر ولا يسمعون، وتفيض عليهم سماء النعم ولا يشكرون، أنذرهم الله بطشته بسوء الحال وقلة المال وزلزلة الاستقلال، فتماروا بالنذر- وأعرضوا عن الآيات والعبر، واعتذروا بالقضاء والقدر، وما أذنب القضاء ولكنهم هم المذنبون، وما قصر القدر ولكنهم هم المقصرون، يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون، وما هي إلا كلمة واحدة تذهب باستقلالهم، وتقطع حبال آمالهم، وتجتاح ثمرات ما كان من أعمالهم، أستغفر الله لأنهم قوم لا يعملون، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون. ويل للغافلين الذين هم في سكرة يعمهون، أضلهم الهادون، وأغواهم المرشدون، وفتك بهم الحرَّاس الحافظون، فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، تفرقت بهم السبل فأعيتهم الحيل، واختلف فيهم الأدلاء فلا يدرون كيف العمل، وغلبت العادات السيئة فكثر الخلل، وقوي سلطان التقاليد الباطلة فعمّ الزلل، فإذا قيل لهم: ارجعوا إلى قرآنكم، قالوا: إنما نحن مقلدون، وإذ قيل حَكِّموا العقل، قالوا: إنما نحن مؤمنون، كلا، إنه لا يشقى بالإيمان العالمون {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) ويل للمرءوسين من الرؤساء، وويل للرؤساء من المرءوسين، ويل لعلماء السوء، وويل لخطباء الفتنة، ويل للذين يغرون الناس بأقوالهم، ويفتنونهم بأفعالهم وأحوالهم، يزهدونهم وهم طامعون، وينفثون في أرواحهم سموم الخرافات وهم يعلمون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) ويل للأمراء الظالمين، والسلاطين الجائرين، الذين جعلوا الرعية عبيدًا، بل حسبوها حجارة أو حديدًا، يستعبدونها كما يشاؤون، ويستعملونها بما يشتهون، لا يتقيدون بشريعة ولا قانون، ويرى كل منهم أنه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} (الأنبياء: 23) . حسبكم حسبكم أيها الرؤساء، وأفيقوا من نومكم أيها المرءوسون، فقد ذهبت تلكم الأزمان، وتغيرت طبيعة العمران، ودخل البشر في طور جديد، فمنهم شقي وسعيد، فأما الذين سعدوا في دنياهم، وكاد يخلص لهم ملكها دون من سواهم، فهم الذين نظروا في الأكوان واسترشدوا بسنتها، وسبروا أحوال الأمم الأمم فأخذوا بنافعها ومستحسنها، وطهروا أنفسهم من ضارها ومستهجنها، وبذلوا جل العناية في اختبار طرق التربية والتعليم، واختيار ما ثبت لهم أنه الصراط المستقيم، وإنما تعرف المبادئ بغاياتها، وصحة الأسباب بصحة مسبباتها، وهذه آثارهم بين أيديكم، وهي أكبر حجة عليكم، يدير الواحد منهم شؤون الملايين من سائر الأمم، كأنه يدير الآلات الصماء أو يرعى النَّعَم. وأما الذين شقوا فهم الذين تنكبوا الطريق الأَمم، وأعرضوا عن النظر في أحوال الأُمم، وجهل علماؤهم سنن الله في الخلق، وزعموا أن في تعلمها إعراضًا عن الحق، بل أوهموا أمتهم أن سنن الله وأحكامه في خليقته، مخالفة سننه وأحكامه في شريعته، وأن العالم بالخليقة كافر أو منافق، والمشتغل بكتب الفقه (التي زعموا أن الشريعة محصورة فيها) هو المؤمن الصادق، هيهات هيهات، لقد أضل الواهم قومه وما هدى، وإنما {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) وهم الذين يحاربون الإصلاح باسم الدين، وهو ما كان عليه آباؤهم منذ مائة سنة أو خمسين، فيقولون: ليس في الإمكان، إلا إبقاء ما كان علي ما كان؛ لأن سعادة الأمة في حاشيتي التجريد والصبان، ومعرفة حكم مناكحة الإنس والجان، وقطع السنين الطوال في أمور لا تتعلق بها الأعمال، كأبواب الرقيق وما فيها من التدقيق، وإذا قيل لهم: اقتدوا سلفكم الأولين من الصحابة والتابعين، ومن يليهم من الأئمة الوارثين، الذين جمعوا بين مصالح الدنيا والدين، ولم يكن عندهم الصبّان ولا ابن عابدين، فارجعوا إلى كتبهم، وتأدبوا بأدبهم، واستمسكوا بسببهم، فأما أدبهم فالسنة الصحيحة والقرآن، وإتقان لغتهما بالكتابة واللسان، وأما سببهم فالاستعداد للقوة بقدر الإمكان، بحسب حال الزمان والمكان، وبذلك فتحوا البلدان، ودوخوا الفرس والرومان، إذا قيل لهم هذا يقولون: أما اقتفاء آثارهم في الآداب والعرفان، فلا يستطيعه اليوم إنسان، لفساد طبيعة الزمان… وأما اتباعهم في القوة، والنجدة والفتوة، فهو مطلوب من الحكام، لا من العلماء الأعلام، فإذا قلت: كيف؟ وإن المدافعة عن الأوطان هي عند كم من المفروض على الأعيان، حيث تحقق شرطه في هذا الزمان، وهي متوقفة علي علم تقويم البلدان، ونحوه من العلوم التي يذمها منكم الجمهور الأكبر، ويقولون: يجب أن لا يتلوث بها الأزهر - يجمجم قوم ويهمهم آخرون، ويعرض عن الجواب المتكبرون، انظر كيف نصرّف الآيات لعلهم يفقهون، لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، وهم الذين استبدل حكامهم قانون الإفرنج بقانون الديّان؛ لأن سوء التعليم أبعد الفقه عن متناول الأذهان، وجهل الفقهاء بأحوال العصر جعله غير منطبق على مصالح الإنسان، وتجاوزوا الحد في الاستبداد، والعلو في الأرض والفساد، فجعلوا لأنفسهم الحق في إبطال الشريعة الإلهية، والعفو عمن يحكم عليها بأحكامها العدلية، على إنهم لم يتقيدوا بالقوانين الوضعية، ونظام الأمم المتمدنة الغربية، فيالها من تجارة بائرة، وصفقة خاسرة، وما هو إلا خسران الدنيا والآخرة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) لا أٌطيل في القول، فشقاء أمتنا في كل مكان، قد شعر به مِنَّا كل إنسان، ولم يزل منزلة الرؤساء من الأمة منزلة الوالدين من الولدان، وأمام هؤلاء الرؤساء الآن فرصتان لإصلاح الشان، إحداهما في مصر وهي العلمية الدينية، والثانية في بلاد الدولة العليّة، وهي السياسية الإدارية، فإذا انتهز علماؤنا وفضلاؤنا الأولى، ودولتنا الثانية، فُزْنَا إن شاء الله تعالى بالعيشة الراضية، وإلا أضاعوا ما تنتظره الأمة من المجد في دنياها وهم غافلون، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (6) من هيلانة إلي أراسم في يناير سنة -185 قد تلقيت مكتوبك أيها الحبيب من يد البريد السري، فكان له عليّ أحسن أثر وأنفعه، فإني كنت في حاجة عظمى إلى شيء يسليني ويسرّي عني بعض الألم، فلشدّ ما قاسيته منه مدة شهر، قد ضعفت صحتي وانحطت قوتي، وللطبيب الذي يداويني في غيبتك ويوجه إليّ كثيرًا من الأسئلة فكرة في سبب هذا المرض أراها تَشِف عن جنونه فإنه يزعم أني… كلا، إنني لموقنة بخطئه في ذلك. مهما كان الأمر أريد أن أراك، فإن هذا الفراق العاجل بعد الزواج الذي لم يمض عليه أكثر من سنة خَطْب هائل لا يطاق، ولا يمكنني أن أعيش معه، وإني مسافرة مساء هذه الليلة من باريس ومعي إجازة موقع عليها من ناظر الحقانية بالإذن لي بزيارتك، فلا بد أن يُسمح لي بدخول السجن، ولا يمكن أن ما عقدته رابطة الحب يحله استبداد المستبدين. لا تخش من شيء في هذه المقابلة، فأنا لم أقصد بها الرغبة إليك في أن تستَميح الحكومة عفوًا عنك، فإني وإن كنت أتألم لغيبتك كثيرًا إلا أني أحترم وجدانك وهواجس نفسك، وإن لم أفهمها حق الفهم، اعلم أن فيّ ما في بقية النساء من مواضع الضعف ومظان العجز إلا أني منزهة من دناءة الخدين وخيانتها لصاحبها، فإن شرفك داخل فيما أحبه منك، وإنك على احتباسك عني وبعدك عن ناظري بما فيك من عزة النفس والشهامة وإباء الضيم لأجَلُّ في نفسي منك وأنت بين يدي أرى مبادئك ومعتقداتك التي جريت على سننها طول حياتك، إني لما تزوجتك تزوجت شيئًا آخر معك ألا وهو ضميرك ووجدانك، فإن بقيت على ولائه متبعًا ما يرشدك إليه أقسمت لك أني أكون في الإخلاص لك كما تكون في الإخلاص له مدة حياتي، أودعك الآن لأراك قريبًا إن شاء الله، وأكاشفك محبة قلبي إياك وامتلاءه بالإشفاق عليك. (7) من هيلانة إلي أراسم في 20 يناير سنة - 185 إني لم يتيسر لي أن أحدثك بشيء مما أردت محادثتك به عند اللقاء مع أن حديثي ذو شجون، من أجل ذلك أردت أن أعتاض عما فاتني منه بالمكاتبة فسطرت لك هذه الكلمات. كان مجيئي إلى السجن بالأمس واستفتاحي بابه في الساعة الثانية بعد الظهر وبعد أن تحادثت مع مديره برهة أقبل نحوي أحد خزنته يهدج في مشيته وأنا أسمع خفق نعليه بشدة على البلاط، وأخذني إلى الغرفة التي كنت أنتظرك فيها، كان قلبي قد وعدني قبل دخولي السجن ورؤيتي ما فيه أن يستجمع كل ما لديه من الجراءة والثبات؛ ليدفع بذلك عني بوادر الجزع وخواطر الهلع، فلم يلبث بعد دخولي هذه الغرفة أن نقض ميثاقه وحل وثاقه، وأعوزتني رباطة الجأش وثبات الجنان لما رأيتني وحيدة لا أنيس لي، وجمد الدم في عروقي لما استولى عليّ من الدهشة والوحشة مع انقطاع الصوت في قباب السجن إلا ما يكون من صرير الأبواب وصلصلة أغلاقها من بعيد أثناء فتحها وإقفالها، فلما بدا محياك لناظري فقدت بقية رشادي وغبت عن وجودي، فإن فرحي برؤيتك بعد احتجابك عني وحزني لوجودك في مثل هذا المكان قد أثارا عليّ جميع ضروب الانفعال ففدحتني وصرعتني، ولم تبق لي من القوة سوى ما أسكب به العبرات، وأردد الزفرات، فألقيت نفسي عليك، وكنت كما تعلم بين يديك، إنني رأيتك وقت التلاقي شاحب اللون متمقعه، فهل كنت مريضًا؟ وليس من العجيب أني نسيت أن أسألك عن ذلك، فإنني إذ ذاك كنت فانية فيك، فما كنت أفتكر ولا أرى ولا أحس ولا أقول شيئًا. أتعلم ماذا كان يقلقني من الأفكار فوق ذلك؟ إنه كان يخيل لي أن لتلك الجدران - جدران السجن - المخيفة أبصارًا وأسماعًا وإدراكًا، وأنها تحس بي لو صافحتك، وتراني لو أشرت إليك إشارة ما، وتسمعني لو أفضيت إليك بسر فتذيعه. لما عاد إلينا خازن السجن ونَبَّهنا إلى أن وقت التلاقي الممنوح لنا قد انقضى من بضع دقائق قفّ شعري واقشعرّ جسمي وطار لُبّي، ولو أقسمت له عن سلامة صدر بأنه لم يمض على دخولي السجن شيء من الزمن وأن في الساعة خللاً أدّى إلى هذا الخطأ - لما كنت في اعتقادي حانثة، ووددت لو بعت حياتي وجميع ما أملكه من حطام الدنيا - وإن قلّ - بساعة أخرى أقضيها معك. لم تكن لي مندوحة من فراقك على غصتي بمرارته، ففارقتك مملوءة الفؤاد من الحزن، مستفرغة الدموع من العينين، معتقلة اللسان من الوجوم على شرفٍ من فقد الإدراك والشعور، واجتزت مكان الأسلحة يتقدمني دليل يحمل مصباحًا، فإن الليل كان قد جنَّ على ما ظهر لي، لم يكن ابتعادي عن حضرتك حائلاً بيني وبينك، ولا شاغلاً قلبي عن الاستغراق في شهودك، كلا إنني كنت أخالني في كل خطوة أخطوها أسمعك تناديني مسترجعًا إياي، ولقد التفتُّ مرة لأتبين هذا النداء الوهمي فلم يقع نظري إلا على وجه من الحجر، ذلك هو أحد البابين العظيمين الحافظين لمدخل القرية. سار بي ذلك الدليل الخرّيت الواسع الخبرة بشاطئ المحيط ومواقعه على حافة الساحل متجهًا نحو قرية… حيث يجب أن أقضي ليلتي هناك في ناموس [1] الصيادين، هذا الطريق وعثٌ، وقد أمضني فيه الحزن والنصب حتى لقد حدثتني نفسي غير مرة بأن أجلس فيه وأقضي ليلتي على تلك الرمال، وإني أستميحك العفو عن ذلك، فإني كنت أعلل النفس بقولي: إنني بجلوسي هاهنا أنام بالقرب من سجنه على الأقل، وإذا اغتالتني الأمواج فحسبي أنني قضيت نحبي وأنا على مقربة منه، كنت في سبيل توطين نفسي على الصبر وتشجيعها على احتمال المكروه أردد النظرإلى جهة… وكان الليل ساكنًا إلا أنه كان حالك الظلام مخيفه، فلا كوكب يبدو فيه ولا قمر، وكان يزيد في كثافة حجب الظلام ذلك السحاب المركوم وما يجود به من الرذاذ البارد، أما البحر فكنت أسمع له من بعيد زمجرة وهديرًا، وأرى فوقه أبخرة سنجابية اللون قد تنوّرت - على ما وصفت لك من شدة الظلمة - ضوءًا ضعيفًا كان يظهر بصيصه من نافذة في جهة الجبل، وتعذر عليّ أن أحكم إن كان هذا الضوء المتذبذب منبعثًا من السجن أو من أحد مساكن القرية، وكنت مع هذا الشك الذي كان يخامرني في مصدره أنظر إليه نظر المحب إلى أثر حبيبه، وكنت أفتكر أنه إن انطفأ ينطفئ معه نبراس حياتي. قد وصلنا بفضل همة الدليل وخبرته بعد الجد في السير إلى نقطة تقابل… فلم يبق بيننا وبينها سوى جدول يُجتاز على المركب، جلست في المركب على مقعد من الخشب أرشدني إليه الجدافون لما أضنتني الأفكار ونهكت قواي الخواطر، فكانت هذه الراحة والسكون المستتب حولي سببًا في توجيه أفكاري إلى فكرة جديدة، فبينا أنا أفكر فيما كنت أفضيت به إليك من حالة صحتي وما استنتجه العلم منها إذ شعرت على الفور بحركة شيء حي تحت منطقتي - الله اكبر - إن الطبيب كان مصيبًا، فسأكون عمّا قليل أمًّا، لا أحسبك نسيت أن أعظم أمنية كانت لنا في أيام الهناء الماضية هي أن يرزقني الله ولدًا منك، وإنني لترتعد فرائصي عند التفكر في ذلك. ومهما كان من الأمر فلا أُخفي عليك نتيجة شعوري بالحمل، وهي أني بعد أن تكدرت برهة أحسست بأن شعاعًا من الفرح والعزة يضيء في جوانب ظلمات حزني وأني في رجوعي من عندك لم أكن فريدة محرومة من الرفيق، وخِلتُ أني قد وجدتك بعد فقدك، نعم أدركت مع الزهو والإعجاب أن ذلك الذي يجنه حشاي وتنضم عليه جوانحي هو أنت أيها الحبيب، وهل هو إلا مثالك الحي وبضعة من لحمك ودمك؟ ثم خُيل لي بعد ذلك بلحظة أن الأمواج المضطربة تُحَييني بلسانك تحية الزوجة والأم، وقلت في نفسي: إنني الآن في وسعي أن أقتحم ظلمات الليل والرمال الوعثة، ولا أبالي بالسجن ولا بأوامره الشديدة وحرَّاسه وسجانيه، وصحت بأن هؤلاء ليس في قدرتهم أن يأخذوه مني، وأنه هو في الجملة أبوه، أو على الأقل بضعة منه يمكنني أن أخفيها في مستقري فأجعلها حرة بعيدة عن عدوان المعتدين، كما تخفي اللبؤة الجريحة شبلها في عرينها. أقول هذا ولكنني أرى أمرًا يروعني ويبلبل فكري وهو طريقة تربية هذا الولد فإني طالما سمعتك تتكلم فيما يجب على الوالدين لأولادهم بعبارات هي من سمو البلاغة، وقوة التأتير بحيث إن قلبي كان يخفق لسماعها أملاً في أنه سيكون المقصود بها، واليوم قد اقترب تحقق هذا الأمل، وأنا مِن تَحَقُّقِهِ في إشفاق ورعب. مَن ذا الذي يقوم بتلك الفروض التي أنت تعلمها أكمل العلم، فقد كنت تقول لي: لو رزقني الله ولدًا لوقفت حياتي على تعليمه وتربيته، وكنت تجاهر كل المجاهرة بإنكار الطرق السائدة في تربية الناشئين واستهجانها شديد الاستهجان، كل ذلك لا يزال منقوشًا في ذاكرتي، لكني بقدر ما كنت أعجب بأفكارك ومقاصدك تعتريني الآن رعدة خوف أمام هذا التكليف الذي سيقع ثقله عليَّ وحدي، فقد فرَّق بيننا قانون الإنسان بهوّة حفرها لتكون حاجزًا يحول بيني وبين الوصول إليك في وقت أكون فيه أشدّ حاجة إلى الاسترشاد بنصائحك والاستضاءة بنور معارفك والاعتماد على معونتك الأدبية، ليت شعري ما سيكون من أمر هذا الولد إذا كبر وهو محروم من رعاية والده وعنايته؟ وما عسى أن أفعله له وأنا كالقصبة الضئيلة قد رزحت بضعفي وضعضعني سقمي؟ قد وجدت قوبيدون الزنجي البارّ الذي أحضرته معك من أمريكا في انتظاري هو وزوجته على الشاطئ الآخر للجدول، فلما رأياني أرادا تقبيل يدي رغمًا عني قائلين: إن هاتين اليدين صافحتا يديك، وإن لك الفضل عليهما في الحصول على حريتهما، ما وصلت إلى الشاطئ إلا وأنا في قفقفة من البرد قد وصل أثرها إلى أعماق نفسي، وكانت ثيابي مبللة، فوجدتهما والحمد الله قد أعدا لي فراشًا في أحد نواميس الصيادين التي على ضفة الجدول، وأذكيا لي بها نارًا من قضبان أشجار يابسة، فأخذ البرد يزول عني تدريجًا بتوقد اللهب في المستوقد، وارتحت لما كان يبديه لي كل من هذين الشخصين من إخلاصه في الحب والولاء، ما أشد عدوى بِر الإنسان وأعظم أثر إحسانه، فإني قد نِمت هذه الليلة أحسن من نومي في سوابقها بعد ذلك النهار- نهار التعب الجسماني والنفساني- الذي كدت فيه أن أسخط على الحياة وأسأمها، وأنا أكتب إليك الآن في ناموس الصيادين بعد استيقاظي من النوم صباحًا. تجد مكتوبي كما اتفقنا بالأمس مخبأ فيما أرسله لك من الملابس التي توليتُ طيها وإصلاحها بنفسي، ورق هذا المكتوب وإن كان رقيقًا إلا أنه متين، وقد طويته طية جعلته فيها على شكل زر، فليت شِعري هل يتيسر لك قراءة خطي الذي هو كأرجل الذباب؟ ! سأعود بعد غد إلي السجن، فقد وُعدت بأن يؤذن لي في الدخول من الساعة الأولى مساء، وعسى أن أتجلد في هذه المرة فأستجمع شتات فكري، أُقَبِّلك الآن قُبلة الوداع بكل ما في نفسي من قوة الشوق، والملتقى قريب إن شاء الله. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دروس جمعية شمس الإسلام (5) (أماليّ دينية - الدرس الخامس) (17) وجود الواجب: عرفتم من الدرس الماضي معنى الواجب والمستحيل والممكن، وأن وجود هذا العالم ممكن، وأن الممكن يحتاج في نظر العقل إلى مرجح يرجح وجوده على عدمه، لأنهما متساويان عنده، وترجيح أحد المتساويين بلا مرجح محال، والآن نقول: إن المرجح لوجود هذا العالم الممكن على عدمه لا بد أن يكون واجبًا، وبيانه أن ترجيح وجود الممكن عبارة عن إيجاده، وموجد الشيء لابد أن يكون غيره، ولا موجود غير الممكن إلا الواجب، فتعين أن يكون ما يستند إليه وجود الممكن واجبًا، أما كون موجد الشيء لا بد أن يكون غيره فهو بديهيّ، لأنه لو أوجد نفسه لكان سابقًا عليها في الوجود إذ المؤثر سابق على أثره طبعًا، فيقتضي أن يكون موجودًا قبل وجوده، أي موجود غير موجود في آنٍ واحد وهو محال بالبداهة، فإن قيل: إنما يصح هذا بالنظر إلى طبيعة الممكن التي تشمل جميع الممكنات، ولنا أن نقول: إن بعض هذه الممكنات أوجد البعض الآخر، نقول في الجواب: إذا لم نقم لكم الدليل في جملة الممكنات فإننا نقيمه في أول جزء وجد منها، فإنكم سلَّمتم أنه لا يكون إلا حادثًا وأنه يستحيل أن يحدث الشيء نفسه، فتعين أن يكون الذي أحدثه هو الواجب؛ لأننا فرضنا أنه لا ممكن قبله فثبت المطلوب. (18) ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الاعتقاد بوجود بارئ الكون فطري في الإنسان، بل قال بعضهم: إنه فطري في الحيوان؛ لأنك إذا ضربت الهرة من ورائها أو صِحت بأي حيوان، يلتفت لما؛ هو مركوز في فطرته من أن كل فعل لا بد له من فاعل، وكل حادث لا بد له من محدث، وقد سُئل أعرابي عن الدليل على وجود الله تعالى، فقال: البَعْرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على وجود العليم الخبير؟ ! استدل أهل هذا المذهب بالاستقراء التاريخي، فإنه لم توجد أمة من الأمم ولا شعب من الشعوب إلا وهو يعتقد بإله للكون وموجد للعالم، أجمع على هذا الاعتقاد في الجملة المتمدنون والهمج، حتى زنوج إفريقيا وسكان جزائر المحيط من أكلة لحوم البشر وغيرهم، ويدل عليه ما جاء في القرآن من محاجة الأنبياء لأقوامهم، قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إنْ أنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أن تَصُدُّونَا عَمَّا كَأنَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَأنٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَأنَ لَنَا أن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9-11) فجواب الأمم لأنبيائهم عن قولهم:] أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [بقولهم:] إنْ أنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا [يدل على أنهم لم يكونوا شاكين في وجود الله تعالى، وإنما كان شكهم في النبوات لاستبعادهم أن يمتاز بشر مثلهم بالسفارة بين الله تعالى وبين خلقه، وقد أجابهم الأنبياء بما سمعتم في الآية، وسيأتي توضيحه في محله إن شاء الله تعالى، حقًّا إن أهم مسائل علم العقائد مسألة الوساطة بين الله تعالى وبين الناس، فقَصْرُهذه الوساطة على التبليغ فقط يشمل أمرين (أحدهما) التوحيد الذي يصطلم جراثيم الوثنية التي أهلكت جميع الأمم (وثانيهما) النبوة التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، أما وجود الله وعلمه وقدرته فلا يشك فيها عاقل. يقول قائل: إن من الناس مَن أنكر وجود صانع للكون، فكيف يكون الاعتقاد به فطريًّا؟ والجواب: إن هؤلاء شرذمة قليلة كما قال بعض علمائنا، وأظنه السعد التفتازاني وعبارته التي أذكرها هي: (اتفق الناس على وجود الصانع تعالى خلا شرذمة قليلة ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي، وهو بديهي البطلان) وقد رد عليهم العلماء بالأدلة النظرية كالدليل الذي تشير إليه العبارة من أن هذا الاعتقاد يستلزم أن يكون العالم وجد بالمصادفة والاتفاق من غير فاعل يرجح وجوده على عدمه، وهذا كما قال بديهي البطلان وملزومه كذلك بالضرورة، وإنما قلت: يستلزم ما ذكر لأن منكري الصانع من المشتغلين بالعلوم العقلية لا يقولون بالمصادفة بل ينكرونها أشد الإنكار، ولئن قال بها بعضهم فلا يقول بها كلهم، والجواب الصحيح إن هؤلاء الشذّاذ قد أصابهم مرض في عقولهم خرج بهم عن مزاج الفطرة المعتدل بالنسبة لهذه العقيدة، والعقول تمرض كما تمرض الأجسام فلا تؤدي وظائفها على الوجه الذي تقتضيه الفطرة المعتدلة، ألا ترى أن الصفراوي يذوق العسل مُرًّا، والأحْوَل يرى الواحد اثنين، هذا ما أجاب به أستاذنا الأكبر مفتي الديار المصرية لهذا العهد، وهو جواب لا أحسن منه، ولا يصدنكم عن قبوله أن ممن ينكر الباري بعض الفلاسفة وهم من أكبر الناس عقولاً، لأنه كما يطرأ الضعف على الجسم القوي فيعطِّل بعض أعضائه عن وظائفها ويبقى سائر الجسم قويًّا كذلك يفعل بالعقل، فقد ثبت في العلم الحديث أن لكل نوع من أنواع الإدراك مركزًا مخصوصًا في الدماغ، وأن المرض قد يطرأ على بعض هذه المراكز دون بعض، وقد اهتدوا بمعرفة هذا إلى معالجته بالطرق الجراحية، من ذلك أن بعض الناس نسي بعض الأرقام الحسابية لجلطة دموية أصابت المركز الذي يدركها من الدماغ، فصار لا يقدر على حل مسألة حسابية فيها ما نسي من الأرقام حتى عولج معالجة جراحية وشفي، وثبت أيضًا أن من الناس من تختل بعض مراكز الإدراك في دماغه بحيث يكون مجنونًا، ويقوى مع ذلك بعضها بحيث يفوق في إدراكه به أعقل العقلاء، كان بعض المجانين يُسأل عن أعوص مسائل الحساب والجبر، فيجيب عنها بالبداهة، ولو سئل عنها أمهر الرياضيين لاحتاج في حلها إلى ساعات، وحاصل القول إذا لم يثبت أن الاعتقاد بوجود صانع الكون مودع في غرائز البشر وفطرهم، فإن البراهين النظرية على ذلك كثيرة، ومنها ما أوردناه في صدر الدرس: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (آل عمرأن: 190) {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20-21) . ((يتبع بمقال تالٍ))

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع المعارف) تقبل التلامذة في المدارس الرشدية في العاشرة أو الثانية عشرة من عمرهم ويمكثون فيها أربع سنين، ومواد التعليم في هذه المدارس هي: النحو والصرف للغات التركية والعربية والفارسية، والإملاء والتأليف والتحرير، وتاريخ الدولة العثمانية، والتاريخ العام، والجغرافية، والحساب، ومبادئ الهندسة، والرسم الخطي، ولغة إحدى الطوائف غير الإسلامية المقيمة بالجهة التي بها المدرسة (لا نعرف فيها غير الفرنساوية، وفَاتَه ذِكر مبادئ الدين الإسلامي) . أما تعليم البنات فيشمل المبادئ الدينية، ونحو اللغة التركية، ومبادئ النحو للغة العربية والفارسية، وبعض إشارات إلى فن الإنشاء، والتاريخ والجغرافية، والحساب، والتدبير المنزلي، وشغل الإبرة والرسم والموسيقى، وهذا الدرس الأخير بالاختيار. كل قرية فيها خمسمائة بيت للمسلمين يجب أن يكون فيها مدرسة رشدية، والتعليم الابتدائي العالي هو أيضا مجاني، إلا أنه ليس إجباريًّا، فجميع النفقات اللازمة لحفظ المدارس وأجور المعلمين، وأثمان الكتب وأدوات التعليم اللازمة للتلامذة تدفعها خزينة الدولة. يتضح من الإحصاء الأخير الذي نُشر من بضع سنين أن المدارس الابتدائية في العاصمة كانت كما ترى: مدارس الصبيان263 منها 142 للذكور، و123 للإناث يتعلم فيها 6909 من الصبيان، و 4734 من البنات. مدارس ابتدائية 40 منها 32 للصبيان، و8 للبنات، وفيها 601 من الصبيان، و 93 من البنات. مدارس رشدية 29 منها 19 للصبيان، و 10 للبنات، وفيها 1180 صبيًّا، و353 بنتًا. أما في الأقاليم، فكل قرية مهما كانت صغيرة لها مدرسة للصبيان، والقرى التي لها نوع من الأهمية لها مدرسة ابتدائية (هذا غير صحيح فأكثر القرى لا مدارس للحكومة فيها إلا أن يكون هذا مخصوصًا بنواحي الأستانة) يكثر توارد التلامذة على المدارس الابتدائية في كل سنة، ويمكن للإنسان أن يقول غير مبالغ: إنه في حكم جلالة السلطان الحالي كل مائة تلميذ فيها 98 على الأقل يتربون تربية ابتدائية جيدة (مبالغة) وعدد المدارس الرشدية في الأقاليم 371 مدرسة، ثلاث منها للبنات - اثنتان منها في بيروت والثالثة في بروسه وعدد التلامذة في تلك المدارس 14914، وقد زاد الآن عددهم زيادة محسوسة. (التعليم الثانوي) يشمل هذا التعليم نوعين من المدارس، وهما المدارس الإعدادية أو التجهيزية والمدارس السلطانية أو الكليات، أما المدارس الإعدادية فهي مختلطة إذ يقبل فيها التلامذة المسلمون وغير المسلمين الذين تلقوا جميع دروس المدارس الرشدية ونجحوا في الامتحان، وكل مدينة فيها 1000 بيت لها مدرسة إعدادية ومدة التعليم في هذه المدارس ثلاث سنوات، ومواده هي فن الإنشاء في اللغة التركية، وصناعة الترسل، واللغة الفرنساوية، وعلم البيان، ومبادئ علم الاقتصاد السياسي، والجغرافية والتاريخ العام، والحساب والجبر، والهندسة والمساحة، والطبيعة والكيمياء، والتاريخ الطبيعي والرسم، والكليات يجب أن تؤسس في عاصمة كل ولاية أو في أَشْهَر بلد فيها، وتنقسم الكلية إلى قسمين: أحدهما لتعليم نحو اللغة وفيه ما في المدارس الإعدادية من الدروس، والثاني ما هو أعلى منه ينقسم إلى قسمين: قسم لآداب اللغة، وقسم للعلوم، ومدة التعليم في كل من هذه الأقسام ثلاث سنين، وهذه الكليات التي ستفتح على التوالي متى ضمنت الميزانية النفقة اللازمة لفتحها وبقائها ستكون على مثال كلية سراي غلطة أي المكتب السلطاني في بيرا الذي أسس على نسق الكليات الكبرى للتعليم الثانوي في فرنسا، وهيئة المعلمين في هذه الكليات مؤلفة من الأوروبيين والوطنيين، والتعليم يعطى فيها باللغة الفرنساوية إلا أن تدبير أمور هذه الكليات وإدارتها للحكومة العثمانية، ومدة التعليم فيها خمس سنين غير السنين الثلاث اللازمة للدراسة في المدارس التجهيزية على التلامذة الذين عند قبولهم في الكلية لا يكون لديهم معلومات كافية من مواد التعليم الابتدائي. مواد التعليم في الكليات تشتمل طبقًا لما قررته أخيرًا حكومة جلالة السلطان هذه الدروس، وهي اللغات التركية والعربية والفرنساوية، والخط التركي والفرنساوي، وآداب اللغتين التركية والفرنساوية، والترجمة من التركية إلى الفرنساوية وبالعكس، والفلسفة وتاريخ الدولة العثمانية، ومبادئ اللغة اللاتينية اللازمة لدراسة فن الصيدلية، والطب والقانون، والجغرافية بأقسامها السياسية والإدارية والتجارية والزراعية والصناعية للحكومات الشهيرة، وخصوصًا للمملكة العثمانية، والحساب، والتقييد في الدفاتر، والرسم الخطي، واللغات اليونانية والأرمنية، والألمانية والإنكليزية، والتليانية، وتعلم هذه اللغات اختياري. تعطي كلية سراي غلطة لمتخرجيها شهادة بكالوريا تساوي الشهادة البكالوريا التي تؤخذ من فرنسا. من المدارس المعدودة من طبقة مدارس التعليم الثانوي هذه المدارس وهي: أولاً: المكتب الملكي الشاهاني في استامبول الذي أسس على نفقة جلالة السلطان خاصة، ووضع تحت رعايته وهو الذي ينفق عليه من ماله، وفيه يعلم الشرع الشريف والإفتاء، وقانون التجارة والقانون المدني، والتاريخ العام وعلم الاقتصاد السياسي، وعلم طبع الكتب والجرائد والتقييد في الدفاتر والجغرافيا والفرنساوي، والتاريخ الطبيعي والكيمياء والتلامذة الذين ينجحون في الامتحانات النهائية ويمنحون الشهادة يكون لهم الحق في نوال وظيفة قائمقام في الإدارة بالأقاليم، أو نوال وظيفة مساوية لها في الجهات المختلفة للحكومة. ثانيًا: المدرسة المختلطة العثمانية للبنات الصغيرة، وهي مؤسسة في سنة 1880م في استامبول بعناية جلالة السلطان عبد الحميد الذي دائمًا يظهر اهتمامه الأكبر بتربية البنات، ومواد التعليم في هذه المدرسة هي اللغات التركية والأرمنية واليونانية والفرنساوية والألمانية والإنكليزية والروسية وتعلم الأربعة الأخيرة منها بالاختيار، والجغرافية والتاريخ الطبيعي والبيانو والموسيقى الصوتية وشغل الإبرة. بمقتضى القانون النظامي للمعارف الصادر في سنة 1884م يوجد في كل ولاية مكتب إدارة وتفتيش للمعارف. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

أهم أخبار الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم أخبار الحرب حصلت ملحمة في جلانكوي كان الغلب فيها للبويرس، وقدرت خسائر الإنكليز بثلاثمائة رجل، منها 10 ضباط قتلوا، وجرح 22 ضابطًا وجرح الجنرال السر وليم سيمونس القائد ثم مات، وقدرت خسائر البويرس بعشرة قتلى و 25 جريحًا، وقررت حكومتا الترانسقال وأورانج إلحاق بلاد بشوانالاند بجمهورية الترانسفال، وإلحاق جميع الأراضي التي في شمال نهر الأورانج بحكومة الأُورانج، وهذه البلاد كلها إنكليزية، وحصلت مناوشات بالقرب من لاديسميث وغيرها تشبه أن تكون سجالاً، ولكن النصر في الجملة للبويرس، ودخل فيلق من البويرس إلى بلاد الزولو البريطانية حتى قربوا من مدينة ملموث، وزحف جيش منهم لتشديد الحصار على كمبرلي وأشيع أمس أنهم أخذوا مافكنج المحصورة، أما الإنكليز فيوالون الإمداد من كل بلادهم وقد أمر أسطول بحر المانش أن يذهب إلى جنوب أفريقيا ويظن أن سبب الاستعدادات البحرية الخوف من تداخل الدول الأوروبية. ونقول: إن أعظم ما تخسره إنكلترا في هذه الحرب وراء الخسارة الأدبية فقد العدد العظيم من الضباط.

شكر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شكر يشكر حضرة مدير جريدتنا لأفاضل المحبين عنايتهم بتعزيته على فقد والدته قولاً وكتابة، ويسأل الله أن يقيهم فاجعات المصائب، ويحفظهم من النوائب.

الفرصتان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الفرصتان مِن المُجْمَع عليه أن المسلمين في هذه الأزمنة متأخرون عن جميع الأمم في حياتهم الاجتماعية، فما من ملة من الملل إلا وقد سبقتهم إما في بسطة المال وسعة الرزق وخفض العيش فقط كاليهود، وإما في هذا وفي العزة والسيادة وقوة السلطان وسطوة الملك أيضًا. ومن المجمع عليه أن الأمة في أشد الحاجة إلى إصلاح يحفظ لها ما بقي لها من تراث أسلافها، ويؤهلها لاسترداد ما سلب منه، ولا ريب في أن هذا الإصلاح إذا قامت به الحكومات والأمة معًا يكون أقرب حصولاً وأتم فائدة وأدنى لإزالة المرض وإصابة الغرض، وأنه لولا قدرة الحكومات على حمل الأمة على ما تريد منها طوعًا أو كرهًا لما كان يتأتى الإصلاح من قبلها، ولولا أن صلاح الأمة يستلزم صلاح الحكومة لما كان إصلاحها كافيًا لبلوغ الغاية التي تقصد منه، أما وجه اللزوم فظاهر، وهو أن الحكام أفراد من الأمة تختارهم هي لإدارة نظامها وتنفيذ أحكام شريعتها، والصالح لا يختار إلا مثله: {الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (النور: 26) ولكن الإصلاح إذا بَدأ في الأمة دون الحكومة فإنما يتعدى أثره للحكومة بعد زمن طويل، وإذا بدأ في الحكومة أولاً يظهر أمره في الأمة في وقت قريب لما مررت به من التعليل، فوجب على المطالبين بالإصلاح أن يستصرخوا الحكومة والأمة معًا عسى أن تلبي الدعوة إحداهما أو كلتاهما، ولكن كثيرًا من المتنبهين لوجوب الإصلاح يائسون منه لما يرونه من تقدم أوربا السريع وتأخر شرقنا المريع بل موته الذريع، وأعني بموته قيام الغربيين بأعماله، واستئثارهم بأمواله، وذهابهم باستقلاله، وما كان لمؤمن أن ييأس {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) فكم سنحت الفرص وما انتهزناها، وكم نادتنا النهز وما لبيناها، وقد قلنا في (المنار) الماضي: إن أمامنا الآن فرصتين للإصلاح: إحداهما في مصر وهي العلمية الدينية، والثانية في بلاد الدولة العلية وهي السياسية الإدارية، وإننا مبينون هاتين الفرصتين في هذه المقالة بعض البيان. أما التي في مصر فحرية التعليم والتصنيف والتحرير والطبع والنشر والخطابة وتأليف الجمعيات بأنواعها، وهذه هي سلاليم الترقي التي ترتقي فيها الأمم، ولا يوجد تحت السماء بلاد إسلامية متمتعة بتمام الحرية فيها كالبلاد المصرية، والسبب في هذا ظاهر، فإن فقد الحرية في مثل هذه الأمور النافعة إنما يكون من فساد الأحكام واستبداد الحكام، وزمام السلطة في هذه البلاد بأيدي المحتلين، وقد اقتضت سياستهم أن لا يتعرضوا لهذه الأمور إما لأنهم لا يشاءون التعرض لها كرمًا منهم وفضلاً على خلاف ما يفعلون هم وسائر الأوربيين في كل بلاد تنفذ فيها شوكتهم وتعلو كلمتهم، وإما لأن حكمة التدريج الذي يسيرون فيه اقتضت أن يبدءوا بالأعمال المالية والإدارية والسياسية ويكتفوا من الأمور المعنوية بإدارة المدارس الأميرية على محور سياستهم، وإما لأسباب أخرى، ومهما كان من السبب فإن هذه الحرية فرصة تغتنم، فإذا فرَّطنا فيها ندمنا حيث لا ينفعنا الندم، إذ ربما تأتي أيام نحاسب فيها على خطرات القلوب وهواجس النفوس، ونجبر على التعليم الذي يراد ونمنع من التعليم الذي نريد. وأما انتهاز هذه الفرصة فبإصلاح التعليم في الأزهر الشريف، وبالاجتهاد بتعميم المدارس الأهلية على الوجه المرضي، ولا مجال هنا لبيان الإصلاح الأزهري، فإن لجنة من أكابر علمائه تبحث في هذه الأيام بطرق هذا الإصلاح فنرجئ الكلام فيه إلى أن تفرغ من بحثها ونعلم ما تقرره، فإما ثناءً وتحبيذًا، وإما انتقادًا وتفنيدًا، وأظهر الدلائل على فساد طريقة التعليم المتبعة فيه من قبل أن الكثيرين أو الأكثرين من الذين يمتحنون للتدريس يجرحون فلا يمنحون درجة من درجات التدريس على ما في الامتحان من السهولة، وما منهم إلا من يقضي خمس عشرة سنة في التعليم على الأقل، على أن الذين يمنحون شهادة العالمية ويؤذن لهم بالتدريس لا يوجد واحد في المائة منهم يحسن لغة الدين قولاً وكتابة بحيث يقدر على الكلام والخطابة باللغة العربية الصحيحة، ويكتب بالأسلوب العربي البليغ، ولا يعقل أن أحدًا يفهم القرآن والحديث الذين هما ينبوعا الدين من غير أن تكون ملكة اللغة راسخة في نفسه، ولذلك ما ورد أحد من علماء المسلمين وغيرهم إلى هذه الديار واختبر تعليم الأزهر إلا وذمه، وقال: إنه لا يرجى منه خير للمسلمين، فالأستاذ الشنقيطي من علماء المغرب، والأستاذ الشيخ شبل النعماني مدرس العلوم العربية في كلية عليكرة في الهند، والأستاذ الشيخ أحمد جان القازاني مدرس العلوم العربية في مدرسة عالمجان في بلاد قزان الروسية - اتفقت كلمتهم مع اختلاف أقطارهم على أن التعليم الأزهري لا يرجى منه خير للمسلمين إذا بقي على حاله، وأمثالهم كثير ولا حاجة للاستشهاد بكلام الإفرنج؛ لأن قومنا لا يقيمون لكلامهم وزنًا ويرجمون من يعبأ بكلامهم بأسوأ الظنون، ولا ننكر أن تعليم الأزهر - على عِلاته - وُجُوده خيرٌ من عَدَمِه بالكلية، كيف وقد حفظ لنا بعض علومنا وآثار سلفِنا حفظًا يُحمد عليه، وإن كان ناقصًا لا يبعث على العمل الذي تحيا به الأمة، ولا يُرجى أن تفيض الحياة الملية على الأمة إلا إذا صار المتخرجون منه متقنين لوظيفتهم التي أنشئ الأزهر ووقفت عليه الأوقاف لأجلها، وهي حفظ الدين ولغته بحيث يقدرون على القيام بمنصب القضاء الشرعي على الوجه الصحيح العادل الذي لا يثلم به شرف الملة والأمة، وعلى إرشاد الخاصة والعامة والتعليم في المدارس النظامية ليبثوا الدين في جميع طبقات الأمة ويخاطبوا كل إنسان على قدر عقله وعلمه، ويدفعون عنه الشبهات العصرية، ولن يقدروا على شيء من هذا إلا بتغيير أساليب التعليم، وبالاطلاع على أحوال العصر وفنونه المتداولة ولو في الجملة، وسنفصل ذلك في وقته إن شاء الله تعالى. وأما فرصة الدولة العلية فهي اشتغال روسيا فإنكلترا وسائر دول أوربا الكبرى عنها بالمسألة الصينية، وإنما الخطر على الدولة من روسيا التي يعرف الناس أن سياستها التقليدية تقتضي محو اسمها من لوح الدول وضمها إلى الإمبراطورية الروسية العظمى، أو من اتفاق أوربا على تقسيمها، يدل على شغل روسيا عنها بالطمع في الصين الفيحاء البعيدة الأرجاء، أن هذه الدولة قد عزمت على تعزيز الخط الحديدي العظيم الذي أنشأته في سبيريا (وطوله 4695 ميلاً) بخط آخر ينشط من الطريق الأعظم في بلاد منشوريا التي هي في الشمال الشرقي للصين ممتدًا إلى ميناء (آرثر وينوشوتفم) ويقرب أن تُمدد من هذه إلى بكين عاصمة الصين، ويقدر المال اللازم لهذا الناشط بعشرين مليون جنيه، كما قدر المال اللازم لطريق سبيريا الأعظم بستة وخمسين مليون جنيه إذا مدّ عليه خط واحد، وأنها قررت إنفاق 9 ملايين جنيه لتعزيز أسطولها بالبوارج من الطراز الجديد، فخمسة وثمانون مليونًا من الجنيهات من دولة لا تعد من الدول الغنية ليس إلا لتلك الغنيمة الكبرى التي تتوقعها في الصين، ويؤكد ذلك تقوية الأسطول مع أمنها على ثغورها في أوربا من الدول البحرية وعلمها بأن اليابان لا تقدم على محاربتها فتخاف منها على فلاديفوستوك وميناء آرثر، ولا يخشى على هاتين الحاضرتين من غير اليابان، هذا، ولا بد لإنكلترا وفرنسا وألمانيا من مزاحمة روسيا، ولا بد أن يمتد اشتغالهن بتلك المملكة إلى سنين كثيرة، فيجب على الدولة العليا أن تشتغل بنفسها ما دام الطامعون في شغل عنها، فقد مضى عليها نحو نصف قرن وهي مشغولة بالسياسة الخارجية عن الإصلاح الداخلي والدول الأوربية تطالبها بالإصلاح، وهي التي تحول بينها وبينه، وقد بَيَّنا رأينا في الإصلاح والواجب من قبل في مقالات نشرت في (المنار) وأخرى في (المؤيد) وأهمها تعميم التعليم العسكري وتقوية الأسطول، ومساعدة الرعية على تعميم المعارف، وانتقاء العمّال والحكام من الأكفاء، والدولة العلية وسلطانها الأعظم - أيده الله تعالى - أعلم منا بما ينبغي ويجب من ذلك. وقد وجه مولانا الخليفة أنظاره في هذه الأيام إلى هذا الأمر المهم؛ فتعلقت إرادته السنية بزيادة الجيش لا سيما الألايات الحميدية، وأمر من عهد قريب بإنشاء بارجتين جديدتين ويخت سلطاني، وبإصلاح بعض السفن القديمة، كما أمر بإنشاء المكاتب والمدارس في بلاد اليمن وغيرها من الولايات المحروسة، ونسأل الله تعالى أن يلهم قلبه الشريف أن يصدر إرادته لجميع الولاة بترغيب الرعية في تأليف الشركات المالية وإنشاء المدارس الوطنية، ولجميع الفيالق العسكرية بتعميم التعليم العسكري، وبالله التوفيق.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (8) من أراسم إلى هيلانة في 16 يناير سنة - 185 أكتب إليك هذا وقد استيقظت في الساعة السادسة من صباح اليوم، وعلمت أن عشرين مسجونًا - أنا منهم - قد فصلوا لإرسالهم إلى سجن ... وبلغني أن أمر نقلنا وصل إلى هنا ليلاً من باريس، فلم يكن لي من وسيلة لإحاطتك علمًا بهذا الخبر قبل الآن، ولم يبق لي أمل في لقائك؛ فإن السفر سيكون في الساعة السابعة صباحًا، سيصلك هذا المكتوب وأنا في طريقي إلى الجزيرة التي جعلت مقرًّا لي، فأودعك وداع محب ثابت على عهده لا يثنيه عن حبك اعتراض الحوائل، ولا يلويه عن ذكراك تطويح المطاوح. غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوقي على بعد المزار وقربه (9) من هيلانة إلى أراسم في 17 يناير سنة - 185 جئت اليوم إلى السجن لزيارتك، فمثل لنفسك ما عراني من هزة الطرب ونشوة الفرح لمّا علمتُ بأنك أخرجت منه، ما كان أبعدني عن العقل وأقربني من الجنون في تلك الساعة إذ ظننت أنك فزت برجوع نعمة الحرية إليك، لكن لم يلبث كاتب سر السجن أن أبان لي خطأي إذ أخبرني بأنك قد وجَّهت (هكذا عبارته) إلى جزيرة … وإني سأتبعك قاطعة أجواز البحار، مقتحمة في سبيل القرب منك جميع الأخطار، فأينما تكن - وإن في آخر الدنيا - لا بد لي من اللحاق بك، لا يعوقني عنك هجير الشمس المحرقة، ولا أخطار مجاهيل الصحاري والقفار، ولا اعتراض سلاسل الجبال الشامخة دونك؛ لأن غايتي التي أسعى إليها هي أن نعيش مجتمعين، فأكتب لي حتى آتيك لأمتع النفس بلقائك. اهـ (10) من أراسم إلى هيلانة في 2فبراير سنة-185 أنا واثق أيتها العزيزة بحبك إياي، وأقسم عليك بأطهر ما يوجد في هذا العالم وأجدره بالتقديس أن لا تقاربيني، وأن تهربي مني هربًا، إنني منذ شهر أو شهرين كنت أقبل منك هذا الإخلاص الشريف طيبة به نفسي، منشرحًا له صدري حيث لم أكن عالمًا بحملك، وكنت أجد فيك وحدك حينًا بعد حين تفريجًا لكربتي في وحدتي، وإيناسًا من وحشتي، وكنت لاعتزازي بوجودك معي، واغتباطي لقربك مني ولو ساعة من نهار، أنسى كل ما أقاسيه في لحظة من ألحاظك، أما اليوم فقد تغيرت الأحوال، وتبدلت الشؤون تبدلاً عظيمًا، فأصبحنا أنا وأنت لا نملك من أمرنا شيئًا حتى حرية التَّحابِّ والتَّواد، أصبح ما هو في العادة سبب اتصال واقتراب بين الرجل والمرأة سببًا لانفصالنا، وحائلاً دون اجتماعِنا، وذلك للحال السيئ الذي نحن فيه، ألا يجب أن نهيئ هذه المجاملات وتلك الآداب لذلك الذي لم يوجد بعد الوجود الكامل الذي يطلق عليه هذا اللفظ إلا أنه قد وجبت له علينا حقوق نحن مطالبون بأدائها، إياك أن تنسي أنك مسئولة أمام الله عمّا وهب لك من حلية الشرف بأن أهَّلك بأن تكوني أمًّا. إني أخاطبك من حيث أنا طبيب وزوج - وأخشى أن أتعجل فأقول: أب- بأن الذي يلزمك الآن هو شيء من السكينة والاستقرار، وأنصح إليك بأن تغادري بلادنا الآن، وتهاجري من هذه الأرض التي تميد بزلازل الفتن، فهي نصيحتي واتبعيها، واعلمي أن لي صديقًا في إنكلترا من رصفائي الأطباء يناجيني، حسن اعتقادي فيه أنه سينفعك ويرشدك إلى كل ما يلزمك علمه مما يتيسر لك به تَوطُّن تلك البلاد على حالة موافقة، إن لنا والحمد لله فيما جمعته بكدي من يسير المال سدادًا من عوز - بل كفافًا من العيش - فاستجمعي به أولاً لنفسك الراحة ومعدات المعيشة الطيبة، ثم احفظي ما بقي لتربية ولدنا. آه لو أدري عاجلاً أنك قد فارقت فرنسا، وابتعدت عن مشاغب الشقاق الداخلي، فعجِّلي بالرحيل أيتها الحبيبة. أقول - والله على ما أقول شهيد -: إنك لم تكوني في زمن من الأزمان أعزّ على نفسي وأغلى قيمة عندي منك في هذه الساعة التي أرغب إليك فيها بعدم اللحاق بي في سفري المحزن، لا تكثري همك بما قُدِّر عليّ واعلمي أن جل ما يعانيه المسجون من الشقاء هو إحساسه بأن لا نفع في وجوده، وقد ذقت أنا هذا الألم النفسي، وبلوت مرارته، لكني اليوم قد كلفت بواجب جديد يلزمني أداؤه، وإني لأرجو أن أقوم به مهما حالت دونه الحوائل. *** (حاشية) إني مرسل طي هذا مكتوبًا للدكتور وارنجتون في لندره. (11) من هيلانة إلى أراسم في 15 فبراير سنة - 185 قد أطعتُ أمرَك وسمعتُ نصحك، وسأسافر غدًا إلى إنكلترا، وإني قد استرجعت جزءًا من ثبات جناني، وقد فتح مكتوبك لي أبوابًا أرى منها مشاهد جديدة لتفن صفة الزوجية في صفة الأمومة، فتلك سنة الله في خلقه لا محيص لي من اتِّبَاعها، على أن هذا الولد الذي وعدت به سيكون الرابطة بيننا ويقرب مشقة البين التي تفصلنا بعض التقريب، إني أرغب في الحياة من أجله ومن أجلك، فإنه سيكون يومًا يَمُنُّ الله علينا بانتظام الشمل موضوع سلوة لأحزاننا، وقرَّة لأعيننا وعزة لأنفسنا. حقق الله ما نرجوه من الأمل، ووقانا بفضله عوادي السوء إنه سميع الدعاء. اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (الدروس الحكمية للناشئة الإسلامية) ذكرنا هذا الكتاب في فاتحة العدد الخامس عشر من منارهذه السنة، ونشرنا الدرس السابع منه ليكون نموذجًا للقرَّاء، ولم يكن قد تم تأليفه يومئذ، وقد تم الآن وطبع في جزء صغير الحجم كبير الفائدة ولم ينسَ قرّاء (المنار) أن مصنفه هو صديقنا الكاتب الفاضل والسري الكامل رفيق بك العظم الشهير، والذي بعث همته لوضعه هو الغيرة علي الناشئة الإسلامية المنكبة علي تحصيل العلوم والفنون في المدارس النظامية حيث ألفاها محرومة من تعليم آداب الدين ومبادئ علم الاجتماع، وقد كان يكتب هذه الدروس ويلقيها على الفرقتين الثالثة والرابعة من تلاميذ المدرسة العثمانية الأهلية أيام كان ناظرها، وقد جعلها ثلاثة أقسام: مبادئ وروابط ومقومات، فالقسم الأول أربعة دروس: (1) في ضعف الإنسان و (2) عقله و (3) مدنيته و (4) كماله، وتكلم في القسم الثاني عن حاجة البشر إلي الدين ووجوب معرفته وضرورة الحكومة للاجتماع و (الحكومات والإسلام) والعدل في الإسلام، والمرتبة الأولي من مراتب العدل وهي العدالة في الأحكام، وقد جعل العدل ثلاث مراتب بتقسيم انفرد به غير التقسيم المعروف، وذكر في القسم الثالث المرتبة الثانية منها وهي عبارة عن المساواة بين الناس في أنفسهم مهما اختلفت أنسابهم، وذكر الحرية والمقابلة بين الحرية الغربية والحرية الإسلامية، ثم المرتبة الثالثة من مراتب العدل وهي ما يكون في المعاملة بين الناس، ثم المداهنة، فالخيانة والتغرير، فالثبات والصبر، فالاعتماد بعد الله على النفس، فالعلم والتعليم، فالعلم بالعمل، فالتربية والأخلاق، فبيان مخصوص في الأخلاق، فحب الوطن، فحب الناس، وجعل آخر الدروس (خاتمة فيها تذكير) وقد سردنا جميع عناوينها فهي 27 درسًا، وكل درس مفتتح بآية قرآنية، وهذه العناوين تدلك على أن هذا الكتاب يفتح لعقول التلامذة أبوابًا من الفكر النافع، ويحلي نفوسهم بالأدب الصحيح، ومن ثم قررت الجمعية الخيرية الإسلامية في مصر تدريس هذا الكتاب في مدارسها، فحبذا لو اقتدت بها سائر المدارس الأهلية، ولا يصدنهم عن هذا ما يتراءى من أن بعض مواضيعها تعلو على أذهان التلامذة، فإن المؤلف لم يذهب فيها مذاهب بعيدة عن أفهامهم، كيف وقد وضعها لهم، وتحرى فيها غاية الاختصار مع السهولة في البيان لكي تحيط بها تلك الأذهان؟ ! وقد قرأت عدة دروس منها، فلم أجد فيها شيئًا من التعاليم الفاسدة الضارة التي قلما يخلو منها كتاب من كتبنا في الأخلاق والآداب، فالكتاب سالم من الانتقاد من حيث كونه كتابًا مدرسيًّا، ولكنه لا يخلو من النظر في بعض الألفاظ أو المعاني كالتقسيم والتعريف، فقد عرَّف العلم بأنه العقل الغريزي إذا ترقى إلى متناول المعرفة بحقائق المحسوسات، وعرَّف الفضائل بقوله: (هي الأعمال النفسية والبدنية التي روعي فيها جانب العدل) والخطب في هذا سهل. (المبادئ الأولية في الدروس الجغرافية) كتاب يحتوي على ما هو مقرر من هذا الفن لتلامذة السنة الثانية والثالثة من مدارس الابتدائية بحسب ترتيب نظارة المعارف، ألَّفه أخونا في الله سيد أفندي محمد مدرس الجغرافية والتاريخ واللغة الفرنساوية في المدارسة التحضيرية، وقد أهداه إلينا من نحو ثلاثة أشهر، وأخرْنا تقريظه رجاء أن تسمح لنا الفرص بقراءته لانتقاده حيث عهد إلينا من حضرة المؤلف بهذا، ولما لم تسمح لنا إلى الآن كتبنا هذه الكلمات مكتفين من الدلالة على فائدة الكتاب بما هو معروف من فضل مؤلفه وبراعته في التعليم. وعسى أن يُقبل التلامذة من سائر المدارس على اقتناء هذا الكتاب ومطالعته؛ فيحملوا بذلك حضرة مؤلفه على تأليف كتاب آخر يستوفي فيه مهمات هذا العلم. (رسالة في صداق سيدتنا فاطمة الزهراء صلى الله على أبيها وعليها وسلم) ... ... وَرَدَت لنا هذه الرسالة من الهند وهي من تأليف جامع المعقول والمنقول، حاوي الفروع والأصول، إمام العلماء مولانا مولوي محمد صبغة الله قاضي الإسلام قاضي بن مولوي محمد غوث - غفر الله لهما - ذكر مؤلفها الخلاف في المسألة والراويات المختلفة فيها ووزنها بميزان النقد الصحيح، فجاء بعضها في كفة الترجيح وبعضها في كفة التجريح، وجمع بين الأقوال على أحسن منوال، وحاصل ما حققه أن النبي صلى الله عليه وسلم زوج السيدة فاطمة من عليّ - رضي الله عنهما - على درعه الحطمية، وكانت تساوي أربعمائة درهم، لكنها بيعت بأربعمائة وثمانين درهمًا، وروي أن الذي اشتراها عثمان ولعله زاد في الثمن عمدًا، وقيل ضم عليها عليّ شيئًا آخر، وبهذا جمع بين قول من قال: إن الصداق كان درعًا، ومن قال: أربعمائة درهم، ومن قال: أربعمائة وثمانين، وبين أن لفظ المثاقيل الذي جاء في بعض الراويات مراد بالمثقال فيه مطلق المقدار؛ لأنه يرد في اللغة كذلك. فحيّا الله تعالى علماء الهند جزاء اشتغالهم بالحديث رواية ودراية، وقد أهمله العلماء في هذه البلاد حتى لا يكادون يقرءونه إلا لأجل التبرك، ولذلك لا يشتغلون بالرواية والبحث في الأسانيد زاعمين أن المتقدمين قد كفوهم ذلك على أن المتقدمين يختلفون، فلا بد من معرفة وجه الترجيح إلا عند من لا يهمهم الجزم بالمسائل؛ لأن العلم عندهم هو الاطلاع على أن فلانًا قال كذا، وفلانًا قال كذا، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. (تغافل الرجال عن تهتك ربات الحجال) قصيدة همزية من نظم الشاعرالأديب الشيخ محمد الجمل المجاور في الأزهر الشريف، وهي إحدى قصائده التي تلاها في جمعية (مكارم الأخلاق) فنالت استحسانًا عامًّا، وقد طبعها في مطبعة حجرية، وأهدانا نسخة منها، فأجلنا فيها الطرف، فرأينا فيها نصائح وآدابًا جمة، وبيانًا لحكمة الحجاب، وإسهابًا في مضار اختلاط النساء بالرجال، وقد انتقدنا على حضرة الشاعر وصف محاسن النساء في خروجهن مسفرات متهتكات فوصف النهود والقدود، والحواجب الزج، والعيون الدعج، والرقص والتثني، والتصبّي والتجني، وانتقل إلى أطوار العشق ومراتبه، وفنونه وغرائبه، وصفًا يهيج بقلب المتنسك، فكيف فعله بنفس المتهتك؟ فكانت القصيدة بهذا نفثة من نفثات حضرة رئيس الجمعية وخطيبها الفاضل، فإنه ينحو بخطبه العذبة هذا المنحى، ويسلك هذه المسالك، بل يبالغ في القول إلى الكناية عما هنالك ... وطالما تمنيت أن أجتمع بحضرته على انفراد لأسرّ إليه هذا الانتقاد، وأبين له أن هذه الأقوال تحرك سواكن الانفعال، وتشوق النساء إلى الرجال، على ما وصفن به من الأحوال، ولذلك انتقد العلماء على العلامة ابن الوردي حيث وصف محاسن الأمرد عند نهيه عن عشق المردي، وانتقد عليّ بعض فضلاء مصر عندما أوردت في (المنار) بيتين فيهما ذكر العناق، وقال: إن (المنار) إنما أنشئ لتغذية العقل والروح لا لتغذية النفس والشهوة، تمنيت هذا الاجتماع فما أصبت منه الغرض؛ لأنني ما تحريته ولا هو حصل بالمصادفة والعَرَض، وكنت حسنت الظن بأن ما سمعته لا يعاد، ولا ينشأ عن شيء من الفساد، فلما رأيته قد أثر في أمثل من يحضر ذلك الاجتماع (كصاحب القصيدة) علمت أن أثره أكبر في الجهلة والرعاع، ولذلك نبهت عليه في الجريدة راجيًا أن تكون ذكرى عامة مفيدة، وعسى أن لا يثقل على الخطيب والشاعر كلامي كما أنه لم يثقل عليّ كلام مَن انتقد عليّ بمثل ما انتقدت به عليهما، بل قد انتقد بمثله على من هو خير مني ومنهما {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات:55) . (جريدة الأهرام) هي أقدم الجرائد العربية (غير الرسمية) في مصر، وهي من الشهرة والانتشار بحيث تستغني عن تقريظ جريدة هي أقل منها انتشارًا، وإنما نقصد بهذه الكلمات أن نثبت في تاريخيات مجلتنا ما وفق له سعادة صاحب هذه الجريدة الهمام من إنشاء (أهرام) أخرى في القاهرة مع بقاء (أهرام) الإسكندرية، وقد جعل نسخة العاصمة بحجمها الكبير المعتاد، وقيمة الاشتراك فيها 150 غرشًا، ونسخة الإسكندرية بحجم سائر الجرائد المعتاد، وثمنها 100 غرش، وقيمة الاشتراك في الأهرامين معًا 200 غرش، فنهنئ سعادته بهذا النجاح الباهر، بل بهذه الكرامة وهي أن جريدته قد جاءت بالذرية الطيبة بعد ما بلغت سن الشيخوخة، وقد صدر العدد الأول من نسخة القاهرة في يوم الأربعاء الماضي أول نوفمبر مملوءًا بالأخبار المفيدة والآراء السياسية، فعسى أن يصادف الأهرامان من الإقبال أكثر مما يبذل لهما من زيادة المال.

أهم أخبار الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم أخبار الحرب استولت طلائع البويرس على 1500 بغل بالقرب من لاديسمث، ولم يذكر ما تحمله أو تجره هذه البغال من الذخائر والأثقال، إلا أن روتر قال: إنها جرّت معها جملة من المدافع، واعترف روتر بأن البويرس يحسنون الرماية، وفي 31 أكتوبر حمل البويرس على لاديسمث حملة منكرة، وكانت هذه ملحمة عظيمة فازوا فيها فوزًا مبينًا، وأظهروا من البراعة في فن الحرب ما خدعوا به قواد الإنكليز وضباطهم الذين جُبِلَتْ طينتُهم بماء الخداع، قال روتر: إنهم أفسدوا بالخدعة التدبير الحربي الذي وضعه الجنرال السر جورج هوايت، فإنهم غادروا المركز الذي كان يظهر في نظر الإنكليز أنه الموقع الأساسي لهم، ثم هجموا على جناحنا الأيمن الذي كان ينبغي تعزيزه بقوة من جناح القلب، فأمطروا عليه نارًا حامية، فارتد الإنكليز على أعقابهم، وقال: أُعلن رسميًّا أن فرقتي الإيرش فوزيلرس وجلوسترشير والبطارية العاشرة التي كانت انتزعت للدفاع عن الجناح الأيسر قد اضطر الجميع إلى التسليم بعد خسائر جسيمة جدًّا، وكان البويرس أحاطوا بالجنود التي أُلجئت إلى التسليم، ويبلغ عددها 42 ضابطًا و200 جندي، ثم ذكر أسماء الضباط الذين جرحوا وقال: إن الجنرال هوايت إنه وحده المسئول عن هذا المصاب الفادح، هذا ملخص الخبر الرسمي، ولم يذكر أحد عدد القتلى، ولا شك أنه كثير جدًّا، وقد وقع خبر هذا الانتصار في إنكلترا أسوأ وقع، حَمَل الحكومة على زيادة الاستعداد، وشمتت بهم أوربا عامة وفرنسا بوجه خاص. وبعد هذه الملحمة انقطعت هذه الأخبار البرقية بين مدينة لاديسميث وبين غيرها، وآخر الأخبار عنها أن البوير أحاطوا بها من كل جانب، وفي برقيّات (أي الأخبار البرقية، وسنستعمل هذه الكلمة بمعنى التلغرافات دائمًا) أمس أنه قتل في معركة يوم الاثنين بالقرب من لاديسميث ستة ضباط و54 رجلاً، وجرح 9 ضباط و231 رجلاً، وقتل اللفتننت مكدوكال من الطوبجية الملكيين والميجربوس، واللفتننت ماردن وفورستر من الفرقة (الأورطة) 60 من آلاي ريفل، والماجور جراي، ونضرب صفحًا عن ذكر أسماء الجرحى من الضباط إلا قائدهم الجنرال هوايت، وفيها أن البويرس احتلوا بلدة كولنسو وهي تبعد عن لاديسميث 13 ميلاً من جهة الجنوب، وقال (المقطم) : إنه قد بلغ عدد من قتلهم وجرحهم البويرس من الإنكليز 3500 رجل.

عودة الخديوي وأسرته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عودة الخديوي وأسرته شرَّف القُطر عائدًا من مصيفه مولانا الخديوي المعظم وأسرته الكريمة، فنهنئ الوطن بسموه، ونسأل الله أن يحفه بالتأييد في كل زمان ومكان.

منع جريدة المشير

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منع جريدة المشير يعلم القرَّاء أن الحكومة أرادت محاكمة صاحب هذه الجريدة؛ لطعنها بالحضرة الشاهانية، فهرب من وجه القضاء واختفى، وقد ظهرت جريدته في هذه الأثناء في العاصمة على أقبح ما كانت، فنشرنا مقالة بصفة ملحق بإمضاء مدير جريدتنا، استصرخنا فيها الحكومة السنية بأن تمنعه من دخول هذه البلاد، وتعاقب من ينشره بعد التحري عنه والعلم به، كما نصحنا إخواننا المصريين بأن لا يبتاعوه لما في ذلك من الخيانة لخليفتهم وسلطانهم، وببركة الإخلاص وقع كلامنا عند الحكومة أحسن موقع، فقد بلغنا أن نظارة الداخلية كتبت لنظارة الحقانية بوجوب إجراء ما يقتضيه القانون من منع انتشار جريدة (المشير) فأجابتها نظارة الحقانية بأنه ينبغي أن تأمر المحافظة بالبحث عن بائعي هذه الجريدة والاستعلام منهم عن مصدرها الذي يأخذونها منه ليحاكم متى عرف، فنثني على الحكومة أطيب الثناء.

المدرسة العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المدرسة العثمانية في يوم الخميس الأسبق احتفلت المدرسة العثمانية احتفالها السنوي بكمال الإتقان والانتظام على أعين الجماهير من الوجهاء والفضلاء، فحاور بعض التلامذة بعضًا باللغات العربية والإنكليزية والفرنسوية، وحلّوا بعض المسائل الحسابية، ونقلوا بعض العبارات من لغة إلى أخرى قولاً وكتابة، ثم كان من التلميذات بعض ما كان من التلامذة، وقد أُعجب الحاضرون بمحاورة بين التلميذات كانت من آيات التهذيب البينات؛ لما حوته من انتقاد سيئ العادات كالزار وبِدَع المآتِم، وما فيهما من المآثم، وكتبذيرات الأفراح المولدة للأتراح، وكان مبدأ المحاورة في المفاضلة بين العلم والأدب، وبين الحسن والنشب، وما يتبع الأخيرين من الأنس والتمتع بشهوات النفس، ومما استلفت الأنظار من أصحاب الذوق والأفكار أن الفتاة التي فضلت التبرج واللهو والقصف والزهو، وتصبِّي الشبان لأجل الافتتان، كان عليها من الحياء الفطري والخفر الطبيعي ما يدل على طينة طيبة، وعرق طاهر وأدب باهر بحيث كان ما جرى على لسانها مخالفًا لما هو راسخ في وجدانها، على أنها ما أنطقت به إلا لترجع عنه، وما حملت على ذكره إلا لتتنصل منه، وقد جرت محاورتان أخريان هزليتان في ظاهرهما، جديتان في حقيقتهما؛ لأنهما في بيان سوء مغبة إهمال التربية والتعليم، ومضرات تضييق الأغنياء على أولادهم، واضطرارهم إياهم بذلك إلى الاستدانة بالرباء الفاحش، وقد قام قبل انتهاء الاحتفال حضرة الخطيب الشهير عزتلو إسماعيل بك عاصم فحمد ما رأى من نظام المدرسة ونجاحها، وأثنى على سعادة صاحبها رضا بك العظم وعلى ناظرها السابق السري الفاضل رفيق بك العظم وناظرها الآن محمد بك السيد، ثم أفاض في بيان شدة الحاجة إلى التعليم الديني، وانتقد على المدرسة بأنه لم يسمع من التلامذة شيئًا في الدين، وانتقد على بروز بعض البنات المراهقات حاسرات عن وجوههن ورؤوسهن وعلى عبارة جاءت في المحاورة الهزلية وهي أن أحد المتحاورين ذم أباه وسبه ونسب إليه ما هو فيه من الشقاء حيث لم يعلمه ولم يربه، فصفق له النادي مرَّات كثيرة، ولما فرغ انبرى أحد التلامذة الصغار (وهو صلاح الدين أفندي ابن عبد الحليم أفندي حلمي مدير جريدتنا) وبَيَّن للملأ بعض الأحكام الدينية ككيفية الوضوء وقال: (لولا ضيق المقام لبَيَّنا أحكام الصلاة بالتفصيل) فَسُرَّ الناس بذلك سرورًا كبيرًا، وتصدى البعض للرد على حضرة الخطيب لاعتقادهم أن هذا الانتقاد مقصود لأمر ما كما صرح بذلك بعض أساتذة المدرسة لكثير من الناس، ولكن العاقل من ينظر في الكلام دون نية المتكلم وقصده، ولا شك أنه ينبغي تعويد البنات المراهقات على التقنع، لا سيما إذا أردن البروز من خدورهن، وأنه كان ينبغي أن تشتمل المحاورة الهزلية على من ينهى سابّ أبيه ويبين خطأه، أما الدين فقد بلغنا أن المدرسة باذلة العناية في تعليمه والتربية عليه بإلزام التلامذة بالصلاة، وقد رأينا في (بروغرام) الاحتفال ذكر الدين، ولكن كانت الخطبة قبل تمام الاحتفال، وبالجملة قد كان الاحتفال بغاية الانتظام، ودل على نجاح المدرسة وتقدمها فحمدًا لسعادة صاحبها السرّي الكامل محمد رضا بك العظم على ما بذل، ثم لحضرة ناظرها على ما فعل.

إزالة وهم تاريخي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إزالة وهم تاريخي تَوهَّم بعض مؤرخي المسلمين وعلمائهم أن ذا القرنين المذكور في القرآن الكريم هو إسكندر المكدوني , وهذا غلط فاحش ووهم لا شبهة عليه، فذو القرنين من كُنى ملوك اليمن العرب المعروفين بالأذواء كذي يزن وذي نواس وذي الكلاع، والإسكندر رجل يوناني، وذو القرنين مختلف في نبوته، وإسكندر مقطوع بكفره وضلالته، وذو القرنين كان في زمن أحوال العمران فيه مخالفة لأحواله في زمن الإسكندر المكدوني، كما يُعلم مما قصه الله علينا من أخباره، فإنه طاف مشارق الأرض ومغاربها بأسباب طبيعية كانت متبعة في ذلك العصر، فإنه يقول: فأتبع سببًا حتى إذا بلغ كذا، ثم أتبع سببًا حتى إذا بلغ كذا، والراجح أنه كان قبل الإسكندر المكدوني بآلاف من السنين بحيث طمس أثر ذلك العمران، فعسى أن لا يغتر الناس بما يرونه في كتب التفسير والتاريخ، وفي الجرائد من هذا الوهم، وإننا نتعجب من مثل أصحاب (المقتطف) و (الهلال) كيف يكنون إسكندر المكدوني بذي القرنين مع رسوخ أقدامهم في علم التاريخ، ولعلهم فعلوا ذلك لمجرد مجاراة بعض مؤرخي الإسلام، أو لرأي لهم آخر في المسألة، والله عليم بذات الصدور.

بعض التفصيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بعض التفصيل ألمعنا في المقالة الافتتاحية إلى توجه عناية مولانا السلطان الأعظم لإصلاحات جديدة في اليمن وغيرها، فمن ذلك أن تجعل بلاد اليمن ثلاث ولايات ينتخب لها العمال من خيار الأكفاء نزاهة وسياسة، يقيمون نظام جباية الأموال على الأصول العادلة، ويسوسون البلاد سياسة دينية مدنية، وأن تنشأ في كل مدينة كبيرة مدرسة إعدادية أو رشدية، وفي مركز كل ولاية مدرسة ملكية ومدارس للصنائع والفنون، ومدارس حربية ابتدائية، وأن يختار لهذه المدارس وغيرها من المدارس الابتدائية التي ستكون عامة أمهر المعلمين وأحسنهم سيرة، وأن يعلم فيها الدين، وقد قلنا من قبل: لو أن الدولة العلية ساست بلاد اليمن سياسة دينية لما حصل فيها ما حصل من الثورات والفتن، فعسى أن يكون انتخاب العمال والمدرسين كما يشاء مولانا السلطان لا كما تشاء الأهواء والأغراض. ومنها ما جاء في أخبار ولاية قونية الرسمية أنه قد افتتح فيها 32 مدرسة كانت أسست في العام الماضي، وتم إصلاح 120 مدرسة.

الكرامات المأثورة ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات المأثورة وهي الخامسة من مقالات الكرامات نتخوَّل القراء بمباحث الكرامات تخوّلاً خشية السآمة من اتصال الكلام في الموضوع الواحد، وإنما نصدقهم الوعد بالتدريج بحيث لا يملّون ولا يسأمون، ولا نحن نغفل ما يسنح لنا من المباحث الأخرى بمناسبات الزمان واختلاف الأحوال. تبين في المقالة الرابعة أن حجج مثبتي وقوع الكرامات على ضربين: أحدهما ما ورد في الكتاب العزيز، وقد ذكرنا ملخص ما قالوه في الآيات القرآنية التي يدل ظاهرها على وقوع الخوارق لغير الأنبياء، وحققنا أن قصارى ما يحتج به منها على ثبوت كرامات الأولياء هو الإلهام الصحيح لبعض أصحاب النفوس الزاكية كأمّ موسى عليه الصلاة والسلام، وما في معناه ككلام الملائكة لمريم عليها السلام، وأنه يحتمل أن يكون هذا مما قبله، فثبت أن الإلهام هو مما يكرم الله به أولياءه وأصفياءه بإشرافهم أحيانًا على ما يعزب عن علم غيرهم، فنقف عند حد ما ورد وثبت، ولا نقيس عليه غيره؛ لأن ما جاء على خلاف القياس وغير المعهود لا يصح أن يقاس عليه كالأحكام الشاذة في سائر العلوم والفنون، وقد قضت الجهالة بالدين والعلم بأن تخضع الأمة لكل مَنْ يظهر على يديه شيء غريب عما ألفت واعتادت، وإن كان شعوذة أو مبنيًّا على صناعة خفية مهما ظهر صاحبه بلباس الدين وزيّ النساك أو المجانين. (الضرب الثاني) ما ورد عن سلف الأمة ومن بعدهم إلى يومنا هذا، وقد سبق القول في مقالة (حجج منكري الكرامات) بأن حجتهم الخامسة هي أنه لو كان للكرامات أصل لكان أولى الناس بها الصدر الأول، فإنهم صفوة الإسلام وأشد استمساكًا به ممن بعدهم، وقلنا هناك بأن السبكي قد أجاب عن هذه الحجة بسرد الكرامات المأثورة عن الصحابة عليهم الرضوان، ووعدنا بأن نعد هذه الكرامات في حجج الإثبات عدًّا، ونتبعها تأييدًا أو ردًّا، وقد ضاقت عن ذلك مقالة حجج المثبتين الماضية فنذكرها ههنا وهي: (1) على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذكر أثر عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وفيه أن أباها أخبر في وصيته لها عن وفاته، وعن حمل له لم يكن معروفًا وعيَّنه بأنه أنثى حيث قال في سياق كلامه: وإنما هما أخواك وأختاك فقالت: إنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال: إن ذا بطن بنت خارجة أراها جارية، فكان كما قال، أقول: وهذا من الإلهامات الصحيحة التي أثبتناها، وقد ورد في الصحيح أنه كان من الأمم قبلنا محدَّثون (بفتح الدال المشددة) أي ملهمون، وإن عمر بن الخطاب من المحدثين في هذه الأمة، وأجدر بأبي بكر أن يكون محدثًا أيضًا. (2) ثم ذكر حديث عبد الرحمن ولده - رضي الله عنهما - في الإطعام، وفيه أن الطعام كثر في القصعة ببركة أبيه، قال عبد الرحمن: وايم الله ما كنا نأخذ لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، قال حتى شبعنا وصارت بعد ذلك أكثرمما كانت بثلاث مرار، أقول: إذا ثبت هذا فهو الخارق الحقيقي؛ لأن زيادة الطعام حقيقة لا تكون إلا بخلق جزء منه يوجد من العدم؛ لأن النموّ بالاستمداد من الأجسام الأخرى كما في الحيوان والنبات لا يتأتى فيه، وقد حار العقلاء في سر الخلق وكيفية الإيجاد من العدم حتى كاد هذا الأمر أن يكون وراء ما يقدر البشر على تصوره، ومثله إعدام الوجود، فالإيجاد والإعدام من الأسرار الإلهية التي لم يطلع الله عليها أحدًا من خلقه، والحكماء متفقون على أن القوة البشرية عاجزة عن إيجاد نحو ذرة أو رملة، وعن إعدام نحو نقطة ماء من الوجود وإن بلغت من العلم ما بلغت، ولكن البراهين العقلية تثبت أن وجود هذا العالم ممكن لا واجب، وأن الممكن لا وجود له من ذاته؛ لأنه لا يكون إلا حادثًا، وهذا هو الدليل على أن الله تعالى خالق كل شيء، أما الخبر فهو عند الشيخين، وهو من أخبار الآحاد التي تفيد الظن لذاتها، وليس الموضوع في نفسه من قضايا الدين، فمن اطمئن قلبه له وصدقه لثقته بروايته فله أن يبقيه على ظاهره ويعدّه من الخوارق، وله أن يأوِّله ليطابق المعروف في العلم موافقًا لما في الدين من أن الله تعالى جعل لكل شيء يحدث في هذا الكون سببًا، ولذلك سُمي عالم الأسباب، فالله تعالى خلق مادة الكون بمحض إرادته المعبر عنها في الكتاب بلفظ (كن) ثم جعل بعد ذلك لكل شيء سببًا كما هو مشاهد، وبعض أئمة الصوفية الشيخ الأكبر يسمي ما وجد أولاً بمحض الإرادة (عالم الأمر) وما خلق بعد ذلك بالأسباب المعبر عنها في لسان الشرع بالسنن الإلهية (عالم الخلق) ولله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين. أما طريق التأويل فمن المعهود عند الناس أن يقولوا: كأنَّ هذا الطعام أو الماء قد زاد وبورك فيه، وكأن الإناء ينبوع إذا كفاهم من حيث يظنون أنه لا يكفيهم، وإذا زاد مع ذلك عن الحاجة يبالغون في القول فيقولون: إنه قد زاد أو تضاعف أو صار أكثر مما كان، وإن الإناء لينبع نبعًا، كما يقولون: إن الأرض قد طويت إذا قطعوا المسافة في مدة أقصر مما كانوا يتوقعون، وكل هذا من قبيل التشبيه البليغ المعهود في اللغة العربية بكثرة، ولا تكاد تخلو منه لغة من اللغات، لكن التعبير بقوله أكثر مما كان بثلاث مرار ينأى بالكلام عن التجوز ويدنيه من إرادة الحقيقة، وكثيرًا ما كانوا يروون الأحاديث بالمعنى، فلسنا على ثقة من نص عبارة عبد الرحمن - رضي الله عنه - على أن هذه الكرامة مسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالبحث فيها إنما هو بحث في خبر تاريخي، وإنما سَمَّينا الكلام حديثًا؛ لأن فيه أن الطعام حمل بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكل منه الخلق الكثير. (3) ما روي عن عمر الفاروق رضي الله عنه، وذكر السبكي في مقدمته قصة سارية بن رستم الجلحي وهي مشهورة، وفيها كرامتان: إحداهما أنه اطلع وهو على منبر حرم المدينة على جيش سارية مع العدوّ في نهاوند وأن العدو أعدَّ له كمينًا في الجبل، والثانية أنه ناداه: يا سارية، الجبل، فأسمعه، ونحن نقول: إن هذه القصة مما تتوفر الدواعي على نقله بالتواتر؛ لأنها وقعت والمسلمون كلهم مجتمعون في المسجد يسمعون الخطبة، وهي من الغرابة في نفسها وعظم الشأن في موضوعها بالمكانة التي نعرفها، ولو حدَّث بها الجم الغفير من الصحابة لحدَّث بها أضعاف أضعافهم ممن بعدهم؛ لأنهم كانوا أسمع للغرائب، وأولع بالعجائب، ومع ذلك ما رواها البخاري ولا مسلم ولا أصحاب السنن الأربعة، ولا أصحاب المسانيد من قبلهم، وإنما انفرد بها البيهقي من المحدثين، وتناقلها كثير من المؤرخين الذين جمعوا بين الغث والسمين، وقد وطن قومنا نفوسهم على قبول جميع ما يسند إلى عظماء الأمة على علاته صح أم لم يصح، ومن بحث في ذلك ينسبونه إلى التقصير في تعظيم السلف، وما تعظيم السلف إلا بالاقتداء بهم، حتى إن عالمًا مثل التاج السبكي قال في بيان هذه الكرامة: إن عمر رأى القوم في نهاوند عيانًا، وكان كمن هو بين أظهرهم، أو طويت له الأرض وصار بين أظهرهم حقيقة وغاب عن مجلسه بالمدينة، فكيف جوَّز انتقال عمر من المدينة إلى نهاوند وإرشاده أمير الجيش ورجوعه كلمح البصر - ولو حصل هذا لملأ خبره الخافقين - مع أنه لم يقل به أحد قط، اللهم إن غرامنا بالتأويل قد أطفأ فينا نور الفطرة والعقل وطمس معالم العلم والدين، فأنقِذنا اللهم من الاحتمالات والتأويلات، وأتحفنا بعلم اليقين، إنك على ما تشاء قدير. (4) ومنها قصة الزلزلة , نقل السبكي عن الشامل لإمام الحرمين أن الأرض زلزلت في زمن عمر - رضي الله عنه تعالى - فحمد الله وأثنى عليه، والأرض ترتجف وترتج ثم ضربها بالدرة وقال: قري ألم أعدل عليك؟ فاستقرت من وقتها. اهـ. أقول: إن الزلزلة ليس لها زمن معين، فيقال: إنها استقرت قبل انقضائه كرامة لعمر- رضي الله تعالى عنه - ولا أذكر أنني رأيت لهذا الأثر رواية صحيحة، ولئن صحت الرواية فقد علمت ما فيها، وقد أطال السبكي الكلام في هذه المسألة وزعم أن الفاروق كان يؤدب الجمادات كالأرض كما يؤدب الناس؛ لأنه خليفة في الظاهر والباطن، وزعم أن الأرض لا تزلزل إلا لسببين: جور الحكام واليوم المعلوم المشار إليه بقوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} (الزلزلة: 1) وتكلم في تفسير السورة بما يخالف الجماهير، وقد بيَّنا الحق في هذا كله، وبينا أسباب الزلازل بحسب ما يدل عليه العلم في كتابنا (الحكمة الشرعية) ، وأنها لا علاقة لها بالجور ولا بالعدل. (5) ومنها قصة النيل , قال السبكي: إن النيل كان في الجاهلية لا يجري حتى يلقى فيه جارية في كل عام فلما جاء الإسلام وجاء وقت جريان النيل أتى أهل مصر إلى عمرو بن العاص فأخبروه أن لنيلهم سُنَّة، وهو أنه لا يجري حتى يلقي فيه جارية بِكْرٌ بين أبويها، ويجعل عليها من الحليّ والثياب أفضل ما يكون، فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون، وإن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا ثلاثة أشهر لا يجري لا قليلاً ولا كثيرًا (لعله يريد أنه لا يجري زيادة عن العادة) حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب، فكتب إليه عمر: قد أصبت، إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد بعثت إليك بطاقة فألقها في النيل، ففتح عمرو البطاقة فإذا فيها (من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من قِبَلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك نسأل الله الواحد القهار أن يجريك) فألقى عمرو البطاقة في النيل قبل يوم الصليب، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها، فأصبحوا وقد أجراه الله ستة عشر ذراعًا، قال السبكي: فانظر إلى عمر كيف يخاطب الماء يكاتبه ويكلم الأرض ويؤدِّبها. أقول: إن هذه الحكاية مبنية على أن التصديق بأن النيل كان قبل الإسلام لا يفيض فيضانه إلا بعد وضع الجارية العذراء فيه، وإنها لخرافة إذا جاز أن يصدقها أغبياء الوثنيين الذين يعتقدون أن النيل من الآلهة لا يفيض إلا إذا أرضوه بمثل ذلك، أو أن الآلهة يُجرونه بحسب أهوائهم، وأن إلقاء الجارية من ذرائع استجدائهم، فلا يجوز أن يصدقها مسلم يعتقد أن الحكيم العليم أقام هذا الكون بنظام ثابت وسنن مطردة لا تتغير ولا تتبدل، منها أن الأنهار تجري من ينابيع كالعيون الصغيرة تتفجر من بطن الأرض وتستمد في أيام الشتاء من الجداول والوديان التي يجتمع ماؤها من المطر، وإن ماء الينابيع من المطر على ما بيناه في المقالة الأولى من مقالات الكرامات {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْض} (الزمر: 21) وقد عُلم أن النيل يجري من بحيرتين عظيمتين في الأقاليم الاستوائية، وإنما يفيض على مصر فيضانه المعلوم في فصل الصيف؛ لأن صيف هذه البلاد شتاء في تلك البلاد، ولا يكون الفيضان إلا تدريجًا؛ لأن المطر يكون كذلك، وإنما يقل الفيضان ويكثر بقلة المطر وكثرته في تلك البلاد التي ينبع منها ويستمد مما دونها، ويجوز أن يقل الفيضان في أول عهده، ثم يكثر في آخر المدة تبعًا لأحوال المطر، ولكن لا يتأتى أن يجري في يوم واحد ستة عشر ذراعًا، ولو حصل ذلك لكان ضرره أضعاف نفعه، فإن زيادة عظيمة كهذه في نهر عظيم كالنيل إذا جاءت دفعة واحدة لا يكون شأنها إلا هائلاً وعظيمًا. وحاصل القول: إنه إن صح أن فيضان النيل كان يتوقف قبل الفتح الإسلامي على إلقاء البنت العذراء فيه وأن هذا بطُل بالإسلام، فإن الخارق للعادة والآتي على خلاف سنة الكون هو ما كان قبل الإسلام لا ما

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (12) من هيلانة إلى أراسم في 25 مارس سنة -185 كتابي إليك وقد استقرّ بي النوى الآن في إنكلترا أكاشفك فيه ما وجدته في هذه البلاد فأقول: استأجرت مساء يوم الإثنين الماضي عجلة اجتزت بها ما بين القنطرة المسماة بقنطرة لوندره (لندن بريدج) والميدان المعروف بميدان أوستون وكأني بك سائلي عما شاهدته من عاصمة الجزائر البريطانية، إني لم أر منها شيئًا، أو أن ما رأيته لا يكاد يكون شيئًا يذكر، كنت أحس أحيانًا بأني أدور في الظلام مع العجلة أثناء جريها في الميادين الفسيحة المحتفة بالبساتين والبيوت التي كنت أخالها مهجورة، وكنت أرى عقيب ذلك من كوَّتي العجلة شوارع طويلة تمتد ذات اليمين وذات الشمال تحيط بها المخازن التجارية من الجانبين، ويمتد في كل منها على جانبيه صفان من المصابيح الغازية، فكنت تارة أجدني في ظلمات متكاثفة الحجب وأخرى كنت أراني بين طوائف من تلك المصابيح غير منتظمة، وقد كان منظر ضوئها المنعكس على رصف الشوارع المبللة وعلى وقائع [1] الطريق، وجملة أهل المدينة الذين كانوا يغدون ويروحون، وسمات الهمّ والاشتغال بادية على وجوههم وجلبة الغوغاء [2] التي كان يتعاورها السكوت فجأة، كل ذلك كان غريبًا عندي غير معهود لدي، كانت السماء تمطر وكأن لا مطر، ذلك أنها كانت ترهم إرهامًا خفيفًا جدًّا [3] يقول رائية: إنه لابد أن يستمر هكذا ألف سنة. قد حصل في ذهني من سفري هذا في سدف الظلام مجتازة مستنقعات الماء، جائلة فيما أجهله من الأماكن صورة مدينة لا أول لها ولا آخر، فيها كثير من ضروب العظمة والبذخ، وكثير من أنواع الحقارة والمسكنة، فهل هذه لوندره؟ تبوأت النزل الذي كانت وصفته لي السيدة ... فألفيت كل ما فيه غاية في النظافة والهدوء والنظام، قدم لي العشاء في غرفة خاصة منه فيها كفايتها من الفرش، وهي ملاصقة للغرفة التي أعدت لنومي، وقد راعني من خادمة المائدة جمالها البارع، فبعثتي ذاك على مراجعة ذاكرتي لادّكارالقليل من الإنكليزية الذي كنت تعلمته في المدرسة لمخاطبتها بلغتها، فكانت أجوبتها لي في غاية الاختصار، ولم ألبث أن فهمت من احتراسها في كلامها وظهور سيما الحيرة على وجهها أن الخادمات الإنكليزيات لا يحفلن بخطاب المخدوم إياهن خلافًا للفرنساويات، إن الذي أدهشني كثيرًا في هذا النزل أن أهله لم يسألوني عن اسمي، ولا عن حقيقة أمري، عجبًا لهذه البلاد التي لا يظهر أن أهلها يعتقدون أني ما أتيت بلادهم إلا لقلب حكومتهم (تريد التعريض ببلادها الفرنساوية) . اتباعًا لنصائحك قد اهتديت إلى محل الدكتور وارنجتون وذهبت إليه في ثاني يوم من وصولي، وقدمت إليه مكتوبك، فما كاد يأتي على آخره حتى تذكر اسمك، وتلقاني تلوح عليه علائم الوقار الفطري. أنشأ هذا الدكتور يخاطبني بالفرنساوية وهو يحسن الكلام بها بعض الإحسان فقال: لقد أصاب زوجك في إرسالك إلى بلاد أجنبية، فسترتاح نفسك إلى المقام في إنكلترا بما ستجدينه فيها من اعتدال الصحة، إلا أني أنصح لك بأن تقيمي في الأرياف؛ فإنها أجود مناخًا وأصفى هواءً؛ فإن السكنى في الحواضر العظيمة لا تلائم النساء في الطور الذي أنت فيه الآن، ولا تلائم الأطفال أيضًا، وقد أنشأ الكبراء من تجارنا في لوندره يفهمون مزايا الإقامة في القرى، ويقدرونها حق قدرها، فترينهم لا يعبأون بالسفر مرتين كل يوم في السكة الحديدية، ولا بما يضيعه عليهم هذا السفر من الفوائد الكثيرة التي منها الحضور في ناديهم مثلاً، وذلك ليمتعوا أسرهم بقليل من نضارة الخضرة ومنافع الشمس، فهم يصرفون بذلك نساءهم عن التردد على معاهد التمثيل ومواطن اللهو الليلي، لكل امرئ منهم نصيب من فائدة هذه الإقامة، وللأطفال الحظ الأوفر منها حيث ينشأون في كمال الصحة من هذه المعيشة المطلقة في هواء الفضاء، ولا يكاد يرغب عن ذلك إلا الغانجات المتورّنات [4] اللاهيات بالتافه والمحقرات، ولكن ما الحيلة في إرضائهن، وللأمومة واجبات لا بد من أدائها؟ تأملي في الأطفال الذين يتربون في المدن الكبيرة، ألا ترين معظمهم شاجي الألوان، سقيمي الأجسام كالنباتات الموشمة (النابتة) في الظل المحرومة من ضوء الشمس وحرارتها؟ أتظنين أنهم على هذا الضعف يزدادون في عقولهم بقدر ما يخسرون من صحتهم؟ ! كلا، إنني لا أرى هذا صوابًا؛ لأن جوّ المدن الذي أفسده ما فيها من ضروب اللذائذ وصنوف الأعمال لا يلائم بحال من الأحوال نموّ العقل الخلقي، وأن الأطفال ليبلغون سن الرجولية قبل إبّانه بتأثير تلك الحرارة الصناعية التي في المدن، إلا أنهم في الغالب يكونون رجالاً ناقصين لا يبلغون في الكمال الدرجة المطلوبة. فاه الدكتور بهذه الكلمات الأخيرة، وابتسم ابتسامًا انتهى بظهور خطوط أفقية على وجهه السكسوني المستدير الذي يشرف منه على خديه شعر الصدغين القصير الذي قد وخطه الشيب، ثم استأنف الخطاب فقال: دعيني أتولى أمر سكناك في الخلاء، فإن لي صديقًا يملك في قرية مرازيون بيتًا للنزهة، فيه شيء من الجمال والنظام، وموقعه تجاه خليج بينزاس وهو يبحث عن مستأجِر يؤجره له بجميع أثاثه ورياشه؛ لأنه على وشك الرحيل إلى إيطاليا للمقام بها لأسباب صحية، فأنا أرغب إليك في الذهاب إلى هذا البيت ورؤيته وأحثك على ذلك، وأرى أن في هذا السفر تسلية لك وترويحًا، وإني لو كنت طبيبك لكان من أول ما أصفه لك تبديل الهواء، كوني على ثقة بأن آلام النفس تزول بتغير المؤثرات، فقلما يوجد من هذه الآلام ما يتعاصى على التغير كما ثبت بالتجارب، فإن الإنسان إذا رأى مشاهد خلوية جديدة يحيا حياة جديدة، وليس لي أن أمدح لك أميريّة (كونتيّة) كورنواي [5] فإنها مسقط رأسي، على أن الناس قد أجمعوا على القول بأنها أكثر جهات بريطانية العظمى اعتدالاً في الإقليم، وإنها هي التي يعيش في أرضها الريحان والعطر والعود معرضة لهوائها المطلق في جميع الفصول، إن كنت ممن يروقهن منظر الصخور، فإنك ستشاهدين هناك منها جميع الأشكال في أبهج الأوضاع وأجدرها بالتصوير، أنا لا أعرف حق المعرفة مقدار الأجرة التي يطلبها صديقي في سكنى بيته، لكني لا أشك في أنه لا يخرج عن الاعتدال فيما يطلبه، ستجدين في بنزانس زوجتي السيدة وارنجتون، فإنها هناك هي وأسرتها حتى الآن، وستغتبط باستقبالك، أما أنا فأذهب لزيارتها واستنشاق هواء مولدي كلما تيسر لي الخلاص من أشغالي في لوندره، فإننا معشر الإنكليز لا نقدر على إطالة الثواء في مكان واحد، فالحركة والفضاء من حاجاتنا، ما كان أجدرنا باختراع الآلة البخارية، وقد اخترعناها ولا عجب، وأصبحنا بسبب هذا الاختراع أقل الأمم تغيرًا، فإننا مع سفرنا الدائم في إقامة مستمرة؛ لأنَّا في أوطاننا أينما كنا. افترقت أنا والدكتور على أحسن حال من الوفاق والمودة، وقد خاطبني في شأنك بما شف لي عن كثرة إجلاله لك وإعظامه لقدرك، ولقد لمَّح لي مرة واحدة في مطاوي كلامه تلميحًا خفيًّا إلى ما أنا فيه من الفرقة الحاضرة، فأبان لي به عن عطف عليّ وميل إليّ، ولم يسترسل استرسال الناس في عبارات التعزية والتسلية التي كثيرًا ما أذلتني وهضمتني حق إدلالي بصفة الزوجية. تم الاتفاق بيننا على أن أسافر في الغد إلى كورنواي وإنما عجلت بالسفر لأستقر في مكان ما، وقد رضيت هذه البلدة لي مقرًّا؛ لأن جميع الأمكنة التي لا أراك فيها سواء عندي. لما وصلت إلى بنزنس أثناء الليل تلقتني السيدة وارنجتون عند نزولي من عجلة المسافرين، وكانت في انتظاري لأن زوجها كان كتب إليها بذلك، إذا أردت أن تتخيل صورة هذه السيدة فمثل لنفسك امرأة في نحو الخامسة والثلاثين من عمرها ليست حسنة الوجه ولا دميمته، ولكنها محبوبته سوداء العينين والشعر، خنساء الأنف، عظيمة الفم باسمته، سمينة قصيرة، على أنها خفيفة نشيطة قد أوتيت حظًّا وافرًا من الحنان والرأفة، لقد كثر ما لاحظت أنه في بعض الأحوال يوجد بين شخصين مختلفين في الذكورة والأنوثة والموطن تشابه كالذي يوجد بين أفراد أسرة واحدة، مع أن كلاً منهما يكون أجنبيًّا من الآخر من كل الوجوه، أتدري من الذي حضرت صورته في ذهني لما وقع بصري على السيدة وارنجتون؟ ! ذلك هو صديقك يعقوب نقولا خلتني أراه بذاته في زي امرأة. حمل أمتعتي خادم كان يصحب هذه السيدة فوضعها في عجلة ركبناها فأوصلتنا إلى منزل الدكتور الريفي، لهذا المنزل منظر بهيج إذا شوهد ليلاً في ضوء السماء، فإنه لما كان مبنيًّا بالصوان كمعظم بيوت التنزه الخلوية والأكواخ التي في تلك الجهة كان لحجارته صفائح من اليرمع [6] والمهو [7] تلمع كأنها شهب تساقط من القمر، وفي النهار أيضًا له نوع آخر من جمال المنظر، فإنه قائم في وسط حديقة من الأشجار المجلوبة من البلاد الأجنبية ذات الألوان اللطيفة المختلفة، وينبسط على طول مقدمه إيوان مسقوف تتسلقه شجيرات الغوشياء [8] التي ترتفع ارتفاعًا غير معهود، فهو مزدان من داخله وخارجه بزينة بديعة من الأزهار، لم تر عيني مثلها أبدًا، إن لبيوت النبات الزجاجية المحل الأول في انتظام هذه الدار على ما أرى، لا جرم أن مثل هذه البساتين المسقوفة بالزجاج تزيد المعيشة الأهلية نضارة وحسنًا، الغرف التي تفضل عليّ أهل هذا البيت الكريم بإعدادها لي وأحلتنيها السيدة وارنجتون نفسها بما أوتيته من كامل اللطف وفائق الظرف يخالها الإنسان جنة لو أن للأرواح الوحيدة الجريحة أفئدتها من الحزن جنة في هذه الدنيا ... من محاسن هذه الغرفة أني عندما أهب من نومي فيها أسمع تغريد القنبرة فيروقني لحنها. السيدة وارنجتون هي والدة كاملة عاقلة، فإنها تقسم وقتها قسمين: أحدهما: لتربية أولادها، والثاني للعناية بأمر أزهارها، ولها من كل قسم منهما شيء من الفراغ يكفيها للمطالعة، وهي على بعدها عن الدعوى بالإحاطة بالعلوم في المنطوق والمفهوم لها في طرق الاستدلال على مواضيع شتى أحكام صائبة وآراء سديدة، أسرة هذه السيدة يعجب بها من يراها، فبنتاها الكبيرتان اللتان أحداهما ربما كان عمرها سبعة عشر ربيعًا - كما كان يقال في تقدير السن سابقًا- لكل منهما وجنتان يذوب منها الورد غيرة وحسدًا، وبعد هاتين البنتين صف من بنات أخريات وبنين يتكون فيه من اختلاف رؤوسهم بالصغر والكبر، وتباينهم بالطول والقصر نظام يحوي أجمل الفروق وأبهاها، كثيرًا ما كنت أسمع أن النساء الإنكليزيات نثر (كثيرات الأولاد) ولكن الله أكبر , ما هذا الزخرف، زخرف الشعور الشقراء والأكتاف المكشوفة والألوان الزاهية الغضة التي ما كنت أسمع بها. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

بدع رجب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بدع رجب إذا خذل الله أمة من الأمم فإنها تختار الضار وتنبذ النافع، وتأخذ بالشر وتدع الخير، وتستبدل الرذائل بالفضائل والسعادة بالشقاء، وتترك لُباب الدين، وتَتَلَهَّى بالقشور، ويحسن لها علماؤها القبيح بالتأويل، ويكون هديهم عين التضليل. لا تحضر في هذا الشهر جمعة في مسجد إلا وتسمع فيها الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر، حتى منبر الأزهر، والعلماء ناكسو رءوسهم لا ينكرون على خطيب، وإنما يقرون الخطباء إقرارًا، وقد اتفق علماء الحديث على أن كل ما روي في صيام رجب موضوع أو واهٍ لا أصل له، ولنذكر بعض الأحاديث الموضوعة في رجب وصومه للتحذير منها فنقول: قال المحدثون: (حديث) : رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، فمن صام في رجب يومين فله من الأجر ضعفان، وزن كل ضعف مثل جبال الدنيا ... إلخ موضوع، وفي إسناده أبو بكر بن الحسن النقاش وهو متهم، والكسائي مجهول، و (حديث) : من صام ثلاثة أيام من رجب كتب الله له صيام شهر، ومن صام سبعة أيام من رجب أغلق عنه سبعة أبواب من النار، ومن صام ثمانية أيام من رجب فتح الله له ثمانية أبواب من الجنة، ومن صام نصف رجب حاسبه الله حسابًا يسيرًا موضوع، في إحدى رواياته عمر بن الأزهر وضَّاع، وفي الأخرى ابن علوان وهو وضّاع أيضًا، وراويه أبان متروك. و (حديث) : إن شهر رجب شهر عظيم، من صام يومًا منه كتب له صوم ألف سنة ... إلخ موضوع، في إسناده هرون بن عنترة يروي المناكير، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة، و (حديث) : من أحيا ليلة من رجب وصام يومًا أطعمه الله ثمار الجنة ... إلخ موضوع، آفته حصن بن مخارق، وفي رواية بمعنى هذه ... بعثه الله آمنًا يوم القيامة، وكذا (حديث) : رجب شهر الله الأصم الذي أفرده الله تعالى لنفسه، فمن صام يومًا منه إيمانًا واحتسابًا استوجب رضوان الله الأكبر ... إلخ وفي إسناده متروكان، و (حديث) : خطب النبي صلى الله عليه وسلم قبل رجب بجمعة، فقال: يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم، رجب شهر الله الأصم تضاعف فيه الحسنات، وتستجاب الدعوات، وتفرج الكربات وهو حديث منكر بمرة، وكان بعض العلماء ينهى عن صوم رجب. وأقبح من هذه الأكاذيب أكذوبة (صلاة الرغائب) ويروون لها حديثًا طويلاً في فضائل رجب، ومنها أن مَن يصوم أول خميس من رجب، ثم يصلي بين المغرب والعشاء (من ليلة الجمعة) اثنتي عشر ركعة بكيفية مخصوصة استجيب دعاؤه وغفر الله له جميع ذنوبه، ولو كانت مثل زبد البحر وعدد الرمل، ووزن الجبال وورق الأشجار، ويشفع في سبعمائة من أهل بيته ممن استوجب النار (سبحانك هذا بهتان عظيم) ، وقد أقر السيوطي ابن الجوزي على وضعه، وقال الإمام النووي صلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان، وعبارة شرح الأحياء عنه (بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر بذكرهما في كتاب القوت والأحياء، وليس لأحد أن شرعيتهما بقوله صلى الله عليه وسلم الصلاة خير موضوع؛ فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة) . اهـ ومع هذا لا يزال الناس في كثير من البلاد الإسلامية يحفلون بأول ليلة جمعة من رجب يقومون ليلها ويصومون الخميس قبلها، ويتصدقون فيها الصدقات التي كلها مفاسد ومنكرات، ذلك أن أهل مصر يذهبون نساءً ورجالاً وأطفالاً إلى المقابر، فيبيتون في القصور المبنية عليها، يأكلون ويشربون ويلهون ويلعبون، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون.

مناشير المهدي السوداني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناشير المهدي السوداني ظفرنا بالجزء الأول من كتاب اسمه (مناشير سيدنا الإمام المهدي المنتظر محمد بن عبد الله عليه السلام) وهو 290 صفحة، ويشتمل على الكتب التي كان يكتبها القائم السوداني لأتباعه وخلفائه، ومعظم ما فيها تزهيد في الدنيا ودعوة إلى جهاد الترك (أي المصريين) وقد رأينا أن ننشر منها في (المنار) أغرب رسائله وكتبه؛ لما فيها من العلم بحقيقة ما كان يدّعيه ذلك الرجل، فإن الظنون متضاربة في شأنه، ويعلم كل عاقل يعرف التاريخ أن الاعتقاد بالمهدي المنتظر قد جرَّ على المسلمين شقاء طويلاً وأخذهم أخذًا وبيلاً، وسفك منهم دماء غزيرة، وقد نوَّهنا بهذا في (المنار) من قبل، وسنفصل القول فيه تفصيلاً في فرصة أخرى. ودونكم الآن يا معاشر القرَّاء المنشور الأول من الكتاب وهو بنصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم، وبعد، فمن العبد المفتقر إلى الله محمد المهدي بن عبد الله إلى أحبابه في الله، المؤمنين بالله وبكتابه، لا يخفى على عزيز علمكم فناء الدنيا، وإن من تجرد لله قصدًا، وصدق في دينه وامتثل لأمرالله لا يلاحظ جاهًا ولا مالاً، لأن من كان بالله ولله لا ينظر إلى ذلك , فإذا نظر إلى ذلك حجب عن الله، وطرد من حضرته، وأوقعه الله في نار الهموم والأتعاب، ولعذاب الآخرة أشد، ومن خرج عن الجاه والمال لله عوَّضه الله خيرًا منه، وكان مقربًا عند الله، ولذلك قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة: 65-66) المعلوم أن من كان لله كان الله له، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنك لن تجد فقد شيء تركته لله أي لم تجد له ألمًا ولا همًّا، وقد فتح الله بالأنبياء باب الاقتداء، فسليمان عليه السلام لمَّا شغلته الخيول عن الله أقبل يقطع سوقها ورقابها، وتجرد منها لله، فعوَّضه الله الريح غدوّها شهر ورواحها شهر، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم لمَّا خرج من أهله وهاجر دياره، عوَّضه الله ما لا يخفى والصحابة كذلك، وهلم جرًا إلى غير ذلك من الأنبياء والصالحين، فيا أيها الأحباب إن هذا الزمان معلوم الحال , والطباع يسرق بعضها بعضًا، ولامخلص عنها إلا بالهجرة، وفي ذلك ما لا يخفي من الأدلة كتابًا وسنة، وقد أمرني سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بمكاتبة المسلمين ودعوتهم إلى الهجرة معنا إلى محل يكون فيه قوام الدين، وإصلاح أمر الدارين، ومثلكم لازم أن يحث على هذا الأمر، ويكون من أول المقومين والتابعين، ومعاذ الله أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر لا شك فيه، فمن صدق به واتبعه كان من المقربين، ومن كذب وصدَّ عنه فعليه إثمه وإثم من اتبعه، فإن مات قبل ظهوره فيعاقبه الله على ترك الأمر وصد من يهاجر في سبيل الله ورسوله لتقويم السنة النبوية، ومعلوم أن من لم يتبع هذا الأمر يخذل في الدارين، وذلك بإشارة أعلمني بها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم وعلى الحضرات التي أيدني بالمهدية فيها صلى الله عليه وسلم، شهد جمع من الفقراء الأتقياء الذين لا يُعبأ بهم، ومقامهم عند الله ورسوله لا يخفى، وهم أغبط الأولياء عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأحبهم إلى الله، ولو أقسم أحدهم على الله لأبره كما ورد، وكذلك جمع من المشايخ، ومعلوم أن الأمور تجري على علم الله، وأن الله ينسخ ما يشاء، وعلم العباد لا يزن في علم الله نقطة بالنسبة إلى بحار الدنيا، وله المثل الأعلى كما قال الخضر لموسى عليه السلام، ولا سيما وعلم المهدي كعلم الساعة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت ولم يعين، وقال صلى الله عليه وسلم: كذب الوقاتون، وفيما ذكره محي الدين بن العربي في تفسيره في هذا المعنى كفاية، وقال الشيخ أحمد بن إدريس كذبت في المهدي أربع عشرة نسخة من نسخ أهل الله، وقال: سيخرج من جهة لا يعرفونها، وعلى حالة ينكرونها، وإنى لا أعلم بهذا الأمر حتى هجم عليّ من الله ورسوله من غير استحقاق لي بذلك، فأمره مطاع، وهو يفعل ما يشاء ويختار، وحكم نبيه صلى الله عليه وسلم كحكمه، ولما تكاثرت منه الأوامر والبشائر لي في هذا المعنى امتثلت قيامًا بأمر الله، وقد كنت قبل ذلك ساعيًا في إحياء الدين وتقويم السنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وليكن معلوم عندكم أني من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبي حسني من أبيه وأمه، وأمي كذلك من جهة أمها، وأبوها عباسي، ولي نسبة إلى الحسين والله أعلم، وقد حصلت لي بشائر من سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بتأييد الملائكة الكرام العشرة وغيرهم، وبتأييد آلاف من الأولياء، وبضمانة أصحابي بعد تغسيلهم من الدرن، وأنهم مائتان وأربعون ألفًا، ومثلكم تكفيه الإشارة والتلويح فضلاً عن التصريح، ومعلوم أن المهدي واجبة طاعته على كل مسلم، وأشار لي بمكاتبة المسلمين ودعوتهم إلى الهجرة معنا، فهي مطلوبة جدًّا، ومن الأوامر التي لا يجوز مخالفتها، ولا يلتفت في ذلك إلى أحد، فإن اتبع الأهل فيها وإلا فالصحابة تركوا أهلهم للهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلام.

أمالي دينية الدرس ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دروس جمعية شمس الإسلام (6) (أمالي دينية - الدرس السادس) (19) تنزيه الباري: علمنا من الدرسين السابقين أن هذا العالم ممكن، وأن الممكن لا وجود له من ذاته؛ لأن معنى كونه ممكنًا أن وجوده وعدمه سيان في نظر العقل، ومن ثم احتاج هذا العالم في وجوده إلي من رجح وجوده على عدمه، وأن هذا المرجح لا بد أن يكون واجب الوجود , وهذا هو بارئ الكون المسمى بلسان الشرع الإسلامي (الله جل جلاله) وحيث كان واجبًا فهو مباين للممكنات لا يشبهها، ولا تشبهه في شيء ما، إذ لو شابه شيئًا منها في نحو هيئة أو لون أو مقدار أو تحيُّز أو صفة من الصفات لكان ممكنًا مثلها ولم يكن واجبًا، وقد ثبت بالبرهان أنه واجب، فتعين أن يكون مباينًا للممكنات بأسرها {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) . (20) القِدَم والأزلية: ما ذكرناه آنفًا كافٍ في اعتقاد التنزيه إجمالاً، ولكن العلماء لا يكتفون في هذا المقام بالإجمال، ومن التفصيل الذى جروا عليه ذكر القِدَم والبقاء، والقيام بالنفس، ومخالفة الحوادث، والوحدانية، ذكر السنوسي هذه الأشياء وسمَّاها الصفات السلبية، وتبعه في هذا من جاء بعده، أما مخالفة الحوادث فقد بيناها آنفًا، وأما القِدَم بمعنى الأزلية أي عدم ابتداء الوجود، فهو من لوازم وجوب الوجود؛ لأن الواجب ما كان وجوده لذاته، وما كان كذلك لا يعقل غير موجود ولذلك عرَّفه السنوسي بقوله: (ما لا يتصور في العقل عدمه) فالأزلية داخلة في مفهومه، فإذا قيل مع ذلك أنه حادث لم يكن في الأزل، كان هذا القول بمعنى أنه (واجب لا واجب) وهو تناقض محال بالضرورة 0 (21) البقاء والأبدية: إن دخول معنى البقاء الأبديّ - أي عدم الانتهاء - فى مفهوم الواجب أظهر من دخول معنى القدم؛ لأنه إذا كان فرض العدم في الأزل محالاً ففرض طروئه بعد الجزم بالوجود الواجب محال بالأولى، وتكليف العقل أن يتصور عدم ما يجزم بأنه لا يتصور عدمه تكليف بما لا يطاق، كتكليفه بأن يتصورأن شيئًا ما موجود ومعدوم في حالة واحدة، وهو محال بالبديهة، بل إن العقل ليكاديعجز عن تصوّر طروء العدم على الممكن 0 (22) القيام بالنفس: فسره السنوسي بعدم الاحتياج إلى المخصص والمكان، وهو تفسير باللازم، ومعناه الأصلي الثبوت بالذات، أي وجوب الوجود؛ لأن القيام يطلق في اللغة بمعنى التحقق والثبوت، وقد تقدم البرهان على وجود الواجب واستغنائه بذاته عن المرجح، وقد سمعتم آنفًا البرهان علي قدمه، ومتى كانت ذاته قديمة فجميع ما يجب لها من صفات لا بد أن يكون قديمًا بقدمها لئلا يكون ما لا يقبل الانتفاء (وهو الواجب) منتفيًا في وقت ما، وهو محال فثبت بهذا أنه مستغنٍ عن المخصص والمرجح في ذاته كما هو مستغنٍ عن ذاته، وأما عدم الاحتياج إلى المكان فلأن المكان لا يكون إلا حادثًا، والقديم يستغني بالضرورة عن الحادث، وقد ثبت في الحديث: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان. ولأن المستقر في مكان يجب أن يكون محدودًا بمقدار مخصوص، وذو المقدار لا يكون إلا حادثًا لأن المقادير لا نهاية لها، فيحتاج صاحبها إلى مرجح يرجح له مقداره على سائر المقادير الأخرى كما هو ظاهر، وأما الزمان فهو أمر وهمي كما يؤخذ من كلام الشيخ الأشعري فلا حاجة لنفيه 0 (23) الوحدة ونفي التركيب: قلنا: إن واجب الوجود لا يحويه مكان؛ لأن التحيز عليه محال، ومن لوازم هذا أن لا يكون مركبًا من أجزاء، والبرهان على هذا أنه لو كان له أجزاء لكان كل جزء منها متقدمًا في الوجود علي مجموع الذات؛ لأن الجزء مقدم على الكل طبعًا، فيلزم أن يكون مجموع الذات حادثًا؛ لأنه مسبوق بوجود الأجزاء والمسبوق بالوجود لا يكون إلا حادثًًا، وأيضًا يكون وجوده تابعًا لوجود أجزائه، وتقدم أن الواجب ما كان له الوجود لذاته، وأنه لا بد أن يكون قديمًا، أما كون الواجب لا يكون إلا واحدًا، فسيأتي برهانه في درس آخر إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

فائدة الانتقاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فائدة الانتقاد لايخفى على عاقل أن الانتقاد ذريعة الكمال، فإن الإنسان لإفراطه في حب نفسه يعمى عن كثير من عيوبها مهما كان معتنيًا بتهذيبها وتكميلها، ولذلك يود العقلاء والفضلاء أن يُنتَقدوا من أهل النظر الصحيح ليظهر لهم تقصيرهم فيجتنبوه، بل عد بعضهم أن للأعداء فائدة؛ لأنهم يبحثون عن العيوب الخفية فيظهرونها، فينزع عنها صاحبها، فقال قائلهم: عداتي لهم فضل عليّ ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا والانتقاد نصيحة وذكرى، وفي الحديث الصحيح: الدين النصيحة. وقال عز وجل: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وليس من غرضنا أن نذكر ههنا فوائد الانتقاد والانتفاع بالذكرى تفصيلاً، وإنما نريد أن نجعل هذه الكلمات مقدمة للثناء على حضرة الشاب الأديب الشيخ حسين الجمل الأزهري حيث أحلَّ انتقادنا على قصيدته محل القبول وانتفع بالذكرى وكتب إلينا في ذلك ما نصه: حضرة الفاضل صاحب جريدة (المنار) الأغر: إني أشكر لحضرتكم أن شرفتم قصيدتي بالتنويه عنها في مناركم السَّامي، وعنايتكم بذكر اسمي، وإن سقط الاسم في الطبع، كما أشكر لكم انتقادكم على ما فى القصيدة من ذكر النساء بالحالة التي يخرجن عليها، فإن انتقادكم أرقى مما تخيله فكري من أن السامعين إذا طرق آذانهم وصف حالة النساء حين يخرجن بأنواع الحلي والزينة أخذتهم الغيرة من ذلك، وهبوا إلى منعهن عن الخروج، وعلى الأقل عن التبرج بالزينة حين الخروج، وفاتني أن التحذير إغراء، وأن ذلك الوصف مشوق. فأقدم لحضرتكم أجل الشكر حيث جعلتموني موضع العناية بانتقادكم عليّ، فإن الانتقاد أصل من أصول الإرشاد، وأرجوكم أن تنشروا عني هذا؛ ليُعلم أن الانتقاد إن صادف المحز قبله المنتقد بالارتياح والشكر، فلا زال مناركم الشامخ مشرقًا لسطوع أنوار الرشاد من خلال سطور الانتقاد. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين محمد الجمل وليس الشيخ حسين بأولى من حضرة الشيخ زكي الدين سند رئيس جمعية (مكارم الأخلاق) بقبول النصيحة والانتفاع بالذكرى، فعسى أن يكون أقلع عن تلك الأوصاف والنعوت التي كان يتمادى فيها بذكر أوصاف الراقصات والمسافحات، والله الموفق.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (التعليم العالي) مدارس التعليم العالي في أوروبا وهي المسماة بالمدارس الجامعة تشتمل علي خمسة أقسام، في كل منها قسم للتعليم الاختياري، وهذه الأقسام هي: قسم آداب اللغة، وقسم العلوم الرياضية والطبيعية، وقسم الطب، وقسم الحقوق، وقسم العلوم الإلهية، أما المدرسة الجامعة العثمانية فليس فيها قسم لعلم الطب محتوٍ علي قسم آخر للتعليم الاختياري، وذلك لوجود مدرسة طبية وافية بالحاجة التي تطلب من هذا الفرع من العلم، إدارتها مستقلة عن المدارس الأخرى، وهي تابعة لنظارة الحربية، أما إيجاد مدرسة جامعة للإلهيات وقسم فيها للتعليم الاختياري، فقد حالت دونه صعوبات كثيرة، فإنه كان يستلزم بلا شك إنشاء أقسام متعددة فيها بقدر عدد الطوائف المختلفي الديانات، الموجودين في المملكة العثمانية، وفوق ذلك فإن مثل هذه الأقسام يكون إنشاؤها من العبث؛ لأن كل طائفة من هذه الطوائف تقوم من نفسها بما يلزم لتعليم دينها تبعًا لدرجة معارفها، إذ أنهم في ذلك لهم الحرية التامة. يبقى من الأقسام الخمسة قسم الحقوق، وقسم آداب اللغة، وقسم العلوم الرياضية والطبيعية، وهذه الأقسام يقوم مقامها في تركيا مدرسة الحقوق ومدرسة الإنشاء واللغة، ومدرسة المهندسين. (1) أما مدرسة الحقوق المعبر عنها بمكتب الحقوق، فقد تأسست في عهد جلوس جلالة السلطان عبد الحميد علي أريكة الملك، وذلك بجعل دروس الحقوق الابتدائية ومبادئ علم الاقتصاد السياسي التي كانت تلقى في كلية سراي غلطة عامة , وفي سنة 1882م جدد ترتيب هذه المدرسة بأكمله ترتيبًا بني على قواعد ثابتة، فجعلت مدة الدراسة فيها أربع سنين، ومواد التعليم فيها أصبحت تشتمل علي القانون العثماني (المجلة) والفقه والقانون الروماني، أو القانون المدني، والنظامات الرومانية من الوجهة التاريخية، وقانون التجارة العثماني، وقانون المرافعات في المواد المدنية والتجارية، وقانون العقوبات والمرافعات الجنائية، والقانون الإداري، وعلم الاقتصاد السياسي. (2) ومدرسة الإنشاء واللغة المسماة (بمكتب الأدبيات العالية) يعلم فيها هذه الدروس، وهي: إنشاء اللغات العربية واليونانية واللاتينية، والمنطق والحكمة، وعلم الآثار القديمة، والتاريخ العام، وحكمة التاريخ. (3) ومدرسة المهندسين المسماة بمكتب طرق المعابر التي كانت من قبل ملحقة بكلية سراي غلطة باسم مدرسة المهندسين الملكية (مكتب المهندسين الملكي) قد فصلت من هذه الكلية في أول سنة لجلوس جلالة السلطان على كرسي الخلافة، وصارت على ما هي عليه الآن، ومدة التعليم فيها أربع سنين، كما في بقية الأقسام. من المدارس الخصوصية يلزم أن تميز المدارس التي تتعلق بنظارة المعارف، وتكون هي والمدرسة الجامعة معاهد للتعليم العالي للحكومة، والمدارس الخصوصية في الحقيقة متعلقة بالنظارات المختلفة، فالأولى منها عددها ستة: مدرسة الطب الملكية (مكتب الطب الملكي) في إستامبول التي فصلت منذ سنة 1882م من مدرسة الطب الشاهانية، وجعلت تابعة لنظارة المعارف العمومية، التلامذة الذين يتخرجون من هذه المدرسة حائزين لشهادة دكتور, لهم الحق في نوال الرتبة الثالثة، وفي التوظف بوظيفة طبيب في الدوائر البلدية 0 ثم إذا احتاجت نظارة الحربية والبحرية لأطباء آخرين غير المتخرجين من المدارس التابعة لها وجب عليها أن تأخذ من متخرجي هذه المدرسة بالأولوية. ثانيًا وثالثًا ورابعًا مدارس المعلمين الثلاث، وهي دار معلمي الصبيان، ومنها يخرج معلمو المدارس الابتدائية الدنيا، ودار المعلمين الرشدية، وفيها يتخرج معلمو المدارس الابتدائية العليا ودار المعلمات التي يتخرج منها البنات المعدات لوظيفة التعليم. خامسًا مدارس الألسن التي أسست بإرادة سنية أصدرتها جلالة السلطان عبد الحميد في شهر أكتوبر سنة 1883م لتخريج مأموري ومستخدمي الباب العالي ونظارة الخارجية الذين لم يتجاوز سنهم الخامسة والعشرين، ومدة التعليم فيها خمس سنين يتعلم الطالب فيها نحو اللغة الفرنساوية، وفن التزام طبع الكتب والجرائد باللغة الفرنساوية، والترجمة من التركية إلى الفرنساوية، وبالعكس، واللغات التركية والعربية والفرنساوية وتعليم هذه الثلاث إجباري، ثم اللغات اليونانية والأرمنية والأنكليزية والألمانية والروسية، وتعليمها اختياري. مستخدمو مصالح الحكومة والإدارة العمومية هم الذين لهم الحق دون غيرهم في دخول هذه المدارس، بل إن للطلبة من الأجانب أن يدخلوها أيضًا إذا دفعوا خمسة وعشرين جنيهًا مجيديًّا في السنة، والشهادات التي تعطى من المدرسة المذكورة تخول حاملها حق التوظف في مصالح الحكومة المختلفة، وفي أقلام الترجمة. سادسًا مدرسة الفنون الجميلة التي أسسها جلالة السلطان عبد الحميد في سنة 1883م في كلخانة (إستامبول) بجانب المتحف الملوكي العثماني التابعة لإدارته، وهي تحتوي على جملة أقسام أحدها لتعليم فن التصوير اللوني، والثاني لفن التصوير المادي، والثالث لفن النقش علي المعادن والأحجار، والرابع لفن العمارة، وإدارة هذه المدرسة هي على مثال إدارة مدرسة الفنون الجميلة في باريس من الوجهة النظرية علي الأقل. قد كانت المملكة العثمانية فيما سبق تزهو بفنونها، لكنها وإن كانت دائمًا قادرة علي مباراة الغرب بآدابها وعلومها التي هي مساوية له فيها إلا أنها ليس حالها كذلك الآن من حيث الفنون الجميلة، فقد كانت العمارة والتصوير المادي والتصوير اللوني سقطت في هاوية التلاشي، أولئك المعامير المهرة الذين ندين لهم برفعهم القواعد من جامع السليمانية وجامع السلطان أحمد والجامع الجديد، وغيرها التي تباهي وتفاخر أعظم الأبنية والآثار في أوروبا، وأولئك المصورون الماديون الذين أبدعوا بمآحيهم كل الأشكال الغريبة التي كأنها أساور حجرية، وأولئك المصورون بالألوان الذين زينوا الأواني الصينية بالصور البديعة، وحلوا السقوف بتلك الأشكال الجميلة التي يهتز لها الأجانب عجبًا واستحسانًا، جميعهم ذهبوا في بطون الأرض، ولم يتركوا أثرًا من حياتهم فيمن خلفهم، قد ابتدأت تركيا من اليوم الذي رقى فيه جلالة السلطان عبد الحميد عرش المملكة أن تتحرك من خمودها الصناعي، وتنفض عن نفسها غبار الكسل في تعاطي الفنون، كانت جميع الآثار القديمة التي تكتشف في الأرض العثمانية ترسل فيما سبق إلى البلاد الأجنبية لتكون زينة لمتاحف أوروبا، وبهذه الواسطة يتحلى الآن متحف برلين بالأثر الجليل المسمى جيجانتوماخيا، ويتحلى متحفا لوندره وباريس بآثار مدينة نينوى، أما الآن فقد انكفت أيدي السارقين عن الحكومة العثمانية، فلم يبق في وسعهم أن يسرقوا ما هو ملك حلال لها وأصبح متحف القسطنطينية جديرًا باسمه يبعث زائريه على الإعجاب بما يحويه من النفائس كقبر إسكندر الأكبر الذي اكتشف في صيدا من خمس سنين، وهو قبر لا مثيل له. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

طائفة من الأخبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طائفة من الأخبار شرف بهذا اليوم بالعز والإجلال الساعة أربعة بعد الظهر على الطائر الميمون للعاصمة سمو أميرنا العباس عائدًا من بور سعيد باليُمن والإقبال والمهابة والكمال , حيث شرف الاحتفال بإقامة تمثال دولسبس مؤسس القنال، وقد كان الاحتفال بقدومه في محطة مصر وسائر المحطات التي مر عليها جنابه السامي بالغًا حد الغاية، ولما حل ركابه الكريم في محطة مصر أطلق له واحد وعشرون مدفعًا، ثم سار بين صفوف الجند والناس إلى سراي عابدين العامرة، حيث استراح هنيهة وعاد إلى سراي القبة العامرة محفوظًا بالهيبة والجلال. *** نهار أمس الواقع 17 نوفمبر سنة 1899م تم الاحتفال ببورسعيد بكشف الستار عن تمثال فردينان دولسبس فاتح ترعة السويس برئاسة سمو الخديوي العزيز، وحضور آلاف من الناس، ومعظمهم من مدعوي الفرنساويين والإنكليز الذين حضروا من أوروبا على باخرة مخصوصة؛ لأجل الاحتفال بذلك التمثال الذي أقامته الشركة على ضفاف الترعة ببور سعيد تذكارًا لفاتحها العظيم في أول حياته، الساقط من حالق مجده في شيخوخته بسبب إخفاق مسعاه في ترعة بناما، وما أضاع فيها من الأموال العظيمة دون وصوله إلى فتحها، كما فتح ترعة السويس التي ساعدته فيها أموال مصر ورجالها، وليست أمريكا كمصر، ولا يستوي القوي والضعيف. وكان شروعه في حفر هذه الترعة في 25 أبريل 1859م بعد استحصاله على امتياز من المرحوم سعيد باشا خديوي مصر يومئذ مؤرخ في 5 يناير سنة 1856م وذلك أيضًا بعد تصديق الباب العالي عليه عقب أمور ومخابرات حصلت وقتئذ بين الباب العالي وحكومتي فرنسا وإنكلترا وخديوي مصر، وهي أمور يطول شرحها، وكفى بأنها أفضت إلى ما كان يحذره يومئذ على مصر كثير من رجال الآستانة العلية من احتلال دولة أجنبية في هذا القطر، وقد حصل وسقط بيد الإنكليز الذين كانوا من أشد المقاومين لحفر هذه الترعة المحذرين للدولة عاقبة الأمر، وما تغني النذر. وقد نشرت جريدة الأهرام الغرَّاء بقلم سعادة صاحبها ملخصًا عن كيفية الاحتفال، أحببنا نقله لحضرات القراء وهو: بَرَحنا القاهرة الساعة الحادية عشرة على قطار خاص أعدته شركة القنال لمدعويها، فوصلنا هذه المدينة الساعة الخامسة مساءً، وقد شهدنا جميع المحطات مزدانة بالرياحين والرايات المصرية احتفالاً بمرور سمو الأمير المحبوب، ولو جعلت شركة القنال السفر من مصر الساعة التاسعة، ومن بورسعيد الساعة الحادية عشرة غدًا لكان رأيها أصوب، وقد رأينا من النظام في محطة هذا الثغر وفي سائر المدينة ما دل على شدة اهتمام سعادة محافظها النشيط الفاضل، أما الجناب الخديوي فقد شرف البلدة الساعة الثامنة مساءً أمس، وكان في خدمة سموه من الإسماعيلية حضرة المحافظ الذي نال من جنابه العالي كل رعاية، وقد قوبل سموه بمظاهر الاحتفال والاحتفاء اللذين لا مزيد عليهما، وكان ينتظر تشريفه جميع أهل المدينة وفي مقدمتهم حضرات النظار ورؤساء شركة القنال، وكان حلوله الشريف في يخته المحروسة، وفي الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم (السابع عشر) حضر المدعوون مئات وألوفًا إلى مدخل البوغاز حيث أقيم تمثال المرحوم دي لسبس، وقد ذكَّرنا هذا الموقف احتفال صاحب التمثال بفتح البوغاز من ثلاثين سنة في مثل هذا اليوم، كما ذكَّرنا الاحتفال الذي دعا إليه إسماعيل باشا ملوك أوربا وقياصرتها وأمرائها وعشرات الألوف من الأجانب والوطنيين، أما اليوم فأصحاب الدعوة هم أصحاب أسهم القنال المتمولون وأرباب الأموال ملوك هذا العصر، ومما أذكرنا إياه هذا اليوم أيضًا ما كانت عليه مصر من استقلال إدارتها وسلامة حقوقها الأهلية حين ضافها ملوك أوربا وأمراؤها، وما وصلت إليه الآن حيث لا يضيفها الأجنبي، بل يمتلك ناصيتها إدارة وسياسة ومالاً , وقد كان في ساحة الاحتفال نحو خمسة آلاف نفس وحواليه مثلها من سكان المدينة، وفي مقدمة المدعوين حضرات مختار باشا والأمراء والقناصل، وكبار الموظفين والأعيان، وعند الساعة التاسعة أطلقت المدافع تبشيرًا بتشريف سمو الخديوي، فقابله أعضاء شركة القنال، وفي مقدمتهم حضرة البرنس دارنبرغ الذي شكر لسموه تنازله لتشريف الحفلة، فصافحه سموه وسائر الأعضاء، ثم تلا خطابًا مختصرًا ولكنه آية بالبلاغة، وقال فيه: إن صاحب هذا التمثال حقق ماعدَّه غيرُه أحلامًا، ففتح البوغاز، ووصل البحرين الأبيض والأحمر، ووسع نطاق الحضارة والتجارة، وقرب بين الشرق والغرب، وفتح بابًا رحيبًا للمصالح العامة العظيمة، فاستحق ثناء الإنسانية والمدنية، ثم قال أيده الله: وإني أشكر لحضرات رجال الشركة إقامة هذا التمثال، كما أشكر لهم دعوتهم إياي لرفع الستار عنه، فصفق الحضور تصفيقًا شديدًا مكررًا ورفع الستار بين التهليل وضجيج الاستحسان، فانبرى البرنس دارنبرج رئيس مجلس إدارة الترعة، وأثنى على سموه لتنازله وتشريفه الحفلة جريًا بذلك على خطة أجداده الكرام، وتكميلاً لما لهم من الأيادي البيضاء على أعظم مشروع قام به الناس في سبيل الحضارة والاقتصاد والعلم والمدنية، وقال: إن هذا القنال الحافظ لمصالح أوروبا والشرق سيكون أبدًا دوليًّا؛ لكثرة اشتراك المرافق الأوربية فيه، وإن مصر هي الحارسة له، وختم خطابه المرتجل بمدح سموه وتكرار الحمد لتشريفه، فقوبل كلامه بالتصفيق والاستحسان، وعندما انتهى من هذه الكلمات الموجزة استأنف الكلام وألقى في نحو ثلاثة أرباع الساعة خطبة شرح فيها تاريخ المشروع، وأبان ما كان للخديويين أجمع من الفضل فيه، وعدد مناقب دي لسبس، فقال: إنه كان ثابتًا في رأيه، حازمًا في إنفاذه، مُجِدًّا في تحقيقه، ووصف تغلبه على جميع المصاعب التي قامت دونه في إنكلترا وغيرها حتى اضطر إنكلترا أن تكون معضدة للقنال بعد إتمامه بقدر ما كانت تعارضه قبل ذلك، وهنا توسع في ذكر الحوادث التي طرأت على صاحب التمثال في مسألة بناما، وقال: إن هذا القنال نفسه سيفتتح يومًا، وهذا اليوم قريب، فتكون لدلسبس عائدة الفضل في أحداث القنالين، وأثبت أنه لم يخطئ بما فعله في بناما، ولكن الحوادث غلبت عزيمته، ثم امتدح شارل دي لسبس لاشتراكه مع والده في المشروع، وكان لهذه الخطبة أحسن وقع فصفق له كثيرًا، ثم خطب الكونت دي فوكيه العضو في المجمع العلمي والفيلسوف الشهير خطابًا فلسفيَّا تاريخيَّا، أظهر به مجد دي لسبس كمؤرخ وجغرافي، وسياسي واقتصادي، واستمر في خطابه نصف ساعة يتكلم ببلاغة وفصاحة تشهدان بعلمه وبفضله، وكان آخر من تكلم في الجمع حضرة المسيو شارل دي لسبس، فشكر سمو الخديوي لحضوره وقال: إن والده لم يكن إلا منفذ إرادة أجداده الذين مرجع الفضل إليهم في أعظم مشروع تمّ في القرن التاسع عشر، ثم شكرلأعضاء مجلس الشركة قيامهم بهذا الاحتفال، وأثنى على الحضور، ثم نزل عن منبر الخطابة بين الاستحسان العام، وعند منتصف الساعة العاشرة انتهت الحفلة، فودع الخديوي بالإجلال والتعظيم. *** مساء الخميس الماضي ورد تلغراف من مرسليا يبشر بقيام صاحبة العفة والعصمة دولتلو البرنسس نظله هانم كريمة المرحوم مصطفى فاضل باشا قادمة من البلاد المغربية، حيث قابلت مولاي عبد العزيز حاكم المغرب الأقصى، ولقيت منه كل حفاوة وإكرام لائقين بمقامها العالي. وقد توجه بهذا اليوم للإسكندرية عزتلو عثمان بك عبد الحميد العبادي وصحبته رجال دائرة البرنسس المشار إليها؛ لأجل استقبال ذاتها الكريمة، ولقد علمنا أنه قد كان لتشريف المومأ إليها لبلاد المغرب حسن الوقع عند الحاكم المشار إليه ورجال دولته، وعموم سفراء الدول الفخيمة، والحق يقال إنها لأميرة يفتخر بها، وهي أول أميرة مسلمة شرقية زارت تلك البلاد، ولقد اتصل بنا أيضًا أن دولتها لما وصلت إلى البلاد الأسبانية وعاينت ثمة آثار الأندلس العربية الإسلامية تحركت عندها عواطف الأسف على تلك الأمة العظيمة، فلم تتمالك أن استرسلت في البكاء، وأنشدت أبياتًا ترثي بها تلك الأطلال وأهليها، متى وقفنا على الأبيات نزين بهم صفحات المجلة، إن شاء الله. *** نشرت جريدة (أقدام) التركية الغرَّاء مقالة مسهبة عن أحوال الأفغان بإزاء الروسية والإنكليز، وتكلمت عما وصلت إليه هذه الإمارة من القوة والاستعداد لكل طارئ يطرأ عليها، أو مهاجم يحاول مس استقلالها، ومما قالته بهذا الصدد: إن قوة الأفغان العسكرية قد بلغت أقصى درجات الكمال بحيث إن المعامل التي أنشأها الأمير عبد الرحمن لعمل السلاح هناك أصبحت تصنع أجود أنواع السلاح المستعمل عند الدول الأوربية، كمدافع كروب، ومكسيم من آخر طرز، وبنادق موزر، ومارتين كذلك، وغير ذلك من الآلات النارية المجربة، وإن لدى هذا الأمير جيشًا عاملاً على أحسن نظام وترتيب يبلغ عدده 500 ألف مقاتل يمكن أن يزاد وقت الحاجة إلى مليون ونصف، وإن ذلك الأمير الجليل دائب في تعزيز المعاقل والحصون، وتشييد القلاع على حدود بلاده مما يلي تركستان والهند وبينما كنا نقرأ هذه الأسطر في تلك الجريدة إذ جاءنا في برقيات (روتر) أن جريدة (التيمس) علمت من أخبار بطرسبرج أن الاستعداد الأخير في روسيا يراد به الزحف على (هرات) بحجة القلاقل والفتن التي تتوقع عند وفاة أمير أفغانستان، وأن الحكومة الروسية أتمت السكة الحديدية بين مرو وكشك وأقامت الحصون والمعاقل المنيعة في كشك وكمبرلي وجعلت هناك عدة فرق من الجيش الروسي و15 مدفعًا، وأن في كشك الآن كل ما يلزم لإيصال السكة الحديدية إلى هرات حتى العربات اللازمة لنقل المدافع. هذا، وظاهر أن روسيا تغتنم فرصة اشتغال إنكلترا بحرب الترنسفال في هذا الأمر، فإنها هي تتنازع معها النفوذ في تلك البلاد، بل إن غرض روسيا من الزحف على أفغانستان ما وراءها وهوالهند , والبلاد الأفغانية مجنّ أمام وجه الهند بالنسبة لروسيا فلا يتسنى لها إصابتها إلا بعد سقوط المجنّ أو كسره، وما سَاسَ إمارة أفغانستان أحدٌ كالأمير عبد الرحمن فإنه بدهائه وحزمه أمكنه أن يحفظ استقلال بلاده وكرامتها بين روسيا وإنكلترا، وهما أقوى دول الأرض وأدهاها، وإن البلاد التي تحفظ برجل قد تذهب بذهابه، ولقد اجتهد الأمير عبد الرحمن بالقوة الحربية والسياسية، ولكنه قصر بترقية المعارف، ولم ينظم في بلاده حكومة شوروية تأمن بها بعده الثورات والفتن التي هي من سجايا أهل تلك البلاد، ومَن لنا بمَن ينادي بصوت جهوريّ بين ظهراني تلك الأمة أن أدنى مظهر من مظاهر الافتراق واختلاف الكلمة بعد وفاة أميرها الجليل يؤدي إلى ضعف قوتها القائمة الآن باجتماع الكلمة، ومتى ضعفت تلك القوة هان على الروس تدويخ بلاده وسلب استقلالها، وربما أدى ذلك إلى اقتسام المملكة الأفغانية بين الدولتين الروسية والانكليزية، فنسأل الله تعالى السلامة لهذه المملكة الأفغانية ولسائر الممالك الإسلامية، آمين. *** أنبأتنا جرائد سورية عن وصول وفد علمي من الآستانة العلية إلى دمشق مؤلف من تسعة أشخاص من العلماء بقصد إرسالهم إلى لواء الكرك ومعان؛ ليبثوا بين العربان الضاربين في تلك الأنحاء مبادئ الدين، ويرشدوهم إلى سبيل السعادة، وهي مأثرة جميلة من مآثر مولانا أمير المؤمنين - أيد الله دولته وأبد صولته - وحبذا لو أن جلالته أصدر إرادته السنية بانتخاب هؤلاء العلماء مم

عزاء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عزاء نقدم التعزية إلى أمير الأمراء وسيد النبلاء سيدي محمد الجلولي وزير القلم والاستشارة في حاضرة تونس بوفاة نجله الأصيل النبيل السيد المختار تغمده الله تعالى بالرحمة والرضوان، وألهم والده الصبر الجميل على هذا الرزء العظيم، والله مع الصابرين 0

تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية يعلم القرَّاء أن الحكومة عهدت إلى فضيلة الأستاذ الكبير، والعلَم الشهير الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بأن يضع تقريرًا فيما يراه من طريقة إصلاح المحاكم الشرعية؛ لما تعهد في فضيلته من كمال العلم والدراية بأحكام الشرع الشريف وحسن الإدارة والنظام، وأن الأستاذ ابتدأ باختبار المحاكم، واكتِناه شؤونها، فطاف على محاكم الوجه البحري وفتشها بالتدقيق حتى أحاط بها خُبرًا، وزار المحكمة الشرعية الكبرى في العاصمة وعرف أحوالها، ثم وضع تقريره قبل الطواف على محاكم الوجه القبلي الذي هو عازم عليه؛ لأن وضع القواعد العامة للإصلاح لا يتوقف على الاستقراء التام، وقد جاء هذا التقرير كافيًا بالغرض منه، وافيًا بما وضع لأجله، لم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وهو مبتدأ بمقدمة في وظيفة المحاكم الشرعية واختصاصها، وما لأعمالها من التأثير في الهيئة الاجتماعية، والتربية القومية، وفي حالتها الآن، وبعدها كلام مفصل أحسن تفصيل عن الكتَبة والقضاة والحُجَّاب والدفاتر، وسائر الأعمال، مبين فيه طرق الخلل مع بيان المخرج منها، ومن أهم ما جاء فيه- أو أهمّه- بيان أن كمال الإصلاح يتوقف على عدم التقيد بمذهب الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - في سائر الجزئيات؛ لأن اختلاف الفقهاء لا يكون رحمة إلا إذا أخذت الأمة من مجموع أقوالهم مايوافق مصلحتها العامة، وسنبين هذا وما اشتبه منه على بعض الجرائد بالأدلة والبراهين، وبمثل هذا كان إصلاح التقرير إسلاميًّا عامًّا لا مخصوصًا بالمحاكم، وإننا ننشره تباعًا لما فيه من الحكم والفوائد، ولما نعلم من شغف القرَّاء بالوقوف عليه وهو: ... ... ... ... (المقدمة) تدخل المحاكم الشرعية بين الرجل وزوجته، والوالد وولده، والأخ وأخيه، والوصي ومحجوره، وما من حق من حقوق القرابة القريبة والبعيدة إلا ولها سلطان السيطرة عليه والقضاء فيه، وإنها لتنظر من ذلك في أدق الشؤون وأخفاها، ويسمع قاضيها ما لا يُسمح لأحد سواه أن يسمعه سوى مايكون من الزوج لزوجته، أو الزوجة لزوجها، فكما أنها هياكل عدل هي كذلك مستودع , سر وأي سر! ! فمنزلتها من نظام الأسر (العائلات) تلي منزلة المحبة وروابط القرابة، فإذا تراخت تلك الروابط، ومرضت المروءات تعلَّق حفظ نظام البيوت بالمحاكم الشرعية. وللشريعة الإسلامية في ذلك دقائق لا يسهل الالتفات إليها إلا على من أحاط علمًا بكليات أحكامها، ووقف بالبحث الصحيح على مقاصدها، ووصل إلى أدق معانيها، وكان من العلم بلغتها في منزلة يعرفها له أربابها، ولن يكون الرجل كذلك حتى يأخذ الشرع من أهله، وتكون تربيته على السنة الدينية الصحيحة، ثم لا يكون القاضي حافظ نظام الأسر والبيوت بعد الإحاطة بأحكام الشرع حتى يكون للشرع وأحكامه سلطان - أي سلطان- على نفسه. ترى أغلب أهل الطبقة الدنيا وعددًا غير قليل من أهل الطبقتين الوسطى والعليا قد ودَّعوا عواطف الصهر والقرابة، ولجأوا في علائقهم البيتية إلى المحاكم الشرعية، فمن النفقة والسكنى، وراحة الزوجة من منازعة أهل الزوج، ومن مؤنة وقيام بشؤون الأولاد وتربيتهم إلى سن معلوم، ومايلزم لذلك كله مرجعه الآن إلى المحاكم الشرعية عند من ذكرنا، ولا يخفى أن الشعب إنما هو مؤلف من البيوت التي تسمى عائلات، وأساس كل أمة عائلاتها، لضرورة أن الكل إنما يقوم بأجزائه، ولما تعلقت مصالح البيوت في أدق روابطها بالمحاكم الشرعية، كما هو الواقع اليوم تبين مقدار حاجة الأمة في صلاحها إلى صلاح هذه المحاكم وظهر أن منزلتها من بناء الحكومة المصرية منزلة الركن الذي لو ضعف ظهر أثر ضعفه في البنية بتمامها. إذا ظهرت هذه المحاكم في مظهرها الديني، وسارت سيرتها الشرعية القويمة، أدخلت أصول النظام في أصغر البيوت، فضلاً عن أعلاها، وأعادت بالعدالة الأبوية ما فقده الناس من نظام الألفة، وقد رأينا أن الرجل يدخل المحاكم الأهلية مخاصمًا فيخرج منها محاميًا، فأحرى بمن يقوم بين يدي قاضٍ ينطق بالعدل الإلهي أن ينقلب وفي نفسه أثر من خشيته. للمحاكم الشرعية- بعد ما تقدم- نظر في حقوق الميراث وأصول الأوقاف والاستحقاق فيها وإليها وحدها الفصل في ذلك، والمخاصمات في هذه الطائفة من الشؤون ليس عددها بقليل، وكم رأينا من قضايا أُوقف النظر فيها أمام المحاكم الأهلية حتى يقضي الحاكم الشرعي فيما بُني عليه الحق المتنازع فيه، هذا إلى ماعُهد إلى تلك المحاكم من تحرير العقود الرسمية في كل باب من أبواب المعاملات ولا تزال ثقة الناس بها أشد من ثقتهم بالمحاكم المختلطة، ويعدون التسجيل في أقلام كتاب المختلطة ضربًا من التساهل يأتيه من لا يريد بناء أمره على أساس متين. مهما همَّ قوم بتضييق دائرة اختصاص هذه المحاكم وجدوا عقبات في طريقهم وصعب عليهم المنال، ولئن نجحوا فلن يستطيعوا أن يضعفوا من حاجة الناس إليها، فمن الحق أن يشتكي الناس من الاعتلال الذي عرض لها، ومن الحق أن ارتفعت أصواتهم بطلب الإصلاح، ومن العدل، بل من الواجب الذي لا تبرأ الذمة إلا بأدائه أن تسمع الحكومة شكوى الكافة، وأن تنهض لتخفيف آلام الشاكِين، وتدخل إلى الإصلاح من أبوابه , وجزى الله من اهتمَّ بشأن هذه المحاكم خيرًا. وشكوى الناس تنحصر في صعوبة المعاملة مع الكتاب، وطول الزمن على القضايا، خصوصًا إن كانت مهمة، وخفاء طرق المرافعات حتى على العارفين بأحكام الشريعة فضلاً عن سائر العامة وهوى القاضي أو ضعف يقظته، وشكوى القضاة تنحصر في رداءة مقامهم والتقتير عليهم في المرتبات وسائر النفقات التي لا بُدّ منها، والنظام يشكو من التساهل في المحافظة عليه. إذا ذهبت إلى ديوان مديرية، وأردت أن تعرف محل المحكمة الشرعية في ذلك الديوان، فابحث عن أردأ محل فيه تجده هو مكان المحكمة الشرعية، فإن كانت المحكمة منفصلة عن المديرية، فقلما تجدها إلا في محل لا يسع عمالها ودفاترها، وذلك حرصًا على تخفيف الأجرة بقدر الإمكان، ومن محاكم المراكز ما تراه في بيت خرب , ومحل القاضي والكتبة يثور التراب من أرضه، فإذا رشوه بالماء انقلب وحلاً، وترى فيما ترى محكمة مديرية تهدَّم بعض بنائها، وظهر وهنٌ في سقف السلم والطريق الموصل إلى بعض مرافقها يمر الذاهب منه على جذع نخلة غير آمن خطر السقوط. وترى في أكبر محكمة في البلاد أن أربعة عشر كاتبًا مع مَكاتبهم من الخشب أمامهم في محلين سعة كل منهما لا تزيد عن أربعة أمتار في ستة، فيكون الكاتب ومكتبه في أقل من متر مربع، ومما يروى من المهانة أن أحد مأموري المراكز طرد قاضيًا من محل محكمته، أما الفرش والأثاث فقلما تدخل محكمة- خصوصًا من محاكم المراكز - ولا تشمئز نفسك لرثاثة الأثاث ووساخته، والكراسي التي توجد في هذه المحاكم هي من الصنف المعروف الأخضر الذي لا يوجد له أثر في ما نعرف في دواوين الحكومة عاليها ودانيها إلا في هذه المحاكم الشرعية، وإذا وجدت عشرة كراسي مثلاً، فستة منها لا تخلو من كسر وانتقاض فتل. وحدثنا بعض القضاة أنه دخل محكمة مركز فوجد فيها كرسيًّا واحدًا يجلس عليه القاضي، ورأى الكتبة يجلسون على مقاعد من صناديق الغاز، وكيف لا تتألم النفس ويطول الأسف عندما ترى حالة المحل الذي يستريح فيه سماحة قاضي محكمة مصر الكبرى , من تمزق الفرش ورثاثته، وكذلك حال بقية أماكن الكتبة والقضاة فيها، ثم يتبع هذا التقتير في جميع المواد حتى إنك لترى بعض المضابط في محاكم المراكز قد طمست سطورها من رداءة الحبر، فإذا سألت عن ذلك قيل لك: إن الحبر يشتريه الكتبة من مالهم الخاص عند نفاذ الحبر الذي تصرفه لهم المديرية وإبائها صرف غيره، ولاتسل عن المكاتب ورثاثتها وحالتها من القدم وقبح التركيب، وماعليها من طبقات الوسخ. أليس لعمال هذه المحاكم حق أن يسقطوا من نظر أنفسهم، وأن يظنوا أنهم ليسوا واقعين تحت نظر الحكومة وإلا لما سهل عليها تركهم على هذه الحالة، ولا شئ يضر بعمل الإنسان مثل اعتقاده في نفسه الهوان والضعة، أليس هذا يسقط مقام العدالة من أنفس المتقاضين، ويقلل من احترامهم لما تصدره هذه المحاكم من الأحكام كما هو جارٍ الآن، يجب علينا أن لا ننسى أن لحالة المكان أثرًا في أنفس الداخلين فيه، وأن الحكومات المتمدنة نفسها تغالي في إقامة هياكل العدل على قواعد المهابة والإجلال، علمًا منها أن المَلكَ مَلِك بعرشه، وأن العرش برياشه وفرشه. فالواجب إذًا على الحكومة أن تُدِخل المحاكم الشرعية في كل رسم ترسمه لبناء مسكن من مساكن الإدارة، ففي المدريات تفرض للمحاكم الشرعية موضعًا فيه من الأماكن مايكفي للجلسات وعمل القضاة منفردين بعد الجلسات وقبلها، وللكتبة والدفتر خانة، والمخازن ونحو ذلك مما يلزم للمحكمة، وكذلك يكون الأمر في المراكز، وما بني بدون أن يراعى فيه ذلك يجب أن يتمم مع الإسراع بقدر الإمكان، ثم يُنظر في تلك المحاكم جميعها، وتُوفَّى ما يليق بشأنها من حيث هي جزء من بنية حكومة عظيمة جديرة بالاحترام في جميع شؤونها حتى يرتفع شأن الموظفين عند أنفسهم وعند الناس، ويقتنع المتقاضون أن القضاء الشرعي ليس في نظر القوة المنفذة بأحط شأنًا من غيره، فيخضعوا لأحكامه، وفي ذلك كرامة الحكومة ونظامها. ويتبع الكلام في المساكن، الكلام في الكتبة؛ لأنهم أظهر عضو في جسم المحكمة وعلاقاتهم بالمتخاصمين والمتعاقدين، وطلاب الصور وغيرهم تتقدم على صلة الناس بالقاضي كما هو معلوم. ليس من السهل أن يقف الإنسان في زمن قليل على سيرة كل كاتب، وغاية ما يقال: إن الشاكين منهم أكثر من الراضين عنهم، والذي يتبين للناظر في أمرهم هوأن أكثرهم لا يُعرف كيف تعلم صناعة الكتابة؟ ولا أين كانت تربيته؟ وليس لانتخابهم قاعدة معروفة، وكثير منهم كانوا تلامذة عند سلفهم، ثم عين في الوظيفة لأنه تمرن على عملها، ومنهم من يكون السبب في تعيينه فقره لاغير، ومنهم من يكون له مزية سوى الفقر، ولكنها ليست مما يزيد في معرفته ولا حسن سيرته، أما معرفتهم فناقصة، وقليل بينهم الكفؤ لعمله، وإنما يحفظون ألفاظًا وعبارات رديئة التركيب، مشوشة التأليف، يظنون أنها ملك موروث، ولايمكن أن يقوم مقامها مايؤدي معناها، والناظر في العقود والمرافعات يعرف مقدار ما عليه هؤلاء العمال من القصورعلى تفاوت بينهم، ويكفي في هذا الباب أن أحد كبراء الحكومة لم يستطع أن يفهم عقدًا عقده لنفسه إلا بواسطة أحد مفتشي الحقانية حيث فسره له، وأوضح معناه، فما ظنك بحال غير المتعاقدين. ولكنك ترى في مُرتباتهم ما يُلتمس لهم معه العذر، فالكاتب الذي يقيم ثمانيَ وعشرين سنة أو أكثر يتردد بين مائتي قرش وثلثمائة وخمسين، وهو كاتب أول المحكمة، ولا يطلب لنفسه معيشة أرقى من هذه، لايمكن أن تكون معارفه أرقى مما هو عليه إلا أن أن يكون زاهدًا من الزهاد، نعم لا يوجد في مرتبات الكثير من الكتبة ما ينتهي إلى ألف قرش إلا في محكمتي مصر والإسكندرية وفي محكمة مصر مرتبات أرقى من ذلك للكتبة ما بين العشرة والأربعين، ولكن لا توجد قاعدة للترقي بحيث يتناوب هذه الوظائف ذات المرتبات العالية رؤساء الكتاب في المديريات والمحافظات، بل حفظت الوظائف لأشخاص معينين متي دخلوها خلدوا فيها، وكذلك حا

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (13) من هيلانة إلى أراسم في 28 مارس سنة -185 خرجتُ بالأمس للتنزه أنا والسيدة وارنجتون راكبتين عجلة مكشوفة، سلكت بنا المهيع الذي يبتدئ من بنزانس ويلتف حول الخليج المسمى بخليج الجبل في شكل نصف دائرة عظيمة كحذاء الفرس، فما أبهج ما رأيته وأجمله! ! لاتحسبن أن أول شيء أمال ذهني ونبه فكري هو البحر الزاخر أو شواطئه المرصعة بالصخور، أو حركة أمواجه المتلاطمة المتعاقبة في تلاشيها على رمل الطريق، كلا إن الذي استوقف نظري هو قطعة من الصوان يعلوها بناء كالدير أو القلعة الحصينة، يسميها الإنكليز بالجبل، وهي بارزة على يسار بطن الخليج، ولذلك نسب إليها فقيل له خليج الجبل، أخالني رأيت هذه الضخرة بما فوقها من الأبراج الصغيرة في منام لي، أو في وقعة من وقعات الكابوس عليّ. سألت السيدة وارنجتون بصوت متقطع من الرعشة: مَن هذا الشبح الحجري فأجابتني مترددة لِمَا رأته من حالتي بقولها: هذا هو جبل القديس ميكائيل عندنا، فلما سمعت منها هذه الكلمة أحسست بأن كل مافي جسمي من الدم قد جزر عائدًا إلى قلبي، فلَمَحت ما صرتُ إليه من الاضطراب، وعَرَضت عليّ الرجوع إلى المنزل، فصحتُ: كلا، إنه لا بد لي من الذهاب إليه، وقد اضطررنا من أجل ذلك إلى الطواف حول الخليج والذهاب إلى مرازيون. لما أن صرنا حِذاء الجبل كان البحر في إبان جزره، وكانت هذه الصخرة الصوانية على شكل شبه جزيرة لانحسار الماء عن بعض جهاتها، بعد أن كانت جزيرة كاملة بعض ساعات النهار، سلكنا للوصول إليها شِعبًا رمليًّا موحلاً يكتنفه من الجانبين قطع من الصخور مغطاة بالطحلب والعلعي [1] المبللة، وتيسر لنا به أن نجتاز البحر يبسًا، فبما كان يعرض لنا من تلك القطع الصخرية كنا كأننا نمشي بين أطلال، وكنت كلما جدّ بنا السير أزداد دهشة وارتياعًا لتشابه ذينك الجبلين المُتَّحِدي الاسم، فإن هذه الصخرة بما فوقها من البناء، وما حولها من البحر تكاد تكون عين التي في بلادنا، إلا أن ذاك أسعد حظًّا من هذا، فإنه لم يدنس باتخاذه سجنًا في زمن من الأزمان. أفضى بنا المسير بعد حين إلى سفح ذلك الجبل، فإذا حوله لفيف من مساكن حقيرة يتألف من مجموعها قرية للصيادين والملاحين، فوقفنا تشرف علينا الصخرة الصوانية من سُموها المُريع، ثم اقتحمناها فاضطررنا في ذلك إلى الصعود على شعب، بل سلم نُحِتت درجاته في الصخرة، وقد انتهى الأمر بالسيدة وارنجتون إلى أن ضاقت أنفاسها، وطفقت تلهث من شدة التعب، فدعوتها إلى الاستراحة على كتلة من كتل صخرية كانت تعترضنا في طريقنا، ويظهر أنها خرجت من باطن الجبل بسبب انفجار ناري، فما كان أسرع ما أجابت، وجلسنا طائفة من الزمن لا ننبس بكلمة لما أُدهشنا من مشهد العظم والخراب، فكان البحر محدقًا بنا، وذلك البناء القاتم الذي هو من آثار القرون الوسطى، فوقفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا أطلال من الصخر يغطي جزءًا من عُريها بعض الأعشاب البرية، وقد رأيت على مافي هذا المكان من المُحول زهرة زرقاء نابتة في صدوع الصخرعلى طبقة خفيفة من بقايا الأعشاب المتعفنة، فقطعتها على ذكراك لعلها تكون بشرى السعادة، كنت إلى هذه الساعة التي رأيت فيها جبل القديس ميكائيل مترددة في اختيار البقعة التي اتخذها متبوأ وسكنًا، أما الآن فقد استقر لمجرد مشاهدته رأيي وزال ترددي، فكأنما يوجد شيء من السحر في أسماء الأمكنة وأشكالها تغلب على فكري، فحملني على ترجيح الإقامة بهذا المحل، على أنه لا بدع ولا سحر، أليس هاتان الصخرتان اللتان تتراءيان وتتناغيان مع فصل المحيط بينهما، وهما جبلا القديس ميكائيل في إنكلترا وفرنسا أختين متشابهتين في جميع الصفات والأوضاع، إن أول هذين الحصنين وهو حصن الإنكليز كان حظه من كر السنين عليه التَّرك والإغفال، أما ثانيهما هو حصننا فإن له صراخًا يصل إلى كبد السماء دالاًّ على استبشاع حالته وأمله في الخلاص منها 0 ذهبنا في نفس ذلك اليوم لزيارة المنزل الذي أوصاني الدكتور وارنجتون باستئجاره، وقد علمت بأن مؤسسي قرية مرازيون التي هو فيها هم اليهود الذين كانوا يتجرون فيها بالقصدير قبل ميلاد المسيح بزمن مديد، وإني لفي شك من وجود كثير من ذريتهم الآن في هذه القرية؛ فإنه لم يبق من دلائل وجودهم في هذه الجهات إلا اسم واحد وهو اميرسيون قد ارتاحت نفسي له لأني تذكرت به فرنسا، تتألف تلك القرية من جملة مساكن جديدة، على بعضها مسحة من طلاوة المدنية الإنكليزية وهي قائمة من الخليج على شاطئه المقابل لجبل القديس ميكائيل الذي يتراءى معها على بعد، فلها في ذلك منظر ذو بهاء، وجلال محاسنه أن هذا الخليج - وهو تلك القطعة الجميلة من الماء التي تكتنفها الرمال المتقطعة بالصخور خصوصًا ما هو منها جهة الشاطئ المقابل للمنازل- تكثر فيه حركات الأمواج المعتدلة التي تُسَكِّن آلام النفس وتُخفض من برحائها. بقي عليّ الآن أن أحدثك عن المنزل فأقول: إنه لا ينقصه شيء من المتانة والرصانة؛ لأنه كله مبنيٌ بالصوَّان الذي يكثر في هذه الجهة دون غيره، ولما كانت مادته شديدة الصلابة تتعاصى على النقش، اعتاد البنَّاؤون على الاكتفاء في إعداده للبناء بترقيق قطعه، ومن أجل ذلك كانت ظهور جدران المساكن في الجملة خشنة وغير مستوية، وطريقة البناء في الداخل تخالف كذلك طريقتنا فيه مخالفةً عظيمة؛ لأنهم لا يقتصرون هنا على فصل البيوت بعضها عن بعض بحيث لا تتلاصق، بل إنهم يفصلون بين الغرف أيضًا بحيث تكون المعيشة عزلة تامة. ذلك البيت القائم على ربوة رملية قاحلة، فلذلك أخشى أن يكون معرضًا لهبوب الرياح الشديدة الآتية من البحر، لكن الناس يؤكدون لي أن هذه الرياح التي تهب من هذه الجهة تكون فاترة صحية في جميع فصول السنة، أما الأثاث فهو في غاية البساطة والملاءمة لحالتي، وأكثر ما دهشت له في هذا البيت هو أني وجدت في الطبقة العليا منه غرفتين منفصلة إحداهما عن الأخرى تمام الانفصال، ليس لهما في ذاتهما شيء يمتازان به امتيازًا ظاهرًا لكنهما على هذه البساطة قد أحسن البنَّاء وضعهما، فكان لهما أجمل منظر وأحسن موقع تشرق عليه الشمس، فالضوء يسبح فيهما بلا حجاب يعترضه؛ لأن نوافذهما لما كانت تتلقاه بالتكريم تكاد تكون مجردة من الستائر، وهذا منها نوع من الأدب والترحيب بلسان الحال، فكأنها تقول له: (تفضل فهذا محلك لا يمنعك منه مانع) نعم إن عليها من الخارج بعض قضبان من الحديد، انقبض قلبي لرؤيتها أول مرة، إلا أن هذا الانفعال السيئ قد زال عندما علمت بأن هذا المحل هو حجرة لأولاد، وأن هذه القضبان لم توضع إلا لمنع ما عساه يقع من الحوادث التي تكثر عادة من الأطفال بما يلازم سنهم من التهوروالجهل بالخطر, فهي إذن وسيلة من وسائل التحفظ، لاعلامة على الأَسْر، في إحدى هاتين الغرفتين ينام الأطفال، وفي الأخرى يلعبون في النهار إذا كان الجوُّ باردًا، أو السماء ممطرة وقد أكد لي الناس هنا أن هاتين الحجرتين يوجد لهما نظيرتان في كل بيت من بيوت الإنكليز التامة المنافع والمرافق. لا أنكر عليك أن هذا الأمر قد أثَّر في نفسي، فإن معظم الدورعندنا في باريس تامة البيوت والغرف والمرافق اللازمة، وهي غرفة الأكل وقاعة الاستقبال، وحجرة النوم والمكتب ومخدع الخلوة، وغيرها مما يطابق عادات الرجل الدنيوي وأهواء المرأة المتربية، فلم يُنس فيها إلا ما يلزم لشخص واحد، ألا وهو الطفل. الطفل عندنا بسبب اضطراره إلى ملازمة الكبار في معيشتهم وتقضيته الأيام والليالي في غرفة واحدة مع والدته العصبية الرقيقة المزاج، ووالده المثقل بالأعمال لابد أن يكون ضيفًا مقلقًا لغيره، وأسيرًا كاسف البال في نفسه، فإنه لا مندوحة من أن تمتد يده إلى الأثاث فتقطعه، وتتناول الكتب فتمزقها، والآنية الصينية فتكسرها، ويجر عليه هذا النزق وما ينشأ عنه من الإتلاف الخفيف توبيخًا مستمرًّا، فيقرعه والداه ويعاقبانه على نشاطه وسروره ولغطه، أعني على كونه طفلاً. وليس هذا كل ما يلاقيه عندنا، فإنه أحيانًا قد يطرد من مسكن أبويه لضيق المحل، فلا يجد له مأوى سوى فناء المنزل، وأنت تدري ماهي أفنية البيوت في معظم المدن الكبيرة، إنها ليست إلا جحور ضباب، قد فهم الإنكليز مقتضيات المعيشة المنزلية من حيث سكنى الأولاد أحسن مما فهمناها بكثير، فهم يعتبرون المولود عندهم شخصًا مستقلاًّ، فيفردونه بحجرة قائمة بذاتها. إلى الآن لم أصف لك شيئًا من بستان البيت على أنه هو الذي أخذت بهجته ونضارته بلُبِّي، ليس لهذا البستان سور من البناء وإنما هو محاط بسياج من النبات تمطره في شهر يونية على ما يقال شجيرات الرتم الشوكية [2] ذهبًا من أزهارها العسجدية، من أجل أن تتصور جمال هذا البستان مَثِّل لنفسك نحو أكرين [3] أرضًا تغطيها جميعًا شجيرات الورد وعنب الثعلب وغيرها من الأشجار الصغيرة، وإنما كان مافي هذا البستان شجيرات؛ لأن أرضه رملية ومجاورة للبحر، فهي لا تصلح للأشجار الكبيرة، ولكن قد أنشأت تتفتح بين أعشابه العطرية عيون بعض أزهاره البنفسجية، فكيف يكون جماله بعد خمسة أو ستة أسابيع إذا كساه الربيع - بلا حساب - ما لديه من حُلل البهاء والنضارة؟ قد استأجرت المنزل وسأسكنه في الأسبوع المقبل، أما الآن فأنا ساكنة عند السيدة وارنجتون التي تحوطني بأُنسها الدائم وكرمها الغامر، كل ما أنا فيه من وسائل النعيم الآن يؤلمني , وأوبخ نفسي عليه عندما أذكر سجنك وما أنت فيه من الضيق والألم. أنا متطلعة لأخبارك أيها الحبيب، فأرجو أن توافيني بشيء منها، فهل خفَّت عليك معيشة السجن بسبب تغيير المحل، أو زادت ثقلاً، أسألك بالله أن تصدقني الحديث، ولا تخفِ عني منه شيئًا، وفي الختام أُقَبِّلُك من وراء تلك البحار التي تحول بيني وبينك، لكنها لم تفرق بين قلبينا. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

بضعة أيام في خدمة جمعية شمس الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بضعة أيام في خدمة جمعية شمس الإسلام خرجت من القاهرة في مساء يوم الثلاثاء 10 رجب في صحبة رئيس هذه الجمعية، في عموم الأقطار المصرية، ميممين الصعيد الطيب هواؤه، المستعدة لكل خير أبناؤه، فعرجنا أولاً على بلدة بني سويف، وكان قد جاءها من قبل داعٍ من قِبل الجمعية، وفيها بعض الإخوان، فعرَّف لهم الجمعية بغير صفتها وصبغها بغير صبغتها، إما عن سوء فهم وإما عن سوء قصد - وقد طرد هذا الداعي بعد ذلك لخيانة واعوجاج - فلم يتقبل الدعوة إلا قليل، وكان من دخل الجمعية في زلزلة واضطراب حتى أقنعناهم بأن الجمعية دينية محضة لا غرض لها إلا التعاهد على ترك المعاصي والمنكرات، والتعاون على البر والتقوى، ونشر العلوم والمعارف، فانشرحت الصدور بنور الحق، وبِتنا ليلتين في هذه البلدة دخل فيهما طائفة في الجمعية، وتأسست فيها شعبة، ثم سافرنا قاصدين بلدة ملوي فلما وافيناها ألفينا الجم الغفير من أعضاء الجمعية فيها ينتظروننا في المحطة، وكان قد طير الخبر إليهم في البرق من بني سويف مضيفنا الأخ الفاضل محمد أفندي خالد سكرتير المديرية , فنزلنا في دار أقدم الإخوان دخولاً في الجمعية، وهو الشهم الهمام الشيخ محمد مصطفى ثم في دار أنسبائه الأكارم أبناء السيد الشريف المرحوم الشيخ أحمد عبد الفتاح، وفي ذلك اليوم - وهو يوم الجمعة- رغّب إليّ الأخ الفاضل الشيخ محمد صالح خطيب الجامع اليوسفي أن أخطب بالناس وأصلي بهم، ورأيت من رغبة الإخوان ما حملني على الإجابة، وعندما رقيت المنبر أنطقني الله الذي أنطق كل شيء بكلام في وصف حالة الإسلام والمسلمين، وما يجب أن يأخذوا به الآن، لم أكن زورته في نفسي، ولا ألمّ بفكري قبل تلك الساعة، فصادف آذانًا واعية، وقلوبًا مستعدة، فوجلت القلوب وذرفت العيون، وكان فصل الخطاب أن نجاة المسلمين مما هم فيه من فساد الأخلاق وسيئ الأعمال وتفرق القلوب، لا تكون إلا بالتعاون على البر والتقوى، وأن الله تعالى قد وفق طائفة من المسلمين للقيام بهذا التعاون، والتخلق بأخلاق الإسلام، والتأدب بآدابه، فعلى أصحاب الغيرة الملية أن يمدوا أيديهم لمصافحتهم ومعاهدتهم على ذلك، وقد فهم القوم الإشارة، وأقبلوا على الدخول في الجمعية أفواجًا تائبين إلى الله تعالى توبة نصوحًا. *** (آثار الجمعية في ملوي) كان من آثار هذه الجمعية في ملوي ترك المنكرات، حتى إن حانة من الحانات أقفلت وغادر صاحبها الرومي البلدة لكساد الخمرة، وفيها أن المساجد صارت تزدحم بالمصلين، وكان لا يوجد فيها - لا سيما في صلاة الفجر - إلا نفر قليل، وإنه منذ انتشرت الجمعية هناك قلّ التعدي والسطو، وأخبرنا الفاضل عزتلو أبو زيد بك عمدة البندر أنه منذ ثلاثة أشهر لم يشكُ أحد من أعضاء الجمعية أحدًا، ولم يشكُ منهم أحد، وهم يعدون بالمئين، ومثل هذا لم يعهد من قبل فيها، ومن أحسن آثارها أن المسلمين صاروا أقرب إلى الألفة مع مجاوريهم من المخالفين لهم في الدين، وأكثر ميلاً إلى مجاملتهم، وقد سرني وسر سعادة رئيس الجمعية هذا منهم، ولمّا اجتمعت الجمعية العمومية خطبتهم فيها خطبة مطولة، كان جزء كبير منها في الحث على مجاملة جيرانهم المخالفين لهم في الدين وبيان أن هذا من موضوع الجمعية؛ لأنها دينية تهذيبية، والدين يحرم إيذاء الذمي والمعاهد، حتى ورد أن النبي نفسه صلى الله عليه وسلم يكون خصم من آذاه، وسردت لهم بعض الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، كقوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8) وكقوله عليه الصلاة والسلام: إذا ظلم أهل الذمة أديل للعدو, أي ترجع له الدولة، وكقول الفقهاء: يجب إطعام الذمي المضطر وتجهيزه ودفنه إذا مات ولم يكن له مال ولا كافل إلخ إلخ، ويستحب في سائر الأوقات. وأفضل آثارها هناك الشروع في افتتاح مدرسة تُعلَّم فيها جميع العلوم والفنون واللغة الانكليزية مع التربية علمًا وعملاً على مبادئ الدين، وقد حصل الاكتتاب بحضور سعادة الرئيس، فمن الإخوان من اكتتب بأربعين جنيهًا كالسيد الشريف الشيخ هاشم عبد الفتاح والسخي الجواد الشيخ محمد سليمان، ومنهم من اكتتب بخمسة وعشرين جنيهًا وهم كثيرون، وفي مقدمتهم السري الأمثل إسماعيل بك عبد الله، ومنهم من اكتتب بما دون ذلك بحسب درجتهم في الثروة، والمرجو من همة أولئك الكرام أن يكون افتتاح المدرسة قريبًا. وفي مساء السبت ركبنا الذهبية في ترعة الإبراهمية قاصدين ديروط لزيارة إخواننا، وتأسيس لجنة إدارة لشعبة الجمعية فيها، فعرجنا في الطريق على قرية صغيرة بتنا فيها عند بعض إخواننا، وجئنا ديروط مساء يوم الأحد فتلقانا أهلها بالحفاوة، واجتمع علينا في الليل وجهاء البلدة وكرامها من رجال الحكومة وغيرهم، وطلبوا أن أبين لهم موضوع الجمعية ووجه الحاجة إليها، وشروط الانتظام فيها بخطاب مسهب، ففعلت وأطلت في بيان عدم تعرض الجمعية للسياسة بقسميها (الداخلية والخارجية) وعنايتها في بث روح الوفاق والائتلاف بين أرباب المِلل المختلفة في الوطن؛ لأن الشريعة التي هي أساس الجمعية تأمر ببر المخالف في الدين ومعاملته بالعدل ما لم يكن محاربًا ومقاتلاً لنا في الدين؛ ولأن نجاح الوطن لا يتم إلا باتفاق جميع أبنائه على ترقية شأنه واعتقاد أن العدالة الإلهية ساوت بينهم في الحقوق، وصرحتُ لهم بأن من دخل الجمعية تائبًا من ذنوبه، ثم عُلِم أنه يقترف كبيرة من الكبائر كالسُكْر والربا، وشهادة الزور والخيانة، والتعدي على حقوق الناس، فإنه يطرد من الجمعية طردًا لا فرق بين كبير وصغير؛ لأن الحق أعلى من كل أحد، فَسُرَّ القوم بموضوع الجمعية وأقبلوا عليها أفرادًا وأوزاعًا، وأسس الرئيس العام لجنة الإدارة وأعطاها الدفاتر وأوراق الدعوة والطلب، ثم قفلنا في يوم الثلاثاء إلى ملوي، وكان معنا جماعة من أهلها، فأقمنا فيها يومًا وليلة وسافرنا منها ليلة الخميس، فعرجنا على مدينة المنيا فبتنا ليلتنا وأقمنا نصف نهار أسَّسْنَا فيه شعبة صغيرة نرجو أن تكبر سريعًا بهمة رئيسها العالم العامل وأعضائها الأفاضل، ثم قفلنا راجعين إلى مصر وعرجنا في الطريق على بني سويف، فمكثنا فيها نحو ساعتين أقتبس فيهما أعضاء الإدارة من سعادة الرئيس التعاليم الإدارية، وجئنا إلى مصر بسلام. فعُلم من هذه الخلاصة الموجزة أن استعداد أهل الصعيد لقبول الخير والتمسك بالحق أقوى من استعداد أهل مصر الذين أفسد مزاج الدهاء منهم التفرنج والتوغل في الترف، وأن المسلمين لا يرجى لهم خير إلا من الأخذ بآداب دينهم وفضائله، فلو أن أفصح الخطباء المتمدنين أقام عدة سنين يحث المسلمين على مجاملة جيرانهم المخالفين لهم في الدين، والائتلاف معهم باسم المدنية، وترك السُكْر والفحش محافظة على الصحة مثلاً، لما أمكن أن يكون له من الأثر بعض ما كان لهذه الجمعية الشريفة في مدة قليلة. زرنا مدرسة زعزوع بك في بني سويف، فرأينا فيها من النظام والاجتهاد وحسن التعليم ما أنطق ألسنتنا بالثناء على حضرة ناظرها الفاضل وجميع معلميها، ونخص بالذكر العناية بتعليم الدين، لا سيما تلقين التلامذة شيئًا من معاني القرآن الشريف بالإجمال والاختصار الذي تقتضيه درجة عقولهم ومعارفهم , إلا أننا انتقدنا على الناظر عدم إلزامه إياهم بالصلاة؛ لأن العلم قلما يفيد بغير التربية العملية فاعتذر بضيق المحل ووعد بأنه يهيئ الأسباب لذلك في أقرب وقت، وبمثل هذا اعتذر، ووعد الفاضل الهمام محمد أفندي عارف مؤسس مدرسة ديروط، ولنا الثقة بأنهما يفيان بوعدهما، لا سيما وقد توفقا للدخول في الجمعية مع معلمي المدرستين، ولولا ضيق المقام لأسهبنا في الكلام على هذه الرحلة المباركة.

إصلاح غلط

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح غلط أرسلت من الصعيد أصول (المنار) إلى المطبعة، ولما جاء يوم الجمعة ولم ترسل إليّ لإصلاحها خشيت أن يتأخر (المنار) فكتبت إلى صديقي الفاضل صاحب (المؤيد) أن يعتذر عن تأخير العدد على لساني ففعل , ولكن المدير كان تدارك الأمر وأصدر (المنار) ولكنه غير معتنى بتصحيحه، ومما لابد من التنبيه عليه أغلاط جاءت في درس التوحيد، وهي في السطر الثاني من الجملة 21 الواقعة في صفحة 564 كلمة (لأنه) سقطت منها (نه) وبقيت (لأ) والعبارة هكذا (لأنه إذا كان) إلخ، وفي النبذة 22 من هذه الصفحة أيضًا كلمة (بعدم) سقطت منها الميم، والخطأ فيها واضح، وفي السطر الرابع من صفحة 565 كلمة (الانتقاد) وصوابها (الانتفاء) .

إنهاء دولة المهدوية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتهاء دولة المهدوية زحف السرونجت باشا في 22 نوفمبر إلى (نفيسه) حيث علم أن أحمد الفضيل أحد قواد التعايشي معسكر فيها، فألفاها خالية، فتقدم منها إلى (أبوعادل) مسيرة أربعة أميال، وهناك التقى الجمعان، وابتدأ الحرب الفرسان المصرية بقيادة ماهون بك وأبلى الدراويش بلاءً حسنًا، وكانوا نحو 2500، وانتهت المعركة بفرار الدراويش وقتل أربعمائة منهم. وفي هذا النهار وردت أخبار البرقية من سعادة السردار إلى جناب اللورد كرومر ملخصها أن ونجت باشا التقى بالتعايشي في (أم دبريكات) ، فحملت الزحوف المصرية حملة واحدة، فثبت التعايشي وأمراؤه حتى قتل هو ومعظمهم، وأُسِر الباقون، وفرَّ عثمان دقنه الشهير الروغان.

تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية (الكتبة) أرى أولاً أنه يجب وضع قاعدة لانتخاب الكتاب وتعيينهم وأن يشترط في تعيينهم معرفة اللغة العربية علمًا وعملاً وشيء من فقه الشريعة الإسلامية، فليس من المعقول أن محكمة تحافظ على لفظ (هذا) و (هؤلاء) ولا تحافظ على وجود أساليب الكلام التي يتوقف عليها فهم المعاني، وهذا الشرط إن لم يمكن تحقيقه الآن في كثير من الناس، لكن يمكن تحديد أجل له وتوضع قاعدة الامتحان من اليوم وينتخب الأعرف فالأعرف، وبعد الأجل الذي يضرب وغايته أربع سنوات لا يقبل في وظيفة الكتابة بالمحاكم الشرعية إلا من نُظر بالامتحان معرفته للغة العربية خصوصًا في التحريرالصحيح والحساب، وشيء من نظام المحاكم الشرعية وطرق التحرير فيها، ويمكن أن يزاد على ما اعتبر في شهادة الأهلية على حساب نظام الجامع الأزهر أن يمتحن الطالب في الإنشاء، والكتابة وحسن الخط، والحساب، وآداب الدين ونظام المحاكم الشرعية وبذلك تكون شهادة الأهلية كافية وحدها لانتخاب حاملها كاتبًا في المحاكم الشرعية بدون امتحان ويكون الجامع الأزهر أو ما يلحق به منبتًا لخدمة الشريعة كتبة وقضاة، وهو أفضل مايرجى من هذا المكان الشريف. ثم توضع قاعدة لترقيهم ينتقل الأكفاء خلف الأكفاء لا يثب أدناها فوق رءوس أعلاها ويُرتبون على حسب كفاءتهم على وجه لا يُنقض إلا بأسباب معروفة ثم يوضع لهم نظام كالمعروف (بالكادر) ويفرض لهم زيادة في المرتبات، وتحدد لهم درجات لها مبدأ ووسط ونهاية، كما هو الجاري في جميع وظائف الحكومة من هذا القبيل، وهو أمر يستدعي أن تسخو نظارة المالية بشيء من إيراد هذه المحاكم لها , فإن كان ذلك لا يمكن في العام القائم، فلتوضع القاعدة وليكن تنفيذها بالتدريج حسبما يستطاع إلى أن يتم الأمر على وجهه، ثم تصنع في محل الكتاب نافذة يخاطبهم منها طالب الصورة أو الإعلان أو الإعلام الشرعي، ويناوله الكاتب منها ما يريده على ما هو معروف في قلم محضري المحاكم الأهلية حتى يقل الاختلاط بين الناس وبين الكتاب، أما العقود والإشهادات فيحضر المتعاقدان فيها أمام القاضي ويأخذ الكاتب منهما جميع ما يحتاج إليه من أسماء وألقاب ومحل الإقامة وحدود وشهود ونحو ذلك، ثم ينصرف الكاتب ويحرر العقد ويقيده في مضبطته بدون حضور المتعاقدين، ثم يأتي المتعاقدون ويتلى العقد عليهم أمام القاضي، فيوقعون عليه ثم يضرب لهم أَجَلاً لأخذ الصورة، وهذا لا عسر فيه ولا مانع منه إلا كسل القاضي وتحكم الكاتب. وعلى النظارة أيضًا أن تحدد علاقة الكتاب برئيسهم وهو الباشكاتب أو الكاتب الأول، وأن تحدد وظيفة رئيس الكتاب وما يناط به من العمل، وما يدخل في عهدته من المواد حتى يعرف كل عمله فيُسأل عنه، أما تخصيص أفراد الكتاب أنواع الأعمال فذلك يكون إلى الباشكاتب باتحاده مع القاضي، ثم ينظر فيه كل سنة وينقل الكاتب من عمل إلى عمل حسب استعداده حتى لا يشهر كاتب بين الناس ... بأنه صاحب كذا دون سواه. وهنا أذكر أمراً لاحظته في توطن الكتبة وهو أنه في بعض محاكم المراكز يتفق أن الكاتب يسكن في بلدته التي فيها زراعته، وربما يغيب عن المحكمة في أوقات العمل أو يغيب اليوم , كله كما وجدناه في محكمتي زفتى وميت غمر , فيجب أن يراعى ذلك. (القضاة) قبل أن أقول كلمة في ما عليه الأغلب من هؤلاء القضاة أقول: ليست المحاكم الشرعية وحدها هي التي ابتليت بضم الضعفاء وغير الأكفاء في جوانبها، فكثير من القضاة في المحاكم الأهلية لا يزيدون في معارفهم عن من كثر الكلام فيهم من قضاة المحاكم الشرعية وما يُتَحَدَّث به من الأحكام المخالفة للشريعة صادرًا عن هذه المحاكم يُتَحًّدث به مخالفًا للقانون والعقل صادرًا من محكمة أهلية أو مختلطة , وقد رأينا ذلك وشاهدناه، والحكومة تعرف كثيرًا منه، والكمال غاية يسار إليها، ولكن يحول دونها ضعف الإنسان وعجزه. وجدت كثيرًا من قضاة المحاكم الشرعية خصوصًا المراكز لا تسر معارفهم الشرعية والنظامية ولا يرضى العدل سيرهم في أعمالهم، ولذلك وجدت الحاذق منهم يحوِّل جميع القضايا تقريبًا إلى محاضر صلح تجنبًا للحُكم، ولا يلبث المتصالحان بين يديه أن يختلفا لأن الصلح غير حقيقي، ووجدت فيما وجدت من الأحكام خطأً كثيرًا، وأكثر ما يعولون في تطبيق اللوائح على الكتبة ومنزلتهم من العلم ما وصفنا في الباب السابق. تكرر من نظارة الحقانية وضع قواعد لانتخاب القضاة، وكان فيها أن يمتحن الطالبون في النظارة، ثم اكْتُفِيَ بما وُضِعَ في اللائحة الجديدة، ولجنة الانتخاب التي نيط بها تعيين القضاة وترقيتهم ليس لها إلا تخير الأشخاص من بين حاملي شهادة العالمية أو القضاة أو المفتين، ولا بحث لها في سيرهم الشخصية وقت الانتخاب كما عرفته من رواية الأجلاء من أعضائها. وأرى من الواجب أن تبقى شهادة العالمية معتبرة كما هي في اللائحة، لكن يجب أن يزاد على ما تقرر في نيل هذه الشهادة أن يتلقى الطالب كتابًا من كتب الفقه على الطريقة العملية في أبواب القضاء والمعاملات، وأن يمتحن في الفقه بهذا الاعتبار، وأن تكون له معرفة بالحساب، وبالكتابة والتحرير , وبنظام المحاكم الشرعية وعلم كافٍ بالآداب الدينية، وشيء من التاريخ وتقويم البلدان مما يزيد الرجل بصيرة في الناس وأحوالهم وأن يكون من حسن الخط بحيث يمكن قراءة ما يكتبه، وهذا أمر ميسور متى فرض ذلك على كل من يطلب وظائف القضاة والإفتاء من طلبة الجامع الأزهر وما ألحق به؛ فإن لم يكن في هذا اليوم فليضرب له أجل أربع سنوات لا يقبل بعده في هذه الوظائف إلا من عرف تحصيله لهذه المعارف، ثم يُبحث من مشيخة الأزهر ومجلس إدارته إن كان لم يوظف في جهة أخرى، ويسأل من شيخ علماء جهته إن كان من طلبة غير الجامع الأزهر ولكنه داخل تحت نظامه، وبعد هذا وذلك يعين ويرجى منه الخير لعمله - إن شاء الله - أما اليوم فيقدم من هو على شيء من هذه المعارف على غيره. وإلا فالعمل جارٍ على أن يعين أحد المشايخ، وقد كان على بعد تام من العالم وشؤونه أيام إقامته في الجامع أو المدرسة، ولا يعرف من القضاء إلا ما قرأه في عبارات كتب الفقه، ولم يشهد مجلسًا من مجالسه، ولم يعرف شيئًا عن نظامه الشرعي المعمول به في بلده، ولا يمكنه تحرير رقيم حسن الأسلوب مفهوم المضمون في أدنى شؤونه، وربما لا يعرف أرقام الأعداد الحسابية، ثم يفوض إليه الحكم وهو على هذه الحالة، فيلتجئ إلى الكاتب الذي يجده في المحكمة، فإن كان ذكيًّا أمكنه أن يتعلم في سنة أو ما يزيد عليها، وإن كان دون ذلك بقي تلميذًا للكاتب إلى ما شاء الله، فمن كانت بدايته أن يكون تلميذًا للكاتب فكيف تكون نهايته؟ وإني لا أنكر أن بعض القضاة صار بعد التمرن من أحسن رجال القضاء، ولكن لا يصح أن يكون الآحاد قواعد يُبنى عليها العمل لمن يريد إحكامه. وإني أحبُّ أن أصرح بأمر ربما يغضب له بعض أهل الأثرة من أهل العلم الحنفية وهو أننا مسلمون، وهيهات أن يتيسير لنا بعد فشو ما فشا من البدع في الدين أن نحافظ على قوام الإسلام من حيث هو، وليس الزمن زمن تعصب لمذهب دون مذهب، ومن دَرَسَ فقه الشافعية أو المالكية لا يعسر عليه فهم فقه أبي حنيفة , فإن الأصول متقاربة والاختلاف في الفروع مذكور في أغلب كتب الفريقين، وحصر التعيين في الحنفية يضيق دائرة الانتخاب ويلجئ إلى تعيين الضعفاء في العلم والعزيمة، فلِمَ لا يُطلق الانتخاب من هذا القيد فتتسع دائرته وينتفع من أهل الاستقامة والدراية عدد ليس بقليل ممن قضى في تحصيل فقه الشافعي أو مالك أو ابن حنبل اثنتي عشرة سنة فأكثر إلى عشرين أو ثلاثين وجُلُّ ما حصله إنما هو في المعاملات؟ أرجو أن يصادف ما أتمناه قبولاً لدى العلماء والحكومة فنجد العدد الكافي من الأكفاء , لكن إذا توفرت هذه الشرائط في القاضي وكان من المعارف على ما ذكرنا أفلا يمكنه أن يحصل معيشته بأسعد مما يناله في خدمة المحاكم الشرعية؟ وهل نجد عددًا كثيرًا يقضي حياته بمرتب ستمائة قرش وإذا ترقي فلن يصل إلي ألفي قرش إلا بعد أن يفوق الأقران ويجوز كثيرًا من العقبات أما ما زاد من المرتبات على ذلك فهو وظيفة واحدة بثلاثة آلاف قرش وأخرى بأربعة آلاف قرش في محكمة الإسكندرية ثم تأتي وظائف المحكمة العليا والواصلون إلى هذه المراكز قليلون جدًّا كما لا يخفى. فأرى أن الحكومة التى تسعى إلى تكميل المحاكم الشرعية وتقويم حالها لا بد من أن تزيد في المرتبات ما يفي بحاجة القضاة على حسب درجاتهم وأن تضع نظامًا لترقيهم في الدرجات يكفل نيل كل منهم حقه على نحو ما هو معروف في القضاء الأهلي ولا أسال الحكومة أن تجعل المقادير كالمقادير ولكن ألح في مراعاة النسبة بين العمل ومكانة الشخص وبين مرتبه , وبهذا يضمن النجاح إن شاء الله وأرجو أن يكون ذلك من بدايات أعمال لجنة الإصلاح فإنه من الغريب في حكومة يكون رئيس حجاب المحكمة فيها بمرتب أحد عشر جنيهًا ووكيله بثمانية وأفراد الحجاب بستة وفرّاشو المحكمة بما بين ثلاثة ونصف إلى ثمانية وأن يكون المفتي وهو أحد أعضاء المحكمة بسبعة أي أقل من رئيس الفراشين في محكمة من المحاكم في القطر المصري ثم تطالبه بالمعارف الواسعة والاستقامة الكاملة وجمهور القضاة فيها يترددون بين الستة والثمانية. وليلاحظ أني أطلب التدريج في تنفيذ ما يتقرر بحسب ما تسمح به ميزانية الحكومة ولا أكلف الأمة بغير المستطاع. أما عدد القضاة والمفتين فأراه زائدًا عن قدر الكفاية في كثير من المحاكم وأرى تقليل عددهم وإحالة من يُستغنى عنه على من يبقى وأن يزاد في مرتبات الباقين ما يتوفر من الاستغناء عمن لا عمل لهم ولا يرجى منهم أن يعملوا وبعد الاطلاع على جميع أعمال المحاكم في الوجة القبلي والبحري بما يرد منها من جداول الأعمال يمكنني أن أضع لذلك مشروعًا وافيًا إن شاء الله. بقيت أمور لا بد من التنبيه عليها منها عدم الاستقلال في الرأي عند القضاة وأهم سبب قريب له هو اشتداد علاقتهم بالنظارة في الشؤون القضائية فتراهم يحسون أنهم مقيدون برأي النظارة في أدنى الشؤون فضلاً عن أعلاها ويكفي أن أذكر أن محكمة رأت عدم اختصاصها بالنظر في قضية هي من أَولى ما تنظر فيه قياسًا على رأي النظارة في مسألة أخرى تشبهها , ومن غرائب التضييق على القاضي في غير الأمور القضائية أن لا يؤذن له بصرف قرش في ثمن مكنسة إلا بعد استئذان النظارة واذا انتقل لا يصرف له مصاريف انتقاله إلا بعد ورود إذن من النظارة وهذا التشديد وإن كان في أمر غير قضائي إلا أنه يوجِد في النفس شعور الذلة والعبودية وضعف الثقة وهو أخبث شعور يظهر أثره في عمل الموظف وأرى أن تكون علاقة القضاة بواسطة قلم التفتيش الذي يرأسه المفتي على ما سنبينه , ومنها أن كثيرًا من القضاة يتحاشى سؤال الخصم في ما يهم السؤال عنه خشية التهمة ولكنه يستبيح لنفسه أن ينصح أحد الخصوم بأن يطلب شطب القضية , وإلا حكم ببطلانها أو أن يقدم القضية بطريقة أخرى غير التي عرضها أو بأن يستأنف قرارًا صادرًا من قاضٍ لأن محكمة الدفع التي هو عضو منها تحكم ببطلانه ونحو ذلك مع أن هذا ممنوع شرعًا ونظامًا لأنه إعانة لأحد الخصمين على الآخر فأرى أن يُشدد على أمثال هؤلاء القضاة في حظر أمثال هذه ال

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (14) من أراسم إلى هيلانة في 8 أبريل سنة - 185 تلقيت مكتوبك أيتها العزيزة هيلانة، فذهب به روعي، وثابت إليّ سكينتي واطمأن به قلبي عليك كثيرًا لشفيفه لي عما فيك من الإقدام والسلطان على نفسك , فأنت حقًّا أشرف صاحبة عرفتها في حياتي، قدر عليّ السجن وعليك النفي، فاحتملتِ نصيبك من المقدور شريفة النفس، عالية الهمة. إن نصيحة صديقنا الدكتور وارنجتون إليك بسكنى القرى صادرة عن حكمة وسداد، فإن الإقامة بالأرياف أولى لك الآن من السكنى في المدن؛ لكثرة ما في هذه من الصخب والشغب؛ ولأن الاعتكاف والرجوع إلى المعيشة الفطرية هما اللذان يتيسر لك بهما - ولا شك - استجماع قواك بعد ما لاقيته من تلك الصدمات النفسية التي أخشى أن تكون زعزعت صحتك فأوهنتها. اعلمي أن من المفروض عليك أن تكوني صحيحة الجسم، سليمة من الأدواء لأنك مسئولة من الآن عن الوديعة التي استودعك الله إياها، ولا تستغربي مني مخاطبتي إياك باصطلاح العلماء بوظائف الأعضاء، فإني ماتعلمت الطب عبثًا بل تعلمته للانتفاع به. كل كائن دخل في بداية الحياة عرضة للمرض والهلاك، ولذلك كان للجنين أمراض حقيقية، فما هي أسباب هذه الأمراض والعلل الخفية؟ لا شك أن بعضها يعجز العلم عن إدراك كنهه، ولكن لنا كل الحق في أن نعتقد أن للمرأة دخلاً في بعض ما يولد به الطفل من التشوه، لا أخالك نسيت تلك السيدة د … التي فتنت القلوب ببديع حسنها، فإنها لمَّا أصابها هوس المرقص، وبعثها على أن تقضي فصل الشتاء كله رقصًا في قاعات باريس بل أداها إلى الاستمرار على ذلك حتى في ساعة الوضع - قد وضعت بنتًا فيها شيء من الجمال إلا أنها حدباء. إذا كان لأعمال المرأة تأثير في الجنين بما وصفنا، فهل يمكننا من جهة أخرى أن نقف على علاقة بين انفعالاتها النفسية وبين أخلاق ذلك الجنين الذي يحيا بحياتها , ويشمله شخصها وتضمه أحشاؤها؟ نعم فقد كان الحكيم هوب [1] يعلل ما فيه من خلق الخفر بما لاقته أمه من الأهوال أثناء حملها به حينما كانت العمارة الأسبانية المسماة (أرماد) الشهيرة تهدد إنكلترا وتطوف حول سواحلها، وكان ما يتخيله أهلها من صورة إغارة الأعداء عليهم يلقي الرعب في قلوبهم. إنك قد طالعت وقائع (ينجل) فما أشد ما تجدينه فيها من مسكنة الملك يعقوب الثاني المذكور فيها، فلشد ما كانت ترتعد فرائصه، ويصفرُّ لونه عند رؤيته السيفَ مجردًا من قرابه ألا إن جبن ذلك الملك يضحك الثكلى، على أنه قد يجب أن يحرك في الإنسان عاطفة أخرى , إذا صح أن ضعفه هذا ناتج من مشاهد المصائب والرزايا التي كانت تحيط بأمه مريم استوارت في أثناء حملها به. إلى أي درجة يتأثر الجنين بتزعزع الشجرة العصبية التي تظله في بطن أمه؟ هذا أمر يصعب الحكم به قطعًا في حالة العلم الحاضرة، ويكفي وجود الشك في تأثره من أجل إلزام أمه باتقاء أسباب الانفعالات الشديدة، والنظر إلى الأماكن المشئومة، والابتعاد عن المتاعب وعما يجره الإخلاص في الولاء من الشدائد والمحن. المرأة هي قالب للنوع الإنساني يفرغ فيه، فيتشكل بشكله إلى حد محدود، فيجب عليها لهذه الصفة رعاية صحتها والمحافظة عليها، فيلزمها في الحمل أن تكون مستريحة الجسم والفكر، مستجمعة القوى، ولكن يندر أن يوجد بين ربات الجمال من النساء من تصبر فيما جرى العرف بتسميته (الدنيا الكبرى) على ترك اللذائذ ومجامع الأفراح ومراسح التمثيل لتنال شرف الإتيان بأولاد حسان، بل إن من خسارة الصفقة لديهن أن يجدن أنفسهن عاجزات عن استئجار غيرهن لتأدية وظائف الحبل كما يستأجرنهن للرضاعة، فإنهن لو وجدن لذلك سبيلاً لاستأجرت المثريات منهن - من عهد بعيد - بطون نساء الطبقة السفلى لحمل أجنتهن. أما هؤلاء، فإنهن لكدهن في وسائل المعيشة لا يجدن لهن من الزمن مايهتممن فيه كثيرًا بأمر ذريتهن، فقد رأيت بعضهن، وقد أثقلن حتى كدن يشارفن الوضع تلجئهن ضرورات المعيشة إلى غسل الملابس في نهر السين زمن الشتاء، فكن يغمسن أذرعتهن في مائه المثلوج , أو تضطرهن إلى دفع عجلات محملة لتمشيتها، أو إلى حمل أثقال باهظة يرتاع لها الأشداء من حمالي الأسواق، بهذا تعلمين ماجرَّ علينا ما في أخلاقنا من الأثرة وحب الاختصاص من رداءة النسل، كل ما يضعف المرأة التي هي قرينة الرجل وصاحبته يضعف الذرية ويحط من شرف الجنس، فإذا أراد المجتمع الإنساني أن يضمن لنفسه الحصول على أولاد حسان الخلق يكونون في المستقبل رجالاً أشدّاء، فلا يتسنى له ذلك إلا بتحري العدل في تقسيم ثمرات العمل، وبأن يعرف للمرأة ما تستحقه من الاحترام والإجلال. اهـ (15) من أراسم إلى هيلانة في 10 أبريل سنة - 185 ليست مكاتيبي إليك كغيرها مما يكتب الناس بعضهم إلى بعض، وإنما هي أحاديث مسجون يناجي بها في عزلته أعظم شقيقة لنفسه وأحسن قسيمة لروحه، لا بد أن يكون قد سبق إلى ذهنك ما أقصده منها ففطنت إليه , إني أريد أن أعمل بقدر استطاعتي، وأنا في مطارح النوى لتحصيل السعادة لذلك الذي بشّرنا الله به، فإنه ليعرض لفكري أن هذا الطفل قد لا يعرفني ولا يراني أبدًا، وقد يتهمني يومًا ما بأني أهملت ما فرضه الله عليَّ من الواجبات التي تحفظ حقوقه بالقيام بها، فيحرج لذلك صدري وينقبض قلبي، ولكن هل أكون مستحقًّا لهذا اللوم إذا كنت على ما أنا فيه من العجز عن حياطته بضروب الرعاية وصنوف الملاطفة أدفع له دَين الأبوية من نقد آخر؟ إني بمكاتيبى إليك سأؤدي على بعدي من ولدي ما فرض له عليّ من حقوق التربية لإعواز غيرها من الطرق المثلى لأداء هذا الفرض، فقد درست شيئًا من أحوال الإنسان في تطوافي حول الأرض بوظيفة طبيب بحري، ورأيته في أقاليمها المختلفة، وفي أعمار مجتمعاته المتباينة، ولذلك أرى أن في قدرتي أن أستنتج من أفكاري ومما تحفظه ذاكرتي من الحوادث طريقة للتربية مؤسسة على نواميس الكون وتاريخ دقائقه، فعلينا الآن أن نتبادل الأفكار في ذلك، فسأكتب إليك بما يبدو لي، وتكتبين إليّ بما يعنّ لك حتى تتحد روحي وروحك في السهر على مهد هذا الولد العزيز رعاية له وعناية بشأنه، سأراه في منامي يشب وينمو، وأنت ستحدثيني عنة في مكاتيبك، وستخبرينه بوجودي، ولا موجب لاهتمامك بمستقبله، فإن تربية الطفل الأولى هي من خصائص والدته، وأنت أهل للقيام بها وحدك بما فيك من يقظة القلب وتوقد الذكاء، وسننظر بعد فيما يلزم من أمور التربية المستقبلة. لكنا يجب علينا أن نعين الغاية التي يلزمنا أن نرمي إليها في مساعينا، إني لا أعلم مطلقًا بوجود قالب يفرغ فيه الناس فيخرجون من النابغين، ولئن كان فليس هو للتربية قطعًا، بل إنه يكون بين يدي الخالق سبحانه يهيئ به من يشاء لما يشاء فإذا كان ولدنا ذكرًا كان غرضي من تربيته أن يكون رجلاً حرًّا، ولا أقصد بحال من الأحوال أن يكون من كبار الرجال وعظمائهم 0 اهـ (16) من أراسم إلى هيلانة في 11 أبريل سنة - 185 أراك متطلعة إلى أخباري، راغبة إليّ في أن أوافيك بشيء منها، فها أنا ذا أخبرك بأن السجن واحد في جميع البلاد، فليس بين المكان الذي تركته وبين هذا الذي أسكنه الآن على رغمي كبير فرق، وإني من عهد وصولي إليه قد لجأت إلى المطالعة، فإني وجدت الكتاب في غيبتك عني أحسن قرين لي، يؤنسني ويُسرِّي عني الهم، ماذا أقول بعد ذلك؟ غاية ما أقول لك أني عائش راج الفرج ثابت على حبك، والسلام. ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 7

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دروس جمعية شمس الإسلام (7) (أمالي دينية - الدرس السابع) (24) المحكم والمتشابه: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) . الكلام في أي لغة من اللغات منه نصوص واضحة المعنى لا إجمال فيها ولا إبهام، يُعرف مراد المتكلم منها بمجرد إطلاقها، ومنه ما يجيء في لباس الإجمال أو الإبهام، أو في طريق من طرق المجاز أو الكناية بحيث يخفى المعنى المراد منه لاشتباهه بغيره، إلا على الراسخ في العلم الذي جاء الكلام المشتبه أو المتشابه فيه وفي لغة ذلك: الكلام مفرداتها وتراكيبها وأساليبها، وما عساه يكون للموضوع من الاصطلاحات الخاصة ليتسنى لذهنه رد الفروع إلى أصولها وإلحاق الأبناء بأمهاتها التي تولدت منها، أضرب لكم مثل النحاة فإن معنى لفظ (الفعل) عندهم (اللفظ الذي يدل على معنى مستقل بالفهم مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة) وقد يجيء في كلامهم بمعناه اللغوي وهو الحدث، فمن لا يكون عارفًا باصطلاحاتهم وباللغة يضل في فهم المراد من هذا اللفظ في هذه الحالة، والراسخ يصرف الكلام إلى ما ينطبق على قواعد الفن العامة، فلا يضل ولا يجهل. نطقت الآية التي صدَّرنا بها الكلام بأن في القرآن آيات محكمات لا يشتبه العقل في فهمهن هن أم الكتاب وأصل الدين , ترجع إليهن وتحمل عليهن سائر الآيات التي سماها متشابهات، ومن هذه المحكمات قوله تعالى في تنزيه ذاته العلية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وقوله عزّ من قائل: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) ومن الآيات التي جمعت بين المحكم والمتشابه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر: 67) ومن المتشابهات قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) وقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} (المائدة: 64) وقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ} (النحل: 50) وقوله تعالى جده: {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: 18) وقوله جل ثناؤه: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فأمثال هذه الآيات كانت مضلة لأهل الزيغ والتأويل الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ويضلون الناس بأهوائهم بغير علم، فذهب منهم قوم إلى التجسيم وقوم إلى الحلول؛ افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة:16) ومن المتشابه بعض ما أخبر الله تعالى به من علم الغيب، كقوله تعالى في جهنم: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: 30) وقوله تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ} (الدخان: 43-45) ومن العلماء مَن يقول: إن جميع ماجاء في القرآن عن عالم الغيب من المتشابه كالجنة وما فيها، والنار وما فيها، وسائر أمور القيامة كالملائكة والجن والشياطين، وكون السماوات سبعًا، والعرش والكرسي، فإن هذه الأشياء أمثالها لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى، وربما يعلم تأويلها الراسخون في العلم، ولقد افتتن بها خلق كثير، وفتنوا الناس بتأوبلها حتى يكاد يكون الضالون في فهمها أكثر من الضالين بآيات الصفات، ومن وقف على تاريخ الباطنية , لا سيما دعاة العبيديين في مصر ودعاة البابيين والبهائيين في هذا العصر يتبين له تفصيل ما أجملنا. (25) مذهب السلف والخلف في المتشابه: عُلم مما ذكرنا آنفًا أن المتشابه على ضربين: أحدهما ما أطلق على الله تعالى من الصفات التي أطلقت على البشر وما عزي إليه من الأشياء والشؤون التي تعزى إليهم، وثانيها ماذكر من أحوال عالم الغيب المخلوق له تعالى مما له نظير في عالم الشهادة، ومما لا نظير له، والإيمان بمثل هذه الأشياء هو الإيمان بالغيب، وهو دعامة كل دين وأساسه، ومعيار اليقين فيه وقسطاسه، ويشترط في الديانة الإسلامية أن يكون الإيمان خاضعًا لحكم العقل، فلا يكلف أحد أن يؤمن بما يحكم العقل باستحالته، بل تأويل ما عساه يوجد مخالفًا للعقل من ظواهر الشريعة وتطبيقه عليه - واجب، وأجمع المسلمون الذين يُعتد بإسلامهم على أن أصول الدين وأسسه مؤيدة بالبراهين العقلية وإليها يرد سائر ماجاء فيه. أما المتشابه من آيات الصفات وأحاديثها، فقد اشتهر على ألسنة أهل التوحيد، وفي كتبهم أن للمسلمين فيها مذهبين: مذهب السلف وهو الإيمان بها على ظاهرها مع تنزيه الله تعالى عما يوهمه الظاهر من التشبيه المحال عقلاً، ويقولون: الله أعلم بمراده باليد واليمين والاستواء على العرش وما ماثل هذا، ويسمون هذا المذهب مذهب التفويض، ويقولون: إنه أسلم، ومذهب الخلف هو تأويل هذه الكلمات وتخريجها على وجه ينطبق على قواعد التنزيه بما تقتضيه أساليب اللغة من ضروب التجوز والكناية، ويسمونه مذهب التأويل، ويقولون إنه أعلم وأحكم، والصواب أن الأقوال في هذا المقام ستة، استوفينا الكلام عليها في كتابنا (الحكمة الشرعية) . والذي يجب أن لا يختلف فيه هو أن هذه الآيات ما أنزلت عبثًا، وأنها ليست فوق عقول البشر، بل جاءت على أساليب كلام العرب، وحسبكم من فائدتها أنها تفيض على الأرواح من خشية الله وقوة الإيمان بعظمته وسلطانه ما يطهرها من الرجس، ويجذبها إلى عالم القدس ويبغض إليها الرذائل، ويحبب إليها الفضائل تقربًا إلى الله تعالى وطلبًا لما عنده، ومن كان ذا سليقة عربية وعقيدة صحيحة مرضية، وتلا أو تُلي عليه قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} (الزمر: 67) الآية، يشعر بأن الهيبة والجلال قد ملآ أركان قلبه، وملكا عليه أمر وجدانه سواء كان يعتقد بأن لله يدًا لا كالأيدي، ويمينًا لا كالأيمان، وأن القبض على الأرض، وطيّ السماوات هو من وظيفة اليد واليمين الإلهية من غير تشبيه ولا تمثيل، أو يعتقد أن الكلام تمثيل لعظمة سلطان الله تعالى وانفراده في ذلك اليوم بشؤون العوالم العلوية والسفلية بحيث لا يكون لغيره فعل ولا كسب، ولا أمر ولا نهي ولا ضر ولا نفع، وهذه الآية هي بمعنى قوله تعالى في الآية المحكمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) ، ولا ينكر أحد من نفسه أن المعنى الواحد تختلف آثاره في الوجدان باختلاف العبارات التي يتجلى بلباسها، وأن التمثيل أبلغ ضروب الكلام تأثيرًا، وأكثرها ضياء ونورًا، وأي ذوق عربي يطوف به من قراءة هذه الآية تشبيه الله تعالى بخلقه، وهو يعهد مثل هذا التعبير في اللغة حتى من الصبيان، يقولون: إن هذه البلاد أو تلك القبيلة في قبضة فلان، وإن زيدًا في أصبع عمرو كالخاتم، على أن الآية يحيط بها التنزيه من طرفيها كما ترى، مَن علم أن جميع ما جاء في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة من هذا النوع من المتشابه يُراد به تقرير العقائد الثابتة بالعقل والنصوص المحكمة وكبح النفوس - بذكر صفات الجلال والعظمة - عن الشرور، وجذبها بصفات الجمال إلى معاهد الضياء والنور، ليكون المؤمن بالأولى من الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وبالأخرى من الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب؟ مَن عَلِم هذا ولاحظه لا يشتبه عليه متشابه، سواء فَوَّض أو أَوَّل، وصرح غير واحد من المحققين بأن جميع ما أطلق على الله تعالى من الصفات الثبوتية من المتشابه لا أنه مخصوص بما لا يعرف إلا بالسمع، وصرَّح الإمام الغزالي بأن لفظ القدرة مستعار للصفة الإلهية التي يوجِد بها ويُعِدم، وأن معنى هذه الصفة هو أجلّ وأرفع من أن تلمحه أعين واضعي اللغات، فيضعون له لفظًا يدل عليه حقيقة، وحقًّا قال فإن هذا اللفظ وضع لمعنى في الإنسان لا يصدر عنه إيجاد ولا إعدام، والحكماء والعقلاء متفقون على أن قدر البشر إنما تتصرف في الموجود فحسب. وأما المتشابه بالمعنى الآخر، فقد كلفنا بالإيمان به على ظاهره إذا لم يكن مخالفًا لأحكام العقل والأصول المقررة بالشرع، وكانت النصوص به قطعية، وسيأتي تفصيل القول به في السمعيات إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

الدولة العلية في أفريقية

الكاتب: نقلا عن جريدة المقطم

_ الدولة العلية في أفريقية لحضرة صاحب الإمضاء قال مُكاتب جريدة (فرنكفورت) الألمانية من الآستانة أنه لمَّا أبرم اتفاق السودان بين فرنسا وإنكلترا في شهر مايو الماضي اجتمع مجلس الوكلاء مرارًا في يلديز، وأقر على إرسال الجنود والمدافع إلى خلف طرابلس الغرب في طرق القوافل المؤدية إلى بحيرة تشاد وإلى تيبستي لبقاء تلك الجهات في منطقة نفوذ الدولة العلية، وحفظ سيادتها عليها، وصادق جلالة السلطان على هذا القرار، ولكنه بقي حبرًا على ورق، ولم يخرج من القوة إلى الفعل إلا منذ أسبوعين، فإن الدولة العثمانية أرسلت سبع أورط من مشاتها وألايًا من فرسانها، وست بطاريات من مدافعها إلى الحد الجنوبي من فزان، فسارت حتى نزلت على بعد 900 كيلو متر جنوبي الأماكن القصوى التي كانت الجنود العثمانية نازلة فيها قبلاً، ولكنها لا تزال تبعد 1500 كيلو متر عن ودّاي، وقد صدر الأمر بزيادة عدد الجنود العثمانية في طرابلس الغرب زيادة دائمة. وأرسل مكاتب روتر من الآستانة يقول إنه سمع من بعض الأتراك أن والي طرابلس الغرب أوفد وفدًا إلى وداي ومعه بعض العساكر العثمانية، فرفعوا الراية العثمانية عليها، والغرض من إرسال هذا الوفد توطيد سلطة السلطان على الجهات الواقعة خلف طرابلس الغرب إلى حد بحيرة تشاد لتؤمِّن القوافل التي تسير من داخل أفريقية إلى ساحل البحر. ولكني علمت من جهات أخرى أن ما سمعته من بعض الأتراك سابق لأوانه، وإن يكن السلطان يروم مد سلطته إلى داخل أفريقية؛ لأنه إذا فعل الباب العالي ذلك وقعت المشاكل بينه وبين فرنسا، إذ وداي وبحيرة تشاد واقعتان ضمن منطقة نفوذها حسب الاتفاق الذي عقد بين إنكلترا وبينها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقطم)

مساجد الصعيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مساجد الصعيد رأينا في سياحتنا في الصعيد كثيرًا من المساجد متداعية الجدران، مدعثرة الأعضاد، يريد بعضها أن ينقض، وبعضها قد انقض بعض جدرانه فعلاً، وديوان الأوقاف غني يوجد في خزينته قريب من مائتي ألف جنيه، فلماذا لا يصلح هذه المساجد؟ هل الأولى له أن يتمتع بلذة وجود المال في الصندوق، وإن كانت اللذة مشوبة بألم الخوف عليه من المالية، ومن البنك الأهلي؟ هل من العدل والإصلاح أن ينفق بسعة وكرم حاتميّ على زخرفة بعض المساجد في القاهرة فيحليها بالذهب ويفرشها بالزرابي الفاخرة لتملأ عيون السياح من الإفرنج، ويبخل على سائر المساجد بإقامة جدرانها وإصلاح بنيانها وفرشها بالحصير؟ أما يكفي تقتيره على الأئمة والخطباء والخدمة الموجِب لعدم قيامهم بوظائفهم؟ نقول هذا عن تألم وإخلاص، ونجوّز أن يكون للديوان بعض العذر في بعض ذلك، وعسى أن يلتفت الديوان إلى هذا، فيبادر بتدارك ما يمكنه تداركه، فإن الشكوى منه كادت تكون عامة، وننبه أصحاب البلاد والجهات الذين أهملت شؤون مساجدهم أن يطلبوا إصلاحها من جناب الخديوي المعظم، وسموه يلبي طلبهم إن شاء الله تعالى.

تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية (الحُجَّاب) ينبغي أن يعين للمحاكم الشرعية حجاب يقرءون ويكتبون، ويستطيعون أن يحفظوا النظام إذا دعت الحاجة إلى ذلك في الجلسات على ما هو معروف في الدوائر القضائية الأخرى، وهذا مما يطلبه القضاة ويلحون فيه. (الأعمال الكتابية) نبتدئ منها بالعقود والإشهادات وما يتبعها؛ لأن الكلام عليها لا يطول، على أنها من أهم أعمال هذه المحاكم، خصوصًا إذا رأت الحكومة فيما بعد أن تضع في قوانينها أنه لا يقبل سند على من لا يعرف القراءة والكتابة، إلا إذا كان ذلك السند محررًا بحضرة مأمور قضائي، والمحاكم الشرعية هي الأقرب والأوثق عند الناس في مثل هذه الشهادات، على أن هذا النوع ليس بقليل الآن في دوائرها. حفظ كُتَّاب هذه المحاكم ألفاظًا معينة يضعونها في أساليب معتلة مع تكرار بارد يعسر معه الفهم، ويسأم منه الذهن، وقد عمت شكوى جميع القضاة من ذلك، حتى إن سماحة قاضي مصر ذكر فيما طلب إدخاله من الإصلاح وتفضل بإرساله إليّ (الاختصارفي الشهادات والمرافعات إلى الحد الذي لا يُخل بالمطلوب شرعًا) فإن ذلك أمر يحتاج إلى وضع قانون وذلك ناشئ من جهل الكتبة وظنهم أن تلك الألفاظ في تلك الأساليب السمجة لا بد منها شرعًا ولا يصح العقد بدونها، وكان يوافقهم على هذا الزعم بعض القضاة، وربما لا نعدم من بقاياهم اليوم من يكون على رأيهم. لهؤلاء الكُتَّاب عناية بتعريف الأشخاص من متعاقدين وشهود وجيران في الحدود، يضيق لها الصدر ويضل فيها الفهم، ويحملون المُشهد على ذكر جد جاره، وقد يكون ذلك الجار ممن لا يعرف أباه فضلاً عن جده ويضطرونه إلى الكذب، مع أن المقصد من تعريف الشخص تمييزه، ويكفي فيه ذكر اللقب المشتهر به المعروف به في بلده أو محلته بحيث لا يشركه غيره في مجموع الاسم واللقب والصنعة ومحل الإقامة، ومع أن الشهرة تغني عن ذكر النسب فإنهم يعرفون الجناب الخديوي بذكر نسبه إلى جده، ويعرفون مدير الجهة أو محافظها بأبيه وجده، مع أنه سبق من المديرين مَن ربما لا يكون جده معروفًا لأحد من الناس في هذه البلاد ولا له نفسه، وعندنا كثير من أبناء الجراكسه والأحباش الذين جيء بهم وهم صغار لا يعرفون آباءهم فضلاً عن أجدادهم، فذلك الجد أو الأب المجهول كيف يكون مميزًا لهذا الرجل المعروف؟ على أن الناس يضطرون في كثير من الأحيان إلى أن يخترعوا أسماء ليرضوا جهل الكاتب ويتخلصوا من حمقه. يستشهدون على وكالة ناظر المالية عن الجناب الخديوي، ووكالة المدير عن ناظر المالية في بيع أطيان الميري الحرة بشاهدين: أحدهما معاون في مديرية، والآخر كاتب فيها، كأن هذين الشاهدين حضرا عقدي الوكالتين، ولا يكتفون بالأوامر الصادرة في ذلك، ويعدونها من المؤكدات فقط، وقد يتكرر عقدان في صحيفة واحدة أو صحيفتين متواليتين، ويذكر في كل منهما تفصيل التعريف والشهادة علي هذا التوكيل ونحو ذلك في بيع العقار، وفي الوقف يأتون في تفصيل المساحات والحدود بما لا يمكن معه فهم العقد، ويأتون في شرائط الوقف وفي صيغته بأمور ألفوها يرتبك في فهمها كل من قرأها، ومن هذا الهذيان يتولد أغلب المشاكل التي تحدث في الأوقاف ودعاوي الاستحقاق. من السخافات التي ألفوها أن يذكروا في حجج إنشاء العمارة قولهم: (بعد أن ملك فلان أرض كذا عنَّ له فعل مايأتي ذكره، وهو أنه أحضر المون المتقنة، والآلات المحكمة من طين وجير وجبس وأخشاب، وما يلزم لذلك من البنَّائين والفعلة والنجارين، وغير ذلك مما يحتاج إليه ويتوقف أمر العمارة وتمامها عليه، مع ان المنشئ ربما لا يكون أتى بشيء من ذلك، وقد يكون هو الباني بيده إن كان بناء، وجاء من لوازم البناء بغير الجبس والجير مثلاً، وبني بالطين والرمل، فلو نازعه منازع بأن هذا البناء ليس هو المذكور في الحجة، واستدل بأن مونته ليست متقنة؛ وليس فيها جبس ولا جير لرجح عليه في المخاصمة وضاعت العمارة من يده بحماقة الكاتب. وقد رأيت إشهادًا بإقامة الجناب الخديوي ناظرًا على وقف في دمياط استغرق سبع صفحات بالخط الدقيق لو كتب بالخطوط المعتادة استغرق عشرين صفحة أو ما يزيد على ذلك، ومعظمه من اللغو الذي لا فائدة فيه، ويضر بفهم الكلام. جاءني رقيم بطريق البوسطة من أحد الأدباء يستغيث بي من تكرار لفظ (المذكور) و (المذكورة) في عقود المحاكم ومرافعاتها، وعرض لي أن عددت هذين اللفظين في شهادتين صغيرتين، فوجدتهما تكرّرا سبعًا وعشرين مرة ربما يحتاج الكلام إلى أربع مرات منها، والباقي لغو لا معنى له. وأرى أن إصدار الأوامر بالاختصار لايفيد في تطهير المحاكم من هذه السخافة التي يتبرأ منها الشرع ولغته، بل لا بد من تشكيل لجنة من أهل الشرع العارفين بطريق التوثيق، وأذكياء الكُتَّاب لتنظر في هذا النوع من التحرير، وتضع رسمًا لكل نوع من أنواع العقود، وتوزعه النظارة على المحاكم ليحذو الكُتَّاب عليه، وتُوعِد من خالفه بالتأديب إلى أن يوجد في المحاكم أناس يعرفون اللغة العربية وما تدل عليه أساليبها الصحيحة من الإلمام بالشريعة. (ما يكفل السرعة في العمل) وضعت النظارة قواعد وأنشأت لها قسائم لو اتبعت لم يشك شاكٍ من تأخرالعمل فيما يطلبه من المحاكم الشرعية، ولكن كثيرًا من المحاكم يغفلها فتستمر الشكوى، وذلك إما لجهل الكاتب بفائدتها، أو تعمد إغفالها لسبب من الأسباب , ولا تحتاج في الإلزام بها إلا إلى تشديد المراقبة ومداومة التفتيش. (الدفاتر) دفاتر المحاكم كثيرة جدًّا، ورأيت أن بعضها لا يُحتاج إليه كيومية الملخص مع وجود دفتر الفهرست، وكدفتر مواعيد القضايا إن لم يجعل بمنزلة الرول الذي يوضع أمام القاضي في الجلسة، وأرى أن يُعاد النظر في هذه الدفاتر لتقرير ما يبقى وإلغاء ما يلغى تخفيفًا للعمل واقتصادًا في الورق والجلد والزمن، وإنما أخص بالذكر هنا دفترًا أطلب محوه في أقرب وقت وهو دفتر مضابط القضايا الذي تثبت فيه محاضر الجلسات، ويجب أن يستبدل بمحاضر وملفات على نحو ما هو جارٍ في الدوائر القضائية الأخرى، وذلك أن هذا الدفتر يحتوي على الدعاوى، وما يحصل فيها من تأجيل أو شطب، أو مرافعة وشهادات وحكم، ولكن على ضرب من التشويش لا يُستطاع احتماله. يأتي المدعي مثلاً، فيذكر في أول صفحة من الدفتر أنه جاء وأُجِّلت الدعوى لأعذار خصمه، ثم يتلو هذه الدعوى دعاوي أخر، وفي الصفحة الخامسة يذكر أن الخصمين حضرا، ولم يكن معهما شهود معرفة فأجلت القضية، وبعد عشر صفحات يذكر شيء من المرافعة، وبعد خمس أخرى يذكر بقيتها، وبعد ست أو سبع تذكر شهادات، وهكذا، وربما تفرقت أجزاء القضية في أربعة دفاتر أو أكثر، وبقي النظر فيها من سنة إلى سنة أخرى، فإذا صدر فيها حكم ابتدائي، ودفع المحكوم عليه احتيج إلى نسخ هذه الأجزاء وجمعها من صفحات الدفاتر لترسل إلى محكمة الدفع، وإذا احتاج أحد الخصمين لأخذ صورة المرافعة تجشم الكاتب مشقة التقاط هذه الأبعاض من وجوه الصحائف في جميع تلك الدفاتر, خصوصًا ولا فهرست للقضايا حتى يسهل الاهتداء إليها، وإذا أريد التفتيش والبحث في قضية ضاع الوقت في تقليب الأوراق. وما رأيت قاضيًا من قضاة المديريات والمراكز إلا وهو يشكو من تحرير المحاضر بهذه الطريقة، فأعيد طلبي لمحو مضبطة الدعاوى، وإبدالها بملفات تحتوي على جميع المحاضر والأوراق جملةً , لكل قضية على حدتها ملف، فإذا انتهت القضية حفظت مع أمثالها من قضايا السنة في محافظ، وأودعت الدفترخانة على ماهو معروف، فإذا استؤنفت القضية أُرسل ملف الدعوى بجميع ما فيه من الأوراق إلى محكمة الدفع، ولا بد أن يكون لمحاكم الدفع محاضر على هذا النحو. ثم إن دفتر السجل يوجد فيه نوع من تقسيم الأنواع وتمييزها، وإن كانت تحتاج إلى فضل تمييز، أما مضابط الإشهادات، فتثبت فيها الأنواع مختلطة كأنها كشكول، ومن اللازم تمييز الأنواع فيها على نحو ما في السجل، ثم وضع فهرست في أول كل دفتر يحتوي على بيان ما فيه. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (17) من هيلانة إلى أراسم في أبريل سنة -185 قد تمّ لي القرار في المنزل الذي استأجرته وفي صباح اليوم قدم على إحدى السفن التجارية خادمانا الزنجيان (قوبيدون وزوجته جورجيه) آتيين من فرنسا حيث كانا تخلَّفا عني لحزم أمتعتنا، فأسكنتهما رواقًا ملاصقًا للمنزل من ناحية البستان، وأنا الآن أساعدهما في نفض كتبك وترتيب مجموعاتك. لم يكد يستقر هذا الزنجيّ البار حتى وجَّه عزيمته إلى أعمال شتى، فصرح لي أن في نيته قلب أرض البستان وبذر الحبوب، وغرس أنواع من النبات فيها، إلى غير ذلك من الأعمال، وقال لي: إنه لا لوم عليه إذا أنتج بستاننا عما قليل أطيب فواكه البلد وأجود بقوله، وهو يذكر سابق اشتغاله بزراعة الأرض أيام رِقِّه، وهو فَرِح فخور أنه ينبعث إلى العمل بسائق الشكر والإقرار بالنعمة بعد أن كان لا يلجئه إليه إلا خوفه من أليم الضرب بالسوط، ويقول: ما أشد إتقان ما سيصير إليه شغلي، فقد أصبحت مالكًا لنفسي، منفلتًا من ربقة الاستعباد. لا أخفي عنك أن المقارنة بين اسمه والمسمى كانت مدعاة الضحك ومثار الاستغراب، وأن سكان مرازيون يضحكون منه؛ لأنهم يستصعبون التوفيق بين معنى العشق الذي يدل اسمه (قوبيدون) عليه، فإنه في أساطير اليونان اسم للعشق الذي هو ابن الزهراء إلاهة الحسن، وبين مشفري ذلك الزنجي الغليظين وأنفه الأفطس، وجلده الأسود، وإني لا أخشى أن يكون هذا الاسم لم يطلق عليه من مواليه السالفين إلا تهكمًا وسخرية، ولكني على رأيي هذا لم أجسر أن أكلمه في تغييره، فإني لو فعلت لكان هذا اعترافًا مني له بأنه دميم، أو تصريحًا بأن البيض لا ينصفون الإفريقي مثله. أنا في هذا البلد أعيش بمعزل تام عن الناس، فلا أتردد إلا إلى دار السيدة وارنجتون حيث أصادف أحيانًا بعض سيدات من بنزانس أو من ضواحي مدينة لوندرة، والذي يشغلني في اختلاطي بهؤلاء السيدات هو الطريقة التي تجري عليها الإنكليزيات في تربية أولادهن، وإني مجتهدة بملاحظتي إياهن في تعلم أخلاق وأعمال الأمومة. إن سكان كورنواي وإن صح أنهم ليسوا من نسل الإنكليز السكسونيين لما يقال من انتسابهم إلى فصيلة من الصقالبة، ولما أراه بينهم وبين البريتونيين [1] من المشابهة الكبرى في لون الشعر وملامح الوجه - إلا أن بين هؤلاء السكان عدة من الأسر (العائلات) الإنكليزية، ومن كان من الباقين غير إنكليزي الأصل، فقد تخلقوا بأخلاق تلك الأمة التي ألحقهم بها الفتح وسرت فيهم عاداتها على تفاوت في ذلك قلة وكثرة. انظر كيف يستقبح النساء في إنكلترا طريقة تقميط الأطفال ويستهجنَّها، ويقول الوالدات منهن استهزاء بنا أننا ندخل أطفالنا في أكياس رئاء الناس حتى إذا سنحت لنا الفرصة علقناهم على مسامير في الحائط، واكتفينا بذلك مؤنة ما تستلزمه حالتهم من العناية والرعاية إذا كانوا غير مقمطين، وإنما ساغ لهن أن يقلن ذلك؛ لأن أطفالهن يتمتعون بتمام الحرية في حركاتهم؛ لأنهن يلبسنهم ثوبًا طويلاً من الصوف اللين (فانيلاّ) فيكونون فيه مالكي أنفسهم على قدر ما لهم من القوى الصغيرة في ذلك السن، وإني والحق أقول معجبة بهذه العادة لأني كثيرًا ما ساءني رؤية الأطفال يُربَطون وتُحصر أجسامهم في لفائف تُضم أطرافها بالدبابيس، فيكونون كجثث محنطة لُفَّتْ بشرائط من الكولان [2] . الأطباء الإنكليز كافة يمقتون مايجعل في أثواب الأطفال من الحبال التي يعتمدون عليها في دبيبهم، وما يتخذ لهم من الدراجات الخيزورية [3] والآلات المتدحرجة لأجل مساعدتهم على الدرجان، ويؤكدون أن استعمالها مما يؤدي إلى تشوه صدر الطفل واعوجاج ساقيه بما يستلزمه ذلك الاستعمال من وقوع ثقل الجسم كله على العقبين. بل إن الدكتور وارنجتون قد بالغ في الأمر حتى قال بوجوب تعويد الطفل من نعومة أظفاره، على أن تكون أعماله كلها عن قصد وعزيمة، ولهذا يجب ترك إقامته وتمشيته بالآلات الصناعية حال عجزه عن ذلك بنفسه؛ لأن فيه تضليلاً له في فهم مقدار قواه، فإنه حينئذ يتوهم أنه يدرج بنفسه، والدارج في الحقيقة هي تلك الآلات التي يعتمد عليها، وهو وهمٌ يصحبه طول حياته، ويظهر أثره في عامة شؤونه. يتعلم الأطفال هنا الحركة والانتقال بأنفسهم، فإنهم يُتركون وشأنهم في التحرك، فيتدحرجون ويَحْبون على بساط يفرش لهم، وينالون من القوة تدريجًا مايمكنهم من الوقوف، ثم يخاطرون بأنفسهم فيخطون خطوات مستعينين فيها بالاعتماد على مايكون قريبًا منهم من أثاث المكان، فإذا اضطربوا لضعفهم تلقتهم أذرعة أمهاتهم فمنعتهم من الوقوع. هذه الطريقة التي هي سُنة الله في خلقه، وليست سوى التخلية بين الطفل وعمله , هي أيضًا أكثر انتشارًا في أمريكا منها هنا، فقد سمعت بمناسبة الكلام فيها أن سائحًا إنكليزيًّا صادف يومًا وهو في الولايات المتحدة بأمريكا صبيًّا في الثانية أو الثالثة من عمره يزحف بيديه ورجليه على حرف قنطرة مدعثرة يتدفق من تحتها سيل صخب، فارتاع لقحوم هذا الحدث المتهور في الخطر، فأسرع في التماس والدته، فأصابها جالسة مطمئنة على حافة مجرى هذا السيل نفسه تغسل ثيابًا، فمثّل لها مارآه من حالة ولدها، وهو فزع متخوف عليه الهلاك، فما كان جوابها إلا أن قالت غير مدهوشة ولا منزعجة: إن الصبي معتاد على العناية بنفسه ووقايتها، وإني إذا عدوت إليه لإبعاده عن مظنة التهلكة مُظِهرةً له الجزعَ والهلعَ كان ذلك - ولا شك - مُذهِبًا لرشاده مُضيعًا لسداده، فلما سمع السائح الأجنبي منها هذا القول اقتصر على مراقبة الطفل لينظر ماذا يكون من أمره، فرآه قد مكنه ما بذله من قواه من تنكب طريق الهلاك 0 أنا إن سيقت ليَ الدنيا بحذافيرها على أن أرى صبيًّا لي في هذه الحالة ما رضيت، ولكن تلك المرأة لم تخطئ خطأ بيّنًا في تعريضها ولدها للخطر على ما رأيت كما قد سبق إلى الذهن، بل إنها فهمت فروض الأمومة الحقة أحسن مما فهمناها، فإن هذا الطريق في سياسة الأحداث من بداية نشأتهم هي سبب ما نراه في سكان أمريكا الشمالية من ميلهم إلى المخاطرة، وشغفهم بالاستقلال. الوالدات الإنكليزيات كافة يتمنعن من تغطية رءوس أطفالهن، ولا يقبلن أن يضعن عليها القبعات المحشوة بالوبر التي هي تيجان الضعف، نعم إنه قد يُعترض عليهن بما في ذلك من تعريض الأطفال للخطر لما يتوقع من سقوطهم، ولكنهن يدفعن هذا الاعتراض أولاً بأن رعايتهن لهم واهتمامهن بأمرهم يقومان مقام الوسائل التي تتخذ عادة لوقايتهم، وثانيًا بأن الطفل كلما شعر بقلة أسباب الوقاية من جانب الغير زاد احتراسه وتوقيه، فيلزم أن يربى فيه من صغره خلق الاستقلال بحماية نفسه والدفاع عنها لا أن يُعوَّل في حفظه على بعض طرق احتياطية لا تغني عنه شيئًا، وهي دائمًا مبنية على الوهم والخطأ قلَّ ذلك أو أكثر. إذا شاهدت الطفل الإنكليزي وهو مكشوف الرأس والذراعين والساقين، خلته هرقلاً [4] صغيرًا , وإن كان لا يخنق الأفاعي - لانقطاع دابرها من جزيرته - ولكن قد بدت عليه مخايل الجسارة، وسمات الجراءة والإقدام، أنَّى يوجد دم أغزر مادة من الدم الإنكليزي، وأي نسل أقوى من نسل الإنكليز؟ إن معايب الجسم وأنواع تشوهه هي في غاية الندرة هنا، ولا إخالك تصدقني إذا قلت: إني إلى الآن لم يقع بصري على أحدب، أليس جمال النسل حجة قائمة تنطق بأفصح لسان، مؤيدة مذهب الحرية الذي جرى عليه جيراننا في طريقة تربية أولادهم؟ المهد المذبذب الذي هو من لوازم الأطفال عندنا قليل الاستعمال جدًّا فيما وراء بوغاز المانش (أي بلاد الإنكليز) وإنما يوجد للأطفال سرر كثيرة ليست من الأراجيح التي تهز باليد كالتي عندنا، فالإنكليز عمومًا يسترذلون عادة هزّ الأطفال، ويقولون إنها ذريعة إلى تعويدهم على أن لا يناموا إلا بوسائل صناعية، تعلّمهم هذه العادة أن يلتمسوا راحة أبدانهم عند غيرهم، على حين أنه يلزمهم أن لا يطلبوها إلا من أنفسهم ومن الفطرة التي فطرهم الله عليها، نحن لا نهتم بما ينشأ عن اتخاذ تلك الوسائل الباطلة الموافِقة لرغائب أطفالنا من الآثار السيئة في طباعهم، ولا نطيل النظر في ذلك. إن الطفل قبل تمييزه وتمايز أنواع الوجدان فيه يكون في فطرته من الاحتيال ما يمكنه من الانتفاع بضعفه مع مراعاة من يكنفونه له، فكم من أناس انقضى دور طفوليتهم ولا يزالون في حاجة إلى الاهتزاز طول حياتهم، فلا تعرف لهم نومًا ولا يقظة، بل تراهم في غفلة عن أنفسهم تحركهم عوامل العالم الخارجي، فيرون في أحلامهم وخيالاتهم أنهم يهتزون، وكان الأولى أن تصيح بهم الشهامة ليهبوا من رقادهم، ويشمروا عن ساعد الجد للعمل والمغالبة في ميدان الحياة. أخشى أن يكون كل كلامي هذا قريب الشبه بالوعظ الديني، على أني لم آتِ به من تلقاء نفسي، بل إني سمعته بما يقرب من عبارتي من قابلة وقور صديقة للسيدة وارنجتون مشهورة هنا بأن قولها حجة في فن التربيية، فإن التربية في إنكلترا هي أول علم يتلقاه النساء. إني أخال الوالدين في إنكلترا أقل بكاء منهم عندنا، فهل أنا واهمة في ذلك؟ كلا، لا وهم ولا خطأ، فإن بكاء الطفل إنما يكون لتألمه من عارض يلمّ به، وإن ما مُنحه هنا من الحرية وما حيط به من ضروب العناية الصحية وما سُنّ له من قانون الغذاء، كل ذلك يساعد على حفظ صحته ونموها، إذا كان للإنكليز عناية كبرى بترقية نسل العجماوات حتى لا تجد أجمل من خيلهم ولا أحسن من كلابهم، فكيف مع هذا يظن أنهم يغفلون تربية الآدمي الجسمانية. الوالدات الإنكليزيات يُرضعن أولادهن متأسيات في ذلك بملكتهن، ومن هنا كان لفظ المرضعة عندهن لا يؤدي معنى هذا اللفظ عندنا، فلا يراد به إلا المرأة التي تقوم على الولد في تربيته، وحينئذ فالمراضع عند جيراننا ينقسمن إلى قسمين متمايزين: أولهما الحاضنات ويسمين عندهم بالمراضع الجافات، ثانيهما الحقيقيات ويوصفن بذوات البلال [5] ، إلا أن هؤلاء أقل عددًا ممن عندنا، ولا يُرجع إليهن إلا عند الضرورة الملجئة حيث تكون الأم في غاية العجز عن إرضاع ولدها، بل إن كثيرًا من الإنكليزيات يفضلن إلقام ولدانهن زجاجات اللبن على إلقامهن أثداء المراضع المستأجرات، وإنهن ليوسعننا لومًا على تفريطنا في هذا الأمر، ولا أخالهن إلا محقات في ذلك، فكم من الفرنساويات المترفات من يتركن ولدانهن الذين كان يجب أن يكونوا أعز شيء عليهن في هذا العالم، ويكلن إرضاعهن إلى نساء من أهل القرى جافيات الطباع قذرات , لا يرضينهن مساعدات لهن في التزين والتحلي. النظافة عند الإنكليز في من حق الأطفال أساس تدبير الصحة، وهي عامة في كل الطبقات حتى الفقراء، فإنهم يغسلون أولادهم في كل صباح. يشدّد الأطباء هنا النكير - كما يفعله رصفاؤهم في البلاد الأخرى - على لبس النساء الغلائل المحزوقة (الضيقة الضاغطة) فلا يصغي لهم أحد، فالصينيات يتلفن أقدامهن بالنعال الضيقة، ونحن نتلف قدودنا بهذه الغلائل المحزوقة جريًا على ما حكمت به العادة فرارًا من السمن وبروز البطن عند الحبل على أنه يجب الإعتراف بأن الإنكليزيات أقل منا عناية في إخفاء حبلهن، بل إنهن يفتخرن به، فقد شبهت إحداهن المرأة الحُبلى بالشجرة المثمرة، فقالت: مَثَل المرأة في سبيل إنشاء الأسرة كَمَثل الشجرة تحمل ثمرتها. ألا تذكر أننا في أيام الهناء الخالية لم

الأسطول الفرنساوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسطول الفرنساوي لمَّا علمنا بطواف هذا الأسطول بسواحل سوريا خطر لنا أن ذلك لغرض سياسي، ثم جاءتنا الأنباء بزيارة أميره الأميرال فونيه للبطرك الماروني في جونيه عُظمى حواضر البحر في لبنان، وما كان له من الحفاوة والإجلال من اللبنانين، وإنه لما ألمّ الأسطول بحاضرة طرابلس الشام انحدر أهالي زغرتا نساء ورجالاً إليها، وزاروا الأسطول جميعًا، ورحبوا بمن فيه أعجب ترحيب ... ولا بد أن يكون هذا عن تواطؤ ومداولات، فقد مر على اللبنانين حين من الدهر، وهم إلى العثمانية أقرب منهم إلى الفرنساوية ببركة سياسة طَيب الذكر رستم باشا ثم واصه باشا، فاعتزازهم الآن واحتفالهم بالأسطول الحربي له شان نستلفت إليه دولة نعوم باشا ولا بد أن يهتم له بقدر صدقة في خدمة دولته وسلطانه. أول ماتبادر إلى الذهن في تعيين غرض فرنسا من هذه الحركة هو إيقاع الدولة العلية في الوهم لتمنع الحملة العسكرية التي أرسلتها من طرابلس الغرب إلى فزّان فوداي لتؤيد نفوذ الدولة في تلك البلاد حتى بحيرة شاد مما وقع في نفوذ فرنسا بمقتضى معاهدتها الأخيرة مع إنكلترا، ثم جاءنا بريد أوروبا ببيان آخر، وهو أن فرنسا وروسيا تريدان فتح باب المسألة المصرية وإخراج الإنكليز من مصر مغتنمتين فرصة اشتغال إنكلترا بالحرب في أفريقيا، وإن فتح الباب ربما يكون باحتلال الفرنساويين إحدى المواني السورية، ونحن نعلم أن فرنسا ما منعها ولا يمنعها من التعدي على سوريا إلا الخوف من معارضة إنكلترا، ومع هذا نقول: إن التعدي على سوريا هو فتح لباب المسألة الشرقية الكبرى، لا المصرية فقط، وإلا فإن كان المراد إخراج الإنكليز من مصر كما قيل، فليكن العمل في مصر إما معنويًّا وإما حسيًّا، وبموافقة السلطان صاحب مصر، هذا، ولعل ما باحت به الجرائد من إظهار مولانا السلطان الأعظم الميل إلى الإنكليز في الحرب الحاضرة من دون سائر ملوك أوروبا هو مبني على تنسم الغدر من فرنسا وروسيا، ولقد كان منع مولانا - أيده الله- الأسطول من الدخول في مضيق الدردنيل من السياسة المثلى، ومن الناس من يظن أن فرنسا وروسيا تحبان الاتفاق مع الدولة العلية في شأن مصر، وأن اجتماع الأميرال فورنيه بجلالة السلطان، ثم سفره في باخرة السفير إلى روسيا إنما هو لهذه المهمة، وكل هذا من التصورات التي يكشف حقيقتها المستقبل، والله بكل شيء عليم. صدرت إرادة مولانا السلطان الأعظم بايصاء معمل كروب في ألمانيا بأن يعمل له مائة وثمانية من الدافع السريعة الرمي، كالذي أهداه إليه إمبراطور ألمانيا في العام الماضي، وأيضًا معمل كروب في فيلاد لفيا من الولايات المتحدة بسفينة حربية من نوع الطراد ثمنها ستمائة ألف جنيه. أقر مجلس الوكلاء على إعطاء امتياز سكة حديد بغداد لشركة سكة حديد الأناضول الألمانية، وصدرت الإدارة السلطانية بإعطائها حق إنشاء خط من قونيه إلى البصرة مارًّا في بغداد، وتكفلت الشركة بمده في ثماني سنين واشترطت عليها الدولة أن تبتاعه منها متى شاءت. التمس حضرة الفاضل الشيخ زكي الدين سند من فضيلة شيخ الجامع الأزهر أن يختار أربعة من أفاضل العلماء للوعظ والإرشاد في أربعة مساجد متفرقة من مساجد القاهرة، على أن الجمعية تدفع لكل منهم ثمانين قرشًا في الشهر من صندوقها، فأجاب ملتمسه مع الثناء والشكر، وعهد إلى أربعة من أكابر الشيوخ بذلك، فنثني على جمعية (مكارم الأخلاق) أحسن الثناء على هذا السعي الحميد، وهنا نذكر أننا كنا قد التمسنا في (المنار) من شيوخ الأزهر أن يشغلوا بمثل هذا العمل كل جوامع المدينة لأنه أهم وأفضل ما يطلب منهم في هذا الزمان الذي فشا فيه الجهل، فلم يُجب طلبنا أحد، ولما علمنا أنهم أجابوا الدعوة المقرونة بقليل من المال تذكرنا ما قاله لنا فيهم كثير من عقلاء المصريين غير مرة مما لا نذكره رعاية لحرمتهم، ونعذر من يأخذ على عمله أجرًا من جمعية خيرية إذا كان محتاجًا إليه، ومع ذلك نقول أيضًا: إن فيهم من يريد الآخرة، كما أن فيهم من يريد الدنيا، وإن النداء الأول ربما لم يبلغ مريدي الآخرة، وربما يكون قد لبّى النداء بعضهم من حيث لا ندري، وعسى أن ينبري مَن عساه يوجد فيهم من المخلصين الملتهبين غيرة على الأمة، والدين فيزينون سائر المساجد بوعظهم وهديهم مراعين ماتمس إليه الحاجة مقدّمين الأهم على المهم، والله الموفق.

رزء وطني عظيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رزء وطني عظيم رزئ السادة آل بيرم الكرام، بل القطر المصري، بوفاة الشاب الذي برز على الشيوخ علمًا وعقلاً وسياسة وعملاً السيد محمد بك بيرم كبير أنجال المرحوم الشيخ محمد بيرم الخامس العلامة المصلح الشهير، اختطفته المنية في 32 من عمره في إثر ارتقائه إلى وكالة محافظة مصر، فكان لمنعاه رنة أسف، وشيع بمشهد يليق بمقامه، فحق لمصر أن تبكي ما حرمته من حزمه واجتهاده، فنعزي شقيقيه الفاضلَين على فقده، ونسأل الله له واسع الرحمة، ولهما طول البقاء ودوام الارتقاء.

كنسة الإمام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كنسة الإمام احتفل العلماء في يوم الثلاثاء الأسبق بكنس ضريح الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وسيحتفلون قريبًا بمولده، وقد كتبنا في العام الماضي بهذه المناسبة نندد بما في هذه الاحتفالات والموالد من البدع، وذكرنا ترجمة الإمام عليه الرضوان، وما كان عليه من نصر السنة وخذل البدعة، وقد بلغنا بمزيد السرور أن فضيلة مفتي الديار المصرية تواطأ مع فضيلة شيخ الجامع على إزالة هذه البدع تدريجًا، فأزالا في هذه السنة بدعة توزيع الكناسة على العلماء التي كانت تؤخذ للتبرك، وبدعة نقل العمامة التي توضع على القبر من رأس عالم لرأس آخر، هذين العملين من عبادات الوثنيين في الهند - راجع صفحة 425 من (منار) هذه السنة - فحمدًا للشيخين وشكرًا، ونسأل الله أن يوفق معهما سائر الشيوخ لإماتة البدعة وإحياء السنة 0

تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية (ما يتعلق بالعقود الواردة من المحاكم المختلطة إلى المحاكم الشرعية) من دفاتر المحاكم الشرعية ما هو مختص بتسجيل العقود التي ترد إليها من المحاكم المختلطة، ومنها ما هو معدٌّ لذكر ملخصات تلك العقود، وهو عمل من الأعمال الشاقة التي تستغرق زمنًا طويلاً لعدد من الكُتَّاب في محاكم مصر والإسكندرية والمنصورة، وقد خصص له في محكمة مصر ستة منهم، وهو يفسد على كتاب المراكز وسائر المديريات أوقاتهم التي يجب أن يخصصوها لأعمال نافعة وما من محكمة من المحاكم إلا تشكو منه. ألزمت الحكومة نفسها بهذا العمل الشاق بما فرضته في لائحة المحاكم الشرعية الصادرة في سنة 1880م في المواد 90 و91 و 92، وربما كانت له فائدة فيما مضى حيث كان يجوز أن تؤخذ صور تلك العقود من سجلات المحاكم الشرعية، أو كان يتوقف نقل التكليف على ما يَرِد من هذه المحاكم إلى المديريات في شأنها، فكان في تسجيل تلك العقود تيسير على الناس في أخذ الصور والشهادات، لكن صدرت بعد ذلك منشورات تمنع إعطاء الصور والشهادات إلا من المحكمة المختلطة التي سجل فيها العقد، وأذن بنقل التكليف بناء على ما تبعث به المحاكم المختلطة نفسها بدون حاجة إلى توسيط المحاكم الشرعية، فما معنى بقاء هذا العمل للآن، والحكمة تميل إلى الاقتصاد في الأشخاص والمواد. ظن كثير من الناس أن القانون المختلط يحتم ذلك، فحسبت ذلك شيئًا، وعولت على أن أسأل عرض الأمر على نواب الدول فيما يعرض عليهم لمَحوِه من القانون، لكن بعد مراجعة القانون لم أجد نصًّا يحدد العلاقة بين المحاكم الشرعية وأقلام كُتَّاب المحاكم المختلطة إلا ما ورد في مادتي 31 و 32 من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة ونصهما (31) يعين لكل محكمة من المحاكم الابتدائية مأمور من طرف الشرع الشريف يشترك مع رئيس كتاب المحكمة في تحرير العقود الناقلة لملكية العقار والعقود الموجبة لحق امتياز على العقار، ويكتب المأمور بذلك كتابة يرسلها إلى محكمة الشرع الشريف. (32) يترتب بمحاكم الشرع الشريف كتبة مندوبون من طرف رؤساء كتاب المحاكم الابتدائية ليرسلوا إليهم صورة ما يقع بالمحاكم الشرعية من العقود المشتملة على انتقال ملكية العقار أو رهنه، لتسجيلها بدفاتر الرهونات بالمحاكم الابتدائية بدون توقف على طلب ذلك من أحد، فإن لم ترسل الصورة المذكورة وجبت التضمينات اللازمة على ذلك، فضلاً عن الجزاء التأديبي، إنما لا يترتب على ذلك بطلان العقود. فهاتان المادتان كما لا يخفى على الغبي والذكي، إنما أوجبتا على المأمور الشرعي لدى المحاكم المختلطة أن يبعث بكتابه للمحاكم الشرعية بما يحصل من العقود فيها، وذلك ليُحفظ في مجلد خاص بالضرورة؛ لتعرف المحكمة الشرعية ما حصل من التصرف في العقار لتلاحظه لو جاءها من يريد التصرف فيه، أما إنها تسجله، فهذا لا دليل عليه، وإن ماجاء في المادة 32 يوجب على قلم الرهونات في المحاكم المختلطة أن يسجل مايرد إليه من المحاكم الشرعية ويبين العقوبة والعواقب التي تعقب الإهمال في إرسال الصور من المحاكم الشرعية إلى المحاكم المختلطة، فعدم ذكر ذلك في المادة السابقة دليل على أن واضع القانون قصد أن لا يسجل شيئًا مما يرد من المحاكم المختلطة إلى المحاكم الشرعية في سجلاتها، وغاية ما يمكن أن يحتمه إنما هو المحافظة على هذه العقود في نمر مسلسلة مع فهرست يُمَكِّن من الرجوع إليها عند الحاجة، ويمكن للمحاكم الشرعية أن تفعل ذلك وتضعه في محافظ تنتهي في آخر السنة إلى أن تكون مجلدات تودع الدفترخانة مع السجلات. وما كان لواضع القانون المختلط أن يريد غير ذلك، فإن التسجيل إنما وجب لما يلحقه من الأحكام المفصلة في القانون المدني، فالذي يرد إلى المحاكم المختلطة هو الذي يجب أن يسجل فيها ليمكن الاحتجاج به على غير المتعاقدين عندها، بل ذهب بعض مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية إلى أن ذلك شرطًا مطلقًا، وأن العقود لا يعتد بها بالنسبة إلى غير المتعاقدين إلا إذا سجلت في قلم كتاب المحكمة المختلطة حتى بين الوطنيين، وصدر حكم على هذا المذهب بالأغلبية بعدم اعتبار حجة صدرت من المحكمة الشرعية وسها المأمور عن إرسالها إلى قلم كتاب المحكمة المختلطة، أو أرسلها ولم تسجل فيه، وهو حكم غير صحيح، ولكنه مبني على هذا الاعتبار، ثم إنني راجعت ما كتبه بورللي بك في القوانين المصرية، فلم أجد أثرًا لهذا الإلزام، فلم يبق إلا ما ألزمت به الحكومة نفسها، ومن السهل عليها أن تتخلص منه بإلغاء المواد المتعلقة بذلك من اللائحة الشرعية القديمة. وأذكر لبيان ثقل هذا العمل الذي يعد الآن من قبيل اللغو ماورد على محكمة مصر الكبرى وحدها في سنة 98 وهو خمسة وأربعون ألف عقد أخذ ملخصها ثم أرسل ما يختص بالعقارات التي في دوائر المحاكم التابعة لها في التوزيع إليها لتلخص منه ما يرسل إلى المراكز، وتسجل ما يكون من العقار في دائرتها نفسها، وما سجل من ذلك بالحرف الواحد في محكمة مصر آلاف من هذا، وما ورد عليها من أول هذه السنة إلى آخر شهر مايو اثنان وعشرون ألفًا وثلثمائة وسبعة وتسعون، وربا الآن على ثلاثة وثلاثين ألف، وورد على محكمة الإسكندرية من أول يناير هذه السنة لغاية يونيو اثنا عشر ألفًا ومائتان وستون عقدًا. ولا حاجة لأن أطيل الكلام في بيان الأعداد، وأكتفي بأن أقول: إن بعض محاكم المراكز وليس فيها إلا كاتبان: الأول , والثاني يسجل بالحرف الواحد نحو ألفين وثمانمائة عقد في السنة، ويسهل على النظارة علم ذلك، فكيف يمكن القيام بهذا العمل من هذه الأيدي القليلة مع بقية أعمال المحكمة، ثم إذا لم تفصل الحكومة قلم التسجيل وتجعله مصلحة قائمة بنفسها، فعليها أن تعجل بإباحة تسجيل العقود العرفية في المحاكم الشرعية على نحو ما هو جارٍ في المحاكم المختلطة، والقانون المختلط لا يمنع ذلك وإنما على قلم الرهونات أن يسجل مايرد إليه من المحاكم الشرعية، ولذلك يكون العقد حجة على غير المتعاقدين لديها، ولدى المحاكم الأهلية كما نصت عليه المادة (32) من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة التي سبق نصها، ولو أبيح ذلك لكان فيه تيسير على الناس عظيم، سواء في التسجيل لقرب المحاكم الشرعية منهم لانتشارها في جميع المراكز، ولسهولة أخذ الصور والشهادات، ولو فرض فصل قلم التسجيل واستقلاله عن المحاكم، فأرى أن تكون المحاكم الشرعية من فروعه في المراكز للسبب الذي ذكرته، وإلا احتاج إلى نفقات كثيرة لا داعي إليها أو بقيت المشقة على الناس كما هي الآن. (الدفتر خانات) وجدت في أغلب دفتر خانات محاكم المديريات التي مررت عليها خللاً عظيمًا، وكثير منها لا يوجد فيه دفتر حاصر لما هو فيها، فلو ضاع شيء منها لا تعلم على من تلقى المسئولية، ويصعب الوصول إلى معرفة الضائع، ومنها ما هو دشت لا يعرف لأي السنين هو، وإن ما أنكره جناب المستشار القضائي في دفتر خانة محكمة مصر يوجد مثله أو مايقرب منه في غيرها، فقد رأيت في بعض المحاكم أن دفاترها مدشتة في صناديق يعلوها التراب، وبعضها على الأرض والغبار من فوقها ورطوبة الثرى من تحتها. وقد اهتمت النظارة بإصلاح الدفتر خانات ووضعها على حالة تمكن من حفظ ما فيها وتسهل طرق مراجعته، وكلفت المحاكم بالعمل في ذلك، لكن لم يلبث الأمر أن حصل فيه فتور وتباطؤ لظهور الحاجة إلى أماكن وخزائن وعمال، واقتضاء ذلك لنفقات لم يكن في ميزانية النظارة ما يفي بها، ولكنها حاجة من حاجات الحكومة يجب سدها بما يمكن من السرعة، فإلى تلك الدفاتر والأوراق مرجع الناس في تحقيق الملكية والأنساب والعصم ونحو ذلك، وهي مصلحة من مصالح العامة لا تنقص في درجتها عن أهم المصالح العليا. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (18) من أراسم إلى هيلانة في 21 أبريل سنة -185 قد أصبتِ أيتها العزيزة هيلانة في انتقادك طريقتنا في سياسة الأطفال، فإنها جديرة بالاستهزاء والسخرية، ولكن يالها من طريقة تلائم أخلاقنا وأوضاعنا السياسية ملاءمة عجيبة، فلا إفراط في التضييق على الطفل وحصره في لفائفه إذا كان حظه في مستقبله أن يقمط ويشدّ بجميع أنواع القوانين والأوامر، أما حبال الملابس التي نُمسَك بها عند المشي، فلا تعوزنا وعندنا منها ما يناسب جميع الأعمار؛ لأنه قد يجوز أن لا نحسن المشية، فتلزمنا تلك الحبال أن نمشي على صراط مستقيم، وأن نمضي إلى حيث يريد من يقودنا، حقًّا إن القائمين علينا في تربيتنا ليسلبوننا من أول نشأتنا كل ما أودع فينا من حسن الظن بأنفسنا وثقتنا بها، فما أعقلهم وأبعدهم نظرًا في العواقب! ! إن هذا يعلمنا أن نكون في جميع أمورنا تابعين لغيرنا معتمدين عليه في حفظنا ووقايتنا، فإننا بتعويد الناشئين على أن يُقادوا في درجانهم ويُهزّوا في مهودهم، ويساسوا ويراقبوا في جميع حركاتهم وسكناتهم - نؤهلهم لأن يعيشوا في مستقبل حياتهم بأعين الشرطة وتحت سيطرتها , فما أجملها طريقة تتسلسل أجزاؤها! ! التسلسل هو أحسن لفظ وجدته للتعبير عن اتصال غاياتها بمبادئها. إن ماذكرتيه لي من الطريقة التي يجري عليها الإنكليز في تربية أولادهم قد أسفر لي عن وجه الحكمة في حسن أحوال إنكلترا وأبان لي أنه لا سبب لوجود ما لها من الأوضاع والقوانين الحرة إلا ماتتخذه من الطرق في تربية أبنائها على مبادئ الحرية والاختيار، نحن في فرنسا نفرط في تعليق آمالنا بالحوادث، ونفرّط في الاعتماد على ما أوتيناه من القوى، فماذا أقول في وصفنا، غير أننا لسنا فرنساويين وإنما نحن يهود؛ لأننا دائمًا على رجاء من نزول المسيح في صورة حاكم يرفع قواعد العدل ويخلص الناس من عوادي الجور. لا أقصد بهذا الكلام أن أنكر قيمة ما تناوب حكومتنا من التغير في صورها، وما ينتج من ذلك من المزايا، فإن هذا بعيد عن فكري؛ لأني لو كنت ممن لا يعبأون بالشؤون السياسية لما وُجدت حيث أنا الآن، على أني قد وصلت بعد طول النظر ومخض الرأي في ذلك التغير إلى اعتقاد أن ملك الاختيار لا قرار له إلا في نفوسنا، وإننا إذا أردنا تمكين وتوطيد دعائمه في الأمة وجب علينا أولاً أن نؤسس أصوله في قلوبنا 0 اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 8 ـ الوحدانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دروس جمعية شمس الإسلام (أمالى دينية - الدرس الثامن) (26) الوحدانية: قلنا فيما سبق أن أكثر البشر متقفون على أن لهذا العالم إلهًا هو خالقه ومدبره، ونقول الآن: إنهم متفقون أيضًا على أن هذا الخالق واحد لاشريك له في الخلق والإيجاد، ولا فرق في هذا الاعتقاد بين الفلاسفة الإلهيين والمليين , كتابيين ووثنيين، وإنما شذت طائفة من قدماء الفرس زعمت أن للعالم إلهين أحدهما خالق النور أو الخير، والثاني خالق الظلمة أو الشر، والإله الحقيقي عندهم هو الأول، وقد انقرضت هذه الطائفة وأراح الله الوجود من جهلها. وسائر من أشرك بالله تعالى من الوثنيين ومن تلا تلوهم من الكتابيين، فإنما أشركوا بعبادة ربهم غيره لشبهة عنَّت لهم فاخترقت قلوبهم وامتزجت بعقائدهم منشؤها أن صانع الكون وبارئه هو غيب مطلق، وأن النفوس لا تتوجه إلا إلى معروف مشهود، فينبغي أن تكون وجهتها في عبادة الخالق العظيم بعض مظاهر قدرته الكبرى كالشمس والكواكب أو النار أو بعض عباده المقربين عنده، القادرين على تقريب من شاؤوا من جنابه، وإتحافهم بمرضاته، وقضاء حاجهم , أو تماثيلهم وصورهم عند فقدهم (راجع المقالة الأولى من عدد 26 من (منار) هذه السنة) وأكبر شبهة تولدت من هذه الشبهة ما ذهب إليه بعضهم من أن المذنب العاصي لا يليق به أن يرجع إلى الله تعالى وينيب إليه بنفسه طالبًا العفو والمغفرة من كرمه ورحمته؛ لأنه ملوث، فلا بد له من واسطة من المقربين المقدسين يقربه إلى الله زلفى، ويشفع له عند الله سائلاً منه أن يعفو عنه ويمنحه ما يطلب ويريد، تشهد لها آيات القرآن الكثيرة، اقرأ إن شئت قوله تعالى في مشركي العرب: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ} (الزخرف: 9) وقوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: 31) وفي هذا المعني آيات كثيرة، منها الآيات المتصلة في سورة المؤمنين التي منها: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّه} (المؤمنون: 88-89) (وقرأ غير أبي عمرو ويعقوب: لله) {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 89) ثم اقرأ مع هذه الآيات قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) وقوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ * أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 2-3) فالشرك بالعبادة هو الذي كان فاشيًا في الأمم بألوان مختلفة وأسماء متعددة وصور متنوعة، فجاء القرآن ينعي عليهم هذا، ويحاجهم فيه، ويمحو شبههم عليه في آيات تعد بالمئات، وكان هذا أهم أصول الدين وأركانه، ولذلك كانت علامة الدخول فيه كلمة (لا إله إلا الله) والإله هو المعبود، ولأجل هذا سمي علم العقائد توحيدًا، وإن كانت الكتب التي بين أيدينا قلما تبحث في هذا النوع من التوحيد وما أزاله من الشرك. (27) ما هي العبادة: القول المشهور في تفسير لفظ العبادة أنها أقصى غاية الخضوع والتذلل، ولكن قال أستاذنا الأكبر مفتي الديار المصرية لهذا العهد: إن من تتبع استعمال العرب في كلامهم يجد أنهم لا ينطقون لفظ العبادة على الخضوع والتذلل للملوك والأمراء مهما بولغ فيهما، ولا يسمون تذلل العاشق المستهتر لمن يعشقه عبادة وإن غلا فيه أشد الغلو، وإنما يخصون لفظ العبادة بالتعظيم الناشئ عن الشعور بأن للمعظَّم سلطة غيبية وأسرارًا معنوية وراء الأسباب الظاهرة، وخلاف ما يُعهَد من سائر الخلق، وللعبادة صور كثيرة أشهرها وأعمها الدعاء وطلب قضاء الحوائج التي تتعاصى على الأسباب المكتسبة، فيتعذر أو يتعسر الوصول إليها، ولذلك اجتمع المفسرون على تفسير ألفاظ الدعاء بالعبادة في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا} (الأنعام: 71) وقوله: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وفي الحديث المشهور الدعاء مخ العبادة وأصل الدعاء النداء والطلب مطلقًا، أو مع ملاحظة استعلاء المنادى المطلوب منه، وإذا لوحظ معه تعظيم المدعو واعتقاد أن له سلطة غيبية وراء الأسباب الظاهرة أو طلب منه ما لا يُنال بالكسب كان عبادة، سواء كان اعتقاد السلطه له لذاته أو لأنه واسطة بين الداعي وبين الله تعالى يقربه إليه زلفى، ولا يخرجه عن معنى العبادة تسميته باسم آخر كالتوسل والاستشفاع كما هو المتبادر من القرآن الكريم واللغة، والعبرة بالحقائق لا بالأسماء والاصطلاحات، ولا بالوساوس والخيالات. هذا النوع من الشرك لا يكون إلا مع الإيمان بالله تعالى، فقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونُ} (يوسف: 106) قيل: إن الآية نزلت في أهل الكتاب، وقيل: في غيرهم، ولا شك أن أهل الكتاب قد دبت إليهم هذه العقيدة من الوثنيين الذين مازجوهم وخالطوهم، ولكنهم أولوها وطبقوها على ظواهر دينهم، ولن يُعدموا من الكتاب آية أو أكثر من المتشابهات يستدلون بها على صحة ما ذهبوا إليه. {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) بمعني أنهم اعتقدوا أنهم وسطاء بينهم وبين الله تعالى يقربونهم إليه، يستمطرون لهم رحمته وفضله على ما فيهم من عوج، وأنه تعالى يدفع عنهم النقم ويغدق عليهم النعم، وإن لم يأخذوا بأسبابها الشرعية إن كانت دينية، وأسبابها الطبيعية إن كانت معاشية، وليس المعني أنهم سموهم أربابًا وآلهة، أو أنهم كانوا يُصَلُّون لهم أو يعتقدون أنهم يخلقون ويرزقون، كلا، إن هذا ما كان يُعهَد في تاريخهم إلى الآن، وكيف يسمون هذا النوع من تعظيم لرؤساء الروحانيين، واعتقاد الامتياز لهم عبادة، وهم يقولون: لا يعبد إلا الله؟ أم كيف يسمونهم أربابًا وآلهة، وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ خصوصًا اليهود منهم، ولكن العبرة بالعمل والاعتقاد، لا بالقول والتسمية كما علمتم آنفًا، ولذلك قال الله (اتخذوا) ولم يقل (قالوا) بل كانوا يتنصلون من الأقوال التي تخالف نصوص الكتاب أشد التنصل ويطبقون ما هم فيه عليها، ولو بتحريف الكلم عن مواضعه وحمله على غير المراد منه، وقد جاء في حديث البخاري وغيره: لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، قيل: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ وقد صدقت أعلام النبوة، وفشا في أمتنا هذا النوع من الشرك والوثنية الذي كان فيهم حتى إن بعض الفرق منا زادت على ما كان منهم، بل ومن بعض الوثنيين أيضًا، اتخذوا من دون الله أولياء وبنوا لهم هياكل في مساجدهم يدعونهم مع التعظيم والتذلل والخشوع الذي لا يلاحظون مثله في الصلاة ويزعمون أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويقولون: إنهم شفعاؤهم عند الله يقضون لهم الحوائج بإذنه، أو يقضيها هو بواسطتهم، ويقولون: إننا لا نقصد بذلك العبادة، يعنون أنهم لا يسمونه عبادة، بل انتحل له المؤولون أسماء أخرى كالتوسل والاستشفاع، وهذه جناية على اللغة تُضَم إلى الجناية على الدين، وسنتكلم على التوسل الآن ونرجي بحث الشفاعة إلى الكلام في الآخرة؛ لأنه ورد أنها إنما تكون فيها. التسمية لا تقلب الحقائق {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَان} (النجم: 23) ولوكانت التسمية تغير حقيقة المسمى لأمكن للفقير أن يكون غنيًّا، وللضعيف أن يصير قويًّا، وللصعلوك أن يرقى إلى مصاف الملوك بكلمة يرمي بها اللسان ويكيفها الصوت. حدثني رجل من ظرفاء النصارى في لبنان أن مسلمًا اسمه محمد تنصر ودخل في رهبان دير قزحيا وسمي حنا ففاجأه صوم التنحس أي الذي لا يأكلون فيه من اللحوم غير السمك، ولا سمك هناك، فشق عليه أكل العدس في كل يوم، فأخذ ذات ليلة دجاجة من دجاج الدير، ولما جن عليه الليل جعل يطبخها فأحس به من كان يمر عليه من الرهبان، فكانوا يسألونه وهو يوارب في الجواب فتقدم واحد منهم وكشف الغطاء عن القدر وقال: وما هذا يا أخ حنا؟ فقال: سمكة، فقال الراهب: إنها دجاجة، فقال حنا: كلا، إنها سمكة، وبعد تكرار المراجعة قال حنا للراهب: وماذا يضرك لو سميتها سمكة، وإن كان اسمها في الأصل دجاجة، فقال الراهب: هذا لا يصح أبدًا. عند هذا قال له حنا: ما هو اسمي الآن؟ فقال: اسمك حنا، فقال: وماذا كان اسمي من قبل؟ قال: محمد، قال: إذن تغيير الاسم لا يغير الحقيقة، وأنا مسلم أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وأكل الدجاجة وانصرف من الدير في صبيحة تلك الليلة. (28) بطلان هذا الشرك: يُعرَف بطلانه بالعقل والنقل، أما العقل فإنه لما نظر في هذه الأكوان البديعة النظام، ولم ير منها شيئًا يمكن أن يضاف إليه الإيجاد والإحكام، ولا يمكن أن يكون من قذفات المصادفة والاتفاق - علم أن مصدرالإبداع والإتقان قوة غيبية، فمن ذلك المصدر كل شيء: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْء} (النمل: 88) وهو المنفرد بالإيجاد والإمداد، وأنه هو: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) ثم حكم بأنه حيث كانت القوة الغيبية التي هي وراء الأسباب الظاهرية له وحده، والسنن الطبيعية والقوى الكسبية منه، فلا يتأتى وجود شيء من غير سببه إلا منه، ولا يجوز أن يخضع أحد لأحد خضوعًا عن شعور بسلطة غيبية (وهو العبادة إلا له وحده، فيجب أن يُخص بهذه العبادة وأن يُشكر على نعم الإيجاد والإمداد بعبادات أخرى، هذا ما يحكم به العقل السليم، وقد نطق به بعض الحكماء، وغفل عنه أكثر البشر، ولذلك احتيج في بيانه إلى الدين، وأما النقل فقد أوضح هذا أكمل الإيضاح، فإن القرآن ينادي بلسان عربي مبين بأن هذا دين جميع النبيين {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} (البينة: 5) وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) وهذا تتمة آية:] اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ [المتقدمة، والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي مصرحة بأن جميع الذين كانوا يدعون، وتطلب منهم الحوائج - ومنهم الأنبياء والملائكة - لا يملكون لأنفسهم ضرًّا

المنار والمناظر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار والمناظر جاءتنا جريدة (المناظر) الغرَّاء من أشهُرٍ مكتوبًا على غلافها كلمات يطلب بها كاتبها الفاضل منا العود إلى تلك المقالات الوطنية الضافية، لا سيما التي تؤلف بين قلوب العناصر المختلفة في الوطن، وتحثهم على التضافر والاتفاق على خدمته وإعلاء مناره، فعزمنا على المجاوبة ثم نسيناها لأن الورقة فقدت من بين أيدينا، ثم جاءنا في هذه الأيام العدد 39 من هذه الجريدة ينتقد علينا بأن مواضيع الجريدة كلها دينية، وأنه ينبغي أن نكتب (جريدة دينية) بدلاً من (علمية أدبية تهذيبية إخبارية) . ونقول في جواب رصيفنا الفاضل (أولاً) : إننا كنا نكتب تلك المقالات عندما كان (المنار) منتشرًا في سوريا يقرأه المسلمون والنصارى واليهود، فلما طال أمد منعه من ولايات الدولة العلية وانحصر قرّاؤه في مسلمي مصر وتونس والجزائر ومراكش والهند والجاوه، وفي نفر قليل من بني وطننا السوري في أمريكا وغيرها، اضطررنا إلى جعل أكثر إرشاداته إسلامية، ووجدنا الرغبة من القرَّاء قوية جدًّا في المواضيع الإسلامية الإصلاحية التي نكتبها حتى إننا لم نكد نكتب في موضوع منها إلا عن اقتراح من أحد الفضلاء أو من غير واحد منهم، على أن من رأينا الذي يوافقنا عليه كثير من العقلاء المسلمين والمسيحيين أن فهم الدين على وجهه الحقيقي الذي نشرحه في (المنار) هو الذي يطفئ من النفوس نائرة الغلوّ في التعصب، ويقف بها عند حدود الاعتدال في المعاملة مع البعيد والقريب والموافق والمخالف. و (ثانيًا) إن كثيرًا من المواضيع الدينية التي كتبناها ونكتبها يمكن أن يستفيد منها غير المسلم، ونخص بالذكر (الأمالي الدينية) فإن جميع ماكتب فيها متعلق بالإيمان بالله تعالى، وأنه جاء لجمع البشر وتوحيدهم لا لتفريق كلمتهم وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم، والإتيان بآيات القرآن في هذه الدروس لا ينبغي أن يصدّ غير المسلم عن الانتفاع بها؛ إذ ليس كل ما في القرآن مخالفًا لاعتقاده، ولقد اطلع بعض علماء النصارى الفضلاء المدرسين في إحدى المدارس العالية في سوريا على درس من دروس الأمالي، فكتب إلينا يطلب أعداد (المنار) التي فيها سائر الدروس، ويقول: إنه أقنع ناظر المدرسة بأن يشترك في (المنار) باسم المدرسة ويضع أعداده في مكتبتها لينتفع به المعلمون والتلامذة. و (ثالثًا) إننا نعتقد أن أشرف العلوم علوم الدين، وأحسن الآداب آدابه، وأفضل التهذيب تهذيبه، فإذا لم يكن في المجلة غير المباحث الدينية لم نكن مخطئين في تسميتها علمية أدبية تهذيبية. و (رابعًا) إنه لا يكاد يخلو عدد منها من مباحث التربية التي هي أهم ما يحتاج إليه الوطن، وحسبه كتاب (أميل القرن التاسع عشر) الذي هو أمثل كتاب ألَّفه الأوربيون في التربية العملية، كما لا يكاد يخلو عدد من جمل في أهم الأخبار، لا سيما تاريخ دولتنا العلية الذي ننشره تباعًا باسم (قليل من الحقائق) إلخ. و (خامسًا) نعترف بأن الأولى أن تكون مواضيع كل عدد متنوعة ليأخذ كل قارئ حظه، ولكن الكُرَّاسين لا يسعان كل ما نريد أن يسعه كل عدد، وقد اقترح علينا أحد القرَّاء الفضلاء أن نجعل (المنار) أربعة كراريس ونصدره في كل نصف شهر كالهلال) و (الموسوعات) وسنجيب هذا الطلب إذا وافق عليه كثير من القرَّاء، والله الموفق.

السيول الجارفة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيول الجارفة جاءنا في صبيحة يوم الخميس الماضي بريد سوريا وتونس ينطق بوقوع الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة في القطرين. وفي جريدة (طرابلس الشام) والأجوبة الواردة منها أن مصابها بالسيول كان عظيمًا، فقد طغى نهر أبي علي طغيانًا كبيرًا، فارتفع عن سطحه المعتاد نحو تسعة أذرع فعلا الجسر وطاف علي المدينة من الجانبين فدمر بيوتًا وأتلف في الأسواق والدور متاعًا وأثاثًا ورياشًا، وأغرق كثيرًا من الناس والدواب، وأبطل حركة الطواحين وجرف ما فيها من البر والدقيق، واقتلع في البساتين ما لا يُحصى من الأشجار، وكان الناس ينقذون الغرقى بإدلاء الحبال إليهم من نوافذ الغرف وسطوحها، وقد أثنى كل من كتب في هذا على رفعتلو حسن أفندي الأنجا رئيس الشرطة، فإنه أظهر من الهمة والشهامة في إنجاء الغرقى من حوانيتهم ما يحمد عليه، وساعده على هذا العمل الشريف كثيرون، ويقدرون الخسائر بنحو 50 أو 100 ألف جنيه. وذكرت جريدة (بيروت) أنه وقع في بيروت من السيول والأنواء نحو ما وقع في طرابلس برًّا وبحرًا حتى دخول السيل للبيوت والحوانيت، ولكن بيروت لا يخترقها النهر كطرابلس، ولذلك كانت الخسائر فيها أقل، وذكرت في خبر طغيان الأنهار أن نهر بيروت كاد يلتقي بنهر (ألموت) ونهر (إنطلياس) وأنه قد سقط ثلاث قناطر من جسر نهر الكلب على متانتها وضخامتها، وقد حصل في لبنان خسائر كثيرة لم تُعلم، وكذلك في جهة حمص، ولا نعلم ما يأتينا به البريد الآتي. وأما في تونس فقد كان البلاء أخف، وغاية ما ذكرته جريدة (الحاضرة) أن السيل عطل سَير الأرتال فيما بين سوسه والقيروان والحاضرة التونسية، فقد انهمر وادي مرق الليل حتى خيف الغرق على الجهة القبلية من مدينة القيروان وانهارت قطعة من طريق سكة الحديد تبلغ الاثني عشر كيلو متر، وانقض سقف بمكتب العلا على أم رأس ولدين فماتا، وتداعت عدة ديار للسقوط؛ فاضطر ساكنوها لإخلائها، وغرق صبي في بركة من ماء المطر، فنسأل الله اللطف بعباده.

الجغرافيا والحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجغرافيا والحرب ذكر (المقطم) في مقالة له في الحرب الحاضرة سببين لخذلان الإنكليز وانكسارهم فيها، أحدهما تقصيرهم في معرفة قوة عدوهم، وثانيهما تقصيرهم في معرفة جغرافية مستعمراتهم في جنوب إفريقيا كبلاد ناتال ومستعمرة الرأس وغيرها قال: (فأصابهم ما أصابهم من جهلهم لها، وكان الواجب أن يكون عندهم خرائط عسكرية حربية يرسم فيها محل كل نجد وغور، ومسيل ونهر، وسهل ووعر، وشعب وطريق، ومنفرج ومضيق وأجمة وعراء وأكمة وبطحاء؛ ليأمنوا فيها مفاجأة العدو وغدر الأدِلاّء، أما الآن فقد تبين مما أصابهم بعد معركة جلنكوي وقرب لادي سميث وبعد معركة بلمونت سترومبرج أنهم يجهلون تلك الأراضي فيضلون فيها أو يضلهم أدلاؤهم حتى يحدق البوير بهم في أماكن لا تسلك ويشرفون عليهم من معاقل لا تؤخذ، فيكسروهم ويأسروهم) . اهـ فليعتبر بهذا الشيوخ الذين يقولون: إنه ليس لهذا العلم فائدة ما مع اعتقادهم بأن فن الحرب واجب في الملة، وأن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، فإذا كان انكسار الإنكليز في عدة مواقع وأسر 600 منهم في سرية واحدة أضلهم فيها الأدِلاّء، إنما كان لأنهم لا يعرفون تلك البلاد كما يعرفون بيوتهم، فكيف يكون حالهم لو كانوا لا يعرفون الجغرافيا بالكلية، إلا أن الذين ينهون طلاب العلم في الأزهر عن هذا العلم غاشّون لهم بجهلهم، فإن من جهل شيئًا عاداه، وإن الذين يقولون: لا فائدة في هذا العلم , وجودهم عار على الإسلام، بل على الإنسانية نفسها، والسلام.

الشريعة والطبيعة والحق والباطل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشريعة والطبيعة والحق والباطل {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) . إن لله تعالى خليقة منها جميع ما نعرفه من هذه الأكوان، وشريعة اختلفت أحكامها باختلاف أحوال الاجتماع لنوع الإنسان، ثم ثبتت أصولها وقواعدها العامة بالسنة الصحيحة والقرآن، على وجه ينطبق على مصالح البشر في كل آن، ولولا هذا لم يصح أن تكون شريعة عامة لكل زمان ومكان، فالخليقة أو الطبيعة من الله كما أن الديانة والشريعة من عند الله، فذلكم الله ربكم الحق، وكل ما كان من الحق فهو حق، فمن قال: إن الطبيعة أوعلمها باطل، كمن قال: إن الشريعة أو العلم بها باطل، كلاهما متجرئ على مقام الربوبية بنسبة الباطل إلى الحق تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. ربما يستبعد بعض الناس هذا القول بالنسبة للطبيعة دون الشريعة، ولكن الذين يتلون القرآن حق تلاوته أولئك يؤمنون به، واتل عليهم قوله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 190-191) فإذا كانت آيات الله تعالى في خلق العوالم العلوية والسفلية وحوادثها الطبيعية - كاختلاف الليل والنهار- إنما يعرفها العقلاء باستمرارهم على التفكر فيها، فلا جرم أن أكثرهم تفكرًا أكثرهم علمًا وأجدرهم بمعرفة الله تعالى وتعظيمه، والإيمان بقدرته وكمال علمه وحكمته، وما شذوذ بعض الناظرين في علوم الطبيعيات والهيئة اشتغالاً بالصنعة عن الصانع إلا كشذوذ الناظرين في علوم الشريعة المتوسعين فيها عن العدالة في الأحكام والعفة في المعاملة، وهما روح الشريعة، فإننا نسمع الناس يرمون رجالاً من أوسع العلماء والقضاة الشرعيين علمًا بالأحكام بما لا يرمون به سائرهم، وما كان الزيغ والانحراف من هؤلاء وأولئك من علمي الطبيعة والشريعة فيكونا باطلين، وإنما هو فساد في التربية زاد بالعلم فسادًا {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} (البقرة: 10) ومثل العلم يشقى به قوم ويسعد به آخرون مثل الحنظل والبطيخ يسقيان بماء واحد فيزيد الأول مرارة والثاني حلاوة {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ} (البقرة: 26) من حقيّة الشريعة أن جميع ماجاءت به من العقائد والآداب والأحكام موافق لمصالح الناس ومسعد لهم في معاشهم ومعادهم، ولذلك كانت كلياتها حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، فإذا نسب إليها شيء فيه مفسدة أو منافاة لمصلحة، فهو ليس منها، وإن أُسند إلى علمائها ودُوِّن في كتبها؛ لأن هذا من الباطل، ومن حقيّة الطبيعة أنها قامت بقوانين ثابتة وسنن مطّردة (يسمونها نواميس) بحيث يتمكن الناس من الانتفاع بها كلما زادوا علمًا بسننها وقوانينها، ولو كانت مختلة النظام تجري فيها الحوادث بغير إحكام لما اهتدى الناس للانتفاع بها، ولما صح الاستدلال بها على علم مُبدعها وحكمته وكمال قدرته ونفوذ مشيئته، فمن يرى في الطبيعة خللاً أو فسادًا فإنما يريه إياه ضعف نظره أو ظلمة بصيرته، فليتْلُ عليه قوله تعالى: {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (الملك: 3-4) . لولا الخليقة والطبيعة لم توجد الديانة والشريعة، فإن الله تعالى خلق الإنسان في هذا العالم كثير الحاجات والضرورات، ميّالاً بفطرته إلى الكمالات وبلوغ الغايات، وجعل له الوجدان والمشاعر والعقل ليهتدي بها إلى ما تطلبه فطرته وتقتضيه خلقته، ولكنه جعل بين أفراده تباينًا في هذه المدركات تتباين بها مقاصدهم وأعمالهم، والمباينة والتفرق في هذا هما منشأ اختلال المصالح الاجتماعية، فمن ثم كان في أشد الحاجة إلى هداية رابعة تقرب المتباين وتجمع المتفرق، وقد منح الله الإنسان هذه الحاجة بالشريعة، ومقاصد الشريعة وأسسها: (1) الاستدلال بالطبيعة عامة على موجدها ومبدعها، وما اتصف به من صفات الكمال , و (2) تقويم الطبيعة الإنسانية بتهذيب أخلاقها وترويضها بضروب من العبادات؛ ليسهل على الإنسان الوقوف في تصرفه بالطبيعة العامة على صراط الاعتدال , و (3) تحديد الحقوق والواجبات وبيان أحكام العمل بها , و (4) تبشير من وقف من الأمم عند الحدود بالسعادة في الدنيا ووعده بالمثوبة في الآخرة، وإنذار من تعداها بالشقاء العاجل، ووعيده بالانتقام الآجل، فالعلم بالطبيعة مرتبط بالعلم بالشريعة , يكمُل بكماله وينقُص بنقصه، فمن لا يعرف الكون ونظامه وطباع البشر وقواهم العقلية والجسدية، وارتباط بعضهم ببعض، وما وصلوا إليه من العلم بطبيعة الكون وكيفية تصرفهم فيه على وفق مصالحهم ومنافعهم - لا يمكنه أن يعرف مقاصد الشريعة، وكيف يؤخذ الناس - أو يأخذون بها - وهذا الأمر واضح بنفسه وإن ضل عنه كثير من المنتمين إلى علم الدين، المتوهمين أن شرع الله يعرف بالاستنباط من ألفاظ المؤلفين، وكمال العلم به يكون بالجهل بالخليقة وأحوال الخلق أجمعين. نتيجة هذا كله أنه يجب أن لا يكون في الدين والشريعة شيء مخالف لما في الخلق والطبيعة؛ لأن كلاًّ من عند الله وحاشا أن يصدر عن تلك الذات العلية التناقض والاختلال، وأي أمر ينافي الكمال، وما عساه يوجد في الكتب الدينية أو يجري على ألسنة رجال الدين من قول يذم علوم الخليقة أو يرمي إلى بطلانها، أو ينهى عن تعلمها - فهو من الناس لا من الله، ألصقوه بالدين لشبهٍ عرضت لهم أكثرها لفظية أو لمحض الجهل، على أنه يوجد في كتب العلوم الطبيعية مثلما يوجد في كتب العلوم الشرعية من الأقوال والآراء المبنية علي الظن والخرص. واليقيني من مسائل العلوم الطبيعية، وما يلحق بها هو ما ثبت بالمشاهدة والاختبار أو البراهين القطعية كالبراهين الرياضية على الكسوف والخسوف، وكثير من مسائل الهيئة الفلكية وغيرها، ولا يطلقون اسم العلم في هذا العصر إلا على ما ثبت بالتجربة والاختبار العملي. واليقيني من مسائل الدين هو ماثبت بنصوص القرآن والسنة المتواترة كأصول الاعتقاد والأركان الخمسة، وسائر المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، فهذه المسائل اليقينية لا ينافي شرعيها طبيعيها أبدًا، ومتى نافى قطعي من قسم منها ظنيًّا من القسم الآخر يترك الظني للقطعي إلا إذا أمكن الجمع بينهما، وإذا تعارضت الظنيات نرجح الشرعي علي غيره. علمنا أن الشريعة والطبيعة كليهما حق من الله تعالى، والحق لا تكون آثاره ونتائجه إلا صالحة وثابتة بثباته، والباطل لا يكون إلا مضطربًا ومتزعزعًا، وآثاره تفنى بفنائه وتزول بزواله، فإذا تصارع الحق والباطل لا يلبث الحق أن يصرع الباطل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) ، وفي الزبور الذي في أيدي أهل الكتاب ما مثاله أن الذي تكون مسرته وغبطته في الناموس الإلهي ينجح في عامة أعماله، ويكون كالشجرة عند مجاري المياه تثمر في أوانها ولا يذبل ورقها، وأما الأشرار فهم كهشيم تذروه الرياح لا يثبت لهم في طريق الدين قدم؛ لأن الرب يعلم طريق الأبرار، أما طريق الأشرار فتهلك. والأمثال على هذا في القرآن كثيرة، ومن أبلغها وأظهرها الآيات التي افتتحنا بها هذه المقالة، ثبات الحق وزهوق الباطل ثابت في الطبيعة كما هو ثابت في الشريعة ويسميه الحكماء الذين اهتدوا إليه (الانتخاب الطبيعي) يعنون أن طبيعة الوجود تقتضي بقاء الأصلح الأنفع في الكون وتلاشي ما سواه. والأصلح في الطبيعة ما كان جاريًا على سننها ومندرجًا تحت نواميسها، والأصلح في الأمور الشرعية ما كان موافقًا لأصول الدين وقواعده وأحكامه من حيث إنها هادية للأرواح في شؤونها الروحية ومصالحها الاجتماعية، فيمكننا على هذا أن نستدل من الشريعة والطبيعة معًا على أن الأمة المخذولة المهضومة الحقوق المغلوبة على أمرها لا بد أن تكون على الباطل، أي زائغة عن صراط الشريعة متنكبة سنن الطبيعة {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} (طه: 112) . كأني بأكثر القرَّاء من إخواني المسلمين، وقد انتهوا إلى هذه المسألة فاضطربت أفكارهم وانفعلت أرواحهم، وسبق الوسواس إلى أذهان بعضهم بأن قصارى هذا القول طعن بالإسلام؛ لأن أهله مخذولون في هذا الزمان في كل قطر ومكان، واعتراف بأحقية أديان أخرى ثبتت سلطة أهلها، واستقام أمرهم ونجحوا في أعمالهم وعلت كلمتهم على المسلمين، ومنهم الوثني ومن لا يدين بدين، مهلاً مهلاً، استوقف أيها المنتقد سربك واستغفر ربك، ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم، فإن بعض الظن إثم، واعلم أن ما تراه من الباطل ثابتًا قويًّا، فإنما ثباته بالتوكؤ على أركان من الحق كالنظام ومراعاة سنن الله في الخلق والأخلاق والسجايا الفاضلة كالصدق والأمانة، فالحق ثابت في نفسه، والباطل ثابت به أو شبيه بالثابت، فلو تداعت أركان الحق عند هؤلاء لسقط الباطل، بل لتبين زهوقه وبطلانه، ولما ثبت بنفسه قط، وما تراه من خذلان المسلمين واضمحلال سلطتهم مع حقيّة دينهم فسببه عدم السير على منهاج دينهم، وهذا كتابهم ينطق عليهم بالحق: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: 53) وقد كتبنا في (منار) السنة الأولى مقالة تحت عنوان قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) أتينا فيها بالقول الفصل في دعوى المسلمين أن نجاحهم وارتقاءهم بدينهم، ودعوى الباحثين في طبائع الملل وعلوم الاجتماع والعمران أن شقاء المسلمين وضعفهم العام إنما جاءا من قِبل دينهم لأنه لا شيء آخر يناط به تأخرهم في جميع الأقطار، وأن ترقيهم إنما يكون باحتذاء أوربا وتقليدها، وخلاصة ما هنالك أن كل واحد من القولين له وجه وفيه قصور، والصواب أن الإسلام جامع لأسباب السعادة الدنيوية التي نالها الغربيون ومن تلا تلوهم كاليابانيين على أكمل الوجوه، وزاد على ذلك بيان أسباب السعادة الآخرة، ولكن المسلمين انسلُّوا مما أرشد إليه الدين من أسباب السعادة كاستقلال الإرادة والرأي، وتطهير النفس من أدران الخرافات وصدأ الأوهام وصقلها بصقال الحجة والبرهان في جميع ما تأخذ به، وإطلاق العقل من ق

تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية (الأعمال الحسابية) يوجد في تعريفة الرسوم بعض الالتباس، وظهر ذلك في العمل، ولكثير من القضاة عليها انتقادات تحتاج إلى النظر كما جاء في المادة (23) من تلك التعريفة من أن الإبراء من الدًّين أو من الدعوى بمعلوم يؤخذ عليه الرسم في المائة واحد، ثم صدر منشور النظارة بأن الإبراء من مؤخر الصداق يؤخذ عليه خمسة قروش، ثم تلاه منشور آخر بأن الخمسة قروش تؤخذ فيما إذا زاد المبلغ الذي حصل فيه الإبراء عن ألف قرش، وإلا فيؤخذ ثلث الخمسة قروش، ثم صدر منشور ثالث يقضي بأنه إذا حصل خلع أخذ رسم الخلع خمسة قروش ولم يؤخذ على الإبراء شيء. ومما لاحظه القضاة أن المادة (6) قضت بأخذ رسم الأيلولة، فلو جاءت الأيلولة غير مقصودة كما لو حصلت في ضمن عقد بيع مثلاً لعقارات موروثة، فإنه يؤخذ رسم الأيلولة ورسم البيع معًا، وهو خلاف ما عليه المحاكم المختلطة. وفي المادة الرابعة ما يفيد أن الرسم يؤخذ على كل حجة أو سند يطلب تحريره , فمقتضاه أنه إن لم يطلب لا يؤخذ عليه رسم، مع أن أوامر النظارة تقضي بأن يؤخذ الرسم في مبدأ الأمر حتى رسم التحرير. ومما لوحظ أن جميع المواد التي ذكر فيها للرسم بداية ونهاية ووكل تحديد ذلك للكاتب يفتح بالضرورة بابًا للفساد يجب سده، وعلى كل حال فيجب النظر في التعريفة والمنشورات ووضع اللائحة على وجه يكفل العدل من جهة، ويرفع الالتباس ويسد أبواب الفساد من جهة أخرى، ولن تعدم النظارة وسيلة للتعجيل في أقرب وقت ممكن. (تقييد القاضي في كل ما يرد إليه) رأيت في بعض المحاكم أن القاضي يرد إليه طلب أو تُقدم إليه شكوى، وربما من خصائصه أن ينظر فيها، ولكنه يجد في ذلك مشقة عليه فيدفع الطالب أو المشتكي بقوله: (اذهب إلى جهة كذا) أو (إن هذا لا يعنيني) ويكثر تردد صاحب الحاجة لأن الأمر مما يعني القاضي، فالذي أراه أن كل ورقة تقدم إلى القاضي في أي من الشؤون يقيد ملخصها في دفتر يُنشأ لذلك ويكتب فيه ما رآه القاضي حتى لو اشتكى الطالب إلى مقام أعلى أمكن أن يعرف خطأ القاضي من صوابه. (تشكيل المحكمة) بعد ما شرط في القاضي أن يكون كفؤًا لعمله لم يكن من معنى لبقاء لقب المفتي، ثم إذا رأينا أن القاضي لا بد له من مستشار يرجع إليه في المشكلات وجب أن يكون ذلك المستشار أرقى علمًا ومكانة ومُرتبًا من القاضي، فيكون مفتي المديرية أسمى موظف شرعي فيها، ثم إن كان هذا شأنه وأطلق له إبداء الرأي فيما يرفع إليه من الأسئلة وجب أن لا يفوض إليه النظر في القضايا التي سبق له إبداء الرأي فيها، لكن لا شيء من ذلك بواقع، فإن المفتي قد يكون أنزل درجة في العلم من قاضي المديرية أو المحافظة، ثم إن كان يفوقه في العلم فهو أقل منه راتبًا لا محالة، ثم إن اللائحة الجديدة قد جعلت له حق الحكم ولم تمنعه إلا من الإفتاء فيما هو منظور أمام المحاكم بالفعل، ولم تنص على ما أفتى فيه قبل نظره، ثمّ هو عضو من أعضاء المحكمة الكلية في المديريات أو المحافظات، فإن كانت صفة الإفتاء تجعل لرأيه امتيازًا على رأي غيره عدّ وجود غيره معه لغوًا , وإلا فما بقاء هذه الصفة؟ ثم إذا حكم مفردًا في قضية كيف يصح استئنافها، والحاكم هو صاحب الرأي الأعلى في بيان الأحكام الشرعية؟ أما فيما يتعلق بغير المتقاضين أمام المحاكم الشرعية إذا احتاجوا إلى فهم حكم شرعي في نازلة، فهم لايرضون بما دون إفتاء مفتي الديار المصرية كما هو مشاهد , فلم يبق من وظيفة المفتي في المديرية أو المحافظة إلا إبداء رأيه في القضايا الجنائية عندما تريد أن تحكم بالإعدام، وهي وقائع قليلة يصح أن تعدل لها مادة في قانون تحقيق الجنايات بأن يقال: (بعد أخذ رأي أكبر موظف شرعي في المديرية أو المحافظة، أو يحول ذلك على إفتاء الديار المصرية) وغاية ما يلاحظ فيه أن إرسال القضايا من محكمة قنا وردَّها يحتاج إلى أن يزاد في الزمن المحدد للحكم بالإعدام أسبوع وإبقاء الجاني أسبوعًا في عالم الأحياء، ولا ينشأ عنه ضرر ما. فالذي أراه حذف هذا اللقب من المديريات والمحافظات، وعد الجميع قضاة وأعضاء محكمة، فإن كان لابد من بقاء وظيفة الإفتاء في الأطراف، فليقِل العدد وليكن للإسكندرية والبحيرة مفتٍ يقيم بالإسكندرية وآخر للمنوفية والغربية يقيم بطنطا، وثالث للدقهلية والشرقية والقليوبية يقيم بالزقازيق، ورابع للجيزة والفيوم وبني سويف يقيم بالفيوم، وخامس للمنيا وأسيوط يقيم بها، وسادس لما بقي من الوجه القبلي يقيم بقنا، وليُنَطْ بهؤلاء المفتين إبداء الرأي فيما يرفع إليهم عند إرادة الصلح وعدم التخاصم أمام المحاكم، وما تستفتيهم فيه الحكومة، وللقضاة أن يستشيروهم فيما يشكُل من الأحكام، وعلى هذا يجب أن يكونوا من مشاهير العلماء، ومنهم ينتخب قضاة المديريات والمحافظات الذين يسمون رؤساء المحاكم إذا أرادوا الدخول في سلك القضاة. ثم ألاحظ ما لاحظه سماحة قاضي مصر من أنه إذا غاب عضو من أعضاء المحكمة العليا فلرئيس المحكمة أو من يقوم مقامه أن ينتدب من يتم به عددهم من أعضاء محكمة مصر الكبرى ممن لم يسبق له نظر في القضية، فإن لم يتيسر ذلك انتدبته نظارة الحقانية بعد أخذ رأي القاضي إلى آخر ما نص عليه في المادة التاسعة من اللائحة، ولا حاجة لجعل الانتداب لسعادة ناظر الحقانية من أول الأمر تسهيلاً للعمل، فقد يحتاج للانتداب يوم الجلسة والخصوم حضور والتأخير يضر بمصلحتهم، فمن الواجب أن لا يلجأ لرأي النظارة إلا عند الضرورة وحيث يقتضي الانتداب انتقالاً من محكمة أخرى. ثم لابد أن يباح لرئيس المجلس إذا حصل له مانع من الحضور أن ينتدب أحد العضوين بدون إذن الحقانية للسبب الذي ذكرناه، وكذلك يجب أن يباح له أن ينتدب أحد العضوين للقيام بعمل أحد قضاة المراكز عند تغيبه إذا دعت الحاجة إلى ذلك لجواز أن لا يتيسر انتداب أحد قضاة المراكز للقيام بعمل مركز آخر، ويتيسر انتداب عضو من أعضاء المحكمة. هذا ما ألاحظه الآن على طريقة تشكيل المحكمة إلى أن ينظر في عدد القضاة والأعضاء ويستقر الرأي على توزيع الأعمال، فتتغير طريقة التشكيل في المديريات على وجه يوافق ذلك التعديل. (تابع ويتبع) ((يتبع بمقال تالٍ))

عيد المولد الهمايوني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عيد المولد الهمايوني في مثل يوم الثلاثاء الماضي (16 شعبان) من سنة 1258 للهجرة الشريفة ولد سيدنا ومولانا أمير المؤمنين، ومحطّ رحال آمال شعوب المسلمين، والسلطان الأكبر لجميع العثمانيين، خليفتنا عبد الحميد الثاني. أيده الله تعالى بالقرآن العظيم والسبع المثاني، فياله من موسم حميدي حميد، وعيد وطني سعيد، احتفل به العثمانيون في جميع الممالك الشاهانية، وابتهج به المسلمون في جميع البقاع الأرضية رافعين أكف الابتهال إلى ذي العزة والجلال بأن يؤيد بشوكته عرش الخلافة والسلطنة، ويعيد لهم السرور بمثله في كل سنة، اللهم آمين.

العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العالم الإسلامي جاءتنا الرسالة الآتية من كاتب فاضل في سنغافورة مؤرخة في 27 رجب، قال فيها: بعد الحمد لله والصلاة على نبيه، ورسوم المخاطبة ما ملخصه: سيدي، تشرفت بلثم كتابكم رقيم 18 الماضي ونزهت طرفي في وشي أقلامكم , وقد كان وصول ذلك الكتاب إليّ وأنا متأثر بانحراف مزاج، فكان كتابكم الترياق النافع، وقد وصل إليّ (المنار) متتابعًا في ميعاده يهدي إلى الصواب وينبه ذوي الألباب والذكرى تنفع المؤمنين، وما ترشح به صفحاته من النصايح المفيدة والحكم الثمينة قد اجتذب قلوب الكثيرين ممن له إلمام بمعنى الإسلام , على أن سواد قرّاء جهتنا لا تقوى مِعَدُ عقولهم على هضم ما تهدونه إليهم لبعد العهد بالحقائق والإخلاد إلى التقليد إلا أن الحق إذا أشربته القلوب لم تستطع رفضه. أما ما تفضلتم بإبدائه من سديد الرأي والنصح البالغ مما يجعل أهل هذه الجهة على قاب قوسين من أمنيتهم، فقد بادر المملوك بالبحث في اتباع الرأي الأول، وإن كنتُ قد علمتْني التجارب أن قومي بطآء إذا دُعوا إلى مثل هذا، سيما مَن كثرت أمواله، ولكن اليأس عين الشقا، فلذلك أؤمل على بعد أن يكون لهذا الرأي أثر ما، وقد كتبت إلى بعض الأصدقاء ببلاد الدكهن من الهند أن يفتكر في جمع بعض ذوي الكلمة النافذة عند الإنكليز من العرب الحضارمة؛ ليطلبوا من الإنكليز مساعدة مَن بجاوه ولا أتأخر عن رفع ما سيحدث إليكم (إن كان) . أما الرأي الثاني فما إليه من سبيل؛ لأن قومنا قد اتفقوا على أن لا يتفقوا وهذه حقيقة لا يتمارى فيها اثنان، وما استفهمتم عنه من أخبار الجمعيات الإسلامية التي عرفتها، فعلى وجه الإجمال أقول: الجهات التي تطوفت بها هي سواحل يابان وبلادها، وما فيها من المسلمين إلا أناسًا يعدون بالأنامل في ثلاث من المواني لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولهم في بلد كوبي بيت (كلوب) للعب البليرد وغيره، وفيه بعض كتب إنكليزية هزلية لا غيره، وأما جزائر فليبين ففيها كثير مسلمين منهم حكام، ولهم بها بعض شوكة (كريشة في مهب الريح إلخ) والجهل بينهم سائد من كل وجه، وأما الشين فلم أتمكن من التوغل فيهم لهجوم الشتاء وهزال الكيس، وعلى كل حال أقول: إن أنفس الصينيين لم تزل حية، وعندهم نشاط وجد، ولهم حمية وعصبية في الجملة، ولكن تعاليمهم كلها فاسدة، ولا يوجد بينهم فيما أعلم من يطلق عليه طالب علم، ولو أوفدت إليهم ثلة من العلماء مستغنين عن اصطياد الدراهم والتشوف إلى ما في أيدي الناس يصير تأثير منهم كبير يقل كل تقدير عنه، واللغة العربية الفاسدة والفارسية المحرفة تروج بتلك الصقاع، ويوجد بها جحافل من شحاذي العرب والهنود يأوون إلى المساجد والمدارس، ولهم اعتقاد في القبور وبدع كثيرة روجها عليهم الجهل والجهال. وأما إقليم سيام ففيه بعض دول من المسلمين لم يزل معهم بعض استقلال لوقوعهم بين الأمم المتزاحمة، وعدد المسلمين بها غير قليل، وعندهم إلمام بأحكام الصلاة و (العشرين صفة) ويعتنون بحفظ المتون من النحو، ولا يتعدون إعراب الأمثلة، وليس بهذه النواحي مدرسة منظمة ألبتة، وللشعبذة والطلاسم والخرافات جابر، ودعوى الكرامات رواج، سيما بين الكبراء والأمراء. وأما جهات ملاكه وأرض الملايو، فبعضها يحكمها الإنكليز أصالة، وقسم كبير منها تحت حمايتهم، وقسم منها ينسب لسيام، وهو تحت مطامعهم، وحالة المسلمين بهذه الجهات أحسن حالة من سواهم لحصولهم على الحرية فيما يتعلق بالدين أو بالتعليم والاجتماع، وللمساواة المزعومة في حكومة الإنكليز، ولكن إخواننا إلى الآن لم يوفقوا إلى إقامة جمعية أو تنظيم مدرسة أو مشروع من نحو هذا، ولا مانع منه من جهة الحكومة ألبتة، نعم قد أقيمت بسنغافورة منذ نحو سنتين جمعية عربية لم يتجاوز عدد أعضائها ثلاثين، وعلى إثر ذلك هزت الحمية أحد المثرين، فالتزم ببيت فسيح يكون محلاً لتلك الجمعية، والتزم أيضًا بنفقة أستاذ يقوم بتعليم أولاد العرب حروف الهجاء وطرفًا من الحساب ونزرًا من العربية العامية، والتزم أعضاء الجمعية بمرتب لأحد طلبة العلم يتولى عقود أنكحة العرب، ويعلم أولادهم العربية وطرفًا من العقائد الإسلامية على الطرز القديم، وقد استمر ذلك إلى الآن وآثار الانحلال على تلك الجمعية بادية والله لطيف بالعباد. وبحيدرآباد جمعية عربية لم تتسق تمام الاتساق. وأما مستعمرة هولاندا فقد تطوفت في أكثرها، وكما ترون في بعض كتاباتي أخبارها، وهنا لا غناء لي عن الإلماع إلى التعريف بالعرب الموجودين بهذه المستعمرة، وهم قسمان: أولهما أناس قدموا من الغرب على ما هو المشهور، وقد اختلطوا بالأهالي وتبعوهم في كل العوائد والصفات، وبقي لبعضهم اسم (رادين) ومنهم حاكم جاوه المأسور في سورا كرتا، والقسم الثاني هم العرب الحضارم، وصلوا إلى هذه الجهات منذ ثلاثة قرون تقريبًا يبتغون الرزق، قد رفضتهم بلادهم لما حل بها من المصائب والدمار، وكان أولهم دخولاً إلى هذه النواحي عدد من السادات أهل الفضل والعلم، فنشروا الدعوة، وبهم ضرب الإسلام في هذه الجهة بجرانه وقد صار من أولادهم عدة أمراء على كثير من هذه النواحي من غينيا الجديدة إلى فليبين ولم يزل عدد كثير موجودًا منهم إلى الآن، وبوصول أخبار من ذكر إلى أوطانهم نهض الجم الغفير من البوادي والرعاع ويمموا هذه البقاع , وصارلهم فيها رواج عظيم لتعظيم الأهالي للجنس العربي، وافتخارهم بمصاهرتهم، ولم يزل أكثر هؤلاء العرب متميزين عن الأهالي في الهيئة والألقاب، وإن ساووهم في الجهل والغباوة والكسل، وبهذه الأطراف جم غفير ممن يدعي العلم وعدد قليل من العلماء، وليس بها مدرسه للمسلمين، والتعليم عندهم على الطراز القديم في المساجد ونحوها في الشروح والحواشي، وحظ الآفق من علمائهم إيراد الاعتراضات على العبارات والرد عنها , وليس لعلم الحديث ولا للعلوم العقلية ذكر ألبتة، ولتشديد الحكومة عليهم ساءت ظنونهم بأنفسهم فقل أن تجد بينهم من يثق بابنه وعرسه، فضلاً عن أن يتجاسر بأن يدعو إلى الاجتماع أبناء جنسه. وتظاهر الهولنديين الآن بالشماتة بالإنكليز بالغ فوق الحد. وأما بلاد الهند فقد طُفتُ بعض جهاتها واتصلت ببعض جهابذتها، فيها مدارس يؤمل نجاحها، كما لا يخفاكم , وأشهر جمعياتها (ندوة العلماء) ولها في أكثر بلاد الهند محلات معلومة، ولهم مجالس أخرى مثل محمدن (كلوب) و (انجمن إسلام) في بمبي، والجمعية الإسلامية في مدراس وغيرها مما له بعض فائدة. وللعلوم العقلية والفنون الحديثة المقام الرفيع ولله الحمد. وبذكر الحضارم , اسمحوا لي باستفساركم عما لهجت به الجرائد في أعدادها الأخيرة من ذكر صدور الإرادة بتنظيم حضرموت مع ذكر تنظيم ولاية اليمن وحيث إنها (بلاد بها نيطت عليّ تمايمي وأول أرض مس جلدي ترابها) . أحب استطلاع كنه الخبر إن لم يكن عليكم في ذلك مشقة وقد سبق للمرحوم اجتهاد في لَمِّ شعت قبائل حضرموت للخضوع للدولة بطلب من حضرة دولتلو المشير السيد أحمد مختار باشا المعتمد السلطاني بمصر غير , أن تلك المساعي، ويا للأسف ضاعت سدى , وقد قام بعد ذلك أحد إخواننا أهل الفضل والتحقيق بخدمة جليلة تسهل أمر تنظيم تلك الأصقاع بلا كلفة تذكر مع إقامة الحجة على ما تدعيه إنكلترا من حماية تلك الشطوط , فإن كان في السماء مطير أو فيمن نؤمل خير، فسنلبي إشارتكم وإلا فلتوضع هذه الجملة في زاوية النسيان لئلا نبحث عن حتفنا بظلفنا، والله ولي التوفيق. ويعنّ لي أن أطلب بلسان (المنار) أو (المؤيد) إصلاح الخطب الجُمَعيَّة في ممالك الدولة، بل وسائر الشرق بحيث تكون صالحة لنفع الناشئة الخالية مع حذف لعن الأرفاض ومساواتهم بالكفار مما كان سببًا في تفريق ريح المسلمين منذ أكثر من اثني عشر قرنًا. وقد جاءنا رسالتان أخريان من سنغابور: إحداهما مذيلة باسم (عبد المعين) يثني فيها على (المنار) وما على شاكلته من الجرائد العربية (كالثمرات) و (السلام) للصدق في خدمة الملة والدولة والجامعة العثمانية، والحث على الاتحاد والقيام بالمشروعات النافعة، ثم أظهر الكاتب أسفه من عدم تلبية ندائنا والقيام بما نحث عليه، وذهب إلى أن السبب في هذا (عدم الثقة بولاة الأمور الموظفين في خدمة الدولة، فحينئذ يجب التنديد بأعمالهم ولا ينبغي السكوت عنهم، فإن ذلك يزيدهم جرأةً وتماديًا، فإنا رأينا في جريدة (المؤيد) الغرّاء عدد 2900 نقلاً عن مكاتبه بمكة المشرفة أخبارًا لا أصل لها، والحقيقة أن المخاوف وعدم الراحة والأمن لا تزال كما كانت سابقًا مع الاستبداد وتهاون ولاة الأمور مما يضيق المقام عن شرحه. إلخ والرسالة الثانية جواب لنا عن كتابة خصوصية في شكوى إخواننا الجاويين من ظلم هولندا وما يجب الأخذ به لتلافيه، وفيها كلام عن تعدي هولندا على الأجينيين وظلمها لهم مع أنهم تابعون للدولة العلية رسميًّا وهي لا تسأل عنهم، وربما نتكلم عنهم في العدد التالي. وجاءتنا رسالة من بتاوي الجاوه يقول صاحبها الفاضل أنه كان لِما كتبناه في المنار 32 بشأن المسألة الجاوية أحسن وقع، وأذعن الجميع لإلقائنا التبعة على قناصل الدولة العلية، وبشرَنا الكاتب بأن جميع المسلمين هناك يتداولون (المنار) فرحًا به ... وأثنى على سعادتلو محمد كامل بك شهبندر الدولة العلية عندهم سابقًا، وذكر أن صدقه وإخلاصه هما السبب في سعي هولندا بالوشاية عليه حتى استبدلت الدولة به أحمد أمين بك الحالي المذموم بكل لسان، وذكر أن هولندا صارت تعاقب من يذكر اسم كامل بك أو الدولة العلية، فعسى أن يصل هذا الخبر إلى مسامع مولانا الخليفة فيتدارك الأمر.

الحرب الحاضرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب الحاضرة تواترت البرقيات بتوالي انكسار الإنكليز وخذلانهم في جميع المواقع، وكان أشدها وقعًا وأكثرها إيلامًا انهزام الجنرال السير بوللر القائد العام بجيشه بخسارة عظيمة جدًّا، ولهذا استبدلت الحكومة الإنكليزية به اللورد روبرتس قائد جيوش الهند وجعل لورد الخرطوم كتشنر (باشا) رئيس أركان حربه بدلاً من هنتر (باشا) المحصور في مدينة لاديسميث. وقد ذكرنا في (المنار) الماضي أن لانكسار الإنكليز سببين: أحدهما الجهل بجغرافية البلاد التي يحاربون فيها، وثانيها الجهل بقوة عدوهم، وههنا نذكر كلمات لأحد العارفين بالسياسة من رجال الإنكليز الذين جاءوا مصر في هذه الأيام، قال: إن البويرس شعروا منذ سنين بأن الإنكليز ستلجئهم إلى الحرب في يوم من الأيام، فطفقوا يستعدون لذلك بكل ما في طاقتهم، فخصصوا جزءًا كبيرًا من المال له، وبالغوا في إخفاء عملهم حتى عن قومهم، فأنشأوا معامل السلاح (الترسانات) في الغابات البعيدة عن العمران في قلل الجبال، وكانوا إذا جاءهم سياح الإنكليز يطلعونهم على المعامل العتيقة وما فيها من البواريد القديمة من الطراز المعروف عند همج أفريقيا وما يقرب منه، وكنا قد اخترعنا مدفعًا أسرع المدافع المستعملة وأبعدها مرمى، وكان مخترعه يحاول أن يزيده إتقانًا، ولذلك لم يعمل منه شيء ما عدا النموذج، ولما زار إمبراطور ألمانيا بلادنا الزيارة التي قبل هذه الأخيرة رأى نموذج هذا المدفع فأعجب به فطلب صورته فقيل له: إنه لم يتم إتقانه، فقال: إنه ليعجبني على ما هو الآن، فأجيب طلبه وعندما عاد إلى بلاده أمر بالإكثار من هذا المدفع، واشترى البويرس منه عددًا صالحًا من ألمانيا، ولذلك ظهر أن مدافعهم أبعد من مدافعنا مرمى وأسرع من حيث يظن قومنا أنه لا يوجد عندهم إلا المدافع القديمة التي لا تقارب مما عندنا {وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل: 26) بل صدق علينا أننا قُتلنا بسلاحنا، وأما التعليم العسكري فقد عمموه تعميمًا حتى في النساء مستعينين عليه بضباط الألمان، فإن أكثر من خرج من الجيش الألماني من هؤلاء تيمم الترانسفال واشتغل بتعليم أهلها فنون المكافحة والنزال. قال الإنكليزي لمحدثه: فقد جمع البويرس بهذا بين النظام وبين القوة الطبيعية، والشجاعة والجلد، والصبر على التعب والسغب، وهذا الجد والصبر لا يوجد عندنا إلا في الضباط فإنهم تربوا أحسن تربية، وباقي الجيش من غوغاء الناس إذا مشى بضع ساعات يعييه الوجى والكلال، ولا يصبر عن اللحم والخمر إلا قليلاً، وقد اغتر تشمبرلن بالظاهر، وغرّ حكومته حيث كان يعتقد أن ثلاثين ألفًا كافية لتدويخ الترانسفال بل لتدميرها، أما أنا فإنني أعتقد أن العاقبة سوأى إذا لم نجهز الجيش الكافي، وأقله في اعتقادي مائة وخمسون ألفًا، وإن هذا علينا ليَسير. اهـ

الكرامات المأثورة ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بقية الكرامات المأثورة وهي السادسة من مقالات الكرامات خلاصة ما مرّ في مقالات الكرامات السابقة أنها جائزة وفاقًا لأهل السنة ولا ينبغي أن ينازع في هذا عاقل - وأن الوقوع بالفعل لا يثبت إلا بالنقل الصحيح عن المعصوم أو المشاهدة، فإنْ تواتَر كان الثبوت قطعيًّا لا يمكن للعارف به جحوده، وإلا كان ظنيًّا. وإن مثبتي الوقوع احتجوا بالقرآن العزيز، وقصارى ما سَلِمَ لهم من احتجاجهم هو وقوع الإلهام الإلهي الصحيح، وبما يؤثر عن الصحابة عليهم الرضوان، وقد بحثنا في خمس مما أحصاه السبكي وأرجأنا البحث في الباقيات خشية السآمة من تكرار الكلام، في موضوع واحد كما قلنا في (المنار) 35 وليس في هذا القسم متواتر، وإنما هي آحاد، منها ما إسناده صحيح ومنها الواهي والمنكر، ودونكم الآن سائر تلك الآثار: (6) ومما وقع على يد الفاروق قصة النار الخارجة من الجبل، قال السبكي: كانت تخرج من كهف في جبل فتحرق ما مرت به، فخرجت في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، فأمر أبا موسى الأشعري أو تميمًا الدّاري -عليهما الرضوان- أن يدخلها الكهف، فجعل يحبسها بردائه حتى أدخلها، فلم تخرج بعد، قال ولعله قصد بذلك منع أذاها. أقول: لا أعرف لهذا الأثر سندًا قويًّا ولا ضعيفًا، ولا يخلو خروج هذه النار من أن يكون بسبب أو بغير سبب، فإن كان الثاني فهو خارقة من الخوارق فكيف وقعت تلك الخارقة؟ وهل كانت كرامة لصحابي أو ولي آخر غير معروف، ثم زالت بكرامة آخر، أم تقع الخوارق بنفسها؟ وإن كانت بسبب، فما هو ذلك السبب؟ وأين ذلك الكهف، وهل لتلك النار من أثر فيه؟ إذا وقفنا على أجوبة صحيحة لهذه الأسئلة نتكلم عنها، ومن الحماقة إضاعة الوقت في إيراد الاحتمالات الخيالية والخوض فيها مع الخائضين. (7) ومنها أنه عرض جيشًا يبعثه إلى الشام فعرضت له طائفة، فأعرض عنهم أولاً وثانيًا وثالثًا، فتبين بالآخرة أنه كان فيهم قاتِل عثمان أو قاتِل عليّ (رض) وهذا من الإلهام. (8) على يد عثمان ذي النورين رضي الله تعالى عنه، قال السبكي: دخل عليه رجل كان قد لقي امرأة في الطريق فتأملها، فقال له عثمان يدخل أحدكم وفي عينه أثر الزنا، فقال الرجل: أَوَحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! قال: لا، ولكنها فراسة المؤمن. أقول: إن هذه الفراسة من قبيل الإلهام الذي أثبتاه، ولكن يتفق مثله لآحاد الناس، أذكر أن شابًّا جاءني وأنا في ميضأة جامع القلمون (بلدتي التي ولدت فيها، وهي بجوار طرابلس الشام) حاسرًا عن ذراعي أريد الوضوء، ففاجأته بحكاية هذا الأثر فقال: إنها لمكاشفة، وإني كنت في الطريق أغازل امرأة وأمتع نظري بمحاسنها، فقلت: كلا، لا مكاشفة وإنما هو شيء وقع في قلبي عندما رأيتك، وما أنا مما كان معك على يقين 0 وسنتكلم على المكاشفة والفراسة في مقالة أو مقالات في وقت ما. (9) على يد عليّ المرتضى أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه قال: روي أن عليًّا وولديه الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم سمعوا قائلاً يقول: يا مَن يجيب دعا المضطر في الظلم ... يا كاشف الضر والبلوى مع السِقَم قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا ... وأنت يا حي يا قيوم لم تنم هب لي بجودك فضل العفو عن زللي ... يامن إليه رجاء الخلق في الحرم إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطأ ... فمَن يجود على العاصين بالنعم فقال علي لولده: اطلب هذا القائل، فأتاه فقال له: أجب أمير المؤمنين، فأقبل يجر شقه حتى وقف بين يديه، فقال: قد سمعت خطابك، فما قصتك؟ فقال: إني كنت رجلاً مشغولاً بالطرب والعصيان، وكان والدي يعظني ويقول: إن لله سطوات ونقمات وما هي من الظالمين ببعيد، فلما ألحّ علي في المعصية ضربته، فحلف ليدعون عليّ ويأتي مكة مستغيثًا إلى الله، ففعل ودعا فلم يتم دعاه حتى تكتف شقي الأيمن (كذا) فندمت على ما كان مني وداريته فأرضيته إلى أن ضمن لي أن يدعو لي حيث دعا عليّ، فقدمت له ناقة وأركبته فنفرت ورمت به بين صخرتين فمات هناك، فقال له عليّ رضي الله عنه: آلله عليك إن كان أبوك رضي عنك، فقال: آلله كذلك، فقام عليّ كرم الله وجهه وصلَّى ركعات ودعا بدعوات أسرّها لله عز وجل، فقال له: يا مبارك قم، فقام ومشى وعاد إلى الصحة كما كان، ثم قال: لولا أنك حلفت أن أباك رضي عنك ما دعوت لك. قال السبكي: قلت: أما الدعاء فلا إشكال فيه إذ ليس فيه إظهار كرامة، ولكنا نبحث في هذا الأثر في موضعين: أحدهما فيما نحن بصدده من السر في إظهاره - كرم الله وجهه - الكرامة في قوله: قم، فنقول: لعله لما دعا أُذن له أن يقول ذلك، أو رأى أن قيامه موقوف بإذن الله تعالى على هذا المقال، فلم يكن من ذكره بُدّ، والثاني كونه صلّى ركعات ولم يقتصر على ركعتين، فنقول: ينبغي للداعي أن يبدأ بعمل صالح يتنور به قلبه ليعضد الدعاء، ولذلك كان الدعاء، وعقيب المكتوبات أقرب إلى الإجابة وأقل الصلاة ركعتان، فإن حصل بهما نور وأشرقت علائم القبول فالأولى الدعاء عقيبهما، وإلا فليصلّ إلى أن تلوح له أمارات القبول فيعرض إذ ذاك عن الصلاة ويفتتح الدعاء، فإنه أقرب إلى الإجابة. اهـ ملخصًا. أقول: لا أعرف راوي هذا الأثر ولا درجة إسناده في القوة والضعف، ولا أُنكر أنه يجوز أن يستجيب الله تعالى دعاء بعض عباده بمحض قدرته، أو بأن يجعل سبب الأمر الذي يطلب مقارنًا للدعاء، أو عقيبه فيحصل المطلوب. والأمر المحبوب إذ حصل بسبب خفي أو جلي عند طلبه من الله تعالى يسمّى حصوله استجابة، إذ لم يشترط أحد في الاستجابة أن تكون بوجه مخالف لسنة الله تعالى في الخلق، وقد يكون سبب شفاء المرض تأثيرًا أو تأثُّرًا روحانيًّا، والتأثر قد يكون بسبب الاعتقاد سواء كان حقًّا أم باطلاً، وأما تأثير نفس في أخرى، فأنا أعتقد أنه سنة إلهية في الناس، وإن أنكره كثير من الحكماء والعلماء، وقد يكون بأعمال تعين عليه كالصلوات والأذكار مع الخشوع والاستحضار، فإن ذلك يجمع الهمة ويقوي العزيمة والإرادة على ما تتوجه إليه النفس وصَاحِبه يشعر من نفسه بأن له هذا الأثر، ولذلك يأتي بما يدل عليه قبيل حصوله، ومنه الإصابة بالعين، وهذا النوع مما نقل عن جميع الملل، ورأيت الشعراني وغيره من المتصوفة يثبته حتى لوثنيي الهند وهو بحث فلسفي دقيق سنوفيه حقه من البحث في وقت آخر إن شاء الله تعالى. (10) على يد العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر السبكي قصة الاستسقاء به عام الرمادة في زمن عمر رضي الله عنه وكيف أن الله أغاثهم بالمطر سريعًا، أقول: عام الرمادة هو عام ثمانية عشر وسمي بذلك لأن الأرض اغبرّت لشدة الجدب، والأثر في هذا عند البخاري وغيره، قال القسطلاني في الشرح: كان من دعاء العباس ذلك اليوم (اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يُكشف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث، فأرخت السماء مثل الحبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس، وليتأمل أهل الفهم قول العباس عليه الرضوان فهو عبرة لمن يعقل، وذكر السبكي بمناسبة استجابة الدعاء بالاستسقاء ما كان مشهورًا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من استجابة دعائه. (11) على يد ابن عمر رضي الله عنه، وذكر أنه قال للأسد الذي منع الناس الطريق: تنحَّ، فبصبص بذنَبه وتنحى وذهب، أقول: ينقل مثل هذا الأثر عن أهل البوادي والضاربين في القفار ويقولون: إن من شنشنة الأسد وعاده أن يعف عمن يقابله بالسكينة والوقار، ويلقاه بالملق والاعتبار، ولهم في هذا حكايات يتراءى لمن نظر في مصادرها المختلفة أنه لابد أن يكون لها أصل، ولا شك أن أحدًا من المصدقين بتلك الحكايات لا يعدها خوارق عادات، على أنني إذا ثبت عندي أثر ابن عمر رضي الله عنهما بسند صحيح فإنني أعتده كرامة أكرمه الله تعالى بها بإلهام الأسد التنحي عن الطريق، ولكن لا أقول: إن فيه مخالفة لسنته تعالى في الخلق، فإن مثل هذه الإلهامات بخلاف ما تقتضيه العادات الطبيعية الغالبة معهود في العجماوات وفي الإنسان أيضًا، ويعسر على الحكيم إدراج الكثير منها تحت ناموس طبيعي غير الإلهام. (12) على يد العلاء الحضرمي وقد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بجيش، فحال بينهم وبين الموضع البحر فدعا الله تعالى ومشوا على الماء، هذه عبارة السبكي وهي صريحة في أن الكرامة حصلت لكل واحد من الجيش، ولو كانت هذه القصة واقعة لنقلت بالتواتر، ولرواها أصحاب الصحاح جميعهم، ثم أين ذلك الموضع؟ وما هو البحر الذي (يحول) بينه وبين المدينة؟ (13) ماجاء أنه كان بين يدي سلمان وأبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما صحفة طعام فسبَّحت حتى سمعا التسبيح، أقول: تسبيح الله تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بكماله، وقد نطقت به العوالم العلوية والسفلية أي دلت عليه بذواتها وأصواتها {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44) وذهب بعض الناس إلى أن كل شيء يسبح لله بلسان المقال، ولو كان هذا هو الواقع لقال تعالى: ولكن لا تسمعون تسبيحهم، ولم يقل: (لا تفقهون) ثم إن الله تعالى لا يبطل سنة من سنن الكون إلا لحكمة بالغة كإعذار الأمم بآية على يد نبيهم ليؤمنوا فينجوا، أو يصروا على العناد فيهلكوا بنزول العذاب، فما الحكمة بوقوع هذه الخارقة لرجلين من أقوى الصحابة إيمانًا، وآية القرآن الذي يتلونه تعلو عندهما على جميع الخوارق؟ والكفار يلحون بطلب الآيات الكونية من النبي صلى الله عليه وسلم، والله يأمره بأن يتلو في جوابهم: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) ثم من الذي حدث منهما بهذه الكرامة مع أن الأصل الذي عليه السبكي وغيره أنه يجب إخفاء الكرامات؟ وإذا قيل: إنهما حدّثا بها لتقوية إيمان بعض الناس نقول: وهل يقوى إلا إيمان من سمع بأُذنه؟ إذا كان لهذا الأثر أصل فهو أنهما كانا يتكلمان في دلالة الكائنات على تنزيه مبدعها وغفلة القلوب الضالة من هذا، فقالا ما مثاله: إن هذا الطعام يسبح لله، أو إننا نسمعه يسبح الله، ومثل هذا التعبير من المجازات الشائعة في اللغة يسندون النطق إلى الديار والآثار، وينظمون ذلك بالأشعار، أو إنهما لتمكن هذا المعنى من نفسيهما كان يتجلى لهما في كل شيء، وقد وقع مثل هذا الكثير من العشاق {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ} (البقرة: 165) . (13) ما اشتُهر أن عمران بن حصين رضي الله عنه كان يسمع تسبيح الملائكة حتى اكتوى، فانحبس عنه ذلك، ثم أعاده الله عليه، أقول: تقدم في الكلام على كرامة مريم العذراء عليها السلام أن سماع كلام الملائكة بالإلهامات الصحيحة والمعارف الإلهية قد يكون كرامة لأصحاب النفوس الزكية والأرواح القدسية، وهو من سنن الله في الخلق لا من مبطلاتها أو مبدلاتها، ولا مانع من ثبوته لهذا الصحابي الجليل. (14) ما اشتُهر من قصة خالد بن الوليد في شرب السُّم وعدم إضراره به، أقول: إن مقدارًا من السم يقتل رجلاً ضعيف المزاج أو معتدله، ربما لا يقتل قوي المزاج، وأعرف رجلاً تسمم دمه بالصديد ونجا منه، وقال له الأطباء: لا نعرفها لغيرك، وأعرف رجلاً آخر كانت تلسعه الأفاعي فتموت هي ولا يصيبه منها أذى، وقع

تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية اختصاص المحاكم الشرعية مادة ومكانًا رأيت أن بعض القضاة يلتبس عليهم الأمر عند التخاصم، فيحكمون بعدم الاختصاص فيما هو متعلق بالمواد الشرعية، كما وقع أن رجلاً ادّعى نشوز زوجته ليسقط نفقتها وأجرة سكناها وطلب إلزامها بأجرة المسكن الذي كان أعده لها بمقتضى حكم سابق مدة شهرين، فحكم القاضي بعدم اختصاصه بالنظر في الإيجار ظنًّا منه أنه حق مدني محض مع أنه مرتبط بالنشوز وسقوط النفقة، وكما وقع لآخر في دعوى زوجته علي أبيها بجهازها، وأنه أخذه منها بعد أن استلمته، فإنه حكم بعدم الاختصاص مع أنه كان يمكنه النظر في الأولى والحكم في الدعوى بعد ما حضر لديه الخصماء، وهما الوالد وبنته، وأفضل حَكَم بين مثلهما هو القاضي الشرعي الذي يتولى النظر في حقوق القرابة أيًّا كانت، وهو أيسر ما كان على المتقاضين. فأرى أن يطلق النظر للقضاء في الأمور المذكورة في المادة 16 من اللائحة، وفيما لا يتجاوز مبلغه خمسة وعشرين جنيهًا في أي مادة شرعية. ثم ألاحظ ما لاحظه سماحة قاضي محكمة مصر الكبرى من أنه يجب أن يضاف على الأمور المذكورة في المادة 16 بعد التوكيل بين الزوجين ألفاظ (وغيرهما فيما يتعلق بما ذكر) . وفي مقام الاهتمام بإصلاح هذه المحاكم لا ينبغي توجه الفكر إلى تضييق اختصاصها , بل يجب أن يفسح الأمل في توسيعه حتى تغني الحكومة عن كثير من الوسائل التي تحاولها من زمن بعيد في تيسير التقاضي على الناس وتخفيف الحمل عن قضاة لمواد الجزئية في المحاكم الأهلية، وقلما تصادف فيها نجاحًا حقيقيًّا، ثم يجب أن يترك أمر الاختصاص على ما هو عليه في القوانين المصرية بدون تعرض لتفصيله مع إصلاح ما جاء في مواد التنفيذ من اللائحة الجديدة مما يوهم أن بعض أحكام المحاكم الشرعية فيما هو مختص بها بمقتضى الشريعة لا ينفذ، فإن أمر الاختصاص بيّن والناس معه عارفون ومقتنعون بأن ما منعت المحاكم الأهلية من النظر فيه بمقتضي المادة 16 من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية يختص النظر فيه بالمحاكم الشرعية، ويصعب جدًّا تحديده بغير ما حددته لائحتا ترتيب المحاكم الأهلية والشرعية والإتيان بهذه الإشارات في اللوائح مما يوجب الارتباك في العمل ويضر به. ولنفرض أن رجلاً مات وترك ديناً على آخر ويريد وارثه أن يثبت وراثته له بحكم شرعي، وقد حتمت اللائحة أن لا تقام الدعوى إلا على خصم حقيقي كما هو الواجب شرعًا، وليس للتركة خصم حقيقي إلا هذا المدين، أفلا يضطر الوارث لإقامة الدعوى على المدين ليصدر الحكم بالدين وفي ضمنه الحكم بالوراثة حسبما تقتضيه القواعد الشرعية؟ فإذا صدر هذا الحكم، وهو من محكمة مختصة بحكم الضرورة التي لا مندوحة عنها، فكيف لا ينفذ لأنه ليس حكمًا في أحوال شخصية، مع أنه مرتبط بالأحوال الشخصية غاية الارتباط، وكيف يلزم من حكم له بالدَّين أن يرفع دعوى جديدة بدَينه هذا أمام المحكمة الأهلية ليمكنه التنفيذ، فإن ضعفت الثقة بحكم القاضي في هذا الدَّين، فكيف تقوى في حكمه بما هو أهم منه وهو النسب الذي تتبعه حقوق الوراثة في الدَّين، وفي غيره من التركة التي تبلغ قيمتها آلافًا من الجنيهات. فالرأي عندي إبقاء الاختصاص على ما كان عليه واعتبارأحكام المحاكم الشرعية في جميع ما أُبيح لها أن تنظر فيه من المواد بمقتضى الشريعة الإسلامية، وإنما يجوز للحكومة أن تقيد الحكم في بعض المسائل التي تحتاج إلى التوثيق بالكتابة بأن يكون للدعوى مستند مكتوب مثلاً على الصفة التي تحددها كما صنعت مثل ذلك في الوقف والزواج ونحوهما، وبهذا تنتفي كل المصاعب التي تحس بها الحكومة والناس معًا، أما الاختصاص من جهة المكان فقد حددته المواد 21 و22 و23 من اللائحة الجديدة، وذكر فيها لفظ (توطن) المدعى عليه مثلاً، وقد أظهر العمل أن من المتخاصمين من لا وطن له كالرحالة من العربان وغيرهم، وكالمسجونين والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، فإنهم ليسوا متوطنين شرعًا حيث هم، ويصعب جلبهم من سجونهم ومشاغلهم إلى المحاكم المختصة بالنظر في الدعوى عليهم باعتبارهم متوطنين في دائرتها، وكذلك الموظفون إذا لم يسكنوا بعائلاتهم حيث يعملون في وظائفهم وفي أزمان الانتداب لمدد طويلة، ونحو ذلك مما يطول شرحه. ثم اختلف النظر في الزوجة يعقد عليها زوجها في بلد أهلها، ثم تقيم معه مدة طويلة في بلد آخر، ثم ترجع إلى بلد العقد، هل تقام الدعوى على زوجها في محل العقد أو في بلد الزوج؟ فإذا كان العقد في بلد الزوج ولم يدخل بها وأقامت الزوجة في بلد آخر هو بلد أهلها، وأرد الزوج أن يدعوها إلى الدخول في طاعته والبناء بها، فهل يدعي عليها في بلده حيث كان العقد أو في بلدها؟ والذي أراه وطلبه جميع القضاة أن يبدل لفظ (توطن) في مادتي 21و 23 بإقامته، وأن يبقى في مادة 22 على حاله، وقد كان لفظ الإقامة بدل التوطن في اللائحة القديمة، وهنا أعجل بذكر مسألة كان العمل فيها قبل اللائحة أيسر منه بعدها وهي دعوى زوجة على زوجها بأنه تركها بلا نفقة وهي في أسوان وهو في الإسكندرية مثلاً، معروف المقام، فكان ينظر فيها علي مذهب زفر في المحكمة التي تقيم الزوجة في دائرتها، ويصدر لها الحكم بدون إعلان الزوج ولا إعذاره متى استوفيت الشروط المسوّغة للحكم، ويبقى حق المعارضة للزوج عند التنفيذ لا محالة وكان في ذلك تيسير علي الزوجات الفقيرات، ولكن حُظر هذا النوع من التيسير بعد اللائحة، وأرى أن يبقى الأمر على ما كان عليه قبلها.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (19) من أراسم إلى هيلانة في أول مايو سنة -185 تسألينني في خاتمة مكتوبك عما نسمي به ولدنا، نسميه (أميل) إذا كان ذكرًا؛ إحياءً لذكر ذلك الكتاب [1] الذي كنت أقرأه لك في مطالعاتنا الليلية، فكان في نفسك مبعث الطرب والإعجاب حتى إني كنت أكف عن القراءة حينًا بعد حين لأشاهد وجهك في ضوء المصباح، فأتبين فيه ذلك، ياله من عهد تحفظه ذاكرتي لتلك الأيام السعيدة. من البدع التي جرت بها ألسنة الأكياس [2] من الناس منذ حين سبهم جان جاك روسو واحتقارهم إياه، فويل لهم مما يرمون به قبر ذلك الكاتب العظيم من نبال اللعن والقدح، وإنهم لجديرون بالرثاء لعقولهم، لم يكن ذنب الرجل الكبير سوى أنه خالف سنة أهل النظر في عصره وهي اعتقادهم في إصلاح المجتمع الإنساني على الرجال ومخاطبتهم إياهم فيه بأن وجَّه خطابه إلى الوالدات والأطفال، وهوأمر هداه إليه ما فُطر عليه من جودة الطبع وذكاء القريحة، على أننا لو جردنا كتاب (أميل) مما فيه من العبارات الفصيحة التي امتلات بها صحفه، والشتائم الشديدة المنبعثة عن وجدان كبر عليه احتمال الضيم والهوان، والحماسة في نصرة الفضيلة، والانفعالات الشريفة التي كانت تعرو مؤلفه المؤمن بالله دون وحيه لأنبيائه عند نظره في بدائع الصنع ومحاسن الكون- لوجردنا الكتاب من كل ذلك فما الذي يبقى لنا فيه؟ يرجع كل ما قاله المؤلف في الطريقة التي أراد وضعها للتربية إلى هذه القاعدة، وهي السير علي مقتضى الفطرة ومعاملة الأطفال معاملة العقلاء، نسلم له ما يقول، ونحن نرى أن اتباع الفطرة في كل ما تدعو إليه يفضي بالطفل إلى حالة التوحش والهمجية، لكن ذلك الحكيم على عدم إيمانه بالوحي كان يعتقد أن أصل الكمال في الفطرة والنقص إنما يعرض لها من فساد التربية، أما كلامه في خطاب العقل، فلا شك أنه جدير بأن تصاغ له من أجله أجمل عبارات المدح تنويهًا بفضله، ولا بدع في أن عَرِف له القرن الثامن عشر قدره بعد إنكاره، فأقام له من الآثار ما خلد ذكره وأحيا اسمه، لكن العقل من دون جميع قوى الإنسان هو الذي يكون في طور الطفولية أقلها نموًّا، فكيف إذن يعتمد على هذه القوة الكامنة في إيصال معنى الخير إلى نفس الطفل. لروسو فوق ذلك أغاليط أخرى كان يعتقد صحتها، وكان من شأنها أن تعوقنا عن التقدم في أخلاقنا وأوضاعنا، من هذه الأغاليط: اعتقاده بوجوب الرضوخ لما للجمهور الأغلب من السلطة المطلقة، فإنا نجده في كتابه المسمى (بالعقد الاجتماعي) قد انتصر للحكومة فيما تدعيه لنفسها من حق تربية الأمة بما أقامه عليه من البراهين. ألا أُبين لك كيف كان نفع روسو للأطفال خاصة بما نشره في كتبه من الانتصار لهم والدفاع عن حقوقهم؟ كان ذلك بما ألقته تلك الكتب في نفوس الفرنساويين من بذور الثورة وهيأتها به لها 0 لم يُقدِّر الناس ما نشأ عن هذه الحادثة الكبرى في نظام الأسرة (العائلة) من ضروب التغير حق قدره، فإنها قد خففت من ثقل الولاية الأبوية تخفيفًا عجيبًا على غير علم من الناس جميعًا؛ لأن المؤرخين قلما يلتفتون إلى ما يحصل في البيوت من تهذيب الأخلاق وصلاح العادات، فلم يكد رجال الثورتين اللتين حدثتا في سنتي 1789و 1792 يدركون ما كان يعتور تلك الأخلاق والعادات البيتية من الاستحالة، على قربها منهم وسهولة ملاحظتها عليهم، ذلك لأنه ليس في وسع أحد أن يلاحظ أعمال جميع الناس، فإذا أريد الوقوف على أثر أنواع هذه الاستحالة وصنوف ذلك التغير وجب الرجوع إلى ما كُتب من السِّيَر في أواخر القرن السابع عشر، أو في أوائل القرن الثامن عشر، هنالك يُرى ما كان بين الزوج وزوجته، والوالدة وأولادها من التكلف في العشرة والمقاسحة [*] والمجافاة في المعاملة، نعم إن قولي هذا خاص بأهل البيوتات؛ لأننا لا نعلم شيئًا من أحوال الطبقات الأخرى، لكن هؤلاء لا بد أنهم كانوا يحتذون مثال سراة الأمة وزعماء الدولة. كان البيت في ذلك العهد مؤسسًا على إحدى الوصايا العشر التي وصى الله سبحانه بها موسى (عليه السلام) وهي (أكرم أباك وأمك) فلم يوصِ موسى أبدًا بحبهما. كانت الزوجة في الغالب تدعو زوجها سيدًا وهو يدعوها سيدة، فكان تخاطبهما باسميهما مع كونه هو لذة العشرة والاختلاط لا يكاد يقع منهما في حضرة الأجانب، فالثورة هي التي أدخلت في البيوت عادة التخاطب بضمير المفرد، وسوّت بين الولد البكر ومن يتلونه من إخوته في الحقوق، فاجتثت بذلك أصول التباين والاختلاف، وأعلت من شأن المرأة، ورفعت من قدرها كما وثّقت ما يربطها بالرجل من عقدة النكاح، وأصبح البيت بحكم الشؤون ومجرى الحوادث مرجعًا لأصداء المحاورات والمناقشات في المصالح العامة، وصار صوت الرجل وزوجته في محادثتهما أخلص وأشد مما كان قبل، كان للكنيسة في الطفل من الحقوق إلى وقت قيام الثورة في سنة 1789م أكثر مما كان لأهله فيه، فإن البيت كان قد استعار من الدير ما فيه من صلابة المعاملة الباردة بسبب أن الوالدة في الغالب كانت تربى فيه، لا أعني بذلك أن الأم ما كانت تحب أولادها قبل الثورة، وأعوذ بالله أن يخطر هذا بفكري، ولكني مع اعتقادي حبها إياهم، أعتقد اعتقادًا ثابتًا أن الثورة قد ساعدت على تخليص محبات القلوب من قيود التكلف، فكما أن منشأ جميع الحركات العظمى للأرض هو ما في باطنها من النار، كذلك منشأ حوادث الإنسان الكبرى هو ما في قلبه من حب. ذلك شأن الإنسان في جميع الأزمان، فمن حياته في الهند حيث كان الطفل لا يعتبر إلا برعومًا [3] من نبات قبيلته، وفي رومة التي كان الوالد فيها يملك على ولده حق حياته وموته إلى أن صار إلى هذه المجتمعات الحديثة التي كاد يكون للطفل فيها وجود مستقل، قد رقيت الأسرة في أطوار وجودها الأصلية جميع معارج الحرية، فلا بد في تغيير شكل الحكومة وإصلاحها من تغيير معنى الأبوة أيضًا ورده إلى حده. أطول جميع الثورات بقاء وأخلدها أثرًا هي التي كان لها من الزمن ما استحوذت فيه على عقول الناشئين، فالإصلاح الديني مثلاً وهو مذهب البروتستانت لا يزال حيًّا في ألمانيا وسويسره وهولانده وإنكلترا؛ لأن رجاله في هذه البلدان وفي غيرها أسعدَهم الحظ بتأسيس مدارس فيها لتربية الأحداث علي أصولها وعقائدها، أما الثورة الفرنساوية فإنها علي العكس من ذلك قد أعوز رجالها الزمن لتنفيذ مقاصدهم؛ لأنهم كانوا قد اختطوا على عجل وهم في مهب رياح الفتنة خطة مُثلى للتعليم العام، لكن أعاصير الحوادث قد دافعتهم، فحيل بينهم وبين ما كانوا يقصدون، لما وضعت الطريقة التي نجري عليها الآن في التربية كانت نيران الفتنة قد خمدت، ومراجل أفكار العصيان قد سكنت، فعهد إلى رجال الحكومة النيابية الذين حكموا على الثائرين من رصفائهم بالقتل - حَكَم سيسيرون على كاتيلينا وأشياعه [4] بتجديد ما اندثر من التعاليم القديمة، فما لبثت هذه التعاليم أن فاضت منها على الناس أصول الحكومة الفردية، أي حكومة الاستبداد، وأصبحت القوة الحاكمة هي مدير المدرسة والأستاذ الأكبر لتعليم الدين، ورئيس الجند الأكبر والشارع الأكبر، بل الكل الأكبر الذي انحصرت فيه جميع الوظائف، ورجا الناس من هذا الإله الذي هو من صنعهم أن يضيء عقول الأمة، وأن يصنع لهم علماء وأنصاف علماء، فصار التعليم الابتدائي والثانوي، بل صارت جميع درجات التعليم محوطة بسياج حصين من القوانين، معاذ الله أن أكون آسفًا على ما أراه من انتشار العلوم وعموم المعارف، ولكني ضعيف اليقين بتأثير عمل الحكومة إذا كان الغرض من التعليم هو تربية رجال أحرار، فإنها ماوضعت لذلك، وإن لأعضاء المجتمع الإنساني وظائف كما لأعضاء الأجسام لا يمكن تغييرها بمجرد توجيه العزيمة إلى ذلك. سمعت غيرمرة أن الجهل كان العقبة الكبرى في طريق كمال الحرية، وأنا موقن بصحة هذه القضية، وسمعت أيضًا ممن قالوها أن الحكومة قد قررت أن يكون التعليم مجانيًّا وإلزاميًّا، وستكون الأحوال حينئذ على ما يرام، أنا لا أصدق هذا وأضرب الصين مثلاً لأولئك الذين يرون في دواليب التعليم التي تديرها يد الحكومة وسيلة لتحرير العقول، يكاد كل رجل في تلك المملكة يعرف القراءة والكتابة، ففيها من المدارس الابتدائية والثانوية وطرق الامتحان ما يفوق الحصر، والصينيون هم الذين اخترعوا فن الطباعة، وهو أكثر الفنون اليدوية أثرًا في قلب شؤون العالم، وذلك قبل أن يُعرف في أوربا بخمسمائة عام، فماذا كانت النتيجة؟ أنا لا أزيد عنك علمًا بها. لم يكن من التعليم الذي كانت الأساتذة تفيضه على الناس إلا أن أتقن تحجير الأوضاع الاجتماعية وجعلها أصلب مما كانت، كذلك يكون الشأن عند جميع الأمم التي يكون الغرض من التربية فيها إيجاد رعايا للحكومة في القالب الذي تريده، ولوشئت لذكرت أمة أوروبية ليس بينها وبين الصين من هذه الجهة كبير فرق، فإن التعليم الابتدائي فيها يثبت كل يوم في نفوس الأطفال خلق الانقياد الأعمى بسبب تداخل السلطتين الدينية والسياسية فيه، المعلم في هذه الحالة هو نائب الحاكم الجائر، ألم تري أن دينيس [5] لما خلع من الملك اشتغل بوظيفة مدير مدرسة؟ ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية أشرنا في (المنار) الماضي إلى رسالة جاءتنا من سنغابور يذكر فيها صاحبها تعدي هولندا على الآجينيين، وعدم مبالاة الدولة العلية بهم، وهم من أتباعها، وقد استغاثوا بإنكلترا فلم تلتفت إليهم على قربها منهم، فإن بلدة فلفلان لاجي التابعة لها على مسيرة يومين ونصف منهم، وجميع معاملة تجارها معهم، وقد تلفت أموالهم بواسطة محاصرة هولندا للآجينيين، وقال صاحب الرسالة: (إن آجي جميعها في حماية الدولة العلية من عهد ساكن الجنان السلطان سليم خان الثاني, وفيها مدافع صفر عليها طغراء السلطان المومي إليه , نظرتُها بعيني، وقد نقلتها دولة هولندا إلى بتاوي في مبدأ الحصار، وعندهم فرمان من ساكن الجنان السلطان عبد المجيد خان بأنهم في حمايته مؤرخ في جمادى الأولى سنة1267) ويشكو صاحب هذه الرسالة من رجل يسمى السيد عثمان بن عقيل ويقول: إن هولندا اتخذته صنيعة لها وعونًا على تذليل المسلمين، وقد جاءنا في البريد الأخير رسالة من جاوه فيها تفصيل عن السياسة الهولندية هناك، وشكوى من هذا الرجل ننشرها في العدد التالي إن شاء الله تعالى. *** (الآستانة ومصر) كلما سعى أعداء الملة والدولة بحل الرابطة الوثيقة بين يلدز وعابدين؛ لفصل مصر من جسم الدولة العلية - يحبط الله سعيهم ويذهب بسعايتهم، وقد انتهت آخر سعاية بتعطف مولانا السلطان الأعظم بإرسال عطوفتلو محمود بك عزيز قبو كتخدا الحضرة الخديوية في دار السلطنة؛ لتبليغ مولانا العباس عزيز مصر سلامه ورضوانه، فليخسأ السعاة والمحَّالون. ومن عناية مولانا الخليفة بالمصريين أن حضرة الفاضل عثمان بك بكر العبادي أحد أعضاء مجلس إدارة جمعية شمس الإسلام رفع عريضة تلغرافية إلى أفق يلدز يهنئ بها مقام الخلافة بالمولد الهمايوني الميمون، فورد له الجواب من باشكاتب المابين الهمايوني يبشره بصدور الإرادة السنية بتبلغه ارتياح الحضرة السلطانية لتهنئته. *** ومن أخبار مراكش بتاريخ 5 الجاري أن معتمد إيطاليا لما قابل حضرة مولاي عبد العزيز قدم له الهدايا الثمينة التي أتى بها من قبل مخدومه ملك ايطاليا، وهي عبارة عن أسلحة جميلة من الصنع الجديد، خصوصًا مدفعان خفيفان سريعا الطلق بكرسيهما، ومدفع ثالث من طراز آخر، وبنادق وخاتم رصعت به ياقوتة عظيمة أخذت من حُلي ملكة إيطاليا، وفي رواية أن السنيور ملموزي معتمد إيطاليا المُشار إليه أنجز مع حكومة المخزن مسألة اشتراء الدارعة البشير، وسعى جهده في إعادة تشغيل معمل الأسلحة المغربية الذي لإدارة ضباط من الإيطاليان بفاس ووضح لرجال المخزن ما هناك من المصلحة في تخصيص جزيرة مغادر وإحالتها لنواب الدول بطنجه لتقيم بها إدارة الصحة محجرًا صحيًّا. اهـ ملخصًا من (الحاضرة) . *** ابتهجت الجرائد الوطنية بكلمة قالها مجلس شورى القوانين بالإجماع عند التصديق على ميزانية سنة 1900م الآتية، مضمونه أن المجلس يقر الحكومة على المبلغ المخصص للسودان بناء على أنه جزء متمم للبلاد المصرية وداخل في ماهيتها، وعدّت الجرائد هذا القول معارضة لوفاق السودان، ولا صحة لما أشاعته إحداها من أن عطوفتلو رئيس النظار تكلم مع رئيس المجلس بأن لا تكتب هذه الكلمة في محضر الجلسة مجاملة للإنكليز في وقت الضراء.

الصيام والتمدن - 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصيام والتمدن ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ ... عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*] أكتب هذه المقالة لطائفتين من المسلمين: طائفة تصوم ذاهلة عن معنى الصوم محرومة من فوائده ومزاياه، فصومها أقرب إلى العادة منه إلى العبادة، وطائفة أفرطت في الترف والتنعم، واسترسلت في الشهوات استرسالاً، فشقَّ عليها الصوم فتركته غير مبالية بالأمر الإلهي ولا ملتفتة إلى ما في هذه العبادة من المنافع الروحية والجسدية، هذه الطائفة هي التي نشأت في مهد التمدن العصريّ الشرقيّ، وأعني بهذا التمدن ما ضم ذووه إلى مفاسد التربية الشرقية كثيرًا من مفاسد التربية الغربية، فنسوا حظًّا مما ذكروا به على لسان الشرع، ولم يستبدلوا بما تركوه من أعمال الدين وآدابه وفضائله ما يقوم مقامه في قوام السعادة الدنيوية مما أفادهم العلم والاختبار فضلاً عن السعادة الأخروية، فإنه ليس لها في التربية الغربية -على ما نعتقد - نصيب، ولا نشرك مع هؤلاء من يترك الصوم من الغوغاء والتحوت، فإنهم لا يقرءون، وإذا قرءوا أو قرئ عليهم لا يفهمون، وإذا فهموا لا يبالون أنهم مخطئون أو فاسقون؛ لأنهم مستهترون ومستولغون (لا يبالون ذمًّا ولا عارًا) {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) . أيها المتمدن الشرقي أقسم عليك بشرفك الذي تقسم به وترعاه، وهو عوني عليك من تمدنك دون سواه، ولولاه لكنت مستولغًا لا تبالي بالعار، ولا ينجع فيك الإنذار - أن تقرأ مقالتي هذه وتتدبرها حق التدبر لعلها تذكرك بأمر هو مركوز في فطرتك الزكية، ولكن أذهلتك عنه النشأة العصرية، وهو أن الصوم ركن من أركان (الشرف) الذي تحرص على الاتصاف به، لا يثبت لك الشرف الصحيح إن كنت موقنًا بالدين الذي تنتسب إليه بدونه، ولا يتم لك الشرف العرفي إن كنت غير مؤمن إلا به أو بمثله أكثف حجاب حال بينك وبين الشعور بفقد الشرف - بفقد الصوم ونحوه - هو وجود كثير ممن على شاكلتك من خلطائك وخلصائك الذين تعيش معهم، وهم من أهل المال والسلطة، مع ملاحظة أن الشرف هو ما يعده جمهور الناس شرفًا، ويحترمون صاحبه ويجلونه، ولو الظاهر دون الباطن، وهذا هو معنى الشرف عند عامة الناس ودهمائهم في جميع الأمم، وهو يقتضي أن يكون الشرف أمرًا اعتباريًّا لا حقيقة له في نفسه، فقد يعتبر قوم شيئًا من الأشياء شرفًا يتباهون به ويتنافسون فيه، وهو عند غيرهم ضعة وخسة يتقذَّر منه ويتباعد عنه، وما من طائفة من الطوائف تقيم على عمل من الأعمال إلا وهو في عرفها شرف، وله أسماء ونعوت يتمدح بها، فأصحاب السلب والنهب يرون أن عملهم من آثار الشجاعة والشهامة، وأنه أفضل أنواع الكسب وأشرفها، وعلى هذا فقس، وأما الحكماء المحققون والعلماء الراسخون من جميع الأمم فإنهم يرون أن الشرف أمر حقيقي، وأنه هو الكمال الإنساني، ويمكنني أن أعرفه بكل عمل يجلّ صاحبه ظاهرًا وباطنًا، ويحترم بحق من العقلاء والفضلاء فمن دونهم، وهؤلاء لا يجلون أحدًا ويحترمونه على عمل إلا إذا كان له أثر في نفع أمته وحفظ مصالحها والذود عن حقوقها، فقيام الإنسان بالواجب عليه لتهذيب نفسه ومصلحتها لا يُسمّى بنفسه شرفًا، وإنما هو من الوسائل المعدة والمهيئة له لنوال الشرف، والصيام من جملة هذه الوسائل، ولذلك قال تعالى في بيان حكمة إيجابه علينا: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) فإن معنى (لعلّ) في القرآن: الإعداد والتهيئة لما تدخل عليه، على ما اختاره أستاذنا مفتي الديار المصرية لهذا العهد، وإليك بيان هذا في شأن الصيام: لا خلاف بين علماء الاجتماع في أن سعادة الأمة منوطة بحسن تربية أفرادها، فالسابقات إلى السعادة في هذه الحياة الدنيا من الأمم هن السابقات في العناية بالتربية كإنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، رأت هذه الأمم العزيزة أن الأمة الإنكليزية قد سبقتهن جمعاء في ميدان السيادة والسعادة، حتى إنها استولت على قريب من ثلث العالم الإنساني (400 مليون) وأخذت أهم مغالق البحار، وقبضت على أكثر الأعصاب المعنوية للعالم المتمدن، وهي الأسلاك البرقية، وامتلكت معظم ينابيع الثروة، وأنها نالت هذا بسلاح الحكمة والتدبير لا بسلاح الإبادة والتدمير؛ لأنها أقلهن حربًا وأبعدهن عن الاستعداد له بالنسبة لما استعمرته من الأرض، رأين هذا، فحار الأكثرون في تعليله غفلة منهم عن الاستدلال بالأثر على المؤثر، وبالمعلول على العلة، واهتدى إليه بعض المحققين في علم الاجتماع وطبائع الأمم فقالوا: إن هذا السبق معلول لحسن التربية، ثم بحثوا في طرق التربية الإنكليزية، وقارنوها بالطرق المعروفة عند سائر الأمم المتمدنة، فظهر لهم صحة استدلالهم، وفصل المجمل تفصيلاً، وفي هذه التربية ألف الموسيو أدمون ديمولان كتابه (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) ومنه علم أن مدار هذه التربية على أن يكون المربى مستقلاًّ بنفسه في أمر معيشته، قادرًا على أن يعيش في كل أرض ويزاحم في شؤون الحياة كل شعب، ويقاوي من فواعل الطبيعة كل عارض، ويصابر من حوادث الزمان كل طارئ ليتمكن من بسط جناح سلطة أمته على كل أمة، ومن إعلاء مجد قومه على جميع الأقوام، هذه هي التربية المُثلى التي سبق الشعب السكسوني بها سائر الشعوب، ولا شك أنها لم تبلغ كمالها ولم تعم الشعب كله، وهي على أحسنها في الطبقات العليا من الأمة، ألم تقرأ ما نقلناه في (المنار) 41 الأسبق عن السياسي الإنكليزي من قوله: (هذا الجلد والصبر لا يوجد عندنا إلا في الضباط، فإنهم تربوا أحسن تربية وباقي الجيش من غوغاء الناس إذا مشى بضع ساعات يعييه الوجى والكلال، ولا يصبر عن اللحم والخمر إلا قليلاً) . وهذا لا يكون إلا بتعويد المرء نفسه على الجوع وترك الشهوات أحيانًا؛ لكيلا يتألم إذا أصابته مجاعة ويخور عزمه، وهذا هو معنى الصوم وإحدى فوائده المهمة، يقول المتمدنون: إن هذا النوع من ترويض الجسم وتأديب الشهوة لا تُنكر فائدته ولكنه يمكن أن يحصل بغير الصوم المشروع في الإسلام، ولا ريب أن هؤلاء الإنكليز ومن على شاكلتهم في التربية لا يصومون هذا الصوم، ونقول في جوابهم: إذا فرضنا أن الغرض يحصل بالصوم وبطريق آخر من الرياضة فحسبنا في ترجيح الصوم أن فيه مرضاة الله تعالى، والمثوبة الحسنة في الآخرة مع الفائدة في الدنيا، على أن حكمة الخالق لا تقاس بحكمة المخلوقين، ووضع البشر لا يداني وضع أحكم الحاكمين. وها أنا ذا أسرد ما أستحضره من فوائد الصوم؛ ليتبين للقارئ أنه لا يرغب عنه إلا مَن سفه نفسه، وقد ذكرت فائدتين منها في مطاوي الكلام، وأعيدهما مع أخواتهما بلون آخر من البيان: (الفائدة الأولى) الصحة؛ لأنه رياضة تجفف الرطوبات البدنية، وتفني المواد الرسوبية، فقد قال ابن سينا الحكيم الإسلامي: إن هذه المواد تتولد من الطعام وتكثر حتى تتولد منها أمراض يخفى سببها , وقد اكتشف بعض علماء أوربا هذه المواد من سنين قليلة (وقد كان سبقهم حكيمنا إليها ببضعة قرون) . يقول الآخذون بالظواهر أننا نعرف من أنفسنا الضعف والذبول بالصوم فكيف نُسمي الضعف صحة؟ ومن لوازم الصحة القوة , ونجيبهم بأن عاقبة هذا الضعف والذبول القوة والنمو، ألم تروا كيف يمنع النبات الماء زمانًا حتى يذبل ويذوي، ثم يفاض عليه فيكون أسرع نموًّا مما لو عوهد بالسقي دائمًا، بل هو في هذه الحال معرض لليبس؛ لأنه يرد عليه من الغذاء أكثر مما تطلبه طبيعته، ويندرج هذا تحت قاعدة (ردّ الفعل) المعروفة، الشجرة البرية - كما قال الإمام علي - أصلب عودًا وأبطأ خمودًا، والأجسام الحية يشبه بعضها بعضًا في الشؤون الحيوية، وقد ثبت في الطب أن السنين إذا أخذت قومًا، فإن فعل الجدب والقحط يكون على، أشده في المترفين المنعمين الذين اعتادت مِعَدُهم أن لا تخلو من المآكل الرطبة الدسمة فيكثر فيهم الموتان ويسرع فيهم الفناء، وتكون السلامة أغلب في أهل الشظف والقشف، فما أحوج هؤلاء المنغمسين في النعيم إلى رياضة الصوم لتقوية أبدانهم! ! (الفائدة الثانية) كسر سورة الشهوة وجزر مدّها، فإن طغيان الشهوة يفضي بصاحبها إلى الإفراط في تناولها؛ فينطفئ في نفسه نور العفة، وهي إحدى أركان الفضائل الأربع، ومتى تقوض هذا الركن ينهدم معه ما بني عليه من الفضائل كالحياء والدعة، والصبر والسخاء، والحرية الحقة والقناعة، والدماثة والانتظام، والمسالمة والوقار والورع، واختل مزاج النفس وتبعه اختلال مزاج البدن؛ لأن الإفراط في الشهوات منبع الأمراض والأدواء بإجماع من الأطباء، ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان:إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين. زاد الترمذي وابن ماجه والحاكم: ونادى منادٍ: يا باغي الخير هلمَّ، ويا باغي الشر أقصر، فأبواب الجنة: الفضائل والطاعات، وأثرها في الصوم أعم وأظهر، وأبواب النار: الرذائل والمعاصي، وانطماس أثرها في الصوم الحقيقي لا يُنكر , وبهذا يبطل تأثير الأرواح الشريرة التي تلابس النفوس، فيقوَى فيها الميل إلى الشرور المعبَّر عنه بتصفيد الشياطين، يقول المعترض: إذا ضعفت الشهوة في وقت الصوم فإنها تثوب بعده كما تثوب الغضاضة والقوة بعد الذبول والضعف بمقتضى قاعدة (رد الفعل) التي ذكرتَها في بيان الفائدة الأولى فيكون الصوم مضرًّا، ونقول في جوابه: إن موت الشهوة أو دوام ضعفها مضر بالإنسان، وإنما شرع الصوم وغيره لمنفعته، والمطلوب في الصيام تضمير النفس كما تضمر الخيل حتى يملك صاحبها عليها أمرها، ويأمن جماحها إلى ما يحرّمه الشرع ويورث صاحبه الهوان والضعة من اتباع الشهوات، وإنما يكون هذا بامتناعه في أوقات مخصوصة عن تناول الشهوات كلها - حرامها وحلالها - لتنطبع في النفس ملكة القدرة على الترك وهذا هو التهذيب المفروض على كل مكلّف في جميع الشرائع، جعلت العرب مدة تضمير الفرس أربعين يومًا، وجعل الشارع مدة تضمير الإنسان نفسه ثلاثين يومًا في كل سنة، ويستحب الزيادة عليها، لا سيما بالنسبة لمن يعرف من نفسه الجموح وعدم السلاسة لحكم الشرع. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (تابع لمكتوب 19) من الخطأ أن يعتقد معتقد أن الحكومات المطلقة تكره تقدّم سير التعليم العام وتعاديه عن قصد، فما الذي تخشاه منه، وليس هو إلا جملة أنواع من العرفان هي تحرّرها وتصوّرها كيفما شاءت؟ أليس بيدها مقاليد هذه الجملة؟ أليست طرق التعليم التي تقرّ عليها وهي المتبعة دون غيرها هي أحسن ما وجدته لتمكين أصل الرضوخ للقوّة الحاكمة في نفوس المتعلمين؟ إن أخوف ما أخافه على الأمة من المخازي المهينة التي تشين شرفها هي العبودية في الاختيار، فإن الأصفاد التي تقيّد الرقيق قد تسقط بمقاومة قليلة (وروى لنا التاريخ في ذلك أكثر من مثل) وأما ما يتزيّا به حواشي الأمراء وخدمهم من الملابس الرسمية، فما أطول بقاءه على أبدانهم! ! إذا تعلمت الأمة بالتربية الفاسدة الطاعة والانقياد، وكان الباعث لها عليهما المنفعة أو الأثرة أو الوجدان، كان ذلك كل ما يطلبه منها مربيها. إن مذهب القائلين بوجوب توسط الحكومة في التعليم مؤسس كله على أمور الاعتقاد التقليدي، وعلى أن السلف كانوا يأتمرون بأوامر مدير المدرسة أو رئيس القرية، كما نُقل إلينا ذلك في آثارهم، فلا يطالب أصحاب هذا المذهب من يعلمونهم بالاستقلال في الفكر والعمل، وإنما يحملونهم على العمل بما يُقال لهم، فتكون قلوب الأطفال بأيدي معلميهم مادة لينة يتخذون منها للحكومة رعية نافعة مطيعة، وإذا كانت هذه هي غايتهم التي يرمون إليها، فهم لا يبالون بما عداها، بل إن أحب شيء إليهم أن تصير المدرسة بهذه الطريقة: مربى يتخرج منه أوساط الناس، فإن الأمة تصير بذلك أسلس للوازع قيادًا وأخفض جناحًا. لا يشك أحد في أن معاهد التعليم عندنا يرأسها كثير من الرجال العارفين الأحرار، وللمدرسة العامة فوق ذلك مزية نادرة الوجود في رأي أهل النظر وهي أنه لما كانت الثورة الفرنساوية هي الأصل في وجود القسم الأكبر منها كان من المتعسر أن تتحوّل عن مبادئها وأصولها مهما تغيرت عليها الأحوال وتبدلت الشؤون فأي معقل رفيع غيرها يحمي الأفكار والآراء الحديثة من إغارات مذاهب الكهنوت عليها؟ كل يوم تتخرج من مدارسنا الاختيارية وكلياتنا عقول سليمة، بل عقول حرة أيضًا، إن في استطاعة الحكومات أن تسن ما شاءت من قوانين التعليم، وليس في وسعها أن تبطل تأثير علم الحكمة والأفكار التي ولدتها ثورة سنة 1789 وغيرها من المؤثرات التي تعمل في نفوس الأحداث رغمًا عن كل قانون ونظام، من أجل هذا أنا لا أعيب المدارس لذاتها، وإنما أعيب فيها مجموع طرق التعليم من حيث هو مؤسس على أوهامنا وأخلاقنا وعوائدنا. التربية الخاصة عندنا هي أيضًا أقل قيمة من التربية العامة، فإن الوليد عندما يسلك سبيل الحياة لا يتوجه قصدنا إلا إلى إلزامه الجري على مألوف العادة، وما يلقى في ذهنه من المعارف كله تجريبي، فمن ذا الذي فكر إلى الآن في جعله مساوقًا لفطرة الإنسان ومناسبًا لها؟ إننا منذ نصف قرن قد جدّدنا طرق تناول العلوم الرياضية والطبيعية، وفنون الاقتصاد السياسي والتاريخ، والحكمة والأدب والانتقاد وكل شيء إلا ما يختص بتربية الأطفال , على أنها هي التي كان يجب البداءة بها في التغيير. أود قبل كل شيء أن يُحترم وجود الإنسان حتى في ذات الطفل، إني لو أتاح لي الحظ سماع خطب علماء الأخلاق ورجال الحكومة في مذهب الاشتراكيين لما خامرني شك في أن هذا المذهب فاسد ممقوت، مغاير للدين، بما لهم على ذلك من الحجج القوية والبراهين الصحيحة، وأنا منحاز معهم إلى فريق ذوي الاستقامة والصلاح، فاسمعي ما يقولونه في شأن التربية والتعليم عندنا، يقول قائلهم: إني إذا دخلت مدارسنا الابتدائية الثانوية لا يسعني إلا أن أعترف على الفور بأن ما فيها من الأبنية وأنواع التأديب وتوحيد طرق التعليم واختلاط الدروس، كل ذلك لم يوضع إلا لحبس الجسم والعقل والتضييق عليهما، فالمصريون على ما يروى عنهم قد اخترعوا أفرانًا لطبخ الدجاج، ونحن قد اكتشفنا أفران طبخ التلامذة. إن القوتين اللتين يعتنى بإنضاجهما في هؤلاء أشد العناية على هذه الحرارة الصناعية، وهما قوتا التقليد والذاكرة، هما ولا شك أقل جميع القوى الإنسانية كشفًا عن حقيقة العقل وإظهار الملكات الصحيحة، فكأن المعهود إليهم بالتربية والتعليم قصدوا أولاً وبالذات أن يجعلوا كل رجل من أول نشأته شبيهًا بجميع الناس، ولست أعدم قائلاً يقول: إن ذلك هو إحدى النتائج الضرورية لتطلعنا إلى الحكومة الجمهورية، وتحققنا بأصوله، فأجيبه: إن هذا القول من الخبط والخلط الغريب، فكيف يشبّه توحد المعارف والملكات بالمساواة في الحقوق؟ ألا يرى أن سكان الولايات المتحدة على إيغالهم أكثر منا في الأخذ بسنة النظام الجمهوري هم على العكس منا يزداد فيهم شعور الاستقلال بالوجود الشخصي الذي هو أصل الحرية حياة وقوة، فتظهر آثاره في أعمالهم ظهورًا جليًّا؟ إن الشاب ليمكنه أن يتعلم من جديد مستقلاًّ بنفسه إن أراد، ما لم يكن أحسن تعلمه أثناء دراسته، وهذا ما وقع لجميعنا بعد الخروج من المدرسة، ولكن من ذا الذي يفكه من أغلال العوائد التي تخلق بها في صغره؟ كيف يتيسر لهذا المنفلت من المدرسة أن يهتدي في مستقبله بمجرد ما اكتسبه من المعارف، مع أنه إلى وقت خروجه منها كان لا يستقل بعمل من أعماله، بل كان يعملها جميعها بأعين معلميه؟ ما الحيلة في إحياء قوة نفسه بعد أن أنهكها التأديب المؤدي إلى درجة البهيمية؟ ما معنى الكلام على الزاجر النفسي إذا كان وجدان اليافع يُسلب منه ويُوضع بأيدي من يديرون شؤونه؟ ذلك هو أخص ما أخشاه من أنواع الخطر، ومن العبث أن يتمثل هنا ببعض مشاهير الرجال الذين كانوا في زمن طفوليتهم في أشد المراقبة والحصر لكن لم يؤثر هذا في مستقبلهم شيئًا، فيقال: إن فولتيير [1] مثلاً تربّى في حجر اليسوعيين , وتخرّج التيتانيون [2] الذين اشتهروا في ثورة سنة 1789م على رجال الكهنوت، فإنني لا أتكلم هنا عن الأفراد من الرجال الشذّاذ، وإنما أقصد بكلامي جملة الأمة وعامتها، وأُسائل نفسي عما يحدثه مثل هذا النظام من الأثر في طباع أوساطها، كوني على يقين أنه ليس من الميسور لكل واحد أن يجد ما يكفي من القوة لاسترجاع ما فقده من سلطانه على نفسه بعد أن ألقى لغيره زمام عزيمته. إنك قد لاقيت في الناس من جرى الاصطلاح بتسميتهم (الشبان العارفين) فهل رأيت منهم كثيرًا يمتازون بجرأة الجنان الحقيقية، ألم تريهم يقاومون في الغالب من وسائل الترقي وطرق الإصلاح ما عساه أن يذهب ببعض آمالهم، ويسخرون به ميلاً مع الأثرة وحبًا للاختصاص، وألا تجدينهم أشد عداوة من جهلة العامة لبعض العلوم؟ إنهم ليؤمنون على السواء بكل ما قدسه مرور الزمن عليه وآراء الناس فيه غير مهتمين بالتمييز بين صحيحه وفاسده، وحقه وباطله، وما لهم ولهذا التمييز إذا كانت مهارتهم توصلهم إلى مقاصدهم، هل هم في هذا العالم حتى يشتغلوا بمصالح غيرهم؟ كلا، إنهم ليقنعون بنقصهم الذي يظهرونه للناس في مظهر الكمال ويهزءون بما كان من جد الخائبين وإخلاص المخلصين، وصدق نفوس الصادقين، وهم لما فيهم من خفة الأحلام وكثرة المجون والغرور والترف يلتمسون في كل أمر وسيلة الانتفاع بحاضرهم، ومع قلة ما لهم من المعارف الحقة يظهرون في مظهر العارفين بكل شيء، المجتمع الإنساني هو حلبة سباق كبرى، فهم فيها يعملون لمزاحمة غيرهم في الحصول على سبقها [3] ، أو على الألقاب التي تعطى في العادة لمن يقاربون هذا السبق، فتفضل الشخص الذاتي هو أيضًا في هذا الميدان الجديد لا يلتفت إليهم كثيرًا؛ لأن الذي يمنح الجوائز هي المحاباة، والذين ينالونها هم أهل الدسائس والخدع، فلا جرم إذن أن كدح المتعلمون من الشباب بعد خروجهم من ربقة النظام المدرسي في دخولهم تحت ولاية الحكومة. إن سمعتِ كلامي وصدّقتِ قولي فلا تربي ولدنا على الطرق المتبعة، وربما كان عملنا في ذلك أحسن من عمل غيرنا أو أسوأ منه، إلا أننا على كل حال نكون قد أقمنا حقًا مقدسًا، فإن تربية الطفل منوطة بالبيت والأهل والعشيرة قبل أن تناط بالمجتمع الإنساني. ما هذه الكلمات التي قد جمح لها قلمي؟ قلت: إن التربية منوطة بالبيت، ولكن واأسفى على بيتنا، فقد هدم، نعم، إن عشّنا الذي كنا لا بد أن نناجي فيه بأحسن أمانينا وتسكنه أعز آمالنا قد ثارت عليه عواصف المحن فدمرته تدميرًا. لا بأس علينا من ذلك، فسنعيد بناءه بروابط الحب فوق جو الفتن، فأكون معك في هذا العمل بقلبي، وأنت تسهرين وتنوبين عني في السهر على حراسة ذخرنا، فإني قد استودعتك إياه، والسلام. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (ثبوت الرؤية) ثبت شهر الصوم الشريف بالرؤية الشرعية، وأصبح أهل القطر في يوم الثلاثاء الماضي صائمين، فنهنئ قرَّاء جريدتنا الكرام وسائر المسلمين بهذا الموسم المبارك، ونسأل الله تعالى أن يوفقهم لإكمال العدة بخير وعافية ونِعم ضافية. *** (من جاوا) في 24 رجب الأصب سنة 1317 أحببت أن أبين لكم السياسة الهولاندية في مستعمراتها الشرقية - جزيرة جاوا ونواحيها - ومعاملتها للأهالي والنزلاء مثل العرب والصينيين والهنود والأوروبيين , فأما الأهالي فقد جعلت الحكومة أمرهم إلى كل من ترفعه منهم وتجعله رئيسًا عليهم من شيخ المحلة إلى (تمنثوم) وكل واحد منهم يخضع لمن هو أعلى منه درجة ويهابه ويحترمه أكثر من الحاكم الهولاندي، فبهذه السياسة استراح رجال الحكومة الهولانديون لأن الجاويين كفوهم المؤنة في الحراسة وجباية الأموال وتدبير داخلية البلاد، وطلاب الآبق والهارب والسارق وغير ذلك، فمنهم الكناسون والرشاشون والمحافظون على الخزائن وحراس المخافر ليلاً ونهارًا، ومع هذا كله ليس لهم تنفيذ أمر ما، بل هم بمثابة خدّام للهولانديين فقط، كل منهم باذل جهده بحسب طاقته فيما يفتخر به عند الهولانديين، بل يخاصم الابن أباه من أجلهم، والحاصل أنهم - أي الجاويين - أراحوا الهولانديين من الأشغال المهمة الداخلية، يسعون فيها بكل نشاط وإخلاص، وهم على جانب عظيم من الجهل بأمور دينهم، وليس لهم مدارس ولا معلمون مهرة يبصرونهم بأمور دينهم ودنياهم، والحكومة الهولاندية لهم بالمرصاد تصدهم عن التعليم والتعلم؛ لأنها ترى مصلحتها في بقاء القوم على جهلهم، فكم من عالم صدوه وآذوه، ومتى علمت الحكومة بورود عالم راقبته في حركاته وسكناته ولا تأذن له بالسفر إلى البلدان والقرى في داخلية البلاد، وإنما تلزمه بالإقامة في حواضر البحر فقط، هذا حال الأهالي مع الهولانديين في جاوا ونواحيها، وأما النزلاء فأكتفي بما أشاهده في العرب فإن الحكومة الهولاندية تجعل للعرب في كل بلدة محلاًّ مخصوصًا لا يتجاوزونه إلى سواه، وتجعل عليهم رئيسًا منهم، ورتبته تكون على حسب كثرة العرب وقلتهم , ففي المدائن الكبيرة مثل بتاويا وسورابايا رتبة (كابتن) وفي البلدان الصغيرة (ليفتننت) إلى شيخ المحلة (ويكمستر) وعند تولية كل منهم يحلف في الديوان أنه لا يخون الحكومة، ولا يظلم أبناء جنسه، وبهذه اليمين يصير مصدقًا لدى الحكومة في كل ما يقوله، ولا تسمع فيه طعن الطاعنين، ولا شكاية الشاكين ما لم تكن للحكومة، فبهذه الحرية يفعلون بأبناء جلدتهم ما يشاءون من العسف والجور والظلم والحيل على أخذ أموالهم إذ لا تثبت عليهم حجة عند الحكومة، وقد جرى عندنا في بتاوي في هذه الأيام منع التذاكر السنوية (باسابورت) التي تجعل في ورق مالية قيمة الورقة روبية ونصف (زيغل) وكان فيها بعض تسهيل على المسافر، ولكن زعيم العرب هنا لم يربح منها، فأبطلها حيلة منه على جذب الأموال لمنافعه الخصوصية , مما يضر بأبناء جنسه ويفعم كيسه , بأن التمس من الحاكم إبطال هذه التذاكر، فأجابه حاكم بتاويا إلى مطلوبه بدون تأخير، وأوهم هو قومه أنه لم يتداخل في هذه المسألة، وإنما الحكومة أبطلت تلك التذاكر من تلقاء نفسها ولا تخفى مكيدته هذه إلا على غبي، فإنه لو كان إبطالها من الحكومة لكان تساوى فيه العربي والصيني، وإننا نرى الصيني متمتعًا بهذه التذكرة لم يمنعه مانع العربي منها، وبهذا اتضح أن زعيم العرب في بتاويا لم يسعَ في إبطال هذه التذاكر إلا ليجذب بها الدراهم، فمن أعطاه مراده أسعفه بالتذكرة، والحكومة تغض نظرها عنه في هذه الأمور؛ لأنه يخدمها بغير أجر إلا ما يختلسه من أبناء جنسه بأنواع الحيل التي تقوده إليها المطامع الأشعبية، وظهرت منه أشياء كثيرة تدل على طمعه وامتهانه لقومه وجلب الأذى لهم، ومثله زعيم العرب في سورابايا، فحدّث عنه ولا حرج، فإنه يفعل أضعاف ما يفعله صاحب بتاويا، وزاد عليه بالكبر والتحقير لهم، وأخذ أموالهم بالغدر والمكر والحيل , مما لو شرحته لاحتجت إلى كراريس، وقس عليهما ما سواهما في الأماكن الأخرى إلا النادر، مع أن أولئك الزعماء لو ساروا على النهج القويم وأعطوا كل ذي حق حقه كما هو المطلوب منهم لصار لهم القبول التام عند الخاص والعام، ولكنهم عكسوا القضية، وكانوا مع الزمان على إخوانهم، ومَن نصحهم أو وعظهم أو خالفهم في سيرتهم سَعوا في تنكليه وسجنه بلا سبب ليرهبوا غيره، وليس لهم عناية بأمر إخوانهم، بل كل ما تفعله الحكومة بأبناء جنسهم هو بمساعدتهم ووساطتهم، ومن حيلهم تقربهم إلى الحكومة ببذل كل ما في وسعهم، فمتى نابتها نائبة قاموا فيها بجد واجتهاد كما وقع في هذه الأيام من جمع إعانة للمنكوبين بالزلازل في الجزر الشرقية التابعة للهولانديين، فإن زعيم العرب قام بجمع أصحابه في كل حين وكلفهم جمع إعانة منهم لهذه النائبة، والعرب يرتاحون لفعل الخيرات كهذه الإعانة، ولكنهم يتأسفون لمنعهم من مطالبهم وعدم مساعدة هذا الزعيم لهم في أمورهم، وهو يرى أشياء مضرة بهم، ولو نصح لأزالها، ولكنه لا يراعي إلا صوالحه الذاتية، ولا يهمه أمرهم، وفي ظنه أنه لو سعى في صلاح لأبناء جنسه - في فك معضلة أو شفاعة حسنة أو جلب نفع مما لايضر الحكومة يسقط - اعتباره عند الحكومة، أو تظن به السوء، وظنه هذا خطأ محض، فإنه لو عدل وقام بالواجب الذي كلف اليمين من أجله لشكره الخاص والعلم ولا يصله عتاب من الحكام، ولكن الذي قاده إلى مقاصده الخسيسة الطمع أبو المهالك. فهذه حالة العرب في جاوا ونواحيها، وكل ما يجري علينا معاشر العرب بهذا الطرف هو لعدم جمع الكلمة وسكوتنا وعدم مساعدة بعضنا بعضًا، فلو اجتمع رأينا وقدّمنا عريضة للحاكم العمومي وأخبرناه بما نقاسيه من رؤسائنا بمساعدة رجال الحكومة لهم وصرنا يداً واحدة لوقع لكلامنا تأثير، ولكنا صرنا مهملين، كل منا يسعى في حاجته الخصوصية لا يبالي بغيره من إخوانه وأبناء جنسه، ومثل هذا الزعيم لا يُرجى نفعه لأصحابه، ومثله حضرة السيد عثمان بن عقيل الذي حصل منه الإيذاء لأبناء جنسه، وسعى في سجن 3 من السادة في العام الماضي، وفي الشهر الماضي استدعى أعيان العرب في بتاويا إلى منزله، فلما اجتمعوا لديه التمس منهم موافقته على غرض له خفي يجحف بمصالحهم، فلم يوافقوه عليه؛ فأخذ يسبهم ويشتمهم ورماهم بالعظائم مما نتحاشا أن نذكره في هذه السطور، فخرجوا من بيته قارئين: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَناَ} (آل عمران: 8) الآية. وأما الأوربيون فهم متمعون بالحرية لا يعاملون بالقانون المعوج الذى تعاملنا به حكومة هولاندا , بل هم مطلقو العنان في كل تصرفاتهم، وهاك ما فعله حاكم مدينة باندونغ عاصمة ولاية فرياغن في 15 نوفمبر سنة 1899م: مرّ هذا الحاكم في عربته فرأى اثنين من العرب واقفين على قارعة الطريق، فأوقف عربته وسبهما لكونهما لم يحترماه كغيرهما , وساقهما للمحاكمة وألزمهما غرامة خمسين ربية على كل واحد منهما، ثم إنه أمر أعوانه وشرطته بالتفتيش على العرب في بيوتهم , فألقي القبض على ثمانية نفر قادهم من محل الحريم، ولم يكتف بذلك بل أخذ نساءهم وأطفالهم وساقهم إلى المحكمة، فأما الرجال فغَرّمهم خمسين روبية أو سجن 15 يومًا، ثم طردهم بعد إمضاء الحكم عليهم بما ذكر، وأما النساء فردهن إلى مساكنهن بعد ما وبخهن وأكد عليهن أن يخبرن البوليس إذا عاد أزواجهن إلى باندونغ مرة أخرى، ومن أخفت زوجها تساق للمحاكمة، بل تصير مجرمة إذا لم تخبر شيخ الحارة، فهكذا يفعل حكام هولاندا بالعرب، لا يراعون قانونًا ولا إنسانية، بل يحكمون بما تهوى أنفسهم مع أن قانون البلاد هنا ساوى بين العربي والصيني في مواده، ولكنهم تركوا العمل به بالنسبة للعربي فقط، وأما الذي على العربي فإنه مطالب به يحاسبونه على النقير، فمن هنا تعلم أن الهولانديين متعصبون على العرب ويسيئون بهم الظنون، ومن أدلة هذا أن بعض العرب قدّم عريضة لحاكم باندونغ طلب منه العمل بمقتضى القانون الذي أباح للصينيين والهنود والعرب الدخول إلى باندونغ ولم يميز بين أحد منهم , فردّ حاكمُ باندونغ تلك العريضة إلى بتاويا، ثم إن حاكم بتاويا دعا ذلك العربي وسأله: أأنت الذي قدّمت عريضة لحاكم باندونغ طلبت منه المساواة بالصينيين وغيرهم؟ فأجابه بنعم، فقال له: إذا كنت تريد ذلك فأبدل لباسك وزيك، واجعل بدل العمامة قلنسوة كالجاويين والتزم خدمة للحكومة يومًا في الأسبوع، فأجابه العربي: إني أريد العمل بما تضمنته المادة التي تساوي بين العرب والصينيين والهنود من القانون الذي تقرر به العمل في سائر المستعمرات الهولاندية، فما الفرق بين العربي والصيني والقانون مصرح بالمساواة؟ فعند ذلك غضب الهولاندي وقال للعربي: لا تخض في هذه المسألة فإنها سريِّة وأعاد عليه القول في تبديل اللباس والشكل كما تقدم وطال بينهما الكلام، وقال للعربي: اخرج الآن وعد إليّ في اليوم الفلاني للبحث في هذه المسألة مرة أخرى، وسأخبركم بما يكون. وسأخبركم بعد ذلك أيضًا بحال السيد عثمان بن عقيل المارّ ذكره، وما وقع بينه وبين إخوانه وأبناء جنسه، وكيف قربته حكومة هولاندا وأكرمته بنيشان الافتخار وغير ذلك؛ لكي تطلعوا على أخلاق هذا الرجل وسيرته في رسالة مخصوصة إن شاء الله تعالى. اهـ (المنار) إننا نعجب كيف يشكو أهل جاوا ونزلاؤها من ظلم هولندا وهم الذين يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الظالمين، ومن ظلم نفسه كان جديرًا بأن يظلمه غيره، وهيهات أن يبلغ الأعداء من الجاهل الأحمق ما يبلغه من نفسه، وهذه أول رسالة نشرت في (المنار) تنطق بالتنديد بأشخاص معينين يبغون في الأرض بغير الحق، وإننا نعجب أشد العجب مما كتب إلينا مرارًا من غير واحد عن عثمان بن عقيل. وإننا نعرف بيت آل عقيل بيتًا طاهرًا شريفًا، فما هذا الشذوذ من عثمان، أليس هو من أولئك الكرام الذين منهم السيد محمد بن عقيل المقيم في سنغابور؟ ! وعسى أن يكون في نشر هذه الرسالة زجر للباغين، ويتوب الله على التائبين. *** (عيد مصر الوطني الأكبر) في مثل يوم الاثنين الآتي جلس مولانا عزيز مصر عباس حلمي باشا الأفخم - أيده الله تعالى - على الأريكة الخديوية، وهو العيد الوطني الأكبر للأمة المصرية، وقد تألفت لجنة من ذوات المصريين مختلفة في المذاهب الدينية والمشارب السياسية لإقامة احتفال باهر وزينة بديعة في حديقة الأزبكية، ولا غرو، ففي مثل هذا اليوم السعيد تجتمع الأشتات، وعلى تعظيم هذه االأمير المحبوب يجب أن تتفق القلوب، فنسأل الله تعالى أن يعيده على الأمة المصرية في ظل سموه بأحسن الأحوال، على ممر السنين والأحوال، آمين. ... ... ... ... ... *** ... ... قرأنا في بعض الجرائد أن الدولة العلية قد عزمت على إرسال بعض العلماء إلى سناجق البصرة والمنتفك وكربلا لإرشاد القبائل الرحالة هناك، وقرأنا في بعضها أنه قد صدرت الإرادة السنية بذلك فعلاً، ونحمد الله تعالى أن الدولة العلية قد تنبهت لهذا الأمر قبل أن يخرج من يدها بالمرة، فقد سبقها إليه الشيعة وبثوا الوعاظ والمرشدين في هذه القبائل وغيرها من العربان الضاربين على ضفاف الدجلة والفرات فأدخلوا معظمهم في مذهب الشيعة. يذهب ال

اقتراح على السادة العلماء في تقويم اعوجاج الوعاظ والخطباء

الكاتب: رفيق بك العظم

_ اقتراح على السادة العلماء في تقويم اعوجاج الوعّاظ والخطباء لحضرة الكاتب الفاضل صاحب الإمضاء رفيق العظم ما أصيب الإسلام بآفة كآفة الخطباء، وما أضر بالمسلمين كوعاظهم الجهلاء الذين كانوا ولم يزالوا - سببًا لحيرة العقول في أدواء هذه الأمة، وهم مصدر البلاء وسبب الشقاء بما يتلونه على مسامع العامة من السجعات المقلوبة والأحاديث المكذوبة الداعية إلى استدراج العامة في الشرور اعتمادًا منهم على ما يسمعونه من أولئك الوعاظ والخطباء من الأكاذيب المضلة كقولهم: من قرأ كذا فله من الثواب كذا وكذا، ومن صام اليوم الفلاني مثلاً فله من الحسنات كذا، ومن فعل كذا غفر الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، فانتزعوا بهذا (الإطلاق المجمل) وأشباهه باعث الرهبة من أعماق القلوب ونزعوا وازع الضمير من نفوس العامة، فبات أحدهم يقدم على جريرة الكذب والتزوير أو السرقة أو الفحش ونحو هذا في الظهر ثقة بما سيناله من الثواب والغفران بتلاوة بعض كلمات في العصر، فينام ليله مطمئن القلب إلى الثواب غير مرتاع الفؤاد من سوء المآب، وهذا ما أوصل الأمة إلى ما نراها فيه من فساد الأخلاق والضمائر، واجتراح الآثام والجرائر حتى كادت تكون أحط الأمم في الأخلاق وأبعدها عن مراعاة حاكم الضمير , بما فشا في كثير من طبقاتها من القول الزور والكذب وعدم المبالاة بأكبر الكبائر بعد أن كانت أعلى الأمم وأعرقها في طيب الأخلاق، وأدناها من الانقياد لحكم الضمير ومراقبة الله العزيز القدير في سائر الأعمال وكل الأحوال، ولعمري لو قيل للناس: إن القانون السلطاني يرتب على السارق جزاء كذا وكذا مدة في الحبس، لكن من تقرب إلى السلطان بهدية لطيفة أو تزلف إليه بدعاء بسيط يدعو به له بين يديه يعفو عنه ويغتفر له جريمته - لأصبح الناس الناس كلهم لصوصًا. فحتامَ يترك هذا الحبل على الغارب، ومتى نستيقظ لما فعلته في النفوس سموم الخطباء والوعاظ وأوضاع الوضّاع وفتن المبتدعين، فقد - والله - تكاد تنفطر من عقلاء هذه الأمة القلوب وتتصاعد أرواحهم مع الأنفاس؛ لما يرونه من آثار هذه البدع التي عَفَتْ دونها آثار الإسلام، وتلاشت قوى الصادعين بالحق. ولم يكفِ أولئك الأغرار المضلين هذا الوهن الذي يدخلونه بأمثال تلك المواعظ والخطب على النفوس حتى زادوا في طين البلاء بلة بما يبدأون به العامة عند كل دعاء لهم ويتلونه عليهم في رأس كل خطبة من الحث على الزهد وترك الاهتمام بأمر الدنيا بجمل مسجعة لا تفيد معنى الزهد الحقيقي المنصوص عليه في الشريعة الغرّاء , بل تفيد التحاق الإنسان بالبهيمة العجماء، وقد فات أولئك الأغرار أن الله سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان وميزه بالعقل والإرادة على سائر الحيوان وجعله خليفة في الأرض بما منحه من حق السلطان المطلق على هذا الوجود الحسي، فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 12-13) لم يكن يريد به ما يريده له أولئك الوضَّاع والخطباء وأصدقاء الإسلام الجهلاء من التجرد عن كل عمل دنيوي والقعود عن السعي والانقطاع للعبادة للالتحاق بعالم الملائكة الأبرار، ولو أراد الله به هذا لخلقه معهم وكفاه مؤنة جهاد الطبيعة والعمل لحفظ الحياة فلا يلبس ولا يأكل ولا يشرب ولا يشقى ولا يتعب، ولكن قضت إرادة الله في خلق هذه العوالم وترتيبها على نمطها البديع أن يكون كل عالم منها ذا حياة خاصة وحيز مخصوص وعمل محدود ووظائف خاصة، فللملائكة من هذه الخصوصيات غير ما للإنسان، وللإنسان غير ما للحيوان، ولهذا غير ما للجماد وهكذا سائر العوالم، وإذا تتبعنا نصوص الكتاب الكريم واستقرينا أحوال المخلوقات نجد أن الله سبحانه وتعالى ميز الإنسان عن سائر مخلوقاته بما وهبه من المواهب التي لم يهبها لسواه، فقال تعالى: {خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن: 3-4) وقال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) ? وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4) وقال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) وقال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31) فإذا كان الله سبحانه وتعالى وهب الإنسان كل هذه المواهب الدالة على تكليفه بالعمل بما يقتضيه وجودها فيه، ثم جعله خليفة في الأرض، وأشار إلى أنه أوجده فيها ليعمرها فقال تعالى: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) وذلك لتكون مناط الأمل في الاعتياش بالعمل فيها والضرب في أكنافها كما قال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15) وكما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الجاثية: 12) وكما قال تعالى: {ألَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) فهل في طاقة البشر الانسلاخ عن هذه المواهب والصفات الإنسانية والتخلف عن تلك السنن الإلهية زهدًا في الدنيا وتعطيلاً لوظائف الحياة البشرية؟ وإذا كان في طاقتهم تعطيل هذه الوظائف وعطلوها، أفلا يكون ذلك كفرًا منهم بنعم الخالق تعالى التي أنعم عليهم بها وخصهم بمواهبها؟ بلى وأبيك ذلك هو الكفران المبين، ولكن أكثرهم لا يعلمون. نعم قد ذم الله تعالى الغرور بالدنيا والطمع فيها والإكثار من المال أو التكاثر به , وما جاء من النصوص في الكتاب والسنة من هذا القبيل إنما جاء لا لأجل تزهيد المسلمين في الدنيا وتركهم الاهتمام بشؤون الرزق والسعي في مناكب الأرض، بل جاء لأمرين: الأول تنبيه المسلمين إلى أن العمل في الدنيا لا ينبغي أن يشغل المؤمن عن طاعة الله وأداء ما أوجبه من العبادة عليه، والأمر الثاني تنبيه فئة مخصوصة من الناس وهي فئة الأغنياء وذوي السلطة إلى أن متاع الدنيا أحقر وأدنى مما أُعد للمؤمنين الصالحين في الآخرة، وأن الأمر الأول يزول ويفنى، والثاني يدوم ويبقى ترغيبًا لهم في إنفاق المال في وجوه البر ومواساة مَن دونهم من الناس حتى لا يكثروا من المال ويجعلوه دُولة بينهم يتكاثرون به ويتداولونه دون الفقراء، فتقف حركة الأعمال بوقوف حركة المال، وفقده من أيدي الكثير من الناس، فحكمة الشارع في هذا أجلّ وأعظم مما يذهب إليه فريق الوضّاع والكذابين في أمر الزهد، وما يخاطبون به العامة ويبثونه في عقولهم من فاسد الاعتقاد المثبط للهمم القاتل لقوة النشاط والعمل الجالب للبلادة والكسل، لهذا كان من الظلم الفاحش والجهل العظيم مخاطبة أولئك الخطباء عامة الناس بالزهد في الدنيا والتزهيد بالعمل الذي هو وسيلة الكسب ومناط الارتزاق، وإنما يجوز مخاطبة العلية من الناس والأغنياء منهم بهذا - أولاً - لما فيه من الترغيب بمواساة الفقراء، والتحذير من عاقبة الانهماك بالمال والاشتغال به عن أداء الطاعة، وثانيًا لأن الزهد إنما يكون بشيء موجود لا بشيء مفقود، فالغني إذا زهد فإنما يزهد بدنيا مقبلة عليه فيواسي بماله مَن هُم في دنيا مدبرة عنهم؛ فينال الثواب ويأمن من العقاب، وأما الفقير فزهده ليس فيه شيء من ذلك بل فيه مضرة عليه فيحرم عليه قطعًا؛ لأن الفقير المعدم زاهد بالضرورة لقلة ما بين يديه، فإذا زهّد بلسان الشرع ازداد يقينًا بفضل الزهد والراحة من عناء الكد بالانقطاع إلى العبادة (اللهم إذا كان يعرف شيئًا منها) فتنعدم منه الرغبة بالعمل، وينطبع على البلادة والكسل، فينقلب الزهد والعبادة وبالاً عليه وظلمًا لم يعول من الأهل والولد عليه، وهو لا يعلم أن السعي في إعالة من يعول ولو نفسه وحده هو أفضل عند الله ورسوله من الانقطاع للعبادة باتفاق النصوص وإجماع هداة الأمة من علمائها الأعلام. الزهد من شعار الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومع ما كان معروفًا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الزهد في الدنيا بحذافيرها، فقد كان من صحابته الكرام الغني ذو الثروة والجاه كطلحة والزبير والتاجر المشتغل كعثمان رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلم يأمرهم بترك الدنيا والانقطاع للآخرة، بل أمرهم بالرفق في الطلب وإلا لكان الصحابة كلهم عبادًا بالجوامع والصوامع، ومعاذ الله أن يكونوا كذلك، والإسلام دين العمل للدنيا والآخرة، ودين الجد والنشاط لا دين الرهبانية والزهد، وإنما تبع قدم الرسول في أمر الزهد أفراد منهم مثل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومع هذا فقد كان يقول: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني , فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، فإذا كان مثل عمر بن الخطاب على ورعه وزهده يخاطب الناس بمثل هذا الخطاب وهو في عصر النبوة وأدرى بمن يخاطب ولماذا يخاطب، فليت شعري كيف يجرؤ خطباء السوء في هذا العصر على مخاطبة العامة بالزهد والتزهيد في الكسب ونحن في عصر أصبح فيه السابقون هم الفائزون، وفي زمن من نام فيه فقد مات. أفلم يأنِ لعلماء المسلمين الأعلام وفضلائهم الكرام ذوي العقول والأفهام الاقتداء بمثل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في حث الناس على العمل والسعي، ونهي خطباء السوء عن التشدق على المنابر بما لا يزيد المسلمين في هذا العصر إلا خبالاً، نعم قد آن والله أوان نهوض العلماء إلى تلافي خطب الخطباء ونزع وظيفة الخطابة والوعظ من الجهلاء ووضعها في أناس جمعوا بين المنقول الصحيح والمعقول الصريح، وعرفوا حاجات الزمان، ووقفوا على أدواء الأمة , وإن لم يتيسر هذا فتنقيح كتب الوعظ ودواوين الخطب المحشوة بالكذب على الله والرسول الموضوعة على نمط روعي فيه السجع أكثر من مراعاة الشرع، وامتزج بالخيالات والأوهام أكثر مما أبان من مقاصد الإسلام. يحسدنا الأمم والشعوب على مشروعية الخطابة في الإسلام، ويعجبون من أمة تتلى على منابرها في كل جمعة آلاف من الخطب في سائر أنحاء الديار الإسلامية، وهي لا تنتفع بها فتخطو خطوة إلى الأمام، وإذا تيسر لفرد من أفراد أي أمة من تلك الأمم والشعوب أن ينتهز في العمر فرصة يخطب فيها خطبة على جمهور من الناس في محفل من المحافل يرن صداها في الآفاق، وربما أحدثت في الأفكار ما لا تحدثه الجيوش الفاتحة في الأمصار , ويتساءلون: هل علت مشروعية الخطابة في الإسلام عن أفهام المسلمين؟ أم هم تدنوا عن مقامها العلي المتين؟ وحقهم أن تساءلوا فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق العظم)

الصيام والتمدن - 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصيام والتمدن (2) ... ...] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ... ... كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*] ذكرنا في المقالة الأولى من فوائد الصيام صحة البدن بترويضه وصحة النفس بتأديب الشهوة وامتلاك زمامها بحيث يصير الإنسان حاكمًا على شهواته يسيّرها في منهاج الأدب والشرف الذي يحدّده الشرع والعقل لا محكومًا بها كالبهم والدواب، بل الإنسان يكون شرًّا من البهائم إذا هو لم يؤدب شهوته ويملك على نفسه أمرها؛ لأن بارئ الكون قد أودع في فطرة البهائم الوقوف عند حدود الاعتدال في تناول شهواتها فلا تأكل ولا تشرب ولا تسافد إلا عن داعية الطبيعة، ومتى استوفت طبيعتها حقها من ذلك تكف عنه من طبعها ولا تحمّل أنفسها بالإفراط ما لا تطيق، ولا تتخذ الوسائل والحيل لإذكاء نار الشهوة فتمتع بأكثر مما يقتضيه المزاج المعتدل فيقضي عليها قانون (ردّ الفعل) بعد ذلك بالضعف أو الخمود، وخلق الله الإنسان ذا فكر يجاهد به الطبيعة ويقاومها تارة بما ينفعه وتارة بما يضره، تختلف أحواله في هذا بحسب صحة الفكر وسقمه وسعة المعارف وضيقها. ألم تر أن أكثر ما يصيب الإنسان من الأمراض والأسقام والأدواء التي تنتهي بالموت قبل بلوغ العمر الطبيعي هو من الإفراط في الطعام أو الشراب أو الوقاع الذي يستعين عليه بما يعطيه للفكر من الوسائل والحيل؟ بالأمس اختطفت المنية شابًّا في ريعان الصبا وعنفوان الشباب فبقر الأطباء بطنه واستلوا أمعاءه فتبين لهم أنه مات مسمومًا بالإكثار من علاج تناوله لتقوية الباءة، مسلمٌ فعل هذا في شهر الصيام وزمن تأديب الشهوة , فإنا لله. والبهائم تستوفي آجالها الطبيعية في الغالب متمتعة بالصحة واعتدال المزاج، وإذا عرض لبعضها المرض أو الموت قبل الأجل الذي خلقها الله تعالى مستعدة لبلوغه فإنما يكون ذلك في الغالب لأمر خارجي كفقد الغذاء أو شدة البرد، لهذا كانت سعادة الإنسان متوقفة على تربية صحيحة وتعليم قويم، ولا يوجد هذان على وجه الكمال إلا في الدين، وإلا كان الإنسان أشقى في حياته من جميع أنواع الحيوان، اقرأ إن شئت قوله تعالى في الجهلاء الذين لا يشكرون الله تعالى باستعمال مواهبه فيما خلقت له من التعلم والتبصر والاعتبار: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 43-44) صرّح القرآن بأن الله تعالى خلق هؤلاء السفهاء الأحلام لجهنم، وهذا من جملة الآيات على ما قلناه - ولا نزال نقوله - من أن غاية الدين الإسلامي سعادة الدارين، وأن الشقاء في الدنيا مؤذن بالشقاء في الآخرة، ولكن السعادة في الدنيا ليست آية على السعادة في الآخرة؛ لأنها تحصل بدون الأخذ بجميع أركان الإسلام وتعاليمه على الوجه الذي حدّدته الشريعة. (الفائدة الثالثة) معرفة قيمة النعمة بفقدها ولو اختيارًا، فإن الأشياء تعرف بأضدادها، فمن لم يهذبه الزمان بالحرمان من النعم والحيلولة بينه وبين ما يشتهي ينبغي له أن يتمثل هذا الحرمان بالتعمّل والتكلف؛ لتعظم في عينه النعمة فيحفظها، وفي هذا الضرب من التهذيب تزكية النفس من رذيلة البطر الممقوت صاحبه من جميع البشر. (الفائدة الرابعة) توطين النفس على الصبر والاحتمال , فكم من ذي نعمة فاجأته نقمة، فبلبلت باله وأذهبت رشده وأوقعه الجزع والهلع منها بما هو أشد منها؟ أعرف رجلاً من المترفين كان عنده طائر من نوع (الكنار) وكان مولعًا به فترك قفصه ذات ليلة بجانب بركة الماء فجاءت الهرة تعالج القفص لاصطياده فوقع في الماء، ولما أصبح المترف ورأى الكنار ميتًا في البركة صفق بيديه على ركبتيه فأصابه من ساعته فيهما مرض عصبي أقعده عدة سنين يشتغل بالمعالجة حتى صار يقدر على المشي متوكئًا ولم يبل إبلالاً، يقول قائل: إننا نرى هذا الجزع والهلع وقلة الاحتمال من الذين اعتادوا الصيام، وربما كان المترف الذي تُحدث عنه ممن يصوم رمضان، وأقول في جوابه: إن فوائد الصيام لا تبلغ درجة الكمال إلا لمن فقه سر الصوم وحكمة الله تعالى فيه المعبر عنها في القرآن بالتقوى: {َلعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21) وصام على ذلك فأدرك ما هنالك، والصوم عند المترفين إنما هو تغيير مواقيت الأكل بجعلها في الليل مع زيادة مبالغة في الترف والتطرّس والتنوّق في النعيم، وسائر الناس يحذون حذو المترفين كل بحسب استطاعته، والصوم الحقيقي هو ما عرفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: الصوم نصف الصبر , رواه الترمذي وحسّنه وغيره، وفي رواية البيهقي زيادة وعلى كل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصيام , وإنما كان الصوم نصف الصبر لأن الصبر إما أن يكون عن الشيء الذي يؤلم النفس فقده، وإما أن يكون على الشيء الذي يؤلمها وجوده وحصوله. والذي يؤلم فقده هو الشهوات واللذات، ولما كانت شهوتا البطن والفرج أقوى الشهوات، والصبر عنهما أصعب وأشق على النفس منه على غيرهما - جعلت الشريعة تركهما والصبر عنهما عزيمة لابد منها؛ لأن من ربّى نفسه عليه فقيهًا بالمقصود منه طالبًا لحكمته وفائدته - كان الصبر عن غيرهما من سائر الشهوات أسهل عليه، وهو ما جعلت الشريعة الصبر عنه من المندوبات المتأكدة في الصوم، وقالوا: إن كمال الصوم في كف جميع الجوارح عن شهواتها، روى البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل , فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم. فجعل الصبر عن مجاوبة الشاتم والصائل من الصوم، وفي حديث البخاري مرفوعًا: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، ومن العجيب أن الفقهاء لا يحفلون بهذه المباحث، بل لا يكادون يذكرونها ويملأون الصحائف بالدقائق النادرة التي لا علاقة لها بحكمة مشروعية الصيام كالبحث في الغبار الذي يدخل الأنف في الطريق، وفي وضع الخلال فى الأذن، وفي الاحتراز وقت الاستنجاء من دخول الرطوبة إلى الجوف من المقعدة ونحو هذا، فكيف يحصّل فائدة الصوم مَن يجعل همّه في هذه المباحث دون البحث في حكمة هذه العبادة وكيفية إيصالها إلى التقوى المقصودة للشارع منها؟ (الفائدة الخامسة) مساواة الأغنياء للفقراء والمترفين للبائسين في فقد دواعي اللذة وأسباب النعمة، والمساواة من الفضائل المطلوبة في الأمم وهي من غايات الإنسانية التي يطمع الحكماء أن تعم البشر بعموم التمدن، ويشارك الصومَ في هذه الفائدة الصلاةُ والحج، بل إن الشريعة الإسلامية تساوي بين جميع المحكومين بها في الحقوق سواء من اتخذها دينًا ومن كان يدين بغيرها، وجعلت في عباداتها ألوانًا من المساواة لتكون للغني عبرة وتزكية، وللفقير عزاء وتسلية، ولتهييء الأمة للمساواة في عامة الشؤون التي يمكن فيها المساواة. (الفائدة السادسة) رقة القلب والعطف من ذوي الوجد واليسار على أهل العدم والإعسار بحيث يحملهم ذلك على مواساتهم والإفاضة عليهم مما رزقهم الله تعالى، فإن من يذوق طعم البلاء يكون على أهله أعطف وبهم أرأف، فمن ذاق عرف، ومن المأثور عن سلف الأمة الصالح كثرة الصدقات والصلات في شهر الصوم، وقد بقي للخلف من هذه المزية بقية تشكر، وإن كانت لا تشابه ما كان عليه السلف من كل وجه، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان فى رمضان أجود من الريح المرسلة. يُحكى أنه وقع قحط في عهد أحد الملوك فذكر أمام زوجه ما يقاسيه الفقراء من البؤس والعناء لقلة القوت، فقالت: ما ضرهم لو استغنوا عن الخبز بالفالوذج واللوزينج؟ وهما أنفس الحلوى المعروفة عند المترفين لذلك العهد، وما كان الفقراء يطعمونهما في حال الرخاء. (الفائدة السابعة) تعظيم أمر الله تعالى في النفس بأداء هذه العبادة الشريفة على الوجه الذي شرعه الله ابتغاء مرضاته، وهذه الفائدة روحية محضة ودينية خالصة، والصوم هو العبادة التي لا حظّ لشهوة النفس فيها، ولا يأتي فيها الرياء؛ لأنها ترك لا فعل، ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزى به , وفي رواية: كل عمل ابن آدم تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، وفي رواية: كل عمل ابن آدم تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي , به يدع شهوته وطعامه من أجلي. ربما يفهم بعض الناس من الحديث أن الصوم من الأمور التعبدية التي لا يعقل لها معنى، ولا تعرف لها فائدة للإنسان في حياته إلا محض الامتثال لأمر الله ابتغاء مثوبته ورضوانه في الآخرة ونحن نقول: إنه ما من عبادة معقولة المعنى ظاهرة الفائدة للعامل بها إلا وفيها معنى تعبدي يجب أن يتحراه الإنسان ويحافظ عليه لمجرد الامتثال، وأضرب لهذا مثل الصلاة، فإن فائدتها للمصلين من النهي عن الفحشاء والمنكر والتطهير من الجزع والهلع والبخل , والتحلي بأضدادها معقولة المعنى، فإن من يقيم الصلاة على الوجه الذي أراده الله تعالى من الخشوع وحضور القلب وإشعاره عظمة الله وكبير سلطانه تحصل له ملكة مراقبة الله تعالى عند كل عمل. وتذكُّر هيمنته وإحاطة علمه بما يعمله، فيكون هذا زاجرًا له عن الفواحش والمنكرات، ونازعًا من قلبه الهلع والجزع عند حدوث الخطوب، وباسطًا يديه بالإنفاق والبذل مما يمسه من الخير في وجوه البر والخير، ولكن تحديد ركعات الصلاة بما هي عليه ككون الصبح ركعتين والمغرب ثلاثًا، والباقيات أربعًا أربعًا ليس معقول المعنى، وإنما نحافظ عليه للوجه الديني الخالص والاتباع المحض ونعلم أن لله فيه حِكَمًا لا يتوقف انتفاعنا بالعبادة على معرفتها، كما إذا عرفنا العلاج وفائدته في شفاء المرض، ولم نعرف الحكمة في مقادير أجزائه ونسبة بعضها إلى بعض وكون الذي يتناول يجب أن يكون مقداره كذا ووقته كذا، ولو لم يكن هذا المعنى التعبدي في هذه الأعمال النافعة المقومة للسعادة الدنيوية لم تكن عبادة تسعد فاعلها في الآخرة، ولكان العقلاء يعملونها لفائدتها من غير تقيّد بما حدّده الدين , فتبطل منها فائدة المساواة بين أفراد الأمة، والمساواة في العمل من الكمالات الاجتماعية كما علمت، فتبًّا لقوم يرغبون عن هذه العبادات وما فيها من الفوائد والمنافع: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) . (الفائدة الثامنة) صفاء القلب واستنارة الروح واستعدادها بذلك لنفحات الله المعنوية، فقد ورد: إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات ربكم، ولإدراك شيء من عالم الملكوت في ليلة القدر، فقد قال الإمام الغزالي:

التقريظ والانتقاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ والانتقاد جاءنا فى هذه المدة كتب وجرائد كثيرة منعتنا كثرة المواد عن ذكرها وتقريظها، نذكر الآن بعضها، ونرجئ باقيها لفرصة أخرى. (سيرة صلاح الدين) طبعت شركة طبع الكتب العربية هذه السيرة فى سفر جليل وأهدتنا نسخة منها فأرجأنا تقريظها إلى ما بعد قراءتها، ثم أضللناها قبل القراءة، ومن حق شركة الكتب علينا أن ننوّه بها جزاء هديتها فنقول: إن الملك العادل الحازم صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله تعالى - له منة عظيمة جدًّا على الإسلام، وإن الحرب الصليبية التي كان بطلها المغوار- هي بعد حرب الصحابة - أهمّ حرب في تاريخ الإسلام وأجدرها بالمعرفة، بل هي أهمّ حرب حدثت في العالم؛ لأنها أحدثت انقلابًا عظيمًا في العالم الإنساني، وكانت مقدمة هذا التمدن الأوروبى ونافخة روحه، ومن العار العظيم على الأمة العربية عامة وعلى المسلمين كافة أن لا يكون بين أيديهم كتب يتدارسونها في هذه الحرب وفي سيرة بطلها العظيم ناصر الإسلام السلطان صلاح الدين، ويوشك أن يكون هذا الكتاب الذى طبعته شركة طبع الكتب العربية من أحسن هذه الكتب؛ لأن صاحبه كتب عن اختبار بنفسه فنحثُّ القرّاء على مطالعته. (مفتاح العلوم) هذا الكتاب للعلامة السكاكي أشهر عند علماء العربية ذكرًا من أن يذكروا به، ولكنه على حسنه لا يقرأ ولم يطبع إلا في هذه الأيام، ويمتاز هذا الكتاب على الكتب المتداولة بحسن الترتيب، فإنه قدّم الصرف على النحو وأخّر عنهما البلاغة. وعبارته أقرب إلى الأسلوب العربي وأبلغ من كتب السعد وغيره، ولولا أن فيها بعض التكلف لكانت مساوية لكتب إمام الفن عبد القاهر الجرجاني، فنحثُّ أفاضل العلماء على قراءته، وطلاب العلم على حضوره. (رواية ابن زيدون مع ولاًّدة بنت المستكفي) أهديت إلينا هذه الرواية من حضرة الفاضل الشيخ محمد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية الذي طبعها على نفقته، الرواية نثرية شعرية تمثيلية مؤلفها علامة فنون الأدب في سوريا المرحوم الشيخ إبراهيم الأحدب، ووقائعها جميلة، وتمتاز على جميع مكتوب العصر بتحري المحسنات اللفظية والتعمّل في الإكثار من أنواع البديع كالجناس بأنواعه والتوجيه والمقابلة والطباق وغيرها حتى لا تكاد تخلو السجعة أو السجعتان من نوع بديعي، فيجدر بالمغرمين بهذا النوع من الكتابة والذين ينتقدونه أن يقرءوا هذه الرواية جميعًا. (رواية قلب الأسد) لخصها معربها العالم المتفنن الدكتور يعقوب أفندي صروف محرر مجلة (المقتطف) الغرّاء من رواية إنكليزية اسمها الطلسم (تلمسن) وهي تاريخية فكاهية حوادثها من الحروب الصليبية، وقد تصرف فيها المعرب تصرفًا حسنًا بحيث أن ما تحكيه عن عادات المسلمين والمسيحيين في ذلك العهد يرضي أبناء الملتين بما فيه من النزاهة والأدب وعدم التحامل على ما كان عليه الأمتان يومئذ من الأضغان والأحقاد والغلو في التعصب. نعم إن فيها بعض هفوات نسبت للسلطان صلاح الدين وهي على غير منهاج الإسلام كقول المؤلف في الرسالة التي قال: إن صلاح الدين أرسلها إلى ريكارد ملك الإنكتار (الإنكليز) فى صفحة 162 (فسينصرنا الله ونبيه عليك) وما كان لمسلم يعرف الإسلام كصلاح الدين أن يقول هذا وهو يعلم أن الله يقول في كتابه: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 126) بل لم تجرِ عادة جهلاء المسلمين بطلب النصر أو إسناده لغير الله عز وجل، ومن دون هذه قوله: إن صلاح الدين سقى ضيوفه الخمر، ولعل هذا من هفوات الأصل التي سها عن التصرف فيها الدكتور صروف، والرواية عذبة قرأتها فى سهرة واحدة على أنني لست من المغرمين بقراءة القصص والروايات. (النبراس) صحيفة إصلاحية سياسية أدبية لمنشئها الكاتب الأديب نجيب أفندي جاويش وكان صدر منها أعداد , ثم حُجبت لكساد هذه البضاعة واكتفاء الناس بجرائد مخصوصة، وإنما عادت الآن بمساعدة أحد أنصار العلم والأدب وهو القانوني البارع نقولا أفندي توما، وقد صدَر أول عدد برز من الحجاب بمقالة عنوانها (كن كيف شئت ولا تكن صحافيًّا في الشرق) والمقالة حجة على كاتبها إلا إن كان مراده بالصحافي المستقل الذي يحاول النجاح بعمله دون مساعدة أخرى، ويحتوي كل عدد منها مقالات ونبذًا حقيقة بالمطالعة، فعسى أن تلاقي فى هذه الكرة ما تستحق من الإقبال. (اللواء) جريدة يومية سياسية صاحبها سعادتلو مصطفى كامل بك ظهرت فى غرة رمضان المبارك، أصغر أو ألطف من سائر الجرائد اليومية حجمًا وأقل ثمنًا، فإن قيمة الاشتراك فيها 100 قرش أميرى في السنة، لكن يشترط أن يدفع سلفًا، وقد أكدت هذه الجريدة هذا الشرط وصرّحت غير مرة بأنها تحجب عمن لا يرسل الثمن بعد الأسبوع الذي ترسل فيه الجريدة مجانًا، وما من جريدة إلا واشترطت هذا الشرط بدون تأكيده لعلمها بأنها لابد أن تضطر لفسخه، ولا نعلم ماذا يكون من أمر هذه الجريدة، ولكن نظن أنها إما أن تتلو تلو غيرها وإما أن لا تروج , أما مواضيعها فهي فائضة عن ذلك الرجل الكثير اللهج بالوطنية وحب الوطن وخدمة الوطن، وقد ضم إلى هذه الكلمات أخيرًا ذكر الإسلام والدين، فأما الوطنية والوطن فسنبين رأينا فيهما بالنسبة للإسلام ولسائر الأمم فى مقالة مخصوصة، وأما الإسلام والدين فلا ينتظر من هذه الجريدة كلام فيهما يفيد الأمة إلا تتبع ما يذكر فيهما فى الجرائد الإفرنجية وتعريبه، فإذا وفت هذا المقام حقًّا بالإحصاء يكون لها امتياز على سائر الجرائد العربية الإسلامية التي تختار ولا تحصى، فنحثها على هذا. وقد انتقدنا عليها أمرًا ذا بال وهو الإرجاف بأن بعض الناس في مصر يسعون في إقامة خلافة عربية , كأن الخلافة من الهنات الهينات تنال بسعي جماعة أو جماعات، ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف، مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد، وقد سلم السواد الأعظم من المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا، والرابطة بين الترك والعرب هي كما قال المرحوم كمال بك الكاتب الشهير: موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية، فإن كان أحد يقدر على حلها فهو الله تعالى وحده، وإن كان أحد يفتكر في ذلك فهو الشيطان، ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة فيه إلا رجلان: رجل اتخذ الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب الضخمة، ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين بإيهامهم أن منصب الخلافة ضعيف متزعزع يمكن لأى أمير أن يناله ولأية جمعية أن تزحزحه عن مكانه ليزيلوا هيبته من القلوب ويقنعوا نفوس العامة الأغرار بإمكان تحويله في وقت من الأوقات وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا، كان مصطفى كامل أفندي يوم ألف كتاب (المسألة الشرقية) ينسب هذا الطمع الأشعبي للإنكليز واليوم نرى مصطفى كامل بك يلقي القول فيه على عواهنه فى خطبته وجريدته، ويدع نفوس البسطاء تذهب فيه كل مذهب، وإذا سئل عن الإفصاح وبيان المجمل يجمجم ويغمغم، فإن كان على رأيه الأول فليصرّح به ليرجع العامة عن أوهامهم والخاصة عن ظن السوء به، وأنه أحد الرجلين اللذين ذكرناهما آنفًا , ولا نظنه إلا على مذهبه الأول وعلى اللواء في البيان المعوّل.

مأثرة لجمعية شمس الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مأثرة لجمعية شمس الإسلام علمت هذه الجمعية الشريفة أن شركة (معرض باريس) المصرية التي يرأسها الخواجة بولاد قد استأجرت جماعة من أهل الطرق للغرض الذي يذكر فى العريضة الآتي ذكرها، فأخذتها الغيرة الدينية والحمية الملية وقامت بما عاهدت الله عليه من القيام بأمر الدين والمحافظة على شرف الإسلام وأهله بقدر الإمكان، وذلك بالسعي فى إزالة هذا المنكر بإتيان البيوت من أبوابها، فرفعت عريضة للجناب العالي الخديوي تسترحم من عاطفته الملية الشريفة تلافي هذا الأمر، وتوجيه إرادته العلية لإزالة هذا المنكر، وكتبت عرائض أخرى بذلك قدّمت إحداها لصاحب العطوفة مصطفى فهمي باشا رئيس مجلس النظار، والأخريات لصاحب الدولة الغازي مختار باشا المندوب العالي السلطاني في مصر، ولصاحبي السماحة قاضي مصر، والسيد توفيق البكري شيخ مشايخ الطرق، ولشيخي الإسلام صاحبي الفضيلة شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية - تطلب منهم مساعدتها بالسعي لدى سمو الخديو المعظم وحكومته السَّنية بمنع هذا المنكر القبيح، ونكتفي بنشر صورة العريضة التي رفعت إلى مقام الجناب العالي الخديو المعظم وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه. مولانا عزيز مصر المعظم: ترفع هذه العريضة إلى أفق سموكم جمعية (شمس الإسلام) تستصرخكم لإغاثة الدين الإسلامي الشريف من قوم يعرضونه للسخرية والازدراء، فقد علمت الجمعية أن شركة (معرض باريس) المصرية استأجرت عشرة نفر من تكية المولوية وزعانف آخرين من أهل الطريقة البيومية والرفاعية والقدرية والدلائلية والشاذلية؛ لتأخذهم (لمعرض باريس) ليمثلوا باسم الإسلام هيئة الذكر راقصين عازفين بالناي وغيره من آلات الطرب، ولاعبين بالثعابين والسلاح، وآكلين للنار والزجاج ونحو هذه الخزعبلات التي أُهين الإسلام بانتسابها إليه، ولما للجمعية من الثقة التامة بغيرة سموكم الكاملة على الدين وأهله وعنايتكم الكبرى فى حفظ شرفه - تجاسرت برفع هذه العريضة لسموكم مسترحمة توجيه عاطفتكم الشريفة لهذا الأمر، وتعلق إرادتكم العلية بتلافيه، والله لا يضيع أجر المحسنين. ... ... ... ... ... ... ... (ختم الجمعية) *** قرر مجلس إدارة جمعية (شمس الإسلام) فى مصر إجابة اقتراح الكثيرين من أعضاء الجمعية وغيرهم بأن يكون للجمعية اجتماع عام يؤذن لكل أحد بحضوره لسماع المواعظ والخطب، وعين المجلس لذلك ليلة الإثنين من كل أسبوع، فمن شاء الحضور من الأدباء والراغبين فى الإفادة أو الاستفادة فليحضر، وما عليه إلا التمسك بآداب الاجتماع المطلوبة، ومراعاة قانون الجمعية في آدابه الموافقة للشرع.

الزكاة والتمدن ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الزكاة والتمدن والإيمان والإنسانية ... ... ... إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ ... ... ... ... وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ... [[*] ] وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا ... ... ... فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [[**] للإيمان إطلاقان: أحدهما التصديق الجازم بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإذعان، وآية الصدق في هذا التصديق وكونه جازمًا لا زلزال فيه ولا اضطراب، العمل بموجبه من الكفّ والانتهاء عن المنهيات مطلقًا والإتيان بالمأمورات بحسب الاستطاعة المعبر عنه بالتقوى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (الزمر: 33) ذلك بأن مَن كان جازمًا بأن عمل كذا نافع له في العاجل أو الآجل فإنه ينبعث للإتيان به من طبعه، ومَن كان جازمًا بأن فعل كذا ضار له في دنياه أو آخرته يكف عنه ويتقيه بوازع الفطرة، يشهد لهذا كل ما يصدر عن الإنسان من فعل وترك في عامة أوقاته وأحواله ويستحيل أن ينبعث الإنسان لعمل ما وهو جازم بأن فيه مضرة له ومتذكر لذلك , إلا أن يكون جازمًا أيضًا بأن فيه منفعة تربي على المضرة وترجح عليها، ومَن جهل هذا كان جاهلاً لنفسه، ومن جهل نفسه كان بدينه أجهل، ومن هنا جاء الإطلاق الثاني للإيمان، وهو كما في الأخبار والآثار الصحيحة: قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان , فالاعتقاد هو الأصل، والقول والعمل فرعان لازمان له، ويعبر عنهما بالإسلام. بسم الله الرحمن الرحيم {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 1-3) نعم إن الله تعالى يفتن الذين يدعون الإيمان بألسنتهم أو توسوس لهم به أنفسهم أي يختبرهم ليعلم علم شهادة، وهو عالم الغيب والشهادة صدقهم في دعوى الإيمان أو كذبهم فيها وليظهر ذلك الصدق أو الكذب بالعمل ظهورًا يترتب عليه الجزاء في الدنيا والآخرة لا سيما بالنسبة لمجموع الأمة. ابتلانا بالشهوات التي تسوق إلى ما ينافي المصلحة والمنفعة، وأشرع لنا الطريق الذي يجب أن نسيّر فيه شهواتنا، وحدّ لنا حدودًا موافقة لمصالحنا العامة والخاصة، ولكنها تخالف الشهوة أحيانًا، وأمرنا أن لا نتعداها، فكل ما للنفس فيه شهوة قد تسوق إلى عمل ينافي المصالح العامة أو الخاصة، فهو فتنة وابتلاء من الله تعالى يمتحن به عباده ليزيّل بين الصادق والكاذب في دعوى الإيمان، ويميز بين الخبيث والطيب من اللابسين لباس المؤمنين: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179) وقد نبهنا تعالى على هذه الفتن لعلنا نحذر ونتبصر فقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن: 15) وقال جل شأنه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: 7) وإنما حسُن العمل بالتوفيق بين منفعة العامل ومصلحة أمته على ما أرشد إليه الشرع دون اتباع شهوته التي تخلّ بأحد الأمرين أو بهما معًا، وإنا نبين في هذه المقدمة وجه الفتنة بالمال من حيث فريضة الزكاة فحسب - فوجوه الفتنة في جمعه وإنفاقه - كثيرة فنقول: المال محبوب لأنه وسيلة إلى كل محبوب، ومِن الناس مَن يعظم شغفه بالوسائل فيجعلها مقصودة لذاتها، ولا يستعملها فيما خلقت له، وهذا كفر بالنعمة وإبطال للحكمة، ولذلك ورد في الصحيح: تعس عبد الدينار والدرهم، وإنما عبْده مَن يجمعه ولو بغير حق، ويكنزه فيمنع منه كل حق، وورد أيضًا: نعم المال الصالح للرجل الصالح، وقد فرض الله تعالى على المؤمنين أن يجعل أغنياؤهم جزءًا من أموالهم لمواساة الفقير والمسكين العاجزين عن كسب يقوم بكفايتهما، ولتأليف القلوب التي لم تطمئن بالإيمان كمال الاطمئنان، لا سيما من يتبعه في الهداية غيره، وفي فك الرقاب من ذل الرق، وإطلاق الأسارى من قيود الأعداء بالفداء، ولمساعدة الغارمين بتحمل الديون للنفقة الشرعية على أنفسهم وأهليهم، أو لإصلاح ذات البين , ولإعانة المجاهدين الذين يتطوعون ببذل أرواحهم لحفظ الأمة وإعلاء كلمة الملة، ولمواساة أبناء السبيل الذين ينقطعون في الأسفار عن أوطانهم ويحال بينهم وبين أموالهم، ولمن ينصبه الإمام لجباية هذه الأموال ووضعها في مواضعها. مساعدة هذه الأصناف بالمال من مقومات المدنية، وإهمال شأنهم خروج عن الإنسانية، وفي القيام بهذا العمل (إيتاء الزكاة) من المنافع للأمة التي يعز المزكي بعزها ويذل بذلها ويسعد بسعادتها ويشقى بشقائها، ما يبعث العاقل الفاضل عليه لأجل منافعه وفوائده، ولو لم يكن مكلفًا به ممن خلقه وأفاض عليه نعمة المال من فضله وكرمه , إلا أنها الشهوات ترجح عند سفهاء الأحلام على ما يطلبه العقل، ويبعث عليه حب الشرف والفضيلة، فاحتاج الإنسان لسائق آخر يسوقه إلى هذا العمل الشريف النافع، وهو سائق الدين الذي يعده على فعله بنعيم أعلى ورضوان من الله أكبر ويوعده على تركه بالعذاب الأليم: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 34-35) وإن من لا يبالي بالمنافع القومية والمصالح الملية، ولا يكترث بالشرف والفضائل الإنسانية، ولا يُجِب داعي الحضرة الإلهية، ويبخل بجزء من ماله على سعادته الدنيوية والأخروية - لجدير بالعذاب المهين ولعنة الله الملائكة والناس أجمعين، ومن يقرأ أو تقرأ عليه الآيات الناطقة بأن الله جعل له المال فتنة ليظهر به صدقه في دعوى الإيمان من كذبه، وبأن الله اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة إذا هو بذلهما في سبيل الحق، وبأن من يمنع الحق المفروض في ماله له العذاب الأليم المشروح في الآية الكريمة، ويلاحظ مع هذا أن أعمال الإنسان تنبعث عن اعتقاداته الجازمة بمنفعتها أو مضرة تركها، ثم يبخل بالزكاة، وما هي إلا العشر أو ربع العشر مما أنعم الله تعالى به عليه، ثم يدّعي مع هذا كله أنه مؤمن جازم بوعد الله تعالى ووعيده - فهو مكابر للوجدان، معتقد أن الإيمان كلمات تدور على أطراف اللسان. استفتِ قلبك أيها المغرور المخدوع، حاسب نفسك على أعمالك التي تأتيها كل يوم تجد أنك تبذل المال لجلب المنافع أو درء المضار المظنونة التي لا توقن بوقوعها إذا أنت لم تبذل فكيف يسلم العقل أن الظن يبعث على العمل ولا يبعث عليه اليقين وهو ما تدعيه في إيمانك، ذلك شأنك في كسبك من زراعة أو تجارة أو صناعة وفي دفع الأذى عن نفسك , وهذا شأنك في دينك وإيمانك، فهل بلغت شهوة إمساك المال معك إلى حد انطفأ به نور الفطرة وخزيت الإنسانية، وذهبت حرمة الدين وما جاء به من الوعد والوعيد؟ ! استفت قلبك وراجع وجدانك وحاسب نفسك، إذا قال لك فاسق لا ثقة بشهادته: إن هذا الطعام أو الشراب الذي تريد أن تتناوله مسموم، وإن هذه المرأة التي ترغب مواقعتها مصابة بالزهري، أرأيتك تترك شهوتك لقوله أم لا؟ إنك لتتركها ولو على سبيل الاحتياط ولا تقدم عليها إلا إذا كنت جازمًا بكذبه، وأنه لا يصيبك أذى لأن تقديم درء المفاسد على جلب المنافع من الأمور الطبيعية كما هو من الأصول الشرعية، فكيف تجعل وعد الله ووعيده دون خبر ذلك الفاسق فلا تحتاط له؟ وتدّعي أنك موقن بهما لا شك عندك ولا ارتياب. استفت قلبك وراجع وجدانك ولا يحملنك ثقل وقع الحق على نفسك أن تضع أصبعيك على أذنيك وتُسدل الستار على عينيك، فتكون ممن قال الله تعالى فيهم: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) بل ارجع عن شحك: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) ولا تُسلِّ نفسك بأن في هذا الكلام تكفيرًا للمسلمين، وأن من كفّر مؤمنًا كفر، فتتوهم أن هذه النصيحة المقتبسة من نور كتاب الله تعالى عادت على من قدمها إليك بالتكفير أو التفسيق، فينعم بالك ويهنأ عيشك ويسلم لك مالك كله لا ينال فقير منه درهمًا ولا دينارًا، فإن بحثنا هذا بحث في روح الدين وجسمه معًا، ومن أظهر الإذعان للإسلام لا يحكم عليه بالكفر وإن كان شاكًّا في قلبه ومرتابًا أو تلقَّى بعض العادات التي يعملها المسلمون باسم الدين ولم يمس الإيمان به سواد قلبه {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحجرات: 14-16) فهذا القرآن يعرّف المؤمنين بصيغة الحصر بما لا ينطبق عليك. ذكر في تعريفهم الجهاد بالمال وقال في ضدهم: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (فصلت: 6-7) وأما حديث: من كفر مؤمنًا فقد كفر، فمعناه أن من سمّى ما هو عليه من الإيمان أو أعماله كفرًا فقد كفر لأنه سمّى دين الله كفرًا وقد نصّ العلماء على أن من حكم بكفر إنسان لدليل قام عنده عليه فهو متأول لا يكفر وإن كان مخطئًا في حكمه، على أنني لا أقصد بكلامي تكفير مانع الزكاة وإخراجه من عداد المسلمين، وإنما أبذل النصيحة الخالصة لقوم سلّموا بالإسلام وارتضوه دينًا، ولكنهم أخذوه على غير وجهه لفساد التعليم القويم ثم إهماله، فظنوا أن الله تعالى تعبدهم بألفاظ ورسوم لا معنى لها ولا فائدة فيها إلا مجرد الأصوات والحركات، ورزئوا بقوم ولعوا بالتأويل وأخذ الدين من ألفاظ المصنفين وإن كانوا من قبيل الذين قال الله فيهم: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78) فهؤلاء المحرّفون هم الذين أفسدوا على العامّة دينهم وعلّموهم الاحتيال على الله تعالى فصاروا: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) . استفت قلبك أيها المحتال في منع الزكاة وإن أفتاك المفتون، استفت قلبك وحكم كتاب الله تعالى في نفسك وزن به إيمانك وعملك، فإذا رجح به فأنت السعيد وإذا ظهر ل

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (19) من هيلانة إلى أراسم في 8 مايو سنة 185 أتدري أيها العزيز أراسم أني فكرت كثيرًا فيما ختمتَ به مكتوبك الأخير وورد على ذهني منه خاطر يجب عليّ قبل الإفضاء إليك به أن أبين لك كيف ورد. جاء الدكتور وارنجتون وأسرته إلى هنا وأمضوا يومين، فسنَّ لي شبه قانون أجري عليه في معيشتي، بل هو الذي يتبعه معظم الإنكليزيات الحوامل اللاتي يوصفن عادة بأنهن في حالة شاغلة، نصح لي بإدامة الرياضة البدنية والتنزه، ثم قال ما نصه: إياك والاقتراب من القصص التي تتولد من قراءتها الانفعالات السيئة الشديدة، كان اليونان أعقل منا؛ لأنهم كانوا يحيطون نساءهم في مدة الحمل بالتماثيل والصور الجميلة المنسوبة لمشاهير الأساتذة في فن التصوير، وإني لست أجزم بأن هذا كان سببًا في إتيان أولادهم حسان الخلقة، ولكني على كل حال أقول: إذا كان مثل هذه التماثيل والصور وغيرها من الأشياء البديعة الصنع يحدث في نفوس ذوي الفطر السليمة من الناس شعور الارتياح والانبساط، ويكون فيها مدعاة اعتدال الأمزجة وتوافق الطبائع، فلم لا يكون من موجبات حفظ الصحة؟ كثير من السيدات عندنا يغلب عليهن في طور الحمل الخمود وفتور القوى بسبب البطالة التي هي منشأ الأمراض العصبية، فإنهن لا شغل لهن فيه سوى مساورة الأوهام ومطاردة الخيالات. أما أنت فلِما أعهده فيك من الشغف بالمناظر الخلوية أوصيك بالسعي وراء اجتلاء ما في الخليقة من رائع الجمال ورائق الحسن وبأن تتخذي لنفسك أعمالاً مرتبة تشتغل بها يدك وعقلك. ولقد رأيت أن هذه النصائح كلها حكمة وعلم، فأخذت نفسي بها وخرجت للتنزه من اليوم التالي لتلقيها بعد تدبير بعض الشؤون البيتية، فلما رأتني نساء القرية مبكرة على الطريق بعثهن كرم أخلاقهن على أن يبتدرنني بالتحية قائلات: (صباح بهيّ وبكرة سنية) ولم يكن الصباح كما قلن ولكنها عادة الناس هنا إذا تبادلوا التحية بالوقت فهم دائمًا يميلون إلى امتداحه قليلاً، فشكرت لهن حسن قصدهن. لم أسر في تنزهي على الخليج، بل اعتسفت الطريق في ريف يتسع فيه الفضاء للماشي كلما جدّ به السير، ومما لاحظته أن نساء كورنواي يضعن على رؤوسهن كمات [1] من القش، وقد اخترت أن أحذو مثالهن في ذلك، فوضعت واحدة منها اتقاء لحر الشمس وحبًّا لما فيها من البساطة الكلية، وأخالني أروق في نظرك لو رأيتني بها، كنت أتقدم في هذا الريف على جهل من قراه، ولكني كنت آمنة من الضلال لأني ما كنت قاصدة جهة معينة، وكان ذلك اليوم من الأيام التي كثيرًا ما ترى في غرب إنكلترا، فكانت سماؤه محتجبة بالجهام [2] وكانت تأتي من البحر ريح بليل [3] مسفسفة [4] فتجري بين أشجار العليق فتولد فيها رعدة طويلة , وكانت الطيور تغرد حول عشاشها. قد أتى عليّ حين من الدهر كنت فيه أوجد على الخليقة إذا بدت عليها سمات الاغتباط والسرور، وأنا حزينة الفؤاد متبلبلة الأفكار، فما زلت بي حتى أثبت لي أن هذا الوجد والانفعال باطلان بعيدان من الإنصاف، وناشئان من الأثرة وحب الاختصاص، فأصبحت الآن بفضل نصحك لي أُسَرّ بما أجده في سائر المخلوقات من آثار الفرح والابتهاج، وقد تبين لي في ذلك اليوم بما انبعث في قلبي من وجدان الحنان والرحمة، وبما عاينته في المخلوقات من شواهد الفضل والنعمة أن الله سبحانه لم يلعن الأرض ولم يغضب عليها. كانت بكرتي هذه من البُكر التي أنت تعرفها , يدور في هوائها على سكونه مادة غزيرة مختلفة العناصر للتوليد والخصب، فكان ينبعث من أشجار العوسج وحقول القمح والمخارف [5] الموطأة نسمات فاترة مقوية كانت تسري بسببها الحرارة في جسمي فتصل إلى وجهي فكأن الأرض كانت مصابة بحمى الربيع، ولقد ذكرتك في تسياري بين هذه المزارع، وفكرت فيما سأناله عما قليل من شرف الأمومة إن لم يحدث من الطوارئ ما يقطع موصول آمالنا، وفي هذا الوقت أحس قلبي بما انطوى عليه مكتوبك فتسابقت إلى ذهني منه هذه الكلمات وهي (فإني قد استودعتك إياه) . عند ذلك صِحْت قائلة: لماذا لا أكون أنا في الحقيقة معلمة ولدي؟ أليس من المعروف عن نساء الولايات المتحدة أن معظم تعليم الأطفال ذكورًا كانوا أو إناثًا موكول إليهن؟ بل إن مما يؤكده العارفون أنهن يَفضلن الرجال في القيام بهذه الوظيفة الصعبة، وإني سأجرب نفسي في الاقتداء بهن على أن هذا هو ما يراه زوجي، فمن حيث إنه قد عول على ترك المزايا التي لمدارسنا وغيرها من معاهد التعليم لاعتبارات أقدرها حق قدرها، فلا بد أن أحل محله ولو حينًا من الزمن في القيام على تلميذنا الآتي وتربيته، وسيكون هذا آكد فرض عليّ وأَخصّ ما أفتخر به وأزهو , أُشهد الله سبحانه على ما أقول وأُشهد عليه أيضًا أمومة الفطرة الكبرى التي تدعوني بما فيها من القدوة إلى العمل وإنماء جميع قواي. ربما أضحتْك مني هذه المزاعم , وإني لعلى علم بكل ما يعوزني لأداء هذا الواجب الصعب المعضل؛ لأني ينقصني كثير من المعارف وإن كان والداي لم يغفلا تربيتي الأولى، ولكن ما الذي يمنعني من الاستمرار على التعلم بنفسي إذا كنت لا أزال في السن الملائم له، فسأعلم ولدنا في الزمن الذي يشب فيه وينمو وأتعلم أنا أيضًا بتعليمه، ولن أعتقد أني أمه حقًّا إلا إذا نفثت في روعه أفكارك وزرعت في نفسه أصولك. سنتعاون بقلبينا على هذا الأمر الخطير، فعليك الإرشاد وعليّ العمل، وقد وعدتك بأن أكون قوية، وهذا هو قصدي وسأبلُغه ملتمسة من الرياضة البدنية والمطالعة ما يلزمني من الصحة والعافية في جسمي وعقلي لأداء هذا الغرض العظيم , ومعاذ الله أن يكون من قصدي أن أصير إلى أحسن مما أنا عليه الآن، نعم إني لست من الوليّات ولا من النُسّاك؛ فقد أتى عليّ زمن كانت تجذبني فيه جواذب اللذات الدنيوية، وليس هذا الزمن عني ببعيد، فإني لم أتجاوز الثالثة والعشرين من عمري، ولم يكن تركي معاهد التمثيل وملاهي الغناء وأندية الظرفاء التي كنت أفتخر فيها بمصاحبتك مبنيًّا على رغبتي عنها وميلي إلى غيرها، وإنما كان ذلك لما أصابنا من صروف الدهر ونوائبه التي سيظل ما جرته لي من الكآبة والحزن مخيمًا عليّ طول حياتي، على أنني لست آسى على شيء مما فات، فأرجو أن لا تظن بي ذلك، وأعتقد أني لو كنت مطلقة من قيود هذه المصائب لما انفككت عن اختيارك لي خِلاًّ وقرينًا، واعلم أن الفراق لم يزدني فيك إلا حبًّا، وإنما أنا أشكو من ألم في نفسي، ولكن كما توجد طرق مادية لحفظ صحة البدن توجد أيضًا طريقة معنوية لحفظ النفس وسلامتها من الأمراض وهي رفعها إلى معالي الأمور، وسأجربها فإن ذلك - على ما يُقال - يسكن من آلامها، وإذا صح هذا فأي غاية تسمو إليها أفكاري وتعلو بها نفسي أشرف من رعاية ولد أُربيه على أصولك وأخلاقك، إن هذا لهو أكمل قصد وقفت نفسي على إدراكه. أنا مع انتظاري لهذا العمل الجليل، أشتغل الآن بشؤون بيتية محضة، أما قوبيدون فإنه قد صمم على أن يعمل عمل المزارعين فإنه قد جلب إلى مسرح الدواجن في بيتنا دجاجًا وبطًّا وماعزة وغيرها، وكان في البيت برج عتيق مهجور فعمّره بالحمَام، وإني مهتمة غاية الاهتمام بكل هذا العالم الصغير، وكنت قبلاً أعتقد في نفسي أني على شيء من علم الحيوانات لما قرأته من الكتب المختلفة في التاريخ الطبيعي، أما الآن فقد تبين لي مقدار خطئي في هذا الاعتقاد، فإني كل يوم أشاهد من عجائب الحيوانات ما لم يقل عنه العلماء شيئًا، وأنا وجورجية نوزع الحبوب على جميع هذه الدواجن التي يظهر من حالها أنها تدرك محبتنا إياها؛ لأنها تأتنس بنا وتفرح لرؤيتنا. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (من بتاوى) لأحد الأفاضل: حضرة اللوذعي البارع صاحب المنار الساطع: إن ما نشرته جريدة (المعلومات وثمرات الفنون) وجريدتكم الغرّاء فيما يتعلق بالحكومة الهولندية ومعاملتها للعرب من الظلم والجور والاحتقار والغمط والغمص إلى ما لا يتناهى - لأمر واضح ولا وضوح الشمس في رابعة النهار ومعلوم عند الحكومة المذكورة، ونحن نتعجب أيضًا غاية العجب من تحاملها على من يكاتب الجرائد وفحصها وبذل المجهود في معرفته والإعلان بأنها ستذيقه كأس عقابها، فنحن مهما كاتبنا الجرائد فلا نقول إلا الحق الصراح، ومع ذلك نذكر الواقع والوقيعة والشخص والمحل، فلو كانت غير عالمة بذلك لأحضرت الأشخاص الذين سميناهم وسألتهم عما جرى عليهم، ولو أردنا سرد جميع الوقائع لاستدعى ذلك نشره في كل طبعة من الجرائد واستغراقه الستة أعمدة فيها، ولكن أوردنا أنموذجًا من تلك القبائح، ودونك قطرة من بحر , فأوله رجل يسمى الشيخ بلوعل ضربه اثنان من الهولنديين اعتباطًا فرفع أمرهما إلى الحكومة فأُحضرا في غير مجلس الحكم، فقيل للشيخ بلوعل: إنهما لن يعودا إلى مثل ذلك، وكذا الشيخ عبد الله حسان سبَّه بعض المستخدمين في محل التلغراف سبًّا فاحشًا، فقيل له مثل ما قيل للشيخ بلوعل، وكذا الشيخ علي مرصد في أثناء الطريق بدّد ما معه من الأقشة وسُب وضُرب فعومل كالأولين، وكذا الشيخ محمد بن علي مكارم دفعه بعضهم دفعًا عنيفًا حتى سقط مغشيًّا عليه بدون سبب، وكان المومي إليه شيخًا جليلاً فعومل بمثل أولئك، فلم يقبل وأبى إلا القصاص، فطرد ولم تقبل له الحكومة كلامًا فلم يسعه إلا أن قوّض خيامه ورحل، وهيهات التعداد، ولو أردنا تفصيل الحوادث حادثة حادثة للزم الحال إلى سِفر، بل إلى أسفار وأما عثمان بن عقيل فليته كان كفافًا لا لنا ولا علينا، وكيف وهو باذل جهده في أن تشد وطأتها الحكومة على العرب أبناء جنسه بأشد مما هي عليه، بل لم يزل يواعد العرب بالشر في المستقبل، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وجزى الله الشيخ أحمد الخطيب المنكاباوي فيما قاله فيه خير الجزاء، وأقسم بالله أنا لم نعرف محملاً للخير نحمل عثمان عليه؛ لأنه صرح على رءوس الأشهاد بحضرة الجم الغفير بأن سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين لا يسمن ولا يغني من جوع إنها لإحدى الكبر ومن أمهات العبر ما سمعنا بهذا في الملة الإسلامية. هذا بعض ما جرى الآن , نستعطف مراحمكم أن تنشروه في جريدتكم (المنار) الأغرّ كما هو شأن غيرتكم في الذب عن الملة والوطن أثابكم الله. *** (سنغابور في 12 ديسمبر سنة 1899) يا صاحب جريدة (المنار) التي لها بين رصفياتها الفضل والاشتهار، كأنها علم في رأسه نار، لقد جبرت القلوب المنكسرة بما نشرت من الأخبار، فيما نال العرب بجزيرة الجاوي من الظلم والاحتقار، وما تأتيه حكومة هولندا في ذلك من العار، فلم يبق إلاك المؤمل، وعليه في الصدع بالحق المعول، فأين ما يزعمه الزاعمون ويتمشدق به الجاهلون من المدنية الغربية ومحبتها بني الإنسان بالسوية، أهو ما تعاملنا به معاشرالعرب تلك الحكومة الهولندية، من الظلم الواضح وضوح الشمس المضيّة؟ وفي هذه الأيام قد شدت وطأتها بجور الأحكام، وبالخصوص على كل من له بجرائد الأخبار الإسلامية إلمام، أو له في الدولة العثمانية كلام، بل صرح صديقها الشيخ عثمان بأنها عند العثور على من يكاتب تلك الجرائد ستذيقه العذاب الأليم، فنحن نناشد الله عثمان فيما تنشره الجرائد، هل هو زور وبهتان؟ أم هو الخبر المشاهد بالعيان، والحق الذي لا يمتري فيه اثنان، ولا ندري ما الحامل له على أن جمع إخوانه العرب وأحضر بينهم كلام الرب، وأراد منهم أن يقسموا له به بأنهم لا اطلاع لهم على من يكاتب تلك الجرائد، إلى آخر ما جرى منه من التهديد والوعد والوعيد، وطلب منهم التوقيع ببراءته من كل فعل شنيع في أسفل طرس ليس فيه من الكتابة شيء، فأوجسوا في أنفسهم خيفة وارتابوا، ورفضوا ما طلب فاشتد منه الغضب. وقوي بينه وبينهم الخصام والصخب، فما فعله هذا أهو من قبيل رأيه وهواه أم بذلك قرينه أغواه. وإليك هذه القضية يا صاحب (المنار) فاحكم فيها بما أراك الله، وحسبنا الله وحسبه وحسبهم الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد صادق ... ... ... ... ... ... *** (مكارم الأخلاق الإسلامية) مجلة علمية أدبية دينية تهذيبية تصدر في اليوم الأول والخامس عشر من كل شهر عربي من قبل جمعية (مكارم الأخلاق) الشهيرة في مصر، وقد تصفحنا العدد الأول منها فإذا هو مفتتح بمقدمة مطولة لرئيس الجمعية المفضال وخطيبها القوّال الشيخ زكي الدين سند، وهي على نحو خطبة في الكلام المسجوع والوعظ المسموع وبعدها نبذة عنوانها (استلفات) في الحث على الاشتراك في المجلة خدمة للأمة والملة، والتمهيد لذكر الدروس التوحيدية التي يلقيها في الجمعية وكيلها الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار , يتلوها ذكر جملة مفيدة من أول الرسالة أو الكتاب الذي يقرأه، وهي أفيد ما في المجلة، فإن صاحبها الفاضل قد حذا فيها حذو (رسالة التوحيد) التي ألّفها حديثًا الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد، واقتبس من نورها في الكلام على بيان الحاجة إلى الرسالة قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم والانتقال إلى ذكر رسالته وما جاء به، ويسرنا جدًّا أن فضلاء الأمة ونبهاءها قد اتخذوا (رسالة التوحيد) إمامًا ومرشدًا لهم في دينهم، فإنها الجديرة بذلك، فنحث المسلمين على الإقبال على هذه المجلة مساعدة للجمعية الإسلامية التي تصدرها على خدمتها المليّة، ولأنها لرخص ثمنها لا تنجح إلا بكثرة المشتركين، فقد جعلت قيمة الاشتراك فيها 15 قرشًا في القطر المصري و18 في خارجه، والمراسلة تكون باسم الأستاذ الشيخ زكي الدين رئيس الجمعية. *** (القدس الشريف) مجلة علمية أدبية تاريخية أسبوعية تصدر في أول كل شهر عربي مؤقتًا، لصاحبها ومحررها الشيخ طه المحتسب بالله خادم مقام خليل الرحمن، وقيمة الاشتراك فيها 16 غرشًا مصريًّا، وقد اطّلعنا على العدد الأول منها، فإذا هو مصدّر بفاتحة يبين فيها فضل نشر العلم، وأنه هو الذي حمل كاتبها على إنشاء المجلة لا حب الكسب، فنتمنى لهذه المجلة الرواج والانتشار. *** (من مجلة المنار إلى قرائها الأخيار) سلام الله عليكم وحيّاكم الله أيها الفضلاء الذين وازرتمونا على خدمة الملة والأمة، فإذا كانت الجرائد الحديثة تشكو من قرّائها فإنا شاكرون لكم، وإذا كانت ترميهم باللي والمطل، فإننا نعترف لكم بالوفاء والفضل، ونحمد الله تعالى أن جعل قرّاء مجلتنا من خيار الأمة وفضلائها الذين يُرجون ولا يُخشون، ولكنّ الأجزاء الأخيرة من المجلة قد رُدّت إلينا في هذه الأيام من قبل نفر من المشتركين، منهم مَن نثق بفضله وكماله، ونرجح أن المجلة ما ردّت في أواخر سنتها إلا خطأ من كاتبه أو وكيله، كما وقع لنا غير مرة مع من يدفعون ثمن الجريدة سلفًا، ومنهم من يرغب عن قراءة كلام ينعي عليه تقصيره في دينه وإسرافه في أمره فينغص عليه لذته، والمرجو من مثل هذا أن يدفع ثمن الجريدة؛ لأن السنة أوشكت تتم، ثم يقطع الاشتراك، ونحن لا نحب أن يقرأ مجلتنا من لا يهمه أمر دينه وملته وأمته، كما نرجو من المشتركين الكرام، لا سيما في خارج العاصمة الذين لم يدفعوا إلى الآن قيمة الاشتراك أن يقدموه حوالة على البوسطة أو طوابع بوسطة، ولا يدفعوا شيئًا لوكيل أو جابٍ إلا لمن يصرح باسمه فيما بعد في المجلة، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى. *** (جمعية شمس الإسلام) علم القرّاء الكرام أن جمعية (شمس الإسلام) الشريفة قامت بالسعي لدى أولياء الأمور بمنع شركة معرض باريس المصرية من أخذ الزعانف المنتسبين لأهل الطريق إلى المعرض لتمثيل البدع والألاعيب التي يأتونها باسم الدين الإسلامي، ولقد كان لسعيها هذا أحسن وقع عند خاصة المسلمين وعامتهم، وحمدوا لها جميعًا هذا السعي واهتمت به الحكومة السنية، لا سيما سعادة محافظ مصر الغيور وبحثت عنه، وحتم سعادة المحافظ بعدم تمكين أولئك الزعانف من السفر، وأما الشركة فقد تنصلت من هذا الأمر وصرّحت بأنها لا يمكن أن تأتي أمرًا يمس كرامة الدين الإسلامي الشريف، وإن لم تعارضها الحكومة فيه، لا سيما وأن فى أعضائها غير واحد من وجهاء المسلمين ونحن نقابلها على تنصلها بالثناء مهما كان سببه، ونشكر أفضل الشكر من اهتم بتحقيق أمنية الجمعية من رجال الحكومة والدين سواء من عرفنا اهتمامه كسعادة المحافظ وفضيلة مفتي الديار المصرية وسماحة شيخ مشايخ الطرق، ومن لم نعرف من حقيقة اهتمامه بالاختبار شيئًا، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

الزكاة والتمدن ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الزكاة والتمدن (2) بيّنا في مقالة (المنار) الماضي أن الزكاة ركن من أركان الدين والمدنية، وفضيلة من أكمل الفضائل الإنسانية، وأن تاركها بعيد من الدين والتمدن والإنسانية جميعًا، ودحضنا شبهة المحتالين في منعها من المتدينين، وندحض في هذه المقالة شبهة من يذمها أو يذم السخاء من المتمدنين فنقول: من الإفرنج طائفة تذم السخاء والبذل محتجة بأن إعطاء المال بدون مقابلة عمل يعلّم الناس البطالة والكسل والاعتماد على الناس دون أنفسهم في قضاء حاجهم، والوصول إلى مطالبهم ويكثر فيهم التسول والشحاذة، وما فشت هذه الأخلاق والسجايا في أمة إلا ورَمتْها بالفقر والفاقة والذل والمهانة، وجعلتها وراء الأمم كلها، وأنت ترى أن حجة هؤلاء ناهضة قوية، ولذلك فشت أفكارهم في أوربا فجعلت قلوب أهلها قاسية على بني جنسهم لا يرحمون فقيرًا ولا يواسون محتاجًا حتى قيل: إن الفقراء يموتون جوعًا في أسواق أغنى مدائن الأرض كلوندره ولا يرقّ لهم أحد وإذا عدُل عقلاؤهم أو فلاسفتهم في هذه القساوة الوحشية يقولون: إن موت بعض الأفراد أخف ضررًا على المدنية من فشوّ الأمراض الروحية التي تتولد من البذل ومواساة هؤلاء المحتاجين وهي ما ذكرناه آنفًا، هذا ملخص مذهب هؤلاء، ونحن نجيب عنه بالنسبة للزكاة الشرعية من وجوه: (1) يعارض مفاسد البذل المذكورة مفاسد أعظم منها ضررًا في المدنية وأشد خطرًا على الإنسانية وهي مفاسد الاشتراكية والفوضوية التي ليس لها منشأ إلا عدم رضا الاشتراكيين بجعل المال دولة بين الأغنياء، بحيث يقاسي السواد الأعظم من أبناء الإنسان متاعب الفقر وشقاء العوز حتى يموت الكثير منهم جوعًا ويتمتع العدد الأقل بجميع صنوف النعيم ويستعبد سائر العالمين، بل يحبس في سجون من الحديد (صناديق الأموال) جيوش الدراهم والدنانير يمنعها بذلك عن صدّ غارات جيوش الفقر والفاقة التي تفتك بالنوع البشري أشد الفتك، إما بنفسها وإما بما يتبعها من جيوش جراثيم الأمراض والأوبئة الخفية التي لا يدافع جانّها إلا بجنان من الذهب أو الفضة [*] وليس فقر كل الفقراء وعوزهم من كسلهم وبطالتهم، فترد في حقهم شبهة مانعي البذل وذامِّي السخاء، ولكن استعداد أفراد الإنسان متفاوت وللبيئة التي يعيش فيها والقوم الذين يتربى بينهم الأثر الأكبر في أخلاقه ومعارفه التي هي مناشئ أعماله الكسبية وغيرها {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} (الفرقان: 20) فالله تعالى يبتلي الغني بالفقير والفقير بالغني، كما يمتحن القوي بالضعيف وبالعكس على نحو ما بيّناه في المقالة السابقة، وبسطة الرزق تكاد تكون بالحظ والجد أكثر مما هي بالحيلة والكد. يشقى أناس ويشقى آخرون بهم ... ويسعد الله أقوامًا بأقوام وليس رزق الفتى من فضل حيلته ... لكن جدود وأرزاق بأقسام كالصيد يحرمه الرامي الجيد وقد ... يرمي فيحرزه من ليس بالرامي وما أنا من يقول بالجد والحظ على إطلاقه الذي يطوف في الأذهان، ويجري على كل لسان، بل أقول: لكل شيء سبب، وللإنسان ما سعى وكسب {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ولكنّ طرق الكسب والثروة منها ما يعرفه الإنسان ومنها ما يجهله، وبعض ما يعرفه يمكن أن يناله بسعيه , وبعضه يعلو عن تناول السعي ويتعاصى على الكسب، ولا تكون طبقات الناس أو أفرادهم متقاربين في معرفة الأسباب والتمكن منها إلا إذا أمكن توحيد التربية والتعليم وتعميمهما في العالم الإنساني كله، وما أبعدها غاية وأقصاها رغيبة! ! فظهر بهذا علة اختلاف الناس المشهود في المعارف والسجايا والأعمال والمكاسب إجمالاً {َلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) وظهر به وبما قبله أن للاشتراكيين بعض العذر في القيام على الأغنياء الذين لا يجعلون في أموالهم حقًّا معلومًا للبائس الفقير والعاجز الضعيف الذين ليس لهم ما يكفيهم، وأن ينتهي بهم الأمر إلى القيام على الحكومة التي لا تلزم الناس بالمساواة إلزامًا كما هو شأن الفوضويين، نعم إن القوم أفرطوا فخابوا، ومن الاعتدال أن يطلبوا المواساة بدلاً من المساواة التي لا سبيل إليها، ويعلم المتمدنون من المسلمين أن حكماء أوربا وحكامها في حيرة من تلافي شرور الاشتراكيين والفوضويين ومعالجة هذا الداء الاجتماعيّ الدويّ , وما علاجه إلا الدين الإسلامي الذي يفرض الزكاة ويحث على المواساة ويفرض على الآخذين به أن يرضوا بما قسم الله لهم بعد السعي بحسب الطاقة. (2) إن فضلاء الأوربيين وعقلاءهم الذين لم ينسلخوا من مزايا الإنسانية الجميلة ولم يُحرموا من الشفقة والرأفة على أبناء جنسهم بالمرة , قد خصصوا جزءًا من أموالهم لبناء المستشفيات لمعالجة مرضى الفقراء ولغير ذلك من أعمال البر، ولولا هؤلاء لكانت المدنية الأوروبية شر مدنية أخرجت للناس، ولكان غلو الاشتراكيين والفوضويين تجاوز الحدود فدمرها شر تدمير وجعل مصيرها بئس المصير، وإننا نرى اللابسين لباس المدنية الأوروبية من المسلمين لا يبذلون شيئًا من فضول أموالهم على أعمال البر التي ينفق عليها الأوروبيون كالمستشفيات والمدارس والمكاتب وتنشيط المخترعين والمكتشفين، حرموا فضائل المشرقين واستأثروا برذائل المغربين {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} (المجادلة: 18) . (3) إذا كان السويليون من الإفرنج يقبّحون إيتاء الفقراء والمساكين العاجزين عن كسب يكفيهم، فلا ينبغي أن يلتفت إلى قولهم؛ لأن احتجاجهم بتعليم الناس البطالة والكسل إنما يأتي إذا كانت الشريعة تعطي من يقدر على الكسب ولا يكتسب إخلادًا إلى الكسل والبطالة واعتمادًا على أوساخ الناس، ولكن الشريعة تمنع إعطاء مثل هذا كما تمنع إعطاء العاجز فوق كفايته، وتسمي مَن يقدر على كسب يكفيه غنيًّا، ولذلك قال الإمام الغزالي كغيره: (وقد لا يملك إلا فأسًا وحبلاً وهو غني) . وجعلت أيضًا في حكم الغني كل فقيرعاجز له قريب يمونه وينفق عليه، ومع هذا كله حرمت السؤال والشحاذة على غير المضطر واعتبرت أموال الزكاة والصدقات من أوساخ الناس، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: اليد العليا خير من اليد السفلى. فقد رأيتَ أن هذا الدين القويم فرض للفقراء والمساكين ما فرض من مال الزكاة مع أشد الاحتراس من مضار اعتماد الإنسان على غير كسبه ونتائج عمله، ومن ذلك أنها حرمت الصدقة على آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ينبغي أن يكونوا قدوة للناس في شرف النفس وعزتها، وما أكل أوساخ الناس إلا ذلٌّ وصغار، وقد غفل المسلمون لا سيما الغالون في تعظيم أهل البيت عن هذا فأغدقوا عليهم الإنعام حتى جعلوهم عالة على الناس في عامة شؤونهم، وأفسدوا أخلاق الجم الغفير منهم. (4) إذا فرضنا أن للسويليين وجهًا في منع إعطاء الفقير والمسكين ومن في معناهما كالغارم وابن السبيل مطلقًا، فهل نقول: إن لهم وجهًا في منع تجهيز المطّوعين لحماية البلاد ودفع الأعداء عنها، ومنع فك الرقاب من العبودية أو الأسر؟! كلا، إننا لم نسمع أن أحدًا في أوربا يذم هذه المصارف، بل نراهم يجمعون الأموال الطائلة لتنفق في هذه الوجوه، وقد جعلوا السعي في تحرير الأرقاء ركنًا من أركان التمدن، بل وجعلوه عملاً مخصوصًا من أهم أعمال الحكومة. وخلاصة القول وزبدته: أن الزكاة ركن من أهم أركان الدين والمدنية الحقة، وأنه ليس في شيء من مصارفه الثمانية مغمز لغامز ولا مضرة تخشى مغبتها، وأن هؤلاء المسلمين الجغرافيين الذين يمنعونها لروح البخل والشح الخبيث الذي لابس نفوسهم الشريرة ما شمّوا رائحة التمدن الحقيقي، ولا استنشقوا عَرف الإسلام العطر، ويوشك أن يجيء يوم من الأيام تهدي فيه الأوربيين معارفُهم الاجتماعية إلى إقامة هذا الركن المدني الركين، ثم إقامة غيره من أركان الإسلام، فيضطر المقلدون لهم في مساويهم من متمدنينا إلى تقليدهم في المحاسن والفضائل التي يأخذونها من دينهم، فإنهم لصغر نفوسهم لا يكونون إلا مقلدين و {لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (الأنعام: 67) .

الاقتراح على المنار

الكاتب: أحد المشتركين

_ الاقتراح على المنار يود أكثر أهل الجدّ أن (المنار) لا يكتب إلا في أهم المواضيع الدينية والاجتماعية كالتربية والتعليم من الوجه الديني، وممن صرح لنا بهذا الرأي وزير مصر الأكبر صاحب الدولة رياض باشا، ويقول آخرون: لابد من تنوع المواضيع والكلام في الأدبيات؛ ليكون فيه ما يروّح النفوس التي تسأم الجد الدائم، واقترح علينا كثيرون من فضلاء القطرين المصري والسوري أن نكتب ملخص دروس التفسير التي يلقيها في الأزهر حَكيم الأمة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، فإن فيها حياة الأمة وبيان شفائها من أمراض شقائها، واقترح آخرون علينا أن ندرج فيه ملخص الخطب النافعة التي يلقيها كاتب هذه السطور وغيره من الأفاضل في جمعية (شمس الإسلام) وإجابة هذه الاقترحات يتوقف على جعل (المنار) مضاعف حجمه الآن مع بقائه أسبوعيًّا، فهل يوجد في القارئين عدد كثير يضاعف لنا الثمن حتى نتمكن من هذا العمل من غير خسارة مالية لا نستطيع احتمالها؟ ما لا يدرك كله لا يترك قله، وقد رجّحنا أن نزيد في (المنار) كراسة ونصدره في الشهر ثلاث مرات، أو كراستين ونصدره مرتين، ونبدأ بإجابة الاقتراح الأخير بعد نشر آخر كتابة وردت لنا فيه وهي: جناب الأستاذ الفاضل: حضرتُ أمس بجمعية (شمس الإسلام الخيرية) فوجدت فيها ما حقق ظني وما كنت أنتظره من حضرات مؤسسيها الكرام من نقاوة المواضيع وصدق النية والإخلاص لجلالة السلطان وعزيز مصرنا حتى كنت أهتز طربًا حين قمتم وفسرتم قوله تعالى في الطاعة والتقوى والاقتصاد مما تُلي من الآيات في مبدأ الجلسة وبرهنتم أن هذه الآيات وحدها تكفي لسعادتنا الدنيوية والأخروية، وازداد سروري حين قام الأستاذ الفاضل الشيخ علي الجربي وكشف الحجاب عن بعض ما خفي من أسرار الدين، لا سيما وقد أتبعتم كلامه بأن أوضحتم في بعض ما قلتموه أن المرض الذي يعم المسلمين الآن ليس هو عدم معرفتهم ما هم عليه الآن من الشقاء مما هو معروف لدى العام والخاص، ولكن المرض كل المرض في جهل الأسباب التي جرّت علينا هذا الشقاء الذي يكاد أن لا ينتهي، وعدم إيجاد الطرق الموصلة إلى إنقاذنا منه مما لا يقدر عليه إلا كل عالم متمكن حكيم متبصر، وأتبعتم قولكم ببعض مباحث أخرى مما وقع موقع الاستحسان لدى الحضور، وإني أشكر حضرة الأستاذ الفيلسوف على خدمة الإسلام والمسلمين، كما أني أدعوه أن لا يَكِلّ مهما تصدر أمامه من الصعوبات، حيث إن الخدمة لله، وكفاكم بالله قوة وعونًا , غير أنه سنحت لي فكرة وجدت من حقوق الإسلام أن أسردها على مسامع حضرتكم، ولعلها تقع لديكم موقع القبول، وهي أن تلك المواضيع والأفكار التي يقولها الخطباء وتقولونها أنتم في محفل الجمعية كما ينتفع منها الذي حضرها، كذلك يلزم أن يستفيد منها من عاقه عن ذلك بُعد المكان مثلاً، ولتحقيق هذه الأمنية أقترح أن يخصص محل في جريدتكم يكتب فيه ملخص المواضيع التي يراد البحث فيها في كل أسبوع، وهي ليست بأقل أهمية من الدرس الديني الذي تكتبون له ملخصًا في جريدتكم الغرّاء، فالكل راجع للدين وهو الغرض، وليست غير مجلتكم أولى بنشر تلك النصائح التي تلدها أفكار الخطباء، وتثبت أمام الجميع صحتها ويظهر نفعها، فأكرر الكلام على حضرتكم في قبول هذا الاقتراح، وليس هناك فرق بينكم وبين الجمعية فإنكم من الجمعية والجمعية منكم، ويلزم أن تكون جريدتكم لسان الجمعية وترجمان مقاصدها كما تفعل جمعية (مكارم الأخلاق الإسلامية) هذا وأرجو أن لا تحوجوني إلى التكرار في هذه المسألة المهمة، ولقد صارت الآن الجمعية عمومية، فلا ضرر أن تنشر أفكارها بين المسلمين الأعضاء منهم وغير الأعضاء، ولا أشك في أن تنشر في عدد (المنار) الآتي إن شاء الله تعالى ما خص مواضيع هذا الأسبوع لاعتقادي أن هذا ليس ضد مشروعكم الذي هو منفعة الإسلام والمسلمين، وعلى أي حال فإني شاكر لحضرتكم، والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... أحد المسلمين ... ... ... ... ... ... ... ومن المشتركين في مجلة المنار

طائفة من الأخبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طائفة من الأخبار (الاجتماع الأسبوعي العام لجمعية شمس الإسلام) افتتحت الجمعية من نائب الرئيس، بسم الله وحمده والصلاة والسلام على نبيه والدعاء لمولانا أمير المؤمنين الأعظم، ثم لعزيز مصر المعظّم، ثم شنّف الأسماع فقيه الجمعية الفاضل بتلاوة قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} (الفرقان: 62) إلى آخر السورة، ثم قام خطيب الجمعية منشئ هذه المجلة وخطب خطبة مطولة في بيان ما أرشدت إليه الآيات الكريمة من أسباب سعادة الدنيا والآخرة [*] تكلمت أولاً في المحافظة على الوقت وعدم تضييعه سدى، ثم في محاسبة الإنسان نفسه في الليل على عمل النهار وبالعكس، وعند ذلك يرى أحد أمرين إما أنه كان مقصرًا في أداء ما يجب عليه لربه أو لنفسه أو لأهله أو لأمته، وإما أنه كان مشمرًا وقام بما يجب وأدّى الحقوق، فإن كان الأول وجب عليه أن يذّكر تقصيره ونتائجه الوخيمة فيتعظ ويتدارك في الليل ما فاته في النهار وبالعكس: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيب} (النساء: 17) وإن كان الثاني وجب عليه أن يشكر لله فضله عليه بالتوفيق للجد والتشمير بأن يزداد ثباتًا، ثم بعد الإسهاب في معنى هذه الآية بينت أن الآيات التي بعدها شرعت لنا طلب سعادتي الدنيا والآخرة بالعمل، أما سعادة الدنيا فأركانها ثلاثة: الغنى والثروة وقرة العين بالأهل والذرية والجاه الرفيع بالحق، وقد شرع الله لنا طلب الركن الأول بمشروعية سببه وهو الاقتصاد حيث قال في أوصاف عباده المرضيين عنده: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) وقلّما يفتقر مقتصد. وشرع لنا طلب الركنين الآخرين بقوله عز من قائل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) ولا جاه أعلى ولا شرف أرفع من كون الإنسان إمامًا وقدوة لخيار الناس وأفاضلهم وهم المتقون، وبينت أنه ليس المراد من الآية طلب هذين الأمرين الجليلين باللسان فقط، فإن الله تعالى لا يعبأ بدعاء من لا يوافق قلبُه وعملُه لسانَه، فيجب علينا أن نطلب كل شيء بصدق القصد من قلوبنا والعمل الذي تقتضيه الأسباب والسنن الإلهية في الكون ثم نطلب من الله بألسنتنا المترجمة عن قلوبنا أن يسهل علينا ما لا يناله كسبنا من أسباب ذلك. وأما سعادة الآخرة فهي رضوان الله تعالى ومثوبته في دار كرامته، وقد عبّر عنها بعد ذكر أسباب سعادة الدنيا والآخرة بقوله: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} (الفرقان: 75) فجعل تحصيل سعادة الدنيا من أسباب سعادة الآخرة، وذكر من أسباب السعادتين أركان الدين الأربعة وهي: (1) التوحيد، ذكره بقوله: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (الفرقان: 68) و (2) ترك المعاصي، ونبه عليها بذكر كبائرها، وهي القتل والزنا وشهادة الزور، و (3) الآداب والفضائل، أرشد إلى مهماتها كالسكينة والتواضع ومتاركة الجاهلين والسفهاء والإعراض عنهم بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: 63) وكالاقتصاد، وقد ذكرنا آيته من قريب، وكاليقظة والاعتبار بآيات الله المسموعة والمشاهدة والانتفاع بالتذكير بها: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُماًّ وَعُمْيَاناً} (الفرقان: 73) وكالإعراض عن اللغو وهو كل ما لا فائدة فيه: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} (الفرقان: 72) وكالخوف من الله تعالى الذي يكبح النفس عن المعاصي، وإليه الإشارة بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} (الفرقان: 65) و (4) الأعمال الصالحة ذكرها إجمالاً بقوله: {وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً} (الفرقان: 71) إلخ، وخص منها بالذكر القيام بالليل للصلاة، وكل ما ذكر من الآداب آنفًا تتبعه أعمال تناسبه ويدخل في هذا تربية الأولاد، فإنهم لا يكونون قرة أعين إلا بالتربية الصحيحة. هذا مجموع المعاني التي كانت مدار خطبة هذا العاجز، رمزت إليها رمزًا من غير مراعاة ترتيب الآيات ولا ترتيب الإلقاء، ولو كتبت كل ما تذكرته منها لاستغرق عدد (المنار) كله، وقد أسهبت في ذم الإسراف والحث على الاقتصاد إسهابًا، وجاءت على لساني كلمات في ذلك استحسنها القوم استحسانًا، أذكر منها كلمتين: إحداهما أن معظم الأموال التي تفيض بها راحات أغنياء هذه البلاد إسرافًا وتبذيرًا تذهب إلى الأجانب، فالذنب فيها يضاعف ضعفين ربما كان أكبرهما هو الذي لا يلقي له أحد بالاً، وهو الإدلاء بثروة الأمة إلى الأجانب، ففيه إضعاف للأمة وتقوية لخصمائها في عمل واحد، و (الثانية) في الحث على حفظ رقبة البلاد في أيدي أهلها، قلت: إن فدانًا من الطين يبتاعه أجنبي من وطني يؤلمني ويمضني ما لا يؤلمني نزع أكبر وظيفة من وطني وتطويق الأجنبي بها؛ لأن رقبة البلاد إذا زالت من أيدينا إلى أيدي هؤلاء الغرباء الأغنياء وأمسينا فيها عمالاً وأجراء - فقدنا البلاد والسلطة معًا فقدًا لا يرجى له عود، وإذا فقدنا السلطة وبقيت لنا البلاد، فلا يبعد أن يأتي يوم من الأيام نكون فيها أمة متحدة لها قول يسمع ورأي عام يعمل به، فنقول: نحن أولى بحكم بلادنا من غيرنا، فلا يستطيع أحد أن يرد علينا، ولكن إذا ذهبت رقبة البلاد منا وفرضنا أنه يمكننا مع الفقر والفاقة أن نملأ هذه الأدمغة الجاهلة علمًا وحكمة، ونفرغ في هذه القلوب الفارغة حمية وهمة، ونجعل هؤلاء الأشتات شيئًا واحدًا، فبماذا تطالب الأمة والبلاد ليست بلادها؟ وأبنت بالأدلة والبراهين أن الاقتصاد فرض على المسلمين، وحسبك من الوعيد على تركه قوله تعالى: {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء: 27) وفندت قول بعض الشيوخ في مصر - ولم أذكر اسمه - أن الاقتصاد في المعيشة أمر مندوب لا واجب، وقد قال مثل ذلك في تدبير المنزل وتربية الأولاد! ! وبينت أننا ما دمنا نلتفت لهذه الأقوال الخادعة لا تقوم لنا قائمة، ثم قام في إثري الأستاذ الفاضل الذي وقف نفسه على الدعوة إلى الله ووعظ المسلمين وإرشادهم حيث كان - الشيخ علي أبو النور الجربي- وأفاض على الحاضرين من الحكم المأثورة، بل الدرر المنثورة ما أعجب به القوم إعجابًا، كيف وهو لم يترك ركنًا من أركان الدين الأربعة التي مر ذكرها إلا وحوّم عليه، وجاء بالمحاسن مما يذكر فيه: تكلم في التوحيد فأجاد، ثم انتقل إلى الوعظ فأفاد، ذكّر بالآخرة ولم يغفل نصيب الإنسان من الدنيا وحث على التوبة ورغّب فيها، وأثنى على الجمعية وحث عليها، وأظهر الأسف مما بلغه من وجود حزازة بين جمعية (شمس الإسلام) وجمعية (مكارم الأخلاق) . ولما فرغ من مقاله وهدأت شقائق ارتجاله، تعقبه كاتب هذه السطور فأبان للحاضرين أن منازع الجمعيات ومقاصدها إنما تعرف من قوانينها، وأننا قرأنا قانوني الجمعيتين، فلم نجد فيهما اختلافًا يوجب الحزازات أو الضغائن، بل وجدنا أن الغرض واحد وهو خدمة الملة والأمة، ثم قلت: إن الأستاذ معذور لأنه ما قال إلا ما سمع، ولكن كلام واحد أو آحاد من جمعية في أي شأن من الشؤون لا يجوز أن يحكم به على الجمعية، كما لا يجوز أن ينسب ذنب المسلم أو المسلمين إلى الإسلام نفسه، نعم إن أكثر الناس يتخذ كلام رئيس الجمعية حجة في مثل هذا المقام، وأن الأستاذ لم يجتمع برئيس جمعية (شمس الإسلام) قط. والصواب أن الرئيس والمرؤوس في هذا المقام سواء، ومقاصد الجمعيات إنما تعرف من قوانينها كما قلنا، وإننا نصرح على رءوس الأشهاد بأن جمعيتنا وجمعية (مكارم الأخلاق) سواء وكُلنا إخوان غرضُنا واحد، وتعقبته أيضًا بكلام وجيز في حقيقة التوبة، والسبب في إصرار الناس على المعاصي والرذائل، وما هو إلا فساد التربية والتعليم إلخ. ثم قام صديقنا الفاضل المهذب الشيخ أحمد المحمصاني وألقى خطابًا وجيزًا في تهذيب المرء نفسه، استشهد له بآثار السلف الصالح فأجاد وأفاد وحمده الحاضرون، ثم ختم الاجتماع كما افتتح بالحمد والصلاة والدعاء لأمير المؤمنين ولأمير هذه البلاد وتلاوة القرآن الشريف. *** (المجاعة في الهند) يقرب عدد الجائعين فيى الهند الذين تمونهم الحكومة من أموال إعانة المجاعة نحو ثلاثة ملايين، ولم يزل المطر منحبسًا، فالرجاء في غلة هذا الشتاء ضعيف، فنسأل اللطف من اللطيف. *** (انخفاض النيل وتوقع الجدب ووجوب الاقتصاد) اتفقت الكلمة وثبت رسميًّا عند الحكومة أن انخفاض النيل في هذه السنة لم يُعهد له نظير في تاريخ النيل، ولا يزال الهبوط مستمرًّا حتى امتنع سير السفن في بعض بلاد السودان، ويقال إن عمق الماء لا يزيد عن متر واحد قرب مروي , بل يقال: إن الانخفاض شوهد في بحيرة فيكتوريا منبع النيل الأكبر بدرجة لم تعهد من قبل، فإذا كانت العلة في المنبع فالأمر مخوف والخطر متوقع، والعياذ بالله تعالى، ولقد كانوا يتشاءمون في بعض المجالس العالية من سنين كسنيّ يوسف عليه السلام، وقد سخر الله تعالى في تلك السنين نبيًّا من أنبيائه عالج للمصريين ذلك الداء الدوي، ومن عساه يعالجه في هذه الأيام؟ نعم إن سهولة المواصلات في هذا العصر تمكن التجار من جلب الغلات إلى هذه الديار من جميع الممالك والأقطار، فلا يهلك الناس، ولكن التجار لا يرحمون فقيرًا ولا مسكينًا، فأين المال عند هؤلاء الفلاحين الذين هم الجزء الأكبر من سكان مصر، وإننا نراهم يبيعون أطيانهم ويرهنونها في وقت الرخاء والخصب. قدّر المقدّرون الأطيان التي لا يكون لها حظ من الريّ بسبب عدم وفاء النيل في هذه السنة بنحو 300 ألف فدان؛ فاضطرب الناس لذلك اضطرابًا، فإذا لم يكن وفاء - ونسأل الله أن يكون - في السنة القابلة وزاد الهبوط والنزول، فماذا يكون من شأن الناس في هذه البلاد التي لا يدّخر أهلها الغلال ويعسر فيهاالادخار لرطوبة أرضها أي عسر؟ ثم ماذا يكون من أمرهم اذا دام ذلك سبع سنين كما كان في زمن يوسف لا قدّر الله ذلك؟ إنما غرضي من كتابة هذه الكلمات الثقيلة على السمع المؤلمة للنفس , حث الناس على غاية الاقتصاد في النفقات استعدادًا لما عساه يكون مخبوءًا لنا في المستقبل، فاذا وقع المحذور كان العلاج موجودًا، فإننا في زمان لا يموت فيه جوعًا صاحب المال إلا إذا عمّ القحط الدنيا كلها وإذا جاء - إن شاء الله - الخصب والإقبال، فلا تضرنا إضافة المال إلى المال، وقد كنت كتبت في (المؤيد) الأغر مقالة مخصوصة في تنبيه أهل الزراعة (وأكثر أهل مصر أهل زراعة) إلى وجوب الاقتصاد التام في النفقات والاستعداد لما هو آت، وهذه نبذة مذكرة بتلك {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) . *** (استعداد الدول الحربي ومطامعها) السياستان الخارجية والحرية في الدول هما مظهران للتمويه والخداع، وم

ذم الهوى

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

_ ذم الهوى للأديب اللوذعي صاحب الإمضاء مصطفى صادق الرافعي أجدك ما تصارعك المدام ... ويصرع قلبك الصب الغرام وتظمئك المراشف كل آن ... وتقتلك المعاطف والقوام لعمرك ما تجلّد مستهام ... بما يرضى ويبغي المستهام ولكن شيمة الولهان صبر ... وإن أودى به الموت الزؤام أيقتلك الظباء وأنت ليث ... ويسبيك ابن سام وأنت حام تسهدك الدموع فلا منام ... وهل يرضى بعينيك المنام وتصيبك الصبا والليل شيخ ... وتشجيك البلابل والحمام تظل تلوم قلبك أن تسالى ... وتجزع أن يلم بك الملام فداؤك صحة والداء داء ... وصحتك التي ترجى سقام رويدك ما الهوى إلا هوان ... وهل يرضى العنا إلا اللئام ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في بواطنه ظلام ألنّ لك الحديث فلنت قلبًا ... وعهدي ما يخادعك الكلام وكنت تذود نفسك عن حياض ... وقد وردت فما هذا المقام أريش لها سهام صائبات ... ومثلك لا تراش له السهام فطورًا يأسر القلب العذارى ... وطورًا يأسر القلب الغلام سقطت وكنت ذا نفس عصام ... ولكن ماوراك يا عصام أقال الله كن عبد الغواني ... حرام يا فتى ليلى حرام تمر على المساجد غير باكٍ ... وتبكيك المنازل والخيام ويذكرك الحمام إذا تغنى ... ولا ذكرى إذا غنّى الحِمام أتطمع في السماء ولا رقي ... وما يُروى من الآل الأوام فديتك ليس هذا عصر ليلى ... على ليلى من العصر السلام قصور غير تلك وخندريس ... سوى تلك التي فيها الختام ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى صادق الرافعي ...

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (أخبار الأستانة العلية) صدرت الإرادة السنية السلطانية بأن يُصنع في هذه السنة ستار الروضة النبوية الشريفة من نفقة مولانا أمير المؤمنين الخصوصية على أحسن طراز وأكمله إتقانًا، منقوشة عليه الأحاديث النبوية بأحرف من فضة، وهذا الستار يجدد في كل ثماني سنين مرة، وصدرت الإرادة السنية أيضًا بترميم الروضة الشريفة وتزيينها وزخرفتها، فأُرسل من الأستانة المهندسون لملاحظة هذه الأعمال، وصدرت إرادة أخرى بإنشاء حوضين للماء في طريق الحجاج إلى مكة والمدينة المكرمتين. *** (تقرير إصلاح المحاكم الشرعية) يتشوف القضاة والموظفون في المحاكم الشرعية عمومًا وأكثر الناس الذين يهمهم أمر بلادهم لا سيما فى أقدس المصالح وأهمها - إلى الاطلاع على تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح هذه المحاكم وإمعان النظر فيما جاء فيه من وجوه الإصلاح التي اتفقت الجرائد مع كل من اطلع على التقرير على استحسانها، ولقد كنا ننشره تباعًا (كمصباح الشرق) ولكن مع حذف واختصار، ثم رأينا أن تعميم فائدته تتوقف على طبعه كله منفردًا , وطبع لائحة المحاكم التي يتوقف فهم الكثير من جمله على مراجعتها معه، فشرعنا به وسيتم طبعه في هذا الأسبوع. *** (اللواء والخلافة وانتقاد المنار) كان لما كتبناه في الانتقاد على جريدة (اللواء) في الإرجاف بمسألة الخلافة أحسن وقع عند الكبراء والفضلاء، واعترفوا لنا بأننا صدعنا بالحق ودافعنا عن شرف مقام الخلافة الأعلى ومتبوّئ أريكته - مولانا السلطان عبد الحميد خان - أيده الله تعالى - أحسن المدافعة ولم يختلف في هذا أحد، ولكن رهط الوطنية المصطفوية - وقليل ما هم - قد استاؤوا خوفًا من أن يسد في وجوههم الباب المفتوح. وأوعزوا - إلى بعض المتملقين أن يدافع عن اللواء في محفل عام، ففعل ابتغاء رتبة أو وسام ينالها من مقام الخلافة الإسلامية الذي مست كرامته جريدة (اللواء) وكنا نتوقع إن تحقق صاحب (اللواء) ظننا فتلصق وسواس الخلافة العربية الإنكليز دون المسلمين، فبدا لنا ما لم نكن نحتسب حيث منع إرسال (اللواء) إلينا خشية انتقاد آخر ...

المسجد الحسيني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسجد الحسيني نشكر لحضرة الأستاذ الفاضل السيد علي الببلاوي نقيب السادة الأشراف عنايته في رمضان هذه السنة بمنع القُصّاص الجهلاء من التدريس في المسجد الحسيني , ومنع كثير من المنكرات الأخرى كالذين يخدعون العامة ببيع التعاويذ والتمائم ونحوها، أو بتلقين الأدعية التي لم تؤثر في أوقات الصلاة، ويخترعون لتعاويذهم وأدعيتهم فوائد ومنافع دينية ودنيوية ما أنزل الله بها من سطان ليأكلوا أموال الناس بالباطل، ولقد صدق هذا السيد الفاضل في قوله لنا: إن البدع والمنكرات العامة إنما تزال بالتدريج، والمرجوّ من غيرته أن يرتقي في هذا التدريج حتى يُمحى من المسجد كل ما يأتيه الناس من تلك البدع والمنكرات، وحبذا لو عين من قِبله رجلاً أو رجلين ممن طلب العلم ليتلقوا من يزور المقام الحسيني ولو في غير أوقات الزحام ويعلموهم الزيارة الشرعية الموافقة للسنة السنية، فيبطل بذلك هذا السجود مع الخضوع والخشوع وتقبيل الأعتاب والتمسح بعمود الرخام للاستشفاء والتبرك، وإذا صارت الزيارة في المقام الحسيني شرعية فإنها بعد زمن من قليل تعم مصر كلها، وإذا حصل مثل هذا أيضًا في المسجد الزينبي يكون الزمن أقل والمدة أقرب. قد ذكرت الآن أن لفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر العناية التامة بالمسجد الزينبي، وهو رئيس المدرسين فيه، فإذا أمر بعض الموظفين في المسجد أو أحدًا من غيرهم بأن يعلم الزائرين الزيارة الشرعية وآدابها، فليس هذا بكثير على غيرته على الدين القويم. وإذا طلب الشيخان من الأوقاف تعيين أجرة مخصوصة لمن يقوم بهذا العمل فلا نظن أن الأوقاف تتوانى في الإجابة، وإن الرجاء في الشيخين الجليلين فوق ما اقترحنا، وإن الله لمع المحسنين.

طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طفولية الأمّة وما فيها من الحيرة والغمة لا همّ للطفل في أول عهده بالوجود إلا إرضاء شهوة البطن , يساق إليه الغذاء فيُلهَم تناوله إلهامًا، ثم يعطى التمييز بالحواس الظاهرة ثم بالحواس الباطنة، يكون فيه أولاً ضعيفًا ثم يقوى بالاستعمال تدريجًا، يطلب أولاً كل شيء يراه للأكل قريبًا كان أم بعيدًا، ثم يطلبه لأجل اللعب، يجهل أولاً تحديد المسافات فيمد يده إلى قمر السماء ويحاول القبض على الطيور في الهواء، ثم يشعر من تكرار الخيبة بضعفه وعجزه، فيطلب مثل هذا من أبيه أو أمه لأنه يعهد منهما بالمعاملة في كل يوم تحصيل رغائبه التي يعجز عنها، ثم يتم تمييزه لهذه البديهيات وينتقل إلى مبدأ طور الفكر والتعقل وإدراك المصالح والمنافع في الجملة وهو طور بين الطفولية والرجولية، ولكن الولدان يكونون فيه أقرب إلى ماضيهم من مستقبلهم فيؤثرون ما يرتاحون إليه ويلتذون به على ما فيه كلفة ومشقة، وإن كانت المصلحة وحسن العاقبة في هذا دون ما قبله، وينظرون إلى أنفسهم وحدها دون مَن يعيشون معهم؛ لأنهم يتوهمون أن الإنسان مكلف بنفسه دون غيره، وأنه يمكن له أن يكون سعيدًا بين الأشقياء وناعمًا بين ذوي البأساء والضرّاء، ولذلك كانوا أشد الحاجة إلى الهادين والمرشدين الذين يثقفونهم ويربونهم مستعينين عليهم بهدي الدين وحوادث الكون والوجود , وإلا انتقلوا إلى طور الرجولية بحيوانيتهم دون إنسانيتهم وبأجسامهم دون أرواحهم وأحلامهم. وبعد، فإن هذا العدد العظيم الذي يبلغ ثلاثمائة ألف ألف أو يزيد، الذي نسميه الأمة الإسلامية قد أمسى بحالة من الضعف الصوري والمعنوي والفقر المادي والأدبي يستحي من ينتسب إليه من وصفها وشرحها , وقصارى ما نقول فيه: إنه لا يسمى أمة إلا بضرب من التجوز كما تسمى صورة الأسد المرسومة في الجدار أسدًا. فقد كان المسلمون - وهم أقل الأمم عَددًا وعُددًا - أعز الأمم وأقواها وأعلمها وأغناها، ثم انقطع السلك فتناثر الحب وبطل إطلاق اسم العقد عليه إلا إذا لوحظ ما كان دون ما هو كائن، ويظن الجاهلون أنه لا رجاء في نظم العقد ثانية وانتظام شمل المسلمين، ويعتقد الذين لا يقنطون من رحمة الله ولا ييأسون من روحه أنه لابد أن ينجز لهذا الدين وعده {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه} (التوبة: 33) فيستمر ظهوره وغلبته إلى آخر الزمان، وقد ورد في الخبر: إن أمة النبي صلى الله عليه وسلم كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره، بل ورد أيضًا أن الخير فيه -عليه الصلاة والسلام- وفي أمته إلى يوم القيامة. قد أتى على الأمة حين من الدهر والخير فيها يقل والشر ينمو , حتى وصلت إلى ما هي فيه اليوم، وإننا نرى الآن في جوّها المظلم بالفتن برقًا يومض بين الغيوم المتكاثفة، ويوشك أن يعم فيكون الظلام نورًا، وأقول كما قال حكيمنا: إنني أرى في هذه الشجرة اليابسة - الأمة الإسلامية - ورقات خضر ولا أدري هل هي من بقايا حياتها الأولى أم هي مبدأ حياة جديدة؟ وأزيد على هذا ترجيح الشق الثاني بدليل أن الورقات تزيد ولكنها عرضة للتصوّح والسقوط بما يهب عليها من بوارح المحن وزعازع الفتن , إذا لم تُحَط بالتربية الصحيحة، ولذلك شبهت الطور الذي فيه الأمة الآن بطور الطفولية، ونبهت إلى شدة الحاجة إلى المربين والمثقفين. أليس السواد الأعظم مِنَّا لا يهمهم إلا لذّاتهم وحظوظهم الشخصية كما هو شأن الأطفال؟ ! هل يفقهون معنى الأمة ويعلمون ما هي المقومات التي تقوم بها، والروابط التي تجمعها والأمر الذي تؤمه وتقصده؟ هل يتفكرون في الحياة الاجتماعية وما يعرض عليها؟ كلا إن من يتجاوز فكره محيط شخصه فلا يعدو بيته وولده وهو في هذا لا يمتاز على الأنعام، وإذا ذكرهم مذكر ونبههم منبه حارون وتضطرب أفكارهم، ولا يكادون يفهمون الحقيقة , وهم الآن على درجات: فمنهم مَن لا يفكر في معنى الأمة قط، ومنهم مَن يرى البعيد قريبًا كالطفل الذي يمد يده لتناول القمر كما جرى ويجري لبعض الحكام وأصحاب السلطة , كإسماعيل باشا وأصحاب الفتنة العرابية، ومنهم من يرى نفسه عاجزًا عن كل شيء , ويرى الحاكم قادرًا على كل شيء كما هو شأن الطفل الذي يطلب القمر أو الطير في الهواء من أمه أو أبيه، ومنهم من يفتكر في المصالح والمنافع التي تخص الأمة ويعذل المقصرين وهو منهم ولكنّه يغضّ الطرف عن عيوبه، وينظر إلى عيوب الناس بالنظارة المعظمة، وإذا عمل فإنما يعمل لشخصه، وإذا وقعت مصلحة الأمة في طريقه داسها ومضى في سبيله كما هو شأن الولدان في أول طور الفكر والتعقل، ومنهم الذين دعوا إلى الاجتماع لأجل العمل فاجتمعوا فصاح بهم صائح الفتنة فتفرقوا (كنبأة أجفلت غفلاً من الغنم) أو كالصبيان يجتمعون للعب فينعق بهم ناعق فيتفرقون (أيدي سبا) لأنهم لم يتربوا على الاجتماع، ولا يقدرون الأعمال الاجتماعية قدرها، وليس عندهم شيء من أخلاق الرجال، كالصبر والثبات والاحتمال، نقول في الأمة (المجازية) ما قلنا في في شأن الأطفال: إنها في أشد الحاجة إلى المرشدين والمربين الحكماء العارفين بالأمراض الاجتماعية وأدويتها وطريق علاجها لتكون بهديهم أمة (حقيقية) وقد يوجد فيها أفراد منهم يشاركهم في عملهم أكثر منهم من المتصدرين الجاهلين يهدمون ما يبنون ويفسدون ما يصلحون {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكَاذِبُونَ} (المجادلة:18) وقد صار هؤلاء الأطفال في أحلامهم الرجال في أجسامهم في حيرة، وغُمَّ عليهم الأمر باختلاف المرشدين، ويميل الأكثرون إلى من لا يكلفهم عملاً ولا يلصق بهم عارًا ولا زللاً، وسنبين مثارات الحيرة ومناشئ الغمة في مقالة أخرى إن شاء الله تعالى.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (20) من هيلانة إلي أراسم في 31 يونية سنة - 185 أكتب إليك أيها العزيز أراسم قيامًا بما أخذته على نفسي من إحاطتك علمًا بما أفعل وما أرى وما أسمع , فأقول: اتفق لي منذ بضعة أسابيع أن كنت في بيت صديقك الدكتور فرأيت عنده رجلاً من أيقوسيا وهو شيخ طويل نحيف , علمت أنه من أصدقاء ذلك البيت، وأنه غادر بلاده لأسباب مجهولة عندي، ولكونه لا يستطيع المعيشة بعيدًا عن منظر البحر والصخور والرمال قد نزل بكورنواي إلى حين. يبدي هذا الرجل من التنطع والتشدد في آدابه وهيئات أفعاله ما لو أبصرته الفرنساويات لضحك عليه كثير منهن على ما أرى، فإنه إذا سعل يسعل بانتظام وإذا دخلت عليه سيدة في قاعة الاستقبال وثب قائمًا كأنه حرك بلولب وأقبل بوجه فيه من تكلف الوقار والرزانة ما يحاكي تكلفه في شد رباط عنقه وإتقانه، ومهما كانت حاله فهو هنا محترم مبجل ولا غرو، فإنه ساح في كثير من البلدان ويحسن التكلم بالفرنساوية، ولديه بحسب ما أرى ذخر عظيم من المعارف، يسمّى الرجل السر جون سانت أندروز وأخص ما اشتغل في سياحته البحث في التربية وزيارة مدارس إنكلترا وأيقوسيا وقارة أوربا , وجملة قولي فيه: إن حديثه يهمني ويفيدني، ولما كنت أعلم أن موضوع أنظاره وأبحاثه داخل في نوع ما تبحث فيه وتشتغل به أصغيت إليه لأجلي وأجلك. فممّا قاله لي: إان الناس في بريطانيا العظمى يهتمون قبل كل شيء بإنماء القوى الجسدية في الناشئين، فبالرياضات البدنية تنشأ أعضاؤهم من صغرهم قوية تناسب الرجولية وتهيئ أجسامهم لخدمة عقولهم وعزائمهم؛ وهذا هو سبب عنايتهم بالرياضات والألعاب التي تخالف ما عندنا مخالفة جوهرية. نعم إنه يوجد في المدارس الإنكليزية ما نسميه في مدارسنا الفرنساوية فن التمرين البدني (الجمباز) إلا أن التلامذة الإنكليز لا يرغبون فيه كثيرًا ويفضلون ما يكون في ألعابهم من التمرن والارتياض على ما في هذا الفن من أنواع التدريب المنتظمة التي تحصل عن أمر المعلم وتحت رعايته، فهم يختارون بكمال حريتهم ما ترتاح إليه نفوسهم من ألعاب المصارعة والمغالبة، فلهم في ألعاب الكرة التي منها ضربها بالصولجان، ومنها دحرجتها على الأرض، وفي العدو والملاكمة وغيرها من طرق التسلي وسائل متنوعة تنمي فيهم قوة الأعضاء وتجعلهم يزدادون بالتعب شدة وصلابة. فأنّى يوجد بعد هذا رعايا أكمل من الإنكليز استعدادًا للمصارعة والكفاح؟ أليس الإنكليز هم أول الناس اقتحامًا لقمم أعلى الجبال المعروفة؟ أليسوا هم في الهند وأستراليا وزيلاندا الجديدة وفي جميع بقاع الأرض التي فيها أخطار تقتحم يقاومون صعوبة الإقليم والعوارض الكونية والأمم الوحشية؟ فأيّ أثر للعقبات الطبيعية في تلك العزائم الثابتة التي تقوم لها بمطالبها عضلات هي الحديد بأسًا وشدة. لم يوضع القانون في معاهد التعليم والتربية الإنكليزية إلا لما تدعو إليه الضرورة المطلقة من حفظ النظام فيها، يدلك على ذلك أن مدير مدرسة من المدارس الكبرى كان قد أمر مرة على خلاف عادته أن تراقب التلامذة في ملعبهم، لكنه لم يلبث أن تبين خطأه في هذا الأمر، وندم عليه واعترف من ذلك الحين بأن هذا التضييق كان يميل بأنفس الناشئين إلى الانحطاط ميلاً ظاهرًا. التلامذة الإنكليز في ساعات الاستراحة من الدرس أحرار، فلهم أن يخرجوا ويتنزهوا في المدينة التي يكونون فيها أو في المزارع، غير محتاجين في ذلك إلى أحد يرشدهم أو يراقبهم، فيمضي كل منهم إلى حيث يشاء، ولا يطالبهم معلموهم إلا بأمر واحد وهو أن يكونوا في سيرتهم كما يكون سراة الناس أدبًا ولطف معاملة، والكلمة المقابلة في اللغة الإنكليزية للفظ سراة هي (جنتلمين) ومن الصعب ترجمتها بالفرنساوية ويعني بها مَن بلغوا غاية الكمال في التربية والتهذيب، فإن وصف الشرف والسيادة يستفاد من التربية أكثر من استفادته من النسب، فقد ينسلخ عمن ناله من جهة النسب ولو في نظر غيره إذا هو تلبس بسافل العادات وسفساف الأخلاق، من أجل هذا كان الخوف من انحطاط القدر وسقوط المنزلة في أعين أهل الفضل والأدب له من السلطان حتى على نفوس الناشئين ما لا تبلغه جميع أنواع المراقبة التي يتصورها العقل، يقول الإنكليز: (إذا أردت أن يصبح ابنك رجلاً في طفوليته فعامله معاملة الرجال) وهذا هو الأصل الذي يجرون عليه في التربية. إني أخالك تندهش إذا لاقيت عددًا عظيمًا من الغلمان الإنكليز في السفن البخارية والمركبات العامة وأرتال السكك الحديدية يسيحون وحدهم بإذن أهليهم زمن عطلة المدارس وهم في حداثة السن، ولكنهم على ما في هذا من الخطر يعرفون كيف يتوقون المعاطب وكيف يعودون إلى مواطنهم، ويقول الإنكليز تعليلاً لذلك - فوق ما تقدم - أنه هو الوسيلة إلى استقلال هؤلاء الغلمان يومًا ما بسلوك طريق الحياة في هذه الدنيا. يثق الإنكليز بالأطفال ثقة عظمى، فإذا أخلّ بها هؤلاء أحيانًا فلا بدع في ذلك لأن مَن يرجو منهم أن يكونوا من الحكمة والدراية في درجة أعلى مما يقتضيه سنهم فهو واهم في معرفة الطبيعة البشرية إلا أنه قد شوهد أن ما يقع منهم من الخطأ يسهل أن تسد ثلمته، أما تثقيف ما اعوجّ من الطباع بسبب سوء الظن والقهر فهو في غاية الصعوبة. لا بد أن يكون لهذا النوع من التربية قوة معنوية تتأثر بها نفوس الناشئين، فإني أراهم هنا أهلاً لأن يديروا بعض أعمال تقتضي كثيرًا من وفرة العقل وتمامه، وقد ضرب لي في هذا الموضوع مثلٌ بتاجر من كبار التجار في لوندرة كان مذ بلغ الرابعة عشرة من عمره يجوب شوارع المدينة متأبطًا محفظة مملوءة بأوراق المصارف (بنك نوت) ويعامل وهو في هذا السن عدة من المحال التجارية باسم أبيه، وليس ما يلقيه الإنكليز في أذهان أولادهم وهم صغار من الثقة بأنفسهم والاعتماد عليها قاصرًا على ما يكلونه إليهم من الأعمال التجارية والصناعية، بل إنه يشمل أيضًا الفنون العقلية كالشعر والإنشاء وغيرهما من الصناعات الفكرية، نعم إن الإنكليز ليسوا بلا ريب أحسن ولا أعلم من غيرهم، ولكنهم لتعودهم من نعومة أظفارهم الاستقلال في سيرهم بمعارفهم الذاتية وتحملهم تبعة أعمالهم - يظهرون في كل شيء أكثر مِنَّا قيامًا بأنفسهم، وإذا لم أُبالِ بالتصريح بكل ما أريده قلت: إنهم أقل مِنَّا شبهًا بخراف بانورج [1] . الساعات المقررة للدروس في المدارس الإنكليزية هي في الجملة أقصر منها في المدارس الفرنساوية، ويؤكد الناس هنا أن هذا الأمر لا ينقص من نجاح التلامذة ولا يضر بتقدمهم كما قد نتوهمه؛ لأن الطفل لا يقتصر في تعلمه على ما في الكتب، بل إنه يتعلم كذلك مما يراه أثناء تنزهه في المشاهد الجميلة والمناظر الأنيقة ويستفيد استفادة حقيقية مما يكون بينه وبين رفاقه من المحاورات والمحادثات وما يتلقاه من أهله من الدروس النافعة في المعيشة اليومية، فهل من الضرورة المؤكدة أن يغلّ عقل الطفل من الصباح إلى المساء حتى يكون من مشاهير الرجال؟ ! لا يعتقد جيراننا ذلك قطعًا بل يرون أن في راحة التلامذة - أي ترويح نفوسهم بالألعاب الرياضية المتنوعة - شحذًا لأذهانهم وتقوية لعقولهم. وهم في تأييد هذا الرأي يضربون مثلاً مدارس قللت أيضًا في هذه الأيام الأخيرة ساعات الدروس في فرقها وشغلت التلامذة فيما وفرته منها بأعمال يدوية نافعة، فضاعفت بذلك فيهم قوتي التنبه والحكم، إذا كان هذا كذلك كان ما صرف من الزمن في تلك الأعمال غير ضائع، بل عائدًا بالربح على التلامذة في استفادتهم من الدروس لأن نجاحهم لا يقدر بطولها، وإنما يقدر بسهولة إدراكهم ما فيها من العلوم وتحققهم بها. إن أخص غاية يرمي إليها الإنكليز في التربية هي سلامة العقل، وهم يقولون ساخرين: ما أجمل ما يعود على الطفل من الفوائد والمزايا إذا كان القائمون على تربيته يُضعفون فيه الأعصاب المعدة للإدراك والفهم بالإفراط في إجهادها ويغيضون ما في عيون قريحته من مادة الذكاء الغزيرة بِحَثِّه على العمل لإحراز ما لا ثمرة فيه من قصب السبق في امتحاناته، فكم من السابقين في هذه الامتحانات يأكلون بهذه الطريقة ما يزرعون قبل إبان صلاحه أعني أنهم ينفقون كل ما لديهم من المواهب العقلية قبل أن يصلوا إلى ثمرتها. ليست العبرة عند الإنكليز بتعليم المعلمين، بل العبرة بما يعمله التلميذ ويتعلمه بنفسه، ومما يحكى تأييدًا لصدق هذه القضية أنه كان يوجد في إحدى دوائر الخوارنة بأيقوسيا مدرسة فيها قسمان من التلامذة داخلي وخارجي، وكان جل عناية صاحبها موجهًا للقسم الأول ضرورة أنه هو الذي كان يعتمد عليه أولاً في إنماء كسبه، ومن أجل هذا كان يقضي مع تلامذته كل سهرته في إعدادهم لتلقي درس الغد , ولكن أتدري ماذا كان يحصل في مدرسته؟ كانت تلامذة القسم الثاني وهم من أبناء فقراء المزارعين الذين يسكنون الكفور والخصاص المجاورة للمدرسة على ما هم فيه من حرمانهم من مُعيد يُكرر لهم الدروس واشتغالهم بأعمالهم المدرسية في زوايا تلك الخصاص على ضوء نارها في غفلة من أهليهم عنهم - كانوا يَظهرون عادة على تلامذة القسم الأول ويفوقونهم كثيرًا مع إجهاد مدير المدرسة نفسه في تقويمهم وتمرينهم، فعظمت بذلك دهشة ذلك الرجل ولكنه لما كان ذا لُب وفكر أخذ يبحث عن سبب هذا الأمر الذي ملأه سآمة وضجرًا، فلم يلبث أن عرفه وهو أن التلامذة الداخليين كانوا يفرطون في الاعتماد على تعليمه إياهم التعليم الآلي الذي لا عمل لفكرهم فيه، ويشتغلون لكن لا بأنفسهم بل كآلات يديرها محركها، وأما التلامذة الفقراء سكان الأكواخ فلما كانوا مضطرين إلى حل رموز ما يتعسر عليهم فهمه من المسائل بأنفسهم كانت أذهانهم في تيقظ، ولذلك كانوا يشحذون قرائحهم ويقوّون مداركهم بالمناقشة والمنافسة، وكان في انقطاع المعلم عن رعايتهم أثناء مدارستهم الليلة مزية لهم، فلا جرم أنهم سبقوا إلى المقاعد الأولى في فرقهم نهارًا، استفاد المعلم من هذه الحكمة التي أهدتها له التجربة فترك من ذلك الحين التلامذة الداخليين وشأنهم مقتصرًا على أن يعطيهم كغيرهم مواد العمل وأدواته مثل كتاب في النحو وقاموس، وكان من وراء ذلك أنهم لم يلبثوا أن ساووا أقرانهم في درجتهم، تعلم من ذلك أن شأن جيراننا في التربية كشأنهم في جميع الأمور الدنيوية، وهو أنهم يرجون من عمل المرء بنفسه من الخير ما لا يرجونه من وسائل المعونة والمساعدة كائنة ما كانت، فشعارهم فيها هو (استعن بنفسك يعنك معلمك) . ربما كان أهل إيقوسيا أيضًا أكمل من الإنكليز عناية بأمر التربية، فقد اشتغلوا به كثيرًا في هذه الأيام الأخيرة. يوجد في إيدنبورج على ما سمعت مدارس ابتدائية لا يكتفي فيها المعلمون بتعليم التلامذة مواد العلوم، بل إنهم يبذلون قصارى جهدهم في تأديب طباعهم وتهذيب أخلاقهم، فهم يعملون لتطهير نفوسهم من خبيث الرذائل كالأثرة والغش والظلم والكذب والقسوة على الحيوانات، وليست طريقتهم في ذلك مجرد إلقاء القواعد والتعاليم المبهمة المجملة، بل إنهم يرجعونهم إلى وجدانهم الفطري، ويذكرونهم بشرف الإنسان وسموّ منزلته على سائر أنواع الحيوان، فالأطفال في هذه المدارس هم الذين يحكم بعضهم على بعض في كثير من الأحوال، ويقدرون بأنفسهم درجة أفعالهم في الحسن أو القبح. ولو شئت لسردت لك ك

الاجتماع العام في جمعية شمس الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتماع العام في جمعية شمس الإسلام انتظم عقد الاجتماع العمومي في ليلة الإثنين 28 رمضان، وافتتحت الجمعية بحمد الله والصلاة والسلام على نبيه والدعاء لمولانا أمير المؤمنين، ولأمير هذه البلاد ثم قرأ القارئ في الافتتاح آيات شريفة فيها ذكر الأمر بالعدل، فقام كاتب هذه السطور خطيبًا في العدل، بينت أولاً أن العدل هو التوسط في الأمور والوقوف بين طرفي الإفراط والتفريط، وأن كثيرًا من الناس يظنون أن العدل إنما يكون في الأحكام فقط، والمعروف في علم الأخلاق أن الفضيلة هي العدل (ويقولون العدالة أيضًا) في الأخلاق والسجايا كلها، والصواب أن العدل كما قال العلامة البيضاوي يكون في الاعتقادات والأخلاق والأعمال، كما يكون في الأحكام، أما في الاعتقاد فكالتوحيد المتوسط بين اعتقاد الجبر وزعم أن الإنسان لا عمل له وإنما هو كالريشة في الهواء تحركه الأقدار كما تحركها الرياح، وبين اعتقاد القدر بمعنى أنه خالق لأعمال نفسه مستقل فيها تمام الاستقلال، وأما في الأخلاق فقد توسعت في البيان وأطلت الكلام، حيث بينت قوى النفس الشهوية البهيمية، والغضبية الوحشية، والعاقلة الإنسانية أو الملكية، وبينت الإفراط والتفريط في القوتين الحيوانيتين، وما ينشأ عنهما من الأخلاق التي تهبط بصاحبها إلى حضيض البهائم، فيكون كالخنزير لا همّ له إلا في شهوة البطن أو ... أو كالكلاب الكلبة والوحوش الضارية لولعه بالإيذاء والبغي والتعدي، أو الأخلاق التي يضعف بها الإنسان عن حفظ شخصه ونوعه والذود عن حوضه، وأطلت الكلام هنا على الجبن الذي ما فشا في أمة إلا ونسف هيكل مجدها وقوّض صرح عزها، وثل عرش سيادتها واستقلالها، ثم بينت كيف أن الفضيلة في العدل والتوسط في ذلك كله، ثم انتقلت إلى شرح الإفراط والتفريط والتوسط في القوة العاقلة، وكيف يكون المرء بالأول شيطانًا ماكرًا مخادعًا يتعمق في الرأي والفكر فيخطئ كالرامي إلى حد معين يجتهد في إبعاد الرمي فيخطئ المرمى وبالثاني فدمًا لا يفهم وحيوانًا لا يعقل، وبالثالث عاقلاً حكيمًا صحيح التصوّر مصيبًا في الحكم، وضربت في بعض القول المثل، ثم تكلمت في العدل بالأعمال بالاختصار؛ لأنها في الغالب تابعة للأخلاق وتعرف بها، وأما العدل في الأحكام فقد اعتذرت عن الخوض فيه بأنه مخصوص بالحكام، ونظام الجمعية لا يسمح لي بانتقاد أحكامهم على أننا معاشر المسلمين نعتقد كافة أن العدل لا يوجد بكماله إلا في شريعتنا، ونعلم ما أخذ به حكامنا وما تركوه منها، ونحن في مجلس وعظ ديني ينبغي أن يخاطب الناس فيه بما يفيدهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم. وانتظم عقد الاجتماع العمومي أيضًا في ليلة الإثنين الماضية 5 شوال، وبعد افتتاح الاجتماع بالحمد والصلاة والدعاء قرأ القارئ قوله تعالى: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّك} (النحل: 125) إلى آخر السورة، فخطبت في موضوع الآيات خطابًا لا يسع المقام الإشارة إلى أمهات مسائله، لكنني أقول: إننى أسهبت في الكلام على الصبر وكونه متحتمًا على الذين يقومون بخدمة الأمة ويعملون لها، فيعارضهم أعداء الإصلاح الذين يحاربون الحق الصريح بالوهم القبيح، وذكرت بمناسبة قوله جل وعز: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل: 127) بعض ما كان يقاسيه عليه أفضل الصلاة والسلام من الكافرين والمنافقين الذين يمكرون السيئات: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة: 107) وإنما أسهبنا في هذا لأجل تثبيت أنفسنا وإخواننا بالتأسي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإن أعداء أنفسهم من اللابسين لباس المسلمين طفقوا يخوضون بجمعية (شمس الإسلام) وبهذا الفقير خاصة ويتقوّلون علينا الأقاويل، كما هو شأن الظالمي أنفسهم في كل زمان ومكان، من ذلك أنه وقف عليّ رجل من هؤلاء في الدرس الذي كنت ألقيه في المسجد الزينبي بإذن فضيلة شيخ الأزهر فسمعنى قلت للناس: (قال نبيكم ... ) فخرج يقول: إن رشيدًا ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يقل: نبينا، على أنني لم أبتدع هذه الكلمة، وإنما حفظتها من الخطب المنبرية وهي التي ألّفها خطباء الحرم النبوي الشريف، والخطباء في سائر البلاد يحكونها عنهم، قال جاد المولى في خطبه المتداولة في هذه البلاد والبلاد الشامية حاكيًا عن أهل المدينة المنورة: (إذ قال خطيبهم على أعواد منبره جهرًا: قال نبيكم هذا من صلى عليّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا) وقال أيضًا: (إذ قال خطيبهم مبشرًا بمزيد الفضل والمنة، قال نبيكم هذا: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) وسعى آخرون بي إلى المقامات العالية وقالوا كذبًا، وخلقوا إفكًا، فلم يقبل قولهم، بل سقطت بسببه منزلتهم، وقد أشهدت الله علي وأشهدت إخواني في الخطبة على أنني قد تصدقت بعرضي على من خاض ويخوض فيّ وسامحتهم، وأسأل الله صلاح حالي وحالهم، وإنما يبالي بسعي الساعين، وتقوّل المتقولين من يعمل لأجل تحصيل المال أو الجاه من الأمراء والعظماء حيث يخشى أن تصدق السعاية فيفوته المطلوب، ومَن يعمل لله تعالى وهو يعلم أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فكيف يبالي بالمحْل والزور؟ ثم قام في أثري أخونا الفاضل المهذب الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي وألقى على المسامع بعض المواعظ النافعة المؤيدة بآثار الصحابة عليهم الرضوان، ونبّه على وجوب معرفة المرء مكانته من الناس ومكانتهم منه وفاقًا لما عرف به حكيمنا العلم الذى نحن في أشد الحاجة إليه لترقينا حيث قال: (العلم هو ما يُعرِّفك من أنت ممن معك) فأوجز وأفاد ودعا إلى سبيل الرشاد، فجزاه الله خيرًا. ثم قام هذا الفقير في إثره وتكلم في موضوع القول والعمل كلامًا ملخصه: إن للناس في كل وقت مقالاً يكثرون الثرثرة به، وقد فتح عليهم في هذه الأيام باب الكلام في الإسلام والمسلمين، فقوم يكتبون ويخطبون، وقوم يقرءون ويسمعون فيفندون قليلاً ويحبذون كثيرًا، على أن أكثر الكلام لغو لا يهدي إلى صالح عمل، ولا يقوّم من زيغ أو زلل، والميزان الذي يعرف به زيف الكلام من نضاره، ويميّز به بين نافعه وضاره، هو أن ما أزال عقيدة باطلة أو أثبت عقيدة حقة، أو أرشد إلى عمل نافع، أو هدى إلى النجاة من ضرر واقع، بحيث تقتنع به النفس وتندفع إليه الإرادة - فهو الكلام الذي يسمع، والهدي الذي يرفع، وما عداه هو اللغو كشرح ما عليه الناس ويعرفونه من أنفسهم، أو الأمر بما يعرف المرء أنه مأمور به من قبل الدين، والنهي عما يعلم أنه منهي عنه من غير أن يؤيد بيان المنافع التي تبعث على الامتثال وشرح المضار التي توجب النفار، وسردت الآيات الشريفة التي تأمر بالإعراض عن اللغو. ثم قام حضرة الأخ الفاضل سيد أفندي محمد وتكلم كلامًا وجيزًا مؤثرًا في الوفاق والوئام وعدم التفرق والاختلاف، وأورد على ذلك الآيات البينات، فكان له وقع حسن في النفوس، وبعد ذلك خُتمت الجلسة كما بُدئت بالحمد والصلاة، والدعاء للسلطان الأعظم والأمير المعظم ولمؤسسي الجمعية وتلاوة الآيات القرآنية الشريفة. ثم إن مجلتنا مستعدة لنشر المآثر التي تقوم بها لجان جمعية (شمس الإسلام) في جميع أنحاء القطر المصري، فما عليهم إلا أن يكتبوا إلينا بما يرغبون نشره.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (المعارف والأمة والحكومة) نشر (المؤيد) الأغرّ في العدد 2692 رسالة لمكاتبه في الأستانة العلية بحث فيها صاحبها في وسائل الارتقاء وحث الأمة الإسلامية على الأخذ بها، فأصابت مواقع الاستحسان من نفوس القارئين، وقد نبهت جريدة (الشام) الغرّاء على هذه الرسالة في عدد 179 وشكرت لكاتبه عنايته واعترفت بحسن قصده , إلا أنها استنكرت من الرسالة أعرف ما فيها وأفضله وأجدره بالعناية والشكر فقالت: إلا أننا رأينا عبارة مستنكرة، وذلك عند قوله: (إن في دار السعادة جمعيات ومجالس لجميع الأمم، وهذه الجمعيات والمجالس تشتغل دائمًا لتشييد المدارس، وفي سائرالمشروعات المفيدة، أما المسلمون فقلّ بينهم مَن يلتفت لمثل ذلك، وليس بين الجرائد مَن يذكر عبرة تعتبر بها الأمة) اهـ إنكارها بحروفه. ثم ردت هذه الجريدة على العبارة المستنكرة بقولها: (نقول: إن المكاتب قد قال ما قال عن غير خبرة، فإن الحكومة السنية عنيت بأمر المعارف كثيرًا حتى أسست المدارس العالية والمتوسطة والابتدائية، وهذه مدارس الأستانة العلية تُخرِّج كل عام مئات من الطلبة، وقد امتلأت عقولهم بالعلوم المتنوعة والمعارف، وتحلت نفوسهم بالأدب والكمال، وهل أعظم دليل على إتقانهم تلك العلوم الحكمية والطبيعية والرياضية والأدبية من تلك الشهادات العظيمة التي يأخذونها من تلك المدارس، وليس بعد ما تقدم على الأهلين أن يسعوا أبدًا (تأمل وتعجب!) فإن الحكومة السنية قامت أحسن قيام بهذه المهمة الشريفة، فكفتهم مؤونة العمل، والدعاء والثناء هما من أخص وظائف عبيد الدولة العلية، أعلى الله منارها) . اهـ بحروفه. (المنار) لا شك أن هذا الكلام أشبه بالتهكم منه ببيان الحقيقة، ولولا أن أوهام جماهير الناس متعلقة بالحكومات، وأنها المكلفة بكل شيء، ويصدقون أن الرعية عبيد ليس عليهم إلا الشكر والخضوع لحكامهم وليس عليهم (أن يسعوا أبدًا) لما احتجنا إلى التنبيه على انتقاد جريدة (الشام) على مكاتب (المؤيد) المصيب، هذا المكاتب لم يتكلم في سبق الدولة في ميدان المعارف ولا في تقصيرها، وإنما تعجب من اجتهاد جميع الطوائف غير المسلمة في المعارف والأعمال النافعة، فهل السبب في هذا أن دول تلك الطوائف مقصرة فاجتهدت الرعايا لتكمل نقص دولها، وأن دولة المسلمين سبقت جميع الدول فأغنت الرعية عن السعي؟ كيف وإن بعض تلك الطوائف من رعية الدولة العلية ومدارسها مباحة لهم، وهم السابقون إلى المدارس الأجنبية التي تنشأ في بلاد الدولة، ويشيدون مع ذلك لأنفسهم مدارس أهلية، ويقومون بمشروعات عملية مفيدة، ثم إذا كان يخرج من مدارس الأستانة مئات من التلامذة يحملون الشهادات الصادقة أو الكاذبة، فكم يخرج من مدارس الحجاز منبع الحكمة ومهبط الوحي، ومن مدارس بغداد والبصرة موطن التمدن العربي والعز الإسلامي؟ اللهمّ إنه ليس فيها شيء من هذه المدارس التي تخرج التلامذة الذين يعمرون البلاد بمعارفهم ويغمرونها بعوارفهم، ونحن نعلم أن الدولة العلية - أيدها الله تعالى - عاجزة عن تعميم المعارف في جميع ولاياتها، فيجب على جميع العارفين بحال الوقت - وفي مقدّمتهم أصحاب الجرائد - أن يحثوا الأمة على مساعدة الدولة في ذلك، وفيما يتبعه من السعي بالأعمال النافعة، لا أن يقنعوها بأن وظيفتها العبودية والشكر للحكام والدعاء لهم فقط، فإن مساعدتنا لحكامنا على الإصلاح بالأعمال أنفع لنا ولهم من الأقوال. *** (قرار أمير المؤمنين) صدرت إرادة مولانا أمير المؤمنين بنهي الجرائد عن نشر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية صونًا لها من الابتذال؛ لأن هذه الجرائد عرضة للتمزيق والرمي بالأرض وغير ذلك، ولا يخفى أن هذا الأمر مخصوص بالنشرات دون المجلات التي حكمها حكم سائر الكتب، وهذا أمر من الخليفة موجه لجميع المسلمين؛ لأنه يتعلق بأمر ديني لا إداري ليكون مخصوصًا بالمملكة العثمانية، وإننا نرى بعض الجرائد في مصر تدعي الدعوة إلى طاعة الخليفة والإخلاص له، وإنما يظهر صدق دعواها بامتثال مثل هذا الأمر، وبطاعة الجناب الخديوي والإخلاص له؛ لأنه نائب الخليفة فعسى أن تبرهن على صدق الدعوى بترك نشر الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، وترك الإيهامات الباطلة التي تنافي الإخلاص لولي الأمر والتعريض بما لا يرضيه، والله الموفق. *** (أصل ثروة روتشيلد) ثروة روتشيلد أذهلت العالم؛ لأنها صارت محورًا تدور عليه رحى السياسة الأوروباوية، وإليك بيان أسباب هذه الثروة وكيفية جمعها نلخصه عن العالم منقولاً عن بعض المجلات الإنكليزية الشهيرة. مؤسس بيت روتشيلد رجل اسمه ماير امشل روتشيلد ولد في مدينة فرنكفورت منذ 159 سنة، ودرس عند الحاخامين بعض العلوم الدينية، فلم تنطبق على رغائبه لأنه كان يعتقد أن المال ضالة الناس وهو غايتهم الكبرى، وبناء عليه وجّه أفكاره إلى الاشتغال بمهنة الصيرفة، فدخل في بنك (أوبنهيم) في مدينة هانوفر فلم تمض عليه عدة سنين حتى برع في فن الصيرفة، وأظهر من الأمانة والإخلاص في شغله ما خوّله ثقة الناس به حتى لقبوه (باليهودي الأمين) وهذه الشهرة أكسبته صداقة كثير من العظماء وأرباب المناصب، منهم البرنس لند كريف من عائلة (هس) الذين كانوا مصدرًا لثروته وتقدمه ونجاحه. ففي سند 1706م زحفت جنود فرنسا على جرمانيا تريد الاستيلاء على إمارة هس فأرسل البرنس يستدعي روتشيلد لثقته به، وأخبره بأنه عازم على الهرب، وأنه لا يقدر على نقل ثروته الطائلة من قلعة هس، وأنه يقيمه محافظًا عليها إلى أن تنقشع سحابة المخاوف، وكانت تلك الأموال تزيد على عشرة ملايين ليرة إنكليزية أودعها روتشيلد في أرض الدار على عمق بضعة أقدام ثم جاءت الجنود الفرنساوية، ونهبت القلعة وأخذت أموال روتشيلد، ولكنها لم تعثر على الأموال المدفونة تحت الأرض، وبعد انجلائها من هناك جاء البرنس لند كريف واستلم أمواله بغير نقص ولا زيادة، فسُرّ من أمانة روتشيلد وأعطاه مبلغًا عظيمًا على سبيل الهبة، ثم قدّم له جميع ثروته ليشتغل بها مدة عشرين سنة بدون عوض ولا مقابل، فاشتغل الرجل بتلك الملايين من الليرات بدون عوض مدة عشرين سنة وربح أرباحًا عظيمة تزيد على ما استلمه أضعافًا، ثم أرجع مال صديقه إليه وصار من أعظم أغنياء العالم، ومازالت ثروته تزداد حتى ضربت بها الأمثال وصارت الدول تستدين منه الأموال وتعتمد عليه عند تدبير أمور مالياتها، فتأمل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الحاضرة) *** (المفتاح) مجلة علمية صحية تاريخية أدبية مصورة، تصدر في منتصف كل شهر من القاهرة لمنشئها الكاتب الأديب توفيق أفندي عزوز وقيمة الاشتراك فيها 40 غرشًا مصريًّا تدفع سلفًا، وقد صدر العدد الأول منها مصدّرًا بآخر رسم لسمو الخديو المعظم ومشتملاً على كثير من الفوائد العلمية والأدبية، وفي آخره نبذة من رواية (غيرة المرأة) تعريب صاحب المجلة، فنرجو الإقبال على هذه المجلة؛ ليكثر أمثالها في البلاد. *** (التمثيل) مجلة سياسية أدبية انتقادية، تصدر مرتين في الشهر مؤقتًا، مدير أشغالها محمد أفندي أمين، وقيمة الاشتراك فيها 15 غرشًا في السنة، وقد صدر العدد الأول منها مصدّرًا بفاتحة في بيان فائدة التمثيل، ونبذة في تعاسة الأمة، يليها باب الألحان والأشعار الغزلية، ثم باب أشهر الممثلين والممثلات، فنرجو لها التوفيق والنجاح.

الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة كتبنا في (المنار) الماضي مقالة في (طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة) بينَّا فيها أن الأمة كالطفل، فهي في أشد الحاجة إلى مربٍّ يربيها التربية القومية، ومعلم يرشدها إلى ما ترتقي به في حياتها الاجتماعية، كما هو شأن الطفل في حياته الشخصية، وألمحنا إلى أنه قد يوجد فينا أفراد يصلحون لتربية الأمم وإرشادها، يشاركهم في منصبهم كثيرون من الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ومن هنا جاءت الحيرة والغمة، الأمة في طور الطفولية لا تميز بين النافع والضار، ولكنها تميل كما قلنا في تلك المقالة إلى جانب الراحة واللذة، فتسمع لمن لا يخطئها في اعتقاد ولا رأي، ولا يذم لها خلقًا ولاعادة، ولا يحملها على ترك لذة أو احتمال مشقة في عمل نافع إلا أن يكون ذلك من الضروريات التي لا تخفى على الأطفال، ولو أن ما عليه الأمة - رؤساؤها ومرؤسوها - من تقاليدها وآرائها وأخلاقها وعاداتها وعلومها وأعمالها - صواب لا انتقاد عليه، فكيف تكون حينئذ أمة مهضومة الحقوق، مسلوبة المنافع، تنتقص من أطرافها ويتخطفها الناس؟ ولأي شيء كانت في أشد الحاجة إلى المربين والمرشدين؟ حارت الأمة وحقيق بأن تحار، وغُمَّ عليها الأمر واضطرب فيها فكر كل ذيفكر، وما أجدرها بالغمة والاضطراب! وقد وعدنا في مقالة (المنار) الماضي بأن نُبين مثارات الحيرة ومناشئ الغمة في مقالة مخصوصة، وها نحن أولاء نفي بالوعد في هذه المقالة فنقول: قد أشرنا في مقدمة العدد الأول من (المنار) إلى أكثر المسائل التي لبَّست على الأمة الحق بالباطل، وشَبَّهت الرشاد بالغيّ، وشرحنا كثيرًا منها في مقالات مطولة بعد ذلك، ونُقَسِّم ما نذكره ههنا إلى قسمين: قسم قديم العهد دخل أكثره على الأمة من باب الدين، فاخترق القلوب ونفذ إلى أعماق النفوس، وقسم حديث النشأة دمر على الأمة من باب التمدن العصري، أما الأول فمن أهم مسائله اعتقاد أن الأمة يجب أن تكون دائمًا في تَدَلٍّ وهبوط، وأن الترقي والتقدم مستحيلان؛ لأن هذا من علامات قرب الساعة، وهذا الاعتقاد فاش في المسلمين، ويروون فيه أخبارًا وآثارًا اشتبه على الجماهير صحيحها من سقيمها، وحقها من باطلها، ولا يمكن أن تنجح مع هذا الاعتقاد أمة، ومنها أنه ليس للمسلمين إلا نهضة واحدة تكون قبيل قيام الساعة على يد المهدي المنتظر الذى يُنصر بالكرامات والعجائب، لا بالقوة والعصبية، وهذا الاعتقاد قريب مما قبله في مضرته وفي شبهه وأدلته، ومنها أن الدنيا والآخرة ضرتان وضدان لا يجتمعان، وأن مَن يرغب في زينة الدنيا ولذاتها يكون منحرفًا عن طريق الآخرة، والكتب والخطب مملوءة بهذا، ويستشهدون عليه بالآيات والأحاديث من غير فهم، غافلين عن كون وجوب الأخذ بالكتاب كله والجمع بين تلك النصوص وما يناقضها إذا كان معناها ما يزعمون كقوله تعالى: {ُقلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) ومنها زعم أن العلم بالموجودات وخواصها المفصل ذلك في الطبيعيات يؤدى إلى الكفر وترك الدين، مع أنه أصل البراهين على الاعتقاد، وقد نَبّه عليه القرآن كثيرًا، ويستحيل أن تنجح أمة في هذا العصر إلا بالصنائع المأخوذة من هذه العلوم، ومنها طلب المصالح والمنافع من غير الطرق التى جعلها الله تعالى في نظام الخليقة طريقًا لها كالاعتماد على الكرامات والخوارق من الأحياء والأموات، وهذا شائع في المسلمين، فقد جاءنى وأنا أكتب في هذه المقالة بريد سوريا وفيه مكتوب من بلدتي القلمون يطلب فيه مني أن أرسل ورقة مكتوبة لرجل أصابه مرض في رجله فأقعده للاستشفاء بها، فإنه يعتقد أنه لا يُشفى إلا بهذا، ومن أدلته على اعتقاده أنه رآني مرة في المنام، فخفّ ألم رجله، وجاءني في مكتوب آخر أن امرأة من أهلي كانت مصدوعة، فوصل إليها أثر مني فشفيت، وأنا أعتقد أننى وورقتي لا ننفع ولا نضرّ، وأن فشوّ هذا الاعتقاد في الأمة سببه أمثال هذه الوقائع والحكايات، ويستدلون عليه بجواز وقوع الكرامات، ولا دلالة فيه لأن مسألة الكرامات من الأمور النادرة التي لا يصح أن يعتمد عليها في المصالح والمنافع، ومنها فهم القضاء والقدر على غير وجههما، ألا ترى أن سلفنا الصالح - رضي الله تعالى عنهم - ما ازدادوا بهذا إلا إقدامًا على الأخطار، وتقدمًا في الفتوح والاستعمار، وخلفنا الطالح جعلهما بمعنى الجبر وسلب الاختيار، واسمع بعض ما لهم في هذا من الأشعار: جرى قلم القضاء بما يكون ... فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين ومنها فهمهم للتوكل بما يوقع في الكسل، ويحول دون التدبير والجد في العمل ومما نظموه في ذلك: لا تدبر لك أمرًا ... فأولوا التدبير هلكى حقق الأمر تجدنا ... نحن أولى بك منكا وكذلك فَهْمُهم للقناعة بما يؤدي إلى مثل هذه الشناعة، قالوا: اقنع بخبز وملح ... وماء وجهك صنه فالرزق لا شك يأتي ... والموت لا بد منه ومنها غير ذلك مما أكثرنا الكلام فيه من قبل، فلا نعيده، فالبحث في هذه الأشياء على غير ما ألِف الناس وفهموا يثير فيهم الحيرة والاضطراب، والخلاف فيها بين المصلحين وبين المحافظين على مرضاة الجماهير يثير في النفوس رواكد الأوهام ويوقعها في الحيرة والاضطراب. ومما يعد في القسم الأول وليس من الدين، الاعتماد على الحكام في جميع الشؤون العامة، ومنه الانتفاد على الرؤساء من الحكام والعلماء، فإن بعض الباحثين في أحوال الأمة ممن لهم نظر في علم الاجتماع يرون أن الأمة لا تنجح ما دامت تخضع لهم الخضوع الأعمى، بل لا بد أن تفهم وظائفهم وتلزمهم بها، ويرون أن الانتقاد عليهم مضر إلا في مصر بالنسبة لحكومتها، فإن الأكثرين يرون الانتقاد على حكومتهم لاتهامها بممالئة المحتلين دون الانتقاد على حكومة الدولة العلية، ومنه أن معرفة الحق بقائله، وهذا مجال واسع ومضراته كثيرة، وله شُعب لا تحصى من أهمها عدم أخذ العلم والصناعة عن الأوربيين، ومن الناس من يدخل هذا الأخير في باب الدين، فيزعم أن جميع ما نحتاج إليه في هذا العصر يوجد في كتبنا، وإذا نازعه في هذا منازع يرميه بنسبة الدين وأهله للتقصير، ومنه مسألة تربية النساء وتعليمهن فنون تدبير المنزل وتربية الأولاد والاقتصاد في المعيشة، ومن الناس من يهدم هذا الركن من سعادة الأمة بمعول الدين ذاهبين إلى أن المرأة ما خلقت إلا للفراش وأن النساء رياحين أو شياطين متشدقين بقول بعض المتحذلقين: (المرأة ريحانة لا قهرمانة) وهذا الاعتقاد يهتك كل حجاب، ويذهب بالعفاف والآداب. وأما القسم الثاني فمن أهم مسائله ذم التعصب الديني، وقد بسطنا الكلام عليه في عدة مقالات في المجلد الأول من (المنار) وسننشر فيما يأتي مقالة (العروة الوثقى) فيه إن شاء الله تعالى، ومنها مسائل الحرية والماسونية والمدنية، ومنها مسألة الجامعة الوطنية، فهي من الآلات المحللة لجسم المجتمع الإسلامي ومقطعة للرابطة الدينية التي هى أقوى الروابط وأشرفها، وقد ظهر أثر ضررها في المسلمين، ولكن أَّنى لهؤلاء الأطفال في مهود الحياة الاجتماعية أن يميزوا بين الرابطة الملية والرابطة الوطنية، فلا يستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير؟ إن الذين نفثوا في المسلمين سُمّ الوطنية وجعلوه أقدس الروابط الاجتماعية أرادوا به أمرين: أحدهما فصم العروة الإسلامية الوثقى التي تربط المسلمين في جميع أقطار الأرض وتجعلهم إخوة، وثانيهما التأليف بين المسلمين وبين من يخالفهم في الدين في بلادهم؛ لتصان بذلك مصالح المسيحيين في بلاد الإسلام، والأول مضر بالمسلمين دون الثاني، والأمة في طور الانحطاط تختار الضار على النافع، فأثرت نزعات الوطنية في التفريق بين المصري والسوري المسلمين، ولم تجمع بين المسلم والقبطي المصريين , والسبب في هذا الأخير أن الارتباط ما جاءهم من طريق الدين، فلم يؤثر فيهم، وأما التفريق بين المسلمين فقد ساعد عليه فساد الأخلاق مع الغفلة عن مساسه بآداب الدين وقطعه رحم الأخوة الإسلامية. ومن العجيب أن نزعات الوطنية قد تعدى أثرها من المتمدنين الذين نفثوا سمومها إلى علماء الدين، حتى سمعنا أن رجلاً من أكابرهم ذُكر أمامه المسجد الذي أوصت به الست الشامية المشهورة، وبناه أقاربها الشوام أحسن بناء، فقال مولانا الأستاذ كلمة ثناء على المسجد وأعقبها بقوله: (ولكن مِن الأسف أنهم حشوه بالشوام) مع أن جميع الموظفين فيه مصريون ماعدا الخطيب، فهو رجل من صالحي الشوام المجاورين في الأزهر، كانت الواقفة رحمها الله تعالى تعتقد صلاحه، ولذلك عينته خطيبًا في حياتها، فأمضاه الناظر بعد مماتها. هذا ما سمح المقام بذكره من مناشئ الحيرة والغمة في هذه الأمة؛ لأنها في طور طفولية كما قلنا، وفهم ما ينفعها ويضرها يعسر عليها إلا بالزمان الطويل، وقد شرحنا بعض هذه المثارات وغيرها كما قلنا، وسنشرح البعض الآخر مرة بعد مرة لا سيما (الوطنية) وأرجو بمساعدة الذين بلغوا طور العقل والكمال من أفراد الأمة أن ينشر ما أقول، لا سيما عند النشء الجديد الذي رجع إليه بعض ما فقده المسلمون من الاستقلال في الرأى والإرادة، فأمسوا يعرفون الرجال بالحق لا الحق بالرجال، وعلى الله الاتكال في جميع الأحوال.

تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية نَوّهنا في عدد سابق بأننا شرَعنا في طبع هذا التقرير لما فيه من الفوائد ولتشوّف الناس للاطلاع عليه، وكنا وعدنا بأن نطبع معه لائحة المحاكم الشرعية ثم عدلنا عن ذلك لأن اللوائح كثيرة، وكلها مطبوعة ومنتشرة يسهل مراجعتها، وقد صدرنا التقرير بمقدمة ننشرها هنا؛ لأنها من موضوع (المنار) وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم) {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات:9) {وَاللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 220) . إن من طبيعة الناس وعادهم الشكوى مما يتألمون منه لضياع مصالحهم ومنافعهم ووقوع الحيف والظلم عليهم إذا وجدوا لذلك سبيلاً، وقد كثر في هذه السنين الأخيرة الخوض في أمر المحاكم الشرعية في مصر وعمت منها الشكوى: الرعية تشكو من ضياع حقوقها، والحكومة تشكو من القضاة، والقضاة تشكو من الحكومة وقد أرادت نظارة الحقانية أن تشرع في إصلاح هذه المحاكم في هذه السنة، فابتدأت بوضع المشروع المشهور، وهو انتداب قاضيين من قضاة محكمة الاستئناف الأهلية ليكونا عضوين في محكمة مصر العليا، فقامت لهذا المشروع قيامة المسلمين في مصر، ولم يرض به أحد من خاصتهم ولا عامتهم، وكثر الطعن في الحكومة بسببه قولاً وكتابة في الجرائد، ثم انتهى الأمر بتوقف الجناب العالي الخديوي - أعزه الله - عن تنفيذه، وبقيت الشكوى عامة من سوء حال هذه المحاكم مجمعًا عليها حتى من قضاتها والموظفين فيها. ثم عهدت الحكومة إلى برجل من أكابر علماء الشرع الإسلامي، ومن واسعي الاطلاع في القوانين الوضعية، والعارفين بأحوال الزمان ألا وهو الأستاذ العلامة الشهير الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية لهذا العهد، بأن ينظر أدواء المحاكم الشرعية ومزاجها، ويبين دواءها ويصف علاجها، ويضع في ذلك تقريرًا، فبقي الناس في أمر مريج حتى ظهر التقرير، فإذا هو لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وبَيَّن مبداها ومنتهاها ووصف علاجها ودواها، وأظهر للملأ أن خلل هذه المحاكم بعضه من تقصير الحكومة نفسها، وبعضه من تقصير القضاة والكتبة، وقد أجمع المطلعون على التقرير من أهل العلم الشرعي وغيرهم على أنه جمع فأوعى، وأرشد إلى الإصلاح الحقيقي وهدى، وأثنت عليه الجرائد كلها على اختلاف مشاربها ومذاهبها، وتشوّفت نفوس سائر الناس للاطلاع عليه، وهذا ما حملنا على طبعه قصد تعميم نفعه. يقول بعض الناس: إن الحكومة لو لم تكن تقصد الإصلاح الحقيقي للمحاكم الشرعية لما طلبت من هذا الأستاذ بيان الإصلاح، وهي تعلم أنه لا يحابيها؛ لأنه لا تأخذه في الحق لومة لائم، والسواد الأعظم لم يزل سيئ الظن بالحكومة، معتقدين أنها مدفوعة من القوة المحتلة إلى إلغاء هذه المحاكم؛ لأنها أكبر شعار مِليّ للأمة الإسلامية، ويقولون: إنها لم تكن تتوقع من هذا الأستاذ بيان تقصيرها وحملها على الإصلاح الحقيقي، وقوي عندهم هذا الظن بتأجيلها النظر فيه، ويتحدثون بأنها لابد أن تغري بعض مَن يعنيهم الأمر حتى مِن رجال الشرع بالانتقاد على بعض ما جاء فيه لتتخذ ذلك حجة أمام الأمة على عدم تنفيذه، وسيظهر لهم عن قريب فساد الظنّة وخطأ التهمة، ويرون الحكومة إن شاء الله تعالى مجتهدة في تنفيذ ما يسمح الوقت بتنفيذه منه، كما يجب عليها لدينها وأمتها، وأرجو أيضًا أن يروا من المحتلين مساعدة لا معاندة، لا سيما فيما يطلب للمحاكم من المال، فإن التوسيع في النفقة على محاكم هذا شأنها وهذه مكانتها من نفوس الأمة , أولى من الإنفاق على اختبار الأسماك وتأليف كتاب فيها، وهو ما سمحت له الحكومة بألف جنيه. ولا يمكن أن توجد فرصة يبرهن فيها المحتلون لمسلمي مصر، بل وسائر المصريين على احترام الدين الإسلامي وإرادة الإصلاح الحقيقي في مصر مثل هذه الفرصة، وليس من الحكمة أن تضيع، ولا يغتنمها القوم الذين قاعدة سياستهم هذه الكلمة: (نحن لا نوجد الفرص ولا نضيعها) . إن الغيرة الدينية المتدفقة من روح واضع التقرير قد غمرت المحاكم الشرعية، وفاض معينها على الأزهر الشريف وما يتبعه من معاهد العلم الشرعي، فكما أشار بإصلاح أماكن المحاكم وأثاثها، والتوسعة على القضاة والكتبة في الرواتب، واستقلالهم في الرأي، والعناية بتنفيذ أحكامها ... إلخ إلخ، أشار أيضًا بحصر موظفي المحاكم في المتعلمين في الأزهر وما يتبعه، وبإصلاح التعليم فيه بإنشاء قسم للتعليم القضائي يتخرج منه القضاة (راجع صفحة 14) وآخر يتخرج منه الكتَّاب (راجع صفحة 11) وبأن يكون مأذونو العقود من طلاب العلم في هذه المعاهد أيضًا (راجع صفحة 80) . جرى صاحب التقرير في تفتيش المحاكم وإبداء رأيه في إصلاحها على مبدأ حكيم، وهو كون الأحكام والنظام على وفق المصالح والمنافع الوجودية. إذ لا تقدر الحكومة على تغيير شؤون الوجود بنظامها، كما أن الشريعة لم توضع لتحويل سنن الكون بأحكامها: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) فقصارى ما طلبه من الحكومة أن تجعل عنايتها بالمحاكم الشرعية كعنايتها بالمحاكم الأهلية، وأن توسع دائرة اختصاصها كما سنبينه، وقصارى ما طلبه من القضاة أن يفهموا أقوال الفقهاء ومقاصدهم في الأحكام التي استخرجوها من الشريعة لوقاية مصالح الخلق وحفظ حقوقهم ومنافعهم، لا أن يأخذوا بظواهر ألفاظهم ظانين أنهم متعبدون بها، فإن القاعدة المتفق عليها في العقود والمعاملات هي: (إن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني) والفقه هو الفهم، فمن يأخذ بظواهر الألفاظ فهو ليس بفقيه، ولا يجوز أن يكون غير الفقيه قاضيًا يحكم بين الناس، وليس عندنا كتاب نتعبد بألفاظه إلا كتاب الله تعالى، ومع ذلك نرى جميع العلماء من المتكلمين والفقهاء وغيرهم - رضي الله تعالى عنهم - قد أجروا فيه التفسير والتأويل، ولم يأخذوا بظواهر ألفاظه مع أنها مُنَزّلة ومتواترة ومحفوظة من التحريف، فكيف نأخذ بظواهر ألفاظ الفقهاء من غير فهم، وليس لها مزية من هذه المزايا، يتبرم من هذا الطلب القضاة الذين لا فقه لهم، وإنما ألفوا ألفاظًا تعلمها أكثرهم من كتاب المحاكم، ويتبرم منه بعض من يعلم منهم أنه الحق الذي لا تقوم للشرع قائمة إلا به، ولكنه يغمطه حسدًا وكبرًا، ويحاربه هؤلاء بسلاح التمسك بظواهر ألفاظ بعض الفقهاء على أنها متعبد بها لا يعقل معناها، فإن لهم في هذا غرائب، بيّن التقرير كثيرًا منها كظنهم أن ذكر اسم الأب والجد في تعريف المدعي أو المدعى عليه مطلوبًا لذاته (راجع باب المرافعة وما بعده من التقرير) وسمعت أن بعض القضاة أنكر أن الشهادة مطلوبة للعلم بالمشهود به! الشريعة الإسلامية شريعة عامة باقية إلى آخر الزمان، ومن لوازم ذلك أنها تنطبق على مصالح الخلق في كل زمان ومكان مهما تغيرت أساليب العمران. وشريعة هذا شأنها لا تنحصر جزئيات أحكامها؛ لأنها تتعلق بأحوال البشر ما وُجِدوا ولا يحيط بذلك علمًا إلا عالم الغيب والشهادة، وهو الذي جعل أساسها حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال، إذ مصالح البشر في كل آن مبنية على حفظ هذه الأشياء التي فيها السعادة في المعاش والمعاد، وقد استخرج الأئمة والفقهاء رضي الله عنهم القواعد الكلية والأحكام الجزئية، وبنوها على أساس هذه الأصول الخمسة، ومن القواعد المتفق عليها بينهم أن العبرة بالمعاني لا بالألفاظ كما مر آنفًا، وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن الضرر الخاص يتحمل لدفع الضرر العام، والضرر الأشد يزال بالأخف وأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة أو خاصة، وأن الأحكام تتغير بتغير الأزمان، وأن التعيين بالعرف كالتعيين بالنص، ومن فهم كلام أئمة الفقه حق فهمه ألفاه لا يتعدى هذه القواعد، فيجب على القضاة جعلها آلة لفهم كلامهم، والحكم به لتحفظ الحقوق، على أن فضيلة صاحب التقرير على علم بعجز أكثر القضاة الحاليين عن ذلك، ولذلك طلب ما تراه في الأمر الثاني والثالث الآتيين. من أهم ما طلب في التقرير أمران يتعلقان بمحاكم مصر أشد التعلق، وأمر يعتبر إصلاحًا إسلاميًّا عامًّا (الأمر الأول) توسيع دائرة اختصاص المحاكم الشرعية , وفي هذا مخرج للحكومة من كثرة شكوى المحاكم الأهلية الجزئية من كثرة القضايا حتى إن الحكومة اضطرت إلى تخويل عُمَد البلاد الحكم في بعض القضايا المدنية، ولما رأت أن سيرهم ومعارفهم لا تمكنهم من إقامة العدل فيها عدلت عن تعميم هذا المشروع إلى انتخاب بعض منهم للتجربة، والعارفون بحال البلاد يعلمون أن الحكومة لا تنجح في هذا، ولا سبيل لخروج الحكومة من هذه الحيرة إلا بتخويل المحاكم الشرعية الحكم في كثير من القضايا المدنية، ولا يوجد مانع للحكومة من ذلك إلا تمسك بعض المتنطعين ممن ينتسبون إلى الشرع - ويجهلون مقاصده - بعوائد وألفاظ في المرافعات الشرعية ليست من الشرع في شيء، وبها يجعلون الحكم بالشرع متعذرًا، وهذا أعظم جناية عليه. (الأمر الثاني) عدم حصر منصب القضاء الشرعي في الحنفية لما بيّنه في صفحة 15، وليس هذا قولاً بالحكم بغير مذهب الحنفية، فقد صرح هناك بأن فقه المذاهب الأربعة متقارب، والاختلاف في الفروع مذكور في أغلب كتب الفريقين، فيمكن لمن برع في فقه الشافعية مثلاً أن يفهم فقه الحنفية بسهولة، وقالت جريدة (المؤيد) الغرّاء أن هذا وقع بالفعل، فإن فضيلة الأستاذ صاحب التقرير يُعد في مقدمة القضاة الحنفية، وهو مالكي المذهب، والأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان أحد قضاة المحكمة الشرعية العليا من أمهر القضاة، وهو شافعي المذهب، بل نقول: إن العلماء كانوا يقولون أن من برع في علم من العلوم يمكن أن يهتدي به إلى سائرها ولهم في هذا آثار مشهورة، وقد رأيت في فاتحة كتاب (أقضية الرسول) صلى الله عليه وسلم للعلامة أبي عبد الله محمد بن فرج المالكي ما نصه: (واتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى على أنه لا يجوز لحاكم أن يحكم بين الناس حتى يكون عالمًا بالحديث والفقه معًا مع عقل وورع، وكان مالك رحمه الله يقول في الخصال التي لا يصلح القاضي إلا بها: لا أراها اليوم تجتمع في أحد، فإذا اجتمعت في الرجل خصلتان رأيت أن يولّى العلم والورع، قال عبد الملك بن حبيب: فإن لم يكن، فعقل وورع، فبالعقل يسأل، وبه تصلح خصال الخير كلها، وبالورع يعف، وإن طلب العلم وجده، وإن طلب العقل إذا لم يكن فيه لم يجده) اهـ. وهو حجة للأستاذ صاحب التقرير في تحتيمه اختبار جميع موظفي المحاكم في سيرتهم وأخلاقهم لا في الفقه فقط بالنسبة للقضاة , والكتابة فحسب بالنسبة للكتاب، وقد صرح في كتاب (الأحكام السلطانية) بأنه: (يجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي - رحمه الله - أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة) إلخ، وقد طلب أهل السليمانية، وكلهم شافعية من مولانا السلطان عبد الحميد خان أن يولي عليهم قاضيًا من أهل مذهبهم، ففعل. (الأمر الثالث) أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، لا سيما الأحكام التي هي من خصائص المحاك

جمعية شمس الإسلام في القاهرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية شمس الإسلام في القاهرة أعلن مجلس إدارة الجمعية في (المؤيد) الأغرّ بأنها أرجأت الاجتماع الأسبوعي العام إلى أجل غير مسمى، وقد تأخر نشر الإعلان عن يوم الأحد، فجاء الناس ليلة الإثنين، فوجدوا الباب مقفلاً، ويتساءل أفراد الجمعية وغيرهم عن السبب في ذلك، ولابد أن يسمع بعضهم أجوبة صحيحة، فرأينا أن نبين لهم الأمر بالإيجاز {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) . إن السبب الصحيح هو توقع شغب كان ينتظر من أفراد يسعون في إبطال الجمعية، ومجمل الخبر من أوله أن الشيخ أحمد أبا الفضل أحد المستخدمين في المسجد الزينبي كان دخل الجمعية، وكان لسعادة الرئيس حُسن ظن به رقّاه إلى أمانة الصندوق، وقد كان أقرّ منذ أشهر قبل انفصاله من تلك الأمانة في مجلس إدارة الجمعية بأنه جاءه ليلاً رجل (جاسوس) غريب، وأسرّ إليه بأنه يحب أن يستعين به على إبطال هذه الجمعية بحجة أنها ضد مولانا السلطان الأعظم - أعزه الله تعالى- وأنه يتعهد له براتب من الأستانة قدره 20 جنيهًا عثمانيًّا في الشهر، فرأى الشيخ أحمد أن أمانة الصندوق خير له، ولم يثق بكلام الجاسوس مع علمه بأنه عاجز عن إبطال الجمعية (وكانت لجنة واحدة، وهي اليوم نحو 20 لجنة) ثم دخل في الجمعية حضرة محمد أفندي فتحي، وهو شاب ذكي، فأتيح له النظر في دفاترها مع بعض الأذكياء منها، وكان من وراء ذلك أن انفصل الشيخ أحمد من أمانة الصندوق مع الكاتب، وتعين محمد أفندي فتحي أمينًا للصندوق، ثم من شهرين ظهر من أمين الصندوق الجديد الميل إلى تغيير قانون الجمعية، وصرح بأن ضميره يحدثه بأنها مخالفة للشرع، وصار يتكلم بهذا في المجتمعات العمومية والخصوصية، فاجتمع مجلس الإدارة وقرر إخراج محمد أفندي من الجمعية؛ لأنه لا يجوز له البقاء فيها، وهو يسيئ بها الظن، ولا يجوز لها إبقاؤه وهو يطعن بها وبدين أصحابها، لا سيما وقد كان هذا الرجل جاء في الاجتماع العمومي عند إرادة الشروع في درس التوحيد وطلب إبطاله، فقامت قيامة الناس عليه، وقالوا: كيف نبطل درس التوحيد ونكون مسلمين وجمعيتنا إسلامية؟ وكان قبل إخراجه استقال من أمانة الصندوق واستقال الكاتب إبراهيم أفندي حسن من كتابة المجلس، وسلم سعادة الرئيس الدفاتر لكاتب هذه السطور المقيم في مركز الإدارة، ثم اجتمع أمينا الصندوق السابقين مع عضوين آخرين من الجمعية وطلبوا اجتماع لجنة الإدارة، وجاءوا معهم بمن ليس منها، بل وبمن أخرج من الجمعية من بضعة أشهر كالشيخ محمد السملوطي واجتمعوا في غرفة مكتب هذا الفقير ما عدا محمد أفندي فتحي، فإنه بقي خارجًا، فطلبوا أولاً العفو عن محمد أفندي فتحي، وهو يرجع عن كل ما قاله، وقد أحضروه فرجع ثم تذاكروا في مسألة، فظهر من بعض الدخلاء الحاضرين أمارات سوء القصد، فخرج سعادة الرئيس، وبعد خروجه أظهر الشيخ محمد السملوطي بحدته مقاصد الذين جاءوا به فقال: أنا رئيس الجمعية، وهذا الرئيس لا يصلح لها، وأخذ دفتر القرارات، وطلب جماعته مني سائر الدفاتر، فأبيت عليهم، فقال لهم الشيخ السملوطي بحدة وغضب: (أنا ثوروي اكسروا الخزانة وخذوا الدفاتر بالقوة) فلما رأيت هذا منهم خرجت لإحضار بوليس يخرجهم، وبعدما نزلت نزلوا في أثري، وأخذ الشيخ الثوروي دفتر القرارات، وعلمنا أنهم يريدون الحضور في ليلة الاجتماع العمومي لإحداث شغب وفتنة تفضي إلى مداخلة الحكومة لفض الاجتماع؛ لتكتب الجرائد ذلك وتقول: مُنعت جمعية (شمس الإسلام) من قبل الحكومة، فاتخذت لجنة الإدارة الاحتياط، ومنعت الاجتماع العمومي، وأعلنت ذلك، ولما رأوا ذلك اجتمعوا في دار أحدهم، وكتبوا ورقة بأنهم رفضوا رئاسة مؤسس الجمعية ورئيسها العام، وخطيبها كاتب هذه السطور، وجعلوا الشيخ السملوطي رئيسًا عليهم، ومحمد أفندي فتحي أمين صندوق، وكتبوا بما عملوا رسالة لجريدة (اللواء) فنشرتها من غير تردد تشفيًا من هذا الفقير الذي جرح صاحبها بانتقاده السابق، وكانوا خدعوا بضعة نفر من الجمعية، فوقعوا على الورقة، ثم ظهر لهم سوء القصد فأحضروا الورقة وسلموها للرئيس العام معتذرين، ولم يبق من شيعة الفتنة إلا تسعة رهط، بعضهم سيئ القصد، وبعضهم مغشوش يوشك أن يظهر لهم ما ظهر لغيرهم فيتوبون، وبلغنا أنه بعد ما وقع الفشل فيهم عزموا على تأليف جمعية مخصوصة، ولا أراهم ينجحون، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون، أما الجمعية فهي ثابتة على حالها، سائرة في طريق كمالها، وسَتُعَين لجنة إدارتها في هذا الأسبوع ليلة الاجتماع العمومي للأعضاء، وتبلغهم إياه، والله ولي المتقين.

الأمراء والعلماء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأمراء والعلماء الأمراء رؤساء الناس في مصالحهم الدنيوية، والعلماء رؤساؤهم في شؤونهم الدينية، فبين طبقتيهما تناسب، ولذلك قالوا إنهما أكفاء في الزواج، وقد صرنا في زمن يترفع فيه الأمراء عن مصاهرة العلماء، ويحب العقلاء أن يزول سبب هذا من الطبقتين، ولن يزول إلا بانتشار العلم في الأمراء، وباقتدار العلماء على إدارة مصالح الدنيا، وقد رأينا بوادر هذه الأمنية، فإن صاحبة الدولة البرنسس نازلي هانم أشهر أميرات الشرق بالمعارف والفضل، رغبت التزوج بحضرة المفضال السيد خليل بوحاجب رئيس القلم الجنائي بالوزارة الكبرى في تونس، ونجل كبير العلماء في القطر التونسي سالم بوحاجب، وقد صدر أمر مولانا العباس لدولة الأميرة بالإذن بعقد الزواج، فنسأل الله تعالى أن يكثر فينا من أمثال هؤلاء الأمراء الذين يقدرون العلم وأهله قدرهم، وأن يتم هذا القران الميمون على أحسن حال.

أفكوهة غريبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أفكوهة غريبة قرر الباحثون في علم الاجتماع وتربية الأمم أن روح ترقي الأمة في اعتماد أفرادها على أنفسهم، وسعيهم في سعادتهم، وعلى قدر قوة هذا الروح يكون الترقي {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وقد بلغ من أمر الشرقيين عامة والمسلمين خاصة في سلب إراداتهم، وإناطة كل شيء بحكوماتهم أن بعض القبائل في جبال أفغانستان لا يُصَلّون ولا يصومون، فإذا سئل أي واحد منهم عن ذلك يقول: أنا ما سرقت معزى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الخان (الأمير) هو الذي سرقها ففرض عليه الصلاة والصوم عقوبة له، فهؤلاء لا يقتصرون على إناطة إسعاد الأمة في دنياها بالأمير، بل يزعمون أيضًا أنه هو المكلف بالعبادات من دونهم.

خاتمة السنة الثانية للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الثانية للمنار الحمد لله الذي وفّق مَن شاء لما شاء، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وسائر الأنبياء، وعلى آلهم وأصحابهم الصادقين، ومَن اتبعهم بخير وإحسان إلى يوم الدين، وبعد، فقد تم لمجلتنا بفضل الله وتوفيقه سنتان قمريتان هجريتان، فإن العدد الأول منها قد صدر في 22 شوال سنة 1315 وصدر العدد الأخير من السنة الأولى في 22 شوال سنة 1316 وكان من الصواب أن يصدر العدد الأول من السنة الثانية في هذا التاريخ، ولمّا كان أول السنة لا يكاد يوافق يوم صدور المجلة إلا قليلاً، وكان قد ترجح عندنا أن نزيد في مادة الجريدة فنجعل العدد منها ثلاث كراسات (ملازم) ، ونصدرها ثلاث مرات في الشهر (فتكون الزيادة في كل شهر كراسة واحدة، وفى السنة 182 صفحة) رأينا أن نجعل أول سنتها غرة شهر ذي القعدة، وسنرسل مع العدد الأول من المجلد الثالث فهرست المجلد الثاني لجميع المشتركين إن شاء الله تعالى، فإن كثرة الشواغل التي عرضت لنا في هذه الأيام حالت دون جمعه وطبعه، بل وحالت دون مجاوبة الأفاضل الذين يكاتبوننا من البلاد والأقطار المختلفة،فنقدم لهم العذر أجمعين. نحمد الله ونشكره عوداً على بدء أن جَعل (لمنارنا) لسان صدق في العالم الإسلامي، وشهد له العدول من العلماء والفضلاء بتحري القول الحق من غير تزلف للحكام والأمراء، أو غش وتموه على الدهماء، فلا تملق ولا إطراء، ولا ذم ولا إيذاء، وإنما هو انتقاد لأعمال وأحوال أوقعتنا في شر الأوحال، ومن يتزلف أو يغش يصانع الناس ويجاريهم فيما هم فيه، ثم نشكر للفضلاء الذين وازرونا سعيهم فى نشر المجلة والترغيب فيها، ولولا ضيق المقام لزينا الصحيفة بذكر أسماء أكابر العلماء في تونس والهند الذين انتشرت المجلة ببركة أنفاسهم في الغرب والشرق، ولا ننسى فضل الجرائد الهندية التي تنقل دائمًا مقالات (المنار) بلسان الأوردو إلى إخواننا مسلمي الهند، ونخص منها بالذكر جريدة (نير آصفي) ونَعِد القرّاء بأننا سنجتهد في اختيار أنفع المباحث الاجتماعية من دينية ومدنية، والفوائد العلمية والأدبية، والأخبار الصادقة التاريخية، من قديمة وعصرية، ونفتح لهم بابًا للأسئلة والأجوبة، ونزف إليهم (المنار) متصلاً بغلافه كأحسن المجلات العلمية. وبالله نعتصم ونستعين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. *** مجلة (أنيس الجليس) ظهرت هذه المجلة الأنيسة قبل (المنار) بمدة قليلة، وقد أتمت سنتها الثانية، وصدر الجزء الأول من السنة الثالثة في أول السنة الجديدة المسيحية، مشتملاً على المقالات الأدبية والاجتماعية والإرشادات النسائية، فنهنئ رصيفتنا الفاضلة صاحبة هذه المجلة، ونرجو لها مزيد النجاح والإقبال.

فاتحة السنة الثالثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله , والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلاَّ} (الانفطار: 6-9) لا تغتر بربك فليس الغرور من لوازم الكرم , واشكر له نعمة التعديل والتسوية، فإن الكفران يزيل النعم , فبهذه النعمة جعلك خليفة في الأرض , واستعمرك فيها إلى يوم العرض , وسخر العوالم العلوية والسفلية , وذلل لك القوى الطبيعية , وهداك النجدين , وبين لك السنتين , إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم , وأنزل عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) . يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحًا فملاقيه , وسعادتك أو شقاوتك محصورة فيه , فأما الذين يقومون بحقوق الاستعمار بحسب السنن الطبيعية؛ فأولئك أصحاب السعادة والخلافة في دنياهم , وإذا ضموا إليها تزكية الأرواح باتباع السنن الدينية تمت لهم السعادة في أخراهم , وأما الذين يجهلون سنة الله في هذه الأكوان , ويقصرون بما اقتضته الحكمة الإلهية من العمران؛ فأولئك هم الذين لا يرون في دنياهم من السعادة فتيلاً , ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً. يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الحياة الأبدية , ويمتعكم بالسعادة الدنيوية والأخروية , {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) ولو شكرتم لظلت هذه النعم في مزيد {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) فلولا كفر النعم لما حلت بنا هذه النقم , ففاتنا ونحن كثير , ما كان لنا ونحن قليل , حلت بنا الرزايا والمصائب , وتخطفنا الناس من كل جانب {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) منح الله آباءنا الأولين ما وعد به عباده المؤمنين , وما كان ذلك محاباة وجزافًا , وحرمنا نحن من تلك السيادة وحيل بيننا وبين هاتيك السعادة , وما كان ذلك بخلاً أو إخلافًا , ولكنه أعطى كلاًّ ما طلبه بلسان حاله , واكتسبه بجليل أعماله , كلاًّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورًا , انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ} (الأنفال: 29) بالرجوع إلى سنته الكونية والدينية والشكر على نعمه النفسية والآفاقية {يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال: 29) يزيح عنكم الشبهات , ونورًا تهتدون به في هذه الظلمات , {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (الأنفال: 29) التي تقاسون بلاءها , {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} (الأنفال: 29) ذنوبكم التي تساورون عناءها {وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الأنفال: 29) هداكم بالدين القيم إلى النجاح في الحال , والفلاح في المآل , فمن نجح به فأولئك هم المفلحون , ومن فاته الربح به فأولئك هم الخاسرون , وقد مضت سنة الأولين بأن الناس تبع لرؤسائهم في الدنيا والدين , فما غوينا إلا بغوايتهم , ولا نهتدي إلا بهدايتهم , فإذا انقطع من الحكام الرجاء , فهو لم ينقطع من العلماء {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) . إن أولى الناس بتعليق الآمال بالعلماء من دون الحكام والأمراء , هي الأمة التي ما ترك دينها رابطة إلا وحلَّها , وحل بعد ذلك محلها , حتى أحاط بجميع المصالح البشرية , وأوضح محجة الشؤون الروحية والجسدية , فكل ما أصابته من السعادة كان يفيض عليها من سماء الدين , وكل ما أصابها من الشقاء إنما هو بالانحراف عن صراط الدين , فلا جرم تكون حياتها بحياة الدين , وموتها بموت علماء الدين , ويصح أن تضيف ما هي فيه من البلاء كله أو بعضه إلى تقصيرهم, وتنسب ما بقي لها من آثار النعماء إلى ما كان من تشميرهم , ألم تروا أن ما دخل عليها من المدنية العصرية بأيدي الأمراء المنسلخين عن المعارف الدينية كان عليها وبالاً وما زادها إلا خزيًا ونكالاً، بخلاف مدنيتها الزاهية في أيام دولها الماضية , وكان وعدًا مفعولاً. فيا أيتها الامة الإسلامية التي اغتر بعضها بدعاة الوطنية , فعلقوا آمالهم بالوساوس الأجنبية , فانقلبوا بالبعد عن دينهم خاسرين , واغتر آخرون ببعض أصحاب العمائم ظانين أن كل ذي عمامة عالم , فأوهموهم أن طلب السيادة والثروة منبع المآثم , وأن المدنية كيفما كانت فهي عدوة للدين , اعلمي أنه قد أخطأ أولئك كما أخطأ هؤلاء , وأوقعوا المسلمين في اختلاف الآراء , بل ألقوا بينهم العداوة والبغضاء , فكانوا في ذلك من الظالمين , وخلاصة القول وزبدته , وصفوته وحقيقته , أنه لا يرجى لهذه الأمة النجاح والسير في منهاج الفلاح , إلا بدعاة ومرشدين يمثلون لها سعادة الدنيا في مرآة الدين , ويبينون لها كيف جمع القرآن بين مصالح الدارين , حيث جعل الناس على قسمين {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 200-202) وهذا ما قام يدعو إليه المنار في سنتيه الماضيتين وهو ما يصيح به الآن على رأس السنة الثالثة , وقد انتشرت بفضل الله تعاليمه فأُشربتْها قلوب ولهجت بها ألسنة وكَتَبَ بمواضيعه الكُتَّاب , وخطب الخطباء فمن مخطئ ومصيب ومنتقد ومجيب , وهكذا يكون الأمر في أوله وستتجلى الحقيقة للناس إن شاء الله عن قريب , والعاقبة للمتقين. {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) .

التعصب

الكاتب: العروة الوثقى

_ التعصب {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) . لفظ شغل مناطق الناس خصوصًا في البلاد المشرقية تلوكه الألسن , وترمي به الأفواه في المحافل والمجامع حتى صار تُكأة للمتكلمين يلجأ إليه العيي في تهتهته والذملقاني في تفيهقه. أخذ هذا اللفظ بمواقع التعبير فقلما تكون عبارة إلا وهو فاتحتها أو حشوها أو خاتمتها ويعدون مسماه علة لكل بلاء ومنبعًا لكل عناء , ويزعمونه حجابًا كثيفًا وسدًّا منيعًا بين المتصفين به وبين الفوز والنجاح , ويجعلونه عنوانًا على النقص وعلمًا للرذائل. والمتسربلون بسرابيل الإفرنج الذاهبون في تقليدهم مذاهب الخبط والخلط , لا يميزون بين حق وباطل هم أحرص الناس على التشدق بهذا البَدع الجديد فتراهم في بيان مفاسد التعصب يهزون الرءوس ويعبثون باللحى ويبرمون السبال , وإذا رموا به شخصًا للحط من شأنه أردفوه للتوضيح بلفظ إفرنجي (فناتيك) فإن عهدوا بشخص نوعًا من المخالفة لمشربهم؛ عَدُّوه متعصبًا وهمزوا به وغمزوا ولمزوا , وإذا رأوه عبسوا وبسروا وشمخوا بأنوفهم كبرًا وولوه دبرًا , ونادوا عليه بالويل والثبور. ماذا سبق إلى أفهامهم من هذا اللفظ؟ وماذا اتصل بعقولهم من معناه حتى خالوه مبدأ لكل شناعة ومصدرًا لكل نقيصة؟ وهل لهم وقوف على شيء من حقيقته؟ التعصب: قيام بالعصبية، من المصادر النِّسبية نسبة إلى العصبية , وهي قوم الرجل الذين يعززون قوته ويدفعون عنه الضيم والعداء , فالتعصب وصف للنفس الإنسانية تصدر عنه نهضة لحماية من يتصل بها , والذود عن حقه ووجوه الاتصال تابعة لأحكام النفس في معلوماتها ومعارفها. هذا الوصف هو الذي شكل الله به الشعوب وأقام بناء الأمم , وهو عقد الربط في كل أمة بل هو المزاج الصحيح، يوحد المتفرق منها تحت اسم واحد وينشئها بتقدير الله خلقًا واحدًا كبدن تألف من أجزاء وعناصر، تدبره روح واحدة فتكون كشخص يمتاز في أطواره وشؤونه وسعادته وشقائه عن سائر الأشخاص. وهذه الوحدة هي مبعث المباراة بين أمة وأمة وقبيل وقبيل ومباهاة كل من الأمتين المتغالبتين بما يتوفر لها من أسباب الرفاهة وهناء العيش وما تجمعه قواها من وسائل العزة والمنعة وسمو المقام ونفاذ الكلمة , والتنافس بين الأمم كالتنافس بين الأشخاص أعظم باعث على بلوغ أقصى درجات الكمال في جميع لوازم الحياة بقدر ما تسعه الطاقة. التعصب روح كليّ مهبطه هيئة الأمة وصورتها , وسائر أرواح الأفراد حواسه ومشاعره، فإذا ألمَّ بأحد المشاعر ما لا يلائمه من أجنبي عنه؛ انفعل الروح الكلي وجاشت طبيعته لدفعه، فهو لهذا مثار الحمية العامة ومسعر النعرة الجنسية. هذا هو الذي يرفع نفوس آحاد الأمة عن معاطاة الدنايا وارتكاب الخيانات فيما يعود على الأمة بضرر أو يأول بها إلى سوء عاقبة , وإن استقامة الطبع ورسوخ الفضيلة في أمة تكون على حسب درجة التعصب فيها والالتحام بين آحادها، ويكون كل منهم بمنزلة عضو سليم من بدن حي لا يجد الرأس بارتفاعه غنى عن القدم , ولا يرى القدمان في تطرفهما انحطاطًا في رتبة الوجود، وإنما كل يؤدي وظائفه لحفظ البدن وبقائه. كلما ضعفت قوة الربط بين أفراد الأمة بضعف التعصب فيهم؛ استرخت الأعصاب وَرَثَّت الأطناب ورقَّت الأوتار وتداعى بناء الأمة إلى الانحلال كما يتداعى بناء البنية البدنية إلى الفناء بعد هذا الروح الكلي , وتبطل هيئة الأمة وإن بقيت آحادها فما هي إلا كالأجزاء المتناثرة إما أن تتصل بأبدان أخرى بحكم ضرورة الكون , وإما أن تبقى في قبضة الموت إلى أن ينفخ فيها روح النشأة الآخرة , سنة الله في خلقه إذا ضعفت العصبية في قوم رماهم الله بالفشل , وغفل بعضهم عن بعض , وأعقب الغفلة تقطع في الروابط , وتبعه تقاطع وتدابر فيتسع للأجانب والعناصر الغريبة مجال التداخل فيهم ولن تقوم لهم قائمة من بعد حتى يعيدهم الله كما بدأهم بإفاضة روح التعصب في نشأة ثانية. نعم إن التعصب وصف كسائر الأوصاف له حد اعتدال وطرفا إفراط وتفريط , واعتداله هو الكمال الذي بينا مزاياه , والتفريط فيه هو النقص الذي أشرنا لرزاياه , والإفراط فيه مذمة تبعث على الجور والاعتداء , فالمفرط في تعصبه يدافع عن الملتحم به بحق وبغير حق , ويرى عصبته متفردة باستحقاق الكرامة , وينظر إلى الأجنبي عنه كما ينظر إلى الهمل , لا يعترف له بحق ولا يرعى له ذمة , فيخرج بذلك عن جادة العدل , فتنقلب منفعة التعصب إلى مضرة , ويذهب بهاء الأمة بل يتقوض مجدها , فإن العدل قوام الاجتماع الإنساني , وبه حياة الأمم وكل قوة لا تخضع للعدل فمصيرها إلى الزوال , وهذا الحد من الإفراط في التعصب هو الممقوت على لسان صاحب الشرع صلي الله عليه وسلم في قوله: (ليس منا من دعا إلى عصبية) الحديث. التعصب كما يطلق ويراد به النعرة على الجنس , ومرجعها رابطة النسب والاجتماع في منبت واحد , كذلك توسع أهل العرف فيه فأطلقوه على قيام الملتحمين بصلة الدين لمناصرة بعضهم بعضًا , والمتنطعون من مقلدة الإفرنج يخصون هذا النوع منه بالمقت , ويرمونه بالتعس , ولا نخال مذهبهم هذا مذهب العقل , فإن لحمة يصير بها المتفرقون إلى وحدة تندفع عنها قوة لدفع الغائلات وكسب الكمالات، لا يختلف شأنها إذا كان مرجعها الدين أو النسب , وقد كان من تقدير العزيز العليم وجود الرابطتين في أقوام مختلفة من البشر , وعن كل منها صدرت في العالم آثار جليلة يفتخر بها الكون الإنساني , وليس يوجد عند العقل أدنى فرق بين مدافعة القريب عن قريبه ومعاونته على حاجات معيشته , وبين ما يصدر عن ذلك من المتلاحمين بصلة المعتقد ورابطة المشرب. فتعصب المشتركين في الدين المتوافقين في أصول العقائد بعضهم لبعض إذا وقف عند الاعتدال ولم يدفع إلى جور في المعاملة ولا انتهاك لحرمة المخالف لهم أو نقض لذمته؛ فهو فضيلة من أجَلِّ الفضائل الإنسانية وأوفرها نفعًا وأجزلها فائدة, بل هو أقدس رابطة وأعلاها، إذا استحكمت صعدت بذوي المكنة فيها إلى أوج السيادة وذروة المجد خصوصًا إن كانوا من قبيل قَوِيَ فيهم سلطان الدين , واشتدت سطوته على الأهواء الجنسية حتى أشرف بها على الزوال كما في أهل الديانة الإسلامية على ما أشرنا إليه في العدد الثاني من جريدتنا [1] . ولا يؤخذ علينا في القول بأنه من أقدس الروابط , فإنه كما يطمس رسوم الاختلاف بين أشخاص وآحاد متعددة , ويصل ما بينهم في المقاصد , والعزائم والأعمال , كذلك يمحو أثر المنابذة والمنافرة بين القبائل والعشائر بل الأجناس المتخالفة في المنابت واللغات والعادات , بل المتباعدة في الصور والأشكال , ويحوِّل أهواءها المتضاربة إلى قصد واحد وهو تأصيل المجد وتأييد الشرف وتخليد الذكر تحت الاسم الجامع لهم. هذا الأثر الجليل عهد لقوة التعصب الديني , وشهد عليه التاريخ بعدما أرشد إليه العقل الصحيح , وما كانت رابطة الجنس لتقوى على شيء منه. ثغثغ جماعة من متزندقة هذه الأوقات في بيان مفاسد التعصب الديني , وزعموا أن حمية أهل الدين لما يؤخذ به إخوانهم من ضيم , وتضافرهم لدفع ما يلم بدينهم من غاشية الوهن والضعف هو الذي يصدهم عن السير إلى كمال المدنية , ويحجبهم عن نور العلم والمعرفة , ويرمي بهم في ظلمات الجهل , ويحملهم على الجور والظلم والعدوان على من يخالفهم في دينهم , ومن رأي أولئك المتفتقين أن لا سبيل لدرء المفاسد واستكمال المصالح إلا بانحلال العصبية الدينية ومحو أثرها , وتخليص العقول من سلطة العقائد , وكثيرًا ما يرجفون بأهل الدين الإسلامي , ويخوضون في نسبة مذامِّ التعصب إليهم. كذب الخراصون , إن الدين أول معلم وأرشد أستاذ وأهدى قائد للأنفس إلى اكتساب العلوم والتوسع في المعارف , وأرحم مؤدب , وأبصر مروض يطبع الأرواح على الآداب الحسنة والخلائق الكريمة , ويقيمها على جادة العدل , وينبه فيها حاسة الشفقة والرحمة، خصوصًا دين الإسلام فهو الذي رفع أمة كانت من أعرق الأمم في التوحش والقسوة والخشونة , وسما بها إلى أرقى مراقي الحكمة والمدنية في أقرب مدة وهي الأمة العربية. قد يطرأ على التعصب الديني من التغالي والإفراط مثل ما يعرض على التعصب الجنسي فيفضي إلى ظلم وجور , بل ربما يؤدي إلى قيام أهل الدين لإبادة مخالفيهم ومحو وجودهم , كما قامت الأمم الغربية واندفعت على بلاد الشرق لمحض الفتك والإبادة لا للفتح , ولا للدعوة إلى الدين في الحرب الهائلة المعروفة بحرب الصليب , وكما فعل الأسبانيوليون بمسلمي الأندلس , وكما وقع قبل هذا وذاك في بداية ما حصلت الشوكة للدين المسيحي أن صاحب السلطان من المسيحيين جمع اليهود في القدس وأحرقهم، إلا أن هذا العارض لمخالفته لأصول الدين قلما تمتد له مدة , ثم يرجع أرباب الدين إلى أصوله القائمة على قواعد السلم والرحمة والعدل. أما أهل الدين الإسلامي فمنهم طوائف شطَّت في تعصبها في الأجيال الماضية إلا أنه لم يصل بهم الإفراط إلى حد يقصدون فيه الإبادة وإخلاء الأرض من مخالفيهم في دينهم وما عُهد ذلك في تاريخ المسلمين بعد ما تجاوزوا حدود جزيرة العرب، ولنا الدليل الأقوم على ما نقول وهو وجود الملل المختلفة في ديارهم إلى الآن حافظة لعقائدها وعوائدها من يوم تسلطوا عليها وهم في عنفوان القوة وهي في وهن الضعف. نعم كان للمسلمين ولع بتوسيع الممالك وامتداد الفتوحات , وكانت لهم شدة على من يعارضهم في سلطانهم إلا أنهم كانوا مع ذلك يحفظون حرمة الأديان , ويرعون حق الذمة , ويعرفون لمن خضع لهم من الملل المختلفة حقه , ويدفعون عنه غائلة العدوان ومن العقائد الراسخة في نفوسهم (أن من رضي بذمتنا فله ما لنا وعليه ما علينا) ولم يعدلوا في معاملتهم لغيرهم عن أمر الله في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) اللهم إلا ما لا تخلو عنه الطباع البشرية , ومن نشأة المسلمين إلى اليوم لم يدفعوا أحدًا من مخالفيهم عن التقدم إلى ما يستحقه من علو الرتبة وارتفاع المكانة , ولقد سما في دول المسلمين على اختلافها إلى المراتب العالية كثير من أرباب الأديان المختلفة , وكان ذلك في شبيبتها وكمال قوتها , ولم يزل الأمر على ما كان، وفي الظن أن الأمم الغربية لم تبلغ هذه الدرجة من العدل إلى اليوم (فسحقًا لقوم يظنون أن المسلمين بتعصبهم يمنعون مخالفيهم من حقوقهم) لم يسلك المسلمون من عهد قوتهم مسلك الإلزام بدينهم والإجبار على قبوله مع شدة بأسهم في بدايات دولهم وتغلغلهم في افتتاح الأقطار , واندفاع هممهم للبسطة في المُلك والسلطة، وإنما كانت لهم دعوة يبلغونها فإن قُبلت وإلا استبدلوا بها رسمًا ماليًّا يقوم مقام الخراج عند غيرهم مع رعاية شروط عادلة تُعلم من كتب الفقه الإسلامي. هذا على خلاف متنصرة الرومانيين واليونانيين أيام شوكتهم الأولى , فإنهم ما كانوا يطأون أرضًا إلا ويلزمون أهلها بخلع أديانهم والتطوق بدين أولئك المُسلطين , وهو الدين المسيحي، كما فعلوا في مصر وسوريا بل وفي البلاد الإفرنجية نفسها. هذا فصل من الكلام ساق إليه البيان , وفيه تبصرة لمن يتبصر , وتذكرة لمن يتذكر , ثم أعود بك إلى سابق الحديث فيما كنا ب

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (21) من هيلانة إلى أراسم في 2 يولية سنة - 185 أترى أن الكمال لا يخلو من نقص والحسن لا يعرى من قبح؟ إني - والحق أقول - أراني مدفوعة إلى اعتقاد ذلك ببواعث كافية. فما عاينته من أحوال الإنكليز وأخلاقهم ينطبق انطباقًا تامًّا في بعض المواضع على ما سمعته عنهم من السير جون سنت أندروز , ولكن تصفحي هذه الأخلاق وترديد فكري فيها قد اضطرني إلى الأخذ بالحزم في امتداحها , وترك المجازفة في إطرائها. لأكثر الامهات اللاتي ألاقيهن في بيت السيدة وارنجتون أولاد عديدون، فما أعجب ما يرى في جميعهم من مقدار تحققهم بما لمخالطيهم من الأوهام وسرعة انطباع معتقداتهم الباطلة في نفوسهم، فتراهم على قلة علمهم بالأمور يفرقون بين مطلق رجل والسري المهذب من الرجال , ومطلق امرأة والسيدة الكريمة من النساء فرقًا تامًّا , ويميزون من ولدوا لخدمتهم ممن يجب لهم عليهم الإجلال والتعظيم لأول نظرة إليهم غير مترددين في ذلك ولا مرتابين , ويحافظون على شرف الاقتداء بعظماء الناس في سيرهم لا لأن ذلك مطلوب لذاته , بل لعدم الإخلال بما تواضع عليه أولئك العظماء من الآداب. وإني لعلى يقين من أنك لو اطلعت على هذا العالم الناشئ لوجدت فيه شيئًا من التصلف , فلشد ما يُرى فيهم من العجرفة , وما يُبدونه أمام الأجانب من ظواهر الأبهة الصبيانية. أليست حقيقة الأمر أن هؤلاء الإنكليز أنفسهم على ما لهم من الحرية الواسعة, وما فيهم من كمال استحقاقها هم في غاية الخشية والخضوع لرأي الكافة؟ أليس شأنهم في هذا شأن باسكال [1] الذي يسمي ذلك الرأي ملك الدنيا. على أنني لا أدري أي تأثير له فيها يستحق به هذه التسمية , ولكني أخال أنه له في إنكلترا من السلطان والسيطرة ما ليس مثله لفكتوريا , فإن جيراننا ينشأون من صغرهم عبيدًا مختارين لبعض مواضعات قومية , فيوجبون على أنفسهم تعظيم ما عظمه جمهور المهذبين من قومهم بدون بحث فيه ولا نظر , فكل منهم في سيرته وآرائه تبع لغيره معتمد على ما لهذا الغير من الاعتبار وعلو الكلمة , وتراهم في منتدياتهم قليلي الكلام , بل إن محادثاتهم لا تخرج عن حدود المواضيع التي قدسها استقرار العادة. فلهم جمل من المعاني والأفكار كأنها تحجرت في أخلاقهم وعوائدهم , فأجمعوا على عدم المناظرة والجدال فيها. إني إلى الآن لم أعرف الإنكليز معرفة تكفي لإدراك سر هذه المباينات , وإنما الذي أراه في كبارهم أنهم قد جمعوا بين غاية الاستقلال في أفعالهم وغاية التقليد في آرائهم , وأما صغارهم فإنهم كذلك أحرار في حركاتهم وفي معظم ما تتوجه إليه عزائمهم من أعمالهم , لكنهم يحجرون على أنفسهم أن تتعلق هذه العزائم من الأعمال بما يخالف تقاليد أهليهم وآثار سلفهم وعوائد الصالحين من مخالطتهم , وربما كانت الحكمة في كل ذلك أن القوم قد رأوا طباعهم تجري بهم في بحر لجي من الحرية جري السفن مدت شرعها فاضطرهم ذلك إلى طلب مرساة يوقفون بها جريها فالتمسوها في ضبط الأخلاق البيتية وفي العوائد القومية والأصول الملية اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

دار علوم في مكة المكرمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دار علوم في مكة المكرمة شكونا غير مرة في المنار من إهمال المعارف والفنون في البلدين المكرمين: مكة والمدينة مهبط الوحي ومشرق أنوار العلم والحكمة تنبيهًا للدولة العلية والحضرة السلطانية إلى تدارك ذلك , وقد ذكرت جريدة الرياض (التي سيأتي تقريظها) المدرسة الصولتية التي تأسست في مكة المكرمة من نحو ربع قرن , وأنه انحط شأنها الآن بسببين، أحدهما: موت النواب محمود علي خان صاحب رئيس جهتاري من مضاف بلند شهر (رحمه الله تعالى) فإن ذلك الأمير الفاضل كان ركن هذه المدرسة وعمادها ومبالغًا في إرفادها وإمدادها , وثانيهما: انتشار الطاعون في بلاد الهند الذي حال بين مسلمي الهند وبين بلد الله الأمين , وقد كان للمدرسة في كل عام وفد عظيم من أغنيائهم , وحاصل القول: إن المدرسة قد حيل بينها، وبين موارد ثروتها , قال صاحب الرياض وأعضاء الشورى (أي في الهند) والمهتمون بالمدرسة الصولتية يبتغون إقامة (دار علوم) في مكة المكرمة تجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا حتى الحرف والصنائع ثم قال: (وكفى لمسلمي الهند فخرًا يباهون به أن ينعقد بتوجههم دار العلوم في أم القرى , وأنا أردت أن أدور في جميع أقطار الهند وبلادها وأمصارها لأحشد لها نقودًا, وأرصن بها بناء دار العلوم لتعليمات الفنون الدنيوية والعلوم الدينية , وقد جعلني الجناب المولوي محمد سعيد منتظم المدرسة الصولتية في بلد الله الأمين وكيلاً من قبله في بلاد الهند) ثم ذكرنا أنه جعل جريدته داعية إلى هذا , وأنه يعطي لكل من يدفع له شيئًا من النقود وصولاً (قسيمة) مختومًا بختم المولوي محمد سعيد , ويتكفل هو بإيصال النقود إليه. (اقتراح المنار) نشكر لإخواننا مسلمي الهند الساعين بهذا العمل المبرور غيرتهم الدينية , ونعترف لهم بفضل السبق إليه , ولكن نحب أن يشاركهم فيه سائر إخوانهم المسلمين في جميع أقطار الأرض , ونقترح على مسلمي كل قطر أن يؤلفوا لجنة للاكتتاب وجمع المال لهذا العمل الشريف يرأسه في كل مصر أحد أهل الفضل والوجاهة , وأن يحث عليه الخطباءُ وأصحابُ الجرائد عمومًا , وأن تكون اللجنة العليا في مكة المكرمة نفسها , وأن يكون بينها وبين سائر اللجان اتصال بالمكاتبة , وأن تعهد كل لجنة من لجان الآفاق إلى بعض الفضلاء الذين يقصدون الحج بحضور اللجنة العليا واكتناه شؤونها , وإذا اتفق السيد الشريف أمير مكة مع دولة واليها على الإيعاز إلى خطباء الحرم الشريف وخطباء عرفة بحث الحجاج على التبرع لهذا العمل المبرور فلا تسل عما يظهر من المكارم الإسلامية في تلك البقاع القدسية , وقد كنا اقترحنا في المجلد الأول من (المنار) إنشاء جمعية إسلامية كبرى في مكة المكرمة يكون لها شُعب في جميع بلاد الإسلام , وبينَّا هنالك أعمالها ومزاياها , وأشرنا إلى الصعوبة التي أمامها , ولكن هذا العمل (إنشاء دار علوم) لا صعوبة أمامه بل هو متيسر جدًّا إن شاء الله تعالى , وسيكون فاتحة خير لجمع كلمة المسلمين بفضل الله تعالى , وبه يظهر المسلم الغيور ممن لا حظَّ له من الغيرة على الإسلام إلا كثرة اللغط والكلام , وسنعود إلى الموضوع , ونرجو من المؤيد الأغر , ثم من سائر الجرائد المصرية حث إخواننا المصريين على أن يسبقوا سائر المسلمين إلى الانضمام إلى إخوانهم الهنديين , والله لا يضيع أجر المحسنين , وأقسم بالله العظيم رب البيت الحرام ومميزه على سائر البلاد بظهور نور الإسلام، على جميع المقربين من سيدنا ومولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين أن يبلغوه خبر هذه المدرسة بالصفة الحقيقية التي ترضيه لكي تفيض عليها مكارمه الهامية , وتحوطها رعايته السامية , وعسى أن يهتم من يسمع له الكلام , من على ذلك المقام كسماحة السيد أبي الهدى أفندي بأن يكون الواسطة بين المسلمين وخليفتهم في أمنيتهم هذه , فيكون له عند الجميع شأن عظيم , وعند الله أجر كريم.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية نفتتح باب الآثار الأدبية بقصيدة من غرر القصائد العصرية مزينة بمديح مولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين السلطان الأعظم عبد الحميد خان أيد الله دولته , وأنفذ شوكته , نظم عقدها صديقنا الفاضل الشيخ محيي الدين أفندي الخياط البيروتي , وهي: إليك فما تغني القنا والقنابل ... إذا لم يقم بالأمر كاف وكافل وليس الظبي إلا مخاريق لاعب ... إذا سلها كف عن العدل عادل وليست قلاع الجو تدعى معاقلاً ... إذا لم يدر أمر المعاقل عاقل وما صولجان الملك يدفع أكرة ... إذا لعبت بالصولجان الأسافل وما يصنع البحار فوق سفينة ... إذا عُطِّلت بالسير منها المراجل وما تصنع الأجناد والجهل قائد ... وما تنفع القُوَّاد والجند خاذل دع البذخ ما هذي القصور مشيدة ... لتبني فخارًا والمشيد جاهل كذلك ما تبني الجبال شواهقًا ... تناطح هام الأفق وهي مجاهل إذا العلم لم تعهده منك معاهد ... غدت بلقعًا وهي الربوع الأواهل وما العلم إلا الدين مع عمل به ... وما الدين والأعمال إلا الفضائل وما الشعب والسلطان إلا وشائج ... وما الناس والأوطان إلا الفعائل أتتك أمير المؤمنين ووجهها ... ووجهك وضاح عليه دلائل تمد يمينًا ذات يمن ومعصم ... له الكون كف والأنام أنامل قرونًا ثلاثًا جاوزت بعد عشرة ... وتبقى إلى أن يسحل الكون ساحل وتحيا وفي الإسلام حي وميت ... وليس بقايا السيف إلا الثواكل تقطعها الأجيال وهي قواطع ... وترشقها الأقتال وهي قواتل توالت عليها الحادثات وكفها ... طليق وما للقيد إلا السلاسل تحملتها كهلاً، بلى كنتَ شيخها ... وما ونيت يا كهل منك الكواهل خليفة رب الكون تلك خلافة ... إذا أيمت لم يبق في الكون عاهل رعيت رعاك الله أي رعية ... تقاتل بالأرواح فهي الجحافل وما ينفع الجيش العرمرم في الوغا ... إذا لم يكن مستقتلاً من يقاتل تبوأتَ عرش الملك والجهل طالع ... بأفق الرزايا والخطوب نوازل على حين ما إن الخلافة أعوزت ... زعيمًا فلم تقبل سواك القبائل وأم العلا رامت خطيبًا لبكرها ... وليس لبيت المجد غيرك آهل يقولون: ما ساس الأمورَ كغيره ... فقلت: وكم قد قال في الناس قائل وما راكب البحر العباب تحوطه ... عواد كمن يؤويه بالبر ساحل وكم من طليق للسياسة يدّعي ... فلما تولى شكلته المشاكل يظنون تحرير الجرائد دولة ... وما هي إلا القول للبيع نازل ظنون وتخريص وأوهام زاجر ... يشوبهم بالطبع حق وباطل يديرون أمر الكون والكون دائر ... على سنن للناس فيها شواغل نعم إن منهم نافعًا لبلاده ... ولكن وايم الله هن قلائل فلا يتعدى أول العقد آخر ... ولا يتخطى مركز العقد واصل فدعهم بلج القول تفديك أمة ... بك اتصلت روحًا فلم يبق فاصل تعدك ظل الله إذ أنت عندها ... خليفته والسر في تلك حاصل لقد سُستَها بالعلم والحلم والندى ... وهذي المزايا كلها والفضائل مليك البرايا دأبك الجد لا تقف ... فأنت لنا عضو عن الجسم عامل كذاك دهاقين العلا ورجاله ... وليس امرأ إلا الهمام الحلاحل عداك الردى لو كنت في غير شرقنا ... لما نُصبت إلا إليك الهياكل ولو أن أهل الشرق مثلك لم نجد ... سوى الجد بل ما كان في الشرق خامل لقد شدت للتعليم أي مدارس ... بها علمتنا كيف تنشأ المعامل ولكننا اعتدنا الخمول وشرقنا ... أناخت عليه بالخمول كلاكل نؤمل أن يبقى لذي الأمر عالة ... يعول علينا الدهر والكل عائل فلا المال يرضينا ولا العلم نبتغي ... ولا للعلا نسعى وهذا التسافل ونعتقد الحكام هيكل قدرة ... له البدر صيد والنجوم حبائل إذا موسر أو عالم نبغا بنا ... يعرقل مسعاه سريٌّ وسافل ولستُ أزكي النفس بل أنا واحد ... بل كلنا المسئول والله سائل ودونكها ليس التبرج شأنها ... ولم تتبذل قط والغير باذل لقد صغتُها والشعر يشهد أنني ... هجرت قوافيه فهن قوافل وما تبتغي مني البلاغة إن أكن ... بليغًا بعصر فيه باقل قائل دعونى وشأني والتظاهر لا أرى ... فليس يعاب البدر والبدر آفل (المنار) لم نتصرف بشيء من أبيات القصيدة ولا من ألفاظها المفردة؛ لأنها جاءت مذيلة من حضرة ناظمها الفاضل بالتصحيح؛ وممضاة بإمضائه.

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (فلسفة البلاغة) وضع العلامة عبد القاهر الجرجاني فنون البلاغة وكتب فيها ما يتنافس فيه المتنافسون , ثم جاء مَن بعده فكتب دون ما كتب عبد القاهر , ولم تزل البلاغة تسفل وتتضاءل على تمادي السنين والأجيال حتى آلت إلى الاضمحلال وآذنت بالزوال , ولم يبق عند المشتغلين بتلك الفنون إلا بعض المحاورات اللفظية في أساليب كتب المؤلفين الذين تبعد أساليبهم عن ذوق اللغة الصحيح , وقد تنبه الناس في هذا العصر إلى إحياء فنون اللغة العربية وتحصيل ملكة البلاغة فيها ورأى صديقنا العالم الفاضل المعلم جبر ضومط أستاذ اللغة العربية بالمدرسة الكلية السورية الأميركانية في بيروت أن حالة العصر تقتضي وجود تآليف في البلاغة بأسلوب جديد فألف أولاً كتاب (الخواطر الحسان) وقد أهدانا من أشهُر كتابًا آخر سماه (فلسفة البلاغة) تصفحنا بعض صفحاته , فألفيناه على قاعدة جعلها قطب دائرة البلاغة وأصاب , وهي (الاقتصاد في انتباه السامع) وقد كنا أرجأنا تقريظه إلى أن تتسنى لنا مطالعته بتمامه , وإلى الآن لم يسمح لنا الوقت بذلك , فنوهنا به مؤقتًا لنعطيه بعض حقه , ونرشد الطلاب إلى الاستفادة منه. (الزراعة المصرية) يؤلف أخونا الفاضل المهذب أحمد أفندي جرانة العالم البارع في فن الزراعة سلسلة رسائل في الزراعة المصرية , وقد طبعت الرسالة الأولى منها في مطبعة الهلال , وهي في (زراعة قصب السكر) تكلم فيها كلامًا وافيًا ابتدأه بتاريخ القصب , ثم تكلم عن القصب المصري خاصة وعن الأرض التي تصلح لزراعته , وعن حالة الجو بالنسبة له , وعن المياه والتقاوي ومعالجة الأرض , وكيفية الزراعة , وعن المحصول والنفقات والأمراض التي تصيبه , وغير ذلك من الفوائد العلمية والعملية , فعسى أن يُقبل المصريون على اقتناء هذه الرسالة والاستفادة منها , فإن القصب من أهم غلات هذه البلاد. (الرياض) جريدة علمية أدبية شهرية مؤقتًا ذات ثماني صفحات كبيرة تصدر في مدينة لكهنوء من بلاد الهند باللغتين العربية والأوردية , صاحب امتيازها الفاضل الهمام الحاج رياض الدين أحمد , وقد تصفحنا العدد الأول منها فألفيناه مشتملاً على فوائد، منها أنه ضبط خمس كلمات مما يخطئ أكثر الناس في ضبطها , وقد فتح لهذا بابًا في الجريدة لأجل متابعة العمل , والكلمات الخمس هي: (آصَف) كاتب سليمان عليه السلام بفتح الصاد (ابن جنِّي) العالم المشهور بضم الجيم معرَّب كني (الأُبَّهة) بضم الهمزة وفتح الباء المشددة , (الأجنة) جمع جنين الأجن , وهذه وما قبلها لا يخطئ فيهما أحد عندنا (الأجوبة) في جمع الجواب غلط , قال ابن الجوزي في تقويم اللسان: (الجواب لا يجمع) هذا ما جاء في الرياض , ونزيد نحن في الكلمة الأخيرة أن سيبوبه سبق ابن الجوزي فقال: الجواب لا يجمع، وقولهم: جوابات كُتُبي مولد , وأجوبة كتبي مولد , إنما يقال: جواب كتبي , أي إن كان الجواب متعددًا؛ لأن المفرد المضاف يعم , ولكن المصباح ذكر الجمعين وسكت عليهما , فهل كان ذهولاً عن كلام سيبوبه أم ثبت عنده الجمع؟ ومنها - بل عظمى فوائدها - الحث على إنشاء دار علوم في مكة المكرمة (انظر باب التربية والتعليم) .

منثورات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منثورات (انتشار دين الإسلام) جاء في جريدة الحاضرة الغراء ما نصه: بعث الفاضل محمد أفندي عبد الحق القاطن في مقاطعة قولينسلاند من أعمال القارة الأسترالية برقيم حَرِيٍّ بالذكر أوضح فيه أن الدين الإسلامي آخذ بالانتشار في جزائر فيكتوريا وجنوبي بلاد الغال وقولينسلاند والفيشي انتشارًا مهمًّا , وأن المسلمين قُطَّان هذه الجزائر يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل الحصول على الكتب الدينية الإسلامية , وأنهم قد ألفوا جمعيات عديدة في البلاد بغية نشر الدين، وفقهم الله. وجاء في رسالة من نيش إلى جريدة إقدام العثمانية أن عشرة آلاف من سكان نيش من عواصم الصرب , وثلاث بلدان أخرى بعملها قد اهتدوا جميعًا إلى الدين الإسلامي , وعزموا على ترك الأوطان فرارًا من ظلم الحكومة الصربية , والالتجاء إلى الممالك العثمانية. إن الجامع الذي عزم المسلمون على تأسيسه في (لندرة) عاصمة البلاد الإنكليزية قد قُدِّرت نفقاته بعشرة آلاف ليرة، وسيكون في أحسن موقع من البلدة على أجمل طرز غربي. (مأثرة تذكر لفضيلة شيخ الجامع الأزهر) كتب مولانا شيخ الجامع الأزهر إلى سعادة محافظ مصر بأن يمنع الرجال والنساء الذين يتلون القرآن في الطرق والشوارع , حتى بقرب الحانات والمزابل لما في هذا من الإهانة للدين. *** انتقلت جمعية شمس الإسلام من مركزها الذي كانت فيه ويجتمع مجلس إدارتها الآن في بيت أحد أعضائه , وسيصير أخذ محل مناسب لها في هذا الأسبوع , وعند ذلك تخبر به جميع الأعضاء وجميع اللجان الفرعية إن شاء الله تعالى , وسنشرح أسباب الإرجاف بها. لم نتمكن من جمع فهرست المجلد الثاني وطبعه لنقدمه مع هذا الجزء؛ لكثرة الشواغل التي أحدثها تعدي المفسدين علي الجمعية , وقد انتهت المشكلة على خير , ولله الحمد , ونرجو أن نتمكن من تقديم الفهرست مع الجزء الآتي. *** نهنئ جريدة الأصمعي وجريدة المناظر الغراوين اللتين تصدران في بلاد البرازيل بإكمال السنة الأولى , والدخول في السنة الثانية مع الجد والاجتهاد في خدمة أبناء وطنهم السوري في تلك البلاد , ونتمنى لهم زيادة النجاح والفلاح.

الجنسية والديانة الإسلامية

الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى

_ الجنسية والديانة الإسلامية من مقالات العروة الوثقى خير ما كتبه علماء الإسلام في حكمة الدين الإسلامي إن استقراء حال الأفراد من كل أمة , واستطلاع أهوائها يثبت لجلي النظر ودقيقه وجود تعصب للجنس ونعرة عليه عند الأغلب منهم , وإن المتعصب لجنسه منهم لَيَتيه بمفاخر بنيه ويغضب لما يمسهم حتى يُقْتل دون دفعه بدون تنبه منه لطلب السبب , ولا بحث في علة هذه الوجدانيات الطبيعية , إلا أنه يبعد ظنهم ما نراه في حال طفل ولد في أمة من الأمم , ثم نقل قبل التمييز إلى أرض أمة أخرى وربي فيها إلى أن عقل ولم يذكر له مولده، فإنا لا نرى في طبعه ميلاً إليه بل يكون خالي الذهن من قِبَله ويكون مع سائر الأقطار سواء , بل ربما كان آلف لمرباه وأميل إليه , والطبيعي لا يتغير , ولهذا لا نذهب إلى أنه طبيعي , ولكن قد يكون من الملكات العارضة على الأنفس ترسمها على ألواحها الضرورات، فإن الإنسان في أي أرض له حاجات جمة, وفي أفراده ميل إلى الاختصاص والاستئثار بالمنفعة إذا لم يصبغوا بتربية ذكية , وسعة المطمع إذا صحبها اقتدار يطبعها على العدوان، فلهذا صار بعض الناس عرضة لاعتداء بعض آخر , فاضطروا بعد منازلة الشرور أحقابًا طوالاً إلى الاعتصاب بلحمة النسب على درجات متفاوتة حتى وصلوا إلى الأجناس فتوزعوا أممًا كالهندي والإنكليزي والروسي والتركماني ونحو ذلك؛ ليكون كل قبيل منهم بقوة أفراده المتلاحمة قادرًا على صيانة منافعه وحفظ حقوقه من تعدي القبيل الآخر , ثم تجاوزوا في ذلك حد الضرورة كما هي عادة الإنسان في أطواره , فذهبوا إلى حد أن يأنف كل قبيل من سلطة الآخر عليه علمًا بأنه لابد أن يكون جائرًا إذا حكم , ولئن عدل فإن في قبول حكمه ذُلاًّ تحس به النفس وينفعل له القلب , فلو زالت الضرورة لهذا النوع من العصبية؛ تبع هو الضرورة في الزوال كما تبعها في الحدوث بلا ريب، وتبطل الضرورة بالاعتقاد على حاكم تتصاغر لديه القوى , وتتضاءل لعظمته القدر , وتخضع لسلطته النفوس بالطبع , وتكون بالنسبة إليه متساوية الأقدام , وهو مبدأ الكل وقهار السماوات والأرض , ثم يكون القائم من قبله بتنفيذ أحكامه مساهمًا للكافة في الاستكانة والرضوخ لأحكام أحكم الحاكمين فإذا أذعنت الأنفس بوجود الحاكم الأعلى , وأيقنت بمشاركة القيم على أحكامه لعامتهم في التطامن لما أمر به؛ اطمأنت في حفظ الحق ودفع الشر إلى صاحب هذه السلطة المقدسة , واستغنت عن عصبية الجنس لعدم الحاجة إليها فمحي أثرها من النفوس , والحكم لله العلي الكبير. هذا هو السر في إعراض المسلمين على اختلاف أقطارهم عن اعتبار الجنسيات , ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبيتهم الإسلامية , فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة وهي علاقة المعتقَد [1] لأن الدين الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق , وملاحظة أحوال النفوس من جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى , بل هي كما كانت كافلة لهذا جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد , وبيان الحقوق كليها وجزئيها وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات وإقامة الحدود , وتعيين شروطها حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشد الناس خضوعًا لها , ولن ينالها بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية أو ثروة مالية , وإنما ينالها بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها ورضاء الأمة، فيكون وازع المسلمين في الحقيقة شريعتهم المقدسة الإلهية التي لا تميز بين جنس وجنس واجتماع آراء الأمة , وليس للوازع أدنى امتياز عنهم إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدفاع عنها. وكل فخار تكسبه الأنساب , وكل امتياز تفيده الأحساب لم يجعل له الشارع أثرًا في وقاية الحقوق وحماية الأرواح والأموال والأعراض , بل كل رابطة سوى رابطة الشريعة الحقة فهي ممقوتة على لسان الشارع , والمعتمِد عليها مذموم , والمتعصب لها ملوم فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية , وليس منا من قاتل على عصبية , وليس منا من مات على عصبية) والأحاديث النبوية والآيات المنزلة متضافرة على هذا , ولكن يمتاز بالكرامة والاحترام من يفوق الكافة في التقوى (اتباع الشريعة) {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ومن ثم قام بأمر المسلمين في كثير من الأزمان على اختلاف الأجيال من لا شرف له في جنسه , ولا امتياز له في قبيله , ولا ورث الملك عن آبائه , ولا طلبه بشيء من حسبه ونسبه , وما رفعه إلى منصة الحكم إلا خضوعه للشرع وعنايته بالمحافظة عليه. وإن بسطة ملك الوازعين في المسلمين كان يسديها إليهم على حسب امتثالهم للأحكام الإلهية , واهتدائهم بهديها , وتجردهم عن الاعتلاء الشخصي , وكلما أراد الوازع أن يختص نفسه بما يفوق به غيره في أبهة ورفاهة معيشة , وأن يستأثر على المحكومين بحظ زائد رجعت الأجناس إلى تعصبها ووقع الاختلاف وانقبضت سلطة ذلك الوازع. هذا ما أرشدنا إليه سير المسلمين من يوم نشأة دينهم إلى الآن، لا يعتدُّون برابطة الشعوب وعصبات الأجناس , وإنما ينظرون إلى جامعة الدين , لهذا ترى العربي لا ينفر من سلطة التركي , والفارسي يقبل سيادة العربي , والهندي يذعن لرئاسة الأفغاني , ولا اشمئزاز عند أحد منهم ولا انقباض، وإن المسلم في تبدل حكوماته لا يأنف ولا يستنكر ما يعرض عليه من أشكالها وانتقالها من قبيل إلى قبيل ما دام صاحب الحكم حافظًا لشأن الشريعة ذاهبًا مذاهبها , نعم إذا نبا في سيره عنها وجار في حكمه عما نصت عليه , وطلب الأثرة بما ليس له من حقه؛ انصدعت منه القلوب وتخلت عن محبته الأنفس , وأصبح وإن كان وطنيًّا فيهم أشنع حالاً من الأجنبي عنهم. إن المسلمين اختصوا من بين سائر أرباب الأديان بالتأثر والأسف عندما يسمعون بانفصال بقعة إسلامية عن حكم إسلامي بدون التفات إلى جنسها وقبيلها , ولو أن حاكمًا صغيرًا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية , وثابر على رعايتها , وَأخَذَ الدهماء بحدودها , وضرب بسهمه مع المحكومين في الخضوع لها , وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة - لأمكنه أن يحوز بسطة في الملك , وعظمة في السلطان , وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في الأقطار المعمورة بأرباب هذا الدين , ولا يتجشم في ذلك أتعابًا , ولا يحتاج إلى بذل النفقات ولا تكثير الجيوش , ولا مظاهرة الدول العظيمة ولا مداخلة أعوان التمدن وأنصار الحرية… ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين , والرجوع إلى الأصول الأولى من الديانة الإسلامية القويمة , ومن سيره هذه تنبعث القوة وتتجدد لوازم المنعة. أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم تكن وجهته كوجهة سائر الأديان إلى الآخرة فقط , ولكنه مع ذلك أتى بما فيه مصلحة العباد في دنياهم , وما يكسبهم السعادة في الدنيا والتنعيم في الآخرة , وهو المعبر عنه في الاصطلاح الشرعي بسعادة الدارين , وجاء بالمساواة في أحكامه بين الأجناس المتباينة والأمم المختلفة. ابيضت عين الدهر , وامتقع لون الزمان حتى أصاب أن بعضًا من المسلمين على حكم الندرة يعز عليهم الصبر , ويضيق منهم الصدر لجور حكامهم وخروجهم في معاملتهم عن أصول العدالة الشرعية , فيلجأون للدخول تحت سلطة أجنبية، على أن الندم يأخذ بأرواحهم عند أول خطوة يخطونها في هذا الطريق , فمثلهم مثل من يريد الفتك بنفسه حتى إذا أحس بالألم رجع واسترجع , وإن بعض ما يطرأ على الممالك الإسلامية من الانقسام والتفرق إنما يكون منشؤه قصور الوازعين وحيَدَانهم عن الأصول القويمة التي بُنيت عليها الديانة الإسلامية , وانحرافهم عن مناهج أسلافهم الأقدمين , فإن منابذة الأصول الثابتة , والنكوب عن المناهج المألوفة أشد ما يكون ضررهما بالسلطة العليا , فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى قواعد شرعهم , وساروا سيرة الأولين السابقين لم يمض قليل من الزمان إلا وقد آتاهم الله بسطة في الملك , وألحقهم في العزة بالراشدين من أئمة الدين , وفقنا الله للسداد وهدانا طريق الرشاد. (المنار) لقد وقعت مقالة التعصب التي نشرناها في الجزء الماضي أحسن موقع وأجله في نفوس قارئيها من فضلاء المصريين , ولا ريب أن سيكون لهذه ما كان لتلك , فإن الكل من ينبوع واحد وهو علم أستاذنا الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية محرر جريدة العروة الوثقى , ومن هاتين المقالتين يعرف القراء السر والحكمة فيما اشتهر عن الأستاذ من تخطئة اللاغطين بالوطنية في مصر , والإعراض عنهم لجهلهم بما ينفع الأمة ويضرها , ولكن زعماء الوطنية يوهمون الناس بأن كل من يسفه أحلامهم فهو ميال إلى مسالمة المحتلين أو مصانعتهم , وقد أساء أغرار المصريين الظن بكثير من الفضلاء لوساوسهم , ثم انجلت الحقيقة لأكثرهم , وستنجلى للآخرين إن شاء الله تعالى.

مقاومة رجال الدين لأجل الإصلاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقاومة رجال الدين لأجل الإصلاح وصَّى الله - تعالى - جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ولكن رجال الدين من كل أمة فرقوا دينهم , وكانوا شيعًا ومذاهب يضلل بعضها بعضًا , فكان هذا التفريق مسقطًا للدين من نظر الحكماء والفلاسفة , فقام رجال الدين يناصبون أهل العلم العقلي والحكمة العداء , حتى كانت الأمم قبل الإسلام تعتقد أن الدين والعقل ضدان لا يجتمعان , وخصمان لا يتفقان , وسرت هذه الوساوس من تلك الأمم لبعض المسلمين , وصارت تقوى بينهم كلما ضعف العلم والدين، ولما تنبه أهالي أوربا بعد الحروب الصليبية إلى أن ضعفهم في العلوم والمعارف وما يتبعها من الصنائع وأسباب العمران كله أو جله من سوء سيرة رجال الدين فيهم شنوا عليهم الغارة الشعواء , وظهر فيهم حزب الإصلاح الذي استتبع من الحروب ما أوجب ذلك الانقلاب العظيم في أوربا , وعنه نشأت مدنيتها العظمى التي نشاهد من آثارها ما يحير الأفكار , ويكاد سنا ضوئه يذهب بالأبصار. ولما رأى رجال الدين من بعد أن مقاومة العلم ومقاومة المدنية يعودان عليهم وعلى الدين بالوبال , ويؤذنان سلطتهم بالزوال؛ ساروا مع العلم والمدنية , وكانوا من أكبر أنصارهما , وجمعوا بين علوم الدين والدنيا , ثم فاضت العلوم الغربية على الشرق , وانتشرت فيه بواسطة دعاة الدين المسيحي من الأوربيين , فكان هذا سببًا لعناية الإكليروس الشرقي بالعلوم العصرية اقتداءً بالإكليروس الغربي لا سيما الكاثوليك الذين كانوا من قبل أعدى أعداء العلم والعقل , ولم يبق لهم ذنب في نظر العارفين بأحوال الوقت وما تقتضيه من أمتهم الذين يلقبون بالمتنورين إلا أمران: أحدهما صرف أموال الأوقاف العظيمة على معاهد العبادة كالديور ورجال الكهنوت الذين لا عمل لهم ينفع الأمة؛ لأنهم انقطعوا للتحنث والتعبد , وثانيهما تفريق كل فرقة بين التابعين لها وبين سائر الفرق , وتضليل بعضهم بعضًا مع أنهم أبناء دين واحد , بل وتكفير بعضهم بعضًا للخلاف في مسائل هي أشبه بالفرعية منها بالأصلية الأساسية , وقد شن هؤلاء المتنورون بسبب هذه الأمور الغارة الشعواء على رجال الدين , وطلبوا منهم أن ينفقوا أموال الأوقاف على معاهد التربية والتعليم , وأكثروا من الكتابة في هذا الموضوع في الجرائد السورية والأميركية والمصرية لا سيما جريدة (الرائد المصري) و (السيار) و (المناظر) وكم كتبوا وخطبوا ونظموا القصائد في حث رجال الدين على التأليف بين الطوائف , وإطفاء نيران التحمس والغلو في التعصب. ومن هؤلاء من جعل كلامه عامًّا للمختلفين في الأديان لأن البلاد لا تعمر إلا باتفاقهم على عمارتها , ومنهم من جعل كلامه لأهل الدين النصراني المختلفين في المذاهب فقط , وقد رأينا في جرائد أميركا السورية الأخيرة خبر نهضة عظيمة في هذا الأمر تستحق التدوين والذكر , وإننا ننشر هنا أهم واقعة حدثت لهم فيها وهو ما كان في احتفال (جمعية الشبان المارونيين) ليعتبر به الجاهلون بالتاريخ والأحوال الحاضرة الذين يتوهمون ويقولون , بل ويكتبون في جرائدهم أن سائر أهل الأديان يقدسون رجال الدين ولا ينتقدون عليهم بشيء، يعني أننا قد خرجنا بالمنار عن آداب أهل الأديان كلها لطلبنا من علمائنا إصلاح التعليم والجمع بين علوم الدنيا والآخرة كما هو مقتضى الإسلام , والسعي في جمع كلمة المسلمين التي فرقها اختلاف المذاهب لا سيما أهل السنة والشيعة. ثم قام دعاة الوطنية يفرقونها أيضا باختلاف الأجناس والبلاد , ومع أننا نتكلم في المنار بكل أدب واحترام , ونعتقد أن تعليق آمال الأمة بعلمائها وإقناعها بأن سعادتها في أيديهم هو التعظيم الأكبر لهم , وأننا - ولله الحمد - لم نذكر أحدًا من علمائنا الكرام بسوء , وقد جرينا على آداب السنة السَّنية في الانتقاد على من كتب في مصنف له أن الاقتصاد في المعيشة وتربية الأولاد وتدبير المنزل ليست من الأمور الواجبة على النساء , وذلك أننا لم نصرح باسم القائل , ولا باسم كتابه كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يذكر الإنكار حتى على المنبر من غير تصريح باسم فاعله وذلك بمثل: ما بال قوم يفعلون كذا , فليحاسب أنفسهم الذين يخوضون في الإنكار على المعروف عن غيره بصيرة ليعلموا هل يعملون لمرضاة قوم وإسخاط آخرين , أم ابتغاء مرضاة الله واتقاء سخطه؟ والله ولي المتقين , وهاكم الآن أيها القراء الكرام بعض ما جاء في جريدة الأيام التي تصدر في نيويورك:

كلمة للمؤرخين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة للمؤرخين ثورة السوريين على الإكليروس احتفال جمعية الشبان المارونيين نكتب هذه السطور لتكون من بعدنا مستندًا للكتاب والمؤرخين حتى إذا قدر الله أن تنهض هذه الأمة السورية التعيسة من وهدة التأخر والخمول إلى ذروة التقدم والفخر يعلم الناس أساس تلك النهضة وأسبابها. نكتب هذه السطور بمداد الفخر والإعجاب لتكون أكبر دليل على أن السوريين لا تزال في صدورهم روح الأنفة والحماسة وحب التقدم والنشاط. بل نكتب هذه السطور لنفتخر بأن كلام (الأيام) وغيرها من الجرائد العربية الحرة في هذه البلاد قد أثمر - والحمد لله - الثمرة الصالحة التي كاد أن يقطع الأمل من الحصول عليها في الحين القريب. فالسوريون منذ ليلة الجمعة الواقعة في (9 شهر شباط سنة 1900) قد خطوا الخطوة الأولى في سبيل التقدم والحرية. وهي الليلة التي احتفلت فيها جمعية الشبان المارونيين بمرور سنة كاملة على تأسيسها. فإن هذه الحفلة كانت بعلم من الله تعالى واسطة لإظهار ما تُكِنُّه قلوب السوريين من الكُره والنفور من أعمال الآباء الروحيين التي كانت ولا تزال منذ القديم عثرة في سبيل تقدم السوريين واتحاد قلوبهم , بل هي التي كانت سبب المخاصمات والعداوات الطوائفية التي اشتهر أمرها بين النزالة السورية في العامين الأخيرين وكانت نتيجتها تعطيل المتاجر وخراب البيوت وتدنيس الشرف السوري في بلاد الحرية والعدل. نعم إن السوريين قد شعروا الآن بأن تلك القلانس هي التي كانت منبع الشر والفساد فيما بينهم , وأنها الباعث الوحيد على تأخرهم وشقائهم وتنافر قلوبهم وتعاسة أحوالهم , فقاموا الآن قومة واحدة يرومون تحطيمها كما فعل الفرنسيون من قبلهم في ثورتهم المشهورة على الإكليروس , وهي التي ينبئنا التاريخ أنها كانت حجر الزاوية لذاك الطود الشامخ، نعني به تقدم الأمة الفرنسوية وتمدنها الذي نراه الآن ساطعًا كالشمس في فلك هذا العالم. جهاد وأي جهاد قام به السوريون في أواخر الأسبوع الماضي! فقد اشترك فيه الماروني والأرثوذكسي والكاثوليكي واليهودي وكل سوري غيور على شرفه ومتنور بنور العلم الصحيح البعيد عن الخرافات والأباطيل. فمن سمع قبل الآن أم قرأ في تاريخ السوريين وماضي أحوالهم أن هذه الأمة التي يصفها الكُتاب الأجانب بالطاعة العمياء لرؤساء الأديان والتي كانت في الحقيقة منبع التعصبات الدينية في سابق الأزمان - دافعت ولو مرة واحدة عن حقوقها المداسة بأرجل الإكليروس منذ الألوف من الأجيال؟ إن هذا لم نسمعه منذ قديم الزمان ولكننا قد سمعناه الآن، فقد ضجت النزالة السورية بالأمس بخبر ما توقع مساء الجمعة الماضي لحضرة الأب المحترم الخوري يوسف يزبك ساعة انتصب على المرسح خطيبًا من غير أن يدعوه أحد من الناس , وشرع يندد بالأدباء والمصلحين , ويدعو الناس إلى التعصب والطاعة العمياء ويقول لهم: (إن من لم يخضع لسلطتنا فليسقط ومن لا يرضى بأعمالنا وأفعالنا فليشق نفسه غيظًا وليمت كمدًا وحسرة) . بمثل هذا الكلام تفوه هذا الأب المحترم , بل هو قد فعل أكثر من ذلك , ففاه بكلمات لا يليق برجال الله الأتقياء أن يفوهوا بها بمثل هذه المحافل الأدبية؛ إذ قال في جملة مطاعنه على بعض الخطباء الذي تقدمه في منبر الخطابة , وخطب في وجوب التساهل الديني: (إنه كالسعدان يتمعص، ويتقعص، ويتملص , ويوصي الناس بالخلاعة وعدم التسليم لإرادة مرشديهم الخوارنة الأطهار) . وتفصيل الخبر إن جمعية الشبان المارونيين أقامت مساء نهار الجمعة الفائت الواقع في 9 الحاضر احتفالاً شائقًا بمناسبة مرور سنة كاملة على إنشائها , ودعت ما يقرب من ستمائة شخص من السوريين , وبعض الأمر كان لسماع الخطب في المكان الذي أعدته لهذه الغاية - وهو أرلنثن هول - فخطب في الجمع أدباء كثيرون ودارت المباحثة على محور الوطنية. ثم اعتلى منبر الخطابة بعد ذلك جناب الشاب الذكي الفؤاد الأديب أمين أفندي ريحاني ففاه بخطاب لم يُسمع له نظير من خطيب سوري حتى الآن وعنوانه: (التساهل الديني) نبه فيه الشعب السوري إلى وجوب التساهل الديني، ومنع التعصب ليسهل على السوريين بعد ذلك الاتحاد الذي هو سلم السعادة والمدنية، وقد أورد البراهين والأدلة على أن تأخر الشرقيين بالعلم والثروة والنفوذ ناتج عن انقيادهم الأعمى إلى رؤساء الأديان، وتسليمهم لهم زمام أمورهم الجزئية والكلية، وكان ملخص كلامه بهذا الموضوع: (إن الديانات غشاء على أبصار العامة من الشعب وخرافات في نظر العلماء وتجارة في أيدي الإكليروس , وآلة نافعة في يد الحكومة) . وكان يلقي هذه الدرر بمهارة كلية في فن الخطابة وبصوت جهوري وإشارات لطيفة حتى أهاج في صدور القوم كامن الأحقاد على مستهضمي حقوقهم , فكان لا ينطق بكلمة إلا ويعقبها صدى الاستحسان وتصفيق الأيدي , ولكن ما سمعه الجمهور من خطابه أساء (بالطبع) رجال الإكليروس الذين كانوا في صدر تلك الحفلة , وكأنهم خشوا أن تكسد تجارتهم وتسقط هيبتهم في أعين الشعب بعد أن تتنور الأذهان فقام أحدهم وهو الخوري يوسف يزبك , وادعى أنه سيخطب في موضوع الثناء على القنصل الإفرنسي الذي كان نائبه حاضرًا في تلك الليلة , فتخلص من ذلك الثناء إلى الطعن بشخصيات ريحاني أفندي بكلام تأبى سماعه آذان الأدباء معترضًا على ما قاله من وجوب التساهل الديني والاتحاد الوطني , وكان كلما قال عبارة من هذا النوع ينتظر من الحضور أن يصفقوا له تصفيق الاستحسان, ويقولوا له: (سبحانك) ولكنه رأى في هذه المرة غير ما كان يعهده بأبناء سورية , فإنهم قابلوا كلامه بصفير الاستهزاء , وطلب وجهاؤهم وأدباؤهم من هيئة الجمعية إسقاط المتكلم عن منبر الخطابة خوفًا من هيجان الشعب , ولما تمادى الأب المشار إليه في جرح الحاسات الوطنية وإثارة روح التعصب؛ علت ضجة الشعب من كل جانب , وما كاد الأب ينهي عبارته: (من لا يخضع لسلطتنا فليسقط) حتى نادى الحضور بصوت واحد: فلتسقط أنت وكل من كان على شاكلتك , وهجم بعض الشبان على المرسح يريدون إسقاط الكاهن بالقوة , وحاول كثيرون من الأدباء الخروج من الحفلة إظهارًا لاستيائهم من عمل الأب المشار إليه , فمنعهم أعضاء الجمعية وطيبوا خاطرهم. ولما رأى جناب الأديب شكري أفندي رحيم مدير الجمعية أن لا سبيل لتسكين الخواطر إلا بإسقاط الأب عن كرسي الخطابة ومنعه من إكمال خطابه - طلب من الأب تخفيف لهجته أو التوقف عن الكلام فرفض الأب إجابة الطلب , فالتزم إذ ذاك لتوقيفه بالقوة عملاً بنظام الجمعية , وهكذا تم , فسُر جميع الحضور من عمله , وأثنوا على الجمعية التي بذلت كل ما في وسعها لتسكين الخواطر وإرضاء الجمهور، وهو عمل ندونه لها بمداد الشكر والثناء. ولم يزل الشعب متأثرًا من عمل الأب المشار إليه حتى نهاية الحفلة فقام إذ ذاك جناب الشاب الوطني الأديب الأمير يوسف أبي اللمع وألقى في الحضور خطابًا مهيجًا صادق به على كلام الخطيب الأول أمين أفندي ريحاني , وكانت لهجته شديدة فقام بعض دعاة التعصب , وأحدثوا جلبة وضجة بين الحضور , وطلب بعضهم منع الخطيب عن الكلام , ولكن الرأي العام كان متحيزًا له , فقام النزاع بين الأحزاب , ولكنها والحمد لله لم تكن أحزاب طوائفية لأن الطوائف كانت متحدة يدًا واحدة , بل كانت أحزاب آراء وأميال فاز فيها التمدن والعلم على الخمول والجهل , وأثنى الحضور على الخطيبين اللذين تكلما في وجوب التساهل الديني , وحملوهما على الأكف , وقد اقتصر النزاع على الكلام , ولم يحدث تلاكم وخصام , وانتهت الحفلة باعتذار عمدة الجمعية عما حدث من غير قصد ولا علم منها , وهكذا انصرف الجمع , وهم لا يعلمون إذا كانوا في يقظة أم في منام لأن المظاهرات التي ظهرت في تلك الليلة لم يسبق لها مثيل في تاريخ السوريين منذ قديم الزمن حتى الآن. هذه حاسات الشعب شرحناها كما هي , وهذه تفاصيل الحفلة ذكرناها من وجه إخباري , ونحن كما يعلم الجميع نُجِلُّ الأديان ونحترمها , ونكرم الكهنة الأفاضل الذين يسيرون بموجب التقوى والفضيلة , ويسوءنا أن نرى تصرفات البعض منهم قد أوجبت حنق الشعب وهيجانه. ويا حبذا لو اقتدى البعض من كهنتنا بكهنة الأمريكان الذين إذا اعترضوا على مبدأ ما أظهروا اعتراضاتهم بالكلام الحسي متجنبين الأوصاف الغير لائقة (كالسعدان والأمعط والأشمط) لاسيما وهم في أعين الشعب قدوة الأدب وعنوان الفضيلة اهـ بحروفه.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (22) من هيلانة إلى أراسم في 6 يوليه سنة - 185 كأني أيها الحبيب بساعة الوضع قد اقتربت , وإني وإن كنت لا أزال في كفاية من جودة الصحة لكن ما أشد خوفي من هول تلك الساعة وما تأتي به من الشدائد والمحن التي كان شهودك فيها وحده كافلاً بتخفيف آلامها عني. رباه كيف لا تكون بقربي أيها العزيز أراسم؟ وأخص وقت تكون فيه المرأة كالعشقة (شجرة اللبلاب) لزامًا لمن تحبه وتعلقًا به إنما هو أمس، ذلك اليوم المعروف بالعناء والخطر. في الليلة الماضية رأيت رؤيا تحيرت في تأويلها , رأيتني أزور قبر والدتي لابسة الحداد! فعظمت دهشتي لما رأيته هناك من شجر الورد والآس وغيرهما من الأزهار لأني لم أكن أوصيت بغرسها , ولما رأيت أن يدًا مجهولة قد عنيت بآخر منزل لمن كنت أحبها فزينتْه بهذه الأزهار هاجت أشجاني وانهطلت عَبراتي وأحسست بالبكاء في نومي وقلت في نفسي: ليت شعري مَن هذا الذي عرف كيف يتحبب إليَّ ويسترضيني عنه , ثم تبينت من جملة وقائع متتابعة مبهمة أنك أنت الذي غرستها فغرقت في شبه لُجة من الفناء في حبك , وما عسى أن أصف لك مما خطر في ذهني إذ ذاك؟ فقد تمثلت لي جميع الأحوال التي تلاقينا فيها لأول مرة , وما انعقد بيننا من روابط الحب الأولي تمثلاً ليس كالذي يحصل عند ذكر المرء حوادث ماضية، بل كما يحصل في الحلم، حيث تتشكل فيه الأشياء الحية وغير الحية بأشكالها الحقيقية، فما قولك في هذه الرؤيا؟ ! أما أنا فلو كنت من الموسوِسات لاعتقدت أن فيها إنذارًا ببعض المصائب. أبشرك أيها الحبيب بأن أول مكتوب يأتيك مني بعد هذا سأكتبه إليك وأنا أم , وإني كلما افتكرت في ذلك تعروني هزة الفرح ونشوة الطرب , فالآن أودعك وأقبلك بكل ما في نفسي من قوى الحب والشوق اهـ. شذرات مقتطفة من جريدة أراسم (23) تحرر في 6 يوليه سنة - 185 دخلت فراشة في مخدعي من السجن من حيث لا أعلم , ومكثت ربع ساعة تحاول الخروج من الشباك يدعوها إلي ذلك ما وراءه من الضياء والفضاء والحياة بما تسمعه من الأصوات في جو السماء , ولكنه على ضيقه كان محكم الإقفال فانقضت عليه بنت الهواء أولاً على جهل منها بحقيقة زجاجه اللطيف حاسبة أنه لا وجود أمامها , ثم أخذت تصادمه وتلتصق به وتقاومه , وكلما ردتها صلابته خائبة أعادت عليه الكرة. هكذا يكون شأن الإنسان مع العقبات المعنوية التي تعترضه في طريق حياته لا يحسب لها حسابًا لأنها لا تكاد تكون شيئًا يذكر، فهي كسُمك لوح من الزجاج مثلاً، لكن هذا الشيء الذي لا يذكر كوهم أو عقيدة أو معنى غير صحيح أو مغالطة؛ كافٍ في إعاقة عقله عن التحليق بجناحيه في سماء الحرية فلا يجدي معه اشتداد العقل في اقتحام عقبة , كما لم يُجدِ تلك الحشرة اصطدامها بالزجاج وإيهاء جناحيها. فلما رأيتها قد عجزت عن الخروج فتحت لها الشباك , وقلت لها: امضي أيتها المسكينة في سبيلك , وطيري بجناحيك كما كنت في خالص الهواء وحرارة الشمس فهذا يكفيك من مسجون في حجرته اهـ. (24) تحرر في 8 يوليه سنة - 185 كثيرًا ما شاهدت ساحل البحر بين حركتي المد والجزر , وأبصرت على سطح رماله المبللة الرطبة آثار كثير من الأقدام ومن العجلات ونعال الخيل ورسومًا غريبة في بابها نقشتها على صفحاتها أيدي الأطفال , وأسماء كتبت بأطراف العصي وغير ذلك من الآثار الكثيرة المتنوعة , فلما مدَّ البحر محاها جميعًا فلم يبق منها شيء يدل على سبق وجودها , كذلك شأن العدل والزمن فإن لهما كالبحر مدًّا وجزرًا , فاعملوا ما شئتم من تأليف الكتب وتحرير الصحف وإقامة الأبنية ووضع القوانين , وارسموا مقاصدكم على الرمال، كل ذلك يغمره مد العدل في يوم , بل في ساعة واحدة، فالبحر يقول في مده: إني أعود إلي ما تركت من مكاني , والشعب يقول في مده: إني أسترد ما اغتصب من حقوقي اهـ. (25) تحرر في 9 يوليه سنة - 185 كان فيما سلف من القرون رجل من الفاتحين دمر الممالك ودوخ الأقيال, ثم مات بعد أن تم له النصر في كثير من وقائعه وغزواته فوضعه رجال دولته على سرير فخيم محفوف بأكمل مظاهر الأبهة والجلال مع أنه بالموت قد خلع من ملكه , وأنزل من عرش سلطانه , فاتفق أن تهافتت على أنفه ذبابة فلم تستطع يداه ذودها عنه على ما كان منهما من إدارة شئون الممالك وقمع نخوة الجبابرة , يا عجبًا للوصول إلي الغاية التي وصل إليها ذلك الرجل يوطأ العدل والحرية بالمناسم وتهضم حقوق الأمم! اهـ. (26) تحرر في 10 يوليه سنة - 185 أرادت دجاجة أن تغطي بجناحيها أفراخًا تفقص عنها البيض وكبرت فقلن لها: لسنا في حاجة إلي عنايتك فإنك تزهقين أنفسنا بثقلك , فكان جوابها على ذلك أن قالت لهن: مه فإنكن لا تدرين في ذلك شيئًا , أما عدم احتياجكن إلي فهذا ممكن , وأما أنا فلا أستغني عنكن: أولاً لأنه يلذ لي أن ألقي ثقلي على شيء فإن هذا يكثر من أهميتي , وثانيًا لأني آكل ما أعد لكُنَّ من الحب. أليست هذه الحكاية تمثل الحكومة مع الشعوب التي بلغت من درجات التقدم ما يكفيها في الاستقلال بحكم نفسها اهـ. (27) تحرر في 12 يوليه سنة -185 كانت ليلتي هذه هائلة فظيعة , فإني كنت في بعض ساعاتها أرى من خواطري ما كان يمثل أمامي كما تمثل الأشباح فهل أنا صائر إلي الجنون؟ لقد رأيتها.. هي بنفسها لا في حلم , بل في يقظة لكنها أخفى من النوم بألف مرة. رأيت هيلانة نائمة على سريرها , وكنت ألاحظ نَفسَها المختنق , وأجس نبضها الذي دلني على أنها محمومة. واعجبًا أخالني سمعت صوتًا. ويلاه إنها تئن وتتألم وأنا بعيد عنها. إنما يدرك ثقل وطأة السجن ويحس بضيقه في مثل هذه الساعات التي تغلب على الإنسان فيها حيرته وتزهق نفسه , ولقد كنت أريد أن أكون قدوة لزوجتي في الثبات والصبر فهذه أول مرة غلبني فيها السجن على عزمي فانثنى رأسي , وانجرح فؤادي مما ألاقيه من نقم القانون البشري. لو كان حقًّا ما يقال من أن في قدرة الأموات أن يزوروا من كانوا يحبونهم في هذه الحياة الدنيا , لوددت أن أموت في هذه الساعة حتى أراها اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (التبر المسبوك في نصيحة الملوك) كتاب وجيز وضعه الإمام أبو حامد الغزالي للملك العادل السلطان محمد ابن ملك شاه، كتبه باللغة الفارسية ونقله إلى العربية بعض تلامذته وهو مشتمل على الحكم البالغة والنصائح الرائعة والحكايات التي تشتمل على العظة وتدعو إلى الاعتبار , ولكنه على فضل واضعه وتحقيقه لا يخلو مما يُنتقَد على كتب الوعظ وهو كثير , منه: الغلو في التزهيد , والنهي عن العناية بعمارة الدنيا ككلامه في (بيان العينين اللتين هما مشرب شجرة الإيمان) ويعني بهما معرفة الدنيا , ولِمَ وجد الإنسان فيها , ومعرفة النفس الأخير على أن الكتاب لا يخلو عما يخالف ذلك من الحث على عمارة البلاد , وبيان أن الدين لا يقوم إلا بعمارة الدنيا كقوله: واعلم أن أولئك الملوك القدماء كانت همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم بعدهم , روي أنه كلما كانت الولاية أعمر كانت الرعية أوفى وأشكر , وكانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء ونطقت به الحكماء صحيح لا ريب فيه، وهو قولهم: إن الدين بالملك , والملك بالجند , والجند بالمال , والمال بعمارة البلاد , وعمارة البلاد بالعدل في العباد. فما كانوا يوافقون أحدًا على الجور والظلم , ولا يرضون لحشمهم بالخرق والغشم , علمًا منهم أن الرعية لا تثبت على الجور , وأن الأماكن تخرب إذا استولى عليها الظالمون , ويتفرق أهل الولايات , ويهربون في ولايات غيرها , ويقع النقص في الملك ويقل في البلاد الدخل , وتخلو الخزائن من الأموال , ويتكدر عيش الرعايا لأنهم لا يحبون جائرًا , ولا يزال دعاؤهم عليه متواترًا , فلا يتمتع بمملكته , وتسرع إليه دواعي هلكته اهـ. ومن أحسن ما جاء فيه خبر قال الامام الغزالي: إنه يستفيد منه القارئ والسامع وهو: سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: لأي شيء لا تنفع الموعظة هؤلاء الخلق؟ , فقال: الخبر معروف - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أوصى عند وفاته أشار بأصابعه الثلاث , وقال: (لا تسألوني عن حال أولئك) فقال قوم من الصحابة: أشار إلى ثلاثة أشهر , وقال قوم: إلى ثلاث سنين , وقال قوم: إلى ثلاثين سنة , وقال قوم: ثلاثمائة سنة , يعني إذا مضت ثلاثمائة سنة فلا تسألوني عن حال أولئك الرجال , فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسألوني عن حال أولئك فكيف ينفع الوعظ فيهم؟ وسئل عن هذا السؤال , فقال: كان الناس في ذلك الوقت نيامًا , وكان العلماء أيقاظًا , واليوم العلماء نيام , والخلق موتى , فأي نفع لكلام النائم مع الميت (قال الغزالي) : أما زماننا هذا فهو الذي هلك فيه الخلائق جميعهم وقد خبثت أعمال الناس ونياتهم اهـ. (المنار) وجه الفائدة في الكلام أن المسلمين قد انحرفوا عن صراط دينهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم بزمن قليل - انحرف العامة أولاً وبعدهم العلماء - وليس في الكلام دليل على أنهم لا يعودون إلى الاستقامة على ذلك الصراط المستقيم, فقد ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم ترك فينا الثقلين إن تمسكنا بهما لن نضل أبدًا , وهما كتاب الله تعالى وسنته عليه الصلاة والسلام فما علينا إلا الاستمساك بهما وترك الأهواء والبدع التي روج سوقها فينا قال فلان وفعل علان. (الدليل الصادق على وجود الخالق , وبطلان مذهب الفلاسفة ومنكري الخوارق) كتاب مطول في العقائد لمؤلفه العالم الفاضل الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن جاب الله , وقد أتم الجزء الأول منه تأليفًا , وطبع في مطبعة الآداب والمؤيد، وهو يدخل في نحو 400 صفحة جمع فيها صاحبه كثيرًا من مباحث المتقدمين والمتأخرين , وسار كغيره من المتأخرين علي طريقة السنوسي في تقسيم الصفات , وأورد الأبحاث التي أوردها الذين كتبوا على عقائد السنوسي الشروح والحواشي , ولم تسمح لنا الفرص بمطالعته لننتقده ونوفيه حقه من التقريظ , وغاية ما نقول فيه: إنه جمع من الفوائد والنقول ما لا يكاد يوجد في غيره فنحث أهل العلم على الاطلاع عليه. (سبيل الهدى) مجلة علمية لصاحبها الأديب اللوذعي أحمد سعيد أفندي البغدادي، ويسرنا أن المجلات الأدبية قد كثرت , ووجد منها ما يناسب كل طبقة من الناس، ونرجو أن تحول أفكارهم عن كثرة الاشتغال بالسياسة التي لا تفيدهم، ونرجو لهذه المجلة بخصوصها الإقبال لا سيما عند تلامذة المدارس لأن صاحبها على معرفة تامة بأذواقهم ومشاربهم , وإننا نقرظها الآن وليس في يدنا عدد منها لننبه على أهم مباحثه وهي تطلب من حضرة صاحبها في مصر.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (روسيا وإنكلترا) بذلت دولة الروسيا جهدها في الاستفادة من فرصة الحرب الحاضرة فعقدت قرضًا مع دولة إيران لتنفي منه هذه دين إنكلترا فيبطل نفوذها في تلك البلاد، وساقت جيشًا إلى حدود أفغانستان تمهيدًا للزحف على الهند أكبر أمانيها الاستعمارية بمقتضى وصية بطرس الأكبر , وقد نشرت مجلة (بلاك دويت) تقريرًا لأربعة من الضباط الروسيين انتدبهم ناظر حربية روسيا لاكتشاف حدود الهند وتحصينها بينوا فيه أن الاستيلاء على الهند سهل على روسيا , وذكروا أنهم ذهبوا أولاً إلي مشهد من بلاد فارس ثم إلى أسخاباد ثم إلى كوشك ومنها إلى هرات مفتاح البلاد الهندية، ثم رجعوا إلي كوشك ومنها ركبوا في نهر الأكسوس (سيحون) إلى كيليف وهناك اكتشفوا الحدود الروسية، ثم ذهبوا إلي بلخ، ثم إلى كابل عاصمة أفغانستان من جهة ماجاشريف وباميان وقد شكَوا من وعورة هذا الطريق ورداءته , وذكروا أن الأمير عبد الرحمن تقبلهم بقبول حسن وتلقى مكتوب القيصر له بكل سرور , وساعدهم على استعراف ما أرادوه من مراكز الإنكليز ونقطهم الحربية الجديدة , وقابلوا عنده بعض رؤساء القبائل الأفغانية , واستفادوا منهم فوائد لا تقدر بثمن , وأقاموا في كابل ثلاثة أسابيع , ثم سافروا إلى حدود الشترال لاستعراف عادات القوم وأحوالهم بعد أن عرفوا الشئون الحربية , وقد استطلعوا حدود البلوخستان الإنكليزية والنجود والأراضي التي بين الهند الإنكليزية والإيالات المستقلة الأهلية في جهة شترال وكشمير ولاداك , وصرحوا بخطأ الذين كانوا يعدون أفغانستان داخلة في دائرة النفوذ البريطاني , وصرحوا بأنه ضعيف في أفغانستان , ومعدوم في الولايات التابعة لها , وأنه حل محله في هرات وبلخ وكوندوز الميل إلى روسيا ,وصرحوا بأن حدود الهند الإنكليزية تدل على قلة تبصرهم بالعواقب؛ لأنهم اعتمدوا على الحصون الطبيعية, ولم يستعدوا للطوارئ اقتصادًا أو بخلاً وغرورًا , ونتيجة اكتشاف هؤلاء الضباط أن الخط الذي بين بشاور وكوتا المواجه لأقرب طريق من أواسط آسيا غير كفؤ للمقاومة ولا يمكن عبوره بقوة مهاجِمة ما دام الإنكليز متحصنين وراءه (كذا) أن بقية الحدود الإنكليزية يمكن تجاوزها بقوات ضعيفة، يمكن القرب من أي نقطة من الحدود بسهولة إذا كانت القوة عظيمة على شرط أن تبقى الأعمال مكتومة لئلا تستعد حكومة الهند استعدادًا جيدًا اهـ. *** (أخبار الحرب الحاضرة) مضى على هذه الحرب خمسة أشهر , والإنكليز فيها على انكسار متواصل وخذلان مستمر , وقد نقل إلينا البرق أخيرًا أن قائد جيش أورانج الجنرال كرونجي قد سلم للقائد الإنكليزي العام المارشال روبرتس؛ لأنه وجد أن جيشه لا يبلغ ربع جيش الإنكليز هنالك، وأكثر ما قيل فيه: إنه يبلغ نحو 4000 صاروا أسرى للإنكليز وعند البوير ممن أسروه من الإنكليز أكثر منهم , ونقول ها هنا: إن جميع جرائد أوربا أظهرت الشماتة بالإنكليز تبعًا لأممها ودولها إلا الجرائد العثمانية , بل إن من هذه الجرائد ما كان كلامها في الحرب إفراطًا في المدافعة عنهم كجريدة بيروت الغراء , وإننا نقول الحق وإن كان مرًّا في مذاق المصريين الذين يئنُّون من وطأة ضغط الإنكليز أن من مصلحة الدولة العلية أن تنتصر دولة إنكلترا بعد انكسارها لأن خذلانها المستمر يحدث انقلابًا في أوربا , واختلالاً في الموازنة بين الدول يكون فيه الرجحان لدولة روسيا عدوة الدولة الطبيعية التي لا يرضيها إلا محو اسمها من لوح الوجود (حماها الله تعالى ووقاها) وقد هنأ مولانا السلطان الأعظم جلالة الملكة بهذا الانتصار الأخير , ويظهر أن الكَرَّة رُدت للإنكليز على البوير لأن جيشهم بلغ مائتي ألف مقاتل إلا أن يحول دون ذلك امتداد الثورة في مستعمرة الكاب، فقد ورد في برقيات يوم الخميس الماضي أن بلاد قضائين أعلن أصحابها الانضمام إلى الأورانج , والذين أظهروا الثورة فعلاً منها 3000 رجل. عندما أراد الجنرال بوللر الزحف لإنقاذ لاديسمث من الحصار نشر في جيشه كتابًا يحثه فيه على الثبات , قال فيه: (فليثق كل واحد منكم بالنجاح وليعتقد بالفوز) وقد فسرت جريدة الأهرام كلمته هذه بقولها: (أشار عليهم بكيفية اعتبار البوير مسلمين بهذه العبارة) ونقول: كبرت كلمة هي قائلتها , وأكبر منها أن المسلمين قرأوها من مدة طويلة , ولم نر أحدًا استكبرها أو استنكرها , نعم إن المسلمين صاروا مهضومي الحقوق في الأرض , وتأخروا عن سلفهم في كل شيء من حيث تقدمت الأمم الأخرى على أسلافها في كل شيء إلا أن المسلمين لا يزالون أشجع الأمم وأثبتها وأشدها بأسًا , وأصعبها مراسًا , وإلى الآن ما غلبوا من قلة أو جبن , ولكن الجهل والبعد عن آداب الدين جعلا بأسهم بينهم شديدًا , وقد آن لهم أن يعتبروا بما يقال فيهم , ويجتهدوا في تبرئة أنفسهم منه.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع ما قبله) من المدارس العليا التي تشهد اليوم في تركيا لما لجلالة السلطان من الميل إلى تعليم الفنون الأدبية ميلاً صادرًا عن علم بفائدتها , ولما يبذله من العناية البالغة في توسيع نطاق المعارف لموظفي حكومته - مدرسة العلوم السياسية التي ستضارع نظيرتها في باريس. المدارس التابعة لغير نظارة المعارف هي: أولاً: ما يتبع منها لنظارة التجارة والأشغال والزراعة وهذا بيانه: أ - المدرسة التجارية الحميدية المؤسسة في سنة 1882 بعناية جلالة السلطان عبد الحميد الذي أفاض على مملكته أنفع العلوم وأكفلها بتقدم الصناعة والتجارة. ب - مدرستا الصنائع والحِرَف , وتسميان بالمكتبين الصناعيين، إحداهما للذكور، والأخرى للإناث , وهذه قد رتبت ترتيبًا جديدًا في سنة 1883 ويصح أن تعد نموذجًا في بابها , وفيها يتعلم البنات القراءة والكتابة وشغل الإبرة وتباع الأشياء التي يصنعنها ليكون ثمنها لهن فيوضع ما يحصل منها في شبه مصرف توفير حتى يوزع على متخرجاتها على حسب استحقاقهن. ت - مدارس الحرف التي تقرر في سنة 1884 إنشاء واحدة منها بكل ولاية وتأسيسها الآن جار على التوالي. ثانيًا: ما يتبع منها نظارة المالية وهو: أ - مدرسة المعادن والغابات التي كانت قبل حكم جلالة السلطان عبد الحميد مدرستين منفصلتين إحداهما للمعادن والأخرى للغابات، فضُمتا في حكمه وجُعلتا مدرسة واحدة. ب - مدرسة التلغراف التي بفضل رعاية جلالة السلطان صارت إلى ما هي عليه الآن من الأهمية. قبل الكلام على مدارس الطوائف الغير الإسلامية يجب علينا أن نخصص بعض أسطر للمدارس الدينية الإسلامية , فنقول: تنقسم العلوم التي تلقى في هذه المدارس إلى عشرة فروع وهي: النحو والصرف والمنطق والفلسفة واللغة والبيان والإنشاء والمعاني والهندسة والهيئة , وبعد أن يقضي فيها الطلبة عشر أو اثنتي عشرة سنة يكون لهم الخيار بين أن يعينوا قضاة أو مفتين أو أئمة , ومن أراد منهم التبحر في علم الشريعة وجب عليه أن يمكث بعض سنين أخرى لدراسة مذاهب الفقه وتفسير القرآن والحديث , ويوجد غير هذه المدارس مدرسة الأيتام التابعة مثلها لمشيخة الإسلام المسماة بمدرسة موجبات الشريعة , ومدرستا الأئمة والمؤذنين في استامبول وإسكودار المؤسسة جميعها بفضل عناية جلالة السلطان في سنة 1883 , في القسطنطينية عدد عظيم من دور الكتب العمومية يزيد عن أربعين، وهي في الجملة مؤسسة في المساجد وتابعة لها وتفتح للعامة في كل أيام الأسبوع ما عدا يومي الثلاثاء والجمعة، وزيادة على هذه المكتبات العامة يوجد في العاصمة ما يزيد عن ألف مكتبة خاصة ناتجة مما يوقف على المساجد. مدارس الطوائف غير الإسلامية في المملكة العثمانية تدخل في قسم معاهد التعليم العام التي يسميها القانون المدارس الحرة فإنه متى صرحت الحكومة بإنشاء مدرسة منها وفتحها كانت إدارتها مستقلة استقلالاً تامًّا فلا يكون للحكومة إلا حق النظر فيما إذا كان التعليم فيها لا يحتوي على شيء مغاير لأوضاع المملكة أو للإدارة , وفيما إذا كان معلموها حائزين للشهادات التي تعطيها نظارة المعارف أو المجلس العلمي في الولاية التي تكون فيها المدرسة أو الرؤساء الروحانيون للطائفة التي بها المدرسة , فما خلا هذين الأمرين اللازم مراعاتهما حفظًا لحقوق الحكومة تكون مدارس الطوائف الغير الإسلامية حرة بعيدة عن تداخل الحكومة , ولا شك في أن هذا مثال حسن للتساهل والتسامح من الحكومة العثمانية لغيرها من الأمم , ولا يسع أحدًا إلا أن يعترف بعلو مكانة أخلاق هذه الحكومة. أهم مدارس الطوائف الغير الإسلامية هي: مدارس الروم الأرثوذكس من حيث عددها ودرجة العلوم فيها وانتفاع الطلاب منها , وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام , وهي: المدارس الخورنية والمدارس الأهلية والمدارس العالية المركزية , فالقسم الأول الذي يؤسسه الخوريون , وينفقون عليه يشمل المدارس الابتدائية المشتركة بين البنات والبنين , والمدارس اليونانية ومدارس البنات وهي تقابل مدارس الصبيان والمدارس الابتدائية والمدارس شبه الرشدية , والقسم الثاني وهو المقابل للمدارس الابتدائية العالية هو المدارس المعدة للتعليم الثانوي التي يؤسسها بعض الأفراد , والقسم الثالث يمكن تشبيهه بمدارس الحكومة العالية , ومن هذا القسم تمتاز مدرسة الفنار الكبرى الأهلية ومدرسة حلقي التجارية الدينية , ومكتبة المدرسة الكبرى الأهلية تحتوى على زهاء عشرين ألف مجلد. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الكتب العربية والإصلاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكتب العربية والإصلاح لا تسعد الأمة إلا بالأعمال النافعة التي يقوم بها أفرادها ولا يعمل أحد عملاً إلا إذا كان يعتقد أن فيه منفعة ومصلحة , فأعمال الناس إذن تابعة لعلومهم ومعارفهم , والناس متفاوتون في العلم بالمصالح والمنافع؛ لأن القارئين يكونون أعلم بها من الأميين , بل هم الذين يفيضون عليهم المعارف , ويلقنونهم إياها بطرق مختلفة أعمها المذاكرة والعمل بها , وكل ما وراء البديهيات من المعارف يستفيده الناس من الكتب , فنتيجة هذه المقدمات كلها أن الأمة لا يصلح حالها إلا إذا كانت الكتب المتداولة بين أفرادها في التعليم والمطالعة مشتملة على ما فيه صلاحها وطرق منافعها على الوجه الصحيح من حيث الأخلاق والآداب , ومن حيث الأعمال. وهل الكتب التي في أيدي أمتنا لهذا العهد وعليها مدار معارف الأكثرين منهم هي كذلك؟ كلا ثم كلا , بل هي بخلاف ذلك: كتب التعليم صعبة لا ترشد إلى العمل، وكتب المطالعة ملأى بالمجون والخرافات والأوهام التي تفسد العقول والآداب بل والدين أيضًا. ألف آباؤنا الأولون كُتبًا نافعة في جميع العلوم والفنون أيام كانت أسواق العلم في أمتنا نافقة وبضاعة المعارف فيها رائجة , ثم لما كسدت تلك الأسواق وعمت الجهالة والبطالة؛ مالت النفوس إلى اللهو الباطل والهذيان وطلب المنافع والمصالح من غير طرقها الطبيعية لِما لابس النفوس من الكسل، وظهرت فيها كتب الخلاعة والمجون وكتب الأوهام والخرافات وكتب الروحانيات والطلسمات وراجت بضاعتها ونفقت أسواقها؛ لأن الناس يميلون في كل عصر إلى ما يناسب حالتهم , وصارت الكتب النافعة تخفى عن العيون وتختزل من الأيدي، حتى لم يبق منها بين الأيدي بل في البلاد العربية التي أُلفتْ فيها إلا أقل القليل , وهي الآن محشورة في مكاتب باريس ولندن وبرلين وغيرهم من عواصم أوربا وفي القسطنطينية جملة صالحة منها لم تقدر أيدي أوربا على انتزاعها كما انتزعت الكتب النافعة من مصر وسوريا , ولولا تنظيم الكتبخانة الخديوية أخيرًا على النسق الجديد لما بقي فيها شيء من مهمات الكتب , ولا نعرف حال الكتب الإسلامية في الهند وبلاد فارس على وجه يعتمد. على أنه لا يخلو مصر من الأمصار الإسلامية التي سبقت لها الحضارة والعلم من بقايا من تلك الكتب غفلت عنها عين الزمان , ولم تصل إليها أيدي الحوادث التي أودت بأخواتها , ونحمد الله أن وفق منا من ألفوا شركة في مصر لإحياء كل ما يعرفونه من تلك الكتب بالطبع ليعم نفعها , لكن جميع هذه الكتب النافعة التي أشرنا إليها إنما ألفت للمشتغلين بالعلم في الأغلب , فالذين ينتفعون منها هم العلماء , وإن من علماء عصرنا من يهاب قراءة كتب الأئمة المتقدمين لا سيما ما لم يكتب عليه الشروح والحواشي وهو الأكثر، فإحياء هذه الكتب ونشرها على ما فيه من الفائدة العظيمة لا يغنينا عن نوعين من الكتب نحن في أشد الحاجة إليهما إذا أردنا العمل للنهوض والخروج من الحضيض الضيق الذي نحن فيه: النوع الأول: كتب سهلة مختصرة في اللغة والدين والأخلاق والآداب والتاريخ وسائر الفنون المتداولة في هذا العصر لأجل تعليم النشء الجديد، يراعي مؤلفوها فيها أعمار التلامذة وأفكارهم وسائر ما يرشد إليه فن التعليم , وأساليبه الحديثة التي ثبتت فوائدها بالتجربة والاختبار , ولقد بعثت الحاجة أو الضرورة بعض أساتذة المدارس الأميرية وشبه الأميرية في مصر والمدارس الأجنبية في سوريا إلى تأليف كتب ورسائل في فنون اللغة العربية , وبعض العلوم والفنون الأخرى التي تعلم في هذه المدارس , ولكن لما يوجد منها ما يفي بالمراد , بل إن ما نحن أحوج إليه هو الذي لم يكد يوجد منه عندنا شيء يعتد به ككتب العقائد والأخلاق والعبادات ومبادئ علم الاجتماع وآداب اللغة العربية , ألا ترى كيف تلقفت المدارس كتاب (الدروس الحكمية) عندما ظهر , وما ذلك إلا لأن مؤلفه ما كتبه إلا عند ما رأى شدة حاجة المدرسة العثمانية إلى مثله أيام كان ناظرها , وما تحتاجه إحدى المدارس تحتاجه سائرها لأن المطلوب واحد للجميع , وقد طلب مني بعض أفاضل أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية أن أكتب رسائل في الدين على الوجه المطلوب لأجل دراستها في مدارس الجمعية , ومن يشاء من سائر المدارس الإسلامية , وسألبي الطلب إن شاء الله تعالى عن قريب. النوع الثاني: كتب سهلة العبارة صحيحة المعاني لأجل قراءة العوام ومطالعتهم , والكتب التي تتوجه إليها رغبات الناس ليست نوعًا واحدًا , وإنما هي أنواع شتى منها القصص , وهذه على ضربين , الضرب الأول: القصص الدينية كقصة المولد النبوي الشريف , وقصص الأنبياء , وقصة المعراج , وقصة فتوح اليمن وقصة تودد الجارية وغير ذلك , وفي المنتشر بين الأيدي من هذه القصص من الكذب على الله ورسوله وسائر أنبيائه ودينه العجب العجاب. الضرب الثاني: القصص الوضعية كقصة عنترة العبسي وألف ليلة وليلة , ويسمون ما أُلف في هذا العصر من هذه القصص بالروايات , ومنها ما له أصل زيد عليه , ومنها ما لا أصل له , وأكثر المتداول منها مشتمل على العشق والغرام بحيث يُنتقَد , ويُخشى تأثيره في إفساد الآداب والأخلاق , والعصري يمتاز على القديم بالنزاهة والخلو من ألفاظ الفحش والمجون , ولكنه مع ذلك قليل الجدوى لخلوه غالبًا من الأفكار الصحيحة والإرشادات القويمة , ومنها كتب المناقب وحكايات الصالحين , وفيها من الخرافات والأكاذيب ما يزلزل ركن التوحيد ويفسد الفكر والعقل , ومنها كتب الأوراد والأدعية , وفيها من الشرور وأسباب الغرور ما نبهنا عليه في العدد 40 من المجلد الأول , وناهيك بدعاء عكاشة , والدعاء الذي طبعه في العام الماضي عبد اللطيف القباج , وأمثالهما كثير , ومنها كتب الروحانيات والطلاسم والتنجيم والعزائم , وفي هذه الكتب من المفاسد في الدين والدنيا ما لا سعة في هذه المقالة لشرحه , ولكننا نشير إلى أهمه إجمالاً , فمن ذلك: تعليق الآمال بحصول المنافع وقضاء الحوائج بغير أسبابها الطبيعية التي علقها الله تعالى بها , ومنه طبع النفوس بطابع الخوف والجزع من مس الجن وملابسة الشياطين والعفاريت , وهذا الوهم يؤثر في النفوس , حتى إنه يولد فيها أمراضًا عصبية قد تؤدي بها إلى الجنون , ويحملها على بذل المال للعرافين والدجالين الذين يدَّعون إخراج الجن من المصروعين ونحوهم , ومنه تعويد العقل على التصديق بما لا دليل عليه , بل وبما يقوم البرهان على بطلانه أو استحالته , وأي جناية على العقل الذي هو مشرق نور الايمان وقائد الإنسان إلى جميع مصالحه أشد من هذه الجناية؟ ومنه رغبة المعتقدين بهذه الخرافات عن معالجة الأطباء القانونيين لهم في أمراضهم لا سيما العصبية , والتجائهم إلى أصحاب الروحانيات والطلسمات , وإن تعجب فمن مثارات العجب أن طلاب العلم في الأزهر الشريف هم أشد الناس تهافتًا على هذا النوع من الكتب , ومن كان في ريب من هذا فليسأل الكتبخانة الخديوية؛ فإنها تنبئه بالخبر اليقين , هذا وهم يقرءون في كتب الفقه تشديد الفقهاء في ذلك حتى إن منهم من رمى الآخذين بها بالسحر أو الكفر (انظر فتوى ابن حجر في باب الآثار العلمية) . والذي أقترحه في الكتب السهلة التي تؤلف للعامة أن تكون نزيهة لا مجون فيها , وأن تكون مشتملة على التحذير من الخرافات والأمور المضرة بدلاً من إقرارها والإغراء بها , وأن لا يكون فيها كذب على رجال الدين , لا سيما الشارع صلى الله عليه وسلم , وأن تكون خالية مما يخالف عقائد الدين وآدابه وأحكامه , هذا ركن عظيم من أركان الإصلاح , وهو مطلوب من رجال العلوم وحملة الأقلام لا من رجال السياسة والأحكام , فعسى أن تتوجه نفوسهم لإقامته خدمة لهذه الأمة المرحومة والله ولي المحسنين.

أمالي دينية الدرس ـ 9 ـ الوحدانية وأقسامها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمالي دينية (الدرس التاسع) (29) الوحدانية وأقسامها جعل المتأخرون مبحث الوحدانية ثلاث مسائل، إحداها: وحدانية الذات بمعنى أن الواجب واحد لا يتعدد ويسمون هذا نفي الكم المنفصل , وأن ذاته لا تركيب فيها كما أنها ليست جوهرًا فردًا يدخل في بناء الأجسام , ويدعون هذا نفي الكم المنفصل , والثانية: وحدانية الصفات بمعنى أن صفاته لا تعدد فيها , فليس له علمان وإرادتان وقدرتان , بل علم واحد محيط بكل المعلومات , وإرادة واحدة نافذة في جميع الأشياء , وقدرة واحدة لا يتعاصى عليها شيء من الممكنات , وهكذا سائر صفات الكمال , ويسمون هذا نفي الكم المتصل , وأنه ليس لغيره تعالى صفة تشبه صفاته تعالى , بل ليست الموافقة بين صفات الخلق وصفات الخالق إلا بالتسمية فقط , ويسمون هذا نفي الكم المنفصل , والثالثة: وحدانية الأفعال، ولا يُتصور فيها إلا الكم المنفصل , ومعناها أنه لا فعل إلا لله - تعالى - وحده , هذا ما جرى عليه المؤلفون في التوحيد من عهد السنوسي إلى الآن ولم يكن المتقدمون يُدخلون هذه المسائل كلها في مبحث الوحدانية؛ لأن الوحدة بمعنى نفي التركيب , وكون صفات الله تعالى لا تشبه صفات أحد من خلقه يدخلان في مبحث التنزيه (راجع عدد 19 و23 من الدرس السادس) وأما تصور تعدد الصفات من جنس واحد , فقد جاء من التعمق في فلسفة الأفكار , فاحتاجوا إلى نفيه , ولا يوجد أمة من الأمم تعتقد هذا الاعتقاد , وليس عليه شُبه ظاهرة يُلتفت إليها , وأما الاعتقاد بأن الله تعالى خالق كل شيء , وإليه يستند وجود كل ممكن , فهو يدخل في مبحث وجوب الوجود (راجع الدرس الخامس) نعم إن مسألة أعمال العباد وكسبهم لها تعلق بهذا المبحث , وسنفرد لها درسًا مخصوصًا , فبقي أن الوحدانية إذا أُطلقت تنصرف إلى مفهوم كلمة (لا إله إلا الله) أي نفي الألوهية عن غير الله - تعالى - والمتبادر من معنى الألوهية المعبودية , ومن معنى الإله المعبود , فالوحدانية إذن هي وحدانية العبادة التي شرحناها في الدرس الثامن , ولما كان المعبود بحق هو خالق الكون ومدبره؛ وجب أن يبرهن في مبحث الوحدانية على كون هذا الخالق واحدًا لا ند له ولا شريك وهو ما عقدنا له هذا الدرس. (30) البرهان: قام البرهان على وجود الواجب كما بيناه في الدرس الخامس , وهو يصدق بواجب واحد , ولا تقوم حجة على وجود واجب آخر , بل على عدمه وانتفائه , وبيانه من وجوه: (الأول) : لو جاز التعدد للزم المحال لأنه لا عدد وراء الواحد تقتضيه ذات الواجب , فكل عدد يفرض لا بد أن يكون له مرجح يرجحه على سائر الأعداد المتساوية في نظر العقل بالنسبة لما يجوز عليه التعدد , فإن وجد المرجح لزم أن يكون الواجب المسبوق به حادثًا؛ لأنه ليس من ذاته , والواجب قديم كما سبق برهانه , فلا يكون ما فرض واجبًا واجب وهو تناقض محال , وإن لم يوجد المرجح؛ لزم ترجيح العدد الذي فرض انتهاء الواجب إليه على غيره بدون مرجح وهو محال فثبت نقيضه وهو أن الواجب واحد لا يتعدد. (الثاني) : أن واجب الوجود ما عرف بالحس , وإنما عرف بالعقل الذي نظر في هذه الكائنات الممكنة فوجدها بديعة النظام متقنة الصنع سننها مطردة ونواميسها ثابتة محكمة , فعلم أنها صادرة عن ذات واحدة واجبة ذات علم وإرادة وقوة , ولو كان صدروها عن ذوات واجبة متعددة للزم أن يكون لكل ذات علم وإرادة وقدرة مغايرات لما للذات الأخرى , وما كان صادرًا عن قُدر وإرادات وعلوم متعددة لا يجري على نظام واحد , بل يختلف باختلاف مصادره , وهذه الكائنات لا خلل فيها ولا اختلاف؛ فوجب أن تكون صادرة عن ذات واحدة لا عن ذوات متعددة {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) . (الثالث) : يمكن الاستدلال على وحدة الصانع من كل ذرة في الكون كما يستدل بمجموع الكائنات على ما في الوجه الثاني , ولهذا قال الشاعر: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وبيانه بالإيجاز أن كل ذرة من الذرات التي تألفت منها مادة الكون (كالجوهر الفرد أو الجزء الذي لا يتجزأ) إذا فرضنا تعلق أكثر من إرادة بإيجادها فلا يخلو إما أن تنفذ واحدة من تلك الإرادات فقط , وإما أن تنفذ جميعها , فإن نفذت جميعها لزم اجتماع أكثر من مؤثر على أثر واحد بسيط وهو محال , وإن نفذت إرادة واحدة فقط ووجدت تلك الذرة بقدرة صاحبها وحده كان صاحب الإرادة النافذة والقدرة المؤثرة هو الواجب الذي يستند اليه الإيجاد , وماعداه من الواجبين المفروض وجودهم باطل لا حقيقة له (ألا كل شئ ما خلا الله باطل) هذا إذا فرضنا أن الواجبين اتفقوا على إيجاد الذرة , وإذا فرضنا أنهم اختلفوا بأن أراد أحدهم إيجادها وغيره عدم إيجادها , فحينئذ إما أن تنفذ الإرادتان معًا؛ فيلزم التناقض المحال وهو أن الذرة وجدت ولم توجد , وإما أن تنفذ إرادة واحدة فقط فيكون صاحبها هو الواجب الذي تصدر عنه الممكنات , وفرض وجود واجب آخر معه باطل لا حقيقة له لأننا لا نعرف للواجب معنى إلا الذات التي لها الوجود من نفسها , وعنها تصدر سائر الوجودات الممكنة بقدرة وإرادة وعلم. ويمكن ايراد البرهان بكيفية أخرى , وهي إذا فرضنا وجود واجبين لكل منهما علم تام وإرادة نافذة وقدرة كاملة , وأرادا إيجاد شيء فلا يجوز أن تنفذ الإرادتان لئلا يكون للشيء الواحد وجودان متغايران لكل واحد منهما مصدر مغاير للمصدر الآخر , وهو محال , ولا يجوز أن تنفذ إحدى الإراتين إذ لا مرجح يرجحها على الأخرى؛ لأن الفرض أنهما متساويان فيلزم من تعدد الواجب أن لا يوجد ممكن ما , لكن وجود الممكنات ثابت بالمشاهدة , فتعين أن تكون صادرة عن واجب لا إله غيره ولا رب سواه. ((يتبع بمقال تالٍ))

نجاح التعليم في الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نجاح التعليم في الأزهر الشريف يسرنا ما نراه عامًا بعد عام من نجاح الإصلاح الجديد الذي أدخل في الأزهر الشريف , وهذا النجاح لم يظهر إلا في المشتغلين من طلاب العلم بالعلوم الجديدة التي أضيفت على علوم الأزهر كالحساب والجغرافيا , فقد تبين بالإحصاء الدقيق في امتحان المكافأة لهذه السنة أن الذين امتُحنوا في علم التفسير من المشتغلين بالعلوم الجديدة 41 طالبًا نجح منهم ثلاثون , ستة منهم نالوا المكافأة, وأربعة وعشرون نقلوا إلى درجة أعلى , أو سنة أخرى في التعليم , وسقط أحد عشر أي نحو الربع , والذين امتحنوا في هذا العلم من غير المشتغلين بالفنون الجديدة 22 طالبًا سقط نصفهم , ونال المكافأة واحد فقط , ونقل العشرة الباقون , وإن الذين امتحنوا في علم الفقه والميراث من المشتغلين بالفنون الجديدة 357 طالبًا نجح منهم 198 أخذ المكافأة منهم 59 ونقل 139 وسقط 159 والذين امتحنوا فيه من غير المشتغلين بالفنون الجديدة 177 نجح منهم 71 منهم 15 أخذوا المكافأة و56 نقلوا وسقط 106 , والذين امتحنوا في الحديث والمصطلح من المشتغلين بالفنون الجديدة 25 نجح منهم 11 أخذ المكافأة منهم 5 ونقل 6 وسقط 14 , ومن غير المشتغلين بها 21 نجح منهم 8 أخذ المكافأة واحد , ونقل 7 , وسقط 13 , والذين امتحنوا في النحو والصرف والوضع والاشتقاق من المشتغلين بالعلوم الجديدة 310 نجح منهم 168 أخذ المكافأة منهم 21 , ونقل 147 , وسقط 142 , ومن غير المشتغلين بها 155 نجح منهم 64 أخذ المكافأة منهم 8 , ونقل 56 , وسقط 91 , والذين امتحنوا في علوم البلاغة الثلاثة من المشتغلين بالعلوم الجديدة 93 نجح منهم 68 طالبًا أخذ المكافأة منهم 19 ونقل 49 وسقط 25 , ومن المشتغلين بها 83 نجح منهم 50 أخذ المكافأة منهم 14 ونقل 36 وسقط 33 , والذين امتحنوا في علم التوحيد من المشتغلين بالعلوم الجديدة 157 نجح منهم 63 أخذ المكافأة منهم 15 ونقل 48 وسقط 94 , ومن غير المشتغلين بها 98 نجح منهم 22 أخذ المكافأة منهم اثنان فقط ونقل 20 وسقط 76 , والذين امتحنوا في المنطق وآداب البحث من المشتغلين بالعلوم الجديدة 131 نجح منهم 83 أخذ المكافأة منهم 19 أو نقل 64 وسقط 48 ومن غير المشتغلين بها 62 نجح منهم 34 أخذ المكافأة منهم 3 فقط ونقل 31 وسقط 28. فتبين من ذلك أن الذين يشتغلون بالعلوم الجديدة هم الناجحون في العلوم الدينية ووسائلها من علوم اللغة والمنطق , والنسبة بينهم وبين من لم يشتغل بها بعيدة جدًا , وإنهم لثقتهم بنجاحهم وتحصيلهم أكثر إقدامًا على الامتحان فإن الذين امتحنوا منهم أكثر عددًا من الذين امتحنوا من غيرهم كما هو ظاهر في الإحصاء. ولا غرو فإن علم الحساب والهندسة مما يقوي العقل والإدراك ويقوم الذهن؛ لأنه عمل فكري محض , ومسائله وبراهينه كلها يقينية، متى برع فيها الذهن سهلت عليه البراعة في غيرها , وعلم الجغرافيا يعطي صاحبه معرفة بالعالم الذي يعيش فيه فيستنير عقله , وتنشط نفسه في طلب التقدم والترقي , وسيكون المشتغلون بهذه العلوم هم المدرسين والمؤلفين والقضاة والمفتين , وإذا ضموا إليها سائر العلوم العصرية التي عليها مدار العمران؛ فإننا نرجو أن يكون منهم أئمة يفتخر بهم العالم الإسلامي , ويرجع إليه مجده بهديهم , فإن أكابر أئمة العلماء السالفين كانوا واقفين أتم الوقوف على العلوم الحكمية والرياضية التي كانت في عصرهم لا سيما الإمام الغزالي والإمام الرازي وأضرابهم مع أن تلك العلوم لم تكن في عصرهم مدار العمران ومن أسباب القوة والعزة والثروة كما هي الآن , ومن المشاهد أن الذين لهم معرفة ما بهذه العلوم من علماء هذا العصر هم أكثر تقدمًا ونجاحًا من غيرهم فعسى أن يتدبر ما نقول نجباء الطلاب وما يتذكر إلا أولو الألباب.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (28) من الدكتور وارنجتون إلي الدكتور أراسم في 12 يوليه سنة - 185. أبشرك أيها السيد العزيز بغلام جميل ولد لك في الساعة الثالثة من صباح هذا اليوم بعد ما قاسته والدته من طول العناء وشديد الألم , ولقد كنت عشية أمس مشفقًا من أن يحل بها مكروه لبعض علامات بدت عليها , ولكن قد أعانتنا قوة طبيعتها , وسلامة خلقها على النجاة من الخطر , وأصبحت صحتها من الجودة على ما كنا نرجوه لها , أما الغلام فجل ما يبتغيه أن يعيش ليخلد به ذكرك , ويعلو بنباهته قدرك ويعظم فخرك. وهذه فرصة قد انتهزتها لمكاشفتك بما في قلبي لك من المنزلة الرفيعة , وما في نفسي من جواذب الميل إليك ورجائك في أن لا تضن بي على أي خدمة يلزم لك أداؤها , وأن لا تكتم عني حاجة يعوزك قضاؤها , فإن قبلت هذا الرجاء استوجبت خالص شكري لأنك بذلك تكون قد برهنت لي على أنك لم تنس صديقك القديم , نحن معشر الإنكليز متهمون عندكم بأن فينا شيئًا من الانقباض عن الناس والاحتراس في معاملتهم , ولكن ربما كنا خيرًا مما اشتهر عنا , وعلى كل حال فإن لنا قلوبًا تعطف على البائسين وتكرم المنكوبين. ... ... ... صديقك المخلص. ... (29) من هيلانة إلي أراسم في 2 أغسطس سنة- 185 لابد لي أن أقص عليك تاريخي فيما يسميه الإنكليز اعتكاف النُّفَساء، ملتزمة في ذلك طريق الايجاز فأقول: استأجرت ممرضة كما هي العادة هنا , وهي امرأة واسعة الخبرة في أمور التمريض والولادة , أراك تقضي منها العجب لو سمعتها تتكلم في الطب والجراحة والقيام على الأطفال وغير ذلك مما يدل على كثرة درايتها فيما يلزم لمهنتها , والظاهر أنه يوجد من هؤلاء القوابل في إنكلترا قبيلة بتمامها , ووظيفتهن في حق الوالدات هي أن يرشدن من يكن منهن حديثات عهد بالولادة إلي ما يعود عليهن وعلى أولادهن بالنفع , وينفذن ما يصفه الطبيب من طرق التداوي , وعندهن بحسب ما يُسمع منهن عدة من المركبات الدوائية لمداواة بعض طوارئ العلل لا يتخلف عنها الشفاء , أما قصصهن في هذا الموضوع , فإنها لا نفاد لها , وإني لو اعتقدت صدق كلامهن في جميع الأطفال الذين يدعين أنهم نجَوا على أيديهن من الموت لبطل عجبي من كون إنجلترا قد وجدت من أبنائها العدد الكافي لعمارة إستراليا وزيلاندا الجديدة , وسائر مستعمراتها. أما التي تقوم علي منهن , فهي - فوق ما تقدم من الصفات - امرأة بارعة ذات فضل يظهر أن صفة الأمومة العامة قد صارت غريزة من غرائزها , وهي قصيرة هيفاء تلوح عليها سمات الاستقامة وكرم النفس، شهدت في ماضيها كما يقال أيامًا فإنها كانت زوجة لرجل كان ملاحظًا للأعمال في أحد مناجم كورنواي وقتل بسبب اندكاك هذا المنجم فترملت من بعده , وقد رزقت هي أيضًا عدة أولاد فارقوها من عهد بعيد , وتشتتوا في البر والبحر ابتغاء الرزق، اثنان منهم ملاحان صالحان يصلانها حينًا بعد حين بصندوق من الشاي وقطعة نقد من الذهب , وقد عرض عليها أن تكون ممرضة في مستشفي كبير فلم تقبل على ما في إبائها من المباينة لمصلحتها , وقالت: إني أفضل أن أتلقى الوافدين إلى الدنيا , وأرجو لهم حياة طويلة فيها على توديع من يفارقها فراقًا أبديًّا. كان الدكتور وارنجتون قد أوصى قبل سفره بأن يؤذَن بدنو ساعة الولادة، فلما حان الوقت أُرسل إليه مكتوب فلم يلبث أن جاء من لوندرة على إثره قبل أن يضربني الطلق وتنزل بي شدائد المخاض وأهواله , ومما يُحمد في خصال الإنكليز أنهم إذا أسدوا إلى غيرهم معروفًا لا يمنون عليه , بل لا يظهرون له قصدهم بذلك خدمته , أو إسداء المعروف إليه , وذلك إما أن يكون منهم رقة طبع وكمال أدب أو كبرًا وترفعًا عن خدمة سواهم، يدلك على ما أقول أني لما شكرت هذا الدكتور على مجيئه وتركه مرضاه في لوندرة كان جوابه لي أن قال: رويدك فإني ما جئت من أجلك , وإنما جئت لزيارة زوجتي وأولادي , فهذا الجواب يعتبر في رأينا معشر الفرنساويات دليلاً على قلة الظرف , ويعده كثير من الباريسيات إهانة وتحقيرًا , أما أنا فلم أنظر إلا إلى قصد قائله , فهو جليل , فإنه على يقيني بأن الغرض من مجيئه هو غير ما يقول قد أراد أن يقنعني بأن وجوده عندي إنما كان اتفاقًا لا تعملاً فلا يد ولا منة له علي , أو أنه كان شيء من ذلك فلا ينبغي أن يتمدح به أو أن يذكر. ثم إنه لم يقف في تفضله علي عند حد مساعدتي بعلمه وحذقه في فن التوليد على النجاة من الهلاك الذي كنت مشفقة من الوقوع فيه , بل إنه قد تكرم أيضًا بأن محضني النصح شأن الصديق مع صديقته فيما يجب للمولود من ضروب العناية فقال: (إني أخاطب الآن غَرة لا خبرة عندها فلا تدهش لما سألقيه عليها من أفكاري , فإن أقل مزية لها أن أساسها التجربة والاختبار , قد نبه كثير من وصفائي أفكار الناس في جميع البلدان إلى كثرة عدد الوفيات المريعة في الأطفال الحديثي العهد بالولادة , ويمكن إرجاع هذه البلوى إلي جملة أسباب، كفاقة الوالدين وفساد أخلاقهما وعدم كفاية أقواتهما , ولكني أعتقد أن أخص سبب يجب أن ينسب إليه ذلك هو جهل الأمهات بما تجب عليهن رعايته في شأن أولادهن، فإن الاساءة في بعض طرق العناية بالمواليد كاتخاذها في غير وقتها , أو الخطأ في تدبيرها لا تقل عن إهمال شأنهم شؤمًا وسوء مغبة , وإني لست أقصد بهذا أنه يجب على الأمهات أن يجرين على ما تقتضيه الفطرة جري عماية وغفلة , فإنهن إن يفعلن ذلك يعصين الله (سبحانه) بتخليهن عن العقل الذي لم يهبه لهن إلا لمراقبة سير الفطرة في مناهجها وإقامتها عليها إذا حادت عنها , وإنما أعني بذلك أن الاوهام والعادات والمعارف الكاذبة هي أعدى أعداء المواليد فتجب محاربتها ومحو آثارها , وينبغي أن تعتقدي أننا لسنا أسوا من غيرنا حالاً في تربية مواليدنا؛ لأن شعبنا يزداد زيادة ظاهرة حتى إنه قد ضاقت عن سكناه أرجاء بلادنا وها نحن أولاء نرسله أفواجًا إلي الأقطار السحيقة ليتوطنها ويستعمرها، ومن هذا تعلمين أن ازدياد الأجناس لا يكون على نسبة عدد الأطفال المولودين , بل على نسبة عدد من يتخطاهم الموت منهم , وعندي أن هذه النتيجة الحسنة الداعية إلي الاغتباط في بلادنا ترجع إلي ثلاثة أمور وهي: استعداد الدم الإنكليزي السكسوني للحياة , وانطباع نسائنا على حب بيوتهن والعناية بها وما لذوي العقول المستضيئة بنور العرفان من علمائنا من التأثير في نفوس العامة فإن كثيرًا من نطس الأطباء الطائري الصيت عندنا لم يأنفوا أن يقوموا ببث الأفكار الصحيحة والآراء السديدة في فن القيام على المواليد بين أفراد الشعب) . ولم يكد الدكتور يفرغ من كلامه حتى باشر العمل بنفسه ورتب ما رآه غير مرتب في غرفة نومي، من ذلك أنه وجد مهد (أميل) قد وضع خطأ تجاه الشباك فغير وضعه وقال لي: (إني رأيت أطفالاً أصبحوا عميًا أو حولاً بسبب تعريضهم بعد ولادتهم بأيام لضوء شديد) هذا وإني سأتحفك بنصائح أخرى وعيتها عن هذا الرجل الفاضل لما رأيته فيها من كمال الحكمة والسداد , ولم أُخِل بشيء منها , وإني لا أرتاب في أنه قد تكلف من المشقة والتعب من أجلي ما لم يتكلفه لغيري من النساء اللاتي يُدعى لتوليدهن , وعاملني كما يعامل الرجل زوجة صديقه , على أن الناس قد أكدوا لي أن الأطباء المولدين هنا لا يرون أن عملهم قد تم بمجرد انتهاء الولادة , بل يرشدون الوالدة بعد ذلك إلي جميع ما يلزمها في تربية وليدها اهـ. (30) من هيلانه إلي أراسم في 3 أغسطس سنة - 185 كلما رددت النظر إلى (أميل) رأيت مثالك محققًا فيه ولا بد لي أيها العزيز أراسم أن أحكي لك بهذه المناسبة حكاية طبق ذكرها الآفاق في البلد الذي أسكنه، ذلك أن قسيسًا بروتستنتيًّا قاطنًا في جنوب إنكلترا وجد اتفاقًا في كورنواي يومًا من الأيام فطلب أن يزور قصرًا عتيقًا جدًّا في ضيعة هناك كانت لأسلافه في غابر الأزمان , ولذلك كان كثير الاهتمام برؤية أماكنها , فلما حل بها ملأه العجب , وأخذ منه الاندهاش كل مأخذ إذ رأى في الرواق المعلقة فيه صور أهل هذا البيت السالفين صورة كأنها تمثله بذاته مرسومًا على قماش قديم لابسًا عُدة الحرب كما كانت سُنة الناس في القرون الوسطى لا بملابسه السوداء التي يلبسها اليوم , وبينما هو يتأمل في هذه الصورة وفيما يليها من الصور إذ وقع بصره على صورة أخرى زادته ارتياعًا ودهشةً فتقهقر خطوتين إلي الوراء وهي صورة تمثل ابنه البكر , وهو في الثالثة عشرة من عمره , وكان معه في هذا الرواق، فماذا تفتكر في هذه الصورة الوراثية؟ أما أنا فإني أكاد أفزع عند ما أفتكر في أن رجلاً من الأحياء يعرف نفسه وابنه في شخصين مجهولين من أهله ماتا من عدة قرون. فليت شعري هل نحن راجعون إلي الدنيا بعد الفناء كما روى لنا التاريخ ذلك عمن يؤمنون بالرجعة والتناسخ؟ اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم) أنقل فيه فتوى للعلامة ابن حجر الهيتمي ليعتبر بها مجاورو الأزهر وغيرهم وهي: (وسئل نفع الله به: هل من السحر ما يفعله أهل الحِلق الذين في الطرقات , ولهم فيها أشياء غريبة كقطع رأس الإنسان وإعادتها وندائهم له بعد قطعها , وقبل إعادتها فيجيبهم , وجعل نحو دارهم في التراب , وغير ذلك مما هو مشهور عنهم , وكذا كتابة المحبة والقبول وإخراج الجان ونحو ذلك؟ فأجاب بقوله: هؤلاء في معنى السحرة إن لم يكونوا سحرة، فلا يجوز لهم هذه الأفعال , ولا يجوز لأحد أن يقف عليهم لأن في ذلك إغراء لهم على الاستمرار في هذه المعاصي والقبائح الشنيعة , وإفسادهم قطعي وفسادهم حقيقى , فيجب على كل من قدر منعهم من ذلك , ومنع الناس من الوقوف عليهم , وإذا كان كثير من أئمتنا أفتوا بحرمة المرور بالزينة على أن أكثر أهلها مكرَهون على التزيين بخصوص الحرير , ورأوا أن التفرج عليها فيه إغراء على فعلها , وللحكام على الأمر بها , فما ظنك بالفرجة على هؤلاء الكذبة المارقين والجهلة المفسدين , وفي الموَّازية من كتب المالكية: الذي يقطع يد الرجل أو يدخل السكين في جوف نفسه , إن كان سحرًا قتل، وإلا عوقب , وسئل ابن أبي زيد من أئمتهم عن نحو ما في السؤال , فقال: إن لم يكن في أفعالهم تلك كفر فلا شيء عليهم , وتعقبه المرزباني فقال: هذا خلاف ما اختاره شيخنا الإمام أنهم سحرة , وأن الوقوف عليهم لا يجوز , وهو يشبه ظاهر الرواية لابن عبد البر، روى ابن نافع في المبسوطة في امرأة أقرت أنها عقدت زوجها عن نفسها أو غيرها أنها تنكل ولا تقتل , قال: ولو سحر نفسه لم يقتل، بذلك قال شيخنا الإمام , والأظهر أن فعل المرأة سحر , وإن كان فعل ينشأ عنه حادث في أمر منفصل عن محل الفعل فإنه سحر , وعن ابن أبي زيد: من يعرف الجن وعنده كتب فيها جلب الجن وأمراؤهم فيصرع المصروع , ويأمر بزجر مردة الجن عن الصرعة , ويحل من عقد عن امرأة , ويكتب كتاب عطف الرجل على المرأة , ويزعم أنه يقتل الجن - أفي هذا بأس إذا كان لا يؤذي أحدًا وينهى بريًّا أن لا يتعلمه (كذا) قلت: هذا نحو مما أنكره شيخنا من عقد المرأة زوجها , والصواب أن التقرب إلى الروحانيات , وخدمة ملوك الجان من السحر , وهو الذي أضل الحاكم العبيدي لعنه الله حتى ادعى الألوهية , ولعبت به الشياطين حتى طلب المحال , وهو مجبول على النقص وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة. وعن ابن أبي زيد أيضًا: لا يجور الجُعل على إخراج الجان من الإنسان لأنه لا يعرف حقيقته ولا يوقف عليه , ولا ينبغي لأهل الورع فعله ولا لغيرهم، وكذا الجُعل على حل المربوط والمسحور , وسئل أيضًا عمن يكتب كتاب عطف لامرأة أعرض عنها زوجها ليُقبل عليها وتكتفي شره , فأجاب: أما ما بين الزوجين فأرجو أن يكون حقيقيًّا بكتب القرآن وغيره مما لا يستنكر ولا يشترط في جُعله , قلت: وهذا خلاف ما تقدم له، إلا أن هذا بالرقى الظاهرة الحُسن كرقي أبي سعيد الخدري رضي الله عنه سيد الحي الملدوغ بالفاتحة. انتهى. ومذهبنا أن كل عزيمة مقروءة أو مكتوبة إن كان فيها اسم لا يعرف معناه فهي محرمة القراءة والكتابة سواء في ذلك المصروع وغيره , وإن كانت العزيمة أو الرقيا مشتملة على أسماء الله تعالى وآياته والإقسام به وبأنبيائه وملائكته، جازت قراءتها على المصروع وغيره وكتابتها كذلك , وما عدا ذلك من التبخيرات والتدخينات ونحوهما مما اعتاده السحرة الفجرة الحرام الصرف , بل الكبيرة , بل الكفر بتفصيله المشهور عندنا , ومطلقًا عند مالك وغيره , وسئل ابن أبي زيد المالكي عن أجر أن يكتب فيها (كذا) نحو اسم الله الذي أضاء به كل ظلمة , وكسر به كل قوة , وجعله على النار فأوقدت , وعلى الجنة فتزينت , فأقام به عرشه وكرسيه , وبه يبعث خلقه , وما أشبه ذلك مع قرآن تقدمه فهل بهذا بأس؟ فقال: لم يأت هذا في الأحاديث الصحاح , وغير هذا من القرآن والسنة الثابتة عن النبي صلي الله عليه وسلم أحب الينا أن يدعى به , وذكر في أثناء كلامه أن ذلك لا يجوز إلا ببعد من التأويل. انتهى. وممن صرح بتحريم الرقيا بالاسم الأعجمي الذي لا يعرف معناه (أي كأسماء الطهاطيل وأسماء أهل الكهف) ابن رشد المالكي والعز بن عبد السلام الشافعي وجماعة من أئمتنا وغيرهم , وقيل وعن ابن المسيب ما يقتضي الجواز لقوله صلي الله عليه وسلم: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه. انتهى , ولا دليل فيه لأنه لم يقل لهم ذلك إلا بعد أن سألوه أن عندهم رقيا يرقون بها فقال لهم صلي الله عليه وسلم:) اعرضوا علي رقاكم فعرضوها عليه فقال صلي الله عليه وسلم: (لا بأس) ثم قال: (من استطاع منكم) إلخ فلم يقل ذلك إلا بعد أن عرف رقاهم , وأنه لا محذور فيها , وذكر بعض أئمة المالكية أن من أمر الغير بعمل السحر لا يقتل بالأمر بل يؤدب أدبًا شديدًا كما في المدونة , وسئل بعضهم عن رجل صالح يكتب للحُمى ويرقي , ويعمل النشر ويعالج أصحاب الصرع والجنون بأسماء الله والخواتم والعزائم , وينتفع بذلك كله من عمله , ولا يأخذ على ذلك الأجور فهل له بذلك أجر؟ فأجاب: أما الكتب للحمى والرقى وعمل النشر بالقرآن وبالمعروف من ذكر الله تعالى , فلا بأس به , وأما معالجة المصروع بالجنون بالخواتم والعزائم ففعل المبطلين، فإنه من المنكر والباطل الذي لا يفعله ولا يشتغل به من فيه خير أو دين , فإن كان هذا الرجل جاهلاً بما عليه في هذا فينبغي أن يُنهى عنه , ويُبصر فيما عليه فيه حتى لا يعود إلى الاشتغال به. اهـ فتوى ابن حجر , ولا يخفي أنه ليس كل ما يفرضه الفقهاء لبيان حكمه يكون واقعًا أو مما يقع، فإنهم أحيانًا يفرضون المستحيل عادة بل وعقلاً كما صرحوا به. (اقتراح في الإصلاح الإسلامي) كتب بعض أهل الفضل والغيرة الملية كتابًا إلى مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية يقول فيه: إنه قرأ رسالة التوحيد؛ فعرفتْه دينه بقليل من الزمن , وأزاحت من سماء فكره سحب أوهام وشُبه طال عناؤه من قبل في السؤال عنها , فلم يستفد من كتاب ولا من عالم ما يزيحها , ثم اطلع على تقرير المحاكم الشرعية فألفاه قد شخص الداء ووصف الدواء على أكمل وجه , وعند ذلك جال في فكره أنه ينبغي لهذا الإمام الحكيم أن يضع تقريرًا آخر يشخص مرض الأمة الإسلامية كلها ويصف دواءه , وقوي عنده هذا الفكر حتى دفعه إلى الكتابة للأستاذ يطلب منه ذلك بالوجه الذي يرى , وعلى الوجه الذي يرى , وقال: إن ذلك التقرير قد طلبته منك الحكومة , وهذا التقرير يطلبه منك دينك وأمتك ووطنك ويكافئك عليه الله الذي بيده ملكوت السموات والأرض , واقترح على الأستاذ أن يجاوبه على كتابه هذا في مجلتنا (المنار) وهذا المنار يجاوبه بما يعلمه عن الأستاذ في هذا المقام علم اليقين وهو: إن الأستاذ وعد بتأليف كتاب مخصوص في هذا الغرض يسميه (الإسلام والمسلمون) وقد أشار إلى هذا الوعد في الصفحة 128 من رسالة التوحيد , ولم تزل عوائق الزمان وصوادف البيئة والمكان تحول دون الشروع فيه , وقد اقترحنا على فضيلته نحن وكثيرون ممن يحضرون درسه في التفسير الذي يقرأه في الأزهر الشريف أن يؤلفه تفسيرًا على الوجه الذي يقرأه , فإنه مبين لأمراض الأمم الروحية والاجتماعية ومرشد إلى علاجها؛ لأن القرآن فيه تبيان كل شيء , وقد فسر من حيث هو كلام بليغ مشتمل على أحكام وفرائض , ولكنه لم يفسر على أنه دين مرشد للأمم وقائد للشعوب إلى السعادة الاجتماعية المدنية في دنياهم والسعادة الروحية الأخروية في عقباهم، حتى قام هذا الأستاذ الحكيم يفسره على هذا الوجه , بل إن غير واحد ممن يعرف فضل الأستاذ في غير مصر قد كتبوا يقترحون عليه هذا الاقتراح حتى بواسطتنا , ويرون أن هذا التفسير كافٍ لإرشاد الأمة إلى جميع ما تطلبه لسعادتها وإرجاع مجدها , وقد أجاب الاقتراح ووعد بالكتابة، فما علينا إلا أن نسأل الله تعالى أن يسهل لفضيلته أسباب التعجيل بالعمل. ثم نقول: إنه يجب على الذين تنبهت نفوسهم إلى سوء حال الأمة ووجوب السعي في تجديد دينها وإعادة مجدها أن لا يتواكلوا ويعتمدوا على من يعتقدون أنه أوسع منهم علمًا وحكمة , بل يجب على كل واحد أن يبحث ويسعى في استعراف الداء والدواء وطريق المعالجة والله تعالى يهدي كل طالب بصدق وإخلاص , ويعطيه على مقدار جده واجتهاده , وهؤلاء الباحثون يكونون بلا ريب أبلغ فهمًا وأكثر انتفاعًا بما يكتبه الأستاذ , والذين يسيرون في طريق واحد ينتهون مع الاستقامة في السير إلى غاية واحدة , وإن كان سير بعضهم بطيئًا وسير الآخر حثيثًا , وأما الواقف انتظارًا لمن يحمله ويوصله إلى الغاية فقد يهلك دون مقصده ولا يجد من يحمله , ومن لطيف الاتفاق أن كاتب هذه السطور كان يذاكر بعض المهذبين في حال الأمة وما تحتاجه من الإصلاح فقال شاب مهذب: إنني أتمنى أن يكتب مولانا الأستاذ مفتي الديار المصرية كتابًا في حال الأمة وأمراضها وطرق علاجها , وأن يعرضه على المشهورين من أهل العلم والفكر ليقرّوه ويوافقوا عليه , ثم يُنشر لتأخذ به الأمة وتعتمده , وفي مساء ذلك اليوم علمت بورود الكتاب الذي نحن بصدد الكلام عليه إلى فضيلة الأستاذ فالأفكار التي تتسابق في ميدان واحد كثيرًا ما تلتقي في نقطة واحدة , فالباحثون في حال الإسلام والمسلمين بصدق وإخلاص لا بد أن يصلوا في يوم ما إلى نتيجة واحدة (وعلي الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) . (الانتصار بالدين، وصلاة روبرتس) يقول الله - تعالي - في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45) والفلاح في الحرب الانتصار , والسبب فيه معقول , وهو أن المحارب إذا ذكر الله الذي يعتقد أن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه , واستمد منه النصر لأنه يحارب بحق يرضيه , وهو القوي الذي تتضاءل لديه كل القوىَ فلا شك أنه يزداد جرأة وإقدامًا ويستهين بخصمه وإن كان استعداده فوق استعداده , ولذلك فرض على المؤمنين أن يقاتلوا ضِعفهم على الأقل. وقد ثبت هذا بالتجربة في كل عصر , ومن ذلك ما اتفقت عليه كلمة الباحثين في الحرب الأخيرة بين الإنكليز والترنسفال من أن من جملة أسباب انتصار البوير على الإنكليز نحو خمسة أشهر متوالية، أن البوير كانوا عند اشتباك القتال يذكرون الله ويستمدون النصر من عنايته والإنكليز يذكرون الوطن (ليعتبر أنصار الوطنية) والملِكة , ولما تلافى الإنكليز أسباب الانكسار وأكثروا عَددهم وأصلحوا عُددهم لم ينسوا هذا السبب المهم , ولذلك كتب قائدهم الجديد العام اللورد روبرتس صلاة (دعاء) وزعها على الجيش ليتلوها كل واحد منهم عند الزحف وهذه ترجمتها: (اللهم إننا ملوثون بالذنوب والآثام , فطهرنا منها بدم المسيح , وأيدنا بروح منك لنقدر على إصلاح حالنا وحياتنا , ويسر لنا لقاء أهلنا وأولادنا الذين خلَّفناهم في ديارنا , وقوِّنا على رفع كلمتنا الحقة بالشجاعة والإقدام , ووفقنا للثبات في المهالك التي انتُدبنا إليها , والقيام بخدمة وطننا ورفع أعلامنا بصدق واخلاص , وألهمنا الصبر على ما ابتلينا به ووفقنا لإعلاء شأن إنكلترا بالظهور على الأعداء إن كان ذلك قد سبق في علمك , وارزقنا مع عصياننا لك قوة نغلب بها عدونا , لنكون مقبولين عن

إعادة مجد الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعادة مجد الإسلام ] كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقا هَدَى وَفَرِيقا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ [[*] . كثر الخوض في هذه الأيام في إعادة مجد الإسلام فتبارت الألسنة بالكلام , وتسابقت في ميادين الصحف جياد الأقلام فغارت عرج الحمير , ونهقت تطلب النفير , وتحاكي للناس الزئير بالشهيق والزفير , فاشتغل بهذه المجالي والمظاهر والمسامع والمناظر من لا يميز بين الناطق والناهق , ولا يُزيِّل بين المسبوق والسابق , وأقبل قوم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون يقولون: كيف يعود للإسلام مجده , ويرجع إليه عزه وسعده , وثلثا أهله تحت سلطة الأجانب والثلث الآخر قد أحدقت به النوائب من كل جانب , والجواب على هذا السؤال من الكتاب {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) ومن السُّنَّة: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) ومن كلام علماء العمران: (إن التاريخ يعيد نفسه) ولنوضح هذه الإشارات بشيء من الشرح والبيان ليظهر الحق للعيان. كان العالم الإنساني قبيل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة , وظلمات من الظلم والفتن , وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة , وصدع بنيانها؛ فأراد الحي القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة , ويقيم بناء مدنيته على أساس من الحكمة ليثبت ويبقى إلى ما شاء الله تعالى , ويبلغ به الإنسان كماله المستعد هو له في أصل الفطرة القويمة , فأظهر الله جل ثناؤه الإسلام في الأمة العربية فحملته وطافت به العالم المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية , فما كان إلا كلمح البصر أو هو أقرب حتى عم نوره المشرق والمغرب , ودخل الإنسان في طور جديد , وأقام أركان مدنيته على أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء , وكيف تزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن الخليقة , وقد أخبر مبدعها الحكيم الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل. لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟ اختارها وهو أعلم لأسباب ووجوه: (إحداها) : أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي أقيم فيها من قبل بنيان الحضارة , وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق وفارس حيث كان التمدن الكلداني والآشوري والبابلي والفارسي والفينيقي والمصري واليوناني والروماني، فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في الأرض القابلة وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة. (ثانيها) : أنها كانت- ولا مدنية لها سابقة - أشد استعدادًا من تلك الأمم التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه الأول وهو استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي لأنه لم يكن لها رؤساء في الدين والسياسة يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم وتتلاشى آراء أفرادها في آرائهم فلا يرجع اليهم أحد قولاً , ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا ولا نفعًا , وأما تلك الأمم فقد كان المرءوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا حتى لم تبق لهم إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ من الرؤساء , ويمثل أفكارهم وآراءهم. (ثالثها) : أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة الكمال بمجرد سلامة الفطرة , وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي جاء يخاطب العقل والوجدان معًا , ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى , ويطمس رسومه وتكون أسرع انفعالاً بالمؤثرات وأشد تمسكًا بالمعتقدات. (رابعها) : أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة والحرية الشخصية , وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا والاستماتة في المدافعة عنه، على حين أمات الأخرى وذهب بإرادتها ما تواتر عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة حتى سهل عليها مشايعة الظالمين على خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا العهد , وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني. (خامسها) : أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه على وحي سماوي وعلى سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به الإسلام أو يزاحمه , وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان , وعلى وجه يقبله العقل , وينفعل له الوجدان إذا وجد استقلال الفكر والرأي , وكذلك كان. هذا ما ظهر لنا الآن من وجوه اختيار الحكمة الإلهية الأمة العربية على سائر الأمم لإظهار الإصلاح الإسلامي ونشره في العالم الإنساني , وقد رزئ المسلمون بجميع أرزاء الأمم السابقة التي لم تخضع للإصلاح الإسلامي من فقد الاستقلال في الإرادة والفكر , وضعف الفهم والوجدان , والتسليم الأعمى للرؤساء , والتقاليد الباطلة من البدع والمذاهب في أصول الدين والذلة والجبن والمهانة , وزادوا على ذلك أنهم فقدوا لغة دينهم التي جاءهم كتاب الإصلاح بها حتى إن علماءهم لا يفهمونه كما كان يفهمه الأعراب من رعاء الإبل والشاء , فكيف السبيل إلى إرجاعهم إليه , وهم لا يتناولونه بأفهامهم , وإن الكثيرين منهم فتنوا بمدنية أوربا فبعضهم يرى أن السعادة فيها مطلقًا , والبعض يرفضها , وينهى عنها باسم الدين من غير فصل بين نافعها وضارها , وبين ما كان منها موافقًا للإسلام أو مأخوذًا عنه وما ليس كذلك , فالإصلاح الذي يعيد للإسلام مجده لا يوجد إلا على أيدي جماعة لهم استقلال في الفكر والإرادة , وعندهم شهامة وعزة , ويمكن أن يفهموا القرآن أو يُفهموه حتى إذا دُعوا لجعله أصلاً مع السنة الصحيحة , وما كان عليه السلف الصالح من العقائد والأخلاق والآداب والأعمال؛ يلبون الدعوة وينصرونها بما يستطيعون من حول وقوة لا يزحزحهم عنها الرؤساء , ولا يصدهم عن قبول ما فهموه تجرع عصارة أفكار القدماء , واستقلال الإرادة والفكر لا يوجد الآن في الجملة إلا عند طائفتين من المسلمين: (الطائفة الأولى) : بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية , وأكثرهم من الأتراك والهنود وفيهم عدد غير قليل من المصريين وغيرهم , وأكثر أفراد هذه الطائفة منحرفون عن صراط الدين غير مصبوغين بآدابه وفضائله وأعماله , وما داموا كذلك لا يرجى منهم للأمة خير , ومولانا السلطان عبد الحميد يمقت هؤلاء المتمدنين , ويراهم آفة على الأمة وبلاد الإسلام , ومثل المصريين يسهل إقناعهم بقضايا الدين الحقيقية إذا وجد فينا علماء عارفون بالعلوم والفنون التي تلقوها والأفكار الجديدة التي أشربتها قلوبهم يكتبون الكتب , ويقرأون الدروس في التوفيق بين الإسلام وبين المدنية الحقة والعقل , بل في بيان أنهما صنوان لا يختلفان , وكم من صاحب شبهة أو شبه في الدين أرجعته قراءة (رسالة التوحيد) إلى الحق اليقين , وهؤلاء إنما استفادوا من التعليم الجديد استقلال الفكر دون استقلال الإرادة , فالضعف والجبن غالبان عليهم , وأكثر ما يرجى منهم نشر العلوم والفنون التي تعلموها , ونشر الدعوة للإصلاح وتكثير سواد أهلها مهما كانوا آمنين من الخوف. (الطائفة الثانية) : سكان البوادي (وبعض أهل المدن) من العرب، فإنهم لم يصبهم من ظلم الظالمين ما أصاب غيرهم لأنهم بمعزل عن سطوة الملك وقهر السلطان , ولم يأخذ سلطان التقليد بأعنتهم , فيصرفهم عن استعمال عقولهم بالمرة. إلا أن هذه الطائفة يعسر عليها أن تجاري المدنية الحاضرة إلا في استعمال آلات الحرب والكفاح، فإذا أمكن بإصلاحها أن يكون للإسلام قوة يُحفظ بها جزء عظيم من البلاد الإسلامية , وتكون بها الدولة عزيزة قوية - يمكن للمسلمين أن يقيموا بناء مدنيتهم في ضمن دائرة هذه القوة , ووراء حصنها الحصين كما كان شأنهم في مدنيتهم الأولى , وكما فعلت الروسية في نشأتها الجديدة. كان المنار يدعو إلى الوحدة الإسلامية التي تضمن لسائر الشعوب والملل حقوقها في بلاد الإسلام على أكمل وجه , وهذه الوحدة الإسلامية لا يتيسر القيام بتعميمها من مصدر واحد مع اختلاف لغات المسلمين ومذاهبهم وحكوماتهم وأقطارهم ومذاهبهم؛ فينبغي أن يدعى للوحدة الإسلامية عملاً في كل عنصر من العناصر والشعوب الإسلامية على وجه خاص بأن يضم إلى الكلام في الوحدة العامة الوحدة الخاصة التي يحفظ فيها كل عنصر كيانه ويحمي حقيقته، فإن الخطر الذي يتهدد العرب بابتلاع الأمم المتمدنة لهم لا يتهدد الترك الذين هم بين براثن أوربا وأنيابها، فإذا كسر باب المسألة الشرقية ودخل الشرق الطامعون من كل جانب , فالمرجح ما قاله غير واحد من الباحثين في السياسة من أن الأتراك تنحصر سلطتهم في بر الأناضول فلا يمس استقلالهم فيه أحد لأنهم ثم عنصر مستقل قادر على أن يحكم نفسه بنفسه , ويُجاري أوروبا في مدنيتها , ولكن البلاد العربية تذهب فريسة المطامع إذا تقلص عنها ظل الدولة العثمانية بهذا الانقلاب الهائل , والعياذ بالله تعالى. ومجد الإسلام إنما يحفظ بمجد العرب , فلابد من السعي لحفظه بالوحدة العربية , واسم العرب يتناول اليوم مع أهل البادية في الشرق والغرب سكان البلاد من العراق إلى مراكش شرقًا وغربًا فالإصلاح المعنوي يجب أن يكون عامًّا لبدوهم وحضرهم كما يجب أن يكون عامًّا لسائر المسلمين , والإصلاح المادي على ضربين: مدني وحربي، فالمدني يقوم به الحضر , ويتحدون فيه مع سائر الملل الذين يشاركونهم في البلاد , والحربي يقوم به أهل البادية لأجل حمايتهم من العوادي , والعمدة في إعادة مجد الإسلام على الإصلاح المعنوي الأدبي، والمادي سياج له , ولابد أن يكون السعي في الوحدة العربية على وجه لا يخل بسيادة الدولة العلية , ولا يهيج علينا الدول الأوربية , وسنبين هذا في جزء آخر إن شاء الله.

التعليم في الأزهر الشريف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم في الأزهر الشريف نشرنا ونشر المؤيد في يوم الخميس الأسبق نبذة في نجاح التعليم في الأزهر بالنسبة للمشتغلين بالعلوم التي أدخلت فيه حديثًا بسعي فضيلة مفتي الديار المصرية فكتب الشيخ محمد راضي البحراوي من علماء الأزهر نبذة في المؤيد يعترض فيها على ما جاء فيه من نجاح التعليم , فنشر المؤيد بعد ذلك مقالة بإمضاء (مجاور أزهري) يرد فيها على ما كتبه الشيخ مع كمال الأدب والاحترام وهي: *** قرأنا في مؤيد أول أمس نبذة لأحد مشايخنا الكرام في مضرة الاشتغال بالعلوم الجديدة، ونتيجة امتحان المكافأة في هذه السنة تنحصر أبحاثها في مسائل: (1) إن الذين امتحنوا في العلوم الأزهرية وحدها أي دون العلوم الجديدة إنما ظهر فيهم عدم النجاح؛ لأنهم مشتغلون بالجديد أيضًا , ولكن باعتناء زائد أضاع ثمرة اشتغالهم بغيرها (2) إننا لو تأملنا لوجدنا أن علمي الحساب والهندسة يشتغل بهما في الأزهر في كل عصر وآن على أحسن من الطريق الموجود الآن لأن الكتب التي كانت تقرأ كانت مشتملة على البراهين القطعية , وأما الآن فليس في تعليمهما إلا بيان الأعمال (3) إن التعليم الأول كان يقوي العقل , والتعليم الجديد يقوي الحافظة ويضعف العقل (4) إن علم تقويم البلدان سهل لا يحتاج إلى إمعان الفكر والنظر، فهو كالتاريخ يفيد الحافظة ولا يفيد العاقلة أصلاً (5) إن هذا العلم لا فائدة فيه للمصريين أي وبالأحرى للأزهريين. والغرض من تلك النبذة هو ما صرح به بقوله: (إن الاشتغال بالعلوم الجديدة مضر جدًّا) وقد رأيت أنا وبعض إخواني أن نكتب ما عندنا في هذه المسائل , فكتبت إليكم بهذه العجالة غير مصرح باسمي لأن الكلام مع الكلام , ولأننى لا أتسامى لأن أظهر بصفة المناظر لحضرة أستاذنا كاتب تلك النبذة في جريدتكم , وغرض الأستاذ وغرض حضرتكم وغرضنا بيان الحقيقة. أما المسألة الأولى فقد أحسن المؤيد الجواب عنها [*] وأزيد على ذلك أن حضرة الأستاذ قالها عن اجتهاد لا عن اختبار؛ لأننا نحن الممتحنين يعرف بعضنا بعضًا على أنه ليس من المعقول أن أحدًا يصرف كل عنايته إلى علم من العلوم , ويطلب الامتحان فيما أهمل الاشتغال به دون ما اشتغل به بكل اجتهاد. وأما المسألة الثانية فيحتمل أن يكون مراد الأستاذ بها القرون الأولى أيام خلفاء الفاطميين ومن بعدهم , وأما في هذا العصر فعُدم وجود علماء الحساب والهندسة في الأزهر وهو الذي اضطر مجلس إدارته إلى استحضار مدرسين لهما من الخارج وليدلنا الأستاذ على مهندس واحد تخرج من الأزهر. وأما المسألة الثالثة فهي من مباحث الفلسفة العقلية التي لا يشتغل بها أحد في الأزهر اليوم , ولكن من المعروف أن أكابر الفلاسفة والسياسيين في أوروبا تعلموا الحساب والهندسة على الطريقة الجديدة , ولا يمكننا أن نقول: إن عقولهم ضيقة , وقد اكتشفوا في العلوم ما اكتشفوا , ورقوها إلى الدرجة التي أعطتهم السيادة والسعادة في الدنيا على أن العلوم إنما تطلب لأجل العمل , فكيف يكون بيان العمل مضرًّا ومضعفًا للعقل؟ . وأما المسألة الرابعة وهي قوله: إن تقويم البلدان كالتاريخ يقوي الحافظة , ويضعف العقل؛ فجوابه يعلم مما قبله , والمشهور عند جميع الأمم أنه لا شيء يقوي العقل من العلوم كهذين العلمين لأنهما يعرفان الإنسان أحوال العالم وشئونه. هذا البرنس بسمارك الذي نقل إلينا أن دماغه أكبر دماغ بحسب ما وصل إليه اختبار الأوروبيين أي أن عقله أكبر عقل عرفوه باختبارهم الحديث , حتى إنه كان يحرك الممالك الأوروبية بكلمة ويسكنها بكلمة , وناهيك بعمله العظيم في الوحدة الألمانية - كان أعلم الناس بالتاريخ والجغرافيا , واتفق الناس على أن قوة عقله ونفوذ سياسته إنما جاءا من ذلك. وأما المسألة الخامسة فيمكن للعارف بتقويم البلدان أن يجيب عنها بمقالة أو رسالة أو كتاب في بيان فوائد هذا العلم للناس عمومًا وللمصريين منهم وللأزهريين خصوصًا وأكتفي الآن بمسائل: (أحدها) أن في الأزهر الشريف عدة أروقة , ولكل رواق منها أوقاف مخصوصة , فإذا لم يكن أهل الأزهر عارفين بتقويم البلدان يشتبه عليهم الأمر في إلحاق أهل كل رواق به , مثلاً: إن للشوام رواقًا , وللأتراك رواقًا , وبلاد الشام متصلة ببلاد الترك , ومن أهلها في الأطراف من لا ينطق اليوم إلا بالتركية , وهل يُعرف الحد بين البلادين إلا من هذا العِلم , وكذلك يقال في رواق الهنود , ورواق الأفغان إلخ إلخ. (ثانيها) تبين أن ببلاد أميركا قومًا من المسلمين لكنهم جاهلون بدينهم، فإذا كتبوا إلى مشيخة الأزهر يطلبون كتابًا أو أستاذًا يعلمهم أمر دينهم فهل يمكننا أن نعرف سمت القبلة هناك إلا إذا كنا عالمين بطول البلاد وعرضها , وذلك من علم تقويم البلدان , ومثل هذا يقال فيما إذا كان السائل من بلاد الكاب أو إستراليا أو جزائر المحيط وغيرها , وإن كثيرًا من المصريين يسافرون في كل سنة إلى أوروبا، فإذا سئل الأستاذ عن القبلة في بلاد أسوج ونروج كيف يمكنه الجواب إذا لم يعرف هذا العلم؟ . (ثالثها) أن حوالي الدرجة 160من خطوط الطول الغربي لمدينة باريس وحوالي درجة 45 من خطوط العرض الجنوبي لها نقطة في المحيط الباسفيكي لو خرج منها خط مستقيم , ومر في مركز الأرض إلى الجانب الآخر يكون في وسط الكعبة , ففي تلك النقطة يصح لمن كان هناك أن يولي وجهه في الصلاة أية جهة من الجهات الأربع , فإذا سافر المسلمون من غربي أميركا أو شرق آسيا في تلك الجهة هل يمكن لهم معرفة هذا الحكم إلا بعلم تقويم البلدان. (رابعها) اتفقت الجرائد حتى الإنكليزية منها على أن أهم أسباب انتصار البوير وانكسار الإنكليز في الحرب المشتعلة الآن في جنوب أفريقيا، هو معرفة البوير التامة بجغرافية البلاد التي وقعت فيها الحرب , وتقصير الإنكليز في ذلك , والحرب عند المسلمين قد تكون فرض عين عليه بالشرط الذي يعرف حضرة الأستاذ أنه متحقق اليوم في كثير من البلاد الإسلامية , وهذا الفرض متوقف في هذا العصر على معرفة تقويم البلدان. (خامسها) إن للبلاد الإسلامية التي يتغلب عليها العدو أحكامًا شرعية مخصوصة , والبلاد التي من هذا القبيل كثيرة الآن ومتصلة بالبلاد الأخرى , وكثيرًا ما يقع الاختلاف في حدودها , والأحكام تابعة لمعرفة الحدود , وقد ألحق ببلاد السودان جزء من بلاد مصر لاشتباه حضرات النظار بين (سرس) و (فرس) . (سادسها) إن علم تقويم البلدان يعلمنا مع التاريخ ما عليه الدول الحربية من الاستعداد , وقد أمرنا الله أن نعد لهم ما نستطيع من قوة , وورد في بعض الأحاديث أن نحاربهم بمثل ما يحاربوننا به، فالقيام بامتثال هذا الأمر يتوقف على هذين العلمين. (سابعها) إن عقلاء المسلمين وكُتابهم قاموا في هذه السنين يحثون المسلمين على الاتحاد والارتباط والتعاون والتعاضد , ولا ينكر فائدة هذا مسلم , وهو يحتاج إلى التعارف , والتعارف يكون بعلمي التاريخ وتقويم البلدان. هذه الوجوه لوجوب الاشتغال بالجغرافيا على المسلمين عمومًا والأزهريين الذين يستعدون لإرشاد المسلمين في كل قطر بوجه خاص، كلها دينية محضة ويمكن استنباط غيرها. ولا حاجة بعد ما تقدم للكلام في نتيجة النبذة التي كتبها أستاذنا الشيخ راضي البحراوي، وهي أن الاشتغال بالعلوم الجديدة مُضر , فإنه حفظه الله اعترف بأن الحساب والهندسة من العلوم النافعة , وحصر المضرة في تعلمهما على الوجه العملي , وقد علم ما فيه كما علمت فوائد تقويم البلدان بالإجمال , وظهرت فوائدها في تقوية العقل بالنجاح في الامتحان. وهذا الرأي يوافقه عليه بعض المشايخ ويخالفه الآخرون , وقد كان عندما اجتمعنا في يوم الخميس الماضي بحضرة أكابر المشايخ لتوزيع المكافأة أن فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية قال: إن بعض المشايخ قال: إن الذين يشتغلون بالعلوم الجديدة في الأزهر قد تركوا العناية بالعلوم الدينية ووسائلها مع أن هذه هي المقصودة أولاً بالذات , فحملني ذلك على استخراج هذا الإحصاء لأجل تلافي الأمر إذا اتضحت حقيقته , وتلا علينا الإحصاء الذي نشرتموه مبسوطًا في المؤيد الأغر. وعندما قال: إن بعض المشايخ قال كذا؛ التفت إليه مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع وقال مستفهمًا استفهام إنكار: (ومن الذي قال هذا؟) وقد سمع هذه الكلمة منه المشايخ الحاضرون , ومن كان قريبًا منهم من المجاورين , فعلمنا من هذا أن أكابر مشايخنا ينشطوننا على الاشتغال بهذه العلوم لعلمهم اليقيني بدرجة استفادتنا منها , ولا شك أن حضرة الأستاذ الشيخ محمد راضي البحراوي يوافقهم على هذا بعد زيادة التدقيق لأن مقصود الجميع مصلحة الجميع.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (31) من هيلانة إلى أراسم في 4 أغسطس سنة - 185 لا أزال أشعر في نفسي بكثرة الضعف حتى إني في تحرير هذا المكتوب إليك لم أستطع أن أكتبه مرة واحدة , بل كنت أراوح فيه بين الكتابة والاستراحة عدة مرات. كنت لزمت الفراش اثني عشر يومًا موافقة للعادة المتبعة في معظم جهات إنكلترا والآن أصبحت قادرة على القيام والمشي في البيت قليلاً , وصرت مثلك أجيل ناظري وفكري وأسيح بهما فيما حولي وإني أجد لذة في حبسي لأني أنوي به مشاركتك في حبسك. أيكون من الوهم أن أحسب أن أميل ما لبث أن عرفني؟ كلا فإني لا أجيز لنفسي مطلقًا أن تعتقد أني لست في نظره (إلا ثديًا مملوءًا لبنًا) على قول أحد العلماء , على أني أعترف اعترافًا قلبيًّا بأن هذا المولود الضعيف الذي يكاد يكون جمادًا محتاج إلى أن يأخذ كثيرًا من غيره , ولا يكاد يعطي شيئًا , نعم إن لنا فيه قرة عين وانشراح صدر , ولكنه ليس له في هذا اختيار , فهو كالزهرة ترتاح لها النفس ويبتهج برؤيتها الناظر على غير إرادة منها ولا قصد , ومهما كانت حاله ألست أنا أشد منه أثرة لأني أنا المغتبطة بحبي إياه؟ ثم إني كيف يسعني أن أرتاب فيما له من الإحسان إلي؟ فإنه قد أعاد لي سكينتي وكف عني ما كنت أجده من غُربتي ذلك أن خلقي - ولا أخفي عليك - قد خالطه من بضعة أشهر شيء من الحدة بسبب العزلة والاغتراب , ومن هذا تعلم العلة في غضبي على جورجيا قبل الآن بأيام على أنها أحسن النساء وأكثرهن التفاتًا لواجبها , وحقيقة الأمر أنها تستثقل القابلة ولا تطيق النظر إليها , ويوجدها عليها أن تراها قد استحقت نصيبًا من شكري لأنه من المفروض علينا أن نشكر من يخدمنا. فهذه الغيرة المنبعثة من قلب مخلص لم يستضئ بنور العلم أهاجت غضبي عليها فلم أستطع كظم غيظي ولا كف بوادر لساني في تلك الساعة، فما كان أشدني اندهاشًا وارتياعًا إذ ذاك! فإني لم أكد أفرغ من تقريعها؛ حتى أبصرت وجه أميل قد صار أحمر كالأرجوان , وطفق يصرخ صراخًا شديدًا , فليت شعري هل انفعالات الأم تؤثر في نفس الطفل فيكون بكاؤه وتغيره رجعًا لصداها؟ ! أنا والحق أقول قد ملت من ذلك اليوم إلى اعتقاد ذلك. وسواء كان هذا الاعتقاد صحيحًا أو فاسدًا فقد عاهدت نفسي على أن أعتبر بهذه الواقعة وأصبحت من الآن كلما عرض لي ما يكاد يذهب بحلمي أنظر إلى أميل فيسكن غضبي على الفور إجلالاً لولدي , وإذا كنت قد صرت أحسن خلقًا وأوسع صدرًا وأملك لنفسي مما كنت قبل فليس ذلك إلا بسببه وبيُمن وجوده اهـ. (32) من هيلانه إلى أراسم في 5 أغسطس سنة - 185 تلقى الدكتور وارنجتون مكتوبك [1] وأطلعني عليه , فرأيتك قد تجنيت على نفسك إذ قلت أنك ملوم على ما جلبه لي تعيس حظك من الخمول والذل , وأنك لست جديرًا بأن تكون والدًا. رويدًا , هون عليك الخطب فإني من عهد أن جمعتنا عقدة النكاح كنت راضية بكل ما وقع لنا , فهل كان ذلك مني كما تقول ناشئًا من شرف نفسي , أو من رعاية واجبي , كلا بل كان سببه ما في قلبي لك من صادق الحب وخالص الود , فمن الجبن والعار أن تأسى اليوم على ما قد كان. أنا لست أشكو أبدًا ما ابتلينا به من الشدائد والمحن بل إني أزهى بها وأفتخر باحتمالها. أما ولدنا فقد آن لنا على ما أرى أن نشرع في تربيته، فما هي التربية؟ ومتى تبتدئ؟ ومتى تنتهي؟ أنا في انتظار جوابك عن ذلك. اهـ حاشية- أميل مستغرق في نومه وقد قبلته قبلتين في وجنتيه حبًّا لك اهـ. * * * (الباب الثاني) (الولد) (1) من أراسم إلى هيلانه في 10 أغسطس سنة - 185 تسألينني في خاتمة رسالتك الأخيرة عن التربية متى يكون ابتداؤها فأقول: يصح أن يبتدأ فيها قبل الولادة بزمن طويل [2] لأنه من المحقق الذي لا مساغ للريب فيه أن في أجيال البشر أنواعًا من الاستعداد الوراثي تنتقل من الآباء إلى الأبناء , فابن المتوحش يولد متوحشًا , وولد البربري يخلق بربريًّا , ومن كان من أبوين متمدنين فإنه يولد مهيئًا للتمدن. من ذا الذي لا يرى في هذا أن هناك قوى سابقة لخلق الحياة في الإنسان تحدد لكل فرد من أفراده درجة ملكاته ومقدارها نوعًا من التحديد؟ إن ما نسميه بالتصورات الغريزية والقوى الحاسية والمواهب الخلقية والفيض الخفي قد لا يكون شيئًا آخر سوى ما نتوارثه من حالة العمران، أعني نتيجة عمل العقل في من سبقنا من القرون , فنحن الراجعون إلى الدنيا بعد الفناء كما تقولين. إن ظهور أثر أعمال السالفين وأفكارهم في إحدى مثاني مخنا على غير علم منا , وتنقل المادة الحية من قرن إلى قرن مرتقية على الدوام في صورها بعمل العقل , وخروج المولود من غيابة الرحم إلى عالم الشهادة بأعضاء كملها التقدم , وسواها الترقي - جميع هذه الأمور يغلب على ظني أنها من أسباب النمو التي يصح ملاحظتها في التربية , ولكن لما كانت عزائمنا ليس لها على مثل هذه الأسباب أدنى سلطان لعمومها وخروجها عن حد الضبط، كان من العبث البحث فيها. لكن هناك أحوالاً طبيعية يتأتى للعلم فيما أعتقد أن يتناولها ويغيرها، خلافًا للأسباب المذكورة، فأي مانع يمنع المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء مثلاً أن يصلوا يومًا ما إلى تحديد ما لسن الرجل والمرأة وحالتهما الصحية وطريقتهما الغذائية من التأثير في التناسل؟ وقد وجه فريق من نابغي هذا العلم الذائعي الصيت أنظارهم إلى هذه الغاية وأعملوا أفكارهم في سبيل الوصول إليها، فإذا أدركوها وتقرر أنها أصبحت من ثمراته؛ صار علم وظائف الأعضاء فرعًا من فروع علم التربية النفسية. إذا علمت مما تقدم أنه من الصعب جدًّا تحديد الزمن الذي تبتدئ فيه التربية اتضح لك أن تعيين الوقت الذي تنتهي فيه أصعب وأكثر مجازفة لأنها تستغرق العمر كله. أما حقيقة التربية وهي أول شيء تسألين عنه فلي أن أجيبك عنها جوابًا سديدًا وهو: إنها على ما يؤخذ من معنى لفظ التربية اللغوي عبارة عن تكميل عقل الناشئ , وتهذيب نفسه بإظهار جميع ما استكن فيه من ضروب الاستعداد وأنواع القوى وإنمائها؛ لأن ذلك اللفظ مأخوذ من (رَبَا) أي: زاد ونما , لكني خشية أن تخالي في هذا التعريف إبهامًا أعجل بكشف معناه وتقريبه إلى ذهنك فأقول: أراد جمهور علماء الأخلاق بالتربية الوصول إلى ما تصوروه في الإنسان من معنى الكمال , فغرضهم منها إيجاد الإنسان الكامل , وهو غرض يظهر لأول نظرة أنه موافق للعقل تمام الموافقة , لكنه مثار لاعتراضات كثيرة , فلقائل أن يقول: إن الإنسان الكامل ليس هو إلا صورة خيالية لا تحقق لها في الوجود الخارجي قطعًا فنحن إذن نحلم به كل على حسب تصوره , فإيانا والتشبث بهذه الصور الوهمية التي يريد بها الخيال أن يتغلب على الواقع المحقق , فإنه لا شيء أيسر علينا من تخيل ذات عاقلة , ونعتها بآلاف من نعوت الكمال حتى تكون نموذجًا لجميع الفضائل , ولكن من لنا بإنزال هذه الذات من السماء وإبرازها لنا إلى عالم الظهور. مثل هذا الاعتراض على مسألة التربية يكون وجيهًا لو أن الإنسان كان ذاتًا واجبة الوجود، لكنا في الحقيقة نراه على خلاف ذلك متغيرًا لا يستقر على حالة واحدة , فإنه وهو في الرحم تتناوبه أطوار جنينية مختلفة , ولا أريد أن أبين لك ما يتقدم ولادته من الحوادث , وإنما أقول: إن حياته من أولها إلى آخرها ليست إلا سلسلة استحالات متفاوتة في الحصول سرعة وبطئًا. ألم تنظري إلى شعره (الذي لا يوجد عادة عند الولادة) كيف يتغير لونه عدة مرات , وإلى لون جسمه وسمات وجهه , وبنيته كيف أنها تتجدد كلما كبر؟ تأملي في الغلام الصغير عندما تبتدئ ثناياه اللبنية في الزوال؛ تجديه قد صار شيخًا بالنسبة إلى ابن الرابعة أو الخامسة الذي لا تزال لثته مجلاة بجميع لآلئها. فقد خلق الله (سبحانه) لجميع الكائنات الحية في دور نموها أعضاء وقتية تتلاشى بعد انقضاء مدتها , وأعد لها أعضاء أخرى تنمو في هذه المدة لتخلف الأولى , كذلك القوى الجسدية والملكات النفسية تتعاقب , ويخلف بعضها بعضًا على نظام محدود , فإن المولود يذوق قبل أن يبصر , ويبصر قبل أن يسمع , والذاكرة فيه تسبق القوة الحاكمة , ووجدانه يكون قبل فكره بزمن طويل , فالحياة من الولادة إلى الشبيبة , ومن الشبيبة إلى الشيخوخة مظهر قوى تتعاقب , ويحيا بعضها بفناء بعض , والإنسان من مهده إلى لحده يسلك طريقًا تفرق فيه رفاته , وبددت في جوانبه بقاياه. أنى يكون لنا بعد ذلك موقف في هذه الحركة الدائمة؟ وكيف السبيل إلى غاية ننتهي إليها؟ فالذي أراه هو أن لكل يوم ما فيه , وأن أهم ما تلزم به العناية في علم التربية هو اختيار ما يناسب كل سن من أنفع طرق النمو وأمثلها , وحينئذ فأنا الآن أقتصر على الكلام عن التربية في زمن الطفولية اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (جميع الكتب النافعة) إن علامة اللغة والأدب الأستاذ الشيخ محمد محمود ابن التلاميد التركزي الشنقيطي الشهير قد جمع في رحلاته وأسفاره في الأقطار كتبًا نفيسة، منها ما هو نادر الوجود , وقد وقفها على عامة أهل العلم في بلاده شنقيط ونظم في هذه الأيام قصيدة غراء ينافس فيها بهذه الكتب , ويحض فتى من قومه على الرحلة إليه لكسب العلم وأخذ هذه الكتب قبل وفاته , وصدَّرها بالحماسة لتعرض بعض من يدعي العلم , وقد طبعت وأهديت إلينا نسخة منها فرأينا أن ننشرها بشرحها المفيد وهي: بسم الله الرحمن الرحيم إظهار بعض الحسب المذخور لردع كل متعرض مفخور يا من تعرض لي بالعلم والأدب ... وهب [1] يسألني عن مقتضى حسبي عُض الأنامل من غيظ ومت كمدًا ... وكلْ جنى الجهل واشرب قهوة الغضب أنا الذي لا أزال الدهر ذا طرب ... سرًّا وجهرًا لتسياري ومضطربي لضبط علم وكتب أبتغي بهما ... وجه الإله وفوزي بعد منقلبي أنا الذي لا أزال الدهر ذا شغف ... بنقدي الكتب أبدي خافي الكذب أنا الذي لا أزال الدهر ذا فرح ... بما أنميه من علمي ومن كتبي تجول بي همتى في الأرض مجتهدًا ... في جمعها من بلاد العجم والعرب تسرني غربتي في الناس منفردًا لكسبها لا لكسب المال والنشب [2] وما سررت بشيء قد ظفرت به ... مسرتي بكتاب نلته عربي ألهو به طول ليلي والنهار معًا ... مجانبًا لهو خود [3] عذبة الشنب [4] بيضاء بهكنة [5] ... هيفاء خرعبة [6] ريا المخلخل لا تدنو من الريب فدونكم معشري كتبًا مهذبة ... من حسن ما قد حوت لا ينقضي عجبي كفيتكم جمعها مستبشرًا جذلاً ... بشق نفسي بالإيغال في الطلب يود ذو العلم والفهم الأصيل قوى ... تصونها فيه بين اللحم والعصب يحوي معانقها طول الزمان غنى ... يغني عن الفضة البيضاء والذهب وحلو طعم معانيها على ظمأ ... أحلى من البرد الممزوج بالضرب قد قيدتني بأرض غير أرضكم ... تقييد عانٍ بلا كبلٍ ولا سبب وسركم سنكم [7] إبلاً مؤبلة ... سن المعيدي [8] في السعدان [9] والربب [10] أليس منكم فتى بالرشد متصف ... يفري الفريّ [11] ويأتي أعجب العجب ينمي القتود [12] على عيرانة [13] أجد [14] ... تقوى على الوخد والتخويد والخبب يطوي المفاوز قد ضمت جوانحه قلب السليك عدا في الدرع واليلب حتى ينيخ ببابي غير مكترث ... لما يلاقيه من هول ومن نصب فعل الأمين أخي ضوى [15] الذي سبقت له العناية أنضى العيس [16] في طلبي حث النجائب لا يلوي علي أحد منكم يثبطه عن نيله رُتبي جاب البراري ثم البحر منصلتًا [17] على ركائب لا تخشى وجى [18] النقب [19] حتى أناخ لدى البيت الحرام لديّ ... فحاز ما يبتغي من مرتضى الأرب قضى المناسك حجا عمرة [20] تفثًا [21] ... مناسكًا هن حقًّا أصعب القرب [22] قفاهما حججًا تقتافها عمر [23] ... في سعيها راحة تنسي أذى التعب فقرت العين بالجمع الصحيح به ... وجد في العلم كل الجد بالأدب وطابت أنفسنا مستمتعين بذا ... ونال مني يقين العلم من كثب غذاؤنا العلم صرفًا لا مزاج له ... من الأغاليط والتمويه والشغب عشنا معا عيشة في (طيبة) رغدًا ... وفي البقيع ثوى في أطيب الترب وسرت منها إلى مصر البلاد وقد ... صارت لي الآن ملقى الرحل والقتب كابني نويرة كنا قبلنا وصلا ... حبل الأخوة بالأشعار والخطب كمالك وعقيل مالك ومتمم ... أخو مالك من صحب خير نبي فقطع الموت حبل الوصل بينهما ... فلا تواصل يرجى غابر الحقب هذا وإن لسان الحال ينشدني ... أبيات مكتسب للكتب محتسب (إني لما أنا فيه من منافستي ... فيما شغفت به من هذه الكتب) (لقد علمت بأن الموت يدركني ... من قبل أن ينقضي من جمعها أربي) (ولا أؤمل زادًا للمعاد سوى ... علم عملت به أو رأفتي بأبي)

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (جمعية شمس الإسلام) ما نجحت جمعية في القطر المصري كجمعية شمس الإسلام , ولا خاض الناس في جمعية كخوضهم فيها , وكثيرًا ما يكون الخوض والتحامل من أسباب الفوز والنجاح , أما نجاح الجمعية فحسبك دليلاً عليه كثرة الفروع التي تتفرع منها آنًا بعد آن حتى تكرر طبع دفاترها وقسائمها وأوراقها مرارًا. وإنني أذكر من هذه الفروع الآن ما أتذكره من غير مراجعة الدفاتر وهو جمعيات حلوان وبني سويف وملوي وديروط وفزارة وأسيوط وطهطا ومنفلوط والمنيا والفيوم وقلوصنا والجرابيع والشيخ فضل وصدفا والصبحة وصنمو. وأما الخوض فيها فجدير بأن يثير العجب , ويحمل على البحث عن السبب , فإن في هذه البلاد جمعيات كثيرة لسائر الملل , ومنها ما هو مشترك بين جميع الأجناس والملل، فلماذا اهتم الناس بهذه الجمعية دون سواها؟ هل ذلك لأنها على شيء من الباطل؟ كلا إن هذا مردود من وجوه: (أحدها) أن الخائضين والمرجفين بها ممن لا يكادون يميزون بين الحق والباطل , وهم أميل إلى الثاني منهم إلى الأول , وحكم من لا يعرف حقيقة الجمعية من سائر الناس على أقوالهم تختلف باختلاف الأفهام والعقول , فالعاقل يرفض كلامهم المتعارض المتناقض , وما عساه يكون معقولاً في نفسه يتوقف فيه حتى يظهر له بالاختبار، والفدم الإمَّع يتابع كل قائل على رأيه من غير بصيرة ولا تمييز. (ثانيها) أن المرجفين قد خلقوا عللاً واهية للخوض في هذه الجمعية، وفي مصر من الجمعيات جمعية تدعو إلى أن يؤاخي المسلم أبناء كل الملل , ويفضل إخوته في الجمعية على إخوته في الإسلام , وينصرهم عليهم ظالمين أو مظلومين لا أنه يبرهم ويقسط إليهم فقط كما جاء في القرآن , وآخرين من دون هذه الجمعية يدعون إلى دين جديد يستدلون عليه حتى بالقرآن , ويقولون: إن الجائي هو السيد المسيح عليه الصلاة والسلام وأنه مات وترك وصيًّا هو رئيس الدين الآن , والمرجفون بجمعية شمس الإسلام إذا كانوا يحترمون الجمعية الأولى وهي الماسونية أو كانوا منها فهم لا يحترمون الثانية قطعًا , ومع ذلك لا يرجفون بها ولا يضادون أهلها ولا يحادونهم. (ثالثها) أن ما يقولونه غير معقول في نفسه , وإننا نخجل من ذكره , وكيف لا يخجل المسلم أن يقول: إن بعض المسلمين يخذل عملاً إسلاميًّا شريفًا لأن الذي وضع أساسه وسن سنته الحسنة ليس من وطنه مع أن دينه يقول له: (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) فاتباعًا لهذا القول الشريف يجب على المسلم أن يأخذ كل ما يراه نافعًا لملته وأمته ولو عن مخالفه في الدين , فهل يكون على هدي الإسلام إذا كان يرفض , بل ويخذل الأعمال النافعة للإسلام لأن من قام بها أولاً غير وطني؟ يا رباه اصرف عنا شر هذه الوطنية العمياء التي مزقت رابطتنا الملية كل ممزق , واهدِ قلوب الذين يغشون الناس بها لعلهم يرجعون. هذا أحد الأسباب الحقيقية للإرجاف بالجمعية , وثَم أسباب أخرى: (أحدها) أن بعض الماسون ظنوا أن الجمعية وضعت لمعارضة جمعيتهم , وقوَّى عندهم هذا الظن خروج من دخل فيها من الماسونية , ولذلك رأينا المرجفين بها كلهم أو جُلهم من الماسون , وقد انتهى الغلو ببعض المارقين من هؤلاء الأشرار إلى أن قال ما معناه: كيف تتضاءل الجمعية الماسونية التي وجدت قبل الأنبياء والمرسلين أمام جمعية شمس كذا…. (وذكر كلمة تليق بمقامه لا ينبغي أن تكتب) . (وثانيها) أن في مصر نفرًا من الأشرار قد اتخدوا التجسس والمحْل والسعاية بين مصر والأستانة معاشًا وأحبولة لاصطياد الرتب والوسامات، فحيثما وَجَدَ هؤلاء خرقًا وسَّعوه فجعلوه بابًا يدخلون منه إلى غرضهم يجعلون الحبة قبة والشبهة حجة قاطعة. أذاع هؤلاء أن غرض الجمعية إقامة خلافة عربية , وإننا نذكر شبههم التي خدعوا بها بعض الأغرار والسذج وهي: (1) علموا أن الجمعية لا تقبل أحدًا فيها من حزب تركيا الفتاة الذين غلوا في الخوض بمولانا السلطان الأعظم ويطلبون الإصلاح بالقانون الأساسي فقالوا: إنها لا تقبل أحدًا من الأتراك مطلقًا لأنهم لا يشايعونها على الخلافة العربية. (2) علموا أن الجمعية خصوصية لا تبيح لكل أحد أن يحضر اجتماعاتها لئلا يحضرها السكران والحشاش والأحمق ويختلطوا بكرام الناس، فقالوا: إنها سرية والدين ليس فيه سر، فلم يبق إلا أنها جمعية سياسية تريد الخلافة العربية , ففتحت الجمعية أبوابها لسائر الناس مدة من الزمن فرأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم ما هو صريح في الإخلاص للدولة العلية والخلافة العثمانية لا سيما الثناء والدعاء للحضرة الحميدية فخشي رهط الفتنة أن لا يسمع لهم بعد ذلك قول فأغروا بعض السفهاء بإحداث الشغب في وقت الاجتماع لتضطر الجمعية إلى الرجوع إلى أصلها وكذلك كان. (3) رأى بعضهم في آخر مجلة الجمعية الرسم الذي ترونه على أعلى الصفحة الأولى من المنار فقال: إن هذا رمز من الجمعية إلى التاج الذي سيتوج به الخليفة الذي تنصبه! ! مع أن واضع ذلك الرسم هو جامع الحروف في المطبعة , ولم يره أحد من أعضاء الجمعية إلا بعد تمام الطبع وهو موضوع على كثير من المطبوعات التي طبعت في مطبعة المنار لسائر الناس! ! (4) علموا أن في الجمعية طبقات ودرجات , فرتبوا لها وظائف مخصوصة. (5) رأوا في المجلة أن من موضوع الجمعية تعليم الصناعة، فإذا كان لديها مال وافر تنشئ بعد مدارس التربية والتعليم مدارس الصناعة , فقالوا: إن الغرض من الصناعة هو عمل الآلات الحربية لمحاربة الدولة العلية! ! قال بعض الأذكياء لرجل سمع منه مثل هذا الكلام السخيف وأن الخليفة موجود يبايع: كيف يتصور العقل أن جمعية يصرح قانونها بأن مالها يصرف على تعليم الدين والفنون والصنائع يكون غرضها إقامة خلافة , وهو ما يعجز عنه الملوك والأمراء أصحاب القوى الحربية , فأجابه ذلك الأحمق: إنها تقصد أن يكون هذا بعد خمسين سنة أو أكثر , قال الذكي: إنكم تزعمون أن خليفتها موجود الآن ولكنكم اختلفتم في تعيين القطر الذي يقيم فيه، فبهت المرجف الكذاب. ولم يخجل هؤلاء السعاة المحَّالون من كتابة هذه السخافات وإرسالها إلى دار الخلافة ويتوقعون عليها الجزاء الأوفى، فقد أخبرنا رجل كان انضوى إلى رهط الفتنة ثم رجع أن الذي أظهر الوقاحة الكبرى في الجمعية موعود من فلان باشا وفلان بك برتبة ووسام. (ثالثها) يوجد رجل حاسد للجمعية لا أذكر اسمه ولا وصفه ولا أشير إليه بشيء يميزه لأن فضيحة المستور غير جائزة , ولأن بعض المغترين به لا يصدق عليه القول فيتهم قائله بالغرض. هذا الرجل اجتهد في الإغراء والتحريض بإبطال الجمعية لغرض له شخصي محض يرى أن يفيده جاهًا عريضًا , هذا ملخص الإرجاف وأسبابه. وقد استاء أهل الفضل من اللغط والإرجاف بالجمعية وأشفقوا من انحلالها , ونبشرهم بأن ما حصل أفاد الجمعية ونفعها , وأبعد عنها من ليس من أهلها وإنما دخلها بالغش وسوء الاختيار , وقد انتكث بفضل الله فتل المفسدين وبطل اجتماعهم وكانت العاقبة للمتقين , والحمد لله رب العالمين.

استماحة وتهنئة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استماحة وتهنئة يعلم قراء المنار الكرام أن موعد صدور الجزء الخامس منه هو ثاني أيام عيد الأضحى السعيد , وأن العمال يتركون العمل من يوم عرفة، فلهذا ولاضطرار منشئ المجلة ومحررها إلي السفر قبل العيد بأيام إلي خارج القاهرة نرجو أن يسمحوا لنا بالجزء المذكور، وإننا نسدي إليهم جزيل الشكر مع التهنئة بالعيد السعيد سلفًا. قد رأينا ان نجعل قيمة الاشتراك بالمنار في خارج القطر المصري 16 فرنكًا بتنزيل فرنكين من القيمة السابقة تسهيلاً للاشتراك. كتب إلينا بعض أهل العلم والفضل من العرب المقيمين في سنغافورة بأن الرسائل التي جاءتنا من بلاد جاوه نحن وبعض الجرائد العربية في مصر وغيرها في الطعن بالسيد عثمان بن عقيل فيها تحامل وكذب حمل عليهما الحسد وسوء الظن. ولا غرابة في ذلك فإن الأمة الآن في طور طفولية في حياتها الاجتماعية , والطفل لا يميز في الغالب بين ما ينفعه وما يضره , وإننا نعرف في هذه البلاد وغيرها رجالاً من خيار الأفاضل يسيء الناس بهم الظن لشبه وهمية لا تروج إلا عند الأطفال الذين لا يعقلون.

الدنيا والآخرة ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدنيا والآخرة ] فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ [[*] . ذهب قوم إلى أن الإنسان في هذه الدنيا حيوان كسائر الحيوانات، وأنَّ زعم بعض أفراده أنه مَلك أرضي وأنه أفضل المخلوقات ما جاء إلا من العجب والغرور , وأن كماله إنما هو في التمتع باللذات الجسدية بقدر ما يستطيع , ولا يحرم نفسه منها إلا لجهله وغروره , بل تطرف بعض أهل هذا المذهب الحيواني فقالوا: إن الإنسان أخس من غيره من الحيوانات , وأنقص في فطرته من كثير من الحشرات لأنها خلقت مستقلة في شئون معيشتها وخلق هو جاهلاً فاحتاج لتقليدها والأخذ عنها , ولولا استعداده للتقليد لما أمكن أن يعيش ويثبت , والمقلد لا يكون إلا أنقص من مقلَّده. قالوا: لا يوجد حيوان يقلد الإنسان فيستفيد بتقليده ما يقوم به أوده ويحفظ حياته , والإنسان قد قلد كثيرًا من الحيوانات والحشرات , فإنه تعلم النسج من العنكبوت , والهندسة من النحل , وبناء البيوت من النمل الأبيض , وتعلم قابيل ابن آدم من الغراب كيف يواري سوءة أخيه. وذهب قوم إلى أن الإنسان مَلك روحاني، ولكنه لبس هذا الجسد الحيواني ليختبر الحالة الحيوانية ويعرف حقيقة العوالم الجسدية فنسي أفراده عالمهم الأصلي، وشغلهم هذا الثوب العارض عن حقيقتهم، فيجب عليهم أن يجتهدوا في التخلص من عوائقه والفرار من دواعيه بحسب طاقتهم، وأن يخدموا الروح ويقووا سلطانه حتى يقطعوا هذه المرحلة الجسدية ويصلوا إلى عالمهم الروحاني (الآخرة) غير منهوكي القوى، وهناك يكونون أرواحًا تسبح مع الملائكة المقربين في عالم الملكوت الأعلى حيث لا لذات جسدية كالأكل والشرب وملامسة النساء، أي أن عالم الوجود يخلو من هذا النوع الذي نسميه (الإنسان) وتنعدم منه اللذات المادية التي سموها بزعمهم نقائص , بل يتخيل كثير منهم أن عالم المادة يتلاشى ويضمحل ولا يبقي إلا عالم الأرواح والروحانيات. ومن العجيب أن أكثر الناس يعظمون أهل هذا المذهب على اختلاف آرائهم ويعتقدون فيهم الكمال مع أنهم في العمل أقرب إلى المذهب الذي قبله، والحق هو ما نقصه عليك فيما يلي: إذا تتعبت أحوال بني آدم في عامة أوقاتهم , واستخرجت مقاصدهم من جميع أعمالهم ترى أنها محصورة في تحصيل المنافع ودفع المضار , وإن شئت فقل: اجتناب المؤلم واجتلاب الملائم , وإذا سبرت أفكارهم ووقفت على مذاهبهم في المنافع التي يتهافتون عليها والمضار التي يهربون منها؛ ترى أنه لا معنى للمنفعة عندهم إلا اللذة , ولا معنى للمضرة إلا فقدها , واللذات منها الجسدي والمادي ومنها الروحي والعقلي , والإنسان نزاع بطبيعته إلى كلتا اللذتين , ولكن اللذة الجسدية سابقة في الطبيعة , وحياته الشخصية والنوعية متوقفة عليها فلا يستغني عنها في وقت من الأوقات , ولهذين السببين ترسخ فيه وتقوى فتغلب على أختها التي تأتي بعدها لأن بها تمام الإنسان وكماله. والجزء المتمم المكمل لا يكون كذلك إلا إذا كان قبله جزء يكون هو مكملاً ومتممًا له. وكل ماهية من الماهيات المركبة التي تكمل بتمام ما تركبت منه تعدم بعدم أي جزء من أجزائها سواء كان الجزء المعدوم هو الأول في الوجود أو المرتبة أو كان الثاني , وما تعدم بعدمه تنقص بنقصه وتصل إلى كمالها باستيفائه ما هو مستعد له في أصل الفطرة التي فطر الله الناس عليها مع الاعتدال الذي هو ميزان الفضيلة والكمال. إذا علمت هذا أيها الناظر المدقق؛ يتبين لك غلط الذين يزعمون أن اللذة الجسدية نقيصة في الإنسان , وطلبها ولو مع الاعتدال مذموم عقلاً أو شرعًا كأن هؤلاء الناس غفلوا عن أنفسهم فجهلوا أن الإنسان مركب من جسد وروح وأن تركه لدواعي الجسد وما يحفظ وجوده ويصل به إلى كماله هو كتركه دواعي الروح العاقل وما يصل به إلى كماله، كلاهما خروج بهذا النوع عن نوعيته , وهو محال لا يطلبه إلا جاهل. ولو أمكن للإنسان أن يستغني عن اللذات الجسدية ويعيش بدونها مكتفيًا باللذات الروحية مستغرقًا في المعارف العقلية لكان ملكًا ولم يكن إنسانًا , ولو حبس نفسه على اللذات الجسدية ولم يعبأ بما يطالبه به روحه وعقله من تحصيل اللذات المعنوية لهبط من أفق الإنسانية إلى أرض الحيوانية , وكان كالبهائم السائمة والدواب الراعية فالحق الذي لا مرية فيه أن الإنسان لا يكون إنسانًا على وجه الكمال إلا إذا استوفى لذتي الروح والجسد جميعًا مع الوقوف عند حدود الاعتدال. هو هكذا في الدنيا وسيكون كذلك في الآخرة لأن الآخرة ليست عالمًا يمحى فيه عالم المادة من لوح الوجود ويخرج به الإنسان عن كونه إنسانًا وإنما هو عالم يكون الإنسان به في أعلى أوج الكمال فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء أو يحجب به عن اللذتين كلتيهما. بهذا جاء الدين الإسلامي فكان حكمًا عدلاً بين الناس: مليين وفلاسفة , وحُكمه هذا ترتاح له النفس المعتدلة , ويرضى به العقل السليم إذا كان يؤمن بالغيب الممكن الذي يُخبر به مَن ثبث صدقه بالآيات البينات. نعم إن العقل الجوال لا يرضيه الأخذ بالإجمال فيطالب بالتفصيل ويسأل عن البرهان والدليل. وقد تكفل له الإسلام بكل هذا، فإنه لم يكلف أحدًا بأن يأخذ به تقليدًا بل نعى على المقلدين وقال: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) . ليس من غرضنا أن نبين في هذه المقالة وما بعدها ما قصه علينا الدين من أحوال الآخرة وبيان أنه ممكن منطبق على ما يليق بعدل الله تعالى وفضله , وإنما الغرض بيان ما أرشد إليه من الكمال الإنساني في الدنيا والآخرة , وكيف جمع بين مصالح الدارين وألف بين مطالب الروح والجسد فوافقت الشريعة نظام الفطرة والطبيعة لأن كلاًّ منه جل وعز , ولا يصح في العقل أن الحَكَم العدل يخلق الخليقة بنظام محكم ثم ينزل شريعة تخل بذلك النظام (وقد أوضحنا هذا من قبل في مقالة عنوانها (الشريعة والطبيعة والحق والباطل) فليرجع إليها من أراد) وسنبين فيما يأتي وجه الجمع بين الأمرين , ونشرح معنى الزهد والقناعة على الوجه الذي ينطبق على قاعدتنا، فانتظر ما يفتح الله به في الأجزاء التالية. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (2) من أراسم إلى هيلانة في 11 أغسطس سنة- 185 اعلمي أن تربية الطفل في الأسبوعين الأولين من حياته - بل يصح أن أقول في الشهرين الأولين منها - تكاد تنحصر في مجرد وقايته مما عساه يؤذيه من المؤثرات الخارجية , فهي ترجع إلى نوع من انتظار الفطرة ومراقبتها في عملها , وإعانتها عليه عند الحاجة. إن المولود يدخل عند ولادته فيما اصطلح علماء وظائف الأعضاء تسميته بالحياة المستقلة , ولكن ما أضعف استقلاله وأقل حريته , فإنه بما أودع فيه من غريزة التغذي لا يكاد يُرى إلا ملتقمًا ثدي أمه فتكون معه كالغصن المطعم بآخر , فهو إذن تابع لغيره فقير إليه في غذائه وسد حاجات معيشته المادية , وما أخفى معنى الإنسانية فيه وأبهمه وهو في هذا الطور من الحياة، فإنه لمَّا كان مغمورًا في سحابة من الجهالة لم يكن فيه أول أمره على ما يرى من حالة أدنى إدراك ظاهر لما يضطرب حوله من الأشياء. مسكين ذلك المولود الأعمى ‍‍‍‍! فإنه لا يجد ثدي أمه إلا بتلمسه، نعم إن له عينين لكنه لا يبصر بهما , وأذنين غير أنه لا يسمع بهما ويدين إلا أنه لما يتيسر له أن يبطش بهما. هذا المولود الذي هو وثن لأمه تعبده وتخصه بفرط محبتها، قريب الشبه بالآلهة [1] الزمنى الذين سَخَرت منهم التوراة، لكنه على ما فيه من الضعف والعجز قد خلقت له وظيفة مهمة يؤديها في العالم ألا وهي النمو. فوظيفة الأم تكاد تنتهي إلى عدم إعاقة هذا العمل الفطري الخفي والتحرز من تشويشه , وإني طالما أعجبت بما تهديه إليها في ذلك أنثى الطير من الأسوة الحسنة فإنها لشد ما تعتني بحجب ذخرها الحي عن دنس الأنظار , وتبالغ في إخفائه بعشها المستتر تحت أغصان الأشجار , والمرأة أقل منها دراية بما يجب للأولاد؛ لأننا كثيرًا ما نراها تتخذ مولودها ألعوبة لشفقتها وحنانها. وماذا نقول في أمهات ما ينفككن يرين الأجانب أولادهن، فيُدِرنهم من يد إلى يد ويُهِجن انفعالاتهم بما يتصنعنه لهم من الحركات والإشارات , ويعذبنهم بالملاطفات المنبعثة عن جنون الشغف بهم , أقول قولاً لا أود منك إذاعته وهو: إني أخشى أنهن في ذلك ينظرن إلى تسليهن أو إلى زهوهن أكثر من نظرهن إلى مصلحة الطفل. والحذر الحذر أيضًا من بعض الأوهام الشعرية، فإن شعراء هذا العصر وكُتابه قد بالغوا في إطراء الطفل، فإنهم قد حَبَّب إليهم الخيال أن يروا فيه ملِكًا نزل من الجنة تاركًا فيها جناحيه. إني في الحقيقة لا أعرف من أين أتى ولكن رأيي فيه هو أنه إذا كان قد رأى عجائب في عالم آخر فقلما يذكر منها شيئًا , وأنه إنما يُحصِّل علومه جميعها بيننا , وسأبين لك في الرسالة التالية كيف يُحصِّل هذه العلوم. اهـ (3) من أراسم إلى هيلانه في 12 أغسطس سنة- 185 إن أول زمن في حياتنا نكون فيه أكثر تعلمًا وأشد تحصيلاً هو ذلك الزمن الذي لا يعلمنا القائمون علينا فيه شيئًا تعليمًا نظاميًّا , فجميع الأمهات يعرفن أن الطفل يترقى في تحصيل العلوم من الشهرين الأولين من حياته إلى أن يبلغ ستة أشهر ترقيًا غير معهود في هذا السن , وقد حسب له بعض علماء وظائف الأعضاء ما يكتسبه من العلوم وهو في سن شهرين إلى أن يبلغ سنتين أو ثلاثًا من عمره فوجد أنه يكتسب منها ثلث ما يكتفي بتحصيله أوساط الناس , فأنى له هذه التربية الأولى؟ نعم إنه لا ينكر أن لأمه دخلاً فيها , ولكن أخص مؤثر في تحصيله تلك العلوم هو ملامسته لما يحيط به من الأشياء , وتناول مشاعره إياها فهذا الينبوع الأصلي من ينابيع العلم الإنساني وأعني به الاحتكاك بالأشياء وتناولها بالحواس هو الذي أريد توجيه فكرك إليه. ولننظر ابتداء إلى ما يجري في الواقع، فالمولود في مدة الأسابيع الأولى من ولادته يكون مخه لا يزال في غاية الرخاوة , وأعضاؤه المعدة لمعيشة الاختلاط بما حوله في نهاية العجز عن إجابة داعي ما يختلف به من الأشياء إجابة يكون من ورائها عمل , فإنه يرى جميع هذه الأشياء كأنها شفق فلا يميز منها شيئًا , ويسهِّل لك الاقتناع بذلك ما ترينه فيه من الغفلة عن وجودها , وعدم المبالاة بها , ثم تتدرج انفعالاته بعد ذلك في التيقظ لها فيكون مثله في هذا التيقظ بعد خموده كمثل صنم ممنون [2] يكون ساكتًا فإذا انصبت عليه أشعة الشمس جعل يصوت كما تعلمينه. هذا هو شأن الطفل فإنه ينتعش بما حوله انتعاش ذلك الصنم بالشمس، إن سُمي هذا انتعاشًا. هل يتعلم المولود الإبصار والسماع أم يأتيانه عفوًا؟ تلك مسألة صعُب كثيرًا على المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء الاتفاق على الإجابة عنها، فلهم فيها أقوال مختلفة , ولكن الذي أجمعوا عليه أن المولود يتعلم بالتمرين إجادة هذين الفعلين , فليكفنا ذلك من جواب هذه المسألة , والحكمة في هذا أنه من السنن الإلهية أن كل عضو يحسن عمل ما واظب عليه , وفوق ذلك فإن قوة الانفعالات عند الطفل تزداد يومًا فيومًا بما يجده من اللذة في استخدام ما أوتيه من وسائل العلم الصغرى فقد قال بسويه [3] : إن لذة الاحساس قوية جدًّا. الإحساس في الغالب يحصل في المولودين عفوًا من غير معاناة تعليم , فلا يحتاج معظمهم إلى تعلم اللمس والذوق والإبصار والسماع , بل إنهم يجدون فيما وهبهم الله من الغرائز ما يلزم من القوة لإجراء هذه الأفعال التي هي من مقتضيات الحياة , ولكن أليس في قوة اقتداء الطفل بغيره ومنافسته إياه , وفي تخيله الأشياء المحيطة به لتزداد رونقًا يستلفت نظره إليها ما يساعد على تنبيه مشاعره , ودفعها إلى إجراء ما خلقت لأجله؟ إننا نرى في البهائم أن أنثاها لا تكف عن إرشاد صغارها إلى استخدام حاستي السمع والبصر , وحملها على الانتفاع بهما وهذا الإرشاد هو السبب على ما أرى فيما يوجد من القوى المدهشة لبعض الفصائل الحيوانية. كذلك المتوحش كما تعلمين يكاد يكون نصيبه من التربية قاصرًا على المشاعر, ولشد ما برز علينا بهذا السبب في بعض القوى , فالعادة والرياضة البدنية وطريقة المعيشة تنمي في الأجيال البدوية جملة أنواع من الإدراك خارقة للعادة في دقتها وسعتها. وإذا سأل سائل عن سبب فقد الإنسان بعض هذه المواهب الأصلية بتمدنه؛ اكتفينا في الجواب عن ذلك بتوجيه نظره إلى ما حصل في بعض أنواع الحيوان من ضروب التغير عند انتقالها من حالة التوحش إلى حالة الاستئناس، فمن ذا الذي كان يظن أن الأرانب إذا تربت في خابية نسيت بعد ثلاث بطون طريقة احتفار الأجحار للسكنى بها , وهذا الخروف نفسه الذي نعتبره مثالاً للذل وسلاسة القياد والغباوة، لم يكن كما نراه اليوم في جميع الأزمان، فإن أصله الذي تولد منه وهو الكبش الوحشي على عكسه في الطباع؛ لأنه حيوان جريء يزهى بالمخاطرة بنفسه في جبال قورصه [4] , ويقاوم من يبتغي صيده من الصيادين , فجعله الإنسان خروفًا أهليًّا بزربه - أي ببناء زريبة له - وتوظيف راعٍ للقيام عليه وكلاب لحراسته. كذلك الإنسان كلما تهذبت أخلاقه بالتمدن وتحضر؛ تدرج في التخلي عن بعض خواص معيشته الوحشية فأي حاجة تبقى له في أن يكون دائم التيقظ للمحافظة على نفسه إذا كان غيره يسهر لحفظه وكلاءته , فمراقبة الحيوان المؤذي من بعيد وإلصاق الأذن بالأرض لمعرفة خطا العدو من بُعد ألفي أو ثلاثة آلاف ميل لا ضرورة لهما إلا في حق سكان أمريكا وأوستراليا الأصليين أما نحن ففي حالتنا العمرانية ما يغنينا عن ذلك , فإن لنا الشرطي والجندي اللذين نستأجرهما ليدفعا عنا ما نخشاه من أذى المعتدين وكيد الخائنين , فإذا زال الخطر الملازم للمعيشة البدوية بالتحضر؛ وجب حتمًا أن يزول معه ما كان لحاستي السمع والبصر من الدقة العجيبة التي هي عون وجدان المحافظة على النفس. كأني بك تقولين: إن هذه المزايا الجسدية لم تكن شيئًا مذكورًا في جانب القوى التي خلقها الإنسان في نفسه بارتقاء التمدن إن صح أن ينسب له الخلق , وأنا بلا شك موافق لك في هذا , فإننا - والحق يقال- قد ربحنا من الحضارة أكثر مما خسرنا , ولكن هيهات أن يقنعني هذا الفكر لأني أرى أنه كان يجب على الإنسان في العصر الحاضر أن يستجمع في شخصه جميع المواهب التي كانت لمن عمروا الأرض من قبله , وكوني على يقين من أننا لو بلغنا هذه الغاية ما عُد ذلك منا إفراطًا في الغنى , ولا وصلنا في الحياة مطلقًا إلى درجة تكفي لأن نمثل فيها كل ما من شأنه أن يحيا , وإن قوى الإدراك الحسية تكاد تكون في لزومها لفهم معنى وجودنا مساوية للقوى الفكرية. أما كون التمدن يزيد الثقة في المعاملات بين الناس ويقوي روابطهم الاجتماعية , ويغالب على الدوام العوامل الفطرية مغالبة يقلل بها جدًّا عدد البلايا التي تجعل البدوي على خطر من حياته - فهذا كله في غاية الحُسن، وأما كون الشرطة تحفظ الأرواح والأموال فهذا أمر لا أجد مساغًا للطعن فيه , وإنما كل الذي آسف عليه من ذلك هو أن طريقة الحفظ هذه تصير مدعاة كسل وخمود لمشاعرنا , وقد أدركت ذلك الأمم المتمدنة أنفسها تمام الإدراك فإنها قد أبقت من عاداتها القديمة بعض الرياضيات البدنية التي لم يبق لوجودها أدنى موجب إن لم تكن قد اعتبرتها من وسائل إحياء قوى الفطرة الأصلية , وذلك كالصيد وألعاب المبارزة والمصارعة مثلاً. ولو أن رجالاً تلاكموا في الطريق لقبض عليهم الشرطيون , وساقوهم إلى المحاكمة مع أنهم لم يفعلوا إلا ما يفعله الملاكمون من شباننا في ملاعبهم الرياضية (محال الجنباز) . إني أرى - ما لم أكن مخطئًا أن الترقي في مجموع الآلات التي نستخدمها لسد حاجاتنا لا بد أنه يستتبع زيادة التكلف في استعمال القوى العضلية بمجتمعاتنا , وإلا لأصبح الإنسان عما قليل بسبب إحلاله الآلات محله في مشيه وعمله وكفاحه شبيهًا بباشا غشيه خدر الترفه , وغرق في فتور البطالة [5] فلابد لمنع تطرق الفساد إلى النسل من انهماك الناشئين في كل أنواع اللعب التي هي في الظاهر غير مفيدة لكنها في الحقيقة معدة لحفظ قوة الجسم , ولولا هذه الألعاب المقاومة للضعف والانحلال لكانت اختراعاتنا نفسها سببًا في انحطاط الدولاب [6] الإنساني من عرش سيادته. العلم أيضًا يفرغ جهده , وينفذ مهاراته وحذقه في تكميل نقص أعضائنا بما يوجده لها من طرق المساعدة في أداء وظائفها , وإني لكثير الإعجاب كجميع الناس باكتشاف المنظار المقرب أو المرقب (التلسكوب) لأنه جم الفوائد , ولكن المتوحش الأمريكي ذا الجلد الأحمر لا يحتاج في اكتشاف نقطة فوق الأفق إلى شيء يطيل به بصره سوى ما استقر فيه من الاعتياد على إرسال أشعة بصره المجرد لتنفذ في المسافات السحيقة , وتأتي إليه بصور ما فيها من الأشياء. أليس في إعانة المشاعر بالآلات على القيام بوظائفها رفع جزء من ثقة الإنسان بفطرته التي قضت بأن يفوق الوحشي المتمدن ولو من بعض الوجوه , وإني لا أريد بهذا (كما لا يخفى عليك) وجوب الاستغناء مطلقًا عن مكتشفات العلم والصناعة , وإنما أريد به أن لا تتخذ مزايا المدنية ذريعة إلى إنشاء الطفل المتمدن مترفًا جبانًا قصير النظر وأنه سيأول أمره إلى ذلك إذا اعتاد في كل شئونه على ترقي وسائلنا الصناعية , ولم يجعل لنفسه وقوة أعضائه نصيبًا من ارتكانه عليهما. ألا توجد طريقة لاسترجاع جزء من الخواص الأصلية التي أضاعها منا الانغماس في التمدن؟ قد يوجد لذلك سبيل، فكثيرًا ما فكرت في الوظيفة العمرانية للأصناف الإنسانية التي نعتبرها أحط من صنفنا لوقوفها عند أخلاق الط

مدرسة زعزوع بك للبنين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدرسة زعزوع بك للبنين أنشأ سيد أحمد بك زعزوع مدرسة في بني سويف , ففرح المسلمون بذلك واستبشروا بهذا العمل الشريف والخدمة الإسلامية الجليلة , ولما تبين أنه جعل لأكابر رجال الحكومة في بلدها حق النظر في إداراتها، ظن الناس أن هذا يحول دون التربية الإسلامية التي يجب أن تقرن بالتعليم لأجل بث روح التهذيب الملي في النشء الجديد , وأنشأ بعض المتبجحين بالوطنية أو انتقاد الحكومة ومعارفها مدرسة وبشر الناس بأن سيكون امتيازها على سائر المدارس بالتوسع بتعليم الدين والتربية الوطنية , فتوهم الذين يعتقدون الكمال بكل من ينتقد الحكومة أن هذه المدرسة هي ضالة الأمة المنشودة؛ فأخطأ الظن وضل الوهم في المدرستين , وتبين بالاختبار أن مدرسة زعزوع بك منبع الحياة الملية , فالتلامذة يتلقون القرآن الكريم مع تفسيره إجمالاً فما بالك بسائر العلوم الدينية؟ ويُصَلُّون في المدرسة أجمعين , وليس في المدرسة الوطنية التي أشرنا إليها شيء من هذا. مدرسة زعزوع بك اختبرتها بنفسي مرتين , والمدرسة الوطنية الأخرى علمت ممن يوثق به من أهلها أن التلامذة لا يُلزمون فيها بالصلاة , وأنها دون مدارس الحكومة في تعليم الدين. وإنما قلنا هذا لأن الثناء بالصدق والانتقاد بالحق من أعظم أسباب الترقي والكمال. لا خلاف بين العقلاء في أن العناية بالتربية أهم من العناية بالتعليم لأن الذي يتعلم ولا يتربى ربما يضر بعلمه أكثر مما ينفع، وقد رأيت بنفسي في مدرسة زعزوع بك ما ملأ قلبي سرورًا ورجاء بحسن المستقبل , وإنني أذكر مسألة واحدة يقاس عليها. دخلنا مع حضرة ناظر المدرسة الفاضل على صف ابتدائي يتعلم القرآن الكريم بالتجويد حفظًا , فقرأ علينا غير واحد من التلامذة , وأوقف الناظر واحدًا منهم لم يكن حفظه جيدًا , ثم قال للتلامذة: إنني أذكر لكم واقعة حدثت لأحد تلامذة المدارس , وأطلب منكم إبداء رأيكم فيها , وهي أن تلميذًا ضرب في الطريق تلميذًا آخر من مدرسته فبماذا ينبغي أن يعاقبه أبوه على هذا الذنب؟ فقال أحدهم: ينصحه بأن مثل هذا العمل يجعله ممقوتًا ومبغوضًا بين الناس ... وقال آخر: يهدده بمعاقبة الحكومة ... وقال ثالث: يضربه , فانتهر الناظر هذا وخطَّأه , ثم قال لهم: إن من رأيي أنا أن يفصل أبوه بينه وبين إخوته ويقول له: إذا كنت تؤذي إخوتك في المدرسة فلا يبعُد أن تؤذي إخوتك في النسب , وإنني أخشى من مخالطتك لإخوتك أن يتعلموا الشراسة والتعدي ومفاسد الأخلاق منك , فالأولى أن تكون خليعًا لينجو إخوتك من شرِّك. ثم قال لهم: واعلموا أن ذلك التلميذ الضارب جعله فساد أخلاقه أسوأ التلامذة حفظًا وتعلمًا , وربما تتعجبون إن قلت لكم: إنه من مدرستنا هذه (فشخصوا عند هذا بأبصارهم) بل هو من صفكم هذا , وموجود معكم الآن , وستعرفونه فطفقوا يلتفتون يمينًا وشمالاً وذلك التلميذ السيئ الحفظ واقف شاخص لا يبدي حراكًا، فالتفت إليه الناظر وقال: ألست أنت المقترف لهذا الذنب يا فلان؟ فأراد أن يدافع عن نفسه بالإنكار فقلنا له: لا تضم جريمة الكذب إلى جريمة الضرب. وقال له الناظر: إنني سأعاقبك بما قلت أنه ينبغي لأبيك أن يعاقبك به بأن آمر التلامذة جميعًا باجتنابك وعدم مكالمتك بعد ما أذكر لهم جريمتك عندما يجتمعون عمومًا للانصراف؛ لئلا نفسد أخلاقهم بمعاشرتك , أو يصيبهم الأذى من شراستك , ففاضت العبرة من عيني التلميذ المذنب , وصارت الدموع تجري على خديه , وتنحدر إلى الأرض من غير نشيج ولا كلام. فعند هذا شفعت فيه على أنه يتوب توبة نصوحًا , فقبل الناظر الشفاعة على شرط أن يطرده من المدرسة إذا هو عاد إلى مثل جريمته طردًا , فهكذا هكذا تكون التربية. مدرسة زعزوع بك للبنات رأى بعض الأفاضل فتاة معصرًا من بنات الوجهاء في بني سويف لابسة لبسًا أفرنجيًّا وماشية في الطريق , فسألها أين تقصد , فقالت: المدرسة , فقال: لا مدرسة اليوم لأنه يوم (أحد) فقالت: إنما أريد الصلاة بها , فقال: أنت مسلمة وإذا كنت تصلين صلاة النصارى يغضب أبوك , وربما يعاقبك , فقالت: إذا عاقبني ولم يرض مني فإن الذين علموني لا يتركونني , ويمكنني أن أكون عندهم راهبة في الدير! ! فقص الرجل هذه الحكاية على حضرة الفاضل الغيور أحمد بك زعزوع , فاستفزته الحمية الملية في الحال إلى تأسيس مدرسة إسلامية للبنات , وقد استحضر لها ناظرة فاضلة واستأجر لها محلاًّ مناسبًا , وكملت الآن بها لوازم التعليم من المعلمات والمعلمين والأدوات. وقد وضع لها ناظر مدرسة البنين قانونًا للتعليم مبنيًّا على أساس الحكمة ومراعاة أهم ما يلزم للبنات , وسنتكلم عنه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى , وننقل بعض نبذ منه , فعسى أن يبادر جميع المسلمين في بني سويف لإخراج بناتهم من مدارس الغالين في التعصب لدينهم المسيحي الذين يلزمون بنات المسلمين إلزامًا بعباداتهم النصرانية , ويدخلوهم في هذه المدرسة الإسلامية. وليعلم أن ما ذكرته في سبب تأسيس هذه المدرسة لم أسمعه من حضرة زعزوع بك نفسه عندما كنت عنده في بني سويف , وإنما سمعته من آخرين في بلد آخر. وعلى كل حال نقول: شكر الله سعي هذا الفاضل الهمام , وأكثر في المسلمين من أمثاله.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (سؤال وجواب وعبرة لأولي الألباب) سأل سائل (اسمه قنديل) بما جاء في أول مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي نشرت في المنار الماضي من العبارات الثلاث إشارة إلى إعادة مجد الإسلام , فأنكر علينا الإشارة بقوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) إلى أن ما قام به الإسلام واعتز في أول أمره , وتركه المسلمون فسلبوا مجدهم وعزهم هو الذي يرجع به ذلك المجد والعز إليهم , وسمى هذه الإشارة استنباطًا وقال: إنه (غير مُسلَّم بل باطل وحرام) . وقال في الإشارة الثانية , وهي حديث (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ) أن الحديث صريح في أن لا إعادة , وأن رجوع الإسلام كما بدأ من علامات الساعة , وهو إنما يكون في آخر الزمان , وقد جزم السائل بأن هذا الزمن هو آخر أزمان الدنيا , فيستحيل بمقتضى الحديث على رأيه وفهمه أن يعود للإسلام مجده , ولذلك رتب عليه الاعتراض على المنار في دعوة المسلمين إلى الاتحاد والسعي في إعادة مجد الملة , وقال في العبارة الثالثة التي أوردناها في صدر تلك المقالة وهي: (إن التاريخ يعيد نفسه) أنها استعارة , والعلاقة فيها بعيدة , وقد طلب إجراءها للإيضاح معللاً ذلك بأن الذين يطالعون المنار في البلاد لا يعرفون البلاغة فيفهموا إشاراته الدقيقة. ثم اعترض السائل على قولنا: إن ناموس الشريعة الإسلامية لا يتزلزل ولا يزول؛ بأن الدليل الذي أوردناه عليه (وهو موافقة سنن الله في خلقه التي أخبر بأنها لا تبدل ولا تحول) غير سديد , قال: (إذ إخبار الله جل شأنه بأنها لا تبدل ولا تحول لا ينفي زوالها بالكلية ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء إلى آخره كما تقولون) وعقب هذا بالإنكار الشديد على التصريح بازدراء العلماء , وعدم فهمهم معنى كتاب الله مع أنه لم يستدل أحد منهم بآية كاستدلالنا بالآية التي تقدمت إلخ- هذا ملخص ما كتبه إلينا السائل من (نكلا العنب) وقد طلب منا نشره حرفيًّا , والعذر في عدم إجابة طلبه هذا ما في عبارته من الركاكة والغلط الذي نتحاماه في المنار , وإننا نجيبه عن مسائله بما يأتي , فعسى أن يصادف إنصافًا وقبولاً. (1) إننا قلنا بعد إيراد الآية الكريمة والحديث الشريف والعبارة التي قالها أحد علماء العمران ما نصه: (ولنوضح هذه الإشارات) ولا يجهل السائل فيما نظن أن ما يؤخذ من القرآن الكريم بطريق الإشارة لا يسمى استنباطًا ولا تفسيرًا ولا استدلالاً , ولم يكن إيراد الآية في كلامنا على سبيل الاستدلال , وإنما جاء في جواب من سأل (كيف يعود للإٍسلام مجده إلخ) وقد أردنا به أن مجد الإسلام إنما يعود كما بدأ أي أن الأصول والأعمال التي أخذ بها المسلمون عند ظهور الإٍسلام فكان لهم بها ذلك المجد العظيم وزال مجدهم بإهمالها هي التي يعود المجد بالأخذ بها, وهذا معنًى صحيح , والأسباب تتصل دائمًا بمسبباتها , والعلل لا تنفك عن معلولاتها , واحتمال الخوارق لا يخل بالقواعد الثوابث , وقول السائل: إن هذا باطل بل حرام , فيه من الجرأة على الفتوى والتحريم ما ليس لمثله أن يقدم عليه , وقد ورد في ذلك من القرآن ما ورد. (2) حديث (بدأ الإسلام غريبًا) إلخ فيه من بلاغة الإيجاز ما لا يكاد يوجد إلا في كلام الله ورسوله , فإنه يدل على أن أهله ينحرفون عن صراطه بالتأويلات والتقاليد على نحو ما كان ممن قبلهم كما يفسره الحديث الصحيح: (لتتبعن أو لتركبن (روايتان) سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذارع) ومعنى الانحراف مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: (وسيعود غريبًا) فإنه إذا كان معروفًا على حقيقته معمولاً به على جليته , وقام داعي الإصلاح يدعو إليه لا يستغرب , بل لا معنى لعوده غريبًا حينئذ ولا للدعوة إليه , وقد أخطأ الذين يفهمون من الحديث أن الإسلام يضمحل ويتلاشى , ثم لا يعود إليه مجده وعزته لأن هذا المعنى لا يدل عليه الحديث , وإنما صريحه أن الإسلام سيظهر مرة ثانية مثل ظهوره في المرة الأولى , وظهوره في المرة الأولى كان غريبًا في العالم , ولكنه على غرابته استعقب مجدًا كبيرًا وعزة وشرفًا , وكذلك يكون في الكَرَّة الأخرى إن شاء الله تعالى رغمًا عن أنوف اليائسين الذين سجلوا على هذه الأمة الشقاء بدينها إلى يوم الدين. وأما ضعف الإسلام بانحراف أهله عنه - كما ذكرنا - فإنما جاء بطريق الاستلزام لا بطريق النص , وقوله تبعًا لغيره: إن هذا من علامات الساعة؛ لا ينافي ما نقول، فإن ظهور الإسلام في المرة الأولى من علامات الساعة أيضًا، ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم هو نبي الساعة كما ورد في أحاديث كثيرة. هذا ما نفهمه في الحديث وعلى فهمنا هذا قمنا ندعو المسلمين في المنار إلى إحياء مجد دينهم بالرجوع إلى ما كان عليه سلفهم الصالح , ولا آفة ولا بلاء على المسلمين أشد من الذين يعلمونهم ما يوقعهم في اليأس والقنوط من سعادتهم ومجد ملتهم لسوء فهمهم وانتحالهم علم الدين , وهم ليسوا من أهله. ومن البلاء أن هؤلاء الجهلاء يلبسون لباس العلماء , ويُعادون الإصلاح باسم الدين , وينفِّرون من الداعي إليه بدعوى أنه يحتقر علماء المسلمين! ! (3) طلب السائل إجراء الاستعارة في كلمة من قال: (إن التاريخ يعيد نفسه) لأجل أن يفهمها من لا يعرف علوم البلاغة , وهذا الطلب بهذا التعليل لا يلوح إلا في أذهان المشتغلين بالعلم على الطريقة الأزهرية. وظاهر أن سائر المقالة شرح لهذه الكلمة , وملخصه أن الأمم التي تنتابها السعادة والشقاوة مرة بعد أخرى إنما تسعد في الكرة الثانية بمثل ما سعدت به في المرة الأولى , فيكون تاريخها الحاكي عن حالها أعاد في الكرة الثانية ما كان قصه وحكاه في المرة الأولى. هذا ما أراده صاحب الكلمة منها , وهو بعض علماء أوروبا، ومن البديهي أن الذي لا يعرف علوم البلاغة لا يكون فهمه للعبارات ببيانها باصطلاحات تلك العلوم. (4) قال السائل: إن إخبار الله تعالى بأن سننه لا تبدل ولا تحول، لا ينفي زوالها بالكلية , ورتب على زعمه هذا بطلان استدلالنا على أن ناموس الديانة الإسلامية لا يزول ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماء بكونه مبنيًّا على سنن الله في خلقه. فيجوز عند هذا العالم النحرير أن يبقى الكون وتزول منه السنن الإلهية التي بها قوامه ونظامه , وغرضه من هذه السخافة إقناع الناس بزوال ناموس الدين الإسلامي , واليأس من رجوع عزه ومجده! ! اللهم إن هؤلاء الناس أضر على هذه الأمة المكلومة من أعدائها شياطين الإنس والجن الأقارب منهم والأجانب , فافصل بينهم وبينها بالحق وأنت خير الفاصلين , اللهم إن كتابك وما وهبتنا من العقل يعلماننا أن الناس إذا اعتقدوا أن السعادة في ما عدا الدين الحق؛ فإنهم يأخذون بما هو مسعد لهم في دنياهم فقد قلت: {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: 33) إلخ الآيات. وإن قومًا من المنتحلين لعلوم الدين يحاولون إقناع المسلمين بأن دينهم يسجل عليهم الشقاء في الدنيا، فاصرف اللهم قلوب هذه الأمة المسكينة عن هذا العلم الضار, واهد قلوب أهله لعلهم يرجعون , ومن هنا علم من نعني بانتقاد المدعين للعلم. مسألة فقهية زرت في هذه الأيام مدينة الفيوم لمعاهدة جمعية شمس الإسلام التي تأسست فيها , فرغب إلي كثيرون من أعضاء الجمعية وغيرهم أن أخطب بالناس خطبة الجمعة في أحسن جوامعها المسمى بجامع الروبي فأجبتهم لذلك , وكان الذي استأذن لي خطيبه فضيلة قاضي المديرية, واتفق أن الخطبة جاءت أطول مما اعتاد الخطباء الذين يخطبون قراءة في الورق أو حفظًا منه , فتوهم رجل من المشتغلين بفقه الشافعية أن الصلاة لم تصح؛ لأن الخطبة لمن سبق إذا كانت المساجد التي يصلى فيها الجمعة متعددة , وذكر هذا أمام بعض الناس , فسألوني فبينت لهم الحق في المسألة وهو: إن اجتماع وتعارف أهل البلد الذي تقام فيه الجمعة في بيت الله تعالى وعلى طاعته وتلقيهم المواعظ التي ترشدهم إلى سعادتهم على طريقة واحدة هو الحكمة الكبرى من هذه العبادة , فإذا أمكن أن يجتمع الكل في مسجد واحد وتفرقوا في عدة مساجد يكون تفرقهم خروجًا عن حكمة الاجتماع المقصودة , وقد ذهب الإمام الشافعي إلى أن الجمعة الصحيحة قطعًا هي لمن سبق بالصلاة من المتفرقين في عدة مساجد , معتبرًا أن الذي تأخر هو الذي عدَّد , وأن الصلاة الأولى وقعت في محلها وحيث لا يعلم السابق قطعًا وجب على جميع المعَدِّدين إعادة الظهر , وأما إذا لم يمكن اجتماع أهل البلد في مسجد واحد , وتعددت المساجد للحاجة ولم تزد عنها، فلا تجب إعادة الظهر على أحد , وقد علمت أن التعدد في مدينة الفيوم للحاجة بل إن العامر من مساجدها لا يفي بحاجة أهلها , وعلى هذا لا تجب إعادة الظهر على أحد فيها , ولو فرضنا أن التعدد فيها لغير حاجة فلا يمكن لمن صلى في مسجد منها أن يجزم بأنه سابق أو مسبوق لنحو طول خطبة أو قصرها؛ لأن ما اتفق حصوله في هذا الجامع يمكن أن يكون حصل مثله في غيره أيضًا , فالأمر مبني على الاحتمال وفي الإعادة احتياط على كل حال.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (عثمان باشا الغازي) نعت إلينا أخبار الأستانة العلية هذا القائد العظيم فكان لنعيه وقع أليم في قلوب الأمة العثمانية، مليكها الأعظم فمن دونه. وطيره البرق إلى جميع الأقطار كما هو الشأن في عظماء الرجال , وسنأتي على ترجمته في الجزء الآتي رحمه الله تعالى فوق حسناته. * * * نبأ غريب (سرقة الآثار النبوية الشريفة) علمنا من أخبار الأستانة العلية الخصوصية أنه شاع عند الطبقة العالية فيها أن بعض الآثار الشريفة سرق من قصر (طوب قبو) المحفوظة فيه , وقد اضطرب لهذا النبأ الغريب عظماء الدولة , وكل من طرق سمعه , فمنهم المصدق له , ومنهم من يرى أن الإشاعة يقصد بها التمهيد لنقل الآثار المكرمة من سراي طوب قبو حيث هي الآن إلى قصر يلدز الأعلى ليتولى مولانا الخليفة المعظم حفظها بما يحفظ به نفسه الكريمة؛ لأن الخليفة أولى بحفظ آثار من هو خليفة له , وليستغني مولانا - أيده الله وأعزه - عن الخروج في كل سنة لزيارتها في اليوم الموعود (15 رمضان) حسب التقاليد العثمانية , ومما يستدلون به على ذلك تعلق الإرادة السَّنية بتأليف لجنة للبحث في ثبوت هذه الآثار وعدمه , وقد نمى إلينا أن اللجنة قررت أن الآثار الموجودة في مصر أثبت من الآثار الموجودة في دار الخلافة. وزعموا أنه كان القصد من تأليفها التشكيك في صحة نسبة هذه الآثار للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون ذلك عذرًا لمولانا الخليفة الحالي في ترك سنة سلفه بزيارتها في الاحتفال المشهور , أما سبب رغبة مولانا السلطان في الاستغناء عن هذه الزيارة فيعرفه أهل الأستانة جميعًا وكل من يعرف الأستانة أو يعرف ما يجري فيها، وحسبك منه أن ألوفًا من الجند الباسل لا شغل لهم في ليلهم ونهارهم إلا حفظ الطريق من يلدز إلى (طوب قبو) حتى إنه قد مات منهم في العام الماضي عدة أشخاص من شدة البرد في جانب الجسر (الكوبري) ونبشت الأرض مرة في ذلك الطريق إلى أعماق الثرى لزعم بعض الجواسيس أن فيها ديناميت، فلا عجب إذن في اقتضاء العاطفة الحميدية إراحة هؤلاء الجنود المخلصين من هذا العناء من حيث تكون الراحة لمولانا نفسه , ويتبع ذلك توفير مبلغ غير قليل من النفقات الاحتياطية يمكن أن يصرف في وجه آخر. وأما الأتراك فإنه ليكبر على خاصتهم وعامتهم ترك شيء من تقاليد ملوكهم وخلفائهم السالفين , وللمتنطعين منهم والمتطرفين في الانتقاد على المابين الهمايوني أفكار وظنون في مثل هذه المسألة يمنعنا الأدب والاحترام لمولانا أمير المؤمنين أعزه الله تعالى من ذكرها. * * * (القران الميمون) تم في أوائل هذا الشهر اقتران دولة الأميرة الفاضلة نازلي هانم أفندي بحضرة المفضال السيد خليل بو حاجب، فيا له من قران وصل بيوت العلماء ببيوت الأمراء وكان سببه ميل الفضل للفضل وتلاقي النبل بالنبل خلافًا لما عليه الدهماء من جعل الاقتران منوطًا بالأهواء. * * * (جمعية شمس الإسلام) زرت في الأسبوع الماضي بعض جمعيات الوجه القبلي , وحمدت الله تعالى على ما رأيت من النجاح , وقد تأسست في هذه الأيام جمعيتان فرعيتان إحداهما في معصرة سمالوط رئيسها حضرة الفاضل إبراهيم أفندي خطر والثانية في بلدة (مير) التابعة لديروط رئيسها حضرة الفاضل الشيخ نمر إبراهيم، وسنعود إلى الوجه القبلي في آخر هذا الأسبوع إن شاء الله تعالى , وقد تمهدت السبل لإنشاء عدة فروع في بلاد أخرى نذكرها في الجزء الآتي أو الذي بعده. وقد شكا إلي الأستاذ الفاضل السيد الشيخ محمد خطيب رئيس جمعية الفيوم ونقيب السادة الأشراف فيها من قلة إقبال الناس على الدخول في الجمعية , فقلت له: إنما أشكو أنا من كثرتهم وأطلب منك أن تتربص , فلا تبادر بقبول كل طالب حتى تعلم أنه مستوفي الشروط , وكيف لا أشكو من كثرة الدخول في ذلك الفرع , وقد دخل فيه ليلة التأسيس الرسمي زيادة عن ستين رجلاً. ولقد كان أمر الجمعية مبهمًا عند بعض الناس هناك , فخطبت فيهم خطبة مطولة في اجتماع عام أوضحت فيها كل مبهم , وجلوت كل غامض , ولا أصف ما لقيت من الإقبال والحفاوة , وما رأيت من التأثر بخطبة الجامع وخطبة الجمعية كما يفعل محبو الفخفخة وإنما أقول: إنني رأيت ما رجوت به أن تكون جمعية الفيوم من أحسن الجمعيات وأنجحها , وقد كتب إلي كاتب سر الجمعية يستقدمني إليها مرة أخرى وسألبي الطلب إن شاء اله تعالى عن قريب.

الوحدة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوحدة العربية يود كل مسلم عثماني أو محكوم من دولة غير إسلامية لو تكون الدولة العلية في أعلى درج العزة وأقصى غايات القوة , فيعود للإسلام مجده على يديها , ويشتد أزره بساعديها ويكون الترك والعرب وسائر العناصر الإسلامية في هذا المجد سواء, وما كان أقرب هذه الأمنية لو استن من جاء بعد السلطان سليم ياوز (عليه الرحمة) من الملوك بسننه السياسية , فعمموا اللغة العربية وجعلوها اللغة الرسمية , ووجهوا عنايتهم إلى ضم سائر الممالك الإسلامية إليهم , ولكن لم يصل عقل أحد منهم إلى ما وصل إليه ذلك العقل الكبير , بل ظلوا مفتونين بالبلاد الأوربية التي أنفقوا على فتوحها خزائن قوتهم , وما زالت تتربص بهم الدوائر حتى أمكنها بمساعدة الدول القوية أن تستقل دونهم مملكة مملكة وولاية بعد ولاية. وما انفصلت ولاية من تلك الولايات من جسم الدولة إلا وأحدثت فيه من الضعف مثلما يضعف الجسم الحي الذي تقطع أعضاؤه واحدًا بعد واحد لفسادها أو خروجها عن ما يقتضيه مزاج مجموع الجسم. كلنا نعلم أن أوربا متحاملة على الدولة العلية , وأنه لا يُنجي الدولة من الخطر الذي يتهددها منها إلا قوة الأمة قوة شاملة لجميع عناصرها الحقيقية , ونعلم أن العرب وهم العنصر الأكبر متأخرون عن الترك , وينذرهم من الخطر ما لا ينذر الترك. والعرب عز الإسلام وبيضته , وبلادهم منبع حكمته ومنبعث أشعته , فيها أُسِّس بنيانه , وفيها تقام أركانه , فإذا غلب الأجانب العرب على أمرهم وأنشبوا براثنهم في أحشاء بلادهم , فذلك هو الموت الأحمر والبلاء الأسود الذي يسلب من المسلمين أسآر الرجاء , ويذهب بما بقي لهم من الذماء (بقايا النفس) والعياذ بالله تعالى. ومهما سلمت الأمة العربية وبلادها فإن النفوس تظل مطمئنة راجية أن يعتز الإسلام بها يومًا من الأيام. إن أنواع القوى للأمم ثلاث: العلم والثروة والاستعداد الحربي , فأما العلم فإن الدولة قد خصصت جزءًا من مالها للمعارف إلا أنها كادت تجعل ذلك محصورًا في البلاد التركية، فليس لها في البلاد المقدسة مدرسة ولا مكتب. ولا نقول كما يقول سيئو الظن أنها تتحرى بقاء العرب على جهالتهم وضعفهم لئلا يسترجعوا الخلافة منها , بل نقول ما يقتضيه حسن الظن والتأليف بين العنصرين , وهو أن الدولة عاجزة عن تعميم المعارف , ومن السياسة تقديم عاصمة السلطنة وما أطاف بها على سائر البلاد. وإذا كانت عاجزة فالواجب على العرب خاصة - والمسلمين عامة - أن ينوبوا عنها بإحياء البلاد العربية بالعلوم والفنون , ويعرفوا أهلها ما يتوعدهم من نوائب الدهر وغوائله , وكيف يمكنهم حفظ معهد الدين وكعبة الإسلام. فنحض كل مسلم على أن يجيب داعيهم ويمد إليهم ساعد المساعدة. وأخص بالذكر الذين يسعون في إنشاء (دار علوم) في مكة المكرمة وهذا سعي في مقدمات الوحدة العربية يرضي الدولة العلية , ولا يهيج علينا دول أوربا فهو على ما اشترطنا في مقالة (إعادة مجد الإسلام) وأما الثروة فهي في هذا العصر تابعة للعلوم والفنون والسلطة , فلا غرو حينئذ أن يكون الترك فيها أحسن حالاً من العرب. وأما القوة الحربية , فقد وجهت الدولة العلية عنايتها لتعليم فنونها للأتراك أيضًا , فلا يكاد يوجد عندها قائد عسكري من العرب , وما كانت الدولة مقصرة بهم أكثر من تقصيرهم بأنفسهم، فإنهم لعموم الجهالة يرغبون عن الخدمة العسكرية ولا يرغبون فيها , وحيث كان التكلان في حماية البلاد على الدولة نفسها , فلا فرق بين بلاد العرب وغيرها إذ الجميع بلادها , فهي تحميها على السواء ما دامت قادرة - وستدوم إن شاء الله تعالى - وأما إذا كان من المخبوء لها في مطاوي الغيب أن سيجيء يوم تحتاج فيه هذه البلاد إلى المدافعة عن نفسها بنفسها حيث يكون قواد الترك مشغولين بأنفسهم وحفظ بلادهم عن غيرها , فذلك يوم تحتاج فيه إلى قواد مهرة في الفنون العسكرية من أهل البلاد أنفسهم , فإذا وُجدوا - وما وجود السلاح الجديد إلا أيسر من وجودهم - فحينئذ يُرجى بشجاعة العرب وبسالتهم أن يظلل الأمن تلك البلاد المقدسة من لفحات هجير ذلك اليوم العصيب. ولهذا اقترح المنار غير مرة على مولانا السلطان الأعظم أيده الله بنصره وتوفيقه أن يعمم التعليم العسكري في جميع المملكة لأجل أن يكون كل قطر قادرًا على الدفاع عن نفسه إذا وقعت الواقعة , وانكسر الباب الذي نسمع أوربا آنًا بعد آن تنادي أنه (مفتوح) فادخلوه عسى أن تنالوا شيئًا , ثم يسكت المنادي معتبرًا أن (الباب المفتوح) قد أغلق إلى أجل مسمى. فإذا وفقت الدولة العلية لهذا ينال سائر البلاد العربية منه ما نال طرابلس الغرب ويجب على أبناء العرب المشتغلين بالفن العسكري علمًا وعملاً أن تسمو أنفسهم إلى إحراز الغاية من هذا الفن الجليل استعدادًا لذلك الأمر الجلل , وهذا نوع من الاستعداد لحفظ الأمة العربية وسلامة وحدتها، لا يخل بسيادة الدولة العلية على بلادها , ولا مجال لأوروبا لمعارضتنا فيه , بل يحصل ولا تشعر به لأنه عمل نفسي محض , فمن لي بمن ينفثه في روع كل فرد من أهله. ووراء هذا النوع نوع آخر يعرفه أهل الرأي الصائب والعقل النافذ لا يسطر في الكتب والجرائد؛ لأنه مخالف لما شرطناه للكلام في الوحدة العربية. وخلاصة القول: إن جميع العناصر الإسلامية أمست مهددة من أوربا , وأن الخطر الأكبر على من كان أضعف في القوى الثلاث التي ذكرناها في هذه المقالة , وأن الخطر الذي يلحق بالإسلام من استيلاء الأجانب على العرب أشد من كل خطر يصيبه من استيلائهم على غيرهم من العناصر الإسلامية المستقلة كالترك والفرس والأفغان , وأن كل عنصر من هذه العناصر أكثر استعدادًا من العرب لحفظ وحدته, وأنه لا يفيد الإسلام قوة واحد منها كما يفيده قوة العنصر العربي , فيجب إذن على الأمة العربية أن تسعى في تقوية نفسها وجمع كلمتها وحفظ وحدتها , ويجب على جميع المسلمين أن يساعدوها على ذلك؛ لأنها روح الجامعة الإٍسلامية التي توجهت إليها أفكار عقلائهم بعد ما كاد الضغط يسحقهم سحقًا. أما كفاكم أيها المسلمون ما جناه عليكم اختلاف العناصر وتفرق الأجناس؟ أما آن لكم أن تعلموا أن أمتكم هذه أمة واحدة؟ اعلموا واعملوا , وعلى الله المتكل في نجاح العمل.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر من أراسم إلى هيلانة فى 31 أغسطس سنة - 185 الطفل يتلقى علومه الأولى من العالم الخارجي , ولكنه هيهات أن يرضى بمجرد الانفعال بالمؤثرات الأجنبية كغيره من الحيوانات التي ترضخ لما يقرر لها من أحوال المعيشة ساكتة عليه غير مفرقة بين ضاره ونافعه , فإنه لا يكاد يخرج من ظلمة الرحم إلا ويكون قد أثبت حريته بصراخه الذي يعارض به ملمات الألم وفواعل الطبيعة. فترينه يبكي ويتبرم ممن حوله من الناس والأشياء , ويوجِد عليهم إن لم يجروا على مقتضى رغائبه , وهو على عزله وعجزه يلج في الشكوى من سلطان القدر , ويتذمر عليه بحسب حاله. وبعد بضعة أسابيع أو أشهر من ولادته تنفتح عيناه وأذناه تدريجًا في مشهد الكون، فمن ذا الذي كان يحسب أن هذا الجسم الضئيل الصغير لا يرتعد لما يراه يثور حوله من قوة الفواعل الكونية. بلى إنه لا يحسب لها حسابًا , فلا يلبث أن يتأمل في هذا الدولاب الأرضي العظيم , ويرجع فيه بصره الرائق , وهو هادئ البال آمن مع أن أقل أداة فيه ربما كانت كافية لسحقه ومحقه , وهو وإن ولد أسير الفطرة لكنه لا يلبث أن يكون حاكمها المستبد فيطلب إلى أمه بلغته المبهمة الخفية الدلالة أن تجمع له بين الحر والقر والمطر والصحو , بل إنه ربما استسهل أن يسألها إنزال القمر والكواكب من السماء تحصيلاً للذته , ولما كانت الأم على كل حال ليست في نظره إلا مثالاً حيًّا للنوع الإنساني كان شعوره بالقوة إنما يستمد من انتسابه لهذا النوع , فتسبق إلى ذهنه العاجز عن الفكر غريزة السلطان الذي لتلك اللذات المختارة على العالم , فلا يبقى تلقاء هذه القوة المعنوية التي لا يدركها إلا حدسًا غير بَيِّنٍ أدنى تأثير في نفسه؛ لعظم تسلط المادة. ليس الطفل كما يقال لوحًا مصقولاً مجردًا من الإدراك , بل إن له ذاتًا تشعر بالوجود , ولا تلبث أن تثبت وجودها بما لها من الطريقة المخصوصة في المعيشة والإحساس , وبما يصدر عنها من الانفعالات اختيارًا , وبما لها من الغرائز خلقة. وكما أن مشاعره قد جعلت بينه وبين ما حوله من الأشياء اتصالاً , كذلك أمياله ورغائبه تتدرج في تعريفه من يعيش بينهم من الناس وتقريبه منهم , نعم إن معظم انفعالاته النفسية تأتيه في مبادئ الأمر من الخارج , فيكون حبه لغيره وضحكه وكلامه ناشئة من حب ذلك الغير إياه ورؤيته يضحك وسماعه يتكلم , لكنه عما قليل يبدي ما يستقر في نفسه من ضروب النفور والميل والترجيح وجملة القول: إن طبعه يستبين , وسأتكلم عن هذا الموضوع في بحث آخر. أنا لا أعتقد مطلقًا أني قد أجبت في رسالتي هذه عن أسئلتك التي سألتنيها في التربية , فإن توفية الإجابة حقها تستلزم زمنًا , وأنا قد عدوت فيها عدوًا أسرع ما يكون , فوصيتي إليك أن تفرضي على نفسك أنت أيضًا مراقبة أميل، فإن أبعد الأشياء عن نظر القائمين بأمر التربية إلى الآن وأكثرها انفعالاً هو اختبار الطفل ومعرفته. كلما فكرت فيك وفي أميل كان مثلي كمثل الخنفساء الطيارة يمسكها التلميذ , ويربط أحد أطرافها بخيط , ويرسلها فتطير في الشمس ناسية رباطها , وتسبح في الهواء وتطن , فلم يكن إلا أن يجذب التلميذ الخيط حتى تسقط على الأرض , فها هو السَّبَحان يدعوني لأن هذا الوقت هو وقت التنزه على أسوار السجن فأودعك , وأرجو أن يبقى الحب بيننا وثيق العرى. اهـ (5) من هيلانة إلى أراسم في 2 أكتوبر سنة- 185 إن أميل لأجمل غلام في الدنيا , أقول هذا القول وأنا عالمة حق العلم أن جميع الأمهات يدَّعين ذلك مثلي لأول مولود يرزقنه , وهذا يدلك على أننا نرى أيضًا بقلوبنا أكثر مما نرى بأبصارنا. المرأة تتعلم الحب , وتتعلم كيف تكون أمًّا ففي كل يوم تبدو لي شواهد على ذلك بما يبعثه في نفسي هذا الغلام المحبوب من الرحمة والحنو المتزايدين , لكن لا يدعونَّك هذا الأمر إلى أن تخاف علي الاستعباد لوجداني , والعجز عن القيام بما فرضته على نفسي من تربيته , فإني اتباعًا لنصائحك ونصائح صديقك أقدم مصالحه الحقيقية على ما تقتضيه أميالي وأذواقى , وقد أقام لي الدكتور على وجوب ذلك دليلاً مستوفى الشرائط , فقال بما تعهده فيه من أدب المنطق وحسن اللهجة: (خلق الله لسائر الحيوانات أعضاء تقوم لها مقام الأسلحة في الذود عن أنفسها، أما الطفل فلا سلاح له إلا ضعفه وصراخه , ولكن ما أشد مقاومته لنا بهما , وما أكثر ما يستفيد منهما , فهو وإن كانت أنواع الإحساس فيه لا تزال مبهمة؛ لكنه قد طبعت فيه غريزة العدل من نشأته , فهو لا يلبث أن يميز بها ما يصدر عنا من الأفعال في حقه صوابه من خطأه , فاعلمي وثقي بما أقوله لك أن الواجب في سياسة الأطفال خاصة هو أن نكون نحن المحقين لا هم لأنه إذا انعكس الأمر فجعل الحق والسلطة لهواهم واستبدادهم فقد أضعفنا كل شيء ذلك أن الطفل يبكي أحيانًا للحصول على ماعوده أهله اشتهاءه ابتداء موافقة لهواهم فإذا لم يبادروا إلى إرضاء شهوته إما إغفالاً منهم لها أو غضبًا عليه فإنه يستمر في بكائه ساعات كاملة , بل إنه يبكي حتى يشارف الموت , فإذا انتهى الأمر بالإذعان إلى رغبته كان ذلك أيضًا شرًّا من مخالفته؛ لأنه يبين منه أن والديه خلو مما يدرعانه لمقاومة شديد أهوائه , فلا ينبغي أن يعارض الطفل في شيء مما يشتهيه إلا متى كان في المعارضة خير له , وإذ ذاك يجب أن تكون عزيمتنا كالقانون ثباتًا وصرامة) . هذا ما قاله لي , وإني لأخاله عقودًا من الدرر يلفظها من فيه، فقد اتفق لي - ولا أخفي عليك - أني كنت أنسى أحيانًا الأخذ بنصائحه في سياستي لأميل , وفي هذه الحالة كنت أنا وهو نتألم من عاقبة هذا النسيان. قرأت الفصل الأول من كتابك , وهو على ما أرى كتاب تؤلفه في التربية , وأنا في انتظار قراءة باقيه لأكاشفك برأيي فيه فأعتقد تمام الاعتقاد أن تربية أميل ستكون على وفق آرائك ورغائبك , ولكن لا يغرب عن فكرك أن خط المعاني على الورق أسهل من نقشها في صحف الحياة ومجاري الواقع. أنشأ ورق الشجر هنا يحت ويسقط , لكن فصل الخريف في هذا البلد جميل وإن كان غزير الأمطار فهو كوداع العزيز ابتسام في بكاء , وتأتي فيه أيام قد يتوهم الإنسان فيها أنه لا يزال فصل الصيف , ومما يزيد هذا الوهم قوة أن زِنْجِيَّنَا البارَّ قد غرس في حديقتنا المربعة المقابلة لشباك حجرة نومي أشجار العود والصبار والمانوليا [1] وأراد بهذه العناية اللطيفة أن يهديني شيئًا من جنى أرض بلاده التي يحفظ لها في فؤاده أشد ذكر , ويؤكد الناس أن بعض نباتات المنطقة الحارة يمكن إذا حيطت ببعض ضروب من العناية أن تغرس هنا وتنمو , ولا ينالها من فصل الشتاء أدنى أذى , فقد قال لي بستاني السيدة وارنجتون ما نصه: (إن السبب في هلاك هذه النباتات في غير إقليمها ليس هو فقدانها ما كانت فيه من الحرارة , بل هو ما تلاقيه من الجليد في الأقاليم الأخرى , وحينئذ فهي تنجح في كورنواي لأن إقلميها معتدل , إذ ليس فيه إفراط في الحرارة, ولا في البرودة) . فكم من امرأة تعيش معيشة هذه النباتات مطوحًا بها عن مطلع شمس محبتها , فلا تموت لتستريح من عناء هذه المعيشة اهـ. (6) من هيلانة إلى أراسم في أول يناير سنة- 185 قد حيرني سكوتك وانقطاع رسائلك عني , فقد مضى زمن طويل جدًّا لم أحظَ فيه بشيء من إخبارك فلعل السر في ذلك أن دخول المكاتيب في السجن أيسر من خروجها منه , وإني على يقين بأنك لا ذنب لك في هذا , ولكني لبعدي عنك تراني أوجس خيفة من كل شيء. فشا في كورنواي منذ بضعة أسابيع مرض معدٍ أودى بكثير من الأنفس , ويقال: إنه وفد علينا من جنوب إنكلترا. ترى هل كان يدور في خلدك أن مسقط رأس الطبيب جنار [2] يصح أن يكون أحد بلاد أوروبا التي فيها طبقتا الفعلة والمزارعين هما أشد مقاومة لنشر الفوائد التي نجمت من اكتشاف ذلك الطبيب؟ فكثير من الأسر (العائلات) يرفضون تقديم أولادهم للتلقيح إما بلادة فهم أو حذرًا أو وسوسة , بل إن منهم من يعتقدون أن في إبعاد المرض باتخاذ الوسائل الواقية منه معارضة لمشيئة الله تعالى , ثم إن مصلحة الطبيبات في هذا البلد , وهن طائفة من القوابل يطببن في القرى من على شاكلتهن تنحصر في ترويج مثل هذه الأوهام، فإن هؤلاء النساء لما كان معظمهن يجهل طريقة التلقيح كانت وظيفتهن القيام على من يصابون بالمرض , وهل بعد هذا يستغرب ازدياد عدد وفياته؟ لم يكتفِ الدكتور وارنجتون بتلقيح أميل بل أراد أن يجدد تلقيحي للتوقي من الخطر المحدق بنا. إني ولا أخفي عليك عندما أفكر في الجدوى آنس من نفسي رعبًا واشمئزازًا لا يحيط بهما الوصف , وخصوصًا إذا تمثل في خاطري أنه لم يسلم من آثار هذا المرض الشنيع إلا قليل من رجال القرن الماضي ونسائه , ولا شك أن الإنسان يقضي يومه عناءً وكدرًا إذا خطر في ذهنه أن كثيرًا من أخدان الملوك كالآنسة فاليير والسيدة دوباري وعدة غيرهما من ربات الحسن اللاتي طار صيتهن بالجمال لتعاسة حظهن كن جميعًا مجدورات بدرجات متفاوتة في القلة والكثرة , أما أنا فإني أشكر لعلم الطب نعمته على الإنسان وهي تحرير وجهه وإعفاؤه مما كان يؤديه من الجزية لذلك الداء المريع في أغلب إغاراته. فلقد كانت الفتاة منا - معشر النساء - ترى أملها في أن تُحَب قد انقطع بزوال ما كان ينمحي بسببه من محاسنها , وإني وإن لم أكن الآن فتاة لكني لو جعلت لي الدنيا بما فيها على أن أخسر ما لي من بقية الجمال القليلة ما رضيتها منها بدلاً! فإني أخال أنني لو فقدت تلك البقية لأنكرتَني , وانقطعتْ عنك معرفتي. إنك بما كلفتني من مراقبة أحوال الطفولية واستعراف شئونها في شخص أميل كأنك قد بعثتني لاكتشاف بلد مجهول , فإنه من المحقق الذي لا ريب فيه وجود عالم للأطفال على حدته لأن جميع من رأيتهم منهم لا يكادون يختلفون في شيء من طرق إحساسهم وإبداء انفعالاتهم , ولكن من الصعب جدًّا الرجوع إلى دخول هذا العالم بعد الخروج منه , فإذا رجعنا إلى ما نذكره من ماضينا ابتغاء معرفة شئ من أموره تَبَيُّنًا له , فالجنة الأرضية التي لم يخرجنا منها إلا مجرد نمونا وكبرنا وإنه يكون من العبث البحث عن موقعها في خريطة ذاكرتنا , فليت شعري هل الطفل الساكن في تلك الجنة التي هي مطلع فجر حياته ودار هدوئه وسكونه يعرف من أمرها أكثر مما نعرف؟ أنا ربما ملت إلى اعتقاد هذا , ولكن إذا كان الله سبحانه قد استودعه سرها فهذا السر هو في غاية الحفظ لم يطلع عليه أحد إذ كيف يصح تخمين ما يقع في نفس ذات صغيرة عاجزة عن بيان لذاتها وآلامها اللهم إلا بلهجة مبهمة وأصوات غير معروفة المخارج. إني بما ألاحظه في الأطفال كل يوم قد تبينت أن لهم لغة تكون قبل الكلام بكثير , ولكن ما أبهمها وأعسر فهمها حتى على الأمهات أنفسهن , وإني أخالنى أفهم بعض رغبات أميل , وأدرك أفراحه وأحزانه فهل هذا يكفي في معرفته؟ منتهى ما يمكنني أن أقول فيما وصلت إليه من استعراف أحواله هو أني لاحظت فيه حصول استحالات كبرى فإنه في مدة الشهرين الأولين من ولادته كانت معيشته كلها في نفسه (إن صح تسمية هذا معيشة) فلم يكن له ارتباط بالعالم الخارجي أما الآن فهو يميز بعض ما يحيط به من الأشياء تمييزًا فيه نوع من الوضوح وفوق ذلك فهو يتبسم لي. يومنا هذا هو عيد أول السنة الجديدة , ولكن ما أشد حزني فيه وأعظم كدري, وأنت تعلم أن من عادة الناس في مثل هذا اليوم أن يتمنوا لمن يحبونهم من الخير ما يشاءون وأنا أتمنى لك شيئًا و

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (العام الجديد) هذا اليوم هو افتتاح سنة 1318 للهجرة الشريفة , وقد قابل سمو العزيز المعظم فيه جموع المهنئين من علماء العاصمة وأمرائها وموظفيها ووجهائها , فكان يتلقاهم بما عُهد في سموه من اللطف والطلاقة , وأنشد بين يدي سموه حضرة صديقنا الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم الخطيب والمحامي الشهير هذه التهنئة التاريخية: باكر لتهنئة العباس مبتهجًا ... فيومنا فيه بدء العام قد ثبتا هل الهلال وسعد الملك طالعه ... ودوحة اليمن فيها غرسه نبتا وانشر بشائره فيما نؤرخه ... عام جديد بإيناس الخديو أتى فتقبلها سموه بالبشر والارتياح , نسأل الله تعالى أن يجعله عامًا سعيدًا ويهيئ للأمة فيه مجدًا جديدًا. *** (أوروبا والإسلام) فرنسا وإنكلترا هما الدولتان اللتان تهتمان بقوة الإسلام وضعفه؛ لسعة مستعمراتهما الإسلامية , ولكن الثانية أبرع من الأولى وأحكم , فإنها إذا أظلت بنفوذها بلادًا إسلامية تتحامى جرح عواطف المسلمين في سائر البلاد بقدر الطاقة بأن تَدخُلها باسم الإصلاح ووقاية الحقوق المهضومة , وتثبت ذلك بالفعل والتنائي عن الضغط الذي يخشى أن يحدث الانفجار, وفي كل يوم تُسمِع المسلمين من وزرائها وجرائدها ما يرضيهم ويربط بمودتها حبال آمالهم حتى يبلغ الكتاب أجله. ولولا أن الإنكليز توهموا منذ سنين أن في مصر حزبًا وطنيًّا عاملاً يرتبط بدولة فرنسا الطامعة في مصر ويعتمد عليها في حل عقدة الاحتلال الإنكليزي؛ لما ظهر منهم ما ظهر من الضغط والاستعجال في القبض على أزِمّة كثير من المصالح والمنافع المصرية , فلقد كان المفتونون بحزب الاستعمار الفرنساوي الذين لقبوا أنفسهم بالوطنيين أكبر بلاء على مصر والمصريين. وأما فرنسا فإنها لم تحسن هذه السياسة , ولذلك لا يوجد عندها من الاطمئنان على مستعمراتها الإسلامية , والثقة بالمسلمين عشر معشار ما عند الإنكليز من ذلك, وقد أحس سواسها بهذا فقاموا ينصحون حكومتهم بتلافي الأمر , واستنباط الوسائل والحيل لربط ثقة المسلمين بهم؛ ليأمنوا على ما استعمروه من بلادهم , ويتسنى لهم ضم غيره إليه , وتبين لهذا الفريق منهم خطأ الفريق الآخر الذي كان ولا يزال يرى أنه لا يمكِّن لفرنسا في أرض الإسلام إلا الضغط الشديد وتقطيع الروابط الدينية , وهدم الأركان الإسلامية كمنع الحج إلى بيت الله الحرام الذي لم يتجرأ عليه من دول أوربا غير فرنسا المتهورة. كتب منهم الموسيو هانوتو وزير الخارجية سابقًا مقالتين في إحدى جرائدهم ذكر فيها الرأيين وبين المذهبين , ولكنه خاض مع ذلك في فلسفة الديانتين الإسلامية والمسيحية واستمدادهما وآثارهما , فخبط وخلط , وجرح الوجدان وآلم النفوس , فرد عليه ذلك الإمام العظيم من علماء المسلمين ردًّا حكيمًا كان شفاءً لما في الصدور , وهدى ورحمة للمؤمنين. ثم ترجمت جريدة المؤيد الصادرة قبل أمس مقالة لسياسي فرنساوي آخر اسمه (نابليون ني) هو أعلى من هانوتو كعبًا وأرسخ قدمًا في السياسة رمى بكلامه إلى أغراض بعيدة , وأشار بآراء لهم سديدة ينبغي أن يجعلها المسلمون نصب أعينهم , ويعلقوا عليها الشروح والحواشي , ويضعوا لها التقارير, وإن أخذ ذلك وقتًا من حواشي الصبان والأمير , وسنكتب ما يعن لنا بذلك في الجزء الآتي إن شاء الله. كتبنا مقالة في الوحدة العربية في وقت كان الذهن فيه صافيًا والفكر موافيًا , ثم أضعناها فاستملينا الفكر معانيها مرة ثانية , فضن ببعض ما جاد به أولاً حيث وجد الوقت ضيقًا , وهي ما ترى في صدر هذا الجزء. *** (نور الإسلام) ستصدر في هذا الشهر مجلة دينية في الزقازيق تدعى نور الإسلام , فنرحب برفيقتنا , ونستوفي الكلام عليها بعد ظهور العدد الأول منها إن شاء الله تعالى. *** (جمعية شمس الإسلام) يرى قارئ مجلة الجمعية أن لها ثلاث طبقات , وأن لها لجنة عليا , ويتساءل الناس عن ذلك , والذي يمكن أن نوضحه لهم أن الجمعية عندما تنتشر في قطر من الأقطار يرتقي أصحاب الجد والاجتهاد في خدمتها إلى الدرجة الثانية بشروط مخصوصة , ومن هؤلاء تتألف اللجنة الثانية العالية التي تدير نظام الجمعية , وتنظر في شئونها في جميع القطر , ومن هؤلاء من يرتقي إلى الدرجة الثالثة بشروط مخصوصة , ومنهم ينتخب أعضاء اللجنة العليا فيتعارفون بأمثالهم من سائر الأقطار , ويتألف منهم من يدير أعمال الجمعية في جميع أقطار الأرض , وبهم يحصل التعارف العام الذي تقوم به الجامعة الإسلامية. وقد اجتمعت اللجنة العالية التي تدير أعمال جمعيات القطر المصري اجتماعها الأول في ليلة الجمعة الماضية , وستوالي ذلك في الأوقات المعينة إن شاء الله تعالى. *** (نجاح الجمعية) سافر كاتب هذه السطور ثانية إلى الوجه القبلي بصحبة سعادة محمد علي بك المؤيد الرئيس العام , فزرنا بعض الجمعيات , وأسسنا جمعية جديدة في بلدة (مسارة) وأهل هذه البلدة كانوا مشهورين في الصعيد بسفك الدماء والسلب والنهب , فتاب الجم الغفير منهم إلى الله تعالى , وعاهدوا الله تعالى على التمسك بالدين والعمل به ودعوة سائر إخوانهم إلى ذلك وموالاة من والاهم على ذلك , ومنابذة من خالفهم فيه وفقهم الله لذلك بمنه وكرمه. *** (احترام الجمعية) اشتهر أعضاء الجمعية في البلاد التي انتشرت فيها بالصدق والتمسك بالدين وحدثني بعض القضاة أن امرأة لها دعوى جاءت بشاهد واحد , وقالت للقاضي متبجحة: عندى شاهد من جمعية شمس الإسلام , وهو يعدل خمسين شاهدًا من سائر الناس.

تأسيس فرعي سمالوط ومعصرة سمالوط لجمعية شمس الإسلام

الكاتب: سيد فرج

_ تأسيس فرعي سمالوط ومعصرة سمالوط لجمعية شمس الإسلام (لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء) جاء طلب من حضرات أهالي معصرة سمالوط لحضرة مولانا صاحب الفضيلة الشيخ محمد النجار قاضي مركز ديروط ورئيس جمعية شمس الإسلام فيها بقصد تأسيس فرع هناك , فلبى الطلب , وقام يصحبه حضرة الوجيه الفاضل محمد أفندي عارف عضو جمعية ديروط , وحضرة محمود أفندي إبراهيم الجوهري أستاذ الرياضة في المدرسة الخيرية وأحد رجال الجمعية , ومحرر هذه السطور مكاتبكم , فلما جئنا سمالوط بدأنا بزيارة ضريحي أميري الصعيد المرحومين حسن باشا الشريعى وإبراهيم باشا شقيقه , ثم زرنا منزل حضرات أشبال حسن باشا الشريعي أحمد بك وحسين بك ونزلنا ضيوفًا عند سعادة الفاضل محمد بك أبو جبل عمدة سمالوط نجل المرحوم إبراهيم باشا , ثم أسسنا فرعًا لجمعية شمس الإسلام في نفس مدينة سمالوط رئيسه سعادة محمد بك هذا , وبعدها زرنا المسجدين اللذين أسسهما المرحوم والده , وأحدهما بمنارة شائقة , وعلمنا أن سعادة العمدة مصمم على إيقاف عشرين فدانًا لهذين المسجدين , وفي عزمه وعزم حضرات أنجال حسن باشا إنشاء مدرسة لتثقيف أبنائهم وأبناء الفقراء , وعن قريب يخرج هذا العمل من حيز القول إلى حيز الفعل، أكثر الله من أمثالهم. ثم توجهنا إلى معصرة سمالوط ونزلنا ضيوفًا بمنزل حضرة الشهم الفاضل علي أفندي شريف مهندس المركز وفيه شكلنا فرعًا آخر تحت رئاسته وعضوية حضرات إبراهيم أفندي خضر وسليمان أفندي شكري والشيخ عبد الجواد سالم وفي هذا المقام قام محرر هذه السطور , وألقى خطابًا يناسب المقام افتتحه بما يأتي: أيها السادة اشترك اليوم الشعوب والقبائل من سائر الأجناس والمذاهب بموسم شم النسيم الذي يعبر عنه بالعيد الوطني , وجدير بكل قوم أدوا واجباتهم نحو المدنية والحضارة والتجارة والمعارف والحمية القومية والجامعة الدينية التي هي أعظم الروابط أن يفتخروا ويتبادلوا عبارات التهاني , فإن كنا يا قوم قمنا ببعض الواجب فلشعبنا الإسلامي أن يفرح ويلعب , ويخرج للمنتزهات , ويركب المركبات ويتفسح في الحدائق , ولكن بكل أسف يا سادتي أقول: إن الذي ألم بمجموع أفرادنا لا يخفى عليكم فإذا أردنا إحراز الفضائل؛ فلنتضافر على الاتحاد والإخاء والعمل بالكتاب والسنة , وهذا لا يتسنى إلا بربط قلوبنا بجمعية شمس الإسلام التي هي أوثق رابطة دينية تربط المسلم المصري بالمسلم العثماني والتونسي والجزائري والمراكشي والجاوي والهولاندي والهندي والروسي والصيني والإنكليزي. ماذا التقاطع في الإسلام بينكمو ... وأنتمو يا عباد الله إخوان ألا نفوس أبيات لها همم ... أما على الخير أنصار وأعوان ولولا ضيق المقام لذكرنا جميع الخطبة التي تلوناها شفاهيًا على مسامع حضرات الإخوان , ثم قام حضرة محمد أفندي كامل كاتب الجمعية هناك , وألقى مقالة غراء تحث على التعاون والتعاضد الأخوي , ثم قام حضرة الشاعر الأديب الشيخ عبد الجواد , وألقى قصيدة جميلة يضمنها تطريز لفظ (جمعية شمس الإسلام) وكلها حكم , ثم ختمت الجلسة , ثم قفلنا إلى ديروط , وكلنا نثني أجمل الثناء على المساعدة التي قام بها حضرات الإخوان لا سيما حضرة الفاضل علي أفندي شريف مهندس المركز ورئيس فرع معصرة سمالوط , وحضرات البكوات أنجال سعادة حسن باشا , وإبراهيم باشا الشريعى فهكذا هكذا المسلمون، نفع الله بهم الأمة والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سيد فرج

سيرة المرحوم عثمان باشا الغازي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سيرة المرحوم عثمان باشا الغازي ولد في مدينة توقات من ولاية سيواس سنة 1248 , وكان والده في الأستانة فاستقدم بيته إليها , وأدخل عثمان أولاً إحدى مدارسها الابتدائية , ثم نقله إلى المدرسة الإعدادية في سنة 1258 , وكان أخوه أو خاله أستاذًا فيها , فعني بتعليمه وتربيته , وبعد خمس سنين انتقل منها إلى المدرسة الحربية , وخرج منها في سنة 1265 برتبة ملازم ثان في الفرسان وفي إثر ذلك كانت حرب القريم فجعل من أركان حربها تحت قيادة عمر باشا فظهرت بسالة الفقيد ونجابته فيها , فترقى عقيبها إلى رتبة يوزباشي في الحرس الشاهاني , ثم إلى رتبة (قول أغاسي) وفي سنة 1274 عين في اللجنة التي كلفت بتنظيم خرائط الأناضول , وفي سنة 1276 صار رئيسًا لأركان الحرب في معسكر بكييشهر فظهرت براعته فيها أحسن ظهور , وكان في العسكر الذي أرسل لإخماد فتنة سوريا المعروفة بفتنة سنة 1860 ميلادية برتبة بكباشي , واستقدم مع عسكره من سوريا لإخماد فتنة حدثت في كريد وقد ارتقى ببراعته وبسالته فيها إلى رتبة قائمقام ثم أميرالاي وأنعم عليه بالوسام المجيدى الثالث وكان ذلك في سنة 1283هـ و 1866م. ولما كانت فتنة سنة 1283 في اليمن كان الفقيد أحد قواد العساكر التي أرسلت إليه فارتقى بعمله فيها إلى رتبة أمير لواء. ولما عين قائدًا لفرقة يكى بازار نظمها أحسن تنظيم؛ فارتقى إلى رتبة فريق وجعل قائدًا للأستانة العلية , ثم لأشقودره ثم لبوسنه ثم تعين رئيسًا للمجلس العسكري في الفيلق الرابع. ولما حاربت بلاد الصرب الدولة العلية كان قائدًا للفرقة الأولى في محاربتها فدوخها , وألجأ أهلها إلى طلب الصلح , فارتقى بهذا إلى رتبة المشيرية , وأنعم عليه بالوسام المجيدي الثاني , ثم وقعت الحرب بين الدولة العلية والروسية , فتولى عثمان باشا قيادة 68 طابورًا و17 كوكبة من الفرسان وأعطي 174 مدفعًا وكانت له فيها الوقائع الهائلة التي كان فيها مثال الثبات والشجاعة والدراية في الفن العسكري وقيادة الجيوش , وناهيك بما كان منه في حصار بلافنا فإن الروسيين زحفوا عليه بقضهم وقضيضهم وعددهم وعديدهم , فصابرهم وكافحهم , وقتل منهم الألوف , وهزم الزحوف بعدد قليل , ثم قطع عنه الزاد والإمداد , حتى لم يبق عنده شيء يتلمظ به الجند , وهل ألجأ هذا الأسد للتسليم ما أصابه من البلاء الأليم؟ كلا إنه نفخ في جنده روح الحمية والبسالة , وأمرهم بأن يخترقوا صفوف العدو بالقوة , وكان عددهم نحو أربعين ألفًا , وعدد الروس يزيد على مائة وخمسين ألفًا ومعهم ستمائة مدفع، فأطاعوه واخترقوا صفين من المعسكر الروسي والنيران تنصب عليهم كالمطر , وقبل النجاة باختراق الثالث أصيب القائد العظيم بالرصاص هو وجواده فوقع جريحًا، فسلم جنده ظنًّا منهم أنه قتل. وقد عرف الروسيون لهذا القائد الباسل فضله وقدروه قدره , فلم يعاملوه معاملة الأسرى , بل أعادوه إلى بلافنا مكرمًا معظمًا؛ ليداوي جرحه , وكان دخلها القيصر إسكندر الثاني وفي اليوم التالي من وصول عثمان باشا إليهم قابل القيصر فوقف له وسلم عليه وجامله بالقول والفعل , ومما تناقله الركبان قول القيصر له: (لا يحزنك أيها الباشا أنك اضطررت للتسليم فإنك لم تسلم جبنًا ولا تقصيرًا , بل دافعت عن وطنك أشد الدفاع وانتهيت في الشجاعة والثبات إلى الغاية التي لا وراءها , وإنني لا أنظر إليك كما أنظر إلى الأسير , وإنما أنظر إلى بسالتك بعين الاحترام والتوقير , وأراني ذا حظ بالتقائي بشجاع مثلك في حومة الوغى , وها أنا ذا أعيد إليك سيفك , وأبيح لك أن تتقلده في بلادي إقرارًا بشجاعتك واعترافًا بجدارتك , وهذه مركبتي وهؤلاء حرسي تحت أمرك , فلك الخيار إن شئت ركبت وإن شئت مكثت) . وأمر بأن تضرب له خيمة بجانب خيمة الغراندوق نقولا القائد العام لعسكر الروس , وكان الغراندوق يزوره كل يوم ويلاطفه ويسليه. ولما ألقي السلم بين الدولة العلية والروسية في سنة 1296هـ 1878م وأطلق سراح الأسرى عاد عثمان باشا إلى الأستانة فاستقبل فيها باحتفال عظيم , ومن المستقبلين له عدد كثير انتهوا إلى مدخل البحر الأسود , ولما بلغها سار توًّا إلى المابين الهمايوني حيث حظي بمقابلة مولانا السلطان , ولقي منه أجمل الالتفات , وتناول طعام العشاء في ذلك اليوم على المائدة السلطانية , وحضر العشاء معه بالأمر السلطاني وكلاء الدولة وأكابر وزرائها , وكان مولانا أعزه الله يخصه بالملاطفة على المائدة , وأنعم عليه في ذلك المجلس بالوسام العثماني المرصع , وقلده سيفًا محلًى بالذهب من آثار السلطان محمود خان عليه الرحمة، منقوش عليه هذه الكلمة (للغازي) . ثم عين مشيرًا للحرس السلطاني , ثم مشيرًا للمابين وفي 22 شهر أيلول أو تشرين أول من سنة 1894 مالية عهد إليه بوزارة الحربية (سر عسكر) فبقي فيها إلى 18 أيلول (سبتمبر) سنة 1302 مالية , ففصل منها وبقي مشيرًا للمابين , ثم أعيد إليها في 9 أغسطس سنة 1307 عقيب وفاة السر عسكر علي صائب باشا ثم انفصل بعد مدة , وبقي مشيرًا للمابين إلى آخر أيام حياته فكانت مدة خدمته في هذا المنصب 22 عامًا كان فيها من مولاه محل الثقة الأول , وعليه المعتمد والمعول , وقلده في أثنائها أعلى وسامات الدولة- وسام الافتخار ووسام الامتياز والعثماني والمجيدى المرصعات , وأنواع المداليا من ذهبية وفضية ولياقة وكريد , وحاز وسامات الدول الأجنبية كلها من الدرجة الأولى ومنها أعظم وسام عند حضرة البابا. وقد نال شرف المصاهرة السلطانية فإن نور الدين باشا أكبر أولاده تزوج بدولة زكية سلطان , ونجله الثاني كمال الدين باشا تزوج بدولة نعيمة سلطان وهما كريمتا مولانا أمير المؤمنين. ولصاحب الترجمة عليه الرحمة ولدان آخران أحدهما جمال بك أفندي وهو اليوم في برلين يشتغل بالتحصيل , ورتبته بكباشي في الجيش العثماني , وملازم في عسكر بروسيا وسنه 22 سنة , وثانيهما حسيب بك من حُجاب الحضرة السلطانية أحسن الله عزاءهم جميعًا , وجعلهم خير خلف لخير سلف. فعلم من مجموع ما تقدم أن هذا القائد العظيم قد ارتقى إلى الأوج الذي كان فيه بجده واجتهاده , ولو أنه أعطي الرتب والوسامات من أول النشأة قبل أن يظهر منه عمل من الأعمال لما نال ما نال , وأن مبدأ شهرته كان من ظهور بسالته في حصار بلافنا , وقد جاء في الهلال أن كل أمة حاولت أن تدعي في إثر تلك الواقعة أنه منها , فقال الأميركان: إنه أميركانى الأصل , وقال الفرنساويون: إنه فرنساوي , وقال غيرهم مثل قولهم , والحق أنه تركي صريح كما مر , وهكذا شأن الناس تدهشهم الوقائع الغريبة ولذلك لم تشتهر بينهم الوقائع التي أظهر القواد فيها من البراعة في الفن العسكري ما يكاد يكون معجزًا كبعض وقائع دولة الغازي مختار باشا التي قررت دولة ألمانيا أن تجعلها من الدروس العسكرية الدائمة , ولا شك أن عثمان باشا هو ثاني (مختار باشا) في الفنون العسكرية علمًا وعملاً على أنه كان جديرًا بكل ما ناله , وإن ذهب بعض الناس إلى أن للمداراة يدًا في ذلك , تغمده الله - تعالى - برحمته , وأسكنه فسيح جنته آمين.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني (تابع المعارف) إن مدارس طائفة الأرمن الكاثوليك على قلتها لقلة عدد أفراد هذه الطائفة، حسنة النظام معتنى بإدارتها , ومما يستحق أن يخص بالذكر منها هنا مدارس طائفة الملكية التي أصلها في مدينة البندقية ومدينة ويانا ومدرسة البطركخانة ومدرسة هيماز قياتز , وللراهبات الأرمنيات مدرسة يتعلم فيها البنات التعليم الابتدائي. ويلي المدارس اليونانية والأرمنية في الدرجة المدارس الإسرائيلية التي كلها مؤسسة ومدارة على نفقة بعض سراة اليهود أو جمعية الاتحاد الإسرائيلي العام , وفي أوائل سنة 1890 مسيحية كان يوجد من هذه المدارس في جميع بلاد الدولة العثمانية سبع عشرة للذكور يتعلم فيها منهم 2935 طالبًا وثلاث عشرة للإناث يتعلم فيها 2309 طالبة وزيادة عن ذلك توجد مدرسة مختلطة للذكور والإناث فيها 161 تلميذًا وتلميذة , والدروس التي تلقى في هذه المدارس تكاد تكون هي نفس ما يلقى في المدارس الرشدية للحكومة فهي تشمل: اللغة العبرية , وتاريخ اليهود , والتاريخ الحديث , والجغرافية , والحساب , والقيد في الدفاتر , والكيميا , والتاريخ الطبيعي , واللغات التركية والعربية واليونانية والتليانية والأسبانية بحسب مقتضيات الجهات المختلفة المؤسسة بها هذه المدارس. أما التعليم العالي فلا توجد له مدارس في الطائفة الإسرائيلية , ولكن يوجد لهذه الطائفة غير ما تقدم من المدارس عشر مدارس صناعية للذكور وتسع للإناث تحتوي الأولى على مائتين وأربعين متعلمًا والثانية على مائتين وخمس عشرة متعلمة. ولم يضيق كرم الحكومة العثمانية الواسع عن قبولها تأسيس الأوربيين معاهد للتعليم العام في بلادها سواء في ذلك العاصمة والولايات , فجميع الطلبات التي تقدم من الأجانب استئذانًا في فتح مدارس تصادف دائمًا من حكومة جلالة السلطان أحسن قبول , وهذا هو السبب فيما يراه الإنسان بجميع أنحاء المملكة العثمانية من المدارس الفرنساوية والتليانية والإنكليزية والنمساوية والألمانية والأمريكية التي تنجح وتترقى في الكنف الواقي لجلالة السلطان الذي وجدت فيه الآداب والعلوم والصنائع أقدر كفل , ففي القسطنطينية وحدها واحد وعشرون معهدًا من معاهد التربية والتعيم بين مدارس وملاجئ أيتام وكليات يديرها اللازاريون وإخوة المدارس المسيحية وأخوات الإحسان , وغيرهم من الطوائف الدينية الكاثوليكية وعدد المتعلمين في هذه المحال يزيد عن 2500 تلميذ بين ذكور وإناث , وفوق ذلك يوجد خمس مدارس بروتستانتية يديرها المبعوثون الدينيون من الإنجليز الأموريكيين , ومدرسة يونانية كاثوليكية , وست مدارس للقسيسين العالميين تعلم فيها العلوم الابتدائية والثانوية والعالية. وقد أسس أحد أغنياء الأميركيين المدرسة الشهيرة بكلية روبرت التي امتازت بحسن تعليمها العالي , وللمبعوثين الأمريكيين فوق ما تقدم مدرسة اشتهرت جدًّا بتربية البنات. ويوجد في بيروت مدرسة طبية حرة فائدتها لا تقدر بالنسبة للبلاد التي يُتكلم فيها باللغة العربية. ويوجد أيضًا في أدرنة وسالونيك وجنينا وأزمير وطرابزون وعنتاب والموصل وغيرها مدارس أجنبية تساعد المدارس العثمانية في ترقية التعليم العام. يخصص جلالة السلطان في كل سنة مبالغ طائلة ينفقها من جيبه الخاص لنشر التعليم العام , وليست جلالته تقتصر على منح النقود اللازمة لإنشاء مكاتب الصبيان والمدارس الابتدائية للذكور والإناث في الجهات التي تعوزها النقود بل إنها على الدوام تساعد المدارس إما بالنفقات المالية التي تجود بها عليها بسخاء لا يعهد إلا في أعاظم الملوك , أو بالهدايا المختلفة الأنواع والجوائز المعدة للتلامذة حثًّا لهم على الجد , وتحريكًا لغيرتهم في تحصيل العلم , وجميع هذه المساعدات المالية وغيرها يوزعها جلالة السلطان على جميع رعاياه بدون نظر إلى اختلافهم في الدين فجميع الرعايا كما قلنا متساوون لأنهم أبناء وطن واحد , ولذلك ترى أن جلالته لما تخرج في كل سنة إلى إستانبول في احتفال الخرقة الشريفة تحييها التلامذة والمعلمون غير المسلمين تحية حماسية , وهم مصطفون في شوارع المدينة التي يمر بها الركب السلطاني. وهذه التحية هي: (بادشاه مزجوق يشا) لتعش جلالة سلطاننا كثيرًا , وليست هي إلا عنوانًا صغيرًا لما تكنه صدور الأمة لحاكمها من الشكر الكثير والولاء المتين. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الدنيا والآخرة ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدنيا والآخرة (2) بينَّا في المقالة الأول أن الإنسان مادي روحاني , وأن عوارض المادة تغلب عليه أولاً فتكون عنايته مصروفة لتحصيل اللذات الجسدية والمنافع المادية التي تجعله سعيدًا في حياته الدنيا , ثم يظهر فيه الميل إلى اللذات الروحية والمعارف العقلية فتكون فيه ضعيفة تحتاج إلى تقويتها بالإرشاد السماوي وهو الدين. ونقول الآن: إن العمل لتحصيل المنافع المادية له طرف نقص وطرف كمال فالأول أن يعمل الإنسان لنفسه فقط ولا يبالي في سبيل لذته بسائر الناس أضرهم عمله أم نفعهم , والثاني أن يعمل لنفسه ولغيره , ولهذا الكمال درجات أدناه أن يعمل لمنفعة أهله وعشيرته , وأوسطها أن يعمل لمنفعة وطنه وأمته , وأعلاها أن يكون مرمى طرفه منفعة أبناء جنسه والناس أجمعين , والمنافع الروحية العقلية تنقسم أيضًا إلى هذه الأقسام والدرجات. ما خلق الله الإنسان ليعنته , وما كلفه بأن يقلب طبيعته , خلق آدم وخلق زوجه له ليسكن إليها , وأمرهما بأن يتمتعا باللذات الجسدية , ونهاهما عن الأكل من شجرة واحدة؛ ليتعلما بذلك كف النفس عن الشهوات , فإن من لا يستطيع كف نفسه عن شيء مما يشتهيه تورده موارد الهلكة وتقذف به في هاوية الشقاء. قص الله علينا قصة أبينا آدم لنسترشد بها , ثم قال مخاطبًا لنا ممتنًّا علينا بالمنافع الدنيوية: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأعراف: 26) فالأول ما لا بد منه , والثاني للزينة , والثالث للتوقي من الحرب , فاستوفى أقسام اللباس كلها ثم حذرنا من الفتنة التي نزعت عن أبوينا لباسهما وأظهرت سوآتهما , وأخبرنا أنه أمر بالقسط والاعتدال في الأمور كلها , ثم أمرنا بالعبادة الروحية , فقال: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (الأعراف: 29) الآية , ثم بين أن الزينة لا تنافي العبادة بل تجامعها وتلازمها , وأن العبادة لا تؤدي إلى ترك اللذات الحسية المعتدلة , بل تستعقبها وتنتهي إليها فتكون ثمرة للدين في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى فقال: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31- 32) ولولا أنه قال: خالصة يوم القيامة؛ لفهم أن غير المؤمن لا حظ له في لذات الدنيا , وقد كررنا التنبيه على هذا في المنار ليعقله الذين سجلوا على المسلمين الحرمان من الطيبات لأنهم مؤمنون مسلمون , ولما كان الإفراط في اللذة والإسراف في الزينة يؤديان إلى الفواحش والمآثم والبغي والتعدي أخبرنا أنه لا ينهانا من حيث الدنيا إلا عن هذه الأشياء , كما أنه لا ينهانا من حيث الدين إلا عن الشرك , وأن نقول على الله ما لا نعلم , ومنه أن نزيد في دين الله تعالى عبادة أو تحريمًا أو تحليلاً فقال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) . هذه الآيات خطاب عام من الله جل ثناؤه لبني آدم أجمعين، فهي أصل الأديان كلها , ولذلك عقبها بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف: 35-36) ثم فصل الوعيد والوعد ووصف العقوبة والمثوبة , وأقام الدليل والبرهان , واستلفت العقل واستصرخ الوجدان , وأنشأ بعد هذا كله يقص على هذه الأمة أخبار الأمم مع المرسلين وما أخبرنا أن رسولاً منهم كلف قومه بأن يكونوا روحانيين خلصًا يعرضون عن عمارة الدنيا , ويجعلون عملهم كله للآخرة , بل كانوا يمنون عليهم بالتمكن في الأرض والخلافة والاستعمار فيها وسعة الرزق وكثرة العدد وبسطة المُلك والعزة والقوة , وينهونهم عن الشرك والمفاسد التي تزيل هذه النعم , اقرأ إن شئت قوله تعالى حكاية عن هود عليه السلام {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69) وقوله عنه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52) إلى قوله: {فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (هود: 57) وقوله تعالى في قصة صالح عليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61) , وقوله تعالى حكاية عنه: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (الأعراف: 74) وقوله - تعالى - في قصة موسى عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) وقوله - تعالى -: {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف: 137) . ومن يقرأ التوراة لا يكاد يرى فيها ذكرًا للآخرة لا ترغيبًا في جنتها ولا ترهيبًا من نارها , وإنما يرى تكفير الذنوب فيها بتقديم القرابين من الذبائح والمحرقات وغيرها فهي عقوبة بتفويت شيء من الدنيا عليهم , ويرى العبادات معللة بالشكر على الخلاص من نقمة أو الإتحاف بنعمة , ففي الباب 23 من سفر الخروج ما نصه: (14 ثلاث مرات تعيِّد لي في السنة 15 تحفظ عيد الفطير تأكل فطيرًا سبعة أيام كما أمرتك في وقت شهر أبيب؛ لأنه فيه خرجت من مصر ولا يظهروا أمامي فارغين 16 وعيد الحصاد أبكار غلاتك التي تزرع في الحقل , وعيد الجمع في نهاية السنة عندما تجمع غلاتك من الحقل 17 ثلاث مرات في السنة يظهر جميع ذكورك أمام السيد الرب اهـ) هكذا , وعيد التوراة البلاء في الدنيا بإذهاب الرزق والسلطة والإجلاء من الأرض , ووعدها التمكن في الأرض وسعة الرزق فيها , قال في الباب الرابع من سفر التثنية: (40 واحفظ فرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لكي يحسن إليك وإلى أولادك من بعدك) . وقال - تعالى - حاكيًا عن الأمم بالإجمال بعد ما قص أخبارهم مع المرسلين: ] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى [1] آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [2 { وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96) . يدلنا كل هذا على صحة ما جاء به الإسلام من أن الله - تعالى - جعل الدين لمصلحة الناس لا لإعناتهم والخروج بهم عن طبيعة بشريتهم، وعلى تحقيق ما ذهب إليه أستاذنا في (رسالة التوحيد) من أن سنة الله في الإنسان منفردًا كسنته فيه مجتمعًا , طفولية فتمييز تدريجي فرشد وعقل وقد أعطاه الله تعالى في كل طور ما يليق بحاله من تعاليم الدين , ولما استعد النوع الإنساني لفهم حقيقة الإنسان وللقيام بما تطالبه به الإنسانية من حيث جسديته وروحانيته معًا أرسل الله في إثر أولئك المرسلين السيد المسيح عليه الصلاة والسلام يدعو الناس إلى مقابل ما هم فيه أو نقيضه , يدعوهم لأن يتركوا الدنيا بالمرة ويكونوا روحانيين خلصًا؛ لتكون دعوته تمهيدًا للدعوة المعتدلة الممكنة التي تكون من بعده , وهذه هي الطريقة المثلى في الإرشاد: يُدعى الواقف عند أحد طرفي الإفراط أو التفريط إلى الطرف الآخر ليكون مبلغ جهده في الإجابة الوصول إلى الوسط. جاء في الباب 19 من إنجيل متى ما نصه: (23 فقال يسوع لتلاميذه: الحق أقول لكم: إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات 24 وأقول لكم أيضًا: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله 25 فلما سمع تلاميذه بهتوا جدًّا قائلين: إذن من يستطيع أن يخلص 26 فنظر إليهم يسوع وقال لهم: هذا عند الناس غير مستطاع , ولكن عند الله كل شيء مستطاع) وهذه المسألة مذكورة في غير إنجيل متى أيضًا , وفي معناها كلمات أخرى في الأناحيل , أنذر الأغنياء بسوء العاقبة وأمر بالخضوع لكل سلطة ومغفرة كل ذنب لكل أحد ومحبة الأعداء , وذكر أن اللذات الجسدية لا تكون لأهل الحق إلا في الملكوت حيث تكون اللذات الروحية، كقوله: (طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون) وقوله: (الحق أقول لكم: إني لا أشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديدًا في ملكوت الله) اهـ مرقس وغيره. وفي الباب الخامس من أعمال الرسل أنهم كانوا يكلفون المؤمن أن يبيع كل ما ملكه ويأتي بجميع ثمنه للرسل , وقد أمسك رجل اسمه حنانيا بعض ثمن حقل له وأعطى الباقي للرسل فوبخه بطرس وسماه مختلسًا , فمات حنانيا من كلامه. بهذا وبما تقدمه استعد النوع الإنساني لفهم الحقيقة الإنسانية , والقيام بحقيها الروحي والجسدي على صراط مستقيم فمنحه الله دين الإسلام فهي تبيان لكل شيء, وجعله آخر الأديان , فجاء بالحق وصدق المرسلين , وجمع بين أنواع هداهم وإرشادهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90) وقد خاطب القرآن أهل هذا الدين بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) ولم يختلف أحد من أئمة هذا

فرنسا والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فرنسا والإسلام عجبًا للدم الذي تحرك لكلام المسيو هانوتو كيف لم يتبيغ لكلام القومندان نابليون ني , وعجبًا للقلوب التي جرحها ذلك كيف لم يذبحها هذا , بل عجبًا للنفوس التي اضطربت للأول كيف لم يزلزل الثاني وجودها زلزالاً؟ إلا إن قومنا لا يزلون أغرارًا يغترون بالظواهر وينخدعون للمظاهر , ويخلبون بالأوهام ويعيشون بالأحلام , يصيحون من السب ويسكتون على الضرب , ويتململون من الكلام ولا يتألمون من الكِلام (بالكسر: الجراح) حاشا نفرًا من أهل الفهوم المشرفين على حقائق العلوم , والاستثناء- كما قالوا- معيار العموم. صاح الصائحون وناح النائحون وكتب الكاتبون وخطب الخاطبون , وما ذلك إلا لما رواه هانوتو عن الغالين في التعصب الديني من قومه من وجوب نسف الكعبة , ونقل قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى متحف اللوفر في باريس لتنحلَّ رابطة جامعة الإسلام ويقع أهله في اليأس التام , ونحو هذا الهذيان الذي يقوله طفل فلا يلتفت له سائر الصبيان اللهم إلا ما كتبه ذلك الإمام من روائع الحِكم وحقائق الأحكام. كتب (نابليون ني) في الإسلام والمسلمين ما كتب فعلم المسلمين من هم , وما هو الإسلام لو كانوا ممن يعلم أو يتعلم , وأنى لمن يجهل تاريخ الإٍسلام أن يعرف تأثيره في الأنام؟ وكيف يهرب من هذا الجهل من يقول علماؤهم: إن هذا العلم يضعف العقل؟ يبحث نابليون ني عن مكان تتوجه إليه وجوه المسلمين وتتولاه قلوبهم , وترمي إليه أبصارهم وتمتد نحوه أعناقهم ليجعلوه قبلة آمالهم , وكعبة لإقبالهم , ومعهدًا لاجتماعهم , ومعقدًا لارتباطهم- لآمالهم بفرنسا وإقبالهم عليها , واجتماعهم في دائرتها وارتباطهم بحبل سيادتها. علم (نابليون ني) أنه لا يوجد في الدنيا بلد من البلاد تتعلق به قلوبهم وتتوجه إليه نفوسهم إلا مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأنى لفرنسا أن تقبض على زمام السلطة الإسلامية فيهما؟ ذلك ما لا مطمع فيه , وقد أشار الكاتب بأن تُجعل باريس بديلاً من مكة , وأن تلفت إليها أنظار العالم الإسلامي بتأليف جمعية فيها من كبار علماء الإسلام من جميع الأقطار , وأن يكون للجمعية جريدة إسلامية باللغات المشهورة بينهم , فهو يرى أن هذه الجمعية التي يقاد أفرادها إلى أوربا بسلاسل الذهب والفضة كافية لتحويل قلوب الأمة الإسلامية إلى فرنسا، وصرح بأن اجتماع المسلمين على دولة أجنبية أقرب من اجتماع بعضهم على بعض لما بينهم من تفرق المذاهب وتعدد المشارب. فهل يفقه المسلمون بعد سماع هذا الكلام معنى الجامعة الإسلامية وكيف تكون وبماذا تكون؟ هل يفطنون للسر الغريب في فريضة الحج , ويتنبهون إلى أنه لم يوجد دين من الأديان , ولا حكيم من الحكماء قدر أن يضع وضعًا يجذب به أرواح الشعوب من جميع أقطار الأرض إلى مكان واحد، فتطير بأجسامهم إليه لتقوية الجامعة الملية بينهم , وهو ما وضعه دين الإسلام دين المدنية الكبرى والاجتماع , هل يتدبرون سوء مغبة اختلاف المذاهب في الملة التي يتبرأ كتابها ونبيها من المتفرقين في الدين ويسعون في شعب الصدع ورتق الفتق؟ هل يتفكرون بعده في معنى اجتماع العلماء وما له من النفع العميم؟ وما في اختلافهم من البلاء العظيم؟ هل يعقلون بعده فوائد الجرائد الدينية الإسلامية وآثارها. قد بيَّنا كل هذا ودعونا إليه في مقالات الإصلاح الإسلامي التي نشرناها في المجلد الأول من المنار- دعونا إلى تأليف جمعية إسلامية يكون لها شُعب في كل قطر إسلامي وتكون عظمى شعبها في مكة المكرمة التي يؤمها المسلمون من جميع أقطار الأرض ويتآخون في مواقفها ومعاهدها المقدسة ويكون أهم اجتماعات هذه الشعبة في موسم الحج الشريف حيث لا بد أن يوجد أعضاء من بقية الشُّعب التي في سائر الأقطار يأتون الحج فيحملون إلى شعبهم من المجتمع العام ما يستقر عليه الرأي من التعاليم السرية والجهرية، وقلنا هناك: وهذا أحد مرجحات وجود الجمعية الكبرى في مكة المكرمة على وجودها في دار الخلافة. وثَم مرجحات أخرى من أهمها البعد عن دسائس الأجانب ووساوسهم والأمن من وقوفهم على ما ينبغي عدم وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله، ومنها أن لشرف المكان ولحالة قاصده الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص والتنزه عن الهوى والغرض فضلاً عن الغش والخيانة. وينبغي أن يكون للجمعية الكبرى جريدة دينية علمية تطبع في مكة أيضًا وأية شعبة استطاعت إنشاء جريدة تنشئها. وارتأينا أن يكون من أعضاء الجمعية العاملين العلماء والخطباء ليتسنى للجمعية إفاضة تعالميها على قلوب جميع المسلمين , وبينا أعمال الجمعية ونتائجها, ومنها الجمع والتأليف بين أهل المذاهب لا سيما الفرقتين العظيمتين أهل السنة والشيعة. بماذا قابل المسلمون هذا الاقتراح؟ السواد الأعظم لا إحساس لهم ولا شعور، وأما المتصدرون للكتابة وإرشاد المسلمين في الجرائد فقد مسخوه مسخًا واستدبروا به المقصد، فأنشأوا يكتبون مقالات يحثون فيها على عقد (مؤتمر إسلامي) في القسطنطينية، ولا ينتظر من التائه في مفاوز الخيال إلا طلب الفوز من المحال ولقد كان من حجتنا على هؤلاء أننا نعترف لهم بإصابة رأيهم إذا وجدت جريدة من جرائد الأستانة العلية توافقهم في الدعوة إليه فإن تلك الجرائد يشبه أن تكون كلها رسمية؛ لأنها لا تكتب الا ما يمليه عليها أولو الأمر ... ثم علمنا أنه يوجد من يسعى بما اقترحناه عملاً لا قولاًً- وما كان غرضنا من القول إلا تنبيه الأفكار إليه- ولكن المسلمين أمسوا أعداء أنفسهم يبلغون من نكايتها ما لا يبلغه الأجانب منهم , أو كما قلت في مكتوب أرسلته منذ سنين لأحد عظماء المسلمين: (إن الممالك الإسلامية أمست كالمريض الأحمق يأبى الدواء ويعافه من حيث أنه دواء) ولولا رجال فضلاء منبثون في بعض الأنحاء لانقطع بنا - والعياذ بالله - حبل الرجاء. قال هذا الضابط: إن الوحدة الاسلامية النظرية (كذا) قد تمزقت بالفتوحات المتوالية , وانشقت إلى أقسام دينية لا حدود لها، ولا نظام لحكوماتها , وقال قبل هذا: إن الإسلام أصابه الشلل من سوء إدارة مديريه ومديري شئونه , وكرر القول بأن دوام فتوحات أوربا المسيحية قد آلمت المسلمين فطفق يتقرب بعضهم من بعض وأحسوا بالحاجة إلى الاجتماع , وحث أمته أن تكون الجامعة الإسلامية على يديها وبيديها. وعنده أنه لا يمكن أن توجد بنفسها، وأنها إذا وجدت فإنها تنحل بعد ثلاثة أشهر من وجودها , ثم صرح بأنه لا ينقص الحركة نحو الجامعة الإسلامية إلا شيء واحد إذا وجد تكون به قوة الإسلام وغلبته؛ ألا وهو اختيار مكان غير تابع لدولة من الدول كي يتم به الائتمار بين الفرق الاسلامية المختلفة، فإن عدم وجود هذا المكان هو السبب في عدم استقرار الفرق الدينية الإسلامية في مكان ثابت، فلكل منها آثار تتفاوت في الشدة أو الضعف، في بغداد ومصر والأستانة وفارس والهند وأفريقية , قال: ولو اهتدى رؤساء تلك الفرق إلى وجود بقعة على سطح الأرض تكون للإسلام بمثابة رومية أو الفاتيكان للمسيحيين فلا ينقضي زمن يسير حتى ينعقد فيها مجتمع إسلامي يخضع لإرادته العالم الإسلامي بأسره , وعقب هذا بالتنبيه على عموم دعوة الإسلام، يشير إلى أن هذا المجتمع لابد أن يصل مده إلى أطراف العالم الإنساني. ونقول نحن: أين رومية والفاتيكان من مكة؟ رومية لا يحج إليها النصارى , ولا يؤمن لحبرها الأعظم جميع فرقهم، ولا يوجد مسلم يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ويستقبل في صلاته مكة ويحج إليها عند الاستطاعة، لا فرق بين سني وشيعي ووهابى وخارجي ... ولكن أمراء المسلمين وسلاطينهم هم الذين جنوا على الإسلام وأهله ما لم يجنه الأعداء , فجعلوا البلاد المقدسة دون سائر البلاد فأخذهم الله بذنوبهم , وفرق كلمتهم وجعل بأسهم بينهم شديدًا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون. ذكر هذا الضابط الباسل بل الضابط العاقل أن من الأمور السياسية التي يجهلها الأوربيون كون الحكومة الشرعية في الإسلام مبنية على قواعد الدين والمبادئ الديموقراطية , وأن أعظم مصيبة ألمت بالمسلمين هي اتخاذهم الديموقراطية أساسًا لحكومتهم , وعدم حرصهم على البناء الذي شادوه فوقها , ثم ذكر أن هذا الأساس هو الذي يبنى عليه هيكل الوفاق بين فرنسا التي حكومتها ديموقراطية لا علاقة لها بالدين , وبين الإسلام الذي تسوسه الديموقراطية الدينية. لقد صدق الرجل فيما حكاه عن أساس الحكومة الإسلامية ويتذكر قراء المنار أننا ذكرنا غير مرة أن الإسلام هو الذي وضع أصول الحكومة الديموقراطية المعتدلة , ولكن العالم الإنسانى لم يكن استعد لها كمال الاستعداد , ولذلك لم يتعد العمل بها زمن الراشدين حتى جعلت السلطة المطلقة للأفراد، ومُني الزعماء بالاستبداد، فكان ما كان من الفساد والإفساد , وأما اعتماد المسلمين على فرنسا في تكوين جامعتهم على الوجه الذي ارتآه فهو المرام الذي لا يدرك واللبانة التي لا تقضى , وكأني به وقد نسي أساس الديموقراطية الذي عمل الخلفاء والملوك والمسلمون في نقضه من القرن الأول إلى الآن فما استطاعوا له نقضًا، وبقي المسلمون على ضعف الدين فيهم لا ينقادون ظاهرًا وباطنًا إلا لشريعتهم السماوية , وخضوعهم الظاهر للحكام القانونيين منهم ومن غيرهم لا يطابق باطنهم , ولولا العجز ما خضعوا ورضخوا، وهذا العجز لا يدوم لأن طبيعة العمران قاضية بأنه سيزول قريبًا بزوال سببه , وهو الجهل العام بالشئون الاجتماعية الذي تقطعت بمداه روابطهم الملية , وقد علم الكاتب هذا ونبه عليه غير مرة. هذه الجامعة لا تستطيع دولة أوربية تكوينها إلا إذا دخلت في دين الإسلام , وقد كتبنا في المنار من قبل أن الدولة الأوربية التي تدخل في الإسلام يمكنها أن تضم إليها العالم الإسلامي كله , وأن تمتلك به الدنيا بأسرها. نعم يمكن لفرنسا أن تعيش مع المسلمين بسلام , وأن توسع دائرة استعمارها لبلادهم إذا هي عاملتهم بالحسنى , ولم تمس استقلالهم الديني بوجه ما , ويمكن أيضًا للمسلمين أن يستفيدوا من انصراف عناية دولة كفرنسا إلى الاستفادة من قوة الإسلام. ولكن من الذي يستفيد؟ وماذا يستفيد؟ وكيف يستفيد؟ أترك الكلام في هذا لأجل أن تشتغل به الأفكار , وربما نعود إليه في فرصة أخرى.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية وأدبية (سؤال وجواب عن آيتين من الكتاب) رفع سؤال إلى مولانا حجة الإسلام وقدوة الأنام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية يطلب صاحبه فيه بيان الجمع بين قوله تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: 78) , وقوله - تعالى - عقيبها: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء: 79) فإن بينهما في بادي الرأي تنافيًا يتنزه عنه كلام الله تعالى , فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله: (كان بعض القوم بطِرًا جاهلاً إذا أصابه خير ونعمة يقول: إن الله تعالى قد أكرمه بما أعطاه من ذلك , وأصدره من لدنه وساقه إليه من خزائن فضله عناية منه به لعلو منزلته لديه , وإذا وصل إليه شر وهو المراد من السيئة يزعم أن منبع هذا الشر هو النبي صلى الله عليه وسلم، وأن شؤم وجوده هو ينبوع هذه السيئات والشرور , فهؤلاء الجاهلون الذين كانوا يرون الخير والشر والحسنة والسيئة يتناوبانهم قبل ظهور النبي وبعده كانوا يفرقون بينهما في السبب الأول لكل منهما؛ فينسبون الخير أو الحسنة إلى الله تعالى على أنه مصدرها الأول ومعطيها الحقيقي يشيرون بذلك إلى أنه لا يد للنبي فيه , وينسبون الشر أو السيئة إلى النبي على أنه مصدرها الأول ومنبعها الحقيقى كذلك، وأن شؤمه هو الذي رماهم بها. وهذا هو معنى (من عند الله) أو (من عندك) أي: من لدنه ومن خزائن عطائه , ومن لدنك ومن رزاياك التي ترمي بها الناس. فرد الله عليهم هذه المزاعم بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) أي إن السبب الأول وواضع أسباب الخير والشر المنعم بالنعم والرامي بالنقم إنما هو الله وحده , وليس ليُمن ولا لشؤم مدخل في ذلك. هذا فيما يتعلق بمن بيده الخير والشر والنعم والنقم، وأما ما يتعلق بسنة الله في طريق كسب الخير والتوقي من الشر والتمسك بأسباب ذلك، فالأمر على خلاف ما يزعمون كذلك , فإن الله سبحانه وتعالى قد وهبنا من العقل والقوى ما يكفينا في توفير أسباب سعادتنا , والبعد عن مساقط الشقاء , فإذا نحن استعملنا تلك المواهب فيما وهبت لأجله , وصرفنا حواسنا وعقولنا في الوجوه التي ننال منها الخير وذلك إنما يكون بجودة الفكر وإخضاع جميع قوانا لأحكامه , وفهم شرائع الله حق الفهم والتزام ما حدده فيها؛ فلا ريب في أننا ننال الخير والسعادة , ويجنبنا الشقاء والتعاسة , وهذه النعم إنما يكون مصدرها تلك المواهب الإلهية فهي من الله تعالى , فما أصابك من حسنة فمن الله؛ لأن قواك التي كسبت بها الخير واستغزرت بها الحسنات , بل واستعمالك لتك القوى إنما هو من الله. وأما إذا أسأنا التصرف في أعمالنا , وفرطنا في النظر في شئوننا , وأهملنا العقل وانصرفنا عن سر ما أودع الله في شرائعه , وغفلنا عن فهمه فاتبعنا الهوى في أفعالنا , وجلبنا بذلك الشر على أنفسنا , كان ما أصابنا من ذلك صادرًا عن سوء اختيارنا , وإن كان الله تعالى هو الذي يسوقه إلينا جزاءً على ما فرطنا , ولا يجوز لنا أن ننسب ذلك إلى شؤم أحد أو تصرفه. وحاصل الكلام في المقامين أنه إذا نظرنا إلى السبب الأول الذي يعطي ويمنع ويمنح ويسلب وينعم وينتقم فذلك هو الله وحده ولا يجوز أن يقال: إن سواه يقدر على ذلك , ومن زعم غير هذا فهو لا يكاد يفقه كلامًا , لأن نسبة الخير إلى الله ونسبة الشر إلى شخص من الأشخاص بهذا المعنى مما لا يكاد يعقل , فإن الذي يأتي بالخير ويقدر عليه هو الذي يأتي بالشر ويقدر عليه , فالتفريق ضرب من الخبل في العقل. وإذا نظرنا إلى الأسباب المسنونة التي دعا الله الخلق إلى استعمالها ليكونوا سعداء , ولا يكونوا أشقياء فمن أصابته نعمة بحسن استعماله لما وهب الله فذلك من فضل الله لأنه أحسن استعمال الآلات التي منَّ الله عليه بها فعليه أن يحمد الله ويشكره على ما آتاه , ومن فرط أو أفرط في استعمال شيء من ذلك فلا يلومن إلا نفسه , فهو الذي أساء إليها بسوء استعماله ما لديه من المواهب , وليس بسائغ له أن ينسب شيئًا من ذلك للنبي ولا لغيره فإن النبي أو سواه لم يغلبه على اختياره , ولم يقهره على إتيان ما كان سببًا في الانتقام منه. فلو عقل هؤلاء القوم لحمدوا الله وحمدوك (يا محمد) على ما ينالون من خير فإن الله هو مانحهم ما وصلوا به إلى الخير وأنت داعيهم لالتزام شرائع الله وفي التزامها سعادتهم , ثم إذا أصابهم شر كان عليهم أن يرجعوا باللائمة على أنفسهم لتقصيرهم في أعمالهم أو خروجهم عن حدود الله فعند ذلك يعلمون أن الله قد انتقم منهم للتقصير أو العصيان فيؤدبون أنفسهم ليخرجوا من نقمته إلى نعمته , لأن الكل من عنده , وإنما ينعم على من أحسن الاختيار , ويسلب نعمته عمن أساءه. وقد تضافرت الآثار على أن طاعة الله من أسباب النعم , وأن عصيانه من مجالب النقم , وطاعة الله إنما تكون باتباع سننه وصرف ما وهب من الوسائل فيما وهب لأجله. ولهذا النوع من التعبير نظائر في عرف التخاطب، فإنك لو كنت فقيرًا أعطاك والدك مثلاً رأس مال فاشتغلت بتنميته والاستفادة منه مع حسن في التصرف وقصد في الإنفاق , وصرت بذلك غنيًّا فإنه يحق لك أن تقول: إن غناك إنما كان من ذلك الذي أعطاك رأس المال وأعدك به للغنى. أما لو أسأت التصرف فيه وأخذت تنفق منه فيما لا يرضاه واطلع على ذلك منك فاسترد ما بقي منه , وحرمك نعمة التمتع به؛ فلا ريب أن يقال: إن سبب ذلك إنما هو نفسك وسوء اختيارها مع أن المعطي والمسترد في الحالين واحد وهو والدك , غير أن الأمر ينسب إلى مصدره الأول إذا انتهى على حسب ما يريد , وينسب إلى السبب القريب إذا جاء على غير ما يجب لأن تحويل الوسائل عن الطريق التي كان ينبغي أن تجري فيها إلى مقاصدها إنما ينسب إلى من حولها وعدل بها عما كان يجب أن تسير إليه. وهناك للآية معنى أدق يشعر به ذو وجدان أرق مما يجده الغافلون من سائر الخلق , وهو أن ما وجدتَ من فرح ومسرة وما تمتعتَ به من لذة حسية أو عقلية فهو الخير الذي ساقه الله إليك واختاره لك وما خلقت إلا لتكون سعيدًا بما وهبك، أما ما تجده من حزن وكدر فهو من نفسك , ولو نفذت بصيرتك إلى سر الحكمة فيما سيق إليك لفرحت بالمحزن فرحك بالسار , وإنما أنت بقصر نظرك تحب أن تختار ما لم يختره لك العليم بك المدبر لشأنك. ولو نظرت إلى العالم نظرة من يعرفه حق المعرفة , وأخذته كما هو وعلى ما هو عليه؛ لكانت المصائب لديك بمنزلة التوابل الحريفة [1] يضيفها طاهيك [2] على ما يهيئ لك من طعام لتزيده حسن طعم , وتشحذ منك الاشتهاء لاستيفاء اللذة , واستحسنت بذلك كل ما اختاره الله لك ولا يمنعك ذلك من التزام حدوده , والتعرض لنعمه , والتحول عن مصاب نقمه فإن اللذة التي تجدها في النقمة إنما هي لذة التأديب ومتاع التعليم والتهذيب، وهو متاع تجتني فائدته ولا تلتزم طريقته , فكما يسُر طالب الأدب أن يحتمل المشقة في تحصيله وأن يلتذ بما يلاقيه من تعب فيه يسره كذلك أن يرتقي فوق ذلك المقام إلى مستوى يجد نفسه فيه متمتعًا بما حصل بالغًا ما أمل , وفي هذا كفاية لمن يريد أن يكتفي. *** (تقويم المؤيد) صدر تقويم المؤيد للسنة الهجرية الحاضرة , وأهدانا مؤلفه الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود نسخة منه فإذا هو فلك مشحون بالفوائد العلمية علوية وسفلية , أو سماوية وأرضية وكونية ونفسية , وفي القسم الجغرافي منه بيان أطوال وعروض السودان وكلام عن بلاد الترنسفال وأورانج والكاب كما أن في القسم التاريخي ملخص تاريخ الحرب في السودان وفي الترنسفال , وفي القسم الزراعي فوائد لا يستغني عنها مصري , وفي القسم الطبي وقسم تدبير المنزل فوائد لا يكاد يستغني عنها أحد , وفيه قسم لغوى فسر فيه كثير من الألفاظ الغريبة بترتيب المعاجم , وفيه جداول ليضبط حامل التقويم في البياض منها أمورًا ينبغي ضبطها كالكتب التي باعها واشتراها وأعارها واستعارها وكالأسماء والعناوين التي يهمه حفظها , وكالديون التي له وعليه , وكالمشاهدات الغريبة التي تعرض له , وكأيام المرض والعلاج وما يتعلق بذلك لمن يعنيه ضبط ذلك لهم , وكالكسب الذي يدخل عليه من السندات والأسهم , وكتاريخ أهل المنزل في عامة أطوارهم كالولادة ودخول المدرسة والحج وغير ذلك , وليت المؤلف جعل هذه الجداول في باب واحد ليسهل الكشف عليها ومراجعتها. وفيه تعريف بأحوال التلغراف والبريد وسكك الحديد وأجور السفر فيها ومواقيته , فينبغي أن لا يخلو جيب قارئ من هذا التقويم فإنه خير رفيق في السفر , وألطف صديق في الإقامة. *** (جمعية النهضة الأدبية) يسرنا أن هذه الجمعية التي أنشأها عمال المطابع قد نجحت , وما كان أجدر أرباب المطابع والصحافة بمثلها , وقد احتفلت في أول ليلة من السنة الهجرية احتفالاً عامًّا حضره الجم الغفير من الفضلاء والخطباء , وألقيت فيه الخطب المفيدة , ووفقت الجمعية لإنشاء نشرة أدبية تاريخية صناعية فكاهية تصدر في الشهر مرتين وسمتها باسم الجمعية (النهضة الأدبية) وصدر العدد الأول منها في أول السنة فنرجو للجمعية وجريدتها التوفيق والنجاح. *** (الصبا) جريدة سياسية علمية أدبية فكاهية أسبوعية تصدر في الزقازيق مديرها الوجيه المحترم أحمد أفندي عبد الله حسين , وقيمة الاشتراك فيها 20 قرشًا في القطر المصري و 30 في خارجه فعسى أن تصادف توفيقًا ونجاحًا.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (تنبيه) ضاق هذا الجزء عن نشر نبذة من كتاب أميل القرن التاسع عشر المفيد , وقد علمنا من بعض القراء أنهم كانوا لا يقرأون ما ينشر من هذا الكتاب ظنًّا منهم أنه قصة من القصص الوضعية التي يسمونها روايات , ثم علموا أنه كتاب لم يؤلف مثله في التربية العملية , وإنما جعل أسلوبه هكذا رسائل متبادلة بين رجل وامرأته في تربية ولدهما هربًا من السآمة التي تعتري أكثر الناس من قراءة الكتب العلمية , وقد رغّب إلينا كثيرون من الأفاضل المولعين بقراءته أن نطبعه على حدته , وسيكون ذلك إن شاء الله تعالى. *** ثبت لدى الأطباء مرض أناس وموت البعض منهم بالطاعون في بورسعيد ولكنه خفيف جدًّا كما كان في الإسكندرية ونسأل الله زواله عن قريب. *** تحقق أنه سيشرع في تنفيذ إرادة مولانا السلطان الأعظم بمد سلك الأخبار البرقي بين الشام والحجاز، وأكدت أخبار الأستانة أن الإرادة السَّنية صدرت أيضًا بإنشاء سكة حديد من الشام إلى البلدين المكرمين مكة والمدينة , وقد كنا اقترحنا هذا وبينا فوائده في المجلد الأول من المنار فنسأل الله تحقيق الآمال. *** (أعجوبتان) كتب إلينا من القلمون أنه ولد لحمود عبيد من زوجه رابعة بنت مصطفى الخباز بنت بدنها كبدن البشر إلا أن رأسها بدون وجه وعينيها في مكان الناصية من رأسها وأذنيها بحذاء عينيها , وهما كأذني الأرنب ولها أربع شفاه بعضها فوق بعض يرى أهل القانون أن الحكمة في خلق هذه البنت ممسوخة هي الانتقام من أبويها , فإن المرأة كانت متزوجة وعشقت هذا الرجل فنشزت , وأساءت معاملة زوجها الأول حتى اضطرته إلى طلاقها , وتزوجت بالثاني. أما الأعجوبة الثانية فهي بنت وُلدت لرجل من دده (قرية في لبنان) نصفها الأعلى كالبشر ونصفها الأسفل كتلة كالبطيخة.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني الأرمن وفتنتهم (تابع لما قبله) قبل ختم الكلام في وصف ما نالته تركيا من التقدم في عهد السلطان الحالي رأينا من الواجب علينا أن نقول كلمات في الفتنة الأرمنية التي شهدناها مدة الأشهر الثلاثة الأخيرة وفي الأرمن الذين يتجنسون بالجنسية الأمريكية في الولايات المتحدة ويرجعون إلى تركيا وشأنهم مع القانون. للأتراك مثل مشهور في تبصر الأرمن وهو (لا بد لغش أرمني واحد وخديعته من اجتماع ستة من اليهود عليه) وهذا يدل على مقدار ما لهؤلاء في نفوس أهل الشرق من الاعتبار والاحترام؛ لاعتقادهم بصدقهم واستقامتهم , ولكن للأرمن أنفسهم شعورًا شديدًا بأن هاتين الصفتين تعوزانهم فإن رجلاً منهم قد نشر من زمن غير بعيد رسالة في جريدة مشهورة من جرائد نيويورك ينصح فيها لإخوانه في الدين أن يلتزموا الصدق في أقوالهم فلا يفوهوا بغيره ومن أراد أن يعرف كيف نجح هذا الأرمني الساذج في مساعيه ووصاياه فليقرأ هذه الحادثة التي ذاع خبرها في جميع أرجاء الولايات المتحدة وأوربا وها هي نقلاً عن الجرائد. (إن قصة زوجة جريجو الأرمني زعيم الثاثرين ارتج العالم لبشاعتها وهي أن هذه المرأة فضلت الموت على عبث مضطهديها الأتراك بعرضها , فألقت بنفسها وطفلها على يديها في هاوية عميقة , وتبعها غيرها من النساء حتى امتلأت الهاوية بأجسادهن- هذه القصة لم تكد تريع الناس بانتشارها حتى ظهر بطلانها كما أنبأ بذلك كثير من العارفين بالحقائق فإنه قد تبين أن هذه الحكاية الفظيعة ليست إلا أسطورة قديمة شعرية نظمتها السيدة هيمانس من سنين مضت وعنونتها بعنوان (الوالدة سليوت) فنقلت , وزيد عليها من الحواشي وأنواع التزويق ما يطابق المقام. وقد بعث الناس انكشاف هذه الحقيقة لهم على أن يعتقدوا أنه من المحتمل أن لم يكن من المرجح أن معظم ما يسمى بالفظائع الأرمنية ليس هو إلا من مخترعات الخيال عند بعض الغلاة في الدين خلقوه ابتغاء للربح أو الانتقام أو ما شاكلهما من الأغراض السافلة , وسكن بذلك هياج القلوب على الأتراك سكونًا ظاهرًا في كل جهة إلا بين مضرمي نار الفتنة من الأرمن المولعين بالمخالفة للجمهور لإقلاق الخواطر فإن هؤلاء الأشخاص لا يودون أن يعتقدوا أن القصة لا أصل لها سوى تلك الأنشودة الشعرية وينتظرون تقرير لجنة التحقيق التي قد وصلت إلى بلاد الأرمن واثقين ثقة تامة بصحتها. نعم إنه لا ينكر أن بعض القلاقل قد حدث في ساسون وعينت لجنة لتحقيقها لما لجلالة السلطان من العزيمة الصادقة في معاملة كل رعاياه بالعدل والإنصاف ومعاقبة جميع من له يد في ارتكاب الجرائم , ولكن من المهم على ما نرى أن نعرف أولاً حقيقة ما حصل في بلاد الأرمن وثانيًا من هم المعتدون الحقيقيون. ويمكننا إجمال الوقائع في كلمات مختصرة نتقلها عن جريدة نيويورك هرالد (داعي نيويورك) وهي: ظهر محركو الفتنة في جبال تالوري الوعرة الواقعة بين ساسون في الجنوب الشرقي لموش (من ولاية بتليس) ومركز قول من متصرفية جوينج , وجمعوا قواهم بإغراء من يدعى همبارتزن الذي انتحل لنفسه اسم مراد , وبادر بإلقاء بذور الفتنة في تلك الجهات. وهمبارتزن هذا أصله من قرية تدعى هجين (من ولاية أطنة) وبعد أن قضى ثماني سنوات في دراسة الطب بالمدرسة الطبية الملكية بالقسطنطينية , واشترك في قلاقل (قوم قبو) هرب إلى جنوه , ثم ذهب بعد ذلك متنكرًا مغيرًا اسمه من ديار بكر إلى ضواحي بتليس على طريق إسكندرونة وأنشأ من حين إلى آخر ينفث في نفوس الأهلين سموم الثورة هو وخمسة نفر آخرين. كان هذا الرجل يؤكد لبسطاء العقول من أمته أنه مأمور أجنبي تشد أزره الدول الأورباوية في إنفاذ مقاصده لتقويض سلطة الأتراك فنجح بذلك في جذب قلوب الأرمن القاطنين قرى (سينار , وسيماي , وجوللي جوزات , وآهي , هيدنك, وسنانك , وشيكاند , وإليفارد , وموسون , وإيتيك , وإديجسار) إليه واستمالتهم إلى مساعدته في الوصول إلى مآربه الأثيمة كما أفلح في استمالة أرمن إقليم تالاري المشتمل على أربعة مراكز. ثم اجتمع أولئك الثائرون تحت إمرة همباتزون مغادرين قراهم في النصف الأخير من شهر يولية الماضي بعد أن وضعوا نساءهم وأطفالهم وأمتعتهم في أماكن معينة , وبعد أن انضم إليهم أيضًا قوم آخرون مسلحون من العصاة أرسل بعضهم من قبل والي موش , والبعض الآخر من قضائي قول وسلوان , فبلغ عدد المحتشدين أكثر من ثلاثة آلاف , وكان اجتماعهم في مكان يدعى أندوك داغ فعزم خمسمائة أو ستمائة منهم على الإغارة على موش , وابتدأوا بالهجوم على قبيلة دليقان فوق جبل قورلنك في جنوب موش , وقتلوا قليلاً منهم وسلبوا أمتعتهم , وجميع من وقعوا في أيديهم من المسلمين أهينوا في دينهم , وقُتلوا أشنع قِتْلة , وقد هجم العصاة أيضًا على عساكر الحكومة التي في ضواحي موش ولكنهم لم يجسروا على مهاجمة موش نفسها بسبب ما فيها من القوى العسكرية العظيمة. فشكل هؤلاء العصاة مع بقية المحتشدين في أندوك داغ من أجل ذلك عصابات أخذت تناوش القبائل من كثب , وترتكب فيها أفظع أنواع القتل والسلب فإنها أحرقت ابن أخي عمر أغا وهجمت على نساء ثلاثة بيوت أو أربعة من المسلمين وأكرهتهم على تقبيل الصليب , ومثلث بهم فاقتلعت أعينهم وصلمت آذانهم وجعلتهم موضوعًا لأشنع أنواع التحقير. ثم هجم هؤلاء العصاة أنفسهم في أوائل أغسطس الماضي على قبائل فانينار , وبيكران , وباديكان , وارتكبوا فيها مثل ما تقدم من الجرائم , وهاجم عصاة قريتي إيليغار نوق , وإيرموس الواقعتين في قضاة ديجان (بمركز قلب) الأكراد المتوطنين هناك كما هاجموا قريتي قيسار وتشاتشات. وفي أواخر شهر أغسطس الماضي هجم الأرمن على الأكراد المقيمين في ضواحي موش , وأحرقوا ثلاثة قرى، أو أربعة منها جوللي جوزات. أما الثائرون في تالوري البالغ عددهم أكثر من ثلاثة آلاف فإنهم بعد أن أحلوا الرعب والموت بالمسلمين والمسيحيين معًا رفضوا التسليم للحكومة , ولجُّوا في ارتكاب الفظائع , فأرسلت الحكومة بعضًا من عساكرها المنتظمة إلى تلك الجهة لقمع عصيانهم , فهرب زعيمهم همباتزون , واعتصم بجبل عالٍ هو وأحد عشر من شركائه في الإثم فقبض عليه حيًّا , لكن لم يكن ذلك إلا بعد أن قتل عسكريين وجرح ستة وفي نهاية أغسطس الماضي كانت جميع عصابات الثائرين قد تشتتت. وقد عامل العساكر نساءهم وأطفالهم وذوي العاهات منهم بما يجب لهم من الرعاية , وبما تتقضيه في حقهم أحكام الشريعة الإسلامية وعواطف الإنسانية , ولم يقتل من رفضوا التسليم وفضلوا أن يقوموا محاربين في وجه حكومتهم الشرعية. وقد تأيدت هذه الوقائع فيما بعد بشهادة شاهد عاينها بنفسه , وهو سائح أسباني , وعضو في الجمعية الجغرافية بإنكلترا يسمى كزيمنس وهاك ما قاله عن مشاغب ساسون منقولاً عن الجرائد: (قد عاد الآن المسيو كزيمنس بعد أن أتم العمل الجغرافي الذي كلفته به الحكومة التركية في كردستان وموزوبوتاميا وقضى فيه ثمانية أشهر من مارس إلى نوفمبر الماضي وقد اتفق له الوجود في إقليم بتليس حين حصول القلاقل المزعوم حصولها في ساسون وهو يقرر أنه لم ير ولم يسمع شيئًا يؤيد ما ذاع خبره من قصص (الفظائع الأرمنية) . (وقد أقام المسيو كزيمنس في القسطنطينية شهرًا لكنه لم يود أثناء وجوده فيها أن ينافس في تلك الفظائع المدعاة بوجه من الوجوه , أما الآن فهو في لوندرا مع ووس باشا فلم يبق بعدُ سببٌ لالتزامه السكوت عنها ورأيه هو أن الذين يجب توجيه كثير من اللوم المهم عليهم بما حدث في أرمينيا من المشاغب هم المرسلون الأمريكيون المتشددون المقيمون في آسيا الصغرى , فهو يقول: إن هؤلاء المراسلين يلقون على الأرمن من قشور التعاليم ما لا يناسب حاجات طائفتهم , فتجد التلامذة المتخرجين عليهم لا يقنعون بعد تعلمهم بالرجوع إلى بلادهم والاشتغال بأرضهم , بل إنهم على الدوام يهتفون بحرية الأرمن واستقلالهم , وقد ظهر في معظم القلاقل التي حدثت ببلاد الأرمن أن محركيها هم تلامذة أولئك المراسلين. ثم قال المسيو كزيمنس بعد ذلك: إن ما نسب للأتراك عساكر وملكيين من تعذيب نساء الأرمن وأولادهم وانتهاك حرماتهم لا أثر له من الصحة , وأن كل ما وقع مما كثر به الإرجاف والتهويل إنما هو تشويش حصل من بعض الأرمن في جهة فحسمت مادته فيها دون أن يتعدى ذلك إلى غيرها. وبعد أن وصف المسيو كزيمنس ما وقع بين الأرمن والأكراد في أوائل الصيف الماضي من المشاغب والمقاتل قال: إن الأرمن احتشدوا جموعًا كبرى في ولاية تالوري على مقربة من ساسون , فطلب حاكم بتليس إلى الحكومة أن ترسل بعضًا من الجند لتسكين الفتنة وإعادة النظام إلى أصله فصدرت الأوامر إلى زكي باشا بجمع أربعة طوابير وهي تبلغ حوالي 1200 جندي وإرسالها على الفور لتمزيق شمل الأرمن المتألبين فأدركتهم هؤلاء الجنود على ربوة في تلك الجهة , وطلبت إليهم التسليم فسخر منهم الأرمن لأن عددهم كان يقرب من ثلاثة آلاف , وأنشأوا يرجمونهم بالحجارة , ولم يقتصروا على ذلك , بل إنهم أطلقوا عليهم بعض مقذوفات نارية فأجابهم العساكر بإطلاق الرصاص عليهم مرة واحدة فهربوا متشتتين ثم اجتمعوا في وادٍ ضيق فأدركهم فيه العساكر ونصح إليهم القائد بكلام سلمي أن ينصرف كل منهم إلى شأنه وأن يكفوا عن هذا الاحتشاد , فسمع بعضهم النصح وانصرف , ولكن معظمهم بقي مصرًّا على عناده فأطلقت الجنود عليهم الرصاص مرة أخرى , وبلغ كل من قتل منهم في هذه الواقعة ثلاثمائة وهي على قول مسيو كزيمنس أهم شغب حصل في الفتنة كلها , نعم إن كثيرًا منهم أسروا لكنهم قد أطلق سراحهم بعد) . هذا ما حصل في بلاد الأرمن قد بيناه , أما ما يتعلق بالمحركين الحقيقيين للفتنة وبما وصلوا بالأمور إلى ما صارت إليه فلا شيء فيه أجدر بالقبول بين الناطقين بالإنكليزية من قول رجل مثل القسيس المبجل سايروس هملن في رسالته الشهيرة التي نشرت في 23 ديسمبر سنة 1893 في الجريدة الدينية المسماة (نصير الاستقلال الكنيسي) وها هي بحروفها. لها بقية *** من إدارة المنار نرجو من القراء الكرام الذين لم يدفعوا لنا قيمة الاشتراك عن السنة الثانية (وقليل ما هم) أن يقدموها لنا حوالة علي إدارة البريد أو طوابع بريد لأننا لم نظفر بمحصل أمين بعد خيانة من سبق , وبهذا يحق لنا أن نفتخر بجميع قراء المنار , وأنهم من الخواص الأخيار. ((يتبع بمقال تالٍ))

الترك والعرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الترك والعرب (1) قام في الإسلام دول وممالك كثيرة أعظمها شأنًا وأطولها زمانًا وأشدها بأسًا وأوسعها سلطانًا دولتا العرب بأقسامها والترك. وإننا نرى الكتاب يخبطون في التفاضل بينهما خبط عشواء , وقد غلا بعضهم في النيل من العرب حتى زعم أنهم لا قابلية فيهم للتمدن، ولا قدرة لهم على سياسة الممالك وإقامة دعائم العمران , وأفرط هؤلاء في مدح الترك حتى كادوا يرفعونهم عن رتبة البشرية إلى مصاف الملائكة المقربين، زاعمين أنهم ما وجدوا إلا ليكونوا ملوكًا حاكمين، أو آلهة معبودين. ومن الناس من تحامل على الترك حتى سلبوهم مزاياهم وفضائلهم وزعموا أنهم خلقوا فتنة للناس وبلاء على الانسانية. فريق يتزلف فيعميه التزلف وفريق يتعسف , فيضله التعسف. وإننا نكتب نبذة في هذا المقام مما يمليه علينا التاريخ الصادق، ويشهد به الوجود الثابت {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) . نكتب لبيان الحقيقة , والعلم الصحيح لا يكون إلا نافعًا، كما أن الجهل بحقائق الأمور لا يكون إلا ضارًّا , فلا يمكن أن ينكر علينا كتابتنا هذه إلا من يفضِّل الجهل على العلم، والظلمة على النور، والضلالة على الهداية. ومن منافع العلم بهذه الحقيقة أن يعرف العرب الكرام، أنهم فوق ما يقول فيهم أعداؤهم اللئام فينشطوا لدفع العار الذي يُرمَون به، ويجتهدوا في استرجاع مجد سلفهم الصالح ومفاخر آبائهم الأولين , وأن يعرف الترك للعرب فضلهم كما يعرف العرب لهم فضلهم، ويأخذ كل منهما بيد أخيه ويتعاونا على الوحدة الإٍسلامية معتقدين أن الإسلام ساوى بينهما في الحقوق وآخى بينهما في الدين , وأنه ليس وراء هذه إلا التفاضل بالأعمال، فيجب أن يكون عمل كل منهما متممًا لعمل الآخر، وأن امتياز جنس على جنس كما كان سبب الضعف فيما مضى يكون سبب الموت والفناء فيما يأتي من الزمن. وصف مؤرخ الترك العالم الشهير جودت باشا الدولة العثمانية في كلامه على تأسيسها بقوله: (إنها كانت جامعة الديانة والشجاعة العربية، متصفة بالثبات الذي هو من أخلاق الترك , فلذلك كانت على صغرها في أول نشأتها مستعدة لأن تكون كهفًا وملجأ للملة الإسلامية) . وما قال هذا المحقق إلا حقًّا، فإن الترك نجحوا بهذه الصفات الثلاثة: العظمى منها أخذوها كغيرهم عن العرب وهي الدين، والثانية شبَّههم فيها بالعرب والمشبه به يكون أرقى وأقوى من المشبه في الصفة التي بها المشابهة، وأما الثالثة فهي مما امتاز به الترك على كثير من الشعوب والأجناس وهي أحد الأسباب في ثبات ملكهم وطول زمن دولتهم (أعزها الله وزادها ثباتًا وبقاءً بفضله وكرمه) . وثَم سببان آخران جديران بالالتفات (أحدهما) أن الترك طُبعوا كجميع الشرقيين ما عدا العرب على الخضوع الأعمى لرؤسائهم، وتقديس ملوكهم وأمرائهم وإنما حصل التنازع على السلطة في العرب للمبدأ الديمقراطي الذي جاء به الإسلام , وكان العرب أشد الناس استعدادًا له , ولكنهم ما رعوه حق رعايته , بل تقلص ظله بعد الراشدين رويدًا رويدًا بضعف الدين في النفوس كما سنبينه بعد , و (ثانيهما) أن حالة البلاد الإسلامية التي نشأت فيها الدولة وفتوحاتها في جهة أوروبا بلاد المسلمين وحالة المسلمين في البلاد المجاورة لها كانت تقتضي نجاح هذه الدولة وثباته؛ ذلك أن الاختلافات السابقة والفتن والحروب الداخلية، وإغارة جنكيز خان وأولاده وتدويخهم المسلمين وتنكيلهم بهم شر تنكيل- كل ذلك كان مريبًا للأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها ومعدًّا لها بل ومُلجئًا إلى الخضوع والسكينة. فهذا هو المانع للشعوب الإسلامية من الكر على الشعب التركي وتدويخه وإزالة سلطته , وما كان أحد ليقوى في تلك الأزمنة على المسلمين إلا المسلمون الذين كان بأسهم بينهم شديدًا، وما كانت إغارة تيمورلنك على البلاد الإسلامية في أوائل نشأة هذه الدولة إلا زلزالاً عنيفًا صدع البلاد المجاورة لها وما أضر ببلادها هي إلا قليلاً؛ ما أضر بالدولة بل رباها فإن السلطان بايزيد الأول الذي أسره تيمورلنك كان منغمسًا في الترف مسترسلاً في اللذات وقد خانه عسكره فانضوى قسم كبير منه إلى تيمورلنك على أنه كان لا يزيد عن تسعين ألف فارس وكان عسكر تيمور 380 ألفًا من التتر الأشداء الغلاظ. مات السلطان بايزيد بعد ثمانية أشهر من أسره (سنة 805 هـ) فتنازع أولاده على الملك فولى تيمورلنك على البلاد العثمانية أمراء قرامان والسلاجقة ورحل عنها إلى الهند بعد ما عاث وسلب ونهب، وظل سرير السلطنة إحدى عشرة سنة بغير سلطان؛ فضعفت الدولة بذلك , ولكن لم يكن في جوارها دول قوية تغتنم الفرصة فتُجهِز عليها ولذلك عادت إليها قوتها سريعًا على يد السلطان محمد جلبي ابن السلطان بايزيد الأول الذي كان أول من أحدث العساكر البحرية في الدولة وإرسال الصرة السلطانية إلى الحرمين الشريفين. إنما الترك أمة حربية وما كانوا أشد بأسًا من العرب , وأين فتوحاتهم من فتوحات العرب مع أن مدتهم أطول من مدة دول العرب كلها؟ البلاد التي فتحها العرب هي التي نما فيها الإسلام وثبتت أصوله، وعلت فروعه. ومعظم البلاد التي فتحها الترك كانت وبالاً على الإسلام والمسلمين , ولا تزال تنذرهم بالبلاء المبين. لا أقول: إن تلك الفتوحات مما يعاب بها الترك ويُذمون , ولكنني أقول: إن الفضل الأكبر في الفتوحات الإسلامية للعرب , وأن الدين انتشر بالعرب واعتز بهم , فأساسهم أقوى أساس ونبراسهم أضوء نبراس، وهم خير أمة أخرجت للناس , ولا أنكر أن للترك فضلاً وذكاء ونبلاً , ولا أحب أن أطيل القول في المقابلة بالفتوحات وما هو أكثر منها فائدة للإسلام والمسلمين فكل من له شمة من معرفة التاريخ الماضي والحاضر يعرف أن معظم البلاد التي تمكن فيها الإسلام هي مما فتحه العرب وانتشر الدين فيه بواسطة العرب. وسنأتي في مقالة أخرى على المقابلة بين الجنسين في العلوم والفنون والزراعة والتجارة وسائر أمور المدنية والعمران. ((يتبع بمقال تالٍ))

الدين والدنيا والآخرة ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدين والدنيا والآخرة (3) أثبتنا في المقالتين السابقتين أن العقل والنقل والفطرة البشرية والأديان السماوية، متفقة كلها على أن الله تعالى أنشأ الإنسان من الأرض واستعمره فيها؛ ليسعد بها لا ليشقى، وشرع له الدين ليوقفه بطلبها عند حدود الاعتدال , ويعلمه قرن التمتع بالنعم بشكر المنعم، وذلك بأن يؤمن بأنه هو الواهب لها , ويجعل مصالحه الخاصة منطبقة على المصالح العامة , ويسترشد في عمله بسنن الله في شريعته وخليقته جميعًا , كما يعلمه أن يجعل الدنيا مزرعة للآخرة فيأخذ نفسه فيها بالعبادات والفضائل النفسية والمعارف الروحية التي تكمل بها السعادة في الدنيا، ويتأهل بها للسعادة في الآخرة. ولم ترد هذه التعاليم كلها على كمالها إلا في الديانة الإسلامية خاتمة الأديان وما أخذت أمة من الأمم بدين سماوي , إلا وحسنت حالها بالأخذ به في حياتها الدنيا , وارتقت عما كانت عليه قبل ذلك، خصوصًا الأديان التي كانت قبل المسيحية , وأقربها إلينا اليهودية؛ فإن الزهد في الدنيا والإعراض عنها لم يكن من تعاليمها , ولم يُعرف عندها قولاً ولا عملاً. وأما المسيحية فلم تكن إلا إصلاحًا في اليهودية وتتميمًا لها، فقد صرح القرآن حكاية عن المسيح عليه السلام أنه قال: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} (آل عمران: 50) ويروون عنه في الأناجيل أنه قال: ما جاء لينقض الناموس وإنما جاء ليتممه. فمن حق النصارى أن يكونوا يهودًا آخذين بالتوراة في عباداتهم ومعاملتهم مع زيادة زهادة في الدنيا وإعراض عنها. وأما المسلمون فلقد كانوا على صراط الدين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الراشدين من بعده , وكانت الزينة والطيبات من الرزق في أول نشأة الإسلام بالدرجة التي يقتضيها ذلك الطور المعانق لطور البداوة حتى إن الإمام عليًّا كرم الله وجهه كان يرى أن أكل مخ الحنطة (أي الحنطة المنخولة) من النعيم وهو أمير المؤمنين! ! ولما فتحوا الممالك واستفحل عمرانهم توسعوا في تناول الطيبات واستعمال الزينة كما هو شأن الحضارة , وما كان الجمهور من الصحابة وأكابر التابعين ينكرون من هذا إلا ما انتهى صاحبه إلى السرف وانغمس في الترف لما يستعقبه هذا من الضعف عن حماية البيضة، والعجز عن تعزيز الأمة. وربما أنكروا ذلك على من انتصب للإرشاد , وجعله الناس قدوة لهم فمثل هذا ينبغي أن يكون عزاء للبائس الفقير، وتسلية للعاجز المسكين , وصرح غير واحد بأن النبي والخلفاء الراشدين كانوا يختارون شظف العيش في عامة الأوقات لأجل هذه الأسوة والقدوة. قال في الإحياء: إن يحيى بن يزيد النوفلي كتب إلى الإمام مالك بن أنس: (بسم الله الرحمن الرحيم , وصلى الله على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، من يحيى بن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس. أما بعد , فقد بلغني أنك تلبس الدقاق، وتأكل الرقاق، وتجلس على الوطيء، وتجعل على بابك حاجبًا، وقد جلست مجلس العلم , وضُربت إليك المطي , وارتحل إليك الناس فاتخذوك إمامًا، ورضوا بقولك، فاتق الله يا مالك , وعليك بالتواضع. كتبت إليك بالنصيحة مني كتابًا ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى والسلام) . فكتب إليه مالك: (بسم الله الرحمن الرحيم , وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. من مالك بن أنس إلى يحيى بن يزيد , سلام الله عليك , أما بعد فقد وصل إلي كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب , أمتعك الله بالتقوى , وجزاك بالنصيحة خيرًا، وأسأل الله تعالى التوفيق , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق وأحتجب وأجلس على الوطيء، فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى، فقد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه , ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا , والسلام) . فانظر كيف قيد يحيى الإنكار على الإمام مالك بقوله: وقد جلست مجلس العلم إلخ , كأنه يقول: إن الإمام القدوة ينبغي أن يراعي حال أضعف الناس لا سيما في الطور التي كانت فيه الأمة يومئذ , ولقد أنكر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على معاوية ما كان فيه من الأبهة والسعة عندما كان أميرًا في الشام فاعتذر معاوية بحالة البلاد والأمة المحكومة , وأنها لاتهاب الحاكم إذا كان رث الهيئة، فقبل عذره , وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الطيالسة الكسروية والجبة الرومية، وغير ذلك من اللبوس الفاخر، لئلا يظن الموسرون أن إباحة ذلك في القرآن لا تنافي أنه مذموم أو مكروه وإن اجتنب السرف والمخيلة. ولقد بالغ رجل واحد من الصحابة الكرام في التزهيد، ورأى أنه يجب إنفاق كل ما زاد عن الحاجة , فنفاه معاوية من الشام إلى المدينة ونفاه عثمان الخليفة الثالث إلى الربذة حتى مات فيها، وذلك خشية أن ينتشر رأيه بين الناس فيضعف هممهم عن الكسب وعمارة الدنيا , ثم حدثت الفوضى العلمية والدينية في المسلمين عندما شغل ملوك بني أمية ومن بعدهم زخرف الملك عن القيام بحقوق الخلافة فانتشرت التعاليم الفاسدة والآراء والمذاهب التي كانت تنجم في زمن الراشدين فيبادرون لحصدها أو قلعها قبل أن يعلم بها جماهير الناس. ومن أضر ما حدث الغلو في التزهيد، وحمل الناس على الاعتقاد بأن الدنيا ضرة الآخرة على الإطلاق , وأن كل عمل يطلب للدنيا يغضب الله تعالى , ومن كبر المصائب أن هذا التعليم كان ديدن الخطباء والوعاظ والقصاص الذين لا يسمع العامة إرشاد الدين إلا منهم , وأنه انتشر بين جميع الفرق الإسلامية فزرع أهله فى قلوب الأمة الإسلامية فسيل الكسل، ومقاومة ما تقتضيه الطبيعة والفطرة من الجد والعمل. إن الله - تعالى - زين للناس ما على الدنيا ليكون داعيًا إلى إحسان العمل فيها كما قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الكهف: 7) وقد ورد في الحديث تفسير حسن العمل بالعقل أي ما يرشد إليه، ولكن فريق المزهِّدين أو المكسِّلين فسروه بالزهد في الدنيا. أخذ السواد من المسلمين هذه التعاليم بالقبول؛ لأنهم تلقفوها ممن يعتقدون بهم كمال الدين كالعُباد والمتصوفة والوُعاظ وتبعها تعليم آخر أشد منها ضررًا , وهو أن العلوم الدنيوية كالرياضيات والطبيعيات ويتبعها الطب والتشريح كلها مفسدة للعقائد، وقائدة إلى الزندقة , وصارت هذه الآراء تقوى في الأمة كلما ضعف العلم، وصار العلماء الراسخون يتحامون الظهور بإبطال هذه الآراء والتعاليم خوفًا من إساءة ظن العامة فيهم واتهامهم بالزندقة لأنهم لم يَدعوا إمامًا من أئمة المسلمين إلا واتهموه في عصره بهذه أو ما يقاربها حتى إن منهم من عد الاشتغال بعلم المنطق كفرًا , ذكر ابن الوردي في حوادث سنة 639 من تاريخه ترجمة العلامة كمال الدين بن معية الذي فضله العلامة أثير الدين الأبهري على الإمام الغزالي , وقال فيها: إن ابن الصلاح الفقيه الشافعي المشهور سأل كمال الدين أن يقرئه المنطق سرًّا فقرأه عليه مدة ولم يفهمه، فقال كمال الدين: يافقيه , المصلحة عندي أن تترك الاشتغال بهذا الفن لأن الناس يعتقدون فيك الخير , وهم ينسبون كل من اشتغل به إلى فساد الاعتقاد فكأنك تفسد عقائدهم , ولا يصح لك من هذا الفن شيء. قال ابن الوردي: (ولغلبة العلوم العقلية على كمال الدين اتهم في دينه , وهذه هي العادة) فتأمل قول المؤرخ: (وهذه هي العادة) . والمشهور عن ابن الصلاح أنه كان يحرم المنطق قال في السلم: ابن الصلاح , والنواوي حرما ... وقال قوم: ينبغي أن يُعلَما فلينظر أي النقلين أصح؟ على أنه يمكن الجمع بأنه رجع عن التحريم بعد القول به في العلوم الدنيوية؛ لعلمهم أن الدنيا سياج الدين ومزرعة الآخرة , وكانت العامة على خلاف رأيهم. وأما في هذا العصر فقد انحط العلم حتى صار العلماء هم الذين يَنْفُرُون ويُنَفِّرُون عن هذه العلوم والفنون , وصار قسم كبير من العامة يرغبون فيها ويحملون أبناءهم على تعلمها , والسبب في هذا ظاهر؛ فإن التطلع إلى سعادة الدنيا هو مرمى أبصار جميع الناس , والعلوم الدنيوية في القرون السالفة لم تكن من وسائل الترقي في الدنيا , وإنما كان العلماء مسوقين إليها بإرشاد القرآن الطافح بالحث على النظر في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء، وكانوا مكتفين من الثمرة بقوة الإيمان ولذة العقل اللذين فيها , ولم يكن للعامة حظ من ذلك. أما العلم بالقرآن وبما يرشد إليه من أنواع المعارف فقد ضعف في صنف العلماء وانحصرت فوائد هؤلاء الدنيوية في مناصبهم الدينية، وأما العامة فإنهم رأوا الفائدة فيها فأقبلوا عليها، فكم من فقير حقير علم ولده فخرج موظفًا أو مهندسًا أو طبيبًا فاستغنى بماله واعتز بجاهه. وقد ساوى العلماءُ العامة في هذا الإقبال عملاً , وإن كان منهم من يذمه قولاً. ذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما تدر لها ثعل كتب الشيخ محمد راضي البحراوي أحد أساتذة العلم في الأزهر مقالات يذم فيها علم الحساب وتقويم البلدان , وكتب غيره منهم يؤيد رأيه , وزعما أن جميع شيوخ الأزهر على رأيهما في ذلك ولكني علمت من بعض أهل الأزهر أن الشيخ محمد راضي هذا , بل والأستاذ الأكبر شيخ الجامع يعلمان ولدهما هذه العلوم. يقول قائل: إن التزهيد في الدنيا لا يؤثر في النفوس لكونه على خلاف سنن الفطرة , ولم يوجد في الأمة من الزهاد الذين تركوا الدنيا باختيارهم ظاهرًا وباطنًا لأجل الآخرة إلا نفر قليل كإبراهيم بن أدهم - رحمه الله تعالى - وأكثر المنتحلين للتصوف المدعين الإعراض عن الدنيا للتقرب من رضوان الله تعالى كانوا وما زالوا يطلبون الدنيا بهذه الأعمال؛ لأنهم وجدوها أقوى ذريعة للمال والجاه , وهم في هذا أبعد عن الزهد الحقيقي من الأغنياء لأن الزهد عمل قلبي كما سنوضحه بعد , وقد فضحهم الأئمة المحققون في التصوف كالغزالي وغيره , فكيف تقول: إن ذلك أضر بالمسلمين؟ والجواب عن هذا واضح , وهو على وجهين (أحدهما) أن من مضرته وجود الألوف من رجال الدين عبادًا وعلماء لا عمل لهم , وإنما يعيشون عالة على الناس ومن الخلفاء الراشدين من كان صانعًا ومنهم من كان تاجرًا , وما التكايا التي أحدثها المسلمون إلا كالأديار عند المسيحيين، ولكنهم لا يوجبون على من دخلها أن يكون راهبًا طول حياته. و (ثانيهما) أن المضرة قد ظهر أثرها في مجموع الأمة فعلاً حتى هبطت من الأوج إلى الحضيض , وهكذا شأن التعاليم النافعة والمضرة لا يعرف تأثيرها إلا بمثل ذلك , وإن شئت تعليلاً عقليًّا يثبت لك تأثير الغلو في التزهيد باسم الدين على ما فيه من مخالفة سنن الفطرة فتأمل في حال كل من يعمل عملاً تقتضيه الطبيعة والفطرة اقتضاء حتمًا أو غير حتم , وهو يعتقد سوء مغبتهِ تجده في عمله ضعيفًا لا يبلغ الغاية منه. انظر لمن يحمله الغضب على الضرب وهو يخاف الله أو عقوبة الحاكم كيف يكون ضربه دون ما تبلغه قوته لولا ذلك الخوف , وربما يكون في وقت الضرب ناسيًا لمراقبة الله , وغير متفكر في عقوبة الحكومة , ولكن نسيان ما انطوت عليه النفس وعدم ملاحظته والتفكر فيه لا يبطل أثره , وتأمل كيف أن العرب ما أتقنو

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (7) من هيلانة إلى أراسم في 3 أبريل - سنة - 185 قد أتاني السيد… بشيء من أخبارك بعد طول تطلعي إليها فاطمأن قلبي قليلاً بما قاله لي عنك , وزال بعض ما كنت أجده من الجزع عليك. لا يخطرن ببالك أني نسيت ما تلقيته من نصائحك وتعاليمك في تربية (أميل) فإني باذلة قصارى جهدي في تعريفه بما حوله من الأشياء , وفي هذا المقام أقول: إني أحسبني قد تبينت أن فتور مشاعر الطفل ينشأ من عدم التفاته إلى المحسوسات أكثر من حدوثه من ضعف تلك المشاعر فإن في قدرته أنه يدرك أصوات كثير من الأشياء الخارجة وألوانها تمام الإدراك لو أراد أن يكلف نفسه الإصغاء والنظر إليها , ولكن لما كانت هذه الأشياء لا تستميله كان يغفلها إغفالاً كليًّا. وجملة القول في ذلك: إنه لا بصر له ولا سمع إلا فيما يحب إبصاره وسماعه، وإذا كان هذا شأنه فكيف السبيل إلى معرفة ما يروقه من الأشياء وما لا يروقه؟ إني أعترف وأنا صاغرة بأني كثيرًا ما أخطأت في استعراف تلك الأشياء , فليس كل ما أتخيره منها لتنشيط حاسة اللمس في (أميل) يحب أن يجيل فيه يديه الصغيرتين , ثم إن أبهى الألوان وأجملها في نظري تمر أمام عينيه مرور الظلال فلا تستلفته أقل استلفات , وأنا أظن أننا معشر الأمهات مدفوعات في هذا الأمر وفي غيره إلى إحلال أذواقنا محل أذواق الأطفال. إن جورجيا وهي أقل مني ارتياضًا بالعلم لأنجح منى أغلب الأحيان في سياسة (أميل) فإنها تجد بغريزتها ما يعجبه ويسليه وينبه قوة الاستطلاع فيه، وربما كانت تستعرف رغائبه فتسعى في تحصيلها له , وسبب ذلك أنها كما تعلم قد كانت والدة لثلاثة أولاد حرمها منهم الرق على التعاقب ولا تدري أين هم الآن، فلا بدع إذن في شدة تعلقها بأميل ومحبتها له، وإني لفي وجد عليها من حبها إياه أكثر مني، وحاشا أن يكون ذلك حسدًا فإنه مستحيل , وإنما الذي أحسدها عليه هو قدرتها على أن تكون طفلة مع الطفل، فهل هذا هو الذي تعنيه بكلامك في استعداد المرأة الزنجية للأمومة؟ ليت شعري هل تصدق أن أميل قد صار من أصدق التابعين لزور واستر [1] أعني أنه يعبد الشمس؟ من أجل أن تعتقد ذلك ينبغي أن تراه لتنظر كيف يبسط ذراعيه إلى ضيائها فرحًا برؤيته. كان الشتاء عندنا في غاية السهولة فلم ينزل فيه الثلج إلا مرتين على أنه كان فيهما يذوب بمجرد ملامسته الأرض , ولا تزال الأشجار مجردة من أوراقها , فالريف العاري من الخضرة كالبيت الخالي من الفراش والأثاث , ولكن نفحة من الحياة أنشأت تدب وتسري في مادة الكون جميعه , ولن تلبث أن تملأ ما خلفه الفصل المنقضي من الفراغ , وقد أمست الآصال عندنا في غاية الصفاء واللطف ولذلك ترى أميل إذا رأى الجو صحوًا أبدى من القلق ما يدل على رغبته في أن يُحمل إلى الحديقة. ولما كانت الشمس في (كورنواي) خصوصًا زمن الربيع لا ضرر فيها على أحد , بل إنها تلائم الأطفال والشيوخَ اعتادت جورجيا أن تفرش سجادة على الحشيش الجاف وتُجلس عليها (أميل) ليلعب ويمرح كما يشاء , ولما رأيته يعتمد علينا في حراسته مدة وجودنا معه قصدت أن أعلمه شيئًا من الثقة بنفسه والارتكان عليها , فأوعزت إلى جورجيا بالتنحي عنه , واختفيت عن بصره أنا أيضًا من غير أن يغيب عن عيني فلاحظت أنه في مبدأ الأمر خاف عندما فكر في وجوده وحيدًا وأبدى بعض القلق لكنه ما لبث أن تشجع وقوي قلبه , فكنت حينئذ أراه يفتح عينيه ويلتفت إلى كل ما يجول حوله , ويحرك يديه الصغيرتين كأنه يذود ذبابة تطن فوق رأسه فأخذت على نفسي من هذا الوقت أن أكف عنه مراقبتي حينًا بعد حين حتى إذا أحس بقلة حمايتي له؛ تعلم كيف يستغني عن مساعدة غيره. إني كلما فكرت في فروض الأمومة بدا لي منها معنى قلما يشابه ما يفهمه غيري من النساء , فإني أرى أنه من الواجب علي بمجرد أن يكبر (أميل) أن أحرم نفسي من لذة مكاشفته في كل وقت بأني مهتمة به؛ لأن أكبر شيء يعيق نمو المشاعر في بعض الأطفال , ويعطل استقرار طباعهم إنما هو فيما أرى طريقة القائمين عليهم في تربيتهم , فإنهم بكثرة حياطتهم إياهم بضروب من العناية البالغة غايتها من الظهور والناشئة عن فرط الاهتمام بهم - يعودونهم على أن يعيشوا غير مهتمين بأنفسهم , فإن الطفل إذا كان غنيًّا متعجرفًا كيف يتكلف إعمال ملكة الاحتفاظ بنفسه , كلا بل يكون شأنه مع نفسه كملوك الشرق الحمقى الذين يهون عليهم أن يسموا مشيري دولهم أبصارهم وأسماعهم طيبة بذلك نفوسهم، لأنه يعتاد على أن يستعين في إبصاره وسماعه بالمربيات القائمات عليه المكلفات بخدمته , وتَعرُّف حاجاته لقضائها، فماذا يكون حال هذا الطفل المبالَغ في حفظه إذا رأى نفسه يومًا ما بعد أن كان محوطًا بأمتن أسباب الوقاية قد خلي بينه وبين أقل خطر يلم به؟ لا شك أنه يكون أسوأ الناس حالاً، وأكسفهم بالاً، بل يكون هو الشخص الذي يحكى عنه أنه كان يخاف من خياله. إن (أميل) يدعوني بأفعاله وأحواله إلى التفكر في كل شيء , فقد ذكرني بالأمس شخصًا من المذكورين في أساطير الأقدمين، ذلك أن الأطفال لا حساب للمسافات عندهم , وهذا الأمر فيهم منشأ لكثير من الأغاليط البصرية الكثيرة، فقد كنت في الحديقة وكانت جورجيا واقفة في أحد شباببك المنزل المشرفة على مكاني , وهو على يديها فلم يكن إلا أن رآنى حتى بدت عليه علائم الابتهاج , ومد إليَّ يديه كالجناحين على أن الشباك الذي كان فيه هو في الطبقة الأولى من البيت فلما لم تصل إلي يداه ظهر عليه الاندهاش , ثم أفضى به الأمر إلى أن غضب واحمر وجهه، والذي كان يبتغيه منى بحسب ما يحلو لي اعتقاده هو ما أبديه له من صنوف الملاطفة والمداعبة، بل كان يريد أيضًا التقام ثديه؛ لأنه لم يكن رضع من بضع ساعات فلم يكن لهذا المحبوب المسكين مثيل في عذابه هذه إلا طانتال [2] . أأكون واهمةً إن قلت: إن أميل قد عرفك , بل إنه قد عرف صورتك التي أريه إياها ذاكرة له اسمك. أنا لا أعتقد أن هذا وهم فإني بحملقته في مثالك وابتسامه له ومده يديه نحوها إخاله قد عرف والده تخمينًا. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (الإسلام) طبعت جمعية التأليف رسالة بهذا الاسم جمعت فيها من جريدة المؤيد مقالات المسيو هانوتو الأخيرة , وما جاء في الرد عليها لأحد أئمة المسلمين وعظمائهم ولحضرة الكاتب الفاضل محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة , ولا حاجة بنا للترغيب في اقتناء هذه الرسالة فإن ما فيها قد أخذ من نفوس المسلمين مأخذًا وأثر فيها تأثيرًا لم يعهد له نظير. ومن الناس من نسخها بخطه، ومنهم من حفظ نسخ المؤيد التي نشرت فيها، وتمنى السواد الأعظم لو تطبع لتحفظ , وتكون عبرة ومرشدًا لهم على ممر الأيام. مقال هانوتو جرح القلوب، وآلم الوجدان، ومقال الإمام كشف ظلمة الشبهة , وأنار مصباح الحجة، وقذف بالحق على الباطل فدمغه. وقد أجمع الناس على استحسانه حتى فضلاء المسيحيين , ولم يوجد فيه مغمز لغامز ولا مطعن لطاعن، فإن اتفق شذوذ واحد نقول فيه: ليس كل خلاف جاء معتبرًا ... إلا خلاف له حظ من النظر والرسالة تطلب من إدارة مجلة السمير الصغير، ومن حضرة الفاضل حسن أفندي وصفي بعموم الأوقاف ومن مكتبة المعارف في شارع بين الصورين , وثمنها ثلاثة غروش. *** (نور الإسلام) مجلة علمية أدبية إسلامية لصاحبيها الفاضلين الشيخ أمين أبي يوسف المحامي ومحمود أفندي عبد الكريم التاجر في الزقازيق تصدر في أول ومنتصف كل شهر عربي , وقيمة الاشتراك بها في القطر المصري عشرة قروش أميرية في السنة , وفي الخارج خمسة عشر قرشًا تدفع سلفًا , وهي قيمة لا يراد منها الكسب. وقد صدر العدد الأول منها في 15 المحرم الحال مشتملاً على المقالات النافعة والإرشادات القويمة والنصائح الحكيمة، وقد جعل فيها بعد المقالات الأولى باب للتفسير يكتب فيه منشئ هذه المجلة (المنار) نبذًا مما يقتبسه من درس الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وبعده باب العبادات ينشر فيه أسرار العبادات وحِكمها , وسيزاد على ذلك بيان الضروري من الأحكام وبعده العقائد وتنشر فيه الآن (رسالة التوحيد) تباعًا وهي الرسالة التي لم يؤلَّف مثلها في الإٍسلام , فعسى أن تصادف هذه المجلة النافعة ما تستحق من الإقبال عليها , وتستقيم على الطريقة التي أشرعتها , وهي تطلب من صاحبيها في الزقازيق. *** (الإخاء) جريدة عمومية تصدر في كل عشرة أيام مرة لحضرة الفاضل محمود كامل أفندي كاشف ورئيسا تحريرها الشاعران الناثران أحمد أفندي محرم وأحمد أفندي الكاشف , وقد صدر العدد الأول منها في عاشر المحرم وفيه بعد الفاتحة متصلاً بها بحث مسهب في الإخاء وشرائطه يتبعه ببان المقصد من الجريدة وهو شد أواخي الإخاء وما يستلزمه , وقد جاء في بيان خطة الجريدة هذه الجملة المفيدة: (ولا نريد أن نختط لجريدتنا هذه ما يختطه بعض أرباب الصحف من الخوض في الشخصيات أو التعرض للخصوصيات تزلفًا إلى عظيم، أو تقربًا من كبير أو انتقامًا لعاطفة غضبية، وقضاءً لأغراض نفسية , فتلك هي آفات الجرائد وبلاياها التي حطت من قدرها، وحقرت من أمرها , بل هي أدواء الأمة التي كادت تأتي على قواها، وتوردها موارد رداها , فالاشتغال بهذه الهنات واقتراف تلك المنكرات ذنب لا يجب أن يغتفر لذوي هذه المهنة الكريمة، المتصدين لأداء وظيفتها العظيمة) ثم جاء فيها بعد مقالة في أوربا والإسلام قصيدة غراء من أرق الشعر وأعذبه في مديح سماحة أبي الهدى أفندي الشهير ومن أبياتها في الفخر والتقرب. أنا سيفك اشهرني على هام العدى ... فالسيف ليس يخيف حتى يشهرا وانط إلي (؟) خمائل الفخر التي ... أنا أهلها لأزيد قومي مفخرا ومنها في المدح والاستماحة هو عدَتي للحادثات وعمدتي ... في المشكلات أرى به ما لا أرى إن رمته للجود رمت كنهورا ... أو هجته للخطب هجت غضنفرا فيه الغنى كل الغنى وهو الحمى ... كل الحمى يثني المخوف إذا انبرى والقصيدة كلها درر , فنسأل لهذه الجريدة التوفيق للوقوف عند الخطة التي اختطتها لنفسها في العبارة السابقة والرواج والنجاح المكافئين لخدمتها , وهي تصدر في طوخ (قليوبية) وقيمة الاشتراك فيها 25 غرشًا في السنة. *** (رواية الروضة النضيرة في أيام بمباى الأخيرة) تصف هذه الرواية مدينة بومباي الرومانية الزاهية قبل أن ينفجر عليها بركان فيزوف ويغمرها , وتصف ما كان عليه الرومانيون وقتئذ من الترف والنعيم وسعة العمران , وتشرح أخلاقهم وعاداتهم , وأفيد ما فيها وصف حال المسيحيين الذين كانوا منبثين في بلاد الرومان يدعون إلى دينهم من يرونه أهلاً مع غاية الحذر والاستخفاء , ولكن شرح حال الدعوة إلى الدين المسيحي في الرواية ليس إخبارًا عن جزئيات واقعة، وحوادث معروفة , ولكن المعروف بالإجمال أن هذا الأمر كان موجودًا وواقعًا , وقد صوره مصنف الرواية تصويرًا ينطبق على العقيدة التي عليها المسيحيون اليوم. مصنف الرواية هو اللورد ليتن الإنكليزي ونقلتها إلى العربية الفاضلة المهذبة فريدة عطية بنت صديقنا الفاضل المعلم يوسف عطية وهي تباع بمطبعة الهلال وثمنها عشرة قروش. *** (ثمرات الفنون) نهنيء صاحب هذه الجريدة الفاضل الكامل سعادتلو عبد القادر بك أفندي القباني رئيس مجلس بلدية بيروت بدخول جريدته في السنة السابعة والعشرين وهي في طريقها القويم، وعلى صراطها المستقيم، تتحرى الصدق والنصيحة بقدر الإمكان، في مواقف يعز من يصبر فيها على نار الامتحان، حتى صار لها في الجرائد السورية المكان الأعلى من نفوس المسلمين , وكيف لا وإن عددًا منها لا يخلو عما يهم المسلمين معرفته مما لا يوجد في غيرها فلا زالت تزيد ارتقاءً ونجاحًا. *** (النظارة) مجلة علمية أدبية فكاهية (تصدر بمصر في يوم الاثنين من كل أسبوع لمحررها ع. كامل) وقيمة الاشتراك فيها أربعون غرشًا في السنة و30 للتلامذة ووكلاء البريد وتدفع أقساطًا , وللمجلة ثلاثة أبواب: الأول منها للأخبار والبرقيات، والثاني للأشعار والأزجال والثالث للآداب والحكايات، والعلوم والمخترعات وقد صدر العدد الأول منها بورق جيد فنسأل لصاحبها التوفيق والنجاح. *** (الهوانم) جريدة فكاهية سياسية انتقادية تصدر بشكل المجلات في يوم الأحد من كل أسبوع لم يصرح صاحبها باسمه وهو مسلم مصري لما فيها من المباحث الغرامية والنسائية , وإذا أُعطيَتْ هذه المباحث حقها من النزاهة , وابتُعد بها عما يخل بالآداب تكون من أنفع ما يكتب , والسواد الأعظم من الأمة في أشد الحاجة إلى معرفة الآداب في طور الصبا , والميل إلى الزواج وحسن الاختيار فيه وما يتعلق بذلك , ثم معرفة شئون المنزل وأخلاق النساء وعاداتهن في جميع أحوالهن , وهذه المعرفة والحث عليها أنفع للأمة من معرفة السياسة وأحوال الممالك. وكثيرًا ما كاشفت بعض أصدقائي الفضلاء برأي يختلج في ذهني كثيرًا وهو أنه إذا وجدت جريدة أدبية غرامية يحررها بعض أصحاب المعارف والآداب الصحيحة العارفين بمنافع الأمة يمكن أن ينتفع بها أكثر مما ينتفع بسائر الجرائد السياسية والعلمية بل والتهذيبية، فيمكن لصاحب جريدة الهوانم النبيه أن يتدبر ما قلناه ويتحرى العمل به بقدر الإمكان والله الموفق. *** (لجنة الاحتفال بعيد الجلوس الخديوي سنة 1900) أهدتنا لجنة الاحتفال بعيد الجلوس الخديوي التي تألفت في هذه السنة الشمسية وأقامت الزينة التي نوهنا بها في وقتها كراسة مطبوعة بالعربية والفرنسوية تتضمن تقريرها العمومي (وميزانية الإيراد والمصروفات) جعلتها (تذكارًا لهذا العمل العظيم ولكل من اشترك فيه) وعلم منه أن مجموع الدخل كان 136230 غرشًا ونصف غرش , ومجموع النفقات 50199 غرشًا ونصف غرش. ومن الدخل 20031 غرشًا لم تحصل فيكون صافي الدخل 66000 أقرت اللجنة على توزيعه على الجمعيات الخيرية لجميع الطوائف وهي عشرون جمعية ثلاث منها للمسلمين وهي الجمعية الخيرية الإسلامية وقد أصابها 180 جنيها والجمعية الايرانية وقد أصابها 15 جنيها وجمعية العروة الوثقى والذي أصابها 32 جنيها. وواحدة للإسرائيليين وقد أصابها ستون جنيهًا والباقي وقدره 373 جنيهًا أعطي لسائر الجمعيات المسيحية وطنية وأجنبية , ويستثنى منه 21 جنيهًا لمدرسة حلوان الخيرية وهي مدرسة أهلية. وقد لاحظ بعض الناس أن أكثر هذا المال من المسلمين، وأعطي أكثره لغيرهم , وليس هذا بشيء مهم , ولكن المهم كل المهم هو قلة الجمعيات الخيرية الإسلامية مع أن المسلمين في البلاد أكثر عددًا ومالاً , وأحوج إلى الجمعيات الخيرية من سائر الطوائف؛ لأنهم وراءها كلها في العلوم والفنون وسائر شؤون المدنية والاجتماع.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (مآثر مولانا الخليفة والسلطان الأعظم) نوهنا مرارًا كثيرة في مجلتنا وخطبنا بمآثر أعمال مولانا السلطان عبد الحميد خان أيد الله دولته وأنفذ شوكته , وبينا أن أعظمها شأنًا وأسطعها برهانًا , وأحسنها وقعًا , وأعمها نفعًا , وأرفعها ذكرًا , وأطيبها نشرًا , هو إنشاء الألايات الحميدية وتعميم التعليم العسكري في طرابلس الغرب , واقترحنا أن يكون هذا الأخير عامًّا في جميع الولايات العثمانية. وقد قرأنا خطبة اللورد سالسبري رئيس الوزارة في الدولة البريطانية التي حملها إلينا البريد الأخير , فألفيناه يرغب فيها أمته بالإقبال على تعميم التعليم العسكري , وصرح بأن البلاد لا تكون آمنة من خطر المستقبل إلا بهذا وهي موافقة لرأينا نرجو أن تحمل الدولة العلية على المبادرة لهذا العمل العظيم. وأقول الآن: إن (المأثرة الرابعة) من مآثر مولانا الكبرى هى مدرسة العشائر في الأستانة وإنما كمال نفع هذه المدرسة بإلزام كل من يدخلها تعلم الفن العسكري. (والمأثرة الخامسة) هي إنشاء سلك الأخبار البرقي بين السلط من سورية وبين الحرمين الشريفين , وقد ذكرنا الخبر في الجزء الماضى , ونزيد الآن أن الجرائد السورية أنبأتنا بأن سعادتلو صادق باشا المؤيد العظمي حاجب مولانا السلطان قد حضر إلى دمشق الشام ليتولى رئاسة هذا العمل المبرور عملاً بالإدارة السلطانية الواجبة الاتباع , وطول هذا الخط 2500 متر , وعلم الناس أن نفقته من الجيب السلطاني الخاص. (وأما المأثرة السادسة) فهى إنشاء سكة حديدية بين الشام والحرمين الشريفين , وقد أشرنا إليها في الجزء الماضي , ثم علمنا بأن الأمر السلطاني قد صدر بذلك حقيقة , وأن نفقاتها ستكون من خزينة الدولة , وأن الهمة موجهة للإسراع بالعمل , ولعمري إن هذه المأثرة هي التي تخلد الذكر الحميد لهذا السلطان الكريم والخليفة العظيم في الألسنة والكتب ما دام يوجد في الدنيا مسلم يحج بيت الله الحرام , فحق لنا أن نعيد ما قلناه قى مآثر مولانا من قصيدة نشرت في المجلد الأول من المنار وهو: مآثر كهتون المزن هامية ... تواترت بين مرئي ومروي قد طوقت كرة الدنيا مناطقها ... منها بنورٍ ولكن غير شمسي بالكم والكيف تأبى الاشتراك بها ... بالرغم عن هذيان الاشتراكي تعزى إلى شخصه السامي فلست ترى ... سوى حميدية اسم أو حميدي *** (جمعية شمس الإسلام في طنطا) (لحضرة الأديب الفاضل مصطفى صادق أفندى الرافعي) حضرة الأستاذ الفاضل منشئ المنار الأغر. نظرت نظرة فى الوجوه فإذا هي تضحك وتعبس وتنكر وتعرف , وإذا منها الكاشر نابيه والمرائي بعينيه والمصيخ بأذنيه , بينما هذا يفتقد الخطوب لتعم الكروب إذا غيره يرتق الحوادث لتزول الكوارث , تحالف وتخالف , وتآلف وتجانف , ومحبة وبغضاء , كأنهم لأنفسهم أعداء , حتى عميت عليهم المذاهب , وانسدت أمامهم المهارب , فأعدت النظر فإذا منهم جاهل شرب السم ثقة بالعقاقير لا يشرب السم الزعاق أخو حجى ... وثوقًا بدرياق لديه مجرب فتركت العين وما تراه , والأمر وما وراه , حتى خفتت جنادب الذهول وسمعت القرآن يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105) فاطمأن الخاطر , وقر الناظر , وما عتم الصدر أن رحب حتى ضاق , وكشفت الحقيقة عن ساق وسمعت النداء , كيف الاهتداء وقد ترك الأمر بالمعروف , وأصبح المنكر مألوف , والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة) - فما زال الهاجس يتردد في الفكر , والانفعال يتلجلج في الصدر , حتى غلبت سطوته , وقوية شوكته , فاستنجدت بالعلم , وسألته بيان الحكم , فقال: لا يهولنك اختلاف الناس في الوسائل والذرائع , فإنهم متفقون على اجتناب المضار , وجلب المنافع. والرب واحد , والأب واحد , والدين واحد , والكتاب واحد , والضر واحد , والنفع واحد؛ أفلا يكونون كرجل واحد؟ فقلت: الأمر كما قلت , ولكن صددت فأطولت الصدود وقلما ... وصال على طول الصدود يدوم فقال: قد خانك العقل , وفاتك النقل {لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} (الزمر: 53) , {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) هنالك نظرت المسلمين فرأيت من ذكر قد سقط في يده , وفت في عضده , وأقلع وأناب , ورجع وتاب , فأعلنت في الناس أن يجتمعوا لينتفعوا , وجعلت المقر مسجد البهي قدس الله سره , والميعاد مساء الخميس , ثم كتبت ورقة عليها (جمعية السنة الإسلامية) وأعطيتها لإنسان , فأقبل في البلد وأدبر , ونادى فحشر , وما أزفت الساعة الثانية بعد الغروب حتى غصت مشاعب المسجد , وأقبل الناس من سائر الأجناس , وازدحمت سفن الأقدام , وتلاطمت أمواج المناكب , وأذن الله أن أقوم فنهضت , وأن أتكلم فخطبت. هنالك انحنت الرءوس وائتلفت النفوس , ودمعت العيون , وخشعت الأصوات {وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلْحَيِّ القَيُّومِ} (طه: 111) وصفْتُ الإسلام في الغابر والحاضر بما روض الصعب وجذب النافر , وما جلست حتى نهض حضرة الأديب والشاب النجيب محمود أفندي الشبيني فأطرب وأغرب , وجاء بما أثار الحنين وعضد اليقين. نثر أزهار الكلام , ونظم نصائح الإسلام , وقد كانت الخطابتان من الطول بحيث لم يبق مجال لأحد أن يقول , وقد اتفقنا على أن تكون هذه الجمعية من شعاع شمس الإسلام , لعل الثبات يطير إلينا طيران السهم , ويطلع علينا طلوع النجم , فما جواب حضرة الأخ على ذلك لأخيه. ... ... ... ... ... ... طنطا في 18 محرم سنة 1318 (الجواب) شكر الله أيها الأخ مسعاك , وجزاك عن نفسك وعن ملتك وأمتك خيرًا , ومرحبًا بك وبهذه الجمعية التي أنشأتها , وقد تقبلتكم جمعية شمس الإسلام بقبول حسن , ورضيت مع الابتهاج والسرور بأن تكونوا فرعًا لها عسى يتحقق فيها وفيكم مثل التنزيل {شَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) وينبغي أن تسمى باسم الأصل أيضًا كما هو الشأن في جميع الفروع , وتصل إليكم في البريد مجلة الجمعية فراعوا أحكامها واعملوا بها , وما هي إلا التعاهد والتآخي على التأدب بآداب الدين والعمل بهدي الكتاب والسنة , واعلموا أن من يحمل المسلمين على غير هذا ويزعم أنهم يرتقون بما عداه فهو إما جاهل وإما غاش , فلا شأن لجمعيتنا بالسياسات ولا بالحكومات , وإنما تدعو المسلمين إلى الحب والصدق والأمانة والتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ومن الآداب التي يمتاز بها أعضاء الجمعية على غيرهم مجاملة مجاوريهم من المخالفين لهم في الدين واحترامهم وعدم غمط حق من حقوقهم , ولا يقبل في الجمعية فاسق إلا إذا تاب وأناب , وأرجو أن أوفق لزيارتكم عن قريب. *** (إبطال مولد أبي العيون) شرحنا في مقالات كثيرة مفاسد الشيوخ الذين جعلوا التصوف حرفة من حرف الكسل , وما يتخذون لذلك من الأسواق المعروفة بالموالد. ومن هذه الموالد التي تقام في الصعيد مولد الشيخ أبي العيون وقد اشتهر عن الشيخ الذي يقيمه أمور لا نشرحها لأنها تتعلق بشخصه , وقد استأذن في هذه الأيام من سعادة المفضال الهمام حشمت باشا مدير أسيوط بإقامة المولد فأصدر سعادته أمرًا رسميًّا بإبطال هذا المولد لعلمه بما فيه من المنكرات والفواحش التي يعم ضررها ويفسد جو الصعيد الطيب قذرها , فانطلقت ألسن العقلاء والفضلاء بالدعاء والثناء على سعادته , وقد كتب إلينا من يوثق به هذا الخبر مؤكدًا بأنه ليس في جانب منكرات مولد أبي العيون فائدة تجارية ولا غير تجارية , فعسى أن يكون في هذه المأثرة التي صدرت عن سعادة المدير عبرة عامة للمغترين بصاحب هذا المولد من العامة الذين يسمحون له بغشيان منازلهم في حضورهم وغيبتهم , ويبيحون له الخلوة بالنساء لأجل التبرك به وليعلم هؤلاء أن النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم كان يكلم إحدى أزواجه الطاهرات في باب المسجد فمر رجلان فأسرعا في المشي فناداهما وقال لهما: إنها فلانة. وقد قال العلماء: إن من الفائدة في هذا تنبيه المسلمين إلى أنه لا يجوز لرجل أن يخلو بامرأة مهما كان صالحًا. *** (سفر الأمير) ترجح أنه في يوم السبت الآتي يسافر سمو الأمير المعظم بالسلامة إلى أوربا قاصدًا زيارة جلالة ملكة الإنكليز , وهذه الزيارة من الحكمة بمكان يعرفه أصحاب العقول الراجحة , والآراء النافذة , ويذهب كثيب من هؤلاء إلى أن هذه الزيارة لو سبقت هذا الوقت بسنين لكانت أكثر نفعًا وفائدة لمصر والمصريين فنسأل الله تعالى أن يجعل من رفقاء الأمير في سفره الحفظ والسلامة , ويمنحه كمال التوفيق في الترحال والاقامة. *** (فوز الإنكليز في الحرب الحاضرة) عاد الفوز المنتظر للإنكليز إليهم فقد استولوا على كرونستاد ولندلي , وعندما دخلوا عاصمة الأورانج الجديدة لم يجدوا الرئيس (ستين) فيها وأنقذوا مدينة مافكنج من الحصار ويصح أن يقال: إنهم دوخوا الأورانج , وما عليهم بعد هذا إلا تدويخ بلاد الترانسفال وهذا يحتاج إلى زمن طويل؛ لأن هذه البلاد أكثر استعدادًا , وأهلها أقوى جلادًا, وربما يكون الصلح قبل ذلك , فقد أنبأنا البرق أن حزبًا ينشأ في بريتوريا لأجل طلبه , والمنتظر أن تجيب الملكة طلب الصلح في عيد مولدها الذي يحتفل به في يوم الخميس الآتي (14 مايو) . *** (العفو التام عن سعادة محمود باشا سامي البارودي) نهنئ الفضل والأدب , والمجد والحسب , بصدور الأمر العالي الخديوي بالعفو التام عن هذا الرجل المفضال الذي كان في الفتنة العرابية كما جاء في المثل: (مكره أخاك لا بطل) وقد نكب فيها بما لم ينكب به أحد سواه. وقد عادت إليه بهذا العفو - الذي صادف محله - رتبته العسكرية (فريق) ووساماته وحقوقه المدنية كلها فلله الحمد ولمولانا العباس الثناء والشكر. *** (فرنسا ومراكش) أرسلت فرنسا سريةً عسكريةً إلى واحة طوات على حدود المغرب الأقصى , فوجل أهله لذلك , وهاجت القبائل , وأمر السلطان عبد العزيز بإرسال الجنود إلى تلك الحدود , ويظهر أن فرنسا تريد التحرش لأجل التعدي على تلك البلاد بالحجج التي نعرفها من الأوربيين فقد قال هافاس في برقياته من ثلاثة أيام: إن الخواطر هائجة بين قبائل الغرب الأقصى التي في الحدود الجنوبية من بلاد الجزائر فلذلك عززت الجنود الفرنسوية هناك! ! *** (المؤتمر الإسلامي في باريس) تريد فرنسا بمناسبة المؤتمر إنفاذ غرضها السياسي بجمع العلماء المسلمين في باريس للغرض المعلوم , ويظهر أن محاولة سعادة صاحب الأهرام الاتصال بفضيلة شيخ الجامع الأزهر يراد بها السعي في هذا الأمر الذي لا نظنه ينجح فيه. من إدارة المنار نرجو من القراء الكرام الذين لم يدفعوا لنا قيمة الاشتراك عن السنة الثانية (وقليل ما هم) أن يقدموا لنا حوالة على إدارة البريد أو طوابع بريد؛ لأننا لم نظفر بمحصل أمين بعد خيانة من سبق , وبهذا يحق لنا أن نفتخر بجميع قراء المنار , وأنهم من الخواص الأخيار.

الترك والعرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الترك والعرب (2) بينا في المقالة السابقة أن المزية التي امتازت بها دولة الترك العثمانية على كل دولة عربية هى بقاء دولتهم وثباتها زمنًا يناهز زمن دول العرب كلها أو يزيد , وأوضحنا الأسباب في ذلك ملمين بأسباب تنازع الدول العربية في السلطة , وأنهم على تنازعهم وتخاذلهم كانوا أوسع فتوحًا وأكثر نشرًا للإسلام ونصرًا للدين من الترك , ووعدنا بأن نقابل بين الفريقين ونفاضل بينهما في العلوم والمعارف والمدنية والعمران , وها نحن أولاء منجزو موعدنا فتدبر ما نكتبه تدبرًا. من أحاط خبرًا بحال الشعبين في هذه الأيام , ولم يكن عارفًا بتاريخهما الماضي , ولا واقفًا على علل الأحوال الحاضرة وأسبابها؛ يحكم بأن الترك أقرب إلى المدنية من العرب لأنهم أرقى منهم في الفنون والعلوم العصرية , وما ينشأ عنها من الصناعات , وما يتبع ذلك من مظاهر الجمال والجلال والبهاء والكمال , فإذا مدَّ عينيه بعد هذا إلى مناشئ الأمور وعللها رأى أن المال المخصص للمعارف في الدولة ينفق في الأستانة العلية وما يليها من بلاد الترك إلا نزرًا يسيرًا يصرف إلى ما يتصل بها كسوريا فهو كالرشاش يصيب الأرض المجاورة لمكان مرهوم أو ذي صيّب لا يروي غليلاً ولا يغني فتيلاً , وإذا رأى هذا وعرفه يرجع عن حكمه لا محالة , وإذا هو رجع القهقرى في التاريخ إلى أيام دول العرب , وشاهد ما كان منهم من العلم أيام لاعلم إلا علمهم , والصناعة حيث لا صناعة تعلو صناعتهم والزراعة أزمان لا زراعة كرزاعتهم , والتجارة حيث لا أحد يجاريهم في تجارتهم؛ يتجلى له أن قابليتهم للكمال أقوى , واستعدادهم للمدنية أعلى , وعقولهم في العلم أرقى , وهمتهم في العمل أعلى فإنهم أوجدوا مدنية لم تكن , وأحيوا علومًا كانت مدفونة في مقابر مكاتب الرومان وغيرهم , ونفخوا في العالم الإنسانى روحًا جديدًا كان مبدأ الانقلاب الأعظم في تاريخه وأفاضوا على أرضه الميتة صيب الحكمة والجد والعمل؛ فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج , وأما الترك فلم يظهر فيهم أيام عزهم وقوتهم شيء من ذلك مع أن لهم سلفًا فيه , وقد غمرتهم في هذه الأيام المدنية الأوربية , وجاءتهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين؛ لا تكاد تجد منهم مكتشفًا ولا مخترعًا ولا تكاد تجد فيهم صاحب مذهب في الأصول العلمية , ولا صاحب رأى في المذاهب الفلسفية , ولا تكاد تجد فيهم شركات صناعية أو تجارية تضرب في الأرض ابتغاء الثروة والكسب. إلا أنني أعيد القول بأنهم أرقى من العرب في هذه الأيام لما ذكرت من الأسباب لا لأن استعدادهم أقوى , وأعيد القول بأن الغرض من المقابلة والمفاضلة بينهم وبين العرب بيان الحقيقة وخدمة التاريخ , وحث الشعبين على أن يكونوا شعبًا واحدًا يخدم الوحدة الاسلامية التي يجب أن تكون فوق كل جنسية , بل أن تتلاشى فيها كل جنسية , وأن يسعى عقلاء الفريقين في التأليف والتوحيد فإن الترك يظهرون احتقار العرب حتى إن لفظ (عرب) من ألفاظ الشتم في لغتهم , والعرب يعتقدون أن الترك تحرّوا محو آثار المدنية العربية من بغداد وغيرها متعمدين , وقد انتهى بهم سوء الظن إلى الاعتقاد بأن الجامع الأموي ما أحرقه إلا الأتراك؛ لأنه من الآثار العربية التي يفتخر بها. ولو أردنا أن نفيض في هذا الموضوع ونشرح بعض ما يتحدث به الناس من ذلك في سوريا وغيرها لقضى المصريون منه عجبًا. ومن ذلك أن قاضيًا تركيًّا جاء الشام فمكث فيها عدة سنين معظمًا مبجلاً محترمًا مكرمًا , وعندما نقل منها قال لأخص أصدقائه عند الوداع: أدعو الله أن ينزع بغض العرب من قلبي فإننى ما رأيت منكم إلا كل لطف وكمال. ومما هو مستفيض عن جهلائهم أنهم ينكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي , ويزعم بعضهم أنه قال: (أنا عربي وليس العرب مني) ولم يعرف أنه كان مثل هذا بين العرب وبين غير الترك من الأعاجم الذين استووا على عروش السلطة في البلاد الإسلامية , وهذه دولة الفرس الحاضرة لم ينقل عن أهلها أنهم يبغضون العرب أو يحتقرونهم لأنهم عرب , وإن من الأعاجم من يعتقد أن العرب أفضل من جميع الأجناس لأن النبي الأعظم منهم , والقرآن بلسانهم , وهم الذين نشروا الدين وأيدوه , ومن هؤلاء الأفغان الذين يتعصبون لجنسهم أشد التعصب , ويرون أن الأفغانى هو أفضل الناس لأنه أفغاني , ولكنهم يستثنون العرب. يا قوم إن ربكم يقول لكم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92) ويقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103) ويقول: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) وجاء في السنة الصحيحة: (لا تنازعوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا , وكونوا عباد الله إخوانًا , المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره) . يا قوم إن في تاريخ مَن قبلكم أعظم عبرة لكم. ألم يقص عليكم ما أصاب الأمة من تنازعهم على الخلافة والملك ومن اختلافهم وتفرقهم في الدين؟ أصابهم شر عظيم قذف بهم من القمة إلى الهاوية , وخزيت الأمة كلها بخزي رؤسائها في الدين والدنيا. ولما تجددت لها دولة قوية وهي (الدولة العلية) أعزها الله تعالى لم تسْعَ في إبان قوتها في رتق الفتق , ولم تعمل لاستئصال جراثيم الفتن السابقة واصطلامها؛ لأنها كانت دولة قوة وبأس لا دولة علم وحكمة , وما كان بين المسلمين وما هو كائن لا يمحوه إلا العلم الاجتماعى , وهو ما كان ضعيفًا أو معدومًا في دولهم العلمية فما بالك بغيرها؟ ما محا الترك سطور التعصبات الماضية , ولكنهم زادوا في الطنبور نغمة: وهى التعصب للجنس الذي محاه الإسلام من أعرق الأمم وأشدها فيه وهي الأمة العربية. ثم قام في هذه السنين فى مصر من زاد في الطين بلة فأحدث في الإسلام بدعة التعصب للوطن والافتخار بلفظ الوطنية. فبهذه المُدى تُقطع روابط الإسلام ويمزق أهله كل ممزق , والآخذون بها هم الذين يذفِّفون على المسلمين ويحولون بين عقلائهم وبين ما يشتهون من الوحدة الإسلامية , ومن العجيب أن هؤلاء الأغرار يغشون الناس في مصر بأنهم من أنصار الدولة العلية والمخلصين لها وليست الدولة من سلالة الفراعنة ولا من أبناء وادي النيل الذي يتعصبون له , ويحملون الناس على مناوأة كل من ليس من أهله , ومنهم من يجاري الناس في هذه الأيام بذكر (الإسلام) و (الجامعة الإسلامية) وكيف تتكون الجامعة الإسلامية إذا كان المسلم المصري يعادى المسلم الشامي والمغربي والحجازي وأولئك يعادونه أيضًا؟ نسأل الله البصيرة والهداية لهؤلاء الأغرار لعلهم يرشدون. ونحمد الله أن مولانا السلطان الأعظم عبد الحميد الثانى أيده الله تعالى هو الملك الثانى (والأول هو السلطان سليم ياوز) الذي عقل مضرة التعصب للجنس ولولا شدة عصبية الأتراك لقلب الأوضاع , وغير ما عليه الدولة من نظام الاجتماع , وكلنا على علم بحزب (تركيا الفتاة) الذي تألف لمقاومة ذاته الكريمة؛ لأن سياسته غير مرضية عندهم. وقد شغل فساد هذا الحزب الضار أفكار جلالته فأخذ جزءًا غير قليل من وقته الثمين , ولولاهم لصرف في مصلحة الدولة والأمة ورأيت أيضًا غير واحد من عظماء الأتراك سياسته إسلامية لا تركية ولا وطنية , ومنهم دولة الغازى مختار باشا الذي كنت أسمع من الناس أنه كان في اليمن يسير سيرة تركية , وأن العرب هناك لاقوا من تعصبه أضعاف ما يقتضيه التأديب وتستلزمه المصلحة. ولكننى لما اتصلت بدولته في مصر , وذاكرته في شئون الدولة العلية والإسلام كذب الخبر , وعلمت أن سياسته إسلامية , وإن شئت قلت سليمية (نسبة للسلطان سليم عليه الرحمة) إلا أن يكون هذا الرأي قد حدث عنده بعد ذلك , وعلى كل حال نسأل الله تعالى أن يكثر من أمثال هؤلاء العقلاء الفضلاء في الدولة العلية عسى أن تتوحد الأمة بسعيهم , وتتكون الجامعة الإسلامية باهتدائهم وهديهم وما ذلك على الله بعزيز. (سيأتي الكلام على مدنية العرب بخصوصها)

التعليم النافع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم النافع لا ترتقي أمة من الأمم دفعة واحدة , وإذا أراد الله بقوم خيرًا يعطي أفرادًا منهم عقولاً كبيرة , ويهيئ لهم اكتساب العلوم النافعة , ويبصرهم بالمصالح وطرق الوصول إليها , ويوفقهم للتصدي للإرشاد , ثم يلهم قومهم احترامهم , والأخذ بهديهم وإرشادهم؛ فينتشر بذلك الإصلاح فيهم , وإذا أراد الله بقوم سوءًا يُبغِّض إليهم كل من ينبغ فيهم وينبري لانتياشهم مما هم فيه من الشقاء والعناء متوهمين أنه مبطل فيما يدعو إليه؛ لأنه مخالف لما هم عليه من العادات والتقاليد , ويقول سادتهم وكبراؤهم: لو كان ما يدعو إليه خيرًا ما سبقنا إليه] وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ [أي ما جاء به محمد {خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الأحقاف: 11) . هكذا كان، وهكذا يكون والتاريخ شاهد صادق وحاكم عادل ولكن الأمم في طور الجهالة لا تعتبر بالحوادث , ولا تتأدب بالكوارث. خير الإصلاح إصلاح التعليم , وخير التعليم ما كان على الطريقة العملية حتى إن الأمم المرتقية لم تعد تعتبر نجاح التعليم ببراعة التلامذة في الامتحان بل إننا نسمع كل يوم صياح المنتقدين من علماء البيداجوجيا (التعليم والتربية) قائلين: إن جعْل النجاح في الامتحان وأخذ شهادة العالمية بأنواعها هو الغاية من التعليم التي تتوجه إليه نفوس المتعلمين - خطأ عظيم وضرره على البلاد جسيم؛ لأنه يجهد العقل فيما لا يعود بالفائدة على البلاد , وإنما غاية التعليم إنتاج رجال قادرين على الأعمال النافعة ومباراة الأمم الحية ومسابقتها في ميدان الحياة , وحق ما قالوا والعبرة أمامنا , فإننا نحن المسلمين نرى أن خيارنا في التعليم والتعلم الإسلامي أهل الأزهر الشريف , ولنفرض أن الأمة أصبحت كلها أزهرية فهل يكون ذلك كافيًا لنجاحنا وارتقائنا ومجاراتنا للأمم العزيزة القوية؟ كلا , إننا نرى أهل هذا المكان أبعد الناس عن معرفة أحوال الأمم التي تنازع المسلمين البقاء , وهذه المعرفة هي التي تنفخ روح الغيرة في النفوس , وتبعث العارفين على المنافسة والمباراة لا سيما إذا أخذت على الوجه العملي المفيد , بل إننا نراهم أبعد الناس عن الأعمال النافعة لأشخاصهم والمقومة لحياتهم , وليس هذا عن زهد اختياري يقصدون به التقرب إلى الله - تعالى - فإنهم يتهافتون على الرغيف، ولو أن أميرًا أو غنيًّا صاح بهم أن اخرجوا من هذا المكان إلى عمل كذا - وكان العمل مما يخف عليهم - ولكلٍّ منكم علي حق معلوم في كل شهر أدناه ثلاثة جنيهات وأعلاه عشرة كاملة، لما بقي في الأزهر من الثمانية آلاف ثمانون رجلاً. يتناقل الناس في غير هذا القطر عن أهل مصر أنهم يحتقرون طلاب العلم في الأزهر الشريف , وأن لفظ (مجاور) يكاد يكون عندهم من ألفاظ السخرية والشتم , وقد وجدنا لما كنا نسمعه أصلاً , وإننا نقر من يغمز المصريين بهذا على غميزتهم , ولكننا لا نغفل عن العلة الحقيقية في ذلك وهي أن أكثر المجاورين لا يكرمون أنفسهم (ومن لم يكرم نفسه لا يكرّم) وليس بيان هذا من موضوعنا الآن فنرجئه لفرصة أخرى , وأذكر ههنا مثالاً في التعليم النافع نقله المقتطف الأغر عن الجرائد الأميركية , وهو أن عبدًا أسود اسمه (بوكر واشنطون) كان خادمًا ثم تعلم , ثم أنشأ مدرسة للعلوم والصنائع بجِّده وكده , وهاك مجمل خبره تحت هذا العنوان الذي يليق به , وهو: هل يوجد في مصر أمير كهذا العبد الأسود كان بوكر واشنطون أولاً في خدمة امرأة فاضلة فرأت رغبته في تعلم القراءة فجعلت تُعلمه في دقائق الفراغ من الخدمة , وسمع يومًا أن الجنرال أرمسترنغ أنشأ مدرسةً في مدينة اسمها همتون يتعلم فيها أولاد السود، ويعملون فيكتسبون ما يقوم بنفقات تعليمهم. قال: (ولما سمعت ذلك عزمت على الذهاب إلى هذه المدرسة , ولم يكن معي شيء من النقود , ولا كنت أعرف الطريق إليها فقمت من ساعتي وجعلت أستدل على الطريق وأستعطي أو أعمل لكي أكتسب ما أسد به الرمق , فإذا اكتسبت فوق ذلك دفعت أجرة سكة الحديد , وإلا مضيت ماشيًا , وبلغت مدينة رتشمند ليلاً , ولم يكن معي شيء من النقود , ورأيت ألواحًا مبسوطة في شارع وتحتها حفرة , فانتظرت حتى انقطعت رجل السابلة من ذلك المكان ودخلت تحت الألواح ونمت تلك الليلة ولحسن بختي وجدت عملاً في اليوم التالي في تفريغ شحن سفينة , ودام هذا العمل عدة أيام , وكنت آتي كل ليلة وأنام تحت تلك الألواح , فوفرت من أجرتي ما دفعت من أجرة سفري إلى همتن وبقي معي نصف ريال) . ولما وصل إلى المدرسة ورأى أساتذتها حالته الزرية أعطوه مكنسة , وبعثوه إلى غرفة وأمروه أن يكنسها أربع مرات متوالية , ولما رأوا منه ذلك قبلوه في مدرستهم. قال: وهذا كان الامتحان الذي امتحنوني به فدخلت المدرسة , ورأيت فيها وفي مدينة همتن من أسباب التعليم والتهذيب ووسائل النجاح والفلاح ما أيقظ كل قوى نفسي , وجعلني أشعر بأني مولود لأكون إنسانًا لا لأكون من بعض المقتنيات , وعزمت أن أمضي إلى الولايات الجنوبية التي يقيم فيها السود حالما تتم دروسي , وأبذل جهدي في إنشاء شيء لقومي يستفيدون منه كما استفدت أنا من مدرسة همتن , ولما أتيح لي ذلك مضيت إلى بلدة تسكجي في ولاية ألاباما , وجمعت ثلاثين ولدًا كنت أعلمهم في كوخ صغير , ولم يكن لهذه المدرسة ما قيمته ريال واحد من العقار لكن الرغبة في السعي , والسعي في الكسب خوَّلاني إنشاء مدرسة كبيرة للعلوم والصنائع فيها الآن ثمانٍ وثلاثون دارًا وألف تلميذ. وكثيرًا ما يسألني البعض عن الغرض من جمع المال لهذه المدرسة فأجيب أن في الولايات الجنوبية الأميركية عشرة ملايين من السود أبناء جنسي , وهم يحتاجون إلى المأكل والمشرب والمأوى , ويحتاجون أيضًا إلى التعليم والتهذيب وإلى تربية الأخلاق التي تتخلق بها الشعوب المرتقية , ولا يسهل الوصول إلى هؤلاء الملايين إلا بأن نرسل إليهم أناسًا من نخبة الرجال والنساء المتعلمين المتهذبين الذين تدربت عقولهم على الشفقة , فيسكنوا بينهم ويعلموهم ويهذبوهم , والغرض من المدرسة التي أنشأتها إنما هو إعداد هؤلاء الرجال والنساء لهذا العمل العظيم. قال المستر ثرشر الذي نقلنا عنه هذه الحقائق: لما أتيت تسكجي أول مرة مررت في ولاية جورجيا , وكان معي في القطار رجل يستدل من كلامه على أنه كان قائدًا في جيش الولايات المتحدة وقت حرب الحرية فسألني عن الجهة التي أنا ذاهب إليها فقلت له: إني ذاهب إلى تسكجي لأحضر مؤتمر السود , فقال: (أظنك تقابل بوكر وشنطون هناك لقد اهتدى هذا الرجل إلى السبيل الذي يفيد به أبناء جلدته , فإنه يعلّم السود العلم , ويا حبذا لو كان في الولايات الجنوبية ألف رجل مثله) ثم علمت بعد ذلك أن الرجل الذي كان يكلمني من أصحاب الثروة في تلك البلاد. وفي اليوم التالي بعد المؤتمر قابلني رجل من السود وقال لي: ألست أنت فلانًا؟ أو لم تكن في معرض شيكاغو؟ فقلت: بلى، ومن أنت؟ فقال: ألا تتذكر أنك رأيتني في المعرض أعمل في المكان الفلاني؟ فقلت: بلى إني أتذكرك الآن , وما أتى بك إلى هنا؟ فقال: ذهبت في السنة التالية إلى معرض أتلنتا وسمعت المستر وشنطون هناك يتكلم عن مدرسته التي يتعلم فيها أولاد السود الصنائع، وأنا في صناعتي نجار , ولكنني لا أعرف حرفة النجارة فأتيت إلى هنا لكي أتعلمها , وقد كدت أتقنها الآن , ومتى أتقنتها سهل علي الكسب. قال الكاتب: ولما أردت العودة من تسكجي دخلت مركبة البريد لأضع كتابًا فيها , وكان على غلافه اسم مدرسة تسكجي فلما رآه كاتب البريد قال لي: (إن بوكر وشنطون رئيس هذه المدرسة رجل عجيب فإني لم أره قط ولكني أعلم أنه يعلّم الناس العمل) وكنت كيفما التفتُّ أرى الشهادات تتكرر على نفع العمل الذي قام به هذا الرجل , وأي عمل أنفع من أن تعلم الرجال والنساء مبادئ العلوم والفنون , وتجعلهم يقرنون العلم بالعمل , ولا تضطرهم إلى دفع درهم بل تكسبهم من عملهم ما يقوم بنفقاتهم ونفقات تعليمهم. قلنا: إن في مدرسة تسكجي ثمانيًا وثلاثين دارًا: الثلاث الأولى منها وهي أصغرها بنيت قبلما دخلها التلامذة , والخمس والثلاثون الباقية بناها التلامذة أنفسهم فهم كانوا يصنعون الآجُرَّ (الطوب المشوي) ويشوونه بإرشاد معلمين ماهرين في هذه الصناعة , ولم يكتفوا بعمل الآجر اللازم لهذه المباني , بل عملوا كثيرًا منه وباعوه للغير , وقد وصف المستر واشنطون هذا كيفية إقدامه على قرن العلم بالعمل في محفل حافل قال: (بعد أن مضى علي مدة في تسكجي رأيت كأن تعبي ضائع سدًى؛ لأنني كنت أقتصر على تعليم الطلبة ما في الكتب من غير أن أعلمهم كيف يعتنون بأنفسهم وبمن لهم , ثم وقعت عيني على أرض قرب تسكجي وددت أن أشتريها , ولم يكن معي ثمنها فقرضني واحد مائة ريال اشتريتها بها , ونقلت المدرسة إليها , وكنت أعلم التلامذة جانبًا من النهار , وأخرج معهم في الجانب الآخر منه نقطع الأشجار من تلك الأرض ونمدها , ولما عملنا الآجر لم أكن أعلم كيف يشوى , ولم يكن معي ما أدفعه أجرة لصانع ماهر في شيِّه فأخذت ساعتي ورهنتها على نقود استأجرت بها الصانع , فعلمنا كيفية شيِّه , ولم أستفِكَّ هذه الساعة حتى الآن مع أننا بنينا ثمانية وثلاثين بناءً كبيرًا بما تعلمناه منها) . والتلامذة في هذه المدرسة أو المدارس يتعلمون الآجر والبناء والنجارة على اختلاف فروعها , وفيها الآن معامل كبيرة مجهزة بكل ما يلزم لها من الآلات والأدوات , وأكثر ما فيها من مكاتب وكراسي وأسرّة صنعه التلاميذ أنفسهم في هذه المعامل , وصنعوا أيضا مركبات النقل على أنواعها , والبناء دائم هناك حتى يكون للتلامذة عمل يعملونه , وقد بنوا كنيسة كبيرة في العام الماضي تسع ألف نفس رسمها واحد من الأساتذة , وهو مدرّس المباني الهندسية , ورسم أطنافها واحد من التلامذة , ومقاعدها تلميذ آخر , والتلامذة هم الذين وضعوا الحديد على سقفها , ووضعوا فيها آلة بخارية لتدفئتها , وآلة كهربائية لإنارتها. ويتعلم التلامذة تصليح الآلات على أنواعها , ولا سيما الآلات الزراعية , وفي المدرسة معمل كبير لذلك , وهم يصلحون فيه آلات كثيرة لأهالي البلاد المجاورة , ويتعلمون أيضًا الحدادة والطباعة والخياطة والتصوير , ويتعلم البنات الأعمال الخاصة بالنساء كالطبخ والغسل والخياطة وعمل البرانيط , ويتعلم بعضهن تمريض المرضى. ومن أهم ما يتعلمه التلامذة ويمارسونه علم الفلاحة , وكل الأساليب العلمية المتبعة الآن حيث صارت الزراعة على أرقاها , وأساتذتهم من أمهر الأساتذة في هذا الفن , وعندهم كثير من البقر الحلوبة , وهم يستخرجون الزبدة من لبنها , ويصنعون منه الجبن. ذكر المستر وشنطون حادثةً جرت لأحد تلامذته قال: أعلن أصحاب معمل من معامل الزبدة أنهم يحتاجون إلى مدير لمعملهم وكان في مدرستنا شاب أتقن استخراج الزبدة , وأتم دروسه في المدرسة , فمضى إلى هذا المعمل وعرض نفسه على أصحابه , فلما نظروا إليه قالوا له: لا يمكننا أن نستخدم رجلاً أسود , فقال لهم: إنني لم آتكم لتستخدموا لوني , بل معارفي، فجربوني واحكموا، فنظروا في الأمر قليلاً ثم قالوا له: ابق عندنا أسبوعين , ولكن يجب أن تعلم من الآن أننا لا نريد أن نستخدم رجلاً أسود , فأقام عندهم الأسبوع الأول , ولما عرضت زبدتهم في الس

السنوسي وأتباعه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السنوسي وأتباعه إن اهتمام أوربا بالشيخ محمد المهدي السنوسي وأتباعه قد جعل له شأنًا كبيرًا في جميع العالم الإسلامي , وقد نشرت جريدة (دي كولوني) الألمانية كلامًا عن عالم ألماني خبير بأحوال أفريقيا عامةً والسنوسيين خاصةً، أثبت فيه أن عددهم يبلغ تسعة ملايين، وأن في وسعهم إنفاذ جيش إلى مصر والسودان مؤلف من خمسمائة ألف مقاتل، وذكر مجملاً نافعًا من تاريخهم عربته جريدة المؤيد عن جريدة الميوريال وهو: إن طريقة السنوسية مهمة جدًّا من حيث انتشارها السياسي في أفريقية ومن حيث الكفاح القائم بين الديانتين الإسلامية والمسيحية في هذه القارة , وقد أنشئت هذه الطريقة منذ خمسين عامًا تقريبًا أي في عام 1855 بواحة جغبوب وواضع أساسها هو الشيخ محمد بن علي السنوسي المولود في عام 1819 على حدود الجزائر المتاخمة لمراكش وفي سنة 1830 بارح مسقط رأسه مشتعلاً بنار الضغينة على الفرنسويين الذين كانوا استولوا وقتئذ على تلك البلاد , ثم قضى بضع سنوات بين مصر ومكة مدرسًا علوم الدين إلى أن حط الرحال في واحة جغبوب سنة 1855 وفيها لبث زمانًا طويلاً يلقي تلك الدروس على الطلاب العديدين الذين نسلوا إليه من كل حدب وصوب على إثر اشتهاره بالتقوى والصلاح ورسوخ القدم في العلم , ثم أنشأ المذهب الذي أصبح اليوم أقوى وأهم المذاهب الإسلامية في العالم والغرض منه تنقية القواعد الدينية مما عراها من شوائب البدع والتصرفات السيئة فيه وإرجاعها إلى بساطتها الأولى وتوطيد سيطرة الدين ونفوذه في جميع البلاد التي كانت تابعة لحكومات إسلامية , ثم سقطت بيد المسيحيين. وللمذهب نظام متين وترتيبات مرعية فالإخوان فيه يتعاهدون على حفظ أسرار أعمالهم وصيانتها صيانة مطلقة , وعلى الطاعة العمياء لما يقرره الرئيس أو الشيخ من الأوامر أو النواهي , وعلى الدقة في مراعاة قواعد الدين والعمل بها. وليس للإخوان لباس خصوصي يتعارفون به , ولكن لهم رموزًا وإشارات يسهل عليهم بها معرفة بعضهم البعض , ومن أخص ما يمنعون استعماله شرب الدخان وتناول القهوة , ومن مبادئ المذهب التي يبالغ رجاله في رعايتها والعمل بها إنشاء المساجد والزوايا وإلى جانبها المدارس في البلاد المتوحشة أو التي تلمَّس أهلها طريق المدنية , فيعلمون الأطفال فيها القراءة والكتابة والحساب , ويوقفونهم على طريقة زراعة النخل وشجر الزيتون , وبهذه المعاملة الحسنة أصبح للحزب السنوسي نصراء في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وبواسطة هؤلاء النصراء العديدين صار في سعة الشيخ أو الرئيس أن يقف على أخبار الأصقاع السحيقة والبلاد القصية أو يبلغ أوامره وأخباره إليها في الوقت القصير وعلى إثر وفاة مؤسس المذهب في سنة 1858 خلفه ابنه سيدي المهدي محمد بن محمد علي السنوسي وكان وقتئذ فتًى فتيًّا , وهو إلى اليوم رئيس المذهب الذي أصبح على عهده واسع النطاق منتشرًا في الآفاق، وإشارة منه تكفي الآن لإزالة الشحناء والخصومة بين سلطانين من سلاطين أفريقية إذا قام بينهم الشقاق واستحكم الخلاف لأمر من الأمور. ومن الأمور التي لا ريب ولا خلاف فيها أنه إذا جاء يوم أمر فيه بالجهاد وإثارة الحرب الدينية اهتزت لصوته أركان العالم الإسلامي التي تترامى حدوده في أفريقية إلى مصر شرقًا، والكونغو جنوبًا حتى بحيرة شاد , ومراكش غربًا , وعليه يكون حزب السنوسي قد صار قوةً من القوى السياسية التي ينبغي على كل دولة من دول أوربا أن تعمل لها حسابًا. وقد اشتهر سيدي المهدي محمد بالتناهي في التقوى والصلاح ورعاية أمور الدين , والتقشف في المعيشة , وهو دائب السعي على توفير أسباب الوئام والاتفاق بين الأقوام والشعوب الأفريقية رغبة منه في توثيق العلائق التجارية بينها , وترقية الصناعة والزراعة , ومما زاده رفعة , وضاعف سيطرته ونفوذه بين أولئك الأقوام حقده الشديد على الدخلاء الأوربيين في البلاد الإسلامية. وليس بصحيح من أن له جيشًا عظيمًا دائميًّا ودارًا لصناعة الأدوات والذخائر الحربية , وغاية الأمر أن حوله جماعة من أرقائه مسلحون على الدوام , ولكن هذا لا يمنع من أن جميع الإخوان في المذهب مسلحون بأسلحة جيدة ومستعدون لتضحية حياتهم بمجرد إشارة منه , وقد انتقل الحقد على الفرنسويين في الجزائر من نفس السنوسي مؤسس المذهب إلى نفس ابنه الرئيس الحالي , وسرت هذه الروح في جميع أفراد الحزب بحيث أن السبب الطفيف يكفي لحصول القتال الشديد إذا زحف الفرنسويون على قبائل الطوارق (الملثمين) أو تقدموا نحو بحيرة شاد من الشمال. وقد أدرك الفرنسويون خطر موقفهم بإزاء السنوسيين فحاولوا مرارًا عديدة أن يجتذبوهم إليهم ويستدنوهم من فرنسا ولكن ذهبت مساعيهم في هذا السبيل أدراج الرياح , وهذا خلاف ما حصل لجلالة السلطان عبد الحميد فإنه تمكن من استجلاب خواطر السنوسيين إليه , وكسب مودتهم , وإن كان يعلم أن نظاماتهم وقوانينهم لا تعترف بجلالته خليفة للإسلام. وقد بارح الشيخ السنوسي في عام 1896 جهة جغبوب قاصدًا واحة كوفره الواقعة على مسيرة 12 يومًا منها في وسط صحراء ليبيا واستصحب معه أكابر العلماء وزعماء الحزب وأخذ المكتبة الكبرى التابعة لهذا الحزب. ولما بلغ الشيخ السنوسي خبر انمحاق المهدوية في السودان سار قاصدًا بلدة جورون على مسيرة 12 يومًا من الجنوب الغربي لكوفره حيث قبائل بني سليمان والمحاميد من أعظم أنصاره وأشد الناس تعلقًا به , وقد أفادت الأخبار الأخيرة أنه انتقل من ذلك المكان في أوائل مارس الماضي قاصدًا عين كلاكه على مسيرة ستة أيام منه , وربما اتخذها مقرًّا له ومركزًا تنبعث منه أشعة سيطرته ونفوذه إلى جميع الأرجاء وسوف يرى الجيل المقبل ويسمع من أخبار هذا الحزب ما لا يخطر له الآن على بال) اهـ.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثانى الأرمن وفتنتهم (تابع ويتبع) يوجد الآن (أي وقت تأليف الرسالة) حزب أرمني للفتنة يعيث في بعض جهات المملكة العثمانية وقد أضر ضررًا بليغًا بعمل المبعوثين الدينيين في تلك الجهات , وبجميع المسيحيين الذين يقطنونها , وهو جمعية سرية يبذل رجالها في إدارة شئونها حذقهم في المكر والخديعة اللذين لا يعرفان إلا في الشرق. نشرت هذه الجمعية رسالة ضافية في جميع الأرجاء أنقل لك منها هذا الإعلان الذي جاء في ختامها وهو: (هذا هو الحزب الأرمني المتولي وحده زعامة الفتنة في أرمينيا، ومركزه أثينا وله فروع في كل قرية ومدينة من أرمينيا وفي الجهات التي يقطنها نزلاء الأرمن , ويوجد في أمريكا أحد مؤسسيه، وهو نيشان جرابيديان ومن أراد أن يعلم من أمور الحزب أكثر مما قلناه فليكاتبه هناك بهذا العنوان (نيشان جرابيديان بشارع الصهريج نمرة 15 في مدينة ورستر التابعة لماس) ومن شاء أن يستعلم من المركز فليكتب إليه بهذا العنوان: (المسيو بنفارد في أثينا من بلاد اليونان بريد مقيم) . وقد أكد لي أرمني في غاية الذكاء وحسن التربية يحسن التكلم باللغتين الإنكليزية والأرمنية وهو من أنصار الفتنة الفصحاء أن قلوبهم متعلقة بأقوى الآمال في تمهيد الطريق لروسيا لتدخل آسيا الصغرى وتملكها , ولما سألته: كيف يحصل ذلك؟ أجابني بأن تلك العصابات الهونشاجية التي تألفت في جميع أنحاء المملكة سينتهزون كل فرصة لقتل الأتراك والأكراد ما أمكنهم ذلك ويحرقون قراهم , ثم يعتصمون في الجبال وإذ ذاك تهيج بالمسلمين ثورة الغضب فينقضون على الأرمن وهم عزل ويوسعونهم تذبيحًا وحشيًّا يدفع روسيا إلى الدخول باسم الإنسانية، والتمدن المسيحي فتملك البلاد. ولما قبحت له هذا المقصد , وقلت: إنه بالغ من الفظاعة والبشاعة الجهنمية حدًّا لم يبلغه غيره من قبله؛ أجابني وهو هادئ البال بقوله: لا شك في أنك تخاله كذلك , ولكنا معشر الأرمن قد صممنا على أن نكون أحرارًا فلقد أصغت أوربا إلى ما ذاع من فظائع بلغاريا وأنالتها استقلالها وهي ستسمع نداءنا متى ارتفع إلى عنان السماء في صراخ من النساء والأطفال وانهمار دمائهم , فلججت في نصحه قائلاً: إن هذا العمل سيجعل اسم أرمني ممقوتًا عند جميع الأمم المتمدنة , فلم أفلح لأنه أجابني قائلاً: إننا يائسون , ولا بد لنا من إنفاذه، فقلت له: لكن أمتكم لا تود أن تكون تحت حماية روسيا وتفضل حكم تركيا - وإن ساء - على حكمها؛ فإن بلاد روسيا متاخمة لبلاد الدولة العثمانية في مئات من الأميال , والهجرة من هذه إلى تلك متيسرة في جميع القرون التي حكم فيها المسلمون بلاد تركيا , فلو كانت أمتكم تفضل الحكومة الروسية لما وجد في المملكة العثمانية الآن ولا بيت أرمني واحد , فكان جوابه على ذلك أن قال: نعم , ومن أجل هذا الحمق ينبغي أن يقاسي الأرمن العذاب الأليم. وقد تحادثت مع أرمنيين آخرين في شأن الفتنة فكانوا يجاهرون بهذه الأمور , إلا أنه لم يعترف لي واحد منهم بأنه من أعضاء ذلك الحزب ولا جرم , فحيث يكون القتل وإحراق البيوت يتبرر الكذب , ويجوز الزور والبهتان. ومن مقاصد الحزب المذكور في تركيا أن يهيج الأتراك على دعاة البروتستانت وعلى الأرمن الآخذين بمذهبهم فجميع المشاغب التي حصلت في مرسوان كان سببها دسائس رجاله فإنهم ماكرون غلاظ القلوب لا رعاية للحق عندهم , وهم يرهبون إخوانهم ويتوعدونهم بالقتل إن لم يدفعوا لهم ما يفرضونه عليهم من المساعدات المالية , وكثيرًا ما أنجزوا هذا الوعيد. لا أذكر من قبائح ذلك الحزب الهونشاجي الثائر إلا يسيرًا مع غاية الاعتدال في البيان , فهو روسي الأصل يديره ذهب روسيا ودهاؤها , فليمقته المبعوثون الوطنيون والأجانب , وليذيعوا شنائعه , وليفعل ذلك الأرمن البروتستانت بإقدام وجراءة فإنه يحاول الدخول في يوم الأحد من كل أسبوع في المدارس الدينية؛ ليغش الجهال البسطاء ويخدعهم حتى يكونوا أعوانًا لتنفيذ مآرب ذلك الدهاء الروسي؛ من أجل ذلك يجب علينا - يعني الأميريكيين - مع مصافاتنا للأرمن أن نبتعد كل الابتعاد عن كل فعل يفهم منه أننا مشايعون للثائرين , ومستحسنون لهذه الفتنة التي يلزم أن يمقتها الجميع , ونحن وإن كنا نعترف بجواز أن من اتبعوا الثوار الهونشاجيين من الأرمن لم يتبعوهم إلا لجهلهم مقصدهم الحقيقي ومآربهم السيئة مدفوعين إلى ذلك بمحبتهم لوطنهم , ويؤثر فينا ما يقاسونه من الشدائد في بلادهم بسبب الفتنة؛ ينبغي علينا أن لا نتداخل في هذه المساعي المخفقة التي يقارنها القضاء على البعثات البروتستانتية , وتدمير الكنائس والمدارس , وكل آثار الإنجيل تدميرًا عامًّا يسعى فيه ذوو الغايات والدسائس سعيًا حثيثًا , فليحذر دعاة المسيحية - الوطنيون والأجانب - الاتحاد مع الهونشاجيين أو بذل أي مساعدة لهم. تحرر في ليكزينجتون يوم 23 ديسمبر إيروس هملن (لها بقية) *** تعزية أعزي نفسي وسيدي ومولاي الوالد وسائر أسرتي وأسرة بني الميقاتي وبني ياسين بوفاة صهرنا ونسيبهم الشهم الهمام محمد أغا ياسين المشهور بالكرم والسخاء والمروءة وبذل المعروف. توفاه الله في عاشر المحرم المنصرم. تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته. *** من إدارة المجلة قد فصل حضرة عبد الحليم أفندي حلمي مدير أشغال المجلة من إدارتها , ولم تبق له بها علاقة ما، فينبغي أن لا يخاطب بشيء من شئونها بعد اليوم. ((يتبع بمقال تالٍ))

الحركة الإسلامية الحاضرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحركة الإسلامية الحاضرة أتى على الأمة الإسلامية حين من الدهر , وهي في سكون وهمود ونوم مستغرق حسبته الأمم الحية موتًا؛ فطفقت تتنازع على تراثها واقتسام بلادها , ولم تقنع بأخذ البلاد وما فيها من الخيرات والبركات , بل حاولت الانتفاع بهذا الجسم الكبير الذي فقد الحياة الاجتماعية كما تنتفع بالأحجار والآلات والأدوات , بل طمعت في سلخ جلده لتتخذ منه القفازان لأيدي السيدات الناعمات لما فيه من المشاكلة والمناسبة , وحاولت سحق عظامه لأجل تصفية السكر في معاملها , أو لتدخله في مادة الطعام المسمى (المكرونة) وما كان هذا بدعًا في نظام الخليقة , ولا غريبًا في تاريخ الأمم , فإن انتفاع الإنسان بسائر المخلوقات حتى ما كان على شكل الإنسان وابتلاع القوي للضعيف وتحلل الميت ثم دخوله في بنية الحي؛ كل ذلك معهود ومشهود في كل زمان ومكان. نقب في الولايات المتحدة الأميركية التي هي زينة الدنيا هل تحس فيها أحدًا من سكانها الأولين أو تسمع لهم ركزًا؟ كلا إنهم أدغموا في بنية الأمة الحية المستعمرة كما أدغم الرومانيون والمصريون في بنية الأمة العربية عندما استعمرت بلادهم من قبل {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) . إلا أن الأمة الإسلامية لم تصل في الضعف إلى ما كان عليه هنود أميركا عند دخول الأوربيين بلادهم , وليست النسبة بينها وبين الطامعين فيها كالنسبة التي كانت بينها وبين الرومانيين وغيرهم من قبل , فإن القوة التي سادت بها على جميع الأمم في أوائل نشأتها إنما هي قوة الإصلاح السماوي الذي كان البشر كلهم في أشد الحاجة إليه؛ لما كان عليه جميع الأمم من الفساد , وقد ترك المسلمون في هذه الأزمنة أكثر قواعد ذلك الإصلاح , وأخذت الأمم الغربية منها ما استعلت به على المسلمين الذين أخذته هي عنهم واقتبسته من أنوار علومهم. وما يحتاج المسلمون الآن إلا إلى التفاتة واحدة إلى ما كان عليه سلفهم مع ملاحظة أن سعادتهم كانت فيه وشقاوتهم بتركه , فيعودوا إليه مسارعين ويستتبع هذا مجاراة الغربيين في جميع علوم الدنيا وفنونها والقوى الآلية الناشئة عنها وتدحض حجة الأوربيين القائلين: إنهم إنما يعتدون عليها لأنها عدوة المدنية الحاضرة , ولا يحاولون إلا تحليتها بهذه المدنية حبًّا بالإنسانية. قلنا: إن الأمم الحية حسبت الأمة الإسلامية ميتة فتحاملن عليها تحاملاً شديدًا وتصرفن فيها كما يتصرفن بالجمادات، وبينَا هن وادعات ساكنات غارَّات آمنات لا يحسبن لحياة هذا الجسم الذي بين أيديهن حسابًا، إذا به قد اختلج بعض أعضائه وتحرك لسانه بالتأوه والصياح؛ فاضطربن لحركته اضطرابًا عظيمًا , وعلمن أن فيه رمقًا من الحياة , وأمسين في خوف وحذر من سريان الحركة في جميع الأعضاء , ثم نهوض الجسم كله ومنازعته إياهن الحياة والبقاء كما هو شأن جميع الأحياء وطفقن يتساءلن عن السبب في هذه الحركة , وعن الطريقة المثلى لإبطالها , فكثرت الآراء وتعددت الأقوال , وصرحت جريدة التيمس الشهيرة من عهد قريب بأن السبب في هذه الحركة الإسلامية هو شدة تحامل الأوربيين على المسلمين , وذكرت من الجزئيات في هذا مقالات هانوتو الأخيرة , والرسالة التي نشرها القسيسون في مصر وسموها (أيهما المسيح أم محمد) وجعلت العذر للمسلمين في ذلك وكل الأوربيين يخشون أن تكون نتيجة هذه الحركة قيام المسلمين على الأوربيين والمسيحيين عمومًا , وهو وهم بعيد وخطأ لا يحوم حول الصواب. وما تلك الحركة والصيحة إلا حركة النائم المستغرق نُخس ولُكز؛ فتحرك وصاح ثم مضى في نومه , ولكنه كان في هبوغ وتسبيخ (هو أشد النوم) فصار في طور الكرى والغمض (أي بين النائم واليقظان) ومن كان هذا شأنه فهو قريب من اليقظة والانتباه , ولا شك أن قليلاً من الضغط السابق ونزرًا من مثل التحامل الماضي يوقظان هذه الأمة في وقت قريب. ولذلك أشارت جريدة التيمس بوجوب كف الأوربيين عن التعرض لدين المسلمين وقالت: إنهم إذا عادوا بعد ذلك للكلام في الجامعة الإسلامية ومزج السياسة بالدين فلا عذر لهم , وتعلم التيمس كما يعلم جميع ساسة أوربا وعلمائها أن المسلمين لا جامعة لهم ولا جنسية إلا في دينهم فإذا انحلت الرابطة الدينية فليس لهم رابطة تقوم مقامها , ويستحيل أن تنجح أمة بل توجد بدون رابطة عامة يرتبط بها جميع أفرادها , وتكون لها المكانة العليا من نفوسهم , وإن فريقًا من الذين تربوا في مدارس الأوربيين وما على شاكلتها وأشربت قلوبهم عظمتهم ومدنيتهم قد حاولوا أن يقنعوا المسلمين بأن نجاحهم وسعادتهم في (الرابطة الوطنية) وأن خيبتهم وشقاءهم في الرابطة الملية التي يطلقون عليها عند الذم لفظ (التعصب الديني) ولكنهم ما نجحوا في إرشادهم أو إغوائهم هذا , ولا ينجحون مهما كتبوا وخطبوا؛ لأن غير المسلم منهم لا يلتفت لقوله المسلمون , ومن عساه يوجد منهم مسلمًا فهو على غير بينة مما يدعو إليه أو من الذين إذا سموا الوطنية (أشرف الروابط) يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم , وقد قلنا ولا نزال نقول: إن الفائدة الحقيقية من هذا الشيء الذي يسمونه وطنية هي أن يعيش أبناء الأديان المختلفة في كل بلاد بالمجاملة والمسالمة والتعاون على ترقية بلادهم , وهذه الفائدة لا توجد على كمالها إلا في الإسلام , ولا يمكن لأحد أن يقنع المسلمين بها على أنها وطنية شريفة ويمكن لكل أحد أن يشربها قلوبهم باسم الدين إشرابًا. فليهدأ روع ساسة أوربا وجرائدها، فما على المسيحيين في بلاد الإسلام من سبيل , وليس المقصود من الحركة الإسلامية إلا أن تجاري الأمة سائر الأمم الحية في ميدان الحياة فتعلم كما يتعلمون , وتعمل كما يعملون , وتكتسب كما يكتسبون , وتقتصد كما يقتصدون , ثم تحفظ استقلالها كما يحفظون. وإن تعجب فمن العجب العجاب أن جسم الأمة الإسلامية لم يشعر كله بهذه الحركة التي حدثت فيه وأكبَرَ أمرَها الأوربيون , ولم ينس الناس تلك المحاورة بين أحد مشايخ الأزهر وأحد المجاورين فيه وكيف رد الشيخ على المجاور قوله في فوائد علم تقويم البلدان والتاريخ. إن بعض عقلاء المسلمين وفضلائهم يسعون في هذه الأيام بتنبيه المسلمين لجمع كلمتهم واتحادهم , ولابد في هذا من معرفة أهل كل قطر منهم أحوال الأقطار الإسلامية الأخرى , وهذا من علم تقويم البلدان والتاريخ. وما كان رد الشيخ على هذا إلا أن قال: إنه لا يسلم أن أحدًا يسعى فيما ذكر , وأنه هو لم يسمع بهذا إلا في ذلك اليوم من ذلك المجاور! ! ! فكأنه لم يقرأ المؤيد ولا جريدة أخرى من الجرائد الإسلامية بل وغير الإسلامية قبل ذلك اليوم , وكأن هذه المسألة نظرية من النظريات الفكرية فيكفي في منعها قوله: لا نسلم! ! ويقول العقلاء: إنه لا وسيلة لتعميم هذه الحركة الإسلامية وتقويتها إلا استمرار أوربا على الضغط على المسلمين لا سيما من الوجهة الدينية كمحاولة منع الحج , وتقدم القول بأن بعض الأوربيين تنبهوا لهذا الأمر , ولا ندري ماذا تكون عاقبته , والله بكل شيء عليم.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (باب الولد من الكتاب) (8) من أراسم إلى هيلانة في 15 يونيه سنة - 185: لا سبب لانقطاع رسائلي عنك إلا ترقبي فرصة تمكنني من ايصالها إليك , وقد تلقيت مكاتيبك الأخيرة فأخذ ما ذكرتِه فيها عن (أميل) بمجامع لبي وبعث فيّ دواعي الحنان والرحمة , ولم أكن إلى الآن أعرف شيئًا من ذلك في حياتي التي قضيتها في دراسة العلم ومناظرة الحكماء ومقارعة خطوب الدهر , ولا غرو فإني ولدت مستعدًّا للأبوة وأود لو أرى ولدي ولو بذلت في سبيل ذلك جميع ما أملكه من الحطام , وإني مخبرك بأمر وإن كان لا ينبغي مكاشفتك به , وهو أني كنت عزمت عدة مرات على دعوتك إلى الحضور إليَّ به على ما بيننا من البحار الزاخرة والمسافات الشاسعة لعلمي بأن ما فيك من الإقدام ورباطة الجأش تتضاءل دونه العوائق فلا يثنيك منها شيء عن تلبية دعوتي , وكأني بك بعد هذا تسألينني عن السبب الذي منعني من هذه الدعوة ولا يزال يمنعني منها، فأقول: إنني قلت في نفسي: ألا يكون من الأثرة أن أخمل بسجني ذاتين هما من أحب الناس إلي وأخفض من حالهما؟ فبأي حق أستلب من هذا الطفل غرارته وغفلته وبواكير سروره وابتهاجه بإلصاقه بي في محنتي التي خصني بها القدر؟ معاذ الله أن يكون مني ذلك , فليشب وليترعرع حرًّا مغتبطًا في جناح والدته وكنفها. أراك محقة في اهتمامك بتعرُّف أذواق (أميل) فإن الوالدين في الجملة ينشئان أولادهما على مثالهما في الطباع والأذواق , على أن هذا الأمر هو الذي كان ينبغي اجتنابه لأن الطفل إذا كان ألعوبة في أيدي الكبار المنوطين بسياسته , وآلة تنفعل بمشاربهم وأفكارهم فإنه يعتاد على موافقتهم في جميع الأمور , وهذا هو السبب في ندرة الرجال المستقلين استقلالاً صحيحًا في هذه الأيام , وإننا إذا فتشنا عن العلة في وشك زوال ما فينا من أنواع الاستعداد والقابليات الخاصة والسير الثابتة فربما وجدناها في تربيتنا الأولى فإنها مثار آفاتنا ونقائصنا النفسية. ولنبحث ابتداء في ماهية الطبع فنقول: جرى اصطلاح العلماء بإطلاق هذا اللفظ على مجموع من القوى المؤتلفة التي لا شك في أنها ترجع بأصلها إلى الفطرة , ولكنها على الدوام في تغير وتجدد لأسباب باطنية وظاهرية , فمن الأسباب الباطنية الإرادة فإن لها شيئًا من التأثير في أهوائنا وشهواتنا ومحباتنا , وكأني بسائل يقول: وهل هذه الإرادة نفسها خِلقية أو مكتسبة؟ فأجيبه أنها تجمع الوصفين على ما أعتقد لأنها تكاد تظهر في الطفل بمجرد ولادته، وكلما شب وكبر قويت وتحددت وجهتها بالتدرب عليها والممارسة لها. وأما الأسباب الظاهرية فيكفي أن نمثل لها بالأسرة (العائلة) والتربية والاختلاط بالناس ومعاشرتهم فلو أن الفرنساوي المسيحي ولد في الصين من أب نشأ على آداب كونفوشيوس [1] وتعاليمه؛ لكان مغايرًا لنا في آرائه وسيرته. القوى المؤلف منها طبع الطفل تكون في الأيام التالية لولادته كأنها محجوبة بإدراك مشاعره , وهو وإن كان في هذا الوقت يشعر بوجود ذاته بل إن هذا الشعور قد يكون أحيانًا هو الغالب عليه , لكن ذلك قلما يبدو منه إلا بحركات إرادية وأعني بهذه الحركات ضروب الرعدة والهياج , بل وأنواع الصراخ التي تصدر عنه فإن كل ما من شأنه أن يُوَلِّد ألمًا أو يحدث غضبًا؛ يكون فيه مدعاة إلى ظهور هذه العلامات الخارجية , وكثيرًا ما تبدو منه حركات نخالها مختلفة مغايرة للعقل لعدم تدقيقنا النظر في السبب الذي يحدثها , ولو دققنا النظر لظهر لنا أنها لا تكون منه إلا طلبًا لتحصيل لذة أو تخفيف ألم , ونحن بذلك جاهلون وعنه غافلون , فالغلام الذي في الثانية أو الثالثة من عمره إذا طلب من مربيته شيئًا فمنعته إياه فاستلقى على الأرض وأنشأ يتمرغ وينتف شعر رأسه غيظًا؛ تكون أفعاله هذه معقولة في حقه لأنه يجد فيها بطريق الإلهام شفاء لأعصابه من تهيجها فيتلاشى بها حنقه وتنكسر حدته , وكذلك الشأن في البكاء وغيره من الوسائل التي يزول بها عن أعضاء الجسم ما تجده من الألم بسبب توتر أعصابها. على أن بعض هذه الحركات الغريزية يبقى ملازمًا لنا حتى في زمن الرجولية فإن كثيرًا من الناس من يضرب بيده على جبهته إذا بلغه خبر سيئ , ومنهم من يزغزغ أنفه , ومنهم من إذا جاءت الأمور على غير مراده انبطح فوق فراشه , ومن هذا تعلمين أن أعقل الرجال تصدر عنه غالبًا وهو في شدة انفعاله حركات لا تصدر إلا عن مجنون , وأنا لا أماري في أنه يفقد ما له من السلطان على نفسه في هذه الحالة , ولكني أقول: إن في هذه الأفعال التي تصدر عن غير روية حكمة , وإن كنا لا نرى فيها إلا جنونًا وحمقًا ذلك أن للنفس حالات تقتضي من الجسم أوضاعًا مخصوصة لعلة محجوب عنا علمها , فمن الآلام النفسية ما يميل بنا إلى الهجوع والسكون , ومنها ما يدفعنا إلى المشي والحركة. فكيف السبيل إلى اكتناه علة هذه البواعث الوقتية التي تدفع بعض أعضائنا إلى التحرك عند حدوث شيء من الاضطرابات العقلية؟ لا سبيل لنا إلى ذلك سوى الاعتراف بأن الوصول إلى معرفة هذا السر مما ليس في مقدورنا , وهو سر آخر جدير بالتفتيش عن سببه. أول حرية تجب علينا للطفل هي أن يكون مختارًا في حركاته ومقتضيات غرائزه , وإني كنت كغيري من الناس لا أحب أن أرى ولدًا مسكينًا يحمر وجهه من الغضب , ويبلغ به الانفعال إلى درجة الجنون , ولكني أرى أن الإغضاء على بوادر ذلك الغضب أخف ضررًا من قمعها بالإفراط في التسلط والقهر , فإنه لا شيء أردأ مغبة في الغيظ من إكراه صاحبه على كظمه ولا أسوأ في الطباع ولا أخس في الخلائق مما يقمع دائمًا , ويرغم صاحبه على إخفائه , على أن الطفل سيتعلم في مستقبل أيامه أن من موجبات كرامته أن يملك نفسه عند الغضب ويكف سورة انفعالاته , وأن البكاء وحركات الضجر وخفة الفرح الخارج عن حد الاعتدال مما لا يليق بالرجال قطعًا , بل إنه سيكون كآلاتنا البخارية تحرق ما يتولد من دخانها , ولكنا يجب علينا أن ننتظر في بلوغه هذه الغاية ريثما ينمو عقله وتقوى إرادته. أنا لست أعني بهذا أن يترك الطفل وما يعتوره من الانفعالات لعدم وجود ما من شأنه أن يزيلها , كلا فإن الأطباء قد اخترعوا لعلاج الجنون طريقة سموها التلهية النفسية يمكن اتخاذها في تربية الأطفال على ما أرى , على أنها معروفة للمراضع من زمن لا تاريخ لمبدئه , فقلما توجد واحدة منهن لا تعرف كيف يسكن غضب الطفل بصرف وجهه إلى ما يلهيه ويشغل فكره , ويمكن تعميم العمل بهذه الطريقة فإن من الأطفال الحديثى السن جدًا من يكون لهم شغف بالموسيقى من صغرهم , ومنهم من يسهل إلهاؤهم بمجرد النظر إليهم ومنهم من يجد في رؤية الحيوانات لذة مخصوصة , ومنهم من يجد هذه اللذة في رؤية بعض الأشخاص , فينبغي النظر في هذه الأذواق الخلقية؛ لأن جميعها من الوسائل التي يمكن الاعتماد عليها في تربية الطبع فيهم. أنا لا أعتقد أن في الإنسان خلائق شَرِّيةً محضًا , ولكن يوجد من خلائقه ما إذا غلبت عليه وأسيء تصريفها فإنها ربما تؤدي إلى عواقب وخيمة , فإذا سأل سائل: هل يجب إعدامها؟ أجبته: ليس هذا من رأيى؛ لأننا مع تسليم إمكان الوصول إلى هذه الغاية نكون قد خالفنا مقتضى الفطرة مخالفة ظاهرة , وإنما الذي ينبغي علينا عمله هو معارضة تلك الغرائز بمشارب وأذواق أخرى. إني أجد في نفسي ميلاً إلى اعتقاد أنه لا يوجد طبع - مهما كان فساده - إلا وقد انطوت فيه وسيلة للخلاص منه فلو أن القائمين على التربية حذقوا في التدرع بتلك الوسائل لمكافحة الطباع السيئة ومغالبة الأخلاق الرديئة في الوقت المناسب لذلك؛ لحفظوا على المجتمع الإنساني كثيرًا من أفراده الذين خسرهم خسرانًا مؤبدًا في السجون ومعاهد العقاب بالأشغال الشاقة , ولست أضرب لك تأييدًا لهذا القول إلا مثلاً واحدًا أقتبسه من مذكراتي الخصوصية , حدثني لص أنه انزبق ذات ليلة في ملهى موسيقي فجلس على أحد مقاعده لا ليسمع المغنين؛ بل ليرتقب فرصة تمكنه من سرقة ما عساه يجده في جيوب مجاوريه , فإن هذا الأمر كان مهنة له , ولكنه كان هو المسروق في تلك الليلة لأنه كان ذا كلف بالموسيقى فلم يكن إلا أن سمع أول رنة للكمنجة حتى أحس بأن عقله قد سلب , ولما أنشأت المغنية دويريه تغني صار إلى حالة أسوأ من ذلك لفنائه عن نفسه فيما وجده من اللذة في ذلك اللحن المعروف بلحن الشيطان روبرت الذي في الفصل الخامس من تلك الرواية الغنائية , ويخيل له أن لا يزال يسمع رجع صداه , وجملة القول: إنه نسي الاشتغال بمهنته تلك الليلة , فلما كان مساء اليوم الثاني عاد إلى ذلك الملهى نفسه عاقدًا نيته على أن لا يفتن ببنت البحر [2] ولكنه في هذه النية لم يحسب حساب نزيله الذي بين جنبيه، أعني ميله الفطري إلى سماع الألحان فخرج في هذه الليلة أيضًا ممتلئ الأذنين صفر اليدين , ومن أجل هذه الخيبة أقسم أن لا يعود فيضع قدميه حيث يكون المغنون قائلاً: إنه إن فعل خسر ميله إلى حرفته , وهو قول دال على قحته واجترائه على القبائح. الأهواء الفاسدة في الإنسان هي قوى مستبدة يبعثها نموها الفطري أو المكتسب على أن تملك قياده فتتغلب على ما فيه من ضروب الوجدان أو الأفكار , فمن البديهي أن هذه الأهواء هي التي يجب أن تقاومها التربية من أول النشأة , وهذه المقاومة يصح أن تكون على طريقتين أولادهما الرجوع إلى أنواع التلهية التي تشغل الطفل عنها , وتصرف ذهنه إلى غيرها كما سبق لي بيانه. وثانيتهما - جعله بمعزل عن البواعث الخارجية التي تهيج من غرائزه ما يغلب على الظن أن في تحريكه وبالاً عليه , فإن في بعض الأشياء شيطانًا رجيمًا كما ستعلمين من حادثة جرت في أيقوسيا أقص عليك خبرها لتفهمي ما أريده بالبواعث الخارجية التي تهيج الغرائز. إن امرأة عليها سمة الاحتشام والحياء دخلت أحد حوانيت الطرف , فلما انتقت ما أرادت ابتياعه وحان وقت دفع الثمن , وكان في نحس طالعه كربع ساعة رابليه [3] أخرجت من جيبها ورقة مصرف (بنك) قيمتها خمسة جنيهات إنكليزية , فلما نقدها كاتب الحانوت لم يلبث أن عرف تزيفها , فبهتت المرأة المسكينة وأخرجت له أخرى لكنها لم تكن بأحسن من الأولى , فارتاب الرجل في أمرها , وسلمها إلى الشرطة , ولم يكد التحقيق يأخذ مجراه حتى ظهر أنها كانت خادمة في بيت استوجبت احترام أهله إياها بما لها من حسن السيرة والصدق في الخدمة , وأن الأيقوسي الذي كانت في خدمته كان قبض من أحد معامليه قبل هذه الحادثة ببضع سنين هاتين الورقتين المزيفتين وأخطأ في عدم تمزيقهما لتعاسة حظ هذه المحرومة , وأنها لاعتيادها على دخول حجرته في كل صباح للقيام بمقتضيات الخدمة كانت تراهما مختلطتين بأوراق قديمة , فلم تعبأ بهما كثيرًا أول الأمر , ولكن لما تكرر حضورهما أمام بصرها من يوم إلى يوم , ومن أسبوع إلى آخر , ومن شهر إلى تاليه أنشأت تمعن النظر فيهما وكأن هاتين الورقتين اللتين كانت تخالهما على بِلاهما صحيحتين كانتا ترنوان إليها من طرف خفي وتخدعانها وتفاجئانها بنصائح غريبة , فرفضت بادئ بدء فكرة أخذهما وأبعدتها عن نفسها فراسخ , لكنها لم يبق في وسعها أن تكف النظر عنهما متى وجدت في الغرفة التي هما فيها , ثم إنها في ذات يوم لمستهما بيديها وبسطتهما , وأخذت تقلبهما , ثم ردتهما فورًا إلى أضبارة الأوراق البالية التي كانت فيها كأن فيهما نارًا كانت تحرق أصابعها , وما زال بها هذا الإغراء حتى

التعليم المفيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم المفيد كتبنا في الجزء الماضي من المنار نبذة عنوانها (التعليم النافع) ذيلناها بنبذة أخرى في بيان العمل العظيم الذي قام به أحد العبيد السود في أميركا نقلاً عما عربه المقتطف الأغر عن جرائد تلك البلاد , وقد جاء في جزء آخر من المقتطف مقالة أخرى عنوانها (التعليم المفيد) ذكر فيها ملخصًا من مقالة لذلك العبد الكريم الفعال ومما جاء فيها قوله: (إن من المسائل الكبيرة عندنا تعليم ثمانية ملايين من السود سكان الولايات الجنوبية من أميركا وتهذيبهم وجعلهم مثل غيرهم من السكان , وقد اتسع نطاق هذه المسألة الآن؛ لأنه صار علينا أن نعلم ثمانمائة ألف نفس من السود سكان كوبا وبورتوريكو فضلاً عما يجب من تعليم البيض سكان تينك الجزيرتين؛ لأن كثيرين منهم في حالة يرثى لها مثل السود الساكنين معهم. فإذا أبنت للقراء ما نجح من السعي في تعليم السود في هذه البلاد مدة الثلاثين سنة الأخيرة مع ما لقيناه في ذلك من المصاعب الجمة؛ أكون كأني أنبأتهم بما سينتج من السعي في نشر التعليم والتهذيب في كوبا وبورتوريكو , وإيضاحًا لذلك أقص عليهم القصة التالية: (كان في البلاد المعروفة ببلاد السود أي التي يزيد فيها السود على البيض رجل له أملاك وسيعة وعنده مائتا عبد يحرثون أرضه ويزرعونها , فيكتسب بتعبهم مكاسب وافرة فلما انتهت الحرب الأهلية بتحرير العبيد اضطر أن يحررهم كلهم , لكن الفريق الأكبر منهم بقي في خدمته , أو صاروا يستأجرون الأرض منه ويزرعونها وحدث بعد ذلك أنه كان مارًّا في أرضه ذات يوم فرأى ولدًا صغيرًا من أولاد هؤلاء السود في حالة يرثى لها من الجوع والعري فرمى إليه قطعة من النقود , ورآه بعد ذلك مرارًا فكان يرق له ويرمي إليه قرشًا، أو نصف قرش , واتفق أن هذا الولد واسمه وليم سمع أن في تسكجى مدرسة يتعلم فيها أولاد السود مبادئ العلوم والفنون بتعبهم أي أنهم يعملون ويتعلمون , فتوسل إلى رفاقه أن يساعدوه على الذهاب إليها فجمعوا له قليلاً من الثياب والنقود بعد العناء الشديد , لكن النقود لم تكن كافية لدفع أجرة السفر إلى المدرسة , فعزم أن يمضي لها ماشيًا، وهي على مائة وخمسين ميلاً من المكان الذي كان فيه , فحمل ثيابه , وسار إليها وبلغت نفقاته في الطريق أربعة غروش لا غير لأنه كان يقص قصته على الذين يمر بهم فيطعمونه مجانًا. وبلغ تسكجي مقرَّح القدمين وأتى إليَّ؛ فأرسلته إلى حيث اغتسل ونظف بدنه , ووضعته مع الذين يحرثون الأرض ويزرعونها لأنه كان قد صار لمدرستنا ألف وأربعمائة فدان أصلحنا نصفها , وكان التلامذة يزرعونه وحدهم ويشتغلونه , ويستخدمون في زرعه وخدمته أحدث الطرق العملية المعروفة. فصار يعمل في النهار معهم ويتعلم ساعتين في الليل , وكان في أول الأمر يتعب من الدرس وينام وهو أمام المدرس , ولكنه تنبه رويدًا رويدًا , وصار يفهم ما يسمع ويزيد رغبة , وأخذ يسأل معلميه مسائل تدل على تعطشه إلى المعرفة مثل سؤال عن سبب اعتمادنا على البقر المعروفة ببقر جرزى وبقر هلستين بدل البقر العادية , وعن سبب كثرة لبنها وسمنها. ولم تمض السنة الأولى عليه حتى تعلم مبادئ القراءة , وجمع بعض النقود من أجرته فدخل الفرق القانونية في السنة الثانية , وبقي يعمل جانبًا من الوقت في الحقل , فلما انتهت السنة وجد نفسه في حاجة إلى النقود , فكتب إلى الرجل الذي ولد بين عبيده يخبره عن دخوله في مدرسة تسكجي , وطلب منه أن يقرضه خمسة عشر ريالاً , ووعده بإيفائها حالما يتم دروسه. فطرح الرجل الكتاب ولم يلتفت إليه , فكتب إليه ثانية فلم يجبه , فكتب إليه ثالثة , وحينئذ شعر الرجل بدافع في نفسه يدفعه إلى مساعدته , فكتب إلي يخبرنى بذلك , وبعث إليه بالخمسة عشر الريال التى طلبها. (وبعد ثلاث سنوات وقف هذا الولد , وكان قد صار شابًّا أمام سيده الذى بعث إليه بالخمسة عشر ريالاً وقال له: أنا الولد وليم الذى كنت ترمي إليه بقطع النقود , ثم تكرمت عليه بخمسة عشر ريالاً , وقد أتيت لأشكر فضلك , وأوفيك دَينك , ثم دفع إليه المال مع رِباه؛ لأنه كان قد أتم دروسه , وعمل سنة فى إحدى المدارس وأخذ أجرتها. فنظر إليه الرجل نظر الدهشة والاعتبار , ثم التفت إلي السود الذين يعملون في أرضه وهم مئات لأنه كان على ثروة طائلة وأملاك وسيعة , فرأى أنه غير قائم بما يجب عليه لهم فقال لوليم: تعال، وافتح مدرسةً عندي لإخوانك , وكان ذلك منذ ست سنوات , وقد اتسعت هذه المدرسة الآن وصار فيها مائتا تلميذ وخمسة معلمين من الذين تخرجوا في مدرسة تسكجي وثلاثة مباني , ولها أربعون فدانًا يمارس فيها التلامذة الزراعة على أنواعها , ويتعلمون أيضًا النجارة بفروعها , وفيها قسم لتعليم البنات مبادئ العلوم والخياطة وتدبير المنزل , وهي آخذة في إنشاء معمل للحدادة وعمل المركبات , والرجل المشار إليه هو الذي بنى المدرسة ووقف عليها الأربعين فدانًا , وهو يدفع رواتب معلميها أيضًا. ولا يقتصر هؤلاء المعلمون على التعليم في المدرسة , بل تراهم يجمعون الفلاحين من البلاد المجاورة , ويتذاكرون معهم في المواضيع الزراعية , ويعلمونهم الأساليب الجديدة لحرث الأرض وزرعها وخدمتها وطرق الاقتصاد المختلفة , ويحضر معهم الرجل الكريم المشار إليه آنفًا , وهو مسرور بما يراه فيهم من دلائل الاجتهاد والارتقاء. (ولما غادر وليم قومه , وأتى إلينا كانوا على غاية الفقر والذل لا يملكون شيئًا ولا ينظرون إلى البيض إلا نظر الخصم إلى خصومه , وهم مثقلون بالديون , فأوفوا ديونهم الآن , ولم يعودوا يرهنون غلة الأرض التي يزرعونها كما كانوا يفعلون قبلاً , وابتنوا بيوتًا رحبة يسكنون فيها , وصلحت أحوالهم بعد فسادها , وبمثل هذه المدرسة تحل مسألة السود في هذه البلاد وفي بلاد كوبا وبورتوريكو) . ثم ذكر ما كان من غلو البيض في احتقار السود , وبين أن هذا الاحتقار قد زال لما أثرى كثيرون من السود , وامتلكوا الأراضي الواسعة , وبنوا المعامل الكبيرة حتى ذكر أنهم صاروا يشاركون البيض في انتخاب رؤسائهم , وقال في هذا المقام: (وما من شيء أزال كراهة البيض لهم واشمئزازهم منهم مثل إصلاح معيشتهم , مثال ذلك أن فتاة من الفتيات اللواتي تعلمن في مدرسة تسكجي مضت إلى جنوب البلاد , وعزمت أن تفتح فيها مدرسة لتعليم أولاد السود فنظر إليها البيض هناك شزرًا , ولم يرض نساؤهم أن يلتفتن إليها فصبرت على الضيم حاسبة أنهن يفعلن ذلك لما رسخ في نفوسهن من احتقار السود , وأنشأت المدرسة واهتمت بها , ثم تزوجت بشاب من السود وبنيا بيتًا صغيرًا على أسلوب حسن جدًّا , وأنشآ أمامه حديقة غناء زرعت فيها أبدع أنواع الأزهار والرياحين , ومرت بها امرأة من عظماء البيض ذات يوم , ورأتها في الحديقة تسقي رياحينها , فنظرت إليها متعجبة ثم دخلت الحديقة , وطارحتها السلام , فأخذت السوداء تتكلم معها عما في حديقتها من أنواع النبات كلام امرأة متعلمة متهذبة , فعجبت البيضاء منها ودخلت بيتها , ولما رأت غرفه وأثاثه ورياشه وما فيه من الكتب والجرائد وحسن الترتيب والتنظيم؛ ارتفع مقام السود في عينيها , وأخبرت صديقاتها بما رأت , فصار لتلك المرأة السوداء المقام الأول في ذلك البلد. ولو بقي الكُتاب والخطباء أعوامًا يحثون البيض على اعتبار السود إخوانًا لهم ما أفلحوا في ذلك قدر ما أفلحت فيه هذه المرأة السوداء بتنظيم بيتها وزرع حديقتها وإقناعها نساء البيض بهذا الدليل الحسي أنها ليست دونهن عقلاً وذوقًا. (ومنذ بضعة أشهر أقيم معرض زراعي في بلد اسمه كلهون في ولاية ألاباما , وفي هذا البلد مدرسة كبيرة عرض تلامذتها , والذين تعلموا فيها معروضاتهم الزراعية من القطن والأثمار فلما رآها البيض بالغة حد النمو؛ أعجبوا بها والتفتوا منها إلى أصحابها , فارتفعت منزلة السود في عيونهم , ورأوا فضل التعليم والتهذيب , فللمدارس التي تعلم أولاد السود وتهذبهم الفضل الأول في ترقية شأنهم , وربط البيض بهم برباط الألفة والصداقة) اهـ. ثم ذكر المعرب جملة مختصرة من كلام بوكر واشنطون هذا في وصف مدرسته , وأردفه بجملة أخرى في المقابلة بين تلك المدرسة وما تفرع منها , وبين مدارس هذا القطر وسائر البلاد الشرقية التي لا تعتني بقرن العلم بالعمل , فهكذا قد سبقنا حتى العبيد السود في تلك البلاد , وما كنا لنفيق من هذا الرقاد، ونهتدي سبيل الرشاد.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني الأرمن وفتنتهم (تابع ويتبع) ومما لا بأس بذكره عقب هذه الرسالة الإلهامية بعض جمل اقتبسناها من رسالة لمكاتب خاص بالجريدة المسماة (الصحافة المشتركة) ولا ريب في أن هذا الكاتب ليس صديقًا للترك , ولا لحكومتهم فانظر ما كتب وهو: مما لا مرية فيه أن ثوار الأرمن كانوا قد ائتمروا بالقسيس المحترم إدوارد ريجس واثنين آخرين من المرسلين الأمريكيين؛ ليقتلوهم في مرسوان ويلصقوا تبعة قتلهم بالترك حتى يتيسر لحكومة الولايات المتحدة أن تعاقب الحكومة العثمانية عقابًا عاجلاًً , ويمكن بذلك أن ينال الأرمن استقلالهم , فإذا قلب الإنسان صحف التاريخ ليقف على مؤامرة أعرق من هذه في الشر وأبلغ في الفظاعة فإنه يفنى زمنه قبل أن يجد ما يطلبه , على أنها لم تكن مجرد فكرة خطرت ببال أولئك الأشرار , بل إنهم كانوا على وشك تنفيذها لو لم يكشف أمرها لأولئك القسيسين أرمني من أصدقائهم , ولم يكن ذنب الدكتور ريجس عند الأرمن سوى أنه وقف نفسه وقضى حياته في تربية أحداثهم بمدارس المرسلين , وفعل أكثر مما فعله أعظم أرمني في جعلهم جديرين بحكم أنفسهم، فكأن الثوار لم يفطنوا لهذا الأمر ولم يفكروا فيه كثيرًا , ثم إنه وإن كان من المتعذر علينا معرفة غاية الأفكار الأساسية للثائرين لكن مقاصد بعض زعمائهم تمجها الطباع مجًّا كليًّا. وملخص هذه المقاصد أنهم يريدون التنكيل بالترك وابتلائهم بالفظائع؛ ليثور غضبهم فيخرجوا في الانتقام عن حد الاعتدال فيهيج ذلك عليهم المسيحيين , فإذا لامهم لائم على هذه المقاصد المنافية لمبادئ الدين المسيحي اكتفى زعماؤهم في الجواب عن هذه بقولهم لذلك اللائم: لا مرية في أنك ترى مقاصدنا صارمة، ووحشية , ولكنا نعلم ما نفعله ولماذا نفعله. ثم إن طرق هؤلاء القوم في حصولهم على المال تدل على دهائهم كما تدل عليه مقاصدهم السياسية وثورتهم , فإنهم يكلفون أشخاصًا ممن هم أقل منهم علمًا ودراية بتقديم آلاف مؤلفة من الغروش لهم , وإن أردت أن تعرف كيف يحصل هؤلاء على تلك النقود فهاك مقالا على طريقتهم في ذلك وهو: (إن أحد سراة الترك من الموظفين في الحكومة تلقى في صباح يوم مكتوبًا يتضمن الوعيد بالقتل إن لم يودع في مكان كذا مبلغ اثني عشر ألف قرش في أربع وعشرين ساعة , ولما تحرت الحكومة أمر هذا المكتوب؛ أداها التحري إلى أن كاتبه أرمني كان مستخدمًا لذلك الموظف , وقضى في خدمته عدة سنوات , وقد اعترف بجنايته لكنه ادعى مدافعًا عن نفسه أن الثوار هم الذي أكرهوه على كتابة ذلك المكتوب وتوعدوه بالقتل إن لم يفعل وأنه لما رأى نفسه في هذه المسألة مترددًا بين إرادتين: إرادتهم منه تنفيذ ما طلبوه , وإرادة القانون وهي عكس ذلك؛ اختار أن ينفذ رغبتهم ففدى ذلك المسكين حياته بمدة طويلة قضاها في الحبس. والذي يعتقده الناس أن كثيرًا من الأحوال حصل بهذه الطريقة , لكن لا يمكن لأحد أن يقول: إنها خرجت من جيوب زعماء الفتنة , وقد شاع أنها صرفت في شراء بنادق غير أن هذا الأمر لا يعلمه إلا أولئك الزعماء أنفسهم) . فهل يصح لأي إنسان فيه ميل إلى الحق ومسكة من العقل أن يقول بعد قراءة ما تقدم أن الترك وحكومتهم هم الذين يضطهدون الأرمن ويسعون في محق جنسهم وملتهم من على وجه البسيطة , كلا , بل إنه من المحقق أن الأرمن الصادقين في ولائهم للحكومة والمحترمين للقانون لا تقتصر الحكومة على وقايتهم بحمايتها , بل إنها ترقيهم إلى مناصبها السامية , يدلك على ذلك أن منهم من ارتقى إلى منصب الوزارة في الدولة , ومن الثابت المحقق أيضًا أن الأرمن في تركيا وعددهم لا يكاد يزيد عن 900000 نسمة لهم مدارس خصوصية , ولغتهم وآدابهم محفوظة وجنسيتهم محترمة , ورؤسائهم يرقون في معارج المناصب ومراتب الشرف , على أن الدول المسيحية في أوربا وأميركا لا تعبأ باليهود والأسبانيين الكاثولكيين لم يسمحوا لمسلم واحد أن يبقى ببلادهم في أوربا فطردوهم عن بكرة أبيهم من قرون خلت , والسبب في هذا الفرق العظيم بين تركيا وغيرها من الدول في المعاملة هو أن الدين الاسلامي في الحقيقة مبني على التسامح والتساهل , ولو لم يكن هذا التسامح لما وجد في تركيا على بعد أطرافها مسيحي واحد في زمننا هذا , ولكان ذلك مفيدًا للأتراك فإنه لولا وجود المسيحيين في بلادهم ما كان يوجد ما يسمى الآن بالمسألة الشرقية , فهم يذوقون اليوم ألم التسامح الذي هو ركن أساسي من أركان دينهم , وكان يجب على أوربا وأمريكا شكرهم عليه , ولكنا نرى عوضًا عن ذلك عددًا ليس بالقليل من فصحاء المسيحيين يعين الناس في تركيا على ما لايعينهم عليه في بلاده من الفتنة وشق عصا الطاعة فهل هذا هو الإنصاف؟ . ليس هذا وحده من أدلة إجحاف المسيحيين بحقوق تركيا وظلمهم لها , فمما يثبت نية الإجحاف أيضًا ما ألصق بالباب العالى من التهم الشنيعة فيما جرى عليه من السياسة في حق الأرمن الذين تجنسوا بالجنسية الأمريكية منذ كانوا في الولايات المتحدة ورجعوا إلى أوطانهم التي ولدوا فيها , وذلك بسبب إصراره على معاملتهم بمقتضى قانون الجنسية العثمانية؛ لعدم وجود معاهدات بين تركيا وأمريكا في شأن التجنيس , وهو قانون مبني على الحكمة واللزوم سنته الحكومة العثمانية , ونشرته قبل المشاغب الأوربية بزمن طويل , وسأقدم للقراء بيانًا مختصرًا للحقائق كما هى في الواقع لا على الصورة التي يعميها بها أعداء تركيا راجيًا أن يكون ذلك مفيدًا لهم في فهم حقيقة هذه المسألة فأقول: صدر قانون الجنسية العثمانية في 19 يناير سنة 1869 وها هي نصوص مواده. لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء وقائل كيف تفارقتما ... فقلت قولاً فيه إنصاف لم يك من شكلي ففارقته ... والناس أشكال وآلاف حملني حسن الظن الذي يغلب علي في عامة الشئون على أن أجعل عبد الحليم أفندي حلمي مراد مديرًا لأشغال المنار من أول إنشائه , ثم لما بلوته ندمت على ما فعلت , ولكنني أشفقت عليه , وصعب علي أن أخرجه من العمل , وهو لا يحسن عملاً يعيش به هو وعياله , فأطمَعتْه الشفقة واللين في المعاملة في أن يقرن اسمه باسمي في المنار نفسه (لا تطعم العبد الكراع فيطمع بالذراع) فلما عيل الصبر أخرجته من إدارة المجلة , ولكنه رغب إلي أن أتلطف في الإعلام بذلك في المنار بحيث لا يُشعِر الكلام بانتقاصه فكتبت (الإعلان) بذلك في العدد التاسع برضاه , وطبع بمعرفته مبينًا أنه ليس له علاقة ما ولا شأن في المنار , وأخذ النسخ ليضعها في البوسطة حسب العادة فوضعها في بيته لأمر ما , وانتهز فرصة غيابي في طنطا واختلس ما في الإدارة من نسخ المنار التي تفضل عن المشتركين , وعلم أن القضاء سيقضي عليه فتوارى عن وجهي وجهه فلا أدري أين هو. وسيعلم عن قريب أينما كان تأويل ما كنت أذكره به عند كثير من حوادثه معي , وهو أن العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأرجو من الذين دفعوا إليه الاشتراك عن هذه السنة من المشتركين الكرام أن يعرفوني بذلك مبينين تاريخ الايصال لأنني علمت أنه كان يختلف إلى بعضهم , ويأخذ منهم من غير أن يعلمني بذلك , وأما المنار فسيصل إلى قرائه بعد الآن في مواعيده بغاية الدقة والانتظام , وسنرسل الجزء التاسع الماضي مع الحادي عشر إن شاء الله تعالى. *** (سكة حديد الحجاز) تبين أن مولانا الخليفة والسلطان الأعظم مهتم جدًّا بإنجاز هذا المشروع العظيم , وهو الذي إذا قال فعل , وإذا فعل أحسن وأتقن , ومن محاسن هذه السكة أنها أول سكة إسلامية محضة فهي لأجل إقامة ركن عظيم من أركان الإسلام , وفي بلاد كلها للإسلام , وعمالها كلهم من أبناء الإسلام , وحديدها كله مصنوع في عاصمة الإسلام (الأستانة العلية أعزها الله تعالى) وخشبها من الغابات الأميرية , ولا يركبها إلا المسلمون , فنسأل الله تعالى أن يتمم هذا العمل الشريف بالخير عن قريب , ويجزي مولانا أمير المؤمنين عن هذه المأثرة خير الجزاء بمنه وكرمه. *** (انتصار الإنكليز على البوير) دخل الجيش الانكليزي بريتوريا عاصمة الترنسفال , وكان الرئيس كروجر قد خرج منها , وقد جرت العادة بأن دخول العاصمة هو منتهى الانتصار , ولكن البوير لما يزالوا مقاتلين ببسالة غريبة , حتى قالوا: إن الجهاد الحقيقي قد ابتدأ منذ الآن. *** (جمعية شمس الإسلام) تأسس فرع للجمعية في مدينة طنطا العظيمة , وقد ذهب كاتب هذه السطور بدعوة من المجتهدين في التأسيس , فخطبت في الناس مبينًا لهم حقيقة الجمعية , وهي الدعوة للتهذيب والتعاون على عمل البر , وجعلت قسمًا من الكلام في وجوب مجاملة أعضاء الجمعية لمجاوريهم من المخالفين لهم في الدين , واحترامهم كما هو الواجب في الإسلام , وهذا هو شأن هذا الفقير في كل خطبة يخطبها في الفروع عند ابتداء تأسيسها. وقد أشاعت إحدى الجرائد الأجنبية عن الجمعية بأنها سرية , ولها أغراض سياسية , فقد جاءت تلك الجريدة إثمًا وزورًا. ولو كانت الجمعية سرية لما طبع قانونها , ولما ذكر اسمها في الجرائد من قبل أهلها. ومن توهم من سائر الناس أن لكلام تلك الجريدة أصلاً فليطلب من رؤساء الجمعيات الحضور في اجتماعها؛ يتبين لهم الخطأ من الصواب , والحق من الباطل.

أوروبا والإصلاح الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أوروبا والإصلاح الإسلامي بينا في المقالة التي افتتحنا بها الجزء الماضي من المنار أن الأوربيين كانوا يظنون أن الأمة الإسلامية قد قضي عليها فلا ترجى لها حياة اجتماعية , وأنهم لما رأوا بعض أعضاء هذه الأمة تحرك؛ ذعروا ودهشوا وأوجسوا في نفوسهم خيفة , وطفقوا يراقبون شخصها في نومه فكلما تعارَّ [1] ؛ قالوا: إنه هب مستنفرًا لإجلائنا من بلاده وتقليص ظل سلطتنا عن رأسه. ونعني بهذا اهتمام القوم لما تكتبه الجرائد الإسلامية , وما ترمي به أفواه الخطباء في الجمعيات التي نمدحها إذا قلنا: إنها في دور الطفولية , فقد بلغنا أن قناصل الدول في مصر يهتمون بترجمة كل ما يكتب حتى في الجرائد الصغيرة التي تشبه فقاقيع الماء تظهر كهيئة القبة الزجاجية ولا تلبث أن تتلاشى وتضمحل , ولا يكاد يشعر بها إلا من يراقبها مراقبة دقيقة. يروعهم منا اسم (الإسلام) و (الجامعة الإسلامية) و (الاتحاد الإسلامي) يظنون أن وراءها غارات تشن , وحروب تشب , وتعصبًا يدمي , وتحزبًا يفني , والصواب أن أكثر اللاغطين بتلك الكلمات والراقمين لها في تلك الورقات إنما يقصدون بها تزيين اللفظ واستلفات اللحظ؛ جلبًا للمال وتحسينًا للحال. كالصدى يحكي الطائر المغرد , والأخذ بالظواهر قصارى فعل المقلد. وقد يتزيى بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان ما لا يلائمه وأما من يتكلم عن بصيرة , ويعمل عن حمية وغيرة , فهم يعلمون أن محاولة الطفور غرور بل جنون , وأن بلوغ الغاية في البداية محال لا يكون , فلا يطالبون المسلمين بأن يكون لهم سلطان واحد وحكومة واحدة , وأن يخرجوا على حكامهم من غير المسلمين فيبيدوهم أو يجلوهم عن بلادهم , فإنهم يعلمون أن التحريض على هذا تحريض على إبادة الشرق أو إبادة العالم الإنساني إلا قليلاً , والتحريض على مثل هذا يمنعه كل دين ويأباه كل عقل. نعم إن هنا مسألة يسوء الأوربيين ذكرها في الجرائد على أن ذكرها وعدمه سيان؛ لأنها معلومة بالضرورة لكل مسلم , وهي أن الدين الإسلامي دين سلطة وسياسة لا دين تعبد وتحنث فقط , فمن أصوله أن يسعى أربابه بأن تكون لهم السلطة على العالم كله , لا على المسلمين وحدهم كما يظن البعض , ولكن هذا الأمر من وظائف الخلفاء والأمراء , لا من وظائف العامة فترشدها إليه الجرائد والخطباء , وتؤلف لأجله الجمعيات , وإننا نعتقد أن الله تعالى ما كلفنا بنشر ديننا في جميع العالم ورفع لواء سلطتنا على رؤوس جميع الشعوب لأجل الأبهة والفخفخة , وتمتع الملوك والأمراء بالسلطة المطلقة , واستعباد الناس وإذلالهم وإنما أمرنا الله باستعمار الأرض وإصلاح الناس , ولذلك ذكر في أول الآيات التي نزلت في الإذن بالقتال هذا المقصد الشريف , فقال عز من قائل:] أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ [2 {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) فذكر من الحكمة في الإذن بالقتال المدافعة وإزالة الظلم , وحفظ المعابد التي يذكر فيها الله تعالى , وذكر من وصف المقاتلين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وذلك إما بالإلزام وإما بالتربية والتعليم , وهذا هو الإصلاح الأكبر , فإذا كان حكامنا يتركون سيل الفساد والظلم في بلادهم وما يجرف حتى صارت أبعد بلاد الله عن العمران وأقربها إلى الفساد فكيف لنا أن نحرضهم مع هذا على أن يضموا غيرها إليها؟ . كلا إننا لا نطلب من حكامنا الآن إلا إصلاح البلاد التي يحكمونها , وإقامة العدل فيها؛ لتعمر البلاد وتسعد العباد. وأما الأمة فإننا نطالبها في كل قطر من الأقطار وتحت حكم أية دولة من الدول بشيء واحد صرحنا به مرارًا تارة بالإجمال وتارة بالتفصيل: وهو مجاراة الأمم الحية في العلوم والأعمال. وإن سألتم عن السبب في مطالبتها بهذا بلسان الدين , وسوقها إليها بسوط الدين؛ فهاؤم اقرأوا جوابيه: أنتم أيها المعترضون تعتقدون أنه لا سبب لتأخر الأمة الإسلامية في جميع بقاع الأرض عن سائر الأمم إلا دينها الذي هي عليه , فكيف يمكن لأحد أن يتصدى لإصلاح هذه الأمة بقول أو فعل ولا يكون جل عنايته أو كلها في دينها؟ لقد حفيت الأقلام وخفتت الأصوات من كثرة ما كتبنا وخطبنا في موضوع شقاء المسلمين بدينهم الذي سعد به أسلافهم , وبينا أن علة الشقاء إنما هي في ابتداعهم فيه , لا في اتباعهم له , وفي لبسه كما يلبس الفرو مقلوبًا كما قال الإمام علي كرم الله وجهه في بعض أهل عصره , واستقباحهم ما استحسنه واستحبابهم ما كرهه. فإن الإسلام دين الفطرة الآمر بكل علم نافع الناهي عن كل جهل مضر. فأمسى أهله يعادون كل علم لأجل الدين , ويقاومون كل إصلاح باسم الدين ويفندون كل نظام لتأييد الدين , ويؤيدون كل خلل انتصارًا للدين. فإذا قلت: عليكم بالعلوم الطبيعية لأنها الموصلة إلى الصناعات، قال علماؤهم: إن هذا يريد إفساد عقول المسلمين. وإذا قلت: انظروا في التاريخ وتقويم البلدان لتعرفوا حالة الإنسان , قال علماؤهم: إن هذا يصدنا بهذا اللغو عن علوم الدين. فما هذا الدين الذي هو أكبر بلاء على المتدينين؟ . هل هو الإسلام الذي تستلفتنا آيات كتابه التي لا تحصى للنظر في ملكوت السموات والارض ويقول: إن الله تعالى أنشأنا من الأرض واستعمرنا فيها , وسخر لنا جميع المخلوقات لننتفع بها؟ كلا , هل هو الإسلام الذي أرشدنا قرآنه إلى سنن الله في الآفاق وفي أنفسنا وهدانا للاعتبار بها؟ كلا. هل هو الإسلام الذي حثنا على الجد والعلم , ونفرنا عن الخمول والكسل حتى قال نبيه صلى الله عليه وسلم: (إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) ؟ كلا , وإنما هي بدع وتقاليد ألفت فيها كتب لا تحصى , وحشيت فيها كتب لا تستقصى , ويسمى مجموعها دينًا. قد كان عند الأوربيين مثلما هو عندنا اليوم , وما تسنى لهم الإصلاح الديني إلا بعد ما وضعوا تلك الحواجز الحديدية دون تلك الكتب الخرافية التي أفسدت العقول وغلت الأيدي عن العمل , وقيدت الأرجل دون السعي , وجلعت زمام إرادة العامة في أيدي رؤساء الدين , أليست طبائع الأمم متشابهة وسنن الخليقة واحدة؟ بلى , وإن للمسلمين سلفًا لم يكن للمسيحيين مثله , وفي القرآن من الحث على العلم والعمل ما ليس في الإنجيل ولا في التوراة , فلا بد إذن من الدعوة إلى الإصلاح الديني قبل كل شئ وسنبين الأصول التي يجب الابتداء بالدعوة إليها بحسب ما يسمح به المقام إن شاء الله تعالى.

نصيحة أمير افغانستان إلى ولده وولي عهده

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نصيحة أمير أفغانستان إلى ولده وولى عهده الأمير حبيب الله خان اطلعنا على نصيحة ألقاها الأمير عبد الرحمن أمير أفغانستان على ولده حبيب الله خان نشرتها جريدة (الحبل المتين) التي تصدر باللغة الفارسية في مدينة كلكتا , وقد ترجمت هذه النصيحة جريدة محمدان إلى اللغة الإنكليزية , ونحن ننشر للقراء ترجمتها باللغة العربية , فقد حوت من جليل الآراء وسامي الأفكار الإدارية والسياسية ما هو جدير بمثل أمير الأفغان حفظه الله , وها هي: (في ذات يوم دعا الأمير عبد الرحمن ولده حبيب الله خان وألقى على مسامعه العبارات الآتية) : ولدى العزيز: لا يخفى عليك أنني سلمت لك زمام الحكومة في مدة حياتي , وأن هذا العمل بلا شك مخالف لنظام الحكومات ومعاملات الدول الأوربية في الغرب والسلاطين في الشرق , ولكن غرضي من ذلك هو أن أعلمك كيف تحكم وكيف تفعل؛ لكي تكون على بصيرة وحكمة حينما يخلص إليك الملك وترقى على عرش هذه الدولة , ولي في ذلك أيضًا غرض آخر وهو أن يعرف مقامك رؤساء القبائل الأفغانية فيخشوا بأسك ويخضعوا لرأيك. والآن أريد أن ألقي على مسامعك بعض كلمات في قالب النصيحة , وأعتقد أنك إذا سِرت على خطتها تأمن على سلامة بلادك , ولا ترتكب خطأ في حكومتك يؤدي إلى ضياع نفوذك وهذه نصيحتي إليك: (1) يجب عليك يا بني أن تتمسك بمبادئ دينك الشريف , فتجعل له المقام الأول , وتنظر للواجبات الخاصة به قبل نظرك إلى أشغالك وسياستك , وبعبارة أخرى: يجب عليك أن تكون قدوة حسنة في التقى والدين لكافة أفراد رعيتك. (2) يجب عليك أيضًا أن توجه عنايتك إلى سعادة أمتك وراحة رعيتك , وتوطيد دعائم السلام والسكون في أرجاء بلادك. واعلم أن نجاح البلاد وفلاحها متوقفان على الثروة , وأن الثروة والنفوذ لا يدرَكان بغير وسائط الزراعة والتجارة والصناعة , وأن هذه الوسائل تحتاج في ترقيتها وتنجيحها إلى التعليم والتربية العموميين. إن أمتنا يا بني لا تزال في الدرجة الدنيا من درجات المدنية , ولم يوجه أفرادها أنظارهم إلى تحصيل العلوم وتربية الأفكار , ولقد كانت أميالي القلبية من زمن طويل موجهة إلى تشييد المدارس وإرسال أنوار العرفان إلى سائر الأقطار الأفغانية على طريق المدارس ودور الفنون الموجودة في البلاد الغربية , ولكن مثل هذه الغاية لا تدرك بمجرد الإرادة , ولا تحقق في زمن قليل؛ لأنها تحتاج إلى التنمية والترقية التدريجية وحينئذ يلزمك أن توجه عنايتك التامة إلى هذه النقطة المهمة , وأن تعتقد أن من أقدس الواجبات عليك هو أن تبعث في نفوس رعيتك ميلاً إلى التربية والتعليم. (3) حيث أنك ستستلم زمام الأحكام بيدك , وتكون أنت أفضل رجل في هذه الديار وأسماهم عقلاً وأكبرهم فكرًا وأعلاهم مقامًا - فأحسن معاملة أتباعك ومَن تحت حكمك. عامل رعيتك باللطف والمحبة الأبوية ليعتقدوا اعتقادًا ثابتًا بشفقتك عليهم وحرصك على سعادتهم وراحتهم؛ إذ هذا العمل يزيد في محبتهم لك ويجعلك أسمى مكانة في أعينهم , ولكن لا يجب أن تعامل الأجانب بمثل هذه المعاملة الأبوية لأنها تزيد في جسارتهم ووقاحتهم. (4) يجب عليك أن تقدر أعمال رجالك ولا تنسَ فضل الفضلاء منهم فتكافئهم؛ لأن ذلك يقوي عزائمهم وينشطهم على خدمتك بالدقة والإخلاص والاستقامة. (5) كن بعيدًا عن المحاباة والمجاملة في إنصاف المظلوم من الظالم ومعاقبة المجرم على جريمته , ولو كان المذنب ولدك وفلذة كبدك , واعرف أنك بذلك تسترقُّ القلوب وتستعبدها. (6) لا تمكِّن الأجانب من فرصة ينالون بها حقًّا من الحقوق أو نفوذًا كيف كان , لأنك لو ملكتهم قليلاً من الفرصة فإنك تمهد لهم الطريق إلى خراب مملكتك وضياع بلادك. (7) حيث أن الحكومة الإنكليزية بقيت معي إلى هذا العهد مسالمة مصافية فكن معها كما كنت أنا , ولكن على أي حال ضع نصب عينيك سلامة أفغانستان واستقلالها. (8) ليكن من أول الواجبات التي تكلف نفسك بها: حماية مصالح رعاياك في كل حال من الأحوال. (9) أما ما يختص بالمسائل السياسية فيجب عليك أن لا ترتكن فيها على وزرائك وأعوانك , بل يجب عليك أن توجه اهتمامك لكل شئ صغيرًا كان أو كبيرًا بنفسك. (10) وأما ما يتعلق بالمسائل الحربية فاعلم أنه يلزمك أن تكون قواتك الحربية على قدم الاستعداد كأنما تريد أن تزحف بها في الغد إلى ساحة القتال لمحاربة دولة أقوى منك جأشًا وأكثر عددًا وعِدَدًا , واعلم يا بني أن الأيام علمتنا دروسًا يجب أن نستفيد منها , فقد عرفنا أن من أول الضروريات أن يكون الجيش دائمًا على أهبة الاستعداد التام , ثم لا تنس زيادة الآلات والذخائر الحربية في زمن السلم لأنه كما لا يخفى عليك من الصعب أن تزود جيشك بما يكفيه من المؤونة والذخائر والآلات في زمن الحرب. (11) يجب على الملوك أن يجتهدوا في جذب قلوب الجند وازدياد محبتهم لهم فاجعل جنودك سعداء مرتاحين فيحبوك فلا يتأخروا للوراء في ساعة يفيدك فيها أن يضحوا حياتهم حبًا فيك وحرصًا على سلامتك , واعلم أن الجنود يبيعون أرواحهم الغالية بمرتبات قليلة تعطى دائمًا في مواعيدها , وإذا لم تسر معهم على هذه الخطة فإنهم يضنون في ساعة شدة أن يبيعوك أرواحهم بثمن أغلى وقيمة أسمى. (12) يجب أن تعلم يا بني أن بيت مال الحكومة هو ملك الأمة , وليس مقام السلطان أو الأمير تجاهه إلا مقام الحارس الأمين على ما فيه , فإذا ابتدأ الحاكم يصرف المال المودع عنده على مصالحه ومطالبه الخصوصية؛ فإنه يكون خائنًا لمن ولوه الأمانة , وسلموه القيادة , واعتقدوا فيه الاستقامة , ومن المقرر المعلوم أن الخائن لا قيمة له في أعين الأمة مطلقًا , وأنه مبغض عند الله وعند الناس أجمعين , ويجب أن يكون بيت المال دائمًا ممتلئًا لأن ضعف الحكومة يظهر في قلة مالها أكثر من ظهوره في شيء آخر , كذلك يلزمك أن تدقق في ضروب المصروفات والإيرادات , وكل ما يزيد يضم على بيت المال بالتوالي. ويجب عليك أن تعمل كل ما في إمكانك من الوسائل لزيادة ثروة بيت المال لكي تتمكن من إنجاز الأعمال التي تريد إنجازها سواء كانت حربية أو سياسية أو تجارية أو صناعية أو تعليمية في الأوقات المناسبة لها؛ لأن الزمن يا بني يحتاج إلى كل هذه الأعمال والسير على هذا النهج القويم لكي تعيش آمنًا مطمئنًا قويًّا عزيز الجانب) اهـ من ترجمة المؤيد بتصرف قليل. (المنار) يا حبذا لو اعتبر بهذه النصيحة جميع الحكومات الإسلامية , فإن الإمارة الأفغانية ما أصبحت أعزها وأقواها على صغرها إلا بحزم وحكمة أميرها الذي أفاده نور البصيرة وحسن التجربة هذه النصائح التي هي أساس السياسة وروح الرئاسة.

هانوتو والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هانوتو والإسلام سأل أحد أفاضل مسلمي بيروت صديقًا له من أدباء المسيحيين مقيمًا في مصر القاهرة رأيه , وما وصل إليه علمه في شأن المناقشات التي بنيت على مقالات هانوتو وزير خارجية فرنسا سابقًا في الإسلام لا سيما صحة الترجمة؛ فأجابه بكتاب نذكر منه في هذا المقام ما يأتي: (مقال هانوتو الذي سبب حركة الأفكار واهتزاز الأقلام قد طالعته مرارًا باللغة الفرنسوية , وترجمة المؤيد غير مغلوطة , ولكن المسيو هانوتو عندما نقل كلام كيمون كان غير مرتاح إليه , وتهكم صريحًا على أفكاره , وعلى الحل المتناهي في الغلو الذي زعم كيمون أنه يريد أن يحل به المسألة الإسلامية , فمترجم مقال هانوتو في المؤيد قد حافظ المحافظة التامة على الأصل فاكتفى بأن يضع إشارة الاستفهام الإنكاري , والنقط التي تتبعها , غير أن قراء لغتنا العربية لم يتعودوا على إدراك سر هذه النقط التي اصطلح عليها الفرنجة ولهذا التبس المعنى , وظن الكثيرون أن هانوتو يصادق على كلام كيمون , ومع ذلك فقد استأنف الكلام وعاد ثانيةً إلى الإسلام وتبرأ مما نسب إليه , وصرح بميله واحترامه الإسلام والمسلمين , وترجم مقاله المؤيد , وتبعه في ذلك الأهرام أيضًا. ثم دخل اللواء في مضمار المباحثة , وتكدر منه محرر الأهرام الفرنسوي (وهو شاب استقدمه تقلا باشا من باريز) وطلب مصطفى بك كامل إلى المبارزة , وتبع ذلك أقاويل مختلفة , وأقيمت الدعوى من تقلا باشا على صاحب اللواء وتشاتم الفريقان , وانحاز إلى كل فريق أنصار ومريدون. مولاي , لو اكتفى المؤيد واللواء بما كتبه ذاك الإمام العظيم؛ لخدما حقيقة الإسلام لأن الحق يصرع إذا عمد إلى إظهاره بالسباب والشتائم , ولم يكن لرد الإمام الوقع العظيم في نفوس المسلمين فقط , بل إن كثيرين من أفاضل النصارى قد أجلوه كثيرًا وأحلوه محلاًّ كريمًا , ولا أبالغ إذا قلت لسعادتكم: إنني قرأته أكثر من عشرين مرة. دين الإسلام كله شهامة ومروءة وحرية ومدنية طاهرة , غير أن كيمون والذين على شاكلة كيمون قد تلقوا كل ما هو معاكس لروح الإسلام والمسلمين وبعيد عن عقائدهم وأدابهم وأخلاقهم , وكتاب الفرنجة لا يراعون العواطف في اندفاعهم , وقد كتب الكثيرون منهم في الطعن على السيد المسيح وعلى طهارة والدته وعلى كرامة تلامذته , وتصدى منهم فريق عظيم للتوثب على الأحبار الأعاظم , وقالوا فيهم الأقوال الشائنة التي ترتعد لها فرائص الأداب والفضيلة , فالقوم الذين بلغ بهم التمادي والغرور إلى هذا الحد أيليق أن نترجم أقوالهم ونذيع ترهاتهم على رؤوس الأشهاد ونحرك ما كمن من الأحقاد؟ إنني أستحلفك بدينك القويم الذي أشرق بنوره الوضاح على البصائر المظلمة؛ فأنارها , وعلى العقول المقيدة فأرشدها وحل عقالها , وعلى القلوب المتسكعة فأيقظها وقوم اعوجاجها - أن تحرك قلمك وتغمزه إلى الغاية المحمودة وذلك في استنهاض همم فطاحل كتاب المسلمين للذود عن الإسلام بالطرق التي يريدها الإسلام، والطرق التي يريدها الإسلام لا تخفى على أفاضل المسلمين الذين أشربت قلوبهم محبة الائتلاف والموادعة والمسالمة وتحريض الأمة على اكتساب الفضائل السامية في إكرام الجار , وتعزيز حقوق الجوار , ومعاملة عباد الله بطرق المساواة والعدل والولاء. يوجد كثيرون من الذين لم يتشرفوا بالدين الإسلامي على ضلال مبين في أفكارهم وظنونهم نحو الإسلام والمسلمين , ولكن ضلالهم لا تعفو آثاره إلا البراهين القاطعة والحجج الدامغة التي تثبت لهم أن دين الإسلام دين الحرية المطلقة والحنان الصادق والشهامة الحقيقية والمحافظة على الأعراق وكرم الأخلاق والعرض والإخلاص والوفاء. أتظن يا مولاي أن كيمون يقذف من فيه تلك الأقذار لو كان قرأ في زمانه فصلاً واحدًا من الفصول التي دبجتها أنامل الإمام علي كرم الله وجهه. أتظن أنه يجرؤ على التلفظ بذاك الحل الهائل الذي يريد أن يحل به المسألة الإسلامية لو كان سمع بحلم وحكمة العُمَرين وكرم ابن زائدة وعدل الرشيد وسخاء البرامكة؟ . أتظن أنه يحرك قلمًا لو علم بأن أحقر رجل من المتدينين بدين الإسلام يهرق آخر نقطة من دمه في الذود عن عرض وكرامة الملتجي إليه عندما يسأله الحماية. مهما كان كيمون والذين على شاكلته في غرور وضلال فإنهم لا يستطيعون بعد معرفة الإسلام إلا الثناء على الإسلام والافتخار بفضائل الإسلام. وكنت أود من صميم الفؤاد أن أضم صوتي إلى أصوات مقرري الحقيقة وأنصح أفاضل المسلمين أن يتخذوا الخطط الصائبة في مجادلاتهم وكسر شرة المتوثبين عليهم , فالحق - أيدك الله - في جانبهم غير أن بعض جهالهم يريدون أن يصرعوه في تطفلهم على صناعة التحرير والتحبير , ولا أكتم على سعادتكم شيئًا فإن الأقلام التي تحركت من بعد رد الإمام المعتدل المحكم لم تأت بشيء من الفائدة , بل أضاعت أو أوشكت أن تضيع الحق الذي بجانبكم , وتسبب حركة لا يرضاها عقلاء الأمة الإسلامية عن القاهرة في 9 يونيو سنة 1900. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ج.ع (المنار) نحن تحامينا الخوض في المجادلات عندما حمي وطيسها , وكنا غير راضين عن الذين تهوروا منا فطعنوا في الديانة النصرانية نفسها بما لا يتعلق بالرد , ورأينا من نعرف من أفاضل المسلمين معنا في هذا الرأي , وقد نشرنا كلام هذا الكاتب الأديب المسيحي لما فيه من روح المودة الذي نحن في أشد الحاجة إليه ولا شيء ينفخ روح الهدوء والائتلاف مثل الاعتدال والإنصاف.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (باب الولد من كتاب أميل القرن التاسع عشر) (9) من أراسم إلى هيلانة في 2 يونيه سنة -185 لا مراء في لزوم الاستعانة بضروب السلطة المطلقة في تربية الأطفال إذا كانوا حديثي السن جدًّا رعاية لمصلحتهم , فيؤمر الطفل منهم بالإقبال فيقبل , وبفعل كذا فيفعل , وينهى عن الانطلاق إلى جهة كذا مع قرن هذا النهي بفعل يحول بينه وبين الذهاب إليها فلا يذهب. مثل هذه الأوامر الصريحة التي تصدرها الأم لولدها مع تلطيف شدتها بنغمة الصوت فيها , ومباشرة ائتماره بها بنفسها مما لا بد أن يقبل عذرها فيه؛ لأنها إنما تخاطب بها ذاتًا مجردة من العقل. على أن الأفضل التعجيل بالكف عن الإلزام والقسر متى صار ذلك ميسورًا. إن قهر الطفل على الامتثال وإلزامه إطاعة الأوامر يستلزم حتمًا إخماد وجدان الاستقلال في نفسه خصوصًا إذا طال أمد ذلك العهد، فإنه إذا كان غيره يتكلف الحلول محله في الإرادة والحكم المطلق على الخير والشر والإنصاف والجور فأي حاجة تبقى له في الرجوع إلى وجدانه واستفتاء قلبه , وعسى أن لا يكون هذا شأننا مع (أميل) لأن بالحلول محله في عمله - أعني إلزامه اتباع أوامرنا - يميت فيه قوى عزيمته الشخصية , فمن أجل أن يكون له قيمة حقيقية يجب أن يصير خيرًا صالحًا باختياره لا رغم أنفه , وأن تكون أفعاله صادرة عن إرادته , وإني أود كثيرًا أن يكون من صغره عارفًا بخصائصه ونقائصه ليزيد في الأولى , ويتجرد من الثانية بتقدمه في سبيل الحياة , فعلينا إذن أن لا نتعامى من أول الأمر عن حقيقة وظيفتنا وحدودها. فإن الطفل لا يصير صالحًا بعمل الغير , بل يكون كذلك بنفسه , ووظيفتنا كلها في تربيته تنحصر في إرشاده إلى استخدام وجدانه , ويجب علينا أيضًا في سبيل إرجاعه عما يقع منه من الهفوات في سيرته أن نقنعه بمضرة الأشياء القبيحة بما في تلك الأشياء من البراهين الذاتية على ضررها , لا بما لنا من الحجج المتسلسلة , وإني لو أسعدني الحظ فتوليت تربية (أميل) بشخصي لما طالبته بطاعتي فيما آمره به , بل إني متى تمكنت من مخاطبة عقله نصحته بأن يسير على مقتضى القوانين التي تجري عليها شؤون الكون المعنوية وحوادثه المادية. يجري معظم الآباء مع أبنائهم على هذه الطريقة في الاستدلال وهي: اعتقد صدق ما أقوله لك , وافعل ما آمرك به , وسأثبت لك بعد ذلك أنه هو الحق والعدل وأنا لا أسير عليها مطلقًا , بل إني أجتهد في إقناع (أميل) بأن الأمر الذي أنصحه باتباعه أو باجتنابه هو حسن أو قبيح لا لأني أراه كذلك بل لأنه قد يكون مفيدًا للناس أو له أو مضرًّا بهم , وكأني بك تقولين أن ذلك يقتضي أن يكون للطفل مزايا عقلية خاصة به , فأقول: إنه لا يقتضى إلا ذوقًا كبيرًا , وبساطة كلية فيمن يتولون تربيته وتعليمه , فليس الذي يؤثر في ذوق الأطفال السليم هو كثرة الكلام الذي يرمى به جزافًا أو طول الشرح في القول , وإنما الذي يؤثر فيهم هو حسن النوايا ونبل المقاصد لأنهم أقوى بصيرة مما نتوهمه بألف مرة. الطاعة الصادرة عن حرية واختيار ترفع طبع الطفل، والإذعان الناشئ من القسر يحطه , فللأم ومعلم المدرسة كلمة يقولونها عن الطفل العنيد العاصي لأوامرهما وهي قولهما: (سأذللُه) والحقيقة هي أن الناشئين على طريقتنا الفرنسوية في التربية مذللون دائمًا. نعم قد يقال: إنه في السير عليها مصلحة للأحداث وللمجتمع الإنساني , ولكن سائس الخيل له أيضًا أن يقول للحصان الذي يروضه: لا تجزع فإني إنما أفعل هذا بك لمصلحتك. على أن إطلاق الترويض على الحصان أصلح من إطلاقه على الإنسان لأن هذا الحيوان لا يخسر بترويضه باللجام والمهماز إلا حدته الوحشية , وأما الإنسان فإنك إذا أخذته بالقهر , وسسته بالإرغام والقسر تذهب بحب الكرامة من نفسه وتبخس قيمته في نظره. على أن الخوف وازع ضعيف فإنه لا لص ولا فاتك إلا وهو يرجو النجاة من العقوبة على جريمته حال ارتكابها , ولا طفل يعصي ما يأمر به قيمه ومعلمه أو يعمل الشر إلا وهو يتخيل في نفسه مهارة في الخلاص من تبعة ذلك , فإذا نجح في هذا ولو مرة واحدة يحمله هذا النجاح على الثقة بنفسه في خداع القائمين بتربيته وتهذيبه ومواربتهم. والطفل الذي يعامل بالقسوة ويؤخذ بالعقوبة يستجم قواه , ويستجن بكبره وعناده لمقاومة حملنا عليه بسلطتنا وقوتنا. لا شيء أسهل على الوالدين من إلقاء نير استبدادهما على عنق الطفل , كما أنه لا شيء أصعب عليهما بعد ذلك من استرداد ما يفقدان من ثقته بهما , ومتى شعر بأنهما يسوسانه بالهوى والاستبداد فإنه لا يخضع لهما إلا بالضغط والإلزام , وفي هذه الحالة ترى عليه أمارات الانقياد والطاعة , ولكنه يطوي جوانحه على نوع من التذمر والعصيان يستره الرياء , وتترقب إرادتُه التي ترضخ لألم العقاب بالسوط الوقتَ الملائم لاستعمال الخداع والمكر , فإن الخداع هو سلاح الضعيف يُعده للاحتماء به من شر القوي , ولما كان عاجزًا عن الكفاح كان يبحث دائمًا عما يخلصه من سلطة أهله. وما أشد عجبي من خبثه واجترائه على الاختلاق في مثل هذه الحالة , فإن كثيرًا من الأطفال لا يبلغون السابعة والثامنة من عمرهم إلا ويحاكون في المكر والاحتيال سري بلوت [1] وإسقابيني موليير [2] بل وفيجاور يومارشيه [3] . ومن عواقب القهر الوخيمة أنه يغيض ينبوع الفرح والسرور من نفوس الأطفال , فما أشبه الطفل المحروم من حريته بفصل الربيع الذي لا تشرق فيه الشمس. أتحسبين أن هذه العواقب تنتهي بانتهاء سن الطفولية , ولا يكون لها أثر في مستقبل حياته؟ كلا , إنني لأعرف لأول وهلة من رؤية الرجل ما كان من نعمته أو بؤسه في طفوليته. ترين الذين يربون بالقهر جبناء عابسي الوجوه كاسفي البال ويكون لذلك ظلمةً في عقولهم وعصل في طباعهم. (أي: اعوجاج بصلابة) . وأنا أسال الله سبحانه أن يحفظنا من مدعي العلم والمعلمين , فإنهم هم الذين يفسدون أخلاق الناشئين. ((يتبع بمقال تالٍ))

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (مدنية الإسلام) قصيدة غراء مطولة لناظمها الشاعر الأديب الشيخ حسين محمد الجمل القناياتي الأزهري، كان الباعث له على نظمها حمية جاشت في نفسه من مقالات الموسيو هانوتو في الإسلام. بدأ الناظم قصيدته بالكلام على حاجة الناس للإرشاد الإلهي , ثم ذكر الأنبياء وخاتمهم والقرآن , وأفاض في محاسن عقائده وأخلاقه وآدابه وصرفه النفوس عن الشرور والرذائل , ثم ذكر الصحابة وفتوحاتهم وقال: سقى أمة الإسلام أخلاف مزنة ... يدرّ لها وابل من الغيث أسجم فما فتحته في ثلاثين حجة ... وأضحى به الإسلام وهو مفخَّم كما فتح الرومان من قبل في مدى ... مئات ثلاث بل أولئك أضخم وقد سها الناظم في ذلك , فإن المعروف من التاريخ , وذكرناه في المنار من قبل أن المسلمين فتحوا في مدة ثمانين سنة أكثر مما فتحه الرومانيون في ثمانمائة سنة , وهو تقدير صحيح لكنه لا يستلزم أن يكون كل عشر سنين من فتوح المسلمين تساوي أو تزيد على عشرة أمثالها من الرومانيين. ومن محاسن القصيدة قوله في إثر ما ذكره من الفتوحات: فهل بعد هذا يفهم الخصم أننا ... كسالى عن الأعمال أو يتوهم ويزعم أن الدين يلوي بأهله ... عن الخطة المثلى وأن يتعلموا فوالله إن الدين ما حل بلدة ... من الكون إلا وهي بالعلم تكرم فللعلم والتعليم أشرق ديننا ... وبالعلم والتعليم قد كان يفخم سلوا الطب والتاريخ عنا وحكمة ... سلوا علم تقويم البلاد لتعلموا علوم الرياضيات عنا تبينت ... علوم الطبيعيات عنا أخذتم فمنا الذي الأفلاك منه تقومت ... وكم فاق منا راصد ومنجم ومنا الأساطين الذين تكشفت ... غوامض أسرار الطبائع عنهم أولئك أهلونا فجيئوا بمثلهم ... وإن جئتم فالأفضل المتقدم فيا أهل أوربا ألا تذكرون إذ ... جهالتكم كانت عليكم تخيم ونحن بأنوار المعارف نهتدي ... ونمرح في الإسعاد والعيش ينعم فلا كنت يا حرب الصليب لهم فقد ... جعلت عدانا يعرفون ونعجم فنحث حضرة الناظم على مداومة النظم في هذه الموضوعات الأدبية والاجتماعية , وخصوصًا الإسلامية مع الدقة في الضبط , ولكن بدون أن يتعرض للأديان الأخرى كما يفعل بعض المتهورين. *** (المجلة المصرية) مجلة أدبية تاريخية قضائية اقتصادية علمية زراعية تصدر في غرة كل شهر ومنتصفه لصاحبها ومنشئها الكاتب الأديب الشاعر الناثر خليل أفندي مطران (وتشترك في تحريرها لجنة من أعاظم الكتاب) ويديرها الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود، وقيمة الاشتراك فيها ثمانون غرشًا صاغًا في السنة , وقد صدر منها عددان مشحونان بالمقالات المفيدة والقصائد اللطيفة والمسائل النافعة، فنحث عليها القراء , ونسأل لها النجاح والارتقاء.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني قانون الجنسية العثماني (تابع ويتبع) المادة الأولى - كل من وُلد من أبوين عثمانيين أو من أب عثماني فقط فهو من رعايا الدولة العثمانية. المادة الثانية - يجوز لكل من وُلد في أرض المملكة العثمانية من أبوين أجنبيين أن يطلب اعتباره عثمانيًّا في السنين الثلاث التالية لبلوغه سن الرشد. المادة الثالثة - كل أجنبي بالغ أقام في بلاد المملكة العثمانية خمس سنين متوالية يجوز له أن ينال التابعية العثمانية بطلب يقدمه لنظارة الخارجية بنفسه أو بواسطة غيره. المادة الرابعة - للحكومة الشاهانية أن تمنح التابعية العثمانية على خلاف المقرر في المادة السابقة لكل أجنبي ترى فيه أنه حقيق بهذا الامتياز. المادة الخامسة - كل عثماني نال جنسية أجنبية برضا الدولة الشاهانية وإذنها يعتبر أجنبيًّا , ويعامل معاملة الأجانب , فإن تجنس بجنسية أجنبية بغير إذن الحكومة كان تجنسه باطلاً , واعتبر كأنه لم يكن , وبقي هو معتبرًا عثمانيًّا في جميع أحواله ومعاملاته , ولا يسوغ لأي عثماني في أي حال من الأحوال أن يتجنس بجنسية أجنبية ما لم يحصل على شهادة دالة على تصريح الحكومة له بذلك وتعطى هذه الشهادة بمقتضى إرادة شاهانية. المادة السادسة - يجوز للحكومة الشاهانية أن تحكم بالحرمان من التابعية العثمانية على كل من تجنس من رعاياها بجنسية أجنبية , أو قبل من دول أخرى التوظف في وظائفها العسكرية بدون تصريح من دولته , وفي هذه الحالة يستتبع الحرمان من التابعية العثمانية وحده منع من استحقه من الرجوع إلى المملكة الشاهانية. المادة السابعة - للمرأة العثمانية التي تزوجت بأجنبي ومات زوجها أن تسترد تابعيتها العثمانية بأن تقرر ذلك في السنين الثلاث التالية لوفاته , لكن هذا الحكم لا يتعدى شخصها فتبقى أملاكها خاضعة للقوانين واللوائح العامة التي كانت تابعة لها قبل وفاة الزوج. المادة الثامنة - إذا تجنس عثماني بجنسية أجنبية , أو خسر جنسيته العثمانية فإن ولده وإن كان قاصرًا لا يتبعه في جنسيته , بل يبقى عثمانيًّا , وإذا تجنس أجنبي بالجنسية العثمانية فلا يتبعه ولده أيضًا في جنسيته وإن كان قاصرًا بل يبقى أجنبيًّا. المادة التاسعة - كل شخص يسكن بلاد الدولة العثمانية يعتبر عثمانيًّا , ويعامل معاملة العثمانية حتى يثبت لدولة أخرى إثباتًا قانونيًّا. وقد صدر منشور وزاري في 26 مارس سنة 1869 لجميع حكام الولايات والأقاليم يتضمن تفسير مواد هذا القانون وإيضاح معانيها الحقيقية، أنقل إليك معناه وهو بعد الديباجة: قد بلغتكم بنفسي قانون الجنسية العثمانية الصادر في 6 شوال سنة 1285 الموافق 19يناير سنة 1869 وإني على ما أراه في سياق نصوصه من وضوح معانيها التي لا يختلف في فهمها اثنان أرى من الضرورى أن أبين لكم المقصد الأصلي من أحكامه المهمة فأقول: إني قبل كل شيء لست فى حاجة لتنبيهكم إلى أن هذا القانون كغيره من القوانين لا تجري أحكامه على الحوادث السابقة لصدوره فجميع من سبق تجنسهم بالجنسية العثمانية من الأجانب , وجميع العثمانيين الذين تجنسوا بجنسيات أجنبية بمقتضى معاهدات أو عهود مبرمة بين الباب العالي والسفارات الأجنبية المعتمدة عنده - يبقون كما كانوا قبل صدوره عثمانيين أو أجانب. الأحكام المبينة في المواد 1 و2 , و3 , و4 هي من الوضوح بحيث لا تحتاج لأدنى شرح، وإنما الذي أستلفتكم إليه هو أنه لما كان قانون الأحوال الشخصية لكل فرد - أي قانون منشئه - هو الذي يحدد زمن بلوغه , وكان ذلك القانون يختلف في هذا التحديد باختلاف البلدان لأنه في بعضها يحدد الزمن المذكور بخمس وعشرين سنة , وفي بعضها بأكثر من ذلك وفي بعض آخر بأقل منه - كان من الواجب على كل أجنبي أراد التجنس بالجنسية العثمانية أن يثبت أنه وصل إلى سن البلوغ على حسب ما يقضي به قانون منشئه. قضت المادة الخامسة على جميع العثمانيين الذين يريدون التجنس بجنسيات أجنبية أن يحصلوا قبل ذلك على إذن مكتوب من الحكومة يعطى إليهم بمقتضى إرادة شاهانية , فإن لم يقوموا بهذا الواجب اعتبر تجنسهم باطلاً كأنه لم يكن , بل كان للحكومة الشاهانية الحق (كما في المادة السادسة) في أن تحرمهم من الجنسية العثمانية حرمانًا يستلزم وحده منعهم من الرجوع إلى المملكة العثمانية , وتقرير هذا العقاب من خصائص الباب العالي نفسه , فعلى الحكومة الشاهانية إذا تجنس عثماني بجنسية أجنبية قبل الحصول على تصريح من حكومته أن تقتصر على اعتبار تجنسه باطلاً , ولا يجوز لها أن تتعرض لطرده قبل أن تتلقى الأوامر بذلك من الباب العالي مباشرة. من حيث إن المرأة العثمانية التي تتزوج بأجنبي تزول عنها جنسيتها العثمانية، فإذا مات زوجها كان لها الحق بمقتضى المادة السابقة في أن تسترد جنسيتها الأصلية بأن تقرر ذلك الحكومة العثمانية في السنين الثلاث التالية لوفاة زوجها. قضت المادة الثامنة بأن تجنس الأب لا يستلزم تجنس أولاده وإن كانوا قاصرين , فإذا منح الأب امتياز التجنس بجنسية أجنبية فلا يشمل هذا الامتياز أولاده إلا إذا أرادوا ذلك , فإذا كانوا بالغين وقت تجنسه كان لهم الخيار في اتباعه أو بقائهم عثمانيين , فإن اختاروا الأول وجب عليهم طلبه من الحكومة , وإذا كانوا قاصرين كان لهم هذا الخيار عند بلوغهم وغني عن البيان أن هذه الحكم فضلاً عن موافقته لمعظم الشرائع الأوربية لم يقصد بوضعه الأخير الأولاد وفائدتهم , فإنهم قد يجدون في بعض الأحوال أنه ليس من الملائم لمصلحتهم أن يتبعوا آباءهم في الجنسية , بل قد يرون أن في ذلك ضررًا عليهم. لكن ذلك الحكم لا يسري على الأطفال الذين يولدون عقب تجنس أبيهم بالجنسية الأجنبية بل إن هؤلاء يتبعونه في جنسيته ويكونون من الدولة التي صار تابعًا لها. لا غرض من الشرط الذي جاء في نهاية القانون إلا بيان ما يتبع في حق الأشخاص الذين قد توجد أسباب صحيحة لاعتبارهم عثمانيين , وهم يدعون التابعية لدولة أجنبية بدون أن يكون في حالهم ما يؤيد دعواهم. فمن البديهي أنه عند حصول التنازع في تلك التابعية يجب على مدعيها أن يقدم للحكومة مايثبتها , وعلى جهات الحكومة أن تعتبره عثمانيًّا وتعامله معاملة العثمانيين ما دام موجودًا في بلاد الدولة حتى يقدم لها ذلك الإثبات. ولا يخفى على فطنتكم أن المادة الثامنة من القانون لم تغير شيئًا من الحقوق التي تكلفها للأجانب المعاهدات , ولم تعط لجهات الحكومة الحق في مخالفة اللوائح المبنية على تلك المعاهدات المتعلقة بمعاملاتها للأجانب. وإني في الختام أستلفت نظر حضرة الحاكم العام إلى أن التجنس بجنسية أجنبية لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يترتب عليه خلاص المتجنس مما يكون قد اتخذ في حقه من الإجراءات المدنية أو الجنائية قبل تجنسه من جهة الحكومة التي كان تابعًا لها. وأرجو أن تفرغوا جهدكم في اتباع هذه التعاليم بالدقة والجري على ما تقتضيه تأييدًا لأحكام القانون , وإني من أجل تسهيل أداء هذا الواجب عليكم سأرسل صورة منها إلى الدول الأجنبية المعتمدة لدى الباب العالي؛ لترسل من قبلها إلى عمالها في الولايات والأقاليم فيعلمونها) اهـ. أذاع الأرمن وأصدقاؤهم من الأميريكيين على رءوس الأشهاد أن هذا القانون الذي نقلت للقارئ صورته لا ينطبق إلا على الأرمن , بل على الأرمن الذين لم يتجنسوا إلا بجنسية الولايات المتحدة , وفي مجرد الاطلاع على القانون دلالة على أن هذه التهمة لم يقصد بها إلا تضليل الرأي العام، فهو متعلق بكافة من كانوا من رعايا الحكومة العثمانية , وخرجوا من تابعيتها بقطع النظر عن جنسهم أو دينهم , وبقطع النظر أيضًا عن تجنسهم في الولايات المتحدة أو في أي بلد من بلاد أوربا. على أن الأرمن لا يسعون وراء التجنس بجنسية أوربية , وذلك لأسباب ثلاثة: أولها: أن أوربا تعلم حقيقتهم على حين أن أمريكا تجهلها. ثانيها: أن ما يبذله المرسلون الأمريكيون من الجهد في تدينهم بدينهم وإيتائهم حظًّا من التربية مناصبة للدولة العثمانية بالعدوان على رأي موسيو كزيمنس يحدو بهم إلى ترجيح تابعية الولايات المتحدة. ثالثها: أن الأرمن يعتبرون قانون الجنسية الأمريكية أوفق لمصلحتهم وأنفع لإنفاذ مقاصدهم السرية؛ لأن تذاكر الجواز الأمريكية مثلاً لا تحتوى على شرط كالذي يوجد دائمًا في تذاكر الجواز الإنكليزية وهو: (أعطيت هذه التذاكر مفيدة بأن حاملها متى وجد داخل حدود الدولة الأجنبية التي كان تابعًا لها من قبل حصوله على الشهادة الدالة على تجنسه بالجنسية الإنكليزية لا يعتبر تابعًا للحكومة الإنكليزية ما لم تكن تابعيته لتلك الدولة قد زالت بمقتضى قوانينها أو بمقتضى معاهدة خاصة بذلك) . لها بقية (استلفات) نستلفت نظر صاحبي مجلة نور الإسلام التي أضيئت لإرشاد الأنام إلى مراعاة حقوق الصحافة بعزو النقل دائمًا إلى المجلات والجرائد والكتب التي ينقل منها , فقد نقلت عن مجلتنا (المنار) نبذة في الجواب عن آيتين كريمتين , ولم تعزُها إليها. (سؤال) ورد لنا من صيدا سؤال عن جواز أكل طعام أهل الكتاب وعدمه , ولا شك أن صاحبه يعلم أن أهل السنة على الجواز، والشيعة على عدمه , ولكنه يطلب البحث في أدلة الفريقين , وسنوافيه بذلك في الجزء الآتي. ((يتبع بمقال تالٍ))

القضاء والقدر

الكاتب: محمد عبده

_ القضاء والقدر قضت سنة الله فى خلقه بأن للعقائد القلبية سلطانًا على الأعمال البدنية , فما يكون فى الأعمال من صلاح أو فساد، فإنما مرجعه فساد العقيدة وصلاحها , على ما بينا فى بعض الأعداد الماضية , ورُب عقيدة واحدة تأخذ بأطراف الأفكار فيتبعها عقائد ومدركات أخرى , ثم تظهر على البدن بأعمال تلائم أثرها فى النفس , ورُب أصل من أصول الخير وقاعدة من قواعد الكمال إذا عرضت على الأنفس فى تعليم أو تبليغ شرع يقع فيها الاشتباه على فهم السامع فتلتبس عليه بما ليس من قبيلها , وتصادف عنده بعض الصفات الرديئة أو الاعتقادات الباطلة فيعلق بها عند الاعتقاد شيء مما تصادفه , وفى كلا الحالين يتغير وجهها ويختلف أثرها , وربما تتبعها عقائد فاسدة مبنية على الخطأ فى الفهم أو على خبث الاستعداد فتنشأ عنها أعمال غير صالحة , وذلك على غير علم من المعتقِد كيف اعتقد، ولا كيف يصرفه اعتقاده , والمغرور بالظواهر يظن أن تلك الأعمال إنما نشأت عن الاعتقاد بذلك الأصل وتلك القاعدة. ومن مثل هذا الانحراف فى الفهم وقع التحريف والتبديل فى بعض أصول الأديان غالبًا , بل هو علة البدع فى كل دين على الأغلب , وكثيرًا ما كان هذا الانحراف وما يتبعه من البدع منشأ لفساد الطباع وقبائح الأعمال حتى أفضى بمن ابتلاهم الله به إلى الهلاك وبئس المصير , وهذا ما يحمل بعض من لا خبرة لهم على الطعن فى دين من الأديان أو عقيدة من العقائد الحقة استنادًا إلى أعمال بعض السذج المنتسبين إلى الدين أو العقيدة. من ذلك عقيدة القضاء والقدر التى تعد من أصول العقائد فى الديانة الإسلامية الحقة , كثر فيها لغط المغفلين من الإفرنج وظنوا بها الظنون , وزعموا أنها ما تمكنت من نفوس قوم إلا وسلبتهم الهمة والقوة , وحكَّمت فيهم الضعف والضعة , ورموا المسلمين بصفات , ونسبوا إليهم أطوارًا , ثم حصروا علتها فى الاعتقاد بالقدر. قالوا: إن المسلمين فى فقر وفاقة وتأخر فى القوى الحربية والسياسية عن سائر الأمم , وقد نشأ فيهم فساد الأخلاق فكثر الكذب والنفاق والخيانة والتحاقد والتباغض وتفرقت كلمتهم وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة , وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم , وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون , ثم لا ينافسون غيرهم فى فضيلة , ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر فى إلحاق الضرر به , فجعلوا بأسهم بينهم , والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى. رضوا بكل عارض , واستعدوا لقبول كل حادث وركنوا إلى السكون فى كسور بيوتهم يسرحون فى مرعاهم ثم يعودون إلى مأواهم. الأمراءُ فيهم يقطعون أزمنتهم فى اللهو واللعب ومعاطاة الشهوات وعليهم حقوق وواجبات تستغرق فى أدائها أعمارهم ولا يؤدون شيئًا منها. يصرفون أموالهم فيما يقطعون به زمانهم إسرافًا وتبذيرًا , نفقاتهم واسعة ولكن لا يدخل فى حسابها شيء يعود على ملتهم بالمنفعة. يتخاذلون ويتنافرون وينيطون المصالح العمومية بمصالحهم الخصوصية , فرب تنافر بين أميرين يضيع أمة كاملة , كل منهما يخذل صاحبه ويستعدي عليه جاره فيجد الأجنبى فيهما قوة فانية وضعفًا قاتلاً، فينال من بلادهما ما لا يكلفه عددًا ولا عُدة. شملهم الخوف وعمهم الجبن والخور , يفزعون من الهمس ويألمون من اللمس. قعدوا عن الحركة إلى ما يلحقون به الأمم فى العزة والشوكة , وخالفوا فى ذلك أوامر دينهم مع رؤيتهم لجيرانهم، بل الذين تحت سلطتهم يتقدمون ويباهونهم بما يكسبون , وإذا أصاب قومًا من إخوانهم مصيبة أو عَدَت عليهم عادية لا يسعون فى تخفيف مصابهم , ولا ينبعثون لمناصرتهم , ولا توجد فيهم جمعيات ملية كبيرة لا جهرية ولا سرية يكون من مقاصدها إحياء الغيرة وتنبيه الحمية ومساعدة الضعفاء وحفظ الحق من بغى الأقوياء وتسلط الغرباء. هكذا نسبوا إلى المسلمين هذه الصفات وتلك الأطوار , وزعموا أن لا منشأ لها إلا اعتقادهم بالقضاء والقدر وتحويل جميع مهماتهم على القدرة الإلهية , وحكموا بأن المسلمين لو داموا على هذه العقيدة فلن تقوم لهم قائمة ولن ينالوا عزًّا ولن يعيدوا مجدًا , ولا يأخذون حقًّا ولا يدفعون تعديًا , ولا ينهضون بتقوية سلطان أو تأييد ملك , ولا يزال بهم الضعف يفعل في نفوسهم ويركس من طباعهم حتى يؤدي بهم إلى الفناء والزوال (والعياذ بالله) يفني بعضهم بعضًا بالمنازعات الخاصة , وما يسلم من أيدي بعضهم يحصده الأجانب. واعتقد اولئك الإفرنج أنه لا فرق بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وبين الاعتقاد بمذهب الجبرية القائلين بأن الإنسان مجبور محض في جميع أفعاله , وتوهموا أن المسلمين بعقيدة القضاء يرون أنفسهم كالريشة المعلقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما تميل , ومتى رسخ في نفوس قوم أنه لا اختيار لهم في قول ولا عمل ولا حركة ولا سكون - وإنما جميع ذلك بقوة جابرة وقدرة قاسرة - فلا ريب تتعطل قواهم , ويفقدون ثمرة ما وهبهم الله من المدارك والقوى , وتمحى من خواطرهم داعية السعي والكسب , وأجدر بهم بعد ذلك أن يتحولوا من عالم الوجود إلى عالم العدم. هكذا ظنت طائفة من الإفرنج , وذهب مذهبها كثيرون من ضعفاء العقول في المشرق , ولست أخشى أن أقول كذب الظان وأخطأ الواهم وأبطل الزاعم وافتروا على الله والمسلمين كذبًا. لا يوجد مسلم في هذا الوقت من سني وشيعي وزيدي ووهابي وخارجي يرى مذهب الجبر المحض , ويعتقد سلب الاختيار عن نفسه بالمرة , بل كل من هذه الطوائف المسلمة يعتقدون بأن لهم جزاءً اختياريًّا في أعمالهم , ويسمى بالكسب وهو مناط الثواب والعقاب عند جميعهم , وأنهم محاسبون بما وهبهم الله من هذا الجزء الاختياري , ومطالبون بامتثال جميع الأوامر الإلهية والنواهي الربانية الداعية إلى كل خير الهادية إلى كل فلاح , وأن هذا النوع من الاختيار هو مورد التكليف الشرعي , وبه تتم الحكمة والعدل. نعم كان بين المسلمين طائفة تسمى بالجبرية ذهبت إلى أن الإنسان مضطر في جميع أفعاله اضطرارًا لا يشوبه اختيار , وزعمت أن لا فرق بين أن يحرك الشخص فكه للأكل والمضغ وبين أن يتحرك بقفقفة البرد عند شدته , ومذهب هذه الطائفة يعده المسلمون من منازع السفسطة الفاسدة , وقد انقرض أرباب هذا المذهب في أواخر القرن الرابع من الهجرة ولم يبق لهم أثر. وليس الاعتقاد بالقضاء والقدر هو عين الاعتقاد بالجبر ولا من مقتضيات ذلك الاعتقاد كما ظنه أولئك الواهمون. الاعتقاد بالقضاء يؤيده الدليل القاطع , بل ترشد إليه الفطرة , ويسهل على كل من له فكر أن يلتفت إلى أن كل حادث له سبب يقارنه في الزمان , وأنه لا يرى من سلسلة الأسباب إلا ما هو حاضر لديه , ولا يعلم ماضيها إلا مبدع نظامها , وأن لكل منها مدخلاً ظاهرًا فيما بعده بتقدير العزيز العليم. وإرادة الإنسان إنما هي حلقة من حلقات تلك السلسلة , وليست الإرادة إلا أثرًا من آثار الإدراك , والإدراك انفعال النفس بما يعرض على الحواس , وشعورها بما أودع في الفطرة من الحاجات , فلظواهر الكون من السلطة على الفكر والإرادة ما لا ينكره أبله فضلاً عن عاقل , وأن مبدأ هذه الأسباب التي ترى في الظاهر مؤثرة إنما هي بيد مدبر الكون الأعظم الذي أبدع الأشياء على وفق حكمته , وجعل كل حادث تابعًا لشبهه كأنه جزء له، خصوصًا في العالم الإنساني. ولو فرضنا أن جاهلاً ضل عن الاعتراف بوجود إله صانع للعالم فليس في إمكانه أن يتملص من الاعتراف بتأثير الفواعل الطبيعية والتأثيرات الدهرية في الإرادات البشرية , فهل يستطيع إنسان أن يخرج بنفسه عن هذه السنة التي سنها الله في خلقه؟ هذا أمر يعترف به طلاب الحقائق فضلاً عن الواصلين , وإن بعضًا من حكماء الإفرنج وعلماء سياستهم التجأوا إلى الخضوع لسلطة القضاء وأطالوا البيان في إثباتها , ولسنا في حاجة إلى الاستشهاد بآرائهم. إن للتاريخ علمًا فوق الرواية عني بالبحث فيه العلماء من كل أمة , وهو العلم الباحث عن سير الأمم في صعودها وهبوطها وطبائع الحوادث العظيمة وخواصها وما ينشأ عنها من التغيير والتبديل في العادات والأخلاق والأفكار , بل في خصائص الإحساس الباطن والوجدان , وما يتبع ذلك كله من نشأة الأمم وتكوُّن الدول أو فناء بعضها واندراس أثره. هذا الفن الذي عدوه من أجلِّ الفنون الأدبية وأجزلها فائدة، بناء البحث فيه على الاعتقاد بالقضاء والقدر والإذعان بأن قوى البشر في قبضة مدبر للكائنات ومصرف للحادثات , ولو استقلت قدرة البشر بالتأثير ما انحط رفيع ولا ضعف قوي , ولا انهدم مجد ولا تقوض سلطان. الاعتقاد بالقضاء والقدر إذا تجرد عن شناعة الجبر يتبعه صفات الجراءة والإقدام وخلق الشجاعة والبسالة , ويبعث على اقتحام المهالك التي ترجف لها قلوب الأُسود , وتنشق منها مرائر النمور. هذا الاعتقاد يطبع الأنفس على الثبات واحتمال المكاره ومقارعة الأهوال , ويحليها بحلي الجود والسخاء , ويدعوها إلى الخروج من كل ما يعز عليها , بل يحملها على بذل الأرواح والتخلي عن نضرة الحياة، كل هذا في سبيل الحق الذي قد دعاها للاعتقاد بهذه العقيدة. الذي يعتقد بأن الأجل محدود , والرزق مكفول , والأشياء بيد الله يصرفها كما يشاء؛ كيف يرهب الموت في الدفاع عن حقه وإعلاء كلمة أمته أو ملته , والقيام بما فرض الله عليه من ذلك؟ وكيف يخشى الفقر مما ينفق من ماله في تعزيز الحق وتشييد المجد على حسب الأوامر الإلهية وأصول الاجتماعات البشرية؟ . امتدح الله المسلمين بهذا الاعتقاد مع بيان فضيلته في قوله الحق: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران: 173-174) اندفع المسلمون في أوائل نشأتهم إلى الممالك والأقطار يفتحونها ويتسلطون عليها فأدهشوا العقول وحيروا الألباب بما دوخوا الدول وقهروا الأمم , وامتدت سلطتهم من بلاد بيريني الفاصلة بين أسبانيا وفرنسا إلى جدار الصين مع قلة عددهم وعدم اعتيادهم على الأهوية المختلفة وطبائع الأقطار المتنوعة. أرغموا الملوك وأذلوا القياصرة والأكاسرة في مدة لا تتجاوز ثمانين سنة. إن هذا ليُعد من خوارق العادات وعظائم المعجزات. دمروا بلادًا ودكدكوا أطوادًا , ورفعوا فوق الأرض أرضًا ثانية من القسطل وطبقة أخرى من النقع , وسحقوا رؤوس الجبال تحت حوافر جيادهم وأقاموا بدلها جبالاً وتلالاً من رؤوس النابذين لسلطانهم , وأرجفوا كل قلب وأرعدوا كل فريصة , وما كان قائدهم وسائقهم إلى جميع هذا إلا الاعتقاد بالقضاء والقدر. هذا الاعتقاد هو الذي ثبتت به أقدام بعض الأعداد القليلة منهم أمام جيوش يغص بها الفضاء ويضيق بها بسيط الغبراء، فكشفوهم عن مواقعهم وردوهم على أعقابهم. بهذا الاعتقاد لمعت سيوفهم بالمشرق , وانقضت شهبها على الحيارى في هبوات الحروب من أهل المغرب , وهو الذي حملهم على بذل أموالهم وجميع ما يملكون من رزق في سبيل إعلاء كلمتهم لا يخشون فقرًا ولا يخافون فاقة. هذا الاعتقاد هو الذي سهل عليهم حمل أولادهم ونسائهم ومن يكون في حجورهم إلى ساحات القتال في أقصى بلاد العالم كأنما يسيرون إلى الحدائق والرياض , وكأن

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر (باب الولد من كتاب) (10) من أراسم إلى هيلانة فى 3 يونية سنة -185 أظن أن ما ينسب للاعتقاد الدينى من التأثير فى طباع الناس وأخلاقهم مُبالغ فيه كثيرًا [1] وعلى كل حال فالتصديق بأن الإنسان يوفى جزاء أعماله في دار أخرى بعد هذه الدار يُعرِّض صاحبه لأنواع من خيبة الآمال تكون آلامها صعبة الاحتمال , فإنه إذا هبت عليه أعاصير الشُّبه في مستقبل أيامه فزعزعت أركان عقيدته التي بنيت عليها الفروض والواجبات فلا تلبث دعائم تربيته الأولى أن تنهار انهيارًا تامًّا فكيف نرجو إذن في هذا العصر الذي ثارت فيه الشكوك , وأطلقت حرية النظر أن لا تؤثر عوارض الشبه في عقائد الطفل إذا كبر , وهي إنما تفرغ في مخه حال صغره إفراغًا , وتلصق به لصقًا إن صح أن يقال ذلك؟ فالذي أتمناه (لأميل) هو أن يكون له وجدان مستقل عن الإيمان , وليس يهدأ لي بال ولا يطمئن لي قلب على سلامة شرفه وتهذيب نفسه إلا بحصول هذه الأمنية , إني كثيرًا ما سمعت بعض المسيحيين إذا عصى أولادهم أوامرهم يهددونهم تهديدًا وحشيًّا وهم في شدة حنقهم بقولهم لهم: سيعاقبكم الله ويهلككم , وكنت كلما سمعت منهم ذلك تقلص جميع دمي من عروقي إلى قلبي غيظًا وغمًّا. فليت شعري هل الاستغاثة بأحكم الحاكمين على تنفيذ عقوباتنا السافلة في الأطفال والاستصراخ بالذات العلية لتشفي غلنا بالانتقام لنا منهم واقتضاء فعل الشر من الله ليسكن بذلك وجدنا عليهم- هل كل ذلك هو ما يعبر عنه بتأسيس علم الأخلاق على الاعتقاد الديني؟ كأني بك تقولين: إنك لم تختر من أمثلة التربية الدينية لتوجيه انتقادك إلا أردأها وأحقها بالطعن، فأقول: نعم , ولكن هذه التربية على كل حال فيها عيب شنيع جدًّا وهو إلزام الناشئ في سيرته بأعمال لا يدرك عللها , فلو أني قلت للطفل: يجب عليك أن تكون مؤدبًا عاقلاً لتكون محبوبًا عند الله، لكان ذلك منى بلا شك ألغازًا وتعميةً لأنه لا يعرف ما هو الله , ولا يعرف علامة يميز بها ما يرضيه وما يغضبه , وأما إن قلت له: يجب عليك التزام الأدب لتحبك أمك، فإنه يفهم هذه العلة أكثر من سابقتها بكثير. من تكلم في الدين مع طفل حديث السن جدًّا فإنما يريد منه أن يفسد معنى ما يؤديه إليه من الأفكار الدينية , ويقلب المراد منها، فلو أن الأم أشارت بيدها إلى السماء دلالة لولدها على أنها هي محل الذات الذي يجب أن يتوجه إليه بدعائه , لتوهم أن هذه السماء الدنيا المادية هي إلهه. أنا أعلم أن كثيرًا من الآباء لا يهتمون بهذا الأمر كثيرًا , ولا ينظرون فيه نظرًا بليغًا , ولكونهم ممن يشكون في كل شيء؛ ترينهم يلزمون أولادهم بأداء بعض الأعمال الدينية التي هم أنفسهم لا يؤدونها , أو إنما يؤدونها أمامهم فقط , فكأنه لا أهمية للصواب والخطأ في حق هؤلاء الأطفال ولا نتيجة لهما , وأن أهم شيء في حقهم هو أن تكون باكورة أعمالهم في أول حياتهم اتباع ما جرى عليه الناس من العوائد مع إرجاء النظر فيها إلى المستقبل. وحينئذ فمثل هؤلاء الآباء يتسببون في إفساد وجدان أبنائهم وقوتهم الحاكمة بخفتهم وطيشهم أو عدم اكتراثهم بشأنهم , فأنا أتحامى الأديان التي يكون شأن الآخذين بها فيها كشأن من لا يؤمنون بها بالمرة أو من لا يؤمنون بها إلا إيمانًا ناقصًا فإنها أضر الأديان بكرامة الإنسان. فاحترامًا لأميل ولطائفة من المعاني التي يجب أن ينظر فيها متى كبر بفكر خالٍ من التأثر بغيرها؛ أود أن يُجتنَب في تربيته زمن طفوليته الخوض في المسائل الدينية , فإننا مؤتمنون على عقله وعلى حرية ضميره , ومسئولون عن ذلك , فإذا نحن عجلنا بحرمانه من حق النظر فقد ثلمنا أمانتنا اهـ. (المنار) أبان كلام المؤلف عن عدم عنايته بالدين كما تقدم في الهامش , ولكن له وجهًا في شيء واحد وهو عدم تلقين الطفل كثيرًا من أمور الدين في وقت لا يعقل منها شيئًا , فما تكون إلا كلمات يعتادها لسانه ولا يكون لها أثر في نفسه. مثال ذلك: الأيمان التي يحلفون بها أمامه , أو يكلفونه الحلف بها , ومنها التخويف الذي ذكره، فإذا كبر وفهم معاني ما تلقنه بالمعاملة والمعاشرة تكون عند العمل كسائر العادات التي يفعلها من غير ملاحظة معناها وبدون تأثر بها , بخلاف ما إذا كان لا يلقى إليه شيء من أمور الدين إلا إذا استعد لفهمه وتدبره , ولذلك حكمت الشريعة الإسلامية بأن لا يعلم الطفل الدين إلا في سن التمييز , ولا يكلف به إلا إذا بلغ رشده. ((يتبع بمقال تالٍ))

ختام درس المنطق للأستاذ الأكبر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ختام درس المنطق للأستاذ الأكبر في الجامع الأزهر لا خلاف في أن العلوم والمعارف بدأ ينزوي نورها، ويغيض معينها في بلاد الشرق من عدة قرون، ولم يكن الشرق إلا الإسلام والمسلمين حيث لا علم إلا علمهم , ولا مدنية إلا مدنيتهم , وقد اقتضت حوادث الكون بأن ينتبه المسلمون من رقادهم كما انتبه غيرهم , وكانوا أحق بالسبق والتقدم، وكلما انتبه فرد انتباهًا حقيقيًّا عني بتنبيه غيره، سُنة الله في الخلق. وأشهر المنتبهين والمنبهين لإحياء العلوم في المسلمين لهذا العهد هو مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية. أخذ - حفظه الله - على نفسه إيقاظ أهل الأزهر الشريف وإرشادهم لطريقة التعليم المثلى , فلقي في ذلك من العناء ما كان يلقاه المصلحون من قبله في كل زمان ومكان , وعلم أن الإرشاد بالقول قليل الجدوى؛ فصار يقرأ الدروس بنفسه مع كثرة أعماله الأخرى في خدمة بلاده , وفي ليلة الأربعاء الماضية أتم كتاب (البصائر النصيرية) في علم المنطق , وقد احتفل بختامه في الرواق العباسي كما هي عادة الأزهريين احتفالاً قرئت فيه الخطب والقصائد في الثناء على الأستاذ , وكان الأولى أن تتوجه أفكارهم إلى بيان طرق الإصلاح الذي امتاز بها درسه , والأقطاب التي كان يدور عليها كلامه وترمي إليها سهامه، ومرجعها الى أصلين: (أحدهما) اختيار الكتاب , فإن الناس يختارون في كل طور وحال ما يناسب درجتهم واستعدادهم , ولضعف العلم في القرون الأخيرة صار العلماء لا يقرءون إلا كتب المتأخرين , والتي كتب عليها الشروح والحواشي الملأى بالمنازعات والمحاورات في الأساليب العرفية التي تُضعف العلم واللغة جميعًا كما هو المشاهَد. ولا يكاد يتجرأ عالم على قراءة كتاب من كتب الجهابذة المتقدمين التي لم تشرح ولم تعلق عليها الحواشي ويسمونها (غير مخدومة) فعلَّمنا الأستاذ باختيار (البصائر النصرية) الذي هو أمثل كتاب رأيناه في المنطق كيف تُختار الكتب النافعة التي لم نتلقها بالمدارسة , وعلق عليه شرحًا وجيزًا بيَّن غوامضه وأصلح ما عساه يوجد فيه من الخطأ مما لا يخلو عنه غير كلام المعصوم , فعلَّمنا بذلك كيف ينبغي أن تكون الشروح , وكيف أن المتمكن من العلم لا يهاب الكتب , ولا يتقيد بالعبارات التي ألفها وتعلمها. (ثانيها) الإلقاء والتقرير - علَّمنا بذلك كيف تتجلى الحقائق بالصور المختلفة , وتتحلى المعاني بالصيغ المتعددة؛ ليعتقنا من رق العبارات ويفكنا من أسر الألفاظ التي استبدت بالحكم فينا زمنًا طويلاً - علّمنا كيف ضلت الأفهام وغلبت الأوهام. وكيف أطفأ دخان التقاليد النظرية ما في العقول من أنوار العلوم اليقينية لنطلب العلم ببرهانه ونأخذ الشيء بربَّانه - علّمنا كيف تتضاءل الشبه افتضاحًا , وتتبختر الحجج اتضاحًا , وكيف يفرغ البيان العويص من النظريات في قوالب البديهيات؛ لتقوى منا العزائم ونقدم على العظائم - علّمنا كيف نطلب العلم بالعمل بمسائله والتحقق بدلائله وملاحظة انطباقه على الواقع وموافقته للوجود؛ لنُحصِّل ثمرة قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم) - علَّمنا كيف تتمحص الحقائق للوصول إلى اليقين بالعلم والجزم بالفهم ليخرجنا من الحيرة في طريقة التعليم المألوفة لهذا العهد: طريقة الاحتمال وسرد الأقوال - علمنا بحاله ومقاله كيف يرتقي العلم , وكيف يأتي المتأخر بما لم تأت به الأوائل؛ لينزع من نفوسنا التسليم بأن الإنسان دائمًا في تدلٍّ وهوي لا في تقدم ورقي , فإن التقدم مع هذا الاعتقاد محال - علَّمنا كيف يكون العلم صفة من صفات العالم تنفعل به نفسه وتتكيف به روحه ليرشدنا الى أن الصور والخيالات التي تلوح في الأذهان وتتراءى في الأفكار عندما تنشر الصحف وتعرض على الأنظار نقوش الكتب ليس من العلم في شيء. ولو شئت أن أستشهد على كل بشيء مما قلته بشئ مما جاء في درس المنطق لفعلت , وأظن أن نبهاء الطلاب الذين حضروه يكتفون بهذه الإشارات ولا ينسون كيف فند الأستاذ كلام أفلاطون وأصلح رأي أرسطو في الماهيات , ولا يغيب عن أذهانهم ذلك التحقيق العجيب في معنى الوجود , وأنه جنس الأجناس وجوهر الجواهر , ولا ينكرون أنهم لم يفهموا معنى الوجود إلا في ذلك اليوم , كما لا يغيب عن عقولهم ذلك التحقيق البديع في معنى العدم , وأنه لا حقيقة له , ولا يمكن تصوره، فحيَّا الله من علَّمنا كيف نفرق بين الوجود والعدم، وأظن أنهم يتذكرون ذلك السائل الذي سأله منهم عن مفهوم (شريك الباري) وقول المنطقييين: إنه من الكليات التي لم يوجد لها أفراد , ويتذكرون جواب فضيلته الذي يتدفق حكمة وإيمانًا وعلمًا وإيقانًا الذي أثبت فيه أن ذلك المفهوم من الصور الخيالية المخترعة التي لا حقيقة لها ولا يمكن تصورها , وما جعلها من الكليات إلا نقص العلم وخطأ الفهم إلخ ما لا محل له هنا لإيضاحه وتفصيله. تُليت القصائد والخطب احتفالاً بختام الدرس كما قلنا , والرواق العباسي غاص بالناس يزاحم العلماء والمدرسون فيه الطلاب والمجاورين , وعلم الأستاذ أن ما سيلقى كثير فختم المجلس بخطاب بليغ ابتدأه بهضم نفسه بإزاء الإطراء في المدح مع شكر من يظن به خيرًا. وقال: أحسن الكلام ما كان صادقًا مطابقًا للواقع , وإنما يذهب مذاهب المبالغة في قوله من كان مجازفًا في رأيه وإن كان العلماء توسعوا في التسامح بالمبالغة والتشبيهات والاستعارات ولم يعدوها من الكذب وسنذكر ما علق بالذهن من خطابه في الجزء الآتي.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (خط الحديد الحجازي) حيَّا الله الذات السلطانية الحميدية وبياها , وأمدها بالعناية والتوفيق وقواها , فقد أصدرت إرادتها السَّنية بالتبرع بخمسين ألف ليرا عثمانية إعانة لهذا الخط الشريف الذي هو أفضل آثارها من تالد وطريف. وتعلقت الإرادة الشريفة أيضًا بإنجاز هذا العمل الميمون في مدة لا تزيد على أربع سنين. وكنا ذكرنا أنه تقرر أن تكون جميع الأدوات واللوازم فيه إسلامية عثمانية , ولكن تبين أن معامل إدارة البحر في الأستانة لا تقدر أن تصنع أكثر من 250 متر من الخطوط في اليوم (أي 150متر من هذه الخطوط) وذلك يقتضي أن تزيد المدة على أربع سنين , كما أن النفقة تكون أكثر من نفقة ابتياعها من أوربا؛ لأن المعامل المذكورة غير مستعدة تمام الاستعداد , ويعوزها لهذا إنشاء معمل جديد، ولذلك تقرر أخيرًا أن تبتاع من أوربا. وتهتم اللجنة العليا التي يرأسها مولانا السلطان الأعظم بكليات هذا العمل وجزئياته وأصوله وفروعه، فبلَّغت السرعسكرية بأن ترسل إلى سوريا الجنود العاملين به وبلغت نظارة الغابات والخراج بإرسال الأخشاب اللازمة من غابات بيجيه ومنتشا , وسترسل القضبان الحديدية الموجودة في مستودعات البحرية عاجلاً وطول الخط 1900كيلو متر. *** (إعانة المسلمين للعمل) تتوجه رغبات المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لهذه الإعانة الشريفة لأنها تتعلق بإقامة ركن من أهم أركان دينهم , وقد باشروا بهذا فعلاً , وذكرت لنا جرائد بيروت أنه قد تألفت لجنة فيها من الأعيان برئاسة عطوفة واليها الهمام لأجل الاكتتاب , فجمع في مدة قريبة مبلغ 212350 غرشًا. فنستنهض الآن همة المصريين العالية , ونستفيض ههنا مكارم أسخيائهم الهامية , ونُرغِّب إلى جميع الجرائد الوطنية - ونخص بالذكر الإسلامية - بأن يوالوا الحث والتخضيض ويداوموا الترغيب والتحريض على مسارعة أهل هذا القطر ومسابقة إخوانهم في هذا الامر , ولا نلبث أن نسمع أخبار الأقطار النائية والبلاد القاصية يتنافسون في إعانة هذا المشروع العظيم، والله ولي المحسنين. *** (وفاة الأمير العاقل) نعت إلينا أخبار الحجاز رجل الشهامة والفضل والسخاء والنبل، كبير أمراء عكار: محمد باشا المحمد، المعدود من أفراد الرجال في طرابلس الشام في السياسة والرياسة وعمل البر والإحسان، وأكبر مآثره المدرسة الإسلامية التي أنشأها في قرية مشحا , وصدرت الإرادة السلطانية بأن تسمى المدرسة الحميدية , وأهداها مولانا السلطان الأعظم مكتبة نفيسة أرسلها بخزاناتها من دار السعادة، وأنعم على الفقيد يومئذ برتبة ميرميران , وبالمداليا الذهبية والفضية وكان - رحمه الله - واسع الاطلاع في التاريخ والأدب حتى كان يمتاز على مجالسيه في كل نادٍ وسامر , وينفرد عن كل من نعرف بالإحاطة بأحوال قبائل العرب لهذا العهد. توفاه الله في المدينة المنورة بعد أداء فريضة الحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم , فنعزي أنجاله الكرام وأسرته وسائر أهل الفضل به. *** (إزالة وهم) فهم بعض الناس أن انتقادنا على الذين طعنوا في الديانة النصرانية عند الرد على هانوتو (في ص253 من الجزء الماضي) يوهم أن صاحب جريدة المؤيد منهم؛ لأن الانتقاد جاء بعد ذكر مناقشته مع الأهرام , وإننا نبرئ المؤيد وصاحبه الفاضل من ذلك , ونعرف بأنه أبعد الناس عن الطعن في الأديان وجرح إحساس أصحابها. *** أرجأنا مسألة حِل طعام أهل الكتاب للجزء الآتي لضيق المقام.

قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قليل من الحقائق عن تركيا في عهد جلالة السلطان عبد الحميد الثاني الأرمن وفتنتهم (تابع ما قبله وهو ختام الرسالة) فلو أن تذاكر الجواز الأمريكية كانت تتضمن مثل هذا الشرط المبني على الحكمة والسداد، لبادر الأرمن إلى ترك التجنس بالجنسية الأمريكية تركًا تامًّا لأنهم إنما يلجأون إليه لتكون حكومة الولايات المتحدة مِجنًّا لهم يقلبونه في وجه الحكومة العثمانية , ولكان في ذلك التَّرك راحة عظمى لنظارة الخارجية في واشنطن. إن تجنس الأرمن يكاد يكون دائمًا مبنيًّا على نية سيئة , وإنما يقصد به استخدام الحكومة الأمريكية لإيصال الضرر بتركيا متى كان ذلك في الإمكان يتبين ذلك من جملة اقتبسناها من تقرير رسمي كتبه في 29سبتمبر سنة1893 المستر إسكندر تريل أسقف الولايات المتحدة الحالي في القسطنطينية وهو معروف بكفاءته وسعة علمه قال: (إن المهاجرين الأوربيين في الولايات المتحدة يتجنسون بالجنسية الأمريكية عن قصد حسن في الجملة , وأما المهاجرون الأسيويون فحسن النية فيهم نادر جدًّا , وإني في مكان أعرف فيه أن رجوع الأرمني إلى بلاده بعد تجنسه على نية البقاء فيها هو القاعدة التي لا يخالفها إلا شذوذًا) . تلك شهادة جاءت من قبل رئيس المبعوثين الأمريكيين الذين يمالئون ثوار الأرمن في جميع الأمور , ويحرضونهم على تركيا , وهذه الشهادة مبنية على التقارير التي رفعها لوكلاء الدول من عهد غير بعيد لجنة التحقيق الأمريكية التي عوضًا عن أن تنصح للأرمن أن يكونوا من رعايا السلطان المطيعين , وأن يلتزموا السكوت الذي يستلزمه الشرف والوقار حتى تعلم نتيجة تحقيق المشاغب التي حصلت في ساسون، كانت ترى أن من أهم واجباتها أن تثبت وقوع مذابح لم تكترث بها الحكومة العثمانية على أنها كان يجب عليها أن تعلم أن هذه الحكومة لم تساعد على وقوع أية مذبحة كانت , وأن نفس وجود البعثات والمدارس الأمريكية في تركيا وكون غرضها الأصلي نصر المذهب البروتستانتي بين الأرمن , وحملهم على الأخذ به؛ مما يثبت بلا شك أن أوضاع الترك ونظاماتهم مبنية على التسامح والتساهل، فإذا استمر المبعوثون الأمريكيون على ممالأة الأرمن المتذمرين في تركيا كانت سياستهم هذه مخالفة لإرادة الحكومة الأمريكية وشعبها , فإن تركيا على أي حال يجب أن تحافظ على السكينة والأمن في بلادها مهما كلفها ذلك , ولا يمكن أن تتغاضى عن الدسائس الأجنبية التي يحاول المفسدون بها في أرجائها , وهي محقة إذا ثار عضبها لقراءة مثل هذه الجملة التي كتبها أحد الأرمن عن اشتراك الأمريكيين في حوادث بلغاريا التي حصلت سنة1875 ضمن رسالة بعث بها للجريدة المسماة (منادي يوستون) وهى: (قد علمت من زمن غير بعيد أن القسيس المحترم سيروس هملن كان يكتب مكاتيب وِدّ وتشجيع للجمعيات المختلفة التي كانت تعقد في هذه البلاد (تركيا) تعضيدًا لمقاصد الأرمن , وعباراتها صريحة في الدلالة على انتصاره لدعوتهم , وقد سمعته يخطب من بضع سنين مضت في إمهارست التابعة لماس (بأمريكا) ولشد ما كان يفتخر في خطبته على سامعيه بأهمية العمل الذي قام به البلغاريون المتخرجون من كلية روبرت وهو حصولهم على حرية وطنهم واستقلاله وأنا أسأل هذا القسيس المحترم عما إذا لم يكن عالمًا بوجود شركات عقدت للحث على حب الوطن والدفاع عنه بين أولئك الطلبة البلغاريين إلخ.. . لقد صدق الفرنساويون إذ يقولون في أمثالهم: لا يغشك إلا أصدقاؤك , فليعلم الأمريكيون ومجلس إدارتهم أنه ليس من الواجب عليهم ولا مما هم منوطون به أن يساعدوا أي صنف من الناس في تركيا على نوال (حريته واستقلاله) ولا أن يمالئوا الجمعيات السرية فيها , ولا أن يتهموا الحكومة العثمانية أمام العالم بالمذابح التي لم توجد , ولا يمكن أن توجد في الحقيقة والواقع , وإنما الواجب الذي ينبغي عليهم مراعاته هو أمر هين بسيط ينحصر في رعايتهم قوانين البلاد التي أكرمت مثواهم رعاية تامة في أفعالهم وأقوالهم , فإنه إذا كان من المستغرب أن أولئك المبعوثين عوضًا أن يخصوا بعناياتهم ونواياهم الحسنة هنود أمريكا وزنوجها، اختاروا الذهاب إلى تركيا لتربية الأرمن على طريقة مخصوصة , وحملهم على التدين بالمذهب البروتستانتي ما أمكنهم , وكان من المحقق أن الباب العالي يأذن لهم بممارسة عملهم طيبة بذلك نفسه بفضل تعاليم دينه السائد التي تحث على التسامح والتساهل , فلم يكن أحد ممن يحبون الإنصاف وحرية الضمير ليقدر أن يلوم تركيا على إظهارها الاستياء مما يقوله هؤلاء المبعوثون على رؤوس الأشهاد , ويكتبون من العبارات الدالة على معاداتهم ومباغضتهم لها , والمفضية حتمًا إلى توسيع خرق الفتنة والمشاغب في بلادها , ولا شك في أن الولايات المتحدة لا ترضى بهذه المظاهرة العدائية الموجبة لمعاقبة صاحبها إذا حصلت في بلادها من أي طائفة من المبعوثين جاءت إليها بقصد تربية الهنود مثلاً ونشر دينها بينهم، خصوصًا إذا كان هؤلاء لهم مقاصد ثوروية كالأرمن المعترفين بذلك، فالذي يكون صوابًا في حق الولايات المتحدة لماذا لا يكون كذلك في حق تركيا؟ الفتنة الأرمنية التي بنيت على أكاذيب ومبالغات , وعلى خطة رسمت وصمم عليها من قبل كما بين ذلك القسيس المحترم سايروس هملن نفسه , وأعان الأرمن عليها كثير من الناس , وساعدوهم على إضرام نارهم لمجرد أنهم مسيحيون , وذلك ما يثبت أن الذي يغري أعداء تركيا بها هو غلوهم في الدين لا غيره , ولولا ذلك لما كانت مفتريات ثوار الأرمن الخارجة عن حد العقل وقعت موقع التصديق عند أناس يصفون أنفسهم بالنزاهة وعدم التشيع , ولما علقت عليها الشروح والتأويلات بدون أن يقوم عليها شيء من البراهين والأدلة المقنعة. من أجل ذلك قد علمت تركيا الآن أنها لا يمكنها أن تعتمد على مليكها، فهي تفتخر به لتنظيم ماليتها وإعلاء شأن جيشها , وإدخال الإصلاحات القويمة في كل فرع من فروع إدارتها , وتعجب بما يدهشها من صدق عزيمته وسمو مداركه وكرم نفسه , وتعلم حق العلم أنها ما دامت في ظل رعايته لا تخاف ضيرًا من أعدائها سواء في ذلك الأباعد والأقارب , وأنها لما كان اعتقادها فيه مبنيًّا على حقائق ثابتة كان السلطان عبد الحميد الثانى حقيقة ملكًا عظيم الشأن. انتهت الرسالة. والله أعلم

مدنية العرب - 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدنية العرب النبذة الأولى مقدمة تمهيدية اليوم نبدأ بالوفاء بما وعدنا به في الجزء التاسع من الكلام في مدنية العرب , ولهذا الكلام فوائد ننبه عليها في فاتحة القول؛ لأن العلم بالفائدة والثمرة ينبغي تقديمه كما قالوا ليكون الطالب على بصيرة فيما يطلب فينتفع به. (الفائدة الأولى) وهي أهمها، بيان أن تلك المدنية ما نالها العرب إلا بدينهم لأنهم كانوا قبل الإسلام أبعد الأمم عنها , وبهذا تسقط شبهة الذين يزعمون أن دين الاسلام هو الحجاب المسدول بين المسلمين وبين المدنية الحاضرة في هذا العصر؛ لأن الشيء الواحد لا تصدر عنه آثار متناقضة متباينة. وهؤلاء الزاعمون كلهم لا يعرفون حقيقة الإسلام , وإن كان منهم من ينتسب إليه ويلبس لباس خواص أهله. (الفائدة الثانية) إزالة شبهة الذين يحتقرون هذا الشعب (العربي) الشريف , ويتوهمون أنه لا قابلية فيه للمدنية والارتقاء , وإن تسنى له من أسبابهما ما تسنى لأن له طبيعة خاصة به , وهي الجهل والتفرق والبعد عن النظام والاستبداد بالحكم وغير ذلك من النعوت القبيحة التي يرمينا بها الجاهلون بتاريخنا وبطبائع الملل. (الفائدة الثالثة) استنهاض الهمم وحث النفوس على إحياء مجد أمتنا السابق واسترجاع ما استأثر به الأجانب من تراث سلفنا الصالح، وهو العلوم النافعة والأعمال الرافعة والسجايا الحميدة والمآثر المفيدة؛ لنُساير بذلك الأمم الحية ونُجاري الشعوب المرتقية قبل أن تغمرنا سلطتها ونذوب فيها ذوبانًا حتى لا يبقى لنا هيئة ملية نتميز بها. (الفائدة الرابعة) معرفة التاريخ الصحيح على الوجه الذي يعطي صاحبه البصيرة ويمنحه الاعتبار , فإن ما كتب في التاريخ العربي لم يكتب على الطريقة الحديثة التي تتجلى فيها الحوادث بعللها وغاياتها , وتتمثل الحقائق بمقدماتها ونتائجها , ويوضع كل شيء في موضعه , ويقرن كل أمر بملائمه ومناسبه , ويتبع هذه الفائدة ما في التاريخ من الفوائد الكثيرة. العناية بتاريخ العرب والعمل لإحياء مجد العرب هو عين العمل للوحدة الإسلامية التي ما وجدت في القرون الأولى إلا بالعرب , ولن تعود في هذا القرن إلا بهم متحدين ومتفقين مع سائر الأجناس لأن المقوم لها هو الدين الإسلامي نفسه وإنما الدين كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام , وهما عربيان , ولا يفهم الدين من لا يفهمهما فهمًا صحيحًا , ولا يفهمهما أحد على هذا الوجه إلا اذا كان يفهم لغتهما الشريفة , ومن كان له هذا الفهم فهو عربي باصطلاحنا لأننا لا نعني بالعرب من لهم نسب يتصل بإحدى القبائل العربية فقط؛ إذ ليس غرضنا التعصب للجنسيات , بل إن هذا مما نُنَفِّر عنه ونذمه , وننتقد كل من يقول به. المدنية العربية التي نفتخر بها لم يكن رجالها من صميم العرب أصحاب النسب الصريح , ولكن الأعجمي منهم لم تكن علومه ومعارفه بلغته الأعجمية , وإنما كان الباعث له عليها والراقي بهمته إليها هو النور الذي أشرق في أفق عقله من سماء البلاد العربية , والديانة التي تلقاها باللسان العربي. ولقد صدق الحكيم ابن خلدون في قوله: (إن مثل الزمخشري وعبد القاهر من فرسان الكلام وجهابذة اللسان العربي لم يكونوا أعاجم إلا في النسب فقط) . ومما يحسن التنبيه عليه في هذه المقدمة أن بعض المتنفجين الذين يدَّعون بأكثر مما عندهم يرون أن الكلام في مدنية العرب وتذكير هذا الشعب الذي يحكم الفقه الإسلامي بأنه أفضل الشعوب بمجد سلفه وحثه على العلوم والأعمال النافعة - كل ذلك مضر بالمسلمين لأن غايته نزع الخلافة الدينية من بني عثمان , وهو تفريق يعود على الأمة بالخيبة والخسران , ويروج هذا القول الزائف على البسطاء هذه الكلمة الصحيحة , وهي أن محاولة نزع الخلافة من العثمانيين فيه تفريق المسلمين وبلاء كبير على الأمة , ولكن هذا التفريق وما يتبعه من البلاء والشقاء ليس لازمًا من لوازم العلم والتهذيب والعمل والكسب التي يستحيل أن تنهض أمة وتحفظ وجودها بدونها , ولو فرضنا أن ذلك من لوازمها لما كان لنا أن نتركها لأن ترك هذا الملزوم أو الملزومات أشد ضررًا وأعظم خطرًا. وكأني بالأحمق الذي يقول بهذا التَّرك يرتأي أن يبقى أشرف عناصر الأمة الإسلامية في الدرك الأسفل من الجهل والغباوة والفقر والفاقة والذل والمهانة لأجل المحافظة على لقب (خليفة) في أسرة مخصوصة , وإنما قلت: المحافظة على اللقب؛ لأن الخلافة الحقيقية لا تثبت لآل عثمان فضلاً عن غيرهم إلا بقوة الملة والدين , وهذه القوة منبعها العرب وسياجها العلم والثروة , فيجب أن يكونا عامَّين في العرب كغيرهم بل العرب أولى بهذا وأجدر. على أن الجهل والفاقة مثاران لكل بلاء وشقاء , فما دام العرب على جهلهم وفقرهم لا نأمن أن يغش بعض أمرائهم غاش من الأجانب فيحمله على طلب الخلافة , والأمة الجاهلة تكون مستعبدة لأمرائها وحكامها , فيتم بذلك التفريق المخوف والعلم هدى ونور، فإذا فشا في الأمة تأمن به كل غائلة ونائبة حتى إذا تسنى لأجنبي أن يغش أميرًا منها لا يتسنى له أن يغش معه الرأي العام , وما دام الرأي العام على بصيرة فلا خوف ولا خطر لأن القوة التي لا تبالغ ولا تقاوم هي قوة الشعب والأمة. وقد بينا رأينا في مسألة الخلافة من قبل , وفندنا أقوال المرجفين الذين يزعمون أن من المسلمين من يسعى لها سعيًا , وأثبتنا أن هذه غاية لا تدرك بسعي أمير من الأمراء أو جمعية من الجمعيات , وأن الخوض فيها مضر لأنه يوهم البسطاء إمكان نزعها من قرابها وتحويلها من مكانها والأمر منوط برأي السواد الأعظم من الأمة , وأين رأي السواد الأعظم من لغط اللاغطين وإرجاف المرجفين وأي جاهل يقول: إن السواد الأعظم إذا أقرّ على شيء يكون ذلك الشيء تفريقًا؟ وهل للاجتماع والاتحاد معنى إلا هذا؟ . نعم لقائل أن يقول: إن المنار قام منذ إنشائه يدعو إلى الوحدة الإسلامية ويخاطب بكلامه الأمة كافة وينعي على من يقول بالوطنية والجنسية , فكيف قام في هذه الأشهر ينوّه بالعرب خاصة ويخاطبهم بالإصلاح من دون سائر الأجناس؟ والجواب عن هذا يفهمه الذكيّ النبه من المقالات السابقة , ونزيده إيضاحًا مراعاة لسائر الأفهام فنقول: إننا في مقالاتنا (الوحدة العربية) و (الترك والعرب) لم نخرج عن التوحيد والتأليف بين العناصر كلها , وإنما أشرنا إلى عرض نزعات التعصب الجنسي عند الترك لأن الطبيب لا بدّ له من تشخيص المرض والتعريف بالداء قبل وصف الدواء وطرق العلاج , و (من كتم داءه قتله وأماته) ولا شيء يقربنا من إخواننا الأتراك ويجعل لنا قيمة في نفوسهم وبهاء في أعينهم، إلا اعتقادهم بأننا شعب يفهم ويشعر، فيُسر بالكرامة ويتألم من الإهانة , وأن مسرته نافعة لهم وتألمه ضار بهم (ومن لم يكرم نفسه لا يكرم) وقد صرحنا من قبل بأننا لا نعني بالوحدة العربية أن ينفصل العرب عن سائر المسلمين أو عن الترك خاصة , بل نعني به أن كل شعب يجتهد في ترقية نفسه ملاحظًا أن في ترقيه ترقيًا لسائر الشعوب التي تتكون منها الأمة , وسعادته من متمات سعادتهم , ولكننني لا أنكر أنني أرجو أن يظهر تأثير كلامي في قومي (العرب) الذين يقرءونه ويفهمونه , وهذا ما يحملني على أن أخصهم بالذكر أحيانًا , وأن من الجرائد الإسلامية من لا يتكلم في المواضيع الإرشادية إلا مع أهل بلاده خاصة حتى إنه لا يتجاوز ذلك إلى إرشاد جيرانها من الناطقين بلغتها كما ترى في أكثر الجرائد المصرية بالنسبة للبلاد السورية والحجازية والمغربية وذلك أن الإنسان يراعي في مثل هذا الأقرب فالأقرب , على أننا اقترحنا في مقالات الإصلاح الديني التي نشرت في المجلد الأول أن يكون بين علماء المسلمين وخطبائهم وكتابهم روابط وتعارف ومشاركة في الفكر لأجل أن يكون الإرشاد على طريقة واحدة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. ((يتبع بمقال تالٍ))

الاحتفال الأول بامتحان مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال الأول بامتحان مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية احتُفل في أصيل يوم الجمعة الماضي في قبة الغوري الاحتفال الأول بامتحان تلامذة مدرسة مصر القاهرة لهذه الجمعية النافعة تحت رئاسة فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية , وأحد أركان مؤسسي الجمعية وأعضائها العاملة , وقد حضر الاحتفال سعادة الفاضل الهمام ماهر باشا محافظ مصر , وكثيرون من العلماء والوجهاء , وافتتح الاحتفال بقراءة آيات من الكتاب العزيز قرأها أحد التلامذة بصوت رخيم وتجويد وترتيل انشرحت له الصدور , ثم قام رئيس الاحتفال فشكر للحاضرين عنايتهم بالجمعية وتنشيطها بالسعي لحضور احتفالها ورؤية ثمرة أعمالها , ثم بين أن الغرض الأول من تأسيس الجمعية تربية أولاد الفقراء من يتامى وغيرهم تربية يحافظون فيها على عقائدهم وآداب دينهم وأخلاقه وأعماله , ويستعينون بها على معايشهم وتحصيل أرزاقهم , ومن عساه يوجد في مدارس الجمعية من أولاد الأغنياء، فوجوده غير مقصود بالذات. قال: وإن الامتحان الذي يعرض أمام حضراتكم اليوم هو مطابق لهذا الغرض ومبني على هذا الأصل , ولهذا لا تسمعون فيه ذكر لغة أجنبية , ولقد كان من رأي بعض الأعضاء المؤسسين أن تُعلَّم في مدارس الجمعية اللغات الأجنبية لأجل الترغيب في الإقبال عليها , وقد كان الجواب عن هذا الرأي أنه ليس الغرض من مدارس الجمعية التجارة فنرغب الناس فيها بما ليس من موضوعها , وإنما الغرض تربية أولاد الفقراء , فلو أمكننا أن نلتقطهم من الشوارع ثم نرضي أولياءهم لفعلنا. لم تنشأ الجمعية لمقصد أعلى من هذا في مدارسها كأخذ الشهادات والاستعداد للوظائف , بل من أهم مقاصدها أن تنزع من النفوس اعتقاد أن التعليم لا فائدة فيه إلا الاستخدام في الحكومة , وهذا الفكر كان مستوليًا على الأمة , ونحمد الله أن كثيرًا من الناس قد انتبه لما في هذا الفكر من الخطأ والضرر , والجمعية توطن نفوس التلامذة في مدارسها على أن يعمل الواحد منهم عمل أبيه بإتقان , ويعيش مع الناس بالأمانة والاستقامة , فولد النجار يكون نجارًا , وولد الحداد يكون حدادًا وولد الفراش يكون فراشًا , والتربية والتعليم يساعدان كلاًّ على إتقان عمله وصناعته , فيكون أكثر كسبًا لأنه أكثر إتقانًا للعمل مع الأمانة والاستقامة. ولا شك أن الإنسان إذا ظفر بفراش كاتب مهذب يزيد في أجره ويطول عنده مكثه. ومن كان فيه استعداد لشيء أعلى مما كان عليه آباؤه وظهر عليه ذلك، فإنه ينبعث إليه من نفسه , والجمعية تساعده عليه , وقد حصل هذا لبعض التلامذة , والجمعية مهتمة في إنشاء قسم صناعي في مدارسها لأنه من مقاصدها الأصلية , ثم قال: هذا الاحتفال بامتحان تلامذة مدارس الجمعية لم يكن بمواطأة , ولا كان تركه في الماضي إلى هذه السنة وهي الخامسة من سني المدارس عن قصد , وإنما هو شيء جاء من نفسه , واقتضته طبيعة العمل , فمثل الجمعية فيه كمثل الطفل الذي يظهر فيه بعد خمس سنين ثمرة العلم. وقد ظهرت الرغبة فيه قبلاً من أعضاء الجمعية على ثقتهم بحسن النتيجة لما فيه من ظهور ثمرة العمل التي يُسر بها العامل , وتكون مدعاة لمساعدة إخوانهم الآخرين له , ومسرة من لم يستطع المساعدة , فإن كل مسلم يسره أن يرى إخوانه المسلمين موفقين للأعمال النافعة للأمة التي لا يستطيعها هو , وهذا هو السبب في دعوة حضرتكم إلى هذا الاحتفال , وشكرنا لكم حسن الإجابة والقبول. ثم وقف أحد الأطفال فسأله أحد المعلمين أولاً عن وجه حاجة البشر إلى إرسال الرسل فأجاب بأحسن جواب - أجاب بملخص ما هو مذكور في كتاب (رسالة التوحيد) التي لم يؤلف مثلها في بيان حقيقة الإسلام , فصفق له النادي تصفيق استحسان , وأعطاه فضيلة الأستاذ الرئيس جائزة مالية , ثم وقف آخر فقرأ نبذة من كتاب الدروس الحكمية , واختار الأستاذ مما قرأه جملة أمره بكتابتها وإعرابها وهي (وبلغ بهم هذا الحب المتبادل إلى حد من ثقة بعضهم ببعض أن كان أحدهم ثقة بإخوانه , لا يأتي أمرًا إلا بمشورتهم) فأحسن إعرابها إلا أنه توقف بكلمات , ثم فطن لها من السؤال , فدل هذا على إعراب عن فهم لا عن حفظ ألفاظ واصطلاحات [1] وعلمت أنه كان في نية المعلمين أن يلقوا عليه للإعراب قوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ} (الحشر: 9) الآية لما فيها من المناسبة للمقام ثم وقف آخر , وألقيت عليه مسألة حسابية فحلها قولاً وكتابة , ثم آخر فسئل عن مسألة هندسية فأحسن الجواب , وكان موضوع المسألة بناء حوض صفته كيت وكيت , ثم طلب منه أن يرسمه بحسب الوصف فرسمه رسمًا حسنًا. ثم وقف آخر وطلب منه أن يرسم قارة أسيا ففعل وسئل فيها بعض المسائل فأجاب , ثم وقف آخر صغير جدًّا يظهر أنه في السنة الأولى , وأن عمره لا يتجاوز الخمس سنين , وقرأ في كتاب التعليم قصة المرأتين اللتين اختصمتا إلى داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام في الولد المتنازع فيه، فأحسن القراءة , وسئل أن يحل المعنى بالكلام البلدي فحله حل الحاذق الفهم , ثم اعتذر بصغره وقصره وأنه لولا ذلك لأجاد الكلام وأتى بما يعجب به الحاضرون , فكانت الوجوه تتدفق سرورًا وتتلالأ بشرًا لكلامه وبراعته , وأخذ الجائزة المالية من فضيلة الرئيس , وصفق له النادي كما صفق لإخوانه من قبله , ثم قام آخر وتلا الخطاب الآتي، ألقاه إلقاء خطيب متمرن يعطي كل جملة حقها من الإشارات وهو: غير خافٍ أن الإنسان محتاج بطبعه في هذه الحياة الدنيا إلى الاجتماع ببني جنسه على هيئة يكون بها التعاون والتعاضد ليحصل بهذا الاجتماع على ما تقوم به حياته من الغذاء واللباس والمسكن والدفاع , ويتم ما أراده الله به من العمران. ولهذا الاجتماع العمراني علوم وفنون جمة ولدتها الحاجات , وحققتها التجارب حتى صارت حقائق ثابتة يتوقف على معرفتها تمتع أفراد المجتمع الإنساني بالراحة التامة والرفاهية الكاملة , وعلى قدر التمسك بهذه العلوم والفنون والعمل بمقتضاها، تكون سعادة الأمة وغناها , وبمقدار إهمالها والتقاعد عنها يكون شقاء الأمة وعناؤها ومن قارن بين الأمم الغربية والشرقية في هذا العصر تحقق ما قلناه , واعتبره مسبرًا يسبر به غور الأمم، فمتى وجد أمة ينمو بين أفرادها حب التربية والتعليم حتى يمتزج ذلك بدمائهم ويرسخ في نفوسهم , ويصير أسمى مطلب وأنفس مأرب يتيقن أنها سائرة إلى مجد شامخ وشرف باذخ لا بد وأن تبلغه يومًا ما , ومتى وجد أمة على الضد من ذلك جزم بأنها هاوية إلى البوار ومتقهقرة إلى الدمار. وإننا نحمد الله حيث نرى أن أمتنا المصرية قد نهضت نهضة سريعة في الميل إلى التربية والتعليم , واتجهت لذلك أنظارهم وتسابقت إليه همهم , فبذلوا في هذا السبيل أنفس النفائس , وأسسوا كثيرًا من المدارس حتى صار هذا التقدم في الحال مما يبشر بحسن الاستقبال. وكان الباعث الأول لهذه النهضة الوطنية تأسيس هذه الجمعية الخيرية الإسلامية , وغرسها أطيب المغارس بإنشائها هاتيك المدارس لتربية أبناء الفقراء واليتامى الذين ليس لهم أولياء مع مواساة من أخنى عليهم الزمان من بيوت كانت من المجد بمكان. فما ظهر هذا المشروع المحمود من العدم إلى حيز الوجود إلا وتلقته أيدي النفوس الزكية بالارتياح حيث كان أفضل عمل يوصل إلى النجاح والفلاح. كان تأسيس هذا العمل المبرور والفعل الحميد المشكور بهمة نخبة أصفياء من العلماء والوجهاء. في سنة 1310 هلالية الموافق سنة 92 شمسية. مؤيدًا بالعناية الإلهية , ومعززًا بالرعاية الخديوية العباسية. حيث أساسه البر والتقوى , وغايته الترقي في معارج السعادة إلى الدرجة القصوى. وفي مبدأ الأمر لم يبلغ عدد الأعضاء المؤسسين له سوى اثنين وعشرين , وما زالت سراة الأمة تحنو بالإشفاق عليه , وتتجاذب نفوسهم إليه. حتى بلغ عدد الأعضاء العاملين والمشتركين ما يزيد عن الستمائة والثمانين , ولما كان روح النجاح في الأعمال هو ملازمة الثبات لبلوغ الآمال. قد وفق الله الأعضاء العاملين للتمسك بحبل العزم المتين والاعتصام بروابط الاتحاد والدأب على ما فيه الصالح بكل جيد واجتهاد حتى تم في زمن غير مديد كثير من العمل المفيد. فأول عمل ينبغي أن يذكر فيشكر ويشهر بين العاملين وينشر: إنشاء هذه المدارس الأربع الزاهرة في أسيوط , وطنطا والإسكندرية , والقاهرة , رحمة بأبناء الفقراء وانتياشًا لهم من وهدة الشقاء وتعهدهم بالتربية الحميدة. وتثقيف عقولهم بالعلوم المفيدة حتى يشبوا على حب العمل والاعتماد على الله , ثم على النفس في بلوغ الأمل. فينتفعون وينتفع بهم , ولا يكونون عالة على غيرهم , وقد أثمر ولله الحمد هذا الغرس وطابت منه كل نفس. فبلغ متوسط عدد تلامذة هذه المدارس الأربع 350 تلميذًا , وعدد النابغين منهم منذ الإنشاء إلى سنة 1316 هجرية ثمانين تلميذًا التحق منهم بقسم الصنائع 43 تلميذًا على نفقة الجمعية. وانتظم الباقون في أعمال أخرى تحسنت بسببها حالتهم المعاشية. وكلهم من أبناء الفقراء المعوزين. وإني أيها السادة الكرام والعلماء الأعلام ممن شملتهم هذه التعطفات الرحمانية, وغمرتهم نعمة التعليم في مدرسة مصر من مدارس هذه الجمعية , وأوصلني الحظ الجميل إلى وقوفي هذا الموقف الجليل بين يدي الحاضرين من العلماء والفضلاء والأعيان والوجهاء. وهو موقف كان يصعب على مثلي أن يقفه , وأن يتلفظ فيه ببنت شفة. فلله الحمد والمنة على جليل هذه النعمة. ومن أعمال الجمعية المشكورة , وآثارها الجليلة المبرورة مد يد المساعدة بالبر والإحسان لبيوت تقلبت بها صروف الحدثان؛ فأصبحت بعد العسر في يسر , وصارت بعد الشقاء في هناء وهذا لعمر الحق إحساس شريف , ومقصد سامٍ منيف يقوي دعائم الفضيلة , ويشيد أركان الخلال الجميلة , ويرغب النفوس في حب السخاء وتوثيق عرى الإخاء. هذا ولما رأت رجال الجمعية أن التربية قسمان: علمية وعملية، بدأت بالأولى لتكون كأساس وطيد صالح لأن يرفع عليه خير بناء مشيد , وعزمت على أن تردفها بالثانية بقدر الاستطاعة. فتنشئ قسمًا عمليًّا لِما تمس الحاجة إليه من فنون الصناعة؛ لتتم الفائدة للنابغين من التلامذة , ويتيسر لهم بهذه التربية الكاملة التي نمت بها قواهم العاقلة والعاملة أن يعيشوا عيشة راضية حائزين في هذه الشركة الإجتماعية حظوظًا وافية. حقق الله أماني جمعيتنا الإسلامية وأعانها على تتميم هذه المساعي الخيرية وجعلها نموذج كمال ينسج على منواله , وتتسابق الهمم السامية إلى الحذو على مثاله. حتى نرى الوطن العزيز رافلاً في حلل البهاء بآثار نبل هذه الأيادي البيضاء. وفق الله الأمة للسداد ويسر لها أسباب السعادة والإسعاد. وأيدها بالتعاضد والالتئام. حتى يبشر المبدأ بحسن الختام آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أبلغها آلاف آمينا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... اهـ وقد طلبنا هذا الخطاب ونشرناه لما فيه من الفائدة المتعلقة بتاريخ الجمعية وثمرتها. ثم صعد مرقى الاحتفال ثلة من التلامذة ولحنوا نشيدًا جميلاً يتضمن شكر الله تعالى وشكر مؤسسي الجمعية ومساعديها والدعاء للحضرة الخديوية العباسية التي جعلتها تحت رعايتها , وأمدتها بالرفد والمساعدة , ثم ختم الاحتفال كما افتتح بتلاوة القرآن الكريم وشكر رئيسه للحاضرين. فانفض الجمع منشرحة صدورهم بهذا النجاح الباهر لا سيما بما رأوا من الهدوء وا

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية وأدبية (ملخص خطاب مولانا الأستاذ الحكيم في ختام درس المنطق) وعدنا بأن نأتي بما وعيناه من ذلك الخطاب البليغ، وها نحن أولاء منجزو موعدنا، قال الأستاذ بعد ما تقدمت الإشارة إليه من ذم الإطراء ما مثاله ملخصًا: سعادة الناس في دنياهم وأخراهم بالكسب والعمل؛ فإن الله خلق الإنسان وأناط جميع مصالحه ومنافعه بعمله وكسبه , والذين حصَّلوا سعادتهم بدون كسب ولا سعي هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحدهم لا يشاركهم في هذا أحد من البشر مطلقًا , والكسب مهما تعددت وجوهه فإنها ترجع إلى كسب العلم؛ لأن أعمال الإنسان إنما تصدر عن إرادته , وإرادته إنما تنبعث عن آرائه , وآراؤه هي نتائج علمه , فالعلم مصدر الأعمال كلها دنيوية وأخروية، فكما لا يسعد الناس في الدنيا إلا بأعمالهم كذلك لا يسعدون في الآخرة إلا بأعمالهم , وحيث كان للعلم هذا الشأن فلا شك أن الخطأ فيه خطأ في طريق السير إلى السعادة عائق أو مانع من الوصول إليها , فلا جرم أن الناس في أشد الحاجة إلى ما يحفظ من هذا الخطأ ويسير بالعلم في طريقه القويم حتى يصل السائر إلى الغاية , وهذا هو المنطق المسمى بالميزان , والمعيار الذي يضبط الفكر ويعصم الذهن عن الخطأ فيه ولهذا كانت العناية به من أهم ما يتوجه إليه طلاب السعادة. اعتنى العلماء في كل أمة بضبط اللسان وحفظه من الخطأ في الكلام , ووضعوا لذلك علومًا كثيرة , وما كان للسان هذا الشأن إلا لأنه مجلي للفكر وترجمان له وآلة لإيصال معارفه من ذهن إلى آخر، فأجدر بهم أن تكون عنايتهم بضبط الفكر أعظم. كما أن اللفظ مجلي الفكر هو غطاؤه أيضًا فإن الإنسان لا يقدر على إخفاء أفكاره إلا بحجاب الكلام الكاذب حتى قال بعضهم: إن اللفظ لم يوجد إلا ليخفي الفكر. إنما ينتفع بالميزان الذي هو علم الفكر من كان له فكر , والفكر إنما يكون فكرًا له وجود صحيح إذا كان مطلقًا مستقلاًّ يجري في مجراه الذي وضعه الله تعالى عليه إلى أن يصل إلى غايته , وأما الفكر المقيد بالعادات المستعبد بالتقليد فهو المرذول الذي لا شأن له وكأنه لا وجود له. وقد جاء الاسلام ليعتق الأفكار من رقها , ويحلها من عقلها , ويخرجها من ذل الأسر والعبودية , فترى القرآن ناعيًا على المقلدين ذاكرًا لهم بأسوأ ما يذكر به المجرم , ولذلك بنى على اليقين الذي علمتم معناه موضحًا في درس سابق [1] لا ينبغي للإنسان أن يذل فكره لشيء سوى الحق , والذليل للحق عزيز. نعم يجب على كل طالب علم أن يسترشد بمن تقدمه سواء أكانوا أحياء أم أمواتًا , ولكن عليه أن يستعمل فكره فيما يؤثر عنهم فإن وجده صحيحًا أخذ به وإن وجده فاسدًا تركه , وحينئذ يكون ممن قال الله تعالي فيهم: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) وإلا فهو كالحيوان , والكلام كاللجام له أو الزمام يمنع به عن كل ما يريد صاحب الكلام منعه عنه , ويقاد إلى حيث يشاء ذلك المتكلم أن يقاد إليه من غير عقل ولا فهم. ما الذي يعتق الأفكار من رقها وينزع عنها السلاسل والأغلال لتكون حرةً مطلقةً؟ الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى شرح طويل لأن تخليص الأفكار من الرق والعبودية من أصعب الأمور , ويمكن أن نقول فيه كلمة جامعة يرجع إليها كل ما يقال وهي (الشجاعة) . الشجاع هو الذي لا يخاف في الحق لومة لائم، فمتى لاح له يصرح به ويجاهر بنصرته وإن خالف في ذلك الأولين والآخرين , ومن الناس من يلوح له نور الحق فيبقى متمسكًا بما عليه الناس ويجتهد في إطفاء نور الفطرة , ولكن ضميره لا يستريح فهو يوبخه إذا خلا بنفسه ولو في فراشه. لا يرجع عن الحق أو يكتم الحق لأجل الناس إلا الذي لم يأخذ إلا بما قال الناس , ولا يمكن أن يأتي هذا من موقن يعرف الحق معرفة صحيحة. إن استعمال الفكر والبصيرة في الدين يحتاج إلى الشجاعة وقوة الجنان , وأن يكون طالب الحق صابرًا ثابتًا لا تزعزعه المخاوف فإن فكر الإنسان لا يستعبده إلا الخوف من لوم الناس واحتقارهم له إذا هو خالفهم أو الخوف من الضلال إذا هو بحث بنفسه , وإذا كان لا بصيرة له ولا فهم فما يدريه لعل الذي هو فيه عين الضلال. إذن (إن الخوف من الضلال هو عين الضلال) . فعلى طالب الحق أن يتشجع حتى يكون شجاعًا، والله تعالى قد هيأ الهداية لكل شجاع في هذا السبيل , ولم نسمع بشجاع في فكره ضل ولم يظفر بمطلوبه. وههنا شيء يحسبه بعضهم شجاعة وما هو بشجاعة وإنما هو وقاحة , وذلك كالاستهزاء بالحق وعدم المبالاة بالمحق، فترى صاحب هذه الخلة يخوض في الأئمة ويعرض بتنقيص أكابر العلماء غرورًا وحماقة , والسبب في ذلك أنه ليس عنده من الصبر والاحتمال وقوة الفكر ما يسبر به أغوار كلامهم , ويمحص به حججهم وبراهينهم ليقبل ما يقبل عن بينة ويترك ما يترك عن بينة , وهذا لا شك أجبن من المقلد لأن المقلد تحمل ثقل التقليد على ما فيه , وربما تنبع في عقله خواطر ترشده إلى البصيرة أو تلمع في ذهنه بوارق من الاستدلال لو مشى في نورها لاهتدى وخرج من الحيرة , وأما المستهزئ فهو أقل احتمالاً من المقلد، فإن الهوس الذي يعرض لفكره إنما يأتيه من عدم صبره وثباته على الأمور وعدم التأمل فيها. والحاصل أن الفكر الصحيح يوجد بالشجاعة والشجاعة هنا (هي التي يسميها بعض الكتاب العصريين الشجاعة الأدبية) قسمان: شجاعة في رفع القيد الذي هو التقليد الأعمى , وشجاعة في وضع القيد الذي هو الميزان الصحيح الذي لا ينبغي أن يقر رأي ولا فكر إلا بعد ما يوزن به ويظهر رجحانه , وبهذا يكون الإنسان حرًّا خالصًا من رق الأغيار عبدًا للحق وحده. وهذه الطريقة طريقة معرفة الشيء بدليله وبرهانه ما جاءتنا من علم المنطق , وإنما هي طريقة القرآن الكريم الذي ما قرر شيئًا إلا واستدل عليه وأرشد متبعيه إلى الاستدلال , وإنما المنطق آلة لضبط الاستدلال كما أن النحو آلة لضبط الألفاظ في الإعراب والبناء كما قلنا. ولا يمكن أن ينتفع أحد بالمنطق ولا بغيره من العلوم مهما قرأها وراجعها إلا إذا عمل بها وراعى أحكامها حيث ينبغي أن تراعى، فالذي يحفظ العلم حفظًا حقيقيًّا هو العمل به وإلا فهو مَنسيّ لا محالة , وإننا نرى المجاور يقضي السنين الطويلة في الأزهر يدرس العلوم العربية ولا ينتفع بها بتحصيل ملكة العربية قولاً وكتابة , وإنما ذلك لعدم الاستعمال. فأنصح لكل من يسمع كلامي أن يستعمل ما يحصله من العلم , وأن يحصل لنفسه ملكة الشجاعة , وبدون هذا لا ينتفع بعلم ولا عمل ويكون الاشتغال بالدروس في حقه من اللغو المنهي عنه المذموم صاحبه شرعًا. بل يقضي حياته كسائر الحيوانات العجم وربما كان أتعس منها. وأحب أن يكون كل منكم إنسانًا كاملاً والإنسان يطلب الجميل النافع لأنه حسن في نفسه لا لأن غيره يطلبه , فلو كفر كل الناس لوجب عليه أن يكون أول المؤمنين , وهذا هو الإسلام الصحيح ثم ختم الأستاذ الخطاب بالدعاء والثناء على الله تعالى وانفض الاجتماع. *** (قصيدة) من القصائد التي نظمت بمناسبة الاحتفال بختم درس المنطق , قصيدة غراء لصديقنا الفاضل الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي قال في مطلعها يخاطب الأستاذ: لعلياك مجد لا يماثله مجد ... وفضلك فضل لا يرام له حد وأنت إمام العصر بل أنت شمسه ... وأنت وحيد الدهر والعلم الفرد أقمت منار الشرع فينا بهمة ... هي الهمة العلياء والفطنة النقد (ومنها) فللت جموع الزيغ بالحق والهدى ... وهابتك حتى في مرابضها الأسد وذدتَ عن الدين الحنيفي مخلصًا ... على حين أن القوم ليس لهم ذود بتفسيرك الشافي كشفت سحابة ... من الجهل قد غشت وطال بها العهد على أمة في غفلة عن حياتها ... وقل نصير الحق وانتشر الصد عن المنهج الأقوى عن الخير كله ... ولولا كتاب الله لانفرط العقد وأحييت ألبابًا بتقريرك الذي ... تباهت به الأقطار والسند والهند هو الحق والعلم الصحيح بيانه ... هو الذهب الإبريز واللؤلؤ النضد بك اعتز دين الله من بعد فترة ... تحكم فيها الجهل والحقد والجحد فكنت بنصر الحق أفضل قائم ... وليس سوى الإخلاص عون ولا جند ومنها في نصيحة طلاب العلم: أيا معشر الطلاب للخير سارعوا ... ولا تهنوا في العلم فالوقت يشتد إذا عرف الإنسان قيمة نفسه ... ... تسامى إلى العليا وطاب له السهد وإن فتى الفتيان في العلم همه ... طلاب المعالي لا الثراء ولا الرفد وقال في الختام يخاطب الأستاذ: ويا شمس هذا العصر لا زلت راقيًا ... من المجد ما يبقى له الذكر والحمد ودام بك النفع العميم مؤزرًا ... وخادمك الإقبال واليمن والسعد *** (كتاب البصائر النصرية) نوًهنا بهذا الكتاب الجليل في ذكر الاحتفال بختامه في الجزء الماضي , وهو من تصنيف العلامة الجليل القاضي الزاهد زين الدين عمر بن سهلان الساوى. ألفه باسم السيد نصير الدين بهاء الدولة كافي الملك أبي القاسم محمود بن أبي توبة ونسبه إليه. والكتاب جزل العبارة كبير الفائدة يمتاز على جميع الكتب المتداولة في الفن بالتحقيق والتحرير وتحري المسائل التي يحتاج إليها من يريد استعمال الفن فيما وضع له , ويزيد عليها بأبواب ومسائل لا توجد فيها كالأجناس العشرة التي تسمى بالمقولات , وإطالة البيان فيما قصرت فيه لا سيما في باب القياس فعقد فصولاً لاكتساب المقدمات ولتحليل القياسات ولاستقرار النتائج التابعة للمطلوب الأول , وللنتائج الصادقة عن مقدمات كاذبة , وللقياسات المؤلفة من مقدمات متقابلة , وللمصادرة على المطلوب الأول , وللأمور الشبيهة بالقياس وليست منه، والقياسات المخدجة، وتكلم في هذا الفصل على الاستقراء والتمثيل والضمير والرأي والدليل والعلامة والقياس الفراسي، بما لا نكاد نجده في غيره. وتوسع في مواد القياس توسعًا نافعًا لا يستغني عنه طالب هذا الفن. وقد علق عليه مولانا الأستاذ الشيخ محمد عبده تعليقًا وجيزًا تُعلم فائدته مما كتبناه في الجزء الماضي , وأحسن ما يقرظ به الكتاب قول الأستاذ في مقدمة هذا التعليق: (وهو حاو مع اختصاره لما لم تحوِه المطولات التي بأيدينا من المباحث المنطقية الحقيقية , وخالٍ مع كثرة مسائله من المناقشات الوهمية التي لا تليق بالمنطق , وهو معيار العلوم من مثل ما نجده في المطالع وشروحها وسلم العلوم وما كتب عليه (قال) : ووجدته على ترتيب حسن لم أعهده فيما وقفت عليه من كتب المتأخرين من بعد الشيخ الرئيس ابن سينا ومن في طبقته من علماء هذا العلم) ثم ذكر استحسانه لقراءته في الجامع الأزهر وعرضه على شيخ الجامع وأعضاء مجلس إدارته وإعجابهم به وإقرارهم على قراءته في الأزهر لأنه من أفضل ما يهدى إليه ثم قال: (على أن الكتاب وإن كان جزل العبارات صحيح البيان إلا أن فيه ألفاظًا وعبارات ومسائل اعتمد في الإتيان بها على ما كان عليه أهل زمانه من درجته في العرفان , وهي اليوم تحتاج إلى شيء من الإيضاح والشرح، فاستخرت الله تعالى في وضع بعض تعاليق على ما رأيته محتاجًا إلى ذلك , وأسأل الله أن ينفع به الطلاب ويجزل فيه الثواب) . والكتاب يباع في محل السيد عمر الخشاب في السكة الجديدة وثمنه عشرة غروش أميرية , وهي قيمة الاشتراك به قبل طبعه لم يزد عليها تسهيلاً على طلاب العلم. *** (طوفان نوح) جاء في جريدة نور الإسلام المفيدة تحت هذا العنوان ما نصه: رفع سؤال إل

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (الحجاج الكرام) نحمد الله تعالى أن حجاج بيته قد أقبلوا بغاية الصحة لا يشكون إلا من قساوة المعاملة في المحجر الصحي والمشقة في البواخر الخديوية , وقد حظينا بلقاء أصدقائنا الكرام الأستاذ الواعظ المؤثر الشيخ علي الجربي والأستاذ الفاضل الشيخ سالم الرافعي وأخيه الفاضل النجيب الشيخ محمد سعيد وقد حدثنا هذا بشكوى أهل الحجاز العامة من سيرة الشريف عون باشا أمير مكة المكرمة فوافق قوله الآخرين , وربما نذكر ما يفيد الوقوف عليه من ذلك. * * * (المولد النبوي الشريف) أقيمت معالم الزينة والاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم في صحراء العباسية حسب العادة , وقد زرنا تلك المعاهد في الليلة البارحة لأجل المقابلة بين الزينة في هذا العام وفيما قبله فألفينا الازدحام أقل مما كان فيما سبق , والسبب في ذلك فيما يظهر إبطال كثير من البدع والقبائح كالرقص على أبواب الخيم والسرادقات , ولا بعد في أن يكون للانقلاب في الأفكار الذي ينمو عامًا بعد عام أثر كبير في ذلك. وهذه الليلة التي تستقبلنا هي ليلة الجمع الأكبر , وسنرى ماذا يكون فيها. ولا بد لصاحب السماحة والرجاحة السيد توفيق البكري شيخ شيوخ طرق الصوفية ورئيس هذا الاحتفال من تجديد أمور ممدوحة ترغب الناس في العناية به والإقبال عليه بدلاً من الأمور المذمومة التي يسعى في إبطالها. ولا شيء يرغب الناس في ذلك كالخطابة فعسى أن ينصب في العام القابل منبر أو منبران للخطابة بما يناسب المقام فيكون للاحتفال البهاء الصحيح والإقبال النافع، وبالله التوفيق. * * * (وفاة سري) نعى البرق إلينا من أيام سليل بيت المجد والشرف السيد محمد راتب باشا , وافته المنية في محجر بيريه من ثغور اليونان قاصدًا الأستانة العلية للاصطياف فيها وكان لنعيه رنة أسف في القاهرة , وقد حنطت جثته , وبعد ما بلغوا بها الأستانة أعيدت إلى مصر لتدفن في مدفن أسرتها الكريمة , واليوم موعد وصولها وغدًا تشيع بالاحتفال اللائق. وكان الفقيد كريم السجايا طلق اليد والمحيا متمسكًا بالدين , تغمده الله تعالى برحمته وعزى آله أحسن العزاء على فقده.

المشروع الحميدي الأعظم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المشروع الحميديُّ الأعظم سكة حديد الحجاز سرور المسلمين بالمشروع. غلط الواهم بمضرته , غير المسلمين ممنوعون من الحجاز رسميًّا , استعداد الإفرنج لدخول الحجاز بالتظاهر بالإسلام , الخطر على الحجاز من البحر دون البر , إمكان إماتة أوربا أهله بالجوع إذا لم توجد هذه السكة , مقاصد الأعداء في الكعبة والقبر الشريف. ردة الجهلاء إذا وقع بهما سوء. وجوب مساعدة المشروع دينًا. لقد رقصت قلوب المسلمين جذلاً وسرورًا لمشروع السكة الحديدية الحجازية , وهتفت ألسنتهم بالثناء والدعاء لمولانا السلطان الأعظم لتوجيه عنايته الشريفة إلى هذا العمل المبرور الذي يرضي الله تعالى ويرضي الرسول (صلى الله عليه وسلم) في ملحودة قبرة الشريف. ولا التفات لذي نظرة حمقاء يتوهم أن في المشروع مضرة لأنه يسهل على الأوروبيين دخول البلاد المقدسة متَّجرين، وهي الوسيلة الوحيدة لنفوذ سلطتهم فيها , وربما يجيء بعد ذلك يوم من الأيام يزحفون عليها بقوة عسكرية لحماية رعاياهم من ضرر يتوقع نزوله بهم كما هو المعهود منهم في كل بلاد شرقية يعتدون عليها. وكأن صاحب هذا الوهم يعتقد أن المانع الآن للأوروبيين من دخول البلاد الحجازية هو حزونة الطريق وبُعد الشُّقة , والصواب أن المعاهدات التجارية بين الدولة العلية وسائر الدول الغير المسلمة تُستثنى منها تلك البلاد الشريفة، فهم ممنوعون من دخولها منعًا رسميًا متفقًا عليه لأنها معتبرة معبدًا من المعابد الإسلامية كالجوامع , ومن دخلها مستخفيًا وسُفك دمه فالدولة العلية لا تسأل عنه مطلقًا. وهذا المنع الرسمي هو الذي جعل المولعين بحب الاكتشاف من الأوربيين إذا أرادوا التسلل للوقوف على شئون البلدين المكرمين وما يكتنفهما من البلاد العربية يستعدون لذلك زمنًا طويلاً يتعلمون فيه لغة شرقية كالعربية أو التركية أو الفارسية أو الأوردية , ويتعلمون العبادات الإسلامية كالطهارة والصلاة ومناسك الحج , ثم ينسلون مع الحجاج , ويؤدون معهم المناسك ويستخفون أشد الاستخفاء في أخذ رسوم البلاد بالفوتغرافيا حتى إن أحدهم جعل الآلة الفوتغرافية في نوط الساعة. ولم ينس قراء المنار ما قصصناه عليهم في المجلد الأول من خبر ذلك الأوروبي الذي أراد اكتشاف البلاد الحجازية وغيرها من شبه جزيرة العرب فاستعد لذلك بإظهار الإسلام وتعلم العربية وأخذ شهادة من أشراف حلب بأنه قرشي هاشمي النسب , وصدق على نسبه هذا في الأستانة العلية وأخذ عليه فرمانًا شاهانيًّا , ثم كان من أمر دخوله ما كان وكتب عن تلك البلاد ما كتب. فلو أن دخول البلاد الحجازية مباح للأوروبيين لما احتاج مثل ذلك الرجل وغيره إلى كل ذلك العناء في التوسل إليه. وأكثر الناس يعرفون أن الوصول إلى مكة المكرمة من جدة والمسافة بينهما تعد بالساعات أيسر من الوصول إليها في السكة الحديدية التي تمتد إليها من الشام حيث المسافة تعد بالأيام. هذا وإن التجار الأوربيين لا نجاح لهم في مثل دمشق وطرابلس ونحوها من البلاد التي يغلب عليها العنصر الإسلامي، فكيف تروج تجارتهم في مكة والمدينة والقياس على البلاد المصرية قياس مع الفارق , فإنه لا يوجد في الدنيا كلها بلاد تعظم الإفرنج وتحترمهم كهذه البلاد , والسبب في ذلك أمراؤهم كإسماعيل باشا وغيره. لا ريب في أن الرغبة من الإفرنج في دخول تلك البلاد محصورة في أهل العلم والسياسة , وأما الحصول على هذه الرغيبة جهرًا فهو غير مطموع فيه ما دام للدولة العلية صفة رسمية في أوربا , وما دام الأوربيون يرون أن تهييج الرأي العام الإسلامي مضر بهم وعاقبته وخيمة عليهم. ولكن لا نأمن أن يجيء يوم من الأيام يفور فيه التنُّور ويؤمَن المحذور وتتصدى الدول الأوروبية كلها أو بعضها لتدمير الكعبة المشرفة ونقل قبر المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام إلى متحف اللوفر عملاً بنصيحة كيمون ومن على شاكلته , ولا يمكن أن يكون زحفهم عن طريق الشام لتكون هذه السكة الحديدية عونًا لهم لأن هذا يحتاج أولاً إلى تدمير البلاد الشامية نفسها وإفناء أهلها , وعندما تشتعل النار في الشام يمكن للعربان الضاربين بين القطرين أن يقتلعوا القضبان الحديدية , ويمحوا أثر هذه السكة الحديدية إما بعد بعث البعوث عليها لنجدة أهل الشام , وإما قبل ذلك , فكيف يختار الأعداء هذا الطريق المحفوف بالأخطار على طريق جدة القريب؟ . وإذا هم زحفوا من جدة فسكة الحديد هي الوسيلة الوحيدة لحماية البلاد المقدسة منهم لأن الدولة العلية لا يتسنى لها في عشرات السنين أن تنشئ لها أسطولاً كأسطول فرنسا أو إنكلترا فما بالك إذا اتفق الدول يومئذ اتفاقهن الآن على الإيقاع بالصين. هذا ضرب من الاستعداد للمستقبل , ونرجو الله أن يقينا شواظ ناره ويحفظنا من أخطاره. وثم خطر أقرب من هذا حصولاً وهو إمكان إماتة أهل البلاد الحجازية بالجوع. من المعلوم أن تلك البلاد ليس فيها من القوت ما يقع أدنى موقع من كفاية أهلها فمعظم أهلها من بدو وحضر يقتاتون مما يرد إليهم من الخارج , وأكثره الأرز الهندي الذي تفرغه البواخر الإنكليزية في مواني البحر الأحمر كجدة وقنفذة، فإذا تسنى لإنكلترا أن تستبد بالبحر الأحمر وهي الآن صاحبة النفوذ الأكبر فيه باحتلالها لمصر وامتلاكها لعدن فإن حياة البلاد الحجازية تكون حينئذ في قبضتها , وإذا كانت أوربا تحول دون هذه الأمنية الإنكليزية فهل من البعيد أن تتفق دولها البحرية مع الإنكليز على منع البواخر العثمانية من العبور في قنال السويس. وإذا كان هذا والعياذ بالله تعالى فهل يكون إلا لمنع الحج ومنع دخول القوت إلى بلاد الحجاز؟ كلا إنه ليس لنا ما نتلافى به هذه الأخطار المتوقعة إلا هذه السكة الحديدية التي تصل البلاد الحجازية ببلاد الشام الخصبة القوية , ولذلك توجهت إليها عناية مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى فيتحتم على كل مسلم أن يمد إليه ساعد المساعدة لسرعة إنجازها {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرا} (الطلاق: 7) . يا أيها الذين آمنوا إن كعبتكم التي ينهدم بانهدامها - والمستغاث بالله - ركن من أعظم أركان دينكم تستغيث بكم فأغيثوها , وإن قبر نبيكم عليه الصلاة والسلام يستنجد بكم لحمايته وحفظه فانجدوه ولا تقولوا: إن الله تولى حفظهما، فإن الله يحفظ ما يريد حفظه بالناس , ولكل شيء سبب , وقد شُجَّ رأس النبي صلى الله عليه وسلم وهو حيٌّ وكسرت رباعيته وهدمت الكعبة من بعده {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) . يا أيها الذين آمنوا إن صدى صوت كيمون الحاضّ على هدم الكعبة ونقل قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلى باريس لا يزال يرنٌ في مسامعكم ولا تزال آلامه تدمي قلوبكم وتنفعل لها أرواحكم فليزعجكم هذا إلى مساعدة هذا المشروع العظيم إذا كنتم نسيتم ما تمثل به المقطم الأغر إنذارًا لكم في مقالة له أيام الفتنة الأرمنية وهو: ها مصر قد أودت وأودى أهلها ... إلا قليلاً والحجاز على شفا لقد أنذركم الله بطشته فلا تتماروا بالنذر {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المنافقون: 10-11) . يا أيها الذين آمنوا اسمعوا ما قال شيخ الإسلام في المجلس العالي الذي عقد للمذاكرة في المشروع في دار السعادة، قال: (إن الدولة العلية إذا لم تتم هذا العمل تسقط قيمتها من نظر العالم الإسلامي) ولقد قال حقًّا وكان لقوله أحسن الأثر عند مولانا السلطان الأعظم رئيس اللجنة وسائر أعضائها. ونحن نزيد على سماحته فنقول: إذا لم يتم هذا المشروع فإن العالم الإسلامي كله يسقط من نظر العالم الإنساني بل ومن نظر نفسه أيضًا وييأس المسلمون من كل عمل نافع للملة والأمة. بل يخشى أن يرتد الملايين من المسلمين إذا أصيبت الكعبة أو القبر الشريف بسوء، وما أجدرهم باليأس إذا كان خليفتهم ورئيسهم الدنيوي يحاول القيام بعمل يعد صغيرًا بالنسبة لأمثاله من الخطوط الحديدية ثم تعجز الدولة والأمة الإسلامية كلها عن إتمامه! ! ! وكيف لا يرتدُّون وهم لجهلهم يعتقدون أن تلك المواضع محفوظة بالخوارق؟ وأعوذ بالله أن يرضى مسلم يؤمن بالله واليوم والآخر بهذه الإهانة الكبرى لأمته , وأن يقصر في عمل عاقبته اليأس والقنوط {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الحجر: 56) ومن آمن بالله لا يقصر في حفظ بيت الله وتسهيل السبيل لحجاجه. ومن يؤمن برسوله يتمنى تسهيل زيارته على نفسه وعلى إخوانه المؤمنين. ومن أفضل المجاهدة بالمال بذله في هذا العمل المبرور فمن فاته الجهاد بالنفس لا يفوته الجهاد بالمال {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39) . يا أيها الذين آمنوا تفكروا في ماضيكم وحاضركم واسمعوا ما تقول الأمم فيكم اليوم، يزعمون أن المسلم يستحيل أن يقوم بمشروع نافع وأن يأتي بعمل عام مفيد , وأن السعادة مختصة بهم ومحصورة فيهم فكذبوهم بأعمالكم. وهذا المشروع فرصة سانحة لتكذيبهم فاغتنموها {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد: 29) .

مدنية العرب - 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدنية العرب النبذة الثانية الجهاد في الإسلام كان للضرورة. الميل للعلوم والفنون استفاده العرب من القرآن. زيغ العقيدة ليس من لوازم العلوم الطبيعية. فساد الأخلاق والأعمال ليس من لوازم الفقه. الخلاصة أن مدنية العرب من دينهم. كان أول أثر للإسلام في العرب جمع كلمتهم وتكوين وحدتهم وتأليف قلوبهم , وهذه هي الغاية القصوى من المدنية التي من شأنها ألا تحصل إلا بعد ما تقضي الأمة زمنًا طويلاً في مزاولة تعميم التربية والتعليم , ومن هنا نقول: إن الوحدة العربية لأول عهدها كانت بإمداد سماويّ وعناية إلهية لا بسياسة القيّم الكسبية وبراعة الداعي الطبيعية , ولذلك قال تعالى مخاطبًا النبي عليه الصلاة والسلام: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال: 63) ولقد حسدتهم الأمم على هذه النعمة , وناوأتهم الشعوب للاختلاف في الدين فاضطروا إلى المدافعة , ثم أُمروا بالدعوة بالتي هي أحسن فقابلهم المدعوون بالتي هي أسوأ لما كانت عليه جميع الأمم لذلك العهد من الفساد والإفساد والبغي في الأرض بغير الحق فاضطروا لمكافحتهم وكتب الله لهم النصر {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) ثم كان لهم ولوع بالفتوح وهي سنة الكون: العالِم يستولي على الجاهل , والضعيف ذو الإصلاح يغلب القوي ذا الإفساد. فلما تمكنوا في الأرض وأمنوا المناصبة والمواثبة؛ ظهر فيهم الميل إلى ما يرشد إليه القرآن من النظر في ملكوت السموات والأرض ورغبوا في الكمال في هذا النظر؛ فاهتدوا بذلك إلى الاستعانة بعلم من كان قبلهم فترجموا الكتب اليونانية وغيرها وصححوا غلطها وزادوا عليها ما شاء الله أن يزيدوا كما سيأتي تفصيله. يظن بعض الجاهلين أن الميل في العرب إلى العلوم الرياضية والطبيعية كان من طبيعة الملك والعمران لا من إرشاد السنة والقرآن , ويتهم بعضهم المسلمين بأنهم هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية اكتفاءً بالدين عن كل ما عداه. وقد جاءوا بقولهم هذا ظلمًا وزورًا. فإن ما ورد في القرآن من الحث على النظر في ملكوت السموات والأرض والانتفاع بكل ما يمكن الانتفاع به من هذه الخليقة هو أكثر مما ورد في أحكام الصلاة والصيام أو أي عبادة أخرى. ومن هؤلاء الجاهلين من يزعم أن العلم الذي كثر الترغيب فيه في هذا الكتاب العزيز إنما هو علم الأحكام الفقهية , ولكن حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى قال: إن أفضل العلوم العلم بالله تعالى وبسننه في خلقه , وإنما كمال العلم بالله تعالى تابع لكمال العلم بأسرار صنعه وإبداع خلقته وتدخل في هذا جميع العلوم الطبيعية , واتلُ عليهم إن شئت قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: 27-28) فذِكر العلماء بهذه المنقبة الجليلة بعد الاستلفات إلى إنزال المطر وإخراج الثمرات به وإلى اختلاف ألوان الجماد والحيوان والإنسان - يدل على أن المراد بالعلم الذي يورث الخشية هو العلم بهذه المخلوقات من جماد ونبات وحيوان التي لها في هذا العصر أسماء كثيرة منها: التاريخ الطبيعي والجيولوجيا والجغرافيا الطبيعية والنبات وغير ذلك. فإن قيل: إننا نرى المشتغلين بهذه العلوم لهذا العهد لا توجد عندهم خشية الله تعالى، بل يقال: إن منهم من ينكر وجوده سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرا. فالجواب أن المشتغلين بالعلم الذين يسمونه فقهًا ربما كانوا أبعد من هؤلاء عن الخشية، فإن هؤلاء المتفقهة اتخذوا الدين حيلة للكسب وأحبولة لصيد الحطام يحتالون على الله , ويعلمون الناس الحيل لأكل الحقوق , وقد فشا فيهم الكذب والخيانة والطمع وغيرها من الصفات الخسيسة التي يتنزه عنها في الغالب العالمون بعلوم الخليقة , ولا يصح أن نضيف هذا الفساد لعلم الفقه كما لا يصح أن نضيف ما عليه بعض علماء الكون من زيغ العقيدة إلى أنه من لوازم العلوم الكونية لأنه لا دليل على وجود البارئ وكماله إلا هذه الأكوان البديعة التي خلقها في أحسن نظام , ولكن الفساد في الأخلاق والأعمال والزيغ في العقائد يرجعان إلى فساد التربية التي يؤخذ بها الإنسان من نشأته الأولى. وقد صرّح الفيلسوف سبنسر بأن العالم بأسرار الخليقة يجب أن يكون أعلم الناس بالله تعالى وأشدهم تعظيمًا له، قال: وهذا هو الدين الصحيح المرضي عنده تعالى , وهذا القول صحيح لكن الذي قاله هو أساس الدين لا كل الدين. وإن تعجب فعجب قولهم: إن من يتعلم العلوم الطبيعية يفسد اعتقاده، قياسًا على بعض فاسدي العقيدة من علمائها , وهو قياس مع الفارق ولا يخاف على دينه إلا من لم يكن في عقائده على يقين فإن الموقن لا يخطر على باله أن يزول اعتقاده لأنه جازم بأنه الحق المطابق للواقع , والواقع لا يزول. والإيمان بغير يقين لا يقبل من أحد فقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا} (يونس: 36) وقال تعالى حاكيًا عن الذين لا إيمان لهم: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (الجاثية: 32) إن أكثر مسائل العلوم الطبيعية العصرية مبنية على المشاهدة والاختبار فهي ثابتة يقينًا , واليقين لا يناقض بعضه بعضًا فيخاف على العقيدة من شبه فيها وأما المسائل النظرية التي تخالف بعض قضايا الدين فهي غير مقطوع بها عند أهل العصر ويسهل علينا أن لا نُعلِّم الأحداث هذه المسائل إلا بعد معرفة البراهين الصحيحة على عقائدهم فتكون العقيدة أقوى منها. ولو كانت هذه العلوم في عصر العلماء المتقدمين الذين ذموا الفلسفة كما هي في هذا العصر ولها من الفوائد مثلما لها الآن؛ لكان كلامهم فيها غير الذي كان. ولقد خضنا في هذا الموضوع مرارًا فلا حاجة للإطالة فيه بعد ذلك. ((يتبع بمقال تالٍ))

مدرسة جمعية شمس الإسلام في الفيوم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدرسة جمعية شمس الإسلام في الفيوم أنشأت جمعية شمس الإسلام عدة مدارس ولم يحتفل بشيء منها احتفالاً عموميًّا إلا مدرسة فرع الفيوم. نبت هذا الفرع من عهد قريب كما يعلم قراء المنار ولكنه نما نموًّا حسنًا وأثمر ثمرًا قريبًا بهمة أعضاء مجلس إدارته الأخيار واجتهاد سائر أفراده الأبرار. وقد كانوا من مدة عقدوا اجتماعًا حضره صاحب السعادة مدير الفيوم الهمام وكثير من الأعيان وجمعوا بالاكتتاب مبلغًا لشراء أدوات المدرسة وتلا ذلك التأسيس. وفي يوم الجمعة الماضي كان الاحتفال بافتتاح المدرسة فزين بناؤها بالرايات والأعلام وما جاءت الساعة التاسعة صباحًا حتى غص المكان بالمدعوين من أهل العلم والوجاهة ومأموري الحكومة وبعض رؤساء وأعضاء فروع الجمعية في سائر البلاد , وابتدئ الاحتفال بتلاوة آي القرآن الكريم وفاقًا لسنة الجمعية في كل أعمالها , ثم لحن التلامذة أنشودة مناسبة للمقام مسك ختامها الدعاء لمولانا أمير المؤمنين السلطان الأعظم عبد الحميد خان ومولانا العباس عزيز مصر المعظم. ثم تقدم أحدهم إلى بهرة الحلقة فحيا الحاضرين بتحية الإسلام فقالوا جميعا: وعليكم السلام. وأنشد أبياتًا في الحث على التربية والتعليم وإعانة المدرسة وتلاه ثانٍ وثالث فعلا مثل فعله فصفق لهم القوم تصفيق الاستحسان , وأقبل بعدهم تلميذان فحيا وسلما ثم تحاورا محاورة لطيفة موضوعها تفضيل التعليم والكون في المدرسة على البطالة واللعب فأحسنا الأداء وصفق لهما الحاضرون. ثم قام العاجز كاتب هذه السطور فألقى خطابًا مطولاً في وجه الحاجة إلى التربية والتعليم لسعادة الدنيا والآخرة , وأننا لا نظفر بفائدتهما إلا إذا كانا على الطريقة الدينية التي هي أقرب الطرق للغاية المقصودة. ثم رغب سعادة رئيس الجمعية على حضرة العالم الفاضل والخطيب المفوَّه أحمد لطفي أفندي السيد وكيل النيابة في محكمة الفيوم في أن يقول شيئًا فأجاب الدعوة وحقق الرغيبة وألقي خطابًا وجيزًا أنبأ عن أفكار عالية وآراء سامية وتدقيق في فلسفة الأخلاق والآداب , والقطب الذي كان يدور عليه الكلام أن العلم يجب أن يطلب لتكميل النفس لا لتحصيل الرزق وابتغاء عرض الدنيا لأن طلب العلم لهذا الغرض الخسيس إهانة له , ومن الفوائد التي اشتمل عليها خطابه قوله نقلاً عن أحد فلاسفة الإنكليز: إن حب الذات هو علة لجميع الفضائل , وقد شرح هذا الكلام شرحًا وجيزًا ومثل له بالحب وبين أن الإنسان لا يمكن أن يحب أحدًا إلا إذا كان في ذلك الحب فائدة لنفسه , وأن قول بعض الناس: إنني أحب فلانًا لوجه الله، غير صحيح لأنهم يقصدون به أنني أحبه لغير سبب ولا فائدة تعود على نفسي , وبعد ما أتم كلامه انبرى هذا الفقير فأثنى عليه بما هو أهله , ثم أوضحت من كلامه ما تراءى لي أنه يعلو على بعض الأفهام فقلت ما ملخصه: المشهور عند علماء الأخلاق أن حب الذات علة العلل لجميع الرذائل , وقد سكتوا على هذا القول إلا المحققين فإنهم قالوا: إنه علة العلل لجميع الفضائل أيضًا يكون علة للفضائل إذا كان واقفًا عند حد الاعتدال ومتى خرج عنه إلى إفراط أو تفريط تولّدت منه الرذائل. ومن المعروف عن الحكماء من عهد اليونان إلى اليوم أن الإنسان لم يحب إلا نفسه وما كان له اتصال بها أو لها فائدة منه؛ فالوالد يجب ولده لأنه بضعة منه ويتوهم أن في بقاءه بقاء له في الجملة , والولد يحب والده لأنه هو منه ولولاه لما وجد ولأنه تعاهده بالتربية والتغذية حتى نما وشب , ويحب الإنسان صديقه لأنه يأنس به ويطمئن إليه ويستعين به على مهماته , ويحب أستاذه لأنه يهذبه ويكمله , ويحب وطنه لأنه ينسب إليه فيشرف بشرفه ويهان بإهانته إلخ وكل حب يكون سببه شرعيًّا وعلته مرضية لله تعالى يطلق عليه عند الصوفية الحب في الله أو الحب لوجه الله أي للوجه الذي شرعه ويرتضيه لا أن معناه أنه حب لغير علة ولا فائدة كما يتوهم بعض العامة , وربما أقسم أحدهم الأيمان المغلظة بأنه يحب فلانًا لوجه الله لا لعلة مطلقًا. وكل من يفهم معنى الإنسان يمكنه أن يستفتي نفسه في هذا الحب وهي تفتيه بأنه لا وجود له وأن مدعيه كاذب وهذا هو الذي عناه بالنفي الخطيب الفاضل. ثم خطب بعض أفراد الجمعية فحث الناس على مساعدة الجمعية وتعضيدها في عملها , وتلاه تلامذة المدرسة بإعادة الترنم والأنشودة اللطيفة. ثم وقف هذا الفقير منشئ المنار ثالثة , وتضرع إلى الله عز وجل بأن يؤيد بالنصر والتوفيق مولانا الخليفة والسلطان الأعظم أمير المؤمنين عبد الحميد الثاني , وأن يؤيد عزيز مصر عباس باشا حلمي الثاني ويوفقه لما فيه سعادة هذه البلاد. وأن يمطر سحائب الرحمة على مؤسسي هذه الجمعية النافعة , ويأخذ بأيدي القائمين بشئونها. وختم الاحتفال كما بدئ بتلاوة القرآن العزيز , ثم وقف سعادة الرئيس العام فأثنى على فرع الفيوم وشكر لهم هذه الهمة والغيرة الملية ولمن حضر الاحتفال عنايتهم بحضوره وانفض الجمع.

حكم الفلاسفة ونوادرهم ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حِكم الفلاسفة ونوادرهم (ا) قال أفلاطون: لا تصحبوا الأشرار فإنهم يمنون عليكم بالسلامة منهم. وقال: لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وقال: إذا أقبلت الدولة خدمت الشهواتُ العقولَ , وإذا أدبرت خدمت العقولُ الشهواتِ. وقال: لا يضبط الكثير من لم يضبط نفسه الواحدة. وقال: موت الصالح راحة لنفسه وموت الطالح راحة للناس. وقال: إذا قويت نفس الإنسان انقطع إلى الرأي وإذا ضعفت انقطع للبخت. وقال: إذا أردت أن تعرف طبقتك من الناس فانظر إلى من تحبه لغير علة. يريد أن الإنسان لا يحب هذا الحب إلا من يشاكله مشاكلة روحية وظاهر أنه يريد بالعلة المنفعة الخارجية , وإلا فالمشاكلة علة لا تنكر. وسئل بماذا ينتقم الإنسان من عدوه؟ فقال: بأن يتزيد فضلاً في نفسه. وقال: الأشرار يتقربون إلى الملوك بمساوي الناس والأخيار يتقربون إليهم بمحاسنهم. وقال: لا تقبلنَّ في الاستخدام إلا شفاعة الأمانة والكفاءة. ويقال: إن أفلاطون رأى فتى ورث مالاً كثيرًا وضياعًا فأتلفها فقال: رأيت الأرضين تبلع الناس وهذا الإنسان بلع الأرضين. أقول: إن أكثر أولاد الأغنياء في مصر كهذا الفتى , ولقد جاء فتى منهم إلي أحد الوجهاء يطلب شفاعته في وظيفة ولو حقيرة وقال: أرجو أن تجعلني خادمًا في البيت إلى أن تتيسر الوظيفة وما ذلك إلا لأجل القوت الضروري. وهذا الفتى مات والده وترك له خمسة آلاف فدان فابتلعها كما قال أفلاطون، بل ابتلعتها حانات الخمور ومواخير الفجور وبيوت القمار وصحبة الأشرار. ومن البلاء أن كلامنا هذا لا يقرأه إلا الأفاضل , وأما أولئك الفتيان السفهاء فأوقاتهم مصروفة في تخريب بيوتهم وتضييع أوطانهم. وقال أفلاطون: لا ينبغي للأديب أن يخاطب من لا أدب له كما لا ينبغي للصاحي أن ينازع السكران. وقيل له: كيف يغم الإنسان عدوه؟ فقال: بأن يصلح نفسه. أقول: وإن شأن الأمم في هذا كشأن الأفراد سواء بسواء فلا تنكي الأمة عدوها إلا بإصلاح شئونها. وقال: إذا صادقت رجلاً وجب عليك أن تكون صديق صديقه , ولا يجب عليك أن تكون عدوَّ عدوه لأن هذا إنما يجب على خادمه ولا يجب على مماثل له. وقال: الحر من وفى بما يجب عليه , وتسمّح بكثير مما يجب له , وصبر من عشيره على ما لا يصبر منه على مثله وكانت حرمة القصد عنده توازي حرمة النسب وذمام المودة له يجوز ذمام الإفضال عليه. وقال: ينبغي لمن طال لسانه وحسن بيانه أن لا يحدث بغرائب ما سمع فإن الحسد لحسن ما يظهر منه يحملهم على تكذيبه , وأن يترك الخوض في الشريعة وإلا حملتهم المنافسة على تكفيره. أقول: إن شواهد هذه الحكمة واقعة في كل زمان وجد فيه صاحب علم وبيان. وقال: أضرُّ الأشياء عليك أن يعلم رئيسك أنك أحسن حالاً منه أقول: وهذا أصل بلاء العظماء الذين مكانهم في الاجتماع دون مكانتهم في العلم والفضل. وقال: إذا حاكمت رجلاً فليكن فكرك في حجته عليك أقوى من فكرك في حجتك عليه. ((يتبع بمقال تالٍ))

القديم في الحديث والأول في الآخر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القديم في الحديث والأول في الآخر ذهبت بلاغة الشعر العربي بذهاب دول العرب حتى صار القرن يمضي كله ولا يظهر فيه شاعر عربي الأسلوب بليغ الكلام , وحتى صرنا نعد وجود مثل سعادة محمود سامي باشا من قبيل ما يسميه الحكماء بالرجعة، كأن السليقة العربية رجعت إليه بالوراثة لأحد أجداده الأولين من غير عناء في كسب ملكتها , والظاهر أن بلاد العراق لا تزال أقرب إلى السليقة العربية من أهل هذه البلاد وأن النابغين فيها أكثر منهم في غيرها. ولقد وافى هذه البلاد من أشْهُرٍ رجل فاضل جدير بلقب (الأديب) وقل الجدير به في هذا العصر ألا وهو الشيخ أبو المكارم عبد المحسن الكاظمي (نسبة لكاظم بلدة في ضواحي بغداد) لقيناه فلقينا الأدب الصحيح والأخلاق الحسنة من الشاعر المفلق العذب المنطق الذي ناهز المقدمين , وخاطر المقرمين. ومن السجايا الفاضلة الظاهرة فيه الإباء وعزة النفس حتى إنك لا تشعر في أول عهدك به بما عنده من لطف المعاشرة ورقة الطبع ولين العريكة. قال صاحب السعادة إسماعيل باشا صبري وكيل الحقانية وأحد أركان الأدب في مصر: إنني عندما لقيته أول مرة ظننت أنه لا تطيب معاشرته فلما خبرته علمت أنه لا تطيب مفارقته. وما أجدره بقول شاعرنا أحمد بن مفلح المشهور بابن منير الطرابلسي: إِباء فارس في لين الشآم مع ... الظرف العراقي واللفظ الحجازي ... أما شعره فعلى الطريقة العراقية العذبة القديمة: طريقة الشريف ومهيار , وأما إنشاده فهو يناسب شعره في التأثير الذي هو المقصود , الأهم من بلاغة القول ولقد طلبنا منه شيئًا من شعره فوعدنا بذلك , ونشرت جريدة المؤيد الغراء منذ يومين قصديته العينية التي نظمها في مصر فرأينا أن نتحف قراء المنار بنشرها تباعًا , وهى: إلى كم تجيل الطرف والدار بلقع ... أما شغلت عينيك بالجزع أدمع أأنت معيري عبرة كلما ونت ... يحفزِها برح الغرام فتسرع وهل عريت أرض كسوتُ أديمَها ... بماء شئوني فهي زهراء ممرع فمن حرّ أنفاسي وفيض محاجري ... مصيف تراءى في ثراها ومربع ألم تر جرعاء الحمى كيف روضت [1] ... وسال بمحمرّ الشقائق أجرع فهاتيك من دمعي وهذاك من دمي ... فللعين ذا مبكى وللقلب مجزع جرى ماء جفني عن سويداء مهجتي ... فمن أجل ذا وشيُ الرياض مجزّع [2] أفي كل دار أنت ماتح عبرة ... إذا غاض منها مدمع فاض مدمع كأنك فيها ناظر رسم منزل ... حمته عن النظارة نكباء زعزع تذكرت شعبًا في رباها ولعلعًا ... فهاج لكل البرحاء شعب ولعلع كأن على عينيك عارض مزنة ... تصوب عزاليها ولا تتقشع كأن بها خرقاء أوهت مزادها ... وليس لوهى سال واديه مرقع تتبع تجد ما يغمر القلب سلوة ... وهل عدم السلوان من يتتبع وهيهات تسلى الدار وهي فجيعة ... ويسلو أسير الدار وهو مفجع وأفدح خطب شفني بصروفه ... وجرعني ما لم أكن أتجرع وقوفي على تلك الديار وقد عفت ... معالم كانت زاهيات وأربع معالم أعفاها البلى فتوزعت ... وما هي إلا أكبد تتوزع وقفت عليها آخر الليل وقفة ... أودع من أطلالها ما أودع ولا مسعد إلا الدموع وكيف بي ... إذا جف ما عندي من الدمع أجمع أيا بانة الوعساء من أعلم الذوى ... بفرعك حتى اجتُث من حيث يفرع ويا غفلات الجزع هل بعد عالج ... معاد لأيام الغميم ومرجع فكم ليلة بتنا نَشَاوى ولا طلا ... وصرعى وما غير الأحاديث تصرع يطير بنا الشوق ارتياحًا وكلنا ... رذايا [3] هوى في ندوة الحي وقع فمن مغرم يصبو لنجواه مغرم ... ومن مولع يرثي لشكواه مولع ويا حبذا بالجزع فرع أراكة ... تميل وفي أفنانها الوُرق تسجع ورب حمامات مع الصبح أقبلت ... تردد في ألحانها وترجع تهيج تباريح الغرام ولم تُبل [4] ... تذوب قلوب أو تقصف أضلع نصبت لها أذني وقلت إصاخة ... عسى نبأ من ذي هوى يتسمع فأعرضن عن ذي لوعة وروين لي ... أحاديث مجراها الجوى والتولع فقلت: فظيع من نوى الدار حل بي ... فقالت: وما بالدار بعدك أفظع أحن إلى النائي حنين موله ... وهل يُرجع النائيَ الحنينُ المرجع وعندي وما عندي هل هي غُلَّة ... إذا عللوها بالتذكر تنقع ولم أنس يوم الجزع والساعة التي ... وقفنا بها نبكي الديار ونجزع وقفنا عليها برهة ويد الأسى ... تقطع من أحشائنا ما تقطع ونادى المنادي حين أزمعت للسرى ... إلى أين يا حامي الحقيقة مُزمِع فوسع من قلبي الأسى كل ضيق ... وضاق بعيني الفضاءُ الموسع فلله ما فََتَّ الوداعُ من الحشا ... ولله ما قاسى الخليط المودع سرينا نجوب البيد في غلس الدجا ... وصارت مطايانا تخب وتوضع تعوج بنا شرقًا وغربًا كأنها ... تقيس بمسراها القفار وتذرع كأنا وقد مالت بنا سنة الكرى ... سجود على أكوارهن وركع نقطع من أعراض كل تنوفة [5] ... سماوية الأعلام ما ليس يقطع ونعتام [6] تيار الدجى بعزائم ... تلوح بآفاق البلاد وتلمع ويا مألف الآرام رد وديعتي ... فإن فؤادي عند سربك مودع أقول وقد شَبَّت بقلبي جذوة ... تعلمني جمر الغضا كيف يلذع أحباي هل من عطفة في رباعنا ... يطيب بها المصطاف والمتربع وهل تنثني الأيام ثانية لنا ... ويجمعنا بعد التفرق مجمع تهب صبا حتى تكاد من الصبا ... نزعًا إلى واديكم الروح تنزع كأنكمو مني بمرأى ومسمع ... على حين لا مرأى هناك ومسمع

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (المحاماة) سِفر جليل ظهر في هذه الأيام من تأليف القاضي الفاضل والكاتب البارع صاحب العزة أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر الأهلية. والذي أدهش الناس من أمر مؤلفه أنه على كثرة أعماله في المحكمة يتحف قراء العربية في كل عام بكتاب من أنفع الكتب إما من تأليفه وإما من ترجمته , وقد قلنا هذه الكلمة من قبل كما قالها غيرنا وإنما نعيدها الآن لنقرن بها ما يلي: ذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى أن من أنواع الكرامات كثرة التآليف في الزمن القليل , وضرب المثل على هذا بكثيرين منهم والده قاضي القضاة تقي الدين السبكي (رحمهما الله تعالى) فإنه ألف كتبًا كثيرة مع اشتغاله بالقضاء والتدريس بحيث لا يكون له من أوقات الفراغ ما يفي بنسخها. ولكننا نقول: إنها همة الرجال تجعل الوقت كالمادة المرنة القابلة للتمدد أضعاف مساحتها , على أن أكثر تآليف العلماء في تلك القرون المتوسطة كانت من قبيل النسخ لأن كل واحد ينقل عمن قبله فيختصر أو يطيل ويضيف إلى القول أقوالاً ولو من غير الفن الذي يؤلف فيه , وليس بين أيدينا من الكتب العربية التي يصح أن يقال: إن ما فيها نابع من صدور مؤلفيها وفائض من سماء عقولهم، إلا العدد القليل كإحياء العلوم وكالموافقات والاعتصام للعلامة الشاطبي ومقدمة ابن خلدون وغيرها , والأكثر ما بين منسوخ وممسوخ. وهذا النسخ والمسخ لا يحتاج إلى زمن طويل. وقد كان العلماء المشتغلون بالعلوم النقدية يستعينون بتلامذتهم وبالكتاب المستأجَرين على التأليف فيدلونهم على ما يرون نقله وهم ينقلونه لهم , وإنني أعرف رجلاً من المعاصرين ينسب له من المؤلفات ما يزيد على ثلاثين كتابًا ورسالة كتبت في مدة لا تزيد على العشرين سنة إلا قليلاً مع أن له بغيرها شغلاً كثيرًا , ولكن هذه الكتب الكثيرة ليست له فيها إلا الدلالة على الكتب والإيماء إلى المقاصد المطلوبة له وليس فيها شيء من العلم الحقيقي يصح أن ينسب للمؤلف فيعد من بنات فكره أو من استنباطه. أما مثل كتاب المحاماة فهو كتاب لم يسبق المؤلف أحد للكتابة في موضوعه فهو مبتكر، وأما استمداده فليس من كتب موجودة بين الأيدي قد سبق أنه طالعها فسهل عليه أن يراجعها , ولكنه استمد من أوراق الحكومة ودفاترها الرسمية فاحتاج إلى زمن طويل في التنقيب والتفتيش يعزّ على من ليس له مثل همته أن يختلسه من أيدي الشواغل الكثيرة المنوطة به , وليس شأن القضاء في هذا العصر كشأنه في الزمن الماضي فإنه لم يكن أمام حكم القاضي في الغالب إلا طلب البينة أو اليمين عند فقدها , وأما الآن فرب قضية واحدة لا يتأتى للقاضي أن يحكم فيها إلا بعد قراءة مئات من الصحائف، فهل يسهُل على الإنسان أن يؤلف كتابًا من هذه الكتب الملفقة قبل أن يقرأها ويفهمها؟ ناهيك بالأعمال الإدارية المطلوبة من رئيس محكمة مصر. فنسأل الله مع السائلين أن يكثر من أمثال مؤلف كتاب المحاماة في الأمة إذ لا يمكن أن تجاري الأمم الحية إلا بأمثال هؤلاء الرجال العاملين. وسنعود إلى تقريظ الكتاب بعد ما تتسنى لنا مطالعة كله أو جّله. *** (خريطة الكرة السماوية) أتحفتنا جريدة المبشر الغراء بنسخة من خريطة الكرة السماوية مطبوعة باللغة العربية جاءت ملحقة بالجريدة , وقد سررنا بهذا الأثر النافع بقدر حاجتنا إليه فإننا لم نظفر بهذه الضالة بالعربية قبل الآن ويا حبذا لو كان طبعها على ورق نظيف متين ليطول زمن الانتفاع بها بطول مكثها.

السؤال والجواب عن حل طعام أهل الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والجواب عن حل طعام أهل الكتاب سيدي الأستاذ الفاضل الشيخ رشيد أفندي رضا منشئ المنار الأغر. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإننا لعلمنا بما أعطاكم الله جل شأنه من بسطة العلم بما في كتابنا الكريم وسنتنا المحمدية نرجو التفضل بالجواب عن السؤال الآتي وهو: (هل يجوز لمسلم أن يتناول طعامًا وشرابًا من يد نصراني أو يهودي وهو مباشرهما؟ وهل يجوز الأكل من ذبح اليهود بعد قوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ} (التوبة: 28) الآية) راجين إدراجه مع السؤال في أول عدد صادر ولكم منا مزيد الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد مشتركي المنار (جواب المنار) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة: 28) لا يدل على عدم حلّ طعام أهل الكتاب ولا يصح أن يكون ناسخًا لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} (المائدة: 5) والآية نزلت في منع مشركي العرب من الحج , ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بقراءتها في عرفة، والمراد بالنجاسة هنا النجاسة المعنوبة، وهي الشرك وعبادة غير الله تعالى لا نجاسة الجسد؛ لأن الجسد إذا كان نجس العين لا يطهر بالإيمان والاستحالة ههنا ممنوعة كما تستحيل الخمر خلاًّ. وإن كان المراد النجاسة العارضة أي: أنهم لا يتطهرون من النجاسة ولا يغتسلون من الجنابة كما قال بعض العلماء - فيقتضي أن يزول المنع بزوالها , ولم يقل أحد من الأئمة المجتهدين بأن المشرك يمكَّن من الطواف إذا اغتسل وتنظف حتى عند من لم يشترط النية في غسل الجنابة. ولو صح هذا لم يكن فيه دليل على تحريم طعام المشرك فضلاً عن الكتابي , وأما النزاهة والاحتياط فهما يتبعان حال الأشخاص فرب مشرك أشد عناية بالنظافة من مسلم , وإن نفس من تربى على النظافة لتأنف أن تأكل من طعام أكثر الفلاحين في الأرياف لا سيما بعد اختبارهم ومشاهدة تساهلهم في النجاسة والقذارة. لم يرِد في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة عليهم الرضوان أن الكفار أعيانهم نجسة فيكون ما يلمسونه مع الرطوبة نجسًا. وما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك فلا أراه يصح فهو اجتهاد أو فهم نخالفه فيه اتباعًا للسواد الأعظم من الصحابة والأئمة وعمل الصدر الأول , وإن أخذ به منا بعض فرق الشيعة , وأما حديث مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام فهو إن صح لا يدل على النجاسة؛ لأن للملائكة شؤونًا خاصة , ولو كان يجب علينا أن نمتنع عن كل ما يمتنع عنه جبريل لامتنع علينا أن ندخل بيتًا فيه كلب أو صورة ولا قائل بهذا. إن الله تعالى ما شرع لنا الدين ليبعدنا عن الناس ويجعله سببًا للنفور بين الآخذين به وبين سائر الملل والنحل بل شرعه ليزيل به الخلاف ويستبدل بالنفور الائتلاف لا سيما أهل الكتاب الذين احترم أديانهم وهداهم إلى أن رفض الابتداع والتقاليد التي أحدثها التأويل والتحريف والرجوع إلى الأصول الأولى هما اللذان يسهلان عليهم الاتفاق معنا في الدين واعتباره واحدًا لا ينبغي التفرق فيه. وقد سهل علينا أسباب التآلف مع أهل الكتاب بحل المؤاكلة والمناكحة فقال تعالى في آخر سورة أنزلت من القرآن وهي التي صرح فيها بإكمال الدين: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (المائدة: 5) الآية. فمن فطن لهذا يعرف أنه هو الموافق لغرض الدين وحكمته , ومن جمد على التقليد الأعمى فلا علاج له , وفي المقام كلام كثير , وفيما ذكرناه مقنع لمن يريد الحق، والله أعلم وأحكم. *** (شمس مكارم الأخلاق) جمعية في الزقازيق من أحسن الجمعيات الإسلامية التي تألفت في القطر المصري في هذا العهد فإنها بهمة مؤسسيها الأفاضل قد قامت بأعمال نافعة قبل أن يأتي على تأسيسها شهران. رتبت مدرسين في ثلاثة مساجد يعلمون الناس الأخلاق والآداب الدينية وجعلت لهم أجورًا شهرية. وأنشأت ناديًا علميًّا لمطالعة الكتب ورتبت معاشًا لأسرة فقيرة توفي عائلها عن صِبية صغار ونساء ضعاف , وأنشأت مدرسة لتعليم خمسين تلميذًا من أولاد الفقراء مجانًا، استأجرت لها محلاًّ فسيحًا بأربعة وعشرين جنيهًا في السنة. وكانت عينت شيخًا للوعظ في ليالي الاجتماع الأسبوعية فتبين لها أنه لا يحسن الوعظ ولا يصلح له ففصلته , وطلبت من صاحبي الفضيلة مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر انتخاب واعظ لها يكون كفؤًا لهذا العمل بعلمه وأدبه. ولها أعمال من دون ذلك تعملها كتجهيز الموتى من الفقراء وغير ذلك. ومن أعضائها العاملين صاحبا مجلة نور الإسلام النافعة التي تدل قيمتها الزهيدة أنها ما أنشئت إلا لتعميم الفائدة , ويصح أن نقرن هذه الحسنة بحسنات الجمعية وإن كانا صاحباها الكريمان ينفقان عليها من مالهما الخاص لأنهما لم يوفقا لهذا العمل الشريف إلا بعد الدخول في الجمعية. ويقال: إنه لا يشتكي شيء من هذه الجمعية إلا وجود بعض أفراد فيها ليسوا من أهلها فعسى أن يوفق مجلس إدارتها لقطع الأعضاء الفاسدة قبل انتشار العدوى منهم إلى غيرهم والله الموفق. *** (دودة القطن) استُلفتنا إلى مقالة مهمة في دودة القطن وكيفية تلافي ضررها نشرت في جريدة الإخلاص الغراء وقد أردنا أن نراجعها لننبه على ما فيها فألفينا أن العدد التي هي فيه قد اختزل فرأينا أن لا نترك التنبيه عليها بالإجمال.

هانوتو والإصلاح الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هانوتو والإصلاح الإسلامي ألم المسلمين من مقالات هانوتو , عظمة أمر فريضة الحج، رأيُ كيمون في نسف الكعبة ونقل القبر المعظم عليه كثيرون من الأوربيين , حاجتنا إلى معرفة رأي الأوروبيين فينا، وفاء كتاب الإسلام الذي عربه فتحي بك زغلول بهذا الغرض , أوربا والإسلام، خطأ الأوربيين في اتهامهم إيانا بالسعي في أن يكون لنا حاكم واحد، قولهم: إن الدين الإسلامي يحول دون تقدم المسلمين، مناقشة هانوتو في رده على كيمون، الفصل بين السلطتين السياسية والدينية، سيرة فرنسا في الجزائر وتونس , النسبة بين الصلاة والحج، المساواة في الإسلام، حقيقة أثر الإسلام في التقدم والتأخر، الرأي في إزالة سوء التفاهم بين أوربا والمسلمين. نشرت مقالات هانوتو في (الإسلام) فما بلغت البلاد الإسلامية إلا وقامت لها وقعدت , وأشد ما أمضَّها منها وجرح وجدانها هو ما نقله عن (كيمون) من التحريض على نسف الكعبة المكرمة ونقل القبر المعظم إلى متحف اللوفر , ومن وصف الإسلام بالأوصاف القبيحة الشائنة , وما صرح هو به من رغبة أوربا في الحيلولة بين المسلمين وبين أداء فريضة الحج التي هي من أركان الدين الإسلامي لا من أعماله المندوبة أو المستحبة ولا من الواجبات المخيَّر بها المكلف. ولو أن ما جاء في تلك المقالات هو رأي كيمون وحده أو رأيه ورأي هانوتو معًا، لما كان لنا أن نلقي إليه بالاً أو نعده بلاء ووبالاً ولكنه رأي الكثيرين من الكتاب والسياسين. ومن البلاء الأكبر أننا نجهل هذا وهو من أسوأ أنواع الجهل وأقبحها وأشدها ضررًا ووخامة عاقبة لأن بغض الأمم الأوربية واحتقارهم لنا ما جاء إلا من الكتاب والسياسيين القابضين على أزِمَّة النفوس والمتصرفين في الوجدانات والعقول. وقد ذقنا مرارة هذا البغض والاحتقار , وربما كان ما سنلاقيه من الألاقي (الدواهي) أشد مما لاقيناه في الماضي. علم عقلاؤنا شدة حاجتنا إلى الوقوف على اعتقاد الأوربيين فينا فقام صاحب الهمة العلية والغيرة الملية أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر بترجمة كتاب من الكتب التي ألفوها في الإسلام [1] ليكون عبرةً لنا وباعثًا لعلمائنا وكتابنا على الدفاع عن حقيقتنا ببيان حقيقة الإسلام لهم ليزول سوء التفاهم , وبإصلاح شئوننا حتى لا يكون لهم حجة علينا، فلم يكن من بعض أصحاب الأنظار القصيرة والآراء الأفينة إلا أن نَفَرُوا ونَفَّرُوا من قراءة الكتاب المذكور زعمًا منهم أن تعظيم الدين ومن جاء به إنما يكون بجهل ما يقوله خصماؤه فيه وما يريدونه من السوء به , ومن هؤلاء الاغرار من خطأ المؤيد بنشر ترجمة مقالات هانوتو الأخيرة. دع هؤلاء الغافلين في جهلهم الذي سموه تعظيمًا وهلم بنا للبحث في هذا الموضوع الذي هو أهم مصالح الإسلام والمسلمين - موضوع العلاقة بين أوربا والإسلام وما يريده القوم منا وما نريده منهم وما نريده من أنفسنا تجاههم. تتهم أوربا كتاب المسلمين بأنهم قاموا في هذه السنوات الأخيرة يطالبون إخوانهم في جميع أقطار الأرض بالاتحاد والاجتماع تحت راية واحدة والسعي في أن يكون حاكمهم كلهم واحدًا منهم فحزبها هذا الأمر وأهمها لأن غايته نزع المستعمرات الإسلامية من مخالب الدول المسيحية , وقد كتبنا في الجزء الحادي عشر من هذه السنة مقالة عنوانها (أوربا والإصلاح والإسلامي) بينا فيها أن كتاب المسلمين لا يطالبونهم في هذه الأيام إلا بمجاراة الأمم الحية في العلوم والأعمال وما خطر على بال أحد منهم أن يحضهم على السعي في أن يكون لهم حاكم واحد , وكل يعتقد أنه لا سبيل إلى ذلك. والآن نعيد القول بمناسبة ما جرى بين موسيو هانوتو وسعادة بشارة باشا تقلا ونشر في جريدة الأهرام منذ أيام , وأهم ما في تلك المذاكرة أمور: (أحدها) قول هانوتو للباشا: (أنا لم أكتب إلا إلى أبناء وطني الفرنسويين , ولم أستشهد بكيمون وهو يوناني الجنس إلا لأفنّد أقواله التي لم ينفرد بها , فإن كثيرين من الكتاب الألمانيين والفرنسويين والإنكليز وغيرهم حذوا حذوه وقالوا قوله , وخلاصة كتاباتهم أن تقدم المسلمين مستحيل ونجاحهم بعيد لأن الإسلام معتقدهم يحول دون ذلك , وحجة هؤلاء واحدة وهي أنه كلما تقدمت أوربا تأخر الشرق لأن الواقف يتأخر بقدر ما يسير الماشي , وأن كل حكومة انفصلت عن الشرق سارت على منهاج أوروبا علمًا ومدنية فنجحت مع أن العثمانية وأفغانستان ومراكش والعجم لا تزال على ما كانت عليه في السنين الغابرة , وأنا ذكرت من هؤلاء الكتاب كيمون وحده ليعرف المسلمون ما يقال عنهم , ولأفند مزاعم هذا الرجل وغيره من الكتاب الذين على رأيه لاعتقادي أن الإسلام لا يحول دون الإصلاح والمدنية , واستشهدت على صحة معتقدي هذا بتونس فذكرتها مثالاً أؤيد به أقوالي وسياستي , هذه هي روح كتابتي السابقة , وإنها ستكون روح اللاحقة) ثم ذكر أن مغزى كتابة هؤلاء لا تخرج عن إعادة الكَرَّات الصليبية. ونحن نقول: إنه لا يفند رأي كيمون إلا من هذه الجهة - جهة التحريض على الحرب الصليبية - لما في ذلك من الخطر على العالم كله فإن مناوأة ثلاثمائة مليون مسلم (أو مجنون كما يقول كيمون) يتمنون الموت في سبيل الدين، ليس بالأمر الهين والسهل , ولكن فلسفته في عقائد الدين الإسلامي كان من معناها أن المسلمين أو الساميين عامةً لا يمكن أن يجاروا المسيحيين أو الآريين؛ لأن طبيعة عقائدهم لا سيما القضاء والقدر تحول دون ذلك , وذكر أن تمسك المسلمين بدينهم المقتضي للتأخر يسهل على أوربا أن تحل رابطته وتفصم عروته , واستشهد على هذا بأن فرنسا تمكنت من فصل تونس عن مكة وذلك بمنع أهلها من أداء فريضة الحج الشريف. (ثانيها) مسألة الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسة وهي أهم المسائل التي تطلبها أوربا من المسلمين , والجرائد التي تدعو الشرقيين أو المسلمين إلى مدنية أوربا تجتهد في في إقامة الحجج على أن النجاح موقوف على هذا الفصل , وربما كان فيهم من يعتقد ذلك حقيقة , وقد كتبنا في هذا غير مرة ومن ذلك مقالة عنوانها (الدين والدولة والخلافة والسلطنة) بلغنا أن قناصل الدول في القاهرة ترجموها وأرسلوها إلى أوربا , وليس من غرضنا الآن إلا مناقشة موسيو هانوتو للوقوف على حقيقة مراده , قال في حديثه مع تقلا باشا بعد كلام في المسألة: (وهذا ما نريد تأييده نحن الفرنسويين في مستعمراتنا بأن يكون الأمر المطلق للسلطة الحاكمة مع احترام عقائد الشعوب الذين تحت حكمنا وسلطتنا , وهو ماسرنا عليه في الجزائر وتونس وغيرهما من المستعمرات الفرنسوية) ونحن نقول: إن المسلمين يكتفون من الفرنسوين وغيرهم من المتسلطين عليهم من الأوروبيين بأن لا يتعرضوا لشيء من أمور دينهم , ولكن الفرنسويين منعوا الحج من القطرين واستولوا على الأوقاف ومنعوا حقوق الحرمين الشريفين منها , وذكر العلامة الشيخ محمد بيرم في رحلته (صفوة الاعتبار) أنه لم يبق في مدينة الجزائر إلا أربعة جوامع , ولقد عارض الباشا هانوتو مذكرًا له بأن أهل الجزائر غير راضين عن فرنسا فاعترف بذلك ووعد بالكتابة فيه , وأكد القول بأن أهل تونس راضون بإصلاح فرنسا بلادهم لاحترامها جوامعهم وعقائدهم وأحوالهم الشخصية وهي راضية منهم باحترام سلطتها السياسية وإذا كان هذا القول صحيحًا فما هو إلا لأنهم يعتقدون أن منع الحج أمر عرضي مؤقت، الغرض منه المحافظة على الصحة وأنهم يتوقعون في كل عام الإذن لهم بإقامة هذا الركن الإسلامي العظيم , فإذا علموا بعد ذلك بأن الغاية منه فصل تونس من مكة فلا يمكن أن يرضى منهم واحد بذلك , ولا بد أن تظهر آثار السخط عليهم أجمعين إذ لا فرق عندهم بين أن يمنعوا من دخول المساجد لأداء الصلاة وبين أن يمنعوا من دخول الحرم الشريف لأداء الحج , بل المنع الأخير أشد جناية على الدين لأن الصلاة يصح أن تؤدى في البيوت والطرق وكل مكان , وأما الحج فلا يصح إلا في مكة المكرمة. فإذا كان ما يقوله موسيو هانوتو حقًّا فما على حكومته إلا أن تثبته بإزالة المنع من الحج وبدون هذا لا يمكن أن يصدق هذه الأقوال أحد من قارئيها على أنهم أقل القليل , إن الأمة الإسلامية أصبحت أسوأ اعتقادًا بفرنسا من سائر الدول بسبب منع الحج لأن لأهل الجزائر وتونس شئونًا خاصة في بلاد الحجاز تستلفت إليهم جميع الشعوب الإسلامية , وذلك في اجتماعهم ومدافعة بعضهم عن بعض وكلامهم وعاداتهم , وقد نقل إلينا أنهم افتقدوا بعد المنع في عرفات لا سيما في هذه السنة , وكان حديث الحجاج أن فرنسا منعتهم من أداء فرضهم غلوًّا في التعصب على الإسلام. يسهل على هانوتو وغيره أن يقنع بعض من يقرأ كلامه من المسلمين بالأدلة النظرية على حسن قصد فرنسا بمنع الحج في هذه السنين , ويتعذر عليه وعلى كل أحد أن يقنع العالم الإسلامي بذلك , ولكن يسهل على فرنسا هذا الإقناع بإزالة المانع كما قلنا. (ثالثها) قول موسيو هانوتو: إن أوربا لا تسعى إلا لمصلحتها السياسية وأنها ستتفق على المسائل الشرقية اتفاقها الآن على دولة الصين، وأن مِن جَهْل كُتَّابنا التحيز للألمانيين لنكاية الإنكليز والانتصار للفرنسويين على الألمانيين (مثلاً) وهذا القول صحيح وهو موضع العبرة لمن يعتبر والعظة لمن يعقل , وقد بالغ هانوتو في تبرئة أوربا من التعصب الديني علي المسلمين وخطَّأ الذين يدَّعون هذا محتجًّا بحرب القريم وغيرها , فإذا سلَّم له المسلمون احتجاجه وقالوا: إننا لا ثقة لنا بأوربا , ولا يمكن أن نأمن لها ونطمئن بوعودها لأنها طامعة في بلادنا وعاملة على نزع استقلالنا بعامل المصلحة والسياسة لا بعامل الاعتقاد والدين , فهل يمكن لهانوتو أن يزيل هذا العذر بفصاحته بعد ما أثبت أسبابه بصريح قوله؟ ؟ (رابعها) قول تقلا باشا لهانوتو: (المسلمون يعتقدون أن مصلحة أوربا المسيحية تخالف مصلحتهم الإسلامية ولذلك لا يأمنون على أنفسهم من سياسة الدول المسيحية , وقد أدى بهم فقدان هذه الثقة إلى أن لا يأتمنوا مسيحيًّا عثمانيًّا ولو أخلص لهم الخدمة وصدق معهم) قوله هذا مبالغ فيه فإن المسلمين كانوا ولا يزالون يقلدون المسيحيين المناصب العالية , ويثقون بمن يصدق ويسير بالأمانة , وانظر كيف كان رستم باشا موضع ثقة الأمة الإسلامية وإمامها الأعظم السلطان عبد الحميد وانظر إلى كثرة الموظفين في الدولة العلية من الأرمن على خيانتهم وثوراتهم المتعددة , وانظر إلى الحكومة المصرية كيف كانت تقدم المسيحيين ولو غرباء على المسلمين المصريين أصحاب البلاد , ولكن تكرار الخيانة يعلم البليد الحذر. (خامسها) قول موسيو هانوتو: إنه كان يجب على المسلمين الذين عركتهم حوادث السنين أو الذين درسوا في أوربا أن يهتموا بنشر العلوم العصرية في بلادهم وأن يسعوا في إزالة سوء التفاهم بين الشرق والغرب بأن يتلوا تلو أوربا في الاجتهاد والإقدام كما فعلت اليابان , ومن الأسف أن هذا الرجل على سعة معارفه بأحوال عصره لما يدرِ بأن عقلاء المسلمين وكُتابهم قد جعلوا كل عنايتهم في هذا الأمر النافع , وقد صدق في قوله: إن التعليم لا يفيد إذا لم يصحبه التهذيب , وفى قوله: إن المتعلمين في أوربا منا ربما كانوا أكثر من الذين تعلموا فيها من اليابان , ولكن ظهرت في اليابان نتيجة لم يظهر مثلها عندنا. (سادسها) ما ختم به قوله من أن النجاح مشروط بخدمة الوطن خدمة منزهة عن كل

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ من كتاب أميل القرن التاسع عشر (باب الولد) (10) من أراسم إلى هيلانة في 3 يونية - 185 إن معظم من كتبوا في علم التربية يغالون بأصول علم الأخلاق ويرفعون من شأنها , وأنا مثلهم أعتقد أن المواعظ الحسنة وقواعد التهذيب المفيدة قد تبعث العزائم في بعض الأحوال على القيام بصالح الأعمال ولكني لا أعتقد أن ما يلقفه الناشئون منها من أفواه معلميهم في دروسهم يغير طباعهم تغييرًا حقيقيًّا , وهيهات أن أعول عليها في ذلك فإننا نرى كل يوم في المجتمع الإنساني أناسًا من الظرفاء الأكياس جُفاةً غُلف القلوب على أنهم لم يحرموا من النصائح العامة الداعية إلى التحابِّ والتراحم المرغبة في لذة الاتصاف بهما , فما من فاسق أو شرير أو بخيل إلا وقد سمع ألف مرة من ألسنة الوعاظ قولهم: (كن حكيمًا مهذبًا تكن عزيزًا مغتبطًا) [1] (لا تفعل بغيرك ما لا ترضى أن يفعله بك) [2] (لا تجعل لحطام الدنيا حظًّا من قلبك) [3] إلى غير ذلك من النصائح والحكم. الإنجيل كله مواعظ رائقة وأمثال شائقة فليت شعري من ذا الذي يراعيها. هل تجدين كثيرًا من الأغنياء أنفقوا جميع أموالهم على الفقراء بعد سماعهم آية (إن دخول الجمل في سم الخياط أيسر من دخول الغني في ملكوت السموات؟) [4] هل تلاقين ولو في القسيسين أنفسهم عددًا كبيرًا ممن يفضلون عبادة الله (سبحانه) على عبادة الدنيا والدرهم؟ هل يرضى أوائل الناس أو الذين يعتبرون أنفسهم كذلك أن يعاملوا معاملة الأواخر؟ هل يسهل على الحاكمين أن ينقلبوا محكومين؟ كلا إننا نرى علماء الدين يغالطون في فهم نصوص الكتاب مخادعين وجدانهم غاشين ضمائرهم وما أكثر ما يؤوّلونه منها تخلصًا من قضائها عليهم وفرارًا من عواقب الأخذ بصريحها. جاء المسيح يدعو إلى السلام في كل قول من أقواله، فهل رأيتِ الممالك أصبحت أقل قتالاً؟ ندب إلى التآخي بقوله الجليل: (كلكم إخوان) [5] فهل هدم هذا القول دعائم الاستعباد ومحا من النفوس ميلها إلى التسلط؟ توعد من يصلت سفيه بغيًا وعدوانًا بالهلاك، فقال ما معناه: (من سل سيف البغي به قتل) [6] فهل ردع هذا الوعيد من كان بيدهم الحول والقوة عن انتهاك حرمة القانون بالبغي والفساد في الأرض. قال (من أخذ قميصك فأعطه رداءك) [7] فلو أن أحدًا منا معشر الفرنساويين المتشددين في التمسك بالدين اتبع هذا الأمر وجرى على نصه حرفيًّا لسجن في شارنتون [8] خصوصًا إذا كان له من أقاربه وارثون. لم يختص المسيحيون بهذه المواعظ الحسنة فإن لليهود أيضًا والصينيين والفرس كتبًا فيها حكمة بالغة وكلم نابغة , ولكنهم لم يصيروا بها أحسن منا حالاً فإنه لو كان يكفي في تحسين أحوال الناس وتهذيب نفوسهم وجود كتاب مفيد في علم الأخلاق لكانت الدنيا قد بلغت غاية الكمال من زمن طويل لأنها والحمد لله لم تخل من علماء الأخلاق يومًا، على أننا لا نسمع في جميع أرجائها إلا أصوات آلام المنكوبين والمكروبين وتحريق الأرَّم من المقهورين المتغيظين. أرى أنه لا ارتباط بين مذهب المرء وبين عمله غالبًا إلا في الخيال والوهم فلو أن الخير كله والشر كله كان كل منهما بمعزل عن الآخر في مجرى الحياة وسياق أعمالها لسهل على الناس الحكم فيما اختلفوا فيه من آرائهم ومذاهبهم , ولانقطع من بينهم سبب الخلاف بأسرع ما يكون , ولكن هيهات أن يكون الأمر كذلك وقد علمت أنه لا يعمل منهم بعلمه إلا الشذّاذ! انظري إلى أصول الأخلاق الإنجيلية - مثلاً - تجدي أن من لا يؤمنون بألوهية المسيح هم في الغالب أكثر اتباعًا ورعاية ممن اتخذوا الإيمان بتلك الألوهية مهنة لهم. أنا لا أعني بجميع ما قلته هنا أن علم الأخلاق لا فائدة له في التربية وإنما الذي أريده بهذا الكلام هو أن أحسن ما يوجد بهذا العلم من الأصول في الدنيا بأسرها لا ينشئ رجالاً كملة مهذبين , وقد فهم ذلك حق الفهم واضعو الشرائع فعززوا ما دوّن من تلك الأصول في الكتاب بأوضاع تامة للثواب والعقاب. ثم إن الطفل لا يستفيد مما يلقى عليه من دروس الأخلاق إلا إذا كان من الاستعداد والكفاءة بحيث يقدر أسباب أعماله وعواقبها، فأنَّى له إذن أن يفهم هذا الأصل الوجداني وقد حجبه عنه إدراك مشاعره الظاهرة واشتداد أهوائه وشرّة غرائزه؟ وأنَّى له أيضًا بأن يكون جميع ما يراه من الأسى والأمثال من شأنه أن يأخذ بزمام عزيمته إلى الخير ويصرفه عن الشر؟ وليت شعري هل تجري أمة دائمًا على مقتضى ما ترشده إليه من صالح الأخلاق وجميل الصفات؟ إن الوالد ليلقي على ولده خطبة طويلة في وجوب مواساة الفقراء والإحسان إلى المساكين ثم لا يلبث هو نفسه أن يلومه إذا أعطى لفقير درهمًا من الفضة، فهو بذلك يبذر بإحدى يديه في ذاكرته أصول الإنجيل وينقش بيده الأخرى على قلبه صور النفاق والرياء اهـ[*] . (13) من أراسم إلى هيلانة في 4 يونيه سنة -185: يُعوِّل علماء الأخلاق كثيرًا في تربية الأطفال على قوة القدوة وتأثير الأسوة، وأنا في هذا موافق لهم ولكن أيّ والد يصح له أن يتبجح بأنه على الدوام قدوة صالحة لولده. نحن في الجملة نسعى في غش الأطفال وخداعهم بما نتزين به لهم من لباس الرياء الذي يجعلنا في أعينهم أحسن مما نحن عليه في الحقيقة والواقع وبما يصدر عنا كثيرًا أمامهم من الأقوال والآداب المغايرة كل المغايرة لمعتقداتنا وآرائنا الذاتية وحقيقة الأمر أننا نقصد أن نربي طباعهم على ما نشأنا عليه؛ موافقة لحسن رأينا في أنفسنا , ورغبة في تحقيق غيرنا بهذا الرأي , وأن نكسوهم من الفضائل ما نتظاهر لهم بأننا متحلُّون به , ولكن هيهات أن ينخدعوا بهذه الحيل , ومن ظن بهم ذلك فقد أخطأ في فهم معنى سذاجتهم وصفاء قلوبهم خطأً بينًا. الأطفال يعرفون كمال المعرفة ما يعتمدون عليه في كشف مقاصد آبائهم والوقوف على شئونهم وهم يدركون بالحدس والتخمين ما يجتهد هؤلاء في كتمانه عنهم , وإني لفي شك من أن هذا الكتمان وإن حمدت أسبابه يزيدهم في نفوسهم إجلالاً وتعظيمًا. عاقب والد ابنًا صغيرًا له لم يتجاوز الخامسة من عمره على أكذوبة قالها ولم يكد ينتهي من عقابه حتى دخل عليه خادمه مخبرًا له بأن زائرًا ثقيلاً ينتظره في الخارج , فقال له ذلك الرجل الوقور: أخبره بأني لست هنا. فيا له من درس يستفيد منه الطفل الصدق والإخلاص! . أنا على يقين من أن (أميل) لن يجد فيك إلا أحسن أسوة وأكمل قدوة , وهذا هو الذي يملأ قلبي اطمئنانًا عليه. ولكن أقول لك الحق غير مُداجٍ فيه ولا مُدارٍ وهو أن غرضي من تربيته أن يكون ذا طبع مستقل لا مفرغ في قالب طبع آخر مهما كان لهذا الطبع من الكمال. وأذكر لك هنا واقعة حضرتني الآن تدلك على أني محق في قصدي وهي أني رأيت ذات يوم طفلاً في السادسة من عمره راجعًا مع والدته من تشييع جنازة وهو من الأطفال الناجحين المتقدمين جدًّا على حسب اعتقاد الناس , وكان يبكي أو يتباكى فارتبت في أمره وظننت أنه مخطئ في معرفة من فجع به لأن المتوفى لم يكن إلا ابن عم بعيد له (على أن الأطفال لا يفهمون حقيقة الموت كما تعلمين) فسألته عن سبب بكائه وكدره العظيم فكان جوابه لي أن قال: (لا سبب سوى أني رأيت الآن والدتي تمسح عينيها بمنديلها فبكيت) فأضحكني منه هذا التأثر التقليدي وإن كان صادرًا بلا شك عن طبع ساذج وقلب سليم , فلا أريد أن يكون (أميل) مثل هذا الغلام في تأثره بل أودُّ أنه متى بلغ السن الذي يرقُّ فيه لمن تصيبه مصيبة ويعطف عليه يكون ذلك منه ناشئًا عن غم كارث ألم بنفسه وحزن ممض يضطرم في قلبه. يجب أن يلحق ما يرى من أعمال الحيوانات وسيرها في حياتها بما للقدوة من التأثير في التربية. وكيف لا ونحن نرى كتاب الأمثال عندنا على بعد مجتمعاتنا من معاهد الفطرة تزدان تآليفهم وتزدهي دروسهم بما يودعونها من سير الحيوانات وأخلاقها , وأن الطفل من أولادنا لا يكاد يقدر على النطق المفهوم والحفظ حتى يحمل على حفظ أسطورة من أساطير لافونتين [9] كأسطورة الصرصار والنملة مثلاً أنا لا أنكر أن في حياة الحيوانات عبرًا كثيرة وعلومًا شتى يجب علينا تعلمها , ولكني أقول: ألا ينبغي لهذا العالم الصغير الذي يحفظ سير هذه المخلوقات الممثِّلة رواية الكون الكبرى في مشهده الأعظم أن يعرفها ليهتم بشأنها اهتمامًا حقيقيًّا؟ . فكم نرى من الأطفال الذين نشأوا في حواضرنا الكبرى وقرأوا أساطير ذلك الكاتب الشهير من لم ير في حياته تلك المخلوقات التي يحكى لهم قصصها ويمثل لهم أحوالها إلا قليلاً، فهم على جهل تام بأخلاقها وعوائدها. وفي رأيي أن سليمان (عليه السلام) أعقل من واضعي التعليم الحديث إذ قال للكسلان: عليك بالتعلم في مدرسة النملة [10] فإنه دله بهذا الإرشاد على ينابيع علم الأخلاق الفياضة لا على حياضه التي لبعدها عن تلك الينابيع لا توجد فيها إلا صُبابة لا تروي ظمأ ولا تبرد غُلة اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية وأدبية (حكم الفلاسفة ونوادرهم) (2) قال أرسطوطاليس: من عُدم العقل لم يزده السلطان عزًّا ومن عُدم القناعة لم يزده المال غنًى , ومن عدم الإيمان لم تزده الرواية فقهًا. أقول: نسب هذا الكلام لهذا الفيلسوف صاحب كتاب (الكلم الروحانية في الحكم اليونانية) وهو ليس له وإنما هو لأحد حكماء الإسلام لأن أخذ الفقه من الرواية من وضع المسلمين واصطلاحهم وظاهر أن المراد بالرواية رواية الحديث , ولم يكن عند فلاسفة اليونان فقه يستمد من رواية , وكثيرًا ما راجت الأكاذيب والموضوعات على أهل النقل لعدم المعرفة التامة بتاريخ اللغة، فكم من خبر وأثر فيه ألفاظ لم تكن تستعمل في عصر من نسبت إليهم بالمعنى الذي تروى به. وقال: الحُسْنُ رديء لصاحبه جيدٌ لغيره , وقيل له: لم تناقض صديقك أفلاطون فقال: أفلاطون صديقي والحق أولى بالصداقة منه. وقال له رجل: أخْبَرني ثقة عنك بما يوحش، فقال: الثقة لا ينمُّ , وسئل: أي شيء ينبغي للفاضل أن يقتنيه؟ فقال: الأشياء التي إذا غرقت به سفينة تنجو معه إذا نجا، يعني العلوم والمعارف الحقة. وقال: ظاهر العتاب خير من مكتوم الحقد , وقال: ضربة الناصح خير من تحية الشانئ (العائب) وقال: العقل عقلان: مطبوع ومسموع. أقول: إن هذه الحكمة تؤثَر عن الإمام علي كرم الله وجهه ولم يكن وصل إلى العرب شىء من علم اليونان. وقال: قوت الأجساد المطعم، وقوت العقول الحكم فإذا فقدت العقول الحكمة ماتت موت الأجساد عند فقد الطعام. وقال: المعلم الرفيق يربي المتعلم بصغار الحكمة قبل كبارها كما تربي الوالدة ولدها بالرضاع قبل الطعام. وقال: العاقل لا يجزع من جفاء الولاة إيّاه وتقريبهم للجهال دونه لعلمه بأن الأقسام لم توضع على قدر الأخطار (أي ليست الحظوظ عندهم بحسب مراتب الشرف الحقيقية فيرى أن خطره وشرفه لم يقدر قدره) وقال: الحكيم الصالح لا يخدع أحدًا والعاقل الكامل لا يخدعه أحد. يريد أنه لا ينجح في خداعه ليقظته وانتباهه. ويتوهم بعض من يقرأ كتب الأدب أن المخدوع ممدوح لما في ذلك من الآثار والأشعار المسطورة فيها كأثر (من خادعنا في الله انخدعنا له) وكقول الشاعر: خادع خليفتنا عنها بمسألة ... إن الخليفة للسؤَّال ينخدع وكقول عبد الباقي في أمير المؤمنين رضي الله عنه: قد خادعوا منك في صفين ذا كرم ... إن الكريم إذا خادعته انخدعا وهذا الانخداع هو الإغضاء عن الذنب في موضعه والتغافل عنه من باب (تجاهل العارف) ولقد نزه الله نفسه والمؤمنين عن أثر خديعة المنافقين فقال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) . وقال أرسطوطاليس: نصيحة العاقل مبذولة للعامة، وسرُّه مكتوم إلا عن الخاصة. وقال: أيّ ملك جاوز سرُّه وزيره فهو في حد ضعفاء السوقة. وقال للإسكندر: كن رحيمًا من غير أن تكون رحمتك فسادًا , وقال له: اعتبر بمن مضى قبلك ولا تكن عبرة لمن يأتي بعدك , وقال له أيضًا: يا إسكندر اعلم أن عيوب عمالك عيوبك , وقال له: إذا فرضت لجندك فلا تفرض لمن لا تعرف والده ومن وُلد على العبودية؛ فإن الناس يقاتلون بالأنفة والحمية. أقول: لا مندوحة عن مراعاة عزة النفس ومعرفة البيوت في الضباط والقوَّاد حتى في هذا العصر , وقال له: لا يكن لجائزتك حد فإن هذا أبسط للأمل فيك , وقال له: اعمر ما خرب مما أنشأه مَن قبلك يُعِّمر ما تبنيه من يتبعك , وقال له: تفقد أمر عدوك قبل أن يطول باعه , وارتق الفتق قبل أن يتجاوز اتساعه , وقال له: امنع أن يظهر في عسكرك الفجور والسكر فإنهما مفتاح الوهن , وقال: أيُّ ملك نازع السوقة هتك شرفه , وأيّ ملك تصدّى للمحقرات فالموت أكرم له. وكلمه رجل بكلام طويل جدًّا فقال له: أما أول كلامك فقد أنسيته لطول عهده وأما آخره فلم أفهمه لتفلّت أوله , وقال: قد استحسنت قول (لا أدري) حتى أقوله فيما أدري. *** (القسم الثاني من عينية الكاظمي) وهو ما يتعلق بمصر ولما نقلنا للبواخر رحلنا ... وعفنا المطايا وهي حسرى وضلع هجمنا على جيش من الموج ضارب ... بزخاره نحو السما يترفع يطالعنا من كل فج كأنه ... جبال شرورى أصبحت تتقلع ولما تبينت (السويس) وسار بي ... إلى (النيل) سيار من البرق أسرع هرعت إليه عاطفًا من حشاشتي ... وقلت لصحبي هذه مصر فاهرعوا سقى الله دارًا تيم الصب نشرها ... وأخرى بها داريَّة تتضوع لقد صرت في هذي وقلبي معلق ... بتلك إذن ماذا أنا اليوم أصنع وأصبحت أسوانًا فلا أنا ميت فأسلو ولا حي يرجى فأطمع أنادي فلا (شمعون) يسمع دعوتي فيدنو ولا ينأى بوجدي (يوشع) وما لي منه يعلم الله لو دنا سوى نظرة تدنو إلي فأقنع ذر الدمع يدمي ناظريّ فإنني رأيت بعيني طرف (شمعون) يدمع ويا أهل هذا الحي خلوا لنا الجوى نقضي به ليل الصبابة واهجعوا على داركم شق الجيوب ودارنا يشق وريد في ثراها وأخدع فلو أن مثلي في سراة قبيلكم من الحب مضنى أو من البين موجع لأعلنت بالشكوى وصرحت بالجوى وقلت: اسعدوني أيها الصحب أو دعوا تمكنت الأوجاع من كل مفصل وليس لهذا الصب من يتوجع وآيسني طول النوى من طماعتي ولا يأس إلا حين لم يبق مطمع تكلفني عيناي في الحي هجعة فأغمض علمًا أنني لست أهجع وآمل من نومي المشرّد رجعة وأكبر ظني أنه ليس يرجع أقول لجيران لهم بين أضلعي مراح وفي الأحشاء مرعى ومرتع أيا جيرتي جف الرقاد فعاذر إذا رحت في كأس من السهد أكرع ملكتم فؤادي بالتودد خدعة وكل كريم بالتودد يخدع تعسفتموا ما كان مني شيمة وأين من المطبوع من يتطبع وكيف أرجى منكمو ذا حفيظة وأكثر شيء في الأنام التصنع إلا أن دهري موجعات فعاله وأفعال أهليه أمض وأوجع أمثل (فلان) يحفظ الناس وده ومثلي في هذي البلاد يضيع؟ فوالله ما أدري وقد خامر الحشا هوى أوشكت منه الحشا تتصدع أأترك مصرًا أم أقيم بجوها وما جوها إلا جوى يتدفع تساومني خفض الجناح ظباؤها وما شيمتي إلا العلا والترفع أصد فتثنيني إلى الحي لفتة ويقتادني داعي الغرام فأتبع وأغضي فتلويني إلى الغيد نظرة ترد غرامي كلما بان برقع فينزعن في قلبي سهامًا مريشة وأطرب إما قيل في القوس منزع تعدت صروف الدهر مصر وأهلها ولا زال في أرجائها البِشر يسطع نعم أهل مصر أنتمو خير أمة وما الخير إلا منكمو يتفرع لقد شاع عنكم كل فضل وسودد وسوف نرى للفخر ما هو أشيع فما سرني منكم تجمل أنفس كما ساءني قصد العدا المتشنع خذوا حذركم فالكاشحون بمرصد وأنتم كما شاء الكواشح هجّع أرى اليوم موسومًا بكل شنيعة وأخشى غدًا يأتي بما هو أشنع ولكنني أرجو انتباهة حازم تصرف عنا هول ما نتوقع دعوا عنكم مرّ الهوان وعرجوا إلى جنبات العز من حيث تنصع وعودوا بها شم الأنوف تواركًا أنوف الأعادي دونكم وهي جُدَّعُ ولا تشبعوهم غير يأس فإنهم إلى أكلكم - أخزاهم الله - جوَّع وشدوا عُرى أوطانكم بمثقف من الرأي تخشاه الظبى وهي قطع وكونوا لها أطواد عز منيعة يكن لكمو فيها الفخار الممنع *** (الخزانة) مجلة شهرية في السياسة والأدب أصدرها في أول يوليو حضرة الوجيه الفاضل يوسف أفندي الخازن، استعاض بها عن جريدته (الأخبار) اليومية , وذكر في فاتحتها أنه ليس القصد منها بث العلوم وعضد الصناعة وترقية الزراعة، وإنما غرضها الأساسي تفكهة القراء وتسلية الخواطر بمباحث جديدة ذات طلاوة وفكاهة تلذ مطالعتها , ومن ذلك أنه ينشر في كل عدد حكاية (رواية) وجيزة , وفي العدد الأول منها مقالة سياسية في الشؤون الحاضرة , ومقالة أخرى في ترجمة الوزير الكبير صاحب الدولة رياض باشا مأخوذة عن كُتاب أوربا المشهورين , ومقالة في زيارة سمو الخديوي لملكة الإنكليز واستحسان سياسة الوفاق والمسالمة بين مصر والمحتلين، وتقريظ كتاب المحاماة، وشذرات بعض مشاهير الرجال. وقيمة الاشتراك في المجلة 100 غرش مصري فنرجو لها الرواج والنجاح.

المشروع الحميدي الأعظم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المشروع الحميدي الأعظم لم يكن للمسلمين من شبهة في فائدة مشروع سكة حديد الحجاز إلا أنها وسيلة لدخول الأجانب في أرض الحرمين الشريفين وقد أزلنا هذه الشبهة بالمقالة التي نشرناها في فاتحة الجزء الماضي ونشرتها عنا جريدة المؤيد الغراء لتعم فائدتها جميع الأرجاء. وأما ما يوسوس به بعض الناس من أن الدولة العلية لا تقدر على إتمام هذا العمل لقلة مالها , وما ينصح به الناس بناء على هذا الإيهام آمرا لهم بالحرص على مالهم وعدم بذله في إعانتها على العمل - فلا قيمة له في نظر المسلمين لا سيما وهو لم يظهر إلا على صفحات جريدة المقطم التي يسيئون بها الظن في كل ما يتعلق بالإسلام والدولة العلية. على أن الوسواس إذا صح فهو يقتضي الإعانة لا عدمها , إذ من البديهي أن الإعانة تزيل العجز فيتم المطلوب. ومهما كان العاقل سيئ الظن بالدولة العلية والأمة الإسلامية فإنه لا يتصور أنهما لا يقدران على إتمام مشروع كهذا مع التضافر والتعاون , ولا أن الدولة تجمع المال من الأقطار الإسلامية بهذا الاسم ثم تنفقه في شيء آخر إلا إذا دهمها من أوربا خطر عظيم على حياتها التي هي حياة المسلمين اضطرها إلى صرفه في المدافعة، وهذا أمر لا يمنع المسلمين من بذل المال لأنهم يعتقدون أن الإنفاق على هذه المدافعة هو أفضل ما ينفق فيه المال. وأجل منافع هذه السكة الحديدية هو كونها تستهل الدفاع عن الحرمين الشريفين في الاستقبال فما بالك إذا اضطررنا إلى المدافعة في الحال. ولا شك أن مولانا السلطان عبد الحميد كان ولا يزال صارفًا سياسته الحكيمة إلى تأييد السلام، وأوربا الآن مشغولة بالصين فلنا فرصة يجب أن تنتهز لإتمام هذا المشروع العظيم. *** (المقطم والمشروع) لجريدة المقطم مزية لا تشاركها فيها جريدة في القطر المصري وهذه المزية تفيد خاصةَ المسلمين في المشروعات والمصالح الإسلامية، وربما أضرت ببعض العامة وهي أنها تنشر الآراء الشاذة والأقوال التي تنافي المصلحة وإن كانت لا تعتقد ذلك، وكثيرًا ما تصرح بعدم اعتقاد ما تنشر وتعتذر عنه بحرية النشر. وهي لا تكاد تنشر ما ينافي خطتها الخصوصية في السياسة كسائر الجرائد السياسية في العالم. ومن غريب الآراء السخيفة التي نشرتها في التنفير عن سكة الحديد الحجازية رأي بعض المحرفين والمؤولين لكتاب الله تعالى بآرآئهم الزاعم أن القرآن الكريم يدل على عدم وجود هذه السكة بقوله تعالى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27) وليس في الآية ما يدل على حصر الإتيان بالمشي وركوب الضمّر، وإلا فالحصر منتفٍ بإتيان بعضهم على غير الضُمّر من الإبل والبغال والحمير بل والخيل أيضًا وبما حكاه الله تعالى من دعاء إبراهيم بأن يجعل الله الحرم آمنًا ويرزق أهله من الثمرات ويجعل الأفئدة تهوي إليهم , وما أبعد فهم من يستدل بهذا على عدم وجود السكة الحديدية! ! والأقرب أنها تدل على وجودها ليكون دعاء إبراهيم مستجابًا على ممر السنين وعلى أكمل الوجوه إذ لا خلاف في أن هذه السكة من أسباب الأمن وكثرة الثمرات في البلاد الحجازية حيث تنقل إليهم عليها من الشام فانظر إلى هؤلاء المسلمين الذين يؤولون القرآن بأهوائهم ويحرفون معانيه ليصرفوا المسلمين بجهلهم عن هذا العمل النافع. هذا ما قاله الهزاع وتلاه المذاع (الذي لقبه المقطم بالعالم الفاضل) فكتب مقالة في المقطم سلك فيها مسلكًا آخر من التنفير عن المشروع النافع فزعم أن المرغب فيه والمعظم لشأنه يبغض السلطان لأن المشروع بحسب زعمه لا يتم ومتى انقطع الأمل منه تكون كراهة الناس للسلطان بقدر اعتقادهم بعظمة المشروع فعلى هذا تكون محبة السلطان بالإخلاص محصورة بمن يقبح المشروع ويحقره وينفر عنه، وهُم الهزاع والمذاع والمقطم وجريدة أخرى لا نذكر اسمها. ومن عجيب أمر المذاع أنه زعم أن المسلمين يعتقدون أن بلاد الحرمين محفوظة بالملائكة فلا يجب الاستعداد للمدافعة عنها. قال هذا غشًّا للمسلمين , وهو لا يعتقده لأنه قرأ قولنا أن الكعبة هدمت بعد النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم أيضًا أكثر من ذلك , ومنه أخْذ القرامطة للحجر الأسود وبقاؤه عندهم زيادة عن عشرين سنة وربط الخيول في الحرم النبوي الشريف وغير ذلك. وتعبير المقطم عن صاحب الآراء بالعالم الفاضل يوهم العامة أنه من علماء الدين الإسلامي وليس منهم في شيء ولو صرح باسمه لانهالت عليه الشتائم واللعنات كما قال المقطم إذ ينضم إلى سوء قوله معرفة الناس بسوء نيته وخبث طويته على أنهما ظاهران من قوله. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم *** (الأمانة) لا يزال الناس بخير ما وجد فيهم الصدق والأمانة والمروءة. وإننا نسر أن نرى هذه الصفات الجليلة من الطبقات الوسطى والدنيا من أمتنا، فقد سقط من منشئ هذه المجلة حافظة ورق (جزدان) فيها أوراق مالية بمبلغ يزيد على عشرين جنيهًا وأوراق مهمة أخرى فوقعت في يد أحمد أفندي موسى , وهو تلميذ في المحافظة الآن ومتعلم في المدرسة العثمانية , ومحمد علي البيطار في باب الخلق، فلما وجد الأفندي المذكور اسمي على الأوراق سعى هو ورفيقه إلي من ساعتهما وأعطياني الحافظة فشكرًا لهما وأكثر الله في الأمة من أمثالهما. *** (أمنية) لو أن مولانا السلطان الأعظم يجعل كل نجل من أنجاله الكرام ريئسًا للجنة إعانة السكة الحديدية الحجازية في قطر من الأقطار الإسلامية لكان هذا من الأسباب التي تنمو بها التبرعات نموًّا عظيمًا لا سيما إذا سافر أولئك الأمراء العظام إلى تلك الأقطار , ولا شك أن تشريف واحد منهم إلى مصر يجعل التبرعات فيها أضعاف ما ننتظر الآن.

محبة الله ورسوله في إعانة السكة الحديدية الحجازية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محبة الله ورسوله في إعانة السكة الحديدية الحجازية حب الله ورسوله - معناه ودليله وعلامته: بذل المال والنفس في سبيل الله. سخط الله على من يبخل بذلك. سكة حديد الحجاز: المدافعة في الجهاد أشد وجوبًا من المهاجمة. بعض فوائد السكة: هي سنة حسنة سنها السلطان ومن أعان عليها فهو شريكه في الأجر. {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: 165) {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) للحب أنواع كثيرة وضروب شتى أعلاها حب الله ورسوله لأنه غاية كمال الإيمان الذي هو مشرق أنوار التهذيب ومنبع مكارم الأخلاق وروح الفضائل الصورية والمعنوية، أرأيت كيف جعل الله سبحانه وتعالى شدة حبه مقرونة بالإيمان الذي هو مصدرها حيث قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: 165) . وإن ترتيب الحكم على المشتق يؤذِن - كما قالوا - بعلية الاشتقاق. وقد ورد في الحديث المشهور (لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه ممن عداهما) وفي حديث آخر: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله ومن نفسه التي بين جنبيه) أو كما ورد. فما هو حب الله ورسوله؟ وما علامته وما دليله وبرهانه؟ الجواب عن السؤال الأول هو ما يرشدنا إليه قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31) وفي هذا المعنى قال الشاعر: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقًا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع وأما علامة هذا الحب ودليله فهو الاهتمام بما يرضي الله ورسوله من جميع الطاعات , فكيف بالطاعة التي هي مختصة بحفظ بيت الله وقبر رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام؟ فكيف بالطاعة التي تسهل على عباد الله تعالى حج بيته وزيارة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ فكيف بالطاعة التي يتفرع عنها من الطاعات والحسنات ما لا يحصى ولا يحصي ثوابه إلا الله سبحانه وتعالى وهو الذي بجزي عليه الجزاء الأوفى؟ وأكبر علامات حب الله ورسوله بذل المال والنفس في طاعتهما ومرضاتهما لأن المال والنفس أعز الأشياء على صاحبهما في حياته الدنيا فهو بالطبع لا يبذلهما إلا فيما هو أعلى عنده منهما شأنًا وأرفع مكانةً , فمن يبخل بماله أو بنفسه في سبيل الله فهو مفضل لهما على الله ورسوله ومهدد بالسخط والمقت والعقوبة وحرمان الجنة والنعيم لأن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة , وأمر من قبل هذا الشراء بالوفاء , ولا شك أن كل مؤمن يقبله بل هو عنده أعز الأشياء وأنفسها. نحن الآن لا ندعو إلى بذل الأنفس وإنما ندعو إلى بذل شيء مما أنعم الله به من المال في حب الله ورسوله وخدمة حرميهما مهبطي الوحي ومعهدي الدين القويم فأي مؤمن يبخل بماله في سبيل الله؟ {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْما غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) . أي مؤمن يبخل ببعض ما أنعم الله عليه في سبيله ويتعرض لسخطه وعقوبته في قوله عز من قائل: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24) ولا شك أن إعانة مشروع السكة الحديدية الحجازية من أسباب سهولة الدفاع عن الحرمين الشريفين إذا أراد العدوّ بهما سوءًا، ولا فرق في الجهاد بين أن يكون مهاجمة أو مدافعة إلا بما تكون به المدافعة أشد وجوبًا وأقدس عملاً. ومن يقول أن دفع الخطر وابتغاء الخطر (هذا بمعنى الشرف) في مرتبة واحدة , والشرع والعقل متفقان على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟ هذا وليست منفعة السكة الحجازية محصورة في الاستعداد لدفع الخطر ودرء المفاسد , بل إن فيها من المصالح والمنافع الكثير الجم , وناهيكم بتسهيل أداء فريضة الحج على إخواننا المسلمين الذين يقاسون من سوء معاملة الإفرنج في السفن البحرية والمحاجر الصحية ما يقاسون. ويلاقون من تعدي العربان في البر ما يلاقون , وهذه السكة تذهب بهذه النكبات وتزيل هذه المضرات. الساعي بالخير كفاعله , وقد ورد في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره: (من سن سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة , ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) وهذه السكة الحديدية سنة سنها مولانا الخليفة والسلطان الأعظم وكل من أعان عليها فهو من أسباب وجودها لأنها لا تتم إلا به فهو شريك في ثوابها فبادروا رحمكم الله إلى هذا الخير العظيم والأجر الكبير {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} (المزمل: 20) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

الشعر العربي

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

_ الشعر العربي لحضرة الأديب اللوذعي مصطفى أفندي الرافعي ضربت العرب في الشعر كل بسهمه فمخطئ ومصيب حتى ملأوا بقاع الأذهان حكمة وغرسوا في الأفكار فسيلة الخيال فإذا هي شجرة طيبة أصلها ثابت في الجنان وفرعها في اللسان تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. ظلُّوا سائرين بعد ذلك في أنجاد وأغوار بين إرقال وإيضاع حتى إذا أخذت الأفكار زخرفها من تلك الوهاد وأصبح أهلها قادرين عليها ارتفعوا بشعرهم. فمن باسط يده لشهب السماء , ومن قابض بأنامله على كواكب الجوزاء , ومن سابح في البحار إلى سائح في القفار وفي كل ذلك منهم قاصر ومجيد. لقد صح للعرب وذلك مبلغهم من العلم أن يقولوا: إن الشعر يرفع ويضع ويضر وينفع. وليس بعيدًا أن يعلو بقوم وينزل بآخرين ما دامت الأسماع على الأفواه تلتقط الكلمة يطرحها الشاعر من بين شفتيه فإذا هي في أنحاء البلاد جارية على ألسن العرب مجرى الماء العذب. روى لنا التاريخ في أصل ضعة بني أنف الناقة وخمول ذِكْرهم ونَبْزهم بهذا اللقب أن أبا أنف الناقة كان له جملة من الولد مختلفات أمهاتهم وكان أنف الناقة واحدَ أمِّه فنحر يومًا ناقة وقال لولده: اذهبوا فاقتسموها فتباطأ أنف الناقة حتى لم يبق منها إلا رأسها فذهب ليأخذه وأدخل ذراعه في أنفه واحتمله فقيل له: أنف الناقة , وعير بذلك فلما قال في مدحهم الحُطيئة: قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسَوي بأنف الناقة الذنبا علا قدرهم وارتفع ذكرهم وصار اللقب مفخرهم بعد أن كانوا ينتسبون إلى مختلفين من الأجداد مخافة أن يعيروا بذلك اللقب الشنيع. وكانت نمير من أعز القبائل حتى اشتهرت بجمرة العرب لقصر أنسابهم عليهم إذ ليس فيهم دخيل فهم لا يُخْرِجُون من نسائهم لغيرهم , ولا يُدْخِلُون من رجال غيرهم على نسائهم وحتى كانوا إذا قيل لأحدهم: ممن الرجل؟ قال: نميري مفخمة يملأ بها فاه , فلما قال جرير يهجو الراعي: فغُض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبًا بلغت ولا كلابا ذل هذا الاسم واتضع وانتسبوا بعد ذلك لجد أعلى منه , فكان واحدهم يقول إذا سئل الانتساب: (عامري) تاركًا منتسبه الأول من ورائه ظهريًّا. تلك حالة الشعر والشاعر أيام كان الأول تارة كالنجم الزاهر , وآونة كالسيف الباتر , ومرة كالعقاب الكاسر وطورًا كالليث الخادر، وأيام كان الثاني في رصانة النظم عالي الذكر جليل القدر يثور بمقوله كالأسد بمخلبه فتخشاه القبائل وتخافه العشائر. بهذه الثياب الطبيعية التي كان يلبسها الشاعر حينًا فحينًا وبذلك الباتر العضب الذي ابتز به تلك الثياب لم يغادر الشعراء من متردم. فخلف من بعدهم خلف أضاعوا المقصد وأضلوا المورد فظلعوا كالضبع على بعد المزار حتى بلغوا من البحر نجعة فلزموها يرددونها في أفواههم ترديد الصبي لعابه حتى انقلبت فقاقع يغرهم فيها قول الناس: إنها الماء الزلال أو السحر الحلال. ذلك مورد الشعر في عصوره الأولى بل والوسطى أيام كان يفيض عن ألسنة الفرزدق وجرير وأبي تمام والبحتري والمتنبي وأبي العلاء والشريف ومهيار ومن كان من هذه الطبقة. أما وقد حملت الأرجل بعدهم أناسًا لا ألسنة لهم إلا صحف أسلافهم يقطعون من مشتجرها أشجارًا ويجنون من حدائقها ثمارًا زاعمين أن الغراس بأيديهم والمراس بأنفسهم والشجرة لم تثمر إلا بعد أن سقوها من عرقهم كالسيل المنهمر فاهتزت أرضها وربت وأنبتت من كل زوج بهيج- فليس الشعر إلا شعيرًا وليس الشاعر إلا ناعرًا. أولئك الزعانف الذين جعلوا الشعر تجارة وليتها لم تكن بائرة واتخذوا النظم صفقة ولكنها خاسرة، قد ركبوا من المقت سفنًا , وقذفوا بأنفسهم في بطونها كما يقذف بالطير في القفص مجذوذًا جناحه فلا طير ولا ارتياش حتى انكدرت نجوم الشعر وكسفت شموس أهله. حسبوا أن الزمان من صباه إلى هرمه لم يكن في عمرانه غير الطلل البالي والمنزل الخالي، فهم يسلمون عليه ويبكون لديه حتى تسيل المحاجر السود على الخدود الصفر فتجري الشئون الحمر كالأنهار على ظهر القفار كل ذلك والشاعر يقول: إنه غرق بدمعه وعميت عليه غياهب القضاء حتى ضاق بعينيه الفضاء وأنه استبسل للمقدور واستسلم للمحذور , وفي كل هذه المصائب التي يذكرها تجد قلمه في يديه وقرطاسه أمام عينيه وهو يفكر ويسطر ولا طلل ولا بكاء ولا محذور ولا قضاء ولا قفار ولا أنهار ولا جبال ولا تلال ولا ظباء نافرة ولا أسود كاسرة ولكنه الخيال يدع الأرض سائرة والجبال مائرة والأمور تتقلب في الأفكار كتقلب الليل والنهار على حين لا طائل تحت ذلك ولا جدوى من ورائه. وحسبوا أن ليس في الأرض غير العقيق والجزع والمفازة والدهماء والأجرع والجرعاء والهوجاء والهيجاء والبان والسلم والكثبان والعلم، وهم يرون بأعينهم القصور الشامخة والمصانع الباذخة والعمران في نضارته والإنسان في غضارته والبحار وما فيها والبخار وما يعمله والكهرباء وما تصنعه. وكل هذه الآيات البينات لا تثنيهم عن تلك الرسوم الدارسات. قال ابن رشيق: خولفت العرب في كثير من الشعر إلى ما هو أليق منه وأمس بالوقت وأليق بأهله؛ فإن القينة الجميلة لم ترض أن تشبه نفسها بالذباب كما قال أبو محجن: ترجع الصوت أحيانًا وتخفضه ... كما يطير ذباب الروضة الغرد وطرز قوله ذلك ابن حجة بقوله: والعرب عذرها واضح في ذلك فإنه لم يسعها أن تذكر غير ما وجدته في المهامه المقفرة من الذباب والأساريع وشجر الأسحل وما أشبه ذلك ومن أين للعرب أن تقول كقول ابن المعتز في الهلال: فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر وهي عن الزورق والعنبر وعن كثير من ذلك بمعزل. وأين وصف عنترة لروضته بالذباب والزناد الأجذم في قوله من المعلقة: وخلا الذباب بها فليس بنازح ... غردًا كفعل الشارب المترنم هزجًا يحك ذراعه بذارعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم من وصف العلامة يحيى بن هذيل المغربي لروضته الأريضة حيث أتى ببديع الغريب وقال: نام طفل النبت في حجر النعامى ... لاهتزاز الطل في مهد الخزامى وسقى الوسمي أغصان النقا ... فهوت تلثم أفواه الندامى أما تشبيه عنترة فإنه معدود من التشابيه العُقم، غير أن عقادة التركيب في تقديم الألفاظ وتأخيرها أسفرت عن أقطع يحك ذراعه بذراعه. وأين قول امرئ القيس في تشبيه الأنامل وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك أسحل من قول الراضي بالله: قالوا الرحيل فأنشبت أظفارها ... في خدها وقد اعتقلن خضابا فكأنها بأنامل من فضة ... غرست بأرض بنفسج عنابا ولو شئنا لأتينا على كثير للعرب مما يجب أن يرغب عنه ولكنه قتل للوقت فيما لا طائل تحته وفي هذا بلاغ. يقول الخليل: إن الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف شاءوا، جائز لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تسهيل اللفظ وتعقيده. ليت شعري أين كان الخليل وأين كان ذكاء الخليل؟ ولكن عذره أن عصر العرب القدماء كانت رنته تجول في أفكاره فسكر بسلافتهم وأخذ بما أخذوا به من تسهيل وتعقيد وإطلاق وتقييد حتى وضع العروض على طول كلامهم واختط البحور من مواردهم ومصادرهم , فعذره عذر من وصف الحسناء بالذباب، والأنامل بالأساريع ومساويك الأسحل. ولكني أقول: إن الشعراء أمراء الكلام يتصرفون فيه كيف شاءوا جائز لهم في النظم ما لا يجوز لغيرهم في النثر ما دام كلامهم لم يتجافَ عن مضاجع الرقة جنبه حتى يكون سهلاً ممتنعًا كالماء السلسل يتجرعه الشارب فيسيغه. وفيما أرى أن سالك تلك السبيل الأولى والناسج على ذلك المنوال القديم الذي حطمته الأزمان لا حظ له في اسم الشاعر ما دام قلمه مغزلاً وغزله كالعهن المنفوش. دخل أبو العتاهية على عمرو بن العلاء فأنشده بعد قليل من أبيات الغزل: إني أمنت من الزمان وصرفه ... لما علقت من الأمير حبالا لو يستطيع الناس من إجلاله ... تخذوا له حر الخدود نعالا إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسبًا ورمالا فإذا وردن بنا وردن خفائفًا ... وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا فأعطاه سبعين ألفًا وخلع عليه حتى لا يقدر أن يقوم فغار الشعراء لذلك فجمعهم ثم قال: يا معشر الشعراء عجبًا لكم ما أشد حسدكم بعضكم بعضًا إن أحدكم يأتينا ليمدحنا بقصيدة يشبب فيها بصديقته بخمسين بيتًا فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره وقد أتانا أبو العتاهية فشبب بأبيات يسيرة ثم قال ... وأنشد الأبيات المذكورة فما لكم منه تغارون؟ وجماع القول في الشعراء أن لا يخرج الشاعر عما يعهده القوم حتى يصادق الخُبرُ الخَبر. فإنه من العبث أن يسير الإنسان قابضًا بيده على زمام بعيره ناظرًا إلى مناسمه ونسوعه وما يسير فيه من السباسب والفدافد والضحاضح وما يتبع ذلك من الجنان وانصداع الفجر والتهجر والآل إلخ آخذًا في ذلك بأزِمّة الخيال يصف كيف شاء سائرًا في أي طريق فبينما هو على بعيره في نجد إذا هو أمامه في تهامة إذا هو خلفه في العقيق إذا هو في الحصيب. أمكنة لا يعرفها ولم يكن رآها حتى يكاد شعره يكون عند قومه من اللغات الأجنبية. ذكر صاحب الأغاني: قال مسعود بن بشر لابن مناذر بمكة: من أشعر الناس؟ قال: من إذا شئت لعب , ومن إذا شئت جد , فإذا لعب أطمعك لعبه فيه , وإذا رمته بعد عليك وإذا جد فيما قصد له آيسك من نفسه , قال: مثل من؟ قال: مثل جرير حيث يقول إذا لعب: إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال معينا غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا ثم قال حين جد: إن الذي حرم المكارم تغلبًا ... جعل النبوة والخلافة فينا مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا خزر تغلب من أب كأبينا هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إلَي قطينا مثل هذا يكون أشعر الناس في عصرنا لو تبع جده ولعبه في وصفيهما باقي شعره في مذاهب الشعر العربي وعلى هذا المنوال فلينسج الشاعرون. للكلام بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

عينية الكاظمي

الكاتب: الكاظمي

_ القسم الثالث من قصيدة الكاظمي في الفخر تخلى لكم من لو عصفتم بحده ... رأيتم إذن عضب الشباكيف يقطع [1] وحل بكم من لو علمتم محله ... علمتم إذن بدر السما أين يطلع فإن الذي في الكون عنه مفرق ... وإن الذي في الكون فيه مجمع فلا يملك العلياء إلا سميذع ... وها أنا ذاك الأريحي السميذع [2] نزعزع أبطال الوغى لو تحركت ... يراعة فكري لا الوشيج المزعزع [3] ويسكرني والبيض تعسف بالطلا ... نجيع الهوادي لا العقار المشعشع [4] وكيف أخاف الخطب يسود ليله ... وأسياف عزمي في دجى الخطب لمع فكم غمة كشفتها وعظيمة ... تسنمتها والليل أسود أسفع وحادثة قصرتها بعصابة ... تطول لهم في الروع بوع وأذرع تطلعت منها كل دهياء أزمة ... كأني فيها الأرقم المتطلع فقل للعِدا تختر لها أي ميتة ... فسيفي بألوان المنون مرصع وهاك لسيفي الذكر في كل وقعة ... وهل يخلُ من آثار سيفي موقع [5] ورُب سعاة أسرعت خطواتهم ... ففات مساعيها المشيح السرعرع [6] ترنا لدى التمثيل سيين خلقة ... ولكن حفظنا المكرمات وضيعوا لئن يرثوا أو يعجلوا لي سجية ... فلا تتوانى بي ولا تتسرع ولي من وراء الغيب عين تدلني ... على المنهل العذب الذي ليس يشرع [7] أرى كل تلعاء متى شئت جزتها ... وخلفت دوني كل من يتتلع [8] ويا رب قوم غرهم نوم جمعنا ... وأغراهمو ذاك العديد المجمع يخالون أن الطود يؤلمه الحصا ... وأن السبنتى بالنباح يروَّع [9] وما علموا إذ يمموا الغاب خدعة ... يكون وراء الغاب ليث مخدع [10] فجاءوا إلى الإسلام يعترضونه ... سفاهًا فشاموا أن واديه مسبع سعوا بضلالات فخيب سعيهم ... أخو الرشد محمود النقيبة أروع [11] فردُّوا عن الإسلام ميلاً رقابهم ... وجيد بني الإسلام أجيد أتلع [12] وأقسم أني لو شحذت مقالتي ... لراح بها هانوت وهو مبضع [13] ولكنني أغضي احتشامًا وقدرة ... وعندي من القول الطرير الملمع [14] ونحن بنوا لبيض المصاليت في اللقا ... إذا مصقع منا جثا قام مصقع [15] دعوا كل هياب يحكك نفسه ... بكل شجاع عله يتشجع وخلوه ينهض بالذي لا يطيقه ... كما ناء بالعبء الأجب الموقع [16] ولا تحسبوا نوم الشريف على القذا ... يدوم ويهنا في الزمان الموضع فإن أسود الغاب تغضي ملاوة ... فتعسل سِيد في الفلاة وأضبع [17] وإن هي هبت لا تدع من ورائها ... مهبأ ولا قدامها من يجعجع فبشرى لنا والبشر للدار بعدنا ... إذا ما بها قام العماد المرفع

قصيدة الجزائر

الكاتب: كمال الدين المرغناني

_ قصيدة الجزائر أومأنا في جزء مضى إلى أنه جاءنا قصيدة من بعض أدباء الجزائر في مديح فضيلة مولانا الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية , وصاحب القصيدة هو الفاضل السيد كمال الدين مصطفى المرغناني وهاؤم نموذجًا منها: هل من طريق إلى مصر وأزهرها ... أم هل وصول إلى الأستاذ مفتيها محمد عبده فذ المشارق بل ... شيخ المغارب دانيها وقاصيها ركن الحنيفية البيضاء حجتها ... صدر الشريعة كهفها وحاميها حكيم أمتنا العظمى ومرشدها ... إلى سبيل الهدى حقًّا وداعيها وملجم السفهاء من حواسدها ... ومفحم الخصماء من أعاديها أحسن برد له شفت قواطعه ... وأين منه الدراري في مساريها تصنيف توحيده لله منزعه ... أغنى عن الكسب ماضيها وآتيها ونهج تقريره كم فيه من حكم ... بها المحاكم قد نالت أمانيها ثم نوه بفصاحة الممدوح وبتفسيره للقرآن الكريم وختم القصيدة بقوله: مواهب خص من دون الفحول بها ... سبحان مانحها سبحان موليها بشرى لكم معشر الإسلام فابتهجوا ... بطب أدوائنا طرًّا وشافيها والله والله والله لرؤيتُه ... أشهى إلي من الدنيا وما فيها

الاحتفال الثاني عشر بمدرسة ديروط الخيرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال الثاني عشر بمدرسة ديروط الخيرية احتفل في 27 ربيع الأول (24 يوليه) بهذه المدرسة تحت رئاسة صاحب العزة مصطفى بك ماهر وكيل مديرية أسيوط وكان الاحتفال حافلاً حضره حكام المركز ووجهاؤه , وكان رئيس لجنة الامتحان حضرة الفاضل محمد بك أمين ناظر مدرسة أسيوط الأميرية , وقد بدئ الاحتفال بتلاوة آي القرآن العزيز وتليت فيه الخطب وأنشدت القصائد. ثم سئل التلامذة في علوم اللغتين العربية والإنكليزية وسئلوا في التوحيد والتاريخ والحساب وتقويم البلدان والأشياء (المحسوسات من العلوم الطبيعية) فسمع الحاضرون من حسن الجواب ما سر به أولو الألباب. وقد استلفت الأنظار واسترعى الأسماع التلميذ النجيب عثمان أفندي فريد نجل الفاضل أحمد أفندي فريد مهندس المركز حيث فاه بخطاب أحسن فيه الأداء ما شاء الإحسان , حتى صفق له النادي، ولو أمسك أهله لصفقت الجدران , ثم تلاه تلميذ آخر فألقى خطبة مفيدة تلقتها النفوس بالقبول- ذكر فيها أنه كان تلميذًا في مدرسة الأميركان وكانوا يجبرونه على تعلم الديانة النصرانية لأن تعليمها إلزامي , وقال: إن الذي اضطره وأمثاله للدخول في هذه المدرسة وغيرها من المدارس الأجنبية إنما هو تضييق الحكومة على مريدي الوصول في مدارسها. قال: (يضيق صدري ولا ينطلق لساني فإن التعليم في المدارس الأميركانية والقبطية والفرنساوية ظاهره التهذيب لأبناء الوطن وباطنه صبغ أبناء المسلمين (وبناتهم أيضًا) بصفة دينهم , ولكن لاضطراري أنا وأمثالي ولتقاعس المسلمين والحكومة عن تعليمنا الواجب ننتظم في سلكها. والحمد لله على نجاتي من ورطة الزيغ إلى عالم الإيمان والنور على يد حضرة الفاضل سيدي محمد عارف أفندي مدير هذه المدرسة- فلحضرته الفضل ولحضرة الفاضل محمود بك شاهين رئيس الجمعية , وليست هذه بأولى فضائلهما بل أخرجا كثيرًا من أمثالي من عدة مدارس قبطية، وأميركانية - إلى أن قال -: ولعدم تعصب هذه المدرسة قد أقبل عليها جميع الطوائف من كل مكان) إلخ. ثم مثل التلامذة رواية مبتكرة اسمها (نصر الوطن) ثم ختم الاحتفال بتلاوة القرآن الكريم والدعاء لمولانا السلطان الأعظم وعزيز مصرنا الخديوي المعظم فجزى الله مؤسسي هذه المدرسة ومديرها وأساتذتها أفضل الجزاء وكثر في الأمة من أمثالهم. ولولا ضيق نطاق الصحيفة لنشرنا قصيدة الأستاذ الشيخ سيد فرج أحد أساتذة المدرسة ومكاتبنا، أو ملخص خطبة حضرة الفاضل الشيخ محمد حافظ عارف الارتجالية.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (الدليل الصادق على وجود الخالق وبطلان مذهب الفلاسفة ومنكري الخوارق) لمؤلفه الفاضل الشيخ عبد العزيز جاب الله. صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب ويشتمل على 341 صفحة مطبوعًا طبعًا حسنًا وفيه ستة مباحث: (1) النظر في الحيوان. (2) النظر في النبات. (3) النظر في الأفلاك. (4) الرياح. (5) السحاب والمطر وما يتبعهما. (6) الأرض وما فيها. وفي كل مبحث من هذه المباحث مطلبان أحدهما في كيفية النظر في هذه الكائنات للاستدلال بها على الصانع المختار , والثاني في كيفية التفكر فيها على مقتضى ما تدل عليه الآيات القرآنية، إلا مبحث الأفلاك والكواكب فإن فيه أربعة مطالب بزيادة مبحث في كيفية ترتيب الأفلاك والكواكب وصورها وحركاتها،ومطلب في النظر، والتفكر في الليل والنهار , والكتاب يباع في مكتبة (دار الترقي) وغيرها وثمنه عشرة غروش , فنحث القراء على اقتنائه ومطالعته. *** (نهضة الأسد) أهدانا صديقنا الكاتب الفاضل فرح أفندي أنطون منشئ الجامعة جزءًا من قصة بهذا الاسم معربة بقلمه , وهي من تأليف القصاص الشهير إسكندر دوماس الفرنساوي. وهذه القصة تشرح الحركة الفكرية الذي كانت سارية في الأمة الفرنسوية قبل الثورة وروح الاستياء والانتقام من الحكام الظالمين والملوك الجائرين الذين كانوا مستعبدين لها , وتذكر مبادئ الثورة الهائلة التي كانت مبدأ الانقلاب العظيم في أوربا , وقد كانت تنشر في الجامعة ولا نقرأها فلما قرأنا الجزء الذي جمع وطبع على حدته استحببنا تتبع القصة في المجلة. فنحث الذين يحبون الاعتبار بأحوال الأمم مع الفكاهة واللذة أن يقرأوا هذه القصة وثمنها عشرة غروش أميرية. **** (رسالة البيان) في رد جناية اليد واللسان عن مقام مولانا السلطان وهي جواب عن سؤال يتعلق بحزب تركيا الفتاة ودعوته للإصلاح تأليف حضرة داغستلي شمخان زاده عبد الله بك الشهير. صدرت هذه الرسالة وأهديت إلينا نسخة منها فتصفحناها فإذا هي عذبة العبارة لطيفة الإشارة حسنة البيان قوية البرهان. وقد سرني جدًّا أنني رأيت نحو نصف الرسالة منقولاً من (المنار) باللفظ والمعنى , ولكن المؤلف لم ينسب إلى المنار شيئًا من ذلك ولا نعتقد أنه يقصد بذلك هضم حقنا , ولكن نقول: لعل له عذرًا، فإن للمنار أعداء يسمون مدحه للسلطان الأعظم ذمًّا ونصيحته غشًّا وخديعة , وحسب المنار شعور صاحبه بالإخلاص وشهادة قارئيه له من أفاضل الأمة بالخدمة الصادقة اقرأ من (رسالة البيان) ما بين الصفحة 44و89 تعلم أن جميع ما هنالك مأخوذ من المنار بحروفه , واقرأ الخاتمة التي بحثت عن الداء والدواء للأمة تجد ما بين الصفة 96 والصفحة 107 مأخوذ من المنار بحروفه. وفيما عدا هذه وتلك كثير من كلام المنار مدغم في الكلام أو متضمن فيه والرسالة كلها 116 صفحة. فالحمد لله الذي جعل المنار موردًا للمدافعين عن الأمة وإمامها الأعظم السلطان عبد الحميد أيده الله بنصره. وحسبنا هذا جزاءً في الدنيا على صدق الخدمة {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: 36) .

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (الأمنية) تمنينا في الجزء الماضي لو جعل مولانا السلطان الأعظم أنجاله الكرام رؤساء اللجان إعانة سكة الحديد الحجازية في الأقطار الإسلامية. وهي أمنية صادرة عن قلب مخلص يهمه نجاح هذا العمل الشريف ويهمه أن يكون له أحسن الأثر في تعلق قلوب إخوانه المؤمنين بخليفتهم وأميرهم الأكبر نصره الله تعالى. ولقد أصاب ذكر الأمنية موقع الاستحسان من نفوس المصريين الصادقين والعثمانيين المخلصين للدولة العلية فلهجت به ألسنتهم. ولكن الجواسيس السعاة الوشاة المحَّالين القتاتين النمامين المذّاعين الكذابين الذين اعتادوا على قلب الحقائق وجعل الحق باطلاً والحالي عاطلاً - قدروا على أن يستنبطوا من الأمنية سعاية غريبة الشكل والوضع فكتب بعضهم إلى الأستانة شرحًا لها، واستخرج بزعمه مقاصد صاحبها وسيكون جزاء هذا المحَّال المذاع كجزاء ذلك المحال الذي زعم أنه أبطل المنار ونسخ آيته من الوجود ... فإن حبل السعاية مع الكذب والاختلاق قصير , وثوب الرياء والغش يشف عما وراءه وستكون عاقبة الذين أساؤوا السوءى والعاقبة الحسنى للمتقين. أين هذا مما كتبه رصيفنا العثماني الغيور صاحب جريدة الإخلاص الغراء من التنويه بهذه الأمنية والاستدلال بها على إخلاص صاحبها للسلطان الأعظم ومن موافقتنا عليها وجعل الأمنية اقتراحًا فهكذا يكون الذين يأخذون الأشياء بحقيقتها ويقدرون الخدمة الصحيحة قدرها فجزاه الله خيرًا. * * * (بدعة قبيحة) ما كان يخطر على بال أحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن الاستهانة بالدين تصل بأهله إلى أن يتعمد المنتسبون للإسلام تنجيس الجوامع التي تسمى بيوت الله تعالى تشريفًا لها وتكريمًا وأن يبولوا بلا مبالاة على جدران المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه. ولكن هذه الغاية من الضلال والاستهانة بالدين قد وصل إليها بعض سفهاء المصريين، فإذا مر الإنسان بجانب جامع المرداني الذي يجدر بمصر أن تفتخر به وتباهي غيرها من الأمصار الإسلامية يجد أن جدرانه لا سيما القبلي منها تكاد تبلى من البول , ولا يسكن تلك الناحية إلا المسلمون فيما أعلم. هذا الجامع العظيم الذي بعد ما كادت تندرس أطلاله حملت لجنة الآثار القديمة ديوان الأوقاف على إصلاحه فخصص له اثني عشر ألف جنيه وهي لا تكاد تفي بالإصلاح المطلوب , وقبل أن يتم تجديده أبلى البوالون ما تجدد منه ببولهم. وليست هذه الشناعة مقصورة على هذا الجامع بل تتعداه إلى غيره من الجوامع والمساجد المنحرفة عن الأسواق الغاصة بالناس , وقد خصصناه بالذكر لما له من الشأن المخصوص وقد استلفتنا إليه بعض جيرانه من فضلاء المسلمين الذين يحترمون دينهم أشد الاحترام. ألا يعلم الذين يقترفون هذا المنكر القبيح بأن الفقهاء قد صرحوا بأن من يلطخ المسجد بالنجاسة يحكم عليه بالردة والخروج من دين الإسلام , وأن المرتد تطلق امرأته حتى إنه إذا تاب مما أوقعه في الردة وجدد إسلامه يجب عليه تجديد عقد النكاح مطلقًا عند الحنفية وبشرط انقضاء العدة عند الشافعية؟ وإذا لم يجدد إسلامه بالتوبة النصوح يموت على كفره، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين؟ وإذا كان هؤلاء لا حظ لهم من الإسلام، ولا قيمة لمعاهد الدين عندهم، فيجب على الحكومة أن تردهم عن فعلتهم الشنعاء، وتعاقب من يرتكبها؛ لأن الله - تعالى - يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، كما ورد , ونستلفت إلى هذا سعادة محافظ العاصمة الفاضل الهمام، ونرجو أن تبعثه غيرته الملية على أمر الشرطة (البوليس) والحراس بمراقبة أولئك الفاعلين، والقبض عليهم ليكونوا عبرةً لغيرهم. * * * (حكم عادل) حكمت محكمة عابدين في جلستها المنعقدة في 26 ربيع الأول (23 يوليو) تحت رئاسة القاضي الفاضل محمد بك عفت رئيسها حكمًا غيابيًّا على عبد الحليم أفندي حلمي مراد وزوجته أم صلاح الدين باختلاس أعداد من المنار ملك صاحب هذه المجلة محمد رشيد رضا وألزمتهما بإحضار النسخ المختلسة أو بثمنها المقدر بخمسين جنيهًا مصريًّا وبالمصاريف وأجرة المحاماة. * * * (سخاء حاتمي) تبرع الجواد السخي علي بك التونسي أحد عظماء تجار الطرابيش في الأستانة العلية بمبلغ 110 ليرات لكل كيلو متر من سكة حديد الحجاز فيكون مجموع ما تبرع به مائتي ألف وتسعة آلاف ليرة , وهذا هو الكرم الحميد , وقد أنعمت عليه الحضرة السلطانية بالرتبة الأولى من الصنف الثاني فلمثله فلتكن الرتب أكثر الله في الأمة من أمثاله. * * * (وفاة وتعزية) توفي في أوائل هذا الشهر الطبيب النطاسي البعيد الصيت في البراعة بالأعمال الجراحية الدكتور محمد دري باشا عن سبعين عامًا فأسف جميع الفضلاء على فقده وعدُّوه خسارة وطنية كبيرة لما كان له من المكانة بحسن سلوكه ومكارم أخلاقه فنسأل الله - تعالى - أن يحسن عزاء أنجاله ويجعلهم خير خلف له وأن يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جنته.

مدنية العرب - 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدنية العرب نبذة ثالثة السبب في تأخر الاشتغال بالعلم الدنيوي عن زمن الراشدين. العلم في الدولة العباسية. من عضده في الشرق من دونهم. العلم في الأندلس وفي مصر. العلوم الفلكية عند العرب. التنجيم والكهانة. السبب في اشتغال المسلمين بالتنجيم مع نهي الدين عنه. العلم قبل الإسلام. الساعة الدقاقة. أخذ العلم للعمل. التحول بالعلم عن العمل إلى النظريات وسببه. مشاهير الفلكيين. الاكتشافات والاختراعات الإسلامية. *** لا يظهر شيء في الكون إلا إذا وجد المقتضي لوجوده مع عدم المانع منه والدين الإسلامي أعظم مقتضٍ للمدنية الحقة علومها وفنونها وأعمالها المادية والأدبية، فأما آثاره الأدبية فقد وجدت بوجوده على أكمل الوجوه حتى إن المنتهين إلى غايات المدنية الحاضرة لا يساوون بل ولا يقاربون أهل القرن الأول الإسلامي في آدابهم الشخصية ولا الاجتماعية. وأما العلوم الرياضية والطبيعية واكتشاف أسرار الكون وما يتبع ذلك من الأعمال المادية فلم تظهر في المسلمين إلا بعد تحقق الشرط الآخر (عدم المانع) فإن المسلمين كانوا في أول ظهور الإسلام خصماء العالم البشري الذين تصدوا لتهذيبه وترقيته وكانوا مهددين على حياتهم وجلين من انطفاء نور دعوتهم، فلما أمن الخائف واطمأن الواجف واستقرت من الإسلام دعوته وعلت كلمته ونفذت شوكته، انفتقت أرض العقول عن نبات ما بذره القرآن من بذور العلم والعرفان. وقد سبق التنويه بهذا فلا نطيل به. قام أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي يستنهض الهمم ويستنزل الديم , ويبعث النفوس إلى إظهار استعدادها بكشف الحجاب عن وجوه مخدرات الطبيعة وإفشاء أسرار الخليقة , واقتدى به الخلفاء من بعده إلى أن جاء المأمون فكان قطب الرحا لتلك الحركة بل كان مدار فلك العلم ومطلع كواكبه ومشرق شمسه , وجرى من بعده من العباسيين على آثاره ولكن بهمة أنزل من همته وحرارة أوطا من حرارته ولم يضر هذا بالعلم لأن روحه فائضة من الإسلام نفسه , ولذلك بقي قائمًا على صراطه بعد ما صاح صائح الفتنة بالدولة العباسية وزلزل الخارجون عليهم ملكهم زلزالاً. نعم إنه كان تارة يسير الوجيف وتارة يتخزل تخزلاً بحسب ضعف الفتن وشدتها. وكان طاهر بن عبد الله رابع ملوك الطاهرية الذين كانوا أول بلاء على العباسيين وعضد الدولة وشرف الدولة من البويهية كل يأخذ بعضد العلم ويمد إليه ساعد المساعدة. وكان شرف الدولة يتلو تلو المأمون في تأليف الجميعات العلمية لترقية الفنون. ولا ننسى فضل ملكشاه ومحمد شاه من السلجوقيين وأشد ما مر بالعلم الذي أنار مصابيحه العباسيون عاصفة فتنة التتار فهي التي تداعت لها أركان مدرسة بغداد وكادت تطفئ كل هاتيك الأنوار. وما كان مثل العلم في الإسلام إلا كمثل الماء الغمر المتحدر إذا غاض في مكان فاض في آخر , وإذا سدله مجرى تحول إلى مجرى غيره، فلا تزول بالمرة أثباجه (مجاريه) ولا تنقطع أمواجه. تحولت قوته من بغداد فأخذت ذات اليمين وذات الشمال وظهرت في دمشق الشام وفي شيراز وسمرقند وغيرها من الأمصار الإسلامية حتى عم العرب والعجم فكان من أنصاره التتار أنفسهم ولا ننسى أن العرب ينبوعه الأول ومنهم استقى واستمد الآخرون. تلك إشارة إلى شأنه في الشرق وما كان مغرب العالم الإسلامي بأقل من مشرقه بهاء , ولا فيضانه أقل رِيًّا ورواء فإن العرب وخلفاءهم الأمويين في الأندلس فجروا أرض الأندلس بالعلوم عيونًا وأنهارًا. ورفعوا للمعارف صرحًا عاليًا ومنارًا. وأفاضوا على أوربا من شموسهم أنوارًا. فكانت أشبيليه وقرطبه وغرناطه ومرسيه وطليطله مهبط أسرار الحكمة ومهد الآداب والصنائع. ولقد علا مد العلوم ثمة ففاض على بلاد البربر فكان في طنجه وفاس ومراكش وسبته من معاهد العلم ما سامى أصحابه علماء عواصم الأندلس. وأما مصر وهي صدر البلاد الإسلامية في القديم والحديث فلم يكن حظها من العلم بعيدًا من حظ الجناحين، فإن العبيديين فيها نصروا العلم نصرًا مؤزرًا فإذا كانت دار الحكمة قد طفئت أنوارها وعفت آثارها فهذا الأزهر قد صابر الأيام وغالب الأحوال والأعوام وبقي شاهدًا عدلاً وحكمًا فصلاً ينشد بلسان المعز. تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار هذا مجمل من خبر مدنية العرب وإن أبيت إلا التفصيل فدونك منه جملاً. *** العلوم الفلكية كان عند العرب رشاش من معرفة الظواهر الفلكية مشوبًا بخرافات التنجيم الموروث عن الأقدمين فحكم الإسلام بمحو ضلالة التنجيم فيما محاه من ضلالات الكهانة والعرافة وأجاز ما عدا ذلك واستلفت الأنظار إلى الاعتبار به والاستدلال على حكمة مبدعه ومدبره , ولكن التعليم إذا لم تتربَّ عليه الأمة بالعمل لا يقوى بمجرد القول على استئصال الأهواء لا سيما إذا كانت موروثةً , وحب الإشراف على ما في ضمير الغيب من الأسرار وما يجيء به المستقبل من الحوادث من أقوى الأهواء البشرية وهو الذي فتن الناس بالكهان والدجالين واستعبدهم للعرافين والمنجمين. لهذا ظل التنجيم في الإسلام مقرونًا بعلم الهيئة الفلكية ومن أسباب ارتقائه على كثرة ما ورد في التنفير عنه. ومن أسباب تقدمه الحقيقية الاستعانة به على معرفة سمت القبلة ومواقيت الصلاة , وقد جعل العرب كل واحد من هذين علمًا مستقلاًّ بذاته عن سائر العلوم الرياضية. لما ظهر الإسلام كانت العلوم والمعارف متلاشية عند جميع الأمم وكان في النصارى بقية استعان بهم العرب على ترجمة كتب فلاسفة اليونان كأرسطوطاليس وسقراط وجالينوس وإقليدس وبطليموس وغيرهم، وقد أحسن المهدي والرشيد صلة هؤلاء المترجمين وأفاضا عليهم النعم , ثم وجد في المسلمين من يحسن الترجمة ولم يكن أولئك المترجمون متمكنين من العلوم التي نقلوها إلى العربية , ولذلك وقع فيها الغلط الكثير فصححه بعد ذلك الراسخون في العلم من العرب كما صححوا كثيرًا من غلط اليونانيين أنفسهم، وسنُلِّم ببعض ذلك في تضاعيف الكلام. أول من نعرفه من النابغين في ذلك العصر من المسلمين (ما شاء الله) الفلكي المؤلف في الإصطرلاب ودائرته النحاسية وأحمد بن محمد النهاوندي وأول من أحسن الترجمة حجازي بن يوسف معرب كتاب إقليدس. تناول العرب هذه الكتب من قوم كان حظهم منها حفظها على أنها من أعلاق الذخائر ومآثر الجيل الغابر , ومن كان عنده أثارة من علم فإنما هي لوك الكلمات وترديد العبارات , فكان من بصيرة العرب أن يأخذوا العلم للعمل عملاً بالحديث الشريف: (من عمل بما علم ورثة الله علم ما لم يعلم) ولذلك ظهر أثر العمل في عصر الرشيد وناهيك بالساعة الدقاقة المتحركة بالماء التي أرسلها إلى شرلمان ملك فرنسا ومصلحها وعظيم أوربا لعهده , ففزع الأوربيون منها لذلك العهد وتوهموا أنها آلة سحرية قد كمنت فيها الشياطين وأن ملك العرب ما أرسلها إليهم إلا لتغتالهم وتوقع بهم شر إيقاع. ولو استقام العرب على هذه الطريقة لبارك الله لهم في ثمرة العلم وكان ذلك داعيًا لاستمرار الترقي فيه , ولكن صدفت دون ذلك الصوادف وأهمها: مزج الدين بالعلم وما تبع ذلك من المجادلات والمناظرات التي جعلت وجهة العلم نظرية محضة فعقمت بعد النتاج وتحول كمالها إلى خداج. واتل عليهم نبأ المأمون ورقيه بهذه العلوم والفنون. استخرج هذا الإمام لقومه العلم من أثينا والقسطنطينية بما أحسن من الصلة بينه وبين ملوكها من اليونانيين وأنفق بسعة على ترجمة الكتب التي اجتلبها من بلاد اليونان ومن بقاياهم في مصر والإسكندرية فترجمت في عهده هندسة إقليدس، وتيودوس , وأبولوينوس وإيسيقليس ومينيلوس , وشرحت مؤلفات أرشميه في الكرة والأسطوانة وغيرها , وألف يحيى بن أبي منصور زيجًا فلكيًّا مع سند بن علي , وكان هذا قد ألف أرصادًا مع خالد بن عبد الملك المروزي في سنتي 217 و218هـ، وهذان هما اللذان قاسا مع علي بن عيسى وعلي بن البحتري خط نصف النهار بين الرقة وتدمر , وألف أحمد بن عبد الله بن حبش ثلاثة أزياج في حركات الكواكب، وحسبوا الخسوف والكسوف وذوات الأذناب وغيرها والسوادات التي بقرص الشمس ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي وقدروا ميل منطقة فلك البروج وأصلحوا بأمر المأمون غلط كتاب المجسطي لبطليموس الذي ترجم على عهد أبيه الرشيد , ورصد أحمد بن محمد النهاوندي السماويات وألف أزياجًا جديدة ولخص محمد بن موسى الخوارزمي للمأمون الأزياج الفلكية الهندية , ثم توالى البحث في الشرق مصحوبًا بالاكتشاف والاختراع , وبرع في الفلك خلق كثيرون منهم محمد وأحمد وحسن أبناء موسى بن شاكر الذين كملوا الزيج المصحح , وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية وحددوا ميل وسط منطقة البروج في مرصدهم (رصدخانه) المبني على قنطرة بغداد , وعرفوا فيه فروق حساب العرض الأكبر من عروض القمر , وعمل كبيرهم محمد تقويمات لمواضع الكواكب السيارة استعملت إلى ما بعد زمنه وعرب تلميذه ثابت بن قرة (المتوفى سنة 287هـ) كتاب المجسطي ثانية , وبين تصحيحات من تقدمه من عهد الرشيد لأغلاط بطليموس وزاد عليها ملاحظات مفيدة , وممن ألف في الأرصاد والأزياج أبو العباس فضل بن حاتم النيريزي شارح المجسطي، وقد صحح هذا أغلاطًا في أرصاد الفلكيين المتداولة إلى زمن المأمون , وبين في أزياجه الخسوف والكسوف ومحاق الكواكب السيارة وعمل بأزياجه من بعده مدة قرن واحد , ومن أشهر فلكيي المشرق محمد بن عيسى المهاني , والبتناني الذي سماه الإفرنج بطليموس المسلمين (المتوفى سنة 317هـ) . وهو الذي جمع كليات المعارف المكتسبة في عصره , وألف أربعة أرصاد في الشمس والقمر ورسالة في الفلك ورصد السماء بالرقة , ومنهم علي بن أماجور وأخوه، اللذان رصدا السماء وأَلَّفَا زيْجًا عجبيًا وبَيَّنَا طريقة جديدة لاكتشافات فلكية وفروقًا ظاهرة في حساب حركات القمر كما حسبها اليونان والعرب من قبل كما بينا أن حدود أكبر عروض القمر ليست واحدة دائمًا ثم جاء من بعدهما أبو القاسم علي بن الحسين الملقب بابن الأعلم وعبد الرحمن الصوفي اللذين تعلم منهما الفلك الملك عضد الدولة البويهي ونبغ في عصره وعصر أخيه شرف الدولة (وقد مر ذكرهما) كثيرون لما كان لهما من العناية بتعضيد الفنون. لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

الشعر العربي

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

_ الشعر العربي تتمة لحضرة الأديب اللوذعي مصطفى صادق أفندي الرافعي أما فنون الشعر فما زالت الأيام تلد أخًا بعد أخ من لدن امرئ القيس حتى وقف أبو تمام في طريق أبنائها فقبض على عشر بأصابعه وقام عليها بحماسته يعرفها الشعراء فلا يغادرون صغيرة ولا كبيرة إلا ومنها في أذهانهم ما يفعله شؤبوب الغادية بالروضة القحلاء وهنالك ضرب بينهم وبين معشش الأبناء (كذا) بسد فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا. بينما كان الشعراء في هذا القيد يهيمون في كل واد بين حماسة ومراثٍ وأدب وتشبيب وهجاء وإضافات وصفات وسير ومُلح ومذمة الجنس اللطيف - كان عبد العزيز بن أبي الأصبع يستنزل الفنون من شعف القلال إلى سهل الخيال حتى مثلت لديه ثمانية عشر ليس وراءها مطلع لناظر. فجعلها غزلاً ووصفًا وفخرًا ومدحًا وهجاءً وعتابًا واعتذارًا وأدبًا وخمريات وزهدًا ومراثي وبشارة وتهانيَ ووعيدًا وتحذيرًا وتحريضًا ومُلحًا وبابًا مفردًا للسؤال والجواب. على أنه في ذلك لم يخل من خطل في الرأي , أما وإن لكل من تلك المنازع طريقًا لا يجوزه الشاعر حتى يتزود بعد إجادة الصناعة مع الأدب الحقيقي قول ابن رشيق المتقدم. وإن لنكوص العمران على عقبيه تأثيرًا في أذهان الشعراء، فقد وجد منذ عنَّ قريب فيما جاور البلاد العربية كبغداد والموصل وديار بكر وغيرها، شعراء لا يميزهم عن أهل الجوابي والبضيع وحومل إلا ضعف الأسلوب، هذا ديوان الشيخ عبد الغفار الأخرس لو بسط فيه النظر جناحيه حتى يجمع إلى أوله آخره ما خرج الفكر بمعنى جديد على كثرة ما فيه من الأبيات. ولقد بقي ذلك البرق يلمع حتى انخدع بخلبه شعراء اليوم في تلك الجهات وأمثالها. وعجيب أن ينطق بلسانهم المصريون وأمامهم الغور الذي لا يدرك والبحر الذي لا يخاض , وفي بلادهم ما يأخذ بمعاقد البيان ويغنيهم عن جرعاء الحمى وحسك السعدان. انتشر في مصر الشعراء كالجراد المنتشر حتى لم تكن سهمة أكثرهم (قسمته وحظه) من الشعر إلا كالهباءة في الأجواء الثائرة وكيف لا يكون أكثرهم عالة على الشعر وأهليه والأدب ومنتحليه ما دامت البلاغة (خاوية الوفاض بادية الانفضاض) . أذكر أن ليلة جمعتني بعالم يدرس البلاغة فأخبرني أن له في الشعر يدًا وأن هذا الفن من السهولة بحيث لا يعتبر كغيره من الفنون فحدا بي الشوق أن أرى ما وراء كلامه فقلت له: إن رأى الأستاذ أن يجيز (ورد الخدود ودونه شوك القنا [1] ) فما هي إلا هنيهة جال فيها بخاطره ثم استرعى الأسماع واستفرغ الأفكار وظهر عليه الطرب حتى خِلت أن مِن وراء استرعائه ما يُخجل أبا تمام وحزبه، فإذا هو يقول: ورد الخدود ودونه شوك القنا ... فذِ يا أخيّ فارحما فوالله ما تصيب القنافذ بأشواكها ... ما أصاب منا شوك قنافذه هذه نادرة لم يظفر ابن الأعرابي بمثلها ولم يكن في تاريخ الشعر العربي كله أحسن منها. ولشد ما لقي الأدب من أولئك! فإنه أكثر مما لقي البازي عند المرأة العجوز [2] . ألم تر كيف زعم الغربيون ومن يتعصب لهم من أبناء الشرق أن العرب لم تذق ألسنتهم من البلاغة إلا كما تذوق الأعين من النوم غرارًا ومضمضة. وإن لهم لعذرًا في ذلك ما دام شعراؤنا بمعزل عما يقوله الشاعرون , وربما ركب هواه من ليس يعرف مبلغ العرب من الحكمة فارتفع بشكسبير وروبرت وألفرد ده موسييه وجايتي وأضرابهم إلى الذروة ونزل بامرئ القيس وزهير والمتنبي وأمثالهم إلى الحضيض واستدرج بأبي العلاء - الذي يلقبه الإفرنج بحكيم المشرق- وعلاء الدين الوداعي وأنداد هؤلاء من سالفيهم، ولكنه كدم في غير مكدم واستسمن ذا ورم. لعمري - وما عمري علي بهين - لو كان الملك الضليل [2] في عصر الإفرنج الذي ينطق الأبكم ويحل عقدة البيان من اللسان، لتهافتوا على أقدامه تهافت الذباب على الشراب , وما وجدوا إلى شق غباره من سبيل. هذا الشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي جاء في زجله المجرد من الإعراب تجريد السيف من القراب بما يضارع أعظم خيالات الإفرنج قاطبة وهو من المتأخرين لم ينسم من عرف المدنية ما نسموه، حيث يقول في وصف خياط سأله أن يصفه: صف جبيني وشعري من تفصيل ... نظمك المبتكر قلت: خيط الصباح يستفتح ... ذيل الدجى في السحر قال لي قصرت بل هو ستر الله ... حين علي أسبلوا حابك الزرقا فاتق الخضرا ... بالهلال كللوا ولست أرى فيما ينم عن فضل العرب في شعرهم أطيب من قول النعمان وقد حاجه كسرى في قومه: (وأما حكمة ألسنتها فإن الله أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالإشارة وضرب الأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس) . إنما العبء على عاتق شعرائنا اليوم. كيف يضيء المغرب ويظلم المشرق؟ فما لنا وللجزع اليماني وهذا اللؤلؤ والمرجان , وما لنا ولحصباء العقيق وهذا العقيق والعقيان , وما لنا ولماء الغدران ينساب كالحيات وهذه سحب النعيم غاديات رائحات وأمام العين ما يذكر الجنان ويعلم الإنسان , كيف يكون الشعر في الشعراء ولا أخال أطروفة ابن الجهم تخفى على أديب. بقي أن الناس يقولون: إن الشعر العربي كشجرة الدفلى، إذا أكلها مغتر برونقها أودت به إلى حيث لا يردد أنفاسه وضربت أسدادها بينه وبين السعادة. ولقد يصيب هذا القول غرضه من الحق ما دامت الدلاء ينهز بها الناس مع الغواة وما دامت الأمة لا توقظ الأفئدة من سباتها العميق. هذه حالة أولئك يعدون ما كان من هذا القبيل كأنه حماسة العصر تركها أبو تمامه. وغير أمتنا جرى شأوًا مغربًا لا يرغبون من الشعراء إلا أن يلقوا بين أعينهم مجد البلاد وفخر العباد فلا ينظمون غير منثور الآثار ولا يدَعون لسوء الأحدوثه من قرار وكل منهم كما قال شاعرنا أبو النجم البُستي: له قلم حده لا يكل ... إذا كان في الحرب سيف يكل فيوجز لكنه لا يخل ... ويطنب لكنه لا يمل وهل سبقهم لذلك إلا نابغة بنى ذبيان؟ حُصر أربعين يومًا فانتصر قومه فأخذه الطرب لمجدهم حتى قال الشعر ونبغ فيه؟ يستشف الناس معائب شعر العرب القديم في عصر التمدن الجديد فلا يجدون من الشعر ما كان يجده القائلون من قبل وهيهات أن يكون منه في شيء قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل إذا أنشد الناس في الأزبكية مثلاً حيث لا تكركره صبا نجد , ولا تهتف به أجلاف العرب في سقط اللوى بين الدخول فحومل. وما أحسن الشعر إذا كان ملبسه يشوق ومنظره يروق لا تلج به الصلابة ولا تملؤه الصبابة يتناول المعنى دونه النجم علوًّا والنسيم رقة ولطافة , وحبذا أن يكون للشاعر غير البلج والدعج إلخ مما يعيد مجد بلاده ويرفع ما تأود من عمادها , وأسلوب الشعر المتين أن يكون اللفظ بقدر المعنى لا زائدًا فيفرط، ولا ناقصًا فيفرّط. قال خلاد لبشار بن برد: إنك لتجيء بالشيء المتفاوت , فقال: وما ذاك؟ قال: بينما تجيء بالشعر يثير النقع ويخلب القلوب مثل قولك: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما إلى أن تقول: ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت فقال: لكل شيء وجه وموضع , وهذا قلته في جاريتي ربابة وهو من قولي عندها أحسن من (قفا نبك) من ذكرى حبيب ومنزل. وفيما قدمناه ما يكفل للمتأمل أن يمر به في المجلة البيضاء حتى يجيء من البيان بالسحر ومن الشعر بالحكمة.

أمالي دينية الدرس ـ 10

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمالي دينية [*] (الدرس العاشر) م (31) صفات الكمال: ثبت منا في الدروس السابقة أن هذا الوجود الممكن الذي نشاهده صادر عن وجود واجب , وأن واجب الوجود منزه عن مشابهة الممكنات وأنه واحد لا شريك له وأن هذا الواجب هو إله الخلق المستحق لعبادتهم المسمى بلسان الشرع: (الله - جل جلاله) وأنه ليس لغيره سلطة ولا تأثير فيما وراء الأسباب التي يتعلق بها كسب العباد , بل له وحده السلطان الغيبي المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأن الخضوع الذي يبنى على الاعتقاد بهذا السلطان وهو روح (العبادة) وسرها مهما تعددت مظاهرها واختلفت أشكالها لا يكون إلا له. وهذا هو التوحيد الحقيقي والدين الخالص الذي بعث الأنبياء عليهم الصلاة لتقريره عندما فشت الوثنية في الناس. ونقول الآن: إن هذا الاله الواجب الوجود يدلنا العقل والنقل على أنه متصف بما يليق به من صفات الكمال لأنه لما كانت ذاته أكمل الذوات لا جرم كانت صفاته أكمل الصفات. وللناس على اختلاف مللهم مذاهب في فهم الصفات الإلهية أكثرها يرجع إلى قياس الغائب على الشاهد والحكم بالممكن على الواجب وبالحادث على القديم وإلى الأخذ بظواهر الألفاظ التي وردت في الكتب المنزلة وكلام الأنبياء والمرسلين من غير فهم ولا عقل , ولا يليق بصاحب البصيرة في الدين أن يأخذ بمذهب من تلك المذاهب أو يتقيد برأي من آراء أربابها بل عليه أن ينظر بعقله؛ ليثبت له بالبرهان ما تتوقف عليه الألوهية من الصفات للواجب ثم ينظر في إثبات الرسالة وبعد ثبوتها بالعقل يمكنه أن يفهم ما يسنده الرسول إلى الله - تعالى - من الصفات على الوجه المطابق لما قام عليه البرهان العقلي. م (32) يقسمون الصفات الثبوتية [1] إلى: صفات ذات وصفات أفعال , ويقسمونها باعتبار آخر إلى محكمات ومتشابهات ويقسمون صفات الذات إلى نفسية ومعاني ومعنوية , وقالوا: إن الوجود هو الصفة النفسية وأنه لا صفة نفسية سواه وهي أغلوطة علمية صدرت من بعض المتأخرين فتبعه عليها من لا نحصي من أسرى التقليد إلى يومنا هذا كما تبعوه في إثبات الصفات المعنوية ولكن فضل الله تعالى لم يحرم المسلمين في عصر من الأعصار من علماء نبهوا على أن هذا الاصطلاح ما أنزل الله به من سلطان ولم يقم عليه في العقل حجة ولا برهان. والمشهور عن العلماء في القرون الأولى أنهم كانوا يطلقون لفظ (الصفات) على المتشابهات فقط , وجماهير العلماء حتى اليوم على إثبات صفات المعاني ولهم فيها تفسير وأحكام لم تعرف عن السلف الصالح. فلم يرد في الكتاب العزيز ولا في السنة السَّنية ولا في آثار التابعين شيء من هذه الاصطلاحات (إلا المحكم والمتشابه) ولا أن الصفات عين الذات أو غير الذات أو لا عين ولا غير أو أنه لو كشف عنا الحجاب لرأيناها. ونحن لا نطعن بعلم واضعي هذه الاصطلاحات ولا بدينهم بل نقول كما أمرنا الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) وإنما نختار طريقة السلف الصالحين فهي باتفاق الخلف أسلم وأحكم. ونقول أيضا: إنها أعلم، خلافًا لكثيرين يتوهمون أن هذه الاصطلاحات في علم العقائد تعطي الباحث بصيرة وتكون أعون له على الفهم وأقرب إلى البصيرة والبرهان لأننا نعتقد اعتقادًا يؤيده الاختبار والمشاهدة أن الذين يأخذون عقيدتهم من هذه الاصطلاحات أكثرهم يتخبط في ظلمات الحيرة يأخذها بالتقليد الأعمى فيضمها إلى التقليد بأصل العقيدة ويضم إليها ما يوردونه عليها من الحجج تقليدًا على تقليد، فإذا طولب بالبرهان ممن يناقشه في تلك الألفاظ المحفوظة أو سئل كشف شبهة غشيتها حاص حيصة الحمر واضطرب واضطراب الرشاء في البئر البعيدة القعر. طريقة القرآن الحكيم التي استقام عليها الصدر الأول هي الطريقة المثلى وهي عرض المخلوقات على العقول ومطالبتها بالنظر فيها بأي وجه من الوجوه، فلنرجع إلى هذه الطريقة ولنثبت بها الصفات التي لا تتحقق الألوهية في العقل بدونها وهي العلم والإرادة والقدرة، وكذا الحياة على الوجه الذي جرى عليه أستاذنا (في رسالة التوحيد) وهذا هو الذي اشترطناه في ابتداء إلقاء هذه الدروس وإنما أشرنا إلى اصطلاحات المتأخرين في الصفات وبينا أن فهم العقيدة أقرب بدونها؛ لأن الذين تعلموا على الطريقة الشائعة في العقائد - طريقة السنوسي رحمه الله تعالى - يظنون أن العقيدة التي لم تذكر فيها الصفات العشرون عقيدة ناقصة وربما توهم الغارقون في الجهل أنها غير كافية في الإيمان؛ لأن الإيمان بالله عندهم إنما يكون بحفظ الصفات العشرين وأضدادها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , وأما المتشابهات فقد عقدنا لها فيما مضى درسًا مخصوصًا فليرجع إليه من أراد. *** حجة الله على العالمين في معجزات سيد المرسلين أجل وأوسع ما ألف في المعجزات الشريفة كتاب (حجة الله على العالمين في معجزات سيد المرسلين) صلى الله عليه وسلم؛ فإن اسمه طابق مسماه، فقد جمع كثيرًا من معجزاته الشريفة وبشائر ودلائل نبوته العظمى بأوضح نقل وأشهره، فهو كتاب نافع جليل الإفادة لا نظير له في بابه , تأليف العلامة العامل والمفضال التقي الكامل حضرة صاحب الفضيلة الشيخ يوسف النبهاني المكرم رئيس محكمة الحقوق ببيروت حفظه الله تعالى. وطبع بالمطبعة الأدبية فيها بأجمل حرف على ورق جيد وجلد تجليدًا حسنًا وهو 896 صفحة مع الرسالة الغراء التي في آخره بعد الفهرسة المسماة (خلاصة الكلام في ترجيح دين الإسلام) وهي غرر ودرر وموعظة حسنة وحكمة نافعة لكل إنسان وفقه الله إلى الهدى , ويوجد بمصر في مكتبة الترقي وسائر المكاتب وثمنه ستة عشر قرشًا صاغًا ما عدا أجرة البريد. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحليم أنسي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالأزهر ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية العيد الفضي وعيد الجلوس السلطاني في نهاية شهر أغسطس الحاضر يتم لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين وخليفة المسلمين السلطان الأعظم عبد الحميد خان خمس وعشرون سنة على عرش السلطنة، وقد جرت عادة الأوربيين بأن يقيموا للملك الذي يتم له هذا القدر من السنين في المُلك احتفالاً يسمونه (اليوبيل الفضي) وستحذو الأمة العثمانية هذا الحذو وتحتفل بهذا العيد الوطني احتفالاً عامًّا يكون بهجة للناظرين , وقد ابتدأ المصريون في الاجتماع للاستعداد لذلك وقد جرت العادة بأن الاحتفال بعيد الجلوس السلطاني يفوق كل احتفال يكون في البلاد العثمانية ما عدا الأستانة العلية , وقد كتبت الجرائد اليومية ما يفيد أن المشتغلين بالاستعداد للاحتفال قد انقسموا قسمين وجعلوا الجمعية جمعيتين وهذا فشل يؤدي إلى اختلال العمل، ولا بد أن يزول قريبًا إن لم يكن مقصودًا… ولا نخاله إلا عارضًا يزول باتفاق العقلاء والمخلصين. *** وعدنا بأن نكتب في هذا الجزء شيئًا على ما توقفنا فيه من الشاعر المجيد الشيخ عبد المحسن أفندي الكاظمي ثم رأينا من الصواب أن نكتب إليه نسأله عن ذلك وننشر ما يجيب به فلينتظر ذلك القراء إلى الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. مولد أبي العيون كنا ذكرنا أن الحكومة أمرت بإبطال هذا المولد بناء على ما نُمي إلى سعادة الفاضل حشمت باشا مدير أسيوط من المفاسد التي تكون فيه، ثم صرحت الحكومة ثانيًا بالإذن بإقامته بعد ما مر وقته العادي، وأخبرنا بعض الأفاضل بأن هذا الإذن الجديد مبني على عدم ثبوت ما أشيع سابقًا من المنكرات وأن سعادة حشمت على بينة من هذه البراءة بعد الاختبار. وعسى أن يكتب إلينا بعض من يحضر المولد في هذه الأيام عما يشاهده فيه لننشره خدمة للحقيقة. تهنئة انتخب صديقنا الفاضل العالم المؤرخ المدقق جرجي أفندي يني الطرابلسي عضوًا في الجمعية العلمية الأسيوية في باريس بتصريح من العلامة كلرمون كاينو وخير ما يكافأ به العالم من حيث هو عالم أن يقدر قدره ويرفع إلى ما يستحقه من المراتب والأعمال، فنهنئ صديقنا باعتراف الغرب بفضله كما اعترف الشرق , ولكن الشرق على اعترافه لم يرفعه إلى ما هو جدير به بحيث ينفع بعلمه , وهذا هو الفرق بين الخافقين فنعزي أنفسنا على ذلك بسعي الساعين منا في ترقية الأمة وكشف الغمة. دودة القطن يؤخذ من المقالة التي نشرتها جريدة الإخلاص الغراء ونوهنا بها في جزء سابق أن الفلاحين يقطعون ورق القطن الذي يرون فيه الدودة، وأن هذا يعرض لوز القطن للشمس والندى في وقت يضر الشجرة ذلك، على أن هذه الطريقة لتنقية الدود غير كافية إذ لا يمكن اصطلامه بها ولو أمكن لاحتاج إلى نفقة كبيرة لا يفي بها ربح الغلة. ثم أشار صاحب المقالة بطريقة، قال: إن الاختبار هداه إليها بعد عشرين عامًا زاول فيها الأمر بنفسه، وهي: يوجد طير يشبه العصفور الدوري يأوى إلى الحرث في أيام الصيف. ويختار شجر القطن وما أشبهه ليتقي الحر بظله ويتغذى من الحشرات التي توجد فيه ومنها دودة القطن. ثم يجيء في شهر أغسطس (الموافق مسرى القبطي) الطير المسمى عصفور النيل وهو يأكل الدودة أيضًا ولكن الفلاحين لجهلهم يروعونه ولو بغير الصيد ليفر، فالطريقة أن تُترك هذه الطيور وشأنها وأن يكون حرث القطن لها حرمًا آمنًا وهي تستأصل دودة القطن فإنها تتبعها حتى عندما تتغلغل في التراب وقت الهاجرة ولو غاصت إلى بعد 25 سنتيمتر. أهم الأخبار الخارجية (اغتيال ملك إيطاليا) في 30 من شهر يوليو الماضي اغتال فوضوي اسمه بريسي الملك همبرت عظيم إيطاليا وكان عائدًا من شهود الاحتفال بالألعاب الرياضية في قرية مونزا، ومما نقل عنه أن قرينته الملكة نهته عن السفر لشهود الاحتفال ولما علمت أنه لا بد له من حضوره ألحت عليه بوجوب الحذر والتوقِّي من الاغتيال فصرح بأنه مستسلم للقضاء والقدر الذي يؤمن به. وكان هذا الملك رحيمًا برعيته ومهذبًا في نفسه ولذلك عظم وقع مقتله في أوربا حتى على كثير من الفوضويين أنفسهم. (أوربا والصين) ثارت طائفة من الصين تسمى البوكسر على الأوربيين فاغتالت بعض المرسلين ثم سفير ألمانيا فاتحدت الدول الأوربية العظمى ذوات الأطماع في الصين مع دولة اليابان وألفوا جيشًا مختلطًا للتنكيل بالصين لا سيما بعد ما علموا أن البوكسر حصروا سفراء الدول كلهم في بكين وأشيع أنهم قتلوهم ولم يتحقق ذلك , وقد استولت الجيوش المتحدة على مدينة تيان تسين الصينية وهي عازمة على الزحف على بكين عاصمة الصين ولكنها تخشى منه قتل السفراء واستئصال الأوربيين وقد انضوت جمهورية الولايات المتحدة إلى أوربا في أمر الصين ويقال أن الفوغفور (إمبراطور الصين) الذي يعتبر البوكسر ثائرين عليه عابثين بسلطته طلب من الولايات المتحدة أن تسوي بينه وبين أوربا، والله أعلم بما سينتهي إليه هذا الأمر العظيم. (الرياض والمنار) تنشر جريدة الرياض الهندية الزاهرة نبذًا من المنار تارة بحروفها وتارة ملخصة تلخيصًا، فيسرنا ذلك منها ولكننا نستلفت محررها الفاضل إلى حقوق الصحافة والعلم , وأهمها عزو القول إلى قائله وإضافة الرأي إلى صاحبه، فقد رأينا في آخر عدد ورد إلينا من جريدة الرياض نبذة ملخصة من مقالتنا (فرنسا والإسلام) وخبر سرقة (الآثار النبوية الشريفة) وغير ذلك وكلها من غير عزو.

مدنية العرب - 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدنية العرب نبذة رابعة مدرسة بغداد وطريقة علمائها. اعتراف الإفرنجة لهم بالفضل. الأرصاد المأمونية. أبو الوفاء الفلكي الميكانيكي واختراعاته ومصنفاته. التتار واهتداؤهم ونصرهم للعلم. مرصد مراغة وامتيازه. الفلك في مصر. ابن يونس والزيج الحاكمي ومرصد المقطم. اختراع الربع المثقوب وبندول الساعة الدقاقة. الفلك في الأندلس والمغرب.. .. ألمعنا في النبذة الماضية باشتغال علماء الإسلام بالفلك وما كان لهم من الاكتشاف والتنقيح والتصنيف ألا وإن مدرسة بغداد كانت منبع هذا العلم كغيره ومنها استمد سائر المسلمين الذين استمد من سؤرهم الغربيون بل الذين ترك أبناؤهم تراثهم للأجانب فاستأثروا به وأنموه وصار مفخرًا لهم وحجة علينا. ولا يزال فضلاؤهم يعترفون لنا بهذا الحق. قال بعض مؤرخي الإفرنجة: إن العرب استقاموا عدة قرون على الطريقة التي وضعها علماء مدرسة بغداد واتبعوا قواعدهم وهي الانتقال من المعلوم إلى المجهول والوقوف على حقيقة الحوادث الفلكية والانتقال من النظر في المسببات إلى اجتلاء الأسباب لا يعولون إلا على ما اتضحت صحته وعرفت حقيقته , ولهذا عَوَّلَ مَنْ بعدهم على مؤلفاتهم واعترف ثابت بن قرة بأن ما في يده من الأرصاد الموضوعة في زمن المأمون كافية في تقدم علم الفلك , ومما يقضي بالعجب على الأوربيين أن العرب وصلوا إلى تلك الغاية من المعارف الفلكية في بغداد من غير مرقب (تلسكوب) ولا إسطرلاب. ذكرنا أن الذين نبغوا في علم الفلك على عهد عضد الدولة وأخيه كثيرون. ومن أشهر هؤلاء أبو الوفاء محمد بن محمد الحاسب الذي اعترف بفضله المجمع العلمي في باريس فقد أتقن هذا مع علم الفلك علم الميكانيكا ورصد ميل وسط منطقة البروج (الأكليتيك) سنة 385هـ - 995 م برفع دائرة نصف قطرها خمسة عشر ذراعًا وترجم لأول مرة كتاب ديوفنط وألف معادلة المركز والاختلاف القمري السنوي أي الذي يحصل في سير القمر سنويًّا , وأظهر في حساب سير القمر اختلافًا ثالثًا وهو ما حسبه (تيكو براحه) الفلكي بعد ستة قرون من وفاة أبي الوفاء الذي صحح الأرصاد القديمة حين رأى شرح بطليموس على القمر غير متقن وألف كتبًا كثيرة أعلاها المجسطي الذي بين العلائق الغامضة بين أشكال الدوائر بما اخترعه من قواعد الخطوط المماسة والخطوط المتقاطعة التي جرى عليها المهندسون في حساب المثلثات واقتدى الأوربيون فيها بالعرب إلى هذا العصر , وكان علماء العرب قد استبدلوا الجيوب بالأوتار على عهد البتناني الذي تقدم ذكره وعام وفاته أي قبل أبي الوفاء بقرن كامل. ومن مشاهيرهم البيروني وأبو سهل الفلكي الذي حدد ثانيًا حركات الكواكب السبعة السيارة. *** الفلك في أعاجم المسلمين جلّت عناية الله في الدين الإسلامي واللغة العربية فإن التتار الوحوش الجهلاء زحفوا على البلاد الإسلامية ليبيدوها فلم يكن بعد انتصارهم إلا ريثما مازجوا المسلمين المغلوبين على أمرهم وعرفوا شيئًا من لغتهم حتى كشف عنهم الغطاء فأبصروا نور الإسلام يتلألأ ويضيء الأرجاء فتنكشف به الحقائق وتستجلى الدقائق دخلوا في الإسلام وكانوا أعوانًا للعلم وأنصارًا بل تسابق العلم والدين إلى عقولهم فتارةً كان الأول يهدي إلى الثاني , وطورًا كان الثاني يرشد إلى الأول , ولا غرو فهكذا شأن السبب مع المسبب والعلة مع المعلول. جمع هلاكو خان (وقد اختلف المؤرخون في إسلامه) العلماء الرياضين والفلكيين وغيرهم واختار منهم نصير الدين الطوسي فأفاض عليه الأموال فجمع الكتب الفلكية من بغداد، والشام , والموصل , وخراسان , وبنى بالمراغة المرصد المشهور وجعل في قبته ثقبًا تعرف بأشعة الشمس النافذة منه درجات ودقائق سيرها اليومي وارتفاعها في كل فصل فكان ذلك منه استعمالاً جديدًا للربع المثقوب الذي استعمله العرب من قبله. وجعل في المرصد دوائر رصدية كبارًا وأرباع دوائر وكرات سماوية وأرضية وجميع أنواع الإصطرلاب واستعمل فيه كثيرين من العلماء. وبنى ألوغ بيك مرصدًا في دمشق ولما أتم كوبلاي خان أخو هلاكو فتح الصين نقل مؤلفات علماء بغداد إليها , وخلف ابنُ الشاطرِ الطوسيَّ فعمل أزياجًا اعتمد عليها العلماء بعده , ولا ننسى أن تيمورلنك وأولاده نصروا العلم بعد ذلك العيث والإفساد ومرصدهم في سمرقند كان مشهورًا. *** علم الفلك في مصر والأندلس والغرب الأقصى قضت سنة الله - تعالى - بأن يكون نمو العلوم والفنون على حسب قوة الدولة وسعة العمران لذلك تقلصت ظلال المعارف من بغداد بعدما أفلت شمس العباسيين على ما بينا قبل. ولما دالت الدولة إلى الفاطميين في مصر طار المشتغلون بالعلم في جو السماء يسامرون النجم الثاقب ويسايرون الفلك الدائب وقد انتهت رياسة هذا الفن في القاهرة إلى ابن يونس الفلكي الشهير صاحب الزيج الحاكمي ومرصد جبل المقطم المتوفى سنة 389هـ. جرى ابن يونس هذا على آثار أبي الوفاء الذي نوهنا به آنفًا واتبع خطواته ونظر في مؤلفات علماء بغداد وغيرهم وانتقد على أزياج النيريزي (الذي نوهنا به في النبذة الثالثة) بعدم استقصائه في إصلاح أغلاط الفلكيين على أنه اعترف بفضله واستفاد من أزياجه , وهو الذي اخترع الربع ذا الثقب وبندول الساعة الدقاقة وقد خلف في الشرق كله المجسطي البطليموسي ورسائل علماء بغداد وظهر زيجه في الفرس من بعده بنحو سبعين سنة. ومن مشاهير الفلكيين الأولين في مصر العتقي , وممن جاء بعد ابن يونس حسن بن هيثم الذي ألف أكثر من ثمانين كتابًا ومجموعًا في الأرصاد، وشرح المجسطي وتعاريف مبادئ إقليدس , وقد انتفع بأزياجه المسلمون من بعده واعتنى نصير الدين الطوسي بالزيج الحاكمي فعمل لتحقيقه أرصادًا استغرق عملها اثنتي عشرة سنة ولو عملها على الحساب الأول لاحتاجت إلى 30 سنة. وأما الأندلس , وبلاد مراكش فقد نبغ فيهما كثيرون في الفلك، وقد اقتبس منهم الأوربيون أكثر مما اقتبسوا من عرب المشرق وكان الفيلسوف ابن رشد فلكيًّا ألف في مساحة المثلثات الكروية وعزي إليه شرح على المجسطي، وظن أن نقطةً سوداء في قرص الشمس يوم عرف من الحساب الفلكي زمن مرور كوكب عطارد. ومن أشهر فلكيي الأندلس مسلمة المجريطي , وابن أبي طلحة الذي عمل في ثلاثين سنة أرصادًا مشهورة بالصحة واحتذى مثاله وجرى على أثره أرزاقيل الفلكي فعمل في تحديد أوج الشمس من الأرصاد 402 وأرصاد أخرى لمبادرة حركة الاعتدالين وألف الأزياج الطليطلية (نسبة إلى طليطلة إحدى مدائن الأندلس) والأقوال الفرضية في تباعد الشمس عن مراكز أفلاك الكواكب السيارة , ومنهم جابر ابن أفلح الشبلي الذي ترجمت رسالته إلى اللغة اللاتينية. ومن أشهر فلكيي المغرب الأقصى البتراش المعاصر لابن رشد الذي رأى عدم انتظام دوائر المجسطي المتداخلة والمتقاطعة الدائرة حول مراكز الأفلاك فاخترع في ترتيب الأفلاك والمراكز مذهبًا جديدًا بناه على رفض الفرضيات الفلكية الباطلة التي كان يجهلها المتقدمون , ومنهم أبو الحسن صاحب كتاب البدايات والنهايات الذي طاف شبه جزيرة الأندلس وجزءًا عظيمًا من شمال أفريقية وحرر ارتفاع القطب الشمالي في 41 مدينة أولها أفرانه على الساحل الغربي من بلاد المغرب وآخرها القاهرة , فأين تلك الهمم العالية في تحرير مسائل العلوم والعزيمة الماضية في جوب الأقطار وقطع أجواز البحار؟ أواه إنني أسمع الكون الأعظم يجاوبني قائلاً: إن هذه الروح قد انتقلت من المسلمين إلى الأوربيين والأمريكيين. حتى صار الأولون يعجبون من الآخرين. عندما يرونهم سائحين ومؤلفين ومخترعين ومكتشفين. وقد جهل المسلمون مآثر أسلافهم ولكن حفظها الأوربيون , فإنا لله وإنا إليه راجعون وما زال أهل الغرب يدرون قدرنا ... مدى الدهر ما أبدوا من الفضل معجما متى يذكر الأفضال فيهم خطيبهم ... على منبر صلى علينا وسلما ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 11 ـ الحياة والعلم والإرادة والقدرة الحياة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمالي دينية (الدرس 11) (33) الحياة والعلم والإرادة والقدرة الحياة عرفوها بأنها صفة تصحح للمتصف بها أن يكون عالمًا مريدًا قادرًا وقال أستاذنا في (رسالة التوحيد) : صفة تستتبع العلم والإرادة ولا يخفى أن هذه العبارة آدب من الأولى والذي يتراءى أنها من الصفات السمعية التي لا يدل عليها العقل بمجرده كما يدل على العلم والإرادة والقدرة إذ لا يمكن لأحد أن يتصور أن صانعًا يقوم بصنعة بديعة منتظمة وهو لا يعلم ما يعمل أو وهو عاجز عن العمل أو أن عمله الذي هو بغاية الإتقان والإحكام يصدر منه على سبيل المصادفة والاتفاق من غير إرادة ولا اختيار. فهذا الكون البديع يدل مباشرة على أن مبدعه عليم حكيم مريد قدير وأما دلالته على أنه حي فهي بالواسطة لأننا نعلم أن العالم القادر لا يكون إلا حيًّا ولكن هذا العلم إنما جاءنا مما نعهد في أنفسنا وأمثالنا فوَصْف الله تعالى بالحياة بناء على أنه عالم مريد قادر يشبه أن يكون من قياس الغائب على الشاهد والقديم على الحادث وهو قياس غير منتج. ولهذا المعنى صرح من صرح من المتكلمين بأن الحياة من الصفات السمعية التي لم نثبتها إلا لأن الله تعالى وصف نفسه بأنه (الحي القيوم) ولكن أستاذنا سلك في الاستدلال على ثبوتها بالعقل مسلكًا لم نره لغيره على الوجه الذي قرره فنورده ههنا وإن كان يعلو عن أفهام الكثيرين قال حفظه الله تعالى: (الحياة - معنى الوجود وإن كان بديهيًّا عند العقل ولكنه يتمثل له بالظهور ثم الثبات والاستقرار وكمال الوجود وقوته بكمال هذا المعنى وقوته بالبداهة) . (كل مرتبة من مراتب الوجود تستتبع بالضرورة من الصفات الوجودية ما هو كمال لتلك المرتبة في المعنى السابق ذكره وإلا كان الوجود لمرتبة سواها وقد فرض لها. ما يتجلى للنفس من مثل الوجود لا ينحصر وأكمل مثال في أي مراتبه ما كان مقرونًا بالنظام والكون على وجه ليس فيه خلل ولا تشويش فإن كان ذلك النظام بحيث يستتبع وجودًا مستمرًّا وإنْ في النوع كان أدل على كمال المعنى الوجودي في صاحب المثال. فإن تجلت للنفس مرتبة من مراتب الوجود على أن تكون مصدرًا لكل نظام كان ذلك عنوانًا على أنها أكمل المراتب وأعلاها وأرفعها وأقواها. وجود الواجب هو مصدر كل وجود ممكن كما قلنا وظهر بالبرهان القاطع فهو بحكم ذلك أقوى الوجودات وأعلاها فهو يستتبع من الصفات الوجودية ما يلائم تلك المرتبة العليا وكل ما تصوره العقل كمالاً في الوجود من حيث ما يحيط به من معنى الثبات والاستقرار والظهور وأمكن أن يكون له؛ وجب أن يثبت له. وكونه مصدرًا للنظام وتصريف الأعمال على وجه لا اضطراب فيه يعد من كمال الوجود كما ذكرنا فيجب أن يكون ذلك ثابتًا له فالوجود الواجب يستتبع من الصفات الوجودية التي تقتضيها هذه المرتبة ما يمكن أن يكون له. فما يجب أن يكون له صفة الحياة وهي صفة تستتبع العلم والإرادة وذلك أن الحياة مما يعتبر كمالاً للوجود بداهة فإن الحياة مع ما يتبعها مصدر النظام وناموس الحكمة وهي في أي مراتبها مبدأ الظهور والاستقرار في تلك المرتبة فهي كمال وجودي ويمكن أن يتصف بها الواجب وكل كمال وجودي يمكن أن يتصف به وجب أن يثبت له فواجب الوجود حي وإن باينت حياته حياة الممكنات فإن ما هو كمال للوجود إنما هو مبدأ العلم والإرادة , ولو لم تثبت له هذه الصفة لكان في الممكنات ما هو أكمل منه وجودًا وقد تقدم أنه أعلى الموجودات وأكملها فيه. والواجب هو واهب الوجود وما يتبعه فكيف لو كان فاقدًا للحياة يعطيها فالحياة كمال له كما أنه مصدرها) اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) (13) من أراسم إلى هيلانة في 6 يونيه سنة 185 اعلمي أن أخص ما يجب الرجوع إليه في إنشاء طبع الطفل هو علم وظائف الأعضاء وإن كانت توجد وسائل أخرى يستعان بها في ذلك لا ينبغي إغفالها. الوليد يرى في أول أمره محبًّا لنفسه منقبضًا عن غيره لضعفه وعجزه عن الاختلاط فوظيفة المربي معه هي أن يعمد إلى ما وهبه الله (سبحانه) من الغرائز المحدودة الكافلة حفظه فيجعلها أصلاً يفرع منه بالتدريج صنوفًا من الوجدان أرقى وأشرف من محبة النفس والانقباض عن الناس تربطه بأمثاله وتعطف به على أضرابه , ولا اعتداد عندي بما تسمى به هذه القوى السامية الطبيعية فلنسمها أواصر أو عواطف مثلاً , وإنما الذي أعتد به ويهمني أن أقوله لك هو أنها ليست خيالات ولا صورًا ذهنية بل هي حقائق ثابتة لها أصول راسخة في نفوسنا وفي الخارج , فكل عاطفة من تلك العواطف النفسية لها ارتباط في الخارج بطائفة من الوقائع فإن الشفقة مثلاً توجد عند رؤية آلام الغير ومصائبه , والشكر يوجد عند الإحسان وإسداء المعروف , وحب الوطن منشؤه الاعتياد على الثواء بالأمكنة والانتفاع بما فيها من الأشياء , ومحبة الناس تنشأ وتقوى بحسن المعاملة ولطف المجاملة. جميع العواطف الشريفة والسجايا الحسنة توجد في نفس الطفل لكنها تكون كالنبات في طور البذر فالعالم النباتي مملوءٌ بأنواع من البذور ربما لا تتهيأ لها ذرائع النجوم والإنبات طول حياتها لما يعوزها من أشعة الشمس والأرض الصالحة للإنبات والماء بنسب مخصوصة كذلك شأن أصول العواطف والوجدانات الإنسانية فإنها تحتاج في ظهورها ونموها إلى مستقر ملائم ومؤثر خارجي. كلنا يعلم أن طبع الطفل ينمو بالمؤثرات الخارجية أكثر من نموه بالبواعث النفسية فإن ما نفعله أمامه من الأفاعيل وما نرمي به من الأقاويل هو الذي يبعث فيه الفرح تارة والترح أخرى خصوصًا في أوائل أيامه على أن ما لنا من التأثير في طبعه مباشرة لا يكاد يكون شيئًا يذكر إلا ما تحوطه به أمه من ضروب العناية وما تبديه له من أنواع الحنو والرعاية فإنه يدعوه من غير شك إلى حبها ولكن الطبع كما علمت يتألف من قوى متمايزة كل التمايز يقتضي كل منها باعثًا خاصًّا - لو وسعني أن أقول ذلك - فليس الإنسان ذاتًا بسيطة بل هو على ما أعتقد أكثر تركيبًا في نفسه منه في جسده. المشاعر الباطنة كالمشاعر الظاهرة في كيفية التأثر فالثانية كما تعلمين لا تتأثر إلا في أحوال وبشروط خارجية مخصوصة؛ لأن مشعر اللمس مثلاً لا يتأثر إلا متى لاقى أشكال الأجسام وجهاتها , ومشعر الذوق لا ينفعل إلا بما يقع عليه من الطعوم كذلك الثانية لا تنبعث إلا عند اجتماع أمور واقعية مخصوصة فإن حلول الخطر مثلاً يولد إحساس الخوف ولكنه لا يبعث وجدان الإنصاف مباشرة , ورؤية الطفل ما يغمره به أهله من صنوف البر قد تلقي في نفسه وجدان محبتهم والميل إليهم ولكنها قلما توقظ فيه إحساس الاحتشام والتواضع , والأحوال التي تحرك في النفس عاطفة المروءة أو الشجاعة لا تؤثر في رقة الطبع كما أن الصوت لا يؤثر في العين والضوء لا يؤثر في الأذن، فكل مشعر باطني أو عاطفة نفسية تقتضي شيئًا يناسبها ويلائمها والطفل كالآلة الموسيقية كله أوتار تهتز إذا نقرت ولكنها لا تهتز اهتزازًا حقيقيًّا إلا بما يقع عليها من الأشياء ولا تتأثر بجميع الأشياء على السواء وإنما لكل انفعال قلبي طائفة منها تلائمه. فإذا أردنا مثلاً أن نلقي في نفس الطفل الذي في السابعة أو الثامنة من عمره وجدان الإحسان إلى الفقراء والزمْنَى فإيانا والخطابة والوعظ لأن أحسن مواعظ الإنجيل لا تفيده في ذلك شيئًا بل علينا أن نذهب به إلى خص حقير يكون فيه هرم أبلت الأيام قواه ونهكت الحمى جسمه وقد رقد على حصير ومد يده يسأل عواده قدح ماء بارد ولننظر ما يكون منه في ذلك الوقت فإذا هو لم يبادر بنفسه إلى ملء جرة من أقرب مورد وتقديمها بين يدي الرجل المسكين فقد حق اليأس منه وأما إذا تحرك إلى هذا العمل الخيري فإيانا أن نسأله عن قصده به وعما يرجوه من الثواب عليه فإن في شوب انبعاثه الصالح إلى البر بمثقال حبة من الفائدة الذاتية إفسادًا له. قد بانت لك مما قدمته الغاية التي أرمي اليها في قولي وهي أنه إذا كان يوجد في الطفل قوى كامنة تتنبه بالمؤثرات الخارجية التي تدعوها إلى الشخوص إلى العمل وكان لهذه المؤثرات ارتباط ببعض الأمور والوقائع الخارجية فالواجب علينا هو أن ننبه فيه بهذه الأمور تنبيهًا ما عواطف الحفاوة والسخاء واحترام النفس والناس والنزاهة وغيرها من السجايا الحميدة. فالطريقة في تربية المشاعر الباطنة لا تختلف كثيرًا عن الطريقة التي بينها علماء وظائف الأعضاء في تربية المشاعر الظاهرة بل لا يوجد لتربية جميعها إلا طريقة واحدة لأنها كلها تجري على قانون واحد ليس هناك غيره. يوجد فرق واحد بين التربيتين، وهو أن الانفعالات في تربية المشاعر الباطنة وما يولدها من الأشياء تخالف ما يقابلها في تربية المشاعر الظاهرة فإن الشيء الذي تنفعل العين برؤيته مثلاً لا تنفعل به النفس دائمًا فعلى الأم أن تختار نوع الآثار التي تريد إحداثها في نفس ولدها وتجعلها صنوفًا وأشكالاً وليس يعوزها في الحقيقة شيء من الأحوال الملائمة لذلك فإن حياة الإنسان ليست إلا مشهدًا لسلسلة من الحوادث المؤثرة ترى فيها كل حين آلات تحرك عاطفة الرحمة وعقبات تدعو إلى التدرع بالشجاعة ومحن أعدت ليبتلى بها الصبر ولكن ينبغي لها أن تكون سليمة الذوق كثيرة الحذق في اغتنام الفرص التي تُهَيِّئُهَا لها الحوادث , ثم اعلمي أن الكتب قليلة الجدوى جدًّا في هذا الموضوع فالذي عليك أن ترجعي إليه في سيرتك مع (أميل) هو قوتك الحاكمة وما يمليه عليك الوجدان من ضروب الإلهام , ولما كان الطفل لا يلتفت إلا إلى الأشياء التي له فيها عمل كان من الحسن أحيانًا أن تدس له فيها العراقيب (الحيل) لإثارة عواطفه الذاتية ولكن ينبغي هنا أيضًا الاحتراس الكلي من ظهوره على ما يتخذ في ذلك من الحيل فإن شعوره بخداع المربي له هو الخسارة الكلية. اخترع المربون أنواعًا من الرياضة البدنية موافقةً لإنماء الأعضاء وخاصة بها , والذي أعرضه عليك أنا هو فن من فنون الرياضة النفسية تقوى به الغرائز والأخلاق؛ لأن خصائصنا ونقائصنا تقوى بالمراس والاعتياد فالفضيلة تكتسب بالتعلم ولكن هيهات أن تُتعلم إلا بممارستها والارتياض بها وقد جاء في الأمثال (بِطَرْق الحديد يصير الإنسان حدادًا) , فكذلك هو لا يكون خيرًا إلا بعمل الخير فالعملَ العملَ ما دام حيًّا. أرجىء البحث في قانون الأخلاق الحق لأني لا بد لي من النظر فيه عند الوصول إلى محله وأكتفي الآن منه بذكر قاعدة في غاية الإيجاز والبساطة وهي أن الطفل يصلح طبعه وتتهذب نفسه كلما زالت منه غرائز الأثرة وحلت محلها العواطف التي تأخذ بقياده إلى الصالح العام ولكن هيهات أن يكتنه هذا الناشئ أسباب سيرته مع غيره خصوصًا معنى الواجب فإنه من الغموض والخفاء بحيث لا ينفذ إليه ذهنه الضعيف وغاية ما يمكنه إدراكه هو رضاه عن أعماله ورضى الناس عنها ولما في أعمالنا الصالحة من اللذة التي لا تقل عن لذة أعمالنا السيئة إذا نحن لم نتربَّ عليها لا يلبث أن يختار الأولى ويرجحها على الثانية متى ساعدناه قليلاً بتوسيط البواعث الخارجية فإن الأشياء كما يوجد فيها شيطان رجيم على ما علمت يوجد فيها أيضًا في بعض الأحيان ملك كريم. فإذا كان بعضها يحرك فينا دواعي الطمع فإن بعضًا آخر يبث فينا وجدان البر والخير. يجب علينا أن نعين الطفل على تربية مشاعره الباطنة ولكن علينا أيضًا أن نحترم إرادته ولا نغفلها فلو أني أوتيت القدرة على تدبير ما يَحْتَفّ بـ (أميل) من بواعث العواطف وعلى مراقبته في سيرته مراقبة تامة وأمكنني بالإجمال اختراع طريقة للتربية النفسية تسمو بمقاصده حتمًا إلى الكمال لما عولت عليها في إنشائه مهما كان فيها من الحسن فإني أرجو من صميم فؤادي أن يكون يومًا من الأيام رجلاً خيرًا لا حيوانًا خيرًا , وأعيذه بالله من فضيلة لا يكون كسبها بسعيه وهمته ومن سعادة لا يكون هو الذي حصلها لنفسه فإنه إن أوتي عفوًا هذه السعادة التي هي الامتياز التعيس لمن خلقوا لها يكون قد ابتاعها بثمن غال جدًّا وهو خسارة اختياره. كل فرد من أفراد المجتمع الذي أعد ولدنا للمعيشة فيه مسوق على الدوام إلى الجلاد والمغالبة في ميدان الحياة فيجب عليه أن يقاوم مقاومة البسلاء آراء الناس وتأثير الأسى وجميع مؤثرات العصر الخادعة وإلا خسر معرفته قدر نفسه وأقدار الناس لأن شرف الإنسان وفضله مشروطان بأن يكون ذا إرادة تصدر عنها أفعاله وما علي إن تكدر بعض الناس من هذا الشرط اللازم ما دمت أنا مسرورًا به فإنه إذا لم يكن للمرء وجود مستقل ووجدان ففيم يكون شرف حياته اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

ملاحظة على مقالة الشعر العربي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ملاحظة على مقالة الشعر العربي آفة الدعوة إلى الاصلاح الغلو في القدح في القديم , ومدح الجديد الذي يدعى إليه ولا يخفى أن حالة العصر الحاضر تقتضي أن تكون الأدبيات موافقةً للشئون الاجتماعية فيه فنحن في أشد الحاجة إلى الشعراء والمنشئين الذين يصرفون قوتهم الخيالية إلى جذب وجدان الأمة إلى الفضائل الاجتماعية التي ترتقي بها وتساوي الأمم العزيزة وتجول في ميادين المعلومات التي انتهت اليها المدنية الحاضرة لأجل ذلك كما أننا في أشد الحاجة إلى إحياء موات لغتنا العربية الشريفة بالاستعمال لأن الأمة لا تحيَى بدون لغة فإذا وجد في عالمنا الأدبي من يشتغل بإقامة أحد هذين الركنين لا ينبغي لنا أن نهضم حقوقه لأنه لم يقم الركنين كليهما معاً. لهذا نلوم الأديب مصطفى صادق أفندي صاحب مقالة (الشعر العربي) على هضمه حقوق شعراء العراق المتأخرين الذين عرّف بعضهم وعرّض ببعض وهم في الطبقة العليا بالنسبة لعصرهم , وليت لنا عشرة في المائة من المشتغلين بالعلم في الأزهر وغيره يفهمون كلامهم من غير مراجعة معاجم اللغة وإطالة النظر. فإذا كان الأديب يغمز من لا يأتي بالمعاني الجديدة والاكتشافات العصرية في شعره فنحن نصلي ونسلم على من يحفظ لنا الألفاظ والمعاني القديمة التي كان يستعملها أجدادنا في الجاهلية والإسلام وإن كنا لا نكتفي بها كما بيناه في مقالاتنا (الشعر والشعراء) التي نشرت في المجلد الأول من المنار.

أفكوهة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أُفْكُوهَة كان بعض الأفاضل من أساتذة المدارس الأميرية يسعى لحضور درس أحد العلماء الأعلام في مصر لأنه لم يرَ في الأزهر مجلس علم يستفيد منه ما يستفيد من مجلس هذا العالم , وكان له صاحب يعذله في ذلك وينهاه عن حضور هذا الدرس لأنه يسيء الظن بالعالم الذي يلقيه عن غير اختبار ولا بصيرة فلما ظهر الرد على هانوتو أعجب به هذا الرجل أشد الإعجاب وصار يقرؤه في كل يوم مرات فرآه ذلك الفاضل عاكفًا على دراسة المقالات فكلمه في ذلك فأطنب بالثناء على كاتبها وذكر من غيرته ومعارفه ما ذكر وقال للفاضل: لو كنت تقصد درس عالم مثل هذا لما عذلك أحد لأن مثل هذا العالم تشد إليه الرحال فقال له الفاضل: إنه هو الأستاذ الذي تعذلني على حضور درسه فتعجب الرجل وسكت. ما أجدر ذلك الفاضل بالتمثل بقول ذلك العاشق الذي رأى عذولُهُ معشوقَه يومًا فقال له: لو عشقتَ هذا لما عذلتك ولا عذلك أحد فأنشد العاشق. أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبلها رآه فقال لي لو عشقت هذا ... ما لامك الناس في هواه فظل من حيث ليس يدري ... يأمر بالعشق من نهاه

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية العيد السلطاني الفضي أو ثلاثة أعياد في يوم واحد في مثل يوم الجمعة الآتي الذي هو الحادي والثلاثون من شهر أغسطس سنة 1886م بويع بالخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية مولانا أمير المؤمنين السلطان الأعظم على جميع العثمانيين عبد الحميد خان أيد الله تعالى دولته وأنفذ شوكته وأعلى كلمته فيكون قد تم له خمس وعشرون سنة شمسية أي ربع قرن كامل على عرش السلطنة فهذا هو العيد الفضي على ما هو مشهور وذكرناه في الجزء الماضي وأما العيد الثاني فهو عيد تذكار الجلوس السنوي الذي يحتفل به العثمانيون في كل عام وأما العيد الثالث فهو يوم الجمعة عيد الأسبوع في الإسلام الذي تهتف به الخطباء على المنابر الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها بالدعاء لهذا السلطان الكريم نصره الله تعالى فلا غرو إذا تمثلنا بقول الشاعر: عيد وعيد وعيد صرن مجتمعه ... وجه الحبيب ويوم العيد والجمعه في هذا العيد الوطني الأكبر تحتفل الأمة العثمانية في دار السعادة العلية ومصر وسائر الممالك المحروسة السلطانية احتفالاً لم يسبق له نظير ولا غرو فإنه احتفال بسلطان لم يسبق له نظير. يحتفل العثمانيون على اختلاف مللهم ونحلهم وأجناسهم وأقطارهم ويشاركهم المسلمون في الأقطار التي تحكمها الدول الغير المسلمة. هؤلاء ومن يماثلهم في الاعتقاد برئيسهم الديني وأولئك برئيسهم الدنيوي. قلنا ما هو عيد واحد ولكنه أعياد ونقول: ما هو احتفال واحد ولكنها احتفالات فقد علم الناس أن الاحتفال بالشروع في مشروع سكة حديد الحجاز سيكون في ذلك اليوم الأزهر والعيد الأكبر وسيحتفل فيه أيضًا بافتتاح كثير من المدارس والمشروعات النافعة للبلاد والعباد. ولله درّ المصريين فإنهم السابقون في هذا المضمار ولذلك نراهم منذ أيام قد أنشئوا يستعدون للزينات العامة والخاصة فرفعت الرايات العثمانية. والأعلام المصرية. وهيئت المواد النورانية. والمعازف العصرية. ونرجو أن لا يكون للذين شذُّوا عن جمعية الاحتفال الوطنية التي يرأسها الوجيه الأمثل عزتلو حسن بك مدكور تأثير في الإقبال العام على حديقة الأزبكية لمشاهدة احتفالها الذي يعلو كل احتفال فإننا لم نسمع أحدًا من أصحاب الذوق والفهم يستحسن أن يكون الاحتفال بالعيد السلطاني في فندق معد لنزول مسافري الأجانب فيه كما أن الجميع يستهجنون أن يجمع في ذلك المكان بين قراءة القرآن الشريف وبين الأغاني والرقص والأكل والشرب لغرض واحد. فنرفع التهنئة سلفًا إلى سدة سيدنا ومولانا أمير المؤمنين بهذا العيد الحميدي السعيد ضارعين إلى الله تعالى بأن يمنح سلطاننا وخليفتنا عبد الحميد خان من صنوف التأييد والتسديد والتعزيز والتوفيق ما يصعد بالأمة على يديه إلى أوج العز والرفعة. وأن يجعل سائر أيامه وأعوامه أعيادًا لها ومواسم إنه سميع مجيب. المولد الحسيني قد احتفل في الأسبوع المنصرم بهذا المولد الاحتفال المعتاد فكان أكثر بدعًا ومنكرات مما سبقه على غير ما كنا نتوقع من مبادرة علماء الدين إلى السعي في محو هذه الفضائح بالتدريج عامًا بعد عام. حضرناه في ليلة غير الليلة الكبرى فرأينا وسمعنا ما لم نر ونسمع من قبل. سمعنا صاحب (الفونغراف) ينادي في السوق بصوت ندي داعيًا للناس مرغبًا في السماع وذكر فيما ذكره (غناج السرير) ولا يغيب عن فهم القراء أن مما يسمع في الفونغراف أيضًا القرآن الكريم فما هذا الجمع الذي لم نسمع به إلا في المولد. ومما شاهدناه من الفضائح عند بعض باعة التماثيل السكرية (التي هي من خصائص الموالد تذكر من يعلم ويعقل أن هذه الاحتفالات والمواسم من العبادات الوثنية) صور سرر على كل سرير منها زوجان يمثلان ما يكون في السرير ... ومثل هذه الأمور كان يجب على الحكومة منعها محافظة على الآداب العمومية. وأما العباد والذاكرون والذاكرات الذين في المسجد ورحابه وفنائه الذين يحتج بعض الشيوخ على حل هذه الموالد بهم فربما كان بلاء بعضهم على الدين أشد بلاء من أولئك المُجَّان والفوانك. وقفنا على زعنفة منهم امتزج نساؤها ورجالها امتزاج الماء والراح فكان كل (ولي وولية) من الزعفنة يريد يستلفتنا إليه لأجل الاستجداء باسم الدين فأقبلت بوجهي على رجل يتوسم فيه بعض الخير لشيبته الرائعة وثيابه النظيفة وعمامته الحمراء فما كان منه إلا أن قال لي إنه هو (يقاول) أصحاب الحاجات , أي يضمن لهم قضاء حاجهم بأجرة مخصوصة وسألني عن حاجتي فقلت: كم تأخذ؟ فقال: الذي تعطي , فقلت: عشرين جنيهًا , فقال ما معناه: رجل كريم وخير عظيم وأنا ضمن قضاء الحاجة. قلت له: وما وظيفتك؟ فقال: (عرص معرّص) يعني أنه لتواضعه يهضم نفسه وضجّ من حوله بالتعظيم له والتبجيل على أن القذع بالألفاظ الفاحشة لا ينافي الولاية عند جماهير العامة اليوم وإن ورد في الأحاديث الشريفة أن المؤمن ليس بفاحش ولا متفحش. ثم قلت له: يسهل على كل إنسان أن يضمن لكل أحد قضاء حاجته بشرط أن يأخذ الجعل إذا قضيت وأن لا يطالب بشيء إذا لم تقض لأنه إما أن يربح وإما لا يخسر ولا يمكنني أن أجعل لك شيئًا إلا إذا كنت تضمن لي شيئًا يقابله إذا لم تقض حاجتي , فأعرض عن هذا وعَدَّه من فساد اعتقاد الناس بأهل الله. هذا وإن المسجد كان كما نعهد في الموالد مملوءًا بالأقذار كقشر الفول وغيره بحيث لا يمكن لأحد أن يصلي فيه إلا إذا كان معه سجادة يفرشها على تلك الأوساخ ومع هذا كله ترى سادتنا وكبراءنا من العلماء الأعلام يغدون ويروحون هناك يهنىء بعضهم بعضًا بهذا المولد (الشريف) والموسم العظيم كما تهنئهم الجرائد بذلك إسلامية ومسيحية. أليس الأجنبي معذورًا إذا اعتقد أن هذه الموالد من لباب دين الإسلام ومَقَتَ الدين لأجلها. المدرسة العثمانية في بيروت الحمد لله رب العالمين والصلاة على أشرف المرسلين. سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فلما كانت الحاجات تختلف باختلاف الأوقات. وكان هذا العصر الحميدي السعيد قد تنوعت فيه العلوم واللغات. واشتدت الحاجة إليها فكثرت فيه المدارس. وبادر كل جماعة وطائفة بافتتاح مكاتب ومدارس خاصة بهم كي لا ينطبع في أذهان أطفالهم ما يتعذر محوه مما هو مباين لتربيتهم الدينية وكان يلزم هذه الأمة الإسلامية ما يلزم سواها من المحافظة على تربيتها وأخلاقها الملية وآدابها العثمانية رأينا من الواجب علينا خدمة للدين المبين وقربى لرب العالمين ومرضاة لأمير المؤمنين أن نقوم بافتتاح مدرسة إسلامية تكفل لأبناء الملة ما يلزمهم من العلوم والآداب فوفقنا ولله الحمد لذلك وافتتحنا مدرستنا المسماة بالمدرسة العثمانية , ولما علم القاصي والداني ما نتج عنها من الفوائد الجمة والمنافع المهمة تكرر إلينا الطلب وتعددت أنحاؤه من جهات شتى بأن نجعل لها فرعًا داخليًّا يمكن كل من رام الدخول إليها أن يجتني من ثمارها اليانعة فعزمنا بعد الاتكال على الله أن نجيب سؤالهم ونلبي طلبهم متضرعين إلى واجب الوجود أن يجعل عملنا هذا خالصًا لوجهه وأن ينفع به إنه ولي التوفيق. علوم المدرسة ولغاتها (1) (العلوم الدينية) القرآن الشريف والتوحيد وعلم الفقه عبادات ومعاملات وفرائض. (2) (قوانين الدولة العلية) التجارية والحقوقية والجزائية وما تمس الحاجة إليه من ذلك. (3) (اللغة العربية) النحو والصرف وعلوم البلاغة المعاني والبيان والبديع واللغة وقرض الشعر والإنشاء والتعريب وحسن الخط. (4) التاريخ والجغرافيا والحساب ومسك الدفاتر والجبر والهندسة والمثلثات والمنطق والمواليد الثلاثة والكيمياء وحفظ الصحة وعلم خواص الأجسام والتهذيب المدني. (5) (اللغة العثمانية) مفردات ومكالمات ونحو وصرف وإملاء وبلاغة وإنشاء وترجمة وما يلزمها من اللغة الفارسية. (6) اللغة الإفرنسية النحو والصرف والفصاحة والإنشاء بأنواعه والترجمة. (الفنون الاختيارية) اللغة الإنكليزية بآدابها وفروعها والرياضة البدنية وفن الرسم والعلوم المهيئة لمن يروم الدخول في المدارس الطبية مما فتح له فرع في المدرسة في هذه السنة والمعارف التي لا يسع التاجر جهلها من علم مسك الدفاتر والتحريرات التجارية والأقيسة والمكاييل والعملة (النقود) على اختلافها وغيرها مما قد فتح له فرع في المدرسة أيضًا بحيث يمكن الطالب أن يتعاطاه ولا يمس بأوقات أشغاله. ما يلزم أولياء التلامذة معرفته من قوانين المدرسة (1) يجب أن يكون الطالب صحيح البنية أي سالمًا من العلل السارية لا يقل سنه عن الثامنة ولا يزيد عن الرابعة عشرة. (2) أن المرتب على كل تلميذ في السنة المدرسية التي هي عشرة أشهر سبع عشرة ليرة عثمانية يدفع منها في نصف أيلول شرقي (سبتمبر) الذي هو ابتداء السنة المدرسية عشر ليرات وفي النصف الثاني سبع ليرات ولا يمكن قبول تلميذ ما إذا لم يدفع القسط ومن تأخر عن دفع القسط الثاني بعد ثلاثة أيام يسرح من المدرسة. (3) إذا خرج التلميذ أو أخرجته المدرسة لمخالفة قوانينها لا يسترجع شيئًا بل يطالب بالمصاريف المستحقة عليه وتحفظ الأمتعة لوفاء المطلوب برمته. (4) كل تلميذ من خارج بيروت يجب أن يكون له وكيل مسئول بدفع المعينات والمصاريف المدرسية في أوقاتها إلى المدرسة ويقوم بلوازمه من كسوة ومصاريف خصوصية وخلافها. (5) أن الطلبة الذين يرغبون بتعلم بعض الفنون الاختيارية مكلفون بدفع أجرة أستاذ الفن. (6) مصاريف التلامذة المعبر عنها بالخرجية يسلم إلى المدرسة ولا يسوغ لأحدهم حمل الدراهم ولدى الاحتياج وفي أيام التنزه يعطى منها بقدر لزومه ولا يبتاع شيئًا إلا بمعرفة الناظر والغرض من ذلك منع التلامذة من الإسراف وتناول ما يَضُرّ بهم. (7) ثمن الكتب والأدوات الكتابية لا تلتزم بها المدرسة بل تكون على حساب التلامذة ومن أراد أن يكفل المدرسة في ذلك يدفع أربع ليرات عثمانية في كل سنة. (8) يلزم الطالب أن يكون مصحوبًا بلوازمه المنامية والتنظيفية وما يلزم من أدوات المائدة وجميع ذلك معلوم بداهة. (9) من أراد من الطلبة أن يكون غداؤه في المدرسة يدفع عشر ليرات عثمانية لقاء الغداء مع أجرة التعليم. (10) أن المدرسة تعتني بانتقاء الطعام الموافق للصحة على حسب فصول السنة بحيث أنها تقدم بالإفطار صباحًا حليبًا أو خلافه , وفي الغداء لونين مع فاكهة أو نقل , وفي المساء لونين أيضًا، كما أنها تقدم في كل مدة مقتضية لونًا من الحلوى. رئيس المدرسة أحمد عباس الأزهري محل إدارة المجلة في أول درب الجماميز من جهة باب الخلق

ميزان الإيمان وسلم الأمم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ميزان الإيمان وسلم الأمم أو السلف والخلف في الإسلام [*] الوعود الإلهية بنصر المؤمنين وبأن الأرض يرثها الصالحون. إثبات العزة للمؤمنين. آيات الوعد محكمة لا تقبل التأويل. صدقها على سلف المسلمين. حالة الإسلام في الصدر الأول. حال المسلمين اليوم. عدم صدق الآيات عليهم. السبب فيه تغيير ما بأنفسهم. ما هو التغيير والمتغير؟ ما به تقوم الدول والأمم. علامة المؤمن الصادق وعلامة المنافق. الوحدة الإسلامية. حث العلماء على القيام بها. ] إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [ (الرعد: 11) , {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: 53) . تلك آيات الكتاب الحكيم , تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ولا يرتاب فيها إلا القوم الضالون. هل يخلف الله وعده وهو أصدق من وعد وأقدر من وفى؟ هل كذب الله رسله؟ هل ودع أنبياءه وقلاهم؟ هل غش خلقه وسلك بهم طريق الضلال؟ نعوذ بالله. هل أنزل الآيات البينات لغوًا وعبثًا؟ هل افترت عليه رسله كذبًا؟ هل اختلقوا عليه إفكًا؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها وإشارات لا يدركونها؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟ نستغفر الله. أليس قد أنزل القرآن عربيًّا غير ذي عوج وفصل فيه كل أمر وأودعه تبيانًا لكل شيء؟ تقدست صفاته وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. هو الصادق في وعده ووعيده ما اتخذ رسولاً كذابًا ولا أتى شيئًا عبثًا وما هدانا إلا سبيل الرشاد ولا تبديل لآياته تزول السموات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. يقول الله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) ويقول: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدا} (الفتح: 28) هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلاً. ولا ينال هذه الآيات بالتأويل إلا من ضل عن السبيل , ورام تحريف الكلم عن مواضعه. هذا عهده إلى هذه الأمة المرحومة , ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة ومهد لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة وما جعل لمجدها أمدًا ولا لعزتها حدًّا. هذه أمة أنشأها الله عن قلة، ورفع شأنها إلى ذروة العلاء حتى ثبتت أقدامها على فتن الشامخات ودكت لعظمتها عوالي الراسيات وانشقت لهيبتها سرائر الضاريات وذابت للرعب منها أعشار القلوب. هال ظهورها الهائل كل نفس وتحير في سببه كل عقل واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا: قوم كانوا مع الله فكان الله معهم. جماعة قاموا بنصر الله واسترشدوا بسنته فأمدهم بنصر من عنده. هذه أمة كانت في نشأتها فاقدة الذخائر معوزة من الأسلحة وعدد القتال فاخترقت صفوف الأمم واختطت ديارها ولا دفعتها أبراج المجوس وخنادقهم ولا صدتها قلاع الرومان ومعاقلهم ولا عاقها صعوبة الممالك ولا أثر في همتها اختلاف الأهوية ولا فعل في نفوسها غزارة الثروة عند من سواها ولا راعها جلالة ملوكهم وقدم بيوتهم ولا تنوع صنائعهم ولا سعة دائرة فنونهم ولا عاق سيرها أحكام القوانين ولا تنظيم الشرائع ولا تقلب غيرها من الأمم في فنون السياسة. كانت تطرق ديار القوم فيحقرون أمرها ويستهينون بها وما كان يخطر ببال أحد أن هذه الشرذمة القليلة تزعزع أركان تلك الدولة العظيمة وتمحو أسماءها من لوح المجد وما كان يختلج بصدر أن هذه العصابة الصغيرة تقهر تلك الأمم الكبيرة وتمكن في نفوسها عقائد دينها وتخضعها لأوامرها وعاداتها وشرائعها لكن كان كل ذلك ونالت تلك الأمة المرحومة على ضعفها ما لم تنله أمة سواها. نعم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفاهم أجورهم مجدًا في الدنيا وسعادة في الآخرة. هذه الأمة يبلغ عددها اليوم زهاء مائتي مليون من النفوس [**] وأراضيها آخذة من المحيط الأتلانتيكي إلى أحشاء بلاد الصين تربةً طيبةً ومنابت خصبةً وديارًا رحبةً ومع ذلك نرى بلادها منهوبة وأموالها مسلوبة تتغلب الأجانب على شعوب هذه الأمة شعبًا شعبًا. ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة ولم يبق لها كلمة تسمع ولا أمر يطاع حتى أن الباقين من ملوكها يصبحون كل يوم في ملمة ويمسون في كربة مدلهمة ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء لهم. هذه هي الأمة التي كانت الدول العظام يؤدين لها الجزية عن يد وهن صاغرات استبقاء لحياتهن وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلف إلى تلك الدول الأجنبية. ياللمصيبة ويا للرزية. أليس هذا بخطب جلل؟ أليس هذا ببلاء نزل؟ ما سبب هذا الهبوط وما علة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالوعود الإلهية؟ معاذ الله , هل نستيئس من رحمة الله ونظن أن قد كذب علينا؟ نعوذ بالله. هل نرتاب في وعده بنصرنا بعد ما أكده لنا. حاشاه سبحانه. لا كان شيء من ذلك ولن يكون فعلينا أن ننظر إلى أنفسنا ولا لوم لنا إلا عليها. إن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سننًا متبعة ثم قال: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} (الأحزاب: 62) . أرشدنا الله في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة. إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة حتى يغير أولئك القوم ما بأنفسهم من نور العقل وصحة الفكر وإشراق البصيرة والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا وحل بهم الدمار ثم الفناء لعدولهم عن سنة العدل وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة. حادوا عن الاستقامة في الرأي والصدق في القول والسلامة في الصدور والعفة عن الشهوات والحمية على الحق والقيام بنصره والتعاون على حمايته. خذلوا العدل ولم يجمعوا هممهم على إعلاء كلمته واتبعوا الأهواء الباطلة وانكبوا على الشهوات الفانية وأتوا عظائم المنكرات. خارت عزائمهم فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة , واختاروا الحياة في الباطل على الموت في نصرة الحق فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين. هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها. سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم ولا تتبدل بتبدل الأجيال كسنته تعالى في الخلق والإيجاد وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال. علينا أن نرجع إلى قلوبنا ونمتحن مداركنا ونسبر أخلاقنا ونلاحظ مسالك سيرنا لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح هل غيَّر الله ما بنا قبل أن نغير ما بأنفسنا وخالف فينا حكمه وبدل في أمرنا سنته؟ حاشاه وتعالى عما يصفون بل صدقنا الله وعده حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر وعصيناه من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئًا فبدل عزنا بالذل وسمونا بالانحطاط وغنانا بالفقر وسيادتنا بالعبودية. نبذنا أوامر الله ظِهْريًّا وتخاذلنا عن نصره فجازانا بسوء أعمالنا ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة سوى التوبة والإنابة إليه. كيف لا نلوم أنفسنا ونحن نرى الأجانب عنا يغتصبون ديارنا ويستذلون أهلنا ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا ولا نرى في أحد منا حراكًًًًا. هذا العدد الوافر والسواد الأعظم من هذه الملة لا يبذلون في الدفاع عن أوطانهم وأنفسهم شيئًا من فضول أموالهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة كل واحد منهم يود لو يعيش ألف سنة وأن كان غذاؤه الذلة وكساؤه المسكنة ومسكنه الهوان. تفرقت كلمتنا شرقًا وغربًا وكاد يتقطع ما بيننا لا يحن أخ لأخيه , ولا يهتم جار بأمر جاره , ولا يرقب أحدنا في الآخر إلاًّ ولا ذمة , ولا نحترم شعائر ديننا ولا ندافع عن حوزته ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أمرنا. أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب؟ هل يرضى منهم بأن يعبدوه على حرف فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوهم خسروا الدنيا والآخرة؟ هل ظنوا أن لا يبتلي الله ما في صدورهم ولا يمحص ما في قلوبهم؟ ألا يعلمون أن الله لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب؟ هل نسوا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصره وإعلاء كلمته لا يبخلون في سبيله بمال ولا يشحون بنفس؟ فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنًا وهو لم يخط خطوة في سبيل الإيمان لا بماله ولا بروحه. إنما المؤمنون هم الذين إذا قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم لا يزيدهم ذلك إلا إيمانًا وثباتًا ويقولون في إقدامهم: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل عمران: 173) كيف يخشى الموت مؤمن وهو يعلم أن المقتول في سبيل الله حي يرزق عند ربه ممتع بالسعادة الأبدية في نعمة من الله ورضوان؟ كيف يخاف مؤمن من غير الله , والله يقول: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) . فلينظر كلٌّ إلى نفسه ولا يتبع وسواس الشيطان وليمتحن كل واحد قلبه قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، وليطبق بين صفاته وبين ما وصف الله به المؤمنين وما جعله من خصائص الإيمان , فلو فعل كل منا ذلك لرأينا عدل الله فينا واهتدينا. يا سبحان الله! إن هذه أمتنا أمة واحدة والعمل في صيانتها من الأعداء أهم فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء. يثبت ذلك نص الكتاب العزيز وإجماع الأمة سلفًا وخلفًا فما لنا نرى الأجانب يصولون على البلاد الإسلامية صولة بعد صولة ويستولون عليها دولة بعد دولة والمتَّسمون بسمة الإسلام آهلون لكل أرض متمكنون بكل قطر ولا تأخذهم على الدين نعرة ولا تستفزهم للدفاع عنه حَمِيَّةٌ؟ . ألا يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي، وتتخذوه إمامًا لكم في جميع أعمالكم مع مراعاة الحكمة في العمل كما كان سلفكم الصالح. ألا يا أهل القرآن هذا كتابكم فاقرءوا منه {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} (محمد: 20) ألا تعلمون فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في وصف من لا إيمان لهم. هل يسرُّ مسلمًا أن يتناوله الوصف المشار إليه في الآية الكريمة أو غرّ كثيرا من المدعين للإيمان ما زين لهم من سوء أعمالهم وما حسنته لديهم أهواؤهم {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) أقول ولا أخشى نكيرًا: لا يمس الإيمان قلب شخص إلا ويكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان لا يراعي في ذلك عذرًا ولا تعلة وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله.. .. .. .. . مع هذا كله نقول: إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاءنا به نبأ النبوَّة وهذا الانح

أمالي دينية الدرس ـ 12 ـ العلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمالي دينية (الدرس 12) م (34) العلم معنى العلم بديهي في نفسه وأعم تعريف له أنه انكشاف الشيء للمستعد له ويسمى الشيء المنكشف معلومًا ومن انكشف له عالمًا , وإذا كان متعلق العلم كثيرًا سمي عليمًا وعلامًا , ولم يرد إطلاق لفظ (العالم) على الله تعالى في القرآن إلا مضافًا إلى المعلوم كقوله: {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الأنعام: 73) وورد {عَلاَّمُ الغُيُوبِ} (المائدة: 109) وأما لفظ (عليم) فهو الذي كثر إطلاقه عليه تعالى بصيغتي التعريف والتنكير لأن وزن فعيل يدل على الصفات الثابتة كما تعلم من التفسير في الباب الآتي قال تعالى: {وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ} (يس: 81) وقال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 29) كل فعل يصدر من فاعل يشتق له من اسمه وصف؛ يحمل عليه , وإن من الأفعال ما له مبدأ خاص ثابت في نفس الفاعل لا يصدر الفعل إلا عنه , ومنها ما يستند إلى مبدأ عام مثال الأوّل: الرحمة والعطف على البائس , ومثال الثاني: المشي فإنه يستند إلى القدرة وليس له مبدأ خاص في نفس الماشي. وإن من الأفعال ما إذا حصل يثبت ويستمر كالعلم ومنها ما ينقطع كالشم والإعطاء , فما له مبدأ خاص في النفس واستقرار فيها جدير بأن يسمى صفة ذاتية , وما ليس كذلك حقيق بأن يسمى صفة فعل , والذين دققوا في تفسير الألفاظ قالوا: إن العلم كما يطلق على انكشاف الشيء للعالم فعلاً يطلق أيضًا على مبدأ هذا الانكشاف ومصدره في النفس علمت حقيقته أو لم تعلم , وكل هذا ظاهر بالنسبة للإنسان. أما الذي قام عليه البرهان من علم الله - تعالى - فهو أنه بكل شيء عليم وأن هذا العلم ثابت له أزلاً وأبدًا فهو المحيط بجميع المعلومات قبل وجودها وبعده وعلمه بها قبل وجودها يسمى علم الغيب وبعد وجودها يسمى علم الشهادة وهو سبحانه (عالم الغيب والشهادة وهو العزيز الحكيم) وما زاد على هذا من البحث في أن لعلم الله تعالى مبدأ قائمًا بنفسه تعالى وتقدس فهو أشبه بقياس الواجب على الممكن والقديم على الحادث وهو الذي أدى بالمتكلمين إلى الحيرة ومصارعة الشبهات لأن القول بأن الصفات الذاتية كالعلم والإرادة لها وجود مستقل قائم بالذات بحيث لو كشف عنا الحجاب لرأيناها (كما قال بعض المجتهدين في تقليد المتأخرين) يقتضي تعدد الواجب وقد أراد بعضهم الخروج من هذه الشبهة فقال: إن صفات الذات عين الذات ورُدَّ عليه , والجمهور على أنها ليست عين الذات ولا غير الذات. ولم يكلفنا الله تعالى بشيء من هذه الأبحاث الفلسفية وإنما كلفنا بأن نعتقد أنه بكل شيء عليم , والبرهان العقلي يدل على هذا , وقد تعذر على حكماء العالم اكتناه حقائق الممكنات فكيف نحاول اكتناه صفات الواجب القديم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) . م (35) أما البرهان على علمه تعالى فحسبك ما أرشد إليه الكتاب العزيز بقوله: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (الملك: 14) بلى فإن العقل لا يتصور أن صانع آلة الساعة ومبدعها غير عالم بها وبكل ما يتوقف عليه اختراعها وعملها من العلوم والفنون ولا أرى من حاجة للإطالة في الاستدلال هنا إذ لا يوجد في العالم من يثبت وجود خالق للكون وينكر أن علمه بكل شيء محيط , والمجال واسع لمن يريد السباق في هذه الحلبة لا سيما لمن له وقوف على العلوم الطبيعية من جماد وسائل وغاز وحيوان وعلم الهيئة الفلكية فإن جميع العوالم والكائنات التي يبحث عنها في هذه العلوم قائمة بنظام كامل مبني على أساس الحكمة ولها سنن ونواميس ثابتة اهتدى الباحثون إلى بعضها فحارت عقولهم في هذا الإبداع , ودلهم ما علموا منها على صدق قوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا} (الإسراء: 85) فإن الجاهل المطلق لا يخطر في باله ما ينبغي أن يعلم فيتوهم أنه يعلم كل شيء وكلما اهتدى الإنسان إلى مسألة من مسائل العلوم الصحيحة؛ تنفتح له بها كوَّة في العالم يشرف منها على كوًى كثيرة يتحقق أن وراءها مشاهد عظيمة تتوقف على فتحها فيزداد علمًا بجهله ويطلب المزيد , ومن ثم ورد في الحديث الشريف: (منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال) وقد لاحظ الإمام الشافعي - رضي الله عنه - هذا المعنى فقال: كلما أدبني الدهـ ... ـر أراني نقص عقلي وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي وإذا كان الإنسان أكمل المخلوقات عاجزًا عن إدراك كل هذه الحكم والإحاطة بجميع هذا النظام فهل يصح أن يكون مصدر ذلك من هو دونه في العقل فضلاً عن (حركة المادة) يهذي بها الماديون وما هي إلا عرض لا يصح في العقل أن يكون مصدر هذا النظام البديع. ما أشدَّ غفلة هؤلاء الماديين إذ قالوا: إن حركة المادة هي الفاعلة والمدبرة لهذه العوالم من النقاعيات (الميكروبات) التي يعيش الملايين منها في نقطة صغيرة من الماء تسبح فيها وتتغذى وتتوالد على أكمل نظام ولها أعمال تعجز عنها الرجال فإن جحافلها تكر على الإنسان وغيره فتفتك به ما لا يفتك المكسيم والموزير , وتؤثر في كل حيوان ونبات - إلى الحيوان والإنسان الذي حارت الأفكار في حكمة كل عضو من أعضائه لا سيما المشاعر فإن العين مؤلفة من طبقات ورطوبات ولها من الرباطات، والأوردة، والشرايين، والأشكال الهندسية، والألوان الموافق كل ذلك لسنن النور ونواميسه بحيث لو تغير وضع من أوضاعها لاختلت وظيفتها، وذهب الإبصار فهل هذا كله من فعل حركة المادة أم هو فعل العليم الحكيم؟ ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ من كتاب أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) (14) من هيلانة إلى أراسم في 20 سبتمبر سنة 185 إخالني فهمت طريقتك في تربية النفس وأراني مرتاعة من عظم العمل المعهود إليَّ به والصعوبات التي تعترضني في سبيل إتمامه لأن أمر الطفل بفعل ما يجب عليه فعله أهون بكثير من تصفح الأشياء لإيجاد ما يبعثه منها إلى صالح الأعمال على أني سأحاول العمل على هذه الطريقة فإني على يقين تام من أن الكلام والنصائح والمواعظ لا تكفي لتهذيب الطبع وتقويمه بل إني قد وصلت من هذا اليقين إلى حد أن أحدث نفسي بأن في التبكير بتلقين الطفل بعض المواعظ وإيداعها ذاكرته حطًّا من شأنها ونقصًا من قيمتها مهما كانت حسنة مفيدة فإنه يسهل عليه بذلك الاعتياد على تلمس الفضيلة من الكلام واعتبار الوجدان أستاذ مدرسة. على أني إلى الآن لم أبلغ مع (أميل) هذه الدرجة فإنني لو كلمته في علم الأخلاق لألفيته بلا شك في غاية العجز عن فهم ما أقوله ولكنه على صغره له دين كما يدل عليه اتخاذه اللُّعب التي يعطاها آلهة يخصصها بفرط محبته، ومزيد عنايته فلو أني أردت من الآن تغيير الأحوال المقارنة لسنِّه، وفطرته في بضع سنين لأضعت وقتي عبثًا , ولما نجحت إلا في تبديل تماثيله بأوثان أخرى. لا تزال عواطف (أميل) في غاية القصور كما رأيت فأصبت في رأيك. على أن للأطفال مهما كانوا صغارًا حاسة عجيبة يفرقون بها بين الصحيح من أنواع ميل الناس إليهم وعطفهم عليهم والمموه منها فهم يحبون من يحبهم وقلما ينخدعون بضروب الرياء والاستمالة وأنواع التدليل والملاطفة , ومما يشهد لذلك أني في معظم أوقات زيارتي للسيدة وارنجتون ألاقي عندها امرأة ترملت في شبابها وهي تزعم أنها تعشق الأولاد عشقًا وتقول: لِمَ لمْ يهب لي الله (سبحانه) ولو ولدًا واحدًا وتدعي أنها كلما فكرت في ذلك كاد يغمى عليها , ولكني في ريب من أن قلبها كقلوب الأمهات؛ لأن (أميل) لا يطيق النظر إليها. لا مناص لنا من الانفعال بما يحيط بنا من المؤثرات الخارجية كما تقول , وإلا فما السر في أنني أحب التنزه في طريق مخصوص كلما تلقيت مكتوبًا من مكاتيبك , وكيف أن بعض الأشجار يجذبني إليه ويدعوني إلى تفيئه والجلوس تحته في حال ثوران أشجاني خاصة وبماذا أفسر ما أجده من الارتباط بين رؤيتي لصخرة وما أحس به إذ ذاك من نقص في عزمي ووهن في ثباتي , فلا شيء يطابق جميع حالات النفس ويلائمها سوى البحر على ما أرى اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (عيد الجلوس الفضي) كان عيد الجلوس الفضي لمولانا أمير المؤمنين من أعظم أعياد الملوك والعواهل بعثت الدول العظمى فيه البعوث إلى دار الخلافة العثمانية لتهنئة هذا السلطان العظيم الذي أدهش بسياسته جميع السياسيين وكان المتوقع أن الوفد المخصوص لا يبعث إلا من قبل إمبراطور ألمانيا ولكن ظهر أن غيره سابقه إلى هذه الحظوة حتى روسيا وإنكلترا وقد أمرت هذه أسطول البحر المتوسط الراسِي في مياه لمنوس (أمام الدردنيل) بأن يقوم بالزينة البهية ففعل وذهب أميره مع فرقة من الضباط إلى الآستانة مخصوصًا لأداء واجب التهنئة. أما الاحتفالات والزينات في الممالك العثمانية فحدث عنها ولا حرج وأحق زينات القطر المصري بالذكر زينة قصر رأس التين الخديوي وحسبك أنها من قبل أمير البلاد أعزه الله تعالى وقد استتبعت مأدبة برئاسة سموه حضرها كبار رجال الحكومة ووكلاء الدول الأجنبية ثم زينة قصر الغازي مختار باشا وقد أقامها بالنيابة عن دولته سعادة محسن بك حضر من الآستانة مخصوصًا لهذا الغرض ثم زينة محافظة مصر ثم الزينة الوطنية الكبرى في حديقة الأزبكية ثم زينة الجامع الأزهر وكان المناسب أن يكون الاحتفال في الأزهر الشريف بغير زينة لأنها لا تنبغي للمساجد ثم ما كان في الفنادق (اللوكاندات) والمخازن والأسواق والشوارع وإدارات الجرائد ومكاتب المحامين , وتبع القاهرة في هذا سائر مدن القطر المصري وقد احتفلت جمعية شمس الإسلام وزينت مواقع إداراتها في مصر القاهرة وغيرها , وأبهج زينة واحتفال لها ما كان في فرع الفيوم وقد نوهت به الجرائد اليومية كالمؤيد والوطن فلا نطل به. وقد وردت علينا قصائد التهاني السلطانية بهذا العيد الحميد منها ما نشرته بعض الجرائد المصرية كله أو بعضه كقصيدة الشاعر الأديب أحمد أفندي الكاشف ومنها ما لم تنشره كقصيدة الأديب حسن أفندي شاكر من نجباء شبان دمياط ومطلعها: أهلاً بعيد جلوس عاد فضّيًّا ... ممثلاً ربع جيل مرَّ مرضيا ربع إذا أنصفوه كان أربعة ... أو أربعين وما غالوا إذًا شيا وقد أطال فيها القول بسكة حديد الحجاز وختمها بقوله: الله أكبر (يا عبد الحميد) لقد ... أحمدت ذكرًا مدى الأدهار مبقيا فليس من بعد هذي أنعم كبر ... مرويها فائق ما كان مرئيا فدمت للدين والدنيا غيائهما ... ودام ملكك بالإسعاد مرعيا ومنها قصيدة فريدة لحضرة صديقنا الفاضل الشيخ محيي الدين أفندي الخياط البيروتي الشاعر المشهور، وهي بنصها: أطلس دائر وأرض سماء ... شهبها النور فهي أرض ضياءُ طوقتها سلاسلاً من نضار ... وهي بيضاء قبة حمراء من سهام فوق العلا خافقات ... ساكنات بها الثرى وضاء ذكرتنا نيازك النار لاحت ... وهي بالأفق أنجم رفلاءُ أبيض أحمر وصفر وخضر ... قزح القوس أم هي الأضواء نور زهر لا نور زهر حواه ... روض أفقٍ لا روضة غناء أيها الأطلس الأثير أيوح ... بالليالي أم الليالي ذكاء خلل بالمدار فالليل صبح ... لا ظلام به ولا ظلماء أيها الليل أين منك الدياجي ... أقضت نحبها وتم القضاء عظم الله أجرنا فيك يا ليـ ... ـل فللبعث بيننا الالتقاء عصر نور ونور عصر حميد ... فر منه الظلام وهو هباء لك (عبد الحميد) فيه لواء ... خافق من بنوده الزهراء يا ابن (عثمان) أي تخت تبوأ ... ت وملك له الملوك فداء قد صعدت السرير وهو خفوق ... وقبضت الحسام وهو دماء وفللت الخطوب وهي مواض ... وفتلت الذماء وهو ذماء فجمعت الأمور والأمر شتى ... وعمرت البلاد وهي بلاء شِدْتَ فيها مدارسًا هن قبلا ... طلل دارس ورسم عفاء وربوعًا أرجاؤها آهلات ... قرَّ فيها وفي بينها الرجاءُ *** أصبحت بالفنون تحكي جنانًا ... تربها التبر درّها الحصباء يصدح العلم في (صبا) ها (حجازًا) ... فتناغي (عشاقه) الورقاءُ شدت فيها مصانعًا في مغان ... هي للتجر مغنم وثراء معهد باذخ بناء عظيم ... مشهد شاهق علاه بناء وسبيل زلاله سلسبيل ... وبروج هياكل أرجاء قد ملأت البلاد عدلاً وعلمًا ... أين منك الملوك والعلماء أي ثغر ما أنت فيه ابتسام ... أي أرض ما أنت فيها ماء في ربوع الحجاز أومض برق ... منك ودت أسلاكه الجوزاء في ربوع الحجاز سطرت خطًّا ... تتمنى حديده الزرقاء أكبرته الأيام فهي أَيامَى ... عنه كانت وعصرك العذراء أكبرته البلاد فهي عهاد ... عهدتها من جودك الأنواء أكبرته البلاد فهي ثغور ... كلها ألسن وكل ثناء أكبرته الأملاك والعالم الغي ... بي والرسل قبل والأنبياء وقلوب الإسلام حولك حامت ... كحمام وطوقها النعماء فتبوأ (خلافةً) أنت فيها ... نقطة الباء وهي فيك الباء عدها القوم عثرة وحزونًا ... للمعالي وهي السهول الفضاء حملت للأنام نورًا ونارًا ... هكذا العدل شدة ورخاء حملت للأنام أي علوم ... فهي للعلم راية ولواءُ أين كانوا أيام كانت ولكن ... سنة الله في الأنام سواء إنما الدهر من قصور براء ... مثلما الدين من قصور براء سنن الله في الخلائق طرًّا ... هي فينا المحجة البيضاء ودَّ قوم للفرقدين افتراقًا ... فاحك يا قطب واسمعي يا سماءُ لا أغالي بيض الأنوق قريب ... دون هذا والأقرب العنقاء توأم الملك والخلافة فينا ... أرضعته أم العلا السمحاءُ قد ملكنا الثرى وجزنا الثريا ... فيهما والزمان ظل وماء وجنينا من العلوم جناها ... وجنينًا وما جنى الأعداء لا قنوطًا فالدهر يعطي سجالاً ... إنما الناس كلهم أكفاءُ وحنانيك إن قصرت يَراعِي ... فهو زُجٌّ لا صعدة صماء أيطول الزج الغزالة فذًّا ... حيث لا تبلغ الضحى الصعداء (ربع قرن) نعده ألف عام ... ألف عام جميعها آلاء وسموه الفضي وهو نضار ... وعليه من الضحى لألاء دمت للدين ملجأ وملاذًا ... ما استضاءت أرض وضاءت سماءُ * * * (تشريف الجناب العالي الخديوي) عاد من أوروبا بالعز والإقبال مولانا العباس عزيز مصر المعظم بعدما زار ملكة الإنكليز ولقي منها ومن عظماء دولتها أعظم احتفال يكون لأكابر الملوك ومنحته وأكابر حاشيته الوسامات والألقاب العالية. وقد جال سموه بعد ذلك في أوروبا جولة انتهت به إلى أودسا في الروسية وكان هناك كما كان في كل مملكة ملتقى التجلة والإكرام من القياصرة والملوك فنهنىء القطر بسموه ونسأل الله أن يزيده ويزيد البلاد به عزًّا وسؤددًا. * * * (وفاة عالم) فاجأت المنية في يوم الثلاثاء الماضي الأستاذ الشيخ محمد البحيري أحد أكابر علماء الأزهر وأعلامهم. كان رحمه الله طويل الباع في العلوم الأزهرية وأحد أركان فقه الشافعية دمث الأخلاق متواضعًا جدًّا لم يلبس في عمره (الفرجية) التي هي من خصائص علماء الدين في عرف الوقت بل كان لبوسه لبوس الطلاب المجاورين وكان يطالع درس الفقه الذي يقرؤه في الأزهر في مدة سبع ساعات مع أن وقت إلقائه نحو الساعتين ويطالع درس النحو في خمس ساعات مع أن وقته أقصر من وقت الفقه. اجتمعنا به مرارًا وذاكرناه في انتقاد طريقة التعليم في الأزهر فكان يظهر لنا منه الاقتناع بأنه لا ضرورة لتغييرها وكانت تنتهي المناظرة عند الحد الذي يتوقف إثباته على التجربة والاختبار. رحمه الله تعالى رحمة واسعة وعزى الأزهر الشريف على فقده. * * * (تعزية) نعزي إمام الأدب , وعلامة لغة العرب الأستاذ المحدث الشيخ محمد محمود الشنقيطي بولده الوحيد الذي فقده عن نحو سنة ونصف جعله الله فرطًا له وعوضه خيرًا. وأجدر بهذا الأستاذ أن يتمثل بقول الشاعر: يقولون: إن المرء يحيى بنسله ... وليس له ذكر إذا لم يكن نسل فقلت لهم: نسلي بدائع حكمتي ... فإن لم يكن نسل فإنا بها نسلو * * * (أكبر مدفع في الدنيا) روت الجرائد الإفرنجية أن لدى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مدفع في الدنيا وطوله 17 مترًا وطول قنبلته قريب من مترين وبالتحديد متر و92 سنتيمًا ووزنها 1400 كيلو أو 1120 أقة تعلو في الجو ثمانية آلاف متر وتسمع من مسافة 35 ألف متر وثمنها 1320 فرنكًا. * * * (دخول بكين) دخلت العساكر المتحدة من أوربية ويابانية وأميركانية إلى بكين عاصمة الصين وأنقذوا السفراء وسائر الأوربيين من الضيق الذي كانوا فيه. وجاء في البرقيات أنهم أطلقوا النار من سلاحهم على القصر الملكي. وجاء فيها أيضًا أن الفوغفور (الإمبراطور) قد خرج مع أسرته منها قبل دخول الجنود المتحدة فيها بأيام ولا يزال البوكسر يناوشون الأوربيين في غير ما موضع وقد اقترحت روسيا الخروج من العاصمة والمخابرة بالصلح مع حكومة الصين. * * * (البوير والإنكليز) لا تزال الحرب بينهما سجالاً في جنوب أفريقيا وقد أذهل العالم كله شجاعة البوير وثباتهم. * * * (إعانة سكة حديد الحجاز) تفيد أخبار جرائد دار السعادة أن المسلمين في روسيا والهند وجاوه وسنغافور مستعدون جميعًا لجمع الإعانات لمشروع هذه السكة وكذلك بلاد إيران وينتظر من مكارم الشاه المعظم أن ينفح لجنة الإعانة في الآستانة مبلغًا عظيمًا عند زيارته لها في هذه الأيام. وقد قوي رجاؤنا في هذا بعدما علمنا أنه تكرم بمبلغ ألوف من الفرنكات على فقراء باريس عندما كان فيها فكيف لا يتبرع بألوف من الجنيهات على مساعدة عمل يسهل على أبناء دينه إقامة ركن من أركان دينهم.

الدعوة حياة الأديان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة حياة الأديان انتشار الأديان والمذاهب وثباتها وعدمها. موقع الدين من النفوس وأثره. غيرة المسلمين على دينهم. انتشار المسيحية في أفريقيا والسودان. الحيرة والجهل في المسلمين. انتشار الأديان. زعم بعضهم أن سببه القوة الحاكمة ورده. قول الآخرين إن السبب كونها حقًّا ورده. بيان السبب الحقيقي. الإسلام انتشر بالدعوة لا بالسيف. شأن الدعوة العظيم. المرتدون من الصنف الملقب بالإسلام. إهمال العلماء. {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) , {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) . قام في العالم الإنساني أديان كثيرة ثبت بعضها وانتشر وانقرض البعض الآخر , ووجد في هذه الأديان مذاهب متعددة كان شأنها شأن الأديان نفسها في الثبات والانتشار والعفاء والاضمحلال. ومن الناس من يلتفت إلى هذا الأمر العظيم ولا يبحث في سببه ومنهم من يحكم فيه بغير هدى ولا عقل منير على أن البحث فيه بحث في حياة الأديان ومماتها وبقاء المذاهب وفنائها، وللدين في نفوس البشر أعلى المنازل وموقعه منها أشرف المواقع فلا يرون مفخرًا أسمى من سعة انتشار دينهم وكثرة سواد متبعيه وعزة أهله وقوة بنيه ولا يرون ذلة أشد إيلامًا ولا مهانة أوجع سهامًا من تقلص ظلال دينهم ومروق متبعيه منه أو وقوع الحيف والظلم فيهم وضرب الذلة والمسكنة عليهم. وقوة هذه الوجدانات المؤلمة أو الملائمة وضعفها يتبعان قوة التمكن في الدين والثقة به والاعتقاد بوجوب تعميمه وشيئًا آخر هو من الاعتبار بمكان وهو تاريخ الدين وما يقصه على أبنائه من مجد سلفهم السابق واستعلائهم بدينهم على من سواهم وما نالوا به من سيادة وسلطان. وكل هذه الشروط متوفرة في المسلمين ولا تكاد توجد كلها أو أكثرها فيمن عداهم ولذلك نراهم على خذلانهم لدينهم في هذه الأزمنة وتنكبهم طريقه وانحرافهم عن صراطه يتنفسون الصعداء ويتململون من الألم إذا سمعوا بأن زنجيًّا في أحشاء أفريقيا أو مغوليًّا في أطراف الصين انتسب بعد الإسلام إلى دين آخر أو استبدل اسمًا من أسماء العلوج باسم محمد أو أحمد وإن كانوا يعلمون أنه من المسلمين الجغرافيين الذين ليس لهم من الإسلام إلا الأسماء والألقاب ولكنهم على هذا كله لا يبحثون عن الأسباب الحقيقية لطي الأديان ونشرها فيستعدوا لاستكمال السبب والعمل به ليمتنع الطي ويثبت النشر ويزداد امتدادًا. نشر المؤيد من أيام مقالة عنوانها (الإسلام والمسيحية. في البلاد السودانية) للرحالة ابن حام مكاتبه الشهير ذكر فيها انتشار النصرانية في أفريقيا بهمة المبعوثين المسيحيين قائلاً: إن أهالي مستعمرة السنيغال الفرنساوية صاروا كاثوليكًا غالبًا وأهالي مستعمرة الكونغو البلجيكية كذلك وسكان بلاد أوجندة الإنكليزية صاروا بروتستانًا , ثم ذكر أنه جاء أم درمان من خمسة أشهر ثلاث حملات عسكرية من الجنوب الأولى الإنكليزية والثانية فرنساوية والثالثة بلجيكية. رجال هذه الحملات أفريقيون وضباطهم أوربيون وكلهم مسيحيون وذكر الرحالة أنه رأى في زنوج أوجنده من يعرف العربية وبعد سؤاله عن اسمه ودينه علم أنه كان مسلمًا تنصر لكثرة جدال المبعوثين له وعدم وجود عالم يزيل شبههم ولكثرة مواساتهم له ومعالجتهم إياه في مرض ألم به. ثم ذكر أن في أم درمان الآن ثلاث بعثات مسيحية أميركانية بروتسنتية ونمساوية كاثوليكية وقبطية أرثوذكسية ولكل بعثة مدرسة وكنيسة وليس للمسلمين والبلاد بلادهم مدرسة يُعلَّم فيها الإسلام طفل مسلم ولكل بعثة من هذه البعثات شعبة في جنوبي فشودة توزع الإنجيل (الذي نقلوه إلى لغة البرابرة حديثًا) وتدعو إلى النصرانية وأكثر دعاتها من أقباط مصر يخدعون الزنوج ويختلبونهم بقولهم: إن الترك (اسم يشمل المصريين عندهم) كلهم مسيحيون.. وأكَّد الرحالة هذا بأنه بلغه أن ملك الزنوج في جهات (دارفونج) اعتنق النصرانية على أنها دين الحكومة الخديوية والدولة العلية ويتوقع أن يصير أتباعه كلهم بروتستنتًا لأن العبيد على دين ملوكهم كما يقال. وقد رمى الرحالة الفاضل علماء الأزهر بالتقصير كغيرهم في خدمة الدين والدعوة إليه ورمى الجرائد الإسلامية بالغش فيما تنشره من ذكر قوة الإسلام وامتداده وانتشاره بنفسه تفريحًا للناس وإنماءً لكسلهم وتماديهم في الخذلان كما رمى الجمعيات الإسلامية بالتقصير في عدم التصدي لبعث البعوث للإرشاد وحفظ الإسلام على المسلمين وله الحق في كل ما قال. نعترف له بالحق لأنه الحق لا لأننا نرجو أن لا تصيب سهامه المنار الذي يكاد يكون كله إنذارًا للمسلمين بسوء مغبة ما هم فيه من الغرور وبيانًا لتقصير العلماء في خدمة الدين بما يقتضيه حال العصر وإلحاحًا عليهم بوجوب الإصلاح العلمي والديني ولم يثننا عن هذا عدم استعذاب كثير من الناس لهذا المشرب لما فيه من مرارة الحق لرجائنا أن الزمان سيوضح لهم أنه الحق الذي لا محيص عنه وقد رأينا بوادر هذا فقوي الرجاء بل صار يقينًا. نشرت مقالة الرحالة فكان لها تأثير عظيم في نفوس المسلمين وألم سرى في أرواحهم سريان الاعتقاد في مداركهم ولكنه ألم كسائر آلامهم في طورهم هذا لا يزيد على حزن العجائز وتوجع الزمنى لا يجيء بسعي ولا يبعث على عمل إلا أن تكون حضانة الحركة الفكرية الإسلامية الحاضرة قد أتمت تربية نفوس نفر من المسلمين من حيث لا ندري فيندفع بعضهم إلى السعي في رتق الفتق في السودان ومداواة العلة قبل استحكامها. والذي نعرفه هو ما أثبتناه قبلاً من طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة بحيث لا تدري كيف يمكن تلافي هذا الأمر ومن كان على علم بشيء من ذلك فإنما علمه رسوم تلوح في الخيال لا أثر لها في الروح والوجدان فتبعث على العمل وهي أيضًا إجمالية غامضة لا تكفي في هداية من يريد العمل اللهم إلا أفرادًا لا يصلون إلى منتهى جمع القلة يجب أن يصرف وقت الواحد منهم في تربية بعض العلماء والفضلاء ليكونوا من المصلحين لا تعليم الزنوج مبادىء الدين. على أنه لا يهدي العامل كالصدق والإخلاص إذا تكيفت بهما الروح وانفعل بهما الوجدان انفعالاً. ولله در من قال: لو صح منك الهوى أرشدت للحيل هذا ضرب من الاستشهاد أطلنا به الاستطراد لأن الذي حرك النفس للكتابة في هذا الموضوع إنما هو كلام الرحالة فلنعد إلى البحث في السبب عن انتشار الأديان والمذاهب فنقول: يذهب الأكثرون إلى أن القوة الحاكمة هي السبب الوحيد في ذلك كما أنها السبب في كل إصلاح وإفساد فما شاءت الحكومة كان وما لم تشأ لم يكن , وقد بارز (المنار) هذا الرأي بالحرب منذ إنشائه وهيهات أن يقتنع بالكتابة إلا الأقلون على أننا لا ننكر أن القوة الحاكمة تستطيع تأييد السبب الحقيقي وتعزيزه كما تستطيع خذله وتهديد القائمين به لكي يهنوا ويضعفوا ولكنها ليست هي عين السبب وإذا هو وجد فلا تستطيع إعدامه وربما كان عملها على طيّه من علل الانتشار وضغطها على أهله من أسباب الانفجار وما وجد دين ولا مذهب لم تقاومه القوة وتواثبه الحكومة وقد انتصرت تلك المذاهب والأديان. وخذل من ناوأها من حاكم وسلطان. ويقول آخرون: إن العلة الحقيقية في امتداد الأديان وانتشارها هو كونها حقًّا في ذاتها وعندما يرمى هذا القول على إطلاقه يسهل التسليم به ولا سيما على المسلم البصير الذي يعلم أن دينه الإسلام ما قام وانتشر بالسيف كما يزعمون وإنما انتشر بكونه حقًّا صارع الأباطيل فصرعها بالبرهان وظهور انطباقه على مصالح الإنسان وإذا سئل هذا المسلم عن علة انتشار سائر الأديان يصعب عليه أن يجيب جوابًا فيه مقنع لنفسه وللسائل لأنه إذا قال: (إن اليهودية والنصرانية إنما انتشرتا بالحق ثم طرأ عليهما الباطل فظلتا سائرتين بحركة الاستمرار) يقال له: وما تقول في الديانة الوثنية التي هي أعم الأديان انتشارًا؟ لا جرم أنه يحار في الجواب. ومن أهل الإسلام طائفة قامت بمذهب بل دين جديد وهو آخذ بالانتشار حتى إن في مجاوري الأزهر من يدين به ويدعو إليه يحاول هؤلاء أن يثبتوا أن انتشار الأديان والمذاهب هو الدليل على حقيتها وهؤلاء يدعون أن أصول الديانات الوثنية. كديانة بوذه , وبرهما , وزرادشت صحيحة وسماوية أيضًا ليسلموا من هذا الإيراد (هكذا بلغني عنهم) ولعلهم إذا سئلوا عن السبب في نجاح مذهب البروتستنت وانتشاره مثلاً يقولون: إنه لم يخرج عن قاعدتنا فإن هذا المذهب إنما دعا إلى ترك التقاليد والبدع التي طرأت على النصرانية والقرب بها من أصلها الحق , ولكن إثبات حقية الديانة الوثنية وحقية الأديان والمذاهب الأخرى التي انتشرت وثبتت إلى الآن يتعسر، أو يتعذر عليهم , والصواب أن هناك سببًا آخر للانتشار هو الذي انتشر به كل دين ومذهب في العالم سواء في ذلك الحق والباطل , وإنما الفرق بين الحق والباطل أنه إذا قذف بالأول على الثاني يدمغه وأنهما إذا تساويا في سبب الانتشار الذي نذكره يثبت الحق ويزهق الباطل كما أرشدنا القرآن الحكيم وبهذا كان للإسلام السلطان الأعلى على جميع الأديان لا بقوة السيف والسنان. ولو كان الحق ينتشر بذاته لأنه الحق لما كتب الله علينا (الدعوة) إليه - وهي العلة الحقيقية والسبب الصحيح - ولما كان من حاجة إلى الأنبياء والمرسلين ووراثهم من العلماء والمرشدين الداعين إلى دين الله تعالى ولما وصف الله الدعوة إليه بأنها أحسن القول ولما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بأن يبين للناس أن سبيله وطريقته التي يسلكها هو وأتباعه إنما هي الدعوة إلى الله على بصيرة. ما قام دين من الأديان ولا انتشر مذهب من المذاهب ولا ثبت مبدأ من المبادئ إلا بالدعوة , وما تداعت أركان ملة بعد قيامها , ولا انتكث فتل شريعة بعد إحكامها , ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها إلا بترك الدعوة. فالدعوة حياة كل أمر عام تدعى إليه الشعوب والأقوام سواء كان ذلك الأمر حقًّا وإصلاحا في نفسه أو كان باطلاً مموهًا بالحق وإفسادًا مغشى بالإصلاح ومسمى باسمه , ومن راجع التاريخ يعلم أنه ما وجد أحد يدعو إلى شيء ولم يجد تابعًا , وها نحن أولاء نرى المذاهب الباطلة تنمو بالدعوة ويعم انتشارها والمذاهب الحقة تتضاءل وتعفى آثارها. وقد بدأ الإسلام يضعف منذ اقتنع أهله بالترف والنعيم وأهملوا العناية بالدعوة إليه وإنما طال زمن دور نموه مع كثرة ما صرفه من الموانع لقوته وأصالته في الحق , ولذلك ما أمكن لأهل دين آخر أن يردوا مسلمًا يعرف الإسلام عن دينه بل صعب عليهم أن يردوا المقلدين فيه عنه لوضوح الفرق بينه وبين ما يدعون إليه من الأديان الأخرى وغاية ما أمكنهم هو أن يفتنوا عددًا قليلاً ممن ليس لهم من الإسلام إلا أنهم من صنف يُسَمَّى أهلُهُ المسلمين ويسمى دينهم الإسلام كبعض زنوج أفريقيا وجهال جبال الهند وقفارها الذين لا يعرفون من الإسلام إلا حل أكل لحم البقر الذي يقدسه مجاوروهم ولو بقي لعلماء المسلمين سؤر من الغيرة لنفروا خفافًا وثقالاً إلى إرشاد هؤلاء الجاهلين ولكنهم لا يعملون إلا للمال. وقد طال بنا الشرح فأشفقنا على القراء من الملل , وإننا نرجىء البحث إلى الجزء الآتي نبين فيه شروط الدعوة وآدابها على ما أرشد إ

أمالي دينية الدرس ـ 13 ـ الإرادة، القدرة، الاختيار والنظام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمالي دينية (الدرس الثالث عشر) م (36) الإرادة ما تقدم من البحث في العلم من حيث كونه صفة يأتي في الإرادة وفى غيرها من الصفات الذاتية. الإرادة صفة يخصص بها الفاعل في فعله بعض الوجوه الممكنة المتقابلة على بعض بحسب العلم بوجوه التخصيص والترجيح فوظيفتها بعث القدرة على العمل الذي يجزم العلم بأن فيه المصلحة والحكمة وقد اشتبه على كثير من الناس فهم الإرادة فمن الناس من يظن أنها بمعنى المحبة والرضى ولذلك قالوا: إن ضدها الكراهة , والصواب أن ضدها (عدم الإرادة) يصدق بأمور منها كون الفعل يصدر بالإجبار والإكراه ومنها كونه يصدر بالعلة والطبع والحق أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا يشاء الله إلا ما سبق في علمه وإلا لزم الجهل تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. ومنهم من لا يفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الإنسان حيث يتوهم أن معنى إرادة الواجب صفة يصح له بها أن ينفذ ما قصده وأن يرجع عنه , وهذا محال في جانب الواجب كما قال أستاذنا في رسالة التوحيد (فإن هذا المعنى من الهموم الكونية والعزائم القابلة للفسخ وهي من توابع النقص في العلم فتتغير على حسب تغير الحكم وتردد الفاعل بين البواعث على الفعل والترك) . م (37) أما الدليل على إثبات الإرادة للبارئ تعالى؛ فهو لازم لدليل إثبات العلم لأن من يجزم بأن علم الله تعالى محيط بكل شيء بدليل أنه خالق كل شيء , وأنه لا يُعْقَل أن يخلق ما لا يعلم ويعرف مع هذا أن كل هذه المخلوقات يجوز في العقل أن تكون على غير ما هي عليه بأن يكون الكبير صغيرًا والأسود أبيضًا إلى غير ذلك من الوجوه الممكنة وما يقابلها يجزم بعد الإحاطة بما ذكر بأن الإرادة هي التي رجحت بحسب العلم ما كان على ما لم يكن من الوجوه الممكنة. م (38) القدرة هى الصفة التى يكون بها الفعل والتأثير والتحويل والتغيير , ودليلها ما بيناه أولاً من أن جميع الممكنات صادرة عن الواجب تعالى ثم ما بيناه أخيرًا من أن صدورها عنه إنما هو بتخصيصه المطابق لعلمه , وهل يعقل أن الفاعل بإرادة عن علم لا يكون قادرًا؟ كلا {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 20) . م (39) الاختيار والنظام الاختيار: هو أن يُصدر الفاعل الفعل بقدرته وإرادته الموافقة لعلمه لا بإيجاب موجب ولا قهر قاهر ولا بالعلة العمياء ولا بالطبع الذي لا شعور معه. وهذا المعنى لازم لثبوت الصفات الثلاث (العلم والإرادة والقدرة) , ثم إن الأفعال الاختيارية يكون كمالها ونظامها وإتقانها وإحكامها بحسب كمال العلم وإحاطته بوجوه المصالح ومواقع الحكمة والنظام. وعلم الله تعالى كسائر صفاته في منتهى الكمال فأفعاله تعالى في غاية الكمال {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} (الملك: 3-4) . فإذا أمكن أن يكون علمه - تعالى وتقدس - قاصرًا عن الإحاطة بكمال النظام أو أن قدرته قاصرة عن إنفاذ ما علم أنه الكمال (سبحانه سبحانه) يمكن أن تكون هذه العوالم التي هى أثر علمه وحكمته وإرادته وقدرته ناقصة وغير تامة النظام ولكن ذلك غير ممكن وما يترتب عليه ويلزمه أيضًا غير ممكن فثبت قول حجة الإسلام الغزالي (ليس في الإمكان أبدع مما كان) ولا تستلزم هذه الكلمة نقص القدرة كما توهم بعض أهل العلم كيف وهى لازمة لكمالها وكمال العلم والإرادة والحكمة. فلا يقال: إن الله تعالى قادر على فعل الخلل وإفساد النظام لأن هذا محال والقدرة لا تتعلق بالمحال , كما لا يقال: إنه ليس بقادر على ذلك لأن الذي يصح أن ينفى هو الذي من شأنه أن يكون ثابتًا وقد اتفقوا على أن القدرة والإرادة لا تتعلقان إلا بالممكنات وأنه ليس من النقص في القدرة عدم تعلقها بإعدام الواجب أو ايجاد المستحيل , وقد تقدم هذا البحث في درس سابق. وجاءَ في فاتحة مقصورتنا في هذا المعنى قولنا: تبارك البارئ مبدع الورى ... بحكمة تروق أرباب الحجى براه من حيث رَصَاه فانبرى ... مستحصف المرير مشدود العرى [1] أنشا من الهباء كل صورة ... فسمك السماء والأرض دحا [2] ثمت أعطى كل شيء خلقه ... بحسب استعداده ثم هدى وخلق الأشياء أزواجا وقد ... قضى بناموس تنازع البقا فابعث رسول الطرف منك رائدًا ... يجوب أجواز البحار والفلا [3] واسر به للأفق في مراصد ... معراجها يدني إليك ما نأى وأرسل الفكر رسولاً ثانيًا ... لعالم الأرواح يسعى والنهى حتى إذا جاسا خلال الدار من ... عوالم الحس وعالم الحجى سائلهما هل ثَمَّ من تفاوت ... أو خلل في البدء كان أوعرى أنى وتلك مظهر الحق بها ... قد ظهرت لسماه جل وعلا من جري هذا قيل لا إمكان في ... أبدع مما كان قبل وجرى [4] فارجع إليها الطرف كرتين واس ... تجل دناج الأمر من ثني القضا [5] ترى هناك سننًا حكيمة ... لا يعتريهن العفاء والوهى ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) (14) من هيلانة إلى أراسم في 30 أكتوبر سنة - 185 لا يزال (أميل) عاجزًا عن التكلم غير أن كلاًّ منا يفهم مراد صاحبه؛ لأن الأطفال قبل أن يصير في مقدورهم إخراج الحروف من مخارجها بزمن طويل يعبرون عما يعروهم من الفرح والدهشة والخوف والألم بضروب من الصياح والصراخ الفطري يندر أن تخطىء الأم في فهم معانيها , وهي إن لم تكن لسانًا معروفًا فأقل ما فيها أنها لهجة تفصح عما في نفوسهم من الوجدانات والأفكار , وإني لفي شك من أن الكلام يكون في إعرابه لي عن انفعالات ولدي أكثر من هذه الأصوات بيانًا على أنني لا أخال أن صورة أخرى من صور التعبير عما في النفس توافق حالته موافقة هذه لها. لم يقتصر (أميل) على هذه اللهجة , بل إنه اخترع من بضع أسابيع طريقة للمحادثة معي فإذا أراد أن يكلمني عن كلب البيت قلد نباحه بقدر ما في أعضائه الضعيفة من الاستطاعة , وإذا حملته جورجيا وخرجت به للتنزه على ساحل البحر فإنه عند عوده يخبرني بهبوب الرياح وذلك بأن ينفخ فيحدث صوتًا مخصوصًا , وإذا صادف في طريقة قطيعًا من البقر أو الغنم؛ قص عليَّ ما رآه بأصوات أفهم ما يريده بها , وإني على ما أجده في قصصه هذه من اللذة قد أنشأت أقلق لحالته هذه وأحدث نفسي بأني أفرطت في إغفاله وإسلامه إلى الفطرة , وأنه ربما كانت عاقبة ذلك حدوث بعض عاهات في قواه النفسية أكون أنا السبب في حدوثها ولقد استفتيت في هذا الأمر السيدة وارنجتون وكاشفتها بما أجده من الخوف لأنها لما كانت زوجة طبيب كان لها هى أيضًا بعض الدراية في الطب فاجتهدت كثيرًا في محو هذا الفكر من نفسي وفي تسكين روعي , وقالت لي: إن هذا الأمر عام في جميع الأطفال الذين يربون في الأرياف. وعلى كل حال فما أدرانا أن هذه الأصوات ليست هى أصل اللغات الإنسانية؟ أقول هذا وأنا عارفة أنه ربما أضحكك , ولكن ما المانع في أن الإنسان وهو في زمن طفوليته إذ كان يسكن الآجام والكهوف كان يتلمس مبادىء الكلام في ألغاط الغابات وأصوات الحيوانات وغيرها من المخلوقات اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

مكتوب من بعض بلغاء مصر لسماحة أبي الهدى

الكاتب: أبو الهدى أفندي

_ مكتوب من بعض بلغاء مصر لسماحة أبي الهدى أفندي الشهير أهم الأخبار التي يتحدث بها الناس في العاصمة أن بعض الوجهاء في مصر حمل إلى دار السعادة تقارير مختومة بأختام مزورة بأسماء أكابر العلماء كصاحبي الفضيلة مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر , وأن وجيهًا آخر ذهب ليكشف للحضرة السلطانية مؤامرة على حياته الشريفة , وكثر القيل والقال في هذا , وتناقل الناس أن هؤلاء الوجهاء لقوا هناك ما يستحقه السعاة المحالون لا ما كانوا ينظرون وكثرت الرسائل ممن تعنيهم هذه الأمور في مصر إلى دار السعادة وقد وقفنا أخيرًا على رقيم من أحد بلغاء الكتاب الوجهاء في مصر أرسله إلي سماحة السيد أبي الهدى أفندي الشهير لكنه يرمي فيه صاحب السماحة السيد توفيق البكري شيخ مشايخ الطريق بأنه ممن خاض الناس فيهم , فنشرناه لما فيه العبرة مع البلاغة والفكاهة , وإن كنا نصرح بأن الكلام السابق لا ينطبق على السيد البكري لأنه لقي إنعامًا (دار ووسام لوالدته وإلزام بالإقامة في الآستانة) لا انتقامًا وهو بحروفه: سيدي ومولاي (أقبل يدًا خلق باطنها للكرم وظاهرها للقبل. وبعد فقد كثرت الإشاعات عن سماحة السيد البكري واختلفت فيها الظنون حتى خشيت عليه من صدق بعضها , وقد أقرأني بالأمس شاهين بك مكاريوس كتابًا جاءه من صفا أو صفر بخطه وإمضائه لا يستطيع صديق لمولاي أن يأتي عليه كله لمحتوياته من القذف والسباب والشتم والهجاء في البيت الرفيع الرفاعي , وقد ذكر السيد البكري فيه ذكرًا لو سمعه المسكين لكر إلى مصر هائمًا على وجهه أو عائمًا على قفاه , ولترك بلدًا ليس فيه للقانون سماعون ولا لكلمة الحق واعون , ولا هى كالبادية يحفظ الرجل فيها شرفه بقوته ولا هى كالحضر يعز الإنسان فيه بحسن سيرته بل كالجحيم كلما دخلت أمة لعنت أختها. وماذا أقول في بلد لو كان الإنسان يمشي فيه على صرح بلقيس ويجلس على بساط سليمان ويأكل شواء من كبش إسماعيل , ويشارب الخضر من عين الحياة، وينادمه مالك , وعقيل ويصرف ختمه الأمر من مصر إلى عدن إلى العراق , فأرض الروم , فالنوب , وكان معه أمثال هؤلاء يساكنونه فيه وهو عاجز أن يؤذيهم فيسحقهم، أو يرديهم فيمحقهم لكن المشي على شوك السيال والجلوس على صخرة في منقطع العمران والأكل من رأس الضب، والشرب من الطحلب، والحديث مع حسن باشا محافظ بشكطاش والعجز عن تصريف عنز أروح للنفس وأهنأ للبال. لن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم مولاي: إن الصابون يغسل الأجساد ولا يغسل الأعراض إلا الدم , ولهذا قيل: الجمال أحمر. أتحاكم المؤيد من بعد ألف ميل على كتاب قيل إنه طبع في مطبعته لا هوَ ألفه ولا كتبه ولا أمضاه ولا نشره وتترك من يؤلف ويكتب ويمضي وينشر مطلق اليد واللسان وهو منكم بين المخلب والناب. والله إن قلبي يكاد يتقطع نياطه حين أسمع من الناس هذا الاعتراض وهم يبتسمون في خلاله ابتسامات تبكي لها عيون الذين يعرفون فضلكم وقدركم. أكتب لمولاي هذا، وأنا أحدث نفسي التي تنظر إلى نفسكم في علوّها وارتفاعها نظر السلحفاة إلى الأجدل فوق شرفات المجدل بأنه لو مُدَّ لي طريق قضبانه من الذهب لا الحديد ومركباته من اليواقيت وسائق آلته جبرائيل ليبلغني إلى بلد أساكن فيه هؤلاء الأوغاد لفضلت الجلوس فوق الأرض وتحت هذه الشجرة التي تظلني وأنا أكتب لك هذا الكتاب لا أَظْلِم ولا أُظْلَم. سيدى إنك ابن من منَّ الله عليه بقوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 95) فليجعل مولاي همه في الدعاء أن يكرمه الله بما أكرم به جده فيكفيه هؤلاء المستهزئين الشاتمين القاذفين القادرين على الإقامة معه حيث يراهم ويرونه. مولاي: اعذرني إذا طغى القلم فإني أخاطبك خطاب المحب الصادق والله يعلم أني أحبك لعلمك وحلمك ونسبك وأدبك لا لجاهك وذهبك , فأنا الغني بالقناعة وفى مصر لا أخاف ظلمًا ولا أخشى , وأسأل الله جلت قدرته أن يمتعنا بأخلاقك وصفاتك نياشين المجد والفخر لا بتلك النياشين التي يساويك فيها نجيب ملحمة , فلعنة الله على هذه الدنيا ولعنة الله على الآخرة إن كانت مثلها) اهـ بنصه.

البدع والخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ باب البدع والخرافات والتقاليد والعادات يعلم القراء أن البحث في هذه المواضيع هو من المقاصد التي أنشىء لأجلها المنار وأننا كتبنا فيها كثيرًا، وقد اقترح علينا في هذه الأيام الأخ الفاضل المجاهد العامل محمد علي أفندي كامل صاحب دار الترقي أن نجعل هذه المباحث في باب مخصوص من المنار وأن لا يقل الكلام فيه عن كراسة من كل جزء ليسهل الرجوع إليه على من يريده في كل عدد وفي كل مجلد من مجلدات المنار. واقترح أيضًا طريقة لتعميم نشر المنار وهي أن تخصص مئات من نسخ كل جزء لتوزيع بعضها مجانًا على طلاب العلم الفقراء الذين لا يستطيعون الاشتراك وبعضها على طائفة منهم بنصف القيمة أى بخمسة وعشرين قرشًا أميريًّا، وأن يرسل المنار إلى كل من يطلبه لأجل الاطلاع عليها بغير ثمن ولا أجرة، وقد حلت هذه الاقتراحات منا محل القبول؛ لأنها موافقة للغرض من إنشائه، وسنوزع المقدار المخصص لطلاب العلم ونحوهم بمساعدة المقترح بعد التحري والعلم بحالهم ونشترط عليهم شرطًا واحدًا لا نحل لهم أخذ المنار إلا به وهو قراءته والسعي بنشر ما يرونه حقًّا من مسائله ومراجعتنا فيما يرونه خطأ أو باطلاً. أما مواضيع الباب الجديد فنقسمها تقسيمًا كما ترى: قسم الأحاديث الموضوعة والواهية والمنكرة المصافحة الحبشية. استفتاء وبلاء كتب إلينا من حضرة الفاضل الشيخ عبد السلام الرفيقي رئيس جمعية رفيق الإسلام في مقاطعة بنجاب - الهند رسالةً مطولةً يتبعها رقيم يستلفت إلى ما في الرسالة، ويطلب الجواب السديد عنه. ملخص الرسالة أنه وقعت في كشمير داهية عجيبة ومصيبة عظيمة، واضطرمت نار الفتنة وصار يجادل المرء زوجته والابن أباه والأخ أخاه والصديق صديقه في المسألة التي كانت مثار الفتنة وهى أن بعض الواعظين قرأ على منبر المسجد الجامع يوم الجمعة في كشمير إنكار المصافحة والصحبة لأبي سعيد الحبشي من المعمّرين وقال في شأنه: إنه خبيث مع من أقرّه وكذاب وشيطان وسبه ولعنه. (قال في الرسالة ما معناه) : إن هذا يستلزم تنقيص الأولياء والأصفياء وكونهم غير محققين لأنهم من المصدقين بهذا الحديث وقال: إن المنكر أفتى العوام بتجديد الصلوات، وصار مناعًا للخيرات والصدقات لمن صلى خلف المقرين. وذكر أن المنكر احتج على إبطال هذا بمثل الحديث الصحيح الناطق بأنه لا تبقى بعد مائة سنة نفس منفوسة ممن كان في ذلك الوقت، وردّ عليه بأن الحديث مختلف في تفسيره لحياة الخضر وغيره وبما نقل في حاشية رآها صاحب الرسالة عن (الإصابة في معرفة الصحابة) من أن عثمان بن الصالح مات سنة تسع عشرة ومائتين. قال: فمع هذه التأويلات والاحتمالات وإقرار أصفياء الله تعالى في أرضه كسيدنا وسندنا السيد محيي الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه بوجود المعمرين كإلياس والخضر يقال هذا , ثم ذكر أسماء كثيرين من أهل الطريق والمشايخ والمتصوفة الذين تلقوا حديث هذه المصافحة بالقبول وذكر بعض طرقهم. ثم ذكر أن المنكر قد أوقع الخلاف بين أرباب الطريقة بزعمه أنه لو صحت صحابية أبي سعيد الحبشي من المعمرين لكان عسكر سلطان قطب الذي كان واليًا في كشمير في عهد الأمير السيد علي الهنداني أفضل درجة ورتبة من سيدنا محيي الدين عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه لأنهم صاروا من أتباع التابعين، وردّ عليه بأنه لم يراع القرن في حديث (خير القرون قرني) إلخ ولم يراع حال الذين يرون سيدنا عيسى في آخر الزمان وكونهم يصيرون تابعين أفضل درجة، ومزية من سيدنا محيي الدين عبد القادر الجيلاني وغيره من الأولياء الكاملين , ثم ختم الرسالة بقوله: (فيا أهل العلم والحديث والنهي وأصحاب الشرع والفقه والحجى , وأرباب الورع والتُّقَى أعينونا بالإنصاف وأغنونا عن الاختلاف وبينوا لنا جوابًا شافيًا للقرآن والسنة , وما استنبط منها العلماء الراسخون والأتقياء العارفون، فلله دركم وأجركم والسلام) . (المنار) حديث المصافحة الحبشية رويناه عن أستاذنا الشيخ أبي المحاسن محمد القاوقجي بسنده إلى الأستاذ علي البيومي كما صافحه الشيخ عيسى الطيلوني كما صافحه الشيخ أحمد بن محمد بن العجل اليمني ح وعن أستاذه الشيخ محمد عابد السندي كما صافحه الشيخ صالح الفلاني كما صافحه مولاي محمد بن سنّه كما صافحه مولاي محمد بن عبد الله كما صافحه الشيخ أحمد بن محمد بن العجل اليمني كما صافحه تاج الدين الهندي كما صافحه عبد الرحمن حاجي كما صافحه الحافظ علي كما صافحه محمود إستقرازي كما صافحه أبو سعيد الحبشي وهو صافح سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا: وكتب في مسلسلاته (وأبو سعيد الحبشي لم يعرف في الصحابة ولعله ممن لم يشتهر) . ونقول: إن غرام المشتغلين بالرواية في علوّ الإسناد هو الذي يحملهم على التأويل في الذي لم يثبت وإلا فكيف يتصور أن صحابيًّا يعيش مئات من السنين ولا يشتهر ولا يعرفه الأئمة والحفاظ , وثم أسباب أخرى لنقل هذه الأحاديث التي لم تثبت منها حسن الظن ومنها الامتياز بالروايات وكثرة الأشياخ وبمضمون الرواية إذا كانت كحديث المصافحة الذي قال فيه: (من صافحني أو صافح من صافحني دخل الجنة) فالذين يعيشون بالصلاح يأخذون هذه الأحاديث على ظواهرها ويقيمون النكير على من يبحث في نقد سندها أو متنها ويرمونه بالتهاون في الدين، وأما المشتغلون بالحديث فقلما يسكتون عليها، ولذلك جاء في مسلسلات شيخنا القاوقجي عن شيخه السندي ما نصه على ما رويناه عنه قولاً وكتابة (وأوهى طرق هذا الحديث ما تلقيته عن شيخنا علي سلطان قال: من صافحني أو صافح من صافحني دخل الجنة) إلى أن انتهى إلى أبي العباس الملثم كما صافحه المعمّر، وهو صافح النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ذكر الشعراني في طبقاته في ترجمة أبي العباس أحمد الملثم أنه كان له لثام يتلثم به دائمًا، قال: واختلفوا في عمره، فقال قوم: إنه من قوم يونس عليه السلام، وقال آخرون: إنه رأى الإمام الشافعي وصلى خلفه، وقال قوم: إنه يعرف القاهرة وهي أخصاص، ثم ذكر عن تلميذه عبد الرحمن القوصي أنه سأله عن عمره فقال: نحو أربعمائة سنة. توفي في حدود الستمائة ودفن في الحسينية في القاهرة، وقال ابن حجر بعدما أطال الكلام على هذا الحديث: (والمعمر شخص من المغاربة اختلف باسمه وهو من الكذابين) ، قال الشيخ: وقد أوردت هذا الطريق تبركًا بذكر هذه الأشياخ أي لا لأنه يوثق به , وصلاح الأشياخ لا يدل على صحته كما توهم في الرسالة. والحاصل أن الذي أنكر صحابية أبي سعيد الحبشي على منبر الجامع في كشمير مصيب في إنكاره ولكنه مخطىء في السبّ واللعن , وقد تنازعنا بإزاء هذه الواقعة عاملان: عامل سرور لاهتمام مسلمي الهند رجالاً ونساءً بأمور الدين حتى ما كان من قبيل رواية الحديث، وأكثر المسلمين لا يبالون اليوم إلا بالمحافظة على التقاليد والعادات التي تلبسوا بها باسم الدين، وعامل كدر للغلوّ في الدين المذموم في القرآن فإذا أنكر أحدنا منكرًا يغالي في الإنكار فينفر المنكر عليهم ويحملهم على اللجاج والعناد في مقاومته ومنازعته فيضيع الحق بهذه التعصبات والتحزبات، وهذا الخلق صار موروثًا عند المسلمين منذ قرون حيث فتح على الفقهاء والمتكلمين باب المناظرة والجدل في المذاهب لا يبتغي أحد إلا تأييد قوله وإثبات مذهبه، وقد شرح مفاسد مناظراتهم الإمام حجة الإسلام في كتاب العلم من الإحياء. هذا ما تيسر لنا الآن أن نكتبه ونحن في المطبعة يطالبنا العَمَلَةُ به ورقة فورقة لأجل جمع حروفه للطبع ونرجو من السادة العلماء المشتغلين بعلم الحديث الشريف رواية ودراية أن يكتبوا لنا ما عندهم في هذه المسألة إجابة لرغبة إخوانهم الهنديين والله الهادي. قسم الموالد والمواسم نكتفي في هذا الجزء بمقالة نشرت في جريدة المؤيد الغراء ببعض اختصار وهي: المولد الأحمدي في مدينة طنطا انفض الاحتفال بالمولد الأحمدي في طنطا يوم الجمعة الماضي. ولم ير الناس منذ سنين احتفالاً مزدحمًا مثله فقد كانت الخيام إلى 15 كيلو مترًا في ضواحي المدينة صفوفًا متصلة ومتداخلة في بعضها. وبلغ عدد التذاكر الواردة على محطة طنطا مدة المولد من الجهات المختلفة مائة وخمسين ألف تذكرة بزيادة 36 ألف تذكرة عن العام الماضي. ويقدر عدد الذين حضروا من طريق البر على الجمال والدواب بأربعة أمثال هذا العدد على الأقل فكان زائرو المولد هذا العام نحو ثلاثة أرباع المليون ضاقت مدينة طنطا حتى كأنها المحشر اجتمع الناس بها في صعيد واحد. لذلك كان الذي يمشي على رجليه قدر كيلو متر لا يستطيع أن يقطعه في أقل من ساعة زمانية والركوب في مثل هذا الزحام أكثر عناءً وخطرًا. أما التجارة العمومية في البضائع المختلفة الواردة على المولد وخصوصًا المواشي فلم تكن على نسبة هذا الزحام من الرواج، ولكن مقالي الحمص أدت وظيفتها كالعادة وقد ربحت الربح الوافر من تجارتها هذه لأن زوَّار السيد على العموم لا يرضى أحدهم أن يخرج (من المولد بلا حمص) . وبديهي أن ثمانين في المائة من زوار السيد البدوي في مولده أو قصاد المولد لسيده منساقون إليه بقوة الاعتقاد في هذا الولي الكبير صاحب الكرامات المشهورة. فكل من له عادة في زيارته يتشاءم إذا قطع عادته حتى لا يقطع السيد معه عوائده، فلو وجد من يستطيع أن يستخدم هذا الاعتقاد القوي الحسن في نفوس الناس إلى خيرهم كل سنة لكان المولد كله بركة على القطر. ولكن من الأسف العظيم أن هذا الاعتقاد في نفوسهم مرتكن أكثره إلى خيالات باطلة وأوهام فاسدة تجعلهم يرقبون السيد أكثر مما يرقبون الله. رسخت عندهم أوهام فاسدة أضر غالبها بأخلاقهم وأودى بها لأنها مغايرة للشرع الشريف وهو أسّ الفضيلة ونموذج الكمالات. فترى مولد السيد بذلك محشرًا لأصناف الناس على أزياء شتى ومقاصد شتى أكثرها مفسدة للآداب. وأجمع ما يجمعها الاحتفال الذي يسمى بزفة الخليفة الذي قد كان راكبًا على رأسه تاج الخلافة الأحمدية مثنيًا عنقه ذات اليمين تارة وذات الشمال أخرى، ولكن خلفه بقيد ذراع راقصة مشهورة في العاصمة اسمها (شفيقة القبطية) كانت ترقص على الجمل سائرًا ويقول البسطاء من أولئك الحَسْنَى الاعتقاد: إن بركة السيد هي الحافظة لها على هذا الحال من السقوط، وإذا رأوا الجمل قد أرغى وأزبد قالوا: إن بركة السيد قد حفت هذا الحمل وكاد يكون وليًّا من أولياء الله تعالى. وعلى هذا النحو من خليط الأوهام وحسن الاعتقاد وسوئه وسذاجة العقول وفساد الآداب. وعلى مثل هذا المزيج من الحسنات والسيئات كان نظام المولد الأحمدي ونموذج الآداب فيه. فمن لنا بمصلح للأخلاق يبعثه الله تعالى ليجدد للناس دينهم بل وعقولهم. نحن لا نطلب ولا نريد أن يبطل احتفال عظيم كالاحتفال بالمولد الأحمدي الذي يجمع مئات الألوف من المصريين في صعيد واحد يتبادلون الأخذ والعطاء والسلام والكلام ولكن نتمنى من صميم أفئدتنا أن يكون عقلاء المسلمين فيه هداة بسطائهم إلى ما يحول وساوسهم الجائلة في نفوسهم إلى عقائد حسنة تصلح بها آدابهم وأخلاقهم. ولأئمة ديننا الأعلام أولاً ولرجال حكومتنا ثانيًا في مثل هذا القدوة الحسنة إن شاءوا والله الموفق.

الدعوة وطريقها وآدابها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة وطريقها وآدابها مكانة الدعوة. خيبة الدعاة المسلمين. مدعو المهدوية. السنوسي ونجاحه. مهدي الهند. طريقة الدعوة. الحكمة للخواص والموعظة للعوام. المسلمات والشعريات والخطابة. غير المحق لا تعمم دعوته في هذا العصر. معرفة لغات المدعوين. أخلاقهم وعاداتهم. تقاليدهم وعلومهم. استلفات النظر. التلطف والرفق. اقتناع الداعي بما يدعو إليه. الصبر وسعة الصدر. الرجاء واليأس. الشواهد القرآنية على هذه الصفات. تمسك دُعَاة النصرانية بها من دون المسلمين. اقتراح على مشيخة الأزهر. {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) . علمنا الله - تعالى - في القرآن أن طريقة رسله في نشر الدين إنما هي الدعوة إليه وعلمنا بسننه في شئون الإنسان الاجتماعية أن هذه الطريقة هي الطريقة المثلى لنشر المذاهب والأديان لا يضل سالكها عن مقصده مهما عرف منارها وأعلامها. وراعى آدابها وأحكامها. وسدّد إلى الأغراض سهامها. فخاطب العقل البرهان. وحرك سواكن الوجدان. وأشرف على النفوس من شرفات التأثير. وبصَّرها بحسن العاقبة أو سوء المصير. بينا في المقالة التي نشرت في الجزء الماضي أن الأديان والمذاهب لا تنشر إلا بالدعوة ولا تطوى إلا بتركها وأن الشرط في انتشارها هو كون الدعوة صحيحة لا كونها هي صحيحة في نفسها ولا بد من بيان شروط الدعوة وآدابها خدمة لمن يوفقه الله تعالى من فضلاء المسلمين وعلمائهم وأهل الغيرة والحمية منهم. لإقامة هذا الركن الأعظم. والقيام بهذا الفرض الاجتماعي المحتم. والتصدي لإرشاد هؤلاء الملايين الذين يتشدقون بكلمة (الإسلام) ولا يعلمون مسماها. ويتمسكون بلفظها ولا يفقهون حقيقة معناها. فقد قام فيهم دعاة يهتفون باسم المهدية , ومرشدون يدعون سلوك الطريقة الصوفية. ولكنّ أحدًا منهم لم يرع الدعوة حق رعايتها ويقف من الطريقة على جادتها. فطاشت سهامهم. وخسرت أيامهم , وزادوا شمل الأمة تفريقًا , وأديم الدين تمزيقًا , على أن منهم من دعا إلى حق ولكن بغير حكمة , ولا مراعاة لما تقتضيه سياسة الأمة , وأَمَرَ بمعروف ولكن على غير المنهج المعروف , ونهى عن منكر ولكن على غير الوجه المألوف , ولم تنجح دعوة إسلامية مع الثبات إلا دعوة السنوسي في أدنى المغرب الإسلامي والظاهر أنها دعوة اجتماع لا دعوة إصلاح وسبب نجاحها شخص الداعي وشخص خليفته القائم الآن من حيث هما شيخان صوفيان وصالحان مرشدان , ولعلها لا تخلو من مبادىء إصلاح , وليس من موضوعنا الآن البحث فيما يجب أن يدعى إليه المسلمون من القيام بحقيقة الدين على الوجه الذي يؤدي إلى سعادة الدنيا بحسب سنن المدنية الحاضرة والمستقبلة وإلى سعادة الآخرة فنخوض في الطريقة السنوسية هل هي كافية لذلك أم لا؟ وإنما كلامنا في الدعوة نفسها ونجاح هذه الطريقة ظاهره أنه من قبيل نجاح طرائق التصوف الأخرى , وعسى أن تكون لها قواعد ثابتة لا تتداعى بموت الداعي ولا تتزلزل بزواله. وفى الهند قائم يدعي المهدوية التي هي أمنية عامة المسلمين في تجديد دينهم وإعزازه ويظهر أنه قد أحسن الدعوة لأن متبعيه الآن يزيدون على مائة ألف وقد اهتدى بهم خلائق من الوثنيين إلى الإسلام وهو الآفة الكبرى على دعاة النصرانية هنالك يناظرهم في المجامع والشوارع فيبكتهم ويسكتهم , وإننا نستشف من وراء الحجب التي بيننا وبينه أن دعوته لا تروج عند خاصة المؤمنين الذين وقفوا على العلوم والفنون وعرفوا طبيعة العمران وأصول الاجتماع البشري ولا يرجى أن تكون عامة. وقد بينا من قبل أن من أسباب ثبات الدعوة وانتشارها وغلبتها على ما يعارضها كونها حقًّا في نفسها ومستوفية للشروط التي نقصها عليك الآن فاسمع لما يتلى: علمتنا الآية الكريمة التي افتتحنا بها هذه المقالة أن للدعوة طريقتين: الحكمة والموعظة الحسنة. فأما الحكمة فهي لخطاب العقل بالبرهان، وأما الموعظة فهي لتأثير في النفس بمخاطبة الوجدان , فالأولى للخواص والثانية للعوام، والمقصد واحد , ولا يحتاج إلى الطريقتين إلا من يدعو إلى حق موافق لمصلحة الناس الحقيقية ولذلك قام أكثر الدعاة في العالم على الطريقة الثانية ووقفوا على منبر الخطابة ابتغاء إقناع النفوس بالمسلمات وجذبهم بزمام الوجدان حيث السلطان الأعلى للقياسات الخطابية والشعرية. لا للحجج البرهانية. وإذا نجح هؤلاء في كل عصر مضى فلا يدوم نجاحها في هذا العصر لأن العلم الحقيقي الرائجة سوقه فيه خصم لهم وهو الخصم الذي لا يغالب. والقرم الذي لا يبارز. والقرن الذي لا يناهز. والناطق الذي لا تدحض حجته. والسالك الذي لا تنطمس محجته. ذكر الله الطريقتين ثم ذكر كيفية السلوك فيهما، والسير عليهما. وهي المجادلة بالتي هي أحسن الهادية للتي هي أقوم. ويشترط في هذه المجادلة بل وفي أصل الدعوة شروط: (أحدها) : العلم بلغة من يراد دعوتهم ومجادلتهم، ولهذا ترى دعاة النصرانية يتعلمون جميع اللغات وينقلون إليها كتبهم الدينية، وأما رجال الدين من المسلمين فيرون في تعلم اللغات إعراضًا عن الدين الذي لا وظيفة لهم إلا القيام بحفظه ونصرته. ونشره وتعميم دعوته. وقد علمنا أن الداعي الذي في الهند عارف باللغات المنتشرة هنالك كالأوردية والفارسية والإنكليزية كما هو عارف بالعربية. والشاهد لهذا الشرط من الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) . (ثانيها) : العلم بأخلاق الناس وعاداتهم. ومواقع أهوائهم ورغباتهم. ليخاطبهم بما يعقلون. ويجادلهم بما يفهمون. وأكثر المشتغلين عندنا بعلم الدين يرون البحث في الأخلاق والعادات من تضييع الأوقات. والتنقيب عن شئون الدهماء. لا يليق بمقام العلماء! ! (ثالثها) : الوقوف على ما عندهم من المذاهب والتقاليد الدينية، والعلوم والفنون الدنيوية. ما يتعلق منها بالدعوة ويصلح أن يكون شبهة. ومن جهل هذا القدر؛ كان عاجزًا عن إزالة الشبهات. وحل عقد المشكلات. ومن فاته هذا الشرط وما قبله لا يقدر أن يخاطب الناس على قدر العقول والأحلام. كما كان شأن سادة الدعاة إلى الله عليهم الصلاة والسلام. ولقد علم رؤساء الديانة النصرانية أن ما كان من جهلهم بالعلوم الكونية ومعاداتهم لها. وتحكيمهم الدين فيها. مؤذن باضمحلالها. ومفض إلى زوالها. فأخذوا بزمامها , وقادوها بخطامها. وقربوا بين عالمي الملك والملكوت. وقرنوا بين علمي الناسوت واللاهوت. وبهذا أمكنهم حفظ حرمة الدين , وإعلاء كلمته بين العالمين. وديننا هو الذي ربط بين العالمين , ولكننا نقطع الروابط. وجمع بين العلمين ولكننا نهدم الجوامع. ولهذا جهلنا وتعلموا. وسكتنا وتكلموا. وتأخرنا وتقدموا. ونقصنا وزادوا. واستُعبدنا وسادوا. (رابعها) : إلقاء الدعوة بصوت ينبه العقول والفكر. وصيحة تستلفتها إلى البحث والنظر. وتشوق النفوس إلى غايتها. وتخيفها من مغبة مخالفتها. وهذا الشرط قد نطق به المتكلمون , ونص بعضهم على أن من لم تبلغه الدعوة على وجه يستلفت إلى النظر يكون معذورًا إذا بقي على كفره. ولا يمكن تحديد هذا الشرط إلا ببيان ما يدعى إليه الداعون. ويرشد إليه المصلحون. ومن نظر في تاريخ الملل , وأخبار دعاة المذاهب والنحل. يعلم أنه لم ينشر مذهب ولا دين. إلا وكان هذا الشرط ركنه الركين. ومن شواهده في القرآن العزيز قوله تعالى: {وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (النساء: 63) (خامسها) : التلطف في القول , والرفق في المعاملة. وهذا أوّل ما يتبادر إلى الفهم من قوله تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) والقرآن يبين هذا في مواطن كثيرة وآيات متعددة. اقرأ إن شئت قوله عز وجل: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24-25) فما بعد هذا التلطف فَجّ يُسَار فيه. ولا وراء هذا الرفق غاية ينتهى إليها. والسر فيه أن النفوس جبلت على حب الكرامة. وتربَّتْ في الغالب على الرعونة. ونشأت على التقيّد بالعادة. فمن رام الخروج بها عن عادها. وصرفها عن غيها إلى رشادها. ولم يمزج مرارة الحق بحلاوة الرفق , ولم يصقل خشونة التكليف بصقال القول اللين اللطيف كان إلى الانقطاع أقرب منه إلى الوصول. ودعوته أجدر بالرفض من القبول. وإن أردت الدليل الصريح من القرآن على تأييد هذا البيان. فاتْلُ قوله تعالى: لموسى , وهارون عليهما السلام: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طه: 44) فهو ينبئك بأن لين القول محل رجاء التذكر. والمُعِدُّ للنفوس للخشية والتصبر. ومن هنا تفهم السر في حماية الأنبياء عليهم السلام من العاهات المنفرة. وجعلهم أكمل الناس آداباً وأخلاقاً {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) , وقد اهتدى لهذا دعاة المذاهب الناجحة. والأديان المنتشرة حتى إن دعاة النصرانية في الصين. يلبسون لباس البوذيين. ويحملون أصنامهم أو يبيعونها منهم. توسلاً إلى عقيدة يلقونها. وتوصلاً إلى كلمة يقولونها أو نفثة ينفثونها. غلوًّا بإزاءِ غلوّ. وضعة في مقابلة كبر وعتو. فإن الصينيين يغلون في الدين. ويحتقرون من دونهم من العالمين. وكأين من داع أفسد العنف دعوته. وأسفل كلمته. اولئك الذين فرقوا الدين الواحد بالخلاف. وألقوا العداوة بين الإخوة بقلة الإنصاف. (سادسها) : تلبس القائم بالدعوة بما يدعو إليه بأن يكون موقنًا أو مقتنعًا به إن كان اعتقادًا ومتخلقًا به إن كان خلقًا وعاملاً به إن كان من الأعمال. فمن لم يكن موقنًا ولا مقتنعًا فقلما يقدر على إقناع غيره لأن فاقد الشيء لا يعطيه. ومن حث على التحلي بفضيلة وهو عاطل منها. أو أمر بالتزكي من رذيلة هو متلوّث بها. لا يقابل قوله إلا بالردّ. ولا يعامل إلا بالإعراض والصد. وينشده لسان الحال. إذا سكت لسان المقال: يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلاّ لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي العنا ... كيما يصح به وأنت سقيم ونراك تجذب للرشاد نفوسنا ... أبدًا وأنت من الرشاد عديم فابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك ينفع ما تقول ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم وما كان من الدعوة متعلقًا بالأخلاق والأعمال فهو تربية , والتربية النافعة إنما تكون بالفعل لأنها مبنية على القدوة وحسن الأسوة , لا بمجرد القول. ألم يبلغك حديث الحلق في الحديبية وكيف لم يمتثل الصحابة عليهم الرضوان أمر النبي صلى الله عليه وسلم به حتى حلق هو فاقتدوا بفعله أجمعين ومن هنا تفهم السر في عصمة الأنبياء عليهم السلام. (سابعها) : الصبر وسعة الصدر. فمن استعجل الشيء قبل أوانه؛ عوقب بحرمانه , ومن ضاق صدره؛ مل. والملل آفة العمل. وقد جعلنا هذين شرطًا واحدًا لتلازمهما وجودًا وعدمًا. وحسبك من دليل اشتراطهما في الكتاب قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} (الأحقاف: 35) وقوله عز وجل: {وَ

أمالي دينية الدرس ـ 14 ـ القضاء والقدر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمالي دينية (الدرس الرابع عشر) (القضاء والقدر) م (40) شأن هذه العقيدة هذه المسألة من توابع البحث في العلم والإرادة وهي الفتنة التي ابتليت بها الأمم، فوقعوا في بحار الحيرة تدافعهم أمواج الشكوك، ويتلقاهم آذيُّ الشبهات، (أي: مَوْجُهَا) حتى غرق فيها أكثر الخائضين ونجا الأقلون , ومن عجيب أمرها أن العامة أعلم بها من أكثر الخاصة , وأن الأميين أقرب إلى اليقين بها من الكاتبين. وإن شئت فقل: إن الجهل بحقيقتها تابع لسعة العلم بمباحثها فكلما زاد الإنسان نظرًا فيها؛ زاد عماية عنها لأن الخفاء كما يكون من شدة البعد يكون أيضًا من شدة القرب ألا ترى أنك إذا وضعت على عينيك صحيفة لا تبصر خطها ولا تراه ولا تقدر على قراءته وإننا علمنا بالمدارسة والمذاكرة والمناقشة والمناظرة أن ما يعتقده العلماء فيها هو عين ما يعتقده الجهلاء , ويمتاز الجهلاء بأن نفس اعتقادهم لا زلزال فيه ولا اضطراب , ولا شبهة تغشاه ولا ارتياب , وأما العلماء فبعد قراءة الكتب والرسائل وتحرير الحجج والدلائل يقول بعضهم: إن هذه المسألة يجب أن تؤخذ هكذا بالتسليم أي يجب الرجوع فيها إلى ما عليه العامة , ومنهم من يقول: إنها لا تنحل إلاّ بكشف الحجاب والارتفاع إلى مقام العارفين بالله تعالى. والمنقول عن أهل هذا المقام المشهود لهم بالولاية والكشف أن منهم من صرح بأنها لا تنحل إلا في الآخرة. هذا مجمل أمرها عند المسلمين وما كانت الحيرة فيها عند غيرهم أقل منها عندهم. م (41) سبب الخلاف والنهي عن الخوض فيها لماذا كان شأن هذه العقيدة مخالفًا لسائر العقيدة حتى إن الجاهل أحسن حالاً فيها من العالم؟ ولماذا كانت سعة العلم فيها من أسباب الجهل بها؟ الجواب عن هذين السؤالين واحد وهو أنها في نفسها بديهية عوملت معاملة النظريات , والبديهي كلما زاد البحث فيه؛ بعد عن الإدراك فهو كالشيء بين يديك تتوهمه بعيدًا فتذهب عنه إلى حيث يقودك الوهم فكلما أوغلت في السير؛ زدت في البعد وصار العناء في عودتك إليه شديدًا. وإقناعك بأنه وراءك أمرًا بعيدًا , ومن لم يسر هذا السير يكفيه استلفات النظر ورجع البصر , وهذا هو مرادنا بالجاهل بهذه المسألة وما أثقلوها به من النظريات والتدقيقات الفلسفية , ولا تفهم منه أن العلم الحقيقي بها محصور في الجاهلين , فلقد اهتدى إليه كثيرون من العلماء والعارفين , وكان عليه جماهير الصحابة والتابعين. حتى حدثت بدعة الكلام والخوض في القدر على ما كان عليه الأمم الأخرى وانفتح على الأمة باب المجادلات النظرية التي كان من أمرها ما قصصنا عليك بعضه , وهذا هو السر في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في القدر ونهي الصحابة وأكابر الأئمة عنه أيضًا. روى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمرّ وجهه كأنما نُقئ في وجنيته حب الرمان , فقال: (أبهذا أمرتكم أم بهذا أرسلت أليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر. عزمت عليكم عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه) أي أقسمت عليكم أو أوجبت عليكم ذلك. وروى ابن ماجه نحوه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وفي حديث الخطيب وابن عدي (عزمت على أن لا تتكلموا في القدر) زاد الثاني: (ولا يتكلم في القدر إلا شرار أمتي في آخر الزمان) وعند الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك نحوه , ولا حاجة مع هذا لسرد الآثار في النهي عن الخوض في القدر. م (42) ماهية الخلاف والمختلفون الخائضون في المسألة فريقان: فريق حاول الوقوف على سرّ الخلق والإيجاد وكيفية تسخير الله تعالى قدرة الإنسان وإرادته اللتين وهبهما له لإحداث أفعاله فإنهم استشكلوا وجود خليفة في الأرض يعمل بقدرة تنبعث عن إرادة تسترشد بعلم بحيث يكون مختارًا في عمله له مشيئة في العمل والترك ولكنه مع هذا غير خارج عن مشيئة الله تعالى وعلمه كأنهم رأوا أن هذا النوع من الخلق محال لا يدين لقدرة الله تعالى فاستنكروه أو كأنهم زعموا أنهم اكتنهوا سر الخلق في سائر الأشياء ولذلك لم يشتبهوا في النبات من نجم وشجر كيف يأخذ كلٌّ من معادن الأرض وموادها ما يحتاج إليه لنموه وحفظ نوعه على نسب كيماوية مخصوصة يعجز أعظم الكيماويين عن تقديرها وتأليفها وإعطائها للنبات على الوجه الذي تأخذه , ولو ثبت لهم أن الله أعطى النبات شعورًا وقصدًا بهذا العمل؛ لوقعوا في الحيرة وإن كان أدعى إلى نفي الحيرة. ثم انقسم هذا الفريق إلى خصمين اختصموا في ربهم وفي أنفسهم كان جل خصامهم في الألفاظ يقول بعضهم: إن استقلال الإنسان في عمله يقتضي أنه خالق له وهو ذهاب إلى تعدد الآلهة , ويقول الآخرون: إن إنكار اختيار الإنسان وسلب الإرادة عنه في عمله هروبًا من ألفاظ تستنبط بالاستلزام إنكار للبداهة وسلب للوجدان , ولا يصح مع نفيها دليل ولا برهان. وفيه تخطئة للشرائع وتكذيب للوحي , وقول بأن التكليف عبث والجزاء على الأعمال لغو إذا لم نقل ظلم وأمثال ذلك مما لا نطيل به للنهي عنه من الشارع ولأنه مثار الشبهة ومولد الحيرة. وفريق آخر لم يبال ببداهة ولا وجدان , ولم يلتفت إلى حجة عقلية ولا برهان ولم يتأمل حكمة التكليف , ولم ينظر في أكثر نصوص القرآن الشريف , ولم يتدبر غاية الأمر , ولم يتبصر في عاقبته من النفع والضر؛ فبث في الأذهان حكمًا بل نفث في الأرواح سمًّا. حيث زعم أن الإنسان مجبور في عمله. مغلوب على أمره لا أثر لعلمه في إرادته , ولا لإرادته في قدرته , ولا لقدرته في عمله , وغَشُّوا الناس بأنهم يبالغون في تعظيم الله - تعالى - وتنزيهه وتوحيده وما هو إلا إبطال دينه ونسخ شريعته وإنكار الأسباب التي أقام بها نظام الكون , واستدلوا على بدعتهم بآيات وأحاديث تمثل إحاطة علم الله تعالى ونفاذ مشيئته على أنها مع عدم دلالتها على المقصود يقابلها من الآيات والأحاديث المثبتة للأسباب وعمل العباد أضعاف أضعافها حتى قال العلامة ابن القيم: إن هذه النصوص تزيد على عشرة آلاف قال: (ولم نقل ذلك مبالغة بل حقيقة) فصح لنا أن نتلو على هؤلاء الجبرية {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) . أولئك هم الجبرية الذين نزعوا من الأمة روح النشاط والعمل , ورموها في هاوية الخمول والكسل. حتى داستها بقية الأمم , وكادت تبتلعها بلاليع العدم. وأصابها الخزي في الحياة الدنيا. وسيرى المفرطون صدق الوعيد في الأخرى. وما عمت هذه الفتنة في المتأخرين بعد انقراض الذين ابتدعوها إلا بمساعدة خطباء الفتنة ووعاظ الجهل وسيرة تلك الفرقة التي جعلت البطالة دينًا , واسم الدين تجارة تدر عليها أخلاف الربح وتفجّر لها ينابيع الثروة وترفع لها أعلام الجاه والشرف. أما حقيقة المسألة وما يجب اعتقاده فيها، فسنذكره في الجزء الآتي لأن هذا الجزء ضاق عنه. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) من كتاب (15) من هيلانة إلى أراسم في 10 نوفمبر سنة - 185 لست أدري أيها العزيز أراسم متى يتيسر لي إيصال بقايا هذا المكتوب إليك فقد توالت عليَّ الأيام وتعاقبت الشهور في ارتقاب فرصة تمكنني من ذلك ولا ريب في أن ما أكتبه إليك خلو من كل ما من شأنه أن ينفر الحكومة ويزعجها فإن أخص موضوع أحب مكاتبتك فيه هو الحديث عن (أميل) وشئونه وأنت تعلم أن (أميل) ليس من المؤتمرين بالحكومة المغرين بالخروج عليها على أنه لا شيء في عواطفنا وآمالنا يدعو إلى ملاحظة أو يستوجب مؤاخذة وإني أراعي في مكاتيبي الحياء والاحتشام حتى إني لأفضل إحراقها على اطلاع غيرك عليها. هاج غضب (أميل) صباح اليوم هياجًا شديدًا بلا سبب معروف , ولا بدع في ذلك فإننا مع تبجحنا بالعقل والرزانة لا نعرف على الدوام علة جزعنا وغضبنا فقد يكفي في إساءة خلقنا أن نرى في السماء غيمًا كريه المنظر , أو في ملبسنا انثناءً مضايقًا , أو نسمع ذبابة تَطِنّ في أذننا وأيًّا ما كانت علة غضب (أميل) فإن جورجيا لما رأته في هذا الهياج قدمت له مرآة جعلتها نصب عينيه فأثر ذلك فيه تأثير السحر بإسكان غضبه كأنه خجل من نفسه أو خاف من صورته. أنا منجزة ما وعدتك به فتجدني الآن أطالع وأبحث وأعمل لأتمكن يومًا ما من تعليم (أميل) وإنك لو رأيتني في هذه الحالة لنكرتني لما صرت إليه من الوقار والرزانة. أنت تعلم أني ما برحت أميل إلى علم النبات فتراني الآن من بضع شهور مشتغلة بدرس أزهار الكثبان لأني وجدت من ظروف الأحوال ما ساعدني على ذلك فإن النباتات الطالعة هنا على رمال الساحل في غاية الكثرة والتنوع على أن لها بالبحر ارتباطًا كثيرًا ويوجد أيضًا على مقربة من قرية للصيادين مغارة اسمها نيولين شهيرة بدقة السرخس النابت على جدرانها وجماله , فإن الظل والرطوبة اللذين فيها يشكلانه بأشكال متشعبة مشوشة تدعو إلى إعجاب المخبرين بأحوال النباتات ولكن لسان حاله ينطق بتألمه ومرضه فهل من الآلام والأمراض ما يكسو الصور رونقًا وبهاءً. بينما كنت راجعةً هذا المساء من نزهة قضيتها ارتيادًا للنباتين المعروف أحدهما عند النباتيين بالقوريجيول الشاطئي , والثاني بالأرنجيون البحري أو لحية التيس [1] , بصرت ببنت صياد ملتصقة بإحدى نوافذ بيتها تنفخ في زجاج هذه النافذة ثم تكتب بظفر أنملتها الصغيرة اسم معشوقها على ما يظهر في صفحة الزجاج من الكلف فاستمالني ذلك إليها وخاطبتها فعلمت منها أن لها خاطبًا في إستراليا وأنها تترقب مجيئه ولا تعلم متى يجيء لتحظى بلقائه فعسى أن يكون ذلك قريبًا لأني أعلم ما يقاسيه الإنسان من مضض الفراق. اهـ. (16) من هيلانة إلى أراسم في 25 نوفمبر سنة 185 بعد هذا الانتظار كله قد تكلف أحد من تعرفهم فتكفل بإيصال مكتوبي هذا إليك فأسلمته إليه واستودعته الرياح العاصفة والبحر المضطرب، وحوادث الأيام الكثيرة؛ لأنه لا محيص من ذلك , ولكني لن أستودعها أبدًا حبك فإنه في حيازة ما لا يعتريه التحول ولا التقلب اهـ. بشرى فقد نبت (لأميل) سنَّان اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

قسم الأحاديث الموضوعة والمنكرة ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قسم الأحاديث الموضوعة والمنكرة (1) مدعو الصحبة كذبًا كان وضع الأحاديث أوسع أبواب الفتنة في الإسلام وأفسح مجال للعائثين فيه , وقد فتك أعداء هذا الدين فيه بهذه الضلالة فتكًا ذريعًا , وكان لهم من التفنن فيه غرائب وعجائب أبعدها عن الحق وأدناها إلى ظهور البهتان دعوى الصحبة كذبًا. وأعجب من ذلك أنه لم يدع أحد شيئًا إلا ووجد من يصدقه , ولم ينعق ناعق بدعوة إلا ووجد من يجيبه مهما كان كذب الدعوى ظاهرًا وبطلان الدعوة واضحًا. فَنَّدْنَا في الجزء الماضي زعم من ادعى الصحبة لأبي سعيد الحبشي (1) صاحب حديث المصافحة ونذكر ههنا بقية ممن وقفنا على أسمائهم من أهل هذه الدعوى (2) فمنهم (رتن الهندي) قال الحافظ الذهبي: وما أدراك ما رتن شيخ دجّال بلا ريب ظهر بعد الستمائة وادعى الصحبة وقيل: إنه مات سنة اثنتين وثلاثين وستمائة , وقد كذب وكذبوا عليه , (3) ومنهم مكلبة بن ملكان الخوارزمي زعم أن له صحبة وأنه غزى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعًا وعشرين غزوةً، وكان في حدود أربعين ومائة. قال الحافظان الذهبي وابن حجر وغيرهما: إنه شخص كذاب أو لا وجود له. وقال الحافظ ابن كثير: (أعجوبة من العجائب مكلبة بن ملكان أمير خوارزم بعد الثلاثمائة بقليل ادعى الصحبة ... ) إلى أن قال: ولم يرو عنه إلا المظفر بن عاصم العجلي ولست أعرفه , والغالب أنه نكرة لا يعرف , (4) ومنهم جعفر بن نسطور ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بطول العمر وعاش 340 سنة , قال في الذيل: هو أحد الكذابين الذين ادعوا الصحبة بعد المائتين , (5) ومنهم سرمالك ملك الهند في بلد قنوج قال: إن له سبعمائة سنة , وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ إليه حذيفة وأسامة وصيصبا وغيرهم يدعونه إلى الإسلام فأجاب الدعوة وأسلم , قال الحافظ الذهبي: هذا كذب واضح وزعم أيضًا أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة ومات سنة 333 وهو ابن 894 سنة. وهؤلاء من الأعاجم وفيهم من لقب بالأمير والملك وأصحاب هذه الألقاب أقدر على ترويج الفتن ممن عداهم. ولم يسلم ضلال العرب من هذه الفتنة بعدما كان للرواية والرواة ما كان لهم من نباهة الشأن فممن ادعى الصحبة (6) منهم جبر بن الحرث قال الحافظ (ابن حجر) في اللسان عن الأمير عبد الكريم بن نصر: قال: كنت مع الإمام الناصر في بعض منتزهاته للصيد فلقينا في أرض قفر بعض العرب فاستقبلنا مشايخهم , وقالوا: يا أمير المؤمنين عندنا تحفة هي أننا كلنا أبناء رجل واحد وهو حي يرزق , وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وحضر معه الخندق واسمه جبر بن الحرث فمشوا إليه فإذا هو في عمود الخيمة معلق مثل هيئة الطفل فكشف شيخ العرب عن وجهه وتقرب إلى أذنه , وقال: يا أبتاه , ففتح عينيه فقال: هذا الخليفة جاء يزورك فحدثهم , فقال: حضرت مع النبي صلى الله عليه وسلم الخندق فقال: (احضر يا جبير جبرك الله ومتع بك وأوصاني) وكانت هذه الواقعة في جمادي الأولى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة , (7) ومنهم جابر بن عبد الله اليماني وهو كذاب جاهل , (8) ومنهم قيس بن تميم الطائي الكيلاني حدث في مدينة كيلان عن النبي صلى الله عليه وسلم سنة سبع عشرة وخمسمائة وسمع منه جماعة أكثر من أربعين حديثًا قال ابن حجر: هو من نمط شيخ العرب ورتن الهندي , (9) ومنهم عثمان بن الخطاب أبو عمرو البلوي المعروف بابن ابي الدنيا الأشبح , قال الذهبي في الميزان: ظهر على أهل بغداد وحدث بعد الثلاثمائة عن علي بن أبي طالب فافتضح وكذبه النقاد ومات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. (10) ومنهم علي بن عثمان بن خطاب قال الحافظ: حدث سنة إحدى عشرة وثلاثمائة بالقيروان عن علي بن أبي طالب وزعم أنه رأى الخلفاء الأربعة. وأنت ترى من تاريخ هؤلاء الكذابين الوضاعين الذين تجرءوا على ادعاء الصحبة أن باب الوضع فُتِحَ وإفساد الدين ابتدأ مع الاشتغال برواية الحديث لا سيما في القرن الثالث والرابع والخامس فيجب أن لا يثق الإنسان بحديث يراه في كتاب أو يسمعه من أي إنسان حتى يكون على بينة من صحته رواية ودراية , وسنوضح هذا في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

التبرك وشفاء الأمراض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التبرك وشفاء الأمراض في مصر بئر من الآبار المقدسة يستشفي بها المصدوعون وغيرهم ولها سادن يتولى الأعمال التي يكون بها الشفاء كتدلية الأطفال فيها , ومسح أعضاء المرضى بمائها ويأخذ أجره وشيئًا آخر للبئر نفسها يكون تقدمةً كالهدية أو الرشوة أو الجزاء وهو قطعة كبيرة أو قطع من السكر تلقى في الماء , والإقبال على هذا عظيم والناس يتنافسون في كثرة السكر الذي يقدم لسادن البئر وناهيك بالنساء , وإذا لم يحتل السادن على أخذ السكر بأن يجعل في البئر وعاء يقع فيه ثم يستخرجه في حالة غيبة الناس فيقرب أن يكون ماء البئر صار حلوًا لا سيما إذا كان قليلاً , وإذا تسنى للسادن أن يبيع منه في هذه الحالة يجمع بين موارد الرزق الروحانية والمادية. إن شفاء الأمراض بالوهم الذي يثيره الاعتقاد القوي أمر معروف عند جميع الأمم , واستخدمه رجال الدين من سائر الملل ما استخدمه الأطباء والحكماء ويستخدمونه في أوروبا , وأميركا حيث بضاعة الطب رائجة وأسواقه نافقة , ولو أن سادن البئر يدعي أن فيها خاصية طبيعية تشفى بها الأمراض كما يوجد في الآبار والينابيع المعدنية والبخارية؛ لما كان لنا أن نندد به وننفر عنه ولا أن نذكره في الخرافات ونعده من الأباطيل. ولكن إيهام الناس بأن فيه أسرارًا إلهية وقوة غيبية بها تشفى الأمراض وتزول الأسقام هو ضرب من الاعتقادات الوثنية التي سرت إلى أهل الأديان السماوية من الوثنيين بالوراثة وبالمعاشرة والمخالطة , ثم صبغوها بألوان من دينهم وقربوها منه بالتأويل والتحريف. باب المتولي ومن قبيل البئر الباب الكبير الذي بجانب جامع المؤيد المشهور المسمى (بوابة المتولي) ترى الناس نساءً ورجالاً يتمسحون بهذا الباب آناء الليل وأطراف النهار يلتمسون البركات وتفريج الكربات وشفاء المرضى ودفع المصائب ورد النوائب. وتراهم يقبلون مسامير الباب الحديدية ويربطون بها الخرق من آثار الذين يلتمسون شفاءهم من أسقامهم أو عطف قلوب معشوقيهم عليهم , ونحو ذلك مما سيأتي تفصيل القول فيه بالتدريج , ونبين مفاسده ورد شبهة الذين يروجونه بدعوى الكرامات وما هو من الكرامات ولكنه من الضلالات والخرافات.

الموالد والمواسم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الموالد والمواسم هل يمكن الانتفاع بالموالد؟ أكمل حياة الإنسان الحياة الاجتماعية , فمن يكره أي اجتماع لذاته فهو كاره لكمال الإنسانية وهذا لا يكون من إنسان , ولا يختلف عاقلان في أن التفرق والتبدد أولى من الاجتماع على الشرور والاتفاق على الفجور , وإذا كان في الاجتماع خير وشر ونفع وضر لا يمكن أن يزولا إلا بزواله فالحكم فيه إنما هو بالقاعدة المتفق عليها شرعًا وعقلاً وهي أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ولكن إذا أمكن إزالة المفاسد أو تحويلها إلى مصالح , وجب ذلك ولا يجوز السعي حينئذ في إبطال الاجتماع نفسه , وإنما يسعى في تطهيره وتنقيته من كل ما يذم وفي تنمية منافعه وزيادة فوائده. وهذه الاحتفالات والاجتماعات المصرية التي تسمى بالموالد شرها أكثر من خيرها وإثمها أكبر من نفعها بل يمكن أن يقال: إن منفعتها الجزئية محصورة في مصلحة سكة الحديد وليس للأمة فيها نصيب من حيث إنها أمة لأن الحركة التجارية الخفيفة التي تكون فيها على اختصاصها بأفراد محصورين لا يقال: إن فيها ترقية للأمة ومنفعة لها كما هو الشأن في الاجتماعات الكبيرة في بلاد المدنية التي تسمى بالمعارض بل هي في مصر أقل فائدة تجارية من الاجتماعات الصغرى التي تسمى بالأسواق. ولا يقال: إن هذا الشيء مفيد للأمة إفادة مادية مالية إلا إذا كانت الفائدة واردة إليها من بلاد غير بلادها ومن شعوب غير شعوبها , وليس في هذه الموالد شيء من هذا. وكيف يصح أن يقال: إن هذه الموالد معارض عمومية وينابيع للثروة إذا كانت الفائدة المادية محصورة في البغايا والراقصات والمشعوذين وبائعي الحمص , والفائدة الأدبية والدينية تزداد في كل مولد منها اضمحلالاً وتلاشيًا حتى كاد الدين والأدب ينعدمان بالمرة. من يقول: إن اجتماعًا يضم المليون والمليونين من الناس في بلد واحد كمولد السيد الكبير لا يمكن الانتفاع به لو وجد في الأمة رؤساء للدين وللدنيا همهم القيام والسعي في المصلحة العامة التي ترقي الأمة حسًّا ومعنى؟ ولكن هذه الأمة المسكينة التي لم يوجد دين اجتماعي كدينها ولا شرعية عمرانية كشريعتها بُلِيَتْ برؤساء إفراديين في الدنيا والدين عموا عن كل ما في القرآن من الأصول الاجتماعية حتى لا تكاد تجد في كتب علمائهم - فضلاً عن كلامهم اللفظي - ذكرًا للأمة كما لا تجد في أمرائهم وملوكهم إلا المستبد فيها بسلطته الشخصية الهادم لقواعدها الدستورية الشوروية على ما بيناه مفصلاً في المقالات التي نشرناها في السنة الأولى تحت عنوان قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} (الأحزاب: 67) . فإذا كانت الصواعق التي تنقض على رؤوس الأمة ورؤوسهم آنًا بعد آن قد أيقظت هؤلاء الرؤساء من نومهم المستغرق فلا شك أنهم يمكنهم تحويل مضار هذا الاجتماع إلى منافع مادية ودينية وأدبية وسنبين ذلك في جزء آخر. ((يتبع بمقال تالٍ))

التهتك في مصر وتلافيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التهتك في مصر وتلافيه أظن أنه لا يوجد بلد إسلامي أو غير إسلامي فيه من التهتك ما يداني ما في مصر لا سيما القاهرة فما فنك النساء فيها إلا بعد ما مسن الرجال واضطروهن إلى ذميم الفعال. مر علي زمن في القاهرة لا أرى فيه ما يكون في الأسواق عندما أمر فيها لأنني كنت قلما أدير لحظي وأرمي ببصري إلى الناس , ثم تكلفت الاختبار فصرت أرى ما لم يكن يلوح في ذهني أنه يكون - أرى الرجال من جميع الطبقات يتعرضون لكل من عليها مسحة من الجمال يغازلونها ويناغونها , وإن لم يروا منها عينًا خائنة أو إشارات شائنة. أرى من الرجال من يمد يده إلى المرأة المتبرقعة في الشارع كأنما هي حليلته في زاوية بيته. أرى المرأة تطوف في مثل شارع الغوري فكأنما هي المراد بقول الشاعر: كرة حذفت بصوالجة ... فتلقفها رجل رجل رأيت من أيام رجلاً في القهوة التي أمام منزلي في الشارع العام قبض بيده النجسة على يد امرأة طاهرة نقية فصاحت به: استح أيها الرجل واتركني , وتذكرت الآن أنني كنت مارًّا في شارع الخليج قبل العصر في رمضان , وأولاد المدارس الذين هم رجاء البلاد ورجال المستقبل منتشرون في الشارع منصرفين من المدارس إلى منازلهم وكان من ورائي فتاة تمشي إلى الجهة التي أمشي إليها فكنت أتصفح وجوه التلامذة المهذبين فلا أكاد أرى عينًا تقع عليَّ ولا على الأرض بل كانت العيون كلها طائرة إلى ذلك الغصن الذي يتثنى من ورائي , ويا ليتهم كانوا يقنعون بالنظر وإن كان سهمًا مسمومًا من سهام إبليس كما ورد , ولكنهم كانوا يعرّضون للفتاة بأن جمالها أفسد عليهم صومهم ليختلبوا لبها فمشيت الهوينا لتسبقني فأنظر هل يجد أحد منها انعطافًا أو التفاتًا؛ فما كانت إلا من قاصرات الطرف. قويمات العطف، لا تلوي على أحد، ولا ترنو إلى ولد. ومثل هذه المشاهد كثيرة في جميع هذه المعاهد , وهكذا يفسد الرجال النساء , ولكنهم يحصرون فيهن الإغواء. فواحسرتا على قوم هذه شنشنتهم وهم ينتسبون إلى دين الإسلام الذي قال نبيه عليه الصلاة والسلام: (لكل دين خلق وخلق الإسلام الحياء) . ولكن التربية الدينية دَرَسَتْ رسومها وأقيم على أطلالها بناء التهتك الذي ينسب إلى الإفرنج لأن سببه الحرية التي انفجرت براكينها من بلادهم لا أنهم يسيرون على هذه الطريقة فإننا لم نر إفرنجيًّا ولا إفرنجيةً يهتكان حرمة الأدب في الأسواق، والشوارع على أعين الناس , فإذا كان أكثر الإفرنج مارقين من الدين فإنهم قد استبدلوا به شيئًا من الأدب الدنيوي , ولكن قومنا إذا مرق أحدهم من الدين يكون ممن قال الله فيهم: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} (الحج: 11) . هؤلاء السفهاء لا يزعهم عن غيهم إلا السلطان والحكم , وقد ألقت الحكومة المصرية حبالهم على غواربهم حتى علمنا أن محافظة العاصمة أصدرت منشورًا إلى الأقسام ورجال البوليس والخفراء بأن يقبضوا على كل شخص يتعرض لسيدة في الطريق أو يحرضها على ارتكاب الفحشاء أو يسبها أو ينسب إليها عيبًا. وهذا هو الأمر الذي ينتظر من سعادة محافظ مصر كما يوجبه عليه دينه وأدبه , ونرجو من حزمه وهمته تشديد العناية بالقيام به حق القيام , لا سيما بالنسبة لفساق التجار فإن إباحة هذا التهتك ينتهي إلى أن لا يبقى في البلد امرأة عفيفة نزيهة , والله لا يضيع أجر المحسنين.

الرجال أم المال

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرجال أم المال الخلاف في أن الإصلاح يتوقف أولاً على الرجال الكاملين أو على المال. أماني طلاب المال للأصلح. وصف ثلاثة نفر من المصلحين. أماني بعض الأغنياء البخلاء في الإصلاح. شبهة وجوابها. تضييع ما ترك السلف. الأزهر. مدرسة خليل أغا. الحسينية. المصلحون ما كانوا أغنياء. لوثر. بوكر واشنطون. السيد جمال الدين. السيد أحمد خان. وعد مؤكد ومؤجل. قلنا في مقالة سابقة: إننا إذا ارتقينا في الأسباب التي تحتاجها الأمة لصلاحها وفلاحها ننتهي إلى السبب الأخير الذي يجب أن يكون أولاً حتى إذا كان يكون به كل مراد وتوجد به كل رغيبة وتحقق به كل أمنية، وهو الرجال الذين لهم علم صحيح بمصلحة الأمة الحقيقية , ومعارج ترقيتها الصورية والمعنوية , وعزيمة ماضية وإرادة قوية. تبعث على القيام بالأعمال الاجتماعية , والثبات في سبيل المصلحة الملية. لا يصدهم عن ذلك صد , ولا يقفون من سيوف القواطع عند حد. كتبنا هذا الرأي وعرضناه على من نذاكرهم ونباحثهم مشافهة في مسائل الإصلاح الذي تحتاجه الأمة فوافقنا فيه بعضهم , وارتأى آخرون أن السبب الأول الذي يجب أن يكون قبل كل شيء وبوجوده يوجد كل شيء هو المال , وهذا هو الذي يلهج به الأكثرون من المتكلمين في الإصلاح , والذين توجهوا للعمل بزعمهم ولكنهم لم يعملوا لأن أيديهم لا تصل إلى المال الكافي للقيام بالعمل الذي يتخيلونه , ويشبه أن يكون هذا في الغالب من الأعذار التي يعذر بها الكسالى أنفسهم والتعلات التي يتعلل بها المغرورون الذين يصور لهم الوهم أنهم من أئمة المصلحين , ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون , ولو ساعدهم الناس بالأموال , ودانت لهم المصاعب والأهوال؛ لنهضوا بالأمة نهضة الأسد الرئبال , وعملوا من غرائب الإصلاح ما لا يخطر على بال. تلك أمانيهم وأحلامهم. ووساوسهم وأوهامهم. وكل من تراه في بطالة وكسل , أو حيرة وغمة لا يهتدي معهما للعمل؛ فاعلم أنه ليس من الرجال , ولا تعلق به أملاً من الآمال , وإن أغدقت عليه سحب الأموال. نعم إن صاحب العرفان والإرادة عندما تتوجه نفسه للإفادة؛ يرى أن جلائل الأعمال إنما يستعان عليها بالمال. ولكنه لا يطمع نفسه بالمحال. ولا يطلب بسببه ما لا ينال. وإنما يرد أقرب الموارد , ويسلك أمثل الطرق. ويدخل البيت من بابه ويضع الأمر في نصابه. ولقد رأيت مصلحًا حقيقيًّا طلب مبالغ كبيرة من المال رأى أن الإصلاح يتوقف عليها فأصابها , ولكنه لو وجد بضعة رجال على مذهبه لأمكنه أن يعمل بهم من الإصلاح أضعاف ما عجزت عنه تلك الألوف من الجنيهات. وأعرف رجلاً آخر محبًّا للإصلاح أعوزه المال فطلبه من طريقه الطبيعي , ولما يصب الحظ الذي يمكنه مما يريد ولنا الرجاء أن سيصيبه. ويكون منه للإصلاح نصيبه. ومن المصلحين من يعمل بمال قليل يستدره بعمله , وإذا استعان فإنما يستعين بمال أبيه ومرشده ومربيه على أن أنفع الأعمال لا ضرورة فيه للمال , وهو ما يعرفه أهله. ومن الناس من يملك الألوف من الدنانير ويقول: آه لو كان لي في السنة عشرون ألف جنيه أو خمسون ألف جنيه لفعلت وفعلت , ومنهم من يملك عشرات الألوف ويزعم أنها لا تقع موقعًا من كفايته ولو بلغت مئات الألوف لأحيا البلاد. وأسعد العباد. فهؤلاء هم الذين يقولون ما لا يفعلون. ويقطعون أعمارهم بالتمني وربما كانوا لا يشعرون. ومن لا يعمل بالنزر اليسير؛ لا يعمل بالجم الكثير. على أن المال لدى هؤلاء كثير ولكنهم يبخلون {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) . ما استغنت أمة بعد فقر إلا وكان غناها بالرجال فإذا كان المال هو الذي ينتج الرجال الذين ينقذون الأمة من شقائها وبلائها , وينتاشونها من محنها وفتنها , ويرفعونها من ضعتها وسقوطها فمن أين يأتي المال ومن الذي يجيء به؟ وإذا قيل: إن الأمة مهما ضعفت وتأخرت عن غيرها فلا بد أن يبقى عند أفراد منها بقية مما ترك سلفها من الثروة إن كان لها سلف مجيد أو مما يكسبه بعض أهل الهمة والنشاط الذين لا يخلو شعب منهم؛ فلتنفق هذه البقية على تربية الرجال الأكفاء الذين يقدرون على القيام بالإصلاح العام وبذلك يكون المال هو الذين يُوجِدُ الرجالَ. نقول في الجواب: إن الأمة في مثل هذا الطور تكون ثروتها في سفهائها - جهالها ومسرفيها - الذين لا يسمحون بالمال لا للشهوات البهيمية واللذات الحسية. ولا تذكر الأمراء الظالمين والحكام الجائرين الذين يعلمون أن الإصلاح يقضي على فسادهم. ويطهر الأرض من بغيهم واستبدادهم فلا يقيمونه بل يقاومونه. ولا يُعضِّدونه ولكن يَعْضِدونه (يقطعونه) , فإذا أردت الاستعانة على الإصلاح بأموال أولئك الاغنياء السفهاء الأشحاء فكيف يتسنى لك أن تنفخ روح حب الأمة في قلوبهم , وتجعل الإيثار مكان الأثرة من نفوسهم؟ اللهم إن كان يوجد في الأمة من له هذا السلطان على النفوس وهذا التأثير في الوجدان فأولئك من الرجال الذين يجب أن يكون وجودهم قبل وجود الأموال. وأما المال الذي هو بقية مما ترك السلف الصالح فهو أداة , ولا بد للأداة من عامل , والعمال من الرجال الكملة الذين قلنا: إن الإصلاح لا يوجد إلا بهم - هذه أوقافهم على المدارس والأعمال النافعة تؤكل إسرافًا وبدارًا. والأمة تزداد جهلاً وخسارًا وتبارًا ودمارًا. ولا تجد لهم من أهل تلك المدارس مصلحين ولا أنصارًا. هذا الأزهر العظيم الذي تنفق عليه عشرات الألوف من الجنيهات هل تجد للأمة رجاء فيمن تربوا فيه واقتصروا على تعليمه بأن يكون نهوضها وإصلاح شأنها على أيديهم؟ أم هل سمعت أهله يومًا يذكرون الأمة وتقدمها وتأخرها في درس من دروسهم أو مجلس من مجالسهم؟ أظنك إذا ذكرت واحدًا منهم وقلت: إنه محل الرجال فإنما تذكر من لا ينطبق عليه الوصفان المذكوران آنفًا , وهذه (مدرسة خليل أغا) يبلغ ريع أوقافها زهاء عشرة آلاف جنيه ولا يجني المسلمون من ثمرتها أكثر مما يجنون من سائر المدارس الأهلية التي أنشأها في هذا العصر بعض الشبان لتكون معاشًا لهم يأكلون من ثمرات ريعها ولا يهمهم أتربي وتعلم من يدخلها أم لا؟ . ولا تنس المدرسة الحسينية التي خصصت أوقافها الواسعة بخمسين متعلمًا , وأجري عليهم وعلى أساتذتهم من الأرزاق ما يمكنهم من تحصيل جميع العلوم والفنون إلى أن يكونوا من أعظم المعلمين والمرشدين. فلو كانت هذه المدارس تدار بأيدي رجال ممن وصفنا لك؛ لكانت منبع الحياة الطيبة التي يرجوها الباحثون في حال الأمة الاجتماعية وما يجب لها من الإصلاح. بعيشك راجع تاريخ الإصلاح في الأمم والشعوب؛ هل تجد مبدأه الرجال الفقراء أم أصحاب الغنى والثراء؟ هل كان (لوثر) غنيًّا؟ وهل نشر مذهبه بالمال؟ وهل استرد (بوكر واشنطون) ساعته التي رهنها لأجل استئجاره من يعلم تلامذة مدرسته شيًّ الآجُرّ حيث احتاج إلى ذلك القسم الصناعي منها؟ وهل أدى المائة ريال التي اقترضها واشترى بها الأرض التي بنى مدرسته فيها فكانت ينبوع حياة السود؟ وانظر هل كان السيد جمال الدين الأفغاني الذي نفخ روحًا إصلاحيًّا في مصر فسرى في جسم الأمة سريانًا لا يزال ينمو ويزداد , وكل ما نحن فيه من البحث والسعي فهو أثر من آثاره , وقبس من ناره. وانظر هل كان السيد أحمد خان مؤسس كلية عليكده (في الهند) من الموسرين أم كان من المعوزين؟ فقد سبق الكلام على غير (لوثر) من هؤلاء المصلحين ولنتحفن القراء بسيرة غيرهم ولو بعد حين إذا مد الله في الأجل , وهو الموفق لخير العمل.

أمالي دينية الدرس ـ 15 ـ القضاء والقدر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمالي دينية (15) (تابع القضاء والقدر) م (43) حقيقة العقيدة ثبت بالبرهان أن قدرة الله - تعالى - متصرفة في الممكنات عن إرادة واختيار وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة ووجوه النظام. وأنه خالق كل شيء {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} (هود: 123) , ومن الممكنات التي اقتضتها الحكمة والنظام وجود مخلوق ذي قدرة وإرادة وعلم يعمل بقدرته ما تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه وهو الإنسان , وهذا عند البعض هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله وبدائع أسراره فيها ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه , ولا يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آنًا بعد آن ولا يعلم مبلغه من ذلك إلا الله تعالى , والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم السلام , ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك حاشاه حاشاه. قال البيضاوي في بيان أن كل نبي خليفة: استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به - تعالى - إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك لم يستنبئ مَلَكًا كما قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} (الأنعام: 9) اهـ، وكذلك إذا قلنا: إن كل النوع خليفة في العوالم الأرضية فعلم من كل من القولين أن في الإنسان معنى ليس في غيره , فإذا كانت خلقة الملك لا تساعد على إرشاد الناس؛ لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكل واحد التلقي منه فكذلك لا تساعد خلقته وليس من وظيفتها إظهار خواص الأجسام وقواها ووجوه الانتفاع بها. ولو كان إيجاد مخلوق على ما ذكرنا في خلق الإنسان غير ممكن لَمَا وجد , ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلا من ينكر الحس والوجدان , وهما أصل كل برهان , ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيء ما. إذن معنا قضيتان قطعيتا الثبوت: إحداهما كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف وهي بديهية , والثانية هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء وهي نظرية , ويتولد من هاتين القضيتين القطعيتين مسألتان نظريتان. م (44) الأولى ما الفرق بين علم الله - تعالى - وإرادته وقدرته وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته؟ والجواب من وجوه: أحدها أن صفات الله قديمة بقدمه فهي ثابتة له لذاته , وصفات الإنسان حادثة بحدوثه , وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته. ثانيها: أن علم الله تعالى محيط بكل شيء {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) ، وأما الإنسان فما أوتي من العلم إلا قليلاً , وإرادة الله - تعالى - لا تتغير ولا تقبل الفسخ؛ لأنها عن علم تام بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردده في العلم بالشيء، وتفسخ لظهور الخطأ في العلم الذي بنيت عليه , وتتجدد لتجدد علم لم يكن له من قبل وقدرة الله تعالى متصرفة في كل ممكن فيفعل كل ما يعلم أن فيه الحكمة , وقدرة الإنسان لا تصرف لها، ولا كسب إلا في أقل القليل من الممكنات فكم من أمر يعلم أن فيه مصلحة ومنفعة له وهو لا يقدر على القيام به , ثالثها أن صفات الإنسان عرضة للضعف والزوال وصفات الله تعالى أبدية كما أنها أزلية وبالجملة إن المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم لا في الجنس كما زعم بعضهم فبطل زعم من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته يقتضي أن يكون شريكًا لله - تعالى - {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) . م (45) المسألة الثانية وهي عضلة العقد , ومحط المنتقد. أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى أو إرادته (قولان) في الأزل بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة , والقدر: وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل , ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية فإذا كان قد سبق القضاء المبرم بأن زيدًا يعيش كافرًا ويموت كافرًا فما معنى مطالبته بالإيمان وهو ليس في طاقته ولا يمكن في الواقع , ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختار له كما قال بعضهم؟ وقد نظم هذا السؤال يهودي فقال: أيا علماء الدين ذمي دينكم ... تحير دلوه بأوضح حجة إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي قَضَاني يهوديًّا وقال: ارض بالقضا ... فها أنا راض بالذي فيه شقوتي والجواب عن هذا أن تعلق العلم أو الإرادة بأن فلانًا يفعل كذا لا ينافي أنه يفعله باختيار إلا إذا تعلق العلم بأنه يفعله مضطرًّا كحركة المرتعش مثلاً , ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية أى بإرادة فاعليها لا رغمًا عنهم , وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثًا ولا لغوًا. وثم وجه آخر في الجواب وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلاً يفعل كذا يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبورًا على فعله؛ لكان الواجب تعالى وتقدس مجبورًا على أفعاله كلها لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك , وكل ما تعلق به العلم الصحيح لابد من وقوعه. فتبين بهذا أن الجبرية ومن تلا تلوهم ولم يُسمَّ باسمهم قد غفلوا عن معنى الاختيار. واشتبهت عليهم الأنظار. فكابروا الحس والوجدان. ودابروا الدليل والبرهان. وعطلوا الشرائع والأديان. وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره. ولا فقهوا سر نهيه وأمره. حيث جرأوا الجهلاء على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار. وادعاء البراءة لأنفسهم والإنحاء باللوم على القضاء والمقدار. وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان. فياعجبًا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء. وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء. أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته ويظلم الجهل بصيرته أن يكون أعظم مهذب لنفسه. ومؤدب لعقله وحسه اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن. ويظهر ويبطن. وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟ بلى إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وأما الذين ضلوا السبيل. واتبعوا فاسد التأويل فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عز وجل: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل وجعل احتجاجهم من أسباب وقوع البأس والبلاء بهم , وقوله عز من قائل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قلبه والله عليم حكيم. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (همة الرجال تهد الجبال) وردت إلينا هذه الرسالة بهذا العنوان من سنغافور فنشرناها مفتخرين بتعلق قلوب المسلمين بمولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى: ما سمعنا في ماضينا بمثل ما رأينا من الاتحاد، والاتفاق والتعاون على البر والتقوى في الاحتفالات التي أقامها أهالي مدينة سنقافوره تذكارًا للجلوس الحميدي السلطاني في العيد الفضي، أي: مضي 25 سنة لمولانا أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين وحامي حمى الدين خادم الحرمين الشريفين الغازي مولانا السلطان عبد الحميد خان الثاني ابن المرحوم الغازي السلطان عبد المجيد خان منذ تولى عرش الخلافة العثمانية أدام الله دولته، وأعلى كلمته وأطال في عمره سنين عديدةً وأعوامًا مديدةً آمين، ففي نهار 12 ربيع ثاني عام 1318 الموافق 10 أقوس 1900 انعقدت جلسة في الجمعية الإسلامية تحت رئاسة رئيسها السيد عبد الرحمن السقاف , ومنشى محمد صديق , والإمام محمد يوسف , وأعضائها السيد محمود , والشيخ علي بن حيدره , وأحمد بن محمد صالح أنقليا , وسعيد بن أبي بكر , والحاج هارون , والشيخ عقيل باحميد , واتفق رأيهم على أن يعلنوا لسائر الجمعيات الإسلامية في سنقافوره ولجميع الأئمة ولجميع المسلمين عامة بأن الواجب على جميع المسلمين أن يشتركوا في الاحتفال الذي سيقع نهار الجمعة 5 جُمَادَى الأولى الموافق 31 أقوس وفي 21 ربيع ثاني الموافق 19 أقوس أولمت الجمعية الإسلامية وليمة لقراءة المولد الشريف واستدعت مقدار 500 نفس ومن بعد الفراغ من قراءة المولد النبوي تليت الخطب في حث الحاضرين على أن يتحدوا ويتعاونوا على ما يجب نفعه للسلطان المعظم وللأمة من إظهار شعائر الإسلام وأن يتمسكوا بأهداب العرش الحميدي الحامي لدينهم، وأن يقيموا الزينة والاحتفالات في يوم الجمعة 5 جمادَى الأولى للجلوس المأنوس وجميع من حضر استحسن ذلك، وخرجوا من دار الجمعية شاكرين داعين للسلطان المعظم ولسائر المسلمين ولمن أقام الوليمة وفي 25 ربيع أول طبع أهل الجمعية الإسلامية 3000 صحيفة أعلنوا ذلك فيها بثلاث لغات: العربية وملايو وشوليا، وفرقوها على جميع المسلمين لأجل الاشتراك في الزينة والاحتفال، وحالما اطلع المسلمون على الإعلانات شرعوا في الاستعداد بغاية الفرح والسرور، وكان احتفال الجمعية على هذا الترتيب: أولاً: المولد الشريف. ثانيًا: الدعاء لمولانا أمير المؤمنين الغازي عبد الحميد خان الثاني بتأييد خلافته الإسلامية. ثالثًا: إرسال التهنئة في البرق لدار الخلافة. رابعًا: إطعام الطعام لمن حضر من الأعيان. خامسًا: إطعام الفقراء والمساكين. سادسًا: إدارة الحلوى والمرطبات على الحاضرين. سابعًا: الدعاء ممن حضر للحضرة الشاهانية ولجميع أمراء المسلمين ولعامة المسلمين الأحياء منهم والميتين. وفي يوم الجمعة المذكورة تزينت الجمعية الإسلامية بالرايات العثمانية، وفي ليلة السبت حضر الاحتفال جميع أهل الجمعية الإسلامية والمدعُوُّون، وأذن لمن أراد أن يتفرج من جميع الأجناس مسلمين وفرنج وصينين وإسرائيليين، أما الزينة فكانت بالكهربائي والشموع حتى كان الليل كالنهار، وكانت موسيقى القلعة الإنقليزية في بيت الجمعية الإسلامية تصدح وتطرب الحاضرين. وكذلك جميع المساجد والجمعيات الإسلامية وبيوت المسلمين في جميع شوارع البلد كانت مزينة بالرايات العثمانية، وراية الهلال تخفق على جميع البيوت، وجميع تجار المسلمين أغلقوا محلاتهم التجارية من يوم الجمعة إلى مساء السبت، وكان جميع الأجانب مندهشين من عظم الزينة والاحتفال وجميع عساكر الدول وضباطهم الذاهبين إلى الصين يتفرجون في أنحاء البلد، والزينة قائمة والمسلمون في فرح واستبشار وبعد صلاة الجمعة أقيمت الخطب في جميع المساجد في محل مرتفع معد للأئمة وجميع المسلمين يؤمنون على الدعاء بطول بقاء سيدنا أمير المؤمنين السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني، وجميع المحررين من أهل الجرائد الإنقليزية وقوفًا يكتبون ما شاهدوا، وبعد فراغ الخطب شرع الخطباء في بيان محاسن الحضرة الشاهانية كالاهتمام بأمور المسلمين شرقًا وغربًا وترقيته للمملكة العثمانية، وللأمة الإسلامية خصوصًا المشروع الإسلامي الذي يبدأ بمده نهار الجلوس، وهو السكة الحديدية الحجازية، وبلغت أجرة الرسالة البرقية التي أرسلتها الجمعية للحضرة الشاهانية مائة وأربعين ريالاً، وعلمنا أن سائر الجمعيات وبعض تجار البلد من المسلمين أرسلوا تلغرافات التهاني أيضًا، والمرجو من جميع إخواننا المسلمين المجاورين لبندر سنقافوره مثل أهالي جاوه بتاوى , وسربايه , والصولو وصماران وشربون والتقل وباكلنقن وفريانقان وبنجرماسين وفادانق وفلنبان وفنتيانه واسثي ودلى ومكاسر والتميور أن يقتدوا بإخوانهم المسلمين أهالي مدينة سنقافوره القليل عددهم الكثيرة بركتهم، والواجب على جميع أكابر المسلمين مثل رقين 2 وفاتي 2 وكمندانات ومشايخ العرب ومشايخ الجاوه، أي: بيق بيق المتولين الوظائف الهولندية والعلماء وكل من فيه بقية من الإيمان والنخوة أن يقيم مثل هذا الاحتفال لأنه شعار المسلمين، ولا مانع إذا قام به أكابر المسلمين مثل السيد العلامة عثمان بن عبد الله بن يحيى خاصةً، وبقية العلماء عامةً، والله الموفق للصواب. ... ... ... ... ... ... ... محب الدولة والملة ناصر الدين *** (أزهر السودان) اقتضت إرادة الحضرة الخديوية العباسية بناء جامع كبير في مدينة الخرطوم حاضرة بلاد السودان المصري ليكون كالأزهر في مصر , وأمر ديوان الأوقاف بأن يصرف عشرة آلاف جنيه لبنائه فقرر الديوان ذلك، وقد احتفلت حكومة السودان بتأسيس هذا الجامع ودعت لحضور الاحتفال وجهاء السودان من البلاد المتفرقة وحضرة ضباط الجيشين المصري والإنجليزي هناك، ووضعوا في الحجر الأول قطع النقود المصرية من الجنية إلى ربع المليم والجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) وضعها قاضي قضاة السودان بيده، وأشهد الناس على ذلك نائب الحاكم العام على السودان (لأن الحاكم الذي هو السردار ونجت باشا الإنكليزي كان في أوروبا بالأجازة) مصرحًا غير مرة بأن الذي وضع الأمانة هو قاضي القضاة باسم سمو الخديو المعظم وخطب هذا النائب خطبة افتتاح الاحتفال وتلاه قاضي القضاة الأستاذ الشيخ شاكر المصري وإننا ننشر خطبته أثرًا تاريخيًّا مبينًا حقيقة الأمر وهي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أسس دين الإسلام على أقوى دعائم العمران. والصلاة والسلام على سيدنا محمد الآمر بعمارة المساجد كما نزل به القرآن. وعلى آله وأصحابه هداة الدين ومن تبعهم بإحسان (أما بعد) فإن الله تعالى قد من على الأقطار السودانية. بمحو فتنة المهدية. على يد هذه الحكومة الرءوفة بالعباد. العاملة على ما فيه الخير والسعادة للبلاد. وكانت همة رجالها الكرام وأمرائها العظام متوجهة لإحياء ما اندرس من معالم الدين. وإشادة ما انطمس من مآثر المسلمين. ورفع منار العلوم والمعارف الإسلامية وإقامة الشعائر الدينية، لذلك صدرت إرادة الملك العادل حامي حمى الأقطار المصرية برجال الإصلاح وماحي ظلم الفتن برايات النصر والفلاح صاحب السمو والفخامة مولانا الخديوي المعظم (عباس حلمي باشا الثاني) بإنشاء هذا المسجد في مدينة الخرطوم ليكون محطًّا لرجال العلم والعلماء وملجأ لطلاب العلوم والمعارف من جميع الأنحاء والأرجاء، وليكون المدرسة الكبرى للشريعة الإسلامية في الأقطار السودانية كما أن الجامع الأزهر المعمور هو المدرسة الكبرى للعلوم الدينية في الأقطار المصرية، وقد خصص لبنائه عشرة آلاف من الجنيهات تبرع بها ديوان الأوقاف المصرية وقد اختير لذلك أن يكون هذا المسجد في وسط ميدان عباس الذي تبلغ مساحته سبعة وعشرين فدانًا وخصصت الأماكن القريبة منه لتكون مكاتب لتعليم القرآن للأطفال من أولاد المسلمين أما مساحة هذا المسجد الجامع والساحة الخاصة به فهي أربعة عشر ألف متر مربع أي ثلاثة فدادين ونصف فدان وهو مربع الشكل له أبواب ثلاثة في وسط أضلاعه الأربعة ما عدا الضلع الذي فيه القبلة، وبابه العمومي هو المسامت لقبلته، وساحته الخاصة به محاطة بسور له أربعة أبواب في وسط أضلاعه الأربعة وقد جعل في زوايا هذا السور الأربع أربع مدارس لكل مذهب من المذاهب الأربعة مدرسة تكون مأوى لطلابه يشتغل فيه طلبة العلم بتلقي مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين، وبتلقي علوم الحديث النبوي وتفسير القرآن والتوحيد وأصول الفقه والعلوم العربية والعلوم العقلية بجميع أنواعها تحت رعاية شيخ الجامع الذي يكون رئيسًا على مشايخ المذاهب الأربعة الذين تستدعيهم حكومة السودان لنشر العلوم وبثها في الأقطار السودانية وتخصص لهم ولتلامذتهم من النفقات ما يقوم بكفايتهم على أحسن حال وأقوم طريق على النهج المتبع في إدارة الجامع الأزهر المصري، وكما أن الجامع الأزهر هو ثالث مسجد أسس في مصر وكان الشروع في وضع أساسه في الثاني والعشرين من شهر جُمادَى الأولى سنة 359 من الهجرة النبوية في أول الدولة الفاطمية فهذا المسجد هو ثالث مسجد أسس في مدينة الخرطوم في عهد صاحب المآثر والمفاخر والراية المنصورة مشيد مباني المعالي على دعائم العدل والإنصاف سعادة الفريق ونجت باشا سردار الجيش المصري وحاكم عموم الأقطار السودانية أحسن الله أيامه ونضرها وجملها بوجوده وأزهرها، وقد ناب عنه في وضع الحجر الأول من التأسيس بيده الكريمة صاحب المقام الرفيع والرتبة العلية سعادة اللواء جكسون باشا نائب حاكم عموم الأقطار السودانية فأمر وفقه الله أن يحتفل بهذه المأثرة الكريمة احتفالاً بهيًّا يحضره أكابر رجال الحكومة السنية وعظماؤها ونبهاؤها وأن يكون عيدًا لعموم الأهالي؛ فلبى دعوته أرباب الوجاهة والكرامة وعظماء الرجال من كل طبقة وطائفة، ولذلك وضع سعادته الآن الحجر الأول من هذا المسجد المعظم ويعلن في هذا اليوم يوم اثنين وعشرين من شهر جمادى الأولى سنة 1318 ألف وثلاثمائة وثمانية عشر هجرية الشروع في تأسيسه رسميًّا لتتم المشابهة بينه وبين الجامع الأزهر في التأسيس وليكون بفضل الله تعالى منبعًا للعلوم والمعارف على مرِّ الدهور والأعوام يتخرج منه العلماء الأعلام حملة الشريعة وهداة الدين كما كان الأزهر المعمور منذ تأسيسه إلى الآن، ونحفظ هذا التاريخ ليكون عيدًا سنويًّا نذكر به فضل الحكومة السودانية على عنايتها بإحياء شعائر الملة الإسلامية وحسن نيتها نحو الدين الإسلامي ونسأل الله تعالى أن يوفق رجال الحكومة القائمين بأعبائها إلى ما فيه الخير للبلاد والصلاح للعباد آمين اهـ. *** (الكلم الروحانية في الحكم اليونانية) يذاكر القراء أننا كتبنا من عهد قريب نبذتين في المنار من حكم الفلاسفة ونوادرهم، وعلمنا أنهما وقعتا موقع الاستحسان حتى استزادنا بعض الفضلاء من ذلك. ونحن الآن ندلهم على الينبوع الذي استقينا منه تلك الحكم وهو كتاب الكلم الروحانية تأليف الأستاذ أبي الفرج بن هندو المتوفى سنة 420هـ وقد طبع هذا الكتاب طبعًا متقنًا في مطبعة الترقي الشهيرة بتصحيح ملتزم طبعه الفاضل ا

قسم الأحاديث الموضوعة ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قسم الأحاديث الموضوعة (2) الكتب والرسائل الموضوعة إن الأحاديث الموضوعة تعد بمئات الألوف وألوف الألوف فلا يمكن حصرها فتنشر ويتحاماها الناس , وقد ذكروا ضوابط يعرف بها الموضوع , وكتب بعض الفضلاء مقالة في الموضوعات نشرت في مجلة السنة الثانية من المنار وسنزيد الموضوع بحثًا. ومن غرائب هذا الباب أن المحدثين بينوا أن بعض المصنفات موضوعة في جملتها وتفصيلها فمنها الأربعون الودعانية التي يقال لها في بلاد اليمن السبلقية قال الصغاني عند النص على وضعها: وأول هذه الودعانية: (كأن الموت فيها على غيرنا كتب) , وآخرها: (ما من بيت إلا وملك يقف على بابه كل يوم خمس مرات) إلخ وفي رواية (ملك الموت) والحديث مشهور سمعته على المنابر من خطباء الجهل , وقال في الذيل: إن الأربعين الودعانية لا يصح منها حديث مرفوع على هذا النسق في هذه الأسانيد وإنما تصح منها ألفاظ يسيرة وإن كان كل كلامها حسنًا وموعظة , فليس كل ما هو حسن حديثًا. ثم قال: وهي مسروقة سرقها ابن ودعان من واضعها زيد بن رفاعة ويقال: إنه الذي وضع رسائل إخوان الصفا وكان من أجهل خلق الله في الحديث وأقلهم حياء وأجرأهم على الكذب. وذكر الذهبي نحو هذا في مؤلفاته غير مرة. ومنها كتاب (فضل العلم) لشرف الدين البلخي وأوله: (من تعلم مسألة من الفقه) إلخ. وقد وضع جهال المتفقهة أحاديث في تعظيم الفقه ليعظم بهذا شأنهم مع أن علم ظواهر الأحكام الذي يسمونه فقهًا لم يكن يسمى بهذا الاسم في الصدر الأول , وإنما الفقه هو العلم بأسرار الدين ونفوذ الفهم إلى حكمة الله في الحلال والحرام والحظر والإباحة كما بينا ذلك في مقالات سابقة. ومنها وصايا علي كرم الله وجهه التي أولها: (يا علي لفلان ثلاث علامات) وفي آخرها النهي عن المجامعة في أوقات مخصوصة قال الصغاني: وكلها موضوعة. وقال في الخلاصة: وصايا علي كلها موضوعة إلا الحديث الأول وهو: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) فيظهر أنها نسختان قال في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة: وكذا وصايا علي موضوعة اتهم بها حماد بن عمرو كذا وصاياه التي وضعها عبد الله بن زياد. ومنها أحاديث الشيخ المعروف بابن أبي الدنيا الموضوعة بإسناد واحد , وقد زعموا أن هذا الشيخ أدرك سيدنا عليًّا كرم الله وجهه وعمر طويلاً. ومنها أحاديث ابن نسطور الرومي وأحاديث بشر ونعيم وسالم وخراش ودينار عن أنس (رضي الله عنه) كلها موضوعة لا أصل لها. ومنها أحاديث أبي هداية القيسي , ومنها الكتاب المعروف بمسند أنس البصري وهو نحو ثلاثمائة حديث يرويه سمعان المهدي عن أنس وأوله: (أمتي في سائر الأمم كالقمر في النجوم) قال في الذيل: لا يكاد يعرف ألصقت به نسخة موضوعة قبح الله واضعها. وقال في اللسان: هي من رواية محمد بن مقاتل الرازي عن جعفر بن هرون عن سمعان , ومنها الأحاديث التي تروى باسم أحمد قال الصغاني: لا يصح منها شيء. ومنها خطبة الوداع عن أبي الدرداء , وأولها: (ألا لا يركب أحدكم البحر عند ارتجاجه) . قال في اللآلىء: وكذا الخطبة الأخيرة عن أبي هريرة , وابن عباس فهي بطولها موضوعة. وقال في الوجيز: قال ابن عدي: كتبت جملة عن محمد بن محمد بن الأشعب عن موسى بن إسمعيل بن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي رفعها , وهي نسخة فيها ألف حديث عامتها مناكير قال الدارقطني: إنه من آيات الله وضع ذلك الكتاب يعني (العلويات) قال ابن حجر: وسماه السنن وكله بسند واحد. ومنها نسخة من رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه عن علي الرضي عن آبائه كلها موضوعة باطلة. ومنها نسخة وضعها إسحق الملطي قال ابن عدي: هو وضعها كلها. ومنها النسخة المروية عن ابن جريج عن عطاء بن سعيد وفيها الوصية لعلي بالجماع وكيف يجامع وكلها كذب. ومنها كتاب العروس لأبي الفضل جعفر بن محمد بن علي قال الديلمي: كلها واهية لا يعتمد عليها وأحاديث منكرة. ومنها نسخة أحمد بن إسحق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط عن أبيه عن جده كلها موضوعة. هذه الكتب والنسخ المشهورة بالوضع عند المحدثين وسنذكر الكتب الموضوعة في التفسير بخصوصه وفي بعض الأدعية ونسكت عن موضوعات الشيعة بخصوصهم لئلا نتهم بالتحامل. فهل يصح مع هذا كله أن يثق أحد بكل حديث يراه في كتاب أو يسمعه من عالم أو خطيب؟ كلا إن التحري في هذا المقام مؤكد الوجوب لئلا يدخل الإنسان بالتساهل في وعيد الحديث المتواتر: (من كذب عليَّ متعمدًا فيلتبوأ مقعده من النار) وفي رواية بدون (متعمدًا) . ((يتبع بمقال تالٍ))

الموالد والمواسم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قسم الموالد والمواسم كيف ننتفع بالموالد والمواسم للانتفاع بالموالد طريقتان إحداهما للحكومة وثانيتهما للعلماء والمرشدين. أما الأولى فهي أقرب منالاً؛ لأن الحكومة على كثرة ما يذمها الناس ويرمونها بالولع والشغف بإيذاء الرعية هي أقرب إلى القيام بالمنافع الاجتماعية من رؤساء الدين الذين لا يكاد يلوح في خيالاتهم أنهم مكلفون بعمل ما للأمة بمجموعها إلا أن يسأل أحدهم عن حكم فقهي، فيجيب عنه بأجر، أو بغير أجر , أو يطلب منهم أحد أخذ (العهد) فيعطونه بمقابل عاجل أو آجل , وهذا من الأمور الفردية لا نظر فيه للأمة بمجموعها وكيف تسعد وتشقى وكيف تصلح وتفسد , وساداتنا الكرام لا ينكرون هذا ولكنهم يعتذرون عنه بأن النظر في المصالح الاجتماعية موكول للحكام دون غيرهم ولذلك نرى العقلاء الباحثين يائسين من أي إصلاح في مثل هذه الموالد يتوقف على العلماء , ولهم في هذا كلام كثير لا نحب الإطالة فيه , وحسبك أنهم يتهمونهم بأنهم يودون بقاء هذه الموالد مهما عم فسادها لما يصيبهم فيها من حظوظ الدعوات والولائم، ونحن لا نسلم بكل ما يقوله الناس في هذا المقام ونعتقد أنه لا يوجد مسلم أصاب شمة من علم الدين أو من الإسلام نفسه إلا ويود إصلاح هذه المجتمعات العمومية , ولكن علماءنا ما تعودوا النظر في الإصلاح الاجتماعي ولو وجهوا أنظارهم إليه وعلموا كيف يستعملون نفوذهم الروحي وسلطتهم الدينية؛ لبادروا إلى العمل ولكان لهم من الإصلاح أفضل الأثر وسنبين السبب في إعراضهم عن شئون الأمة الاجتماعية وعذرهم الحقيقي في ذلك. وأما مشايخ الطرق وهم زعماء هذه الموالد ومديرو أرحيتها فهم في الغالب من التحوت والهمج الذين لا يرجى الإصلاح لهم فما بالك بالإصلاح منهم. يجيء أحدهم من البيت أو الغيط بل ومن الحانة والماخور فيطلب منشور المشيخة فيعطاه بريال واحد ويصير بذلك مرشدًا للأمة يجلس على سجادة الإمام الجنيد - رضي الله عنه , وقد طال بنا الاستطراد حتى كدنا نتكلم عن الطريقة الثانية قبل الكلام على الأولى القريبة وهي: يمكن للحكومة أن تجعل على كل من يحضر المولد ضريبة لا تقل عن قرشين فيجتمع لها بذلك من موالد السيد الثلاثة نحو الأربعة ملايين إذا فرضنا أن من يحضرها مليونان فقط , والموالد في مصر تعد بالمئات فيما أظن , ومنها ما يناهز بمن يحشر إليه مولدًا من موالد السيد أو يزيد على بعضها , وبهذه الملايين الكثيرة يمكنها أن تعمل أعمالاً كبيرة في إصلاح هذه المجتمعات الصحي والمادي والأدبي يمكنها أن تبني محل الاجتماع العام. حيث تنصب السرادقات وتضرب الخيام. فتجعل له طرقًا فسيحة يقل فيها الزحام. ومعاهد مخصوصة لكل صنف من الأنام. فلا يتقارب الأبرار والفجار. ولا يتجاور أهل القرآن والأذكار. مع أهل الطبل والمزمار. وتجعل في بعض المواضع مراحيض ومناصع (هى المحلات التي يتخلى فيها لبول ونحوه) تستوفى فيها الشروط الصحية. إلى غير ذلك من لوازم المعارض المدنية , ومتى شرعت الحكومة بذلك فهي أدرى بما هنالك. وأما الطريقة الثانية فهي متوقفة على وجود الرجال المصلحين من العلماء والمرشدين , وقد علم القراء مما نشرناه غير مرة أننا ذاكرنا في هذا الموضوع شيخ مشايخ الطرق سماحتلو السيد توفيق البكري فاعترف بشدة الحاجة إلى إصلاح هؤلاء وخطر له أن يؤلف كتابًا في كيفية السير التي يجب أن يكون عليها مشايخ الطرق , واستحسن أن يكون كاتب هذه السطور هو المؤلف لذلك الكتاب بل أشار بتأليف كتابين أحدهما يسمى (الشيخ) ويكون في وظائفه وآدابه , وثانيهما يسمى (المريد) ويكون في وظائفه. وتأليف الكتب في هذا ليس بالعسير , ولكن العسير إلزام أولئك المشايخ الجهال بالعمل به إذا قلنا: إنهم يفهمونه بمجرد قراءته ويصلون إلى الغاية منه. وكيف يعملون باختيارهم عملاً يهدم بناء خرافاتهم , ويدك صروح خزعبلاتهم. وينضب معين ثروتهم , ويغيض ينابيع معيشتهم. ويفرض عليهم العمل وقد ألفوا البطالة والكسل , ويحظر عليهم السحت وهو رزقهم البحت. إلى غير ذلك مما يعرفه الأكثرون في أكثرهم. ولا يجهله أكبرهم في أصغرهم. والرأي الصحيح في الإصلاح. الذي يقرن به النجاح والفلاح؛ إنما هو استئصال هذه الجراثيم الوبيئة واختيار طائفة من الشيوخ المهذبين العارفين بالدين والآداب وطرق التهذيب ولو في الجملة فهؤلاء هم الذين تنفعهم الكتب والإرشادات. القمار في الكبار والصغار القمار آفة الكسب وجائحة المال ومفسدة الأعمال وميكروب الكسل ومجلبة الزلل , ولقد ابتلي به المصريون ابتلاء أفقر أغنياءهم وأذل كبراءهم من أصيب به منهم. وكل مصري يعلم أن بلاء المضاربات في هذه السنة كان أشد من بلاء انخفاض ماء النيل ونقص غلة الأرض , وليس من غرضنا الآن شرح مضاره وبيان خساره , وإنما الغرض التنبيه على أن الفقراء والمساكين قلدوا الأمراء والأغنياء في هذه الموبقة كما هي سنة الكون فأدخلوا المقامرة في كل الخسائس والمحقرات حتى تجد باعة الفستق لا يبيعون الآن بالدراهم وإنما يأخذ أحدهم قبضة ويسأل مريد الشراء: (أزوج أم فرد؟) فإن جاء عددها كما يقول المالك أخذ ثمنها مضاعفًا وإلا أعطاها مجانًا , وقد شاهدنا هذا بنفسنا وهكذا يجني الكبراء على سائر الناس وهم الذين يخربون البلاد ويهلكون العباد. القرافة ومنكراتها إن شأن المسلمين في مقابرهم لمن أعجب الشئون لا ينطبق على شرع ولا عقل ولا ذوق. يبنون القصور على القبور ويجعلون فيها الأثاث والرياش والآنية والماعون وكل ما يحتاجه السكان المقيمون ويقضي الكثيرون منهم أيام العيد فيها أكل وشرب ولهو ولعب. إلخ إلخ إذا قرأ هذه الكلمات من لا يعرف عادة هذه البلاد , ولم ير مقابرها والطرق الموصلة إليها؛ يتخيل أن الطرق إليها وفيها أنظف من طرق المدينة لأنها من جهة منتزه ومن جهة أخرى لا تستغني طبقة من الطبقات عن السير فيها لتشييع الجنائز إذ لا يوجد في العالم طريق يمر فيه كل فرد من كل طبقة إلا طريق المقبرة , ومع هذا نرى طريق قرافة مصر في أسوأ حالة , وسنبين ذلك مع طريقة إصلاحه في جزء آخر. ((يتبع بمقال تالٍ))

مدنية العرب - 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدنية العرب نبذة خامسة الإرجاء في مقالات الموضوع الواحد. تاريخ علم الحساب. اعتراف الإفرنج للعرب بأنهم أساتذتهم فيه. نسبتهم الأرقام الحسابية للعرب. إضافة العرب المتأخرين لها إلى الهنود خطأ. أقدم كتاب توجد فيه هذه الأرقام. وضع العرب لعلم الجبر والمقابلة. حظ من سبقهم منه. كيف توضع العلوم. علماء الجبر وكتبه. الهندسة. استبدال أنصاف أوتار الأقواس بأوتار الأقواس. مساحة المثلثات. الخطوط المماسة. حساب الأقواس. القانون الخامس لحل مثلثات الزوايا القائمة. علماء الرياضة المسلمين. العلوم الرياضية عند المسلمين اليوم. أكثر المواضيع التي نكتب فيها واسعة الميدان. كثيرة الفروع والأفنان. فإذا أخذنا في موضوع منها يعارضنا في الاسترسال بتحقيقه. ومتابعة السير في طريقه التفادي من ملل القراء الكرام. وسنوح المناسبة لمقال آخر يقتضيه المقام. ومن المواضيع التي تركنا الكتابة فيها قبل أن نبلغ منها ما نريد كرامات الأولياء ومدنية العرب , وقد طال العهد على الأولى وما هو من الآخرة ببعيد. فنعود إلى القريبة العهد ثم نكر على البعيدة من بعد. وقد كان آخر ما كتبناه عن العرب تقدمهم في العلوم الفلكية. ونعقبه الآن ببيان شأنهم في الفنون الرياضية. لما بين الرياضة والفلك من الولاء والحب بل من الإخاء والقرب. العلوم الرياضية علم الحساب أو العدد هذا العلم قديم في البشر لا يعلم واضعه لأنه من الضروريات التي تهدي الإنسان إليها فطرته , ولا بد أنه كان معروفًا للكلدانيين الذين هم من أقدم الأمم فيما يعرف من التاريخ لأنهم كانوا على معرفة بعلم الفلك وهو يتوقف على الحساب , ولكن لا يعرف للأمم القديمة فيه آثار ومصنفات ترجع إليها الأمم المتمدنة الآن وتعد تلك الأمم هي المفيدة لها هذا العلم الذي هو سلك عقد الاجتماع البشري ولا يعرف الإفرنج إمامًا لهم فيه إلا العرب حتى إنهم يسمون الأرقام المستعملة عندهم الآن الأرقام العربية ويعترفون بأنهم أخذوها عن العرب وهذه الأرقام هي التي تقدم بها علم الحساب وكانوا قبلها يشيرون إلى الأعداد بحروف المعجم , وهذه الأرقام الإفرنجية قريبة الصورة من الأرقام العربية واستعمالها أسهل من استعمال الأرقام الرومانية , بل استعمال الحروف أسهل من هذه , وأهل المغرب الأقصى الإسلامي يستعملون الآن الأرقام التي يستعملها الإفرنج , ولعل أهل الأندلس كانوا يستعملونها أيضًا , وعنهم أخذ الإفرنج , ومن الغريب أن العرب من عهد بعيد إلى اليوم يسمون الأرقام العربية بالأرقام الهندية , والمعروف عند مؤرخي الإفرنج أن الهنود أخذوها عن أوربا من زمن ليس ببعيد وأن أهل أوربا أخذوها عن العرب كما قلنا آنفًا. وأقدم مصنف في الحساب استعملت فيه هذه الأرقام هو كتاب الرئيس ابن سينا الفيلسوف الإسلامي الشهير ويوجد في المكتبة الخديوية بمصر. الجبر والمقابلة هذا الاسم عربي ظاهر وهو يدل على أن العرب هم الذين وضعوا هذا العلم واخترعوه , وبذلك قال بعض المؤرخين والإفرنج يعترفون بأنهم أخذوه عن العرب باسمه ومسماه. ومن المؤرخين من فند القول بأن العرب هم الذين وضعوا هذا العلم وقالوا: إن ديوفنتوس الإسكندري من أهل القرن الرابع للميلاد هو أول من ألف فيه , وكتبه لم تزل موجودة إلى الآن والحق أن هذه الكتب وهى ستة ليس فيها إلا قواعد استخراج القوات وطريقة حل المسائل , وليس فيها أصول الفن وقواعده الأساسية التي امتاز بها وصار فنًّا مستقلاًّ. وإنما فعل ذلك العرب وأكثر العلوم والفنون ما اهتدى واضعوها إلى جعلها علومًا ممتازة وأصَّلوا أصولها واستخرجوا منها الفروع إلا بعد ما اهتدى قبلهم الناس إلى بعض مسائلها. وينقل عن سيدنا علي عدة مسائل حلها بالجبر , واعتبر ذلك بفنون البلاغة التي قالوا: إن مؤسسها وواضعها هو الإمام عبد القاهر الجرجاني تجد أن العلماء قد سبقوه إلى الكلام في بعض مسائلها , ولكنهم لم يبلغوا بذلك أن جعلوها علمًا كما جعلها. قال الحكيم العربي ابن خلدون: إن أول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه , وكتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا. وأما موافقة كتاب محمد بن موسى في الجبر لطريقة أهل الهند فلا يدل على أن العرب أخذوا الجبر عن الهنود , وأول من ألف فيه من أهل أوربا لوكاس باتشيولوس دي بورغو الإيطالي (طبع كتابه سنة 1494م ثم سنة 1523) وذكر في مصنفه أن ليونرد وبوناتشيو التاجر تعلم الجبر في أوائل القرن الثالث عشر من العرب في سواحل أفريقية والشرق , والعرب هم الذين طبقوا الجبر على الهندسة , ويوجد في كتب الجبر العربية التي لا مجال للقول بأن أصحابها أخذوا عن الإفرنج استعمال الحروف في الجبر بدلاً من الأرقام وهو يدل على أن العرب هم الذين سبقوا إلى هذا الاختراع خلافًا للذين يقولون: إنه من استعمال الإفرنج. الهندسة والمساحة وفروعها ذكرنا في النبذة الثالثة أن العرب ترجموا على عهد المأمون هندسة إقليدس وتيودوس وأبولونيوس وإسيقليس ومينيلوس وشرحوا أيضًا مؤلفات أرشميدس في الكرة والأسطوانة وغيرها , وذكر المحقق ابن خلدون وغيره أن كتاب إقليدس ترجم في زمن أبي جعفر المنصور ثم اجتهد العرب في الفن اجتهادًا لم يدع لمن بعدهم إلا تقليدهم , وأنت ترى أن أهل الغرب ما زادوا على العرب في نظريات الهندسة شيئًا , وإنما زادوا في الانتفاع بالهندسة عملاً لكثرة اختراعاتهم الطبيعية. ومن علماء الرياضة في العرب البتاني الذي تقدم أن الإفرنج يسمونه بطليموس العرب وهو الذي اخترع استبدال أنصاف الأوتار للأقواس المضاعفة (وهى جيوب الأقواس المصورة) بأوتار الأقواس التي كان يستعملها اليونانيون في حساب المثلث وقال: إن بطليموس لم يكن يستعمل الأوتار الكاملة إلا لتسهيل الإثبات والتوضيح. ووصل إلى معرفة القاعدة الأساسية لمساحة المثلثات الكروية واستعملها في مواضع كثيرة. واخترع أيضًا عبارة جيب وتمام جيب - ولم يكن يستعملها اليونان -، والخطوط المماسة للأقواس وأدخلها في حساب الأرباع الشمسية وسماها الظل الممدود وهو المعروف في كتب المتأخرين بالخط المماس المستعمل في حساب المثلثات. ثم اهتدى العرب في زمن ابن يونس وزمن أبي الوفاء (وتقدم تاريخهما في علم الفلك) إلى استعمال الخطوط المماسة في مساحة المثلثات , واخترع ابن يونس حساب الأقواس التي سهلت قوانين التقويم وأغنت عن كثرة استخراج الجذور المربعة. وشرح أبو الوفاء مسائل الجيوب واهتدى من ذلك إلى معرفة خطوط أُخَر تتعلق بمساحة المثلثات واستعملها في كتابه لحل نظريات في علم الفلك المطبق على الكرة. ومن علماء الرياضة جابر الفلكي المتوفى سنة 442) الذي وضع القانون الخامس من القوانين الستة المستعملة في حل المثلثات ذوات الزاوية القائمة ولم يكن عند اليونان إلا أربعة قوانين. والذين ألفوا في الهندسة وفروعها كثيرون منهم ثابت بن قرة ويوسف بن الحجاج والرئيس ابن سينا فقد أفرد لها جزءًا من الشفاء , وابن الصلت , وابنا شاكر , وابن الهيثم وأبو الحسن علي المهندس الفلكي وغيرهم وقد عاد المسلمون إلى هذه العلوم بإلزام الحكومة تعليمها في مدارسها لحاجتها إليها في أعمال كثيرة مدنية وحربية لا تقوم إلا بها , وأما أهل الأزهر الشريف فلا يزال معظمهم يعاديها باسم الدين ولا بد أن يستدير بهم الزمان حتى يعودوا إلى ما كان عليه أسلافهم الكرام , أو يلقيهم في زوايا الإهمال، أو الإعدام ويقضي الله أمرًا كان مفعولاً. ونسأل الله توفيق علماء هذه الأمة، وعامتها إلى ما فيه خيرها ورشدها إنه سميع الدعاء. ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (أسرار البلاغة) ما وضع علم من العلوم وصار فنًّا مستقلاًّ يفرد بالتدوين والتصنيف إلا وأخذ الواضعون له قواعده العامة ومسائله الكلية من المعلومات أنفسها بعد النظر في جزئياتها بعين الاعتبار والتأمل في عللها وفي اجتماعها وافتراقها واختلافها واتفاقها وغير ذلك من عوارضها الذاتية. ثم ما اتسعت دائرة علم وتشعبت مسائله وكثرت فروعه إلا بمثل ذلك لأن العلم هو المرآة التي تنطبع فيها صور المعلومات على ما هي عليها في أنفسها أو هو نفس الانطباع والمرآة هي نفس العالم. هذا هو الشأن في العلوم الحقيقية فمن ذهب في العلم مذهب النظر الفكري المحض والبحث في عبارات المؤلفين من غير ملاحظة المعلومات يضيع العلم ولا تَبْقَى عنده إلا الجهالات الخيالية التي تتولد عنده من الأبحاث اللفظية أو النظرية العقيمة فتكون على مرآة العقل كالصدأ الذي يعلو المرآة فيفسدها ويبطل فائدتها. ومن هنا يتجلى للَّبيب أن ادعاء الفصل بين العلم والعمل باطل فلا يجوز أن يكون أحد عالمًا بفن كذا متمكنًا منه وليس عنده معرفة بالمعلومات التي تصدق عليها مسائل ذلك العلم وقواعده بحيث يستعملها استعمالاً صحيحًا على ما هي عليه في أنفسها. من العلوم الحقيقية التي معلوماتها ثابتة في أنفسها ويجب أن تكون مسائل العلم منطبقة عليها علوم اللغة مفرداتها وأساليبها , فمن لم تعرض عليه مع تعلم قواعدها أو قبلها أو بعدها لا يمكن أن يكون عالمًا بها علمًا صحيحًا يقدر به على العمل وهو الإتيان بالكلام العربي الصحيح قولاً وكتابة على أسلوب العرب أنفسهم وما اهتدى العلماء الواضعون لهذه العلوم إلى وضعها إلا بعد اطلاعهم الواسع على الكلام العربي الفصيح والنظر فيه على الوجه الذي قررناه آنفًا. فخلف من بعدهم خلف جعلوا قواعد هذه العلوم نظرية محضة واشتغلوا بها لذاتها ثم شغلوا عنها أيضًا بالبحث في أساليب المصنفات التي وضعت بعد فساد ملكة اللغة فأضاعوا العلم واللغة جميعًا , وصار أحدهم يقضي عمره بمدارسة علوم العربية وبلاغتها ولا يقدر في نهايته على فهم الكلام البليغ فضلاً عن الإتيان بمثله قولاً أو كتابة. وقد ستروا على أنفسهم هذا الجهل بقاعدة وضعوها كذبًا من عند أنفسهم وهي (أن العلم لا يستلزم القدرة على العمل) وفرعوا من هذا الأصل فرعًا مثله كما يبنى الفاسد على الفاسد فقالوا: (إن فحول علماء البلاغة لم يكونوا بلغاء) ! ! ! هذا المرض العضال لا علاج له إلا الرجوع بالعلوم الإسلامية إلى الوراء بضعة قرون والأخذ بكتب الأئمة الذين دونوا العلوم ووضعوا الفنون , ومن يقرب منهم وهو الطريق الذي سار عليه مولانا الأستاذ الأكبر والمصلح العظيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وإن خالفه فيه من علماء الأزهر من يعجز عن فهم كتب القدماء فضلاً عن تدريسها ويثقل عليه أن يقرن العلم بالعمل لأن ما عنده من العلم خيالات لا تهدي إلى عمل فبعد أن سعى بطبع البصائر النصيرية في المنطق وأتم قراءته درسًا في الأزهر وجه نظره الثاقب لطبع كتب إمام البلغاء بل واضع فنون البلاغة ومؤسسها الشيخ عبد القاهر الجرجاني (سقى الله ثراه) , ولعبد القاهر كتابان في البلاغة مشهوران ينقل عنهما البلغاء أحدهما: أسرار البلاغة , والثاني: دلائل الإعجاز. لم يوجد في القطر المصري نسخة من الكتاب الأول , ولكن كان يوجد نسخة منه في طرابلس الشام فاستحضرتها بأمر الأستاذ وبعدما نظر فيها؛ رأى أن فيها غلطًا نسخيًّا وسقطًا , وعلمنا أن في بعض مكاتب الأستانة العلية نسخة أخرى فأمر الأستاذ بعض طلاب العلم النبهاء فذهب إلى الأستانة مخصوصًا , وقابلها عليها فخرج لنا من النسختين نسخة صحيحة وتولى مولانا الأستاذ تصحيحها وضبطها بعد ذلك بنفسه وأمرنا بطبعها فباشرنا بالطبع وباشر هو بتدريس الكتاب في الجامع الأزهر فأقبل على حضور درسه مع المجاورين كثيرون من العلماء وكبار الموظفين والكتاب والشعراء وأساتذة المدارس الأميرية. أما عبارة الكتاب فهي في الطبقة العليا من السلاسة والمتانة وأسلوبها عربي صريح لا عرفي مُعقَّد ككتب السعد فمن دونه , ويكثر فيها من الشواهد والأمثال ويتفنن فيها بالوصف ويجلي المعاني بأبهج الصور وأحسنها فهو علم وعمل في آن واحد فأجدر به أن يطبع في النفوس ملكة البلاغة والبيان , وهاك نموذجًا منه (وأما الحصول عليه فيعلم من الإعلان الذي على غلاف المنار) قال عبد القاهر: القول في الاستعارة المفيدة اعلم أن الاستعارة في الحقيقة هي هذا الضرب دون الأول وهي أمَدُّ ميدانًا، وأشدُّ افتنانًا، وأكثر جريانًا، وأعجب حسنًا وإحسانًا، وأوسع سعة وأبعد غورًا، وأذهب نجدًا في الصناعة وغورًا، من أن تجمع شعبها، وشعوبها، وتحصر فنونها وضروبها، نعم وأسحر سحرًا، وأملأ بكل ما يملأ صدرًا [1] ، ويمتع عقلاً، ويؤنس نفسًا، ويوفر أنسًا، وأهدى إلى أن تهدى إليك عذارى قد تخير لها الجمال، وعني بها الكمال، وأن تخرج لك من بحرها جواهر إن باهتها الجواهر مدت في الشرف والفضيلة باعًا لا يقصر، وأبدت من الأوصاف الجليلة محاسن لا تنكر، وردَّت تلك بصفرة الخجل، ووكلتها إلى نسبتها من الحجر، وأن تثير من معدنها تبرًا لم تر مثله، ثم تصوغ فيها صياغات تعطل الحُلي، وتريك الحلي الحقيقي، وأن تأتيك على الجملة بعقائل يأنس إليها الدين والدنيا، وشرائف [2] لها من الشرف الرتبة العليا، وهي أجلّ من أن تأتي الصفة على حقيقة حالها، وتستوفي جملة جمالها. ومن الفضيلة الجامعة فيها أنها تبرز هذا البيان أبدًا في صورة مستجدة تزيد قدره نبلاً، وتوجب له بعد الفضل فضلاً، وإنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد حتى تراها مكررة في مواضع , ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن مفرد، وشرف منفرد، وفضيلة مرموقة، وخلابة موموقة، ومن خصائصها التي تذكر بها، وهي عنوان مناقبها، أنها تعطيك الكثير من المعاني باليسير من اللفظ، حتى تخرج من الصَّدفة الواحدة عدة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعًا من الثمر، وإذا تأملت أقسام الصنعة التي بها يكون الكلام في حد البلاغة، ومعها يستحق وصف البراعة؛ وجدتها تفتقر إلى أن تعيرها حلاها، وتقصر عن أن تنازعها مداها، وصادفتها نجومًا هي بدرها، وروضًا هي زهرها، وعرائس ما لم تعرها حليها فهي عواطل، وكواعب ما لم تحسنها فليس لها في الحسن حظ كامل، فإنك لترى بها الجماد حيًّا ناطقًا، والأعجم فصيحًا، والأجسام الخرس مبينة، والمعاني الخفية بادية جلية، وإذا نظرت في أمر المقاييس؛ وجدتها ولا ناصر لها أعَّز منها، ولا رونق لها ما لم تزنها، وتجد التشبيهات على الجملة غير معجبة ما لم تكنها، إن شئت أرتك المعاني اللطيفة التي هي من خبايا العقل كأنها قد جسمت حتى رأتها العيون. وإن شئت لطفت الأوصاف الجسمانية حتى تعود روحانية لا تنالها إلا الظنون، وهذه إشارات وتلويحات في بدائعها. وإنما ينجلي الغرض منها ويبين إذا تكلم على التفاصيل، وأفرد كل فنٍّ بالتمثيل، وسترى ذلك إن شاء الله، وإليه الرغبة في أن نوفق للبلوغ إليه، والتوفّر عليه، وإذ قد عرفتك أن لها هذا المجال الفسيح، والشأو البعيد، فإني أضع لك فصلاً بعد فصل، وأجتهد بقدر الطاقة في الكشف والبحث. إلخ إلخ. *** (كتاب عيون المسائل من أعيان الرسائل) كتاب يجمع في 250 صفحة ثلاثين علمًا يذكر في كل علم تعريفه ونبذة في اصطلاحاته ثم بعض مسائله المهمة , ابتدأه بالفنون الأدبية ثم بالعلوم الشرعية ثم بالعلوم العقلية , وقد تصفحنا بعض صفحاته فأعجبنا تعريفه (الولي) في علم الكلام بأنه القائم بحقوق الله وحقوق العباد فليعتبر بذلك الذين يتخيلون أن أخص صفات الولي أن لا يقوم لأحد بحق ولا منفعة وأن يقوم الناس له بجميع حقوقه وبما ليس من حقوقه. ومن العلوم التي أوردها تدبير المنزل والهيئة الفلكية والحكمة الطبيعية والطب. ومؤلف هذا الكتاب هو الشريف عبد القاهر بن محمد الحسيني المكي الطبري وقد وصف في ظهر الكتاب بأنه (إمام أئمة الحجاز) وهو قد أخذ العلم من الأزهر الشريف ومن شيوخه الشمس الرملي والخطيب الشربيني وهذا دليل على أن أهل الأزهر كانوا حتى القرن العاشر يقرءون العلوم الطبية والفلكية والطبيعية التي يعاديها معظم علماء الأزهر اليوم باسم الدين مع اعترافهم بأن من سبقهم كانوا أعلم منهم بالدين وأشد محافظة عليه! ! ! والكتاب يطلب من ملتزم طبعه الأديب الشاعر محمد عمر أفندي الحسامي البيروتي ومن المكاتب الشهيرة. *** (مجلة الهلال) أعلنت هذه المجلة الغراء بأنها تصدر في عشرة أشهر من شهور السنة فقط وتجعل شهرين من السنة راحة لمحررها الفاضل يروّض فيها نفسه بالسياحة , ويعوّض على المشتركين ما يفوتهم من أجزاء الهلال في الشهرين بإهداء كل واحد منهم كتابًا من مؤلفاته. وقد زاد في قيمة الاشتراك فجعلها ستين قرشًا أميريًّا في السنة وهو يستحق ذلك وأكثر منه فلا زال يزداد نجاحًا.

أسباب وضع الحديث واختلافه ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسباب وضع الحديث واختلافه (1) لوضع الحديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب: (أحدها) : وهو أهمها ما وضعه الزنادقة اللابسون لباس الإسلام غشًّا ونفاقًا وقصدهم بذلك إفساد الدين وإيقاع الخلاف والافتراق في المسلمين. قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقة أربعة آلاف حديث , وهذا بحسب ما وصل إليه علمه واختباره في كشف كذبها , وإلا فقد نقل المحدثون أن زنديقًَا واحدًا وضع هذا المقدار قالوا: لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال: (وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل الحرام) ولقد أثر وضعهم في الإسلام أقبح التأثير ففرق المسلمين شيعًا ومذاهب مع أن الإسلام هو الحق الذي لا يقبل الخلاف ولا التعدد. (ثانيها) : الوضع لنصرة المذاهب في أصول الدين وفروعه فإن المسلمين لما تفرقوا شيعًا ومذاهب جعل كل فريق يستفرغ ما في وسعه لإثبات مذهبه لا سيما بعدما فتح عليهم باب المجادلة والمناظرة في المذاهب ولم يكن المقصود من ذلك إلا إفحام مناظره والظهور عليه حتى إنهم جعلوا (الخلاف) علمًا صنفوا فيه المصنفات مع أن دينهم ما عادى شيئًا كما عادى الخلاف , وهذا السبب يشبه أن يكون أثرًا من آثار السبب الذي قبله , وقد استشهد لهذا بعض المحدثين الذين كتبوا في أسباب الوضع بقوله: تاب رجل من المبتدعة فجعل يقول: انظروا عمن تأخذون هذا الحديث فإنا كنا إذا هوينا أمرًا صيرناه حديثًا , وليس الوضع لنصرة المذاهب محصورًا في المبتدعة وأهل المذاهب في الأصول بل إن من أهل السنة المختلفين في الفروع من وضع أحاديث كثيرة لنصرة مذهبه، أو تعظيم إمامه سوف نذكر ونبين الكثير منها في موضعه إن شاء الله , وإليك الآن حديثًا واحدًا وهو: (يكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس أضر على أمتي من إبليس , ويكون في أمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج أمتي) قالوا: وفي إسناده وضاعان: أحدهما مأمون بن أحمد السلمي والآخر أحمد بن عبد الله الخونباري وقد رواه الخطيب عن أبي هريرة مرفوعًا، واقتصر على ما ذكره في أبي حنيفة وقال: موضوع وضعه محمد بن سعيد المروزي البورقي ثم قال: هكذا حدث به في بلاد خراسان ثم حدث به في العراق وزاد فيه: (وسيكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس. فتنته أضر على أمتي من فتنة إبليس) قالوا: وهذا الإفك لا يحتاج إلى بيان بطلانه. ومع هذا تجد الفقهاء المعتبرين يذكرون في كتبهم الفقهية شق الحديث الذي يصف أبا حنيفة بأنه سراج الأمة ويسكتون عليه بل يستدلون به على تعظيم إمامهم على سائر الأئمة وهم مع هذا قدوة الأمة الذين يؤخذ بأقوالهم في الدين ويترك له الكتاب والسنة لأنهما على قولهم يختصان بالمجتهدين. (ثالثها) : الغفلة عن الحفظ اشتغالاً عنه بالزهد والانقطاع للعبادة , وهؤلاء العباد والصوفية يحسنون الظن بالناس ويعدون الجرح من الغيبة المحرمة , ولذلك راجت عليهم الأكاذيب وحدثوا عن غير معرفة ولا بصيرة , وقد عدهم بذلك بعض المحدثين من أصناف الوضاع , وحاشا الله ما نعتقد أنهم يتعمدون ذلك , وما هو إلا ما ذكرنا وعلى كل حال يجب أن لا يعتمد على الأحاديث التي حشيت بها كتب الوعظ والرقائق والتصوف من غير بيان تخريجها ودرجتها. ولا يختص هذا الحكم بالكتب التي لا يعرف لمؤلفيها قدم في العلم ككتاب (نزهة المجالس) المملوء بالأكاذيب في الحديث وغيره بل إن كتب أئمة العلماء كالإحياء لا تخلو من الموضوعات الكثيرة. (رابعها) : قصد التقرب من الملوك والسلاطين والأمراء كما نص على ذلك غير واحد من الحفاظ , وكما كذب علماء السوء على الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل السلاطين كذبوا كذلك في وضع الأحكام والفروع الفقهية لأجلهم , ومن الأحاديث الموضوعة في هذا الباب ما اشتمل على مدح السلاطين وتعظيم شأنهم وهو ما يتملق به الجهال للملوك في هذا العصر كما تملقوا لهم فيما قبله. لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

البدع والخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البدع والخرافات الديانة البهائية وكتاب الدرر البهية أعظم بدعة ظهرت بين المسلمين في هذا العصر فتنة البابية والبهائية فإن هؤلاء قد ابتدعوا دينًا جديدًا لا مذهبًا جديدًا كما يتوهم الغافلون , وأساس مذهبهم أن زعيمهم (بهاء الدين) الإيراني دفين عكا هو الروح الأعظم وهو المعبر عنه بالمسيح ابن مريم الذي ينتظر أهل الكتاب نزوله من السماء. بل هو الموعود به في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: 210) ويجرون عليه جميع أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً} (الإسراء: 43) وبالجملة إن دينهم خلاصة المذاهب الباطنية. وهو أقرب إلى المسيحية من الإسلامية وقد كانوا يدعون إليه سرًّا ولم يطبع لهم كتاب في البلاد العربية قبل كتاب (الدرر البهية) الذي طبع في هذه الأيام. وفيه إنكار كون القرآن معجزًا ببلاغته وفصاحته وتأويل آيات القرآن على ما ينطبق على بدعتهم وغير ذلك من الضلال والفتن , وهو أضر على المسلمين من كتاب (المسيح أم محمد) بل ليس في هذا الكتاب شبهة يلتفت إليها مسلم مهما كان جاهلاً , وأما كتاب الدرر البهية فإنه فتنة للمسلمين لأنه مملوء بالآيات القرآنية محرفة ومأوَّلة واسم مؤلفه وألقابه إسلامية وناشره مجاور في الأزهر ويبيعه في الأزهر نفسه من غير نكير. اللهم إنه وجد عالم واحد غيور انتهر هذا المجاور وهدده بالطرد من الأزهر , وأرسل الكتاب إلى فضيلة شيخ الجامع واستلفته إلى ما فيه ولا ندري هل ينكر ذلك كما أنكر على شيخ الجامع الدسوقي طلب تقرير امتحان الطلبة (كما ترى في النبذة التالية) أم ماذا يكون شأن الدعوة إلى غير دين الإسلام فوق رأسه في نفس الجامع؟ وهذه الدعوة مبثوثة في الأزهر منذ تولي مشيخته هذا الأستاذ الحالي أو قبلها بقليل وقد أشرنا إليها في مقالة (الدعوة حياة الأديان) وانتظرنا أن تنبه تلك الإشارة فضيلة شيخ الجامع فيتلافى الأمر بالحكمة , وكأنه ذهل عنها أو لم يقرأ المقالة , وحيث قد تنبه للأمر الأستاذ البصير الذي أشرنا إليه آنفًا ونبه فضيلة شيخ الجامع فإننا نرجو أن يتلافى الأمر قريبًا وتصطلم هذه الفتنة من الأزهر الشريف. ثم إن لي كلمة أخرى في هذا الموضوع مع أصحاب المطابع الإسلامية وهي كيف طبعت كتاب (الدرر البهية) مع أن العهد بالمسلمين أن لا يتجروا بما لا يبيحه دينهم , فقلما تجد في مصر حانة لمسلم مع أن أكثر أهلها يشربون الخمر وقلما نرى جريدة إسلامية تنشر إعلانًا عن الخمر أيضًا. أما نحن فإننا نتتبع آثار أهل هذا الدين الجديد ووعدنا بعض أصدقائنا بأن يرسل إلينا الكتابين اللذين هما أصل دينهم وهما (البيان) و (الكتاب الأقدس) ومتى جاءا وقرأناهما ننشر فصولاً متتابعة في تاريخ الباطنية وفرقهم نختمها بهذه الفرقة التي هي خلاصتهم , ومن تعاليمهم أخذت دينها الجديد , ونسأل الله التوفيق لخدمة دينه بمنه وكرمه آمين. *** تقاليد مشيخة الأزهر تحكم العادات والتقاليد على صنف العلماء كما تحكم على سائر الأصناف ولكن حكمها على العلماء يتعدى ضرره إلى الأمة كلها لما يكون له من الأثر في تأخر العلم والتهذيب اللذين هما حياة الأمة. وقد صار من المعلوم لجميع النبهاء في القطر المصري وغيره أن طريقة التعليم في الأزهر معوجة ملتوية مشتبهة الأعلام طامسة الصوى والمنار , وأنها لطولها وكثرة حزونها لا تكاد تؤدي إلى الغاية حتى أن السنة تمضي ولا ينجح من ألوف الطلاب في الأزهر عدد يتجاوز مرتبة الآحاد. ولا خلاف بين العقلاء والفضلاء في وجوب إصلاح هذه الطريقة التي لا وجه للمتمسكين بها إلا أن آباءهم الأقربين ومشايخهم المتأخرين كانوا عليها , ومن المصرين على وجوب البقاء عليها صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر لهذا العهد فهو لا يلتفت إلى كثرة شكوى الشيوخ والعلماء الآخرين منها وطلبهم الإصلاح ولو تدريجًا , وفي هذا وقائع وحوادث كثيرة آخرها ما قرأناه اليوم في المؤيد الأغر من طلب شيخ الجامع الدسوقي من مشيخة الأزهر إصلاحًا في فرع من الفروع وهاك خلاصته. كتب شيخ الجامع الدسوقي إلى مشيخة الأزهر الكبرى ما ملخصه: إن طائفةً من طلبة الجامع الدسوقي لا يحضرون الدروس إلا في أيام المولد لأجل أن يقاسموا الطلاب ما يأخذونه من النذور التي جرت العادة بتوزيعها عليهم. وهؤلاء الدخلاء منهم من يحضر كتب الدرجة الثانية بل وكتب الدرجة الثالثة لينالهم نصيبها وهم ليسوا بأهل لما قبلها. وبالجملة إن النذور على هذا تعطى لمن لم يستحقها ويمنعها مستحقها أو ينقص نصيبه منها. ثم قال: ولو بقي الحال على ما هو عليه الآن لضاعت الثمرة من العمل ولا يكون للجامع مستقبل حسن. ولهذا تطلب مشيخة الجامع الدسوقي من مشيخة الجامع الأزهر الشريفة النظر في وضع قاعدة لذلك يكون أساسها امتحان من يريد الانتقال من درجة إلى درجة أرقى منها وثبوت استحقاقه نصيب الدرجة المرغوب النقل إليها) اهـ. فأجاب صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر عن هذا في 10 ربيع الثاني سنة 1318 نمرة 19 بما نصه: (علمنا ما ذكر نحوه بإفادة حضرتكم نمرة 24 الواردة في شأن طلبة العلم بدسوق الذين هم من أهلها , وطلبتم النظر في شأنهم , ووضع قاعدة تكون أساسًا لامتحان كل من يريد الانتقال من درجة إلى ما فوقها وامتحان أرباب الدرجة الثانية وهلم جرًّا. والذي نفيدكم به أن طلبكم هذا لم نسمع له نظيرًا في الجامع الأزهر الذي هو أشهر مدرسة دينية في القطر والذي أنتم تابعون له ولا في مدرسة من المدارس الإسلامية. فعجبنا من هذا الطلب وكنا نود أن لا يكتب من حضرتكم للمشيخة شيء من ذلك فيه ولم نعلم ما الباعث لحضرتكم على هذا الأمر مع اشتهار أنه تكلم في هذا المعنى , ثم ما كان بعد الاختبار ما كان عليه الأزهريون في العصور الخالية فإنه الطريقة المثلى ورفض ذلك بإجماع الأزهريين وأظن أن ذلك بلغكم فكيف تطلبونه بعد هذا مع علمكم بأن طالب العلم ربما يفتح عليه في حال حضوره الكتب الكبيرة بغير ما يفتح عليه في غيرها , ولذا لزم تحريره لحضرتكم للمعلومية وعدم إجراء مثل ذلك) اهـ. هذا هو جواب رئيس العلماء وكبيرهم , ولا بد أن يكون مدهشة لكل قارىء في لفظه ومعناه. وعبارته وفحواه. وللكلام مجال واسع فيه من وجوه كثيرة أهمها أمران: أحدهما: ادعاء إجماع أهل الأزهر على أن طريقتهم في التعليم هي الطريقة المثلى وأقرب الطرق للتحصيل , وهذا الإجماع لا وجود له بل لم يجمع أهل الأزهر على شيء يمكن الخلاف فيه فقد كان يوكل إليهم انتخاب شيخ الجامع , ولم يتفقوا مرة على انتخاب شيخ. ووقف أحد الاغنياء وقفًا كبيرًا , واشترط أن يكون الناظر عليه أعلم أهل الأزهر وأصلحهم فعهد إليهم بانتخاب هذا الناظر فلم ينتخبوا أحداً لأن كل واحد يرى نفسه أحق بذلك وبالانتفاع بالراتب العظيم المخصص للناظر , وإننا نعرف أن من العلماء من يمقت هذه الطريقة ويعرف عقمها. وكيف ينكر ذلك من له حس وعقل. وإننا نسمع من اختبار الطلاب الذين قضوا السنين الطوال في الأزهر من الجهالة ما لا يسمع نظيره في المدارس الابتدائية - طلب من واحد منهم قضى 15 سنة فيه إعراب (والاسم منه معرب ومبني) فقال: الاسم مبتدأ ومنه مبتدأ ثان! ! ! ومثل هذا كثير لا محل لشرحه الآن. على أن إجماعهم- لو فرض حصوله - ليس بالإجماع الديني الذي يحتج به شرعًا كما يتوهم الجهلاء لأن الإجماع الشرعي هو اتفاق المجتهدين من الأمة وهم قد جعلوا للاجتهاد بابًا وأغلقوه ومنعوا الناس منه فلا يدعونه لأنفسهم , ومنهم من يزعم استحالة وجوده في هذا العصر. وإنما يعرف حسن التعليم وقبحه من ثمرته ونتيجته وهي في الأزهر كما نعلم. (الثانية) : قوله في تخطئة طلب امتحان من يراد نقله من درجة إلى ما فوقها في التعليم: (فكيف تطلبونه بعد هذا مع علمكم بأن طالب العلم ربما يفتح عليه في حال حضوره الكتب الكبيرة بغير ما يفتح عليه في غيرها) يعني أن الجاهل إذا ابتدأ طلب العلم بحضور حاشية الصبان وحاشية التجريد وجمع الجوامع فربما يفتح عليه بما لم يفتح عليه بمثله لو حضر الكتب الصغيرة الابتدائية وإلا لم يصح أن يكون حجة له. ويشبه هذا قول الشيخ راضي البحراوي والشيخ ثابت بن منصور إنه لا حاجة في الحرب والجهاد إلى معرفة البلاد ولا غيرها من الفنون العسكرية (لأن النصر بيد الله يؤتيه من يشاء) كلمة حق أريد بها باطل فالله هو الناصر والفاتح ولكنه جعل لكل شيء سببًا وسنة تعرف بالاختبار {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) .

العلم والجهل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العلم والجهل مثال للعلم والجهل. سعي بعض عربان مصر بافتتاح المدارس. الانتقاد عليهم ورده. تعليم الأزهر. ما يحتاجه الأزهر من الإصلاح. ما تحتاجه المدارس الأميرية. ما يطلب من المدارس الأهلية. مقاصد مؤسسي المدارس في الغالب. أكل أموال الفلاحين بالربا الفاحش بسبب الجهل. الجمود على التقاليد والخرافات بسببه. روح استقلال الفكر في التعليم الجديد. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) . العلم خير كله والجهل شر كله فلا ينبغي للبيب أن يقول: إن الجهل الكثير خير من العلم القليل الذي لا يفي بحاجة البلاد لأن هذا تفضيل للشر الكثير على الخير القليل. العلم سعادة والجهل شقاوة ولا يختار ناصح لقومه الشقاوة على السعادة إذا رأى أن ما تطلبه من وسائل الإسعاد ناقصًا غير تام أو رآها تختار غير الأولى منها على ما هو أولى. العلم نور لامع وضياء ساطع والجهل ظلمات بعضها فوق بعض , ولا يقولن بصير: إن الظلمة الحالكة أفضل من النور الضئيل , وإن من فاتته القناديل الكهربائية فليكسر المصابيح الزيتية. كما لا وجه له أن يقول: إن النور مذموم وضارٌّ لأن الأشرار يتمتعون به بما يتقلبون في السيئات ويسيرون في خطط الخطيئات , ولولاه لما تمَّ لهم ذلك التمتع فإن الذي يذم النور بمثل هذا ويذم العلم بأنه يكون شاغلاً للآخذين به عن الأعمال والمكاسب ونحو ذلك هو كمن يذم العينين لأن من الناس من يسرحهما تسريحًا مذمومًا محرمًا , ويذم الأذنين لأنه يسمع بهما ألفاظ الهجر والفحش , ويذم العقل لأن من الناس من يستنبط به المكايد والحيل لهضم حقوق إخوانه. قام بعض أهل الغيرة من عربان مصر يسعى في إنشاء مدرسة أو مدارس لتعليم أبناء قومه , فاستنكر هذا الأمر بعض الناس وانتقدوه وذهبوا إلى أنه يفسد على العربان معيشتهم ويبطل نظامهم , ويكون مجلبة الشقاء والتعاسة لهم حتى اضطر المقترح للاعتذار ودفع الالتباس. وتبرئة النفس من إرادة الشر أمام الناس. فيا لله ولهذا الإنسان ما أغرب أطواره. وأعجب أوطاره. وما أبعد فكره. وأفعل سحره. وما أسحر بيانه وأغوى شيطانه. وما أقوى هواه. وأضعف هداه. يذم العلم والتعليم. ويريك أنه يهديك إلى صراط مستقيم. تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وان ذممت فقل قيءُ الزنابير مدح وذمٌّ وذات الشيء واحدة ... إن البيان يُرِي الظلماء كالنور العلم كالعقل والحواس لا تذم بحال. وإنما تبيَّن الطريقةُ المثلى للاستعمال. ألا ترانا ننتقد دائمًا طريقة التعليم في الأزهر الشريف ولكننا لا نقول: إن عدم الأزهر أو عدم العلم والتعليم فيه خير من وجوده على ما نعلم في ذلك من المضرات وقد انتقدنا وغيرنا من الكتاب على المدارس الأميرية ونظارة المعارف العمومية كما انتقدنا وننتقد المدارس الأهلية وتعليمها وتربيتها (إن كان فيها تربية) ولا نعني بشيء من ذلك أن الجهل خير من العلم أو أن إهمال التعليم خير من التعليم الناقص إن نريد إلا الإصلاح ما استطعنا فمن يستطيع الكلام قولاً أو كتابة يجب عليه أن يتكلم بما يعتقده إصلاحًا وإلا كان خائنًا لأمته وملته وبلاده وعسى أن يفعل من يستطيع الفعل والله الموفق لمن يشاء من عباده. نطلب من مشيخة الأزهر إصلاح طريقة التعليم ليقرب التحصيل على الطلاب فيخرج لنا في كل سنة من المجاورين المعدودين بالألوف مئات أو عشرات من المرشدين والوعاظ والمعلمين للدين والآداب ونطلب أيضًا ملاحظة التربية مع التعليم فإن علماء الاجتماع عامة وعلماء البيدلجوجيا (التربية والتعليم) خاصة مجمعون على أن التربية هي أقوى الركنين وأنفع العنصرين وأن السعادة قد تنال بتربية من غير تعليم - غير ما تستلزمه هي - ولكن التعليم وحده لا يغني غناءَها ولا يسد مسدها , ولا توجد في الدنيا مدرسة لملة من الملل لا يوجد فيها للتربية اسم ولا مسمى كمدرسة الأزهر , وعذر مشيخة الأزهر في هذا أن إلزام طلاب العلم بالنظافة والأدب والنظام في المعيشة والسيطرة عليهم في سيرتهم الشخصية أمر لم يجر عليه الشيوخ السابقون وتحكم في حريتهم بغير مسوغ شرعي والجواب عنه أنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبين بنص الكتاب العزيز وأن المعلم قيم شرعي كالوالدين فيطلب منه من التربية ما يطلب من الوالدين , وإننا نرى كثيرين من الشيوخ المدرسين يشتمون المجاورين ويهينونهم لأمور ليست بذات بال ويتسنى لهم إرشادهم للآداب والفضائل باللين والهداية من غير تحكم يسيء. على أن هذه الحرية المطلقة هي التي جعلت الأزهر عبرةً للمعتبرين واستعبارًا للمستعبرين (كما استعبر تلك الكونتة الروسية التي جاءت من بلاد روسيا إلى مصر لتشاهد عز الإسلام وأعظم مدارسه العالية - الأزهر - فلما دخلت هذه المدرسة الطائرة الصيت لم تملك عبرتها أن تسيل على خدودها حتى خرجت آسفة حزينة) . ونطلب أمرًا ثالثًا مهمًّا وهو أن يكون لطلاب العلم في الأزهر إلمام بمبادئ العلوم التي عليها مدار المدنية الحاضرة والسعادة الدنيوية , فإن الإسلام ما جاء إلا ليهب الناس السعادتين والفوز بالحسنيين وذلك كعلم الاجتماع وعلم حفظ الصحة ومبادئ التاريخ الطبيعي وغير ذلك من الفنون المتداولة بين الناس في هذا العصر وبذلك يستعدون للدعوة إلى الدين وحفظه ومخاطبة الناس على قدر عقولهم كما يجب على ورثة الأنبياء. ونطلب من نظارة المعارف أن تقرن في المدارس التربية الدينية بالتربية الجسدية والعقلية وأن تزيد عنايتها باللغة العربية لكيلا تتلاشى أمام اللغة الإنكليزية إذا دامت هذه على تقدمها وتلك على تأخرها. ونطلب من المدارس الأهلية ما نطلبه من المدارس الأميرية وزيادة مهمة إذا وجدت كانت هذه المدارس قرة عيون الأمة ومنتهى رجاء البلاد , وهي إشراب قلوب التلامذة أن ثمرة التعليم والتربية ليست محصورة في وظائف الحكومة وإنما ثمرتها سعادة الحياة والاستعداد لإتقان أي عمل يتصدى له المتعلم من زراعة وصناعة وتجارة وإمارة , إذ المطلوب لإسعاد الأمة أن يعم التعليم والتربية جميع أفرادها وتبقى مع ذلك كل طبقة من الطبقات على عملها وكسبها. نرحب بالمدارس الأهلية ونثني على مؤسسيها ونلهج بشكرهم وحمدهم وسخائهم ورفدهم , وإن كنا نعلم أن منهم من لا يقصد بإنشاء المدرسة إلا التجارة والكسب , ومنهم من يطلب الأحدوثة وحسن الذكر , ولا يهمه بعد ذلك استفاد المتعلمون ما هي الغاية الحقيقية من التربية والتعليم أم لم يستفيدوا لعلمنا أن الرياء قنطرة الإخلاص وأن المتعلم أقرب إلى الإصلاح من الجاهل المطلق وإن كان هذا محل نظر. أرأيتك هذا الفَلاَّح الذي يلعب به المرابون لعب الصبيان بالكرة فيأخذون منه الربا أضعافًا مضاعفة , ثم يشترون قطنه بثمن بخس لو كان متعلمًا هذا التعلم الناقص هل كان يتسنى لهم غشه إلى هذا الحد؟ ؟ أرأيتك هذا العامي الذي أفسدت عقله وروحه ونفسه التقاليد الباطلة والخرافات القاتلة ولا يفهم لك دليلاً ولا برهانًا. ولا يراجع في تقليده عقلاً ولا وجدانًا؟ لو تعلم هذا التعلم الناقص ألا يستعد بذلك عقله لفهم الدلائل. والتمييز بين الحق والباطل. إذا ألقي إليه ذلك ممن يفهمه , وتصدى لتعليمه إياه من يعلمه؟ بلى إنه يستعد بهذا التعليم تعليم المدارس لكل هذا ولما هو أعلى منه، وذلك أن فيها روح استقلال الفكر ولكن هذا الروح مفقود من الأزهر , وكل ما فيه من العلم تقليدٌ أعمى لبعض المصنفين من المتأخرين لحسبان أن من يفند قول واحد منهم يخرج من الدين أو العلم , ولكننا نرى هذا الروح قد رضي عن الأزهر وطفق يسري فيه بالتدريج، ونسأل الله التوفيق للكمال.

أمالي دينية الدرس ـ 16 ـ طول العمر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمالي دينية (الدرس السادس عشر) م (46) طول العمر: هذه المسألة من فروع عقيدة القضاء والقدر والنظر فيها من حيث الأسباب واتصال المسببات بها لا إشكال فيه؛ لأنه مبني على الظواهر , وللإنسان عمر طبيعي هو مستعد لأن يبلغه إذا لم تعارضه أسباب أخرى تحول دون ذلك كالقتل والغرق وكالأمراض التي تفضي إلى سرعة الانحلال وانطفاء سراج الحياة أو ينقطع عنه مدد النموّ الذي تقوم به الحياة حتى تبلغ الأجل المستعدة لبلوغه في أصل نظام الفطرة. ومثل الإنسان في هذا سائر الأجسام الحية حتى النبات فإن القطن مثلاً له أجل محدود في الطبيعة ولكنه لا يبلغه إذا حالت دون ذلك الأسباب العارضة كأن يقلع بعد نباته بشهر أو شهرين , أو يمنع عنه السقي الذي يغذيه ويمده حتى يبلغ أجله. فإذا عَدَا عادٍ على حرث قوم فاقتلع بعض هذا القطن , يصح أن نقول: إنه لو لم يقلعه لبقي حيًّا إلى أن يثمر , كما يصح أن نقول: إن ذلك الشاب لو لم يغرق لعاش مدة طويلة لأن بنيته مستعدة لذلك , وكذلك لو لم يتعرض للمرض الفلاني الذي أصابه بالعدوى؛ لكان جديرًا بأن يطول عمره ويعيش عيشة راضية. كل هذا يصح أن يقال بالاعتبار الذي ذكرناه وهو ما ثبت عقلاً ووجودًا وشرعًا بالوجه العام المثبت لارتباط الأسباب بالمسببات. ثم إنهم يطلقون لفظ (الأجل) ولفظ (العمر) على المدة التي يعيشها الإنسان وغيره بالواقع، ونفس الأمر لا على المدة التي هو مستعد لبلوغها عند انتفاء الموانع , والأجل بهذا المعنى لا يعرف إلا بالوقوع فمتى مات المرء يعلم أن هذه المدة التي قضاها هي أجله في الواقع ونفس الأمر , ولما كان الله وحده هو الذي يعلم ما سيعرض على الأحياء من الفواجع الفجائية. والتهاون بالتدابير الصحية. فيقطع آجالهم الطبيعية الاستعدادية. أطلق الأجل على علم الله تعالى بالعمر , وبهذا المعنى قالوا: إن العمر لا يزيد ولا ينقص وهو صحيح إذ لو وقع في الوجود خلاف ما يعلم الله تعالى أنه سيقع لكان العلم جهلاً وقد فرضناه علمًا وبرهنا عليه. الدين دين الفطرة والشريعة حنيفية سمحة ليلها كنهارها لا شبهة فيها ولا حيرة ولكن انتشار الجهالة في المسلمين بعد السلف قذفهم في تيهور الحير وطوّح بهم في مهاوي المشكلات. وأعظم بلاء حل بهم من قبل دينهم عدم فهم القضاء والقدر على وجهه المعقول الذي شرحناه حيث خرجوا به إلى الجبر وإنكار أثر الأسباب في المسببات حتى صار من يطلب الشيء من سببه ويرى أنه يوجد بوجوده وينتفي بانتفائه يعد من فاسدي الاعتقاد كأن الإنسان عندهم لا يكون مسلمًا صحيح الاعتقاد حتى يمتلخ عقله وينتزع وجدانه ويكابر حسه وينكر الوجود نفسه , وكأن المسلم خلق لأن يجهل كل شيء ويترك كل سعي وكسب ويبسط يديه إلى القضاء والقدر لتفيض عليه الأرزاق والبركات والخيرات بإبطال نظام الكون وتبديل سنن الخليقة ونواميس الطبيعة التي لا تتبدل ولا تتحول. إذا قال الطبيب: إن مداراة الصحة على الوجه الفلاني سبب في طول العمر أو يطيل العمر؛ يقول الجاهلون: قد كفر وإذا صدقه المؤرخ الإحصائي فذكر عدة بلاد وممالك قلت فيها الوفيات منذ انتشرت فيها المعارف الطبية , وصار تعليم فن حفظ الصحة (الهيجين) عامًّا في ذكرانها وإناثها؛ يقولون: قد كذب واختلق. أفلا يرون كيف يفتك الطاعون في الهند كما كان يفتك بأوربا في العصور الغابرة وكذلك الهيضة المعروفة بالهواء الأصفر سالمت الغرب ولم تزل عدوة فتاكة في الشرق. إذا أوردت مثل هذا؛ يعترضك المتحذلقون الشاكون المشككون بذكر شواذ لا يعرفون أن لشذوذها أسبابًا وقف عليها الطبيب ونحوه , وإذا لم يقف على بعضها يتلمسه حتى يجده كما وقع للأطباء وغيرهم من علماء الكون في مسائل لا تحصى. إذا قال الطبيب: إن كذا يطيل في العمر أو يقصر فهو لا يعني بالعمر ما قدر الله في سابق علمه لأن وظيفته ليس من موضوعها انكشاف المعلومات لله تعالى أو عدم انكشافها - على فرض جواز ذلك , وإنما موضوعه بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح وما يكون من أثر ذلك في طول البقاء وعدمه واستمداده من التجارب التي تنكشف بها سنن الله في الخلق وتعرف بها الأسباب التي أناط الله تعالى بها الحوادث وجودًا وعدمًا فهو بهذا أعلم منهم بقضاء الله وتقديره لوقوفه على سننه في هذا التقدير. كيف ينكر مسلم أن شيئًا من الأشياء. يكون سببًا في بسطة الأجل وطول البقاء. وهو أمر ثابت في الفطرة , ودينه دين الفطرة وثابت في العقل ودينه مبني على العقل وثابت بالنقل أيضًا. روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره (أي يؤخر له في أجله) فليصل رحمه) وروى ابن ماجه من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يرد القدر إلا الدعاء , ولا يزيد في العمر إلا البر , وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة , والبحث في زيادة الرزق كالبحث في طول العمر سواء لأن لكل منهما أسبابًا , وعلماء الكون إنما يتكلمون باعتبار الأسباب , وأما بالنسبة لما في علم الله تعالى فليس من موضوعهم ولا غيرهم لأن ما في علم الله إنما يعرفه الناس بوقوعه إلا ما له سنن مطردة لا تنازعها سنن أخرى كسير الكواكب فإننا نعلم أن الشمس تغرب بعد كذا ساعة وتكسف في يوم كذا ومتى يبتدىء الكسوف ومتى ينتهي. ولما تصدى المسلمون لإدخال الدين في كل بحث , وخلطوا الكلام في الأسباب الظاهرة بالكلام في العقائد جعلوا لهذه المسألة مخرجًا سموه (القضاء المعلق) يعنون أن المسببات معلقة في علم الله تعالى بأسبابها فإذا وقعت الأسباب؛ وقعت معها المسببات لا محالة وإلا فلا , وهو قول صحيح ولا فرق فيه بين السبب الذي علم بالاختبار والوجود والسبب الذي علم بالشرع , بل الأول أقوى لأن الثاني يحتمل التأويل فيما إذا لم يكن نصًّا قطعيًّا والله أعلم. ((يتبع بمقال تالٍ))

الشوقيات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشوقيات ذكرني بالشوقيات صدور أمر مولانا العزيز العباس أيده الله تعالى بالإنعام على صاحبها الأديب الفاضل أحمد شوقي بك بلقب (شاعر الحضرة الخديوية) والإذن له بأن يكتب هذا على دواوينه ومؤلفاته. ذكرني هذا - وما كنت ناسيًا - بأن صاحب الشوقيات تفضل بإهدائها وأنني لما أقيم بشكر هذه اليد له بالتقريظ الذي تستحقه , وما كان مني هذا عن تعمد ولكنني نظرت فألفيت أن التقريظ إما إظهار محاسن الكتاب الذي يقرظ للتشويق إليه والترغيب فيه وإما الانتقاد على مساوئه. فأما إظهار المحاسن لأجل التشويق فما أغنى غانيات (الشوقيات) عنها وعن لازمها من الإشهار فهي التي جاوزت الأمصار حتى عمت شهرتها الأقطار. سارت بها الركبان تطوي نفنفًا ... فنفنفًا وسبسبًا فسبسبًا ولذلك لجأ الأدباء والكتاب في تقريظها إلى الكلام العام في الشعر ومحاسنه وتأثير التخييل في الوجدان، والحمل على ما يريد الشاعر منه، والشوقيات لم تدع في هذا المقام مقالاً لقائل حيث وفته حقه في المقدمة التي شهدت لشوقي بك بالإجادة في المنثور كالمنظوم، وهي التي لم تتفق - كما قال ابن خلدون - إلا للأقل. نعم إنه في الشعر أعلى كعبًا وأرسخ قدمًا , وإن روح الشعر اللطيفة تطوف في جميع منثوره. وأما الانتقاد فالشوقيات أعصى منظوم العصر على الانتقاد السديد. معان عالية. وعبارات زاهية. وأفكار دقيقة. في أساليب رشيقة. اللهم إلا ما لا يخلو عنه كلام المولدين ولا سيما المتأخرين من كلمة لم تنطق العرب بها. أو لفظة وضعت في غير موضعها. كلفظ (احتار) فقد استعمله شوقي وإنما سرى إليه من مثل ابن الفارض القائل: وما احترت حتى اخترت حبيبك مذهبًا ... فواحيرتى إن لم تكن فيك خيرتي والشيخ عبد الغني النابلسي القائل: حكم حارت البرية فيها ... وحقيق بأنها تحتار ومن هنا سمى ابن عابدين حاشيته المشهورة (رد المحتار إلى الدر المختار) أما ابن الفارض فقد أوقعه في الخطأ الغرام بالتجنيس وتبعه ابن عابدين فيه، وأما النابلسي فلعلها سرت إليه من استعمال مثل ابن الفارض، وكذلك شأن شوقي بك وغيره. مثل هذه الهنات لا تذكر في تقريظ الكتب إلا ممن يتصدى لخدمة اللغة بإظهار أغلاط الخواص كما فعل الحريري ونواب بهوبال وعند ذلك يكون تناول الشوقيات بيد الانتقاد تعظيمًا لشأنها فإن أكثر شعراء العصر وكتابه لا تحصى أغلاطهم وخطؤهم وإنما يحصى صوابهم. للشوقيات أبواب تدخل فيها أنواع القول وفنونه , وضروبه وشجونه من آداب وأخلاق , وحكم وأمثال , وغزل ونسيب , ومديح ورثاء , وحاشاها من الذم والهجاء , فقد ضربت آداب (شوقي) بينه وبين الهجو بسور لا باب له فيفتح , ولا يخرق ولا يتسلق , فأما حكمه ومواعظه فصوادع , وأما غزله فخلوف رائع , وأما مديحه فقد أحله محله , وارتقى به إلى مكانة تليق به , فجعله مقصورًا على أمراء مصر - إسماعيل , وتوفيق , ومولانا العباس أطال الله حياته. وأما الرثاء فلم يتجاوز به الأمراء. إلا إلى بعض العلماء والكبراء. ولا تسل عن سائر الشجون. وما فيها من الفنون والفتون. وأعلى من هذا كله وهو القول الوحيد الذي أقرظ به الشوقيات أن في الكلام (روح التأثير) وهو الغاية التي تقصد بالبلاغة فإذا وفق صاحب الشوقيات للنظم في انتقاد العادات ونحوه من المواضيع الاجتماعية الإصلاحية ينفع أمته نفعًا يحفظه له التاريخ ويشكره له الله تعالى والناس. وبهذا يكون الشعر من أنفع وسائل التهذيب وأجل حاجات العمران خلافًا لما في الصفحة 11 من مقدمة الشوقيات من إطلاق أنها من الكماليات الأدبية فإن قولهم هذا إنما يصح باعتبار صناعة الشعر وانتحالها لا بالنظر إلى آثارها , ولنا في هذا المقام كلام نرجئه لفرصة أخرى.

البدع والخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البدع والخرافات أسباب وضع الحديث واختلافه (2) ذكرنا في الجزء الماضي أربعة أسباب للكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم وهي أهم ما ذكره الحفاظ والمحدثون جزاهم الله أفضل الجزاء وبقي أسباب نذكرها على ترتيب ما قبلها وهي: (خامسها) : الخطأ والسهو وقع هذا لقوم , ومنهم من ظهر له الصواب ولم يرجع إليه أنفة واستنكافًا أن ينسب إليهم الغلط , ولم تعرف رقة دين هؤلاء وعدم إخلاصهم في الاشتغال برواية الحديث إلا بعد ما وقع لهم ما وقع. (سادسها) : التحديث عن الحفظ ممن كانت له كتب يعتمد عليها فلم يتقن الحفظ فضاعت الكتب فوقع في الغلط. (سابعها) : اختلاط العقل في أواخر العمر , وقع هذا لجماعة من الثقات فكانوا معذورين دون من سلم بكل ما نسب إليهم من غير تمييز بين ما روي عنهم في طور الكمال والعقل وبين ما روي في طور الاختلاط والهرم. (ثامنها) : الظهور على الخصم في المناظرة لا سيما إذا كانت في الملأ , وهو غير الوضع لنصرة المذاهب الذي تقدم قال ابن الجوزي: (ومن أسباب الوضع ما يقع ممن لا دين له عند المناظرة في المجامع من الاستدلال على ما يقوله كما يطابق هواه تنفيقًا لجداله. وتقويمًا لمقاله. واستطالة على خصمه , ومحبة للغلب , وطلبًا للرياسة , وفرارًا من الفضيحة إذا ظهر عليه من يناظره. (تاسعها) : إرضاء الناس وابتغاء القبول عندهم واستمالتهم لحضور مجالسهم الوعظية وتوسيع دائرة حلقاتهم , وقد ألصق المحدثون هذا السبب بالقصاص وقالوا: إن في الأحاديث الصحاح والحسان مثل ذلك , ولكن الحفظ شق على أولئك القصاص فاختاروا أقرب الموارد وهو الوضع. ونقول: إن قصاص هذا الزمان قد اتبعوا خطوات أولئك الوضاع وحفظوا أكاذيبهم لسوء الاختيار فقلما نرى واعظًا يحفظ الصحاح , وتراهم يكادون يحيطون بالموضوعات التي لا يكاد يوجد بمعناها حديث صحيح السند لأن معظمها خرافات وأوهام وتجرؤ على المعاصي بالأماني والتشهي. ولعل ابن الجوزي ما تصدى لتأليف كتابه في الموضوعات إلا بعدما زاول الوعظ واختبر ما أفسد الوعاظ من دين الناس وقد ذكر عن نفسه أن الأحاديث الموضوعة كانت ترد عليه في مجلس وعظه فيردها فيحقد عليه سائر القصاص. (عاشرها) : شدة الترهيب وزيادة الترغيب لأجل هداية الناس , ولعل الذي سهل على واضعي هذا النوع من الأحاديث المكذوبة هو قول العلماء: إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في فضائل الأعمال وما في معناها مما لا يتعلق بالأحكام والحقوق وكأنهم رأوا أن الدين ناقص يحتاج إلى إكمال وإتمام وأن قال الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ولا تستبعدن هذا أيها المسلم المخلص فإن جميع البدع الدينية التي يسميها الناس حتى بعض العلماء (بدعًا حسنة) ويعللونها تعليلات يلونونها بلون الدين هي من الزيادة في الدين , ويا ليتها كانت زيادة في الأعمال فقط ولكنها زيادة في العقائد أيضًا كاعتقاد وساطة بعض الصالحين الأموات بين الله والناس في قضاء حوائجهم؛ إما بأن يقضوها بأنفسهم لأن لهم سلطة غيبية وراء الأسباب , وإما بأن يقضيها الله تعالى لأجلهم فتكون إرادة الله تعالى تابعة في ذلك لإرادتهم كما اشتهر من قولهم: (إن لله عبادًا. إذا أرادوا أراد) وغير ذلك , فإذا قلت لهم: إن هذا شرع لم يأذن به الله يأتونك بأمثال ينزه الله عنها كتشبيهه بالملوك والأمراء الذين يتقرب إليهم بمن يحبون ليفعلوا ما لم يكونوا يفعلونه لولاهم , وفاتهم أن إرادة الله تعالى لا تتغير لأجل أحد لأن تخصيصها وترجيحها إنما يكون بحسب العلم القديم الذي لا تغيير فيه ولا تبديل. (حادي عشرها) : إجازة وضع الأسانيد للكلام الحسن؛ ليجعل حديثًا , ذكروا هذا سببًا مستقلاًّ وهو يدخل فيما سبقه. (ثاني عشرها) : تنفيق المدعي للعلم لنفسه على من يتكلم عنده إذا عرض البحث عن حديث ووقع السؤال عن كونه صحيحًا أو ضعيفًا أو موضوعًا فيقول من في دينه رقة وفي عمله دغل: هذا الحديث أخرجه فلان وصححه فلان , ويسند هذا إلى كتب يندر وجودها ليوهم أنه مطلع على ما لم يطلع عليه غيره أو يخلق للحديث إسنادًا جديدًا، قالوا: وربما لم يكن قد قرع سمعه ذلك اللفظ المسئول عنه قبل السؤال، وهذا نوع من أنواع الوضع شعبة من شعب الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يسمعه من لم يعرف حقيقة حاله فيعتقد صحة ذلك وينسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: رواه فلان وصححه فلان كما قال ذلك المخذول. هذا ما ذكره المحدثون لم نستنبط منه شيئًا من عندنا لأنهم رحمهم الله ما تركوا مقالاً لقائل، ومنه يعلم أن ضبط كل ما وضع من الحديث متعذر، وأنه يجب الاحتياط التام في قبول أي حديث وجد في كتاب أو سمع من رجل حتى يعلم أن الحفاظ اتفقوا على صحة روايته، فإذا طعن في أحد رجال سنده واحد منهم فالعمل حينئذ بما قالوه من تقديم الجرح على التعديل بشرطه. ويبقى بعد ذلك البحث في الحديث دراية فإن خالف شيئًا وجوديًّا في الطبيعة أو أصلاً من أصول الشريعة الثابتة بالكتاب العزيز أو السنة القطعية أو عمل المسلمين في العصر الأول من الصحابة والتابعين فهو مردود. والحاصل أن الثابت من الدين نقلاً بطريق القطع هو القرآن والأحاديث المتواترة وقليل ما هي وما كان عليه أهل العصر الأول من العمل الذي يتعلق بالعبادة إذ العبادات وأساسها من العقائد وتهذيب الأرواح هو الذي كمل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً. وأما المعاملات والأمور القضائية فقد جاءت الشريعة بأصولها العامة وقواعدها الكلية والجزئيات تجري على ما قال أحد الأئمة: تحدث للناس أقضية ... إلخ فتأمل هذا ينفعك والله الموفق. *** واجب الصحافة ومفاسد الانتحال تكرر منا الانتقاد على الجرائد التي تنقل كلام غيرها ولا تعزوه إلى صاحبه، وقد يكون هذا من البعض عن عمد فيكون سرقة شرًّا من سرقة الأموال والعروض لأن في سرقة دينار من رجل ذنبًا واحدًا، وفي سرقة الكلام عدة ذنوب أحدها: التعدي على حقوق الناس وانتحالها لنفسه، وهو المراد بتسميتها سرقة، وثانيها: الخيانة في العلم وهو لا ينجح إلا بالأمانة , وهي نسبة كل قول إلى قائله وكل رأي إلى صاحبه , وثالثها: الكذب وهو ظاهر , ورابعها: التبجح والافتخار بالباطل , وقد ورد في الحديث الصحيح: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) , خامسها: الغش فإن من الناس من إذا علم أن هذا القول لفلان يأخذ به ويقلده لأن التقليد مبني على الثقة , فإذا نسب القول إلى غير صاحبه يتركه من لو علم صاحبه لأخذ به وانتفع لثقته به دون من نسب إليه , ويأخذ به من يثق بالمنتحل على أنه له وما هو له. سادسها: الجناية على التاريخ الذي يبين مراتب الناس وأقدارهم في العلم. ولا شك أن المحدثين يعتبرون هؤلاء المنتحلين من الوضاع الكاذبين حتى لا يثقون برواية لهم وكذلك يجب. كما تكون هذه الجريمة عن عمد تقع في بعض الأحايين سهوًا , وإذا كان السهو في كتاب وطبع؛ يصعب تداركه وتلافيه. وإلحاق القول بقائله والرأي بمرتئيه. ولكن التدارك يسهل في الجرائد بأن يصرح أصحابها في الجزء التالي ببيان ما سهوا عنه في المقدم. ذكرنا في بعض أجزاء المنار أن بعض المؤلفين انتحل بعض العبارات وبعض المسائل من (رسالة التوحيد) في كتاب له ولم يعزها للرسالة ولا لفضيلة مؤلفها , وبعضهم نقل منها من غير عزو ولم نذكره , ولكننا ذاكرناه وعرفنا السبب في ذلك ولم يتدارك أحد من هؤلاء ما وقع منه ويتيسر لهم ذلك بإعادة طبع مؤلفاتهم إن أرادوا الحق. وذكرنا عن بعضهم مثل هذا الانتحال عن المنار. نشرت مجلة (نور الإسلام) في العدد الصادر في منتصف جمادى الثانية مقالة (العروة الوثقى) الشهيرة في المقابلة بين الديانتين الإسلامية والمسيحية وآثارهما في نفوس المنتسبين إليهما، وأعمالهم , ولكنها لم تعزها إليها، كما عزوناها نحن حين سبقناها بنشرها في أول السنة الماضية , ونحمل هذا من رصيفتنا على السهو، وننتظر أن نرى في عددها الذي يصدر في تاريخ هذا الجزء من المنار (غرة رجب) التصريح بنسبة المقالة إلى العروة الوثقى كما هو واجب الصحافة , وننبه رصيفينا الفاضلين صاحبي هذه المجلة إلى عزو كل نبذة تنشر في مجلتهما من (رسالة التوحيد) إلى الرسالة أو إلى فضيلة مؤلفها وعدم الاكتفاء بالعزو الأول إذ الجرائد يتجدد لها قراء لم يطلعوا على الأعداد السابقة فيكون عدم العزو تدليسًا بالنظر إليهم وفيه ما علم. هذا وإن عزو الكلام إلى مثل مولانا الأستاذ الأكبر مفتي الديار المصرية الذي هو حكيم الأمة في هذا العصر مما يجب أن تفتخر به الجريدة ويزيدها اعتبارًا في نظر من يطلع عليها , وإنما يهرب المرء من تكرار ذكر من لا يخلو ذكره من غضاضة. ولم نرض لرصيفتنا إلا ما رضيناه لمجلتنا فإننا نفتخر بعزو التفسير الذي نقتبسه من الأستاذ إليه ونعلم أيضًا أنه أحرى بأن ينتفع به القراء ويتلقونه بكمال الثقة والقبول. *** كتاب البهائية وناشره نشكر لمشيخة الأزهر الجليلة الاهتمام بكتاب طائفة البهائية الذي تكلمنا عنه في الجزء الماضي، فقد بلغنا أنها عاقبت ملتزم طبعه ونشره بقطع جرايته ومرتبه من الأزهر إلى مدة أربعة أشهر، وهذا بناء على تنصله واعتذاره بأن مقدمة الكتاب نشرت باسمه من غير إذنه وأنه هو إلى الآن لم يعلم بما يشتمل عليه الكتاب مما يخالف دين الإسلام ويثبت الديانة البهائية , وحاصل هذا التنصل والاعتذار أن البهائية قوم مزورون استخدموا اسم مجاور في الأزهر لخلابة المسلمين وخداعهم بإيهامهم أن دينهم منتشر في الجامع الأزهر الشريف وكتابهم يباع فيه ولولا أنه حق لما سكت عليه شيوخ الأزهر ولما أقروا ناشره وبائعه فيه على نشره وبيعه مع أنه اشتهر عن بعضهم المعارضة في بيع رسالة الردّ على هانوتو فيما خاض فيه من دين الإسلام بناء على أن البيع في المساجد ممنوع شرعًا. ومن العارفين بناشر هذا الكتاب من يعتقد أنه دخل في الديانة البهائية، ولكن اعتذاره هذا طعن فاحش بهذا الدين وأهله يدل على أنه غير موقن به ولا معتقد , إذ لو كان معتقدًا لما اختار هذا المتاع القليل وهو الجراية على دينه الجديد مع أن العهد بالداخلين في الأديان عند ظهورها شدة التمسك بها والمحافظة على كرامة أهلها والله أعلم بالسرائر. *** منكرات التقاريظ وكتاب البهائية للناس في تقريظ الكتب والجرائد منكرات كثيرة تكلمنا عنها في كتابنا (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية , والرفاعية) بمناسبة الكلام على كتب مشحونة بالباطل قرظ عليها بعض العلماء المشهورين من غير اطلاع على ما فيها ولا ظهور على قوادمها وخوافيها. ومن هذا النحو تقريظ بعض الجرائد الوطنية الإسلامية لكتاب البهائية فيما نظن، وإن كان ظاهر التقريظ أن كاتبه اطلع على الكتاب لأنه ذكر أمهات مسائله ومهمات مواضيعه , ومنها الكلام في المعجزات التي ينكرها البهائية بالمعنى المعروف عند المسلمين , وينكرون كون إعجاز القرآن ببلاغته كما تقدم في الجزء الماضي ومنها تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) فقد نوهت به الجريدة المذكورة مع أنه الأساس الذي يقيمون عليه بناء دينهم , والراية التي يرفعونها لنشر بدعتهم , والزمام الذي يقودون به المسلمين إليهم. وذلك أنهم يزعمون

الحكومة الاستبدادية

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

_ الحكومة الاستبدادية من مقالات حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني تغمده الله برحمته إن طول مكث الشرقيين تحت نير استبداد المستبدين الذين كان اختلاف أهوائهم الناشئ عن تضاد طبائعهم وسوء تربيتهم مع عدم وجود رادع يردعهم ومانع يمنعهم وقوة خارجية تصادمهم في سيرهم سببًا أوجب التطاول على رعاياهم وسلب حقوقهم بل اقتضى التصرف في غرائزهم وسجاياهم والتغيير في فطرتهم الإنسانية حتى كادوا أن لا يميزوا بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع وأوشكوا أن لا يعرفوا أنفسهم وما انطوت عليه من القوى المقدسة والقدرة الكاملة والسلطة المطلقة على عالم الطبيعة والعقل الفعَّال الذي تخضع لديه البسائط والمركبات. ويطيع أمره النافذ جميع المواليد من الحيوان والنبات. وإن امتداد زمن توغلهم في الخرافات التي تزيل البصيرة وتستوجب المحو التام والذهول المستغرق بل تستدعي التنزل إلى الرتبة الحيوانية ومداومتهم من أحقاب متتالية على معارضة العلوم الحقيقية التي تكشف عن حقيقة الإنسان وتعلمه بواجباته وما يلزمه في معاشه , وتبين له الأسباب الموجبة للخلل في الهيئة الاجتماعية وتمكنه من دفعها والسعي في إطفاء نورها بما ورثوه عن آبائهم من سفه القول وسخف الرأي والجدّ في اضمحلال كتبها وضياع آثارها واستبدالها بما أوقعهم في ظلمات لا يهتدون إلى الخروج منها أبدًا [1] . كل هذه الأسباب تمنع القلم عن أن يجري على قرطاس بيد شرقي في البلاد الشرقية بذكر الحكومة الجمهورية وبيان حقيقتها ومزاياها وسعادة ذويها الفائزين بها وأن المسوسين بها أعلى شأنًا وأرفع مكانة من سائر أفراد الإنسان بل هم الذين يليق بهم أن يدخلوا تحت هذا الاسم دون من عداهم , فإن الإنسان الحقيقي هو الذي لا يحكم عليه إلا القانون الحق المؤسس على دعائم العدل الذي رضيه لنفسه يحدد به حركاته وسكناته ومعاملاته مع غيره على وجه يصعد به إلى أوج السعادة الحقيقية. وتصدُّه عن أن يرقم على صفحات الأوراق ما يكشف عن ماهية الحكومة المقيدة ويوضح عن فوائدها وثمراتها , ويبين أن المحكومين بها قد هزتهم الفطرة الإنسانية فنبهتهم للخروج من حضيض البهيمية والترقي إلى أوّل درجات الكمال وإلقاء أوزار ما تكلفهم به الحكومة المطلقة وتطلب مشاركة أولي أمرهم في آرائهم وكبح شره النهمين منهم الطالبين للاستئثار بالسعادة دون غيرهم. ولهذا أضربنا صفحًا عن ذكرها , وأردنا أن نذكر في مقالنا هذا الحكومة الاستبدادية بأقسامها فنقول: إن الحكومة الاستبدادية باعتبار عناصرها الذاتية. وأقانيمها الحقيقية التي هي عبارة عن أمير أو سلطان ووزراء ومأموري إدارة وجباية تنقسم إلى ثلاثة أقسام: (القسم الأول) : منها الحكومة القاسية وهي التي تكون أركانها مع اتسامهم بسمة الإمارة والوزارة والإدارة والجباية شبيهة بقطاع الطريق , فكما أن قاطع الطريق يقطع طرق السابلة ويسلبهم أموالهم ومؤنهم وثيابهم التي تقيهم الحر والبرد وسائر مواد حياتهم ويتركهم في البوادي والقفار حفاة عراة جياعًا تقطعت بهم حبال الوسائل ولا يلاحظ أن فيهم الهرم والصغير والعاجز والضعيف الذين لا يستطيعون التخلص من المهالك , ولا يقتدرون على النجاة ولا يبالي بموتهم وهلاكهم عن آخرهم ولا تأخذه في ذلك الشفقة والرحمة. كذلك هؤلاء الأركان يغتصبون ضِيَاع رعاياهم وعقاراتهم ويستولون على مساكنهم وبساتينهم وينتزعون بالضرب والحبس والكيّ وغيرها من أنواع العذاب ما بأيديهم من ثمرات اكتسابهم ويدعونهم في مخالب المصائب معرَّضين للأسقام والآلام وأهدافًا لسهام البلايا التي ترميهم بها عواصف الرياح الزمهريرية والسمومية , ولا يخشون اضمحلالهم وإبادتهم بالكلية ومحق حياتهم بالمرة [2] بل يستبشرون بذلك كأنما هم أعداؤهم , ولا يشعرون أنهم قواد السلطة وأساسها. ومن أفراد هذا القسم الحكومة الإنكليزية [3] والتيمورية وغيرهما من حكومات التتر [4] . كما تشهد بذلك التواريخ. (القسم الثاني) : الحكومة الظالمة وأولياء هذه الحكومة تماثل الأخساء والمترفين الذين يستعبدون أناسًا خلقوا أحرارًا فكما أنهم يكلفون عبيدهم بأعمال شاقة وأفعال متعبة ويجبرونهم على نقر الأحجار وخوض البحار وفلق الصخور وقلع الجبال وطي المفاوز وجَوْبِ البلاد في صرّة الشتاء وهجيرة الصيف , ويؤلمون أبدانهم بالسياط إذا لجأوا آنًا ما إلى الراحة التي تجذبهم الطبيعة إليها ويحجبونهم بأشغالهم المستغرقة لأيام حياة هؤلاء المظلومين عن مزايا جواهر عقولهم المقدسة حيث لا يجدون فرصة من دهرهم للنظر في الآفاق وفي أنفسهم كي يرتقوا من الإحساس البهيمي إلى عرش الإدراك الإنساني ويشاركوا أبناء جنسهم في اللذائذ الروحية ويجتنوا ثمار عقولهم ليوازروهم بنتائجها من الصنائع البديعة والمخترعات الرفيعة فيسعدوا مع السعداء. ومع ذلك يحرسون حياتهم ويحرصون على استبقائها استيفاءً للخدمة منهم بتقديم قوت من أردأ ما يقتات به لسد الرمق , وثياب خشنة رثة لتحفظهم من أظفار العواصف وبراثن القواصف فلا يكون حالهم مع سادتهم إلا كحال البهائم والأنعام الأهلية لا يعيشون إلا لغيرهم ولا يتحركون إلا برضاه بل بمنزلة آلة غير شاعرة بأيدي مستعبديهم يستعملونهم كما يشاءون. كذلك هؤلاء الولاة مع رعاياهم فإن الرعايا لا يزالون يتحملون المتاعب والأوصاب، ويكدون أيام سنيهم ويسهرون لياليها مشتغلين بلا فتور بالغرس والحرث , والحصد والدرس. والندف والحلج. والغزل والنسج. مهتمين بالحدادة والنجارة , والملاحة والتجارة. ساعين في حفر الأنهر وإنباع المياه وإنشاء الجداول والجسور متكبدين آلام التغرب في الحر المبيد , والبرد المميت. كي ينالوا (أي الحكام) أرغد العيش بطيب المطعم والمشرب والملبس والمسكن , ويحوزوا الراحة والرفاهة , والحظ والسعادة , وهؤلاء الظلمة لا يفترون عن السعي في سلب ما بأيديهم جبرًا وغصب ثمار مكاسبهم وفوائد متاعبهم رغمًا , ولا يدعون لهم مما اكتسبوه بكد يمينهم , وعرق جبينهم. سوى ما تقوم به حياتهم الدنيئة حتى تراهم بعد اقتحام هذه الأخطار وتحمل تلك المصاعب. لا يقتاتون إلا بكسرات خبز رديئة ناشفة يبلونها بدموعهم المنسكبة من جور ولاتهم الفاتكين , ولا يسترون أبدانهم إلا بخرق رثَّة مرقَّشة بدمائهم السائلة من سياط حكامهم الجائرين , ولا يسكنون إلا في الأكنَّة المنخفضة والأخصاص الخسيسة كأنهم أنعام حرمتهم الطبيعة من المزايا الإنسانية , ولا يشاهدون إلا بوجوه مغبّرة مقشرة , وأبدان مقشفة معفّرة , وتدوم عليهم هذه الحال الرديئة التي نشئوا عليها , والمعيشة الدنيئة التي اعتادوها. حتى يقتنعوا بها ولا يتعلقوا سواها , بل يتنزلون بسوء تصرف هؤلاء الولاة عما منحوه من فضيلة العقل إلى رتبة البهيمية , ولا يحسّون بمعيشة أكمل مما هم فيه ولا يتألمون إلا بالآلام الجسمانية. ومن أقسام هذه الحكومة غالب حكومات الشرقيين في الأزمان الغابرة والأوقات الحاضرة، وكذلك أكثر حكومات الغربيين في الدهور الماضية ومنها أيضا الحكومة الإنكليزية الآن في البلاد الهندية. لها بقية (المنار) ظفرنا بهذه المقالة في صحيفة عاث فيها العثُّ (الأرضة) فذهب بكلمات قليلة منها لم تخلّ بالمعنى وإن نقصت بعض الفائدة فمنها ما تركنا له بياضًا ليكتب فيه الساقط من يظفر به من القراء , ومنها ما وضعنا له كلمة يدل عليها المعنى ككلمة (صرة) قبل لفظ الشتاء. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) من كتاب من أراسم إلى هيلانة في 11 يونيه سنة 185 قد قطع مكتوبك ولله الحمد جميع العقبات التي كانت تحول بينه وبين الوصول إليّ وهو الآن بين يديّ أرى فيه شعاعًا من شمس الحرية. قد اتصل بي وها أنا ذا ألاحظك بفكري في تنزهك على شاطىء البحر وأبصر (أميل) من خلال ما تبدينه من ضروب التأثر والانفعال وإخالني أعرفه. رباه كيف أكون والدًا من سنتين كاملتين ولا أتمكن من تقبيل ولدي إلى الآن! أترك هذا الأسف الذي لا جدوى له وأعاود الحديث معك فيما ينبغي أن يكون أهم ما يعنينا في هذه الدنيا فأقول: إن من أغلاط المشتغلين بالتربية صرفهم جل عنايتهم في تقويم القوى والملكات العقلية وقلة التفاتهم إلى غيرها مع أنه لا يسعهم إنكار ما بينها وبين قوى الإدراك الحسية والنفسية من الارتباط , ولكني في هذا المكتوب أحب أن أوجه فكرك إلى تربية الإدراك العقلي بنوع خاص. كأني بك تقولين: هل يتفكر الطفل؟ فأجيبك أن ذلك لازم له لأنه حيّ ولأن العلم إذا كان كلما نفذ في أسرار حياة النباتات والحيوانات كشف لنا فيها بداية إحساس بل ربما صح أن يقال: بداية إدراك فكيف يكون الطفل حينئذ أقل حظًّا من هذه الكائنات التي هي أضعف خلق الله تعالى؟ نعم إني لا أنكر أن مخه في الأسابيع الأولى من ولادته يكون في نظرنا كالبيداء المظلمة التي وصفها الشاعر اللاتيني بأنها مملكة العفاريت ولكنه يتدرج في تمييز بعض الأشياء بعضها من بعض والقياس بينها وانتزاع بعض الأحكام عليها , وإنك لا تكادين تجدين طفلاً في الشهر الخامس عشر أو السادس عشر من عمره إذا رأى صورة إنسان إلا وهو يفتكر بأنها لشخص معروف. من الأسباب التي تعين على إنماء عقل الطفل بعد تربيته بما يحتف به من الأشياء تعليمه اللسان. وإني أرجح ما تقولينه من أن الإنسان في عهد طفوليته كان يتلمس مواد الكلام الأولى في أصوات الكون الميحط به , وقد يدلنا على أن هذه الأصوات هي أصل اللغات الإنسانية ما نجده في جميعها خصوصًا ما كان منها قديمًا جدًّا من آثار التوافق الناشىء عن التقليد وما أجلَّ وأعظم كلام الإنسان فمن العبث أن أرضي نفسي بقولي: إن أسلافنا الغابرين قد جمعوا في بداية نشأتهم الأصوات المبهمة المنتشرة في جميع أرجاء الكون وصيروها لغة , فإن هذا القول لا يكشف لي جميع ما في كلام الإنسان من المعاني لأنك تجدين لكل شيء في هذا العالم كلامًا , فالمعدن يتكلم لأنه إذا نُقر صوَّت تصويتًا يخبر بماهيته نحاسًا كان أو ذهبًا , والحيوان يتكلم لأنه يدل في كل حين بما يبديه في صوته من الكيفيات المختلفة على حاجاته ووجداناته وشهواته , والهواء والبحر والرعد تتكلم لأن ألفاظها تنبىء عما يقع بين الفواعل الكونية من الكفاح والمغالبة , ولكن شتان بين كلام هذه المخلوقات جميعها وكلام الإنسان ولو كان طفلاً فإن الطفل متى قدر على النطق ببعض الكلمات ولو مع التلعثم فيها واستطاع مثلاً أن يقول: (أنا) مثبتًا بذلك استقلال الإنسان وقيام الحياة العامة به رأيت أن جميع ما في الكون أمامه قد دخل في شبه عبودية وخضوع. إن أصوات المادة معلولة للحوادث التي تُوجِدها , وأصوات الحيوانات ناشئة عن الغرائز المستقرة في أنواعها , وأما لفظ الإنسان فهو حتى في حال تمتمة الطفولية دال على ذات شأنها الحرية والاستقلال. على أنه لا ينبغي أن نعمى عن الفائدة الحقيقية من أساليب الكلام من حيث كونه ركنًا من أركان تربية الإدراك. ذلك لأن الطفل لا يتلقى عنا وقت الكلام معه إلا أصواتًا فمن أجل أن يكون تعليمنا مفيدًا له يجب أن تكون هذه الأصوات التي يسمعها مقرونة في نفسه بمدلولاتها: أنت تذكرين تلك الفتاة التي جاءت بها إليَّ والدتها في يوم من الأيام تستفتيني في أمرها فقد كانت شبيهة بتلك المغارات المقفرة تردد جميع الأصوات غير فاهمة شيئًا منها , وكنت أعتقد أنها لجمالها الرائع لو كانت شهدت قدماء اليونان لاتخذوها إلهة لصدى الأصوات لأنها لفرط ما أوتيته من قوة السمع الميئوس من تعديلها وغريزة التقليد المتعاصية على الترويض كانت على الدوام ترجع ما كنت أوجهه إليها من الأسئلة فلم يفدها ذلك شيئًا. فأنا أخشى كثيرًا أن لا يوجد بين هذه البلهاء المسكينة التي لا تفهم شيئًا مما تردده من الكلام وبين كثير من الأطفال الذين يرددونه على قلة فهمهم إياه أو على فهمه مقلوبًا إلا فرق خفيف. على أني أرى أن الميل إلى التكلم بغير فائدة مرض من أمراض العقل عند الإنسان، فكم من النساء من يجتهدن في إماتة ما يجدنه من الضجر والسآمة بأغاني ليس فيها شيء من المعاني المعيَّنة , ولقد عرفت مسجونًا كان على قصور إدراكه جدًّا كلما وضع في السجن المظلم عقابًا له على ما كان يرتكبه من الذنوب يجتهد في مخادعة العزلة والظلام بأحاديث خالية من المعاني. وإنه يوجد في الشعائر الدينية القديمة لكثير من الأمم صيغ من العزائم والتعاويذ هي عبارة عن كلمات أو جمل مرتبة تلتذ بسماعها الأذن , ولكن لو أراد سامعها البحث عن معانيها لكان محاولاً عبثًا. وما لنا وللرجوع إلى تلك الأزمان الغابرة نستشهد بما كان فيها على ما نقول , وأمامنا كنائسنا الكاثوليكية نسمع المؤمنين يدعون الله فيها بأدعية لاتينية لا يفهم معانيها إلا النزر القليل منهم. ولكن أرى أن عدم صرف اللسان عن هذه الوجهة الفاسدة وإعانته على الجري في مضمارها من الأمور الشديدة الخطر على العقل فإذا لم يحترس منهما أصبحت الألفاظ خلوًا من معانيها وصارت عُوَذًا للعقل. الطفل فيه شيء من خاصية الببغاء ولا وجه للشكوى من ذلك فإنه بهذه القوة التقليدية يتيسر له الاختلاط بمن حوله ومعاشرتهم , ولكن حلَّ عقدة لسانه أيسر من فتح مغلق عقله , فليست الألفاظ تؤدي دائمًا إلى فهم الأشياء التي وضعت لها , وإني لأرى في لغة الخرس مزية لا توجد في لغتنا معاشر الناطقين ذلك لأن الإشارات عندهم هي رسوم للمعاني والوقائع , وليس الأمر كذلك في النطق الذي هو عبارة عن أصوات متنوعة وأجراس مختلفة كما يعلمه كل منا. ثم اعلمي أن محادثة الأطفال مما لا شك في فائدته فإنها من دواعي ابتهاجهم وانشراح صدورهم ولكن على شرط أن تكون الكلمات وسيلة إلى انتقال أذهانهم إلى مدلولاتها فيجب عند تلقيهم للدوال اللفظية أن ينبهوا إلى ما تدل عليه ويفهموا ما بين الدوال والمدلول من الارتباط , فبهذه الطريقة تعوّد أذهانهم على الاستقرار وعدم التشتت. لست أدري لماذا نهتم كثيرًا بمقاومة ما يجده الأطفال من اللذة في تقليد أصوات بعض الحيوانات فما أسعد حظ امرئ يكون فيه من المواهب الإلهية ما يؤهله لفهم جميع ما يعيش على وجه البسيطة. لا أقصد بقولي هذا أن من يحاول محاكاة أصوات بعض الحيوانات يفهم معنى لسانها , ولكني أريد به أن مثل هذا السعي في التقليد يدل على أن صاحبه قد وصل إلى درجة ما من النظر والملاحظة فالطفل الذي يحاول تقليد صوت الكلب أو الديك مثلاً قد لاحظ أن في هذا العالم مخلوقات أخرى غيره وأن لها في التعبير عما في أنفسها من الوجدانات طريقة خاصة بها. اللغة الإنسانية وإن كانت وضعية فأصولها على التحقيق فطرية. انطري إلى الأطفال؛ تجدي لهم لغة معروفة في جميع أقطار الأرض وهي وإن اختلفت يسيرًا من أمة إلى أخرى تتألف في الأصل من أصوات آحادية المقاطع فأصول الكلام الملفوظ عند جميع الأمم لا تخرج عن حرف ساكن وحرف لين يتكرران بحركة الشفتين مثل (بابا ماما تاتا دادا) وغيرها ما عدا بعض تنويعات خفيفة , والطفل يقضي من دور طفوليته زمنًا طويلاً لا يعرف فيه أداة التعريف ولا الضمير وأما الفعل فلا يدرك منه إلا المصدر , ولا ينفذ ذهنه إلى فهم صيغ الماضي والمضارع والأمر وغيرها من المشتقات , ولا يعرف من النعوت إلا قليلاً , وأقل منه معرفته بحروف العطف فلغته شبيهة بلغات الأجيال الأولى. وقد روى لنا أحد السياح أنه يوجد في أفريقيا قبيلة يتألف لسانها من اثنتي عشرة كلمة لا غير , وقال: إن أفراد هذه القبيلة على قلة ألفاظ لغتهم إلى هذا الحد يتفاهمون جيدًا فيما بينهم بإضافة الإشارات إلى الأصوات , وكم يوجد من الأطفال من يُفهِمُون أمهاتهم ما يريدونه بما هو أقل من كلمات تلك اللغة مثل تحريك الأعين أو الإشارة أو ما لا يكاد يكون شيئًا يذكر مع إفصاحه عن أفكارهم وإظهاره لمقاصدهم. وهناك أمم أخرى تكاد تكون أميّة , ولكنها تبرز علينا في علم ربط الوقائع بعضها ببعض وانتزاع الأحكام منها , فالعرب القاطنون فيما بين النهرين (الدجلة , والفرات) لا يكادون يقرءون شيئًا من الكتب لأنه لا مدرسة لهم سوى الصحراء , ولكن من المحقق أن البدويَّ منهم اذا رأى آثار الخُطا على الرمل؛ حكم فورًا إن كانت آثار إنسان أو حيوان وإن كان إنسانًا؛ عرف قبيلته وكونه عدوًّا أو صديقًا , وقدر تاريخ مروره سواء كان قديمًا أو حديثًا , واستنتج ماذا عسى أن يكون قصده من سفره , وحكم أيضًا ببعض علامات يراها منتشرة في الطريق إن كان البعير حاملاً شيئًا أو خاليًا , شبعان أو جائعًا , مستجم القوى أو مهزولاً , وإن كان صاحبه من سكان الحضر أو البدو. فإذا تأملنا قليلاً في سبب وجود هذه المعرفة عند هؤلاء القوم؛ ظهر لنا أن طريقة البدوي في ربط الوقائع بعضها ببعض وانتزاع الأحكام منها هي بعينها الطريقة المعروفة في العلوم الصحيحة. من الجلي أن أحدًا لا يسعه إنكار أهمية اللغات وما لها من الفوائد في تربية عقل الإنسان , ولكن مما ينبغي الاعتراف به أن الألفاظ إذا كانت تعفي من النظر في الأشياء وملاحظتها كما هو الشأن فيها غالبًا فهي مضرة بالإدراك لا مفيدة له فالطفل وإن قدر على تسمية الفرس بخمس لغات مختلفة لا يعرف في نهاية الأمر إلا حيوانًا واحدًا فلو اتفق أنه لم يره في حياته كان لم يعرف شيئًا. أراك تذكرين ما اشتهر عند هاملت [1] من تعجبه من تشبث الناس بالألفاظ حين قال: (ألفاظ ألفاظ ألفاظ) فهذا الأمير كان درس في المدارس , وكأنه بهذا الاستغراب يتفقد طريقتنا في التربية , فإن المشتغلين بهذه الطريقة يوجبون على الطفل من أجل كمال تربيته أن يحفظ أفكار غيره ويرددها مع أن الواجب عليهم أن يسألوه دائمًا عن أفكاره ويبادرونه بالحث على النظر في الوقائع والقياس بينها , وتمرين نفسه على الحكم عليها. قد رأيت فيما سبق أن العمل هو اللازم في تربية العواطف الفاضلة وضروب الوجدان الشريفة فكان الواجب على المربين أن يكون مرجعهم هنا أيضا إلى العمل لإحياء جرثومة الإدراك في الطفل وتلقيحها لتنتج الثمرات المطلوبة اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

البدع والخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البدع والخرافات ديانة البهائية لأحد وكلاء المجلة سيدي الفاضل صاحب المنار الأغر يا طالما دار في خلدي أن أستفسر منكم عن البدعة السيئة التي ظهرت في هذا العصر والتصقت بالدين الإسلامي الشريف ألا وهي الديانة البابية البهائية فقد علمت بها منذ نصف سنة تقريبًا غير أني كنت أقدم مرة وأحجم أخرى ظنًّا مني أن هذه الديانة ليست مما يصل خبرها إلى مسامعكم لقلة القائمين بها في مصر حتى رأيت في عدد (23) من المنار نبذة عن هذه الديانة المحدثة وأن لها وا أسفاه مروجًا في الأزهر من طلبته فلا حول ولا قُوَّةَ إلا بالله. وبما أني قد أطلعت على بعض دخائل هذه الديانة إطلاعا أظهر لي جلية كنهما ممن اعتنقوها فأشرح لكم الآن ما وصلت إليه وعثرت عليه فأقول: جمعني وبعض أهل هذه الديانة مجلس , ودار الحديث بيننا في المهدي المنتظر وشأنه، وما ورد بهذا الصدد من الأحاديث فما كان من محدثي إلا أن قال لي: اعلم أن المهدي المنتظر قد أتى وتحققت علاماته المسطرة في الكتب فقلت له: عَلَّكَ تشير إلى مهدي السودان فقال: لا إني لأجلّ من أن أصدق في هذا أنه كان مهديًّا , فقلت له: إذا لم يكن ذاك فأي مهديّ تعني , قال: أعني (محمد بن علي) الإيراني ذلك المهدي المنتظر حقيقة , فقلت له: أريد أن تقص عليَّ خبره فإني لم أسمع بهذا المهدي إلا منك الآن , فقال: لا بأس اعلم أيها الصديق أن محمد بن علي الإيراني مات أبوه وهو صغير فكفله خاله حتى بلغ أشده واستوى فقام يدعو الناس إلى اتباعه ويزعم أنه هو المهدي وانضم إليه كثير من الناس , وبعد زمن سافر إلى البيت الحرام لأداء فريضة الحج فاجتمع عليه أيضًا خلق كثير وبايعوه بين الركن والمقام واشتهر أمره في الموسم وبعد انقضاء الموسم رجع إلى بلاد فارس وأتت إليه الرايات السود من خراسان تحملها الرجال (كذا) وظهر أمره ظهورًا زائدًا فلما علمت حكومة إيران بذلك أمرت واليها في تلك الجهة بالقبض عليه وقد كان , وأرسل إلى طهران وأفتى العلماء بقتله وكفره فحينما قدموه إلى الصلب كان هناك 800 جندي كلهم شاكي السلاح حاملو البنادق المحشوَّة بالرصاص ولما انتظم عقد الاجتماع ورفع ذلك المهدي على الصليب أمرت العساكر بإطلاق البنادق جميعها دفعة واحدة عليه وقد كان , فبعد أن راق الجو من دخان بارود 800 بندقية أقبل الناس إلى خشبة الصليب ينظرون ماذا صنع بالمهدي فإذا هو واقف على الأرض بجوار الصليب ليس به إصابة ما [1] . ومن صَحِبَ الليالي علمته ... خداع الألف والقيل المحالا وصيرت الخطوب عليه حتى ... تريه الذرَّ يحملن الجبالا ثم عمد إلى بعض أتباعه الذين كانوا مشاهدين هذه الواقعة وسلمهم دواته وقلمه وأمرهم أن يتوجهوا إلى (بهاء الله) ويسلموه هذه المخلفات , وأخبرهم أنه سيقتل في ثاني مرة , ثم أخذه الجند فعلقوه ثانيًا وأطلقوا عليه بنادقهم فبعد أن صفا الجو وأنزلوه عن الصلب رأوا جسده كالشبكة كله ثقوب (ومن يعش ير صليبًا ينصب ومسيحًا يصلب) ثم قام الجند بحراسة الجثة خوفًا من ضياعها غير أنه لما أصبح الصباح لم يجدوا الجثة في مكانها ولم يقفوا لها على أثر (علها صعدت مع أثمان القطن [2] ) , ثم قام بعده بالدعوة بهاء الله , وهذا الأخير يعزون له من المعجزات ما لو أتينا على ما سمعناه منها لضاقت عنه صفحات المنار غير أننا نأتي هنا للقراء على بعضها ومنها يعلم باقيها. ينسبون إلى بهاء الله أنه كان يومًا راكبًا على (حمار) متوجهًا إلى بعض القرى ومعه بعض أتباعه فعارضه في الطريق رجل من الفلاحين قد حرث أرضه وهيأها للزرع والبزر ولم ينقصه غير المياه لريّها فقال له: أيها (البهاء) الأعظم أسألك أن تنزل لي مطرًا لأروي به الأرض التي شققتها فأجابه: سأفعل , وأراد أن يذهب فلم يدعه الرجل وألحّ عليه , فأجابه ثانيًا: اذهب إلى أرضك تجد المطر قد سبقك إليها , فتركه الرجل ومضى , قال (راويهم) : فلم نقطع قليلاً من السير حتى تشققت السماء بالغمام وانهمر المطر حتى تعذر علينا المسير , فقال (البهاء) : هذا ما كنت أحذره. وغير ذلك من المعجزات التي أضرب عنها صفحًا مخافة التطويل , ثم مات بهاء الله بعد أن نفي بعكا وقبره الآن فيها واستخلف بعده على أمته ابنه (عباس أفندي) الملقب (بالغصن الأعظم) وهو الآن بعكا أيضًا , وقد نقش على خاتمه (يا صاحبي السجن) وهو يجد ويجتهد في نشر ديانته , ويبث المبشرين في بعض الجهات لذلك. وأتباع هذا الدين يسمون بالبابيين نسبة إلى (محمد بن علي المهدي) فإنه كان يلقب نفسه (بالباب) وبهائيين نسبة إلى (بهاء الله) , وقد وضع هذا الأخير كتابًا وسماه (الإيمان) وهو عندهم بمثابة القرآن عندنا أي يعتقدون أنه وحي إلهيُّ فضلاً عن اعتقادهم الألوهية في واضعه , ومن يطالع كتبهم يقف على ذلك , وهذا الكتاب قد رأيته بعيني غير أني لعدم إلمامي باللغة الفارسية لم أفهم منه غير الآيات القرآنية التي تخلل سطوره وصفحاته. وهذا الكتاب مطبوع ويا للأسف في مطبعة بعض المجلات الإسلامية بمصر على ورق جيد. وَلِمَ نأسف من طبعه في مطبعة إسلامية , وقد مدح صاحب مجلة إسلامية تدعي الإرشاد وهداية الأمة (الغصن الأعظم ودينه بقصيدة رأيتها في ذيل كتاب من كتبهم المطبوعة حديثًا ولنترك ذلك لحضرتكم فاطلاعكم أوسع وسيفكم أقطع , ولنرجع إلى ما كنا بصدده فنقول: هذا - إلى ما اطلعت عليه من مؤلفات بهاء الله التي لم تطبع كالتفسير الذي وضعه على بعض سور القرآن الشريف , وككتابه في الرؤيا , وكتابه المسمى بالألواح أعني الرسائل التي بعث بها (على ما يزعمون) إلى الملوك الذين كانوا في عصره يدعوهم فيها إلى الدخول في ديانته , ومن ينظرها ير العجب وكيف تكون الكتب , ولغصنه الأعظم تصانيف كثيرة وجميع البهائيين يعتقدون أنها إلهامية ككتب أبيه , وكلها بالكتابة اليدوية لم يطبع منها شيء على ما أظن. ولهذا الدين في مصر مبشرون قائمون بالدعوة إليه , ورئيس هؤلاء المبشرين رجل إيراني يلقبونه (بابن التاريخ وأبي الفضل) وقد صنف هذا كتابًا وضمنه كثيرًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية , وأوَّلَها تأويلاتٍ غير الذي يعطيه معناها , وغايته من ذلك الاستدلال بأن هذه الآيات قد بشرت بمجيء إلاههم وقرب ظهور دينه , ويزعم أن هذا هو الحق , {َلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (المؤمنون: 71) ولا تسل عن استدلاله بما جاء في كتب بعض الصوفية كالطبقات للشعراني. أذكر أني كنت في يوم من الأيام أناظر محدثي السالف الذكر في هذه الديانة وصحتها، فقال: أما اطلعت على كتاب الطبقات للشعراني؟ فقلت: لا , فقام في الحال وأتى به وقرأ ما ورد في شأن المهدي , واستطرد في القراءة حتى أتى على قوله: (ويحضر الموقعة الكبرى بمرج عكا التي هي مأدبة الله الإلهية للطيور والسباع) فسألته قائلاً: وهل تحققت هذه العلامة؟ فبهت ولم يبد جوابًا , وظهر لي أنه ندم على مباحثتي , ولأتباع هذه الديانة مهارة غريبة في جذب النفوس واستمالة القلوب ينطلي زخرفها على البسطاء , فإنهم يظهرون لكل أمة من الأمم أنها على الحق وأن كتبها تنبىء وتبشر بمجيء بهاء الله , فتراهم يقتبسون من الإنجيل والتوراة آيات , ويجهدون أنفسهم في تطبيقها على إلاههم المزعوم , أما استنباطهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فهذا شيء فوق ما يتصور. هذا ما يتعلق بنشأة هذا الدين , أما أحكامه فمنها أنهم لا يصلون في مساجد المسلمين ولا كصلاتهم , بل لهم معابد وصلوات مخصوصة كما أنهم لا يحجون البيت الحرام بل يحجون قبر بهاء الله والمهدي، ولا يصومون رمضان بل يصومون تسعة عشر يومًا ابتداؤها يوم شم النسيم , والسنة عندهم تسعة عشر شهرًا , وبالجملة فلو اطلع أحد على حقيقة دينهم اطلاعًا تامًّا لعلم أن الإسلام بريء منهم , وأن ما يتصفون به من قولهم: إنا نحن مسلمون؛ رياء وكذب لا يرضاه الله ولا المسلمون أجمعون. فيا أيها العلماء , إن دينكم الإسلام يناديكم: ألا هبوا لمحو البدع والمنكرات التي يلصقها به المارقون , ويا ذوي الغيرة حتام يهان الدين وتطمس أعلامه ويحدث فيه ما يحدث ولا تنصرونه. لعمري لقد نبهت من كان نائمًا ... وأسمعت من كانت له أذنان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. أ *** مقاومة التهتك والدجل والبدع انتدب صاحب السعادة محافظ العاصمة الهمام. إلى إنذار جميع الأقسام. بسوء عاقبة إهمال العواهر المنتشرات في أنحاء المدينة بصفة تنافي الحشمة.... وأمور أخرى سنذكرها في الجزء الآتي. وشدّد الأمر عليهم قولاً وكتابة بمقاومة هذه الأمور المضرة لا سيما تهتك النساء في الشوارع فبالغوا في التنفيذ حتى قيل: إن الشرطة ساقوا كثيرًا من النساء إلى الأقسام , فتألم من ذلك الفساق والذين يتجرون بالأعراض ويبيعون بضاعة الأبضاع ومن صدقهم , فصاحوا حتى وصلت أصواتهم إلى الجرائد فرددت صداها فكان منها المتهور في إنكار التنفيذ حتى إن جريدة اللواء الوطنية المفتخرة بعداوة الإنكليز أنكرت التعرض لغير المومسات مهما تبرجن وأفسدن , وارتأت إلى أن يلجأ إلى جناب مستشار الداخلية الإنكليزي في حماية شرف نساء المسلمين وحريتهن مما تعرض له محافظ العاصمة , فيظهر أنها رجعت إلى رأي المقطم في عدم الثقة بالمصريين أو المسلمين , ووجوب إسناد كل أمر للإنكليز حتى أمور الأعراض وشرف الحجاب. على أن سعادة المحافظ تدارك الأمر فيه فوكل التنفيذ إلى رجال الدورية من (صف ضباط) فما فوقهم , وأقرت الداخلية على ذلك , وكان في التشديد الأول حكمة بإرهاب من لا أدب لهنّ.

الحكومة الاستبدادية ـ تتمة

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

_ الحكومة الاستبدادية تتمة مقالة السيد جمال الدين الأفغاني تغمده الله برحمته (القسم الثالث) الحكومة الرحيمة وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول منها الحكومة الجاهلة ودعائم هذه الحكومة تحاكي الأب الرحيم الجاهل فكما أنه يحث أبناءه على اقتناء الأموال واكتساب الثروة واستحصال السعادة والاقتصاد في المعيشة بدون أن يبين طرقها ويمهد لهم سبلها لعدم علمه بها. ويدعوهم رأفة إلى المجاملة والموادعة ورفع الشقاق والنزاع من بينهم بغير أن يحدد لهم الواجبات ويقدر الحدود اللازمة للإدارة المنزلية لقصور إدراكه عنها فكأنه يدعوهم إلى أمر مجهول مطلق لا يهتدون إليه سبيلاً. كذلك حال هؤلاء الدعائم الرحماء الجهلاء يطلبون من رعاياهم السعي في المكاسب والصنائع والتمسك بالتجارة والفلاحة والتشبث بالعلوم والمعارف ويغرونهم على مجاراة الجيران ومباراة أهل العرفان والتعلق بأسباب النجاح والفلاح بلا تشييد المدارس المفيدة وتأسيس المكاتب النافعة وتسهيل طرق المعاملات وبث فنون الزراعة جهلاً منهم ويريدون من أولئك الرعايا التباعد عن الشقاق والنفاق , والاحتراز عن الاعتداء والاغتصاب , والتجنب عن الفساد والعناد والحيف , والميل في الحقوق , والاحتراس عن كل ما يخل بالراحة العمومية بلا تقنين ناموس عادل حافظ للحقوق معين للحدود فاصل للقضايا قاطع لما يطرأ من النوازل جامع لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في اجتماعاته المدنية. ومن أفراد هذه الحكومة سلطنة بعض السلاطين المجبولين على الشفقة المطبوعين على الرأفة الذين كانوا يبكون على سوء أحوال رعيتهم مع جهلهم بما يصلح شأنها والسِّيَرُ بذلك ناطقة. القسم الثاني منها الحكومة العالمة، وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول الحكومة الأفينة وأقانميها تضاهي الأب العالم المأفون , فكما أن شفقة هذا الأب تسوقه إلى العناية بأحوال أبنائه وتقسره عليها , وأن علمه بأسباب الترف والثروة وعلل المعيشة الهنيئة المرضية يقوده إلى الاهتمام بتأديبهم بأحسن الآداب , وتعليمهم الفنون وتمرينهم على الحرف , ويجبره على أن يبين لهم قوانين العشرة ويحدد لهم حقوقهم ولكن بعد ذلك يتركهم وشأنهم لضعف رأيه وقصر نظره وجهله بأن ملازمة الشبان للآداب , واجتناءهم ثمار معارفهم التي اكتسبوها واجتهادهم في المكاسب لا تكون إلا بقوة حافظة ما لم تحنكهم التجارب لما جبلوا عليه من الميل إلى الشهوات والانعكاف على البطالة والتقاعد على الفضائل فيهوون في هاوية التعاسة وتذهب مساعيه سدى. كذلك هؤلاء الأقانيم يعمرون بيوت العلم ويشيدون دور المعارف , وينشئون المعامل ويوسعون نطاق التجارة , ويواظبون على تشريع سياسة مدنية تثبيتًا للحقوق واستتبابًا للراحة على مقتضى ما أحاطوا به من أحوال رعاياهم , ولكنهم لعدم تدبرهم في العواقب وعدم تبصرهم بأن افتقار انتظام أحوال العباد وسير أمورهم على نهج العدل , ونيلهم غاية بغيتهم من مساعيهم إلى العلة المبقية كافتقارهم إلى العلة الموجدة لا يواظبون على أعمالهم هذه , ولا ينظرون إليها نظرة ثانية بل ينبذونها ظهريًّا ويتركونها نسيًّا منسيًا فيتطرق إليها الخلل ويعتريها الفساد ويسري إليها الانحلال؛ لما جبل عليه الإنسان من الحرص والشره والميل إلى الجور والاعتداء المستلزمة لمخالفة القانون فيقع كل في العطب والنصب والشقاء والعناء ويستولي عليهم الفقر والفاقة ويصيرون كأرض موظوبة [1] بتوالي تطاول أيدي جائريهم وتعاقب اعتساف معتديهم ويشبه أن تكون حكومة المأمون وبعض سلاجقة إيران من أفراد هذا القسم. القسم الثاني: الحكومة المتنطسة وأساطينها الحكماء تضارع الأب المتدبر المتبصر الذي لا يبرح ساعيًا في إعداد الأسباب الموجبة لسعادة أبنائه زمن حياتهم وتهيئة معداتها القريبة والبعيدة , ولا يتجافى آنًا ما عن مواظبة دقائق حركاتهم وسكناتهم وتفقد شئونهم واستكناه أحوالهم , ولا يتقاعد لمحة عن تأييدهم في سيرهم بآرائه السديدة وأفكاره الصائبة خوفًا من التواني والكسل والإهمال والفشل , وخشية من عروض الموانع التي تصدهم عن البلوغ للغاية. فنجد هؤلاء الحكماء الأساطين يعلمون أن قوام المملكة وحياة الرعايا بالزراعة والصناعة والتجارة , ويعرفون أن كمال هذه الأمور وإتقانها لا يكونان إلا بأمرين أحدهما - وهو في الواقع علتهما الأولى - العلوم الحقيقية النافعة والفنون المفيدة التي لا يمكن حصولها والفوز بها إلا بمدارس منتظمة ومدرسين ماهرين ومتخلقين بأخلاق فاضلة شفوقين على المتعلمين شفقتهم على أبنائهم. وثانيهما: إعداد آلات الزراعة وأدوات الصناعة وتسهيل طرق التجارة البرية والبحرية. ويفقهون أن حفظ أساس المدنية وصون نظام المعاملات وفصل المنازعات وكف أيدي المتعدين ومنع المدلسين وكبح الأشرار وردع الفجار لا يكون إلا بالمحاكم الشرعية والسياسية المؤسسة على دعائم العدل والإنصاف , وأنها لا تتحقق إلا بقانون حق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة - حتى أرش الخدش - إلا محفوظًا بأمناء يقظين محروسًا بعدول نشطين محفوظًا بعلماء فقهين معززًا بقضاة مقسطين مؤيدًا بحكام أعفاء وأعوان بررة. ويدركون ببصيرتهم الوقَّادة مصالح العباد. ومناهج تعمير البلاد. ووسائل درء المفاسد الداخلية. وطرق منع النوازل الخارجية. وأن القيام بذلك لا يكون إلا بضرب ضرائب عادلة عليهم يجمعها جباة عدول تصرف في منافعهم العامة لدى الضرورة بلا حيف وميل , وانتخاب طائفة من أبطالهم الموصوفين بالصداقة وعزة النفس وعلو الهمة لحفظ الأمنية الداخلية ودفع الأعداء الخارجية. ويشعرون بأن استكمال سعادة المملكة وصيانة استقلالها لا يكونان إلا بارتباطاتها السياسية وعلائقها التجارية مع الممالك الأخرى , وأنها لا تتم إلا برجال عارفين دهاة متبصرين محبين لأوطانهم (لا كحسن أفندي فهمي شيخ الإسلام الأسبق في الأستانة الذي كان يقول لعدو وطنه الجنرال أغناتيف سفير الروسية فيها: إنك عيني اليمنى، وإن حيدر ابني عيني اليسرى كما ذكره حضرة مدحت أفندي في كتابه المسمى (بأس الانقلاب) متدربين محنكين بالسياسة عالمين بالحوادث قبل ظهورها , محيطين بطرق التجارة فيقومون بواجبات ما اقتضته حكمتهم وما أحاطوا به علمًا , ولا يتهاونون آنًا ما عن أداء حقوق رعاياهم , ولا يفتدون راحة أنفسهم بسعادة أولئك الضعفاء. وزد على ذلك أنهم يدرون أن غالب أفراد الإنسان طبع على الحرص , وفطر على الشر , وجبل على الشهوة , وخلق متهاونًا بواجباته متوانيًا على إصلاح شئونه , ونشأ على المكر والحيل , وغرز فيه حبُّ الاعتداء على حقوق الغير , وعدم الاكتفاء بما ملكته يداه , وغرس فيه بغضُ الشرائع والقوانين حينما يراها سدًّا يمنعه من سلوك سبيل الغدر , وحاجزًا يردعه عن مقتضيات الشره , وغُلاًّ يكف يديه عن التطاول. وإنهم يفهمون أن كل ما يقع في العالم الإنساني من المرض والصحة والفقر والغنى والنصب والراحة. بل كل ما يقتضي الشقاء والسعادة ويوجب الصلاح والفساد لا بد وأن يكون لإرادة الإنسان وحركاته الاختيارية فيه دخل تام. ويدركون أن الإنسان ما دام على هذه السجية والغريزة فهو كمريض تنازعته أمراض خطرة مختلفة لا ينجو منها إلا بتمريض طبيب ماهر يعرف العلل والعلاج , ويتفقده آناء الليل وأطراف النهار فيهتمون حكمة وشفقة بتتبع أحوال الرعايا مثل ذلك الطبيب الماهر , ولا يبرحون عن موازنة أعمالهم وأفعالهم وحركاتهم , ولا ينفكون عن مقايسة آرائهم وأخلاقهم , ولا يفترون عن تعديل ثروتهم وغنائهم , وتقويم علومهم ومعارفهم وتجارتهم وزراعتهم وإحصاء عددهم وتعداد أحيائهم وأمواتهم , ولا يتوانون عن مقابلة الصادر والوارد في ممالكهم , والمعادلة بين قوة حكومتهم واقتدارها واقتدار الغير وقوته لكي يقتدروا على تدارك مصالح البلاد قبل تمكن الفساد , ويقدروا على جبر الكسر وسد الثغر ورفو الخرق , وإزالة جراثيم الرزايا والمصائب , وإبادة أسباب الخلل والمصاعب , وإذا لم يمكنهم القيام باستقصاء دقائق التعديل والتقويم وجزئيات الموازنة والمقايسة مباشرة انتخبوا رجالاً يقظين عارفين بأحوال الدول وقواها متبصرين بشئون الممالك وأسباب سعادتها وشقائها عالمين بفنون التجارة والزراعة والصناعة ولوازمها مهندسين محاسبين لأداء هذه المصالح وتسجيلها في السجلات بغاية الدقة والإتقان , وعرض كلياتها على هؤلاء الولاة الحكماء مع بيان موارد النقص والخلل وإيضاح أسبابها. وغير خاف أن تسجيل المعادلات وحفظ الموازنات للدول ألزم من تقييد التاجر معاملاته في دفاتره اليومية , فإنه لا يلزم من إهماله في التقييد والتثبيت إلا أن يضيع رأس ماله على جهل منه ويصبح مفلسًا , وهذا ضرر خاص به , وأما إهمال الدول في حفظ المعاملات وتسجيل الموازنات فيوجب خراب البلاد وهلاك العباد , ومن أجل هذا تجد للدول الغربية عناية تامة بهذا الشأن المسمى عندهم بالإستاتستيك. فهاك يا أيها الإنسان الشرقيُّ صاحب الأمر والنهي حكومة رحيمة حكيمة , وعليك بها والقيام بشأنها وحفظ واجباتها , وإلا فبحياتك التي أفديتها براحة العالم أن تعفونا عن تحمل ثقل تشدقك بالرحمة والعدالة والحكمة والفطنة. أتريد أن تظلمنا ونكافئك بالشكر؟ وتغصب حقوقنا ونجازيك بالثناء؟ أو تظن أنك تقدر أن تغرَّ كل العالم وتعمي بصائرهم؟ وأن تنزل باطلك عندهم منزلة الحق؟ وأن تجلس جورك مجلس العدل؟ وأن تقيم سيئاتك مقام الحسنات؟ وأن تقعد رذائلك مقعد الفضائل؟ ولعلك اغتررت بتمجيد وتعظيم المبصبصين وتبجيل المتزلفين أمامك. ولو كنت تعلم مقامك في النفوس. ومنزلتك لدى أرباب البصائر والعقول لودعت هذه الدنيا الخئون التي ألهتك وفارقت حياتك العزيزة التي طالما افتديتها بالمروءة والإنسانية. وأما أنتم يا أبناء الشرق فلا أخاطبنكم ولا أذكرنكم بواجباتكم فإنكم قد ألفتم الذل والمسكنة والمعيشة الدنيئة , واستبدلتم القوة بالتأسف والتلهف صرتم كالعجائز لا تقدرون على الدرء والإقدام والجذب والدفع والمنع والرفع فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ نقلاً عن العدد 33 من جريدة مصر التي صدرت في الإسكندرية في 22 صفر 1296.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) من كتاب (18) من أراسم إلى هيلانة في 11 يونيه سنة - 185 قد يسأل سائل: هل التفكر مما يتعلمه الطفل؟ فأجيبه: إني أعتقد ذلك غير أنه ينبغي التمييز التام بين ما يتلقاه عن غيره من الأفكار وبين ما يستنتجه هو منها بنظره إلى الأشياء. ونحن في تخاطبنا معه لا نفعل شيئًا سوى تأدية أفكارنا إليه على وجه التمام أو النقص مع أن الذي كان يجب علينا أن نصرف همتنا إليه هو إيقاظ ذهنه واستنباط أفكاره وآرائه. إنك تجدين أذهان من يعاشرون الكبار من الأطفال محشوة بجمل من الكلام لا يفهمون منها في معظم الأحيان إلا معاني في غاية التشابه والالتباس , وليس شحن أذهانهم بهذه الجمل مما ينمي فيهم قوى الإدراك والفهم بحال من الأحوال , ولكنه إبهاظ لها بما ليس من حقه أن يكون فيها وكم لاقيت في سالف أيامي أطفالاً يشتهرهم الناس بكونهم آيات في الذكاء والفطنة فرأيت أن كل ما يدعى لهم من العقل ينحصر في انطلاق ألسنتهم بما لا معنى له من القول , وكنت عند نظري إليهم وهم في تنوقهم وإعدادهم أنفسهم لنوال الشهادات المدرسية يعروني من انقباض النفس وضيق الصدور ما يعروك لرؤيتك المتصنعين المدعين بما ليس فيهم , وهو وجدان كان يتولى عليَّ فلا أجد سبيلاً إلى دفعه وكنت أقول في نفسي: إن المشتغلين بتربيتهم يسلبونهم اليسير الذي آتاهم الله سبحانه من المواهب الخلقية بتعليمهم إياهم أفانين القول وأساليب الكلام ليسموهم بسمات العقل الذي لمَّا يبلغوا رتبته. أما والله لو كان لي الخيار لاخترت (لأميل) أن يصدر عنه فكر ساذج وأن واحدًا فقط يكون منبعثًا عن محض اختياره وكسبه , ولفضلت هذا على كل ذلك الزخرف القولي والثرثرة التي لا نسبة بينها وبين العقل. إذا نظرتِ إلى الكون رأيته مملوءًا بأناس يتكلمون بما يوجد في الكتب فإن كل من يسمعهم يذكر أنه طالع فيها جميع ما يقولونه , والخطأ في هذا الأمر راجع إلى تربيتهم لأنهم قد تعلموا من نشأتهم أن يرددوا آراء غيرهم. الأم بالنسبة لولدها هي المجتمع الإنساني بل المثال الحي لآثار السلف ولا يشك أحد في أنها مكلفة بأن تعلمه كثيرًا , ولكن يجب عليها في تعليمها هذا التلميذ الصغير أن تكون على غاية الحذر من أن تلقي في نفسه الخضوع للألفاظ والاستعباد لها. ذلك أن هذا الأمر ليس من شأنه أن يفتح مغلق عقله بل إن فيه إغاضة لينبوع المعارف الحقة , ولا بدع في ذلك ألا ترين أن الناس قد سموا أعمالاً كثيرة قدستها العادة فروضًا مع رفض العقل إياها وعدم تسليمها , وأن الحق قد دمغ جميع الأباطيل على التعاقب , وأن القوة في كل زمن تسلب الحق ما له من موجبات الشرف والاعتبار. فمن لم يبلغ به علمه إلى الاحتراس من غرور القول وباطله والسير في ظلمات اللغة الإنسانية على هدى , فذلك الذي يعيش دهره مفتونًا بزخرفها أسيرًا في ربقتها. فالذي يجب علينا للطفل هو تعريفه بحالة الكون المحيط به (تعريفًا يكون بلا شك في غاية القصور على الظواهر والاقتصار على ما لا بد له من معرفته) فإن الكون كله معان. أريد بذلك أن كل شيء مؤثر من شأنه أن يفعل في عقل الإنسان ويولد منه فكرًا , ومن ظن أن الأطفال بعد انقضاء سنتين أو ثلاث من عمرهم لا يكونون مفكرين فقد ظلمهم وحط من قدرهم , نعم إن أفكارهم ليست كأفكارنا في جميع الأحوال وذلك مما يدعونا أيضًا إلى اعتبارها وعدم إغفالها , وقلما يوجد طفل لا يهتدي بنفسه إلى ما يعلّمه القائمون عليه إياه إذا هم تكلفوا إقامته على طريقه فعليهم أن يستعينوا بالتجربة والتمرين على إزالة بعض ما تقع فيه مشاعره من الأغلاط وأن يحثوه بالإشارة والكلام على النظر والملاحظة , فإذا فعلوا ذلك؛ سهل عليه بما يجريه من الأقيسة ربط الحوادث بعضها ببعض وإرجاع بعضها إلى بعض كإرجاع استطالة ظل الرمح مثلاً إلى انحدار الشمس عن أوجها , وأصبح القياس بهذه الطريقة ملكة راسخة في نفسه على ما يفيده إياه من العلوم الأولية فإن في إسناد الحوادث بعضها إلى بعض تعلمًا للحكم عليها. اهـ. (19) من أراسم إلى هيلانه في 10 يوليه سنة - 185. قد هم المسجونون بالهرب من سجن ... وشرعوا في ذلك فعلاً فانكشف أمرهم وستقرئين في الصحف تفصيل هذه الواقعة. كانت الأحوال كلها مساعدة لنا على هذا الهرب , وناهيك بليل غاب بدره , وريح اشتدت عواصفه , ومطر انهمرت سيوله على جدران السجن , ولكننا أخفقنا بعد أن قطعنا أصعب العقبات وأشدها , وأوشكنا أن نفوز بالنجاة. فليت شعري ماذا عسى أن تكون عواقب هذه الحادثة. أرى بحسب ما يبدو لي أن سيكون من نتائجها زيادة التشديد في مراقبة المساجين , وأن المراسلات مع ما كانت محتفة به من العوائق ستكون على خطر مدة طويلة , ولست أدري إن كان هذا المكتوب يصلك أم تحول دونه الحوائل , وإني أرجو أيتها العزيزة هيلانة أن لا يُوجِدك عليَّ هذا الأمرُ , فإني لم أستطع أن أصم أذني عن نداء الفطرة التي تدعوني إليك وإلى ولدنا اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

فخر نساء العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فخر نساء العرب خرجت العجفاء بنت علقمة السعدي مع ثلاث نسوة من قومها , فاتَّعدن بروضة يتحدثن فيها، فوافين بها ليلاً في قمر زاهر، وليلة طلقة ساكنة، وروضة معشبة خصبة , فلما جلسن قلن: ما رأينا كالليلة ليلةً ولا كهذه الروضة روضة أطيب ريحًا ولا أنضر , ثم أفضن في الحديث , فقلن: أيُّ النساء أفضل؟ قالت إحداهن: الخرود الودود الولود [1] . قالت الأخرى: خيرُهنّ ذات الغناء، وطيب الثناء، وشدّة الحياء. قالت الثالثة: خيرهنّ السَّمُوع الجَموع النفوع غير المنوع. قالت الرابعة: خيرُهنَّ الجامعة (لأهلها) الوادعة الرافعة، لا الواضعة. قلن: فأيُّ الرجال أفضل؟ قالت إحداهن: خيرهم الحظيُّ الرضيُّ غير الحظال ولا التبال [2] . قالت الثانية: خيرهم السيد الكريم , ذو الحسب العميم , والمجد القديم. قالت الثالثة: خيرهم السخيُّ الوفيّ الرضي الذي لا يغير الحُرَّة. ولا يتخذ الضرّة. قالت الرابعة: وأبيكنَّ إن في أبي لنعتكنَّ كرم الأخلاق، والصدق عند التلاق، والفَلَج عند السباق، ويحمده أهل الرفاق، قالت العجفاء عند ذلك: (كل فتاة بأبيها مُعجبة) فسيرتها مثلاً يضرب في إعجاز المرء برهطه وعشيرته وسائر ما ينسب إليه. وفي بعض الروايات أن إحداهن قالت: إن أبي يكرم الجار، ويعظم النار، وينحر العشار بعد الحُوار، ويحمل الأمور الكبار [3] . فقالت الثانية: إن أبي عظيم الخطر، منيع الوزر، عزيز النفر، يحمد منه الورد والصدر [4] . وقالت الثالثة: إن أبي صدوق اللسان، كثير الأعوان، يُروي السنان عند الطعان. وقالت الرابعة: إن أبي كريم النزال، منيف المقال، كثير النوال، قليل السؤال، كريم الفعال، ثم تنافرن إلى كاهنة في الحيّ فقلن لها: اسمعي ما قلنا واحكمي بيننا واعدلي , ثم أعدن عليها قولهن، فقالت لهن: كل واحدة منكن ماردة، على الإحسان جاهدة، لصواحباتها حاسدة، ولكن اسمعن قولي: خير النساء المبقية على بعلها، الصابرة على الضراء مخافة أن ترجع إلى أهلها مطلقة، فهي تؤثر حظ زوجها على حظ نفسها، فتلك الكريمة الكاملة. وخير الرجال الجواد البطل، القليل الفشل، إذا سأله الرجل؛ ألفاه قليل العلل، كثير النفل [5] ، ثم قالت: كل واحدة منكن بأبيها معجبة. (المنار) إذا قابلنا بين هؤلاء النساء وبين المتعلمات من نسائنا اليوم نعلم الفرق العظيم بين الجاهليات الأميات وبين المسلمات المتعلمات , لا أقول في الفصاحة فقط ولكن في الأدب وسمو الفكر.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (صحافي هندي) أنسنا في هذه الأيام بلقاء رصيفنا الفضائل الهمام محبوب عالم أفندي صاحب جريدة (بيسه أخبار) التي تصدر في مدينة لاهور عاصمة قسم كبير من الهند في الزمان الماضي. وهذه الجريدة هي أعم الجرائد الهندية الإسلامية انتشارًا يصدر منها نسختان إحداهما يومية , والأخرى أسبوعية , والمشتركون فيهما يبلغون 20 ألفًا. تفضل بزيارتنا قبل أن نعلم بقدومه إلى مصر لما بيننا من التعارف بمبادلة الجريدتين، وكان حظنا من الاجتماع به كبيرًا بالنسبة لقصر مدة إقامته في القاهرة وأفضنا في المذاكرة معه في شئون المسلمين وإصلاحهم فعلمنا منه أن إخواننا في الهند يظنون أن النهضة الإسلامية في مصر والأستانة أرقى منها في الهند , وأنه ظهر له في سياحته هذه أن الأمر بالعكس. ونحن نحمد الله تعالى على عدم خيبة آمالنا في إخواننا الهنديين ونسترجع ونحوقل لخيبة آمالهم فينا. وما دامت ضالتنا حياة الأمة الإسلامية فلا فرق عندنا بين الأعضاء التي تنفخ فيها نسمة الحياة أوّلاً. ساح الرجل للاعتبار والاستفادة كما هو شأن مثله فجاء أوربا وطاف بعض عواصمها وكبار مدنها وجاء الأستانة العلية والديار الشامية , وختم السياحة بمصر. ومن الأسف أن مدة إقامته فيها كانت قصيرة ولكنه زار فيها أعظم معاهدها كالأهرام والعاديات المصرية في قصر الجيزة والمكتبة الخديوية والأزهر الشريف. أما مدرسة الأزهر فإنها كانت موضع رجائه ومحط رحال آماله. حتى إذا قابلها استعبر لا ... يملك دمع العين من حيث جرى وقال: إنني لا أتصور كيف يُرْجَى الخير للمسلمين إذا كان منبت علمائهم ومرشديهم ومربيهم بهذه الدركة عن الوساخة والمهانة وخشونة العيش وفقد النظام. ووقف بالإجمال على سعي بعض أهل الغيرة الدينية في إصلاح هذا المكان وعلى معارضة المعارضين في ذلك. ولا نطيل في هذا فقُرَّاء مجلتنا أعلم منه به , ولكنا نذكر أهم ما استفدناه منه في الكلام على النهضة الإسلامية في الهند. السبب الذي ذكره في هذه النهضة معروف في الجملة، وهو أن المسلمين بعد أن تمكنت السلطة الإنكليزية في بلادهم حملتهم عداوة الإنكليز على معاداة لغتهم وجميع علومهم والفرار من مدارسهم , وأقبل الوثنيون على ذلك؛ فسادوا على المسلمين بالثروة، والوظائف بعد أن كان المسلمون هم السائدين عليهم في كل شيء , وكان أوّلُ مَنْ استيقظ منهم من نوع الغفلة والغرور أفرادًا أعظمهم قدرًا وخطرًا وأشدهم نفعًا وأحسنهم أثرًا السيد أحمد خان مؤسس (مدرسة عليكدة الكلية) التي هي ينبوع هذه النهضة (وقد ذكرنا مجمل خبره وخبرها في المجلد الأول من المنار فلا نعيده) , ومما يجب التنبيه عليه أن سنة الله - تعالى - في المصلحين أنهم يساء فيهم الظن ويرمون بسوء القصد وفساد النية وبمثل هذا كان يتهم السيد أحمد خان؛ كان يتهم بأنه مغرًى من الحكومة الإنكليزية بإفساد تعاليم المسلمين وعقائدهم وبث العقائد الطبيعية فيهم لأن الإنكليز لم يروا وسيلة لإفنائهم إلا هذه الوسيلة , ومن العجيب أن مثل هذه التهمة كان يصدقها الفيلسوف العظيم السيد جمال الدين الأفغاني وكان يعادي السيد أحمد خان ويطعن فيه غيرةً على الدين وحذرًا على المسلمين , فتبين الآن أنه لا رجاء للمسلمين باسترجاع شيء من مجدهم إلا بمدرسة السيد أحمد خان وتلامذته ومن تلا تلوهم واحتذى مثالهم , ولولا شدة بغض السيد جمال الدين للإنكليز لما خابت فراسته بالسيد أحمد خان , ولقد كانت الشبهة على السيد أحمد خان قوية فإنه لم يسع في تأسيس هذه المدرسة إلا بعد سياحته في بلاد إنكلترا وإكرام الإنجليز له , أما سبب هذا الإكرام فقد أخبرنا عنه صديقنا محبوب عالم أفندي , وهو أنه في أثناء ثورة الهنود على الإنكليز أجار بعض ضباطهم ووجهائهم وحماهم من القتل , وما ذاك إلا عن عقل وبعد نظر في العواقب رحمه الله تعالى وجزاه خيرًا. وأعظم بشارة بشرنا بها ضيفنا الكريم هي أن أبناء النهضة الحديثة في الهند قد جمعوا بين علم الدين وآدابه وأخلاقه وبين علوم الدنيا وأعمالها , وأن جميع المدارس الحديثة مبنية على أساس الوحدة الدينية , بمعنى أن المسلمين من جميع الفرق والمذاهب يتعلمون تعلمًا واحدًا لا فرق بين ابن السني وابن الشيعي , ولا بين ولد الحنفي وولد الشافعي , فلا مثار فيها للتفرق الديني والمذهبي , وهذا هو الركن العظيم الذي اقترحناه في مقالات الإصلاح الديني في السنة الأولى من المنار ولا قوام للمسلمين بدونه. وبشرنا بأن الشبان الهنديين الذين تعلموا العلوم الغربية وجروا في ميادين المدنية العصرية لم يفش بينهم السكر والفجور والميسر كما فشت في شبان المصريين أرباب المدنية الوهمية الكاذبة فأضاعت ثروتهم وأفسدت صحتهم وتركتهم في ظلمات لا يهتدون معها لطريق السعادة. كما بشرنا بأن المتعلمين لا يقصرون أنظارهم على وظائف الحكومة كما هو الشأن الضار في مصر , بل إن ميلهم إلى التجارة يفوق ميلهم إلى الوظائف. ومن آثار النهضة الإسلامية في الهند أن قامت قيامة المسلمين عندما صدر أمر الحكومة الإنكليزية بأن تكون لغة الهندوس (الوثنيين) لغة رسمية كلغة الأوردو (لغة مسلمي الهند) في ولاية (بنجاب) وولاية (أضلاع غربي شمالي) وهالهم هذا الأمر، ولا يزالون يسعون في إبطاله , وقد عقدت لذلك لجان مخصوصة , وكان من الأعضاء فيها محدثنا محبوب عالم أفندي , وقد كثرت شكوى جرائد الهند الإسلامية من هذا ورددت صداها الجرائد الإسلامية في مصر وسوريا والأستانة , ولكن الأمر اشتبه على هؤلاء فظنوا أنه عام في البلاد الهندية كلها , ومنهم من توهم أن لغة الهندوس صارت الرسمية من دون اللغة الأوردية , والصحيح ما ذكرناه أوّلاً كما تحققناه منه بمراجعة القول مرارًا خلافًا لما نقلته عنه بعض جرائد الأستانة فسوريا. وقد سافر في مساء يوم الخميس الماضي وتفضل بقبوله وكالة مجلتنا (المنار) في عموم الأقطار الهندية فهي تُطْلَب من إدارة جريدته وعلى المشتركين في الممالك الهندية أن يقدموا له قيمة الاشتراك إذا لم يرسلوها إلينا رأسًا. رافقته السلامة في الحل والترحال. *** (الجمعية الخيرية الإسلامية) أقوى الجمعيات أساسًا وأثبتها وأنفعها , وما زال مولانا الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية ركنًا من أقوى أركانها , وقد انتخب في هذه الأيام رئيسًا لها فنهنئها بذلك.

البدع والخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البدع والخرافات موضوعات رجب كتبنا في شهر رجب من السنة الماضية نبذة في المنار في (بدع رجب) ذكرنا فيها بعض الأحاديث الموضوعة في صيام رجب وفضله لا سيما ما يقوله الخطباء على المنابر، وكل ما ورد في صوم رجب موضوع وواه لا أصل له، وذكرنا صلاة الرغائب وصلاة شعبان ونُقُول العلماء في كونهما بدعتين مذمومتين. ونبهنا على المنكرات التي يأتيها الناس في المقابر في أوَّل جمعة من رجب ونورد الآن بعض الأحاديث الموضوعة في فضائل رجب تذكرة للمؤمنين. فمنها حديث: (أكثروا من الاستغفار في شهر رجب , فإن لله في كل ساعة منه عتقاء من النار , وإن لله مدائن لا يدخلها إلا من صام رجب) . قال في الذيل: في إسناده الأصبغ ليس بشيء. ومنها حديث: (في رجب يوم وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة؛ كان له من الأجر كمن صام مائة سنة) إلخ. قال: في إسناده هناج تركوه. وأما ما ورد في صيام يوم منه أو يومين فقد قال في الذيل: إسناده ظلمات بعضها فوق بعض وفيه وضاع. ومنها حديث: إن الله أمر نوحًا بعمل السفينة في رجب , وأمر المؤمنين الذين معه بصيامه موضوع. أما صوم أوّل خميس من رجب فقد نقل في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة أنه مما أحدثه العوام من البدع , فيظهر منه أنه ليس فيه حديث موضوع فضلاً عن ضعيف أو قوي , وأن أحدًا من العلماء لم يقل باستحبابه , ولكنني أتذكر أنني رأيت فيه شيئًا في بعض الكتب أو سمعته في بعض الخطب , وأنني كنت أصومه لذلك , فلعل بعض المتأخرين من أهل الجراءة على الله ورسوله رأى العوام على ذلك؛ فخلق لهم فيه حديثًا , فإن كل زمان لا يخلو من وضاعين , وإننا نرى في كتب المتأخرين الذين يدعون العلم والتصوف أحاديث لا شك في أنها موضوعة وأنهم هم الواضعون لها كحديث: (يفسد هذا الدين عالم وابن ولي) أراد به بعض المنتسبين للطريق إهانة آخرين من أهل طريقة أخرى فحسبنا الله ونعم الوكيل. *** كرامة وهمية بمحو شريعة قطعية ما رزيء الدين برزيئة إلا وتجد أهل الفتنة حسنوها بالتأويل. فأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل. وقد نَمَى الينا عن أحد أكابر مشايخ الأزهر أنه ذهب مرة إلى جامع السيد البدوي (رحمه الله تعالى) في أيام المولد فأراد الوضوء , ولكنه رأى أن ماء الميضأة متغير من الأقذار والنجاسات تغيرًا يحدث الخبث ولا يزيل الحدث قال الراوي: (فطبقها على قواعد الشريعة فلم تنطبق) فرجع أدراجه , فما كان إلا أن جُذب جذبة وأخذ عن نفسه أخذة فرأى أنه في أرض صحراء ملأى بالنجاسات والأقذار تنبعث عنها الروائح الكريهة فعلم أن تلك كرامة السيد جعلها عقوبة له على اعتراضه في سره على ميضأته وتقذره من الوضوء منها. فكان من مقتضى هذه الكرامة أن السيد يغار على ميضأته النجسة ما لا يغار على الشريعة المطهرة , وأنه يعاقب من يرغب عنها عملاً بدين الله تعالى واحترامًا لشريعته. ولا شك أن الولي ما كان وليًّا إلا بالعمل بالشريعة والغيرة عليها والاحترام لها وترجيحها على جميع أهوائه وحظوظه عملاً بحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) وإذا صح عن ذلك العالم هذا القول فعلى الدين والإسلام السلام. *** عبرة من صغير رأيت غلامًا يبلغ من العمر بضع سنين يرقص في الطريق بكيفية مخصوصة فسألته: من تحاكي بهذا فقال (زي اللّي يلعبو بالذكر) فأثرت في نفسي كلمة هذا الغلام وعلمت أنه سمى رقص أهل الطرق الذي يهمهمون فيه الهمهمة التي يسمونها الذكر (لعبًا) بإرشاد الفطرة السليمة، فإنه فهم من الاستعمال العام معنى اللعب الكلي ولما رأى ما عليه أولئك القوم علم أنه جزئي من جزئيات ذلك الأمر الكلي فأطلق اسم اللعب عليه , وكأنك بالتربية الفاسدة والأوضاع الخاطئة وقد أفسدت عليه فطرته وحملته على أن يسمي اللعب (عبادة) , وإذا أتاح الله له تربية صالحة يظل على اعتقاده حتى يفهم معنى قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} (الأعراف: 51) الآية , ويعلم أن هؤلاء اللاعبين نسخة من أولئك مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لتركبن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع) . *** عذر جريدة الأفكار في ذنبها ربما يعجب من يرى هذا العنوان في باب البدع ... ممن يقرءون جريدة الأفكار الغراء ويقولون في أنفسهم: ما بال المنار يتصدى لهذه الجريدة الموافقة له التي تنقل كثيرًا من نبذه مع الاستحسان وما هو ذنبها لديه؟ نشر في عدد مضى من هذه الجريدة مقالة أساء كاتبها الأدب فحط من كرامة من كرم الله وجهه أمير المؤمنين علي ربيب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن عمه، وفضل عليه يزيد الذي اختلف العلماء في لعنه وكفره، ولم يختلفوا في شقاوته وفسقه. ولم يكن صاحب الجريدة هو الذي كتب تلك المقالة الأثيمة بل كتبها محرر كان عنده، ولا أظن أنه اطلع عليها إلا بعد طبعها، ولذلك بادر إلى فصل ذلك المحرّر وإخراجه من إدارة جريدته. وهذا هو السبب في سكوتنا عن الرد على الجريدة والتنفير عنها والتحذير منها , ولولا أن كتب إلينا حتى من سوريا الاستلفات إلى تلك الكتابة الخاطئة الكاذبة واللوم على السكوت والحث على الرد لما كتبنا هذه الكلمات الآن وإنما كتبناها إظهارًا لعذرنا في السكوت عن أهم واجب من الواجبات التي أنشىء المنار للقيام بها , وإظهارًا لعذر صاحب الجريدة الفاضل الذي أساء به الناس الظن , وحسبوا أنه من النواصب الذين يبغضون الإمام عليه الرضوان والسلام حتى هَمّ بعض أهل الغيرة من أشراف البلاد الشامية أن يكتب لمولانا السلطان الأعظم يطلب صدور إرادته للحكومة المصرية بمعاقبة صاحب جريدة الأفكار. *** كتاب البهائية وكتاب المسيح أم محمد كتاب (المسيح أم محمد) لم يلتفت إليه مسلم ولا يخشى أن يتنصر به مسلم. وقد قامت عليه قيامة الجرائد الإسلامية , وهوّلوا فيه الأمر حتى أوهم كلام المتطرفين منهم أنه ربما تحدث فتنة في البلاد حتى صدر أمر الحكومة بجمعه وبقي يباع إلى الآن في المكتبة الإنكليزية ولا يرغب فيه المسلمون ولا يبتاعونه لاعتقادهم أنه كفر يجب أن لا ينظر فيه , وأما كتاب البهائية فقد نشر بينهم بأسماء إسلامية , ومبدوء ببسم الله الرحمن الرحيم , ومكتوب عليه أن ناشره من أهل الأزهر وأنه يباع فيه , وقرظته جريدة إسلامية كانت أشد الجرائد لهجة في انتقاد كتاب النصارى ولذلك راج فيهم وانتشر بينهم واعتقد مبتاعوه أنه من كتب الإسلام المسلمة عند علمائه الأعلام. ولما رأى بعض من اشتراه كلام المنار فيه؛ أحرقه وطفق يحرق الأرّم من سعى في بيعه ونشره , وحاول جمعه من الأيدي فلم يتيسر , ومن أين يصل المنار إلى كل من اشترى ذلك الكتاب الضار. فنقترح الآن على فضيلة شيخ الجامع الأزهر أن يطلب من الحكومة جمعه، وأن يعلن في الجرائد أن هذا الكتاب فيه ما يخالف الدين ويؤيد البدعة. وأن المجاور الأزهري الذي نشر الكتاب باسمه قد تبرأ منه على أنه عوقب على تصديه لنشره، وأنه لا يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشتري هذا الكتاب ولا أن يقرأه إلا أن يكون عالمًا راسخًا في عقائد الإسلام ينظر فيه بقصد الرد عليه والتنفير عنه , وأنه ينبغي لمن ابتلي بشرائه من غير أهل العلم أن يرده إن أمكن وإلا فليحرقه. ولا ضرورة لذكر اسمه في الإعلان بل يكتفي بوصفه.

مقاومة التهتك والدجل والبدع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقاومة التهتك والدجل والبدع كتبنا نبذةً للجزء الماضي تحت هذا العنوان ضاق عنها الجزء كما ضاق عن نشر منشور سعادة محافظ مصر للأقسام، فاضطررنا إلى تشذيبها والحذف منها حتى لم يبق منها إلا كلمات في التهتك مع أن المنشور شدد النكير على سائر البدع والدجل كما ترى وها نحن أولاء نثبت المنشور وهو بنصه: منشور محافظة مصر للأقسام تحرر في 23 اكتوبر سنة 1900 نمرة 115 الموضوع (أولاًّ) : ترك العمل بمقتضى نصوص قانون العقوبات ولائحة المتشردين فيما يختص بلاعبي الميسر بوسائل متنوعة , والدجالين المحترفين بالتكهن وإظهار البخت في الطرق والأماكن العمومية مع إتيانهم أعمالاً مضرة بالنظام العام. (ثانيًا) : عدم اتباع القرار الصادر من المحافظة بتاريخ 12 مارس ستة 1894 المصدق عليه من الجمعية العمومية بمحكمة الاستئناف المختلطة وغض النظر عن استعمال الدّراجات (عربات الرجل) في الطرق العمومية بدون منبه أو فانوس أو السير على الترتوارات ونحو ذلك. (ثالثًا) : التغاضي عن العمل بلائحة نظارة الأشغال المنوّه عنها بمنشور النظارة نمرة 1 الصادر في 26 يناير سنة 1899 وترك الأهالي الذين يمرون بمواشيهم بجوار شريط السكة الحديد أو يعبرونه بدون رادع يردعهم , مع العلم بما يترتب على من يخالف ذلك من العقاب القانوني المنصوص عنه في تلك اللائحة. (رابعًا) : عدم اتخاذ الوسائل الفعالة لمنع انتشار العاهرات بأنحاء المدينة بحالة خارجة عن حد الاحتشام , وإغراء المارين على الفسق والفجور. (خامسًا) : ترك الذين يقرءون القرآن الشريف في الطرق والشوارع والمواضع القريبة من القاذورات مع العلم بما جاء به منشور المحافظة رقم 29 فبراير سنة 900 , وغض الطرف عن الذين يدقون الزار مع علمكم بمخالفتهم للقانون وما ينتج هذا الفعل الشنيع من المضار , وإهمال الشحاذين حتى صاروا يجولون في شوارع المدينة بدون رادع ولا رقيب. بكل أسف قد تبين للنظارة الملحوظات المسطرة بعاليه , وأن اللوائح والمنشورات المنوه عنها بها قد تركت في زوايا الإهمال , وما كانت تجدي نفعًا , ولطالما استنهضنا همتكم وألقينا التنبيهات المشددة عليكم تباعًا , ونددت بعض الجرائد بكم وما كان ذلك يغني فتيلاً. وها نحن نعيد الكرة مرة أخرى ونستلفتكم إلى ما سبق إرشادكم عنه مرارًا بقصد اتخاذ الطرق الفعالة منعًا من حصول هذه الأمور الخطيرة وأمثالها وإعارتها قلوبًا واعية محافظة على النظام العام , وحسمًا من تكرار المكاتبات بدون جدوى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محافظ مصر ... (المنار) هذا هو المنشور , وكل ما فيه إصلاح يحمد عليه صاحب السعادة محافظ العاصمة الهمام , ويجب أن يحتذى مثاله في كل البلاد , وقد ظهر ولله الحمد الأثر الصالح في التنفيذ لأننا علمنا أن سعادته في مراقبة مستمرة على المنفذين , فقلما نرى أثرًا للدجالين الذين كانت الطرقات مضرسة بهم نساءً ورجالاً. البعض للخط على الرمل , والبعض لطرق الحصا والودع وحب الفول , والبعض لورق اللعب تستخرج النساء به البخت وتعرف المغيبات. أما المتسوّلون والشحاذون فلا يزالون على كثرتهم. وأما لاعبو الميسر فإنهم يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله لأنهم لا يعرفونه , ولكن منهم الفقراء باعة الفستق ونحوه يقامرون جهرًا في الطرقات والملاهي (القهاوي) , ويمكن للشرطة اختبارهم بأن يعهدوا إلى بعض الناس بمقامرتهم وهم ينظرون عن بعد , ومتى أخذ بعضهم بجريرته؛ ينزجر الآخرون في الغالب إذ لا يربي الأشرار شيء كالعقوبة بالفعل كما جرى في أمر المتهتكات , وما دامت عناية سعادة المحافظ منصرفة إلى (الطرق الفعالة) فإننا نرجو أن تتلاشى المجاهرة بهذه الخبائث بالتدريج , بل لا يصعب على الهمة الصادقة تربية المستخفين كأَهْل الزار والقمار. عندما يطلع على نصّ المنشور الذين تهوّروا في التعريض بسعادة المحافظ يعلمون أن كلامهم ساقط من نفسه , ويبقى على المحافظ عندهم ذنب واحد وهو أنه اهتم فعلاً بمنع تهتك النساء وتبرجهن تبرج الجاهلية الأولى بناءً على أن العناية التي سموها شدة في التنفيذ إنما منشؤها غيرة سعادته , ولكن ليس لهم عليه حجة رسمية في ذلك. وقد فات هذا المنشور شيء واحد وهو الاستلفات إلى ملاهي الحشيش فإن بالقرب من إدارة هذه المجلة ملهى منها يشق علينا الجلوس في غُرَفه التي من جهة الشارع ليلاً لقبح رائحة دخان الحشيش الذي يتصاعد منها , فعسى أن توجه العناية إلى ذلك أيضًا والله الموفق. * * * كتاب البهائية وكتاب المسيح أم محمد كتاب المسيح أم محمد لم يلتفت إليه مسلم ولا يخشى أن يتنصر به مسلم وقد قامت عليه قيامة الجرائد الإسلامية وهولوا فيه الأمر حتى أوهم كلام المتطرفين منهم أنه ربما تحدث فتنة في البلاد حتى صدر أمر الحكومة بجمعه وبقي يباع إلى الآن في المكتبة الإنكليزية، ولا يرغب فيه المسلمون ولا يبتاعونه؛ لاعتقادهم أنه كفر يجب أن لا ينظر فيه. وأما كتاب البهائية فقد نشر بينهم بأسماء إسلامية ومبدوء ببسم الله الرحمن الرحيم ومكتوب عليه أن ناشره من أهل الأزهر وأنه يباع فيه، وقرظته جريدة إسلامية كانت أشد الجرائد لهجة في انتقاد كتاب النصارى ولذلك راج فيهم وانتشر بينهم واعتقد مبتاعوه أنه من كتب الإسلام المسلمة عند علمائه الأعلام , ولما رأى بعض من اشتراه كلام المنار فيه أحرقه وطفق يحرق الأرّم من سعى في بيعه ونشره وحاول جمعه من الأيدى فلم يتيسر ومن أين يصل المنار إلى كل من اشترى ذلك الكتاب الضار. فنقترح الآن على فضيلة شيخ الجامع الأزهر أن يطلب من الحكومة جمعه وأن يعلن في الجرائد أن هذا الكتاب فيه ما يخالف الدين ويؤيد البدعة، وأن المجاور الأزهري الذي نشر الكتاب باسمه قد تبرأ منه على أنه عوقب على تصديه لنشره وأنه لا يجوز لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشتري هذا الكتاب ولا أن يقرأه إلا أن يكون عالمًا راسخًا في عقائد الإسلام ينظر فيه بقصد الرد عليه والتنفير عنه وأنه ينبغي لمن ابتلي بشرائه من غير أهل العلم أن يرده إن أمكن وإلا فليحرقه. ولا ضرورة لذكر اسمه في الإعلان بل يكتفي بوصفه.

الإسلام وأهله

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام وأهله يقظة بعض المسلمين. حال الباقين. تفصيل ما ظهر للمستيقظين. من شقي ومن سعد. الاتباع والإبداع. الفرق بين الماضي والحاضر. آيات تحصيل العلوم. إنما أوقع المسلمين في الشقاء رؤساء الدين والدنيا. طريق الخلاص. اتباع سنة الراشدين في الدين وسنة الأمم العزيزة في الدنيا. استعداد المسلمين لهذا الإصلاح. الاجتهاد والتقليد. الحاجة إلى وضع حدود للإصلاح. من تصدى لذلك. استلفات للعلماء. نحمد الله أن ليل الإسلام قد عسعس، وصبحه قد تنفس، وطفق أهله يهبّون من رقادهم، ويمسحون النوم عن أعينهم، ولما يستيقظ إلا نفر قليل. وأما الباقون فمنهم من هو مستغرق في سباته يغط مما ثقل عليه النوم، وما أطال نومه هذا إلا تلك الأوزار والأوقار التي حملها من البدع والتقاليد، والأثقال والأحمال التي ناءت به من الظلم الشديد، ومنهم من وقع عليه الكابوس فمنعه من القيام. فلا هو في يقظة ولا في منام. ماذا فعل المستيقظون؟ رأوا الناس في طور جديد، {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 105) ، فالسعيد قد غلب وساد، وحكم العباد، واستولى على ثروة البلاد، وأما الشقي فهوالذي رضي وخضع، وذل وخنع، وقلّدَ واتبع. رأوا أن هذا الزمن زمن الاجتهاد والاختراع، والإحكام والإبداع، وتغيير الأوضاع، إلا ما لا يمكن تغييره، ولا يتأتى تحويله من شريعة محكمة توافق كل زمان، وسنة كونية لا يحكم عليها الأوان. رأوا مدنية هذا العصر مخالفة لمدنية العصور الخوالي، رأوا أنه لا يمكنهم أن يكونوا فيه على عادات أجدادهم الأوالي، رأوا أن السيوف الهندية، والرماح الخطية، لا تقابل المدفع والبندقية، والنسافات الديناميتية، رأوا أن العزة والقوة بالعلم والمال. وأن العلوم بالأعمال، لا بالقيل والقال، وكثرة الجدال، وإنما آية العلوم اللغوية بلاغة القلم واللسان، والقدرة على إيصال المعاني للأذهان، والتأثير بإصابة مواقع الوجدان، وآية العلوم الكونية الثروة الواسعة للأمة، والسلطة النافذة للدولة، فالثروة بالزراعة والتجارة والصناعة، والسلطة بالحكومة الشوروية، والعدل في الرعية، وآية العلوم الدينية تطهير العقول من الاعتقاد الباطل، وتزكية النفوس من الرذائل، والوقوف على جادة الاعتدال، في كل عمل من الأعمال. رأوا كل هذا وما يتبعه ويحتف به , وعلموا بالمشاهدة والعيان أن جميع المنتسبين للإسلام أمسوا وراء الأمم كلها. وعلموا أن هذا التأخر لم يكن ناشئًا عن تقصير الطبقات الدنيا مع الأمة لأن زمامها لم يكن في أيديهم. وإنما الشقاء والبلاء كله من قادة العقول والأفكار، والمتصرفين في النفوس والأرواح، وهم العلماء والمرشدون. ومن قواد الجيوش والعساكر، والمتصرفين في الدنانير والدراهم، وهم الملوك والحاكمون، وعلموا كما يعلم كل من نظر في هاتين المقدمتين البديهيتَيْنِ - تأخُّرِ الأمة الإسلامية وكون السبب في ذلك الرؤساء - أن صلاح هذه الأمة وانتياشها من هذا الشقاء لا يمكن إلا بمعرفة الفساد الذي طرأ على أولئك الرؤساء منذ تولدت جراثيم الخلل والضعف في الأمة إلى اليوم , وتلافي ذلك والتَّفصي من عُقُله والانطلاق من قيوده والسير في طريق جديد يوافق ما عليه سلف الأمة أيام الخلفاء الراشدين من حيث الدين , وما عليه الأمم العزيزة القوية من حيث الدنيا , ورمي كل ما عدا هذا وراء الظهر وعدم الالتفات إليه وإن لوّن بلون الدين وأوهم أنه منه , وعدم الالتفات إلى قائليه ومروّجيه وإن كان لهم من الألقاب الضخمة ما يختلب عقول العوام، ويوهم الغافل أن مخالفتهم جناية على الإسلام. هذه النتيجة موضع اتفاق بين الباحثين في إصلاح المسلمين ولكنهم في العلم بها على درجات. وجميع المتعلمين على الطريقة الجديدة والواقفين على أحوال البشر مستعدون لموافقتهم في رأيهم فكلما صدرت من واحد منهم كلمة؛ تنتشر بين هذا الصنف من الناس بسرعة غريبة حتى كأن القائل ألقاها إليهم بالأسلاك الكهربائية وكأن كل رجل من ناقلها سارية من سواري السلك البرقي. ولا يعبئون بإنكار الغافلين عن أحوال العصر والجاهلين بعلم الاجتماع من أصحاب العمائم إذا أنكروها لأنهم يعتقدون أنهم ما أنكروها إلا لأنها تمس أرزاقهم التي يتناولونها باسم الدين وتخفض شيئًا من جاههم العلمي العتيق الذي لا يطابق ما كان عليه الصدر الأول من سلامة اللغة وبساطة الدين وسهولته ولا ما يقتضيه العصر من تعزيز الإسلام وإعلاء كلمته. أرأيت ما قاله أحمد بك شوقي شاعر الحضرة الخديوية الفخيمة في نصيحته لولي عهد الحكومة المصرية بالأَخذ بالدين: وخذه من الكتاب وما يليه ... ولا تأخذه من شفتي فقيه نشر هذا القول في المؤيد أعم الجرائد العربية انتشارًا وطبع في ديوان (الشوقيات) وترنم به الناس وقبلوه حتى لم نسمع أن أحدًا أنكره لا قولاً ولا كتابة مع أنه كلام شبيه بالرسمي , والمخاطب به من أعظم أمراء الإسلام بل سمعنا من قال: إن هذا خير ما قاله شوقي وأنفعه. هذا ما عليه السواد الأعظم من متعلمي المسلمين وخواصهم في العرب والعجم إما حصولاً وإما قبولاً ومن عداهم من الخواص كالمتعلمين على الطريقة العتيقة يحتجون عليهم بأن هذا يقتضي فتح باب الاجتهاد وهو مسدود من مئين من السنين ونحو هذا الكلام الذي لا يقبله أولئك لأنهم يرونه تقليدًا للمقلدين. والمقلد لا يصح تقليده كما أن المجتهد لا يقلد مجتهدًا بالإجماع. يقولون: من سدّ باب الاجتهاد وهل هو مجتهد أم مقلد؟ فإن كان مجتهدًا فمن هو؟ وكيف اجتهد هو ومنع غيره من الاجتهاد؟ وإن كان مقلدًا فكيف تعدى على مقام الاجتهاد وتحكم في أهله؟ وكيف يصح لنا أن نأخذ بقوله هذا وهو مقلد لا قول له؟ وللآخرين أجوبة سنشرحها في مقالة أخرى ونبين رأينا فيها ونقول الآن بالإجمال: لا يريد عاقل من الباحثين في الإصلاح الإسلامي أن يكون الناس في الدين فوضى يذهب كل واحد إلى ما يزين له هواه ولا يريد أحد منهم أيضًا أن يبقى المسلمون مقيدين بكتب الخلف من الفقهاء وغيرهم لأن هذا رضى بما عليه المسلمون لا سعي بإصلاح حالهم. لا بد من وضع قواعد وحدود للإصلاح الديني تتبع عملاً , وقد كتبنا شيئًا من هذا في السنة الأولى للمنار وسنعيد الكلام فيه. ونقلنا في الجزء الماضي عن حضرة زميلنا محبوب عالم أفندي أن إخواننا مسلمي الهند سبقونا إلى هذا الإصلاح بالعمل , ولم نزل نحن في طور الفكر وقد كتب بعض الفضلاء منا نبذًا متفرقة لم يتحرر بها الموضوع تحريرًا. وقد نشرت رفيقتنا (ثمرات الفنون) الشهية عشر قواعد لأحد العلماء الأفاضل سدّد فيها وقارب ولكنه لم يجلّ الغيابة ويبصّر الغاية , فانبرى له بعض أهل الجمود والخمود يردّ عليه ويحتم على المسلمين أن لا يخرجوا أرجلهم من المقاطر التي وضعها العلماء المتأخرون على ما فيها من الخلاف والنزاع والإبهام والإيهام والخرافات والضلالات , ولقد عجب كل من رأيناه من الفضلاء الذين اطلعوا على الثمرات كيف نشرت هذه الجريدة النافعة هذا الردّ المعسلط الذي لا نظام له. ونحتم القول باستلفات علمائنا الكرام إلى العناية بالوقوف على أفكار الأمة وأمانيها لا سيما المتعلمين والكتاب , وأن يجعلوا من أوقات فراغهم الطويلة جزءًا للبحث فيما عليه الأمة ونسبتها لسائر الأمم والمذاكرة في ذلك ليبصروا مجرى الأفكار أين يتوجه فيكونوا على بصيرة من محافظتهم على طريقتهم التي هم عليها أو من السعي في السير على طريقة أخرى تكون أنفع لهم وللأمة وبالله التوفيق.

نموذج من كتاب أسرار البلاغة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من كتاب أسرار البلاغة قلنا: إن هذا الكتاب يعطي صاحبه البلاغة علمًا وعملاً , وإننا نذكر مثالاً لتأييد قولنا جزءًا من الفصل الذي وضعه الإمام عبد القاهر في مواقع التمثيل وتأثيره في النفوس لأن التمثيل أعظم أركان البلاغة، ولا نكاد نجد في كتب البيان التي نتداولها شيئًا مما كتب هذا الإمام كأن مواقع التمثيل ومواضعه والبحث في تأثيره في النفوس وهزّه للوجدان ليس من هذا العلم , وما هو إلا روح العلم الذي لولاه لم يكن للناس من حاجة به. وقد توسعنا في أمثلة ضروب التمثيل في الهامش زيادة على ما ذكره المصنف؛ لأن الأمثلة هي أمثل طرق التعليم , ولا نكاد نجد في الكتب التي نتدارسها إلا مثل: (ما لي أراك تقدم رجلاً، وتؤخر أخرى) فلنعرض عما أمات العلم من الكتب ولنرجع إلى كتب الأئمة الذين قرنوا العلم بالعمل وإمامهم في فنون البلاغة الشيخ عبد القاهر قال رحمه الله تعالى: فصل في مواقع التمثيل وتأثيره واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه [1] ، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أبهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشبَّ من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا. فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهزّ للعطف، وأسرع للإلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأقضى له بغُرّ المواهب والمنائح، وأَسْيَر على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر [2] . وإن كان ذمًّا كان مسُّهُ أوجع، وميسه ألذع، ووقعه أشد، وحدُّه أحدّ [3] . وإن حجاجًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر [4] . وإن كان افتخارًا كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه ألدّ [5] . وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسلّ، ولغرب الغضب أفل، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث [6] . وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يجلّي الغيابة، ويبصّر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل [7] . وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه [8] ، وإن أردت أن تعرف ذلك وإن كان تقل الحاجة فيه إلى التعريف، ويستغنى في الوقوف عليه عن التوقيف، فانظر إلى نحو قول البحتري: دانٍ على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السارين جدّ قريب [9] وفكر في حالك وحال المعنى معك وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني ولم تتدبر نصرته إياه، وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه، ويؤدي إليه ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه، وتأملت طرفيه، فإنك تعلم بُعد ما بين حالتيك، وشدة تفاوتهما في تمكن المعنى لديك، وتحببه إليك، ونبلهُ في نفسك، وتوفيره لأنسك، وتحكم لى بالصدق فيما قلت، والحق فيما ادعيت [10] . وكذلك فتعهد الفرق بين أن تقول: فلان يكدّ نفسه في قراءة الكتب ولا يفهم منها شيئًا وتسكت. وبين أن تتلو الآية [11] وتنشد قول الشاعر: زوامل للأشعار لا علم عندهم ... بجيّدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر والفصل بين أن تقول: (أرى قومًا لهم بهاء ومنظر، وليس هناك مخبر، بل في الأخلاق دقة، وفي الكرم ضعف وقلة) وتقطع الكلام. وبين أن تتبعه نحو قول الحكيم: (أما البيت فحسن وأما الساكن فرديء) . وقول ابن لنكك: في شجر السرو منهم مثل ... له رواء وما له ثمر وقول ابن الرومي: فغدا كالخلاف يورق للعيـ ... ـن ويأبى الإثمار كل الإباء وقول الآخر: فإن طُرَّة راقتك فانظر فربما ... أمَرَّ مذاق العود والعودُ أخضر وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يورق شجره ويثمر، ويفتر ثغره ويبسم، وكيف تشتار الأرْي من مذاقته [12] ، كما ترى الحسن في شارته وأنشد قول ابن لنكك: إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجًا ... رأيت صورته من أقبح الصور وتبين المعنى واعرف مقداره ثم أنشد البيت بعده: وهَبْك كالشمس في حسن أَلَمْ تَرَنَا ... نفرُّ منها إذا مالت إلى الضرر وانظر كيف يزيد شرفه عندك وهكذا فتأمل بيت أبي تمام [13] : وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود مقطوعًا عن البيت الذي يليه، والتمثيل الذي يؤديه، واستقص في تعرّف قيمته على وضوح معناه، وحسن مزيته [14] ثم أتبعه إياه: لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود وانظر هل نشر المعنى تمام حلته، وأظهر المكنون من حسنه وزينته، وعطَّرك بعرف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من مطلع سعوده، واستكمل فضله في النفس ونُبله، واستحق التقديم كله، إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير. وكذلك فرق في بيت المتنبي: ومن يك ذا فم مُرّ مريض ... يجد مُرًّا به الماء الزلالا لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك: إن الجاهل الفاسد الطبع يتصور المعنى بغير صورته ويخيل إليه في الصواب أنه خطأ. كنت تجد هذه الروعة؟ وهل كان يبلغ من وقم الجاهل ووقذه [15] وقمعه وردعه والتهجين له والكشف عن نقصه ما بلغ التمثيل في البيت وينتهي إلى حيث انتهى [16] . وإن أردت اعتبار ذلك في الفن الذي هو أكرم وأشرف فقابل بين أن تقول: إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره. وتقتصر عليه , وبين أن تذكر المثل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه) ويروى: (مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) . وكذا فوازن بين قولك للرجل وأنت تعظه: (إنك لا تجزى على السيئة حسنة فلا تغر نفسك) وتمسك. وبين أن تقول في أثره: (إنك لا تجني من الشوك العنب، وإنما تحصد ما تزرع) وأشباه ذلك. وكذا بين أن تقول: لا تكلم الجاهل بما لا يعرفه ونحوه. وبين أن تقول: (لا تنثر الدرّ قدَّام الخنازير) . أو (لا تجعل الدر في أفواه الكلاب) وتنشد نحو قول الشافعي رحمه الله: (أأنثر درًّا بين سارحة الغنم) , وكذا بين أن تقول: (الدنيا لا تدوم ولا تبقى) . وبين أن تقول: (هي ظل زائل , وعارية تسترد، ووديعة تسترجع) وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من في الدنيا ضيف، وما في يديه عارية، والضيف مرتحل والعارية مؤداة) وتنشد قول لبيد: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بدّ يوماً أن ترد الودائع وقول الآخر: إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار

الشعر العصري

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ الشعر العصري من نظم نابغة العصر في النظم والنثر حافظ أفندي إبراهيم في المقابلة بين (دولة السيف والرمح ودولة المدفع) . يا دولة القواضب الصقال ... وصولة الذوابل الطوال كم شدت بين الأعصر الخوالي ... ممالكًا عزيزة المنال قامت بحد الأبيض الفصَّال ... وسن ذاك الأسمر العسال راحت بها الأيام والليالي ... وأصبحت كالبرديّ البالي وخلفتها دولة الجلال ... مملكة المدفع ذات الخال قامت بحول النار والزلزال ... فأرهبت أفئدة الأبطال أرهبها مزعزع الجبال ... ومفزع الليوث في الدحال وقاطع الآجال والآمال ... وخاطف الأرواح من أميال يثور كالبركان في النزال ... فيتبع الأهوال بالأهوال ويرسل النار على التوالي ... ويبعث الحديد للصلصال فيحطم الهام ولا يبالي ... ما كوكب الرجم هوى من عال فمر كالفكر سرى بالبال ... على عنيد مارد محتال مسترق للسمع في ضلال ... من عالم التسبيح والإهلال أمضى وأنكى منه في القتال ... إذا سرت قنبلة الوبال من فمه المحشوّ بالنكال ... ينذرهم في ساحة المجال بالرعد والبرق وبالآجال ... ولم يكن كذلك الختال يحز في الهام وفي الأوصال ... صامت قول ناطق الفعال رأيته كالقوم في المثال ... مالوا عن القول إلى الأعمال ... ... ... فامتلكوا ناصية المعالي وله هذه المقاطيع تعريبًا بلا تصرف عن جان جاك روسو: يا أيها الحب امتزج بالحشى ... فإن في الحب حياة النفوس واسلُلْ حياةً من يمين الردى ... أوشك يدعوها ظلام الرموس *** خلقت لي نفسًا فأرصدتها ... للحزن والبلوى وهذا الشقاء فامنن بنفس لم يشبها الأسى ... لعلها تعرف طعم الهناء *** تمثلي إن شئت في منظر ... يا جوليا أنكر فيه الغرام أو فابعثي قلبًا إلى أضلع ... راح به الوجد وأودى السقام *** غضي جفون السحر أو فارحمي ... متيمًا يخشى نزال الجنون ولا تصولي بالقوام الذي ... تميس فيه يا مناي المنون إني لأدري منك معنى الهوى ... يا جوليا والناس لا يعرفون

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) من كتاب (21) من هيلانة إلى أراسم في دسمبر سنة - 185 كتبت للحكومة ثلاث مرات أستطلعها شيئًا من أخبارك فصدر في كل واحدة منها أمر رسمي بإجابتي أنك بخير وذلك تهكم وسخرية. أنا لا أطيق هذا السكوت الذي طال أمده بيننا ثمانية عشر شهرًا فإنه قد أمضَّني وأحرج صدري , ولكني أراني قد اهتديت إلى حيلة لإيصال مكاتيبي إليك سنرى حتمًا ما يكون من نجاحها , وسواء عليّ أفلحت فيها أم لم أفلح فإني لن آلو جهدًا في ملازمة جدران سجنك ومحاصرتها على النحو الذي أعرفه. انقضت كل هذه المدة ولا سلوان لي عن همي إلا في (أميل) . أوَّهْ إني لأبذل أنفس ما عندي لمن يأتيني بك الساعة لتراه يغدو ويروح في البستان مكشوف الساقين إلى نصفهما عاري الذراعين مرسل الشعر فإن شهر دسمبر هنا كما أخبرتك فيما سبق غاية في اعتدال الإقليم ويقول صديقك الدكتور: إن شدّ أعضاء الأطفال وتقويتها بتعريضها لهواء الجو يعود بالفائدة عليهم في أبدانهم. ثم اعلم أن (أميل) غلام متعب فإنه كَلِفٌ بلمس كل شيء يقع بصره عليه فهل ينبغي منعه من ذلك؟ وليتك ترى ما يحدثه كل يوم في البستان من ضروب الإتلاف التي كان قوبيدون في بداية الأمر يتوجع منها ويشكو. فلما أعيته الحيل انتهى بالضحك عجزًا ويأسًا. ذلك لأن ولدك له في الاشتغال طرق شتى هو مخصوص بها فهو يقلب الأرض بمقلب صغير من الخشب ويغرس الأشجار (أستغفر الله) بل أظنه يبني أيضًا ولعلك تقول: إنه يبني له قصورًا في أسبانيا [1] كلا وإنما هو يقيم بالحصى منارات وكهوفًا ثم إن الذي يضحكني ويسليني منه أنه يسمي تلك الألاعيب شغلا وهي تسمية تشير إلى أن الأطفال مجبولون على تعظيم أعمالهم في أنفسهم وتقديرها بأكثر من قيمتها. على أن ما يصدر عن سذاجتهم وسلامة طباعهم من أنواع هذا التقدير ليس بجملته باطلا بطلانًا تامًّا فإن ثمرة البلوط مثلا إذا سقطت على الأرض من يد صبي صغير لم يحسن القبض عليها لا ينافي ذلك أن تصير يومًا ما شجرة عظيمة (فكيف إذا هو غرسها في الأرض) اهـ. (22) من هيلانة إلى أراسم في 12 يناير سنة - 185 قد اتخذ (أميل) له خليلةً، ولهذه المناسبة ينبغي أن أقص عليك حادثة وقعت عندنا فارتعنا جميعًا بسببها ارتياعًا عظيمًا.. ذلك أن قوبيدون لما كان قليل الثقة بشرطة الحكومات المتمدنة في حفظ الأنفس والأموال لما هو لاصق بذهنه من أفكار متوحشي أفريقيا قد عثر من حيث لا أدري على كلبة ضخمة طويلة إلا أنها من أشد أنواع الكلاب توحشًا فسميناها (الدبة) وهو اسم ينطبق عليها كمال الانطباق في شعرها الأسود وقوتها العظيمة وغرائزها العدائية , وقد وضعت منذ شهرين خمسة جراء تماثلها إلا أنها من حين ولادتها بدت عليها سمات الدمامة والبشاعة فأسكناها في بيت الدجاج وكان من وراء وضعها أن زاد توحشها الفطري بسبب حنوها الأمي كما يحصل ذلك غالبًا من الحيوانات الضارية فقد تخيلت أن تخفي جراءها في سقيفة كانت تحرس مداخلها وتمنعها بنفسها لظنها بلا ريب أننا نأخذها منها , وقد كنت أمرت بأن لا يدخل (أميل) بيت الدجاج بعد سكناها فيه؛ لأني كنت أخشى عليه مقابلة هذا الحارس الجهنمي ولكن كيف السبيل وهو مع كونه لم يتجاوز التهادي في مشيته يتسلل ويتدخل في كل مكان. ففي عصر ذات يوم افتقدناه في البيت والبستان فلم نجده فأرسلت قوبيدون في طلبه ثم رأينا بيت الدجاج مفتوحًا فلم يبق في نفوسنا ريب في أنه دخله , ولكن ضاع بحثنا فيه سدى فأوَّل خاطر مرَّ بفكر الزنجي هو أن الكلبة افترسته وهو خاطر فيه ريح التوحش حقًّا. لم تكن دهشة قوبيدون بأقل من ذعره إذ دخل السقيفة، مخاطرًا بنفسه فرأى (أميل) وقد رقد على الدّبة وأخذ بأذنيها الطويلتين المتدليتين يجذبهما إليه , وأكثر من هذا خروجًا عن مألوف العادة وأبعد منه عن معهودها أن ذلك الحيوان كان يتسامح له فيما كان يفعله به ويحتمل منه لجاجته في محكه بشهامة وعلو نفس لا يتصف بهما إلا الآخذون بطريقة زينون [2] فلم يلبث قوبيدون أنْ فهم وهو مندهش أن الكلبة قد اتخذت (أميل) خليلاً وأكرمت وفادته فقبلته بين أولادها لكنها لم تمنح الزنجي شيئًا من هذه المراعاة لأنها لما رأته أنشأت تهرّ وتكشر عن أنيابها زجرًا له فرأى من الحزم الفرار من أمامها فخرج داعيًا (أميل) إلى اللحاق به فتبعه جذلاً مبتهجًا غافلاً عما كان قد اقتحمه من الخطر , من هذا الحين انعقد التعارف بين (أميل) وبين الدبة وكأَنها توهمته جروًا صغيرًا لم تحسن أمه لحسه فكانت من أجل ذلك تعتبره ممن تجب لهم حمايتها , وتلحس ما انكشف من أعضائه بلسانها العريض , وعلى كل حال قد ظهر لي أنها حميدة المقاصد فلم يبق لي من موجب للخوف منها على ولدي. لم يقتصر (أميل) على مصادقة الدبة بل إن له أصدقاء غيرها فجميع سكان بيت الدجاج معارفه , ومن العجيب أن تراهم في غاية الائتلاف والوئام ولست أخفي عنك أني مهتمة بهذا العالم البيتي الصغير ومشتغلة بشأنه كل الاشتغال. يوجد على القرب من بستاننا بركة فيها وشل (ماء قليل) يزداد بما ينصب فيها من ماء المطر المتحلب من سطوح المنازل فخطر ببالنا أن نضع فيه بطًّا وتعهد بذلك قوبيدون فاشترى ثلاث بطات من كفر مجاور لنا وأصبحنا نتسلى برؤية ريشها الأخضر الجميل الممثل لفلذ المعادن , ونبتهج بما تبديه لنا من ضروب المرح واللعب في الماء وبما تسمعنا من البطبطة وترينا من الائتلاف الصحيح الذي جمعتها وشائجه , ولكن الزنجي لم يلبث أن لاحظ عدم التناسب والتلاؤم في تآلف هذه الجماعة فإنه وجد فيها ذكرين لأنثى واحدة مع أن البط على ما يظهر يميل إلى تعدد الزوجات على نحو ما عليه الترك بتزوج السلطان الواحد كثيرًا من النساء , فمن أجل مداواة هذه العلة التي جزم قوبيدون بمخالفتها لمقتضى الفطرة [3] قد اشترى زوجًا آخر من هذا النوع بعد أن تأكد هذه الدفعة من أنوثته وتحراها كما ينبغي وبذلك أصلح الخطأ الأول بعض الإصلاح وبقي أمر ما كان يخطر لنا على بال قبل شراء هذا الزوج فانعكس فيه تقديرنا وخاب حسباننا وهو استقبال البطات القديمة لهذا الزوج , فإنها بمجرد أن رأته ولته ظهورها مصرة على مجانبته , وكلما حاول القرب منها نهرته وأوسعته نفرًا فأردنا التوسط في الصلح بين الفريقين فلم يجد ذلك نفعًا لأننا ما كدنا نفارقهما حتى عقدت الثلاث القديمات مجلسًا للشورى بينها بمعزل عن الحديثتين وأنشأن يبطبطن طويلاً ولم أعرف ما دار بينهن من التداول والتشاور بنصه لعدم معرفتي لسانهن ولكن معناه كان ظاهرًا فكأنهن كن يقلن: (إننا قد سكنا هذا المكان قبلهما ولنا الحق من أجل ذلك أن نعتبرهما دخيلتين فأجدر بنا أن نُشْوَى على السفود شيًّا أو أن نجهز باللفت طعامًا للآكلين من أن نقبلهما في جماعتنا فنحن بط وأما هما فليستا إلا من السقط) . لما لاحظ قوبيدون أن أحد أفراد هذه الجماعة وهو ذكر أبيض ذو قنزعة طويلة كان أشدها لجاجة في النفور صمم على ذبحه على نصب الوفاق فداء للاتحاد والتآلف فلما فعل؛ أنتج هذا القربان مع أسفي عليه أثره المطلوب , فأخذ كل فريق يتدرج في التقرب من الآخر حتى انتهيا بأن صارا جماعة واحدة وإن كانت البطة القديمة هي السلطانة الحظية. فما رأيك في ذلك الشمم والترفع في هذا الجنس الحيواني؟ أترى أن الميل للسؤدد والشرف هو الأصل الثابت في الفطرة , وأن المساواة بالمعنى الذي نفهمه منها أمر عارض عليها اكتسبه الإنسان بالعدل. لو شئت لقصصت عليك أيضًا وقائع كثيرة في عوائد الحمام وأخلاقه هي بالنسبة إلي جديدة. فقد تبيّن لي من النظر في معيشته في برجنا أن أموره لا تجري تمامًا على ما تصفه الكتب من جعله في الجملة مثالاً للصداقة والوفاء بعقد الزوجية لأني رأيت ذكرًا عتيقًا متزوجًا بحمامة فتيّة كان حظه معها حظ أولئك الشيوخ الضعاف الذين تمثل الروايات الهزلية خضوعهم وتسليمهم قيادهم لمن يخالطونهم. فتركته في يوم من الأيام واستبدلت به ذكرًا فتيًّا متصلفًا استمالها منه بلا ريب رقيق كلامه وجميل تحيته وسلامه , وكأني بك تقول: أي الزوجين كان مخطئًا آلزوجة لأنها طائشة وسريعة التحول والانقلاب , أم الزوج لأنه أغفلها ولم يراعها كما ينبغي؟ فأجيبك أنه ينبغي الحذر من المجازفة في الأحكام على غير علم ومن أجل ذلك فأنا قبل كل شيء أمسك عن الحكم , وأقول: إن الزوج المخون على كل حال قد تلقى سقوط حرمته بعلو نفس يدل على الشجاعة الحقيقية فكان إذا اتفقت مقابلته لزوجته الخائنة في طريق يمر بجوارها بدون أن يظهر عليه أنه رآها وأن يبدي أقل أمارة على حنقه عليها إلا أنه لم يكن ألبتة على هذا التسامح مع من اغتصبها منه لأنهما عندما كانا يتقابلان يتبادلان النقر الأليم الوقع كما كان منيلاس وباريس يتبادلان الطعن والضرب في حومة الوغى [4] , ولما قضت الحمامة المطلقة زمن العشق وحان وقت الحضانة على البيض لم تحسنها لأنها ورفيقها كانا من فرط انشغالهما بدواعي الحب بحيث لم يكن ليتيسر لهما أن يكثرا من التفكر في فروض البيت , ولم تعزب هذه الحالة عن ذهن الزوج المهجور فإننا رأيناه ذات يوم يخرجهما من إحدى المحاضن حيث كانا مشتغلين بتربية أفراخهما , وهما - والحق يقال - ما كانا يأتيان بها على وجهها وكأنه كان يقول لهما وقت إخراجهما: (أفًّا عليكما أنتما لا تعرفان من التربية شيئًا فخلّيا مكانكما) فلم يكن إلا أن خلياه بعد مقاومة ضعيفة , وجعل هو يحسن العناية بشأن أدعيائه , وسمة الظفر والفخر بادية على وجهه. فنبهت فكري هذه السيرة الشريفة إلى أمر من المحتمل أن يكون هو سبب شقائه بزوجته وهو أن صفة الأبوّة فيه غالبة على صفة الزوجية. (أميل) كما لا يعزب عن فكرك يجهل كل هذه الاعتبارات المختلفة التي لاحظتها في معيشة الطيور , وبودّي أنه لا يفهم كل ما فيها , وإنما الذي أعجب به هو ما استقر بينه وبين معظم سكان بيت الدجاج من الألفة والارتباط. هذا وإننا كثيرًا ما تساءلنا عن السبب في أن تأنيس الحيوانات كاد ينقطع من عهد أن وجدت المجتمعات المدنية. لا شك في أن علته ذلك ليست هي إعواز الحيوانات المتوحشة فإن في الصحراء كثيرًا من أنواعها النافعة التي يكون من فائدتنا الظفر بها لو زال المانع من ذلك , فإذا كان الأمر كما أقول؛ ألا يكون السبب في وشك انقطاع التأنيس هو كون الإنسان في عصرنا الحاضر لم يبق فيه من سذاجة الفطرة ما يكفي لثقة الحيوانات المتوحشة به , وأن صفات الطفولية هي اللازمة لذلك؟ ((يتبع بمقال تالٍ))

الأحاديث الموضوعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قسم الأحاديث الموضوعة العلم والعلماء من الجلي الظاهر أن وضاع الحديث من صنف العلماء وقد وضعوا أحاديث كثيرة لتعظيم شأن أنفسهم؛ ليعظمهم الناس ويعتقدون تفوقهم واستعلاءهم , ثم استنبطوا فروعًا فقهية في هذا التعظيم لأنفسهم انتهى بهم الغلوّ فيها إلى أن حكموا بالكفر على من يهين أحدًا من العلماء حتى قال بعضهم: من قال لبابوج العالم: بويبيج؛ كفر , أي من صغر الحذاء المضاف إليه في اللفظ؛ يكفر حتى كأنه أشرك بالله واعتقد أن لأحد غيره سلطة غيبية يضرّ بها وينفع ويتصرف في الأكوان فيما وراء الأسباب , بل كثيرًا ما يتساهل المتساهلون في جزئيات من مثل هذا ويروّجونها بالتأويل , ولا يتساهلون فيما يمس أشخاصهم أو منافعهم ولا أعني بهذه المقدمة أن إهانة العلماء جائزة , حاشا لله أن أجيز إهانة من دونهم , ولكنني أنكر على الغالين الذين جعلوا دين الله آلة لمنافعهم حتى كذبوا على رسوله صلى الله عليه وسلم مع علمهم جميعًا بأنه قال: (من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) دون من أظهروا الحق. فمن الأحاديث الموضوعة في العلم والعلماء حديث: (إذا كان يوم القيامة وضعت منابر من ذهب , عليها قباب من فضة , مفضضة بالدر والياقوت والزمرد مكللة بالديباج والسندس والإستبرق , ثم ينادي منادي الرحمن: أين من حمل إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم علمًا يحمله إليهم يريد به وجه الله؟ اجلسوا عليها ثم ادخلوا الجنة) . رواه الدارقطني عن ابن عمر مرفوعًا وفي إسناده كذاب. ومنها حديث: (خير الناس المعلمون , كلما خلق (مثلث اللام ومعناه بلي) جدَّدوه , أعطوهم ولا تستأجروهم فتخرجوهم , فإن المعلم إذا قال للصبي: بسم الله الرحمن الرحيم فقال الصبي: بسم الله الرحمن الرحيم؛ كتب الله براءةً للصبي وبراءةً لوالديه وبراءةً للمعلم من النار) . وهو موضوع. ومنها حديث: (اللهم اغفر للمعلمين , وأطل أعمارهم , وبارك لهم في كسبهم ) رواه الخطيب عن ابن عباس وهو موضوع. ومنها حديث: (اللهم اغفر للمعلمين لا يذهب القرآن وأعز العلماء لا يذهب الدين) . وهو موضوع. ومنها حديث: (من علم عبدًا آية من الكتاب فهو له عبد) قال الحافظ ابن تيمية: هو موضوع , وقد رواه الطبراني. ومنها حديث: (الأنبياء قادة , والفقهاء سادة , ومجالستهم زيادة) قال الصغاني : موضوع , ونقول: إنه زاد في مدح الفقهاء على مدح الأنبياء , وظاهره أن الواضع يريد المشتغلين بعلم الأحكام الظاهرة , ولم يكن يسمى هذا فقهًا في العصر الأول كما أنه لم يكن يومئذ في المسلمين صنف يلقبون بالفقهاء. ومنها حديث: (سأل النبي صلى الله عليه وسلم سائل عن علم الباطن: ما هو ؟ فقال: سألت جبريل عنه , فقال: يقول الله: هو بيني وبين أحبائي وأوليائي وأصفيائي أودعه في قلوبهم , لا يطلع عليه أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل) . ذكره في الذيل عن حذيفة مرفوعا. قال الحافظ ابن حجر: هو موضوع. ونقول: إن فيه من الضلالة أن الله يهب لهؤلاء الأولياء المعارف التي لا يهبها للأنبياء والملائكة على الإطلاق , والظاهر أن واضعه من مشايخ الطريق الدجالين. ومنها حديث: (من خرج في طلب العلم؛ حفته الملائكة بأجنحتها , وصلت عليه الطير في السماء والحيتان في البحار , ونزل في السماء منازل سبعين من الشهداء) . قالوا: في إسناده كذاب. ومنها حديث: (من تعلم بابًا من العلم ليعلمه الناس ابتغاء وجه الله؛ أعطاه الله أجر سبعين نبيًّا) . قالوا: في إسناده متروك. ونقول: قاتل الله أمثال هذا الواضع , فإنهم لم يزاحموا إلا الأنبياء عليهم السلام. ومنها حديث: (إن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء) إلخ ما هو مذكور في الإحياء وغيره , قال الحافظ الذهبي في الميزان: إنه موضوع. ومنها حديث: (طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة , وطلب العلم يومًا خير من عبادة ثلاثة أشهر) . في إسناده كذاب , وكأنه أراد أن يعتذر عن عدم عبادته. ومنها حديث: (إذا جلس المتعلم بين يدي المعلم؛ فتح الله عليه سبعين بابًا من الرحمة) إلخ , وهو موضوع. ومنها حديث: (من زار العلماء فقد زارني، ومن صافح العلماء فقد صافحني، ومن جالس العلماء فكأنما جالسني، ومن جالسني في الدنيا أجلس إليّ يوم القيامة) في إسناده كذاب. ومنها حديث: (الشيخ في قومه كالنبي في أمته) . جزم ابن حجر وغيره بأنه موضوع. ومنها الحديث المشهور الذي يعلقه كثير من العلماء فوق رؤوسهم بالخط العريض تنبيهًا للناس على علو مقامهم وهو: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) . قال ابن بحر الزركشي: لا أصل له. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

مسيح الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسيح الهند ما أكثر الذين استخدموا اعتقاد الناس بأن رجلاً يسمي (المهدي) أو يلقب بالمهدي يظهر لإعادة الإسلام إلى شبابه , فظهروا يدعي كل واحد منهم أنه ذلك المنتظر , وكان ما كان من ظهورهم من الفتن والبلاء على الإسلام. لأنهم لم يحسنوا ذلك الاستخدام. بأن يقوموا به على طريقة يقبلها الخاص والعام. ويسيروا به في سنن الكون التي لا يقوى على معارضتها الحكام. وأما استخدام الاعتقاد بظهور المسيح فلم يفتن به المسلمون هذه الفتنة. ولم يمتحنوا فيه من قبل بمثل هذه المحنة. وذلك لأسباب منها: أن ظهوره لا بد وأن يكون مسبوقًا عندهم بظهور المهدي , حتى قام في هذا العصر من ادعى هذه الدعوى كما تقدم في مقالة (الدعوة حياة الأديان) , وذكرنا ثَمَّ أن رجلاً آخر في الهند يدعي أنه (المهدي) , وألمعنا إلى بعض ما بلغنا من خبره ومن عنايته بالدعوة إلى الإسلام , ثم أرسل إلينا صديق فاضل بعض كتبه من الهند فإذا به يدعي فيه أنه هو (المسيح عيسى ابن مريم) بعينه وأن أتباعه ينشرون دعوته في الحجاز وغيرها. ويذكر أن بعض أتباعه ألف رسالة في تأييد دعوته سماها: (إيقاظ الناس) وهو الشيخ محمد سعيد النشار الحمداني الطرابلسي الشامي , وإننا نعرف هذا الشاب ونعرف أنه كان ذهب هائمًا إلى الهند قبل الدخول في سنة العسكرية , ثم شاع عنه في طرابلس أنه تشيع أو دخل في مذهب جديد. نذكر نبذًا من رسالة هذا المسيح المعروف في الهند بالقادياني المسماة (حمامة البشرى إلى أهل مكة وصلحاء أمّ القرى) قال يخاطب تلميذًا له فيها بعد كلام يذكر فيه بعض خواص أتباعه ويشكو من عمال السلطان الذين يفتشون الكتب في الطريق ويقرءونها (ويحرقونها بأدنى ظن) لأنهم تركوه في حيرة لا يهتدي إلى طريقة أمينة يرسل فيها السائل إلى مكة؛ قال ما نصه: (وإن بعض علماء هذه الديار لم يزالوا يبتغون بي الغوائل , ويريدون بي السوء , ويتربصون عليّ الدوائر , ويتطلبون لي العثرات , ويكتبون فتاوى التفكيرات. وكنت أقول في نفسي: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) . فألهمني ربي مبشرًا بفضل من عنده وقال: إنك من المنصورين , وقال: يا أحمد بارك الله فيك {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) , {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} (يس: 6) , {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} (الأنعام: 55) , وقال: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} (هود: 35) , {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) , {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (الأنعام: 34) {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 95) وقال: أنت على بينة من ربك رحمة من عنده , وما أنت بفضله من مجانين. ويخوفونك من دونه إنك بأعيننا سميتك المتوكل يحمدك الله من عرشه. {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى} (البقرة: 120) , {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} (الأنفال: 30) فأدخل سبحانه في لفظ اليهود معشر علماء الإسلام الذين تشابه الأمر عليهم كاليهود , وتشابهت القلوب والعادات والجذبات والكلمات من نوع المكائد والبهتانات والافتراءات , وإن تلك العلماء قد أثبتوا هذا التشابه على النظارة بأقوالهم وأعمالهم وانصرافهم واعتسافهم وفرارهم من ديانة الإسلام ووصية خير الأنام صلى الله عليه وسلم , وكونهم من المسرفين العادين) . (وكنت أظن بعد هذه التسمية أن (المسيح الموعود) خارج , وما كنت أظن أنه أنا حتى ظهر السر المخفي الذي أخفاه الله عن كثير من عباده ابتلاءً من عنده وسماني ربي (عيسى ابن مريم) في إلهام من عنده وقال: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} (آل عمران: 55) إنا جعلناك عيسى ابن مريم , وأنت مني بمنزلة لا يعلمها الخلق , وأنت مني بمنزلة توحيدي وتفريدي , وإنك اليوم لدينا مكين أمين) . (فهذا هو الدعوى الذي يجادلني قومي فيه ويحسبونني من المرتدّين , وتكلموا جهارًا , وما رجوا لملهم الحق وقارًا , وقالوا: إنه كافر كذاب دجال وكادوا يقتلونني لولا خوف سيف الحكام , وحثّوا كل صغير وكبير على إيذائي وايذاء أصدقائي , والله يعلم تطاول المعتدين. وبعزة الله وجلاله إني مؤمن مسلم , وأومن بالله وكتبه ورسله وملائكته والبعث بعد الموت , وبأن رسولنا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل وخاتم النبيين. وإن هؤلاء قد افتروا عليّ وقالوا: إن هذا الرجل يدعي أنه نبي ويقول في شأن عيسى ابن مريم كلمات الاستخفاف ويقول: إنه توفي ودفن في أرض الشام , ولا يؤمن بمعجزاته , ولا يؤمن بأنه خالق الطيور ومحيي الأموات وعالم الغيب وحي قائم إلى الآن في السماء , ولا يؤمن بأن الله قد خصّه وأمه بالمعصومية التامة من مس الشيطان ومن كل ما هو من لوازم اللمس , ولا يقرّ بأنهما مخصوصان متفردان في العصمة المذكورة لا شريك لهما فيها أحد من الرسل والنبيين. ويقولون: إن هذا الرجل لا يؤمن بالملائكة ونزولهم وصعودهم , ويحسب الشمس والقمر والنجوم أجسام الملائكة , ولا يعتقد بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ومنتهى المرسلين لا نبي بعده. فهذه كلها مفتريات وتحريفات , سبحان ربي , ما تكلمت مثل هذا , إن هو إلا كذب , والله يعلم أنهم من الدجالين , وقد سقطوا علي , وما أحاطوا معارف أقوالي , وما فهموا حقائق مقالي , وما بلغوا معشار ما قلنا , وخانوا وحرفوا البيان , ونحتوا البهتان , ووقعوا في حيص بيص , وظنوا ظن السوء , فويل لتلك الظانين. والله يعلم أني ما قلت إلا ما قال الله , ولم أقل قط كلمة يخالفه , وما مسها قلمي في عمري) اهـ بحروفه. ثم أنشأ يرد عليهم تفصيلاً وسنذكر بعض ذلك فيما سيأتي إن شاء الله. ((يتبع بمقال تالٍ))

الإفراط والتفريط

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإفراط والتفريط السهم الذي يتجاوز الغرض كالسهم الذي لا يصل إليه فيصيبه كلاهما طائش ومن أهل الأديان من انتهى به الغلوّ في الدين إلى الخروج منه , ولذلك قال الله تعالى: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171) , ومن هؤلاء الغالين من عظم رؤساء الدين من الأنبياء والصلحاء تعظيم إطراء , فزعم أنهم عند الله كالحجاب والوزراء عند السلاطين يتوسلون إليه بإيذاء من يغاضبهم أو يناصبهم أو يقصر في تعظيمهم , وبنفع من يتقرب منهم , ويتخذهم شفعاء أو نصراء , مع أن الثابت في أصول العقائد أن أفعال الله - تعالى - إنما تكون بإرادته , وإرادته إنما تكون بحسب علمه , وأن علمه قديم متعلق في الأزل بكل ما يفعله الله تعالى في الأبد. وهذا الغلو إنما يكون على أشده في العامة الجهلاء الأميين لا سيما أهل البادية ومن في معناهم من أهل القرى الصغيرة. ثم إن هؤلاء إنما أخذوا الدين على ظواهره بالتقليد , فإذا اقتضت الأحوال أن يقلدوا بترك الدين؛ يغلون في التقليد الثاني كما غلوا في الأول , فيكونون في كل حال من الأحوال أشد الناس كفرًا وضلالاً , وهذا هو معنى قوله تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (التوبة: 97) وأما أهل المدن والحضارة والمتعلمون فإنهم أرق طباعًا , وأقرب إلى الاعتدال , وأبعد عن الغلو في ضلالهم وهداهم. يفتتن أهل الثروة في الأرياف بتقليد المترفين من المفتونين بالمدنية الغربية من أهل المدن فيسبقونهم في كل مفسدة. ومن ذلك أن أحد هؤلاء الأغنياء حاول إلزام ولده بأن لا يصوم في رمضان فلم يطعه , فجاء يشكوه إلى ناظر مدرسته في مصر ويستعين به على إلزامه بالإفطار متوهمًا أنه يعظم بذلك في عين الناظر , ولكنه صغر وتضاءل وأهين. ومنهم من جلس أمام (بار) في رمضان , وطلب قدحًا من الكنياك , فسأله مسيحي في البار عن دينه , فقال: مسلم فأهانه وشتمه وطرده , وقلما تجد متعلمًا حضريًّا بهذا التهتك.

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورات بين المصلح والمقلد المحاورة الأولى في حالة المسلمين العامة السلف والخلف في الإسلام. أيّ سيرتيهما تختار للإصلاح. الإنسان المدني والإنسان المنطقي. شقاء المسلمين في دنياهم. الدليل على ذلك. الثقة بكتب تقويم البلدان والجرائد. رواية الكافر. التواتر. قرب قيام الساعة وفساد الزمان. الريب فيما يروونه في أشراط الساعة. سبب مرض الأمة ترك الشريعة. استحالة إصلاح المسلمين إلا بالمهدي. متى تقوم الساعة. إنكار المهدي. الإصلاح بإبطال المذاهب. نقص على القراء حديث محاورات بين شاب من مريدي الإصلاح الذاهبين إلى وجوب خروج الأمة مما هي فيه من التقاليد الحادثة في الملة , والرجوع بالدين إلى بساطته الأولى حيث كان يتناوله رعاء الشاء من كثب بالاقتصار على هدي الكتاب وصحيح السنة وسيرة السلف , وحذف كل ما زاده الخلف من الغلو في الدين وتكثير التكاليف , وإبرازها بصور تعتاص على الأذهان , وبين شيخ من المحافظين على التقاليد التي عليها الأمة من قرون طويلة المعتقدين أن الأخذ بالكتاب والسنة مخصوص بالمجتهدين , وأنهم قد انقرضوا، ويستحيل وجود غيرهم , وأن كتب المتأخرين من أموات العلماء خير من كتب المتقدمين وأجمع، وأفيد في التحصيل وأنفع، ونكتفي بما يرد في المحاورات من بحث الاجتهاد والتقليد عن الكتابة فيه استقلالاً فنقول: اجتمع أحد الشيوخ المتفقهين، وأكابر الوعَّاظ المدرسين، بشاب من الناشئة الجديدة الذين جمعوا بين العلوم العصرية والدينية كما جمعوا بين المال والجاه بجدهم وكدهم , ولولا ذلك لم يتنازل الشيخ لمحاورته. نظر الشيخ إلى الشاب فألفاه ضجرًا متبرمًا تلوح عليه مخايل الحزن كأنما أصابته مصيبة في نفسه أو أهله وماله , فقال له (الشيخ) : ما بالك [1] فإنني أراك على غير ما أعهد , وإنني أعجب أن أرى مثلك يهتم لشيء من الأشياء , فالحمد لله خير كثير وصحة جيدة , والله قد وفقك للبر والتقوى والصدقات والمبرات , والكريم لا يضام. (المصلح) : مهلاً أيُّها الأستاذ فإنني إنسان ومعنى (إنسان) خلق اجتماعي يشعر بأنه عضو من أمة يسعد بسعادتها ويشقى بشقائها , وإنني أرى أمتي أشقى الأمم وأتعسها , فكيف أكون أنا سعيدًا ناعم البال في أمة هذا شأنها من الخذلان والنكال. (المقلد) : ما هذا الذي أسمع منك؟ فإنك قد أخطأت خطأً منطقيًّا , وخطأً دينيًا. أما الخطأ المنطقي فإنك قد عرفت الإنسان بغير تعريفه الذي أجمع عليه علماء المنطق وهو: (حيوان ناطق) , وأما الخطأ الديني فهو أنك اغتبت المسلمين جميعًا , وجعلت أمة النبي صلى الله عليه وسلم شقية , بل جعلتها أشقى الأمم وخالفت الكلمة المجمع عليها بين المسلمين وهي: (أمة محمد على خير) . (المصلح) : إننا لسنا بصدد تحديد ماهيات الأنواع والأجناس فنذكر تعريف المنطقيِّ للإنسان وإنما نريد الكلام في موضوع اجتماعي فإذا لم يصح ما قلته في الإنسان عند المنطقي فهو صحيح عند أهل علم الاجتماع , وأما الغيبة فلا تظهر هنا؛ لأنني لم أحتقر إنسانًا بخصوصه. وأما كون الأمة الإسلامية أشقى الأمم في هذا العصر فلا يشك فيه إلا من لا يعرف من أحوال العالم شيئًا , ولا يعرف بلاد المسلمين ومن يحكمهم , وما هم عليه من الجهل والفقر والذل , وكيف يسامون سوء العذاب في جميع الأقطار وهم وادعون ساكنون. غارُّون آمنون. كأنهم عجماوات لا يعقلون , أو جمادات لا يحسون ولا يشعرون فهل من العقل وصحة الفكر التي استفدناها من المنطق أن نكذب المحسوسات اليقينية لكلمات كاذبة سميناها إجماعية؟ (المقلد) : أنت لم تشاهد أحوال جميع المسلمين فيصح حكمك عليهم , ولم لا يجوز أن يكون في البلاد البعيدة عنا من له منهم دولة قوية وعز وسؤدد؟ . هذا إذا سلمنا لك جدلاً أن المسلمين في هذه البلاد أقل من غيرهم من أهل الملل الأخرى علمًا ومالاً. وكيف نسلم بهذا وإننا نرى المسلمين أغنى من القبط , وأما العلم فليس عند غير المسلمين علم مطلقًا. (المصلح) : إن علم تقويم البلدان والجرائد السيارة قد مثلت لنا ما لم نشاهده من بلاد المسلمين وغيرها حتى كأننا نشاهده دائمًا لا يغيب عنا منه شيء , ولكنني أراك غير محيط بعلم ما بين يديك من حال ثروة المسلمين هنا وعلمهم , ولا أناقشك فيه الآن , فإن غرضي أن تقتنع بأن المسلمين في شقاء؛ ليكون هذا أساسًا وقاعدة للكلام بيني وبينك. (المقلد) : كيف أقتنع بكلام لا حجة لك عليه إلا كتب تقويم البلدان وكلام الجرائد , وكلاهما كذب لا يوثق به فإن مصادره كلها كفرية , والكافر لا تقبل روايته. (المصلح) : إن الكافر لا تقبل روايته في موضوع كفره وما يتعلق بإثباته وإبطال ما يخالفه. وأما ما ليس له غرض في الكذب فيه , وإنما غرضه ومنفعته في الصدق به؛ لأن فيه فائدته وفائدة قومه فإن العقل يقضي بأنه يتحرى الصدق فيه لئلا يغش نفسه وأمته , ومن هذا النحو: علم تقويم البلدان , وثم وجه آخر يجلي لنا تحريهم الصدق في مثل هذا الموضوع , وهو أن كل كاتب يعلم أن كتابته تنتشر بالطبع , ويطلع عليها أهل العلم بموضوعها فيسلقونه بألسنة الانتقاد الحداد , والأقوى من هذين الوجهين أن معظم المسائل التي أستند عليها في حكمي على المسلمين من المتواتر الذي يفيد اليقين , فإن معظم مسائل علم تقويم البلدان وأخبار الجرائد الشهيرة متفق عليه بين الشركات البرقية والمراسلات البريدية في جميع بلاد المدنية , ولا يخفاكم أن التواتر لا يشترط في رواته الدين , وإنما آيته حصول العلم اليقيني به لمن بلغه كما في كتب الأصول. (المقلد) : يشترط في التواتر أن يؤمن تواطؤ الرواة على الكذب , ولا يتحقق هذا الشرط إلا إذا لم يكن لأولئك الرواة غرض وهوًى فيما يروونه , فإذا تحقق هذا الشرط بالنسبة لمسائل علم تقويم البلدان على ما قلت فلا يتحقق في أخبار الجرائد البرقية ولا البريدية؛ لأن لرواتها ومذيعيها أهواءً وأغراضًا سياسية. (المصلح) : أنا لا أقول: إن كل ما يروونه حق وصدق , ولا أبرئُهم من الهوى والغرض مطلقًا , ولكن لا تتوهم أن أهواءهم تخفي الحقيقة , وإنما قصاراها أن تتصرف فيها بعض التصرف. كالاعتذار والتلطف. كما نرى في برقيات شركة روتر الإنكليزية في هذه الحرب الترانسفالية , فقد كانت تخبرنا بجميع انكسارات قومها الإنكليز , وهذا هو الشأن في الاعتماد على رواة شركة واحدة فيما تتهم فيه فما بالك بما ترويه رواة شركات مختلفة الأهواء والأغراض , وتتفق فيه مع رواة البُرُد الذين يراسلون الجرائد المختلفة المشارب والمذاهب؟ (المقلد) : إنني بصرف النظر عن صدق الجرائد وغيرها أسلم لك بأن المسلمين في حال سيئة على الجملة , فإن هذا آخر الزمان , وكل هذه الأحوال من علامات قيام الساعة , وهي كائنة لابد منها , وستزداد يومًا بعد يوم حتى لا يبقى إلا لكع بن لكع , وعليهم تقوم الساعة , فلا ينبغي أن نهتم بهذا الأمر ولا أن نحزن له لأنه مصداق إخبار النبي صلى الله عليه وسلم ويستحيل زواله. (المصلح) : هذا بعض ما أريد مذاكرتك به , فإن عندي ريبًا في كثير مما يروونه في الكتب من علامات الساعة , وما سيكون قبلها أقوى من ريبك في أخبار الجرائد وعلم تقويم البلدان , ولا يسعنا في هذا المجلس أن نبحث في متونها وأسانيدها , ونبين ما يقبل منها وما لا يقبل , ولكننا لا ننكر على أي حال أن لكل شيء وقعنا فيه سببًا , وأن لكل مرض علاجًا , فإن الهيئة الاجتماعية كالهيئة الشخصية تمرض بسبب , وما دام فيها رمق من الحياة لا يأس من شفائها , فما رأيك أيها الأستاذ في أسباب مرض الأمة الإسلامية العام وما رأيك في علاجه؟ (المقلد) : أما سببه فهو ترك الشريعة عملاً وحكمًا , وليس له علاج؛ لأن قيام الساعة قريب , وهي لا تقوم إلا على شرار الخلق كما قلت لك إلا أن الملوك والحكام الذين أفسدوا الدين والدنيا إذا حكموا بالشريعة , وألزموا الناس بالعمل بها؛ يندمل جرحهم وينشعب صدعهم ويصلح شأنهم , وما هم بفاعلين حتى يظهر المهدي وقد بشرني بعض الصالحين بأنه يظهر في هذا القرن , والساعة تقوم في أول القرن الخامس عشر واستدل على هذا بقوله تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: 187) فإن حروف بغتة تبلغ بحساب الجمل 1407 وبحديث: (إن أساءت أمتي فلها يوم , وإن أحسنت فلها يوم ونصف) واليوم عند الله ألف سنة , وقد أحسنت ولله الحمد , ولذلك جاوزت الألف , وفي أواخر النصف تقوم الساعة. (المصلح) : أما قولك: إن ترك العمل بالدين والحكم بالشريعة هو سبب ضعف المسلمين فهو مسلّم عندي , ولكن لي فيه فهمًا ربما كان غير ما تريد. وأما قولك: إن رجوعهم إلى الشريعة لا يكون إلا بقوة المهدي المنتظر فأنا لا أعتقد بصحة هذا بل أقول: إن هذا الاعتقاد من أدوأ أدواء المسلمين وأقتل أمراضهم , وإن كان فيما قالوه عنه كلمة إصلاح وهي إبطال المذاهب وجعل المسلمين على طريقة واحدة كما هو أصل الإسلام , وأغرب من هذا استدلالك على قيام الساعة بالآية فإن هذه الطريقة من الاستدلال ليست معروفة في الأصول , وكذلك الحديث لا أراه يصح , ثم انصرفا على أن يعودا للكلام بعد أيام. للكلام بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 17 ـ (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمالي دينية (الدرس السابع عشر) ] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [[*] (47) السمع والبصر قام البرهان على أن واجب الوجود الذي استمد منه وجوده كل موجود، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ومن المعلومات ما يسمّى العلم به سمعًا , ومنها ما يسمى العلم به بصرًا , ولهذا سمّى الله نفسه سميعًا بصيرًا كما سمى نفسه عالمًا وعلامًا وعليمًا , ولا يمكن أن يكتنه العقل كيفية علم الله تعالى بالمسموعات والمبصرات كما يستحيل أن يكتنه كيفية علمه بسائر الأشياء إليه. بل الإنسان عاجز عن اكتناه علمه وسمعه وبصره وعقله , وهي أقرب الأشياء وبها يدرك ويحكم , ويقول الفلاسفة: إنه عاجز عن اكتناه أيّ شيء من الأشياء كما قررناه من قبل. ولكن الذين ساروا في تقرير العقائد على طريق قياس الغائب على الشاهد , والقديم على الحادث قالوا في صفتي السمع والبصر نحو ما تقدم في صفة (العلم) أي أنهم لاحظوا أن لفظي السميع والبصير يطلقان على من يسمع ويبصر بالفعل , وعلى من له قوة بها يدرك المسموعات وهي ما يسمى السمع , وقوة يدرك بها المبصرات وهي ما يسمَّى البصر , فقالوا: إن لله تعالى صفتين قائمتين بذاته تعالى يدرك بهما المسموعات والمبصرات وهما: السمع والبصر. ثم اضطروا إلى التفرقة بين الحادث والقديم فقالوا: إن سمع الله تعالى بغير أذنين , وبصره بغير عينين , ولا يشترط فيهما ما يشترط في الصفتين الحادثتين , وإن ما ورد في الكتاب من إضافة العين والأعين إليه تعالى في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه: 39) وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور: 48) فهو من المتشابه , وفيه المذهبان المعروفان. وبالغ بعضهم في التحكم بالتفرقة فقال: إن سمع الله تعالى وبصره يتعلقان بجميع الموجودات , بمعنى أنه تعالى يسمع الأجسام نفسها وجميع أعراضها من لون ومقدار وطعم وريح , كما يسمع الأصوات ويبصر الأصوات كما يبصر سائر الموجودات , وجرى أكثر المؤلفين بعد صاحب هذا القول على تقرير قوله , وجعلوه من أصول العقائد وأسس الدين. ثم غلوا في هذه الفلسفة , وزاد بعضهم صفة أخرى سموها (الإدراك) , وطفقوا يدققون في الإيرادات وأجوبتها , والذي استقر رأيهم عليه أن الله تعالى يعلم الشيء الواحد على ما هو عليه بعدة صفات , وأن علمه به بواسطة كل صفة منها غير علمه به بواسطة الأخريات. مثال ذلك أن الله تعالى يعلم صوتي بصفة العلم وبصفة السمع وبصفة البصر وبصفة الإدراك عند من يقول بها منهم , وأن أنواع العلم وطرقه مختلفة والمعلوم واحد. أوجبوا على الناس أن يعتقدوا بهذه الفلسفة الدينية والتحكم النظري. وإن كان لم يشهد لهما كتاب ولا سنة ولا لغة , ولم يقل بهما أحد من سلف الأمة مع اعتراف هؤلاء كلهم بأن صفتي السمع والبصر من الصفات السمعية التي لا وظيفة للعقل فيها إلا حملها على معنى غير محال أن يوصف به واجب الوجود. على أن اللغة تنافيها. والعقل لا يقتضيها، إذ لو كانت من أصول الإيمان لما سكتت عنها السنة والقرآن. الذي نعتقد أنه لم يفرط فيه من شيء يتعلق بأصل الدين. لا سيما ما يجب لرب العالمين. (48) الواجب اعتقاده هو الوقوف عند ما جاء في الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة وهو أن الله تبارك وتعالى سميع لأقوال العباد بصير بأعمالهم وأحوالهم من غير بحث في كنه هذا السمع وهذا البصر , وكيف يحصلان , وهل هما بصفتين زائدتين على الذات أو داخلتين في مفهومها أو غير ذلك , ومن غير مقارنة بينهما وبين العلم , ولا بحث في النسبة بين الأمرين فإن الله تعالى عندما أخبرنا بسمعه وبصره ابتدأ بتنزيهه عن مشابهة أيّ شيء من الأشياء , فقال عز من قائل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) , وهذا الاعتقاد يسهل فهمه وقبوله على الجهول والعليم والعاميّ البليد والفيلسوف الحكيم. وأما تلك التحليلات والتعمقات فإنها تتعاصى على أفهام العامة. وتكون مثار الشبهات عند الخاصة. ولا يليق هذا بدين الفطرة والحنيفية السمحة. (49) الاعتبار من أراد أن يطيل الكلام في مثل هذا المقام؛ فالأولى له أن يستعين بهذا الاعتقاد على إنذار الغافلين من العباد. فيستثير العبرة من أعماق القلوب , ويستزل العبرة من سماء العيون , وينبه النفوس إلى الحياء من الله تعالى أن يراها حيث نهاها فيكون عندها أهون الناظرين , وأن يسمع منها ما لا يرضاه , فإنه لا يحب الجهر بالسوء من القول. ذلك ما كان يفهمه العرب من إطلاق هذه الصفات القدسية , وهذا هو التأثير الذي كان يودعه في قلوبهم , وهذا الذي يليق بحكمة الله تعالى وجلاله , ويجعل دينه مصلحًا للنفوس ومثقفا للعقول. بتذكيرها بمراقبته , وحملها على خشيته. ولم يكن بناء دينه على نظريات أرسطو وأفلاطون. والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ((يتبع بمقال تالٍ))

الطاعون والفأر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الطاعون والفأر لا نلمس هذا الموضوع من حيث علاقته بفن الطب , ولا نبحث فيه من حيث إصابة قطرنا المصري بذلك الداء إصابة المحموم بالحمى المتقطعة ولا من حيث تحيّفه الألوف من سكان الهند , ولا من حيث وسائل الوقاية والعلاج منه , فإن ذلك خصيص بالمجلات الطبية البحتة. وإنما نبحث فيه من وجهة الحوادث الملازمة له كظنون بعض الناس فيه وغير هذا مما هو أليق بصحيفة أدبية أن تنشره على قرائها استتمامًا للفوائد وتقييدًا لبعض الأوابد. شاع على أثر انفضاض معرض باريس أن الطاعون لا بد من انتشاره في أوربا كما انتشرت فيها الإنفلونزا أي الحمى الوافدة عقب انتهاء معرض عام 1889 , وهو قول لا يؤخذ به , ولا يعول عليه؛ لأننا إذا جعلناه قاعدة يقاس عليها لزم أن يكون الداءُ الذي يخشى من تفشيه بعد المعرض الأخير الإنفلونزا لا الطاعون , ثم على فرض صحة ذلك القول , ووجوب الأخذ به فليس ثمت ما يدعو إلى قلق الخواطر واضطراب الأفكار لأن جرثومة الطاعون اكتشفها الأطباء فاستنبطوا الطرق العلاجية له , وقرروا القواعد الصحية الواقية منه بحيث صار دخوله إلى أوربا متعسرًا جدًّا. ولقد حاول أن يلتمس طريقًا إليها من الإسكندرية وفيينا وأوبورتو (في أسبانيا) وجلاسكو (في إنكلترا) فأرتجت دونه الأبواب , وسيلبث كذلك ما دامت القواعد الصحية مرعية والوسائل الواقية مأخوذًا بها. ورب معترض يقول: إن الطرق التي استنبطها الأطباء لعلاج الطاعون أو الوقاية منه غير وافية بالمرام كشأنها في كل داءٍ عضال كالسل الرئوي والدفتيريا , ويرد هذا الاعتراض بما ساقه الأستاذ كيتوزاتو الياباني الذي شاطر الدكتور يرسين الفرنسوي الفضل في اكتشاف جرثومة الطاعون من الأدلة على تأثير الوسائل الواقية في حصر هذا الداء ومنع سريانه في اليابان في أخريات العام الغابر حيث قال: (في أكتوبر سنة 1899 دخل الطاعون في كوبه وأوزاكا من بلاد اليابان متطرقًا إليهما من جزيرة فرموزة وعدد سكان المدينة الأولى 200000 نسمة والثانية 750000 فلم يصب منهم فيهما سوى 69 نفسًا شفي أغلبهم) , ولا ريب في أن أضعاف هذا العدد من أهالي باريس مثلاً يصابون بالحمى التيفوسية أو غيرها من الأمراض العادية. وقد تمهدت للأستاذ كيتوزاتو من دخول الطاعون في اليابان فرصة للبحث عن تأثير الفيران في انتشاره فرأى في 16 إصابة من الإصابات التي حدثت بمدينة كوبه بمنازل المصابين أو بجوارهم فيرانًا ميتة بذلك الداء , ثم وجدت فيران ميتة بالطاعون في جمرك المدينة , فحدث بعد هذا الاكتشاف باثني عشر يومًا أن طفلاً أصيب بالطاعون , وتوفي به , وكان منزل أهله لا يبعد عن مركز الجمرك بخمسمائة متر , واتضح من توالي البحث وجود فيران كثيرة ميتة بالطاعون بين منزل الطفل والديوان. عندئذ قرر المجلس البلدي في مدينة كوبه واقتدى به مجلس مدينة أوزاكا مكافأة من يأتي اليهما بفأر حي أو ميت بما يوازي من النقود المصرية أربعة مليمات , فبلغ ما قتله الناس من الفيران في المدينة الأولى 15000 , وفي المدينة الثانية 20000 وذلك في أثناء شهر دسمبر 1899 فقط. وبان من البحث أن نسبة المطعون من الفيران في كوبه كنسبة واحد إلى خمسة , وفي أوزاكا كنسبة واحد إلى عشرة , وأن أغلبها أخذ من الجهات التي لم يظهر فيها الطاعون في تلك الجهات وفتك بالكثيرين من أهليها. ومن الأمور المقررة عند الأطباء , ويخشى الناس بأسها ضرر البصاق على الأرض , حتى إنك لترى في مركبات السكك الحديدية والترمواى والأمنيبوس , وفي كل مزدحم للناس في أوربا إعلانات رجاء بأن لا يبصقوا خشية الإضرار بغيرهم , ونحن لا نخالف آراء أولئك الأطباء فيما قرروه من أذى البصاق وضرره , ولكن ألم تكن العطسة أو السعال أكثر ضررًا من البصاق بالمجاور للعاطس أو الذي تأخذه الحدة في الكلام ويسبق لسانه جنانه في التعبير بحيث يتناثر البصاق من فيه رذاذًا فيصيب أفواه سامعيه؟ لا ريب في أن العاطس أو المتكلم أو الخطيب الذي هذا شأنه أولى بأن يتجنبهم مجاوروهم من الباصق الذي لا يضر بصاقه إلا بعد الجفاف , فالبصاق كما ترى أخف ضررًا من العطسة أو السعال أو من الأحوال الملازمة للمتكلم بسرعة. ولا حاجة إلى إقامة الدليل على ما تقدم فقد أثبته تجارب العلماء إلا أن الأستاذ كنيجر لم يكتف بها , ولذا أخذ على نفسه أن يحدد مدة وجود الذرات التي تخرج من الأفواه في الهواء قبل سقوطها على الأرض ويعين الاتجاه الذي تتبعه لدى خروجها , والمسافة التي تجتازها فرأى بعد تجارب قضى فيها زمنًا طويلاً أنه إذا كان هواء القاعة ساكنًا لا تلبث تلك الذرات معلقة في الفضاء أقل من نصف ساعة , وأما إذا كان متحركًا فلا يلزم لها أقل من ساعة ونصف ليرسو على الأرض , وأن العاطس تنبعث ذرات عطسته إلى مسافة تختلف من خمسة أمتار إلى ستة متجهة إلى الأمام , ولكن منها ما يرجع إلى جانبيه أو خلفه بحيث تكنفه من جميع الجهات. ويختلف عدد الذرات أو الجراثيم التي تخرج من الفم باختلاف كيفية الكلام من وضوح أو إبهام في النطق , وارتفاع أو انخفاض في مقام الصوت , فالجهوري الصوت مثلاً تكون الذرات أو الجراثيم المتناثرة من فيه كثيرة وموجبة للقلق والخوف. والأغرب من هذا أن للحروف المتحركة والساكنة تأثيرًا في قلة الجراثيم الخارجة من الفم أو كثرتها عند النطق بها , وللحروف الشفوية والتي مصدرها اللسان والأسنان امتياز على باقي الحروف في كثرة الذرات المصاحبة للنطق بها وعلى الخصوص حروف التاء والراء والكاف والباء والزاي والفاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م م

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (الواسطة بين الخلق والحق ورفع الملام عن الأئمة الأعلام) رسالتان جليلتان نافعتان من تأليف شيخ الإسلام وعلم الأعلام الإمام الحافظ أبي العباس أحمد بن تيمية طبعا معًا في مطبعة الآداب والمؤيد , وسنبسط الكلام عليهما في القسم الديني , ونكتفي الآن بأن نقول: ينبغي لكل مسلم بل ولكل محب للعلم أن يطلع عليهما , وثمن النسخة الواحدة أربعة قروش , وتطلب من إدارة المؤيد بمصر. *** (دفاع بلفنا) التاريخ كله عبر وفوائد , وأحقه بالدراسة وأجدره بالعناية ما يمثل لك حال أمتك التي تنسب إليها , ودولتك التي تستظل برايتها. وأجدر أقسام التاريخ بالذكر. وأحراها بالمجد والفخر القسم الحربي الذي تظهر به براعة الدولة في ميادين القتال ومواطن النزال. ولقد كانت دولتنا العلية - ولا تزال - في مقدمة دول العالم بالمهارة في فنون الحرب , والثبات في مواقع الطعن والضرب. وإنما كانت حروبها الهائلة التي شابت لها النواصي. ودكت لها الحصون والصياصي. مع الدولة الروسية. التي تهابها جميع الدول القوية. وأشهر وقائع حربهما الأخيرة واقعة (بلفنا) الشهيرة , فلقد أفردت بالتأليف في لغات شتى إلا اللغة العربية. التي كانت أولى وأحق بهذه الآثار النافعة. وقد لاحظ هذا صديقنا الهمام سليل الأمراء الكرام حقي بك العظم أحد المدرسين في مدرستي التوفيقية والنصرية , فوضع كتابًا في هذه الواقعة سماه (دفاع بلفنا) استمد مسائله من الكتب التركية والفرنسوية مع التحري والتدقيق , وطبع الكتاب وألحق به خريطة البلاد التي فيها الدفاع , وطبعه في مطبعة الترقي على ورق جيد ناعم , وجعل ثمن النسخة ستة قروش أميرية , وهو ثمن بخس أريد به تسهيل اقتناء الكتاب على كل أحد , وعسى أن هذا الكتاب يروج جدًّا في هذه البلاد المحب أهلها للدولة العلية وفي سائر البلاد العربية. *** (القوة الكهربائية) كتاب بهذا الاسم صنفه صاحبنا الفاضل محمد زكي أفندي العريشي وكيل تلغراف أَصوان. وجعله ستة فصول - الأول كلام عام على الكهربائية والاكتشاف فيها , والثاني في البطاريات الكهربائية , والثالث في المغناطيسية , والرابع في السيال الكهربائي وآلات التلغراف , والخامس في التليفون والمكروفون والفبراتور والأجراس الكهربائية , والسادس في الموازين الكهربائية. أما منهاج الكتاب فبيان الأعمال المقصودة من العلم والعمليات موضحة بالرسوم في جميع الفصول. وأما عبارته فسهلة واضحة , وقد وقف صاحب هذه المجلة على تصحيحه قبل الطبع , وقد روعي ذلك التصحيح لدى الطبع في الجملة , وربما لم يعدل عن شيء منه عمدًا إلا ما قصد به الوقوف عند الاصطلاحات المشهورة مراعاة لسهولة الفهم. وأما طبعه فحسبنا أن نقول: إنه في مطبعة الترقي وعلى أجود الورق فيها. وثمن النسخة منه عشرون قرشًا , فنحث محبي العلم على قراءته , والاعتبار بهذه القوة التي ظهرت بها الخوارق , ودخل العالم في طور جديد ولو مثلت للأمم الهمجية لوصفوها بالربوبية؛ لأنها أعظم ما في الأرض من المظاهر الإلهية فسبحان الخلاق العليم. *** (شقاء الأمهات) أسطورة عذبة العبارة حسنة الموضوع كانت تنشر علاوة لمجلة أنيس الجليس معربة بقلم صاحبة المجلة رصيفتنا الفاضلة ألكسندرة أفرينوه وناهيك باختيار عقائل السيدات للقصص المتعلقة بالأمهات. والقصة مطبوعة على ورق جيد كورق مجلة أنيس الجليس وثمن النسخة منها عشرة قروش فنحث الأدباء والأديبات بوجه أخص على مطالعتها. *** (زهرة الحب) ثلاث رسائل غرامية من عاشق فرنساوي اسمه (سان بروه) إلى معشوقته جوليا وثلاث رقاع من جوليا له أجاب عن ثنتين منها , ولا تبلغ رقعة، أو جواب منها ثلاثة أسطر , وقد سمى المجموع (رواية) , والكاتب لها في الأصل جان جاك روسو الشهير , وقد عربها الأديب اللبيب أحمد أفندي نجيب وطبعت من عهد قريب. *** (تحفة حميدية) احتفل بالعيد الفضي لمولانا السلطان الأعظم في كثير من بلاد الهند العظيمة , ونظم الأدباء القصائد في مدحه وتهنئته , وقد جمع بعض أهل الغيرة كثيرًا من هذه القصائد والخطب باللغات العربية والأوردية والإنكليزية ناسبًا كل قول إلى جماعة المسلمين القائمين بالاحتفال في البلد المرسل منه القول , فنشكر لإخواننا مسلمي الهند تعلقهم بالدولة العلية , ونسأل الله تعالى أن يوفق الفريقين للانتفاع من هذه السلطة المعنوية والرابطة الدينية. *** (المناظر) لم ينس القراء أن هذا اسم لجريدة عربية سورية في البرازيل وهي أدبية المنهج معتدلة السير، وتصدر في كل سنة مجلة في 6 سمبتر (أيلول) تذكارًا لصدور الفرمان السلطاني بما يسمونه (استثناء لبنان) وتسميه هي (استقلال لبنان) تودعه القصائد الرنانة في الموضوع , وكثيرًا من الفوائد الأدبية والتهذيبية , وإننا نعترف بأن هذه الجريدة نافعة لقارئيها , ونشكر لها ولرفيقاتها العناية بإحياء اللغة العربية الشريفة في تلك البلاد , ونثني على أصحابها أطيب الثناء. بيتان في بيتين ... وثالث لثالث الصفيين اغتالت التقاريظ صفحات كنا أعددناها للنبذ الأدبية , وأنَّى لنا بقليل يغني عن كثير؟ تفكرت في هذا فتذكرت بيتين لو وزنتهما بشعر العرب كله لرجحا في نظري لواقعة لهما مخصوصة. وأثارة في الأدب منصوصة. وردا فيها مورد التمثيل. من عالم جليل. ذلك أن إمام اللغة والأدب ومفخر العجم والعرب. الأستاذ الشيخ محمد محمود الشنقيطي تفضل بزيارتي في 28 من شهر ربيع الثاني سنة 1317 , وأنشدني البيتين الآتيين لأعرابية عشقت فتى في مكة , وحدثني أنه أنشدهما للشريف الأمير عبد الله باشا عون عندما عاتبه في مكة على عدم زيارته فقال له الأستاذ: بيتكم عندي هو البيت الثاني كما قالت الأعرابية: للناس بيت يديمون الطواف به ... ولي بمكة لو يدرون بيتان فواحد منهما لله أعظمه ... وآخر لي به شغل بإنسان وقال لي الأستاذ بعد ذلك: وبيتك عندي هو البيت الثاني في مصر والبيت الأول هو بيت الأستاذ الشيخ محمد عبده. فحسبي هذه الكلمة فخرًا أنها من رجل هو بقية السلف في الصدق والبعد عن التملق والنفاق. وأرجو أن يسمح لي القراء بهذين السطرين اللذين كتبتهما عن نفسي فلي سطران أو أسطر ولهم المجلة كلها , ولا غبن ولا تغرير إن شاء الله تعالى.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) من كتاب (23) من هيلانة إلى أراسم في 14 يناير سنة - 185 قد لاحظت أن (أميل) كلما صحبني إلى دار السيدة وارنجتون , ووجد هناك نسوة من المدينة اصطفى لمعرفته منهن عادة أحسنهن خلقًا , وربما دل ذلك على أن للجمال تأثيرًا في نفوس الأطفال. وقد بدا لي منه أيضًا أنه يحب الشيوخ , ولعل السبب فيه احتياج الأطفال إلى كثرة التعلم. وميل الشيوخ إلى الإكثار من التكلم. لكن لا يدعونك هذا إلى أن تتصور فيه أنه مثال لأترابه على أنني لا أريد أن أفتات عليك بالحكم في هذا الأمر فأدعه لك تحكم فيه بنفسك. أنا ألوم نفسي وأبكتها على استمتاعها دونك بما تجده في منتآي من السكينة والدعة , وقد عزمت من أجل هذا أن أبذل نفسي لك كما بذلت من نفسك , فاستأجرت مخدعًا في سفينة ستقلع من بنزانس إلى ... فعليك إذن أن ترتقب لقانا. اهـ (24) من أراسم إلى هيلانة في 20 منه ترددت حينًا في الكتابة إليك لأني لم أجد في نفسي من الإقدام ما يبعثني على إخبارك بآخر بلاء أصابني , وإني على ما أعلمه الآن من أنك قد تطالعين خبر هذا البلاء في الصحف أفضل أن أنبئك به على كل حال ذلك أنه قد صدر من حيث لا أدري أمر بنقلي إلى.... ليس شأني كما تعلمين شأن المقضيّ عليه بعقاب , فهو يذوق عذابه لأن هذا في قبضة القانون , وأما أنا ففي قبضة القوة تصرفني كيفما شاءت , فلست أدري من ذا الذي قضى عليّ , وأمر اتهامي سرٌّ يعلمه الله , وأنا سألت: ماذا يراد بي؟ ومتى وأين ينتهي عقابي؟ وهل هذا النقل الحديث آخر مرحلة من مراحل سفري الأليم الممض , فلا أجد جوابًا لواحد من هذه الأسئلة. على أنه لا ينبغي أن ترتاعي لهذه المحنة الجديدة , فإن البحار تعرفني وأنا أعرفها , وقد عشت في أقاليم مختلفة فأصبح في استطاعتي احتمال حرارة الشمس ورطوبة السواحل. وعليك الآن أن تكفي عن التمسك بأمل اللقاء , فإن بيننا بحرًا كالصحراء وأرضين وبيئة , وأن تبذلي نفسك في سبيل تربية ولدنا , وعلينا جميعًا أن ندأب في عملنا , وأن نتلقى كل ما يعترضنا من العقبات بعزيمة صادقة وقصد ثابت. أرجو موافاتي بأخبار (أميل) متى تيسر لك ذلك. إن فيما انطوت عليه أحشائي أمرين لو اجتمعت قوى البشر على أن تسلبني إياهما لردت بالخيبة والخسار , ألا وهما: فكري وحبُّكِ فيكفيني ما لدي من البراهين اليقينية على أني محق في تقويتي على احتمال ما ابتليت به من الاضطهاد والظلم , اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

التعليم في مدارس الحكومة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم في مدارس الحكومة التعليم في هذه المدارس أمثل تعليم في القطر لا يقاس به تعليم الأزهر , ولا تعليم المدارس الأهلية , والارتقاء فيه ظاهر من نتائج الامتحانات السنوية , ولكننا منذ جئنا هذا القطر نسمع الناس يشكون من نظارة المعارف , ويقولون: إن التعليم في مدارسها سيفضي إلى اضمحلال الدين واللغة العربية رويدًا رويدًا. ومما كان يلوح في الذهن أن سوء ظن الناس بنظارة المعارف وكل أعمال الحكومة إنما تولد من اعتقادهم أنها في أيدي المحتلين يديرونها كما يريدون , وأن هؤلاء لا يعملون إلا لمصلحتهم , ومصلحتهم إنما هي في إعدام مقومات الجنس الذي يتسلطون عليه ووضع مقومات جنسيتهم موضعها وإحلالها محلها. وهو رأي قريب , ولكنه من النظريات التي يمكن النزاع فيها. وقد سألنا بعض كبار الموظفين في المعارف عن سير تعليم الدين وفنون العربية في المدارس فأكد لنا القول المؤيد بالأوراق الرسمية بأن ما يجري على الألسنة غير صحيح , وأن الأوقات المخصصة لتعليم الدين في المدارس بحسب البروجرام لا يمكن أن يقرأ فيها شيء آخر؛ لأن المفتشين لا يلبثون أن يطلعوا على ذلك فينال العقوبة من يشغلها بغير وظيفتها من المعلمين. ويؤكد لنا الجماهير من الناس أن المعلم الذي يشغل وقت تعليم الدين بتعليم آخر يكون مقربًا , ويرجى له الترقي , وأن هذا الأمر مقرر عند سائر المعلمين , وأن ضعاف الدين موتى القلوب منهم يشغلون هذا الوقت بتمرينات نحوية وغير ذلك. وأنت ترى أن هذا الكلام كله من النظريات إلا هذا القول الأخير إذا ثبت وتحقق. لا يقوى على الدلائل النظرية إلا البرهان الوجودي الواقع عملاً , ويذكر المنتقدون على ديوان المعارف مسائل واقعة كثيرة. منها أن تعليم الدين والعربية لا وجود لهما مطلقًا في المدارس العالية كالمهندسخانة والطب والزراعة والصنائع , ولا وجود للدين في المدارس التجهيزية مطلقًا , وكل هذا حصل بعد الاحتلال. ومنها أن الفاضل حسن أفندي صبري عندما جعل ناظرًا لمدرسة (محمد علي) وخالف سنة النظار باختياره تعليم الدين دون اللغة الإنكليزية التي يختار تعليمها سائر النظار؛ ليكون إقبال التلامذة عليها أكثر - اضطهد حتى اضطر إلى الاستقالة وخسرت به المعارف خير كفؤ حسن الإدارة والتعليم. ومنها أنهم يجعلون ترتيب الدروس بحيث لا يمكن التلامذة من أداء الصلاة في المدرسة , وأن من ذنب حسن أفندي صبري أنه طلب من الديوان أن يقرَّ ترتيبًا جديدًا وضعه هو يمكن التلامذة من صلاة العصر جماعة كصلاة الظهر. ويقال: إن طلبه هذا هو الطلب الوحيد الذي بقي في الديوان من غير جواب لأن في السلب خشونة , وفي الإيجاب إغضاب المحتلين. ومنها عدم الرضى عن ناظرة المدرسة السنية السابقة؛ لأنها ساعدت التلميذات على القيام بفرائض الدين وألزمت الديوان بأن يوزع عليهن الأقنعة لستر رءوسهن إلى غير ذلك من فضائلها , واستبدلوا بها ناظرة إنكليزية أخرى كان من سيرتها أن اضطر الأستاذان الفاضلان الشيخ حسن منصور والشيخ محمد عز العرب إلى الاستقالة , وقد كانا من حسن التعليم والتهذيب بحيث يستحقان المكافأة ورفع الدرجة كما شهد بذلك الأستاذ الكبير الشيخ حمزة فتح الله المفتش الأول للتعليم العربي , والأستاذ الفاضل الشيخ محمد شريف ويقال: إن المستر دنلوب استاء من طلبهما المكافأة لهما وارتاب , فأرسل حضرة الفاضل عاطف أفندي للتفتيش فشهد لهما بالبراعة كسابقيه , ويروى أنه قال: إنه لم ير في المدارس مثل التعليم في المدرسة السنية , وإنه رأى فوق ما كان يظن. وهذه الشهادات , وطلب المكافأة أو الترقي مسجلة في الديوان. استقال هذان الأستاذان البارعان , وما كان سبب استقالتهما إلا أن راتب كل منهما أربعة جنيهات , فلو اضطر أن يسكن بعيدًا عن المدرسة , ويركب إليها العربية غدوًّا ورواحًا لكان مغبونًا , وقد حسبا أوّلاً أن ارتقاءهما يكون سريعًا بإتقان عملهما والتبريز فيه , وبعد اليأس من هذا بما ذكرناه آنفًا حاولا أن يلتمسا شيئًا من الرزق بطريقة لا تعارض التعليم في المدرسة السنية فشعرت بهذا الناظرة الإنكليزية فغيرت ترتيب التعليم في المدرسة تغييرًا قطع عليهما هذا الطريق فالتمسا منها أن لا تمضي هذا الترتيب (البروجرام) وأعلماها بحقيقة الأمر فكبر عليها أن يراجع مصريٌ إنكليزية , وأنذراها بالاستقالة فأصرت , فاستقالا في تفصيل لا حاجة لذكره. هذا مثال المعاملات التي يستدل بها الطاعنون على ديوان المعارف، ويقولون إن مثارها المستر دنلوب الذي لا يعلو أمرَهُ أمرٌ. وإذا رجعنا إلى منشورات الديوان لا سيما الأخير منها , وقابلناها بالعمل؛ يظهر لنا أن أمانة التعليم الديني واللغة العربية مقصودة بالذات. ذلك أن للوظيفة فيها ثلاثة أدوار الأول يسمى (ظهورات) ومدته سنتان , ولكن معلمي العربية يلزمون بثلاث سنين. الثاني يسمى (صفة مؤقتة) ومدته في حكم القانون المالي سنة واحدة , ولكن المعلم العربي يجبر فيه على سنتين. الثالث التوظف الحقيقي بصفة دائمة , وحينئذ يدخل في حكم المنشور , ويصلح للترقي ويكون معاش المعلم العربي فيه أربعة جنيهات , يختزل منها في السنتين الأوليين عشرها فيكون الراتب في الشهر نحو 360 قرشًا , وبعد عشر سنين يقضيها في هذا الدور - أي خمس عشرة سنة من ابتداء تدريسه - يرتقي إلى ستة جنيهات , وهي أقل ما يعطى لمعلمي اللغات الأجنبية عند خروجهم من المدرسة إلى دور الظهورات. ثم إنهم يشترطون في الارتقاء من درجة إلى أخرى أن يعمل الموظف عملاً نفلاً يكلفه به الديوان فيحسنه , ولكنهم لا يطلبون من معلمي العربية عمل شيء. وأما معلمو اللغات الأجنبية فيعطون في دون الظهورات ستة جنيهات , وفي دور التأقيت ثمانية , ومتى دخلوا في الدور الدائمي الحقيقي يرتقون حتى يكونوا نظارًا , وأقل راتب للناظر 12 جنيهًا , وأعلى ناظر وطني يأخذ الآن ستين جنيهًا ً في الشهر , ومن النظار الأجانب من يأخذ ألف جنيه في السنة , ولا يمكن أن يكون معلم العربية ناظرًا! ! ! هذا إجمال من القول الذي يتراجعه الخواص في أنديتهم وسمَّارهم , ولم نورده بقصد الغميزة بالنظارة تشفيًا منها أو مرضاة لبعض الناس , وإنما هو بحث في أهم المصالح وأعظمها في الإصلاح. وإننا مستعدون لنشر ما نعلمه في الموضوع بشرط أن يكون بحثًا في الحقائق الثابتة الصحيحة سواء كان للنظارة أو عليها. ومن رأينا أن الأولى للإنكليز أن يساعدوا المسلمين على الإصلاح الحقيقي بالتعليم الذي يحيي لغتهم. والتربية التي توافق ملتهم. وبذلك تخطب إنكلترا مودتهم. وتكون في المدنية هي وجهتهم. ولا يخشى أن ينتقضوا عليها إذا استرجعوا قوتهم. فإن قوة يستغنون فيها عن موالاة أية دولة أجنبية مرام بعيد لا يصلون إليه إلا بعد قرون , وماداموا محتاجين إلى موالاة دولة قوية غنية فإنهم يرجحون من يحسن معاملتهم منذ الآن , وربما نزيد هذا المقام وضوحًا بعد.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية) المواسم على ضربين دينية ووضعية فالدينية يجب أن يوقف بها عند حدود الدين فمن زاد موسمًا في الدين , وجعله شعيرة من شعائره فقد زاد في الدين , والزيادة فيه كالنقص منه جناية عليه لا يقدم عليها عامدًا من يعتقد أن الدين من الله تعالى المحيط علمه بكل شيء وكل مصلحة لا سيما إذا كان كتاب ذلك الدين ينادي بلسان عربي مبين {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . وأما الوضعية فللبشر أن يضعوا من ذلك ما يرونه نافعًا لهم في دنياهم بقدر الحاجة بشرط أن لا يجعلوا لها صبغة دينية لئلا تكون مصالحهم الدنيوية جانية على دينهم , ولهذا نعجب من كثرة المواسم الدينية التي زادها المسلمون في دينهم (راجع باب البدع) وعدم المواسم الوضعية التي تمس حاجتهم إليها , وقد أحسنت الجمعية الإسلامية بإقامة احتفال سنوي في حديقة الأزبكية صار كموسم وضعي مدني لأهل القاهرة يحضره الجماهير من جميع الطبقات من الأسرة المالكة إلى آحاد السوقة والصنّاع , بل إن الجناب العالي الخديوي أعزه الله تعالى يشرفه بحضوره. فيا له من موسم يجمع مظاهر السرور والابتهاج , ويجليها للناس في مقابل قليل من المال يبذله الناس بطيب نفس لأن لهم فيه لذتين لذة حسية ولذة معنوية , وهي معرفتهم بأن هذا المال يصرف في أفضل ما يجب صرف المال له , وهو إعانة فقراء المسلمين وتربية أولادهم وأيتامهم , وتعليمهم ما يستعينون به على صلاح دينهم ودنياهم. وسيكون احتفال هذه السنة في آخر ليلة من شعبان فنحث الجميع على الإقبال عليه إعانة لهذه الجمعية الشريفة. *** (أهم أخبار جزيرة العرب) إن الأمير عبد الرحمن الفيصل اغتنم فرصة كون الأمير عبد العزيز الرشيد بن متعب اغتصب إمارة نجد بقتله الأمير عبد الله الرشيد أميرها السابق منذ نحو سنتين وغير مرضيّ عنه , فتحالف مع أمير الكويت وأخيه أمير البحرين وأمراء عنزه , وطي على استرجاع إمارة نجد التي غصبها آل الرشيد من آل فيصل فاجتمع من هؤلاء نحو أربعين ألفًا ما بين فارس وهجان , وزحفوا على بلاد نجد , فتثاقل الأمير عبد العزيز عن ملاقاتهم لعلمه بأن قومه ناقمون عليه , وتحصن في بلدة حائل التي هي قاعدة الإمارة، وجمع نحو ثلاثين ألفًا معتمدًا على جودة أسلحته فإن عنده بطاريتين من المدافع كان أهداهما إلى الأمير محمد الرشيد السلطان عبد العزيز وكثيرًا من بنادق مرتين. وقد علمنا أن الزاحفين أوغلوا في البلاد فقطعوا نحو ثلاث عشرة مرحلة لم يلقوا فيها إلا يسيرًا من المناوشات , واستولوا على مدينة الرياض التي كانت قاعدة الإمارة على عهد آل فيصل , ويرجح العارفون بأحوال البلاد وأهلها أن الأمر ينتهي بسقوط إمارة آل الرشيد ورجوع الإمارة إلى آل فيصل. ويرون أن هذا أصلح للبلاد أيضًا لأن الأمير عبد الرحمن فيصل هذا من أعلم أمراء الجزيرة , فهو واقف على عقيدته على مذهب السلف , عارف بالمذهب الحنبلي , مطلع في الحديث والأدب , بصير بأحوال الزمان , خبير بالسياسة فإنه سبقت له سياحات طويلة في العراق والأستانة العلية والهند , وكانت إقامته منذ بضع سنين في البصرة تارة وفي الكويت أخرى , وكان له راتب من الحضرة السلطانية قدره 65 ليرة عثمانية في الشهر , ومقدار من الأرز والتمر يعطى من ريع الأراضي السنية في ولاية البصرة كما أن لإمارة نجد مرتبًا من الأرز والتمر يصرف لها في كل سنة. أما أهالي إمارة نجد فمجموعهم يبلغ نحو المليونين التابع منهم لابن الرشيد نحو مليون ونصف , والباقي تابع للإمارات المحاربة من آل فيصل وآل صباح , ومن فضائل أهل نجد أنه لا يوجد فيهم أحد جاهل بدينه. ولهم مشاركة في الآداب حتى إن الراعي والأجير يحفظ نصف ديوان المتنبي على الأقل.

الموالد والمواسم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قسم الموالد والمواسم مولد الإمام الشافعي رضي الله عنه لما اخترع المسلمون مولد النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يحتفلون له كبر ذلك على بعض العلماء الذين كانوا على طريقة السلف وعدُّوه ابتداعًا في الدين وشرعًا لم يأذن به الله ذاهبين إلى أن الله تعالى لو أراد أن يكرم نبيه بذلك لشرعه لنا , ولو أن لأحد أن يشرع مثل هذه الزيادة في الدين لفعلها الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون عليهم الرضوان لأنهم أعلم بمقام النبوة وما ينبغي له , فما بال هذه العناية بتعظيمه لم تظهر إلا بعد ضعف الدين , وما بال أكثر المحتفلين بها من أهل البدع والمعاصي المسرفين لأنهم لم يجدوا شيئًًا من هزئهم ولعبهم يخدعون به أنفسهم ويسولون لها أنها على شيء من الدين إلا هذا , وممن أقام النكير على هذه البدعة صاحب كتاب المدخل رحمه الله تعالى. وأضر البدع وأشدها إغواءً وضررًا ما يحضره صنف علماء لأن هذا يكون غشًّا للناس يجعلهم يعتقدون بأن البدعة شعيرة دينية , ولهذا ضربنا صفحًا عن الموالد الكثيرة التي عملت بعد المولد الحسيني كالبيومي والرفاعي والعفيفي والسيدة زينب ونبهنا بهذه الكلمات على مولد الشافعي لأن هذه الموالد يحضرها بعض العلماء , وأما مولد الإمام فهم الذين يحتفلون به , فيحتج الجهلاء بهم على إماتة السنة وإحياء البدعة , وهذا أسوأ ما كان يسيء الإمام في دار الدنيا لأنه رضي الله عنه لم يكن له من عمل إلا إحياء السنة , فما بالك ولقد لقي الحق وأمسى في جواره ونحمد الله أن كثيرًا من سائر الأصناف تنبهوا لفساد هذه الأعمال , وربما كانوا هم الذين يقوّمون العلماء. *** ليلة نصف شعبان احتفل بليلة المعراج , ولم نكتب فيه شيئًا اكتفاءً بما كتبناه في عام مضى , وسيصدر هذا الجزء من المنار في إثر الاحتفال بليلة النصف من شعبان , وهو من مواسم البدعة التي ينسبونها إلى الشرع وليست منه كما قال العلامة ابن الحاج في ابتداء القرن الثامن. وقد فصل هذا المرشد الجليل ما يكون من البدع والمحرمات في الاحتفال بهذه الليلة وليلة المعراج وليلة الرغائب فنلخص من كلامه ما يأتي: (1) تكلف النفقات الباهظة وهو إسراف يعملونه باسم الدين وهو بريء منه. (2) (الحلاوات المحتوية على الصور المحرمة شرعًا) , وأطال في هذه البدعة وهي في مصر مخصوصة بالموالد. (3) (زيادة وقود القناديل وغيرها , وفي زيادة وقودها إضاعة المال لا سيما إذا كان الزيت من الوقف , فيكون ذلك جرحًا في حق الناظر لا سيما إذا كان الواقف لا يذكره , وإن ذكره لم يعتبر شرعًا. وزيادة الوقود مع ما فيه من إضاعة المال ما تقدم سبب لاجتماع من لا خير فيه , ومن حضر من أرباب المناصب الدينية عالمًا بذلك فهو جرحة في حقه إلا أن يتوب , أما إن حضر ليغير وهو قادر بشرطه فياحبذا) اهـ بحروفه. (4) حضور النساء وما فيه من المفاسد............. .. (5) إتيانهم الجامع الأعظم واجتماعهم فيه , وذلك عبادة غير مشروعة. (6) ما يفرشونه من البسط والسجادات وغيرها. (7) أطباق النحاس فيها الكيزان والأباريق وغيرهما كأن بيت الله تعالى بيتهم , والجامع إنما جعل للعبادة لا للفراش والرقاد والأكل والشرب. (8) ومنها السقاءون وفي ذلك من المفاسد جملة. وعد منها البيع والشراء لأنهم يأخذون الدراهم , وضرب الطاسات وسماها نواقيس , ورفع الصوت في المسجد وتلويثه , وتخطي رقاب الناس وكلها منكرات. (9) اجتماعهم حلقات كل حلقة لها كبير يقتدون به في الذكر والقراءة , وليت ذلك لو كان ذكرًا أو قراءةً لكنهم يلعبون في دين الله تعالى , فالذاكر منهم في الغالب لا يقول: لا اله إلا الله , بل يقول: لايْلاَهِ يلَّلَّهْ (فيجعلون عوض الهمزة ياء , وهي ألف قطع جعلوها وصلاً. وإذا قالوا: سبحان الله يمططونها ويرجعونها حتى لا تكاد تفهم. والقارئ يقرأ القرآن فيزيد فيه ما ليس منه , وينقص منه ما هو فيه بحسب تلك النغمات والترجيعات التي تشبه الغناء والهنوك التي اصطلحوا عليها على ما قد علم من أحوالهم الذميمة. هذا ما قاله وهو منكر يحتف به عدة منكرات. (10) قال: ثم فيها من الأمر العظيم أن القارىء يبتدىء بقراءة القرآن , والآخر ينشد الشعر أو يريد أن ينشده , فيسكتون القارىء أو يهمون بذلك أو يتركون هذا في شعره وهذا في قراءته لأجل تشوف بعضهم لسماع الشعر , وتلك النغمات الموضوعة أكثر. فهذه الأحوال من اللعب في الدين أن لو كانت خارج المسجد منعت فكيف بها في المسجد سيما في هذه الليلة الشريفة , فإنا لله وإنا إليه راجعون. (11) حضور الولدان الصغار وما يتبع ذلك من لغطهم وتنجيسهم المسجد. (12) إهانة الأموات بفعل المنكرات بجانب قبورهم. وذكرها في خروج النساء إلى القبور. (13) اللغو في المسجد وكثرة الكلام بالباطل , وهو منكر شديد. (14) جعل المسجد كأنه دار شرطة لمجيء الوالي والمقدمين والأعوان وفرش البسط ونصب الكرسي للوالي ليجلس عليه في مكان معلوم , وتوقد بين يديه المشاعل الكثيرة في صحن الجامع , ويقع منها بعض الرماد فيه , وربما وقع الضرب بالعصا والبطح لمن يشتكي في الجامع , أو تأتيه الخصوم من خارج وهو فيه - هذا كله في ليلة النصف من شعبان. (15) إهانة الليلة الشريفة التي يستحب قيامها وصيام نهارها , وإنما القيام بالعبادة الصحيحة. هذا ما لخصناه من هذا الكتاب الجليل , وكل هذه البدع كانت في زمنه , وقد زادت في زمننا هذا أمور منها الطبول والدفوف والرقص في الذكر , ومنها الدعاء المعروف الذي يطلب فيه من الله تعالى أن يمحو من أم الكتاب شقاوة من كتبه شقيًّا إلخ , ولا ندري من وضع هذا الدعاء , ومنها الاجتماع لقراءته بالطريقة المعروفة وجعل ذلك شعيرة من شعائر الدين وغير ذلك. إلا أن الوالي لا يجلس على كرسي في كل البلاد , وقد ساعدت المدنية الأوربية على الاستغناء عن المشاعل بالأنوار الكهربائية والغازية زيادة على الشموع. وقد شبه رحمه الله كثرة الأضواء بعبادة المجوس فقال: (وقد تقدم التعليل الذي لأجله كره العلماء رحمهم الله تعالى التمسح بالمصحف والمنبر والجدران إلى غير ذلك أن ذلك كان السبب في ابتداء عبادة الأصنام , وزيادة الوقود فيه تشبه بعبدة النار في الظاهر , وإن لم يعتقدوا ذلك إلخ) ما أطال به جزاه الله عن الدين خيرًا ووفق علماءنا وأمراءنا لإماتة البدعة وإحياء السنة عسى أن تبعث من مرقدها هذه الأمة التي أماتتها هذه البدع وتحيا حياة طيبة وما ذلك على الله بعزيز.

الأحاديث الموضوعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأحاديث الموضوعة في العلم والعلماء (تابع) ومنها حديث: (من أراد أن يؤتيه الله علمًا بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا) . قال في المختصر: لم يوجد , ونقول: إنه مناقض للواقع وللحديث المعقول وهو (العلم بالتعلّم والحلم بالتحلم) . ومنها حديث: (الصلاة خلف العالم بأربعة آلاف وأربعمائة وأربعين صلاة) . قالوا: وهو حديث باطل. ونقول: كأن واضعه كان يصلي إمامًا وأحب أن يجذب إليه الناس لأنه يلبس لباس العلماء فويل لمثله من المصلين. ومنها حديث: (إن لم يكن العلماء أولياء فليس لي وليٌّ) . قال في المقاصد: لا أعرفه حديثًا , وروي بلفظ: (إن لم يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة فما لله ولي) . نقول كما قلنا من قبل: إن لفظ ولي وأولياء بالمعنى الذي يفهمه الناس من هذا القول لم يكن مستعملاً في عصر النبي صلى الله عليه وسلم , وإنما كان اللفظ يستعمل في معناه اللغوي وهو الناصر والمُوالي , ونزيد الآن أنه لما حدث في المسلمين الاعتقاد بأن في الناس صنفًا يسمّون الأولياء لهم شئون غيبية , ووظائف في الدولة الروحانية , وتصرفات في العوالم العلوية والسفلية , وكان من علامتهم عندهم إظهار التقشف والزهد في الدنيا وزيادة عبادات في الدين وغير ذلك - كبر هذا الاعتقاد على العلماء , فمنهم من قاومه بالطرق العلمية كما يليق بالعلماء , ومنهم من حسد الصوفية والمتصوفة الذين تخصهم العامة بهذا الاعتقاد , فآذوا الصادق منهم والكاذب والصالح والمنافق , ثم حاولوا إقناع الناس بأنهم هم الأولياء فوضعوا لهم مثل هذا الحديث الآتي. ولا شك أن العلماء العاملين هم أولياء الله وأنصار دينه. ومنها حديث: (حضور مجلس عالم أفضل من صلاة ألف عابد) . ذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وفي معناه أحاديث كثيرة اعتنوا بها وأكثروا من تناقلها فكثرت رواتها حتى اغتر بعض المحدثين فقال: إنها ضعيفة غير موضوعة. منها حديث: (ما عند الله شيء أفضل من فقه في دين , وفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد , ولكل شيء عماد , وعماد هذا الدين الفقه) . ولا تغتر بقول المختصر أو المقاصد: إن أسانيد الحديث ضعيفة فحسبك عبارته دليلاً على أن وضعه كان بعدما تنوعت العلوم الدينية في الملة , وصارت العناية منصرفة إلى ما سموه (علم الفقه) , وهو علم الأحكام الظاهرية التي تنافسوا فيها وأكثروا من التأليف ابتغاء المناصب والتقرب إلى الأمراء والسلاطين كما أوضحه الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى. وينقل عنه أنه بعدما تصوف وانتهى إلى مقام الكمال أراد أن يحرق جميع كتبه التي ألفها في الفقه , ولكنها كانت انتشرت في الناس وقال: إننا ألفناها لغير الله , ويحكى أن بعضهم قال له: (فأبقها لله) , وقد أوضحنا غير مرة أن الفقه بهذا المعنى هو أقل ما في الدين ولذلك لم يحتفل به القرآن , ولم يرد منه في السنة الصحيحة أيضًا إلا القليل ولكنهم اعتنوا بجمعه فكثر. وإنما عماد الدين وقوامه هو الاعتقاد الصحيح وتطهير العقول من لوث الخرافات والأوهام وتزكية النفوس من أدران الرذائل والآثام لتكون أهلاً للقرب من الله تعالى ومجاورة الروحانيين في الملكوت الأعلى ومقام القدس الأسمى. وما وضعت الشريعة القواعد العامة لأحكام التشريع التي يسمّونها فقهًا إلا لتكون كاملة لا يحتاج الآخذون بها في مدنيتهم التي يمنحها إياهم دينهم إلى قوانين الأمم الأخرى , ولا يقاسون العناء في تعريبها وتطبيقها على مصالحهم , ولتكون أحكام القوانين باستنادها على أصول الدين مسلطة على الضمائر. وحاكمة على السرائر. لا على مجرد الظواهر. فيكون صلاح حال الناس بها أكمل , ومراعاتهم لها أتم. ولولا ذلك لَمَا بَعُدَ أن يبيح النبي للمسلمين أن يأخذوا بأي قانون في أمور الدنيا لأن المقصود الأهم من الدين وراء هذه الظواهر , ألا ترى أن من أصول الشريعة تحكيم العُرف، واعتبرْ بحديث البخاري: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقد سبح بنا القلم في موضوع كان يجب أن يكتب فيه بالاستقلال. ومنها حديث: (إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء إلى يوم القيامة) . لم يثبت وقيل: إنه من كلام علي كرم الله وجهه , ولا أراه صحيح النسب إليه إذ معناه غير صحيح , لأن موت العالم ثلمة يسدها وجود عالم آخر مثله أو خير منه والإسلام إسلام. ومنها حديث: (النظر إلى وجه العالم عبادة) . رواه الديلمي بلا سند وهو كما ترى. ومنها حديث: (مداد العلماء أفضل من دام الشهداء) . قال في المقاصد: هو من قول الحسن البصري. ورواه ابن عبد البر عن أبي الدرداء مرفوعًا بلفظ: (يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء) وروى الخطيب عن ابن عمر: (وزن حبر العلماء بدم الشهداء فرجح عليهم) , وفي إسناده متهم بالوضع وروى لفظه من رواه: (دواة عالم أحب إلى الله من عرق مائة ثوب شهيد) قال في الذيل: موضوع. والاعتبار فيه كما في حديث الأولياء. ومنها حديث: (صرير الأقلام عند الأحاديث يعدل عند الله التكبير ... ) إلخ قال في الميزان: هذا باطل. ((يتبع بمقال تالٍ))

رد مسيح الهند على الطاعنين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رد مسيح الهند على الطاعنين نورد بعض ما كتبه في رد المطاعن التي سبقت في الجزء الماضي للاعتبار , ولأن بعض كلامه حق وبعض ما نقله عن العلماء الطاعنين به غير معروف عند علماء المسلمين , قال في حمامة البشرى ما ملخصه مع حفظ عبارته: (وما قولهم: إن المسيح كان خالق الطيور , وكان خلقه كخلق الله تعالى بعينه, وكان إحياؤه كإحياء الله تعالى بعينه بلا تفاوت [1] , وكان معصومًا تامًّا ومحفوظًا من مس الشيطان. وليس كمثله في هذه العصمة نبينا صلى الله عليه وسلم [2] فهذا عندي ظلم وزور {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} (الكهف: 5) , وإنهم في هذه الكلمات من الكاذبين (ثم رد عليهم ما نسبوه إليه من إنكار الملائكة وقال: نعم إني قلت وأقول: إن عيسى ابن مريم عليه السلام قد توفي كما أخبرنا القرآن العظيم والرسول الكريم فكيف نرتاب في قول الله ورسوله , وكيف نؤثر عليه أقوالاً أخرى أأختار الضلالة بعدما هداني الله تعالى والقرآن حكم عدل بيني وبين المخالفين؟ - وبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ألم يكف لهم ما قال رب العالمين - ولكنهم ما يقبلون شهادة القرآن ويتكئون على أقاويل أخرى التي لا يدرون حقيقتها , فليت شعري إلى أيّ أمر يدعونني , أيدعونني إلى الجهل والعمى بعدما كنت من المتبصرين , والله إني على بصيرة من ربي , وعندي شهادات من الله وكتابه وإلهامه وكشفه) إلى أن قال: (وإني أرى أنهم لا يعتقدون بأن القرآن كلام حيٌّ , وإمام صادق ومهيمن ومعيار كامل , بل يحقرونه ويضعونه تحت أقدام الأحاديث [3] ويجعلون الأحاديث قاضية عليه من قبل أن يفتشوا الآثار حق تفتيشها , ويثبتوا موازنة القطعيات بالقطعيات , بل هم يأمرون تحكمًا ويقولون ظلمًا: إن الأحاديث بجميع صورها الظنية والشكية أحق قبولاً من القرآن وحاكمة عليه [4] , وإن هو إلا ظلم وزور تكاد السموات يتفطرن منه , ولا يوجد في القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماض إلى ذلك , ولا إيماء إلى هذه البهتانات , بل الصحابة كانوا يقدمون القرآن في كل حال ولا يتركونه لأثر من الآحاد) ثم أشار إلى ما ثبت في الصحيح من تقديم عائشة القرآن على الحديث وكذلك الصحابة رضي الله عنهم. ثم ذكر الإلهامات من الله بأنه المسيح عيسى ابن مريم بمثل ما تقدم في الجزء الماضي , وردّ على العلماء المنكرين وقال: (ولو كانوا عاقلين منصفين طالبين للحق مفتشين للحقيقة لتفكروا في قول قد كتب من قبل وطبع وأشيع في زمان ما كان أثر هذه الدعاوى فيه , ولتفكروا في سوانح عمري , وقد لبثت فيهم عمرًا من قبل , ولتفكروا في رأس المائة وضرورة المجدد بما وعد الله ورسوله [5] , ولتفكروا في مفاسد الزمان وبدعاتها (كذا) ونسل النصارى من كل حدب , فيا حسرةً عليهم إنهم ظنوا ظن السوء بغير فكر وتحقيق وإمعان , وما كان لهم أن يتكلموا في المؤمن إلا بحسن الظن) إلى أن قال: (وأما ما قلت في وفاة المسيح فما كان لي أن أقول من عند نفسي بل اتبعت قول الله تعالى , وآمنت بما قال الله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} (آل عمران: 55) فانظر كيف شهد الله على وفاته في كتابه المبين، ومعلوم أن الرفع وتطهير ذيل المسيح من إلزامات اليهود وبهتاناتهم , وغلبة أهل الحق وضرب الذلة على اليهود , وجعلهم مغلوبين مقهورين تحت النصارى والمسلمين. لقد وقعت هذه الأنباء والمواعيد كلها , وتمت وظهرت, وما وقعت إلا على صورتها وترتيبها , وقد انقضت مدة طويلة على ظهورها ووقوعها , فكيف يعتقد عاقل بالغ ذو عقل سليم وفهم مستقيم بأن خبر التوفي الذي قدم على هذه الأخبار في ترتيب الآية الموصوفة هو غير واقع إلى وقتنا هذا , وما مات عيسى ابن مريم إلى هذا الزمان الذي فسد بضلالات أمته بل يموت بعد نزوله في وقت غير معلوم ولا يخفى سخافة هذا الرأي على المتفكرين) . (والقائلون بحياة المسيح لما رأوا أن الآية الموصوفة تبين وفاته بتصريح لا يمكن إخفاؤه جعلوا يئولونها بتأويلات ركيكة واهية , وقالوا: إن لفظ التوفي في آية {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} (آل عمران: 55) كان مؤخرًا في الحقيقة من كل هذه الواقعات , يعني من رفع عيسى وتطهيره من البهتانات ببعث النبي المصدق , وغلبة المسلمين على اليهود , وجعل اليهود من السافلين - ولكن قدم لفظ (المتوفي) على لفظ (رافعك) وعلى لفظ (مطهرك) وغيرها مع حذف بعض الفقرات الضرورية رعاية لصفاء نظم الكلام كالمضطرين - وكان اللفظ المذكور يعني إني متوفيك في آخر ألفاظ الآية فوضعه الله في أولها اضطرارًا لرعاية النظم المحكم ... والآية بزعمهم كانت في الأصل على هذه الصورة يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة , ثم منزلك من السماء , ثم متوفيك , فانظر كيف يبدلون كلام الله ويحرفون الكلم عن مواضعه , وليس عندهم برهان على هذا , إن يتبعون إلا أهواءَهم , وما كان لهم أن يتكلموا في القرآن إلا خائفين - وأنت تعلم أن الله منزه عن هذه الاضطرارات , وكلامه كله مرتب كالجواهرات (كذا) , والتكلم في شأنه بمثل ذلك جهالة عظيمة وسفاهة شنيعة , وما يقع في هذه الوساوس إلا الذي نسي قدرة الله تعالى وحوله ... وما قدره حق قدره , وما عرف شأن كلامه , بل اجترأ وألحق كلام الحق بكلام الشاعرين) . له بقية

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورات بين المصلح والمقلد المحاورة الثانية الاستدلال على قيام الساعة بالقرآن. طرق هذا الاستدلال وإبطالها. عدم قبول قول بغير دليل. قطعية أدلة المسائل الاعتقادية. منعهم الاجتهاد إنما هو في الفروع دون الأصول. الوقوف عند إجماع السلف. ادعاء المقلدين الاجتهاد في العقيدة. الخلاف في إيمان المقلد. حديث إن للقرآن ظهرًا وبطنًا. حكاية سيدنا عيسى مع المؤدب. الاستدلال على قيام الساعة بحروف أوائل السور. الطعن في هذه الاستدلالات , عدم الثقة بأكثر ما يروى عن ابن عباس في التفسير. حكاية أو ثنتان عن بعض الشيعة في الاستنباط من أوائل السور. عاد الشيخ المقلد والشاب المصلح إلى الكلام. وفاء بما تعاهدا عليه من بضعة أيام. وافتتح الشيخ المحاورة. واستأنف المناظرة , فقال (المقلد) : لم أترك الجواب عن كلامك في مجلسنا الماضي لعجز , ولا لكونه مقنعًا , وإنما رأيت في بعضه إبهامًا وغموضًا لا بد لي من استيضاحه قبل الخوض فيه , وهو قولك: إن لك فهمًا في كون ترك الشريعة هو العلة الأولى أو كما يقولون علة العلل لضعف المسلمين , ربما كان غير ما أريد مع أن هذا أمر واضح لا يصح أن يكون محلاًّ للاختلاف في الفهم. ورأيتك أنكرت المهدي ولم ينكره قبلك أحد من المسلمين إلا من لا يعتد بإنكاره كابن خلدون فقد كنت سمعت عن المرحوم علي باشا مبارك أن هذا الرجل أنكر المهدي وطعن في أسانيد الأحاديث المروية فيه. وهو لم يكن عالمًا وإنما كان مؤرخًا. ثم إنك أنكرت قرب قيام الساعة مع أنه صار من البديهيات التي يعرفها الصبيان والنسوان , ولم ترض بدلالة الآية والحديث عليها كأنك تنكر أن في الكتاب والسنة أخبارًا عن المغيبات , ولم ترض بهذا كله حتى قلت تلك الكلمة الكبيرة التي لو مزجت بماء البحر لمزجته وهي (إبطال المذاهب) وجعل المسلمين على طريقة واحدة , ولم أفهم معنى هذه الطريقة التي تنافي المذاهب , والمعروف أن أهل طرائق التصوف كلهم متبعون للمذاهب الأربعة بل الأقطاب الأربعة رضي الله عنهم كانوا كلهم شافعية , إلا أن الشيخ عبد القادر رجع إلى مذهب الحنبلية أخيرًا لأجل إحيائه لأنه كاد يندرس , وإن اعترضت عليّ بقول القطب الشعراني: إن هؤلاء الأقطاب قد اطلعوا بالكشف على عين الشريعة , وصاروا مجتهدين. فاعتراضك يكون حجة عليك لأنهم باطلاعهم على عين الشريعة رأوا أن جميع أئمة المذاهب مصيبون , وأن اختلافهم رحمةٌ , ولذلك لم يتركوا المذاهب بعد هذا الاطلاع , ولا أمروا الناس بتركها. فكل كلمة من كلماتك تحتاج إلى شرح طويل , ولذلك اخترت تأخير المناظرة لأراجع الكتب , وأستحضر النقول للرد عليك وإرجاعك عن هذه الشبه المتمكنة منك. (المصلح) : إنني أشترط في مناظرتنا هذه شرطًا لابد منه , ولا يظهر الحق إلا به وهو أن لا يقبل أحدنا للآخر مناقضة ولا معارضة إلا بسند قوي , وبرهان جلي. ولا ينهض برهان شرعي على مسألة اعتقادية إلا إذا كان نصًّا قطعيًّا لآية قرآنية أو حديث متواتر لأن أخبار الآحاد - وإن صحت - فهي ظنية الدلالة , والظن في الاعتقاد ضلال. قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) وقال: {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} (يونس: 32) . وإذا كانت الأحاديث الصحيحة غير المتواترة لا يحتج بها في المسائل الاعتقادية بالاتقاق فما بالك بكلام العلماء وبشارات الصلحاء أليست أجدر بعدم القبول؟ (المقلد) : لقد قلت قولاً أصوليًّا لا ينكر , ولكن العمل به من وظيفة المجتهدين ويظهر لي أنك تدعي الاجتهاد , وإنني أخشى على دينك من هذه الدعوى فمن استبد برأيه زل , والله تعالى يقول: {فَإِن زَلَلْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 209) وهو تهديد عظيم. (المصلح) : الآية حجة عليك لأنها مصرحة بأن الوعيد إنما ينتظر من جاءته البينات , ولم ينظر فيها ويهتد بها فهي تتناول المقلد كما تتناول المعطل والجهول المهمل , ثم إن الذين منعوا الاجتهاد إنما منعوه في الفروع , وأما المقلد في أصول الدين فأهون ما قالوا في شأنه: إن إيمانه مختلف فيه , وبعضهم ينقل الإجماع على عدم صحة إيمانه , وإذا كان بحث الاجتهاد والتقليد من أهم المسائل التي نتناظر فيها , فإلزامك إياي بالتقليد من غير دليل هروب من المناظرة وترك لها. (المقلد) : أنا لست مقلدًا في عقيدتي , ولا آمر أحدًا بالتقليد فيها , وإنما أقول: يجب على المجتهد أن يوافق بعض الأئمة في اجتهاده كالأئمة الأربعة , والإمامين الأشعري والماتريدي وأتباعهم من العلماء وإلا كان كافرًا أو مبتدعًا أو ضالاًّ فاسقًا. (المصلح) : عجبًا لمن يدعي أنه غير مقلد , ويشترط في الاجتهاد التقليد , ولو قلت: يجب أن لا يخرج عما وقع الإجماع من السلف على أنه من الدين لسلمت لك تسليمًا لأن الاجتهاد المؤدي إلى الخروج عما كان عليه الصدر الأول عامة اجتهاد فيما وراء الإسلام , وإنما كلامنا في الاجتهاد في الدين الإسلامي , ووجود الخلاف بين الأئمة المهتدين في مسألة؛ دليل على أنها غير مجمع فيها على شيء , ومتى كانت كذلك يجب أن يأخذ الناظر فيها بما يقوم عليه الدليل عنده من غير ملاحظة موافقة أحد أو مخالفته , ولا معنى لكونه متبعًا للدليل إلا هذا , وإن كثيرًا من المشتغلين بالعلم الديني يغشوّن أنفسهم بدعوى معرفة العقيدة بالدليل والبرهان , ويحسبون أنهم بقراءة ما كتبه السنوسي وأضرابه من الأدلة على مسائل الاعتقاد قد سلموا من الخلاف في إيمانهم أو مما حكاه السنوسي وغيره من الإجماع على كفر المقلد. (المقلد) : إنني أحب قبل الخوض في تحرير مسألة الاجتهاد والتقليد أن أقف على رأيك في الاستدلال على قيام الساعة بحساب الجمل ونحوه من الإشارات القرآنية , ومن دلالة الحروف في أوائل السور فإني تنسمت من كلامك السابق أنك من أهل الجمود على الظاهر المخالفين لأهل الكشف الذين يعتمدون على هذه الدلالات بل هم الذين استخرجوها من القرآن بصفاء باطنهم ونورانية قلوبهم. وإنني أقبل شرطك إذا أنت سلمت لي بهذه الدلالات. (المصلح) : إن شرطي يشمل هذه الدلالات أيضًا فإذا نهضت لك حجة عليها فإنني أخضع لها لا محالة. (المقلد) : أما الإشارات القرآنية فقد ورد في الحديث (إن للقرآن ظهرًا وبطنًا وحدًّا ومطلعًا) ,وأما دلالة الحروف فقد كانت معروفة عند الأنبياء السابقين فإنني رأيت في قصص الأنبياء أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام أخذته والدته لما كان له سبعة أشهر من العمر إلى الكتاب ليتعلم , ولا يخفاك أنه تكلم في المهد. فقال له المؤدب: قل: أبجد , فقال عيسى للمعلم: هل تدري ما أبجد؟ فعلاه بالدرة ليضربه , فقال: يا مؤدب لا تضربني , وإن كنت لا تدري فاسألني حتى أفسّره لك. قال: فسره لي. فقال عيسى عليه السلام: الألف آلاء الله , والباء بهجة الله , والجيم جمال الله , والدال دين الله. هوّز - الهاء هول جهنم , والواو ويل لأهل النار , والزاي زفير جهنم. حطي - حطت الخطايا عن المستغفرين. كلمن - كلمات الله لا مبدل لكلماته. قرشت - قرشهم فحشرهم. فقال المؤدب: خذي ولدك أيتها المرأة فقد علّم ولا حاجة له بالمؤدب. ولا شك أن هذا تعليم إلهي يجب قبوله. وقد ورد في ديننا ما يؤيد هذا , روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في تفسير (الم) : الألف آلاء الله واللام لطفه والميم ملكه. وقال في تفسير (الر) و (حم) و (ن) :إن مجموعها اسم الله (الرحمن) , وروي عنه أيضًا أنه قال في تفسير (الم) : أنا الله أعلم. وهذا يدل على أن الحرف يجوز أن يكون مأخوذًا من أوساط الكلمات وأواخرها , كما يجوز أن يكون مأخوذًا من أوائلها. وروي عنه أيضًا أن (الألف من الله واللام من جبرائيل والميم من محمد) أي أن القرآن منزل من الله تعالى بلسان جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم. وأما حساب الجمل فـ.... . (المصلح) : مهلاً حتى نفرغ من الإشارة ودلالة الحروف المفردة , أما حديث (إن للقرآن ظهرًا وبطنًا) ويروى ظاهرًا وباطنًا , فلا أنكر أنه رواه من أصحاب السنن ابن حبان وقد كان متساهلاً في الجرح , ولذلك طعنوا في كثير من رجاله , وإن من الناس من يعتقد أن هذا الحديث من موضوعات الباطنية , وما كل صحيح رواية يصح في الواقع. على أن العلماء فسروا الظاهر باللفظ أو التلاوة , والباطن بالتأويل أو الفهم , وبعضهم قال: الظاهر الإخبار بهلاك الأولين , والباطن وعظ الآخرين. وقال ابن النقيب: (إن الظاهر هو المتبادر للعلماء من معنى الألفاظ , والباطن أسراره التي تظهر لأهل الحقائق) يشير إلى حديث: (إلا أن يؤتي الله رجلاً فهمًا في القرآن) ولا دليل على أن ذلك يكون بغير الطرق المضبوطة في الدلالة. وقالوا: إن الحد أحكام الحلال والحرام , والمطلع الإشراف على الوعد والوعيد , أو الحد منتهى ما أراد الله من معناه , والمطلع ما يتوصل به إلى معرفته , ولم يقل أحد: إن الحديث يدل على ما ذكرت. وأما حديث سيدنا عيسى مع المؤدب فلا يصح. وأما ما روي عن ابن عباس في التفسير فأكثره موضوع لا يصح لأنه مروي من طريق الكذابين الوضاعين كالكلبي والسدي ومقاتل بن سليمان ذكر ذلك الحافظ السيوطي وسبقه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بل إن رواية هؤلاء وأضرابهم التفسير عنه هي المقصودة من قول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: (ثلاثة كتب ليس لها أصل: المغازي والملاحم والتفسير) قالوا: إنه أراد كتبًا مخصوصة في هذه المعاني الثلاثة غير معتمد عليها لعدم عدالة ناقليها , وزيادة القصاص فيها , وذكروا منها تفسير هؤلاء , بل نقلوا عن الإمام أنه قال في تفسير الكلبي: (من أوله إلى آخره كذب لا يحل النظر فيه) . وقالوا: إن كل من ينقل في تفسيره الأحاديث الموضوعة لا يوثق بتفسيره بالمأثور , من هؤلاء الثعلبي والواحدي والزمخشري والبيضاوي. وقد نص المحدثون في كتب الموضوعات على أنه لم يثبت في تفسير القرآن بالحروف نقل , ومثلوا له بما وضعه المبتدعة بعد وقوع الفتن في الملة كقولهم في تفسير (حم عسق) : إن الحاء حرب علي ومعاوية , والميم ولاية المروانية , والعين ولاية العباسية , والسين ولاية السفيانية , والقاف قدرة المهدي. وقولهم: إن العين عذاب الله , والسين السنة والجماعة , والقاف قوم يقذفون آخر الزمان. وقالوا: إن هذا كله موضوع باطل. نكتفي بهذا في إبطالها من حيث الرواية , وأما من حيث الدراية فكيف تصح دلالة الاقتطاع والاختزال , وليس لها حد ولا رسم تعرف به إذ يمكن أن تجعل كل حرف مأخوذًا من أية كلمة فيها ذلك الحرف؟ إذ لا ضابط للأخذ من وضع أو عقل أو طبع , وحينئذ يصح أن يستدل بهذه الحروف على الكفر كما يستدل بها على الإيمان. وأن يشار بها تارة إلى الفلاح وطورًا إلى الخسران. وأنت ترى أن هذا من الهذيان. الذي يجب أن ينزه عنه القرآن. (المقلد) : أحسنت وأصبت في هذه , وثم طريقة أخرى للأخذ من من حروف أوائل السور , وهي أن تجمع هذه الحروف , ويركب من مجموعها كلام أو مما يبقى بعد حذف المكرر , ومن الناس من استنبط أمورًا غيبية من مهملها أو معجمها, ولا أطيل عليك في هذا فإنك من سعة الاطلاع فوق ما كنت أظن , فما قولك في هذا؟ . (المصلح) : هذه الطريقة كسابقتها في الفساد , وأذكر فيها واقعة لطيفة حدثت في بلاد الشام وهي أن بعض غلاة الروافض استنبط من هذه الحروف بعد حذف المكرر هذه الجملة (عليّ حق صراط نمسكه) , واستدل بها على أن عليًّا كر

مسألة زيد وزينب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة زيد وزينب إيضاح وخلاصة رد شبهة مسيحي فاضل لقد كان لما كتبه مولانا مفتي الديار المصرية في هذه المسألة , ونشرناه في الجزء 27 أجمل وقع. وأجمل نفع. فتقشعت به سحب الشبهات. وانحلت عقد المشكلات. وسكتت حركة الشكوك التي كان يثور عجاجها. وتتلاطم أمواجها. وينهمر ثجاجها. وتتدفق أثباجها. وشفيت أمراض أعيا الأطباء علاجها. وقطعت من شخوص المطاعن حلاقيمها وأوداجها. وهكذا يقذف بالحق على الباطل. فيدمغه فإذا هو زاهق وزائل. إلا أن كلام الأستاذ في علوّ أسلوبه وبديع تأليفه وتركيبه. ورسوخ عرقه في الفصاحة. وبُعْد غوره في البلاغة. لم تتجلَّ جميع مقاصده لجميع الأذهان. ولم تتجل عرائس حسنه لكل من له عينان. ومن الناس من أعشاه نوره. وراعت فؤاده حوره. فاشتبه عليه سلطان البرهان. بسحر البيان. فتوهم أنه مسحور الوجدان. لا مقتنع العقل والجنان. وتخيل أنه مختلب بعبارة القلم واللسان. لا مجتذب ببراعة الحجة إلى قرارة الإقرار والإذعان. أعني بهذا وما قبله من استزادنا في المسألة بيانًا. ليزداد الذين آمنوا إيمانًا. ومن قال من فضلاء المسيحيين: إن الشبهة لم تنكشف عن غير المسلمين , وإنما غشيها من فصاحة الأستاذ وبلاغته , وبراعته في عبارته نور علا ظلمتها , وشغل النظر عن تشويه صورتها. وأن من يضع على عينيه منظارًا ملوَّن الزجاج ينكسر به شعاع البلاغة الوهاج يمكنه أن يبصر الطريقة ويدرك الحقيقة. قال هذا وأنشأ ينتقد كلمات للأستاذ رأى أنها إقناعية وليست حقيقة واقعية. منها قول الأستاذ: " ولو كان للجمال سلطان على قلبه صلى الله عليه وسلم لكان أقوى سلطانه عليه جمال البكر في رُوَائِه (بالضم وضبط في الأصل بالكسر سهوًا) ونضرة جدته " إلخ , وذهب هذا المعترض في نقض هذه المسألة إلى أن من البنات من تكون دميمة في طور البكارة حتى إذا ما تزوجت اكتست حلل الحسن والبهاء. والجمال والرواء. فيحتمل أن السيدة زينب كانت من هذا القبيل. وإن كان في الوجود أقل القليل. ومنها قول الأستاذ: " لم يُعرف في مألوف البشر أن تعظم شهوة القريب وولعه بالقريب خصوصًا إذا كان عشيره من صغره " إلخ قال المعترض: إنه يحفظ وقائع متعددة تعلق فيها الأقرباء بعضهم ببعض حتى كان من ذلك ما لا خير فيه. وكذلك شأن من أشرب قلبه إنكار شيء , أو إثباته يتعلق بالشذوذ , ويتشبث بالاستثناء , ويترك القواعد العامة لا يحفل بها. وعهدي بأذكياء المسيحيين أنهم يرون أقوى اعتراض لهم على المسلمين في احتجاب النساء أن الحجاب والمنع من أسباب ازدياد الرغبة. وقوة الداعية إلى التطلع والرؤية. وأن في الاختلاط أنسًا ينتهي بالملل والزهادة. كما هو المطرد في العادة , لا سيما بالنسبة للأقربين. ورأيت من المسلمين من يستدل على صحة هذا القول بكون النفوس إلى النساء المسلمات المتحجبات أميل منها إلى النساء الأوروبيات. وأكثر تشوقًا , وأشدُّ تطلعًا. مع أن الأوربيات في الجملة أجمل. وزينتهن أكمل. وما ذلك إلا أنهن معروضات على الأنظار. مألوفات للأبصار. وكل معروض مهان. والمألوف لا يعظم به الافتتان. منعت شيئاً فأكثرت الولوع به ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا ولنلو عنان النظر عن هذا وذاك , وننظر إلى تلك الواقعة من غير ملاحظة أن من مقتضى الطباع السليمة ومن شأن النفوس الكبيرة - التي لا ينكر مناظرنا المسيحي الفاضل أن نفس محمد (صلى الله عليه وسلم) منها وإن أنكر نبوته - أن لا يقع منها الشذوذ بشدة العشق للقريب المألوف بحيث ينتهي إلى أن صاحب النفس الكبيرة المتصدي لتأسيس دين وشريعة يزاحم عبدًا من عبيده على امرأة زوَّجه بها لعشقه لها بعد زهده فيها , وأن يدخل ذلك في الشريعة التي يؤسسها. ثم يظهر للملأ أن الله تعالى أنَّبه على ذلك بمثل قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: 37) . ولو كانت الواقعة كما يتوهم القوم , وكان محمد هو واضع القرآن ومؤلفه لما جعل نفسه ملومًا , وأظهر أنه إنما أبطل التبني في دينه لحظ نفسه وإرضاء شهوته , وجعل هذه الفضيحة مسجلة عليه في الكتاب الذي أمر بكتابته دون سائر كلامه , وبشر بأنه ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها , وأنه يبقى مقروءًا متبعًا ما دام الناس في هذا العالم. قال مناظرنا: إن الأستاذ كتب للمسلمين , وكلامه مبني على التسليم بنبوة محمد , وهو لا ينهض حجة على النصارى الذين ينظرون في المسألة نظرًا تاريخيًّا وقد ألمعنا إلى هذا من قبل , ولذلك بنينا الكلام على أن محمدًا رجل مصلح باسم النبوّة تنزلاً جدليًّا , وإن كان الذين يعتقد فيهم صاحبنا وقومه النبوّة ليس لهم من الأثر الإصلاحي الديني عشر معشاره. أما كونه مصلحًا فلا ينكره منهم عاقل , وقد قال لي الدكتور فانديك الشهير: إن مبدأ الاصلاح الذي وضعه محمد هو أعظم المبادىء وأقواها , وهو الوحدة في الاعتقاد والاجتماع ... ورأيت بعض من كتب في تاريخ العرب من الإفرنج جعل تاريخهم قسمين قسمًا سماه (ما قبل الإصلاح المحمدي) , وقسمًا سماه (ما بعد الإصلاح المحمدي) وكل هذا من البديهيات فلنرجع إلى أصل المسألة. المخالف موافق لنا في شيء واحد , وهو أن الآيات الواردة في المسألة متضمنة لإبطال التبني الذي كانت العرب تدين به , ولكنه يدعي أن إبطال هذه البدعة لم يكن مقصودًا أولاً وبالذات , وإنما كان حيلة للتوسل إلى تزوج محمد بزينب بعد أن تزوجها عتيقه ومتبناه زيد بن حارثة ورآها عنده قد زادت حسنًا عما كان يعهد. ولو كان الغرض إبطال التبني وما يترتب عليه من الأحكام الجائرة والمفاسد الضائرة؛ لعهد بتنفيذ ذلك إلى غيره من أتباعه. ونجيب عن هذا من وجوه تضمنها كلام الأستاذ أو استلزمها. (الأول) من المشهود المعهود في البشر أن العادات والتقاليد متى صارت عامة يصعب على النفوس أن تتركها لمجرد أمر مصلح لا سيما في أول زمن الدعوة إلى الإصلاح , ولا يقدم على الابتداء بخرق العادة وتمزيق حجب التقليد إلا أصحاب العزائم الكبيرة , وهم المصلحون الذين يستهدفون لسهام الانتقاد العام ويتحملون في سبيل الإصلاح كل إهانة وسخرية من الدهماء وجماهير الناس؛ ليكونوا قدوة لغيرهم في ذلك. وقد اتفق علماء التربية على أن ملاكها وقوامها الاقتداء والتأسي لا القول والإرشاد اللفظي. وكذلك كان شأن النبي (صلى الله عليه وسلم) في كل ما أبطله من اعتقاداتهم وتقاليدهم وعاداتهم يبدأ بنفسه ثم بأقرب الناس إليه. وقد مثلنا للأول في هامش مقالة الأستاذ بمسألة الحلق في الحديبية وكيف خالف النبيَّ جميع الصحابة حتى حلق بالفعل فاقتدوا به , ومثَّل الأستاذ بإبطال الربا. وليفرض المخالف أنه دخل في دين جديد مقتنعًا به ومعتقدًا صحته , وأن القائم بالدعوة إلى هذا الدين أمره بأن يتزوج بأخته لأن دينه يحكم بذلك أليس يصعب عليه الامتثال أشد الصعوبة بحيث يرجح مخالفته. هذا وإننا نرى أهل كل دين قد خالفوا بعض أحكام دينهم اتباعًا للعادات التي صارت عامة , ويصعب عليهم الرجوع إلى الأصل. وإذا كان الأمر بهذه الدرجة من الصعوبة لا يقدم العاقل على تكليف الناس به بمجرد القول خوفًا من اضطرارهم إلى مخالفته التي تفسد العمل وتؤدي إلى خلاف المقصود. (الثاني) لو أنه (صلى الله عليه وسلم) عمد إلى تنفيذ هذا الحكم بغيره لاحتاج إلى الأمر بعدة أمور بعضها أشد من بعض , ومنها ما هو خلاف تعاليمه الدينية. (أحدهما) أن يأمر بعض من تُبُنِّيَ بأن يتزوج , وربما كان يقل في المسلمين عدد الأدعياء الذين عندهم الاستطاعة الشرعية للتزوج مع أن الذين تبنوهم مسلمون وفي سن قابل للزواج , وربما يقع الأمر لغير المستطيع من حيث لا يعلم لأنه لم يكن عارفًا بجميع شئون الناس الخصوصية والمنزلية. على أن من شأن من يحب أن يطاع في كل أمر أنه لا يتعرض للأمور الخصوصية المباحة إلا بالنسبة لأقرب الناس إليه بل هذا شأن جميع العقلاء , وهذا الوجه أهون مما بعده. (ثانيها) أن يأمره بعد الزواج بالطلاق , والأمر بالطلاق منكر , وإنما أباحه الشرع للضرورة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في التنفير منه: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) رواه أبو داود من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ثم إن هذا المتزوج لا يبعد أن يحصل بينه وبين من يتزوج بها من الألفة والمحبة ما يصعب معه الفراق. ويتعاصى به الخضوع لأمر الطلاق. (ثالثها) أن يأمر من كان تبنى هذا المطلق بأن يتزوج بالمطلقة. ويتوقع في هذا الأمر أمور منها أن هذا المتبني قد تنفر نفسه منها لذاتها بأن يستبشع صورتها , أو يكون عارفًا من طباعها ما لا يمكنه معه معاشرتها , وقد يكون متزوجًا بغيرها , ولا يستطيع الجمع بين امرأتين ثم إن هنا ملاحظة أهم من كل ما ذكر وهو أن تعدد الزوجات مشروط في القرآن بعدم الخوف من ترك العدل بين الزوجات , ولا شك أن الذي يريد التزوج بامرأة متبناه لمجرد الامتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم يخاف من عدم العدل بين الزوجة الجديدة التي يأخذها كارهًا , وبين الأولى التي كان آلفًا لها ومستأنسًا بمعاشرتها , وعند ذلك لا يصح النكاح. (رابعها) أنه قد يرضى هو ولا ترضى هي لأنها فتية وهو شيخ مثلاً , ولا يخفى شيء من هذه الأمور على ذلك الرجل العظيم الذي جاء بتعاليم وأعمال قلبت هيئة الأرض , وغيرت نظام الأمم سواء كان نبيًّا (كما هو الواقع) ، أو لم يكن (كما هو رأي المخالف) . (الوجه الثالث) أن هذا المصلح الحكيم اختار صورة لإبطال تلك العادة الدينية الجاهلية خالية من كل المحظورات المشروحة في الوجه الثاني , وذلك بأن يزوج متبناه بامرأة يقضي العقل بأنه يختار هو وإياها الفراق عن رضى لعدم الكفاءة , ثم يتزوجها هو ولا شك أنها ترضاه لما هو معلوم من القرابة والجمال والكمال وكذلك كان. (الوجه الرابع) أن الذي يدل مع ما تقدم على أن هذا الأمر مقصود للنبي (صلى الله عليه وسلم) منذ خطب زينب لزيد (رضي الله عنهما) إلحاحه فيه وعنايته الكبرى به , وقد خطب هو نساء , ولم يتزوج بهن وتزوج بعدة نساء , ولم يذكر في القرآن شيء من ذلك لأن القرآن كما قلنا لم يذكر فيه إلا أهم المهمات في الدين حتى إنه لم يذكر فيه هيئة الصلاة ولا عدد ركعاتها ولا تحديد أوقاتها , فعدم مبالاته بإبائها وتمنعها وإباء أخيها لا يمكن أن يكون لمصلحتها ولا لمصلحة زيد لأن العقل قاض بأنه لا ينعم له معها بال مع هذا النفور والإباء وما هو معلوم من أنفة أشراف العرب كبني هاشم وبني المطلب وهي من صميمهم , وكانت لا ترى لها كفؤًا إلا النبي (صلى الله عليه وسلم) فلم يبق لهذا إلالحاح والتحتيم عليها بالرضى به إلا قصد إبطال تلك البدعة الذميمة بأقرب الوجوه وأبعدها عن الضرر والضّرار. (الوجه الخامس) أن السورة التي ذكرت فيها القصة جاء في فاتحتها {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} (الأحزاب: 4-5) الآية. وجاء فيها بعد هذا وقبل ذكر القصة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) فقد أبطل التبني بالقول , ولم يعمل بمقتضاه أحد قبله (صلى الله عليه وسلم) فهذا التمهيد. مع ذلك التشديد. برهان كافٍ على ذلك القصد

حكمة الصيام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكمة الصيام من باب تفسير القرآن العزيز ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*] لا نذكر الآن ملخص ما أحصيناه من كلام مولانا مفتي الديار المصرية في تفسير هذه الآية وسائر آيات الصوم , بل ندع ذلك حتى يجيء وقته في الترتيب إذا أمهلنا الزمان , وإنما نذكر بعض الفوائد مما ذكره في حكمة الصيام التي تضمنها قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 21) قال حفظه الله تعالى ما مثاله ملخصًا: كان الوثنيون يصومون؛ لتسكين غضب آلهتم إذا عملوا ما يغضبهم , أو لإرضائهم واستمالتهم إلى مساعدتهم في بعض الشئون والأغراض , وكانوا يعتقدون أن إرضاء الآلهة والتزلف إليها يكون بتعذيب النفس وإماتة الجسد , وانتشر هذا الاعتقاد في أهل الكتاب , وجاء الإسلام يعلمنا أن الصوم ونحوه يعدنا للسعادة بالتقوى , وأن الله غني عنَّا. قلنا: إن معنى (لعل) الإعداد والتهيئة , وإعداد الصيام نفوس الصائمين لتقوى الله تعالى يظهر من وجوه كثيرة أعظمها شأنًا , وأنصعها برهانًا , وأظهرها أثرًا , وأعلاها خطرًا (شرفًا) أنه أمر موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلا الله تعالى , وسرٌّ بين العبد وربه لا يشرف عليه أحد غيره سبحانه وتعالى , فإذا ترك الإنسان شهواته ولذاته التي تعرض له في عامة الأوقات لمجرد الامتثال لأمر ربه , والخضوع لإرشاد دينه مدة شهر كامل في السنة ملاحظًا عند عروض كل رغيبة له من أكل نفيس وشراب عذب بارد وفاكهة يانعة وغير ذلك أنه لولا اطلاع الله تعالى عليه ومراقبته له؛ لما صبر عن تناولها وهو في أشد التوق لها. لا جرم أنه يحصل له من تكرار هذه الملاحظة المصاحبة للعمل ملكة المراقبة لله تعالى والحياء منه سبحانه وتعالى أن يراه حيث نهاه. وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله تعالى , والاستغراق في تعظيمه وتقديسه أكبر معد للنفوس ومؤهل لها لسعادة الروح في الآخرة. كما تؤهل هذه المراقبة النفوس المتحلية بها لسعادة الآخرة تؤهلها لسعادة الدنيا أيضًا. انظر هل يقدم من تلابس هذه المراقبة قلبه على غش الناس ومخادعتهم؟ هل يسهل عليه أن يراه الله آكلاً لأموالهم بالباطل؟ هل يحتال على الله في منع الزكاة وهدم هذا الركن الركين من أركان دينه؟ هل يحتال على أكل الربا؟ هل يقترف المنكرات جهارًا؟ هل يجترح السيئات ويسدل بينه وبين الله أستارًا؟ كلا إن صاحب هذه المراقبة لا يسترسل في المعاصي إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى. وإذا نسي وألمَّ بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة الصحيحة {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201) إنما روح الصوم وسره في هذا القصد والملاحظة التي تُحدث هذه المراقبة , وهذا هو معنى كون العمل لوجه الله تعالى وقد لاحظه من أوجب من الأئمة تبييت النية في كل ليلة [1] . ثم شرح الأستاذ حال أولئك الغافلين عن الله وعن أنفسهم الذين يفطرون في رمضان عمدًا , وذكر بعض حيل الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله كالأدنياء الذين يأكلون ولو في بيوت الأخلية حيث تأكل الجرذ , والذين يغطون في الجداول والأنهار ويشربون في أثناء ذلك. وما قذف بهؤلاء وأمثالهم ومن هم شر منهم كالمجاهرين بالفطر إلا تلقينهم العبادة جافة خالية من الروح الذي ذكرناه , والسر الذي أفشيناه فحسبوها عقوبةً كما كان يحسبها الوثنيون من قبل , وما كل إنسان يتحمل العقوبة راضيًا مختارًا. وههنا شيء ذكره بعضهم ويشمئز الإنسان من شرحه وبيانه وهو أن الصوم يكسر الشهوة فتضعف النفوس ويعجز الإنسان عن الشهوات والمعاصي. وفيه من معنى العقوبة والإعنات ما كان يفهمه الكثيرون من جميع مطالب الدين وراثة عن آبائهم الأولين من أهل الديانات الأخرى. وإذا طبقنا هذا القول على ما نعهده وجودًا ووقوعًا؛ لا نجد له واقعًا لأن المعروف أن الإنسان إذا جاع يحصل له ضراوة بالشهوات , وتقوى نهمته ويشتد قرمه , وآثار هذا ظاهرة في صوم أكثر المسلمين فإنهم في رمضان أكثر تمتعًا بالشهوات منهم في عامة السنة , فما سبب هذا وما مثاره؟ ومن وجوه إعداد الصوم للتقوى أن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتًا فيحمله التذكر على الرأفة والمرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة وقد وصف الله تعالى نبيه بأنه رءوف رحيم ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه صلى الله عليه وسلم ولذلك أمرهم بالتأسي به. مهما تعددت وجوه فائدة الصوم فلا يبلغ شيء منها مبلغ الوجه الأول , وهو إنما يكون لمن يصوم لوجه الله تعالى كما هو الملاحظ في النية على ما قدمناه [2] ومن آية الصيام بهذه النيّة والملاحظة التحلي بتقوى الله تعالى وما يتبعها من أحاسن الصفات والخلال وفضائل الأعمال. قال: أنا لا أشك في أن من يصوم على الوجه الذي أقوله يكون راضيًا مَرْضيًّا مطمئنًا بحيث لا تجد في نفسه اضطرابًا ولا انزعاجًا. نعم ربما يوجد عنده شيء من الفتور الجسماني وأما الروحاني فلا. أعرف رجلاً لا يغضب في رمضان مما يغضب له في غيره , ولا يمل من حديث الناس ما كان يمله في أيام الفطر وذلك لأنه صائم لوجه الله تعالى [3] . أين هذا كله من الصوم الذي عليه أكثر الناس وهو ما تراهم متفقين على أن من آثاره السخط والحمق وشدة الغضب لأدنى سبب , واشتهر هذا بينهم وأخذوه بالتسليم حتى صاروا يعتقدون أنه أثر طبيعي للصوم , وهو وهم استحوذ على النفوس فحل منها محل الحقيقة وكان له أثرها. ومتى رسخ الوهم في النفس يصعب انتزاعه على العقلاء الذين يتعاهدون أنفسهم بالتربية الحقيقية دائمًا فكيف حال الغافلين عن أنفسهم المنحدرين في تيار العادات والتقاليد الشائعة لا يتفكرون في مصيرهم ولا يشعرون في أية لجة يقذفون. قال الأستاذ: إن عندي وهمًا من أوهام الصوم , وإنني لعلمي به أجتهد في مصارعته ولا أقدر على صرعه وإزالته إلا بعد مضي أيام من أول رمضان. منشأ ذلك الوهم أن من عادتي أن لا أعمل شيئًا في صبيحة كل يوم إلا بعد تناول طعام الفطور , فإذا كان رمضان آخذ القلم في الصباح لأكتب مثلاً فلا أدري ماذا أكتب ويتعاصى القلم أن يجري بسهولة , حتى إنني لولا معرفة السبب لتركته , ولكنني أزال أعالجه حتى يجري ويغلب سلطان الحقيقة على سلطان الوهم. إن أكثر الناس يلاحظون في صومهم حفظ رسم الدين الظاهر وموافقة الناس فيما هم فيه حتى إن الحائض تصوم وترى الفطر في نهار رمضان عارًا ومأثمًا. ولا بأس بهذا الصوم من غير الحائض لحفظ ظاهر الإسلام وإقامة هيكل شعائره ولكنه لا يفيد المسلمين شيئًا في دينهم ولا في دنياهم لخلوّه من الروح الذي يُعدهم للتقوى ويؤهلهم لسعادة الآخرة والدنيا. ثم شرح ما عليه الناس من الاستعداد لأكل رمضان وشربه بحيث ينفقون فيه على ذلك ما يكاد يساوي نفقة سائر السنة. (قال) حتى كأنه موسم أكل , وكأن الإمساك عن الطعام في النهار إنما هو لأجل الاستكثار منه في الليل. وهذا هو الصوم المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش) رواه النسائي وابن ماجه , ولا نطيل بشرح ما عليه الناس فهم يعلمونه علمًا تامًّا , وفيما كتب كفاية لمن يريد معرفة حقه من باطله , والله الموفق. (تنبيه) لا ينافي ما ذكرناه هنا عن الأستاذ في كسر الشهوة بالصوم ما ذكرناه في رمضان الماضي من أن من فوائد الصوم تأديب الشهوة وكسر سورتها؛ لأننا بنيناه على أن ترك الشهوات لأجل الدين يطبع في النفس ملكة الترك فيكون زمام النفس بيد صاحبها , وذكرنا قبل هذا أن الصوم يقوي البدن , وأنه كتضمير الخيل فليرجع إليه من أراد يجده موافقًا لقول الأستاذ.

الإسعافات الوقتية عند وقوع حادث فجائي

الكاتب: نقلا عن مجلة طبيب العائلة

_ الإسعافات الوقتية عند وقوع أي حادث فجائي [*] بادر قبل كل شيء باستدعاء الطبيب , وامنع التجمهر حول المصاب وإزعاجه بالصراخ , ثم اعمل بالنصائح الآتي ذكرها إلى أن يحضر الطبيب. الرض والخلع والملخ (ما يلزم اجتنابه) اجتنب وضع المواد المهيجة والقذرة مثل البول والبصاق.. إلخ ودود العلق. واجتنب خصوصًا نصائح الدجالين وتداخلهم. (ما يلزم عمله) لف الموضع المرضوض أو المخلوع أوالمملوخ بمكمدات نظيفة مبللة بالماء البارد واربطها برباط خفيف من غير ضغط. الجرح (ما يلزم اجتنابه) اجتنب لمس الجرح وجسَّه بالأصابع , ولا تدخل أية آلة فيه. ولا تضع عليه أربطة قذرة أو نسالة أو قطع قماش غير نظيفة أو منديل مستعمل أو حجر مدقوق أو أي شيء آخر غير نظيف. وإذا تجمد الدم على الجرح فإياك من نزعه. (ما يلزم عمله) نظف الجرح بلطافة بقماش أو بمنديل نظيف ثم صب عليه ماءً تكون غليته ثم أبقيته حتى صار فاتراً فإن لم يتيسر هذا الماء فاستعمل الماء المقطر. والأفضل أن تضيف إليه في الحالتين قليلاً من حمض البوريك. ولا بأس من استعمال مسحوق البن النظيف. ثم ضع على الجرح قماشًا آخر مبلولاً بمحلول حمض البوريك أو قطعة من الشاش الرفيع المشبع بالصالول , وضع فوقه قليلاً من القطن النظيف واربطه برباط لطيف. النزيف (ما يلزم اجتنابه) اجتنب محاولة قطع النزيف باستعمال بيركلورور الحديد أو الخل أو التراب أو بوضع نسيج العنكبوت , ولا تضع على محل النزيف خرقاً قذرة , ولا تحرك الجريح ولا تنقله من مكانه قبل مجيء الطبيب. وإذا تجمد الدم على الجرح فإياك من نزعه. (ما يلزم عمله) ضع على محل النزيف قماشًا نظيفًا مطويًّا طيات عديدة أو منديلاً نظيفًا , واحفظه على المحل بضغط محكم شديد بطرف الأصابع أو باليد كلها. وإذا استمر النزيف بعد ذلك استعن بربط العضو من فوق مكان الجرح ربطًا مناسبًا إذا كان النزيف في أحد الأطراف. وضع رباطًا من الكاوتشوك قاطعًا للنزيف؛ إذا تيسر لك ذلك وإلا فاربط العضو بأنبوبة من الكاوتشوك المستعملة في الحقن أو بالحمالات اللستك المستعملة للبنطلون أو بقماش العمامة , وارفع العضو المجروح إلى الأعلى , ولا بأس من استعمال مسحوق البن النظيف وتجربة صب الكؤول المضاف إليه الماء. ولإيقاف نزيف الأنف؛ ارفع دفعة واحدة الذراع القريب من جهة النزيف وأَبْقِهِ مرفوعًا بضع دقائق. وضع مكمدات باردة على الجبهة , وأدخل في الأنف قطعة من القطن النظيف واضغط عليها برهة وأرح المريض وضعه في هواء لطيف نقي. الشنق (ما يلزم اجتنابه) اجتنب كل سبب يؤدي إلى تأخير قطع الحبل. (ما يلزم عمله) بادر بقطع الحبل حالاً ثم أنم المريض ورشَّ ماءً باردًا على وجهه , ودعه يستنشق منبهات مثل الخل والبصل والنوشادر , وافرك جسمه واستعمل له التنفس الصناعي , وإذا كان وجهه محمرًّا أو محتقنًا ضع ثلجًا على رأسه وضع ورق الخردل (المسترده) على أعضائه السفلى (الأفخاذ وسمانة الرجلين) . الفتق المختنق (ما يلزم اجتنابه) اجتنب كل حركة فجائية , وإرجاع الفتق إلى مكانه بضغط زائد أو عنيف. (ما يلزم عمله) لا تسعى في إدخال الفتق المختنق إلاَّ بكل لطف , ولا تفعل ذلك إلا مرة واحدة , ثم أدخل المصاب في الحمام الفاتر أو الساخن , وبعد خروجه ضع ثلجًا على مكان الفتق. الاختناق بدخان وأبخرة الفحم (المنقد) وغاز الاستصباح أو غير ذلك (ما يلزم اجتنابه) اجتنب وضع المريض على فراش سخن وتعريضه للشمس واستنشاقه الأبخرة المهيجة. وإذا كان سبب الاختناق تراكم غاز الاستصباح في غرفة مقفولة لا تدخل فيها، وبيدك شيءٌ من النور، أو النار (شمعة. لمبة. سجارة. جمرة. إلخ) . (ما يلزم عمله) ضع المريض في الهواء المطلق , وانزع عنهُ ثيابهُ وافرك جسمه ورش ماءً على وجهه بمنديل أو بفوطة واستعمل لهُ التنفس الصناعي. الصرع (ما يلزم اجتنابه) اجتنب تليين الأعضاء المتخشبة , ولا تعط أي شراب للمريض أثناء النوبة. (ما يلزم عمله) ألق المريض على الأرض أو الفراش وفك ثيابه , ولاحظه حتى لا يجرح نفسه. الإغماء الحقيقي الدوخة والسقوط مع اصفرار الوجه (ما يلزم اجتنابه) اجتنب إجلاس المريض ورفع رأسه. (ما يلزم عمله) أنم المريض على مسطح أفقي , واجعل رأسه إلى أسفل ثم ارفع ذراعيه وفك ثيابه ولا سيما ما كان منها حول العنق , ودعه يستنشق هواءً باردًا , ورش ماءً باردًا على وجهه , وضع خلاًّ أو إثيرًا أو بصلاً معصورًا تحت أنفه , واضربه على جسمه بمنديل أو بفوطة , واستعمل له التنفس الصناعي. السكتة (النقطة) (ما يلزم اجتنابه) اجتنب إعطاء الأدوية المقال بأنها مضادة للسكتة. (ما يلزم عمله) ألق المريض على ظهره في غرفة هاوية ورأسهُ مرفوعًا, وفك ثيابهُ , وضع على رأسهِ مكمدات ماء بارد أو مثلج. وضع ورق الخردل على أعضائه السفلى (الأفخاذ وسمانة الرجلين) . واحقنهُ حقنة مسهلة , وركب دود العلق على باب البدن. النوبة العصبية أو الريح والتشنج الموجبان لاستعمال الزار عند العوام (ما يلزم اجتنابه) اجتنب استعمال كل رائحة قوية لأنها قد تطيل النوبة العصبية. (ما يلزم عمله) ألق المريض على ظهره على الأرض أو الفرش , وفك ثيابهُ خصوصًا ما كان حول العنق والصدر (كالمشد والحزام) ولاحظهُ حتى لا يجرح نفسه. السكر (ما يلزم عمله) ساعد السكران على التقيؤ بوضع الأصبع في حلقه وإعطائه ماءً فاترًا , واسقهِ كل بضع دقائق قليلاً من الماء الممزوج بالسكر المضاف إليه ملعقة قهوة من خلات النوشادر. ولا بأس من تناوله القهوة. التسمم (ما يلزم اجتنابه) لا يبرح عن الذهن أن الطبيب وحده عليم بالأدوية المضادة للسم التي يجب استعمالها لكل نوع من السموم. لا تعط المسموم صفار البيض , ولا فائدة من إعطائه منقوع قرن الخرتيت ولا من استعمال حجر البنزهير. (ما يلزم عمله) ساعد المريض دائمًا على التقيؤ , وأعطه لبنًا أو مشروبات غروية مثل شراب الصمغ أو زلال البيض. وإذا كان السم قويًّا ومن أصل نباتي كأن يكون: أفيونًا أو حشيشًا أو بلادونًا أو ديجيتالاً أو فطرًا (عيش الغراب) ساعد المريض على التقيؤ , وأعطه منبهات وقهوة , وضعْ ورق الخردل على ساقيه , واضربه على جسمه بمنديل أو بفوطة واستعمل له التنفس الصناعي. الولادة (ما يلزم اجتنابه) امنع وجود المتفرجين , ولا تدع أحدًا ليس لهُ إلمام بطرق الوضع يساعد الحامل على الولادة , ولا تكشف عنها الغطاء إلا نادرًا. (ما يلزم عمله) الأفضل أن يكون المساعد في أحوال الولادة امرأة , وينبغي عدم شد الحبل السُّري (حبل الخلاص) بعد خروج الولد من بطن أمه. وألق الولد على ظهره ورأسه عند أقدام والدته. ولا يجب قطع الحبل السري بمجرد تمام الوضع , بل يلزم الانتظار مدة خمس أو ست دقائق ثم ربط الحبل على مسافة خمسة أو ستة سنتيمترات من السرة وبعد ذلك يصير قطعه , وضع الوالدة على الفراش بلطف. الكسر (ما يلزم اجتنابه) اجتنب كل حركة عنيفة , ولا تحاول معرفة ما إذا كانت أجزاء العظم المكسور متحركة أم لا. (ما يلزم عمله) ضع المريض على الفراش وضعًا أفقيًّا , ولا تحرك أبدًا العضو المكسور. وضعْ مكمدات مبللة بالماء البارد على موضع الألم. الحرق (ما يلزم اجتنابه) لا تفتح الفقاقيع المسببة عن الحرق. واحترس من وضع سوائل مهيجة مثل الحبر (وأخصه الملون) أوالنبيذ إلخ. وامنع البرد عن المحروق. (ما يلزم عمله) ضع على الحرق ماءً باردًا أو زيت الخروع أو الزيتون. ثم ضع عليه شاشًا مغليًّا بالجليسيرين أو الزيت , أو ضع مقدارًا من الفازلين البسيط الممزوج بحمض البوريك وهو الأفضل إذا تيسر. الأجسام الغريبة في العين (ما يلزم اجتنابه) لا تفرك العين ولا تسمح لأحد بإخراج الجسم الغريب بشيء له أطراف محددة. (ما يلزم عمله) ارفع الجفن وانفخ في العين لطرد الجسم الغريب إلى جهة الأنف أو إلى جهة الأذن ثم اغسل العين بالماء البارد. فإذا كان الجسم منظورًا اجذبه إلى الخارج بكل لطف بجسم لين أو مستدير مثل طرف منديل نظيف أو دائرة الخاتم أو الدبلة بعد تنظيفها أو ما أشبه ذلك. الأجسام الغريبة في الأذن (ما يلزم اجتنابه) اجتنب إخراج الجسم الغريب بأية آلة كانت. (ما يلزم عمله) استعمل حقنًا ملينة في الأذن من الزيت ثم من الماء النظيف الفاتر ونم على جهة الأذن التي فيها الجسم الغريب. الأجسام الغريبة في القناة الهضمية (ما يلزم اجتنابه) اجتنب كل واسطة عنيفة لإخراج الجسم الغريب. (ما يلزم عمله) أعطِ المريض زيتًا ليشربه , واجتهد في حصول القيء , ولا بأس من الضرب براحة اليد على ظهره برفق بعد إحناء رأسه إلى الأسفل إذا كان الجسم الغريب قريبًا من الحلق. ضربة الشمس (ما يلزم اجتنابه) لا يجوز أبدًا استعمال المفتاح أو ربط الرأس بالصوف أو عض الجبهة ولا أخذ الشمس بالطريقة العامية. (ما يلزم عمله) ضع المريض في الظل وفك ثيابه. وضع مكمدات ماء بارد على رأسه. وافرك جسمه , ولا بأس من وضع الماء البارد ممزوجًا بالملح في الآذان. الغرق (ما يلزم اجتنابه) اجتنب تعليق الغريق من رجليه بحجة تصفية الماء الذي ابتلعه , ولا تستعمل الحقن والتباخير بالدخان , واجتنب كل تحريك عنيف للمريض , ولا تعطه أي شراب قبل أن يعود التنفس إلى حالة جيدة. (ما يلزم عمله) انزع ثياب الغريق عنه , ونظف فمه وحلقه من المواد المخاطية اللزجة بشاش ملفوف على أصبعك أو بريشة فرخة ناعمة , وأعد له تنفسه ودفئه بفرك جسمه أو بوضع أغطية سخنة عليه , واستعمل له التنفس الصناعي. العقرب [1] أم أربعة وأربعين [2] وبعض أنواع العنكبوت (ما يلزم اجتنابه) اجتنب وضع الأشياء القذرة على الموضع الملسوع , ولا فائدة من وضع ما يسمى بحجر أو فص العقرب على الجرح. (ما يلزم عمله) اربط العضو من فوق الموضع الملسوع إذا كان اللسع في أحد الأعضاء. وشرّط الجرح ثم استعمل الحجامة بوضع كأس هواء على الجرح لامتصاص ما دخل فيه من السم مع الدم. ولا بأس من مصّ الجرح بواسطة أي شخص كان بشرط أن لا يكون غشاءُ فمه مجروحًا أو مخدوشًا. واغسل الجرح بالماء النظيف ومسه بالنوشادر أو بمحلول هيبوكلوريت الجير وهو الأفضل. الحية [3] (ما يلزم اجتنابه) لا فائدة من استعمال حجر البنزهير. (ما يلزم عمله) أولاً: بادر بربط العضو الذي فيه الموضع الملسوع حالاً وسريعًا فوق الجرح أي بين الجرح وأصل العضو إذا كان اللسع في أحد الأطراف. والربط يكون بأنبوبة من الكاوتشوك أو بقماش عمامة أو بحبل أو بالصوف. ثانيًا: اغسل الجرح حالاً بالماء النظيف أو بمحلول هيبوكلوريت الجير أو ببرمنغانات البوتاسا بنسبة واحد إلى مائة من الماء. ثالثًا: شرّط الجرح واستعمل الحجامة بواسطة كأس هواء على الجرح نفسه بعد تشريطه. أو مصّ الجرح إذا لم يكن فمك مجروحًا أو مخدوشًا [4] . رابعًا: احقن الجرح إذا أمكن بمحلول برمنغانات البوتاسا بنسبة واحد إلى مائة ومن الضروري أن يكون في المنازل (المحتمل وجود حيات فيها وفي أوقات الحر الشديد والحصيد) كلورور الجير (وهو بخس الثمن وبسيط) بنسبة 1/12 ثم أضف إليه عند اللزوم خمسة أضعاف مقداره ماء واغسل به الجرح واستعمله حقنًا تحت الجلد حول الجرح بمقدار 8 إلى 10 غرامات. وهذا المركب يبطل فعل سم العقرب بل وسم الحية أيضًا إذا استعمل في الوقت اللازم. خامسًا: إذا سرى السم في الجسم فيستعمل المصل المضاد للسم تركيب كالميت Calmette إذا أمكن أو المصل المضاد للتيتانوس بالحقن تحت الجلد

القسم الأدبي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القسم الأدبي رواية حقيقية في واقعة عربية ذكر بعض أهل الأدب والتاريخ قال: لما كان من أمر عبد الرحمن بن الأشعث الكندي ما كان قال الحجاج: اطلبوا لي شهاب بن حرقة السعدي في الأسرى أو في القتلى , فطلبوه فوجوده في الأسرى فلما دخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: شهاب بن حرقة. قال: والله لأقتلنك. قال: لم يكن الأمير ليقتلني. قال: ولم ويلك؟ قال: لأن فيّ خصالاً يرغب فيهنّ الأمير. قال: وما هنّ؟ قال: ضَرُوب بالصفيحة. هزوم للكتيبة. أحمي الجار. وأذبُّ عن الذمار. وأجود في العسر واليسر. غير بطيء عن النصر. قال الحجاج: ما أحسن هذه الخصال! ! فأخبرني بأشدّ شيء مر عليك. قال: نعم أصلح الله الأمير: بينا أنا أسير ... ومركبي وثير [1] في عصبة من قومي ... في ليلتي ويومي يمضون كالأجادل [2] ... في الحرب كالبواسل أنا المطاع فيهم ... في كل ما يليهم فسرت خمسًا عومًا ... وبعدُ خمسًا يومًا [3] حتى وردت أرضًا ... ما إن ترامُ عرضًا من بلد البحرين ... عند طلوع العين فجئتهم نهارًا ... ألتمس المغارا حتى إذا كان السحر ... من بعد ما غاب القمر إذا أنا بِعِير ... يقودها خفير موقورة متاعًا ... مقبلة سراعًا فصُلْتُ بالسنان ... مع سادة فتيان فسقتها جميعًا ... أحثها سريعًا أريد رمل عالج ... أمعج بالعناجج [4] أسير في الليالي ... خرقًا بعيدًا خالي [5] وقد لقينا تعبًا ... وبعد ذاك نصبًا حتى إذا هبطنا ... من بعد ما علونا عنّت لنا سدانه ... قد كان فيها عانه [6] فرمتها بقوسي ... في مهمهٍ كالترس حتى إذا ما أمعنت ... في القفر ثم درمت [7] وردت قصرًا منهلاً ... في جوفه طام خلا [8] وعنده خُيَيْمة ... في جوفها نعيمة غريرة كالشمس ... فاقت جميع الإنس فعجت مهري عندها ... حتى وقفت معها حيَّيْت ثم ردت ... بلطف وحيَّت فقلت: يا لعُوبُ ... والطَّفلة العروب [9] هل عندكم قراء ... إذ نحن بالعراء [10] قالت: نعم برحب ... في سعة وقرب إربع هنا عتيدًا ... ولا تكن بعيدًا [11] حتى يجيك عامر ... مثل الهلال الزاهر فعجت من قريب ... في باطن الكثيب حتى رأيت عامرًا ... يحمل ليثًا خادرًا [12] على عتيق سابح ... كمثل طرف اللامح قال: وكان الحجاج متكئًا فاستوى جالسًا , وقال: دعني من السجع والرجز , وخذ في الحديث. قال: نعم أيها الأمير , ثم نزل فربط فرسه وجمع حجارة وأوقد عليها نارًا , وشق عن بطن الأسد , وألقى مراقّه في النار [13] فجعلت أصلح الله الأمير أسمع للحم الأسد تشديدًا. فقالت له نعيمة: قد جاءنا ضيف , وأنت في الصيد. قال: فما فعل؟ قالت: هاهو ذاك بظهر الخيمة , فأومت إليّ فأتيتها فإذا أنا بغلام أمرد كأن وجهه دائرة القمر فربط فرسي إلى جنب فرسه (مبالغة في الحفاوة) ودعاني إلى طعامه , فلم أمتنع من أكل لحم الأسد لشدة الجوع , فأكلت أنا ونعيمة منه بعضه , وأتى الغلام على آخره. ثم قام إلى زق فيه خمر فشرب وسقاني فشربت , ثم شرب الغلام حتى أتى على آخره , فبينما نحن كذلك سمعنا وقع حوافر خيل أصحابي فقمت وركبت فرسي وتناولت رمحي وسرت معهم. ثم أقبلت وقلت: يا غلام خل عن الجارية ولك ما سواها. فقال: ويحك احفظ الممالحة. قلت: لا بد من الجارية , فالتفت إليها وقال لها: قفي. ثم قال: يا فتيان هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس , فبرز إليه رجل من أصحابي , فقال له: من أنت؟ فلست أقابل إلا كفؤا. فقال: أنا عاصم بن كلبة السعدي. فشد عليه وأنشد يقول: إنك يا عاصم بي لجاهل ... إذ رمت أمرًا أنت عنه ناكل إني كميٌّ في الحروب بازل ... ليث إذا اصطك الليوث باسل ضرَّاب هامات العدى منازل ... قتال أقران الوغي مقاتل قال: ثم طعنه طعنة فقتله. ثم قال: يا فتيان هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس. فتقدم إليه آخر من أصحابي فقال له الغلام: من أنت؟ قال: أنا صابر بن حرقة السعدي فشدّ عليه وأنشد يقول: إنك والإله لست صابرًا ... على سنان يجذب المقابرا [14] ومنصل مثل الشهاب باترًا ... في كف قرن يمنع الحرائرا [15] إني إذا ما رمت أن أقامرا ... يكون قرني في الحروب خاسرا [16] ثم طعنه طعنة فقتله , ثم قال: هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس. فلما رأيت ذلك هالني أمره وأشفقت على أصحابي , فقلت: احملوا عليه حملة رجل واحد. فلما رأى ذلك أنشأ يقول: الآن طاب الموت ثم طابا ... إذ تطلبون رخصةً كعابا ولا نريد بعدها عتابا ... فركبت نعيمة فرسها , وأخذت رمحها فما زال يجالدنا ونعيمة حتى قتل منا عشرين فارسًا. فأشفقت على أصحابي , فقلت: يا غلام قد قبلنا العافية والسلامة , فقال: ما كان أحسن هذا لو كان أوّلا ونزلنا وسالمنا. ثم قلت: يا عامر بحق الممالحة من أنت؟ قال: أنا عامر بن حرقة الطائي , وهذه ابنة عمي , ونحن في هذه البرية منذ زمان ودهر ما مرَّ بنا إنسي غيركم. فقلت من أين طعامكم؟ قال: حشرات الطير والوحش والسباع. قلت: من أين شرابك؟ [17] قال: الخمر أجلبها من بلاد البحرين كل عام مرة أو مرتين. قلت: إن معي مائة من الإبل موقورة متاعًا فخذ منها حاجتك. قال: لا حاجة لي فيها [18] ولو أردت ذلك لكنت أقدر عليه , فارتحلنا عنهم منصرفين. قال الحجاج: الآن طاب قتلك يا عدوّ الله لغدرك بالفتى. قال: قد كان خروجي على الأمير أصلحه الله أعظم من ذلك , فإن عفا عني الأمير رجوت أن لا يؤاخذني بغيره. فأطلقه ووصله ورده إلى بلاده. *** جريدة المؤيد دخلت هذه الجريدة في السنة الثانية عشرة وهي ثابتة في منهاجها مغذة في سيرها , وثقة الناس بها تزداد بزيادة فوائدها وظهور النفع من إرشادها حتى إن أعاظم كتاب المسلمين ينفحونها بنفثات أقلامهم وسوانح أفكارهم , فهي الآن الخطيب الأكبر لقراء العربية يبلغ صوتها إلى ما لا يبلغه صوت عربي. فنهنئ صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ علي يوسف صاحبها ورئيس تحريرها بهذا التوفيق في خدمة الأُمة الإسلامية والدولة العلية والبلاد المصرية ونرجو لجريدته زيادة الانتشار.

البدع والخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البدع والخرافات والتقاليد والعادات رمضان هذا هو شهر الرياضة الروحية للمسلمين يكثرون فيه الصلوات والصدقات وتلاوة القرآن الشريف ومدارسة العلم والإكثار من مجالس الوعظ. ولكن لم تسلم عبادة من هذه العبادات من البدع والمنكرات كما سنشرحه , ولكننا ننبه الآن على أهمها وأعظمها ضررًا , وهو انتشار الوعاظ الجهال في المساجد ينفثون سموم التعاليم الفاسدة في أرواح العوام فيزيدونها مرضًا على مرض حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين. فنقترح على الأستاذين الكبيرين اللذين من وظيفتهما تلافي هذا الأمر - شيخ الجامع الأزهر وشيخ المسجد الحسيني - أن يمنعا الجاهلين والدجالين من الوعظ. ومن كان أمره مستورًا؛ يراقب من بعض أهل العلم بأمرهما حتى إذا خلط وأساء يمنع. ونقترح على أفاضل العلماء أن ينتشروا في المساجد مذكرين ومعلمين حتى لا يدعوا سبيلاً للقصاصين. *** بدعة تعظيم القبور معصية أم كفر حديث أحمد والبخاري ومسلم في لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد مشهور. وفي رواية لهم أخرجها النسائي أيضًا أنه قال عليه الصلاة والسلام: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة) ومن عجيب أمر المسلمين في التلاعب في دينهم أنك في كثير من بلادهم (كهذا القطر) لا تكاد تجد مسجدًا إلاّ وفيه قبر لأحد الصالحين ولكن الذين يلبسون لباس الدين يهوّلون أمر الصور وإن لم تكن فيها أدنى شبهة تتعلق بالدين والعبادة ويؤولون للذين اتخذوا القبور أوثانًا وإن عبدوها عبادةً حقيقيةً كما كان يعبدها الذين لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم والتاريخ شاهد عدل على ذلك , والأحاديث في لعن الذين يتخذون قبور الصالحين مساجد والنهي عن ذلك كثيرة , ومنها في حديث الطبراني: (ألا وإن الأمم قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد وإني أنهاكم عن ذلك اللهم إني بلغت (ثلاث مرات) ثم قال: اللهم اشهد (ثلاث مرات) . وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج. وأنت ترى لا سيما في هذا الشهر شهر العبادة الشموع والسرج الغازية تزهر على القبور التي شيدت عليها المساجد والقباب وترى النساء والرجال حتى بعض العلماء منهم يطوفون بها ويصلون إليها. سبحان الله ما أقوى سلطان العادات الرديئة على الإنسان يستبيح ما يحظره دينه ويسميه بدعة حسنة ثم يجعله من نفس الدين ثم يطعن في دين من يقف عند نصوص الدين الصحيحة ويتمسك بعقائده الرجحية. تساهل بعض الفقهاء بإنكار هذه الفتن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرر النهي عنها في مرض الموت ويلعن فاعليها فأدى ذلك إلى جعلها من مهمات الدين. (1) اتخاذ القبور مساجد. (2) إيقاد السرج عليها. (3) اتخاذها أوثانًا. (4) الطواف بها. (5) استلامها. (6) الصلاة إليها. ست بدع سماها ابن حجر في الزواجر كبائر مع أن بعضها من الشرك , وقد بحث فيها بعد إيراد الأحاديث الصحيحة الواردة في حظرها بحثًا نذكره حجة على المخذولين الذين يقترفون هذه الموبقات , ولا يقبلون نصوص الكتاب والسنة في التشديد فيها زعمًا منهم أن المقلد لا يأخذ إلا بقول الفقهاء. قال هذا الفقيه الشهير رحمه الله تعالى ما نصه: (عَدُّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية , وكأنه أخذ ذلك مما ذكرته من هذه الأحاديث. ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم القيامة ففيه تحذير لنا كما في رواية (يحذر ما صنعوا) أي يحذر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا , واتخاذ القبر مسجدًا معناه الصلاة عليه أو إليه , وحينئذ فقوله: (والصلاة إليها) مكرر إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط. نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر مُعَظَّم من نبي أو ولي كما أشارت إليه رواية (إذا كان فيهم الرجل الصالح) , ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا. فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم , وأن يقصد بالصلاة إليه - ومثلها الصلاة عليه - التبرك والإعظام. وكونُ هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت. وكأنه قاس على ذلك كل تعظيم كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به. والطواف به كذلك. وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرّح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من اتخذ على القبر سرجًا. فيحمل قول أصحابنا بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيمًا وتبركًا بذي القبر. وأما اتخاذها أوثانًا فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تتخذوا قبري وثنًا يعبد بعدي) أي لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه. فإن أراد ذلك الإمام بقوله: واتخاذها أوثانًا هذا المعنى اتجه ما قاله من أن ذلك كبيرة بل كفر بشرطه. وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن به كبيرة ففيه بُعْد [1] . نعم قال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركًا بها عين المحادّة لله ورسوله , وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ثمَّ إجماعًا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناؤها عليها. والقول بالكراهة محمول على غير ذلك , إذ لا يليق بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله. وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك , وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر , ولا يصح وقفه ونذره انتهى) . هذا ما جاء في الزواجر بحروفه , وفيه إلجام لمنافقي هذا الزمان الذين يسهلون على الناس هدم دينهم وحمل لعنة النبي صلى الله عليه وسلم , بل يوقعونهم في خطر المروق من الإسلام ومحادة الله ورسوله (معاداتهما) لأجل قليل من الحطام الذي ينالهم من النذور فيأكلونه سحتًا {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (التوبة: 9) .

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورات بين المصلح والمقلد المحاورة الثالثة تأثير الاعتقاد بقرب الساعة , أخذ العرب حساب الجمل عن غيرهم الطريق المضبوط في استعماله , تاريخ الأئمة الأربعة , إنكار ذلك في القرآن مناظرة سنيّ وشيعيّ , البحث في حديث اليهود السابق , وعدم صحته , إنكار المتكلمين ذلك الحساب في أوائل السور , السريانية ولغة الملائكة , الاتفاق في صحة ذلك الحساب , كشف الأولياء في الساعة ومقدماتها , جغرافية الآخرة وخرائطها , الأحاديث في الساعة وشرائطها , عمر الدنيا , الأحاديث الموضوعة والمنكرة في ذلك , وغرض واضعها. تحرير المقال في ذلك. عاد الشيخ الواعظ , والشاب المصلح إلى المحاورة متفقين على أن لا يقبل أحد منهما قولاً للآخر إلا بدليل صحيح , واستأنفا الكلام في مسألة قرب قيام الساعة وطرق الاستدلال عليها؛ لأن هذه المسألة قد أضرت بالمسلمين , وكانت مكسلةً لهم عن العمل , وموطنة نفوسهم على الرضى بالضيم , والذل لما يلغط به الوعاظ الجهلاء في كل عصر من قرب قيامها , ومن أنه لا بد أن يتقدمه ضعف الدين , وتلاشي المسلمين , وابتدأ الشاب الكلام فقال: (المصلح) : لا أنكر أن هذا الشيء الذي يسمونه الجمّل قديم , وأنه انتقل إلى العرب من السريانيين , والعبرانيين , ولكن دلالته ليست عقليةً , ولا طبيعيةً , وإنما تكون بالمواضعة والاصطلاح , ولم يتفق للعرب , ولا لغيرهم اصطلاح يصحح أن تؤخذ أيّة كلمة , وتحسب ويُحْكَم بعددها على أنه تحديد لزمن أمة من الأمم في وجودها , أو استقلالها , بل لا يوجد في اللغة رموز حسابية , أو غير حسابية تدل على الحوادث المستقبلة , وقصارى ما يمكن أن يستفاد من هذا الحساب بطريقة وضعية اصطلاحية يفهمها كل من يعرف الاصطلاح الوضعي فيها هو نحو ما جرى عليه الناس من التأريخ بها بأن تذكر كلمة , أو كلام يعيّن بوقوعه بعد لفظ مخصوص كالألفاظ المركبة من مادة (أرخ) , ويجعل ما يحصل من حروفها بالجمل بيان سنة حدث فيها شيء يراد توقيته , ومعرفته , ولا بد من ذكر ذلك الشيء بعبارة يفهم منها كل من تلقى إليه ما يراد منها , ومن هذا النحو قول بعضهم في بيان تاريخ مولد الأئمة الأربعة المجتهدين , ووفاتهم , ومدة حياتهم , وهو: تاريخ نعمان يكن سيف سطا ... ومالك في قطع جوف ضبطا 80 150 70 ... 90 179 89 والشافعي صين ببر ند ... وأحمد بسبق أمر جعد 150 204 54 ... 164 241 ... 77 فخذ على ترتيب نظم الشعر ... ميلادهم فموتهم فالعمر فلولا البيت الأخير الذي أرشد إلى المراد لما اتضح لقارئه وسامعه وحينئذ لا تكون دلالته صحيحة , ولا يصح أن يقصد العاقل ما ليس بصحيح لأنه لغو فكيف يصح أن يكون مثل هذا اللغو مضافًا إلى كتاب الله تعالى وهو نقص ومناف للبيان الذي وصف الله به القرآن بمثل قوله تعالى: {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ} (الشعراء: 1-2) وقوله عز وجل: {حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ} (الزخرف: 1- 2) فلو كانت هذه الحروف رموزًا ومُعَمَّيَات لما وُصلتْ بهذا الوصف الشريف الذي هو من أخص أوصاف القرآن. وقد أنكر علماء الكلام أن يكون في القرآن كلام غير مفهوم للناس , واستدلوا على ذلك بالنقل والعقل فلا يصح للمقلد أن يترك كلامهم , وهم حماة العقائد , وأنصار الدين لكلام القصاصين , والدجالين , وأذكر لك لطيفة جرت مع بعض الأدباء في دلالة الكلمات بالتحكم في حساب الجمل , وهو أن شيعيًّا اسمه حَمَد ناظر أحد الأدباء فاحتج عليه بحساب الجمل , وموافقة بعض كلمات القرآن فيه لما أراد على نحو ما ذكرت لي في الاستدلال على قيام الساعة سنة 1407 للهجرة بقوله تعالى: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} (الأعراف: 187) فقال له ذلك الأديب: هل تقبل مثل هذا الاستدلال؟ قال: نعم. قال: إذن أنت كلب؛ لأن حرف حمد 52 في هذا الحساب وحروف كلب كذلك. فقال حمد: إن اسمي الصحيح أحمد قال الأديب: إذن أنت أكلب فخجل وانقطع عن المناظرة. وأما ما روي عن اليهود وذكرته في مجلسنا الماضي فلا يصح , وقد أخذه المفسرون الذين لا يتحرَّون في النقل من كتب السير والمغازي كسيرة ابن إسحق وأكثر ما في تلك الكتب لا يعتمد عليه كما علمت. وقد رأيت في شرح الإحياء ما نصه: (وقال السهيلي: لعل عدد الحروف التي في أوائل السور مع حذف المكرر للإشارة إلى مدة بقاء هذه الأمة. قال الحافظ ابن حجر: وهذا باطل لا يعتمد عليه , فقد ثبت عن ابن عباس النهي عن (أباجاد) والإشارة إلى أن ذلك من جملة السحر , وليس ذلك ببعيد فإنه لا أصل له في الشريعة) , ولو سلمنا صحته رواية لكان لنا أن نبحث فيه من حيث الدراية بمثل ما ذكرناه مختصرًا وأطال فيه بعض المتكلمين والمفسرين كالإمام الرازي على أنه لا يدل على ما ذكرت , إذ يجوز أن يكون ما أجاب به صلى الله عليه وسلم ياسرًا , وحيًّا ابنَيْ أخطب مرادًا به إبطال دلالتهما ودحض شبهتهما لعلمه بأنهما يقصدان التلبيس والإيهام فاضطرهما إلى التصريح بالتلبيس حيث قال حيٌّ: (قد لبّس علينا أمرك يا محمد) . (المقلد) : إن في بعض كلامك حجة عليك وهو قولك أن أباجاد الذي هو أصل حساب الجمّل مأخوذ من اللغة السريانية وهي لغة الملائكة فأي مانع يمنع أن يكون في القرآن شيء من لغة الملائكة يدل على الأمور الغيبية ويكون فهمه مخصوصًا بالخواص الذين يعرفون كلام الملائكة كالأنبياء والأولياء؟ فقد روي عن سيدي القطب الغوث الشيخ عبد العزيز الدباغ قدس الله سره العزيز أن أهل الديوان الباطني لا يتكلمون إلا بالسريانية لاختصارها فإن الحرف الواحد منها يدل على معانٍ كثيرة لا سيما حروف أوائل السور ولعلك اطلعت على هذا في كتاب (الذهب الإبريز) . (المصلح) : إنني لم أعن بقولي: (السريانيين) الملائكة , وإنما أعني جيلاً من الناس أمرهم معروف في التاريخ كانوا يسمون يوم السبت أبجد , ويوم الأحد هوّز , والإثنين حطي , والثلاثاء كلمن , والأربعاء سعفص , والخميس قرشت , والجمعة العروبة , وقد وضع السريان هذه الكلمات مشتملة على حروف الهجاء عندهم , وأخذها العرب عنهم وأضافوا إليها كلمتين مؤلفتين من باقي حروف الهجاء العربية التي لا توجد في اللغة السريانية وهما: ثخذ وضظغ وسموها الروادف أي اللواحق , ووافقوا السريان أيضًا في ضبط مراتب الحساب بها وزادوا عليهم بما في لغتهم من الحروف الزائدة بجعل كل حرف يزيد على ما قبله 100، فالثاءُ 500، والخاء 600 إلخ وساعدهم الجدُّ أن وافق الحرف الأخير (غ) آخر مراتب العدد عندهم وهو الألف , وزعم بعض المؤرخين أن العرب كانوا يسمون أيام الأسبوع بما ذكرناه عن السريان أيضًا. أما الملائكة فاعتقادي فيهم أنهم عالم روحاني غيبي وأن قياسهم على عالم المادة الذي يتفاهم عقلاؤه بأصوات تكيفها الحروف قياس غير صحيح , أو كما يقول الأصوليون قياس مع الفارق , وأن كل ما غاب علمه عن الناس ولم ينله كسبهم لا يقبل فيه إلا قول عالم الغيب , وليس عندي نص قطعي في تفاهم الملائكة وتخاطبهم. وأما ما ذكرت عن أهل الديوان الباطني فلا أخوض فيه الآن بل أدعه للبحث التفصيلي في أمراض الأمة الإسلامية أن دخلت معي فيه , وأكتفي الآن بأن أقول إن ما ذكرت عنهم لا تقوم عليه حجة مرضية ولا بينة شرعية , فإن خالفتني طالبتك بالنص. (المقلد) : إنني أعلم منك تعظيم شأن الوقائع الوجودية وكثيرًا ما سمعتك تقول: إن الذي لا ينطبق على ما في الوجود ولا يمثل حقيقة الواقع فهو خيال ووسواس من وساوس النفوس وأوهامها يجب طرحه وإهماله وتسميته جهلاً وإن سماه المبتلون به علمًا إلا ما أخبر به المعصوم من علم الغيب فيسلم به من غير بحث فيه ولا قياس عليه بشرط واحد وهو أن يكون جائزًا في نظر العقل. وإنني أحتج عليك بهذا فقد كان لي تلميذ في الأزهر دخل مدرسة دار العلوم وتعلم فيما يتعلمون فيها التاريخ , وولع به حتى كنت أنهاه عن الإيغال فيه إذا اتفق لي الاجتماع به لقول بعضهم: إن مطالعة كتبه تؤدي إلى التشيع وبغض سيدنا معاوية رضي الله عنه. ولما رأيتك تحتج بالتاريخ وتعتبره حتى كأنه فقه جئته في هذه الأيام وسألته: هل يوجد في التاريخ أن أحدًا استدل على بعض الأمور بحساب الجمل وأصاب؟ فقال: نعم استخرج بعضهم من قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم: 1-2) أن البيت المقدس يفتحه المسلمون في سنة 583 فكان كما قال ومنذ سمعت هذه الواقعة خطر لي أن أحتج عليك بها , ولكنني كنت أتوقع الرد عليَّ بأن كلام المؤرخين لا يحتج به على رأيي أنا حتى ذكرت ذلك لبعض علماء الحنفية فقال: إن هذه الرواية مذكورة في البحر, وعبارته هكذا - وأخرج الشيخ من جيبه ورقة وقرأ فيها ما نصه - (كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} (الروم: 1-4) افتتاح المسلمين بيت المقدس معينًا زمانه ويومه , وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى , وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح , وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم) فتعين الاعتماد على هذا والأخذ به. (المصلح) : أراك نسيت أننا اتفقنا على أن لا يقبل أحدنا من الآخر دعوى بدون دليل , وليس من الدليل في شيء ذكر الدعوى في أحد الكتب وتسليم أحد العلماء بها. وما استخرجه أبو الحكم يجري عليه حكم قولنا من قبل أنه لا يعرف له وجه مضبوط في الدلالة , فلا تلجئني إلى التكرار. نعم إن العلم الصحيح هو ما أثبته الوجود , وإن التاريخ هو الذي يحكي عن علم الإنسان ولكن التاريخ إنما يثبت لنا الوقائع الجزئية ونحن نحكم عليها بما يعطينا العقل من القواعد العامة , فإذا صحت رواية أبي الحكم فصحتها لا تثبت لنا قاعدة عامة وهي على ما هي عليه من الإبهام والغموض بل هي إلى الاتفاق الذي يسمونه (الصدفة) أقرب. (المقلد) : وماذا تقول فيما ثبت بالكشف عن الأولياء؟ (المصلح) : أقول بقول العلماء الأصوليين وهو أنه حجة على من قام عنده لا يصح الاحتجاج به على غيره. ثم إننا إذا نظرنا فيما نقل عن أهل الكشف من الأخبار عن الملاحم وما يجري في العالم من الحدثان نرى أقوالهم متضاربة متعارضة وقد ظهر كذب أكثره. (المقلد) : إذا سلمنا لك هذا فيحتمل أن يكون ما ظهر كذبه لم يصح عنهم, أو أنه مما نقل عن الذين اشتهروا بالصلاح والولاية ولم يصلوا إلى مقام الكشف الكامل أما مثل الإمام الشعراني الذي اطلع على الموقف والجنة والنار مثل شيخه الخواص والشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي فلا أظن أنهم أخبروا بشيء إلا وظهر كما قالوا إن كان قد جاء وقته وإلا فسوف يظهر. (المصلح) : نحن لم نطلع على الآخرة فنطبق عليها ما ذكره الشعراني من جغرافية الموقف وما فيه , وما رسمه من الخرائط للصراط والميزان والجنة والنار مما لا نعرف له دليلاً من كتاب ولا سنة ولا عقل ولا حكمة , ومن العجيب أن أكثر شيوخهم يرغبون عن جغرافية الدنيا المشهورة النافعة وينكرونها ويرغبون في جغرافية الآخرة المغيبة ويسلمون بها تسليمًا. وأما ما جاء في كتبه من الإخبار عن الفتن والملاحم وما يكون قبل الساعة فجله أو كله منقول عن كتب الشيخ محيي الدين بن عربي , وقد صرح هذا بأن المهدي كان موجودًا في زمنه وذكر وقائعه معه. وفي كلامه عنه إشارات ورموز , ومما اشتهر منها قوله: إنه يظهر بعد مضي ج ف خ وهي بحساب الجمّل 683 أي أن ظهوره يكون قبل انتهاء القرن السابع ,

عقوبة الإعدام

الكاتب: أحد الفضلاء

_ عقوبة الإعدام يحملنا على البحث في هذا الموضوع تطبيق هذه العقوبة على شخصين في القاهرة في أقل من أسبوع. وليس بحثنا فيه من الوجهة القانونية وإنما من حيث مزاعم بعض العلماء في حالة من يقضى عليه بالإعدام بعد موته. وقبل الخوض في البحث نأتي بلمعة من تاريخ عقوبة الإعدام عند بعض الأمم فنقول: يظهر من استجلاء صفحات التاريخ أن عقوبة الإعدام كانت تناسب في قسوتها وفظاعتها حالة الأمم من التوحش والجهالة. فقد كان المجرم في بيت المقدس يمثّل الأهالي به في الطرقات أفظع تمثيل إلى أن يموت , وفي إسبارطة إحدى عاصمتي بلاد اليونان في العهد الغابر كانوا يتركون المحكوم عليه بالإعدام يموت جوعًا أو يلقونه في جب , واخترعت في العصور الوسطى آلات كثيرةٌ للتعذيب مبالغة في إيذاء المجرم منها ما كان يصلح لسمل العينين أو نزع الأظافر إلى غير ذلك من الوسائل التي يقشعر البدن لذكرها. أما في فرنسا فكانت عقوبة التعذيب شائعة إلى عهد قريب ولم تبطل إلا في عام 1791 حيث قامت مقامها العقوبة بآلة قطع الرأس المعروفة بالجيوتين Guillotine , ولبقية الأمم الأوروبية عادات خاصة بها في عقوبة الإعدام , ففي أسبانيا الحلقة الحديدية التي توضع حول الرأس ثم تضيق شيئًا فشيئًا حتى تتكسر عظام الجمجمة وهي أفظع عقوبة فيما نعلم , وفي إنكلترا الشنق عن المثال المعهود في مصر لعامة الناس , وفلق الرأس بسلاح يشبه الفأس الذي يفلق به حطب الحريق للنبلاء والأشراف , وأما بقية الدول كالروسيا وإيطاليا ورومانيا واليونان والبرتغال وهولانده وجمهورية سانمارين وبليجيكا و12 مقاطعة من مقاطعات سويسرة البالغ عددها 22 مقاطعة فقد محت آثار تلك العقوبة من القوانين ففاتتها بذلك الحكمة البالغة التي تسطع أنوارها الباهرة من آية {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 179) . وكما شرع الإسلام القصاص بمقتضى الحكمة شرع درء الحدود بالشبهات , وحرّم التمثيل عملاً بمقتضى الرحمة. وفي الحديث الشريف: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة , وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة , وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) والمراد ذبح الحيوان كما هو ظاهر. أما الجيوتين فهي سكين ثقيلة جدا مائلة الحد مثبتة بين عمودين في الخشب توضع رقبة المحكوم عليه بين طرفيهما الأسفلين بينما تكون السكين معلقة بين الطرفين العلويين فإذا أسقطها الجلاد قطعت الرقبة في مدة وجيزة جدًّا. وقد بحث الكثيرون فيما إذا كانت هذه الآلة تكفي المحكوم عليهم مؤنة الألم وقت التنفيذ أم لا؟ فأجمعت آراؤهم على ذلك وأن الرأس تلبث عقب فصلها عن الجثة دقيقتين أو ثلاث دقائق خاضعة لكثير من التأثيرات والانفعالات التي تشاهد منها قبل الحياة كاختلاج العينين وتحرك الشفتين والفكين لأنهم اعتبروا هذه الانفعالات من الحركات الانعكاسية التي لا دخل لإرادة الإنسان فيها ولا شعور له بها. وذهب الكثيرون إلى أن الرأس المقطوعة تعض ما تصادفه مستدلين على صحة هذا الزعم بأن رجلاً قطعت رأسه في مدينة برست من أعمال فرنسا لذنب أتاه فوضع أحدهم قلم رصاص في فمه فانطبق فكاه عليه انطباقًا شديدًا أفضى إلى كسره قطعتين. وروى آخرون أن طبيبًا اسمه لابومراي صدر الحكم عليه بالإعدام فحضر إليه صديق من زملائه في مهنة الطب ورجا منه أن يخصص نفسه لتجربة علمية عقب قطع رأسه لمعرفة ما إذا كانت الحياة والإحساس يبقيان بعد قطع الرأس؛ فأجابه الطبيب المحكوم عليه إلى طلبه. فقال له صديقه: إذن سأسألك همسًا في أذنك (يامسيو كورتي دي لابومري: هل تستطيع بحياة علائقنا الودية القديمة أن تطبق جفني عينك اليمنى ثلاث مرات بحيث تبقى عينك اليسرى مفتوحة كما هي؟) فوعده الطبيب المحكوم عليه إلى طلبه. ولما كان يوم تنفيذ الحكم تلقى الطبيب رأس صديقه من يد الجلاد وأدنى أذنها من فمه وأعاد ذلك السؤال فأغمضت الرأس عينها اليمنى مرة واحدة وبقيت العين الأخرى مفتوحة تنظر إليه. ولكن العلم لم يسلم بهذه التجربة؛ لأن الدكتور فلبو وهو ذلك الصديق لم يشر إليها بكلمة في مؤلفاته العديدة. ولنشرح الآن حقيقة ما يتفق للمقتول بآلة الجيوتين عقب هبوط السكين على رقبته وقطعها لها في أقل من ثلث ثانية فنقول: إن قطع السكين للرقبة يزعزع النخاع المستطيل والغدد فتقف في الحال وظائفها , ويحصل الإغماء الحقيقي الذي ينشأ عنه الموت وانقطاع العلائق العضوية بين القلب والمخ. أما إذا لم تكن صدمة السكين للرقبة مصحوبة بتأثير يؤدي إلى قطع عروق الرقبة وشرايينها التي ينزل دم الجمجمة منها فمن الممكن بقاء يقظة المخ ونهوض الفكر على حالهما وفي هذا من التعذيب الشنيع ما لا يخفى. وحقيقة قسوة الحكم بالإعدام تنحصر في يقظة المحكوم عليه من نومه عالمًا بما يصير إليه أمره في يومه وأنه سيساق إلى دائرة التنفيذ. وكثيرًا ما يفقد رشده في هذه الأثناء , ويغمى عليه فيباشر الجلاد في إعدام شخص معدوم الحياة تقريبًا. ... ... ... ... ... ... م. م

محاورة الماء والنار في توليد البخار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاورة الماء والنار في توليد البخار لأحد الفضلاء وضع الماء البرود في المرجل , والتهب العشب تحته واشتعل وهو يستجير من النار , ولا مستجيب لمن استجار , ويستغيث , ولا مغيث , قد تطاير من الغيظ شراره , وأحاطت بالدهماء ناره , وسرى الحرور , في جسم التأمور [1] , ولم يقو حجاب المرجل الكثيف , على رد ذلك الساري اللطيف , كأنما تحالفا على تصعيد الأباب [2] لسبب من الأسباب , وبينما تتساءل جواهر الماء , عما حل بها من اللأواء , إذ خف الجزء الملامس لأسفل الإناء , وصعد مسرعًا كأن له حاجة في السماء , فأمسك به سائر السلسال , ومنعه من الرقي في الحال , وخلع عنه ثوب سُعاره [3] , وبرَّد حر ناره , وما لبث الحزء الذي حل محله , أن صار مثله , وكلما نزل شيء من الأباب إلى القرار , صب عليه الجَوْب سوط عذاب فلجأ إلى الفرار [4] فكثر الهيج والاضطراب , والأنين والانتحاب , وفكر كل في ساعة الفراق ولمّا تقع , فبكى وتوجع , كأن ابن المعتز عناه بقوله: وإذا فكر في البين بكى ... ويحه يبكي لما لم يقع فقال الماء بلسان أزيزه للعشب , قولاً يفهمه ذو اللب , أيها الولد العاق لوالده لم كويتني بنيرانك؟ ولولاي ما ذقت لذة الوجود فكيف قابلت إحساني بكفرانك , أما أنا السبب في نموك ونضرتك , وبي اكتسبت حلل جمالك وبهجتك , فتبًّا لك على هذا الجزاء , وبُعدًا لك يا عديم الوفاء , فأجابه العشب بلسان لهبه , وهو يتميز من غضبه , أيها الجاني على نفسه بنفسه , والباحث على حتفه بظلفه , والأحمق الذي لم يعر المستقبل نظره , ولم يجل فيه فكره , لا تنطق ببنت شفه , واعلم أنك من الهلاك على شفا. نعم كنت أنت السبب في وجودي ولكن لشقائي وتعذيبي. فكيف تفخر علي وما تراني فيه هو منتهى نصيبي , فأنا الآن أنتقم منك بما قدمت يداك , وأوقعك فيما أوقعتني فيه والدنيا شراك , ثم ما لبث الماء أن فار وغلى , وطلب الصعود إلى العلى , فأخذت جواهره تودع بعضها , وتتطاير بخارًا ساكبة دمعها , تبكي على أيام قضتها في الراحة والطمأنينة , حيث لا نزاع ولا ضغينة , وقد فسح الهواء لمرورها طريقًا , بعد أن ضيق عليه بضغطه تضييقًا. فذهب في وسط بارد خلعت فيه ثوب حرارتها. ورجعت إلى قديم حالتها , وانقلب السخين سلاسلا [5] , وعاد المسيط [6] هلاهلا [7] اهـ.

إلى الله المشتكى

الكاتب: بومبئ (ش. أ. ج.)

_ إلى الله المشتكى عفى الديار ديار الحكم والحكم فقد الرجال رجال السيف والقلم وغادر الأرض أرض الدين مجدبة ... قحط الكرام وموت الجود والكرم حيث المشاعر مضروب لها مثلاً ... (بئر معطلة دار بلا إرم) حيث الشعائر أمست وهي منتكسٌ ... أعلامها كانتكاس الظلّ للقدم حيث المدارس طرًا وهي دارسة ... أضحت مرابض للأنعام والغنم الله يعلم أنّ الدين أوهنه ... تغلبًا دوله الأوغاد والقزم (فلا رعى الله قومًا لا عهود لهم ... ولا ديانة خوّانين للذمم) (من كل متبع الأهواء منهمك ... في السكر بالشر والإشراك معتصم) (لا مدّ بحر جرت فيه سفائنهم لا بالشرائع بل بالنار والضرم) (جاءوا جياعًا لحوم الجيف قوتهم ... تمسي النسور لهم لحمًا على وضم) (يذلّلون سراة عزّ مشربهم ... ويولغون كلابًا في حياضهم) سبحانه تلك أيام يداولها ... في الناس وفق أصول العدل والحكم ولا يغيّر ما بالقوم ربهم ... إلا بتغييرهم ما في نفوسهم فإن هم رفعوا للعلم رايته ... يرفعهم لسماء العز في الأمم وإن هم خفضوه فهو يخفضهم ... في هوّة الذلّ والإنكاد والعُدُم بالعلم قد جاءَنا الإسلام منتصرًا ... فأخرج العرب من إشراك شركهم والروم في لُجّة غاصت سفينتها ... والفرس من فتنة صماء في ضرم وقد محا جهلهم سيماء نوعهم ... وكاد يفصل عنهم فصل جنسهم حتى أنار الورى فانجاب ظلمته ... شروق دين الهدى في الأعصر الدهم دين غدا ناسخ الأديان قاطبةً ... وآية الشمس تمحو آية الظلم مؤلفًا بين أشتات القلوب كما ... يؤلف الناظم النحرير في الكلم أصوله كأصول الشمّ راسخة ... فروعه علت الأفلاك في الشمم أين الذين شاعوا في البلاد علو ... م النقل والعقل والأحكام والحكم أحيوا علوم أرسطاليس دارسة ... كما ابن مريم أحيا دارس الرمم وهذبوا من خرافات دفاترها ... ودوّنوا درسها في سائر الأمم في البيض والسمر والسودان نورهم ... تراه يلمع لمعَ البرق في العتم أمسى الرياضيّ روضًا من رياضتهم ... وأينعت نخله من جود فضلهم وأحرزوا قصبات السبق من حرف ... ومن فنون صناعات ومن حكم كم في السياحة رايات لهم نشرت ... وفي الفلاحة آيات لغرسهم وفي العمارة آثار لهم رفعت ... تلوح مثل النجوم الزهر في الظلم هذا الضياء الذي باهى الزمان به ... حضارة وثراء عكس نورهم ممن تنورت الآراء ملهبة ... بالعلم مشبهة نارًا على علم؟ ممن غدت هذه الأقوام رائجة ... أسواقها في فنون البيع والسلم؟ إنا لفي شغل والدهر في شغل ... والغرب في نغم والشرق في صمم هيهات عدنا إلى ذل ومتربة ... من الجهالة وانحلت عرى الهمم حتى غدت شوكة الإسلام شاكية ... من بعد سلطتها في العرب والعجم دين نما بنمير العلم باسقه ... لم يبق منه سوى ساق بلا قدم قوم قد كان رأس المال علمهم ... ويل لهم إذا أضاعوا رأس مالهم فودعت لوداع العلم ثروتهم ... ووزعت ملكهم أعداء دينهم هل زادهم شرفًا أن زاد عدهم ... إلا زيادة نكص فوق نقصهم لا خير في عدّة إن قل عُدتها ... لا خير في سمن إن كان من ورم أمسى الشراب سرابًا من جهالتهم ... إذ أصبح الماء غورًا من عيونهم وأصبحت دارهم قفرًا بلا سُرُج ... والشمل من بعد جمع غير منتظم تشعبوا شيعًا حتى رعى هملاً ... كل بمرعى بلا راع ولا لَزِم [1] قد جزّءوا بالهوى ذا الدين تجزئة ... والدين جوهر فرد غير منقسم كل له غرض يرى به غرضًا ... ويجعل الدين منه عرضة التهم كل له مذهب يبغي به ذهبًا ... بئس الحطام الذي يفضي إلى الحطم فشا النزاع فأمسى الأمن منتزعًا ... كذا الأمانة من حلّ ومن حرم أليس من حاكم ترضى حكومته ... في الحل والعقد عند الخطب أو حكم بلى فإن رسول الله أسوتنا ... خير المحامين محيي ميت النسم [2] إليك نشكو رسول الله ذلتنا ... والذّل من بعد عزّ أصعب النقم إن كنت ترضى بما أمسى المحيط بنا ... إحاطة الدجن في داج من الظلم فنحن راضون أيضًا بالذي كتب الـ ... خلاّق من سابق الآزال في القسم إن كان حبل الرجا في الدهر منفصمًا ... فحبلنا منك حبل غير منفصم وأنت أحييت أسلافًا لنا كرمًا ... فلا تضع خلفًا في آخر الأمم يا رب أنزل علينا رحمة أبدًا ... كما رحمت نبيًّا طاهر الشيم وأصلح الله أخلافًا لأمته ... حتى يباهي غدًا أسلافهم بهم صلى الإله على طه وعترته ... ما حنّ قلب إلى جيران ذي سلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... بومبئ (ش. ا. ج)

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) من كتاب (25) من هيلانة إلى أراسم في 6 مايو سنة - 185 كانت عاقبة جدي في السعي أن فزت بوصل حبل المراسلة من وراء ما بيننا من المسافات الشاسعة بعد طول انقطاعه ولست أعد من الترسل ما تناوبناه منذ ثلاث سنين من المكاتيب [1] غير المهمة التي كان دأب كل منا فيها الإقلال من القول جهده فأنا محتاجة في تخاطبي معك إلى مناجاة قلبك بفكر تام الاختيار وضمير كامل الحرية. لا أرجع إلى ما مضى من الحوادث فالكلام فيه عديم الجدوى وإنما أقول: إني قد عراني لخبر نقلك من سجنك إلى غيره من الألم ما لج بي في التصميم على اللحاق بك لجاجة لم أحس بمثلها من قبل ولم يمنعني من المضيّ معها سوى ما غلبني من الإحساس بوجوب طاعة أمرك وسماع نصائح صديقك الدكتور ورعاية مصلحة ولدنا فانصعت لذلك الإحساس آسفة مرتقبة تحقق أملي في اللقاء. علمت مما سبق من رسائلي ما عليه (أميل) من صحة البدن وأريد الآن أن أحدثك عن تقدمه في اكتساب العلم فأقول: ليس ولدنا بدعًا في الأطفال (وهو أمر أعترف به وأنا في غاية الاستكانة والغضاضة) بل إن الناس هنا يجدون فيه شيئًا من توحش سكان أطراف العالم , ولكني أحبه كما هو؛ لأني أرى جميع ما فيه منبعثًا عن الفطرة ولم أعن حتى الآن بتعليمه مواضعات المعاشرة وآداب الاختلاط لأن جل عنايتي كان مصروفًا إلى النظر في أخلاقه وأحوال نفسه والاجتهاد في تقويم طبعه وتربية إدراكه , وسأسرد لك عن تجاربي معه ما تحكم به على مبلغ نجاحي في ذلك. قد لاحظت أن فيه نهمة وهي عامة في جميع الأطفال فأي واحد منهم سلم منها؟ ولكن قد أتت علي معه ساعة ارتعدت فيها فرائصي خوفًا عليه من تلوث نفسه برذيلة أفظع من النهمة وأشنع منها كثيرًا ألا وهي الكذب. ذلك أن جورجيا كانت تخبز ذات يوم قرصًا فطيرًا فلما استوى أخرجته من الفرن ووضعته ساخنًا على الخوان ثم دعتنا شئون مختلفة للخروج إلى البستان فتركناه وخرجنا إلا (أميل) فقد لاحظت منه أمرًا دهشت له وهو اجتنابه الذهاب وراءنا فلما عدنا إلى المطبخ لم نجد للقرص أثرًا فاستولت علي ريبة شديدة في أمره ولكنني تجاهلت السارق والتفت إلى جميع الحاضرين مظهرة أني أخاطب الكل , فقلت: ليت شعري من ذا الذي أخذ القرص من فوق الخوان؟ فأما قوبيدون , وجورجيا فإنهما لم ينبسا بكلمة لعلمهما البراءة من نفسيهما، وأما (أميل) فلما لم يكن شأنه كذلك لم يسعه إلا أن خجل وصاح قائلا: (الدُّبَّة هي التي أخذته) فلما سمعت منه هذا الجواب انجرح فؤادي غمًّا , وقد علمت من أحد مكاتيبي السالفة أن الدبة هي كلبة البيت ولما أعلمه بينه وبينها من الألفة والارتباط رأيت أن هذه فرصة سنحت لإيقاظ وجدان العدل في نفسه فصممت على اغتنامها وقلت: إن كانت الدبة هي الآثمة فلا بد من جلدها , وأشرت إلى قوبيدون بتنفيذ هذا الحكم , وكنت في كل هذه المدة أتأمل في وجه (أميل) وأحس بأن فؤادي يطير شعاعًا ولا غرو فأي شيء كنت أرجوه منه إذا كان أصر على الكتمان وإنكار الحق؟ أدرك الزنجيُّ بلا ريب موجب جزعي وفهم ما قصدته , فتقدم إلى الدُّبة المتجنى عليها تلوح عليه سمات جلاد ممن تمثلهم الروايات المحزنة , وكانت قد بدت عليها منذ حين علائم الأنس بمن في البيت والسكون إليهم لفراغها من أداء واجب العناية والحماية لجرائها , وكأنها أدركت جميع ما حصل لأنها كانت تنظر إلى (أميل) نظر المستعطف الآمل ولسان حالها يخاطبه بقوله: (أهكذا تدعني أعاقب ظلمًا) فاضطرب الغلام من هذا المنظر ثم أجهش بالبكاء واستلقى بين يديَّ قائلاً: كلا ليست الدبة هي التي أخذته بل أنا الآخذ. عند ذلك تسرى عني ما كان أبهظ نفسي من تراكم الكدر , ولكني رأيت أن من الواجب عليّ في هذا المقام الثبات وعدم التعجل في إظهار الحنو , فصحت قائلة له: من حيث إنك تجنيت على الدبة ما لم تجنه فهي التي ينبغي الرجوع إليها في طلب العفو. ففهم أنه في الحقيقة قد فرط منه في حقها هفوة يجب الاستقالة منها , فعمد إلى جيب صدرته فأخرج منه نصف القرص لأنه لم يكن تيسر له أكله كله , ومد يده به إليها قائلاً: خذي. فتدللت عليه في بداية الأمر ولكنها لما رأت أن استماحة العفو منها صادرة عن قلب سليم ازدردت تلك اللقمة اللذيذة وسمات الرحمة والشره بادية على وجهها فبعثنا ذلك على أن قهقهنا جميعًا. أنا وإن كنت لا أقوّم طاعة الأطفال لوالديهم بأكثر مما تراه فيها أجدني في بعض الأحيان مضطرة اضطرارًا شديدًا إلى قمع أهواء (أميل) والحيلولة بينها وبين الوصول إلى ما قد يضره , ورأيت أن من الواجب عليَّ أن أستعين في هذا الأمر باستعداد فطري يوجد قطعًا في جميع الأطفال على السواء ذلك أن (أميل) لمَّا يحصل في ذهنه من حوادث العالم الخارجي إلا صورة مبهمة , فتراه يعتبر ما يتعاصى عليه من الأشياء ولا يوافي رغبته ذا قوة متمردة وإرادة متصرفة. خذ لذلك مثلاً وهو أن له كَلَفًا بأن يقلب مربعًا من البستان بمقلب صغير فإذا باشر هذا العمل سلاني وأضحكني منه أن أراه يسحق ما يخرج من المدر برجليه الضعيفتين مبديًا دلائل الابتهاج بالظفر كأنما في كل مدرة منها عدو له قد أرغمه وأذله وإذا اخترق الأسوجة النباتية فأصابه فرع منها في وجهه تناوله بيده وجعل يهزه ويعبث به ولسان حاله يخاطبه موبخًا له بقوله: (علام تؤذيني أيها الغصن الحقير) وإني لأخاله يجلد البحر إذا أغرق مركبه الصغير على نحو ما فعل به كزرسيس [2] . هذه الشكاسة التي في الأشياء - وإنما أسميها بذلك موافقة لأفكار الأطفال - تدعو (أميل) إلى إظهار الطاعة للكبار الذين يعلمون من نواميس الكون وسننه أكثر مما يعلم , فإن خضوع العالم لتلك النواميس والسنن هو الذي ألزم الإنسان المحافظة على رعاية أحكام التجربة واقتفاء آثار السلف , ولذلك قد اتفقت مع قوبيدون على طريقة بها يعاقب (أميل) كلما عصى أوامري وأغفل الأخذ بنصائحي بحيث إني لا أتولى عقابه بنفسي بل أَكِلُهُ للجمادات المحيطة به فإنه بذلك يعتاد على أن يلتمس في الطاعة جُنَّة تقيه شر ضعفه وشر ما للفواعل الكونية من الطغيان والعتو. وقد جريت معه على هذه الطريقة بعينها في ضرب آخر من ضروب سيرته وإني وإن لم أصل بها في جميع الأحوال إلى النجاح المقصود إخالني على الطريقة الموصلة إليه. ذلك أني رأيته شغفًا بالاندلاق من البيت , وكثيرًا ما أنذرته بأن في خروجه منه وحيدًا ضررًا عليه فلم يجد ذلك نفعًا , فلما رأيت منه قلة الإصغاء إلى نصائحي في هذا الأمر أوعزت إلى قوبيدون بأن يغري به بعض أطفال القرية فكانوا كلما رأوه في الخارج تظاهروا له بأنهم يحسبونه وليدًا ضل بيته وقبضوا عليه وردوه إليَّ قهرًا فأدرك من ذلك الحين الموعظة التي أردت أن أعظها إياه وهي أن الانقياد والطاعة أمثل من القسر. على أنني رأيتني قد عرفت فيه أنه لم يخلق لأن يعيش وحيدًا , ولا لأن يقضي جميع زمانه مع الكبار لأنه ما دام ذا عقل وقُصِرَ على مخالطتنا يشيخ قبل بلوغه زمن الشيخوخة , وأما إذا اختلط بلداته وعاشر أترابه أشرق في وجهه نور الفرح بابتهاجهم وسرى إلى نفسه روح السرور منهم , ولهذا رأيت من مصلحته أن يتخذ له رفقاء من أطفال القرية جعلت أمر اصطفائهم موكولاً إليَّ حتى لا يكون له فيهم أُسًى سيئة , ولم ألاق في هذا الأمر صعوبة لأن الناس هنا لاشتغالهم طول النهار بتحصيل رزقهم يرون في تسليم أطفالهم لمن يقوم بشأنهم تخفيفًا من حملهم , وقد أصبح بيتنا من هذه الجهة شبيهًا بملجأ من ملاجئ الأطفال فأذكر لك من أخصاء (أميل) اثنين فقط وهما: غلام اسمه وليم يكاد يساويه في سنه أعني أنه في الخامسة أو السادسة من عمره , وفتاة في السابعة من عمرها عليها مخايل الحسن تسمى إزابلي , ولكن الناس يختزلون هذا الاسم اختزالاً لا شبهة في وجه مناسبته فيدعونها بلِّي (كلمة تليانية معناها جميلة) أخص ما أعنى به في شأن أولئك الأطفال الثلاثة هو إيجاد رابطة اختلاط وعشرة بينهم فتراني إذا صرَّحت لهم بالانطلاق إلى التنزه أوزع عليهم ثلاثة أصناف من الطعام ولكني أراعي في هذا التوزيع أن يكون الخبز كله لواحد منهم واللحم البارد مثلاً للثاني والفاكهة للثالثة فإذا حانت لهؤلاء المبتطلين ساعة اشتهاء الأكل وهي قلما تتأخر لأنهم يأكلون أكل صغار الذئاب دعا من نال الخبز منهم رفيقيه إلى مقاسمتهما إياه على شرط أن يقاسماه أيضًا ما معهما من اللحم والتفاح مثلاً فتقبل منه هذه الدعوة على طيب نفس لأن لكل منهم مصلحة فيها وبهذه الطريقة يتعلمون بالغريزة الجري على سنة المعاوضة التي هي على ما أدري حقيقة معنى المساواة. من أصول الرذائل الخبيثة التي أصرف في استئصالها من نفس أميل جل اهتمامي الأثرة. فإن الأطفال مجبولون على الاستئثار بكل شيء , وهذا الاستعداد الفطري مبني في الغالب على الشره والحرص ذلك ما أراني قد لاحظته فيهم وأود أن أكافحه وأغالبه وقد رأيت أنه لا ينجع فيه زخرف القول وبلاغة المنطق وأن الواجب عليَّ كما رأيت فأصبت أن أستخلص لولدي ما أسوقه له من العبر في الأعمال. ولعلك سائلي عما فعلته للوصول إلى هذه الغاية فأقول: إنني انتقيت من بين الأشجار المثمرة في بستاننا ثلاثًا جعلت لكل من غلماني واحدة منها مدة السنة , ولكوني أنا التي توليت توزيعها عليهم قد أعطيت (لأميل) كرزة ولوليم خوخة ولبلي إجاصة طعَّمها قوبيدون ولمَّا تثمر واحدة منها لتأخر فصل الصيف , وإني- والحق أقول- في شك من وفرة إحمالها هذه السنة , وعلى كل حال أرى أن هؤلاء البستانية الصغار الثلاثة مهتمون بملاحظة ما وضعوا عليه أيديهم , وقلما يفترون عن ذود الدود وغيره من الحشرات المهلكة عنه , وليس يبعد على (أميل) في إبان الكرز أن يأكل جنى شجرته جميعه دون أن يعطي منه شيئًا لرفيقيه. إن فعل ذلك فصبرًا لأنه لابد أن يأتي يوم مقايضة الجزار بمثله ذلك أنه متى أنشأ الخوخ والإجاص ينضجان ذكر وليم وبلَّي معاملة (أميل) لهما وقابلاه بنظيرها ما لم يكونا أكرم منه نفسًا وأسخى كفًّا فيرضيا مقاسمته ما لهما على ما فيه من الميل مع الأثرة وفي كلتا الحالتين عقوبة له. للمكتوب بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

الجامع الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامع الأزهر وقفنا على مقالة ضافية في جريدة (بيسه أخبار) الهندية الإسلامية كان بعثها صاحب هذه الجريدة الفاضل من مصر عندما جاءها في سياحته التي تكلمنا عنها في جزء مضى. يصف فيها مصر وصفًا تاريخيًّا سياسيًّا أدبيًّا علميًّا جاء فيه بالفتيل والنقير: وتكلم حتى عن راكبي الحمير. وشبه الحكومة المصرية بالشطرنج يلعب به اللورد كرومر.. . وأطال الكلام على الجامع الأزهر فنلخص من كلامه فيه ما يأتي: قال: دخلت الجامع الأزهر الذي هو أشهر المساجد في العالم من حيث التعليم وأما من حيث السعة والزخرف فيوجد ما يفضله في القاهرة وغيرها - ثم تكلم بالمناسبة على جامع القلعة وغيره وقال - أنا أدع الكلام على هذه المساجد العظيمة كجامع السلطان حسن وابن طولون والمؤيد والغوري وأتكلم على الأزهر لأن كل المسلمين يعرفون اسمه ولا سيما قراء جريدتنا. هو أكبر المدارس الجامعة في الدنيا وقد جئته مرات متعددة في أوقات مختلفة من ليل وصباح وظهيرة ومساء من نهار وهو مخصوص للتعليم لا للصلاة فلا يجيئه الناس من الخارج للصلاة , ومتى أذّن المؤذن من مناراته الأربع (هي خمس) يقوم بعض طلاب العلم فيه وفي أروقته للصلاة. ولكنهم يصلون متفرقين.. . وبعضهم يبقى مشغولاً بالقراءة والمطالعة وبعضهم بالأكل والاضطجاع.. . (قدرت الذين يتعلمون فيه بزهاء عشرة آلاف، والأساتذة بمائة، أو يزيدون (الصواب أنهم مئات) وسن الطلاب يبتدىء من 7 سنين إلى سبعين سنة.. .) ثم تكلم عن الرواتب وأنها قليلة جدًّا إلا راتب شيخ الجامع فإنه كثير جدًّا وتكلم عن الجراية وعن الإدام ما هو , وكيف يكون الأكل , وعن الأروقة وتعدد الأمم والشعوب فيه بما لا حاجة لنقله إلا قوله (والتعليم فيه يبتدئ من قراءة القرآن للأطفال إلى أعلى العلوم الإسلامية , ويقرأ بعض الأستاذين لطالب واحد وبعضهم لجماعة كثيرة) ثم قال ما ترجمته بالحرف: (أنا أبدي رأيي في الأزهر وإن تألم له كل مسلم يراه وهو أن معرفتي بهذا المكان الذي هو دار العلوم الإسلامية الكبرى ما أورثني إلا التأسف. قلما يخرج من هذه المدرسة عالم ينفع الملة والأمة , وإن المتخرج منها يأخذ عمامة الفضيلة (يريد درجة التدريس) بعد دراسة 12 سنة إلى 24 سنة. أصحاب الجرائد الإسلامية يمدحون طريقة إصلاح التعليم الجديدة في الأزهر ويذهبون إلى أنها ضرورية لا بد منها , ولكن علماء الأزهر (أي بعضهم) يقولون: إنها بدعة وإن الطريقة القديمة خير منها. سألت لطيف باشا سليم عن علماء الأزهر النابغين فأجابني بما رجعت معه يائسًا وهو أن قال: إنه لم يتخرج من الأزهر عالم يستحق أن يخرج اسمه من مصر ويطوف البلاد الأخرى. يريد علماء المسلمين أن يكونوا كأنبياء بني إسرائيل , ولكن هؤلاء العلماء لم يصلوا في الحقيقة إلى مرتبة العلماء فكيف يعرجون إلى أفق الأنبياء؟ ! ترى من العلماء من يأمر بالمعروف ولا يأتمر , ويَنْهَى عن المنكر ولا ينتهي) , وهنا ذكر الكاتب بيتين من الشعر الفارسي معناهما أن الخطيب على المنبر يقرع الأسماع بزواجر الوعظ في الجلوة ويعمل بخلاف ذلك في الخلوة. يأمرون الناس بالتوبة ولكنهم هم لا يتوبون فهلا وعظوهم بأفعالهم كما يعظونهم بأقوالهم فإن العمل أقوى تأثيرًا. اهـ المراد منه. *** تعيين أمين علمنا أن مجلس إدارة الأزهر قد اختار الأستاذ النزيه الشيخ أمين أفندي السحيمي وكيلاً لرواق الأتراك لعجز شيخه بالمرض والكبر عن النظر في شؤونه , وهو تعيين أصاب أهله ووقع موقعه؛ لأن هذا الفاضل يرجى أن يصلح به حال الرواق ويرتقي أحسن ارتقاء , فنهنئ صديقنا الشيخ أمين أفندي بهذه الخدمة الجليلة ونرجو له التوفيق بالقيام بشئونها خير قيام.

عيد جلوس الخديوي المعظم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عيد جلوس الخديوي المعظم العيد الوطني السعيد أدام الله تعالى حكم الحضرة العباسية العليَّة , وأقرَّ بها عيون هذه الأمة المصرية , وأنبت ولي عهدها أحسن نبات , وحفظه من جميع الملمات لتكون الآمال قرينة الأميال. بحفظ الاستقلال في الحال والمآل. بعد غد تحتفل الحكومة المصرية , ويشاركها جميع أصناف الرعية. بتذكار جلوس مولانا عباس حلمي باشا على عرش الخديوية. نائبًا مطلقًا عن الحضرة السلطانية. فترتفع الرايات على دور المواقع الرسمية. من ملكية وعسكرية.. وتقتدي بها في ذلك المعاهد الأجنبية. التابعة للدولة الأوربية وغير الأوربية. وقد أعدّت لنا في هذا العام. لجنة الاحتفال العام. التي يرأسها عطوفتلو عبد القادر باشا حلمي. ويتولى أمانة سرها سعادة أحمد بك زكي. ويتألف أعضاؤها من جميع النحل والشعوب. التي حكمها هذا الأمير المحبوب. زينة لم يسبق لها مثال. في حول من الأحوال. مما فصلت القول فيه الجرائد اليومية. فلم يبق لنشر ما ورد علينا من اللجنة مزية. إلا أننا نستلفت الأنظار إلى زينة الأزبكية. وننبه الأفكار إلى كون هذا الاحتفال أعلى مجالي الوطنية. التي ترتبط بها جميع أصناف الرعية . فليكن الإقبال. على هذا الاحتفال. من آيات حبهم لسمو الأمير. وإخلاصهم للعرش والسرير. فنرفع فرض التهنئة إلى مولانا العزيز بعيد تذكار السنة الثامنة من ملكه ونسأل الله تعالى أن يمد في أيامه ويمده بالتوفيق. ويكون له خير عون ورفيق.

الأحاديث الموضوعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأحاديث الموضوعة في رمضان والصوم منها حديث: (افترض الله على أمتي الصوم ثلاثين يومًا وافترض على سائر الأمم قلَّ أو كثر وذلك أن آدم لما أكل من الشجرة بقي في جوفه مقدار ثلاثين يومًا فلما تاب الله عليه أمره بصيام ثلاثين يومًا بلياليهن وافتُرِضَ على أمتي بالنهار وما يؤكل من الليل ففضل من الله تعالى. رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا وقال: محمد بن نصر البغدادي (من رواته) غير ثقة , وهو يحدث عن الثقات بالمناكير ونحن نقول: مثل هذا الحديث الباطل قد اغتر به بعض المفسرين وحكموه في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة: 183) وظنوا أن التشبيه من كل وجه , ولم يساعدهم على ذلك نقل. والظاهر أنه تشبيه أصل الكتابة علينا بالكتابة عليهم من غير نظر إلى المكتوب في مقداره وكيفيته ولا إشكال فيه كما سيأتي في باب التفسير إن شاء الله تعالى. وفي الحديث أيضًا تعليل الصوم وبيان الحكمة فيه , وأنها أكل آدم من الشجرة, وهو يقتضي أن الصوم عقوبة , وقد تقدم في الجزء الماضي فساد هذا الرأي وبيان أنه اعتقاد وثني مع بيان الحكمة الصحيحة المنصوصة في القرآن. ورأيت الشعراني في ميزانه توسع في بيان التكاليف التي فرضت علينا بسبب أكل آدم من الشجرة حتى عدَّ من ذلك جميع نواقص الوضوء حتى في المذاهب المندرسة وقال: إن سببها كله يرجع إلى الأكل إلخ ما أطنب فيه وهو نزغة نصرانية. والمعلوم من الكتاب والسنة أن التكليف رحمة لا عقوبة {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} (البقرة: 220) وأن الأبناء لا تعاقب بذنوب الآباء. بل قال الله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 36-39) الآيات وهي شريعة العدل التي كان عليها أصحاب الشرائع السماوية خلافًا لما في أسفار العهد القديم في البعض مما لا ثقة لنا بروايته. ومنها حديث: (لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا: شهر رمضان) . رواه ابن عدي عن أبي هريرة مرفوعًا وفي إسناده محمد بن أبي معشر عن أبيه وليس بشيء. وقد أخرجه البيهقي في سننه وضعفه بأبي معشر. ورواه غيرهما كذلك. ومنها حديث: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نادى الجليلُ رضوان خازن الجنان فيقول: لبيك وسعديك) وفيه: (أمره بفتح الجنة وأمر مالك بتغليق النار) . وهو حديث طويل يذكر في كتب الوعظ والرقائق وبعض الخطب وقد صرح المحدثون بأنه موضوع وفي إسناده أصرم بن حوشب كذّاب. ومنها حديث: (لو علم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها) إلخ ما هو مشهور. رواه أبو يعلى عن ابن مسعود مرفوعًا , وهو موضوع آفته جرير بن أيوب. قال الإمام الشوكاني بعدما أورد هذا عقيب ما قبله: وسياقه وسياق الذي قبله مما يشهد العقل بأنهما موضوعان فلا معنى لاستدراك السيوطي لهما على ابن الجوزي بأنهما قد رواهما غير من رواهما عنه ابن الجوزي فإن الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعًا برواية الرواة اهـ. ومنها حديث: (إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إلى خلقه الصوَّام, وإذا نظر الله إلى عبد لم يعذبه أبدًا) . وفيه: (فإذا كان ليلة النصف.. وإذا كان ليلة خمس وعشرين..) . إلخ الحديث , وهو موضوع , وفيه مجاهيل والمتهم بوضعه عثمان بن عبد الله القرشي. ومنها حديث: (إن الله تعالى في كل ليلة من رمضان عند الإفطار يعتق ألف ألف عتيق من النار) . روي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) وهو لا يثبت عنه , ورواه ابن حبان من حديث أنس بلفظ (ستمائة ألف) بنقص أربعمائة ألف عن الرواية السابقة وقال: باطل لا أصل له. وقد رواه البيهقي من طريق أخرى عن الحسن وقال البيهقي: هكذا جاء مرسلا - ومراسيل الحسن عندهم ليست بشيء - ورواه أيضًا من حديث أبي أمامة بلفظ: (إن لله عند كل فطر عتقاء من النار) . وقال: غريب جدًّا. ورواه أيضًا من حديث ابن مسعود بلفظ: (لله تعالى عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء ستون ألفًا فإذا كان يوم الفطر أعتق مثلما أعتق في جميع الشهر) . ورواه الديلمي باللفظ الأول. وهو وإن كان يروي للضعفاء إلا أن اضطراب الحديث في رواياته وما فيه من التغرير وتجريء العوام على انتهاك الحرمات واقتراف السيئات ومن الغلو في المبالغة الذي هو من علامات الوضع , ومن فساد المعنى بالنسبة لأشهر الروايات وهما رواية ألف ألف ورواية ستمائة ألف ولم يكن الذين يصومون رمضان في عهده صلى الله عليه وسلم يبلغون عدد عتقى ليلة واحدة - كل ذلك يدلنا على أن تعدد الروايات لا ينافي وضع الحديث واختلاقه. فبعدًا لخطباء الجهالة الذين يقرأونه على المنابر يغرّون به الناس. ومنها حديث: (لو أذن الله لأهل السموات والأرض أن يتكلموا لبشروا صوَّام رمضان بالجنة) . رواه العقيلي عن أنس مرفوعًا وقال: إسناد مجهول وحديث غير محفوظ. وهو مما يذكره الخطباء. ومن الأحاديث الواهية التي يذكرها الخطباء على المنابر حديث: (نوم الصائم عبادة وصمته تسبيح وعمله مضاعف ودعاؤه مستجاب وذنبه مغفور) , رواه البيهقي والديلمي وابن النجار من حديث عبد الله بن أبي أوْفى الأسلمي. قال البيهقي عقيب إيراده: معروف بن حسان - أي أحد رجاله - ضعيف , وسليمان بن عمر النخعي أضعف منه. وقال العراقي: سليمان النخعي أحد الكذابين. ونقول: يا لله العجب من هؤلاء الذين ألفوا دواوين الخطب الجمعية كيف تحرَّوْا الأحاديث الموضوعة والواهية , ومن أين جمعوها , ولمَ عادوا الأحاديث الصحيحة واجتنبوها؟ ! ومنها حديث: (إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين) . رواه ابن حبان عن ابن عمر مرفوعًا وقال: لا أصل له. ومنها حديث: (ثلاثة لا يسألون عن نعيم المطعم والمشرب - المفطر والمتسحر وصاحب الضيف , وثلاثة لا يسألون عن سوء الخلق المريض والصائم والإمام العادل) . قال في الذيل: فيه مجاشع يضع. أي فهو مكذوب. ومنها حديث: (أنه يسبح من الصائم كل شعرة وتوضع للصائمين والصائمات يوم القيامة تحت العرش مائدة من ذهب) إلخ في إسناده أبو عصمة وضّاع. ومنها حديث: (صوموا لتصحوا) . قال الصغاني: موضوع , وقال في المختصر: ضعيف. ومنها حديث: أن أنسًا أكل البَرَد وهو صائم وقال: إنه ليس بطعام فقرره صلى الله عليه وسلم على ذلك. قال في الذيل: فيه عبد الله بن الحسين يسرق الحديث. ومنها حديث: (إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب , وإن فيه ثلاث ليال ليلة سبع عشرة وليلة تسع عشرة وليلة إحدى وعشرين من فاتته فاته خير كثير , ومن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أيّ شهر يغفر له) . قال في الذيل: في إسناده زياد بن ميمون كذّاب. ومنها حديث: (أن الله أوحى إلى الحفظة أن لا تكتبوا على صوام عبيدي بعد العصر سيئة) . رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا. قال الدارقطني: إبراهيم بن عبد الله المروزي ليس بثقة حدّث عن قوم ثقات بأحاديث باطلة هذا منها. ونقول: هو إباحة للمعاصي في ذلك الوقت قاتل الله واضعه ما أشد إغواءه وإضلاله. ومنها حديث: (إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام وإذا سلم رمضان سلمت السنة) , رواه الدارقطني والبيهقي عن عائشة مرفوعًا , وفي إسناده عبد العزيز بن أبان وهو كذاب. ووراه أبو نعيم في الحلية بإسناد آخر فيه أحمد بن جمهور وهو متهم بالكذب. ومنها حديث: (من أفطر على تمرة من حلال زيد في صلاته أربعمائة صلاة) , رواه تمام في فوائده عن أنس مرفوعًا , وفي إسناده موسى الطويل كان يضع الحديث. ومنها حديث: (من تأمل خلق امرأة حتى يبين له حجم عظمها وراء ثيابها وهو صائم فقد أفطر) . رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا وهو موضوع فيه كذابان. ومنها حديث: (خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء الكذب والنميمة والغيبة والنظر بشهوة واليمين الكاذبة) . قال في اللآلي: موضوع , سعيد - يعني ابن عنبسة - كذاب والثلاثة فوقه مجروحون. أقول: وله طرق أخرى فيها وضاعون أيضًا إلا طريق داود بن رشيد فهو متقارب ليس فيه من رمي بالكذب لكن فيه محمد بن حجاج ضعيف , وأورده الإمام الغزالي في الإحياء بناء على أنه ضعيف يعمل به في التنفير عن الرذائل التي لم يشرع الصوم إلا لاتقائها. ومنها حديث: (من أفطر يومًا من رمضان فليهد بدنة , فإن لم يجد فليطعم ثلاثين صاعًا من تمر للمساكين) , رواه الدارقطني عن جابر مرفوعًا وفي إسناده مقاتل بن سليمان كذاب , والحارث بن عبيدة الكلاعي ضعيف. ومنها حديث: (من أفطر يومًا من رمضان من غير رخصة ولا عذر كان عليه أن يصوم ثلاثين يومًا , ومن أفطر يومين كان عليه ستون يومًا ومن أفطر ثلاثًا كان عليه تسعون يومًا) . رواه الدارقطني عن أنس مرفوعًا وقال: لا يثبت , عمر بن أيوب المفضل لا يحتج به , ومحمد بن صبيح ليس بشيء. ومنها حديث: (من فطر صائمًا على طعام وشراب من حلال صلت عليه الملائكة) رواه ابن عدي عن سليمان مرفوعًا. قال ابن حبان: لا أصل له , وفي إسناد ابن عدي متروكان , وفي إسناد ابن حبان متروك. *** بدع رمضان ومنكراته الصوم عبادة خفية بين العبد وربه كان من شأنها أن توجد ولا تعرف , ولكن يحتف بها أعمال وشئون صارت بها من أظهر الشعائر الدينية جملة وتفصيلاً. وما أجمل المسلمين وأكملهم إذا جلسوا على موائدهم قبيل المغرب وأشهى الطعام والشراب الحلال بين أيديهم وهم في أشد الحاجة إليهما ولا يمكن لأمير ولا لسلطان ولا لعالم ولا لجاهل أن يمدَّ يده فيتناول شيئًا حتى تأتي تلك اللحظة التي يتساوون فيها في التناول كما كانوا متساوين في الإمساك. لكن أكثرهم أمسوا لا يعرفون من هذه العبادة إلا حفظ شعيرة العبادة الظاهرة من غير التفات إلى سرها وحكمتها وهو ملاحظة مراقبة الله - تعالى - وتحصيل ملكة ترك المنكرات والشهوات التي حرّمها عليهم , ولو لاحظوا هذا المعنى لأدركوه , ولو أدركوه لما رأيتهم يغادرون المائدة إلى اللهو واللعب فمنهم من لا يصلي المغرب , والصلاة أفضل من الصوم بالإجماع, ومنهم من يذهب إلى الحانات والبِيَر والمراقص. وهكذا شأن الدين في ضعفه وتلاشيه يجهل الناس أولاً أسراره الروحانية وحكمه المعنوية حتى لا تبقى لهم إلا الصورة الحسية. ولذلك نسر بما بقي من شعائر الدين الظاهرة عسى أن ينفخ في شبحها روح الحياة مرة أخرى بتوفيق من بقي عنده سر الدين من علمائه للإرشاد الصحيح. وإذا نفخت هذه الروح وحلت الحياة الحقيقية في هذا التمثال يصير خلقًا حيًّا تصدر عنه أعمال الأحياء. (الوعظ) هو أفضل الشعائر التي يمتاز بها رمضان في الأكثر ولكنه وُسِّدَ إلى قوم لا شك أن الجهل المطلق خير من تعليمهم وإرشادهم. سمعت أمثل من رأيت منهم يتكلم على العامة في الوحدانية فيقول: إن الوحدانية التي هي أصل الدين وأساسه هي عبارة عن الاعتقاد بنفي خمسة كموم على مذهب الجمهور وستة كموم على مذهب آخر , وهي الكم المتصل والكم المنفصل في كل من الذات والصفات والأفعال.. . ثم إنه استدل على الوحدانية بدليل واحد وهو أنه لو وجد إلهان لاحتاج كل إلى الاستعانة بالآخر وذلك يوجب الدور أو التسلسل وكل منهما محال. كذا قال , ونعوذ بالله من الجهل والإضلال , ومنهم من يعلم الناس أدعية تكفر بها جميع المعاصي وتنال بها الدرجات العلى ويبيعهم ذلك في قراطيس ثمن الواحد (قرش تعريفة) , ومنهم من يعلمهم الزهد في الدنيا وهو جاهل أنه لم يبق لهم ما يزهد

كتب المغازي وأحاديث القصاصين

الكاتب: محمد عبده

_ كتب المغازي وأحاديث القصاصين [1] لفضيلة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية سألني سائل عن الرأي في ما يوجد بأيدي الناس من كتب الغزوات الإسلامية وأخبار الفتوح الأولى , وعما حشيت به تلك الكتب من أقوال وأعمال تنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى كبار أصحابه رضي الله عنهم , وهل يصح الاعتماد على شيء منها , ثم خص في السؤال كتاب الشيخ الواقدي الموضوع في فتوح الشام وذكر لي أن بعضًا من معربدة هذه الأيام المعتدين على مقام التصنيف قد جعلوا هذا الكتاب عمدة نقلهم ومثابة يرجعون إليها في روايتهم؛ ليتخذوا منه حجة على ما يروّجونه من تشويه سيرة المسلمين الأولين وليسلكوا منه سبيلاً إلى إذاعة المثالب ونشر المعايب. وأن بعضًا آخر من ضعفة العقول من المسلمين ظنوا هذا الكتاب من أنفس ما ذخر الأولون للآخرين وأنه جدير أن يحرز في خزائن الكتب السياسية وحقيق أن ينقل من اللغة العربية إلى غيرها من اللغات فأجبت السائل بجواب أحببت لو ينشر على ظن أن تكون فيه ذكرى لمن يتذكر. لم يرزأ الإسلام بأعظم مما ابتدعه المنتسبون إليه. وما أحدثه الغلاة من المفتريات عليه. فذلك مما جلب الفساد على عقول المسلمين. وأساء ظنون غيرهم فيما بني عليه الدين. وقد فشت للكذب فاشية على الدين المحمدي في قرونه الأولى حتى عرف ذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم , بل عهد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته حتى خطب في الناس قائلاً: (أيها الناس قد كثرت عليَّ الكذابة ألا من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) أو كما قال. إلا أن عموم البلوَى بالأكاذيب حق على الناس بلاؤه في دولة الأمويين , فكثر الناقلون وقل الصادقون , وامتنع كثير من أجلة الصحابة عن الحديث إلا لمن يثقون بحفظه خوفًا من التحريف فيما يؤخذ عنهم , حتى سئل عبد الله بن عباس رضي الله عنه لِمَ لا تحدث؟ فقال: لكثرة المحدثين , وروى عنه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أنه قال: (ما رأيت أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث) , ثم اتسع شر الافتراء وتفاقم خطب الاختلاق وامتد بامتداد الزمان إلى أن نهض أئمة الدين من المحدثين والعلماء العاملين ووضعوا للحديث أصولاً , وشرطوا في صحة الرواية شروطًا , وبينوا درجات الرواة وأوصافهم ومن يوثق به ومن لا يوثق به منهم , وصار ذلك فنًّا من أهم الفنون سموه فن الإسناد وأتبعوه بفن آخر سموه فن مصطلح الحديث فامتاز بذلك الصحيح من الفاسد , وامتاز الحق من الباطل وعرفت الكتب الموثوق بها من غيرها , وثبت علم ذلك عند كل ذي إلمام بالديانة الإسلامية. وقد روي عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه كان قد كتب كتابه الموطأ حاويًا أربعة عشر ألف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما سمع حديث (قد كثرت عليَّ الكذابة فطابقوا بين كلامي والقرآن فإن وافقه وإلا فاطرحوه) عاد إلى تحرير كتابه فلم يثبت له من الأربعة عشر ألفًا أكثر من ألف. ومن راجع مقدمة الإمام مسلم علم ما لحقه من التعب والعناء في تصنيف صحيحه , واطلع على ما أدخله الدخلاء في الدين وليس منه في شيء. لم يخف على أهل النظر في التاريخ أن الدين الإسلامي غشى أبصار العالم بلامع القوَّة. وعلا رءوس الأمم بسلطان السطوة. وفاض في الناس فيضان السيول المنحدرة. ولاحت لهم فيه رغبات. وتمثلت لهم منه مرهبات. وقامت لأولي الألباب عليه آيات بينات. فكان الداخلون في الدين على هذه الأقسام قوم اعتقدوا به إذعانًا لحجته واستضاءة بنوره وأولئك الصادقون وقوم من ملل مختلفة انتحلوا لقبه واتسموا بسمته إما لرغبة في مغانمه أو لرهبة من سطوات أهله أو لتعزز بالانتساب إليه فتدثروا بدثاره لكنهم لم يستشعروا بشعاره. لبسوا الإسلام على ظواهر أحوالهم إلا أنه لم يمس أعشار قلوبهم , فهم كانوا على أديانهم في بواطنهم ويضارعون المسلمين في ظواهرهم وقد قال الله في قوم من أشباههم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14) . فمن هؤلاء من كان يبالغ في الرياء حتى يظن الناس أنه من الأتقياء فإذا أحس من قوم ثقة بقوله أخذ يروي لهم أحاديث دينه القديم مسندًا لها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو بعض أصحابه ولهذا ترى جميع الإسرائيليات وما حوته شروح التوراة قد نقل إلى الكتب الإسلامية على أنه أحاديث نبوية إلا أن أئمة الدين عرفوا ذلك فنصوا على عدم صحتها ونهوا عن النظر فيها. ومنهم من تعمد وضع الأحاديث التي لو رسخت معانيها في العقول أفسدت الأخلاق وحملت على التهاون بالأعمال الشرعية وفترت الهمم عن الانتصار للحق كالأحاديث الدالة على انقضاء عمر الإسلام (والعياذ بالله) أو المطمعة في عفو الله مع الانحراف عن شرعه أو الحاملة على التسليم للقدر بترك العمل فيما يصلح الدين والدنيا , وكل ذلك يضعه الواضعون قصدًا لإفساد المسلمين وتحويلهم عن أصول دينهم ليختل نظمهم ويضعف حولهم. ومن الكاذبين قوم ظنوا أن التزيد في الأخبار والإكثار من القول يرفع من شأن الدين فهذروا بما شاءوا يبتغون بذلك الأجر والثواب ولن ينالهم إلا الوزر والعقاب وهم الذين قال فيهم ابن عباس: ما رأيت أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث ويريد بأهل الخير أولئك الذين يطيلون سبالهم , ويوسعون سربالهم ويطأطئون رءوسهم ويخفتون من أصواتهم ويغدون ويروحون إلى المساجد بأشباحهم وهم أبعد الناس عنها بأرواحهم. يحركون بالذكر شفاههم ويلحقون بها في الحركة سبحهم ولكنهم - كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -: منقادون لحملة الحق لا بصيرة لهم في إحنائه ينقدح الشك في قلوبهم لأول عارض من شبهه جعلوا الدين من أقفال البصيرة ومغاليق العقل , فهم أغرار مرحومون يسيئون ويحسبون أنهم يحسنون. فهؤلاء قد يخيل لهم الظل عدلاً والغدر فضلاً فيرون أن نسبة ما يظنون إلى أصحاب النبي مما يزيد في فضلهم ويعلي من النفوس منزلتهم , فيصح فيهم ما قيل: (عدوّ عاقل خير من محب جاهل) ومن هؤلاء وضاع كتب المغازي والفتوح وما شاكلها. أما الشيخ الواقدي فكان من علماء الدولة العباسية ولاه المأمون القضاء في عسكر المهدي وكان تولَّى القضاء في شرقي بغداد. قال ابن خلكان: وضعفوه في الحديث وتكلموا فيه اهـ , أي: عدوه ضعيف الرواية ليس من أهل الثقة ولهذا نص الإمام الرملي من علماء الشافعية على أنه لا يؤخذ بروايته في المغازي فإن كان هذا الكتاب المطبوع الموجود في أيدي الناس من تصنيفه فهذه منزلته من الضعف عند علماء المسلمين على أني لو حكمت بأنه مكذوب عليه مخترع النسبة إليه لم أكن مخطئًا. وذلك لأن الواقدي كان من أهل المائة الثانية بعد الهجرة , وكان من العلم بحيث يعرفه مثل المأمون بن هارون الرشيد , ويواصله ويكاتبه , وصاحب هذه المنزلة في تلك القرون إذا نطق في العربية فإنما ينطق بلغتها , وقد كانت اللغة لتلك الأجيال على المعهود فيها من متانة التأليف وجزالة اللفظ وبداوة التعبير , والناظر في كتاب الواقدي ينكشف له بأول النظر أن عبارته من صناعات المتأخرين في أساليبها وما ينقل فيها من كلام الصحابة مثل خالد بن الوليد , وأبي عبيدة وغيرهم رضي الله عنهم لا ينطبق على مذاهبهم في النطق , بل كلما دقق المطالع في أحناء قوله يجد أسلوبه من أساليب القصاصين في الديار المصرية من أبناء المائة الثامنة والتاسعة , ولا يرى عليه لهجة المدنيين ولا العراقيين , والرجل كان مدنيَّ المنبت عراقيَّ المقام , ولولا خوف التطويل لأتيت بكثير من عباراته وبينت وجه المخالفة بينها وبين مناهج أبناء القرون الأولى في التعبير على أن ذلك لا يحتاج إلى البيان عند العارفين بأطوار اللغة العربية. فهذا الكتاب لا تصح الثقة به , إما لأنه مكذوب النسبة على الواقدي وهو الأظهر , وإما لضعف الواقدي نفسه في رواية المغازي كما صرَّح به العلماء فلا تقوم به حجة للمتحذلقين , ولا يصلح ذخرًا للسياسيين , ومثل هذا الكتاب كتب كثيرة كقصص الأنبياء المنسوب لأبي منصور الثعالبي , وكثير من الكتب المتعلقة بأحوال الآخرة أو بدء العالم أو بعض حقائق المخلوقات المنسوبة إلى الشيخ السيوطي وقصص روايات تنسب إلى كعب الأحبار أو الأصمعي ومن شاكلهما ممن عرفوا بالرواية , فأولع الناس بالنسبة إليهم من غير تفريق بين صحيح وباطل , فجميع ذلك مما لا اعتداد به عند العلماء ولا ثقة بما يندرج فيه , والعمدة في النقل التاريخي كتب الحديث كصحيح البخاري ومسلم وغيرهما من الصحاح ويتلوها كتب المحققين من المؤرخين كابن الأثير , والمسعودي , وابن خلدون وأبي الفداء وأمثالهم , وعلى أي حال فلا يستغني مُطالِع التاريخ عن قوة حاكمة يميز بها بين ما ينطبق على الواقع وما ينبو عنه. هذا ما أردنا اليوم إجماله فإن دعا إلى التفصيل داع عدنا إليه والله الموفق للصواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ع

أأحسن الشعر أصدقه أم أكذبه؟

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أأحسن الشعر أكذبه أم أصدقه نموذج آخر من أسرار البلاغة قال عبد القاهر بعد كلام: وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة أن يجعلوا اجتماع الشيئين في وصف علة الحكم يريدونه وإن لم يكن في المعقول ومقتضيات العقول , ولا يؤخذ الشاعر بأن يصحح كون ما جعله أصلاً وعلة كما ادعاه فيما يبرم أو ينقض من قضية , وأن يأتي على ما صيره قاعدة وأساسًا بينة عقلية , بل تسليم مقدمته التي اعتمدها بينة كتسليمنا أن عائب الشيب لم ينكر منه إلا لونه , وتناسينا سائر المعاني التي لها كُرِهَ ومن أجلها عِيبَ. وكذلك قول البحتري: كلفتمونا حدود منطقكم ... في الشعر يكفي عن صدقه كذبه أراد: كلفتمونا أن نجري مقاييس الشعر على حدود المنطق، ونأخذ نفوسنا فيه بالقول المحقق، حتى لا ندعي إلا ما يقوم عليه من العقل برهان يقطع به، ويلجئ إلى موجبه، ولا شك أنه إلى هذا النحو قصد، وإياه عمد، إذ يبعد أن يريد بالكذب إعطاء الممدوح حظًّا من الفضل والسؤدد ليس له، ويبلغه بالصفة حظًّا من التعظيم يجاوز به من الإكثار محله؛ لأن هذا الكذب لا يبين بالحجج المنطقية، والقوانين العقلية، وإنما يكذب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور واختباره فيما وصف به، والكشف عن قدره وخسته، ورقته أو ضعته، ومعرفة محله ومرتبته، وكذلك قول من قال: (خير الشعر أكذبه) فهذا مراده لأن الشعر لا يكتسب من حيث هو شعر فضلاً ونقصًا وانحطاطًا وارتفاعًا بل يَنْحَل الوضيع من الرفعة ما هو منه عار، أو يصف الشريف بنقص وعارٍ، فكم جواد بخله الشعر , وبخيل سخَّاه , وشجاع وسمه بالجبن , وجبان ساوَى به الليث , وذي ضعة أوطأه قمة العيُّوق [1] , وغبي قضَى له بالفهم، وطائش ادعى له طبيعة الحكم، ثم لم يعتبر ذلك في الشعر نفسه حيث تنتقد دنانيره وتنشر ديابيجه، ويفتق مسكه فيضوع أريجه. وأما من قال في معارضة هذا القول: (خير الشعر أصدقه) كما قال: وإن أحسن بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دل على حكمة يقبلها العقل، وأدب يجب به الفضل، وموعظة تروّض جماح الهوى، وتبعث على التقوى، وتبين موضع القبح والحسن في الانفعال، وتفصل بين المحمود والمذموم من الخصال، وقد ينحى بها نحو الصدق في مدح الرجال، كما قيل: كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه. والأول أولى لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعي الشعر. فمن قال: خيره أصدقه كان ترك الإغراق والمبالغة والتجوز إلى التحقيق والتصحيح، واعتماد ما يجري من العقل على أصل صحيح أحبَّ إليه، وآثر عنده إذ كان ثمره أحلى، وأثره أبقى، وفائدته أظهر، وحاصله أكثر، ومن قال: أكذبه؛ ذهب إلى أن الصنعة إنما يمد باعها، وينشر شعاعها، ويتّسع ميدانها، وتتفرع أفنانها، حيث يعتمد الاتساع والتخييل، ويدّعى الحقيقة فيما أصله التقريب والتمثيل، وحيث يقصد التلطف والتأويل، ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذم والوصف والبث والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض , وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد، ويبدي في اختراع الصور ويعيد، ويصادف مضطربًا كيف شاء واسعًا، ومددًا من المعاني متتابعًا ويكون كالمغترف من غدير لا ينقطع والمستخرج من معدن لا ينتهي. وأما القبيل الأول فهو فيه كالمقصور المدانى قيده، والذي لا تتسع كيف شاء يده وأيده، ثم هو في الأكثر يورد على السامعين معاني معروفة وصورًا مشهورة، ويتصرف في أصول هي وإن كانت شريفة فإنها كالجواهر تُحفظ أعدادها، ولا يُرجى ازديادها، وكالأعيان الجامدة التي لا تنمى ولا تزيد، ولا تربح ولا تفيد، وكالحسناء العقيم، والشجرة الرائعة لا تمتع بجنًى كريم. هذا ونحوه يمكن أن يتعلق به في نصرة التخييل وتفضيله , والعقل بعد على تفضيل القبيل الأول وتقديمه، وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقل ناصره، والتحقيق شاهده، فهو العزيز جانبه، المنيع مناكبه، وقد قيل: الباطل مخصوم وإن قضي له , والحق مُفْلِجٌ وإن قضي عليه [2] هذا ومن سلم أن المعاني المعرقة في الصدق، المستخرجة من معدن الحق، في حكم الجامد الذي لا ينمى، والمحصور الذي لا يزيد، وإن أردت أن تعرف بطلان هذه الدعوى فانظر إلى قول أبي فراس: وكنا كالسهام إذا أصابت ... مراميها فراميها أصابا ألست تراه عقليًّا عريقًا في نسبه، معترفا بقوة سببه , وهو على ذلك من فوائد أبي فراس التي هو أبو عذرها، والسابق إلى إثارة سرها [3] . واعلم أن الاستعارة لا تدخل في قبيل التخييل؛ لأن المستعير لا يقصد إلى إثبات معنى اللفظة المستعارة , وإنما يعمد إلى إثبات شبه هناك فلا يكون مخبره على خلاف خبره. وكيف يعرض الشك في أن لا مدخل للاستعارة في هذا الفن وهي كثيرة في التنزيل على ما لا يخفى كقوله عز وجل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} (مريم: 4) ثم لا شبهة في أن ليس المعنى على إثبات الاشتعال ظاهرًا , وإنما المراد إثبات شبهه. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن مرآة المؤمن) ليس على إثبات المرآة من حيث الجسم الصقيل، لكن من حيث الشبه المعقول، وهو كونها سببًا للعلم بما لولاها لم يعلم لأن ذلك أعلم طريقه الرؤية , ولا سبيل إلى أن يرى الإنسان وجهه إلا بالمرآة وما جرى مجراها من الأجسام الصقيلة , فقد جمع بين المؤمن والمرآة في صفة معقولة وهي أن المؤمن ينصح أخاه ويريه الحسن من القبيح كما تُرِي المرآة الناظر فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخلافه. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم وخضراء الدمن) معلوم أن ليس القصد إثبات معنى ظاهر اللفظين , ولكن الشبه الحاصل من مجموعها وذلك حسن الظاهر مع خبث الأصل. وإذا كان هذا كذلك بان منه أيضًا أن لك مع لزوم الصدق والثبوت على محض الحق الميدان الفسيح والمجال الواسع , وأن ليس الأمر على ما ظنه ناصر الإغراق والتخييل الخارج على أن يكون الخبر على خلاف المخبر من أنه إنما يتسع المقال ويفتن وتكثر موارد الصنعة ويغزر ينبوعها، وتكثر أغصانها وتتشعب فروعها، إذا بسط من عنان الدعوى فادعى ما لا يصح دعواه، وأثبت ما ينفيه العقل ويأباه. وجملة الحديث الذي أريده بالتخييل ههنا ما يثبت فيه الشاعر فيه أمرًا هو غير ثابت أصلاً , ويدعي دعوى لا طريق إلى تحصيلها , ويقول قولاً يخدع فيه نفسه ويريها ما لا ترى. أما الاستعارة فإن سبيلها سبيل الكلام المحذوف في أنك إذا رجعت إلى أصله وجدت قائله وهو يثبت أمرًا عقليًّا صحيحًا , ويدعي دعوى لها شبح في العقل. وستمر بك ضروب من التخييل هي أظهر أمرًا في البعد عن الحقيقة تكشف وجهًا في أنه خداع للعقل وضرب من التزويق فتزداد استبانة الغرض بهذا الفصل , وأزيدك حينئذ إن شاء الله كلامًا في الفرق بين ما يدخل في حيز قولهم: خير الشعر أكذبه. وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في اتساع وتجوز فاعرفه. وكيف دار الأمر فإنهم لم يقولوا: خير الشعر أكذبه وهم يريدون كلامًا غفلاً ساذجًا يكذب فيه صاحبه ويفرط , نحو أن يصف الحارس بأوصاف الخليفة ويقول للبائس المسكين: إنك أمير العراقين، ولكن ما فيه صنعة يتعمل لها وتدقيق في المعاني يحتاج معه إلى فطنة للصواب. وأعود إلى ما كنت فيه من الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي اهـ النموذج المراد.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر بقية المكتوب (25) من هيلانة إلى أراسم من السهل كثيرًا على الأطفال أن يدركوا معنى الملك في حق أنفسهم , ولكن من الصعب جدًّا إقناعهم بأن للغير ملكًا يجب احترامه. يشهد لذلك ما سأقصه عليك وهو أن مما يزرع في إنكلترا الراوند , وهو نبات بهي المنظر شديد النمو يعرف في مزارعه بعرض أوراقه وعلو سوقه يدخله أهل هذه البلاد لندرة الفواكه عندهم في عمل أقراص ومربيات يغالون بها كثيرًا سواء أخطأوا في هذه المغالاة أو أصابوا , فترى أطفال القرى بسبب بقاء أذواقهم على حالها الفطرية كلفون بأكل هذا النبات حتى إنهم لا يحتاجون في تعاطيه إلى تسويته بالنار ولا إلى إدخاله في الأقراص , بل إنهم يأكلون سوقه الغضة فجة ويجدون لها طعمًا مزًّا. من أجل هذا حصل أن تلامذتي (لأني أعتبرهم كذلك) بينما كانوا يتنزهون وحدهم في ضواحي بنزانس لمحو حقلاً من حقوله فحركهم إليه كما حرك حمار الأسطورة [1] دعوة الفرصة لهم إلى اغتنامها , وعضوضة النبات وطراءته, وبعض نزغات الشيطان فلم يكن إلا أن تخطوا ما يحيط بالحقل من الحواجز الواهية , ثم انقضوا بقوتهم على بعض أشجار منه رأوها أطرى من غيرها فأكلوا منها كفايتهم , ولكن لم يلبث وجدانهم بعد هذا أن أخذ يناجيهم فيما ارتكبوا فقال (أميل) وقد بدا خجله: أتحسبان أننا قد أحسنا فيما فعلنا؟ فاضطر رفيقاه إلى الاعتراف بأنهم جميعًا قد أساءوا. ثم استأنفوا الكلام فقال وليم قول القدريّ الرزين: لقد كان ما كان فلم يبق في قدرتنا إصلاحه. فأجابته بلَّى وهي لكونها أكبر منهما سنًّا أعرف بطرق المعاملات منهما: (بلى إن لنا سبيلاً للخروج عن تبعة هذا الخطأ لأنه يصح لنا في كل حال أن ندفع ثمن ما أتلفناه) فكان لما قالته لرفيقَيْها لمعة ابتهاج أشرق بها ضميرهما لأنهما عوّلا على إصلاح التلف وبذلك يئوبون إلى بيتهم هادئي البال. ولكنهم لم يلبثوا أن وقعوا في حيرة عظيمة لأنه لم يكن مع وليم وبلَّى من النقود فلس واحد. وأما (أميل) فإنه كان غنيًّا بوجود بنى (عشر سنتيمات) في جيب صُدْرَته , ولم يتردد في إخراجه ليدفعه ثمنًا لما أكلوه , ولما لم يروا في الحقل أحدًا يقوم مقام مالكه في قبض الثمن أدتهم سذاجتهم إلى أن وضعوا قطعة النقد على ورقة عريضة من أوراق الراوند وانصرفوا. علمت بتفصيل هذه الواقعة من بدايتها إلى نهايتها من الجناة أنفسهم لأني لما كنت لا أعاجلهم بالعقاب على ما يقترفونه كانوا يحسبونني كأحد معلمي الاعتراف؛ فيقرون لي بما يقترفونه من الذنوب طيبة به أنفسهم , ولما خفت أن يكون ما تركه الأطفال من الثمن غير كاف في تعويض ما أتلفوه تراضيت مع المالك على قيمته ودفعتها له على أنها لم تكن كثيرة , وبذلك حسمت هذه المسألة بنفقات قليلة , وإنني كنت أبذل كل ما يطلب مني في مقابلة ما أشرق في بصائر أولئك النهابين الصغار من بريق العدل في الوقت المناسب له. ولو كان (أميل) هو الذي صدرت منه فكرة رد قيمة ما سلب لكان سروري بذلك أعظم كما لا أخفي عنك وفرحي به أكبر , ولكنه له فضل بذل ما كان معه على قلته. كيف يكون تفهيم الأطفال أن كل ما ينبت على وجه الأرض ليس مباحًا لجميع الناس؟ أرى أن من أحسن مدارس الأخلاق للصغار الذين هم في سن (أميل) المدرسة الخلوية فإنه قد تعلم فيها من نظره إلى ما ينهمك فيه أهل القرى من الأشغال الشاقة أكثر مما يتعلمه بجميع البراهين الممكنة؛ لأنه يرى في كل يوم أن القمح لا ينبت إلا إذا بذرت الناس حبوبه , وأن أجود أرض لا تصلح للزراعة إلا إذا قلبت وحرثت. ثم إن الحيوانات أيضا تعلمه اختصاص كل منها بما يملك. أذكر من ذلك مثلاً فأقول: إنه يوجد في ضواحي بنزانس على شاطئ جدول يجري بعض أميال ثم ينصب في البحر لفيف من الأشجار يحوم على واحدة منها في غالب الأوقات طائر يقل وجوده في هذه الناحية وهو المسمى عند الإنجليز بملك جوارح الطير وعند الفرنساويين بالخطاف الصياد (لعله الذي يسمى بالعربية الزُّمَّج) . اسْتَلْفَت هذا الطائر الجميل أنظار أولادنا في أول الأمر ببهاء لونه ولكني نبهتهم إلى أن شهرته بالمهارة في كسب قوته ليست بأقل من شهرته بجمال سرباله ذلك لأن هذا المسكين يكد في كسبه وينصب فإنه يجثم ساعات كاملة في مكانه أي وراء غصن من الأغصان يحجبه عن الأعين - ولا يعترض بصره حيث يراقب كما تعلم بعينيه اليقظاوين اللتين لا يفوتهما فائت مرور السمك في الماء , فإذا سنحت له واحدة منها؛ انقض عليها انقضاض السهم واصطادها , ثم ارتفع بها معلقة في منقاره القويّ إلى محله , وبعد أن يمزقها كل مُمَزق ويلتقمها يعود إلى ما كان فيه من الترقب الشاق لعلمه أن الحظوظ نادرة , وأن شهوة الطعام حاكمة عليه. وقد شهد الأطفال ذات يوم قتالاً عجيبًا وقع بينه وبين جارح آخر أراد أن يختلس ثمرة صيده , فلم يلبث (أميل) أن فهم أن هذا الطائر الثاني هو السارق لأنه أراد أن يسلب خصمه ما كسبه بجده وسعيه. من العواطف التي أريد أيضًا أن أغرسها في نفس ولدنا احترام ما يصيب الناس من العاهات , وقد رأيت أن إلقاء المواعظ عليه في ذلك مما يضيع به الزمن عبثًا , ولاحظت أيضًا أن كثيرًا من الآباء والأمهات يخطئون بتمثيلهم عيوب الخلقة وضروب التشوه الفطري لأولادهم في صورة عقوبات إلهية. ومن الأمثال على ذلك أن فتاة تسكن المنزل الذي أنا فيه شبت على هذه الأوهام الشنيعة فكانت تعتقد اعتقادًا راسخًا في عجوز من جيراننا شوهاء قوساء أن الشيطان يسكن حدبتها. فالذي أريد إقناع (أميل) به هو عكس ذلك بالمرة فإني أريد أن أفهمه من غير إفراط في تنبيه عاطفة الشفقة فيه أن من سلبهم الله من عباده محاسن الخلقة قد عوضهم منها مواهب لم تقسم لغيرهم , وقد علمت بأنه يوجد على مقربة من قرية مرازيون غلام أكمه يعيش من ثمرة كد والديه اللذين هما من صلحاء الفلاحين , فرأيت فيه فرصة حسنة لتجربة الفكر الذي تصورته , وطلبت من تلامذتي الثلاثة أن يقبلوه رفيقًا لهم فرضوا بذلك لأنه متى كان المقصود للأطفال التسلي والانشراح لا يعتبر عددهم كثيرًا بالغًا ما بلغ , وقد يكون لرضائهم بصحبته سبب آخر , وهو أن الإنسان لا يكره مطلقًا أن يكون له رفيق يظهر علو درجته عليه لعلة فيه , ككونه محرومًا من بصر يضيء له سبيله , وإن كان ذلك الرفيق في الحقيقة أشد منه قوة وأكبر سنًّا , فإننا كثيرًا ما نشوب حُنُوَّنا بشيء من الكبر والصلف , والأطفال مثلنا في ذلك وإن لم يكونوا عالمين به. على أنه لا حاجة بي إلى استقصاء أسباب أعمالهم. يتسلى عرمة الأطفال هنا في فصل الربيع باصطياد طائر من الطيور الخاصة بكرنواي وهو الغراب الأعصم [2] ولكون هذا الطائر نفورًا في حالته الفطرية تراه لا يسكن غالبًا إلا الأماكن المهجورة , ولعلمه بشدة رغبة الناس فيه لندرته يدعوه إدراكه إلى أن يتخذ وكنه في وسط ما لا يكاد ينال من الصخور [3] , ولكن الصغار البحاثين المنقبين لا يفلت شيء من أيديهم , فبعضهم مدفوع في بحثه بما فيه من حب الاستطلاع , وبعضهم يحركه إلى ذلك طمعه في الربح لأن هذا الغراب غالي القيمة , ثم إن أكثر وجوده في ضواحي بنزانس بالشعاف الوعرة المنتشرة حول خليج الجبل حيث يعتصم في صخور الصوان المتصدعة المنقلبة بسبب ما انتابها في غابر الأزمان من الرجفات والزلازل , ويوجد بالقرب من هذا المكان المنعزل الوعر قرية للصيادين تدعى (موس هول) ومعناه جحر الفأر، وإنما سميت كذلك لتعلقها على الساحل كأنها جحر فأر في حائط. أنا لا أستحسن بحال صيد هذا الطائر لأسباب مختلفة ولكنني ربما توهمت أن في التعجيل بإظهار مذهبي في ذلك لتلامذتي خروجًا عن مقتضى السياسة والحزم؛ لأنهم يرون لهم أُسًى في أطفال القرية تحركهم إلى هذا الفعل , ومن أجل ذلك لم أمنعهم من الذهاب للصيد فانطلقوا في بكرة ذات يوم يصحبهم الأكمه , ويتبعهم قوبيدون مسافة بعيدة من البيت , وكان أصعب ما عليهم في ذلك الوقت تمييز طريقهم الذي صعدوا الجبل منه , فلما رآهم قوبيدون في هذه الحيرة اشتدت رغبته في أن يظهر لهم ويسكن روعهم ولم يمنعه من ذلك إلا إخلاصه في اتباع ما أرشدته إليه فانتظر حتى يرى كيف يتخلص هؤلاء التائهون من ورطتهم. أتدري أنه لما جن عليهم الليل انعكس الأمر فيهم كل الانعكاس , فأمسى الأكمه بصيرًا لأنه بما حفظت ذاكرته ودقة لمسه (التي هي من خواص العمي) من مواقع الطريق قد ميز الشعاب التي مر بها في الصباح كل التميز فبات قائدًا بعد أن كان مقودًا , فلما رآه الأطفال على هذه الحالة يسترشد في الطريق بأطراف أصابعه كأن له فيها أعينًا كادوا يعتبرونه في ذلك الوقت أرقى منهم , فهم في ذلك كالمتوحش يسهل انتقالهم من شعور متجاوز حده إلى شعور آخر ليس أقل منه خروجًا عن الحد. ألا يدلنا هذا على أن عبادة بعض الشعوب القديمة لذوي العاهات من الناس مبنية على مثل هذا السبب. على أن ميل (أميل) ورفيقيه إلى الإتيان بمثل ما أتى به ذلك الأكمه قد بعث فيهم روح الاستطلاع , فالموهبة التي أوتيها الأعمى قد يصح لغيره من البصراء أن يكتسبها بالتمرن لأنك ترى الأطفال قد دلهم حدسهم الفطريّ على بعض طرق من شأنها أنها تنمي فيهم قوة السمع ودقة اللمس أكثر من غيرها فمن ذا الذي اخترع اللعبة المسماة بالمَسَّة [4] لا إخال إلا أن مخترعها هو حاوي [5] أو غيره من أعضاء المجتمع العلمي (أكديميًا) فإن هذه اللعبة التي يسميها الإنكليز هنا جلدة الأعمى ليست إلا تعاميًا تتعرف به الطرق التي للأعمى في معرفة ما حوله. أنشأ (أميل) ورفيقاه يمارسون فيما بينهم كثيرًا من الألعاب وطرق التدريب التي تقتضي الالتفات وأعينهم مغطاة , ومع كون الفضل كله للإبصار بالعينين كانت أثرتهم التي هيجها فيهم ما رأوه من فعل الأكمه توحي إليهم بأن النظر الدقيق هو النظر باللمس , وإني لفي شك من أنهم ينالون من هذه الجهة بكسبهم ما للأعمى من النظر الطبيعي ولو قضوا في مزاولة ذلك طول حياتهم , غير أنه من فائدتهم أن يتعلموا في اللعب ما بين المشاعر من التعاون , وقيام أحدها محل الأخرى , وإني لا أنسى ما كنت تقوله لي كثيرًا من أنه لا يعرف طرق السمع والبصر حق المعرفة إلا من تعاوره الخرس والعمى. يجب عليَّ الآن أن أعود إلى ما كنت بصدده من حكاية اصطياد الغراب الأعصم فأقول: لم يعثر الأطفال على وكن واحد في الصخور , وذلك لأن (أميل) ووليم لا يزالان من الضعف بحيث إنهما لا يستطيعان الوصول إلى الشعاف الوعرة التي يلجأ إليها ذلك الطائر , وأما بلى فلكونها بنت رجل يدين بمذهب المرتجفين [6] ترى أن استلاب أفراخ الطير من أمها من فعل الشر. هذا المذهب الديني كما لا يخفى عليك يورث أصحابه ميلاً عظيمًا للإحسان إلى الحيوانات, ولكون قوبيدون أقل تحرجًا منها في هذا الأمر , وأحرص دائمًا على فعل ما يرضي (أميل) كان أمهر منهم أو أسعد حظًّا في بحثه؛ لأنه بتلك الخفة في التسلق التي تمثل إنسان الآجام في شخصه كان قد اصطاد من بين القنن الصوانية والأدغال زوجًا من هذا الطائر صغيرًا نبت ريشه , لكن أجنحته لما تطل ليستطيع الطيران , فلما رأى الأطفال الزنجيّ دهشوا دهشة عظيمة لأنهم ما كان يخطر لهم على بال أنه بهذا القرب منهم يتدخل في كل مكان , وهو كالليل في السكون , فابتهجوا برؤيته وزادتهم فرحًا رؤية الفرخين اللذين كانا شبيهين بكرتين من الزغب ركب فيهما منقاران أحمران حتي إن بلَّى نفسها أ

وعظ رمضان والمسجد الحسيني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وعظ رمضان والمسجد الحسيني اقترحنا في الجزء الذي صدر في غرة رمضان على الأستاذين الكبيرين شيخ الأزهر وشيخ الجامع الحسيني منع الوعاظ الجهلاء من التصدي لتعليم الناس فلم يلتفتا إلى الاقتراح , وكان المسجد كعادته كما أومأنا إلى ذلك في الجزء الماضي. ومن الناس من يظن أن الأستاذ السيد الشيخ علي الببلاوي ترضيه التعاليم الخرافية لأن العوام إذا تنبهوا وعرفوا الحق يمتنعون عن تقديم النذور والهدايا لصندوق المقام الحسيني الذي هو أمينه وللشيوخ والخدم فيه الذين يتقاسمون ذلك معه ولكننا نقول: إننا ذاكرناه في عام مضى بوجوب تطهير هذا المكان الشريف المعظم من البدع والخرافات التي أقبحها تعظيم عمود الرخام تعظيمًا دينيًّا , فوعدنا بذلك وأثنينا عليه لهذا الوعد في منار السنة الماضية , وراجعناه الكلام في ذلك , ولكنه اعتذر عن المبادرة إلى العمل بقوله: إذا قيل لهؤلاء العوام: إن تعظيم الأحجار والطواف بالقبور ونحو ذلك ليس من الدين يخشى أن يختل اعتقادهم بأصل الدين لأن هذا عندهم من أهم مهماته فلا بد من التدريج. وقد قبلنا في أول الأمر هذا الاعتذار ثم أردنا أن نختبر ذلك بنفسنا ونتبينه بالتجربة فتصدى الفقير في العام الماضي وفي هذا العام للوعظ والتعليم في المسجد الحسيني وغيره فرأيت عامة المصريين أكثر الناس قبولاً للإرشاد الصحيح, وأشدهم استعدادًا لقبول الحق. ولقد كان إقبال الناس على مجلسي عظيمًا حتى كانوا ينصرفون عن سائر الوعاظ إلي , وما ألقيت إليهم مسألة إلا وتقبلوها بقبول حسن , ولكن هذا الدرس ساء الذين يمس التعليم الصحيح شيئًا من رزقهم الذي ينالهم بإذاعة الخرافات وبيع (الغفرانات) فحملوا بعض ذويهم على أن يشيعوا بين الناس الذين لم يسمعوا درسي أنني أنكرت الأولياء وكراماتهم وأنكرت الشفاعة , وقلت: إن سيدنا الحسين رضي الله تعالى عنه كالصنم {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} (الكهف: 5) , وغير ذلك من الإشاعات التي أسمع في كل يوم من الناس منها ما لم يخطر على بالي في يوم من أيام حياتي. وكان حظهم من النجاح في هذا الإفساد أن الثناء العام على درسي وقول الناس: (يا ليت لنا مثله كذا وكذا عددًا.. ..) وأمثال ذلك قد صار مشوبًا بالإنكار , وأنه لا بد أن يتغلب القول القبيح وإن كان باطلاً على الحسن وإن كان حقًّا. وفاتهم أن خرافاتهم كانت مقبولة عند البسطاء نائمة في قلوب السذج فاستيقظت بحركتهم هذه , وكل من يتكلم بالإنكار لا بد أن يجد ممن عرف الحق من يرشده إليه ولو بعد حين , وبذلك تتلاشى بدعهم وخرافاتهم , وينسد عليهم باب الأكل بالدين كالذين قال الله تعالى فيهم: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (التوبة: 9) . أما هذا الفقير فلا يسرُّه من كلام المادحين إلا أن الحق مقبول. ولا يسيئه من تقول القادحين إلا أن الحق عندهم مخذول. ولا يبالي فيما وراء ذلك بمدح ولا ذم؛ لأنه لا يطلب على الأول من أربابه أجرًا. ولا يخاف من الآخرين ضرًّا. ولست أبالي من رماني بريبة ... إذا كنت عند الله غير مريب ولو كنت أرجو من الناس شيئًا لاتبعت أهواءهم وأشرفت عليهم من مواقع رغباتهم بتسهيل سبل الشهوات واللذات. وتلقين ألفاظ لا تضرّ معها الفواحش والمنكرات. وترويج هذا البهتان باسم الدين. كما يفعل سائر الدجالين. ولو كنت أخافهم لما فاجأتهم في أكبر مجتمعاتهم وأجمع مساجدهم بإنكار ما شاع فيهم من المنكرات. وتزييف ما ألصقوه بالدين من البدع والخرافات كالاعتقاد بأن عمود الرخام في المسجد الحسيني يضر وينفع وأنه يتبرك به , وكذلك باب المتولي عند جامع المؤيد والشجرة التي أمام جامع السلطان الحنفي وغير ذلك من أضاليل. إن معلمي الفتنة سهلوا على الجهلاء تعظيم هذه الجمادات تعظيمًا دينيًّا (وذلك عين العبادة) بأكاذيب نسبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم زورًا وبهتانًا كقولهم: (لو اعتقد أحدكم على حجر لنفعه) وقد هالهم أنني صرحت بأنه لم يقل أحد من العلماء إن هذا حديث على أن معناه فاسد لأن ظاهره أن الأحجار تضر وتنفع بسلطة غيبية. وأسرار وراء الأسباب الطبيعية , وأن هذا النفع يلتمس منها , وهذه هي حجة عباد الأصنام. بل إن من هؤلاء من حكى الله تعالى عنهم بأنهم كانوا يجعلونها قربة ووسيلة تشفع لهم عند الله تعالى كالذين عبدوا الأنبياء والملائكة بهذه الشبهة. قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) الآية. وهذا التقرير هو الذي حولوه وزعموا أنني قلت: إن سيدنا الحسين صنم أو كالصنم حاشا لله كذب المذاعون وضلوا ضلالاً بعيدًا. بعد كتابة ما تقدم سمعت من بعض الناس أن مما أذاعه المرجفون زعمهم أني قلت: (إن قبر سيدنا الحسين كقبر النصراني - وفي رواية - كقبر بطرس) فدلني هذا على أن قول بعض علماء الأخلاق والاجتماع في المصريين: (إن كذبهم محصور في التحريف والزيادة والنقص وليسوا بارعين في الاختلاق) قول لا يخلو من حسن الظن أو أنهم ارتقوا في هذه الأيام إلى ما لم يعهده بهم من قبل. ولا أراه إلا سيرجع عن ذلك القول فيهم كما رجع عن قول آخر لاختلاف حالهم عن الوقت الذي قاله فيه. ذلك أنه كان قال: (إن مصر ستبقى للمصريين لأنهم لا يفتئون يتناسلون , وإن تحكم فيهم الاستبداد. واستحوذ عليهم الذل والاضطهاد. وبلادهم الزراعية لا تنتج إلا بعملهم , ولا مندوحة لمن يمتلكها عن استعمالهم فيها لأنهم يرضون من الأجر القليل ما لا يرضاه غيرهم فالبلاد لا تستغني عنهم , والذي يحكمهم من غير جنسهم إما أن يضطر إلى تركهم وشأنهم , وإما يتجنس بجنسيتهم ويكون منهم) ثم بعد أن فشا السكر والزنا في كل بلدة من بلادهم وكل قرية من قراهم وأقبل وجهاؤهم على التفرنج القبيح رجع عن قوله وقال: إن هذه السموم الكحولية التي يشربونها من غير عقل مع فشو الداء الزهري بانتشار الفاحشة لا بد أن تكون من أقوى عوامل تقليل النسل وضعف المواليد كما هو الشأن في فرنسا التي يراعي أهلها في هاتين الآفتين (السكر والزنا) قواعد الطب في الجملة ولا يعرف المصريون شيئًا من ذلك. ثم إن التفرنج علمهم الترف والتنعم حتى إنك لترى في القرى الصغيرة والمزارع من الإسراف نحو ما تراه في المدن العظيمة ونتيجة هذا كله أنهم إذا لم يتداركوا هذه الآفات قبل تعميمها فلا يبعد أن ينقرضوا كما انقرض هنود أميركا وإن بقيت فإنها تدغم في الأمة المتغلبة عليهم وتتجنس بجنسيتهم اهـ. هذا قول عالم حكيم ولكن هذه الأمة منيت برؤساء من الطامعين الجاهلين الذين ينالون المال والجاه بجهل الأمة , ولذلك ينفرونها من كل مرشد ناصح يحملها على العمل النافع الصالح. وهي تسمع لهم لأنهم يحملونها على ما تألف من الجهالات. وتحسين الخرافات. وإنني أقول لمن لا يفهم البرهان، ويقدم قول الدجالين على السنة والقرآن: إذا أردت أن تعرف أنني ناصح لك ومحق في نهيك عن التمسح والتبرك بأعمدة الرخام وبالأبواب والأقفاص وبالآبار والأشجار والتماس الخير من ذلك فانظر إلى أكابر العلماء كشيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية والأستاذين الشيخ عبد الرحمن الشربيني والشيخ محمد بخيت والشيخ محمد أبي خطوة وأضرابهم أو من هم دونهم في العلم كشيخ الجامع الحسيني نفسه هل تجد واحدا منهم فعل ذلك؟ أليس لك عقل يدلك على أن هذا لو كان من الدين أوكان فيه نفع في الدنيا أو الآخرة لسبقوك إليه لأنه سهل لا كلفة فيه عليهم. فإن زرت القبور فزرها كما يزورون؛ يكن لك عذر لأن للعلم بالدين والعمل به مرتبتين: العلم بالدليل والبرهان , وتقليد العلماء الموثوق بهم لمن يعجز عن فهم دينه بالدليل. وكل ما أنكرناه فإنما يقلد فيه جهلاء العامة بعضهم بعضًا. فحسبنا الله ونعم الوكيل. *** مسجد عمرو هذا المسجد أقدم مساجد القاهرة تأسس في إثر الفتح , وهو الآن في طرف العاصمة الذي يسمونه مصر العتيقة , ولا تقام فيه الصلاة إلا آخر جمعة من رمضان لأن أمير مصر يصلي هناك. ولم نحضر هذه الصلاة إلا في هذا العام , والعوام يرون أن الصلاة فيه يومئذ موسم من مواسم الملة كالعيدين لا سيما وهم يرون أن سمو الخديو المعظم يحضره بصفة رسمية فتطلق المدافع عند إشراف موكبه الحافل على الجامع , وعند خروجه منه وتصدح الموسيقى الخديوية بأنغامها الشجية. ولذلك يؤمونه من جميع أنحاء العاصمة , فيحضر بعضهم الصلاة ويبقى خلق كثير خارج المسجد من رجال ونساء ما بين أهلين وأجانب. والذين كانوا داخل الجامع يناهزون المائة ألف. ومن البدع فيه أنهم يستحضرون الأشجار الصغيرة والرياحين فيضعونها أمام المصلين لا سيما في جانب المحراب والمنبر. ومنها ازدحامهم بعد الصلاة على عمود من الرخام بقرب المحراب يضربه بعضهم بالنعال والأيدي ويتبرك به آخرون. أما سبب الضرب فهو زعمهم أن جميع الأعمدة التي هناك جاءت من الحجاز تسعى بنفسها وعمرو بن العاص يسوقها وأن هذا العامود كان قد عصى وامتنع لولا أنه أرغم على المجيء. وكأن الخديو السابق خاف أن يسقط العمود لشدة ما يضرب فجُعِلَ عليه حاجز من الحديد بأمره وأما التبرك فلأنهم يزعمون أن فيه أثر يد النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك. والصواب أن تلك الأعمدة هي من أنقاض مدينة (منف) الشهيرة وقد رمم مرارًا. ومنها أن في الجانب الأيسر محرابًا صغيرًا يقولون: إنه المحراب الأصلي يدخله الناس فيمسحون استاههم فيه لأجل التبرك , وهذا أقبح ما رأينا من ضروب التبرك , ومنها أنهم جعلوا فيه قبرًا كسائر مساجد مصر يزدحم الرجال بالنساء للتبرك به , ومنها بدعة يقال إن مجاوري الأزهر هم الذين سنوها وهي كتابة الناس أسماءهم على الأعمدة معتقدين أن صاحب المسجد يحصيها ويدخل أصحابها الجنة كما سمعناه مشافهة.

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورات بين المصلح والمقلد المحاورة الرابعة أسرار الحروف والزايرجة والجفر. اقرأ تفرح جرب تحزن. هل أسرار الحروف محصورة في المسلمين وحروفهم. دفع الله الناس بعضهم ببعض. اختلاف الخطوط العربية وفي أيها السر. مبتدع هذه الأمور طائفة الباطنية. رسالة كشف الحقائق في أصول عقائد الدروز المبنية على أشكال الحروف وأعدادها. غرائب وعجائب في ذلك. الباطنية والصوفية. تجربة منفعة الحروف. أسباب النفع. الولع بالغرائب. الوهم. تأثير النفس. فائدة التاريخ. رجع الشيخ والشاب إلى الحوار. ومبادلة الأفكار. وأراد الشاب أن يتكلما في مسألة مرض المسلمين الاجتماعي وعلاجه , ويشرح للشيخ رأيه في الاجتهاد والتقليد وكون الإسلام طريقة واحدة لا ينبغي الاختلاف والتفرق فيه على ما تقدم له الإلماع إليه. فلما علم الشيخ منه ذلك استأناه قائلاً (المقلد) : فاتني أن أذكر لك في محاوراتنا السابقة أسرار الحروف وفعلها في شفاء المرضى وقضاء الحاجات , وهي مبنية على التجربة الصحيحة الواقعية فلا يسعك إنكارها لأنك تقول دائمًا: إن العلم الصحيح هو ما يشهد له الوجود وتؤيده التجربة الصحيحة. وكذلك الجفر والزايرجة أخبر العارفون بهما بأمور فكانت كما قالوا , ولقد سكتُّ عنهما من قبل لأنني لم أكن أعلم أن لهما طرقًا علمية مضبوطة فخشيت أن تقول فيهما ما قلت في حساب الجمل , وبعد المفارقة رجعت إلى شيخين جليلين عالمين بالزايرجة وأسرار الحروف والأوفاق وقد استغنيا من هذه المعرفة أحدهما مغربي والآخر مصري , وسألتهما عن ذلك فأخبراني أن لهذه العلوم أصولاً صحيحة مضبوطة لاستخراج المجهولات ومعرفة المغيبات لا كحساب الجمل الذي ليس له قاعدة مضبوطة إلا المعروفة في التأريخ به كما ذكرت. (المصلح) : إن كثيرًا من الناس قد اغتروا بمثل هذا الكلام , وصدقوا بأن ما يقال في الأفواه والكتب من أن هذه الأوفاق والحروف مجربة صحيح فجربوا بأنفسهم ما كتبه الديربي وغيره فكانت نتيجة تكرار التجربة أن وضعوا لها هذه القاعدة التي سارت مثلاً وهي (اقرأ تفرح جرب تحزن) وأنا أعتبر التجربة مؤيدة للعلم إذا كانت مطردة لا تتخلف إلا لسبب معلوم ولو في الجملة ولا بد أن يكون العلم بها متيسرًا لكل أحد وإننا نراها هنا على قدم العهد بها محصورة في نفر قليل من الدجالين الذين يحتالون على أكل أموال الناس بالباطل. ولو كان لها طريق علمي صحيح لارتقت بارتقاء العلوم وتقدمت بتقدمه , ولكننا نراها تتدلى كلما ارتقى العلم الصحيح وتتأخر حيث تتقدم المعارف الحقيقية حتى تلاشت من أكثر بلاد أوروبا وأميركا الشمالية وهي من فروع علم السحر والطلسمات. (المقلد) : مه فإن هذه العلوم والأسرار محصورة في الحروف العربية ومخصوصة بالمسلمين ولذلك لا تصح إلا على أيدي الصالحين , فإذا لم توجد في أوربا وأنكرها أهلها فلا يصح لمثلك إنكارها. وأما الذين جربوها فلم تصح معهم فسببه أنهم لم يقوموا بشرطها وهو إما الرياضة المخصوصة التي يعرفها أهلها , وإما الإذن من شيخ أعطاه الله تعالى هذا السر , وهذا الكلام ينطبق على شرطك في وجوب اطراد التجربة وعدم تخلفها إلا بسبب وهذا هو السبب. وهل يسعك إنكار التواتر في صحة هذه التجارب في جميع البلاد الإسلامية؟ لا أتذكر أن هذا الأمر ذكر في مجلس إلا وسمعت الشهادات من الكثيرين بوقوع شيء منه لهم إما شفاء مرض , وإما قضاء حاجة , وإما دفع عاهة {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) . (المصلح) : أرى أنه لم يبق لكم من الاجتهاد إلا وضع آيات القرآن في غير مواضعها فإن قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ} (البقرة: 251) الآية نزلت في سياق حرب داود عليه السلام لجالوت وانتصاره عليه كما نزل قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} (الحج: 40) في الإذن للمسلمين بالجهاد والمدافعة عن أنفسهم لمن يحاربونهم لأنهم مسلمون. ولا يجيء هنا اعتبار عموم اللفظ دون خصوص السبب؛ لأن مسألة أسرار الحروف ليست مما نحن بصدده في شيء. وإذا كان لها وجه إليه صحيح فهو دفع مثلي لهذه الاعتقادات الخرافية التي تفسد عقول الأمة وأخلاقها وأعمالها. ولنعد إلى الموضوع. أما قولك إن هذه الأسرار مخصوصة بالحروف العربية فهو يقتضي أن السر محصور في هذه الأشكال المعروفة للحروف , وهي مختلفة الآن فخطوط أهل المشرق من عرب وترك وفرس مغايرة لخطوط أهل المغرب , ولا يشبه شيء من خطوط أهل هذه القرون خطوط القرون الأولى زمن الصحابة والتابعين كالخط الكوفي بأشكاله. ومن يعلم مثار هذه البدع في الملة لا يعجب من دعوى أن لأشكال الحروف أسرارًا , ولو كنت مطلعًا على التاريخ لكفيتني مؤنة التطويل بهذه البديهيات عند العارفين. هذه البدعة من فتن طائفة الباطنية التي هي أشد الطوائف عبثًا في الإسلام وإفسادًا له حتى إن بلاءها لا يزال ينمو ويتجدد إلى الآن , وآخر فرقهم البابية والبهائية. وقد راجت بدعتهم هذه كأكثر بدعهم في سوق التصوف للتشابه بل والاشتباه بين غلاة المتصوفة وبين الباطنية , وهذا هو منتزع قولك إن هذه الأسرار لا تظهر إلا على أيدي الصالحين أو من أذنوا له بها. أصاب المسلمين رشاش من تلك البدع فأفسد فيهم ما أفسد , وأما الباطنية أنفسهم فليست الحروف وأشكالها وأعدادها وتناسبها وتخالفها وطبائعها معدودة من أسرار الدين وقواعده الأساسية. وقد مزجوا الكلام عليها بعلم الحساب والنجوم كما فعل حسن الصباح رئيس الإسماعيلية وغيره. أنا لم أكتف بما رأيت في كتب التاريخ العربية من أخبار طوائف الباطنية بل وقفت أيضًا على كثير مما اكتشفه مؤرخو أوروبا وزدت على هذا أن وقفت على بعض الكتب الخطية لطائفة الدروز والنصيرية. وهذه الكتب من بنات الحقاق ومخبآت الصناديق لا يجوز عندهم طبعها ولا اطلاع أحد غير رؤساء الدين عليها. (المقلد) : أرجو أن تطلعني على شيء من هذه الكتب السرية. (المصلح) : لا أسمح بإعارة هذه الكتب لأحد , ولكنني أقرأ لك منها جملة أو جملتين؛ لتزداد يقينًا. ثم فتح درجًا من منضدته وأخرج منه رسالة وقال: هذه الرسالة الموسومة بكشف الحقائق. وهي في أصول مذهب الدروز وقلب منها أوراقًا وقرأ ما يأتي: (وقد ذكرنا لكم في السيرة المستقيمة بأن آدم الصفاء هو العقل , وكان اسمه شطنيل , واسم إبليس حارَت وإنما ذكرناهما في وقت ظهور الصورة البشرية وهو تمام سبعين دورًا , وكذلك قلنا حارت أربعة أحرف (ح) ثمانية (أ) واحد (رت) ستمائة ساقط يبقى من جملة الاسم تسعة. والتسعة إذا كتبتها كانت أربعة أحرف (ت س ع هـ) والاسمان حارت وإبليس إذا حسبتهما يبقى منهما أربعة أحرف؛ لأن بقية اسم حارت تسعة وبقية اسم إبليس سبعة تسقط اثنا عشر يبقى أربعة أحرف سوى , فقد حسبنا اسمه بالطول والعرض ومزدوجًا وفردًا فوجدناه أربعة أحرف , ووجدنا التاء التي في آخر الاسم حارت أول حروف التسعة دليل على ناموس الناطق وزخرفه في كل عصر وزمان وأن أول النطقاء هو آخرهم , وإنما يتصور في الأقمصة بالتكرار كما أن الولي قائم في كل عصر وزمان. فبهذا السبب أهل الشرائع يرون محبة الأعداء كافة ولا يرون محبة رجل موحد ولا يكون في الحجة أوضح من هذا ولا أبين منه. ثم رجعنا إلى العقل فوجدناه ثلاثة أحرف , والنفس ثلاثة أحرف لكنهما يفترقان في حساب الجمل الكبير. وكذلك جهال الشيعة ينظرون إلى العقل والنفس بعين الدعوة لا غير وهما يتفاضلان في المنزلة لأن العقل هو الذكر والنفس بمنزلة الأنثى , والذكر هو المفيد , والأنثى هو المستفيد والعقل إذا حسبناه في حساب الجمل الكبير وجدناه مائتين , والنفس مائة وثلاثين فوجدنا اسم العقل زائدًا عن اسم النفس سبعين درجة وهم حدود الإمامة والتوحيد. وأنا أعدهم لكم بمشيئة مولانا سبحانه حتى لا تشركوا به أحدًا من خلقه. فأولهم (النفس) واثني عشر حجة له في الجزائر وسبعة دعاة للأقاليم السبعة كما قال: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} (المدثر: 30) , و (الكلمة) واثني عشر حجة وسبعة دعاة للأقاليم السبعة لأن للكلمة نظير النفس. و (السابق) واثني عشر حجة لا غير , و (التالي) واثني عشر حجة لا غير لأن له مثل ما للسابق. و (الداعي) المطلق وله مأذون ومكاسران فصاروا الجميع سبعين حدًّا منهم تفرعت جميع الحدود العلوية والسفلية , وهم كلهم من قبل العقل , وهو الإمام المؤيد من قبل مولانا سبحانه وتعالى يسقط منهم من يريد , ويرفع درجة من يريد بتأييد مولانا العلي الأعلى سبحانه وإرادته كما قال في القرآن: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (يس: 82- 83) . فهؤلاء الحدود السبعون الذين ذكرناهم هم أذرع السلسلة الذي قال في القرآن {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (الحاقة: 30) أي ضد الإمام إذا بلغ غايته وتمت نظرته خذوه بالحجج العقلية وغلوه بالعهد وهو الذبح الذي قالوا بأن القائم يذبح إبليس الأبالسة {ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ} (الحاقة: 31) أي غوامض علوم قائم الزمان الذي تتحجم العلماء والفهماء عند علمه أي يصمتوا ويتحيروا {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} (الحاقة: 32) أي ميثاق قائم الزمان الذي هو سلسلة بعضها في بعض وهم سبعون رجلاً في دعوة التوحيد {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ} (الحاقة: 33) أي الضد الروحاني ما كان يقر بإمامة شطنيل وفضيلته) إلخ. (المقلد) : قد ضاق صدري من هذا الكفر الذي لا أساس له إلا هذه الشبه الحسابية , وإني أرى لفظه فاسدًا كمعناه , ولا أدري لِمَ لمْ تصلح عبارته. ثم إن ما قرأته ليس فيه شيء يدل على اعتبار أشكال الحروف وصورها. (المصلح) : إنني كتبت هذه الرسالة كما وقعت إلي من بعض الجنود العثمانية الذين حاربوا دروز حوران في الفتنة الأخيرة ولم أصلح شيئًا في عبارتها ولا في إملائها؛ لأنني سمعت أن هذا الغلط عندهم علامة على الصحة , وعدم وقوع الكتاب في يد أجنبي. وأما اعتبارهم أشكال الحروف مع أعدادها فاسمع ما أقرؤه عليك فيه. ثم قلب أوراقًا وقرأ ما نصه: والألف والباء والتاء والثاء يتشابهون بعضهم ببعض (كذا) غير أن الألف يكتب بالطول والباء والتاء والثاء تكتب بالعرض فالألف دليل على العقل وهو الإمام, والألف قائم بلا نقطة فوقه ولا علامة تحته , والباء دليل على النفس وهي الحجة , وتحته نقطة واحدة لأن بينه وبين العقل حدًّا واحدًا وهو الضد الروحاني فصارت نقطة الباء من تحت حيث عصى الضد أمر باريه , ونافق على إمامه وهاديه , ولو كان الضد طائعًا لكانت نقطة الباء من فوق , فلما سبق الضد صار حزبه أكثر من حزب النفس , والتاء دليل على الكلمة , وفوقها نقطتان دليل على الحدين اللذين فوقه , والثاء دليل على الجناح الأيمن وهو السابق رابع الحدود الذين فوقه في المرتبة وكُتبتُهم (هكذا ضبط في الأصل) بالعرض دليل على طاعتهم للإمام الذي هو العقل وقبولهم منه) وذكر في الرسالة ههنا كلامًا ثم قال: (ثم نرجع إلى الحروف ومعانيها على الترتيب فالجيم والحاء والخاء في الصورة شيء واحد لكن بينهم فرق كثير في الحقيقة؛ لأ

أمالي دينية الدرس ـ 17 ـ كلام الله تعالى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أماليّ دينية (الدرس 17 في العقائد) كلام الله تعالى م (50) كل قضايا الدين تعرف من الوحي إلاَّ الإيمان بالواجب الذي يسند إليه كل موجود من الممكنات , ويكون هذا الواجب ليس من جنس الممكنات , ولا يشابهها في صفاتها , وبأن ما يصدر عن قدرته الكاملة منها يصدر بإرادة واختيار عن علم وحكمة. ثم إن الوحي الذي به علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كيف يرشدون الناس سماه الله تعالى كلامًا وأضافه إليه بمثل قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: 6) . والعقل يشهد أن رجلاً بلغ أربعين سنة لم يصدر عنه فيها شيء يؤثر من علوم الاجتماع والشرائع والأخلاق والسياسة المدنية والحربية وغير ذلك لا يمكن في العادة أن تصدر عنه هذه المعارف والعلوم بعد ذلك فضلاً عن القيام بها تعليمًا وعملاً على وجه يكون له أعظم أثر في العالم , بل المعهود في البشر أن الذين يتعلمون الفنون السياسية والاجتماعية في المدارس لا يحسنون سياسة البشر عملاً إذا لم يتمرنوا عليها بالتدريج , ولذلك يرشحون الذين يتصدون لسياسة الأمم بالتعليم أولاً , ثم بتطبيق العلم على العمل بالوظائف الصغيرة كمأمور ومدير , ثم بما فوقها حتى ينتهون إلى الوزارة والإمارة. ونتيجة هذا أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من التعاليم ليس من عند نفسه , وإنما هو مفاض عليه وموحى إليه من العليم الحكيم, فهو كلام الله تعالى لا كلامه؛ لأنه لم يعهد منه مثله لا في أسلوبه وبلاغته. ولا في مغزاه وحكمته. وقد أشير إلى هذا المعنى بقوله تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) وقوله عزّ وجل: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: 16) . م (51) هذا ما يجب اعتقاده على كل مؤمن , وهو الحق الأبلج الواضح المنهج. وهو ما كان عليه أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم حتى حدثت البدع والفتن التي كان من أضرها الكلام في القرآن ومعنى كونه كلام الله تعالى , والبحث في أنه مخلوق أو غير مخلوق. فتنة افْتَحَوَهَا المعتزلة [1] وابتلي بها أئمة العلم وتلاعبت أهواء بعض الخلفاء من بني العباس ثم محيت طائفة المعتزلة من لوح الوجود , ولم تمح أقاويلهم من ألواح الكتب فكل من كتب في العقائد يذكرها للرد عليها وتطرف قوم في الرد حتى قالوا بقدم المحسوسات. من الحروف والأصوات. توسعوا في هذه المباحث وأطالوا القول فيها حتى قيل: إن هذا العلم إنما سمي (علم الكلام) لأن أهم مسائله كلام الله تعالى. سلك المعتزلة في جدلهم مسلك الفلسفة في حقائق الأصوات والحروف ومفهوماتها , فقابلهم المتكلمون بفلسفة كفلسفتهم , وقرروا مسألة الكلام على النحو الذي انتحوه في صفة العلم والسمع والبصر , فقالوا: إن الكلام في اللغة يطلق على قوة في النفس عنها يصدر الكلام اللفظي , واختلفوا في أي الكلامين - النفسي واللفظي - هو الحقيقة وأيهما المجاز. واستدلوا على الكلام النفسي بمثل قول الناس: (حدثتني نفسي بكيت وكيت , وقلت في نفسي كيت وكيت) ومنه قول سيدنا عمر رضي الله عنه: (زوَّرت في نفسي كلامًا) وقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقالوا بناءً على قاعدتهم في قياس الغائب على الشاهد والقديم على الحادث التي سبق تقريرها في الكلام على العلم الإلهي: إن لله كلامًا نفسيًّا هو صفة قديمة قائمة بذاته تعالى تتعلق بكل ما علمه تعالى تعلق دلالة وانكشاف , وكلامًا لفظيًّا كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن , وأن هذا يسمى كلامًا لله بمعنى أنه يدل على الكلام النفسي أو على بعض ما يدل عليه الكلام النفسي , وأنه ليس لغير الله فيه صنع إلى آخر ما أطالوا به مما لم يكلفنا الله تعالى به. وقد ناقش فيه بعضهم أن بيت الأخطل لا يصح الاحتجاج به في موضوع ديني لأنه كان نصرانيًّا ويدخل في نظمه المعاني والأفكار التي أخذها من تعاليم دينه , وقول آخرين إن البيت ليس له وإن الرواية الصحيحة فيه: إن البيان لفي الفؤاد , وكبحث بعضهم في حديث النفس وتسميته كلامًا بأن تزوير الكلام في النفس (تهيئته وتدبيره) هو عبارة عن تصوره وإذا عبر الإنسان عن تصور شيء يسميه باسمه لأن ما في النفس هو صورة ما في الخارج , فالحديث النفسي هو صورة الحديث اللفظي المسموع بالآذان عندما يؤديه اللسان. وسواء صح هذا القول أو صح مقابله فلا ريب أن القرآن كلام الله تعالى , وقد مر في المسألة السابقة دليله , ومن البدعة - لا من السنة - أن نزيد على ذلك بقياساتنا وفلسفتنا , وقد أراحنا الله من فتن الغالين من المعتزلة وغيرهم فلا نعيد شبههم وأوهامهم , وحسبنا ما كان عليه الصحابة وأكابر التابعين والمجتهدين. رضي الله عنهم أجمعين. م (52) أقوال الأئمة في الكلام نقل عن الأئمة الأربعة المجتهدين وأهل الحديث من السلف الصالحين. رضوان الله عليهم أجمعين القول بتحريم الخوض في (الكلام) . قال يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي رحمه الله تعالى يقول يومًا وقد ناظر حفصًا الفرد - وكان من متكلمي المعتزلة-: لأن يلقى الله تعالى العبد بكل خطيئة ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من الكلام , ولقد سمعت من حفص كلامًا ما أقدر أن أحكيه. وحكى حسين الكرابيسي أن الشافعي سئل عن شيء من الكلام فغضب وقال سل عنه هذا - يعني حفصًا الفرد - وأصحابه أخزاهم الله. وقال محمد بن عبد الله بن الحكم: سمعت الشافعي يقول: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد. وقال ابن كثير: كان محمد بن اسماعيل الكرابيسي يقول: قال الشافعي: كل متكلم على الكتاب والسنة فهو الجد وما سواه فهو الهذيان. وأخرج ابن عبد البر في كتاب العلم عن يونس بن عبد الأعلى أنه قال: سمعت الشافعي يقول: إذا سمعتم الرجل يقول الاسم غير المسمى , أو الاسم المسمى فاشهدوا عليه أنه من أهل الكلام ولا دين له. وقال أبو علي الحسن الزعفراني: قال الشافعي: حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام وفي رواية: حكمى في أهل الكلام كحكم عمر في صبيغ (تقدمت قصته في مجلد السنة الأولى من المنار) . وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى فيما أخرجه اللالكائي في السنة عن مصعب: الكلام في الدين كله أكرهه , ولم يزل أهل بلدنا - يعني المدينة المنورة - ينهون عن الكلام في الدين , ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل , وأما الكلام في الله فالسكوت عنه. وأخرج أيضًا من رواية الحسن بن عليّ الحلواني قال: سمعت إسحق بن عيسى يقول: قال مالك بن أنس: أكلما جاءنا رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدله. وأخرج أيضًا من رواية محمد بن حاتم بن بزيع قال: سمعت ابن الطباع يقول: جاء رجل إلى مالك بن أنس فسأله عن مسألة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا , فقال: أرأيت لو كان كذا؟ قال مالك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) . وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: لا يفلح صاحب الكلام أبدًا ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه غل. وصنف الحرث المحاسبي أستاذ الشيخ أبي القاسم الجنيد رحمهما الله تعالى كتابًا في الرد على المبتدعة ذكر فيه شيئًا من الكلام يرد فيه على المعتزلة فهجره الإمام أحمد على زهده وورعه. قال أبو القاسم النصرباذي: بلغني أن الإمام أحمد هجره بهذا السبب , ولما أنكر عليه تلك المقالات وأجابه الحرث بأنه إنما ينصر السنة ويرد البدعة قال أحمد: ويحك ألست تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدع فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث؟ . وقال: علماء الكلام زنادقة. وقال أبو يوسف صاحب الإمام أبي حنيفة رحمهما الله تعالى فيما أخرجه اللالكائي في السنة والذهبي في التاريخ والخطيب في شرف أصحاب الحديث: من طلب المال بالكيمياء أفلس , ومن طلب الدين بالكلام تزندق. وفي رواية بشر بن الوليد زيادة: من تتبع غريب الحديث كذب. وكلام السلف في هذا كثير. والجمع بينه وبين مسلك علماء الخلف الذين أوغلوا في صناعة الكلام والجدل أن هذا يطلب لضرورة إقناع الخصوم وردّ شبه المنكرين , والضرورة تقدر بقدرها وتختلف باختلاف الزمان وأنواع الشبهات , فمن العبث المذموم أن تعاد شبه المعتزلة والفلاسفة الأولين في دروس الكلام وكتبه , وتعد من الفروض اللازمة وتترك شبه الفلاسفة المعاصرين وغيرهم من أعداء الدين تتلاعب بالعقول , فلا يقدر الذين يتعلمون على طريقة الأزهر ردها ولا فهمها بل يكتفون بتكفير من يسأل عنها. وفقهم الله للعلم النافع لتحيا بهم هذه الأمة. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الباب الثاني (الولد) من كتاب (26) من أراسم إلى هيلانة في 30 يوليو سنة - 185 أنا أيتها العزيزة هيلانة أعرف فرط حبك لي وجميل انعطافك نحوي , وأقدرها حق قدرها , ولكني لست معك فيما يخامر قلبك من المخاوف في شأن مستقبل (أميل) , فإني وإن كنت والده لا أرى لي حقًّا بحال من الأحوال في إيجاب أن يكون تلميذًا لي , فمن الذي يصح أن يتبجح بأنه قد وصل إلى الحق المطلق وإن حسنت منه النية في البحث عنه , وأعتقد أنه يذوق المكروه من أجله. نعم إنه ليؤلمني ألمًا شديدًا أن أراه في مستقبل حياته مخالفًا لي في آرائي غير آخذ بمعتقداتي , ولكني أكون أنا المخطىء الملوم في ذلك دونه لأنه قد يكون سببه عدم حذقي في إيصال أفكاري إلى نفسه , أو حكمه على هذه الأفكار بما عسى أن يكون هو الحق فيها أعني أنها أغلاط عقل صادق في بحثه عن الصواب مخلص في تلمّسه طريق الرشد. على أنه لا فائدة في الاشتغال بالمستقبل فإن الذي يعنينا هو الوقت الحاضر. تقولين إن أميل محب للاستطلاع كثير المسألة فأبشرك أن هذه أمارة حسنة على نجابته ولكني أنصح لك أنه إذا سألك عن شيء تجهلين حقيقته فعليك أن تعترفي له بجهلك اعترافًا خالصًا من المواربة , وإن كان ذلك مخالفًا لما عليه معظم الوالدين ومعلمي المدارس الذين هم مصداق ما ورد في الأمثال: (لكل فتق رتق , ولكل مسألة جواب) فكأنهم يتوهمون أنه يكون لهم بهذا نوع من السلطان على عقول تلامذتهم , وأنت بحمد الله في غنى عن التذرع بهذه الذريعة الخطرة لإثبات ولايتك على (أميل) . أقول: إنها خطرة ولا أحول عن وصفها بذلك , فإن في تعويد الطفل على اعتقاد أن لكل شيء معنى محققًا يمكن أن يتناوله من غيره بسهولة إخمادًا لقوة البحث والتفقه ومدعاة للكسل لأنه متى سبق إليه الوهم بأنه يوجد في الناس علم كافل بإزالة جميع الشكوك التي تعترض الذهن في فهم معاني الأشياء لا يجد موجبًا لتكلف البحث والملاحظة , وأما إذا اعترفت (لأميل) بأنك لم تمعني النظر فيما يسألك عنه إمعانًا يكفي لإبداء رأيك فيه فإنك تكونين قد عجلت بتعليمه أن إصابة الحق هي ثمرة عمل الجاد ونتيجة بحثه , وأيّ جواب يساوي هذه الموعظة؟ ثم ليحذر الوالدون والمعلمون أن يكون في ادعائهم لأنفسهم نوعًا من العصمة في العلم استدبار للغاية التي يسعون إليها. ذلك أن الناشئ إذا كَشَفَ له المستقبلُ بغتة ما يقع فيه أولئك المصرفون لعقله من الأغلاط تزعزع اعتقاده فيهم مرة واحدة, وزالت من نفسه الثقة التي أرادوا أن يجعلوها محلاًّ لها , وليس ما أخشى مغبته على (أميل) من أنواع الريب هو الحذر النافع الذي يكون فيمن تعلموا من صغرهم البحث في الأمور وعدم التسليم بها قبل اتضاح وجه الحق فيها , وإنما الذي أخافه عليه هو مرض زوال الاعتقاد. مما ينبغي التصريح به أن الصبغة الاعتقادية التي نراها في طريقة التعليم عندنا ناشئة من جميع مقومات أوضاعنا الاجتماعية , فإنه متى اعتبر أن القائمين على الدين وعلى السياسة قد فكروا في مصلحة الأمة؛ لزم بطريق البداهة أن طائفة من العلوم مقررة تنزل من سماء علاهم فيفرض على عقول الأحداث قبولها بلا نظر ولا مناقشة فأنت تجدين في التعليم الديني أسرارًا يتعاصى على عقل الإنسان اكتناهها , وأعمالاً وعادات ليس في مقدور أحد من الناس تغيير شيء منها, وأحكامًا لا تقبل العرض على محك النظر , بل تفيد قوة الإدراك إلى الأبد فلا تجد سبيلاً إلى الجولان فيها [1] وأما التعليم السياسي فهيهات أن يكون ما يلقيه فيه الأستاذ على تلامذته أقل مما ذكر إلزاما لأن الأستاذ لما كان أجيرًا للحكومة كان بالضرورة صدى يردد أصوات أحكامها فبخ بخ لهذا الكلام الذي لو لم يكن مؤديًا إلى استعباد النفس لما رأيت لي وجهًا في انتقاده , وإنما كان مؤديًا إلى ذلك لأنه بما له من الأثر في إماتة عزيمة الناشىء يحصر فائدة التعليم في مجرد تمرين الذاكرة. فوا رحمتاه لذلك المسكين الذي هو كالبعوضة حملت من تواريخ القرون الماضية وعلومها وأقوال الثقات فيها ما أبهظها فعاقها عن الطيران. على أنه يندر- والحق يقال- أن يصل أرباب هذا الحصر والتضييق النفسي إلى تمام الفوز الذي كانوا يؤملونه من ورائه فإن تأثير الزمان الذي يعيش فيه الطفل أو ما يوجد في طبعه أحيانًا من المقاومة والمعارضة أو ما يتلقاه من آراء أهله الذين يتربى بينهم يخلف في كثير من الأحوال ظنون القائمين على التعليم الرسمي ويأتي بعكس ما كان في حسابهم , ولكن لا بد من الاعتراف بأنه لا ينجو من وحدة هذا القالب الذي تصاغ فيه الأجيال الناشئة على الشكل المطلوب إلا العدد القليل وأما السواد الأعظم فإن مدار تعلمه يكون على التسليم والاعتقاد والوقوف عند حد ما تلقاه عن معلمه الذي يعيد عليه ما أخذه عن أساتذته فالتربية في مثل هذه الأحوال سلاح ذو حدين يتسنى به استعباد العقل كما يتسنى به تحريره ومرجع الحكم في ذلك إلى المصادفة والاتفاق , وإني لن أرضى أن أَكِلَ مستقبل (أميل) إلى قذفات اتفاق ومصادفات الحق والباطل وتعتورها الحرية والاسترقاق , ولو أوتيت في ذلك أنفس شيء في العالم كله. على أني أعوذ بالله أن أجحد ما لآثار السلف من المزايا والفوائد إلا أن في الأخذ بهذه الآثار كما في الأخذ بغيرها من الأمور حدًّا وسطًا يصعب تمييزه , فالطفل الذي لا يتلقى شيئًا من المجتمع الذي يعيش فيه يصير إما متوحشًا وإما أحمق , وأما الرجل الذي يتلقى منه كل شيء بالتسليم مرتكنًا على ثقته به مجتنبًا مشقة النظر فيما تلقاه منه بدعوى أن من سبقوه قد كفوه مؤنة ذلك وكانوا أصح منه نظرًا فإنه لا يكون أبدًا إلا ضعيف العقل معجلاً بوقف نفسه على جميع ضروب الاستعباد. ثم اعلمي أن معظم أغلاطنا ومعتقداتنا الباطلة مبني على آراء يتداولها الناس , ويرون تسليمها واعتبارها حقائق معصومة من تطرق الباطل إليها أسهل عليهم بكثير من استقصائها واستجلاء الصواب فيها بنور العقل. فمثل هذه الآراء تسري على نفوسنا من أول نشأتها وينتهي أمرها إلى أن تكون من الامتزاج بها بحيث يلزم لاستئصالها في المستقبل بذل جهد عظيم في أعمال القوة الحاكمة والاستعانة بشيء من الإقدام، والبسالة. نعم إنه لمن الصعب جدًّا أن لا يعلق بنفس (أميل) شيء من تلك الأفكار الفاسدة ولكن الذي يهمنا أن يكون ما يتصل به منها أقل ما يمكن وأن يجد في مستقبله من حرية نظره وسيلة لتمييزها والخلاص منها. وجملة القول أن طريقتك في تربية (أميل) قد نالت من رضائي واستحساني أكمل حظ ووقعت من قلبي أجلّ موقع , فإن التربية عمل ملاكه بذل النفس وقوامه الحب وإني أعرف من كبار الرجال من دأبهم الاحتراس والانقباض في معاشرة الأخصاء ومخالطة الأصفياء , فأمثال هؤلاء لا ينبغي أن يعهد إليهم بتربية الأحداث لأنه يشترط فيمن يتولونها أن يكون فيهم من انبساط النفس ما يأخذ بقلوب الناشئين إليهم , وأن يكونوا من المحدَّثين فيها المبعوثين عليها ببعض البواعث الفطرية فمربي الطفل ومعلمه الحقيقي المستكمل لهذه الشروط إنما هو أمه. ثم إني مستحسن كذلك ما رأيته من إدامة الدرس والمطالعة ليتيسر لك القيام بهذا الغرض الذي قدر لك , ولكني أعظك بأن تجعلي هذه الحقيقة دائمًا نصب عينيك ألا وهي: ليس أول شرط في التربية أن يكون المربي عالمًا وإنما هو أن ينسى جميع ما تعلمه ليعود إلى تعلمه مرة أخرى مع الطفل اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

المرأة الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المرأة الجديدة كتاب جديد لحضرة العالم الفاضل قاسم بك أمين المستشار في محكمة الاستئناف بمصر جعله تتمة وإيضاحًا لمباحث كتاب (تحرير المرأة) - الذي نشر في العام الماضي , فكان له من التأثير ما لم يعهد لكِتاب سواه - وردًّا على الكُتَّاب الذين انتقدوا ذلك الكتاب، وهو في آياته الباهرة، وأساليبه الساحرة مع الذي تقدمه كالصنوان، وفرسي الرّهان، ولا غرو فهما فائضان عن ذلك الينبوع العذب، وفرعان من دوح ذلك النبع أو العذب (نوعان من الشجر) ولذلك رأينا لهذا من التأثير مثل ما كان لأخيه. فقد اشتغلت الأقلام بمدحه وبالطعن فيه. وكل إناء ينضح بما فيه. فمن المقرظين صاحب العطوفة مصطفى باشا فهمي رئيس النظار , وأصحاب الجرائد اليومية المعتبرة , ومن المنتقدين باعتدال بعض أساتذة المدارس الأميرية , ومن القادحين أصحاب الجرائد الصغيرة غير المنتشرة. وأكثر هؤلاء سخفًا. وأبينهم ضعفًا. من زعم أن تربية النساء على الطريقة الأميركانية التي يمدحها صاحب كتاب (المرأة الجديدة) يضر هذه البلاد ولا ينفعها - لا لاختلاف القطرين , ولا لاحتلاف الدين , ولا لاختلاف المصالح والمنافع - ولكن لاختلاف (الأميال والعوائد) فما هذه الأميال والعوائد التي يقدسها هذا الكاتب , ويفضل البقاء عليها على التربية التي أساسها الاستقلال والاعتماد على النفس؛ ليقتدر المربي على القيام بشئون نفسه وشئون بيته , وكفالة من يكلفه الشرع والطبع بكفالتهم. فإن الأيامَى والخلايا من النساء مكلفات بأنفسهن شرعًا ومكلفات بالكفالة والنفقة لمن لا كافل ولا عائل له من أصولهن وفروعهن بشرطه. الأميال تتبع العادات ولو كانت عاداتنا حسنة وميلنا مصروفًا إلى الخير لكنا من الأمم العزيزة القوية , ولَمَا شكا عقلاؤنا وفضلاؤنا من ضعفنا وتأخرنا وتقدم الأقوياء علينا. وهل جاءنا هذا البلاء والشقاء حتى صرنا وراء الأمم كلها بعد أن كنا في مقدمتها إلا من فساد العادات؟ إذا لم يقل ذلك الكاتب إنه من العادات فلا مندوحة له أن يقول إنه من الدين. كما يقول أعدى أعداء المسلمين. يتألف كتاب (المرأة الجديدة) من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة. أما المقدمة ففي تعريف المرأة الجديدة , وأنها ثمرة العلوم والاكتشافات العصرية والتعريض بالذين ردوا على كتاب تحرير المرأة , والتصريح بأن المؤلف لا يكتب لينال تصفيق الجهلاء , وإنما يكتب (لأهل العلم وعلى الخصوص للناشئة الحديثة) . وأما الفصل الأول ففي (المرأة في حكم التاريخ) وأهم مسائله: (1) حكم الكنيسة في المرأة الهاضم لحقوقها , و (2) تأثير الاستبداد في فساد حال المرأة , و (3) الشواهد الواقعية على نجاحها في أعمال الحكومة مع عدم الإخلال بشؤون البيت , و (4) أدوار حياة المرأة الأربعة , وذلك خلاصة بحثه التاريخي , وهي: الأول: الحرية في العصور الأولى عندما كانت الإنسانية في مهدها , والثاني: الاستعباد الحقيقي عندما تشكلت العائلة , والثالث: الاعتراف لها بشيء من الحق مع خضوعها لاستبداد الرجل عندما قامت الإنسانية على طريق المدنية , والرابع: الحرية التامة عندما بلغت الإنسانية مبلغها من المدنية. ثم ذكر أن المرأة المصرية اليوم في الدور الثالث من حياتها التاريخية. والكتاب ناطق بأنها لا بد أن تبلغ الدور الرابع إذا ارتقى المصريون في المدنية الحاضرة كما هي سنة الترقي الواقعة , وإنما طلب مساعدة هذا الترقي بما يقتضيه حال الأمة ولا معنى للتربية الحقيقية إلا هذا. وأما الفصل الثاني ففي (حرية المرأة) ومهد له فيما قبله بالفرق بيننا وبين الأوروبيين في ذلك , وأهم مسائله: (1) الحرية الإنسانية وخطأ الفلاسفة فيها وحال النساء فيها قديمًا , و (2) تداخل الحكام في المعيشة الخاصة , و (3) مراد المؤلف بحرية النساء , و (4) بحث علمي في المفاضلة بين الرجل والمرأة , و (5) الحجاب والعفة , و (6) المقابلة بين منافع الحجاب ومضاره , و (7) الحرية وأثرها والتدريج الطبيعي فيها. وأما الفصل الثالث ففي (الواجب على المرأة لنفسها) وأهم مباحثه: (1) تقسيم أعمال الإنسان إلى ثلاثة أنواع: ما يحفظ حياته وما يفيد عائلته , وما يفيد الوجود الاجتماعي , وصرح بأنه يطالب المرأة بالأعمال والمعارف التي تتعلق بالأولين لا بالثالث , و (2) الحكم في حقوق النساء ووظائفهن وواجباتهن بالخيالات والنظريات, والحكم بالاختبار والوقائع , و (3) انتقاد عادات العرب في امتهان النساء , وبيان أن سببه كون معيشتهم من الحرب والنهب وأن تلك العادات أثرت في المسلمين , ثم بيان الفرق بين نساء العرب والنساء المصريات في المعيشة ولوازمها المقتضي تغيير الحكم والعمل , و (4) احتياج المرأة لمعرفة وجوه الكسب وارتفاع المكانة والاستدلال على ذلك بالإحصاء الأخير , و (5) النقل عن العالم الأزهري وغيره من الذين ردوا على كتاب (تحرير المرأة) أن المرأة لا تمنع من كشف وجهها للعمل ومباشرة أعمال الرجال والاختلاط بهم إذا لزم ذلك لكسب عيشها. ويبني المؤلف على هذا أن تستعد المرأة لذلك قبل وقوعه , ويقول: إنه يجب أن يكون عامًّا لا مخصوصا بحال الضرورة , و (6) تمنى لو يتعلم النساء حرفة تربية الأولاد وصناعة الطب للاستغناء عن تطبيب الرجال لهن. وأما الفصل الرابع فهو في (الواجب على المرأة لعائلتها) وأهم مسائله: (1) القول باتفاق الناس على أن زمام العائلة بيد المرأة , و (2) تربية الأولاد , وفيه أن من جهل النساء كثرة موت الأطفال قال: (وقد اطلعت على إحصائية مصلحة عموم الصحة التي نشرت في هذا العام، فوجدت أن عدد المتوفين من الأطفال الذين لم يتجاوز عمرهم خمس سنين هو في مدينة القاهرة 145 في الألف , ويقابل ذلك في مدينة لوندره 68 في الألف) , ثم قال: (إن الأمهات الجاهلات يقتلن في كل سنة من الأطفال ما يربو على عدد القتلى في أعظم الحروب , وكثير منهن يجلبن على أولادهن أمراضًا، وعاهات مزمنة تصير بها الحياة حملاً ثقيلاً عليهم طول عمرهم) , و (3) إشراك الأباء مع الأمهات بالجهل بالتربية , و (4) بيان أن غاية التربية الفضلى (أن يحكم المرء نفسه) وهو ما عبرنا عنه آنفًا بالاستقلال , وأن التربية إنما تكون بالاقتداء , وأن قدوة الأطفال في الطور الأول من الحياةِ الأمهاتُ , وهذا الطور هو الذي تنطبع فيه الأخلاق ويتربى الوجدان وهما مبعث جميع الأعمال. فلا بد أن تكون القدوة فيه مثال الكمال. في أصلي الفضيلة والاستقلال , و (5) تعظيم شأن النساء المهذبات والاستشهاد بذكر نوابغ منهن , و (6) البحث في علاج ضعف الأمة الإسلامية , وبيان أن سببه إما الإقليم , وإما الدين , وإما (العائلة) ثم منع الأولين وحصر السبب في الثالث الذي مداره على المرأة. ونحن معه في أن فساد التربية سبب مباشر لضعف الأمة ولكننا نقول: إن من أسباب هذا السبب فهم الدين على غير وجهه , والابتداع فيه , والدليل على هذا أن الجماهير من المسلمين يحتجون على منع تربية النساء , وتعليمهن بالدين , ولهذا جعلنا جل عنايتنا في المنار مصروفة إلى الإصلاح الديني بعد أن قلنا في بيان منهاج الجريدة في العدد الأول منها ما نصه: (وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين) , و (7) الرد على الزاعمين أن الأوربيين يشكون من حرية نسائهم , وبيان أن الشكوى من بعض نتائج الشيء النافع لا يتضمن الحكم بإبطاله كحرية الطباعة مثلاً من نتائجها تطاول بعض الجهلاء , وإبطالها لمنع التطاول دواء أمرّ من الداء وأضرّ. وأما الفصل الخامس ففي (التربية والحجاب) وسنتكلم عنه وعن الخاتمة في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (السلك البرقي الحجازي) وصل هذا السلك إلى المدينة المنورة في شهر رمضان المعظم , وورد منها رسالة برقية على دولة الغازي مختار باشا تهنئه بشهر الصوم تصريحًا وتبشره بوصول الخط تضمينًا. ويا لها من مأثرة تزين تاريخ مولانا السلطان الأعظم ثم تاريخ حاجبه الأمين الذي تولى هذا العمل الجليل وأنجزه بأقرب وقت ألا وهو صاحب السعادة الفريق صادق باشا العظم أكثر الله تعالى في الدولة من أمثاله. *** (الإذن بالحج لمسلمي الجزائر) قرأنا في جريدة المبشر الغراء (وهي الجريدة الرسمية لولاية الجزائر) الصادرة في 21 رمضان أن والي الجزائر العام أصدر إذنه في 11 يناير لمسلمي الجزائرية بالحج بناء على أن الحالة الصحية في النواحي الشرقية تحسنت , وأن المحجر الصحي في الطور بلغ درجة مرضية. ولا شك أن سيتلو هذا الإذن إذن آخر لمسلمي تونس لأن العلة في المنع الرسميّ واحدة , وبذلك تدحض حجة الذين يقولون: إن فرنسا تمنع رعاياها ومن تحت حمايتها من المسلمين من أداء الحج بباعث التعصب الديني وقصد محو الشعائر الإسلامية. *** (البوير والإنكليز) عادت الحرب إلى شبابها، أو شبوبها بعد ما ظن الناس أنها خمدت نارها ووضعت أوزارها , ورجع القائد العام للجنود الإنكليزية إلى إنكلترا وكثير من الجند أيضًا , ويظهر أن هؤلاء البوير الذين أدهشوا العالم ببسالتهم ودهائهم لما رأوا من عدوّهم كثرة الزحوف ومئات الألوف علموا أنه لا قبل لهم بمصادمتها فخلوا السبيل بينهم وبين عاصمة بلادهم (بريتوريا) بعدما أخفوا السلاح وذهبوا بالخيول فلما اغتر الإنكليز بدخول العاصمة ورأوا أن الرئيس كروجر المدبر العظيم خرج من بلاده متظلمًا إلى أوروبا , وأعلنوا امتلاكهم لجمهوريتي الترانسفال وأورانج , وكان من أمر قائدهم ما ذكرنا وفرقوا قوتهم في البلاد التي احتلوها - قلب البوير لهم ظهر المجن , وأظهروا قوتهم الكامنة وزحفوا على مستعمرة الكاب الإنكليزية يثيرون ثائرة إخوتهم في الجنس الهولندي من رعايا الإنكليز على مساعدتهم , وأنشأوا يناوشون الإنكليز من مواضع مختلفة فيحالفهم النجاح في الغالب ويقطعون السكك الحديدية الإنكليزية وينهبون ما فيها , وظهر للإنكليز أن قائد البوير (دي ويت) شيطان مارد لا نظير له عندهم ولا عند غيرهم وأن السلاح والخيول عند العدوّ كثيرة جدًّا , وأن خيول البوير مضمرة ومعلمة بحيث تشبه خيول التتار الذين أغاروا على المسلمين فمزقوا شملهم , فاضطر اللورد كتشنر إلى طلب الخيول والجيوش من بريطانيا , وقد صار الحكم على هذه الحرب أحوج من قبل إلى كثرة التروي وإلى الله تصير الأمور. *** وفيات (سعد الدين باشا القباني) في يوم الجمعة 27 رمضان وافت هذا الشيخ الجليل منيته عن 88 سنة قضى معظمها في خدمة الدولة العلية ما بين عسكرية وملكية. وهو كبير بيت القباني الكريم في بيروت وشقيق زميلنا الفاضل الشهير صاحب السعادة عبد القادر بك القباني صاحب جريدة ثمرات الفنون الغراء ورئيس البلدية في بيروت , فنعزي شقيقه وسائر آله على فقده ونسأل الله تعالى أن يتغمد فقيدهم برحمته ويسكنه فسيح جنته آمين. (جمال الدين أفندي قاضي مصر) في يوم عيد الفطر نزل القضاء الإلهي بهذا الرجل الفاضل الجليل بعد مرض طويل , وكان من أصحاب رتبة قاضي عسكر التي هى أعلى الرتب العلمية في الدولة العلية , وتولَّى منصب القضاء في بيروت وغيرها قبل مصر فكان مثال العفة والاستقامة، ومكارم الأخلاق كما كان في السنين العشر التي قضاها في قضاء مصر , ولا غرو فهو من بيوتات المجد المشهورة بالفضائل في الأستانة العلية , مات عن نحو ستين سنة تغمده الله تعالى برحمته وغفرانه وعوَّض مصر عنه خيرًا بتوفيق مولانا السلطان الأعظم لتولية قاض عادل فاضل لمصر يقيم القسط، ويحفظ شرف الشريعة. *** (فكتوريا ملكة الإنكليز) في اليوم الثاني من شوال و22 يناير الماضي قضت نحبها هذه الملكة العظيمة وفارقت ملكها الكبير ذا الشأن الخطير عن ثلاث وثمانين سنة ثلاثة أرباعها بل أكثر على عرش الملك والعظمة ومستقر العز والقوة فقد كانت مدة حكمها 64 سنة. أما تاريخ حياتها وما نالته من السعادة , وعظم السيادة , فلا تفي به المجلدات. بله هذه الورقات , ولا بد من إجمال قليل إذا لم يمكن التطويل بالتفصيل. (مولدها ونشأتها) هي ألكسندرينا فيكتوريا بنت دوق كنت بن الملك جورج الثالث ملك إنكلترا , وحفيد الملك جورج الثاني ابن الملك جورج الأول الألماني الأصل لأنه كان أمير هنوفر. ولدت في 24 مايو 1819 ووالدتها (لويزا فيكتوريا) بنت دوق ألماني وأخت ليوبولد الأول ملك بلجيكا. ومات والدها وهي في السنة الثانية فقامت والدتها بتربيتها أحسن قيام أهَّلها لإدارة ذلك الملك الواسع , وإذا قلت لإدارة كرة الأرض لم تكن مغاليًا , وقد استعانت والدتها على تربيتها بمربية بارعة اسمها البارونة لهزن لها معها شئون مدونة في الكتب يقرؤها الإنكليز للاقتداء والفكاهة والافتخار. ولما تم لها 11 سنة كانت تعلمت اللغات الألمانية والفرنساوية والإيطالية واللاتينية مع آداب اللغة الإنكليزية , وتعلمت الموسيقى والرسم والتصوير وبعض الأشغال اليدوية ونظرت في الفنون الرياضية وكان لها مزيد عناية بالدين. وكانت حسنة الأخلاق لطيفة المعاشرة كاملة الآداب. وكانت والدتها ومربياتها عارفات بأن ملك إنكلترا سيئول إليها لأن عمها جورج الرابع مات من غير ولد فخلفه عمها وليم الرابع وكان له بنتان ماتتا في عهدها وهو حيٌّ فتلطفت معلمتها البارونة بإعلامها أنها ولية العهد بالمواطأة مع والدتها بأن وضعت لها شجرة بيت الملك في كتاب كانت تطالعه فلما رأتها قالت: إنني أقرب إلى الملك مما كنت أحسب. ثم قالت: إن الملك عظيم ومجده كبير ولكن أعباءه أكبر. وقالت لمعلمتها: الآن فهمت سبب إلحاحك عليّ بإتقان اللغة اللاتينية. (جلوسها) مات عمها ملك إنكلترا في 20 يونيو سنة 1837 بعد نصف الليل فأسرع رئيس الأساقفة ومركيز كوننهام وأحد الأطباء الذين حضروا موته إلى قصر الأميرة فيكتوريا فلما أيقظت وأعلموها طلبت من الأسقف أن يصلي ثم كتبت إلى امرأة عمها كتاب تعزية لقبتها فيه بجلالة الملكة حتى لا تكون أول من يسلبها هذا اللقب. وتلك نهاية الأدب. ونودي بها في اليوم التالي ملكة على الإنكليز وبعد سنة وثمانية أيام احتفل بتتويجها أعظم احتفال. (تتويجها) توّجت الملكة في كنيسة وستمنستر كما هي العادة المتبعة عند ملوك الإنكليز , فزينت الكنيسة الزينة التي تقتضيها عظمة الملك, وكان أول العمل أن وقفت أمام رئيس الأساقفة ووضعت يدها على التوراة راكعة , وحلفت أنها تحكم البلاد بحسب دستور مجلس الأمة (البارلمنت) وقوانين البلاد مع العدل والرحمة , وأنها تحافظ على حقوق خدمة الدين , ثم قدم لها لورد ملبرن سيف المملكة , وافتداه بعد ذلك بخمسة جنيهات حسب التقاليد , وألبست حلة الملك وخاتمه وأعطيت الكرة والصولجان ودهنت بالدهن المقدس , وألبسها رؤساء الكهنة التاج وأجلست على عرش الطاعة , وجثا أمامها رئيس الأساقفة , وقبل يدها وتلاه سائر رؤساء الكهنة ثم خضع لها عمَّاها دوق سسكس ودوق كمبردج ثم سائر الأمراء. وكان ذلك اليوم مطيرًا فاتفق أن تقشعت الغيوم وبرزت الشمس عند وضع التاج على رأسها فوقع شعاعها عليه فتألقت جواهره وتلألات حتى كادت تخطف الأبصار فكان ذلك فألاً حسنًا للحاضرين. (زواجها) كان الأمير ألبرت ابن خالها ليوبولد ملك البلجيك زار إنكلترا ورأته الأميرة فيكتوريا فأعجبها جماله وكماله وعزمت على الاقتران به , ثم شغلها الملك وحقوقه عن ذلك وما ذكرها به إلا زيارته لها في إنكلترا , وكان أهلهما يتوقعون اقترانهما؛ فكان. وبعد مشاورتها مجلس الأمة وإقراره على الزواج احتفل به في 10 فبراير سنة 1840 في كنيسة قصر سنت جمس. ومما يحسن ذكره هنا أن من التقاليد عندهم أن يقرأ عند صلاة الاقتران فصل من الكتاب المقدس تؤمر فيه المرأة بطاعة الرجل , فسأل الأسقف الملكة: هل تبيح له ذلك وتأذن به؟ فأجابته جواب العاقل الحكيم: (إنني أقترن امرأة لا ملكة فلا تحذف شيئًا من كلام الكتاب) ، وكذلك كانت تعامل زوجها بعد، وكان لها كما كانت له خير عون وظهير. وكانا تِرْبَين؛ لأن ولادته كانت في شهر 5 أغسطس (آب) ، أي: بعد ولادتها بنحو 3 أشهر وعاش معها 21 سنة (ستأتي بقية الترجمة) *** أخبار الهند (جريدة وطن) وافتنا الأعداد الأُوَل من هذه الجريدة الإسلامية الجديدة التي تصدر في مدينة لاهور من الهند لمنشئها الكاتب الفاضل محمد إنشاء الله محرر جريدة (وكيل) سابقًا المشهور بمقالاته النافعة واقتراحاته المفيدة التي منها: مشروع سكة حديد بين بورسعيد والبصرة الذي تكلمنا عنه في العدد الأول من المنار. ولهذا نراه في جريدته الجديدة يحث مسلمي الهند على إعانة سكة حديد الحجاز بالمال حتى جعل من لا يساعد هذا العمل بشيء من المال ممن لا حظ لهم في الإسلام , ولا ينبغي أن يعد من المسلمين. ومن أهم أخبار هذه الجريدة بل من بشائرها السارة أن أمير الأفغان المعظم أعزه الله وأطال عمره أصدر أمرًا بتعميم التعليم الإجباري في المدارس , وأن لا يكون التعليم بالإرهاب والغلظة لأن ذلك يطفىء نور الفطرة ويذهب بقابلية التعليم , وإنما يكون التعليم بالتعقل والتلطف. ومنع ضرب التلامذة منعًا قطعيًّا وجعل عقوبة الضارب إدخاله في سلك الجندية. (جريدة بيسه أخبار) نشر الفاضل صاحب هذه الجريدة الكبرى فصلاً آخر فيما شاهده بمصر ذكر فيه المطابع والجرائد فأثنى على مطبعة الترقي بالاتفاق الذي عرفه كما نعرفه نحن وذكر المؤيد وما له من المكانة في نفوس العظماء، والوجهاء حتى ذكر أنهم يخافونه , ووصف صاحبه الفاضل وصفًا صوريًّا معنويًّا حتى قال: إنه لا يعرف اللغات الأجنبية ولكن عنده من يعرفها ويترجم له. وذكر اللواء شيئًا من سيرة صاحبه منها قوله: (إنه شاب يلبس اللبس الأفرنجي ويعرف الفرنسوية وعنده حميّة على وطنه وشهرته أكبر منه) , وذكر المقطم وتعقُّبه للمؤيد في الطعن بالإنكليز , وقال: إنه يأخذ على ذلك أجرًا. ثم ذكر المجلات فوصف الهلال وأثنى عليه ولم يذكر المقتطف , وأطال في ذكر المنار ما لم يطل في ذكر غيره فقال ترجمته ملخصًا. (صاحب جريدة المنار رشيد أفندي شاب عالم فاضل , وكثيرًا ما كنت أرى في الجرائد الهندية مقالات مترجمة عن المنار. وكتابته في المسائل الإسلامية في الدرجة العليا , وهو يحاول الرجوع بالمسلمين في دينهم (أي لا في دنياهم لأن أحوال الدنيا تختلف باختلاف الأزمنة والأطوار) إلى سيرة الصحابة الكرام عليهم الرضوان) ، ثم قال: (واجتمعت بالسيد محمد أفندي عبده مفتي الديار المصرية بواسطته وفي داره وهو أجل الفضلاء في العلوم الدينية , وليس بغافل عن أحوال الزمن الحاضر وشؤون العصر. وهو ركن من أركان كثير من مجالس الحكومة ومحب للنفع العام بحمية صحيحة متقدة في قلبه) اهـ. *** (المدنيتان الإسلامية والأوربية) نقلت الجرائد أن الجيش الأوروبي المختلط في الصين قد خرج عن القواعد الموضوعة في الحرب فهتك الأعراض ومثَّل بالقتلى وفتك بمن لا تجيز القوانين الفتك به كالنساء , ولا بدع في هذا فإن الأوروبيين لا يحترم بعضهم بعضًا إلا لتكافؤ القوى ومبادلة المنافع ودرء المضار وهم إلى الآن لم يصلوا إلى عشر معش

خاتمة سنة المنار الثالثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة سنة المنار الثالثة بهذا الجزء تمت سنة المنار الثالثة بتوفيق الله ومعونته. وفضله وحسن هدايته. وقد رأى القراء أننا زدنا حسنًا. في الصورة والمعنى. فقد كان مجلد السنة الثانية 768 صفحة , ومجلد هذه السنة 864 صفحة فالزيادة 96 صفحة وهو أحسن ورقًا وطبعًا , والفضل في هذا لمطبعة الترقي العامرة التي أسست لترقية هذه الصناعة في القطر المصري. ونعد القراء بأننا سنزيده مادة وإتقانًا في السنة الآتية حيث تكون صفحاته 960 بزيادة نحو مائتي صفحة عن السنة الثانية. وسنوسع فيه دائرة المباحث العلمية والأدبية والتاريخية. أما ما يدعو إليه المنار من الإصلاح الديني وأنه شرط في كل اصلاح فإننا نرى الاقتناع به يزداد وينتشر بالتدريج الطبيعي الذي ترجى فائدته , وجميع العقلاء والفضلاء في القطر المصري وغيره راضون عنه ومنشطون عليه. نسمع ذلك من عقلاء المصريين مشافهة , ويبلغنا من غيرهم بالمكاتبة فإذا كان وزير مصر الأكبر دولتو رياض باشا يقول لنا في كل مجلس نحضره: إن ما يكتب في المنار نافع جدًّا ولا نجاح للمسلمين إلا به. فإن شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني مدرس العلوم العالية في كلية عليكده في الهند لا يكتب لنا مكتوبًا إلا ويقول فيه: (إن العالم الإسلامي مديون لكم بهذه الخدمة) , وأمثال ذلك. ومثل هذه الأقوال والمكاتبات من عظماء المسلمين كثيرة. والفضل في هذا كله لنصير العلم والدين وحكيم الإسلام والمسلمين مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية الذي هو مرشدنا الأول إلى هذا المشرب , ولا نزال نستقي من ينبوعه ونقتبس أنوار القرآن من مجالس تفسيره. وسنكمل في السنة الآتية المباحث التي ابتدأناها في هذه السنة وما قبلها كمبحث الكرامات والخوارق , ومبحث مدنية العرب. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لما فيه الخير والفائدة , ويقينا عثرة القلم وزلة القدم , وينصر سلطاننا ويؤيد أميرنا ويسعد أمتنا وبلادنا , وسلام على المرسلين , والحمد لله رب العالمين.

فاتحة السنة الرابعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة الرابعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى كل عبد مصطفى. وبعد، فإن المنار يدخل بهذا الجزء في العام الرابع من حياته وقد نما النمو الطبيعي المقدَّر له من أول نشأته، وساعد حركة الإصلاح بصوته الضعيف، ولقي صاحبه من الألاقي بعض لقي الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا والله مع الصابرين. من كان الله معه لا يضره كيد الكائدين، ولا يُحبط عمله إرجاف المرجفين، وإن عظمت مظاهرهم وألقابهم، وعلت منازلهم وأحسابهم، بل جرت سنته تعالى في خلقه بأن الضعيف ينتصر بالحق على القوي، والرشيد يغلب بالصدق والثبات على الغويّ {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) . ما لقيتْ دعوة الحق من المعارضة بعض ما لقيت من الانتشار، ولا صادفت من التدسية والإخفاء مثلما صادفت من التزكية والاشتهار، وما كان إلا ما كان في الحسبان، وليس في الإمكان أبدع مما كان، ومن حاول الخروج بالكون عن سنته، وتكليف عالم الاجتماع ما ليس في طبيعته، كان جديرًا بالخذلان، وبذلك خاب فلان وفلان، وخفي هذا على بعض الناس فكانوا من القانطين، وضل آخرون في فهم قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) . الحق ثقيل ولا سيما على المبطلين، والجدُّ مملول ولا سيما من الهازلين؛ ولذلك أشار علينا بعض الناصحين من محبي الإصلاح بأن نضم إلى المقالات الإصلاحية والعلمية شيئًا من النبذ الأدبية، وأن نضيف إلى انتقاد التقاليد والعادات بعض الأخبار والملح والفكاهات؛ لأن هذا أدعى إلى ترويح النفس، وتوفير الأنس ولهذا وسَّعنا المجلة فزدنا في صفحاتها، ونوَّعنا موضوعاتها؛ ولكننا لم نزد في الثمن، كما زدنا في المثمن؛ لأن بضاعة العلم والدين لا تزال عندنا على قلتها في كساد، وبضاعة الشهوات واللذات في رواج وازدياد، فيسهل على أكثر المتعلمين منا أن ينفقوا البِدَر في سبيل الهوى، ويصعب عليهم أن يبذلوا النزر اليسير في سبيل الهدى، فما بالك بغيرهم الخالي من مثل غيرتهم، والمحروم من الشعور بحميتهم (اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون) ووفقهم لمعرفة أنفسهم ومن معهم لعلهم يرشدون، اللهم و {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) . ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب المنار ومحرره ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

الداء والدواء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الداء والدواء خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وكرَّمه بضروب من التكريم، خلقه من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، خلقه جاهلاً لا يعلم شيئًا، ثم منحه هدايات الحواس والعقل والنبوة، خلقه فقيرًا محتاجًا إلى كل شيء، وسخَّر له بفضله كل شيء، فالأكوان تعمل به وهو يعمل في الأكوان، ويظهر ما انطوت عليه من الإبداع والإتقان، مستعينًا بتلك الهدايات الموهوبة، على أعماله المكسوبة حتى يصل كل من الإنسان والأكوان إلى ما أُعد له، ويبلغ الكتاب فيهما أجله، وأعني بالكتاب كتاب الغيب المكنون، {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} (النمل: 65-66) . جلَّت حكمة الله جعل حياة الإنسان الفردية مثالاً ونموذجًا لحياته القومية، يرتقي الفرد منه بالتدريج ويتربى متأثرًا بحالة الأكوان، وما تعرضه عليه شؤون أخيه الإنسان، فمنه ما ينمو ويرتقي باطراد، ومنه ما يعرض له المرض والفساد فتوقف سيره قبل أن يتم دوره، فإما شقاء وارتقاء، وإما موتًا وفناءً، وكذلك الأمم في أطوارها، والشعوب في أدوارها، وهذه قصصها وأخبارها، ما سعدوا إلا بما كانوا يعملون، وما حل بهم الشقاء إلا بما كانوا يكسبون {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (النحل: 33) . استعان أناس بالحواس على الحسنات، واستعان بها آخرون على اجتراح السيئات، ووصل قوم بالعقل إلى أحاسن الأعمال، واستعمله آخرون في سيئ الفعال، واهتدى بالدين أمم إلى الصراط المستقيم، ووقع به آخرون في العذاب الأليم {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ، {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: 213) ، {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) . غرَّ أمةً ممن كان قبلنا دينهم، فحسبوا أن انتسابهم إليه هو كافلهم وضمينهم، وناصرهم ومعينهم؛ فقصروا في الأعمال، واستبدلوا النقص بالكمال، فحل بهم الخزي والنكال، وما أغنى عنهم الانتساب إلى الأنبياء، والاعتماد على الأصفياء، والاستمداد من الأولياء، ولا أفادهم قولهم: نحن شعب الله، الذي فضَّله على العالمين واصطفاه، وحملة كتابه التوراة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (آل عمران: 23-24) . الغرور في الدين، هو الجرثومة التي تولدت منها جميع أمراض المسلمين، كما حل بمن كان قبلهم، وحُذِّروا أن يكونوا مثلهم، فقد جاء في الحديث المتفق على صحته: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع) ، والمسلمون يعترفون بهذا إجمالاً؛ ولكنهم ينكرونه عند التفصيل، فإذا عدَّدت لهم البدع والتقاليد التي فتنوا بها، وحرَّفوا معاني كتاب الله تعالى وأوَّلوه برأيهم لترويجها، يلوون ألسنتهم إنكارًا، ويُنغضون رؤوسهم إعراضًا وازورارًا، وإذا وصفت بهذا الغرور بعض رجال الدين، من شيوخهم وآبائهم الميتين {يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} (الأنفال: 6) . هذا الغرور في الدين، الذي أصبنا به من بعد الخلفاء الراشدين، هو نقيض الغرور الذي رُمي به الذين سبقونا بالإيمان، والذي قال فيه القرآن: {إِذْ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} (الأنفال: 49) فإن ذلك الغرور هو تصدي ثلاثمائة ونيف من المؤمنين، لزُهاء ألف من المشركين، من ورائهم ألوف وزحوف من الفرسان، وليس وراء أولئك المؤمنين إلا النساء والضعفاء والصبيان، وهذا الغرور هو خذلان ثلاثمائة مليون من المسلمين، ووقوعهم بين أنياب الحوادث، ومخالب الكوارث، لا يحمون حقيقتهم، ولا يدافعون عن حوزتهم؛ ولكنهم يستنجدون بالقبور ولا يُنجدون، ويستنصرون بأرواح الموتى ولا يُنصرون {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) . تولدت جراثيم هذا الغرور بالدين في العصر الأول عندما فتح المسلمون البلاد ودوَّخوا العباد، وجلسوا على كرسي السيادة، وضموا عليهم قطرَيْ السعادة، فحسبوا أنهم غمروا بهذا الإنعام، لمجرد انتسابهم للإسلام، ثم دلهم القياس الفاسد على أن هذا اللقب (مسلمون) يعطيهم سعادة الآخرة، كما أعطاهم سعادة الدنيا، وكان لهم من الأحاديث الموضوعة وسوء فهم الصحيحة ما يؤيد القياس، ويمد الوهم والالتباس، فقصروا فيما أمرهم الدين من الإصلاح للدنيا، كما قصروا في عمل الصلاح للأخرى، فأخذهم العذاب من حيث لا يشعرون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) [1] . ويا ليتهم إذا عُذِّبوا بسلب سعادة الدنيا رجعوا إلى قياسهم، وخافوا أن يحرموا سعادة الآخرة أيضًا إذا هم استرسلوا في هذا الغرور، ولم يخرجوا من هذا الديجور ثم رجعوا إلى أنفسهم، وبحثوا عن أسباب سعادة سلفهم، وتبينوا أنها الأعمال، لا الأماني والآمال، ثم استنوا بسنتهم، واستقاموا على طريقتهم، ولم يتكلوا على شفاعتهم، ويجعلوها مناط سعادتهم، واعتبروا بقول خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام إذ قال لأبيه: {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ} (الممتحنة: 4) وبما كان من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إيمان عمه أبي طالب، وبحديث الصحيحين: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال: (يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) نعم، وإن اعتقاد الخلف أنهم يسعدون في الدنيا بأمداد سلفهم تكذيب للحس والعيان، واعتقاد أنهم بهم ينجون في الآخرة إعراض عن السنة والقرآن، فالاحتجاج بعد هذا بقول فلان وورد فلان جنون {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) . ما وقف المسلمون بغرورهم في دينهم عند حد، بل عم عندهم كل شيء حتى حكموه بالعلم الذي يرشد إليه، فجعلوه صادًّا عنه، وبالدنيا التي يأمر بعمرانها، فحسبوه مؤذنًا بخرابها، وبالعقل الذي بُني عليه، فجعلوه عدوًّا له، ولما نزلت بهم عقوبة غرورهم يئسوا من كل شيء أن ينالوه بأنفسهم، وسجلوا على أنفسهم هذا اليأس وختموه بختم الدين وطبعوه بطابعه، حيث زعموا أنه من أشراط الساعة، وأن الضعف إذا وقع بالمسلمين لا يرتفع إلا ما يكون من النهضة على يد المهدي المنتظر القصيرة المدة؛ وإنما تكون بالخوارق والكرامات لا بالاستعداد والعصبية القومية، ثم هي كإيماضة الخمود للذبال لا تلبث أن تزول سريعًا وتزول الدنيا في أثرها بعد قليل، وقد مر في المنار تحقيق الحق في هذه التقاليد وبيان ضررها، وأن الساعة مغيَّب عنا أمرها {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 187) . فعلمنا مما تقدم أن أمراض المسلمين الاجتماعية التي جعلتهم وراء الأمم كلها حتى التي كانوا يسودونها ترجع إلى داء واحد، وهو الغرور في دينهم وفهمه على غير وجهه، وإن شفاء هذا الداء ليس بمحال ولا متعذر؛ وإنما المتعذر إصلاحهم مع بقائه، وإن الدواء الذي يذهب به هو السير بالتربية والتعليم على سنن الكون وأصول الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر المقالة، وإقناعهم بأن ارتقاء المسلمين بدينهم في القرون الأولى لم يكن لسر خفي في الدين، ولا لحب الله تعالى لذوات الذين تسمَّوا بالمسلمين؛ لأن الله منزه عن عشق الذوات والأعيان، وأفعاله لا تعلل بالأغراض كأفعال الإنسان، وإنما ارتقوا به لأنه أرشدهم إلى سنن الارتقاء، وهداهم إلى الصفات والأفعال التي بها السمو والاعتلاء، فهو كما تقدم هداية أُخذت على وجهها وحقيقتها، فأدت إلى غايتها وأنتجت نتيجتها، فلما اختلفت الكيفية، انعكست القضية، كما يهتدي بالحواس والعقل أقوام ويضل آخرون {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ * أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 22-23) . أول أركان الإصلاح الإسلامي هو التوحيد الخالص الذي يصقل العقول من صدأ الخرافات والأوهام، ويفك الإرادة من أسر الدجالين، ويعصم النفوس من حيل المحتالين، ثم الإذعان بأن سنن الله تعالى لا تتبدل ولا تتحول، فمن سار عليها وصل ومن تنكبها هلك {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) حكم عام للآخرة والأولى، ثم الاعتقاد بأن كل عمل ينافي مصلحة الأمة أو يحول دون منفعتها موجب لسخط الله تعالى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثم تصدي طائفة للاحتساب قولاً وعملاً والدعوة إلى ما به حياة الأمة من علم وعمل ومباراتها للأمم العزيزة إلى غير ذلك مما فصَّلنا القول فيه من قبل، وسنعيد البحث فيه إن شاء الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) . ولنا الثقة بأن الكون وما فيه من الآيات، وما اكتشفه الناس من أسراره وما يكتشفونه فيما هو آتٍ، كل ذلك خدمة لإظهار دين الفطرة على كل دين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) وإن دعوة الحق ستكون هي الفضلى، وطريقة الإصلاح هي الطريقة المثلى؛ ولكن لا يمكن تعيين الزمن بالتحديد {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِي

أمالي دينية الدرس ـ 18 ـ الحاجة إلى الوحي والنبوة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القسم الديني [*] القسم الثاني من الأمالي الدينية في النبوات (الدرس الثامن عشر) الحاجة إلى الوحي والنبوة تكلمنا في العدد الماضي عن الوحي من حيث إضافته إلى الله تعالى وكونه كلامه، والاستدلال على ذلك بالعقل والنقل على الوجه الذي كان عليه الصحابة وأئمة السلف الصالحين رضي الله عنهم، ولذلك جعلناه في قسم (الإلهيات) ، وكان مقتضى الترتيب المعقول أن يكون هذا المبحث برمته في قسم النبوات؛ لأن النبوة إنما تكون بوحي الله وبكلامه، ونتكلم الآن عن الوحي من حيث حاجة البشر إليه وحال من جاؤوا به. المسألة (53) : الأرواح الخالدة الاعتقاد بأن للبشر أرواحًا تبقى بعد الموت، ولها حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيا هو الأساس الذي قام عليه بناء الدين المطلق، فلولاه لم يكن للدين معنى ولا فائدة، بل لم يوجد أصلاً، وكل فائدة أفادها الدين للبشر من وثنيين وموحدين فمصدرها هذا الاعتقاد، ما علّم قدماء المصريين صناعة البناء، وما يتبعها ويلزمها من الهندسة وجر الأثقال، حتى بنوا مثل الأهرام وغير ذلك من العلوم والصناعات إلا الاعتقاد بخلود النفس، وكذلك قل في الكلدانيين والصينيين والهنود واليونانيين والرومانيين والفرس والإسرائيليين والعرب. هذا الاعتقاد فطري في البشر، ولذلك وجد في كل جيل من أجيالهم في كل طور من أطوارهم فليس هو من استنباط الأفكار، ولا من التخيلات والتصورات فتتحكم فيه الأنظار، نعم لما ولع الناس بالعلوم النظرية ابتلوا بالتشكيك في كل شيء، حتى في الوجدانيات والمحسوسات، ومنهم من أنكر الروح، ولكن هذا الإنكار لم يلتفت إليه إلا نفر قليل من المستعبدين لنظرياتهم؛ لأنهم يقربون من السفسطائية الذين أنكروا كل شيء حتى أنفسهم وحتى إنكارهم، وقد وُجد - والحمد لله - من النظار من رد على منكري الروح بنظريات موجبة أقوى من نظرياتهم السالبة، ولا حاجة بنا إلى الخوض في ذلك؛ لأننا نخاطب في دروسنا قومًا لم يبتلوا بإنكار أنفسهم وأرواحهم. هذه مقدمة تمهيدية لبيان الحاجة إلى الوحي وإرسال الرسل، ولا بد منها في إثبات كون الوحي هو الذي يبين طرق السعادة في الحياة الآخرة، وهذا هو جزء الغرض وتمامه أن نبين أننا محتاجون إلى الوحي في سعادة الدنيا وسعادة الآخرة جميعًا؛ لأننا نعتقد أن في اتباع الدين سعادة الدارين كما بيناه في المسألة الأولى من الدرس الأول. م (54) الحاجة إلى الوحي في الدنيا لا نزاع في أن الإنسان خُلق ليعيش مجتمعًا، أو كما يقول الحكماء: (الإنسان مدني بالطبع) ، ولم يعط من الإلهام الفطري ما يغنيه عن التعلم والتربية بل خلقه الله محتاجًا لكل شيء وعاجزًا عن كل شيء بنفسه، ولذلك أعطاه خالقه استعدادًا غير محدود، وجعل رغائبه وأمانيه غير محدودة، ابتلاه بشهوات تسوقه إلى تحصيل رغائبه، وأعطاه قوى يستعين بها على ذلك ويدافع بها من ينازعه أو يصده عنه، ولا شك أن هذه الرغائب والشهوات تكون مثارات للتنازع بين ذويها؛ إذ ليس في فطرة الإنسان ولا في طبيعة الأكوان ما يوقف كل إنسان عند حد من حظوظه لا يتعداه، نعم إن نوع الإنسان يتربى بالعلم؛ ولكن هذه التربية ما كانت كافية له في جيل من أجياله للوقوف عند حد يعيِّن لكل فرد من أفراده حقوقه وواجباته على وجه ملزم له بالوقوف عنده إلا بالدين، وكل دين تصلح به شؤون البشر فهو حق منبعه الوحي الإلهي، وإن كنا نجهل مبدأ كل دين عُرف في التاريخ أنه أحدث إصلاحًا، وكيفية طروء التحريف والتغيير عليه حتى صار إصلاحه مشوبًا بإفساد. يبلغ البشر بالاستفادة من التربية الكونية بالتدريج الطويل مبلغًا عظيمًا، ثم يكونون على ما أوتوه من علم وحكمة أبعد عن التهذيب والإصلاح، وهم في نهايتهم من أهل الدين في بدايتهم، وأعظم عبرة أمامنا الأمم الأوربية؛ فإن العلوم الكونية قد ارتقت عندهم ارتقاء لم يُعْرَف له مثل في تاريخ الإنسان وقد صلح بها وبما بقي من آثار الدين عندهم حالهم الدنيوي؛ ولكنهم لا يقاربون في هذا الصلاح ما كان عليه المسلمون في العصر الأول عندما كان صلاحهم بالدين وحده غير مدعوم بالعلوم الكونية والتربية العالمية، هل بلغ ملك أوربي في العدل والرحمة وسائر الفضائل مبلغ أحد الخلفاء الراشدين الذين كانوا قبل الإسلام وحوشًا ضارية يفترس بعضها بعضًا، فرباهم الدين على الكبر تربية تعجز عنها العلوم الكونية بدون تعليم الوحي الصحيح، وإن مخضها الدهر بضع قرون، انظر إلى فظائع أبناء القرن العشرين في الصين، وراجع تاريخ أهل القرن الأول من المسلمين، انظر كيف ساوى عمر بن الخطاب بين صهر الرسول عليه الصلاة والسلام وابن عمه وبين رجل من آحاد اليهود، وكيف أن دول أوروبا لا ترضى بمساواة أحقر صعلوك من بلادها لأعظم أمير شرقي في الحقوق، انظر كيف افتتحت تلك الشراذم من المسلمين بلاد الروم والفرس والفراعنة فكان أهلها راضين بحكمهم مفضلين لهم على قومهم وأبناء ملتهم؛ حتى ترك معظمهم لغته ودينه طائعًا مختارًا من غير دعاة تناديهم ولا مدارس تربيهم، وكيف أن الأوربيين يدخلون البلاد فلا يرون من أهلها إلا كراهة ومقتًا يتضاعف ويزداد بازدياد أيام حكمهم، مع أنه ما تسنى لهم دخول أرض إلا بعدما جار أهلها عن صراط الدين واستهانوا بالعدل، انظر كيف كان المسلمون في بداوتهم يدخلون البلاد، فيطهرونها من الأرجاس الظاهرة والباطنة، وكيف أن الأوربيين ما دخلوا قرية إلا وأفسدوا أخلاق أهلها وآدابهم بالخمر والفحش والميسر ولا سعة معنا في هذا الدرس لتمام المقابلة بين مدنية المسلمين في القرن الأول ومدنية أوروبا في القرن العشرين، أو القرن الخامس من قرون ترقيها في الحضارة - سنبسط الكلام عن المدنيتين في غير هذه الدروس من أجزاء المنار الآتية إن شاء الله تعالى. نعم إن المسلمين انحرفوا عن صراط سلفهم فأدبهم الله تعالى بسلب كثير مما كان أعطاهم، ولذلك ذهب بهاء دينهم قبل أن تكمل مدنيتهم المادية، ونرجو أن يكون ما حل بهم من العقوبة كافيًا لإنابتهم ورجوعهم إلى رشدهم، وعند ذلك إذا قالوا يسمع لهم، وإذا افتخروا يشهد العالم بصدقهم في فخارهم فهم الآن حجة من لا دين له على كل دين؛ لأن دينهم إذا لم يكن طريقًا لسعادة الدنيا فلا يمكن أن يكون سواه، وإن قررت القوة خلاف ما قررناه. للكلام تتمة ((يتبع بمقال تالٍ))

رواية عربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رواية عربية أخرج ابن عساكر في تاريخه بسند متصل عن ابن الأعرابي فقال: بلغني أنه كان رجل من بني حنيفة يقال له: جحدر بن مالك فَتَّاكًا شجاعًا قد أغار على أهل حجر وناحيتها، فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فكتب إلى عامله باليمامة يوبخه بتلاعب جحدر به ويأمره بالاجتهاد في طلبه، فلما وصل إليه الكتاب أرسل إلى فتية من بني يربوع فجعل لهم جُعْلاً عظيمًا إن هم قتلوا جحدرًا، أو أتوا به أسيرًا، فانطلقوا حتى إذا كانوا قريبًا منه أرسلوا إليه أنهم يريدون الانقطاع إليه والتحرز به فاطمأن إليهم ووثق بهم، فلما أصابوا منه غرة شدوه كتافًا وقدموا به على العامل، فوجه به معهم إلى الحجاج فلما أُدخل على الحجاج قال له: من أنت؟ قال: أنا جحدر بن مالك. قال: ما حملك على ما كان منك؟ قال: جرأة الجنان وجفاء السلطان وكَلَب الزمان. قال: وما الذي بلغ منك فجرأ جنانك؟ قال: لو بلاني الأمير أكرمه الله لوجدني من صالح الأعوان، وبهم الفرسان، ولوجدني من أنصح رعيته، وذلك أني ما لقيت فارسًا قط إلا وكنت عليه في نفسي مقتدرًا. قال له الحجاج: إنا قاذفون بك في حائر فيه أسد عاقر ضار فإن هو قتلك كفانا مؤنتك، وإن أنت قتلته خلينا سبيلك. قال: أصلح الله الأمير عظمت المنة وقويت المحنة. قال الحجاج: فإنا لسنا تاركيك لتقاتله إلا وأنت مكبل بالحديد. فأمر الحجاج فغُلت يمينه إلى عنقه وأرسل به إلى السجن، فقال جحدر لبعض من يخرج إلى اليمامة: تحمل عني شعرًا. وأنشأ يقول: تأوَّبني فبت لها كنيعًا ... هموم لا تفارقني حوان [1] هي العوَّاد لا عوَّاد قومي ... أطلن عيادتي في ذا المكان إذا ما قلت قد أجلين عني ... ثنى ريعانهن عليَّ ثان [2] فإن مقر منزلهن قلبي ... فقد أنفهنه فالقلب آن [3] أليس الله يعلم أن قلبي ... يحبك أيها البرق اليماني وأهوى أعيد إليك طرفي ... على عدواء من شغل وشان [4] ألا قد هاجني فازددت شوقًا ... بكاء حمامتين تجاوبان تجاوبتا بلحن أعجمي ... على غصنين من غَرَب وبان فقلت لصاحبي وكنت أحذو ... ببعض الطير ماذا تحذوان فقالا الدار جامعة قريبًا ... فقلت بل أنتما متمنيان فكان البان إن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك بنا تداني بلى وترى الهلال كما أراه ... ويعلوها النهار كما علاني فما بين التفرق غير سبع ... بقين من المحرم أو ثمان فيا أخوي من جشم بن سعد ... أقلا اللوم إن لم تنفعاني إذا جاوزتما سعفات حجر ... وأودية اليماني فانعياني إلى قوم إذا سمعوا بنعيي ... بكى شبانهم وبكى الغواني وقولا جحدر أمسى رهينًا ... يحاذر وقع مصقول يماني يحاذر صولة الحجاج ظلمًا ... وما الحجاج ظلامًا لجان ألم ترني عددت أخا حروب ... إذا لم أجن كنت مِجنّ جان فإن أهلك قرب فتى سيبكي ... على مهذب رخص البنان ولم أك ما قضيت ذنوب نفسي ... ولا حق المهند والسنان قال: وكتب الحجاج إلى عامله بكسكر أن يوجه إليه بأسد ضار عاتٍ يجر على عجل، فأرسل به فلما ورد الأسد على الحجاج أمر به، فجعل في حائر [5] وأجيع ثلاثة أيام، وأرسل إلى جحدر، فأُتي به من السجن ويده اليمنى مغلولة إلى عنقه، وأُعطي سيفًا، والحجاج وجلساؤه في منظرة لهم فلما نظر جحدر إلى الأسد أنشأ يقول: ليث وليث في مجال ضنك ... كلاهما ذو أنف ومحك وشدة في نفسه وفتك ... إن يكشف الله قناع الشك فهو أحق منزل بترك ... فلما نظره الأسد زأر زأرةً شديدةً، وتمطى، وأقبل نحوه، فلما صار منه على قيد رمح وثب وثبةً شديدةً، فتلقاه جحدر بالسيف فضربه ضربةً حتى خالط ذباب السيف لهواته، فخرَّ الأسد كأنه خيمة قد صرعتها الريح، وسقط جحدر على ظهره من شدة وثبة الأسد وموضع الكبول، فكبَّر الحجاج والناس جميعًا وأكرم جحدرًا وأحسن جائزته. وأخرجه ابن بكار في الموفقيات بطوله من طريق آخر عن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، ولجحدر في الأسد قصيدة بديعة نذكرها في جزء آخر.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ بين يدينا الآن 14 مصنفًا من المطبوعات الحديثة بعضها من المؤلفات القديمة وبعضها من الحديثة، ولم نوفق لمطالعتها فننتقدها؛ ولكننا ننوه بها في الجملة مكتفين بتصفح بعض صفحاتها. (إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى المذهب الحق) كتاب جليل وسفر كبير ألفه السيد أبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني أحد مجتهدي القرن الثامن الهجري، وقد طبعته شركة طبع الكتب العربية في مطبعة الآداب والمؤيد بالإتقان والنظافة المعهودين في الكتب التي تطبعها، الكتاب في أصول العقائد، وقد اقتصر فيه على ما نطق به الكتاب والسنة غالبًا، وترك الخوض في النظريات الفلسفية التي زادوها في علم عقائد الدين؛ ولكنه توسع كغيره فيما توسع فيه المتكلمون كمسألة خلق الأفعال، ومسألة الصفات، ونقل كثيرًا من كلام النظار، والمزية الكبرى التي امتاز بها كتابه على كتب العقائد المتداولة أنه لم يتعصب لمذهب مخصوص، ولم يخف اللائمة في تقرير ما يعتقده إن كان مخالفًا لما عليه الناس؛ لأنه آثر الحق على الخلق، وهو أقرب إلى أهل الأثر منه إلى أهل النظر، وعهدنا بأكثر المتكلمين التقصير في علم الرواية، ويمكننا أن نقول: ينبغي لكل مشتغل بعلم الدين الاطلاع على هذا الكتاب. *** (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) يذكرنا التنويه بهذا الكتاب كل مصنف تطبعه هذه الشركة؛ فإنه كان نادر الوجود، وهو من أجلّ الكتب الإسلامية ومؤلفه العلامة شمس الدين محمد بن قيم الجوزية وهو يُطلب كسابقه من إدارة المؤيد، ومن جميع المكاتب بمصر. *** (الحديقة الفكرية في إثبات الله بالبراهين الطبيعية) كتاب ألفه ونشره بالطبع حديثًا صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي فريد وجدي واسمه يدل على موضوعه، بحث فيه مباحث دينية عصرية على طريقته الجديدة في هذه المباحث، وتكلم فيه عن الإنسان والإيمان، وعن الإيمان في دور الفطرة، ودور الفلسفة، ودور العلم، وانتقل من هذا إلى شُبه ملاحدة الماديين وإبطالها، ثم عقد فصلاً آخر في المادة وما وراءها، وبيان انتهاء دور الإلحاد، وأطال في هذا الفصل الكلام في مسألة استحضار الأرواح، ثم تكلم عن الإيمان في الدور الرابع وهو رجوع الإنسان إلى دور الفطرة الأولى، وبيان أن الإسلام هو دين الفطرة وهذا خاتمة الكتاب، أما طبعه فحسبنا أن نقول: إنه في مطبعة الترقي، وعلى أحسن ورق فيها، وثمنه ثمانية قروش، فنحث القراء على الاطلاع عليه، ولا سيما أبناء المدارس النظامية الذين يدرسون العلوم العصرية، ولعلنا نوفق للعود إلى الكلام فيه بعد تمام مطالعته. *** (تاريخ آداب اللغة العربية) لما علم الكاتب الأديب محمد بك دياب المفتش الثاني للغة العربية في نظارة المعارف أن بعض علماء ألمانيا عنوا بالتأليف في تاريخ آداب لغتنا الشريفة هزته الأريحية العربية إلى إجابة اقتراح صديق له في تأليف هذا الكتاب تاريخ آداب اللغة وقد أصدر منه بالطبع جزآن، طُبع أولهما في مطبعة جريدة الإسلام، والآخر في مطبعة الترقي المتقنة، وفي كل جزء منهما ما لا يستغنى عن الوقوف عليه من الفوائد، كالكلام في نشأة اللغة وترقيها، وتاريخ الكتابة العربية والخط وتاريخ المصنفات، وتاريخ الفنون والإنشاء فهذه الموضوعات تفتح للمشتغلين بهذا الفن أبوابًا واسعة في البحث والتحرير. ولا يسلم الكتاب من نقد، لا سيما في المباحث المبتكرة فقد فتحته لهذا الغرض، فجاء أمامي الكلام على كتاب (أساس البلاغة) للزمخشري فرأيت المصنف ذهب في الكلام عليه مذهب من يرى أنه معجم من معاجم اللغة فإنه قال: (والكتاب ليس قاصرًا على إفادة اللغة، بل يرشد أيضًا إلى مناهج الإنشاء لكثرة ما فيه من السجع والشواهد والأمثال) ، فجعل إفادة معاني الكلم هو الغرض الأول، والإرشاد إلى مناهج الإنشاء أمرًا عرضيًّا وثانويًّا، ثم قال: (ولحسن ترتيبه يسهل على الطالب الكشف منه على معاني الكلم؛ لكن ربما أبطأ به عن نوال (كذا) المطلوب اقتصار المؤلف في الغالب على وضع الكلمات في التراكيب دون ذكر معانيها صراحًا اعتمادًا على فهم المطالع، واستنباطه معنى الكلمة من الجملة، فلهذا ربما يصح أن يقال: إنه كتاب مطالعة لا مراجعة، وههنا قارب الصواب، وهو أن الكتاب إنما وضع لبيان التراكيب المختارة، والأساليب البليغة في جميع ضروب القول ومناحيه، فهو كتاب دراسة ومطالعة حتمًا، وتدل خطبته على ذلك، فليرجع إليها من شاء، وسننشر شيئًا من مختارات الكتاب في جزء آخر. *** (أنيس الجليس) هي - ولا أزيد القراء معرفة بها - المجلة النسائية العربية الوحيدة المعروفة بحسن الاختيار للمواضيع الأدبية والتهذيبية الجديرة باطلاع السيدات عليها، وقد دخلت في سنتها الرابعة، فنهنئ منشئتها الفاضلة البارعة ألكسندرة أفرينوه بنجاحها ونرجو لمجلتها الغراء زيادة الاشتهار ودوام الانتشار.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ الطريق القويم للتربية والتعليم [1] (27) من أراسم إلى هيلانة في 2 أغسطس سنة 185 أذكر أن رجلاً فاضلاً من أصدقائي كان قد وجد في نفسه انبعاثًا إلى التربية، فأوجب عليها الاشتغال بها، ثم إنه انتُدِب لإدارة مدرسة كان غيره أنشأها، فألفى نظام التأديب فيها بالغًا من الشدة غايتها؛ إذ رأى فيها أفرادًا من التلامذة يُخصون بالعقوبة دون غيرهم، فيقضون ساعات الاستراحة في فنائها كل يوم جثيًّا أو قيمًا في مواقف الجزاء، ولم يكن يعوزها شيء مما تشرف به من طرق العقاب كالتكليف بمضاعف العمل والحبس والمنع من الخروج؛ لأنها كانت سائرة على الأصول القديمة القويمة، فما لبث صديقي هذا أن أبطل كل ذلك النظام التعذيبي دفعة واحدة لعلمه بأنه لا يرهب إلا الجبناء، ولا ينشأ عنه أثر للتهذيب في نفوس المتعلمين، وقال للتلامذة: أنا أعلم من سيعاقبكم بعد الآن إن أنتم أسأتم؛ ذلك هو وجدانكم الذي لا ينجو من سوط عذابه من أعفي من ضرب العصا. كان شعار هذا المربي في تعليمه: (لا قلنسوة لعالم، ولا لحمار) [2] . وكان التلامذة قبل وجوده في المدرسة لا يتسنى لهم أن يخطوا خطوة في دهاليزها الطويلة وفي عرصاتها وقاعاتها الفسيحة إلا وهم مصطفون مثنى مثنى تحت رعاية كبير لهم، كانوا يسمونه ضابط الرجالة تهكمًا به، ويكرهونه من صميم أفئدتهم ولا يفترون عن مماحكته وابتلائه بضروب الحيل والخبث، فجمعهم المعلم الجديد ليلقي عليهم نبأ عظيمًا، فقال لهم: اعلموا أنكم من الغد أحرار، لا سيطرة لأحد عليكم، وأنه لن يرعاكم في سيركم وسيرتكم سوى عين الواجب الذي تشعرون به. ولا أراني بعد هذا في حاجة إلى القول بأن كلاًّ منهم بمجرد سماعه هذا التنبيه قد اعتبر طاعة النظام من أمس الأمور به وألزمها له. وبينما كان في يوم من الأيام مجتازًا حديقة المدرسة بصر بتلميذ تسلق عريشة كرم ممتد على جدار عتيق، يتدفق من فوقه ضوء الشمس، وأنشأ يأكل من قطوفه أكلاً لمًّا، فتظاهر له بالغفلة عن فعله، ورجاه أن يلتمس له أمين المدرسة، فأتاه من فوره يتبعه الغلام النهاب والريبة تدب إلى نفسه، فقال المدير للأمين: كيف يصح أيها السيد أن لا يعطى هذا الغلام من الطعام كفايته؛ فإنه لم يكد يخرج من قاعة المائدة حتى جاء إلى الكرم وطفق يجني قطوفه خلسة، فأرجو أن تأخذه الآن بنفسك وترده إلى المطعم ليأكل ما يكفيه. كان هذا المربي أقل الناس شبهًا بمديري المدارس، وكان من أجل ذلك محبوبًا لتلامذته، فإني كثيرًا ما رثيت لحال معلم الأطفال الذي هو شهيد الشهداء لمقتهم إياه مع إحسانه إليهم، وعلى كل حال لست أدري إن كنت مخطئًا في ذلك، أو مصيبًا، وإني لا أخال الطفل كفورًا بنعمة معلميه؛ ولكنهم هم الذين أرادوا أن يطعموه من باكورة العلم صابًا وعلقمًا، كيف لا وفي التعلم سعادة المتعلمين، وفي التمرين والتدريب حياة لكل قوة من قوى الإنسان، ولا شيء إلا وهو يطلب الوجود والظهور والنمو، وهكذا شأن التلميذ؛ وإنما القهر هو الذي يحيل فرحه إلى ترح، ومرحه إلى خمود؛ فإنه يجيء إلى المدرسة وللحياة فيه دوي كدوي النحل، فيجد مديرها عابس الوجه متمسكًا بالكتب، واثقًا بها ثقة الظالم الغاشم، فيا له من تنشيط للأحداث وترغيب لهم في التعليم! ! الكتاب الذي ينبغي أن يتعلم منه الحدث هو صحيفة الموجودات، والمدارس خلو منها. إنك إذا دخلت غرفة من غرف المدارس لا تجدين فيها سوى مكاتب ملطخة بالمداد، ومقاعد من الخشب غير مستوية القوائم، وجدرانًا أربعة عارية من الزينة وسقفًا مرفوعًا على خُشب غليظة خشنة، يمتد بينها نسيج العناكب التي هي عوامل الضجر المحزنة، فإذا نظرت خارج تلك الغرفة من نوافذها المفتوحة رأيت الطيور مطلقة السراح مغردة في الجو كأنها تسخر من التلامذة؛ فإن الكون الخارجي كله أصوات وأضواء وأشكال وألوان تدعو الطفل إلى التعلم بواسطة مشاعره، وأما هذه الغرفة فلا شيء فيها يستلفت نظره، فقلما يوجد فيها صورة وشيء من خرائط تقويم البلدان، وما عساه يوجد من الصور فدميم قبيح، ومن الخرائط فهو يشبه خط قدماء المصريين في غموضه وتجرده من الرونق وقصوره عن تمام البيان، فأقسم بالله على المتولين أمر التربية أن يدخلوا في هذه المقابر التي أعدوها للأحداث نفحة من نفحات العالم الخارجي، وشعاعًا من أشعة الحياة. كل أمة تُعنى بالتربية حق العناية ينبغي أن لا تخلو مدرسة من مدارسها من نظارة معظمة (ميكروسكوب) لمضاعفة أجرام الأشياء التي لا تُرى بمجرد النظر ومن مِرْقَب (تلسكوب) تسهل به رؤية أشكال أقرب الكواكب إلى الأرض، ومن كرة جوفاء تمثل في باطنها أقسام الدنيا (جيوراما) ، ومن مَرْبى للحيوانات والنباتات المائية، ومرآة للصور الماثلة (أستيريوسكوب) ، وبالجملة يجب أن يوجد فيها جميع الأدوات اللازمة لتحصيل معنى الكون وآياته الكبرى في أذهان الناشئين. اعلمي أن اللفظ والخط طريقتان قاصرتان جدًّا عن إيصال العلوم إلى نفس الحدث، وأن اللازم له إنما هو رؤية الأشياء، فلمربيه توجيه فكره ولو قبل تعليمه القراءة إلى أمور كثيرة لا تخرج بحال عن متناوله وإدراكه، ورأيي فيما عليه المربون الآن هو أنهم يفرطون في التعجيل بتعليمه بعضًا من فروع العلم كان حقها التأجيل، وفي تأجيل بعض آخر كان أولى بالتعجيل، وكان يجب عليهم في اختيار العلوم وترتيبها أن يرجعوا إلى درس القوانين التي يجري عليها الإنسان في نمو جسمه ونفسه وعقله. قولهم: (لما يجيء وقتي) ، كلمة تصدق على معظم قوى الإنسان في ساعة ما من عمره، فالطفل يدرك من الأشياء أبعادها وعلاماتها الظاهرة؛ ولكن عقله في غاية القصور عن الإحاطة بما بينها من الروابط، فهو أشد قصورًا عن النفوذ فيما تجري عليه من القوانين، وعن تتبع سلسلة الأسباب التي نشأت عنها خصوصًا، واليافع يتأثر بالقضايا الشعرية وترتاح نفسه إليها، ولا يميل إلى القضايا المنطقية والأصول الحكمية، ومن حاول استمالته إليها فقد عبث؛ والسبب في هذا أن ضروب الاستعداد المناسبة لهذه العلوم العقلية لما توجد فيه، أو أنه لم يوجد منها إلا جراثيمها، فالإدراك لفظ عام يدخل في مفهومه عدة قوى متمايزة كل التمايز لا تنمو إلا بالتدريج، ولكل منها طور كمون، ثم تظهر تابعة في ذلك لجملة من الحوادث تتغير بتغير الأشخاص وما يحيط بهم؛ ولكنها على التحقيق محدودة بنواميس الكون والزمان، فأفكارنا ووجداناتنا لها أعمار كأعمارنا. الشيء الواحد يقتضي أن يتعلمه الإنسان عدة مرات ومن وجوه مختلفة، خذي لك مثلاً: الطفل لا يرى في الوردة بادئ بدء إلا وردة، ثم إذا نمت فيه قوة الإدراك قليلاً انتزع من شكلها ولونها ورائحتها مثالاً عقليًّا ممتازًا يعرف به الوردة كلما وقعت في يده، وهو في هذا الطور من الحياة لا يهتم بمرتبتها التي عينها لها علماء النبات في ترتيبهم، ولا بتركيبها ومعيشتها، فتلك طائفة من الشؤون والأفكار يجب على مربيه الاحتراس التام من الخوض معه فيها إذا كان يعنيه أن لا يُضل مدركته وكذلك الشأن في جميع الموجودات. إذا أردت أن أعلم (أميل) علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) مثلاً، وهو العلم الذي يعتبره العارفون أبا العلوم، فإني أنبهه أولاً إلى ما يوجد في الأحجار، بل في حصا الطرق من أشكال المخلوقات العضوية المنطبعة عليها؛ فإن حبه للاستطلاع وميله للاستئثار بالمعرفة مع مساعدة الفرص يعودانه في أقرب وقت على تمييز أهم العلامات التي توجد في دفائن الأرض من بقايا تلك المخلوقات، فجميع ذلك مناسب لسنه أو قريب منه، ثم بعد ذلك ببضع سنين أدعوه إلى أن يقيس ما يكون قد جمعه من هذه النموذجات بعضه ببعض، وأن يرتبها على حسب ما بينها من التشابه، وفي هذا الوقت دون غيره أتلطف في تسريب معنى أطوار الأرض وعهودها إلى ذهنه، وأقص عليه تاريخها مستعينًا بتلك الحصا والحجارة، فقد قال شكسبير: (إن في الحجارة لموعظة وذكرى) ، وأنا أقول: إن فيها ما هو أسمى من ذلك، فهي وحي يعلمنا كيف خلقت الأرض، ثم إذا بلغ إميل الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة من عمره؛ أي: صار في سن يؤهله لفهم كل ما أقوله له حق الفهم استعنت بعلم طبقات الأرض على تعليمه حكمة التاريخ، فهو أمثل مقدمة لها. فيما كاشفتك به من أفكاري هذه غناء عن تعريفك أننا لا ينبغي لنا في تعليم إميل أن نعول على شيء من المؤلفات الموجودة، فالوجيزة منها والصغيرة والكتب المدرسية التي بين أيدي الأطفال جميعها وضعت لغير الوجهة التي نقصدها؛ فإنها مختصرات علمية توهم واضعوها أنها تكون ملائمة لإدراك الأحداث بسهولة عباراتها، وليس العيب ههنا في شكل الكتب، وإنما هو في أصل وضعها؛ فإن أول شيء يتسنى للطفل إدراكه من نظام الكون هو ما يدركه منه الإنسان في أول نشأته قبل تقدم العلوم وتقسيمها، فالمعلمون لا يفتؤون ينسون أن التعاريف والتقاسيم والقوانين لم توجد إلا بعد التجارب، كما أن علوم اللغة متأخرة عنها في الوجود، وكذلك علوم الدين. ويغيب عن أذهانهم أن علوم الإنسان لم تتكون ألبتة بالصورة التي يتعلمها عليها الأحداث الآن؛ فإن الإنسان لم يصل إلى إيجاد طائفة من العلم محدودة إلا بالانتقال من حادثة جزئية إلى أخرى، ومن سلسلة من الحوادث مرتبطة بعضها ببعض إلى غيرها، وبعد أن وجدت له طائفة منها نشأ يستنبط لها القوانين التي تضبطها، ثم تفرعت دوحة المعارف وتمايزت فروعها وانفصل كل علم عن الآخر. فالجري في تعليم الطفل على غير هذه الطريقة قلب لنظام عقل الإنسان، فالمعلمون إنما يلقون عليه نتائج العلوم وخلاصاتها قبل أن تؤسس قوته الحاكمة بمبادئها، وتدعم بمقدماتها، فترينهم ينحدرون مرة واحدة من الذروة التي رقى إليها العلم في عصرنا بعمل الأجيال الماضية إلى ما هو فيه من حضيض الجهل، والذي يستحسن أولئك المعلمون تسميته مبادئ العلوم إنما هو في حق الطفل من ثمرات العقل المبالغ في تحضيرها، ومن نتائج ربط الأشياء بعضها ببعض. أنا لا أجري على هذه الطريقة في تعليم (أميل) فإني أود قبل أن أعلمه تاريخ الموجودات أن أعرفه بما في الكون، فأجعل له به أنسًا بأن أوجه نظره إلى حوادث الحرارة والوضوء والكهرباء قبل تعليمه قوانين علم الطبيعة، وأعلمه شيئًا من أوصاف أشكال الأجرام السماوية ومواقعها من قبة الفلك قبل الخوض معه في علم الهيئة، بل إن قصدي إلى أن أشرح له في المستقبل ما أعلمه من نواميس الكون أقل بكثير منه إلى إيقاظ وجدان الملاحظة فيه؛ فإن تعليم الطفل ليس بشيء يذكر، وإنما الأمر الخطير هو أن يؤتى وسيلة التعلم بنفسه وتحرك فيه دواعي الإقبال عليه، فدروسي لإميل كلها لا يكون فيها إلا ما كان له شأن في تنبيه عقله وتقويته؛ لأنه مرجع جميع علومنا على اختلافها. قد رأيت مما قدمته لك أنه قد قضي عليك أن تكوني (لأميل) كتابًا يأخذ عنه علمه، فلا تستعيني بشيء من صغار الكتب وموجزاتها ومختصراتها، وعليك أن تلتمسي له أبسط المعاني وأليقها بحالة إدراكه مع التدرج في ذلك بحسب ارتقائه في الفهم، وأن تجعلي تعليمك مطابقًا لأحوال سنه اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

المرأة الجديدة ـ تتمة التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المرأة الجديدة - تتمة التقريظ وأما الفصل الخامس ففي التربية والحجاب، وأهم مسائله: 1- قوله: إن الحجاب جعل المرأة في حكم القاصر لا تستطيع أن تباشر عملاً ما بنفسها، مع أن الشرع يعترف لها في تدبير شؤونها المعاشية بكفاءة مساوية لكفاءة الرجل، وإن ضرره الأعظم أنه يحول بين المرأة واستكمال تربيتها. 2- وإنه ينبغي أن تربى كتربية الرجل في جسمها وآدابها وعقلها. 3- وقوله: (متى انتهت تربية البنت باتخاذ ما يلزم من الوسائل لتنمية قواها الجسمية وملكاتها العقلية وبلغت الخامسة عشرة من عمرها، ينبغي أن تطلق لها الحرية في مخالطة الرجال؛ لأن قهر الإنسان لهواه وجعله تحت سلطان العقل يستدعي قوة عظيمة في الإرادة، ولا توجد هذه القوة في الإرادة بإقامة الحوائل المادية بينه وبين النقائص، ولا بمجرد حشو ذهنه بالقواعد الأدبية؛ وإنما تتولد بالتعرض لملاقاة الحوادث والتعود على مغالبتها والتغلب عليها، فمزاولة الأعمال ومشاهدة الحوادث واختبار الأمور ومخالطة الناس والاحتكاك بهم والتجارب كل هذه الأشياء هي منابع للعلم والآداب الصحيحة، بها ترتقي النفوس الكريمة حتى تبلغ أعلى الدرجات، وأمامها تنهزم النفوس الضعيفة وتهبط إلى أسفل الدركات) اهـ. 4- وذكر قول معترض حض على النظر إلى مدنيتنا القديمة التي ذكر من أصولها احتجاب النساء، وقال: إنها نفس الكمال: والرد عليه بوجوب أخذ الأهبة لمقاومة سلطة العادات الموروثة إذا خشينا أن تسلبنا إرادتنا واختيارنا، وذلك بالالتفات إلى المدنية الإسلامية، ووزنها بميزان العقل والتدبر في أسباب ارتقاء الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها، واستخلاص قاعدة من ذلك يمكننا أن نقيم عليه بناء ننتفع به اليوم، أو في ما يستقبل من الزمان. ثم ذكر ظهور الإسلام في جزيرة العرب وفتوحاته، وأخذ العلوم والصنائع ممن فتح المسلمون بلادهم، وما كان من النهضة العلمية، وقال بعد ذلك ما نصه: (على هذين الأساسين شيدت المدنية الإسلامية الأساس الديني الذي كوَّن من القبائل العربية أمة واحدة خاضعة لحاكم واحد ولشرع واحد، والأساس العلمي الذي ارتقت به عقول الأمة الإسلامية وآدابها إلى الحد الذي كان في استطاعتها أن تصل إليه في ذلك العهد) ، ثم ذكر أن قوة العلم كانت ضعيفة في ذلك العصر وأكثر أصوله ظنية وأن الفقهاء تغلبوا على رجال العلم ورموهم بالكفر والزندقة حتى نفر الناس من دراسة العلم، قال: (ثم غلوا في دينهم وشطوا في رأيهم حتى قالوا في العلوم الدينية نفسها: إنها لا بد أن تقف عند حد لا يجوز لأحد أن يتجاوزه. فقرروا أن ما وضعه بعض الفقهاء هو الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد أن يخالفه، وكأنهم رأوا من قواعد الدين أن تُسد أبواب فضل الله على أهله أجمعين) ، ثم عقب هذا بكلمة جليلة ذكر بعدها ما كان من ارتقاء العلم في أوربا وهي: (هذا النزاع الذي قام بين أهل الدين وأهل العلم، ولا أقول: بين الدين والعلم لم يكن خاصًّا بالأمم الإسلامية، بل وقع كذلك عند الأمم الأوربية) ، ثم ذكر بعض الاكتشافات الحديثة في العلم، وتغلب أهله على رجال الدين واستنتج من ذلك قوله: (فإذا كان التمدن الإسلامي بدأ وانتهى قبل أن يكشف الغطاء عن أصول العلوم كما بيناه، فكيف يمكن أن نعتقد أن هذا التمدن كان (نموذج الكمال البشري) يهمنا أن لا نبخس أسلافنا حقهم، ولا ننقص من شأنهم؛ ولكن يهمنا مع ذلك أن لا نغش أنفسنا بأن نتخيل أنهم وصلوا إلى غاية من الكمال ليس وراءها غاية، نحن طلاب حقيقة إذا عثرنا عليها جهرنا بها مهما تألم القراء من سماعها، لذلك نرى من الواجب علينا أن نقول: إنه يجب على كل مسلم أن يدرس التمدن الإسلامي ويقف على ظواهره وخفاياه؛ لأنه يحتوي على كثير من أصول حالتنا الحاضرة، ويجب عليه أن يعجب به؛ لأنه عمل انتفعت به الإنسانية وكمَّلت به ما كان ناقصًا منها في بعض أدوارها؛ ولكن كثيرًا من ظواهر هذا التمدن لا يمكن أن يدخل في نظام معيشتنا الاجتماعية الحالية) اهـ. وقد بيَّن السبب في عدم هذا الإمكان من جهة العلوم الكونية قبله، وبين بعد سبب ذلك من جهة النظامات السياسية، وانتقد السلطة المطلقة التي جرى عليها الخلفاء والملوك، وما كان فيها من الاستبداد الذي ساعد عليه عدم تحديد الفقهاء للعقوبات، بل تركوا أنواع التعزير مفوضة للحاكم، ثم بيَّن أنه لم يكن عندهم شيء من العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى إن ابن خلدون لم يذكر في كتابه، - وهو الكتاب الوحيد الذي وضع عند المسلمين في الأصول الاجتماعية - كلمة واحدة في العائلة، ثم بين أن الحالة العائلية كانت خالية من كل نظام، ثم بيَّن ذلك من جهة الآداب، فذكر أن المسلمين لم يأتوا للعالم بأصول جديدة فيها، وأما عملهم بها فذكر أن التاريخ يشهد على أن كل عصر لا يخلو من الطيب والرديء، وأشار إلى أهم ما يُنتقد على المسلمين كتمزيق الدولة العربية بالمنازعات الداخلية، وكشرب بعض الأمراء والعظماء الخمر جهرًا في مجالس الجواري والقيان وغير ذلك، ثم قرر بعد ذلك الرد على من قال: إن المدنية الإسلامية كانت (نموذج الكمال البشري) ، وإن المسلمين كانوا حائزين جميع أنواع (الكمالات الأخلاقية الصحيحة) ، وقرر أن الحجاب إذا كان عادة من عاداتهم التي لم تكن كلها كاملة فلا ينافي ذلك أنه لا يليق في عصرنا، ثم قال ما نصه بالحرف: (وغني عن البيان أننا عند كلامنا على المدنية الإسلامية لم نقصد الحكم عليها من جهة الدين، بل من جهة العلوم والفنون والصنائع والآداب والعادات التي يكون مجموعها الحالة الاجتماعية التي اختصت بها، ذلك لأن عامل الدين لم يكن وحده المؤثر في وجود تلك الحالة الاجتماعية، فهو على ما به من قوة السلطان على الأخلاق لم ينتج إلا أثرًا مناسبًا لدرجة عقول وآداب الأمم التي سبقت، ثم حتم بوجوب بناء مدنيتنا على العلوم العصرية التي بنى عليها الأوربيون مدنيتهم) . والمسألة (5) من مهمات هذا الفصل البحث في زعم الذين يعترفون بتقدم الغربيين علينا في الصنائع وإنكار تقدمهم في الآداب، ولم يُبق الإسهاب في المسألة الرابعة مجالاً لتلخيص شيء منها، وإنما أطلت في هذه لأنها أهم مسائل الكتاب في الحقيقة؛ ولأن الناس يلغطون فيها قولاً وكتابة على غير بصيرة، بل يكذبون على المؤلف ويتهمونه بأنه طعن بالدين الإسلامي نفسه، وقال: إنه غير كاف لمدنية المسلمين في هذا العصر. ونحو ذلك مما يرمي به من لا قيمة للصدق ولا للدين في نفوسهم، نعم إن كلامه في هذا الموضوع لا يسلم من استدراك وانتقاد سنبينه في بقية مقالاتنا في مدنية العرب، وأما خاتمة الكتاب فسنكتب عنها شيئًا في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. رأي الناس في الكتاب ورأينا فيه قلنا في تقريظ كتاب (تحرير المرأة) ما أعدنا معناه في تقريظ المرأة الجديدة من أننا لم نر في مكتوب العصر شيئًا أثَّر في مسلمي مصر مثل هذين الكتابين، وكنا قد استبشرنا لهذا التأثر لدلالته على أن في الأمة ذماء ورمقًا من الحياة يهيج إحساسها للنفور من الضار في اعتقادهم، وإن لم يرتق إلى العناية بالنافع في الأخذ به؛ ولكن هذا الاستبشار غير صافٍ من الكدورة، ولا محل هنا لبيان السبب في ذلك؛ إذ لا يفي به إلا مقالة أو مقالات في شعور الأمة ووجدانها وتأثيره في أعمالها. قلنا في الجزء الماضي: إن من الناس من قرَّظ كتاب المرأة الجديدة، ومن انتقده، ونذكر ههنا أن المنتقدين هم الأكثرون بحسب ما يظهر لنا من كتابتهم في الجرائد ومحاوراتهم في الأندية والسمار، يقول هؤلاء المنتقدون: إن هذا الكتاب وسابقه ما أُلفا إلا لإقناع المسلمين بأن يعطوا نساءهم الحرية المطلقة بمعاشرة من يردن من الرجال، وأن يكن كنساء الإفرنج مكشوفات الوجوه والرؤوس يختلفن إلى الملاهي والمراقص، ويذهبن في التهتك كل مذهب. هذا ما يلهج به الجماهير يتلقفه بعضهم من بعض وأكثرهم لم يقرأ الكتاب، ومنهم من يزيد على ذلك مسألة المدنية الإسلامية والمدنية الغربية، وقد ذكرنا طعنهم فيها آنفًا. إن كان الكتابان أُلفا لهاتين الغايتين، أو اشتملا عليها، فنحن وجميع المسلمين بل وجميع العقلاء نقول: إنهما باطلان جديران بالمقت والرفض؛ لأن ذلك يجر إلى فتنة في الأرض وفساد كبير، ويكون به خيار نسائنا في التهتك والتبذل أبعد غورًا من شر نساء الإفرنج؛ لأن لهؤلاء من التربية والعلم الذي لم يصلن إليه إلا بعد عدة قرون ما ليس لنا شيء منه، ونحن لما نبتدئ بالتربية ابتداء؛ ولكن هل الكتابان كما يقولون؟ الجواب ما قلناه في تقريظ كتاب تحرير المرأة في العام الماضي من أن المؤلف غالى في بيان مضار التشديد والمبالغة في الحجاب، وبالغ جدًّا في جعل نجاح المسلمين متوقفًا على إزالة الحجاب المعهود في الأذهان، والموجود أثره في الأعيان، بحيث إن هذه المغالاة والمبالغة المصوغة في قالب الأسلوب الكتابي المؤثر تذهب بوجدان القارئ إلى وجوب تمزيق هذا الحجاب؛ لأنه لم يحجب إلا العلوم والفضائل عن نصف الأمة. وقد رأينا من أفاضل المعتدلين في الإنكار على كتاب المرأة الجديدة من قال: إن هذا هو الضرر الحقيقي من قراءة الكتاب، وقال: إنني كنت أقرأه فأشعر بوجداني قد تغير واعتقادي بوجوب بقاء الحجاب قد تزلزل واضطرب، فأترك القراءة ليثوب إليّ وجداني الأول، ويسكن اعتقادي فيه، ثم أعود إليها. فقلت له: ربما تكون هذه المغالاة مقصودة للمؤلف؛ لأن الداعي إلى شيء ينبغي له لأجل إرجاع من يدعوهم إلى الاعتدال الذي هو الحق أن يقف على الطرف المقابل لما هم فيه، فإن كانوا في جانب التفريط يقف في جانب الإفراط؛لينتهي التجاذب بينه وبينهم إلى الوسط، ولو وقف في الوسط وجذبهم وجذبوه يخرج كل منهما عنه، أو يبقى في محله ولا فائدة في ذلك، ومن هنا يقول الناس: لا بد من شيء من الباطل لأجل الوصول إلى الحق. وقد قال الإمام الغزالي: إن وعد القرآن ووعيده مبني على هذه القاعدة فمثل قوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: 53) إنما يعالج الذين غلبت عليهم خشية الله، والخوف من عذابه، وأفرطوا فيها حتى كادوا يقنطون من رحمته تعالى، وأما الذين غلب عليهم التهاون وأدى بهم الإفراط في الرجاء إلى الغرور وكادوا يأمنون مكر الله وعذابه وتجرؤوا على المعاصي، فيجب أن يُعالجوا بمثل قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) وإذا ذكروا تلك الآية ذُكِّروا بمثل قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) وهكذا يجب أن يكون المرشد كالطبيب يعطي كل مريض ما مست إليه حاجته ويناسب حاله. ثم إن من فوائد هذه المبالغة أن أثارت أفكار الناس للبحث، وكل الباحثين أو جلهم موافق له على سوء حالة المرأة المصرية والمسلمة، ووجوب تربيتها وتعليمها، وقد كان المانع الأكبر منهما عند الجماهير هو الحجاب؛ ولكنهم يخالفونه في توقف التربية والتعليم في كمالهما على تخفيف الحجاب أو منعه، فإذا انتهت هذه المناقشات بانصراف همة ال

الأحاديث الموضوعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قسم الأحاديث الموضوعة الموضوعات في العلماء والزهاد ذكرنا في الجزأين 27 و 28 من السنة الماضية بعض الأحاديث الموضوعة في تعظيم العلماء وإطرائهم، وبقي علينا بقية منها، وأن نذكر الأحاديث الموضوعة في انتقادهم على عدم العمل، وانتقاد العباد بغير علم، وأكثر الموضوعات في الإطراء وضعها علماء السوء لتعظيم أنفسهم على المتصوفة الذين تخصهم العامة بالتعظيم والإكرام واعتقاد الولاية، وأكثر تلك الأحاديث الانتقادية وضعها مدعو الإصلاح والولاية للحط من شأن العلماء الذين يظهر من عملهم أنهم لا يريدون بعلمهم إلا المال والجاه، وهكذا كانت المحاسدة بين الفريقين إلا من عصم ربك من المخلصين؛ ولكن الانتصار كان للعلماء إلا في الأزمنة التي ساد فيها الجهل، وصار الأمراء كالعامة في اعتقاد جهلة مدعي الولاية أوالمتظاهرين بالصلاح، وآل الأمر إلى مشاركة العلماء لهم في هذا الاعتقاد والتظاهر به؛ لئلا يتهموا وتنحرف عنهم العامة، فيفوتهم الانتفاع منها، ولا تنس استثناء المخلصين، وقليل ما هم. فمن هذه الموضوعات حديث: (يكون في آخر الزمان علماء يُرَغِّبون الناس في الآخرة ولا يرغبون، ويُزَهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهدون، وينبسطون عند الكبراء، وينقبضون عند الفقراء، وينهون عن غشيان الأمراء (أي: زيارتهم والتردد عليهم) ولا ينتهون، أولئك الجبارون عند الرحمن) وفي إسناده نوح بن أبي مريم أحد المشهورين بالكذب، ولا يغرنك كون مضمونه واقعًا الآن، فتستدل به على صحته؛ فإنهم ما وضعوه إلا لواقع متحقق، وما كل صحيح المعنى يصح رواية. ومنها حديث: (يأتي على أمتي زمان يحسد الفقهاء بعضهم بعضًا، ويغار بعضهم على بعض كتغاير التيوس) ، في إسناده متهم بالوضع، وإن صح معناه. ومنها حديث: (من فتنة العَالِم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع) ، وهو موضوع. ومنها حديث: (هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشرار الشرار شرار العلماء، وخيار الخيار خيار العلماء) ، لم يوجد وإن صح معناه. ومنها حديث: (لا تجوز شهادة العلماء بعضهم على بعض) ، قالوا: إسناده لا يصح. ومنها حديث: (الزبانية أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة الأوثان) ، وهو موضوع، وقال ابن حبان: باطل. وفي إسناده من يتهم بالوضع، وذكر له في اللآلئ المصنوعة طرقًا لا يصح منها شيء. ومنها حديث: (المتعبد بغير فقه كالحمار في الطاحونة، ما اتخذ الله من ولي جاهل، ولو اتخذه لعلَّمه) ، قال ابن حجر: ليس بثابت. قلت: كانوا يحتجون به على الجهال الأميين الذين يدَّعون الولاية، ويصدقهم العوام لتظاهرهم بالصلاح، وما كان هؤلاء ينتهون عن دعواهم؛ لأن لهم من العامة قوة يغلبون بها الحق على قاعدة بسمارك، وقد أنكر بالحديث أحد العلماء على أحد أدعياء الأولياء الجهلاء، وكان لم يره، وبلغ الولي ذلك، فاتفق أن اجتمعا في مجلس مصادفة، فابتدر الولي العالم بقوله: (اتخذني وعلمني) ، فعدها له الناس مكاشفة وزادوا به اعتقادًا؛ لأن كرامة وهمية كهذه تهدم ألف قاعدة من قواعد العلم والدين، وهذا العلم الذي يسميه الصوفية (اللدني) لا يتناول علوم الرواية والأحكام كالحديث والفقه واللغة كما بينه الفقيه ابن حجر في الفتاوى الحديثية؛ ولذلك تجد أكابر الصوفية الصادقين يحتجون بالأحاديث الموضوعة؛ إذ لم يكونوا من المحدثين؛ ولكن أين من يعقل ويفهم؟ ومنها حديث: (أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل أمكنه طلب العلم في الدنيا فلم يطلبه، ورجل علم علمًا، فانتفع به من سمعه منه دونه) ، قال ابن عساكر منكر. ومنها حديث: (من نصح جاهلاً عاداه) ، قالوا: لم يرد مرفوعًا، أي لم ينسبه أحد للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في كلام بعض السلف، أقول: إذا أراد قائله بالجاهل الأحمقَ السفيهَ فله وجه، وأما إذا أراد غير العالم فهو خطأ وضلال يقتضي ترك التعليم والنصيحة، وفي ذلك محو الدين بالمرة. ومنها حديث: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا معشر العلماء إني لم أضع علمي فيكم إلا لمعرفتي بكم، قوموا فإني قد غفرت لكم) ، رواه ابن عدي عن واثلة ابن الأسقع مرفوعًا، وقال: هذا منكر، لم يتابع عثمان بن عبد الرحمن القرشي عليه الثقات. وله إسناد آخر عند ابن عدي عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا، وقال: في إسناده طلحة بن يزيد متروك، وهذا الحديث بهذا الإسناد باطل. ومنها حديث: (إن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي فيه بين المشرق والمغرب، كما يضيء الكوكب الدري) ، رواه أبو نعيم والخطيب، قال في الميزان: هذا خبر باطل. ومنها حديث: (إذا كان يوم القيامة جاء أصحاب الحديث بأيديهم المحابر، فيأمر الله جبريل أن يأتيهم ويسألهم وهو أعلم بهم فيقول: من أنتم؟ فيقولون: نحن أصحاب الحديث، فيقول الله تعالى: ادخلوا الجنة على ما كان منكم طالما كنتم تصلون على نبيي في دار الدنيا) ، قال الخطيب: موضوع، والحمل فيه على الرقي يعني محمد بن يوسف بن يعقوب الرقي، وقد ذكره الذهبي في الميزان، وقال: إنه وضع هذا الحديث. أقول: حيَّا الله تعالى علماء الحديث. ومنها حديث: (من حفظ على أمتي أربعين حديثًا لقي الله يوم القيامة فقيهًا عالمًا) ، رواه ابن عبد البر وضعَّفه؛ ولكن قال صاحب الذيل: هو من أباطيل إسحق الملطي. وقال في المقاصد: طرقه في جزء ليس فيها طريق تسلم من علة قادحة. وقال البيهقي: هو متن مشهور وليس له إسناد صحيح. أقول: وسبب شهرته عناية العلماء بحفظ الأربعينات رجاء أن يكون ثابتًا في الواقع وإن لم يصح سنده. وقد ورد في العلماء والعباد أحاديث أخرى تكلم فيها بعض، واحتج بها آخرون، منها حديث: (شرار العلماء الذين يأتون الأمراء، وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء) ، روى ابن ماجه شطره الأول بسند ضعيف. وروي بلفظ (العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم) ، قيل: هو موضوع وفي إسناده مجهول ومتروك. وتعقب ذلك. وما زال العلماء العاملون والصوفية المخلصون يحتجون بهذا الحديث، وما ورد في معناه؛ لأنه مؤيد بسيرة السلف الصالح، وكانوا يتهمون كل عالم يغشى مجالس الأمراء والسلاطين إلا إذا كان بمقدار ما يؤدي النصيحة الواجبة ولم يأخذ من عطاياهم شيئًا، وإحياء علوم الدين طافح بآثار السلف في ذلك، وقد انقلب الأمر الآن؛ فإننا نرى من الناس من يستدل على حسن حال المنتسبين إلى العلم والصلاح بالقرب من الملوك والأمراء، وربما يعدون من كراماتهم ما يمنحونه من الحلي والحلل الذهبية والفضية التي تسمى النياشين وكسوة الرتبة والتشريف، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومنها حديث: (أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها) ، رواه أحمد والطبراني، والقراء: العلماء، والله أعلم.

انتقاد الأخلاق والعادات

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ انتقاد الأخلاق والعادات لمعري العصر في فلسفة الشعر محمد أفندي حافظ إبراهيم لحاظك والأيام جيش أحاربه ... فهذي مواضيه وهذي كتائبه وهمين ضاق القلب والصدر عنهما ... غرام أعانيه وعيش أغالبه وليل كمطل القوم كابدت طوله ... وأيقنت أني لا محالة صاحبه كأن دياجيه صحيفة ملحد ... تخط بها أعماله ومثالبه قريت به جيش الصبابة والأسى ... وأنزلته صدرًا تداعت جوانبه وعلمت نفسي كظم غيظي ولم أبح ... بما فعلت بين الضلوع قواضبه تماسكت حتى لو رأى القوم حالتي ... رأوا رجلاً هانت عليه مصائبه رجائي في قومي ضعيف كأنه ... جنان وزير سودته مناصبه ودائي كداء الدين عز دواؤه ... وحظي كحظ الشرق نحس كواكبه فياليت لي وجدان قومي فأرتضي ... حياتي ولا أشقى بما أنا طالبه ينامون تحت الضيم والأرض رحبة ... لمن بات يأبى جانب الذل جانبه يضيق على السوري رحب بلاده ... فيركب للأهوال ما هو راكبه فما هي إلا أن تجشمه النوى ... وما هو إلا أن تشد ركائبه ويحرج بالرومي مذهب رزقه ... فتفرج في عرض البلاد مذاهبه أقاسم إن القوم ماتت قلوبهم ... ولم يفقهوا في السِفْر ما أنت كاتبه إلى اليوم لم يُرفع حجاب ضلالهم ... فمن ذا تناديه ومن ذا تعاتبه فلو أن شخصًا قام يدعو رجالهم ... لوضع نقاب لاستقامت رغائبه ولو خطرت في مصر حواء أمنا ... يلوح محياها لنا ونراقبه وفي يدها العذراء يسفر وجهها ... تصافح منا من ترى وتخاطبه وخلفهما موسى وعيسى وأحمد ... وجيش من الأملاك ماجت مواكبه وقالوا لنا رفع الحجاب محلل ... لقلنا نعم حق ولكن نجانبه

ثناء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ثناء قد حذت جريدة طرابلس حذو المنار بالكلام في الموضوعات، فاستحقت بذلك الثناء.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية ضاق هذا الجزء عن هذا الباب، وسنثبته في الجزء الآتي ويدخل فيه باقي ترجمة ملكة الإنكليز وغير ذلك.

تصحيح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصحيح ذكرنا في الصفحة 862 من الجزء الماضي أن سعادتلو عبد الغني باشا العابد هو شقيق صاحب العطوفة الشهير أحمد عزت بك العابد الكاتب الثاني لمولانا السلطان الأعظم، وكان ذلك سبق قلم، والصواب أنه ابن عمه لا شقيقه.

من الإدارة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ من الإدارة من ينقصه شيء من أعداد سنة المنار الثالثة، أو فهرس المجلد الثاني، فليطلبه يُرْسَل إليه، وأما فهرس المجلد الثالث فسيوزع مع الجزء الآتي إن شاء الله تعالى، ونرجو من غيرة المشتركين الذين لم يدفعوا قيمة الاشتراك أن يتفضلوا بإرسالها، ونخص بالذكر أهل تونس والجزائر ومراكش وجاوة والهند، ولهؤلاء الخيار في إرسال القيمة حوالة على إدارة البوسطة، أو على أحد البنوك في القاهرة.

الفضائل والرذائل

الكاتب: نقلا عن جريدة العروة الوثقى

_ الفضائل والرذائل [1] ] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [[2] قالوا: للإنسان كمال مفروض عليه أن يسعى إليه. وقالوا: إنه عرضة لنقص يجب عليه الترفع عنه. وقالوا: كماله في استيفاء ما يمكن من الفضائل، ونقصه في التلوث برذيلة من الرذائل. فما هي الفضائل؟ وما هي الرذائل؟ الفضائل سجايا للنفس من مقتضاها التأليف والتوفيق بين المتصفين بها كالسخاء والعفة والحياء ونحوها، فالسخيان لا يتشاحان ولا يتنازعان في التعامل؛ فإن من سجية كل منهما البذل في الحق والمنع إذا اقتضاها الحق، فكل يعرف حده فيقف عنده، فلا يوجد موضوع للنزاع عند معاطاة الأعمال المالية، والأعفَّاء لا يتزاحمون على مشتهى من المشتهيات؛ فإن من خلق كل منهم التجافي عن الشهوة وفي طبيعته الإيثار بالرغائب، وهكذا إذا استقريت جميع ما عده علماء التهذيب من الصفات الفاضلة تجد أن من لوازم كل فضيلة منها التأليف بين المتصفين بها في متعلق الأثر الناشئ عن تلك الفضيلة، فإذا اجتمعت الفضائل أو غلبت في شخصين مالت نفوسهما إلى الاتحاد والالتئام في جميع الأعمال والمقاصد أو جلها، ودامت الوحدة بينهما بمقدار رسوخ الفضيلة فيهما، وعلى هذا النحو يكون الأمر في الأشخاص الكثيرة، فالفضائل هي مناط الوحدة بين الهيئة الاجتماعية وعروة الاتحاد بين الآحاد تميل بكل منهما إلى الآخر، وتجذب الآخر إلى من يشاكله حتى يكون الجمهور من الناس كواحد منهم يتحرك بإرادة واحدة، ويطلب في حركته غاية واحدة. مجموع الفضائل هو العدل في جميع الأعمال، فإذا شمل طائفة من نوع الإنسان وقف بكل من آحادها عند حده في عمله لا يتجاوزه بما يمس حقًّا للآخر، فبه يكون التكافؤ والتوازر، لكل شخص من أفراد الإنسان وجود خاص به، وأودعت فيه العناية الإلهية من القوى ما به يحفظ وجوده، وما به التناسل لبقاء النوع وهو في هذا يساوي سائر أفراد الحيوان، لكن قضت حكمة الله أن يكون الإنسان ممتازًا عن بقية الأنواع الحيوانية بكون آخر ووجود أرقى وأعلى، وهو كون الاجتماع حتى يتألف من أفراده الكثيرة بنية واحدة يعمها اسم واحد، والأفراد فيها كأعضاء تختلف في الوظائف والأشكال؛ وإنما كل يؤدي عمله لبقاء البنية الجامعة وتقويتها وتوفير حظها من الوجود ليعود إليه نصيب من عملها الكلي، كما أودع الله في أعضاء أبداننا وبنيتنا الشخصية، والفضائل في المجتمع الإنساني كقوة الحياة المستكملة في كل عضو ما يقدره على أداء عمله مع الوقوف عند حد وظيفته كاليد بها البطش والتناول وليس بها الإبصار، والعين بها الإبصار وتمييز الأشكال والألوان وليس من وظائفها البطش، والكل حي بحياة واحدة وإن شئت قلت: الفضائل في عالم الإنسان كالجذبة العامة في العالم الكبير، فكما أن الجذبة العامة يحفظ بها نظام الكواكب والسيارات، وبالتوازن في الجاذبية ثبت كل كوكب في مركزه، وحُفظت النسبة بينه وبين الكواكب الأخر، وانتظم بها سيره في مداره الخاص بتقدير العزيز العليم؛ حتى تمت حكمة الله في وجود الأكوان وبقائها، كذلك شأن الفضائل في الاجتماع الإنساني بها يحفظ الله الوجود الشخصي إلى الأجل المحدود، ويثبت البقاء النوعي إلى أن يأتي أمر الله. أي أمة يكون الواضع فيها والرافع، والحارس والوازع، والجالب والدافع، وجميع من يدبر أمورها، ويسوسها في شؤونها؛ إنما هم أفراد منها من هاماتها، أو من لهازمها (من الأعلياء والأوساط بل وسائر الأطراف) ، ويكون كل واحد منها قائمًا بحق الكل، ولا يختار مقصدًا يعاكس مقصد الكل، ولا يسعى إلى غاية تميل به عن غاية الكل، ولا يهمل عملاً يتعلق بالأمة حتى يكون الجميع كالبنيان المتين لا تزعزعه العواصف، ولا تدركه الزلازل، وبقوة كل منهم يجتمع للأمة قوة تحفظ بها موقعها، وتدفع بها عن شرفها ومجدها، وترد غارة الأغيار فهي الأمة التي سادت فيها الفضائل، واستعلت فيها مكارم الأخلاق. إن أمةً هذا شأنها لا يتخالف أفرادها إلا للتآلف، ولا يتغايرون إلا للاتحاد، فمثلهم في اختلاف الأعمال كمثل المتدابرين على محيط دائرة، يتفارقان في مبدأ السير؛ ليتلاقيا على نقطة من المحيط، ومثالهم في تغاير مآخذهم لجلب منافعهم كجاذبي طرف خيطة واحدة (حبل واحد) كل آخذ بطرف مع تعادل القوتين، ففي جذب أحدهما لصاحبه إبعاد لنفسه عنه من وجه وحفظ لمكان قربه منه من وجه آخر فلا يفترقان ولا يتباينان، ولا تفنى منفعة أحدهما في منفعة الآخر، أما إن مسالك الأفراد من هذه الأمة بما منحوه من الارتباط بينهم تكون كأنصاف دائرة مركزها حياة الأمة وعظمتها، ولا يخرج ولا واحد منهم عن محيط الجنسية، وأنهم في جلب منافعها واستكمال فوائدها كالجداول تمد البحر لتستمد منه. يرى كل واحد منهم أن ما تبتهج به النفوس البشرية، وتمتاز بالميل إليه عن سائر الحيوانات من رفعة المكانة والغلب وبسط الجاه ونفاذ الكلمة؛ إنما يمكن نواله إذا توافر للأمة حظها من هذه المزايا، فيسعى جهده لإبلاغ كل واحد من الأمة أقصى ما يؤهله استعداده ليأخذ بسهم مما يناله، فلا يهمل ولا يخون في الدفاع عن فرد من أفرادها، فضلاً عن هيئتها العامة، وإلا فقد خان نفسه؛ لأنه أبطل آلة من آلات عمله، وقطع سببًا من أسباب غايته، ولا يحتقر واحدًا من الآحاد، ولا يزدري بعمله ويحسب الشخص من الأمة، وإن كان صغيرًا بمنزلة مسمار صغير في آلة كبيرة لو سقط منها تعطلت الآلة بسقوطه. عليك أن تنظر في حقائق هذه الصفات الفاضلة لتحكم بما ينشأ عنها من الأثر الذي بيَّناه - التعقل والتروي وانطلاق الفكر من قيود الأوهام والعفة والسخاء والقناعة والدماثة (لين الجانب) والوقار والتواضع وعظم الهمة والصبر والحلم والشجاعة والإيثار (تقديم الغير بالمنفعة على النفس) ، والنجدة والسماحة والصدق والوفاء والأمانة وسلامة الصدر من الحقد والحسد والعفو والرفق والمروءة والحمية وحب العدالة والشفقة - أترى لو عمت هذه الصفات الجليلة أمة من الأمم، أو غلبت في أفرادها يكون بينها سوى الاتحاد والالتئام العام؟ هل يوجد مثار للخلاف والتنافر بين عاقلين حُرين صادقين وفيَّين كريمين شجاعين رفيقين صابرين حليمين متواضعين وَقُورين عفيفين رحيمين؟ أما والله لو نفخت نسمة من أرواح هذه الفضائل على أرض قوم وكانت مواتًا لأحيتها، أو قفرًا لأنبتتها، أو جدبًا لأمطرتها من غيث الرحمة ما يسبغ نعمة الله عليها، ولا قامت لها من الوحدة سياجًا لا يُخرق وحرزًا منيعًا لا يُهتك، وإن أولى الأمم بأن تبلغ الكمال في هذه السجايا الشريفة أمة قال نبيهم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ، الفضيلة حياة الأمم تصون أجسامها عن تداخل العناصر الغريبة وتحفظها من الانحلال المؤدي إلى الزوال {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) . أما الرذائل فهي كيفيات خبيثة تعرض للأنفس من طبيعتها التحليل والتفريق بين النفوس المتكيفة بها، كالقحة (قلة الحياء) ، والبذاء (التطاول على الأعراض بما لا تقتضيه الحشمة والأدب من الكلام) ، والسفه والبله والطيش والتهور والجبن والدناءة والجزع والحقد والحسد والكبرياء والعجب واللجاج والسخرية والغدر والخيانة والكذب والنفاق، فأي صفة من هذه الصفات تلوث بها نفسان، ألقت بينهما العداوة والبغضاء، وذهبت بهما مذاهب الخلاف إلى حيث لا يبقى أمل في الوفاق؛ فإن طبيعة كل منهما، إما مجاوزة الحدود في التعدي على الحقوق، وإما السقوط إلى ما لا يمكن معه للشخص أداء الواجب لمن يشاركه في الجنسية أو الملية أو القبيلة أو العشيرة أو بأي نوع من أنواع التعامل، والإنسان مجبول بالطبع على النفرة ممن يتعدى على حقوقه، أو يمنعه حقًّا منها، وإن شئت فتخيل وقحين بذيئين سفيهين جبانين بخيلين (كل منهما يمنع الآخر حقه) شرهين حاقدين حاسدين متكبرين (كل لا يستحسن إلا فعل نفسه) لجوجين خائنين غادرين كاذبين منافقين، هل يمكن أن يجمعهما مقصد أو توحد بينهما غاية؟ أليس كل وصف على حدته قاضيًا بانتباذ كل من صاحبه، وإن لم تكن داعية؟ وكفى بخلقه وصفته باعثًا قويًّا للتنابذ. هذه الرذائل إذا فشت في أمة نقضت بناءها، ونثرت أعضاءها، وبددتها شذر مذر، واستدعت بعد ذلك طبيعة الوجود الاجتماعي أن تسطو على هذه الأمة قوة أجنبية عنها لتأخذها بالقهر، وتصرفها في أعمال الحياة بالقسر؛ فإن حاجاتهم في المعيشة طالبة للاجتماع، وهو لا يمكن مع هذه الأوصاف، ولا بد من قوة خارجة تحفظ صورة الاجتماع إلى حد الضرورة، هذه صفات إذا رسخت في نفوس قوم صار بأسهم بينهم شديدًا تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، تراهم أعزة بعضهم على بعض أذلة للأجنبي عنهم، يدعون أعداءهم للسيادة عليهم ويفتخرون بالانتماء إليهم، يمهدون السبل للغالبين إلى النكاية بهم، ويمكنون مخالب المغتالين من أحشائهم، ويرون كل حسن من أبناء جنسهم قبيحًا، وكل جليل منهم حقيرًا، إذا نطق أجنبي بما يدور على ألسنة صبيانهم عدوه من جوامع الكلم، ونفائس الحكم، وإذا غاص أحدهم بحر الوجود واستخرج لهم درر الحقائق، وكشف لهم دقائق الأسرار عدوه من سقط المتاع، وقالوا بلسان حالهم أو مقالهم: ليس في الإمكان أن يكون منا عارف ومن المحال أن يوجد بيننا خبير. ويغلب عليهم حب الفخفخة والفخر الكاذب، ويتنافسون في سفاسف الأمور ودنياتها، يرتابون في نصح الناصحين، وإن قامت على صدقهم أقطع البراهين، يسخرون بالواعظين، وإن كانوا في طلب خيرهم من أخلص المخلصين، يبذلون جهدهم لخيبة من يسعى لإعلاء شأنهم وجمع كلمتهم، ويقعدون له بكل سبيل يقيمون في طريقه العقبات، ويهيئون له أسباب العثار، تراهم بتضارب أخلاقهم، وتعاكس أطوارهم، كالبدن المصاب بالفالج لا تنتظم لأعضائه حركة، ولا يمكن تحريك عضو منه على وجه مخصوص لمقصد معلوم، فتنفلت أعمالهم عن حد الضبط، وتخرج عن قواعد الربط، فساد طباعهم بهذه الأخلاق يجعلهم منبعًا للشر، ومبعثًا للضر، يصير الواحد منهم كالكلب الكَلِب أول ما يبدأ بِعَضّ صاحبه قبل الأجنبي، بل كالمبتلى بجنون مطبق أول ما يفتك بمربيه ومهذبه، ثم يثني بطبيبه ومعالج دائه، تكون الآحاد منهم كالأمراض الأكالة من نحو الجزام، والآكلة يمزقون الأمة قطعًا وجذاذات، بعدما يشوهون وجهها، ويشوشون هيئتها، أولئك قوم يسامون في مراعي الدنايا والخسايس؛ لتغلب النذالة على سائر أوصافهم، فيتَنفَّجُون على أبناء جلدتهم، ويذلون لقزم الأجانب فضلاً عن عليتهم، وبهذا يمكِّنون الذلة في نفوسهم لمن دونهم، ويطبعونها على الخضوع للغرباء، بل الأعداء الألداء من طبقة إلى طبقة، حتى تضمحل الأمة وتُنسخ هيئتها وتفنى في أمة أو ملة أخرى سنة الله في تبدل الدول وفناء الأمم {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) أعاذنا الله من هذه العاقبة، وحرس أمتنا وملتنا من الصير إلى هذه النهاية. بقيت لنا لمحة نظر إلى ما به تقتنى الفضائل، وتُمحَّص النفوس من الرذائل حتى تستعد الجمعيات البشرية إلى الاتحاد، وتصون به أكوانها من الفساد، كل مولود يولد على الفطرة، مادة مستعدة لقبول كل شكل، والتلون بأي لون، فهل ينال كمال الفضي

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورات بين المصلح والمقلد أصل الجفر ومعناه، إضافته إلى الشيعة، إنكار نسبته لجعفر الصادق، الرواية والمروي، الباطنية وعصمة آل البيت وعبادتهم، ادّعاء الحاكم الألوهية، المتكلمون وردهم على المعتزلة دون الباطنية ونحوهم، سبب الجدل بين الفقهاء، المنار والعلماء والأولياء، إسناد الجفر إلى سيدنا علي ورده، معنى الجفر وموضوعه، ملحمة ابن عربي، التصوير والصور، صدق الجفر والملاحم وكذبها، الجفر والأمراء والملوك، الزايرجة والرمل والمندل والبروج. المحاورة الخامسة الجفر والزايرجة لما عاد الشيخ المقلد والشاب المصلح إلى المحاورة، والمضي في المباحثة والمناظرة، بدأ الأول بإعادة الشكر والثناء على الثاني لإهدائه مقدمة ابن خلدون وإظهار الاغتباط بها وقال: المقلد: إنني نظرت في فهرس المقدمة قبل المطالعة فرأيت ذكر الجفر والزايرجة، فكان هذان البحثان أول شيء قرأته في هذا الكتاب؛ ليكون لي منهما مادة من جنس مادتك أناظرك بها، فأما الجفر فألفيت مؤلفها يميل إلى إنكاره، ويذكر أن هارون بن سعيد العجلي رأس الزيدية - فرقة من الشيعة - هو الذي يروي كتاب الجفر عن جعفر الصادق رضي الله عنه، وأنه كان مبينًا لما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص على الخصوص بحسب ما أعطاهم الكشف الذي يقع لمثلهم من الأولياء، قال: وكان مكتوبًا عند جعفر في جلد ثور صغير، فرواه عنه هارون العجلي وكتبه وسماه الجفر باسم الجلد الذي كتب فيه؛ لأن الجفر في اللغة هو الصغير، وصار هذا الاسم علمًا على هذا الكتاب عندهم، وكان فيه تفسير القرآن وما في باطنه من غرائب المعاني مروية عن جعفر الصادق، وبعد هذا أنكر ابن خلدون صحة الرواية في ذلك مع أنه أثبت الكرامة لجعفر وآله عليهم الرضوان، ولا إخال إلا أنك تبعت هذا الرجل في إنكار الجفر، وإن كان عدم صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي في الواقع ونفس الأمر، وأما كلامه في الزايرجة فلا أخفي عنك أنني لم أفهمه. المصلح: إنني أود لو تطَّلع على كل ما اطَّلعت أنا عليه مما نتكلم فيه لما في ذلك من الاقتصاد في زمن المناظرة، ومن سهولة الإقناع والاقتناع، ولا يختلجن في نفسك أنني أقلد ابن خلدون أو غيره في شيء مما أقول؛ وإنما أطَّلِع على ما نقله هو وغيره، وأعتقد ما يترجح عندي بعد النظر الطويل، وأما قولك: إن عدم صحة الرواية لا يقتضي عدم صحة المروي فلعلك تريد به أن عدم العلم بصحتها لا يقتضي أن المروي غير واقع لجواز وقوعه مع عدم تصدي الثقات لنقله وروايته؛ ولكن لا يسعك أن تنكر أن ما لا يعلم إلا من طريق النقل لا يمكن الحكم بثبوته إلا بالرواية الصحيحة، فإذا لم توجد لا يسمح لنا الدين ولا العقل أن نقول بثبوته، وإذا أنكرناه بناء على أن الأصل عدمه لا نُعذل ولا نُلام فكيف إذا وجد من التهم ما يقتضي الإنكار، وهو ما يقصه علينا التاريخ من سيرة فرق الشيعة المنتحلين لهذه البدع، لا سيما في عهد العبيديين الذين روجوا مذهب الباطنية الذي زلزل دين الإسلام زلزالاً، وخرج بمسلمي الشيعة من الاعتقاد بعصمة آل البيت وإلحاقهم في ذلك بالأنبياء إلى عبادتهم والقول بألوهيتهم فإذا كان شاعر المعز يقول في مظلته: أمديرها من حيث دار لشد ما ... زاحمت تحت ركابه جبريلا ويقول: ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار فإن الحاكم لا يزال يُعبد إلى اليوم، وكل ما قرأته عليك في وصف الله تعالى من رسالة دين الدروز في محاورتنا الماضية؛ فإنهم يريدون به الحاكم العبيدي، وكذلك النصيرية يعبدونه، وهم أشد الناس عناية بتعرف علم الغيب من الجفر والنجوم. المقلد: إني لأعجب لعلمائنا من المتكلمين والفقهاء كيف يسكتون عن هؤلاء الضالين المضلين، ولا يزال يرد الأولون على المعتزلة، وقد انقرضوا وانقرض مذهبهم، ويرد الفقهاء بعضهم على بعض وكلهم من أهل السنة والجماعة. المصلح: إن أكثر ما تراه من الجدل والرد والإنكار من العلماء بعضهم على بعض ناشئ عن الأهواء؛ فإن المعتزلة هم السبب في وجود علم الكلام، خاضوا في أمور لم يخض فيها السلف الصالح فانبرى آخرون لمناضلتهم، وبعد ذلك تداعت دعائم العلم والنظر، ولما يبق للمقلد من المتأخرين إلا حكاية ألفاظ المتقدمين وإن ذهبت فائدتها بذهاب وقتها، والاكتفاء بالسكوت عن البدع والضلالات التي حدثت بعد أولئك الأئمة كالأشعري وأصحابه وتكفير من يسأل عنها وتضليله، إلا أن تنشر وتُلوَّن بلون الدين، ويوجد لها أتباع وأنصار كبدع أهل الطريق، فحينئذ يناضلون عنها بالتحريف والتأويل، ويعكسون الحكم فيرمون منكرها بالكفر أو التضليل، كما هو مشاهد في كل جيل وقبيل، وأما الفقهاء فقد بيَّن حجة الإسلام الغزالي في كتاب العلم من إحياء علوم الدين أن السبب في مجادلاتهم ومناضلاتهم هو التزلف إلى الأمراء والخلفاء، والتزاحم على منصب القضاء، ولذلك تجد الوطيس لم يحم إلا بين الحنفية والشافعية؛ لأن المناصب كانت محصورة فيهم، على أن الحكم عليهم بالسكوت لا يصح على عمومه، فلا بد في كل عصر من فرد أو أفراد ينصرون الحق ويخذلون الباطل؛ ولكن غلبة الجهل على الأمة تسوّل لها الباطل وتزينه في نفوسها فتعمى عن الحق ولا تبصره، وقد نُشر في الجزء الثالث من منار السنة الثالثة نبذة في حكم الشعوذة والروحانيات والعزائم والطلاسم نقل فيها عن الفقيه ابن حجر الهيتمي أن الاشتغال بالروحانيات هو الذي أضل الحاكم العبيدي حتى ادَّعى الألوهية وفعل أفاعيل من لا يؤمن بالآخرة، فأحب أن تقرأ تلك النبذة. المقلد: إن المنار جريدة ضارة تهين العلماء، وتنكر الأولياء، فلا أحب أن أراها، بل أحمد الله أنني لم أطلع عليها قط. المصلح: سبحان الله، كيف يصح لك وأنت من أهل علم الدين أن تحكم على ما لم تر، والله يأمرك أن تتبين وتتثبت فيما يجيئك من الأنباء عن الفساق الذين يغتابون الناس، ويسعون بينهم بالنميمة، لا توجد عندنا جريدة تُعلي من قدر العلماء كالمنار؛ لأنها تجعل في أيديهم زمام الأمة، وتنيط بهم أمر إصلاحها، وإرجاعها إلى مجدها الأول بإصلاح التربية والتعليم، ولا يذمه منهم إلا من يشعر من نفسه بالقصور عن القيام بشيء من هذا الإصلاح، وأما الأولياء فالمنار لا ينكرهم؛ وإنما ينهى عن إطرائهم والغلو فيهم بأن يُدْعَون مع الله تعالى، ويطلب منهم ما لا يطلب إلا منه سبحانه، ولولا خشية الخروج عن موضوعنا لقرأت لك بعض كلامه في ذلك. المقلد: كنت أسمع أن الجفر مأخوذ عن سيدنا علي كرم الله وجهه، وينسبون للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي قدس سره جفرًا يسمونه الشجرة النعمانية، ويقولون: إنه يحتوي على جميع الحوادث العظيمة إلى يوم القيامة. المصلح: نعم إن من الناس من يزعم ما ذكرت كالجرجاني، وقال ابن طلحة: الجفر والجامعة كتابان جليلان أحدهما ذكره الإمام علي وهو يخطب على المنبر في الكوفة؛ والآخر أسرَّ به إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بتدوينه فكتبه علي حروفًا متفرقة على طريقة سفر آدم في جفر فاشتهر بين الناس؛ لأنه وجد فيه ما جرى للأولين والآخرين. أقول: وكانوا يزعمون أن الجفر إخبار عن المغيبات صريحة أو رموزًا، ولما أرادوا أن يجعلوه علمًا أدخلوه في علم الحرف والعدد الذي هو بعد الروحانيات في المرتبة، واختلفوا في وضعه وتكسيره فمنهم من كسره بالتكسير الصغير، وزعموا أنه جعفر الصادق، ومنهم من يضعه بالتكسير المتوسط وهو الذي توضع به الأوفاق الحرفية، ومنهم من يضعه بطريق التركيب الحرفي أو العددي، ومن الناس من خلط بين الجفر والتنجيم وسمى كل ما كتب في الملاحم والحدثان جفرًا، وإن كان مبنيًّا على القرانات. ومنهم من يعتقد أن الجفر لا يكون إلا عن كشف، وأن الرموز الحرفية والعددية وغيرها لم يضعها الشيخ محيي الدين بن عربي في جفره، إلا لأجل الإبهام لكيلا يطلع الناس على الغيب، فتفسد شؤونهم، وقد اطلعت أنا على الشجرة النعمانية، فإذا هي رموز لا يُفهم منها شيء، وبالجملة لم يثبت أن لهذا الجفر أصلاً علميًّا يُرجع إليه في معرفة الغيب، وإلا لارتقى وتسنى تحصيله لكل أحد، ولم يعط الله تعالى علم الغيب لأحد إلا ما أخبر به بعض الأنبياء عليهم السلام من أحوال الآخرة والملائكة والجن مما ثبت في الوحي فنصدق بالقطعي منه إيمانًا وتسليمًا، نعم لا ننكر أن في الناس محدَّثين وملهمين يخبرون بشيء أن سيقع فيقع كما قالوا، لكن هذا نادر ومخصوص بالجزئيات، قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) . المقلد: رأيت في مقدمة ابن خلدون أنه وقف على ملحمة منسوبة لابن العربي الحاتمي الذي هو الشيخ الأكبر فيها أوفاق عددية، ورموز ملغوزة، وأشكال حيوانات تامة، ورؤوس مقطعة، وتماثيل من حيوانات غريبة، وقد أنكرها ابن خلدون، وقال: الغالب إنها غير صحيحة؛ لأنها لم تنشأ عن أصل علمي من نجامة ولا غيرها، وكان الأولى أن ينكر نسبها للشيخ الأكبر لوجود الصور والتماثيل فيها؛ لأن التصوير حرام يجل عنه ولي من أكابر الأولياء. المصلح: ربما يعتقد ابن عربي وابن خلدون أن الصور المحرمة هي ما لها علاقة بالدين كصور الأنبياء والأولياء؛ لأنها ربما تُعَظَّم تعظيمًا دينيًّا، فتكون أوثانًا تعبد عبادة لم يأذن بها الله تعالى، فالنهي عن التصوير كالنهي عن بناء القبور وتشريفها واتخاذ المساجد عليها، لا سيما قبور الأنبياء والصالحين، فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بها، وأما الصور التي لا علاقة لها بالدين ولا هي مظنة التعظيم فلا تدخل في علة النهي، أما قرأت في صحيح البخاري وغيره حديث القرام (الستار) المصور الذي كان عند عائشة رضي الله عنها، وكيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهتكه؛ لأنه كان منصوبًا كالصور التي كانت تُعْبَد في الكعبة وطمسها، ثم لما زالت صفة التعظيم باتخاذ القرام وسادة كان عليه السلام يتكئ عليها مع بقاء الصور فيها. المقلد: هذا تعليل مخالف لكلام الفقهاء، وأُجِلُّ الشيخ الأكبر عن القول به. المصلح: أما علمت أن الشيخ الأكبر غير مقلد للفقهاء ولا لغيرهم، وأنه صرح في فاتحة الفتوحات بأنه لا يتقيد بمذهب سني ولا معتزلي ولا غير ذلك، وصرح بأن ليس كل ما يقوله المعتزلي باطلاً ... إلخ، وعلم أن بعض الناس ينسبه إلى مذهب ابن حزم الظاهري فأنكر ذلك وأنشد: ويعزوني إلى قول ابن حزم ... ولست أقول ما قال ابن حزم المقلد: لقد صح من أخبار الجفر شيء كثير، وذلك كقول الشيخ الأكبر في الشجرة النعمانية على ما يقولون: (إذا دخل س في ش ظهر قبر محيي الدين) وقد كان كذلك؛ فإن السلطان سليمًا هو الذي أظهر قبر الشيخ عندما دخل الشام وبناه وأجرى عليه الأوقاف. المصلح: يوجد في هذه الجفور الرمزية وغير الرمزية أخبار تقع، وقد رأيت في جفر منسوب إلى الإمام علي كرم الله وجهه (ويل للإسكندرية من الأساطيل البحرية) ، وفي موضع آخر (ويل للقاهرة من العاهرة) ، وذلك أن من يخبر بأشياء كثيرة من شأنها أن تقع لا بد أن يصدق بعضها، ولو كان الجفر حقًّا لوقع كل ما أخبر به، وأما الرموز فمجال التضليل فيها واسع وميدانه فسيح؛ لأن هذه الحروف تصدق على أشياء كثيرة وتنطبق عليها من غير أن تكون موضوعة لها، ولم يوضع ذلك إلا لخداع الأمر

خطبة أساس البلاغة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة أساس البلاغة (خير منطوق به أمام كل كلام، وأفضل مصدَّر به كل كتاب، حمد الله تعالى ومدحه بما تمدّح به نفسه في كتابه الكريم، وقرآنه المجيد، من صفاته المجراة على اسمه لا على جهة الإيضاح والتفصلة، ولا على سبيل الإبانة والتفرقة؛ إذ ليس بالمشارك في اسمه المبارك {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) وإنما هي تماجيد لذاته المكونة لجميع الذوات، لا استعانة ثم بالأسباب، ولا استظهار بالأدوات، وأولى ما قُفّي به حمد الله الصلاة على النبي العربي المستل من سلالة عدنان، المفضل باللسان، الذي استخزنه الله الفصاحة والبيان، وعلى عترته وصحابته مَدَارِهِ العرب وفحولها وغرر بني معد وحجولها. هذا - ولما أنزل الله كتابه مختصًّا من بين الكتب السماوية بصفة البلاغة التي تقطعت عليها أعناق العتاق السبق، وَوَنَت عنها خُطا الجياد القرَّح، كان الموفق من العلماء الأعلام أنصار ملة الإسلام، الذابّين عن بيضة الحنيفية البيضاء المبرهنين على ما كان من العرب العرباء، حين تحدوا به من الأعراض عن المعارضة بأسلات ألسنتهم، والفزع إلى المقارعة بأسنة أسلهم، من كانت مطامح نظره، ومطارح فكره، الجهات التي توصل إلى تبين مراسم البلغاء، والعثور على مناظم الفصحاء، والمخايرة بين متداولات ألفاظهم، ومتعاورات أقوالهم، والمعايرة بين ما انتقوا منها وانتخلوا، وما انتفوا عنه فلم يتقبلوا، وما استركوا واستنزلوا، وما استفصحوا واستجزلوا، والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه الإعجاز أوقف، وبأسراره ولطائفه أعرف، حتى يكون صدر يقينه أثلج، وسهم احتجاجه أفلج، وحتى يقال: هو من علم البيان حَظِيّ، وفهمه فيه جاحظيّ. وإلى هذا الصوب ذهب عبد الله الفقير إليه محمود بن عمر الزمخشري عفا الله عنه في تصنيف كتاب (أساس البلاغة) وهو كتاب لم تزل نعام القلوب إليه زفافة، ورياح الآمال حوله هفافة، وعيون الأفاضل نحوه روامق، وألسنتهم بتمنيه نواطق، فلبَّت له العربية وما فصح من لغاتها، وملح من بلاغاتها، وما سمع من الأعراب في بواديها، ومن خطباء الحلل في نواديها، ومن قراضبة نجد في أكلائها ومراتعها، ومن سماسرة تهامة في أسواقها ومجامعها، وما تراجزت به السقاة على أفواه قُلُبها، وتساجعت به الرعاة على شفاه علَبها، وما تقارضته شعراء قيس وتميم في ساعات المماتنة، وتزاملت به سفراء ثقيف وهذيل في أيام المفاتنة، وما طولع في بطون الكتب ومتون الدفاتر من روائع ألفاظ مفتَّنة، وجوامع كلم في أحشائها مجتنة. ومن خصائص هذا الكتاب تخير ما وقع في عبارات المبدعين، وانطوى تحت استعمالات المفلقين، أو ما جاز وقوعه فيها، وانطواؤه تحتها من التراكيب التي تملح وتحسن، ولا تنقبض عنها الألسن، لجريها رسلات على الأسلات، ومرورها عذبات على العذبات، ومنها التوقيف، على مناهج التركيب والتأليف، وتعريف مدارج التركيب والترصيف، بسوق الكلمات متناسقة لا مرسلة بددًا، ومتناظمة لا طرائق قِدَدًا، مع الاستكثار من نوابغ الكلم الهادية إلى مراشد حر المنطق، الدالة على ضالة المنطيق المفلق، ومنها تأسيس قوانين فصل الخطاب الفصيح، بإفراد المجاز عن الحقيقة والكناية عن التصريح. فمن حصل هذه الخصائص، وكان له حظ من الإعراب الذي هو ميزان أوضاع العربية ومقياسها، ومعيار حكمة الواضع وقسطاسها، وأصاب ذروًا من علم المعاني، وحظي برَسٍّ من علم البيان، وكانت له قبل ذلك كله قريحة صحيحة وسليقة سليمة، فحُل نثره، وجزل شعره، ولم يطل عليه أن يناهز المقدمين، ويخاطر المقرمين، وقد رتب الكتاب على أشهر ترتيب متداولاً، وأسهله متناولاً، يهجم فيه الطالب على طلبته موضوعة على طرف الثمام وحبل الذراع، من غير أن يحتاج في التنقير عنها إلى الإيجاف والإيضاع، وإلى النظر فيما لا يوصل إلا بإعمال الفكر إليه، وفيما دقق النظر فيه الخليل وسيبويه، والله سبحانه وتعالى الموفق لإفادة أفاضل المسلمين، ولما يتصل برضا رب العالمين. (المنار) نشرنا هذه الخطبة لتكون هادية لطلاب البلاغة إلى منهاجها ومرشدة مريدي الفصاحة إلى ينابيعها وأثباجها، ولم نفسر ألفاظها الغريبة، ونشرح مغازيها العجيبة لنبعث همة التلامذة إلى المراجعة والمكاشفة، ونحملهم على المباحثة والمشارفة، وننصح لهم أن يحفظوها، ثم يقلدوها ويحتذوها، فهكذا فليكتب الكاتبون، وهكذا فليسمع الساجعون، وإلا فلا.

قصيدة جحدر في الأسد

الكاتب: جحدر

_ قصيدة جحدر في الأسد ذكرنا في الجزء الماضي أن جحدرًا لما قتل الأسد أنشد قصيدةً، وهذه هي: يا جمل إنك لو رأيت بسالتي ... في يوم هيج مردف وعجاج [1] وتقدمي لليث أرسف نحوه ... عنى أكابره عن الإخراج [2] جهم كأن جبينه لما بدا ... طبق الرحا متفجر الأثباج [3] يرنو بناظرتين يحسب فيهما ... من ظن خالهما شعاع سراج شَثن براثنه كأن نيوبه ... زرق المعاول أو شباة زِجاج [4] وكأنما خيطت عليه عباءة ... برقاء أو خَلَق من الديباج [5] قرنان محتضَران قد ربَّتهما ... أم المنية غير ذات نتاج [6] وعلمت أني إن أبيت نزالة ... إني من الحجاج لست بناج فمشيت أرفل في الحديد مكبلاً ... بالموت نفسي عند ذاك أناجي والناس منهم شامت وعصابة ... عبراتهم لي بالحلوق شواجي ففلقت هامته فخرّ كأنه ... أطم تقوض مائل الأبراج [7] ثم انثنيت وفي قميصي شاهد ... مما جرى من شاخب الأوداج أيقنت أني ذو حفاظ ماجد ... من نسل أملاك ذوي أتواج [8] فلئن قذفت إلى المنية عامدًا ... إني لخيرك بعد ذاك لراج علم النساء بأنني لا أنثني ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج

تقريظ المنار الأنور واقتراح طلاب الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المنار الأنور واقتراح طلاب الأزهر جاءنا من بعض المشتغلين بعلم الأدب في الجامع الأزهر تحت هذا العنوان ما يأتي: حضرة مولانا الأستاذ إني إذا كتبت إليك فإنما أهدي لبحرك دُرَّه، ولغيثك قطره، وأقدم لك بعض ما اقتبسته منك، فلو كنتُ خطيب إياد، أو ابن زياد، أو الكاتب الذي تعقد ذؤابة قلمه بالسماك ونجمه، وتسير معانيه كالفلك الدوار بما فيه، وأتيت بما فات الأوائل، ولم تستطعه الأواخر، لقلت: إن لساني في بيانك شحذته، وقلمي من بنانك أخذته، على أنَّا قد آوينا منك إلى ركن شديد، وهيهات أن نستضيء بغير المنار أو نهتدي بغير الرشيد. وتالله إني لا أجد عبارة أصوّر بها ما في القلوب من إطلاعكم الحق مطالعه، وإلزامكم الباطل مضاجعه، وتقدم المنار حتى دخل في السنة الرابعة؛ فإن التصوير شيء ما ألفناه، والتعبير عن الوجدان مثال ما احتذيناه، ومنا من يخال أنه كالمعيدي تسمع به خير من أن تراه. فإذا كان المنار قد حمل إلى الأقطار نفحة سارت بها الرياح، وطلع على أهلها طلوع الصباح، فلينهج لأهل الأزهر منهاجًا في الأدب يسلكونه، وليضع لهم مثالاً في الإصلاح يحتذونه، حتى يكون تصوير الشعور عندنا من الشعائر، ونقتدر على وصف جليات الظواهر وخفيات الضمائر، فنكون من حملة الأقلام، وتؤدي بدايتنا إلى الغاية المطلوبة والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد سعيد الرافعي ... (المنار) نشكر للكاتب الأديب حسن ظنه بنا، ولولا شغفنا باشتغال الأزهريين بالكتابة والأدب، واغتباطنا بما نراه من نجابتهم لما خالفنا سنتنا بنشر هذا التقريظ. أما المنهاج الذي أقترحه فأحيله وإخوانه المشتغلين بالأدب على قراءة خطبة أساس البلاغة المنشورة في هذا الجزء، واتباع ما ترشد إليه، وأزيدهم الحث على مطالعة كتاب الأغاني وكتاب نهج البلاغة والجزء الثالث من إحياء علوم الدين، إن لم يطالعوا الكتاب كله، ثم العمل بكتابة المقالات في الموضوعات المختلفة وتعريضها للانتقاد فمن لا يَنتقد ولا يُنتقد، ولا يناظر الفضلاء ويساجل الأدباء، لا يسلم من الخطأ والخطل، ولا يتنبه لتجنب الزيغ والزلل، وإن شئت فقل: لا يكمل له علم ولا عمل، وإننا نقترح عليهم أن يتناظروا في المواضيع الآتية: 1- هل غاية طلب العلم تحصيل ملكة الفهم، أم تحصيل ملكة العلم؟ 2- فوائد قراءة الحواشي ومضارها. 3- هل يُطلب من علماء الدين معرفة علوم الكون ولو إلمامًا أم لا؟ 4- هل يجب على علماء الكلام استبدال الرد على فلاسفة هذا العصر ومبتدعته بالرد على قدماء الفلاسفة والمبتدعة الذين انقرضوا أم لا؟ 5- هل انتشر الدين الإسلامي بكونه حقًّا يلائم حال البشر أم بالقوة والسيف؟ 6- هل أفادت الجرائد البلاد العربية أم أضرت بها؟ 7- هل نفع الشرقيين دخول الأجانب بلاد الشرق أم أضر بها؟ فهذه سبعة مواضيع متى رأينا أقلامهم تجول فيها نقترح عليهم غيرها، والمنار مستعد لنشر مناظراتهم بشرط الاختصار في النبذ، وإن تعددت في موضوع واحد، والنزاهة التامة في التخاطب. (س) من حضرة القانوني البارع صاحب الإمضاء بحروفه: لا أرى ختم الكتابة بحرف أو حرفين من اسم صاحبها لا يُفهم أو لا يُفهمان، ولا أرى لذلك معنًى عامًّا ذا شأن في كل الأحوال، فكثيرًا إن لم يكن في الأغلب يختتم الكاتب كتابته بحرف أو حرفين من اسمه إن لم يبالغ في التستر والتخفي، فلا يرمز حتى ولا بما يعرف بالنقطة. لماذا؟ هذا لا يبغى ولا نريد أن تكون العلة عيبًا في الكتابة لوجه من الوجوه التي ترمي إليها؛ فإن الكاتب لا يقصد لنفسه هذا العيب حتى يضطر إلى التخفي عن معرفة الناس، أو لا يرضاه لنفسه فيعمل، وإن عمل فما أنا بالمعترض عليه هنا لرمزه أو لعدم الرمز مطلقًا، وإنما لكتابته مع ذلك، وإنما الذي أعنيه بإنكاره إخفاء نفسه مطلقًا صاحب الكتابة التي لا عيب فيها مطلقًا، بل التي هي مفيدة، وأوجه الإفادة كثيرة، وهذا هو الأغلب في ما أراه من الكتابات ذات إخفاء الاسم كله، أو إلا ما هو في حكم الكل. هذا تعجب مني، لذلك طلبت إليَّ نفسي مني مرات إظهاره، وعلى لسان مناركم الوضَّاح لأهتدي منه إلى الحقيقة، فلعلي مخطئ إلى أن أنفذت الإرادة هذه المرَّة، وحسبكم اختياري لكم وما أنتم بأولي الحاجة وعليكم السلام في الأول، وفي الختام، 23 فبراير سنة 1901 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مراد فرج ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحامي بمصر جواب المنار من الناس من هو ممنوع من الكتابة في الجرائد كأساتذة المدارس وبعض الموظفين، ومن الناس من لا يحب إظهار اسمه إذا كتب، إما ترفعًا؛ لأن الجرائد لم تزل غير مقدورة قدرها عندنا، وإما خوفًا من الحكم على كلامه بما يعتقد الناس من مشربه؛ لأن الأكثرين يعرفون حق القول وباطله بقائله لا بذاته، ويريد هؤلاء أن يعودوا الناس على خلاف ذلك، ومن هؤلاء من يرمز إلى اسمه بالحروف أو يختار لقبًا مصنوعًا يُعرف بهذا أو ذاك بين خاصته وتلك فائدة خاصة، وللرمز فوائد أخرى عامة منها: عدم اشتباه الكاتبين الذين لا يصرحون بأسمائهم لا سيما إذا تكررت الكتابة في موضوعات مختلفة، ومنها أن يميز الناس بين المقالات فيعرفوا رأي صاحب هذا الرمز من رأي غيره ويعرفوا مقصده وغرضه، فيقبلون عليه أو يعرضون عنه، واعتبر ذلك بمقالات (أسباب ونتائج) ، ومقالات (حكم ومواعظ) التي نشرت في المؤيد من بضع سنين، فقد عُرف صاحبها بسداد الرأي حتى اعتنى الفاضل محمد علي كامل صاحب دار الترقي وبجمعها وطبعها لتعم فائدتها، وإن قيل: إن العناوين في مثل هذا كافية للتمييز ومعرفة وحدة المصدر أو تعدده. فنقول: إن العناوين مباحة لكل أحد، ولا يكاد يتفق كاتبان على رمز واحد لاسمهما، وإن الكاتب الواحد يكتب في مواضيع مختلفة لا يصح أن يلتزم لها عنوانًا واحدًا، ومن الفائدة في الرمز سهولة التعريف عند إرادته، فإذا قلت لك: إن ما كان يكتب في المؤيد منذ سنتين بإمضاء (م ر) هو لي، والمراد بالحرفين محمد رشيد أمكنك أن تتذكرها إن كنت قرأتها، ولا يمكنني أن أعرفها بعناوينها.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (الحيوان والإنسان أو خاتمة رسائل إخوان الصفا) هذه الرسائل مشهورة عند أهل العلم والاطلاع، فمنهم من يتنافس فيها لما احتوت عليه من الفلسفة والتصوف وغرائب العلوم، ومنهم من يحظر النظر فيها لذلك، وقلّ من يعرف مؤلفيها وهم على ما نُقل عن أبي حيان التوحيدي: زيد ابن رفاعة، وأبو سليمان محمد بن مشعر البستي، وأبو حسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي وآخرون، ومرادهم بتأليفها إلباس الفلسفة لباس الدين؛ ليقبلها أو يقبل عليها منكروها من جماهير المسلمين، وأسلوبهم في كتابتها غريب تلذ قراءته، وتستملح عبارته، وعذرهم في هذا الطريق الوعر، والمركب الخشن، أنهم فُتنوا بفلسفة اليونان، ورأوا أنه لا بد منها للإنسان، ورأوا المسلمين يناصبون المشتغلين بها ويناهضونهم، ويضللونهم ويكفرونهم، وحسبوا أن هذا الملك لا يُعارض، وصاحبه ينهض ولا يُناهض، فخاب الأمل، وحبط العمل، وكانوا عند تأليف رسائلهم بثوها في الوراقين، لتنتشر بسرعة في العالمين، وربما كانوا في أنفسهم مخلصين؛ ولكن ما عتَّم أن عتمت، وبطنت عقيب أن ظهرت، إلى أن أحيت الطباعة رفاتها، والأمور مرهونة بأوقاتها. طُبعت الرسائل في الهند فراجت حتى لا تكاد توجد نسخها، وطُبع منها في مصر الجزء الأول، ولم يتسن لطابعه إتمامها، وفي هذه الأيام تصدى النشيط الفاضل، محمد علي أفندي كامل، لطبع الجزء الأخير الذي هو زبدة الرسائل وخاتمتها في مطبعة دار الترقي المتقنة بشكل لطيف، على ورق نظيف. وهذا الجزء يصف تداعي الحيوانات على الإنسان، لدى ملك الجان، وما جرى بينهم من المحاورات، والمناظرات والمجادلات، ونتيجة ذلك حكم ملك الجان بأن تكون أنواع الحيوان، في تصرف الإنسان، فنحث أهل العلم والفضل، وذوي الذكاء والنبل، على الاطلاع على هذا الأسلوب الساحر، مما ترك الأول للآخر، ولكن رأينا أن لا تُحتذى هذه الرسائل بمزج الفلسفة بالدين، فذلك مضيعة للأمرين. *** (تاريخ دولة آل سلجوق) من إنشاء الشهير عماد الدين محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني، واختصره الفتح بن علي بن محمد البنداري الأصفهاني رحمهما الله تعالى، والكتاب كله سجع مما يسمونه السهل الممتنع، والوقوف على تاريخ هذه الدولة الإسلامية العظيمة لا يستغني عنه من يهمه الوقوف على شؤون المسلمين ومعرفة أحوالهم الاجتماعية، وقد طُبع على نفقة شركة طبع الكتب العربية في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا على ورق جيد وثمنه عشرة قروش أميرية. *** (تتمة البيان في تاريخ الأفغان) كان السيد جمال الدين الأفغاني الفيلسوف الإسلامي الشهير كتب رسائل سماها (البيان في الإنكليز والأفغان) كان لها وقع شديد في البلاد الإنكليزية عندما نُشرت في الجرائد المصرية التي أنشأها تلامذة السيد في مصر بإرشاده، وردَّت عليها الجرائد الإنكليزية معظمة شأن السيد معجبة به، ولم يكن قد اشتهر اسمه في أوربا فتصدى هو للرد عليها؛ حتى إن المستر غلادستون اضطر إلى الرد على السيد بنفسه، ثم سأل السيد تلامذته أن يملي عليهم تاريخ الأفغان فأملى عليهم مقالات نشرت في جريدة مصر التي كانت يصدرها في الإسكندرية فقيد الأدب والصحافة أديب بك إسحاق، وسمى مجموعها تتمة البيان في الإنكليز والأفغان، وذكر فيها محاربة الإنكليز للأفغان والاستيلاء على بلادهم، ثم إخراج الأفغان لهم منها بالقوة وفيها ذكر أصل الأفغان وتاريخهم وعاداتهم وسائر شؤونهم، وقد عثر على هذا التاريخ الأديب النشيط علي أفندي يوسف الكريدلي صاحب ومحرر جريدة العلم العثماني، وطبعه في مطبعة الموسوعات طبعًا متقنًا على ورق جيد وصدَّره برسم أمير الأفغان الحالي الأمير عبد الرحمن وأهداه إياه، وفيه أيضًا رسم السيد جمال الدين، وثمن النسخة منه خمسة قروش أميرية، ويباع في جميع المكاتب الشهيرة في القاهرة. *** (وردة) أسطورة علمية تاريخية تمثل أخلاق المصريين وعاداتهم في عهد رمسيس الثاني، وترسم للقارئ نظام حكومتهم وما وصلوا إليه من التقدم في العلوم والمعارف، أبرزها من الآثار القديمة وأوراق البردي الدكتور جورج إيبرس الألماني، ونقلها إلى العربية صديقنا الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود أحد محرري جريدة المؤيد الغراء ونابغي الناشئة المصرية في هذا العصر، وقد كان سبقه إلى تعريبها من حيث لا يعلم الدكتور العالم الشهير يعقوب أفندي صروف محرر مجلة المقتطف، ولم يطبعها؛ لأنه لم يستأذن بطبعها من مؤلفها؛ ولكن محمد أفندي مسعود استأذن قبل أن يُعَرِّب، وقد طُبع الجزء الأول منها وهو يزيد على ثلاثمائة صفحة بالحرف الصغير، وتُطلب من مُعَرِّبها في إدارة المؤيد بمصر، فنحث جميع القراء على مطالعتها. *** (تنبيه مهم جدًّا) لدينا مقالة لفضيلة مفتي الديار المصرية في أعظم شبهة على الدين في كتب المسلمين، وهي مسألة الغرانيق، وتفسير الآية التي استدل بها عليها، وستنشر في باب التفسير من الجزء الآتي.

مهاجر أزهري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مهاجر أزهري من أيام جاء إلى محل الإفتاء في الجامع الأزهر رجل إنكليزي اسمه المستر هستنج، وطلب مقابلة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وعند مقابلته ابتدره بقوله: جئت ثلاث مرات لمقابلة حضرتكم فلم أجدكم هنا وهذه الرابعة، والغرض أن أعرض لكم أن لي أملاكًا في جهة ممباسة في أفريقة سكانها مسلمون؛ لكنهم لا يعرفون من دينهم إلا قليلاً، ولما علموا برحلتي هذه إلى مصر طلبوا مني قبل السفر أن أحضر لهم عالمًا دينيًّا يعلمهم أحكام دينهم، قال: ويمكنني أن أساعد من يسافر معي لهذه الغاية بأن أنقله على نفقتي من ساحل زنجبار إلى المحل الذي نقصده، وأتكفل هناك بنفقة أكله وأعطيه بيتًا يسكنه، وعليه أن ينفق على نفسه من هنا إلى ساحل زنجبار، ولا بد له هناك من الإقامة زمنًا يتعلم فيه لغة القوم ليتمكن من إرشادهم. فعهد إليه فضيلة المفتي أن يراجعه بعد أيام في ذلك. وقد وقع هذا الطلب على الأستاذ وقعًا شديدًا لعلمه بأن العلماء المتخرجين من الأزهر يأبون الوظائف في بلاد السودان بالرواتب الكثيرة؛ ولأنه إذا لم يوجد في الأزهر وهو أكبر المدارس الإسلامية وأشهرها من يسهل عليه أن يهاجر إلى الله تعالى لمجرد الإرشاد ونشر الدين، فذاك أكبر عار على هذه المدرسة، بل على المسلمين كلهم الذين نشر أسلافهم الدين في كل مكان، ثم هو الآن يضمحل ويتلاشى ولا يغار عليه أحد من علمائه الذين لا عمل لهم إلا قراءة علومه، فرأى بعض الحاضرين أثر الحيرة في الأمر باديًا على الأستاذ، فقال له: أنا أعرف رجلاً من النابغين في الأزهر المتصدرين لامتحان التدريس أرجو أن يقبل الهجرة لهذه الخدمة الإسلامية، وهو الشيخ محمود عزوز. وكان الأمر كذلك. وفي أثناء هذه المدة تقدم الشيخ محمود هذا للامتحان فنجح فيه، وأعطي درجة العالمية من الدرجة الثالثة بالاستحقاق كما علمناه من المصدر الصحيح، وقد استحضره فضيلة المفتي وذكَّره بسيرة سلف الأمة وكبار الأئمة رضي الله تعالى عنهم، وكيف كانوا يهاجرون لأجل حديث واحد يتلقونه أو نشر للدين عند قوم يقبلونه، ودعاه إلى الرحلة لممباسة ابتغاء وجه الله تعالى، وثقة بوعده، فلبى وأجاب، ثم عرض الأستاذ المفتي خبره على ولي النعم مولانا الخديو المعظم وذكر لسموه ما رآه من إخلاصه فسُرَّ حفظه الله سرورًا عظيمًا، وجادت مكارمه بمبلغ من المال إعانة له على سعيه المشكور كما هو دأبه في تعضيد كل عمل ينفع الدين والأمة، ويقال: إن المبلغ الذي أعطي له مائة جنيه جزى الله تعالى سموه أفضل الجزاء. ثم إن فضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر أعطى لحضرة الشيخ محمود المذكور منشورًا يخاطب به مسلمي البلاد التي يهاجر إليها، يوصيهم فيه بالثقة بحامل المنشور والاعتماد عليه في فهم الدين وتلقي أحكامه الشريفة النافعة، وقد سافر بالفعل في ليلة الثلاثاء الماضية، وودعه في محطة مصر كثيرون من إخوانه الأزهريين وغيرهم، وزوَّده أكابر شيوخه في الأزهر الشريف بالدعوات الصالحة، وكان نسي أخذ إجازة السفر، فكتب صاحب السعادة محافظ العاصمة رسالة برقية إلى محافظة السويس بالوصية به، وإعطائه باسبورت السفر، فنسأل الله تعالى أن يُسَهِّل أمره، وينفع به، ويجعل رحلته فاتحة خير وقدوة صالحة للأزهريين، فيوفقون للانتشار في الأرض لنشر الدين آمين.

عريضة استرحام مسلمي بنغالة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عريضة استرحام مسلمي بنغالة نشرت جريدة وطن الهندية صورة عريضة عن لسان مسلمي أيالة بنغالة في غربي الهند الذين يبلغون زهاء أربعين مليونًا (كذا) إلى مولانا السلطان الأعظم عبد الحميد خان يطلبون فيها أمرين جليلين، أحدهما: تعيين قنصل للدولة العلية في مدينة كلكتة عاصمة هذه الأيالة يمثل الدولة العلية في عظمتها، والخلافة الإسلامية في جدتها، ويرجع إليه المسلمون في الشؤون التي تقوي الرابطة بينهم وبين مسلمي السلطنة العثمانية، ويفضون إليه بالحقوق والمصالح المتعلقة بخليفتهم، ومن ذلك أنهم جمعوا مبلغًا عظيمًا لإعانة سكة حديد الحجاز، ويحتاجون إلى من يرشدهم إلى كيفية إرساله، وذكروا من فوائد هذا الأمر امتداد التجارة العثمانية؛ لاعتقادهم أن ما يتجر به في بلادهم من الطرابيش ونحوها هو من بلاد الدولة ومنه فائدة لها. والأمر الثاني: أن يصدر أمره المطاع بإدخال لغة مسلمي الهند (الأوردو) في دار الفنون التي أسست في دار الخلافة الإسلامية يوم عيد الجلوس الفضي، وجعلها من اللغات التي تُعَلَّم جبرًا لا اختيارًا، وذكر في العريضة بعض فوائد رابطة اللغة وهي فوق ما ذكر، ثم التمست جريدة وطن من أصحاب الجرائد الإسلامية الشهيرة في مصر والشام ودار السعادة أن يضموا أصواتهم إلى صوت صاحبها بهذا الطلب إن استحسنوه، وذكرت المنار فيما ذكرته منها. ونحن نستحسن هذا الطلب ونقول:إن منافعه جليلة جدًّا في كلا الأمرين؛ أما تعيين قنصل للدولة في كلكتة كما عينت في بومباي وكراش بندر ومدراس مما لا تُقَدَّر منافعه إذا كان أولئك القناصل من الرجال الأكفاء الذين يقدرون سلطة الدولة العلية الروحية قدرها، ويعرفون كيف يستفيدون منها، وحسبك ما جاء في عريضة الاسترحام من أهل بنغالة نساء ورجالاً وأطفالاً يعتقدون أن للسلطان عبد الحميد خان سلطة غيبية وراء الطبيعة والأسباب، فيتوسلون إلى الله عند الحاجة لدفع ضر أو لجلب خير باسمه الشريف؛ وذلك لأنهم يعتقدون أن ما يقرؤونه في الجرائد التركية والعربية من مدائحه وفضائله وفواضله ومعارفه وعوارفه وصلاحه وإصلاحه، وكل ذلك من خوارق العادات الدالة على أنه (ولي من أولياء الله تعالى جعله الله في هذا الحين رحمة للعالمين) واستخدام هذا الاعتقاد بالحكمة له شأن لا يكتنه الفكر كنهه، وأما تعلم لغة الأوردو فمن الضروري أن تعلم أيضًا في مصر والشام ومراكش لأفراد كثيرين يكونون وصلة بين الشعوب الإسلامية في الجملة، أما الاتصال الحقيقي الذي يرجوه طلاب الوحدة الإسلامية فلن يكون إلا بتعميم اللغة العربية كما بيناه في المجلد الأول من المنار.

كتاب الأمير عبد الرحمن خان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب الأمير عبد الرحمن خان نقلت الجرائد الهندية فصولاً ضافية من تاريخ حياة الأمير عبد الرحمن خان الذي ألفه بلغة (البشتو) ؛ أي: لسان الأفغان، وتُرجم إلى الإنجليزية و (الأوردو) فأحببنا تعريبها ملخصة، وإثباتها على صفحات المنار تفكهة للقراء الكرام، ولما انطوت عليه من الكلمات الحماسية والإشارات السياسية سيما أن الكلمة إذا صدرت من محلها وأربابها كان لها من الامتزاج بأجزاء النفوس والوقع على الأسماع ما لا يكون لغيرها، وقد اعترف بفضل هذا الأمير وسياسته وشدة تيقظه جميع الدول الغربية (والفضل ما شهدت به الأعداء) ، نشرت تلك الجرائد نقلاً عن الكتاب المذكور ما تعريبه: إن أطواري وشؤوني التي جبلت عليها لا تلائم كثيرًا مما عليه بعض ملوك زماني؛ وذلك لأن أحدهم إنما همه التمتع بالملاذ ولبس التاج، والقناعة من الملك بالتحية والألقاب، وإناطة مهام السلطنة بالوزراء والولاة، وإغفال أمور الرعية والاحتجاب عنهم، وأما أنا فلست ممن يغتر بتلك الترهات والخزعبلات، ويلقي بزمام مملكته إلى غيره، ويقنع من الملك بالاسم واللقب بعد أن كنت أعلم أن الأمة إنما ولتني أمرها لما تعلمه في من الكفاءة والسهر على مصالحها، والذب عن حوزتها، فأنا المسؤول عن ذلك لا غيري؛ إذ كل راعٍ مسؤول عن رعيته، فلهذا لا أَكِل أمرًا من الأمور إلى أحد من أمرائي وأركان دولتي، بل أنا الذي أدير شؤون المملكة وأحكم نظامها وأشيد دعائمها؛ وإنما عمالي وأمرائي آلة أديرها بيدي كيف أردت وشئت. وإن بعض الملوك يرى أن مباشرة الأعمال باليد والمشي على الأقدام مخل بآداب الملوك، وعندي أن مباشرة أمور الرعية والمشي في مصالحها والتردد إلى المحال المقدسة كالجوامع والزيارات ومجالس العلم، والذهاب إلى بعض المحاكم والدوائر ولو سعيًا على الأقدام مما يكتب في صحائف حسنات الملوك، ويحيي به ذكرهم بعد موتهم، وكيف أستنكف عن ذلك وقد كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يستنكفون عنه؟ وهذا سيد البشر قد كان يعين أهله في أمور المنزل، فإذا كنا مسلمين فلم لا نقتدي به وهو سيد الأولين والآخرين؟ ومن المعلوم أن كل إنسان ميال بالطبع إلى شيء تألفه نفسه في هذه العاجلة، وأنا ميال إلى التعب والعناء فيما به قوام مملكتي، وأرى أن ذلك التعب هو في الحقيقة عين الراحة، وقد تدربت عليه حتى صار لي طبعًا، ولهذا تراني مع ما يعتورني من الأمراض والآلام الشديدة لا أنفك مصروف الأفكار والحواس إلى تدبير أمور الأمة ورأب صدعها ولم شعثها، ولا أدع قلوب الناس معلقة بغيري، بل أنا الذي أتصفح عرائضهم سطرًا سطرًا، فأوقع عليها بخط يدي، ولذلك لا يكاد يوجد أحد من الأفغان إلا وعنده أوراق عليها كتابة قلمي، وقد أحطت علمًا بأحوال رعيتي فقيرها وأميرها، فلا تخفى علي منهم خافية إلا ما تكن صدورهم وتنطوي عليه قلوبهم. وإن لي في كل بيت عينًا أبصر بها جميع أعمالهم وأطوارهم، وبابي مفتوح وبري ممنوح للصادر والوارد، وإني مستعد لمواجهة كل أحد وقضاء حاجته وسماع دعواه، ومن كانت له عندي حاجة ومنعه عن الحضور لدي عذر فليكتبها ويرسلها إلي، وليجعل العنوان على الظرف هكذا يصل إلى الأمير؛ فإنه لا يتجرأ أحد على فضها حتى أكون أنا الذي أفضها وأقرأها وأرد جوابها بيدي، ومن أراد مواجهتي فصدَّه بعض الحاشية، فليكتب إلي بذلك، ويكاشف به بعض عيوني؛ أي: (الشرطة السرية) ؛ فإني أعاقب له خصمه ولا عذر لمن يتأخر من رعيتي عن مقابلتي لحاجة أو زيارة؛ فإني لا أحتجب عن أحد. وتصب في معاملي أنواع الأسلحة الجديدة، وقصري مدجج بالأسلحة حتى محل منامي وقاعة جلوسي، ويوجد تحت وسادتي مسدسان وذو شطوب يماني وبندقيتان من الطراز الجديد، كل ذلك أعددته لطوارق الحدثان، ونوائب الزمان، وفرسي الأدهم لا يزال أمام عيني مسرجًا ملجمًا عليه حقيبة مشحونة نضارًا أحمر، وجنودي الجرارة أبناء الموت وليوث الحرب على أهبة وتعبئة مستعدة لأدنى إشارة تصدر مني، وإني لأعلم أنه وإن كانت الكثرة تغلب الشجاعة، إلا أن القلة قد تغلب الكثرة أيضًا إذا كان أمرها واحدًا ورأيها مجتمعًا، وإن الرجل الشجاع الحازم قادر على التحفظ بما لديه والذب عن حماه، وشر الملوك من يكون طالعه على قومه ورعيته مشؤومًا، فلا أحب أن أكون ذلك الرجل، وقد كان يخطر في بالي أن أتخلى عن الملك وأنزوي في بعض الكهوف والمغائر لإعداد الزاد ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، وأدع قومي يخوضون غمار الفتن ويصطلون أوزار الحروب ويتساقون كؤوس المنون؛ ولكني خشيت أن يسألني رافع السماء وباسط الأرض عندما أوقف بين يديه وحيدًا فريدًا: لماذا أغفلت أمور عبادي ونمت عن إصلاح شؤونهم؟ فهذا الذي يصدني عن ذلك، ويحملني على رؤية مصالحهم قائمًا وقاعدًا ومتكئًا ومستلقيًا على فراشي، وربما أخذتني السُنة والأوراق في يدي وعلى صدري وقد شغلت بذلك عن جميع شؤوني الذاتية، وأصبحت لا أتمكن من الدخول إلى الحرم أكثر من مرتين في العام بعد أن كنت أزورهن في الأسبوع مرتين، وإن لكل من ولدي نصر الله خان وحبيب الله خان ثلاثة آلاف روبية في الشهر للنفقات الضرورية، وهذا علاوة على ما هو مقرر لهما من المآكل والملابس، وما هو مرتب لحرمهما وحشمهما، وتبلغ رواتب حرمي من خمسة آلاف إلى ثمانية آلاف روبية في الشهر مع ما يلزمهن من النفقات. وإنه يسوءني ما أراه من تقدم الأمم الغربية، وتقاعس المسلمين عامة، وقومي خاصة، وأود لو يستفيق المسلمون من سباتهم الذي أربى على سبات أصحاب أهل الكهف، ويسترجعون أيامهم ويحافظون على مآثر أسلافهم ومفاخر آبائهم وأجدادهم الذين وطَّدوا لهم الملك ودوَّخوا لهم البلدان، وهيهات هيهات ذلك؛ لأن الداء إذا أعضل عز دواؤه. بيد أني لا آلو جهدًا في إحكام دعائم مملكتي وإصلاح شؤونها وتربية الأمة الأفغانية، وإني لأعلم أن بعض الناس يتربصون بي الدوائر ويتمنون لي الحمام الذي لا بد منه، ويرون حياتي شجًى في حلوقهم، وقذًى في عيونهم، وما أظن أن أحدًا من الملوك نعته ألسنة الجرائد مرارًا وهو حي يرزق غيري اهـ. هذا وإن الأمير يحيا كل الليل في مصالح العباد، وسماع التواريخ وسير الأوائل، وسياسات الملوك ومسامرة أرباب الفضل والكمال، ولا يزال هكذا إلى الفجر، فيتوضأ ويصلي الصبح جماعة، ويقرأ ورده وما تيسر من كتاب الله المجيد وهو مستقبل القبلة إلى ارتفاع الشمس، فيضطجع على سريره، وربما نام في بعض الأحيان على كرسيه الجالس عليه أو على الحصير الذي هو مصلاه، فينام إلى الساعة السابعة من النهار، ثم يهب من نومه فيدخل عليه الحكماء والأطباء فيجسون نبضه، ثم يدخل مغتسله فيغتسل ويبدل ثيابه، ويشرب الشاي، ويتناول ما تيسر من الطعام، ثم يدخل الأطباء فيجسون نبضه، ثم يدخل عليه وزراؤه وأمراؤه وأرباب الحوائج، فيأمر وينهى ويقضي بما تقتضيه سياسته، وبعد المغرب يدخل عليه سماره من الأمراء والعلماء وأرباب البيوتات وأهل الكمال في كل فن على اختلاف طبقاتهم، ولا يخلو مجلسه من أعلى الناس إلى أدناهم حتى (البنكية) وهم الذين يرفعون القاذورات من الكنف والشوارع، ولا يزال على ما ذكر إلى الصبح، فيفعل ما فعل بالأمس وهلم جرًّا. والأمير مسلم متمسك قوي الاعتقاد مثابر على العمل بالكتاب والسنة وأقوال السلف والخلف؛ حتى إنه ليعتقد بوهميات الأمور؛ من ذلك ما حكاه في كتابه المتقدم الذكر وترجمته: (قد كنت في عنفوان الشباب أعتقد أن التمائم والعوذ لا تجدي شيئًا، وأظن أن ما كتب في خواصها ترهات لا أصل لها، إلى أن هديت إلى تميمة كتبها بعض الصلحاء بزعم أنها تقي من الرصاص فما صدَّقت بذلك، وظننت أنها حيلة ساسانية ثم خطر لي أن أجربها، فربطتها في دراجة وأطلقت عليها الرصاص مرارًا عديدة، وفي كل مرة تخطئه يدي حتى إن الرصاص كاد يحرق ريشها ولم يصبها، فزال من فكري ما كنت أتوهمه، وربطت تلك التميمة بعضدي. وكان الأمير يقرأ مرة في القرآن المجيد فبلغ قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) فكرر الآية مرارًا وأطال فيها الفكر، ثم قال: عسى أن يرشدني ربي إلى عمل ينفعني في ذلك اليوم ويقيني حر جهنم. (المنار) صريح هذا الكلام أن حكومة الأمير مطلقة مفوضة لإرادته؛ ولكنه يسلك بها مسلك الإصلاح، فليست عيونه وجواسيسه لمصلحة شخصه؛ ولكنها لمصلحة البلاد والأفغان قوم أشداء أولو عصبية، ولولا حزم الأمير واحتياطه لما تمكن من الإصلاح الذي قام به؛ ولكنه إذا لم يؤسس حكومة شوروية يُخشى أن يزول من بعده هذا الإصلاح وتُضعف أمته العصبيات والتحزبات المعهودة فيها. وأما مسألة تميمة الرصاص فلعله أذاعها لييأس أعداؤه من اغتياله، وإلا فإن التجربة برمي طائر الدراجة بالرصاصة وعدم إصابته غير كافية في إثبات منفعتها؛ لجواز أن يخطئ الرامي الجمل فما بالك بالطائر، وظاهر أن الاعتقاد بالتمائم ليس من الدين كما بيناه في المجلد الثاني والثالث من المنار.

مسألة الغرانيق وتفسير الآيات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة الغرانيق وتفسير الآيات تمهيد، مصارعة الحق والباطل، رفع الإسلام مقام الأنبياء وحكمه بعصمتهم، عيث عشاق الروايات وإفسادهم في الدين، الروايات واختلافها في مسألة الغرانيق، مخالفة المحققين لها، الرجوع إلى أهل العلم الصحيح في إزالة الحيرة، الطعن في رواية تفسير التمني بالقراءة، الطعن في حديث الغرانيق رواية، الطعن فيه دراية، عصمة الأنبياء، الوجوه الدالة على بطلان حديث الغرانيق، تفسير الآيات على الوجه الموافق لأسلوب القرآن وفيه المقابلة بين الآيات وآيات سورة آل عمران في المحكمات والمتشابهات، التفسير الثاني، أماني الأنبياء، سنة الله فيهم وفي أقوامهم، تأويل ثالث، وسواس الشيطان، اللغات في الغرنوق ومعانيه، عدم ملائمة معانيه لوصف الآلهة، انتفاء نقل ذلك عن العرب، الجزم بأن الحديث من وضع الأعاجم. *** حديث الغرانيق صار مشهورًا عند المتأخرين لوجوده في كثير من كتب التفسير التي تتناولها الأيدي، ولو صح لكان أكبر شبهة على الدين؛ ولكن المقلد البحت الذي لا نظر له لا يبالي بالشبه ويقبل كل نقل، وإن كان الفرع فيه ينفي الأصل، وطلاب العَنَت يتشبثون بأهداب الشبه، فيجعلونها معاول تهدم الأركان الثابتة، وتنفي القضايا المبرهنة، ولذلك كثر الطعن في هذه الأيام بدين الإسلام، من دعاة النصرانية، وبعض المفتونين بالشبه المادية، وأقوى تكأة لهؤلاء الطاعنين ما قاله بعض المفسرين في مسألة زيد وزينب، وفي مسألة الغرانيق، ومسألة أخرى، ولما كان كشف الشبهات وتخليص الحق من شوائب الباطل على وجه تثق به النفوس، وتطمئن إليه القلوب، من وظائف أئمة الدين، وأكابر العلماء الراسخين، لجأ قوم إلى حكيم الإسلام في هذا العصر، وإمام المسلمين في كل بادية ومصر، مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، في أن يجلي لهم الحق في المسألة الأولى، فأجاب بما هو الحكمة وفصل الخطاب، ونشرناه في المنار، ليشتهر في الأقطار، ثم سأله آخرون في هذه الأيام عن الثانية، فأجاب بما أزال الالتباس، ومحص ما في صدور الناس. جعل المسألة أولاً موضوع درس في الأزهر حضره الجماهير، والجم الغفير، ثم كتبها لتُنشر في المنار، وتتناقل في الأمصار، وهاك ما جاء من فضيلته، بنصه وعبارته: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} (الحج: 52-55) . قد يجد الباطل أنصارًا، فيتبوأ من نفوسهم دارًا، ويتخذ له منها قرارًا، وتذهب على ذلك الأيام بعد الأيام، وتمضي عليه الأعوام إثر الأعوام، وهو يلعب بأهله، ويغلب أهواءهم بحيله، حتى يقصروا نظرهم عليه، ولا يجدوا ملجأ منه إلا إليه، فإذا أوتوا من ناحيته رضوا، وإذا عرض لهم الحق أعرضوا، ولا يزالون كذلك إلا أن تنحل به عراهم وتفسد بعلله قواهم، والحق لا يزال يعرض نفسه، يستخدم مرة لينه وأخرى بأسه، وهو الشاب الذي لا يهرم، والعامل الصبور الذي لا يسأم؛ وإنما يُعرِض بوجهه عن الأغبياء، ويُولِّي ظهره الأشقياء، ثم لا ينفك يرحمهم، ولا يبرح يتعهدهم، يسفر عليهم محيّاه، ويرسل إليهم أشعة من سناه، فإذا وافاهم وقد وهنت مُنَنَهُم [1] ، ومَرهت عيونهم [2] ، وحلك ليلهم، واشتد خبلهم، صاح بهم منه صائح، ورَمحهم من جنده رامح [3] ، فقِلق بالباطل مكانه، وزُلزلت من حوله أركانه، وفزع يطلب النصير، وثار يلتمس المجير، فلا يجد إلا أسبابًا تقطعت به، وأعضادًا فُتَّ فيها بسببه [4] ، وقد رنَّقَ قومه [5] ، وعبس يومه، فيحملق إلى الحق يأخذه ببصره، ويستنزله بنظره، ولكن خاب الظن، وبطل الفن ثم لا يلبث وهو الباطل أن يتحول عنده اليأس أملاً، ويجد من اليبس بللاً، فيظن وهو هو أن الحق ناصره، وأن ستقوى به أواصره، فسيتنصر بجنده، ويطلب النجدة من عنده، وأقرب ما يكون خصم إلى الهلكة إذا اطمأن إلى عدوه، وأمل الخير في دنوه، هذا شأن الباطل وأهله، مع تقلبه في ملله ونحله. يعلم كل ناظر في كتابنا الإلهي (القرآن) ما رفع الإسلام من شأن الأنبياء والمرسلين، والمنزلة التي أحلهم من حيث هم حملة الوحي وقدوة البشر في الفضائل وصالح الأعمال، وتنزيهه إياهم عما رماهم به أعداؤهم، وما نسبه إليهم المعتقدون بأديانهم، ولا يخفى على أحد من أهل النظر في هذا الدين القويم أنه قد قرر عصمة الرسل كافة من الزلل والتبليغ والزيغ عن الوجهة التي وجه الله وجوههم نحوها من قول أو عمل، وخصَّ خاتمهم محمدًا صلى الله عليه وسلم فوق ذلك بمزايا فُصِّلت في ثنايا الكتاب العزيز. عصمة الرسل في التبليغ عن الله أصل من أصول الإسلام، شهد به الكتاب وأيدته السنة وأجمعت عليه الأمة، وما خالف فيه بعض الفرق فإنما هو في غير الإخبار عن الله وإبلاغ وحيه إلى خلقه، ذلك الأصل الذي اعتمدت عليه الأديان حق لا يرتاب منه مليٌّ يفهم ما معنى الدين. مع ذلك لم يعدم الباطل فيه أعوانًا يعملون على هدمه وتوهين ركنه، أولئك عشاق الروايات وعبدة النقل، نظروا نظرة في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} (الحج: 52) الآية، وفيما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أن تمنى بمعنى قرأ، والأمنية القراءة؛ فعمي عليهم وجه التأويل الحق على فرض صحة الرواية عن ابن عباس، فذهبوا يطلبون ما به يصح التأويل في زعمهم، فقيض لهم من يروي في ذلك أحاديث تختل طرقها وتتباين ألفاظها وتتفق في أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ منه أذى المشركين ما بلغ، وأعرضوا عنه وجفاه قومه وعشيرته؛ لعيبه أصنامهم، وزرايته على آلهتهم، أخذه الضجر من إعراضهم ولحرصه على إسلامهم وتهالكه عليه تمنى أن لا ينزل عليه ما ينفرهم، لعله يتخذ ذلك طريقًا إلى استمالتهم واستنزالهم عن غيهم وعنادهم، فاستمر به ما تمناه حتى نزلت عليه سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: 1) وهو في نادي قومه. وروي أنه كان في الصلاة وذلك التمني آخذ بنفسه، فطفق يقرأها فلما بلغ قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: 20) {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: 52) التي تمناها بأن وسوس له بما شيعها به، فسبق لسانه على سبيل السهو والغلط فمدح تلك الأصنام، وذكر أن شفاعتهن ترتجى، فمنهم من قال: إنه عندما بلغ {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (النجم: 20) سها فقال: تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتهن لترتجى، ومنهم من روى (الغرانقة العلى) ، ومنهم من روى (أن شفاعتهن ترتجى) بدون ذكر الغرانقة والغرانيق، ومنهم من قال: إنه قال: (وإنها لمع الغرانيق العلى) ومنهم من روى (وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى) ففرح المشركون بذلك، وعندما سجد في آخر السورة سجدوا معه جميعًا. قال ابن حجر العسقلاني: وتعدد الطرق وصحة ثلاثة منها وإن كانت مرسلة يدل على أن للواقعة أصلاً صحيحًا، وهذه الأسانيد الصحيحة - في رأيه - وإن كانت مراسيل يحتج بها من يرى الاحتجاج بالحديث المرسل، بل ومن لا يراه كذلك؛ لأنها متعددة يعضد بعضها بعضًا اهـ، ولولا خوف التطويل لأتيت بجميع تلك الروايات ما صح عنده منها وما لم يصح، ولكن لا أرى حاجة إليه في مقالي هذا. روى ذلك ابن جرير الطبري وشايعه عليه كثير من المفسرين، وفي طباع النفس أُلْف الغريب، والتهافت على العجيب، فولعوا بهذه التفاسير واتخذوها عقدة إيمانهم حتى ظنوا - وبعض الظن إثم - أن لا معدل عنها، ولا سبيل في فهم الآية سواها، ونسوا ما رآه جمهور المحققين في تأويلها، وذهب إليه الأئمة في بيانها، حتى ثارت ثائرة الشبه هذه الأيام في نفوس كثير منهم، وهم يزعمون أنهم مسلمون، وأحسوا أن ذلك الضرب من التفسير لا يتفق مع أصل العصمة في التبليغ، وأن فيه من الحجة للعدو ما لا سبيل إلى دفعه فلجؤوا إلى أهل العلم الصحيح يلتمسون منهم بيان المخرج مما سقطوا فيه، وتوهموا أنهم يقررون لهم ما ألفوا، ثم ينقذونهم من الحيرة مع ثباتهم على ما حرَّفوا، ولكن ضل رأيهم، وخاب ظنهم، وسيقامون على المنهج، ويرون الحق ناصعًا أبلج. في صحيح البخاري: وقال ابن عباس في {إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} (الحج: 52) : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته، ويقال: أمنيته قراءته (إلا أماني) يقرؤون ولا يكتبون. اهـ. فتراه حكى تفسير الأمنية بالقراءة بلفظ (يقال) بعدما فسرها بالحديث رواية عن ابن عباس، وهذا يدل على المغايرة بين التفسيرين، فما يدَّعيه الشراح أن الحديث في رأي ابن عباس بمعنى التلاوة يخالف ظاهر العبارة، ثم حكايته تفسير الأمنية بمعنى القراءة بلفظ (يقال) : يفيد أنه غير معتبر عنده. وقال صاحب الإبريز: إن تفسير تمنى بمعنى قرأ، والأمنية بمعنى القراءة مروي عن ابن عباس في نسخة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورواها علي ابن صالح كاتب الليث عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقد علم ما للناس في ابن أبي صالح كاتب الليث، وأن المحققين على تضعيفه اهـ، هذا ما في الرواية عن ابن عباس، وهي أصل هذه الفتنة وقد رأيت أن المحققين يضعفون راويها. وأما قصة الغرانيق فمع ما فيها من الاختلاف الذي سبق ذكره جاء في تتميمها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفطن لما ورد على لسانه، وأن جبريل جاءه بعد ذلك فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين، قال له: ما جئتك بهاتين، فحزن لذلك فأنزل الله عليه {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) الآيات تسلية له كما أنزل لذلك قوله: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 73-75) وفي بعض الروايات: أن حديث الغرانيق فشا في الناس حتى بلغ أرض الحبشة فساء ذلك المسلمين والنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت {وَمَا أَرْسَلْنَا} (الحج: 52) الآية، قال القسطلاني في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القصة وسندها غير واحد من الأئمة، حتى قال ابن إسحاق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة اهـ وكفى في إنكار حديث أن يقول فيه ابن إسحاق: إنه من وضع الزنادقة مع حال ابن إسحاق المعروفة عند المحدثين. وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه أحد بسند متصل سليم؛ وإنما أولع به وب

مضار اللثم والتقبيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مضار اللَّثْم والتقبيل أمريكا مصدر العجائب، ومعدن الغرائب غير أن العجائب والغرائب فيها فُقِدَتْ بتجاوزها حدود التواتر الصفات اللاصقة بالشواذ، والنوادر؛ لأنها حلت عند أهلها محل الأشياء العادية عند غيرهم. ومن أعجب ما أتحفتنا به من غرائبها ما قرره حاكم ولاية نيوجرزي إحدى ولاياتها من منع أشهى الأشياء إلى الإنسان، وموضوع تغزل الشعراء في كل زمان وأول ما ينبعث إليه بعامل الغريزة كل عاشق ولهان، وأقوى مؤكد للألفة في قلوب الأحباب، وهو: (لثم الثغور أو رشف الرضاب) . القارئ لهذا الخبر يحكم من أول وهلة أن الآمر بالمنع مصاب بخبل في عقله، ولكن الأطباء أجمعوا على حسن صنعه؛ لأن جراثيم الأمراض المعدية كالحمى الوافدة مثلاً مقرها المنخران والفم، فإذا لثم واحد آخر في ثغره وكان أحدهما مصابًا بهذا الداء أصيب الثاني به في الحال بالعدوى من الأنف أو الفم، فالأولى بمن يريد وقاية نفسه من الأمراض أن لا يعرك مارن أنفه بمارن أنف من يُقَبِّل ثغره كما يفعل المتوحشون سكان بعض سواحل المحيط الهادي، بل يحسن به أن يصافح من يريد السلام عليه باليد؛ فإن اليد خير وسيلة لتبادل التحية بين المهذبين. ولا يخلو الحال من أن ينتقد قصار العقول على حاكم نيوجرزي؛ لكونه أصدر قرارًا لا يمكنه القيام بالرقابة على تنفيذه، ويسخر به، والسخرية في مثل هذه الأحوال أقرب ما يتدرع به الجهال؛ ولكن كم ألوف من المنشورات والقرارات التي لو عمل بنصوصها لاتقيت المعاطب، ودُرئت المصائب لم تلبث ممثلة في حيز خواطر الحكام إلا ريثما يجف مدادها، ثم اندرجت في طي النسيان ودخلت في خبر كان. فقرار حاكم نيوجرزي لم يكن والحالة هذه مظهرًا من مظاهر الجنون، ولا عملاً قصد به مجرد التحكم في مرؤوسيه من الأهالي؛ إذ لم يسلم عقل عاقل أن رجلاً تعهد إليه أمور ولاية بأسرها، وينقاد لأوامره جميع سكانها، يقضي شهورًا وأيامًا في تشييد معالم قراره على أساسات متينة من الأسانيد العلمية بدون أن يأنس ميلاً من الأهالي إلى إبطال عادة التقبيل الواضحة الأضرار بتأثيرها المادي في صحة الإنسان. فإن الرجل شاهد من القوم في إبان الأمر تذمرًا شديدًا من إبطال عادة قديمة شائعة بينهم، وهي تقبيل الإنجيل بعد حلف اليمين أمام القضاة، وتتبع آثار المناقشات التي قامت بين القضاة والشهود بسبب ما كان يراه الفريق الأول من وجوب التقبيل، وما كان ينزع إليه الفريق الثاني من الامتناع عنه، واعتبر بما جنح إليه الشهود من الإصرار على الإباء وتفضيلهم دفع الغرامة المقررة قانونًا في مثل هذه الأحوال على تقبيل كتاب لمسته شفاه ألوف غيرهم من قبل، وليس الغريب في الحادثة كلها تعنت فريقي القضاة والشهود وتمسكهما بما ذهب كل منهما إليه، وإنما الغريب اتحاد السلالة السكسونية في النزعات والأميال؛ فإنه ما شاع خبر الشروع في منع التقبيل بنيوجرزي، حتى قامت قيامة الميكروبيين في إنكلترا وكندا وأستراليا ورفعوا أصواتهم مطالبين بمنع تقبيل الكتاب المقدس أمام القضاة، وحدثت بينهم وبين هؤلاء حادثات أفضت إلى مثل النتيجة التي أدى الخلاف إليها بين الفريقين في ولاية نيوجرزي. وكما يعود إلى الأمريكيين الفضل في اقتراح إبطال تقبيل الإنجيل، يعود إليهم فضل حل هذه المشكلة على أحسن الطرق، حيث قرروا تجليد هذا الكتاب بمادة السلولوئيد (مادة من السلولوز القاعدة في تركيبها النثر والكافور) ، بدلاً عن الجلد؛ لأنه بحالته الجديدة يمكن غسله وتطهيره بالمواد المطهرة عقب كل قبلة. ولكن مسألة القبلة بوجه العموم كانت قد أخذت دورًا مهمًّا في المناقشات بين الناس، واتسع خرقها، ولم يكن تجليد الإنجيل بالسلولوئيد حاسمًا لها؛ إذ تألفت في الحال عصابة من الأهالي دعت نفسها (عصابة منع التقبيل) ، وسلمت مقاليد زعامتها لأحد نطس الأطباء، فأثارت حربًا عوانًا على اللثم والتقبيل، وأبانت بالبراهين القاطعة مقدار ضررهما بالصحة، ومن هذه الأدلة: أن اليابانيين يجهلون عادة التقبيل، ولذا كانت جسومهم أبعد من جسوم غيرهم عن الأمراض، وقد ناقضه في هذه الدعوى طبيب أمريكي عاش طويلاً بمدينة طوكيو عاصمة اليابان حيث قال: إن اليابانيين لا يجهلون عادة التقبيل العامة في جميع الشعوب، وغاية الأمر أن حكومتهم منعت من تقبيل الأطفال خوفًا من وصول الأمراض إليهم بالعدوى. ومهما يكن من الأمر فقد استدرجت العصابة إلى حزبها كبار الأطباء، وثقات العلماء، وقرروا إصدار منشور ببيان ما يدعو إلى التخلي عن عادة التقبيل المضرة؛ فإن القبلة تنقسم إلى قسمين: قبلة يقصد بها مجرد الشهوة وهي لا يختلف اثنان في ضررها، إذ امتزاج اللعابين بارتشاف الرضاب أقوى موصل للجراثيم من المريض إلى السليم، وقبلة اصطلاحية وهي التي اتفق الناس عليها لإظهار شوق، أو الاعتراف بصنيع حسن، وتكون عادة في الوجنة أو اليد، ولسنا نرى أن ترك أثر من لعاب الفم قد يكون مشحونًا بجراثيم الأمراض المعدية عليهما يعد من مظاهرات الشوق، أو دلائل الشكر إذا كان مصير ذلك الأثر أن يكون مركزًا تنبعث منه جراثيم العدوى إلى الكثيرين بواسطة من وسائط الانتقال التي يضيق المقام عن حصرها، ولذا ننصح القراء بترك تلك العادة القبيحة فوق ضررها، ونرجو أن يقوم بيننا أمثال والي ولاية نيوجرزي؛ ليرشدونا إلى الصواب في أخص أمورنا وأجلها وأنفعها لنا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. م

الحنين إلى الوطن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحنين إلى الوطن قال في المسامرة: حدثنا أبو مصعب بن محمد بن مسعود الخشني الخطيب الأديب قاضي كورة حيان بمسجد الأخضر بمدينة أشبيلية قال: لما حُملت نائلة بنت الفرافصة الكلبية إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه كرهت فراق أهلها، فقالت لضب أخيها: ألست ترى بالله يا ضب أنني ... مرافقة نحو المدينة أركُبا أما كان في أولاد عمرو بن عامر ... لك الويل ما يغني الخباء المحجَّبا أبى الله إلا أن أكون غريبة ... بيثرب لا أم لدي ولا أبا قال: وأنشدني ابن سكر بها بمسجد الشهداء: ألا يا حبذا وطني وأهلي ... وصحبى حين تذكرني الصحاب بلاد من غرانقة كرام ... بهم حلَّى تميمتي الشباب وما عسل ببارد ماء مزنٍ ... على ظمأ لشاربه يشاب بأشهى من تلقيكم إلينا ... فكيف لنا به ومتى الإياب وأنشدتني خديجة بنت عبد الوهاب بن هبة الله الصوفي القصار قول الأعرابية التي كان يهواها بعض خلفاء بني العباس، فتزوج بها، فلم يوافقها هواء البلاد، فلم تزل تنحل وتعتل وتتأوه مع ما هي عليه من النعيم واللذة والأمر والنهي فسألها عن شأنها فأخبرته بما تجد من الشوق إلى البراري، وأحاليب الرعاء، وورود المياه التي تعودت، فبنى لها قصرًا على رأس البرية بشاطئ الدجلة سماه المعشوق، يقابل مدينة سامرا من الجانب الآخر، وأمر بالأغنام والرعاء أن تسرح بين يديها وتتراءى أمامها، فلم يزدها ذلك إلا اشتياقًا إلى وطنها، فمر بها يومًا في قصرها من حيث لا تشعر بمكانه، فسمعها تنتحب وتبكي حتى ارتفع صوتها وعلا شهيقها، وكبد الخليفة يتقطع رحمة فسمعها تقول: وما ذنب أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنت تمنت أحاليب الرعاة وخيمة ... بنجد فلم يقض لها ما تمنت إذا ذكرت ماء العذيب وطيبه ... وبرد حصاه آخر الليل حنت لها أنة عند العشاء وأنة ... سحيرًا ولولا أنَّتاها لجُنَّت فخرج عليها الخليفة وقال: قد قضي ما تمنيت، فالحقي بأهلك من غير طلاق، فما مر عليها وقت أسرَّ من ذلك، وسرى ماء في وجهها من حينها، فعجب الخليفة، والتحقت بأهلها بجميع ما كان عندها في قصرها، وكان الخليفة يهواها ويغشاها في أهلها إذا تصيد اهـ. أقول: ومن هذا الباب قول بعضهم: وحبَّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) كتاب جديد ظهر في عالم الطباعة، جديد في وجوده، جديد في مباحثه ومسائله، جديد في حكمته وفلسفته، وإرشاده وسياسته، حملت به فكرة عالم عامل، ومحنك عاقل، حلب الدهر شطريه، وعرف ما له وما عليه، ولما تم حمله وأراد أن يظهر في الوجود فضله، وضعته تلك الفكرة الوقَّادة، والقريحة النقادة، في أرض الحرية، من هذه البلاد المصرية، فكانت جريدة المؤيد أول مهد له تمهد، ثم لم يلبث أن تم فصاله، وظهر في إثر ولاده كماله، وتم له استقلاله، وعم القارئين نواله. أطال هذا الرجل النظر في الاستبداد، فرأى أنه هو المخرب للبلاد، وتبصر مليًّا في الاستعباد، فعلم أنه هو المهلك للعباد، فدرس من هذين الأمرَين الأمرَّين طبائعهما، وتعرف مصارعهما، ثم أتحف ناشئة قومه بنتيجة علمه، وثمرة عقله وفهمه، فوضع لهم بدر التمام، على طرف الثمام، وقرب إليهم ما كان على بعد سنين وأعوام، فجعله على مسافة يوم وأيام. يشتمل الكتاب على خطبة في سبب تأليفه وإهدائه للناشئة، ومقدمة في علم السياسة والدعوة للكتابة في الاستبداد، ويليه فصول في تعريف الاستبداد وذويه، والاستبداد والدين، والاستبداد والعلم، والاستبداد والمجد، والاستبداد والمال، والاستبداد والأخلاق، والاستبداد والتربية، والاستبداد والترقي، والاستبداد والتخلص منه، وفي هذا الفصل 25 بحثًا من أهم المباحث السياسية والاجتماعية ذكرها المؤلف، (تذكرة للكُتَّاب ذوي الألباب، وتنشيطًا للنجباء على الخوض فيها بترتيب) ، وهذا الفصل الأخير وما فيه مما لم يُنْشَر في المؤيد. أشار المؤلف لاسمه برمز (الرحالة ك) ليحكم الناس على القول بذاته لذاته، وللناس شغف بمعرفة الفضلاء النابغين من أمتهم، وحفظ أسمائهم وألقابهم في ألواح القلوب ودفاتر التاريخ، فأما الذين يعرفون شخص الأستاذ الهمام السيد الشيخ عبد الرحمن أفندي الكواكبي الحلبي وفضله، فيقولون: أجدر بهذا الكتاب أن يكون له، وأما الذين لا يعرفونه فليحفظوا هذا الاسم الذي يطابق الرمز إلى أن يجيء يوم يستبدل فيه هذا الرحالة التصريح، بالرمز والتلميح. والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد بشكل كتاب (المرأة الجديدة) ، وصفحاته 183، وثمنه خمسة قروش، ويباع في مكتبة الترقي، ومكتبة هندية، ومكتبة الهلال، ومن يدفع سبعة قروش أميرية يرسل إليه الكتاب مضمونًا حيث كان، والطلب يكون بهذا العنوان (القاهرة صندوق البوسطة نمرة 517 محمد أفندي الوكيل) ، فنحث كل قارئ على قراءته، ونرجو من مؤلفه أن يكتب لنا كتابًا آخر في المباحث 25 التي وضعها تذكرة للكتاب، فلا يوفيها حقها غيره. *** (تنبيه الأفهام، إلى مطالب الحياة الاجتماعية والإسلام) كتاب جديد اسمه يدل على شرف موضوعه وفائدة مباحثه، من إنشاء صديقنا الكاتب الفاضل رفيق بك العظم الشهير بغيرته وإجادته بما لا يجيد فيه إلا الأقل من كتابنا، والكتاب مؤلف من تسع مقالات، خمس منها نُشرت في مجلة الموسوعات، فكانت في المكانة الأولى مما يُنشر فيها، وقد وُشِّي ذيل هذه المقالات بهوامش زادت في فوائدها، وأجدر بالذين يبحثون في هذه الأيام عن المدنية الإسلامية كيف كانت، ولم زالت، وكيف ينبغي أن تكون، وما النسبة بينها وبين المدنية الغربية أن يقرؤوا هذه المقالات ويتدبروها، ويتوسعوا في مسائلها بحثًا وحوارًا وكتابة وخطابة ودعوة إلى العمل وقيامًا به، وسنُتحف قراء المنار بشيء منها عند سنوح الفرصة، وعسى أن يسبقونا إلى قراءتها برمتها، وهي تُطلب من صاحبها ومن مكتبة الترقي وغيرها. *** (دليل الحيران في الكشف عن آيات القرآن أو (ترتيب زيبا)) لا يوجد مسلم يشتغل بالكتابة والعلم إلا ويحتاج للمراجعة والكشف عن آيات من القرآن في أوقات كثيرة، ومثل المسلمين من يشتغل بعلوم دينهم ولسانهم العربي، فمن لم يكن حافظًا يُضيع وقتًا طويلاً في طلب كل آية يحتاج إلى الوقوف عليها؛ ولذلك مست الحاجة إلى طريقة تُسَهِّل المراجعة على طالبها، وقد سبق المتقدمون إلى اتخاذ طرائق لم نعرف منها إلا ما عرفنا به الطبع فمنها كتاب (نجوم الفرقان في أطراف القرآن) ، وهو يذكر جميع كلمات القرآن مرتبة على حروف المعجم، ويذكر في جانب كل كلمة رقم السورة أو السور التي وقعت فيها، ورقم الآية أو الآيات بالعدد، وقد طُبع في ألمانيا، وجعلت أرقامه إفرنجية، ومنها (ترتيب زيبا) للحاج صالح ناظم ومعناه (الترتيب الجميل) ، وهو مرتب على حروف المعجم بحسب أوائل الآيات غالبًا، فمتى عرفت أول الآية تكشف في فصل الحرف المبدوءة به تجدها، وقد جعل الفصول لأكثر الحروف على أنواع؛ لكل كلمة مما يكثر في الكلام نوع، فالآيات المبدوءة بكلمة (إن) نوع، والمبدوءة بكلمة (إذا) نوع، والمبدوءة بأدوات الاستفهام على أنواع، وعلى ذلك فقس، وكان هذا الكتاب قد طُبع في الآستانة العلية، ونفدت نسخه، فانبرى في هذه الأيام الفاضل الهمام إبراهيم بك رمزي، فأعاد طبعه على نفقته في مطبعة التمدن المتقنة؛ ولكنه غير اسمه بما ذكر في العنوان، وثمن النسخة منه 10 قروش، وهو يُطلب من المطبعة المذكورة بجوار إدارة المؤيد بمصر.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ التعليم الفطري والمدارس [1] (المكتوب 48) من أراسم إلى هيلانة في 15 أغسطس سنة 185. لو أني عُهِدَ إليّ ببناء مدرسة كبرى للناشئين في أمة من الأمم العظيمة، لبذلت وسعي في أن أبث في جدرانها من العلم روحًا وعقلاً. ذلك لأن القائمين على التعليم لم يزالوا في سبات من الغفلة عما كان لمعاهدة التربية من التأثير في خيال المتعلمين خصوصًا في سنيهم الأولى، ولقد كان القدماء أنفذ منا إدراكًا في سر التعليم بالمشاهدة، وجروا في ذلك على نواميس الفطرة الإنسانية الحقة. ليست المعابد والبِيع عند جميع الأمم إلا مدارس اتخذها الكهنة والقسيسون في الأديان القديمة والحديثة صحفًا لمجموع عقائدهم ومذاهبهم، بما وجدوه لذلك من الوسائل الكبرى في فن العمارة، ونحت التماثيل، وصناعة التصوير، وبقاء العبادات إلى الآن يدلنا على درجة انتقاش الرموز والصور الاعتقادية في أذهان العامة؛ فإن مخترعات الخيال التي يبرزها الرسم للوجود الخارجي في صور فخيمة تبقى شائعة بين الناس بعد فناء الفكرة التي أنتجتها بعدة قرون، يشهد لذلك بقاء مظاهر المعتقدات الجمادية، مع أن الأمم قد كفت من عهد بعيد عن توهم أنها لا تزال على عادتها في عبادتها. إذا كنا قد رفعنا هياكل للآلهة الباطلة كالحرب والروع والظفر بالأعداء وجميع بلايا الإنسان ومصائبه، فما لنا لا نرفع للعلم هيكلاً؟ وأي كلفة في هذا العمل على أمة عظيمة؟ لا يقال: إن أول عائق دونه هو قلة المال وغلاء المواد اللازمة لإقامته؛ لأني أرى أننا في غنى عن الذهب والمرمر والخشب النفيس، وفي مقدورنا أن لا نتعرض في إنشائه لشيء من صنوبر لبنان، ولا من نفائس المعادن التي تم بها العظم والجلال لهيكل سليمان؛ فإن في الجبس، بل في الورق المقوى غناء عن ذلك كله في سبيل التربية، إذا وجد له أناس صُنُع اليدين يهيئونه ويستخدمونه في الدلالة على المعاني، وقد أصبح اليوم من الميسور تحصيل أهم مثل الأشياء الخلقية والصناعية بنفقات زهيدة، وذلك بفضل ما اخترع من إفراغ صب المواد في القواليب، وإن فيما يوجد بمعاهد التمثيل عندنا من تماثيل الزينة وصورها لبرهانًا ناطقًا بأن في قدرة المصور أن ينقل الرائي إلى رومة [2] وأثينا [3] ومنفيس [4] ببعض جولات يتحرك بها قلمه، وبشيء من المغالطات البصرية؛ لأنه متى أتقن تمثيل ما يمثله من الأشياء في شكله ولونه، كاد أن يُحْدِث في الخيال ما يُحْدِثه أصله من الأثر، فلا عبرة بالمادة، وبما يُتخذ من الوسائل لبث الروح فيها ما دامت الصورة تنبه المشاعر وتؤدي إلى العقل معنى صحيحًا لما يُراد تعريفه إياه. كل دين إذا استكنهناه رأيناه يرجع إلى فهم ما ذهب إليه أربابه من الآراء في خلق العالم ونظامه؛ لكن فهم هذه الآراء هو في الغالب غاية في الصعوبة، وإنه لولا الاستعانة بالرموز في إدراكها لنبت عنها عقول الكافة نبوًّا كليًّا، وأما الهيكل الذي أقصد رفعه للعلم، فهو معرض تتجلى فيه الحوادث على الناشئين، بل هو تاريخ حي محسوس للعالم الذي يعيشون فيه مواده كلها موجودة؛ لكنها متفرقة فيما عندنا من المتاحف والمكتبات والمجموعات، ونحن عنها غافلون، فليس من الحق أن يُكَلَّف اليافع بالتماسها في أماكنها؛ لأن ما في هذه الأماكن من العظام النخرة، والحيوانات المصبرة، وجذاذ الأوثان المكسرة؛ إنما يفيد العلماء، وأما الأحداث فاللازم لإفادتهم إيجاد مشهد تجتمع لهم فيه المُثل الحية الكبرى للإنسان وغيره من المخلوقات على صورة جاذبة لنفوسهم. هذه معارضنا العامة التي تقام في باريس ولوندرة قد تعلم منها الجهلة (وهم في كل أمة سوادها الأعظم) من مناشئ الصناعة وتوزع الأجيال على سطح الأرض، وأحوال الترقي في الأمم المختلفة أكثر مما يتعلمونه من جميع الكتب التي وضعت في التدبير السياسي وتقويم البلدان، فكيف إذا عزَّزت مشاهدة الأشياء، وكملت بتعليم خاص؟ تلك المعارض لا يتسنى إقامتها مسانهة، وهي فوق ذلك لا تحتوي إلا على طائفة من الوقائع والأمور المخصوصة، وإذا كنت قد نوهت بها؛ فإنما قصدت بذلك أن أبين لك ما يعود على الأحداث من الفائدة، إذا أقيم لهم معهد آخر للعلوم تمثل لهم فيه صورها. أصبح علم الكرة الأرضية خلوًا مما يستميل نفوس المتعلمين مورثًا للسآمة والضجر بمين ما رسمناه له من الخرائط وألفناه فيه من الكتب، أفلا يكون الحال على خلاف ذلك لو أن هذه الخرائط استعيضت بقماش تصور عليه الأرض وما فيها تصويرًا إذا جال النور في أرجائه ضاعف مغالطة بصر الطفل، فخيَّل له أنه على الجانب الآخر للمحيط مثلاً؟ وليس يلزم لذلك إلا مصور صادق في عزيمته باذل نفسه من أجل البلوغ إلى غايته. قام بفكر أمريكي شجاع اسمه جون بانفارد يومًا من الأيام أن يصور مجرى نهر المسيسبي [5] ، فركبه وحده في قارب مكشوف مصرًّا على إنفاذ فكره، غير مبالٍ بما كان يعترضه من الصعوبات الكثيرة، ويعتريه من الآلام الشديدة، فيبست يداه وخشنتا بسبب استعمال المجذاف، واحترق جلده بحر الشمس، فصار عما قليل كواحد من هنود أمريكا في لونه، وقضى أسابيع كاملة، بل شهورًا لم يصادف فيها إنسانًا يكلمه، ولم يكن له رفيق سوى قرينته، بلى كانت هذه الرفيقة تتكلم بأعلى صوت كلامًا حقًّا لا خطأ فيه يُفْهِم بعض طيور النهر والأجمة، وكان يخرج في كل مساء من قاربه إلى البر ويوقد نارًا، فيشوي عليها ما يصطاده، ثم يرقد ملتفًّا في غطائه مكفئًا فوقه القارب؛ ليكون له جُنة دون الحيوانات الوحشية، وسقفًا يقيه طل الليل، وكان عند شروق الشمس يهب من نومه ويمضي عامة يومه في اجتياز النهر من شاطئ إلى آخر على التوالي طلبًا لمنظر جديد، فكان يسترعي طرفه في مكان خليج عميق، وفي آخر أسراب من الطيور، وتستلفته في ثالث جزيرة صغيرة علتها خضرة نضرة، وهو لا يفتر عن تسويد ما يلاحظه فلم يغادر شيئًا مما يستحق التصوير إلا رسمه خطفًا واختلاسًا، ولما فرغ من تقييد إشاراته وملاحظاته اتخذ له في المدينة المسماة لويسفيل بولاية كنتوكي [6] بيتًا من الخشب، حيث أنشأ يصور ما قيده على القماش وما كان أطوله، فقد بلغ ذرعه ثلاثة أميال. لا شك في أن ذلك المصور كان أهلاً لأن يأتي بطرفة من الطرف، وإن كان رسم مناظر المسيسبي ليس في الحقيقة إلا حكاية صادقة لسفره خطها قلم الرسم خطًّا بطيئًا، ونحن على كل حال نرجو الله سبحانه أن يقيض لنا من يحتذي مثال جون بانفارد من المصورين، وأن يهبهم من الإقدام والإخلاص للعمل ما وهبه؛ فإنه لو تحقق ذلك لأصبحنا بسطح الكرة التي نسكنها أعلم مما نحن الآن بكثير. وليت شعري: أي مانع يحول دون إنفاذ عمل كهذا يكون تاريخًا للأرض ومن يقطنها من الأمم؟ ربما قيل: إن ذلك هو ما يقتضيه من إنفاق المال الكثير. فأقول: هذا مُسَلَّم؛ ولكنا ننفق في تبديل سلاح بآخر، أو طريقة من طرق القتال بغيرها أو في بناء بارجة، أو إقامة حكومة جديدة متوسطة مدة بقائها ثمانية عشر شهرًا على الأكثر - أضعاف ما تقتضيه منا طريقة التربية المؤسَّسة على نواميس الفطرة الإنسانية. لا شأن لنا في ذلك، وعلينا التسليم والامتثال؛ فإن هيكلاً كالذي وصفته تتجلى فيه الوقائع والمعاني إنما هو صورة من صور الخيال لا وجود له في الخارج ولن يوجد بلا شك، فيجب علينا إذن بناؤه في المستقبل في ذهن (إميل) بمواد أخرى اهـ. (المنار) إن ما قاله المؤلف في الأديان غير مُسَلَّم على إطلاقه، ويظهر أنه لم يطلع على الدين الإسلامي الذي هو دين الفطرة، والمرشد إلى سنن الفطرة في التربية والتعليم، وإن كان يستنير بأشعة شمسه من حيث لا يشعر. ((يتبع بمقال تالٍ))

ملكة الإنكليز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ملكة الإنكليز تقدم في الجزء الثاني والثلاثين من السنة الثالثة ذكر مولد هذه الملكة العاهلة ونشأتها وجلوسها وتتويجها وزواجها، ونلم هنا بباقي سيرتها. أخلاقها ودينها: تقدم في مطاوي الكلام ما يُشْعِر بدماثة أخلاق الملكة فيكتوريا وتهذيبها، ويُؤْثَر عنها شدة التمسك في مذهبها البروتستانتي؛ ولكنها كانت تُظهر الاستياء من التحامل على رعاياها الكاثوليك، ومما يُؤثر عنها في المحافظة على يوم الأحد أن أحد الوزارء أراد أن يعرض عليها أوراقًا ذات بال في مساء السبت، فرأى الوقت يضيق عن النظر فيها، فاستأذنها بأن يحضر لعرضها في صباح اليوم التالي فقالت: إن غدًا الأحد يا حضرة اللورد. فقال: إن مصلحة البلاد لا تسمح بالتأجيل. قالت: إذن لا بأس. وفي صبيحة ذلك اليوم حضر ذلك الوزير سماع الوعظ في الكنيسة مع الملكة كعادة أمثاله، وكان الوعظ في (الواجب على المسيحي يوم الأحد) فلما انتهى قالت الملكة للوزير: (هل أعجبك الوعظ؟) قال: كثيرًا يا جلالة الملكة. قالت: (لا أخفي عنك أنني أنا التي أوعزت إلى الخطيب بهذا الموضوع فعسى أن يؤثر كلامه فينا) ، ثم أمرته أن يحضر في اليوم التالي لعرض الأوراق ففعل، ويُؤثر عنها أنها قالت: (إن السر في عظمة إنكلترا هو الكتاب المقدس. وقالت: إن التجارة وحدها لا تجعل الأمة عظيمة وسعيدة، وإنكلترا إنما بلغت ما بلغت من العظمة والسعادة بمعرفة الإله الحقيقي) نعم إن الإنكليز أشد تمسكًا بالدين، وأقل تعصبًا على المخالفين من جيرانهم الفرنساويين، ولذلك تقدموا عليهم؛ ولكن البوير أشد تدينًا من الإنكليز؛ ولذلك انتصروا عليهم وقاووهم إلى الآن، ولا يزال الحرب بينهما سجالاً مع أنهم في الإنكليز كالشامة في جلد البعير، فليعتبر شبان المصريين الذين يتوهمون أن المدنية إنما تكون بالكفر والتعطيل، واتباع الشهوات البهيمية، والغرور بالزخارف الظاهرية. سياستها: الممالك إنما تنهض وترتقي برجالها ووزرائها المسؤولين المحنكين، ودولة إنكلترا أغنى الدول بالساسة، وقد رزقت الملكة فيكتوريا بأنصار منهم نهضوا بالبلاد في عهدها نهوض الأسود وهم: واللورد ملبرن، والسر روبرت بيل، واللورد جون رسل، واللورد بامرستون، واللورد بيكنسفيلد، وأرل دربي، وأرل إبردين، والمستر غلادستون، واللورد روزبري، واللورد سالسبري، هؤلاء هم الذين تولوا الوزارة الكبرى على عهدها، ولهم من سائر الوزراء والنواب والحكام أعوان وأنصار على شاكلتهم؛ لأنهم نتائج تعليم وتربية واحدة، ويظن كثيرون أن الملكة لم تكن إلا آلة صماء لا عمل لها بذاتها، ولا إرادة لها في حكومتها، والصواب أنها كانت تنظر الأشياء الكلية وتبدي رأيها فيها، ومن الشواهد على هذا أن اللورد ملبرن حاول إقناعها بالأدلة الخطابية بأن تُصَدِّق على مشروع مهم، وكان يخاف أن لا ينجح في ذلك، فنوه بأمر المشروع ما شاء أن ينوه، وقال: إنه يا جلالة الملكة عظيم الأهمية. فقالت له: (إن أعظم المسائل وأهمها عندي الآن هو أمر التوقيع على مشروع لم أقتنع به) . وقد اتسع عمران الدولة البريطانية على عهدها، فقد كانت مساحة البلاد الإنكليزية ومستعمراتها يوم تولت عليها 8329000 ميل مربع، وعدد سكانها 168 مليونًا، وما تولت عنها إلا ومساحتها تزيد على 11250000 ميل مربع، وسكانها يزيدون على 400 مليون، وكان دخل الحكومة الإنكليزية حين وُليت 50 مليون جنيه من بلادها، و25 مليونًا من الهند، وبلغ قبل أن وَلَّت 120 مليونًا من بريطانيا وحدها، ونحو 70 مليونًا من الهند، وثلاثين من أستراليا و20 مليونًا من سائر المستعمرات. وكان للملكة نفوذ شخصي عظيم في أوربا لكونها امرأة، ولكبر سنها، ولوشيجة الرحم المشتبكة بينها وبين أعظم ملوك الأرض كعاهل الألمان، وقيصر الروس، فكانت تحل بكتاب تخطه بيمينها ما لا تحله النفاثات في عقد السياسة منه بواقع الرجال، ولذلك يُظن أن بريطانيا قد فقدت بفقدها شمس المجد ونجم السعد، وأنها لن تكون بعدها كما كانت، والله علام الغيوب. * * * (تهنئة واستماحة) : نهنئ القراء الكرام بعيد النحر المبارك وبمناسبة العيد وترك عمال المطبعة العمل قبيل نصف الشهر لا يصدر منار نصف ذي الحجة فنرجوهم السماح. (وسام الافتخار المرصع) أنعم مولانا السلطان الأعظم أيده الله تعالى على أخلص المخلصين لذاته الكريمة عطوفتلو أحمد عزت بك العابد بهذا الوسام العلي الشأن الذي هو جدير به، فنهنئ عطوفته بذلك.

البدع والخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البدع والخرافات والتقاليد والعادات السنيون والشيعة في حمص كتب إلينا الأديب المهذب الحاج محمد طه السكاف الحمصي رسالةً مطولةً يشرح فيها أمورًا تقع في بعض القرى التابعة لحمص من الخلاف والنزاع والتفرّق والشقاق بين الفريقين الذين يدعون أهل السنة، والذين يدعون الشيعة، وذكر بعض المسائل الخلافية التي يكثرون فيها الجدال والمراء كمسح الرجلين في الوضوء، والمتعة، والمفاضلة بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ومن أعجب ما ذكره قوله: إن العلماء في حمص يُكَفِّرُون الشيعة بمسألة مسح الرجلين، ويمنعون الناس من أكل ذبائحهم مع أنها مسألة اجتهادية، ويشهد لمذهب الشيعة فيها ظاهر القرآن؛ فإن إعراب {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} (المائدة: 6) على قراءة النصب بالعطف على المحل، أقرب من إعرابها على قراءة الجر بأن الأرجل مجرورة بالمجاورة، بل هذا غير معروف عن العرب في مثل هذا التركيب، ولا ينافي صحة المسح ثبوت الغسل في السنة؛ فإنه مسح وزيادة، ولذلك أرجحه بالعمل مع الاعتقاد بمقابله، وعهدنا بالعلماء الراسخين أنهم يتوقفون عن تكفير من يخالفهم في الأصول الدينية إذا كان متأولاً، وإن كان مما يكفرون به غير المتأول. وذكر الكاتب مسألة فظيعة جدًّا، وهي أن رجلين أحدهما الملازم مصطفى أغا والثاني أحمد بن علي الداغستاني شتماه ولعناه وضرباه على وجهه بالنعال، حتى كاد يموت؛ ذلك بأنهما اتهماه ببغض سيدنا الصِّدِّيق رضي الله عنه وشتمه، وما كان الصديق شتامًا ولا لعانًا ولا معتديًا ولا راميًا للناس بالبهتان، وقد كانا سألاه عن الصديق فذكره بالخير واستمطر له الرضوان من الرحمن، فلم يعبآ بقوله، ولكن بما نم عليه الفاسقون، ثم إنه ثبتت براءته عند القاضي الشرعي بعدما لبث في السجن سبعة عشر يومًا. هؤلاء الناس يزعمون أنهم على هدى الإسلام، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، الذي أُمر أن يخاطب عبادة الأصنام، بمثل {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 24- 25) ولولا هذه الطريقة الإلهية المثلى لما أَلَّفْتَ قلوبهم {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63) . هؤلاء المتحمسون المتعصبون وأمثالهم هم الذين فرَّقوا كلمة هذا الدين، وجعلوا أهله شيعًا حتى صار بأسهم بينهم شديدًا، وذهبت ريحهم، وخبت مصابيحهم، وتقوضت صياصيهم، وتمكن العدو من نواصيهم، وذاقوا مرارة الخلاف، وآن لهم أن يعودوا إلى الائتلاف، فعسى أن يكون العلماء أول من يسعى بجمع كلمة المسلمين ووحدتهم. *** بعض البدع في زيارة قبور الأولياء قال العلامة الآلوسي في باب الإشارة من تفسير سورة النور ما نصه: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه بالاستئناس؛ فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره ذلك. واطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم، فقال: ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من الأدب، ويجمع حواسه، ويعتمد بقلبه طالبًا الإذن، ويجعل شيخه واسطة بينه وبين الولي المَزُور في ذلك، فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني فليدخل وإلا فليرجع. وهذا هو المعنيُّ بأدب الزيارة عندهم، ولم نجد ذلك عن أحد من السلف الصالح، والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي الله تعالى عنهم ينادي أحدهم: أأدخل يا أمير المؤمنين، أو يا ابن بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام. أو نحو ذلك، ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين، وهو أيضًا مما لم نعرفه عن أحد من السلف، ولا ذكره فقهاؤنا، وما أظنه إلا بدعة، ولا يعد فاعله إلا مضحكة للعقلاء، وكون المَزُور حيًّا في قبره لا يستدعي الاستئذان في الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور، كما يتأدب معه حيًّا كما لا يخفى. وقد رأيت بعد كتابتي هذه في (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم) صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه: قال بعضهم: وينبغي أن يقف - يعني الزائر - بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء. انتهى، وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى. ومنه يُعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى، فاحفظ ذاك، والله يعصمنا من البدع وإياك اهـ. *** الموالد جاء في جريدة الوطن الغراء تحت هذا العنوان ما نصه: حضرات القراء أو المشتركين من عوام المسلمين وعلمائهم وفقرائهم وأغنيائهم، لا تتوهموا أني مسيحي أو إسرائيلي أو بوذي، لا وشرف الإسلام وذويه ما أنا إلا رجلاً مسلمًا (كذا) أبًا وأمًّا وجدودًا، قد كنت في شبيبتي جاهلاً، والشباب جنون لا أدري ما هو الدين ولا ما هي الفضيلة، كنت أغضب إذا أرشد العالم إلى الحقيقة، وأجاري الجهلاء في تسميته (فيلسوف) أي: غير مسلم حسب زعمهم، مع أن المعنى بضد ذلك، وأفرح وينتعش فؤادي من خزعبلات الجهلاء التي ما أضر العوام إلا الإصغاء إليها، ولا أوقف الدين في أحرج المواقف إلا تقاعس العلماء وتركهم هؤلاء الجهلاء يخوضون صفوف الدين، ويهددون حصونه بترهاتهم الكاذبة حتى مَنَّ الله عليّ بذرة من العقل، وأبلغني من العمر التاسعة والعشرين، وأرشدني إلى الطريق القويم، فذهبت إلى طنطا في المولد الرحبي هذا العام، ونظرت الموكب الذي يقوم به رجال الطرق والأشاير نظرة أفقدت حواسي من شر ما لاقيته من الخرافات التي أفضت بالدين الإسلامي في البلاد المصرية إلى هذه الدرجة، لقيت اللصوص والمتفقهين يذكرون الله بألسنتهم وعيونهم تتغازل مع النساء، وأفواههم ترسل واسع التقبيل إليهن. لقيت الفقهاء يرتلون آيات القرآن في الطريق، لقيت الطبل والزمر يشنفان الآذان، لقيت المغنيين ينشدون (عزيز حبك) ، و (كان عقلك فين) ، لقيت النساء حاملات أولادهن على أكفهن خلف المواكب يزغرتن كأن السيد يزف للختان أو للتأهيل. هل أصل الموكب يا حضرات العلماء كان كما نراه الآن؟ وهل كانت هذه الخرافات موجودة فيه في الزمن السابق، أم كان بخلاف ذلك؟ وهل هذه البدع من ضمن واجبات الدين والسيد محتاج إليها أم لا؟ أسئلة نوجهها إلى حضراتهم ونرجوهم الإجابة عليها، وعن الباعث لتغاضيهم عن إبطال هذه العادات الخبيثة حتى نكتفي مؤنة تضاحك الغير علينا ولهم جزيل الفضل اهـ بحروفه. ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل يسري ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالقرشية *** النعل المعبودة إن في مقام الشيخ الكلشني المشهور بالولاية نعلاً عتيقة منسوبة لهذا الشيخ، يعتقد عوام المصريين أن فيها سرًّا عجيبًا، وهي أن نقاعتها تطفئ نار العشق، وتُبَرِّد حرارة الغرام، وأنها على العاشقين برد وسلام، وأن لها فوائد أخرى، وهي دائمًا منقوعة في الماء، فيأتي النساء والرجال ويشربون من مائها للتبرك به، ومن كانت تتهم زوجها أو غير زوجها ممن يهمها شأنهم بالعشق تسقيه شيئًا من هذا الماء ولو بحيلة لا يشعر بها، كأن تجعل الماء الذي تجتلبه من نقاعة النعل في سقائه أو تمزجه بشرابه، سمعت هذا من كثيرين، وسأقصد مشاهدته بنفسي إن شاء الله تعالى، أما كون هذه عبادة فسيأتي بعد.

تهنئة واستماحة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تهنئة واستماحة نهنئ القراء الكرام بعيد النحر المبارك، وبمناسبة العيد وترك عمال المطبعة العمل قبيل نصف الشهر لا يصدر منار نصف ذي الحجة، فنرجوهم السماح.

وسام الافتخار المرصع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وسام الافتخار المرصع أنعم مولانا السلطان الأعظم أيّده الله تعالى على أخلص المخلصين لذاته الكريمة عطوفتلو أحمد عزت بك العابد بهذا الوسام العلي الشأن، الذي هو جدير به، فنهنئ عطوفته بذلك.

الانتقاد

الكاتب: محمد عبده

_ الانتقاد من مقالات مولانا الأستاذ الحكيم صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية ما وعظك مثل لائم، وما قوَّمك مثل مقاوم الانتقاد نفثة من الروح الإلهي في صدور البشر تظهر في مناطقهم سوقًا للناقص إلى الكمال، وتنبيهًا يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية مما يليق به، الانتقاد قاصف من اللائمة تتنفس عنه القلوب، وتنفتق به الألسنة لتقريع الناقصين في أعمالهم، ودفع طلاب الكمال إلى منتهى ما يمكن لهم جعل الله للحياة قوامًا ... وقوام الحياة بالإدراك إنما الإنسان كون عقلي، سلطان وجوده العقل، فإن صلح السلطان ونفذ حكمه صلح ذلك الكون وتم أمره، إن الله لم يهمل العقل من ناصرين عزيزين حاذقين أحدهما له والثاني له وعليه، أما الأول فما قرن الله به من غريزة الميل للأفضل، والاصطفاء للأمثل، وأما الثاني فما ألزمه الصانع من الانقباض عن الدون، والنفور عن منازل الهون، فذاك يحدوه وهذا يسوقه، وذاك يزين له الطلب، وهذا يزعجه إلى الهرب، وكل منازل العقل صعود إلا أدناها فعجز يقف بأهله على شفير العدم، وكل منزلة بعد الأدنى دنو من الكمال، غير أن ما يسمو إليه العقل، أشبه بما ينبسط إليه الوجود، يمتد إلى غير نهاية، ويرتفع دون الوقوف عند غاية، فليس يصل منتجع الكمال إلى مقام إلا ويرمي بطرفه إلى أبعد منه، ومساقط العجز وبيئة المقام كثيرة الآلام، تستوكرها أفاعي الهموم، وغائلات الغموم، وقد جعلها الله من وراء العقل كلما التفت إليه راعه هول منظرها فتحفز عنها، إلى منجاة منها، ولا يزال يزجيه الخوف وتطير به الرغبة حتى يدنو من رفرف السعادة الأعلى. ولكن كلال البصائر البشرية قد يقف بها عند مظاهر غرارة، وظواهر ختارة فتخالها طلبتها، وتحسبها منيتها، ولا تدري أن بها هلكتها وفيها منيتها، فمثلها مثل الطير ينظر إلى الحب المنثور وَيَغْبَى عن الفخ المنصوب، فإذا سقط للالتقاط وقع في يد الحابل، أو مثل المفترس يلوح له لائح الفريسة ولا يشعر بما أعد له صائده، فإذا وثب عليها أتاه الصائد من مقتله، وأعجله عن مأكله. لهذا وكَّل الله بالعقل منبهًا لا يغفل، وحسيبًا لا يمهل، وكالئًا لا ينام، يزعج الواقف، ويحثحث المتريث، ويمسك الراجف، ما سكن ساكن إلى حال، ولا قنع قانع بمنال، إلا هتف به: إن ما تطلب أمامك. ولا أوغل موغل فيما لا ينفعه، ولا أوضع موضع إلى ما يضره إلا صاح به: تعست الجدود، وأضرعت الخدود، فخفض من سيرك، وقوّم من سيرك وإلا فالذل مقيلك، والهلكة مصيرك. ذلك الواعظ الحكيم والمؤدب العليم هو (الانتقاد) ينبث في الفؤاد، ثم يتجلى في البيان على أسلة اللسان، فيفقهه العالمون، ولا يهمله العاملون {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) أودع في كل ناطق بصرًا بشأن غيره أشد إحاطة من بصره بشأن نفسه، ومكَّن كلاًّ من تمييز أحوال الآخر حسنها من قبيحها، وفسادها من صحيحها، ثم دفعه للنطق بما ألهمه، والقضاء بما أحكمه فكان لكل إنسان أبصار بعدد الناظرين إليه، والعارفين بما عليه عمله، كلها كبصره تريه الخير فيطلبه، وتكشف له الشر فيجتنبه، وجعل الله الناقدين أقسامًا، فمنهم ناظر إلى الفضل لا يعدوه فهو يذكر المنقبة، ويغض عن المثلبة، ومن هذا القسم المفرطون في الوفاء من الأصدقاء، ومنهم رقباء النقائص وجواسيس العيوب يروون المساءات، ويسكتون عن الحسنات. وفيهم الحسَّاد، وأهل الأحقاد، ومنهم ناظرون بالعينين، عارفون بالوجهين، يذكرون للكمال نبله، ويلزمون النقص ويله وهؤلاء في أعلى المنازل، وفيهم الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود الله، ومن الناقدين فاسقون يكتمون ما يعرفون، ويهرفون بما لا يعلمون، وهم في أخس المنازل، وليس في الناس إلا من تجتمع هذه الأقسام له أو عليه، وما جعل الله بشرًا يسلم منها، ويحرم من بعضها، فكأنها التي قال فيها: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} (مريم: 71) وكلها صدى صوت الكمال الإلهي الأعلى ينادي الكاملين أن يستزيدوا، والناقصين أن يستجيدوا. هل لجاحد أن يصغِّر قدر هذا الحسيب على أي وجه كان حسابه؟ أو لجاهل أن ينكر حكمة الله في تقييضه لنا؟ أو لواهم أن يذهب إلى أنه ليس من نظام الفطرة؟ وإني أحيلك على خواطر نفسك إذا بلغك وأنت غربي مثلاً أن ملك الصين غدر بأحد أوليائه، أو استصفى أموال رعيته، أو كلفهم ما لا يطيقون احتماله، أو أهمل في مصلحة بلاده، حتى تجرأ عليها أعداؤها، أو جَبُن عن دفع حادث ألمّ به وكان يستطيع دفعه، ألا ترى من قلبك امتعاضًا عليه ومن نفسك إزراءً بعمله، وفي لسانك لهجة بلومه وهو منك على بعد المشرقين؟ ولئن وصلت إليك روايات عدله ورعايته حقوق بلاده، وحفظه لذمامه وجدت إليه من فؤادك ميلاً، ومن رأيك لعمله استحسانًا، ومن لسانك عليه ثناءً. ولو شئت حاكمتك إلى مذاهب ميلك عندما تنظر في تاريخ لمن سبقك؛ فإن مثَّل لك النظر فضلاً في سيرة، أو خزية في جريرة، ألست تجد من ميلك انبساطًا إلى فواضل الغرر، وانقباضًا عن مخازي العرر، ثم انطلاقًا إلى نشر ما وجدت، ثم رأيت عضدًا منك لأحدهما كأنه قائم يستنصر فأنت تنصره، وتغيظًا على الآخر كأنما يدعوك لعونه فأنت تخذله. لا جرم أن النقد نائرة غريزية تقدح شررها على السابقين واللاحقين، وكل نقد فحشوه لوم، حتى ما كان منه قاصرًا عند بث المحمدة والإقرار بالفضيلة؛ فإن حمد الكامل عذل للناقص على التقصير، وإزعاج للمحمود وزجر له عن ملابسة الإعياء، فكأني وصاحب الثناء يقول: ألا أيها القاعدون انهضوا، ويا أيها المبرزون اركضوا، واحذروا الوقفة فإنها بداية القهقرى، تلك أقلام الحق، في ألسنة الخلق، لا يصم عن ندائها إلا أصم، ولا يغبى عن إنذارها إلا أيهم. على ذلك قام النظام الإنساني فلولا الانتقاد ما شب علم عن نشأته، ولا امتد ملك عن منبِته، أترى لو أغفل العلماء نقد الآراء وأهملوا البحث في وجوه المزاعم أكانت تتسع دائرة العلم، وتتجلى الحقائق للفهم، ويعلم المحق من المبطل؟ أو لو أغمض الأعداء والأولياء عن سياسة السائس، وتدبير الحاكم، وهجروا النظر في قوة الملك، ولم يقرعوا كل عمل بمقارع النقد، أكانت تستقيم محجة، وتعتدل حجة وتعظم قوة؟ كلا بل كان يتحكم الغرور، وتتحكم الغفلة، ويعود الصواب خطلاً والنظام خللاً، تلك سنة الله في الأولين، وهي كذلك في الآخرين. فالمغبوط في حاله من يستمع قول اللائمين، ويستطلع خواطر المعترضين، ويتصفح وجوه المنكرين، ذلك روح الحياة فيه يطلب حاجاته، ويتحفظ من آفاته، وليس فيما يملك الحازمون أنفس لديهم، من الإنحاء عليهم، بما ينبههم إذا غفلوا، ويعلمهم إذا جهلوا، ويهديهم إذا ضلوا، وينعشهم إذا زلوا، وكما توجد نفائس الإرشاد هذه عند الأولياء، توجد عند الأعداء، بل هي عند هؤلاء أجود، فإنهم يرفعون للمعايب أعلامًا بينة حتى لا تعود فيها شبهة لناظر، وأحجى بالعقل أن لا يمج من الانتقاد شيئًا حتى أكاذيب أهل الضغينة، ورجوم ذوي السخيمة على مخالفتها للحقيقة؛ فإن أباطيل اللوم تكون للعقل بمنزلة المسالح تقام في الثغور زمن السلم حذرًا مما عساه يطرقها من عدوان المغيرين عليها، وأقل ما يكون من العاقل فيها أن يقول: قيل فينا ولم نعمل فكيف بنا لو عملنا؟ فهي إن لم تهده إلى مطلب ضل عنه، ولم تَرُّد إليه فائتًا كان ينفلت منه، فقد تحفظه من السقوط فيما يجعل الكذب صدقًا والباطل حقًّا، فمن فسق لسانه، وخالف بيانه جنانه، وجاء يغير الحق في ثلب غيره، فقد أفسد نفسه لصلاح عدوه، ولله ما يقول بعض الصوفية: جزى الله الأعداء عنا كل خير فلولاهم ما نزلنا منازل القرب، ولا حللنا حظائر القدس. هذا وقد كفر قوم نعمة الانتقاد فظنوا الله فيه عبثًا - نعوذ بالله - فوقروا عنه آذانهم، وعطَّلوا من ناحيته سمعهم، وجعلوا أصابعهم في صماليخهم [1] ، من صواعق زجره، وقواصف نهيه وأمره، وضربوا بينهم وبين أهل النقد حجبًا، وأقاموا دونهم أستارًا، وخيل لهم الجهل أن صممهم عنه يقيهم منه، وأن قبوعهم في أُهُب الغفلة [2] يدرأ عنهم سهام اللوائم، كأنهم لا يعلمون أن ذلك وقوع في أشد مما خافوا، واندفاع إلى شر مما رهبوا، فمثلهم كمثل بعض الطيور إذا رأى الصائد غمس رأسه في الماء ظنًّا منه أنه متى أغمض عن طالبه أغمض الطالب عنه، فيكون بذلك قد يسر للصائد صيده، وسهل عليه كيده. ومن ثم تجدهم في عمى عن شؤونهم، وتخبط في أعمالهم قد لزموا خطة من الهون لو أبصر عقلهم بعض أطرافها لماتوا جزعًا من هول ما فيها، كل ذلك وأسلات الألسن وأسنة الأقلام لا تألو في تقريعهم، بل وصوت الحق الصريح يناديهم من عمائق ضمائرهم، بئس ما اشتريتم لأنفسكم لو كنتم تعلمون. وليُّهم عاتب، وعدوهم عائب، وهم في غفلة من هذا، بل لا يشعرون. أولئك الذين ختم الله على سمعهم، وطبع على قلوبهم فمرقوا من ناموس الفطرة الإلهية فهم أموات الأرواح، مضطربو الأشباح، ولا تنشق عنهم قبور الخمول حتى ينشرهم الله في حياة أخرى يخضعون فيها للأحكام الكونية، ويعملون على السنن الإلهية، فلينتظروا إنا معهم من المنتظرين.

الطلاق في الإسلام

الكاتب: أحد علماء حلب

_ الطلاق في الإسلام [1] إن إباحة تفارق الزوجين هي نقطة متوسطة بين التغالي في الإطلاق الموجودة في الزنا الذي هو صحبة ساعة، وبين التغالي في القيد الذي هو التزام عدم انفكاك الاقتران مدى العمر، وحد وسط بين طرفي الإفراط والتفريط كما هو مشرب المنهج الإسلامي في كل الأمور، وفيه تسهيل للزواج والمناكحات الرادعة عن الالتجاء للزنا يستصعب الزواج إذا لم يمكن الفراق، وإننا لا ننكر ما في التفارق من المضار التي ربما تحدث عنه؛ ولكنها لا ترجح عما فيه من المنافع التي تستلزمه عند الموازنة الصحيحة، ولا يخفى أن ما تساوى طرفاه نفعًا وضررًا فالشأن فيه الإباحة التي هي الأصل في كل أمر، وجانب الإطلاق مرجح عن جانب القيد إذا تساويا. هذا وإن الطلاق كذلك إذا لم يكن لعذر، أو إلجاء ضرورة فليس بمباح تمامًا كسائر المباحات في الشرع الإسلامي، بل هو من قسم المكروهات التي لا يستحسنها الشرع الإسلامي، ويُعتبر الطلاق شأن السفهاء؛ لأن الشرع الإسلامي ينهى عن الجفاء بكل أنواعه، ويحث على الشفقة والإنصاف والمروءة وحفظ الوداد والعهد، وإنما الطلاق لا بأس به إذا لم يمس بشيء من هذه المذكورات؛ أي: إذا لم يكن فيه مخالفة للإنصاف والمروءة ... إلخ، فلا يكون الطلاق حينئذ إلا كناية عن فَرَج، ومخرج من ضنك المعيشة التي ربما تحدث بين الزوجين، ولا مناص عنه إلا بافتراقهما واستغناء كل منهما عن الآخر، أو استعواضه من هو خير له منه؛ إذ ربما يبقيان على كره منهما أو أحدهما، فيكون نكد العيش الدائم لولا الطلاق. أترى إذا كان الرجل عنينًا والمرأة شابة حسناء، وصار هو يحب الانفراد والانزواء، وصارت هي تميل لإتيان ما تأتي النساء، ولم يكن لأحدهما حاجة بالآخر، فعلام نلزمها بالتزام ما لا يلزمهما من الحجر الدائم عن مبتغاها؟ أرأيت إذا تباغضا لأسباب ما؛ فعلام نلزم كلاًّ منهما بالتزام صحبة بغيضة مدى عمره؟ أرأيت إذا علم الرجل أن امرأته زانية وأراد أن يفارقها بدون أن يفضحها، ويثبت عليها ما يخل بشرفها، أرأيت إذا عجز عن إثبات ما علمه من إتيانها الزنا فكيف نجبره على هذا الضيم؟ ولقد رأينا كثيرًا في بلادنا ممن يتدينون بتحريم المفارقة بدون ثبوت الزنا، يعلمون الزنا من نسائهم ولا يقدرون على إثبات ما علموه، فيمكثون على هذا الضيم مدى عمرهم، كاتمين غيظهم بالرغم عنهم، فلمثل هذه الحكم إباحة الطلاق لا لأجل محض الشهوة. ولذلك لا ترى من أهل الإسلام المتربين على فضائل الأخلاق الإسلامية من يطلق زوجته لغير عذر مقبول من مثل هذه الأعذار، فإن قيل: (فعلى هذا ينبغي أن يكون إبطال عقد الزواج متوقفًا على رضا كل من الطرفين معًا كسائر العقود، أو بيد كل منهما؛ فأيهما لم يطب عيشه لدى صاحبه يفارقه، لا أن يكون الرجل هو المالك لذلك دون المرأة) فنقول: ليست أصول تفارق الزوجين في نظام الإسلام كما يتوهمه الغالط، بل إن تفارق الزوجين إما أن يكون بإبطال عقد الزوجية وفسخ المقاولة بحيث يرد كل منهما ما تملكه بالعقد، فتسترد المرأة ما ملكته للرجل من إباحة نفسها له دومًا واختصاصه بها، ويسترد الرجل ما جعل لها من المال بمقابلة هذه الإباحة الدائمة كله أو بعضه بحسب ما يتراضيان عليه حين التفاسخ، فهذا التفارق بالتفاسخ يتوقف على رضاء الطرفين كسائر العقود ويسمى هذا النوع بالخلع أو المخالعة، وإما أن يكون تفارق الزوجين على صورة الطلاق، وهي أن يترك الرجل حق استباحته الدائمة للمرأة مع استكمال المرأة كل ما جعل وشرط لها من المال والنقد، فهذا أمر موكول للزوج إلا إذا شرط في أصل عقد الزواج بينهما أن يكون للمرأة أيضًا حق تطليق نفسها من الزوج، فيراعى هذا الشرط. وحينئذ متى شاءت طلقت نفسها واستردت تمليك بُضعها الدائم لزوجها بدون أن يسترد هو شيئًا، أو أن يمتنع عن تأدية ما شرط لها حين العقد، وبذلك تعلم أن أصول المفارقة بين الزوجين منظور فيها لصورة أصل عقد الازدواج وصورة نقضه وانفكاكه، وأن ما شرط في أصل العقد مرعي وليس للزوج إلا الرجحانية على المرأة بأنه إذا لم يشترط في العقد شيء كان أمر الطلاق بيده دونها، وحيث كان هذا أمرًا معلومًا مشهورًا بين سائر أفراد الملة الإسلامية، فيمكن لكل امرأة أن تشترط في زواجها أن يكون أمر طلاقها بيدها، فتساوي الرجل في هذا الاستحقاق؛ وإنما كان أكثر النساء لا يشترطن ذلك لعدم الثقة منهن أن يتثبتن كتثبت الرجال على محافظة بقاء الزوجية؛ لأنهن بمقتضى تركيبهن الطبيعي أقل احتمالاً وتصبرًا وأشد خفة وطيشًا من الرجال، وأسرع تأثرًا بالغضب لرقة بشرتهن ونقاوة عصبهن، وكثيرًا ما يستفزهن الغضب من سبب جزئي لإيقاع الطلاق بدون استيجاب السبب له، فيوقعن الطلاق في حال استيلاء الحدة عليهن، ثم يندمن على ما فرط منهن، فلو اُشترط الطلاق لهن دائمًا لفشا وقوعه، وكثر توقعه، مع أن كثرة وقوعه بغير السبب الداعي يستوجب الندامة، وكثرة توقعه مخل بانتظام الراحة والتئام الألفة الروحية، وهو متوقع من جانبهن أكثر من توقعه من جانب الرجال. ولذلك كانت الأرجحية للرجل على المرأة في الطلاق بأن الأصل فيه أن يكون بيده دونها إذا جرى العقد على غير اشتراط شيء، وللمرأة ما يقابل هذه الرجحانية التي للرجل، وهي كون المهر الذي هو كالثمن يلزم من جانبه لها لا من جانبها له، وكذلك كل ما يقضي لها من النفقة أسوة أمثالها والمصارف البيتية عائدة عليه دون أن تكلف هي بأدنى شيء، حتى إن عليها أن يقدم لها الطعام مطبوخًا مهيئًا بدون أن تتكلف بطبخه، وليس له أن يكلفها بشيء من الخدم الشاقة أو السافلة مع أنه مكلف بتكبد المشاق في سبيل الكسب لأجل النفقة عليها إلا إن سامحته ببعض نفقتها أو سايرته بالتزام ما لا يلزمها من بعض خدمتها، وعليه كل نفقة ما يولد لهما من الأولاد حتى ليس له أن يجبرها على إرضاع ولدها، بل عليه أن يستأجر له مرضعًا غيرها إذا امتنعت هي عن إرضاعه. ولا يخفى أن الأرجحية التي أعطيت للمرأة هي الأنسب بضعفها، والأرجحية التي أعطيت للرجال هي الأنسب بقوة تثبتهم، لا سيما وأنه قد دفع المهر الأول، ثم يلزمه عند المفارقة دفع المهر المؤخر، فقل أن يسمح الرجل بتضييع هذه الأموال التي يدفعها في المهر الأول والمهر الثاني بدون سبب ملجئ وداع قوي، وحيث كان الأصل في نظام الزوجية أن يدفع الرجل للمرأة ما يرضيها من المهر أسوة أمثالها، وأن يشترط لها عند المفارقة مهرًا ثانيًا كان الأصل في المفارقة التي تقتضي خسارته في هذه الأموال دونها أن تكون موكولة إليه، ولا يخفى على المنصف المتبصر مناسبة الأصلين في الجانبين ولياقتهما بحال الطرفين، فلا يقال: لماذا لم يكن الأصل في الزواج أن يكون المهر من المرأة والرجحانية لها في أمر المفارقة؟ أو أن يكون بدون مهر ولا رجحانية لأحدهما على الآخر في شأن الطلاق، بل أي منهما أراد الطلاق أوقعه؛ لأن المرأة إذا ملكت أمر الطلاق كذلك أكثرت إيقاعه رغمًا عن الزوج، وليس كذلك الرجل، ولذلك لا تكاد ترى من يطلق زوجته إلا بعد نفورها، وطلبها الطلاق، أو تسببها له، كما أن الرجل بحسب ما فيه من زيادة الاستعداد الطبيعي للكسب ينبغي أن يكون هو المعيل للمرأة، فلذلك كان عليه المهر والنفقة. نعم قد يكون الأنسب بحال الطرفين بالنسبة لبعض الأفراد مخالفة هذا الأصل، وحينئذ يمكن الجري على خلافه بواسطة الاشتراط؛ وإنما كان هذا الأصل بالنظر لما هو الأصلح بالنسبة لحال الأكثر، ثم إن من لم تشترط الطلاق لنفسها، ولا يمكنها مفارقة زوجها عن أمرها إذا ظلمها حقها بعدم إيفاء ما يترتب عليه لها، أو كلفها فوق ما يترتب له عليها ترفع أمرها للحاكم، فينهى الزوج، فإن لم ينته يجبره على طلاقها، أو يفرق بينهما مع تغريم الرجل كل ما أعطاه وشرطه لها حين العقد، فيكون حكمها كحكم من اشترطت الطلاق لنفسها فلا يتمكن الرجل من ظلم المرأة، ولا المرأة من ظلم الرجل ولا يجبران على ضيم بكل حال، ثم إنهما مهما تفارقا فلهما أن يتلافيا ما فرط منهما ويتراجعا اهـ. بالحرف. (المنار) نشرنا المقالة بحروفها على ما فيها من الخطأ اللغوي لما هي عليه من الصواب والسداد في المعنى والإبانة عن محاسن الحنيفية السمحة. لله در كاتبها الفاضل، وقد كنا نتذاكر في مسألة الطلاق مع صاحب الدولة رياض باشا فقال: زاد علينا الإفرنج المنتقدون في التوسع بالطلاق؛ حتى قرروا أخيرًا أن يستقل به كل من الرجل والمرأة بعدما كان مشروطًا عندهم باتفاقهما.

الفقه الإسلامي

الكاتب: كمال الدين المرغناني

_ الفقه الإسلامي كتب بعض الشيوخ من أهل العلم الواقفين على أحوال العصر المتألمين من تأخر المسلمين وضعفهم مكتوبًا مطولاً إلى صديق له في القاهرة ينتقد فيه كتب العلم الإسلامية كلها، ويبرِّئ الدين من الفنون المنسوبة إليه كالكلام وأصول الفقه وفروعه، ويقول: إنها كلها علوم ضارة ذهبت ببساطة الدين وسهولته، وشغلت عن علوم الدنيا التي تعطي أصحابها القوة والعزة. فكتب إليه صديقه وهو من الكتاب الفضلاء الباحثين في الشؤون الإسلامية مكتوبًا رد فيه بعض ما جاء في المكتوب، وسلَّم بالبعض، فأحببنا أن يطلع علماؤنا لا سيما أهل الأزهر الشريف على بعض ما يدور بين نبهاء المسلمين من البحث؛ ليعلموا بالإجمال أن صراخنا ونداءنا إياهم طالبين إصلاح كتب التعليم وطريقته في غاية الاعتدال، فاخترنا الجواب؛ لأن صاحبه لم يغلُ فيه غُلوّ الأول في الإنكار، وإن كان لا يخلو مما ينكره عليه الفقهاء وها هو بحروفه: كتابك أيها الفاضل ينبئ عن توغل الفكر في مرامي بعيدة مدى الغاية، وما استخرجه من الحقائق من خبايا التاريخ أمور يوافقك على بعضها أخوك، وبعضها نظريات تحتاج إلى دقيق تأمل ويضيق عن الإلمام بأطراف المناقشة فيها هذا الكتاب، فأرى إرجاءها إلى فرصة الاجتماع - إذا تيسّر - أَوْلى. وإنما هناك مسألة أحب أن لا يفوتني الآن النظر فيها رغبة في تعديل ما في نفسك من جهتها وإيقافًا لك على فكري الصراح فيها، عسانا نجمع طرفي الرأي إلى دائرة واحدة نتلاقى فيها عند نقطة الحقيقة التي لا خلاف فيها. ذهبت إلى أن علم الفروع إنما هو مجموع قوانين وضعها البلخية والكرخية ... إلخ من سميت، وأن هذه القوانين ليست من علوم الدين، وربما حملتها على محمل ما سردت من العلوم التي رأيتها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، وأرى في هذا مغالاة في الفكر فيها نظر يظهر لك ظهورًا جليًّا فيما يلي: أنا أعتقد وأنت تعتقد أن لا بد لكل أمة قذفت بنفسها إلى مضمار الحياة من قانون جامع لجزئيات الحوادث تحفظ به نظامها، وتمهد سبل الترقي لمجتمعها، والإسلام وإن جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية والحياة الاجتماعية، إلا أن ما جاء به إنما هو قواعد كلية، وليس من شأنه وشأن الأديان عامة أن تحيط بالجزئيات التي لا تتناهى في جانب الترقي والاجتماع؛ وإنما كانت الإحاطة بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل من الأمة؛ في وضعها عند الحاجة، وإرجاعها إلى تلك القواعد والأصول على طرق معروفة اصطلح عليها علماء الأصول من المسلمين، وقد فعل علماؤنا ما يجب عليهم من هذا القبيل وأحاطوا بكثير من الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم منها من تحديد بعض العقوبات، وترتيب المحاكمات، والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق الشخصية تفريقًا يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة خصمًا وحكمًا فيها في آن واحد، ولهذا أسباب كثيرة لا يسهل بيانها إلا بعد معاناة صعوبة الاستقصاء، وليس هذا محله. هذا والحق أولى أن يقال ويتبع، ومثلك أيها الصديق مَنِ انقاد للحق وظَاهَرَ أهله؛ فإن علماءنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين يكاد لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها، إلا أنه مشوش بكثرة ما اختلفوا فيه حتى على المسألة الواحدة، ومنشأ هذا على ما أرى انفراد الآحاد بالتشريع [1] حتى من المخرجين والمرجحين، بحيث يجوز الواحد منهم ما يمنعه الآخر وبالعكس، وسببه التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى يتناولها من شاء، ومن ليس بمعصوم من الأفراد، وهي السلطة العظيمة التي لم تسلمها أمة متمدنة قبل المسلمين للآحاد منفردين قط؛ وإنما كانت تُسَلَّم إلى ثقات كل أمة مجتمعين لا منفردين. لو فهم المسلمون منذ استفحل أمرهم وعظمت للقوانين الجامعة لفروع الحوادث حاجتهم معنى ما يسمى عند علمائهم الإجماع، وأن من قواعد دينهم الكلية التكافل العام على مصالحهم العامة، وأن كل مصالحهم في الحقيقة إنما هي مرتبطة بأُسّ المصالح وحياة الوجود ألا وهو القانون الكافل لراحة الجميع وسعادتهم - لاستفادوا من هذا إلى الآن فوائد لا يستقصيها العقل، ولما تركوا أمر القوانين فوضى لا يعتمد فيه إلا على قال فلان وأفتى بخلافه فلان، بل لكانوا عهدوا بتفريع الأحكام واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس الحاجة في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان. ولكن لمّا لم يفهموا هذه القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين؛ هل يجوز تركهم هملاً؟ كلا لا يجوز. إذن فوضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع الذي ذهبت إلى أنه مجموع قوانين وضعها فلان وفلان لازم، وهم المتفضلون ودهماء المسلمين هم الملومون. ولا يخفى على فهمك أن تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد ليس فيه من حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما شاء من الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك، وهو الأحوط أيضًا في الدين والدنيا، والفرق بين ما يضعه الواحد وبين ما يضعه الجمع عظيم جدًّا لا يخفى على بصير؛ إذ إن ما يشعر به الواحد في نفسه من الحاجة أو يبلغه من العلم قد يشعر الآخر بخلافه أو يحيط بما لا يحيط به ذاك، ولا تتمحص حقيقة الحاجة العامة إلا باشتراك جماعة عظيمة بمثل هذا الشعور، واحتكاك الأفكار بطول التجارب لهذا، ولكي يعلِّمنا الله سبحانه وتعالى فائدة تبادل الفكر وأصول الشورى خصوصًا في المصالح العامة - أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باستشارة أصحابه بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) أي: في الشأن، وهذا أمر، والأصل فيه الوجوب كما قرره الأصوليون، ويتلو هذا في مرتبة التعليم حديث التأبير المشهور وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبروا فأنتم أدرى بأمر دنياكم) . من هذا نعلم الفرق بين ما تمحصه العقول من الأمور ذات الشأن فلا تصدر إلا عن علم الجميع بمصلحتهم عامة، وعلم كل فرد بمصلحته المستمدة من تلك خاصة، فما بالك به في التشريع خصوصًا، وأن الإجماع فيه يدعو إلى ارتباط الأحكام برباط الاتفاق عليها من جمهور المتشرعين، والعمل بها عند سائر الناس، ويندفع بهذا خطر الفوضى القانونية التي يتخبط فيها المسلمون منذ أجيال كثيرة؛ لكثرة الخلاف بين الأئمة والمخرجين من علماء كل مذهب على مسائل المعاملات، فضلاً عن العبادات، وما أراني إلا معترفًا لك بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام المعاملات بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت، وباضطراب اعتقادك بفوائدها نوهت. وأما ما قلته من أن علم الفروع ليس من علوم الدين، وإنما هو مجموع قوانين وضعها المتقدمون، فليس ذلك كذلك، بل رأيي فيه أنه من علوم الدين باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه داخل تحت حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث حدثت بعد للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين. والذي أراه أن إطلاق علم الدين على الفروع لازم من لوازم البقاء والاستمرار لأحكام الإسلام، وباعث على احترام هذا العلم احترامًا ينفع المسلمين كما ينفع كل أمة تحترم الشرائع والقوانين، وإذا حملته على محمل ما ذكرته من العلوم من حيث كونك تراها غير موافقة لحالة الزمان والمكان، فيكفي في تعديل فكرك من هذا القبيل إمعان نظرك فيما سبق بسطه لديك لتعلم - وأنت أعلم به - مني أن مسوغ الاجتهاد الذي هو تشريع في الفروع ميسور لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من العصور، ومنه يتضح لديك تيسر جعل الفروع موافقة لحالة كل زمان ومكان إذا نهض أهل العلم والفضل للنظر في هذا الأمر، وشرعوا بوضع كتب خاصة بأحكام المعاملات يتفق على اعتبارها دستورًا للعمل جمهور أهل المذاهب، وهذا وإن كان يتوقف على ما يسمونه التلفيق إلا أنه لا يمنع من التوفيق؛ لأن التلفيق جائز عند فقهائنا في العبادات فما بالك به في المعاملات. لا جرم أن علماءنا في هذا بين أمرين كلاهما لا يمنع من تحرير علم الفروع وجعله صالحًا لحالة الزمان والمكان؛ وذلك أنهم إما أن يعتبروا أن كل ما حرَّره الأئمة وقرروه هو من الدين الذي هو حق لا ريب فيه، فيلزمهم في هذه الحالة التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب خاص ليس فيه أدنى شائبة من مثارات الخلاف؛ ليكون أشبه بقانون عام شامل لسائر حاجات الاجتماع يعمل به المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما حرره الأئمة من الدين، بل يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة اختلافهم في الأحكام منعًا وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال يجوز لهم الاجتهاد كما جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا في العصر مراعى فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع فيها الآن من ضروريات الحياة الاجتماعية، وعليها بُني ترقي الحكومات والأمم الغربية ترقيًا لم تكن تحلم به الأمم من قبل، لا سيما وأن الذي جوَّز للسلف التوسع في الأمور السياسية عندما مست الحاجة إليها حتى وضعوا لها كتبًا خاصة مستندة إلى أصول الشريعة كالأحكام السلطانية والخراج وغيرها، يجوز للخلف التوسع فيما تمس إليه الحاجة الآن وتقتضي التوسع فيه حالة الزمان. على أن الشعور بالحاجة إلى إصلاح أمر القوانين الاجتماعية عند المسلمين قد دب في العقلاء دبيب البرء في الأطراف، ولا بد أن يعم سائر الجسم، فنرجو الله سبحانه وتعالى أن ينبه علماءنا الكرام إلى تلافي أمر هذه الحاجة صونًا لعلم الفروع من أن يُهْجَر، وحرصًا على علوم الشريعة من أن تصبح العناية بها أقل من العناية بالقوانين الوضعية التي ألجأت الحاجة بعض الحكومات الإسلامية إلى استعمالها دون القوانين الأساسية، ويراها بعضهم أجمع لحاجات الاجتماع، وهي وإن لم تكن كذلك ألبتة إلا أنها بسلامتها من مثارات الاختلاف وتقيد الحاكم والمحكوم بقيود خاصة منها لا تترك مجالاً للرأي، ومكانًا للقيل والقال - قد جعلت الرغبة إليها أميل والطريق إلى انتظام الشؤون العامة بها أسد. هذا فكري في النقطة التي اخترت أن أتجاذب وإياك أطراف البحث فيها الآن، وقد رأيت ما احتاج إليه النظر فيها من التطويل الممل، فلو تناول البحث سائر ما في كتابك لاحتاج ذلك إلى كتاب كبير، فالله نسأل أن يوفقنا وإياك لخدمة الأمة والدين ويجعل عملنا خالصًا لوجهه الكريم آمين. (المنار) : إن كثرة الخلاف في الفقه، والاضطراب في التصحيح والترجيح المؤدي إلى الاختلاف في الفتوى والقضاء، وما في هذا من الضرر واختلال المصالح، ثم ما في كتب الفقه من الصعوبة في الترتيب والتبويب، كل ذلك أشعر المسلمين من زمن بعيد إلى الحاجة إلى إصلاح كتب الفقه ووضع كتاب، أو كتب في الأقوال السديدة التي تنطبق على مصلحة الأمة في هذا العصر على وجه قريب التناول سهل الفهم، ثم قوي الفكر في الإصلاح حتى انتهى إلى القول بأن كتب الفقه التي بين أيدينا مضرة، وأن أكثر ما فيها من مخترعات عقول الناس الذين أكث

أمالي دينية الدرس ـ 19 ـ الحاجة إلى الوحي والنبوة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (الدرس 19) الحاجة إلى الوحي والنبوة بيَّنا وجه حاجة الإنسان إلى الوحي لسعادته في الحياة الدنيا، من حيث إنه نوع اجتماعي أودع في طبيعة أفراده من الرغائب والحظوظ ما يقتضي التباين والتنازع، كما أُودِع فيها من حب الاجتماع والعجز عن تحصيل معظم ما تطالبها به الفطرة ما يدعو إلى التعاون، الذي يعارضه التخالف والتغابن، ولا يتم للنوع ارتقاؤه - بل ولا بقاؤه - مع هذه الغرائز المتعارضة؛ فمن ثَمَّ كان محتاجًا إلى إرشاد يوافق بين آثار هذه الغرائز وعوارضها، بما يذهب بتعارضها، ويعرف كل فرد من الأفراد حدّه، ويجعل له من نفسه وازعًا يوقفه عنده، ولم تكمل له هذه الحاجة إلا بالدين. ويرد على هذا القول ثلاث شبهات إحداها: أن الإنسان لا يتربى إلا بالكون وما يعرض عليه من شؤونه وأطواره، فالذي تثبت له الوقائع الكونية أنه ضار يرغب عنه ويجتنبه، والذي تثبت له أنه نافع يرغب فيه ويجتلبه، ولذلك لم تنتفع الأمم والشعوب بهدي الأديان، إلا بمقدار ما أعدتها له الأكوان، وقد أجبنا عن هذه الشبهة في الدرس السابق من غير أن نقررها، ولم يكن الجواب ناقضًا لمسألة الاستعداد، فقد ورد أن الأنبياء أُمروا أن يخاطبوا الناس على قدر عقولهم، وما منح الله تعالى الإنسان الدين إلا بعدما ارتقى استعداده لفهمه {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213) ... إلخ. وقد ارتقى هدي الدين وإرشاده بارتقاء الإنسان حتى كمل بالإسلام على ما بينه أستاذنا الأكبر في رسالته، وسيرتقي أهله وهم العالم الإنساني كله بالنسبة إلى الدعوة حتى يفهموه حق فهمه، وذلك بعدما ترتقي علوم الفطرة والطبيعة أكمل ارتقاء كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) . الشبهة الثانية: هي أن الحكماء والعقلاء يمكنهم أن يضعوا للناس قوانين وحدودًا تغنيهم عن الوحي والشرائع السماوية، والجواب عنها أنه إذا فرض أن في استطاعة الحكماء أن يستقلوا بهذا الوضع، فهل في استطاعتهم أن يحملوا الناس جميعًا على قبوله والعمل به بغير وازع الدين؟ فإن قيل: إن الحكماء يضعون القوانين والحكام يلزمون الناس بالعمل بها؛ نقول: لا ترجع الأنفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر والوازع الدين وازع نفسي؛ لأن مبدأ الدين من الإلهامات الفطرية في نفوس البشر، وأما وازع القوة فلا سلطان له إلا على الظواهر، فمتى أمن أهل البغي والتعدي من اطِّلاع الحاكمين يرتكبون ما شاء البغي، ويجترحون ما أحبت الشهوة من التعدي على الأموال والأعراض وراء الحجب والأستار، وحيث لا تمتد أعين الشهداء ولا تصل معارف القضاة والأمراء، ثم إن القضاة والحكام أنفسهم إذا كانوا على غير دين ينتهكون الحرمات، ويقترفون السيئات، ويساعدون الجناة ويشاركون الجباة. والحاصل أن الإنسان لا يستغني في حياته الاجتماعية عن حدود عادلة يقف أفراده عندها في معاملتهم ومعاشرتهم، وأن هذه الحدود لا تُحْتَرم ويوقف عندها، إلا إذا كانت على موافقتها للمصلحة العامة مضافة إلى تلك السلطة الغيبية التي فُطِر الناس على الاعتقاد بها والخضوع لها، وهذا عين حاجتهم إلى الوحي لسعادة الدنيا، وقد تقدم المثال العملي في إثبات هذه النظرية في الدرس السابق. الشبهة الثالثة: لقائل أن يقول: إن أمم أوربا التي تحكم بالقوانين الوضعية، هي أسعد من الأمة الإسلامية، وإن الحكومات الإسلامية التي أخذت ببعض هذه القوانين كمصر والدولة العلية أحسن حالاً ممن لم يأخذ بشيء منها كحكومة مراكش. والجواب يعرف مما كتبناه في الدرس الماضي من المقابلة بين المسلمين في نشأتهم الأولى، وبين الأوربيين في نهايتهم، مع أنهم لم يمرقوا كلهم من الدين الذي بني على وجوب طاعة الحكام، وقد صرحنا مرارًا أن المسلمين صاروا حجة على دينهم، بل قلنا في المقابلة المذكورة: إنهم حجة من لا دين له على كل دين. (المسألة 56) : الحاجة إلى الوحي لسعادة الآخرة: خلق الله للإنسان حواس ومشاعر، ووهبه عقلاً وفكرًا يهتدي به إلى مصالحه ومنافعه في الدنيا كما قال: {أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) وعلمنا أن هذه المواهب لم تكن كافية له لسعادته الدنيوية، لولا الدين؛ فما بالك بحياته الأخرى الغيبية التي يقصر عن تناولها حسه، ولا يحيط بشيء من كنهها عقله، وإنما يشعر بها وجدانه شعورًا مجملاً مبهمًا؟ وقد بيَّن أستاذنا في (رسالة التوحيد) هذا الشعور أحسن بيان، واستنتج منه وجه الحاجة إلى الوحي بأجلى برهان، والأفضل أن نقتبسه بلفظه ومعناه؛ لئلا يضيع شيء من فحواه، قال حفظه الله: اتفقت كلمة البشر موحدين ووثنيين مليين وفلاسفة إلا قليلاً لا يقام لهم وزن على أن لنفس الإنسان بقاء تحيا به بعد مفارقة البدن، وأنها لا تموت موت فناء، وإنما الموت المحتوم هو ضرب من البطون والخفاء، وإن اختلفت منازعهم في تصوير ذلك البقاء، وفيما تكون عليه النفس فيه، وتباينت مشاربهم في طرق الاستدلال عليه؛ فمِن قائل بالتناسخ في أجساد البشر أو الحيوان على الدوام، ومِن ذاهب إلى أن التناسخ ينتهي عندما تبلغ النفس أعلى مراتب الكمال، ومنهم من قال: إنها متى فارقت الجسد عادت إلى تجردها عن المادة حافظة لما فيه لذتها، أو ما به شقوتها. ومنهم من رأى أنها تتعلق بأجسام أثيرية، ألطف من هذه الأجسام المرئية، وكان اختلاف المذاهب في كنه السعادة والشقاء الأخرويين وفيما هو متاع الحياة الآخرة، وفي الوسائل التي تعد للنعيم أو تبعد عن النكال الدائم، وتضارب آراء الأمم فيه قديمًا وحديثًا مما لا تكاد تحصى وجوهه. هذا الشعور العام بحياة بعد هذه الحياة المنبث في جميع الأنفس عالمها وجاهلها، وحشيها ومستأنسها، باديها وحاضرها، قديمها وحديثها، لا يمكن أن يكون ضلة عقلية أو نزغة وهمية؛ وإنما هو من الإلهامات التي اختص بها هذا النوع، فكما أُلْهِم الإنسان أن عقله وفكره هما عماد بقائه في هذه الحياة الدنيا، وإن شذ أفراد منه ذهبوا إلى أن العقل والفكر ليسا بكافيين للإرشاد في عمل ما، أو إلى أنه لا يمكن للعقل أن يوقن باعتقاد ولا للفكر أن يصل إلى مجهول، بل قالوا أن لا وجود للعالم إلا في اختراع الخيال، وأنهم شاكون حتى في أنهم شاكون، ولم يطعن شذوذ هؤلاء في صحة الإلهام العام المشعر لسائر أفراد النوع أن الفكر والعقل هما ركن الحياة، وأس البقاء إلى الأجل المحدود، كذلك قد ألهمت العقول، وأشعرت النفوس أن هذا العمر القصير ليس هو منتهى ما للإنسان في الوجود، بل الإنسان ينزع هذا الجسد كما ينزع الثوب عن البدن، ثم يكون حيًّا باقيًا في طور آخر، وإن لم يدرك كنهه، ذلك إلهام يكاد يزاحم البديهة في الجلاء يُشْعِر كل نفس أنها مستعدة لقبول معلومات غير متناهية من طرق غير محصورة شيقة إلى لذائذ غير محدودة، ولا واقفة عند غاية مهيئة لدرجات من الكمال لا تحددها أطراف المراتب والغايات، معرضة لآلام من الشهوات، ونزعات الأهواء، ونزوات الأمراض على الأجساد، ومصارعة الأجواء والحاجات، وضروب من مثل ذلك لا تدخل تحت عد ولا تنتهي عند حد، إلهام يستلفتها بعد هذا الشعور إلى أن واهب الوجود للأنواع إنما قدر الاستعداد بقدر الحاجة في البقاء، ولم يعهد في تصرفه العبث والكيل الجزاف، فما كان استعداده لقبول ما لا يتناهى من معلومات وآلام ولذائذ وكمالات لا يصح أن يكون بقاؤه قاصرًا على أيام أو سنين معدودات. شعور يهيج بالأرواح إلى تحسس هذا البقاء الأبدي وما عسى أن تكون عليه متى وصلت إليه، وكيف الاهتداء وأين السبيل، وقد غاب المطلوب وأعوز الدليل؟ شعورنا بالحاجة إلى استعمال عقولنا في تقويم هذه المعيشة القصيرة الأمد لم يكفنا في الاستقامة على المنهج الأقوم، بل لزمتنا الحاجة إلى التعليم والإرشاد وقضاء الأزمنة والأعصار، في تقويم الأنظار، وتعديل الأفكار، وإصلاح الوجدان، وتثقيف الأذهان، ولا نزال إلى الآن من هم هذه الحياة الدنيا في اضطراب لا ندري متى نخلص منه، وفي شوق إلى طمأنينة لا نعلم متى ننتهي إليها. هذا شأننا في فهم عالم الشهادة، فماذا نؤمل من عقولنا وأفكارنا في العلم بما في عالم الغيب، هل فيما بين أيدينا من الشاهد معالم نهتدي بها إلى الغائب؟ وهل في طرق الفكر ما يوصل كل أحد إلى معرفة ما قدر له في حياة يشعر بها، وبأن لا مندوحة عن القدوم عليها؛ ولكن لم يوهب من القوة ما ينفذ إلى تفصيل ما أعد له فيها، والشؤون التي لا بد أن يكون عليها بعد مفارقة ما هو فيه أو إلى معرفة بيد من يكون تصريف تلك الشؤون؟ هل في أساليب النظر ما يأخذ بك إلى اليقين بمناطها من الاعتقادات والأعمال وذلك الكون مجهول لديك، وتلك الحياة في غاية الغموض بالنسبة إليك؟ كلا، فإن الصلة بين العالمين تكون منقطعةً إلا فيك أنت، فالنظر في المعلومات الحاضرة، لا يوصل إلى اليقين بحقائق تلك العوالم المستقبلة. أفليس من حكمة الصانع الحكيم الذي أقام أمر الإنسان على قاعدة الإرشاد والتعليم، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، علمه الكلام للتفاهم، والكتاب للتراسل، أن يجعل من مراتب الأنفس البشرية مرتبة يعدلها بمحض فضله بعض من يصطفيه من خلقه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، يميزهم بالفطر السليمة ويبلغ بأرواحهم من الكمال ما يليقون معه للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيرهم انكشافه لهم لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمه، فيشرفون على الغيب بإذنه، ويعلمون ما سيكون من شأن الناس فيه، ويكونون في مراتبهم العلوية على نسبة من العالمين نهاية الشاهد، وبداية الغائب، فهم في الدنيا كأنهم ليسوا من أهلها، وهم وفد الآخرة في لباس من ليس من سكانها، ثم يتلقون من أمره أن يحدثوا عن جلاله، وما خفي على العقول من شؤون حضرته الرفيعة بما يشاء أن يعتقده العباد فيه، وما قُدِّر أن يكون له مدخل في سعادتهم الأخروية، وأن يبينوا للناس من أحوال الآخرة ما لا بد لهم من علمه، معبرين عنه بما تحتمله طاقة عقولهم، ولا يبعد عن متناول أفهامهم، وأن يبلغوا عنه شرائع عامة تحدد لهم سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في ذلك الكون المُغَيَّب عن مشاعرهم بتفصيله، اللاصق علمه بأعماق ضمائرهم في إجماله، وتدخل في ذلك جميع الأحكام المتعلقة بكليات الأعمال ظاهرة وباطنة، ثم تؤيدهم بما لا تبلغه قوى البشر من الآيات حتى تقوم بهم الحجة ويتم الإقناع بصدق الرسالة، فيكونون بذلك رسلاً من لدنه إلى خلقه مبشرين ومنذرين؟ لا ريب أن الذي أحسن كل شيء خلقه، وأبدع في كل كائن صنعه، وجاد على كل حي بما إليه حاجته، ولم يحرم من رحمته حقيرًا ولا جليلاً من خلقه يكونون من رأفته بالنوع الذي أجاد صنعه، وأقام له من قبول العلم ما يقوم مقام المواهب التي اختص بها غيره أن ينقذه من حيرته ويخلصه من التخبط في أهم حياتيه، والضلال في أفضل حاليه. يقول قائل: ولِم لمْ يودع في الغرائز ما تحتاج إليه من العلم، ولم يضع فيها الانقياد إلى العمل وسلوك الطريق المؤدية إلى الغاية في الحياة الآخرة؟ وما هذا النحو من عجائب الرحمة في الهداية والتعليم؟

العشق وحرية العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العشق وحرية العرب دخل يزيد بن معاوية على أبيه في أيام حكمه مستأذنًا بقتل أبي دَهْبَل وهب بن زمعة الجمحي؛ لأنه أكثر التغزل في أخته عاتكة، واشتهر بعشقها، وسارت بأشعاره الركبان، وتغنى بها الناس، فقال معاوية: وماذا قال؟ فأنشده يزيد أبياتًا من قصيدة أبي دهبل النونية وهي: طال ليلي وبت كالمجنون ... ومللت الثواء في جيرون وأطلت المقام بالشام حتى ... ظن أهلي مرجمات الظنون فبكت خشيت التفرق جُمْل ... كبكاء القرين إثر القرين وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ ... اص ميزت من جوهر مكنون وإذا ما نسبتها لم تجدها ... في سناء من المكارم دون فلما أنشد هذا البيت وما قبله، قال له معاوية في إثر كل واحد منهما: هي كذلك يا بني، ولقد صدق. فلما أنشد: ثم خاصرتها إلى القبة الخضـ ... راء تمشي في مرمر مسنون قال معاوية: كذب في هذه يا بني. وبعد البيت: قبة من مراجل ضربوها ... عند برد الشتاء في قيطون عن يساري إذا دخلت من البا ... ب وإن كنت خارجًا عن يميني ولقد قلت إذ تطاول سقمي ... وتقلبت ليلتي في فنون ليت شعري أمن هوى طار نومي ... أم براني الباري قصير الجفون وهذا البيت من الحسن بالمكان الذي تراه. وعزم معاوية أن يكلم أبا دهبل في الأمر، فتربص به حلمه حتى إذا كان في يوم جمعة دخل عليه الناس وفيهم أبو دهبل، فقال معاوية لحاجبه: إذا أراد أبو دهبل الخروج فامنعه واردده إلي، وجعل الناس يسلمون وينصرفون، فقام أبو دهبل ينصرف، فناداه معاوية: يا أبا دهبل إلي. فلما دنا إليه أجلسه حتى خلا به، ثم قال له: ما كنت ظننت أن في قريش أشعر منك حيث تقول: (ولقد قلت إذ تطاول سقمي) إلى آخر البيتين، غير أنك قلت: هي (زهراء) - البيت والذي بعده -، والله إن فتاة أبوها معاوية وجدها أبو سفيان وجدتها هند بنت عتبة لكما ذكرت، وأي شيء زدت في قدرها؟ ولقد أسأت في قولك: (ثم خاصرتها) البيت. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما قلت هذا، وإنما قيل على لساني. فقال له معاوية: أما من جهتي فلا خوف عليك؛ لأنني أعلم صيانة ابنتي نفسها، وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن يقولوا النسيب في كل من جاز أن يقولوه فيه، وكل من لم يجز، وإنما أكره لك جوار يزيد، وأخاف عليك وثباته، فإن له سورة الشباب وأنفة الملوك. فحذر أبو دهبل وخرج إلى مكة. ويقال: إن معاوية أراد ذلك لتنقضي المقالة عن ابنته. أما سبب عشق أبي دهبل لعاتكة فقد روي فيه أنها لما حجت نزلت من مكة بذي طوى، فبينما هي ذات يوم جالسة في وقت الهاجرة، وقد اشتد الحر وانقطع الطريق، أمرت جواريها فرفعت الستر وهي جالسة في مجلسها، وعليها شفوف لها (ثياب رقيقة) تنظر إلى الطريق، فمر أبو دهبل فوقف طويلاً ينظر إليها، ويمتع نظره بمحاسنها وهي غافلة عنه، فلما فطنت له شتمته، وأمرت بإرخاء الستر، فقال: إني دعاني الحين فاقتادني ... حتى رأيت الظبي بالباب يا حسنه إذا سبني مدبرًا ... مستترًا عني بجلباب سبحان من وقفها حسرة ... صبَّت على القلب بأوصاب يذود عني إن تطلبتها ... أب لها ليس بوهاب أحلها قصرًا منيع الذُّرى ... يُحمى بأبواب وحجاب ثم أنشد أبو دهبل هذه الأبيات بعض إخوانه، فشاعت بمكة وتناشدها الناس، وغنى بها المغنون، وسمعتها عاتكة إنشادًا وغناءً، فضحكت وأعجبتها، وبعثت إليه بكسوة، وجرت الرسل بينهما، فلما صدرت عن مكة خرج معها إلى الشام، فكان ينزل قريبًا منها، وكانت تتعاهده بالبر واللطف حتى وردت دمشق وورد معها، فانقطعت عن لقائه في بيت الإمارة والملك، ولم يعد يراها، فمرض مرضًا طويلاً وأنشد القصيدة النونية المذكورة آنفًا. ولما عاد إلى مكة خوفًا من يزيد كان يكاتب عاتكة، وبينما معاوية ذات يوم في مجلسه؛ إذ جاءه خصي له، فقال: يا أمير المؤمنين لقد سقط إلى عاتكة اليوم كتاب فلما قرأته بكت، ثم أخذته فوضعته تحت مصلاها وما زالت خائرة النفس منذ اليوم.فقال له: اذهب فالطف بها حتى تحتال على أخذ الكتاب. ففعل الخصي وأتى بالكتاب وإذا فيه: أعاتك هلا إذا بخلت فلا تَرَيْ ... لذي صبوة زلفى لديك ولا يُرقى رردت فؤادًا قد تولى به الهوى ... وسكنت عينًا لا تملُّ ولا ترقا ولكن خلعت القلب بالوعد والمنى ... ولم أر يومًا منك جودًا ولا صدقا أتنسين أيامي بربعك مدنفًا ... صريعًا بأرض الشام ذا جسد ملقى وليس صديقي يرتضى لوصية ... وأدعو لدائي بالشراب فما أسقى وأكبر همي أن أرى لك مرسلاً ... فطول نهاري جالس أرقب الطرقا فوا كبدي إذ ليس لي منك مجلس ... فأشكو الذي بي من هواك وما ألقى رأيتك تزدادين للصب غلظة ... ويزداد قلبي كل يوم لكم عشقا فلما قرأه معاوية بعث إلى ابنه يزيد، فأتى ووجده مطرقًا فقال له: ما هذا الأمر؟ فقال: أمر أقلقني وأمضني وما أدري ما أعمل في شأنه. قال: وما هو؟ قال: هذا الفاسق أبو دهبل كتب بهذه الأبيات إلى أختك عاتكة، فلم تزل باكية فما ترى فيه؟ قال: الأمر هين، عبد من عبيدك يكمن له في أزقة مكة فيريحنا منه. فقال معاوية: أفٍ لك، والله إن تقتل رجلاً من قريش هذا حاله صدَّق الناس قوله، وجعلونا أحدوثة أبدًا. فقال يزيد: يا أمير المؤمنين، إنه قال قصيدة أخرى تناشدها أهل مكة وسارت حتى بلغتني وأوجعتني وحملتني على ما أشرت به. فقال: ما هي؟ فأنشد: ألا لا تقل مهلاً فقد ذهب المهل ... وما كان من يَلْحى محبًّا له عقل لقد كان في حولين حالا ولم أزر ... هواي وإن خُوِّفْتُ عن حبها شغل حمى الملك الجبار عني لقاءها ... فمن دونها تخشى المتالف والقتل فلا خير في حب يخاف وباله ... ولا في حبيب لا يكون له وصل فوا كبدي إني اشتهرت بحبها ... ولم يك فيما بيننا ساعة بذل ويا عجبًا أني أكاتم حبها ... وقد شاع حتى قطعت دونها السبل فقال معاوية: قد والله رفهت عني؛ لأني أرى أنه يشكو عدم الوصل فالخطب فيه يسير، قم عني. فقام يزيد، وحج معاوية في تلك السنة، ولما انقضت أيام الحج كتب أسماء وجوه قريش وأشرافهم وشعراءهم وكتب فيهم اسم أبي دهبل، ثم دعا بهم ففرق الصِّلات الجزيلة، فلما قبض أبو دهبل صلته وقام ينصرف، دعا به معاوية، فرجع إليه فقال له: يا أبا دهبل، ما لي رأيت يزيد ساخطًا عليك في قواريض تأتيه عنك، وشعر لا تزال تنطق به، وأنفذته إلى أخصامنا وموالينا؟ فطفق أبو دهبل يعتذر ويحلف أنه مكذوب عليه، فقال له معاوية: لا بأس عليك وما يضرك ذلك عندنا فهل تأهلت؟ قال: لا. قال: فأي بنات عمك أحب إليك؟ قال: فلانة. قال: زوجتكها وأصدقتها ألفي دينار، وأمرت لك بألف دينار أخرى. فلما قبضها، قال: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفو لي عما مضى، فإن نطقت ببيت في معنى ما سبق مني فقد أبحت به دمي، وفلانة التي زوجتنيها طالق ألبتة. فسُرَّ معاوية بذلك، وضمن له رضا يزيد عنه ووعده بإدرار ما وصله به في كل سنة، وانصرف إلى دمشق، قالوا: ولم يحج معاوية في تلك السنة إلا لأجل ذلك. (المنار) في القصة فوائد لمن يتأمل ويستفيد منها حرية العرب، وتساهلهم في العشق وغيره مع أولادهم وغير أولادهم، وفي لوازمه ما لم ينتهك العرض وتُلْمَس العفة وتبتذل الصيانة على أن العشق والعفة لا ينفكان في قرن كما سنبينه، ألم تر إلى معاوية كيف أجاب يزيد حين قال له: إن أبا دهبل يقول في ابنتك: وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوَّ ... اص ميزت من جوهر مكنون بقوله: لقد صدق يا بني إنها لكذلك. ثم لما قال له: إنه قال: (ثم خاصرتها) البيت: قال لقد كذب. ألم تر أنه لم يعاتب ابنته، ولم ينصحها؛ لأنه يعلم أن العشق طور من أطوار النفس يغري به العذل والتثريب، ولا ينجع فيه الوعظ والتأديب؟ ألم تر أنه قال لأبي دهبل: (أما من جهتي فلا خوف عليك؛ لأني أعلم صيانة ابنتي نفسها وأعرف أن فتيان الشعراء يتركون أن يقولوا النسيب) ... إلخ. ومنها الطريقة المثلى في تربية الفتيان والفتيات في طور العشق والحب، إذا علم الجاهل الأخرق أن ولده عشق وساءه ذلك وخشي مغبته يبادر إلى إطفاء لوعته باللوم والتعنيف، والعذل والتوبيخ، وذم المحبوب، وانتحال المثالب والعيوب، وما هذا اللوم إلا عين الإغراء، وما ذلك الإطفاء إلا إضرام وإذكاء. كالذي طأطأ الشهاب ليطفى ... وهو أدنى له إلى التضريم والعليم الحليم يبادر إلى قطع الصلات، وإبطال المعاملات، بخفي العمل، ولطائف الحيل، كما فعل معاوية في إخراج أبي دهبل من الشام أولاً، ثم في تزويجه وإكرامه بحيث ألجأه إلى أن يعطي العهد من نفسه على ترك التشبيب بعاتكة، ويؤيد ذلك بإبانة زوجه وإباحة دمه من غير أن تعلم عاتكة بذلك. ومنها: الفرق بين حلم معاوية، وسفه يزيد وميله إلى الظلم وسفك الدم، وكيف صده أبوه عن اغتيال أبي دهبل بقوله: إن في ذلك إثباتًا للتهمة واشتهارًا بالفضيحة، ولم يأته من قبل الدين وحرمة الدماء المعصومة، والظاهر أنه كان يعلم أن ما قاله له هو الذي يؤثر فيه. ومنها: الحرية العامة عند العرب يومئذ، فقد كانوا يتغنون بشعر يشبب فيه ببنت أمير المؤمنين من غير مؤاخذة ولا نكير، ولا توقع مؤاخذة، ولا خوف عقوبة. ومن وجوه الاعتبار: الفرق بين عظمة الملوك وتجبرهم اليوم، وبساطتهم يومئذ. *** العشق والعفة العشق - كما قلنا - حليف العفة وقرينها، وحب الفساد المقلوب لا يسمى عشقًا، وقد كان أبو دهبل عفيفًا نزيهًا، وعاتكة أعف وأنزه، روي أنه خرج يريد الغزو فلما كان بجيرون جاءته امرأة، فأعطته كتابًا فقالت له: اقرأ لي هذا الكتاب. فقرأه لها ثم ذهبت فدخلت قصرًا، ثم خرجت إليه فقالت: لو تبلغت القصر فقرأت الكتاب على امرأة كان لك فيه أجر إن شاء الله؛ فإنه من غائب لها يعنيها أمره. فبلغ معها القصر، فلما دخلا إذا فيه جوارٍ كثيرة فأغلقن عليه القصر، وإذا فيه امرأة وضيئة، فراودته عن نفسه، فأبى فأمرت به فحبس في بيت من القصر، وكان يُطعم ويُسقى قليلاً حتى ضعف وكاد يموت، ثم دعته إلى نفسها، فقال: لا يكون ذلك أبدًا؛ ولكني أتزوجك. قالت: نعم. فتزوجها، فأمرت به فأحسن إليه حتى رجعت إليه نفسه، فأقام معها زمانًا طويلاً لا تدعه يخرج، حتى يئس منه أهله وولده، وتزوج بنوه وبناته، وتقاسموا ماله، وأقامت زوجه تبكي عليه حتى عمشت ولم تقاسمهم ماله، ثم إنه قال لامرأته الجديدة: إنك قد أثمت فيَّ وفي ولدي وأهلي، فأذني لي أطالعهم وأعود إليك. فأخذت عليه أيمانًا أن لا يقيم إلا سنة حتى يعود إليها، فخرج من عندها بمال كثير حتى قدم على أهله، فرأى حال زوجه وما صار إليه ولده، وجاء إليه ولده فقال: والله ما بيني وبينكم عمل، أنتم قد ورثتموني وأنا حي، فهو حظكم، والله لا يشرك زوجي فيما قدمت به أحد، ثم قال لها: شأنك به فهو لك كله. ولما حان الأجل وأراد الخروج إلى الجديدة جاءه خبر موتها فأقام. ومن حديث العفة وأخبار أبي دهبل أنه كان يهوى امرأةً جزلةً يجتمع إليها الرجال للمحادثة وإنشاء الشعر، وكان أبو دهبل لا يفارق مجلسها مع كل من يجتمع إليها، وكانت هي أيضًا محبةً له، وكانت توصيه بحفظ ما بينهما وكتمانه، فضمن لها ذلك، واتصل الوداد بينهما، فوقفت عليه زوجه وكانت غيورًا عليه، فدست إلى عمرة امرأة داهية من عجائز قومها، فجاءتها فحادثتها طويلاً، ثم قالت لها في عرض حديثها: إني لأعجب لك كيف لا تتزوجين بأبي دهبل مع ما بينكما؟ قالت: وأي شيء يكون بيني وبين أبي دهبل؟ فتضاحكت وقالت: أتسترين عني شيئًا قد تحدثت به أشراف قريش في مجالسها وسوقة أهل الحجاز في أسواقها، والسقاة في مواردها؟ فما يتدافع اثنان أنه يهواك وتهوينه. فوثبت عمرة عن مجلسه

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (المرأة في الإسلام) مجلة علمية تهذيبية تبحث في ترقية شأن المرأة في الإسلام، صدرت في أوائل شهر ذي الحجة الماضي لمنشئها الفاضل إبراهيم بك رمزي، وهي تصدر في الشهر مرتين في 16 صفحة كبيرة، وقيمة الاشتراك 30 قرشًا تُدفع سلفًا، وقد بيَّن في العدد الأول منها المباحث الكلية التي وضعت المجلة لها وهي: 1- المرأة واستعدادها وحقوقها الشرعية ومكانتها البيتية والاجتماعية. 2- تدبير المنزل والتربية. و3- الأخلاق والعادات. و4- سير شهيرات النساء. 5- أخبار النساء. 6- العائلة وتكوينها وحقوق وواجبات أفرادها من زوج وزوجة وآباء وأبناء، فنسأل الله تعالى أن يوفقه للصواب فيما يكتب وينفع به. ولا شك أن هذه الحركة المحمودة والعناية بشأن النساء هو أثر من آثار الصيحة الشديدة، والصاخة القوية التي صدرت من حضرة الفاضل قاسم بك أمين، ولو أنه خاطب الناس بما يعرفون ويألفون لما أحدث أثرًا ولا حرك قلمًا ولا فكرًا وحركة الفكر تتقدم العمل دائمًا، وهو الذي يُظهر للناس النافع والضار، وبه تتم السعادة، ويبلغ الإنسان مراده. *** (مجلة المجلات العربية) صدر العدد الأول من مجلة بهذا الاسم شهرية علمية صناعية أدبية سياسية ذات 24 صفحة، لصاحبها الهمام محمود بك نسيب، وقيمة الاشتراك فيها سبعون قرشًا أميريًّا في السنة، وقد صدر منها العدد الأول مزينًا برسم سمو الخديو المعظم، وفي الأخبار السياسية رسم ولي عهد مملكة الإنجليز، وذكر الاحتفال به في بورسعيد، وفي باب أشهر الحوادث وأعظم الرجال رسم يوسفُ (فردي) الموسيقي الإيطالي الشهير الذي مات من عهد قريب وترجمته، إلى غير ذلك من الفوائد والأخبار العلمية والتاريخية، فنرحب بهذه الرفيقة الجديدة أيضًا، ونسأل الله لها التوفيق والانتشار.

حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينية في فرنسا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حديث مع شيخ الأزهر والجمعيات الدينية في فرنسا اتفق لي أنني عندما زرت في العيد صاحب الفضيلة الأستاذ شيخ الجامع الأزهر المعظم حدثته بالجمعيات الدينية الأوربية، لا سيما الفرنسوية كالجزويت والفرير، وذكرت له أولاً ما كان من معاداة رجال الدين المسيحي للعلم في العصور التي يسمونها المظلمة، وكيف انقلب الحال بعدما ظفر رجال العلم، وسُلبت السلطة السياسية من البابا، فصارت أَزِمَّة العلوم بأيدي الجمعيات الدينية، حتى إن الجزويت الذين هم أشد الفرق تعصبًا للدين هم الذين غيَّروا نظام التعليم في أوربا فارتقى بسعيهم إلى الدرجة التي هو فيها، وذكرت لفضيلته ثروة جمعية الجزويت ومسالكها في التعليم الديني والدنيوي، وأن غايتها هي وأمثالها إرجاع السلطة السياسية لرجال الدين كما كانت، وأنها تعلم كما يعلم كل بصير بأحوال الكون أنه لا يمكن أن يكون مثل هذا الانقلاب إلا بالعلوم العصرية والثروة المالية التي هي حليفة العلم، وانتقلت من هذا إلى بيان كون الديانة المسيحية ليست ديانة سلطة بخلاف الديانة الإسلامية التي يجب فيها أن يكون الخليفة فيمن دونه من الحكام عالمين بالدين في كلام طويل نتيجته أن حفظ الدين الإسلامي وحفظ كرامة أهله وإعادة سلطته يحتاج فيه إلى العلوم الكونية والجمعيات المالية، وأن هذا ما يدعو إليه المنار. لم تمض على حديثنا أيام حتى جاءتنا البرقيات، ثم الجرائد بخبر معارضة الحكومة الفرنسوية للجمعيات الدينية ورجال الدين عامة، واتهامها إياهم بالسياسة وعداوة الحكومة الجمهورية، والسعي التمهيدي في نكث فتلها وحل عراها، وقد اقترحت الحكومة على مجلس البرلمان أن يصدق على قانون قدمته له، ملخصه على ما في رسالة المؤيد الأغر: إنه يجب على كل جمعية دينية أن تعرض قانونها على الحكومة، وتأخذ منها إجازة رسمية وإلا فإنها تنحل وتبطل، وإنه لا يجوز لأعضاء الجمعيات التي تنحل أن يزاولوا صناعة التعليم مطلقًا، وإِنْ في مدارس الجمعيات المأذونة. وإن الحكومة تستولي على ما تملك الجمعية المنحلة من عقار ونحوه وتبيعه، وتنشئ بثمنه صندوق إعانة لعملة الشيوخ والمتقاعدين، وقد قدرت الحكومة قيمة ما للجمعيات غير المأذونة من ذلك بمليار فرنك (ألف مليون فرنك) فهاج ذلك الاشتراكيين، وطفقوا يقولون: إن من الجناية على الأمة أن يحتكر صنف من الناس هذا المال الكثير، ويكنزه ويحول بين الناس وبين استثماره والانتفاع به. وقد صدَّق المجلس على هذا القانون بعد مناقشات أثبت فيها الموافقون للمعارضين - وهم الأقل - أن الرهبان يعلّمون الشعب في مدارسهم وكنائسهم أن الحكومة الجمهورية حكومة فساد واختلاس وقرارة أقذار، وأنه يجب تقويض أساسها، ومن الشواهد التي أوردها الباحثون على ذلك أن الموسيو لايك أظهر أن الكتب التي يتعلم بها تلامذة المدارس الدينية تحرف الكلم بما تقلب به الحقائق ليوافق مشربها، ومنها أن الموسيو برجو لما كان رئيسًا لِلَجْنَةِ جوائز تلامذة المدارس في المعرض أرادوا منح الجائزة الكبرى لأكثر التلامذة مهارة، فوجدوا أن الذين يستحقونها هم تلامذة مدارس الفرير؛ ولكنهم وجدوا في كتاباتهم دلائل كثيرة على بغضهم للحكومة الجمهورية ونظاماتها، واعتبارهم من يخالفهم في المذهب من سائر الناس أعداء لهم، فلذلك حُرم من هذه الجائزة تلامذتهم في أوربا، وأعطيت لتلامذتهم في الشرق؛ لأنه لم يوجد في كتاباتهم مثل ذلك، ومنها أنهم يعلِّمون النساء في أوقات الاعتراف تعليمًا مخلاًّ بالآداب؛ كالكذب على الزوج لإخفاء ما يأتينه من البهتان بين أيديهن وأرجلهن، كأن تقول المرأة لزوجها: ما زنيت. وتنوي في نفسها تتمة للقول مثل: لأقول لك، وتقول: ما سرقت، وتنوي: قبل ولادتي أو نحو ذلك، إلى غير ذلك من الشواهد. وقد تقرر الآن أن تعليم جميع الجمعيات الدينية لا بد أن يكون تحت مراقبة الحكومة، ولا شك أن خوف الحكومة في محله، وأن هذه الجمعيات تنوي الانقلاب الذي حذرته الحكومة، وهي سائرة إليه من طريقته المثلى، وهي طريقة التربية والتعليم. فليعتبر رجال الشرق عامة وعلماء المسلمين خاصة الذين فقدوا كل شيء وما بقي عندهم إلا حثالة ما أُلِّف من قبلهم من الكتب يتلهون أو يتعيشون بالبحث في أساليبها وترديد ألفاظها، ولا يخطر على بالهم السعي في دوامها وحفظ كرامة أهلها فضلاً عن السعي بالارتقاء وإعادة أحكام الدين ومجده السالف، ومن ينبههم على ذلك يتخذونه عدوًّا ويمضغون لحمه بالغيبة ويسلطون عليه عقارب السعاية؛ وإنما يبحثون عن حتفهم بظلفهم، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (العام الجديد) هذا اليوم فاتحة سنة تسع عشرة وثلاثمائة وألف للهجرة الشريفة، نسأله تعالى أن يجعله عام إصلاح وفلاح للأمة، ويهنئ أهله بكشف الغمة. *** (الأعياد والمواسم) كان الشهر المنصرم شهر أعياد ومواسم لجميع الملل، عيد الأضحى الكبير للمسلمين، وعيد الفصح الكبير للنصارى، وعيد الفطر لليهود، وموسم شم النسيم المشترك بين جميع الطوائف والملل من سكان القطر المصري، نسأله تعالى أن يديم النعمة والسرور على الجميع في ظل الحضرة الخديوية الظليل. *** (تركيا الفتاة) أكثرت الجرائد في هذه الأيام من الكلام في الحزب الذي يسمونه تركيا الفتاة، فأعلاها مكانة يطعن فيه وبعضها يدافع عنه، والصواب أن هذا الحزب ليس له شأن في العالم إلا بسؤال مولانا السلطان عنه واهتمامه بشأنه، فإن أهمله أُهمل وأُغفل، وما دام يبالي به ويحزبه أمره؛ فشأنه كبير لا تؤثر فيه الجرائد ولا يزعزعه الكلام، وإنما تأثير الجرائد في المابين فالمدح والقدح عاملان متساويان في التأثير هناك، بل ربما كان القدح والذم أشد تأثيرًا في الاهتمام به. أما صاحب الدولة محمود باشا داماد ونجلاه الأميران النجيبان فليسا من حزب تركيا الفتاة؛ ولكن لهم شأن مخصوص بهم. وقد انتقدنا على جريدة مصباح الشرق الغراء بعض ما كتبته في أسباب الحرب الروسية العثمانية، والقانون الأساسي من الوجه التاريخي، وسننشر ذلك في العدد الآتي إن شاء الله تعالى.

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورات بين المصلح والمقلد المحاورة السادسة الاجتهاد والتقليد لما عاد الشيخ والشاب للمباحثة، والمثافنة للمنافثة، قال الأول: المقلد: إنني من يوم سمعت منك تلك الكلمة الغريبة، وأنا لا أنفكّ مشتغلاً بالمطالعة في باب الاجتهاد من كتب الأصول استعدادًا لهذا اليوم، وأعني بالكلمة ما لم تنسه من قولك: إن فيما قالوه عن المهدي كلمة إصلاح وهي إبطال المذاهب وجعل المسلمين على طريقة واحدة كما هو أصل الإسلام، وإنني أعتقد كما يعتقد كل من يعرف الإسلام وعلومه أنه لولا الأئمة الأربعة لضاع الدين بالمرة، وأن لهم رضي الله تعالى عنهم المنة في عنق كل مسلم إلى يوم القيامة، وأن الخروج عن مذاهبهم مروق من الدين، والعياذ بالله تعالى. المصلح: لا أنازعك في مدح الأئمة رضي الله تعالى عنهم، ولا أنكر شيئًا من فضلهم؛ ولكنني أقول كلمة تعرف بها بطلان قولك الأخير، وهي أن الإسلام قبلهم كان خيرًا من زمنهم، وكان في زمنهم الذي لم يقلدهم فيه إلا قليل من الناس خيرًا منه فيما بعده من الأزمنة التي أقامهم الناس فيها مقام الأنبياء، بل إن من أتباعهم من قدمهم عليهم عند تعارض كلامهم مع الحديث الصحيح؛ فإنهم يردون كلام النبي المعصوم مع اعتقادهم صحة سنده لقول نقل عن إمامهم، ويتعللون باحتمالات ضعيفة كقولهم: يحتمل أن يكون الحديث نسخ، ويحتمل أن عند إمامنا حديثًا آخر يعارضه، ولا شك أن هؤلاء المقلدين قد خرجوا بغلوهم في التقليد عن التقليد؛ لأنهم لو قلدوا الأئمة في آدابهم وسيرتهم وتمسكهم بما صح عندهم من السنة لما ردوا كلام المعصوم لكلام غير المعصوم الذي يجوز عليه الخطأ والجهل بالحكم، وكانوا يأمرون بأن يترك قولهم إذا خالف الحديث، بل تسلق هؤلاء الغالون بمثل ذلك إلى القرآن نفسه وهو المتواتر القطعي والإمام المبين، وتجرأ بعضهم على تقرير قاعدة البابوات في الإسلام، وهي أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ دينه من الكتاب؛ لأنه لا يفهمه، وإنما يفهمه رجال الدين، فيجب عليه أن يأخذ بكل ما قالوا وإن خالف الكتاب، ولا يجوز له أن يأخذ بالكتاب إذا خالف ما قالوا، بل لا يجوز له أن يتصدى لفهم أحكام دينه منه مطلقًا، ومثل هذا ما قال بعض فقهائنا قال: لا يجوز لأحد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام؛ لأن الله قال كذا، ولأن رسوله قال كذا، بل لأن فلانًا الفقيه قال كذا، وهذا مصداق قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: (لتتبعن سنن الذين من قبلكم ... ) الحديث، وفي آخره قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟) . المقلد: ليس كل ما فعله اليهود والنصارى باطلاً، فيكون اتباعهم فيه باطلاً، على أن الاتباع المذموم هو ما كان عن قصد، ولم يقصد المسلمين قط اتباع البابوات وغيرهم من النصارى؛ وإنما اتبعوا في ذلك الدليل الذي قام عندهم على وجوب التقليد على من يعجز عن الاجتهاد، ومن كان عاجزًا لا يجوز له أن يتحكم بفهمه الضعيف، بل عليه أن يأخذ بأقوال الثقات الذين يثق بفهمهم الدين حق فهمه. المصلح: المذموم في ذاته يذم فاعله مطلقًا، فإن افتحره افتحارًا كان الذم عليه وحده، وإن سنه واتبعه عليه غيره فعليه إثمه وإثم من عمل به، وإن كان فيه مقلدًا فهو أخسّ، وأحرى بالتعس، ولا أطيل الآن فيما أخذه المسلمون عمن سبقهم؛ فإنه يشغلنا الآن عن جوهر البحث، وإنما أقدم لك مسائل في بحث التقليد تكون مقدمات للأصل الذي أريد تقريره في الوحدة الإسلامية ونسبة المذاهب إليها فأقول: المقدمة الأولى: إن العلوم الكسبية التي توجد بوجود الحاجة إليها تنقسم مسائلها إلى قسمين: قسم يسهل فهمه من دليله أو بدليله على كل واحد من الناس، وقسم يعسر أخذه من الدليل على الأكثرين وينهض به في كل عصر أفراد مجتهدون يتفرغون له، ويستقلون ببيانه، ويتبعهم من يحتاج إلى ذلك من سائر الناس، ولم يوجد علم من العلوم الحقيقية تعلو جميع مسائله عن تناول عقول الدهماء، ويستقل بها أفراد من وقت من الأوقات ويعجز سائر البشر عنها، ومتى وُجد العلم في أمة فإنه ينمو ويكمل بالتدريج، وسنة الله تعالى في ذلك أن المتأخر يكون أرقى من المتقدم؛ لأن بداية الآخر من نهاية الأول ما لم يطرأ على الأمة من الأمراض الاجتماعية ما يوقف سير العلم فيها. وفي هذه الحالة لا يقال: إن سنة الله تبدلت أو بطلت؛ لأن سنة الله تعالى في المرضى غير سنته في الأصحاء، فإننا إذا غرسنا شجرة أو وُلد لنا ولد، ومر عليه في طور النمو زمن ولم ينم فيه؛ لا يصح لنا أن نستدل بذلك على إنكار سنة النمو في النبات والحيوان، بل علينا أن نبحث عن مرضه الذي عارض النمو ونعالجه ليعود إلى الأصل. المقلد: من أين جئت بهذه القاعدة التي لا تنطبق على علم الدين؛ فإنني لم أرها في كتاب ولا سمعتها من أحد من مشايخنا، وما أراك إلا مفتحرًا لها فإن لم يكن لك فيها نقل صحيح لا أسلم لك بها. المصلح: إنني أخذت هذه القاعدة من الوجود وهو أرشد المعلمين، وقد سلمت لي من قبل أن العلم الصحيح هو ما يشهد له الوجود، ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا العلوم المعدودة المسائل، المحدودة الدلائل إذا استقصيت مسائلها، أو أُحصِيَ منها قدر تتعذر الزيادة عليه، وذلك كاللغة فإننا إذا أحصينا مفردات لغة قوم أو أحصينا بعضها وانقرضت الأمة بعد ذلك، يتعذر على المتأخر أن يزيد على المتقدم الذي أحصى، فإذا قلت: إن علم الدين من هذا القبيل. فقد منعت الاجتهاد على الأولين والآخرين إلا ما يتعلق بنقل الدين عمن جاء به وهو الشارع صلى الله عليه وسلم، ومنعت التقليد أيضًا؛ لأن الراوي لا يسمى مقلدًا لمن روى هو عنه؛ لأن التقليد هو أخذك بقول غيرك أو رأيه لذاته لا لمعرفة دليله بحيث لو رجع لرجعت. المقلد: لا أقول: إن جميع مسائل الدين مروية عن الشارع بالتفصيل، والمروي إنما هو الأصول الكلية وبعض الجزئيات، والاجتهاد يكون باستنباط سائر الجزئيات بالقياس وغيره، وبفهم النصوص والتمييز بين ما يصح الاحتجاج به وما لا يصح، وبوجوه الترجيح عند التعارض، وغير ذلك مما هو مشروح في علم الأصول. المصلح: إذن تصدق قاعدتي في علم الدين، فالمسائل التي يسهل على كل أحد فهمها بدليلها هي ما نُقل عن الشارع، لا سيما إذا كان النقل بالعمل أو بين إجماله بالعمل، وأدلة هذه المسائل هي كونها مروية عن الشارع؛ لأن جميع ما ورد عنه يجب أن يؤخذ بالتسليم من كل من اعتقد بالرسالة، ويبقى التفاضل بين العارفين بهذه المسائل والأحكام في الفقه بها بمعرفة حكمها وأسرارها، وسأبين منزلة هذه المسائل من الدين، ومنزلة ما يؤخذ من استنباط المجتهدين، بعد بيان المقدمات التي بدأت بها. المقلد: إذا تسنى لكل أحد أن يفهم ما نقل من الدين عن الشارع بالعمل ككيفية الصلاة والصوم وغيرهما من العبادات، فلا يتسنى لهم أن يفهموا ما نقل بالقول إلا بواسطة المجتهد. المصلح: إن من المقدمات التي أردت سردها ما هو جواب عن قولك هذا، وليكن (المقدمة الثانية) وهي أن فهم القرآن والسنة أسهل من فهم كتب الفقهاء؛ لأن كلامهما عربي مبين، وأسلوبهما فصيح لا شائبة للعجمة فيه، فمن تعلم العربية ووقف على مفرداتها وأساليبها لا يعاني في فهمها عشر معشار ما يعانيه في فهم كتب الفقهاء لاختلاف أساليبهم وبعدها في الأكثر عن أسلوب اللغة الفصيح، ولكثرة اصطلاحاتهم وخلافاتهم، ولاضطراب الكثير منهم في الفهم، ومن ينكر أن الله تعالى أعلم بدينه من الفقهاء، وأقدر على بيان ما علمه منهم، أو ينكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بمراد الله من سائر خلقه وأقدر على بيان ما علمه، وأنه قام حق القيام بأمر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) . المقلد: إن المجتهدين بيَّنوا مراد الله ورسوله لمن لم يستطع فهم كلامهما، والفقهاء بيَّنوا مراد المجتهدين لمن لم يستطع فهم كلامهم. المصلح: لقد أكثرت الوسائط وغفلت عن قولي الأول، وهو أن الله ورسوله أقدر على البيان ممن عداها، وأن القول بأن بيان الرسول لم يكن كافيًا للأمة قول بأنه لم يبلِّغ رسالة ربه؛ ومن يقول بهذا؟ أما تعلم العربية فمن أسهل الأمور على كل عاقل، ألم يهد لك كيف نبغ فيها الأعاجم عندما كانت داعية الدين سائقة لهم إليها؟ وهل هي إلا لغة من أحسن اللغات أو أحسنها، وإننا نرى الأطفال يتعلمون في المدارس عدة من اللغات التي هي دون العربية في التهذيب وسلامة الذوق وسهولة النطق. المقلد: إن أذهان الناس وعقولهم في هذا الزمان أضعف مما كانت عليه في أزمنة المجتهدين ومَن بعدهم كالزمخشري والشيخ عبد القاهر الجرجاني والسكاكي وأضرابهم، والدليل على هذا أن أحدنا يمكث في الجامع الأزهر عشرين سنة، ولا يقدر أن يفهم من كلامهم حق الفهم إلا ما تلقاه عن المشايخ الذين تلقفوه عمن قبلهم. المصلح: بعيشك لا تلجئني إلى التكرار في القول، فقد قلت لك آنفًا: إن هذا مرض اجتماعي عارض يجب أن نعالجه، ومتى أصبنا علاجه الحقيقي يزول وتظهر في أبناء عصرنا سنة الله في ترقي الإنسان كما هي ظاهرة في غيرنا من الأمم الذين يرتقون في لغتهم وجميع علومهم، وإن خمس سنين كافية لأن يتعلم الطالب العربية فيخرج كاتبًا وخطيبًا يفهم جميع كلام البلغاء إذا وجد من يعرف طريقة التعليم المثلى، ولكن أهل الأزهر لا يعرفون هذه الطريقة ولا يقبلون من يعرفها من غيرهم، وإذا لم تصدِّقوا فجربوا، وأنا الذي أقوم بذلك أو أدلكم على من يقوم به. المقلد: إني لا أستطيع أن أنكر عليك ذلك، ولا أن أسلم لك به فدعنا منه، واذكر لي بقية مقدماتك، فإني أراك تخلق لي مسائل غير ما أتعبت نفسي في مطالعته عدة أشهر، وأرجو أن تجيء مناسبة في النتيجة. المصلح: (المقدمة الثالثة) : لو أن أكثر الناس يعجزون عن فهم الدين مما يبلغ الرسول من كتاب يكتب ويتلى وسنة يعمل بها، لما كلفهم الله به. (المقدمة الرابعة) : إن الله أمر الناس بأن يكونوا على بصيرة في دينهم فقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) (المقدمة الخامسة) : إن الله تعالى ذم التقليد، ونعى على أهله ووبخهم في آيات منها قوله تعالى بعد الاحتجاج على المشركين وبيان أنه لا حجة لهم: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} (الزخرف: 22-24) فقد احتج على المقلدين بأنه يجب عليهم النظر واتباع ما هو أهدى، ولم يعذرهم بالتقليد، فدل على أنه غير مقبول عنده، ولو كان التقليد عذرًا لأحد لكان جميع الكفار والمشركين معذورين عند الله تعالى في عدم اتباع الحق بحجة أنهم ليس لهم نظر يميزون به بينه وبين الباطل. المقلد: إن التقليد ليس عذرًا في أصول الدين وعقائده بخلاف الفروع. المصلح: إن فهم فروع الدين بأدلتها أسهل من فهم أصوله وعقائده بالبرهان؛ لأن أدلة الفروع هو نق

أسئلة دينية وأجوبتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة دينية وأجوبتها فضل سيدنا محمد على سائر الأنبياء (س) : حضرة الأستاذ الفاضل صاحب المنار الأغر رجل يدَّعي بأنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله حقًّا، وخاتم الأنبياء صدقًا؛ لكنه لا يصدق بأنه سيد الأنبياء والمرسلين إلا بالدليل القطعي الذي لا شبهة فيه، وهو كتاب الله عز وجل. وإذ كانت جريدتكم الغراء هي الوحيدة في خدمة الدين والملة لزم ترقيمه لحضرتكم راجيًا إيضاح الحجة القوية قطعًا لألسنة المعارضين من أمثال ذلك الغر الجهول، وخدمة للدين القويم، وأن يكون ذلك إن استحسنتم مسطورًا على صفحات جريدتكم الغراء؛ إذ فيه هدى لقوم لا يشعرون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد المجيد محمد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بمصر ج (المنار) ليس في القرآن نص صريح في تفضيل سيدنا محمد على سائر الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام بلفظ السيادة أو التفضيل، وذكر اسمه الصريح، ولكن فيه آيات كثيرة صريحة في معنى التفضيل لا تنطبق على غيره عليه الصلاة والسلام، والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة وأشهرها حديث: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي؛ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي) وفي رواية للبخاري وغيره: (أنا سيد الناس يوم القيامة) نعم هذه الأحاديث لا تفيد القطع؛ لأنها رواية آحاد غير متواترة، إلا أن من لا شبهة له في روايتها يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها، ومتى صدَّق بالرواية تعين عليه الإيمان بمضمونها؛ لأن دلالتها قطعية لا تحتمل التأويل. أما الآيات التي استدلوا بها على تفضيله عليه أفضل الصلاة والسلام فكثيرة، منها آية العهد والميثاق وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) ولم يجئ رسول يصدق عليه ما ذكر غير محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم اتفقوا على أنه هو، ومنها الآيات الدالة على عموم بعثته وكونه خاتم النبيين ورحمة للعالمين كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) ، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ، وقوله: {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40) وأحسن بيان لوجه التفضيل من كونه خاتم النبيين ما جاء في رسالة التوحيد لفضيلة مفتي الديار المصرية لهذا العهد؛ فإنه بيَّن أن الأديان ارتقت بارتقاء البشر، وأن الأديان السابقة إنما منحها الله تعالى لنوع الإنسان عندما كان النوع في أوائل طور التمييز، وأنه لما بلغ رشده منح الإسلام الذي هو دين الفطرة ومبدأ المدنية الكاملة. وأما وجه التفضيل من كونه دينًا عامًّا باقيًا ما بقي العالم فلا أراه يحتاج إلى بيان، ولا يلتفت إلى دعوى المسيحيين أن دينهم عام؛ فإن الإنجيل الذي في أيديهم ينطق بلسان السيد المسيح عليه الصلاة والسلام بقوله: (لم أبعث إلا إلى خراف إسرائيل الضالة) وهو حصر لا ينافيه قول إنجيل يوحنا: (واكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها) ؛ لأن اللام في الخليقة لا يصح أن تكون للاستغراق؛ لأنه يدخل فيها حينئذ الحيوان الأعجم والنبات والجماد، فيتعين أن تكون للعهد ولا معهود إلا (خراف إسرائيل الضالة) ، وبهذا يرتفع التناقض، ومنها قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) الآية، وتفضيل الأمة يستلزم تفضيل نبيها؛ لأن خيريتها ما جاءتها إلا من هدايته، ومن كانت هدايته خيرًا كان خيرًا وأفضل، ومنها قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) فقد قالوا: إن هذا البعض هو محمد صلى الله عليه وسلم، نعم إن اللفظ ليس نصًّا معينًا؛ ولكن القرائن الحالية الوجودية تعينه، والمقام يحتمل التطويل وفي هذا القدر كفاية، والله أعلم.

الشيعة وأهل السنة، اختلافهما

الكاتب: مهذب الدين بن منير الطرابلسي

_ الشيعة وأهل السنة اختلافهما كان الشيخ مهذب الدين بن منير الطرابلسي شيعيًّا أديبًا وشاعرًا بليغًا، وكان هاجر إلى بغداد لمدح الشريف الموسوي نقيب الطالبيين والاتصال به، فلما جاء بغداد أرسل إلى الشريف هدية مع مملوكه، بل معشوقه (تتر) الذي سارت الركبان بغرامه فيه، فجعل الشريف الغلام من الهدية فكاد يُجن ابن منير، وأرسل إلى الشريف وإلى تتر هذه القصيدة: عذَّبت طرفي بالسهر ... وأذبت قلبي بالفكر ومزجت صفو مودتي ... من بعد بُعدك بالكدر ومنحت جثماني الضنى ... وكحلت جفني بالسهر وجفوت صبًّا ما له ... عن حسن وجهك مصطبر يا قلب ويحك كم تخا ... دع بالغرور وكم تُغَر وإلامَ تكلف بالأغنّ ... من الظباء وبالأغر ريم يُفَوِّقُ إن رما ... ك بسهم ناظره النظر تركتك أعين تُرْكها ... من بأسهن على خطر ورمت فأَصْمَتْ عن قسـ ... ـيٍّ لا يُناط بها وتر جرحتك جرحًا لا يُخَيَّـ ... ـط بالخيوط ولا الإبر تلهو وتلعب بالعقو ... ل عيون أبناء الخزر فكأنهن صوالج وكأنهن لها أُكر تخفي الهوى وتسرّه ... وخفيُّ سرك قد ظهر أفهل لوجدك من مدى ... يُفْضَى إليه فينتظر نفسي الفداء لشادن ... أنا من هواه على خطر رشأ تحاوله الخوا ... طر إن تثنى أو خطر عذل العذول وما رآ ... هـ فحين عاينه عَذر قمر يزيّن ضوء صبـ ... ـح جبينه ليل الشعر تُدمي اللواحظ خدَّه ... فيرى لها فيه أثر هو كالهلال ملثمًا ... والبدر حسنًا إن سفر ويلاه ما أحلاه في ... قلبي الشقيّ وما أمر نومي المحرم بعده ... وربيع لذاتي صفر *** بالمشعرين وبالصفا ... والبيت أقسم والحجر وبمن سعى فيه وطا ... ف به ولبى واعتمر لَئِنِ الشريف الموسوي ... بن الشريف أبي مضر أبدى الجحود ولم يرد ... إليَّ مملوكي تتر واليت آل أمية الطـ ... ـهرالميامين الغرر وجحدت بيعة حيدر ... وعدلت عنه إلى عمر وإذا جرى ذكر الصحا ... بة بين قوم واشتهر قلت المقدم شيخ تيـ ... ـم ثم صاحبه عمر ما سل قطُّ ظِبًى على ... آل النبي ولا شهر كلا ولا صد البتو ... ل عن التراث ولا زجر وأثابها الحسنى وما ... شق الكتاب ولا بقر وبكيت عثمان الشهيـ ... ـد بكاء نسوان الحضر وشرحتُ حسن صلاته ... جنح الظلام المعتكر وقرأت من أوراق مصـ ... ـحفه البراءة والزمر ورثيت طلحة والزبيـ ... ـر بكل شعر مبتكر وأزور قبرهما وأز ... جر من لحاني أو زجر وأقول أم المؤمنيـ ... ـن عقوقها إحدى الكُبَرْ رَكِبَتْ على جمل لتصـ ... ـبح من بنيها في زُمر وأتت لتصلح بين جيـ ... ـش المسلمين على غَرَر فأتى أبو حسن وسل ... حسامه وسطا وكر وأذاق إخوته الرَّدى ... وبعير أمهم عقر ما ضره لو كان كفَّ ... وعف عنهم إذ قَدَر وأقول إن إمامكم ... ولّى بصفِّين وفر وأقول إن أخطا معا ... ويةٌ فما أخطا القدر هذا ولم يغدر معاو ... يةٌ ولا عمرو مكر بطل بسوءته يقا ... تل لا بصارمه الذَّكر وجنيت من رُطب النوا ... صب ما تَتَمَّر واختمر وأقول ذنب الخارجـ ... ـين على عليٍّ مغتفر لا ثائر لقتالهم ... في النهروان ولا أثر والأشعريُّ بما يؤ ... ول إليه أمرهما شعر قال انصبوا لي منبرًا ... فأنا البريء من الخطر فعلا وقال خلعت صا ... حبكم وأوجز واختصر وأقول إن يزيد ما ... شرب الخمور ولا فجر ولجيشه بالكف عن ... أبناء فاطمة أمر والشِّمرُ ما قتل الحسيـ ... ـن ولا ابن سعد ما غدر وحلقت في عشر المحرَّ ... م ما استطال من الشعَر ونويت صوم نهاره ... وصيام أيام أُخر ولبست فيه أَجَلَّ ثَوْ ... بٍ للملابس يُدَّخر وسهرت في طبخ الحبو ... ب من العشاء إلى السحر وغدوت مكتحلاً أصا ... فح من لقيت من البشر ووقفت في وسط الطريـ ... ـق أقص شارب من عبر وأكلت جرجير البقو ... ل بلحم جونيّ الجفر وجعلتها خير المآ ... كل والفواكه والخضر وغسلت رجلي كله ... ومسحت خفي في السفر وأمين أجهر بالصلا ... ة بها كمن قبلي جهر وأسن تسنيم القبو ... ر لكل قبر يحتفر وإذا جرى ذكر الغديـ ... ـرأقول ما صح الخبر وسكنت جلّق واقتديـ ... ـت بهم وإن كانوا بقر وأقول مثل مقالهم ... بالفاشريَّا قد فشر مصطيحتي مكسورة ... وفطيرتي فيها قصر بقر ترى برئيسهم ... طيش الظليم إذا نفر وخفيفهم مستثقل ... وصواب قولهم هذر وطباعهم كجبالهم ... خبثت وقدت من حجر ما يدرك التشبيب تغـ ... ـريد البلابل في السحر وأقول في يوم تحا ... ر له البصائر والبصر والصحف ينشر طيها ... والنار ترمي بالشرر هذا الشريف أضلني ... بعد الهداية والنظر ما لي مضل في الورى ... إلا الشريف أبو مضر فيقال خذ بيد الشريـ ... ـف فمستقركما سقر لواحة تسطو فما ... تبقي عليه ولا تذر والله يغفر للمسي ... ء إذا تنصل واعتذر فاخش الإله بسوء فعـ ... ـلك واحتذر كل الحذر وإليكها ... بدوية ... رقت لرقتها الحضر شامية لو شامها ... قس الفصاحة لافتخر وروى وأيقن أنني ... بحر وألفاظي درر حبرتها فغدت كزهـ ... ـر الروض باكَرَه المطر وإلى الشريف بعثتها ... لما قراها وانبهر رد الغلام وما استمرّ ... على الجحود ولا أصرّ وأثابني ... وجزيته ... شكرًا وقال لقد صبر (المنار) لا يخفى أن بعض ما قال لا خلاف فيه، وبعضه عادي محض.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (دائرة المعارف) صدر المجلد الحادي عشر من هذا الكتاب المفيد، أو كما عرَّفه واضعه الأول بقوله: (قاموس عام لكل فن ومطلب) ، ويبتدئ الجزء الحادي عشر بلفظ الصُّلبَة من حرف الصاد، وينتهي بالكلام على الدولة العثمانية من حرف العين، والكلام في الدولة يبتدئ من الصفحة 717 وينتهي بالصفحة 752، وهذا ما عدا تراجم السلاطين؛ فإن ترجمة كل سلطان مذكورة على حدتها بحسب الحروف. وفي هذا المجلد من مباحث العلوم: الكلام على الصوت والطيف الشمسي، ومن مباحث الصناعة أشرفها - أعني - صناعة الطباعة، ويسهل على الذكي أن يعرف أكثر ما فيه من المباحث والتراجم، والكلام على الحيوان والنبات والبلاد بالتفكر فيما بين الصاد مع اللام، وبين العين مع الثاء من الأسماء، فنشكر لصديقنا العالم الفاضل سليمان أفندي البستاني عنايته بإتمام هذا العمل النافع، ولمساعديه الفاضلين نجيب أفندي، ونسيب أفندي البستاني، ونحث أهل العلم وأنصاره على إسعادهم بالإقبال على الكتاب. *** (ميزان الجواهر في عجائب هذا الكون الباهر) كتاب جديد التأليف والطبع، بل والأسلوب والوضع، وهل هو كتاب توحيد وتنزيه، أم كتاب أخلاق وآداب، أم كتاب فكاهة ونزاهة، أم كتاب طبيعة ونبات، أم هو تفسير آيات بينات؟ من قرأ وصف، ومن ذاق عرف، مؤلف الكتاب صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري معلم البلاغة والإنشاء في المدرسة الخديوية، وقد حذا به حذوًا يحكي أسلوب (رسائل إخوان الصفا) المشهورة في مزج العلوم الكونية بالآيات القرآنية، والمؤاخاة بين المنازع الفلسفية والمشارع الدينية، إلا أنه نزهه من الحكايات الخرافية، والسفسطات النظرية، ولم يقصد من الكتاب تحرير فن مخصوص ببيان مسائله، وتحرير دلائله؛ وإنما هو أفكوهة علمية دينية فيه فائدتان لصنفين من الناس: صنف عكف على فنون العربية والفقه ومثل السنوسية والجوهرة من كتب العقائد، فهو يتوهم أن علوم الكون بعيدة عن الدين ومذاهبه، وصنف اشتغل بمبادئ الفنون العصرية على الطريقة الأوربية التي لا تستلفت الذهن من الصنعة إلى الصانع، ولا تعرج بعقله من الكون إلى المكون، فهذا الكتاب يهديه إلى ذلك، وقد سبق الإمام الغزالي إلى هذه الطريقة في كتاب التفكر من الإحياء، واستن صاحبنا بسنته، هذا ما لاح لي من مطالعة صفحات منه متفرقة ومطالعة خاتمته، وقد التزم طبع الكتاب صديقنا الأستاذ المرشد، والمسلم الموحد الشيخ علي أبو النور الجربي، ووكل أمر نشره إلى مريده الفاضل عبد الحميد بك الطوبجي ويُطلب منهما، ومن المطبعة المتوسطة، ومن مكتبة المدارس بالصليبة، وثمنه عشرة قروش. *** (تقويم المؤيد لسنة 1319) ما زال الكاتب الفاضل محمد أفندي مسعود يزيد هذا التقويم إتقانًا عامًا فعامًا، وهذه سنته الرابعة قد زادت على السنة الماضية في كل ضرب من ضروب الزيادة، زيادة الصفحات، وزيادة السطور فيها، وزيادة المواضيع العلمية والأدبية، وزيادة الجودة في الورق والتجليد، ومن لطيف اختراع واضعه أن اتفق مع بعض كبار التجار الذين يحتاج كل أحد إلى سلعهم على أن يبيعوا من عنده هذا التقويم بأقل مما يبيعون من سائر الناس بمقدار مخصوص في المائة، بأن وضع في كل نسخة من التقويم أوراقًا تقدم إلى المحل التجاري، فتكون المراعاة بها، وبهذا الاختراع يكون التقويم كالقراطيس المالية المضمونة الربح، وقد اشتهر التقويم عند جميع طبقات الناس، وصار سمير الأدباء في السهر، ورفيقهم في السفر، وهو جدير بذلك. *** (دعاوى وضع اليد) جرت سنة الارتقاء في العلم بأن يتولد من العلم الواحد عند اتساع دائرته علوم متعددة تُفرد بالتأليف؛ ليسهل على طلابها الإحاطة بها وإحصاء جزئياتها، فقد كان علم الطب والعلاج علمًا واحدًا، ثم انقسم إلى علوم متعددة كعلم وظائف الأعضاء، وعلم التشريح بأقسامه، وعلم الصيدلة ... إلخ، بل أفرد علماؤه الأمراض العصبية بالتأليف، وكذلك أمراض العيون وأمراض الأذن، بل وأمراض الأظافر، وكذلك كان علم العربية واحدًا، ثم انقسم إلى نحو وصرف واشتقاق ووضع ... إلخ، ومن الارتقاء في علم الحقوق والتأليف فيه بالعربية ما نراه يظهر من المؤلفات من فروعه، ومن ذلك كتاب المحاماة الشهير لسعادة أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر، وكتاب (دعاوى وضع اليد) الذي نشره من أيام المحامي البارع والقانوني الشهير مراد أفندي فرج أحد المحامين في محكمة الاستئناف بمصر، ولم تسمح لنا الشواغل بمطالعته؛ ولكن اجتهاد مؤلفه في فنه، وانصراف همته إلى التأليف في هذا النوع بخصوصه يعطياننا أملاً ورجاء في توفية الموضوع حقه. *** (احتجاب) رسالة لطيفة في حكم احتجاب النساء في الشريعة الإسلامية، ألّفها باللغة التركية العلامة الشيخ عبد الله جمال الدين أفندي قاضي مصر السابق، تغمّده الله تعالى برحمته، وعرَّبها الأديب الفاضل الشهير بلقب (أصمعي) بإذن المؤلف، وطبعها بإذن ورثته، ويظهر من مقدمة الرسالة أن المؤلف كانت تحدثه نفسه بوضعها من زمن بعيد، ثم قويت العزيمة عندما رأى رسائل تدعي (أن أسباب تأخر الإسلام في الترقي العصري والمدنية هو بقاء نساء الإسلام أسيرات في أيدي الرجال المتحكمين عليهن وعدم خلاصهن من قيود التستر والحجاب) ، هو إذن يرد على أصحاب تلك الرسائل؛ ولكن يا له من ردٍّ أدبي نزيه، وكيف لا وهو لمن يصح أن يكون في آدابه قدوة في عصره لكل فقيه؟ وقد أورد في الرسالة على اختصارها زبدة ما قاله المفسرون والفقهاء وشراح الحديث في وجوب عفة النساء وتحجبهن، ولولا أن الجرائد اليومية سبقتنا إلى نشره لأوردنا شيئًا منه، وقد راجت الرسالة حتى إن ناشرها أخبرنا بأن نسخها نفدت، وما ذلك إلا لشهرة مؤلفها بالفضل، رحمه الله تعالى وجزاه على حسن نيته خير الجزاء.

أسباب الحرب الروسية العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسباب الحروب الروسية العثمانية إن مقاصد أوربا في الممالك الشرقية عامة، والدولة العلية خاصة معلومة للقراء، بل لم تعد تخفى على طبقة من طبقات الناس، وأشهر تَعِلاّتهم في الافتئات على الدولة والتعدي على حقوقها الخاصة حماية النصارى، ووقايتهم من الظلم رغبة في إصلاح شؤونهم، وشغفًا بالإصلاح العام، وكان من تقاليد الروسية التي وضعها بطرس الأكبر أنه يجب أن لا تمر عشرون سنة من غير حرب تضرم نارها بأسلوب من أساليب تلك التعلة؛ ولكن القيصر الحالي والقيصر الذي قبله علما أن غنائم الحرب غالية الثمن، مغبون فيها الغالب والمغلوب، فكانا قيصرا هدون وسلام. ولقد جرت الحرب الأخيرة بين الدولتين على أصل تلك التعلة التقليدية، وذلك أنها هزت سلاسل جمعياتها الدينية الثوروية السرية، فاهتزت، وحملتها على إشعال نيران الثورة في بلاد الصقالبة ففعلت، فكان رجال الجمعية يضرمون النار ويصيحون: الحريق الحريق، إن الدولة العثمانية متعصبة تحاول أن تحرقنا وتجعلنا رمادًا. وأنشأ القيصر يتوجع لأوربا مما أثرت في وجدانه الشفقة والرأفة وعاطفة الرحمة، يحرك أشجانها، ويخرج أضغانها، حتى أقنعها بأنه لا بد من تأديب الدولة العثمانية بحرب، فأرادت الدول العظام أن تكون الحرب سياسية؛ لتكون منفعتها لهم عمومية، فأجمعوا كيدهم بعد تشاور في الأمر على أن يغتالوا استقلال الدولة، ويفتئتوا عليها في إدارة بلادها الداخلية بأن يكون سفراؤهم ووكلاؤهم وقناصلهم مسيطرين على الولاة والحكام في العاصمة وسائر البلاد، وبذلك يمتلكونها من غير أرواح تزهق، ولا أموال تنفق، ولا سيوف تسل، ولا نفوس تسيل. فكان أولاً ما كان من مؤتمر الآستانة الباحث في فتنة البوسنة والهرسك والبلغار وتقديم تلك اللائحة التي جاء في الفصل الرابع عشر منها ما نصه نقلاً عن مجموعة الجوائب: (تجري الإصلاحات بإعانة قوة كافية من العساكر حتى لا يقع اضطراب ونظارة إجرائها تكون لجمعية مختلطة من الأجانب، وأعضاؤها يكلفون جمعية أخرى لتلاحظ الإجراء من قريب، بحيث إنه في ظرف شهر من السنة يتم الانتخاب والإدارة ونظارة الأحكام، واختلاط هذه الجمعية يكون من وكلاء الدول العظام وأعضاء يرسلهم الباب العالي وأعيان النصارى، ويجوز أن تضم إلى ذلك وكلاء أرباب ديون الدولة العثمانية، وتستعين هذه الجمعية المكلفة بالنظر والإجراء بجمع من الضباط مركب من متطوعي الدول الحائدة تحت أمر الوالي الذي صرح في الفصل الأول باشتراط كونه نصرانيًّا، لابسين لباس الترك؛ أي: كسردار الجيش المصري وضباطه الإنكليز ومصروفهم على بيت مال الولاية، وهذا الجمع من المتطوعين تؤيد به فرقة الضبطية الأهلية) اهـ. ولقد كان رجال الدولة العلية يعرفون أن وكلاء الدول في تلك الولايات سيكونون كما كانوا بعد في تكريت، فكان من البديهي أن لا يبيعوا استقلال دولتهم لأوربا، وأن لا يعطوها إياها غنيمة باردة؛ ولذلك لم يقبلوا هذا، وما كان هو المفضي للحرب حتمًا؛ ولكن المفضي إليها هو رفض البروتوكول الذي وقع عليه وكلاء الدول الست في لندره القاضي على استقلال الدولة كلها قضاءً حتمًا، الذي جاء فيه ما نصه نقلاً عن الجوائب أيضًا: (قام بخاطر الدول أن لها أسبابًا تحملها على أن ترجو أن الباب العالي يستفيد من هذه الفترة الحاضرة، فيبذل همته في اتخاذ الوسائل التي يحصل بها تحسين أحوال النصارى التي اتفقت الدول على وجوبها لأجل بقاء السلامة والطمأنينة بأوربا، فإذا أخذت في هذا المشروع يكون معلومًا عنده أن شرفه ونفعه أيضًا يوجبان المحافظة عليه بالوفاء والإخلاص والإنجاز، فمن رأي الدول والحالة هذه أن تكون مراقبة بواسطة سفرائها بالآستانة وعمالها في الولايات للمنوال الذي ينجز به مواعيد الدولة العثمانية، فإذا خابت آمالها مرة أخرى، ولم تحسِّن حال رعية السلطان على وجه يمنع من إعادة الارتباكات التي تتعاقب في الشرق، وتكدر موارد السلم فيه، ترى من الصواب أن تعلن أن مثل هذه الأمور لا يوافق مصلحتها ومصلحة أوربا عمومًا، ففي مثل هذه الحالة تستبقي لنفسها أن تنظر بالاتفاق في اتخاذ الوسائل التي تراها الأصلح لتأمين خير النصارى، ولإبقاء السلم عمومًا) انتهى المراد منه، ولم نذكر ما يتعلق بالولايات التي كانت ثائرة كالجبل الأسود والصرب والبوسنة والهرسك ... إلخ، وليس وراء هذه المراقبة والسيطرة إلا أن تحتل كل دولة ولاية تنفذ فيها الأحكام تنفيذًا؛ ولذلك قامت قيامة الدولة العلية عندما بُلِّغت هذا البروتوكول. أود أن أشرف على الغيب ساعة من زمان، فأعرف ما يجول في خواطر القراء عندما يطَّلعون على هذه الجملة الوجيزة، وماذا يرتؤون من الصواب أن تجاب به الدول، وليعلم من لم يكن عالمًا أن الدولة العلية كانت حينئذ مشتغلة بحشر العسكر وتعبئة الجيوش مجاوبة للروسية، وأنها تعلم أن الحرب واقعة لا محالة إلا أن ترضخ للدول صاغرة، وتسلم قيادها إليهن تسليمًا. أليست الطريقة المثلى أن تقنع الدولة الدول بأنها عازمة عزمًا صحيحًا على إصلاح عامّ تساوي فيه بين النصارى وغيرهم من رعاياها، وتقوم فعلاً بمبادئ الإصلاح بصورة مقنعة؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيبهن بأنه لا يمكن لها أن تساوي بين المسلمين والنصارى كما يوهمه كلام اللائم؟ وهل كانت تنجو بهذا من الحرب؟ أم تقولون: إن الصواب أن تجيب مطالبهن وتحكِّمهن في استقلالها، وتوليهن إدارة بلادها كلها أو بعضها؟ ذهبت جريدة مصباح الشرق الغراء إلى أن وعد الدولة للدول بإجراء الإصلاح في رعاياها بالمساواة في الحقوق التي وضع لها القانون الأساسي كان نزغة من نزغات مدحت باشا المضرة، وأن رفض مطالب الدول أيضًا مما انفرد به هو ومن أغواهم كوكيل الأرمن، والصواب أن هذا الرفض كان إجماعيًّا، وأن العلماء والصفتة كانوا أشد طلبًا للحرب ممن عداهم، وأن مدحت باشا كان أشد توقيًا وتحريًا في الموضوع من سائر رجال الدولة كما تنطق به المداولات التي وصفها المصباح بالأفن والخطأ والخطل، كما يُعلم مما نورده في الجزء الآتي بيانًا للحقائق التاريخية، لا انتصارًا لمدحت ولا للذين يسمون أنفسهم (رون ترك) فإن المنار معروف بمقتهم والرد عليهم منذ أنشئ. لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

المسلمون في أفريقيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسلمون في أفريقيا قرأنا في جريدة الإكلير فصلاً طويلاً مدبجًا بيراع الموسيو أندره مافيل يتعلق بأحوال مسلمي المستعمرات الفرنسوية وغيرهم من الوثنيين القاطنين في تلك الأراضي. وقد خبط هذا الكاتب خبط عشواء في بعض المسائل الإسلامية ظنًّا منه أن عقيدة المسلم الأبيض تختلف عن عقيدة المسلم الأسود، وحيث إنه أجنبي عن الدين الحنيف فلا لوم عليه إذا غلط في بعض أموره؛ وإنما اللوم عليه في تعرضه لما لا يعنيه ولما لا معرفة له به، ونحن نأخذ من كلامه بعض فقرات؛ ليعلم القارئ اللبيب ما وصلت إليه أحوال الإسلام في أفريقيا الفرنسوية. قال: إن المسألة الإسلامية تهم جدًّا مستقبل أفريقيا الفرنسوية؛ ولذلك يتعين علينا النظر فيها بكل تدقيق والبحث عن شؤونها إفرادًا وإجمالاً. ولا ريب أن الإسلام انتشر منذ عدة سنين انتشارًا عظيمًا في مستعمراتنا في أفريقيا، فإذا ذهبت إلى هناك أخبرك الأهالي أنه منذ عشر سنوات كانت الناحية الفلانية والمقاطعة الفلانية تعبد الأوثان، أما الآن فقد صار الجميع مسلمين، ولا ريب أن تقدمًا مثل هذا يجب الاعتناء به والنظر إليه، وإذا نظرنا إلى حال الوثنيين فلا نجدهم إلا أقوامًا سقطوا في هوة البهيمية؛ لأنهم لا خلاق لهم، وليس فيهم من اشتم رائحة المدنية إلا الذين كانوا في البلاد الواسعة التي انتشرت فيها الوثنية (كذا) مثل الأشانتي , والداهومي، ولسوء الحظ فإن مدنيتهم ممزوجة بعادات بربرية وأمور وحشية مثل ذبح البشر، وتقديمهم ضحايا للأوثان. على أن مدنية هؤلاء الأقوام لا يمكن بوجه من الوجوه أن تقاس بمدنية الإسلام في وادي النيجر؛ فإنها لمعت كالشهب وأنارت أفكار أصحاب هذا الدين وأخرجتهم من هوة الخشونة التي كانوا فيها قبل أن يعتنقوا هذا الدين الإسلامي، فإذا تقرر أن العنصر الإسلامي هو من العناصر الموجبة للحضارة والمدنية، فيتعين علينا أن لا نجعل في سبيل تقدمه العثرات، ولا أن نعارضه في شيء، وعلى فرض أننا قصدنا معارضته والوقوف دون تقدمه فإن جميع مساعينا تذهب سدى؛ لأنه يستحيل علينا أن نقف دون أمواجه العظيمة المتعالية كالجبال والمتدفقة كالسيول، وعندي أننا إذا حاولنا ذلك كنا غير عادلين من جهة مسلمينا السودانيين لا سيما إذا أسأنا فيهم الظن؛ لأننا نراهم من أشد رعايانا خضوعًا، ومن أعظمهم غيرة وحمية، أما رأيتم كيف أن السنغاليين الذين هم من أخلص رعايانا وأتباعنا فتحوا بإرادتنا غربي السودان؟ أليس هؤلاء القوم من المسلمين الذين استلمنا زمام أمورهم، وجعلناهم فرنسويين مثلنا؟ ولما حاربنا رباحًا أتوا بأعمال خطيرة، وأبلوا بلاء حسنًا، مع أن رباحًا وجماعته من المسلمين مثلهم، ومن كان في ريب مما نقول فليسأل القومندان جانتيل عن حسن سلوكهم، وصدق إخلاصهم، وما أبدوه من دلائل الشهامة والغيرة، ولا أظن أن أولياء أمورنا يحاولون نشر المسيحية في أفريقيا؛ لأن هذه الديانة لا سوق لرواجها هناك، وإننا في تلك البلاد في موقف مشرف على ثلاث ديانات: الإسلامية، والمسيحية، والوثنية، والغلبة في ذلك للإسلامية، ولا أمل لي أن الوثنيين يتقدمون في مستعمراتنا الإفريقية؛ فإن تمدنهم امتزج بالمسكرات، وما رأيت في حياتي شعبًا ابتلاه الله بالمسكرات مثل هذا الشعب الدنيء، فقد رأيت أفرادهم في بمبوك , ومالنكس يشربون أقداح الأبسنت القتالة كما نشرب نحن الحليب، وذلك مما تقشعر منه فرائص الإنسانية. أما في شاطئ العاج فالمسكر شائع بين أهل الوثن الذين يصرفون منه كميات وافرة، ومن النادر أن لا ترى عند الوثنيين ميلاً لأكل البشر، ففي الكنج يفاخرون بأكل الناس، وهذا الأمر شائع وذائع هناك رغمًا عن حلول عساكرنا، ورغمًا عن أوامرنا ومقاومتنا لمثل هذه العادات القبيحة، وأنا أراهن بأنك لا تمشي نحو 50 كيلو متر عن بلدة ليبرفيل حتى تشاهد أكل لحوم الناس شائعًا، فلا تكاد تدخل بيتًا من بيوت الوثنيين وتكشف الأغطية عن طواجنه في المطابخ حتى تراها ملأى باللحوم البشرية التي تعد عشاء للعيلة، ومثل ذلك يقال في الشعوب الساكنة في جهات جنوب السودان على حدود ليباديا مما لا يمكن الإقلاع عنه إلا بعد مر السنين الطوال. أما أنا فعندي أن أعظم شيء تخفق له القلوب جزعًا وحنانًا مرأى البشر يذبحون ضحايا للأوثان بسيوف الجهالة والحمق تبعًا لعادات قبيحة، يتعين علينا إبطالها مهما كلفنا أمرها، وهذه العادات ناشئة عن اعتقاداتهم الدينية وعقولهم القاصرة، فالمالنكس مثلاً وهم قبائل وثنية لا يعتقدون بشيء إلا بالشيطان، فهم يقولون: إنه قادر على كل شيء، وعندهم أن هذا الخبيث؛ أي: الشيطان يترصدهم ويراقب أعمالهم وحركاتهم، فهو يكمن أحيانًا بين الأدغال، وفي الجبال ويطوف فيها، ويختبئ أيضًا في الجنائن والبيوت، وفي الليل يخرج منها ويطوف لأجل الأذى والأعمال الفظيعة، والوثنية في شاطئ العاج والداهومي منشورة جدًّا، وأهلها يعبدون الوجوه الممسوخة وتماثيل الحيوانات، وفي أحد الأيام كنت بينهم، فكان ذلك اليوم أثقل على قلبي من عبادة الوثن؛ فإني شاهدت الأهالي يصبغون وجوههم بلون أصفر احترامًا لأصنامهم، وكان ذلك اليوم عيدًا عندهم، أما عندي فكان يوم بؤس، وكل أهل الوثن يتطيرون بالنحوس، وعندهم أن الإنسان غير مخير في عمله، فهو يرتكب أعظم الفظائع بما قدرته عليه آلهته. أما الدين الإسلامي الذي نحسبه بعيدًا عنا وننفر منه بحكم العادة، فيجب علينا اعتباره وإنزاله في منزلته؛ لأنه دين يعلم أصحابه عبادة الله تعالى، وله جاذبية تستميل الناس إليه، فهو إذن مالك زمام أفريقيا بأسرها، وعدا عن ذلك فإن كيفية التدين فيه لها عند شعوب أفريقيا احترام عظيم لو نظرناه - نحن الإفرنج - لما مكثنا غير مكترثين به، إلى أن قال: فيجب علينا والحالة هذه أن نعيش بما أمكن من المسالمة وحسن المجاملة مع أهل الإسلام، وأن نحترم دينهم فإنهم يسرّون منا سرورًا عظيمًا، ولو راجعنا أغلاطنا الماضية منذ فتحنا أفريقيا علمنا حق العلم بأننا كنا غير عادلين مع المسلمين، ولا ريب أن الاستمرار على عدم العدل يقوض أركان ملكنا في تلك البلاد، على أن الدين الإسلامي وتعاليمه ليست من التعاليم التي تهددنا بالخطر والخوف، فإن المسلم رقيق الجانب، أنيس المعشر، يبدي سلامه بلطف وابتسامة، فهو في كل الوجوه أفضل من سواه، وإننا لنخطئ جدًّا إذا اعتقدنا بأن هؤلاء المسلمين ينهضون يومًا لأجل الجهاد بقتالنا، فقد مضى في أفريقيا الغربية زمن الحاج عمر ومحمد وغيرهما. هذا بعض مما قاله هذا الكاتب المجيد، وقد قابل في آخر كلامه بين الإسلام والمسيحية، وأظهر أن نشر الإسلامية هناك أسهل بكثير من نشر المسيحية، ثم ختم كلامه بحض أهل البعثات المسيحية على الذهاب إلى البلدان الوثنية لأجل إدخال العقائد المسيحية في عقولهم، وقد أبدى للمبعوثين ملاحظات كثيرة، ونبههم إلى أن لا يدخلوا البلدان الإسلامية؛ لأنه يستحيل أن مسلمًا يخرج من دينه ليعتنق دينًا آخر اهـ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت

استلفات لإزالة شبهة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استلفات لإزالة شبهة جاء في العدد 150 من جريدة مصباح الشرق الغراء في سيرة سقراط الفيلسوف اليوناني هذه الجملة بنصها: (ولسنا نقول: إن في قدرة كل إنسان أن يصل إلى درجة سقراط في الجمع بين القول والفعل على حسب أصول الفضيلة، تلك عليا مراتب الأنبياء) ، ولا يخفى ما يتبادر منها إلى الفهم من إلحاق سقراط بأصحاب المراتب العليا من الأنبياء كأولي العزم وتفضيله على من سواهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مما يمتنع أن يكون مرادًا لسعادة صاحب المصباح المنير، فنرجو من سعادته كتابة ما يرفع الوهم ويزيل الالتباس عن قراء جريدته.

تصحيح غلط

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصحيح غلط كلما أجلنا الطرف فيما طُبع من المنار نرى فيه أغلاط طبع مدركة بالطبع كلفظة (مخازن) في السطر العاشر من الصفحة 124 من الجزء الرابع، وصوابها (مخازي) ، ومثل لفظ (هي) الذي سقط من السطر التاسع عشر من الصفحة 166 من هذا الجزء، ومحله قبل الكلمة الأخيرة، ومثل (المقدمة السابعة) في السطر الأول من الصفحة 170، و (المقدمة الثامنة) من السطر الثالث منها، وصوابه يُعرف من ترتيب العدد قبله، فليصحِّح مثل هذا من تنبه له.

تنبيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنبيه لا بد أن تثقل أقوال المصلح في المحاورة المنشورة في هذا الجزء، والتي ستُنشر فيما بعده على بعض أهل العلم؛ ولكننا نرى حججه قوية، فمن كان عنده رد أقوى من ردّ محاوره المقلد، فليتفضل علينا به لننشره لتحرير البحث.

شبهات المسيحيين على الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين على الإسلام اطَّلعنا على صحيفة كبيرة لأحد المشتغلين بقراءة الكتب التي نشرتها البعثات النصرانية في الطعن بدين الإسلام، يسأل فيها كاتبها كشف شبهات علقت في ذهنه في مطالعة تلك الكتب، ومن الواجب أن نجيب عن هذه الشبهات؛ لأن المدافعة عن الدين أهم ما أنشئ له المنار؛ ولكن سنتنا التي جرينا عليها من أول يوم هي مسالمة المخالفين لنا في الدين لا سيما المسيحيين، بل السعي في إزالة الأحقاد، والاتفاق على ما فيه نجاح البلاد، ونود أن لا يطعن أحد في دين الآخر لا قولاً ولا كتابة؛ ولكن المسيحيين لا يوافقوننا على هذا كما يوافقنا المسلمون؛ ولذلك نراهم يعقدون الجمعيات للطعن اللساني في الإسلام، وينشرون الجرائد (كراية صهيون) ويؤلفون الكتب للطعن الكتابي، وإننا نصبر على هذا التعدي، ونكتفي بكشف شبهات السائلين من أهل ديننا مع مراعاة الأدب فنقول: إننا قد عجبنا لهذا المسلم المطالع كتب المسيحيين، كيف اكتفى بمطالعتها من غير أن يطالع الكتب الإسلامية التي تقابلها بالمثل وتدفع شبهاتها وتورد عليها ما لا دافع له، ككتاب (إظهار الحق) ، وكتاب (السيف الصقيل) وغيرها؟ فأول جواب نجيبه به أن عليه أن يطالع تلك الكتب، وبعد مطالعتها والموازنة بينها وبين كتب المسيحيين التي طالعها يسأل عما يشتبه عليه إن بقيت له شبهة؛ لأن الجريدة التي طلب أن تنشر فيها الأجوبة عن شبهاته لا يمكنها استيفاء الكلام في مواضيعها؛ لأنها تستلزم الطعن الذي تتحاماه، خلافًا لما جاء في آخر صحيفته، ثم إن شبهاته تنقسم إلى ثلاثة أقسام: (أحدها) : مخالفة بعض نصوص الدين الإسلامي لما ورد في كتب اليهود والنصارى. (ثانيها) : ورود أشياء في القرآن لم ترد في تلك الكتب، وإن تعجب، فعجب اشتباه هذا المسلم في هذا النوع؛ فإن السكوت عن الشيء لا يُعد إنكارًا له، فكيف يشتبه بما يعتقد أن الله أخبر به؛ لأن أولئك المؤرخين لم يذكروه؟ ! ! (ثالثها) : ورود أشياء في الكتاب والسنة مخالفة للواقع، أو لما ثبت في العلوم الحديثة بزعم من تلقى عنهم، وإننا نجيب عن القسمين الأول والثالث، وحسبنا في الجواب عن الثاني ما ذكرنا من أنه لا وجه للاشتباه به، ونبدأ الجواب بمسألة وجيزة في اعتقاد المسلمين بالتوراة والإنجيل فنقول: إن السائل يحتج على كون التوراة والإنجيل من عند الله تعالى بالقرآن تبعًا لدعاة النصرانية، الذين ولع بسماع كلامهم وقراءة كتبهم، ولعمري إنه لا تقوم على ذلك حجة إلا شهادة القرآن، فشهادة القرآن حجة على أن الله تعالى شرع على لسان موسى عليه السلام شريعة سماها التوراة، وهذه الشهادة شبهة على القرآن؛ لأنها شهادة بحقية شيء يشهد العقل والعلم والوجود ببطلانه، بل يشهد هو ببطلان نفسه، أما شهادته ببطلان نفسه فبما فيه من التناقض والتعارض، وأما شهادة العقل والعلم والوجود فبمخالفة تلك الكتب التي تسمى عند القوم توراة لها، وإذا أراد السائل أن يعرف هذا تفصيلاً فليطالع ما كتب فيه من الإنسكلوبيديا الفرنسوية الكبرى وغيرها من الكتب التي ألفها علماء أوروبا، ومثل إظهار الحق من كتب المسلمين. وأما الجواب عن هذه الشبهة الذي يُظهر صحة شهادة القرآن، فهو أن التوراة التي يشهد لها القرآن هي كتاب شريعة وأحكام، لا كتاب تاريخ مقتبس من ميثولوجيا الآشوريين والكلدانيين وغيرهم، فنبالي بتكذيب علم الجيولوجيا وعلم الآثار العادية له، أو موافقة هذا لبعض ما ورد فيه، ولا تاريخ طبيعي فنبالي بتكذيب ما ثبت بالتجارب الوجودية من مخالفته كثبوت كون الحيات لا تأكل التراب، وإن جاء في سفر التكوين أن الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) ، فضلاً عما فيه من نسبة ما لا يليق بالله إليه تعالى ككونه ندم على خلق الإنسان ونحو ذلك، فالتوراة حق، وهي الشرائع والأحكام التي كان يحكم بها موسى ومن بعده من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام وأحبارهم كما قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} (المائدة: 44) ولم يشهد القرآن لهذه الكتب الكثيرة التاريخية التي منها ما لم يُعلم مؤلفه وكاتبه، وكلها كتب بعد موسى صاحب التوراة بزمن طويل، وبهذا الجواب تصح شهادة القرآن وتبطل أسئلة المشتبه في الخلاف التاريخي بين القرآن وكتاب حزقيال وأشعيا ودانيال وغيرهم؛ لأن هذه الكتب لم يشهد لها القرآن. ولا تغترن بتسمية القوم لجميع كتب العهد بالتوراة، فذلك اصطلاح جرى على سبيل التغليب، بل إننا نرى النصارى كثيرًا ما يسمون مجموع كتب العهدين العتيق والجديد التوراة عندما تكون مجتمعة. وأما الإنجيل فهو في اعتقاد المسلمين ما أوحاه الله تعالى إلى السيد المسيح عليه الصلاة والسلام من المواعظ والحكم والأحكام، وكان يعظ به ويُعَلِّم الناس، وما زاد على ذلك من هذه الكتب التي يسمونها إنجيلاً فهو في نظر المسلمين من التاريخ، إن كان خبرًا وإن كان حكمًا أو عقيدة فهو لمن قاله، وأنت تعلم أن النصارى يسمون مجموع كتب العهد الجديد إنجيلاً، ويعترفون بأنها كُتبت بعد المسيح بأزمنة مختلفة، وليس لها ولا لكتب العهد العتيق أسانيد يحتجون بها. والقرآن يشهد على النصارى بأنهم لم يحفظوا جميع ما وعظهم به المسيح من الوحي المسمى بالإنجيل حيث قال: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) والإنجيل يطلق على بعض ذلك الوحي، كما يُطلق لفظ القرآن أو قرآن على بعضه، تقول: كان فلان يقرأ القرآن، ومثل هذا الاستعمال معروف حتى في الكتاب والسنة، وكان القرآن يسمى قرآنًا قبل تمام نزوله. ولما كانت أحكام التوراة وحكم الإنجيل موجودة عند اليهود والنصارى بلا شبهة، كان القرآن يحتج عليهم بعدم إقامتها ولا يمنع من هذا الاحتجاج مزجهم إياها بالتاريخ؛ ولكن هذا المزج هو السبب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم) ؛ أي: عندما يعرضون عليكم شيئًا من كتبهم؛ وذلك لأنه ليس عندنا فرقان نميز به بين الأحكام الأصلية الموحى بها، وبين ما مُزج بها في التأليف، نعم إننا نرجح بعقولنا أن الأحكام المسندة إلى سيدنا موسى في سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر العدد وسفر التثنية كلها أو جلها من التوراة؛ لأنها إن لم تكن هي فأين هي؟ ونرجح مثل ذلك في وعظ المسيح على الجبل كما في تاريخ إنجيل مَتَّى وغير ذلك من المواعظ كما رجح بعض العلماء في أوربا والشرق أن جزءًا كبيرًا من الإنجيل الحقيقي دخل في كتاب أشعيا، وأما الأخبار التي عند القوم فما خالف منها القرآن نقطع بكذبه ولا غرو، فالله يصدق والمؤرخون يكذبون، وهو معنى قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) وإننا نكتفي الآن بهذا القدر وموعدنا الجزء الآتي، وإن كان للسائل شبهة فيما كتبنا فليكتب إلينا نزيده إيضاحًا، وكنا نحب أن يجيئنا إلى إدارة المنار، ويأخذ الأجوبة الشفاهية؛ لأن حرية اللسان أكبر من حرية القلم، ولولا أن فقهاءنا يحكمون بكفر من يعلم أن مسلمًا شاكًّا في دينه، وهو قادر على إزالة شكه ولم يفعل لما كتبنا شيئًا مما كتبنا؛ لأننا خطباء وفاق ووئام، وطلاب مودة والتئام، ولكن ديننا أوجب علينا هذا لا سيما وأن السائل كتم اسمه، وطلب أن يجاب في المنار فتعين علينا ذلك.

السخاء والبخل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السخاء والبخل خلق الله الإنسان يمقت الرذيلة بالطبع، ويُزري بالمتلبس بها، ويحب الفضيلة ويلهج بإطراء صاحبها، وإذا استقرينا سجايا الإنسان وما قاله ويقوله الناس في الفضلاء من الثناء والمدح، وما رموا به الرذلاء من سهام الذم والقدح، يتسنى لنا أن نحكم بأن السخاء أرفع الفضائل منزلة في القلوب، وأعلاها وقعًا في النفوس، وأبعدها طيرانًا في جو الخيال، وأبدعها افتنانًا في فنون السحر الحلال، وأكثرها دورانًا في الشعر، وأقواها سلطانًا على الفكر، وأحسنها تصريفًا للأقلام، وتسخيرًا للعقول والأحلام، وأن الأسخياء أشرف الناس عنصرًا، وأكرمهم جوهرًا، وأطيبهم نفوسًا، وأضوأهم شموسًا، وأعزهم نفرًا، وأبقاهم أثرًا، وأوسعهم صيتًا وذكرًا، وأسمعهم حمدًا وشكرًا، وإن شئت حكمت بأنهم أوسع الناس وجودًا، كما أنهم أوسعهم جودًا، ونحكم بضد ذلك كله، وبضد ما لم نحكه من نعوتهم وصفاتهم، وآياتهم وكراماتهم، على أضدادهم البخلاء، وبضدها تتميز الأشياء. ما هو السخاء؟ وبم تعرف الأسخياء؟ وما هو البخل؟ وبم تتميز البخلاء؟ وهل يشتبه الضدان فنحتاج إلى التعريف والفرقة، أو يتشابه المتباينان فنزيل بينهما بالإبانة والتفصلة؟ نعم إن أكثر الناس لا يفقهون تحديد صفة السخاء والجود، وصفة البخل والشح، بل ولا يميزون بين الأسخياء والبخلاء تمييزًا حقيقيًّا، فكثيرًا ما يَسِمُون السخي الكريم، بسمة البخيل اللئيم، وأكثر من هذا أنهم يُسَمُّون الأشحة اللؤماء، أجاود كرماء، وهذا مما يثير دفائن العجب من النفوس، ويستخرج بقايا الدهشة من أعماق القلوب؛ لأن المعهود في الإنسان أنه يغفل عما لا شأن له عنده، ولا مكانة له من نفسه، ويحيط علمًا بدقائق الأمور، ويكتنه خفايا الشؤون، إذا كان لها سلطان قوي على روحه، وتأثير مؤلم أو ملائم في وجدانه، حيث الداعية إلى العلم، والباعث إلى الفقه والفهم، وقد أشرنا إلى مكانة الأسخياء الشريفة العليا، ومنزلة البخلاء الدنيئة السفلى. أستغفر الله: لقد ظلمت الإنسان؛ إذ ألصقت بمجموعه أو جميعه ما هو خاص بالشعوب الجاهلة، والأمم التي ضعف في أفرادها معنى الإنسانية، ونزلت عن مراتب المدنية، فامتلخت أحلامهم، وسادت أوهامهم، يحكمون بالنظرة الحمقى لا يسبرون الأغوار، ولا يغوصون البحار، فأنى يظفرون بدرر الحقائق، ويقفون على خفيات الدقائق. من هو السخي عند هؤلاء؟ ، وبم يعرفون السخاء؟ ، السخاء عندهم هو التمتع بالمال، ولو بما زاد على قدر الحال، أكل وشرب، ولهو ولعب، وأثاث ورياش، وسرير وفراش، وخيول ومركبات، ومراكب ذهبيات، واستطابة الألوان، للوجوه والأعيان، واستعداد في كل آن، لإطعام من يلمّ من الإخوان، ممن على شاكلة السخي في وظائفه ورتبه، أو على مقربة منه في فضته وذهبه، وفاتهم أن هؤلاء هم الذين قال في مثلهم القرآن: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ} (المرسلات: 46) والسخاء محمود عند الله، ممدوح عند الناس فكيف يكون صاحبه مجرمًا؟ ومن الأسخياء، في عرف هؤلاء الأغبياء من يُهْدِي ليُهْدَى، ويُعْطَى أكثر مما أعطى، إن لم يكن من نوع ما بذله وجنسه، فمما هو أنفس في نفسه، فإن لم يتقاض طعامًا بطعام، ويتبادل مُدامًا بمدام، فهو يشتري الجاه العريض الطويل، بالعرض النزر القليل، فدرهمه دينار، كما هو شأن دهاقين التجار، ومن يقول فيمن يطعمك قليلاً من اللحم، أو يُهدِي إليك منًا أو منوين من السمن، ليستخدم جاهك عند الحكام في الحصول على رتبة أو وسام، أو في دفع مظلمة نزلت به بوادرها، أو الاستعانة على غنيمة ترجى غاياتها وأواخرها -: إن هذا جواد كريم، وسخي عظيم؟ أليس قد قال تعالى: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) وهل ينهى الله تعالى عن الجود والكرم وهو الجواد الكريم؟ أرأيتك هذا استسمنت وَرَمه، واستغزرت ديمه، هل أهدى وبذل، إلا لذلك الأمل، فهو مكتسب يستدر أخلافًا، ودائن يأكل الربا أضعافًا، أما كان لولا هذا العطاء، لهذا الجزاء، يبذل بدَرَ الدنانير، وهو صاغر حقير، يطيل مع التنفس إحصاءها وعدَّها، ويرجو على الحرص قبولها ويخشى ردَّها، ويرى لآخذها - وهي روحه - من الفضل عليه، مثلما رأى له بالهدية والدعوة من الفضل عليك، نعم إنه دعا أو أهدى وهو يعلم أنه يربح بذلك امتلاك قلبك (أولاً) وامتلاك قلوب الناس الذين يرونه بذلك جوادًا كريمًا (ثانيًا) وإعدادك لقضاء حوائجه (ثالثًا) وفي هذا الثالث من التوفير ما أشرنا إليه آنفًا، فهو على كونه يمن ليستكثر ويأكل الربا أضعافًا مضاعفة غاش طامع، وراشٍ مخادع، ولو علم حاجتك إلى صلة منه ليس لها منك عائد، ولا تأتي بشيء من هذه الفوائد، لما قابلك إلا بالرد، ولما وصلك إلا بالإعراض والصد، فما بالك إذا كان يَدُعُّ اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ويمنع الماعون، ويشكو حرصه الجيران والأقربون، ولا يؤدي الزكاة الشرعية، ولا يساعد الجمعيات الخيرية، ولا يعضد المشروعات العلمية والعملية. ومن الناس من لا يَعُدّ مثل هذا في الأسخياء، ويرى أن السخي الكريم هو الذي يرمي بالمال هكذا وهكذا، يضرب به في كل فج وينفقه في كل سبيل، في سبيل الله تارة، وفي سبيل الشيطان تارة أو تارات، متبعًا في ذلك خطرات الوساوس ونزعات الهواجس، ولا ينافي ذلك عندهم تعديه على حقوق الناس، وأكله أموالهم بالباطل كأنواع الرشوة وضروب الضرائب إن كان حاكمًا أو زعيمًا، أو صاحب مكانة من الأمراء المستبدين، والسلاطين الجائرين، وكأنواع الاحتيال والتزوير إن كان من غيرهم، يقولون: فلان لا يُضام؛ لأنه من الكرام، لا يُرَدُّ سائله، ولا يمنع أحدًا نائله، قد أغنى زيدًا، فصار له يدًا وأيدًا، (أي قوة) وعمر بيت عمرو، بعدما هدمه الفقر، فجعله من أنصاره، يستعين به على أوطاره وتبرع على جمعية كذا بمبلغ من النقود، في يوم احتفالها المشهود، وقد عيَّن لعدة من الجرائد الوطنية والأجنبية، رواتب شهرية أو سنوية، إعانة لأصحابها على إذاعة المعارف الرافعة، ونشر الأفكار النافعة، فهي دائمًا تعطر المشام بعرف نشره وتشنف الآذان بحلي ذكره، فإن قيل: إنه إنما يبذل لجرائد الكدية التي ليس لها رأي ولا مذهب، ولا لها مشرع ولا مشرب، إلا جمع المال بالإطراء والمدح، أو بالإزراء والقدح، ولا يشترك بجريدة لا يرجو منها الثناء، ولا يخاف منها الإزراء يحار المنصف فلا يحير جوابًا، ويكذب المتعسف في التشيع له كِذَّابًا، وقد يفضي السرف والمخيلة بهذا الصنف من المغرمين بالإنفاق، لاقتطاف ثمار التعظيم والتبجيل من جنات النفاق، إلى أسوأ حالات الفقر والإملاق، وذلك إذا قصرت يد سلطتهم، وخضدت شوكة سطوتهم، أو كسدت أسواق حيلتهم، ونضب معين ثروتهم، ثم لا يجدون ممن اصطفوهم صانع معروف، ولا باذل آحاد من تلك الألوف؛ لأنهم لا يصطفون كريمًا شكورًا {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء: 27) . للكلام بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 7

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورة السابعة بين المصلح والمقلد الاجتهاد والوحدة الإسلامية قد كان كلام الشاب المصلح في المجلس الماضي مؤلمًا للشيخ المقلد؛ لأنه لم يكن في حسبانه أن يتعدى البحث إلى ما تعدى إليه، فلم يغب إلا يومًا واحدًا راجع فيه الآيات والأحاديث التي أوردها الشاب في الاستدلال على مقدماته، وعاد في مساء اليوم الثاني وملامح الامتعاض والتبرم بادية على وجهه وقال في أول كلامه: المقلد: لقد اهتديت إلى ما يبطل رأيك في أن الاختلاف في المذاهب كان سببًا في ضعف الأمة، وهو أن المذاهب كانت أيام كانت الأمة في ريعان شبابها وكمال قوتها، وكذلك نرى الأمم الأوربية في قوة وبأس شديد وهي مختلفة في الدين ومتفرقة إلى مذاهب، وإذا بطل هذا الرأي تبطل نتيجته وهي الوحدة في الدين على رأيك، ونكفى مؤنة الخوض في ذلك وما تبعه من فتح باب الاجتهاد الذي يؤدي إلى تطويل، وقال وقيل، فقد راجعت الآيات والأحاديث التي ذكرتها في مجلسنا الماضي، وظهر لي وجوه للنزاع في دلالتها على مرادك فهل لك في إقفال هذا الباب؟ المصلح: من شأن المرض أن يطرأ في إبان الصحة، وكم من مرض تتولد جراثيمه في طور الحداثة أو الشباب، فتدافعها قوة المزاج زمنًا، ثم تتغلب عليها في طور آخر، إما بنفسها وإما بمساعدة جراثيم مرض آخر، وهذه القاعدة مشاهدة في الأشخاص عند علماء الطب، وفي الأمم عند علماء الاجتماع، وإن شئت فصَّلت لك القول في هذا تفصيلاً، ولو كنت مطلعًا على التاريخ لكفيتني ذلك؛ فإن فتنة التتار التي هي أشد صدمة زلزلت القوة الإسلامية، لم تكن إلا بسبب تعصب الشافعية والحنفية، وأما أوربا فقد أخذت حظها من ضعف التفرق في الدين أيام كانت تُحَكِّم الدين في السياسة، وقد عالجت هذا الضعف بالفصل بين السياسة والدين، فليس له الآن شأن في سياستها وأحكامها إلا الاستعانة بدعاته على الاستعمار في الشرق وأفريقيا، وما زال رجال السياسة يطاردون رجال الدين، ويغضون من صوتهم في عدة ممالك، أما قرأت في الجرائد ما حصل أخيرًا في أسبانيا وفرنسا وغيرهما؟ فهل يروق في نظرك أن تحذو الحكومات الإسلامية في هذا حذو الحكومات الأوربية؟ أما أنها ستفعل ولو بعد حين إلا أن تبادروا وأنتم رجال الدين بالإصلاح الديني الذي تسير به سنن الشريعة على سنن الطبيعة؛ فإن الله أقام سنن الطبيعة بالاضطرار عنا، ووكَّل إلينا إقامة سنن الشريعة بالاختيار منا فإذا لم نوفق باختيارنا بين السنتين يثبت الاضطراري، ويبطل الاختياري {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) ففي هذه الآيات الكريمة أهم أركان الإصلاح الديني الذي نطلبه وكما لاحت لك وجوه للمناقشة في مقدماتي السابقة - بعد انصرافك من مجلسنا السابق - لاحت لي أيضًا مسائل ومقدمات أخرى إذا أذنت لي سردتها عليك. المقلد: قد عِيل صبري من المقدمات والمناقشات فيها، وأحب أن أقف على مقصدك أولاً، فاذكره لي وانتظر في سائر مسائلك المناسبات. المصلح: أحسن علماء المناظرة صنعًا باصطلاحهم على ترك البحث عن مقدمات الدلائل لما يستلزمه من انتشار البحث وذهابه إلى غير غاية، وأحب أن تسمح لي بذكر مقدمتين ذهلت عنهما في مجلسنا السابق ولا بد منهما وهما: (المقدمة العاشرة) : إن الشارع لم يسلك في بيان الأحكام الدينية مسلك الفلاسفة وعلماء النظر في وضع الحدود الجامعة المانعة لمسائل علومهم؛ وإنما بيَّن الأحكام العملية بالعمل، وما بيَّنه بالقول وكَّله إلى أفهام المخاطبين وعرفهم، ولذلك قال: الحلال بيِّن والحرام بيِّن. وما احتيج في العمل به إلى اجتهاد ورأي وكَّله إلى اجتهادهم ورأيهم كاستقبال القبلة في السفر، وكان الصحابة والتابعون على هذا حتى حدثت المذاهب، فأخذ بعض المجتهدين بإطلاقات الشارع في بعض الأحكام، ووضعوا الحدود والتعريفات المنطقية للبعض الآخر، وكان هذا التحديد أعظم أسباب الخلاف في المذاهب؛ ولكن لم يلزم أحد من الأئمة بأن يأخذوا بتحديده ولم يحكم بخطأ من خالفه فيه لعلمهم بأن الشارع فوَّض ذلك إلى أفهام الناس، ووسَّع الأمر فيه توسيعًا، وأنه لو سلك مسلك الفلاسفة في التحديد لأوقع الناس في الحرج، ولما صح أن يكون دينه دين الفطرة، ولا أن يكون عامًّا، ولا أن يظهر في أمة أمية، ولا أن توصف شريعته بالحنيفية السمحة، بل كان دينًا خاصًّا بطائفة من أهل الفلسفة النظرية، وهكذا جعله علماء المسلمين بعد الصدر الأول، إذا تكلموا في توحيد الله تعالى يذكرون الكم المتصل والكم المنفصل، ويذكرون الجوهر والعرض والدور والتسلسل، وإذا تكلموا في الأحكام يذكرون الحدود الجامعة المانعة، ويكثرون من التقسيم واختراع الأقسام الفرضية التي تمضي الأعمار ولا تقع، بل يذكرون المحال أيضًا، حتى قال بعض علماء الحنفية: يحتاج من يريد أن يكون فقيهًا حنيفيًّا إلى الانقطاع لمدارسة الفقه عشرين سنة على الأقل. وأنت تعلم أن هذه المدة هي مدة التشريع، وفيها نزل الدين كله عقائده وأخلاقه وآدابه وسياسته وإرادته وأحكامه، ولم تكن المدة كلها ولا عُشْرها مصروفة لبيان الأحكام الظاهرة التي يسمونها الآن فقهًا. ويشهد لهذه القاعدة إجازة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المختلفين في فهم إطلاق النصوص فيما يتعلق بأعمالهم الشخصية، روى النسائي عن طارق (أن رجلاً أجنب، فلم يصلّ فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكر ذلك له فقال: (أصبت) فأجنب رجل فتيمم وصلى، فأتاه فقال نحو ما قال للآخر (أصبت) . وروى البخاري عن عمران بن حصين أنه قال للرجل الذي اعتزل فلم يصل في القوم: يا فلان ما منعك أن تصلي؟ قال: أصابتني جنابة ولا ماء. قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك. وأجاز عمرو بن العاص فيما فهم من قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة: 195) من جواز التيمم للجنب إذا خاف على نفسه من البرد. والمروي عن عمر وابنه وابن مسعود أن الجنب لا يتيمم. لأنهم كانوا يفهمون من قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) أنها الجس باليد، والآثار في هذا كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك عن التابعين والأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين. كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يرى الوضوء من الفصد والحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب، وكان الإمام مالك أفتى هارون الرشيد بأنه لا وضوء عليه إذا هو احتجم، فصلى يومًا بعد الحجامة، وصلى خلفه الإمام أبو يوسف ولم يعد، واغتسل أبو يوسف في الحمام، وبعد صلاة الجمعة أخبر أنه كان في بئر الحمام فأرة ميتة فلم يعد، وقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثًا. والفقهاء من المتأخرين يُرْجِعُون هذا إلى قواعدهم المنتزعة كجواز التقليد بعد الوقوع، ومنهم من يؤول ذلك بتغير الاجتهاد ولو ساعة من زمان، ومن ذلك خلافهم في أن العبرة برأي المأموم، وأنت تعرف هذا تفصيلاً فلا حاجة إلى الإطالة به. (المقدمة الحادية عشرة) : إن أصول الدين الأساسية هي العقائد الصحيحة وتهذيب الأخلاق وأدب النفس وعبادة الله تعالى على الوجه الذي بينه وارتضاه، والقواعد العامة للمعاملات بين الناس كحفظ الدماء والأعراض والأموال، وكل هذه الأصول قد كملت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك نزل عليه في حجة الوداع {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) فأما العقائد والعبادات فقد كملت بالتفصيل بحيث لا تقبل الزيادة ولا النقص، ومن يزيد فيها أو ينقص منها فهو مغير للإسلام وآتٍ بدين جديد، وأما أحكام المعاملات فبعد تقرير أصول الفضائل كوجوب العدل في الأحكام والمساواة في الحقوق، وتحريم البغي والاعتداء والغش والخيانة وحد الحدود لبعض الجرائم، وبعد وضع قاعدة الشورى فوَّض الشارع الأمر في جزئيات الأحكام إلى أولي الأمر من العلماء والحكام الذين يجب شرعًا أن يكونوا من أهل العلم والعدل يقررون بالمشاورة ما هو الأصلح للأمة بحسب الزمان، وكان الصحابة عليهم الرضوان يفهمون هذا من غير نص عليه من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كما يُعلم من حديث إرسال معاذ بن جبل إلى اليمن، فإنه هو الذي قال ابتداءً أنه يحكم برأيه فيما لا يجد فيه نصًّا في الكتاب ولا في السنة، وأجازه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، بل نقل أنهم كانوا إذا رأوا المصلحة في شيء يحكمون به، وإن خالف السنة المتبعة كأنهم يرون أن الأصل هو الأخذ بما فيه المصلحة، لا بجزئيات الأحكام وفروعها، أخرج مسلم وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. ومن قضاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بخلافه ما أخرجه البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: طلق ركانة امرأته ثلاثًا في مجلس، فحزن عليها حزنًا شديدًا، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف طلقتها؟) قال: طلقتها ثلاثًا، قال: (في مجلس واحد) قال: نعم. قال: (فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت) فراجعها. والشواهد على هذا كثيرة، والحنفية لاحظوا هذا، فقدموا القياس الجلي على خبر الواحد، والرأي الذي يسمونه الاستحسان مقدم عندهم على القياس والمراد بالاستحسان ما ثبت أن فيه المصلحة للأمة، هكذا أفهمه خلافًا لما قاله المتأخرون من فقهائهم: إنه قياس خفي. وإنما قالوا هذا؛ فرارًا من تشنيع المحدثين وسائر العلماء عليهم بزيادة أصل في الدين، وبتقديم الرأي على السنة، ولو كان قياسًا لما شنعوا عليهم بالرأي، ولما صح تقديمه وهو خفي على القياس الجلي، وكان الأولى أن يحتجوا عليه بعمل عمر وإجازة الصحابة له رضي الله تعالى عنهم. المقلد: لا أستطيع السكوت لك على هذه، فقد غلوت فيها غلوًّا كبيرًا، وقد أوَّل الفقهاء حديث عمر رضي الله عنه وأجابوا عنه بعدة أجوبة، قال العلامة السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ، فكانوا أولاً يصدقون في إرادة التأكيد لديانتهم، فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع الثلاث. وأجاب ابن حجر وغيره بأن الأحسن أن يقال: إنه ظهر لعمر ناسخ. المصلح: لِمَ لَمْ تذكر رد ابن حجر على السبكي وأنت مطلع عليه؟ أتريد أن تختلبني بكثرة التأويل؟ ألم يرد عليه بأن مذهبهم تصديق مدعي التأكيد وإن بلغ في الفسوق ما بلغ؟ وأما قولهم باحتمال الناسخ فينافيه لفظ (فلو أمضيناه عليهم) ؛ لأنه صريح في أنه رأي واجتهاد كما يدل قول ابن عباس في أول الحديث، على أن الحكم الأول كان

الأسئلة الدينية وأجوبتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة الدينية وأجوبتها (1) من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: هل الاجتهاد المطلق فرض عين على كل مسلم ومسلمة؟ أم فرض كفاية؟ أم لا هذا ولا ذاك؟ وما هو الدليل النقلي الذي لا يحتمل التأويل؟ (ج) الاجتهاد المطلق الذي يستعد ذووه لمعرفة الأحكام الشرعية في كل باب فرض كفاية؛ لأن المصلحة تقوم فيه بالبعض، ومن الحرج الشديد أن يُكَلَّف به أحد، وقد اشترطوا في القاضي والمفتي الاجتهاد؛ لأن وظيفة الأول الحكم، ووظيفة الثاني البيان لما يعرض من الأقضية والمسائل التي لا نص فيها، فلا بد أن يكونا قادرين على استنباط الأحكام لئلا تتعطل المصالح، وهذا واضح لا غبار عليه، وترون الكلام في الموضوع مفصلاً في محاورات المصلح والمقلد، فتتبعوها إلى آخرها، وإن رأيتم فيما كُتب إلى الآن بعض إجمال أو شذوذ عما عرف عن الفقهاء في بعض الجزئيات، هذا إن كنتم تريدون بالدليل الدليل في المسألة كما هو الظاهر، وإن كنتم تريدون مطلق الدليل النقلي الذي يفيد القطع، فهو ما كان نصًّا في معناه لا يحتمل غيره متواترًا في لفظه كالقرآن. *** (2) ومنه: من الذي قال من المجتهدين أو المقلدين بحرمة أو كراهة تعلم العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية وبالإجمال كافة العلوم المجردة من الإلحاد سواء كانت عصرية أو غير عصرية؟ وهل إذا قصَّر بعض علماء المسلمين في عدم تعلم وتعليم هذه العلوم ينسب ذلك التقصير إلى علم الفروع الفقهية؟ أم إلى نفس ذلك المقصر؟ وما هو الدليل؟ (ج) لمَّا حدث في المسلمين علم الكلام والجدل في الدين مقته وذمه غير واحد من الأئمة المجتهدين كما رأيتم في الجزء 22 من منار السنة الماضية، ولمَّا ظهرت الفلسفة اليونانية فيهم ومزجوها بمباحث العقائد كان بعض العلماء يقول بوجوب تعلمها للمدافعة عن العقائد، وبعضهم يحرِّم ذلك ويقول: لا حاجة إليها في إثبات العقائد، حتى كان في الفقهاء من حرَّم المنطق، ولا يمكن حصر هؤلاء بأسمائهم ولا حاجة إليه، وحسبك ما قاله الإمام حجة الإسلام في العلوم التي ليست بشرعية - أي: لم تؤخذ عن الأنبياء عليهم السلام - قال رحمه الله تعالى: (فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح، فالمحمود ما ترتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس فريضة، أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا [1] كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين [2] ، ولا يتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة [3] ؛ فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك؛ فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله. وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى؛ ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه [4] ، وأما المذموم منه فعلم السحر والطلسمات، وعلم الشعبذة والتلبيسات [5] ، وأما المباح منه فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار [6] وما يجري مجراه) اهـ. ومنه يعلم أن المقصِّر في العلوم النافعة تبعة تقصيره عليه. *** (3) ومنه: هل أحكام الفروع الفقهية في المذاهب الأربعة أو غيرها من مذاهب المجتهدين أصلح في العمل لنظام المجتمع أم القوانين الوضعية؟ وما هو الدليل؟ . (ج) الأصلح لنظام المجتمع ما قام به العدل والمساواة بين الناس في الحقوق، والأحكام الفقهية تفضل القوانين عندنا معشر المسلمين، وهي أصلح لمجتمعنا من القوانين؛ لاعتقادنا بوجوب العمل بها، فهي مصحوبة بقوة تنفيذية في قلب الإنسان، ووازع نفسي يحمله على مراعاتها سرًّا وجهرًا؛ ولكن اتباع مذهب واحد فيه حرج وإخلال بالمصلحة في بعض المسائل، كما أن الخلاف وتعدد الأقوال ينافي المصلحة، ولا تقوم مصلحة المسلمين بهذه الأحكام إلا إذا أُلِّف كتاب منقح خالٍ من الحشو والتعقيد والخلاف يفي بحاجة الأمة، ويؤخذ من كتب جميع الأئمة على ما بيناه في مقدمة تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية المنشورة في المجلد الثاني من المنار. (4) ومنه: هل تلقين العهود وسلوك طريق الآخرة والإرشاد إليها وزيارة الصالحين الأحياء والميتين مشروع أم منكر؟ (ج) الظاهر أنكم تريدون بتلقين العهود ما عليه القوم الذين يُسَمَّون أهل الطريق، وهو أمر لم تَرِدْ به سنة صحيحة، وأما ما كان مثل مبايعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات فلا وجه للسؤال عنه، وأما سلوك طريق الآخرة فإن كان بالعمل بالكتاب والسنة والاهتداء بهدي الراشدين، فهو الدين القيم، والإرشاد إليه واجب بما أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وما زاد على ذلك فهو منكر وشرع لم يأذن به الله، وأما زيارة الصالحين الأحياء فهي تدخل في عموم الأمر بالبر والصلة والحب في الله كما تدخل زيارة قبور الميتين في عموم حديث (فزوروها فإنها تذكركم الآخرة) فزيارتها على هذا الوجه مشروعة، وما يزيده الجهال من تقبيل الأعتاب والطواف والاستعانة على قضاء الحاجات فهو من البدع المنكرة، كما فصلناه مرارًا في المنار.

إظهار المدفون من تمثال فرعون

الكاتب: الشيخ محمد إسماعيل

_ إظهار المدفون من تمثال فرعون لحضرة الفاضل الشيخ محمد إسماعيل وكيل المجلة في ملوي في ضواحي بلدتنا (ملوي) قرية تبعد عنها نحو ساعة تدعى الأشمونين، وكانت تسمى قديمًا (هرموبوليس) وهي من أشهر مدن الفراعنة التي اتخذوها عاصمة لملكهم في بعض الأزمان الغابرة، وفيها الآن من المباني العتيقة والآثار القديمة ما يشهد بسابق حضارتها التي كانت عليها، ومدنيتها الفائقة التي حُفِظَتْ بحفظ آثارها المخبوءة في بطون آكامها وأطلالها الدارسة التي يبلغ مقدار مساحتها 1200 فدان، وهي على ما هي عليه الآن من الخراب والعفاء لا تزال مطمح أنظار السائحين الباحثين عن الآثار على اختلاف نحلهم ومللهم، وما زالت الأيام تُظْهِر بعض تلك الآثار التي تبهر العقل، وتأخذ بالألباب، وفي هذه الأيام عثر بعض مستخرجي السماد (السباخ) في أثناء حفرهم على أعظم تمثال وأجلّ أثر، ألا وهو تمثال الملك منفتاح، أو منفطا الأول الذي يقول بعضهم: إنه فرعون موسى. عُثر عليه في بعض آكام تلك القرية، وهو مصنوع من حجر الجرانيت الأحمر، موضوع على قاعدتين إحداهما متصلة به وهي من نوع حجره، والأخرى منفصلة عنه، وهي من الحجر الأبيض مزينة بالكتابة والنقوش، ومقدار ارتفاعه يبلغ خمسة أمتار، موليًا وجهه شطر المشرق، مقدمًا رجله اليسرى، ومؤخرًا اليمنى، قابضًا على ملف من الورق مكتوب عليه اسمه وألقابه الملوكية، وعلى جنبه الأيسر قد رسمت صورة ولده (سيني الثاني) المكتوب عنه أنه ولي عهده ورئيس الكتاب وقائد جيوش أبيه الملك منفتاح، وعلى كتفه راية العدل مكتوب عليها (الحق) ، وهذا التمثال يمثل الملك وهو مؤتزر بجلد النمر تحت سرته، قد كتب على ظهره ما معناه: الذهب الإبريز ابن الشمس، الثور الأعظم، مالك التاجين، صاحب البرين - أي: الوجه القبلي والبحري - وقد فسر بعض رجال الآثار تقديم رجله اليسرى وتأخير اليمنى بالخضوع والخشوع للآلهة، وأرى أن هذا التفسير ربما كان بعيدًا عن الإصابة، فإني أول ما رمقته بنظري وكان معي بعض الأذكياء فهمت أن ذلك منه رمز إلى الشجاعة والإقدام، وإنه لدى الإمعان يظهر جليًّا أنه كمن يريد البراز، فهو يتحفز للوثبة بحالة تدل على الكبر والإعجاب، لا الخشوع والخضوع ولقد راجعت التاريخ فإذا به يقول ما نصه: (منفتاح أو منفطا الأول هو الذي كان في أيامه خروج بني إسرائيل من مصر تحت رئاسة موسى عليه السلام، ولم يرث عن أبيه سوى الكبرياء والعظمة، وأجمع المؤرخون على أن قسوته كانت سببًا في قصر أجله، وعدم طول بقائه في ملكه) اهـ بالحرف. إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار فسبحان الذي نجَّاه ببدنه ليكون آية لمن خلفه، وأظهر تمثاله الآن عبرة لمن بعده، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين. هذا وما انتشر نبأ اكتشافه بين الناس حتى هرع الكثيرون منهم على اختلاف نزعاتهم لمشاهدته؛ حتى إنه لا يخلو وقت من ازدحام الوافدين عليه، وكل معجب بحسن وضعه ونسق هندامه، مما يدل صراحة على ما كان بمصر من العلوم والصنائع في الغابرين الأوليـ ... ـن من القرون لنا بصائر وهو لعمر الحق جدير بأن يؤمه محبو الآثار، وذوو الشغف بصنائع الأقدمين، غير أننا نأسف على ما أصابه أثناء استخراجه حيث أفلتت ضربة من أحد الحفار أصابت تاجه من أعلى فكسرت قطعة صغيرة منه، كما أنه حينما أرادوا إنزاله من أعلى القاعدة التي كان واقفًا عليها انصدع فخذه فانكسر، لكن بغير انفصال، ولم يُخِلّ هذا ولا ذاك بحسن التمثال وجميل شكله، هذا وقد شاهدنا بعد انصرافنا من هذا المشهد تمثالاً آخر قريبًا منه؛ لكنه أكبر جِرْمًا ومقطوع الرأس وبعض الصدر، وهو على هيئة شخصه جالس على كرسي، ويقال: إن رجال الآثار كابدوا المشقات في استخراجه فأعياهم. ثم عرَّج بنا الخرِّيت الذي استصحبناه معنا إلى مسجد هناك قديم، قد تداعت حيطانه، وخر سقفه، ولم يبق منه غير عُمُد من الرخام قائمة، وهي على طول عهدها لم يطرأ عليها ما يذهب برونقها، فضلاً عن ما حواه هذا المسجد أيضًا من الآثار التي قل أن يوجد نظيرها، فزادنا منظره على هذه الحالة أسفًا على أسف، ولم نقدر أن نمسك ألسنتنا عن الحوقلة، اللهم إلا بالترحم على السلف الصالح الذين بذلوا كل مرتخص وغالٍ في فتح البلاد، وشيَّدوا للإسلام فيها أرفع عماد، كما أننا لم نملك خواطرنا التي أخذت تلوم مصلحة آثار الأوقاف التي تركت هذا المسجد وما حواه في قرية لم يزل أهلها يضيِّعون ما ادخره الأقدمون لجهلهم، مما لو كان لدى غيرهم لعضوا عليه بالنواجذ، لعلمهم أن ذلك أعلى وأغلى قيمة من الركاز، ولقد شاهدت بعض أعمدة هذا المسجد ملقاة خارجة عنه على طلل بالٍ، بحيث لا يُؤْمَن ضياعها؛ فلذلك نستلفت أنظار حكومتنا إلى مكافأة من يعثر على الآثار بعد التحري والوقوف على أنه هو العاثر الحقيقي على ذلك، فقد نما إلينا أن بعض الفلاحين يعثر على شيء من ذلك، فيخبر أولي الشأن الذين يرفعون الخبر إلى الحكومة، ثم تُصْرَف المكافأة إلى غير مستحقها، فيشكو الأخير سوء حظه، ويندب سوء حاله، ويأخذ على نفسه العهود أنه لو عثر على مثل هذا مرة ثانية ليهشمنه وليكسرنه انتقامًا لنفسه من ضياع أتعابه سدى. هذا وقد علمت أخيرًا أنه ظهر وراء الحفرة التي كان بها التمثال هيكل منقوش على جداره (صورة سيتي) بن منفتاح على هيئته التي تولى فيها الملك بعد أبيه {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر: 82) .

طرف الأعراب ونوادرهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طُرَف الأعراب ونوادرهم أبو النجم الفضل بن قُدامة العجلي الراجز من فحول المتقدمين في الإسلام يتمثل بكلامه وهو الذي يقول: أنا أبو النجم وشعري شعري ... لله در ما يجن صدري وفد على هشام بن عبد الملك وقد طعن في السن، فقال له هشام: حدثني يا أبا النجم. فقال: أعَنِّي أم عن غيري؟ فقال: بل عنك. فأنشأ يحدثه وهو يضحك وصار يختلف إليه، وكان طرده هشام حين أنشده أرجوزته التي يمثلون في الكلام على الفصاحة بمطلعها (الحمد لله العلي الأجلل) وفيه مخالفة القاعدة الصرفية في الإدغام. وذلك أنه لما بلغ أطرف تشبيه فيها وهو (والشمس في الأفق كعين الأحول) فطن قبل أن ينطق بالكلمة الأخيرة؛ لأن هشامًا كان أحول، فلم يقلها فلما وقف، قال هشام: أجز. فقالها، فطرده. وضاق صدر هشام في ليلة، فقال لأحد الخدم: اطلب لي محدثًا أعرابيًّا شاعرًا، فخرج الخادم إلى المسجد، فإذا هو بأبي النجم وكان ينام فيه بعد طرده، فضربه برجله وقال: أجب أمير المؤمنين. فقال: إنني أعرابي غريب. فقال: إياك أبغي، هل تروي الشعر؟ قال: نعم وأقوله. فانطلق به حتى أدخله القصر، وأغلق الباب، فظن أبو النجم الشر والانتقام، ثم مضى به فأدخله على هشام، فإذا هو في بيت صغير، والشمع يزهر بين يديه، وإذا هو قد ضرب بينه وبين نسائه سترًا رقيقًا، فلما رآه هشام قال: أبو النجم؟ قال: نعم، طريد أمير المؤمنين. فأذن له بالجلوس، وسأله عن منزله ومبيته مباسطة، ثم قال له: ما لك من الولد؟ قال: ثلاث بنات وبُني اسمه شيبان. فقال: هل أخرجت من بناتك أحدًا؟ قال: نعم، زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمز في أبياتنا كأنها نعامة. قال: وما أوصيت به الأولى؟ فقال: أوصيت من (بَرَّة) قلبًا حُرَّا ... بالكلب خيرًا والحماة شرا لا تسأمي ضربًا لها وجرَّا ... حتى ترى حلو الحياة مرَّا وإن كستك ذهبًا ودرَّا ... والحي عميهم بشر طرَّا فضحك هشام وقال: فما قلت للأخرى؟ قال: قلت: سبي الحماة وابهتي عليها ... وإن دنت فازدلفي إليها وأوجعي بالنهز ركبتيها ... ومرفقيها واضربي جنبيها وظاهري النَّذر لها عليها ... لا تخبر الدهر بها ابنتيها [1] فضحك هشام حتى سقط على قفاه وقال: ويحك ما هذه وصية يعقوب عليه السلام ولده. فقال: ولا أنا كيعقوب يا أمير المؤمنين. قال: فما قلت للثالثة؟ قال: قلت: أوصيك يا بنتي فإني ذاهب ... أوصيك أن تحمدك الأقارب والجار والضيف الكريم الساغب ... لا يرجع المسكين وهو خائب ولا تني أظفارك السلاهب ... لهن في وجه الحماة كاتب [2] والزوج إن الزوج بئس الصاحب ... قال: وكيف قلت هذا ولم تتزوج؟ وأي شيء قلت في تأخر تزويجها؟ قال: قلت: كأن ظلاَّمة أخت شيبانْ ... يتيمة ووالداها حيانْ الرأس قمل كله وصيبان ... وليس في الساقين إلا خيطان تلك التي يفزع منها الشيطان ... فضحك هشام حتى ضحكت النساء لضحكه، وأمر له بثلاثمائة دينار، وقال: اجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين.

أسباب الحرب الروسية العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسباب الحرب الروسية العثمانية - تتمة عُلم مما نشرناه في الجزء الماضي أن الدول الأوربية اغتنمت فرصة إشعال روسيا الفتنة في بلاد البلقان العثمانية لأن تجعل لها حقًّا رسميًّا في زلزلة استقلال الدولة العلية بمشاركتها في أحكامها وإدارتها، ولو في بعض الولايات، وأن تُصَدِّق الدولة على ذلك؛ لتقوم الحجة عليها في كل آن، وأن هذا هو السبب في رفض مطالب المؤتمر، وقد كان مدحت باشا أبصر رجال الدولة بعاقبة الحرب التي تتوقع من رفضها، كما كان أعلمهم بضرر قبولها، وإننا ننشر المذاكرة والمشاورة في هذا الأمر مما كتبته الجوائب عن المجلس الأميّ الذي أمر به مولانا السلطان يومئذ وهو: (قال مدحت باشا: إذا رفضنا مطالب الدول أدى ذلك إلى فسخ المؤتمر، فربما يعلن بعض الدول بحربنا، والمترجح عندي أن دولتي إنكلترا وفرنسا يبقيان على الحيادة، أما الروسية التي هي أصل اقتراح هذه المطالب، فيُحتمل أنها تجري إيجابها علينا بالسيف، وأما أوستريا فحيث إن من رعيتها 17000000 من الصقالبة، فمن الصعب علينا أن نجزم بما يتأتى لها أن تفعله، فإذا كان سكانها من المجر يتساهلون معها، فلا يبعد أنها تتحد مع الروسية وتعلن بمحاربتنا، فيمكنها والحالة هذه أن تستولي على بوسنة وهرسك إلى مدة غير معلومة، أما سكان الصرب والمملكتين (الأفلاق والبغدان) والجبل الأسود فالأقرب إلى المعقول أنهم يكونون أضدادًا لنا، فليس من المحتمل أن نتكل على مساعدة أحد من الخارج، فإذا اعتبرتم هذا كله فلا نخفي على أنفسنا أن أحوالنا في بحران. فقال صبحي باشا: إن الصقالبة من سكان أوستريا ليس عندهم من القوة ما يكون به خطر علينا. فطلب مدحت باشا أن يعرف على الحقيقة ما هي قوة الدولة العلية، فقال بعض العلماء: إن ما يلزم للمملكة أن تفعله هو أن تتكل على المولى سبحانه وتعالى، وتُقبل على الحرب. فقال مدحت باشا: إذا رمنا الإعلان بالحرب لزمنا بالضرورة أن تكون لنا قوةً عسكرية مكافئة، فإذا غلطت في ذكر مقدار قوتنا العسكرية، فناظر الحربية الحاضر الآن بيننا ينبهني على غلطي، فأقول: إن عدد عساكرنا الآن يبلغ من 500000 إلى 600000 وبحمده تعالى وبعناية مولانا وسلطاننا المعظم قد أمدَّت هؤلاء العسكر بالسلاح الكافي، فصاروا مستعدين للقتال، وقد أوصينا من أميركا على مقدار وافر من قراطيس البارود؛ ولكن إذا صار الإعلان بالحرب يحتمل أن يقع القبض عليها قبل وصولها إلى الآستانة، ولا يخفى عليكم أيضًا أنَّا الآن لا درهم لنا ولا دينار، وأبواب الصيارفة وأصحاب المعاملات المالية مقفولة دوننا (كذا في الأصل والصواب مقفلة) ولا يمكننا إبقاء جيش بدون دراهم. فقال رءوف بك (ابن المرحوم رفعت باشا) : نعم إن لنا من الأسباب ما يخيفنا من الحرب؛ ولكن إذا قبلنا لائحة المؤتمر لم يبق ريب في انقلاب السلطنة، فالحرب كداء الحمى يمكن لنا أن نتخلص من رزئه؛ ولكن لائحة المؤتمر كداء الرئة عاقبته القبر لا محالة، فغاية ما يلزمنا فعله هو أن نلبس الصوف ونوقد الشمع الأحمر ونغالب العدو. فقال مدحت باشا: إن قوائمنا (أوراق) المالية في بخس، ويحتمل أنها تزيد بخسًا، وقد عهد أنه أتى على فرنسا زمان بلغت فيه قيمة الحذاء إلى 27000 فرنك (سبعة وعشرين ألفًا) فمن ذا الذي يدري ما يصيبنا إذا أقدمنا على الحرب، فيحتمل أنه بعد مدة قصيرة يعوزنا القوت، فتتمنى الناس أن نكون قد قبلنا اقتراحات المؤتمر. فقال محمد رشدي باشا (الصدر الأسبق) : إن ما قاله جناب الصدر الأعظم صحيح، إلا أن قبول اقتراحات المؤتمر يحرم سلطنتنا السنية من الاستقلال، والحرمان من الاستقلال يشبه الاضمحلال. فقال شيخ الإسلام: إني على رأي الصدر الأعظم؛ ولكني أرى أن رفض الاقتراحات أولى. فقال شيخ الإسلام السابق: إن الواجب علينا واضح جلي، وهو رفض هذه الاقتراحات؛ لأنها تسلب منا الاستقلال. فقال عابدين بك (مدير البورس) : إن أربعين مليونًا من العثمانيين يختارون الحرب على ضياع حقوقهم وشرفهم، فَأْمرونا بالقتال فإنا مطيعون. فقال الصدر: إن كنت قد اطلعت على أفكار أهل المجلس أيقنت بأنهم يرون أن قبول اقتراحات المؤتمر يحرم الدولة العلية من الاستقلال. فأجاب سائر الأعضاء بقولهم (نعم نعم) هذا رأيهم. ثم قال عدة من العلماء: هل تداخلنا نحن في حقوق دول أوروبا الذين لهم رعايا من المسلمين، فكيف يمكننا أن نسمح لهم بأن يتداخلوا في مصالح دولتنا؟ فقال مدحت باشا: يبعد عن التصور أننا إذا رفضنا هذه الاقتراحات يكون ذلك باعثًا على حرب عمومية، ولكن ينبغي لنا أن نعلم أن الأفكار العمومية في أوربا كلها ضدنا، والأفكار العمومية هي أقوى شيء في أيامنا هذه كما لا يخفى. فقال جميل باشا: إذا حامينا عن شرفنا فإن الأفكار العمومية تميل إلينا. فقال عابدين بك: إننا نفتخر بأن نفكر بأن جوابنا السلبي يوجب سفر ستة سفراء من الآستانة في آن واحد، فهو يذكرنا فخر الملة العثمانية ومجدها، فقد عزمنا على أن نجاوب هؤلاء السفر جوابًا واحدًا. ثم قال البعض: نعم إن تهييج الأفكار العمومية مما يُتأسف منه؛ ولكن ماذا نفعل بعدما أخبرنا الدول بالصدق عن مقاصدنا، وحقيقة شأننا في هذه المدة الأخيرة الطويلة فرفضوا رأينا وعولوا على رأيهم، فإذا توكلنا على الله تعالى وحامينا عن شرفنا واستقلاليتنا، فلنا أمل في أن أفكار عموم الناس في نهاية الأمر تكون معنا لا علينا، وخصوصًا أن القانون الأساسي الجديد قد شمل غير المسلمين من رعية دولتنا بالحقوق التي شمل بها المسلمين سواء. فقال صوا باشا: إذا كان سفر سفراء الدول الست في آن واحد من شأنه أن يهيج علينا الأفكار العمومية يلزم أن لا يبرح من بالنا أن هذه الوسيلة هي الوسيلة الوحيدة لصون شرف السلطنة العثمانية، وكل العثمانيين يعنيهم هذا الأمر، ويهمهم، فإن اخترنا الموت على إهانة شرفنا، فالأفكار العمومية في أوربا تثني على اختيارنا، ولا شك أن الأفكار العمومية في أوربا أقوى من دولها. فقال مدحت باشا: لا ريب في أن شرف الأهالي منوط بشرف الدولة، فالدولة العلية إن لم تعرف كيف تحافظ على استقلاليتها فلا تستحق أن تسمى مملكة. فقال ياور باشا (ناظر البوسطة والتلغراف) : لو فرض أن تلك المطالب اقترحت على شخص لكان يرفضها لا محالة، فكيف لا ترفضها مملكة. ثم ألقى وكيل بطرك الأرمن الكاثوليك مقالة طويلة في عدم لزوم قبول اقتراحات المؤتمر، ثم قال حاخام الإسرائيليين: إن أبناء ملتي عازمون على أن يبذلوا أرواحهم للمحافظة على استقلال السلطنة العثمانية. (سرور من الحاضرين عمومًا) ، ثم قال يانقوسكياديس أفندي - أحد أعضاء شورى الدولة وهو من طائفة الأروام -: كلنا نفتخر بأن نكون من رعية سلطان شمل قومه بقانون أساسي، كالذي أنعم علينا به مولانا السلطان المعظم، وإنا مستعدون لأن نموت محافظة على هذا القانون وبحب وطننا [1] . ثم قال الصدر الأعظم (إذ ذاك مدحت باشا) : المملكة التي تنعم على رعاياها بالحرية والاستقلالية جديرة بأن تطلب لنفسها أيضًا الحرية والاستقلالية. ثم قال محمد رشدي باشا: إن القانون الأساسي وإن كان قد نُشر أخيرًا إلا أن مولانا السلطان المعظم وعد بامتيازات عظيمة في الخط الهمايوني الذي أصدره يوم جلوسه على سرير السلطنة السنية، وكان صدوره قبل عقد المؤتمر فالفضل في إصدار هذا القانون عائد إلى مولانا السلطان، وليس هو من تشدد المؤتمر على مولانا [2] . ثم قال وكيل بطرك الروم الأرثوذكسيين: إنني أستحسن ما قاله صوا باشا بالنيابة عن أبناء ملتي. ثم قال وكيل البروتستانط: إن القانون الأساسي شمل سائر الرعايا بحقوق واحدة، فكلنا عثمانيون، وكلنا نكره تداخل الأجانب، وقد صدق الصدر الأعظم في قوله: إن هذه المسألة خطيرة لا يلزم إنهاؤها على عجل، فيُحتمل أنه يوجد سبيل لإصلاحها بدون قتال، والظاهر أن الأولى أن نترك لمجلس الوكلاء أن ينهي هذه المسألة لصون شرفنا بأنفسنا. (ضحك في المجلس) ، ثم صرخ أحد الحاضرين قائلاً: نعم إنا نحافظ على شرفنا بأنفسنا، فقد مضت تلك الأيام التي كنا نوكِّل فيها وكلاءنا - أي: الوزراء - بأن يحافظوا على شرفنا. ثم قال حالت باشا - ناظر التجارة إذ ذاك -: أنا أيضًا مستعد لأن أحافظ على شرفنا؛ ولكن مرادي أن لا يقترن ذلك بسفك دم، فينبغي لنا أن نسعى في إصلاح هذه المسألة بدون حرب، فالأولى عدم الإعلان بالحرب بالمرة. وعند ذلك حصلت ضجة في المجلس، فصرخ السامعون قائلين: (غير ممكن غير ممكن لا بد من الحرب) ، ثم قال وكيل بطرك الأرمن: غير واجب على الأرمن أن يصرخوا بمتابعة بقية الرعايا العثمانية في جميع مقاصدهم؛ فإن البطرك الآن منحرف المزاج؛ لكنه أرسلني لأقول: إن الأرمن كانوا دائمًا صادقين في طاعة الدولة العلية في الأيام السالفة، فهم عازمون على أن يبقوا كما كانوا وهم يَدْعُون الآن بقية أبناء الوطن لأن يتحدوا معهم للمحاماة عن شرف السلطنة واستقلاليتها. (أظهر المجلس سرورهم من هذا المقال) . ثم قال الصدر الأعظم: هل لي أن أفهم مما ذكرتموه أنكم رفضتم مطالب المؤتمر، وهي تشكيل لجنة مختلطة كيفما كان تشكيلها؟ (صراخ من أهل المجلس: نعم نعم) قال: وترفضون الاقتراحات المعتدلة التي عرضها السفراء؟ وهل تنبذون بدون شرط سائر المطالب المختلفة التي عرضها علينا المؤتمر؟ وهل أنتم عازمون وجازمون بهذا الرفض، وإن كان رفضكم هذا كما لا يخفى عليكم يوجب سفر السفراء من الآستانة؟ فقال أهل المجلس: (نعم نعم قد رفضناها) ، ثم قال: (من كان يخالفنا في هذا الرأي فليقم عن كرسيه؟) فلم يقم أحد، ثم قال إبراهيم باشا: لا يوجد أحد على غير هذا الرأي سواء كان في هذا المجلس أو في خارجه. ثم قال فائق باشا: (دلاسد طلياني الأصل) : أنا على رأي المجلس، ولكن لا بأس في أن أذكركم أن رفض مطلبين من مطالب المؤتمر يكون سببًا في سفك الدماء، أما إذا قبلنا فإنا نكون في السلم، (فحصل ضجة في المجلس) . ثم قال الصدر الأعظم: إذا أردنا المصالحة والاتفاق مع مرخصي المؤتمر؛ فإن ذلك من شأنه أن يقذف بنا في مهواة، والله أعلم أن يقذف بنا، فالظاهر أن الحرب أولى، ومع هذا فإني أدعوكم لأن تترووا في قبول بقية مطالب المؤتمر، أما المطلبان الأخيران فالأرجح رفضهما، فقال سيدنا شيخ الإسلام: (إن لائحة المؤتمر كلها خطر على بلادنا فعلينا الآن أن نرفض المطلبين الأهمين) . ثم بعد مذاكرة قصيرة في عرض القانون الأساسي على الدول قال محمود باشا الداماد: علينا أن نرفض المطلبين الأهمين من مطالب المؤتمر، فإذا كانت الدول بعد ذلك تريد أن تعرض علينا سائر المطالب على صورة أخرى أمكننا أن نجتمع مرة أخرى في هذا المجلس، ثم خُتمت الجلسة بعد أن استقر الرأي على رفض اقتراحات المؤتمر بأسرها) اهـ. هذه هي مداولات (المجلس الأمي) الذي اجتمع قبل مجلس المبعوثان للنظر فيما يتعلق بشأن لائحة المؤتمر والحرب التي تتوقع من رفضها، وقد ذهب مصباح الشرق الأغر إلى أن مدحت باشا هو الذي كان مصممًا على رفض مطالب الدول التي يرى المصباح أن الصواب في قبولها، وأنه هو الذي أوحى إلى أهل المجلس وجوب رفضها، وقد رأيت أن مدحت باشا كان أصوب أهل المجلس رأيًا، وأشدهم حذرًا، وأبعدهم في العواقب خطرًا، ويليه في الحذر حالت باشا، ثم وكيل دولة البروتستانت، وأنه لم يجنح أحد إلى قبول سي

الوفد الإسلامي إلى الصين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوفد الإسلامي إلى الصين قال صديقنا الفاضل الكامل محمود بك سالم عندما حدثت فتنة أوربا مع الصين: إن هذه الفتنة وتحرّش أوربا بالصين مما يظهر مكانة مسلمي الصين العالية، ورفعة شأنهم وقوتهم المادية والأدبية. أو ما هذا معناه. وما زالت الأيام تُظهر صدق قوله؛ حتى رأينا مُسَعِّر نار هذه الفتنة عاهل الألمان، وداهية أوربا في هذا الزمان، قد قدّر هذه القوة قدرها، وأراد الاستفادة منها بصديقه السلطان الأعظم للمسلمين الذي يعترف له مسلمو الصين بالخلافة الدينية، ويخطبون باسمه على منابرهم، فطلب منه أن يرسل وفدًا إسلاميًّا تكون وظيفته الظاهرة العمومية نهي مسلمي الصين الأشداء الأغنياء أن يساعدوا الثوار الصينيين على المسيحيين، وفائدته الخصوصية الخفية إعلام أولئك المسلمين بأن عاهل الألمان صديق خليفتهم وحليفه؛ لتستفيد ألمانيا بذلك مثلما كانت تستفيد إنكلترا في الهند من قبل؛ فإنها ما رسخت قدمها في تلك الممالك إلا بنفوذ الدولة العلية الديني، حيث كانت تقنع مسلمي الهند بأنها حليفة الدولة العلية. أجاب مولانا السلطان أيده الله تعالى دعوة العاهل غليوم، وأرسل وفدًا مؤلفًا من ستة نفر، منهم عالمان من علماء الآستانة، ورئيسه من قواد الجيش العثماني، وسيكون هذا الوفد آلة بيد الألمان الذاهبين؛ لأنه لا يعرف اللغة الصينية، فالألمان هم الذين يبلغونه ويبلغون عنه، ولهذا نُقل إلينا أن الروسية كان مستاءة معارضة في إرسال هذا الوفد، وقد مر منذ أيام من السويس بلَّغه الله السلامة، وجعل رحلته مفيدة نافعة في تخفيف الشر واستبدال الخير به.

زيارة القبور والمدرس المغرور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ زيارة القبور والمدرس المغرور حدَّثنا غير واحد عن شيخ يقرأ كتاب (الدر المختار) درسًا أنه بلغ من أيام الكلام على زيارة القبور من كتاب الجنائز، فخبط في الكلام خبط عشواء في مدلهمة ظلماء؛ إذ أنشأ يأوِّل للعوام ما يأتونه من البدع والمنكرات عند زيارة قبور الصالحين، من ذلك أنه أوَّل دعاءهم إياهم في المساجد لقضاء الحوائج، ودفع المكاره، واستعانتهم بهم في المهمات، وإن كانت من الموبقات، بأن هذا من باب طلب الدعاء منهم. قال: (كأنهم يقولون: نحن ندعو الله تعالى وندعوكم لأن تدعو معنا) . ولو كان كل عامي فقيهًا بحيل الحنفية، وقاضيًا في المحكمة الشرعية، لأمكنه أن يهتدي إلى هذا التأويل، عندما يضل سواء السبيل، وإن لم يعتقد بقلبه، أنه ينفعه عند ربه، لأنه تعالى يقول: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ولم يرد في الكتاب، ولا في السنة، ولا في سيرة سلف الأمة أن الدعاء يطلب من الموتى، وحديث البخاري في الاستسقاء بالعباس حجة على بطلانه. وإذا علم القراء أن هذا المدرس هو الذي دارت بيننا وبينه المناظرة في هذا الموضوع في المسجد الحسيني المنشورة في العدد الخامس من المجلد الثاني، وتذكَّروا أن مبدأ المناظرة أن الشيخ المدرس عندما رأى الزائرين يطوفون بقفص قبر سيدنا الحسين عليه السلام والرضوان، ويقبِّلونه قرأ قوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) وأشار إليهم؛ لعجبوا من تلوّن الشيخ ومخاطبته كل أحد بما يظن أنه يقبله ليعظم في نفسه ويكبر في عينه، وإذا علموا بعد هذا أنه كان رئيس محفل ماسوني يزول ذلك العجب؛ لأن الناس لا يعجبون من ألوان الحرباء. وإذا علموا أنه هو الذي كتب في المؤيد يذم علوم الحساب والهندسة وتقويم البلدان، وجعل توقيعه (ثابت بن منصور) وتذكروا كيف فنَّد مزاعمه أحد المجاورين - يعلمون درجته في العلم، وأنه فيه غير ثابت ولا منصور، بل لو علم حاضرو درسه كل ما تقدم لما اكتفى بعض نبهاء الطلاب بالرد عليه في وجهه. وقد كتبنا هذه الكلمات تنبيهًا له على قدر نفسه، ونهيًا له عن المنكر من غير تصريح باسمه، عساه ينتهي عن ذلك التدليس، ويترك ذياك التلبيس، ويأخذ بطريقة السلف الصالحين، ويترك الخوض بأهل الحق واليقين؛ فإنهم لهم الثابتون المنصورون {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) .

السخاء والبخل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السخاء والبخل - تتمة أَتَعَجَّبُ من ضلال عامة الناس في فهم حقيقة السخيّ، على ما له من نفوسهم القدر العليّ، وإلباسهم البخلاء الشحاح، لبوس أهل الجود والسماح، أليس هذا الخطأ من أهل العلم والأدب أجدر بنبث بئار العجب، بعدما رفع الله تعالى في القرآن من ذكر أهل البر والإحسان، وجعل بذل المال في سبيله آية الإيمان، وإمساكه آية الكفر والخسران؟ اقرأ إن شئت قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الماعون: 1- 3) ، وقوله جل علاه: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (فصلت: 6-7) وارجع إلى سورة الحجرات، واتل ما ورد في الأعراب من الآيات، فقد بينت حقيقة المؤمنين بعد إنكار دعوى الإيمان على أولئك المسلمين، وذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) . وناهيك بما ورد من الوعيد الشديد لمن يكنز المال، ووعد المتصدقين بمضاعفة الأعمال، وبعدما جعل الشرع في أموال المسلمين وكسبهم من حرث ونسل وتجارة ذلك الحق المعلوم، وفرض عليهم القيام بالنفقات الضرورية على من يعجز عن كسب يذهب بضرورته، ويسدُّ من خلته، سواء كان من المسلمين، أم كان من الذميين، وما هذا الإلزام بالبذل، إلا لتزكية النفس من رذيلة البخل، وتعويدها على الجود، مما يسمح به الوجود، وقد ورد في معنى هذه الآيات أحاديث كثيرة من أشدها وعيدًا حديث البخاري في الأدب، والترمذي في صحيحه وهو: (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل، وسوء الخلق) وفي رواية لغيرهما: (البخل والكذب) وحديث ابن أبي شيبة وهناد والنسائي والحاكم والبيهقي وهو: (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا) . هذا شأن السخاء والبخل في نظر الدين، وما سلم رجال الدين معه من الخلاف في تعريفهما عندما أنشؤوا يضعون الحدود الجامعة المانعة للاصطلاحات الشرعية لبعد العهد باللغة وما يتبادر منها، فقالت طائفة: إن البخل هو منع الواجب من نحو زكاة ونفقة قريب. وهدم بعضهم هذا الحد قائلاً: إن الذي يعطي عياله ما يفرضه القاضي من النفقة، ثم يضايقهم في لقمة زادوها، أو ثمرة من ماله أكلوها يُعَدُّ بخيلاً، ومن كان بين يديه طعام فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه فهو بخيل، وكذلك من يَرُدَّ اللحم إلى القصَّاب، والخبز إلى الخباز لنقصان حبة أو نصف حبة يوصف بالبخل كما وصفوا مروان بن أبي حفصة. وقال قوم: إن البخيل من يستصعب العطية في نفسه، وردّ هذا القول لإطلاق لفظ العطية؛ فإن السخي الجواد قد يصعب عليه أن يبذل جميع ما يملك أو ما هو في أشد الحاجة لنحو وفاء دين أو نفقة من تجب عليه نفقته، بل السخي الحقيقي يستصعب وضع المال في غير موضعه، وإعطاءه لغير مستحقه كمن يعلم أنه ينفقه في معصية، أو يستعين به على مفسدة. واختلفت أقوالهم في السخاء والجود، فقال بعضهم: هو عطاء بلا مَنّ، وإسعاف من غير رؤية. وهو قول غير مرضي؛ لأن البخيل قد يعطي لغرض من الأغراض التي شرحناها في النبذة الأولى، ولا يمن لئلا يحبط عمله ويخيب سعيه وقد يُسْعِف ولا يرى نفسه مُسْعِفًا لعلمه بأنه يمنُّ ليستكثر، ويُسْعِف لِيُسْعَف، وقيل: هو العطاء من غير مسألة. وهو كما ترى. وفصل القشيري في رسالته بين السخاء والجود، وفصل بينهما وبين البخل نقلاً عن أستاذه الدَّقاق، فقال: من أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئًا فهو صاحب جود، ومن لم يبذل شيئًا فهو صاحب بخل. وهو قول مردود غير محيط الحدود، وقيل: الجود: بذل الموجود. وهو قول من لا يميز في العطاء بين التبذير والسخاء. والحد الصحيح الذي يشهد له النص الصريح، هو أن السخاء أريحية، وصفة نفسية، تقف بصاحبها في وسط، بين تفريط القبض وإفراط البسط، بحيث يبذل المال بارتياح، إذا حَسُنَ في الشرع والعقل البذل والسماح، فإن بذل بغير ارتياح فهو متكلف محمود؛ لأنه يربي نفسه على الجود، ولا يلبث أن يزول التكلف فيكون سخيًّا، وتأنس نفسه بالبذل فيكون جوادًا حقيقيًّا، والبخل كيفية من كيفيات النفس الخبيثة، وخلق من أخلاقها الرديئة، إذا عرض لصاحبه موجب البذل في معروف، أو إغاثة ملهوف، أو مساعدة جمعية خيرية، أنشئت للمنافع الملية - ينقبض صدره، وينقبض لصدره كفه، فيبخل بالدرهم والدينار، ويجود بالتعلات ويسخو بالأعذار. فمن أعذار البخلاء، الإحالة على المشيئة والقضاء {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (يس: 47) ويقولون: لو أراد الله بهؤلاء الفقراء خيرًا لأعطاهم، ولو اقتضت حكمته أن يكونوا أغنياء لأغناهم. ولا يقولون: إن الله تعالى فضلنا عليهم، فَلْنُفْض بشيء من فضل نعمه إليهم، وجعل بعضنا لبعض فتنة، فلنصبر على منحتهم النوال كما صبروا على المحنة، وحسبنا أن اليد العليا خير من اليد السفلى. ومن أعذارهم أن أكثر السائلين، يظهرون على الغني بأخلاق المساكين، فصلتهم ليست من البر، ولا يعود على المرء منها أجر، ومن أعذارهم أن إنفاق المال في غير مقابلة عمل يغري الناس بالبطالة والكسل؛ ولذلك يذمه الأوربيون وهم في ذلك محقون، وبذل المال وإمساكه هو سبب خسراننا وفلاحهم، وعلة خذلاننا ونجاحهم. فإن قيل لهؤلاء وأولئك: إن كنتم صادقين في اعتذاركم، وممسكين لما ذكرتم من تعلاتكم وأعذاركم، ومُسْتَنين بسنة الأوربيين؛ لأنهم في نظركم من المصيبين، وليست أيديكم بسلاسل البخل مغلولة، ولإبداء الشح الذميم مشلولة، فامسكوا عن السائلين، وامنعوا الكسالى والبطَّالين، فالشريعة قد ذمت السؤال، وورد: إن الله يكره العبد البطَّال؛ ولكن ما تقولون في العجزة والضعفاء، واليتامى والفقراء؟ هل تجدون لكم عذرًا في تركهم سدى، أو تجدون على نار تقليد الأوربيين هدى؟ وما تقولون في الإنفاق على المدارس العلمية، والجمعيات الدينية، التي بها نجح الأوربيون، لا بالبخل والشح كما تزعمون؟ فلماذا لا تتلون فيها تلوهم، ولا تحذون حذوهم؟ ألم يأتكم في كل يوم أنباء بذلهم الألوف والملايين على معاهد العلم والصناعة والدين [1] ؟ ولا تحسبن أيها القارئ الكريم، الذي لم يكتنه خُلق الشَّحَاح اللئيم، أن هذه الحجج الناصعة، والبراهين القاطعة، تقطع لسانه أو تمحو بهتانه، فتكون للسانه خير عقال، وتحل يديه من السلاسل والأغلال، كلا إنه بعد بيان الآيات، ليتعذر بعدم الثقة بالجمعيات، فإن كانت مؤسسة لإعانة العجزة والبائسين، يقول: إنما نحن في حاجة إلى تربية أولاد الفقراء والمساكين. وإن كان من موضوعها التربية الملية يقول: نحن أحوج إلى المدارس الصناعية، وإن كان من موضوعها ذلك، وقيل له: إنه لا يتم إلا بمساعدة أمثالك. يقول: ليس عندنا استعداد للقيام بما يكون به الإسعاد ولا يسمع لمن يقول: يجب إذن أن نسعى في إيجاد ذلك الاستعداد، ولا يتم ذلك إلا بالبذل والإمداد؛ لأنه يرى أن إضاعة المال أن يدخل في غير الصندوق، أو يخرج لغير الاستغلال، ويصح أن يقال في هؤلاء الأشحاء، ما قيل في الجبناء؛ لأن الجبن والشح من جب واحد. يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم وأختم القول بأنه لا عذر لمسلم في دينه، ولا لوطني في وطنه، ولا لإنسان في إنسانيته أن يرى أمته تتلاشى وتنحلّ، وملته تذوب وتضمحل، وهو يعلم أن حياة الأمم في هذا العصر بالمال؛ لأنه هو الذي يرقي العلوم والفنون، وهو الذي يربي النفوس والأخلاق، وهو الذي يوجد الصناعة، وينمي التجارة ويثمر الزراعة وهو الذي ينهض بالدولة ويعطيها القوة والصولة، بل هو كل شيء؛ إذ لا يتم بدونه شيء، يعلم هذا كله ثم لا يجود لإنقاذها بشيء من فضل ماله، لا سيما في هذه البلاد المصرية، وفيها مثل الجمعية الخيرية، القائمة على خير أساس، ينفع البلاد والناس، ومثل جمعية العروة الوثقى وجمعية المساعي المشكورة، وغيرهما من الجمعيات الدينية الأدبية كجمعية شمس الإسلام، وجمعية مكارم الأخلاق، وجمعية شمس المكارم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليساعد هذه الجمعيات كلها أو بعضها، أو ما يوافق مشربه منها بحسب الاستطاعة {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .

أمالي دينية الدرس ـ 20 ـ الوحي وأقسامه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدرس العشرون الوحي وأقسامه م (60) إمكان الوحي: تقدم أن إثبات النبوة يتوقف على إثبات كون الإنسان مركبًا من جسد وروح، وأن الروح ليست من عالم الملك المادي المشهود؛ وإنما هي من ملكوت أعلى مغيب بحقيقته عنا، وقد عرفنا أرواحنا بآثارها، لا بكنهها وأسرارها، وكما يمتاز أفراد من الناس بالقوة الجثمانية على سائر أهل قطرهم، أو على سائر الناس كقيصر روسيا السابق إسكندر الثالث الذي كانت تلين في يديه المعادن، حتى إن كان ليغمز الريال الروسي من وسطه بأصبعه، فيصير مجوفا كالفنجانة، ويضع فيه زهرة ويعطيها لإحدى عقائل النساء في مجلسه ذاك، كذلك يكون لبعض الأناسي قوة روحانية يفوقون فيها سائر البشر، فإذا كان من أثر القوة الجسدية ما ذكرنا عن قيصر روسيا السابق؛ فإن من آثار قوة الروح في البشر ما هو أظهر من ذلك وأبعد في التفاوت بين أفراد الناس. آثار القوة الروحية سعة العقل والعرفان وشدة العزيمة والإرادة المساعدة على العمل بما يحيط به العقل من المعرفة بالمصالح، حتى إننا نرى الرجل الواحد يحيي أمة أو أممًا بعد مماته، ويجمع شملها بعد شتاتها، ويعمل ما تعجز عنه الملايين كعمل السلطان صلاح الدين، في قهر ملوك أوربا وإعادة سلطة المسلمين، وكعمل بسمرك في الوحدة الألمانية، وواشنطون في تحرير البلاد الأميركانية، حتى إن بعض أهل الزيغ والجحود توهموا أن ما أعطيه الأنبياء من سياسة البشر وإصلاح شؤونهم وتقويم مدنيتهم هو نحو ما ذكرنا عن هؤلاء الملوك والسياسيين، وما أبعد ما يتوهمون؛ فإن هؤلاء الرجال ظهروا في أمم لها أديان تهديها، وشرائع وقوانين تحكم بها، وجيوش منظمة تحمي حقيقتها، وتدافع عن حوزتها؛ ولكنها أساءت استعمالها، أو رزئت بإهمالها، فأرشدوها إلى الانتفاع بما وهبت فعملت بإرشادهم وأسعدوها بالرأي الصحيح فسعدت بإسعادهم، فأين هذا من حال الأنبياء والمرسلين، الذين بُعثوا في أقوام وثنيين، يدعونهم إلى ترك ما هم عليه من الاعتقادات، ونبذ ما ألفوه من التقاليد والعادات، ولم يكن لهم في إبان ظهورهم قوة مُلك يعتمدون عليها، ولا شرائع يقتبسون منها، وهل قياس هؤلاء بأولئك، إلا كقياس الحدادين بالملائك، وإنما ضربنا بهم المثل لبعد المسافة بينهم وبين سائر الناس، كما أن المسافة بينهم وبين الأنبياء في البعد على نحو تلك النسبة أو أبعد منها. م (61) ضروب الوحي وأنواعه: الوحي في اللغة اختصاصك أحدًا بكلام، أو إعلام تخفيه عن غيره، وأصله الإشارة السريعة كما قال الراغب. ووحي الله إلى الأنبياء عبارة عما يختصهم به من المعارف التي يريد أن يعملوا بها، وأن يبلغوها الناس للاهتداء بها؛ بحيث يكونون على بينة من ربهم، وثقة تامة بأن ذلك من لدنه سبحانه وتعالى، ولا يعلم كنه الوحي وحقيقته إلا من اختصهم الله تعالى به. وقصارى ما يصل إليه علمنا أن نعرف بالدليل أنهم صادقون في دعوى الوحي وتبليغنا عن العليم الحكيم الرحمن الرحيم ما مست حاجتنا إليه، وسبق التنبيه عليه، وأن نفهم ما ورد عنهم في ذلك الوحي من بيانه، ورسومه وأقسامه. قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى: 51) فالآية الشريفة ناطقة بأن طرق كلام الله لأنبيائه ثلاثة: أحدها: الوحي بلا واسطة، وقد غلَّب هذا الإطلاق في العرف والاصطلاح؛ وإنما تكون للنبي تلك الأنواع أو بعضها بالقوة الروحانية الفائقة التي فطره الله تعالى عليها. من وظيفة تلك القوة وآثارها تمزيق الحجب المادية التي حجبت الروح عن معالمها، وكسر المقاطر الحسية [1] التي عاقتها عن العروج إلى عالمها، فتعرج بإذن الله تعالى إلى الملكوت، وتتصل بمن شاء الله تعالى من عماره المقربين، تتصل بالمَلَك المسمى بروح القدس والروح الأمين {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) . يتلقى النبي بهذا العروج الروحاني عن الله تعالى من المعارف التي لا ينالها الناس بكسبهم ما هم في أشد الحاجة إليه في نظام جمعياتهم، وإصلاح أحوال معيشتهم؛ ولتطهير عقولهم من أدران الشرك والجهل بالله تعالى، وتنظيف نفوسهم من لوث الأخلاق الذميمة والسجايا الرديئة، وتحليتهم بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة والآداب الصحيحة والعبادات البدنية المرضية التي تمدّ العقائد والأخلاق والآداب، وتُسْتَمَدُّ منها؛ لأنها كالبريد بين العقل والنفس، وبين الجسد والحس. وهذا التلقي قد يكون بالإلهام، وعبرت عنه الآية بالوحي المطلق، وهذا الحرف مستعمل في القرآن بمعنى الإلهام كما قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً} (النحل: 68) ... إلخ، وقال جل ذكره: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) الآية، وليس كل موحى إليه بالإلهام الصحيح نبيًّا مرسلاً، بل النبي هو الموحى إليه بالدين الذي يُرشد به الناس، وكذلك يقال في مكالمة المَلَك التي وقعت للسيدة مريم عليها السلام، وهي ليست بنبية على الصحيح الذي عليه الجمهور، والرؤيا الصادقة من هذا القسم، وكانت أول وحي نبينا عليه الصلاة والسلام كما ورد في حديث البخاري المشهور، وأدخل بعضهم الإلقاء في القلب في معنى وحي الإلهام، واستدلوا عليه بقول عبيد ابن الأبرص: وأوحى إليّ الله أن قد تآمروا ... بإبل أبي أوفى فقمت على رجلي نعم إنه يريد بالوحي أن الله خلق في قلبه علمًا بذلك لا يعرف مصدره، وهذا هو الإلهام. ولكن ورد في الحديث ذكر الإلقاء والنفث في الروع مضافًا إلى روح القدس، فيدل على أنه يكون من القسم الثالث وهو الوحي بواسطة الرسول، والكل وحي، وهذا الأول ما يكون بغير واسطة. هذا النوع من التلقي عن الله تعالى يحصل في روح النبي دفعة واحدة من غير أن تكون الروح متعلقة بشيء من الأشياء التي تشغلها عن الحس؛ لتجتمع الهمة ويتم الانسلاخ عن العالم المادي، والاتصال بالعالم الروحاني، وهو الوحي بدون واسطة مطلقًا، وأما النوع الثاني فهو ما يقيض فيه للنبي ما تتعلق به نفسه ويشتغل به حسه، حتى تجتمع الهمة ويصح توجه الروح وتبلغ الكمال في قوتها العقلية، بعد الانقطاع عن الشواغل الكونية، فيكون ذلك حجابًا له بين عالم الغيب وعالم الشهادة، ويأتيه الوحي من وراء هذا الحجاب، ومن ذلك النار التي رآها موسى عليه السلام في الشجرة فطار إليها لبه، وعلق بها قلبه، وانحصرت في مشكاتها روحه، فكان منها فتوحه، وجاءه منها العلم والحكم {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء: 164) وكل كلامه تعالى يسمى وحيًا، ولذلك قال عز وجل: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} (طه: 13) . وبقي التلقي عن الله تعالى بواسطة المَلَك المسمى بالروح، وهو القسم الثالث المُعَبَّر عنه في الآية بقوله تعالى: {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ} (الشورى: 51) إلى النبي ويُعَلِّمه بما يلقيه في قلبه بإذنه تعالى ما يشاء سبحانه أن يوحيه كما قال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ} (الشعراء: 193- 194) فهذه الآية تدل على أن المَلَك يُلْقِي ما يريد الله إلقاءه للنبي في القلب، فهو خطاب للروح لما يكون بينهما من الاتصال، وقد ورد في الصحيح أن المَلَك كان يتمثل بهيئة الإنسان ويؤيده قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِياًّ} (مريم: 17) وهل يكون كلامه حينئذ ككلام البشر كما في حديث الإيمان والإسلام والإحسان، أم هو مناجاة روحية على كل حال كما هو ظاهر قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) أم يكون تارة هكذا، وتارة كذلك؟ الله ورسوله أعلم. م (62) الوقوف عند النصوص: علينا أن نفهم النصوص وما لنا أن نزيد فيها ولا ننقص منها؛ لأن هذا مما لا يُعْرَف إلا بالقياس، ولا مجال في حقيقته للعقل ولا للحواس، وما اختلف المختلفون وفرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا همُّ كل فرقة الرد على الأخرى، إلا لتسمية هذا الوحي بأنواعه كلام الله تعالى، وإيحائه تكليم الله عز وجل، ولو لم يرد إلا لفظ الوحي والإيحاء، والتعليم والإنباء، كقوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ} (النساء: 113) وقوله تبارك اسمه: {نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التحريم: 3) لما كان لهم أن يقولوا ما قالوه في الصفة النفسية والصفة اللفظية، ولا أن يثبتوا له سبحانه صوتًا وحروفًا إلى غير ذلك مما نمسك عن الخوض فيه عملاً بهدي الراشدين، وفي الحديث الصحيح (أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع أحيانًا كصوت السلسلة على الصفوان) ، ولعل ذلك حجاب كنار موسى، وقد علمنا من الآية أن القرآن الكريم أطلق لفظ التكليم على الوحي الذي بمعنى الإلهام، ورؤى المنام، والذي بواسطة الحجاب، والذي بواسطة الروح الذي ينزل على القلب، وظواهر الآيات تنأى بك عن قياس التمثيل، وتربأ بنفسك عن القال والقيل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأسئلة والأجوبة الدينية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة الدينية (1) من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: من أين أخذتم وتأخذون الأحكام التي أجبتم وتجيبون بها على أسئلتنا عدا ما نقلتموه عن الغزالي؟ أهي باجتهاد منكم خاصة أم من مذاهب الأئمة المجتهدين أم خليط من هذا وذاك؟ اهـ بنصه. (ج) لا نكتب جوابًا على إطلاقه إلا إذا قام عندنا دليل على صحته توصلنا إليه ببحثنا واجتهادنا، ولم نكتب جوابًا مخالفًا لمذاهب الأئمة المجتهدين. *** (2) ومنه: هل يصح للمناظر أن يستدل بأقوال الأصوليين والمتكلمين والمحدِّثين والمفسرين والفقهاء المجتهدين والصوفية طبقة بعد أخرى؟ أم لا بد أن يكون الدليل من الكتاب والسنة ليس إلا؟ وهل الإجماع والقياس من أصول الدين كالكتاب والسنة في الاستدلال أم لا؟ وهل الآحاد لا يجوز العمل والاستدلال بروايتها إذا ثبتت صحتها؟ وإلا فما الفائدة منها؟ اهـ بنصه. (ج) إنما يستدل المناظر بما تقوم به الحجة على خصمه، فمن كان يناظر من يحتج بكلام هؤلاء العلماء، يصح له أن يحتج عليه بكلامهم لأجل الإلزام كما هو معلوم من فن المناظرة، وأما الإجماع والقياس فالجماهير يعدونهما من أصول الاستدلال في الفقه على خلاف ترونه في محاورات المصلح والمقلد الآتية، وبهذا تعلمون أنهما ليسا محل وفاق كالكتاب والسنة، وأما أحاديث الآحاد الصحيحة فيحتج بها في كل ما يُكتفى فيه بالظن كالأحكام، وأما ما يُطلب فيه القطع كالاعتقادات فلا يُستدل عليه بالآحاد، هذا ما اتفقوا عليه في جملته. وفي التفاصيل والجزئيات خلاف الحنفية في ترك أحاديث الآحاد التي تخالف القياس الجلي. *** (3) ومنه: ما نقلتموه عن الغزالي من تقسيم العلوم إلى محمود ومذموم ليس غرضنا؛ وإنما مرادنا هل قال أحد من المجتهدين بمنع تعلم وتعليم العلوم النافعة في الدنيا والآخرة الخالية من الإلحاد والمفسدة، حتى يمكن أن يقال: إن مذاهبهم فيها ما يمنع الترقي المادي والمعنوي؟ وهل علم الكلام وعلم التصوف وتدوينهما فنًّا مستقلاًّ كغيرهما من العلوم الحادثة بحدوث الإسلام على ما ذهب إليه أئمة الهدى، ومصابيح الدجى من جمهور أهل السنة والجماعة يُعَدُّ مفسدة في الدين والدنيا؟ وإذا كان كذلك فما حكم من عمل بهما من المسلمين؟ وإلا فما معنى انتقاد تدوينهما والأخذ بأحكامهما؟ اهـ بنصه. (ج) ما كان يخطر في بالنا أن أحدًا يسأل السؤال الأول، فكيف يسأله من يُعلم من توقيع مكاتبيه أنه (خادم العلوم والآداب) ، وكيف يمنع مجتهد في العلم تعليم ما ينفع في الدنيا والآخرة ولا ضرر فيه مطلقًا! ! ! أما العلوم النافعة في الدين فهي علوم المجتهدين الذين تعنيهم، وأما العلوم الكونية التي يرجى أن ترتقي بها مدنية المسلمين وترتقي دنياهم فلم تنتشر فيهم إلا بعد الأئمة الأربعة، وقد شنَّ الغارة على أصحابها علماء مذاهبهم وذموا علومهم وحرموها، ورموا المشتغلين بها بالكفر والإلحاد كابن سينا وابن رشد والفارابي والغزالي وكمال الدين بن معية وأضرابهم. وما زالوا يطاردونهم ويستعينون بالأمراء عليهم حتى اضمحلوا وتلاشت علومهم، ثم عادوا إلى الاعتراف بفضل بعضهم كالإمام الغزالي الذي حكموا بإحراق كتابه (إحياء علوم الدين) في الشرق والغرب حتى كان يُحرق في أسواق القاهرة أكداسًا أكداسًا، وما أجمعوا على فضله بعد موته إلا لأنه زهد في الدنيا، وقضى سائر عمره في التأليف في الأخلاق والرقائق، وقد كان من تأثير هذه الغارة أن المسلمين تركوا تلك العلوم حتى الطب منها، وقد شكا الغزالي في إحيائه من فقد الأطباء المسلمين، ومما كذَّب به مزاعم الفقهاء الذين يزعمون أنهم يشتغلون بدقائق الفقه؛ لأنه فرض كفاية أنهم لو كانوا صادقين لأحيوا فن الطب؛ لأنه من فروض الكفايات المتروكة بخلاف الفقه، ولا يزال فقهاؤنا إلى اليوم يذمون علوم الدنيا مع علمهم بأن الدين لا يحفظ إلا بالدنيا، وأن القوة فيها موقوفة في هذا العصر على هذه العلوم والفنون. ولعل السائل لم ينس المقالات التي كتبت في المؤيد منذ نحو سنة في ذم الحساب والهندسة وتقويم البلدان، فالمنتقدون في هذا المقام ينتقدون أمثال هؤلاء الذين يعتقد عامة المسلمين أنهم حفظة الدين، لا أنهم ينتقدون الأئمة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهم. وأما علم الكلام فقد حدث في الملة على عهد الأئمة، فحرَّموه وذمَّوه، وقد نقلنا أقوالهم في ذلك في المسألة (52) من الدرس السابع عشر من الأمالي الدينية المنشور في الجزء الأخير من مجلد المنار الثالث، وقد جمعنا ثمة بين أقوالهم، وبين ما ذهب إليه الخلف من استحسان علم الكلام والقول بلزومه، فراجعه. وأما علم التصوف فهو على قسمين: القسم الأول ما يتكلمون فيه على تهذيب الأخلاق وتأديب النفوس بآداب الدين، ومحاسبتها على الإخلاص لله تعالى، ومطالبتها بكمال التوحيد الذي لا يشهد صاحبه فعلاً لغير الله تعالى، ويرى الخلق مسخرين في قبضته، مع عدم الغفلة عن الأسباب التي اقتضتها الحكمة وتم بها النظام، وهذا هو لباب الشريعة، ورجاله رجال الرسالة القشيرية وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم، وكان هؤلاء على طريقة الصحابة والتابعين في أخلاقهم وآدابهم وزادوا عليهم الكتابة والتأليف - ونعمت الزيادة - والمبالغة في ترك الدنيا وذمها زهدًا فيها، وقد كان لهذا أثر بيّن في كسل المسلمين وتقاعدهم عن الترقي في الدنيا، وقد بيَّنا عذرهم في بعض ما كتبنا، ولعلنا نذكره في المنار بعد، وهذا القسم من التصوف يسمونه التخلق. والقسم الثاني: يسمونه التحقيق، وعلمه علم الأسرار، ويتكلمون فيه عن الأذواق والمواجد، وعما وراء الحس من عوالم الغيب، وعن الذات الإلهية والصفات العلية ووحدة الوجود، وهنالك المهامه الفيح، والجبال الشاهقة، والبحار المغرقة التي تاه فيها الأدلاء، وغرق فيها الملاحون، وكان التأليف فيها طامة كبرى ومصيبة عظمى، ولقد كان الشيوخ الأجلاء يُنْكِرُون الكلام فيها، فما بالك بالتأليف حتى إن الأستاذ الجنيد أفتى مع الفقهاء بقتل الحلاج، أما منبع هذه الطريقة فهو الصين، ثم انتشرت في الهند، وانتقلت وساوسها إلى اليونان، ولما امتدت الفتوحات الإسلامية، وامتزج المسلمون بجميع أمم الأرض مزجوا علومهم بما أخذوه عن تلك الأمم، وصبغوه بصبغة الدين، ولوَّنوه وذهبوا فيه مذاهب شتى، وكان أشد تلك المذاهب فتكًا في الإسلام مذهب الباطنية وله شُعَب وفروع، وقد راج كثير من مسائله على كثيرين من أهل السنة باسم هذا القسم الثاني من التصوف، وقد شرحنا هذا في أجزاء من المنار وسنفصله بعد تفصيلاً، وقد شن الغارة المتكلمون والفقهاء على أهل هذا القسم من المتصوفة، وأفتوا بكفرهم، وساعدهم عليهم الأمراء بالقتل والنفي، وأتذكر أنهم سلخوا جلود عدد كبير منهم في مصر القاهرة في يوم مشهود، وربما أُخذ البريء بجريرة الأثيم، وقُتل الصادق بذنب المارق. والحاصل أن الميزان الذي يُعرف به الحق والباطل والراجح في دين الله والمرجوح هو كتاب الله المعصوم والسنة النبوية الشريفة المبينة له، وسيرة أهل الصدر الأول العاملين به على أكمل الوجوه، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويُردّ عليه، إلا المعصوم كما نُقل عن الإمام مالك رضي الله عنه. وقد طال الكلام وسنجيب على بقية الأسئلة التي تفيد الأمة في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ التربية والتعليم بالفانوس السحري والتمثيل والمعارض [1] (المكتوب 29) من هيلانة إلى أراسم في 3 فبراير سنة 185 لقد وهمت أيها العزيز في دعوى أن ذلك الهيكل الذي تمنيت إقامته للعلم لا يوجد ولن يوجد؛ فإنه موجود بالفعل في سايدنهام [2] على غاية القرب من لوندرة، واسمه القصر البلوري، وفي نيتي أن أزوره أنا وأميل متى أمكنتني الفرص، وصار في سن يؤهله لإدراك ما فيه من مواد التعليم، نعم إني لست على يقين من مطابقة طريقة بنائه لآرائك تمام المطابقة؛ ولكن أقل ما فيه على ما سمعته عنه أن القصد من إنشائه موافق لقصدك، وقد يدهشك أن تعلم أن ليس للحكومة يد في بناء هذا القصر العامي - وإنما أصفه بذلك؛ لأن المقصود الأصلي من إقامته إنما هو تربي طبقات العامة - فإن كل ما فيه من البساتين الواسعة، والبناء البلوري، والآثار القديمة، والتماثيل وجمل الأشياء المفيدة ملك لجماعة من المتساهمين، وقد عهد برفعه إلى مشاهير العلماء والصناع والأثريين، فكانوا يباشرون بأنفسهم إفراغ المواد في القواليب، وتحصيل مُثل الأشياء؛ ذلك لأن الإنكليز إذا قصدوا تحقيق غرض مفيد أو إنشاء معهد جديد لمنفعة عامة اعتمدوا على أنفسهم بسبب ما آتتهم ضروب الحرية، ووسائل العمل الذاتية من قوة العزيمة وشدة البأس غير راجين من الحكومة مساعدة مالية ولا قولية، لعلمهم أن العمر ينقضي دون الوصول إلى ما يرجون، فهم متى أرادوا أقاموا تماثيل لعظمائهم، ورفعوا هياكل لفكرة يبديها الواحد منهم. أراك تشكو من عدم وجود معاهد للتمثيل عندنا خالصة للأطفال، فاعلم أن لأطفال الإنكليز واحدًا منها؛ ذلك أنك في صبيحة عيد الميلاد تجد معظم تلك المعاهد كأنها قد انفكت عن الاختصاص بالروايات الجدية والهزلية، ولا يقبل فيها من الكبار إلا من كان مولعًا بسماع الأساطير، كأسطورة إهاب الحمار [3] وأسطورة الأصيبع، فكل واحد منها يصح أن يعنون بمعهد الرؤوس الشقر؛ لأن الأطفال في شهرين أو ثلاثة من السنة يكونون هم المتصرفين في اختيار نوع الآلاهي العامة، والمتمتعين بكل ما في المعاهد من المقاعد المخملة والموسيقى وضروب الغرور والفتنة، ويؤكد لي الناس هنا أن كثيرًا من تلك المشاهد يحصل فيه التمثيل مرتين في اليوم، إحداهما بعد الظهر لمن يتعجل في النوم من الأطفال الذين لا يقوون على السهر، والثانية في العشي لليافعين والآباء والأمهات وللشيوخ الذين حفظوا للشباب في ناحية من أذهانهم شعاعًا من ضيائه، ولمعة من بهائه، وينبغي على ذلك أن أول شرط يلزم تحقيقه في النظارة أن يكونوا صبيانًا أو مستصبين، وإلا فكيف يروقهم سماع ما يروى هنالك من أقاصيص الجن، وما يتمثل من الأضاحيك؟ نعم إن مواضيع تلك الألاهي البهجة هي في الجملة غاية في الابتذال، وإنك لتأسف على ما يضيع في سبيل تربية الإدراك بهذه الأماكن من نفقات الزينة والثياب، وغيرها من عتار التمثيل؛ لأن ما يحصل فيها من تغيير المناظر قلما يفيد إلا إثارة وجدان الإعجاب والدهشة؛ ولكن ما أشد ما يبديه الأطفال عندها من دلائل الفرح المنبعث عن السذاجة، وما أبلغ ما يظهر من تشوفهم إليها، وأعظم ما يكون من بريق أبصارهم وحملقتها بسبب استغرابها والافتتان بها، خصوصًا إذا جاء دور ذلك المنظر المعروف المسمى منظر الانقلاب والتحول، فلشد ما تخفق القلوب هنالك خفة ومرحًا. ومهما كان في تلك المرائي من الابتذال فلا ينبغي أن يستخف بما يتجلى للأطفال فيها من تلك القصور المسحورة، وأمطار العسجد والشرر والأنوار المشتملة على جميع ما يرى في الفجر القطبي من الألوان المتباينة، والجزر السعيدة (الجزائر الخالدات) والنساء العائشة في السحب، وفي الأشجار والأزهار؛ وبالجملة لا تصح الاستهانة بتلك المخترعات الخيالية العامية التي تمثل في أضاحيك المناظر، فأينما طار بنا الخيال وإن على أجنحة من الورق المقوى ولم يرفعنا إلا قليلاً؛ فإنه يفكنا ساعات مما يبهظنا من أغلال العوائد والحاجات، تلك المناظر الغرارة لن تنفك أن تكون محبوبة للعامة والأطفال؛ لأنها تفتح جزءًا من أبواب الكمال المطلق البالغ أقصى غاياته. لما رأيتني لا أملك الآن الذهاب بأميل إلى القصر البلوري، ولا إلى معهد التمثيل عولت على الاستعانة بآلة يطاف بها هنا في المدن والقرى، وهي الفانوس السحري وكأني بك تضحك من ذلك؛ ولكن أي مانع يمنع من أن تكون تلك الآلة المستعملة لتحصيل اللذة والإعجاب من وسائل التعليم أيضًا، فليس ذنبًا للفانوس السحري أنه قلما استعمل إلا لتمثيل الصور المضحكة الغريبة في دارة مضيئة، بل إنه لا يكون إلا مفيدًا إذا قصد به الجد، ولو أن العلماء تفضلوا على المصورين بإرشادهم إلى ما يختارون من مواضيع العمل، وإلى طريقة التصوير على الزجاج لأدى الفريقان للأطفال فيما أرى فوائد، وقد سمعت أن المتولين أمر التربية في إنكلترا سبقوا إلى اتخاذ هذه الطريقة في بعض المدارس لتأدية شيء من معاني علم الفلك وتقويم البلدان والتاريخ إلى عقول الناشئين. أنت تعلم أن علماء الفلك قد رسموا صور الأجرام السماوية الكبرى، وخططوا آثار ذوات الذنب والشهب والخسوف والكسوف، أو انتزعوا صورها بآلة التصوير (الفتوغراف) فلو أننا أردنا أن نجعل الفانوس السحري الذي هو الآن مشهد الأوهام والمغالطات مشهدًا للحقائق أيضًا، كفانا في ذلك أن ننسخ على زجاجة رسوم السماء وما فيها مصورة على الحالة القطرية تصويرًا مضبوطًا. إذا كان المراد تمثيل الأرض في هذه الآلة، فلست على يقين من صلاحيتها لتحصيل صور جميع ما فيها من سلاسل الجبال الكبرى، ومجاري الأنهار العظمى ومجاهل الصحاري المريعة، وشكل السواحل الوعرة المغمورة بالمحيط، ولا حيلة لنا في ذلك، فعلينا أن نكتفي بمبلغ طاقتنا من تصويرها فيها، على أن الطفل يروقه نظر الأشياء تفصيلاً أكثر من النظر إليها جملة، فهو إذا نظر إلى صور الأقاليم وهيئاتها؛ فإنما يلتمس أثرًا يريعه ويدهشه كصخرة غريبة الشكل، أو نبات أجنبي، أو حيوان عجيب، أو إنسان مغاير لنا بلون جسمه. وأما التاريخ؛ فلا شك في صلاحية الفانوس السحري لتعليمه؛ فإنه يتأتى به إحضار خيالات من يتحدث عنهم من الماضين، فلا مانع من أن ترسم على صفحته صور الشجعان الغابرين بزيهم وبزتهم، وصنوف ما وجد من الصور الغريبة كأبي الهول، والثيران ذات الأجنحة وذات الرؤوس الإنسانية واللحى السوداء، والجنيات، والآلهة، وغيرها من الصور الخرافية؛ لأنها إذا خرجت من الليل فلا عجب أن تعود إليه. أنا لسوء حظي لست عالمة ولا مصورة؛ ولكني أرسم رسمًا مناسبًا لحالتي، وكنت أرى منك أحيانًا استحسان رسومي الكثيرة الألوان، نعم إني لا أحسن طريقة التصوير على الزجاج؛ فإنها حرفة تُتعلم وكمال سأفتخر بأن يكون (أميل) هو صاحب الفضل علي في كسبه وأصعب عليَّ في ذلك فيما أرى؛ إنما هو الحصول على مُثُل متقنة؛ لأني إخال أن الواجب على المربي أن يكون دقيقًا فيما يعلمه الطفل وأكره أن لا أبرز الأشياء لولدي في صورها الصحيحة، وقد وعدني الدكتور وارنجتون - وهو موافق لي في كثير من أفكاري - أن ينتقي لي من لندره صورًا منتزعة بآلة التصوير (الفتوغراف) أو رسومًا أُخذت من علماء الطبيعة وعلماء الآثار والسياح، وأنا بفضل معونته على أمل من إنشاء مشهدي الصغير عما قليل اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

تعليم العربية في المدارس تأخره في تقدمه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعليم العربية في المدارس تأخره في تقدمه أحسب الناس أن تقدم اللغة العربية بلغ من النجاح أن يُمتحن في فنونها مائتان وخمسون طالبًا وأربعة نفر، فلا يخيب منهم إلا الأربعة والباقون نجحوا في امتحانها؛ وأنها قد بلغت نصابها واسترجعت شبابها؟ كلا إن الناس متعجبون من نتيجة الامتحان في هذا العام لا معجبون، وإنهم يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، وإننا نشير إلى الحقيقة بمجمل من القول. من المعلوم لأكثر الناس أن التلامذة لم يسألوا في هذه السنة إلا ثلاث مسائل سهلة جدًّا، وكانوا يسألون في كل عام عشرة مسائل دقيقة كالألغاز ربما لا تخطر في بال عالم؛ ولذلك كان الناس يشكون مع التلامذة من الإفراط في التشديد بالامتحان، وكأن سكرتير المعارف المستر دنلوب أراد أن يزيل شكواهم، فأفرط في التساهل حتى جعل الشكوى أعم وأكثر، ورجال لجنة الامتحان مستسلمون لأمره، وإرادتهم فانية في إرادته. والمتبادر أن المنوط بهم أمر الامتحان كانوا عازمين على جعل الامتحان في هذا العام كما كان في العام الماضي لولا السكرتير، وإن أول من خضع للأمر مع علمه بعدم كفاية المسائل الثلاث هو الشيخ ذو المكانة الأولى في اللجنة، والذي كان يرجى أن يكون أعز أنصار اللغة العربية، ويقال: إن شابًّا من اللجنة تربى تربية إنكليزية عارض في ذلك، ودافع عن اللغة العربية، أما حجة الشيخ في امتثال الأمر فهي أن صيغة الأمر عند علماء الأصول حقيقة في الوجوب مجاز في غيره، وأما حجة الشاب فهي أن هذا اجتهاد من السكرتير في المصلحة، وأن تقرير مسائل الامتحان موكول إلى اجتهاد اللجنة؛ لأنها أعرف بالمصلحة، والمجتهد لا يقلد مجتهدًا، وللشيخ في دفع هذا أنه لا بد من تنفيذ الأمر على ظاهره؛ لأن الاجتهاد لا يصح أن يعارض النص كما هو مبيَّن في علم الأصول، وللشاب أن يقول في دفع الدفع أنه يمكننا التوفيق بين أمر السكرتير وبين المصلحة بأن نضع ثلاث مسائل جديدة تتضمن العشر، وبذلك نسلم من المخالفة ومن الغش في العمل، وينطبق قوله هذا على قواعد الأصول، لقولهم بتأويل نصوص الكتاب والسنة إذا خالفت المعقول، إلا أن يعود الشيخ فيدعي أن اجتهاده موافق لاجتهاد السكرتير في الاكتفاء بثلاث مسائل بديهية عن عشرة عويصة؛ ولكن للشاب الحجة عليه بأنه كان مقررًا للعشر في كل عام، فليس الانقلاب الآن عن اجتهاد؛ وإنما هو عن استسلام. ويظهر أن سائر الأعضاء كانوا منقادين مع ذلك الشيخ الكبير إلى العمل بظاهر الأمر من غير بحث في موافقته للمصلحة التي أنيطت بهم، كأنه أمر منزل ونص قاطع لا يحتمل التأويل، ولولا ذلك لم يُنَفَّذْ ولكنه نُفِّذ كما يعلم من جميع التلامذة، وهذا الاستسلام مبني على أنهم يعتقدون أن السكرتير أمر بما أمر وهو عالم بأنه خلاف المصلحة فهم في الحقيقة خاضعون لما يظنون أنه يهواه ويميل إليه، ولو كانوا يعتقدون أنه يقصد من الأمر بتيسير الامتحان المصلحة؛ ولكنه بالغ في التيسير حتى صار مفسدة لراجعوه وبيَّنوا له الحد الوسط، ولو فعلوا ذلك بالاتفاق لما خالفهم، وإن كان يُقصد إماتة اللغة العربية كما يقول الناس. التربية الإنكليزية سيقول الذين يسيئون الظن بالإنكليز عامة، وبالمستر دنلوب خاصة، ويتهمونهم بالسعي في إماتة اللغة العربية؛ لأنها لغة الدين الإسلامي: ما بال هذا الشاب هو الذي تصدى للمدافعة عن اللغة العربية، مع أنه لا يتميز على الأستاذ إلا بكونه تربى وتعلم في البلاد الإنكليزية، والإنكليز لا يُعَلِّمون المصريين في بلادهم إلا ليستعينوا بهم على تنفيذ مقاصدهم في مصر؟ وللإنكليز أن يجيبوا هؤلاء بقولهم: إن الذي نعلمه ونربيه لا يخلو من أحد حالين: إما أن يتعلم منا كيف يخدم بلاده ويعلي شأن أمته؛ لأننا نحب ذلك، أو لا نعارض فيه، وإما أن يأخذ عنا من الاستقلال في الفكر وفي الإرادة ما يمكنه أن يجاهدنا به في ميدان الحياة، فإذن لا نجاح لكم إلا بالتربية الإنكليزية، لا سيما إذا ترشح لها الخيار منكم. كلمتا اللورد كرومر وحكمدار الهند أما الدليل على ترجيح الشطر الأول فهو ما قاله الفيكونت كرومر وكيل دولتنا عندكم في تقريره عن مصر، وما قاله حكمدار الهند في خطبته في كلية عليكدة، أما الأول فقد قال بعد الحث على التعليم الصناعي، وتعليم البنات، وموافقة شورى القوانين على توسيع نطاق المدارس الأهلية ما ترجمته: (من الشواذ الكثيرة في هذا القطر، بل من أغربها أن الشبان المصريين يهتمون الآن بتعلم اللغة الإنكليزية أكثر مما يهتم الإنكليز بتعليمهم إياها؛ وسبب ذلك واضح، وهو أن المصريين عمومًا يحسبون أن حصولهم على وظائف الحكومة يكون أسهل عليهم وهم يعرفون الإنكليزية منه وهم يجهلونها، والمرجح أنهم مصيبون في ذلك إلى حد محدود، أما الإنكليز الذين يعرفون أحوال المصريين وما يحتاجون إليه، فينظرون إلى هذه المسألة من وجه تعليمي ولا رغبة لهم في جعل البلاد إنكليزية، بل يودون الاقتصار من تعليم الإنكليزية والفرنساوية على ما تمس إليه الحاجة ويفيد المصريين أنفسهم، ولا يضلهم الرأي السطحي وهو أن درس الفرنساوية والإنكليزية يتضمن إيجاد الأميال السياسية؛ لأن هذا الرأي خطأ في الغالب على ما أرى) . إلى أن قال: (ويظهر من آخر إحصاء أن الذين يتعلمون لغات أجنبية في المدارس التي تحت إدارة نظارة المعارف العمومية هم 5835 ذكورًا وإناثًا، ومن هؤلاء 4984؛ أي: 85 في المائة يتعلمون اللغة الإنكليزية، ولا بد من تعليم هؤلاء بلغة أجنبية، ومن أسباب ذلك أنه ليس في العربية كتب للتعليم في العلوم التي يتعلمها التلامذة؛ ولكن التوسع فيه وراء هذا الحد غير محمود العاقبة؛ ولذلك أحذر بكل جهدي من جعل اللغات الأجنبية مما يعلم في الكتاتيب، ويجب أن يبقى التعليم الآن باللغة العربية وحدها، وخلاصة القول في هذا الموضوع أن اجتهاد الذين يهمهم أمر التعليم في هذا القطر يجب أن يكون مصروفًا بنوع خاص إلى إصلاح التعليم الصناعي وتوسيع نطاقه، وإلى تعليم البنات وترقية التعليم الابتدائي بواسطة الكتاتيب حتى يرتفع مقياس المعرفة في البلاد كلها؛ إذ لا يخفى أن الإحصاء الأخير دل على 89.5 في المائة من ذكور المصريين، و 99.7 في المائة من إناثهم لا يعرفون القراءة والكتابة) اهـ. وأما الثاني فقد قال في خطابه: وها نحن أولاء قد فتحنا باب القرن العشرين وكيفما تكون النتائج والتقلبات التي تظهر في هذا القرن، فلا خلاف في أنه سيكون مملوءًا بالحركة العلمية، مفعمًا بأنوار العلوم والمعارف، ومثل الذي يوجد في هذا القرن بغير تربية مثل الفارس الأعزل في القرون الوسطى التي لم يكن للإنسان فيها أنفع من سلاحه مدافعًا عن حقوقه، أو حافظًا لكيان وجوده؛ ولذلك أرى أن أحسن سياسة ترقى بالأمة المحكومة إلى طريق الفلاح هي سياسة تساعدها على حفظ كيانها بين تيارات المنافسات، وازدحام الأقدام في عالم المباراة، ولهذا ينشرح صدر كل حاكم في الهند حينما يرى المسلمين فيها من سنيين وشيعيين على حد سواء آخذين بأهداب العلم في سبيل التعليم والتربية، وأنهم جاوزوا نقطة الابتداء في وقت تقدمهم به منافسوهم في حلبة هذا السباق، نعم يمكن للمسلمين أن يسابقوا غيرهم إذا هم تعلموا كيف يسابقون، وهو ما عرفوه مرة قبل هذا الوقت في أيام كان فيها للمسلمين السطوة والسلطان، وكان قضاتهم يحكمون بالعدل بين الناس، وفلاسفتهم وأئمتهم يؤلفون الكتب النفيسة، إلا أن طريقة السباق القديمة أصبحت اليوم متأخرة، ويحتاج الإنسان إلى حركة أخف وأنشط من الأولى، فيلزمكم أن تذهبوا إلى المدارس، فتُلقنوا عن الأساتذة الماهرين في الصناعة الحديثة كيف تكون خفة الأقدام، ودقة السيقان اللازمة للمسابقة في مستقبل الأيام، وإنني أعتقد بناءً على ذلك أن المرحوم السير سيد أحمد خان ومن ساعدوه في هذه النهضة لم يبرهنا على صدق وطنيتهم وحميتهم فقط، بل برهنوا أيضًا على أنهم نظروا نظرة سياسية دقيقة، وعرفوا أن الواسطة الوحيدة والعلاج الناجع الذي يعيد للمسلمين شيئًا من سابق مجدهم هو العلم والتربية، ولو كنت أميرًا من أمراء المسلمين، أو غنيًّا من أغنيائهم لما أضعت خمس دقائق تمر علي لا أفكر بها في أية وسيلة أفيد بها أبناء ملتي، وأرقي بواسطتها إخواني المسلمين في هذه الديار، وكنت أحصر مساعيَّ في التعليم والتربية، أجل في التعليم والتربية لا سواهما. وكون هذه خطتكم هو مما لا مُشَاحَّةَ فيه كما سمعت اليوم من الخطبة التي تليت أمامي، فأنتم تقولون فيها أنه لا أمل لكم في إعادة شيء من ماضي مجدكم وعزكم إلا بضم العلوم العصرية إلى علومكم، حقًّا لقد أصبتم كبد الحقيقة، تمسكوا بدينكم الذي اجتمعت فيه أصول الرفعة والشرف ومنابع الحقيقة، واجعلوا ذلك أساسًا لتربيتكم وتعليمكم؛ لأن التربية بغير أساس ديني كبنيان القصور على الهواء، وإن كان أولاد المدارس الابتدائية والعالية صغار السن لا يدركون معنى هذه الحقيقة، هكذا تمسكوا بهذا المبدأ وهذه القواعد حتى تجنوا ثمرة شجرة التربية التي كانت نامية أحسن نمو في الحدائق الشرقية، والآن صارت تنمو في الغربية اهـ المراد منه، ومما تقدم يعلم أن جُلّ بلاء المسلمين من أنفسهم.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هدايا وتقاريظ (الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية) كان شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى مجدد علم الدين، ومحيي السُّنة في أول القرن الثامن للهجرة الشريفة، وكان قد بعد عهد المسلمين بأخذ أحكام دينهم من الكتاب والسنة، كما كان سلفهم في القرون الثلاثة، فأراد الرجوع بهم إلى ذلك فألَّف في أهم المسائل كتبًا ورسائل يستمد فيها من ذلك الينبوع الأعظم، ويذكر أحيانًا خلاف الأئمة المشهورين، ومن أعظم تصانيفه فائدة رسالة الحسبة، أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي رسالة تبلغ زهاء 100 صفحة، وقد طُبعت في مطبعة المؤيد على أجود ورق، فينبغي أن يطَّلع على هذه الرسالة كل مسلم؛ لأن ركن الحسبة هو الركن الذي يحفظ سائر الأركان الإسلامية، وإهمال الأمر والنهي هو الذي أضاع الدين، ولو أقيم لقام عليه بناؤه إلى يوم الدين. *** (معارج الوصول إلى معرفة أن أصول الدين وفروعه قد بينها الرسول) وهذه الرسالة للإمام ابن تيمية أيضًا، وهي من أحسن ما كتبه، ومن أحسن ما خدم به الإسلام، وقد تعرض فيها للرد على الذين حكَّموا أهواءهم في الدين من الفلاسفة وبعض المتصوفة وغيرهم من الفرق الذين لم يرضهم أخذ الدين ببساطته التي كان عليها في عهد السلف الصالح رضي الله عنهم، كما أقام الحجة على من لم يرض الإسلام دينًا بالمرة، فنحث كل مسلم قارئ على مطالعتها. *** (المظالم المشتركة) طُبعت رسالة المعارج المنوَّه بها آنفًا في مطبعة المؤيد، وطُبع معها في الذيل رسالة المظالم المشتركة، أي: التي تُطلب من الشركاء، وقد بين حكمها وكيفية مراعاة العدل فيها بالنسبة للطالب والمطلوب، ولا يستغني المتدين المبتلى بهذه المظالم من الاطلاع على هذه الرسالة، والمشتغلون بالعلم الإسلامي أحوج الناس إلى الوقوف عليها، جزى الله مؤلف هذه الرسائل وناشرها خيرًا. *** (كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة ومعرفة جيد الأعراض من رديها وغشوش المدلسين فيها) من يطلع على اسم الكتاب أو يسمع به، يظن قبل العلم بمؤلفه أنه من وضع المتأخرين؛ لأن جهل الأكثرين منا بتاريخ سلفنا يوهمهم أنه لم يكن للتجارة عند السلف من الشأن ما يحملهم على التأليف فيها؛ ولكن الكتاب من تأليف الشيخ أبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي من علماء القرون المتوسطة، وقد وجد في أحد نسخ الكتاب أنه تم في سنة 570، والظاهر أن هذا تاريخ تأليفه لا نسخه، وفي الكتاب فوائد اقتصادية نافعة، ويُعْرَف منه تاريخ التجارة وحالها في تلك الأيام، فنحث القراء على مطالعته. *** (السياسة الشرعية في حقوق الراعي وسعادة الرعية) كتاب وجيز ألفه بالتركية العلامة الشهير جمال الدين أفندي قاضي مصر السابق تغمده الله برحمته، ونشره بالعربية بإذن الورثة الأديب الملقب بأصمعي، والكتاب مشتمل على مسائل نافعة، ومباحث مفيدة في مشروعية السياسة، وأداء الأمانة، واختيار العمال، والاستشارة، والقضاء، والإمارات والمصالح المرسلة، ويتلو هذا فصل في الحقوق العمومية، يتكلم فيه عن الحبس والعقوبات والعمل بالقرائن وبالفراسة، وأقسام المتهمين وعن الرشوة والسعاية، ويتكلم في فصل آخر عن شروط الإمامة، وفي فصل آخر عن المشورة وتنظيمات أوربا، وفي فصل آخر عن العدل والظلم، وفي فصل آخر عن الولايات والوزارات والحرب، وفي فصل آخر عن الفضائل والرذائل، وفي فصل آخر عن تأثير الدين في الأخلاق، ويلي ذلك فصول في الوعظ، وفي الإنسان، وفي السياسة، وفي طبائع البشر، وفي أسباب ضعف الحكومات الإسلامية وانحطاطها، وفي الخلفاء الأمويين والعباسيين والفاطميين، وفصل فيما أنتج اختلاف العلماء على الأمة وعدم اجتماعهم على مصلحتها وما فيه نجاحها. ومما نذكره مع الشكر لله تعالى، ثم للمؤلف أن في الكتاب اقتباسًا كثيرًا من مجلتنا المنار، لا سيما في هذه الفصول الأخيرة؛ فإن معظمها مأخوذ بحذافيره من مجلد السنة الأولى، وحسبنا حجة على المقلدين والموسوسين أن مثل هذا العالم الكبير موافق لنا في رأينا، لا سيما في العلماء واختلافهم وعدم تكاتفهم على ما ينفع الملة والدين، والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا في مطبة دار الترقي العامرة، وثمنه خمسة قروش أميرية، وهو ثمن بخس، ويباع في مكتبة الترقي ومكتبة الشعب في شارع محمد علي وغيرهما. *** (فصل الخطاب في المرأة والحجاب) مصنف جديد ظهر في هذه الأيام لحضرة الفاضل محمد طلعت بك حرب، وضعه للرد على كتاب (المرأة الجديدة) كما ألَّف كتاب (تربية المرأة والحجاب) للرد على كتاب (تحرير المرأة) ، وقد سلك في هذا المصنف مسلك الإلزام، فعرَّب بعض ما كان كتبه الفاضل قاسم بك أمين في المدافعة عن الحجاب ردًّا على الدوق داركور الفرنسوي، واحتج من جهة الدين برسالة الاحتجاب التي ألفها قاضي مصر السابق، ثم بجملة من شرح نهج البلاغة لصاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، ثم بنبذ من ثلاثة أجزاء من المنار. وبعد أن ذكر حكم المنار بغلو قاسم بك أمين في مسألة الحجاب واعتذاره عنه بأنه إفراط في مقابلة التفريط في التشدد بالحجاب، حتى جعل مانعًا من العلم، وأن غرضه الرجوع إلى الاعتدال وقوله - أي المنار -: فإذا انتهت هذه المناقشات بانصراف همة الأمة إلى تربية وتعليم مع بقاء الحجاب نتقدم إلى الأمام، قال: (هذا ما قاله حضرة صاحب المنار، وهو أحسن اعتذار يقدم من صديق لصديقه بما ربما لم يكن في الحسبان، أو يخطر له على بال، فما داعية التحير والاختباط إذن والمسألة بسيطة قد حلها أئمة الدين، والمغترفون من بحرهم - حتى الذين يقدِّس رأيهم محرر المرأة - أعظم حل وأسهله) . ثم أورد من مؤلف قاسم بك في الرد على الدوق داركور نبذًا في فضائل الحجاب ومحاسنه وضرر التبرج والتهتك لم يأت بمثلها أحد ممن رد على كتابيه، وفيها من التأثير في التنفير عما عليه نساء الإفرنج، والترغيب في الصيانة والعفاف المقرونين بالحجاب، ما لم يوجد ما يقاربه في كلام مناقشيه، فدلنا هذا على أن قاسمًا من أعلم الناس بمنافع الحجاب الشرعي، وبمضار الغلو فيه، وأنه يخاطب كل قوم غلوا في طرف بالمبالغة في الطرف الآخر، فلما رأى الإفرنج يذمون الإسلام والمسلمين لأجل الحجاب ألف كتابًا في منافعه بلغتهم ألقمهم فيه الحجر، ولم يشرح فيه ما يعتقده من مبالغة المسلمين فيه، وجعلهم الجهل ضربة لازب على النساء لأجله؛ ولكنه بيَّن هذا وبالغ فيه، بل تغالى للمسلمين ولم يذكر لهم شيئًا من منافع الحجاب التي يعلمها ليرجعهم إلى الحد الوسط وهو الحجاب الشرعي الذي يقطع السبيل على الفساق الذين يجنون على العفة في الخلوات، ويهتكون حرمة الصيانة من وراء الأستار، ولا يقطع على النساء طريق التربية والتعليم اللذين يصلن بهما إلى الكمال الممكن لهن، والاستقلال في شؤون الحياة، وبهذا تبين أن اعتذارنا، بل بياننا قد أصاب كبد الحقيقة. والقول الفصل: إنه يجب العناية بتربية النساء وتعليمهن، وإننا في التربية النفسية أحوج، وإن أفضل سجايا النفس - لا سيما في النساء - العفة والصيانة، وإنه لا يتم ذلك إلا بالتربية الدينية، وإن التربية قوامها وملاكها القدوة بالمعاشرة، فإذا كان من يُراد تربيته يعاشر فاسدي الآداب والأخلاق يتربى على مثل ما هم عليه، وإن أكثر بلادنا مبتلون بهذا الفساد نساءً ورجالاً، والنتيجة الصحيحة أنه يجب حجب البنات اللائي يُراد تربيتهن عن النساء بقدر الإمكان، فما بالك بالرجال، ومتى عمت التربية الصحيحة، أو غُلِّبت يكون لها حكم آخر، فليعمل لكل وقت ما يصلح له العاملون {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: 3) . *** (رحلة الصيف) تشرف بالسفر مع حاشية الجناب العالي الخديوي إلى أوروبا في العام الماضي صديقنا الأديب الفاضل عزتلو لبيب بك البتنوني، وقد زار كثيرًا من العواصم الشهيرة، وطاف كثيرًا من المعاهد، وشاهد أبدع المشاهد، وكتب فيما رآه واختبره بنفسه رحلة مطولة أودعها من فنون الفوائد وصنوف الاعتبارات ولطائف الفكاهات ما تصبو إليه كل نفس، ويود الاطلاع عليه السياسي والاجتماعي والعالم والأديب والمؤرخ، وطبعها طبعًا متقنًا على ورق جيد، وأهدى نسخها إلى فقراء المسلمين بتقديمها إلى الجمعية الخيرية الإسلامية، فنحث أهل الفضل على مطالعتها لما فيها من الفوائد التي يحن إليها كل ذي فضل، ونحث أهل الغيرة الإسلامية على اقتنائها لما في ذلك من المساعدة على البر والإحسان، وهي تُباع في مكتبة الجمعية في قبة الغوري، وفي جميع المكاتب الشهيرة، وسنتحف القراء ببعض فوائدها في جزء آخر.

نوادر البخلاء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نوادر البخلاء ذكَّرتنا مقالة السخاء والبخل بأن نورد بعض نوادر البخلاء على سبيل الفكاهة والعبرة فنقول: كان بالبصرة رجل موسر، فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة ببيض [1] ، فأكل منه فأكثر، وجعل يشرب الماء، فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت، فجعل يتلوَّى، فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب، فقال: لا بأس عليك تقيأ ما أكلت. فقال: هَاهْ، أتقيأ طباهجة ببيض؟ الموت ولا ذلك. وأقبل أعرابي يطلب رجلاً، وبين يديه تين فغطى التين بكسائه، فجلس الأعرابي، فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئًا؟ قال: نعم. فقرأ (والزيتون وطور سنين) فقال: وأين التين؟ قال: هو تحت كسائك. ودعا بعضهم أخًا له ولم يُطْعِمَه شيئًا، فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه، وأخذه مثل الجنون، فأخذ صاحب البيت العود، وقال: بحياتي أي صوت تشتهي أن أسمعك؟ قال: صوت المِقْلَى [2] . ويُحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل، فسئل نسيب له كان يعرفه عنه وقال له قائل: صف مائدته. فقال: هي فِتْر في فتر، وصحافه منقورة من حب الخشخاش. قيل فمن يحضرها؟ قال: الكرام الكاتبون. قال: فما يأكل معه أحد؟ قال: بلى الذباب. فقال: سوأتك بدت وأنت خاص به وثوبك مخرق. قال: أنا والله ما أقدر على إبرة أخيطه بها، ولو ملك محمد بيتًا من بغداد إلى النوبة مملوءًا إبرًا، ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يطلبون منه إبرة، ويسألونه إعارتهم إياها ليخيطوا بها قميص يوسف الذي قُدَّ من دبر ما فعل. ويقال: كان مروان بن أبي حفصة [3] لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم إليه [4] ، فإذا قرم إليه أرسل غلامه فاشترى له رأسًا فأكله، فقيل له: نراك لا تأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء، فلم تختار ذلك؟ قال: نعم الرأس أعرف سعره فآمن خيانة الغلام، ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه إن مس عينًا أو أذنًا أو خدًّا وقفت على ذلك، وآكل منه ألوانًا؛ عينه لونًا، وأذنه لونًا ولسانه لونًا، وغلصمته [5] لونًا، ودماغه لونًا، وأكفى مؤنة طبخه، فقد اجتمعت لي فيه مرافق. وخرج يومًا يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن رجعت بالجائزة؟ فقال: إن أُعطيت مائة ألف أعطيتك درهمًا، فأُعطي ستين ألفًا، فأعطاها أربعة دوانق. واشترى مرة لحمًا بدرهم، فدعاه صديق له فرَدَّ اللحم إلى القصَّاب بنقصان دانق، وقال: أكره الإسراف. وكان للأعمش جار، وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول: لو دخلت فأكلت كسرة وملحًا [6] ، فيأبى عليه الأعمش، فعرض عليه ذات يوم، فوافق جوع الأعمش، فقال: سر بنا. فدخل منزله، فقرب إليه كسرة وملحًا، فجاء سائل فقال له رب المنزل: بورك فيك. فأعاد عليه المسألة، فقال له: بورك فيك. فلما سأل الثالثة قال له: اذهب وإلا والله خرجت إليك بالعصا، قال: فناداه الأعمش، فقال: اذهب ويحك، فلا والله ما رأيت أحدًا أصدق مواعيد منه، هو منذ مدة يدعوني على كسرة وملح، فلا والله ما زادني عليهما.

جمعية ندوة العلماء في الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية ندوة العلماء في الهند حيَّا الله تعالى علماء الهند أحسن تحية، وأيد بسعيهم هذه الملة الإسلامية، ووفق سائر علماء المسلمين لمثل ما وفَّقهم إليه من تأليف الجمعيات للبحث في شؤون المسلمين، وتلافي ما نزل بهم من البلاء المبين، فقد سبقوا للدخول في كثير من الجمعيات الإسلامية، ثم ألَّفوا جمعية خاصة بهم سموها ندوة العلماء، وقد احتفلت في شهر رجب الماضي احتفالها السنوي في مدينة لاهور، ومن أهم ما بحثت فيه تعيين جمعية مخصوصة لتأليف كتب نافعة في علم الموجودات على الطريقة الحديثة، وفي الرد على فلاسفة هذا العصر فيما يخالفون فيه الإسلام، وقد أرسل إلينا أحد العلماء الفضلاء كراسة مطبوعة باللغة الأوردية في شؤون الاحتفال لم نظفر بمن يترجمها لنا. وسنذكر في الجزء الآتي خطبة لأحد أصدقائنا من علماء بمبي تُليت في الاحتفال.

الطاعون في الكاب والمسلمون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الطاعون في الكاب والمسلمون كُتب إلينا من الكاب أن الطاعون قد فتك بالناس فتكًا ذريعًا، لا سيما في الجهة الجنوبية، وأن رجال الصحة من الإنكليز قد أساءوا معاملة المسلمين، وصاروا يدمرون على بيوتهم لأخذ المرضى بالقوة، ويأخذون عن كل مريض 30 أو 40 جنيهًا، ويحرقون جميع متاع البيت حتى الكراسي، ويمنعونهم من تجهيز الموتى ودفنهم على الطريقة الإسلامية، وقد أُرسل إلينا قطعة من جريدة إنكليزية ملخص ما فيها أنه اجتمعت لجنة من المسلمين والإنكليز للبحث في ذلك رئيسها المسلم الحاج محمد طالب، وأن اللجنة أقرت الحكومة الإنكليزية على عملها بأنه غير مخالف للدين؛ ولكن المسلمين هناك ناقمون على محمد طالب هذا، وكتب إلينا أنه احتج على جواز شق بطون المسلمين بأن جبريل شق بطن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا صحيحًا فالرجل مجنون لا يعول على قوله، والظاهر أن سبب الشكوى هو سوء معاملة صغار المأمورين للمسلمين، فعسى أن يلتفت كبارهم إلى تلافي ذلك. سكتنا عن (شبهات المسيحيين) ؛ لأن السائل جاءنا وأقنعناه بالقول.

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورة الثامنة بين المصلح والمقلد الاجتهاد والوحدة الإسلامية علمنا من آخر المحاورة السابعة أن الشيخ المقلد ذهب قبل إتمام الحديث لموعد كان بينه وبين آخر، وقال إنه يعود في الغد؛ ولكنه أبطأ وجاء بعد أيام يصحبه شيخ آخر فاعتذر عن الإبطاء وقال: المقلد: إن هذا الأستاذ - وذكر اسمه - صديقي منذ أيام المجاورة في الأزهر وهو قاضي بلدنا الشرعي الآن، ولما جئت البلد في فرصة العيد ذكرت له ما دار بيننا، فتمنى لو كان في القاهرة وشاركنا في المناظرة والبحث، وقد حضر في هذه الأيام بإجازة، فجئت به عالمًا أن سَتُسَرُّ بمعرفته، ولا أقصد أن يساعدني عليك لاحتمال أن يوافقك؛ فإنه حرّ في فكره ورأيته موافقًا لك في بعض ما نقلته له عنك في مباحث الجمل والاستدلال بالحروف والإشارات. المصلح: أهلاً وسهلا لقد شرفنا الأستاذ - وصافحه ثانيًا - وإنني أحب أن يساعدنا في هذه المذاكرة على تحقيق الحق الذي هو ضالتنا المنشودة، وليس لأحد منا حظ دنيوي في رأيه يخاف فواته إذا ظهر له بطلان الرأي، على أن المجتهد الذي يتبع الدليل أينما ظهر ويأخذ الحكمة حيث وجدها لا يزداد بالمباحثة ومراجعة المراجعين إلا نورًا على نور، وأما المقلد الذي يجني دائمًا على نور الفطرة الإلهية التي من مقتضاها النظر والفكر والاستدلال ويحاول إطفاءه بما يلقيه عليه من رماد التقليد تعظيمًا لأسماء من ينسب إليهم ذلك الرماد، فهو الذي يخاف المناظرين وَيَفْرَقُ من المباحثين؛ لأنهم يمدون نور الفطرة بنور البرهان، فتتضاعف الأنوار حتى يعشيه تألقها ويكاد يخطف بصره شعاعها، ويرى نفسه في عجز عن إطفائها، وتتولاه الحيرة وتحيط به الغمة، وكيف حال من فقد السكينة والاطمئنان وجعل خصمه السنة والقرآن. المقلد: دعنا من التعريض والتلويح، بل من هذا التشنيع الصريح، فها أنا ذا أناظرك بالدليل، لا بالقال والقيل، قررت أن الواجب على المسلمين بالنسبة للأحكام العملية هو الأخذ بما أجمع عليه أهل الإسلام، وأنهم على التخيير فما اختلف فيه يعمل كل أحد بما يرجح عنده ... إلخ، فما تقول فيمن عرض له شيء من ذلك وهو عامي لا يعرف الأقوال فيتخير فيها، ألا يجب عليه أن يسأل العلماء ويأخذ بأقوالهم؟ سكتَّ عن هذه المسألة؛ لأنها حجة عليك في جواز التقليد. المصلح: يمكن لهذا العامي أن يتبع سبيل عامة أهل الصدر الأول، فقد كان من تعرض له مسألة لا يعرف حكم الله فيها يسأل من يظن أن عنده فيها شيئًا من كتاب أو سنة، لا أنه يسأله عن رأيه الشخصي ويأخذ به من غير معرفة دليله فيكون مقلدًا، ومثل هذا السؤال كان يقع من الخاصة أيضًا والمسئول فيه راوٍ، أو منبه على مأخذ الحكم ووجه استنباطه، ولو كان كل سائل مقلدًا، وكل مسئول إمامًا متبعًا لذاته لكان كل مجتهد مقلدًا، وكثير من الجاهلين أئمة ولا يقول بهذا أحد. الزائر أو المقلد الثاني أو المناظر الثالث: على هذا يكون استدلال الأصوليين بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) على وجوب التقليد على العاجز عن الاجتهاد غير سديد. المصلح: لا شك أنه استدلال عقيم لوجوه، منها أن السبب الخاص الذي نزلت فيه الآية الكريمة لا يصح فيه التقليد، فتكون أمرًا به وإنما هي إزالة شبهة بالتنبيه إلى أمر مقرر عندهم، وذلك أن مشركي العرب كانوا يقولون ما قص الله عنهم بقوله: {إِنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} (الأنعام: 156) وقوله:] لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ [ أي لأننا أزكى فطرة، وأذكى فهمًا، وأقوى عزيمة، فلما نزل عليهم الكتاب كان من شبههم على من نزل عليه صلى الله عليه وسلم أنه بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأنه رجل مثلهم والآيات الحاكية هذا عنهم معروفة، فأجابهم عن هذه الشبهة بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7) يأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب هل كان الأنبياء ملائكة أم رجالاً من البشر، وكون الأنبياء رجالاً أمر مجمع عليه عند أهل الكتاب، ومنقول بالتواتر حتى عند غيرهم، فالسؤال عنه ليس أخذًا برأي من غير دليل فيكون تقليدًا، ومنها: أن هذه المسألة اعتقادية لا عملية، وأنتم لا تقولون بوجوب التقليد في أصول الإيمان؛ لأن المقلد لا يكون موقنًا ومن لا يقين له لا إيمان له؛ لأن الظن لا يغني من الحق شيئًا في هذا المقام، ولو كان الآخذ بقول غيره في عقائد دينه وأصوله معذورًا عند الله تعالى لكان جميع أهل الأديان معذورين وناجين، ولما وجب النظر في دعوة نبي من الأنبياء إلا على المجتهدين، فإذا ظهر النبي في طور لجأت فيه الأمة كلها إلى التقليد كما تحكمون أنتم وفقهاؤكم على هذه الأمة الإسلامية، تكون الأمة كلها معذورة عند الله تعالى في رفض دعوته وعدم النظر فيها وهل يقول بهذا إلا مجنون. المقلد: إنني سلَّمت لك من قبل أن التقليد في العقائد غير جائز. المصلح: وأنا بينت لك أن فهم الأحكام أسهل من فهم العقائد. الثالث: إن فرقًا بين المقلد في الكفر، وبين المقلد في الحق، فالثاني يعذره الله تعالى؛ لأنه وافق الحق دون الأول. المصلح: إن الله تعالى هو الحكم العدل القائم بالقسط، فإذا أمر بمقلدي الوثنيين مثلاً إلى النار، وبمقلدي المسلمين إلى الجنة، وسأل الوثنيون مساواتهم بأمثالهم من مقلدي المسلمين؛ لأن كلاًّ منهم غير مكلف بالنظر لمعرفة الحق، ألا يكون طلبهم هذا عادلاً يتنزه الله تعالى عن منعهم إياه؟ الثالث: إنه تعالى {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) . المصلح: معنى الآية الكريمة أنه ليس لأحد سلطان على الله تعالى، فيحاسبه على أفعاله، بل هو صاحب السلطان الأكبر القائم على كل نفس بما كسبت، وليس معناها أنه لا يعدل بين عباده فيما هم فيه سواء، وما أنبأنا الله تعالى بتبرؤ الأتباع من المتبوعين والمرءوسين من الرؤساء في يوم القيامة، إلا ليكون ذلك عبرة لنا وآية على أنه لا يعذر أحدًا باتِّباع من لم يأمره باتِّباعه، والآيات في هذا كثيرة كقوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 166-167) والآيات في هذا المعنى كثيرة. الثالث: أتقول إن هذه الملايين من المسلمين المقلدين خالدون في النار، وأنهم كالوثنيين سواء؟ المصلح: لا أقول هذا؛ ولكنني أقول: إن دعوة الإسلام لم تبلغهم كاملة، فيجب تبليغهم إياها بالقرآن الكريم الذي بَلَّغ به النبي صلى الله عليه وسلم من قبلهم من أولئك السلف الكرام، ومن اهتدى بهديهم الذين شادوا لنا ذلك المجد الكبير بإرشاد القرآن وأضعناه بالإعراض عن القرآن احتجاجًا بتقليد فلان وفلان الذين يتبرءون منا يوم القيامة قائلاً كل منهم كما يقول عيسى بن مريم عليه السلام: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} (المائدة: 117) وسأورد بعض ما يؤثر عنهم في النهي عن الأخذ بقولهم حتى في الفروع من غير معرفة دليلهم والاقتناع به، وعن تقديم كلامهم على الحديث النبوي - بله القرآن العظيم - وما يؤثر أيضًا عن أكابر العلماء الأعلام من بعدهم، وأرجو أن يكون في ذلك مقنع لكم فإنكم ألفتم الأخذ بكلام الناس دون كلام الله ورسوله. الثالث: ونحن يمكننا أن نورد لك من كلامهم، بل ما نقل فيه الإجماع ما يقتضي القول بالتقليد، وهو منع التلفيق؛ فإن التلفيق لازم للتقليد، وقد نقل في الدر المختار الإجماع على بطلانه، فأورد لنا قولاً بالإجماع على منع التقليد في الفروع. المقلد للثالث: إنه لم يتم كلامه الأول فيما يجب الأخذ به لأجل الوحدة الإسلامية، فقد بقي عليه الكلام في قسم المعاملات الدنيوية والأحكام القضائية؛ وإنما مناقشتنا معه الآن في العبادات، وإن في كلامه قوة والحق يقال؛ ولكنه يحتمل النقض والمعارضة، والمصيبة فينا أننا لم يسبق لنا بحث كثير في هذه المواضيع لنستحضر النصوص فيها، وما كنت أظن أن مثله يشتغل بهذه المسائل، فقد حضرت مجلسًا ضم جماعة من أكابر مشايخنا، وذكر فيه الذين يتكلمون في الإصلاح، فرأيتهم متفقين على أن الذين يتكلمون في الإصلاح كلهم جاهلون بالدين وغير مطلعين على علومه ولا متمسكين بأعماله، ولولا أنني اختبرت هذا الشاب وألفيته متمسكًا بالدين أشد التمسك، محافظًا على الصلوات أتم المحافظة - لما جاريته وقصدت سبر غوره، ولما احتملت منه ما احتملت من التهكم بالمقلدين والإزراء بهم تلويحًا وتصريحًا مع أنني أعلم أنه يعتدني منهم؛ ولكنني أستغرب كيف لم يهتد أحد من علماء الملة إلى هذا الرأي - إزالة الخلاف بالأخذ بالقرآن والسنة العملية المتفق عليها - في كل هذه القرون، فهل علم صاحبنا ما جهله العلماء بعد حدوث المذاهب، وهو زمن يزيد على ألف سنة؟ المصلح: أستحيي أن أعود إلى التشنيع على التقليد بعد الذي ذكرت من التبرم من ذلك، وإن كنت أشاهد مصائبه تترشح من كل كلمة يقولها المقلد الذي بطلت ثقته بفهمه وعقله، وما أحب أن أعتدك مقلدًا بحتًا بعدما عاهدتني على الأخذ بالدليل، كيف صح لك الحكم بأنه لم يقل أحد من علماء الأمة بوجوب إزالة الخلاف من المسلمين وإرجاعهم إلى ما يرشد إليه القرآن من الوحدة، والأخذ بالمتفق عليه، وهل استقريت كل ما قاله العلماء الأعلام في كل فن من الفنون؟ إن هذا إلا كحكم شيوخك بأن جميع المتكلمين بُعَداء عن الدين علمًا وعملاً. هذا حجة الإسلام وعلم الأعلام الإمام الغزالي كان أعلم علماء التقليد وأقواهم عارضة في الدفاع عن مذهب الشافعي وله في الخلاف مصنفات، وبعد أن بلغ الكمال في الفروع والأصول والمعقول والمنقول، اهتدى إلى هذا الرأي فمهَّد له بالإنحاء على العلماء المختلفين باللوم والتعنيف في كتابه (إحياء علوم الدين) وسماهم علماء السوء، ثم صرح برأيه في كتابه (القسطاس المستقيم) وقد وقع في يدي أمس فكان أول ما قرأته فيه هذا الموضوع، والكتاب موضوع في مناظرة جرت بين الإمام وبين رجل من الباطنية الذين يقولون لا بد من إمام معصوم يتبع في كل عصر. المقلد الأول والثالث معًا: هل يوجد عندك هذا الكتاب هنا فتُسمعنا ذلك؟ المصلح: نعم، وأخذ كتابًا صغيرًا، وقرأ من أواخره ما يأتي: القول في طريق نجاة الخلق من ظلمات الاختلافات فقال - أي مناظر الإمام الغزالي - كيف نجاة الخلق من هذه الاختلافات؟ قلت: إن أصغوا إليَّ رفعت الاختلاف بينهم بكتاب الله تعالى؛ ولكن لا حيلة في إصغائهم؛ فإنهم لم يصغوا بأجمعهم إلى الأنبياء ولا إلى إمامك، فكيف يصغون إلي وكيف يجتمعون على الإصغاء وقد حُكم عليهم في الأزل بأنهم {لاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) وكون الخلاف بينهم ضروريًّا تعرفه من كتاب (جواب مفصل ال

الأسئلة والأجوبة الدينية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة الدينية (1) مجاور في الأزهر: ما معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فقد استشكل المفسرون في لام (ليعبدون) إذ لا يصح أن تكون للتعليل؛ لأن أفعاله تعالى لا تُعلل ولا للغاية لأن أكثرهم لا يعبده، وذهب بعضهم إلى أنها لام العاقبة والصيرورة وقال: إنه لا يلزم وقوع ما بعدها، ومثّل لها بأنك إذا قلت بريت القلم لأكتب به ولم تكتب تكون صادقًا، وهذا إذا ظهر بالنسبة إلى الناس، فليس بظاهر بالنسبة إلى الباري سبحانه وتعالى، وقال البيضاوي: لما خلقهم على صورة متوجهة إلى العبادة مغلبة لها جعل خلقهم مغيًّا بها مغالبة في ذلك ولو حُمِلَ على ظاهره، مع أن الدليل يمنعه لنا في قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ} (الأعراف: 179) وقيل معناه لنأمرهم بالعبادة أو ليكونوا عبادًا اهـ. ولا تطمئن إليه النفس، فهل عندكم ما أوضح من ذلك؟ اهـ بتصرف. (ج) : اللام للغاية حتمًا، والآية حاكية عن طبيعة النوع الإنساني، وشارحة لترقيه في الشعور الديني الذي أُلهمه بالفطرة، وتاريخ الإنسان يؤيد معناها ويقاس به النوع الذي سماه الله بالجن؛ لأنه مجتن ومستتر عنا. الشعور الفطري الذي أودعه الإنسان هو أن في الوجود سلطة وراء الطبيعة يخضع لها ويعظمها وينيط بها كل حادث لم يقف على سببه، وهذا الخضوع والتعظيم هو العبادة، وقد كان في أطوار الجهالة يضيف ما لا يعرف سببه إلى مظهره، ويخضع لذلك المظهر، هذا النوع من الخضوع الذي قلنا إنه يسمى عبادة، فعبد السحاب لأنه مظهر البرق والرعد والمطر، وعبد الثعابين لأن لها قوة في الإعدام لم يكن يعرفها، وعبد بعض البشر لأنه ظهر على أيديهم أعمال غريبة لم يقف على عللها وأسبابها، وكان يرتقي في مجموعه في هذه الاعتقادات تدريجًا، وغاية ما ينتهي إليه بعد كمال العلم والمعرفة أن يعتقد أن مظاهر الأفعال الخارقة في نظره أو بالنسبة له ولغيره هي كمظاهر الأفعال العادية مسخرة لقوة غيبية مطلقة عرفت بآثارها لا بذاتها، وأن صاحب تلك القوة هو الله تعالى الذي لا يستحق العبادة غيره فيعبده حينئذ وحده. *** (2) السيد عمر بن مبروك من تونس: عندنا ماجِل [1] في دارنا يجتمع فيه ماء المطر من السطوح، فنستعمله في العادة والعبادة، وقد وقع فيه فرخ حمام ميت وكان الوقت صيفًا، والماء فيه قليلاً، فتغير لونه وريحه وتعذر علينا إخراج الفرخ منه، فتركنا استعماله حتى جاء الشتاء وامتلأ الماجل بالماء وزال التغير من لونه ورائحته، وعاد زلالاً نقيًّا، فسألنا سادتنا الحنفية عنه فقالوا: لا بد من نزع ماء الماجل كله، وسألنا سادتنا المالكية فقالوا: لا بد من إخراج الطير أو ما بقي منه في الماء ليجوز استعماله في العادة والعبادة، وفي ذلك مشقة علينا كبيرة، ونحن مضطرون لاستعمال هذا الماء، وقد قصدنا مذهب سادتنا الشافعية لعلنا نجد فيه رحمة فأفيدونا يرحمكم الله. (ج) : مذهب الشافعية أن الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس إلا بتغير طعمه أو لونه أو ريحه من النجاسة، فلو كان الماء متنجسًا لوقوع نجاسة فيه وهو قليل، ثم زاد حتى بلغ قلتين يطهر، ولو كان الماء المتجدد متنجسًا أيضًا، بل ولو كان مائعًا نجس العين، والقلتان خمسمائة رطل بغدادي، وتبلغ بالمساحة نحو ذراعًا وربعًا مربعًا طولاً وعرضًا وعمقًا، ولا شك أن ماجلكم أوسع من ذلك فهو طاهر حتمًا، هذا وإن الله تعالى أمرنا بإزالة النجاسة ليطهرنا لا ليعنتنا، وهو يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر، وما جعل علينا في الدين من حرج، والنجاسة التي نهينا عنها هي القاذورات التي تنفر منها الطباع السليمة، فهل يعقل أن ماجلاً عظيمًا وحوضًا كبيرًا فيه ماء صافٍ نقي لا تغير فيه يحكم عليه بالنجاسة لتدقيق بعض الفقهاء في الحدود التي وضعوها للاصطلاحات الشرعة، ويلزم لهذا التدقيق إعنات أهل بيت من المسلمين وإيقاعهم في الحرج والعسر اللذين نفاهما الله تعالى؟ *** (3) الشيخ أحمد محمد الألفي من طوخ القراموص: ما الفرق بين العهد الذي لقنه النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات، وبين العهد الذي تناقله أهل الطريق بالأسانيد الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أليسوا من المؤمنين والمؤمنات حتى يفرق بينهم وبين غيرهم؟ وما هو دليل الخصوصية في عمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ وهل لا تُعتبر هذه الأسانيد الصحيحة حجة في النقل؟ اهـ بنصه. (ج) : إن مبايعة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمؤمنين والمؤمنات التي ذكرناها في جواب سؤالكم الرابع من الأسئلة المنشورة في الجزء الثالث ليست تلقين عهد كالعهد المعروف الآن بين أهل الطريق، أما مبايعة المؤمنين المشار إليها في سورة الفتح، فهي أنه لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه لعمرة الحديبية وصدَّه المشركون، وأرسل إليهم عثمان بن عفان إلى مكة يخبرهم أنهم جاءوا عُمَّارًا لا مقاتلين، وشاع أنهم قتلوه عزم النبي عليه الصلاة والسلام على مقاتلة القوم، وبايع أصحابه رضي الله تعالى عنهم على عدم الفرار وعلى الموت (روايتان) وبلغ ذلك المشركين فخافوا، وانتهى الأمر بالصلح المشهور، وفي ذلك نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} (الفتح: 10) وقوله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (الفتح: 18) . وأما مبايعة المؤمنات فهي المشار إليها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ} (الممتحنة: 12) الآية، ورد أنه عليه الصلاة والسلام بايع المؤمنين مثل هذه المبايعة على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمَنْشَط والمَكْرَه وأُثرته عليهم، وأن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يقولوا الحق حيث كانوا لا يخافون الحق في أن هذه البيعة لازمة في عنق كل من يدخل الإسلام، وهي السمع والطاعة لله ولرسوله وعدم عصيان أولي الأمر في معروف؛ ولكن هل لأحد من الناس أن يبايع الناس على طاعته غير خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو إمام المسلمين؟ كلا ومن يدعيه فعليه البيان. ومشايخ الصوفية يُعَبِّرون عن الدخول في الطريق بلبس الخرقة، ويذكرون لذلك في إجازاتهم سندًا ينتهي إلى الحسن البصري وأن عليًّا كرم الله وجهه ألبسه الخرقة؛ ولذلك ترى الطرائق كلها تنتهي إلى سيدنا علي عليه الرضوان والسلام؛ ولكن أئمة علم الحديث قالوا: حديث إن النبي صلى الله عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة باطل لا أصل له، قال الحافظ ابن حجر: لم يرد في خبر صحيح ولا حسن ولا ضعيف أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألبس الخرقة على الصورة المتعارفة بين الصوفية أحدًا من أصحابه، ولا أمر أحدًا من أصحابه بفعل ذلك، وكل ما يروى في ذلك صريحًا فهو باطل، وقال: من المفترى أن عليًّا ألبس الخرقة الحسن البصري؛ فإن أئمة الحديث لم يثبتوا للحسن من علي سماعًا فضلاً عن أن يلبسه الخرقة، قال في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: وقد صرح بمثل ما ذكره ابن حجر جماعة من الحفاظ كالدمياطي والذهبي وابن حبان والعلائي والعراقي وابن ناصر. ويا ليت السائل يذكر لنا العهد الذي قال إن أهل الطريق تناقلوه بالأسانيد الصحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويذكر لنا الحفَّاظ الذين خرَّجوه. *** (4) هل تقولون في الروح الناطقة الإنسانية والكشف وكرامات الأولياء في الحياة وبعد الموت بقول جمهور أهل السنة والجماعة؟ أم ما هو مذهبكم في ذلك؟ (ج) أما الكرامات فليراجع السائل فيها كتبناه في المجلد الثاني من المنار (صفحة 145 و401 و417 و449 و481 و545 و657) فقد أثبتنا ما يقوم عليه الدليل من الكرامات، وأما الروح فنقول فيها ما أمر الله تعالى رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يقول وهو {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) وأما الأسئلة التي تتعلق بالاجتهاد والتقليد فمحاورات المصلح والمقلد تبين ذلك مفصلاً تفصيلاً.

مكتوب في حق مسلوب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مكتوب في حق مسلوب يظن الذين لا فضيلة لهم بأن العفة والشهامة والشمم والإباء وعزة النفس والنجدة، وما أشبهها من السجايا الفاضلة - ألفاظ لا توجد إلا في القاموس، وهي من لغو الكلام الذي لا يصدق على شيء، وقد جاءنا من مدة مكتوب من صديق نعرفه من أفضل الفضلاء، وأئمة محاريب الإنشاء يحكي فيه عن شيء اتفق له وهو صادق في جميع ما قال، وهاك مكتوبه معرفًا بقلم يحاكي قلمه: سيدي رب الكمال مذ أفكر في فتور المراسلة بيننا طول هذه المدة يعروني الخجل، ويؤثر في نفسي أثرًا يذهب بالراحة والطمأنينة، ولا شيء أشد نكاية على الإنسان من مؤاخذة نفسه له وعتاب ضميره الذي لا يعذر ولا يحابي. ترى ما هو الحكم الذي تسجلونه عليّ، أو ما هي التهم التي توجهونها إلي عندما تفكرون في انقطاع رسائلي عنكم كل هذه المدة؟ أما أنا فالله يعلم أنني بريء. بينا أنا متألم من الجراح التي فتحتها في قلبي مصائب الوطن، إذ رأيتني الآن مشغولاً بمحنة نفسي مضطربًا من النازلة الفادحة التي ألمَّت بي رأيتني أصارع الظلمة وأواثب المعتدين، فلقد حُرمتُ من حقوقي، وهي بمثابة الشمس في الظهور والنهار في الجلاء والوضوح، الحق أقول: لو كنت أدوس تحت قدمي الناموس والحمية وسائر المزايا الإنسانية الشريفة في سبيل نيل المطالب الخسيسة، وتناول الحظوظ الفانية، وأهين النفس في التزلف إلى أولئك الأسافل النازين على مراتب العُلِّية [1] وذوي السبق والفضل، فألثم أرجلهم القذرة وأذيالهم النتنة وأيديهم الدنسة وأضعها على الرأس تبجيلاً لهم وتفخيمًا، بل لو كنت أسلك في طلب حاجتي مسلك التسول مبالغًا في الملق والتبصبص [2] محركًا بضراعتي عاطفة الحنان والشفقة علي كما هو شأن أصحاب الدناءة الذين يحسبون أن هذا العمل هو مناط المجد، وأقرب وسيلة لنيل الفخر والشرف، أو لو كنت أظهر الخضوع والتخشع إلى درجة تحاكي العبادة لقوم هم أخبث من الشياطين لأجل جلب توجههم إليّ، وأُغرق في مدح الفراعنة والملاعين حتى أصعد بهم من أرض البشرية إلى سماء الألوهية تقليدًا لأولئك المداهنين المخذولين، ولا أربأ بنفسي عن عرض العبودية لهم بمثل قول الشاعر: ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار لو كنت آتي بشيء من ذلك لما رجعت بخيبة، ولما صادفت حرمانًا؛ لكنني بحمد الله لم أدع عملاً كهذا يخلص إلى خاطري أو يحوك في نفسي، نعم أحببت أن أعرض شيئًا من الآثار الأدبية التي تناسب عجزي وقصوري مؤملاً أن تكون خير وسيلة للرقي، وأمثل طريق للسعادة، وكنت لا أظهر من كلمات التحسين والتحبيذ المستخرجة من خزينة (آفرين) التي لا نفاد لها والتي شكا منها الشاعر نابي [3] . لكن بعيشك قل لي هل استفدت من سعيي بطائل؟ وهل أثمر سوى الخيبة والحرمان؟ وهل كانت بشاشتهم في وجهي سوى ضحك يدل على الاستهزاء والسخرية بأوضح تعبير، إن أولئك الخَسَرة الذين سميتهم ظلمة قد غمطوا حقي بغير مساغ مع أنهم - واحنقاه - يعترفون بذلك، يقولون لي: هكذا جرى فلا تتألم، كما إذا ضربت أحدًا بلا ذنب ولا سبب وقلت له: لا تأس ولا تتكدر. يا للعجب، هل أنا من قوم رزئوا بالعجز، وأصيبوا بكل ضروب المهانة فأتحمل هذه الإهانة؟ هل أنا أسير الذلة أو ذليل المنة حتى أحني ظهري للاستخذاء؟ هل شأني شأن أولئك الأذلاء الذين رئموا للدناءة وألفوا المهانة حتى أراني أُوطأ بأقدام المذلة ثم أعتد ذلك حسنًا جميلاً؟ ما هو السبب للإغضاء والتحمل؟ لست عاجزًا ولا وضيعًا فأهضم الظلم وأغمض على القذى، لست خاليًا من العزة وعلو الهمة فأحمل نفسي على الرضا وعدم المبالاة، لست من فاقدي العزيمة الذين يستحوذ عليهم اليأس فيفرِّطوا في حقوقهم حتى أزج نفسي في زاوية الضعة والخمول، فطرتي ليست ملوثة بالجبن والخور حتى أتهيب من ادعاء الحق، طينتي لا يشوبها شيء من الخساسة والسفالة حتى أطأطئ عنقي لصفعة الإهانة، لا يليق بالجريء الذي لا يهاب أن يعمل عمل الجبان العاجز حتى أسلك سبيل الدهان والنفاق، فأسمي الباطل حقًّا والمنكر معروفًا، لا يحسن بذي الغيرة والحمية أن تتحول حرارة غيرته وغليان حميته إلى برودة وخمول حتى أرى بعيني من يبتز حقي، وينتهك حقيقتي، ثم أسكت كظيمًا، وأنكس مهضومًا، لا أرضى أن أكون فاقد الشعور كالأموات، عديم التأثر كمن إيفت حواسه، أنا حي أشعر بحقوق الأحياء، فأتألم من كل ما يصادم الحق ويمس الشرف، إنسان أنفر وأضطرب لكل معاملة تنابذ الإنسانية وتحط من كرامتها. واعجبًا! تسعى البهائم جهدها في صيانة فرائسها وحفظها من مخالب أعدائها وأتقاعس أنا عن انتياش حقي من أيدي الظلمة المتغلبين، هل الإنسانية أحط شأنًا من البهيمية أم الحق المقدس في نظري من محقرات الأمور والسفاسف التي لا يؤبه لها؟ قسمًا بالقهار المنتقم لأجتهدن ولأثبتن في الدفاع عن الحق حتى آخر نفس من حياتي، ولو اعترضت دوني شوامخ الجبال، وقام في وجهي سد من حديد لأقتحمنها بعزم المتجلد وصبر المستميت، ما دمت أجد في لساني ذرابة، وأحس من قلمي بمضاء، فلست بممسك لساني عن القول، ولا بوازعٍ قلمي عن العمل، ما دام في قلبي صبر وفي عزمي قوة، فلا أحبس نفسي عن الكفاح، ولا أمنع قدمي عن الإقدام، بل لو تمثلت في سبيل عزيمتي الأهوال، وكشرت لي عن أنياب غوائلها الأغوال، وكل ما يسمونه خطرًا وهلكة - لَمَا صدني ذلك عن بلوغ غايتي، ولما غشيني لأجله ونى ولا فتور. قد كنت قلت قولاً وأقول الآن: (إن لدي من السآمة للحياة بقدر ما عند الناس من الكراهة للموت) لتنغمس تلك الحياة المرة في بحار ظلمات العدم التي لا يدرك قعرها، لتهْوِ في آخر دركات الجحيم، نعم ماذا يضر لو عجنت قبضة من تراب الأرض بدم مظلوم أريق في سبيل نصرة الحق؛ لكن ليعلم الظالمون وليكونوا في أمن من رؤية انتقالي من دار الدنيا قبل أن أعمل في تشهير قبائحهم، والإشادة بمخازيهم وفضائحهم في أقطار العالم، وأصب على رؤوسهم - وسحقًا لها - سياط المصائب، وأقذف عليهم صواعق البلاء، وأدعهم يئنون تحت أعبائها ويتململون من مس آلامها. لا جرم أن موقد نار الظلم، والعامل على تخريب البيوت لا تنام عنه العيون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) . يا سبحان الله! بينا أنا في صدد الاعتذار عن عدم كتابة رقيم إليك، وإذ بالتأثر والامتعاض حفزني من حيث لا أشعر فَهِمْتُ في كل وادٍ، وتفننت في أساليب الكلام، على أنه لا ينبغي العجب؛ فإن من كان مثل مخاطَبي في الاطلاع على الخفايا والوقوف على الأسرار يجب أن لا أكتمه حديثًا، ولا أخفي عنه ما يحوك في ثنيات النفس. فهاك يا سيدي قصتي عرضتها على النظر الكريم، ويغلب على ظني أن معذرتي عن تراخي مكاتبتي تتكفل بعفوكم؛ لأن قبول المعذرة من شأن الكرام، وأرى أن أختم كلامي بعرض افتقاري إلى فوائدكم العلمية، وأود أن أكون ذا نصيب منها مولاي.

للفيلسوف الإسلامي

الكاتب: أبو العلاء المعري

_ للفيلسوف الإسلامي أبي العلاء المعري إذا مدحوا آدميًّا مدحـ ... ـت مولى الموالي ورب الأمم وذاك الغني عن المادحين ... ولكن لنفسي عقدت الذمم له سجد الشامخ المشمخر ... على ما بعرنينه من شمم ومغفرة الله مرجوة ... إذا حُبست أعظمي في الرِّمَم مجاور قوم تمشَّى الفنا ... ء ما بين أقدامهم والقِمم فيا ليتني هامدًا لا أقوم ... إذا نهضوا ينفضون اللِّمَم ونادى المنادي على غفلة ... فلم يبق في أذن من صمم وجاءت صحائف قد ضُمّنت ... كبائر آثامهم واللَّمم فليت العقوبة تحريقة ... فصاروا رمادًا بها أو حُمم [1] رأيت بني الدهر في غفلة ... وليست جهالتهم بالأَمم [2] فنسك أناس لضعف العقول ... ونسك أناس لبعد الهمم

للشاعر العصري

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ للشاعر العصري المجيد حافظ أفندي إبراهيم هجعتَ يا طيرُ ولم أهجع ... ما أنت إلا عاشق مُدَّعي لو كنتَ ممن يعرفون الجوى ... قضيت هذا الليل سهدًا معي يا من تحاميتم سبيل الهوى ... أعيذكم من قلق المضجع وحسرة في النفس لو قسمت ... على ذوات الطوق لم تسجع ويا بني الشوق وأهل الأسى ... ومن قضوا في هذه الأربع عليكم من واجد مغرم ... تحية الموجع للموجع لله ما أقسى فؤاد الدجى ... على فؤاد العاشق المولع هذا غليظ لم يَرُضه الهوى ... ما بين جَنْبَيْ أسود أسفع وذاك في جنبي فتى مدنف ... على سوى الرقة لم يطبع وأغيدٍ أسكنته في الحشا ... وقلت يا نفس به فاقنعي نفاره أسرع من خاطري ... وصده أقرب من مدمعي وخده لا تنطفئ ناره ... كأنما يقبس من أضلعي تساءلتْ عني نجومُ الدجى ... لما رأتني داني المصرع قالت نرى في الأرض ذا لوعة ... قد بات بين اليأس والمطمع يئن كالمكبود أو كالذي ... أصابه سهم ولم ينزع إن كان في بدر الدجى هائمًا ... أما لهذا البدر من مطلع أو كان في ظبي الحمى مغرمًا ... أما لهذا الظبي من مرتع هيهات يا أنجم أن تعلمي ... من ذا الذي أهواه أو تطمعي

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (القسطاس المستقيم) بحق لقّبت الأمة الإسلامية الإمام أبا حامد الغزالي بحجة الإسلام، فقد كان في بدايته حجة المتكلمين والفقهاء المقلدين، وفي نهايته حجة الأئمة المجتهدين، بل حجة العلم والدين , ومن أجل ما كتبه في نهايته وأنفعه كتاب (القسطاس المستقيم) وهو مصنف مختصر يشرح فيه مناظرة جرت بينه وبين رجل من أهل مذهب التعليم الباطني الداعين إلى القول بالإمام المعصوم في كل عصر. وقد جاء في رسالة المحاورة الثامنة بين المصلح والمقلد فصل من فصول هذا الكتاب فكانت نموذجًا أغنانا عن التطويل في تقريظه، وفيه أن الموازين التي تُعرف بها الحقائق ثلاثة في الجملة، وخمسة في التفصيل، وقد استخرجها كلها من القرآن. وقد طبع هذا الكتاب من عهد قريب الفاضل المهذب الشيخ مصطفى القباني الدمشقي بمطبعة الترقي الشهيرة، وأضاف إليه هوامش لإيضاح بعض العبارات وتفسير بعض الكلمات، وذكر في أول الكتاب ترجمة الإمام الغزالي رضي الله تعالى عنه ونفعنا به والمسلمين، وثمن الكتاب ثلاثة غروش أميرية، وهو ثمن بخس بالنسبة إلى ورقه الحسن وطبعه الجيد، وأما بالنسبة إلى فوائده فلا يوفيه حقه إلا من عمل بهديه القويم، ووزن بقسطاسه المستقيم، وهو يطلب من مكتبة الترقي ومكتبة هندية ومكتبة جمالي وخانجي بالقرب من الأزهر. *** (المرأة المسلمة) كتاب جديد يقارب كتاب (المرأة الجديدة) في حجمه، ويخالفه في مباحثه غالبًا لحضرة الكاتب الفاضل محمد فريد وجدي، وأكثر مباحثه في المرأة اجتماعية نظرية يحتج عليها بما كتبه بعض علماء الغرب وفلاسفتهم في انتقاد تربية النساء، وطرق تعليمهن والإفراط في حريتهن، ومعلوم أن طريقة العلماء والسياسيين الأوربيين في الانتقاد أن يغلو كل فريق منهم في طرف يخالف فيه الآخر؛ لتظهر خفايا الأمور للجمهور لأجل العمل بها عند ظهور بارقة الحقيقة بين تصادم الأفكار وقدح زناد الأنظار، ومن أراد معرفة المرجح عندهم فلينظر إلى ما عليه العمل لا إلى جمل في جريدة أو كتاب، وكذلك الحال عند كل أمة. فالحالة التي عليها نساؤنا هي المرجحة عند مجموع أمتنا، وإن ذمها بعض العقلاء والفضلاء، ولن تتغير حتى تتغير شؤون التربية وأحوال المعيشة والعلم بالمصلحة، وهذه الكتابات في شأن النساء المهمل عندنا التي دفع الناس إلى الخوض فيها تأثير كتابي الفاضل قاسم بك أمين ستكون من أسباب التغيير ولو بعد حين. وكتاب (المرأة المسلمة) مؤلف من مقدمة وثلاثة عشر فصلاً وخاتمة، لخص فيها جميع الفصول في تسع نظريات، وقد صدق وأنصف بتسميتها نظريات وهي: (1) المرأة أضعف من الرجل جسمًا، وأقل منه قبولاً للعلم؛ لأن وظيفتها الطبيعية تقتضي ذلك لا لأن تكون خاضعة للرجل. (2) كمال المرأة في موهبة روحانية مُتعت بها أكثر من الرجل، وهي الشعور الدقيق والعواطف الرقيقة واستعدادها لتضحية نفسها في سبيل الخير، وهذه المواهب إذا نمت فيها تكون لها مكانة تُحنى لها الرؤوس إجلالاً؛ ولكنها لا تنمو إلا تحت قيادة الرجل ولو فاقته فيها واستطاعت أن تأسره بها؛ ولكنها لا تأسره بها لأنها لو فعلت بطل مضاء سلاحها وزايلتها بهجة موهبتها، فتقع فيما لا ترضاه لنفسها. (3) إن هذا الكمال لا تناله المرأة إلا إذا كانت زوجة لرجل، وأمًّا لأطفال تربيهم تربية صحيحة. (4) إن اشتغال المرأة بأشغال الرجال قتل لمواهبها، وإذهاب لبهجتها، ومدعاة إلى هبوطها، ومفسدة لتركيبها، ومجلبة للخلل في أمتها، وإن عمل المرأة الغربية خارج بيتها يعده علماء بلادها جرحًا داميًا في فؤاد الأمة، وأثر من آثار أسر الرجال للمرأة ويعملون بكليتهم على تضييق دائرته. (5) إن الحجاب ضروري للنساء لصلاح النوع الإنساني كله على العموم، وصلاحها على الخصوص؛ لأنه ضمانة استقلالها وكفالة حريتها لا علامة ذلها وعنوان أسرها، وقلنا إنه لا يمنع كمالها بل يهيئه، وإنه وإن كان له شيء من المضارّ كما هي طبيعة كل شيء؛ فإن مزاياه وفوائده لا تُقَدَّر، ومن أظهرها أن يجبر المرأة إلى عدم تخطي دائرة وظيفتها الطبيعية التي فيها كل سعادتها ويوجهها لتنمية خصيصتها السامية التي هي سلاحها الوحيد في هذه الحرب الحيوية. (6) المرأة في المدنية المادية ليست كاملة، ولا سائرة إلى الكمال. (7) إن طرق التعليم في كل ممالك أوروبا وأمريكا غير صالحة للنساء بشهادة أصحابها أنفسهم. (8) إن تعاليم الديانة الإسلامية بالنسبة للمرأة موافقة لفطرتها تمام الموافقة فهي كالقالب التام التركيب لجميع خصائصها وملكاتها، بمعنى أن تلك الخصائص لو نمت على حسب تلك التعاليم لبلغت المرأة المسلمة أعلى شأو يمكنها أن تبلغه بدون أن تتعدى حدودها الطبيعية. (9) لا ينقص المرأة المسلمة لكي تبلغ أكمل نقطة يمكن أن يناله جنسها إلا تعلم مبادئ العلوم الضرورية ليس إلا. هذا مجمل مسائل الكتاب، ويُطلب من مؤلفه ومن مطبعة الترقي

مصاب الصحافة وفاة بشارة باشا تقلا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب الصحافة وفاة بشارة باشا تقلا في ليلة السبت الماضي (15 يونيو سنة 1901 - 28 صفر سنة 1391) تقوَّض ركن الصحافة الركين، وَفَتَّ في عضدها المتين، حيث حل القضاء المبرم ونزل القدر المحتم، فاختطف بشارة باشا تقلا صاحب جريدة الأهرام العربية، وجريدة البراميد الفرنسوية، وهو في مستوى طور الكهولة ناهز الخمسين ولم يبلغها، وقد تقدم هذا القضاء السماوي بعشرين يومًا إنذار مرضي حار نطس الأطباء في معرفة حقيقته، ولم يهتدوا إلى طريقة معالجته، والأرجح أنه كان في ذلك الدماغ الجوَّال، الذي كان كصاحبه لا يعرف الإعياء والكلال. ورد الفقيد وادي النيل من لبنان مع أخيه الكاتب الشهير سليم بك تقلا منشئ جريدة الأهرام، واشتغلا بالصحافة، وكانت أرضها مواتا فأحيتها همتهما، وغرسا واستثمرا بجدهما وعزيمتهما، وقد كان سليم وبشارة يقتسمان التحرير والإدارة، فلما اغتالت المنون أحد الفرقدين، نهض الآخر بالأمرين، وتقدمت الأهرام به وتقدم بها فأصاب ثروة طائلة وجاهًا عريضًا، وما زال يرتقي في رتب الدولة العلية ويتمتع برواتبها ويتحلى بوسامات الشرف منها حتى بلغ رتبة (روم إيلي بكاربكي) التي لا يعلوها في الرتب الملكية إلا رتبة الوزارة، وتحلى بالوسام المجيدي الأول، وكان محلًّى بوسامات دول أخرى، كوسام ليجون دونور الفرنساوي من الدرجة الثالثة، ووسام سان استانس لاسي الروسي، ووسام المخلص اليوناني من الدرجة الثانية، ووسام الافتخار التونسي وغير ذلك. نجحت الأهرام في أول عهدها بمساعدة الحكومة المصرية لا سيما في أيام وزارة دولتلو رياض باشا الذي لم تنجح جريدة من الجرائد الشهيرة الغنية بمصر إلا بسعيه، حتى قيل إن الحكومة كانت تلزم الموظفين والوجهاء بالاشتراك، وتكلف جباتها بتحصيل قيمة الاشتراك منهم، ثم لمَّا انقضى هذا الدور، وصار الناس مختارين في الاشتراك استمر النجاح بسعي الفقيد الموافق لحالة البلاد الاجتماعية والأدبية، وقلما ينجح عمل مخالف لاستعداد الناس إلا أن يكون بعد تأسيسه بزمن طويل. وقد احتُفل في مساء يوم السبت بجنازة الفقيد احتفالاً لائقًا بمقامه، مشى فيه كثيرون من الوجهاء والفضلاء، ومنهم أصحاب الجرائد المصرية كلهم، وصُلِّي عليه في كنيسة الروم الكاثوليك، ودفن في قرافتهم بمصر العتيقة وأبَّنه على القبر كل من الأديب يوسف أفندي البستاني، والأصولي الفاضل نقولا بك توما، ورجع المشيعون وهم يستمطرون له الرحمة، ويدعون لقرينته الفاضلة ولولده النجيب بالعزاء والسلوة.

الواسطة والزيارة أو ابن تيمية والسبكي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الواسطة والزيارة أو ابن تيمية والسبكي من المؤلفين مَنْ حظه كثرة النقول، وإن خالفت المعقول، وإرضاء العوام ولو بما يضر الأنام، ومن الناس من يتحرى الهداية والإرشاد، وإن استُهدف لسهام الانتقاد، وما تفرد أحد بالإمامة في عصر، وبرز على العلماء في قرية أو مصر، إلا سلَّط عليه الحاسدون، وطعن فيه المعاصرون، ولقد كان الإمام أحمد بن تيمية في عصره ناصر السُّنة، وخاذل البدعة، والمحيط بعلوم الدين والمحيي اجتهاد المجتهدين، وكان جرَّد حسام قلمه لمحاربة البدع والدعوة إلى مذهب السلف، لا سيما فيما يتعلق بالعقائد وأصول الدين، فحمل عليه بعض علماء التقليد الذين يرون معاشهم وجاههم بإرضاء العامة، فخاضوا فيه كما خاضوا في الأئمة من قبله، ومضى الزمان على ذلك. وقد انتدب بعض الفضلاء في هذه الأيام لإحياء مؤلفات هذا الإمام، فبدأ بطبع رسالة (الواسطة) التي تحمي حقيقة التوحيد وتدعو الناس لأن يوجهوا وجوههم في طلب حاجاتهم للذي فطر السموات والأرض، وأن لا يعبدوا غيره ولا يستعينوا فيما وراء الأسباب التي سنها لهم إلا به، وأن لا يتخذوا غير دينه واسطة بينهم وبينه؛ لأنه تعالى - كما قال - أقرب إليهم من حبل الوريد. فرأى بعض المشايخ الذين يحبون الشهرة عند العوام، ويرون لهم في ذلك منفعة وجاهًا أن ينتصر لهم فيما يأتونه في الأضرحة من البدع والمنكرات وطلب الحاجات من غير الله تعالى بالرد على الإمام ابن تيمية، فسعى بنشر عدة رسائل إحداها منسوبة للقاضي تقي الدين السبكي الشافعي الشهير، وكتب مقدمة لهذه الرسائل جاء فيها بالتناقض، وأقام الحجة على نفسه فكان قاضيًا حكم على كلامه وكلام السبكي بالإبطال، من حيث لم يفهم إلا أن يكون أراد أن يدلس على الناس بالتمويه، وافتتح المقدمة بتشبيه مشهور انتحله لنفسه والأرجح أنه لم يفهمه؛ لأنه استعمله في غير موضعه. أما تناقضه وتهافته فهو أنه ذكر أولاً أنه لا شفاء لأحد من الأمراض الروحية ولا سعادة له إلا باستعمال أدوية الدين، وهي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه السلف الصالح، وهذا ما يدعو إليه الإمام ابن تيمية ومن على شاكلته من أهل الهدى، ثم أنشأ بعد هذا التمهيد يثبت لأجل الرد على ابن تيمية أن بين العباد وبين ربهم واسطة تحجبهم عنه، ولا يمكن الوصول إلى مرضاته إلا بها وهي غير دينه الذي شرعه لهداية الناس، ولما لم يجد لهذا دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا هدي الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين حاول أن يثبته بالاحتمالات الخيالية، كاحتمال أن لأرواح الأموات تأثيرًا وإمدادًا كما يقول بعض الفلاسفة، وذكر بعض كلمات من شرح قصيدة ابن سينا الفيلسوف ومن غيرها، وحسب صاحب هذه المقدمة أنه يدعو إلى كتاب مملوء بالموضوعات، أي بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لم يقرأه فهو شاهد زور، وإلا فهو لا يميز بين الصحيح والموضوع. قال في الاستدلال على انتفاع العامة بالقبور والأضرحة: إن الإنسان يتأثر بتصوراته. وهذا صحيح ولكن هذا التأثر وهمي يحصل للمعتقد بالشيء ولو كان صنمًا، وينقل مثله عن عوام سائر الملل فهل يكون قوله هذا حجة على أن دين الإسلام بنى عقائده وعباداته على أسس الأوهام؟ وزعم أن العامي لا يعتقد أن الولي يؤثر أو ينفع؛ وإنما يعتقد أنه يدعو إلى الله تعالى معه فيكون الدعاء أرجى للقبول وهذا الزعم منقوض بما يشاهد من العوام من طلب الحوائج من الجمادات، كباب المتولي ونعل الكلشني وشجرة الحنفي وشجرات الست المنضورة التي تحبل العاقر وغير ذلك، وجعلوا لكل ولي وظيفة: فبعضهم يشفي الأمراض المزمنة، وبعضهم يشفي الرمد الحاد، وبعضهم يرد الأطفال التائهين إلى غير ذلك، على أن رسائله التي نشرها لإرشاد المسلمين تصرِّح بأن الله وكل بقبور الأولياء ملائكة تقضي حاجات زائريها، وأن بعضهم يخرج من قبره فيقضي الحاجة بنفسه، وهذا شيء لا يُعلم إلا من الوحي، ولم يرد به كتاب منير ولا سنة صحيحة، وسنعود إلى تتمة الانتقاد. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقليد

الكاتب: عبد الرحمن شهبندر

_ التقليد خطاب ألقاه في المدرسة الكلية الأميركانية في بيروت الفاضل الأديب عبد الرحمن أفندي شهبندر من تأمل هذا الوجود بعين الحكمة يعجب وتأخذه الحيرة لما يظهر له مما يطرأ على الأمم من التغيرات والتقلبات: فبينما هو ينظر في باب من أبواب التاريخ إلى ما وصلت إليه الأمة المصرية مثلاً أيام الفراعنة من العظمة والمجد المؤثل - يرى في باب آخر أن هذه العظمة قد انتقلت، وهذا المجد قد زال وأصبحت تلك الأمة في قبضة أمة أخرى تتصرف فيها كيفما شاءت وشاء الهوى، وما قيل عن المصريين يقال عن الكلدانيين والآشوريين والبابليين واليونان والرومان، أمم زالت وآثارها تشهد لها بأن ذكرها لن يزول، ولعمري لو نظر أحدنا إلى (ممفس) أيام مجدها، أو إلى (نينوه) أيام عزها، أو إلى (أثينا) أيام حكمتها، أو إلى (رومية) أيام سطوتها - لكذَّب التاريخ فيما يدعيه من زوال تلك المدنية، ولظن أنها لا تزال مخيمة بتلك الربوع لا تؤثر فيها عوامل الزمان، ولا تزعزعها طوارق الحدثان. ولو قال أحد اليوم أن مدنية الإنكليز مثلاً ستزول يومًا ما، حتى لو ذهب أحدنا إلى لندن لرآها أثرًا بعد عين، ولرأى (وستمنسترها) كهيكل عظمي في مدينة أموات لكذَّبناه ونسبناه للجنون. لكن من تدبر نواميس الكون وقاس الحال بالماضي وحكم الماضي بالحال عرف أن ذلك من الممكنات، وما أرانا إياه التاريخ إثباتًا لهذه الحقيقة يكفي لمن ألقى السمع وهو شهيد. لكن ما هي تلك النواميس وما الذي يحفظ المدنية وما الذي يذهبها؟ هذه أسئلة صعبة جدًّا لا يمكننا أن نجيب عنها كلها في هذه المدة القصيرة، بل يكفي أن نقول: إن حكمة التاريخ وعلم العمران أفادانا أن للكون نظامًا بديعًا وسننًا محكمة استخرج الغربيون أكثرها واستعملوها في حفظ حياتهم، ونحن عن ذلك لاهون مع إننا باستخراجها واستعمالها أولى لما يتلى كل يوم فوق رؤوسنا {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) . فمن هذه السنن أن الأمة متى فسدت آدابها وأخلاقها فسد عمرانها؛ لأن الآداب والأخلاق هي الرابطة في الاجتماع البشري، ومتى انحلت هذه الرابطة انحلت عراه، ولنا في المصريين والرومان أعظم شاهد، فقد أجمع علماء التاريخ على أن من أعظم الأسباب في زوال دولتيهما فساد العائلة، وسوء التربية وانتشار الفجور والعياذ بالله تعالى. ومنها - وهو قريب من الأول - أن ظلم الدولة مؤذن بخرابها لما له من تثبيط الهمم عن الأعمال ومتى توقف عمل الأمة وحركتها تأخر عمرانها. قال العلامة ابن خلدون: (إن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك، والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال) . ومنها أيضًا أن الأمة التي تنزوي عن الأمم الأخرى لاعتقادها أنها أعظم منها علمًا وأدبًا وفضيلة ونسبًا تصبح وراء تلك الأمم؛ إذ تقدُّم العمران يتوقف على المباراة والمسابقة ولا نجاح بدونهما، فالصينيون لما اعتقدوا أنهم أفضل الأمم نسبًا لاتصالهم بالآلهة واتصال غيرهم بالشياطين، وأن بلادهم أخصب البلاد وأجملها، وأن عوائدهم أفضل العوائد، وأن لا علم إلا عندهم وأن الحكمة لم تتخطَّ سدهم وشطوطهم وأن.. . وأن.. . قطعوا علائقهم مع غيرهم احتقارًا لهم، فكانت النتيجة أن بقي عمرانهم تقريبًا على ما كان عليه منذ ألفي سنة، إن لم نقل قد تأخر فأخنى عليهم الدهر بأن أرسل عليهم من اليابان وأوربا صرصرًا قوضت أركان مجدهم، واقتلعت جذور عزمهم، وما سيصيبهم أعظم وكل آتٍ قريب. هذا قليل من كثير أوردناه برهانًا لقولنا إن للكون نظامًا بديعًا وسننًا محكمة، وأهم منه بالنسبة للمشرق موضوعنا (التقليد) وقبل الخوض فيه نقول: إن بعض العلماء أطلق هذه الكلمة على بعض الأعمال الخارجة عن الإرادة يعملها المرء بعد أن يحركه بمثلها محرك آخر، كما إذا نظرنا إلى أحد يتثاءب أو يتلجلج في كلامه، فربما نقلده بلا شعور منا، إلا أن هذا النوع غير داخل في بحثنا؛ فإننا إنما نبحث في التقليد الإرادي وتأثيره في العمران، وهو غريزي في الإنسان وعليه بني الاجتماع البشري، فمن الحقائق التي لا مشاحة في حقيقتها أن الطفل مطبوع على تقليد غيره فحركاته تكون في أول الأمر غير مضبوطة ولا متناسبة؛ ولكن كلما تقدم في السن نراه يجتهد أن يأتي بحركات مرضعته ووالديه، فيظهر أول الضبط والتناسب في عمله، والأمم المتوحشة والتي حظها من المدنية قليل تشبه الطفل بذلك، قال ماسون: (بينا نرى الكاريين لا يأتون بجديد نراهم ميالين إلى التقليد أكثر من الصينيين) وذكر (موات) أن الأندمانيزيين إذا سُئلوا سؤالاً أعادوا لفظه كالببغاء من غير جواب، والأعجب أن الفارانيين مع إحكامهم التقليد، إذا ترك لهم عمل ولو كان بسيطًا جدًّا خبطوا فيه خبط عشواء، والجامدون في هذه البلاد يشبهون هؤلاء المتوحشين بميلهم إلى التقليد الأعمى؛ فإنهم إذا رأوا أحدًا يجتهد بجديد من الأعمال النافعة أو استخراج معنى من كتب الدين هزءوا به قائلين: من أين لنا أن نأتي بأعمال كهذه ومن منا قادر على فهم تلك الكتب، دع عنك ذلك للمتقدمين فزمان الاجتهاد قد زال وما علينا إلا التقليد؟ هذا يدلنا على أن التقليد من طبيعة الإنسان ويدلنا أيضًا على أن ما يشغل العقول القاصرة من الصور العقلية للحركات الخارجة أو لغيرها يسوق أصحاب هذه العقول صاغرين للإتيان بمثلها، وربما يصير ذلك بعد قليل شبيهًا بالحركات الطبيعية البدنية الخارجة عن الإرادة كحركات المعدة في الهضم والرئتين في التنفس والقلب في الدورة الدموية، والسبب في ذلك أن قليل التصور ساقط النتيجة لا يستطيع الاجتهاد بأكثر المسائل، فيستنتج أنه غير قادر على الاجتهاد مطلقًا والجامد يتجنبه لما فيه من الاشتغال العقلي فهو عدو كل حركة ولو قيل (الحركة بركة) . التقليد من حيث هو أنواع متعددة، والذي يهمنا منها هنا نوعان: التقليد في العوائد، والتقليد في العلم، وهما يشبهان السلطة الشرعية، فكما أن هذه ضرورية للعمران كذلك ذانك، إذ هما قانونه المعنوي وكما أن هذه السلطة الشرعية كثيرًا ما يُساء استعمالها فبدلاً من أن تكون مدبرة عادلة تكون مستبدة ظالمة، كذلك ذانك والمقصود من سوء استعمالهما أن يصبحا عبئًا ثقيلاً على عاتق الأمة، وحاجزًا منيعًا دون بلوغها ما أصبح لها لازمًا ضروريًّا، وعلى هذا الأخير بنيت موضوعي وإليه وجهت خاطري لما له من التأثير السيئ في البلاد. والتقليد الأعمى في العوائد يظهر عندنا كثيرًا أيام الأعراس أيام يعرض جهاز العروس في الأسواق محمولاً في العربات، أو موضوعًا على رؤوس الرجال - أيام يفتح العروس أبوابه ويمد الموائد ويحشد الجموع التي يكاد ضجيجها يصل إلى السماء - أيام يصرف الألوف على الأزياء المضرة بالصحة! يفعل ذلك كله لئلا يقال: إنه لم يقم بالفروض، ولو كان كما يقول المثل (يبيع الماعون قيامًا بالقانون) (استحسان) . أما مجالسنا فهي مظهر التكلف، وإذا نظرنا إلى أكثرها ماذا نرى؟ تالله لا نرى إلا أناسًا جالسين وعلائم السآمة تلوح على وجوههم، إذا تكلم أحدهم فإنما يتكلم ليقال عنه إنه مسرور وغالبًا يكونون صامتين كالأصنام، لا لبكم بل لأن أفكارهم مصروفة إلى الخزعبلات، هذا يفكر في قلة أدب الحاضرين؛ لأنه لما خرج من المجلس لغرض له وعاد لم يقوموا له وذاك يبحث في سوء معاملتهم له؛ لأنهم لم يضعوه في صدر المجلس، هذا يقول في نفسه: إن صاحب البيت لم يستقبلني استقبالاً لائقًا بي، فياليتني لم أدخل بيته، وذاك ينتقده أنه لم يسرع بتقديم الأركيلة (الشيشة) والسيكارات، هذا يشتم الخادم في نفسه؛ لأنه أعطى فلانًا القهوة قبله، وذاك يتألم من سيده لأنه لم يقل له: شرفتم، بعد أن شربها، هذا وهذا.. . كل منهم يفكر في هذه الترهات ويخوض في هذه الجهالات؛ حتى إننا كثيرًا ما كنا نسمع من يخرج من مجالس كهذه يقسم الأيمان المغلظة أنه لن يحضر اجتماعًا بعدها أبدًا (تصفيق) . أي مقابلة بين مجلس كهذا، ومجلس لا يدخله إلا من صفت قلوبهم وراق ودهم: يعرفون معنى الصحبة، ويقدرون فائدة الاجتماع حق قدرها، هذا يأتي بنكتة فيقابله الحاضرون بالسرور، وذاك يلقي فائدة فيتلقونها بالحبور، حدائق أفكارهم لا تأتي إلا بيانع الثمر، وبحار أبحاثهم لا تجود إلا بأثمن الدُّرر، يعلمون أن المقصود من الاجتماع التعارف ومبادلة الأفكار، لا تناول القهوة واستعمال السيكار (استحسان) . كل منا ذاق لذة ما نسميه (ساعات الصُّدَف) وود لو تكون كل أيامه مثلها، وأحس بمجالس (الكُلف) وما لها من الأضرار، فطنطنة عود يسمعها المرء وهو مار في الشارع ربما تفوق لذتها لذة ما كان يحضره من المجالس الموسيقية، ويصرف دراهمه لسماعها؛ والسبب في ذلك ما قال المستر هربرت سبنسر وهو أنه كلما ازداد التكلف المحيط بالاجتماعات نقص السرور الحاصل منها؛ لأنه لا يمكن القيام بواجباتها الأساسية كلها، فكيف بالتكلفات الزائدة المضرة؟ وما قيل عن المجالس يقال عن الولائم، ويزيد في الفتق هنا أمر المأكول. أعرف رجلاً كان يحب أن يدعو صديقًا له؛ ولكن منعه من ذلك أنه لا يقدر أن يقدم له أربعة وعشرين نوعًا من المأكول، والأعجب أننا صرنا بالتكلف المضر والتقليد الأعمى إذا أردنا أن ندعو صديقًا لنا دعونا كل من نريد أن نوفيه ما له من يدٍ كدعوة ماضية، أو قضاء مصلحة، ولو لم يكن بينهما مودة، وهذا نتيجة حالتنا الحاضرة؛ لأن الكلفة توجب علينا أن يكون المدعوون جمعًا كي يخف المصرف، ولو لم يحصل المقصود (استحسان) . ولو أردنا أن نعدِّد ما يجري على المائدة، وكيف أن أحد المدعوين إذا شبع لا يقدر أن يقوم حتى يشبع البقية لئلا يقوموا معه وهم جياع - لطال بنا الكلام وأدى إلى غير ما كنا نتوخاه من الاختصار، ولهذه المجالس والدعوات أضرار كثيرة لا ينبغي أن نتركها كلها: منها الإسراف الذي يؤدي إلى الخراب، فالرجل المتوسط الحال إذا أراد أن يقوم بواجبات الاجتماعات فلم يأخذ بيتًا إلا في أحسن بقعة من البلد، ولم يضع فيه إلا أثمن الأثاث، ولم يلبس إلا آخر زي ولم.. . ولم.. . يصبح وبساطه الثرى فتحزُّ الدموع في جلباب خده ولكن لا ينفعه البكاء. ومنها تخفيف المعاشرة الصحيحة التي هي ضرورية للعمران؛ لأن من أراد أن يمدَّ رجليه على قدر لحافه ينبغي له أن يقل من الاجتماعات ما أمكن، وإلا يصبح معدمًا كما قدمنا، ومنها أن هذه الحالة توجب للذين لا يتحملون تكاليفها أن يميلوا إلى بعض العوائد المضرة كالجلوس في القهاوي، وصرف الأوقات في لعب الورق والبلياردو؛ لأن المرء إذا فقد شيئًا يسُرُّه لا بد له من شيء يقوم مقامه. وما قيل عن الأعراس والمجالس والولائم يقال عن الأزياء، إلا أن الوقت لا يساعدنا أن نبحث فيها؛ لأن عندنا ما هو أهم منها وهو التقليد في العلم. الباحث في علم الاستقراء يرى أن من أعظم الأسباب التي تمنع من تصحيح الأفكار: التقليد في العلم، قام أرسطو في القرن الرابع قبل المسيح وأسس فلسفة بناها على ما بلغ إل

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ تعليم معاهد الأرض للأطفال وتمرين أيديهم على الأعمال [1] (المكتوب 30) من هيلانة إلى أراسم في 12 فبراير 185 أحب أن أصف لك أميل، فأما صورته فقد عرفتها في الرسم الذي أرسلته إليك منتزعًا بآلة داجير التصويرية (الفوتغرافية) وأما سيرته وأحواله فهي التي أريد أن أحدثك عنها فأقول: أرى له جراءةً على السير والتجوال لا توجد في أترابه، ففيه ما أظنك تسميه بغريزة خرت الأرض [2] ، وقد بلغ تمكُّن هذه الغريزة من نفسه مبلغًا ما أراني فيه قادرة على إضلاله، ولا هو يحتاج في الاهتداء إذا أنا أضللته إلى إلقاء الحصى وفتات الخبز في الطرق لتكون كالصوى والأعلام [3] ؛ لأنه يهتدي بنفسه ولا يلبث أن يميز بمهب الريح وحركة السحاب الجهة التي ينبغي أن يؤمها، وأرى أن الذي أظهر هذا الاستعداد فيه هو ما استفاده بالعمل من صحبة (قوبيدون) فأنت تعلم أن في عيني هذا الزنجي ورأسه بيت إبرة مغناطيسية. لا أنكر أن مثل هذه العلوم من الأوليات، وذلك يؤكد وجوب أن يتعلمها الأطفال، وكلامي في ذلك عن خبرة وتجربة فإنني تربيت في مدرسة داخلية كان التلميذات فيها غافلات عما وراء المدرسة من شؤون الحياة ومتاعبها، وكنت بعد ذلك إذا خرجت إلى المزارع والرياض لا أعرف الشمال من الجنوب، ولا أميز بين الشرق والغرب، وأخجل ذلك الخجل الضار أن أسألك عنها خشية ظهورك على جهلي، ولو كان هذا الجهل خاصًّا بمثلي لكان الخطب سهلاً، وأراني صادقة إذا قلت إن كثيرًا من أهل النهاية في العلم ليسوا بأوسع علمًا مني ببعض مواضيع مساحة الكرة الأرضية العملية، لا أدري هل كتب على أميل أن يكون سائحًا وجوَّاب آفاق؛ ولكني أرى أن الناس محتاجون في جميع أطوار الحياة إلى معرفة الجهات والأمكنة احتياجًا تختلف درجاته، فبعضهم أحوج إلى التوسع فيها من بعض، وإن صدق النظر إذا تعزز بالتجارب كان الإنسان ركنًا من أركان الحرية. يأكل أميل على المائدة كالإنكليز، أعني أنه يأخذ السكين بيده اليمنى، والشوكة باليسرى يأكل بها، وقد أنكرت هذه العادة أولاً، ثم تبين لي أنها أسهل؛ فإن استعمال كلتا اليدين معًا يمكِّن من القطع والتناول أفضل تمكين، فالإنكليز عُسر (جمع أعسر) في الأكل دون الأعمال الصناعية، ولست أدري ما هو عذرنا في تمرين عضو من أعضائنا على العمل، فهل كانت أعضاؤنا زائدة عما نحتاج إليه في استعمار الأرض ومقاومة ما يعترضنا من العقبات المادية في سبيل الحياة فنستغني عن بعضها ونغفله؟ قرأت في ترجمة حياة جيمس وات المهندس الإنكليزي الشهير أنه كان يستعمل في طفوليته أدوات والده النجار في اختراع لعب لنفسه، أو تحويلها من شكل إلى شكل، ويقال إن هذا التمرن ساعده كثيرًا في تدريب يده على الصناعة، وقوّى ما كان في نفسه من الاستعداد لعلم الميكانيكا حتى صار ملكة راسخة فيه، ولا أطمع أن يكون أميل مخترعًا لآلات جديدة؛ ولكني أرغب أن يكون ماهرًا في تحريك أصابعه، ولهذا لا أمنعه من تكسير لعبه ليرى ما في جوفها - كما يقول - إذا تعهد لي بإرجاعها إلى أصلها. على أنني لاحظت أمرًا أحب أن أعرضه عليك، وهو أن لعب الأطفال تكون مناسبة لطبيعة البلاد التي ينشأون فيها، فأهل السواحل يلعب أطفالهم بما تحدثه في نفوسهم صناعة الملاحة، وقد أجاب قوبيدون الذي هو كالقرد في الخفة والمهارة رغبة أميل ورفيقيه فصنع لهم بسكينه مركبًا شراعيًّا صغيرًا أنزلوه في خليج الجبل باحتفال حافل، فكان بذلك قدوة لهم في هذه الصناعة البحرية حتى أنهم أنشأوا لهم أسطولاً مؤلفًا من طرادات وسفن من ذوات السارية، ومن ذوات الساريتين وقوراب وزوارق، وبعض هذه السفن مسلح بمدفع من الخشب، فكأن لسان حالهم يقول: ها نحن أولاء مستعدون، فليهاجمنا المهاجمون، وكنت إذا سُئلت عن قيمة هذه الأشياء السابحة على وجه الماء أظهر ترجيح ما يصنعه الأطفال من سفن اللعب على ما يبتاع من التجار من نوعها، وإن كان أحسن منها صنعًا. القصص والأساطير وتربية خيال الصغير يحب أميل العمل ويميل إلى سماع القصص كما هو المعهود من مثله. إنني موافقة لك في انتقاد توسع الناس بمخاطبة الأطفال بما يعلو إدراكهم وأفهامهم، وهذا من آفات التربية التي يجب تجنبها وما أعظم الفوائد والمزايا التي يستفيدها الأطفال من تعليم أمهاتهم الشفاهي إذا تجنبنها، أحدث عندي هذا الفكر النظر في ما يُؤثر عن جميع الأمم قبل اختراع الكتابة والتصنيف مما كان الاعتماد في حفظه على الذاكرة، قرأت في كتاب لا أذكر اسمه الآن أن بعض اليونانيين كانوا يعارضون قدموس [4] في وضع الحروف الهجائية لهم محتجين بأن اعتياد الناس على إثبات حوادث التاريخ في الألواح يضعف الذاكرة بالتدريج، وكان لهذه المعارضة وجه، وهي تشبه المعارضات التي توجه حتى الآن إلى كل ضرب من ضروب الارتقاء حيث ينتقل الإنسان من شيء إلى آخر. نرى الأطفال قبل تعلم القراءة والكتابة ينتحلون كثيرًا من الأفكار والآراء، فأهم شيء يبتدئ به المربي هو النظر في اختيار أمثل ما يودعه في نفوسهم من المعارف، ثم في اختيار أمثل الطرق لإيصال ذلك إلى أذهانهم الخالية ونقشه في ألواح نفوسهم الصقيلة، وكثيرًا ما خرجت مع أميل عن أساليب لغتي وقواعدها لأجل ذلك، وما كان أشد اغتباطي وسروري عندما كنت أراه يلتفت إليّ لتكلمي بلغته، والنجاح في هذا يتوقف على إخلاص القلب ونسيان النفس وهذان الأمران إنما يحصلان بالرياضة والمزاولة على ما أرى. من الثابت المقرر أن للأطفال شعرًا خاصًّا تعرفه الأمهات حق المعرفة؛ ولكننا نحكِّم فيه شعرنا وخيالنا، فكيف السبيل إلى حفظ هذه القوة الشعرية وبقاء غضاضتها بحيث لا يسقط عبثنا بها زهرها، ولا يذويها ويذهب بنضرتها لإحلال شعرنا محلها. الدنيا مملوءة بالحكايات التي يُدَّعى أنها وضعت للأطفال، وأمثلها حكايات (برولت) وأرى أن ما فيها من الصنعة والحذلقة يخرج بها عن مهد الطفولية إلى مستوى الكهول ومرتبة الشيوخ، وأفعل الحكايات في استمالة أميل وتحريك رغبته وميله ليس مما يعهد في الشعور العام والحسن المشترك، أعني مما يجول في أذهان البالغين دون الولدان الذين في السادسة أو السابعة، فالحكايات الخرافية القديمة جدًّا التي لم يجفف الدرس والصنعة ما فيها من معاني الشعر الفطرية هي التي تقع من نفسه موقع القبول في مثل هذا السن. فمن الحكايات المتداولة في البلد الذي نسكنه ما فيه ذكر المردة والأغوال والجنيات والتنابيل (القصار جدًّا) وهو ما يذهب بنوم الأطفال في ليالي الشتاء، ويجذبهم إلى السُّمَّار لسماع تلك القصص محدقين بأبصارهم إلى السامر، ولي أن أعتقد أن هذه الحكايات هي مختزلة من أشعار وقصائد قديمة ضاع أصلها، وتناقلت الناس ما بقي من معانيها مرضع عن مرضع، وأم عن أم، حتى انتهت إلينا في شكل يخالف شكلها الأول قليلاً أو كثيرًا. زعم عالم من كرنواي ألاقيه أحيانًا في منزل صديقنا الدكتور أن لديه وسيلة يثق بأن تُوصل إلى معرفة أصل هذه الخرافات، ومناشئ تلك الحكايات، وما فهمته عنه من هذه الوسيلة هو أنه يستعين على تلك المعرفة من حيث هو عالم أثري بلحن تلك الحكايات وفحواها من حيث مشابهتها لما نخترعه من الحكايات وعدم ذلك، فهو يرى أنه كلما كان معنى الحكاية بعيدا عن تصورنا واختراعنا تكون أوغل في القدم، فإذا بحثنا في شأن الجنيات في هذه الحكايات نرى أن الجنيات في الأعصر القديمة تُوصف بأنها مجردات منزوية عن الناس، شرسة صعبة المراس، وقوى طبيعية رُفعت إلى مرتبة الآلهة وأُلبست شعار الدين، ثم ما زالت تقرب من الناس وتتشكل بشكل الإنسان قرنًا بعد قرن وتأنس به حتى صارت إناثًا يتزوج بها الرجال، ومما يروونه في هذا أن رجلاً تزوج بجنية وعاشا معًا عمرًا طويلاً في كوخ، وقد كان من طول أنسه بها أن نسي كونها جنية، إلا أنها فرت ذات ليلة متعلقة ببعض أشعة القمر. كذلك شأن المردة فإن هذه الكائنات الوحشية المشوهة كانت تُعرف في الزمن القديم بأنها مثار الوساوس المخيفة، والهواجس المفزعة، وبكرور الزمان ومرور الأيام اقتربت من الإنسان في أحوال معيشته، وضعف سلطانها في نفسه، وتأثيرها في وهمه وخياله، وتحول الرعب الذي كان مقرونًا بذكرها وتصورها إلى الضحك والسخرية، وهكذا تنتهي دولة الخرافات وتزول. لا ريب أنك واقف على قصة يعقوب مواثب المردة وقاتلهم الذي كان يعيش في كورنواي على ما يروى في الأساطير، فأميل يحب سماع حديثي عن غزوات هذا الشاب الشجاع ابن أحد الزارعين، وأشهر وقائعه التي سار بخبرها الركبان ما يُروى أنها وقعت في جبل ميخائيل قديس إنكلترا، وهو صخرة تكاد تكون بإزاء منزلنا، وكان المارد الذي يخطف الناس والبهائم قد تبوأها منزلاً، واتخذها مثوى له، وقد كان أعظم خدمة قام بها حماة في عصور الهمجية - إن لم أكن واهمة - هي مقاتلتهم وفتكهم بالسلبة والوحوش الضارية؛ فإنهم بذلك قد طهَّروا الأرض من العتاة والبغاة الذين كانوا يعيثون فيها فسادًا، وبهذا الاعتبار نرى اليونانيين قد أنصفوا برفع مكانة هرقل وتيزيه [5] وجعلهم من أنصاف الآلهة، وكذلك فعل يعقوب بالمارد؛ فإنه هاجم المارد في مغارته وانتصر على تلك القوة الوحشية الفاتكة بالحيلة، فكان جديرًا بأن يكون خلفًا لأولئك الشجعان الأقدمين. إن لهذه الخرافات لفضلاً ولو ألغيت من التعليم الشفاهي لأسفت كثيرًا؛ فإن أمام الطفل في هذا العصر الذي كله حقائق زمنًا طويلاً يتسنى فيه التحقق بأخلاقنا وعوائدنا الحقيرة، فلنغتنم فرصة فجر حياة الطفل القصير الأمد الذي ترتاح فيه نفسه للأحاديث الخرافية، وتتأثر بغرائب الأساطير لنودع فيها أنواع الوجدان الأعلى، ونبعثها على حب الأعمال الجليلة والسجايا الفضلى؛ فإن طبع الطفل يتكون وينشأ في قوالب المُثُل التي تكون لها مكانة في نفسه عندما يُلقى إليه خبرها وتمثل له صورها، نعم إن أميل لن يكون قاتل مردة وأين المردة اليوم، ولكن قصارى ما في قص هذه القصص عليه من الفائدة أنها تهز نفسه وتحرك أريحيته بما فيها من ذكر غزوات عصر الأبطال، ولو كنت أجد منه انقباضًا وشكًّا عندما أقص عليه تلك الوقائع التي أبالغ عن قصد وتعمد في إخلاص أبطالها، وعلو نفوسهم وأمانتهم لساءني ذلك وأحزنني. نحن في شؤون الحياة لا نزال دون غايات الكمال المبتغاة فيجب علينا - إن لم أكن واهمة - أن نعجب بما يروى عن أولئك الأبطال من فضيلة الشجاعة، وإن بعُد احتمال وقوعها حتى لا نكون في أسفل دركات الجبن. في نفسي أمر أنا في أشد الحذر من الإفضاء به إلى أميل لسببين: أحدهما أنه لا يفهمه، والثاني أنه يذهب بما لهذه الخرافات من الشأن الرفيع عنده، وهو أن تلك المردة التي هو موضوع تلك الأساطير ليست سوى أشخاص هذه الصخور الكثيرة في كورنواي، الحق أقول إن هذه الأجرام الصوانية الهائلة تحتمل في كل يوم أقصى ما قدر في هذا العالم على كل قوة ذات مقاومة وحشية أن تحتمله، ذلك أن تنبالاً كان يتسلق تلك الصخور العظيمة المحيطة بذلك المكان الذي يسمونه نهاية الأرض End Land's وينقر بأداة من الحديد نقرة يضع فيها قرطاسًا من البارود ذا فتيلة، ويشعل الفتيلة ويكر راجعًا، فيكون الانفجار ويتصدع الصخر وتتزلزل الأرض ويضطرب البحر، وينيطون في الأساطير مثل هذا التزلزل والاضطراب بسقوط المارد. يتراءى لي أن محو الخ

احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ احتفال مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر اُحتفل بامتحان تلامذة مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية في مصر في مساء يوم الجمعة الماضي احتفالاً شائقًا رأسه فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية ورئيس الجمعية، وحضره كثيرون من العلماء والوجهاء، وافتتح الاحتفال بتلاوة أحد التلامذة آيات من القرآن الكريم بالتجويد والترتيل، ثم أنشد طائفة من التلامذة أنشودة نوَّهوا فيها بفضل رجال الجمعية، ورحبوا بالحاضرين وختموها بالدعاء لمولانا السلطان وللجناب العالي الخديوي، ثم وقف تلميذ وتلا خطبة وجيزة بيَّن فيها الغرض من التربية والتعليم في مدارس هذه الجمعية، وهو تكميل النفس والاستعداد للدخول في أبواب المعيشة وتفضيل الصناعة والحِرف على غيرها، وتوجيه النفس لترقية كل تلميذ صناعة والده وحرفته بما يكتسبه من العلم الذي كان والده محرومًا منه، ومعلوم أن جميع هؤلاء التلامذة من أولاد الفقراء المحترفين تعلمهم الجمعية وتربيهم على نفقتها، ثم وقف تلميذ آخر فأُعطي كتاب (الدروس الحكمية) ففتحه وقرأ منه نبذة جاءت أمامه بالعرض من الدرس الذي يبين حاجة البشر إلى الدين، فأحسن القراءة وبيَّن معانيها على وجه الصواب، فناقشه الأستاذ الرئيس في الفهم وسأله عن معنى الآية التي افتتح بها الدرس، فأحسن في الإجابة والتفسير حتى أنه فسر ما لم يُذْكَر في الكتاب من تتمة الآية الكريمة، ثم تكلم تلميذ آخر في حكم فريضة الزكاة وفوائدها للمزكي وللفقراء وللهيئة الاجتماعية، ومن ذلك أنها العلاج الواقي من داء الفوضى والاشتراك، وختم كلامه بقوله: (لا فوضوية في الإسلام) فصفق له الحاضرون كما صفقوا لمن قبله ولمن بعده، ثم امتحن تلميذ آخر بإعراب جملة فيها تقدير دقيق فأجاد في الإعراب، وأنبا عن فهم يحالف الصواب، وامتحن آخرون في الحساب وفي الجغرافيا والرسم حيث رسم أحدهم خارطة أوربا وبين ممالكها وعواصمها، وسأله الأستاذ الرئيس هل خطر لك أن تسافر إلى عاصمة من هذه العواصم، فقال: نعم تمنيت أن أزور باريس، فسأله أن يبيِّن خطة السفر من القاهرة إلى باريس، فبيَّنها أحسن بيان، وعرض بعض التلامذة على الحاضرين نموذجات من خطوطهم ورسومهم في غاية الإتقان والجودة، وخطب آخرون من التلامذة في بيان فوائد التربية والتعليم وفوائد الجمعيات الخيرية، ثم خُتم الامتحان كما بُدئ بترتيل أحد التلامذة آيات من الكتاب العزيز. وبعد هذا وقف مولانا الأستاذ رئيس الجمعية، وشكر للحاضرين عنايتهم بحضور الاحتفال بامتحان أولاد الفقراء، ومشاهدة أثر تربيتهم، ثم تكلم في بيان غرض الجمعية من تربية هؤلاء الأطفال الفقراء، وهو تهذيب نفوسهم ومساعدتهم كل واحد منهم على إحياء صناعة والده وترقيتها، إلا أن يرى نفسه مستعدًّا لصناعة أعلى منها وأرقى، وذكر أن الجمعية تساعد بالمال من يتخرج من مدارسها ويشتغل بصناعة والده مدة سنة، وأنها تُعلِّم التلامذة بأنهم لوالديهم أولاً، ثم للأقربين، ثم للأمة، وتُعلِّمهم احترام آباءهم وأمهاتهم، وتنزع من نفوسهم الميل إلى وظائف الحكومة، وههنا انتقل الأستاذ لبيان مفاسد التربية في سائر المدارس وحال الذين يتعلمون فيها وفي أوربا، وكيف يكون الإنسان بعد التعليم مشغولاً بالأماني الباطلة التي لا تُدرك، محتقِرًا لوالديه وأهله وللناس، يقضي معظم أوقاته في الملاهي ومعاهد البطالة واللغو في الغالب، ثم بيَّن وجه حاجة الأمة إلى تربية الطبقات الدنيا، وأنها لا ترتقي ولا تسعد إلا بذلك؛ لأنهم هم الذين يقومون بمعظم الشؤون، وأكثر الحرف التي لا يستغني عنها الخواص ولا يهنأ لهم عيش ما دام أصحابها فاسدي التربية فاقدي الآداب، وقال إن جراثيم الخير التي تلقيها مدارس الجمعية في نفوس التلامذة لا بد أن تنمو وتغلب على جراثيم الشر التي أصيبوا بها من البيئة (الوسط) التي يعيشون فيها؛ لأن الحق دائمًا يغلب الباطل، والخير يصرع الشر، إلا إذا اضمحل أنصار الحق ودعاة الخير، وضاعوا في كثرة الأشرار، قال: وربما ينازعني بعض السامعين في هذه القاعدة مستدلاًّ باستحواذ الشرور على الناس، وأكتفي بأن أجيب هؤلاء بكلمة واحدة وهي ائتوني بعشرة من دعاة الخير في القوم الذين تحكمون بفسادهم، وتغلب جراثيم الشر فيهم على جراثيم الخير. ثم ختم خطابه بتوزيع الجوائز على نجباء التلاميذ مبينًا أن لها مصدرين: أحدهما أن اللجنة التي تألفت لإيجاد أثر يُخَلِّد ذكر المرحوم علي باشا مبارك لخدمته المعارف كانت ارتأت أن تقيم له تمثالاً في نظارة المعارف، ثم رجعت عن هذا الرأي؛ لأن معظم الأمة المصرية يُعِدُّ التماثيل إهانة لا تكريمًا، ويسمون التمثال (الصورة المسخوطة) أي الممسوخة، وترجح للجنة أن تعطي هذه الدراهم للجمعية الخيرية تستغلها وتجعل غلتها في كل سنة جوائز للنابغين من تلامذة مدارس الجمعية الخيرية بشرط أن يؤلف أحد أعضاء الجمعية كتابًا في تاريخ علي باشا ومآثره، ويُوزع مع الجوائز أيضًا، ويكون هذا أحسن ذكرى وأثر، قال: وقد تأخر تأليف هذا الكتاب في هذه السنة، فرأينا من التعجيل بالبر أن توزع الجوائز، وفي العام القابل يُوزع الكتاب - إن شاء الله تعالى - وهذا ما أصاب مدرسة القاهرة من هذه الجائزة يعطى لأنبغ التلامذة في العربية، وأما المصدر الثاني فهو أن الأستاذ الشيخ عبد الرحيم الدمرداش تبرع بعشرة جنيهات للجمعية شكرًا لله تعالى على شفائه من مرض ألمَّ به، وجعلها دائمة في كل سنة. ثم انفض الجمع وخرج القوم مسرورين بما شاهدوه من النجابة والنجاح الذي كان فوق ما يؤملون.

عفو سمو الخديوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عفو سمو الخديو منذ ثلاثة أشهر ونيف عفا سمو الخديو المعظم عن حضرة الفاضل الشيخ إبراهيم حرب الطرابلسي ورفيقيه الذين حكم عليهم في حادثة الأزهر المشهورة وفرُّوا.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (سكة الحديد الحجازية) قد شُرع في مد قضبان الحديد بعد تسوية الأرض في القسم الأول من هذه السكة التي هي أعظم مآثر مولانا الخليفة والسلطان الأعظم أيده الله تعالى وسدده، ويبتدئ هذا القسم من (المزيريب) حيث منتهى السكة الحديدية بين بيروت والشام، وطوله عشرون كيلو متر، وقد احتفل بذلك في المزيريب بحضور صاحب الدولة ناظم باشا والي سوريا، وصاحب السعادة محمد فوزي باشا مدير إدارة لجنة السكة الحديدية في ولاية سوريا وأحد أعضائها، ورائف باشا رئيس أركان الحرب في الفيلق السلطاني الخامس، وذلك في يوم الاثنين ثامن ربيع الأول الأنور، وهو اليوم الذي وُلد فيه النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم على القول الصحيح، فياله من فأل حسن يبشر بالإتمام بالخير إن شاء الله تعالى. *** (رزء علمي ديني) في يوم الخميس ثالث ربيع الأول توفي إلى رحمة الله - تعالى - أحد أكابر علماء الأزهر الشريف الأستاذ الشيخ محمد راضي الكبير مفتي ديوان الأوقاف، وشيخ رواق البحاروة في الأزهر عن نحو خمسين سنة قضاها في التعلم، ثم التعليم وخدمة الحكومة. كان الفقيد مالكي المذهب، ثم تمذهب بمذهب الحنفية، وأتقن فقههم حتى عين مفتيًا لمديرية الدقهلية، ثم مفتيًا لديوان الأوقاف، ومن مزاياه التي لا يشاركه فيها إلا القليل أنه كان لا يخاف في الحق لومة لائم، فيصرح باعتقاده وإن خالف العامة وأنكرته الجماهير، وله واقعة مشهورة في ذلك وهو أنه صرح بإنكار ما يأتيه العامة من المنكرات عند قبور الصالحين مما هو مشهور، وأفضنا فيه مرارًا، فاتخذ ذلك بعض الحسدة والجهال وسيلة للخوض فيه والسعاية للحكومة وسموه وهابيًّا، وهم لا يدرون ما هو الوهابي؛ وإنما هي ألفاظ يرمونها من غير فهم ولا عقل، فعزلته الحكومة بناء على هذه السعاية، ثم تبين أنه ما قال إلا الحق الذي هو مذهب السلف ولباب الدين، فرقَّاه الجناب الخديوي - أعزه الله تعالى - وجعله مفتيًا للأوقاف، وما زال مواظبًا على التدريس وإفادة الطلاب في الجامع الأزهر حتى أصيب بالمرض الذي انتهى بوفاته، وقد شيعت جنازته بالاحتفال اللائق بفضله تغمده الله برحمته وعزَّى آله وذويه بمصيبته.

الواسطة والزيارة أو ابن تيمية والسبكي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الواسطة والزيارة أو ابن تيمية والسبكي ذكرنا في الجزء الماضي أن بعض المشايخ المغرمين بحب الشهرة سعى بنشر رسائل في الواسطة الشخصية بين الله سبحانه وتعالى وبين عباده، وكتب لذلك مقدمة جاء فيها بالتهافت والتناقض كأنه لا يفهم ما يكتب، أو يتوهم أن الناس لا يفهمون. إذا كان يعتقد ما قاله في أول المقدمة من أن نجاة الأرواح إنما هي في اتباع الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح من غير أدنى ملاحظة أو اعتراض واسترسال مع العقل، فلماذا أَلصق بالدين ما لم يرد في كتاب ولا سنة، ولا قال به أحد من الصحابة، ولا أئمة التابعين وتابعيهم من المجتهدين؛ وإنما هي نزغات عقلية نُسبت إلى بعض العلماء لأجل ترويجها، على أن من نُسبت إليهم ليسوا بمعصومين ولا هم ممن يجب اتباعهم لذاتهم؛ وإنما توزن أقوالهم وأفعالهم بميزان الشرع فما رجح منها قُبل وما كان مرجوحًا تُرك ورُفض. هل جاء في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أمر ببناء القبور وتشريفها واتخاذ القباب عليها، وجعلها في المساجد والصلاة إليها، وطواف الناس بها كما يطوفون بالكعبة، أم ورد النهي الصريح عن ذلك بما لا يحتمل التأويل؟ هل نُقل في حديث صحيح أو حسن أن أحدًا من الصحابة رضي الله تعالى عنهم طلب من قبر النبي عليه أفضل الصلاة والسلام شيئًا مما يطلبه عامتنا اليوم من قبور المشايخ المشهورين بالولاية والصلاح، أو طلبوا منه الدعاء بقضاء حاجاتهم كما يزعم صاحب المقدمة، أم قال أحد السلف الصالح بذلك؟ كلا إن صاحب المقدمة لا يقدر على هذه الدعوى؛ ولكنه يزعم أن بعض علماء القرون المتوسطة قال بذلك، والنجاة إنما هي في اتباع الكتاب والسنة على ما كان عليه السلف الصالح، لا في اتباع هؤلاء الذين تدل رسائلهم التي نشرها على أنهم قالوا ما قالوه بآرائهم؛ لأنهم لم يستدلوا عليه بما لا يصح الاستدلال به؛ ولأنهم لا يميزون بين الحديث الصحيح والموضوع؛ لأن رسائلهم هذه مملوءة - كما قلنا - بالأحاديث الموضوعة والمنكرة. والذي استقر عليه اجتهاد الإمام الغزالي بعدما خاض في الفلسفة والتصوف، وتوسع في الفقه والجدل والكلام - أن السعادة في اتباع القرآن الكريم في العقائد، وما أجمع عليه الأئمة في الأعمال والأخذ بالاحتياط فيما اختلفوا فيه، ودعوى أن بعض الأموات يكونون واسطة بين الله وبين الناس يقضون حوائجهم بإذنه مما يتعلق بالعقائد أولاً وبالذات، ثم بالعبادة، ولم تَرِد في كتاب ولا سنة ولا قول إمام مجتهد، فالغزالي يحكم برفضها وإنكارها حتمًا، وإن صحت عنه تلك العبارة الفلسفية في احتمال تأثير أرواح الموتى في عالم الشهادة، فهي ليست من الدين؛ وإنما هي من النظريات الفلسفية، ولا بد أن يكون رجع عنها كما يفهم من كتابه (القسطاس المستقيم) وغيره. والذي روَّج غش أمثال هذه الرسائل من المصنفات في سوق العامة، وكثير ممن يلبسون لباس الخاصة - هو التسليم لكل ما يُعَدُّ تعظيمًا للأنبياء والأولياء، وأخذه بالقبول توهمًا منهم أن البحث فيه أو التوقف في قبوله يخل بالتعظيم، فما جاء في المقدمة لهذا الشيخ الأزهري المقلد ما نصه نقلاً (لو وضع شَعْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سوطه أو عضادته على قبر عاصٍ أو مذنب لنجا ذلك المذنب ببركات تلك الذخيرة من العذاب، وإن كان في دار إنسان أو بلد لا يصيب سكانها بلاء، وإن لم يشعر بها صاحب الدار أو ساكن البلد؛ فإن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في العقبى مصروف إلى ما هو له منسوب، ودفع المكاره والعقوبات مفوض من الله تعالى إلى الملائكة، وكل ملك حريص على إسعاف ما حرص النبي صلوات الله عليه بهمته إليه من غيره، كما كان في حال حياته، فإن تقرب الملائكة بروحه بعد موته أزيد من تقربهم بها في حال حياته) اهـ النقل. ولكن هل يجوز لنا في تعظيم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام أن نقول عليه وعلى ملائكة الله تعالى ما لا نعلم؟ كلا إن في هذه العبارة مسائل: (1) من أين علم قائلها أن اهتمام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في جوار الله تعالى مصروف إلى آثاره التي في الدنيا، أليس الأقرب أن يكون مصروفًا إلى مناجاة الله تعالى والأنس بلقائه؟ . (2) إن النجاة في الآخرة منوطة بحسب ما جاء في الكتاب والسنة بالإيمان الصحيح والعمل الصالح، وأمر العصاة مفوض إلى الله تعالى {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (آل عمران: 129) ولم يَرِد عنه صلى الله عليه وسلم أن وضع السوط أو الشعر على القبر من أسباب النجاة، فهل يجوز لأحد أن يزيد في دينه ما ليس منه بحجة التعظيم، أم يجب الوقوف عند حدود الشريعة في الأحكام، وفي التعظيم نفسه أيضًا؟ (3) لو كان وضع السوط أو الشعر على القبر منجيًا من العذاب لكان الأجدر بذلك الاتصال به صلى الله عليه وسلم في دار الدنيا، وقد ورد في الصحيح أن سعد بن معاذ الشهيد أحد أكابر الصحابة مات بين سَحر النبي ونَحره متكئًا على صدره، ومع ذلك أخبر صلى الله عليه وسلم بأن ضغط القبر كان عليه شديدًا. (4) أن البلاد التي فيها من شعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كالآستانة ومصر وغيرهما أُصيبت بأنواع من البلاء، بل إن المدينة المنورة التي فيها جسده الشريف كله قد أصيبت بألوان من البلاء حتى إن الحرم الشريف نُهب وربطت فيه الخيول. وحسبنا في تعظيمه صلى الله عليه وسلم ما علمنا الله ورسوله ككونه رحمة للعالمين، وكونه على خلق عظيم إلى غير ذلك مما لا يحصى، ولكن أمثال هؤلاء المؤلفين يقولون بألسنتهم ما ليس لهم به علم ويحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم، فعلينا أن نعتمد في نجاتنا على تعليم الوحي من غير أن نزيد فيه بعقولنا وأهوائنا، أو ننتقص منه بالتأويل والتحريف، ولو صح في معاني تلك العبارة شيء لا ينافيه الواقع، ولا يصادمه الوجود لقبلناه على ظاهره وإلا وفقنا بينه وبين الواقع كما هي القاعدة الشرعية، وعدم ورود ذلك لا ينافي كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في أعلى مقام. ومن أغرب مزاعم صاحب المقدمة وأفسد قياساته المساواة بين طلب المعونة من الأحياء وطلبها من الأموات، فإذا كان لا يفرق بين الحي والميت، وقد فرق بينهما الوجود والشرع والعقل، أفلا يجب عليه التفريق بين ما يطلب من الأحياء من التعاون، وبين ما يطلب من الأموات: يطلب الأحياء بعضهم من بعض التعاون على الأمور الكسبية بأسبابها التي قرنها الله تعالى بها وأمرهم بالتعاون عليها في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) ويطلبون من الأموات ما لا تناله يد الكاسب كجلب المصالح، أو درء المفاسد من غير أسبابها التي قرنها الله تعالى بها، وهذا النوع مختص بالله تعالى لا يُستعان بغيره فيه كما لا يُعبد غيره لقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) يطلبون من الأموات شفاء المرضى من غير معالجة، ودفع البلاء من غير سببه، يطلبون منهم الانتقام من الأعداء الذين يعجزون عن الانتقام منهم، كتلك المرأة التي كانت تدعو المتبولي بأن يُهْلِك الطبيب الذي عالج ابنها فمات عقيب معالجته، يطلبون منهم أن يردوا عليهم من ضَلَّ وتاه من أولادهم، وما فَرّ أو سرق من مواشيهم، ويقدمون لهم النذور لإرضائهم، يطلبون منهم، بل ومن قديسي النصارى (كمارجرجس) أن يحبلوا العاقر ... إلخ إلخ. مثل هذه المطالب يعرفها الشيخ المقلد، صاحب المقدمة وكان يعدها وأمثالها من الشرك كما سمعت ذلك منه بأذني، وقد كان في مجلس ثابت باشا في بعض ليالي شهر رمضان، فذكروا الوهابية فانتصر لهم وشنَّع على الذين يُعَظِّمون القبور ويطلبون منها ما يطلبون أقبح تشنيع رد عليه في المبالغة فيه الأستاذ الشيخ حمزة فتح الله والناس يسمعون (فما عدا مما بدا) ؟ اعتذر هذا الشيخ المقلد في آخر مقدمته عن أكثر علماء هذا العصر فيما ينتقد عليهم من ترك إرشاد العامة وإهمال فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأنهم بإلقاء الدروس الشرعية في أكثر المساجد قائمون بذلك حق القيام، وهذا اعتذار غير صحيح كان يجب أن يخجل من كتابته؛ فإن أكثر المساجد خالية من الوعاظ والمرشدين، وقراءة بعض الكتب الصعبة للمجاورين في الأزهر وما قرب منه كمسجد سيدنا الحسين ومسجد محمد بك وجامع المؤيد - لا تغني عن العامة شيئًا لأنهم لا يقدرون على ترك أعمالهم في النهار والهجرة إلى هذه المساجد لأجل سماعها، ولو قدروا لما فهموها، فإذا أراد العلماء إرشاد العامة وتعليمهم دينهم فلينتشروا في جميع المساجد، وليعلموهم ما تمس إليه حاجتهم في وقت يتسنى لهم الاجتماع فيه كما بين المغرب والعشاء. ثم عقَّب اعتذاره عن أولئك العلماء، واستدل على طعنه وقدحه فيهم بدليلين، بل بشبهتين سخيفتين (إحداهما) : أنهم لو كانوا مخلصين لكسيت أقوالهم جلباب القبول، وهذا الدليل مردود عليه لوجوه، أحدها أن جهله بقبول إرشادهم لا يدل على نفيه فمن المقرر عند العلماء أن عدم العلم بالشيء لا يقتضي عدم ذلك الشيء في نفسه، ثانيها: أن من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لم يتبعه أحد، ومنهم من اتبعه النفر القليل كسيدنا نوح عليه السلام، ثالثها: أن سنة الله تعالى في قبول الإرشاد أن يكون بالتدريج، وتعريضه بهم بأنهم أُذِلُّوا وأُهِينُوا، حجة عليه، فهل جهل ما قاساه سيد المصلحين عليه الصلاة والسلام من النفي والطرد والسب والضرب، وأن الناس لم يؤمنوا به بمجرد دعوته إلى الإيمان، ولو لقي دعاة الإصلاح الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر عشر معشار ما لقيه المصلح الأعظم صلى الله عليه وسلم لكان هذا الشيخ المقلد يستدل بذلك على كفرهم ويطفئ نار حسده بالتشفي منهم؛ ولكن الله بفضله ورحمته أراد أن يؤيدهم ويؤيد بهم الدين ولذلك يزيدهم رفعة وعزة على ممر الأيام والسنين، وذلك من رحمته وفضله على المسلمين، وإذا أُنظر هذا الشيخ ومُدَّ في أجله فسيشاهد أثر أولئك المصلحين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولتعلمن نبأه بعد حين. (الشبهة الثانية) : قوله: (ولو صدق هؤلاء فيما يزعمون لقاموا بالنهي عما أجمعت الأمة على إنكاره كالزنا وشرب الخمر والمجاهرة بها وترك الصلاة والصوم) ... إلخ، والجواب عنها أنهم ينهون عن هذه المحرمات العملية؛ ولكنهم جعلوا جل عنايتهم في النهي عن المنكرات في العقائد والأخلاق؛ لأنها الأصل الذي تبنى عليه الأعمال وإلى هذه الإشارة بحديث (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) وكيف ينفع النهي عن الأعمال مع وجود مثل هذه الرسائل التي نشرها، والمقدمة التي حبرها وفيها السم الذي يميت خشية الله تعالى من القلوب، ويُغري الناس بالمعاصي اعتمادًا على الوسطاء الذين ينجونهم في الآخرة، وإن أساءوا بترك الفرائض وارتكاب المحرمات كما يقضون مصالحهم في الدنيا، وإن تركوا السعي والأسباب، نعم إن العامة إذا رأوا كتابًا كتب عليه إنه للإمام فلان ومقدمته للإمام فلان يغترون بهذه الألقاب الضخمة، ويأخذون ما فيها بالتسليم، فإذا رأوا فيها ما نصه: (الحديث التاسع: من حج حجة الإسلام، وزار قبري، وغزا غزوة وصلَّى عليّ في بيت المقدس لم يسأله الله عز وجل فيما افترض عليه) يتوهمون أن هؤلاء الأئمة لا ينسبون إلى النبي صلى

قسم الموالد والمواسم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قسم الموالد والمواسم منعت الحكومة المصرية الناس في هذا العام من كثرة الاجتماع في الموالد، حيث لم ترخص للبغايا وللراقصات ولباعة الحشيش وأضرابهم من نصب خيامهم في معاهد الاحتفال بالموالد، والاحتراف بحرفهم الخسيسة الضارة خوفًا من انتشار الوباء وسريان الطاعون، وكانت تصرِّح في الإجازات بإقامة هذه الموالد بوجوب الاقتصار على إقامة الشعائر الدينية، وعجيب من حكومة إسلامية أن تسمي البدع شعائر إسلامية سواء كان ذلك عن علم أو عن جهل فهي كما قال الشاعر: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم نعم زعم بعض العلماء أن هذه البدعة حسنة إذا خلت من المحرمات والمنكرات؛ ولكن لم يقل أحد بأنها من شعائر الدين، كيف وكلها من أوضاع المتأخرين، وهي تزيد وتتجدد حينًا بعد حين، ولم يُعرف شيء منها عن السلف الصالحين، وقد أعجبنا من رقعة الدعوة التي أرسلها إلينا صاحب السماحة السيد توفيق البكري شيخ مشايخ الطرق لحضور الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم تصديرها بتسمية ذلك (عادةً) فحيَّا الله العلم والفهم.

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورة التاسعة بين المصلح والمقلد التقليد والتلفيق والإجماع لمَّا ضم الشابَّ المصلح والشيخ المقلد المجلسُ التاسع ومعهما المقلد الثاني، أو المناظر الثالث - ابتدأ المقلد الكلام فقال للمصلح: لم يبق إلا أن تبين لنا رأيك في الوحدة الإسلامية بالنسبة للمعاملات والأحكام السياسية والقضائية، ونحن نجمع ما عندنا من الانتقاد عليك، ثم نسرده سردًا. الثالث: إنني لست على ثقة من حضور مجالسكم كلها، فلا بد من البحث في كلام الإمام الغزالي السابق قبل أن يطول عليه الأمد؛ فإن هذا الإمام لم يحرِّم التقليد كما حرمه صاحبنا؛ وإنما أباحه بالنسبة لمن عمل بالمُجْمَع عليه وعرضت له مسائل مما اختلف فيه، فذهب إلى أن له الأخذ في ذلك بقول من يغلب على ظنه أنه الأفضل، وهو قول لعلماء الأصول القائلين بالتقليد، وبعضهم يخالف فيه ويقول بعدم اشتراطه لأن المقلد لا رأي له فيختار الأفضل. المصلح: قد علمتم أنني أبديت رأيي في الوحدة الإسلامية وإنقاذ المسلمين من ظلمات الاختلافات التي كانت أصل مرضهم وجرثومة دائهم قبل أن أطلع على كلام الإمام الغزالي - رحمه الله تعالى - فلست مقلدًا له فيه؛ ولكنني أحمد الله تعالى من صميم قلبي على موافقة فهمي في الدين لفهم حجة الإسلام وعلم الأعلام، وقد علمتم أنه اكتفى في جمع كلمة المسلمين بأن يأخذوا عقيدتهم من القرآن الكريم، وأن يعملوا بما أجمعت عليه الأئمة وتلقته بالقبول الأمة، ولم يكلِّف العامة بأكثر من هذا الذي جزم بأنه هو الدواء الذي لا يحتاجون سواه، ثم إنه فرض وجود رجل صالح فرغ من حدود التقوى كلها بترك كل ما اتفقوا على وجوب تركه، وفعل كل ما أجمعوا على طلب فعله عند الاستطاعة، وتحير في مسائل الخلاف التي تدور بين النفي والإثبات، فحكم على هذا بأن ينظر في أقوال الأئمة وفي سيرهم، فمن عُلم من سيرته أنه أعلم وأحكم، ومن دليله ومدلوله أنه أقوم وأسلم، يأخذ بقوله، وقد سُمِّي هذا النظر اجتهادًا وهو كذلك، وإنما يسمى صاحبه - كما قال ولي الله الدهلوي - المجتهد المنتسب لأنه سار في اجتهاده على طريقة غيره بعد العلم بها، وكذلك كان أصحاب الأئمة المجتهدين كأبي يوسف ومحمد اجتهدوا على طريقة أبي حنيفة ومنهاجه في الاستنباط ولم يقلدوه، على أن هذه المسائل الفرعية الخلافية التي يُعذر الإنسان بجهلها، ويُعذر بالخطأ إذا هو اجتهد فيها فأخطأ على ما هو معروف عند الجميع - لا يضر بالوحدة الإسلامية تقليد مثل ذلك الرجل الصالح فيها أي إمام وإن لم ينظر في حاله ودليله؛ وإنما المضر هو تفريق المسلمين شيعًا وأحزابًا، يلتزم كل حزب الأخذ بقول عالم يسميه إمامه ويقلده هو والمنتمين إليه في كل أقوالهم وآرائهم، ويتعصب على الحزب الذي يأخذ بأقوال العالم الآخر وآرائه حتى يؤدي ذلك إلى إهمال الكتاب والسنة، وما يثبت بالاختبار أن فيه مصلحة الأمة في سياستها وأحكامها إلى آخر ما أطلنا القول فيه من قبل، وقد يسرت الأمر في هذه المسائل الفرعية الخلافية فجعلت العامي فيها مخيرًا بشرط الاحتياط بقدر الإمكان وعدم اتباع الهوى، والإمام الغزالي وإن قال بجواز تركها أيضًا؛ فإنه ضيَّق على من أراد العمل بها وألزمه بضرب من الاجتهاد إن لم يكن ما يسمون صاحبه المجتهد المنتسب، فليكن ما يسمونه (الاجتهاد في المذهب) نعم إنه فرض وجود مثل هذا فرضًا بكلمة (لو) وأشار قبل ذلك إلى أنه لا يكاد يوجد حيث قال: (ومتى تفرَّغ العامي من هذا إلى مواضع الخلاف؟) الثالث: بقي في نفسي قول (الدر المختار) : إن الحكم الملفق باطل بالإجماع، ومعلوم أنه لولا قول هؤلاء المجمعين بالتقليد لما كان لنفي التلفيق فيه معنى، فهم إذن مجمعون على التقليد، فما وجه هذه المناقشة في شيء صح فيه الإجماع؟ المصلح: يصح أن يكون منعهم التلفيق لمنع التقليد أي لا يصح التلفيق لأنه تقليد، والتقليد باطل ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والجواب التحقيقي أن دعوى الإجماع ممنوعة، وتجد ذكر الخلاف في أشهر كتبكم الأزهرية كحواشي الأمير وحواشي الباجوري على جوهرة التوحيد للقاني، ومن العجيب أن ينقل صاحب الدر هذا القول الذي لم يقل به أحد من أئمة مذهبه، وكيف يقولونه والمذهب كله تلفيق لأنه مذهب ثلاثة أئمة، ومن آية عدم قول أئمة الحنفية بمنع التلفيق أن مجتهدهم في القرون المتوسطة الكمال بن الهمام نسبه في تحريره إلى متأخر وعنى به - كما قاله شارحه - القرافي المالكي، فلو كان في المسألة نص عن أئمتهم وهو أعلم الناس بذلك لما اقتصر على نسبتها إلى رجل واحد من متأخري المالكية إذ قال (وقَيَّدَه متأخر) ... إلخ. أما فتاواهم في التلفيق الصريح فهي كثيرة، ومن أشهرها وقف المنقول على النفس الملفق من قول أبي يوسف بجواز الوقف على النفس دون المنقول، وقول محمد بجواز وقف المنقول دون الوقف على النفس، وممن صرح بأن هذا تلفيق الطرسوسي، وذكر أن في منية المفتي ما يفيد جواز الحكم المركب كذا في تنقيح الحامدية لابن عابدين عمدتهم في المتأخرين، وفيه أيضًا بعد أن ذكر عن الشلبي أن وقف الدراهم على النفس ملفق من قول أبي يوسف وزفر وأن الطرسوسي حشى على جوازه ما نصه: ورأيت بخط شيخ مشايخنا ملا علي التركماني في مجموعته الكبيرة عن خط الشيخ إبراهيم السؤالاتي بعد هذه المسألة المنقولة عن الشلبي ما نصه: وبالجواز أفتى شيخ الإسلام أبو السعود في فتاواه، وأن الحكم ينفذ وعليه العمل اهـ. أما الذي في المنية فهو أن الحكم بشهادة الفساق على الغائب ينفذ وإن كان القائل بجواز الحكم على الغائب يمنع شهادة الفساق، وذكر ابن نجيم في رسالته في بيع الوقف بغبن فاحش مثل ما في المنية عن البزازية وجزم بأن المذهب جواز التلفيق حيث لم يكن فيه رجوع عما عمل فيه تقليدًا أو لازمه الإجماعي، أخذ من إطلاقهم جواز تقليد غير من قلده في غير ما عمل به، فانظر أين تضع زعم صاحب الدر المختار الإجماع على منع التلفيق. الثالث: إن العلامة ابن عابدين قد رفع الإشكال عن شبهة التلفيق في مذهب الحنفية بأن التلفيق الممنوع إنما هو ما كان من مذاهب متباينة، وأما إذا كان من أقوال أهل المذهب الواحد فلا لأن أقوالهم مبنية على قواعد إمامهم أو مروية عنه. المصلح: هذا تحكم لا يقبله عاقل؛ فإن القاعدة الواحدة لا يمكن أن تفيد النقيضين، ولا يمكن أن يقول عاقل ولو مقلدًا بقولين متناقضين كما في مسألتنا التي مثلنا بها - وقف المنقول على النفس - فإذا وجدنا روايتين متناقضتين عن إمام نحكم بأنه رجع عن إحداهما إن كانت الرواية صحيحة فيهما، كما نحكم في الحديثين المتناقضين بأن أحدهما منسوخ إذا لم يمكن الجمع، ولا جمع بين النقيضين، وإنما يمكن الجمع بين المتخالفين بغير التناقض، قل لي أيها القاضي الفاضل أليس اتفاق مثل أبي حنيفة ومالك - رحمهما الله تعالى - في أصول الدين عقائده وأحكامه أقرب من اتفاق أبي حنيفة مع صاحبيه أو أحد صاحبيه مع الآخر في هذه الفروع الاجتهادية؟ فلماذا لا تجعلون أهل الدين الواحد كأهل المذهب الواحد، إن كان أهل المذاهب يجتمعون في بعض القواعد، فأهل الدين يجتمعون في جميع الأصول والعقائد. المقلد: هل يمكن أن يكون صاحب الدر مخترعًا لدعوى الإجماع، أم لا بد له من نقل؟ الثالث: حاش لله أن يقول هذا الفقيه العلامة من عند نفسه شيئًا، فلا بد أن يكون ناقلاً. المصلح: صدقت ليس لمثله أن يقول شيئًا؛ لأنه ملقد والمقلد لا علم له فيقول وإنما ينقل قول غيره وفاقًا لحضرة القاضي، وقد نقل هذه المسألة عن العلامة قاسم وهو نقلها عن توفيق الحكام، وسواء كان هو الذي قالها أم صاحب توفيق الحكام فهي منقوضة، والخلاف في المسألة محكي والقائلون بالتلفيق كثيرون، وقد سمعتم ما نقله الكمال عن القرافي المالكي، وإليكما ما في حاشية ابن عرفة المالكي على الشرح الكبير عند قول المتن مبينًا ما به الفتوى وهو: وفيه أيضًا - أي في الشبرخيتي - امتناع التلفيق، والذي سمعناه من شيخنا نقلاً عن شيخه الصغير وغيره الصحيح جوازه وفيه فسحة. المقلد: إنني والله لفي حيرة من الجراءة على دعوى الإجماع في مسائل فيها مثل هذا الخلاف والترجيح. المصلح: لو راجعت كتب الأصول وكتب السنة والخلاف وشروحها ورأيت خلاف العلماء في الإجماع نفسه لفهمت حق الفهم قولي السابق: (وأما العبادات فما بينته السنة بالعمل، وتناقله الخلف عن السلف كذلك بالاتفاق حتى صار معلومًا من الدين بالضرورة هو الذي يجب أن يأخذ به كل مسلم) فإنني لم أذكر السُّنة العملية عبثًا، وكيف وإنني أعرف كثيرًا من المسائل الخلافية ادَّعوا فيها الإجماع، وذلك أن أحدهم يطلق هذا اللفظ على ما لا يُعلم فيه خلافًا، وهل يحيط أحد غير الله تعالى بآراء الناس وأقوالهم في عصر من الأعصار. وإنني أذكر لكم مجمل أقوال العلماء في الإجماع، وإذا اقتضت المناظرة تفصيلاً فإنني أذكره في وقته، قال بعضهم: إن الإجماع غير ممكن، وقال آخرون: إنه ممكن لكنه لا يقع، وقال غيرهم: إنه يقع ولكن لا سبيل إلى العلم به فنقله متعذر وغير ممكن، وذهب آخرون إلى أن النقل ممكن؛ ولكنه لم يقع، وحسبكم من دعوى القائلين بالوقوع مسألتنا، ثم اختلف العلماء في طريق نقل الإجماع ومتى يكون حجة يجب العمل، فقال بعضهم لأنه تقبل فيه أخبار الآحاد، أي بل لا بد من التواتر، ونسب هذا القول إلى الجمهور القاضي في التقريب والغزالي في كتبه، وقال بعضهم: إنه ليس حجة بالمرة ولا دليل على حجيته من النقل ولا من العقل، وقال قوم منهم الإمام الرازي والآمدي إنه حجة ظنية وذهب الأكثرون إلى أنه حجة قطعية على خلاف لهم في الإجماع السكوتي والإجماع المسبوق بخلاف، وتسمية ما يقول به بعض المجتهدين ويسكت عنه الآخرون، فلم يُنقل عنهم فيه خلاف ولا وفاق إجماعًا - تساهل كبير، والكلام في هذا طويل ولا غرض لنا في الخلاف؛ وإنما غرضنا في الوفاق. والذي اتفقوا عليه شيء واحد وهو أن الذي ينكر المُجْمَع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كافر خارج من جماعة المسلمين، ومن عداه مؤمن سواء وافق الأكثر أو الأقل؛ فإن الحق ليس مع الأكثر دائمًا {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) . المقلد: دعنا من بحث الإجماع الآن وعد بنا إلى الكلام في دعواك أن أمر الإمام الغزالي للمتحير في الخلاف بتقليد من يرى أنه أفضل وصوابه أغلب يستلزم الاجتهاد في المذهب على الأقل، وكيف يأمر العامي بهذا النوع من الاجتهاد وهو يحظر عليه النظر في غريب العلم كما تكرر في قوله. المصلح: إنه لم يأمر كل عامي بالاجتهاد في المذاهب، ولا بتقليد أربابها؛ وإنما أمر بذلك شخصًا مخصوصًا فرض أنه عرف أمور الدين المتفق عليها وعمل بها، وعرض له بعض الفروع المختلف فيها، ومثل هذا إن وجد يسهل عليه ما ذكرناه من معرفة أحوال الأئمة ودلائلهم في الفرع أو الفروع التي تعرض له. الثالث: إن الإمام قال: (فالمجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون بعضهم مصيبون ما عند الله، وبعضهم يشاركون المصيبين في أحد الأجرين) ... إلخ، وهو قول جازم بالتقليد على إطلاقه. المصلح: المسائل المُجْمَع عليها المنقولة بالعمل - ومنه عمل اللسان كقراءة الفاتحة في الصلاة - لا اجتهاد فيها ولا تقليد؛ لأن التقليد فرع الاجتهاد، والمسائل الاجتهادية في العبادات قد علمنا حكمها عنده

أمالي دينية الدرس ـ 29 ـ الآيات البينات على صدق الوحي والنبوات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدرس 29 الآيات البينات على صدق الوحي والنبوات (المسألة 63) الآية أو المعجزة: عبَّر القرآن الكريم عما أيَّد الله تعالى به الأنبياء لأجل إذعان الناس لهم وقبولهم دعوتهم بالآيات، واصطلح المتكلمون على تسميتها معجزات، واختلفوا في وجه دلالة المعجزة على صدق النبي الذي ظهرت على يديه هل هي عقلية أو عادية أو وضعية؛ لأنها بمعنى قوله تعالى: صدق عبدي فيما يبلِّغ عني، ولا نبحث في مثل هذه الخلافات النظرية؛ وإنما نقول: إن القصد منها الحمل على قبول الدعوة والإذعان للرسالة عند استعداد الأمة لذلك، وإقامة الحجة البالغة على المعاندين بحيث ينقطع لسان الاعتذار من أهل الجحود والإنكار. وقد كان ما جاء به كل نبي كافيًا في هذا المقصد، فاهتدى بهديهم كثيرون من المستعدين، وحقت الكلمة على المكابرين {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) فالآية أو المعجزة أمر يؤيد الله تعالى به نبيه، ويخضع له به النفوس، وكان يختلف باختلاف الأمم ومعارفها ودرجات ارتقائها، ومهما اختلفت الآيات وكثرت أفرادها؛ فإنها ترجع إلى نوعين آيات كونية آفاقية وآيات علمية نفسية. م (64) الآيات الكونية الآفاقية: أودع الله في فطرة الإنسان الاعتقاد بقوة غيبية تعلو جميع القوى، وقدرة علوية تفوق جميع القُدَر، وأودع في غريزته ميلاً لمعرفة الأشياء بعللها وأسبابها والوقوف على مناشئها وآثارها، فإذا رأى شيئًا لا يعرف له سببًا طبيعيًّا، ولا منشأ كسبيًّا، يحيله على تلك القوة الغيبية، والسلطة السماوية، ويعبد المظهر الذي قام به ويخضع ويستخذي للرجل الذي برز على يده، وذلك الاعتقاد كان أصلاً للوثنية ثم به جذب الإنسان إلى الإيمان عندما ارتقى إلى درجة يميز فيها بين مظاهر الآيات والغرائب ومجاليها، وبين موجدها الحقيقي ومنشيها، ارتقى في الوثنية من الخضوع والعبادة لأبسط المظاهر الطبيعية إلى عبادة أعظمها وأبدعها كالكواكب والإنسان، ثم ارتقى من الوثنية إلى التوحيد عندما استعد في ارتقائه إلى فهمه كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213) وهذا الارتقاء الذي غايته التوحيد هو الذي نطقت به الآية الشريفة {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) (راجع المنار ج 8 م4) . لكن الذين يخضعون لمن تظهر على يديه أمور خارقة للعوائد المألوفة ومخالفة للسنن المعروفة، لمجرد الجهل بمناشئها، وعدم نفوذ عقولهم إلى حقيقتها - يكونون دائمًا عرضة للانخداع بشعوذة المشعوذين وحيل السحرة والدجالين، ومستعدين للرجوع إلى الوثنية، وعبادة من ظهرت على يديه الخارقة الكونية، ألم تر إلى بني إسرائيل حين أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم كيف قالوا: {يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} (الأعراف: 138) ثم كيف اتخذوا العجل بأيديهم وعبدوه، ثم إلى النصارى كيف عبدوا السيد المسيح عليه السلام، ولكن لا مَنْدُوحة عن هذا؛ لأن نظام الارتقاء الذي أقام الله فيه نوع الإنسان يقتضيه فإن الإنسان في تلك الأمم لم يكن مرتقيًا إلى فهم البراهين على مسائل الاعتقاد، وفهم الحكمة من الشرائع والأحكام الأدبية والعملية، والآيات الكونية التي أوتيها موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ليست براهين على ما يجب اعتقاده من تنزيه الله وتوحيده ومعنى النبوة، وما يجب اعتقاده في النبي، ولا على منفعة الآداب والأحكام التي جاء بها وموافقتها لمصلحة البشر؛ وإنما هي شيء تخضع له النفس وتستخذي أمام صاحبه أو تحمله على ما يشابهه مما يسمع ويرى من السحرة والمشعوذين، أما الذي يصلح برهانًا قاطعًا على صدق النبي لا يمكن لمن آمن بسببه أن يرجع عن الإيمان، فهو النوع الثاني وهو الآيات النفسية والعلمية التي منحها الله تعالى للإنسان عندما ارتقى ارتقاء يمكنه به فهمها. م (65) الآيات النفسية العلمية: هي ما تدل على صدق النبي دلالة حقيقية بالبرهان الذي يجزم العقل بأن صاحبها مؤيد من الله تعالى، وموحى إليه ما بلَّغه ودعا إليه؛ لأنها عبارة عن كون حال النبي وما جاء به يشهدان بأنهما لا يمكن أن يكونا إلا بإمداد إلهي ووحي سماوي؛ لأنها كحجة من يدعي الطب ويستدل على دعواه بمعالجة المرضى وشفائهم على يده، وبالإتيان بكتاب في الطب إذا عمل به الناس تذهب أمراضهم وتحفظ صحتهم؛ ولكن مدعي الطب إذا استدل على صدقه بأنه يقلب العصا حية، ويكشف حيلة مشعوذ يُري الناس الحبال والعصي حيَّات وثعابين، وفعل ذلك لم يكن بين الدليل والمدلول اتصال يربط أحدهم بالآخر؛ وإنما خضع من خضع من الناس لسيدنا موسى بما ظهر على يديه من الآيات الكونية لما رسخ في طباعهم من الخضوع لكل ذي مظهر غريب يفوق إدراكهم؛ لأنها براهين أقنعت عقولهم بصدق الدعوى التي قام بها ألا تراهم كيف حنُّوا إلى عبادة الأصنام، وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلهًا مثلها، على أنهم لم يميزوا بينها وبين السحر إلا أن صاحبها غلب السحرة، اللهم إلا السحرة أنفسهم فإنهم عرفوا الفرق بينها وبين ما جاءوا به من التمويهات الصناعية والشعوذة التخييلية؛ ولذلك اختاروا القتل والصلب على الرجوع عن الإيمان. م (66) آية خاتم الأنبياء والمرسلين: لما استعد النوع الإنساني إلى معرفة الحق من الباطل بالبرهان والتمييز بين الخير والشر بالدليل والحجة، وكان لا بد له في هذا الطور من معلم ومرشد كما في الأطوار الأخرى أرسل الله تعالى إليه رسولاً يهديه إلى طرق النظر والاستدلال، ويأمره بأن يرفض التقليد البحت والتسليم الأعمى، وأن لا يأخذ شيئًا إلا بدليل وبرهان يوصل إلى العلم القطعي فيما لا بد فيه من القطع، وإلى الظن الغالب فيما تقوم المصلحة فيه بالاكتفاء بغلبة الظن، وكانت عمدة هذا الرسول عليه الصلاة والسلام في الاستدلال على نبوته ورسالته نفسه وما جاء فيه من النور والهدى كالطبيب الذي يستدل على إتقانه صناعة الطب بما يبديه من العلم والعمل الناجح فيها. قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} (البقرة: 23) فتحداهم في الآية بالإتيان بسورة هادية للناس كسور القرآن من أميٍّ لم يتربَّ، ولم يتعلم شيئًا مثل النبي الذي جاء به، وقال تعالى: {يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يس: 1-4) استدل بالقرآن الناطق بالحكمة، وبقيام من جاء به على صراط الاستقامة على أنه مرسل من ربه لبيان الحق وهداية الخلق، وقال جل ذكره: {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: 133) احتج ههنا بنوع من أنواع علوم القرآن وهو بيان سيرة المرسلين وما في صحفهم من النور والفرقان وهذا شيء لم يكن يعرفه هو ولا قومه من العرب كما قال سبحانه بعد ذكر قصة نوح {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يُؤْمِنُونُ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الكَافِرُونَ * وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (العنكبوت: 47-52) . سبق هذه الآيات الأمر بالإيمان بما أنزل على الأنبياء السابقين وأشار بقوله: (وكذلك) إلى أن إنزال الكتاب على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو من جنس الإنزال على من قبله، وفي هذا حجة على أهل الكتاب، وبيَّن أنه لا يجحد بآيات الله التي نصبها على صدق الرسالة إلا الذين صار الكفر صفة من صفاتهم الراسخة وقفَّى هذا ببينات آية النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنها كتاب العلم والهدى من الأمي الذي لم يقرأ ولم يكتب، وكون الكتاب بيِّن الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي العلم، ورزق الفهم فصار يميز بين الحق والباطل، ويزيل بين النافع والضار، وإذا كان كذلك فلا ريب أنه لا يجحد به إلا المتوغلون في ظلم النفس، العريقون في مكابرة العقل والحس، ثم ذكر طلب هؤلاء الكافرين بالنعم، الخافرين للذمم، آية كونية آفاقية كالآيات التي خوفت بها الأمم من قبلهم حتى انقادت واستسلمت، أو أُخذت وأُهلكت، وأمر نبيه بأن يجيب هؤلاء الأغبياء بأن الآيات عند الله لا في أيدي الأنبياء، وأن حكمته تعالى في تربية الإنسان، اقتضت بأن يكون هذا الطور طور البيان، وأنه صلى الله عليه وسلم ليس إلا نذيرًا مبينًا، وهاديًا أمينًا، ثم نبههم تعالى على أن آيته - وهو النبي الأمي - كتاب يشتمل على الرحمة التي تصلح بها قلوب العالمين، والذكرى التي تُزع النفوس عن الشر وتحملها على الخير، بحيث يظهر أثرها الحسن في المؤمنين، ويحق الشقاء على الجاحدين المعاندين، ثم أمره الله تعالى أن يكتفي بشهادة الله في كتابه بينه وبينهم، حيث أقام الحجج البالغة على حقية ما جاء به وبطلان ما هم فيه، وبيَّن وهو عالم الغيب والشهادة أن العاقبة الصالحة للذين يتقون {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (العنكبوت: 52) وكذلك كان، والحمد لله على نعمة القرآن، وسيأتي تفصيل كون الإسلام برهان على نفسه وصدق من جاء به في الكلام على رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. م (67) تعزيز الكلام بقول أحد الأئمة الأعلام: لما ترك المسلمون أخذ الدين بالبرهان، كما يرشدهم إليه القرآن، وتركوا النظر واطمأنوا لتقليد مَن غبر، صاروا يرتابون بكلام الأحياء، إذا لم يسند لبعض الأموات من العلماء، وما ذكرناه من التفرقة بين الآية الكونية، والآية النفسية العلمية، لا يوجد مثله في كتب العقائد المتداولة التي لم تنشر إلا والعلم قد طُوي بساطه، والفهم قد انطمس صراطه، وصار الحق يُعرف بالرجال، والرجال تُعرف بالموت والزوال، فرأينا أن نعززه بكلمة من كلام بعض المتقدمين، رحمة بالمقلدين المساكين. عقد حجة الإسلام الغزالي في كتاب (القسطاس المستقيم) فصلاً بيَّن فيه الاستغناء بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعلماء أمته عن إمام معصوم آخر، ومعرفة صدقه بطريق أوضح م

شبهات المسيحيين على الإسلام وشبهات التاريخ على اليهود والنصرانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين على الإسلام وشبهات التاريخ على اليهودية والنصرانية كتبنا نبذة معنونة بهذا العنوان في الجزء الخامس ذكرنا في فاتحتها أننا طلاب مودة والتئام، لا عوامل نزاع وخصام، وأننا لا نود أن يطعن أحد من المسلمين والنصارى في دين الآخر؛ لأن إظهار كل فريق محاسن دينه كافية في الدعوة إليه من غير حاجة إلى الطعن، فقد قام الإسلام بهذه الآداب ونما نموًّا وانتشر انتشارًا سريعًا لم يُعرف له نظير في التاريخ، وذكرنا أيضًا أن إخواننا المسلمين إذا وافقونا على استعذاب هذا المشرب؛ فإن المسيحيين لا يوافقوننا عليه؛ لأنهم يؤلفون الكتب والرسائل، وينشرون الجرائد للطعن في ديننا ويرسلونها إلينا للرد عليها. وقد ألَّف بعض أدبائهم وعلماء دينهم (نقولا أفندي غبريل) كتابًا جديدًا في الدعوة إلى النصرانية والطعن في الإسلام يتميز على الكتب الأخرى بالنزاهة والخلو من الألفاظ التي تدعى شتمًا، وقد أهدانا هذا الكتاب لنتكلم عنه في المنار، ثم لقينا وطالبنا بأن نكتب رأينا فيه وإن كان إبطالاً لدعاويه، ولقينا أيضًا بعض المبشرين رفقاء المؤلف، وألح علينا بالكتابة إلحاحًا، وأكد القول بوجوبها تأكيدًا. لا جرم أن المجادلة هي وظيفة هؤلاء التي يعيشون بها، فالبائع يطلب مشتريًا، والمجادل يطلب مجادلاً؛ ولكن طلب الرد على الكتاب لم يقتصر على هؤلاء حتى قام يطلبه منا بعض أصحاب الجرائد من المسيحيين كرصيفنا الفاضل صاحب السعادة سليم باشا الحموي طلب ذلك منا قولاً وكتابة في جريدة الفلاح الغراء، ولا شك أننا إذا كلنا لهؤلاء المؤلفين الصاع بالصاع بأن تجاوزنا حدود المدافعة إلى المهاجمة، يرون شبرنا ذراعًا وذراعنا باعًا؛ فإنه إذا لم يثبت دين الفطرة لا يمكن أن يثبت دين، ولولا أن الإسلام محجوب عن الأنظار بالمسلمين لأخذ به جميع عقلاء الأوربيين. يتبين ذلك لمن نظر في الأديان الثلاثة من كتبها المقدسة، مع معرفة تواريخ الذين جاءوا بتلك الكتب وسيرهم، وقد جرت لنا في هذا الموضوع محادثة مع أحد علماء التاريخ المسيحيين الجغرافيين الذين لا يتعصبون في الحقيقة لدين، وكان موضوع الكلام (من هو أعظم رجال التاريخ) وفرضنا أنفسنا غير معتقدين بدين، فذكرت محمدًا وذكر موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام متفقين على أنهم أعاظم الرجال، مختلفين في أعظمهم وأفضلهم بحسب حاله وأثره التاريخي. فقلت إن موسى تربى في بيت أعظم ملك في العالم لذلك العهد على أنه ابنه، فنشأ في مهد المُلك والسلطان، وأُشرب حب السيادة والحكم، وشاهد سير المدنية والعلوم الكونية والسحرية، وأبصر فنون الصنائع، وتقلب في ظل القوانين والشرائع، وأظهرت عزة المُلك ما اقتضاه مزاجه من الشجاعة والإقدام، ثم لما بلغ أشده وصار لفرعون وآله عدوًّا وحزنًا علم أن له أمة مضطهدة مهانة على ما منحته من ذكاء الفطرة والجد في العمل وكثرة النسل، فاتخذهم عصبية له، وحاول تأسيس مُلك نزعت إليه نفسه لما أعطته التربية الملوكية، وظاهر فرعون وجالده أولاً بالقوة التي كان يُستولى بها على النفوس، ويُستعبد بسلطانها الشعوب، وهي قوة الأعمال الغريبة التي نشأ في حجرها، ثم خرج عليه بقوة العصبية كما عهد من كثيرين في ممالك متعددة، وقد أعطانا التاريخ أن من الخارجين من يؤسس إمارة أو مملكة في داخل المملكة التي يخرج على سلطانها، وموسى قد خرج من مصر هاربًا بقومه من فرعون، أما عبور البحر وهي الغريبة التي لا يمكن أن تكون حيلة ولا شعوذة ولا سحرًا ولا صناعة، فقد بيَّن بعض المؤرخين أن بني إسرائيل عبروا البحر في نهاية الجَزْر من مكان قليل العمق، ولما عبر فرعون بالمصريين كانت ثوائب المد قد أخذت بالزيادة والفيضان فغرقوا فيها، وقد جرى مثل هذا لنابليون بونابرت فإنه عبر بعسكره البحر الأحمر في وقت الجزر إلى الشاطئ الثاني، ولمَّا أراد الرجوع إلى شاطئ مصر كان المد قد ابتدأ، ولولا أنه أمر العسكر بأن يمسك بعضهم ببعض حتى تغلب قوة المجموع قوة المد لغرقوا أجمعين، وما عدا هذا من غرائب موسى ففي نقله إشكالات، وفي فهمه شبهات، وفي دلالته على نبوته وكونه يتكلم عن الله تعالى نظر، فإذا اقتنع به بعض من مضى لا يمكن أن يقتنع به من حضر، والشريعة التي جاء بها يشهد التاريخ بأن أكثرها موافق لشرائع المصريين، وما بقي منها فلا يكثر على من تربى مثل تربيته، وأُعطي مثل ذكاء قريحته. وأما عيسى فهو رجل يهودي تربى على الشريعة الموسوية، وحكم بالقوانين الرومانية، واطلع على الفلسفة اليونانية، فعرف مدنية ثلاث أمم كانوا أعظم أمم الأرض مدنية، وأوسعها علمًا وحكمًا ولم يحمله شيء من ذلك على أن يشرع شريعة جديدة، ولا أن ينشئ أمة، وإنما كان خطيبًا فصيحًا، وعلق بذهنه شيء من إفراط بعض فلاسفة اليونان في الزهادة وترك الدنيا بالمرة، وإذلال النفس لأجل نجاة الروح والدخول في ملكوت السماء، فطفق يخطب بذلك وتبعه بعض الفقراء الذين وجدوا لهم بكلامه تعزية وسلوى، وطفقوا ينقلون عنه بعض الغرائب كما هو المعهود من عامة الناس، وأن ما ينقل عنه من ذلك لا يبلغ عشر معشار ما ينقل عن أحد أولياء المسلمين كالجيلي والبدوي، وأما كونه ولد من غير أب فهي دعوى لا يمكن إثباتها إلا بثبوت دين الإسلام بالبرهان العقلي، لا بالغرائب وليس ذلك من موضوعنا الآن، فالمؤرخ إذا أحسن الظن يقول: إن عيسى هو ابن يوسف النجار زوج مريم، وهذه الزوجية لا ينكرها النصارى. فموسى كان له أثر عظيم؛ ولكن عيسى لا يعرف له التاريخ أثر يذكر لا في العلم والإصلاح، ولا في المدنية، بل إن تعاليمه ومواعظه تؤدي إلى فساد المدنية وخراب العمران والهبوط بالنوع الإنساني من أُفُقه الأعلى إلى حضيض الحيوانية السفلى، لما فيها من تربية النفوس على الذل والمهانة، والرضا بالخسف والهضيمة، والأمر بترك عمران الدنيا وترقيتها لاعتقاد أن الجمل يدخل في سم الخياط ولا يدخل الغني ملكوت السموات، ثم هي من جهة ثانية تعاليم إباحة؛ لأنها تُعَلِّم أن الذي يؤمن بصلب المسيسح لأجل خلاصه هو الذي يختص بملكوت السماء، وتمحى جميع خطاياه، ومن اعتقد ذلك يستبيح كل محظور ويتبع هواه، ومن جهة ثالثة نرى هذه التعاليم وثنية؛ لأنها تأمر بعبادة البشر، وتطفئ نور العقل؛ لأنها تكلفه بأن يعتقد بثبوت ما يجزم بأنه محال ككون الثلاثة واحدًا، والواحد ثلاثة، وتذهب باستقلال الفكر والإرادة إذ تجعلها مقيدة بسلطة الرؤساء بمقتضى قاعدة أن ما يحلونه في الأرض يكون محلولاً في السماء، وما يعقدونه في الأرض يكون معقودًا في السماء. وأما زعم أن المدنية الأوربية مدنية مسيحية، فهو زعم منقوض بالبداهة؛ لأن هذه المدنية مادية مبنية على حب المال والسلطة والتغلب والعزة والكبرياء والعظمة والتمتع بالشهوات، والتعاليم المسيحية تناقض هذا كله بإفراط بعيد، وما وصل الأوربيون إلى ما وصلوا إليه إلا بعد ما نبذوا التعاليم المسيحية ظهريًّا، ولو أن هذه المدنية من أثر التعليم المسيحي لنشأت عنه بقرب نشأته؛ ولكنها لم تظهر إلا بعد بضع قرون من ظهوره، والنتيجة أن التاريخ لا يعرف للمسيح أثرًا في الكون يجعله في رتبة الشارعين والمصلحين في الأمم. وأما محمد عليه الصلاة والسلام فقد تربى يتيمًا في أمة وثنية أمية جاهلية، ليس لها شرائع ولا قوانين ولا مدنية ولا وحدة قومية ولا معارف ولا صنائع، وكان أعظم ارتقاء بلغته في عهده أن وجد بضعة نفر تعلموا الكتابة بسبب اختلاطهم بالأمم الأخرى، ولم يكن هو منهم ولا السابقون إلى الإيمان به، ومع هذا أوجد أمة ودينًا وشريعة وملكًا ومدنية في مدة قريبة لم يعهد مثلها في التاريخ. علَّم الناس أن يبنوا عقائدهم على قواعد البراهين العقلية، وأن تكون آدابهم وأخلاقهم على صراط الاعتدال، وأن يقوموا بحقوق الروح والجسد، وأن يراعوا سنن الله في الخلق والأمم، وبيَّن لهم العبادات بآثارها في تزكية الروح وتطهيرها ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر لما اشتُرط فيها من الخشوع ... إلخ، وأباح لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وجعل المعاملات الدنيوية دائرة على درء المصالح وجلب المنافع، وأطلق لهم حرية العقل والفكر، وساوى بينهم في الحقوق لا فرق بين الملك الكبير والصعلوك الفقير ولا بين الرجل والمرأة، وأعطى المرأة حرية التصرف في أملاكها، ووضع حدودًا عادلة لتحكم الرجال في النساء، وللرق، ونقَّح نظام الحروب فمنع البغي والتمثيل بالقتلى وقتل من لا يقاتل كالنساء والشيوخ والأطفال ورجال الدين ... إلخ ما ذكرته لذلك المؤرخ المحقق، وسأفصل القول فيه في دروس التوحيد الآتية إن شاء الله. وقد أذعن لي ذلك الفاضل بأن محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام أعظم رجال التاريخ، إلا أنه احتج عليّ بسوء حال المسلمين، وكونهم على خلاف ما ذكرت في وصف الدين الإسلامي، فقلت له: إن بين الإسلام والمسلمين فرقًا كالفرق بين المسيحية والمسيحيين أو أبعد، وحسبك أن المدنية الإسلامية ما وجدت إلا بالدين الإسلامي - راجع مقالات مدنية العرب في مجلد المنار الثالث - وكانت تتقلص عنهم كلما ابتدعوا في الدين، وانحرفوا عن صراطه حتى وصلوا إلى ما هم فيه الآن، وأما المدنية الأوربية التي يسميها بعض الناس مسيحية فلم توجد إلا بعد ما اتصل أهل أوربا بالمسلمين، وأخذوا كتبهم وترجموها وهم يزدادون ارتقاء في مدنيتهم كلما ازدادوا بعدًا عن المسيحية، فقال: هذا مبالغة في الجانبين. وانفض المجلس. بقي أن ما تقدم من الشبه على نبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما الصلاة والسلام يتناول أيضًا نبوة سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، لا لأنه يرد على دينه مثلما يرد على المعروف من دينهما، بل لأنه شهد لهما بالنبوة والهداية الإلهية وقد ذكرنا الجواب عن ذلك في نبذة (شبهات المسيحيين على الإسلام) التي نُشرت في الجزء الخامس من هذه السنة، ولو أنصف رجال الدين من اليهود والنصارى لتمسكوا بذلك الجواب واتفقوا عليه؛ لأنه لا يدفع عنهم اعتراضات علماء التاريخ والآثار العادية والجيولوجيا والتاريخ الطبيعي والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس إلا هو، وأما الجواب عن آية انفلاق البحر لسيدنا موسى فهو أن ما ذكره بعض المؤرخين من حديث المد والجزر فهو احتمال يرجح عليه أخبار الوحي الثابت بالبرهان الحقيقي الذي بيَّناه في درس التوحيد قبل هذه المقالة، وكذلك يقال في سائر الآيات وما يرد عليها من الشبهات، وسنجيب عما ذكرناه من اعتراض التاريخ على التعاليم المنسوبة إلى المسيح. وحاصل ما نقوله الآن: إن إثبات الدين إما أن يكون بنقل الآيات الكونية الخارقة للعادات المعروفة للناس، وفيه النظر الذي تقدم في درس التوحيد، وهو أيضًا مشترك بين الجميع؛ لأن كل أمة تنقل عن شارعها مثل ذلك، فما يقال في نقل هؤلاء يقال في نقل الآخرين، على أن نقل المسلمين أقرب إلى الصحة من نقل غيرهم لوجوه كثيرة، منها أن العلم والتأليف والرواية اللسانية معروفة فيهم من القرن الأول إلى الآن، ومنها أنه لم يغلب عليهم عدو حرَّق كتبهم وطمس معالم الثقة بدينهم وتاريخهم، ومنها أنهم لم يُضطهدوا ويضطروا لكتم دينهم، فيقال إن التلاعب حصل في إبان الكتمان، ومنها أنهم هم الذين اخترعوا وضع التاريخ للرجال

التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التطويع والتحصيل بالجامع الأعظم جاء في جريدة (الحاضرة) التونسية الغراء تحت هذا العنوان ما نصه: أخبرنا في العدد قبل هذا بوقوع الامتحان السنوي للمترشحين من طلبة الجامع الأعظم لشهادة التطويع في العلوم التي حواها برنامجه، ووعدنا بإفاضة القول والبيان في هذا المبحث العظيم الشأن، والآن وفاء بالوعد نقول: إن ما للجامع الأعظم أم المدارس ودار العلوم الإسلامية، وكعبة الطالبين بالمملكة التونسية وسائر الأقطار الشمالية الأفريقية من الأهمية يجعل كل فرد من أفراد الجامعة الإسلامية دبت فيه بقية من الغيرة والحمية لا يفتر عن تحويل أنظاره إلى ما فيه تعزيز شأنه، والاهتمام برفع مناره وتدعيم أركانه؛ ولذلك كانت دار العلوم تلك محط رحال الأمة، ومتجه عناية الحكومات المتداولة على هذه الديار حرصًا على ما يجتنيه شبان الطلبة من رياضها من الثمار المهمة، ولما أن الجامع الأعظم أصبح من عهد قديم مستودع أسرار العلوم، وينبوع التحصيل في المنطوق والمفهوم، فلا غرو أن اتجهت لعمرانه الأنظار، وأحله عقلاء الأمة وفطاحل الرجال محلاًّ قصيًّا من الإجلال والاعتبار. إذا تمهد ذلك نقول: لا مراء في أن المرء إنما يسعى جهده ويكابد الليالي ويوالي الجد لغاية في النفس تنطبع في مرآة العقل، فتبقى به مدى الكد ثابتة مرسومة يكرس لنيلها أوقاته، ويبذل في سبيل تحصيلها أنفس أنفاس حياته، فما هي الغاية لطلبة العلم بجامع الزيتونة من يوم ولوجهم بابه وتراميهم على موارده وأعتابه. الغاية من ذلك ما جرت به سنن السلف من الجمع بين المنافع الدنيوية والمثوبة الأخروية التي اقتضتها صبغة العلوم الدينية، ولهذه المميزات المتعارفة في كل مدرسة خاصة بعلوم الدين كان أمراء هذا القطر يمدون الجامع برعاية من صنوف العلماء القابضين على أزمة التدريس، ويفيضون عليهم من صنوف الإكرام والعناية ما هو حقيق بهم وبأمثالهم، وما هو متعارف في سائر الممالك المنتظمة، ولتلك الصبغة أيضًا يقتحم الشبان مشاق السفر وضروب التكاليف؛ ليكرعوا عن مناهل التحصيل ما يعزز جانب العلم ويؤيده تأييدًا، ويوفرهم أجر الأخذ بناصره وإعلاء مناره، ومن هذه الحيثية كان المنظور فيه في هذا التعليم الوجهة العلمية بمعناها الأخص، أما المنافع الذاتية التي هي الشطر الثاني من تلك الغاية، فيراها الطالب المنقطع لقراءة العلم من لوازم التحصيل والتهذيب، ومن الفوائد المنبعثة طبعًا عن أشعة نور العرفان حتى أنه كان الفقيه البارع في علوم الشرع ليأبى أحيانًا أن يقبل الخطة الشرعية - وأن كان من أهلها - حبًّا بتوسيع نطاق الاستكمال الذي كان يراه غاية الآمال، ولكي لا يشغله عن ذلك شاغل الوظيفة، وهو الذي ينبغي أن تتوجه إليه همم الرجال، وبذلك شعشعت أنوار العلوم، واستنارت بمشكاتها عقول الطلبة لانحصارهم بين قراءة وإقراء، وإفادة واستفادة، فشيوخ الطلبة العليا من أساتذتنا ما كانوا يأنفون من استكمال التحصيل في العلوم العليا كالفلسفة ومصطلح الحديث والتفسير بالحضور لحلقات دروس جهابذة العلماء الأعلام، علمًا منهم أن التقاعس عن الاستكمال نقيصة، والاعتماد على ما في الجراب خراب. وهؤلاء طلبة الجامع الأعظم قد نقضوا بيومنا هذا تلك العهود، وخالفوا تلك السنن حتى اضمحلت، أو كادت تضمحل آثار بعض العلوم، وأصبحت دروسها دارسة كالتفسير والمعاني والبيان والأصول فما هو السبب؟ وإذا اتضحت الأسباب والعلل فما هو الدواء لملاقاة هذه الحالة يا ترى؟ مَن أمعن النظر في أحوال الجامع الأعظم، وفي الأدوار التي تقلب فيها من منذ عشرين سنة رآها منحدرة مع تيار التدلي المُشْعِر بتقويض أركان الهيئة العلمية لأسباب، منها العدول عن ما جاء به نظام الجامع سنة 1291 القاضي بإقراء بعض علوم استكمالية نافعة كالحساب والهندسة والتاريخ، وعدم التفات نظارة الجامع لاستبقائها وإحيائها عملاً بنص القانون، الذي اقتضى إلحاقها بالترتيب العام لتحقق النفع بها، فَعُدَّ ذلك التغافل قصورًا أو تقصيرًا من المنوط بهم إجراؤه، وعيبًا وخللاً في مجموعة التعاليم والدروس، فكان ذلك من أسباب تغيير وتنقيح القانون على معنى الإحياء لفنون اقتضت خطة الترقي مزاولتها، فلا يعقل في عصرنا هذا أن تكون مدرسة كلية جامعة كالجامع الأعظم خلوًا من علم الحساب الذي يحتاجه القاضي والفرضي والعدل حتى السوقة في معاملاتهم اليومية، فضلاً عن المناصب الشرعية، فإذا فقد تدريسه بالجامع الأعظم الذي به يبتدئ الطالب دروسه غالبًا وينتهي ضاعت عليه الفرصة لتحصيله، وربما تعطلت من أجل ذلك أو ضاعت حقوق على أربابها كالماسح الذي لا يحسن المساحة إذا قسم أرضًا بين شركاء كانت قسمته ضيزى غير عادلة، وعليه فنعت الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ بالاستكمالية فيه تساهل يضيق المقام عن توضيحه؛ فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأنت على علم من أن الحساب والجغرافية والتاريخ من متممات تربية الطالب وتفقهه في أمور جامعته، ولولا ذلك لما اندرجت بمعلفة العلوم (كذا) فهي بضاعتنا ردت إلينا. ومن تلك الأسباب اغترار الطلبة بالإجازات والألقاب، وظنهم أن مَن حصل على إجازة التطويع على مقتضى القانون انخرط لا محالة في سلك العلماء، ولو كانت بضاعته من العلم مزجاة، أو كان لا يبلغ العشرين من عمره، فإذا زُجَّ به في حلقة الامتحان، وفاز بتلك الشهادة بين الأقران، نبذ القراءة ظهريًّا، فتأهب لأخذ مركزه من الهيئة التدريسية بتغيير سيره: يمشي في الأرض مرحًا مع تقيف وبطر وتعبس وتقطب وتكهن وترهب، كأنما خُلعت عليه من العلوم خلعة الوحي الإلهية، فيأنف من إلحاقه بالطلبة؛ ولذلك لا يحمل نفسه الأمَّارة بالسوء على استكمال التحصيل، الذي هو بمعنى الكمال كفيل، فإذا انتصب للتدريس كان يخبط خبط عشواء فلا يفيد الجليس، ولا يذكرنا بما عُهد في أمثاله من نثر الدر النفيس. والذي يتراءى لنا من التمعن في هذه الأحوال، هو أن الداعي لهذه الحالة (أولاً) عدم كفاءة القرار الصادر في شروط التطويع والتدريس، فقد اقتضى أن لا يحصل على رتبة التطويع إلا من حصل على 45 عددًا في العلوم التي تُقْرَأ بالجامع الأعظم، منها 24 عددًا وهو ما يقارب النصف تعتبر للعلوم التكميلية، بحيث كانت هذه الموازنة راجحة على العلوم المقصودة بالذات من نظام التدريس مانعة من النبغ فيها، و (ثانيًا) ما اعتاده المترشحون من تلخيص - إن لم نقل حفظ - أبواب الفقه والنحو بحيث تعلق أمهات المسائل بأذهانهم، حتى إذا ما صادفهم بعضها في القرعة فازوا وشعشعوا كشعلة من النار تهب عليها ريح فتثوى بحيث كان ذلك النجاح الكاذب من باب التغرير بالنفس مانعًا من الترقي إلى درجات الكمال التي هي غاية الآمال. أما المبحث الأول فبيانه أن نصاب الأعداد المطلوبة لقبول التلميذ في رتبة التطويع صورته والحالة هاته: 8 المقالة الفقهية إنشاء ... ... ... 6 سؤال الحساب 8 الدرس الشفاهي إلقاء ... ... ... 6 سؤال الهندسة 2 سؤال في الفقه ... ... ... ... 6 سؤال الجغرافية 3 سؤال في النحو ... ... ... 6 سؤال التاريخ 3 سؤال في الصرف ... ... ... ــ 3 سؤال في البلاغة ... ... ... 24 3 سؤال في المنطق ... ... ... ــ ــ ... ... ... ... ... ... 54 جملة الأعداد 30 ... ... ... ... ... ... وأما المبحث الثاني فقد أنكر جمهور المشايخ المدرسين الواقفين على حقائق التعليم تلك الطريقة التي لا تخول الطالب ملكة حقيقية في العلوم المطلوبة منه، فالملكة عبارة عن مقدرة التلميذ على إدراك وفهم أو حل المسائل الفقهية أو غيرها بكمال باعه، ومزيد اطِّلاعه ولا يخفى أن هذه الدرجة والنتيجة لا تُنال بالبراعة في مجموعة العلوم وسائل كانت أو مقاصد، لا بحصر الجهد في دائرة معلومة من المواد والآداب إذا صادفها الطالب قبل عالمًا متطوعًا، وإن أخطئ المرمى أجل لفرصة أخرى فهو كراكب لجة إما وإما، ولا يخفى ما في هذه المخاطرة من المخاتلة والتحيل لحمل النفس على غرورها والهيئة العلمية على التأخر، فالذي ينبغي في ملاقاة هذه الحالة تنقيح القرار المشار إليه بأمور، (أولها) : أن لا يُقبل في الامتحان من حصل على أقل من نصف الأعداد المشترطة للمقالة الفقهية، ونصف العدد الذي جُعل للتدريس حيث كان عليهما مدار تحصيل الطالب (ثانيًا) : أن ينقص من الأعداد المشترطة في الحساب والهندسة والجغرافية والتاريخ نصفها واعتبار ذلك في سؤالات تقع في علم الأصول وعلم التوحيد، حيث كانت هذه العلوم أعلق بموضوع التدريس، وأكثر مساسًا بالمقصود منه حتى لا تؤدي الإجازة التي يحصل عليها التلميذ إلى جهله بما هو المقصود الأصلي من مساعيه، (ثالثًا) : أن لا يُقبل في الامتحان من الطلبة إلا من أتى على كتب المرتبة الوسطى جميعًا وهي الكتب المبينة بترتيب الجامع الأعظم الواقع سنة 1891: (رابعًا) : أن يناط ترشيح الطلبة لهذا الامتحان بلجنة مؤلفة من المشايخ المدرسين العارفين بأحوال التلامذة العلمية، وما تقتضيه الإجازة من شروط الأهلية والاستحقاق بحسب نظر أولئك المشايخ وأمانتهم وديانتهم، وما تستدعيه من التحري الباعث للهمم على طلب الكمال حتى يأمن ناموس التحصيل من آفات الصدف (خامسًا) أن يحجر على من قبل في درجة التطويع الإقراء والانتصاب للتدريس ثلاثة أعوام في الأقل يتمكن فيها من استكمال نصاب التدريس بالإقبال على علوم ربما لم يكن له إلمام بها، أو من التطلع في العلوم التي لم يحصل منها إلا على معارف طفيفة، فيقوى ساعده وتتوفر فائدة العلم ويتحقق النفع به حسًّا ومعنى. هذا ما اقتضى المقام إيضاحه في هذا المبحث الدقيق والموضوع الجليل، نعرضه على أنظار أرباب الحل والعقد، وأفهام السادة العلماء الأعلام، وأذواق طلبة العلم على معنى خدمة ركاب العلم، وتعزيز جانب التحصيل الذي هو بكل سعادة كفيل حرصًا على ناموس العلم وعمران الجامع الأعظم حتى يتخرج منه رجال نهجوا على سنة السلف في اكتساب الكمال، ورفع منار المعارف في الاستقبال، ونرجو من عنايتهم أن يرمقوه بعين الاعتبار، إعلاء لشأن الخدمة العلمية في هذه الديار، وتخليدًا لجميل الذكر وحميد الآثار، انتهى. (المنار) إن ما يشكو منه عقلاء القطر التونسي بشأن جامع الزيتونة هو عين ما يشكو منه علماء القطر المصري وغيرهم بشأن الجامع الأزهر، فَداء المسلمين واحد في كل البلاد، أصلح الله الجميع، والتطويع هو الشهادة الابتدائية في عرفهم.

مدرسة خليل أغا ـ احتفالها السنوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدرسة خليل أغا احتفالها السنوي خليل أغا الحبشي يُعَدُّ في هذه البلاد من أشهر الرجال، وهو مولى أمين بك التركي، ثم صار باش أغا والدة الخديوي إسماعيل باشا، والذي جعله من أشهر الرجال - بل ومن أعظمهم - المدرسة التي أنشأها ووقف عليها أملاكه الواسعة التي يمكن بريعها الكثير أن ترقى المدرسة عن الابتدائية، فتكون كلية جامعة تنبع منها حياة العلوم كلها، والمدرسة الكلية أكبر حاجات المسلمين في هذا القطر، ولم يبلغوا في الارتقاء مبلغًا يفي بهذه الحاجة، فقد تقاصرت عنها همم أفراد أمرائهم ومجموع أغنيائهم. وإن الأمراء لينفقون على اللذات البهيمية، ويخسرون في المضاربات وسائر أنواع الميسر ما يكفي لإنشاء عدة مدارس كلية، ولا يبعد أن تكون حياة ذلك العبد من خدم نسائهم خيرًا للقطر وأهله من حياتهم أجمعين، وأما الأغنياء فينفقون في كل عام على الأفراح والمآتم، وعلى تقليد الأمراء في الشهوات والمآثم ما يسد بعضه مثل هذه الخلة أيضًا؛ ولكن مجموعهم يُفَضِّل الحياة البهيمية على الحياة الإنسانية. احتفل ديوان الأوقاف بمدرسة خليل أغا هذه الاحتفال السنوي المعتاد (في يوم السبت 19 ربيع الأول الماضي) بحضور جمهور عظيم من العلماء والوجهاء في مقدمتهم أصحاب الفضيلة قاضي مصر ومفتيها، وشيخ الجامع الأزهر، وصاحب السعادة عبد الحليم باشا عاصم مدير الأوقاف العمومية، واُفتتح الاحتفال بترتيل أحد التلامذة آيات من أول سورة الفتح ترتيلاً أخذ بمجامع القلوب، وتلاه طائفة من التلامذة بإلقاء أنشودة في مدح العلم والثناء على مؤسس المدرسة رحمه الله تعالى، والدعاء لمولانا السلطان الأعظم ومولانا الخديوي المعظم، وكان الإنشاد بالتوقيع الموسيقي فأثر سماعه مع مشاهدة النظام العسكري في التلامذة تأثيرًا حسنًا وقام بعد ذلك الفاضل الهمام حسن بك صبري مفتش المدرسة، فذكر ملخص تاريخ المدرسة وما زاده فيها ديوان الأوقاف من الترقية، ومنه أنها أُسست سنة 1290هـ واشترط أن يكون التعليم فيها مجانًا، وأن يعطى مئة يتيم من تلامذتها كسوتين في السنة، وعشرة قروش في كل شهر وأدوات الدراسة، ويعطى مئتان من غير الأيتام كسوة واحدة في السنة وأدوات التعليم، وأن صافي دخلها الآن يزيد على ثلاثة آلاف جنيه، ثم طفق التلامذة يتحاورون مثنى وثلاث ورباع وخماس في فوائد التعليم ومهمات مسائل الدين، ابتدأ أحدهم بتلاوة آيات تشتمل على النهي عن الشرك وموبقات المعاصي، وتأمر بالعدل والقسط في الموازين وغير ذلك من الفضائل، وتلاه آخر بآيات تناسبها، فتأثره آخر بآيات تنطق بإجابة الدعوة والدعاء بالرحمة، ثم عاد الأول وتكلم بلسان التلامذة الصغار فأبان أن أمرهم ليس بأيديهم، وأنهم قذف بهم إلى المدارس التي قُطع منها حبل الشرع، فتلاه الثاني بتلاوة آيات تبشر من آمن وعمل الصالحات بسعادة الدنيا والآخرة، وتنذر من أعرض عن هدى القرآن بضنك العيش في الدنيا، وعدم الاهتداء لطريق النجاة في الآخرة، فتعقبه الثالث يأمر بتسكين الروع، والأخذ بأسباب التفقه في الدين والتعاون عليه ... إلخ. ثم نزل هؤلاء عن موقف التلامذة في الاحتفال، وتلاهم أربع فرق من التلامذة، كل فرقة وقفت بترتيب ونظام تحت أَمرة من أمرات أربع مكتوب على إحداها الصلاة، وعلى الأخريات الصوم والزكاة والحج، وتحاورت كل فرقة في أسرار ركن من هذه الأركان الإسلامية بأحسن كلام، أعطى العِبْرَة وأخذ العَبْرَة إلا أصحاب القلوب القاسية من ذكر الله (أولئك في ضلال مبين) وإذا وجدنا سعة في بعض الأجزاء التالية؛ فإننا ننشر فيها ما قالوه ليكون نموذجًا لسائر المدارس ومعلمي الدين، وبعد ذلك أُعيد النشيد الأول وخُتم الاحتفال بترتيل آي القرآن العظيم، وكانت الموسيقى تعزف بأنغامها في كل فرصة بين قول وآخر، وكان النظام كاملاً، والفضل في هذا لصاحب العزة حسن بك صبري، كما أن الفضل في تلك المعارف الدينية للأستاذ الفاضل الشيخ حسن منصور الذي خسرته مدارس الحكومة بقبول استقالته؛ ولكن لم تخسره مدارس الأمة ولله الحمد. وقد انصرف المدعوون بعد أن تناولوا طعام الغداء النفيس، الذي عَدَّه لهم ديوان المعارف عملاً بشرط الواقف رحمه الله تعالى.

المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المساواة في الاشتراك بالمنار وإرجاء الجزء الآتي جرت العادة بأن أصحاب الجرائد يزيدون في تحسينها كلما تسنى لهم سبب من أسباب الترقي، ويزيدون مع ذلك قيمة الاشتراك فيها، ومنهم من يزيد في قيمة الاشتراك من غير أن يزيد في التحسين، إذا علم بالاختبار بأن كسبه لا يفي بتعبه وقد خالفنا نحن سنة القوم فزدنا في السنة الثالثة المنار تحسينًا في الورق والطبع والتجليد، كما زدنا في مادته ولم نزد مع ذلك شيئًا في قيمة الاشتراك، وقد زدنا مادته في هذه السنة الرابعة أيضًا، وأبقينا قيمة الاشتراك على حالها، على أن بعض أنصار العلم رَغَّبوا إلينا أن نزيد فيها، وفي مقدمة هؤلاء الخطيب المحامي الشهير عزتلو إسماعيل بك عاصم؛ ولكن من الناس من يصعب عليه أن يدفع قيمة الاشتراك الأصلية وإن تحسنت المجلة وزادت نفقاتها، فيطلب الموظف والتاجر والأستاذ وناظر المدرسة أن يعاملوا معاملة طلاب العلم الفقراء الذين لا كسب لهم، فيدفعوا أربعين قرشًا، وقد علم بهذا بعض فضلاء أساتذة المدارس، فأشاروا علينا بأن نساوي بين الناس كلهم في الاشتراك، إلا من نعلم فقره من طلاب العلم بالاختبار؛ فإننا ننقص له من القيمة ما تسمح به النفس، فرأينا هذا من الصواب، وأبطلنا امتياز التلامذة والطلاب، فمن شاء فليقبل ومن شاء فليرفض، وللمشتركين القدماء من هؤلاء أن يدفعوا اشتراك السنة الحاضرة 40 غرشًا. ثم إننا كنا أعلننا أننا نوزع مئات من الأعداد على الفقراء من طلاب العلم الذين يروجون المنار، بعضها مجانًا وبعضها بنصف القيمة، وأن ذلك بمساعدة أحد الفضلاء؛ ولكن هذه المساعدة قد بطلت من أول هذه السنة للمنار لعذر اقتضى ذلك، ولم نر أحدًا ممن أُعطي المنار مجانًا سعى بترويجه، فاضطررنا لمنعه عنهم إلا نفرًا من الفقراء الأذكياء الذين ينشرون مسائله، ويدعون إلى ما يدعو إليه. ثم نُعْلِم القراء الكرام أن الجزء الحادي عشر سيصدر - إن شاء الله تعالى - في غرة جمادى الأولى، والغرض الأول من هذا الإرجاء أننا نقصد أن يكون أول سنة المنار شهر محرم الحرام، وهذا لا يكون إلا بتأخير عددين آخرين عن موعدهما أيضًا، وسيكون ذلك بالتدريج لئلا يغيب المنار عن القراء زمنًا طويلاً. ونرجو من غيرة المشتركين الكرام، لا سيما الذين عليهم بقايا من السنة الثالثة، أو ما قبلها أن يتكرموا بإرسال القيمة حوالة على إدارة البريد، ونخص بالذكر أهل الأرياف، وأهل تونس والجزائر ومراكش، ونحمد الله أن أكثر المشتركين من كرام الناس وفضلائهم، وما كان يخطر بالبال أن بعضًا من الناس الذين لا ذمة لهم ولا أمانة يشتركون بمجلة المنار، ثم يأكلون حقها؛ ولكن ذلك قد كان وربما تضطرنا إلى ذكر بعضهم حوادث الزمان.

جمعية ندوة العلماء في الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية ندوة العلماء في الهند وعَدْنا في الجزء السابع بأن ننشر فيما يليه خطبة وجيزة لأحد أصدقائنا من علماء بمبي، ولم تسمح لنا الفرصة إلا في هذا العدد، قال حفظه الله بعد البسملة والحمدلة والصلاة: (وبعدُ فلا يخفى على أخيار الأعلام من قادة الإسلام، وسادة دين خير الأنام عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أن النداء الذي تنادي به ندوة العلماء - أنجح الله مساعيها، وأصلح مراعيها - هو نفس النداء الذي يهتف به الإسلام منذ قرون في جميع أقطار الأرض حيثما تتلى مثاني القرآن، وتُعلى شعائر الإيمان، وأينما تولوا فثم وجه الله، وليس لندوة العلماء، أو لأية جمعية تشاركها في رابطة الإسلام والغيرة والحمية الدينية إلا مقام مبلغ نداه، وحاكي صداه، اقرءوا الجرائد والمجلات الإسلامية، وأصغوا إلى الأندية القومية، هل تسمعون صوتًا غير ما هو بمنزلة القول الشارح لدعاء الإسلام وإن اختلفت العبارات، وتنوعت الاعتبارات، فإن هي إلا تفاسير كلمة واحدة (الإصلاح الإصلاح يا أهل الصلاح والرشاد، لما ظهر في البر والبحر من الفساد) ولم يزل الإسلام يدعو أهله بهذا الدعاء من يوم زالت شمس دولته عن خط نصف نهارها، وأخذت هجمات الدوائر تنقص أرض شوكته من أطرافها، وهبت دبائر الأدبار، فذهبت بمعظم الآثار، والبقية على جرف هارٍ، فإنا لله. كأن لم نكن فاتحي مصر قهرًا ... وأسبانيا ثم ملك الهنود ولم تك راياتنا خافقات ... على كل بر وبحر مديد ولم نملأ الأرض علمًا ونورًا ... بإعلاء دين الرسول الأحيد زرعنا الثرا إذ أسلنا ... بها نفس كل كميٍّ شهيد فواخيبتا حين حان الحصاد ... غفلنا وراح العدى بالحصيد وما زاد ما زاد في عدّنا ... سوى نكسنا في انتقاص مزيد ولا خير في عِدة لم يكن ... لها عُدَّة ترتمي عن حدود وحيث اشتد صياح الإسلام، بدعائه من سنين وأعوام، فربما أيقظ النُّوَّام، ومنع السِّنة عن أعين النبهاء الأعلام، وحنَّت به قلوب الأحياء، لإحياء الربوع والأحياء. فيا رجال الأعيان وأعيان الرجال جُمع شملكم، وشمل الجمعَ فضلُكم أجيبوا داعي الله، وشمِّروا عن سوق الجد لامتثال منطوق دعاء الإسلام ومفهومه، وانتصبوا بصميم العزائم لمقاومة طوارق الأحداث، وأقيموا الوزن بالقسط لتثقيف الأحداث، واتركوا مشاجراتكم التي أذهبت الأصول وأفسدت الفروع، وأذهبت ريحنا وإلى الله المشتكى، أفلم يأن لكم أن تنتبهوا فَتُنَبِّهُوا، وتستريحوا فتريحوا من رمضاء الفتنة الشعواء، التي تلعب بالبصر فيخبط خبط عشواء، وتستظلوا تحت شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ألا وهو (الوفاق الوفاق) فعضوا عليه بالنواجذ، وأحيوا به السنن والعلوم، وشقوا به عصا الشقاق المشوم؛ فإنه أس كل بدعة وفساد، ورأس كل البلايا والأنكاد، ومادة كل شنيعة موخمة الأرواح والأجساد، هيهات هيهات، لات حين اختلافات، فإلام التقاعد عن تدارك ما فات، وحتام التناعس عن إعداد أسباب التحرز عما هو آت، ألا فخذوا حذركم، وأصلحوا ذات بينكم، ووثقوا عرى الإخاء، واستووا على سفينة الولاء، فقد فار تنور الشقاء، وأمسيتم لتفرق كلمتكم على شفا، فلا حول ولا. إخواني! ليس هذا أوان القيل والقال، وتوسيع دائرة البحث والجدال، فاتعظوا وعِظوا، وانشروا لبث النصائح، وحث القرائح، جرائد ومجلات، فلعمري إنها من أسنى الوسائل لإضاءة النفوس بطرائف المعلومات، وأمضى الذرائع لإنهاض الهمم القاعدة عن الترقيات، وظني أن بها ترقى من ترقى إلى أعلى مدارج المدنية والتعليم في ذا العصر المدهش المعقول تجدد علومه وفنونه من أقوام كانت في زوايا الخمول، ففاقت أقرانها حتى دان لها كل دانٍ وقاصٍ، وهان لها كل عزيز وقَّاص {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم: 6) {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} (البقرة: 48) فرحم الله عبدًا تبصَّر فبصر، وتذكر فذكر، {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) وارض اللهم عن المؤمنين، وأنزل السكينة عليهم وأثبهم فتحًا قريبًا، إن الله قريب من المحسنين، هذا والسلام على من اتبع الهدى، والحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ش. ا. ج

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (امتحان التدريس في الأزهر) بلغنا أن لجنة الامتحان قد غيَّرت منذ أيام طريقة المساواة السابقة، وطفقت تميز بعض الممتحنين، فعزم بعضهم على ترك الامتحان، والمستقبل يكشف الحقيقة. *** (شجرة الدر) مجلة نسائية علمية أدبية فنية فكاهية تصدر في كل أول شهر إفرنجي باللغتين التركية والعربية في ثغر الإسكندرية لمنشئتها الأديبة البارعة سعدية سعد الدين، وقيمة الاشتراك فيها ستون غرشًا أميريًّا في القطر المصري، وعشرون فرنكًا في خارجه وفي المجلة مباحث لطيفة ومراسلات نسائية، إذا تتابعت تكون باعثة للرغبات في زيادة انتشارها الذي نرجوه لها.

علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلة شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ علماء الدين وحديث صاحبي السماحة والفضيلة شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية ] ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ [[*] . الدين كما قالوا: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم في الحال، وفلاحهم في المآل، فثمرته سعادة الدنيا والآخرة، ولا تحصل هذه الثمرة إلا بالعمل به والاهتداء بهديه، ولا يكون العمل إلا عن علم ولا الهُدى إلا بهَدي] فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [أي في الدنيا {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 123-124) عن طريق النجاة، والدنيا مزرعة الآخرة ففقد الثمرة الأولى عنوان على فقد الثمرة الأخرى؛ لأنهما معلولان لعلة واحدة، أو مسببان عن سبب واحد، وهو الدين. الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تلقوا الدين من العليم الحكيم، وتصدَّوا لتعليمه للناس بما عهد الله إليهم، فأقاموا البرهان وحاجوا أهل الزيغ والطغيان، حتى أوذوا في الله فصبروا وسعد الناس بهديهم وإرشادهم في دنياهم، وسيسعدون به في أخراهم، وعلماء الدين ورثة الأنبياء ونوابهم الذين يقومون بوظيفتهم؛ لأن الله أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب من بعدهم كما أخذه عليهم (لَيُبَيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه) فمنهم من وفَّى بالميثاق، ومنهم الذين نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً، ومنهم ما هو بين ذلك. قد كان علماء سلفنا الصالح خيرًا من سلف سائر الأنبياء، حيث كنا بهم خير أمة أخرجت للناس؛ لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويرشدون إلى مصالح الدنيا والآخرة، ثم حصل الفتور في العلم الذي هو روح الدين، وهو ما يودع القلوب خشية الله تعالى، ويزع النفوس عن الشر، ويوجهها إلى الخير الذي فيه سعادة الأمة في أفرادها ومجموعها، حتى قام بعض الأئمة كالإمام الغزالي يرمي العلماء بالتقصير في علوم الدين، ويعذلهم على التوسع في علم الفقه الذي سمَّاه من علوم الدنيا، ولقَّب العلماء المنصرفين في ذلك بعلماء السوء، وذكر أنهم يزعمون بذلك إحياء فرض الكفاية ولو صدقوا لانصرف بعضهم لإحياء سائر العلوم التي تنفع الأمة في الدنيا ولا بد منها، وهي من فروض الكفايات كعلم الطب، وقد أطال في كتابه (إحياء علوم الدين) النعي عليهم والتنديد بهم حتى حملهم ذلك على الطعن فيه بأنه أدخل الفلسفة في الدين وأحرقوا كتابه الإحياء في أسواق القاهرة وغيرها، ثم كتبوه بماء الذهب وقالوا إنه أحسن كتاب أُلِّف في الإسلام وجرى على خطة الغزالي في الانتقاد آخرون. هذا ما كان في القرون المتوسطة إذ العلماء علماء، والمسلمون في عزهم وسؤددهم يفوقون جميع الناس في العلوم والأعمال والقوة والثروة، وعلماؤنا اليوم يعترفون بأن العلم والدين كانا في عصر الغزالي خيرًا مما صار إليه في القرن الذي بعده، وأن التدلي فيهما سار بالتدريج إلى عصرنا هذا، فكل قرن دون ما قبله؛ ولكنهم إذا رُموا بالتقصير في الإرشاد إلى الدين والقيام بحقوقه كما رمى الغزالي علماء عصره يكبر عليهم ذلك، وإن كانوا يفضلون أولئك العلماء على أنفسهم ويرون غاية العلم فهم كلامهم. ولا يطلق لقب علماء الدين على الذين عرفوا من دينهم ما يجب عليهم فقط؛ وإنما يُطلق على الذين عرفوا الفروض العينية والكفائية، وأحيوا سنة الرسل بالتعليم والإرشاد والتبشير والإنذار لجميع الناس، ولا يكفي في هذا أن ينقطعوا عن الناس في مكان واحد من البلد أو القطر يتدارسون فيه اصطلاحات بعض الفنون وقواعدها مع من يحضرهم، ويَدَعُون سائر الأمة وشؤونها. يُعرف الشيء بنتائجه وآثاره، كما يُعرف بمقدماته ومبادئه، وكما يُعرف بذاته وكنهه، وقد تقدم أن نتيجة الدين وثمرته سعادة الدنيا والآخرة، فلو أن علماءه قائمون بوظائفهم حق القيام بحسب ما تعطيهم وراثة النبوة لما سُلبت سعادة المسلمين من أيديهم، ولما صاروا أعداء متخاذلين بعد أن كانوا إخوانًا في الدين، ولما تجرأ المبتدعة والكفار على الطعن بدينهم ولم يجدوا منهم مدافعًا ولا معارضًا، ولا يحسن أن نذكر أخبار بعض المرتدين مع بعض علماء الأزهر فما كل ما يُعْلَم يُقال، ولما أصبح الجهل بالدين عامًّا في جميع طبقات الأمة من الحكام والأمراء إلى الصعاليك والفقراء. أصبحت شكوى المسلمين من سوء حالهم عامة؛ لأن سلطان الأجنبي أصبح فيهم عامًّا، ولا خلاف بين عقلاء الباحثين في أن سبب ذلك هو الانحراف عن صراط الدين ويدل على هذا قوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) وقوله عز وجل: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) وغير ذلك من الآيات فهل نكابر الحس ونقول إننا منصورون، وأنه ليس للكافرين علينا سبيل ما بوجه من الوجوه كما يفيده وقوع النكرة في سياق النفي؟ أم نقول إن الله تعالى يخلف وعده ولا يصدق كتابه؟ معاذ الله وحاش لله، أم نقول إننا لسنا بمؤمنين؟ أم ماذا نقول؟ أهون هذه الأقوال صعب شديد، وليس لنا مندوحة عن القول الأخير مع التأويل بأن نقول: إننا لسنا بمؤمنين الإيمان الكامل الذي يستولي على الأرواح والنفوس، ويُثقف الأذهان والعقول، ويحمل على الأعمال النافعة التي تُثمر السعادة والسيادة، ولكن لماذا تركنا الإيمان على هذا الوجه النافع المرضي لله تعالى. هل تلقَّى أحد الإيمان على هذا الوجه ثم تركه؟ كلا إنما فُقِد منا هذا الإيمان بفقد العلماء الذين يثبتونه في النفوس، ويودعونه في القلوب، فقد ورد في الحديث (إن الله لا ينزع العلم من القلوب انتزاعًا؛ وإنما يذهب العلم بموت العلماء) . يعتقد المسلمون كافة أن هذا البلاء الذي هم فيه لا ينكشف عنهم إلا بالرجوع إلى دينهم على الوجه الذي يهدي إلى سعادة الدارين بالقيام بمصالح الروح والجسد، والباحثون منهم في حيرة لا يدرون كيف يكون هذا الرجوع؟ وبماذا يكون؟ ولذلك توجهت أنظارهم إلى العلماء؛ لأن هذا الذي يطلبونه لا يكون إلا بالهدي النبوي الذي هو وظيفتهم ولكنهم أهملوها، ومطالبتهم بها تعظيم لشأنهم ورفع لمقامهم وثقة كبرى بفضلهم، تحدث بهذا المحاورون والسامرون، وكتب في موضوعه الكاتبون ؛ ولكن أكثر العلماء عنه غافلون؛ لأنهم لا يبحثون في شؤون المسلمين الاجتماعية ولا ينظرون في مصالحهم الملية، ولما ملأت الشكوى كل مكان، وكادت تصخ منهم الآذان اعترف بحقيقتها منهم العقلاء المنصفون، وأنكرها المكابرون المغرورون، فطفق علماء البلاد الهندية يؤلفون الجمعيات العلمية الدينية: للبحث في هذه الشكوى، وتلافي هذه البلوى، ولم يتنبه في سائر البلاد إلا بعض أفراد لم يظهر لهم عمل، يتعلق به الأمل. أما هذه البلاد المصرية فقد اشتهر فيها مفتيها الأستاذ الشيخ محمد عبده بالغيرة على الإسلام، والسعي في الإصلاح العلمي الديني في الأزهر الشريف وغيره والدنيوي الملي في الحكومة والجمعية الخيرية الإسلامية التي هو رئيسها، وأكثر العلماء لا يزالوا وادعين ساكنين، غارّين آمنين، محافظين على طريقتهم العتيقة في مزاولة بعض الفنون العربية والشرعية؛ وإنما قلت بعضها لأن بعض المقاصد مفقودة من الأزهر كالإنشاء والخطابة وعلم الأخلاق الدينية والتاريخ الإسلامي بفروعه الكثيرة، ولهذا الجامع الشريف الفضل في حفظ ما حفظه من تلك الفنون بالجملة، وإن لم يكن بالطريقة العلمية المقصودة إذ لولاه لتلاشى العلم الإسلامي من هذه البلاد بالمرة؛ ولكنه لم يحفظها على كمالها كما كانت في القرون المتوسطة؛ وإنما حفظ رسومها وأنقاضها وله الفضل على كل حال، ونرجو له الرجوع إلى أحسن مما كان. نعلم مما تقدم أن عقلاء المسلمين يرون أن سعادته بعلمائهم إذا أصلحوا؛ لأنهم كالقلب الذي يصلح بصلاحه الجسد كله كما ورد في الحديث، فلا يسرُّون بشيء كسرورهم من توجه كبار العلماء إلى شؤون المسلمين العامة، ولهذا وقع الحديث الذي دار بين صاحبي السماحة والفضيلة الشيخ جمال الدين أفندي شيخ الإسلام، والشيخ محمد عبده أفندي مفتي الديار المصرية في دار السعادة أحسن موقع عند جميع العقلاء والفضلاء؛ لأن اتفاق هذين الشيخين وهما أكبر علماء المسلمين على أن صلاح حال المسلمين إنما يكون بسعي العلماء الموافق لحال الزمان، وبتطبيق العلم على العمل ينهض من همتهم، ويُعَرِّفهم قيمة وظيفتهم العالية، ويحثهم على القيام بها. حديث شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية في العلم والعلماء قال (المفتي بمناسبة كلام مع الشيخ) : إن كان للمسلمين شكوى مما يرونه ماسًّا بشريعتهم، فأجدر بهم أن يشتكوا من أنفسهم لا ممن يعتدي عليهم. الشيخ: لا ريب في ذلك فإن حياة كل أمة تقوم باستعدادها لكل زمان بما يناسبه، ومن غالب الزمان غلبه الزمان؛ ولكنا نؤمل أن تتغير الحال ويتنبه المسلمون لما فاتهم فيحصلوه، وذلك لا يكون إلا بهمة علمائهم وحملة شريعتهم. المفتي: نعم ذلك لا يكون إلا بهمة علمائهم؛ ولكن العلماء في انصراف تام عن شؤون العامة، وقد تركوا هم تلك الشؤون إلى الحكام، ووكلوا بعضها إلى العامة أنفسهم، وجعلوا نصح العامة والخاصة أو الاشتغال بما يهيئ لذلك من العمل مما لا يعني ولم تبق لأحد منهم علاقات مع العامة اللهم إلا أولئك القصاص الذين يسمونهم وعاظًا أو مدرسي مساجد، وما هم من علم الدين وشؤون العامة على شيء وهم يفسدون أكثر مما يصلحون. الشيخ: لا شك أن أغلب المشتغلين بعلوم الدين تنقصهم الخبرة بأحوال الناس ويفوتهم العلم بما عليه أهل العصر، ولو خبروا الزمان وأهله لأمكنهم أن يحموا شرعهم ويعلوا شأن أهل ملتهم، مع أن العالم لا يكون عالمًا حتى يكون مع علمه عارفًا، والعارف هو الذي يمكنه أن يوفق بين الشرع وبين ما ينفع الناس في كل زمان بحسبه، ومن كان بارعًا في العلوم الدينية ولكن لا يعرف حال أهل عصره، ولا يراقب أحكام زمانه فلا يسمى عالمًا؛ ولكنه يسمى متفننًا أعني أنه يعرف فن النحو أو فن الفقه أو ما أشبه ذلك، ولا يسمى عالمًا على الحقيقة حتى يظهر أثر علمه في قومه، ولا يظهر ذلك الأثر إلا بعد علمه بأحوالهم وإدراكه لحاجاتهم. المفتي: ما تقوله سماحتكم هو المعروف عند الأولين من علمائنا، وقد جاء في كثير من كتب السادة المالكية تعريف العالم بأنه العاكف على شأنه البصير بأهل زمانه، وهو تعريف للعالم بالغاية من علمه، والعكوف على الشأن أن لا يضيع العالم زمنه إلا فيما يفيده ويفيد العالم؛ لأن هذا هو شأن العالم الذي ينبغي أن يعكف عليه؛ ولذلك اتبعه بالوصف الآخر، وهو البصر بأهل الزمان؛ لأن البصر بأهل الزمان إنما يدخل في الغاية من العلم؛ لأنه وسيلة للتمكن من العمل به في أهل ذلك الزمان، وكأن صاحب هذا التعريف يقول مَن فرَّط في شيء من زمنه، ولم يستعمله فيما من شأنه أن يستعمله فيه، أو أساء استعماله بسبب جهله بأحوال هذا الزمان، فهو ينثر المقال نثرًا لا يبالي كيف يقع، ولا يعرف هل يصفع عليه أو يخضع له ويخشع، من كان كذلك

شبهات المسيحيين على الإسلام وحجج الإسلام على المسيحيين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين على الإسلام وحجج الإسلام على المسيحيين نبذة ثالثة تابعة لما في الجزء الخامس والجزء العاشر بيَّنا في الجزئين الخامس والعاشر المراد بالتوراة والإنجيل عند المسلمين، وهما اللذان يشهد لهما القرآن الكريم، وبيَّنا أنه لا تنهض للمسيحيين حجة على إثبات دينهم وكتابيهما، ونبوة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام، إلا من القرآن ولا يكون القرآن حجة إلا إذا كان من عند الله تعالى، فعليهم أن يؤمنوا به ويأخذوا بإصلاحه ليكونوا معنا موحدين لله تعالى، نعبده وحده من دون البشر كالمسيح وغيره، وندعو سائر الوثنيين إلى هذا الإيمان الذي هو غاية ارتقاء العقل البشري، وفيه السعادة والنجاة في الآخرة مع العمل الصالح الذي يستلزمه، وقد بيَّنا بالدليل المعقول نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وكون ما جاء به وحيًا في درس التوحيد الذي نشر في الجزء الماضي وسنزيده بيانًا في الدروس الآتية إن شاء الله تعالى، هؤلاء المبشرون يدعوننا إلى البحث في الدين، أو يدعوننا أن نؤمن بأن بعض الأنبياء إله كامل وإنسان كامل، وأن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة حقيقة، وإن كان العقل ينكر ذلك ويحيله وهو محل الإيمان، وأن ننكر بعض الأنبياء ونجحد نبوته بالمرة وإن قام عليها أقوى البراهين، فإن كانوا يبحثون لإظهار الحق لأجل اتباعه فليجعلوا العقل أصلاً ويحكِّموه في الدلائل، وإلا فبماذا يميز بين الحق والباطل؟ إن قالوا: كتب الدين، نقول (أولاً) : بماذا تثبت هذه الكتب؟ فإن قالوا: بالعقل، نقول: لزمكم أن العقل هو الأصل، ولا يتأتى أن يحكم بصحة كتاب يشتمل على ما هو مستحيل عنده، و (ثانيًا) : إذا كانت كتب الأديان التي تناظرون فيها متفقة فالدين واحد، وإلا فبماذا يرجح بعضها على بعض؟ أليس بالعقل الذي يبين أيها أهدى وأنهض بما يحتاج إليه البشر من الدين. للدين ثلاثة مقاصد: تصحيح العقائد التي بها كمال العقل، وتهذيب الأخلاق التي بها كمال النفس، وحسن الأعمال التي تُناط بها المصالح والمنافع وبها كمال الجسد، فإذا حكَّمنا عاقلاً لم يسبق له تقليد المسلمين ولا تقليد النصارى في الدين، وكلَّفناه أن ينظر أي الدينين وفَّى هذه المقاصد الثلاثة حقها بحسب العقل السليم فبماذا يحكم؟ يرى المسلمين مجمعين على أن العقائد لا بد أن تكون أدلتها يقينية؛ لأن كتابهم يقول في الظن الذي هو دون مرتبة اليقين في العلم {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) ويقول في الذين احتجوا على شركهم بمشيئة الله تعالى {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) ويقول {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) ويقول عند ذكر الآيات التي يقيمها على العقائد إن {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (الرعد: 4) {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه: 54) أي العقول، ويرى المسيحيين مجمعين على أن أصل اعتقادهم فوق العقل، وأنه يحكم باستحالته وعدم إمكان ثبوته، ولا شك أنه هذا العاقل يحكم بأن عقائد المسلمين هي الحقة الصحيحة، ولا يلتفت إلى قول صاحب أبحاث المجتهدين وغيره: إن ذلك بحث في كنه ذات الله تعالى، ولا يعرف كنه الله باتفاق المسلمين وغيرهم؛ لأن فرقًا عظيمًا بين ما يثبته العقل بالدليل؛ ولكنه لا يعرف كنهه، وبين ما ينفيه ويجزم بعدم إمكان تحققه، ومثال ذلك أننا نثبت المادة بصفاتها وخواصها وآثارها، ولا نشك في وجودها؛ ولكننا لا نعرف كنه حقيقتها، بل لم يصل العقل إلى معرفة كنه شيء من هذه المخلوقات؛ وإنما عرف الظواهر والصفات، كذلك التوراة تصف الله تعالى بصفات يرفضها العقل كقوله في الباب السادس من سفر التكوين (فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض، وتأسف في قلبه، فقال: امحوا عن وجه الأرض الإنسان الذي عملته) وهذا يدل على أنه كان جاهلاً وعاجزًا تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. ثم ينظر هذا العاقل والحكم العادل في المقصد الثاني، وهو تهذيب الأخلاق، فيرى التعاليم الإسلامية فيه قائمة على أساس العدل والاعتدال من غير تفريط ولا إفراط، مع استحباب العفو والصفح والإحسان لقول كتابه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل: 90) فسَّر البيضاوي الفحشاء بالإفراط في قوة الشهوة البهيمية، والمنكر بالإفراط في قوة الغضب الوحشية، وقوله: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (البقرة: 237) وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة عامة وخاصة، ويرى التعاليم المسيحية مبنية على التفريط والإفراط يقول كتابهم: (أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم) كما في إنجيل متَّى (5: 44) وهذا إفراط في الحب لا يقدر عليه البشر؛ لأن قلوبهم ليست في أيديهم، ويقول في إنجيل لوقا (19-27) : أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أحكم عليهم فائتوا بهم إلى هنا واذبحوهم تحت أقدامي) وفي الباب 14 من إنجيل لوقا 25: (وقال لهم إن كان أحد يأتي إليَّ، ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته حتى نفسه أيضًا، فلا يصلح أن يكون لي تلميذًا) وهذا تفريط في الحب إفراط وغلو في البغض ومثل هذا كثير، ولا شك أن هذا العاقل يحكم لدين الاعتدال على دين التفريط والإفراط؛ لأن الأول يرقي البشرية ويعزها كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) والآخر يدليها ويذلها كما قال: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر) وغير ذلك مما في معناه. وأما المقصد الثالث، وهو الأعمال الحسنة التي ترقي النوع الإنساني في روحه وجسده، فيرى أن في الإسلام كل عبادة منها مقرونة بفائدتها، ككون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وكون الصيام يفيد التقوى وكون العبادة في الجملة ترضي الله تعالى لقوله: {وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي} (الممتحنة: 1) إلى غير ذلك مما يزكي النفس ويرقي الروح، ولا يرى مثل هذا في كتب الآخرين، وإنما يرى في التوراة - التي هي كتاب الأحكام المسيحية؛ ولكن المسيحيين يؤمنون بها قولاً لا فعلاً - أن أحكام العبادات معللة بالحظوظ الدنيوية كقولها في الباب الرابع من سفر التثنية (40: واحفظ فرائضه التي أنا أوصيك بها اليوم لكي يحسن إليك وإلى أولادك من بعدك) وكتعليل مشروعية الأعياد في الباب 23 من سفر الخروج من العدد 14- 16 بالحصاد والزراعة، وبالخروج من مصر، فأين هذا من بيان حكمة عيد الفطر في قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) . يرى أحكام المعاملات الإسلامية مبنية على أساس قاعدة درء المفاسد وجلب المنافع باتفاق المسلمين، وأن كليات هذه الأحكام خمس يسمونها الكليات الخمس، وهي حفظ الدين والنفس والعرض والعقل والمال، ويرى أن الشريعة الإسلامية ساوت في الحقوق بين من يدين بها وغير من يدين بها ويراها تأمر بكشف أسرار الكون واستخراج منافعه بمثل قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) ويرى التوراة والإنجيل لم يجمعا هذه المنافع في أحكامها، بل يخالفانها كثيرًا، فالوصية التاسعة: (لا تشهد على قريبك بالزور) فأين هذا التقييد بالقريب من أمر القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) وغير ذلك من الآيات، وفي الباب الرابع عشر من سفر تثنية الاشتراع إباحة المسكر وسائر الشهوات على الإطلاق ونصه: (وأنفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك في البقر والغنم والمسكر، وكل ما تطلب منك نفسك وكُلْ هناك أمام الرب وافرح أنت وبيتك) وفي الباب السادس من إنجيل متى (25: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وتشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون) وفي موضع آخر: (لا تشتغلوا من أجل الخبز الذي يفنى) يأمرهم بهذا مع أن الخبز أهم المهمات عندهم حتى أمروا أن يطلبوه في صلاتهم بقوله: (خبزنا بأكفافنا أعطنا اليوم) فما هذا التناقض. لا تأمر هذه الكتب بترك الأعمال للدنيا فقط، بل ليس للأعمال الصالحة فيها قيمة ولا منفعة مطلقًا قال بولس في رسالته إلى أهل رومية (14 - 4: أما الذي يعمل فلا تحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين (5) وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرِّر الفاجر فإيمانه يحسب له برًّا) هذا والله يقول في القرآن: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ} (البقرة: 177) الآية، فهل تنجح الأمم بهذه الأعمال أم بإيمان لا قيمة للعمل معه؟ وأثبت هذا المعنى بولس في الباب الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية حيث ذكر أن أعمال الناموس تحت لعنة، وأنه لا يتبرر أحد عند الله بالناموس، وأن الناموس لا لزوم له بعد مجيء المسيح، والمسيح نفسه يقول: (ما جئت لأنقض الناموس وإنما جئت لأتمم) ؛ ولكن المسيحيين عملوا بقول بولس فتركوا التوراة وأحكامها بالمرة، وقد أباح لهم الرسل جميع المحرمات ما عدا الزنا والدم المسفوح والمخنوق والمذبوح للأصنام (أعمال 15: 28 و29) وكأنهم رأوا أن شريعة التوراة لا تصلح للبشر كما قال حزقيال في الباب العشرين عن الرب أنه لما غضب على بني إسرائيل قال: (23 ورفعت أيضًا يدي لهم في البرية لأفرقهم في الأمم وأذريهم في الأراضي 24 لأنهم لم يصنعوا أحكامي، بل رفضوا فرائضي ونجسوا سبوتي، وكانت عيونهم وراء أصنام آبائهم 25 وأعطيتهم أيضًا فرائض غير صالحة وأحكامًا لا يحيون بها) وصرح حزقيال قبل هذا بأن بني إسرائيل عبدوا الأصنام بعد ما أنجاهم الله من مصر، فليعتبر بهذا ذلك المبشر المسيحي، وذلك اليهودي اللذان أنكرا عليَّ ما كتبته في العدد العاشر من طلب بني إسرائيل عبادة الأصنام، وزعما أنه لم يقل بذلك إلا القرآن. للكلام بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

لائحة الفقه الإسلامي

الكاتب: ع. ز

_ لائحة الفقه الإسلامي [*] لحضرة العالم الفاضل صاحب التوقيع برح الخفاء وآن للحقائق أن يتبلج نورها، فقد مزَّقت عزائمُ المصلحين حجبَ الأوهام، وأزالت غشاوة الأبصار، وللأطوار أدوار، وللأدوار أسرار، فسبحان الظاهر الباطن. إن لم يكن في كلماتي هذه براعة استهلال لمقصدي وفاتني منها النصيب الذي يحرص عليه كتابنا القدماء ومقلدوهم في محامد خطبهم؛ فإن فيها من قوة العزم في المقصد الإجمالي ما يعرب عنه بأجمع عبارة وأجمل إشارة. كلامي الآن في الفقه الإسلامي حملني عليه سبب شريف ذلك أنني كتبت إلى صديق لي فاضل مشرف على مطالع أنوار المعارف مكتوبًا مطولاً، عرضت له فيه خلاصة نبذة من أفكاري بأننا إخوان سعي في سبيل إصلاح يهتم له الشاعرون بالأحوال، وينكره الواقفون الذين تتجاذبهم الأهواء، ويتجاذبون الأدواء، والمكتوب جاء فيه إنكار لكثير من العلوم التي يعتبرها المسلمون من العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، وأعتبرها أنا بالعكس بما قام عندي من البرهان فأختار أن يحاورني في قسم من أقسام المكتوب، فكتب إليّ جوابًا أفاض فيه من معارفه الغزيرة ما تروى به الصدور، ونشر المنار الزاهر هذا الجواب لما احتوى من حقائق العلم، وآيات الإشراف والإشراق، وإذ كان لي من الكلام في هذا الموضوع ما لم يسعه مكتوبي الأول، ومن الجواب على رده ما يزيد المسألة وضوحًا أحببت أن أكتب هذه الرسالة لصديقي نفع الله الأمة بفضله وعلو همته، على أن يكتفي إن شاء بمطالعتها أو ينشرها في المنار - أدام الله إشراقه - إن شاء صاحبه العلامة. كلامي في الفقه الإسلامي الفقه الإسلامي يشتمل على قسمي العبادات والمعاملات كما يقولون، أما العبادات فليس يخفى على أحد أنها أعمال خاصة أُمرنا أن نفعلها كما كان يفعلها النبي وأصحابه الذين تعلموا منه، فهل التعاليم مختلفة بقدر ما اختلف هؤلاء الفقهاء أم أراد هؤلاء أن يوهموا الملأ بما وسعته صدورهم من العلوم فتوسعوا بالتفصيلات القولية والاصطلاحات المذهبية حتى كتبوا ألوفًا من الأوراق على الصلاة مثلاً، ولئن سألتهم ليقولن إنها عماد الدين، وأن الاهتمام بتحرير علومها ضروري، قل إن القرآن المجيد الذي فرضها لم يجئ فيه بشأنها أكثر من قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (البقرة: 43) {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (البقرة: 43) {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} (فصلت: 37) ولم يجئ فيه بشأن الطهارة التي هي من أجلها أكثر من الأمر بغسل الوجه واليدين والرجلين ومسح الرأس إذا أخرج الإنسان فضلاته، وبالتيمم إذا لم يجد الماء وبالتطهر من الجنابة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعَلِّم الصلاة للواحد من أصحابه في ساعة واحدة؛ لأنها أعمال محدودة كالوقوف إلى جهة معينة، وقراءة كلمات سهلة وحني الظهر ووضع الجبهة على الأرض! أعمال يتعلمها الصبي في ساعة، ويا عجبي للذين اختلفوا واستشهد كل منهم بالأقوال، ألم يروا أنها حركات بدنية واستحضارات قلبية، شوهدت من النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها خمس مرات كل يوم نحو عشرين عامًا، ثم شاهدها من أصحابه من لم يشاهدها منه وهلم جرا، ألم يكن في مشاهدة الفعل يتكرر آلافًا من المرات غنية عن الأقوال؟ أم أراد بهم ربك اختلافًا فلم يزد الناس بيانهم إلا إغماضًا وإعضالاً، اتلُ من أمثلة اختلافاتهم هذا المثال: (في فتح القدير (1) ص (154) وأول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخر وقتها ما لم يغب الشفق وقال الشافعي رحمه الله: مقدار ما يصلي فيه ثلاث ركعات لأن جبريل عليه السلام أمَّ في اليومين في وقت واحد، ولنا قوله عليه السلام: (أول وقت المغرب حين تغرب الشمس وآخر وقتها حين يغيب الشفق) وما رواه كان للتحرز عن الكراهة، ثم الشفق هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا هو الحمرة، وهو رواية عن أبي حنيفة وهو قول الشافعي رحمه الله لقوله عليه السلام: (الشفق الحمرة) ولأبي حنيفة قوله عليه السلام: (وآخر وقت المغرب إذا اسود الأفق) وما رواه موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما ذكره مالك رحمه الله في الموطأ، وفيه اختلاف الصحابة اهـ) . تراهم اختلفوا في تعيين الشفق، ورووا عن أبي حنيفة روايتين متباينتين وأنت خبير أن هذا التفريق بين البياض والحمرة دقيق جدًّا إذا كان الجو صافيًا ولا يمكن ألبتة إذا كان داجنًا، ثم ماذا جوابهم إذا سألهم أهل أرض تحجب فيها الغيوم الشمس أكثر من نصف السنة عن أول وقت المغرب الذي عينوه بغروبها، وعن آخره الذي عينوه بذلك البياض وتلك الحمرة، أفيقولون يقدر الوقت تقديرًا؟ فكيف يقدر الوقت وبماذا؟ أبعدد الركعات كما قال الشافعي فكم معدل الركعات في النهار والليلة، حتى نقدِّر أجزاءهما بعدد الركعات، ومن ذلك الذي يعمل هذا المعدل؟ وإليكم هذا أيضًا: يقولون في باب الصوم: (لا عبرة باختلاف المطالع فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب وعليه الفتوى) انظر معي في هذا القول الذي اتفقوا عليه وأفتوا به إلا أصحاب الشافعي، فاسأل الذين يقرءونه فيعتبرونه دينًا: من ذلكم الذي يوصل خبر المغرب إلى المشرق في أقل من ليلة حتى يلزمهم الصوم بيوم واحد؟ ثم كيف يصوم أهل المغرب مثلاً برؤية أهل المشرق وبينهما اختلاف عظيم، فقد يكون ليل ناس نهار آخرين؟ سامحني أيها الصديق بما تصديت له من حال أقوالهم في قسم العبادات فقد دعت إلى هذه الإشارة ضرورة الكلام على كل ما سموه فقهًا، وسامحني أيضًا أن أذكر شيئًا عما كتبوه في المناكحات التي عدوها في المعاملات، تلك المناكحات التي يتعجب الإنسان من الأبواب التي فُتحت فيها، كحلف الإنسان بأنه يحرِّم فرج امرأته على فرجه إذا كان الأمر كذا مما لا علاقة للزوجة به، وكإفتائهم وقضائهم بأن هذا الفرج المحلوف عليه يُحرَّم إذا حنث الحالف، وإن لم يكن ثمة إرادة الفراق وإليكم من عباراتهم في هذا الباب شيئًا من أشياء: (لو قال لها: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي طالق ثلاثًا؛ لأن نصف التطليقتين تطليقة، فإذا جمع بين ثلاثة أنصاف تكون ثلاث تطليقات ضرورة، ولو قال أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقة، قيل يقع تطليقتان؛ لأنها طلقة ونصف فيتكامل، وقيل يقع ثلاث تطليقات؛ لأن كل نصف يتكامل في نفسه فتصير ثلاثًا) هذا وأما ما كتبوه في الحقوق، وسموا مجموعه بالمعاملات فلا أنكر أنهم أجادوا في بعضه بحسب أزمنتهم وأمكنتهم؛ وإنما الذي أنكره هو: (1) أنه يكفي لزماننا ويغنينا عن غيره (2) وأنهم استفادوا كل ما كتبوه من الدين، ولا دخل لعقولهم فيه (3) وأنه لا يغني عن غيره (4) وأنه لم يكن آلة بيد القضاة والمفتين ومن في حكمهم يعبثون فيه كما شاءوا (5) وأنه ليس من المضر تقديسه الذي جعلنا ينابذ بعضنا بعضًا من أجله، وتقديس المحاكم المنسوبة إليه التي كانت ولا تزال بقاياها ميدانًا تتجلى فيه الغرائب. هذا كله هو الذي أنكره إنكارًا مقرونًا بالدليل القاطع لمن شاء أن أذكره، وليس بخافٍ (1) أن أزمنتهم غير زماننا الذي تغيرت فيه التجارة وأبوابها وفروعها تغيرًا مهمًا (2) وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بتصريحه لمعاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يعملا برأيهما إذا لم يجدا نصًّا - كفانا مؤنة السلاسل التي ربط الناس بها أقوام كتبوا الكتب بأيديهم، ثم قالوا هذه من عند الله (3) وأن هذه الأمم التي ليس عندها هذه الكتب قد أغناها الله بفضل عقولها في تدبير التجارة والبيوع وعقد الشركات وإمضاء المعاهدات وإدارة المنافع العامة وترتيب العقوبات وجباية الأموال وتنظيم الجيوش وإعداد ما يحفظ المجد ويعلي الشأن في السلم والحروب (4) وأن هذه الأقوال المتضاربة المتعارضة ليس لأكثرها من سبب إلا منافع القضاة ومن في حكمهم (5) وأن اعتناء كل طائفة بمذهب واحد على ما فيه من تعدد المرجحين قد فرَّق كلمة المسلمين منذ زمن بعيد حتى أوصلهم إلى هذه الحالة - وهل منكر لها؟ - بمقتضى السنة الإلهية. هذا ما قلت زبدته وأعدته اليوم مع شيء من التفصيل، وأن الأخ حفظه الله ليعلم أن هذا الموضوع لا يوفيه حقه من البيان إلا مئات من الأوراق وفي ذكائه وإمعانه وإمعان الأذكياء غنية وكفاية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز (المنار) للمقالة بقية، ومَن عنده جواب من الفقهاء فليرسله إلينا لننشره بعد إتمامها. ((يتبع بمقال تالٍ))

مقدمة ديوان حافظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة ديوان حافظ أو الشعر وفنونه وتأثيره وفحوله يعرف قراء المنار مكانة محمد حافظ أفندي إبراهيم في الشعر، وأنه يضرب مع فحوله بكل سهم، ويسابق جياده في كل فج، ويمتاز على السابقين الأولين بالمعاني التي جلتها الحضارة والمدنية، ويتقدم صفوف المتأخرين بالجزالة البدوية ويودون لو تُخدم اللغة والآداب بطبع ديوانه، ونحن نبشرهم بأن الديوان كاد يتم طبعه، ونتحفهم بمقدمته التي تشهد له بأنه ممن اتفقت لهم الإجادة في المنظوم والمنثور، وهي - كما قال ابن خلدون - لا تتفق إلا للأقل، قال حافظ وأحسن ما شاء هو وشاء الإحسان: الشعر - وهو أحد توأمي اللغة العربية - علم وجد مع الشمس، لا تعرف الإنس له واضعًا، قد كمن في نفوس البشر كمون الكهرباء في الأجسام، فلا يهتدي إلى مكمنه الخاطر، ولا يعثر به الخيال إلا إذا أثارته حركة النفس، وهو من الكلام بمنزلة الروح من الجسد، فلا بدع إذا عجز لسان الكون عن تعريف كنهه عجزه عن إدراك كنه الروح. ولقد عرَّفه بعضهم فقال: إنه نفثة روحانية تمتزج بأجزاء النفوس، ولا تحس به منها غير النفوس الزكية. وقال آخر: إنه قول يصل إلى القلب بلا أذن. ولم أعثر حتى اليوم على تعريف له شافٍ في كتب العرب والإفرنج، ومبلغ القول فيه أنه ظرف الحكمة ومسرح الخيال ومغنى البلاغة وخدر الفصاحة ووعاء الحقيقة، فلو أنهم سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانًا تشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر [1] ، ولو لم تكن آيات الكتاب العزيز كلها ظروفًا وأوعية للحقيقة لما وجد الملحدون السبيل إلى القول بأنه جاء على طريقة الشعر وإن كان منثورًا. وخير الشعر ما سبق دبيبه في النفس دبيب الغناء، ثم سبح بها في عالم الخيال، فإن كان غزلاً مر بها على مسارح الظباء وكنس الآرام، وطاف بها على أودية العشق والغرام، فأراها أسراب الأرواح ترفرف على نواحيها غاديات رائحات في مروج الهوى، سائحات سارحات في رياض المنى، طائرات سابحات في أجواء الهيام، حافات بأرواح أولئك الذين قضوا صرعى العيون، وشهداء الجفون، وأراها جميلاً وهو يرنو إلى بثينته، والمجنون وهو يضرع ليلاه، ثم ردها بعد ذلك وقد أذابها رقة وأسالها شوقًا، وإن كان حماسًا طار بها إلى مكامن البلاء، ومساقط القضاء، يشق بها صفوف الحوادث، وكتائب الكوارث، حتى إذا راضها على مصافحة الحمام، ومكافحة الأيام، انتقل بها إلى المعامع، فحبب إليها لثم البتار، ومعانقة الخطَّار، وأراها عبد بني عبس وهو يسابق المنية إلى اختطاف الأرواح وينادي: لي النفوس وللطير اللحوم وللـ ... ـوحش العظام وللخيالة السَّلَب ثم ردها بعد ذلك، وهي تنظر إلى فرند القصاب، نظر المحب إلى لمي الرُّضاب. وإن كان فخرًا سما بها إلى عرش الجلال فأراها الشريف متربعًا في ناديه يطالع في صحيفة أنسابه، وجريدة أحسابه، وهو يشتَمُّ من لحيته ريح الخلافة ويخاطب بها صاحبها بقوله: مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدًا كلانا في المفاخر معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوق وإن كان حكمة خرج بها عن ذلك العالم المجبول بالأذى، وآسى عندها بين الوجود والعدم فروَّح عنها وهون عليها، ثم سرى بها من بيت العظة والاعتبار وأراها شيخ المعرة وأبو الطيب بجانبه، يستصبح كل منهما بنوره صاحبه، وأسمعها الأول وهو يقول: ويدلني أن الممات فضيلة ... كون الطريق إليه غير ميسر والثاني وهو ينشد: ألف هذا الهواء أوقع في الأنـ ... ـفس إن الحِمام مر المذاق والأسى قبل فرقة الروح عجز ... والأسى لا يكون بعد الفراق ثم ردها وهي تنظر إلى هذا الدهر وأبنائه نظر الممعود إلى غذائه. وإن كان زاهدًا طرح عن منكبيها رداء الطمع، واستل من جنبيها خيوط الجشع، وأراها الشيخ أبا العتاهية مضطجعًا في بيته، يتغنى ببيته: الناس في غفلاتهم ... ورحى المنية تطحن ثم غادرها وهي تكتفي من دنياها بإحراز مسكة الحوباء، وتجتزئ منها بشربة من الماء. وإن كان مادحًا مثَّل لها الممدوح يسحب مطارف الحمد، ويجرَّ ذيول الثناء، وقد كساه مادحه حلة لا تبلى وأحلّه المحلّ الذي لا ترقى إليه همة الزمان، وأراها صاحب مسلم بن الوليد الذي يقول فيه: موحِّد الرأي تنشق الظنون له ... عن كل ملتبس فيها ومعقود يلقى المنية في أمثال عدتها ... كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود وقد شفَّت له الآراء عن مواطن الصواب، وانشقَّت له حجب الظنون عن مكامن الغيب ومثله لها في البيت الأول، وهو يسري ورأيه يضيء إضاءة الكهرباء وفي البيت الثاني وهو يدفع الموت بالموت، ويدرأ الحتوف بالحتوف إذا شمر له الموت عن ساعديه شمر، وإذا تنمر له الحِمام تنمر. وإن كان استعطافًا مثّل لها النفس الموتورة، وهو يحلل من حقدها، ويقلم من أظفار ضِغنها، وقد مال بها إلى جانب العفو والتجاوز، وأراها سيف الدولة في ديوان إمرته، وأبو الطيب جالس بحضرته، ينشده قوله: ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب ولم تجهل أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب وقد سكت عنه الغضب، وهبَّت من شمائله نسائم الرفق، وجال في محياه ماء الصفح. وإن كان وصفًا جسَّم لها الشيء الموصوف، حتى إنها لتكاد تهمُّ بلمسه، وأثبت لها أن الشعر تصوير ناطق وأراها ذلك السيف الذي يقول فيه أبو الطيب: سلَّه الركض بعد وهن بنجد ... فتصدى للغيث أهل الحجاز وهو يخطف البصر قبل اختطاف الهمام، ويلمع لمعان شقة البرق طارت في الغمام، أو ذلك السيف الذي يقول فيه ابن دريد: يُري المنايا حين تقفو إثره ... في ظلم الأحشاء سبلاً لا تُرى وهو كأنه سراج يضيء لعزريل فيهتدي به إلى مكامن الأرواح. وإن كان تشبيهًا جلَّى لها وجه الشبه في مرآة الخيال، فأشكل عليها الأمر، ولم تدر أيهما المشبه بالآخر، وأراها بزاة ابن المعتز التي يقول فيها: وفتيان سروا والليل داج ... وضوء الصبح متهم الطلوع كأن بزاتهم أمراء جيش ... على أكتافهم صدأ الدروع وهي كأنها أولئك الأمراء، وأولئك الأمراء وهم كأنهم تلك البزاة. ذلكم تأثير الشعر السري في النفوس، ولقد بلغ من تأثيره أن بيتًا منه أذكى نار الحروب بين العرب والفرس، وهو قول ليلى بنت لكيز من قصيدة: غَلَّلُوني قيَّدُوني ضربوا ... ملمس العفة مني بالعصا وإن بيتين منه أتيا على أمة بأسرها وهما قوله: لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن تحت الضلوع داء دويّا فضع السيف وارفع الصوت ... حتى لا ترى فوق ظهرها أمويّا وقد ترجل لبيت منه جيش بالأندلس وهو قول ابن هانئ: من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تُبَّع في حِمْير وبرز أحد ملوك الأندلس من خلف الستار حين سمع قول مادحه: انظرونا نقتبس من نوركم ... إنه من نور رب العالمين البقية تأتي ((يتبع بمقال تالٍ))

عفة نساء العرب وبلاغتهن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عفة نساء العرب وبلاغتهن ذكَّرني بيت ليلى بنت لكيز الذي أورده محمد حافظ أفندي في مقدمة ديوانه أن أُطرف القراء بخبر عفة هذه الفتاة، وقوة عزيمتها، وبلاغة قولها، وسحر بيانها، وطالما كنت أحدِّث الإخوان بأن أبلغ بيت قالته العرب هو قول هذه الفتاة (غَلَّلُوني) البيت، على أن البلاغة هي كما قال أستاذنا مفتي الديار المصرية هي أن يبلغ المتكلم بكلامه ما يريد من التأثير في النفوس وإصابة موقع الوجدان منها. ومجمل خبر الفتاة أن أباها وهو من بني وائل نزل في بعض منازل إياد بالقرب من بلاد فارس، وكانت ليلى هذه بارعة الجمال، فتزلف بخبرها إلى ملك الفرس رجل من تحوت إياد، على أن إيادًا كانوا مرذولين عند العرب لمجاورة الأعاجم ومخالطتهم، فأخذها الملك من أبيها غصبًا، فبخلت عليه حتى برؤية وجهها، فبذل لها في سبيل رؤيته ألوان المشتهيات، وروَّعها بضروب العقوبات، فأبت عليه أن يراها، ثم خيَّرته بين أن يقتلها أو يعيدها لأبيها، فارتأى بعد ذلك أن يفسد عفتها بالترف والنعيم، فكف عن مراودتها وأمر بأن ترفَّه وتغمر بالنعيم، وما كان نعيم الأجنبي إلا بؤسًا عليها لعزة نفسها وأنفتها، ومن كلامها في تحريض قومها على قتال الفرس وحماية عرضهم بإنقاذها: ليت للبرّاق عينًا فترى ... ما أُلاقي من بلاء وعنا يا كليبًا وعقيلاً إخوتي ... يا جنيدا أسعدوني بالبكا عذبت أختكم يا ويلكم ... بعذاب النُّكر صبحًا ومسا غَلَّلُوني قَيَّدوني ضربوا ... (ملمس العفة) مني بالعصا يكذب الأعجم ما يقربني ... ومعي بعض حشاشات الحيا قَيِّدُوني غَلِّلُوني وافعلوا ... كل ما شئتم جميعًا من بلا فأنا كارهة بغيكم ويقين ... الموت شيء يرتجى يا بني كهلان يا أهل العلى ... أتدلون علي الأعجما يا إيادًا خسرت أيديكم ... خالط المنظر من برد عمى فاصطبار وعزاء حسنًا ... كل نصر بعد ضر يرتجى أصبحت ليلى يغلي كفها ... مثل تغليل الملوك العظما قل لعدنان هديتم شمروا ... لبني مبغوض تشمير الوفا واعقدوا الرايات في أقطارها ... وأشهروا البيض وسيروا إلى الضحى يا بني تغلب سيروا وانصروا ... وذروا الغفلة عنكم والكرى احذروا العار على أعقابكم ... وعليكم ما بقيتم في الدُّنا وقد كان لهذا ما كان من الحروب بين العرب والفرس، وانتهى الأمر بقتل ملك الفرس وتخليص الفتاة، فليعتبر بهذه العفة والشهامة نساؤنا، بل وشبان المصريين المتبجحون بأنهم أبناء عصر المدنية، وما بلغوا في الفضيلة بعض ما بلغت تلك البدوية، قد أفسدت الشهوات بأسهم فمسنوا ومجنوا وتهتكوا حتى بلغنا عن شاب من أذكيائهم أنه قال في بَغِيّ إنكليزية إنها حببت إليه بجمالها ودلالها الاحتلال، وتلك نهاية التلاشي والانحلال.

الأسئلة والأجوبة الدينية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة الدينية (1) من الشيخ أحمد محمد الألفي في طوخ القراموص: هل المحاورة بين المصلح والمقلد حقيقية أم خيالية؟ فإن كانت خيالية هل يوضع الخيال موضع اليقين في أمر من أمور الدين؟ وإن كانت حقيقية فمن المقلد ومن المجتهد ولما يخفيان أنفسهما؟ وهل جُمِعَتْ في هذا المجتهد شروط الاجتهاد من الإسلام والعدالة ... إلخ؟ (ج) ليراجع السائل جواب السؤال في الصفحة 68 من الجزء الثاني من منار هذه السنة، فقد بيَّنا فيه أن من الناس من هو ممنوع من الكتابة في الجرائد كأساتذة المدارس، ومنهم من يخفي اسمه إذا كتب ليعلم الناس الحكم على القول بذاته، ومعرفة الحق بنفسه دون قائله كما هو الواجب، ومنهم من يكتم اسمه لغير ذلك ولا يتوقف عن قبول مثل هذا إلا من لا يستطيع فهم الحق بنفسه؛ وإنما هو مفطور على التقليد بغير بصيرة، وليس المقصود من المحاورة حمل الناس على العمل بقول أحد المتناظرين؛ وإنما المقصود بها فتح باب معرفة الحق بدليله لمن هو أهل لذلك، هذا ما نجيب به على فرض أن المحاورة واقعة فعلاً، وإذا كانت المحاورة غير واقعة، بل مفروضة، فأي حرج في بسط المسائل الدينية والعلمية وشرحها بأسلوب السؤال والجواب والرد والاعتراض وهو أسهل الأساليب وأنفعها؟ ومن يتوهم أن هذا يحوِّل المسائل اليقينية إلى تصورات خيالية والبرهان هو العمدة فيها؟ مثل هذا الوضع معهود من أكابر العلماء الذين يقلدهم السائل، ويقلد من دونهم؛ ولكنه ذهل عن ذلك فكتاب (القسطاس المستقيم) للإمام الغزالي هو بهذا الأسلوب، وكذلك مقامات الحريري وفيها ما لا يُحصى من أحكام الدين في الفقه والآداب والمواعظ، وقد علم رحمه الله تعالى أن سيعترض عليه فقال في خطبة المقامات: (على أني وإن أغمض لي الفطن المتغابي، ونضح عني المحب المحابي، لا أكاد أخلص من غُمْرٍ جاهل، أو ذي غِمر متجاهل، يضع مني لهذا الوضع، ويندد بأنه من مناهي الشرع، إلى أن قال: فأيُّ حرج على من أنشأ ملحًا للتنبيه، لا للتمويه، ونحا بها منحى التهذيب لا الأكاذيب، وهل هو في ذلك إلا بمنزلة من انتدب لتعليم، وهدى إلى صراط مستقيم) ... إلخ. وأما ما ذكره من شروط الاجتهاد التي وضعها المقلدون، فسيرى البحث فيها في المحاورات إن شاء الله تعالى، وحسبه أن يعلم هنا أن إيراد المسائل بصورة المناظرة لا يجعل اليقين خيالاً، وأنه لا حرج فيه، بل فيه أجر إحسان العمل وتقريب العلم من الأفهام وهذه هي شبهته من تصوره أن المحاورة غير واقعة. *** (2) ومنه: هل يجوز لغير المجتهد أن يقلد المجتهد في معرفة الأحكام الشرعية العملية من مذهبه؟ ... إلخ. (ج) ذكرنا من قبل أن التقليد هو الأخذ برأي أحد من غير معرفة دليله، فلا معنى للتقليد في المعرفة إلا أن يريد بالتقليد السير على طريقة المجتهد التي بنى عليها مذهبه في الاستدلال والاستنباط، كما فعل أصحاب الإمام أبي حنيفة مثلاً، ولا شك أن هذا جائز؛ لأنه تعلُّم وليس هو بتقليد، فسقط قوله في تتمة السؤال أن الإمام أبا يوسف لم يدَّع مرتبة الاجتهاد المطلق، ولو لم يدعها لم يكن إمامًا يقتدى به، إذ لا يقول أحد بتقليد المقلد، وقوله إن الوقت خلا عن المجتهد المطلق دعوى لا دليل عليها، فهل عرف هو جميع المسلمين، وهم يعدون بمئات الملايين وتحقق أن كل واحد منهم مقلد، وترون أجوبة بقية الأسئلة التي في ضمن هذا السؤال في المحاورات؛ لأنها وفَّت هذا الموضوع حقه، والمعهود في الأسئلة والأجوبة التي تنشر في الجرائد الاختصار، والملل والسآمة يتولدان من التكرار. *** (3) ما هي طريق الصوفية؟ ومن أهلها؟ وما أصولها وأركانها وشروطها وآدابها وما حجتها على بحثها؟ وإذا جوَّزنا أن العهد الذي يتناقله أهل هذه الطريق سلفًا وخلفًا لم يثبت بدليل صحيح، وأن حديث شداد بن أوس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم لقن أصحابه جماعة وفرادى العهد الذي يتناقله القوم - لم يثبت عند حضرته، فكيف انخدع به أمثال رجال الرسالة القشيرية، وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبده كما ذكر المنار نفسه في العدد الثامن من المجلد الثالث. (ج) يراجع السائل العدد السابع والثلاثين من مجلد المنار الأول فإن فيه مقالة طويلة في التصوف والصوفية، وكيف كانوا وكيف صاروا وفيها نقل عن الرسالة القشيرية، وأما حديث شداد بن أوس فهو في تلقين كلمة التوحيد وليست مختصة بالصوفية؛ وإنما هي عامة لكل مؤمن بالله ورسوله ولا حاجة في إثبات تلقين كلمة التوحيد إلى تصحيح خبر شداد، أليس من التدليس - ولا أزيد على هذا - أن يستدل على ما يتناقله أهل الطريق مما هو مختص بهم بحديث تلقين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كلمة لا إله إلا الله لأصحابه؟ إن كانت هذه الكلمة هي التصوف كله فكل المسلمين صوفية، وإن كان كل معناها كما يفهم الكثيرون أن الذي خلق الخلق واحد لا شريك له في الإيجاد، فالناس كلهم صوفية أيضًا إلا أفراد لا اعتداد بهم لقلتهم، كلا إن هذا اللقب كان يُطلق في عهد رجال الرسالة القشيرية على الذين أخذوا بالعزائم، واتبعوا سيرة السلف الصالح في الدين، وتجنبوا البدع التي حدثت بعدهم. ثم ظهرت في الملة طوائف تفننت في البدع ما شاءت، وانحرفت عن صراط السلف، وانتحلت كل طائفة منها اسم التصوف، وانتسبوا إلى أولئك الأئمة المهديين بالقول، وخالفوهم في العلم والعمل والأخلاق والآداب، وإن أردت أن تعرف بدعهم وضلالاتهم فعليك بكتاب المدخل لابن الحاج لا سيما أواخر الجزء الثاني منه، وكذلك الإحياء والاعتصام، وقد بيَّن المنار بعضها وسيبين باقيها بالتدريج إن شاء الله تعالى (راجع باب البدع والخرافات) . أما الأستاذ الشيخ محمد عبده فلم يسلك طريق التصوف انخداعًا بحديث شداد ولا اهتداء به؛ وإنما قيض الله تعالى له رجلاً من أكابر الصالحين في أوائل توجهه إلى طلب العلم، فكلَّفه في أوقات الفراغ أن يقرأ له رسائل كانت عنده من شيخه ومربيه، فلما قرأ له عدة رسائل تأثر من هذه الرسائل لما فيها من تشديد النكير على المعرضين عن هدي الدين، فانشرح صدره لأن يكون ممن تسميهم هذه الرسائل (الإخوان) وسأل ذلك الصالح عن طريقهم فقال له هو الإسلام، فقال له أليس سائر هؤلاء الناس على الإسلام أيضًا فما هو امتياز إخوانكم إذن؟ فأجابه الصالح أن الإسلام ينهى عن الكذب وهؤلاء الناس يكذبون وإخواننا لا يكذبون، والإسلام يأمر بالأمانة وهؤلاء الناس قد فشت فيهم الخيانة وإخواننا لا يخونون، وهكذا صار يذكر له ما ينهى الإسلام عنه وما يأمر به ويذكر أدلة ذلك وأن إخوانهم ممتثلين له، فقال له ماذا أعمل لأكون مثل إخوانكم فأمره بثلاثة أشياء: (أحدها) أن يقرأ كل يوم جملة من القرآن مطالبًا نفسه بفهمها، وأن يراجعه فيما لا يفهمه و (ثانيها) أن يذكر الله تعالى في أوقات الفراغ مع حضور القلب بغير تقييد بعدد و (ثالثها) أن يتعلم كل علم أمكنه أن يتعلمه، وهكذا كان هذا هو التصوف الذي يعنيه السائل، فهذا ما ندعو إليه ونسأل الله تعالى أن يوفق جميع المسلمين له. وسيأتي الجواب عن بقية الأسئلة إن شاء الله تعالى، ونعتذر إلى السائلين الآخرين بتقديم هذه الأسئلة على أسئلتهم التي طال عليها الزمن بإلحاح هذا السائل، حتى أنه لم يكتف بما كتبه إلينا حتى نشر بعضه في مجلة الموسوعات الغراء، نعم إنه عهد إلينا بعد ذلك بأن لا نجيب عن أسئلته التي نراها في الجرائد؛ ولكن ما يُنشر لا بد أن يجاب عنه؛ لأنه تعلق به حق سائر القارئين.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (سياحة في غربي أوربا) سافر في العام الماضي إلى أوربا صديقنا الفاضل الوجيه العاقل عزتلو نسيم بك خلاط من أعيان طرابلس الشام، وكتب رحلة في ذلك سماها (سياحة في غربي أوربا) طُبعت في مطبعة المقتطف، وأهديت إلينا نسخة منها، وقد قرأنا منها جملة صالحة فألفيناها من أنفع ما كُتب في بابها، وأجلَّه فائدة. ذلك أن من الناس من لا يكتب إلا في وصف الظواهر التي يشاهدها، فإذا أحسن الوصف فهو كالمصور الذي لا يستطيع أن ينفخ الروح في الصورة التي يصورها، ومنهم من همه ذكر المعايب، وانتقاد المثالب، ومنهم المغرم بالإغراب، والإتيان بما يثير الدهشة والإعجاب، ومنهم المؤرخون الكاذبون الذين يفتنون الناس بالتحيز إلى قوم وجعل سيئاتهم حسنات، والتحامل على آخرين بإبراز حسناتهم في صور السيئات، وأفضل الكلام في التاريخ ما كان صدقًا لا كذب فيه ولا مبالغة، وكان مقرونًا بالتنبيه إلى وجوه العبرة باستحسان الحسن، واستقباح القبيح لذاتهما ومقارنة الحوادث بذكر الأسباب والنتائج، وهذه هي الخطة التي اختارها صديقنا في الكلام عن سياحته، فنحث على مطالعتها والاستفادة منها. *** (الجامعة) أتمت هذه المجلة الغراء السنة الثانية، وصدر الجزء الأول من السنة الثالثة طافحًا بالمقالات التاريخية والأدبية والمباحث العلمية والتهذيبية، وقد استقل بها محررها الفاضل فرح أفندي أنطون وجعلها شهرية، ورفع قيمة الاشتراك، فجعلها خمسين غرشًا أميريًّا في السنة، وكان أربعين غرشًا؛ لكنه زاد في مادة المجلة فجعلها تسع كراسات، ويليها كراسة القصص (الروايات) فصفحاتها بذلك بعدد صفحات المنار، فما جاء فيها من أنها (أرخص المجلات العربية) يصح بتأويل أنها من أرخصها، وذلك معهود مستعمل. وإننا نتمنى لصديقنا منشئها كمال التوفيق والنجاح، ولمجلته الرواج الذي تستحقه؛ لينتفع الناس بها، ويستمر هو على الكتابة والتأليف الذي خُلِق له؛ فإن من أعظم أسباب تأخرنا أن الذين استعدوا لأن تنتفع البلاد بأقلامهم لم تستعد البلاد لأن تنفعهم بها، وتغنيهم عن الاشتغال بغيرها؛ ولذلك ترك أكثرهم المحابر والأقلام واشتغلوا بتحصيل الرزق، وتركوا التأليف والتحرير للجاهلين الذين يفسدون بما يكتبون ولا يصلحون {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) . *** (المرأة) مجلة نسائية علمية فكاهية لحضرة منشئتها البارعة أنيسة عطا الله فعسى أن تصادف رواجًا؛ لتكون عونًا على انتشار العلم والأدب في النساء، فالعلم خير كله.

فضيلة صاحب مفتي الديار المصرية في الآستانة العلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فضيلة مفتي الديار المصرية في الآستانة العلية سافر صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في هذا الصيف إلى دار السعادة العلية، ولما ألقى مراسيه فيها بادر حالاً إلى قصر يلدز العامر، حيث مقام مولانا وسيدنا السلطان الأعظم أيده الله تعالى، وحينما أذن مولانا بحضوره أمر بتبليغه السلام، ثم انصرف الأستاذ من القصر بعد أن أقام مع عطوفة الباشكاتب السلطاني نحو ساعة، وبعد ذلك صدرت الإرادة السنية بأن يُعَدّ لفضيلته دار مخصوصة من أحسن دور الضيافة السلطانية على ما جاء في بعض الأجوبة من الآستانة ونشره المقطم الأغر، وورد في بعض الأخبار الخصوصية الموثوق بها أن صاحبة الدولة والعصمة والدة الجناب العالي أمرت بأن يُدْعَى أيضًا للنزول في قصر ببك، ثم أكد الخبرين معًا بعض الوجهاء الذين حضروا من عهد غير بعيد من هناك، وقال: إن الأستاذ أقام في قصر ببك يومين أو ثلاثة أيام، ثم عاد إلى دار الضيافة السلطانية؛ ولكن المكاتيب التي وردت من الأستاذ نفسه لم تذكر أمر الضيافة بالمرة. ومما ينبغي ذكره من غرائب ما في مصر من فساد الأخلاق والجراءة على مقام السلطنة فما دونه من المقامات الرفيعة - أن الذين لا عمل لهم إلا السعاية والتجسس والكذب على خليفتهم وسلطانهم أرسلوا إلى المابين الهمايوني، وإلى بعض الكبراء في الآستانة تقارير خلقوا فيها ما شاءوا من الإفك وقول الزور، يريدون بذلك أن يتوسلوا ليتوصلوا إلى التباعد بين الآستانة العلية ومصر؛ لأنهم يعلمون أن قول الأستاذ في مصر هو القول الفصل الذي يؤثر ويُعوِّل عليه جميع أهل الفضل من العلماء والوجهاء والموظفين، بل الذي لا يشك في صدقه أحد يعرفه. كتبوا ما كتبوا وليس لهم شيء يتوكؤون عليه، وقد اتفق أن سافر في السفينة التي سافر فيها الأستاذ المفتي صاحب المؤيد الفاضل، فكان رفيقًا له، وكان لهم في هذه المرافقة الاتفاقية القال والقيل لعلمهم بأن جريدة المؤيد أعظم الجرائد تأثيرًا في القطر المصري، وهي عمدة جميع مسلمي مصر في السياسة والأخبار، وقد خدمت الدولة العلية والحضرة الحميدية خدمة لها في القطر أعظم تأثير. ومما لا يعزب عن الذهن أن مفتي الديار المصرية وكبير العلماء فيها لا بد أن يزور صاحب أكبر منصب علمي إسلامي وهو شيخ الإسلام، وقد كان معه في زيارته له رفيقه، وأرسل هذا إلى جريدته ما دار بينهما من الحديث، ولا يتحدث هذان الإمامان الجليلان إلا في العلم والعلماء ووظائفهم، وقد نشرنا جواهر الحديث في المقالة الافتتاحية، ونقول هنا إن الجواسيس أعداء الدولة قد كتبوا بمناسبة ما ذكره المقطم من استياء العلماء من الحديث تقارير برقية وبريدية مزورة على العلماء في ذلك، ومن الناس من يقول إن بعض المتعممين المغرورين وافقهم على ذلك، وأنه هو الذي غش المقطم حتى كتب ما كتب، ولو أن العلماء استاءوا حقيقة لراجعوا في ذلك شيخهم الأكبر شيخ الأزهر وهو كان يكتب إلى الأستاذ المفتي بذلك، ويقال إن أجرة التقرير الذي أرسله فلان بك بلغت أجرته ثلاثة جنيهات، وقد اختلف من سمع ذلك في موضوع التقارير، ويقال إن في بعضها طلب أن يكذب صاحب الدولة والسماحة شيخ الإسلام الحديث الذي نُشر في المؤيد أو يرجع عنه! ! ! وعندنا أن بعض الجرائد هي التي هوَّلت الأمر، وأن شيخ الإسلام إذا علم أن بعض من ينتسب إلى العلم ينكر قوله وقول مفتي الديار المصرية، أو يستاء منه؛ فإنه لا يرجع إلا عن كلمة واحدة منه، وهي تسمية هؤلاء المستائين متفننين، ويستبدل بها لقب معتوهين، ومثل هؤلاء لا تلتفت الدولة إلى كلامهم، ولا تنفذ لهم رأيًا، ولا تجيب لهم طلبًا؛ لأنها بذلك تفتح على نفسها باب امتثال كلام من يجهل الزمان وما يستلزمه ويناسبه، وربما يُجرّئهم السماع لهم إلى طلب ما فيه خراب الدولة، وقد ذكرنا هذا ليتعجب العقلاء في سائر الأقطار من الخلل والخطل الموجود في مصر أصلحها الله تعالى وأصلح أهلها آمين.

تنبيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنبيه جاءنا من تونس أن السيد عمر بن مبروك الذي سأل عن المؤجل، ونشر سؤاله مع جواب المنار في الجزء الثامن (صفحة 304) ليس من أهل تونس نفسها؛ وإنما هو من أهل قرية من قرى الغرب، ولعله اغتر ببعض أصحاب العمائم المتطفلين على موائد العلم، فلم يجد عندهم ما يروي غليله، ولو كان من أهل تونس لسأل علماء جامع الزيتونة الأعظم الذين لا يعجز تلامذتهم عن إجابته بما يرفع عنه الحرج، ورأينا أن لا بد من هذا التنبيه حفظًا لكرامة أولئك العلماء الكرام.

إصلاح الطرق وأهلها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح الطرق وأهلها حضرنا في هذه الأيام مجلسين من مجالس أهل الجدّ والبحث في الشؤون الاجتماعية الإسلامية والإصلاح، وكان من أهم ما أطلنا البحث فيه عدة ساعات إصلاح طرق المتصوفة والانتفاع بها، فذهب فريق إلى أن لهذه الطرق مقامًا عليًّا في نفوس العامة، وتأثيرًا كبيرًا إذ تولى تدبيره رجال من أهل الاستقامة والفضل يمكنه أن يحدثوا انقلابًا عظيمًا في العالم الإسلامي، ومما استدل به على ذلك اهتمام الأوربيين بهذه الطرق ووضع المؤلفات الطويلة فيها، واستخدام فرنسا الطريقة التيجانية، وكونه لم يبق بين المسلمين في الأقطار البعيدة من الاتصال والارتباط إلا هذه الطرق، وقالوا: إن أمثل طريق للإصلاح أن تؤلف جمعية من أهل الفضل تُعِدّ الرجال المصلحين، وتسعى في جعلهم شيوخًا مسلكين. وذهب الفريق الآخر إلى أن جميع ما ينفرد به هؤلاء الناس عن سائر المسلمين في هذه الأزمنة فهو من البدع والخرافات، فإذا كان عمل المصلحين إبطال هذه البدع وإرجاعهم إلى أصل الدين فذلك إبطال للطرق بالمرة، وهو الإصلاح الحقيقي، وإن أقروهم عليها فلا إصلاح. ومما قاله كاتب هذه السطور: إن الخلاف في إمكان إصلاح الطرق وعدمه يرجع إلى أصلين عظيمين: أحدهما: كون الإنسان لا يعمل عملاً إلا إذا اعتقد عن بصيرة أنه حق وحسن ونافع ليكون عاملاً بإرادته المنبعثة عن علمه، وهذا أساس من الأسس التي قام عليها بناء الإسلام ولا يرتقي البشر إلا به. وثانيهما: الطاعة العمياء وكون الإنسان يعمل بإرادة غيره، وهذا هو الأساس الذي بُني عليه التصوف؛ لأنهم يشترطون أن لا تكون للمريد إرادة مع شيخه، وأن يكون معه كالميت بين يدي الغاسل، وأذكر من دليل الأول أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يراجعون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض القول الذي يخالف رأيهم فيقولون: أوحي يا رسول الله أم هو رأي لك - أو ما معناه - فإن أخبرهم أنه من عنده ذكروا ما عندهم من الرأي، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى رأيهم أحيانًا إذا ظهر أنه الصواب، وربما أيد الوحي رأي بعضهم على رأيه، كما في مسألة أسرى بدر، ومن حكمة ذلك أن يفرق الناس بين العبد والرب والمخلوق والخالق الذي لا يحيط علمًا بوجوه المنافع والمصالح غيره تعالى، فلا يعبدوا نبيهم ويعطوه بعض خصائص الألوهية. وقلت: إن الإصلاح الحقيقي هو البناء على الأساس الأول الذي ترتقي به الأمة، وإذا وُجد شيوخ عارفون بالدين وحكمه وأسراره، وتولوا مشيخة الطرق يمكنهم أن يرشدوا العوام، وإن اعتادوا على أن لا يخضعوا الخضوع التام إلا لمن يدَّعي الكرامات، ويموه عليهم بالأوهام والخزعبلات، وأما استخدام الطاعة العمياء والتسلط على إرادة العامة بدعوى الولاية والتصرف في الكون ونحو ذلك، فيمكن لمن يستخدم ذلك بعقل ودهاء أن يُحْدِث انقلابًا عظيمًا، ويؤثر تأثيرًا كبيرًا باسم الإسلام، كما فعلت جمعية الجزويت اليسوعية في النصرانية، وكما فعل كثيرون من المسلمين لكن بغير سياسة وحكمة، وآخر هؤلاء مهدي السودان ولكن هذا لا يكون إصلاحًا إسلاميًّا مبنيًّا على أساس الإسلام، وإن أمكن أن ينتفع به المسلمون من بعض الوجوه. ثم قال بعض العقلاء الاجتماعيين: إنكم لم تبينوا أيَّ إصلاح تريدون إن كنتم تريدون الإصلاح السياسي، فالبحث في محله، وإن كنتم تريدون الإصلاح الديني فلا سبيل إليه إلا بمحو هذه الطرق كلها؛ لأنها هي التي أدخلت الوثنية في الإسلام من عدة قرون، فهي لا تتفق معه مطلقًا على أن الروابط بين أهلها قد تقطعت، ولم يبق فيها طريقة يتصل بها بعض أهلها ببعض في كل بلد توجد فيه إلا اثنتان، الطريقة المولوية وهي محصورة في بلاد الدولة العلية وأهلها أبعد الناس عن السنة وسيرة السلف الصالح، والطريقة التيجانية في الغرب وهي التي صار زمامها في أيدي الفرنساويين حتى أنهم صاروا فيها شيوخًا مرشدين. وذكرنا السنوسيين أيضًا. وهذا بعض ما جرى في مجلس واحد، وقد جاءتنا في هذه الأيام رسالة من السودان في الطرق هناك، وفيها تفصيل خرافات شيخ الطريقة الإسماعيلية التي هي فرع من الطريقة المرغنية الختمية، ومنها أن صاحبها يدَّعي أن الله يكلمه ويعده، وكذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وسننشرها في المنار لتكون عبرة لمثل الشيخ أحمد الألفي الذي يُسَلِّم بكل ما عليه المنتسبون إلى الطريق، ويحتج على ذلك بتلقين النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة كلمة لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وظائف علماء الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وظائف علماء الدين إذا طالب عقلاء المسلمين وفضلاؤهم العلماء بالعمل وخدمة الأمة التي أشرفت على الانحلال بتوانيهم وإهمالهم، وعكوفهم على ما يرون أن فيه منفعتهم الشخصية - ينبري علماء السوء الذين سماهم الله تعالى ظالمي أنفسهم للطعن في المطالب قائلين: إنه أهان العلماء، وحاول إزالة سلطانهم ونفوذهم من نفوس العامة، كأنهم يرون أن غاية العلم وفائدته تعظيم العامة لهم وإكرامهم بالمال وغيره؛ ولكن الله ورسوله يشهدان على أن من يطلب العلم لهذه الغاية عدو لله مستحق لمقته وعقوبته. آيات القرآن التي تأمر بالإخلاص وابتغاء مرضاة الله تعالى وحده في كل أمر ديني كثيرة، وكذلك الأحاديث الصحيحة ومنها ما رواه أحمد ومسلم والنسائي أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (إن أول الناس يُقْضَى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأُتِي به فعرَّفه نعمته فعرفها [1] ، قال فما عملت فيها؟ قال قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت؛ ولكنك قاتلت ليقال جريء، فقد قيل ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن فأُتِي به فعرَّفه نعمته فعرفها، قال فماذا عملت فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وَسَّعَ الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي فعرفه نعمته، فقال ماذا عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت؛ ولكنك فعلته ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار) رواه غير هؤلاء الثلاثة بألفاظ أخرى، وفي حديث للحاكم مختصر أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (ثلاثة مهلكون عند الحساب جواد وشجاع وعالم) . فعلمنا من هذا أن العالم الذي غرضه من العلم السمعة، وأن يحترمه العوام ويكرموه هو من أهل النار، وإن كان عاملاً بعلمه ومفيدًا للناس؛ لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه الكريم، فما بالك إذا كان غير عامل ولا معلِّم، وكان يتخذ العلم أحبولة لصيد المال بالباطل، وحيلة لإضاعة الحقوق كبعض متفقهة الحنفية وقضاتهم الذين يتفقون مع المحامين الذين لا ذمة لهم ولا أمانة على إضاعة الحقوق، واقتسام الجعل على ذلك، هل يُعد هؤلاء الفجار من علماء الدين الذين يجب احترامهم وإكرامهم؟ كلا بل أولئك حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. لو كانوا من حزب الله وعلماء دينه لخافوه وخشوا منه، فقد قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ولا شك أن من يعرف الله يخافه تعظيمًا وإجلالاً، ويخافه حذرًا من عقوبته، ولو كان هؤلاء يخافون الله تعالى لما تمادوا في الظلم، وهو كما ورد ظلمات يوم القيامة وهو من الذنوب التي لا يغفرها الله تعالى، إلا أن يغفر المظلوم وأكثر المظلومين لا يغفرون لمن ظلمهم، وقد ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لمعاذ حين أرسله إلى اليمن (اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) فثبت بهذا أنهم لا يعرفون الله تعالى، ومن لا يعرف الله تعالى فهو أجهل الجاهلين، وإن حفظ الشرنبلالية والتتارخانية والولواجلجية وابن عابدين. علماء الدين هم الذين يقومون بحقوق الدين، ويؤدون وظائف العلم به فيكونون كالمطر حياة للبلاد وللعباد. روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير [2] ، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا [3] ، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ [4] ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلَّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) وهذا الحديث الصحيح بمعنى الآية الشريفة التي افتتحنا بها مقالة (علماء الدين) في الجزء الماضي، فالظالم لنفسه هناك هو المضروب له مثل الأرض القيعان التي لا ينتفع بها، وأما الذي يؤذي الناس بتعليمهم الحيل الفقهية التي يأكلون بها السحت ويهضمون الحقوق، فهو شر الأشرار ولم يذكر هنا ولا هناك؛ لأنه ليس من علماء الدين بالمرة، وقانا الله والناس من شره. ما هي وظائف علماء الدين؟ يقولون: هي حفظ علوم الدين مقاصدها ووسائلها وتعليمها للناس، وما الغرض من هذه العلوم إلا حفظ الدين ولغته العربية، وانتشارهما، فهل هما في هذه العصور محفوظان ومنتشران بسعي العلماء فنبرئهم من التقصير؟ بيَّنا في الجزء الماضي أن أكثر المسلمين غير عاملين بالدين على وجهه، وأقمنا على ذلك البرهان الذي لا ينقض، ونقول الآن في اللغة: إن الأزهر وهو أكبر مدرسة دينية في العالم لا يوجد بين هؤلاء الألوف من المدرسين والمتعلمين فيه عشرة نفر يفهمون كلام العرب، ويقدرون على الكلام العربي البليغ قولاً وكتابة، وإذا زعم المكابرون أن هذا القول غير صحيح فليعدوا لنا عشرة منهم يفهمون اللغة وينطقون بها ويكتبون وليبرزوهم للامتحان. يخرج في كل عام من المدارس الأميرية وغيرها مئات يحسنون التكلم بلغة أجنبية، ولا يخرج من الأزهر مجاور واحد يحسن اللغة العربية، فهل صار تحصيل لغة القرآن وهي أفصح اللغات وأعذبها متعذرًا، وتحصيل تلك اللغات التي سمتها العرب أعجمية تشبيهًا لأهلها بالعجماوات - كما قال بعض الأذكياء - سهلاً متيسرًا؟ كلا إن العربية ضاعت بفساد التعليم، بل بفقده فإن الاشتغال ببعض الكتب الفنية لذاتها والمحاورة في أساليبها الضعيفة الركيكة لا يوصل إلى اللغة؛ وإنما يعين على تحصيلها فهم القواعد مع الأمثلة والشواهد، إذا جيء إليها من طريقها، ودخل عليها من بابها، وهو مدارسة كلام أهلها وحفظ جملة صالحة منه مع الفهم كما بيَّناه في المنار مرارًا. وُجد في مصر عالم من علماء اللغة يُعَدُّ في طبقة الأئمة الحفاظ الذين وضعوا لها المعاجم، ودوَّنوا الدواوين وهو الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فلم يعرف له فضله أحد من علماء الأزهر ويرشد الناس إلى الانتفاع بعلمه إلا مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده وكان ينبغي لشيخ الأزهر أن يندبه لقراءة أشعار العرب وأراجيزهم في الأزهر، وقراءة بعض الكتب النافعة ككتاب سيبويه، وكتاب الكامل للمبرد، ويأمر العلماء ونجباء المجاورين بالتلقي عنه إذا كانوا يودون إحياء اللغة، ولا يحيا الدين إلا بحياة لغته؛ ولذلك أوجب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على كل مسلم أن يتعلمها كما في كتاب الأم، وأكثر علماء الأزهر شافعية. هذا كلام إجمالي في وظائف علماء الإسلام التي يُسَلِّم جميعهم بأنها مطلوبة منهم، ولو بسطناها بالتفصيل لاحتجنا إلى إعادة كثير مما كتبناه في مقالات سابقة، من ذلك أن الدعوة إلى الدين من أهم وظائف العلماء به، وقد كتبنا فيها مقالتين مسهبتين في الجزئين 20 و 21 من المجلد الثالث، ومنها المدافعة عن الدين وردّ الشبهات التي ترد عليه من المشتغلين بالعلوم الكونية، ومن أهل الأديان الأخرى، وهذه الوظيفة تستلزم أن يعرف علماء الدين جميع العلوم الكونية، لا سيما التي ساقت المسلمين طبيعة العمران إلى تعلمها كالرياضيات والطبيعيات والتاريخ بأنواعه والفلسفة، وإننا نرى الذين يتلقون هذه العلوم يقعون في شبهات تزلزل عقائدهم، ومنهم من يمرق من الدين مروق السهم من الرمية، وقد ابتلينا بمناظرة كثيرين منهم ووفقنا الله تعالى لإقناع بعضهم وإلزام بعض، ورأينا بعضهم يتألم ويتململ من الشبهات ويقولون إنهم طلبوا كشفها ممن يعرفون من علماء الدين، فمنهم من لم يفهم الشبهة؛ لأن فهمها يتوقف على معرفته بالعلم الذي تولدت منه، ومنهم من كان يكذِّب بها وينكرها بالمرة، بدعوى أن الذين قالوها أو اكتشفوها كفار فكان مثلهم كمثل ذلك القاضي الشرعي الذي استحل شرب نوع من الخمرة بناء على أن الذي اشتراها له روى عمن اشترى منه، وهذا روى عن صانعيها وكلهم كفار لا تُقْبَل روايتهم، ومنهم من كان يكتفي من الجواب بقوله: إن هذا كفر وإن كلام الدين وعلماء الدين أصدق من كلام الفلاسفة والكافرين، ونحن نقول: يستحيل الخلاف والتناقض بين الدين الإسلامي وما ثبت من العلوم الكونية، وقد بيَّنا هذا في مقالة الشريعة والطبيعة والحق والباطل، فلتراجع في المجلد الثاني (صفحة 641) . يبحث كُتَّابنا وكتاب أوربا في مستقبل الإسلام، وليس أمام المسلمين إلا أحد أمرين (1) الأخذ بأسباب القوة والثروة من طريق العلوم الكونية بباعث الدين، وعلى الوجه الذي يحفظ مجده، ولا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان زمام التعليم في أيدي علماء الدين، ولا يكون زمامه في أيديهم حتى يكونوا عارفين بهذه العلوم حق المعرفة مع الحكمة والسياسة وحسن التوسل للتوصل، و (2) الوقوع في أسر أوربا واستعبادها. البلاد الإسلامية على قسمين: بلاد فاض عليها سيل أوربا، وبلاد لمّا يأتيها السيل الجارف؛ وإنما أصاب بعضها رشاش منه ينذرهم بالطوفان العظيم (والسيل حرب للمكان العالي) ولذلك جرف الحكام قبل المحكومين وهم له كارهون، والناس تبع لرؤسائهم في الدين والدنيا، فإذا ذهب التيار برؤساء الدنيا، فالمطلوب من رؤساء الدين السعي في إنقاذهم وإنقاذ سائر الأمة؛ فإن أمراء المسلمين وحكامهم لم يبلغوا مبلغ حكام أوربا في نبذ الدين وراء ظهورهم، فهم في الغالب يعتقدون بحقيته ولا يرون سبيلاً لإقامة أحكامه؛ لأن العلماء لم يجلوها لهم على الوجه الذي ينطبق على مصالح البشر في هذا العصر، بل ظهر لهم عجز علماء المسلمين عن إقامة العدل وحفظ مصالح الناس في الأحكام الشخصية التي عُهدت إليهم في المحاكم الشرعية. فإذا استطاع العلماء في هذه البلاد أن يحولوا سيل العلوم والمدنية إلى المجاري الإسلامية، يتسنى لهم بعد ذلك أن يفيضوا منه على البلاد الأخرى، وهي تقبله سريعًا؛ لأنه جاء من قِبَل إخوانهم في الدين فيعم الإصلاح بوقت قريب، ألا ترى أن مسلمي الهند كانوا يخافون من هذه العلوم التي يستنشقون اليوم منها نسيم الحياة؛ لأنها جاءتهم على أيدي الإنكليز. ونقول في الختام: من وظائف علماء الدين نشر لغة الدين بجعلها لغة التخاطب، ولغة العلوم لتستغني الأمة بها عن اللغات الأجنبية إلا نفرًا يترجمون وينقلون، ومن وظائفهم الاستعداد للمدافعة عن الدين ومقاومة البدع ورد الشبه التي ترد عليه، ومن وظائفهم نشره والدعوة إليه، ومن وظائفهم تعميم تعليمه على الوجه الذي يرقي العقول والأرواح، ويرشد إلى سعادة الدارين، ومن وظائفهم التربية الدينية العملية التي تطبع ملكات الفضائل في النفوس، والأعمال تابعة للعقائد والملكات، فمتى صلحا بالتعليم الصحيح والتربية النافعة حسنت الأعمال وسعدت الأمة، ومن وظائفهم إزالة الخلاف في الدين وجمع كلمة المسلمين، ومن وظائفهم الاجتهاد في جعل جميع كتب التعليم من تأليفهم، كيلا يدخل فيها ما يزعزع الاعتقاد، أو يفسد الآداب، بل لتكون مزيد كمال في الإيمان، ومن وظائفهم القيام بجميع مصالح الأمة حتى الس

شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحية وحجج الإسلام على المسيحيين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات التاريخ على اليهودية والمسيحية وحجج الإسلام على المسيحيين نبذة رابعة ذكرنا في النبذ الماضية أن عقائد المسيحيين التي هم عليها من عهد بعيد مأخوذة من عقائد الوثنيين، وقلنا: إن الكتب التي يُسمَّى مجموعها عند اليهود والنصارى التوراة، ليست هي التوراة التي شهد لها القرآن الشريف؛ وإنما توراة القرآن هي الأحكام التي جاء بها موسى عليه السلام وتوجد فيما عدا سفر التكوين من الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى، وفيها تاريخه وذكر وفاته، وبيَّنا أنه لا سبيل إلى هروب أهل الكتاب من اعتراض الفلاسفة والعلماء والمؤرخين على كتبهم إلا بالاتفاق مع المسلمين على هذا الاعتقاد. ونذكر الآن كلام بعض فلاسفة فرنسا في الطعن بالديانتين اليهودية والنصرانية، وكتبهما نقلاً عن كتاب (علم الدين) الذي ألَّفَه الخالد الذكر علي باشا مبارك ناظر المعارف سابقًا، قال في المسامرة الرابعة والتسعين حكاية عن الإنكليزي الناقل كلام الفيلسوف الفرنساوي بعد كلام، ما نصه: (ويقول: إن التوراة كتاب مؤلَّف وليس من الكتب السماوية متكئًا في ذلك على قول ماري أغسطس: إنه لا يصح بقاء الإصحاحات الثلاثة الأولى على ما هي عليه، وعلى قول أويجين بأن ما في التوراة مما يتعلق بخلق العالم أمور خرافية بدليل أن كلمة (بَرَّاه) العبرانية وهي بفتح الباء وتشديد الراء وسكون الهاء معناه رتب ونظم، ولا يرتب أحد شيئًا وينظمه إلا إذا كان موجودًا من قبل، فاستعمال هذه الكلمة في خلق العالم يقتضي أن مادة العالم كانت موجودة من قبل، فتكون أزلية ويكون ملازمها وهو الزمان والمكان أزليين، وحيث إنهم قالوا: إن المادة ذات حياة، فتكون الروح أيضًا أزلية؛ لأنها هي التي بها الحياة، وبما أن المادة هي النور والحرارة والقوة والحركة والجذب والقوانين والتوازن، فتكون الحياة والمادة كالشيء الواحد لا يمكن انفصالهما وجميع ذلك يخالف ما في التوراة. ويقول أيضًا: إن الستة الأيام التي ذكرها موسى لخلق العالم هي الأزمان الستة التي ذكرها الهنود، والجنبهارات الستة التي ذكرها زروطشت للمجوس، وأن الفردوس الذي كان فيه آدم إنما هو بستان الهيسبرويو الذي كان يخفره التنين، وأن آدم هو آديمو المذكور في أزورويدام، وأن نوحًا وأهله هو الملك دوقاليون وزوجته بيرا وهكذا. ويبالغ في القدح في التوراة، ويقول: إنها مبتدأة بقتل الأخ أخاه، واغتصاب الفروج وتزوج ذوي الأرحام - بل البهائم - وذكر النهب والسلب والقتل والزناء ونحو ذلك من الأمور التي لا يليق أن تنسب لمن اصطفاه الله تعالى وجعله أمينًا على أسراره الإلهية، فانظر إلى اجتراء هذا الرجل على نبي الله موسى عليه السلام، وعلى كتاب الله التوراة، مع أن التوراة هي أساس الإنجيل، فما يقال فيها يقال في الإنجيل [1] ؛ ولذلك يقولون: إن رسالة عيسى قد نبَّهت عليها اليهود من قبل بقولهم إنه سيجيء إليهم مسيح، وكلمة مسيح ككلمة مسايس، ومسايس لقب شريف باللغة العبرانية، وقد لُقِّب به إشعيا كيروس ملك الفرس كما في الإصحاح الخامس والخمسين، ولُقِّب به حزقيال النبي ملك مدينة صور، ومع ذلك فلم يلتفت هذا الرجل إلى شيء من ذلك فقال ما قال. ومن اعتقادات النصارى أيضًا أن الله تجسد في صورة عيسى، وأنه هو الإله وليسوا أول قائل بهذا التجسد، بل قيل قبلهم في جزاكا وبرهمة بقدس الهند وقيل في ويشنو أنه تجسد خمسمائة مرة، وقال سكان البيرو من أمريكا أن الإله الحق تجسد في إلههم أودين، وإن ولادة عيسى من بكر بتول فتح روح القدس يشبه قول أهل الصين أن إلههم فُوَيْه ولدته بنت بكر حملت به من أشعة الشمس، وكان المصريون يعتقدون أن أوزوريس ولد من غير مباشرة أحد لأمه. وقول النصارى: إن عيسى مات ودفن، ثم بُعِثَ ورُفِعَ إلى السماء حيًّا، قال بمثله قبلهم المصريون في أوزوريس المصري، وفي أورنيس من أهالي فينكيه وفي أوتيس من أهالي فريجيه، إلا أنهم لم يقولوا برفعه إلى السماء، وكما قيل إن أودين كان قد بذل نفسه وقتلها باختياره بأن رمى نفسه في نار عظيمة حتى احترق، وفعل ذلك لأجل نجاة عباده وأحزابه، فكذلك النصارى يعتقدون أن حلول الإله في عيسى وإرساله وموته إنما كان لأجل فداء الجنس البشري وتخليصه من ذنب الخطيئة الأولى، خطيئة آدم وحواء، وأما إدريس النبي قد رفع إلى السماء بدون أن تكفر عنه الخطيئة، ولا شك أن هذا خرافة، ولهم كلام كثير من هذا القبيل يطول شرحه، ولا فائدة في ذكره) اهـ. (المنار) لهذه الشبهات بل الحجج على عقائد المسيحيين واليهود ترك علماء أوربا الدين المسيحي، فبعضهم صرح بتركه، بل وبعض حكوماتهم؛ فإن الحكومة الفرنسوية أعلنت إعلانًا رسميًّا بأنه لا دين لها، وطاردت رجال الدين واضطهدتهم، ومن بقي يتظاهر بالدين من عظمائهم فإنما هو لأجل السياسة، ولذلك ترى الفلاسفة والعلماء الذين يعبأون بالسياسة يصرِّحون بعدم الاعتقاد بالوحي مع اعتقادهم بأن الدين ضروري للبشر؛ ولكنهم لم يجدوا في الدين الذي عندهم غناء، ودين الفطرة محجوب عنهم؛ فإنهم ترجموا القرآن الكريم ترجمة فاسدة لم يفهموا منها حقيقة الإسلام، أذكر من ترجمة إنكليزية قول المترجم لسورة العصر (إن الإنسان يكون بعد الظهر بثلاث ساعات رديئًا أو قبيحًا) ولو فهم فلاسفة أوربا هذه السورة لجزموا بأنها على اختصارها تغني عن جميع ما يعرفون من كتب سائر الأديان، وهو مفهوم في الجملة لمن له أدنى إلمام باللغة العربية وهي {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) . إذ يعلم أن المراد بصيغة القسم التأكيد، ويعلم أن المراد بالإنسان الجنس، وأن الصالحات ما يصلح بها حال الإنسان في روحه وجسده في أفراده ومجموعه، وأن التواصي بالحق هو من التعاون على الأخذ به والثبات عليه، وأن الحق هو الشيء الثابت المتحقق، وثبوت كل شيء بحسبه، وأن الصبر يشمل الصبر عن الشيء القبيح كالمعاصي والشهوات الضارة، والصبر في الشيء الذي يشق احتماله كالمدافعة عن الحق والمصائب. كان أهل روسيا وأهل أسبانيا أشد أهل أوربا تمسكًا بالمسيحية، ثم ظهر أخيرًا من اضطهاد الإسبانيين لرجال الدين ما طيَّر خبره البرق إلى جميع الأقطار، واشتغلت به الجرائد في جميع البلاد، ولما قام الفيلسوف تولستوي الروسي يفند تعاليم الكنيسة الأرثوذكسية، ويبين بطلان الديانة المسيحية - انتصر له المتعلمون للعلوم والفنون حتى تلامذة المدارس وتلميذاتها، فهذا هو شأن الديانة المسيحية كلما ازداد المرء علمًا ازداد عنها بعدًا؛ وإنما كانت أوربا مسيحية أيام كانت في ظلمات الجهل والغباوة، وبعكسها الديانة الإسلامية هي حليفة العلوم، وقد كانت أمتها في عصور المدنية والعلم أشد تمسكًا بالدين، وصارت تبعد عن الدين كلما بعدت عن العلم. أما الآن فإننا لا ننكر أن بعض المتعلمين على الطريقة الأوربية قد وقعوا في بعض الشبهات، وبعضهم أنكر الدين تبعًا للأوربيين الذين أخذ عنهم؛ ولكن السبب في هذا أنه لم يعرف الإسلام ولم يتعلمه قبل العلم الأوربي ولا بعده، ولهذا نطالب علماء ديننا بأن يجتهدوا في جعل زمام تعليم العلوم الكونية بأيديهم؛ لأننا نثق أتم الثقة بأنه لا يمكن أن يرجع عن الإسلام من عرفه، وكيف يختار الظلمة من عاش في النور، وإن لنا لَعودة إلى الموضوع إن شاء الله تعالى. يتصل الكلام ((يتبع بمقال تالٍ))

لائحة الفقه الإسلامي

الكاتب: ع. ز

_ لائحة الفقه الإسلامي لحضرة العالم الفاضل صاحب التوقيع (تابع ما قبله) كلام صديقي يحتاج الجواب عن كلام صديقي إلى إفراد مندرجاته فهو ينحصر في هذه المسائل: (1) لا بد لكل أمة متمدنة من قانون جامع لجزئيات الحوادث. (2) الإسلام جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية إلا أن ما جاء به قواعد كلية. (3) الإحاطة بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل مع إرجاعها إلى تلك القواعد. (4) علماؤنا فعلوا ما يجب عليهم من هذا القبيل، وأحاطوا بكثير من الجزئيات التي دعت إليها حاجة كل عصر إلا ما فاتهم من تحديد بعض العقوبات، وترتيب المحاكمات والتفريق بين الحقوق العمومية والحقوق الشخصية تفريقًا يتعين معه الاختصاص بالدعاوى العمومية التي كان القضاة فيها خصمًا وحكمًا في آن واحد. (5) علماؤنا برعوا في علم الحقوق إلى حد جعل هذا العلم عند المسلمين يكاد لا يترك صغيرة ولا كبيرة من الجزئيات إلا أحصاها إلا أنه مشوش بكثرة ما اختلفوا فيه حتى في المسألة الواحدة. (6) سبب هذا الاختلاف انفراد الآحاد بالتشريع - أي التفريع - بحيث يجوِّز الواحد منهم ما يمنعه الآخر وبالعكس. (7) سبب هذا الانفراد التساهل من المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى يتناولها من شاء ومن ليس بمعصوم من الأفراد؛ وذلك لم تفعله أمة متمدنة من قبل. (8) لو فهم المسلمون منذ استفحل أمرهم واشتدت للقوانين الجامعة حاجتهم معنى ما يسمى عند علمائهم الإجماع لاستفادوا منه إلى الآن فوائد كثيرة، ولما تركوا أمر القوانين فوضى لا يعتمد فيه إلا على قال فلان، وأفتى أهل الفضل ولكانوا عهدوا بتفريع الأحكام واستنباطها إلى جماعات من أهل الفضل والاجتهاد ينوبون عنهم عند مسيس الحاجة في تطبيق الأحكام على الحوادث في كل زمان ومكان. (9) لما لم يفهموا هذه القاعدة، وأغفلوا العناية والنظر بأمر القوانين كان وضع الأئمة والعلماء لعلم الفروع الذي قلت عنه إنه مجموع قوانين لازمًا. (10) تسليم سلطة التشريع لجمع لا لآحاد ليس فيه من حرج أو مانع يمنعه من الدين، والذي سوَّغ للفرد أن يضع أو يستنبط ما شاء من الأحكام التي تمس إليها الحاجة يسوغ للجمع كذلك وهو الأحوط أيضًا في الدين والدنيا. (11) اعترف حفظه الله بأن هذا الخلاف الذي شوَّش نظام المعاملات بين الأمة يكاد يجعل علم الفروع في المرتبة التي ذكرت. (12) وأنكر قولي إنه ليس من علوم الدين؛ وإنما هو مجموع قوانين وضعها المتقدمون، قال بل رأيي أنه من علوم الدين باعتبار أنه مستند إلى أصول عامة في الدين، وأنه قانون باعتبار أنه داخل تحت حكم الرأي والقياس والاجتهاد، أو هو نتيجة تطبيق الأحكام على حوادث حدثت بعدُ للمسلمين، وروعيت في وضعها أصول الدين. (13) مسوغ الاجتهاد ميسر لكل عالم من علماء الشريعة بلغ مرتبة الكفاءة غير محظور عليهم في عصر من العصور. (14) العلماء بين أمرين، إما أن يعتبروا أن كل ما حرره الأئمة وقرروه من الدين، فيلزمهم في هذه الحال التسليم بما حرره جميعهم من الأحكام، ويلزم من هذا جواز انتفاء الأحكام الموافقة لحالة العصر من كتب المذاهب وتدوينها في كتاب خاص ليس فيه أدنى شائبة من مثارات الخلاف؛ ليكون شبه بقانون عام شامل لسائر حاجات الاجتماع يعمل به المسلمون على اختلاف مذاهبهم، وإما أن لا يعتبروا ما حرره الأئمة من الدين، بل يعتبرونه رأيًا أداهم إليه الاجتهاد، وأن هذا هو علة اختلافهم في الأحكام منعًا وإيجابًا بحيث يجوِّز الواحد ما يمنعه الآخر، وفي هذه الحال يجوز لهم الاجتهاد كما جاز لغيرهم، فيتفق جميعهم على جعل علم الفروع علمًا نافعًا في هذا العصر مراعى فيه جانب الحاجة مضافًا إليه ما فات المتقدمين من التوسع في مناحي أخرى أصبح التوسع فيها الآن من ضروريات الحياة الاجتماعية. جوابي الذي يراني متصديًا للجواب يظن أنني أقصد ردًّا على صديقي الفاضل وليس كذلك، بل ليس في مقدماته ما يرد غير أن النتيجة الحسنة التي أشار إليها لا نحصل عليها، وعلم الفروع الحاضر هذا حاله من التشويش الذي اعترف به، وهذا حال كل فريق منا من تقديس ما ينتسب إليه، واعتبار كل ما جاء تحت اسمه من عند الله عز وجل، على أن الجواب على الإفراد يزيد المسألة وضوحًا، وإن لم يقصد به رد وهذا هو: ج (1 - 2 - 3) ما جاء في هذه الأرقام مسلَّم ما أنكرته ولا أنكره، أما كون كل أمة متمدنة لا بد لها من قانون جامع لجزئيات الحوادث، فيكاد أن يكون من العلوم الضرورية، بل الأمم البدوية أيضًا لا تستغني عن قانون يجمع لها جزئيات الحوادث بحسب حاجاتها، وإنا لنعلم بالاختبار أن هؤلاء الأعراب الضاربين في مهامه الشام والعراق لهم قضاة يدعون واحدهم بالعارفة [*] يقضي بينهم بأحكام يتداولونها، ويسمُّون معلوماتهم في الأقضية بشرع العرب ولم يفتهم النصيب من عقولهم وذواكرهم لمَّا عدموا النصيب من الكتابة والتدوين، وجزئيات الحوادث في كل أمة تكون بحسبها من المعيشة والعادة والعقيدة، ومهما كانت الأمم من الجاهلية لا تلبث متى رمت بالقدم الأولى في ميدان المدنية أن تصطلح على قانون يوحدها مَثِّل لهذا بأمة الرومان، ثم أصول الأمم الأوربية الموجودة، ثم مَثِّل بالعرب بعد أن كثرت فتوحاتهم واشتدت لوسائل العمران حاجاتهم ودخل في حوزتهم أمم شتى، كانت ذوي صناعات وزراعات وتجارات ولهم قوانين قديمة وعادات راسخة، وبالجملة إن التشريع في الأمم ضروري؛ ولكن الناس يتفاضلون فيه فمنه الصالح والأصلح وضدهما. وأما كون الإسلام جاء بأسمى ما تتطلبه الحاجة المدنية، فهو من أجزاء معتقدنا ومتممات إيماننا، ما جاء به الإسلام قواعد كلية، والإحاطة بالجزئيات موكولة إلى أفهام رجال العلم والعقل مع إرجاعها إلى تلك القواعد، والاختلافات إنما نشأت من الأفهام وهي اختلافات عظيمة، فإذا فرضنا مائة قول في مسألة ما - وهو فرض له تحقق - فالمصيب منها واحد والمخطئ 99 حُرِمُوا من العقائد الكلية التي يرجع إليها كل واحد بما قال، كما حُرم أصحاب المذاهب في العقائد الإسلامية من القواعد التي هي أصول، ثم هل نستطيع أن نبرهن أمام مناظر أجنبي على أن العقل الإنساني السليم لا يمكن أن يحيط خبرًا بتلك القواعد المعدودة إلا أن يسمعها؟ ج (4، 5) مما تقدم يُعلم الجواب عما جاء في (4، 5) فإنا قبلنا أن التشريع الضروري للأمم، وكل أمة قد خلت لها حديث في الآخرين يتلونه مستبصرين، وعلماؤنا الذين أشار إليهم إنما هم كالذين خلوا، فلئن قلنا إنهم سدوا حاجة زمانهم فما نحن بملومين إذا قلنا إن ما نقدسه اليوم هي مجموع كتاباتهم التي اقتضتها عصورهم، وطابقت عقول معاصريهم من الحكومات والرعايا كيف كان الحال، أما كونهم برعوا بذكر الجزئيات فلاتخاذ الكثيرين هذه الصناعة ديدنًا في كل عصر ومصر، ووقع مثل هذا لكل أمة متحضرة، وإن أدري هل أغنتهم براعتهم تلك عن ذلك الاختلاف المشوش، أم كان نصيبهم منها نصيب من كان قبلهم ممن أوتوا الجدل، وحرموا العمل، نصيب أولئك الذين كانوا يتجادلون بالمذهب في القسطنطينية والفاتح على أسوارها؟ ج (6 - 7 - 8) قال حفظه الله: إن سبب هذا الاختلاف انفراد الآحاد بالتشريع وسبب هذا الانفراد تساهل المسلمين في ترك سلطة التشريع فوضى يتناولها من شاء، وأقول: إن القوم لا يزعمون أن كل ما كتبوه هو من عند الله يجب التسليم به والاعتماد عليه، وأن هؤلاء الكتاب لم يحدثوا شيئًا من عند أنفسهم، والمسلمون الذين عزي إليهم التساهل لم يكن لهم شيء من الأمر في العلم حتى يكون لهم صوت في التشريع، وها أنا ذا أذكر للصديق أعزه الله سبب ذلك الانفراد أو سبب تساهل المسلمين: المسلمون ليسوا شعبًا واحدًا، وليسوا على سنن واحد في النحلة والعادات، المسلمون بما تحيزوا للدول صاروا شيعًا في الآراء السياسية، ثم بما تحيزوا للرؤساء في الدين صاروا شيعًا في الآراء العلمية والمذاهب الدينية، ثم بما تحيزوا للجنس صاروا شيعًا في المشارب والمعايش. لم يمض الثلث من القرن الأول على المسلمين حتى كفَّر بعضهم بعضًا، فتحاربوا وتحازبوا وتخاذلوا إلى أن انقسموا إلى ثلاثٍ: فئتان تشايع كل منهما رئيسًا كبيرًا، وأخرى خارجة عن دائرتهما ناقمة عليهما حاليهما، ولم يمض الثلث الثاني حتى انقلبت دعوتهم إلى الدين وتهذيب النفوس دعوة إلى الملك والاستئثار وتوسيع أبهة الملك وجعله منحصرًا في أسرة يُحْدِث أفرادها ما شاءوا أن يُحْدِثوا، ولم يمض الثلث الثالث حتى تكاملت أصول الشيع وتلاحقت فروعها وأينعت ثمراتها، وأَحدَث في الدين من أَحدَث، واخترع مَن اخترع، فاختلفوا في القراءات، فتعددت أشكالها وتعارضوا في الروايات، فتناقضت أحكامها، وتباينوا بالفهم من النصوص، فضاعت ثمراتها وتجادلوا في الفهوم فذهبت غاياتها، عقائد متباينة وعبادات مختلفة وأقضية مضطربة وضمائر متباغضة، فأين الإجماع؟ أي أخي، أفليس هذا هو أمرنا في ذلك القرن الأول الذي عليه مدار فخرنا وإليه يُرَدُّ أصل مجدنا، وفيه اتسع سلطان حكمنا، وعلا منار ديننا، دع عنك زمن الخليفتين، وقل لي متى كان الإجماع وكيف يجمع قوم حالهم ما ذكرناه آنفًا، وأي المسلمين مطالبون أن يفهموا معنى ذلك الإجماع، أأعرابهم الضاربون في بطون الأودية وظهور الجبال، أم أمصارهم المؤلفة من أبناء الروم والفرس والقبط، وقليل من أبناء الأجناد؟ من المطالب منهم بالتشريع؟ أولاة أمورهم وهم من علمت بين لاهٍ فرح بالنعمة الجديدة التي ورثوها، وبين نشيط حازم مشتغل بتسكين تلك الفتن المعهودة، أم الرواة الذين لم يكن أكثرهم يعلم أكثر من النقل والحكاية؟ هذا ما ترك أمر التشريع فوضى، فبدؤوا في ابتداء القرن الثاني يكتب كل واحد ما ألقى إليه أستاذه، وكثرت فنون الاختلاف وضروب التعارض، واستُعملت التَّقية فجاءت المذاهب على كثرتها وتعارضها مضاهية لأديان مختلفة؛ حتى ألغى أكثرها الزمان الذي جاء فيه حكومات أخذت بما دوَّنه قوم، وأعرضت عن الآخرين فالحكومات هي بالفعل حصرت الميدان وغلَّقت الأبواب، والمتمذهبون اتبعوا فعل الحكومات بالقول بأن باب الاجتهاد مسدود، على أنهم نزعوا إلى نقب السدود التي أقيمت، فاستعملوا معاول الاصطلاحات والفرض والتقديم، كفرضهم إذا تترس قوم بنبي - مع اعتقادهم واعتقادنا أن لا نبي بعد محمد عليه السلام - فنقلوا بالمذهب الواحد روايات متعددة عن أئمته في المسألة الواحدة حتى أعادوا المذهب الواحد مذاهب، فأوصلوها إلينا كما هي أمام عين الناقد البصير. هذا هو الحال إجمالاً وكل مطالع في تاريخ الإسلام يعلم أن كل طائفة من بلادهم شاع فيها المذهب الذي هويته نفوس حكامهم الأول، فهل يرجى بعد تحكم تلك المذاهب في كل ناحية لفت الناس عنها، وإن كان لا يرجى فهل يقال إن بقاء هذا الحال غير مخل بالفائدة ومضر؟ ج (9) يُعلم الجواب عما جاء في (9) من الجواب على (4 و5) ج (10، 11، 12، 13، 14) أوافق في كل ما جاء في هذه الأرقام صديقي الفاضل، وأضم صوتي إلى صوته؛ ولكن هل يساعدنا علم الفروع المدون الحاضر على القول بهذه الأقوال، وإن لم يساعد فمن المخاطب أن يقوم للمسلمين بهذه الخدمة الجليلة، وإلى متى نقول بلا عمل؟ ها نحن أولاء بهذه المناسبة نقترح على المنار الأنور أن يفتح بابًا لهذا الموضوع الجليل يقبل فيه اللوائح التي ترد إليه في كل باب من أبواب الفروع بع

الأسئلة الدينية وأجوبتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة الدينية وأجوبتها تتمة أسئلة الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ (3) ومنه: ما حكم من يستغيث ويستمد من النبي صلى الله عليه وسلم وأولياء أمته شيئًا مما يجوز سؤاله شرعًا من أمور الدنيا والآخرة معتقدًا أن نسبة ذلك إليهم إنما هو على سبيل المجاز وهو سبب عادي لهم، فإن شاء الله أجاز شفاعتهم وإلا ردها، وليس لهم سلطة غيبية فيما وراء الأسباب، وأنه لا يعبد غير الله تعالى ولا تأثير لمخلوق في أثر ما لكن لما كان من الجائز وقوع الكرامات للأولياء الكرام، فلا مانع من أن يطلعهم الله بالكشف على حاجة من يستمدهم فيقضونها بالذات، أو بواسطة ملك من الملائكة إن أذن الله لهم بذلك، ولا يعظّم وليًّا أو نبيًّا يخرجه عن العبودية مطلقًا، هل يعد هذا الاعتقاد شركًا بالله تعالى ومروقًا من الإسلام؟ أم حرامًا؟ أم مكروهًا؟ أم جائزًا كما نعتقده اهـ بحروفه. (ج) السؤال ظاهر التناقض والتعارض، والمفهوم منه بقرينة ما هو معروف من أعمال العامة، واعتقاداتهم أنه يريد السؤال عن مشروعية طلب قضاء الحاجات الدنيوية والأخروية من الأنبياء والأولياء بعد موتهم، وقال: إن هذا سبب عادي لهم، ثم ذكر أنه رأي مبني على جواز وقوع الكرامات، والمعروف في علم الكلام أن الكرامات من خوارق العادات، أي ليست من الأسباب العادية وهذا هو التناقض. أما هذا الطلب فهو من البدع التي لم تُعرف في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا في عهد الخلفاء الراشدين الذين أمر عليه الصلاة والسلام باتِّباع سنته وسنتهم وحذر مما يحدث بعد ذلك، وقد أخبر الله تعالى في كتابه بأنه أكمل الدين، ونحن نعتقد أنه لم يعمل به على كماله أحد مثل الصحابة الكرام، فلو لم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على أن لا ندعو مع الله أحدًا ولا نطلب ما نعجز عنه من حاجاتنا إلا من الله تعالى وحده لكان الأخذ بسنة الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام كافيًا في أن لا نزيد في الدين شيئًا، فيسعنا ما وسعهم، ومن يزعم أنه ورد عنهم شيء يحتج به في طلب قضاء الحاجات من الأموات أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته، فليبينه لنا لنهتدي به، أما أدلة المنع فسنشير إليها في جواب السؤال (5) . هذه المسألة من المسائل الاعتقادية، وهي فرع مسألة الواسطة الآتية، والخطأ في العقائد كفر في الغالب بخلاف الخطأ في الفقه فإنه خطأ يغفر؛ ولذلك كان الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ينهى عن الخوض في علم الكلام ويقول: لأن يقال أخطأت خير من أن يقال كفرت، وأقول على فرض أن هذا الطلب جائز كما يعتقد السائل: أليس من الاحتياط في الدين ترك هذا الجائز خوفًا من خطر الخطأ في الاعتقاد على ما يعتقده غيره؟ قال المنجم والطبيب كلاهما ... لا تبعث الأموات قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما *** (5) ومنه ما هو الفرق بين مذهب الوهابية، ومذهب ابن تيمية وحضرة صاحب المنار وغيرهما سلفًا وخلفًا في الواسطة؟ وهل قام صاحب نحلة أو مذهب جديد من الخوارج أو الوهابية أو البابية لا يتخذ الكتاب والسنة عمدته في الاحتجاج سترًا لمبادئه التي يدعيها؟ وما قول حضرته في كتاب إعجاز المسيح في التفسير الصحيح الذي ظهر اليوم لمن يدَّعي المهدوية بالهند في تفسير فاتحة الكتاب، وجعله الدليل على صحة دعواه عجز الإنس والجن عن عمل تفسير كتفسيره في مدى قصير كالمدى الذي عمل فيه هذا التفسير هل مصيب؟ أم مخطئ فيما يدَّعيه اهـ. بحروفه. (ج) مذهب السلف والخلف في الإسلام أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الواسطة بين الله تعالى وبين عباده في تبليغ دينه لقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48) وقوله عز وجل: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وغير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة بصيغة النفي والإثبات ككلمة التوحيد، وأنه لا واسطة بين الله تعالى وعباده في غير تبليغ دينه من نحو قضاء حاجة سلبية كالشفاء من مرض، أو وقوعية كسعة الرزق أو هداية، والدليل على هذا الآيات الواردة بصيغة الحصر وهي كثيرة جدًّا - كما قلنا - والبراهين العقلية القاطعة بأن الله تعالى غني عن المساعدة والوزير والمعين؛ لأنه على كل شيء قدير لا يحتاج إلى من يعطفه على عباده لأنه أرحم الراحمين، فرحمته ورأفته لا تقبل الزيادة لأنها في نهاية الكمال، وقد سبق علمه بكل شيء فلا يمكن أن يغيره أو يزيد فيه أحد، ولا نطيل في سرد الأدلة؛ لأننا كتبنا فيها مرارًا وأوردنا الآيات والأحاديث الصحيحة فيها وأوَّل سؤال ورد علينا فيها نشر في العدد الرابع من المجلد الأول، وأوضح ما كتبناه فيها هو الدرس الثامن من الأمالي الدينية فليراجع في الصفحة 630 من المجلد الثاني. أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فكان من أنصار السنة وأكابر حفاظها والداعين إليها، والآمرين بما عرَّفته والناهين عما أنكرته في زمن ترك المسلمون فيه الدعوة إلى دينهم بالمرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الغالب، وقد ألف في البدع والضلالات التي رآها فاشية رسائل نفيسة يؤيد فيها السنة ومذهب السلف، ويدحض شبه أهل البدع، ومنها رسالة مخصوصة في الواسطة طُبعت من عهد قريب في مطبعة المؤيد، فعلى السائل أن يطالعها، وأما الوهابية، فالذي علمناه عنهم أنهم يعتقدون في هذه المسألة اعتقاد السلف أيضًا، وسنذكر في فرصة أخرى شيئًا من تاريخهم وما قيل فيهم. ومن عجيب القول قول هذا السائل: وهل قام صاحب نحلة ... إلخ؛ فإننا لا نجد له وجهًا صحيحًا فهل يقول صاحبه أن المبتدعة هم الذين اتخذوا الكتاب والسنة عمدتهم دون أهل الحق، فيجب أن نخالفهم بترك الاعتماد على الكتاب والسنة؟ هذا هو ظاهر العبارة وهو أمر بترك الإسلام واتباع الأوهام لا يرضاه السائل ولا يريده ولعل مراده أننا لا ينبغي لنا أن نأخذ بقول كل من يدعي الاعتماد على الكتاب والسنة؛ لأن المبتدعة يشاركون أهل الحق في هذه الدعوى. ويرد عليه ههنا سؤال وهو: أن المذاهب في الأصول والفروع كثيرة، وكل أهل مذهب يدعون الاعتماد على الكتاب والسنة، فبم نعرف المحق من المبطل؟ وكيف نميز بين الحق والباطل؟ إن قال نعرف ذلك بتمحيص الأدلة والتمييز بين الحجة والشبهة، فهذا هو الاجتهاد الذي يفر منه وينكر على من يقول به، وإن قال نقلد من كان أكثر تابعًا، نقول (أولاً) إن كثرة المتبعين لا تدل على أن الحق في جانب من اتبعوه لا سيما إذا كانوا مقلدين يأخذون بقول صاحب المذهب من غير معرفة دليله، وكيف يقوى الحق بمن لا يعرف الحق؟ هذا وإن أكثر الناس كافرون {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116) وإن كانوا من المؤمنين بالله لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) و (ثانيًا) أن الأئمة الذين يذكرهم في السؤال الآتي لم يكن لهم في عصرهم إلا القليل من المتبعين فإذا كان الحق يُعرف بكثرتهم فكيف عُرف يومئذ فإن كان عند السائل جواب على هذا فليكتب به إلينا، وإلا فليرجع إلى مقالات المصلح والمقلد ففيها البيان الكافي لقوم يعقلون. وليعلم أن البابية ليسوا أصحاب مذهب جديد في الإسلام كما يتوهم، بل هم أصحاب دين جديد وشريعة جديدة، ويحتجون على المسلمين بتأويل بعض الآيات والأحاديث على طريق تأويل الصوفية كما يحتجون على اليهود والنصارى من كتبهم، ودينهم أقرب إلى دين النصرانية منه إلى غيره؛ فإنهم يعتقدون أن البهاء المدفون في عكا هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام ... إلخ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) . وأما كتاب إعجاز المسيح فقد تصفحته بعد الابتداء بكتابة هذا الجواب، فإذا هو قد سلك فيه مسلك الباطنية والمتصوفة في التأويل، وليس فيه وهو 200 صفحة ورقة واحدة في حقيقة التفسير، وليس خلطه وهذيانه فيه بأكبر من الخلط والهذيان في التفسير المنسوب إلى الشيخ محيي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية، ولو لم يدَّع هذا الرجل أنه هو المسيح، ويحرف كلمات الفاتحة، فيجعلها دليلاً على دعواه ويجعل تفسيره معجزة يتحدى بها - لتلقَّى هذا التفسير بالقبول أكثر المسلمين ومنهم السائل المحترم؛ ولأقاموا النكير على مثلي إذا هو انتقد عليه، كما ينكرون عليّ الانتقاد على من دونه في العلم والتأليف، وقد كان هذا الرجل شيخ طريق يفوق أكثر المشايخ بالعلم والفصاحة والصلاح فغرَّه كثرة أتباعه، وتفننه في أسجاعه، على ما في ألفاظها من الغلط، وفي معانيها من الشطط، وقام عنده أن اعتقاد المسلمين بالمهدي والمسيح، قد انتشر على وجه غير صحيح، وأنه يجب أن يصلحه بذاته، ويؤيد دعواه بما يعتقد متبعوه من آياته. وأما تحديه بالكتاب فهو - إذا لم يعارَض - شبهة على المعجزة بالمعنى المعروف عند المتكلمين لا بالمعنى الذي حققناه في الجزء العاشر من المنار، وقال إنه كتبه في سبعين يومًا، ونقول: إن كثيرًا من أهل العلم ليستطيعون أن يكتبوا خيرًا منه في سبعة أيام، ولو على طريق الشقاشق والأوهام؛ ولكن أين الحَكَم الذي يرضاه تلامذته والمغترون به؟ إننا نفند كثيرًا من البدع الشائعة بين المنتسبين إلى الطريق ولكن أكثرهم لا يقرءون ومن قرأ لا ينتفع إذا كان يخضع لشيخه ويقلده تقليدًا أعمى؛ لأنك إذا قلت له قال الله كذا، يقول إن شيخي أعلم بقول الله منك، وهكذا إذا احتججت بالسنة، وحجتنا الكبرى في مسألة الواسطة وفروعها على هؤلاء المقلدين سيرة الصحابة الكرام في العمل، فإذا قال أحدهم إن الشيخ فلان قال كذا أو فعل كذا نقول له كيف عرف شيخك ما لم يعرفه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان أهدى منهم؟ كما قال أحد أكابر التابعين لقوم اجتمعوا على ذكر بصفة لم تعهد فقال لهم: إما أن تكونوا أهدى وأفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أن تكونوا قد ابتدعتم في الدين وزدتم فيه ما ليس منه، أو كما روي. هذا وليس دخول مسيح الهند في هذه الدعوى من باب التصوف الواسع بأعجب من دخول الشيخ محمد أبي الخليل المقيم في الزقازيق منه إلى دعوى تفسير القرآن؛ فإن ذلك عالم مطلع وهذا جاهل وهو يزعم أن من بات عنده يصبح حافظًا للقرآن، وقادرًا على تفسيره، وأنه يملي كتبًا في تفسير آية واحدة، أو كلمة من آية، وقد اغتر به كثيرون، ومن أنكر عليه يقول السفهاء فيه أنه ينكر الكرامات ويبغض الأولياء، هذا سلاحهم الذين يحاربوننا به؛ وإنما يحاربون الحق {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21) . *** (6) ومنه: المعروف عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن أهل السُّنة والجماعة هم أبو الحسن الأشعري وأبو منصور الماتريدي ومن تابعهما في الاعتقاد، والإمام الجنيد ومن تابعه في التصوف، والأئمة الأربعة المجتهدون ومن تابعهم في الفروع، وسائر الأئمة غير المبتدعة خلاف هؤلاء على هدى من ربهم بحكم مذاهبهم، وقد دخل بعض البدع على كتب أهل السنة والجماعة، وليس من مذاهبهم ولا من لوازمها، وحيث دُوِّنت الأحكام، وضُبطت الأصول هل من طريق سوى العمل بهذه الأحكام ثَم لنا؟ اهـ بحروفه. (ج) نحن نوافق السائل في أن هؤلاء الذين ذكرهم

مقدمة ديوان حافظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة ديوان حافظ - تتمة أما قول أصحاب العَرُوض أن الشعر هو الكلام المقفَّى الموزون، فليس هذا من بيان الشعر في شيء، فكم رأينا على تلك القاعدة التي رسموها كلامًا ولم نر فيه شيئًا من الشعر. ولقد وُفقت جماعة المنطق بعض التوفيق حيث قالوا: إن الشعر هو كل ما أحدث أثرًا في النفس، وخيره ما كان موزونًا. فلم يحبسوه في تلك الأوزان وتلك القوافي، بل وسَّعوا له المجال فجعل يتنزه بالتنقل من رياض المنظوم إلى جنان المنثور، فإذا عثر به خيال الشعر نظمه تارة ونثره أخرى، وحسبكم دليلاً على ذلك ما جاء في قول بشار بن برد وهو خير ما يُضرب به المثل هنا حيث قال ناظمًا: هززتك لا أني وجدتك ناسيًا ... لأمري ولا أني أردت التقاضيا ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجًا وإن كان ماضيا وحيث قال ناثرًا: (والله لقد عشت حتى أدركت أناسًا لو أخلقت الدنيا لما تجملت إلا بهم،واليوم أعيش في قوم لا أرى بينهم عاقلاً حصيفًا، ولا كريمًا شريفًا، ولا من يساوي مع الخبرة رغيفًا) ألا ترون أن في منظومه ومنثوره هذين روحًا من الشعر لم تكن في الثاني بأقل أثرًا في نفس السامع منها في الأول، ويدخل في ذلك ما كتب به أبو الطيب المتنبي إلى صديق له كان يعوده وهو مريض فلما أبَلَّ انقطع عنه: (لقد وصلتني معتلاًّ، وقطعتني مُبِلاًّ، فإن رأيت أن لا تحبب العلة إلي ولا تكدر الصحة علي، فعلت إن شاء الله) أليس في هذه الجملة النثرية تلك الروح التي تجدونها في نظم الشاعر الكبير؟ ومن اطلع على شعر المعري ورسائله علم أنه شاعر في نظمه ونثره. هذا هو الشعر وتلك حقيقته، أما طريقة عمله فخيره ما جاء عن غير كد ولا تعمُّل، وخير الشعراء من توخى في شعره السهولة، وتحامى طريق التعسف والتكلف، وتَنكَّب عن المعاظلة في الكلام والتماس الألفاظ النافرة والقوافي القلقة، ولقد كان همُّ الشعراء في الجاهلية مصروفًا إلى التقاط الألفاظ الغريبة، فإذا ظفروا بها أودعوا فيها المعاني النفيسة، فكانت معانيهم تحت ألفاظهم كالحسناء تحت الأطمار، وأما شعراء الحضارة فطفقوا يلتمسون الألفاظ فيسكنون فيها المعاني الدقيقة فكانت معانيهم كالعروس في معرضها يوم جلائها. وأفضل الشعراء من كان عالمًا بمواضع الإسهاب والإيجاز فهو إذا أسهب أجاد وإذا أوجز أفاد، ولا أعرف شاعرًا استطرد به جواد الإسهاب وسلِم من العثار مثل ابن الرومي ذلك الذي كان أطول الشعراء نفسًا وأكثرهم غوصًا على المعاني، ولقد أدمنت النظر في شعر بشار بن برد، فألفيت الرصانة والتجويد وبناء القافية على الأساس المتين، والجمع بين متانة البدو وسلاسة الحضر، وأكثرت من مطالعة شعر مسلم بن الوليد فعلمت أنه يجري مع ابن برد في ميدان واحد، وسرحت الطرف في شعر أبي نواس فرأيته حلو الفكاهة إذا هزل، مُرَّ المراس إذا جَدّ، وهو إذا صحا كان أكثر الشعراء تفننًا في ضروب الكلام، ورجعت البصر في شعر أبي تمام فألفيت فيه التفاوت والصنعة مع كثرة الابتداع والقدرة على الابتكار، ورأيت في جيده ما لم أره في جيد غيره من حسن الصياغة وبعد الغاية، وأنعمت النظر في شعر البحتري فلمحت فيه حسن الديباجة وطلاوة الانسجام، وأكثرت التأمل في شعر أبي الطيب فإذا شعره حي يتفزر، ولم أر في الشعراء نفسًا أعلى من نفسه، ولا طريقًا إلى المعالي أخصر من طريقه، وخير شعره ما كان في الحكم والأمثال، ولو سلمت أقواله من ذلك التفاوت ولم يكن أسلوبه عاقًّا لأساليب اللغة العربية لكان أشعر شاعر في الإسلام، ولقد ذهب الشريف الرضي بحسن اختيار اللفظ وصقله وسلامة الذوق في انتقاء المفردات والأساليب، وجمع متنبي الغرب ابن هانئ الأندلسي في شعره بين جزالة العرب ورقة الأندلس، وانفرد ابن المعتز بحسن التشبيه، واختص العباس برقة الشعور وحلاوة التركيب، ولم أر فيمن ذكرنا من يداني شيخ المعرة في صفاء الذهن وقوة الذاكرة وسعة الاطلاع وغزارة المادة. ولا يقوم بنفس أحدكم أن الشعر كان للعرب دون غيرهم؛ فإن لكل أمة قسمتها منه، وأن لها نصيبها من الشعراء، تلكم أمة الفرس وهذا (قاآنها) صاحب الشاه نامة أي ديوان الملوك قد بلغ في أمته مكانًا عظيمًا، واشتمل ديوانه على سبعين ألف بيت من الشعر، وهذا عمر الخيام الذي تفتح اليوم الأندية باسمه في إنجلترا وأميركا وتتهافت شعراء المغرب على مطالعة منظوماته، وقد نُقش اسمه في ذلك العهد على أكثر من اثني عشر ناديًا. أسلفنا أن الشعر قديم وُجد مع الشمس، وأن لكل أمة حظًّا منه، فما بلغ بنا التاريخ إلى أمة، ولا وقف بنا عند جيل إلا ورأينا لواء الشعر عليه معقودًا، ولقد حمله بنتاور في الفراعنة، وهومير في اليونان وفرجيل في الرومان، وقد كثر نبوغ الشعراء في هذه الأمة، ولا تزال دواوين أكثرهم محفوظة في مكتبة مولانا السلطان وسائر مكاتب الآستانة العلية إلى اليوم، ولو شئنا أن نذكر كل أمة وشاعرها لضاق بنا المقام. أما الشعر العربي وما كان من أمره في الجاهلية والإسلام فأخباره طويلة مودعة في بطون الكتب فلا حاجة إلى ذكرها.

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقاريظ لما علم الأدباء بأن ديوان محمد حافظ أفندي يطبع وكلهم يعرفون في الشعر مكانته العالية، ومرتبته السامية، كتبوا إليه التقاريظ التي تشهد بفضلهم بمعرفة الفضل لأهله، ورأينا أن نتحف قراء المنار ببعضها. قال واحد العصر، ويتيمة الدهر، ومالك أعنة النظم والنثر صاحب السعادة محمود باشا البارودي حفظه الله: هيهات ليس لحافظ من مشبه ... في القول غير سميه الشيرازي جاراه في حسن البيان وفاته ... في المنطق العربي بالإعجاز لَبِق بتصريف الكلام يسوقه ... ما شاء بين سهولة وحجاز فإذا تغزل فالنفوس نوازع ... وإذا تحمس فالقلوب نوازي كالصارم الفولاذ في (إفرنده) ... وصقاله والمارن الهزاز حاك القريض بلهجة عربية ... أغنت عن الإسهاب والإيجاز ألفاظها نَمَّت على ما تحتها ... وصدورها دلت على الأعجاز فإذا تلاها قارئ لم يشتبه ... في القول بين حقيقة ومجاز عبقت كأنفاس النسيم تعلقت ... بالروض غِبَّ العارض المجتاز قد كان جيد القول عُطْلاً قبله ... فحباه أحسن حلية وطراز ملكتْ مودتُه القلوبَ فأصبحت ... تلقاه بالتوقير والإعزاز لا زال يبلغ شأو كل فضيلة ... بمضاء صمصام وصولة باز وقال القاضي الفاضل والأديب الكامل، الشاعر المطبوع حفني بك ناصف: شعر على قلته جيد ... والشعر لا يمتاز بالطول والدر بالقيراط مقياسه ... والأرض بالفرسخ والميل تستعذب الألسن ترتيله ... كأنه محكم تنزيل يظل من يقرأ آياته ... ما بين تكبير وتهليل فُصِّلت الألفاظ فيه على ... قدر المعاني خير تفصيل فلا يرى ناقده كلمة ... محتاجة فيه لتبديل جُعلت يا (حافظ) كيد الذي ... يشناك في خسر وتضليل كأن ديوانك في عينه ... رسالة من عند عزريل وكل بيت حجر قد هوى ... عليه من أحجار سجيل فاهنأ بما أوتيت من حكمة ... مصوغة في حسن تخييل ومن يكن ديوانه هكذا ... يُدْعَى بحق شاعر النيل وقال الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد عمر الإسكندري المدرس بالمدارس الأميرية: إن يكن السالفون من عرب ... بادوا وأخنى عليهم الدهر فقد أرانا كأنما بعثت ... أزمانهم من يراعك الشعر من كل معنى كأنه ملك ... في كل بيت كأنه قصر من ينكر السحر بعدما اتفق الـ ... ـناس على أن شعرك السحر أما يرى منه أن سامعه ... يهتز سكرًا به ولا خمر ما الشعر لفظ يأتي على قدر ... يعذب منه الروي والبحر الشعر ما أدَّب النفوس وما ... حنَّ إليه الفؤاد والفكر فالبحر وهو الأجاج لجته ... يجتمع الدر فيه والصخر فاهنأ بشعر قلنا نؤرخه ... ديوان حافظ كله در ... ... سنة 1319 ... 70 ... 989 55 204 *** (كتاب السودان) وُضع هذا الكتاب لبيان تاريخ حوادث بلاد السودان المصري منذ عينت الحكومة المصرية الكولونيل غردون باشا الإنكليزي حاكمًا على خط الاستواء في عهد إسماعيل باشا الخديوي إلى انقضاء دولة الدراويش التي أسسها محمد أحمد الذي قام بدعوى المهدوية، واستيلاء الحكومة المصرية على السودان، ومؤلف الكتاب هو صاحب السعادة إبراهيم فوزي باشا الذي رافق غردون باشا منذ تولى إلى أن قتله الدراويش ووقع هو أسيرًا، فبذلك كان أعلم الناس بالحوادث المتعلقة بذلك، وقد طُبع الجزء الأول من هذا الكتاب في مطبعة جريدة المؤيد على نفقة صاحبه ونفقة إدارة الجريدة ويُطلب منها ومن المكاتب الشهيرة، وعدد صفحاته 403، وفيه من غرائب الحوادث وشرح ضروب الكوارث العجب العجاب الذي يُشوق القراء، فنحثهم على مطالعته والاعتبار بما فيه من عواقب الجهل. *** (علم الفراسة الحديث) أهدتنا إدارة الهلال المنير نسخة من هذا الكتاب، الذي جعلته في هذه السنة عوضًا عن الأجزاء الأربعة التي تصدر منه في شهرين عملا بالقاعدة التي سنتها، وهي جعل سنة الهلال عشرة أشهر، وتهدي المشتركين في آخر السنة كتابًا بدلاً من أجزاء الشهرين، والكتاب تبحث مقدماته في تاريخ الفراسة وصحة هذا العلم وعدمها، وناموسي التشابه والتناسب، وفي المقاصد بيان فراسة الأعضاء بالتفصيل، ثم فراسة الأمم، ثم فراسة الرأس مخصوصة، ثم فراسة المهن والصناعات، ثم فراسة الحيوان، وهو كثير الرسوم وصفحاته توازي صفحات أربعة أجزاء من الهلال. *** (مقامات الحريري بفهرس المفردات) هذه المقامات في عالم الأدب عَلَم في رأسه نار لا تحتاج إلى التعريف والوصف، وقد طُبعت طبعات متعددة؛ ولكنها قبيحة في الشكل والورق وغير ذلك إلا الطبعات الأميرية، وقد نفدت هذه حتى لا تكاد توجد بالثمن الكثير، فانبرى أخيرًا الفاضل الهمام صاحب الإتقان الشيخ محمد سعيد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية، فطبعها في المطبعة الأميرية طبعة تمتاز على ما طُبع فيها من قبل بثلاثة أمور، أحدها الشكل فإنه جعلها من الحجم الوسط وهو ألطف، وثانيها جعل الشرح في أسفل الصفحات بحرف صغير مشار إليه بالأرقام العددية، وثالثها فهرس في آخرها لمفردات الكلم مرتب على حروف المعجم كالمصباح، ويعرف أهل الأدب أن في هذه المقامات من فرائد اللغة المختارة، ولطائف المجاز والاستعارة، ما ينفع طالب الانتفاع، والوقوف عليه بدون ممارسة تلك الأساليب والأسجاع، لا يتيسر إلا بهذا الفهرس الذي يوقف غير الواقف، ويسهِّل المراجعة على العارف، وقد جعل ثمنها أقل من ثمن الطبعات الرديئة، ولا شك أن طلاب هذه المقامات يفضلون هذه الطبعة على سائر الطبعات. *** (شهيدة الأمانة) أسطورة مختصرة غرامية دينية مسيحية هندية، تحكي بعض أحوال هنود أميركا الدينية، وتبين فضل المسيحية عليها، ومثل هذا يؤثر في إشراب قلوب العامة حب الدين، ما لا يؤثر كلام اللاهوتيين، وطالما تمنيت أن توضع قصص إسلامية في هذه الأساليب لأجل عامة المسلمين، وكم منيت نفسي بالتأليف في ذلك، وحثثت عليه إخواني ولم يسمح لي الزمان بالوقت، وهذه القصة فرنسوية الأصل، وعرَّبها الشاب النشيط فرج أفندي عبده، وطبعها وجعل ثمنها أربعة غروش مصرية.

عيد الجلوس السلطاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عيد الجلوس السلطاني في يوم الأحد الآتي يُحتفل بتذكار جلوس مولانا السلطان الأعظم أيَّده الله تعالى بالنصر والتوفيق على عرش السلطنة العثمانية، ويشارك العثمانيين في هذا الاحتفال كثير من البلاد الإسلامية التي تحكمها الأجانب، لا سيما الإنكليز كالهند وسنغافورة وغيرها، وقد أبنَّا الفائدة والحكمة من هذا الاحتفال في منار السنين الماضية فلا نعيده، وقد رأس لجنة الاحتفال العمومي في مصر هذه السنة صاحب السعادة الشهير عبد السلام باشا المويلحي رئيس التجار؛ ولكن إقبال الناس لم يكن كما يعهد في السنين الماضية، ومن أسباب ذلك عدم وجود صاحب المؤيد الذي كان لكتابته وسعيه أكبر تأثير، وقد نظم الشعراء قصائد في التهنئة والاحتفال ننشر منها قصيدة صاحبنا محمد حافظ أفندي إبراهيم لما امتاز به كلامه من الجزالة والسلاسة التي ترقي اللغة عند القارئين وهي: لمحت جلال العيد والقوم هُيَّب ... فعلَّمني آي العُلى كيف تكتب ومثَّل لي عرش الخلافة خاطري ... فأرهب قلبي والجلالة ترهب سلوا الفلك الدوَّار هل لاح كوكب ... على مثل هذا العرش أو غاب كوكب وهل أشرقت شمس على رحب ساحة ... إلى مثل ذاك البيت تُعْزَى وتنسب وهل قر في (برج السعود) متوج ... كما قرَّ في (يلديز) ذاك المعصَّب تجلى على عرش الجلال وتاجه ... يهش وأعواد السرير ترحِّب سما فوقه والشرق جذلان شيق ... لطلعته والغرب خذلان يرقب فقام بأمر المُلك حتى ترعرعت ... به دوحة الإسلام والشرك مجدب وقرب بين المسجدين تقرُّبًا ... إلى الملك الأعلى فنعم المقرَّب وكم حاولوا في الأرض إطفاء نوره ... وإطفاء نور الشمس من ذاك أقرب فراعهمو منه بجيش مُدَجَّج ... له في سبيل الله والحق مذهب إذا ثار في يوم الوغى مال منكب ... من الأرض والأطواد وانهال منكب له من رؤوس الشم في الأرض مركب ... ومن ثائر الأمواج في البحر مركب فدى لك يا (عبد الحميد) عصابة ... عصت أمر باريها وحزب مذبذب ملكتَ عليهم كل فجٍّ ولجَّة ... فليس لهم في البر والبحر مهرب تقاذفهم أيدي الليالي كأنهم ... بها مَثَل في القول للناس يضرب وكم سألوها لثم أذيالها التي ... لها فوق أجرام السموات مَسْحَب فما بلغوا قصدًا ولا أدركوا مُنى ... كذلك يشقى الخائن المتقلّب فيا صاحب العيدين لا زلت سالمًا ... يهنيك بالعيدين شرق ومغرب ففي كل روض منك طيب ونضرة ... وفي كل أرض منك عيد وموكب أرى مصر والأنوار منها مورَّد ... ومنها لُجَينيٌّ ومنها مذهَّب وأشكالها شتى فهذا منظم ... وذلك منثور وذاك مقبَّب وبعض تجلَّى في مصابيح زيتها ... يضيء ولا نار وبعض (مكهرب) وأنظر في بستانها النجم مشرقًا ... فهل أنت يا بستان أفق مكوكب وأسمع في الدنيا دعاء بنصره ... يردِّده البيت العتيق ويثرب

قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قطع العلائق بين الدولة العلية وفرنسا في الآستانة أرصفة أنشأتها شركة فرنسوية بامتياز مخصوص، ولبعض التجار الفرنساويين دين على الدولة العلية كانوا من زمن طويل قدَّموا فيه أشياء للعسكرية بربًا فاحش، وقد طال الزمان وهم عنه ساكتون لينمو بضم الربا في كل عام إلى الأصل، وقد حصل الخلاف بين شركة الأرصفة وبين الحكومة العثمانية في هذه الأرصفة، وطلب التجار أموالهم المتراكمة، فسلك الموسيو كونستيان سفير فرنسا في حل الإشكال مسلك الخشونة والتهديد بقطع العلائق، فما زال مولانا السلطان يمده بسياسته اللينة اللطيفة وهو يزداد عنفًا ونفورًا، حتى آذن الدولة بقطع العلائق رسميًّا وخرج من الآستانة العلية، وآذنت نظارة خارجية فرنسا الدولة العلية بأن لا يعود سفيرها منير بك إلى باريس، وكان مولانا السلطان لان لمطالب السفير، وأمر بأن تظل شركة الأرصفة متمتعة بامتيازاتها بناء على غض النظر عن ابتياعها، ولمَّا رأى هذه الخشونة أعرض بجانبه ولم يبال بقطع العلائق؛ ولكن ورد أنه طلب من فرنسا إرسال سفير آخر للاتفاق معه، ويخاف الناس أن يُفضي هذا الجفاء السياسي إلى الحرب بين الدولة العلية وفرنسا، وما كل جفاء سياسي يستلزم الحرب وليست فرنسا كسائر الدول يثير الحرب فيها رجل متهور، فهي جمهورية لا يمكن أن تعلن حربًا إلا بعد رضا الأمة بواسطة الأحزاب والنواب، وإذا احتلت فرنسا بعض الثغور غير المحصنة كثغور سوريا تقوم قيامة الدول وتكون الطامة الكبرى، لا خوف من هذا الجفاء إذا كان كما هو الظاهر قد جاء من طبيعته؛ ولكن إذا كان هناك مواطأة بين روسيا وفرنسا على فتح باب الفتنة لمقاومة نفوذ ألمانيا في الأناضول والعراق فهناك البلاء الأكبر، وهذا بعيد أيضًا؛ فإن روسيا صارت أدهى وأحكم من أن تعرض أوربا كلها للدمار لأجل أطماعها، وقد تعلمت أن الاستفادة بالسياسة أكبر ربحًا من الاستفادة بالقوة، والله أعلم.

تعاز ووفيات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعازٍ ووفيات السيدة أم عاصم أعزي عمي التقي الفاضل، والعالم العامل السيد الشيخ محمد كامل عن وفاة قرينته العاقلة التقية المهذبة السيدة زلفى أم عاصم، كانت رحمها الله قارئة كاتبة مربية مقتصدة قرة عين لعمي ولأسرته فرحمها الله تعالى، وأطال حياة أنجالها في حجر والدهم الكامل آمين. توفيق بك الحموي وأعزي الرصيف الكبير صاحب السعادة سليم باشا الحموي صاحب جريدة الفلاح الغراء، عن وفاة ولده البار النجيب توفيق بك، اختطفته المنية في ريعان الشباب من مهد المدارس ومعهد العلوم والمعارف، وكان في هذا العام من السابقين في أخذ شهادة الدراسة الثانوية، ووجه همته بعد ذلك لتعلم علم الحقوق، قَضَى في 19 من الشهر الإفرنجي الحاضر عن عشرين ربيعًا لم يعرف فيها غير الدفاتر والمحابر، فنسأل الله تعالى أن لا يفجع هذا الشيخ الكبير بمثل هذا المصاب، ويحفظ له أهله وولده ويحسن عزاءه على من فقد، آمين. خريستفورس جباره وأعزي الثبات والصبر والهمة والاستقامة عن وفاة خريستوفورس جبارة الشهير الذي قام في نفسه منذ سنين أن سعادة العالم الإنساني لا تتم إلا باتفاق أهل الأديان السماوية الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام، كان هذا خاطرًا وفكرًا، ثم صار وجدانًا ملك عليه أمره، وحمله على الدعوة إليه بالقول والكتابة، أنشأ أولاً جريدة نشرة سماها شهادة الحق، وبث دعوته في أمريكا في معرض شيكاغو وغيره وكان يكتب الرسائل الطويلة فيه إلى علماء الدين المشهورين في بلاد الشرق وهو في أمريكا أقصى الغرب، ثم جاء إلى مصر وألف فيها كتبًا ورسائل كثيرة يوفق فيها بين التوراة والإنجيل والقرآن، فحرمته الكنيسة الأرثوذكسية، وكان قد وصل من رتبها الكهنوتية إلى رتبة الأرشمندريت، وكذلك قابله المسلمون بالهزء والسخرية فاحتمل من الإيذاء ما هو معهود في كل من يدعو الناس إلى خلاف ما هم عليه. كان الفقيد موحدًا يقيم الحجة على أنه ليس في الإنجيل ولا في رسائل الرسل ما يدل على التثليث، ويؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقرآن وبرسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومما كان يخالف فيه المسلمين مسألة صلب المسيح وكان يؤول قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) وبالجملة إن ما كان يدعو إليه هو من مقاصد الإسلام؛ ولكن لم يكن عنده من العلم بالإسلام وبعلوم الاجتماع والأخلاق ما يقدر معه على إقامة الحجة على كل مناظر له، وكان استفتى مفتي الديار المصرية عن عقيدته بكلام مجمل صريح بالإيمان بنبوة محمد وصدقه في كل ما جاء به، فأجابه المفتي جوابًا قيَّد فيه اعتبار إسلامه بعدم إنكار شيء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فجاءني وقال لي إنني لم أفهم معنى هذه الكلمة.... . أصاب الفقيد مرض ونقه منه، ثم انتكس وعند إحساسه بشدة وطأة المرض جاءني وقال لي: إنني منذ سكنت مصر لم أعرف فيها رجلاً رحيمًا يفعل الخير لغير علة إلا فضيلة المفتي، وقد اشتدت حاجتي إلى مبلغ كذا لأجل دخول المستشفى، أو السفر ونفسي عليَّ عزيزة، فأرجو أن تأخذ لي من فضيلة الأستاذ المبلغ المذكور فأجبته سمعًا وطاعة، ثم واساه الأستاذ حفظه الله تعالى بضِعْف ما طلب، ودخل أولاً مستشفى قصر العيني بمساعدة أحد الوجهاء، ثم المستشفى النمساوي بمساعدة وجيه آخر، وتوفي فيه بمرض القلب، ولما كان الرجل غير معدود في النصارى؛ لأنه محروم من بطريقهم الأكبر، ولا في المسلمين؛ لأنه لم يُعْرَف عندهم بموافقتهم في عقائدهم، كان أمر دفنه مشكلاً، فحلَّ هذا الإشكال بعض أذكياء النصارى، فشهد عند غبطة البطريق أن الفقيد اعترف قبل موته بالكنيسة الأرثوذكسية، ورجع إليها فدُفن أرثوذكسيًّا، وأخذوا كتبه وفيها رد عليهم متين، أما حقيقة أمره وما يصير إليه في الآخرة فذلك مفوض إلى العليم الرحيم.

الرجال والنساء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرجال والنساء من أغوى الآخر في الشرق وأوربا - إصلاح الإسلام للنساء - تمني الأوربيات تعدد الزوجات - الاختلاط ومضرته - عاقبة الأمر في أوربا والمسلمين. {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) ، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) . هذا ما قاله فاطر السموات والأرض وما فيهن، وشارع دين الفطرة ليبلغ به عباده الكمال، من النساء والرجال، وقد دل العلم وشهد التاريخ على أن ما أرشد إليه الكتاب العزيز من قيام الرجال وسيادتهم على النساء هو الحق الواقع والفطرة الصحيحة؛ ولكن الرجال ظلموا وأساءوا في هذه الكفالة والسيادة فاستعبدوا النساء ووأدوا البنات (دفنوهن أحياء) ولولا حاجتهم إليهن لأفنوا النوع الإنساني بإفنائهن وما وجدت شريعة ولا ديانة أنصفت النساء وأعطت كلاًّ من الرجل والمرأة حقه إلا ديانة الإسلام الحقة وشريعته العادلة؛ ولكن المسلمين ما رعوها حق رعايتها فمنهم من وفَّى فَوُفِّي أجره وكثير منهم فاسقون. بيَّن الله تعالى أن للمرأة على الرجل من الحقوق مثل الذي له عليها بالمعروف وأنه لا يمتاز إلا بالولاية ورياسة المنزل؛ لأن البيوت نموذج الأمة، فكما أن الأمة لا ينتظم أمرها إلا برئيس عادل، كذلك البيت (العائلة) لا بد له من رئيس له السيطرة والقيام بالشؤون العامة. ولما كان الإسلام مبنيًّا على قاعدتي الاستقلال بالفكر، والاستقلال بالإرادة، وشريعته مبنية على المساواة والعدل، ومن مقتضى القاعدة الأولى أن يعرف الإنسان الحق بدليله لتنبعث إليه إرادته بنفسها؛ لأنه الحق النافع في علم صاحبها، بيَّن الله تعالى لنا بفضله المرجِّح لكون الرجل هو القيم على المرأة، وهو تفضيله بنحو القوة والقدرة على الحماية والكسب، وهذا مرجِّح فطري طبيعي، وإنفاقه المال في المهر وغيره وهذا مرجِّح اجتماعي عقلي، والشريعة الإسلامية موافقة دائمًا للفطرة الإلهية، ومطابقة للمصالح الاجتماعية ومؤيدة بالدلائل العقلية. عُرف في سيرة البشر أن القوة تعتدي دائمًا على الحق وتهضمه، وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أعرف الناس بسنن الله تعالى في الناس ولهذا كان يكرر الوصية بالنساء والأرقاء وهو في حالة النزع وسكرات الموت، كما كان ينهى عن تعظيم قبره وقبور الأنبياء والصلحاء؛ لأن ما يوصي به في هذه الحالة لا بد أن يعتني به متبعوه أشد الاعتناء لما للكلام حينئذ من التأثير؛ ولأنه من المعلوم بالبداهة أن الإنسان لا يهتم عند الموت إلا بأهم الأمور، ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام كان عالمًا بأن أعظم فتنة تستقبل أمته من طريق الاعتقاد والعبادة تعظيم القبور والتماس المنافع ودفع المضار بواسطة أضرحة الأنبياء والصلحاء، وأعظم فتنة تعرض لهم في شؤونهم الاجتماعية النساء، بل ورد التصريح بهذه الفتنة وكذلك كان في الأمرين. إنما كان النساء فتنة بترك الرجال مساواتهم بأنفسهم في الحقوق الاجتماعية والأدبية، وإهمال فريضة القيام عليهن، فقد جعلت الشريعة لكل امرأة قيمًا فأبوها وهو القيم الأول يتركها سدى تلعب بها الخرافات والأوهام، ويغويها السفهاء والطغام، ثم تصير إلى القيم الثاني وهو الزوج فيأكل مالها إن كان لها مال، ولا يساويها بنفسه في حال من الأحوال، ولقد كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إنني لأتزين لزوجي كما تتزين لي لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) ثم إذا مات زوجها وصارت إلى قيم ثالث في آخر حياتها يكون مآلها شر مآل، ولو كان هذا القيم ابنها الذي لم تحسن تربيته؛ لأنها هي وأباه لم يكونا متربين ولا مهذبين. هذا القيام للرجال على النساء قد خصته الشريعة بالأمور الاجتماعية، فليس للمرأة حق أن تسافر إلا مع ذي محرم، وإذا كانت متزوجة فلا بد من إذن الزوج ورضاه ولو إلى الحج، وأعطت للمرأة الحق في التصرف في مالها، وليس للزوج ولا لغيره من القوَّام أن يأخذ من مالها دانقًا بغير رضاها، فتصرف المسلمون بأموال النساء وأكلوها إسرافًا بغير حق، وتركوا حبالهن على غواربهن فيما هو موكول إليهم، فطفقن يسرحن ويمرحن ويتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وتركن الصلاة ومنعن الزكاة وعصين الله ورسوله، ثم عصين الأزواج والذنب في هذا كله على الرجال. يشكو بعض الرجال في هذه البلاد من تهتك النساء وفساد أخلاقهن، وما أفسدهن إلا الرجال، فالمرأة بمقتضى الفطرة والطبيعة أقرب إلى الحياء والعفة، وأبعد من المجون والخضوع للشهوة؛ ولكن هؤلاء الرجال الظالمين الضالين المضلين هم الذين يغوونهم، ثم يشكون منهن وينسبون إليهن كل غواية وفساد محتجين بقول المثل الفرنساوي: (ابحثوا عن المرأة) . بحثنا وسألنا الباحثين فألفينا الرجال في الأسواق والشوارع يتعرضون لمغازلة النساء، ولإيذائهن بالقول والفعل، ووجدنا أكثرهن لا يلتفتن لأكثرهم، رأينا هذا ونحن نعلم أن الرجال أكثر علمًا بأمور الدين وأمور الدنيا، وأكثر شغلاً وعملاً فما أغنى عنهم علمهم ولا أعمالهم، فكيف يكون الحال لو كانت أفئدتهم هواء كأفئدة النساء؛ فإن المرأة عندنا لا تتعلم شيئًا يشغل فكرها عن تدبير الحيل لإجابة داعي الطبيعة، ولا تتربى على ملكات فاضلة تقف بالقوى الحيوانية عند حدود الاعتدال، وليس لها أعمال شاقة تصرف النفس عن هذه الدواعي وهي مع هذا كله أقرب من الرجل إلى العفة والنزاهة. لما تنبه أهل أوربا إلى إصلاح شؤونهم الاجتماعية وترقية معيشتهم المدنية اعتنوا بتربية النساء وتعليمهن، فكان لذلك أثر عظيم في ترقيتهم وتقدمهم؛ ولكن المرأة لا تبلغ كمالها إلا بالتربية الإسلامية، وأعني بالإسلامية ما جاء به الإسلام لا ما عليه المسلمون اليوم ولا قبل اليوم بقرون، فقد قلت آنفًا إنهم ما رعوا تعاليم دينهم حق رعايتها، ولهذا وجدت مع التربية الأوربية للنساء جراثيم الفساد، ونمت هذه الجراثيم فتولدت منها الأدواء الاجتماعية والأمراض المدنية، وقد ظهر بشدة في الدولة السابقة إليها وهي فرنسا فضعف نسلها، وقلت مواليدها قلة تهددها بالانقراض، والذنب في ذلك على الرجال. حَذِرَ من مغبة هذه الأمراض العقلاء، وحذَّر من عواقبها الكتاب الأذكياء، وصرَّح من يعرف شيئًا من الديانة الإسلامية، بتمني الرجوع إلى تعاليمها المُرضية وفضائلها الحقيقية، وصرَّحوا بأن الرجل هو الذي أضلَّ المرأة وأفسد تربيتها، وأن بعض فضليات نساء الإفرنج صرحت بتمني تعدد الزوجات للرجل الواحد ليكون لكل امرأة قيم وكفيل من الرجال. جاء في جريدة (لاغوص ويكلي ركورد) في العدد الصادر في 20 أبريل (نيسان) سنة 1901 نقلاً عن جريدة (لندن تروت) بقلم كاتبة فاضلة ما ترجمته ملخصًا: (لقد كثرت الشاردات من بناتنا، وعم البلاء وقل الباحثون عن أسباب ذلك وإذ كنت امرأة تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقة عليهن وحزنًا، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وتوجعي وتفجعي وإن شاركني فيه الناس جميعًا؟ لا فائدة إلا في العمل بما يمنع هذه الحالة الرجسة ولله در العالم الفاضل (تومس) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكافل الشفاء، وهو الإباحة للرجل التزوج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوربي على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجال، ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يُبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، أي ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين أصبحوا كلاًّ وعالة وعارًا على المجتمع الإنساني، فلو كان تعدد الزوجات مباحًا لما حاق بأولئك الأولاد وبأمهاتهم ما هم فيه من العذاب الهُون، ولسلم عرضهن وعرض أولادهن؛ فإن مزاحمة المرأة للرجل ستُحِل بنا الدمار، ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل، وعليه ما ليس عليها، وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة بيت، وأم أولاد شرعيين) . ونشرت الكاتبة الشهيرة (مس أني رود) مقالة مفيدة في جريدة (الإسترن ميل) في العدد الصادر منها في 10 مايو (آيار) سنة 1901 نقتطف منها ما يأتي (لأن يشتغل بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملونة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد، ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة ردأ الخادمة والرقيق يتنعمان بأرغد عيش، ويعاملان كما يعامل أولاد البيت، ولا تمس الأعراض بسوء، نعم إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطة الرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل بما يوافق فطرتها الطبيعية، من القيام في البيت وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها) وقالت الكاتبة الشهيرة (اللادي كوك) بجريدة ألايكو ما ترجمته: (إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، وههنا البلاء العظيم على المرأة فالرجل الذي علقت منه يتركها وشأنها تتقلب على مضجع الفاقة والعناء وتذوق مرارة الذل والمهانة والاضطهاد، بل والموت أيضًا، أما الفاقة فلأن الحمل وثقله والوحم ودواره من موانع الكسب الذي تحصل به قوتها، وأما العناء فهو أنها تصبح شريدة حائرة لا تدري ماذا تصنع بنفسها، وأما الذل والعار فأي عار بعد هذا، وأما الموت فكثيرًا ما تبخع المرأة نفسها بالانتحار وغيره. هذا والرجل لا يلم به شيء من ذلك، وفوق هذا كله تكون المرأة هي المسئولة وعليها التبعة مع أن عوامل الاختلاط كانت من الرجل. أما آن لنا أن نبحث عما يخفف - إن لم نقل عما يزيل - هذه المصائب العائدة بالعار على المدنية الغربية؟ أما آن لنا أن نتخذ طرقًا تمنع قتل ألوف الألوف من الأطفال الذين لا ذنب لهم، بل الذنب على الرجل الذي أغرى المرأة المجبولة على رقة القلب المقتضي تصديق ما يوسوس به الرجل من الوعود، ويمني به من الأماني، حتى إذا قضى منها وطرًا تركها وشأنها تقاسي العذاب الأليم. يا أيها الوالدان لا يغرنكما بعض دريهمات تكسبها بناتكما باشتغالهن في المعامل ونحوها، ومصيرهن إلى ما ذكرنا، علموهن الابتعاد عن الرجال، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد، لقد دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من حمل الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر اختلاط النساء بالرجال، ألم تروا أن أكثر أمهات أولاد الزنا من المشتغلات في المعامل والخادمات في البيوت وكثير من السيدات المعرضات للأنظار، ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن، لقد أدت بنا هذه الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصورها في الإمكان، حتى أصبح رجال مقاطعات من بلادنا لا يقبلن البنت زوجة ما لم تكن مجربة، أي عندها أولاد من الزنا ينتفع بشغلهم! ! ! وهذا غاية الهبوط بالمدنية، فكم قاست هذه المرأة من مرارة هذه الحياة حتى قدرت على كفالتهم، والذي علقت منه لا ينظر إلى أولئك الأطفال ولا يتعهدهم بشيء،

الأسئلة والأجوبة الدينية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة الدينية عموم البعثة وعموم اللغة (1) من أحمد أفندي الألفي في أبي كبير: معلوم أن رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم عامة للناس كافة، فهل من مقتضى ذلك أن يكون عليه الصلاة والسلام عالمًا بكل لغات واعتقادات وآداب وعوائد من أُرسل إليهم؟ إن قيل لا فبماذا نجاوب من لا يسلِّم بذلك وقد يجد من العقل معينًا، وإن قيل نعم فما الدليل؟ وإذا كان القرآن داعيًا الناس كلهم لعبادة الله تعالى ولدينه القويم الذي ارتضاه لهم لئلا يكون للناس على الله حجة فلماذا نزل باللسان العربي فقط؟ ولماذا حُرِّمت ترجمته؟ وكيف يُطلب من الناس كلهم أن يكونوا مسلمين مع أنهم لم تبلغهم الدعوة إليه؛ إذ لا مبشرين ولا داعين إليه من أهله؟ ألا يكون هذا عذرًا لمن لم يسلم؟ إن قيل لا فما هي حجة الله عليهم؟ أرجو الإجابة عن ذلك في المنار بما يزيح الشبهة ويضيء معه نور الحقيقة لا زلتم حامين حمى الحقائق الإسلامية بقوة البرهان. (ج) قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وقد اختلف المفسرون في المراد بقوم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فقيل: قريش وقيل: مضر وقيل: العرب، وبنوا على هذا أنه كان يعرف لغات القبائل، ويخاطب أهل كل قبيلة بلسانهم، وزعم بعض من يستحل أن ينسب إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كل ما يعتقده تعظيمًا، وإن كان لا دليل عليه أنه عليه السلام كان يعرف جميع اللغات؛ لأنه أُرسل إلى جميع الأمم، وأن ذلك من معجزاته ليُحَدِّث الناس بما يعلمون، واستدلوا على ذلك بما ذُكر في بعض الكتب من أنه كلم بعض الفرس وبعض الحبشة بلغتهم، ولو صح ذلك لكتب الدعوة إلى الملوك بلغاتهم؛ ولكن المنقول أنه كتبها بالعربية بلا خلاف. معرفة اعتقادات المرسل إليهم وآدابهم وعوائدهم ليست من محل الشبهة؛ وإنما محلها اللغة على أن الله تعالى علَّم نبيه ما اقتضت الحكمة أن يعلِّمه من عقائد أهل الكتاب المجاورين للبلاد التي بُعث فيها {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) وكان يعرف ما عليه قومه بالاختبار، ومتى قامت الحجة على قوم الداعي وعلى الذين يلونهم واهتدوا إلى الحق، فإقامتها على غيرهم تكون أسهل وقبول هؤلاء لها يكون أقرب لوجهين، أحدهما أن الناس أميل إلى اتباع ذي القوة والعصبية وقبول الدعوة التي أخذ بها كثيرون من نوعهم منهم إلى اتباع رجل مفرد يقول إنه مصيب وحده وسائر الناس مخطئون، وثانيهما أن أهل الكتاب كانوا أشد من سائر الأمم تمسكًا بدينهم وإعجابًا به. وقد دخل في دينهم كثير من المشركين والوثنيين، فمتى أسلموا فالآخرون أقرب إلى الإسلام. الأمور العامة إنما تكون بالتدريج، فلو فرضنا أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان عالمًا بجميع اللغات فهل من الممكن أن يخاطب العرب والروم والفرس والقبط والبربر والإفرنج والهنود والصينيين وغيرهم من الأمم ويدعوهم ويعلِّمهم الدين في وقت واحد، كلا وإنما الممكن هو ما فعله النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ومعاذ الله أن يقصِّر في أداء وظيفته العظمى (التبليغ) أو يدخر وسعًا. والذي فعله هو أنه بلَّغ الأقرب فالأقرب، أنذر عشيرته الأقربين وأقام الحجة على قومه أجمعين، وكتب إلى الملوك والأمراء المجاورين؛ لأنه ما من ملك إلا وعنده من يترجم له جميع ما يكتب إليه؛ ولأن دعوة الملك دعوة لأمته ورعيته؛ ولذلك كتب إلى ملك الروم (فإن توليت فعليك إثم الإريسيين) وكتب إلى ملك مصر (فإن توليت فعليك إثم القبط) وهكذا. وههنا يقال: لو أجاب هؤلاء الملوك الدعوة وآمنوا مع أقوامهم، فهل كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمهم الدين بلغاتهم أم بلغته العربية؟ فإن كان يرضى ببقائهم على لغاتهم فهل يأمر بترجمة القرآن، وهل يرجى أن يفهموا الدين بذلك حق الفهم؟ وإن كان يُلزمهم بتعلم العربية فلماذا لم يعهد هذا الإلزام من الصحابة ولا من غيرهم من الخلفاء والملوك، وقد كان الأعاجم يدخلون في دين الله أفواجًا، ولم يُنقل إلينا أن أحدًا من أصحاب السلطة ألزمهم بتعلم العربية، ولم يشتهر عن الفقهاء القول بوجوب ذلك، والمعروف أن الجميع كانوا يكتفون بإيمانهم ويتركونهم وشأنهم. والجواب عن هذا كله يُعْرَف من سير الإسلام مع اللغة في القرون الأولى، ومن كلمة قالها الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في كتاب (الأم) فقد بحث في المسألة ورجَّح وجوب تعميم العربية ووجوب تعلمها على كل مسلم ليفهم القرآن الكريم الذي هو أصل الدين، أما سير الإسلام مع اللغة فقد كان من العجائب التي لم يعهد لها نظير في التاريخ، لم يمض على انتشار الإسلام في بلاد الروم والفرس وبلاد أفريقيا وغربي أوربا إلا زمن يسير حتى علت اللغة العربية على لغات هذه الأمم، بل نسختها كما تنسخ آية النهار آية الليل من غير مدارس ولا معلمين ينصرفون إلى تعليم اللغة، فهذا دليل على أن الصحابة الكرام ومن اهتدى بهديهم من الفاتحين كانوا يلقِّنون الناس الدين على وجه يبعثهم على تعلم العربية من أنفسهم وما كان ذلك الانتشار السريع إلا بهذا الوازع النفسي الذي يفعل ما لا تفعل السياسة ولا المدارس، وما أوقف هذا السير إلا ضعف الدول العربية ووثوب الأعاجم على عروشها، وإفتاء علماء الأعاجم بجواز العبادة وقراءة القرآن والذكر في الصلاة باللغات الأعجمية. ومن المسائل المفيدة في هذا المقام أن ما يكون به الإنسان مسلمًا في الجملة شيء سهل بسيط يمكن إيصاله إلى كل عربي وعجمي في وقت قصير؛ ولكن نمو الإسلام وفهم ما جاء به من الحكم والمعارف التي ترقي النوع البشري يتوقف على معرفة العربية حق المعرفة، وفهم المسلمين للقرآن وكونهم أمة واحدة يتحدون في مقومات الأمم التي يمكن الاتحاد فيها وأهمها الدين واللغة، وهذا الإصلاح الاجتماعي الذي جاء به الإسلام وهو السعي في وحدة أمم الأرض باتفاقهم في اللغة والدين، هو الذي توجهت إليه أخيرًا أنظار فلاسفة أوربا ودولها القوية وكل واحدة منها تبذل الملايين لأجل تعميم لغتها، ولم يكن المسلمون في عصر من الأعصار متنبهين إلى أنه من واجبات دينهم؛ لأنهم لم يتوسعوا في علم الاجتماع البشري الذي هو علم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ودين الإسلام فيه أكمل الأديان؛ وإنما كانت تأتي المسائل الجزئية منه في تضاعيف كلام بعض الأئمة عندما يتكلمون في الفقه ونحوه، فلا ينتبه لها الآخرون؛ لأن الناس في كل عصر لا يأخذون من الدين ولا من كتب العلم إلا ما يناسب استعدادهم وأحوالهم الاجتماعية، ولو قال قبل اليوم أحد إنه يجب السعي في تعميم اللغة العربية وينبغي للعلماء مطالبة حكوماتهم بذلك لقال الأكثرون إن هذا من الحرج الشديد الذي لا يجب في الدين. وقد كنت صرحت في مقالات الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية التي نُشرت في أعداد المجلد الأول من المنار، بأنه لا بد في الإصلاح الذي يعيد مجد الإسلام من تعميم اللغة، واحتججت على هذا ولم أتجرأ على التصريح بأنه واجب ديني؛ لأنني لم أكن اطلعت على نص الإمام الشافعي في ذلك وهؤلاء المقلدون لا يقتنعون بالأدلة والبراهين؛ وإنما يقتنعون بكلام الميتين وإن لم يكونوا مجتهدين. أما الدعوة إلى الإسلام فتختلف في هذا العصر عن العصر الذي ظهر فيه الإسلام من وجوه كثيرة يفهمها اللبيب ويطول شرحها الآن، وعليه فلا بد للمسلمين وليس لهم دول إسلامية تحمي الدعاة وتنصرهم أن يعتبروا بسير الدول القوية التي تنصر الدعاة إلى دينها في الدعوة إلى الإسلام فهم أولى بذلك منهم، وقد شرحنا شروط الدعوة وآدابها في مقالات سابقة، فليرجع إليها السائل ومن شاء في المجلد الثالث. وأما من لم تبلغه دعوة الإسلام على وجه صحيح يحرِّك إلى النظر، فليس بمؤاخذ عند الله تعالى، كما صرح به المتكلمون والله أعلم وأحكم. *** الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية (2) من محمد أفندي الصعيدي ماهر في فوه - غربية. قال بعد إطراء علينا وعلى المنار وتعريض بأدعياء العلم: أجمعت الأمة على أن القرآن الشريف هو كلام الله تعالى، وكذا الأحاديث القدسية التي رواها نبينا عليه الصلاة والسلام عن ربه جل وعلا؛ ولكن من يقارن بين القولين - القرآن والأحاديث القدسية - يرى أن بينهما فرقًا عظيمًا بينًا من حيث الفصاحة والبلاغة في العبارة والمتانة في التركيب، فقد أجمع الكل على أن القرآن استوفى شروط البلاغة حتى صار معجزًا يقف بإزاء آياته المعجزات كل إمام في البلاغة، سواء كان مسلمًا أم غير مسلم خاضعًا عاجزًا ناظرًا إليها بعين المهابة والإجلال، مقرًّا بأن ليس له في لجَّة هذا البحر الزاخر مسبح، ولا في ساحله مسرح، بخلاف الأحاديث القدسية فإنه وإن كانت في أعلى درجات البلاغة إلا أنها ثانوية بالنسبة للقرآن، فإذا كان قائلهما واحدًا وهو الحق جلت قدرته فلماذا لم يكونا في منزلة واحدة وعلى نمط واحد؟ فإذا جاءنا من أنكر أن تلك الأحاديث من كلامه تعالى، وادَّعى أنها ليست مروية عنه سبحانه بدليل عدم مماثلتها للقرآن فبماذا نجاوبه وبأي دليل نقنعه؟ هذه مسألة جالت في خاطرنا فلم نجد بابًا لحلها غير عرضها على غزير علمكم، وواسع اطلاعكم، فأرجو نشرها في مناركم الزاهر مع الإجابة عليها كما عودتمونا في مثل هذه الأحوال، والله نسأل أن يديمكم ملجأ للعلم، وعضدًا قويًّا للدين والملة الحنيفية بمنه وكرمه. (ج) إنما يفهم هذه المسألة من يفهم معنى الوحي كما ينبغي، وقد تقدم الكلام عنه في درس الأمالي المدرج في الجزء الخامس بقدر ما يسمح به الزمان والمكان، ونقول الآن: إن الوحي - وهو كما مر: إعلام لله تعالى نبيه شيئًا بطريق خفي غير الطرق التي يستفيد بها العلم سائر البشر - له طرق وكيفيات منها أن يلقي الله في قلب النبي بواسطة مَلَك أو بغير واسطة، معنى من المعاني فيعلم أنه من الله تعالى لا من الخواطر العادية، فيعبر عنه بلفظ من عنده ويسنده إلى الله تعالى؛ لأنه هو الذي أوحاه إليه بلا ريب عنده ولا شك، ومن هذا القبيل الأحاديث القدسية، وذهب بعض العلماء إلى أن كل ما يقوله النبي في الدين منه، أي أنه وحي وإن لم يسند إلى الله تعالى، وجعلوا هذا مفهومًا من قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) وذهب آخرون إلى أن بعض قوله اجتهاد واستنباط من الكتاب، واختلفوا هل يخطئ في اجتهاده أم لا، فعلمنا أن للنبي في هذا النوع من الوحي العبارة عنه؛ ولذلك تجوز روايته بالمعنى بشرطه؛ لأن لفظه ليس منزلاً. وأما القرآن العظيم فقد نزل على قلبه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بلفظه ومعناه ونظمه وأسلوبه، فليس له ولا لغيره أن يغير كلمة بكلمة ترادفها، أو يؤديه بالمعنى، ولهذا كان يعجل بتلاوته ويأمر بكتابته؛ لأنه كان يخاف أن ينسى كلمة منه أو يذهل عن ترتيبه الذي ألقي في قلبه حتى أمنه الله تعالى بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: 6-7) أي فلا تنسى أبدًا؛ لأن هذا الاستثناء من مؤكدات النفي كقوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعر

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية ننشر في هذا الباب نبذًا وجيزة من الفنون الطبيعية بعبارة سهلة التناول على طلاب الأزهر وأضرابهم الذين لا يتعلمون شيئًا من هذه العلوم، ونبدأ بهذه النبذة لأحد إخواننا الفضلاء وهي: (الثلج المصنوع) تمهيد: أحوال الأجسام: أجزاء الأجسام الصغيرة جدًّا التي لا تقبل الانقسام بينها تجاذب وتنافر، فإذا تغلب الجذب على النفور كان الجسم صلبًا، وإذا تساويا كان سائلاً، وإذا قوي النفور على الجذب كان الجسم غازيًّا في قوام الهواء، وأكثر الأجسام تنتقل من حالة الصلابة إلى السيولة، ومن السيولة إلى الغازيّة بالحرارة، وتنتقل من الغازيّة إلى السيولة، ومنها إلى الصلابة بالضغط والتبريد، فالكبريت الذي هو جسم صلب في الدرجة المعتادة يذوب ثم يتحول بخارًا بالحرارة، والماء الذي هو سائل في الدرجة المعتادة يجمد بالتبريد ويصير بخارًا بالحرارة، ومتى تَمدّد الجسم بالحرارة يخف ويتصاعد، فإذا سخن الماء على النار فالدقائق التي تسخن تصعد إلى أعلى الإناء، ولهذه السُّنة الإلهية فروع منها حركة الهواء واختلاف الرياح. موازنة الحرارة: إذا تَلامس جسمان درجة حرارتهما مختلفة سرى جزء من حرارة أشدهما حرارة إلى الثاني حتى تكون حرارتهما في حالة الموازنة، والشواهد على هذا كثيرة منها: إذا جلس الإنسان على كرسي مثلاً أو نام في فراش؛ فإن شيئًا من حرارة جسمه ينتقل إلى الكرسي أو الفراش فيسخن ويحس به الإنسان، ومنها أن الداخل في حمام حار يحس بحرارة شديدة، فإذا طال مكثه فيه ضعف إحساسه بالحرارة، وإذا انتقل من مكانه إلى آخر دونه في الحرارة؛ فإنه يحس ببرودة، ومنها الإحساس ببرودة ماء الآبار في الصيف، وسخونتها في الشتاء مع أن حرارته واحدة دائمًا. الموضوع: إذا انخفضت حرارة الماء إلى درجة الصفر؛ فإنه يجمد ويصير ثلجًا، فكل واسطة تخفض بها حرارة الماء إلى درجة الصفر فما دونها يمكن أن تستخدم في عمل الثلج المصنوع، وأسهل الوسائط وأيسرها وأقلها نفقة طريقة تحضير الثلج بواسطة غاز النوشادر، ذلك أن هذا الغاز يسيل بالضغط وتنخفض درجة حرارته إلى (40 تحت الصفر) فإذا رفع عنه الضغط عاد غازًا كما كان بعد أن يأخذ من حرارة الأجسام الملامسة له ما يحتاجه، وعلى هذه الخاصة أسس المُعلم (كاريه) جهازه لعمل الثلج، وهو مؤلف من قِدر يُملأ إلى ثلاثة أرباعه بمحلول النوشادر ويوضع على النار، ويوضع بإزائه إناء فيه ماء، وفي داخله إناء آخر على شكله في وسط الماء مغلق من جميع جهاته، وفي أعلاه أنبوبة متصلة بالقِدر الذي فيه محلول النشادر، فإذا أوقدت النار تحت القدر أخذ غاز النوشادر في الانفصال من محلوله وصعد فلا يجد طريقًا يمر منه إلا الأنبوبة الموصلة إلى الإناء، فيجتازها ويصل إلى الإناء الداخل المغلق، ومتى تراكم استحال إلى سائل قابل للتطاير بالدرجة المعتادة، فإذا نُزع القِدر من التنور الذي فيه النار، وغمر في ماء بارد استحال النوشادر السائل الذي في الإناء المغلق المحيط به الماء إلى غاز، ويرجع إلى القِدر ويذوب في الماء الذي كان فيه أولاً، فيتكون محلول النشادر ثانيًا، وأما الماء المحيط بالإناء الداخل؛ فإنه يجمد في الحال ويصير ثلجًا لامتصاص النوشادر حرارته، فيؤخذ الثلج ويوضع بدله ماء ويعاد العمل هكذا بقدر الحاجة. *** (الانتقاد على مقدمة ديوان حافظ) يخطئ المتطفلون على موائد العلم والأدب والكتابة في المنظوم والمنثور، فلا يلتفت أحد إلى خطئهم، ولا يرون كلامهم أهلاً للعناية بالانتقاد، وأما فرسان الكلام والسابقون في حلبة الفضل؛ فإن الناس يَعْدُون على جيادهم الكبو والعثار، ويعنون بانتقادهم ويرون في ذلك فائدة وفخرًا، وسمعة وذكرًا، ومن الناس من يغلو في النقد، فيتجرم ويتذقح ولا يرضى بجعل الهفوات من الموبقات، حتى يُعِدَّ الحسنات من السيئات، ويغلو آخرون في نقد النقد، ورد الرد، فيجعلون الخطأ صوابًا، والصدق كذبًا. وإن مقدمة ديوان حافظ في علو أسلوبها وانسجام تركيبها، جديرة بعناية الناقد، وموضع لحسد الحاسد، وقد انتقدها أحد الكتبة في بعض الجرائد الإخبارية فأبعد في القول، ومال كل الميل، انتقد كلامه في وصف الشعر، وقوله إنه يوجد في المنظوم والمنثور، وظاهر السياق يشهد بأن حافظًا يتكلم في روح الشعر وسره والغرض منه بوجه عام على طريق المبالغة الشعرية، ولعمري ما الشعر إلا تخيل وتصوير، يقصد به الوجدان بالتأثير، ليكون الكلام مقبولاً، وما يأمر به مفعولاً، وهذا هو الذي عناه سيدنا حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال له ولده: لسعني طائر، وكان لسعه زنبور، قال صفه لي، فوصفه بقوله: (كأنه ملتف في بُرْديْ حِبَرَة َفقال حسان: (قال ابني الشعر ورب الكعبة) والذي عناه سيدنا عمر رضي الله عنه بقوله: (الشعر جزل من كلام العرب تسكن به النائرة، ويبلغ له القوم في ناديهم) وهذا ما يعنيه حافظ أفندي في مقدمته. أصاب المنتقد في تخطئة قول المقدمة (ولقد ترجل لبيت منه جيش بالأندلس) والصواب أن الجيش كان في أفريقيا وهو جيش المعز العبيدي صاحب مصر، وكأن السهو جاء صاحب المقدمة من كون الشاعر أندلسيًّا - وهو ابن هانئ - فسبق قلمه ونسب الجيش إلى الأندلس بدلاً من نسبة الشاعر إليها، وقد علمت أنه تنبه إلى هذا قبل طبع المقدمة في الديوان فأصلحه. وقد نبهته على خطأ تاريخي أقوى من هذا كله لم يذكره المنتقد؛ لأنه لا يعرفه وهو نسبة الشاهنامة إلى القاآني وقوله إن أبياتها سبعون ألفًا، والصواب أن الشاهنامة للفردوسي شاعر السلطان محمود الغزنوي وأبياتها ستون ألفًا، وهي بمكان من البلاغة يعز الارتقاء إليه، وأما القاآني فهو شاعر متأخر مجيد. ولم يبعد المنتقد كثيرًا في مؤاخذته صاحب المقدمة على قوله: (ولقد كان هم الشعراء في الجاهلية مصروفًا إلى التقاط الألفاظ الغريبة) إلى آخره وغرض حافظ أفندي أن الشعر بعد حضارة الإسلام كان أحسن ديباجة، وأسلس عبارة، وأعلى معنى، وهذا صحيح؛ ولكنه بالغ في نسبة شعراء الجاهلية إلى العناية والتعمد في التقاط الغريب؛ حتى جعل معانيهم في مبانيهم كالحسناء تحت الأطمار، وأقول إن الألفاظ العربية التي كثر استعمالها بعد ظهور الإسلام أكثرها من لغة قريش؛ لأن السبب في حفظ العربية وضبطها هو الاستعانة على فهم القرآن والأحاديث، وقد صرنا نعد من الغريب كل ما لم نألفه في الاستعمال، وليس هذا بصواب. هذا ما رأيناه جديرًا بالتنبيه عليه، والله تعالى يقول في كتابه العزيز: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) فحسب حافظ أفندي فخرًا أن ما عُدَّ عليه أقل القليل، وعلى الله قصد السبيل. *** السينوغراف ألعوبة الصور المتحركة مصطفى صادق الرافعي كيف فؤادي والهوى شاغل ... يهيجه المنزل والنازل ما زلت أخفيه وأخفى به ... في الناس حتى فضح العاذل فعادنا المطل وعدنا له ... رحماك فينا أيها الماطل كل امرئ أيامه تنقضي ... لا أمل يبقى ولا آمل وما (السنوغراف) وما مثلت ... إلا صدى ينقله الناقل تبعث فيها أمة قد خلت ... وتجتلي في (لندن) (بابل) كم مثلت من طلل ماثل ... فكاد يحيى الطلل الماثل تريك من ينأى كان قد دنا ... ومن دنا كأنه راحل كأن فيها للهوى منزلاً ... فكل قلب عندنا نازل تلهو به عطبولة خاذل ... وقد بكت عطبولة خاذل وعانق العاشق معشوقه ... فاجتمع المقتول والقاتل يا ليت شعري هل رؤى نائم ... أم خطرات ظنها غافل لا تضحك الجاهل في نفسه ... إلا بكى في نفسه العاقل مواعظ مثلها هازل ... ورب جد جره الهازل كالنفس إن تنس الردى مرة ... فليس ينسى الأجل العاجل يزول ما فيها إلى عبرة ... وكل شيء غيره زائل وهكذا الدنيا انتقاص وما ... يكون فيها فرح كامل

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (انتقاد جريدة الحاضرة على الجناب العالي الخديوي) نقلت جريدة المؤيد نبذة عن بعض الجرائد الأوربية في وصف معيشة مولانا الخديو في مصيفه بأوربا، ومنه أنه يلبس في وقت كذا قبعة صفتها كذا، فانتقدت لبس القبعة جريدة الحاضرة التونسية، وذكرت حظر فقهاء الإسلام لبسها بناء على تفسيرها لها بما يلبسه الإفرنج وتسميه العامة (برنيطة) ونجيب بأنه يحتمل أن تكون القبعة المذكورة كُمَّةً مما يعتاد المسلمون وغيرهم لبسه في بيوتهم وقت الراحة والحظر الذي ذكروه مخصوص فيما جرت العادة بأن لا يلبسه إلا غير المسلمين، بحيث لو لبسه المسلم لاشتبه بهم، على أنه ربما لبسها متنكرًا لغرض صحيح، وتفصيل القول في التشبه المذموم وغير المذموم مفصل في مقالة نُشرت في المجلد الأول من المنار فلتراجع. *** (مفتي الديار المصرية في أوربا) وقف هذا الرجل حياته على خدمة الإسلام في الحِلِّ والترحال، والسفر والإقامة، فقد كان في السياحة الصيفية التي يظن أنه يصرفها في الراحة من عناء أعماله الكثيرة مجتهدًا في هذه الخدمة التي لا يرى لنفسه راحة بدونها، كان في الآستانة العلية يذاكر عظماء رجال الدولة كشيخ الإسلام وغيره في مصلحة المسلمين، وإحياء علوم اللغة والدين، ويبحث في بيوت الكتب عن أحسن مؤلفات السلف لأجل إحيائها، وكذلك كان في أوربا يزور مكتبات الملوك والأمراء ومتاحفهم، ويطَّلع على آثار المسلمين القديمة ومفاخرهم العظيمة، ومؤلفاتهم النافعة ويقتبس منها ما شاء الله أن يقتبس، وقد اطَّلع في مكتبة عاهل (إمبراطور) النمسا والمجر على بعض آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كبعض كتب عمرو بن العاص أمير مصر وغير ذلك. وقضى في بلاد سويسرة زمنًا ينظر فيما كتبه الإفرنج على الإسلام، وما وقفوا عليه من خط المسند، وما ظهر لهم في لغة سبأ وحمير، وإنها لخدمة إسلامية حقيق بها من حبس نفسه على خدمة الإسلام والدفاع عنه، وقد انتهى إلينا أنه سافر قاصدًا مصر، ويُنْتَظر أن يصل في يوم الاثنين (غدًا) منحه الله السلامة، ونفعنا به والمسلمين. (صدى حديث مفتي الديار المصرية مع شيخ الإسلام في الآستانة) طار خبر هذا الحديث في المؤيد، ثم في المنار إلى جميع البلاد الإسلامية، فتلقاه العقلاء والفضلاء بالقبول، ونشرته برمته الجرائد الإسلامية في الشرق والمغرب ليعم نفعه، ويعرف عامة المسلمين كما يعرف خاصتهم بأن أكابر علمائهم معترفون بأن معظم بلاء المسلمين قد جاءهم من تقصير علمائهم في خدمة الأمة والملة. *** (قول صاحب جريدة اللواء في الحديث) عُرف صاحب هذه الجريدة عند الخواص وأهل الرأي بالتجاوز والشذوذ والأفن والخطل، ومع هذا لم يشذ عن الجرائد الإسلامية المعتبرة في الاعتراف بصدق الحديث وإصابته المرمى وقرطسته في الهدف؛ ولكنه لم يترك شذوذه وتجاوزه الحدود عند الكلام عليه، فجعل الحديث برأيه الأفين حجة على المتحدثين وسأل من لا ينظر في جريدته من شيخ الإسلام ومفتي الديار المصرية عن خدمتهما للإسلام. أما شيخ الإسلام فصاحب اللواء يعرف أن مولانا السلطان أيَّده الله بتوفيقه لم يترك له ولا للوزراء استقلالاً بعمل يتعلق بالأمة، بل وضع جميع أعباء الدولة والأمة على كاهله، فإن كان هناك تقصير فليسأل عنه صاحب الإدارة والنفوذ المطلق، ويا ليت شعري ماذا يقول صاحب اللواء إذا سأله شيخ الإسلام عن رأيه في الإصلاح الإسلامي الذي ينبغي أن يعمله؟ هل يشير عليه بمثل ما أشار على مفتي الديار المصرية بأن يترك وظيفته، وينشئ مدرسة كمدرسة مصطفى كامل، أو مدرسة الوطن، أو مدرسة باب الخلق. وأما مفتي الديار المصرية فقد سمع الصُّم نداءه بالإرشاد إلى الإصلاح، وما العلماء إلا مرشدون، وأبصر العمي سعيه في خدمة الأزهر الشريف والجمعية الخيرية الإسلامية التي لها عدة مدارس كل واحدة منها خير من جميع المدارس الأهلية، وجمعية إحياء العلوم العربية، واعترف المكابرون مع المنصفين بمروءته وبذل جاهه وماله في خدمة المسلمين في الحكومة وغير الحكومة، ومن أعماله القريبة تقريره في إصلاح المحاكم الشرعية الذي أجمع على استحسانه العلماء والفضلاء، وجزموا بأنه لم يحاب الحكومة في إظهار خطأها، وأنه شخَّص الداء، وبيَّن الدواء، ووصف طريق العلاج؛ ولكن صاحب اللواء في مصر لا يسمع ولا يبصر، ولا يحس بهذا كله ولا يشعر. عرَّض هذا الانفجاني المتذقح بذكر الفتنة العرابية، ويا ليته كان يعرف حقيقة الفتنة العرابية، ويعرف المتهورين فيها والناصحين لهم بالاعتدال، هو لا يعرف ولا يحب أن يعرف، وإذا أحب فليسأل العارفين، وليراجع كتابة الكاتبين، وعند ذلك تظهر له مزية من عرَّض به إن كان من المنصفين، يظهر له أن هذا الرجل الكبير العقل البعيد الرأي كان ينتقد أعمال عرابي وتهوره في جريدة الوقائع الرسمية في القسم الأدبي منها، على حين ترتعد فرائص قصر الخديوية من عرابي، وحين يرى هذا المنتقد الشجاع أن رئيس النظار ينزل من ديوانه بأمر عرابي مكرهًا، ويسمع من أتباعه ما يكره، وتظهر له تلك الخطبة التي خطبها هذا الرجل العظيم في زعماء الثورة العربية عندما ألزموه بحضور مجتمعهم، وأن يقوم فيهم خطيبًا، ماذا كان موضوع خطبته؟ كان موضوعها بيان تاريخي بأن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن القيام على الحكومات الاستبدادية، وتقييد سلطانها وإلزامها بالشورى وبالمساواة بين الرعية إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا إذا فشا فيهم التعليم الصحيح والتربية النافعة وصار لهم رأي عام، وأنه لم يعهد في أمة من أمم الأرض أن الخواص والأغنياء ورجال الحكومة يطلبون مساواتهم بسائر الناس، وإزالة امتيازاتهم واستئثارهم بالجاه والوظائف ومشاركة الطبقات الدنيا لهم في ذلك، فكيف حصل في هذه المرة ومن أهل هذا المجتمع؟ (قال) : فهل تغيرت سنة الله في الخلق، وانقلب سير العالم الإنساني؟ أم بلغت الفضيلة فيكم حدًّا لم يبلغ له أحد من العالمين؛ حتى رضيتم واخترتم عن روية وبصيرة أن تشاركوا سائر أمتكم في جاهكم ومجدكم، وتساوون الصعاليك حبًّا بالعدالة والإنسانية؟ أم تسيرون إلى حيث لا تدرون وتعملون ما لا تعلمون؟ وأمثال هذا الكلام الذي فهمه بعضهم فطفقوا ينغضون رؤوسهم، وعلا على أفهام الآخرين. هذا ما قاله الشيخ محمد عبده في أعظم مجتمع لرؤساء العرابيين، ولو كانوا يعقلون لرجعوا به إلى رشدهم؛ ولكن الأمة لم تكن استعدت لفهم إرشاد هذا الحكيم في ذلك الوقت، ولما تستعد إلى الآن اللهم إلا نفرًا من فضلاء النابغين هم محل الرجاء لنهضة المسلمين، ولهذا الأستاذ أن يتمثل بقول ابن الفارض رحمه الله تعالى: ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى ... ولكنها الأهواء عمّت فأعمت ومما أضحك الناس من كلام صاحب اللواء نصحه لمفتي الديار المصرية بأن يترك وظائفه ويشتغل بتأسيس مدرسة وطنية، وقالوا إن هذا القول حجة لأصحاب المقطم فيما يلقبونه به، سبحان الله: هل كان يخطر في بال عاقل أن صاحب جريدة يطيع وسواسه في كتابة مثل هذه الكلمة، ويقول لرجل يخدم الأزهر وهو أكبر مدرسة في العالم، ويرأس جمعية لها عدة مدارس بأن يترك وظائفه وهي الإفتاء والأزهر والأوقاف والجمعية الخيرية وجمعية إحياء العلوم العربية والشورى وإصلاح المحاكم ويبني مدرسة أهلية كمدرسة مصطفى كامل ينفق عليها من الاستجداء والنصب؛ فإنه إذا ترك وظائفه لا يبقى له مال يكفي لنفقات بيته ونفقات المدرسة. *** (إصلاح عظيم في مدرسة خليل أغا) اجتمع مجلس الأوقاف الأعلى في يوم الثلاثاء الماضي برئاسة صاحب السعادة الفاضل عبد الحليم باشا عاصم واتفق على إنشاء قسم في مدرسة خليل أغا يسمى القسم الخاص، يعلم فيه التفسير والأخلاق والخطابة ولوازمها، ويكون منه خطباء وأئمة المساجد في القطر المصري، ويؤخذ بعض تلامذته من نجباء المجاورين في الأزهر الشريف، وهذا أعظم إصلاح تقوم به هذه المدرسة بدلاً من الأزهر، واتفق على إنشاء قسم تجهيزي فيها من ابتداء سنة الدراسة وهو شهر أكتوبر الآتي، وعلى إنشاء قسم صناعي تعلم فيه الصنائع النافعة يستعد له في هذا العام استعدادًا، ويرجى أن ينشأ فعلاً في العام الآتي حقق الله ذلك، وعلى قبول مائة تلميذ في القسم الابتدائي من المدرسة بنفقات قليلة زيادة على تلامذتها الذين يُعَلَّمون كلهم مجانًا، وعلى إعطاء جميع أدوات التعليم وكتبه لفقراء اليتامى من التلامذة، وعلى زيادة مرتب النبيه الفاضل عزتلو حسن بك صبري مفتش المدرسة ومدير نظامها، والأستاذ الفاضل الشيخ حسن منصور معلم الدين والعربية فيها وبعض المستخدمين، جعل الله هذه المدرسة ينبوعًا من ينابيع السعادة لهذه البلاد بهمة القائمين بشؤونها وعنايتهم، وجزاهم الله تعالى على سعيهم أفضل الجزاء. *** (إسلام بيت من الفرس في الهند) كتب إلينا أحد أصدقائنا من علماء الهند الفضلاء بأن بيتًا من بيوت الفرس فيه ستة نفر تركوا الملة الزرادشتية، وتشرفوا بالدخول في الملة الحنيفية، وقد سبقهم إلى ذلك أهل بيت آخر من أقاربهم المثرين منذ عامين، وأن بيوتًا أخرى منهم عازمة على الدخول في الإسلام، ومنها من أسلم ولكنه يكتم إسلامه لأسباب دنيوية، كل هذا بدون دعوة ولا ترغيب ولا ترهيب؛ وإنما هو محض الاقتناع بحقية الإسلام، وههنا يشدد صاحبنا النكير على علماء المسلمين لإهمالهم الدعوة إلى الإسلام، وتربية أمة من طلاب علوم الدين على ذلك، وتعليمهم ما يُحتاج إليه ولا نذكر ما كتبه لأننا وفينا هذا الموضوع حقه من قبل؛ ولكننا نذكر كلمة قالها في أغنياء المسلمين المقصرين في خدمة الإسلام وهي: (ومن أشد ما يتأسف عليه أن الأغنياء منا مع أنهم يبذلون ألوفًا، بل مئات الألوف في استيفاء اللذات الحيوانية، والمشتهيات الشيطانية، والمغالاة في الأعراس والوليمات، ويعطون أموالاً كثيرة للقِحاب والغانيات، لا يتحرك فيهم عرق الحمية، والغيرة الإسلامية، إذا رأوا إنسانًا كان معززًا في قومه مرفه الحال يُسْلِم، فيموت جوعًا، أو يضطر إلى الشحاذة رغم أنفه، فيجلب رزءًا فوق رزء، ويجعل الدين منه عرضة التهم، هذا حال المسلمين، والمسيحيون قد يبذلون لإشاعة دينهم في كل سنة ألوفًا وملايين، ويرسلون الوفود والدعاة إلى أقطار الأرض من الغرب إلى الشرق، ومن القطب إلى القطب ويتحملون النفقات التي لا تحصى والمشاق الشديدة على أنهم قلما يحصلون على طائل في ترويج بضاعتهم، فليت المسلمين ينتبهون للقيام بهذا الواجب الأهم، والتعاون عليه بفضل قلم أو قدم، وبذل دينار أو درهم، اتقوا النار ولو بشق تمرة و {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: 91) . *** (وفاة الطبيب عبد المجيد خان حاذق الملك الدهلوي) نعت إلينا المكاتب الخصوصية من الهند وفاة هذا الطبيب النطاسي الشهير، والعلامة الكبير، وعلمنا أن تأثير فقده كان عظيمًا في الممالك الهندية، ورث الفقيد هذه الصناعة عن أبيه وجده، وبرز فيها على الأقران علمًا وعملاً، ولقَّبته الدولة البريطانية بحاذق الملك، وكان صدر الجمعية الطبية في دهلي، وكان يعلم الطب والتشريح ويعطي الطلاب الفائزين في الامتحان ما استحقوه من الإسناد، وممن رثاه صديقنا العالم الأديب الشيخ أحمد الجيتكر رحمه الله تعالى. *** (حيل

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 10

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورة العاشرة بين المصلح والمقلد الأخذ بالدليل، ونهي الأئمة عن التقليد هذا آخر مجلس حضره المقلد الثاني أو المناظر الثالث مع المصلح والمقلد وهو الذي بدأ بالسؤال فقال: الثالث: قلت إن وقتي قصير هنا وإنني مسافر غدًا أو بعد غد، وأحب أن أبدي بقية ما عندي من الدلائل على جواز التقليد، بل وجوبه على العاجز عن الاجتهاد، وأحب أن أعرف بعد ذلك ما يدور بينكما من المباحث، وأن أقف على رأي حضرة الفاضل - وأشار إلى المصلح - في الوحدة الإسلامية فيما عدا العبادات من أحكام الشرع، وأرى أن من أقوى الأدلة على التقليد في العبادات قول العلماء من أهل الصدر الأول أن العامي لا مذهب له؛ وإنما مذهبه مذهب مفتيه وفتوى المفتي في حقه بمنزلة الدليل، وأما قولك السابق في الجواب عن عوام أهل الصدر الأول إنهم كانوا يأخذون بقول المفتي من باب الرواية؛ لأنهم كانوا يسألون عن حكم الله تعالى فيجابون إما بالكتاب وإما بالسنة، فيعملون بذلك وهو غير تقليد - فهو غير مسلَّم لوجهين: (أحدهما) أن المجيب إذا ذكر الآية أو الحديث في الجواب فإن السائل لا يفهم إلا إذا كان عربي الأصل، ولم يكن كل مسلم كذلك، و (ثانيهما) : أن المجيب إذا لم يجد في المسألة آية ولا حديثًا فلا مندوحة له عن القياس، وهو رأي، وعمل المستفتي به تقليد. المصلح: ثبت عن الأئمة المجتهدين القول بمنع الفتوى بغير دليل، وقد علمت أنني لا أسمي من يأخذ الحكم بدليله مقلدًا؛ وإنما أسميه راويًا أو متعلمًا أو مسترشدًا، وليس هذا بممنوع ولا يُعَدُّ صاحبه مقصرًا في فهم دينه والبصيرة فيه، بل تركه هو التقصير؛ إذ المرء لا يولد عالمًا وقد ورد: (العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) ولا فرق في هذا بين أن يسمع الآية أو الحديث فيفهم المعنى بنفسه، وبين أن يستعين على الفهم بالراوي أو غيره فكله من الاجتهاد في فهم الدين والبصيرة المطلوبة فيه، وأما القياس فقد علمت أنني أمنعه في العبادات المحضة ولا تستطيع أن تثبت لي أن أحد الأئمة المجتهدين حمل الناس على الأخذ بقول له مبني على قياس في العبادات المحضة من غير أن يفهموا ذلك القياس ويقتنعوا به، على أن المجتهد يخطئ كما هو معلوم من الاختلاف، ولمتبع الدليل أن يَرُدَّ بعض ما نقل عن المجتهدين إذا قام الدليل على بطلان ذلك؛ لأنه مجتهد مثل الذي رد قوله، بل نقل عن العلماء المنتسبين للمذاهب أنهم خالفوا أئمتهم في بعض المسائل؛ لأن الدليل قام عندهم على خطأهم أو ضعف دليلهم، وعلماء الشافعية أكثر العلماء استدراكًا على إمامهم لعلمهم بأنه كان يأمر باتباع الدليل؛ ولأنهم أعلم المسلمين بالكتاب والسنة. قال العلامة البغوي الشافعي في فاتحة شرح السنة: وإني في أكثر ما أوردته بل في عامته متبع إلا القليل الذي لاح لي بنوع من الدليل في تأويل كلام محتمل أو إيضاح مشكل أو ترجيح قول على آخر. وهذا يدل على أنه ما سلم فيما اتَّبَع فيه إلا لرضاه بدليله، وقال في (باب المرأة لا تخرج إلا مع محرم) : وهذا الحديث يدل على أن المرأة لا يلزمها الحج إذا لم تجد رجلاً ذا محرم يخرج معها وهو قول النخعي والحسن البصري وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، وذهب قوم إلى أنه يلزمها الخروج مع جماعة النساء وهو قول مالك والشافعي، والأول أولى بظاهر الحديث. واستدرك البيهقي وهو شافعي على إمامه في لبس المعصفر إذ صح عنده حديث ابن عمر فيه. واستدرك الغزالي على إمامه الشافعي في مسألة الماء إذا كان دون القُلّتين ووقع فيه نجاسة لم تغيره، وأطال في الإحياء القول في ترجيح عدم النجاسة والميل إلى موافقة مالك مع أنه يلتزم في أحكام الإحياء مذهب الشافعي. ورجح النووي جواز بيع المعاطاة، وكون نجاسة الخنزير كسائر النجاسات لا يجب غسلها سبع مرات إحداهن بالتراب. ومن طالع الكشَّاف يرى الزمخشري يخالف مذهبه الحنفي في مسائل اتباعًا لما فهمه من القرآن منها مسألة الصعيد الذي يتيمم فيمسح منه. مذهب أبي حنيفة أنه وجه الأرض وإن صخرًا. قال الزمخشري: فإن قلتَ: فما تصنع بقوله تعالى في سورة المائدة: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} (النساء: 43) أي بعضه، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلتُ: قالوا: إن (من) لابتداء الغاية، فإن قلتَ: قولهم: إنها لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم من قول العرب: مسحت برأسي من الدهن أو من التراب أو من الماء، إلا معنى التبعيض، قلتُ: هو كما تقول والإذعان للحق أحق من المراء. ومثل هذه المخالفات والاستدراكات كثير عن أكابر العلماء ولو جرى جميعهم على هذه الطريقة القويمة لتحررت المذاهب وزال الخلاف الضار وتحققت الوحدة الإسلامية؛ ولكن الآراء والأهواء لا يمكن أن تتفق بنفسها فلا بد من الوازع، والوازع في مثل هذا المقام هو خليفة المسلمين؛ ولكن الخلافة ضعفت في آخر زمن الراشدين وزالت بزوالهم، بل صارت ملكًا عضوضًا كما ورد في الحديث فأصبحت علوم الدين في فوضوية أدت إلى هذا الهلاك والبوار الذي نشكو منه، ولا يتأتى للخليفة أن يجمع الكلمة ويزيل الخلاف إذا كان إمامًا مجتهدًا، ولنقف عند هذا الحد فقد جمح اللسان حتى كدنا نخرج عن المقصود. الثالث: نُقل عن الإمام أبي يوسف أنه ليس للعامي العمل بالحديث، بل عليه الاقتداء بالفقهاء، وأنت تقول: إن أبا يوسف مجتهد مطلق، نعم إنهم قالوا: إنه أراد الجاهل الصرف الذي لا يفهم معنى النصوص ولا يعرف الناسخ والمنسوخ وغير ذلك، ولا أحتج بهذا على أصل التقليد فقد علمت أنك لا تأخذ فيه ولا بقول المجتهد وإنما أعارض قولك: إن المأثور عن الأئمة هو النهي عن اتباعهم وترك الأخذ بالكتاب والسنة، وقد علمنا عنك أنك تلوم علماء العصر لأخذهم بالتقليد والتزام كل طائفة منهم إمامًا واحدًا وتقول: إنهم اتبعوا في هذا الصنيع أقوال المقلدين من الفقهاء وأنهم لو اتبعوا الأئمة لعذرتهم، وقد بيَّنت لك الآن أنهم اتبعوا في ذلك إمامًا مجتهدًا. المصلح: المعروف عن العلماء المتقدمين أن الناس صنفان: علماء باحثون ويجب عليهم اتباع الدليل، وعوامّ لا يفقهون ويجب عليهم اتباع الفقهاء من غير التزام واحد بعينه، وهذا هو معنى قولهم: مذهب العامّيّ مذهب مفتيه، والمشهور عنهم أنه لا يجب عليه التزام مفتٍ واحد، بل يسأل من يعنُّ له، وقالوا إنه يعمل بظاهر الحديث والقرآن بالأولى، ولم ينقل عن الأئمة خلاف في هذا إلا عن أبي يوسف من أئمتكم. جاء في مبحث صوم المحتجم من كتاب الهداية: ولو احتجم فظن أن ذلك يفطر ثم أكل متعمدًا، عليه القضاء والكفارة لأن الظن ما استند إلى دليل شرعي إلا إذا أفتاه فقيه بالفساد؛ لأن الفتوى دليل شرعي في حقه. ولو بلغه الحديث واعتمده فكذلك عند محمد، بل وأبي حنيفة؛ لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينزل عن قول المفتي، وفي الكافي والحميدي: ولا يكون أدنى درجة من قول المفتي وقول المفتي يصلح دليلاً، فقول الرسول أولى وقول أبي يوسف خلاف ذلك، وقد أجابوا عن أبي يوسف بأنه أراد العامي الصرف الجاهل الذي لا يفهم معنى الحديث كما في الكافي والحميدي، أي كعامة الفلاحين في زماننا إذا سمع الحديث من الناس ولم يسمع تفسيره، وأما الأئمة الأربعة فقد نُقل عن كل واحد منهم الأمر بتقديم الحديث على قوله، وما أهان الكتاب والسنة إلا بعض المتفقهة المتأخرين حتى تجرأ بعض من يسمون اليوم علماء على القول بأن من يقول: اعمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو زنديق! وما الزنديق إلا من يختار على كلام الله ورسوله كلام غيرهما بعد أن يعرفهما. المقلد: كنت اقترحت عليك في المجلس الماضي أن تبين رأيك في الوحدة الإسلامية في المعاملات والأحكام الدنيوية، ثم نعود إلى المناقشة في الاجتهاد والتقليد، وذكر ما عندنا وما عندك في ذلك. والآن أوافق صديقي في مطالبتك بنصوص الأئمة في النهي عن التقليد لعلنا نسلم لك بعد ذلك ما تقول تسليمًا. المصلح: إنني أستحضر الآن بعض هذه النصوص ويسهل عليَّ أن أستقصيها بالمراجعة في الكتب إن شئتم. المقلد والثالث معًا: اذكر لنا ما تستحضره الآن فلعل فيه غناء. المصلح: أما أبو حنيفة فقد نُقل عنه أنه كان يقول: (لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي) وممن نقل عنه هذا العلامة ولي الله الدهلوي المتوفى سنة 800 في (عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد) والشعراني في (اليواقيت والميزان) . وقال الفقيه أبو الليث السمرقندي: حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: (لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا) وروى عن عاصم ابن يوسف أنه قيل له: إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة، فقال: إن أبا حنيفة قد أوتي ما لم نؤت فأدرك فهمه ما لم ندركه ونحن لم نؤت من الفهم إلا ما أوتينا ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم من أين قال. وروي عن عصام بن يوسف أنه قال: كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة زفر بن الهذيل وأبو يوسف وعافية ابن يزيد وآخر، فكلهم أجمعوا على أنه لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه اهـ. وقد أورد هذا الشيخ صالح بن محمد العمري المحدث الشهير بالفلاني أستاذ الشيخ محمد عابد السندي المحدث الشهير، وقال: إن هؤلاء الأئمة لا يبيحون لغيرهم أن يقلدوهم فيما يقولون بغير أن يعلموا دليل قولهم، وهذا الذي ذكره أبو الليث نقل في خزانة الروايات مثله عن السراجية وغيرها اهـ. وفي روضة العلماء الرندويسية في فضل الصحابة قيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه، فقال: اتركوا قولي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه، قال: اتركوا قولي لقول الصحابة. وقال ابن الشحنة في نهاية النهاية: وإن كان - أي ترك الإمام الحديث - لضعف في طريقه، فينظر إن كان له طريق غير الطريق الذي ضعفه به، فينبغي أن تعتبر فإن صح عمل بالحديث ويكون ذلك مذهبه ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيًّا بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) . ونقل الشعراني عنه أنه كان يقول إذا أفتى بقول: هذا رأي النعمان بن ثابت- يعني نفسه - وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب. هذا ما كان يقوله هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى ولم يبحث ويستنبط ليصرف المسلمين عن الكتاب والسنة إلى أقواله؛ وإنما بحث واستنبط ليعلمهم طرق الفهم والاستنباط من الكتاب والسنة، فهل يصح لمدعي اتباعه أن يحظر النظر في الكتاب والسنة لأجل العمل بهما اتباعًا لبعض المقلدين المتأخرين كابن عابدين وأضرابه، وهل يكون بهذا مهتديًا بهدي أبي حنيفة ومتبعًا له؟ نعم إن هؤلاء المتأخرين نقلوا عن أمثالهم أن العمل بالفقه لا بالحديث {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى} (النجم: 23) ومن البلاء أن لا يقتنع المسلم بأنه يجوز له أو يجب عليه العمل بكتاب الله وسنة رسوله، إذا هو فهمهما، وأنه يجب عليه أن يفهم ما يفترض عليه فهمه منهما إلا إذا جئناه بنقل عن العلماء بأن ذلك جائز أو واجب. ويعجبني قول الظهيرية من كتبكم في الرد على من يقول إن العمل بالفقه لا بالحديث فقد بينت فساد هذا القول، وما أُوِّل به

شبهات المسيحيين على الإسلام وحجج الإسلام على المسيحيين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين على الإسلام وحجج الإسلام على المسيحيين النبذة السادسة لو أراد الإنسان أن يناقش هؤلاء المسيحيين الذين يؤلفون الكتب في دعوة المسلمين إلى النصرانية، ويحكم العلم في مصنفاتهم، فيرد على كل خطأ يجب رده لاحتاج أن يكتب على كل صحيفة من صحائفهم السوداء كتابًا مستقلاًّ؛ لأنهم يرمون الكلام على عَوَاهنه فيخطئون من حيث يدرون ومن حيث لا يدرون، ويتعمدون الإيهام والتغرير لأنهم يكتبون للعامة الذين لا يدققون. يقول صاحب كتاب (أبحاث) الجدليين لا (المجتهدين) في الفصل الأول من البحث الأول إنه يثبت صحة التوراة والإنجيل (بالحجة الدامغة والبرهان المنطقي) ثم يورد الآيات القرآنية وهي عنده جدلية لا منطقية ويحرفها عن معناها كما حرَّف هو وسلفه التوراة والإنجيل، وقد بيَّنا من قبل معنى التوراة والإنجيل وإثبات القرآن لهما، وكون هذا الإثبات لا ينافي إرسال نبي آخر بشريعة جديدة أكمل منها، وبيَّنا أيضًا وجه كون الديانة الإسلامية أصلح لحال البشر وأهدى لسعادتهم، بل وبيَّنا كيف أبطل بولس شريعة التوراة والإنجيل وجعل المسيحية إباحية لا قيمة فيها للعمل الصالح؛ وإنما العمدة فيها على الإيمان بأن المسيح جاء ليخلص العالم. فكيف جاز عند محبينا من دعاة المسيحيين أن يبطل هذا الرجل اليهودي بذلاقة لسانه وخلابته شريعة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ولا يجوز في نظرهم أن يرسل الله محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام بالبراهين العقلية فيصدق المرسلين، ويقضي على المارقين، ويؤنب المحرِّفين، ويبين الحق في اختلاف المختلفين، ويخاطب اليهود والمسيحيين، بمثل ما خاطب عيسى الكتبة والفريسيين بأنهم لم يقيموا الكتاب، بل أخذوا بالقشر وتركوا اللباب، وأنهم لو أقاموه لما ساءت حالهم، ولما وجب خزيهم ونكالهم؛ ولكن اليهود والنصارى كانوا في زمن البعثة في أشد الخزي والنكال، وعند آخر طرف من الغواية والضلال؛ ولذلك تقلص بشمس الإسلام ظل سلطانهم بعد حين {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) . أورد صاحب الأبحاث سبع آيات من القرآن المجيد، وقال إن الآية الأولى تفيد أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل هدى للناس، نعم وقد اهتدى بهما من قبل أقوام فسعدوا، ثم حرَّفوا وفسقوا، وانحرفوا فشقوا، حتى جاء الإسلام بالهداية الكبرى، والحجة العظمى، فاهتدى به بعضهم فسعدوا وسادوا على الآخرين، وكانوا مع أهله الأعلين ما كانوا به مهتدين. وقال إن الآية الثانية وهي: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (المائدة: 68) تبين صحتهما، وهو كذلك ولكن للآية تتمة لم يذكرها المصنف؛ لأنه غير منصف وهي قوله: {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (المائدة: 68) فكأنه يأمرنا أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض كما فعل هو ومن على شاكلته بالتوراة، والمراد بما أُنزل إليهم من ربهم القرآن؛ فإنه لم ينزل بعد التوراة والإنجيل غيره، فالله تعالى يأمر أهل الكتاب بأن يكونوا مسلمين يؤمنون بالكتب كلها، ويبين أن تعللهم واحتجاجهم على عدم اتِّباع القرآن بأنهم أصحاب كتاب سماوي لا حاجة لهم بغيره احتجاج باطل وتعلل كاذب؛ لأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل وأوضح هذا بالآيات الأخرى الناطقة بأنهم حرَّفوا، وبأنهم نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به، وأنهم لو أقاموهما لما حل بهم الخزي والنكال {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (المائدة: 66) وكذلك وقع لإخوانهم الذين أسلموا فقد فازوا ببركات السماء والأرض، وتتمة الآية التي نحن بصددها {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} (المائدة: 68) وهذه الحجة قائمة عليهم إلى يوم القيامة؛ فإن هؤلاء الدعاة يخدعون عوام المسلمين بوجوب اتِّباع التوراة ويوهمونهم أنهم متبعون لها، ويقول صاحب الأبحاث أن محمدًا يطلب إقامة حدودها، ولا يوجد في الدنيا نصراني يقيم حدًّا من حدود التوراة أو يعمل بأحكامها في العبادات والمعاملات، فما لهم يشفقون على المسلمين وينصحون لهم بإقامة هذه الحدود ولا ينصحون لأنفسهم ولا يشفقون عليها؟ وقال: والثالثة تبين أن الإنجيل مُنَزَّل من عند الله، وأن محمدًا راضخ لأحكامه، والآية الثالثة هي قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (المائدة: 47) وليس فيها إخبار بأن محمدًا عليه الصلاة والسلام راضخ لأحكامه؛ ولكن هؤلاء الناس يستبيحون أن يُحَمِّلوا الآيات ما لا تحمله لتأييد أهوائهم، وبذلك أفسدوا كتبهم وجاءوا يفسدون علينا كتابنا؛ ولكن الله حفظه من التحريف والتبديل، في الآية قراءتان إحداهما بكسر لام (وليحكم) وهي متعلقة بقوله تعالى قبلها: {وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} (المائدة: 46) أي أعطينا عيسى الإنجيل ليحكم أهله فيه، وأهله هم بنو إسرائيل لأن القرآن أخبرنا بأنه أرسل إلى بني إسرائيل فعرف أنهم أهله، وكذلك الإنجيل الذي عندهم الآن يقول إن المسيح قال: (لم أبعث إلا إلى خراف إسرائيل الضالة) . والقراءة الثانية بسكون اللام، وهي حكاية للأمر السابق عند الإتيان، أي آتيناه الإنجيل وأمرنا من أرسل إليهم بالعمل به، ويحتمل اللفظ أن يكون أمرًا مبتدأ ورد على سبيل الاحتجاج على النصارى بعدم العمل بالإنجيل المُصَدِّق للتوارة والمقتضي للعمل بها على ما تقدم بيانه آنفًا، وإذا جاز لدعاة المسيحيين اليوم أن يحتجوا على المسلمين بأن القرآن يأمرهم بالإيمان والعمل بالتوراة والإنجيل ولا يرون هذا الاحتجاج مقتضيًا لإيمانهم بالقرآن، فكيف يدعون أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم لهم بالحكم بالإنجيل يستلزم أن يكون هو راضخًا لأحكامه. يتصل الكلام ((يتبع بمقال تالٍ))

تهاني العلماء والأدباء لفضيلة مفتي الديار المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تهاني العلماء والأدباء لفضيلة مفتي الديار المصرية رُفع إلى الأستاذ قصائد كثيرة جدًّا تهنئه بقدومه من مصيفه في الآستانة وأوربا، ورغب إلينا كثيرون ممن نعرفهم من ناظميها أن ننشر قصائدهم وليس نشر المدائح من شأن المنار؛ ولكننا نشير إلى بعض القصائد ببعض أبيات منها لاعتبارات لنا فيها، ونبدأ بهذه الأبيات التي نظمها الأديب الفاضل الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي الأزهري الشاعر المجيد وهي: سار يباري النجم في جده ... وعاد كالسيف إلى غمده رأى السرى والسهد مهر العلى ... فجد وارتاح إلى سهده لا يبصر الخطب جليلاً ولا ... تلوي به الأهوال عن قصده مسَدَّد العزم إذا ما مضى ... يحار صرف الدهر في ردّه كالسيف يجلوه القراع ولا ... يأخذ ضرب الهام من حدّه من لا يرى المجد سبيلاً له ... لا يأسف المجد على فقده فضجعة الراقد في بيته ... كضجعة الميت في لحده كان لمصر بعد توديعه ... صبابة الصادي إلى ورده واليوم قد عاد لها كل ما ... ترجو من النعمة في عوده وافتر عنه ثغرها مثلما ... يفترُّ ثغر الروض عن ورده بدا وقد حفت به هيبة ... كأنما (عثمان) في برده ما فيه من عيب سوى أنه ... يحسده الناس على مجده ما حيلة الحساد في نعمة ... أسبغها الله على (عبده) ومن قصيدة للأستاذ الشيخ سيد علي المرصفي مدرس الأدب في الأزهر: هذا هو العلم لا علم بمحفظة ... محدودة من جلود الشاء والغنم جوفاء معتلة في جوفها ورم ... تشكو لخالقها من علة الورم ومن قصيدة الفاضل الشيخ مصطفى حسين مشيط المنفلوطي الأزهري: إن الزمان إذا اعتدى بصروفه ... لم يبق حبلاً في الهوى موصولا كم ذا يروّعني بكل ملمة ... لا تترك الصبر الجميل جميلا لولا اعتصامي بالإمام (محمد) ... كهف الورى لم أبلغ المأمولا ومنها: شيدتَ أركان الشريعة بعد ما ... لعبت بها أيدي البلاء طويلا وشَهَرتَ للدين الحنيفي سيفه ... بيد الثبات وكان قبلُ كليلا ومن قصيدة للشاب اللوذعي مصطفى صادق أفندي الرافعي الكاتب بمحكمة شبين الكوم: والصبح ميمون الطليعة قادم ... مثل الإمام بطلعة زهراء يجلو الظلام كما تجلَّى هديه ... فأضاء كل سريرة ظلماء تزهو السماء بشمسها و (محمد) ... في الأرض شمس الملة السمحاء

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (الصارم المنكي في الرد على السبكي) عرف قراء المنار مما كُتب في آخر الجزء الثامن أنه ينسب للقاضي تقي الدين السبكي رسالة في الرد على شيخ الإسلام أحمد بن تيمية، وأصل الخلاف بينهما في مسألة شد الرحال وإعمال المطي إلى القبور، فابن تيمية أخذ بظاهر الحديث الصحيح (لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم وغيرهما من عدة طرق، وذهب السبكي إلى خلاف ذلك محتجًّا بأشياء كثيرة بيَّنها في رسالة مخصوصة، وأما زيارة القبور فليس في أصل استحبابها خلاف بين ابن تيمية والسبكي؛ ولكن الأول ينكر كل بدعة فيها، وكل ما لا تشهد له السنة الصحيحة، والسبكي يبيح بعض ذلك ولولا ترويج مثله من العلماء المقربين من السلاطين والحكام للمحدثات التي تفشو بين العوام لما ثبتت بدعة بين المسلمين. والذي ينظر في كتاب السبكي ينخدع لكثير من أقواله وما يورده من الأحاديث والأخبار، إلا إذا كان من حفاظ الحديث ورجال النقد الصحيح وقليل ما هم لا سيما في هذا الزمان، ففي الكتاب كما قلنا من قبل كثير من الأحاديث الموضوعة والواهية والمنكرة، وإن ترك زيارة القبور بالمرة أهون من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى لا يعذب على ترك الزيارة إذ لم يقل أحد بوجوبها؛ ولكن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر لما ثبت في الحديث الصحيح، بل المتواتر (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وفي رواية بحذف لفظ (متعمدًا) ولا يخفى أن الجهل ليس بعذر، إذ لا يصح لأحد أن ينسب إلى النبي عليه الصلاة والسلام شيئًا إلا إذا كان عالمًا أو ظانًّا أنه قاله، وليس من العلم ولا من الظن أن يراه في كتاب إلا كتب المحدثين الذين يبينون الصحيح من غيره. فمن قرأ كتاب السبكي أو رسالته فهو على خطر عظيم، بل على أخطار متعددة: خطر الكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وخطر الغرور في الدين، وخطر الجراءة على المعاصي، وخطر الزيادة في الدين وغير ذلك، وليس له في إزاء ذلك أدنى فائدة؛ لأننا إذا فرضنا أن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة لغرض ديني - إذ الأغراض الدنيوية المباحة غير مرادة هنا - مباح فأي حرج على من تركه احتياطًا للخلاف فيه، وعملاً بظاهر الحديث المتفق على صحته. ومن أحب أن يطَّلع على جميع ما في كتاب السبكي من الأدلة والحجج مع الأمن من الخطر فليطالع كتاب الصارم المنكي الذي ألفه العلامة المحقق أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي، وطُبع في هذه الأيام بالمطبعة الخيرية؛ فإنه يورد جميع حجج السبكي والأحاديث التي استدل بها سواء كان المدلول مسلَّمًا عنده وعند ابن تيمية أم غير مسلَّم، ويحكم فيها النقد الصحيح، ويذكر نقول الحفاظ والمحدثين في أسانيدها التي اغتر بها السبكي؛ لأنه لم يكن من الحفاظ وإنما كان فقيهًا مشغولاً بالقضاء، ولعلنا نقتبس بعضها عند الكلام في مواضيعها، وصفحات الكتاب 339، وثمنه خمسة غروش أميرية، وهو يباع في مكتبة الخشاب بمصر. *** (حقوق الملل، ومعاهدات الدول) ولع الناس بقراءة صحف الأخبار ومعرفة السياسة من الجرائد؛ ولكن هذه الجرائد في بلادنا الشرقية، بل وأكثر جرائد أوربا لا تتكلم في علم السياسة وأصوله وأحكامه العامة إلا نادرًا، وإنما تذكر المسائل الجزئية التي تقع بين الدول وفي الحكومات، ومن لا يعرف الأصول والأحكام العامة في العلم فقلما يفهم الجزئيات فهمًا صحيحًا ويعرف الخطأ والصواب فيها، لهذا كان قراء العربية في حاجة إلى كتب في علم السياسة وما عندهم إلا قليل منها. وقد عُني الأمير أمين أرسلان القنصل الجنرال للدولة العلية في مدينة بروكسل بوضع كتاب جامع في ذلك سماه حقوق الملل.. إلخ، جعله أربعة أقسام ورأى بمناسبة حرب إنكلترا والترانسفال أن يبدأ بنشر القسم الرابع منه وهو في الحرب، فطبعه في مطبعة الهلال طبعًا كطبع مجلة الهلال الشهيرة، وقسَّم مباحثه إلى أربعة أقسام يشتمل كل منها على عدة فصول، القسم الأول في المنازعات والاختلافات وطرق حلها، والثاني في مشروعية الحرب وحكمها في العمران وتقسيمها، والثالث الحرب البرية وطرقها وأحكامها، والرابع الحرب البحرية وما يتعلق بها، وصفحات الكتاب 127، وثمنه خمسة غروش، ويُطلب من مكتبة الهلال بمصر. *** (الكوخ الهندي) قصة فلسفية وجيزة مفيدة للكاتب الفرنسوي الشهير برناردين دي سان بيير موضوعها البحث عن الحقيقة والطريق إليها، وفيها كلام عن البراهمة وغرور كهنتهم في دينهم وزعمهم أن الحقيقة لا توجد إلا عندهم، ولا تقال إلا لهم، ونتيجتها أن التقاليد والديانات والمدنية وعلومها وأعمالها حجاب بين الإنسان وبين الحقيقة والفضيلة والعيشة الراضية، وأن أقرب الناس من الحقيقة والسعادة من يعيش عيشة بسيطة فطرية بعيدًا عن شغب الناس وغرورهم بتقاليدهم ومدنيتهم، كذلك الهندي الطريد المقيم في كوخ بعيد عن العمران، وقد عرَّب هذه القصة منشئ مجلة الجامعة الغراء، وطبعها وأهداها إلى قراء مجلته، وصفحاتها 78 من الحجم الصغير، وكم من صغير فيه نفع كبير. *** (الدنيا في باريس) صدرت الرسالة الثانية عشرة وهي الأخيرة من هذه الرسائل التي كتبها صاحب الصيت الطائر بمؤلفاته ومعرباته عزتلو أحمد بك زكي كاتب السر الثاني لمجلس النظار بمصر، وهذه الرسالة تصف معروضات الأمة الألمانية وتقدمها على جميع الأمم، وهي أنفع الرسائل، وسنقتبس بعض فوائدها في جزء آخر، ونشكر لإدارة طبيب العائلة سعيها بطبع هذه الرسائل، ونرجو لها ما ترجوه من النجاح والنفع بها. *** المناظر وكتاب (إعجاز المسيح) هذا الكتاب مسجع من أوله إلى آخره، وفي سجعه التكلف والضعف، وفي كلامه ركاكة العجمة، وفي مفرداته وتراكيبه الغلط والخطأ، ومع هذا كله تقول جريدة المناظر الغراء أنه (تقليد للقرآن في نسقه وعبارته) وهذا خطأ ما كنا ننتظر أن يصدر من صاحب تلك الجريدة البارع، فأين السجع في القرآن؟ وأين عبارة القرآن العالية ونسقه البديع من تلك الركاكة والعسلطة في كتاب إعجاز المسيح؟ *** (مستقبل فرنسا أو مستقبل العالم) يهتم الفرنسويون بالبحث في مستقبلهم استنباطًا من أحوال الناشئين وتربيتهم، وقد اقترحت مجلة المجلات الفرنسوية على الباحثين أن يكتبوا إليها آراءهم في ذلك فأجاب المسيو دوسوليه بلسان لجنة المدارس الديمقراطية بقوله: (نحن جمهوريون لأن الجمهورية على ما قال ميشله هي الحق والصواب، ونحن غير متدينين؛ لأن كل الديانات تستعبد الإنسان، ونحن نريد أن يكون حرًّا يفتكر كما يريد، والدين يحصر الفكر في سجن مظلم) وأجاب بعض أحزاب الدين بوجوب سقوط الجمهورية، وقد نشرت هذه المجلة أربعة أجوبة في هذين المعنيين، وقالت إنها لم تزد الموضوع إلا إشكالاً وغموضًا. وقد نشرت جريدة المناظر الغراء قولها وعقبته بهذه الجملة (إن حالة الأفكار الحاضرة تدلك على شيء مما سيكون مستقبلها، إن الأفكار مضطربة الآن في كل العالم ومتضاربة ولكن لا بد لها من قرار يتغلب عنده الأحق الأقوى، فإذا انقضى عشر سنوات يُعرف مستقبل فرنسا بالنظر إلى أفكار الشبيبة فيها، ويُعرف بالتالي مستقبل العالم) اهـ، وهذه الجملة معقولة إلا أن التحديد بعشر سنين لا وجه له ولا دليل عليه. وذكرت مجلة الجامعة الغراء أن في العالم الآن حركتين شديدتين إحداهما مناقضة للأخرى (الأولى) : قيام المسلمين مطالبين بالنهوض والترقي من قِبَل الدين، و (الثانية) : قيام المسيحيين في الممالك الكثيرة على رجال الدين لحصر سلطتهم في معابدهم، وقطع الصلة بينهم وبين الأمة اهـ بالمعنى. ونحن نقول: لا بد لهذا النوع الإنساني أن يبلغ كماله من الارتقاء والعمران ولا يبلغه إلا بالعلم والدين، وقد سبق المسيحيون المسلمين في طريق العلم فدلهم على أن دينهم ليس دين عمران وارتقاء، فتركوه وما زالوا يحاربونه إلى الآن، ولولا أن رجاله الذين لا حياة لهم إلا به قد شاركوا شعوبهم بالعلوم الكونية، وقبضوا على أَزِمَّة تعليمها ليدسوا الدين فيها لما بقي له من بقية، وأما المسلمون فمن الناس من يزعم أنهم يسيرون على طريقة من قبلهم في هذا، فإن فعلوا فهنالك هبوط الإنسانية وفساد العمران، ونحن على يقين بأن الحركتين اللتين ذكرتهما الجامعة سيبلغان غايتهما فيرتقي المسلمون بدينهم بعدما يطهرونه من البدع والخرافات التي أُلصقت به، ثم يتبعهم سائر الأمم ومنهم الفرنسويون الذين ظهر أثر ترك الدين السيئ فيهم، وذلك عندما يتجلى لهم أنه دين الفطرة السليمة الذي بنيت شريعته على الديمقراطية المعتدلة، ومحا سلطة الأشخاص على الأشخاص، وساوى بين الملوك والصعاليك في الحق، وجعل الإنسان حرًّا كاملاً في الناس، وعبدًا كاملاً لله تعالى، وأطلق فكره وإرادته من أسر رؤساء الدين والدنيا، هذا هو مستقبل العالم {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) لا بعد عشر سنين. *** وقال العلامة المحدث اللغوي محمد محمود الشنقيطي مهنئًا الأستاذ المفتي وقد تأخرت لتأخر ورودها، ولتكون مسك الختام وهي: بسم الله الرحمن الرحيم للجامع الأزهر المعمور عاد على ... رغم الحسود فتى مصر ومفتيها (محمد) الفحل (عبده) بدر هالته خيراته ديمة هطلاء يؤتيها ميسر لفعال الخير قاطبة ... تأتيه طلابها تترى فيأتيها سفائن العلم في ذا الشرق لآن غدت [1] ... أعلامها بيديه وهو نوتيها لم يَحسُدن على ما الله خوَّلهم ... من فضله الناس من نعمى يؤتيها لن ينكث العهد إن ينكثه ناكثه ... بل عقدة العهد يُحكيها ويُحتيها وتعلمون جميعًا ما علمت به ... من ذي المكارم ماضيها وآتيها هلا نظمتم لكم عقدًا مكارمه ... أم صرتم خرس فرس حول بختيها وقال أيضًا يخاطب الإمام المفتي: أيا من قد نأى عنا وغابا ... وبعد قضائه الحاجات آبا تغنينا بشعر الصدق لما ... عزمت إلى أباطحك الإيابا وكائن بالأباطح من صديق ... يراه لو أصبت هو المصابا ومسرور بأوبتنا إليه ... وآخر لا يحب لنا إيابا وقال أيضًا هذا اليتيم: إلى (عين شمس) عدت يا شمس عصرنا ... ويا رجل الدنيا ومفتي مصرنا وحلتي هذه سبيلها سبيل حلة عائشة بنت طلحة رضي الله تعالى عنهما، غير أن هذا الشعر شعري، وذلكم شعر قيس بن الحدادية. وشرح ذلك أن أم عمران عائشة بنت طلحة أنشدت عينية قيس بن الحدادية الخزاعي الجاهلي فاستحسنتها وبحضرتها جماعة من الشعراء، فقالت: من قدر منكم أن يزيد فيها بيتًا واحدًا يشبهها ويدخل في معناها فله حلتي هذه، فلم يقدر أحد منهم على ذلك اهـ. ... ... ... وكتبه محمد محمود لخمس خلت من جمادى سنة 1319

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (سمو الخديو المعظم في الآستانة العلية) لقي مولانا الخديو المعظم من حفاوة مولانا السلطان الأعظم وإقباله في هذه السنة فوق ما عهد وما عهد الناس من معاملة السلاطين للأمراء والخديويين، من ذلك أنه كان يجعله عن يمينه والصدر الأعظم عن يساره حتى على الموائد الرسمية ومنه أنه ركب معه غير مرة للتنزه وللاطلاع على بعض المعامل وعلى الإسطبل العامر، ومنه أنه حباه ببعض الهدايا، ومنه أنه أهدى مركبتين (عربتين) مع خيولهما لأنجاله، إلى غير ذلك من الإتحاف والانعطاف الذي ابتهج به المصريون وقرَّت لأجله العيون. *** (قدوم مفتي أفندي الديار المصرية وحفاوة المصريين به) جاء الأستاذ الإسكندرية في الموعد الذي ذكرناه في الجزء الماضي، فاستقبله في الباخرة علماؤها ووجهاؤها وجاء القاهرة في ناشئة ليلة الثلاثاء، وكان في انتظاره على رصيف محطة السكة الحديدية الجماهير من العلماء وكبار الموظفين والقضاة والوجهاء، وفي مقدمتهم أصحاب السعادة عبد الحليم باشا ناظر الأوقاف، وبليغ باشا ناظر الدائرة السنية، وكانت كثرة عمائم الأزهريين تستوقف الطرف - كما قال المقطم - وما أشرقت الشمس في اليوم التالي على عين شمس إلا وكانت مورد جماهير المهنئين من العلماء والوجهاء، واستمر ورود الوفود بضعة أيام، وكان من مسهلات الزيارة عليهم أن مصلحة السكة الحديدية زادت عدد القطارات التي بين القاهرة والمرج من يوم قدومه حتى لا تمر ساعة إلا ويسافر فيها قطاران أو ثلاثة، وجاء كثيرون من البلاد الأخرى إلى مصر لأجل زيارته، واكتفى كثيرون بإرسال الرسائل البرقية وقليلون بالرسائل البريدية، ولم يُعهد مثل هذا الاحتفال والحفاوة في مصر لعالم، ولا لأمير دون أمير البلاد الأعظم أيده الله تعالى وأيد به العلم وأهله. وقد تبرع السري الفاضل محمد بك أباظة بخمسة جنيهات لإدارة المنار شكرًا لله تعالى على قدوم الأستاذ، وجعلها عادة مستمرة، وهي قيمة الاشتراك بعشر نسخ توزعها الإدارة على مستحقيها مجانًا. *** (كلمة المنار عن شيخ الأزهر) ذكرنا في الجزء الماضي أن مولانا الحبر الأعظم شيخ الجامع الأزهر ناقش المجاور الشيخ عبد المجيد الحساب على مقالته التي نُشرت بتوقيعه في جريدة المؤيد، وأنكر عليه وصفه الأمة الإسلامية بالضعف والتأخر محتجًّا بأنهم يؤذنون ولا يرميهم أحد بالحجارة، وقد أوَّلنا هذه الحجة الداحضة بأنها إذا صح صدورها من الأستاذ الشيخ الجامع فلا بد أن يكون مراده اختبار الشيخ عبد المجيد صالح وسبر غوره في فهم ما نسب إليه، ثم تشرفنا بمقابلة شيخ الجامع وأخبرنا بأن الأمر كما قال المنار، وأنه ظهر للشيخ بالاختبار أن الشيخ عبد المجيد لم يحسن قراءة المقالة المنسوبة إليه ولم يفهمها، وقد كانت النبذة التي كتبناها في هذا الموضوع طويلة ذكرنا فيها كل ما بلغنا من قول مولانا الشيخ لذلك المجاور، وأوَّلنا ما ينتقد منه ثم حذف منه ما لو بقي لما سلَّم المطلعون عليه بالتأويل بإرادة الاختبار، وإذ تحققنا الآن من الشيخ نفسه ذلك فلا وجه للذين لا يزالون يخوضون في المسألة، لا سيما إنكار مولانا الشيخ على المجاور نقله عن الفيلسوف أرنست رينان مدح الإسلام وقوله له: أما وجدت عالمًا مسلمًا تنقل عنه، وهلا نقلت عن الإمام الغزالي. *** (رمي مؤذن بالحجارة وتهديده بالرصاص) بعدما نشرنا ما تقدم في الجزء الماضي بأيام اتفق أن مؤذنًا كان يؤذن على المنارة في جهة تسمى قنطرة الدكة فأطلَّ رجل نمساوي من منظرة في بيته وأمره بالسكوت، فلم يسمع له المؤذن ومضى في أذانه، فطفق النمساوي يرميه بالحجارة ويهدده بالقتل بالرصاص إذا هو لم يكف عن إتمام الأذان، فخاف المؤذن ونزل قبل إتمام الأذان وبلَّغ الشرطة ما وقع. نشرت الجرائد اليومية الخبر فاستاء الناس وامتعضوا وفزع بعض أهل الغيرة إلى حضرة شيخ الجامع وقصُّوا عليه القصة، فحوقل واسترجع فرغَّبوا إليه أن يكتب إلى الحكومة وألحوا عليه حتى وعدهم وكان وعده مفعولاً. *** (صورة ما كتبه الشيخ إلى نظارة الداخلية) وكيل الداخلية سعادتلو أفندم أظن أن سعادتكم اطلعتم على ما جاء في جريدة المقطم بعددها الصادر في يوم الجمعة الفائت وتناقلته الجرائد عنها، ألا وهو ما وقع من ذلك الرجل النمسوي لمؤذن مسجد قنطرة الدكة عندما شرع في أذان العشاء من أمره بالكف عن الأذان، وشتمه له ورميه إياه بالحجارة، ولمَّا لم يثنه ذلك كله عن إتمام الأذان تهدده بالرمي بالرصاص فخاف ونزل من غير أن يتمه، وتوجه في الحال إلى البوليس فأبلغه الحادثة إلى آخر ما جاء في تلك الجريدة، وحيث ما أتاه هذا النمسوي يُعَدُّ إهانة للدين، وانتهاكًا لحرمته، ولم نسمع قبل اليوم بأن مسلمًا عارض غيره أو منعه من إقامة شعائر الدين حتى يقال إنه اقتدى به، ولا يخفى أن كل متدين بدين يغار عليه مهما كان معتقده فيرتكب صعاب الأمور، وهو عالم بها انتصارًا لدينه خصوصًا والبلاد إسلامية، ووقوع مثل ذلك فيها يوغر الصدور، فنحوِّل أنظار سعادتكم إلى تلافي هذا الأمر بمعاقبة المعتدي بواسطة قنصليته بما يكون رادعًا له وزاجرًا لغيره ومزيلاً لما كمن في الصدور من جراء هذا الحادث المؤلم أولى من الترك والتغاضي، ووقوع ما لا تحمد عاقبته، ثم تفضلوا بإخطارنا بما يتم أفندم. (حاشية) وللتثبت من هذا الأمر استدعينا مؤذن ذلك المسجد المدعو الشيخ خليل إبراهيم وسألناه عما وقع، فأوضح لنا ذلك مفصلاً من أول الحادثة إلى آخرها في ورقة مرفقة بهذا، فنكرر أيضًا إعارة هذه المسألة جانب عنايتكم أفندم. *** (الانتقاد على مكتوب شيخ الجامع) انتقد العوام والخواص على اختيار شيخ الجامع جريدة المقطم لنشر المكتوب، وعدم نشره في جريدة المؤيد التي هي أعمُّ انتشارًا، وتوهموا أن لمولانا الشيخ ضلعًا مع المقطم وموافقة لسياسته، وهو وهم باطل لأننا نعلم حق العلم أنه بعيد من السياسة ومذاهبها، فلا هو موافق لسياسة المقطم، ولا هو مخالف لسياسة المؤيد، وقال بعض الأذكياء: إن مولانا الشيخ استاء مما كتبه المؤيد في المسألة بتوقيع (م. ح) فلم يرسل إليه صورة المكتوب لأجل ذلك. ولكن مقام الشيخ أجلَّ وأعلى من تحكيم الأمور الشخصية في المصالح العمومية، وينبغي أن نلتمس له عذرًا على كل حال حتى نقف على العلة الحقيقية. وانتقد كثير من الخواص على أسلوب المكتوب وعبارته وبعض مفرداته وتراكيبه التي لا تصح في اللغة، أما أسلوبه فهو أسلوب كتابة الدواوين لا أسلوب الكتاب البلغاء العارفين بفنون اللغة والمحصلين ملكتها، وقد أجبنا بعض المنتقدين بأن المتبادر أن المكتوب ليس من كتابة الشيخ وإنشائه، ولا من إملائه، وإنما هو من إنشاء كاتب مجلس إدارة الأزهر الذي يعد من دواوين الحكومة، فقالوا أولاً: لا يصح أن يقبل شيخ الجامع مثل هذا الكاتب في إدارته ويجعله ترجمانه، بل قلمه ولسانه، وثانيًا: إذا جاز أن يجيز ويمضي شيخ الأزهر الذي هو مهد اللغة وينبوع معارفها مكتوبًا غير بليغ ولا فصيح، فلا يجوز أن يجيز الخطأ والغلط ويقره ويرضى بأن ينشر منسوبًا إليه. وإننا نرى من الفائدة ذكر شيء مما انتقدوه ليعرف المنصف والمتحامل، فمن ذلك قوله: (أظن أن سعادتكم اطلعتم) قالوا: مقتضى المطابقة بين اسم (أن) وخبرها أن يقال (اطَّلَعَتْ) لأن الإسناد إلى ضمير مؤنث وهو السعادة، ومنه قوله: (وحيث ما أتاه هذا النمسوي ... إلخ) قالوا: إن (حيث) ظرف مكان، وقد ردَّ العلماء على من زعم منهم أنها تأتي للتعليل، وظاهر السياق أنها هنا للشرط ولا يصح، وقالوا إننا لا نرى لهذا القول إعرابًا صحيحًا، ومنه قوله: (مهما كان معتقده) قالوا: إن استعمال (مهما) ههنا غير صحيح، ومنه قوله (خصوصًا والبلاد إسلامية) قالوا: إنه استعمال غير عربي وإنه لا يستقيم إعرابه، ومنه قوله: (ثم تفضلوا بإخطارنا) قالوا: لا يعرف في اللغة أخطره بكذا، بمعنى: أعلمه به، وأقرب معانيها إلى ما نحن فيه قولهم: أخطر الله الشيء ببالي، أي: جعلني أتذكره بعد نسيانه ولا يصح هنا، وقالوا: إن فيه أيضًا عطف الإنشاء على الخبر بـ (ثم) ومنه قوله في الحاشية (وللتثبت من هذا الأمر) قالوا: ورد في اللغة: تثبت في الأمر: إذا تأنَّى فيه ولم يَرِد: تثبت منه، ومنه قوله (المدعو الشيخ خليل) قالوا: وكان الصواب أن يقول (خليلاً) بالنصب، ومنه قوله في الحاشية: (ورقة مرفقة بهذا) قالوا: إن لفظ (مرفقة) لا يصح له معنى هنا، ومنه قوله في الحاشية (فنكرر أيضًا إعارة هذه المسألة لجانب العناية) وقالوا: إن أهل الأزهر لا يتركون الحواشي ولا في مخاطبة الحكومة. هذا، وإن لهم انتقادات أخرى قالوا: إنها دون ما تقدم، منها قوله (ولمَّا لم يثنه ذلك كله عن إتمام الأذان) قالوا: كان الصواب أن يقول عن الاسترسال أو المضي في الأذان لأنه لم يتمه، وقد كُتبت العبارة بعد العلم بعدم الإتمام، ومنها لفظ البوليس ولفظ القنصلية، قالوا: كان اللائق بمقام المشيخة أن لا يذكر في كتابتها لفظ أعجمي إلا إذا لم يكن في اللغة ما يردفه ويحل محله، ومنها قوله: (فنحوِّل أنظار سعادتكم) قالوا: إن للمخاطب نظرًا واحدًا، ومنها قوله: (أولى من الترك والتغاضي) قالوا إن إعراب هذه العبارة يحتاج إلى تكلف وإن الأولية لا معنى لها، بل هي مخلة بالمراد، ومنها قوله في التمهيد لتحويل أنظار وكيل الداخلية (ولا يخفى أن كل متدين بدين يغار عليه مهما كان معتقده) قالوا: إن الذي يفهمه الناس من هذه الجملة على ما فيها أن الإنسان يغار على دينه وإن كان باطلاً وليس من اللائق أن يكون هذا تمهيدًا من مشيخة الأزهر الشريف، بل غلا بعضهم فذكر الفتيل والنقير كقوله: (وكيل الداخلية سعادتلو أفندم) وقال إن الأولى والأليق بمقام المشيخة أن يُذْكَر اللقب الرسمي بصيغة عربية تدل عليه كقوله (إلى صاحب السعادة وكيل الداخلية) فقلنا له: إن هذا لقب رسمي، فقال إن اللفظ الرسمي التركي هو (داخلية وكيلي سعادتلو أفندم) فالعبارة ليست رسمية ولا عربية. وقال هذا الفقير: إن الأولى بمقام مشيخة الأزهر أن يتبع الشيخ السُّنة في كل ما يكتب، لا سيما الأمور ذات البال التي يُهتم بها شرعًا، فكان ينبغي أن يبتدأ المكتوب بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. ويعلم الله أنني أوَّلت أمام جماعة من المنتقدين بعض ما انتقدوه حتى بالتمحل والتكلف، فقالوا: لا نقبل التمحل النحوي البعيد والأقوال الشاذة والضعيفة، وإنما نقبل أجوبة تثبتها الشواهد العربية؛ فإن هذا الكلام لا يرتقي من يجيزه إلى أن يكون من المتفننين كما قال شيخ الإسلام في علماء العصر، ولا من الحفاظ كما قال فيهم مفتي الديار المصرية، ورأيت أن الجواب الذي يبرئ مولانا شيخ الجامع الأزهر الشريف من هذا كله، هو احتمال أن يكون أمر كاتب إدارته بأن يكتب إلى سعادة وكيل الداخلية مكتوبًا في موضوع كذا، وأنه أمضاه ووقع عليه ولم يقرأه لحسن ظنه وسلامة قلبه، والمنار مستعد لنشر ما يَرِد من قِبَل مولانا الشيخ وغيره من العلماء في الرد على المنتقدين. *** (التعصب الذميم والتساهل الجميل) إن آداب إخواننا السوريين في البرازيل لَمما يُفتخر به، وإن جريدة المناظر لهي مجْلَى ذلك الجمال، ومظهر ما ثم من الكمال، فقد علمنا منها أن أولئك الفضلاء قد ألقوا أ

كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة

الكاتب: عن مقالات العروة الوثقى الحكيمة

_ كم حكمة لله في حب المحمدة الحقة [1] العالم الإنساني كتاب المُعْتَبِر، وسفر المستبصر، وكل قرن من قرونه صفحة وكل جيل من الناس سطر فيه أو جملة، ولنا في كل ما خطَّه القلم الإلهي عبرة. أول ما يفيدنا النظر فيه وقوفنا على أحوال الشعوب في أطوارها المختلفة، وأدوارها المتبدلة، فنرى أممًا علت وسمت وحلَّقت في جو المعالي، وجازت في الرفعة مسارح النظر، ثم انحدرت بعد هذا وتدهورت وعفت رسومها، ولم يبق لها أثر إلا في الروايات والأحاديث، ومنها أجيال كانت في ثَنْي العدم، ثم اكتست حلية الوجود وأخذت من الاجتماع الإنساني مكان الهامة من الجسد، ثم انطوت وأخنت عليها أمهات قشعم، ومنها ما نراه إلى اليوم يسحب مطارف العزة، ويشرف على العالم بالأمر والنهي من شواهق القوة. فمن الناس من تنجلي له هذه الشؤون وتلك الأطوار، كما تعرض عليه الصور والتماثيل: ينبسط لبعضها إذا أعجبه، وينقبض للآخر إذا أنكره، وهو في غفلة من منشأ ظهورها وعلل انقلابها، فإن سئل عن السبب قال: سبحان الله هكذا كان، وهكذا يكون، وما هو إلا بخت يُسعد فيسعد به السعداء، ويُنحس فيتعس به الأشقياء. ومنهم من تنفذ بصيرته إلى الحقيقة، فيقف على ما هيأه الله من الأسباب التي تتبعها أحوال الأمم في صعودها وهبوطها، ويعلم أن ما سيق من الخير لأمة إنما كان بأيدي آحاد من أماثلها جدوا وجاهدوا وبما بذلوا من نفائسهم وأنفسهم فازوا بتأصيل المجد لشعوبهم وبني جنسهم، ويرى لأولئك الأعلام ذكرًا يرفع، ومكانة من القلوب تُحمد، وتميزًا عند الخلف بالكرامة، وهم لم يخالفوا الناس في جسومهم ودمائهم؛ وإنما تقدموهم بهممهم، وقد يسوقه الاعتبار إلى الاقتداء بهم رغبة في اقتطاف ثمار الثناء وتخليد الذكر، فإذا أخذ مأخذهم، واستقام على طريقهم فلا يكاد يخطو بضع خطوات، ومبدأ السير تحت نظره حتى تعثر أقدامه في أياد مقطعة ورؤوس مجذوذة، وأشلاء مبدَّدة، وشعور منثورة، وصدور مدقوقة، ويشهد الطريق مضرَّسة بقبور الشهداء من طلاب الحق والناهجين في منهاجه، ولا محيص له عن سلوكها، وتبدو له غابات وأدغال يرجع إليه منها صدى زئير الآساد وزمجرة الضراغم، ولا بد له من اختراقها. هكذا تتكشف لطالب المعالي موحشات مدهشات مصاولة المخاطر أدناها، والموت الشريف أقصاها وأعلاها، فتارة يخور عزمه، ويضعف همه، فينكص على عقبيه، ويرتد إلى أسوأ حاليه، ويرتع في مراتع أمثاله، حتى يروح إلى عطنه الأولى به وهو العدم، وتارة يوحي إليه الإلهام الإلهي أن الشخص في خاصته والأمم في هيئاتها ونوع الإنسان في مجموعه تطالبها صورة الإبداع بأعمال شريفة دونها إجهاد الأنفس في السعي، وحملها على ما لا تهوى ومغالبة الأهوال والغوائل، وفيما أودع الله الإنسان من القوى العالية والخواص السامية أكبر مساعد على ما تندفع إليه الهمة، وتنبعث له العزيمة. إن من أحياه الله بالحياة الإنسانية كلما هاجمته المصاعب لا يزداد إلا حرصًا على قهرها، كما أن صاحب الشمم لا يزيده الخصام إلا حدة في الجدال وإصرارًا على إقناع المخاصم، وكثير ممن على شكل الإنسان يحيى حياته هذه بروح حيوان آخر وهو يعاني فيها من الشقاء أشد مما يعانيه الإنسان في إبراز مزايا الإنسان، إن صاعد الجبل ربما يجد شيئًا من التعب ويخشى مفترسه الكواسر؛ ولكن قد ينجو منها ويستريح على القنة ويعتصم بمكانة من الرفعة وتقصر عنه يد المتناول، أما من أخلد إلى السفل فحظه من الحياة خوف لا ينقطع وإشفاق لا يزول، كل لحظة توعده بالسقوط في صيد الصائد والوقوع بين أنياب الغائل، مات من الناس كثير في طلب العلا ولم ينالوا، وبلغ كثير من الطالبين غاية ما أملوا؛ ولكن هلك بالفتك أضعاف هؤلاء وهؤلاء ممن رئموا الخمول ورضوا بالحياة الحيوانية، هذه أحاديث الحق ونفثات الروح الزكية تبعث من أيَّده الله ووهبه نعمة العقل إلى مداومة السير واقتفاء أثر الماضين إلى أشرف المقاصد، فإما وصل، وإما مات كما يموت الكرام. لم تنل أمة من الأمم مزية من المزايا المحمودة عند بني البشر سواء في العلوم المعارف، أو الآداب والفضائل، أو القوانين والنواميس العادلة أوالعسكرية وقوة الحماية حتى خرج آحاد منها إلى ما تخشاه النفوس وتهابه القلوب، وسلكوا تلك المسالك الوعرة، فبلغوا بأممهم أقصى ما بلغت بهم همهم، مع الاعتماد على العناية الإلهية في جميع سيرهم. ماذا يريد العانون في خدمة الأمم أو النوع الإنساني، والمنفقون لحياتهم في أعمال فادحة يعود نفعها على من تجمعه معهم جامعة الأمة أو الملة أو يشاركهم في النوع؟ أليس قد جعل الله لكل شيء سببًا؟ أليس من سنة الله في عباده أن لا تتجه الإرادة البشرية إلى حركة تصدر عن المريد إلا بعد تصور غاية تعود إلى ذاته، وبعد اليقين أو راجح الظن بأنه يستفيد الغاية من العمل؟ فإن كان الأجل يذهب في مساورة الآلام الروحية، والعمر ينفد في مناهدة الأوصاب البدنية، فماذا يقصدون من أعمالهم؟ إن كان يوجد في أبناء جلدتهم، وذوي ملتهم من يساعد حوادث الكون على إيلامهم، ومما نعتهم في مقاصدهم، وصدهم عن السعي فيما يرجع خيره إلى أنفس المعارضين، ويثخن فيهم جراح اللوم والتقريع، والشماتة والتشنيع، أو يدافعهم بالمكافحة والمنازلة، فما الذي يبتغون من جدهم وكدهم؟ لا لذة تُجتنى، ولا ألم يُتقى، فما هذا الباعث القوي الذي غلب الأهواء، ولم يضعفه جهد البلاء؟ نعم أودع الله في الإنسان ميلاً أقوى من كل ميل، وهو أخص خاصة فيه يمتاز بها عن غيره من الأنواع، وهو حب المحمدة الحقة، وحسن الذكر من وجوه الحق، أقول هذا تفاديًا من حب المحمدة من أي وجه حقًا كان أو باطلاً، وطلب الثناء بالزور والغش والرياء والظهور بمظاهر الأخيار، مع تبطن سرائر الأشرار فإن هذا من أسوأ الخِلال؛ وإنما يعرض بعد اعتلال الفطرة وفساد الطبيعة. المحمدة هي الغذاء الروحاني، والمقوِّم النفساني، وكلما قرب شخص من الكمال الإنساني تهاون بالشهوات، وازدرى اللذائذ الحسية، وقوي فيه الميل إلى المحمدة الباقية، وبذل الوسع يما يفيدها من جلائل الأعمال (تأمل) إن الفاضل يرى له في هذا العالم أجلين: أقصاهما الأجل المحدود من يوم ولادته إلى نهاية العمر المقدَّر والآخر أبعد من هذا نهاية، وبدايته عندما ينجم من عمله الصالح أثر لمنفعة تشمل أمته أو تعمَّ النوع الإنساني، وغاية هذا الأجل عندما يمحى أثره من ألواح النفوس وصفحات التاريخ، فللروح الفاضلة وجودان: وجود في بدنها الخاص، ووجود في جميع الأبدان، وهو ما يكون بحلولها من كل روح محل الكرامة والتبجيل، ولا ريب أن هذا الأجل الطويل وهذا الوجود العريض خير من ذلك الأجل القصير والوجود الكز [2] ، وحقيق بالإنسان أن يبيع ما هو أدنى بالذي هو خير. يطول بي الكلام فأقصر: إن الله الذي وهب كل نوع ما به كماله وضع في جبلة البشر ميلاً إلى الحمد وألهمهم تأدية حقه لمستحقه، ألم تر انطلاق الألسن في كل أمة بالثناء على من كان سببًا لها في مجد ورفعة، أو نهوض من سقطة، أو توحيد كلمة، أو تجديد قوة، أو كمال في فضيلة، أو تقدم في علم أو صنعة، ويرسمونه في الألواح ويسجلون مدحته في بطون التاريخ، ويرفعون له الهياكل والتماثيل، ويحفظون له ذكرًا حميدًا يتناقله الأبناء عن الآباء حتى ينقرضوا، أو ينقرض العالم، إذا جحدت الأمة حق العامل لها، أو قصَّرت في استحسان عمله ضعفت الهمم، وقل السعي في المصالح العامة، وانقبضت الأيدي عن تعاطيها فهبطت شؤون الأمة فافترقت وماتت. إن الله جل شأنه قرن كل حادث بسبب، فإذا استوى لدى الأمة الحسن والقبيح والطيب والخبيث، والفضيلة والرذيلة، والمصلحة والمفسدة، وفقد منها التمييز، ولم تُقَدِّر أعمال العاملين حق قدرها، ولم تعرف معروفًا، ولم تنكر منكرًا - سلبت آحادها الميل إلى المعالي والكمالات، وكان هذا أشد نكاية بها من جور الظالمين، وتغلب الغالبين، ظلم الظالمين لا يدوم وسطوة الغالب لا تثبت إذا كان جمهور الأمة يقابل الإحسان بالاعتراف والفضل بالحمد؛ فإنه يوجد منها من يشتري هذه المكافأة بتخليصها وإنقاذها، أما فقد هذا الإحساس الشريف فهو أشبه علة بالهَرَم لا عقبى له إلا الموت والهلاك. كيف لا تكون المحمدة الحقة نعمة على النفوس الإنسانية يسعى لها الأعلون من بني الإنسان، وقد امتن الله بها على نبيه فيما يقول له: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) وكيف لا تكون حقًّا تطالب به الطبيعة وقد سمح الله لمستحقها بالتحدث بنعم الأعمال الصالحات، كما سوَّغ ذلك لنبيه في قوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (الضحى: 11) . قلِّب طرفك في تواريخ الأمم أقصاها وأدناها تجد برهانًا قاطعًا على أن الأمة متى بخست قيم الأعمال العالية، وازدُري فيها بشأن الفضيلة فقدت ما به قوامها وانهدم بناؤها وذهبت كما ذهب أمس، ولا جرم أن الكفران مقرون بزوال النعم. يمكنني أن أختم كلامي هذا بكلمة شكر لهذه العصابة الطاهرة التي أقدمت في هذه الأوقات النحسة، ووقفت على شفير الخطر، وكتبت على نفسها السعي في توحيد المسلمين، ويسرنا أن نرى عددها كل يوم في ازدياد نسأل الله نجاح أعمالها وتأييد مقاصدها إنه نعم المولى نعم النصير.

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 11

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورة الحادية عشرة بين المصلح والمقلد الأخذ بالدليل ونهي الأئمة عن التقليد لما ضم الشاب المصلح والشيخ المقلد المجلس الحادي عشر قال الشيخ المقلد: إن صديقي قد سافر وهو في حيرة لا يدري كيف يجمع بين ما أوردته من نصوص أئمة الحنفية الصريحة في وجوب اتباع الدليل وعدم الأخذ بكلامهم إلا بعد معرفة مأخذه من الكتاب والسنة والقياس الجلي، وبين ما ذكره ابن عابدين في رسم المفتي، وفي حاشيته على الدر المختار من تقسيم العلماء إلى ست طبقات، كل طبقة تقلد ما فوقها إلى المجتهد المطلق الذي له الحق وحده بأخذ الحكم من الدليل، وقال: إننا نرى في الكتب أقوالاً مثل هذه الأقوال الدالة على وجوب اتباع الدليل فنحسبها متروكة لأنا مقيدون بكتب مخصوصة، وأقوال علماء مخصوصين، وحجر علينا الأخذ بقول غيرهم فضلاً عن اتباع الدليل استقلالاً حتى قالوا: إن أبحاث الكمال بن الهمام الذي شهد له كثيرون ببلوغ مرتبة الاجتهاد المطلق، لا يجوز العمل بها إذا صادمت المنقول من نصوص المذهب، وإن كانت أبحاثه مدللة وتلك النصوص لا دليل عليها، بل هي مصادمة للدليل. المصلح: أعجب من هذا القول التصريح بعدم جواز العمل بنصوص الكتاب والسنة - وإن كانت صريحة - إذا هي خالفت نص علماء المذهب الذي لا دليل عليه، ولكن نيِّر البصيرة لا يحار وإن كان مقلدًا؛ لأنهم إنما أوجبوا عليه تقليد مجتهد، والذين قالوا هذه الأقوال مقلدون، والأئمة منهم براء منها، فمن عمل بهذه القواعد في مسائل نطق الكتاب أو مضت السنة فيها بخلاف المنقول في المذهب، فقد ترك أصل دينه الأصيل وركنه الركين لقول مقلد يتبرأ منه يوم القيامة؛ لأنه يحرم تقليد المقلد ويصدق عليه قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا العَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} (البقرة: 166) . المقلد: قال صديقي إنه لا حجة لهم في هذا المقام إلا احتمال النسخ وقد أعجبه قولك إن هذا الاحتمال يأتي في أقوال الأئمة والفقهاء؛ فإن الأقوال التي رجعوا عنها أكثر من الأحاديث المنسوخة، وإن معرفة المنسوخ أيسر من معرفة القول المتروك. المصلح: الأحاديث التي قالوا بنسخها قليلة جدًّا وحصرها بعضهم في واحد وعشرين حديثًا، وقد رأيت في كتاب نقلاً عن حاشية الهداية لابن العز في مسألة المحتجم التي ذكرناها في المجلس الماضي أن أبا حنيفة وصاحبه محمدًا يعذران من أخذ فيها بالحديث المنسوخ (أفطر الحاجم والمحجوم) خلافًا لأبي يوسف، وإنني أحب أن أذكره لك، ذكر عند قول أبي يوسف بلزوم الكفارة وتعليله بقوله: (فإن على العامي الاقتداء بالفقهاء لعدم الاهتداء في حقه إلى معرفة الأحاديث) ما نصه: (في تعليله نظر، فإن المسألة إذا كانت مسألة نزاع بين العلماء، وقد بلغ العامي الحديث الذي احتج به أحد الفريقين كيف يقال في هذا أنه غير معذور؟ فإن قيل هو منسوخ فقد تقدم أن المنسوخ ما يعارضه، ومن سمع الحديث فعمل به وهو منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح لا تعمل به حتى تعرضه على رأي فلان أو فلان؛ وإنما يقال له انظر هل هو منسوخ أم لا؟ أما إذا كان الحديث قد اختلف في نسخه كما في هذه المسألة فالعامل به في غاية العذر؛ فإن تطرق الاحتمال إلى خطأ المفتي أولى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث) ثم ذكر قلة المنسوخ وجمع ابن الجوزي كل ما صح أو احتمل نسخ، فإذا هو لا يتجاوز أحد وعشرين حديثًا ثم قال: (فإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي، بل يجب عليه مع احتمال خطأ المفتي فكيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث، فلو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان وفلان لكان قولهم شرطًا في العمل، وهذا من أبطل الباطل ولذا أقام الله تعالى الحجة برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم دون آحاد الأمة، ولا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يعلم خطأه من صوابه ويجوز عليه التناقض والاختلاف، ويقول القول ويرجع عنه ويحكي عنه عدة أقوال، وهذا كله فيمن له نوع أهلية، وأما إذا لم يكن له ففرضه ما قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتب له المفتي من كلامه أو كلام شيخه وإن علا فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أولى بالجواز، وإذا قدّر له أنه لم يفهم الحديث فكما لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرف معناها فكذلك الحديث) اهـ. المقلد: هذا الكلام موافق لما قلته لي من قبل إلا الاستدلال بالآية على التقليد فقد منعته أنت. المصلح: هذا كلام حسن جدًّا، وإني وإن كنت بينت أن الآية لا تدل على جواز التقليد؛ لأنها في سياق آخر فإني لم أمنع الاهتداء بالعلماء والاستعانة بهم على فهم الدين، وقد قلت غير مرة إن الأئمة رضي الله تعالى عنهم لم يستنبطوا الأحكام ليصرفوا الناس إليهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم؛ وإنما استنبطوها ليعلموهم كيف يفهمون وكيف يستنبطون؛ ولذلك حرَّموا الأخذ بقولهم من غير معرفة دليله لئلا يفتتن الناس بهم ويتخذوهم شارعين، ولم ينسب لأحد منهم شذوذ في ذلك إلا تلك الكلمة لأبي يوسف، وقد أوَّلها بعضهم كما تقدم وأبطل دليلها بعض آخر كما سمعت آنفًا، على أن ابن العز هذا قد نقل عن أبي يوسف مثلما نقل عن أبي حنيفة أنه قال: (لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه) . أورد هذا عنه صاحب كتاب (إيقاظ همم أولي الأبصار) ثم أورد عبارة أخرى فيها تشديد عظيم، وهي قوله بعد ذكر جواز ترك بعض المسائل في مذهب لرؤية أن دليل المذهب الآخر أقوى: (فمن يتعصب لواحد معين غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى أن قوله هو الصواب الذي يجب اتباعه دون الأئمة الآخرين فهو ضال جاهل، بل قد يكون كافرًا يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل فإنه متى اعتقد أنه يجب على الناس اتباع أحد بعينه من هؤلاء الأئمة رضي الله تعالى عنهم فقد جعله بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك كفر، بل غاية ما يقال إنه يسوغ أو يجب على العامي أن يقلد واحدًا من الأئمة من غير تعيين زيد ولا عمرو، أما من كان محبًّا للأئمة مواليًا لهم يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن في ذلك، والصحابة والأئمة بعدهم كانوا مؤتلفين متفقين وإن تنازعوا في بعض فروع الشريعة، فإجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة، ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون التابعين فهو بمنزلة من يتعصب لواحد من الصحابة دون الباقين كالرافضي والناصبي والخارجي، فهذه طرق أهل البدع والأهواء) ... إلخ، وفيه ذكر أن التعصب للمذاهب كان من أسباب دخول الإفرنج إلى بعض بلاد المغرب الإسلامية وامتلاكها يعني الأندلس ومن أسباب زحف التتار على بلاد المشرق وتدويخ المسلمين فيها وقد ذكرنا هذا من قبل. وأعجبني قوله: (يقلد كل واحد منهم فيما يظهر له أنه موافق للسنة فهو محسن) وإن كنت أسمي هذا استرشادًا وتعلمًا لا تقليدًا إذ التسمية لا مُشَاحَّةَ فيها؛ لأن هذا القول موافق لقوله عز وجل: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17- 18) ومفهوم الآية أن المقلد الأعمى الذي لا يميز بين الأقوال ولا يعرف من أين جاءت ليس ممن هداهم الله، ولا من أولي العقول {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) وقد أصيب المسلمون لهذه المخالفة بفتن كثيرة وأنواع من العذاب ولا تزال الفتن تعبث بهم والأجانب تستولي عليهم، وأكثرهم غافلون عن أسبابها وعللها ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. المقلد: هل تذكر شيئًا في النهي عن التقليد للإمام مالك بن أنس رضي الله عنه. المصلح: نعم روى حافظ المغرب ابن عبد البر عن عبد الله بن محمد ابن عبد المؤمن قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي حدثنا موسى ابن إسحاق قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال أخبرنا معن بن عيسى قال سمعت مالك ابن أنس يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه) ورواه غيره أيضًا، وروى أيضًا بسنده إلى مطرف قال: سمعت مالكًا يقول: قال لي ابن هرمز: لا تمسك على شيء مما سمعته مني من هذا الرأي؛ فإنما افتجرته أنا وربيعة فلا تتمسك به. المقلد: ما معنى افتجرته فإنني لا أذكر أنني سمعت هذه الكلمة. المصلح: يقال افتجر الكلام بالجيم إذا اخترقه من نفسه ولم يسمعه، ويتعلمه من أحد، ويقال: افتحر الكلام والرأي بالحاء المهملة إذا اخترعه ولم يتابعه عليه أحد، وأجدر بالمفتجر أن يكون مفتحرًا. المقلد: إن هذا من محاسن لغتنا؛ ولكنه غير مستعمل. المصلح: إن شأننا في اللغة شبيه بشأننا في الدين، ولات حين كلام في ذلك فلنمض في طريقنا إلى غايتنا. وروي عن مزين وعن عيسى عن ابن القاسم عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال: ليس كل ما قال رجل قولاً - وإن كان له فضل - يتبع عليه، يقول الله: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 18) وروى سحنون عن ابن وهب قال قال له مالك بن أنس وهو ينكر كثرة المسائل: يا عبد الله ما علمته فقل به ودل عليه، وما لم تعلم فاسكت عنه وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء، وجاءه رجل فسأله عن مسألة فقال له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل أرأيت.. . فقال مالك {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63) الآية، وقال لم يكن من فتيا الناس أن يقال لهم: قلت هذا، كانوا يكتفون بالرواية ويرضون بها. وهنا التفت المصلح إلى المقلد وقال: ألم أقل لك من قبل: إن عامة أهل العصر الأول لم يكونوا مقلدين يأخذون بآراء العلماء؛ وإنما كانوا يأخذون بروايتهم؟ ثم قال: وروي عن عبد الله بن مسلمة القعنبي قال: (دخلت على مالك أنا ورجل آخر فوجدناه يبكي، فسلمت عليه فردَّ عليَّ، ثم سكت عني يبكي فقلت له يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قَعْنب أبكي لله على ما فرَّط مني ليتني جُلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي وهذه المسائل، وقد كان لي سعة فيما سبقت إليه. وفي رواية أخرى: فقلنا له: ارجع عن ذلك، فقال: كيف لي بذلك وقد سارت به الركبان وأنا على ما ترى، فلم نخرج من عنده حتى أغمضناه) أي فكان هذا ما لقي الله تعالى عليه، ومن المشهور عنه رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، ويشير إلى الروضة الشريفة، وفي رواية: كل كلام منه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر، وسنأتي في المجلس الآخر - إن شاء الله تعالى - عن غير ذلك مما يؤثر عنه، وعن أكابر أتباعه ثم ما يؤثر عن غيرهم من الأئمة وأكابر العلماء حتى يتبين لكم أنكم ما قلدتم إلا من تجزمون بعدم جواز تقليده، والله الموفق للصواب، ثم افترقا على موعد. ((يتبع بمقال تالٍ))

شبهات المسيحيين وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين وحجج المسلمين النبذة السابعة ذكرنا في النبذة السادسة أن صاحب كتاب الأبحاث أورد سبع آيات من القرآن العزيز وحرَّفها عن مواضعها لإثبات كتب اليهود والنصارى، وإلزام المسلمين باعتقادها والأخذ بها، وبيَّنّا فيها تحريفه وكون الآيات حجة للمسلمين على اليهود والنصارى لا العكس بالكلام على ثبوت آيات منها، وفي هذه النبذة نتكلم على باقيها. قال: (والرابعة تحكم بضلال المسلم الذي لا يؤمن بالتوراة والإنجيل إيمانه بالقرآن) ونقول: إن الآية الرابعة هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ} (النساء: 136) والمسلمون يعتقدون أن نبيهم جاء بالحق وصدَّق المرسلين، وأمرنا بأن نؤمن برسل الله وكتبه السابقة؛ ولكن لم يكلفنا بالعمل بتلك الكتب لأنه أغنانا عنها بكتاب أهدى منها لا نحار في روايته، ولا نضل في درايته، مشتمل على جميع ما فيها من صحيح الاعتقاد، معصوم من التحريف والتبديل، محفوظ من الضياع والنسيان، حاوٍ لما لا يوجد فيها من المعارف الإلهية كما سنبينه بعد إن شاء الله تعالى، خالٍ من الإضافات التاريخية والآراء البشرية التي ألحقت بما بقي من الكتب السماوية. على أن هذه الآية قد اختلف المفسرون في المخاطبين بها، فقيل هم المنافقون المؤمنون في الظاهر، المرتابون أو الجاحدون في الباطن، كأنه يقول لهم أيها المدَّعون الإيمان بالله وكتابه ورسوله وسائر كتبه ورسله بأفواههم وظواهرهم، عليكم أن تؤمنوا بقلوبكم وتطابقوا بين ظواهركم وبواطنكم، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب لما روي من أن ابن سلام وأصحابه قالوا: يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه فنزلت الآية، وقيل: هم المسلمون مطلقًا ولا يَعْتَدُّ المسلمون بإيمان مسلم إذا أنكر الإيمان بالأنبياء السابقين أو كذَّب كتبهم؛ ولكنهم لا يكلفونه بالبحث عنها والعمل بها؛ لأن الله تعالى أغنانا كما قلنا ولأنه قد ضاع بعضها ونسي كما قال تعالى: {فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) وحرّف بعضها كما قال سبحانه: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (المائدة: 41) وكيف نأخذ بكتاب نسي حظ عظيم منه، ربما كان مبينًا ومفسرًا للباقي، أو فيه ما ليس فيه مما لا بد منه فيكون أخذنا به على غير وجهه، أو يكون ديننا ناقصًا ويصدق علينا قوله تعالى في أهل الكتاب: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) الآية؟ ونكتفي هنا بالاستدلال على نسيان أهل الكتاب حظًّا منه بالقرآن الكريم؛ لأن كلامنا مع الخصم في دلالة القرآن على صدق الكتب، وسنثبته بعد بشهادة تلك الكتب وأقوال رؤساء الديانة النصرانية. قال: (والخامسة تبيّن أن أهل مكة كانوا يعرفون التوراة والإنجيل كما كانوا يعرفون القرآن) ونقول إن هذه الآية هي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا القُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (سبأ: 31) ولا دلالة فيها على ما ذكر حتى على تقدير أن المراد بالذي بين يديه الكتب المتقدمة؛ لأن سبب رفضهم الإيمان هو دعوة القرآن ومن جاء به إلى ذلك الإيمان، أي أنهم قالوا: إننا لا نؤمن بالكتاب الذي جئت به يا محمد وقلت إنه من عند الله، ولا نؤمن بالكتب التي قلت إنها جاءت قبلك من عند الله، فأين الدليل في هذا على أن أهل مكة كانوا يعرفون التوراة والإنجيل بذاتهما ويتدارسونهما وهم أميون لا يوجد فيهم، بل ولا في العرب كافة من يكتب إلا أفراد لا يبلغون طرف جمع القلة - قيل إنهم كانوا ستة نفر - والوجه الثاني في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (سبأ: 31) أنه يوم القيامة وما يتلوه من الثواب والعقاب وهو الأظهر. قال: (والسادسة تبين إقرار محمد بصحة الكتاب ومساواته إياه بالقرآن) ونقول إنه أورد الآية السادسة هكذا: (قل فأتوا بكتاب هو أهدى منهما - القرآن والإنجيل - أتبعه) فانظروا أيها المنصفون إلى أمانة هؤلاء الناس في النقل، وإلى تحريفهم في المعنى وهم يخاطبون المسلمين ويعرفون حرصهم على القرآن العظيم وقد أنزل الله تعالى الآية هكذا: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (القصص: 49) أي أهدى من القرآن والتوراة لا الإنجيل كما زعم مصنف كتاب الأبحاث، والدليل على ذلك قوله تعالى قبل هذه الآية: {وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَ لَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} (القصص: 47-48) (وفي قراءة ساحران) وحكمة إسناد الكفر بموسى إليهم بيان طبائع الأمم وتشابه أطوار البشر حتى كأن الحاضر عين الماضي، ولذلك قال الحكماء: التاريخ يعيد نفسه، والآيات حجة على المكابرين وبرهان قاطع لألسنة المعاندين، وليس فيها ما يدل على المساواة بين القرآن والتوراة في كل شيء فإن تعجيز المشركين بالإتيان بكتاب من عند الله أهدى مما جاء به موسى ومما جاء به محمد لا يقتضي أن ما جاء به أحدهما مساوٍ لما جاء به الآخر، أرأيت لو قيل لجاهل بعلم المنطق ينكر على علمائه وكتبه: ألف لي كتابًا فيه يكون خيرًا من كتاب إيساغوجي وكتاب (البصائر النصيرية) أتقول: إن هذا القول يدل على أن الكتابين متساويين من كل وجه؟ قال: (والسابعة تبيّن الإقرار الصريح على أن التوراة صحيحة سالمة فيها حكم الله، وأن متبعها ليس في حاجة إلى أن يُحكِّم أحدًا سواها) ، ونقول: إن الآية السابعة هي قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} (المائدة: 43) هذا ما أورده المصنف منها وتتمتها {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة: 43) وهي لا تدل على ما قاله لما نبينه هنا تبيينًا. الآية واردة في التعجيب من حال اليهود الذين يحكِّمون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض أمرهم، وهم غير مؤمنين به كالذين طلبوا حكمه فيمن زنى من أشرافهم، وقالوا: إن حكم بالجلد أخذنا بحكمه، وإن حكم بالرجم فلا نأخذ به. مع أن حكم الزاني منصوص عندهم في التوراة؛ ولكنهم يريدون اتباع الأسهل والأخف ووجه التعجيب أن هؤلاء القوم ليس لهم ثقة بدينهم ولا إذعان لكتابهم، فهم يحكِّمون صاحب شريعة غير شريعتهم، وشريعتهم التي يقولون إنها من عند الله وفيها حكمه بين أيديهم، ومن العجيب أنهم لا يقبلون حكمه إذا هو وافق ما عندهم، وهذا نهاية البعد عن الإيمان الصحيح الخالص بكتابهم، ولذلك قال تعالى بعد استفهام التعجب من تحكيمهم {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة: 43) أي ليس إيمانهم بكتابهم صحيحًا لأنهم أعرضوا عنه أولاً فتحاكموا إليك يا محمد، ثم أعرضوا عن حكمك الموافق له ثانيًا، أو النفي لصفة الإيمان عنهم بالإطلاق، فيدخل فيها ما ذكر ويدخل فيها الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به، أي أنهم فسدت نفوسهم وبطلت ثقتهم بالدين مطلقًا حتى لا يرجى منهم أبدًا. وظاهر أن القول بوجود حكم لله أو أحكام متعددة في كتاب الله لا يقتضي أن يكون ذلك الكتاب كله صحيحًا سالمًا من التحريف، مشتملاً على جميع ما أنزله الله تعالى، فإنني أقول إن كتاب السيرة الحلبية مثلاً فيه حكم الله، ولا أعتقد أن كل ما فيه من الله تعالى، وأنه سالم من التحريف ولا حاجة لغيره، بل أعتقد مع هذا أن فيه أقوالاً اجتهادية وآراء للمؤلف ونقولاً لا تصح، وإننا في حاجة إلى غيره. يتصل الكلام ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ تعليم القراءة والخط والرسم [1] (المكتوب 31) من هيلانة إلى أراسم في 15 مارس سنة 185 لما يتعلم (أميل) القراءة ولا يكاد يعرف حروف الهجاء وربما كنت أنا الملومة على ذلك؛ لأنني لم أحثه على التعلم إلا قليلاً، ذلك أنني لا أنفك أذكر تلك الغضاضة والكراهة للتعليم الأول، وما سببه على ما أرى إلا الإكراه عليه وهضم ما يجب لطفلة صغيرة مثلي من حق الحرية والاختيار، وأرى أن حملي أميل على التعلم؛ لأن غيره يتعلم كما كان يقال لي جناية عليه لأن عاقبة هذه الحجة أن تطبع الناشئ على التقليد الأعمى والاقتداء بالناس في جميع عاداتهم من غير تفرقة بين الحسن والقبيح، لمَ نختار ركوب الصعب في هذا السبيل ولدينا المركب الذلول، وهو حمل الطفل على التعلم بالتشويق والتنويه بما في المطالعة من اللذة، فقد يستغني الإنسان عن الأشياء التي يجهل فوائدها ومزاياها. أنا جاهدة في تلمس الوسيلة التي تنبه اشتياق أميل إلى الحروف المطبوعة، وتبعث فيه الميل إلى معرفتها، وإذا علم أن القصص العجيبة والأساطير الغريبة التي أفكِّهه بمُلَحها وأفاكيهها كلها مأخوذة من الكتب، فلم لا يجد به الميل وتحمله الرغبة على أن يأخذ تلك الحكايات من مصادرها ويستخرجها من ينابيعها بنفسه في يوم من الأيام؟ وإذا تولدت فيه هذه الرغبة يومًا ما فكل ما بعدها يتبعها من نفسه وإنني لا أفتأ أنظر تولدها وانبعاثها الحسن فيه وقد طال تأخرها. لقد صارت القراءة لنا حاسة سادسة بما رسخت ملكتها فينا، ومع هذا لم نحط خبرًا بالعقبات التي تحول دون وصول الطفل إلى معرفة الحروف الهجائية بسهولة أنا باحثة عما عساه يكون منشأ لهذه العقبات الثابتة الراسخة ويشق علي الوقوف عليه فليت شعري أليس هو ما به الفرق بين علم القراءة والكتابة وبين سائر العلوم؟ فإننا نرى هذه العلوم يساعد بعضها على معرفة بعض، ويُعِدُّ متعلم أحدها ويؤهله لفهم الآخر إذا هو انتقل إليه لما بينها من الصلة واتحاد طرق الدلالة، ونرى علم القراءة والكتابة بخلافها نرى أنه لا صلة بين الأشياء وبين هذه الأشكال والرسوم الصناعية التي وضعت للدلالة عليها، فإذا انتقل المتعلم من مسميات الأشياء إلى أسمائها في الورق ينقطع الاتصال به فجأة، لا يصعب على أميل أن يميز فيما يراه من صور الأشخاص المرسومة وجوه أصحابها إذا كان رآها؛ لأن الشكل في الصورة والمصوَّر يكاد يكون واحدًا، فأما الاسم المكتوب فإنه لا يمثل له شخص المسمى بحال من الأحوال، فهل توجد طريقة لربط هذين النوعين من الأشياء في فكره وأعني بهما الرسم والكتابة؟ هذا أمر يُطلب منك. أنا أكلم أميل بالفرنسوية، وهو يتكلم مع أهل كورنواي بالإنكليزية، فهو بهذه الطريقة يتعلم لغتين من اللغات العصرية بلا مشقة، بل لا حرج علي إذا قلت بلا شعور منه بذلك، إلا أنه يغلط فيهما غلطًا غريبًا فيمزج أحيانًا بعضهما ببعض مزجًا يكون أشد من الأضاحيك استضحاكًا، مثل لنفسك غلامًا يقول مخبرًا لك بأنه يريد الخروج (JE VOUDRAIS TO GO OUT ?) ألست تغرب لهذا الخلط ضحكًا؟ لا غرو فما كان تكوُّن اللغات المختلطة فيما سبق إلا في مثل هذه الحالة وهي تجاور جنسين متمايزين واختلاطهما زمنًا في مكان واحد، أنا أعتقد أنني أعلِّم أميل، وهو في الحقيقة معلمي؛ لأنه قد فتح عيني وهداني إلى عدة مسائل ذهب تعبي في البحث عن حلها في الكتب سدى، وليت شعري هل تصدقني إذا قلت لك إنه يعلمني التاريخ. يعرف أميل الرسم والتصوير، وإن كان لمَّا يعرف القراءة والكتابة فهل وُلد مصورًا ورسامًا؟ لا أنكر أن النظر إلى خرابيشه [2] يضعف هذا الاعتقاد أو يذهب به بعيدًا؛ ولكنها على كل حال صور آدميين وحيوانات ومساكن وغير ذلك، ولا يكتفي بأن يحاكي بالقلم العادي أو الرصاصي شكل ما يقع عليه بصره بحسب ما يتفق له، بل أراه يحاول التعبير عما في نفسه من الوجدانات، وما في فكره من الحكايات بما يرسمه على هذه الأوراق من خرابيش الخطوط والصور، انظر كيف حاول أن يكتب إليك مكتوبًا، أستغفر الله قد أخطأت في كلمة يكتب وكلمة مكتوب، وكان ينبغي أن أقول: يرسم لك خطابًا بربائيًّا [3] وإني لأخشى أن يصعب عليك فهم الرسم الذي يرسله إليك، فأرجو أن أكون أنا في هذه الدفعة شامبليون هذا الرسم [4] فأقول: تربية إحساس الشفقة والرحمة وحادثة غرق يمثل لك الرسم ريحًا عصوفًا هبت لليلتين من شهر أبريل، وظلت تعصف إلى الليلة الثالثة منه، وليس هذا مما يحصل هنا نادرًا، ولله بيوتنا؛ فإنا مبنية بالصوان (وهو الحجر الكثير في الضواحي) ولولا ذلك لتداعت، أو لدكت بقوة العواصف والأعاصير الشديدة التي تضطرب لها هنا السماء والأرض والماء، على أن البحر لم يُرَ منذ سنين بمثل هذا الاضطراب الذي أحدثته هذه العاصفة، ولا يجد الواصف لهذه الحالة وصفًا إلا أن يقول: إن حجاب الروع والفزع قد أُسدل على هذا الكون الذي لا نهاية له. لا يسمع من لغط الناس المشئوم في هذه الحال إلا أخبار الغرق والغرقى تتردد من ساحل إلى ساحل، ولم يكن لخفراء السواحل يومئذ هم منذ طلع الصباح إلا مراقبة البحر الهائج بمناظيرهم المقرِّبة للبعيد يصوبونها إلى الأفق من على تلك الصخور الوعرة المحيطة بالخليج، وكانوا لا يكادون يُرَون في ضوء ذلك الصباح الملون بخضرة البحر الحوَّاء (الضاربة إلى سواد) على أن أشعة أبصارهم قد خرقت تلك الحجب الجوية، وعلم الناس أنهم ميزوا من وراء تلك الأمواج المتراكبة المصطخبة سواد سفينة على بعد قد وقعت في شعب مخيف، فانكسر صاريها الأكبر وتحطمت جوانبها، فسقطت تضطرب كحوت أصيب بجروح عظيمة، فصار يتقلب على جنبيه، وكان مما يثير ثائر الخوف أن تلك الأمواج التي تهيجها العواصف فتعلو فجأة كالجبال، كانت تتلاعب بتلك السفينة فتقذفها آنًا بعد آن بتلك الصخور الصم، وصار يتسنى للإنسان في ذلك الجو المطبق المحزن أن يميز في ضوئه السنجابي اللون أيدي الناس في السفينة تحرك قطعًا من الشراع. لم يكن للناس حينئذ من أمنية إلا نجاة هؤلاء الغرقى على أنهم لم يكونوا يجهلون صعوبة إنقاذهم وتعسره، نعم إن أهل كورنواي أولو شجاعة ونجدة؛ ولكنهم مع ذلك أصحاب حذر وفطنة، هدأت الريح قليلاً بعد شروق الشمس كامدة شاحبة، والبحر ما زال متماديًا في طغيانه، مصرًّا على عدوانه، فكان يخيل لرائيه يتحرك بنفسه أنه أخذته حمَّى نافض من القاصف، فأحدثت فيه هذه القوة العجيبة في الرعدة والاضطراب، وكان بعض الصيادين المحنكين يرمون بأبصارهم إلى الأمواج يتتبعون حركاتها بأعينهم المدرَّبة، ثم يُنغضون رؤوسهم وتعلو وجوههم كآبة اليأس، وكان لسان حالهم يقول: لا حول لنا ولا قوة على إنقاذ هؤلاء المساكين. أتى على الناس نحو نصف ساعة يتراوحون بين اليأس والرجاء، كان كنصف قرن، ذلك أنهم كانوا يرون بعض إخوانهم بين مخلب الموت ونابه، وهم يرجون منهم النجدة؛ ولكنهم لا يجدون لإنجادهم سبيلاً، وبينما هم في هذه الحالة إذا بزورق النجاة قد أُحضر، فصاح الناس صيحة واحدة كانت منبعثة عن جميع الصدور، وهذا الزورق يُعِدُّه الملاحون للدواهي الكبيرة، وقد أُحضر بقوة السواعد والخيول، ووُضع في مكان من الساحل يرجى منه الوصول إلى الغرقى، وما عتم أن امتلأ بالناس على وهنه وخفته وعظم الخطر في ركوبه، وقد تحمل قوبيدون الذي تطوع في هذه الخدمة منذ سنتين أو ثلاث، كل مشقة الذود عن مكانه وحفظ مجدافه، وكان الذين ركبوا الزورق يحسدونه على شرف التعرض لمخاتل المحيط وفخاخه، وما نجح في ذوده ودفاعه هذا إلا بقوة حقوقه المكتسبة بسابق هذه الخدمة. أنزل الزورق في البحر، وانحنى المجدِّفون الجريئون على مقاعد تعلو نصفها الأمواج، وأوغلوا في البحر وكان أميل على ما أرى يأسف أنه لم يكن له من السن والقوة ما يؤهله لمساهمة رفيقه قوبيدون في هذه السياحة الدالة على جراءة الجنان، وشرف الوجدان، وأراه قد اكتسب في هذا المشهد من العبرة بإخلاص المخلصين، والأسوة بإحسان المحسنين، ما لا أبيح لنفسي التعبير عنه بالكلام، ومحاولة شرحه بفصاحة البيان، لئلا أضعف من قوته، وأشوِّه من صورته؛ فإن حضور المشاهد العظيمة، ورؤية الأخطار الكبيرة، تعلِّمنا بغير كلام، وتربينا بدون إلزام. غاب الزورق ساعات والناس في قلق مميت، وإذا بصائح يصيح: ها هو ذا راجع، وكان يقترب من الشاطئ حقًّا، والناس في ريب من نجاحه، وما كان أشد شجاعته في مساورة غضب الأمواج الثائرة! ! أنا لا أشك في أنك تعرف ما تأتي به صناعة الملاحة من هذه العجائب وتلك الزوارق المنشأة من الهواء والبلوط التي هي في الخفة كالريشة، وفي القوة والمتانة كما يحب الخير ويرضى، كان يخيل للرائي في كل لحظة أن الفواعل الجوية المصطخبة ستبلع بقوتها هذه الصدفة الخشبية التي تطاولت بجراءتها إلى منازعة البحر في غنيمته؛ ولكنها تطاولت فطالت وحاربت فظفرت، فكأن هذا الزورق كان إنسانًا يسبح، وقد أعطته جِنِّية طلسمها ليتقي به مفزعات النوء، وما كان أبدع منظر رجاله والماء يتدفق من فوق قلانسهم المشمعة وثيابهم المزيَّنة، وهم راجعون أعزاء ظافرين، وإن كان الموج نال منهم وترك أجسامهم كأجسام الضفادع ونحوها من حيوان الماء، وقذف بهم أحيانًا في مهاوي عميقة كبطون الأودية، وطفر بهم أخرى إلى فتن عالية كشعاف الجبال يظهرون بها للأبصار في ضوء الشمس السقيم، ولو أنه نزع مجاديفهم من أيديهم لبادروا لاسترجاعها بقوة، كما يأخذ الشجاع سلاحه من عدوه. صاح قوم من الملاحين كانوا على صخرة قائلين (نجوا) . فلما سمعت هذا الصياح شخصت ببصري إلى الزورق الذي كان يدنو من الشاطئ دنوًّا غير محسوس، وأنشأنا نميز بين رجال الزورق: ثلاثة من الغرقى شاحبي اللون شحوبًا مفزعًا، وفتاة صغيرة ليس فيها أدنى علامة على الحياة. وصل الزورق بمشقة شديدة، ورسا في مرسى من المراسي المحمية بالخليج فلم ألبث أن تلقفت بعض التفاصيل عن حادثة الغرقى فعلمت أن إنقاذ الغرقى كان عسرًا خطرًا، وأنهم لقوا الألاقي الشديدة، ويُظن أنهم باتوا ليلتين على الطَّوى، وقد وُجدوا معشِّشين كالطير البحري حول بقايا أدوات السفينة التي لم يدمرها البحر كلها تدميرًا، ولا شك أنهم لما صاروا عرضة لجميع شدائد الجو تسلقوا هذا الموضع الحرج عند اغتيال الأمواج سطح المركب، وثبتوا فيه بخوارق الشجاعة وقد تعب منقذوهم في تخليص الحبال من أيديهم التي أيبسها البرد، وكانوا عاجزين حتى بعد نجاتهم عن مدافعة النعاس الذي اسْرَنْداهم، ودفع النوم الذي أناخ عليهم بكلاكله. كان الناس يتساءلون: من هم ومن أين أتوا؟ ومما كان يزيد في سوء حالهم أنهم ما كانوا يحيرون جوابًا؛ لأنهم لا يفهمون خطابًا، فحسبت أنهم يعرفون غير الإنجليزية فخاطبتهم بالفرنسوية وبالألمانية، بل استنفدت جميع ما أعرف من اللغات، فلم أر في وجوههم أمارة على فهم شيء منها، وكان في الميناء بعض الملاحين الروسيين واليونانيين والزوجيين فلم يكونوا أسعد حظًّا في مخاطبتهم، تجلت هذه الحادثة بشكل الأمور الغريبة، فكأن هؤلاء الغرقى في نظر الناس أموات بُعثوا ولم يعرفوا لغات الأحياء. وأما الفتاة الصغيرة التي يظهر أنها بنت خمس، فكانت نجاتها كمعجزة من المعجزات، وكانت أبصار الملاحين قد زاغت دونها، ولم تهتد في الضباب الذي أثارته الأمواج إليها؛

ريشة صادق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ريشة صادق نذكر هنا بمناسبة كون هذه الرسالة في موضوع تعليم الخط والرسم ما نوهت به الجرائد اليومية من اختراع خليل بك صادق صاحب مكتبة ومطبعة الشعب ريشة للكتابة تفضل أمثالها بخصائص، منها أنها تكتب عدة أسطر بغمسة واحدة في الحبر، وقد أقبل الناس عليها كثيرًا.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (ديوان حافظ) نوَّهنا بهذا الديوان من قبل ونشرنا مقدمته، وقد تم طبعه مشكولاً مفسرًا ما يحتاج منه إلى الشرح بقلم جامعه الشاعر الأديب محمد بك هلال، ورأينا في باب شكوى الزمان منه صورة مكتوب للناظم كان أرسله من السودان إلى فضيلة مفتي الديار المصرية يدل على رسوخ عرقه وطول باعه في الأدب، وكان يومئذ بين المدافع والقواضب، ومقارعة الجيوش والكتائب، لا بين الدفاتر والمكاتب، فرأينا أن ننشره لما فيه من الإبداع والدلالة على أن الناظم شاعر في منظومه ومنثوره وفقًا لمذهبه في المقدمة، قال جامع الديوان: (وكتب من السودان الكتاب الآتي إلى واحد العلماء في مصر، وإمام فلاسفة هذا العصر، نادرة الفلك ومعجزة الزمان الأستاذ الأكبر فضيلة الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وقد أثبتناه هنا وإن لم يكن ثم محل للنثر (كذا) لاشتماله على كثير من القريض نضن بضياعه: كتابي إلى سيدي وأنا من وعده بين الجنة والسلسبيل، ومن تيهي به فوق النثرة والإكليل، وقد تعجلت السرور، وتسلفت الحبور، وقطعت ما بيني وبين النوائب: وبشرت أهلي بالذي قد سمعته ... فما محنتي إلا ليالٍ قلائل وقلت لهم للشيخ فينا مشيئة ... فليس لنا من دهرنا ما ننازل وجمعت فيه بين ثقة الزبيدي بالصمصامة [1] والحارث بالنعامة [2] فلم أقل ما قال الهزلي [3] لصاحبه حين نسي وعده، وحجب رفده: يا دار عاتكة التي أتغزل بل أناديه نداء الأخيذة في عمورية، شجاع الدولة العباسية، وأمد صوتي بذكر إحسانه، مد المؤذن صوته في أذانه، وأعتمد عليه في البعد والقرب، اعتماد الملاح على نجمه القطب. وقال أصيحابي وقد هالني النوى ... وهالهم أمري متى أنت قافل فقلت إذا شاء الإمام فأوبتي ... قريب وربعي بالسعادة آهل وها أنا ذا متماسك حتى تنحسر هذه الغمرة، وينطوي أجل تلك الفترة، وينظر إليَّ سيدي نظرة ترفعني من ذات الصدع، إلى ذات الرجع [4] ، وتردني إلى وكري الذي فيه درجت ردّ الشمس قطرة المزن إلى أصلها [5] ، ورد الوفي الأمانات إلى أهلها: فإن شاء فالقرب الذي قد رجوته ... وإن شاء فالعز الذي أنا آمل وإلا فإني قاف رؤبة لم أزل ... بقيد النوى حتى تغول الغوائل [6] فلقد حللت السودان حلول الكليم في التابوت، والمغاضب في جوف الحوت، بين الضيق والشدة، والوحشة والوحدة، لا بل حلول الوزير في تنور العذاب [7] ، والكافر في موقف يوم الحساب، بين نارين: نار القيظ ونار الغيظ. فناديت باسم الشيخ والقيظ جمره ... يذيب دماغ الضب والعقل ذاهل فصرت كأني بين روض ومنهل ... تدب الصبا فيه وتشدو البلابل واليوم أكتب إليه وقد قعدت همة النجمين [8] ، وقصرت يد الجديدين، عن إزالة ما في نفس ذلك الجبار العنيد، فلقد نما ضب ضِغنه عليّ، وبدرت بوادر السوء منه إليّ، فأصبحت كما سر العدو وساء الحميم، وآلامي كأنها جلود أهل الجحيم، كلما نضج منها أديم تجدد أديم، وأمسيت ملك آمالي إلى الزوال، أسرع من الشهاب في السماء ودولة صبري إلى الاضمحلال، أحث من حباب الماء [9] ، فنظرت في وجوه تلك العباد، وإني لفارس العين والفؤاد، فلم تقف فراستي على غير بابك. وإني أهديك سلامًا لو امتزج بالسحاب، واختلط منه باللعاب، لأصبحت تتهادى بقطره الأكاسرة، وأمست تدَّخر منه الرهبان في الأديرة، ولأغنى ذات الحجاب، عن الغالية والملاب [10] . ولا بدع إذا جاد السيد بالرد [11] فقد يُرى وجه المليك في المرآة، وخيال القمر في الأضاة [12] ، وإن حال حائل دون أمنية هذا السائل، فهو لا يذم يومك، ولا ييأس من غدك، فأنت خير ما تكون حين لا تظن نفس بنفس خيرًا والسلام) اهـ. هذا وليس الديوان على أسلوب واحد؛ فإن فيه ما جاء على طريقة المعري فيلسوف الشعراء كبعض الحكم والرثاء والشكوى، وفيه ما يحاكي أسلوب أبي نواس كبعض الخمريات، ومن هذا الشعر ما لا يود مثلنا من رجال الدين نشره، وإن كان لا يكاد يخلو كتاب من كتب الأدب ودواوين الشعر العربية عن مثله كالقصيدة التي نظمها عن لسان الشيخ الصوفي في معشوقه شكيب، وثمن الديوان عشرة قروش أميرية، فليبادر إليه مريده؛ فإنه لا يلبث أن ينفد. *** (لغة الجرائد) كتب العالم اللغوي المشهور الشيخ إبراهيم اليازجي في مجلة الضياء مقالات في انتقاد لغة الجرائد، بيَّن فيها ما شاع استعماله بين كتَّابها، بل أكثر كتَّاب العصر من الأغلاط في مفردات اللغة وتراكيبها، وقد عُني الأديب الفاضل مصطفى أفندي توفيق بجمع هذه المقالات وطبعها، وقد زاد على ما كُتب في الضياء كثيرًا من الكلمات والجمل المنتقدة، وجعل ثمن المجموعة ثلاثة غروش أميرية، وهو ثمن قليل لكتاب نجزم بعظيم فائدته، وإن لم تتيسر لنا مطالعته لما لنا من الثقة بمؤلفه.

رزء عظيم إسلامي وفاة أمير الأفغان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رزء عظيم إسلامي وفاة أمير الأفغان نعت البرقيات العمومية في الأسبوع الماضي الأمير عبد الرحمن صاحب أفغانستان أعقل أمراء المسلمين في هذه العصور الأخيرة وأبصرهم بالسياسة، بل أعقل أمراء الشرق وملوكه، وأعلاهم حكمة، وأشدهم حزمًا، وأبعدهم رأيًا، ولا أستثني ميكادو اليابان الذي ضربت أمته مع الأوربيين بكل سهم، وطاولت دولته دول الغرب في كل أمر؛ فإن أمير الأفغان الذي حفظ استقلال بلاده وهي على ما نعلم من مشكلاتها الداخلية والخارجية، لا يقاس به ملك كالميكاد يرتقي عند رعيته إلى مرتبة الألوهية، ويُخضع له الخضوع الأعمى، وليس مطموعًا في بلاده من أقوى دول الأرض كدولتي روسيا وإنكلترا الطامعتين في الأفغان، وقد نوهنا بفضل هذا الأمير في أجزاء من المنار وسَنُلمّ بشيء من تاريخه في جزء آخر، وقد انتقلت الإمارة لنجله الأمير حبيب الله خان الذي نرجو أن يكون استفاد من تربية والده ودهائه ما يجعله خير خلف له، كما نرجو من إخوته وسائر أمراء الأفغان ورؤساء قبائلهم أن يكونوا له كما كانوا لأبيه؛ فإن التفرق آلة الدمار، وعامل الخسار، ونسأل الله تعالى أن يتغمد هذا الأمير برحمته ويعفو عن زلاته الاستبدادية التي كانت نتيجتها خيرًا للرعية.

سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سقوط الشيخ أبي الهدى أفندي شاع من بضعة أشهر أن مولانا السلطان - أيَّد الله دولته - قد غضب على صاحب السماحة الشيخ أبي الهدى أفندي غضبًا لم يغضب عليه مثله، وقد حقق مرور الزمن الطويل ذلك، ويؤكد العارفون بأسرار الآستانة أن ثقة السلطان به قد زالت من كل وجه؛ حتى أنه لا يفض ختم التقارير التي يرفعها إليه، وإن كُتب على ظرفها أنها تتعلق بحياة السلطان التي هي أهم الأشياء وأجدرها بالالتفات والعناية، والتي كان الإيهام فيها هو الوسيلة العظمى لقرب أمثال هذا الشيخ من المقربين الذين باعوا مصالح الأمة والدولة بالحظوظ التي ينالونها من شغل مولانا السلطان بها، أما سبب هذا الغضب المباشر فأقرب ما يقوله الناس فيه إلى التصديق أنه ثبت لمولانا السلطان أن الشيخ كَاتَبَ سمو الخديو المعظم، وخضع له في حادثة (شكيب) المشهورة، مع أنه كان يحاول دائمًا إقناع السلطان بأن الخديو طامع بالخلافة، أليس هذا الخضوع مع هذا الزعم أعظم كفران بنعم مولاه؟

عودة أحمد عرابي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عودة أحمد عرابي عاد إلى مصر من سيلان زعيم الثورة العرابية أحمد عرابي باشا بعفو من سمو الخديو المعظم مبني على شفاعة ولي عهد دولة الإنكليز، ومن عموم الجهل في القطر المصري أن أكثر أهله لا يزالون في أمر مريج من الاعتقاد بهذا الرجل، فمنهم من يعتقد أنه كان يقصد نفع الوطن وخدمته بكل إخلاص، وأن السبب الأكبر في فشله وخيبته إعلان السلطان عصيانه وخروجه، ومن هؤلاء أكثر العامة؛ ولذلك كانوا يتمسحون به تبركًا بعد أن صلى الجمعة في مسجد السيدة زينب رضي الله عنها وعندما زار الضريح الحسيني، ومنهم من يعتقد أن سبب فشله هو الجهل بما يحتاج إليه هذا العمل العظيم الذي تصدى له، ومنهم من يعتقد أنه كان بينه وبين الإنكليز وفاق سري، كان هو السبب في مساعدة قنصل الإنكليز له في كثير من مطالبه قبيل الثورة وفي أثنائها، ومنهم من يعتقد أن هذا الوفاق كان بينه وبين الخديو السابق توفيق باشا ودولة الإنكليز لأجل استقلال البلاد المصرية وانفصالها من الدولة العلية، ويظهر لنا صحة ما قاله البعض من أن أكثر الخواص يمقتونه على كل حال؛ لأنه سبب ضياع استقلال بلادهم.

من إدارة المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ من إدارة المنار نرجو من قراء المنار الأفاضل في تونس أن يرسلوا قيمة الاشتراك حوالة على إدارة البريد باسمنا، ونخص بالرجاء من لم يدفع عن السنة الماضية، ونرجو من المشتركين في الدقهلية الاعتماد على توقيع الدكتور النطاسي نصر أفندي فريد طبيب العيون بالمنصورة والدفع له.

مفاسد لا موالد

الكاتب: أحد الفضلاء

_ مفاسد لا موالد لأحد الفضلاء يصف المولد الكبير الأحمدي وبعض ما كان فيه من البدع والمنكرات والتقاليد والعادات إن صح ما يقوله علماء العمران من أن المعارض معيار تقدم الأمم وارتقائها في الحضارة؛ لأنها السوق الذي تعرض فيه بضائعها وما حصلت عليه من علوم، وما تحلت به من أخلاق وآداب، والزناد الذي باستيرائه يتجلى كامن القوة، ويتسنى الانتفاع بما أودع الله فيه من صنعة الحكيم العليم - كان المولد الأحمدي هو أول معيار يعرف به الحكيم الحاذق ما عليه أمتنا المصرية من الارتقاء في سلم المدنية، وما أحرزته من مستلزمات الحضارة والسبق في ميدان تنازع البقاء، ويمكنه بعد أن يجول في أنحاء طنطا في هذه الأيام جولة صغيرة، أو يجلس في محل مشرف على طريق عام برهة من الزمن أن يستجمع من الأدلة والبراهين التي يشاهدها بعيني رأسه، ويسمعها بأذنه ما يكفي لاقتناعه بأن يُصْدِر حكمًا قد رسخت قواعده على أساس العدل على ما وصلت إليه الأمة في آدابها وأخلاقها، وهل هي من ذلك في الدرك الأسفل أو الدرجة العليا، وإذا كان ممن يعرف شيئًا عن حقيقة الدين الإسلامي تبين مقدار محافظة الأمة عليه، وقيامها به، واعتبر هذا المولد عظة وذكرى لقوم يعقلون. ولكن ما الذي يشاهده يا ترى؟ يشاهد طنطا وقد احتشد فيها أنواع الناس من كل فج وناحية، وهي تموج بهم موجًا وقد ضاقت بهم أرجاؤها على رحبها، وقد تخلل عشرات ألوف هذا الجمع المزدحم آلاف من الباعة لأنواع الألاعيب وملهيات الأطفال والمناديل وأنواع الخردوات وسائر المعروضات، التي لو سألت عن منشئها، ومن أين جاءت لأجبت لأول وهلة إنها من واردات البلاد الأجنبية، فليس بين ما يعرضه الباعة من المصنوعات المصرية إلا النزر اليسير من تافه المبيعات كالزمارات المتخذة من القصب الفارسي ونحو ذلك، وما بقي فمعروضات إفرنكية في الحقيقة، وقلما تسمح نفس مصري بعرض مصنوع مفيد يكون من ورائه ترقية حال الأمة في زراعتها، أو تسهيل الأعمال التي تزاولها من المهن الضرورية، على حين نرى فيه الإفرنج يتسابقون إلى مثل هذه الأحوال فهم يعرضون في هذا المولد طنبورًا رافعًا للمياه، يذكرون من فوائده أنه يسهل ري الأرض بدرجة لم يسبقه بها من الآلات الرافعة إلا ما كانت إدارته بقوة الآلات الكهربائية أو البخار. وقد رأيناهم يعرضون في المولد الذي قبل هذا أنواعًا من النوارج ومكينات لفرط الذرة، وأخرى لغربلة الحبوب، وثالثة لطحن البن وما شئت من مصنوعات تضافرت عليها أفكار وأيدي الإنسان، فكانت خير نتيجة أنتجها الجد وممارسة العلوم {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) . إذا صرف العاقل نظره عن التأمل فيما يتبادل الناس بيعه وشراءه، وتأمل في هذا الجمع المزدحم رأى أصناف الناس كأنما دعاهم داعي النشور، فقاموا مسرعين إلى موقف فصل القضاء، قد اختلط الرجال بالنساء والكبار بالصغار، كل آخذ في سبيله منصرف لما يريد، يُرى من بين هذا المزدحم فئات من الشبان قد التفوا حول غانية هيفاء، وقد خرجت متبرجة تبرج الجاهلية الأولى، وبذلت أقصى ما تصل إليه يد إمكانها من الزينة لتغري هؤلاء الأغرار باتباعها حتى يصلوا بها إلى ملهى من الملاهي، ويكون هناك من انتهاك حرمة الآداب ما تقشعر منه الأمم العريقة في الهمجية. يرى الطبول تقرع وكاسات الفقراء ترن، والرايات الملونة خافقة في الهواء وحاملوها يتمايلون كأنما سرت فيهم كهربائية الولاية. أنا جالس الآن أشاهد الطريق الذي يمر منه الخليفة، وقد ازدحم الناس على جانبي الطريق والإفرنج يشرفون من الكوى والشرفات ليشاهدوا ما يعمله المسلمون من شعائر دينهم، ومن تحتهم تمر الخلفاء والنقباء وأرباب الأشائر وأبناء الطرق بالأزياء المختلفة، وآحاد الناس قد احتضنوا الأبناء وعلى رؤوسهم الطراطير المخروطية الشكل المختلفة الألوان، وهؤلاء الخلفاء - ما عدا خليفة السيد طبعًا - يسير الواحد منهم وهو ممتط فرسًا ذلولاً، وقد أمسك بهذا الشيخ من جوانبه الأربع فئة من مريديه، وهو يتمايل على أيديهم ذات اليمين وذات الشمال، وإلى الأمام وإلى الوراء، وآخران قد أمسكا بزمام فرسه وهو على هذه الحال كأنما أُخذ عن حسه واستغرق في مشاهدة الذات الأقدس، والبعض من هؤلاء المشايخ الأقطاب قد أسبل على رأسه وجانب من نصفه الأعلى كساء من الصوف الأحمر أو الأصفر أو الأخضر أو نحو ذلك، فلا يُرى من بدنه شيء، وبعض قد عرى رأسه وجسده إلى ما تحت السرة، وانحسر اللباس عن رجليه إلى ما فوق الركبتين، فلم يستتر من جسده غير سوأتيه، وهو في تمايله ذاك يخرج من فيه لعابًا يسيل من أشداقه كأنه يتخذ هذه الحال عنوانًا على الرقي إلى حظيرة القدس أو التناهي في مقام القرب، وكونه لم يبق بينه وبين مخالطة الملأ الأعلى وعالم الروحانيات شيء، وأمامه وخلفه ثلة من الشيب والكهول والشبان بغريب الملابس قد استولى عليهم الجذب، وشغل حسهم شهود الخالق في زعمهم، فهم يثبون وثبة القرد أمره سيده بمحاكاة البرابرة يرقصون في ملاهيهم فائتمر، والناس يقرأ بعضهم الفواتح والبعض يستغيث بهم والنساء تزغرط، وما شئت من هذا الباب واكتلت من هذا الجراب. وبعد ذلك مرت الموسيقى وعلى جماعتها مظلة واحدة يبلغ قطرها ثلاثة أمتار ونصف تقريبًا، وقد نُقشت بأنواع الأصباغ، فكانت مرمى نظر الجميع، ثم مر الطبل التركي وخلفه أرباب الحِرَف وخَدَمَة القهاوي من البلاد المختلفة، وقد امتطوا الخيول والبغال والإبل على أنحاء شتى وعلى رؤوسهم الطراطير الموصوفة، ولا تسل عن عربات النقل (الكارو) المقلة للنساء والفتيات، وقد لبسن الطراطير، وأخذ الحَرُّ مأخذه منهن حتى إن الواحدة ربما لم تجد شيئًا تحرك به النسيم سوى نعلها، فتنتزعه من رجلها وتمر به أمام وجهها يمينًا وشمالاً تموِّج به الهواء تنفس عن نفسها، وربما فعلت ذلك لتكون أضحوكة. ومر بعد ذلك شخص أمامه موسيقى خصوصية، وقد اعتلى فرسًا وجعل على رأسه كوفية ملونة ولف عليها عقالاً وضرب بفضل أطراف الكوفية على وجهه، فلم يظهر منه سوى عينيه وشد على وسطه زنارًا ملونًا، واحتذى حذاء مما لا يلبسه إلا السيدات، وحلَّى ساقه بخلخال لامع من الفضة، فاختلف الناس فيه أهو مخنث أو امرأة تخفي أمرها، وبعبارة أخرى (هل هو الرجل الجديد أو المرأة الجديدة) ثم مرت شرذمة من العساكر الفرسان بأيديهم السيوف، تتلوها أخرى من الرجال بأيديهم البنادق، ثم غوغاء من الناس يذكرون الله لا يتجاوز الذكر حناجرهم وقد تلجلج بصرهم ذات اليمين وذات الشمال، ثم سبعة من كناسي المسجد الأحمدي بأيديهم سيوف أنحى عليها الصدأ وكر الغداة ومر العشي، وقد لبسوا دروعًا وخوذًا أخلقتها الدهور لا قِراع الكتائب، والظاهر أنها كانت ما يُستعمل زمن الحروب الصليبية، والناس يزعمون أنها كانت لباس الأسرى الذين احتملهم سيدي أحمد البدوي من بلاد الكفار، وأمامهم حاملو البلط والسيوف الخشبية، ثم الخليفة وعلى رأسه التاج المنسوب إلى السيد أحمد البدوي، وبجانبه الحراس من فرسان العساكر والأهالي خيفة أن يختلس التاج أولاد نوح الذين يزعمون أنهم أولى به، ووراءهم أخلاط المشاة والركبان بالأزياء المختلفة والبعض قد ضم إليه طفلاً ألبسه خرقة خضراء وطرطورًا رجاء أن يعيش ويطول عمره، تتخللهم زعانف آخرين كحملة المزمار والطبل البلدي والتركي، ثم الذين يركبون الإبل، وقد وُضعت بينهم مائدة على ظهر بعير يلعبون عليها بالضمن والكوتشينة والنرد، ثم راكب على جمل قد لبس حلة من شعر المعز وتاجًا أخضر محلّى بالقصب المخيش وحلة خضراء، وأمامه ولد كذلك، وأمام الولد سفط مغشى بالنسيج الأخضر وغبيط الجمل كذلك، وبعد ذلك ثلاثة نفر قد صبغوا وجوههم بألوان من الأسفيذاج والسليقون واللاذورد وتزيوا بأزياء مختلفة وبيد كل منهم قرص من السرقين يموِّج به الهواء ليستنشقه باردًا، وبالجملة لا يكاد يمر بالموكب إلا من غيَّر زيه وشكله وخَلْقَه وخُلقَه. هذه بعض صفات المولد الأحمدي الذي يعتقد كثير من الناس أنه من مستثنيات الشريعة الغراء، وأن المبادرة إليه من أفضل القرب، وأن من زنى فيه لا بد أن يتوب الله عليه، وأن موكب الخليفة الموصوف هو مهبط الأسرار الربانية وأن ما يقع فيه من الأمور المخالفة للشريعة لا يقع إلا وقد سبقه الغفران، وهكذا تلبس المساوي لباس الآداب الدينية وتلتصق الوثنية بدين التوحيد، وتعد المخازي الهادمة للآداب والمروءة من دعائم الحنيفية السمحة، تبرأ الإسلام من ذلك وتعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا. أكتب هذه السطور وأنا مشرف على موكب الخليفة من جهة يميني، وعلى يساري كتاب فيه تاريخ الفراعنة في وثنيتهم الأولى أطالع وصف مواكبهم وأجيل طرفي في صورة الموكب، فلم أقرا مثلما يلمح طرفي الآن مما يشوه وجه الآداب، أو يناقض سمات الفضيلة، فخيل لي أن تلك الوثنية الأصلية أرقى من جميع الوجوه مما لحق بالإسلام والتصق به من هذه الشعائر الوثنية الطارئة. مررت على بيت فإذا فيه جماعة قد أخذوا بأيديهم المعازف من الدف والمزمار البلدي والأرغول والناي، والجميع يعزفون بالأنغام، ومنهم ضارب على صنجة رنانة من الفولاذ، ومعهم جماعة يتمايلون ويوقعون الذكر على هذه الألحان، ففي أي دين جاء هذا، وفي أي قرآن شُرِع، وعلى أي رسول نزل؟ هذا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ليس في آياته أمر يذكره تعالى في حال تمايل الذاكر كتمايل الثمل أمام إناء بنت الحان فأمالته، ولا أن يكون ذكر الله على توقيع ألحان المعازف، ولم يُنقل من أحواله صلى الله عليه وسلم شيء من هذا الذي يأتيه أعوان الضلال الذين يتبعون خطوات الشيطان وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. وهناك قوم آخرون يذكرون الله بأصوات منكرة مزعجة أذكرتني ما أخبرني به بعض المدرسين بالجامع الأحمدي وهو أنه شاهد جماعة من هؤلاء في سفره إلى الحجاز كانوا معه في قافلة وهم من المصريين، فأناخت القافلة في وادٍ بين جبلين، فقام هؤلاء يذكرون (الذكر البيومي) في جوف الليل، فلما علا صوتهم وتردد صداه في تلك الصحراء هاجت الجمال، وأخذت في أرجلها أطناب الخيام، وقلَّعت الأوتاد، وذعر النيام، وساءت حال القافلة، فقام الأعراب ممتشقين السيوف يتساءلون ما هذا الضجيج، فقال لهم ذلك المدرس هذا ذكر الله، فقال له أعرابي جلف: ذكر الله به تطمئن القلوب، ولا تهيج منه الجمال. هذا بعض ما رأيته في هذا المولد، ولو كنت ممن يغشى مواطن اللهو لذكرت كيف تُراق دماء الآداب بإراقة دم بنت العنقود، وكيف تنحدر جداول الدراهم والدنانير وتصب في خزائن باعة المسكرات، وكيف يأتون بالبغايا وينصبونهن حبائل لاقتناص الوارثين من أبناء الموسرين، وكيف يخرب هؤلاء الأغرار بيوتهم بأيديهم وأيدي الخواجات، ومن وراء ذلك سوء المنقلب وبئس المصير. وفي الختام أقول إن السيد أحمد البدوي رضي الله عنه لو كان حيًّا يمشي على رجلين، وينطق بلسان وشفتين، ودعا أهل القطر المصري لعمل من الأعمال الخيرية يعود عليهم بالخير العاجل والثواب في يوم الجزاء، لما لقي منهم إلا إعراضًا، بل لو قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى مثل ذلك لما كانوا له إلا كما كان عبد الله بن أبي بن سلول فإلى

الاستقلال والاتكال

الكاتب: محمد أفندي كرد الدمشقي

_ الاستقلال والاتكال بقلم الكاتب الفاضل محمد أفندي كرد علي الدمشقي يطالع المستفيد مئات من كتب الفلسفة والأدب وعلوم العمران، فلا يعتم أن يستقل منها ما يأخذ مأخذه من العقول، ويُحْدِث أثرًا في النفوس، ولا عجب فقد تنصرف وجهة الألوف إلى خدمة العلم وبث الملكات الصحيحة، فإذا فوضل بينهم ووُضعت أعمالهم في ميزان النَّصفة، وعلى محك الاستبصار يكثر الشائل ويقل الراجح، والمؤثرون في الأفكار في كل الأعصار والأمصار أندر من الغراب الأعصم والكبريت الأحمر، على أن كل من بذر بذورًا طيبة لا ينفك مثلوجًا فؤاده مهما تأخر نباتها وإيتاؤها لعلمه بأنها ستؤتي أكلها عاجلاً أو آجلاً إذا لاءمتها طبيعة المنبت، وأحسنت تعهدها أيدي القائمين عليها. وقد وقع شيء من هذا - إن صح حدسي - للكتاب الذي ألفه المسيو آدمون ديمولان الفرنساوي، وعرَّبه أحمد فتحي بك زغلول المصري المسمى (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) فإنه أثَّر في الفرنسيس أثرًا حسنًا، وسرى قول مؤلفه في بلاد الإفرنج منذ نحو خمس سنين، فترجم إلى لغاتهم وتناولته ألسن الناقدين والمسلِّمين، وعاد بعض المنشئين يرون رأي صاحبه وينطقون بلسانه ويكتبون بقلمه، ودل كثير من أهل العلم على مواقع الفساد من تربيتهم، ونقص الاستعداد من عاداتهم، وأشاروا إلى تخلفهم في حلبة تنازع البقاء عن جيرانهم الألمان والإنكليز والأميركان تخلفًا يخشى معه أن يبتلعهم الجنس السكسوني فيكون مستقبل العالم له دون سواه. هكذا يقولون: وغير منكر أن الفرنسيس نفعوا الإنسانية نفعًا لا ننكره، وكفاهم مُفاداتهم بأبنائهم مرارًا تخفيفًا من سلطة الملوك، ورفعًا لغشاوة جهالة ظلت مسدولة على أوربا قرونًا جعلتها وراء شعوب الأرض، فخلعت ربقة الاستعباد وقررت حقوق الإنسان وقواعد الحرية والإخاء والمساواة، ونشرت المعارف في الأطراف حتى ابتذلت واشترك في الأخذ من بحرها المحيط عامة الطبقات، فأصبح الحرَّاث الفرنساوي يقرأ ويكتب ويفهم أكثر من بعض من ندعوهم بالمنوَّرين في بلادنا، وما يأخذه الآن بعض علماء الفرنسيس على أمتهم إن هو إلا من باب الاستزادة من الفضيلة، والدعوة إلى الكمال، والسبق في ميدان التغلب والسيادة، نعم إنه ليُستنشق من غالب المكتوب رائحة الغرض، ويعترض على بعضهم مبالغتهم في وصف أعراض الضعف حتى أوشكت الفائدة أن تضيع، ويُنسب كل ما يخطونه إلى التشيع والتحزب، ويؤيد ذلك أن ما يُكتب صادر من بلاد تأصل فيها الانشقاق الداخلي، وراجت بضاعة الأحزاب وساد فيها تباين الآراء، فلا يكتب الملكي أو الكهنوتي إلا ويرمي ببصره إلى القديم يمجده، والتليد يبكيه وينشده، ولا يجهر الجمهوري إلا ويفاخر بما تم على يديه من ارتقاء ونماء، ولا ينبري الفوضوي أو العدمي أو الاشتراكي إلا ويستدعي الأمثلة ويستجيش البراهين إعلانًا بدعوته واستتمامًا لرغبته؛ ولكن فرنسا ما زالت بفضل أساسها القديم أم المدنية وربيبة الحضارة، وإن تقهقرت في سياستها وأخلاقها فلمرتبتها الميزة على سائر الشعوب الأوربية خلا السكسونيين؛ ولكن صحة الوطنية التي عُرف بها مساعير أبطالها ومشاهير رجالها جعلتهم اليوم يفرطون في النصح والقدح. استقلالهم وبعد فإن الأمم من حيث كيانها قسمان: استقلالية واتكالية، فالأمة الاستقلالية هي التي طُبعت على حب الانفراد، يعتمد كل فرد منها على نفسه لا على حكومة ولا جمعية ولا حزب ولا عشيرة ولا أسرة. وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعوِّل في الدنيا على رجل ومثالها الشعوب الإنكليزية السكسونية. والأمم الاتكالية هي التي يعتمد أفرادها على مجموعها من الأمة أو الدولة، فيتوكأ كل فرد على غيره، وأعظم مثال لها الأمم الشرقية حاشا سيدتها الأمة اليابانية العظيمة؛ فإن التربية الاستقلالية عندها على ما يبلغنا قائمة على أعظم هياكلها، وأبناؤها أبعد المشارقة عن النشأة الاتكالية. وبديهي أن العلم وحده لا يكفي في سعادة الشعوب ما لم يُقرن بالعمل، وفرنسا وقعت مع من وقع في مثل ذلك من أمم الخليقة، فزاد فيها التكالب على المصالح الهينة والوظائف اللينة، فكثر فيها الموظفون والمحامون والأطباء والمهندسون وأهل الصحافة والأدب بحيث تعذَّر قبول من تخرجهم المدارس العالية باسمها فسدَّت في وجوه الناشئة أبواب الرزق؛ لأن معظمهم يرى السعادة أن يعيش في باريس ونحوها من المدن الحافلة ليستمتع برفاهها وأنسها، ولو عاش في قل، وزهدوا في الاشتغال بالصنائع الحرة كالفلاحة والصناعة والتجارة وذلك غير معهود عند من كان دمه سكسونيًّا، إذ لا يرى حطة عليه أن يحترف أية حرفة كانت مهما كان علمه واستعداده ليضمن لنفسه وذويه مرتزقًا فسيحًا وعيشًا استقلاليًّا لُبابًا، فإن لم يجد ما يعمل في بلاده يغادرها ليستعمر مكاننا آخر من الكرة، ويستوي عنده العيش بلندن أو برلين والعيش في زيلندة الجديدة أو مستعمرة الرأس أو زنجبار، وإن شئت فقل في أقاصي صحارى أفريقية حيث الوحوش ضارية، والسَّموم لافح والعيش مرُّ المذاق. وتأييدًا لذلك أنقل هنا ما صرَّح به أحد علماء الأخلاق من الفرنسيس بهذا الشأن قال: (يزعمون أن شهادة العالمية عندنا باب يدخل منه إلى كل سبيل، وتسلك بحاملها في كل مسلك، وهي على التحقيق لا تفتح إلا ثقبًا كبيرًا هجم عليه أصحاب الرغبات من كل صوب، فاستغرقت الحِرف الشريفة ووظائف الحكومة جملة، بحيث وجب على الأمة أن لا تساعد على شر ما برح يتفاقم أمره منذ سبعة قرون حتى صار جرحًا نغَّارا وضربة مبرِّحة، وأعني بذاك الشر داء الاستخدام والتوظف. لا جرم أن الحركة التي بدأت طلائعها في فرنسا زمن فيليب الجميل أزعج أمرها على عهد لويس الرابع عشر فزاد الحال إشكالاً على إثر عودة الملكية إلى فرنسا، واستيلاء أسرة بوربون على منصة الحكم، وصار على عهد الجمهورية الثالثة الحالية أدهى وأمر، فإذا نشأ الأبناء على آسال آبائهم ولم يصلح حالهم يضيعون مجد أسلافهم، ويخربون مملكة قويت على الحوادث على حين تعدهم عدتها في شدتها وبيدهم إنقاذها وإسقاطها. فالجيل الفرنساوي الحاضر سيئ حاله ومآله، وهو إلى الكسل والجبن أميل منه إلى العمل والنصب، حتى يصح أن يقال إن البلاد به أضاعت من فتائها، وأمست تسير إلى فلاة فنائها، ومن الأسف أن فرنسا التي كانت على مر العصور في مقدمة من يحسن الأعمال، وأول مثيرة لكل نجاح هي اليوم من حيث تهذيب أبنائها متقهقرة عدة قرون إلى الوراء، وكأن تعاليمها الآن هي عينها في القرون المتوسطة التي تركت ألمانيا وشأنها إلى أن علا صوت جهوري من الشاعر كيتي [1] يبين للألمان مواقع الضعف، ومزالق المقاتل، ومداحض المخاطر، ويقود الأفكار إلى الحملة على كسر القيود ونزع رِبَق الرق وتجديد جدة الشباب، ينادي يا قوم هؤلاء الإنكليز أمعنوا في حالهم، وانسجوا على منوالهم، فإنكم وإياهم سواء في القيم، فما ضركم لو باريتموهم في الهمم؟ عملكم قليل ولا تحسنونه وقلما تنهضون بأعبائه، وليس لكم نصيب مما أوتوا من مميز الواجب الشخصي والكفاءة الشخصية، وهما دعامتا القوى التي تشتد بها سواعد الملل، ولما كان كيتي يصرح بهذه الأفكار كانت ألمانيا بعيدة عن معاناة التجارة مقطورة في مؤخر الشعوب، ولم تمض على ذلك مئة سنة حتى استولى أنصار ذلك الشاعر الكبير والمتعظون بأقواله على محور التجارة، فهاج نشاطهم قلق الأمة التي حذوا حذوها، وإن الإنكليز لينظرون اليوم نظر المرتجف إلى انبساط ظل النفوذ الألماني بهذه السرعة والقوة، ويزعمون أنه لا بد من أن تخلف طوابع البرد الجرمانية الطوابع الإنكليزية قريبًا. كل هذا نتيجة تغير التربية وانتشار المعارف بين الأفراد وكثرة الكفاءات في كل فروع العمل، فمن العقل والحالة هذه أن يتدرع الفرنسيس بسلاح من العمل مفيد، ويعتاضوا من الركوب على متن عمياء بالجري في طريق جديد من إتقان المبادئ الصحيحة والأخلاق الفاضلة. من رقاعة الفرنسيس أن يعتقدوا علو كعبهم في كل منحى ومنزع، ولو ذهب أحدهم إلى ألمانيا ودرس أحوالها عن أَمم لرأى شعبًا كان يشكو مما نشكو منه داء أصيب به زمنًا فشفى نفسه من أوصابه، يرى السكسونية مجسمة بأبهى مظاهرها فيقدس كارلايل [2] ظهيرها ونصيرها، ويقيس حاله بالإنكليز على أنهم سباق غايات وأصحاب آيات بينات، ثم إذا قضى من تينك المملكتين لبانته، وعرف بالنسبة إليهما حالته، يركب البحر المحيط الأتلانتيكي ليتبصر فيما تورثه جُدُد الفضائل في هذا القرن الحديث، وينجلي له الفرق بين رغائبه ورغائب الأميركان. لفرنسا نظارة للمعارف العمومية، ولأميركا مدرسة للتربية، فالأولى تُعَلِّم والثانية تُربي، الأولى تلقن أبناءها كلمات يحفظونها والثانية تعلم مبادئ يسيرون عليها، تُعِدُّ فرنسا أدمغة لحفظ قانون وتهيئ أميركا أذرعًا للعمل، الأميركان رجال عمل، والفرنسيس ليسوا كذلك، يغرس الأميركان في نفوس ناشئتهم شهامة الإرادة التي لا تجدي أجمل الهبات الخلقية بدونها، ولا يكون العلم نفسه إلا عطلاً من النفع مع فقدها، وهذا هو القانون الذي سنه لهم فيلسوفهم إميرسون [3] تلميذ هيكل [4] الألماني القائل في فلسفته: إن الحياة ليست شغلاً عقليًّا، ولا مناقشة ومهاوشة، بل الحياة إنما هي العمل، ولقد عُلق في أعلى باب كل مدرسة بأميركا شعار معناه: إن تهذيب الخلق أسمى غاية للمدرسة، وعلى الشبان أن يُحسنوا معرفة الحياة بإرادة ثابتة) . ثم توسع الكاتب في بيان نقص تربية أبناء وطنه وعاد يقول: (يلزمنا رجال مهذبون لا رجال متعلمون، وفي فرنسا طبقتان من المدارس أولاهما للصغار، وثانيتهما للكبار، وبعبارة أجلى: مدارس الصناع ومدارس المفكرين، أما حسن التربية الإنكليزية السكسونية ورجحانها على التربية الفرنساوية فهي قائمة فيما أوتيه البعض من الصفات الشخصية مثل المروءة وحسن الخلق والحصافة والبداهة والجرأة والإقدام على المشروعات والاكتشاف والافتتاح والمخاطر، فبدلاً من أن تنمي فرنسا في نفوس أبنائها هذه الصفات تغرس فيهم ملكات حب التآلف والاجتماع، ثبت فيهم التأثر بدل المروءة، وتبث فيهم الخشية من أقوال الناس، فيشاكل المرء الجمهور بأقواله وأفعاله بدل تنشئتهم على خلق يبقى فيه الانسان مستقلاًّ بنفسه، وبدل الحصافة التي يتأتى بها للمرء إيجاد الأشياء بذاته تقوِّي فيه ملكة الذاكرة التي تعيد عليه ذكر الأشياء التي يحفظها مما عثر عليها غيره بالتجارب، وعوضًا عن البداهة التي يتمكن بها المرء من تطبيق ما أوجده بنفسه تبث فيه الثقة، فيصبح عرضة لأغراض حكامه، وبدل الجرأة تبث فيه الحذر وبدل الإقدام على المشروعات والفتوح والاستنفاض - فتح البلاد - تبث فيه ملكة الاقتصاد والسلم وحب السكن، وبدلاً من اقتحام المخاطر تحسن له الرضا بالاستخدام) ثم أَجْمَلَ الكلام هنا على الفلاحين والصناع والتجار والعَمَلة من مجموع الأمة الفرنساوية، وانتقل إلى الخيار من قومه وعنى بهم العلماء والفلاسفة وأهل البصر فقال مستندًا إلى أقوال العلماء: (إن دماغ الجنس السكسونى متمدد ومحدود، وذكاءه تحليلي، وجنسه جنس العمل والكد، وعلى عكسه دماغ الجنس الفرنساوي فإنه موسع وذكاؤه تأليفي، وهو خيالي يعشق التصورات، وبالجملة يُعنى الجنس

أمالي دينية الدرس ـ 30 ـ وظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدرس 30 وظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام (المسألة 68) تمهيد للموضوع: تعرف وظائف الرسل بالإجمال من وجه الحاجة إليهم، وتعرف بالتفصيل من النظر في أديانهم والوقوف على شرائعهم وليس بين أيدينا دين إلهي وشريعة سماوية ضبطت كتبها، واتصل نسبها بمن جاء بها إلا دين الإسلام الذي حُفظ كتابه في الصدور والسطور، ونُقلت سنة نبيه بالعمل إذ لم يقو على أهله شعب دين آخر يضطهدهم ويتلاعب بدينهم. وضُبط القولي منها بالقول ضبطًا لم يعهد له مثيل في تاريخ البشر، فهو الذي يجب أن يتخذه الباحثون في طبائع الملل وأصول الأديان وتاريخها ميزانًا لمعرفة وظائف الرسل، وبيان الحاجة إليهم فيها، ويزِنوا به سائر ما نسب إلى الأنبياء والرسل من الكتب المقدسة فما رجح فيه قُبل، وما خف وشال تُرك وأُهمل، وحُمل على أنه من تحريف المحرِّفين، وإضافات العابثين، فإن لم يسلكوا هذا المسلك يروا اختلافًا كثيرًا وأمورًا لا تنطبق على وجه الحاجة إلى الرسل، وتلك الجناية الكبرى على الدين، بل على بني الإنسان أجمعين. هذا المسلك هو ما جاء به الإسلام، وعمل به النبي عليه الصلاة والسلام، واتبعه به الراشدون ولم يقصر فيه المسلمون إلا بعد ضعف الإسلام، وفشو الجهل الذي أغراهم بالخلاف ومناقضة أهل الكتاب حتى شذ بعضهم، فحرَّم طعامهم وهو حل بنص القرآن، وبهذا وقف سريان الدعوة وقل انتشار الدين في أهل الذمة؛ لأن كلام المنابذ المخالف يُحمل على الغرض لأول وهلة فينبذ قبل النظر فيه، أو لم يقرأ أولئك المسلمون قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} (آل عمران: 64) الآية، وقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) ؟ بلى قد قرأوه وأوَّلوه، ولم يهتدوا كسلفهم الصالح بالعمل به في الدعوة إلى الإسلام. وجهل هذا التوفيق دعاة النصرانية الذين يتعرضون لدعوة المسلمين بما لهم من الجرأة بالاعتزاز بأوربا، فهم يحاولون إقناع الجاهلين من المسلمين بأن الحق محصور في اليهودية والنصرانية من دون الإسلام، ولا نرى لهم دليلاً على حقيقة اليهودية والنصرانية إلا قولهم إن الذين جاءوا بهما قد عملوا بعض العجائب، ولا يوجد جاهل من المسلمين إلا ويحفظ عن آحاد الأولياء من أهل دينه أضعاف ما ينقلونه عن موسى وعيسى عليهما السلام، ولا أقول عن بولس وبطرس ويعقوب ويوحنا وهو لا يثق بما ينقلونه إذا لم يؤيده دينه وعلماؤه، ويعتقد أن رواية قومه عن أوليائهم أولى بالتصديق من دعواهم التي لا ثقة بروايتها، وإذا هو قبل قولهم ووقع في نفسه صدقهم يقع في الشك بأصل الدين؛ لأن الدليل على الدينين متفق والمدلول فيهما مختلف، ولا وجه للجمع عنده، بل لا وجه للجمع مطلقًا إلا بتحكيم الإسلام، وجعل كتابه كالميزان كما قلنا آنفًا، وقد اهتدى بعض فلاسفة أوربا الباحثون في الدين عن اعتقاد إلى أنه لابد من الاعتقاد بصحة الإسلام والجمع بينه وبين المسيحية، فكتبوا في ذلك وألَّفوا وجعلوا مدار الجمع على الأصول التي يدل العقل على الحاجة إلى الرسل فيها، ومدار الاستدلال على كتب الوحي، وهي التوراة والإنجيل والقرآن. م (69) الوظيفة الأولى: هي بيان ما يجب اعتقاده في خالق الكون ومقدره، وحكيمه ومدبِّره، فقد علم أن هذا الاعتقاد مركوز في فطرة الإنسان بصفة مجملة مبهمة يغلط فيها العقل، ويضل في بيانها الفكر كما تقدم شرحه في قسم الإلهيات، وهذه الوظيفة يجب أن تتحد فيها الأديان الصحيحة، ويجب على علمائها تأويل الخلاف. م (70) الوظيفة الثانية: بيان ما يجب لهذا الإله العليم، والمبدع الحكيم، من الشكر على آلائه، والعبادة التي ترضيه وتقرِّب روح العبد منه؛ ليبلغ بذلك كماله الروحاني ويستعين به على كماله الجثماني، فيرتقي الارتقاء الصوري والمعنوي بحسب استعداده الذي وُهبه ممن أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وقد تقدم في بيان وجه الحاجة إلى الوحي أن هذا شيء لا يستقل به العقل ولا يهتدي إليه بنفسه، وهذه الوظيفة تتفق الأديان الإلهية في معانيها دون صورها. م (71) الوظيفة الثالثة: ما يجب اعتقاده في الدار الآخرة والحياة في النشأة الثانية، فقد بيَّنا من قبل أن الناس يشعرون بأن لهم أرواحًا، وأن هذه الأرواح هي التي بها الحياة، ومنهم من أُلهم أن هذه الأرواح خالدة، ومنهم من عرف ذلك بالاستدلال، وأقربه أن العدم المحض محال لا يتصوره العقل، فإذا كان الجسم يبقى ببقاء عناصره بعد التحلل، فالروح الذي به حياة الجسم ونظامه وحفظه ما دام متصلاً به من الانحلال أولى بالبقاء الأكمل، وهؤلاء المستدلين لا يدرون شيئًا من أمر هذه الحياة وهذا الوجود الروحاني؛ ولكنهم أكثروا من الخرص والظن فيه، فذهب بعضهم إلى أن للروح حياة مستقلة لا يتصل فيها بجسم يدبره، ومنهم من قال بالتناسخ ولم تطمئن القلوب إلى شيء إلا ما جاء به الدين السماوي بالنسبة لمن أخذوا به، ولا يصح أن يكون بين الأديان الصحيحة خلاف في جوهر هذه الوظيفة وأصولها، فإذا كانت الديانة الإسلامية التي هي القسطاس المستقيم لسائر الديانات تقطع بأن الحياة الأخرى حياة إنسانية، أي أن أرواح الناس تكون فيها ذات أجساد أكمل من هذه الأجساد؛ لأن الإنسان خلق مركب من روح وجسد لا حياة روحانية محضة، لا حظ فيها للمادة ولا وجود فيها للإنسان، فالواجب إرجاع بعض ما يُؤثر عن السيد المسيح عليه السلام من كون الحياة الملكوتية روحانية كحياة الملائكة إلى ذلك بأن يقال إن المراد بكونهم كالملائكة أن الأرواح لها هناك السلطان الأكبر، كما أن للحظوظ الجسدية السلطان الأكبر في هذه الحياة، وحظوظ الروح مغلوبة لها، وقد جعل المسيحيون الأصل في دينهم أن الحياة الآخرة ملكية محضة لا إنسانية ملكية، أي حكموا بأن الإنسان لا يكون له وجود في الملكوت، وأوَّلوا ما نُقل عن المسيح مما يدل على الحياة المادية في الملكوت، كقوله إنه يشرب الخمر جديدًا في الملكوت، على أن كل كلامه عن الملكوت ظاهر في أن أهله يكونون أناسي لا ملائكة، فيجب أن يجعل هذا هو الأصل الذي يؤول غيره ويرجع إليه وما لا يمكن تأويله يقطع بوضع روايته. م (72) الوظيفة الرابعة: تهذيب الأخلاق وتثقيف النفوس بحملها على الأعمال الصالحة بباعث الإيمان بالله وابتغاء مرضاته، والإيمان باليوم الآخر والخوف مما فيه من العقوبة والرغبة فيما للمحسن من المثوبة، وبيان ما فيها من المنافع والمصالح، ولا شك أن هذه الطريقة في التهذيب هي الطريقة المثلى؛ فإن الأعمال هي التي تطبع الملكات والأخلاق في النفوس، وقد بيَّنا في درس وجه الحاجة إلى الوحي أن الإنسان لا يستقل بنفسه، ولا يهتدي بعقله المجرد، ويصل بسعيه إلى التهذيب الذي يصلح به حال الأفراد وحال المجتمع، إلا بتأييد الهدى الإلهي لأن الحظوظ والرغائب والأهواء تحسن القبيح وتقبح الحسن، وإننا نرى الناس بعد أن وُجد فيهم الإرشاد الديني وأمدَّه العلم الاختباري تفسد أخلاقهم بضعف الاعتقاد بالدين فيهم. له بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

شبهات المسيحيين وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين وحجج المسلمين النبذة الثامنة فرغنا في الجزء الماضي من دحض شبهات الفصل الأول من البحث الأول من كتاب (أبحاث المجتهدين) وهو الذي عقده مؤلف الكتاب لإثبات الكتب التي يسمونها التوراة والإنجيل بشهادة القرآن، وكنا عازمين على أن نبدأ في هذا الجزء بإبطال شبهات الفصل الثاني الذي عقده لإثبات تلك الكتب بالعقل، وإذ ورد علينا الجزء الخامس من المجلة البروتستنتية المسماة بشائر السلام فرأينا فيها طعنًا شديدًا بالإسلام، وسبحًا طويلاً في بحار الأوهام، أحببنا أن نقذف عليه بالحق، ليدمغه فيزهق، ونعود - إن شاء الله تعالى - إلى انتقاد ذلك الكتاب في الأجزاء التالية، وهذا الطعن محصور في ثلاث نبذ: النبذة الأولى عنوانها شجرة النسل المبارك هذه النبذة تابعة لمقالة سابقة يمدح فيها بني إسرائيل ويبين فضلهم، وقد أعطاهم فوق قدرهم؛ ولكنه ما قدَر الله حق قدره، عظَّمهم وأساء الأدب مع الله تعالى، مدح الشجرة الإسرائيلية وقدح في مقام الألوهية، وله في ذلك كلام {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ} (مريم: 90) فمنه قوله - وحاكي الكفر ليس بكافر - أَوَلا تقضي من ذلك العجب أن فاطر السموات والأرض يختلي مع بني إسرائيل في البرية يخاطبهم ويخاطبونه، ويراهم ويرون مجده وبينهم موسى الكليم يتجاذب معه أطراف الحديث، ويتبادل فصول الخطاب كالإلفين المتآلفين والخليلين المتصافيين. ثم انتقل من هذا إلى غمص سيد المرسلين وخاتم النبيين الذي أكمل الله به الدين وإلى انتقاص جميع العالمين، فقال: (فاسمع أيها القارئ المسلم، وابهت وادهش أليس محمد عندك أعظم الخلق، فلم يكن أهلاً لأن يخاطب الله رأسًا، أو يسمع صوته أو يرى مجده مثل عامة إسرائيل فضلاً عن خاصتهم، بل لم يكن خليقًا أن يخاطب جبرائيل كما قلتم إلا وتغشاه غيبة وغطيط يبلغان منه الجهد ويتفصد لذلك جبينه عرقًا في اليوم الشديد البرد) انتهى خلطه وخبطه. ونقول: إن هؤلاء الناس تأصلت فيهم الوثنية، ورسخت جذورها في أعماق نفوسهم حتي صار انتزاعها متعذرًا ما داموا لا يقيمون للعقل وزنًا، ولا يرون له في كتب الدين معنى، وتفصيل القول في بيان بطلانهم يطول ولا تفي به مجلتنا كلها، ولذلك نكتفي بالإجمال فنقول بلسان العقل المحض لا بلسان الإسلام ليكون أدعي للقبول. (1) إن المسلمين ينقلون أن نبيهم محمدًا صلى الله عليه وسلم صعد إلى السماء، ورأى من آيات ربه الكبرى، بل يقول أكثرهم إنه رأى الله سبحانه وتعالى بلا كيف وكلمه بلا واسطة، وموسى عليه السلام ومن كان معه من بنى إسرائيل إنما رأوا بروقًا، وسمعوا رعدًا وبوقًا، وغشيهم دخان كدخان الأتون، وارتجف بهم الجبل فارتعدوا ووقفوا من بعيد (وقالوا لموسى تكلم أنت معنا فنسمع ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت) بل قال الرب لموسى: اذهب انحدر ثم اصعد أنت وهارون معك، وأما الكهنة والشعب فلا يقتحموا ليصعدوا إلى الرب لئلا يبطش بهم. كل هذا مصرَّح به في الباب 19 و20 من سفر الخروج، وهو يكذِّب قول المجلة إن عامة بني إسرائيل كانوا يخاطبون الله رأسًا ويسمعون صوته، فما هذا التمويه والإيهام؟ وورد في القرآن {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} (الأعراف: 143) وقال في محمد {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النجم: 17-18) فهل من الإنصاف أن تقولوا نحن الصادقون لأننا قلنا.. (2) إن بنى إسرائيل الذين خُصوا بهذه العناية، وهارون الذي أذن له الرب أن يصعد مع موسى وحده من دون الكهنة والشعب - لم يتمسكوا بأعظم الوصايا التي أوصاهم بها الرب يومئذ، بل تركوا أولها في الذكر والرتبة وهي (لا يكن لك آلهة أخرى أمامي لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة ما) ... إلخ؛ فإن هارون بزعمكم وزعم كتبكم هو الذي اتخذ لهم العجل فعبدوه من دون الله، ألا يكون هذا الشعب الذي اختُص بتلك العناية والتكريم ثم كفر هذا الكفر الجسيم، جديرًا بالغضب والمقت من الله وسلب نعمته عنه، وإسباغها على شعب آخر كالشعب العربي الذي نزع به الوثنية من ملايين من الناس، لم تعد إليهم بفضله وكمال نعمته. ومن الأدلة على غضب الرب على شعب إسرائيل ما أوردناه في النبذة الثالثة (ص 417 ج 11) عن كتاب حزقيال، فهل يصح استدلاله بعد هذا على أن الله تعالى وتقدس لا يزال عاشقًا - سبحانه سبحانه - لشعب إسرائيل وغاضبًا على سائر خلقه، وأن عامتهم أفضل من ... ، ومن الغريب أنه يستدل بآيات القرآن العزيز على إنعام الله تعالى على بني إسرائيل، ولا يستدل بها على كفرهم النعم ورميهم بالنقم! ! (3) إن القاعدة الأساسية عند المسلمين في الإيمان هي تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، فإذا ورد في الوحي لفظ ينافي ظاهره التنزيه يصرفونه عن ظاهره إلى ضرب من التجوز والتأويل، وكأن القاعدة الأساسية عند سواهم هي التشبيه والوثنية، لا سيما الذين جعلوا من البشر إلهًا، فإذا ورد في كتبهم كلمة تنافي التنزيه يضيفون إليها أضعافًا، ويتفننون في القياس عليها. وَرَدَ أن الله تعالى كلم موسى مثلاً، فالمسلمون ينزهون الله تعالى عن الصوت وعن الجهة والمكان، ويقولون: ما ثم إلا إعلام إلهي بصفة تليق بجلال الله سماها الله تعالى تكليمًا، وليست كتكليم الناس بعضهم لبعض حتمًا، وإلا لكان تعالى مشابهًا للمخلوقات، وذلك هدم لأصل الدين والإيمان، وأما النصارى فيقولون مثلما نقلنا آنفًا عن مجلة بشائر الإسلام) (يتجاذب معه أطراف الأحاديث) وأنهما كالإلفين ونحو ذلك مما هو صريح في التشبيه، ولا غرو فمن قال: إن المسيح إله، يقول: إن الإله يخلو بموسى ويتبادل معه فصول الخطاب، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا (4) إن المجلة خلطت فيما ذكرته عن حالة النبي صلى الله عليه وسلم عند الوحي؛ لأن ذلك مأخوذ من أحاديث لم يفهمها الكاتب فظن أن كلمة (غطَّني) في حديث بدء الوحي من الغطيط الذي هو صوت النائم، أو صوت هدر البعير وليس كذلك؛ وإنما معناها ضمني بشدة وضغط، ثم خلطها بكلمات من حيث وصف الوحي والتأثر منه، وزعم صاحبها أن عدم التأثر من الوحي أفضل وأكمل وهي دعوى افتحرها لا يقوم عليها دليل؛ فإننا نقول إنها كانت حالة من حالات الوحي ربما لم يحصل نظيرها لموسى، فيتأثر تأثر محمد (عليهما السلام) على أنه يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، فلو فرضنا أن موسى امتاز على محمد بهذه الفضيلة، فلمحمد مزايا كثيرة يفضله بها، ومن التجاوز أن يفاضل مثل هذا الكاتب الذي لا يقدر الله حق قدره بين أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام بمجرد الهوى وسوء الفهم. النبذة الثانية من تلك المجلة في سيدنا إسماعيل غمط كاتب المجلة سيدنا إسماعيل عليه السلام في مقام المفاضلة بينه وبين إسحق، وإذا صح قوله ونقله واستدلاله منهما على أن إسحق أفضل وأنه هو الذبيح، فإن هذا لا يضر بدين الإسلام شيئًا، ولا يستحق قوله في هذا المقام أن يصرف في نقده شيء من الوقت. النبذة الثالثة مؤلفو العهد الجديد والدعوة إلى الدين جاء في قسم الأسئلة والأجوبة من المجلة سؤالان، أحدهما أن أحد أصحابهم المسلمين سألهم: (هل بطرس وبولس ويوحنا وغيرهم من كتبة العهد الجديد هم رسل الله؟ وهل جاء في العهد القديم نبوة عن إرسالهم كما جاء عن المسيح) وكان جواب المجلة أنهم رسل، ونحن نقول: ما كان لمسلم يعرف عقيدة الإسلام أن يسأل هذا لأن الرسول في اعتقاد المسلمين هو النبي الذي أوحي إليه بدين مستقل، وأمر بتبليغه للناس، والنصارى أنفسهم لا يدعون الرسالة بهذا المعنى لبطرس وبولس وغيرهما من مؤلفي الأناجيل ورسائل العهد الجديد؛ ولأن المسلمين لا يستعملون لفظ النبوة بمعنى البشارة كما هي مستعملة في السؤال، فإما أن يكون السؤال منتحَلاً للإيهام وهو الأقرب، وإما أن يكون من مسلم جغرافي ليس له من الإسلام إلا الاسم واللقب والجنسية والنسب، واستدلوا على رسالة من ذكر بالعجائب، وأنه ليؤثر عن ولي واحد من أولياء المسلمين أكثر مما يُؤثر عنهم، وعن المسيح عليه السلام ولم يقولوا إن الأولياء رسل. والسؤال الثاني من صاحب لهم آخر وهو: (لم انفرد المسيحيون بإرسال المبشرين، واستمروا على ذلك من عهد ظهورهم إلى الآن) والجواب (إن المسيحية هدى، ومتى كان الهدى في القلب لا يتمالك صاحبه أن يكاتمه أبناء جنسه أو يواربهم فيه) ثم قال (إن المسيحيين منفردين بالهدى) ونحن نقول (أولاً) إنه ما قام دين من الأديان في العالم إلا بالدعوة، وما دَعَا أحد إلى دين إلا ووجد له تابعين؛ ولكن منها ما انتشر بقوته الذاتية، أي قوة الهداية والسلطان على النفوس كالإسلام، ومنها ما انتشر بالإكراه والإلزام كالدين المسيحي؛ فإنه بقي ثلاثة قرون لا يقبله إلا أفراد قليلون، ثم دخل فيه بعض ملوك الوثنيين، فصاروا يُلزمون الناس به بالإكراه كما سنبينه بعدُ - إن شاء الله تعالى - بشهادة التاريخ، و (ثانيًا) إن بني إسرائيل شعب الله الخاص الذين نوَّه بهم صاحب المجلة ما كانوا يدْعُون لدينهم لعهد المسيح الذي هو منهم، فهل كانت ديانتهم في ذلك العهد ضلالة أم هداية؟ و (ثالثًا) إن البهائية الذين يقولون في البهاء المدفون في عكا كما يقول النصارى في المسيح، يدعون إلى دينهم في كل مكان وجدوا فيه حتي يوشك أن يكون كل واحد منهم داعيًا، فهل يقول أصحاب هذه المجلة أنهم على الهدى، وأنه يجب عبادة البهاء وترك عبادة المسيح أو الجمع بينهما، و (رابعًا) إن الجواب يستلزم أن يكون كل مسيحي داعيًا إلى دينه؛ لأنه على هدى وصاحب الهدى لا يقدر على كتمانه؛ ولكننا نرى الدعوة محصورة في أفراد منهم يأخذون عليها الأجر من الجمعيات الدينية، فهم يدعون لأن الدعوة معاش لهم، لا لأنها هدى في قلوبهم يفيضون منه على أبناء جنسهم، و (خامسًا) إننا نرى المسيحيين الفضلاء ينتقدون هؤلاء الدعاة المسيحيين المستأجرين، ويقولون إنهم يضرون المسيحية ولا ينفعونها، ومن أصحاب الجرائد من انتقدهم كتابة، و (سادسًا) إن كل صاحب دين يعتقد أنه على هدى، والإنسان إنما ينبعث إلى العمل باعتقاد نفسه، لا بما عليه الأمر في نفسه، ولولا ذلك لم يعمل أحد شرًّا ولم يدع أحد إلى باطل؛ ولكن قد تحول دون الدعوة الحوائل. أما الدعوة الصحيحة التي اندفع اليها أصحابها بقوة الاعتقاد، فهي دعوة حواريى المسيح عليه الصلاة والسلام، وما آمن معهم إلا قليل، ودعوة المسلمين عدة قرون آمن فيها الملايين، فقد كان التاجر المسلم يدخل مملكة من ممالك أفريقيا أو آسيا فتدخل كلها في الإسلام على يديه، ولم تنقطع هذه الدعوة بالمرة؛ ولكنها ضعفت بضعف الإسلام وفقد التربية الدينية، وإهمال علومه الحقيقية، وضعف المدنية والحضارة، وإهمال دول الإسلام أمر الدين، واعتماد المسلمين على ملوكهم وأمرائهم وحكوماتهم على خلاف ما يفرضه الإسلام عليهم، ولا يزال الشيعة والبُهر (الإسماعيلية) يدعون بقدر الطاقة، وهؤلاء الملوك والأمراء هم العقبة الأولى في طريق الإسلام، والعقبة الثانية ملوك أوربا الأقوياء الذين ينصرون دعاتهم ويحمونهم بعد أن يوجهوهم إلى الدعوة، حتى أنهم ليحاربون مملكة بحجة الانتصار لقسيس واحد، فالقوة الأوربية هي التي أنطقت لسان هؤلاء الدعاة، وهي التي أجرت أقلامهم وسددت لرمي مخا

تغزل النساء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تغزل النساء يستنكر ذوو الطباع السليمة تغزل الذكور بالذكور؛ لأن عشق الولدان من فساد الفطرة، ولا يستنكر أحد تغزل امرأة بامرأة، وإن كان عشقها لها منكرًا وقبيحًا، على أن الغزل ليس ملزومًا للعشق دائمًا، وقد خرجت يومًا حمدة بنت زياد الأديبة المتصوفة الشهيرة متنزهة بالرملة من وادياش فرأت ذات وجه وسيم أعجبها فقالت: أباح الدمع أسراري بوادٍ ... له في الحسن آثار بوادي فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يطوف بكل وادي ومن بين الظباء مهاة رمل ... سبت لبي وقد ملكت قيادي لها لحظ تُرَدِّده لأمر ... وذاك اللحظ يمنعني رقادي إذا سدلت ذوائبها عليه ... رأيت البدر في جنح السواد كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالحداد وما أحسن الإبهام في قولها (تردده لأمر) وأما تغزل ذوات الحجال بالرجال فأراهم يستملحونه على القول بوجوب كثافة الحجاب، ولا أستثني الذين ينفرون من التغزل المذكر مطلقًا، وكأن الشعور بكون الشعر قد برز من وراء الخدر يؤثر في حقيقته وماهيته، أو يغير جهة قضيته، فيحول استقباحه استحسانًا ويجعل خسره رجحانًا، فيغلب هذا الوجدان والشعور، وجدان وجوب استخفاء ربات الخدور، وأما علة الاستملاح في ذوق من لا يقول بضرب الحجاب على الملاح، فهي موافقة الفطرة، وإجابة دعوة الطبيعة، ومعظم الاستنكار في ذلك الضرب من الغزل إنما هو باعتبار مصدره ومجلاه، لا باعتبار حقيقته وفحواه، ومنه قول حمدة نفسها الذي يوردونه شاهدًا في كتب البديع ويتلقونه بالقبول: ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار وشنوا على أسماعنا كل غارة ... وقلّت حماتي عند ذاك وأنصاري غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نَفَسي بالسيف والسيل والنار ومن غزلهن المستملح المستحسن قول علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد: إني كثرت عليه في زيارته ... فملّ والشيء مملول إذا كثرا ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قِصَرًا عني إذا نظرا وهذان البيتان بحيث تراهما من الحسن والبلاغة على أنهما لم يتجاوزا حدود الحقيقة، ولم يخرجا عن محيط الصدق، بل لم يبالغا في الوصف أيضًا، ويالله ما أحلى الاعتذار في البيت الأول وما أبلغ حكمته؟ ويالله ما أرق الوصف في البيت الثاني وما أدق بيان موضع الريبة، وما ألطف مراعاة شمائل الحبيب واستخراج خبايا نفسه من ظاهر حسه، وناهيك بما تُحَدِّث به العينان عن خفي الشعور والوجدان، كذلك يجمل بالمحب الإنصاف والاعتذار، كما يجمل من الحبيب الجور والنفار، وفي هذا قالت علية أيضًا: بُنِيَ الحب على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمج ليس يستحسن في شرع الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج وقليل الحب صرفًا خالصًا ... هو خير من كثير قد مزج وأي خير في الحب الممزوج، وما هو إلا مزج السم بالدسم، وما عاقبته إلا الفناء والعدم. ومن نظم علية في الحنين إلى الوطن، وكانت خرجت مع الرشيد إلى الري فلما بلغوا المرج نظمت هذين البيتين، وغنت بهما وكان من أحسن الناس غناء وصوتًا فسمع الرشيد فردها إلى العراق: مغترب بالمرج يبكي لشجوه ... وقد ضل عنه المسعدون على الحب إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تَنَشَّقَ يستشفي برائحة الركب ومن نظمها في طبيعة الحب، وفائدة الهجر والعتب: تحبَّب فإن الحب داعية الحب ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب تبصَّر فإن حُدِّثت أن أخا الهوى ... نجا سالمًا فارج النجاة من الحب وأعذب أيام الهوى يومك الذي ... تروّع بالهجران فيه وبالعتب إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب كان الأَولى أن تقول (أخا هوى) ويروى الثالث (وأطيب أيام الفتى يومه الذي) . أوردنا هذا تفكهة وتمليحًا لبعض القراء الذين يملون الجد الصرف، كما قالت علية - والشيء مملول إذا كثر، وليس هذا الغزل بالقول الهزل، والكلام العُطْل؛ فإن به يرق الشعور ويلطف الوجدان وتتهذب النفس، والفقهاء لا يحرِّمون الغزل إلا إذا كان في أجنبي معيَّن، أو كان فيه فحش، وقد سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الغزل والنسيب حتى في المسجد، ومن ذلك أوائل قصيدة (بانت سعاد) الشهيرة.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (جُذَيمَة والزَّبَّاء) قصة تاريخية أدبية تهذيبية تأليف الفاضل محمد أفندي حليم وكيل قلم محاسبة المكاتب بنظارة المعارف العمومية، والقصة مسجعة، وفي مقدمتها كلام في السجع وشروط استحسانه ومواضع استقباحه، وكلام في الفصاحة والبلاغة، وفي فصول القصة مسائل ومباحث مفيدة، أظهر المؤلف فيها رأيه كمسألة تأثير القصص الغرامية في نفوس الناشئة وإفسادها الأخلاق، وكبحث حجاب النساء وعدمه، والكسل وعلو الهمة والاعتماد على النفس والسعي في طلب الرزق، والكهانة والتنجيم والخمرة وتأثيرها السيئ وغير ذلك، وكنا نود لو سمح لنا الوقت بقراءتها كلها ونقدها لأن موضوعها مفيد، وهي مطبوعة طبعًا حسنًا على ورق جيد، وثمنها 8 غروش، وصفحاتها 64. *** (التربية الحديثة) كتاب جديد للعالم الاجتماعي المربي الشهير الموسيو أدمون ديمولن مؤلف كتاب (سر تقدم الإنكليز) الذي يعرف القراء مكانته، وقد عُني بتعريبه بعد استئذان المؤلف وإذن ملتزم الطبع، أحد ضباط الشرطة (البوليس) الفاضل حسن أفندي توفيق الدجوي، وطبعه في مطبعة الترقي الشهيرة طبعًا حسنًا مزينًا بالرسوم على ورق جيد، فبلغ نحو مائتي صفحة؛ ولكنه جعل ثمنه عشرة غروش فقط، وسنطالعه - إن شاء الله تعالى - ونبين للقراء أهم فوائده ونوهنا به الآن؛ لأن شهرة مؤلفه كافية في الترغيب فيه. *** (الفرائد الجمانية في شرح القصيدة الطنطرانية) القصيدة مشهورة وناظمها الشيخ أحمد الطنطراني مدح بها نظام الملك الوزير الشهير صاحب المدرسة النظامية في بغداد وهي أغرب ما نظم الناظمون في تكلف السجع، ولزوم ما لا يلزم ومطلعها: يا خلي البال قد بلبلت بالبلبال بال ... بالنوى زلزلتني والعقل بالزلزال زال وهي على عدة قوافٍ ومنها: يا غزالاً قده في المشي كالأرماح ماح ... ريقه راح وما في غير تلك الراح راح وماح، بمعنى: مال، ومنها: في عراص الوصل عاني الهجر كالغدَّار دار لا ترحل فالحشا من كثرة الأسفار فار وهذه القصيدة تدلنا على أن الفساد كان قد دب في اللغة على ذلك العهد وهو أكمل عهد للعلم في الاسلام، وقد عني بشرح هذه القصيدة بعض الشبان المشتغلين بالأدب وهو محمد بن الحاج العربي العنابي الملقَّب بأبي الليل (كذا) أحد طلبة القسم العالي بمدرسة الجزائر، فبيَّن المفردات اللغوية، ثم معاني الأبيات بعبارة مسجعة، وبيَّن أيضًا أنواع البديع فيها فعلمنا أنه ممن يعدون البلاغة في الاستكثار من أنواع البديع، ويكلفون بالتسجيع، فنوجه نظره إلى ما هو خير منه من الكلام المرسل الذي لا كلفة فيه، وإلى اعتبار المعاني تابعة للألفاظ، وعدم الالتفات إلى هذه المحسنات اللفظية إلا ما جاء منها عفوًا صفوًا ملبيًا دعوة المعنى، والله الموفق. *** (الشجرة النبوية) للشيخ جمال الدين يوسف بن حسن بن عبد الهادي الحنبلي وهو كتاب مشجَّر في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته كأولاده ونسائه اللاتي دخل بهن، واللاتي عقد عليهن ولم يبن بهن، وأولاد بناته وأعمامه وأكابر أصحابه وأمهاته من الرضاعة وغيرهم، وفيه ذكر ما كان يملكه وذكر خدمه ووقائعه، وغير ذلك من الفوائد التي ينبغي لكل مسلم معرفتها، وهذا الكتاب قد قرَّبها جدًّا؛ ولكنه على حسنه لا يخلو مما يُنتَقَد فقد نظرنا عند ابتداء إجالة الطرف في صفحاته صورة نعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي جانبها ذكر منافعها أى منافع الصورة والمثال المرسوم، ومنها أنه أمان من بغي البغاة وغلب العداة والشياطين والحاسدين وأنه يسهل الولادة! ولا يصح شيء من هذا وإن زعم المؤلف أنه مجرب؛ ولكن مثل هذه الجملة الوهمية لا يصح أن يكون مانعًا من الانتفاع بما في الكتاب من الفوائد، وقد طُبع على نفقة جمعية النهضة الأدبية، وثمنه ثلاثة غروش صاغ عدا أجرة البريد، وهو قليل بالنسبة لما فيه من المشجرات والجداول التي تحتاج إلى نفقة كثيرة، ويوجد في جميع المكاتب الشهيرة. *** (مراقي الترجمة) كتاب أو كتب يشتغل بوضعها ثلاثة من أمهر مدرسي اللغة الإنجليزية وعلومها بمدرسة الناصرية الأميرية، ومن أفضل من أنبتت مدرسة المعلمين الخديوية، وهم أبو زيد أفندي فايد وعبد الحميد أفندي الشربيني ومحمود أفندي عثمان عطا الله، والغرض من وضع هذه الكتب تعليم الترجمة لتلاميذ المدارس، وقد صدر الكتاب الأول منها مطبوعًا في مطبعة الترقي، وهو لتلاميذ السنة الأولى والسنة الثانية من تلامذة المدارس الابتدائية وفيه أربعون درسًا، وثمنه غرشان أميريان، ومن مزايا الكتاب تحري بيان الترجمة الصحيحة مع الإشارة إلى الترجمة الحرفية، فعسى أن يُقبل عليه جميع تلامذة المدارس الأهلية مع تلامذة المدارس الأميرية. *** (الكنيسة الأرثوذكسية) مجلة شهرية دينية أدبية إصلاحية، تصدرها جمعية سرية أنشئت حديثًا، وسميت جمعية النشأة السورية الأرثوذكسية في مصر، وقد صدر العدد الأول من هذه المجلة في أول تشرين الأول الحاضر، وجاء في مقدمتها ما نصه: (وبعد، فقد رأينا أن الطائفة الأرثوذكسية السورية متقهقرة تقهقرًا في سبل العمران لا ينكره إلا كل مكابر مغرور، ورأينا شمل الطائفة متضعضع (كذا) فلا جامعة لنا، ولا ألفة بين أفرادنا؛ ولذلك كان السبق لغيرنا في سباق الحياة، فخفنا من التلاشي لما في سنة الكون من تنازع البقاء وبقاء الأنسب؛ ولذلك اجتمعنا على السعي بما في الوسع بالدعوة إلى الإصلاح، والنظر في مواقع الخلل جميعه (كذا) دعوناها النشأة السورية؛ لأن ليس الغاية (كذا) إلقاء الضغائن بين أبناء الوطن الواحد، شأن الجرائد الدينية الأخرى، بل اتباعًا لسنة المسيح في إلقاء السلام؛ لأن إلهنا إله السلام يُدْعَى) . ونحن نقول: إن لمؤسسي هذه الجمعية الفضل الأول على طائفتهم وأهل مذهبهم باعترافهم بتأخرهم عن سائر الطوائف النصرانية، وسعيهم في التقدم والترقي، وقد أحسنوا في عزمهم على سلوك سبيل المسالمة خلافًا لجرائد الجمعيات البروتستنتية التي تلقي العداوة والبغضاء بين أهل الأديان والمذاهب؛ حتى اضطرتنا إلى الرد عليها، ونحن السابقون إلى الدعوة إلى المسالمة والوفاق، ونبذ أسباب العداء والشقاق، وإننا لنرجو النجاح لهذه الجمعية ولمجلتها؛ لأن الطائفة قد استعدت برؤية العبر لقبول الإصلاح وإسعاد الداعين إليه وإسعافهم لما فيهم الآن من كثرة المتعلمين والمهذبين، ويسرنا أن نرى سريان الإصلاح في هذه الطائفة التي هي أكثر الطوائف عددًا في بلادنا لوجوه، أهمها: حفظ الدين مع العلم؛ فإننا نرى أكثر الطوائف يتفلتون منه، فيكونون من الملحدين، وبذلك يبعدون عنا؛ فإن الملحد أبعد من الكتابي بلا شك، ثم نفخ روح المباراة والمسابقة في سائر الطوائف المتأخرة المتقهقرة؛ حتى إذا ما هبت الطوائف كلها للإصلاح وجارى بعضها بعضًا ترتقي البلاد ويعلو شأنها، والتفاوت بين الطوائف عقبة كبرى في طريق الارتقاء، على أن الإصلاح محبوب لذاته عند الصالحين، هذا ويقول بعض أفاضل الطائفة أنه لا وجود لهذه الجمعية. *** (فتح المنَّان في تقويم البلدان) رسالة وجيزة في الفن ألفها الفاضل محمد أفندي ذهني لتلامذة السنتين الأوليين في المدارس الابتدائية، وهي على طريقة السؤال والجواب، فعسى أن تصادف رواجًا.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (سخاء السلطان على رجال الدولة والمابين) نرى كثيرًا من الجرائد تُعَرِّض بسوء حال الموظفين في الدولة العلية، وكونهم لا يصلون إلى بعض رواتبهم إلا بشق الأنفس، وتطلق القول في ذلك إطلاقًا، والذي نعرفه من حال الموظفين الذين يعرفهم مولانا السلطان كالوكلاء ورجال المابين وأمراء الجيش أنهم يأخذون رواتبهم، وما يقرب منها أو يزيد عليها من الإحسانات الحميدية، وله - وفَّقه الله تعالى - تفنن في ضروب الكرم والسخاء ما كان يخطر مثله في بال حاتم الطائي ولا كعب بن مامة، فكثير ما يهب الهبات العظيمة بناء على حلم يراه في النوم، ومن ذلك أن ناظر الحربية كان نائمًا ذات ليلة، فأيقظوه قائلين: إن رسولاً من قبل مولانا السلطان يطلبك، فقام مذعورًا ظانًّا أن قد وقعت الواقعة، واحتيج إلى أشد القوة الدافعة، وإذا بالرسول يحمل خمسة آلاف ليرة هدية، فأعطاها للناظر، وقال: إن مولانا يسلم عليك، ويقول: إنه رآك الليلة في منامه محتاجًا إلى الدراهم فعجل لك هذه الهبة. وقد تتحرك في نفسه الكريمة أريحية السخاء بعد غضب واستياء، فيجيب داعيها فيكون سببًا للرضا شبيهًا بالاعتذار، كما وقع من عهد قريب عندما غضب على الشريف أمير مكة المكرمة ووبَّخه بلسان البرق، ثم لم يلبث أن أرسل إليه ثلاثة آلاف ليرة هدية. وقد بنى قصورًا عظيمة لأكثر رجاله وكبار رجال الدولة، نذكر منها ما عرفنا موقعه ومبلغ نفقته فمنها بقرب يلدز (1) قصر السر عسكر رضا باشا أنفق عليه ثمانية عشر ألف ليرة و (2) قصر عثمان باشا الغازي (رحمه الله) أنفق عليه عشرين ألف ليرة. و (3) قصر أحمد عزت بك العابد كاتبه الثاني، وأقرب الناس منه ولا نعلم ما أنفق عليه؛ ولكننا علمنا أنه أنفق على نقش غرفة واحدة منه وعلى أثاثها ورياشها خمسة آلاف جنيه، ومنها في نشانطاش (1) قصر الصدر الأعظم خليل رفعت باشا أنفق على القديم منه 5000 ليرة، وعلى الجديد أربعين ألف ليرة و (2) قصر زكي باشا مدير الطوبخانة أنفق عليه 15000 ليرة و (3) قصر شاكر باشا رئيس أركان حرب المعية أنفق عليه ثلاثين ألف ليرة و (4) قصر جواد باشا الصدر الأسبق نفقته عشرون ألف ليرة و (5) قصر كامل باشا الصدر الأسبق نفقته 18000 ليرة و (6) قصر الباشكاتب تحسين بك نفقته عشرة آلاف ليرة و (7) قصر سعيد باشا الصدر الأسبق نفقته 8000 ليرة و (8) و (9) قصر الحاج علي بك الباش مابينجي، وقصر سعيد باشا رئيس مجلس الشورى نفقة كل منهما 5000 ليرة، و (10) و (11) و (12) و (13) قصور لمحمد بك وسعيد بك وأمين بك وعارف بك كلهم من مستخدمي المابين أنفق على كل منها 3000 ليرة و (14) قصر محمود بك (المتوفى) ومثله قصر عارف بك في بكماكوي وكلاهما من مستخدمي المابين أنفق على كل منهما 4000 ليرة و (15) قصر منير بك سفير الدولة في باريس نفقته 5000 ليرة و (16) قصر لطفي أغا الدخاخني نفقته 8000 ليرة و (17) قصر ناظم باشا والي سورية نفقته 4000 ليرة و (18) قصر ثريا باشا الباشكاتب المتوفى نفقته 5000 ليرة و (19) قصر عصمت بك الأتوابجي باشى نفقته 2500 ليرة، فقيمة نفقة ما علمناه من قصور نشانطاش وحدها يبلغ نحو مائتي ألف جنيه. مع هذا كله ترى هؤلاء الرجال يتدللون على مولاهم، ويطلب بعضهم الاستقالة المرة بعد المرة، كالصدر الأعظم وناظر المالية الذي لا نعلم مقدار الإنعامات المغدَقة عليه، أليس هذا السلطان جديرًا بأن يحار في سياسة هذه الدولة وأخلاق رجالها وطمعهم؟ *** (فضيلة شيخ الأزهر وانتقاد المكتوب) من فضل الله تعالى علينا أننا لا نكتب شيئًا في المنار إلا لخدمة العلم والدين ومصلحة الأمة العامة، وما أبرئ نفسي من الخطأ والسهو؛ ولكن أشهد الله على حسن قصدي وإخلاصي بحسَب مبلغ علمي بالمصالح والمنافع التي أحث عليها، والمضار والمفاسد التي أنفِّر عنها، وقد توهم بعض الناس أن نشر الانتقاد على عبارة المكتوب الذي أرسل من قبل الحبر الأعظم شيخ الجامع الأزهر الشريف إلى وكيل الداخلية يمنعني من التشرف بزيارة الشيخ بعدها؛ ولذلك أوَّلت بعض الجرائد زيارتي الأخيرة له بحسب ما وصل إليه النظر الكليل، أو القصد السيئ، وزعمت أنني رأيت أكثر الناس غير راضين عن ذلك الانتقاد فحاولت تلافي ذلك، وما لي ولأهل التأويل والتحويل، زرت مولانا الشيخ لأنني أحترمه منذ عرفته، ولم يتغير ما في نفسي من سبب احترامه، بل زاد بالمنصب الذي ارتقى إليه، ولا أنكر أنني ألفيته مستاء من نشر النقد، وغير راضٍ بالتأويل، بل قال إن البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وأن ما كُتب هو المطابق لحال أهل الدواوين، وأنه إذا كتب إليهم كلام بليغ لا يفهمونه، ولما قلت له إن صاحب السعادة وكيل الداخلية من أهل العلم والفهم أجاز ذلك، وقال إن المكتوب قد يقع في يد غيره من الكتبة والموظفين، فينبغي أن يكون بحيث يفهمه الجميع ... ولا حاجة لذكر ما دار من الكلام في هذا الموضوع؛ ولكن لابد لي أيضًا أن أبين أن السبب في ترك البسملة والحمدلة في أول المكتوب وسائر ما يكتب من المشيخة، هو تكريم أسماء الله تعالى واسم نبيه لما يُتوقع من رمي الأوراق وإهانتها، كذا قال الأستاذ لي وأذن بأن يُنشر وصرح لي بأنه نهى عن الرد على المنار. ذكرت لمولانا الشيخ من دليل حسن قصدي في كل ما كتبت وأكتب عن الأزهر، وفي العلماء والتعليم أنني عرضت عليه مرتين أن أذاكره في كل ما أريد كتابته في شأن الأزهر، وأكتب ما يجيزه مما أعرضه عليه؛ لأكون أنا والمنار مشمولين دائمًا برضاه، وأنني كنت فهمت منه أنه لم يحفل بذلك، فأكد لي أنني فهمت خلاف الواقع، وأنه قبل ما عرضت عليه من قبل ويقبله الآن، فتلقيت كلام فضيلته بالقبول وسأعرض عليه بعد اليوم ما أعزم على كتابته في شأن الأزهر إن شاء الله تعالي، وهو الموفق للصواب. *** (منشورات المفسدين في مصر) يحاول بعض السفهاء الذين يتلذذون بأنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون أن يفتحوا على الجناب العالي الخديوي الباب الذي فتحه حزب تركيا الفتاة على مولانا السلطان الأعظم، من تجرئة الناس على الخوض في شخصه المعظم بالقول والكتابة، وشغل فكره الشريف بمكافحة الأشخاص والبحث عن الأفراد الذين يكتبون ويتقولون ويمثلون ويصورون، ثم تلافي ما عساه ينجم عن كتاباتهم وسعيهم وسعايتهم في الآستانة العلية أو الديار المصرية. وقد توسلوا إلى هذا المقصد الخسيس بالوشايات القولية والمنشورات السرية، ومن ذلك ما نوَّهت به الجرائد اليومية من المنشور الذين يُرجفون فيه بأن بعض زعماء المسلمين وأمراءهم قد بايعوا الجناب الخديوي بالخلافة، ومن تصوير مولانا السلطان ومولانا الأمير يلعبان على البلياردو برأسي ليون فهمي وصالح بدرخان وغير ذلك مما لا نذكره. ونحن نعتقد أنه إذا لم يُقفل هذا الباب قبل تمادي السفهاء فيه؛ فإنه يتعذر إقفاله بعد ذلك أو يتعسر، ولا وسيلة لإقفاله إلا تنزيه سمع مولانا العزيز أيده الله عن سماع كلمة واحدة من كلام هؤلاء السفهاء، وتكريم نظره العالي عن التصويب إلى شيء مما يكتبون بَلْهَ أشخاصهم الخسيسة، وذواتهم المنحوسة؛ فإن مولانا السلطان الأعظم قد أعياه أمرهم، بعد أن راج في سوق السياسة سحرهم، وهو صاحب السلطة المطلقة والإرادة النافذة والكف الفائضة، ولو أنه أيده الله تعالى أيأسهم من سماع كلامهم، والنظر في مواقع سهامهم، لاستراح وأراح. ثم إن لمولانا العباس - حفظه الله - من بُعد النظر وجودة الفكرة ما يمكنه به أن يقنع مولانا السلطان الأعظم بمصدر هذه الأراجيف إذا فُرض أنها وصلت إلى يلدز وأما مصر فلا تأثير فيها لشيء من هذا الهذيان، إلا إذا راج في المعية السنية، وبيد مولانا الأمير إبطال هذا التأثير، وبيده تربية هؤلاء السعاة المفسدين، والسفهاء الطامعين، ولاشك أن جميع رجال حكومته ووجوه رعيته محبون لمقامه الكريم، ومخلصون لجنابه الفخيم، ولا يوجد فيهم من تُحَدِّثه نفسه بأن يطالبه بمثل ما يطالب ذلك الحزب المشئوم مولانا السلطان، أو ينسب إليه تقصيرًا في أعمال الحكومة، ولا يمكن أن يكون لكلام المرجفين أدنى تأثير في نفس أحد منهم، فكيف يؤثر في نفسه العلية؟ كلا سوف يخسأون، ثم كلا سوف يخسأون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) . *** (إلى الجناب العالي الخديوي) مولاي: قد كثر في بلادك نسبة الأشياء إلى لقبك الرفيع، فلا نرى إلا (الأجزاخانة الخديوية، والقهوة الخديوية، والمطبعة الخديوية) وغير ذلك مما لا بأس بتشرفه بالنسبة إلى هذا اللقب، ومما ينبغي تنزيه اللقب عنه، وهذه جريدة (بشائر السلام) التي أنشئت للطعن بدين الإسلام الشريف تُطبع بالإسكندرية في مطبعة تسمى (المطبعة الخديوية) كما هو مكتوب عليها، وربما يتوهم بعض المطلعين عليها من غير هذه البلاد أن المطبعة منسوبة إلى سمو الخديو فعلاً، فيعجبون كيف يصدر منها هذا الطعن الفاحش بالإسلام. فإذا كانت حكومة بلادك التي امتازت بالحرية قد غلت فيها إلى هذا الحد في إجازة الطعن؛ فإننا نطلب من حكمة سموك تنزيه لقبك الشريف أن ينسب إليه شيء بغير إرادة رسمية منك، كما يفعل مولانا السلطان الأعظم أيده الله وأيدك بروح منه بل نطلب بلسان الإخلاص صدور الأمر العالي بإبطال كل ما ينسب إلى هذا اللقب، أو يستأذن صاحبه فتتعلق الإرادة بالإذن له. *** (مأتم الأمير عبد الرحمن في الهند) جاءنا من وكيلنا في بومباي أنه كان لنعي أمير الأفغان تأثير عظيم في جميع الممالك الهندية، فاضطرب الناس واختلفت الجرائد الإنكليزية والهندية فيه، فكانت تكذِّبه تارة، وتصدِّقه أخرى، إلى أن صدر الأمر من اللورد كرزون الحكمدار الإنكليزي العام بالاحتفال بمأتمه العمومي يوم الاثنين غرة رجب، فاحتُفل به في ذلك اليوم في جميع البلاد الهندية وسواحلها احتفالاً عظيمًا كالاحتفال بمأتم الملكة بلا فرق، فكان يومًا مشهودًا عُطلت فيه دواوين الحكومة ومحاكمها وجميع المدارس، وأُغلقت محال التجارة، وصلى المسلمون عليه جميعًا مع اختلافهم في المذاهب كل فرقة في مسجدها بأمر كبيرها أو مجتهدها، (قال) : (وصلوا عليه بالأمس بعد صلاة الجمعة في الجامع الكبير، وبعد الصلاة أرسل تلغراف التعزية مع التهنئة إلى وكلاء الفقيد، ونحن نحمد الله تعالى على أنه فات هذا الخطب الجلل، ولم ينتطح عنزان على رغم أعداء الإسلام رماهم الله بالخذلان) اهـ، فتأمل في هذا التأثير العظيم لفقد هذا العظيم في هذه البلاد. *** (حرب الإنكليز والبوير) دخلت هذه الحرب في العام الثالث، وهي لا تزال سجالاً، وقد أدهش ثبات البوير وبلاؤهم جميع الأمم والدول؛ لأنهم لم يعهدوا من شرذمة قليلة مصادمة دولة عظيمة زمنًا يُعَدُّ بالسنين، وللحياة الاستقلالية في الأمم آيات يعتبر بها الأحياء، ولا يحس بها الأموات.

من إدارة المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ من إدارة المنار نرجو من المشتركين الكرام في البلاد الهندية اعتبار الفاضل الشيخ عبد الله نزيل بيت صديقنا الأستاذ الكامل الشيخ أحمد الجيتكر في بومباي وكيلاً للمنار في الممالك الهندية، وأن يدفعوا إليه قيم الاشتراك، ويأخذوا منه وصولات مطبوعة مختومة بختم الإدارة، ومذيلة بتوقيعه أو ختمه.

الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشعور والوجدان وشعائر الأمم والأديان ينبعث المرء إلى العمل بشعوره ووجدانه أكثر مما ينبعث بفكره وبرهانه، وبالعمل يسعد ويشقى، وبالعمل يموت ويحيى [1] . تأثير الشعور والوجدان أقوى في النفس من تأثير العقل والجنان، بل لا تنفذ أحكام سلطان العقل في مملكة البدن إلا بواسطة الشعور النفسي بالحاجة إلى ما حكم به لدفع ألم أو تحصيل لذة، فكأن الشعور وزير التنفيذ لسلطان العقل، وكثيرًا ما يستبد هذا الوزير على ذلك السلطان إجابة لداعي عُمَّال الحواس والمشاعر، فيزعج الجوارح إلى العمل بدون استشارته فتخسر الأعمال، وتخيب الآمال، ويسوء المصير والمآل. نعني بالشعور أن تحس بألم الحاجة إلى الشيء أو بلذته، وبالوجدان ما تجده في نفسك من ذلك الألم الذي يدفعك إلى العمل بما يقتضيه، أو اللذة الداعية إلى المداومة على العمل، فالمراد بهما واحد؛ ولذلك نكتفي بأحد اللفظين أحيانًا، ويعبر الصوفية عن هذا المعنى بلفظ (الحال) ومن أصول طريقتهم تربية الحال بما ينفخون من روح التأثير بعقيدة من العقائد، أو فضيلة من الفضائل في المريد، فينبعث إلى العمل الذي هو أثر العقيدة أو الفضيلة بوجدان صادق ويبالغ فيه ما شاء الله أن يبالغ حتى يكون ملكة راسخة في النفس، وهي ما يسمونه (المقام) يقولون حال التوكل ومقام التوكل، وحال السخاء ومقام السخاء، وإذا كان المقام عند الصوفية عبارة عما يسميه علماء الأخلاق من غيرهم خُلقًا وملكة، فهو إذن ما تصدر عنه الأعمال بلا روية ولا تكلف. العمل بمقتضى الحال والوجدان يحتاج إلى الفكر في طريق العمل ومقدماته، ثم يرتقي الإنسان فيه مع التكلف والتأثر إلى هذه الدرجة التي يصدر فيها العمل بلا تكلف ولا انفعال ولا ترتيب مقدمات؛ ولكنه مع ذلك يشعر بأنه متمكن من ذلك المقام، ويتفكر في آثاره الحسنة، فإذا غاب عنه هذا الشعور والفكر فصار لا روية ولا رؤية؛ وإنما هي أعمال كالأنفاس وحركات الجفون، فتلك نهاية الكمال في المقام، والشيخ محيي الدين بن عربي يعبر عن هذا بمقام الترك، فيقول مقام التوكل ومقام ترك التوكل ومقام الصدق ومقام ترك الصدق؛ وإنما يعني ترك شهوده وتلك غاية الكمال، يصدُق المرء من غير شعور سابق يدفعه إلى الصدق عند كل فرد من أفراده، وبدون فكر في مقدمات الصدق ونتائجه ولا ملاحظة لتلبسه بهذه الفضيلة، ولا إعجاب بها وبآثارها، وليس محالاً أن يرتقي الإنسان في التهذيب إلى أن تكون الأعمال الحسنة منه كحركات الجفون لا يتفكر فيها، ولا يشعر بها إلا إذا ذكره مذكر أو نبَّهه منبه. تلك درجات مرتبة، ومراتب متعاقبة، فالشعور والحال، ثم الملكة والمقام، ثم الرسوخ والاطمئنان حتى لا شهود ولا عيان، إلا ما كان كومضة برق، أو نبضة عرق. كيف ينفخ المربي روح الشعور النافع والوجدان الشريف في النفوس؛ ليعرج بها جنات الفضائل العالية، حيث تعيش العيشة الراضية؟ يقول الإمام الغزالي إن العلم هو الذي يحدث الحال في النفس، والحال هو الذي يُحْدِث العمل، وعلى العمل مدار السعادة، ويقول إن الترتيب بين هذه الثلاثة واجب لا يتخلف بمقتضى اطراد سنة الله تعالى في الملك والملكوت، ونرى أكثر علمائنا، بل أكثر الناس يقولون إن العلم لا يوجب العمل، وقد نازع حجة الإسلام بلفظ (يوجب) بعض من يوصف بالإمامة من العلماء الذين لم يفهموا كلامه لتقيدهم بالاصطلاحات الكلامية، وقد صرح هو بأنه يريد بالعلم اليقين بأن الشيء ضار أو نافع، ولا شك أن اليقين أو الرجحان عند تعارض اعتقادين في النفس هو الذي يملك على النفس أمرها، ويبعث فيها وجدانًا يزعجها إلى العمل؛ وإنما نظر القوم إلى العلم التصوري أو التصديقي الضعيف الذي تتنازعه الشكوك وتعارضه تصورات أو تصديقات أخرى هي أقوى منه، فلا يصدر عنه أثره وإنما يصدر الأثر عن الراجح القوي كما أوضحناه في مقالة عنوانها تأثير العلم في العمل (راجع العدد الثاني من المجلد الثاني) . ما قاله الإمام الغزالي صحيح؛ ولكن العلم الصحيح اليقيني بالمنافع والمضار والمصالح والمفاسد عزيز في البشر، لا سيما مصالح الأمم والمِلَل، ثم إن إيداعه في النفوس بالتعليم على وجه يغلب تأثير التقاليد والعادات، والتأثر بما ينافيه من المسموعات والمشاهدات، أعز وأعسر، وأقل وأندر، فلابد من تعزيز والتعليم بالتربية العملية، بل التربية هي الأصل والتعليم يمدها ويغذيها، ويثمرها وينميها، وهذه الطريقة طريقة الدين فإنه بعد أن أشعر النفوس عظمة الله وسلطانه وفضله وإحسانه شرع للناس أعمالاً ووضع لهم شعائر، كان لها السلطان الأكبر على القلوب والضمائر، فكان إحياء وجدان وشعور، وبعث همم ونشور، مقرونًا بتعليم قويم يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم. شُرِّع الدين لإسعاد الأفراد في أنفسها، وإسعاد الشعوب في مجموعها؛ ولذلك كان بعض أعماله عبادات تتعلق بتهذيب الأفراد، وبعضها شعائر تتعلق بالاجتماع كأعمال الحج والعيدين وصلاة الجمعة والجماعة، وقد كان لهذه الشعائر تأثير عجيب في الحياة الملية والاجتماعية، حيث لم تكن رسمًا صوريًّا يؤدى كما تؤدى المغارم والديون على ما هي اليوم، وإنني لا أنسى ذلك الشعور الإسلامي الذي يسوقني وأنا ابن بضع سنين إلى مسجد البلد الجامع لحضور صلاة التراويح وصلاة الفجر، ولحضور الوعظ بعد العصر في رمضان، ولا أنسى تلك اللذة الروحية في اجتماع الناس لهذه العبادات وأمثالها، لا سيما ارتفاع أصواتهم بالتكبير قبل صلاة العيد، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد … هذا الشعور الذي يجده الصغير في نفسه بمقتضى الفطرة، ويفقده بعد أن يعتاد هذه الأعمال من غير فهم إلا أن يتعاهد بتربية تجدد عنده في كل وطور من أطوار العمر، فهما في هذه الشعائر يبعث فيه شعورًا يليق به، ولولا أن مَنَّ الله تعالى عليَّ منذ تعلمت القراءة والمطالعة بعشق كتاب (إحياء علوم الدين) الذي هو أعظم كتب علماء الإسلام تأثيرًا في النفوس - لصارت العبادة عندي عادة لا تأثير لها، وإنما صرحت بهذا ليكون نفعه عامًّا. ومن البلاء العظيم الذي نزل بالمسلمين التقصير في إقامة شعائر الإسلام على أصلها، والتوسل بها إلى إحياء الشعور الملي، فقد نزعت روحها أولاً، ثم طرأت الأمراض على صورها فغيَّرتها حتى عافها المترفون، وأعرض عنها الأكثرون، وكأن الشعائر التي تبعث الشعور وتحرك ساكن الوجدان أمر طبيعي في الأمم؛ ولذلك لم يلبث المسلمون بعد ضعف شعائرهم أن استبدلوا بها شعائر أخرى سرت إليهم من الأمم المخالطة؛ ولكنهم صبغوها بصبغة دينهم، ولوَّنوها بلون شرائعهم، وهي الأعياد والمواسم التي يحتفلون بها عند قبور الصالحين، وفي بعض الأيام الفاضلة فلهذه المواسم تأثير كبير في نفوس العامة، وهو شعور ديني لا يُنكر؛ ولكنه غير إسلامي وأبعدها من الإسلام أشدها تأثيرًا، وهو ما يسمونه الموالد (راجع باب البدع) . اتبع المسلمون في هذا سنن من قبلهم في الابتداع؛ فإن المسيحيين تركوا أعياد اليهودية وهي ديانة المسيح وانتحلوا لأنفسهم أعيادًا أخذوها عن الوثنيين؛ فإن عيد الميلاد المسيحي لم يُعرف عندهم إلا في القرن الرابع بعد المسيح، وعيد ميلاد مريم اختُلف فيه، فقيل ابتُدع في القرن الخامس، وقيل في السابع، وقيل في التاسع، وقيل في الحادي عشر، وعيد الشهداء لم يُعرف إلا في أواخر القرن الرابع فكانوا يقرأون قصصهم، وتؤدى عندهم فرائض العبادة، وتذبح الذبائح، ويولم الأغنياء الولائم، فيأكلون ويشربون ويلهون ويلعبون، وأما عيد الرسل فلا ندري متى ابتُدع؛ ولكن له ذكرًا في حوادث القرن الرابع، وكانوا يحتفلون به في رومية عند قبري بطرس وبولس. قلنا: إن النصارى أخذوا أعيادهم هذه عن الوثنيين، ولوَّنوها بلون دينهم، وهذا القول قد صرَّح منهم به كثيرون من رجال التاريخ، ورجال الدين، وصرحوا بأنهم كانوا يعبدون الشهداء والرسل، وأن ذلك سرى فيهم بالتدريج كما قال بيوسوبر في تاريخ المانيكيين، وجاء في قصة حياة غريغوريوس توماتورغوس: أن غريغوريوس لما رأى الجماهير الجهلاء البسطاء متمسكين بأصنامهم لما فيها من اللذات الحسية، أذن لهم في أعياد الشهداء القديسين أن يتلذذوا ويتنعموا رجاء أن ينتقلوا بعد ذلك باختيارهم إلى حياة حسنى وطريقة مثلى. وفي (ريحانة النفوس في الاعتقادات والطقوس) : (إن الذين انحازوا من عبادة الأوثان إلى الديانة المسيحية إذ وجدوا بعض أمور في أعياد الشهداء تشبه ما كانوا معتادين عليه في أديانهم الأولى، فقد نقلوا إليهم ذلك الإكرام الذي كانوا يقدمونه لآلهتهم) . لو لم يوجد في النصارى من يؤول لهم عبادة الشهداء ونحوهم لما انتشرت فيهم وعمت بلادهم، وإننا نذكر عبارة من تلك التأويلات لأجل تطبيق الحديث الشريف، قال أغوستينوس: إننا نتعلم أن نكرم الشهداء لا أن نعبدهم، بل إنما نعبد الله وحده الذي تعبده الشهداء؛ لأنه لا يجب أن نكون مثل الوثنيين الذين نحزن عليهم لأنهم يعبدون الموتى من الناس، ثم أوضح هذا بقوله: إننا لا نتخذهم آلهة ولا نعبدهم كآلهة؛ فإننا لا نعطيهم هياكل ولا مذابح ولا ذبائح ولا يقدم لهم الكهنة القرابين، حاش لله فإن هذه الأمور إنما تعمل لله فقط اهـ. أقول: لكنهم باسم التعظيم والتكريم الذي أذن فيه وجوَّزه قد قدموا لهم الذبائح وعبدوهم عبادة حقيقية، وإن لم يسمها بعضهم عبادة، وهذا هو السبب في تشديد النبي صلى الله عليه وسلم النكير على تعظيم القبور واتخاذها أعيادًا؛ ولكن هي سنة الكون تنتقل العادات والتقاليد من بعض الملل إلى بعض كما في الحديث الصحيح (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) تقلد الأمم بعضها بعضًا في الشعائر الدنيوية أيضًا؛ فإن أهل الغرب اتخذوا لملوكهم أعيادًا لإحياء الشعور الوطني الذي يمثله رئيس الدولة في الملكية، وللدول الجمهورية منهم أعياد باسم الحكومة التي يعتزون بها ويعززونها، وقد قلدهم الشرقيون في الاحتفال بأعياد ملوكهم وأمرائهم لإرضائهم إذ كانوا لا وطن لهم ولا وطنية، ولا دول عزيزة بملوكها قوية، ولا شك أن هذه الأعياد شعائر تبعث الشعور بحب السلطان أو الأمير في نفوس الذين يعتقدون فيه النفع للدولة والأمة، فينتفع بهذا المستبدون، ويغتر به المغترون، حتى يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون. يبلغ الشعور في أفراد الأمم العزيزة الحرة مبلغًا يُعَدُّ من الخوارق في نظر الأمم المريضة المستعبَدة، فقد كثر في هاتين السنتين عدد المجانين في إنكلترا وقال نطس الأطباء إن سبب ذلك الانفعال الشديد لخذلان الدولة في حرب الترانسفال، وما دفع البوير إلى الاستبسال في ساحات الوغى إلا الشعور القوي بألم الاستعباد المتوقع الذي استوى فيه النساء مع الرجال، فكن عونًا لهم في ميادين القتال، فليعتبر قومنا إن كانوا يشعرون، أو ليموتوا ليحيى الأمراء والحاكمون. نعم قد دب فيهم شيء من الشعور نفرد له مقالة في جزء آخر.

شبهات المسيحيين وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين وحجج المسلمين النبذة التاسعة في كتب العهدين جعل مؤلف الأبحاث الفصل الثاني من البحث الأول في إثبات صحة التوراة والإنجيل عقليًّا، وتقرير هذا الدليل أن الله قادر حكيم فلا بد أن يضع دستورًا ويكتب شريعة لمخلوقاته العاقلة، كي تعلم نسبتها إلى خالقها وواجباتها نحوه، وواجبات بعضها نحو بعض، وتعرف مصير العالمين وقصاص العصاة وثواب الطائعين المؤمنين لئلا يكونوا فوضى لا وازع لهم ولا مشترع كالأنعام يدوس بعضهم بعضًا، وكالأسماك يأكل صغيرَها كبيرُها، ويفني الناس بعضهم بعضًا وتستوي الفضيلة والرذيلة، وهذا ما لا يرضى به القادر الحكيم، ثم قال: (فإذا لم يكن ذلك الدستور وتلك الشريعة هما التوراة والإنجيل، فقل لي بعيشك ما هما، هل يوجد كتاب قديم مقدس يفي بالغرض المقصود كالتوراة والانجيل؟ كلا لعمري) . (المنار) إننا لا نؤاخذ المؤلف على تقصيره في تقرير وجه الحاجة إلى الشريعة، إذ يعرف القراء هذا التقصير بمقابلته بما كتبناه وما سنكتبه في بيان الحاجة إلى الوحي من دروس الأمالي الدينية؛ ولكننا نذكِّره بأمور إذا تأملها ظهر له أن حجته داحضة. (1و2) لماذا ترك الله البشر قبل التوراة ألوفًا من السنين لا نعلم عددها من غير شريعة إذا كان ذلك لا يرضيه؟ ولماذا لم تظهر حكمته هذه إلا في بني إسرائيل من عهد قريب، وكل الناس عبيده والعلة تقتضي العموم؟ هذان السؤالان يردان عليه، وعلى جميع اليهود والنصارى القائلين بقوله ولا يردان على المسلمين؛ لأن القرآن حل هذا الإشكال بقوله تعالى في الرسل: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78) فنحن نعتقد أن الله أرسل رسلاً في جميع الأمم التي استعدت بترقيها إلى فهم توحيده لا يعلم عددهم غيره تعالى. (3) هل كان أهل الصين كالأنعام يدوس بعضهم بعضًا، أو كالسمك يأكل كبيرهم صغيرهم بلا وازع ولا رادع، أم كانوا أولي مدنية وفضائل قبل وجود بني إسرائيل وبعدهم؟ والتاريخ يدلنا على أنهم كانوا أرقى من بني إسرائيل في العلوم والمعارف والمدنية والنظام الذي تُحتاج الشريعة لأجلها، وكانوا أرقى من النصارى أيام لم يكن عند هؤلاء إلا الديانة التي بثها فيهم مقدسهم بولس، فما زادتهم إلا عداوة وبغضًا واختلافًا وتنازعًا وحربًا واغتيالاً في تلك العصور التي يسمونها المظلمة، وكان الصينيون في هدوء وسلام ووفاق ووئام، ما قيل في الصينيين يقال نحوه في الهنود، ولا يرد مثل هذا الإشكال على المسلمين؛ لأنهم بمقتضى هدى القرآن يجوزون أن يكون الله تعالى بعث في الصين والهند أنبياء أرشدوهم إلى ما كانوا فيه من السعادة، ثم طال عليهم الأمد، فمزجوا ديانتهم بالنزغات الوثنية الموروثة حتى حوَّلوها عن وجهها تحويلاً، كما نعتقد مثل ذلك في النصارى إذ لا شك أن ديانتهم في الأصل سماوية توحيدية، ثم حوَّلوها إلى عبادة البشر من المسيح وأمه وغيرهما. (4) إن الأوروبيين قد استغنوا بالقوانين الوضعية عن شريعة التوراة، وبالآداب الفلسفية عن آدابها وآداب الإنجيل فطرحوا الزهادة، ونفضوا عن رؤوسهم غبار الذل، وقد نجحوا بهذا وارتقوا عما كانوا عليه أيام كانوا متمسكين بهذا الكتاب الذي يسمى (المقدَّس) فكيف تقول إنه لا يوجد غيره لهداية البشرية وتهذيب أخلاقهم، وهذا الواقع على خلافه، وهذا الإشكال لا يرد أيضًا على المسلمين؛ لأنهم يعتقدون أن اليهود والنصارى نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به في الوحي وطرأ على الباقي التحريف والنسخ، فلم يعد صالحًا لهداية البشر، ويعتقدون أن الأوربيين أقرب الناس إلى دين الإسلام في أخلاقهم الحسنة كعزة النفس، وعلو الهمة والجد في العمل والصدق والأمانة والاهتداء بسنن الكون والاسترشاد بنواميس الفطرة، والأخذ بالدليل وغير ذلك، وأنهم كما اهتدوا إلى هذا بالبحث والتوسع في العلم سيهتدون كذلك إلى سائر ما جاء به الإسلام من العقائد والأخلاق والفضائل والأعمال. (5) إن المسلمين قد ظهر فيهم كل ما ذكره في وجه الحاجة إلى الشريعة على أكمل وجه لم يعرف مثله في الكمال عند اليهود والنصارى، فعرفوا ما يجب لله تعالى، وما يجب من حقوق العباد وصلح بالدين حالهم، واجتمعت كلمتهم وتهذبت أخلاقهم، وسمت مدنيتهم في كل عصر بقدر تمسكهم به، والتاريخ شاهد عدل. (6) إذا كانت التوراة قد بيَّنت كل ما ذكره من حاجة البشر إلى الشريعة فلماذا وُجد الإنجيل؟ وإذا كانت ناقصة فلماذا جعلها الله ناقصة لا تفي بالحاجة، وكيف يتم له الدليل بناء على هذا القول على إثبات التوراة والإنجيل بالعقل؟ وهذا الإشكال لا يرد على المسلمين المعتقدين بصحة أصل التوراة والإنجيل؛ لأنهم يقولون: إن كلاًّ منهما كان نافعًا في وقته، ثم عدت عواد اجتماعية ذهبت بالنفع والفائدة، فساءت حال القوم المنتمين إلى الكتابين، فجدَّد الله الشريعة بالإسلام على وجه فيه الإصلاح العام، فانقشع بنوره كل ظلام، وحفظ الله كتابه من التحريف والتبديل ليرجع إليه الذين يضلون السبيل. (7) إذا كانت التوراة مشتملة على ما ذكره - كما تقدم - فلماذا تركها المسيحيون فعطلوا شرائعها، وضيَّعوا حدودها كما بيناه في بعض نبذ الرد السابقة. (8) إذا كانت كتب العهد العتيق والعهد الجديد إلهية حقيقية، فلماذا وُجد فيها الاختلاف والتناقض والتهاتر ومصادمة العقل الذي لا يُفهم الدين ولا يُعرف إلا به، وقد تكلمنا على مصادمتها للعقل قليلاً في بعض النبذ الماضية، وسنبين بعد كل ما ادعيناه هنا تبيينًا. (9) إذا كانت هذه الكتب إلهية وافية بما ذكره المصنِّف من حاجة الناس للشرائع، فلماذا وُجد فيها ما يُخل بذلك أصوله وفروعه، كتشبيه الله بخلقه ونسبة الفواحش إلى الأنبياء الذين هم أحق الناس وأولاهم بالاهتداء بالدين الذي تلقوه عنه سبحانه وتعالى، وغير ذلك مما ينافي الآداب الصحيحة كما ألمعنا من قبل، وسنزيد ذلك بيانًا، ونكتفي الآن بإشارات من لامية البوصيري رحمه الله تعالى، قال في شأن العهد العتيق وأهله: وكفاهم أن مثَّلوا معبودهم ... سبحانه بعباده تمثيلا وبأنهم دخلوا له في قبة ... إذ أزمعوا نحو الشام رحيلا وبأن (إسرائيل) صارع ربه ... فرمى به شكرًا لإسرائيلا وبأنهم سمعوا كلام إلههم ... وسبيلهم أن يسمعوا منقولا وبأنهم ضربوا ليسمع ربهم ... في الحرب بوقات لهم وطبولا وبأنه من أجل آدم وابنه ... ضرب اليدين ندامة وذهولا وبأن رب العالمين بدا له ... في خلق آدم يا له تجهيلا وبدا له في قوم نوح وانثنى ... أسِفًا يعضُّ بنانه مذهولا [1] وبأن إبراهيم حاول أكله ... خبزًا ورام لرجله تغسيلا [2] وبأن أموال الطوائف حُللت ... لهموا ربًا وخيانة وغلولا وبأنهم لم يخرجوا من أرضهم ... فكأنما حسبوا الخروج دخولا لم ينتهوا عن قذف داود ولا ... لوط فكيف بقذفهم روبيلا [3] وعزوا إلى يعقوب من أولاده ... ذكرًا من الفعل القبيح مهولا وإلى المسيح وأمه وكفى بها ... صدِّيقة حلت به وبتولا وأبيك ما أعطى يهوذا خاتمًا ... لزنى بمحصنة ولا منديلا [4] لوَّوا بغير الحق ألسنة بما ... قالوه في (ليَّا) وفي راحيلا [5] ودعوا سليمان النبي بكافر ... واستهونوا إفكًا عليه مقولا [6] وجنوا على هارون بالعجل الذي ... نسبوا له تصويره تضليلا [7] إلى أن قال: الله أكبر إن دين محمد ... وكتابه أقوى وأقوم قيلا طلعت به شمس الهداية للورى ... وأبى لها وصف الكمال أُفُولا والحق أبلج في شريعته التي ... جمعت فروعًا للهدى وأصولا لا تذكروا الكتب السوالف عنده ... طلع الصباح فأطفئ القنديلا درست معالمها ألا فاستخبروا ... عنها رسومًا قد عفت وطلولا ولا يخفى أن هذه المطاعن التي تنافي ما ذكره المصنِّف وغيره من الدليل على حاجة البشر إلى الشريعة ولا تليق بالوحي السماوي، لا ترد على المسلمين الذي يقولون بحقية التوراة والإنجيل لما بيَّناه في الجزء الخامس فراجعه. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ التدريج الفطري في تعليم الرسم والخط والقراءة [1] (32) من الدكتور أراسم إلى زوجته في 18 إبريل سنة 185 تلقيت رسم (أميل) فاغتبطت به، ولله ما تفضلت بإضافته إليه من الشرح الذي كان كالمفتاح لمغلقه، فلولاه لما نفذ ذهني في سر خطه البربائي، لا شك أن هذه البقعة الكبيرة السوداء تمثل العاصفة والبحر المضطرب والسماء المظلمة بالسحب، وهذه يدي رهن لمن شاء على أني أرى فيه السفينة الغريقة، وإن كانت قوانين علم المرئيات لم تراع في الرسم بالتدقيق، وذلك الشيء الطافي على وجه الماء لا بد أن يكون زورق النجاة، وأما هذا الوجه المصبوغ بالمداد فلا وجه للخطأ في معرفته، فهو وجه قوبيدون، وكأني أرى بعين الارتياح في الصورة الصغيرة الملقاة على الأرض تلك الفتاة المغمى عليها التي نجت من الغرق، أراك تجدينني قد فهمت ذلك الرسم الذي لا أعرف من آثار ولدي سواه، وقد علقته هو وصورته على جدار حجرتي. إن صناعة الأطفال تذكرنا دائمًا بطفولية الصناعة، وإن تصوير بعض أشكال هذا العالم الخارجي هو ملكة غريزية في نوعنا، وربما كانت هي التي تميزنا عن غيرنا من سائر الحيوانات أجلى تمييز؛ فإن إنسان (الغاب) الوحشي الذي لا تُعرف لغته ولا تاريخه قد عُلِم عنه اليوم أنه كان في زمن ما ينقش بالظِّران (الحجارة المحددة) على الحجر، أو على قرن الأيل القطبي صورًا سمجة لا أثر للإتقان فيها كصورة الفيل القديم ذي الفروة المسمى بالممُّوث، كما رسم بعض الحيوانات الأوابد الغريبة التي كان يغالبها في التسلط على الآجام والغاب. لدينا كذلك برهان على أن مجتمعات الإنسان الأولى مارست فنون التقليد من قبل أن تضع لنفسها قوانين ثابتة تكفل لها حاجيات معيشتها. أستنتج مما قدَّمته أن تعليم الأطفال ينبغي أن يبدأ فيه بالرسم، وهذه هي الطريقة التي تتلمسينها لنقل الطفل من التصوير إلى الكتابة. لقد أحسنت النظر إذ انتبهت إلى أن حروف كتابتنا لا صلة بينها وبين ما وضعت للدلالة عليه بشكلها، وأنه ما ثمَّ إلا المواضعة والاصطلاح؛ فإن الطفل ما رأى في الكون شيئًا هو (أ) أو (ب) ولكن اختراع هذه الحروف هو من أعظم الآثار وضروب فوز العقل الإنساني المخلدة في صفحات تاريخه، واذكري أن الأمم القديمة كانت قد استعدت من زمن طويل للحروف الهجائية بممارسة الرسم، ثم انتقلت منه إليه، فقد استمد الفينيقيون حروفهم من الكهنوتي القديم، وأما أبناء هذا العهد فإن هذا الاتصال بين الرسم والخط مقطوع في نظر الطفل الذي يتعلم القراءة والكتابة بخطهم؛ فإنه ينتقل فجأة إلى عالم معنوي لا يجد فيه شيئًا يسترشد به، ولا رابطة القياس والمماثلة، وبعد هذا يندهش معلمه من استثقاله ما يراه أمامه من العقبات، ليس هو الذي يحق له المعارضة في مثل هذه الطريقة المضادة للعقل، بل إن كل ذي ذوق سليم وحكم صحيح يحق له ذلك. كل ما يتعلق بالخط يحملنا على اعتقاد أن الحروف الهجائية التي اختُرعت أولاً قلما كانت إلا صورًا لبعض أشياء كانت تنسب إليها أكثر من غيرها، والخط ابتدئ باختصار في الرسم، وليت شعري هل محيت تلك الآثار البربائية بتمامها من الحروف الهجائية للغات الحديثة؟ أقول إن هذا الأمر محل للشك، وإنى أعرف رجلاً كيسًا كان يُرجع أشكال حروف لغتنا المطبوعة إلى بعض الصور الخلقية، نعم إن مضاهاته كانت أحيانًا تشف عن بعض التكلف؛ ولكني أود عن طيب نفس اتباع طريقته للتوفيق في ذهن أميل بين طائفتين من الأشكال تظهران لأول نظرة متباعدتين كأن بينهما بحرًا رهوًا، فإذا رسم مثلاً سطحًا مستديرًا يمثل به الشمس أكتب في أسفل هذا الرسم اسم هذا الكوكب بالفرنساوية Soleil معتنيًا بإظهار حرف O مكبرًا، فإذا كان الرسم منزلاً Maison، أو ثعبانًا Serpent، أو طريقًا متعرجًا Zigzag، أو عينًا باصرة œil بذلت جهدي في بيان وجوه الشبه التي عساها توجد بين الحرف الأول من هذه الكلمات والأشياء التي تمثلها في الذهن؛ فإن أميل يفهم بهذه الطريقة أن الخط هو كيفية أخرى للرسم بها يبين الإنسان مراده بأوضح مما يحاوله بالرسم، وفى زمن أقل. إن الذي يحيِّر الطفل ويضله هو إلزامه باتباع طريقتنا في النظر بدل أن نستدرجه من المعلوم إلى المجهول استدرجًا سهلاً، فتريننا نبادر إلى صب المعاني العقلية في ذهنه صبًا على حين أنه لم يكتسب بعد ملكة تمييز هيئات الأشياء المادية، نضطره إلى ذلك بفضل ما لنا عليه من الولاية المعنوية على اختلاف درجاتها فينا؛ ولكني أرى أننا بهذه الطريقة نجني على ذهنه جناية تقضي بالأسف؛ فإن إلزامه بالتعلم وقهره عليه يسلبان معظم ميله إلى الملاحظة والتعلم بنفسه، إن ضرر الاستبداد في البيوت لم يكن أقل من ضرر استبداد الحكومة. أرى أن الرسم والكتابة والقراءة هي ثلاثة ضروب من التمرين مرتبط بعضها ببعض، بحيث لا ينبغي التفريق بينها في التربية الأولى، على أن الرسم هو الذي تجب البداءة به؛ فإن في ذلك مزايا كثيرة أولها كفاية الطفل مؤنة ما للدرس من السآمة والملل في أول أمره؛ فإن معظم الأطفال يكرهون الكتب، ومن منهم لا يميل إلى الصور؟ كلا إن فيهم دافعًا طبيعيًّا يحملهم في الغالب على أن يرسموا بأيديهم ما يقع تحت أبصارهم، فالرسم عندهم ضرب من اللعب خصوصًا إذا مارسوه بدعوة الغريزة، واجتهدوا من أنفسهم في أن يمثلوا أشد الأشياء استمالة لهم، ولا أنكر أن ملكة التمثيل والمحاكاة لا يستوي فيها جميع الأطفال؛ ولكن التأسي كافٍ في تنبيهها غالبًا. ليت شعري هل وُلد الإنسان رسامًا؟ هذا ما لا أعلمه؛ وإنما الذي يثبته لنا التاريخ أن فنون الرسم تقدمت في جميع الأمم تقدم الكتابة والعلوم، وإذا كان الأمر كذلك فالتاريخ يعيد نفسه في الأطفال كل يوم بأعيننا، ومن مزايا الرسم أيضًا أنه يربي القوة الحاكمة في نفس الطفل؛ فإن في فتح أبواب الكون له قبل فتح الكتب أمامه مبادرة لإرشاده له إلى ينبوع العلم، فمحاكاة الجماد أو الحيوان أو النبات توجه نظره دائمًا إلى الصفات المقومة لماهية ما يحاكيه، وإن جاء الرسم ناقصًا، الرسم هو تمثيل أشكال الأشياء وحدودها بخطوط، فيجب أن يكون الراسم قد رآها وقام في نفسه معنى ما يميزها عن غيرها من العلامات والصفات الأصلية، وأما الكلمات المكتوبة؛ فإنها لا تقتضي هذا العمل في الملاحظة فإنه متى عرف الطفل التهجية وتركيب الحروف يمكنه أن يسمى عددًا لا نهاية له من الكائنات الحية والجمادات التي ليس له بها أدنى معرفة، وتوجد له بذلك ملكة غاشة متى قويت وثبتت بالعادة أضلت معظم العقول البسيطة التي لا هم لها إلا القشور. لا يوجد الاستقصاء والتعمق في معرفة الأشياء إلا حيث يوجد القياس والمضاهاة، فإذا لم يَعْتَدْ الطفل التفكر فيما يرى وملاحظته، يكون قليل الاهتمام جدًّا بتفهم ما يقرأه. آخر ما أذكره من مزايا الرسم أنه إعداد أولي كبير النفع في تعلم الخط، فإن أميل بتخطيط صور الأشياء التي يستملحها تخطيطًا حسنًا أو رديئًا يمرن أصابعه على الحركة، ويكتسب نوعًا من الخفة والدقة لتكوين الخطوط التي منها تتألف حروفنا الهجائية؛ ولكن الغرض إنما هو إعداد الذهن للانتقال من الرسم الذي هو كتابة الصور إلى الخط الذي هو رسم المعاني، فلو أننا تيسر لنا أن نربط في حكم أميل التمثيل الخطي للأشياء المشهورة بالعلامات المعنوية التي تقوم مقامها، نكون كأننا وضعنا على البحر الفاصل بينهما جسرًا، على أنه لا شيء أيسر من تصغير الرسم في العمل؛ فإن أميل كلما رسم شجرة أو ثمرة أو حيوانًا أقول له إنك قد رسمت حروفًا من حيث لا تدري، غير أنه توجد حروف أخرى أصعب من هذه رسمًا وقراءة يكتبها المتعلمون، فإذا هجت فيه بهذا القول داعية الشوق وحب الإعجاب هيجًا شديدًا أكتب له الكلمة الموضوعة للشيء الذي رسمه، وأحرضه على محاكاتها، أفعل ذلك كله وأنا أضحك. سواء عندي نجح في ذلك أم لم ينجح، ما دام يجتهد في كتابة تلك الكلمة ولا شك أنه يجتهد في ذلك إذا حُمِلَ عليه بالحذق والمهارة، ولابد من إعادة الكتابة عدة مرات قبل أن يكتسب شيئًا من ممارستها؛ ولكن الأصل باقٍ على كل حال، وبهذه الطريقة يعرف أميل من هذا الحين السبب في الكتابة، وكيف أن الناس قد استبدلوا برسم الأشياء حروفًا اصطلاحية تدل على ما يدل عليه الرسم، وبفضله تكون مساحتها أصغر ووقت وضعها أقصر، هاتان هما مزيتا الخط على الرسم فقط، وهما اللتان أطيل له الشرح فيهما؛ لأنهما أقرب إلى فهمه، وأدنى من عمله. إن الطفل يجري في تعلمه تكوين الحروف عادة كما يجري الدولاب، فما أحسنها طريقة للدخول في عالم المعقول. نعم إني عرفت بعضًا من المصورين كانوا لا يستصوبون مطلقًا ترك ملكة المحاكاة والتقليد مطلقة بلا قيد في الطور الأول من الحياة، ويرون أن الطفل إنما يرسم في الغالب بالهوى، لا بمقتضى الفطرة كما يعتقد، وهذا الإطلاق يُفسد عليه عمل يده بما تعتاد من عدم النظام، وإذا صدقناهم يجب في تعليم الفنون الجميلة الولاية والتأديب، هذه مسألة يمكن اختلاف آراء الناس فيها كغيرها من المسائل؛ ولكنها على كل حال ليست محل نظري، فإني أراهن بألف بإزاء واحد على أن أميل لن يدَّعي استحقاق جائزة رومة على الرسم، فأي وجه لي في الخوف أو الرجاء في أن يصير بعد مصورًا، إن جل ما أرغبه أن يكون رجلاً ولا شك في أن الشعور بما يوجد في الكون يعين على إنماء العقل والطبع، ومهما كانت رداءة رسومه؛ فإن أقل ما فيها أنها تشهد له ببعض التفات توجه إلى ما يحيط به من الأشكال، وهذا يكفيني منه الآن، فإذا كان ممن لهم ملكة حقيقية في الفنون، فلا بد أن تظهر هذه الملكة فيه يومًا ما، أليس من الشواهد التي تُذْكَر في هذا المقام ذلك الراعي الصغير الذي كان تعلم الرسم بنفسه أثناء رعي نعاجه، ولما تُكَمَّل فيه بعدُ بواسطة التعلم في المدرسة صار الأستاذ رفاييل. إني أرى أيضًا أن تعليم الكتابة كان يجب أن يسبق القراءة، أو أن هذين التمرينين يجب أن يتصل أحدهما بالآخر، إن إندروبل ذلك الرجل المستنير الفكر جدًا الذي لا بد أن تكوني سمعت شيئًا من سيرته في إنكلترا كان يبحث من سنين عديدة عن طريقة معقولة لتعليم القراءة والكتابة، ولما كان في الهند اتفق أنه رأى يومًا من الأيام أمام مدرسة في ضواحي مدراس ثُلَّةً من أحداث الهنود يرسمون بأصابعهم حروفًا على الرمل، فوقف يلاحظهم ملاحظة المتأمل، وبعد أن عرف طريقتهم ضرب بيده على جبهته قائلاً: قد وجدت مطلوبي، ليت شعري كيف كانت هذه الطريقة؟ هي ولا شك طريقة بسيطة جدًّا ذلك أن أطفال الهنود لما كانوا أقرب منا إلى الفطرة، وكانوا لذلك أعمل بمقتضيات العقل، كانوا يبتدئون برسم الكلمة التي يرونها مكتوبة، ثم يبحثون عن أسماء حروفها ويتهجون مقاطعها، ثم ينتهون بقراءتها. أخص فائدة أراها في هذه الطريقة أنها تشغل اليد والفكر؛ فإن الذي يتعب الطفل ويسئمه عندما يقف أمام كتاب؛ إنما هو التفاته الذي يُطلب منه بلا بصيرة؛ فإن عمل الإنسان بنفسه وبحثه وتخمينه وسيره من المعلوم إلى المجهول طريقة فضلى في مخاتلة الضمير وخداعه. لست والحق أقول معجبًا كثيرًا بطرق التعليم المخترعة؛ فإنها تفوق الحصر، ومعظمها خيالية لا تنطبق على ما في العالم الخارجي مطلقًا، يحضرني أن هولانديًا أعرفه خطر بفكره أن يجمع مجموعة من النعال، وأراك تقو

رثاء الأمير عبد الرحمن خان

الكاتب: أحمد جيتيكر

_ رثاء الأمير عبد الرحمن خان كنا نتوقع من شعراء العربية المجيدين في مصر والشام المباراة في رثاء فقيد الإسلام وأعظم أمرائه الذين عزّزه الله بهم في هذا الزمان الذي خربت فيه الممالك الإسلامية بأيدي أمرائها، فإذا هم لا يزالون مشغولين بمدح من لا خير فيهم عملاً بقاعدة أحسن الشعر أكذبه التي هدمها الإمام عبد القاهر الجرجاني (راجع المنار ج 31 م 3) فاحتجنا إلى الاقتباس من شعراء بلاد الأعاجم، فقد قرأنا في جريدة (أمير الأخبار) الهندية قصيدة لصديقنا العالم الأديب الشيخ أحمد جيتيكر يرثي فيها الأمير عبد الرحمن ضياء الملة والدين رحمه الله تعالى، فنشرناها تنويهًا بذلك الفضل العظيم وتنبيهًا لفضلاء الأدباء إلى قضاء هذا الحق لمستحقه، وهي: ببرق شملة نعيٌ يشمل الجللا [1] ... فزلزل السهل في الأقطار والجبلا أجَلْ أجَلَّ ملوك الأرض أروعهم ... وأرصف الناس أخلاقًا قضي الأجلا رزء به انهد للإسلام واأسفى ... ركن ركين ونجم للعلا أفلا يا ويلتاه ضياء الدين عاد عن الـ ... ـعيون مستترًا حتى بكت ثكلاً ماذا نقول وإنا في سنين بها ... قحط الرجال فقدنا بغتة رجلا قرمًا همامًا أريبًا حازمًا ندسًا ... سميذعًا ليس هيابًا ولا وكلا [2] مهذبًا شب في الأخطاب مقتحمًا ... مجربًا ذلَّل الأخطار مكتهلا لله سيف أقام الملك قائمه ... فقام هندامه المعوَّج معتدلا وفارس سَبَتْ الآسادَ هيبتُه ... وأنزل الوعل رُعبًا أينما عقلا بالكافرستان دين الله ضاء به ... فراق أستانه والكفر عنه جلا [3] الألمعي الذي تُضحي لفطنته ... ما في النفوس من الأسرار مبتذلا من لم يباه بملك قبل حضرته ... سرير (كابل) مسرورًا ومتكلا أتى كغيث بها والأرض مجدبة ... حتى أراها خلاها بالثراء ملا كلتا يديه من الآيات معجزة ... على العجائب كل منهما اشتملا ففي يد سحب يحيي الأنام بها ... وفي يد شعل يطفي بها شعلا من لم يزل لترقي القوم مجتهدًا ... حتى غدوا يتقنون العلم والعملا أكرم بخيل له غُرٍّ يجر بها ... بحر الحديد يغطي موجه القللا حامي حمى الهند كل الهند يشكره ... لا ينكر الفضل إلا ذو قلًى غفلا لولا الأمير لأمسى الهند مزرعها الـ ... ـمخضل يرعاه خرس الروسيا هملا إذن أتتها جنود ما لها قبل ... وكان خشية بلقيس لها مثلاً عسى الإله يرينا في خليفته ... أسنى مثال فقيد أحسن البدلا ومن يكن كحبيب الله وارثه ... يرى الممات شبابًا رُد مقتبلا فتى توارث مجدًا عن أبيه وعن ... جد وكل علا كالبدر مكتملا أشبال ليث الشرى! إنا نعيذكم ... بقل وقل ثم قل من عين من فشلا حتى نراكم كنفس وهي واحدة ... فباتحادكم نستكثر الأملا ثم لتكن غاية الإصلاح همتكم ... لم يكسب الحمد من لم يصلح الخطلا مجد بجد وجد ظل مجتمعًا ... فلينتظر فرصًا وليغتنم دولا يا رب وثِّق عرى الإسلام واحم بهم ... حماه من كل جان بدد الثُّللا واغفر لعبدك يا رحمن زلته ... وارحمه والطف وأكرم روحه نزلا أمن أديب وأرَّخ عام رحلته ... حان الأمير ضياء الدين واجللا

انتقاد المقتطف وكتاب القسطاس المستقيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتقاد المقتطف وكتاب القسطاس المستقيم عهدنا بالمقتطف الأغر العناية بتقريظ الكتب وانتقادها - لاسيما الكتب النافعة - بأن لا يقرظ الكتاب إلا بعد قراءته، أو قراءة جملة صالحة منه يعرف بها موضوعه ومسلكه فيه، ومما رأيناه فيه وراء حدود الغرابة الانتقاد على كتاب (القسطاس المستقيم) لحجة الإسلام الغزالي عند تقريظه في الجزء الحادي عشر الأخير حيث قال: (ومما نراه في حد الغرابة من هذا الكتاب قول مؤلفه أن سائلاً سأله عما إذا كان يزن حقيقة المعرفة بميزان الرأي والقياس، أو بميزان التعليم، فأجاب متنصلاً من ميزان الرأي والقياس؛ لأنه ميزان الشيطان، فلا نكاد نُصدِّق أن عالمًا فاضلاً كالغزالي ينفي ميزان الرأي والقياس، ويعتمد على ميزان التعليم في غير المعرفة الدينية؛ ولذلك نظن أن في القسم الأول من الكتاب نقصًا، وأنه حُذف منه ما يحصر المعرفة المقصودة هنا بالمعرفة الدينية، وإلا فإذا أُريد بها سائر المعارف كالزراعة والصناعة والطب وكل العلوم والفنون، فالاعتماد فيها على الرأي والقياس كالاعتماد على الحس والمشاهدة) . (المنار) لو طالع المنتقد الفاضل الكتاب لعلم أنه في الدين، وأن السائل سأل عن المعرفة الدينية، فلا حاجة إلى الظن بأن في القسم الأول منه نقصًا، على أنه لا حاجة في الوقوف على ذلك لمطالعة الكتاب كله؛ فإن وصف السائل بأنه من أهل التعليم، وأنه يأمر باتباع الإمام المعصوم كافٍ في بيان أن السؤال عن حقيقة المعرفة الدينية فحسب، فما بالك وقد سأل الغزالي الله فيمن يزعم من أصحابه أن القياس ميزان المعرفة أن يكفي الدين شره (فإنه للدين صديق جاهل، وهو شر من عدو عاقل) نعم إن السائل الذي يذكر الغزالي مناظرته في الكتاب من أهل التعليم الباطنية القائلين بأن القلب لا يطمئن في الدين إلا إذا وُجد في كل عصر إمام معصوم يُرجع إليه في الخلاف والمشكلات، والإمام الغزالي أنكر ذلك عليه، وحاجَّه فيه حتى ألزمه وأقنعه، فقوله في صديق الدين الجاهل بعد ما ذكر: ولو رزق سعادة مذهب أهل التعليم لتعلم أولاً الجدال من القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) ... إلخ، يوقع المطلع على الكتاب في اشتباه، ويوهم أن الغزالي من أهل مذهب التعليم؛ وإنما هو خصيمهم، ولكن قوله: (لتعلم أولاً الجدال من القرآن) ينفي ذلك الاشتباه، ويذهب بهذا الوهم؛ فإن أهل التعليم لا يتعلمون إلا من إمامهم المعصوم، ويسلِّمون له بكل ما يقول تسليمًا، ولعله سمى مذهب نفسه مذهب التعليم ووصفه بالسعادة استمالة لخصمه ليُقبل عليه، فيعرف مراده من التعليم. الغزالى يقسِّم الناس في هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام: (1) الخواص الذين لا يعتقدون بشيء حتى يثبت عندهم بالدليل والبرهان، وهم الذين يُدْعَون بالحكمة، وهم الذين يزنون بميزانها وهو القسطاس المستقيم الذي يذكره بعد، و (2) العوام السُّذَّج، وهم الذين يُدْعَون بالموعظة الحسنة والإقناعيات، و (3) أهل الجدال والمشاغبة والمراء والعناد، ولهؤلاء أحكام وأطوار، فتارة يحتاج إلى مجادلتهم ويجب أن تكون بأحسن الطرق وأقربها إلى القبول، وأبعدها من المراء، وتارة يسفَّهون ويجهلون، فيطلب الإعراض عنهم لقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وتارة يعتدون على الحق بالقوة ويصدون عن سبيل الله بالسيف، فتستبدل المجالدة بالمجادلة، ويستدل الغزالي على هذا في أثناء الكتاب بقوله تعالى في شأن الرسل: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: 25) ِ يقول: الدعوة بالكتاب مجردًا إنما هي للعوام، وبالميزان للخواص، والمقابلة بالحديد إنما تكون للمُحادين المعاندين، الذين يمارون في البرهان، ويُعرضون عن البيان، فتأمل مجمل مذهبه هذا، واقرأ ما جاء في المقتطف الأغر بعد تلك الجملة قال: (فإذا صح ذلك فميزان المعرفة عند أهل كل دين كتبهم التي يعتقدون أنها منزلة من إلههم، وعلى هذا النحو قال الإمام الغزالي: (إني أعرف واضع هذا الميزان ومعلمه ومستعمله؛ فإن واضعه هو الله تعالى ومعلمه جبريل ومستعمله الخليل ومحمد وسائر النبيين) ومتى رسخ اعتقاد الإنسان في نفسه هذا الرسوخ سهل عليه أن يثق ثقة تامة بكل ما في كتابه، واستغنى عن كل دليل وميزان آخر) اهـ. (المنار) إن المنتقد الفاضل يرى قصارى مذهب الغزالي أن يسلِّم الإنسان بكتابه الديني تسليمًا مطلقًا، ويستغني به عن كل دليل وميزان آخر، وقد علمت مما ذكرنا عنه آنفًا من التفصيل والتقسيم والتقييد خلاف ذلك، فكيف لو قرأت كتابه كله وتدبرته، وإنني أحب أن يطالع الدكتور يعقوب أفندي صروف هذا الكتاب كله بدقته المعهودة، ويصحح ما كتب عنه في المقتطف، وما أنا بموقن أنه هو الكاتب للنقد، وإن لم يكن أحد من البشر مبرَّأ من السهو والخطأ، وأذكره بالفرق بين القياس في معرفة الدين الذي ينفيه الغزالي، والقياس المنطقي الذي يثبته إذ يقول لا ثقة بعلم من لا يعرف المنطق والقياس في سائر العلوم، وإن كان هذا مما يحيط به علمه الواسع.

تصحيح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصحيح ذكرنا في هامش مكتوب حافظ ص 589 ج 15 أن محمدًا بن الزيات كان وزير مروان الحمار، وهو غلط سبق القلم إلى نقله من شرح الديوان مع الغفلة، والصواب أنه كان وزيرًا للمعتصم العباسي، ثم للواثق بالله، ثم للمتوكل وعلى عهد هذا اتخذ التنور المشهور الذي قضى فيه، ولعلنا نذكر خبره بعد. جذيمة: كعظيمة، وتقدم في تقريظ قصة (جذيمة والزباء) ضبطه بالتصغير سهوًا.

الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بقدوم الجناب العالي الخديوي جرت العادة بأن تدعو محافظة مصر الكبراء والوجهاء من أهل العاصمة لوداع سمو الخديوي المعظم عند سفره للاصطياف في الإسكندرية ولاستقباله عند قدومه منها فَيُلَبُّوا الدعوة، وقد ارتأى بعض المقربين من جنابه العالي أن يحتفلوا لقدومه في هذا العام بتزيين الطريق من المحطة إلى قصر عابدين المعمور، فأعلنوا ذلك في الجرائد وفي مقدمتها جريدة المؤيد الغراء، ودعوا الناس إلى الاكتتاب، وألَّفوا لجنة برئاسة سعادتلو عبد القادر باشا حلمي، فأقبل طائفة من الأغنياء والوجهاء على الاكتتاب حتى بلغ ما جمعته اللجنة ألفًا ومائتي جنيه، فأنفقوا على الزينة ألف جنيه، فكانت أحسن زينة رآها الناس في شوارع القاهرة. أنشأوا ثلاثة أقواس أحدها عربي في ميدان المحطة، والثاني إفرنجي في ميدان الأزبكية بالقرب من تمثال إبراهيم باشا، والثالث مصري في ميدان عابدين، وأنشأوا بالقرب من هذا مسلتين بهيئة المسلات المصرية القديمة، وزيَّنوا المسلة الكبرى والأقواس بالأنوار الكهربائية الملونة والنقوش الجميلة، ونصبوا على جانبي الطريق سلاسل من أغصان الأشجار، علَّقوا فيها قناديل (فوانيس) من الورق، وزاد الزينة بهاء وكمالاً أصحاب الدكاكين والفنادق والحانات الذين زينوا أبوابهم بالأنوار الكهربائية والأعلام، وأكثرهم من الأجانب كما هو معلوم. وقد أقام المحتفلون سرادقين عظيمين أمام قصر عابدين أحدهما لاستقبال سموه، والآخر للعزف والغناء، فشرَّف الأمير - أعزه الله - ليلاً ما أُعِدَّ له إجابة لدعوة المحتفلين، وأظهر لهم البشر والارتياح، وأثنى على عملهم وأريحيتهم، وكانوا قرروا أن ما زاد عن نفقة الزينة من المال الذي يُجمع لها يكون إعانة لمدرسة محمد علي الصناعية التي أنشأتها جمعية العروة الوثقي في هذا العام، فشكر لهم الأمير وضع هذه المساعدة في محلها، وتلك عادته الممدوحة يثني على العاملين ويذكرهم بخير. ثم مر سموه في شارع الزينة ليلاً ذاهبًا إلى قصر القبة المعمور، وقد حُشر الناس إلى هذا الشارع من كل صوب وناحية، فكان مزدحمًا بالألوف من الرجال والنساء والولدان إلى ما بعد نصف الليل، وكانت تلك ليلة الجمعة التي يستريح الأكثرون في يومها، وكان فرح الناس بالزينة مختصًّا بالأجانب وأبناء الطبقة الدنيا من المصريين، إذ كانوا يمزقون قناديل الورق ويأخذون الشمع منها، حيث لم يجدوا أحدًا من الشرطة يمنعهم، وبهذا قلَّ بهاء الزينة بعد الساعة التاسعة حيث كثر هؤلاء الرعاع المعتدون، وأما الخواص فقد كانوا في همٍّ وغَمٍّ؛ لأن يوم الزينة هو اليوم الذي تحقق فيه احتلال فرنسا بقسم من أسطولها وعسكرها في جزيرة مدللي (متلين) بالقرب من زقاق الدردنيل، أما حكم مثل هذه الزينة شرعًا فلا يخفى على مسلم، وربما نكتب عنه بالتفصيل في جزء آخر. استدراك على المقالة الأولى من هذا الجزء ذكرنا في المقالة الافتتاحية أن الشرقيين اقتدوا بالغربيين في الاحتفال بأعياد ملوكهم وأمرائهم، وأن هذه الاحتفالات لأجل إحياء الشعور بعظمة وعزة الدولة التي يمثلها الملك والأمير، فأما خبر الاقتداء فقد سبق به القلم على غير بينة ولا دليل، والصواب أن الشرقيين أشد الناس تعظيمًا لملوكهم منذ القدم، وحسبك أنهم عبدوهم من دون الله، وأنهم لا يزالون يقدسونهم بقدر ما لهم من السلطة والاستبداد، وأما مسألة إحياء الشعور فنرى بعض الجرائد تنوِّه بضدها ذاهبة إلى أن هذه الاحتفالات منبعثة عن الشعور بعظمة من احتُفل لأجله وحبه، وربما يصح هذا من بعض المحتفلين الذين لهم فيه منافع تولِّد هذا الشعور؛ ولكن الظلم في إسناده إلى الأمة مع أن القائمين به أفراد معدودون معروفون، وقد علمت من بعض كبار الموظفين من الإنكليز بمناسبة ذكر عيد مولد ملكهم أن هذا العيد لا يكاد يعرفه الإنكليز، ولا في لوندرة، ولا يُحتفل به، ولا بعيد الجلوس أحد إلا السفراء والوكلاء عن الدولة في البلاد الأجنية؛ فإنهم يرفعون الأعلام ويقبلون التهاني من سفراء سائر الدول ووكلائها، وقال إن الملك إذا قدم من سفر إلى لوندرة لا يستقبله الكبراء والوجهاء في المحطة كما يستقبل المصريون الجناب الخديوي، ولا يزينون له المحطة ولا الشارع الذي يمر منه، فهل كان الإنكليز فاقدي الشعور والإحساس وغير مخلصين لملكهم؟ كلا إن الفرق بيننا وبينهم عظيم. ولا يخفى أن الكلام عام في الاحتفالات والشعور الباعث عليها أو المنبعث عنها لا في سمو الخديوي وحب المصريين لمقامه الكريم؛ فإن هذا مما لا نزاع فيه. سفر الجناب العالي إلى السودان يسافر سمو الخديوي المعظم في هذا الشهر إلى السودان بصفة رسمية، وإننا نرى آراء الناس مختلفة في هذا السفر، ومنهم أصحاب الجرائد، وسنذكر ذلك مفصلاً بعد السفر إن شاء الله تعالى.

الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات كان شهر رجب المنصرم شهر الموالد التي يُحتفل بها في القاهرة وضواحيها بأسماء بعض الأولياء والأصفياء، كمولد الرفاعي والبيومي والسيدة زينب والإمام الشافعي، فكنت ترى شوارع المدينة وأسواقها مزدحمة بالوفود القادمين من الأرياف لحضور هذه الموالد بنسائهم وأولادهم مشاة وركبانًا، وتسمع النساء يزغردن ويغنين راكبات على الإبل والحمير وعربات النقل، وأما مشايخ الطرق فكنت تراهم في مُلك كبير: طبول ومزامير، وأعلام مرفوعة، وكلمة مسموعة، وأزياء رائعة، ورعية طائعة. رأيت شيخًا كبيرًا منهم يقود زعنفة في الطريق، وعلى رأسه عمامة حمراء كبيرة عجراء، وهو يصيح ويتغنى، ويتمايل ويتثنى، وبيده قضيب يهش به على الزعنفة ويشير إليهم بالأمر والنهي وهم له خاضعون ولأمره ممتثلون، بفرح وسرور، ووجدان وشعور؛ لأن السلطة روحية دينية، لا قهرية سياسية، كسلطة الحكام، أرباب الاستبداد والإلزام. نعرف بالاختبار أن أمثال هؤلاء الناس لا يجدون في صلاة الجمعة والجماعة ولا في العيدين بعضًا من هذا الشعور الديني، والفرح بالإسلام، وما فيه من سوابغ الآلاء والإنعام، ولا تتحرك قلوبهم للوعظ والتذكير، كما تتحرك لسماع الدفوف والمزامير، ولا يتلذذون في يوم العيد بالتكبير، كما يتلذذون في (الحضرة) بالمكاء والصفير، والشهيق والزفير، وهذا الشعور الذي يُنسب إلى الدين هو أكبر ما بقي في نفوس هؤلاء من سلطان الدين وتأثيره، وقد ارتفع قدر الموالد بسببه وصار الناس ينفقون فيها النفقات العظيمة، ويعتقدون أن من اعتاد على حضورها أو إنفاق شيء فيها، ثم ترك عادته فلا بد أن ينكب وتحل به المصائب والدواهي، وقد نقل إلينا الثقات الخبيرون أن كثيرًا من الناس حاولوا في بعض السنين القعود عن المولد الذي يعتادون حضوره، فكانت امرأة الواحد منهم تنذره بسوء العاقبة، فإذا لم يبال بإنذارها تسعى في إيقاع الضرر أو الهلاك بشيء مما له من حرث أو نسل؛ ليعتقد أن الولي تصرَّف فيه لعدم حضور مولده، ومنهن من توقع بولدها منه - والعياذ بالله تعالى - فإذا هي لم تسع بشيء واتفق أن نزلت بهم مصيبة ? ولا يسلم أحد من المصائب في نفسه وأهله وماله - فلا يشك هو ولا هي بأن سبب المصيبة عدم حضور المولد. كأن أولياء الله في اعتقاد هؤلاء الجهلاء ما وُجدوا إلا لإيذاء الناس وإرهاقهم العسر، والفتك بهم عند أدنى تقصير في تعظيمهم؛ ولكنهم لا يغارون على دين الله تعالى إذ لا ينتقمون من الكافرين بالله عز وجل، ولا يتصرفون بتاركي الصلاة ولا بمانعي الزكاة، ولا يؤذون الزناة والسكارى وشهود الزور والمعتدين على حقوق الناس! ! هذا الشعور الذي يرى أثره من العامة هو الذي يرضي الكثيرين من العقلاء والفضلاء ببقاء العامة على هذه البدع، ولوم من ينكرها وعذله والاحتجاج عليه بأن إنكارها يفضي إلى الشك في الدين؛ ولكن هذه السياسة باطلة فإن الحق لا يُعزز ولا يُنصر بالباطل، وإن السكوت على هذه الأباطيل مصانعة للعوام يجعل الدين هزوًا ولعبًا في نظر الخواص، ويطلق ألسنة أعدائه بالطعن فيه على أنه وقوع في مثل ما أرادوا الهروب منه؛ فإن ما عليه الناس من البدع والخرافات مضاد للدين، ولا شك أن الزيادة فيه والنقص منه سيان، ولو تنبهوا إلى مقدار فتك الخرافات في عقول المعتقدين بها، وعلموا أنها أضعفت استعدادها، وأضلتها عن رشادها، حتى كادت تفقد قابلية الفهم، وتُحْرَم من قبول أي علم، لا فرق بين الظن واليقين، في أمر الدنيا وأمر الدين، لحكموا معنا بأن جناية البدع والخرافات، هي أعظم الجنايات، وإن طلبت التذكير بالدليل، فدونك ما يأتي في التمثيل: ولي الجيزة أو دجالها في الجيزة شيخ من الذين يعتقد الناس فيهم الولاية، وينسبون لهم الكرامات، وهذا الشيخ متهتك مدمن خمر يجلس في الحانات التي في الشوارع العمومية، ويشرب في مجلس واحد أكثر من ثلاثين كأسًا، ونُقل إلينا أن بعض الأغنياء الموصوفين بالصلاح يتقربون إلى الله - تعالى وتنزه عن تقربهم -بدفع ثمن الخمرة التي يشربها، ويزعمون أن سؤره من الخمر فيه بركة وشفاء، فيشربون بهذه النية وربما يتفل الخمر من فيه عليهم لأجل المباركة عليهم، ويؤكد الناقلون أن هؤلاء الأغنياء الأغبياء معتقدون في الشيخ حقيقة لا محتالون على السُّكر باسم الدين. ومن الناس من يعتقد أن الولي إذا تناول خمرًا للشرب يتحول الخمر في يده، أو فيه إلى مائع آخر، وقد كان بعض الدجالين المدَّعين الولاية كالشيخ الطشطوشي في مصر يشعوذ ويموه على الجاهلين - وأكثر الناس عندنا جاهلون - بسبب اعتقادهم هذا، فيأتي بكأس من الخمر الصافي المسمى بالعرقى الذي يبيضُّ بالمزج، ويجعل فيه ماء من حيث لا يشعر الحاضرون، حتى إذا وضع الكأس على فيه مجَّ الماء فيه، فيصير أبيض اللون، ويقول الأغمار استحالت الخمرة لبنًا. وحزب ولي الجيزة يعتقدون أنه يشرب الخمر فتنزل في جوفه خمرًا؛ ولكنه من أحباب الله- حاش لله - الذين لا يؤاخذهم ولا يؤاخذ من ينتمي إليهم ويتصل بهم، وهذا الاعتقاد كفر وخروج من الاسلام بلا خلاف بين الأئمة، وما أوقع الناس فيه إلا الغلو في اعتقادهم الكرامات، وجعلها كصناعة من الصناعات، وزعمهم أن السكوت على الخرافات إنما هو للخوف من إنكار الكرامات، على أن إنكارها ليس بكفر، ولم يقل إمام بوجوب اعتقاد كرامة ولي مخصوص. وهناك فتنة أكبر، وهي أن الدجال يفسر القرآن برأيه الفاسد وجهله الكاسد، أستغفر الله، إنه رائج في سوق المعتقدين به، فهو في هذا كولي الزقازيق الشيخ محمد أبي خليل وقد ورد في الحديث الصحيح (من فسر القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار) وكل من ليس له دراية صحيحة بالعلوم والفنون التي يتوقف عليها التفسير (راجع ص 207 م 3) فإنما يُفسر بالرأي والهوى، ونرى هؤلاء الجهلاء يزعمون أن من الكرامة أن تفاض على الولي جميع العلوم فيضًا؛ ولكن العلماء متفقون على أن علوم اللغة والشرع لا تُعرف إلا بالتلقي والتعلم، كما في فتاوى ابن حجر الحديثية، وفي الحديث (العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم) وسنعود إلى هذا البحث إن شاء الله.

الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد يرى الباحثون في العمران والمشتغلون بعلم الاجتماع بعد النظر في تاريخ الأمم أن كل إصلاح وجد في العالم؛ فإنما كان بواسطة رجال فاقوا شعوبهم ببعد النظر، وصحة الفكر، وعلو الهمة، وقوة العزيمة والإرادة، فتقدموهم ثم قَدَّمُوهم وارتقوا بهم إلى المكانة العالية، والمنزلة السامية، ولا فصل في هذا بين الإصلاح الديني والعلمي، والإصلاح المادي والسياسي. ويقول هؤلاء الناظرون: ما بال بعض الممالك والأقطار تمر عليها القرون والأعصار، وهي تضعف وتذل، وتذوب وتضمحل، ولا ينبت في أرضها رجل عظيم، ينقذها من هذا الرجز الأليم، ما بال الشعوب الإسلامية قد تحوَّل عزها إلى ذل، وكثرها في كل خير إلى قل، وعلمها إلى جهل، ولم يظهر فيها ملك حكيم، ولا إمام عليم، يجدد لها مجدها، ويرجع إليها عزها، وأين مصداق ما يروونه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم من قوله: (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها؟) . إنما يقول هذا الباحثون في الظواهر، والناظرون في الصور السطحية، والذين يكتنهون الحقائق ويغصون في الأعماق ويفقهون الأسرار، وتنفذ أشعة بصائرهم إلى ما وراء الأستار، يعلمون أنه ما قام مصلح في أمة من الأمم بعمل من الأعمال تغيرت له حالة الأمة، وارتقت بهم من الحضيض إلى القمة، إلا بعد أن استعدت تلك الأمة لقبول ذلك الإصلاح بتأثير الزمان، وتقلب الحدثان، أو انتشار العلم والعرفان، فللإصلاح شرطان: أولهما استعداد الأمة لقبوله، والثاني الزعيم الداعي إليه من طريقه الطبيعي مع الكفاءة والاضطلاع، فإذا ظهر مثل هذا الكفؤ للقيام بالإصلاح في قوم ورآهم غير مستعدين لقبول إصلاحه فإنما يشتغل بالسعي في إعدادهم وتهيئتهم للأخذ بأركان ذلك الإصلاح، ولا يدعوهم إليها في أول الأمر، وربما يقضي عمره في إيجاد الوسائل غير بائح بسر من أسرار المقاصد، إلا ما يودعه في أطواء الكلام، من الإجمال والإبهام، كالكناية والتورية، وما يشبه الإلغاز والتعمية، فإذا هو صرح للقوم بالمراد، ودعاهم إلى خلاف ما هم عليه من التقاليد والعاد، تقوم عليه القيامة، وتتوجه إليه سهام الملامة، بل تنصب عليه قذائف القاذفين، ولعنات اللاعنين، وينزل به البلاء المبين، ويكون في عمله من الخاسرين. المصلح إما داعٍ ذو بيان، يستصرخ الشعور والوجدان، ويستنفر العقل والجنان، دالاًّ على طريق الإسعاد، هاديًا إلى سبيل الرشاد، وإما ملك مستبد، حكيم مستعد، على أمة خاملة، ورعية جاهلة، يحملها بالقهر والإلزام، على ما يطلب ويرام، وكل منها مطالب بمراعاة استعداد الأمة ودرجة قابليتها؛ ولكن الأول يحتاج من ذلك أكثر مما يحتاج إليه الثاني؛ لأنه يدعو النفوس إلى العمل باختيارها، وإنما العمل الاختياري ما توجهت إليه الإرادة بباعث العلم والإذعان بأن فيه اجتناب مفسدة، أو اجتلاب مصلحة، وليس لأحد سلطان على النفوس يفهمها ما لم تستعد لفهمه، ويقنعها بما لا تحيط بعلمه، وإذا عجز المستبد عن التسلط على الضمائر، والسيطرة على السرائر، فلا يعجز عن التصرف بالظواهر، بأن يلزم الناس بالأعمال النافعة، وإن لم يعتقدوا نفعها حتى إذا جاء وقت الجني والقطوف، عرفوا ما لم يكن معروف، فكانوا كمن يقاد للجنة بالسلاسل. إن كون الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد، قاعدة عامة شاملة للإصلاح الذي جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإن الله تعالى لم يبعثهم إلا مُعِدِّين، ومصلحين للمستعدين، وقد {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) في الجهالة والهمجية، والوقوع في شَرَك الشِّرك والوثنية،] فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين [، بعدما استعد بعض الناس لفهم التوحيد وقبول الدين، ورجي أن يُعدوا بإيمانهم الآخرين، ولنقص الاستعداد وضعف العقول أيد الله تعالى الأنبياء بالآيات البينات، التي اعتاد الأكثرون على الخضوع لمثلها مما يخالف المألوفات، ولا ينطبق على سائر العادات، ومع هذا كله كانوا يضربونهم ويطردونهم، وفي بعض الأحيان يقتلونهم، ومنهم من لم يؤمن به أحد أو إلا الرجل والرجلان، ومنهم من آمن به العدد الكثير، ثم ارتدوا وفسقوا بعد زمن قليل أو كثير، وقد بينا من قبل استعداد العرب لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما امتازوا به على الأمم لقبول إصلاحه (راجع ج 4 م 3) . إنما مثل النوع الإنساني في مجموعه كمثل الفرد الواحد من أفراده، فالشعب الجاهل من شعوبه كالطفل لا يمكن أن تجعله رجلاً كاملاً إلا بتربيته على أخلاق الرجولية بالتدريج الطبيعي، فإذا كلَّفته بما يُكَلَّف به الرجال من عويص المسائل، وحل عقد المشاكل، فأمرك لا يطاع؛ لأنه بما لا يستطاع، كذلك حال من يُكَلِّف شعبًا من الشعوب أو أمة من الأمم بأن تجاري في طور ضعفها الأمم القوية، وتباري في إبان جهلها من سبقها في جميع الطرق العلمية، من غير أن يربيها على ذلك بالتدريج الذي عُرف من سنن الله تعالى في الأولين، كالابتداء بإزالة الموانع، والتثنية بإدالة المنافع، أو بتقديم التخلية على التحلية كما يقول السادة الصوفية، وإنما نعني التقديم والتأخير في المرتبة لا في الزمن. تربية الأمم ليست بالمركب الذلول، وطريقها ليس بالطريق المعبَّد؛ وإنما هي الحَرون في الخُزُون يتوقع راكبها الهلكة في كل حركة، وما كان بسمرك هو المربي لألمانيا والمبدع للوحدة الجرمانية ولا بيكنسفليد هو المربي لإنكلترا ولا غامبتا هو المربي لفرنسا ولا غورجيقوف هو المربي لروسيا ولا أمثال هؤلاء السياسيين من الفلاسفة والعلماء، وإنما ربى أوربا كلها أولئك الذين اُضطهدوا وأُذلوا وأُبعدوا وصُلِّبوا وقُتِّلوا تقتيلاً أن دعوا الناس لإصلاح عقائدهم وعوائدهم وتغذية عقولهم بلبان العلم والعرفان، فأعدوا أقوامهم لكل ما هم فيه الآن من العزة والشمم، والسيادة على الأمم، أولئك الذين كانوا يُرمون بالكفر والزندقة وإفساد الاعتقاد والجناية على البلاد والعباد، فصاروا الآن يُوصفون بالإمامة، ويحلهم التاريخ محل الكرامة، ويُذكرون بالتعظيم والتبجيل، وتُرفع لهم الهياكل وتُنصب التماثيل، وأعظمهم عندي لوتر مصلح الدين، ومزيل العقبة الكبرى من طريق جميع الأوربيين. من أسباب الاستعداد لقبول إصلاح ما معاشرة من صلح حالهم به من قبل ومشاهدة أطوارهم، والوقوف على أخبارهم، عندما وقفوا ببابه، وأنشأوا يأخذون بأسبابه، ومن أسبابه أن يتسلط على الأمة من يسلبها ثوب مجدها، وينزع عنها تاج كرامتها ويستأثر بمنافعها، ويستولي على مرافقها، ومن أسبابه أن يمر عليها حين من الدهر مهدَّدة بقلب كيانها، وتقويض أركانها، وإزالة سلطانها، ممن يقدر على ذلك، من الدول والممالك، ومن أسبابه أن يرى أحد شعبين متجاورين أو متمازجين الشعب الآخر قد انسلخ من تقاليده السخيفة، وعاداته الضارة، واستبدل بها ما عزَّ به جانبه، واتسعت في هذه الحياة مذاهبه، فصلح حاله، وكبرت في السعادة آماله، وماذا عسانا نستفيد من تعداد الأسباب إذا كنا نجهل الموانع التي تزاحمها فتحول دون تأثيرها، أو لم يكن لنا سبيل للخوض فيها؟ إنما عدَّدنا ما عدَّدناه تمهيدًا لذكر مثال من أمثلة الاستعداد في الشعوب الإسلامية التي يضرب بها المثل في التأخر بعد التقدم، والانخفاض بعد الارتفاع وهو ما كان من مسلمي الهند: دخل الإنكليز بلاد الهند فكان أقرب الناس إلى الاستفادة منهم الوثنيون الذين كانوا من قبل دون المسلمين في كل علم وعمل، فطفق الوثني يتعلم، والمسلم يتحسر ويتألم، أو يشكو في نفسه ويتظلم، حتى مر الزمن الطويل، الذي انقرض به جيل وتجدد جيل، والمسلم يعادي اللغة الإنكليزية، ويُكَفِّر متعلم العلوم الأوربية. فلما رأى المسلمون نتائج ذلك باتساع ثروة الوثنيين وكثرة الموظفين فيهم، واجتماع شملهم ونفوذ كلمتهم، استعد أفراد منهم إلى معرفة الحقيقة، ووجوب سلوك الطريقة، ومن فضل الله على الناس أنهم كلما استعدوا لشيء يسَّر لهم أسبابه، وأفاضه عليهم بها، فكان أعلاهم همة وأقواهم عزيمة هو الساعي الأول والداعي إلى العمل، وهو السيد أحمد خان فأسس مدرسته الشهيرة في مدينة عليكره ودعا قومه إلى التربية الصحيحة والتعليم القويم، ونبذ ما كانوا عليه من أسباب الخمول القديم، فأجابه النزر اليسير، وكافأه الجماهير بالتفسيق والتكفير، ولولا حماية الحكومة الإنكليزية له ومساعدتها إياه لأخرجوه أو قتلوه، حتى إذا ما ظهرت في هذه السنين آثاره وتبين لمسلمي الهند أن الخير إنما يرجى لهم من تلامذته، وأن السعادة إنما تفيض عليهم من ينبوع مدرسته، أشادوا بذكره، وعظَّموا من أمره، واعترف العلماء والجهلاء والأذكياء والأغبياء بأنه المصلح العظيم، والمجدد الحكيم، والإمام العليم، ولو قام فيهم بهذه الدعوة منذ خمسين سنة لما وجد منهم ملبيًا، ولا صادف مصغيًا. هذا هو السيد أحمد خان الذي كان السيد جمال الدين الأفغاني ممن يتهمه بالمروق من الدين، والتصدي بإغراء الإنكليز لإفساد عقائد المسلمين، والسيد جمال الدين هو من أعظم المصلحين والحكماء الراسخين، وقد كان يُتهم من بعض الناس في مصر بمثل ما يُتهم به السيد أحمد خان من بعض الوجوه، ألا يدلنا هذا على أن مصر أبعد من الهند عن الاستعداد؟ بلى وإنني أذكر في هذا المقام كلمتين إحداهما قالها مؤرخ مسيحي وهي: أن السيد جمال الدين جاء قبل وقته بخمسين سنة، فالمسلمون لما يستعدوا لفهمه والاسترشاد بعلمه. والثانية قالها صاحب أكبر جريدة إسلامية في الهند وهي: أن المصريين لا يزالون مغترين بمثل ما كان عليه الهنديون منذ خمسين سنة، مغترين بما بقي لهم من الحكام وفضلات الأيام، فلا ينتبهون حتى يفقدوا كل شيء حتى الأسماء الإسلامية في كراسي الإمارة والحكم كما وقع لإخوانهم الهنديين. أقول وإن لم يصح حديث التجديد في كل مئة سنة: لا يكاد يمر على أمة كأمتنا قرن من القرون يخلو من إمام عليم يصلح لتولي زعامة الإصلاح، وإنما تظهر آثار الرجال باستعداد أقوامهم، ولذلك كان فيهم من يكتم علمه؛ لأنه لا يجد له حملة كما نقل عن بعض الأئمة، ومنهم كان يغلبه لسانه أو قلمه على الإفصاح بشيء من الحق فيقابله الناس بالإعراض، ويحسبونه من معضلات الأمراض، أو يترك سدى، ويُرمى كالشيء اللَّقَا، فالإمام الغزالي صرَّح برأيه في إصلاح المسلمين، بعدما بلغ رتبة الإمامة في جميع علوم الدين، ولكن لم يوجد من يعمل برأيه القويم، ولا من يزن بما وضعه من (القسطاس المستقيم) ، وكذلك الإمام أحمد بن تيمية لم يترك بدعة إلا وفنَّدها، ولا سنة إلا ودعا إليها وأيَّدها؛ ولكنه لم يؤخذ بإرشاده إلا بعد قرون حيث جُددت الدعوة إليه من قوم مستعدين له من بعض الوجوه، على أن إظهار الحق خير من كتمه وإخفائه، فإن لم يُفد في الإصلاح والإسعاد، فلا بد أن يفيد في التهيئة والإعداد، ولا شك أنه يوجد في كثير من البلاد التي استحوذ عليها الجهل من يصلح للإمامة وللقيام بالزعامة، فإن لم يقدروا على الإصلاح فلا بد أن يهيئوا الأمة له، ويُعِدُّوها لقبوله، وربما كان السنوسي السابق وخليفته الحاضر من المُعِدِّين لا من المصلحين، وربما كان أتباعه قد استعدوا لنهضة عملية، أما المصريون فقد ظهر فيهم شيء قليل

أمالي دينية الدرس ـ 30، 31 ـ وظائف الرسل، شبهات على الوظائف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة الدرس (30) من وظائف الرسل عليهم السلام المسألة (73) الوظيفة الخامسة - حدود العقوبات وأحكام المعاملات: خُلق الإنسان ضعيفًا، وارتقى بالتدريج، ولما تألفت المجتمعات من البيوت والشعوب والقبائل احتاجت للوازع والمسيطر الذي يمنع ما يولده التنازع في المصالح والمنافع الاجتماعية من البغي والعدوان، ويؤدب الذين تطغى بهم الشهوات، فيجنون على أنفسهم وعلى الناس. ولذلك اتخذ الناس القضاة والحكام من رؤساء الدين والدنيا؛ ولكن الحاكم والأمير إذا لجأ إلى رأيه واتبع هواه في حكمه يضل عن سبيل الحق والعدل فلا تقوم مصلحة الناس بحكمه، وهذه قاعدة طبيعية ثابتة، وأقوى أدلتها ظلم رؤساء البيوت لنسائهم على ما بينهم من المودة والرحمة، وظلمهم لأولادهم على ما فُطروا عليه من الشفقة والحنان عليهم، فمن ثم كان الناس محتاجين إلى من يضع لهم أحكامًا عادلة، ويحد لهم حدودًا مؤدِّبة يستوي فيها الناس، وتوزن حقوقهم منها بالقسطاس، فكان كل نبي يرشد أمته بالوحي إلى ما يراها محتاجة إليه من ذلك، ويقرها على ما يراها محسنة فيه، وأكثر اختلاف الشرائع والأديان في هذه الوظيفة. م (74) : ليس من وظائف النبيين بيان طرق الكسب وأسباب المعايش، ولا تعليم الفنون التي يتوسل بها إلى السعة والثروة كالرياضيات والطبيعيات والزراعة والصناعة؛ لأن هذه الأمور مما يصل إليها البشر بسعيهم وكسبهم بحسب السنن الإلهية التي أقام الله بها نظام هذا النوع، وقد أشار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ذلك في مسألة تأبير النخل بقوله: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) . إذا جاء في كتب الوحي ذكر السموات وكواكبها والأرض وعوالمها؛ فإنما يجيء على سبيل الاستدلال على قدرة خالقها ومبدعها وحكمته، والتذكير بفضله ونعمته، لا على سبيل بيان حقائقها في أنفسها وشرح وجوه الانتفاع بها، على أن هذا الاستدلال والتذكير مما ينبه الناس إلى التوسع في العلم بهذه المخلوقات، وطرق الانتفاع بها، وإن لم يكن مقصودًا لذاته. *** الدرس (31) في شبهات على الوظائف وأجوبتها م (75) شبهة على الوظيفة الأولى: يقول قوم: إن الأديان التي تنتسب إلى الوحي السماوي ثلاثة، ونراها لم تتفق فيما يجب اعتقاده في الله تعالى، فبعضها يصفه بصفات البشر حتى نقائصها كالتعب والندم والجهل والبداء والخوف والتأسف ومصارعة البشر وتسلط الشيطان عليه بالإغراء والتهييج، كتهييجه إياه على أيوب لابتلاعه، وكالحلول في البشر واحتمال اللعن والقتل باختياره، ونحو ذلك مما لا يرضى به المرتقون في الوثنية فضلاً عن الموحدين، وبعضها يوجب له التنزيه المطلق والوحدة الحقيقية والمباينة للممكنات، ثم يثبت له مع ذلك وجهًا وعينًا وسمعًا وبصرًا ويدًا وجهة مما يحتمل التأويل، ويشهد لتلك الكتب التي وصفته بما لا يحتمل التأويل مما أشير إليه آنفًا، ولما كان الدليل على صحة كتب هذه الأديان واحدًا، وهو وقوع الآيات الكونية وخوارق العادات على أيدي الذين جاءوا بها، يصح لنا أن نقول: إنها تعارضت ولا شيء يرجح أحدها على الآخر، فوجب تركها وإهمالها كلها. وإننا نجيب عن هذه الشبهة بعد تمهيد في إثبات الدين بخوارق العادات، وهو أنه تقدم في الدرس 29 (ص 371 م 4) أن الآيات الكونية التي يسميها المسلمون معجزات، ويسميها النصارى عجائب لا تدل على صحة ما جاء به الوحي دلالة برهانية؛ وإنما تؤثر في بعض النفوس فتجذبها إلى تصديق من ظهرت على أيديهم في كل ما يقولون؛ ولكن المسلمين والنصارى متفقون على أن الآيات لا تُعتبر تأييدًا من الله تعالى لمن ظهرت على يديه، إلا إذا كان يدعو إلى الحق ويأمر بالخير، فالاعتراف بأنها تأييد إلهي يتوقف إذن على معرفة حقيقة الدعوة ووزنها بميزان العقل الذي به التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر. ففي الباب الثالث عشر من التثنية: (1 إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة 2 ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلاً لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها 3 فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم) وهذا عن لسان موسى كما لا يخفى، وفي الباب السابع من إنجيل متى: (كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب يارب أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا الشياطين وباسمك صنعنا قوَّات كثيرة 23 فحينئذ أصرح لهم إني لم أعرفكم قط اذهبوا عني يا فاعلي الإثم) وفي الباب 24 منه: (لأنه سيقوم مسحاء كذَبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا) وهذا عن لسان المسيح. إذًا لا بد من معرفة الحق بذاته، فإذا وجدنا نصوص الوحي متعارضة أو وجدنا فيها ما يحكم العقل ببطلانه، فعلينا أولاً أن ننظر في طريق نقلها، فإن كان المخالف منها للعقل أو سائر النصوص غير متواتر نحكم ببطلانه وعدم صلاحيته لمعارضة العقل أو النص المتواتر ونسلم بالقطعي الذي يخالفه، وإن كان النصان اللذان يخالف أحدهما الآخر أو العقل، متواترين، فلا بد من الجمع بينهما بالتأويل، فإن لم يمكن التأويل فرضًا، فالعقل يُعذر إذا هو رفضهما معًا؛ ولكن هذا الفرض لم يقع إذ لم يوجد نص في القرآن يخالف العقل خلافًا لا يحتمل التأويل، ولا يثبت الآن كتاب سماوي بالتواتر اللفظي الحقيقي غير القرآن، وما يُعَدُّ متواترًا من سائر الكتب؛ فإنما تواتره معنوي، أي أنه متواتر في جملته لا في تفصيله، فلا يحتج بكل كلمة وكل عبارة منه. يوجد فيما حُفظ من التوراة والإنجيل، وأودع في أطواء هذه الكتب المعروفة ما يدل على تنزيه الله تعالى على نحو ما يوجد في القرآن، فإذا وُجد فيها أيضًا ما ينافي التنزيه يجب تأويله إذا كان منقولاً عن لسان نبي كموسى وعيسى عليهما السلام وعدم الاعتداد به إن لم يكن كذلك، فإن لم يمكن تأويله يحكم بعدم صحة إسناده إلى النبي الذي نسب إليه، وبهذا تتفق الكتب في أصل الاعتقاد بالله تعالى، أما بيان الآيات القرآنية التي تثبت لله تعالى وجهًا وعينًا ويدًا فقد تقدم في الدرس السابع عدم منافاتها للآيات المحكمة الناطقة بالتنزيه (راجع ص 603 م 2) ويتعذر تأويل كثير مما نُسب إلى الله تعالى في كتب العهدين وتقدمت الإشارة إلى شيء منه آنفًا. يتصل الكلام ((يتبع بمقال تالٍ))

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 12

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورة الثانية عشرة بين المصلح والمقلد نهي الإمام الشافعي وأصحابه عن التقليد لما ضم الشاب المصلح والشيخ المقلد المجلس (12) ابتدأ الثاني فقال: المقلد: قد قلت لي مرة إنك مطَّلع على نُقُول كثيرة عن الشافعي وأتباعه، فأرجو أن تكتفي بالمهم منها. المصلح: نعم إن ما ورد عن الإمام الشافعي والأئمة المنتسبين إليه في العلم والاجتهاد في اتباع الدليل، وعدم جواز الأخذ بقول أحد من غير معرفة دليله - كثير جدًّا، فمنه ما في كتاب (الأم) وهو موجود بين أيديكم في دار الكتب الخديوية وهو قول الإمام بمناسبة كلام: (وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول إلا بالاستدلال) وروى الحافظ البيهقي بسنده إلى الربيع بن سليمان قال سمعت الشافعي وقد سأله رجل عن مسألة فقال: يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفر وحال لونه وقال: ويحك! وأي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئًا، ولم أقل نعم على الرأس والعين. (قال المصلح) فهذا السؤال ومثله كثير يدلنا على شدة استعداد الناس لتقليد من يشتهر من العلماء إلى حد أن يتركوا قول الرسول المعصوم لأقوالهم والأئمة رضي الله تعالى عنهم كانوا يصدون الناس عن ذلك، ويفتحون لهم باجتهادهم أبواب البحث؛ ولكن الغلبة للاستعداد العام على قول كل عالم وإمام. وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: (ما من أحد إلا وتذهب عليه سُنة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول وأصَّلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو قولي) وجعل يردد هذا الكلام، وروى البيهقي أيضًا بسنده إلى الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعوا ما قلت) فهذا مذهبه في اتباع السنة. وبه إليه قال: (إذا كان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالف له عنه، وكان يروى عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يوافقه لم يزده قوة، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغن بنفسه وأن كان يروى عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يخالفه لم يلتفت إلى ما خالفه) .. . إلخ. وقال الشافعي أيضًا: (أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد (وصح عنه أيضًا قال:) لا قول لأحد مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. كل هذا من رواية البيهقي في المدخل، وفي أعلام الموقعين لابن القيم نحوه، ومن أحسن تلك الروايات قول أحمد بن عيسى بن ماهان الرازي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: (كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع إليها في حياتي وبعد مماتي) . المقلد: حسبي هذا عن الإمام نفسه، وأحب أن أسمع شيئًا عن أصحابه وأتباعه. المصلح: روي عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه قال: كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله، وقال أيضًا: قال لنا الشافعي (إذا صح عندكم الحديث فقولوا لي كي أذهب إليه) والإمام أحمد من أصحاب الشافعي أي أنه جرى على طريقته في الاجتهاد وإن استقل بمذهب. وقال الحافظ ابن حجر في (توالي التأسيس في معالي ابن إدريس) : قد اشتهر عن الشافعي (إذا صح الحديث فهو مذهبي) قرأت بخط تقي الدين السبكي في مصنف له في هذه المسألة ما ملخصه: إذا وجد الشافعي حديثًا صحيحًا يخالفه مذهبه إن كملت فيه آلة الاجتهاد في تلك المسألة فليعمل بالحديث بشرط أن لا يكون الإمام اطَّلع عليه وأجاب عليه، وإن لم يكمل ووجد إمامًا من أصحاب المذاهب عمل به، فله أن يقلده فيه، وإن لم يجد وكانت المسألة حيث لا إجماع، قال السبكي: فالعمل بالحديث أولى اهـ. ونحن نقول: إن العمل بالحديث متعين حيث لا إجماع ولا حديث يعارضه مما يرجح عليه. وقال ابن القيم في قول الشافعي (إذا صح الحديث فهو مذهبي) هذا صريح في مدلوله، وإن مذهبه ما دل عليه الحديث لا قول له غيره، ولا يجوز أن ينسب إليه ما خالف الحديث، فيقال: هذا مذهب الشافعي ولا يحل الإفتاء بما يخالف الحديث على أنه مذهب الشافعي ولا الحكم به، صرح بذلك جماعة من أئمة أتباعه حتى كان منهم من يقول للقارئ إذا قرأ عليه مسألة من كلامه قد صح الحديث بخلافها: اضرب هذه المسألة فليست مذهبه، وهذا هو الصواب قطعًا لو لم ينص عليه، فكيف إذا نص عليه وأبدى فيه وأعاد، وصرح به بألفاظ كلها صريحة في مدلولها، فنحن نشهد بالله أن مذهبه وقوله الذي لا قول له سواه ما وافق الحديث دون ما خالفه، ومن نسب إليه خلافه فقد نسب إليه خلاف مذهبه، ولا سيما إذا ذكر هو ذلك الحديث، وأخبر أنه إنما خالفه لضعف في سنده أو لعدم بلوغه له من وجه يثق به، ثم ظهر للحديث سند صحيح لا مطعن فيه وصححه أئمة الحديث من وجوه لم تبلغه، فهذا لا يشك عالم ولا يماري أنه مذهبه قطعًا، وهذا كمسألة الجوائح [1] ... إلخ. المقلد: قد تقدم مثل هذا عن أصحاب أبي حنيفة أيضًا، ولك الحق في لوم العلماء على عدم العمل بهذا الإرشاد، وعلى إهمال العمل بالحديث وقراءته للتبرك فقط؛ ولكنني أعجب كيف اتفق الأكثرون على هذا. المصلح: قد عجب من هذا كل عالم منصف حتى من يقول بالتقليد، قال العز بن عبد السلام الذي كان يلقَّب بسلطان العلماء: (ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مذهب إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا، وهو مع ذلك يقلده فيه، ويترك من شهد الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه؛ جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذُكر لأحدهم خلاف ما وطَّن نفسه عليه تعجب منه غاية التعجب من غير استرواح إلى دليل لما ألفه من تقليد إمامه؛ حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه، ولو تدبره لكان تعجبه من مذهب الإمام أولى من تعجبه من مذهب غيره، والبحث مع هؤلاء ضائع مفضٍ إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة تجذبها، وما رأيت أحدًا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره، بل يصر عليه مع علمه بضعفه وبُعده، والأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه، قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولا يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله، ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكرته، وفقنا الله تعالى لاتباع الحق أينما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر دليل على لسان الخصم وقد نقل عن الشافعي أنه قال: (ما ناظرت أحدًا إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني، وإن كان معه اتبعته) اهـ. المقلد: كلام هذا الإمام معقول، ولكن تحكيم الأدلة في المذاهب يفضي إلى تلاشيها، أو استخلاص مذهب واحد ملفق منها، ولعل هذا هو ما تريده من توحيد المذاهب الذي سميته الوحدة الإسلامية؛ ولكن نفوس أكثر الفقهاء لا ترضى به؛ لأنهم كما قال العز بن عبد السلام جمدوا عليها جمودًا غريبًا أعمى كل متبع مذهب عن غيره، ولا أعرف سر ذلك وحكمته، ولعل لله تعالى حكمة في حفظ الإسلام بحفظ هذه المذاهب. المصلح: الأسباب في جمودهم ظاهرة، وقد أوضحها الإمام الغزالي والعز ابن عبد السلام وغيرهما من الأئمة الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، فمنها بالنسبة إلى بعضهم المباراة والمماراة وحب الظهور وما يتعلق بذلك، ومنها المنافع والمرافق في القضاء والإفتاء والأوقاف والجرايات بالنسبة إلى آخرين، ومنها الثقة والاطمئنان بالتربية العلمية على المذهب والاقتصار عليه في التعلم، ثم في التعليم والإفتاء، ومن طبع الإنسان أن ما يعتاد عليه زمنًا طويلاً يملك عليه أمره، ويؤثر في نفسه تأثيرًا يصرفها عن كل ما عداه إلا أصحاب العقول الكبيرة والنفوس العالية الذين تكون الحقيقة ضالتهم، والصواب وجهتهم وقليل ما هم، وأما الحكمة في ذلك فهي ما نشاهد من تفرق المسلمين شيعًا وحرجهم وجعل بأسهم بينهم شديدًا، ودينهم واحد ينهى عن الخلاف والاختلاف كما قلنا مرارًا، ولو اجتمع العلماء في كل عصر وحكَّموا الكتاب والسنة في كل ما استنبطه الأئمة والعلماء وأرشدوا إلى العمل بالأرجح ما خرج بذلك أولئك الأئمة عن كونهم هداة الأمة ولصح ما يروى من أن اختلافهم رحمة؛ لأن الحقيقة تظهر من تصادم الأفكار، والصواب يؤخذ من اختلاف الأنظار، وبذلك يكون كل مسلم مهتديًا بكل إمام من أولئك الأئمة من غير توزيع، ولا قول بعصمة أحد أو استقلاله بالتشريع. المقلد: إن العز بن عبد السلام من أئمة الشافعية ويظهر من كلامه هذا أنه كان يدَّعي الاجتهاد؛ ولكن لم يدوِّن مذهبًا، ولم يتبعه أحد. المصلح: إنه كان شافعيًّا ثم صار مجتهدًا عن أهلية واستحقاق، وهو ممن اتفق الناس على قوة دينه وغزارة علمه، حتى قال الإمام ابن عرفة المالكي: لا ينعقد للمسلمين إجماع بدون عز الدين بن عبد السلام يعني في عصره؛ لأن الإجماع إنما هو إجماع المجتهدين كما قالوه في الأصول، وما كل مجتهد يدوِّن مذهبًا يحمل الناس على اتِّباعه، وقد قلت غير مرة أن الأئمة المشهورين لم يستنبطوا الأحكام ليحملوا الناس على تقليدهم فيها؛ ولكن ليفتحوا لهم باب العلم، والذين ارتقوا إلى مرتبة الاجتهاد المطلق بعد تدوين المذاهب وانتشارها أداهم اجتهادهم إلى إرجاع الأقوال الكثيرة في كل مسألة إلى قول واحد، وهو ما كان دليله أقوى، ولو ألَّفوا في ذلك لكان لهم مذهب يزيد به الخلاف، إذ لا يمكن أن يأخذ به كل الناس؛ ولذلك كانوا يحاولون إقناع العلماء بذلك، ولو تسنى لهم هذا الإقناع لجمعوا كلمة المسلمين، وهذا مطلب عزيز لا يصل إليه المسلمون إلا بعد أن يشتغلوا بالعلم الصحيح مع استقلال الفكر أربعين سنة، ومتى نبتدئ بهذا؟ وللجلال السيوطي رسالة في ثلاث مسائل متعلقة بالاجتهاد، إحداها: هل الاجتهاد موجود الآن أم لا؟ والثانية: هل الاجتهاد المطلق مرادف للاجتهاد المستقل أو بينهما فرق؟ والثالثة: هل للمجتهد أن يتولى المدارس الموقوفة على الشافعية مثلاً؟ قال (وكل من المسائل الثلاث جوابها منقول ومنصوص للعلماء، بل ومجمع عليه لا خلاف فيه صادر من عالم؛ وإنما فيه نزاع ومكابرة من غير العلماء الموثوق بهم) . قال: أما المسألة الأولى فالجواب عنها من وجهين: أحدهما أن العلماء من جميع المذاهب متفقون على أن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات في كل عصر، واجب على أهل كل زمان أن يقوم به بعضهم، وأنه متى قصَّر فيه أهل عصر بحيث خلا العصر عن مجتهد أثموا كلهم وعصوا بأسرهم، وممن أشار إلى ما ذكرناه الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم صاحبه المزني وصنف - أعني المزني - كتابًا في ذلك سماه (إفساد التقليد) وممن نص على ما ذكرناه من الفرضية وتأثيم أهل العصر بأسرهم عند خلو العصر عن مجتهد نصًّا صريحًا الماوردي في أول كتابه (

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة معجزات الأنبياء والاختراعات الجديدة (س) من محمد أفندي علي في القاهرة: لماذا انحصرت معجزات الرسل فيما لا فائدة فيه للإنسانية؟ ولماذا لم يُجر الله على أيديهم المكتشفات والمخترعات الحديثة والتي ستحدث حتى ينتفع بها النوع الإنساني، ولا يُحْرَم منها أصحابهم والتابعون؟ (ج) الفائدة المقصودة من تأييد الرسل بالمعجزات هي إخضاع النفوس وجذبها للإيمان بهم، وفي الإيمان بهم سعادتا الدنيا والآخرة، وقد كانت المعجزات عقوبة لقوم معاندين كبعض آيات موسى عليه السلام في مصر، ورحمة لقوم آخرين كشفاء المرضى، وإحياء الموتى على يد عيسى عليه السلام، وكلا النوعين كان لحكمة لا بد منها في سياسة البشر، وأما المعجزة العلمية الأدبية كالمعجزة الكبرى لنبينا عليه السلام فمنفعتها أجلّ المنافع، وفائدتها أكبر الفوائد وهي باقية إلى ما شاء الله تعالى (راجع الدرس 29) . وأما عدم إجراء الاكتشافات والاختراعات العلمية والصناعية على أيديهم؛ فإنها من الأمور الكسبية التي يتوصل إليها البشر بجدهم واجتهادهم في عمران الأرض، وليس هذا من وظائف الأنبياء كما عُلم من درس الأمالي السابق، على أن كل اكتشاف واختراع لا بد أن يكون مسبوقًا بمسائل علمية وعملية لا تحصل إلا بالتدريج كما هي سنة الله تعالى في الخلق، فلو أن نبيًّا من الأنبياء أخبر قومه بالتلغراف وشرح لهم كيفية إنشائه لما عقلوه، ولا تيسر لهم أن يصنعوه؛ لأنه يتوقف على ما لا يخفى من العلوم والأعمال الطبيعية والرياضية والميكانيكية، وإن قلتم كان ينبغي أن يدعوهم إلى مبادئ هذه العلوم لينتهوا إلى غاياتها، ثم يظهر لهم الاختراع، أقول كلا إن الواجب أن لا تضيع أوقات الأنبياء في تعليم الناس ما يمكن أن يصلوا إليه بأنفسهم، بل الواجب هو ما قاموا به من إرشاد الناس إلى ما بُعثوا لأجله من ترقية الأرواح وإيداعها معرفة الله تعالى، وحملها على عبادته وما يتبع ذلك من تهذيب الأخلاق، فبذلك ترتقي عقولهم ويجتمع شملهم، فيهتدون بالتدريج إلى العلوم والمعارف، التي يرتقي بها البشر في الدنيا ولو بعد حين. *** الجهر بالذكر والنوبة عند المتصوفة (س) محمد أفندي محمود الرافعي في القاهرة: قال بعد ثناء طويل على المنار في خدمة الإسلام وتنبيه المسلمين: إن مما أخطأ القوم فيه مسألة التصوف وأهله، قرأت أخيرًا جوابًا في ذلك للخير الرملي أردت أن يطير به المنار ويمدني بما يراه من الصواب، وهو: (سئل عما اعتاده السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم من اجتماعهم بمواطن الذكر، وجهرهم بأنواعه، وضربهم النوبة ونحوها بقصد التنبيه، فأجاب الخير الرملي ناقلاً بما حاصله: إن الأمور بمقاصدها، والشيء الواحد يتصف بالحِلِّ والحُرْمَة باعتبار ما قصد له، وقد ورد من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، كما في البخاري، والذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر ولا يعارضه حديث (خير الذكر الخفي) لأنه حيث خيف الرياء والأذية وطلب الإسرار والإجهار يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، وقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} (الأعراف: 205) فآيته مكية كآية {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} (الإسراء: 110) . (ج) إن الذي يتصف بالحِلِّ تارة، والحرمة أخرى لاختلاف القصد؛ إنما هو المباح في نفسه، فالعبادات المشروعة لا تكون حرامًا، والمعاصي المحظورة لا تكون حلالاً، فإن ساءت النية في العبادة، كأن راءى بها الإنسان، فالرياء هو الحرام لا العبادة نفسها، وإن قصد الإنسان بالمعصية فائدة له أو للناس فقصده لا يبيح له المعصية، إلا إذا تعارض ضرران لا بد منهما، فيجب ارتكاب أخفهما، وقد أكمل الله تعالى لنا الدين، فليس لنا أن نزيد في عبادته، ولا أن ننقص منها لا كمًّا ولا كيفًا، فالاجتماع لذكر الله تعالى ومزجه بالعزف بآلات الطرب كالدفوف والمزمار والشبابة ونحوها بدعة في الدين، وزيادة عبادة لم يأذن بها الله تعالى، فلا تباح بحسن القصد، كما لا يباح لنا أن نخترع كيفية لصلاة التطوع بأن نسجد في كل ركعة ثلاث مرات لأجل زيادة الخشوع مثلاً، ولقد عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بالدين على أكمل وجوهه، فحسبنا ما صح نقله عنهم، وأما ما ذكره من الجهر بذكر الله تعالى ودليله فهو حسن، والله أعلم. *** زيادة عدد النصارى على عدد المسلمين (س) من أحمد أفندي الألفي في أبو كبير (شرقية) : لماذا كانت أمتنا الإسلامية أقل عددًا من الأمة المسيحية، مع كفالة نظام تعدد الزوجات والطلاق عندنا بكثرة النسل، وأظن أن انتشار المسيحية قبلها لا يكون سببًا في قلتها عنها، فاليهودية قبلهما وعددها لا يُذكر في جانب عددهما. (ج) لا ريب في أن السبب في زيادة عدد النصارى هو انتشار دينهم قبل الإسلام وليست بالتوالد وحده، فعندما كان المسلمون يُعَدُّون على الأنامل كان النصارى يُعَدُّون بالملايين، ولا شك أن الإسلام نما نموًّا لم يُعهد مثله في أمة أخرى وذلك بكثرة من دخل فيه وبكثرة النسل فقارب عدد النصارى على اتصال الدعوة عندهم، وانقطاعها عند المسلمين منذ قرون، وأما اليهود فإنهم لا يَدْعُون إلى دينهم؛ لأنه خاص بشعب إسرائيل، ولا يكاثر شعب واحد شعوبًا كثيرة.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ تربية قوة الخيال والتلطف في مخاطبة الأطفال [1] (33) من أراسم إلى هيلانة في 22 إبريل سنة 185 أرى (أميل) على ما وصفته لي قد حُبِّبت إليه بدائع الخيال وغرائبه، وأنا مسرور بذلك مهما بلغت درجته في نفسه؛ لأني لا أحب من الأطفال من كان مشككًا مرتابًا؛ فإن الارتياب فيهم من دلائل نضوب قوتهم الخيالية وعقمها، ولست أدري إن كان حنين الإنسان إلى ما وراء هذا العالم المشهود من أسباب شرفه، أو من أمارات خسته، وكلا الأمرين في نظري سِيّانِ إذا كان هذا الحنين يرفع نفسه من حضيض هذا الكون المادي، ويسمو بها إلى ما يتمثل في الخيال من معارج الكمال الروحي، وإني لأقاسمك الأسف على ما يضيعه القائمون على الأطفال من قوة الخيال التي كانوا يجوبون بها مفاوز عالم الغيب، وهم متعلقون بشعور جِنيَّاته، ذلك لأن لله سبحانه حكمة في قسمة المواهب بين الناس حتى فيما هو أشدها خطرًا وهو المواهب الخيالية فلم يهبها لنا عبثًا، فليس لنا أن نسعى في إماتة قوة من قوانا لمجرد حكمنا عليها بأنها وهمية، أو خلو من الفائدة، بل الأجدر بنا في شأنها أن نطلب لها ما يقابلها ويوازنها، فقوة الخيال مثلاً سيأتيها الزمن بما يعارضها من قوة ملاحظة الحوادث الكونية وملكة التعقل والاستدلال، فأستحلف المربين بحق الحياة وقدرها في نفوسهم أن لا يقسروا قوى الأطفال، وأن لا يمحوا منها شيئًا؛ فإن الإنسان لم يبلغ من الغنى بها حدًّا تزيد فيه عن حاجته. إن لنا في الكون لعبرة، فلننظر إلى حوادثه؛ فإننا نرى جميع الموجودات في حركة واضطراب وتغالب وجلاد ونمو وازدياد، ونشاهد أن القوى المتعاندة تزدوج فتولد نظامًا، والفواعل المتباينة تأتلف فتُوجِد ملاءمة ووئامًا، فأي ضرر يلحق الإنسان إذا جرى في تربية نفسه على هذا المثال اهـ. (34) من أراسم إلى هيلانة في 23 إبريل سنة 185 إليك مكتوبًا (لأميل) في طي مكتوبي لك وهو: ولدي العزيز: لقد أبهجني مكتوبك الذي أرسلته إليّ، وانشرح به صدري كثيرًا غير أني أنبهك إلى أن هناك طريقة أخرى للكتابة هي إلى الكلام أقرب من طريقتك إليه، وأحثك على المبادرة إلى تعلمها، فاسأل والدتك أن تعلمك طريقتها في قراءة رسومي القلمية التي تغاير رسومك بعض المغايرة، في نفسي أمور كثيرة أروم الإفضاء إليك بها، فهل لديك ما تحب أن تكاشفني به؛ فإني على عدم تمتعي حتى الآن برؤيتك مشغول الفكر بك، عامر الفؤاد بحبك، فإذا وافتني كلمة منك استبشرت بها، وهشت لها نفسي، ولست أدري كيف أصف ما أجده من الفرح، لو منَّ الله عليّ بلقائك فضممتك إلى صدري اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

التعليم في بلاد سيرالون ـ مدرسة إسلامية في فوله

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم في بلاد سيرالون مدرسة إسلامية في فوله لا توجد بلاد إسلامية أُعطي أهلها حرية في التعليم كالبلاد التي استعمرها الإنكليز، وقد عرَّب المؤيد عن بعض الجرائد مقالة عن مسلمي (فوله) من بلاد سيراليون الإنكليزية على سواحل القاموس الأطلاطنيقي من غربي أفريقيا جاء فيها أنهم مجتهدون في التربية والتعليم، وأنهم كانوا منذ عامين أنشأوا مدرسة صغيرة فنجحت نجاحًا دعاهم إلى إنشاء مدرسة كبيرة، وقد احتفلوا بوضع الحجر الأساسي لهذه المدرسة احتفالاً أجاب الدعوة إليه الحاكم الإنكليزي العام وأركان حربه، وعدد كثير من المسلمين وغيرهم، فقابل مدير المدرسة ووكيلها الحاكم العام بالحفاوة، وقدَّم إليه الأساتذة، وأنشد التلامذة أمامه النشيد الوطني ووضع الحاكم الحجر الأول بيده. ثم خطب (الفاسنوسي) وكيل المدرسة خطبة شكر فيها للحاكم عنايته بحضور الاحتفال، وذكر أن لهذا تأثيرًا في تعظيم شأن المدرسة، ثم ذكر أن مبدأ النشأة العلمية هو إرشاد الدكتور بليدن الذي جاءهم في سنة 1871، وحثهم على نشر العلم، وهو اليوم مدير المدارس الإسلامية، ثم خطب الحاكم وشكر للخطيب حسن ظنه به، وذكر أن تلك الساعة أحسن الساعات عنده لرؤيته مبدأ تقدم أهل المستعمرة المسلمين، ومما قاله: (وأقول لكم: إنني أعتبر المسلمين في هذه البلاد من أكبر العناصر المهمة التي يجب الاعتناء بها؛ لأنهم أذكياء ذوو حمية ونشاط، ولهم صفات خاصة بهم، وأخلاق مستحسنة، وسجايا مرتقية عن سجايا غيرهم) . ثم صرح لهم بأن الحكومة مستعدة لمساعدتهم في كل وقت على التعليم وإعداد أولادهم لخدمة البلاد تحت نظرها، ونصح لهم بأن يجتهدوا في ذلك قائلاً (إن الزمن الذي كان يرتقي فيه الإنسان بالقوة والسلاح والحسب والنسب قد مضى، وجاء الزمن الذي لا يفلح فيه إلا المتعلم على حسب ما يقتضيه ويناسب الأمم المرتقية فيه) . ثم وعد بأنه سيكتب للماجور (ناثان) الذي ساعدهم على تأسيس المدرسة الصغرى مبشرًا له بنجاحها؛ لأنه يُسَرُّ بذلك، وقد أوصاه بهم عندما لاقاه في إنكلترا، وقال إن الدكتور (بليدن) سيقوم بالواجب عليه من المساعدة (ولكن أنتم المسئولون عن النجاح الحقيقي؛ فإنه منكم يطلع، وإليكم يرجع، وعليكم يسطع، فيجب عليكم أن لا تتوانوا ولا تكسلوا فالوقت قصير، والعمل كثير، واعتمدوا دائمًا على مساعدتي واهتمامي بكم، ورغبتي في خيركم ومصلحتكم) . قال: ولا بد لي قبل ختام القول من الإشارة إلى شيء مهم أنبهكم عليه وهو أنني رأيت المسلمين منقسمين إلى أحزاب مختلفة يدابر بعضهم بعضًا، ويسوءني أن أرى هذا ولا أرى لي وسيلة لإزالته والتوفيق بينكم؛ لأنه ليس من شأن الحكومة فيجب عليكم التدبر في حل عقد الخلاف بأقرب الوسائل لجمع كلمتكم، وما أردت بهذا أن أشعركم بما يؤلمكم لأكدر صفوكم؛ وإنما هي فرصة سنحت لأنصح لكم، وأنتم تعلمون أن المسلمين هنا يجب أن يكونوا جسمًا واحدًا، ولا ينبغي أن يكون بين أعضاء الجسم الواحد اختلاف؛ لأن كل واحد يؤدي وظيفته لمنفعة الجسم كله، واعلموا أنكم إذا اختلفتم وتنازعتم فشلتم وضعفتم، وإذا اتحدتم واجتهدتم تنجحون ويرتفع شأنكم وتتحقق آمالكم وآمال الحكومة فيكم، ثم ختم خطابه بالشكر لهم على حسن استقباله، فهتفوا جميعًا بالدعاء له.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (تهنئة الأمير حبيب الله خان بإمارة الأفغان) لحضرة العالم الأديب الشيخ أحمد جيتيكر من فضلاء بمباي (الهند) سرى عنك الأسى يا نفس طيبي ... فقد جاء البشير بنشر طيب وعادت نضرة الأيام حتى الـ ... ـقفار اليوم كالروض الخصيب وغنَّت كل روض بالتغني ... بتشبيب المهنئ والنسيب وتغريد الفواخت مطربات ... يجاوبها غناء العندليب نعم عمَّ المراح فراح غمٌّ ... طرا بكوارث اليوم العصيب ومد يد النشاط بساط بسط ... ونزهت الصدور من الكروب فيا بشرى بها الآمال تحيا ... أتت تشفي القلوب من الوجيب وطوبى إذ بدا نجم المعالي ... عقيب خفاء نجم في مغيب وما نجم له مثل ولكن ... يعبر عن بعيد بالقريب زها عرش الخلافة إذ علاه ... (حبيب) الله محبوب القلوب فهللت العساكر من رجال ... وخيل قد ملأن فضا الجيوب وكبرت المدافع مطلقات ... تدندن وهي تغني عن نقيب وحيَّا كل حي بالتهاني ... وجمع الشمل ألحان الخطيب علا فعلا به العرش الثريا ... بأسنى من سناها والثقوب فتى جم المحاسن ليس تحصى ... ومن يحصي النجوم سوى الحسيب أغر الوجه ذو صدر رحيب ... طويل الباع ذو الكف الوهوب ذكي الخلق مرضي السجايا ... نقي الجيب عن كل العيوب محبته سرت في كل قلب ... ففاح شذاه كالمسك الرطيب فتى قد وجه الآمال حتى ... حدقن حوال ناديه الرحيب ودان له الأداني والأقاصي ... وهان له الصعاب من الشعوب نشا في معشر خُشُن فلانوا ... لأخشن منهم كفًّا أريب وأعلم بالعواقب والمبادي ... وأبصر بالشواهد والغيوب وأسخى من أخي طي عطاءً ... وأرسخ من همالي [1] في الخطوب (أرسطو) حكمة (جمشيد) جاهًا ... و (رستم) حين يُدْعَى للحروب تجلى والعفاف له شعار ... فآثره على البُرد القشيب تقلد بالإمارة وهو سيف ... يضيء فرند جوهره العجيب به شبَّت ذوائبها فأعجب ... بعود شبابها بعد المشيب أتاها وهي من عهد قديم ... أبت إلا مواصلة الحبيب فواصلها وأيدها وزيرًا ... (بنصر الله) ذي الرأي المصيب هما كالفرقدين بغير فرق ... وصنوا المجد من أصل نجيب وكالعينين في شخص بصير ... وإنسانين في عيني طبيب وكالدرين من عقد ثمين ... وكالزهرين من غصن رطيب وكالشجرين بالوادي استنارا ... بنور قد علا نور الخضوب فبورك فيهما أصلاً وفرعًا ... ومَن مِن مغرس ذاك الخصيب وزاد ضياء (كابل) بالأميرالـ ... ـحبيب وبالوزير له اللبيب وعمَّ ممالك الأفغان طرًّا ... سعادة نائب [2] وسنا المنيب ليهنكما أيا قمران ذا الملـ ... ـك والتدبير خالدَي الرتوب وزادكما إله العرش أيدا ... بنصر منه والفتح القريب وجدد في ظلالكما ارتقاء الـ ... ـعلوم وسائر الفن الغريب ولا عدم اعتناءكما مديحي ... أتيت به بإخلاص المنيب وليس الشعر من أدبي ولكن ... لأمر ما وسمت به نصيبي به الإسلام أخدمه عسى أن ... يصادف دعوتي نظر المجيب رجائي منكما حث اعتزامي ... وسنى لي إلى العليا ركوبي فدام علاكما بالعز والجا ... هـ ما كرَّ الطلوع على الغروب وإذ فاق الإمارة فليؤرخ ... تفوقت الإمارة بالحبيب سنة 1319 ... 986 278 55 وقلنا حين زاد الملك حسنًا ... أضاء الملك نصر بالحبيب سنة ... 1319 ... 803 121 340 55 وقل بالفارسية مستطيبًا ... زهي شاه وخوشا ماه جيبي (كذا) سنة ... ... ... 1319 22 312 907 46 32 أديب وآخرا أرخ دعاء ... وفاق الملك ضوعف بالحبيب سنة ... 1319 ... 187 121 956 55 *** (رثاء أمير أفغانستان) من نظم الشاعر الناثر مصطفى أفندي صادق الرافعي يافاجع الموت ماذا ينفع الحذر ... وقد عهدناك لا تبقي ولا تذر جنت يداك أزاهير الورى فهوت ... كما تناثر من أوراقه الزهر وما بمانعهم ما قدروا وقضوا ... فإن كل قضاء فوقه قدر ليس الجبان بمغنيه تذلله ولا أُسود الشرى ناب ولا ظفر وفي الجديدين للأحياء موعظة ... وما مواعظ دهر كله عبر يا لهف (كابل) إذ فاجأتَ كافلَها ... وقد تركتَ قلوب القوم تنفطر فَجَعتَها وفَجَعتَ العالمين بها ... حتى النجوم وحتى الشمس والقمر وجئتَ ضيغمها الضاري بمخلبه ... فلم يواثبك ذاك الضيغم الهصر كم كان يزجي المنايا للعدا زمرًا ... حتى بُعثن له من ربه الزمر وكان يأتيه ريب الدهر معتذرًا ... فاليوم عنه صروف الدهر تعتذر والمرء إن عضه ناب الحِمام ثوى ... لا البيض مانعة عنه ولا السمر وما تبسم للأيام مختبل ... إلا تفجع بالأيام مختبر والدهر يومان يوم كله كدر ... لا صفو فيه ويوم بعضه كدر سلوا المآثر عنه فهي خالدة ... في كل قلب له من حبه أثر واستخبروا الشرق ما للشمس كاسفة ... فما (جهينة) إلا عندها الخبر وفي ذهاب (ضياء الدين) مظلمة ... هيهات تكشفها الأوضاح والغرر ما شبَّ في غِيَر الأحداث فكرته ... إلا أضاءت له الأحداث والغير ومدفع الغرب في أيدي عصابته ... كباتر الهند بالأفغان يفتخر فلو رأى الكوكب السيارة خاطره ... ما كان يسليه إلا إنه بشر ولو روى الفلك الدوار حكمته ... لأمست الشهب فيه كلها سور يا شامخًا دكه ريب المنون أما اهـ ... ـتز الحطيم وركن البيت والحجر طارت بنعيك للإسلام بارقة ... فانهل دمع بني الإسلام ينهمر وذي قلوب الورى من حر جارحها ... كأن نار الوغى فيهن تستعر فما لأنباء هذا السلك خائنة ... حتى المدامع خانت سلكها الدرر *** (قضايا غرام، فهل من محام) قال الشيخ تاج الدين محمد بن عبد المنعم التنوخي المعري الأصل الدمشقي المتوفى سنة 669. ما ضر قاضي الهوى العذري حين ولي ... لو كان في حكمه يقضي علي ولي وما عليه وقد صرنا رعيته ... لو أنه مغمد عنا ظُبَى المقل يا حاكم الحب لا تحكم بسفك دمي ... إلا بفتوى فتور الأعين النجل ويا غريم الأسى الخصم الألد هوى ... رفقًا علي فجسمي في هواك بلي أخذت قلبي رهنًا يوم كاظمة ... على بقايا دعاوٍ للهوى قِبَلي ورمت مني كفيلاً بالأسى عبثًا ... وأنت تعلم أني بالغرام مَلي وقد قضى حاكم التنبريح مجتهدًا ... عليَّ بالوجد حتى ينقضي أجلي لذا قذفت شهود الدمع فيك عسى ... أن الوصال بجرح الجفن يثبت لي لا تسطون بعسَّال القوام على ... ضعفي فما آفتى إلا من الأسل هددتني بالقلى حسبي الجفا وكفى ... (أنا الغريق فما خوفي من البلل) ولغيره: عيناه قد شهدت بأني مخطئ ... وأتت بخط عذاره تذكارا ياحاكم الحب اتَّئِد في قتلتي ... فالخط زور والشهود سكارى ولنا في أيام الدراسة والطلب: أتيت قاضي الهوى أشكوه مظلمتي ... إذ لج بي منه هجران وتبريح ولي شهيدان: قلب خافق قلق ... ومدمع دافق فاضت به الروح فقال ما لك في دعواك بينة ... فالعين نمامة والقلب مجروح

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (الصدر الأعظم) توفي الصدر الأعظم خليل رفعت باشا، وكان ليّن العريكة، ضعيف العزيمة - أو كما قال المؤيد - لم تكن له إرادة مع إرادة مولاه السلطان، ونقول على كل حال تغمده الله برحمته التي وسعت كل شيء. وقد أقر مولانا السلطان الأعظم أيد الله دولته، وأنفذ بها شوكته، عيون الأمة العثمانية إذ عهد بمنصب الصدارة العظمى إلى ابن بجدتها وأبي عذرها صاحب الدولة والفخامة سعيد باشا الصدر الأسبق، فهو خير وزراء الدولة في هذا العصر، وأكبر رجالها والأتراك يكنونه بأبي الأمة، وفقه الله تعالى لما فيه نجاح الدولة العلية وترقية الأمة العثمانية، آمين. *** (أمنية في إصلاح مراكش) كنا تمنينا لو يستعين سلطان مراكش على إصلاح بلاده الإداري والحربي بمولانا السلطان الأعظم، ولما اتصلت بنا الأخبار في هذه الأيام عن الاضطراب في بلاد مراكش، وامتداد عنق فرنسا - بل يدها - إليها وقع في النفس فجأة أمنية لو تحققت لكانت كافية في الإمداد والإسعاد، تمنينا لو يكون صاحب الدولة مختار باشا الغازي هو الوزير الأول المفوض لسطان المغرب، فمن لنا بأن يعتقد ذلك السلطان اعتقادنا، ويطلب هذا الرجل العظيم من أعظم سلاطين المسلمين. *** (الاحتفال السنوي للجمعية الخيرية الإسلامية) سيكون هذا الاحتفال في هذه السنة في 25 شعبان، وهو أنفع الاحتفالات التي تكون في مصر وأبهجها وأبدعها، والناس يقبلون عليه أكثر مما يقبلون على غيره من الاحتفالات الأخرى، وهذا من دلائل الشعور بالمنافع العمومية الذي انبثَّ في نفوس المصريين. وإذا كان نجاح الأعمال الاجتماعية، والسعي في المصالح العمومية، هما البرهانان على كمال الرجولية، فلا شك أنه لا يوجد عندنا برهان على رجولية أحد إلا القائمين بأمر هذه الجمعية، وحظ كل مصري من الكمال بقدر مساعدته لهم ومعاونته إياهم، والمساعدة على قدر الاستطاعة، وكل امرئ أعلم بمبلغ استطاعته فلينظر في درجة كماله. *** (امرأة خير من الرجال) يصفون من تأخر البلاد ويذكرون من ضعف الأمة وتقهقرها والبلاء الذي يخشى أن يفضي إلى الفناء؛ لأنه مثار كل شقاء، هو كون كل فرد منا لا يفكر إلا في أمر نفسه، ومن هو كنفسه كزوجته وولده الصغير، وعدم الاهتمام بأمر الأمة والعمل لمصلحة البلاد، وما أفضل الناس من ينقطع إلى طلب العلم ليعيش به، ولا من ينقطع للعبادة ليُعَظَّم ويُكَرَّم في الدنيا وفي الآخرة، ولا من يسميهم الناس عظماء وأمراء؛ وإنما أفضل الناس أنفعهم للناس؛ لأن الإنسان خلق اجتماعي فمن يخدم الجماعة يكون أرقى في الإنسانية ممن لا يخدم إلا نفسه، بل ذلك هو الإنسان وما سواه حيوان. ومن البلاء أن من يوفق من أغنيائنا لبذل شيء من المال في المصالح العامة يضعه في غير موضعه، فإما أن يبني مسجدًا حيث تكثر المساجد وتزيد على عدد المصلين، فيكون كمسجد ضرار مفرقًا لا جامعًا، وإما أن يبني زاوية أو تكية تكون مأوى للكسالى والبطالين، وإما أن يوقف عقارًا على عمل ضار يعده الجهلاء نافعًا كبناء الأضرحة والقباب عليها، ومما حدث في هذه البلاد التي أنشأت تستنشق نسيم الحياة الاجتماعية أن امرأة بَرَّة من ناحية المطيعة التابعة لأسيوط اسمها الحاجة بخيتة بنت محمود، قد وقفت لأعمال خيرية بذلت فيها المال حيث ينبغي أن يبذل، إذ بنت في بلدتها مسجدًا ومكتبًا لتعليم القرآن وعقائد الدين وأحكامه، ورتبت النفقات الكافية لهما وللعلماء والمدرسين في مدينة أسيوط، وأوقفت عشرة أفدنة من أطيانها على الجمعية الخيرية الإسلامية مساعدة لها على تعليم أولاد فقراء المسلمين وإعانة الضعفاء والبائسين، وقد كتب إليها صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية ورئيس الجمعية كتاب شكر هذا نصه: (مصر: في 22 جمادى الثانية سنة 1319 عدد 171 حضرة السيدة بخيتة بنت محمود بلغنا من حضرتي الفاضلين عبد الرحمن بك حسنين النميس وحسين بك فهمي أن الله قد أرشدك إلى وقف عشرة أفدنة على الجمعية الخيرية الإسلامية ليكتبها الله بك في سجل أعمالك الصالحة الباقية، فحمدنا الله تعالى على أن جعل في بلادنا من النساء الخيِّرات من يسبقن الرجال في فضائل الأعمال، وإنا نشكره جل شأنه على نعمته، ونشكرك على عملك الفاضل، وقد عرضت هذا العمل على أعضاء الجمعية فكلفوني بأن أشكرك بالنيابة عنهم، كما شكرتك بالأصالة عن نفسي وأسأل الله أن يكثر في المسلمين من أمثالك والسلام) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... التوقيع من بَلَّغ المرأة الفاضلة كتاب الرئيس؟ ذهب صاحب السعادة أحمد باشا حشمت مدير أسيوط إلى بلدها في طائفة من أهل الفضل والوجاهة في أسيوط، منهم عبد الرحمن بك النميس، وحسين بك فهمي، والدكتور أحمد أفندي السعيد طبيب مدرسة الجمعية الخيرية في أسيوط، والشيخ عبد الرحمن أحمد أحد أساتذتها والخواجة دوس المطيعي، فتلقاهم أهل البلدة بالحفاوة، وساروا بهم إلى دار المحسنة الفاضلة، فرحبت بهم أحسن ترحيب. وابتدأ المدير بالثناء عليها، وفضلها على جميع نساء الوطن، وعلى كثير من رجاله، ثم خطب صاحب العزة حسين بك فهمي خطبة نافعة بيَّن فيها للحاضرين مكانة هذه المراة الفاضلة، وفضل عملها المبرور، وقد لقبها صاحب السعادة أحمد حشمت باشا (بست البلد) وأمر الحاضرين بأن يطلقوه عليها، ثم انفضوا مسرورين، ولنا أن نقول لأغنيائنا الأشحة. ولو كان النساء كمن ذكرنا ... لفضلت النساء على الرجال *** (أمثلة لطفولية الأمة) قلنا غير مرة أن أمتنا كالطفل في الحياة الاجتماعية، وأوضحنا هذا في مقالتين نُشرتا في آخر المجلد الثاني من المنار، عنوان أحدهما (طفولية الأمة وما فيها من الحيرة والغمة) وعنوان الثانية (الحيرة والغمة ومناشئهما في الأمة) ومما نقوله كثيرًا بمناسبة ذكر التعليم الذي تحيا به الأمم: إن أمتنا لما تشرع في التعليم الابتدائي؛ وإنما يصح أن يكون الزمان قد أعد جماعة منها إلى ما يسمونه (القسم التحضيري) الذي استعد أو يستعد للتعلم الابتدائي في مدارس الاجتماع، وإننا نذكر ههنا ثلاثة أمثلة على طفولية الأمة نلقنها لأهل هذا القسم التحضيري: (المثال الأول شركة الاقتصاد الإسلامية) لاشك أن الشركات من أكبر الدروس الاجتماعية العملية، وقد أراد جماعة من القسم الذي نسميه تحضيريًّا أن يبتدءوا بدرس الشركات بعدما تعلموا العلوم العالية في مدارس الحكومة، وبعضهم تعلم في أوربا وأخذوا الشهادات في اللغات وعلوم الاقتصاد والحقوق وغيرهما، وكان منهم الموظفون والمحامون، فسنوا لهم قانونًا وألَّفوا شركة وجعلوا لهم جمعية عمومية ومجلس إدارة، ثم جمعوا من السهام مبلغًا من المال. ماذا عملوا بعد ذلك؟ عملوا عمل العجائز والزمنى الذين لا يقدرون على التصرف بأنفسهم إذ اشتروا ببعض المال سهامًا من بعض الشركات الأجنبية العاملة كشركة الماء، وشركة الأسواق، ثم علم بعض المشتركين بأن أسعار السهام قد نزلت بعد حرب الترانسفال، فطلب بعضهم ما دفعه فأخذه بعد إمساك الشركة ما أصابه من الخسارة، وصبر الآخرون راجين أن يقوم مجلس الإدارة بعمل آخر يربح ما يعوض الخسارة؛ ولكن المجلس حار ولم يدر ماذا يعمل، ثم دعا الجمعية العمومية للمشاورة في حل الشركة، فحلوها على خسارة ثلاثين في المائة، فمن لم يحضر فعليه أن يذهب إلى مكتب أمين الصندوق عزتلو محمد بك فريد المحامي، ويأخذ ما بقي له. وهذه العبرة لا تقضي علينا باليأس من الأعمال الاجتماعية؛ وإنما تقوي الرجاء لأنه مر علينا زمن لا نفتكر فيه بهذه الأشياء حين كنا كالجنين، وقد ارتقينا فصرنا كالطفل يحاول المشي، فيقع بين كل خطوة وأخرى، ولا بد أن يكون رجلاً إن شاء الله تعالى. (المثال الثاني مجلة الموسوعات) سمعنا أن مجلة الموسوعات أُنشئت لمباراة مجلة المقتطف، وإغناء المصريين والمسلمين عنها، وكان يكتب على ظهرها أنه يحررها لجنة من أعاظم الكُتَّاب، ولا شك أن لجنة من أعاظم الكُتَّاب أقدر على الإفادة والإجادة من كاتب أو كاتبين؛ ولكن المجلة سارت الخَوْزَلَى ثم القهقرى ثم عثرت فسقطت، وهذا لا يصح أن يكون أيضًا مدعاة لليأس، فما هو إلا طفل تحرك بروح حية، ويرجى أن يقوم ويمشي بعد ذلك إن شاء الله تعالى. (المثال الثالث رجال الصحافة في مصر) الجرائد مدارس اجتماعية وأصحابها وكتابها كمديري المدارس ونظارها وأساتذتها، ونراهم على ذلك يتسابون ويتشاتمون ويتخاصمون ويتنازعون كالأطفال لا كما يكون من اختلاف آراء الرجال، والعبرة الكبرى في الحادثة الأخيرة من حوادثهم، وهي أن أصحاب الجرائد اليومية اقترحوا على الحكومة أن تأذن لهم بإرسال مكاتبين يرافقون موكب سمو الخديوي في زيارته للسودان، وليكتبوا أخباره لجرائدهم عن عيان، واحتجوا على الحكومة بأن هذا معهود في أوربا، فأرادت الحكومة أن تُعَرِّفهم أنه لا فرق بينها وبين حكومات أوربا؛ وإنما الفرق العظيم بينهم وبين أصحاب الجرائد في أوربا، فعهدت إلى أصحاب الجرائد العربية بانتخاب واحد منهم ينوب عنهم، فاجتمعوا أولاً في إدارة جريدة المؤيد وارتأوا أن يدعوا جميع أصحاب الجرائد الأسبوعية لمشاركتهم، فدعوهم واجتمع من حضر في إدارة جريدة الأهرام، فاقترح بعضهم أن يكون المنتخَب من أصحاب الجرائد الأسبوعية، فتنازعوا واختصموا، وخرج البعض مغضبًا، ثم اجتمعوا في إدارة المقطم فكانوا أكثر خصامًا ونزاعًا وخلابة وخداعًا، ثم انقسموا إلى طائفتين خرجت طائفة من المجلس، ومنها جميع المسلمين وصاحب جريدة مصر القبطية، ومدير جريدة الرائد المصري السوري، وأما الذين بقوا في المقطم فهم سوريون إلا صاحب جريدة الوطن فهو قبطي؛ وإنما ذكرنا أجناسهم ومللهم؛ لأن لذلك دخلاً في النزاع والاختلاف، ثم انتخبت كل طائفة مندوبًا من أصحاب الجرائد الأسبوعية، وعرضوا الانتخابين على نظارة الداخلية، فأرسلته إلى حكومة السودان أو للحربية لأجل الترجيح، ثم استقال كل من المنتخبين، واختارا محرر جريدة أسبوعية أخرى، فأجاز ذلك منتخبوهما، وبذلك انحسم النزاع.

فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فلسفة وعرفان في الصيام والإيمان الصوم والناس. العبادة. معرفة الله. البعث. جاهلية المدنية الأوربية. التكوين حسب العلم العصري الموافق للقرآن. الحياة والبقاء. الأرواح. الحاجة إلى الدين. الإسلام والمدنية. شكوى المسلمين. دعوة المرتابين إلى الحق. أقبل شهر الصيام فرحَّب به المؤمنون، وتبرَّم منه المنافقون، واستهان به الزنادقة المارقون، فالمؤمن في صيام وصلاة، وصلة وزكاة، وبِرٍّ ومواساة، وعكوف على كتاب الله، والمنافق في كذب ومداجاة، وإسرار يخالف ما أظهره وأبداه، يستخفي بإفطاره من الناس ولا يستخفي من الله، كأنه لا يعلم أنه يبصره حيث كان ويراه، والمارق المرتد يجاهر بالإفطار، وتُمد له الموائد في نصف النهار، فيأكل الطعام ويشرب العقار، ويفجر مع أمثاله من الفجار، ضلال مع إصرار، لا ندم يعقبه ولا استغفار أولئك هم الفاسقون {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 3-4) . {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} (عبس: 17-23) أمره بالصلاة فكسل، وأمره بالزكاة فبخل، وأمره بالصوم فشرب وأكل، ولو عرف الله لآثر طاعته على شهوته وهواه، ولو عرف نفسه لعرف ربه، وابتغى رضوانه وقربه، وارتقى بذلك عن اللذة الحسية البهيمية، إلى اللذة الروحانية الإنسانية، فصلى طلبًا لمرضاته، وتلذذًا بمناجاته، وصام ابتغاء وجه ربه الأعلى، الذي يعلم الجهر وأخفى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: 88) . نعم لكل موجود ممكن وجهان، وجه إلى عالم الكون والفساد الذي تفنى عن قريب صوره، ويمحى أثره، ووجه إلى الوجود الحق الذي استفاد وجوده من وجوده، واستمد ما به بقاؤه من كرمه وجوده، إذ هو {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى} (القيامة: 36-40) . بلى إن الكيماوي يحلل بعض الأجسام المركبة ويرجعها إلى عناصرها البسيطة، فتراها قد فنيت وتلاشت، ثم يعيدها بالتركيب إلى شكلها الأول فتراها خلقًا جديدًا، هذا والكيماوي رجل مثلك يشكو الجهل والضعف {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) أفرأيت الحي الذي استمد الحياة منه كل الأحياء، القيوم الذي قامت بقدرته الأرض والسماء، يعجز عن فعل ذلك بك وهو الفعَّال لما يريد {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق: 15) . هؤلاء الزنادقة المرتابون في النشأة الأخرى الذين تركوا الصوم والصلاة واتبعوا الشهوات يتوكأون في هذا العصر على العلم الطبيعي في ارتيابهم أو جحودهم، وهم أعرق في الجهل به من أمثالهم في زمن الجاهلية الأولى؛ فإن علمهم الطبيعي ينطق بأن العدم المحض مُحال، وأن الإعدام والإيجاد إبطال صور وأشكال وتجديد صور وأشكال، وأن هذه الكواكب السماوية، وهذه الأرض كانت كلها مادة واحدة منتشرة كالدخان والهباء، ثم انفتق رتقها فكانت أجرامًا كروية متعددة، ثم نشأ في هذه الأرض وهي إحداها ما نراه فيها من العوالم الحية وغير الحية، وكان كل ذلك الإبداع والإحكام بترتيب كامل ونظام يدل على أنه صادر عن علم وحكمة وإرادة وقدرة {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) . عرفوا قليلاً من ظواهر أشكال هذه المخلوقات وقواها وخواصها، وعرفوا أن أعلاها وأكملها المخلوقات الحية، وأن أكمل الأحياء منها الإِنسان، أفلا يدلهم هذا على أن الحياة التي بها قوام أكمل المخلوقات هي أكمل الموجودات، وعلى أن كمالها في مراتب الوجود بالنشوء والارتقاء يدل على رسوخها فيه؟ وإذا عرفوا هذا وضموه إلى علمهم بأن أجزاء المادة التي لا حياة لها لا تقبل عدم المحض؛ وإنما تنحل منها صورة فتدخل أجزاؤها في تكوين صورة أخرى من المخلوقات الحية، ألا ينتج لهم مجموع هذه المعارف أن الحياة التي تلابس المادة الميتة فتجعلها خلقًا جديدًا ينمو ويرتقي أجدر بالبقاء، وأولى بالارتقاء لا سيما هذا الإنسان الذي هو أكمل ما في هذه الأكوان، بلى {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ} (التين: 1-8) . حياة الأحياء معلومة بالضرورة لا تحتاج إلى دليل، وإن ما به الحياة مجهول في كنهه وحقيقته معلوم بأثره، وإن أكمل مراتب الحياة وأعلى درجاتها هو ما كان من أثره العلم والحكمة والإرادة، وهو ما يسمى باللغة العربية روحًا، وإن أفراد الأرواح متفاوتة في الارتقاء، كما أن أنواع جنسها - وهو ما به الحياة - متفاوتة كما قلنا آنفًا، وإن أعلى الأرواح رتبة وأكملها هو ما كانت علومه ومعارفه أعلى وأكمل، وإن أكمل المعارف والعلوم هو ما كان موضوعه أعلى وأكمل، وأثره أنفع وأفضل، وإن ذلك هو معرفة الله تعالى الذي منه مبدأ كل هذه الوجودات وإليه مرجعها إذ هو الحي القيوم بنفسه الذي حيي وقام به غيره؛ لأن قيام الأشياء وثبوتها وحياة الحي منها لم يكن بالمصادفة والاتفاق، ولا يصح أن يكون علة لنفسه لئلا يكون سابقًا عليها، ولا أن يكون سببه عدميًّا؛ لأن العدم لا يُتَصَوَّر فكيف يخلق ويُصَوِّر؟ وَيَلي معرفة الله تعالى معرفة سننه في خلقه وشرائعه التي يصلح بها أمر عباده في أرواحهم وأجسادهم، وهي ما يسمى العمل بها عملاً صالحًا؛ وإنما صلاحه بكونه أنفع للناس وأفضل كما ثبت بالنظر والتجربة، ولهذا جعل تعالى الفلاح وهو الفوز بسعادة الدنيا والآخرة مقرونًا بالإيمان، وهو معرفة الله تعالى بالعمل الصالح الذي به تصلح النفوس والشؤون {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: 1-2) الآيات. إذا تسنَّى للإنسان أن يعرف بطول الزمان وتقلب الحدثان ما به تصلح شؤونه الدنيوية في أفراده ومجموعه من غير أن يسترشد بالوحي الذي هو تعليم يفيض من عين الكرم والفضل على بعض الأرواح العالية التي يُعدَّها الله لذلك فهل له من سبيل إلى معرفة ما يصلح به الروح ليرتقي بذلك إلى حياة أعلى من هذه الحياة؟ فإنه يعتقد بأن العدم محال، وأن الارتقاء سنة من سنن الوجود، ثم إن كل فرد من أفراده يوقن من ذلك بأن وجوده الحاضر سيبطل ويفنى، أفلا يتعين عليه إذن أن يؤمن بنشأة أخرى وحياة ثانية كما أخبر النبيون والمرسلون {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) . الحق أقول: إن الإنسان كان قريبًا من العجماوات، وإنه لم يصعد في مراقي الوجود بهذا التدريج البطيء إلا بهداية أفراد خصهم البارئ الحكيم بالإلهام الصحيح والوحي إليهم روحًا من أمره أقدرهم به على هداية الناس في كل طور بقدر استعدادهم، وإن هؤلاء الأوربيين الذين يتوهمون هم ومقلدوهم المخدوعون بمدنيتهم أنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه من معرفة المصالح والمنافع في شؤون الحياة الدنيا بأنفسهم، من غير استرشاد بشيء من الوحي قد كذبوا في وهمهم وضلوا في حسبانهم؛ فإنهم ما وصلوا إلى ذلك إلا بعدما اقتبسوا من الدين أصوله ومبادئه وكثيرًا من فروعه ومقاصده، واعتبروا بتاريخ الإنسان أيام لا هادي له إلا الدين، وقد صرح بعض فلاسفتهم بأنهم أخذوا استقلال الفكر واستقلال الإرادة من الإسلام، وهما أصل كل تقدم ونجاح، وكذلك الاعتبار بسنن الكون ونواميس الطبيعة والاعتماد على ثباتها وعدم تغييرها ولا تحويلها فهو مأخوذ من القرآن، وإن لم يهتد به كما يجب أهل القرآن، وقل مثل ذلك في الحكومة الشوروية، وجعل الحكومة بمعرفة الأمة وتحت سلطتها فهذا أصل ارتقائهم السياسي، كما أن ما قبله أصل ارتقائهم العلمي، وهو مأخوذ من الإسلام وإن لم يعمل به المسلمون حتى صاروا حجة على دينهم، وعلى كل دين كما تقدم بيانه في المنار مرارًا. إذا كان كل خير أصابه الإنسان في دنياه متصلاً نسبه بهداية الدين فهل يستغني هذا الخلق الضعيف عن إرشاد الدين فيما يتعلق بحياته الأخرى، أليس له في هذه الحياة حواس ومشاعر يستعين بها في شؤونها، وليس له مثل ذلك في إعداد نفسه وتأهيلها لتلك؟ فتبصر يا من أغواه التفرنج في أمرك، واعلم أنه قد دلاك بغرور، وقذفك في تَيْهُور واستعبدك للشهوات، وهبط بك إلى دركة الحيوانات، ففسد بأسك، وضاع وطنك وجنسك فخسرت الدنيا والدين، وذلك هو الخسران المبين. أنت تشكو من سوء الحال وضياع الاستقلال واختلال الأعمال، وتلتمس لذلك الأسباب وتطرق للخروج منه كل باب؛ ولكن الانغماس في الشهوات جعل على عينيك غشاوة، وفي سمعك وقرًا، فأنت الآن لا تسمع ولا ترى، فإن استطعت أن تكسر من سَوْرة هذه الشهوات وتفل من حدها وتتفلت من عُقُلها، وتنطلق من قيودها، فتكون إنسانًا مستقلاً، فحيتئذ يسهل عليك أن تعرف كيف ذلت أمتك بعد عزها وضاعت بلادها بعد منعتها، ويسهل عليك السعي في تلافي ذلك، ولا سبيل لك إلى الخلاص من ذلك الرق والاستعباد إلا بالدين، فارجع إليه وأقم أركانه وشيِّد بنيانه، وها أنت ذا في الشهر الذي شرعه الدين لتأديب الشهوات، والتغلب على العادات وجعل النفس الأمارة بالسوء خادمة مأمورة، وملكة الرذائل والشرور أَمة خاضعة مقهورة. شرعتُ في الكتابة قاصدًا بيان فضل الصائمين، والنعي على المفطرين من المسلمين الجغرافيين، ثم بدا لي أن المسلم لا يفطر في رمضان عامدًا متعمدًا إلا إذا كان مرتابًا في أصل الدين، غير مؤمن باليوم الآخر، ولهذا أطلت فيه المقال بالنسبة إلى هذا المقام، فمن كان مؤمنًا بالله واليوم الآخر، مسلِّما بالدين، عالمًا أن فيه الفلاح والسعادة، واسترجاع ما فقدنا من السلطان والسيادة، فليؤدب بالصوم نفسه، ويكتسب به ملكة الحكم عليها، فبذلك يحفظها في الدنيا من أكثر الأمراض؛ لأنها تنشأ من الإفراط في الشهوات، ويتبع هذا حفظ العِرض والمال والاستعانة على تربية الأولاد، ويحفظها في الآخرة بما يعطيه الصوم من النور الروحاني بمراقبة الله تعالى وحبه، والرغبة في رضوانه وقربه، وبما في الصوم من تهذيب النفس وتزكيتها وإعدادها بهذا الترقي المعنوي لنعيم ذلك العالم الأخروي، وقد بيَّنا منافع الصوم الروحية والجسدية في مقالتين نشرتا في المجلد الثاني من المنار تحت عنوان (الصيام والتمدن) فليراجعهما من شاء (ص 673 و 695) . ومن كان في شك من دينه فعليه

السياسة والساسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السياسة والساسة ما السياسة ومن الساسة؟ السياسة من جملة علوم، أستاذها الفلك الدائر الذي حضر في حلقته الأولون والآخرون، واستفاد من نظامه العلماء والجاهلون؛ فإن ارتباط المسببات بالأسباب ما عرف بادئ بدء إلا بتعريف هذا الأستاذ الأعظم، وليست السياسة إلا البحث عن أحوال العالم المجتمع وأسباب تغيرها، واتخاذ كل طائفة أسباب السمو على غيرها بحسب اعتبارها، وما الساسة إلا علماء هذه الأسباب وخطباء هذه المعاهد. قلت: الفلك الدائر، ولعلي أغربت وأبعدت؛ ولكن ليس كل إغراب محرمًا في شرع البيان، بل أنا لم أغرب ولم أبتدع؛ ولكنني اتبعت المثل السائر الذي شاع ضربه وتصريفه في ارتفاع قوم وسقوط آخرين، ألم تسمعوهم يقولون: فلك دوَّار يعلي وينزل. الفلك لا يعلي ولا ينزل؛ ولكنه كناية عن النواميس والطبائع التي هو أبوها الأقدم، لا تسل ما هو هذا الفلك الدائر، ولكن سل ما هي هذه النواميس والطبائع؟ هذه النواميس هي الأحكام الثابتة للكائنات في بساطتها وتركيبها، هذه الطبائع هي المزايا الراسخة للموجودات على ما هي، هذه هي التي إن ظهرت تمجد آثارها وإن بطنت تسبح أسرارها، هذه التي تجلت للإنسان فصار وحيدًا بين أقرانه الحيوانات، وسلطانًا على عوالم الأرض، وما الإنسان لولا انكشافها له إلا كبعض هذه الحيوانات السوائم، بل ما الحيوان لولا انكشاف شيء يسير منها له إلا كهذا النبات النامي. قف عند هذه النواميس إن شئت، واصعد إن شئت بعقلك إلى بارئها جل جلاله، أسند الآثار إليها إن شئت، وأسند إن شئت لبارئها تعالى كماله، قل مثلاً: النار محرقة أو المحرق بارئ النار سبحانه، وقل المطر تنزله الأسباب، أو تنزله الملائكة بإذن البارئ ما أعظم سلطانه، لا نناقشك في هذا لأنا رأيناك لا تمد يدك إلى النار خشية من إحراقها، ووجدناك تتناول الأغذية والأشربة رجاء إشباعها وإروائها، ولم نرك تأكل وتشرب العبارات فلا تناقشنا أنت على تعبيرنا، بل إن كان قريبًا وجب حقه عليك، وإن كان غريبًا فالأمر في تركه إليك، وإن استصعب عليك أخذ المقصود من هذه النبذة، فدعها لغيرك وخذ أنت غيرها: السياسة علم أحوال الأمم، علم أحوال الأمة الواحدة، علم أحوال النفس. ليست هذه ثلاثة علوم متغايرة، بل ثلاث درجات متلاصقة، يطلق هذا الاسم على كل واحدة منها، هن ثلاث درجات لا يرسخ العالم في واحدة منها إلا أن يحيط نظره بالباقيتين، ويصح أن يقف في واحدة منها إذا تمكن فيها قدمه، ويكون معينًا لمن وقف في غيرها. من هذه الدرجات الثلاث يكون رقي الأمم على أيدي علمائها إلى مناط السعادات، ويكون جلي المآرب دانيًا لها، والذين عدموا علماء لهذه الدرجات واقفون في الدون، راضون بالهون يشرف عليهم الأعلون إشراف الطائر ذي الأجنحة على الدواب الزواحف، ومتى شاءوا التقفوها غذاء وزقوا بها أفراخهم. هذه هي السياسة وستُسألون أيها القوم ماذا أعددتم منها أمام المناظرين، وستُحاسبون وقد أُحصيت أحوالكم، واستُمعت أقوالكم، وشوهدت فعالكم هل لكم مواقف في هذه المعارج؟ هل اقتطفتم شيئًا على هذه المراقي؟ هل ساوت مناكبكم مناكب أهل المواكب؟ السلامة كجنة فيها غرفات، والسياسة كسياج فيه أبواب: منها باب التربية والتعليم، ومنها باب معرفة طبائع الأقاليم، ومنها باب معرفة الزمان وأهله، واختبار حلوه ومره، وحزنه وسهله، ومنها باب معرفة ما كان في غابر الأزمان، ومنها باب تأليف القلوب وجمع القبائل والشعوب، ومنها باب الحذر من الخصوم وقهرهم بالمدافعة أو بالهجوم، ومنها باب المداراة والمداجاة، ومنها باب التحرش والمفاجأة، ومنها باب التفقه في الحكم وهو باب الأبواب ولب اللباب، فأنتم مسؤولون أي الأبواب معكم مفتاحها، وأي الغرفات معكم مصباحها، هل أنتم داخل الأبواب أم خارجها؟ هل أنتم ضربتم السياج عليكم وغلَّقتم الأبواب؟ أم ضربوه دونكم وصدكم الحُجاب؟ يسألونك لمن السياسة اليوم؟ السياسة لمن علت همتهم فجابوا من الأرض البحر والبر، وعرفوا من الناس الفاجر والبر، ومن الطبائع النفع والضر، ... السياسة لمن نفذت عزيمتهم فرضخ لسلطانهم اليم، واستكان لبعض تدبيرهم الجو، وناجتهم الأرض دالة إياهم على غوامض أسرارها، وخفايا كنوزها، وخافتهم النفوس فسكنت لأحكامهم، وترجتهم العقول فتعلقت بمعارفهم، السياسة لمن يعرفون أسباب القوة ويعلمون التصرف بالضعيف. أنا لم أمدح قومًا معينين؛ ولكني عرفت أوصاف الذين بيدهم مقاليد السياسة العظمى، فمن وجد ما يعارض به كلامي فليفعل. وأنا لم أنفِ بهذا كل معرفة وخير عن قوم معينين؛ ولكني أبين ولا حرج فأقول: إنا أيها المسلمون اعتدنا أن نستهزئ بالأسباب كثيرًا، وبهذا خسرنا ما خسرنا. فبيْنا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سُوقَة نَتَنَصَّفُ أفليس من استهزائنا بالأسباب استهزاؤنا بالأفراد الذين يريدون إصلاحًا؟ وهل الذين نهضوا بالأمم الأخرى إلا أفراد أمثالهم؟ ومن ظن أن هنالك سببًا لخسراننا غير استهزائنا بالأسباب فليقل، فأية سياسة لنا إذا كنا نستهزئ بالأسباب؟ هذا ما عندي والسلام على النظام العام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمشق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز تتبعها مقالة ((يتبع بمقال تالٍ))

الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية (ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه) (1) قال صلى الله عليه وسلم: (من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه، وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه، فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين) [1] فهل أمراؤنا وعمالنا أعلمنا بالكتاب والسنة. (2) وقال صلى الله عليه وسلم: (السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع عليه ولا طاعة) [2] ، أفلا يكفر أكثر المسلمين اليوم من يدعوهم إلى العمل بهذا الحديث المتفق عليه. (3) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله؛ إنما الطاعة في المعروف) [3] . (4) وقال صلى الله عليه وسلم: (من أرضى سلطانًا بما يُسْخِط ربه خرج من دين الله) [4] . (5) (استقيموا لقريش ما استقاموا لكم، فإن لم يستقيموا لكم، فضعوا سيوفكم على عواتقكم، ثم أبيدوا خضراءهم) [5] أليست هذه سيطرة فعَّالة للأمة على الأمراء والحكام، فمن أين جاءت السلطة المطلقة في الإسلام؟ أليس ملوك المسلمين أولى بأن يعاهدوا الأمة عند المبايعة على تحكيمها في دمائهم إذا خالفوا شريعتها من ملوك الإنكليز الذين يبيحون لمجلس الأمة دماءهم إذا خالفوا قوانين البلاد وتقاليدها المتبعة؟ بلى لأن المسلمين ملزمين بالعمل بالشريعة وتقييد السلطة للدين والدنيا معًا بخلاف أولئك. (6) وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا هل سمعتم؟ سيكون بعدي أمراء - في غير هذه الرواية هنا زيادة: يكذبون ويظلمون - فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد على الحوض) [6] . (7) وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون عليكم أئمة يملكون أرزاقكم يحدِّثونكم فيكذِّبونكم، ويعملون فيسيئون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسنوا قبيحهم، وتصدقوا كذبهم، فاعطوهم الحق ما رضوا به، فإذا تجاوزوا فمن قُتل على ذلك فهو شهيد) [7] فانظروا كيف حكَّم الأمة بالأئمة والأمراء، وجعلها هي المعطية وهي المانعة، وأمرها بالخروج عليهم إذا لم يرضوا بالحق، وعَدَّ المقتول في هذا السبيل شهيدًا، فهل يقول أحد بعد أن نوع الحكومة في الإسلام غير معروف؟ ألا يجب تربية الأمة على الاستقلال لتقيم به هذه الركن. *** آثار السلف عبرة للخلف الخطبة الأولى للخليفة الأول رضي الله عنه لما بويع أبو بكر - رضي الله عنه - صعد المنبر فنزل مرقاة من مقعد النبي صلى الله عليه وسلم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد أيها الناس فقد وليت عليكم ولست بخيركم لوددت أن قد كفاني هذا الأمرَ أحدُكم. اعلموا أيها الناس أن أكيس الكيس التُّقى، وأن أحمق الحمق الفجور، إلا أن الصدق عندي الأمانة، والكذب الخيانة، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه؛ إنما أنا متبع ولست بمبتدع فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوِّموني، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، ولا يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالفقر، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا عمُّهم الله بالبلاء، فأطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وفي رواية: قوموا إلى صلاتكم [8] ) . قوله رضي الله عنه (وإن زغت فقوِّموني) قد اقتدى به عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بعده في عبارته المشهورة (من رأى منكم في عوجًا فليقوِّمه) وعثمان رضي الله عنه في قوله (أمري لأمركم تبع) وقد روي عنهم مثل هذا كثيرًا وكان يوعظون قولاً وكتابة فيحمدون من يعظهم ويأمرهم بالخير، على هذا بُنيت الخلافة الإسلامية، فهدم ركنها بنو أمية وحاولوا جعل السلطة مطلقة أو استبدادية، وساعدهم مَن بعدهم على ذلك بالتدريج، وساعد الملوك بعض الفقهاء فجعل لهم من السلطة والتصرف المطلق ما لم يجعله لهم الدين، وكان أول من جاهر بالمنع من نصيحة الملك أو الخليفة جهرًا عبد الملك بن مروان فقد قال على المنبر: (من قال لي اتق الله ضربت عنقه) فضعف بهذا أمر الشورى، وبطلت سيطرة الأمة على أمرائها فاستبدوا وجعلوا بأس الأمة بينها شديدًا، وحارب بعضهم بعضًا لأجل الفتوح والغلب وإزالة سلطة وإدالة أخرى منها حتى حَلَّ بالمسلمين ما هم فيه من البلاء المبين. *** الخطبة الأولى للخليفة الثاني رضي الله عنه عن سعيد بن المسيب قال: لما وُلِّي عمر بن الخطاب خطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس إني علمت أنكم كنتم تؤنسون مني شدة وغلظة، وذلك أني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت عبده [9] وخادمه، وكان كما قال الله تعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128) ، فكنت بين يديه كالسيف المسلول إلا أن يغمدني أو ينهاني عن أمر فأكف، وإلا أقدمت على الناس لمكان لينه، فلم أزل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راض، والحمد لله على ذلك وأنا به أسعد، ثم قمت ذلك المقام مع أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان كما قد علمتم في كرمه ودَعَته ولينه، فكنت خادمه كالسيف بين يديه أخلط شدتي بلينه إلا أن يتقدم إلي فأكف وإلا أقدمت، فلم أزل على ذلك حتى توفاه الله وهو عني راضٍ والحمد لله على ذلك كثيرًا وأنا به أسعد. ثم صار أمركم إليّ اليوم وأنا أعلم، فسيقول قائل كان يشتد علينا والأمر إلى غيره، فكيف به إذا صار إليه، واعلموا أنكم لا تسألون عني أحدًا فقد عرفتموني وجربتموني وعرفتم من سنة نبيكم ما عرفت، وما أصبحت نادمًا على شيء أكون أحب أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه إلا وقد سألته، فاعلموا أن شدتي التي كنتم ترون قد ازدادت أضعافًا إذا صار الأمر إليّ على الظالم والمعتدي، والأخذ للمسلمين لضعيفهم من قويهم، وإني بعد شدتي تلك واضع خدي بالأرض لأهل العفاف والكف منكم والتسليم، وإني لا آبى إن كان بيني وبين أحد منكم شيء من أحكامكم أن أمشي معه إلى من أحببتم منكم، فلينظر بيني وبينه أحد منكم، فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم. ثم نزل) [10] . وعن الحسن قال: إن أول خطبة خطبها عمر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أما بعد فقد ابتليت بكم وابتليتم بي، وخلفت فيكم بعد صاحبي فمن كان بحضرتنا باشرناه بأنفسنا، ومهما غاب عنا وليناه أهل القوة والأمانة فمن يحسن نزده حسنًا، ومن يسئ نعاقبه، ويغفر الله لنا ولكم) [11] . فانظر كيف وطَّن نفسه على قبول تحكيم من يريدون منهم إذا كان لأحد عليه حق، وكيف وطنها على قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا وفق الله أمراءنا وحكامنا للاهتداء بهديهم والسير على سنتهم؛ فإن الدين يعتز بالخلف كما اعتز بالسلف، ونكون من المفلحين، وظاهر أن هذين الخليفتين العادلين ما سارا هذه السيرة من أنفسهما؛ وإنما تعلماها من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن أدلة ذلك الأحاديث السابقة ومثلها كثير. ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 31 ـ شبهات على وظائف الرسل وأجوبتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة الدرس (31) في شبهات على وظائف الرسل وأجوبتها المسألة (76) شبهة على الوظيفة الثالثة: يقولون: إن الأديان السماوية الثلاثة لم تتفق أيضًا في أمر الآخرة، فبعضها يجعلها روحانية محضة، وبعضها يجعلها للناس إنسانية يتمتع فيها الناس بلذات الروح والجسد جميعًا، وبعضها ينكر الزواج فيها ويخالفه الدين الآخر، فيقول إن فيها أزواجًا مطهرة عما يُعهد من النساء في الدنيا، وبعضها يقول: إن الحساب على الأعمال يكون في الدنيا، وبعضها يقول: إن ذلك يكون في الآخرة بعد الموت. والجواب عن هذه الشبهة يُعلم من تقرير هذه الوظيفة، ومن الجواب عن الشبهة الأولى، ومن مقدمة الدرس (30) وهو تحكيم القرآن المنقول بالتواتر الصحيح كل كلمة من كلماته، وكل حرف من حروفه، وجعله هو الأصل وتأويل ما يخالفه إذا أمكن، والحكم بعدم صحة روايته إذا لم يمكن، فإذا فرضنا صحة ما نُقل عن السيد المسيح عليه السلام من قوله عن أهل الملكوت لا يزوجون ولا يتزوجون، بل يكونون كملائكة الله، فالمجال في تأويله واسع من حيث إن كلام المسيح كان أمثالاً وألغازًا، وهذه الأناجيل التي تحكي شيئًا من تاريخه وكلامه تدلنا على أنه كان يقول القول فلا يفهمه تلامذته، فإذا أخذوه على ظاهره يسمعون بعدُ ما يخالف ذلك الظاهر، فيتبين لهم خطأ فهمهم، وفي العهد الجديد دلائل كثيرة على أن الدعاة الأول الذين يسمونهم الرسل كانوا يُظْهِرُون للضعفاء خلاف ما عليه الأمر في نفسه بحسب العلم، ومنه تصريح بولس في (8 كور) بأن العلم يقتضي عدم ضرر أكل ما ذُبح للأوثان، وأن هذا الأكل لا يبعد عن الله وعدمه لا يقرب منه؛ ولكن الأكل يعثر الضعفاء، أي يوقعهم في عبادة الأوثان، وذكر في الباب (9) الذي بعده أنه صار لليهود كيهودي ليربح اليهود ويجذبهم إلى اعتقاده، فالكتب التي بنيت على هذا الأساس لا يصح أن يؤخذ كل شيء فيها على ظاهره، وإن فرضنا أنه نُقل عن أصحابها بنصه، على أنه لم يُنقل إلا بالمعنى، وبعض الأناجيل لا تعرف اللغة التي كُتبت بها يقينًا، وهل يصعب على أهل هذا الكتاب الذين أوَّلوا قول المسيح أنه ينقض الهيكل ويبنيه في ثلاثة أيام بأنه يموت ويعود بعد ثلاث أن يؤولوا قوله (لا يتزوجون؟) لتأويل هذا النفي وجوه منها تعيين المراد بلفظ الملكوت، فقد ورد هذا اللفظ في أمثال كثيرة للسيد المسيح عليه السلام، وأشهرها عند النصارى يوم مجيئه ومحاسبة الناس يوم الدينونة، ويقولون إنه يكون في الدنيا قبل فناء عالمها كما تقدم في الشبهة، وقد أخذوا هذا من ظواهر الأقوال، وإن لم تصح كلها، فقد روى متى أنه قال بعدما ذكر آيات مجيئه (الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله) وهو تصريح بأن الملكوت يأتي قبل انقضاء ذلك الجيل، ولم يبهم عليهم إلا اليوم والساعة، وقال إنه لا يعلم بهما أحد إلا الله وحده، ثم ضرب لهم مثلاً لذلك أيام نوح والطوفان، قال (لأنه كما كان الناس في الأيام التي قبل الطوفان يأكلون ويتزوجون ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع كذلك يكون مجيء ابن الإنسان) فالظاهر أن المسيح أراد أن يخوِّف الرجل اليهودي الذي سأله عن المرأة التي تزوجت باثنين لأيهما تكون في الملكوت، ويبين له أن ذلك يوم عظيم ينقطع فيه الزواج، وأنه يجب الاستعداد له ولم يخبره بما يكون بعده من النعيم لئلا يتمادى في الغرور، ومن أكبر النعيم أن يكون للإنسان زوج يسكن إليها، وذلك أولى من شرب الخمر الذي صرَّح بإثباته في قوله بعد أن أخذ الكأس وشكر وأعطاهم وأمرهم بالشرب (وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي) والحاصل أن للملكوت مبدأ وهو يوم الحساب، وهو الذي لا أكل فيه ولا شرب ولا زواج وله غاية، وهي كما في آخر (25متى) عن المسيح (فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية) وفي ذلك اليوم يشرب الخمر مع تلامذته، وكل ما يناسب الخمر من اللذات الجسدية فحكمه حكم الخمر، وقد ورد في القرآن العزيز أحكام عن ذلك اليوم متناقضة في الظاهر متوافقة في الحقيقة؛ لأن بعضها محمول على وقت الحساب كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الحجر: 92-93) وبعضها محمول على وقت آخر كقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} (الرحمن: 39) وللجمع بين الآيتين وجه آخر. ومن وجوه تأويل نفي الزواج في الآخرة على تقدير صحة نقله أنه ليس كما يكون في الدنيا؛ لأن الحياة الآخرة طور أعلى من هذه الحياة، فتشبيهها بها في القرآن يشبه أن يكون تمثيلاً وتقريبًا لها من بعض العقول الضعيفة قال تعالى في رزق الجنة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} (البقرة: 25) وقال عز وجل: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة: 17) وفي الحديث: (إن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) وقال بعض علمائنا إن كل ما ورد في أمر الآخرة فهو من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى. م (77) شبهة على الوظيفة الرابعة: ويقولون: إن وظيفة تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس مما يجب أن تتفق فيه الأديان الإلهية، ولا نرى فيه بين المسيحية والإسلامية إلا الخلاف فكل من كتب عن المسيح أثبت أنه كان يأمر بترك الدنيا والإعراض عنها بالمرة، مع أن القرآن يُعِدُّ الاستخلاف والسيادة في الأرض أثرًا من آثار الإيمان والعمل الصالح، وأثبتوا أيضًا أن المسيح كان يأمر بإذلال النفس وإهانتها، والقرآن يُعِدُّ عزة النفس من صفات المؤمنين أو من خصائصهم، وأثبتوا أيضًا أن المسيح كان يقول إن الغني لا يدخل ملكوت السموات، والإسلام يفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، كما رجحه الإمام النووي في شرح صحيح مسلم وغيره، ومثل هذا الخلاف كثير. والجواب عن هذه الشبهة أن نقول إن مجموع تلك النقول الورادة في المعاني التي ذُكر فيها الخلاف تُثْبِت في الجملة أن السيد المسيح عليه السلام كان يأمر بالمغالبة في الزهد والتواضع، وربما جاء في بعض العبارات المنقولة عنه بالمعنى ما لم يقله، فيخرج بذلك الكلام إلى الذي لا يرضاه، والحكمة في تلك المبالغة أن اليهود الذين بعث فيهم والرومانيين السائدين عليهم كانوا قد غلوا في حب الدنيا، والانغماس في شهواتها، والتهتك في لذاتها غلوًّا كثيرًا، وتناهوا في الكبرياء والعنجهية وعتوا عتوًّا كبيرًا، والقاعدة الحكيمة أن من يدعو المتغالى في شيء إلى الاعتدال فيه يبالغ في ضد ذلك الشيء، فكان بهذا ممهدًا لدين الإسلام الذي وضع قواعد الاعتدال من أول الأمر؛ لأن العالم الإنساني في مجموعه كان قد استعد لذلك في الجملة، ولا شك أن دين الله تعالى واحد ومقصد الأنبياء الدعاة إليه واحد، فإذا أردنا أن نفرق بينهم ونقول هذا دين مستقل ليس مبنيًّا على سابقه ولا يتصل به لاحقه، فهناك الجناية على الجميع، وإذا جعلنا المسيح مصدقًا لما بين يديه من التوراة، ومبينًا لليهود بعض الذي يختلفون فيه بسبب التمسك بالظواهر والمحافظة على الرسوم والتقاليد، وجعلنا محمدًا مصدقًا لموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ومبينًا للناس كافة حقيقة دين الله تعالى في كل زمان بفضل زيادة وبيان استعد لهما بالارتقاء نوع الإنسان، فتلك هي الخدمة الصحيحة للدين {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (البقرة: 285) {يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) . م (78) شبهة على الوظيفة الخامسة: ويقولون: إن القوانين الوضعية هي أحسن وأصلح من الشرائع التي تنسب إلى الديانات السماوية؛ فإن أحكام التوراة لا تصلح لأن تحكم بها الأمم المرتقية في مراتب المدنية، والشريعة الإسلامية كذلك، ولولاه لم يتركها الملوك والأمراء المسلمون، ويستبدلوا بها القوانين الأوربية في غير ما يتعلق بالدين والاعتقاد إلا الأمراء الذين لا يزالون في طور البداوة أو الهمجية كبلاد مراكش فإنهم يحكمون فيها بالشريعة الإسلامية، وهم بذلك أبعد عن العدالة وحفظ الحقوق من أهل مصر الذين يحكمون بالقانون، وإن المسلمين في مصر يشكون من المحاكم الشرعية ما لا يشكون من المحاكم الأهلية النظامية. والجواب عن هذه الشبهة ظاهر لمن عرف دين الإسلام، وما اشتملت عليه شريعته من العدالة والقسط، وما عليه أكثر القائمون عليها من الفساد والجهالة والظلم والغواية، وأما الشريعة اليهودية فإنما كانت لشعب خاص إلى زمن محدود، ثم نُسخت فلا يحتج بعدم صلاحيتها الآن. الشريعة الإسلامية ترجع أحكامها كلها إلى حفظ خمسة أشياء يسمونها الكليات الخمس، وهي حفظ الدين الذي يهذِّب الأخلاق ويزكي النفوس، وحفظ الدم، وحفظ العرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، وهذه الأركان مبنية فيها على أساس العدل والمساواة بين المحكومين بها، من غير تفرقة بين من يدين الله بها ومن يدينه بسواها، قال تعالى في شأن اليهود: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقال عز وجل: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) أي لا يحملنكم بغض بعض الناس على عدم العدل، بل اعدلوا في العدو والصديق والقريب والبعيد، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) وسيرة الخلفاء الراشدين شاهدة بأنهم أعدل من حكم في الدنيا، ولم يكن لهم علم إلا ما جاءهم به الدين؛ لأنهم كانوا من قبله أميين. ثم أحدث المسلمون لعلم الشريعة اصطلاحات وألفوا فيها المصنفات كما هو الشأن في كل العلوم المدونة، واشترطوا في القضاة أن يكونوا مجتهدين ليستنبطوا الأحكام الجزئية حافظة للعدل والمساواة في تلك الأمور الكلية؛ ولكن أكثر المسلمين أبوا بعد ذلك إلا أن يقولوا: إن الاجتهاد قد أغلق بابه، وأسدل حجابه، وإن الأحكام إنما تؤخذ من عبارات المؤلفين المتقدمين وألفاظهم فما وافقها فهو العدل، وما خالفها فهو الظلم والجهل، ثم تلاعبت بالكثيرين منهم الأهواء، واستبداد السلاطين والأمراء، وكان من ذلك ما كان، وهو ما نشاهد أثره الآن، وهذا الذي قلته لا يخفى على بصير عرف التار

شبهات المسيحيين وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين وحجج المسلمين النبذة العاشرة - كتب العهدين أيضًا بيَّنا في النبذة التاسعة التي نُشرت في الجزء (17) ما قاله الفاضل صاحب كتاب الأبحاث في إثبات كتب العهدين من طريق العقل، وفنَّدنا قوله تفنيدًا، ونذكر ههنا أنه بعد ما ذكر حاول الاحتجاج على استحالة تغيير التوراة والإنجيل، فكانت حجته الداحضة على ذلك أن الديانتين اليهودية والمسيحية كانتا منتشرتين في الشرق والغرب (وكان الكتاب لا سيما الإنجيل مترجمًا إلى كل لغات الأقوام التي دخل بينهم كالعربية والأرمنية والحبشية والقبطية واللاتينية من اللغتين اليونانية والعبرانية الأصليتين (قال) فكيف يُعقل أن هؤلاء الألوف يجتمعون ويتفقون على تغييره مع اختلافهم في اللغة والعقيدة، سيما أن المسيحيين كانوا شيعًا كل واحدة تناظر الأخرى، ولا شك أن قول المسلمين بتغيير الكتاب هو دعوى بدون دليل، وإلا فليخبرونا أين الآيات المتغيرة، وما هي وما أصلها وما الغاية من تغييرها، فإن عجزوا - ولا مراء أنهم عاجزون - قل لهم كيف جاز لكم هذا الادعاء والعالم الحكيم لا يقدم على أمر إلا ولديه ما يثبت مدعاه) اهـ. والجواب عن هذه المغالطة سهل على الناظر في كتب العهدين التي يسمون مجموعها التوراة والإنجيل، وفي كتب تواريخ الكنيسة والتاريخ العام، وأما المسلم الذي لم يطلع على ذلك فيكفيه أن يقول: إن كل ما خالف القرآن فهو ليس من التوراة ولا من الإنجيل؛ لأن القرآن ثابت بالبرهان القطعي ومنقول بالتواتر حفظًا وكتابة، وتلك الكتب ليست كذلك، ووحي الله لا يخالف بعضه بعضًا إلا ما كان من قبيل الأحكام المنسوخة، فلا بد من ترجيح القرآن عند التعارض فيما دون ذلك؛ لأنه هو الثابت القطعي كما اعترف بذلك كثيرون من علماء النصرانية، فقد جاء في كتاب (السيوف البتارة، في مذهب خريستفورس جباره) لمحمد أفندي حبيب الذي كان تنصر، ثم رجع إلى الإسلام بعد ما اختبر غيره: (إن المستر ستوبارت رئيس مدرسة لامارتينيبار في لكنؤ بالهند الإنكليزية صرَّح في كتابه المسمى (الإسلام ومؤسسه) صحيفة 87 بما يأتي بالحرف الواحد: (عندنا براهين قوية عديدة للتصديق بأن القرآن الموجود الآن هو عين ألفاظ النبي محمد الأصلية كما لقَّنَ وأملى بمراقبته وتعليمه) وبهذا قال موير المعدود في الوقت الحاضر أمهر وأحذق وأكبر عدو للإسلام) إلى آخر ما استشهد به. أما التغيير والتبديل والتحريف في كتب العهدين، فالمسلمون لا يقولون إن هذه الكتب كلها سماوية منقولة عن الأنبياء نقلاً صحيحًا، وإن اليهود والنصارى غيَّروها بعدما انتشروا في الشرق والغرب، ونقلها كل قوم دخلوا في اليهودية أو النصرانية إلى لغتهم؛ وإنما البحث في أصلها وكاتبيها في أول الأمر، ومن تلقاها عنهم قبل ذلك الانتشار العظيم، وهذا هو الأمر المُشْكِل، والداء المعضل، الذي لا يجد أهل الكتاب له دواء ولا علاجًا، من كتب الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام. يقولون: إن موسى كتبها وأودعها ما كلَّمه به الرب، فكانت تاريخًا له ولشريعته الإلهية، كيف يصح هذا الجواب وهذه الكتب تتكلم عن موسى بضمير الغيبة، وفي آخر فصل منها ذكر موته ودفنه؟ يزعم بعضهم أن هذا الفصل كتبه يشوع، وأنى يصح هذا وفي الفصل الحكاية عن يشوع، وأنه امتلأ روحًا وحكمة، فسمع له كل بني إسرائيل، فهذه حكاية عنه من غيره، ثم كيف يدلس يشوع ويلحق بكتاب موسى ما ليس منه من غير أن ينسبه إلى نفسه، ولعلهم استدلوا على ذلك بأن يشوع قد ابتدئ بواو العطف فإن أول عبارة فيه هي: (وكان بعد موت موسى عبد الرب) ... إلخ، وهناك دليل على أن الفصل الأخير ليس ليشوع أقوى من الحكاية عنه ومن تبرئته من التدليس، وهو أن الفصل المذكور بعد حكاية دفن موسى هذه الجملة (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم) فهي تدل على أن الجملة كتبت بعد موسى بزمن طويل، ولو كانت ليشوع لم تكن كذلك، وحسبنا أنهم من ذلك في شك مريب فكيف يوثق بهذا الكتاب ويقال إنه متواتر وعمَّن التواتر والأصل مشكوك فيه. في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ما نصه: (24 فعندما كمَّل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين حاملي تابوب عهد الرب قائلاً 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدًا عليكم 27 لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هوذا وأنا بعدُ حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي 28 اجمعوا إليَّ كل شيوخ أسباطكم وعرفاءكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض 29 لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون عن الطريق الذي أوصيتكم به) ... إلخ. فهذه هي التوراة التي كتبها موسى على حدة في كتاب مخصوص هي كلام الله الذي صدَّقه القرآن فأين هي، ماذا فعل بها أولئك الذين قال فيهم موسى إنهم يفسدون بعده ويزيغون عن طريق الحق الذي هو التوراة، وماذا أصاب التوراة من فسادهم وزيغهم وغلظ رقابهم؟ التوراة معناها الشريعة، وهذه الأسفار الخمسة كتب تاريخية يوجد فيها من أحكام تلك الشريعة مثلما يوجد في كتب السيرة النبوية عند المسلمين من آيات القرآن وأحكامه، وليست السيرة هي القرآن والشرع الإسلامي، وكما يوجد في السيرة النبوية مع التحري في روايتها ما يصح وما لا يصح فأجدر بتاريخ موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل أن يوجد فيها ما يصح وما لا يصح، وهي لم يتحر فيها كاتبها بعض تحري رواة المسلمين لسيرة نبيهم، بل قدمنا أن كاتبي تلك التواريخ مجهولون. اعترف صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية) استظهارًا بأن نسخة موسى (رُفعت من مكانها مرة ووقعت في خطر لما غلبت عبادة الأصنام في ملك منسا وأمون وانقطعت عبادة الله الحقيقية بين الإسرائيليين، وفي تلك المدة طرحت بين الرثث [1] حيث وجدت في ملك يوسيا الصالح، ثم قال: (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن، ولا نعلم ماذا كان من أمرها، والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما خرَّب بختنصر الهيكل، وربما ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت، وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ متفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها؛ وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية) فهل ينخدع المطَّلع على هذه الأقوال وأمثالها بقول صاحب كتاب (الأبحاث) إن الكتاب كان محفوظًا بين الألوف بلغات كثيرة؟ هؤلاء علماء اللاهوت في مذهبه يعترفون أن اليهود فُقدت منهم عبادة الله بعدما تغلبت عبادة الأصنام، وأن نسخة التوراة الوحيدة فُقدت، ويعترفون أن اليهود يُقرُّون بأن جميع كتبهم فُقدت لأنها كانت في الهيكل، وقد خربه الوثنيون وقد أخذوا الكتب، وأتلفوها، فلم يبق لهم مستند لأصل دينهم إلا زعم يوسيفوس بأن كل سبط من أسباط بني إسرائيل كان عنده نسخ من التوراة؛ ولكن أين هذه النسخ إن صح قوله - وهو رواية واحد بما يؤيد دينه - فتلك هي النسخ التي أتلفها بختنصر، فيبقى معنا شيء واحد وهو ادعاء أن عزرا الكاتب كتب جميع كتب اليهود كما كانت، بل صحح غلطها الأول وكتبها أحسن مما كانت، وههنا يسأل المسلمون عن الدليل على ذلك، وعن سبب وقوع الغلط في النسخ حتى احتاجت إلى إصلاح عزرا، وعن نسخة التوراة التي هي شريعة مستقلة كما كتبها موسى، وعن السند المتصل المتواتر إلى عزرا بذلك؟ ثم إنهم يقولون: إذا جاز أن يُصحح عزرا الكاهن خطأ الكتب المقدسة فلم لا يجوز ذلك لمحمد رسول الله وخاتم النبيين؟ اللهم إن الغرض مرض في القلب يحول بينه وبين قبول الحق، فألهم اللهم هؤلاء الناس بأن يطلبوا الحق بصدق وإخلاص وافصل بيننا وبينهم بالحق وأنت خير الفاصلين. هل جاء في كتبهم المقدسة أن عزرا كتب التوراة وسائر الكتب المقدسة كما كانت؟ كلا إنه جاء في الفصل السابع من سفر عزرا أنه في ملك أرتحشستا ملك فارس صعد عزرا (وذكر نسبه إلى هارون، وهو يدلي إليه بخمسة عشر أبًا) هذا من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل، وأنه جاء إلى أورشليم في الشهر الخامس من السنة السابعة لأرتحشستا الملك، قال 10 لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء 11 وهذه صورة الرسالة التي أعطاها الملك أرتحشستا إلى عزرا الكاهن كاتب وصايا الرب وفرائضه على اسرئيل 12 من أرتحشستا ملك الملوك إلى عزرا الكاهن كاتب شريعة إله السماء) إلى آخره. هذا هو دليلهم من كتابهم المقدس على أن عزرا كتب التوراة والكتب المقدسة بالإلهام بعد فقدها، وهو كما ترى لا يدل على ذلك، بل قصارى ما يعطيه أنه كان من كتبة الدين أو الشرع كما نقول أن فلانًا الصحابي كاتب الوحي، فلو فرضنا أن القرآن فُقد من المسلمين، وأنه لم يحفظ في الصدور، ثم ادَّعينا أن معاوية كتبه بالإلهام؛ لأنه وُصف في بعض كتب التاريخ الدينية بأنه كاتب الوحي، فهل يقبل منا أهل الكتاب هذا الدليل. ثم إن الملك أرتحشستا الذي شهد لعزرا هذه الشهادة التي لا نعرف سببها أمره مبهم في التاريخ لا ينطبق على روايات العهد العتيق المضطربة في سفر نحميا، وسفر عزرا فلا يعرف أهو أرتحشستا الأول الذي هو أزدشير الملقب عند الفرس بزرادشت أم هو أرتحشستا الثاني فإن ذكر عزرا له بعد داريوس يدل على أنه الأول، والتاريخ ينقض هذا. ولا نطيل في بيان الاضطراب فليرجع إليه من شاء في كتب التاريخ، وفي دائرة المعارف ملخص منه، وهذا الاضطراب يُبطل الثقة بالرواية، والمسلمون لا يقبلون خبرًا عن نبيهم رووه بالإسناد المتصل القريب، إذا كان فيه مثل هذا الاضطراب العجيب. يتصل الكلام ((يتبع بمقال تالٍ))

آثار علمية أدبية

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

_ آثار علمية أدبية (استنهاض همم) قصيدة أنشدت في الاحتفال الثامن لجمعية ندوة العلماء الهندية المخصوصة بعلماء الدين من نظم صديقنا الأستاذ الفاضل الأديب أحمد الجيتكير، قال بعد أبيات في حمد الله والصلاة والسلام على نبيه: وبعد يا معشر الإسلام مالكمو ... لا تشعرون وإن الخطب قد عظما عفَّى ديارَ علوم الدين قاطبة ... نسج الدبور وأرياح جرت نقما [1] يا للمدارس أضحت وهي دارسة ... يا للمكاتب تبكي العلم والعلما أما سمعتم بكاها وهي صارخة ... صراخ ثكلى على مولودها اخْتُرِما هذي المشاعر ضيم الدهر عطَّلها ... ورُدَّ واردها غيظًا فما كظما هذي الشعائر لم تبقِ الصروف لها ... مقدار عشر العشير الوزن والقيما وارحمتاه لأرض الدين ينقصها ... ريب المنون ممدًا سيلها العرما وارحمتاه لدين فلَّ عصبته ... من كل حام حماه راسخ قدما وارحمتاه لدين لات عدته ... فمد بالنهب أيدي غصبها الخُصما [2] وارحمتاه لدين قال نادبه ... واللرجال وواسيفاه واقَلَما يا للبقية صونوا الدين تنتصروا ... يصونكم ويرد المجد والحشما إني محذركم من وقع واقعة ... يُمسي الوليد لديها هيبة هرما ألا خذوا حذركم في كل آونة ... فما اتقى النار إلا كيِّسٌ حزما ووثقوا عروة الإسلام أوهنها ... تفرق فيكم قد حل مخترما هذي اختلافاتكم كم سخَّفت بكمو ... وسفَّهت عرب الإسلام والعجما أليس أكمل هذا الدين ربكمو ... أما أتم عليكم فضله النعما ياليت شعري ففيما ذا اختصامكو ... وما الذي بعده ترضونه حكما كم ذا التنازع ريح العز أذهبها ... كم ذا التشاجر ويحًا أثمر الندما كم ذي الفتاوى وكم تكفير إخوتكم ... كم ذا التشاتم واذُلاه واندما هذا الذي فتَّر الإسلام نهضته ... هذا الذي قصَّر الإعزام والهمما هذا الذي حيَّر الأحرار ترقية ... هذا الذي غيَّر الأخلاق والشيما الله الله كونوا أصدقاء كما ... كانت معاشرة أسلافنا القدما الله الله إن كنتم لهم خلفًا ... فتابعوهم مع الإحسان لا جرما وثقفوا أود الأحداث تربية ... حتى تقوم بهم سوق الكمال نُما ضيعتموهم إذ الأقوام غيركمو ... حازوا الفنون وفاقوا في النهى حكما إلام هيهات عنهم تغفلون وكم ... لا ترقبون لهم إلا ولا ذمما غدًا سيسأل كل عن رعيته ... فما جوابكم يا معشر العلما هذا بلاغ فيا قوم اسمعوه وعوا ... ويرحم الله من أوعاه معتزما ثم السلام على من لاذ متبعًا ... هدي النبي بحبل الله معتصما *** (القمر) زهته الملاحة حتى سفر ... وخلَّى الدلال لذات الخفر وبات يسامر أهل الهوى ... وقد طاب للعاشقين السمر يحدثنا عن بني (عذرة) ... ويروي لنا عن (جميل) خبر و (ليلى) وعن حب مجنونها ... وعمن وفى للهوى أو غدر ويذكرنا فعلات الردى ... بأهل البوادي وأهل الحضر كحظ السعيد إذا ما ارتقى ... وحط الشقي إذا ما انحدر أرى كل شيء له آية ... وآية هذي الليالي العبر فياقمر الأفق ماذا الزما ... ن جيل تجلى وجيل غبر ويوم يمر ويوم يكر ... فإنا نُساء وإنا نُسر بربك هل هذه الباقيات ... تقص من الغانيات الأثر وهل في فؤاد الدجى لوعة ... فإن غاب عنه سناك اعتكر كغانية فارقت صبها ... فأرخت عليها حداد الشعر إذا ما سهرنا لما نابنا ... فما للنجوم وما للسهر أترثي لمن بات تحت الدجى ... يقلب جنبيه حرُّ الضجر على لوعة يصطلي نارها ... وجمر الهوى في حشاه استعر وقد بسط البدر فوق الربى ... بساطًا فقام عليه الزهر إلى أن طوته يمين الصبا ... وقد بللته عيون السحر وباح الصباح بأسراره ... فحجبت الشمس وجه القمر ... ... ... ... ... ... ... (مصطفى صادق الرافعي)

نساء المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نساء المسلمين [1] ملخص محاورات بين الكاتبة الفاضلة فاطمة علية هانم كريمة العلامة جودت باشا أحد وزراء الدولة العلية رحمه الله تعالى، وبين بعض نساء الإفرنج السائحات. ابتدأت الكاتبة هذه المحاورات بمقدمة في الطور الجديد الذي دخل فيه العالم من الاجتماع وسهولة المواصلات والعناية بالسياحة، وذكرت أن السائحين من الإفرنج يعنون بمعرفة أحوال المسلمين، كما هو شأنهم في العناية بكل شيء، وأنها علمت من محاورات نساء الإفرنج ومما كتبوه من قصص السياحات أنهم يُخطِئون ويَهمون كثيرًا في اعتقادهم في نساء المسلمين وبيوتهم، وأن السبب في ذلك عدم إمكان اجتماع السائحين بالنساء المسلمات، وكون السائحات قلما يجتمعن إلا بالنساء التركيات اللواتي تربين تربية إفرنجية بمعرفة المربيات المعروفات بلقب (أنستيتوتريس) قالت: (فهؤلاء التركيات قد تعلمن اللغة الفرنسوية لا لأجل اكتساب المعارف والعلم؛ ولكن ليكن أوربيات خالصات، فبجهلهم بالدين ونبذهم العادات الملية ظهريًّا كان الحديث معهن كالحديث مع أهل البيوت الإفرنجية في بك أوغلي - قسم من الآستانة يسكنه الإفرنج - فلا يستفيد السائح منهن الحقيقة؛ فإنهن إذا سُئلن عن أحوال المعيشة الإسلامية يسكتن عن بيان استقامة الدين وطهارته، ويُفضن في الكلام بحدة وشدة على مسائل الحجاب، فيكن بجهلهن سببًا في طعن الأجانب في الدين الذي استنرنا بمشكاته وتشرفنا بآياته) . قالت: وإن من أهل البيوت الإسلامية من يظن أن في تعليم النساء العلوم والمعارف إثمًا، فلا يخصون بالإنكار تعلم اللغة الفرنسوية؛ وإنما ينكرون ما زاد على الضروري من اللغة التركية أيضًا، ولعمر الحق إن هؤلاء لا يعلمون ما بلغ إليه الأزواج المطهرات والبنات الزاكيات، وكثير من العالمات الأديبات في الصدر الأول للإسلام من رفيع الدرجات في العلم والفضل. إن كشف وجوه النساء غير محرم شرعًا، وإنما الواجب عليهن ستر شعورهن؛ ولكننا نرى بعضنا يعكس القضية، فيسترن الوجه ويكشفن عن الشعر، فالحد الوسط مفقود عندنا فنحن بين أمواج الحيرة لا ندري أين تقذفنا، ولا شك أن الخير في الاعتدال في جميع الأحوال وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. والواجب على السياح الراغبين في الوقوف على الحقائق أن يتعرفوها من أهل البيوت العائشين على الأصول الإسلامية، المحافظين على دينهم وعاداتهم الملية، العارفين مع ذلك اللغة الفرنسوية، لا من المترجمين الذين يجيبون عن كل ما يُسألون عنه، وإن كانوا لا يعلمون. ومعلوم أن الأوربيين لا يعترضون على شيء من أحكام ديننا الموافقة للعقل والحكمة؛ وإنما يتخيلون ويظنون أن نساء المسلمين مظلومات مهضومات، فيبالغون في المؤاخذة على ذلك، وقد اطلعت على أوهامهم في أثناء محاوراتي لبعض السائحات الوجيهات، ورأيت نفسي مضطرة إلى بيان ما دار بيننا في ذلك على الوجه الآتي: المحاورة الأولى في يوم من شهر رمضان الشريف أُخْبِرْنَا أن نبيلة أوربية تدعى مدام ف ... وراهبة زاهدة ترغبان مشاهدة طعام الإفطار في منزلنا، وفي أصيله جاءتا، وبعد أن طافتا في حديقة الدار الخارجية نصف ساعة استأذنتا في الدخول فذهبت لاستقبالهما؛ لأن وظيفة الترجمة في الدار مفوضة إلى هذه العاجزة وصحبني جاريتان لتحملا ردائيْ الزائرتين ومظلتيهما. وعند دخولهما حييتهما باللغة الإفرنسية وصافحتهما، ومدت يدها مدام ف.. إلى الجارية التي كانت بجانبي لتصافحها، فلم يكن من الجارية إلا أن أخذت المظلة من يدها، وهذه الجارية هي رئيسة الخدم عندنا، وأخذت الجارية الأخرى ردائيهما وبرطلتيهما، ودخلنا بهما إلى غرفة الضيوف، ثم عرفتهما بربة البيت وأفراده حسب العادة المتبعة وقدم إليهما الحلوى والقهوة على النسق التركي. وذكرت الكاتبة هنا سنهما وعدم زيارتهما الآستانة من قبل. ثم إن مدام ف.. طلبت أن ترى غرفة مفروشة على الطراز التركي، فعجبت أنها لم تر فيها غير مقعد بسيط، ثم رغبت إليَّ أن أطوف بها على سائر الغرف ففعلت مظهرة لها الارتياح لذلك، وفي أثناء ذلك التفتت إلى رئيسة الخدم وكانت واقفة أمامها وقالت: إنني عند الدخول مددت يدي لهذه السيدة فلم تقبلها؛ وإنما أخذت المظلة من يدي وأراها الآن واقفة لا تجلس معنا فما سبب ذلك؟ قلت: إنها جارية، قالت: وما شأن البنات اللواتي بالقرب منها؟ قلت: هن مثلها. ف.. حسن جدًّا؛ ولكنني أيتها السيدة أرى في أذنيها قرطين ثمينين، وفي إصبعها خاتمًا، وعلى صدرها ساعة جميلة وسلسلة حسنة، وكنت حسبتها سيدة، وقد أدهشني امتيازها بالحلي على غيرها من الجواري، فهذه الفتاة الواقفة في الجانب الآخر لا تتحلى إلا بقرط ليس بذي قيمة، وهذه الجارية الأخرى ليس لها إلا ساعة عادية فما سبب هذا التفاوت. أنا: إن الجارية التي حسبتِها سيدة هي رئيسة الخدم عندنا، أي أنها بمنزلة مديرة لسائر الجواري تعلمهن القيام بشؤونهن وخدمة أنفسهن في اللباس والنظافة والزينة حتى يحسنَّ ذلك بأنفسهن، وربة البيت تلقي تبعة كل تقصير منهن عليها، وقد أهداها سيدها ما ترين من الحلي لكثرة خدمتها، وهي تعلمت من رئيسة كانت قبلها، وهذه الجارية الفتاة جاءتنا وهي بنت أربع، ولها عندنا عشر سنين، ولما تُكَلَّف بعمل، وستُكَلَّف بعد اليوم، وهذان القرطان قد اشترتهما مما اقتصدته من مرتبها الشهري، وكذلك صاحبة الساعة، وهي أحدث عهدًا من هذه. ف.. متعجبة مستأذنة في طلب التفصيل: أين رئيسة الخدم السابقة؟ أنا: قد انتهت وظيفتها، وقد زوجناها ولها ثلاثة أولاد وهي في بيت زوجها. ثم سألت ف.. عن انتخاب رئيسة الخدم، وعن الرواتب للجواري والهدايا للقديمات، وعن كيفية ابتياعهن، وسنبين في الجزء الآتي الجواب عن الأخير؛ لأنه كان تمهيدًا للبحث في الرق والإماء والتسري وغير ذلك من الفوائد. ((يتبع بمقال تالٍ))

البدع والخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البدع والخرافات اختلاف العوائد في التسحير نشرنا في مناري رمضان من السنة الماضية الأحاديث الموضوعة في رمضان وفي الصوم، وبعض البدع التي فشت بين الناس في هذا الشهر الشريف، ومما عده صاحب المدخل - رحمه الله تعالى - من البدع تسحير المؤذنين، وذكر أنه ينهى عنه، ثم عقد فصلاً مخصوصًا لاختلاف عادات البلاد في التسحير، قال فيه ما ملخصه مع حفظ حروف الأصل: (اعلم أن التسحير لا أصل له في الشرع الشريف؛ ولأجل ذلك اختلفت فيه عوائد بعض الأقاليم، ألا ترى أن التسحير في البلاد المصرية بالجامع يقول المؤذنون: تسحروا وكلوا واشربوا، وما أشبه ذلك مما هو معلوم من أقوالهم، ويقرأون الآية الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة: 183) ... إلخ ويكررون ذلك، ثم يسقون على زعمهم، ويقرأون من قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإِنسان: 5) إلى قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ تَنزِيلاً} (الإِنسان: 23) والقرآن العزيز ينبغي أن يُنزه عن موضع بدعة أو على موضع بدعة) وذكر إنشاد القصائد ثم قال: ويسحرون أيضًا بالطبلة يطوف بها أهل الأرباع وغيرهم على البيوت ويضربون عليها، هذا الذي مضت عليه عادتهم وكل ذلك من البدع، وأما أهل الإسكندرية وأهل اليمن وبعض أهل المغرب فيسحرون بدق الأبواب على أصحاب البيوت وينادون عليهم قوموا كلوا، وهذا نوع من البدع نحو ما تقدم، وأما أهل الشام؛ فإنهم يسحرون بدق الطار وضرب الشبابة والغناء والهنوك والرقص واللهو واللعب وهذا شنيع جدًّا.. . وأما أهل المغرب فإنهم يفعلون قريبًا من فعل أهل الشام، وهو أنه إذا كان وقت السحور يضربون بالأبواق سبعًا أو خمسًا فإذا قطعوا حُرِّم الأكل إذ ذاك عندهم. ثم أطال في التشنيع على المغاربة كما شنَّع على أهل الشام على أن ما ذكره عنهم غير معروف اليوم ولا سمعنا به، وذكر من عادات المغاربة العجيبة أنهم عندما يمرون بالنفير والأبواق على باب مسجد يسكتون احترامًا لبيت الله، ثم إنهم يفعلون ذلك في منار المسجد في شهر التوبة والعبادة، ثم حذر من التمادي بالأنس بالعادة، وردَّ على من قال إن التسحير بدعة حسنة ثم قال: وإذا كان كذلك فينبغي أن يُنهى الناس عما اعتادوه من تعليق الفوانيس التي جعلوها عَلَمًا على جواز الأكل والشرب وغيرهما ما دامت معلقة، وعلى تحريم ذلك إذا أنزلوها، وذلك يُمنع فعله لوجوه. وذكر أربعة وجوه: (1) أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرض إيقاد النار ولا ضرب الناقوس ولا النفخ بالقرن للإعلام بالصلاة، ورضي بالأذان فكان علامة للصلاة والصوم. و (2) أن في ذلك تغريرًا لجواز أن تنطفئ بنفسها فيراها من يكون مضطرًّا لنحو أكل أو شرب فيمتنع ويتضرر. و (3) أنه قد ينساها أو ينام عنها الموكل بها حتى يطلع الفجر. و (4) أنها قد تشتبك ولا يقدر الموكل بها على خلاصها. ونحن نقول: إن المؤلف رحمه الله تعالى قد شدد جدًّا، حتى جعل بعض العادات بدعًا دينية، والبدعة إنما تكون حرامًا إذا كانت في الدين، وأما التفنن في العادات المباحة فليس بمحرم إلا إذا فعل باسم الدين أو ظنه الناس من الدين، ولا شك أن صرف أموال الأوقاف لا يجوز في غير مشروع. *** مستقبل الإسلام في رأي المسلمين الجغرافيين عثرنا بالمصادفة على مقالة في جريدة اللواء عنوانها (مستقبل الإسلام) وهي لرجل جزائري منحته الجريدة لقب (العالم) وذكرت أن مقالته نشرت في (مجلة المسائل السياسية والاستعمارية) ويظهر لمتصفح المقالة أن كاتبها تلقى خواص الإسلام ومزاياه من المسلمين الجغرافيين، لا من الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح؛ ولذلك لم يفده ذكاؤه في التمييز بين ما هو من الإسلام، وما هو من جماهير المنتسبين إليه اليوم، فغلط كثيرًا، ونسب للإسلام ما هو بريء منه. فمن ذلك أن الذين يعتنقون الإسلام يتولاهم (اضطراب داخلي عظيم فتقف عندهم كل حركة، وتدخل أعضاؤهم في دور ملل شديد) ونحن نقول: معاذ الله أن يكون هذه صحيحًا، فإن الذي يدخل في الإسلام يزول من قلبه كل اضطراب {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} (الرعد: 28) ويدخل في دور من النشاط كما نشط المسلمون في العصر الأول لكل عمل مفيد. ومنه زعمه أن مميزات المسلم: (قنوعه بالقليل وعدم طموح أنظاره نحو الأمور العالية البعيدة، وتفضيله الحياة المتوسطة المصحوبة بالسكون والراحة على الحياة الرفيعة المقرونة بالمشاغل والمتاعب) وزعمه أن زهادة المسيح لا توجد إلا في المسلمين، وكل هذه الصفات مما رزئ به المسلمون الجغرافيون؛ ولكن الإسلام إنما يمدح من القناعة ما يزكي النفس من الطمع فيما في أيدي الناس بالباطل ولم يسلم منه المسلمون الجغرافيون؛ وإنما وُجدت عندهم قناعة الكسل التي هي ضد الإسلام بدليل المباينة بين أهل الصدر الأول في جدهم وكدهم وعدم رضاهم بما دون السيادة على جميع الأمم، وما عرفوا بالسكون عن طلب المعالي والسيادة، ولا بحب الراحة التي غلبت علينا في هذه القرون النحسة التي ضاع فيها الإسلام والمسلمون. ومنه زعمه أن المسلم غير ميال للسياحة، وهو إنما يصدق على المسلم الجغرافي أيضًا، أما الإسلام الحقيقي فقد وصف الله تعالى أهله بقوله: (السائحين والسائحات) [*] وأمرهم بالسياحة في آيات كثيرة من كتابه ولم يأمرهم بالوضوء للصلاة إلا في آية واحدة {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (النمل: 69) {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) . ولا أنكر أن هذا الكاتب أصاب في بعض ما كتبه لا سيما تنديده بما وقع فيه المسلمون من الجهل وقبول الخرافات والأوهام وقوله إنهم لا ينقرضون، وإن انقرض الرومان والفراعنة من قبلهم وعلل ذلك بأن الأمم التي لها دين سماوي لا تنقرض واستدل على ذلك باليهود، وإن أدري أعالم مسلم كتب تلك المقالة أم هي دسيسة أسندت إلى هذا اللقب لتروج بين المسلمين ويطمئنوا إلى تلك المزايا الضارة والأخلاق القاضية بالضعف والخمول، وأنت ترى أن بحثها ليس في مستقبل الإسلام؛ وإنما هو في وصف المسلمين إلا الكلمة الأخيرة في عدم الانقراض. *** نبي الطب الجديد كُتب أيضًا إلى تلك الجريدة من مديرية القليوبية: أن في مركز نوى رجلاً يدَّعي أنه أوحى إليه جبريل عليه السلام في المنام فلقنه الطب وعلَّمه مداواة العلل والأسقام مهما اختلفت أنواعها، واشترط عليه أن يأخذ عن كل مريض يطببه خمسين قرشًا فقيرًا كان أو غنيًّا، ذكرًا أو أنثى، وليدًا أو كهلاً، ويدَّعي أن الوحي أباح له الخلوة مع الرجال خمس دقائق فقط، ومع النساء أربعين! ! ! ويعلل ذلك بأن سائر النساء مريضات بالبواسير ولا يمكن استئصال هذا الداء منهن في أقل من تلك المدة، وهناك حالات استثنائية يخلو فيها مع المرأة دون الرجل أكثر من أربعين دقيقة، وذلك إذا كان بها ريح يمنعها من الحمل على زعمه، ومن الناس من اغتر بهذه الدعاوى الباطلة فصدَّقوها. (المنار) إن الاعتقاد بوقوع خوارق العادات على الوجه الذي يتلقفه الناس بعضهم من بعض واعتقاد أن كل من يأتي بأمر غريب لا يعهدونه فهو مؤيد من الله - هما الاعتقادان اللذان أعدا الناس لقبول الدجل والانخداع للحيل، وإن ذهب بذلك دينهم ومالهم وانتهكت أعراضهم، وقد ذكرت الجريدة من إقبال النساء والرجال على هذا المتنبي المحتال، ولكن له أمثالاً من مدعي الولاية لا ينفر عنهم أحد.

السياسة والساسة من نحن ومن غيرنا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السياسة والساسة من نحن ومن غيرنا الرسالة الثانية سيقول الذين يرونني مغرمًا بالحقائق بعد أن يسمعوا كلامي في الرسالة الأولى: أَوَأنت أيضًا راضٍ عن السياسة وأهلها، وضارب فيها بسهم، ومشترك بها مع حزب؟ وهل تقدر أن تحب الحقائق وتتحزب؟ على سؤالهم بنيت هذه الرسالة الثانية: لا تبحث عن ماضي الإنسان الذي أوصله إلى هذا الحاضر، بل اكتف بمعرفة حالته الحاضرة. لا يفتح الإنسان عينيه على شيء في هذا الوجود قبل الثدي الذي يدر عليه اللبن، ولا يعشق شيئًا من هذا الكون قبل المحسنة عليه بهذا الدر، لا تسل ما هو إدراك الإنسان وكيف عشقه للأشياء، فذلك مما لم يدرك بعد، ولكن صور في ذهنك وليدًا وطاؤه حجر الأم، وغطاؤه ذراعاها، وغذاؤه يفيض به ثدياها، أول ما يناغي هُتافٌ باسمها ودعاء لرحمتها، مَن يكون معبوده غير معبودها وقد علَّمته اسمه أول ما تكلم، وإسناد كل شيء إليه أول ما ميز، ومحبة حزبه وكراهية مناظريه وأعاديه أول ما ودعه حضانها، واستقبله تدريبها، وكيف لا يقبل ذهنه غراسها ومعها والده وجده، وعمه وخاله، وعمته وخالته، والخوادم وأهل الحي أجمعون. أترى هذا الولد إذا كبر وترعرع، وعظم إدراكه واتسع، ينظر ما لم ينظره والداه في المعتقدات؟ قل هيهات هيهات! حدَّث التاريخ عن نفر من هذا القبيل؛ ولكنهم قليل، وهب أنه رأى ما رأى فهل تخال أنه يستطيع أن يظهر وأن يقول ويجهر؟ قل هيهات ثم هيهات، حصل شيء من هذا فيما غبر؛ ولكنه أقل وأندر، ثم هب أنه ظهر، وقال وجهر، فمن تظن أنه يستمع له؟ والكل جازمون أي جزم، أن ما ذهب إليه الآباء هو الحزم، ومخالفته نقص في المروءة والعزم، نعم كان شيء من هذا في القرون ولكنه إن أثمر على قلة فبعد موت الغارس، ومن ذا الذي يسمح أن يُعذب ويهان على غراسه في حياته، وينتظر أن يمدحه الدائسون عليه بعد مماته؟ إذا فهم هذا من فهم فلا جناح علينا أن نقول: إن الإنسان إذا كان عاقلاً عارفًا فلم يعذر نفسه في هذه المداخل لا ينصف إذا هو لم يعذر غيره ممن لا عقل لهم كعقله، ولا همة لهم كهمته، بل الطامع أن يكون الناس كعقل رجل واحد ومسلكه لا يصح أن نسميه عاقلاً عارفًا بعد أن قرأنا في سنن الوجود ناموس الاختلاف والتضاد الذي عرفناه راسيًا ثابتًا، وإن لم نعرف حكمته حتى اليوم. والعاقل لا يملك نفسه أن يتعجب كثيرًا من الأغلاط وشيوعها؛ ولكن تعجبه هو محل التعجب؛ لأننا لم نر مبصرًا يتعجب من أعمى، ولا حيًّا من ميت، ولا صحيحًا من مريض، وما هذا التعجب إلا أثر من نسيان هذا الناموس وتفرعاته. ثم هو إن تعجب أو لم يتعجب عائش في مجتمع فلا بد من أن يجد سبيلاً معهم من السكوت أو الموافقة أو المخالفة بالمعروف إذا رأى من زمانه دولة للبرهان، فهو في أي سبيل محتاج للسياسة. افرض أمامك شخصين ينسب أحدهما إلى الفرس والآخر إلى الروس، أفرأيت إن قلت للفارسي هل تكره الروس الذين هم بشر مثلك ومثل قومك، فقال لك لا، فقلت له لم تتحزب مع الفرس على الروس وهم أمثال بعضهم عندك، فقال لا أستطيع التوفيق بين مصلحتيهما المختلفتين، ولا بد لي من التحزب مع أحد الفريقين، ولا يرتاب أحد أن الأولى بي تحزبي مع الذين منهم أمي وأبي، وفيهم داري وعقاري، وحليلتي وصغاري، وأعرف لغتهم ويعرفون لغتي، وقضيت بينهم شطرًا كبيرًا من عمري أتقول له: هذا ينافي الحكمة والفلسفة، ويباين حب السلام والفضيلة، ويغاير العدل والحقيقة؟ وأرأيت إن قلت له يمكنك أن تكون بينهم ولا تتحزب معهم فحجك بأن الاجتماع يقتضي الاشتراك، أتقول له: هذه القضية غير مسلَّمة، وإن أقام لك عليها البراهين وأورد الأمثال؟ ثم أرأيت إن قلت للروسي هل تكره الفرس؟ فقال نعم، فقلت له: لماذا؟ فقال: لأنهم ليسوا على ديني، فقلت له: فما دينهم إذن؟ فقال: لا أعلم ولكن هكذا سمعت أبي وجدي - أفتحاجه أنت وتجادله بعدما برهن منطقه على أن الأنعام أعقل منه؟ وهل الفارسي أعقل منه إذا أجاب كما أجاب هذا وكان مذهبه التقليدي فيه مذهب المقلد المسكين فيه؟ بنو هذا النوع شأنهم في الاختلاف عجيب، وأعجب شيء أن أكثرهم لا يعلمون حقيقة المذهب الذي ينتسبون إليه، فضلاً عن مذهب المخالف، فهم إنما يقاتلون عن أسماء المذاهب لا عن حقيقتها وكنهها.. . وقد ضربت هذا المثل ليعلم كل واحد أن العقلاء الحكماء معذورون في التحزب فضلاً عن الحمقى والغافلين؛ لأن الشاذ في قومه الذي لا يرجو أن ينال نصيبًا ماديًّا أو أدبيًّا من فوزهم إذا فازوا لا يأمن أن يكون له نصيب من بأسائهم إذا خابوا وقهروا؛ لأن الخصم لا يُميز، بل أنصباء الفوز يخص بها فريق دون آخرين، وأما أنصباء البأساء فإنها تتوزع على الكل، وقد قيل من قديم: (الرحمة تخصص والبلاء يعم) هذا إذا ترك الشاذ وشأنه من قبل الجمهور وهيهات، على أنه ليس مجهولاً أن أولي العزم من الحكماء يحاربون الأغراض السافلة مهما حالت، ويحازبون المقاصد السامية حيث وجدت، وتراهم يصبرون حتى يفوزوا وتحيى بهم السعادات العامة التي ما زالت تستفاد من إرشادهم أو يقضوا كرامًا مخلدين ذكرًا في العالمين جميلاً مأسوفًا عليهم كثيرًا. قلت: إن أكثر بني هذا النوع الذين هم العوام، وهم كل البشر إلا قليلاً لا يعلمون حقيقة المذهب الذي هم عليه، وبرهان هذا الكلام من أوضح الواضحات لمن استقرأ؛ لأنه صادر عن الحس والمشاهدة ونضرب نحن الأمثال بالمسلمين الآن: هؤلاء المسلمين فرق شتى يكفر بعضهم بعضًا، وكلهم يقولون آمنا بأن النبي الذي اسمه محمد عليه السلام جاء من عند الله بكتاب اسمه القرآن، ثم أكثرهم لا يعلمون ما هو ذلك الكتاب الذي جاء به؛ لأنهم إما أعاجم لا يعلمون ذلك الكتاب العربي وإن تعلموا قراءة حروفه، وإما أعراب أميون لا يقرأون الكتاب إلا قليلاً، وإذا نظرت إلى الفرق واحدة واحدة تجد الأمر كذلك.. . هؤلاء العوام قاطبة تسأل أحدهم ما مذهبك فيقول لك حنفي أو شافعي أو مالكي أو حنبلي أو.. أو.. فإذا سألت الحنفي مثلا ما هو مذهب الحنفية تجده يقول لك لا أعرف؛ وإنما قد كان أبي حنفيًّا فصرت مثله، فهو إذن لا يعرف إلا اسم المذهب، وربما لا يعرف اسم الرجل الذي انتسب هذا المذهب لاسم بنته (حنيفة) ولقد بلغ الجهل ببعض العوام أن سألني: أي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم أهو حنفي أم مالكي أم.. أم.. وما أظن أن أمثال هذا السائل الجاهل قليلون ولا أتعجب من ذلك، وقلت يومًا لبدوي من (عَنَزَة) ما مذهبكم؟ فقال لي: لو سألت غيري لقال لك: نحن موالك (يعني مالكية) ولكن الصحيح الذي عليه المعول لا مذهب لنا ولا كتب عندنا؛ وإنما قد سمعنا أن المالكية لا يعتبرون الكلب نجسًا فأحببنا هذا القول؛ لأن الكلاب تطوف على أوانينا كثيرًا! . ماتت الفرق الإسلامية التي أساس مذاهبها العلم فقط كفرق المعتزلة والجبرية المحضة مثلاً، ولم يبق منها إلا أحاديث مذاهبها في كتب العقائد يحارب أسماءها قراءُ هذه الكتب، أما الفرق التي أساسها أغراض سياسية فهي حية باقية والموجود منها اليوم هذه: (1) أهل السنة، ومذاهب هؤلاء وطرائقهم واختلافاتهم وعددهم أكثر من باقي الفرق؛ لأنهم أخذوا من الكل وحشوه في كتبهم فكل مشتهٍ يجد فيها شهوته، وسموا أنفسهم على اختلافهم أهل السنة. (2) شيعة العجم والعراق. (3) شيعة اليمن والحجاز. (4) دروز وهم فرقة قليلة العدد بالنسبة لباقي الفرق. (5) نصيرية وهم أكثر من الدروز. (6) إسماعيلية وهم أقل منهما، وهذه الفرق الثلاث متقاربة كلها باطنية، وربما اعترض المسلمون بعَدِّ هؤلاء معهم، أما نحن فنراعي الظاهر هنا. (7) إباضية. (8) وهابية. سلني هل تعرف كل فرقة من هؤلاء حقيقة مذهب الثانية؟ كلا بل تلعن كل واحدة الأخرى من غير معرفة، وأغرب ما في الباب جهل الذين انتحلوا لأنفسهم اسم السنة بحقيقة الوهابية الذين هم دعاة الكتاب والسنة، كما يعرفه كل مختبر أحوالهم ومستمع أقوالهم. لا تنكر علينا التطويل بهذا فمنه استبانت لك حقائق مهمة تفيدك في هذا الموضع ومواضع أخر، ومنه تعرف عذرنا إذا بحثنا عن أحوال الأمم، وأحوال هذه الأمة وأحوال نفوسنا، سمِّ هذا البحث بالسياسة أو باسم آخر، فقد عرفت أننا رواد معانٍ لا رواد ألفاظ. وهل علينا بعد هذا من حرج إذا قلنا نحن كذا وغيرنا كذا بعد الإيمان بأن الغيرية طبيعية وأن لها أحكامًا. سيبقى في نفوس القراء شوق لمعرفة من نحن فنوصيهم أن لا يتعرفوا أنانيتنا- أي حقيتنا - من أسماء أشخاصنا، ولا من الأسماء التي ننتمي إليها، فالذي تسميه أمه سلطانًا مثلاً لا يجب أن يصير سلطانًا بالفعل، بل عليهم أن يتعرفونا بما نقول، وأن يسألوا عنا ما لديهم من العقول، فمن عرف الحق بالرجال شط، ومن عرف الرجال بالحق بلغ المحط. على أنه لا بأس أن نبين في فهرست إجمالي من نحن ومن غيرنا ليكون كمؤنس لمن سأل عن سياستنا قبل سماع قضاياها: (1) نحن بشر نرى أن الميزان في درجات البشر العلم والعمل، فمن كانت في كفتهم العلوم النافعة والأعمال الرافعة كانوا أعلى وبسياسة الأنام أولى، ومن كانت في كفتهم الجاهليات والأعمال الرديئة كانوا محتاجين للتعليم لئلا يطغوا في الأرض. (2) نحن أولو مصالح معاشية يهمنا أن تحميها سلطنة عادلة قوانينها، موافقٌ رئيسها. (3) نحن أهل مدن نرى حاجتها للمعارف وإصلاح الأخلاق والعوائد. (4) نحن جماعة متعاونون داعون إلى الإصلاح، وبه متذاكرون، والسلام على النظام العام. ... ... ... ع. ز

الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأمراء والحكام ونوع الحكومة الإسلامية [*] (ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه) (8) وقال صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويُحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم) [1] وفي رواية الترمذي عن عمر رضي الله عنه (وتدعون لهم ويدعون لكم) وهي بمعنى تصلون عليهم ويصلون عليكم هنا، ولو علم أمراء المسلمين اليوم مكانتهم في قلوب الأمة، لا سيما الخاصة منها، وماذا يقولون فيهم، لعرفوا من أي الفريقين هم، على أن منهم من يعتقدون أن الأمة عدوة لهم؛ ولذلك اتخذوا عليها الجواسيس والعيون. (9) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح إلا لم يدخل معهم الجنة) [2] . (10) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فلم يَحُطهم بنصيحته كما يحوط أهل بيته فليتبوأ مقعده من النار) [3] . (11) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما والٍ ولي شيئًا من أمر أمتي فلم ينصح لهم ويجتهد لهم كنصيحته وجهده لنفسه، كبَّه الله تعالى على وجهه يوم القيامة في النار) [4] فمن لنا بمن يوصل مثل هذا الحديث إلى الأمراء الذين يهملون أمور الرعية، ويصرفون همتهم كلها إلى تنمية أرزاقهم وتكثير غلاتهم لعيالهم والادخار - ليعتبروا به إن كانوا مؤمنين. (12) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما راعٍ استرعي رعية فلم يَحُطْها بالأمانة والنصيحة ضاقت عليه رحمة الله التي وسعت كل شيء) [5] . (13) وقال صلى الله عليه وسلم: (ما من أمير عشرة إلا وهو يؤتى به مغلولاً يوم القيامة حتى يفكَّه العدل أو يوبقه الجور) [6] . (14) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل، فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين) [7] وهذا الحديث بمعنى الحديث الأول في النبذة الماضية الذي هو في صحيح مسلم، والمراد بالأفضل هنا من يزيد على غيره في العلم بالعمل الذي استُعمل لأجله، فإن كان العمل حربيًّا يجب أن يولَّى الأعلم بفنون الحرب، وكذلك إن كان علميًّا أو إداريًّا، ويعتبر مع العلم الهمة والأخلاق التي من أثرها العمل بالعلم. ومن أكبر أسباب ضعف المسلمين أن أمراءهم صاروا يولون العمال بالهوى لما أعطوه من السلطة المطلقة التي تخالف ما جاء به الإسلام، قال عمر رضي الله عنه: (من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يستعمله إلا لذلك، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) . (15) وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم مسئول عن رعيته فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسئول عن رعيته وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) [8] ولا يخفى أن الإمام هو الأمير الحاكم، والمسئولية في الدنيا بمعنى المطالبة شرعًا بإقامة العدل والأمانة في العمل، فمن خالف يُعاقب ولو بالعزل، وفي الآخرة يسأله الله ويجزيه الجزاء الأوفى. (16) وقال صلى الله عليه وسلم: (إنه سيفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدَّى الأمانة) [9] . احتجاب الأمراء والحكام (17) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر الناس شيئًا فأغلق بابه دون المسلمين أو المظلوم أو ذوي الحاجة أغلق الله دونه أبواب رحمته عن حاجته وفقره أفقر ما يكون إليه) [10] . (18) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عنه يوم القيامة دون حاجته وخلته وفقره) [11] . (19) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر الناس شيئًا فأغلق بابه دون ذوي الفقر أو الحاجة أغلق الله عن فقره وحاجته باب السماء) [12] . (20) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر المسلمين شيئًا فاحتجب عن ضَعَفَة المسلمين وأولي الحاجة احتجب الله عنه يوم القيامة) [13] . (21) وقال صلى الله عليه وسلم: (من احتجب عن الناس لم يحتجب عن النار) [14] . ومما فتن به أمراء المسلمين عندما استبدوا بالسلطة المطلقة بدعة الاحتجاب دون الرعية، لا سيما الفقراء وذوي الحاجة فطغوا واستكبروا وعتوا عتوًّا كبيرًا حتى سلط الله عليهم الأمم الأجنبية، فصارت تنتزع ملكهم من أيديهم، وأغلق الله دونهم أبواب رحمته في الدنيا فلم يجدوا حيلة لإعادة سلطتهم المطلقة {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} (فصلت: 16) . وسنبين بعدُ الأحاديث الواردة في هلاك الأمة بظلم أئمتها وأمرائها. آثار السلف عبرة للخلف روى ابن المبارك وابن راهويه ومُسدَّد عن عتاب بن رفاعة بن رافع قال: بلغ عمر بن الخطاب أن سعدًا اتخذ قصرًا وجعل عليه بابًا وقال: (انقطع الصُّويت) فأرسل عمرُ محمدَ بن مسلمة وكان عمر إذا أحب أن يؤتى بالأمر كما يريد بعثه، فقال: ائت سعدًا واحرق عليه بابه، فقدم الكوفة فلما أتى الباب أخرج زنده فاستورى نارًا، ثم أحرق الباب، فأتي سعدٌ فأُخبر ثم وُصف له صفته فعرفه فخرج إليه سعد، فقال محمد: إنه بلغ أمير المؤمنين عنك أنك قلت: (انقطع الصويت) فحلف سعد بالله ما قال ذلك، فقال محمد: نفعل الذي أمرنا ونؤدي عنك ما تقول، وأقبل - أي سعد - يعرض عليه أن يزوده فأبى، ثم ركب راحتله حتى قدم المدينة فلما أبصره عمر قال: لولا حسن الظن بك ما رأينا أنك أديت، وذكر - أي محمد - أنه أسرع السير وقال: قد فعلت وهو - أي سعد - يعتذر ويحلف بالله ما قال، فقال عمر: هل أمر لك بشيء؟ قال: ما كرهت من ذلك؟ إن أرض العراق أرض رقيقة، وأهل المدينة يموتون حولي من الجوع فخشيت أن آمر لك بشيء فيكون لك البارد ولي الحار، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يشبع المؤمن دون جاره) اهـ. ولعل في آخر الكلام حذفًا أوتحريفًا. وروى ابن سعد عن موسى بن أبي جبير عن شيوخ من أهل المدينة قالوا: كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: أما بعد فإني فرضت لمن قِبَلي في الديوان [15] ولذريتهم ولمن ورد علينا بالمدينة من أهل المدينة وغيرهم ممن توجه إليك وإلى البلدان، فانظر من فرضت له فنزل بك فاردد عليه العطاء وعلى ذريته ومن نزل بك ممن لم أفرض له فافرض له على نحو مما رأيتني فرضت لأشباهه وخذ لنفسك مائتي دينار - أي في السنة - فهذه فرائض أهل بدر من المهاجرين والأنصار، ولم أبلغ بهذا أحدًا من نظرائك غيرك؛ لأنك من عمال المسلمين فألحقتك بأرفع ذلك، وقد علمت أن مؤنًا تلزمك، فوَفِّر الخراج وخذه من حقه، ثم عف عنه بعد جمعه، فإذا حصل إليك وجمعته أخرجت عطاء المسلمين وما يُحتاج إليه مما لا بد منه، ثم انظر فيما فضل بعد ذلك فاحمله لي، واعلم أن ما قبلك من أرض مصر ليس فيها خمس؛ وإنما هي أرض صلح وما فيها للمسلمين فيء تبدأ بمن أغنى عنهم في ثغورهم، وأجزأ عنهم في أعمالهم ثم نقص (كذا في نسخة كنز العمال ولعلها تفيض) ما فضل بعد ذلك على من سمى الله. واعلم يا عمرو أن الله يراك ويرى عملك فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) يريد أن يُقتدى به، وأن معك أهل ذمة وعهد، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأوصى بالقبط فقال (استوصوا بالقبط خيرًا فإن لهم ذمة ورحمًا) ورحمهم أن أم إسماعيل منهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) احذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لك خصمًا فإنه من خاصمه خصمه، والله يا عمرو لقد ابتليت بولاية هذه الأمة وآنست من نفسي ضعفًا، وانتشرت رعيتي، ورق عظمي، فأسأل الله أن يقبضني إليه غير مفرِّط، والله إني لأخشى لو مات جمل بأقصى عملك ضياعًا أن أسأل عنه يوم القيامة) . فانظروا أيها المسلمون وتأملوا سيرة سلفكم الذين ملكتم بهم الأرض، وكيف أكل خلفهم الأموال وظلموا أهل الذمة والمعاهدين حتى دالت لهم الدولة مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا ظُلم أهل الذمة أُديل للعدو) أي عادت لهم الدولة. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ الصحة في تغيير الهواء وتربية الخيال والذاكرة بمحاسن الغبراء [*] (35) من هيلانة إلى أراسم في 20 يونية سنة 185 كان (أميل) عليلاً وكنت مشفقة عليه في بداية مرضه من الحمى الحصبية؛ ولكنه لم يصب بالحصبة، والسبب في عدم إخبارك بذلك هو أن الدكتور كان قد تعهد بأن يكاشفك بسير المرض، ثم إنه لما لم يجد فيه أدنى خطر عليه رأى من العبث أن يوقظ ما نام من همومك، ويحرك ما سكن من دواعي قلقك، ولقد عجلت إليه العافية، فلم يمض عليه خمسة عشر يومًا حتى رُد له لباس الصحة وثابت إليه أوابد القوى، وأما أنا فكان شأني غير ذلك؛ لأن ما قاسيته من التعب في ليالي سقمه التي لازمت فيها السهاد وما كان يساورني فيها من الحزن والإشفاق - قد تزعزعت له صحتي، ووهت به عافيتي، وللطب الإنكليزي في مثل حالتي هذه دواء لابد أن يكون هو سيد الأدوية على ما أرى، وسندي في هذا الرأي ما أراه من ثقة الأطباء به في وصفه لمرضاهم، ومن إذعان هؤلاء له طيبة به نفوسهم وهذا الدواء هو تغيير الهواء. نعم إن الهواء الذي نستنشقه في مرازيون جيد غير أن أخص ما يعول عليه أطباء الإنكليز في إيصائهم المرضى بتغيير الهواء لتجديد قواهم، إنما هو الانتقال من مكان إلى آخر، والنظر في مجالي الكون ومشاهده وتغيير ما التزموه من عاداتهم، وإني والحق أقول قد أعجبت بهذا الرأي بعض الإعجاب لأني أعلم أن ضواحينا التي يتوارد عليها السياح كثيرًا غاصة بضروب المحاسن الحقيقية، ولهذا السبب لم أعارض في هذا الرأي، بل أذعنت له إذعان المريض المطيع الذي يجل أحكام العلم ويكبرها. لم تكلفنا معدات السفر كبير عمل ولا مزيد عناية؛ فإن السيدة وارنجتون بفضل خبرتها بطرق البلاد وجهاتها قد تكفلت بأن تُشْرِعَ لنا طريق السير، وسقط قوبيدون على مركبة عتيقة من المركبات المكشوف مقدمها مرت عليها أيام كانت فيها أسعد حالاً بأصحابها، وعلى فرس مُذْك (كبير السن) لا يزال فيه على كآبة منظره من القوة ما يقدره على احتمال مشاق الصعود والهبوط في أنجاد هذه الجهة وأغوارها الكثيرة، فاستأجرناهما بأجرة قليلة، وفي صبيحة يوم ظعننا استوى الزنجي البار على كرسي المركبة استواء السائق المختال المعجب بنفسه. كان وجه (أميل) وقد زال شحوبه وعاد إليه لونه يتلألأ فرحًا، ويزهر بشرًا وطلاقة؛ لأنه لا شيء يلذ للأطفال كتوقع الحوادث؛ ولكنا لم نصادف في طريقنا شيئًا منها نقص عليك حكايته فلم نلاق سلَبَة ولا حوشًا ولا أسارى مقيدين في مغارات الصخور، مع أننا قد جبنا أرضين مقفرة تحدها سواحل قحلة مهجورة معرضة لجميع ما يطرأ من ضروب هياج البحر وطغيانه. لم يكن خروجي إلى التنزه لمحض التداوي بتغيير الهواء، بل كنت أرمي إلى غرض آخر أيضًا، وهو أن ينفعل (أميل) بما يشاهده من المناظر الخلوية وصورها المدهشة، فتنتعش لها في نفسه آثار حية، فإنه يقال أن أول شيء بعث في نفس بايرون [1] تباشير ولعه ولهجه بالشعر؛ إنما هو منظر ما يوجد في هضاب إيقوسيا من البحيرات وقمم الجبال، ولست اعتقد أن (أميل) سيكون بايرون عصره، بل لا أجد شيئًا من الحق في التطلع إلى ذلك؛ ولكني أتكدر وأحزن أن رأيته من حيث هو إنسان لا يتأثر بما هو مسطور في صفحات الكون من جيد الشعر وبديعه. قد وهمت فيما علقته على هذا السفر القصير من الأمل الكثير في تنبيه القوى الحاسة في (أميل) وها أنذا اعترف لك بخطأي صاغرة، إذ قد تبين لي أني تعجلت في هذا الأمل فإني رأيته لا يشوقه إلا النظر إلى الجزئيات واستطلاع وقائع الخلوات، وهو من حداثة السن بحيث يصعب عليه إدراك الأشياء في جملتها ومجموعها. أرى أن الطريقة المثلى في تنبيه الأطفال، وبث روح الملاحظة في نفوسهم أن لا تطلب منهم الملاحظة ولا يحملون عليها، وقد سرت على هذه الطريقة في سياستي (لأميل) فلم أشذ عنها إلا مرة واحدة، ذلك أننا كنا في رأس ليزارد [2] وما أكثر عجائبه، وإن أردت تخيلها فمثل لنفسك صخورًا هائلة على جميع الأشكال بعضها قائم وبعضها ساقط، وشيء منها متصل وآخر منفصل يهيج بينها البحر ويصطخب، ومنها ما غمره البحر فطوَّق جيده بقلادة من الزبد، ولم يبد منه سوى رأس مخروطي أملس مصقول، لا تفتأ الأمواج تغسله، ثم تصور أن بصرك يتتبع من بعيد خط السواحل فيرى ما يتخللها من نقطة إلى أخرى من الصدوع العظيمة والوهاد والمغارات المظلمة، فإذا وقف الإنسان وسط هذه المشاهد الكبرى كانت حيرته في اختيار المكان الذي يشرف منه عليها، وقفت أنا و (أميل) تجاه (كينانس كوف) وهو أحد الخُلج التي يُرى فيها البحر أجمل ما يكون وسط الأطلال وقطع الصخور، وأخذت بيده ثم قلت له انظر إلى هذه المكان نظرًا بليغًا وانقشه في حافظتك فلعلك لن ترى هذا المنظر بعد اليوم. كأني بك تقول هل القوة الذاكرة مما يأتمر بأمرنا فنأمرها بالحفظ والذكر؟ فأجيبك بأن لي بعض الحق أن أعتقد هذا إذا رجعت إلى ما دلتني عليه تجربتي، ذلك أني أيام كنت فيما يقارب سن (أميل) سافر والداي إلى مقاطعة أوفرني [3] وأخذاني معهما، وفي يوم من أيام إقامتنا هناك صعدنا على إحدى شعاف الجبل المسمي مُنْدُور، وهناك نشدني الله والدي جاهرًا بصوته أن لا أنسى ما كنت أشاهده في تلك الساعة ما دمت حية، ولا أراك إلا سائلي عن نتيجة هذا الإقسام فاعلم أن جميع ما كان ينبسط أمام ناظري في ذلك الوقت من المشاهد المحدقة بي وهي مشاهد الجبال والربى والوديان لا يزال مرسومًا في لوح ذاكرتي، ومن هذا تعرف السبب الذي حملني على اتباع هذه الطريقة مع (أميل) نعم إن والدي قد أوصاني بعد هذه المرة بحفظ منظر آخر لا أذكره الآن، فلم يجد ذلك شيئًا في الحفظ، وأنا أستنتج من ذلك أنه إذا تيسر في وقت ما أن يكون للمربي شيء من السلطان على حافظة الأطفال؛ فإن هذا السلطان من الأمور التي لا ينبغي الإفراط في استعمالها. إذا وُكِّل (أميل) لنفسه كان دهشه بالأشياء التي يراها أكثر من إعجابه بها، وهذا مما يحملني على اعتقاد أنه لابد في رؤية الأمور على حقيقتها كمال الرؤية من شيء من الخيال، خذ لذلك مثلاً وهو أن الطفل لا يعرف من البحر سوء دائرة الأفق التي يحويها بصره، وهي دائرة ضيقة بالنسبة للواقع؛ فإن حجاب المسافات يحول بينه وبين ما وراءها من بقية البحر، فإذا كان الشاعر يفنى عن شهوده وترتفع نفسه إذا وقف أمام مشهد المياه الجليل، فذلك لأنه ينظر بفكره إلى ما وراء الأفق من امتداد المحيط؛ فإنه متى انفك ساعة من ربقة عجز المشاعر الظاهرة تتسع في خياله حدود العالم المشهود، فيضيف إلى هذه البقعة المائية المضطربة التي لا يرى منها إلا جزءًا حقيرًا مهما كانت دقة بصره صورة عدم التناهي والجلال، وكلاهما من مدركات العقل لا دخل للحس فيهما، وبالجملة فإنه يرى الجلال والعظم في ماهية البحر ومعناه الذهني لا في صورته المرئية. إن خلو نفس (أميل) من ملكة التفكير التي لا بد أن تظهر فيه بتقدمه في السن يكشف له سر عدم اكتراثه بما يراه من مناظر الكون، بل تقليده غيره في الإعجاب بها كما يبين لي من انبعاث شوقه إلى بعض جزئيات ما كانت تخطر ببالي مطلقًا، ولهجه بها لهجًا شديدًا ذلك أن معظم الصخور التي يتكون منها رأسًا ليزارد ولندس إند (طرف أرض) وضع لكل صخرة منها اسم خاص بها، كأنه يخاطب الخيال ويوقظه فيريك الدليل الخريت منها صور العمود وعرين الأسد والمطبخ والمنافيخ والمقلاة والفرس ورأس الدكتور جونسن ووجه الدكتور مسنتاكن وغيرها فمن هذه الأسماء ما ينطبق ولا شك على مناسبات خرافية تختلف درجة قربها أو بعدها من الحقيقة، غير أن منها أيضًا ما هو مبني على وجود وجوه شبه ظاهرة للعيان بين مسمياته الأصلية وبين تلك الصخور التي وضع لها، ومن المحتمل أن تكون هذه الألعاب الكونية والصور الاتفاقية والحجارة التي تمثل هيئة الإنسان أو شكل شيء من الأشياء مع عدم نحتها بالمنحات هي التي بعثت في نفوس الأولين فكرة صناعة التماثيل، ومهما كان أصل هذه الصناعة؛ فإن هذا الفن الفطري الاضطراري الذي نقشته على الصوان يد الخالق القادر هو من الغرائب غير المألوفة التي هاجت شوق (أميل) إلى معرفتها؛ فإنه كان يجتهد من نفسه في إدارك ما بين قطع الصخر وبين بعض الأشياء المعروفة له تمام المعرفة من وجوه الشبه التي لم تغرب أيضًا - كما تدل عليه أسماء تلك القطع - عن فكر صيادي السواحل السذج البسلاء. من عهد أن رأيت جميع النموذجات الأصلية لفن العمارة ظاهرة في المغارات وسلاسل الصخور لم يسعني إلا الارتياب في أن هذا الفن من مخترعات الإنسان، ذلك لأنك تجد فيها أصل النافذة القوسية والقباب بما يقوِّمها من الارتفاع والانحناء والدعائم الثقيلة والعمود الرفيع المخطط والشبابيك الطويلة المقبوة والعماد وغيرها من الأشكال الكثيرة، فليس على الخيال إلا أن يتوجه إلى هذه الكتل الصخرية المتراكمة حتى يميز النظر من بينها مُثُلاً لمعابد عتيقة وصفوفًا من تماثيل صخرية ذات وجوه ناقصة وزخرفًا رمزيًا ووحوشًا خرافية لو فصلت من الصخر لكانت شخوصًا مستقلة. إني على كوني لست من العلماء، ولا من الأثريين كان بودي أن أعلم (أميل) في هذه الفرصة الجميلة بأن ألقي في ذهنه معنى للآثار السلتية [4] التي لا تخلو منها بعض جهات كورنواي وأكثرها شيوعًا هو كما تعلم الدوائر القسيسية [5] والأحجار الطويلة القائمة في الأرض على قواعدها كالمسلات والرؤوس الصوانية الطبيعية التي صارت بعد عمل صناعي قليل هي الحصون الأولي للبلاد، تحميها من لصوص البحر، ولقد كان أشد هذه الآثار استمالة لي مدرَّج بيدين في رأس ليزارد. ومما يحمل على الظن بأن يد الإنسان هي التي نحتت هذا المدرج في الصخر ما يشاهد في بعض أرجائه من آثار أعمال تلك اليد الفطرية التي محا نصفها كرور العصور، وما نبت من الأعشاب الدقيقة على سطح الصخور، ومن الأقوال المروية في شأن ذلك المدرج أن الدوائر العظيمة الناتئة في سمك الحجر كانت فيما غبر من الزمن صفوف درجات، وأن السلت قد انتهزوا حينئذ فرصة وجود منحنى خطته يد الفطرة، ووهدة يزيد البحر في قاعها فجعلوها مسرحًا لأبصار النظار وعملوا لجمعهم حولها، إذا صحت هذه الرواية فليت شعري ماذا كان المنظر الذي كان يحشر الناس له في هذا المكان؟ إن كان ذلك هو الكون وعظمه؛ فإنه مشهد جدير بإثارة وجدان الإعجاب والإكبار خصوصًا في هذه البقعة؛ ولكني أرجح أن ذلك الاجتماع كان لقضاء بعض المناسك الدينية لوجود جملة من الصخور السوداء ناهدة على سطح الأمواج تجاه المدرج، يقال أن القسيسين كانوا يتخذونها مذابح للقرابين وتلك شعائر أقل ما فيها العظم والجلال. يوجد أيضًا في هذه الناحية حجارة عمودية يتألف من تناسقها دوائر متناسبة الأجزاء تسمى بالكروملك، يكتنفها نبات الخلنج الأدكن المحزن، فيورث رائيها الغم والخوف؛ ولكن أنى (لأميل) أن يكون له كبير اشتغال بمثل هذه الآثار القديمة، وهي خلو من أثر صناعة النقش ومجهولة التاريخ وكيف يرجي منه الاهتمام بها؟ على أني أرى أن نفسه قد انفعلت بآثار كامنة فيها لما شاهدناه ستظهر فيه يومًا من الأيام، وإني أستند في هذا الأمر على أمر صبياني جدًّا، غير أن كل شيء في عالم الطفولة هو أكبر مما يظن به ودونك قصة هذا الأمر: كان يوم 11 يونية عيد ميلاد (أميل) فأراد أن يشهر هذا اليوم العظيم بمأدبة خفيفة موا

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (رمضان) فديتك زائرًا في كل عام ... تحيِّي بالسلامة والسلام وتقبل كالغمام يفيض حينًا ... ويبقى بعده أثر الغمام وكم في الناس من دنف مشوق ... إليك وكم شجي مستهام رمزت له بألحاظ الليالي ... وقد عجز الزمان عن الكلام فظل يعد يومًا بعد يوم ... كما اعتادوا لأيام السقام ومدَّ له رواق الليل ظلاًّ ... يرف عليه أجنحة الظلام فبات وملء عينيه منام ... لتنفض عنهما كسل المنام ولم أر قبل حبك من حبيب ... كفى العشاق لوعات الغرام فلو تدري العوالم ما درينا ... لحنَّت للصلاة وللصيام وما كلُّ الأنام ذوي عقول ... إذا عدُّوا البهائم في الأنام بني الإسلام هذا خير ضيف ... وقد يغشى الكريم ذرى الكرام يلمُّكم على خير السجايا ... ويجمعكم على الهمم العظام فشدُّوا فيه أيديكم بعزم ... كما شدَّ الكميُّ على الحسام وقوموا في لياليه الغوالي ... فما عاجت عليكم للمقام وكم نفر تغرهم الليالي ... وما خلقوا ولا هي للدوام وخلوا عادة السفهاء عنكم ... فتلك عوائد القوم اللئام يحلون الحرام إذا أرادوا ... وقد بان الحلال من الحرام ومن روَّته مرضعة المعاصي ... فقد جاءته أيام الفطام * * * (حسن التعليل في التمثيل) بنو آدم أعداء ... على السراء والضرا وما حياك باسِمُهم ... وإن أبدى لك البشرا ففي الصدر حزازات ... تكاد تمزق الصدرا ولو كادوا النجوم هوت ... من الخضراء للغبرا فما الدنيا إذا فكَّرْ ... تَ غير جهنم الصغرى ألست ترى بها أممًا ... وكل تلعن الأخرى لقد جرّبتُ أهليها ... فلم أر فيهم خيرًا (ومثلهم لنا الكفر ... اوي والصبان والفرَّا) فعمرو ضارب زيدًا ... وزيد ضارب عمرا ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى صادق الرافعي * * * (تشطيران للأديبة المصرية الشهيرة السيدة زينب فواز) (ومصباح كأن النور منه) ... يحاكي ثغره البسَّام جهلا زها منه ضياء كي يضاهي ... (محيَّا من أحب إذا تجلى) (أغار على الدجى بلسان أفعى) ... فبدد شمله خذلاً وذلا وبارز كوكب الجوزاء منه ... (فشمَّر ذيله فَرَقًا وولَّى) * * * (أمنت إلى هذا وذاك فلم أجد) ... من الخلق من أرجوه في عالم الحس وما رمت من أبناء دهر معاند ... (أخا ثقة إلا استحال إلى العكس) (فأصبحت مرتابًا بمن شط أو دَنَا) ... ولو كان في المريخ أو جبهة الشمس وأيقنت أن لا خل في الكون يرتجى ... (من الناس حتى كدت أرتاب من نفسي) * * * (قصيدة بدوية سليقية في واقعة سياسية) كُتب إلى جريدة الأهرام الغراء من مسقط ما نصه: صرف القنصل الإنكليزي زمنًا طويلاً وهو يحاول الوصول إلى منجم للفحم الحجري في صور، فبذل لذلك كل مسعى وحبط في المرتين الأولي والثانية؛ ولكن حبوطه لم يثنه عن عزمه، وظل متلعًا عنقه إلى المنجم وفاتحًا عينيه للقبض على المغنم، وسار ثالث مرة فوقف الأعراب في وجهه في وادي (رفصة) وردوه، فاتفق مع سلطان عمان على أن ينجده بالهدايا والأموال، فجاء السيد فيصل يحمل التحف ليغوي بها الأعراب، فهبت على مركبه ريح صرصر فابتلع البحر الهدايا وضاعت من يده؛ ولكنه اتكل على المال الذي أعطاه إياه الإنكليز، فوزع على مشايخ القبائل مبلغًا جسيمًا فرضي بعضهم بأن يسمح للقنصل بالوصول إلى المنجم والوقوف عليه، وأبى الآخرون وسار القنصل مخفورًا فلما كاد يصل ظهرت ألوف العربان، وأطلقت البنادق؛ ولكنهم أُقنعوا بأن القنصل لا يريد الاستيلاء على المعدن أو الأرض، بل هو يريد رؤيته فسلموا له بذلك بعد مال وفير قسم بينهم، وما مكث القنصل عند المنجم سوى بضع ساعات إذ وقف على حاله وعمقه وموقعه، وأشار عليه المشايخ الذين يخفرونه بالقفول سريعًا مخافة العطب، والقصة كلها نظمها أحد مشائخ الجعليين شعرًا، وهذا الشيخ المسن أعمى لا يرى، وهو ينظم الشعر عفوًا ارتجالاً، والكتاب تتلقاه عنه وتسطره، وهذه هي القصيدة وفيها الدلالة الكافية ننشرها على علاتها كالفكاهة؛ ولأنها الآن أنشودة كل عربي وبدوي في تلك الأصقاع. حدث أخي عن العجب ... وعن العلا وعن الحسب وعن الخيانة أنها ... عار قبيح في العرب طلب النصارى [1] أرضنا ... بمكيدة يومًا طلب متعللاً بسياحة ... ... وقناصة تقضي الأرب فأقام منا عصبة ... في رده حتى ذهب لما دعا عيسى [2] أجبـ ... ـناه فحيا من وثب فمضى ونحن أمامه ... لنضم شملاً للعرب جئنا لجعلان فلم ... نلق خلافًا مقتضب فتواثقوا وتعاقدوا ... في منعه عما طلب وبنو مشرف [3] قابلوا الـ ... ـبالوز [4] بالمنع الألب منعوه من أمرار رفـ ... ـصتهم فرد على العقب وسليل [5] تركي تهد ... دهم فلم يخشوا عطب لله درهم ودر ... رئيسهم حين انتدب فرأى النصارى أننا ... في البأس كالسيف العضب فغدا وكاتب فيصلاً ... فأجابه لما كتب فأتى إلى صور لكي ... يقضي لهم ذاك الأرب في مركب قد جاءها ... وله متاع قد ذهب قد سلط الله على ... ما عنده بحرًا لجب ودعا القبائل كي يخا ... دعهم بمال أو نشب فنما إلينا أمره ... وأتى إلينا المحتسب عيسى وأصحاب له ... جاءوا لنا بالمنترب [6] ووراءهم جند كثـ ... ـير كالتراب إذا حسب حرث وحجريون والـ ... ـهشم الغضارفة النجب مع آل حبس [7] أو وهيـ ... بة [8] أو رواحة [9] تنتدب ندب [10] ورحبيون أيـ ... ـضًا والسيابي المنتصب مع آل أسود إن دعوا ... يتواثبون على الميب [11] أو عامر [12] وبنو ريا ... م والقبائل نجتنب من غافري أو هتا ... ويٍّ [13] تراهم كالشهب فأتى إلينا داعيًا ... لنرد فيصل للعقب فرأى البسالة في وجو ... هـ القوم منا تلتهب سرنا لنحمي الدار عن ... أهل المعاصي والريب حتى نزلنا بالفليـ ... ـج [14] من المكان المنتخب سرنا وصادفنا العدو ... ومكانه منا قرب لله وقفتنا بأم ... اللخم [15] إذ حمي اللهب وترى التفاق [16] موجها ... ت للعدو المضطرب وترى الكماة من الرجا ... ل كأسد غاب تنتشب وترى المنايا في وجو ... هـ القوم تلمع كالشهب والشمس في كبد السما ... ء على القماحد تلتهب والأرض تشعل نارها ... وحصاؤها شبه الحطب وهلال نجل سعيدنا [17] ... أورى الحروب لنا وشب لما غدا متقحمًا ... لجج المنون ولم يهب فهناك بان أخو البسا ... لة والجبان المكتئب لو لم يكن عيسى أرا ... د العفو عنهم أو أحب لرأيتهم جزر السبا ... ع مقطعين إرب إرب فتصير أم اللخم أم ... اللحم مهما تنتسب أو يرجعون كأنهم ... شعر تساقط عن جرب وتحامت العربان طرًّ ... اعن ضياع ينتسب إلا الصوايع [18] كالأُلى ... قد صوَّعوا بين العرب لبسوا متى نصروا النصا ... رى كل عار مكتسب فتشخصوا أشرافهم ... يتصارعون على العطب ويسوسهم رجل [19] على ... حال الضلال نشا وشب جاءوا وقنصلهم أما ... مهم كصنم منتصب [20] كانوا كرامًا يُحسبو ... ن من الكرام أولي الحسب فغدوا عبيدًا للنصا ... رى فانظرن هذا العجب واستثن من أشرافهم ... قومًا لهم فينا رتب جند الأمير ومن غدا ... عند الأمير متى وثب أعني سعيدًا نجل سا ... لم المهذب إذ ندب فهو الذي قد كان في الـ ... أعداء سهمًا قد وصب في عصبة نصروا الإلـ ... ـه مع الذي فيه احتسب فأتى بجمع من بني ... حسن [21] غضاريف نجب فاشتد عند وصولهم ... حبل الهدى من غير جب فلهم إذا طاب الثنا ... طيب الثنا بين العرب إذ هم غدوا إخواننا ... قد ساعدونا في الوصب وانزاح عن أفكارنا ... بوصولهم كل التعب واذكر محمد بن شا ... مس [22] الذي في المجد خب أَوَمَا رأيت ثباته ... ... يوم الزلازل تضطرب فلقد سما بتقدم ... يوم الخؤن قد انقلب وغدا عبيد الباليو ... ز كمثل نمل في سرب [23] قد ورَّثوا أبناءهم ... ثوب المذلة والعطب فلسان كل الخلق تُهـ ... ـدي نحوهم شتمًا وسب والحمد لله الذي ... رد الأعادي للعقب في خيبة من سعيهم ... خابوا وخاب المنقلب

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (مقدمة التفسير وتفسير الفاتحة ومسائل أفعال العباد والغرانيق وزيد وزينب) الفاتحة يحفظها كل مسلم؛ لأنها جزء من صلاته، وينبغي له أن يفهم معناها وفهمها من كتب التفسير يصعب على غير العلماء؛ لأنها ممزوجة بالاصطلاحات العلمية والإعراب، وقد فسرها الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية تفسيرًا دينيًّا خالصًا يسهل على كل قارئ فهمه، ونشرنا تلخيص ذلك في المنار. ومسألة إسناد أفعال العباد إليهم تارةً، وإلى الله تعالى تارةً أخرى من أعظم المشكلات الاعتقادية، وقد فسر الأستاذ الإمام الآيات التي توهم التناقض فيها بما يرفع الإشكال ونشرناه في المنار. ومسألة الغرانيق التي هي أكبر الشبهات على الوحي، ومسألة زيد وزينب التي هي أكبر مطعن للمخالفين على النبي صلى الله عليه وسلم، قد اضطرب في تفسير الآيات التي اتخذت شبهة في المسألتين المفسرون، ففسرها الأستاذ الإمام في مقالتين نشرتا في المنار أيضًا. وقد رأيت أن يُطبع تفسير الفاتحة، وتفسير الآيات المتعلقة بهذه المسائل على حدة ليعم نفعه، فأنفذت ذلك، وساعدني على الطبع والنشر صديقي الفاضل الشيخ أحمد عمر المحمصاني، ويُطلب الكتاب من إدارة المنار، ومن سائر المكاتب الشهيرة، وثمنه قرشان ونصف قرش. *** (كتاب غاية البيان، لما به ثبوت الصيام والإفطار في رمضان) أهدانا هذا الكتاب الوجيز من تأليفه الأستاذ الفاضل الشيخ محمود محمد خطاب السبكي أحد المدرسين في الجامع الأزهر، ألَّفه لبيان أن الكتاب والسنة وما صح عن الأئمة هو أن الصيام والإفطار إنما يكونان برؤية الهلال، أو إكمال العدة وأنه لا يجوز العمل بقول الحاسب والمنجم، وقد أورد النقول من كتب الفقه في المذاهب الأربعة حتى كتب الشافعية الذين يقول بعضهم: إن للمنجم والحاسب العمل بعلمه في حق نفسه فقط، وجاء المؤلف بما يضعف هذا القول الذي اعتمده بعض الفقهاء، وقد قرَّظ الكتاب جماعة من علماء المذاهب الأربعة وأولهم شيخهم الأكبر شيخ الجامع لهذا العهد. *** (الرسالة البديعة - في الرد على من طغى فخالف الشريعة) وأهدانا الأستاذ المذكور هذه الرسالة أيضًا في الرد على أهل الطرق الذين لم يوافقوا في ذكرهم الكتاب والسنة، وهي جواب سؤال عرض عليه، وقد وافقه في الجواب جماهير علماء الأزهر، وفي مقدمتهم شيخهم الأكبر لهذا العهد، وكان يومئذ شيخ السادة المالكية، وقد بيَّن في هذه الرسالة أحكام الإنشاد في الذكر والسماع والرقص والطبول والدفوف والمزامير التي يستعملونها، وشدد النكير على ذلك، وذكر بعض شبهاتهم على إباحة هذه البدع وبيَّن بطلانها، وذكر أيضًا بدعهم في تشييع الجنائز، ثم شرب الدخان في مجالس القرآن وغيرها، ثم تكلم في البدع والعادات القبيحة المحرمة التي يأتيها الناس في ليلة الزفاف، وقد ذكر أمور غريبة جدًّا ما كنا نظن قبل قراءتها أنه يوجد في البشر مثلها، فهي مما يستحي الإنسان، لا سيما المسلم من سماعه أو قراءته، فكيف انتهى الناس في التسفل إلى فعله. *** (تحفة الأبصار والبصائر - في كيفية السير مع الجنازة إلى المقابر) وأهدانا هذا الأستاذ أيضًا هذه الرسالة له، وموضوعها معروف من اسمها وعليها تقريظ شيخ الأزهر الأسبق الأستاذ الشيخ حسونة النواوى وأشهر شيوخ الأزهر ومنهم الأستاذ شيخ الأزهر لهذا العهد، وسنقتبس شيئًا منها أيضًا إن شاء الله تعالى، وإننا نشكر لهذا الأستاذ الهمام عنايته بالكتابة فيما ينفع الناس، وهم في أشد الحاجة إليه، ونسأل الله أن ينفع به وبتآليفه. *** (كتاب محك النظر) من الترقي في العلم اليوم انتداب بعض الفضلاء لطبع كتب الأئمة الأولين من علماء الإسلام، ومن هذه الكتب (محك النظر) في المنطق للإمام الغزالي وهو يخالف كتب الفن التي بين أيدينا في ترتيبه وتقسيمه وتعبيره وأسلوبه؛ فإنه يتكلم على التصديقات قبل التصورات؛ لأنها المقصود الأهم ويقسم الكلام فيها إلى ثلاثة فنون: الفن الأول في السوابق، وفيه فصول في الألفاظ والمعاني والقضايا وأحكامها، والفن الثاني في محك القياس من المقاصد، وهو طرفان أحدهما في نظم القياس، والثاني في محك النظم وشرطة، والثالث في مادة القياس ... إلخ. أما أسلوبه فأسلوب الكتاب البلغاء وحسبك أن تقول أسلوب الغزالي المعهود في الإحياء وغيره من القوة والسهولة والبيان والبسيط والتمثيل، أذكر من بيانه قوله في تعريف اليقين: (أما اليقين فلا تعرفه إلا بما أقوله، وهو أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت فلها ثلاثة أحوال (أحدها) أن تتيقن وتقطع به، ويضاف إليه قطع ثانٍ، وهو أن يقطع بأن قطعه به صحيح، ويتيقن بأن يقينه لا يمكن أن يكون فيه سهو ولا غلط ولا التباس، ولا يجوز الغلط لا في تيقنه بالقضية، ولا في تيقنه الثاني بصحة يقينه، ويكون فيه آمنًا مطمئنًا قاطعًا بأنه لا يتصور أن يتغير فيه رأيه، ولا أن يطلع على دليل غاب عنه، فيغير اعتقاده، ولو حكي نقيض اعتقاده عن أفضل الناس، فلا يتوقف في تجهيله وتكذيبه وخطأه، بل لو حكي له أن نبيًّا مع معجزة - كذا ولعل الأصل ذا معجزة - قد ادعى أن ما تيقنه خطأ ودليل خطأه معجزته، فلا يكون له تأثير بهذا السماع، إلا أن يضحك منه ومن المحكي عنه، فإن خطر بباله أنه يمكن أن يكون الله قد أطلع نبيه على سر انكشف له - لعله به - نقيض اعتقاده، فليس اعتقاده يقينًا) اهـ، ومثَّل ببعض اليقينات البديهية، فأنت ترى أن هذا البسط ضروري في كتب التعليم وتعلم أن الذين لا يأخذون العلم بمثل هذا الإيضاح يكون علمهم دائمًا مبهمًا مظلمًا لا تنكشف به الحقائق، ألا ترى أن أكثر الذين يتعلمون المنطق بكتب المتأخرين المبهمة الموجزة لا يفرقون بين الظن واليقين، وأن أحدهم يتوهم أن سكونه للتسليم بقول فلان العالم وثقته به عين اليقين، وهو مع ذلك إذا ثبت له أن ذلك العالم رجع عن ذلك القول يرجع هو عنه أيضًا، وذلك شأنهم في العلم والدين فأين علم اليقين وحق اليقين. وغاية ما أقول في تقريظ هذا الكتاب: إنه ينبغي لكل طالب علم أن يطالعه ليميز بين العلم الحي الذي تتغذى منه العقول وبين غيره، وقد طُبع على نفقة الفاضلين الشيخ محمد بدر الدين النعساني الحلبي، والشيخ مصطفى القياني الدمشقي، ويُطلب من المكاتب الشهيرة في مصر.

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (رحلة سمو الخديوي إلى السودان وخطبته) كنا وعدنا قبيل سفر العزيز إلى السودان بأن نكتب شيئًا من آراء الناس في هذه الرحلة بعد السفر، ولما أن نشرت الجرائد خطبة سموه لم نر حاجة لذكر رأي آخر؛ ولكننا ننشرها دون خطبة السردار التي هي ترحيب بسموه، وإعراب عن الأمل بترقي عاصمة السودان وتدرجها في العمران حتى تصير عاصمة عظيمة، ومتجرًا كبيرًا في السودان، وقد كانت خطبة سعادة السردار والحاكم العام للسودان باللغة الإنكليزية، وقد أجابه سمو الخديوي بالعربية، وفي بعض الجرائد أن خطبة سموه كانت مهيأة من قبل وهذا نصها: يا سعادة السردار وحاكم السودان العام، ويا حضرات الضباط والعساكر والموظفين وعلماء ومشايخ وأعيان وأهالي السودان، إني أشكركم على الخطاب الذي حييتموني به، وإني أؤكد لكم بأني أعد من أعظم المسرات لي رؤيتي إياكم في هذه البلاد الشاسعة التي قربتنا منها السكة الحديدية العجيبة التي ملأتني ارتياحًا وابتهاجًا الآن، وقد رأيت هذه البلاد وعرفت الصعوبات والمشقات التي لاقاها من كانت لهم يد في الحملات، التي كانت نتيجتها محو سلطة عبد الله التعايشي وإعادة العدل والراحة والسكون في جميع أنحاء السودان (العلمان الإنكليزي والمصري اللذان يخفقان بجانب بعضهما هما إشارة إلى الحكومة المشتركة التي أخذت على عاتقها حماية الأهالي من الوقوع في شرك أهل الظلم والفساد، وابتداء عصر هناء وسعادة في هذه الديار) ولقد سرني أيضًا ما أشاهده من تقدم مدينة الخرطوم في العمران، واعتقدوا أني سأحفظ لكم أحسن ذكرى لاحتفائكم بي في هذه الزيارة الأولى، وإني ليشملني السرور كلما سمعت بتحسن أحوالكم وتقدمكم في الرفاهة التي أرى شواهدها بدت في كل الأرجاء، هذا وإني أنعم الآن بكل ارتياح ببعض النشانات على بعض كبار علماء الدين، وسأنعم بها فيما بعد على الضباط والموظفين والأهالي الذين يعرض عنهم لي سعادة السردار والحاكم العام بناء على التقارير السنوية التي ترد له من المديريات، ثم أكرر لكم تشكري على احتفائكم بي احتفاء صادرًا عن حسن نية وخلوص طوية اهـ. *** (فتنة الكويت) كان من أمر هذه الفتنة أخيرًا أن الدولة العلية رفعت رايتها على بناء الإمارة، فأنزلها الإنكليز المرابطون هناك في البحر، ورفعوا مكانها راية شيخ الكويت أو أميره، وذلك عدوان عظيم، وقد كتب إلينا من مكة المكرمة ما نصه: (يدور عندنا في بعض الأندية (ولا نادي) الحديث في فتنة الكويت التي نخشى أن تطير منها شرارة إلى الحجاز؛ فتثير الكامن وتظهر الحقيقة وينجلي المجاز، فما تنفع القوات وأساسها خراب، وما تنفع الطاعة وصاحبها في خلاب) وهذه العبارة تثير كامن الوساوس، وتبعث ميت الهواجس، وتدل على أن هناك أمرًا خفيًا، واتفاقًا سريًا، ولعله يكون أمرًا فريُّا. *** (مدرسة محمد علي الصناعية) يسر كل غيور على أمته أن جمعية العروة الوثقى الإسلامية هبت في هذا العام لإنشاء مدرسة صناعية تنسب إلى اسم محمد علي باشا الكبير، وقد جعل الاكتتاب لتأسيسها تحت رياسة وزير مصر الشهير صاحب الدولة مصطفى رياض باشا، وكان أول المتبرعين مولانا الخديو المعظم تبرع بمائة جنيه، وقد تبرع أخيرًا جناب اللورد كرومر بمائة جنيه إنكليزي أرسلها لدولة الوزير مع كتاب شكر على هذا العمل النافع الذي يحث المصريين عليه دائمًا، وقد بلغ الاكتتاب زيادة عن خمسة آلاف وثلاثمائة جنيه، فنحث أهل الغيرة على البذل في هذا العمل العظيم؛ لأن البلاد في أشد الحاجة إليه.

أخبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار عُني صديقنا الكاتب الفاضل رفيق بك العظم بتأليف تاريخ سماه (أشهر مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة) يمثل فيه المدنية الإسلامية بطريقة لم يسبقه إليها مؤرخ مسلم، وقد صدر الجزء الأول منه في سيرة الخليفة الأول وقائده الحربي الشهير خالد بن الوليد رضي الله عنهما، وجعل ثمنه 6 قروش ليسهل اقتناؤه، وسنقرظه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. *** نرجئ منار غرة شوال إلى نصف الشهر، وقد علم القراء من قبل حكمة ذلك، وقد ضاق هذا الجزء عن نبدة (نساء المسلمين) والموعد ما بعده.

حياة أمة بعد موتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حياة أمة بعد موتها جمعية اليهود الصهيونية {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) . كنا نتحدث في أيام العيد مع صاحب الدولة رياض باشا في حال المسلمين وما يحتاجونه من الإصلاح، فجاء ذكر اليهود عند ذكر ركن كل إصلاح وتقدم وهو (المال) وذكرنا الجمعية الصهيونية ومساعيها في إعادة السلطة والمُلك إلى شعب إسرائيل، فقال الوزير: إنه اطلع في هذه الأيام على كتاب لبعض الأوربيين المحادين لليهود ألَّفه صاحبه للوقيعة والإزراء بهم، فكان كله تعظيمًا في الحقيقة وتبجيلاً، ومما فيه أنَّ أزِمَّةَ المنافع في باريس أو فرنسا بأيدي اليهود، وقد رغَّب إليَّ بعض أفاضل المصريين بتعريبه لا ليستاء الإسرائيليون؛ ولكن ليعتبر المسلمون. أنى يعتبر المسلمون بأحوال البشر، وما في الأرض من الآيات والعبر، وعلي أبصارهم غشاوة، وفي آذانهم وقر، وقلوبهم في أكنة لا يصل إليها وعظ الواعظين، ولا تنبيه المنبهين، فالعبرة بعيدة عنهم ما دامت هذه الحوائل والموانع بينهم وبينها، وسننبه عليها في هذه المقالة، وإن كنا فصَّلنا القول فيها من قبل؛ فإن أكثر قومنا ينسون النافع ويحتاجون إلى التكرار. لو كنا نسمع أخبار الأمم سماع تدبر، أو نعقل الحوادث بحكمة وتبصر، لما كنا نضرب المثل إلى اليوم بذُلِّ اليهود وضعفهم، ونخشى أن نكون في يوم من الأيام مثلهم ونحن لا نعرف أنفسنا ولا نعرفهم، لا نعرف من فضلنا عليهم في الحياة الاجتماعية إلا أن بعض بلادنا لا تزال تحت رياسة أمراء منا، وأنهم محرومون من السلطة، ويا ليتنا كنا نبصر الطريق التي تسير فيه أمراؤنا بتلك البقايا من البلاد؛ لنعلم أهو طريق سلفنا العدول الصالحين الذين ورثوا الأرض لأنهم صالحون لعمارتها؟ أم هو طريق خلفهم المستبدين الجائرين الذين أضاعوا أكثر الممالك الإسلامية حتى لم يبق لنا منها إلا ذلك البعض الذى أعمانا الغرور به على ما نشاهد من استبداد الأجانب علينا فيه. ثم يا ليتنا كنا نبصر الطريق الذي يسير اليهود فيه الآن؛ لنعلم هل هو طريق سلفهم الذين كانوا مغرورين بالنسب الشريف (سلالة الأنبياء) واللقب الضخم (شعب الله - أبناء الله وأحباؤه) والاعتماد على بركة التوراة في الاستفتاح على الأمم والانتصار على المناصبين من غير عمل بما ترشد إليه من الاتحاد والاعتصام؟ أم هو طريق آخر اعتبروا فيه بسنن الله في خلقه فحافظوا على لغتهم وجامعتهم الملية مع تشتتهم في جميع أقطار الأرض، وتقرب بعضهم من بعض بالتعاضد والتعاون، وأخذوا بجميع علوم العصر وفنونه النافعة، وبرعوا في جمع المال الذى هو أساس القوة والعزة في هذا العصر؟ أليس هذا هو الطريق الذى استقام عليه الإسرائيليون في هذا العصر، فنبتت شوكتهم المخضودة، وعادت عزتهم المفقودة، ولا ينقصهم أن يكونوا أعظم أمة على سطح الأرض إلا الملك، وهم يسعون إليه من طريقه الطبيعي، وإن اليهودي الواحد اليوم أعز من ملك من ملوك الشرق؛ فإن أية دولة أوربية تهدد أعظم سلطان شرقي بالقول والفعل وتحمله بالقوة على أن يهين نفسه، وقد حاولت دولة فرنسا أن تهين رجلاً يهوديًّا فقامت عليها القيامة، وكادت تشب فيها الحروب الداخلية المجتاحة لولا أن تداركتها، وذلك في مسألة دريفوس التي لم ينسها أحد ممن عرفها. لليهود جمعيات ملية كثيرة - ولا نجاح للأمم إلا بالجمعيات - ولم نسمع بذكر الجمعية الصهيونية إلا من نحو خمس سنين، وهي جمعية سياسية غرضها الاستيلاء على البلاد المقدسة لتكون مقر ملكهم وعرش سلطانهم، وقد جاء ذكر هذه الجمعية في العدد السادس من منار السنة الأولى (ص 44 و 45) وفيه أن حركة هذه الجمعية ظهرت فجأة في النمسا وألمانيا وإنكلترا وأميركا، ولم تكن تُظهر في أول الأمر طلب الملك؛ وإنما كانت تتظاهر بحب نقل فقراء اليهود المهاجرين والمُخْرَجِين (المنفيين) إلى بلاد فلسطين؛ ليعمروها ويعيشوا في ظل السلطان آمنين، وكأنها وثقت بقوتها الآن، فخرجت من مضيق الكتمان، وقد بعثت منذ أشهر المستر إسرائيل زنفويل من لندرة إلى الآستانة للمساومة في شراء القدس الشريف ويقال إنه لقي من الحضرة السلطانية التفاتًا وانعطافًا، وبعد رجوعه خطب في الجمعية فقال ما مثله بالعربية: (إن اليهود سيرجعون بكثرة إلى فلسطين مملكتهم القديمة التي لا يمكن أن تغرب شمسها من سماء أفكارهم، وسيبلغ عددهم فيها سنة 2000 أي آخر القرن العشرين المسيحي مائتي ألف ألف (مليونين) نفس، وسيجعلون تلك الأراضي جنات عالية قطوفها دانية، وينشئون فيها حدائق ذات بهجة، ويصلون أطرافها وأرجاءها بالسكك الحديدية، ويقيمون فيها حكومة منتظمة خاصة بها تكون نموذج الكمال لجميع الأمم والأجيال، فيكون شعب إسرائيل منارًا على جبل صهيون تهتدي به الأمم كلها إلى المدنية الفضلى في الأحوال الاجتماعية والسياسية والقضائية والأدبية والزراعية وسائر الشؤون المعاشية، ومن قوانينه تتعلم دول أخرى طرق الرشاد في تدبير الممالك، كما تتعلم الأمم والشعوب من نظامه الاجتماعي حقيقة المدنية، ومن سيادته الروحية معنى الديانة الحقيقية) . قال: (وبالجملة فإني معتقد بنجاح الآمال في امتداد ملة اليهود بعد رجوعهم إلى فلسطين، ويمكن أن يقال إنه منذ زمن المسيح إلى هذا العهد لم يطلع العالم على شيء من حياة الإسرائيليين وأعمالهم، وقد كانوا مضطهدين من المسيحيين والوثنيين في كل مملكة، فكان ذلك هو السبب في بقائهم بما قرَّب بعضهم من بعض وألف بين قلوبهم، ومنعهم من مخالطة غيرهم والتزوج ممن سواهم) . ثم قال: (وغاية ما يرمي إليه اليهود هو جمع النقود الكافية لابتياع أرض فلسطين من السلطان الذي ستكون الحركة الكبرى تحت سيادته، وقد بلغ ما جُمع إلى الآن ألف ألف ريال أميركاني (مليون) وفي كل مدينة وكل قرية يتبوءها اليهود في مشارق الأرض ومغاربها فرع من الجمعية الصهيونية يجمع المال لهذا الغرض، وكل ما جمع فهو من الفقراء؛ لأن الأغنياء مشغولون بمنافعهم الشخصية عن إعطاء هذا المشروع حقه من العناية والاهتمام، على أن تهاون الأغنياء لا يخمد نار الحمية الملية في نفوس الفقراء، يدل على ذلك جمع النقود بسرعة من كل صوب وانهمار صيبها من كل أفق، ويرجى أن نوفق في بضع سنين لجمع مقدار من النقود يكفي لبلوغ الغاية ونيل الأمنية) ... إلخ. أظن أن الخطيب مبالغ في نسبة أغنياء اليهود إلى عدم العناية بمساعدة الجمعية الصهيونية، ولعل الحكمة في ذلك تنشيط الفقراء والمتوسطين على البذل بقدر الإمكان، ثم يكون الأغنياء هم الذين يُتمون العمل إتمامًا، وإلا فمن ينكر كرم البارون هرش والإنفاق من سعته على شراء المستعمرات لقومه، ومتى بسط مثل هذا الغني السخي يده لمساعدة هذه الجمعية، فقل قد قرب مجيء ذلك اليوم العظيم. جمع فقراء اليهود ألف ألف ريال لهذا العمل ولديهم مزيد، وهذا بعدما عمموا المعارف في طائفتهم، فهل ينشط المسلمون في مصر وهم يقربون من عدد يهود الأرض لمساعدة الجمعية الخيرية بجمع ألف ألف قرش على إنشاء مدرسة كلية في القطر المصري؟ ؟ هذا، ومن تصريح الجمعية الصهيونية بمقاصدها السياسية على رؤوس الأشهاد للصحيفة العبرانية الفرنساوية التي نشرها فرع الإسكندرية في غرة الشهر لدعوة اليهود إلى سماع الخطب والمناقشات ليلاً في قاعة الملهى العباسي، وقد اُفتتحت بما معناه بالعربية الصحيحة: دعوة صهيونية ليهود الإسكندرية (أيها الإخوان: إن شعبنا ما برح يعلل النفس بأن تكون له أمة (دولة) ولم يتوان في السعي ولن يتوانى مهما عارضته الصوارف، وناهضته الصوادف، وقد مضي على أولئك الذين دافعوا الدفاع الأخير عن بيتنا المقدس ألفا سنة، كانت الأيام فيها تساورنا وتحاول محونا من لوح الوجود، فعجزت بأبنائها عن زلزال عقائد إسرائيل، وإن قواعد ديننا وأحكام شريعتنا تقضي علينا بأن نستمسك بعروة وطننا القديم، ونعتقد أن سيعود إلينا مجدنا التليد ومكانتنا السامية، تمزق شعب إسرائيل كل ممزق، وتفرق شمله في الأرض؛ ولكن بلاد صهيون كانت معهد الارتباط بين أفراده فهي مأمن السرب، وفرجة الكرب، وبسببها بقينا حافظين للعهود، محافظين على سنن الآباء والجدود. إن أعاصير الظلم والاضطهاد وعواصف التعصب والعناد التي تعصف باليهود لتمسكهم بدينهم - قد اضطرتنا إلى العمل بما تكنه السرائر، وإظهار ما انطوت عليه الضمائر، والخروج من مضيق الاستعداد إلى فضاء الإيجاد، فالمشروع الصهيوني يطالبنا الآن بالمبادرة إلى العمل، والمسارعة إلى اتخاذ الحيل ويحذرنا عاقبة الفتور والكسل، حسبنا أننا مُخْرَجُون (منفيون) من كل مكان، مبغضون من كل إنسان، يرمينا الشانئ بذلك الوصف الشائن الذي نُبزنا من أجله بلقب (اليهودي التائه) على حبنا للإصلاح وخدمتنا الجليلة لكل بلاد تبوأناها وإعلاء شأن المدنية في كل مملكة استوطناها، إذا لا علاج لهذا الامتهان إلا الاتحاد والاعتصام لتأييد النهضة الملية التي تأسست في النمسا من أفاضل شعبنا لحفظ حقوقنا المقدسة، وقد أشرعنا الطريق للسير وما بقي علينا إلا أن نسلكه. إخواننا: عليكم نعتمد في نجاح المشروع الصهيوني في أرض مصر، فلنسلك مسالك إخواننا في الأقطار البعيدة، فقد مهدوا لنا السبيل، فإذا عضدناهم فساعة الفوز آتية بعد زمن قليل، ويناجينا الشعور بحاجة بعضنا إلى بعض بأن ستبادرون إلى إجابة دعوتنا وحضور ليلتنا لسماع الخطب في ملهى (منفراتو) الساعة 9 من مساء السبت 11 الشهر (الإفرنكي) ونحن في انتظاركم شاكرين لكم سلفًا محبة صهيون) ... ... ... قسم جمعية بارخورشبا الإسكندرية ماذا عسانا نقول الآن في تنبيه قومنا إلى الاعتبار باتحاد اليهود، وسعيهم لاسترجاع مجدهم، بل لأن تكون لهم مملكة تقتدي بها جميع الممالك فيكونوا أئمة للعالمين؟ نعيد بعض ما قلناه في العدد السادس من السنة الأولى عند ذكر خبر الجمعية ولم يكن أحد يذكر عنهم أنهم يطلبون الملك، إلا ما أشرنا إليه في ذلك العدد من أنفسنا، ذكرنا يومئذ خبر هذه الحركة الصهيونية عن مجلة المقتطف الغراء لفوائد بيناها هنالك، نذكر منها هنا الفائدة الثالثة وهي: (3) إيقاظ قوم قد رزءوا بالخمول، وكاد يعمهم الذهول، واستلفاتهم (كذا) إلى الروابط المحكمة بين اليهود مع تفرقهم في الممالك وتشتتهم في الأقطار، وكيف يمدون سواعدهم لمساعدة إخوانهم ومعاضدة قومهم من وراء البحار وشعوف الجبال، ولم يصدهم تنائي الديار، عن المواصلة في الأفكار، والتعاون بالدرهم والدينار، الذي يُحقق به كل أمل، ويناط به كل عمل، فيا أيها القانعون بالخمول أقنعوا رؤوسكم (ارفعوها) وحدِّقوا أبصاركم، وانظروا ماذا تفعل الشعوب والأمم أصيخوا لما تتحدث به العوالم عنكم، أترضون أن يسجل في جرائد جميع الدول فقراء أضعف الشعوب الذين تلفظهم جميع الحكومات من بلادها هم من العلم والمعرفة بأساليب العمران وطرقه بحيث يقتدرون على امتلاك بلادكم واستعمارها وجعل أربابها أجراء، وأغنيائهم فقراء ... تفكروا في هذه المسألة واجعلوها موضوع محاوراتكم لتتبينوا هل هي حقة أم باطلة، صادقة أم كاذبة، ثم إذا تبين لكم

الأمراء والحكام ـ بلاء الأمة بهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأمراء والحكام بلاء الأمة بهم (ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه) (22) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي تعالى لأمتي أن لا يهلكوا بسنة عامة ولا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي عز وجل قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرَدُّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يفني بعضًا. وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) [1] الحديث، السنة: القحط، والبيضة: حوزة الشيء وأصل القوم ومجتمعهم وعشيرتهم، ويقال لجماعة المسلمين بيضة الإسلام، وإذا سألنا التاريخ يخبرنا بأن الأجانب لم يستولوا على بلاد إسلامية، ولم يستبيحوا بيضة طائفة من المسلمين إلا بمساعدة المسلمين، فأهل مراكش كانوا عونًا لفرنسا على أخذ الجزائر، والأفغانيين أعانوا الإنكليز على الهنود، والجندي المصري فتح السودان ورفع الراية الإنكليزية عليه، وما كان المسلمون ليفعلوا هذا إلا بأمر أئمتهم أي أمرائهم، ولذلك كان يخاف النبي عليه السلام على أمته الأئمة المضلين. (23) وقال صلى الله عليه وسلم: (لست أخاف على أمتي غوغاء تقتلهم ولا عدوًّا يجتاحهم؛ ولكني أخاف على أمتي أئمة مضلين إن أطاعوهم فتنوهم، وإن عصوهم قتلوهم) [2] في هذا الحديث شيء من بيان معنى الخوف في الذي قبله، ومن البلاء أننا لا نرى أميرًا مسلمًا ينزع من نفسه عن الاستبداد ويقيد نفسه بالشرع والمشاروة حتى تكون الأجانب هي التي تغل يده وتقيده. (24) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله؛ ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله) [3] وقد عرفنا أهله من الأحاديث التي أوردناها في الجزئين السابقين من المنار. (25) وقال صلى الله عليه وسلم: (لكل شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين ولاة السوء) [4] وذلك أنهم يستعينون على إفساده بعلماء السوء الذين يفتونهم بما يهوون ويعظمونهم على ظلمهم وفسقهم فيقتدي الناس بهم فيفسد عليهم دينهم. (26) وقال صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أمتي إذا صلحوا صلحت الأمة: الأمراء والفقهاء) [5] وهذا مؤيد لتفسير الحديث قبله. (27) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال هذا الأمر فيكم وأنتم ولاته ما لم تُحْدِثُوا عمالاً تنزعه منكم، فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شرار خلقه فالتَحَوْكُم كما يُلْتَحَى هذا القضيب) [6] وهذا تصريح بأن الملك لا ينزع من المسلمين إلا بواسطة أمراء السوء؛ ولكن الأمير مهما كان ظالمًا لا يعدم أعوانًا يحسِّنون عمله ويغشون الأمة به ما دام أميرًا، فلا تظهر سيئاته للناس كلهم إلا بعد موته يوم لا ينفعهم ظهورها، ولو شئنا لذكرنا شهادات التاريخ الماضي. وتاريخ هذا العصر الجرائد، وأكثرها خاطئة كاذبة، ممالئة مواربة. (28) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) [7] وهذا الحديث مختصر مما بعده ومصداقه ظاهر مشاهد. (29) (ستكون من بعدي أمراء فأدوا إليهم طاعتهم؛ فإن الأمير مثل المِجَنّ يتقى به، فإن صلحوا واتقوا وأمروكم بخير - وفي نسخة: بمعروف - فلكم ولهم وإن أساءوا وأمروكم به فعليهم، وأنتم منه براء، وإن الأمير إذا ابتغى الريبة بالناس أفسدهم) [8] أي هذا شأنه. ومن طرق الإفساد ما يبينه الحديث الآتي. وقوله عليه السلام (فلكم ولهم) ظاهر؛ فإن سعادة الأمير على حسب سعادة الرعية، وفي الحديث تقديم ذكر الرعية على ذكر الأمير؛ لأنها الأصل، وأما قوله عليه السلام (فعليهم) أي إذا لم تطيعوهم كما هو الحكم الشرعي، وذكرنا بعض الأحاديث فيه من قبل. (30) وقال صلى الله عليه وسلم: (إنك إذا ابتغيت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم) [9] ومن أمرائنا من يتخذ العيون والجواسيس للبحث عن عيوب الناس وتتبع عوراتهم، وقد أفسدوا بها كثيرًا وأضلوا كثيرًا. (31) وقال صلى الله عليه وسلم: (سيكون بعدي سلاطين الفتن على أبوابهم كمبارك الإبل لا يعطون أحدًا شيئًا إلا أخذوا من دينه مثله) [10] . (32) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم، وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من باطنها، وإذا كانت أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها) [11] أي فعليكم أن تستميتوا في نصر الحق وتأييده غير وجلين من الموت؛ لأنه خير من حياة كهذه. (33) وقال صلى الله عليه وسلم: (ستكون أمراء تعرفون منهم وتنكرون فمن ناوأهم نجا، ومن اعتزلهم سلم أو كاد، ومن خالطهم هلك) [12] ناوأهم أي عاداهم أو عارضهم، وفي رواية نابذهم. قال العلماء: يجب الإنكار على من أمن على نفسه، فإن خاف أن يقتلوه يسقط الوجوب ويبقى الجواز، فإن قُتل فتلك الشهادة الفضلى، وورد في الحديث ما يؤيد ذلك، وقال في المعتزل (سلم أو كاد) لأن اعتزالهم قد يتضمن إقرارهم على ما هم فيه من الجور والمنكر، وأعظم الجور أن تكون سلطتهم فوق شرع الله تعالى، قال الغزالي في المعتزل: سلم من إثمهم ولكن لم يسلم من عذاب إن نزل يعمه. (34) عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (كيف بك يا أبا عبد الرحمن إذا كان عليك أمراء يطفئون السنة ويؤخرون الصلاة عن ميقاتها) فقلت فكيف تأمرني يا رسول الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسألني ابن أم عبد كيف يفعل! لا طاعة لمخلوق في معصية الله) [13] وقد أطفأ أمراؤنا من عدة قرون السنة حتى خرجوا عن هديها في الغالب، وأحيوا في هذا الزمان سنة الإفرنج حتى التهتك الذي يفسد أخلاق الأمة كالمراقص وما في معناها وقصورهم حانات خمور يتقربون بذلك إلى الإفرنج، إلا من عصمه الله تعالى (راجع حديث 25) . آثار السلف عبرة للخلف (1) روى أبو بكر بن أبي شيبة والبخاري والدارمي والحاكم والبيهقي في السنن عن قيس بن أبي حازم قال: (دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ فقالوا: حجت مصمتة، فقال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ [*] قال بقاؤكم عليه ما استقامت بكم أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم ويطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أمثال أولئك يكونون على الناس) ما كانت هذه الأعرابية الفاضلة تعلم أن سيكون للمسلمين مدنية لها رؤساء مكلفون بإقامة شعائر الدين والقيام بشؤون النظام العام فضرب لها المثل برؤساء القبائل في بداوة الجاهلية. (2) روى البيهقي عن ابن اسحاق قال في خطبة أبي بكر يومئذ، أي يوم البيعة (وإنه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران؛ فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم وأحكامهم وتتفرق جماعتهم ويتنازعون فيما بينهم، هنالك تترك السُّنة وتظهر البدعة وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح، وإن هذا الأمر في قريش ما أطاعوا الله ورسوله واستقاموا على أمره قد بلغكم ذلك وسمعتموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) (فنحن الأمراء وأنتم الوزراء إخواننا في الدين وأنصارنا عليه) . وفي خطبة عمر بعده (نشدتكم الله يا معشر الأنصار ألم تسمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من سمعه منكم وهو يقول: الولاة من قريش ما أطاعوا الله واستقاموا على أمره؟ فقال من قال من الأنصار: بل الآن ذكرنا، قال: فإنا لا نطلب هذا الأمر إلا بهذا، فلا تستهوينكم الأهواء فليس بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون) . إذا كان شرط بقاء الأمر في قريش طاعة الله ورسوله والاستقامة على ذلك فمن أين جاءت لمن عداهم السلطة المطلقة التي يضعون بها القوانين المخالفة للشرع، ويصدرون الأوامر بالعفو عمن أمر الله بإقامة الحدود عليهم؟ ولماذا يطبق المنتصرون للدين بالقول الآيات الواردة فيمن لم يحكم بما أنزل الله على القضاة وحدهم وينسون الأمراء والملوك الذين شرعوا لهم ما لم يأذن به الله وولوهم القضاء وألزموهم الحكم بتلك القوانين؟ (3) روى البخاري وأبو عبيد وابن سعد والبيهقي عن عائشة قالت: (لما استخلف أبو بكر قال: لقد علمت قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي وقد شغلت بأمر المسلمين فيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه) . (4) روى ابن سعد عن عطاء بن السائب قال: (لما بويع أبو بكر أصبح وعلى ساعده أبراد وهو ذاهب إلى السوق، فقال عمر أين تريد؟ قال السوق، قال تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين، قال فمن أين أطعم عيالي؟ فقال عمر: انطلق يفرض لك أبو عبيدة، فانطلقا إلى أبي عبيدة، فقال: أفرض لك قوت رجل من المهاجرين ليس بأفضلهم ولا بأوكسهم وكسوة الشتاء والصيف إذا أخلقت شيئًا رددته وأخذت غيره) في هذا الأثر فوائد جمة منها فضل الاحتراف الذي ترفع عنه كبراؤنا حتى افتقر كثير من البيوتات لذلك، ومنها أن الحاكم العام ليس له أن يحترف لئلا يشغله ذلك عن المصلحة العامة، ومنها أن سنة الراشدين أن لا يفرض الإمام الأعظم لنفسه شيئًا حتى تكون الأمة هي التي تفرض له وعليه الرضا بحكمها ومنها أن العدل أن يفرض له ما يكفي للمعيشة المتوسطة بالنسبة إلى صنفه، فيكون قريبًا من كل طبقات الأمة في حاله، من أعطى أمراء المسلمين بعد ذلك أن يأكلوا أموال الأمة بغير حساب ويهبوا منها بحسب أهوائهم وشهواتهم؟ أيصح أن يكون رئيس جمهورية سويسرة وقومه أقرب إلى العمل بسنة سلفنا من أئمتنا وأمرائنا إذ فرضت له الأمة راتبًا يكفيه أن يعيش كالمتوسطين في بلده، ومن ذلك أنه يركب في الدرجة الثانية إذا أراد السفر، وقد اشترطت الأمة عليه ذلك فإذا خالف لا يعيدون انتخابه، ديننا وضع هذه الأصول الإصلاحية وغيرنا يتمتع بسعادة العمل بها ويفوز بثمراتها، ونحن نقدس أمراءنا الذين أضاعوها، ونقول لجهلنا: ما بالنا ننكسر والأجانب ينتصرون، ما بالنا نذل وهم يعزون، ما بالنا نفتقر وهم يستغنون، ما بالنا نُستعبد وهم يسودون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) القرى: الأمم، والمراد بالظلم: الشرك والكفر، كما ورد في الحديث الصحيح، وقد أوضحنا أسباب هلاك الأمم بالعقل والنقل في المجلد الأول من المنار فليراجع. (5) وفي رواية البيهقي عن الحسن أن أبا بكر لما غدا إلى السوق فمنعه عمر (قال: قد جاءك ما يشغلك عن السوق، قال: سبحان الله يشغلني عن عيالي، قال: نفرض لك بالمعروف، قال: ويح عمر إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا، فأنفق سنتين في وبعض أخرى ثمانية آلاف درهم فلما حضره الموت، قال: قد كنت قلت لعمر: إني أخاف أن لا يسعني أن آكل من هذا المال شيئًا فغلبني فإذا أنا مت خذوا من مالي ثمانية آلاف درهم وردوها في بيت المال، فلما أُتي بها عمر قال: رحم الله أبا بكر لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا) .

شبهات المسيحيين وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين وحجج المسلمين النبذة الحادية عشرة عصمة الأنبياء والخلاص {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًًا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 123-124) . ذكرنا في نبذة سابقة أننا طلاب مودة والتئام، وأن المناقشات في الأديان والمذاهب قليلة الجدوى، وربما أضرت ولم تنفع؛ لأن أكثر الناس مقلدون، وما أضيع البرهان عند المقلد! ! وقلنا: إن هؤلاء المبشرين الإنجيليين اضطرونا إلى الرد على تمويههم بما يرسلون إلينا من الكتب والجرائد التي تطعن في عقائد المسلمين، ويلحون علينا بأن نرد عليها، وقد انضم إلى إلحاحهم طلب كثيرين من المسلمين يقولون ليس في القطر مجلة إسلامية أنشئت لخدمة الدين مع العلم إلا المنار، فيجب عليها رد الشبهات التي توجه إلى الإسلام، فبهذا وذاك صار من الواجب علينا بحكم ديننا الرد على هذه الكتب والجرائد ونأثم شرعًا بتركه. (كلما داويت جرحًا سال جرح) كنا نردُّ على آخر كتاب لهم جمع خلاصة شبهاتهم، وإذا نحن بجريدة (بشائر السلام) ترد إلينا من غير طلب ولا سبق مبادلة، ثم في هذه الأيام أرسلت إلينا جريدة (راية صهيون) الإنجيلية مكتوبًا عليها: (أرجو الاطلاع على مقالة خطية الأنبياء والرد عليها) . تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد ولكن القليل من آيات الحق يكفي لإزهاق الكثير من الباطل، لذلك نقول: ابتداء هذه المقالة (إن المسلمين يقولون: إن الله أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم وأعظمهم ستة، وهم آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى - أي المسيح - ومحمد، وكثيرون يقولون بأن كل هؤلاء الأنبياء كانوا بلا خطية، ولذلك كانوا قادرين على إيهاب الخلاص لتلاميذهم؛ ولكن لو كانوا خطاة فما كانوا يتيسر لهم ذلك، إذ لا يمكن للخطاة أن يخلصوا الآخرين من الخطية) هذا ما قاله بحروفه، ثم تعقبه بدعوى أن من عدا المسيح من هؤلاء الأنبياء كانوا عصاةً مذنبين مستدلاًّ بما جاء في قصصهم في كتب العهد العتيق. فأما معصية آدم فمعروفة، وأما نوح فذكر أنه شرب الخمر، واعترف الكاتب بأن التوراة لم تذكر له خطيئة غير هذه؛ ولكنه جزم بأنه لابد أن يكون خاطئًا، وأما إبراهيم (فقد ورد عنه أنه كذب مرتين من باب الخوف من الناس) وأما موسى فذكر الكاتب من خطيئته أنه (حينما أمره الله أن يذهب إلى فرعون قد أظهر خوفًا عظيمًا وجبنًا زائدًا جعل الله أن يغضب عليه، وحينما كان بنو إسرائيل في البرية بعد خروجهم من أرض مصر قد فرط موسى مرة بشفتيه حتى أن الله لم يسمح له نظرًا لهذا الذنب أن يدخل أرض كنعان، بل جعله أن يموت في القفر) واستدل على خطيئاتهم من القرآن العزيز بما ورد من الآيات في طلبهم المغفرة إلا المسيح فإنه لم يرد عنه ذلك، وختم المقالة بعد كلام طويل في الثناء على السيد المسيح عليه الصلاة والسلام بدعوة المسلمين إلى الإيمان به - وهم المؤمنون حقًّا - والاتكال عليه في خلاصهم - وهم لا يتوكلون إلا على الله وحده - ويعني بالإيمان به أن يكون موافقًا لمذهب بروتستنت فإنه كتب نبذة في الصفحة الأولى من هذا العدد بأن سائر الطوائف (مسيحيون بالظاهر، وأما في الحقيقة فليسوا كذلك) وأن الله سيلقيهم في النار التي لا تطفأ، أما الرد على المقالة فمن وجوه: (الأول) أن أفضل الأنبياء عند المسلمين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، ويسمونهم أولي العزم، وليس آدم منهم لقوله تعالى {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115) ومن العلماء من منع التفاضل بين الرسل، وقال: إن ذلك لا يُعرف إلا بالوحي. (الثاني) أن المسلمين لا يعتقدون أن الأنبياء هم الذين ينجون الناس بسبب عصمتهم من العذاب، ويدخلونهم بجاههم في رحمته؛ وإنما يعتمدون على الله تعالى وحده في ذلك، ويعتقدون أن سبب النجاة الإيمان الصحيح والعمل الصالح، وأن الأنبياء ما أرسلوا إلا مبشرين ومنذرين، فهم يُعَلِّمون الناس الإيمان الصحيح المقبول عند الله تعالى والعمل الصالح الذي يرضيه، فمن آمن وعمل صالحًا ترجى له النجاة بفضل الله تعالى الذي وفقه وهداه، ومن كفر بعد بلوغ الدعوة بشرطها فلا يزيد الظالمين كفرهم إلا خسارًا. (الثالث) أن هؤلاء المعترضين لم يعرفوا معنى عصمة الأنبياء عند المسلمين، فتوهموا أنهم يقولون بذلك لإثبات أن الأنبياء ينجون الناس؛ لأنهم معصومون، فنجيبهم بأن المسلمين قام عندهم الدليل العقلي على ذلك، وهو أن الله تعالى جعل الأنبياء هداة ومرشدين ليُقتدى بهم، فلو ابتلاهم بالمعاصي التي هي مخالفة الشريعة التي يأتون بها لما كانوا أهلاً للهداية؛ لأن الله أودع في فطرة البشر أن يقتدوا بالأفعال أكثر من الأقوال، وقد أخبرونا أن الله تعالى أمر بالاقتداء بهم، فلو كانوا يرتكبون مخالفة أمره لكان في أمره بالاقتداء بهم تناقض وأمر بالشر وهو محال، وليس معنى عصمتهم أنهم مخالفون للبشر في جميع أطوارهم فلا يخافون مما يخيف في الدنيا، ولا يتألمون مما يؤلم ولا يتوقون الشر (سنوضح هذا المقام في الأمالي الدينية بعد) . (الرابع) أنه لم يُنقل عن سيدنا نوح في العهد العتيق إلا شرب الخمر، وفي هذه الأناجيل أن المسيح شرب الخمر أيضًا، فإن قلنا بأن من لم يُنقل عنه أنه عصى يصلح أن يكون مخلِّصًا للناس، فنوح يصلح لذلك كالمسيح، بل إن من صالحي هذه الأمة المحمدية كثيرين لم تحفظ عليهم المعصية. (الخامس) ما نقله عن سيدنا إبراهيم مصرح بأنه كان للضرورة وإرادة التخلص من شر وظلم أكبر من كذبة في الظاهر لها تأويل في نفس القائل كقول إبراهيم عن زوجته: (هذه أختي) يعني في الدين، ومن القواعد المعقولة والمشروعة أنه إذا تعارض ضرران يجب ارتكاب أخفهما، فإذا حاول ظالم أن يغتصب امرأتك ليسترقها أو يفجر بها وقدرت أن تنجيها منه بكلمة كاذبة - وجب عليك ذلك، وتكون الكذبة معصية في الصورة طاعة في الحقيقة. (السادس) أن ما ذكره عن سيدنا موسى من الخوف ليس فيه معصية لله ومخالفة لشريعته؛ وإنما هو شأن من الشؤون البشرية الجائزة وهو خوف هيبة وإجلال للوظيفة العظيمة التي كُلِّف بها. (السابع) إذا لم يصح الدليل العقلي على عصمة الأنبياء، فعدم نقل المعصية عن المسيح لا ينافي وقوعها منه؛ لأنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم وجوده في نفسه. (الثامن) أن طلب الأنبياء المغفرة من الله تعالى لا يدل على أنهم كانوا بعد النبوة عصاة مخالفين لدين الله تعالى؛ ولكنهم لمعرفتهم العالية بالله تعالى، وما يجب له من الشكر والتعظيم يعدون ترك الأفضل إذا وقع منهم في بعض الأوقات ذنبًا وتقصيرًا، ألم تر أن للمقربين من الملوك والسلاطين ذنوبًا غير مخالفة القوانين يطلبون من الملوك العفو عنها (ولله المثل الأعلى) وسيأتى إيضاح ذلك في الأمالي الدينية. (التاسع) إذا فرضنا أن دليل المسلمين على عصمة الأنبياء غير صحيح، فلا حجة للمسيحيين عليهم في شيء؛ وإنما ذلك شبهة على الدين المطلق. ((يتبع بمقال تالٍ))

طهارة الأعطار ذات الكحول والرد على ذي فضول

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طهارة الأعطار ذات الكحول والرد على ذي فضول بعدما انتشر الجزء الثالث عشر الذي ذكرنا فيه بحث طهارة الأعطار الإفرنجية كتب إلينا عالم فاضل من الصعيد: أعجب العلماء والفضلاء بما كتبتموه في مسألة الأعطار الإفرنجية؛ ولكن أكثر الناس لا يقتنعون إلا بكلام الميتين ولو أقمت لهم سبعين دليلاً، وجئت بالله والملائكة قبيلاً، لذلك أذكركم بأن العلامة ابن العماد الفقيه الشافعي صاحب كتاب المعفوات قد صرح بطهارة الخمر في كتابه (رفع الإلباس عن وهم الوسواس) فلو ذكرتم نص عبارته لاطمأن لها أولئك المقلدون ... إلخ. وما كان يخطر في بال ذلك الفاضل أن بعض العوام الذين يقلدون كل مؤلف ميت، وينكرون على كل حي يتطفل على موائد العلم ويلفق رسالة مخصوصة في الرد على المنار، فقد أرسل إلينا السائل عن الأعطار الإفرنجية ورقات في ذلك بإمضاء (مختار بن أحمد مؤيد باشا ابن نصوح باشا العظمي) تصفحناها وإن كنا نعرف أن ملفقها ممن لا ينبغي إضاعة الوقت في شيء مما يكتبه؛ لأنه عامي مغرم بالشهرة العلمية يجرئه على التأليف لقبه (بك) ولقب أبيه وجده (باشا) ومداهنة المتملقين من المتعممين للأغنياء وتصحيحهم له ما يكتب؛ وإنما تصفحناها على طولها - وهي 16 صفحة - لمعرفة مكانة ملفقها، ثم رفعنا من قدرها بالرد عليها لئلا يكون علق بذهن السائل الذي أرسلت إليه شيء من أوهامها. الرسالة مؤلفة من الفضول والتعريض المبني على سوء الظن بغير شبهة ولا دليل، والتطويل بما ليس من الموضوع كالكلام في تحريم الخمر، وفي كون كل مسكر محرمًا، وفي أن المسكرات مضرة، وأنه يحرم بيعها ونحو هذا مما لا نزاع فيه، وأنى لمثل ملفقها أن يحرر محل النزاع في مسألة ويتكلم فيه، ومن العجيب تبجحه بأنه أراد الاختصار، وأنه لو أراد الرد بالتفصيل على جواب المنار لاحتاج إلى تأليف كتاب أكبر منه! ! وياليت هذه الورقات كانت في الرد على المنار؛ فإننا لو حذفنا منها السؤال والجواب المنقولين من المنار والنصوص المنقولة من الكتب في تحريم شرب الخمر وبيعه وعبارات الدعوى والتعريض وتحريف بعض الآيات لم يبق منها صحيفة ترتقي إلى أن تكون من الشبهات على الموضوع، وإننا نستخلص ذلك ونبين فساده لأنه مما يخطر في بال العوام أو يغتر به من يسمعه منهم. أما محل النزاع فهو أن جواب المنار في مسألة الأعطار الإفرنجية من وجهين (أحدهما) اجتهادي مبني على الرجوع إلى الكتاب والسنة في مسائل الدين، وهو أن المجيب لم يطلع فيهما على دليل يعتد به في نجاسة الخمر فضلاً عن الأعطار التي فيها جزء كيماوي مما يوجد في الخمر (ثانيهما) تقليدي مبني على التسليم بقول أكثر الفقهاء الذين قالوا بنجاسة الخمر، وبيان أن قولهم هذا لا يستلزم أن يكون العطر الذي فيه جزء كيماوي من الخمرة خمرًا نجسًا مثلها، وهذا بيان موضح بتسعة وجوه، وأما الأمور التي تتعلق بالموضوع من رسالة سعادة مختار بك فهي مع بيان الحق فيها: (1) زعمه أني أسأت الظن بالأئمة الأربعة (رضي الله تعالى عنهم) وزعمت أنهم حرَّموا على الأمة شيئًا بغير برهان من الله ورسوله، وزعمه هذا يقتضي أن كل مخالف أحدًا في رأيه أو قوله فهو مسيء للظن به، فكل عالم له قول أو رأي مسيء للظن بجميع الأئمة والعلماء المخالفين له فيه، كلا إن الذي يتبع الدليل يقول ما ظهر له ويعذر مخالفه ويعلم أنه لم يذهب إلى ما ذهب إليه إلا بدليل ظهر له، وأنه معذور ومأجور وإن لم يوافق الحق ويرى أنه مكلف بما ظهر له بعد البحث بقدر الطاقة لا بما ظهر لمخالفه. (2) دعواه أن الإجماع قد انعقد على نجاسة الخمر: وهو معذور على هذه الدعوى؛ لأن بعض من ألَّف في الفقه ذكرها، وغاية ما يصل إليه علم مثله أن يرى في كتاب شيئًا فيسلم به تسليمًا، أما الوصول إلى التحقق من الدعوى، وإلى وجه كون الإجماع حجة فهو بعيد على مثله من العامة، وإذا سلَّمنا بذلك وبطل الطريق الأول من جوابنا في إثبات طهارة الأعطار الإفرنجية فهل تنفعه هذه الدعوى في إثبات أن العطر الذي يقول الكيماويون أن فيه مادة الكحول هو خمر بالإجماع، الإجماع لا يعرف إلا بالنقل الذي لا معارضة فيه، ولا نقل في هذه الأعطار، فتعين أن تكون مسألة اجتهادية إن كان هناك وجه للقول بنجاستها. والتحقيق أن دعوى الإجماع غير صحيحة، وما الوصول إلى معرفة الإجماع على قول الجمهور بإمكانه ووقوعه بالأمر السهل، قال حجة الإسلام في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) ما نصه: (ولو أنكر ما ثبت بالإجماع فهذا فيه نظر لأن معرفة كون الإجماع حجة قاطعة فيه غموض يعرفه المحصلون لعلم أصول الفقه، وأنكر النظام كون الإجماع حجة أصلاً، فصار كون الإجماع حجة مختلفًا فيه) وقال في فصل آخر منه: (وأما ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد، فيتفقوا على أمر واحد اتفاقًا بلفظ صريح، ثم يستمروا عليه مدة عند قوم وإلى تمام انقراض العصر عند قوم، أو يكاتبهم إمام في أقطار الأرض فيأخذ فتاويهم في زمان واحد بحيث تتفق أقوالهم اتفاقًا صريحًا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلاف بعده، ثم النظر في أن من خالف بعده هل يكفر؟ لأن من الناس من قال إذا جاز في ذلك الوقت أن يختلفوا فيحمل توافقهم على اتفاق - أي مصادفة - ولا يمتنع على واحد منهم أن يرجع بعد ذلك وهذا غامض أيضًا) . ولهذه الصعوبة والغموض قال بعضهم: إن الإجماع غير ممكن، وقيل إنه ممكن ولكن لا يقع، وقيل بل وقع ولكن لا سبيل إلى العلم به، ثم اختلفوا في الاحتجاج به بعد فرض العلم بوقوعه، واشترط القائلون بكونه حجة قطعية نقله بالتواتر وليس هذا بيسير أيضًا، فكم من مدَّع للإجماع قد خولف وأنكر عليه، وأقرب الطرق إلى معرفة الإجماع والتواتر نقله بالعمل، وأبعدها ما كان موضوعه الترك، فإذا نقل الألوف عن الألوف عملاً دينيًّا فهو دليل على أنه مشروع، أما نقل الترك بالإجماع فمتعذر لأنه أمر عدمي ومعرفة سببه إن نُقل في غاية الغموض وقد صدق الإمام الغزالي في قوله إن العلم بالإجماع لا يحصل بمطالعة تصنيف ولا تصنيفين، وأنى لعامي مثل مختار بك بهذا الاطلاع. وقد قال بطهارة الخمر نفسها فقيه المدينة الإمام ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك كما في شرح المهذب للإمام النووي وكذلك الإمام داود، قال العلامة الفقيه أحمد ابن العماد في كتابه (رفع الإلباس عن وهم الوسواس) [1] ما نصه: (ومنه الخمر وهي نجسة خلافًا لربيعة شيخ مالك وداود؛ فإنهما قالا بطهارتها كالسم الذي هو نبات الحشيش والمسكر، وحكى الغزالي وجهًا في المحترمة، ووجهًا في أن باطن حبات العنب المستحيلة خمرًا طاهرًا، وحكى الشيخ تقي الدين رحمه الله في شرح الموطأ طهارة - بياض في الأصل - والمحترمة هي التي اعتصرت بقصد أن تُتخذ خلاًّ) ثم ذكر القول بأن ما اعتصره أهل الكتاب من المحترمة، أي بناء على عدم تكليفهم بفروع الشريعة فكل خمور أهل الكتاب طاهرة على هذا الوجه. (3) بحثه في كون الكحول مفسدة واستدلاله بثلاثة أمور: (الأمر الأول) كونه من المسكرات، وكون كل خمر نجسًا، ويرده (أولاً) أن الكلام في العطر لا في الكحول، والعطر ليس شرابًا مسكرًا ووجود الكحول فيه لا يجعله خمرًا؛ لأنه موجود في اللبن الحامض الطاهر بلا خلاف، وفي النبيذ الحلال الطاهر في مذهب الإمام أبي حنيفة الذي ينتمي إليه المعترض، وإن لم يعرف مذهبه، وفي غير ذلك كما ذكرنا في وجوه جواب السؤال و (ثانيًا) أن أبا حنيفة خص الخمر بالنيء من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد وسكن عن الغليان، واكتفى صاحباه بالغليان والاشتداد، وما عدا الخمر من المسكرات كالباذق والمنصف والطلا فقد اختلف الحنفية في نجاسته، هي هل مغلظة كالخمر أم مخففة وفي ظاهر الرواية أن نجاستها خفيفة حتى يعتبر فيها الكثير الفاحش، فلو فرضنا أن هذه الأعطار مثلها فلا يحكم ببطلان صلاة من تعطر بها، إلا إذا بلغ تضمخه بها ربع الثوب فأكثر وهذا لا يكاد يوجد. (الأمر الثاني) كون هذا الكحول من المواد المحرقة والعناصر القابلة الالتهاب قال: (وما كان كذلك فتأثيره في الجسم أمر مسلَّم) ولم يذكر ما هو التأثير المسلَّم، وظاهر السياق أن العطر الذي فيه الكحول يضر بجسم من يتطيب به إذا أصابه وهي دعوى تكذبها التجربة، وللكحول منافع في الطب كثيرة يعرفها أهلها. (الأمر الثالث) كون (كل ذي ذوق سليم يحكم بأفضلية أعطار البلاد الشرقية على هذه الأعطار الإفرنجية) وفيه أن الحكم بأفضلية الأعطار الشرقية يقتضي الحكم بفضيلة الأعطار الإفرنجية، لا بأن فيها مفسدة، ولعله لم يفهم أن العبارة تفيد هذا المعنى لأنه حجة عليه، على أن هذه مسألة اقتصادية، وكلامنا في حكم الطهارة والنجاسة لذاته لا لأهل الشرق خاصة؛ فإن أهل الغرب مكلَّفون بالإسلام وفيهم الآن مسلمون. (4) تحريفه الوجه التاسع من وجوه جواب المنار، وهو أنه ثبت في الكيمياء أن مادة الكحول توجد في غير هذه الأعطار من الأكل والشرب والدواء، لاسيما المتخمر منها كالعجين واللبن الحامض، فإذا حكمنا بنجاسة ذلك كله نوقع الأمة في الحرج المنفي بالنص، فجاء المعترض ينفي الحرج في استبدال الأعطار الشرقية بالأعطار الإفرنجية، ونحن لم نقل أن الحرج في الاستبدال، وإن أدري أذلك عن سوء قصد أم عن سوء فهم. (5) إيراده حديثًا ورد في آنية أهل الكتاب وهو (إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها) واستدلاله به على أنه لا ينبغي أن ننخدع لأواني الأعطار الإفرنجية المزخرفة، فقد نهينا عن أوانيهم، وأحسن في كونه لم يستدل بالحديث على نجاسة أوانيهم مع أن أبا ثعلبة - رضي الله عنه - السائل عن الأواني ذكر أنهم يأكلون الخنزير ويشربون الخمر، أما كون الحديث إرشادًا للكمال في المعاملة والاستعمال، وغير دال على النجاسة فأدلته كثيرة، وأعظمها حل طعامهم بنص القرآن في سورة المائدة، وهي آخر ما نزل، ومنها ما ثبت في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وأكل من الشاة التي أهدتها إليه يهودية خيبر ومنها أنه أكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى - رواه أحمد وأبو داود - وأكل من خبز الشعير والإهالة لما دعاه إليه يهودي. رواه أحمد. له بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

مشروع التعليم باللغة العامية المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع التعليم باللغة العامية المصرية نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارْتَعَى إذا أحس نبأة رِيعَ وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها نهال للخطب الذي يروعنا ... ونرتعي في غفلة إذا انقضى إذا أزعج الصائح الغنم السائمة بنبأة شديدة تجفل مرتاعة وتترك الرعي هنيهة ثم لا تلبث أن تعود إليه بعد سكوت الصائح، فإذا عاد إلى الصيحة عادت، فإذا طامن لَهَتْ وتمادت، ذلك مثلنا في رأي ابن دريد قاله من نحو ألف عام أيام كنا في أوج مجدنا، وبحبوحة عزنا، وهو إنما يصدق علينا في هذه القرون الأخيرة التي غلبت علينا فيها المعيشة الفردية، وإن كانت خسيسة بهيمية، وجهلنا معنى الأمة ومقوماتها، والحياة الاجتماعية وحسناتها، فلا يبالي الواحد منا بما ينزل بالأمة، إلا إذا آلمه هو وأهمه، وإننا لنعد انطباق مثل السائمة علينا مبدأ ارتقاء وشعور جديد في الدهماء. ما أكثر النبآت والهيعات التي أجفلت المصريين في غضون هذه السنين؛ ولكنها لم ترتق بهم إلى تدارك الخطب وترك اللهو واللعب، ألم تر أن نبأة المحاكم الشرعية القارعة، وصيحة إصلاحها الصادعة، كانت قد راعت الناس واعتقدوا أن غرض الحكومة سيطرة المحاكم الأهلية على المحاكم الشرعية، أو إدغامها فيها لتمحى بالكلية، ولما سكت الصائح عاد أهل هذه المحاكم إلى ما كانوا عليه لا يصلحون عملاً، ولا يقوِّمون درأ ولا يقيمون عوجًا، وسكت عنهم الناس الذين أجفلتهم الصيحة الأولي لا ينذرونهم بعودة الافتيات، ولا يوصونهم بالاستعداد لما هو آت، فماذا ينظرون، إذ ظلوا في غفلتهم يعمهون؟ {مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} (يس: 49-50) ولكل شيء قيامة، إذا حلَّت لا تنفع الندامة. وهذه صيحة استبدال اللغة العامية السخيفة، باللغة الصحيحة الشريفة - استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير - قد طرقت المسامع، وآلمت الطبائع، أستغفر الله، إنه لم يؤلم الطبائع إلا هذا السجع؛ ولكن الصيحة حركت الألسنة والأقلام إلى تفويق سهام الملام، وإقامة الحجة على الصائح بأنه يقصد منفعة قومه لا منفعة الذين يدعوهم إلى ترك لغة دينهم وشريعتهم وعلومهم وآدابهم التي ضعف بضعفها فيهم كل مقوم من مقومات حياتهم، وفي محوها من ألواح التعليم محو أمتهم من لوح الوجود الاجتماعي، وماذا عسى يُفيد الاحتجاج بالقول إذا لم يؤيده العمل والسعي في ترقية اللغة الصحيحة، وجعلها لغة التخاطب والتعامل؟ أرأيت أيها القارئ إذا اتخذنا جفول أهل الشعور من هذه الصيحة وسيلة لاستنجاد القائمين على تعليم اللغة والإلحاح عليهم بوجوب إصلاح التعليم بحيث يستعمل المتعلم اللغة في القول والكتابة، أيقولون أن هذه لُباب النصيحة أم يقولون إنه إهانة للعلماء والمدرسين، وإنما حياتنا بتعظيمهم وتبجيلهم والرضا بكل ما يكون منهم سواء اغْتُنِمَتْ الفرصة أم فاتت، وعاشت لغة القرآن أم ماتت؟ أعني بصيحة اللغة كتابًا ألفه المستر ويلمور المستشار في محكمة استئناف مصر الأهلية باللغة الإنكليزية، يدعو فيه إلى جعل اللغة العامية المصرية لغة التعليم العامة بدلاً من اللغة العربية الصحيحة، ويحاول إقناع المصريين بأن هذا خير لهم وأقوم سبيلاً، وما هي بالصيحة الأولى؛ وإنما هي ترجع لصوت (ولهلم سبتا بك) الألماني أمين دار الكتب الخديوية من قبل (المتوفى سنة 1883) فإنه وضع حروفًا إفرنجية للغة العامية المصرية لأجل إحيائها، وألف كتابًا في صرفها وكتابًا في أمثالها وقصصًا عامية، ونشر ذلك باللغتين الألمانية والفرنسوية؛ ليرغب أوروبا في تنفيذ مشروع تعليم اللغة العامية بالحروف الإفرنجية، وجعلها لغة العلم والتعليم، وقد انتدب بعض أغنياء الإفرنج منذ سنين لذلك، وأرصد له مالاً جمًّا ونشرت يومئذ كراسة في الحث عليه وترغيب الآخذ به بالمال، ووزعت هذه الكراسة مع الجرائد اليومية الكبرى حتى المؤيد، وكتبنا وقتئذ مقالتين مطولتين في الرد والتنفير عن المشروع فنَّدنا فيهما وجوه الخديعة والخلابة وكشفنا الغطاء عن ضروب التدليس والتلبيس في الموضوع بلهجة شديدة، فليرجع إليهما من شاء في العددين 5 و 6 من السنة الأولى. لم نكتف في المقالتين بتفنيد وجوه منافع المشروع التجارية والتعليمية والوطنية التي زعمها ناشر الكراسة يومئذ؛ ولكننا نبهنا أيضًا على تقصيرنا في إحياء اللغة الصحيحة ونشرها بالتعليم القويم حتى كادت تمحى وتزول، وحتى صار بعض الناس يعتقد أن إحياءها محال، وعلى الخطر الذي يتهددها إذا تمادينا في إهمالنا وإغفالنا؛ ولكن قومنا لا يروق لهم إلا القدح والطعن في الأجانب ومدح أنفسهم، وإذا لم يضرهم هذا لما منحهم الأجانب من الحرية فإنه لا ينفعهم ولا يقيهم من سهام الأجانب؛ وإنما الذي يقيهم وينفعهم هو النظر في تقصير أنفسهم والتبصر في عيوبها، ثم الرجوع عليها باللائمة، وحملها على اتقاء السهام التي تصوبها إليهم حرب تنازع البقاء بالمِجن الدافع، والتدبير النافع. ليت المؤيد الأغر لم ينشر مقدمة كتاب المستر ويلمور لأجل عرضها على الكتاب للرد عليها، فقد كان الأولى أن يبطل شبهاته من غير أن ينشرها ويقررها؛ فإن من الناس من يلتاث بالشبهة وإن كانت تتضاءل افتضاحًا، وتدق في نظره الحجة وإن كانت تتبختر اتضاحًا، على أنه لا خوف على المصريين من الانخداع لتلك الشبهات مهما موهها صاحبها مادامت شبهات قولية، كما أنه لا رجاء في اقتناع المستر ويلمور وأمثاله بما نكتب ونقول؛ وإنما العبرة بالأعمال ومن الناس من إذا قال فعل وبعضهم يقول ما لا يفعل: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل لهذا ختمنا المقالة الثانية من تينك المقالتين بهذه العبارة: (إذا ألقي ما شرحناه على المتحذلقين من المصريين ينغصون رؤوسهم، ويحدجون بأبصارهم، ويقولون: إكبار وتهويل، وصياح وعويل، وما هو إلا كلام بكلام، أما العقلاء فيعلمون أنه كلام حق، وأن الإفرنج إذا قالوا فعلوا، وإذا عملوا أدركوا، وأنهم ما دخلوا قرية ولا خالطوا أمة إلا أفسدوا كيانها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون، إن نفوس سكان الولايات المتحدة نيف (كذا) وسبعون مليونًا وليس فيهم هندي من السكان الأصليين، لا أبعد عليك في المثال، هذه بلادك التي تسكنها أيها العاقل انظر فيها إن كان لك بصر، واعقل إن كان لك لب، ثم ارجع إليَّ باللوم والتفنيد، أو بالشكر والتحبيذ) . أرأيت يا من نسي الصيحة الأولى كيف تبعتها الرادفة، فتدبر وتفكر واعلم أن الخَطْب لا يُدفع بخطب الخطباء، ولا بكتابة الأدباء، وإن كان لا بد من قول ينفع إذا ضر السكوت وخيفت مغبته؛ وإنما يجب العمل لإحياء اللغة العربية بالفعل فإذا صدقتنا في العمل لحفظ لغتنا المقدسة فلا يقدر أحد على إضاعتها مهما بلغت قوته، وعلت صيحته، ومن أضاع حقه فلا يلومن الناس على إضاعته أو هضمه لمنفعة أنفسهم. إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه فعلى من يدَّعي الغيرة على لغة دينه وملته، وقد رأى المعاول هيئت لتقويض أركانها، وهدم بنيانها، أن يجدد لها بيتًا معمورًا، ويجعل عليها حجرًا محجورًا، فإذا قال كلمة في الهادمين، فليقل عشرًا في البنائين؛ لأنك إذا أنصفت - وغير الإنصاف لا يفيد - لا يمكنك أن تقول في محاول الهدم إلا أنه يفعل ذلك لمصلحة قومه وأمته لا لمصلحتنا ولك مع المكلف بالبنيان كلام كثير إذا أحسن البناء، وكلام كثير إذا أبى أو أساء، وأقترح الآن شيئًا واحدًا وهو تعوُّد متعلمي اللغة الكلام العربي الصحيح، واستنجاد مشيخة الأزهر الشريف وطلب مساعدتها على ذلك ليكون علماؤنا هم القدوة لنا في إنقاذ لغة الدين من مخالب المغتالين، وذلك بأن تلزم المدرسين والمتعلمين بالنطق بالعربية الصحيحة في الدروس، ثم في غير الدروس وإن لزهاء عشرة آلاف متعمم لتأثيرًا كبيرًا في إحياء هذه السنة التي هي حياة جميع الفروض والسنن. أما إصلاح التعليم لترتقي به اللغة فقد كتبنا فيه مرارًا كثيرة، ولو كان لنا مساعدون يطالبون بالقول والكتابة لنفع القول وأفاد، وبلغنا به المراد، وإن لنا لحملة على معلمي العربية في المدارس؛ فإن أكثرهم مقصر في أداء ما يفرضه عليه ديوان المعارف، وكان الواجب عليهم أن يجتهدوا في الزيادة عليه إذا وجدوا إليه سبيلاً.

نساء المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نساء المسلمين تابع المحاورة الأولى بين فاطمة علية هانم كريمة جودت باشا وبعض نساء الإفرنج ذكرنا في آخر ما أوردناه في الجزء التاسع عشر أن مدام ف ... سألت مؤلفة المحاورات عن رواتب الخدم، وكيفية انتخاب رئيستهن، وعن كيفية ابتياعهن، ووعدنا بالجواب عن الأخير لفائدته، أما الانتخاب والراتب فأخبرتها أن ربة البيت تختار أمهر الجواري وأذكاهن لرياسة الخدم، وأن سيدهن يعطيهن رواتب شهرية زيادة على مؤنتهن، ويجهز الجارية التي تشب وتريد التزوج بجهاز لائق، وربما اقترن هو بها، أما الابتياع فقد أجابت عنه بما كتبته وهو: (أن ثمن الجارية يُدفع للبائع فلا تستفيد هي منه؛ وإنما هو لسيدها الأول أو أقاربها، والدين الإسلامي جعل للجواري علينا حقًّا يجب أداؤه، ولذلك نكافئهن بما علمت) . (ف..: يظهر أن الجواري من نوع الخوادم. أنا: نعم إنهن يشبهن اللواتي يخدمن بالمشاهرة أو المسانهة؛ وإنما تكون الخادمة بأجرة معينة إلى أجل محدود؛ لأن الإجارة تكون فاسدة مع الجهل بالأجرة أو مدة العمل، وأما الجارية فإن مدة خدمتها غير معلومة، وكذلك ما ينفق عليها في أثنائها فهي شبيهة بالإجارة الفاسدة؛ ولكن التعامل جرى بهذا وما ينفق عليها يكون بحسب سعة سيدها وصدقها في الخدمة، فهي قيمة تعرف بالعُرْف والعادة المتبعة، والشريعة توجب علينا عتق الجارية بعد تسع سنين في حال السعة وبيعها في حال الحاجة من ذي مروءة يعتقها [1] ، على أن العرف والعادة قضيا بالعاب والذام على الذين يمسكون الجواري بعد سبع سنين ولا يعتقونهن. أما أهل المروءة والدين من ذوي البيوتات فلا يمسكون الجارية أكثر من سبع سنين؛ لأن في الدين أسبابًا كثيرة تقضي بعتق الرقيق، فمن ذلك أن من يقول: إذا أصبت كذا فعلي أن أعتق عبدًا، فيصيب ذلك، يجب عليه العتق وفاء بالنذر، ومن الناس من تصيبه النعمة فيعتق قيامًا بفضيلة الشكر، ومن ذلك أن من أفسد صوم يوم واحد من رمضان وجب عليه أن يعتق عبدًا إذا قدر، فإن لم يستطع فعليه أن يصوم شهرين متتابعين - وفي كلامها 61 يومًا - ومن العادات المتبعة عندنا أن الجارية التي تخدم الطفل الصغير يعتقها سيدها في اليوم الذي يُرسل فيه ذلك الولد إلى المدرسة، وأكثر الصغار يرسلون في السنة الرابعة، فكأن مدة رق المربيات أربع سنين. ف: ما أحسن ما تقولين إلا أن الخادمة تخدم حيث تشاء، والجارية مكرهة على البقاء في منزل سيدها وإن كان ظالمًا. أنا: إن تبرمت الجارية من منزل وأرادت تركه يكفي في ذلك أن تقول بيعوني فيجاب طلبها، وقد جرت العادة بأن لا تُباع لمن لا يلائمها، وأما الشرع فإنه أوصى بالأرقاء وحسن معاملتهم، وحرَّم الظلم والجفاء، فمن ظلم رقيقه فالحاكم الشرعي يجازيه بما تفرضه العدالة متى وصل الأمر إليه. ف: يستفاد من هذا أنه لا فرق بين الجواري والخوادم. أنا: كلا إنه ليس للخوادم علينا من الحقوق مثلما للجواري، فليس للخادمة إلا أجرها الشهري، وإذا استغنينا عنها نأذن لها بأن تذهب حيث تشاء، وهي التي تُعِدُّ لنفسها الجهاز إذا أرادت الزواج، وإذا فارقها زوجها فلسنا مكلفين بها، فهي التي تبحث لنفسها عن منزل تخدم فيه لتعيش، والجارية التي يفارقها زوجها تعود إلى دار سيدها كأنه بيت أبيها، وهو يختار لها الزوج الملائم كما أنه يتولى أمر أولادها ويربيهم ويعلمهم، ومن يظلمها زوجها ترجع إلى سيدها ليدافع عنها وينصرها، وإذا توفي زوجها ولم يترك لها ما يكفيها ترجع بأولادها إلى بيت سيدها كهذه الجارية التي ترينها من الكَوّ (النافذة الكبيرة) آخذة بيد ولدها الصغير طائفة به في فناء الدار، وكفالة المعتوق إذا عجز عن القيام بأمر نفسه واجبة شرعًا على سيده يُلزمه بها القاضي إذا هو امتنع، وفي مقابلة هذا إذا مات العتيق عن مال يكون للمعتق نصيب منه فهو إذن معدود من أهل البيت وأفراد الأسرة - فات الكاتبة أن تذكر هنا حديث: (مولى القوم منهم) والمولى: العتيق، ويُطلق على السيد وهو الأصل - وإننا فوق هذا كله نأتمن الجواري على مفاتيح صناديقنا ولا نأتمن الخوادم إلى هذا الحد؛ لأن شدة صلة الجارية بسيدها تمنعها من الخيانة كما لا يخون الأولاد والديهم إلا نادرًا، ولهذه العناية لم يتفق أن جارية أَبَقَتْ تاركة كنف سيدها ولجأت إلى أهلها، مع أنهن مطلقات السراح يذهبن حيث شئن. مدام ف..: لا جرم أن هذا لنفورها من أهلها الذين باعوها. أنا: عفوًا أيتها المدام فإن سمحت أنبأتك بالحقيقة. ف..: عجبًا تستأذنين في شيء أنا أرجو بيانه بكل رغبة؛ فإن ما سمعته منك في الأرقاء يباين ما كنت أعلمه من كل وجه، فأرجوك أيتها السيدة مواصلة الحديث. أنا: إذا وُلد للجراكسة بنت جميلة ينوّمونها بالهمهمة والتغريد، وأغانيهم لهؤلاء البنات مشتملة على ذكر مستقبلهن في الآستانة كقولهم (إنك ستكونين في الآستانة زوجة لأحد الباشوات فلا تنسي الأهل والأقربين) كطريقة الإفرنج في ذلك إذ يُسمعون أطفالهم لقب (جنرال ومارشال) لينشئوهم على حب الجندية، ومتى صارت البنت الجركسية تفهم القول يملأون سمعها بذكر سعادة عمتها وخالتها في الآستانة فيشتغل خيالها بذلك، ويكون قلبها متعلقًا بقرب يوم السعادة الموعود حتى إذا قاربت الإعصار أو الإرهاق، وصارت تستحي من الكلام مع والديها بذلك تكاشف به والدتها وأترابها شاكية من إرجاء إرسالها إلى الآستانة، فكل من البنت والوالدين ينتظر ذلك اليوم الذي يظفرون فيه بخاطب لا يكلفهم نفقة ولا جهازًا، بل هو الذي يمطر على تلك الغادة الحلي والجواهر، ويغمرها بالسعادة والنعيم، فتفيض على أهلها من فضل نعمتها ما تفيض، فهي تنفصل منهم ببسالة وشهامة ولسان حالها يقول بعزة وصلف: (إنني لا أحملكم عناء في اختيار زوج لي؛ فإن جمالي البارع الذي أراه في المرآة هو الذي يختار لي، وسترون كيف أكافئكم على عنايتكم بي إلى أن بلغت هذا الطول) وظاهر أيتها المدام أنهم إذا لم يرسلوها إلى الآستانة؛ فإنها تكون لهم عدوًّا وحزنًا. لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (أشهر مشاهير الإسلام في الحروب والسياسة) لنا كلمة في كتب التاريخ العربية قلناها منذ سنين، وهي أن هذه الكتب جمعت مادة من جزئيات الحوادث والوقائع لمن يريد أن يؤلف في علم التاريخ، وذلك أن العلم أحكام وقواعد كلية تُستنبط من الجزئيات، وأول من اهتدى إلى علم التاريخ أو فلسفة التاريخ هو الحكيم العربي ابن خلدون الشهير فوضع مقدمته في فلسفة التاريخ بعد جمع مواد تاريخه كلها، أي بعد تسويده على ما اعْتَقَدَ، وكان ذلك في عصر تدلي العلم والمدنية في الأمة الإسلامية، لهذا لم يكن لتلك المقدمة النفع المنتظر حتى دالت العلوم إلى الغرب فنقلوها إلى لغاتهم، وكانت الأصل لعلوم العمران والسياسة والاجتماع التي توسع الإفرنج فيها ما شاءوا، وكانت كتب التاريخ هي المنبع لهذه العلوم بما نقَّحوها وهذَّبوها وأوردوا الحوادث فيها مقرونة بعللها وأسبابها موصولة بذكر آثارها ونتائجها، وطالما تمنينا على الفضلاء ومنينا أنفسنا بوضع تاريخ إسلامي على هذا النسق، فحقق الله رغبتنا بما وفق صديقنا الحميم الكاتب الفاضل رفيق بك العظم الشهير لتأليف كتاب مطول في ذلك، وهو ما رأيت اسمه في العنوان، ونوهنا به في آخر الجزء الماضي. رأى المؤلف أن يبرز هذا التاريخ الإسلامي في لباس كتب سير الرجال ومناقب العظماء؛ ليكون أقرب إلى القبول والتأثير، فجعله تاريخًا لأشهر علماء المسلمين في السياسة والحرب من الخلفاء والملوك والقواد الذين شادوا للإسلام صروح العز والمجد. ويذكر بمناسبة كل شأن من شؤونهم في أخلاقهم وأعمالهم ما لذلك الشأن في نفسه من التأثير في العمران، وما ينبغي أن يكون، وما ينبغي أن لا يكون، وقد أطلق لقلمه الحرية في بيان ما يراه حقًّا وصوابًا مع النزاهة في التعبير، والتلطف في التصوير، والتنبيه على مواضع الاعتبار، وطرق الاستبصار، وجعل الكتاب أقسامًا لكل دولة كبيرة قسم يمثله في سيرة أعظم رجالها، وقد صدر الجزء الأول من القسم الأول المخصوص بدولة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم، وفيه سيرة الخليفة الأول وقائده الشهير خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنهما. وفي هذا الجزء من المباحث المفيدة بحث الخلافة، وبحث الردة وحقيقتها، وأنها ليست كما يتوهم الكثيرون أن الذين قاتلهم الصِّدِّيق كانوا قد تركوا الإسلام ورجعوا إلى الشرك، وبحث السياسة الإسلامية، وبحث القضاء في الإسلام، وبحث الحكومة الإسلامية والعمال والكتاب، وبحث الألقاب والرتب، وبحث حكم أهل الذمة وأصل الامتيازات التي للنصارى في البلاد الإسلامية، وغير ذلك من الفوائد التي لا توجد في غير هذا الكتاب، وقد رغب إلينا صديقنا المؤلف أن ننتقد الكتاب كما هو شأن من يكتب لينفع، فنعده بأننا بعد أن نُتم مطالعته نظهر ما عساه يظهر لنا أنه يُستدرك عليه لتكون الخدمة أكمل وأتم، ونحث كل قارئ بالعربية أن يقرأ هذا الكتاب لينتفع به، ويكون عونًا للمؤلف على تأليف بقية الأجزاء ونشرها. *** (الفقه والتصوف) مجموعة مؤلفة من ثلاث رسائل في انتقاد كتب الفقه والأصول والتصوف لكاتبها العالم الفاضل الشيخ عبد الحميد أفندي الزهراوي، وقد كنا نشرنا الرسالة الأولى في المنار، وطلبنا من العلماء والفقهاء أن يكتبوا إلينا رأيهم فيها، وذكرنا أن لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في أسباب الخلاف تصلح أن تكون جوابًا على هذه الرسالة، وأننا سننشرها وملخصها في المنار، ثم وردت علينا الرسالة الثانية مع رسالة التصوف فلم نشأ نشرهما على احترامنا حرية البحث والنقد، واعتقادنا أن العلم لا يرتقي إلا بها، وذلك لأن مثل هذا النقد لا يكون مفيدًا إلا إذا تناوله الخواص بالمناظرة المعتدلة، وإننا نرى أهل العلم الديني يلجأون في بلاد الاستبداد إلى مقاومة من يخالفهم بالقوة، ونراهم في بلاد الحرية لا يحفلون بما يدور بين حملة الأقلام وغيرهم من أمثال هذه المباحث، ولا يردون على ما يرونه منكرًا منها؛ لأنهم بمعزل عن العالم وسيره، وقد صرحنا عند نشر الرسالة الأولى بأن السبب فيه إطلاعهم على بعض ما يدور بين الكُتاب ليكونوا على بينة منه، فلم يفد. ولا سعة عندنا في الوقت لتعقب كل كاتب وإبداء رأينا فيما يكتبه، وقد كتبنا رأينا في الفقهاء والصوفية في السنة الأولى، ونتذكر أننا قرأنا ذلك يومئذ على فضيلة شيخ الأزهر وبعض علمائه، فقال الشيخ في المقالة إن كلامها شرعي لا يعترض عليه، وذلك أننا ذكرنا محاسن القوم وذكرنا ما لا يوافق الشرع أو المصلحة العامة مما يؤثر عن مجموعهم؛ ولكن رسالة الفاضل الزهراوي مخصوصة بالمساوي؛ ولذلك كان يجب أن لا يطلع عليها إلا الخواص فطبعها خطأ، وإن كان قصد مؤلفها حسنًا، فنحن نُجِلُّ غيرته ونحترم حريته ونمدح شجاعته، على أنه أفرط فيها، ونتمنى أن يطلع العلماء على رسالته وينتقدوها. *** (استدراك على مقالة السياسة والساسة الأخيرة) فاتنا أن نستدرك في الجزء الماضي على هذه المقالة بعد العزم على ذلك، فإن في بعض القول مجالاً للوهم، لا يهتدي فيه كل فهم، فمن ذلك قوله: (ماتت الفرق الإسلامية التي أساس مذهبها العلم فقط كفرق المعتزلة والجبرية المحضة مثلاً) يتوهم بعض الناس أن الكاتب يرجح هذه المذاهب وينفي العلم عن سواها، وليس كذلك وإنما يعني أن قوامها البحث العلمي بدون أخذ الأمراء والحكام بها وتأييدهم إياها، وفيه أن بعض الخلفاء العباسيين انتصر لبعض عقائد المعتزلة، وكأنه لم يعتد به لأن المنتصرين لم يكونا هما السبب في القول بما انتصرا له ولم يطل الأمد على ذلك، وفيه أيضًا أن عقيدة الجبر المحض لم تمت على ما فيها من الجهالة والضرر، فإن كان الذين اخترعوها ودعوا إليها ودافعوا عنها قد انقرضوا، فقد قام بنصرها من هم أقوى منهم تأثيرًا وأعز نصيرًا وهم أكثر فرق المتصوفة، ولا تكاد تجد الآن عاميًّا من المسلمين إلا وهو يجادل في هذه العقيدة ويؤيدها بالعقل والنقل، وكأن الكاتب لم يعتد بهذا لأن هؤلاء الجبرية لا يتمسكون بهذه العقيدة ويناضلون دونها إلا بالنسبة لما يطلب منهم من الكمالات الشخصية والمنافع العامة والاعتذار عن تقصيرهم في التمسك بدينهم وخدمة أمتهم. ومن ذلك عدَّه أهل السنة في المذاهب التي أساسها الأغراض السياسية، يذهب الوهم إلى أنهم غير مؤيدين بالعلم بقرينة قوله في المعتزلة والجبرية؛ ولكنه قال هناك (فقط) وظاهر أن أهل السنة هم الذين نبغوا في كل العلوم الإسلامية، والوهم في عبارته واضح وقد سماهم في الأصل (الحشوية) وحُذفت هذه الكلمة من الأصل بإذن من جاء بالرسالة، ولعل الكاتب يرى أن أهل السنة هم أهل الحديث وأن الذين يسمون بهذا الاسم غير متبعين السنة؛ ولذلك وقعوا فيما وقعوا فيه من الخلاف وآثاره، ويظهر من كلامه بعد أنه يرى أن الوهابية أقرب من غيرهم إلى هذا اللقب؛ لأن مذهبهم الحديث، ويظهر أيضًا أنه ليس مقلدًا لمذهب معين والله أعلم. *** من قصيدة للشاعر المجيد الشيخ مصطفى المنفلوطي يهنئ بها فضيلة مفتي الديار المصرية بالعيد. رويدك ما بعد الذي نلت غاية ... ترام لمرتاد فأين تريد ورحماك بالحساد إن نفوسهم ... تقَطَّعُ أحشاء لها وكبود يريدون ما لا يرتضي المجد والعلا ... وما الله والإسلام عنك يذود وما لك ذنب غير أنك سيد ... وهل يذنب الإنسان حين يسود ألست الذي أعلى بنا العلم بعدما ... هوى وأجار الحق وهو طريد وقام بأمر الدين يحرس مجده ... ويكلأه والحارسون هجود وجاهد فيه وحده وكأنما ... له عُدد من بأسه وعديد فبيَّنه للناس أبلج واضحًا ... منيرًا وآيات الكتاب شهود

نساء المسلمين وتربية الدين ورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نساء المسلمين وتربية الدين ورأيا كاتبة أوربية وأميرة مصرية يقولون: لا يصلح حال المسلمين إلا إذا صلح حال نسائهم؛ لأن النساء نصف الأمة الذي يربي كل أفرادها التربية الأولى التي هي أساس وأصل لما بعدها، وهذا القول صحيح لا خلاف فيه؛ وإنما الخلاف فيما يصلح به حال نساء المسلمين. يقول قوم: إنه يصلح بالتعليم؛ ولذلك رغب الجماهير في هذا العصر بتعليم البنات ولكننا نرى أكثر المتعلمات شرًّا من غير المتعلمات! ما زدن بيوت آبائهن ثم بيوت بعولتهن إلا شقاء وتعاسة جد بما يكلفنهم من أعباء الأزياء وأوزار الزينة وأثقال الحلية والماعون، وآصار الأثاث والرياش، وما يرهقنهم من العسر في أمورهم، وما يدفعن من الكيد في نحورهم، ومن غير هؤلاء المتعلمات محصنات غافلات حافظات للغيب بما حفظ الله، ورأيت منهن بنتًا فقيرة تمشي في شارع العباسية وقت الغروب فمد يده إليها شاب من مُجَّان الأفندية فصاحت به: ويلك أيها الوغد الأثيم، والعُتُل الزنيم، أتعرف إلى من مددت يدك؟ كنت مارًّا فسمعت صوتها فرميت ببصري إلى حيث سمعت الصوت، فرأيت فتاة عليها جلباب أسود خَلِق وقناع كأنه ملحفة زيَّات، ورأيت ما لم يره صاحب اليد الخاطئة، رأيت على رأسها تاجًا من العزة والأمانة، وعلى عاتقها حللاً من العفة والصيانة، ورثتها مما ترك الأمهات والجدات من خشية الله تعالى وحفظ ما أمر بحفظه. لا أقول: إن التعليم ضار بذاته؛ وإنما ينفع التعليم إذا كان معه تربية قويمة، فإذا كنا محتاجين إلى مثقال من التعليم فنحن أحوج منه إلى قنطار من التربية، ولا تربية إلا بالدين وآدابه وفضائله، أرأيت تلك البنت الفقيرة البائسة التي كان من أمر استقلالها وسلطان عصمتها ما سمعت، إنها لأحسن تربية من اللائي تعلمن أو أخذن الشهادات من المدارس، إن كان فيهن من تربت في بيت أبيها، وإنني ذاكر لك واقعة عنهن بإزاء واقعة البائسة الفقيرة: أخبرنا رجل غريب نبيه أنه دخل في مصر يشتري شيئًا، فألفى بعض بنات المدارس يبتعن بعض أدوات الدراسة، وألفى صاحب المكتبة يغازلهن ويناغيهن حتى بلغ من تماديه في غيه أن مد يده إلى صدر إحداهن يعبث بثديها، فكأنهن وقفن أنفسهن على العلم والتعليم حتى أبحن صدورهن لمن يتعلم فن الثُّديٍّ الفوالك والكواعب والنواهد. هذا المَسَن والفنوك والمجون والتهتك والتخنث هو الذي أقام قيامة الناس في مسألة الحجاب، ورأوا طلب التخفيف فيه من العجب العجاب، فذهبوا في النظر والاستدلال مذاهب الوهم والخيال، وطال المراء والجدال، ولعمري إن فتاة العباسية كانت سافرة وفتيات المكتبة كن متبرقعات ولكن بمناديل الشفوف، لا بحجاب الشرع المعروف (فعليك بذات الدين تربت يداك) . في مصر الآن كاتبة من عقائل الفرنساويات السائحات لها عناية بالوقوف على شؤون نساء المسلمين، وقد أقامت في الآستانة العلية زمنًا طويلاً، ومقامها في هذه السنين بالجزائر وهي تكتب نتائج اختبارها في قصص مما يسمونه (رومان) مبينة فيه رأيها، وقد كان من تأثير قصة منها طُبعت ونُشرت أن أصدر مولانا السلطان الأعظم - أيده الله تعالى بالنصر والتوفيق - أمره بمنع المسلمين من اتخاذ النساء الأوربيات خادمات ومربيات، فأشاع بعض الأتراك أن السبب في المنع أن هؤلاء المربيات والخوادم ينقلن الأخبار الشفاهية بين وجهاء الآستانة وكبار الموظفين، وأنه لم يبق لهم غير هذه الصلة الأمينة، فعلم بها السلطان فقطعها حتى تقطَّع بينهم، والصواب أن السبب في المنع هو ما جاء في تلك القصة التي نشرتها تلك الكاتبة على ما قالت لبعض وجهاء مصر. ذلك أنها قالت في القصة: إن ما يظنه الأوربيون من أن خدور نساء المسلمين، أو ما يسمى عندهم (الحرم) هو عبارة عن ماخور خفي أو بيت فجور سري - هو ظن آثم وحكم ظالم، ولقد سبرت الأغوار ونبثت البئار، ووفقت على ما وراء الأستار، فعلمت بعد طول الاختبار، أن النساء المسلمات هن المحصنات الطاهرات، وأن ما وجد في بعض البيوت من لوث في الأعراض؛ فإنما هو في البيوت التي تعلم النساء فيها عند الأوربيين، أو دخل فيها الخوادم والمربيات الأوربيات، فهؤلاء المسلمات تركن بهذا التعليم الناقص آداب دينهن وفضائله المؤثرة في إصلاح النفوس، فأمسين عابدات الهوى لا وازع لهن من أنفسهن. قالت الكاتبة: وعندي أنه يستحيل إصلاح حال المسلمين إلا بإرجاع الدين إلى البيوت، تعني تربية النساء تربية دينية إسلامية، ويالها من حكيمة زكية. زارت هذه الكاتبة العاقلة أحد فضلاء المسلمين في مصر لتسأله عن أحكام دينية تريد الكلام عنها في قصة تشتغل بتأليفها الآن على وجه الصواب، ومما قالته إنها عرفت بعض الأميرات في مصر فأرادت أن تستعين بها على السعي في تربية البنات تربية دينية فَضَلَّ سعيها وخاب أملها، كتبت إلى الأميرة كتابًا تذكر فيه تأثير دين الإسلام في إصلاح النفوس وتهذيب الأخلاق وتقيم الحجج القيمة والبراهين الناصعة على أن حال النساء لا يصلح إلا بالدين، وحال البيوت لا يصلح إلا بالنساء، وحال الأمة لا يصلح إلا بالبيوت التي تتألف الأمة منها، ثم تستنجد بها على السعي في (إرجاع الدين إلى البيوت) بعبارات تبعث الشعور في سكان القبور، وتلين لها الجنادل والصخور، وإن كان لا يلين قلب الختَّار الكفور، فأجابتها الأميرة الخطيرة سليلة محمد علي الكبير: إنك أيتها المدام تحاولين أن ترجعي بنا إلى رق الرجال وأسرهم، وأن تسلبينا ما منحته الحرية من إطلاق السراح وتعيدي أرجلنا إلى تلك المقاطر والقيود، وتجعلي في أعناقنا تلك الأوهاق والأغلال، فكيف نرضى بأن نترك الحرية للعبودية، ونستبدل الهمجية بالمدنية، هذا معنى ما كتبته الأميرة بالفرنسوية، فليعتبر المسلمون بأمرائهم وأميراتهم. إن بركان الفساد والفجور لم ينفجر إلا من تلك القصور، وقد ألقى بقذائفه الخبيثة على ما جاور القصور وقاربها من البيوت العالية، ومنها تعدى إلى البيوت الصغيرة، ثم إلى الخيم والأكواخ الحقيرة، ذلك أن مدار التربية العمومية والمذاهب الاجتماعية على التأسي والقدوة وسنة الكون في الأسوة أن تقتدي كل طبقة بما فوقها وفي الأمثال السائرة (إن السمكة تنتن من رأسها) فكما أفسد الأمراء رجال الأمة وأماتوا استقلالهم الشخصي الذي هو أصل استقلال الأمة، كذلك فعل نساؤهم بنساء الأمة، علمنهن الترف والسرف والمخيلة والانغماس في النعمة وإبداء الزينة، وحببن إليهن الخلاعة والتهتك، بل أغوينهن بشرب الخمرة أم الخبائث ومنبع الفتن وآفة العفة والصيانة، فكيف يرجى منهن بعد هذا كله أن يهدمن كل ما بنين ويسعين ببناء صالح جديد يكون منبعًا لكل صلاح، ألا وهو إعادة الدين إلى البيوت بعدما فارقها حزينًا مهينًا؟ لقد جرى القلم بسائق الامتعاض والانفعال إلى ميدان لم يكن من القصد جريه فيه، فلنمسك بعنانه ونصرفه عنه، وإن لنا لعودة إلى بيان هلاك الأمم بالترف والسرف نفصِّل القول فيه تفصيلاً، أما تربية النساء بالدين أو إرجاع الدين إلى البيوت كما تقول الكاتبة الفرنسوية الفاضلة فهو عضلة العقد وأكبر المشكلات؛ لأن الطريقة المثلى التي تجب لا يعرفها إلا الأقلون، ولا بد لها من كتب مخصوصة تجمع بين السهولة والتأثير لتعين عليها، فهل يتعب نفسه العارف بوضع كتب في ذلك، وينفق فضل ماله في طبعها وهو يعلم أنها لا تروج في المدارس؛ لأن الحكومة لا عناية لها بالدين وأن المدارس الأهلية لا غرض لها إلا التجارة، وهي دون مدارس الحكومة في كل شيء؟ نعم لو أن في البلاد عددًا كبيرًا من أهل العقل والغيرة يعرفون قيمة هذا العمل، ويؤازرون من يقوم به ويعملون بما يرشد إليه في بيوتهم - لوُجد القائم به؛ ولكن قومنا مشغولون عن كل هذا باللهو واللعب يبذل الغني ماله في طلب لقب ضخم يتبجح به، أو وسام لامع يزين به صدره يوم لقاء الأمير في العيد، وهم غافلون عما في بيوتهم من معاول الخراب، وعن سير أمتهم في طرق العدم والانقراض، ولخادعيهم المكانة الأولى عندهم (وقد يستفيد الظنة المتنصح) . ((يتبع بمقال تالٍ))

المسلمون في أفريقيا

الكاتب: إسحاق طيلر

_ المسلمون في أفريقيا لقسيس إنكليزي [1] قرأ (القسيس إسحاق طيلر) بالأمس صحيفة قال فيها: إن الإسلام من حيث هو دين تبليغي - أي جعل أساسه على تبليغ عقائده إلى الناس بطريق الدعوة، وإقامة الدليل والحجة، وتفويض الأمر للنظر والفكر في الوصول إلى المطلوب علمه من تلك العقائد، ولم يجعل أساسه على الإلزام بما لا يعقل بطريق جبري - قد نجح في قطعة أرض عظيمة من العالم نجاح الديانة المسيحية (تحيُّر من السامعين) . الداخلون في الإسلام من الوثنيين لا أقول فيهم إنهم أكثر عددًا من الداخلين منهم في المسيحية فقط، بل أزيد على ذلك أن المسيحية تخنس بالفعل بين يدي الإسلام والمساعي المبذولة لتنصير الأمم المسلمة ترجع إلى الخيبة رجوعًا ظاهرًا، ليس أمرنا واقفًا عند العجز عن إحداث مواطئ جديدة لأقدامنا فقط؛ ولكن المقام الذي نحن فيه قد نعجز عن حفظه أيضًا، إن دين الإسلام قد انتشر آنفًا من (مراكش) إلى (جاوا) ومن زنجبار إلى الصين وهو الآن ينتشر في إفريقية بسرعة لا يأتي عليها الوصف، فقد ضرب هذا الدين بجرانه في أرض (كونغو) و (زمبيسي) و (أوغاندا) فهذه المملكة القوية الزنجية صارت محمدية من زمن قريب، التمدن الأروبي الذي يهدم الوثنية الهندية في الهند إنما يوطئ طريقًا جديدًا للدين الإسلامي! فإن في أرض الهند مائتنين وخمسة وخمسين مليونًا من السكان، فيهم خمسون مليونًا مسلمون، وليس بينهم من المسيحيين إلا النزر اليسير، والمسلمون من أهالي أفريقيا يزيدون على نصف سكانها، لا يتعلق بغرضنا الآن بيان كيفية انتشار الدين الإسلامي في بدايات أمره؛ ولكن علينا أن نبين حالته في ثباته ودوامه وأخذه بقلوب المستمسكين به؛ فإن الديانة المسيحية أقل سطوة منه على القلوب؛ لذلك ترى القبيلة الإفريقية تدخل في الدين الإسلامي، ثم لا ترتد إلى الوثنية قط ولا تتنصر أبدًا. نرى الإسلام أوفق ما يكون لتهذيب الأمم المتوحشة وترقية حالها، أما الديانة المسيحية فهي أبعد من أن تنالها عقول السذج وهي على ما نعلم من دقتها. الإسلام قد نفع التمدن أكثر من المسيحية (تعجُّب من السامعين) انظروا في تقارير أرباب المناصب من الإنكليز أو العامة من السائحين تقفوا على فوائد الدين الإسلامي في إصلاح الأعمال البشرية؛ فإن الديانة المحمدية إذا دخلت في قبيلة زنجية محت من بينها الديانات الوثنية وعبادة الشياطين ورفعتها عن السجود للأباطيل، وكرَّهت إليها أكل لحوم البشر، وذبح الإنسان وقتل الأولاد، ونزهتها عن معاطاة السحر، وهيأت لها من ذلك كله خلاصًا أبديًّا، وأول ما يبتدئ به الوحشيون بعد الدخول في الإسلام لبس الثياب والنظافة، ثم تنشأ فيهم عزة النفس ويكسوهم الوقار، ويصير قري الضيف بمنزلة فريضة شرعية، ويندر السُّكر، وينقطع القمار، ولا يبقى أثر للمراقص المخزية، ويحظر اختلاط الرجال بالنساء، وتُعَدُّ العفة في الإناث من خلائق التقوى، ويُبَدَّل الكسل بالعمل، وتأخذ الشريعة مكان الأهواء، ويتحكم النظام والكياسة، ويَحْرُم سفك الدماء وظلم العبيد والبهائم، ثم يفشو التناصح بالإحسان والأخوة والإحساس بالوجدان الإنسي، أما الاسترقاق وتعدد الزوجات فيأخذان وجهًا من الترتيب وتمحى مساويهما. الجمعية الإسلامية هي المستعلية على الكل بشدة قواها واجتنابها للمسكرات، أما انتشار التجارة الأوربية فليس إلا انتشار السُّكر والقبائح والأخلاق السافلة، والإسلام يروج بين الناس تمدنًا في رتبة غير سافلة لاحتوائه على تعلم القراءة والكتابة وستر العورة والنظافة والصدق والحياء، إن رواج الإسلام وحمله الناس على التمدن من العجائب، وما أقل ما نجد لو طلبنا عوضًا للمبالغ الوافرة من الأموال التي أسرفنا في تبذيرها في أفريقيا، فالمتنصرون يعدون بألوف، والداخلون في الإسلام يعدون بملايين، تلك أحوال يسوءنا مرآها وجهلها حماقة. فيجب علينا أن نتبصر أمرًا، وهو أن الدين الإسلامي لا يناقض الديانة المسيحية، بل يتفق معها؛ فإن ذلك الدين صوت إيمان إبراهيم وموسى عليهما السلام، وفيه كثير من الأصول المسيحية وهو يخالف اليهودية في أنها كانت خاصة وهو دين عام لا يختص بأمة واحدة، بل يعم كل العالم. المسلمون يعترفون بأربعة مرشدين كرام: إبراهيم خليل الله، وموسى كليم الله وعيسى كلمة الله، ومحمد رسول الله، ولسيدنا عيسى مقام جليل في الأربعة، ولو فرضنا أن الديانة الإسلامية لا ترمي مرامي تعليمات القديس بولس فهي لا تخالف المسيحية، بل هي قريبة منها، وخير من اليهودية لإقرارها بمعجزات المسيح ونبوته، كان فيما ينسب إلى الديانة المسيحية موضوعات خيالية وضعها بعض الرؤساء من عند أنفسهم، فصارت بها الأقوام مشركين في أعمالهم يعبدون جماعة من القديسين والشهداء والملائكة، وظنوا من بعض أحكامها أن الوساخة من خصال القديسين، فجاء الإسلام وكسح مجموع هذه المفاسد والأباطيل، وأظهر الأحكام الأساسية الدينية، وهي توحيد الله وتعظيمه، وبدَّل الرهبانية بالإنسانية، وأرشد الناس إلى الأخوة الصحيحة ومعرفة الحقائق الأساسية للطبيعة الإنسانية، الدين الإسلامي لا يفرض على الناس خلع سلطان الطبيعة البشرية من مقامه الفطري، كما تفرض ذلك الديانة المسيحية - في نحو الأمر بمحبة الأعداء مثل محبة الأصدقاء، وبالتجرد عن قنية الأموال وبإدارة الخد الأيسر لمن ضربك على الخد الأيمن وما شابه ذلك - لكن يطالب العقول بما تحتمله كالاعتدال والنظافة والعفة والقسط والثبات والشجاعة وإكرام الضيف، فإذا أكسبهم هذه الخصال سهَّل لهم طريق الفضائل السامية وجنبهم جميع الرذائل والكبائر، الدين المسيحي يطالب بمؤاخاة الناس كافة وتلك غاية لا تُنال؛ لكن الإسلام ينادي بمؤاخاة فعلية يستوي فيها المسلمون عامة، وهذه الأخوة جعالة عظيمة يقدمها الإسلام للداخلين فيه، فمَنْ قَبِل الإسلام دخل في جمعية مؤتلفة القلوب على الإطلاق، وصار عضوًا لمجمع أخوة عددهم (150.000.000) والداخلون في الديانة المسيحية جديدًا لا ينظر إليهم بين النصارى بنظر المساواة؛ لكن الأخوة الإسلامية أمر حقيقي (هذه أخلاق أهل الإسلام في أفريقيا كما قال القس طيلر، وهي الجدير بها المسلمون كافة؛ ولكن من الأسف أن المسلمين في جهات كثيرة فقدوا هذه الأخوة الحقيقة) . عندنا يا إخوتي كثير من الأحبة في منبر الكنيسة؛ لكن قليلاً ما نشاهدهم في المعيشة اليومية (ضحك) حق أن القرآن بشَّر بجنة جسمانية لكن لها في الفضائل الإنسية التي لابد منها في هذا العالم أقوى تأثير، الإسلام لا ينقطع بالإنسان إلى الروحانية المحضة كما ترشد إليه التعاليم المسيحية؛ لكنه المكتب الفرد الذي يمكن أن يتربى فيه الإفريقي. العقبتان العظيمتان المانعتان من تنصر أهالي أفريقيا هما تعدد الزوجات والاسترقاق، أما الاسترقاق فليس من لوازم العقيدة الإسلامية، لكن رخَّص فيه الشرع المحمدي؛ لأنه شر اضطراري، كما رخَّص فيه موسى وماربولس، ويد المسلم فيه أرفق وألين من يد المستعبدين في الممالك المتحدة، تعدد الزوجات أصعب المسألتين على أنها لم ينه عنها في شرع موسى وعمل بها داود عليه السلام والإنجيل لم يصرح بمنعها مع مخالفتها لأصوله، محمد (صلى الله عليه وسلم) جعل حدًّا معينًا لعدد الزوجات، فخف شره ووجدت له منافع كثيرة، فهو الذي نسخ قتل الإناث، وأقام لكل امرأة قيّمًا شرعيًّا؛ وبسببه خلصت البلاد المحمدية من الفواحش الرسمية وهي أعظم شناعة في المسيحية من تعدد الزوجات في الإسلامية. تعدد الزوجات على قواعده المنتظمة عند المسلمين أنجح تأثيرًا في صيانة النساء عن الرذائل، وأخف ضررًا على الرجال من مخالطة امرأة واحدة لرجال كثيرين، تلك لعنة البلاد المسيحية ولا وجود لها في بلاد الإسلام. (انظر وتأمل) الإنكليز الذين يُجَوِّزون توارد رجال كثيرين على امرأة واحدة في المواخير (أى محلات الفواحش) لا يليق بهم أن ينكروا على المسلمين الناكحين مثنى وثلاث ورباع (أنصتوا أنصتوا) فلنخرج الجذع الكبير من أعيننا قبل أن نهتم بإخراج القذى من عيون إخواننا. إن أسقف لاهور في رؤساء آخرين أقدم على السماح لقوم بالتنصر مع إبقاء زوجاتهم اللاتي كن في عصمهم قبل النصرانية؛ لأن من الظلم الفاحش أن يكلف المتنصر بترك زوجته وقد تزوجها بنكاح صحيح في شريعته وجاءت منه بأولاد، أيجوز أن أمهات أولاد الرجل يطلقن ويتركن للمعيشة في الرذائل، لا يمكن لرجل يليق بأن يكون مسيحيًّا أن يقدم على عمل ظالم مخالف للفطرة مثل هذا. إن الشرور الأربعة التي نعدها في البلاد المحمدية، وهي تعدد الزوجات والاسترقاق والتمتع بالإماء وإباحة الطلاق - ليست من خصائص الإسلام، بل كان معمولاً بها على أشنع صورها في الممالك المتحدة، وهي أرض مسيحية وسكانها من الإخوة الإنكليز. إن المعلمين الأوربيين لا يستطيعون أن يدخلوا أفريقيا في النصرانية، فهذا شيء جُرِّب فلم يفد، فعلينا أن نعدل عن تهييج الخصام بيننا وبين المسلمين وتكذيب نبيهم وتكفيرهم، ونجتهد في تفهيمهم أن المسيحية لا تخالف الإسلام، بل تشابهه جدًّا، وعلينا أن نذكر أن الدين الإسلامي أشد تأثيرًا في إخضاع النفوس لمشيئة الله وردعها عن السُّكر، وحملها على الصدق وتمكين عرى الألفة والأخوة الإيمانية بينها، وأنفذ فعلاً مما عندنا فلنا فيهم أسوة حسنة، إذا اقتدينا بهم حسنًا. إن الإسلام قد نسخ السُّكر والقمار والبغاء، ثلاث لعنات أهلكن البلاد المسيحية (فليعتبر المقامرون حاسبهم الله) الإسلام قريب جدًّا من المسيحية، والمسلمون كأنهم مسيحيون، فتعالوا بنا نساعدهم على الكمال في دينهم، ولا نسعى سعيًا عبثًا لإبطاله لعلنا نجد في الإسلام مسيحية ونجد محمدًا (صلى الله عليه وسلم) آخذًا بعضد المسيح في دينه (بشاشة من الحاضرين) . ((يتبع بمقال تالٍ))

المحاورات بين المصلح والمقلد ـ 13

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحاورة الثالثة عشرة بين المصلح والمقلد التقليد والوحدة الإسلامية في السياسة والقضاء نهى الإمام أحمد وأتباعه عن التقليد، ترك التقليد ليس غمطًا للأمة والعلماء، أحكام الشرع قسمان: روحاني لا تقليد فيه ودنيوي يُتبع فيه أولو الأمر المجتهدون، الوحدة الإسلامية في المعاملات السياسية والقضائية، المشاورة والإجماع، تفويض الشارع أمر الأحكام لأولي الأمر المجتهدين، تقديم الحكم بالمصلحة الموافقة للقواعد العامة، نكاح المتعة، الحكم بالاستحسان عند الحنفية، حكم القاضي بعلمه، أسباب الحكم ليست تعبدية، حكم القضاء على الظاهر وحكم الدين على الباطن، العدل هو ما يوصل إلى الحق، اقتراح على أهل الحل والعقد أن يؤلفوا كتابًا في السياسة والقضاء يوافق المصلحة الإسلامية في هذا العصر. اجتمع الشيخ المقلد والشاب المصلح لإتمام المحاورة والمناظرة بعد فترة طويلة، وابتدأ الشاب الكلام فقال: المصلح: الأولى لنا أن نورد شيئًا مما يؤثر عن ناصر السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في النهي عن التقليد؛ ليعلم الذين ركنوا إلى تقليد هؤلاء الأئمة الأربعة أنهم ليسوا على هديهم في هذا التقليد، وقد كان هذا الإمام الجليل متأخرًا قليلاً عن الثلاثة، وإن أدرك بعضهم وصحب أحدهم، وكان قد رأى بوادر التزام تقليد الذين تكلموا في الأحكام وكتبوا فيها وعلم أن الإمام مالكًا رحمه الله تعالى قد ندم قبل موته أن نقلت أقواله وفتاويه؛ ولذلك لم يدون مذهبًا، واقتصر على كتابة الحديث؛ ولكن أصحابه جمعوا من أقواله وأجوبته وأعماله ما كان مجموعه مذهبًا كما قال العلامة ابن القيم، وسأله أبو داود عن الأوزاعي ومالك أيهما أتبع، فقال: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به، وذكر أن الرجل مخير في التابعين. المقلد: إذا كان خَيَّرَ في اتِّبَاع التابعين فتلك رخصةٌ بتقليدهم. المصلح: إنه كان يفرق بين الاتباع والتقليد، قال أبو داود: سمعته يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم هو من بعد في التابعين مخير، وقال أيضًا: لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا، فالتقليد هو الأخذ بقول أحد من غير معرفة دليله، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن إلا بعد العلم بسنته، فاتحد الدليل والمدلول، وأما الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد اختلف الأئمة في الأخذ بالموقوف عليهم، فمنهم من يقول به كأحمد ومنهم من يقول هم رجال ونحن رجال ومنهم من فصَّل وليس هذا من غرضنا الآن؛ ولكننا نفهم من عبارة الإمام أحمد أن مراده الاهتداء بعمل الصحابة وسيرتهم لا تقليد واحد منهم بعينه في كل ما يقول وإنما خير في التابعين؛ لأن المختار من لا يتبع الهوى في اختياره؛ وإنما يسترشد بمن يراه أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً. المقلد: أليس هؤلاء الأئمة الأربعة خيرًا من كثير من التابعين، فلماذا لا تختار اتباعهم، ونكون آخذين برخصة الإمام أحمد في ذلك بالأولى؟ المصلح: إن الأئمة الأربعة أولى بأن يتبعوا في سيرتهم العلمية والعملية من كثير من التابعين، وقد اتبع أحمد الشافعي في طرق الفهم والاستنباط، وفضَّله في حداثة سنه على الشيوخ الذين كان يُرحل إليهم؛ ولكنه لم يقلده تقليدًا، روى الحاكم بسنده إلى الفضل بن زياد العطار أنه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول (ما مس أحد محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه منة) ولولا أن المتأخر من العلماء يهتدي بهدي المتقدم لما ارتقى علم في الدنيا، ولو أن المتأخر يأخذ بكل ما يقوله المتقدم لما ارتقى علم في الدنيا. المقلد: إذا كان الإمام قد نهى نهيًا صريحًا عن تقليده، فلماذا دوَّن أصحابه له مذهبًا مستقلاًّ، وحملوا الناس على العمل به؟ المصلح: هذا السؤال يرد على سائر المقلدين؛ فإن الأئمة الثلاثة نهوا عن التقليد أيضًا، كما قلنا في مجالسنا السابقة، وقد كان أتباع الإمام أحمد أبعدهم عن التقليد المحض، وأقربهم إلى ما كان يسميه إمامهم اتباعًا واهتداء، وذلك أنه لا يزال مذهبهم الحديث، والفروع الفقهية عندهم مدللة باتباع السنة في الغالب؛ ولذلك كان أكثر الحفاظ والمحدثين من أتباعه وليس فيهم من يترك الحديث لقوله كما يفعل سائر فقهاء المذاهب الأخرى وهم أكثر الناس نعيًا على التقليد والمقلدين. قال الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتاب (تلبيس إبليس) : اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد، وفي التقليد إبطال منفعة العقل؛ لأنه خلق للتأمل والتدبر، وقبيح ممن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة، واعلم أن عموم اصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم التفحص عن أدلة إمامهم، فيتبعون قوله وينبغي النظر إلى القول لا إلى القائل كما قال علي رضي الله عنه للحارث بن عبد الله الأعور بن الحوطي وقد قال له أتظن أن طلحة والزبير كانا على الباطل؟ فقال له: (يا حارث إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله) . وقال ابن القيم العلامة المحدث المشهور بعد كلام في النفس الأمارة، ثم النفس المطمئنة: (فإذا جاءت هذه بتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم جاءت تلك (أي الأمّارة) بتحكيم آراء الرجال وأقوالهم، فأتت بالشبهة المضلة بما يمنع من كمال المتابعة، وتقسم بالله ما مرادها إلا الإحسان والتوفيق، والله يعلم أنها كاذبة وما مرادها إلا التفلت من سجن المتابعة إلى فضاء إرادتها وحظوظها وتريه (أى تري صاحبها) تجريد المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم وتقديم قوله على الآراء في صورة تنقص للعلماء وإساءة الأدب عليهم المفضي إلى إساءة الظن بهم، وأنهم قد فاتهم الصواب، فكيف لنا قوة بأن نرد عليهم أو نحظى بالصواب دونهم وتقاسمه بالله إن أردت إلا إحسانًا وتوفيقًا {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} (النساء: 63) والفرق بين تجريد متابعة المعصوم وإهدار أقواله وإلغائها، أن تجرد المتابعة أن لا يُقَدِّم على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قول أحد ولا رأيه كائنًا من كان، بل ينظر في صحة الحديث أولاً، فإذا صح نظر في معناه ثانيًا، فإذا تبين له لم يعدل عنه ولو خالفه من بين المشرق والمغرب، ومعاذ الله أن تتفق الأمة على ترك ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، بل لابد أن يكون في الأمة من قال به ولو خفي عليك فلا تجعل جهلك بالقائل حجة على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في تركه، بل اذهب إلى النص ولا تضعف واعلم أنه قد قال به قائل قطعًا؛ ولكن لم يصل إليك علمه. هذا، مع حفظ مراتب العلماء وموالاتهم واعتقاد حرمتهم وأمانتهم واجتهادهم في حفظ الدين وضبطه، فهم رضي الله عنهم دائرون بين الأجر والأجرين والمغفرة؛ ولكن لا يوجب هذا إهدار النصوص وتقديم قول الواحد منهم عليها بشبهة أنه أعلم منك ، فإن كان كذلك فمن ذهب إلى النصوص أعلم فهلا وافقته إن كنت صادقًا، فمن عرض أقوال العلماء على النصوص ووزنها بها وخالف منها ما خالف النص لم يهدر أقوالهم ولم يهضم جانبهم، بل اقتدى بهم فإنهم كلهم أمروا بذلك، بل مخالفتهم في ذلك أسهل من مخالفتهم في القاعدة الكلية التي أمروا بها ودعوا إليها من تقديم النص على أقوالهم، ومن هذا تبين الفرق بين تقليد العالم في جميع ما قال، وبين الاستعانة بفهمه، والاستضاءة بنور علمه، فالأول يأخذ قوله من غير نظر فيه ولا طلب دليله من الكتاب والسنة، والمستعين بأفهامهم يجعلهم بمنزلة الدليل الأول، فإذا وصل استغنى بدلالته عن الاستدلال بغيره، فمن استدل بالنجم على القبلة لم يبق لاستدلاله معنى إذا شاهدها، قال الشافعي: (من استبانت له سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد) . (ومن هذا تبين الفرق بين الحكم المنزل الواجب الاتباع، والحكم المؤول الذي غايته أن يكون جائز الاتباع، بأن الأول هو الذي أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم متلوًّا أو غير متلو، إذا صح وسلم من المعارضة، وهو حكمه الذي ارتضاه لعباده ولا حكم له سواه، وأن الثاني أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب اتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها؛ فإن أصحابها لم يقولوا هذا حكم الله ورسوله قطعًا وحاشاهم عن قول ذلك، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عنه في قوله (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك على أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله؛ ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أم لا) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث بريدة، بل قالوا اجتهدنا رأينا فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله، ولم يلزم أحد منهم بقول الأئمة، قال أبو حنيفة هذا رأيي فمن جاء بخير منه قبلته، ولو كان هو عين حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد وغيرهما مخالفته فيه، وكذلك قال مالك لما استشاره هارون الرشيد أن يحمل الناس على ما في الموطأ فمنعه من ذلك، وقال: قد نفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاد، وصار عند كل قوم من الأحاديث ما ليس عند الآخرين، وهذا الشافعي نهى أصحابه عن تقليده، وكان يوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه، وهذا الإمام أحمد أنكر على من كتب فتاويه ودوَّنها، وكان يقول: (لا تقلدوني ولا تقلدوا فلانًا وفلانًا وخذوا من حيث أخذوا) اهـ. قال المصلح بعد إيراد هذه الجملة الصالحة من كلام ابن القيم: إنني سقت هذا الكلام بطوله لأذكرك بخلاصة ما مر من النقول والدلائل، وقد رأيت هذا الكلام اليوم وأعجبني جدًّا. المقلد: حاصل ما فهمته منك أن مذهبك مذهب المحدثين؛ ولكن ماذا تفعل بالحديث إذا خالف مذاهب أهل السنة كلهم، كحديث أحمد ومسلم الذي ورد في آخر كلام ابن القيم الذي يثبت الحكم لغير الله تعالى في قوله (أنزلهم على حكمك) وأهل السنة يقولون: لا حكم إلا لله وحكمت المعتزلة بالعقل. المصلح: إنما سمي أهل السنة بهذا الاسم؛ لأنهم يتبعون السنة إذا صحت، وهذا الحديث صحيح عند أئمتهم في الحديث والفقه، فمن خالفه منهم فقد خرج عن السنة في هذه المسألة، وإذا أخذ به المعتزلة فهم على السنة فيها، وكأني بك لا تزال مصرًّا على أن مذاهبكم هي الأصل الذي يعرض عليه الكتاب والسنة، فإن وافقاه قبلا، وإلا ردا بضروب من التأويل، ومن اعتقد هذا فهو بعيد عن السنة، بل وهو بعيد عن الإسلام، وأنا أقول: معاذ الله أن تكون مذاهب أهل السنة مخالفة لهذا الحديث ولكن عليك بالفهم ولا تؤاخذني بهذه الكلمة فقد آلمني قولك هذا بعد كل ما تقدم. أما أحكام الدين فهي لله كما قال أهل السنة والجماعة أخذًا من قوله تعالى: {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 40) ولكن أحكام الله تعالى على قسمين قسم لا يستقل العقل بمعرفة

طهارة الأعطار ذات الكحول والرد على ذي فضول

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طهارة الأعطار ذات الكحول والرد على ذي فضول (تتمة) ذكرنا في الجزء الماضي ثلاثة أمور مما يتعلق بموضوعنا من رسالة مختار بك المؤيد وهاؤم الباقي. (4) دعواه الإجماع على أن الصلاة لا تصح من متنجس البدن أو الثوب أو المصلى، وما أسهل دعوى الإجماع على مثله، قال في نيل الأوطار ما نصه: (وهل طهارة ثوب المصلي شرط لصحة الصلاة أم لا؟ فذهب الأكثر إلى أنها شرط وروي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وهو مروي عن مالك أنها ليست بواجبة، ونقل صاحب النهاية عن مالك قولين أحدهما إزالة النجاسة سنة وليست بفرض، وثانيهما أنها فرض مع الذِّكر ساقطة مع النسيان، وقديم قول الشافعي أن إزالة النجاسة ليست بشرط، ثم أورد ما استدل به الجمهور على الشرطية وبيَّن عدم صحة الاستدلال؛ لأن ما كان من حديث صحيح في ذلك فهو آمر بإزالة النجاسة أو مرشد إليها بالعمل من غير ذكر ما يفيد أنها شرط للصلاة كالآية الكريمة {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4) إلا حديث (تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم) ولو صح لكان مفيدًا للشرطية؛ لكنه باطل لأن في إسناده روح بن غطيف وقال ابن عدي وغيره: إنه تفرد به وهو ضعيف، وقال الذهلي: أخاف أن يكون موضوعًا، وقال البخاري حديث باطل، وقال ابن حبان: موضوع، وقال البزار: أجمع أهل العلم على نكرة هذا الحديث، قال الحافظ ابن حجر: وقد أخرجه ابن عدي في الكامل من طريق أخرى عن الزهري لكن فيها أبو عصمة وقد اتهم بالكذب. وقد استدلوا على الشرطية بما هو حجة عليهم كحديث خلع النبي صلى الله عليه وسلم نعله في الصلاة؛ لأنه علم أن بها خبثًا، وهو يدل على عدم الشرطية لأنه لم يستأنف الصلاة، والشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ومنها حديث أمره عليه السلام بغسل لمعة الدم من الكساء بعدما صلى فيه، ولو كانت طهارة الثوب شرطًا لإعادة الصلاة، وقد قال الإمام الشوكاني بعدما أورد أدلة الجمهور وأعلَّها ما نصه: (إذا تقرر لك ما سقناه من الأدلة فاعلم أنها لا تقصر عن إفادة وجوب تطهير الثياب فمن صلى وعلى ثوبه نجاسة كان تاركًا لواجب، وأما أن صلاته باطلة كما هو شأن فقدان شرط الصحة، فلا؛ لما عرفت اهـ. (5) إنكاره على المنار القول بأن الكحول لم يكن موجودًا في زمن التشريع وأزمنة الأئمة الأربعة فينص فيه على شيء، وزعمه أن ذلك دعوى بغير دليل، وإن عدم ذكره ليس دليلاً على طهارته، وما كتبه المؤلف العامي في هذا المقام دليل على أنه لم يفهم كلام المنار؛ فإننا لم نستدل بعدم ذكر الأئمة له على طهارته، وإنما أردنا أنه ليس فيه عنهم نص فيأخذ به مقلدهم فهو على أصل الطهارة، وما قاله بعض المقلدين من المتفقهة المعاصرين في نجاسته فمردود بالوجوه التي ذكرناها في المنار. (6) إنكاره تعليل المنار عدم وجود الكحول في زمن التشريع بعدم وجود الكيمياء، وقوله إن الأحكام الشرعية لا تتوقف على وجود هذا العلم، ثم استدلاله على وجوده بوجود علم الطب والتصوير عند الشعوب المتمدنة (كذا) وهذا اللغو أيضًا من سوء الفهم؛ فإننا نحن الذين صرحنا بأن الأحكام الدينية لا تبنى على المسائل الكيماوية، وعنصر الكحول لم يُعرف إلا من الكيمياء، واستدلاله بالطب والتصوير على وجود علم الكيمياء في زمن التشريع من أغرب ما يحتج به من يفتحر الكلام افتحارًا، ولو كان يعلم كما نعلم أن علم الكيمياء الحديث من اختراع جابر بن حيان الصوفي المتوفى سنة 161 لملأ الدنيا لغطًا وتبجحًا؛ لأن زمنه زمن الأئمة المجتهدين؛ ولكن صاحب الفهم السليم يعلم أن ذلك لا ينافي كلامنا، وأما الكحول فالذي اكتشفه هو أبو بكر الرازي الفيلسوف الطبيب المتوفى 311 أي بعد الأئمة المجتهدين، ويعترف لنا فلاسفة الإفرنج بهذا السبق، ولم يكتشفه الأطباء والمصورون الأقدمون كما زعم المؤلف العامي. (7) زعمه سقوط استدلال المنار على أن نجاسة الكحول لا يصح أن تؤخذ من اللغة؛ لأنه ليس قذرًا قال: (فأي قذارة في الخمر والميسر والأنصاب والأزلام التي أمرنا الله بالنص باجتنابها) ... إلخ، ونحن قد سبقناه إلى القول بأن رجسية هذه الأشياء معنوية، أي أنها مضرة ولذلك وجب اجتنابها، وليست رجسية حسية يجب تطهير الثياب منها كالعذرة مثلاً، فمن مسّ الأنصاب أو لَعِبَ الميسر أواستقسم بالأزلام، وهو رطب اليد لا يجب عليه غسل يديه، ولو صلى قبل الغسل لا تجب عليه الإعادة، وكذلك الخمر لأن حكمها في الآية حكم الميسر والأنصاب والأزلام، فهذا المؤلف العامي يرد على نفسه من حيث لا يدري. (8) إنكاره قول المنار إن الكحول يوجد في غير الخمر من الأشربة والأدوية وغيرهما، وزعمه أنه (لا وجود له في الطبيعة ألبتة، بل هو عنصر يتولد بالتخمير) ... إلخ، ومن سَهُل عليه أن يقول في الدين بغير علم فأحرى به أن يقول في الكيمياء بغير علم، وزعمه أن لا وجود له في الطبيعة يقتضي أنهم يوجدونه من العدم بالتخمير، وليس في الدنيا كيماوي ولا طبيعي يقول بأن شيئًا ما يوجد من العدم بأعمال كيماوية أو غير كيماوية، وقد اعترف المؤلف العامي بأن الكحول يُستخرج من الثمرات والفاكهة والخضر والحبوب والخشب؛ ولكنه زعم أن ذلك بالتخمير، والصواب أنه يُستخرج من الخشب وغيره بالاستقطار بآلات حديدية مخصوصة، فهو يصدق المنار ويؤيده من حيث لا يفهم، ثم يرد عليه من حيث لا يعلم. (9) قوله: (تذكرت في هذا المقام جوابًا لجناب الأستاذ، وذكر حديثًا شريفًا في الإنكار على اليهود إذابة الشحوم المحرمة وبيعها، وهذا الحديث ليس جوابًا لنا؛ وإنما يصح أن يكون جوابًا منا؛ لأننا نقول إن الأحكام الدينية يجب أن تؤخذ عن الشارع من غير تأويل ولا حيلة، وهذا الحديث ينكر التأويل والحيلة على اليهود فلماذا لا يحتج به على الفقهاء الذين يبيحون الحيل في الأمور الشرعية حتى ما يتعلق بأركان الإسلام كالزكاة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب، والإمام أبو حنيفة يجوِّزه، فهل رأى المؤلف الأمي أن يجعل العطر من الخمر ويحتج علينا بالحديث، ولا يحتج به على المحتالين على هدم أركان الإسلام بالحيل ومخالفة النصوص الصريحة؛ لأن الموت جعلهم مقدسين أو معصومين، وذنبنا أننا أحياء، أنا أجل الإمام أبا حنيفة عن تجويز الحيلة في الدين، وإن كان من المنتسبين إليه من ألَّف في الحيل حتى كاد يبطل بها كل شيء. (10) قوله إن النصوص مصرحة (بأن كل مسكر يدخل تحت اسم الخمر وأحكامه حكمًا لا تقليدًا ولا اجتهادًا ولا استنباطًا، وأن كل خمر نجسة العين) ونحن نقول إذا صح قوله هذا فهو حجة على أئمته الحنفية لا علينا؛ فإن الخمر عندهم ما عُرِّفت في النبذة الأولى من الرد، أي لا تكون إلا من عصير العنب والأعطار الإفرنجية ليست من المسكرات، ونقول على قاعدته إنه يسيء الظن بالإمام أبي حنيفة، ويزعم أنه مخالف لأحكام الدين من غير اجتهاد ولا استنباط (حاشاه من جهل هذا المؤلف العامي) . (النتيجة) أن الخمر مختلف في نجاستها عند علماء المسلمين، وأن الخلاف في غير عصير العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد أقوى، وأن النبيذ طاهر عند الإمام أبي حنيفة وفيه الكحول قطعًا، وأن الكحول ليس خمرًا، وأن الأعطار الإفرنجية ليست كحولاً؛ وإنما يوجد فيها الكحول كما يوجد في غيرها من المواد الطاهرة بالإجماع وأنه لا وجه للقول بنجاستها حتى عند القائلين بنجاسة الخمر والله أعلم وأحكم.

مؤتمر التربية والتعليم في الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مؤتمر التربية والتعليم في الهند ليس للمصريين عبرة يعتبرون بها، ولا أسوة يتأسون بها كإخوانهم الهنود الذين مرت عليهم السنون وهم يجهلون نعمة الحرية، التي هي للأمة كالعافية للأفراد، وكالشمس في الطبيعة لا حياة طيبة إلا بها، ثم عرفتهم بها المصائب التي نزلت بهم لترك الشكر عليها بالتربية والعمل النافع، لهذا نرى أن أفضل ما يُنشر في المؤيد الأغر هو أخبار المسلمين في بلاد الهند، وقد كتب في الشهر الماضي كلامًا عن ندوة العلماء التي أوجس منها حكامهم الإنجليز خيفة؛ لأنها مؤلفة من رجال الدين، حتى أن الحاكم الإنجليزي للولاية التي هي فيها عرَّض بها، بل صرح في خطبة له، فقام بعض فضلاء المسلمين يرد عليه بأن الجمعية لم تؤلف لغرض سياسي - ومتى كان علماء الدين سياسيين - تخشى مغبته الحكومة؛ وإنما هي لمحض ترقية العلوم الدينية والصلة بينها وبين العلوم الدنيوية لأجل ترقية المدنية، فهل عرف المصريون كنه حرية الإنكليز كما عرفها إخوانهم الهنديون، أم يزالون يسيئون الظن بهم انخداعًا لوسواس شياطين الوطنية الكاذبة، فلا يقدمون على عمل نافع خوفًا من إيقاع الإنكليز بهم ووقوفهم في طريق عملهم؟ إن كانوا كذلك فهم من خوف الذل في الذل. ثم إنه - أي المؤيد - نشر خبر انعقاد المؤتمر الإسلامي المرة الخامسة عشرة بالتفصيل، فجاء فيه أنه انعقد السنة في مدينة مدراس، وكان ينعقد في كلكتا برياسة فاضل الهند وعاقلها القاضي أمير علي، واتفق أنه لم يوجد من أعضائه المسلمين في مدراس من يصلح لرياسة الاجتماع، فكان الرئيس القاضي بودام الإنكليزي فألقى خطبة افتتاحية تلقاها جميع المسلمين بالاستحسان والإعجاب، وهي جديرة بذلك. ابتدأ الخطيب كلامه بإظهار التأسف؛ لأنهم لم يجدوا مسلمًا يصلح لرياسة الاجتماع يشعر بما يشعرون به، ويتألم مما يتألمون، ويخاطبهم بما يفهمون، ويثقون بما يقول، ثم بإظهار الرجاء بأن يكون انعقاد المؤتمر في عاصمة ولاية مدراس سببًا في إزالة الشقاق والخلاف من المسلمين وجمع كلمتهم واتحادهم على ما ينفع أمتهم وبلادهم، وذكر أنه قبل الرياسة مضطرًّا بعد تردد، وأنه يؤمل أن ينفع المسلمين بذلك. وأثنى على المرحوم السيد أحمد خان مؤسس المؤتمر ومدرسة عليكدة الشهيرة وذكر أنها تربي رجالاً عليهم مدار نجاح المسلمين في الحال والاستقبال، بما تعرفهم من شأن الاعتماد على النفس والسعي بالنفس، وعدم الاتكال على الحكومة، وعدم الخوف من معارضتها إذا هم جدوا واجتهدوا وتركوا الخمول والكسل، وهبوا من نومهم الطويل، وذكَّرهم بأن هذه الصفات التي عُرف بها المسلمون هي التي تقضي عليهم إذا لم يستبدلوا بها أضدادها من النشاط والنباهة وعلو الهمة؛ فإن هذا العصر يتخلف فيه الظالع ويسبق الضليع ويبتلع فيه القوي الضعيف، وقال إنه لا يشك أحد في أن هذا المؤتمر يؤدي للمسلمين أنفع خدمة؛ لأنه يجمع بين التربية العصرية وعلوم المشرق وآدابه المشهورة وحاديه الاعتماد على النفس عند السعي بالنفس. ثم ذكر الخطيب وجه الأمل في نجاح المسلمين مع اعترافه بأنهم باتوا وراء جميع الأمم، وأن الذين نقهوا منهم وأبلُّوا من المرض الاجتماعي وحاولوا مجاراة الأمم الأخرى في مضمار الحياة يتهادون في مشيتهم تهاديًا، والأمم أمامهم توجف وتوضع، وتعدو وتسرع، وهو أن لهم في المدنية قدمًا عالية، وأنهم كانوا أمة راقية سامية، وأنهم كانوا أرباب السيف والقلم، ومنبع العلوم والحكم، اشتهروا بالفلسفة والآداب والفنون الرياضية والطبيعية وكانت لهم المدارس الشهيرة في القاهرة وبغداد وسمرقند وكانت بلاد الأندلس بهم أرقى بلاد العالم في العلم والمدنية، قال: ومن العدل أن تذكروا هذا المجد القديم وتنشدوه، لا لتفتخروا بالعظم الرميم وتقدسوه؛ ولكن لتقتدوا بتلك الهمم العالية، وتبعث فيكم تلك الروح الزاكية، وإلا فالنسيان أولى. ثم انتقل إلى السؤال عن طريق الوصول إلى هذه الغاية، وأجاب بأن الوسيلة الفضلى والطريقة المثلى هي الجمعيات الإسلامية كذلك المؤتمر؛ لأن المسلمين يجتمعون بواسطتها من البلاد الكثيرة في صعيد واحد يأتمرون بينهم ويتحاورون في شؤون التربية ومستقبل الأمة، وكيفية الاتحاد واجتماع الكلمة، ومتى اجتمعوا واتحدوا أدركوا ما أملوا وقصدوا. ثم ذكر مدارس الحكومة في الهند، وقال إن زعماء الإصلاح من المسلمين يرون أن نظام التربية فيها غير صالح لهم، ولا يؤدي إلى الغاية التي يرمون إليها في مستقبلهم، وأنه يجب التوسل لجعل التربية والتعليم صالحين موصلين إلى المقصد، قال الخطيب الرئيس: ويجب أن ينتشر هذا الرأي بينكم فإن مدارس الحكومة لا تفي بكل حاجتكم. ثم طفق يتكلم على التربية ما يؤثر منها في حسن العمل، وإصلاح الخلل، وما لا يؤثر ثم قال ما خلاصته: تبين لكم مما قلته إن خير المدارس لتعليم أولاد المسلمين ما جمع بين التربية الدينية والعلوم العصرية، إذ تتهذب أخلاقهم ويقتبسون الفضائل في زمن تلقي العلوم النافعة لهم في مستقبل حياتهم، هذا هو رأيي وأظن أنكم تجيزونه، وأزيد على ذلك أن الطريقة التي تسيرون عليها في التربية الدينية غير مؤدية إلى الغاية؛ لأنها ليست سوى صور لبعض معلومات العقائد والأحكام تلقى في الأذهان فلا يكون لها التأثير المطلوب في التهذيب، فإذا جعلتم التربية النفسية مدغمة في دروس العلوم العصرية تصيبون الغرض مع الاقتصاد في الزمن؛ ولكنكم إذا بدأتم بالتعليم الديني وحده وأنفقتم فيه الزمن الطويل، ثم عكفتم على العلوم العصرية يضيع منكم زمن تسبقكم فيه أبناء الطوائف الأخرى إلى أخذ الشهادات العالية والانتظام في سلك العاملين للحياة والمبرزين فيها، فيكون مثلكم معهم كمتسابقين إلى غاية يسير أحدهما في قاع صفصف، والآخر حزون ذات تضاريس وعواثير، لهذا أرى أن مدرسة عليكدة هي خير مدرسة للمسلمين؛ لأنها تسير على مثل النظام الذي ذكرته ويا ليت لكم في كل ولاية مدرسة مثلها، وما كانت خيرًا لكم وافية بحاجتكم إلا لأنها مدرسة أسسها المسلمون بأنفسهم لأنفسهم، ولا بد لكم من مدارس أهلية مثلها تسير على النظام الذي ترونه نافعًا ناجحًا، ويجب أن يكون فيها مساكن للطلاب ليكونوا دائمًا تحت هيمنة الأساتذة الفضلاء الذين يتولون أمر التربية، ويكونون أئمة فيها يُقتدى بصفاتهم وأعمالهم. ولا تحسبوا أن الحكومة أو طائفة من الطوائف تصدكم عن هذا السبيل، أو تعيقكم عنه إذا أنتم سرتم بجد واجتهاد ناشئين عن ألم الشعور بالحاجة الذي لا تجتمع مع الفتور والونى، الحق أقول لكم إنهم إذا رأوكم هكذا يعجبون بكم إن لم يكونوا من أنصاركم، فالهندوس وسائر الطوائف يسرهم أن يروا إخوانهم في الوطن ناجحين ليتكون من المجموع عمال ينهضون بالأمة الهندية ويسيرون بها في جادة السعادة ويبلغون بها غاية الكمال. لا تيأسوا ولا تستبعدوا الغاية ولا تعتذروا بالفقر ولا تطلبوا من الحكومة أن تكون وصية عليكم وقائدة لكم، بل اعتمدوا على أنفسكم واعلموا أن الحكومة لا تتأخر عن مساعدتكم إذا رأتكم تعملون لأنفسكم. ثم ذكر أن الشرق كان مشرق أنوار المعارف، وأن دولة العلوم دالت بعد ذلك إلى الغرب، فيجب أخذ العلوم منه لا سيما على قوم حكومتهم غربية، وذكر أن من المسلمين قومًا يخافون على الدين الإسلامي من العلم، وأن هذا الخوف في غير محله، قال: الإسلام باق لا يتأثر بشيء لأنه دين ليس فيه ما يعارض العلوم، وهو يحث على ترقي العقل، فالترقي في العلوم العصرية يساعد على تقويته في النفوس ووضعه في المكانة التي تليق به، وسيبقى فيكم من علمائه من يحافظ عليه دائمًا، ثم ختم الكلام بفائدة المؤتمر في اتحاد المسلمين وارتقائهم والنصح لهم بأن ينشئوا له فروعًا ثابتة في كل مدينة، وأن يكون أعضاؤه من الخواص الذين تتحقق بهم الوحدة الإسلامية؛ ليكون المسلمون في الهند كجسد واحد إذا اشتكى له عضو تألم جميعه، واقترح عليهم القيام باكتتاب عام دائم لأجل إنشاء المدارس الأهلية مساعدة لمدرسة عليكدة، ثم أكد لهم القول السابق بأن الحكومة لا تساعدهم إلا إذا بذلوا النفس والنفيس في خدمة أنفسهم، وإحكام رابطتهم، وحثهم على العمل، وترك المراء والجدل، قال: (لتشهد لكم الحكومة والطوائف الأخرى، ويعترف العالم كله بأن مسلمي الهند ليسوا أمة خاملة جاهلة) وفي هذه النصائح أكبر عبرة لمسلمي مصر وأفصح معرف لهم بحرية الإنكليز التي لا يساويهم فيها أحد، فليعملوا لحياتهم في ظل هذه الحرية الظليل مثل إخوانهم الهنديين إن كانوا يعقلون، ولينشئوا لهم مؤتمرًا كمؤتمرهم لعلهم يرجعون.

العربية الفصحى والعامية المصرية، مناظرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العربية الفصحى والعامية المصرية مناظرة من خير الجمعيات العلمية الأدبية جمعية في القاهرة مؤلفة من الشبان الذين أتموا دراستهم في إنكلترا، وقد بلغنا أن هذه الجمعية دعت المستر ويلمور الداعي إلى استبدال العامية المصرية بالعربية الفصحى [1] لحضور اجتماعها الأخير للمناظرة والمناقشة الأدبية في موضوع كتابه الذي ألَّفه في هذا الشأن فأجاب الدعوة وتلقاه أعضاء الجمعية بالترحيب والشكر، وبعد أن بيَّن ملخص موضوع الكتاب دارت المناقشة، ومنها أن الأستاذ الفاضل الشيخ عبد العزيز جاويش سأله قائلاً ما مثاله: هل خطر في بال المستر أن يدعو قومه الإنكليز إلى توحيد لغتهم بأن يجعلوا لهجة العاصمة (لندن) لغة المملكة كلها كما يدعو المصريين إلى ذلك؛ فإنه يعلم كما علمنا بالاختبار أن بين لهجة أهل لندن ولهجات سائر الولايات الإنكليزية من التفاوت مثل ما بين لهجة القاهرة ولهجات الوجه القبلي والوجه البحري أو أشد مثل كذا وكذا (وضرب بعض الأمثلة) فقال المستر ويلمور: إن هذا غير ممكن فإنه يضيع علينا تاريخ لغتنا؛ فإن كل لهجة من اللهجات في بلاد الإنكليز وكل اختلاف في المفردات أو الأساليب فهو مأخوذ من شعب من الشعوب التي سادت على إنكلترا، قال الشيخ: إن هذه الغائلة التي تحذرونها هي بعينها محذورة من إبطال لهجات أرجاء القطر المصري ما عدا لهجة القاهرة المذبذبة؛ فإن قبائل العرب الفاتحين ضربوا في كل رجًا من أرجاء القطر، وتبوأت طائفة من كل قبيلة جهة من الجهات غلبت لهجتها عليها، وضرب لذلك بعض الأمثلة، وانتقل الشيخ بهذه المناسبة إلى الاستدلال على غلط المستر في قوله: إن لغة القطر المصري لغة مستلقة دون العربية الصحيحة بعيدة عنها كل البعد، وبيَّن أنها ليست إلا لغة عربية دخلها بعض التحريف والدخيل، وإن أكثر ما يظن أنه منافٍ للعربية من لهجاتها هو من العربية وإنه إذا لم يوافق لهجة قريش الفصحى فإنه ربما يوافق لغة بعض القبائل الأخرى وأورد أمثلة في ذلك وفي التحريف فيها مقنع. ثم ذكر أيضًا شيئًا كثيرًا من عيوب اللغة الإنكليزية كالخلاف بين ما ينطق وما يكتب، وكالحروف الأثرية الزائدة في كثير من الكلمات حتى أن متعلم هذه اللغة يضطر إلى حفظ لفظ كل كلمة وحفظ صورتها في الرسم؛ لأن الأول لا يدل على الثاني في ألوف من الكلمات حتى يصح أنه يقال إنه لا قياس في هذه اللغة، وسأل القاضي لماذا لا تصلحون هذه العيوب؟ فقال لأن ذلك إخلال بتاريخ لغتنا ومانع من الانتفاع بالكتب الكثيرة التي أودعت علوم سلفنا ومجدهم، فقال الشيخ إن هذا المانع نفسه هو الذي يمنعنا من استبدال خط لغتنا بخط آخر، كما يمنعنا من التدلي من الصالح منها إلى الفاسد الذي لا يرجى إصلاحه؛ لأنه يتغير كل يوم، فاقتنع القاضي وكان عادلاً في قبول هذه الأدلة والبراهين، ثم ختم الشيخ الكلام بقوله: (إذا نبذنا اللغة الفصيحة ظهريًّا، وقبلنا أن يكون التعليم باللغة العامية المصرية التي لا كتب فيها ولا قواعد لها، ننتقل إلى دور آخر في تعذر الإصلاح واستحالة التعليم والتربية بهذه اللغة الفقيرة، وهو الدور الذي احتج فيه اللورد ماكولي على وجوب تعليم الهنود باللغة الإنكليزية. اللورد ماكولي أحد أعضاء الجمعية التي ذهبت إلى الهند في أوائل استقرار السلطة الإنكليزية هناك لأجل تنظيم شؤون البلاد المالية والأدبية، وقد قال في مناقشة من مناقشات الجمعية في أمر المعارف والتعليم: إننا جئنا لنعلم أمة لا تصلح لغتها لأن تكون واسطة لتعليمهم ما عندنا من الفنون والعلوم لتعدد اللهجات غير المضبوطة، وعدم سبق تأليف شيء من الكتب العلمية والفنية في لغتهم، فيجب علينا إذن تعليمهم لغة أوربية، ثم أطنب في مدح اللغة الإنكليزية ما شاء وقال: فإن قيل إن اللغة العربية قد أُلِّف فيها كثير من الكتب في كل علم وفن، لا سيما الرياضيات والطبيعيات أيام ارتقاء العرب في الحضارة والمدنية وضخامة دولتهم، وهذه اللغة لا تزال مألوفة لكثير من الشعوب الهندية فلماذا لا ننقل إليها ما ألف في لغات أوربا من العلوم والفنون ونجعلها لغة التعليم، قلنا إن هذا صحيح؛ ولكن الحكومة التي تتولى أمر التعليم في هذه البلاد ليست عربية، ولا من مصلحتها التعليم بالعربية، ولا بد في هذا التعليم من تعريب كتب العلم، والمال المخصص للتعليم لا يفي بنفقات التعريب وإيجاد الكتب العربية والمعلمين العارفين بها، فالأقصد الأقرب أن يكون التعليم باللغة الإنكليزية اهـ. وما يشعرنا إذا قبلنا ترك العربية الصحيحة ذات الكتب والفنون، وجعل التعليم باللغة العامية أن يقول لنا المحتلون القابضون على زمام التعليم: إن المال المخصص للتعليم لا يفي بالإنفاق على تأليف كتب تعليمية في هذه اللغة، وفي إيجاد المعلمين، فأقرب الطرق وأقصدها أن يكون التعليم كله باللغة الإنكليزية، وبذلك نفقد اللغة الفصيحة والعامية، فلا يبقى عندنا تاريخ للسلف ولا للخلف ولا لغة ولا كتب، فسُرَّ المستر ويلمور بكلام الشيخ وإخوانه، وأكد لهم أنه ما أراد إلا خيرًا، وأنه اقتنع بكلامهم ويرجو أن يحضر اجتماعهم مرة أخرى يزداد به الموضوع إيضاحًا، فتلقوا كلامه بالقبول وودَّعوه بالشكر والاحترام. هذا بعض الآراء والمسائل التي وصلت إلينا من المناظرة؛ ولكننا لم نقف على ترتيب الكلام وكل ما قيل في المجلس، وفيما أثبتناه غناء وفائدة ودلالة على فضل أعضاء الجعية وقوة حجتهم، وعلى إنصاف القاضي ويلمور وعدله بالاعتراف بالحق؛ ولكن كل هذا لا يغني عن اللغة العربية شيئًا إذا لم ننهض لنشرها وتعميمها ولو بين أهلها، ومن فوائد هذا الكتاب أنه أحدث حركة في الأفكار لإحياء اللغة، ويتفكر بعض الفضلاء في تأليف جمعية لذلك، فعسى أن يكون العمل قريبًا.

وصف الشام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وصف الشام من قصيدة لشاعر مصر حافظ أفندي إبراهيم يخاطب بها صديقًا: شجتنا مطالع أقمارها ... فسالت نفوس لتذكارها وبتنا نحن لتلك القصور ... وأهل القصور وزوارها قصور كان بروج السماء ... خدور الغواني بأدوارها ذكرنا حماها وبين الضلوع ... قلوب تلَظَّى على نارها فمرت بأرواحنا هزة ... هي (الكهرباء) بتيارها وأرض كستها كرام الشهور ... حرائر من نسج آذارها إذا نقطتها أكف الغمام ... أرتك الدراري بأزهارها وإن طالعتها ذكاء الصباح ... أرتك اللجين بأنهارها وإن دب فيها نسيم الأصيل ... أتاك النسيم بأخبارها وخِلٍّ أقام بأرض الشام ... فباتت تُدِلّ على جارها وأضحت تتيه برب القريض ... كتيه البوادي بأشعارها وللنيل أولى بذاك الدلال ... ومصر أحق بمهيارها تشمر وعجل إليها المآب ... وخل الشام لأقدارها فكيف لعمري أطقت المقام ... بأرض تضيق بأحرارها ... ... ... ... ... ... ... ... ... لشاعر أمير مصر ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بك شوقي أرى طوفان هذا الغرب يطفى ... وأهل الشرق سادتهم نيام فإن لم يأتنا (نوح) بفلك ... على الإسلام والشرق السلام نشرت البيتين جريدة (المناظر) البرازيلية الغراء، وسألت: هل مولى الشاعر من هؤلاء السادة النيام، أم لا، أم هو مستثنى؟ ونحن نجيبها عنه بأنه يريد بـ (نوح) مولاه، ويرجو منه الإتيان بفلك النجاة.

الخمر أم الخبائث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخمر أم الخبائث ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [[*] . خلق الله الحيوان محدود الشهوة، وما به قوام حياته وأعطاه إدراكًا محدودًا بحسب حاجته، وخلق الإنسان ذا شهوات ممدودة، ورغائب غير محدودة، وجعل منافعه وحاجاته غير متناهية، فوهبه إدراكًا غير محدود ولا متناه، وهو العقل الذي يَفْضُل به سائر الحيوان، فيسخره لمنافعه، ويستعمله في حاجه، كما يُسَخِّر القوى الحيوانية التي في نفسه، ويتحكم فيها بعزته وسلطانه، فيوقفها في موقف الاعتدال ويربأ بها عن حد التفريط والإفراط. هذه وظيفة العقل الكامل في الإنسان؛ ولكنه لم يوهب العقل كاملاً، وإنما يكمل فيه بالتربية الصحيحة المعتدلة، ولا بد للتربية من قانون، وقد وهب الله الإنسان قانون الفطرة والطبيعة ليستفيد منه ما يربي به عقله الذي يربي نفسه؛ ولكن هذا القانون كسائر القوانين والشرائع يحتاج إلى مرشد وأستاذ يعلمه وسلطان ينفذ أحكامه؛ لأن الناس لا يفهمون من القوانين بدون المعلم إلا قليلاً، ولا يعملون بكل ما يفهمون، إلا إذا كان عليهم سلطان يحملهم على العمل، ووازع يزعهم عن الزلل، لذلك وهبهم الله الدين الذي هو أهدى مرشد وأعدل سلطان، بل هو سلطان السلاطين، وأحكم الحاكمين؛ لأنه حكم فاطر السموات والأرض الذي أنزله لتربية الفطرة الإنسانية التي هي أكمل المخلوقات في عالم الملك. كيف يتربى العقل بالطبيعة حتى يقوى على طغيان الشهوة، وفي الطبيعة ما ينصر الشهوة عليه حتى تظفر به وتقتله أو تعقله، ثم تعيث في الأرض فسادًا فتهتك الأعراض وتسفك الدماء وتبذر الأموال، وتضيع العيال، فأي عاصم للعقل من ذلك النصير للشهوة، وهو أقوى منه بأسًا، وأصعب مراسًا، وهل يستطيع العقل أن يساور الخمرة وهي غوله، وبها خسوف بدره أو أفوله؟ كلا إنه ينشأ ضعيفًا فتسطو عليه الشهوات، فإذا أراد أن يستعين عليها بما يستفيده من حوادث الطبيعة تسلط عليه الخمرة فتثل عرشه، وتنكث فتله، ويكون النصر للبهيمية على الإنسانية ولا يقوى على الخمر إلا سلطان الدين إذا كان صاحبه منه على يقين. إذا لم يكن للخمر جناية على الأعراض، ولم تكن مولدة للأمراض، ولم تكن ملقية للعداوة والبغضاء، ولم تكن صادة عن ذكر الله وعن الصلاة، فحسبها خبثًا ورجسًا جنايتها على سلطان العقل الذي فَضُل به الإنسان الحيوان، وبفقده يكون الحيوان أهدى منه، وأبعد عن الإضرار بنفسه، والإيقاع بأبناء جنسه، وربما وصل شارب الخمر إلى حالة يكون بها شرًّا من المجنون. العقل أفضل نعم الله على الإنسان، فما ذهب به فهو أخس الأشياء وأقبحها، وإذا كان خبث الرذائل وقبحها مما يوزن بميزان المضار والمنافع، فالخمرة جديرة بكنيتها المعروفة عند المسلمين، وهي (أم الخبائث) وحقيقة بأن تسمى باعتبار أثرها أكبر الكبائر، وأن يعاقب معاقرها بأشد العقوبات، وكأن الشريعة جعلت حد السكر أخف من حدي الزنا والقتل، مع أنهما كثيرًا ما يكونان بعض آثارها إذا أفضت إلى جريمة يعاقب المجرم عقابين عقاب السكر وعقاب تلك الجريمة. للخمر غوائل ومضار كثيرة، تكفي كل واحدة منها لتحريمها والبعد منها، فكيف بها إذا اجتمعت، وإننا نعد ما يحضرنا منها من غير شرح طويل. (الغائلة الأولى) : ذهاب العقل وهبوط السكران إلى دركة المجانين والصبيان، كأن الإفراط في حب اللذة ينفر هذا الإنسان الضعيف من كل ما يحكم عليه بالاعتدال فيها والحذر من غوائلها، فيسعى في مقاوتمه وإن كان فيه سعادته وكماله كما يتمنى الجناة هلاك القضاة والحكام، والأطفال البعد عن المربي القاسي والمعلم الجافي، وعجيب ممن يعتاد السكر كيف يحتقر المجانين والأطفال، وهم ما أعطوا العقل ثم انسلخوا منه باختيارهم كما هو شأنه، فهو أولى منهم بالاحتقار، ولقد أحسن ذلك المجنون في جوابه للملك الذي شرب الخمر وعرض عليه أن يشربها حيث قال: (أنت تشرب لتكون مثلي، فأنا أشرب لأكون مثل من؟) وفاتحة المقالة كلها في هذا النوع من مضرة الخمر، وهو أصل أكثر المضرات الأخرى، وأكثر الذين طرأ عليهم الجنون هم من السكارى والحشاشين، ومن كان في شك فليسأل قَيِّم البيمارستان. (الغائلة الثانية) : الخمول والخمود اللذان يعقبان زيادة التنبه التي يعدونها من فائدة الخمرة، فأفضل حالات الإنسان أن يكون على اعتداله الطبيعي في جسمه وعقله، وأن لا يتخذ شيئًا يزيد في قوتهما؛ لأن هذه الزيادة لا بد أن يعقبها نقص بحكم قاعدة (رد الفعل) المعروفة، وهذا النقص يستدعي معاودة اتخاذ ما زاد القوة أولاً؛ لأن من لم يرض بقوته المعتدلة، فأجدر به أن لا يرضى بها إذا نقصت عن الاعتدال، وإذا عاد إلى اتخاذ ذلك السبب المقوي يرى أنه محتاج إلى مقدار منه يزيد على المقدار الأول؛ لأن الحاجة زادت بما طرأ من الضعف برد الفعل، فيزيد في المقدار، ويكون من أثر ذلك زيادة الضعف عقيبه، ثم لا يزال يزيد منه ويزيد ضعفًا حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين. ولسنا نعني بقولنا يرى أنه محتاج إلى الزيادة فيزيد، أن ذلك يكون عن فكر وروية؛ وإنما هو شيء تقتضيه طبيعة هذا الشيء، فيكون الاندفاع إليه بعلم ضروري لا بعلم نظري وترتيب مقدمات، وهذه الغائلة من غوائل الخمر تتحقق في كل ما هو بمعناها من المخدرات كالحشيش والأفيون، وكذلك الدخان وقهوة البن عند المفرطين فيهما لكن أثرهما أخف. ومثل ذلك المقويات الجسدية التي تتخذ لتقوية المعدة أو الباه؛ فإن أثرها في رد الفعل يضر بالجسم كما تضر المسكرات والمخدرات بالعقل، وكل هؤلاء الحمقى يطلبون زيادة اللذة، فيقعون في النقصان بعد رد الفعل. ترى مدمن الخمر أو الحشيش ونحوهما كاسف البال، ممتقع اللون، كئيب الوجه، ضيق العطن، شرس الأخلاق، فالشر لا يزايله؛ وإنما يلعب به كما يلعب الصبيان بالكرة يقذفه من جانب الإفراط إلى جانب التفريط ولا خير ولا راحة ولا سعادة إلا في الاعتدال، وأنى لمن يتربى على مجاراة اللذة والانقياد للشهوة أن يفقه هذا؟ وهل من سبيل إلى استقامة ميزان اللذة، وتأديب عامل الشهوة إلا بتربية الدين؟ ؟ (الغائلة الثالثة) : فساد الأخلاق؛ فإن الأخلاق الفاضلة نتيجة اعتدال القوى النفسية، وسلطان هذه القوى العقل وقانونه الشرع، والسكر اعتداء على هذا السلطان وعلى قانونه ونبذ لسلطتهما، ومتى ذهب الحاكم والقانون كانت المملكة فوضى، أي حاجة إلى تعليل إفساد السكر للأخلاق كما هو مشاهد بعد العلم بأن ضعف العقل سبب بديهي لهذا الفساد، وهو الغائلة الأولى للخمر على ما بيَّنا، وأن ضعف المزاج سبب له كما يشاهد في أخلاق المرضى، وهذا الضعف من غوائل الخمر على ما نبين، السكر يُذْهِب بالعفة والوقار، ويجعل الحليم سفيهًا، والحكيم جهولاً، والحيي وقحًا، والنزيه بذيئًا، والأمين خوانًا، والشجاع متهورًا أو جبانًا، فهذه أمثلة من أصول الأخلاق فقس بها غيرها مما تشاهد أثره، وتعرف مصدره. (الغائلة الرابعة) : فساد المزاج واختلال الصحة، فالإنسان روح وجسد مرتبط أحدهما بالآخر، فما يطرأ على الأول من ضعف يتعدى أثره إلى الثاني، وما يصيب الثاني ينتقل إلى الأول، ولهذا قال الحكماء: (العقل السليم في الجسم السليم) وليس إفساد الخمر للمزاج محصورًا بإضعافها للروح على ما تقدم شرحه في الغوائل الثلاث، فقد تقرر في الطب أنها تُحْدِث أمراضًا كثيرة وأدواء معضلة كداء السل الذي أعيا علاجه أطباء العالم كله، ولا شك أن السكر يُعِدُّ المزاج لقبوله ويكن من أسباب حصوله، وقد قيل إن سُبْع الوفيات في العالم من السل، وإن ستين في المائة من أموات أبناء العشرين إلى الأربعين من المسلولين، وكأمراض الكبد والقلب والرئتين والكليتين، وقد قال بعض الأطباء إن تسعة أعشار المصابين بهذا المرض من السكارى والسكر هو السبب في مرضهم، ومنها أمراض الدماغ والحبل الشوكي والعضلات والأوعية الدموية وفقر الدم (الأنيميا) وتلبك المعدة وآثاره، وذلك أن شارب الخمر يكثر أكله ويقل هضمه، وأقبح أداواء الخمر الخُمار الذي يدعو الشاب إلى المعاودة والإدمان، وهو نوع من التسمم، وثم أنواع أخرى. (الغائلة الخامسة) : ارتكاب الفواحش البهيمية والمنكرات الوحشية، فالسكران يفجر حتى بالأقارب؛ لأن التمييز يزول، والطبيعة تطغى، والإيمان يذهب، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) فأي رادع يردع من فقد كل وازع من نفسه؟ قال الشاعر: لا ترجع النفس عن غيها ... ما لم يكن منها لها زاجر والسكران يعتدي على من لا يقدر عليه، ويحاول ما لا سبيل إليه؛ لأنه لا يخاف عقابًا، ولا يحسب للعاقبة حسابًا. (الغائلة السادسة) : انطلاق اللسان بما يجب السكوت عنه، كإفشاء السر الذي هو من أقبح الرذائل وأشدها فضيحة للمرء في نفسه وأهله، ولا سيما إذا كان من أسرار الأمراء والسلاطين، أو الدول والحكومات، فرب كلمة يقولها سكران تكون سببًا في انكسار جيش وإذلال أمة بأسرها، وكالغيبة والنميمة والفحش والبذاء وغير ذلك من آفات اللسان التي أوصلها بعض العلماء إلى سبعين آفة. (الغائلة السابعة) : الإسراف والتبذير، فكم أفقرت الخمرة غنيًّا، وخربت بيتًا عامرًا؛ وذلك لأنها تفضي إلى جميع أنواع الإسراف. (الغائلة الثامنة) : قلة النسل فإن مدمني الخمر كثيرًا ما يُصابون بالعقم، ومن يولد له لا يكون نسله كثيرًا، ويرث من والده أكثر أدواء السكر الجسدية والعقلية والنفسية، فيجيء قميئًا قشعوما وأبله أو معتوهًا، فإن أعقب فولده يكون شرًّا منه وهكذا يتدلى النسل حتى ينقرض البيت؛ ولذلك قال غير واحد من ساسة الأوربيين وحكمائهم: إن انقراض الأمم المتوحشة سيكون بفتك الأشربة الروحية فيهم، ذلك أنهم يشربون من غير عقل ولا قانون ولا معرفة بمداراة الصحة، فتغتالهم غوائل الخمر كلها بخلاف أهل الحضارة؛ فإنهم يتقون تلك الغوائل بما يعطيهم العلم؛ ولذلك يقل السكر في أمم الغرب عامًا بعد عام، وكثرت فيهم الجمعيات المقاومة للمسكرات، ولو كان عندهم دين يتربون عليه وهو يحرم الخمر قطعًا، لكفى تلك الجمعيات كثيرًا من العناء والنفقات، وقد ظهر أثر السكر والزنا في تقليل النسل في فرنسا على ما فيها من علم وحكمة، والسكر والسفاح من أسباب ذلك قطعًا. (الغائلة التاسعة) : فساد تربية العيال والجناية على عفة النساء، سمعنا غير واحد من الواقفين على أسرار البيوت والمراقبين سير التربية يقولون إنه لا يكاد يوجد مدمن خمر عفيف المرأة، مُربَّى الولد، ولا يسعنا الآن أن نطيل في هذا الموضوع. (الغائلة العاشرة) : العداوة والبغضاء وقطع الأرحام وصلات الصداقة والوداد، وهذا أيضًا ظاهر مما تقدم؛ لأنه نتيجة لذهاب العقل وفساد الأخلاق؛ ولذلك أخَّرناه، وهذه الغائلة أضر الغوائل الفرعية لتعدي أثرها، وهي مشاهدة ولذلك نصت عليها الآية الكريمة. (الغائلة الحادية عشرة) : الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ويقال في هذه الغائلة

حرمة الخمر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حرمة الخمر [*] (ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه) قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن) [1] وفي رواية للنسائي زيادة: (وذكر رابعة فنسيتها، فإذا فعل ذلك فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، فإن تاب تاب الله عليه) فليتأمل المسلمون لا سيما المصريون في هذا وما في معناه ليعرفوا منه، ومما تقدم من الأحاديث في الأمراء السبب في حرمانهم من السيادة والعز الذي أعطاه الله لسلفهم بالإسلام، وجعلهم بدينهم فوق جميع الأنام. وقال صلى الله عليه وسلم: (من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة) [2] . وقال صلى الله عليه وسلم: (كل شراب أسكر فهو حرام) [3] ومن جهل بعض مدمني الخمر أنهم يقولون: إنه لا دليل على تحريمها، ويؤولون قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90) وهو أمر بالترك يقتضي التحريم بحسب قواعد أصول الفقه، وقوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) يحملونه على الاستفهام الحقيقي، وهو جهل أو استهزاء بكتاب الله تعالى، فإن كانوا لا يرون دليلاً على الحرمة إلا لفظ حرام، فماذا يقولون في هذا الحديث الصحيح؟ أيستدلون به على التحريم أم يأخذون بقول تلك المجلة التي سألها مسلم مصري عن دليل تحريم الخمر فأجابه محررها - وهو مسيحي - أنه لا دليل في الدين على تحريمها ولكن أمر باجتنابها لما فيها من المضرات، وليس أمر هذا المفتي في هذه المسألة بعجيب، ولكن العجيب أمر المستفتي. وقال صلى الله عليه وسلم: (ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) [4] . وقال صلى الله عليه وسلم: (ستشرب أمتي بعدي الخمر يسمونها بغير اسمها يكون عونهم على شربها أمراؤهم) ولولا الأمراء لما فشا شربها واستبيح جهرًا، ولا يخفى أن معتقد حل الخمر كافر باتفاق الأئمة والفقهاء. وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله شارب الخمر وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها) [5] وقد احتمل أكثر المسلمين في مصر كل هذه اللعنات إلا الأخيرة؛ فإنهم حمَّلُوها للأجانب، وأعطوهم أجرة حملها الملايين من الجنيهات والألوف من فدادين الأطيان، يدخل الرومي البلد من القطر المصري لا يملك إلا بعض زجاجات من الخمر، فلا يمر عليه زمن حتى يكون سيد البلد وبيده زمام زراعتها وتجارتها، وإليه مرجع أغنيائها وسادتها {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) . وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق - أي المؤذي لوالديه - والديوث الذي يقر في أهله الخبث) [6] . وقال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدًا: الديوث والرجلة من النساء ومدمن الخمر) قالوا يا رسول الله، أما مدمن الخمر فقد عرفناه فما الديوث؟ قال: (الذي لا يبالي من دخل على أهله) قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: (التي تَشبَّه بالرجال) [7] . عن ابن عمر أن أبا بكر وعمر وناسًا جلسوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر، فلم يكن عندهم فيها علم، فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أسأله، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر، فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا ذلك، ووثبوا إليه جميعًا، حتى أتوه في داره، فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن ملكًا من ملوك بني إسرائيل أخذ رجلاً فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل نفسًا أو يزني أو يأكل لحم الخنزير أو يقتلوه، فاختار الخمر، وإنه لما شرب الخمر لم يمتنع من شيء أرادوه منه) [8] وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة، ولا يموت وفي مثانته منه شيء إلا حرمت بها عليه الجنة، فإن مات في أربعين ليلة مات ميتة جاهلية) وورد في هذا المعنى كثير؛ ولكن في أكثره جرحًا أو نكارة. *** حد الخمر وعقوبة السكر عن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين) [9] . وعن السائب بن يزيد قال: (كنا نؤتي بالشارب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي إمرة أبي بكر، وصدر من إمرة عمر فنقوم إليه نضربه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان صدرًا من إمرة عمر، فجلد فيها أربعين، حتى إذا عتوا فيها وفسقوا جلد ثمانين) [10] . وعن حصين بن المنذر قال: (شهدت عثمان بن عفان أُتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال أزيدكم، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولِّ حارها من تولَّى قارها، فكأنه وَجَدَ عليه، فقال يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلي يَعُدُّ حتى بلغ أربعين، فقال أمسك، ثم قال جلد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحب إلي) [11] الظاهر أن الإشارة إلى ما فعل بين يديه وهو الأربعون. وعن علي أنه قال: (ما كنت لأقيم حدًّا على أحد فيموت وأجد في نفسي منه شيئًا إلا صاحب الخمر؛ فإنه لو مات وَدَيْتُه، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسنه) [12] قال في منتقى الأخبار: يعني لم يقدره ويوقته بلفظه ونطقه، أقول ولم يلتزم عددًا بعمله. وعن معاوية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إذا شربوا فاجلدوهم ثم إذا شربوا الرابعة فاقتلوهم) [13] . وعن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر فجلد بجريدتين نحو أربعين، قال وفعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانين فأمر به عمر) [14] . والحاصل أن مجموع الأحاديث الصحيحة على أن عقوبة الخمر من التعزيرات المفوضة إلى ما يراه الإمام أصلح بالمشاورة؛ ولكن الفقهاء أجمعوا بعد ذلك على الحد المعين. *** آثار السلف عبرة للخلف قصة أبي محجن قال الحافظ ابن حجر في (أسد الغابة) إن أبا محجن الثقفي كان يشرب الخمر، لا يتركها خوف حد ولا لوم، وإن عمر حدَّه مرارًا ونفاه إلى جزيرة في البحر، وبعث معه رجلاً فهرب منه، ولحق بسعد بن أبي وقاص وهو بالقادسية يحارب الفرس، فكتب عمر إلى سعد ليحبسه فحبسه، فلما كان بعض أيام القادسية واشتد القتال بين الفريقين، سأل أبو محجن امرأة سعد أن تحل قيده وتعطيه فرس سعد البلقاء، وعاهدها أنه إن سلم عاد إلى حاله من القيد والسجن، وإن استشهد فلا تبعة عليه فلم تفعل فقال: كفى حَزَنًا أن ترتدي الخيل بالقنا ... وأُترك مشدودًا عليَّ وثاقيا إذا قمت عنّاني الحديد وأُغلقت ... مصارع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا حبسنا عن الحرب العوان وقد بدت ... وإعمال غيري يوم ذاك العواليا فلله عهد لا أَخيس بعهده ... لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا [15] فلما سمعت سلمى امرأة سعد ذلك رقت له، فخلت سبيله وأعطته الفَرس فقاتل قتالاً عظيمًا، وكان يكبر ويحمل فلا يقف بين يديه أحد، وكان يقصف الناس قصفًا منكرًا، فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه، ورآه سعد وهو فوق القصر ينظر إلى القتال، ولم يقدر على الركوب لجراح كانت به وضربان من عرق النسا فقال [16] : لولا أن أبا محجن محبوس لقلت هذا أبو محجن، وهذه البلقاء تحته، فلما تراجع الناس عن القتال عاد إلى القصر وأدخل رجليه في القيد، فأعلمت سلمى سعدًا خبر أبي محجن، فأطلقه وقال اذهب لا أحدك أبدًا، فتاب أبو محجن حينئذ وقال: (كنت آنف أن أتركها من أجل الحد) اهـ. وفي رواية لغيره أنه قال: (وأنا والله لا أشربها أبدًا؛ إنما كنت أشربها إذ كنتم تطهروني) . وفي الكامل لابن الأثير أنه قال حين رجع إلى القيد: لقد علمت ثقيف غير فخر ... بأنا نحن أكرمهم سيوفا وأكثرهم دروعًا سابغات ... وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا وأنا وفدهم في كل يوم ... فإن عُمُّوا فسل بهم عريفا وليلة قادس لم يشعروا بي ... ولم أشعر بمخرجي الزحوفا فإن أُحبس فذلكم بلائي ... وإن أُترك أذيقهم الحتوفا وزعم ابن الأثير أن سلمى سألته فيم حبسه سعد، فحلف أنه ليس بحرام أكله أو شربه، قال: ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني فقلت: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها فلذلك حبسني) اهـ، والأول هو الصحيح ويدل عليه قوله: ألم ترني ودعت ما كنت أشرب ... من الخمر إذ رأسي لك الخير أشيب وكنت أروي هامتي من عقارها ... إذ الحد مأخوذ وإذ أنا أضرب فلما دَرَوْا عني الحدود تركتها ... وأضمرت فيها الخير والخير يطلب وقال لي الندمان لما تركتها ... أالجدُّ هذا منك أم أنت تلعب سأتركها لله ثم أذمها ... وأهجرها في بيتها حيث تشرب الاعتبار في الأثر: يقرأ بعض الفساق أو يسمع بأن مثل أبي محجن رضي الله عنه كان يشرب الخمر، فيغش نفسه بأن الأمر ليس بعظيم، وإن حسبه أن يكون كأبي محجن في مدخله ومخرجه ودنياه وآخرته ويا ليت الهوى يصدق صاحبه ويعز جانبه، وإننا نذكر من وجوه العبرة في الأثر ما يقطع أسباب الأماني ويحل عرى الأهواء، وذلك من وجوه: الأول: أن أبا محجن كان مدمنًا للخمر في الجاهلية، ومدمنها يصاب بداء الخمار على ما أشرنا في المقالة الأولى، فيصير مغلوبًا على أمره؛ لأنه مريض، ولمَّا أسلم وعلم أن في الشرب حدًّا إذا أقيم على الشارب سقطت عنه العقوبة في الآخرة - رجح احتمال عقوبة الحد على احتمال ألم مرض الخمار الذي يزعجه إلى الشرب، فلم يكن في شربه متهاونًا بالدين، ولا مستخفًّا بعذاب الآخرة؛ ولذلك جرَّد حسام العزيمة على مرض الشهوة فجندله عندما قال سعد إنه لا يحده، وفي ذلك من قوة الإيمان ما يعلو الأهواء، ويلاشي الأدواء، وهو الذي يجب أن يكون عبرة للمعتبرين وقدوة لهم إن كانوا مؤمنين. الثاني: أن أمر سيدنا عمر بإبعاد أبي محجن إلى جزيرة في البحر بعد أن حده سبعًا أو ثمانيًا على ما في (أسد الغابة) يرشدنا إلى أن أمير المؤمنين يجب عليه أن يلاحظ الآداب العامة، ويبعد عنهم ما يكون قدوة سيئة، وقد وافق رأيه هذا بعض فلاسفة أوربا فقال إن المجرمين الذين انطبعوا على الجرائم وتمكنت منهم يجب إبعادهم إلى جزائر في البحر، ومنعهم من التزوج ليزول عن الناس شرهم، وينقطع نسلهم الذي يرث منهم الاستعداد لمفاسدهم، ولكن إذا كان أمراء المسلمين هم الذين يعلمونهم السكر ويدعونهم إليه كما هو معلوم الآن من أكثرهم، فمن الذي يمنع هذه المنكرات: (ما يصلح الملح إذا الملح فسد) . الثالث: لم ينقل أن أحدًا أنكر على سعد رضي الله عنه ترك حده أو عزمه على ذلك، وهذا يدلنا على أنهم كانوا يرون أن العقوبة على الخمر من التعزيرات كما تقدم، وهذه مفوضة إلى رأي الحاكم بالنسبة إلى الأفراد، وأما التقدير لها فهو من وظائف الإمام التي يقررها بمشاورة أهل الرأي كما فعل عمر رضي الله عنه، وتقدم أن الفقهاء أقروا ما قدَّره عمر، وجعلوه حدًّا ثابتًا لا يزيد ولا ينقص.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ تعليم التاريخ الطبيعي بتمثيل الفانوس السحري [*] المكتوب (36) من هيلانة إلى أراسم في 2 نوفمبر سنة 186 فرغت من إقامة معهد التمثيل الصغير الذي كنت حدثتك عنه في بعض مكاتيبي السابقة، ولي أن أقول ولا فخر إنه ناجح مؤدٍّ إلى الغاية المقصودة. استحضر لي الدكتور وارنجتون من لوندرة فانوسًا سحريًّا، وهو آلة جميلة معدَّة لأن تتجلى فيها المناظر المتعاقبة بواسطة الضوء واللون، ومن خواصها أنها تكبر ما يمثل فيها من الأشياء تكبيرًا في غاية المناسبة، وترسم على حجابها الذي هو من القماش صورًا لا يمكن أن يرى أظهر ولا أوضح منها؛ لذلك تراني قد قمت بما أخذته على نفسي من رسم معظم الصور وتلوينها على زجاجها مختبرة ما يكون للوهم من الأثر في النفس عند النظر إليها، وقد بدا لي أيضًا أن من المفيد أن أؤلف بين ما تمثله هذه الآلة من المشاهد المختلفة بتنسيقها وجعلها على شكل قصة وجيزة تجعل التمثيل مرتبًا متواصل الأطراف يستميل النفوس ويبهج الأنظار، ولما انتهيت من هذا العمل دعوت إلى المعهد في الشتاء الماضي عشرين طفلاً من الولدان والولائد مخالفة في ذلك سنة الكومتيس ديسكاريانياس؛ فإنها كانت تشخص في بيتها القصص الهزلية وتأمر بوابها بأن لا يدخل أحدًا، وسبب هذا المخالفة أني أعتقد أن الإنسان لا يمكنه أن يلتذ بشيء من مروحات النفس إلا إذا كثر عدد حاضريها، وإنهم إذا كانوا أطفالاً تكون الاستفادة أعظم والنفع أتم. ابتدأت التمثيل بعرض أشياء في غاية البساطة كداخل ضيعة أو طاحون والمعيشة في سفينة، ثم مثلت هذه السفينة في يوم آخر وقد نقلتنا إلى بلاد بعيدة، كان أبعدها عن أخلاقنا وعوائدنا أدعاها إلى إثارة الاستغراب وتهييج الشوق في نفوس النظار الصغار، فكانوا يحبون أن يروا بيوتًا بنيت على خلاف طريقتنا في البناء، وشوارع وساحات ورحبات عامة فيها رجال ونساء غريبو الأزياء والهيئات وكان فيما عرضته عليهم صورة صيد الحيوانات الوحشية خصوصًا أضخمها وأضراها كالفيل وفرس البحر والكركدن والأسد والنمر، فلم أعدم منهم تحمسًا في الدهش والإعجاب بها، ثم أريتهم قافلة تجوب الصحراء فشاقهم منظرها كثيرًا، ولقد كفتني هذه التجارب في الاقتناع بأن في فانوسي السحري عزيمة (يا سمسمة انفتحي) [1] وإني إن لم أستعن به على فتح أبواب المجهولات لأصدقائي الأحداث كنت مخطئةً ملومةً. يتشوف الأطفال كثيرًا إلى معرفة كيفية تكون الحيوانات والنباتات والصخور وتتشوق نفوسهم إلى معرفة طريقة نشوء جميع ما يشاهدونه كل يوم من ذلك، فقد أذنت جماعة النظار جهرًا بأنا سنمثل على الدوام قصة ذات بهجة وجلال مؤلفة من عدة فصول تسمى تاريخ الأرض. استعنت عشية هذا التمثيل بجميع ما في النفوس من قوة الاستعداد وبصور اُعتمد في رسمها على آراء علماء طبقات الأرض من الإنكليز، وبقليل ما حصلته من العلم بمطالعة الكتب، واستقر رأيي على أن أجعل في التمثيل لفواعل الكون وقوى الطبيعة لسانًا نفصح به عن الحقائق والحوادث، وهو تجوّز يمكن أن يسمح به في قصص الغناء والتلحين الشعري على أنه لم يكن المقصود من ذلك قرض الشعر بحال، بل كان الغرض منه إيضاح ما لم تكف آثار الضوء والألوان المتنوعة في إظهاره على الحجاب إظهارًا تامًا بعبارات في غاية السهولة، مثال ذلك أن أقول للنظار: أتدرون ماذا كان يقول المحيط الذي هو أصل الأشياء لما غمر سطح عالم أزهقت روحه مياهه؟ الحق أقول إنني لم أقف على كلامه؛ ولكني أخال أنه كان يدعو الحياة دعاء الأنبياء، ويسألها أن تزيل الوحشة من أعماقه المظلمة ولججه القاحلة. ولا جرم فقد بدا في أشعة الضوء السحري أقدم ما عُرف من أشكال الحيوانات كالأوداميا [2] ، واللنجولا [3] ، والأورتوسيراتيت [4] طاغية البحار السيلورية [5] والتريبوليت [6] وغيرها من مخلوقات الكون الأولى التي رسمت صورها اعتمادًا على بقاياها الأثرية، أو على ما انطبع على الصخور من تلك البقايا. ثم تلا ذلك ظهور أول أرض انحسر عنها الماء، فنهدت على سطحه وكانت طوائف من الجزر، كان يخيل للنظار بواسطة المغالطة البصرية أنهم يشاهدون الأعشاب الشجرية تنبت منها وذلك كالسيجيلاريا [7] والاستجماريا [8] وغيرهما من المُثُل الأصلية للنباتات القديمة، ولست أنكر أن جميع هذه المناظر هي صور في نهاية الحقارة بالنسبة لما تمثله من المشاهد الكبرى للكون في عصره الأول، ولو أن إنسانًا كان قُدِّر له أن يشهد خلق الأشياء حضر في معهد تمثيل تلك الصور لما وسعه إلا أن يضحك منها؛ لأنها ليست إلا أشباح لاعب، ولكن لا يغرب عن ذهن هذا الساخر أن هذا التمثيل إنما جُعل للأطفال، وأن القصد منه هو تعليمهم، وهو غرض جليل يجب الإغضاء عن حقارة ما يُتخذ من الوسائل للوصول إليه. كان يتلو كل عصر من عصور تاريخ الأرض فترة جهالة عمياء وسكوت عام كانت تدل كما نبهت النظار إليه، على اشتغال الدهر بعمله البطيء الخفي. ظهر في الفصل الثاني من القصة سلسلة مناظر مختلفة آذنت بحصول بعض الحوادث الكبرى على سطح الأرض، منها أن جزرًا نتأت من الماء وتواصلت فكانت بداية تكوُّن القارات المستقبلة، ومنها أن ظهرت نباتات وحيوانات جديدة لم يكن عُهد لها وجود في العالم إلى ذلك الحين، وأخص ما أثار دهش النظار من تلك الحوادث وهاج إعجابهم دور ظهور الزواحف، وقد حملني ما رأيته من ذلك على اعتقاد أن بين طفولية الكون وطفولية الخيال مناسبة ومطابقة، لما خلته من ارتياح نفوس تلامذتي الصغار لمشاهدة صور تلك المملكة الحيوانية الفانية؛ فإني قد مثلت لهم الليبيرانتودون [9] وهو ضفدعة كالثور في الضخامة، والإختوزيور [10] ذو العين الهائلة، والبليزيوزيور [11] الذي عنقه كعنق الثعبان والميغالوزور [12] فيل الزواحف الذي رأسه كرأس الضب، والهيليوزور [13] ذو الظهر الشائك وصنوف الحيات الطيارة المسماة بالبتروداكتيل التي تشابه ذلك الوحش الخرافي ذا الأجنحة الذي وجهه وجه امرأة، وجسمه جسم عقاب واسمه الهاربي، فأثارت دهشتهم وإكبارهم لها بمقادير أجسامها الهائلة وقوة الدفاع فيها، ثم تلاشت نوعًا بعد نوع كما تتلاشى الأحلام. كان النظار يعتقدون أن جميع هذه المخلوقات كانت عائشة على وجه الأرض لأني كانت أؤكد لهم ذلك بذمتي، وكان هذا التأكيد مصدر استغراب جديد لهم، على أني ما قصدت إضلال أحد منهم، ولا التمويه عليه، بل قصصت عليهم بالإيجاز كيفية معرفتي إياها وبينت لهم ما أضفته من عندي إلى ما عرف حق المعرفة من تركيبها وتاريخها، ولو أن سائلاً منهم سألني عن سبب انمحائها من على وجه الأرض لأعضلني سؤاله، على أني كنت أجيبه أننا معشر الموجودات قد زج بنا في محيط الدهر زجًّا شديدًا، والدهر كما تعلم منشأ التقلب، وقد وجد في طبائعنا الاستعداد لجميع ما قُدِّر لنا من ضروب تصاريف الحياة واستحالاتها، فمهما كان عمر الزواحف القديمة طويلاً فلا بد أنها قد مرت بما قُدِّر للكون من النظام العام كما كانت تمر أشباحها الممثلة على الحجاب المعد لقبولها. آذن الفصل الثالث من القصة بمناظر خلوية اجتهدت في أن أمثل في بعض آيات العصر الذي يسميه علماء طبقات الأرض فجر حياة الأرض الحالية (أيوسين) وظهر بعد الزواحف الضخمة جسام الحيوانات الثديية كالميجاتيريوم [14] الهائل والدينوتيريوم [15] مارد المردة في عصرها والمستودونت [16] كبير الحيوانات البائدة الصفيقة الجلود وغيرها مما لم أذكره، وإن كان من أغربها، أحضرها الفانوس فعرضها على الأنظار برهة، ثم لما رأت أن هذا الكون الذي نعيش فيه لم يُخلق لها حتى ما كان منه في حيز الوهم والمغالطة لم تلبث أن لبَّت دعوة العدم فزالت على التعاقب كما بدت. على أن ما تلا هذه العصور الأولى من الاستحالات والانقلابات في النباتات والحيوانات التي كانت موجودة فيها قد آذن بأن الأرض صائرة إلى أحوال العصور الحالية، فأنشأ الأطفال يتدرجون في الشعور بأنهم في أرض يعرفونها، مع ما كان لا يزال يوجد من التباين بينما فيها وبين ما يعرفونه من أرضهم، كانت تتجلى أمامهم غابات تقارب أشجارها أشجار غابتنا، تجول فيها أُيَّل ضخمة الأجسام تعدو وراءها السباع التي لا يزال نسلها يفترس فرائسه إلى اليوم في الصحاري والقفار. لم يكن البرد إلى ذلك الحين قد كدر صفاء هذه المشاهد التي كان يسبح فيها ضوء الشمس ممزوجًا بحرارتها القوية؛ ولكن في آخر العشية بدت تباشير الثلج فكان لها مناظر محزنة متعاقبة استعنت في إبرازها للعيان بكل ما في فانوسي من قوة الاستعداد، ففهم منها النظار أن حيوانات العصور الأولى قد أهلكتها هذه المؤثرات المبيدة أو أنها أوت إلى أقاليم أخرى أشد حرارة من أقاليمها الأولى، وكان صاحب السلطان على هذه الأقاليم الباردة هو الوعل القطبي والفيل ذو الفروة المسمى بالمموث، كان يخيل للأطفال أن الأرض صائرة إلى الفناء وخلتني أطالع في عيون أكثرهم التفاتًا آيات القلق والحيرة، ولم أر من الضروري أن أسري عنهم هذا القلق فقد تكفلت بذلك الحوادث، أستغفر الله بل صور الحوادث. بدت أمامهم مغارة نحتتها يد الفطرة في سمك الصخور، فكانت ملجأ أوت إليه الحيوانات الوحشية كالدب والضبع الذي هو نوع من الكلب وغيرهما من النزلاء التي ترجع في نسبها إلى أنواع من الحيوانات قد أصبحت اليوم مستأنسة، ثم ظهر لهم خلق جديد هو عجيبة الكون ذلك هو الإنسان رأوه على ضوء نار أوقدها لنفسه في جانب منزل من الأرض، وهو شبه حي عرف كيف يختطه لنفسه، فليت شعري ما هو ذلك الخلق ومن أين هو؟ لا شك أن مثل هذين السؤالين هما من الأسئلة المعضلة التي يحار الإنسان في الجواب عنها والمناقشة فيها أمام أطفال لا تتسع عقولهم لها على أني لست متثبتة في العلم بالإجابة عنهما، من أجل ذلك رأيت من الحزم أن أطفئ فانوسي وأكف عن الخوض فيهما. إجابةً لطلب العموم كما يقال في إعلانات معاهد التمثيل، قد استعد معهدنا لإيجاد عدد عظيم من المشاهد ستمثل في قصتنا. عقدت النية على الاستمرار في دروس التمثيل هذه، وعلى أن أحكي لأصدقائي الأحداث بواسطة الفانوس تاريخ الإنسان ومغالبته لفواعل الكون، وما اتخذه من آلات صيده أو أدوات عمله الأولى وتجاربه الصناعية مذ كانت الصناعة في مهد طفوليتها، ثم أبين لهم بعد ذلك بهذه الطريقة عينها ما عُرف من المجتمعات القومية والعوائد القديمة وآثار الفنون الأولى؛ فإني أرى أنه لا شيء إلا ويمكن أن يفهمه الأطفال على شرط إطلاعهم على كل ما نحدثهم به من الأشياء، والنزول معهم في التعبير إلى الحد الذي تطيقه أذهانهم. لست أغبى عن قيمة صناعة رسم الأشباح، ولا أجهل ما تساويه تلك الألاعيب الخيالية، ولا خفاء في أني لا أدعي أني إذا استعرضت أمام أميل بعض صور لما كانت عليه الأرض والناس في عصورهم القديمة، أكون قد علَّمته علم الطبقات الأرضية، أو علم التاريخ، وإني أعلم أيضًا أن كثيرًا من الصور السحرية لا تلبث أن يزول أثرها من أذهان الأطفال كما يزول من حجاب الفانوس؛ ولكن كل هذا لا شيء فيه فحسبي أن يثبت في أذهانهم صورة أو صورتان، فإن تم ذلك رجوت لهم في مستقبلهم أن يجتهدوا في تحصيل العلم بأنفسهم من المدرسة الكونية، أو من مدارسة الكتب، وعلى كل حال فليس الغرض من تعليمهم في الصغر أن يحصلوا العلم؛ وإنما الغرض منه أن تبعث فيهم

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) توسع بعض الفقهاء في مسائل التكفير، وما يكون به المسلم مرتدًّا، حتى إننا إذا سلمنا بكل ما قالوه لا يكاد يسلم لنا أحد نسميه مسلمًا في هذا العصر، وللإمام حجة الإسلام الغزالي كتاب وجيز سماه (فيصل التفرقة.. .) حقق فيه ما يجب التعويل عليه في هذا الباب، ولا غرو فكلام هذا الإمام لباب اللباب، وقد وفق الله تعالى صاحبنا المهذب الشيخ مصطفى القباني لإحياء كتب حجة الإسلام التي أماتها الجهل وسوء الاختيار، وقد طبع في هذه الأيام هذا الكتاب في مطبعة الترقي على ورق جيد، ووضع في ذيله حواشي تزيد في فائدته، وطبع معه رسالة أخرى للمصنف في الوعظ والاعتقاد، فجزاه الله عن حجة الإسلام وعن المسلمين خير الجزاء، ووفقهم لقراءة هذه الكتب النافعة، والكتاب يُطلب من مكتبة الترقي ومن غيرها. *** (جواهر العلوم) لم ينس القراء كتاب (ميزان الجواهر) الذي قرظناه في الجزء الخامس، ولم ينسوا أن مؤلفه هو الأستاذ الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري مدرس البلاغة والإنشاء في المدرسة الخديوية، وهذا كتاب جواهر العلوم للجوهري أيضًا، فصاحب الميزان هو صاحب الموزون، فمن اطلع في ذاك على الجواهر في ميزانها، فعليه أن يطلع عليها في هذا مجردة قائمة بنفسها، رعى الله هذا المؤلف فلقد سلك في كتابيه الطريق القويم، وهَدَى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، إذ دل الناظرين في العلوم الكونية على خالق الأكوان، وقرب هذه العلوم من غير الناظرين فيها بأعجوبة من سحر البيان، كأن الغاية من إنشاء مدرسة دار العلوم قد تجلت في هذا المؤلف في أبهى مظاهرها، وقد نظم هذا الكتاب في سلك القصص، فهو حكاية شاب عرف العلوم والآداب، وضرب في الأرض يطلب فتاة كمثله ليتخذها زوجًا يسكن إليها؛ فإن النفس لا يسكن اضطرابها إلا لمن يشاكلها ويقاربها وفيه ثلاثة أبواب أحدها في عجائب الأرض، والثاني في عجائب السموات، والثالث في آيات من القرآن محيطة بكل ذلك {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 20-22) وقد طُبع الكتاب على نفقة الأستاذ المرشد والواعظ المتفرد الشيخ علي أبي النور الحربي والفاضل المهذب محمد توفيق أفندي الكاشف، فيُطلب منهما، ومن مكتبة الترقي. *** (قصة وردة) نُشر الجزء الثاني من هذه الأسطورة التاريخية التي تمثل أخلاق المصريين وعاداتهم، وكيفية حكومتهم، ومبلغ علمهم ومدنيتهم في عهد رعمسيس الثاني، وقد ذكرنا في تقريظ الجزء الأول أن مؤلفها هو الدكتور جورج إيبرس الألماني اقتبس مادتها من العاديات المصرية، وأوراق البردي، وأن معربها هو الكاتب الشهير محمد أفندي مسعود أحد محرري المؤيد، وقلما توجد أسطورة جمعت من اللذة والفائدة ما جمعت هذه القصة، وهي تطلب من معربها، ومن المكاتب المشهورة. *** (الإنشاء العصري) إن أكثر الذين يتعلمون القراءة والكتابة لا يعرفون رسوم الكتابة في الشؤون الودادية، ولا في المعاملات المعاشية، وقد ألف الأديب الفاضل محمد أفندي عمر نجا البيروتي كتابًا سماه الإنشاء العصري لم يغادر شيئًا مما يحتاجه هذا الفريق الأكثر من رسوم المكاتبات الأدبية والتجارية إلا هداهم إليه؛ لذلك يرجى أن يكون هذا الكتاب من أكثر كتب العصر رواجًا؛ لأن السواد الأعظم يحتاجه ويرغب فيه، وقد طبع في بيروت طبعًا حسنًا. *** (نوادر الأدباء) كتاب جديد يشتمل على نوادر وحكايات لطيفة مما يعزى في كتب الأدب والتاريخ إلى الخلفاء والملوك والحكماء والزهاد والأدباء، جمعه الفاضل إبراهيم أفندي زيدان، وطبع بنفقة صديقنا الفاضل متري أفندي زيدان مدير الهلال الأغر طبعًا جميلاً، وثمن النسخة خمسة قروش صحيحة، ويُطلب من مكتبة الهلال وغيرها. *** (الشرق المصور) مجلة عثمانية علمية أدبية فنية صناعية مصورة تصدر في 10 و25 من كل شهر عربي، وقيمة الاشتراك فيها 40 قرشًا صحيحًا في مصر، و 50 في غيرها، منشئها ومديرها الفاضل أحمد بك كامي، وقد صدر منها خمسة أجزاء مملوءة بالفوائد الأدبية والتاريخية والرسوم الجميلة، فعسى أن تصادف من الرواج والانتشار ما تستحقه. *** (الطب الحديث) مجلة علمية طبية خاصة بالأطباء والصيادلة يصدرها رصيفنا البارع الدكتور عيد أفندي صاحب مجلة طبيب العائلة الغراء، وهي حاوية زبدة المباحث الطبية والفوائد العلمية والاكتشافات الفنية، فنحث عليها الأطباء الأفاضل. *** (ألف ليلة وليلة المصور) هذا الكتاب أشهر القصص الشرقية وأعذبها؛ لأن أعذبها أكذبها، وله مكانة عند الإفرنج عالية، فقد نقلوه إلى لغاتهم وزينوه بالصور والرسوم، وقد رأيت طبعة منه بالإنكليزية تساوي النسخة منها 24 جنيهًا، وقد اعتنى صديقنا الفاضل جرجي أفندي زيدان صاحب الهلال المنير بطبعه مزينًا بالرسوم والصور وحذف منه الكلام المجوني الصريح، وهو يصدره أجزاء يزيد الجزء منها على مائتي صفحة، وثمنه عشرة قروش، وقد صدر منه جزآن يُطلبان من مكتبة الهلال.

نساء المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نساء المسلمين تابع المحاورة الأولى بين فاطمة علية هانم كريمة جودت باشا وبعض نساء الإفرنج بعدما بينت الكاتبة حال البنات الجركسيات الجميلات قالت في تتمة الجواب: وأما غير الجميلات من أولئك البنات؛ فإنهن مضطرات إلى إنفاق العمر في بلادهن بالأعمال الشاقة كالزرع والحصاد لا بخدمة البيوت فقط؛ ولكن إذا لم يكن النظر في المرآة يطمعهن في دار السعادة فإن لهن فيها مطمعًا آخر، وهو الرسائل والمكاتيب التي تجيء من بنات أعمامهن وعماتهن وأخوالهن وخالاتهن وصواحبهن الجميلات؛ فإنها تحدث عندهن أملاً في ترك الشقاء في بلادهن وإصابة حظ من السعادة في الآستانة إذ يسمعن في تلك المكاتيب أن الجارية فلانة قد كافأها سيدها على حسن الخدمة ببيت، وزوَّجها برجل ملائم لها، وإذا رُزقت الجارية بغلام تبشر أهلها، ثم ترسل علامة سلامه إليهم بأن تلوث أصبعه بالحبر وتضعه في ذيل المكتوب، فهذه الأخبار تملأ خيالات البنات فينفرن من بيوتهن ويستثقلن المعيشة فيها، ثم تثقل عليهن الخدمة التي كن تعودنها، بل يستبشعن الذي تربين عليه، ويستحوذ عليهن الخمول والكسل، فيلقين لذلك ضروبًا من إهانة أهليهن كقولهم: (إن الخبز لا يؤكل بدون تعب) فحينئذ تناجي الواحدة منهن نفسها: أليس من البلاء أن أضطر إلى الحرث والزرع والحصاد لأجل الوصول إلى لقمة من الطعام؟ أليس الاتصال بأحد الأفندية في الآستانة خير لي: يأتيني رزقي رغدًا، ولا أكلف إلا بخدمة البيت وهي يسيرة، تعلمني كيف أدير شؤون منزلي، إذا أنا صرت سيدة، فهذه الحالات والتصورات تبعث فيها الرغبة الصادقة في أن تكون جارية في الآستانة عدة سنين، ثم تكون سيدة ناعمة العيش طول حياتها تلح بها الرغبة في الهجرة على حبها الطبيعي لوالديها ولوطنها؛ ولكن بعض الحب يغلب على بعض، ذكرت لك الواقع أيتها المدام من غير حكم عليه بخطأ ولا صواب، فما هو رأيك في رغبة مثال هذه الجركسية أيجامع حب الأهل والوطن، أم هو من الإفراط في حب الذات؟ ف: أراك قد عرفت الرق تعريفًا لطيفًا يكاد يجعل كل إنسان يود أن يكون رقيقًا. أنا: كلا إنه ينبغي لنا أيتها المدام أن نكثر الأرقاء؛ فإن ذلك يستلزم قلة حماتهم. وبينا كنا نتضاحك من موضوع القول كانت الراهبة لا تزال معرضة عن حديثنا، وربما لم تكن فطنت له كما تدل على ذلك ملامحها، ثم إنني انتبهت إلى كلام المدام انتباهًا جديدًا لم يكن من قبل فقلت: (إن ما ذكرته لك عن الجواري والأرقاء هو مبني على قواعد الشرع، وعلى عادات البيوت والأُسر المتأدبة بآداب الدين والعمل بأحكامه، وهذا لا ينافي أن يكون في الناس من ينحرف عن جادة الدين والإنسانية في أمر الرق؛ فإن الدهر بالناس قُلَّب وكثيرًا ما يفضي تقلبه بهم إلى تحويل الحسن إلى رديء، واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ومن ذلك أن بعض الآباء يبيعون بناتهم اللاتي يرغبن عن العزبة ويفضلن المعيشة في أعشاشهن التي نشأن فيها لينتفعوا بثمنهن، ومن الموالي من يعامل الجارية التي يشتريها بما تأباه المروءة ولا ترضى به الشريعة فيستخدمها ثلاثًا أو خمسًا، ثم يبيعها من آخر ابتغاء الربح، أليس من المعهود في الناس قلب المنافع إلى مضار، وتأويل أنفع القوانين وأعدلها ميلاً مع الهوى والغواية وارتكاسًا بين أمواج الضلالة؟ والذي يمسك بالنفس أن تذهب عليهم حسرات أنهم قليل ومعدودون من الشذاذ فليس لمذهبهم في تأويل الشريعة وسوء استعمال العرف والعادة تأثير في مجموع الأمة؛ لأنهم ساقطون من نظر الخواص. مدام ف مُظهِرة الإعجاب بالقول والعناية به: إنه كثيرًا ما يطرأ على المروءة ما يذهب بأثرها من المودة والرحمة والرعاية والحرمة بين أهل البيت من الوالدين والأولاد والأزواج فيتقطع بينهم، وهذا حاصل ومعروف في أوربا، ومفاسد الرق معروفة عندنا، وقد كتب فيها كثير؛ ولكنا كنا نجهل من تعريفها وشؤونها عند المسلمين ما عرفته منك وأنا به مغبوطة وشاكرة، وأسألك رأيك في الذين يبيعون أطفالهم قبل التمييز. أنا: إن هؤلاء أشد رغبة في سعادة بناتهم، فلا يكتفون بأن يكن سيدات بجاه أزواجهن، بل يتشوفون إلى تعليمهن وتربيتهن في دار السعادة، أتدري من يشتريهن. ف: إن تصور بيعهن راعني وأذهلني عن التفكر فيما عداه، كالمشتري وغيره. أنا: لعله لا يذهلك عما أقوله، وهو أن ممن يشتري (هؤليَّا) الجواري العقماء والعُقَّر - جمع عاقر للرجل والمرأة - فيكنَّ لهم كالأولاد، ومن الناس من يشتري الجميلات ويربيهن تربية بنات الوجهاء في المدن ليبيعهن إلى العظماء، وهل يقصر في تربية الجارية من يبيعها بخمسمائة ليرة أو ألف ليرة؟ وأكثر أصحاب البيوتات يشترون الجواري من هؤلاء المربيات المتعلمات لأجل الاقتران بهن، ومنهم الذين يربونهن ليتزوج بهن أبناؤهم أو ليكن أترابًا مؤنسات لبناتهن، فلكل فتاة من الأسر الكريمة تِرْب من الجواري، تتعلم معها وتربى تربيتها وتعتق يوم تتزوج الفتاة، فيكثر الراغبون في الاقتران بها من خيار الناس. ف: يخيل إلي من كلامك أنني ضللت في سفري فوقعت في غير تركيا. أنا: السبب في هذا أن السائحين منكم لا يعرفون من دار السعادة إلا فنادق بك أوغلي، وطرقات المدينة وأسواقها، فأكثر ما في كتبهم أغلاط وأوهام يتلقفونها من المترجمين الجاهلين بحال المدينة، وإننا نظن عند قرائتها أننا نقرأ عن عالم مجهول. وبينا نحن نتكلم دخلت علينا جارية حبشية كانت منذ دبَّت إلى أن شبَّت متنوّفة في الزينة منشَّأة في التطرس والتطرز فلما رأت مدام ف.. زيها وحليها قالت بدهشة وروعة: من هذه التي تعلو رئيسة الخدم زينة وحليًّا؟ أنا: إنها جارية تربت عندنا، وأبت الحرية، فأعطيناها كتابًا بأن أمر حريتها لها. ف: نادت الحبشية وسألتها بواسطتي عن السبب في إباء الحرية، فقالت: إنني متى جاءني زوج أرتضيه أعتق نفسي وأتزوج به، وإلا فأنا فاكهة في نعمة لا أجد مثلها، فسألتها كيف يكون الزوج الذي ترضينه؟ فقالت: هو من يطعمها كما تأكل في بيت سيدها ويكسوها كما تكتسي ولا يحملها خدمة أكثر مما تحمله الآن. لها بقية

مدرسة محمد علي الصناعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدرسة محمد علي الصناعية دعا صاحب الدولة رياض باشا العظماء والوجهاء في مصر إلى داره للمذاكرة في وسائل إنجاح مشروع المدرسة الصناعية، فتكلم الوزير في فائدة الصناعة، وشدة حاجة القطر إليها، وشكا من قبض الأكف وغل الأيدي وطلب من حاضري المجلس إبداء رأيهم، فتلاه صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية في القول، وكان مما قاله: إنه يجب أن يكون رجال الدين من الدعاة إلى الاكتتاب والعاملين في ترويج المشروع؛ لأن المدرسة تنفع في الدين، كما تنفع في الدنيا؛ فإن أكثر الفقراء والمساكين محرومون من العلم والعمل والدين، وإذا لم يكن للفقير دين ولا عمل فهو شر محض على قومه وعلى الناس الذين يعيش معهم، وضرر هؤلاء يكون على أشده في البلاد التي تقطعت فيها الروابط الاجتماعية، فأمسى كل واحد من الغوغاء يرى نفسه كونًا مستقلاً لا يوقر من هو أكبر منه، ولا يستحيي منه، ولا ممن هو في طبقته، فالمدرسة تعلمهم دينهم وتشغلهم بالعمل عن الوقوع في مزالق الزلل، ثم أقر الحاضرون على تأليف لجان تسعى في الاكتتاب، وابتدأ بعض الحاضرين في ذلك بأنفسهم. علم الناس أن نحو ثلثي ما اكتتب به إلى الآن هو من الأجانب، ونحو الثلث من المصريين الذين يُراد إنشاء المدرسة لهم، والأجانب في البلاد يعدون بالألوف والمصريون يعدون بالملايين؛ ولكن الأجانب يعرفون قيمة الأعمال الاجتماعية وأكثر المصريين يجهلون، ومن يعرف منهم قيمة العمل، فهو إما فقير الأب والجد فهو على بخل موروث، ودناءة تربى عليها، فلم يقو ما أوتيه من علم على استئصالها؛ لأن تأثير التربية غالب دائمًا على تأثير التعليم، وأكثر الأغنياء سفهاء الأحلام غارقون في غمرة من الأوهام، يبذلون المال الكثير لنيل لقب كبير والتزلف إلى الأمير. نعم إن أصحاب البيوت القديمة والأسر الكريمة لم يفتقروا جميعًا، ولم يعمهم الجهل، ولم يدمرهم فساد التربية، وفي البلاد فئة قليلة من العصاميين الأخيار، فهؤلاء وهؤلاء محل الرجاء؛ ولكنهم بالنسبة إلى المجموع قليل عددهم، ولا يقدرون على القيام بالمشروعات اللازمة لحياة البلاد إلا بمساعدة الآخرين لهم، فأين أهل الدعوى، أي محبو الشهرة، فهذا اليوم فيه صبغ الدعاوي يحول.

الدول في سلطنة مراكش

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدول في سلطنة مراكش جاء في برقيات هافاس من طنجة في 19 يناير أنه وصلت إليها بارجة تحمل مندوب الجمهورية الفرنساوية لدى سلطان مراكش، وستصل غدًا دارعة إنكليزية تحمل رجال السفارة الإنكليزية، وأما السفارة النمسوية فستسافر في 26 يناير. وقد تحقق أن صاحب مراكش استحضر ضابطًا من الإنكليز يعلمون عساكره الفنون العسكرية، وأنهم يعلمونهم باللغة الإنكليزية لتبقى القوة العسكرية المراكشية في أيديهم يوجهونها كيف أرادوا، ولا يمكنها أن تحارب إلا بهم، وهذا تسليم معنوي للبلاد (وكل من لا يسوس الملك ينزعه) والمانع لصاحب مراكش أن يستعين بأخيه صاحب القسطنطينية على التعليم والتمرين العسكري التنازع على لقب خليفة الذي أهلك الإسلام في السلف والخلف، وما كان أهله ليعتبروا، ولا يترك رؤساؤنا الحرص على هذا اللقب الذي لم يبق له معنى حتى لا تبقى سلطة لمسلم على وجه الأرض والله يفعل ما يشاء.

الرقص والعفة والحجاب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرقص والعفة والحجاب رحم الله المتنبي حيث قال: (لِهَوى النفوس سريرة لا تُعلم) فإن هذه الحكمة تصدق على الذين ملأوا وادي النيل صراخًا وعويلاً، وتنديدًا وتهويلاً، أن قام رجل منهم يقول ربوا البنات وعلموهن، ثم خففوا الحجاب عنهن بحيث لا يبدين من زينتهن إلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان على ما يقول بعض المفسرين، وهم مع ذلك يحضرون بدعة رقص النساء ويأذنون لنسائهم بالتفرج عليها من غير تحرج ولا تأثم ولا نكير، بل منهم من يثني على هذه البدعة الذميمة حتى بالكتابة في الجرائد. بدعة الرقص وما أدراك ماهية، هي الوباء الذي يصطلم العفة اصطلامًا، ويستأصل جراثيم الصيانة استئصالاً، قال راوي المنار: دعاني غير واحد من الفضلاء إلى الكتابة في التنفير عنها، والإنكار على فاعليها الفاسقين ومنهم من قال ينبغي أن تشاهدها مرة لتكتب عن بينة وشعور بوجه ضررها، فقلت ما كان لمثلي من خدمة الدين أن يقف في تلك المواقف النجسة، وإن كان القصد طاهرًا والغرض شريفًا، وقال آخر: إن هذا الرقص يكون في مكان شريف، في بعض أيام السنة، ويتسنى لك أن تشاهده هناك، وفاته أن هذا الشرف اعتباري لا حقيقي، وأنه خسيس عند الله ورسوله وصالحي المؤمنين، فماذا تغني عنه شهادة المبتدعة والفاسقين، ثم اتفق لي أن دخلت (الأوبرا الخديوية) ليلة الاحتفال بجلوس الجناب الخديوي من هذه السنة لأشاهد كيفية تمثيل الإفرنج للقصص وأختبره؛ فإنني قرأت في كثير من الكتب والجرائد أن تمثيلهم ركن من أركان التهذيب وأصل من أصول التأديب، وما كنت أعلم أن سيكون في خلاله رقص ولكنه كان، وشاهدت هذه البدعة التي هي أفتك عوامل الافتتان. برز في معهد التمثيل زهاء عشرين أو ثلاثين بنتًا كواعب أترابًا من أجمل من أنبتت أرض الشمال، وعليهن من لبوس الزينة ما عليهن وطفقن يرقصن بنظام غريب لا يحيط به الطرف، فيحيط به الوصف، على أني لو شئت لقلت في ذلك قولاً يقرب بالخيال من ذلك الجمال، ويطير بالقلب في عالم المثال؛ ولكنني أخشى أن أكون بذلك من دعاة الفتنة، وأنصار هذه المحنة، وكان يلقى على الراقصات شعاع كهربائي يلون بألوان مختلفة، فتارة يكون أبيض ناصعًا، وطورًا يكون ضاربًا إلى الصفرة كنور الشمس، وآنًا يُرى مشوبًا بحمرة زاهية، وآونة تمازجه زرقة صافية، وكان الناس حيارى، تساوى في الدهشة غير السكارى بالسكارى، أما هؤلاء فكانوا كما قيل: سكران سكر هوى وسكر مدامة ... فمتى يفيق فتى به سكران وأما كاتب هذه السطور فكان كما أجاب رجلاً بجانبه ممتعضًا، فسأله ما بالك ألست معجبًا بهذا المنظر الرائع والجمال البارع، فقلت في جوابه إنني في هذه الليلة كالحاسد يرى نعمة المحسود عيني في جنة وقلبي في نار، قال وما الذي أوقد في قلبك هذه النار، فقلت: احتكاك الأفكار، ألا تراني كيف أدير الطرف وأرمي به إلى المتفرجين والمتفرجات، أكثر مما أرمي به إلى الراقصات، انظر إلى هؤلاء الكهول المفتونين بهذا المنظر، وأمثل في خيالي ما يثير في نفوسهن من الشواغل، وأتفكر في أثر ذلك وعاقبته في معاشرة نسائهم وصحبة زوجاتهم إذا لم يكن بارعات الجمال، وقد فهمت السر في افتتان أغنيائنا بأوربا وإضاعة أموالهم وأوطانهم ودينهم وإيمانهم في سبل ترف أوربا وزخرفها، أنظر إلى هؤلاء الشبان الذين ترقص أعينهم وقلوبهم مع الراقصات، وتذهب نفوسهم عليهن حسرات، وأتفكر في مستقبلهم، ومستقبل البلاد والأمة بهم، أنظر إلى هؤليا - تصغير هؤلاء- الولدان والجواري (البنات) الصغيرات، وأمثل في ذهني نفوسهم بألواح صقيلة ترسم فيها هذه النقوش والصور، وأتفكر في مغبة هذا الرسم والتصوير عندما تعصر الصغيرة ويراهق الصغير، أنظر إلى تلك المقصورات في المقصورات (أي النساء المحبوسات في الغرف التي يسمونها الألواج) وياليتهن كن من القاصرات، فإني لا أراهن إلا يلتعن التياعًا، وتطير نفوسهن شعاعًا، ويملن إلى محاكاة هؤلاء المائلات المميلات، الكاسيات العاريات، وقد تذكرت حديثًا شريفًا من أعلام النبوة وهو قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسْنِمة البُخت المائلة لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا) رواه مسلم وغيره، وقد مر على العلماء قرون لا يعرفون تأويله حتى كان منهم من فسَّر (كاسيات عاريات) بأنهن كاسيات من نعم الله تعالى عاريات من شكره، وحتى قالوا في معنى مائلات مميلات أنهن يمشين متبخترات ومميلات لأكتافهن، أو أنهن يتمشطن المشطة الميلاء وهي مشطة البغايا، وأنت ترى أن الحديث صريح في دولة (الكرباج) القريبة العهد في مصر، ودولة التهتك التي لا تزال في نمو وارتقاء بتعزيز الأمراء والأغنياء، ومن أين كان يخطر في بال علمائنا السالفين رضي الله عنهم، بل من أين كان يخطر في بال مثلي قبل هذه الليلة أن النساء يلبسن سراويلات حازقة (ضيقة ضاغطة) بلون البدن وغلائل من الشفوف (الثياب الرقيقة) التي لا تحجب ما وراءها ولا يكتفين بذلك حتى يكشفن نحورهن وأكتادهن وأيديهن إلى الأكتاف؟ وأما القبعة المرتفعة التي تحكي سنام الجمل فقد رأيناها من زمن بعيد. هذا ما كنت أحدث به جارًا لي في الجلوس ولعمري إنني كنت أتصور أنه قلما يخرج رجل متزوج من ذلك المكان وهو راض بحليلته، وقلما تخرج امرأة إلا وهي مفتونة بهذه الصناعة عازمة على تقليد هذا التهتك والخلاعة، ومن يمتلئ دماغها بهذه الخيالات، وتنفعل روحها بفعل هاته السيئات، فهل يحفظ عفتها، ويحمي صيانتها، منديل رقيق على أرنبتها، تلاعبه الأنفاس وتخترقه أشعة عيون الناس؟ عجيب ممن يسمح لأهله بحضور هذه المخازي، ويغفل عن هذه المغازي، وعجيب من الذين يدعون الغيرة على الأعراض، كيف تعميهم عن هذه الفضائح الحظوظ والأغراض، فهم يملأون الصحف تنديدًا بكلمة تقال، ثم يحثون الناس على هذه الفعال، أليس الواجب أن يضرب دون هذه الفضائح ألف حجاب صفيق، إذا وجب أن يكون على فم المرأة منديل رقيق، بلى ولكن الهوى هو الذي يكتب ويتكلم ولهوى النفس سريرة لا تعلم.

مطل قراء الجريدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مطل قراء الجرائد المشتركون في الجرائد هم خواص الأمة في الفكر والعلم، أو المتشبهون بالخواص، وأعني بالعلم علم الحياة الاجتماعية وما يتعلق به فإنه أعلى العلوم، وأصحاب الجرائد التي يُقصد بها ترقية الأمة في حياتها الاجتماعية هم أعلم الناس بحال الأمة، وبدرجة ترقي الفكر فيها، وقوة الحياة أو ضعفها في أفرادها، الكثيرون من هؤلاء الخواص يبذلون كل يوم ما يقدرون على بذله في السفاسف، ويصعب على أحدهم أن يبذل في السنة جنيهًا أو نصف جنيه قيمة الاشتراك في الجريدة أو المجلة التي يعتقد منفعتها، ويشهد بفائدتها، فإذا خرج منه شيء لا يخرج إلا نكدًا بعد إلحاح في الطلب ومراوغات في الهرب، ومنهم من يعتذر بأعذار جديرة بالعظة والاعتبار، من أغربها معرفة صاحب الجريدة أو ادعاء صحبته، يقول أحدهم: إنني لا أدفع قيمة الاشتراك في هذه الجريدة؛ لأنني عرفت صاحبها وصار لي معه صحبة، فهل يحكم هؤلاء على صاحب الجريدة بأن يتخذ نفقًا في الأرض فيتوارى به عن الناس لكيلا يعرفوه، وأن يقابلهم مقابلة سوأى إذا هو رآهم لئلا يصحبوه، فيكون بذلك جديرًا بأن يُعْطَى حقه، ويُعَانَ على عمله، قلما تروج جريدة في هذه البلاد إذا لم يكن لصاحبها أصدقاء كثيرون ينوهون بجريدته، ويرغِّبون الناس فيها، فإن لم يفعلوا هذا فليسوا بأصدقاء، وليت شعري كيف يرضى إنسان أن يسن سنة يحرم بها صديقه من منافع كثيرة، بل يؤذيه بها ويضره ليوفر على نفسه شيئًا قليلاً من المال، لا يبخل به كريم النفس على غير صديق بغير حق؟ أعني بهذه السنة كون الصديق لا يدفع قيمة الاشتراك، فإذا كان لي مائة صديق في مصر فصاحب السنة يوجب علي أن أخسر مائة اشتراك في كل سنة لأجل أن يوفر هو على نفسه قيمة اشتراك واحد! ! ! أظن أنه لا توجد لغة ولا عُرف يجيزان أن يسمى مثل هذا صاحبًا أو صديقًا، وإن فرضنا أنه يسعى في نشر الجريدة وترويجها فكيف به إذا كان لا يفعل؟ ومن الناس من يمتنع من دفع الاشتراك؛ لأنه كبير يجب التقرب إليه بتقديم الجريدة مجانًا، وكذلك العلماء قلما يوجد فيهم من يدفع قيمة الاشتراك. والفقراء ربما يعجزون وهم أقرب إلى العذر الحقيقي، فإذا كان العالم والكبير والصديق لا يؤدون هذا الحق، فمن ذا الذي يؤديه؟ إنهم لا يتفكرون في هذا؛ لأن الأمة في طفولية فكبيرها صغير، وعاقلها أفين، وهي لما تعرف معنى الحياة القومية الاجتماعية ومقوماتها، والحقوق الإنسانية وواجباتها، إلا قليلاً من أهل الفضل والمروءة، يؤدون الحقوق ويسعون في سبيل المنافع القومية، ولكن إذا لم يقدروا على جذب الجماهير فيا سوء العاقبة وبئس المصير.

الأميرة ناظلي هانم وتربية البنات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأميرة ناظلي هانم وتربية البنات لو أن تلك الكاتبة الفرنسوية التي تدعو المسلمين إلى إرجاع الدين إلى البيوت عرفت صاحبة الدولة الأميرة ناظلي هانم أفندي، واستعانت بها على ما تريد لرجونا أن تلقى أذنًا واعية، وجوابًا مرضيًا؛ فإن هذه الأميرة هي أعقل أميرة في أسرة محمد علي الكبير، ولها عناية بالشؤون العمومية، وقد قالت مرة إننا نحن المسلمين لا نجاح لنا إلا بالتمسك بالإسلامية، وعسى أن تهتم الأميرة بهذا الأمر من نفسها، وتستشير أهل العقل والبصيرة في اتخاذ الوسائل لإرجاع الدين إلى البيوت ليحفظ لها التاريخ بذلك ذكرًا خالدًا.

إصلاح الدولة العلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح الدولة العلية رأي يستحق النظر ضمنا في هذه الأيام سامر من سمار أهل الفضل ومحبي الإصلاح، فطفق القوم يتحدثون في شؤون المسلمين في مراكش والجزائر وتونس ومصر والدولة العلية وإيران والهند والأفغان وبلاد العرب، فكان من رأيهم أن المسلمين في كل قطر من أقطار الأرض متشابهون في أخلاقهم وأطوارهم وقابليتهم للإصلاح، وإن كل ما أصابهم من البلاء والشقاء فهو من أمرائهم وحكامهم؛ لأنهم يخضعون لرؤسائهم خضوعًا أعمى، وأنه متى صلحت حال حكومة إسلامية تصلح بذلك أحوال الأمة التي تحكمها لا محالة، وأن للبلاد العثمانية عامة ولبلاد مصر خاصة مزية لا تشاركها فيها بلاد إسلامية أخرى، وهي أن الإصلاح الحقيقي إذا وجد في أحدهما أو كليهما فإن أثره يتعدى إلى جميع الأمة الإسلامية، وبه يكون مجد الإسلام الحقيقي؛ وذلك لاتصالهما بالحرمين الشريفين وكونهما قلب البلاد الإسلامية، وتَفْضُل الحكومةُ العثمانية الحكومةَ المصرية بأن أكثر المسلمين في العالم يعتقدون أن رئيسها هو خليفة المسلمين وإمامهم الديني، وبأنها سيدة مصر وحاكمة الحرمين الشريفين وبأنها مستقلة استقلالاً يمكنها أن تفعل ما تشاء من الإصلاح بدون سيطرة الأجانب، ونتيجة هذا كله أن الإصلاح الإسلامي إذا التمس من حكومة؛ فإنه محصور في الدولة العلية؛ لأن حكومة مراكش في أقصى الأطراف، وحكومة الأفغان كذلك في طرف بعيد لا تأثير له إلا في موضعه، وحكومة إيران لا تلتئم مع سائر المسلمين لاختلاف المذهب، وبقية البلاد تحت سيطرة الأجانب. ثم أنشأوا يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، وهو الإصلاح وإمكانه وكيف يكون، قالوا: إنه ممكن، واختلفوا في كونه مرجوًّا ومأمولاً أم لا، فقال بعضهم إن الشعب التركي لا يحسن الاستعمار؛ ولذلك بقيت الشعوب التي استولى عليها حافظة لغاتها وتقاليدها وعاداتها حتى كانت كلما آنست من الدولة المتغلبة عليها غرة خرجت عليها وحاولت نبذ سلطتها، وما زالت تناوشها وتثور عليها إلى أن تمكن أكثرها من الاستقلال بعد ضعفها، ولولا أن العنصر العربي أكثره يدين بالإسلام فيرتبط معها برابطة الدين لاستقل دونها كما استقل غيره، وكَبُرَ جهلاً منها أن بقيت متعصبة لجنسيتها التركية؛ فإن المسلمين لا رابطة لهم ولا جامعة واحدة إلا في دينهم، فلو أنها ساوت بين التركي والعربي كما ساوى بينهما الدين، وعملت لإحياء بلادهم وعمارتها وجعلت لسانها الرسمي لسان القرآن لاستولت على جميع المسلمين، وكان لها منهم قوة لا تغالب. كيف يرجى الإصلاح الإسلامي من الترك وأهل الحل والعقد منهم لا يرون لأنفسهم صلاحًا إلا بتقليد الإفرنج في كل شيء، والنشء الجديد المتعلم أوربي النزعة في كل شيء حتى في جعل الدين آلة من آلات السياسة، فإذا أتيح لهم أن يحفظوا استقلالهم وتكون لهم حكومة منتظمة وأمة مرتقبة؛ فإنما يكون ذلك بحصر سلطتهم في البلاد التركية المحضة بأن يجعلوها كأمة من أمم أوربا في جميع شؤونها وأطوارها، وإذا هم سلكوا هذا المسلك وارتقوا هذا الارتقاء الجنسي على الطريقة الأوربية، فلا يمكن أن يكون لهم نفوذ وسلطان في سائر العالم الإسلامي، وهذا سبب من أسباب التنازع المستمر بين مولانا السلطان عبد الحميد وبين النشء التركي الجديد والحق فيه معه، وإن كان لهم وجه من طرف آخر، وهو طلب تقييد السلطة بالشورى والشرع والقانون، وإن لي صديقًا من غير هذه البلاد كان ولا يزال يقول إن الترك لا ينقرضون، ولا بد أن تكون لهم دولة منتظمة في بلاد الأناضول. وقال آخر: إن دولة الترك بقوتها العسكرية، وموقعها الجغرافي، وسلطتها الدينية لها تأثير كبير في إنعاش قوى المسلمين، سواء أحسنت الاستعمار وحكمت الديار أم لا، فسقوطها - والعياذ بالله تعالى - يُوقع المسلمين في يأس وقنوط، ولا يمكن أن يجتمع شملهم بعد ذلك إلا بدعوة إسلامية مؤيدة من الله تعالى كدعوة المهدي الذي ينتظرونه، وأنى لهم بذلك. ثم بعد اتفاق الآراء على أن صلاح الدولة خير للمسلمين على كل حال، خاض القوم في كيفية الإصلاح، فذكر بعضهم رأيًا ربما ينكره الكثيرون بادي الرأي ويحسبون أنه من الخواطر الخيالية التي تسنح للأذهان في بعض الأحيان، فيبادر اللسان إلى ذكرها إعجابًا بغرابتها، والصواب أنه رأي تمخضت به الحلوم لا الأحلام، وولدته الأفكار الصحيحة لا الخيالات والأوهام، وإنني أعرف من دون أصحاب سامرنا الذين وافقوا قائله عليه رجلين من أعلم الناس بالعلم الاجتماعي جزما بصحته جزمًا، وقالا بوجوبه حتمًا. ذلك الرأي هو تغيير عاصمة السلطنة، واستحسن صاحب الرأي أن تكون العاصمة مدينة بورصة، وقال إن تغيير البيئة (الوسط) يُسَهِّل على الدولة سبيل الخروج من كثير العادات الضارة والتقاليد التي أرهقتها من أمرها عسرًا، وقد اعترض بعض السمار على هذا الرأي فأجابه غير واحد بما أقنعه. أما القسطنطينية العظمى فيجب حينئذ أن تكون معسكر الدولة الأكبر، وينبوع قوتها الأغزر، حفظًا لموقعها الحربي، وأمنًا عليها من اختلاف العناصر وكثرة الأجانب، وأما ما في قصور السلاطين من الذخائر وآنية الذهب والفضة ونحو ذلك فيجب أن يباع منه كل ما لا يُعَدُّ من الآثار التاريخية التي في حفظها فائدة، وتستعين الدولة بذلك على الإصلاح الإداري والحربي؛ فإن الشرف الحقيقي خير لها من الشرف الوهمي. استحسن إخواننا السامرون أن نعرض هذا الرأي في المنار على الباحثين في الإصلاح، فعرضناه لتصقله الأفكار وتستنبط فوائده القرائح حتى إذا ما عنت الفرصة المناسبة لإنقاذه توجهت إليه النفوس، وطالبت به الناس عن بينة وبصيرة ولسنا نعني أن هذه الانتقال هو عين الإصلاح؛ وإنما نريد أنه مقدمة من مقدماته ربما ترتقي إلى أن تكون شرطًا يلزم من عدمه عدم الإصلاح، ولا يلزم من وجوده وجوده؛ وإنما يسهل سهولة كبرى تكاد تكون سببًا، وإننا نعرض على الأفكار ثلاث فوائد إجمالية، ونكل التفصيل فيها إلى أفكار الباحثين: (الفائدة الأولى) : البعد عن تأثير الأجانب وسيطرة السفراء وافتياتهم، وهذه الفائدة لا يعرفها حق المعرفة إلا الواقف على أحوال الآستانة وأحوال بلاد الأناضول، بحيث يفرق بين طبيعة البيئتين، فمن كان يهمه هذا الأمر فليبحث عنه حتى يصيب المطلوب منه، ولعل بعض الباحثين يقول بعد التأمل أن يجب أن تكون العاصمة أبعد عن البحر من بورصة، وأشد إيغالاً في البلاد الإسلامية. (الفائدة الثانية) : الاقتصاد في المال؛ فإن حال أهل الآستانة وتقاليد البيت السلطاني وتقاليد الحكومة تقتضي نفقات عظيمة تذهب بالجزء العظيم من بيت المال ولا سبيل إلى تخفيف ذلك إلا بالانتقال إلى عاصمة أخرى. (الفائدة الثالثة) : ترك التقاليد والعادات والرسوم الضارة والاقتصاد في الأعمال؛ فإن كثيرًا من هذه التقاليد حكمت به طبيعة البيئة ومجاراة الغربيين الذين يمازجون الأتراك أشد الممازجة في هذه المدنية الأوربية، ولا يمكن التفصي منها إلا بمغادرتها إلى بيئة لم يستحوذ عليها التنوق في الترف، والتغالي في تقاليد المدنية الأوربية، وحسبنا الآن هذا التنبيه والله الموفق.

الإسلام والمسلمون

الكاتب: إسحاق طيلر

_ الإسلام والمسلمون المقالة الثانية للقس إسحاق طيلر كتبها بعدما جاء مصر ليختبر حال المسلمين؛ إذ قيل له إنه مبالغ في مدح دينهم ونشرتها جريدة (سنت جمس غازت) الإنكليزية تحت العنوان المذكور بتاريخ 18 أفريل سنة 1888. إني ذهبت إلى مصر أحد أقطار الإسلام ومقصدي الوحيد أن أطلع في ذلك المكان على الأعمال المجموعة في القرآن من الآداب والأخلاق والتقوى والمعرفة، وأعلم بقدر الإمكان ما هي العقائد الحقيقية المتعلقة بالمسلمين ذوي التربية. ما لقيت مانعًا لمقصدي هذا؛ لأني لم أكن مجاهدًا لأربح تلامذة. أقول الحق: إن المسلمين تأثروا بما يتهمون به عنادًا، وإن أمرهم الظاهر قد شُبِّه على النصارى، فكيف نحكم نحن معشر النصارى عليهم بالكفر بعد أن نسمع قولهم لنا: {آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46) ؟ لماذا يسألوننا تسلطت على قلوبهم حزازة أبدية كهذه (كذا) . إني أقر وأعترف بأني تعجبت غاية التعجب لما رأيت المسلمين راضين بأن يتكلموا معنا عن موضوع عقائدهم، وحاضرين للاعتراف بذنوبهم، قال لي أحد علماء الإسلام الذي هو عالم بكتابنا وبالقرآن ككثيرين من أمثاله: (نحن لا نرى من المعصية البحث في الدين، بل هو محبوب عندنا؛ لأن الحق إنما يظهر به ويتبين الرشد من الغي) تعالوا نبحث في هذه المادة حتى تروا في أي شيء نوافقكم وفي أي شيء نخالفكم، عسى أن لا يكون إصلاح ذات البين أمرًا صعبًا، لا ريب أنه حدث عندنا ما كان يجب علينا تركه؛ لأنا زدنا أشياء كثيرة على ديننا الطاهر الموجود في كتابنا الإلهي، كذلك فعلتم أنتم من قبلنا حتى انقلبت الأمور عليكم من تهاونكم في حفظ الدين عن الشوائب، أكثر عقائدنا الاعتيادية وأعمالنا ليس لها سند من القرآن أكثر مما للنصارى في أناجيلهم من السند بالنسبة إلى سجودهم للتماثيل، وعبادتهم لمريم عليها السلام، إن رجعنا إلى خالص تعليم نبينا صلى الله عليه وسلم كما في كتاب الله، ورجعتم إلى خالص تعليم عيسى عليه السلام وحوارييه كما في الإنجيل الأصلي، فلا نجد ما يفرق بيننا وبينكم، مسيحيتكم السابقة ليست مردودة عندنا؛ ولكنا نعتقد أن تعليمات عصر عيسى عليه السلام والحواريين غشيتها الأباطيل منذ أيام قسطنطين الأول، ورفض تلك الأباطيل واجب، سيأتي زمان تترك فيه هذه المفاسد كلها، ويبقى على الأرض دين واحد خالص، كل إنسان يقدر على قبوله. إني قبل ذلك كنت قد رأيت القبط في عبادتهم لمريم واعتكافهم للتماثيل الذين يتعلم منهم المسلمون المصريون عقائدهم المخصوصة المتعلقة بالمسيحية؛ ولذلك ظننت أن صديقي كان مدركًا لقضيته وحسب. إن الإنكليزي المتمدن بالنسبة إلى المسلم العاقل مشابه للقبطي الجاهل. لا يدخل في العقل أن نترقب أن المسلمين سيتركون عقائدهم وصور عبادتهم التي تربوا فيها بمحض أمرنا وإرادتنا ويقبلون رسومات مرسلي النصارى الضيقة، الذين يجتهدون أن يردوهم عن دينهم إلى إحدى العقائد المتناقضة الموجودة بين الرومانيين أو البروتستانيين، المسلمون يسهل عليهم أن يقبلوا كتب العهد الجديد أو الأناجيل؛ لكن لهم الحق كالبروتستانيين في أن يفسروا أو يؤولوا تلك الكتب كما يشاؤون، وهم يرفضون رفضًا تامًّا كل صور العقائد المخترعة، كالبنود التسعة والثلاثين المتعلقة بالكنيسة الإنكليزية، واعتراف الكنيسة الوستمنسترية، أو القضايا المثلثة الأسنان وأمثال ذلك. كل مسلم يؤمن بالله الواحد القهار، النافذ أمره في السماء والأرض، وبرسالة عيسى عليه السلام الملقب عندهم بالمسيح ومعجزاته، ويؤمن بوجوب الصلاة، وببقاء النفس في الآخرة، إما في الرحمة وإما في العذاب، وبإلهامية الكتب المنزلة من قبل، أمة محمد صلى الله عليه وسلم متقية جدًّا، وبعض أدعيتهم وصور مناجاتهم حسنة للغاية؛ حتى إنه لا يمكن لأحد من المستحقرين أن يجد فيها كلمة واحدة يعترض عليها، وهي أقل صعوبة لكثيرين منا يوافقونهم فيها من بعض الأدعية الشفاهية البروتستانية لله، أو الصلوات الرومانية لمريم، خذ الفاتحة مثلاً لك، وهي دعاء يدعو بها المسلمون ربهم وقت الصلاة، أو اقرأ هذا الدعاء اللهم انصرنا وارحمنا واهدنا إلى الصراط المستقيم، إنا نؤمن بك ونتوب إليك ونستعينك ونتوكل عليك، ونقر بأنك أصل الخيرات كلها، إنا نشكر لك ولا نزال نرى آلاءك علينا، لك نسجد ولا نمشي مع الذين يخالفون إرادتك، اللهم إياك نعبد وأمامك نركع، وبين يديك نقدم صلواتنا وتسبيحاتنا، نسألك من رحمتك، ونخاف من غضبك الجدير به المسيئون [1] ، دعاء آخر يسمى عندهم دعاء داود النبي وهو هذا: (رب هب لي من محبتك، هب لي أن أحب الذين يحبونك، أوزعني أن أعمل صالحًا ترضاه، اجعل محبتك أحب إلي من نفسي وأهلي، وأعز من الغنى، وألذ من الماء البارد) لا يصعب أن يُؤلَّف من صحف أدعية المسلمين كتاب صلاة، إن لم يذكر مأخذها يكون مقبولاً في البلاد المسيحية. إن كل عقيدة من العقائد الإسلامية قد أخذ بها بعض الأحزاب المسيحية والمؤلفين المسيحيين، مثلاً المسلمون كلهم من دون مضايقة لا يقدرون أن يقبلوا توصيف الله الموجود لدى الكنيسة الوستمنسترية، واعتقاده بمسألة التقدير واقتدار الله تعالى كاعتقاد القسيس كالفين في ذلك، ورأيهم في المؤاخاة الإيمانية عين رأي الوسليين، وفي مسألة القداسة والكهنوت أو الإمامة هم يشابهون الهزهازيين ومستر بريت، وفي مسألة التثليث رأيهم كرأي الموحدين منا ومستر شمبرلين، وفي العشر والزكاة مذهبهم مذهب لورد سلبورن ومستر برست فوردهوب، وعقيدتهم في الوحي والإلهام عين عقيدة الحبر الشستري، وأفكارهم في عذاب الآخرة كأفكار دوكتر بوسي، وبالنسبة إلى داومه يميلون إلى عقيدة أرشديقوذ فراد وهم أسرع من بعضنا في قبول عقائد دوكتر كمينك في مجيء عيسى الثاني، أو في قبول عقيدة القسيس بودي في أعمال الملائكة في الأرض، لهم الوفاق التام مع أحسن الإلهيين الإنكليز في أن المقصود من الصلاة ليس أن نتبع إرادة الله لإرادتنا، بل إرادتنا لإرادته، إن مرسليهم ودعاتهم وهم أكثر شرفًا من جند النصرة بيننا كحزب الجنرال بوذيناون بتعليم واحد مخصوص، وهو الخلاص بالإيمان، ويصرفون في إيجاب عمل واحد وهو الامتناع عن السكر، ما من عقيدة من عقائد الإسلام إلا ونراها قد تمسك بها بعض الذين يسمون عندنا مسيحيين، وما يمكن أن نرى أحدًا من المسلمين قد تمسك بمفتريات أو أباطيل كثيفة كالموجودة بين فلاحي جنوبي إيطاليا. في المسائل المختلف فيها بيننا وبينهم يستدل المسلمون لها بالكتب المقدسة العبرانية في إثبات حقية عقائدهم وأعمالهم، مثلاً هم يثبتون إباحة تعدد الزوجات وأخذ الإماء الواردة في القرآن بما فعل داود وسليمان ويعقوب وإبراهيم والأنبياء العظام أولو الاحترام عليهم السلام، وإن لمتهم على الاسترقاق أجابوك كالأمريكانيين المستعبدين في أيامنا، أن ذلك غير منهي عنه حتى في الأناجيل؛ لأن فليمون كان مالك عبد أبق منه إلى القديس بولس وهو رده إلى مولاه، وكان يأمر العبيد أن يكونوا خاضعين لسادتهم؛ لكنهم مع كونهم مستمسكين بتعدد الزوجات وبنكاح الإماء والاسترقاق لأنها غير منهي عنها في القرآن والتوراة وكذا الإنجيل، فعدد كثير منهم يعتقدون بالجزم أنها غير مفيدة، أي لعدم تحقق شروط إباحة تعدد الزوجات الآن من العدل بينهن والتسوية إلخ. أما الحروب المقدسة الأولى التي حصل منها ظفر المسلمين، فهم يبرهنون عليها محتجين بما فعل بنو إسرائيل في فتح كنعان ويسألوننا: أما كان الخلفاء أرحم من يوشع بن نون عليه السلام أو من صموئيل النبي عليه السلام حين أمر بقتل أجاج والعمالقة، أو من إلياس النبي عليه السلام إذ قتل أربعمائة وخمسين كاهنًا لبعل، وإن اعترضت عليهم أن هذه الوقائع إنما هي مذكورة في تاريخ اليهود أجابوك بأن تاريخ النصارى لا يخلو أيضًا من الحروب الدينية، أو أن الدين المسيحي انتشر بالسيف، يصعب على الإنسان أن يجد في تاريخ الإسلام ما يساوي استئصال الجبليين على يد البوسطانيين أو تعميده الإجباري لسبعين ألف وثني في آسيا الصغرى، أو نأتي إلى زمان أقرب ونقول لا يمكن أن يلام الإسلام على تعديات فظيعة، مثل ما ارتكب أينوسنت الثالث على الألبيجيين، أو كقتال سنت برتالمو أو كمحاربات شارلمين الاستئصالية للسكسونيين، أو كإجلاء المغربيين والمورسقين من أسبانيا، أو كتعديات الأعصر الوسطى على اليهود، فلتقس قتل الصليبيين لعشرة آلاف من المسلمين حين سخَّروا تلك البلدة، أو قتل سبعين نفسًا من المسلمين حين فتح كودفري دي بوليون لأورشليم بالرحمة التي أظهرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين فتحها المسلمون أول مرة، أو حينما استردها صلاح الدين من الصليبيين ثاني مرة، ما أكبر الفرق! المسلمون يدَّعون - وأنا أفتكر أنهم على الحق - أن تواريخهم أقل تلويثًا بالدماء من تواريخ النصارى، وإن قلت إن الصليبيين قد مضى تاريخهم قالوا وكذا مضى تاريخ الهلاليين. لكن هذه المسائل التي فاتت فوت العمد من فكر القسيس مكوم مكول نتركها له أن يشتغل بها في مقالته الآتية التي سيكتبها في الإسلام والتمدن في جريدة كونتمبوري، أنى أقر بأني أحب كثيرًا أن أكون حاضرًا حين وقوع البحث بين ذلك المجادل الماهر وبعض خلاني المسلمين الذين لا يكونون أقل مهارة منه، ولا أدنى علماء الشرف المقسوم في ظني متوقف على فصل القاضي بين الخصمين. هناك تهمة أخرى وهي أن الإسلام غير متقدم؛ لكن هذا شيء يمكن القول به في حق كل الأديان الشرقية، وهي مسألة جنسية أو إقليمية لا دينية، الكنيسة القبطية أبطأ في تقدمها من الإسلامية، كتب صلواتهم وسبك عبادتهم وترتيب سعيهم هي عين ما كان في القرن الثالث من دون أدنى تغير، في ظني أن التقدم بين القبط هو أقل جدًّا مما حصل بين المسلمين، ومثل ذلك يقال في الهنود وأصحاب بدها وأتباع كونفوشيوس وغيرهم، لعل أهل الشرق مبرؤون من حرصنا؛ لكن القسيس ملكوم مكول لا يحسب هذا شيئًا وينسب الفرق إلى الدين، ويوضح الكل بفرضه أن كل تقدم للمسلمين خارج عن دائرة القرآن نوع من الكفر - أي على زعمه - سلَّمنا أن هذه عقيدة القسيس ملكوم مكول؛ لكنها ليست من عقائد المسلمين أنفسهم، هم يقرون علانية أنهم كسائر الشرقيين متأخرون في اكتساب العلوم الجديدة؛ لكنهم يفتخرون بتلك النهضة العلمية المتعلقة بأيام العرب المضيئة، والرغبة إلى التقدم والتربية عندهم من النوادر. إن شيخ مدرسة الأزهر الذي مقامه كمقام الويس شنسلر في مدارسنا الكلية سأل وزير المعارف في مصر حديثًا أن يهيئ وسيلة لتربية ألف ومائتين من تلامذة العلوم الإلهية في الفنون الدنيوية، سمعت من محمدي عالم كان مدرسًا في إحدى مدارس الحكومة أنه ذات يوم أعلن في بعض الجرائد الوطنية أن له النية أن يُعطي درسًا لبعض تلامذة مدرسة الأزهر، وفي أسبوع واحد جاء أكثر من ستمائة طالب يستأذنونه بالدخول في الصف. لعل التعليم الأنفع لهؤلاء التلامذة معرفة التواريخ؛ لكن الصعوبة في هذه هي عدم وجود كتب متينة صالحة تحكى عن الدينيين بروح الإنصاف والمحبة، سألت يومًا تلميذًا من تلامذة الأزهر هل قرأت كتب التو

القضاء في الإسلام ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القضاء في الإسلام الترغيب والترهيب قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به. ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) [1] ومَن أجدر بالنار ممن يقضي بغير الحق، فيضيع على الناس حقوقهم بجهله أو بهواه؟ والحق هو ما كان عليه الأمر في نفسه، فالمبطل من الخصمين من يخفيه، والمحق من يطلب إظهاره. وإصابته في الحكم هي العدل، فالحق والعدل لا يعرفان من كلام المصنفين والمؤلفين؛ وإنما كلام العلماء يبصر القاضي ويهديه إلى طريق الحق، وهو يصل إليه باجتهاده وتحريه وتوفيق الله تعالى، واستدلوا بالحديث على أن القاضي لا يكون إلا رجلاً. وعن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال قلت: يا رسول الله ألا تستعملني، قال فضرب بيده على منكبي ثم قال: (يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) [2] وفي حديث آخر أنه قال له: (يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا، وإني أحب إليك ما أحب لنفسي لا تَأَمَّرن على اثنين ولا تَوَليَنَّ على يتيم) [3] في الحديث دليل على أن الضعيف لا يُولَّى القضاء. والضعف على إطلاقه، فيشمل ضعف الرأي وضعف العزيمة والإرادة وضعف النفس بأن يكون ممن يغلب عليه الخجل والحياء من الصدع بالحق أو يكون سريع التأثر والانفعال قريب الانخداع، ومن الضعف أن يكون مهينًا عند الناس غير محترم ولا موقر لحال فيه تقتضي ذلك كالإفراط في الدعابة والإلمام بالخسائس والمحقرات. وقال صلى الله عليه وسلم: (من جُعِل قاضيًا بين الناس فقد ذُبح بغير سكين) [4] الحديث تمثيل لخطر المنصب وحرج الموقف؛ فإن القاضي إذا جار وظلم كان له الخزي وسوء الأحدوثة في الدنيا، وسخط الله وعقوبته في الآخرة، وإن عدل أسخط نصف المتقاضين كما قيل: إن نصف الناس أعداء لمن ... وُلِّي الأحكام هذا إن عدل هكذا حمل أكثر العلماء الحديث على التنفير من القضاء وبيان الخطر فيه، وقالوا: إن قوله (بغير سكين) تهويل للذبحة وبيان لشدتها؛ لأن أهون الذبح ما كان بسكين، فإن كان بمحدد آخر كالظرَّان كان أشبه بالخنق وسخروا من قاضٍ قال إن ذلك إشارة إلى الرفق وإراحة المذبوح، ولهذا الحديث وأمثاله كان أهل الدين والورع من السلف يتحامون القضاء ويفرون منه، فكان ذلك سببًا في جعل هذا المنصب العظيم في أهل الطمع والدهان للأمراء والسلاطين، وكانت هذه السنة من أقتل أمراض المسلمين، وأفتك أدوائهم في الدنيا والدين. وحمل أبو العباس أحمد بن القاص الحديث على جهاد النفس وترك الهوى، وقال: إنه لا يفيد كراهية القضاء وذمه، واستشهد لذلك بأحاديث ذكر فيها الذبح وأطال في بيان ذلك، وأيده بما ورد في تعظيم شأن الحكم بين الناس في الكتاب والسنة، وأنه وظيفة الأنبياء عليهم السلام وذكر من وَلِيَ القضاء من الصحابة عليهم الرضوان، ولا حاجة إلى هذا كله في تأويل الحديث؛ فإن الترهيب له أهل وقد علم قاضي الجنة من قاضي النار. وقال صلى الله عليه وسلم: (من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده) [5] وفي حديث الصحيحين الوارد في مطلق الإمارة لم يشترط الإكراه عليها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم (يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل عن الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها) وهذا الإطلاق هو الظاهر، وتؤيده الرواية الأخرى؛ لأن الذين يتهافتون على القضاء والإمارة هم الذين يبتغون بالمناصب المال والجاه، لا إقامة العدل وتعزيز الحق؛ ولذلك يطلبونها بالشفعاء، وقلما يسأل المستعد للشيء الطالب للحق شفيعًا يوصله إليه؛ لأنه يعتمد في الغالب على استعداده، إلا إذا كان في أمة وحكومة ضاع الحق بينهم، وحينئذ يفضل البعد والهرب من المناصب غالبًا. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله مع القاضي ما لم يَحِفْ عمدًا) [6] وقال صلى الله عليه وسلم (إن الله مع القاضي ما لم يَجُر، فإذا جار تبرأ الله منه ولزمه الشيطان) [7] ونكتفي بهذا القدر من أحاديث الترغيب والترهيب، فمقام القضاء مقام رفيع، وعلى قدر الارتفاع يكون خطر السقوط، وسيأتي بآدابه وأحكامه في الأجزاء التالية إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

خبر سلمان الفارسي وإسلامه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خبر سلمان الفارسي وإسلامه رضي الله عنه [*] روى ابن أبي شيبة في مسنده عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: (كنت من أبناء أساورة فارس، وكنت في كُتَّاب ومعي غلامان، وكانا إذا رجعا من عند معلمهما أتيا قسيسًا فدخلا عليه فدخلت معهما، فقال ألم أنهكما أن تأتياني بأحد، فجعلت أختلف إليه حتى كنت أحب إليه منهما، فقال لي إذا سألك أهلك عن حبسك فقل معلمي، وإذا سألك معلمك فقل أهلي، ثم إنه أراد أن يتحول فقلت له أنا أتحول معك فتحولت معه، فنزلت بقرية فكانت امرأة تأتيه، فلما حُضِر [1] قال يا سلمان احضر عند رأسي، فحضرت عند رأسه فاستخرجت جرة من دراهم، فقال صبها على صدري، فصببتها على صدره فكان يقول: ويل لاقتنائي، ثم إنه مات فقلت للرهبان من لي برجل عالم أتبعه؟ فَدَلُّوني على رجل فأتيته، فقلت ما جاء بي إلا طلب العلم، قال فإني والله ما أعلم اليوم رجلاً أعلم من رجل خرج بأرض تيماء وإن تنطلق الآن توافقه وفيه ثلاث آيات: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وعند غضروف كتفه اليمنى خاتم النبوة مثل بيضة الحمامة لونها لون جلده، فانطلقت حتى مررت بقوم من الأعراب فاستعبدوني فباعوني حتى اشترتني امرأة من المدينة فسمعتهم يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت لها هبي لي يومًا، قالت نعم فانطلقت فاحتطبت حطبًا فبعته وصنعت طعامًا، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم وكان يسيرًا، فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا، قلت صدقة، فقال لأصحابه (كلوا) ولم يأكل قلت هذا من علامته، ثم مكثت ما شاء الله أن أمكث، ثم قلت لمولاتي هبي لي يومًا قالت نعم فانطلقت فاحتطبت حطبًا فبعته بأكثر من ذلك، وصنعت طعامًا فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بين أصحابه فوضعته بين يديه فقال ما هذا؟ قلت: هدية، فوضع يده فقال لأصحابه (خذوا بسم الله) وقمت خلفه فوضع رداءه فإذا خاتم النبوة، فقلت أشهد أنك رسول الله قال: (وما ذاك) فحدثته عن الرجل، ثم قلت: أيدخل الجنة يا رسول الله فإنه حدثني أنك نبي قال: (لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة) . وفي كتاب محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار المنسوب للشيخ محيي الدين بن عربي بعد ذكر الأسانيد ما نصه: (عن ابن عباس قال: حدثني سلمان قال كنت رجلاً فارسيًّا من أهل أصبهان من قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان في قريته، وكنت من أحب الخلق إليه، فما زال حبه إياي حتى حبسني في بيت كما تحبس الجارية، وكنت قد اجتهدت مع المجوسة حتى كنت قَطِنَ النار أوقدها لا أتركها تخبو ساعة اجتهادًا في ديني، وكان لأبي ضيعة في عمله، وكان يعالج بيتًا له في داره، فدعاني فقال: أي بني إنه قد شغلني بنياني كما ترى، فانطلق إلى ضيعتي هذه ولا تحتبس علي؛ فإنك إن احتبست علي كنت أهم إليّ من ضيعتي ومن كل شيء، وشغلتني عن كل شيء من أمري، قال فخرجت أريد الضيعة التي بعثني إليها، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما سمعت أصواتهم دخلت عليهم أنظر ماذا يفعلون، فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم ورغبت في أمرهم، فقلت والله هذا خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما برحتهم حتى غابت الشمس، وتركت ضيعة أبي فلم آتها ثم قلت لهم: أين أصل هذا الدين فقالوا بالشام. قال: ثم رجعت إلى أبي وقد بعث في طلبي فشغلته عن عمله كله، فلما جئته قال يا بني أين كنت ألم أكن عهدت إليك ما عهدت؟ قال قلت: يا أبي مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال أبي: أي بني ليس في ذلك الدين خير، بل دينك ودين آبائك خير، قلت: كلا والله إنه لخير من ديننا، قال فخافني وجعل في رجلي قيدًا ثم حبسني في بيتي. قال: وبعثت إلى النصارى، فقلت إن قدم عليكم ركب من الشام فأخبروني، فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني قلت إذا قضوا حوائجهم وأرادوا الرجعة إلى بلادهم أعلموني بهم، قال فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام، قلت من أفضل هذا الدين علمًا؟ قالوا الأسقف في الكنيسة، فجئته فأعلمته أني قد رغبت في هذا الدين وأكون معك أخدمك في كنيستك وأتعلم منك وأصلي معك، قال فافعل وادخل، فدخلت معه، فكان رجل سوء يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا له شيئًا كنزه لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئًا فما لبث أن مات فعرَّفت النصارى بأمره، قالوا وما علمك بذلك، قلت أنا أدلكم على كنزه، فأريتهم موضعه فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهبًا وفضة ووَرِقًا، فلما رأوها قالوا والله لا ندفنه وصلبوه، ثم رموه بالحجارة. ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلاً في ملته أفضل منه، وأزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهارًا، قال فأحببته حبًّا لم أحب شيئًا كان مثله، فأقمت معه زمانًا، ثم حضرته الوفاة، قلت له: يا فلان إني كنت معك وأحببتك حبًّا لم أحب شيئًا كان قبلك مثله، وقد حضرك ما ترى من أمر الله تعالى فإلى من تأمرني ألحق به، قال يا بني والله ما أعلم أحدًا اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدَّلوا كثيرًا ما كانوا عليه، إلا رجلاً بالموصل وهو فلان، وهو على ما كنت عليه فالحق به، فلما غُيب لحقت بصاحب الموصل فقلت يا فلان إن فلانًا أوصاني عند موته أن ألحق بك، وأخبرني أنك على أمره، فقال أقم عندي فأقمت عنده، فوجدته خير رجل على أمر صاحبه، فلم يلبث أن مات فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إن فلانًا أوصاني إليك وأمرني باللحوق بك، وقد حضرك من أمر الله ما ترى فإلى من توصيني؟ قال: والله إني ما أعلم رجلاً على ما كنت عليه إلا رجلاً بنصيبين، وهو فلان فالحق به، فلما مات وغُيب لحقت بصاحب نصيبين، فجئته وأخبرته خبري وما أمرني به صحابي، فقال أقم عندي فوجدته على أمر صاحبه، فأقمت معه فكان خير رجل فوالله ما لبث أن نزل به الموت، فلما حضرته الوفاة قلت يا فلان إن فلانًا أوصاني إلى فلان وأوصاني فلان إليك فإلى من توصيني وما تأمرني، قال أي بني ما أجد أحدًا بقي على أمرنا آمرك أن تأتيه إلا رجلاً بعمورية من أرض الروم، فإنه على مثل أمرنا، فإن أحببت فائته فلما مات وغُيب لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال أقم عندي فأقمت عنده فوجدته خير رجل على هدى أصحابه وأمرهم. قال: ثم اكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، ثم نزل به أمر الله تعالى فلما حضرته الوفاة قلت له يا فلان إني كنت مع فلان فأوصاني إلى فلان ثم أوصاني فلان إلى فلان ثم أوصاني فلان إليك فإلى من توصيني وتأمرني، قال أي بني والله ما أعلم على ما كنا عليه أحدًا من الناس آمرك أن تأتيه؛ ولكن قد أظلك زمان نبي هو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجرًا إلى أرض بين الحرتين بها نخل، به علامات لا تخفى: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل. ثم مات وغيب ومكثت بعمورية ما شاء الله أن أمكث، ثم مر بي من كلب تجار فقلت أتحملوني إلى أرض العرب وأعطيكم بقري هذا وغنيمتي هذه، فأعطيتهم إياها وحملوني معهم، حتى إذا قدموا بي وادي القرى ظلموني وباعوني من رجل يهودي، فكنت عنده ورأيت النخل، فرجوت أن يكون البلد الذي وصفه لي صاحبي، فبينما أنا كذلك إذ قدم ابن عم له من المدينة من بني قريظة فابتاعني منه وحملني إلى المدينة فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفة صاحبي، فأقمت بها وبُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بمكة ما أقام لا أسمع له بذكر على ما أنا عليه من شغل الرق، ثم هاجر إلى المدينة فبالله إني لفي رأس عذق لسيدي أعمل فيها بعض عمله، وسيدي جالس تحتي إذ أقبل ابن عم له فوقف عليه فقال يا فلان قاتل الله بني قيلة والله إنهم الآن مجتمعون بقبا على رجل قدم عليهم من مكة اليوم يزعم أنه نبي، قال فلما سمعتها أخذتني العرواء حتى ظننت أني ساقط على سيدي فنزلت عن النخلة، وجعلت أقول لابن عم سيدي ما تقول فغضب سيدي فلطمني لطمة شديدة، ثم قال لي ما لك ولهذا أقبل على عملك، قلت لأي شيء أردت تستبين عما قال، وكان عندي شيء قد جمعته، فلما أمسيت أخذته، ثم ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء فدخلت المسجد عليه فقلت له بلغني أنك رجل صالح معك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم، ثم قربته إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلوا) وأمسك يده ولم يأكل، فقلت في نفسي هذه واحدة. ثم انصرفت عنه فجمعت شيئًا لما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فجئته فقلت له إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه فأكلوا معه، فقلت في نفسي هاتان ثنتان. ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببقيع الغرقد تبع جنازة رجل من أصحابه عليه شملتان، فسلمت عليه ثم استدبرته أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم استدبرته عرف أني أستثبت في شيء وُصف لي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته فأكببت عليه أقبله وأبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول فجلست بين يديه، فقصصت حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمع أصحابه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كاتب يا سلمان) فكاتبت صاحبي على ثلاثمائة نخلة أجبيها بالفقر، وبأربعين أوقية من ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعينوا أخاكم) فأعانوني بالنخل الرجل بثلاثين، والرجل بخمسة عشر، والرجل بقدر ما عنده حتى جمعوا ثلاثمائة ودية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اذهب ففقرها، فإذا فرغت أكون أنا أضعها بيدي) قال ففقرت لها، فأعانني أصحابه حتى إذا فرغت جئته فأخبرته، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم معي إليها فجعلنا نقرب له الودي، ويضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة حتى فرغنا، فوالذي نفس سلمان بيده ما مات منها ودية واحدة، فأديت النخل وبقي علي المال، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة الدجاجة من ذهب فقال: ما فعل الفارسي المكاتب؟ فدعيت له فقال: (خذ هذه فأدها بما عليك يا سلمان) قلت ما تقع هذه يا رسول الله مما علي؟ قال: (خذها فإن الله سيؤدي بها عنك) فأخذتها فوزنت لهم منها والذي نفسي بيده أربعين أوقية فأوفيتهم حقهم وعتق سلمان، فشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق وأحدًا ثم لم يفتني اهـ. (تفسير الغريب) قوله: قَطِن النار قال شمر أي خادمها وخازنها، قال ابن الأثير أراد أنه كان ملازمًا لها، ويروى بفتح الطاء جمع قاطن، فَقَر الأرض وفقّرها: حفرها، والفقير: حفير يحفر حول الفسيلة إذا غرست، وفقير النخلة: حفيرة تحفر للفسيلة إذا حولت لتغرس فيها، وفي الحديث قال لسلمان (اذهب ففقر الفسيل) أي احفر لها موضعًا تغرس فيه الودية فسيلة النخل جمعها ودي اهـ. لسان العرب والعُرَواء رعدة تأخذ الإنسان عند الحمى والفزع ونحو ذلك. (المنار) أوردنا هذه الرواية بطولها إجابة لرغبة بعض الفضلاء؛ ولأنها ممثلة للانحراف عن الدين كيف يكون في الأمم حتى يبقى المستمسكون بالحق معدودين يعرف بعضهم بعضًا على تنائي الدار، ولا يعرفهم سائر الناس بخصوصيتهم، وفي هذا عبرة للذين

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ تعليم السباحة وتربية العضلات [*] (المكتوب 37) من هيلانة إلى أراسم في 14 يوليه سنة 185 لقد زها (أميل) بالمكتوب الذي أرسلته إليه، وأعجب به إعجابًا كثيرًا، وكان فيما رأيته شديد الحنق من عجزه عن قراءته بنفسه، وهو على انتظاره بلوغ أهلية الترسل قد طلب إليَّ أن أكتب إليك بما لقفناه من أخبار حادثة الغرق بعد الذي أخبرناك به، فأقول: قد ابتلي ملاحو السفينة بضروب المحن وأنواع الشدائد، ثم اخترمتهم المنية فلم يبق منهم إلا واحد أنشأ يستجم ويستجمع ما تبدد من قواه، وتيسر التفاهم معه بواسطة ربان إسبانيولي يعرف لغته ومما أستفيد من أقواله أن السفينة الغريقة المسماة (أياكوكو) كانت لرجل من الملاحين في بلاد البيرو [1] شحنها بضاعة، وقصد بها إنكلترا فما هو إلا أن أحاط بها ريح عاصف من أشد ما يمكن تخيله من العواصف فأغرقها، ومما يوجب الأسف أن غرق ذلك الرجل أصبح مما لا سبيل للريب فيه، وقد كان استصحب بنته وهي في الخامسة من عمرها لأسباب لا تزال طي الخفاء، وكان من في السفينة يدعونها (لولا) وهو اسم مختزل فيما أظن من دولوريس. عهدت إلى بعض الناس هنا بمراسلة أهل الفتاة في بلدهم، ولمَّا يجبه أحد منهم، ويقول الملاحون: إنها فقدت والدتها من بضع سنين، وليس لها أخ ولا أخت ولم يبق من ذوي قرباها إلا أباعدهم، ويؤخذ من كلامهم أن صاحب السفينة كان من المثرين؛ ولكن ما أدرانا أن ثروته لم تكن قصورًا في أسبانيا [2] ؛ لأن البيرو هي أسبانيا وراء البحار. أثار في نفسي سوء حظ هذه الفتاة عواطف الرحمة والحنان، فأمسكتها حتى يأتيني فيها أمرك، وأنا على يقين من أن عملي هذا لا يقع منك إلا موقع الرضا، نعم إني قد لاحظت في أحوالها، وهيأت أفعالها شيئًا من الجفاء والوحشة؛ ولكنني أرى على هذا الجفاء الصبياني مسحة من الحسن والطلاوة، كما أن وجهها تبدو عليه مخايل الجمال والنضرة، وهي الآن تعلِّم أميل ما تعرفه من الإسبانيولية على قلته، وهو أيضًا يعلمها الفرنساوية والإنكليزية، ولا غرو فإن الأطفال يتفاهمون بالنزر من الكلم أسرع ما يكون اهـ. (المكتوب 38) من هيلانة إلى أراسم في 17 يوليو سنة 185 إني مع اشتغالي بتربية عقل أميل أرى أن أخص ما يجب الاشتغال به في سنه هذا أن تُعد فيه لاحتمال متاعب الحياة أعضاء سليمة قوية، من أجل ذلك تجدني أحثه على ممارسة الرياضات البدنية، والإكثار من قبض عضلاته وبسطها اختيارًا، واقتحام العقبات التي لا يخرج عن وسعه اقتحامها، نعم إن لي رجاء قويًّا في أن لا يصير من المصارعين، ولا أحب أن أرى فيه مثالاً صغيرًا لذلك المصارع الشهير المدعو ميلون دوكرتون وإن أوتيت من أجله أنفس شيء في الدنيا ولكني أرى أن كل ضعف يلحق الإنسان بدنيًّا كان أو عقليًّا يصير سببًا من أسباب استعباده. قد بدت على قوبيدون منذ حين سمات الكدر لكون أميل لا يزال جاهلاً بالسباحة، ولما كان يفضي إلي بأسفه من ذلك كنت أعترض عليه بأنه لا يزال من حداثة السن بحيث لا يستطيع أن يمسك نفسه على الماء، وهو اعتراض لم يكن له قيمة؛ لأنه إذا كان ما يعتري الإنسان من الخوف عند وجوده في مكان مجهول له هو أكبر العوائق التي تعطل جري حركاته في هذا المكان، فلا يكون تقدمه في السن إلا من أسباب ازدياد هذا الخوف وقوته، والذي يُستفاد من كلام الزنجي البار أنه كان يسبح من عهد ولادته، وهو يقصد بذلك ولا شك أنه لا يذكر تعلمه السباحة كما أنه لا يذكر تعلمه المشي على الأرض؛ لأن هذين النوعين من الرياضة هما في نظره من الأمور الفطرية، انتفت عني شكوكي ومخاوفي بتأكيده أن لا خطر على أميل من تعلمه ذلك الفن، وقد رأيت أن من مزاياه تعلمه إنماء العضلات وتقويتها، وكأنه يوسع مجال حرية الإنسان في حركته ومرحه في برزخ يصل بين عنصري التراب والماء، وهو فوق ذلك وسيلة من وسائل النجاة، ومن هذه الجهة يكون تعلمه فرضًا علينا لأنفسنا ونظرائنا، على أنني كنت أعرف في قوبيدون أنه وإن كان يغلب عليه التهور في تعريض نفسه للخطر، يحرص كل الحرص على حياة أميل فلا يعرضها لما يخشى منه، ولو سيقت له في ذلك الدنيا بحذافيرها. يوجد على مقربة منا شبه بحيرة صغيرة ناشئة من اجتماع غدير يصرفه عن الانصباب في البحر ما يعترضه من الشعاب والكثبان، فرآها قوبيدون موافقة لتعليم أميل مبادئ السباحة، فأنشأ يعلمه فيها غير متخذ له منطقة من الفلين، ولا مثانة مملوءة بالهواء، ولا غيرهما من الآلات الأخرى التي تستعمل أحيانًا، إن لم أكن واهمة لمساعدة قوى المبتدئين في السباحة، ولما كان يقال له في ذلك كان يجيب بلسانه الساذج قائلاً يجب أن يكون الطفل فلينة نفسه، وأرى أن طريقته في التعليم سهلة جدًّا على حسب ما تيسر لي من الحكم عليها، فأهم شيء بنيت عليه هو بث روح الثقة في نفس المتعلم، وقد أكد لي من رآه في وقت التعليم أنه من أجل أن يكون قدوة في ذلك لتلميذه، كان يستلقي على ظهره في الماء ناظرًا إلى السماء، سادًّا فاه، متنفسًا بأنفه، وقد برز جزؤه من الماء، فكان لسان حاله وهو في هذا الوضع يقول لناظريه ها أنتم أولاء ترون أن الإنسان لا يصح أن يغرق، وأنه إذا غرق بعض الناس؛ فإنما يغرقون مختارين. لم يلبث هذا الأستاذ أن أبدى كثيرًا من التيه والفخر بتقدم تلميذه، غير أنه كان يرمي في سبيل نجاحه إلى غاية أبهر من ذلك وأظهر، فكنت أسمعه يهمهم متهكمًا بالسباحة في البحيرة قائلاً: ما أحسنها من سباحة في مغتسل، دعيني من البحيرات وحدثيني عن البحر تجدي أذنًا صاغية، فهو الذي يمسك من يسبح فيه ويسنده ويزيد في قواه؛ ولكني كنت أعارضه وأنهاه عن الذهاب بأميل إليه، وعن تجربة سباحته فيه لما كان يخامر قلبي من الروع والفزع المنبعث عن المبالغة في توهم ما عسى أن يكون في ذلك من الأخطار؛ لأني أُكبر هذا الخلق العظيم وأُجله إجلالاً مشوبًا بالورع؛ فإنه كثيرًا ما اغتال أناسًا في نواحينا، ولا بد أن أقول إن أميل أيضًا كان يشاركني في هذا الروع بعض المشاركة؛ لأن البحر خلق حي مضطرب يرتفع ويجذب السابح فيه إليه مصطخبًا، وفي كل صفيحة من صفائح أمواجه شخص، بل عدو لذلك السابح عامل على إهلاكه، وفي دوام روحات هذه الأمواج وجيآتها ما يمثل للإنسان اضطراب بحر الأزل بعوالم المخلوقات، ويقوم له منه أكبر موعظة وذكرى تنبهه إلى ضعفه وعجزه. لم يطل عهد نفور (أميل) من البحر وخوفه منه، وها أنذا مبينة لك السبب الذي قمع ذلك النفور، وشرد هذا الخوف فأقول: إنه يفهم من سجنك معنى مبهمًا، ولم أرد أن أكشف له حقيقة هذا الأمر الذي يهيج الكلام فيه ساكن آلامي، ويثير كامن أشجاني لسببين، أولهما أنه يصعب عليه فهم مرادي من الكلام (فماذا عسى أن يفهمه من قولي له إن والدك سجن بسبب سياسي) وثانيهما أن سوء إدراكه للحوادث التي حصلت قد يبعث في نفسه نقص فرنسا وعدواتها لذلك تراه قد جره إمساكي عن الخوض في هذه المسألة إلى أن يخترع لها حكاية يعللها بها، فهو يتوهم أنك أسير في قبضة جنية أو غول أو تنين وأنك رهين قلعة يحصنها البحر، وربما كان الباعث له على هذا وجوده يومًا ما فوق صخرة وغشيان المد إياه، وإحاطة الأمواج به إحاطة ذلك الكلب الخرافي ذي الرؤوس الثلاثة المقول في أساطير الأولين بأنه حارس جهنم، ومهما كان الحامل على ذلك الاعتقاد؛ فإنه قد وطَّن نفسه على أن يحمل حملته الأولى لتخليصك مصاحبًا لعزم كعزم أشراف المائدة المدورة [3] أو كعزم شاب باسل قتَّال للوحوش، غلاب للأغوال على أني لا يسعني إلا اتهام الزنجي الخبيث بأنه زين له أوهامه، وحبب إليه خداع نفسه ليحمله على مشايعته في آرائه، وموافقته لأفكاره. دخل علي البيت كلاهما ذات يوم ووجه قوبيدون تعلوه قترة الريبة، وقد غلب على أميل ما يغلب على كل ظافر بطلبته من الفرح، فلم ألبث أن فطنت إلى المكان الذي جاءا منه، وهاج غضبي عليهما إلى حد أن صار وجهي أحمر كالجمر وعنفتهما على مخالفتهما لأمري فلم يتزعزع أميل لهذا الهياج، بل إنه تلقاه بثبات الشجعان، وأجابني وقد بدا على وجهه من الإصرار ما لم أعهده فيه من قبل، فقال إني أريد أن أتعلم السباحة لأفكّ والدي من أسره وآتيك به، فما سمعت منه هذه الكلمات وشاهدت لحظه المعرب عن حرية ضميره وخلوص طويته، ورأيت ثقته بنفسه المنبعثة عن سذاجته، وعلمت مقاصده النبيلة حتى سكنت ثائرتي، وكفت بادرتي، فبششت في وجهه بعد العبوس وتبسمت له وضممته إلى صدري وأشبعته تقبيلاً في جبينه الذي كان لا يزال مندى بماء البحر اهـ. (م 39) من هيلانة إلى أراسم في 18 يوليه سنة 185 إذا صح ما نشرته الجرائد الإنكليزية، وما ذاع من الإشاعات في الهواء لم تبق حاجة لأميل في أن يتسلح تسلح الأشراف، ولا أن يطوي البحار ليخلصك من قبضة التنين الذي يعتقد أنك في أسره؛ لأن الناس هنا يتكلمون بحصول عفو سياسي، وإني كنت أتمنى أن يحصل لك من الحكومة فوق هذا العفو عمل يكون جزاء ما لحقك من الضرر، وتحقيقًا لمقتضى الإنصاف؛ ولكني لم أطلب لك شيئًا من ذلك فلا تعجل بالرفض، واعلم أن قلبي يرقص طربًا كلما فكرت في وقت التلاقي اهـ. (م 40) من الدكتور وارنجتون إلى هيلانة.. . أيتها السيدة علمت الليلة في لوندرة خبرًا أبادر بإبلاغك إياه، ذلك أن زوجك قد مُنح نعمة الحرية، وفي الختام لك مني السلام والاحترام اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

سوانح وبوارح

الكاتب: محيي الدين البيروتي

_ سوانح وبوارح من نظم الشاعر العصري الأديب الأستاذ الشيخ محيي الدين الخياط البيروتي ذكرت بالفضاء ربعًا ودارا ... فهي تأبى دون الفضاء ديارا ذكرت ظعنها فهاجت وهامت ... فهي تأبى التهويم إلا غرارا خلها للظعين تفري الفيافي ... تقترى أثره وتبري القفارا هزها الشوق والغرام حداها ... فهي تأبى دون القرار قرارا نزعت تضمر الرهان بقفر ... هي فيه لن تبلغ المضمارا ملعب دونه الصوافن حسرى ... مثلما دونه القلوب حسارى أيها الصافن الجريُّ رويدًا ... صافنات الأفكار ليست تجارى تبتغي قبة الأثير مجالاً ... لخطاها فاحذر عليها العثارا يرجع الطرف خاسئًا عن مداها ... حيث لا يدرك المجلّي الغبارا هي ترجو كشف السرار ولكن ... أين منها أن تدرك الأسرارا موقف عنده الأنام حيارى ... وسكارى وما هم بسكارى موقف كم به خواطر شتى ... خطرت وهي ترقب الأخطارا ولجت في محيط لج فخاضت ... في دجاه الخُضارم الزخارا ركبت صهوة الفضاء فزلت ... ثم راحت تستصرخ الآثارا فلكًا دائرًا وشمسًا وبدرًا ... ونجومًا منازلاً أدوارا روضة من بنفسج عقد الأفـ ... ـق عليها من زهره أزهارا خيمة من زمرد أو غدير ... سندسي يموج بالشهب نارا يا لنهر على المجرة يسقى ... نرجس الأفق من سناه جمارا سرطان يعوم فيه وحوت ... وترى النسر حام يبغي وجارا ويصب الميزان بالشط منه ... ما عهدنا كنهره أنهارا والثريا كطائر من نضار ... أو كجام بمحفل الأفق دارا وسهيل ظمآن يبغي ورودًا ... أو مشوق يستطلع الأخبارا زُهرة الزُّهر بين ريا الخزامى ... ذكرتنا زهر الربى والعرارا وكأن الجوزاء شجرة تبر ... حولها الفرقدان طيران طارا وكأن السماك في رمح نار ... ثار يبغي من الدجنة ثارا وذُكاء سبيكة من لجين ... في زجاج تذوِّب الأنوارا وهلال كمخلب من عقاب ... منجل الأفق يحصد الأعمارا وبنات السماء تحمل نعشًا ... مستديرًا فوق الرؤوس استدارا رب ورقاء فوق خوطة بان ... جددت لي بسجعها تذكارا ذكرت إلفها فحنت وأنت ... وتغنت تهيج الأطيارا أعربت لحنها فكادت بشجو ... وشجون تستنطق الأشجارا بلسان الزمان تطلب مني ... شرح حالي وحالتيه جهارا قلت: ذاتَ الهديل هيهات عني ... أن تميطي أو تهتكي الأستارا حالتي لو عقلتِ يا ذاتَ طوق ... لاختصرت المقال فيها اختصارا أو تفكرت في المنى والمنايا ... لنسيت الآمال والأفكارا أبنات الغدير غادرت طرفي ... ذا شؤون ولم يكن غدارا ردِّدي النوح يا حمام فقلبي ... بين نوح الحمام والوجد طارا حدثي النفس فالحديث شجون ... عل منك الحديث يشفي الأُوارا عل منك الهديل يرجع قلبًا ... قُلبًا بالغرام طار فحارا ليس بدعًا أن حار فالكون هادٍ ... مرشد والأنام فيه حيارى أمم حالها عجيب ودنيا ... هي منهم والله أعجب دارا في فيافي الوجود تاهوا قديمًا ... وهم الآن يقطعون القفارا يعجب الدارس الحقائق عنهم ... وهو يتلو من خلقهم أطوارا لو يأوبون للضمير جميعًا ... لرأينا الملائك الأبرارا غرّمنا الأغرار عصر حديث ... سل بالأحداث الظبي والغرارا ملك اللب حيَّر الأفكارا ... أدهش السمع أذهل الأبصارا لقَّبوا علمه بعلم الترقي ... صح هذا لو لم ندنسه عارا شوَّه الله وجه علم علينا ... شوَّه الدين شوش الأفكارا ليت شعري ماذا جنينا منه العلـ ... ـم وماذا جنى بنوه ثمارا هل جنينا غير التفنن بالأز ... ياء والبذخ والفجور اختيارا أم جنينا منه التفنن بالمكسـ ... ـيم والرشاش الذي لا يبارى بل فقدنا الأخلاق والدين فيه ... وعدمنا عفافنا والوقارا ولبسنا ثوب الغواني دَرِيسا ... وخلعنا عذارنا للعذارى [1] أن تُقِر الحرية اليوم هذا ... فابك يا رق واندب الأحرارا أبهتك الستار سُدنا البرايا ... أم بذات الخمار شِدنا الفخارا أنماري حكم النواميس جهرًا ... ونواري الحقائق استكبارا ونساوي من لا يساويه شيء ... أو يساوي الأضداد والأغيارا أو يعيد الأوضاع وضعًا جديدًا ... أو يخطِّي الوجود والأقدارا نعرف الداء والدواء ولكن ... لم تراع الأزمان والأدوارا لم نراع الأخلاق والأطوارا ... لم نراع الأجسام والأفكارا نعرف الداء والدواء وننسى ... أن داء الأساة زاد انتشارا نعرف الداء والدواء وننسى ... أن جرح الأساة أمسى جُبارا [2] نعرف الداء والدواء ونبغي ... أخذه صُبْرة وننسى البوارا [3] أيُنَاجى من شأنه أن يناغى ... أم يُمارى من شأنه أن يُجارى أيها العصر أي علمك أجدى ... دعة راحة ذمامًا ذمارا أنت عصر العلوم لكن عليه ... قذف الجو ريحه إعصارا لا تُذَم العلوم منك ولكن ... سنذم الآثام والأوزارا أيها المنكر المكابر عفوًا ... كبرت يُوح بالضحى توارى [4] إن أردت الدليل دون انحياز ... أبلجا ناصعًا يضاهي النهارا هذه الناس والشعوب جميعًا ... لك كالدرس فاختبرها اختبارا وانتخب أعرق الجميع علومًا ... ونفوذًا وسطوة واقتدارا ثم قابل أعماله والترقي ... بعلوم الأخلاق تلق اعتبارا غمض حق ونقض عهد وجورًا ... وفجورًا وأُثرة وختارا لا يرى غيره من الناس إلا ... مثلما يرى الهَصُورَ الفُرارا [5] كل حكم له شذوذ وخرق الـ ... ـحكم في الخلق سنة لا تبارى وبحكم المجموع حكم البرايا ... وعليه لا تنكر الأخيارا حكمت سنة البقاء قديمًا ... أن تجاري الشعوب من كان جارا وتضحِّى على هياكل ضعف ... هكذا الضعف يقصف الأعمارا لا تُرَع أيها اليراع فعهدي ... أن تروع المهند البتارا إن فوق الطروس منك صريرًا ... يستبيل الغضنفر الزارا [6] وإذا ما جرى خميسك بالخمـ ... ـس يقل العرمرم الجرارا زعموا الدين والترقي محالاً ... زعموا باطلاً وقالوا كُبَّارا إن أسفار كل دين دليل ... إن أرادوا فلينظروا الأسفارا إن آثار ديننا هي فيهم ... إن أرادوا فلينظروا الآثارا وليُحَيُّوا وسطى القرون وما قـ ... ـبل فقد يحمد السراة السرارا دار مصر والقيروان وغرنا ... ط وفاس وبصرة عمت دارا وسمرقند من دمشق وبغدا ... د عليك الديار تبكي الديارا لعب ذكرنا القديم وهزؤ ... إنما ذكره يعد اعتبارا ليس يجدي المجد القديم ولكن ... يتأسى من ينشد الأشعارا

الأخبار التاريخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية (جمعية الكُتَّاب المصرية) تألفت جمعية من أرباب الأقلام المقيمين في مصر سُميت جمعية الكتاب المصرية، الغرض منها ترقية الكتابة والأدب ورفعة شأن الكتاب، وقد انتخبت في إحدى اجتماعاتها لجنة لإدارة شؤونها رئيسها العالم الفاضل سليمان أفندي البستاني، ونائب الرئيس صاحب هذه المجلة (المنار) وكاتب السر إسكندر أفندي شلهوب صاحب جريدة الرأي العام الغراء، وأمين الصندوق إبراهيم بك رمزي صاحب جريدة التمدن الغراء، وباقي أعضاء اللجنة هم محمد أفندي مسعود، وأحمد حافظ أفندي عوض من محرري جريدة المؤيد الغراء، وأضيف إليهما في اجتماع آخر داود بك عمون المحامي الشهير، ولا شك أن الكتاب أجدر الناس بالاجتماع الذي هم دعاته ومرشدو الناس إليه، وقد اتفق رأي الجمعية في اجتماع عام من اجتماعها على اختيار أعلم العلماء، وأكتب الكتاب الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية رئيس شرف لهذه الجمعية، وعهدت إلى جماعة من الأعضاء بأن يفدوا على الأستاذ ويعرضوا عليه رغبتهم وكذلك كان، فنسأل الله تعالى أن يوفق هذه الجمعية لخدمة الأمة والبلاد. *** (مفتي صيدا) علمنا أن منصب الإفتاء في صيدا قد أُسند إلى صاحب الفضيلة صديقنا الأستاذ الشيخ سعد الدين أفندي الصلح الشهير بالاستقامة والدراية، فنهنئه بما هو الأجدر به، بل نهنئ البلاد بعلمه واستقامته وأدبه. *** (كتاب أميل القرن التاسع عشر) قد علم القراء المعجبون بهذا الكتاب ومباحثه العلمية في فن التربية العلمية أن أراسم هو والد أميل الذي وضع الكتاب في كيفية تربيته على أصول العلم والحكمة التي انتهت إليها معارف القرن التاسع عشر، وأنه كان مسجونًا بذنب سياسي، وقد رأوا الآن في المكتوبين الأخيرين المنشورين في هذا الجزء أنه قد عُفي عنه وأُطلق من سجنه، فبقية مباحث الكتاب في التربية تبرز في الأجزاء الآتية بأسلوب آخر غير أسلوب المكاتبة بين أم أميل وأبيه، وهي أكثر فائدة مما تقدم؛ لأنه في التربية والتعليم في سن التمييز إلى سن الرشد ومنها أيضًا مكاتيب أراسم التي كتبها في السجن ولم يرسلها، وفيها ما تلذ قراءته وتعظم فائدته. *** (سجل جمعية أم القرى) كتب في صدر هذا السجل الذي سننشره في المجلد الخامس كما ترى في الخاتمة ما نصه: أيها الواقف على هذه المذكرات اعلم أنها سلسلة قياس لا يغني أولها عن آخرها شيئًا، وأنها حلقات معانٍ مرتبطة مترقية لا يغني تصفحها عن تتبعها، فإن كنت من أمة الهداية وفيك نشأة حياة ودين وشمة مروءة فلا تعجل بالنقد حتى تستوفي مطالعتها وتعي الفواتح والخواتم، ثم شأنك ورأيك، أما إذا كنت من أمة التقليد وأسراء الأوهام بعيدًا عن التبصر، لا تحب أن تدري من أنت، وفي أي طريق تسير، وما حق دينك ونفسك عليك وإلى ماذا تصير فتأثرت من كشف الحقائق، ودبيب النصائح، وشعرت بعار الانحطاط وثقل الواجبات، فلم تطق تتبع المطالعة وتحكيم العقل والنقل في المقدمات والنتائج فأناشدك الإهمال الذي ألفناه أن تطرح هذه المذاكرات إلى غيرك ليرى رأيه فيها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء *** (أريحية ومأثرة علمية) زار الأديب الفاضل جاد بك عيد مدرسة صاحب العزة مصطفى بك خليل الشهير في فاقوس فسُرَّ من اجتهاد الأساتذة ونجاح التلامذة، فتبرع بإرسال مائة نسخة من كتاب تفسير الفاتحة والآيات المشكلة في القرآن إلى المدرسة لتوزع على التلامذة، لما فيها من الفائدة الدينية وتقويم اللغة العربية، ومن علم أن هذا المتبرع من نابغي الشبان المسيحيين، علم أننا في عصر ترجى فيه الأخوة الحقيقية بين جميع الشرقيين.

الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاستهزاء بالعلم والعلماء وإهانة القرآن العزيز جرَّأت فوضوية المطبوعات في مصر كثيرًا من الجاهلين على مقام الصحافة فأنشأوا الجرائد للخوض في أعراض الناس، إلا أن يرضخوا لهم بشيء من المال وعهدنا بهم النيل من الأغنياء والأمراء الذين يطمعون في أموالهم، ثم انتقلوا إلى الطعن في العلماء، وبمناسبة ذلك انتقل بعض أهل هذه الحرفة إلى الكلام في بعض المسائل الدينية عن جهل، ومنهم من زاد على ذلك إيراد بعض آيات القرآن في مقام الهزء والسخرية، ومثل هذا يحكم العلماء بكفر مرتكبه وخروجه من الإسلام، وإننا نذكر بعض نصوص فقهاء الحنفية في ذلك: جاء في شرح الطريقة المحمدية للعلامة الخادمي (ص 171 ج 2) ما نصه: (قال في الأشباه: الاستهزاء بالعلم والعلماء كفر) وعن منية المفتي (تخفيف العلم والعلماء كفر) وعن الخزانة (من أذل العلماء ينفى من البلد بعد تجديد الإيمان) وعن مجموع النوازل (إهانة علماء الدين كفر) وعن المحيط (إن شتم عالمًا فقد كفر فتطلق امرأته وهكذا وهكذا) أي ويأتي في حقه سائر أحكام الردة كالقتل إذا لم يتب، وكتجديد عقد النكاح إذا تاب إلخ، وفي مختصر الفقيه يحيى بن أبي بكر الحنفي، وهو موجود في دار كتب الأزهر الشريف من الفصل الثالث ما نصه: (ومن أنكر آية من القرآن أو استهزأ بها، أو قال: ذهبت بجلد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) أو قال أخذت بذيل {الم * تَنزِيلُ} (السجدة: 1-2) أو قال أنا أقصر من {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} (الكوثر: 1) أو قال لمن يقرأ عند الميت يس لا تضع في فم الميت {يس * وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ} (يس: 1-2) أو قرأ على ضرب الدف والبربط وغيرهما من آلات الملاهي - يكفر في جميع ذلك، ولو ملأ القدح فقال {وَكَأْساً دِهَاقاً} (النبأ: 34) أو أفرغها فقال فكانت شرابًا أو قال عند الكيل والوزن بطريق الاستهزاء {وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 3) يكفر، أو قال اجعل البيت مثل {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} (الطارق: 1) أو قال تعممت بعمامة {أَلَمْ نَشْرَحْ} (الشرح: 1) يعني ابتدأت العلم، أو رأى جماعة مجتمعين فقال بطريق الاستهزاء {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} (الكهف: 47) يكفر في ذلك كله، ثم قال: ولو تخاصم اثنان فقال أحدهما لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال آخر: لا حول، لا ينفع أو قال: أيش أعمل بها أد حقي - يكفر، ولو قال: قشرت بجلد سبحان الله، أو سمع الغناء فقال اذكر اسم الله تعالى - يكفر، ولو أكل طعامًا حرامًا فقال بسم الله يكفر، ولو قال بعد الفراغ الحمد لله، لا يكفر عند بعض المشايخ، ولو قال عند شرب الخمر وغيرها من المحرمات بسم الله، يكفر بالاتفاق، ثم قال: أو أذن بطريق الاستهزاء يكفر بالاتفاق. وقال في الفصل الرابع ما نصه: (ولو قال لو لم يأكل آدم الحنطة ما وقعنا في هذا البلاء، يكفر عند بعضهم، ولو قال لعلماء الدين: العلم الذي يتعلمه هؤلاء أساطير وخرافات، أو قال: كل ما يقولون هباء وكذاب أيش أعمل بمجلس العلم لا يثرد في القصعة - يكفر في ذلك كله) بل شدد بعض هؤلاء الفقهاء في مسألة إهانة العلم والعلماء حتى قال بعضهم من صغَّر بابوج العلم يكفر، وكل هذا التشديد العظيم لأجل حماية شرف الدين أن تناله ألسنة الجاهلين، فإذا لم يصح كون مثل هذا التصغير كفرًا، فلا أقل من أن يكون معصية. ولم يسلم من هزء بعض الجرائد الهزلية المعروفة قرآن ولا علم ولا دين، ولا شك أن كل قارئ لهذه الجرائد وكل مشترك فيها وكل مبتاع لها فهو شريك لصاحبها في الإثم؛ لأن الذي يعين على الشيء كفاعله، وإن كثيرًا من الناس ليفضلون قراءة هذه الجرائد وإن ملئت بالكفر وقول الزور وثلب الأعراض وإشاعة الفواحش، ويتحملون مقت الله وغضبه وإفساد أخلاق الأمة لأجل أن يضحكوا عند قراءتها، ورحم الله الإمام الشافعي حيث قال: (نزهوا أسماعكم عن استماع الخنا كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به؛ فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في إنائه، فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم (وفي الحديث الشريف) وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً (وفي رواية: ليضحك بها الناس) يهوي في جهنم سبعين خريفًا) . *** خيانة الخدم رب خادم خائن يؤذي مخدومه الإيذاء الكبير لينال بعض النفع الحقير، وأكثر من يبتلى بهؤلاء الخدم أهل الاستقامة والتقوى؛ لأنهم لسلامة باطنهم يسلمون لمن يستخدمونه تسليمًا لا يأتي من سواهم، ومن هؤلاء الرجال الوجيه الفاضل أمين بك الشمسي الشهير فقد كان ابتلي بكاتب زوَّر إمضاءه وكتب ورقة عن لسانه أخذ بها خمسمائة جنيه من أحد المصارف في الإسكندرية وضبطته الحكومة في طنطا قبل أن ينفق جميع المال وحوكم، وقد جرت عادة أمين بك أن يأخذ ورقة إذن من مصلحة سكة الحديد بالسفر في قطاراتها مدة سنة، وفي ابتداء كل سنة يجدد هذا الإذن ويدفع عن السنة كلها مبلغًا معينًا لكثرة سفره، وقد جاء في بعض الجرائد من عهد قريب أن بعض المفتشين رأى أن ورقة الإذن التي في يد سعادة أمين بك مزورة بتغيير التاريخ من سنة 1901 إلى 1902، ثم ذكرت الجرائد أن مصلحة السكة الحديدية تبين لها براءة سعادة البيك من هذا العمل، وظهر أنه كان أمر كاتبًا عنده بالذهاب إلى المصلحة لتجديد ورقة الإذن، فذهب وغيَّر التاريخ وأكل الدراهم التي أخذها ليدفعها إلى المصلحة، ومن البديهي أن مثل هذا الرجل السليم القلب لا يخطر في باله مثل هذه الخيانة ليدقق النظر في التاريخ حتى إنه لو لم يغيره بالمرة لما فطن له، وقد وجد المبلغ مقيدًا في دفاتر البيك المنتظمة في وقته، وقد أعلمت النيابة بأمر الكاتب ليحاكم ويعاقب على ما فعل. *** كتاب أسد الغابة هو للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير لا للحافظ ابن حجر كما ذكر في الجزء الماضي سهوًا.

خاتمة السنة الرابعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الرابعة بهذا الجزء يتم المجلد الرابع من المنار، وقد صدرت أجزاؤه في سنة وشهرين؛ لأن بعضها أُخر عن موعده عمدًا؛ لتوافق أول سنة المجلد أول السنة الهجرية الشريفة، وقد زاد هذا المجلد عما قبله زهاء مائة صفحة، وقد رأينا أن نجعل خمسي المنار بحروف صغيرة في السنة الخامسة، وأرينا القراء نموذج في هذا الجزء وما قبله، وهي زيادة في الفائدة وسعة في المادة. أما مباحث المنار ومسائله فهي ما رسمناه وحددناه بالإجمال في السنة الأولى، وفصَّلنا القول فيه بالتدريج تفصيلاً، فقبلة المنار الإصلاح الديني، وإمامه القرآن، ومذهبه السنة وسيرة السلف الصالحين والأئمة المجتهدين، وهو خصم ألد لجميع البدع والخرافات والتقاليد والعادات التي ألصقت بالدين، والتَاثَتْ بنفوس جماهير المسلمين، وفي يقينه أن الشرق لا يصلح إلا بصلاح المسلمين، وأن المسلمين لا يصلحون إلا بالرجوع إلى سيرة السلف الصالح في دينهم من غير زيادة ولا نقصان ومجاراة الأمم الحية في دنياهم وأخذهم بجميع فنونها وعلومها وصنائعها، فالإصلاح الديني هو الذي ينفخ فيهم روح الاتحاد الاجتماعي بعقائده المرقية للعقول وآدابه المزكية للنفوس، ومجاراة الأمم الحية هي التي تعطيهم قوة مادية يحفظون بها وحدتهم، ويعززون بها ملتهم، ولمثل هذا فليعمل العاملون. ونعد القراء الكرام بأننا سننشر في أجزاء السنة الخامسة مباحث كتاب (أم القرى) وهو كتاب لم يكتب مثله في الإصلاح الإسلامي، فقد جمعت فيه آراء جميع المصلحين بقلم حكيم من حكمائهم، وعالم اجتماعي من أفضل علمائهم، يسمى في الكتاب بالسيد القرآني كاتب سر (جمعية أم القرى) والكتاب سجل مذاكرات الجمعية في 12 اجتماعًا من اجتماعاتها في مكة المكرمة، وأعضاء الجمعية أو (مؤتمر النهضة الإسلامية) الذين يحتوي هذا السجل على مذاكراتهم 22 رجلاً، كل رجل نائب عن قطر من الأقطار الإسلامية من المشرق والمغرب، والأقطاب التي دارت عليها مباحثهم ثلاثة، وهي حالة المسلمين الدينية وحالتهم الاجتماعية وحالتهم السياسية، وبيان أن أسباب ضعفهم في هذه الأحوال، وما يعالج به هذا الضعف لإعادة القوة؛ ولكن في القسم السياسي كلامًا لبعض أعضاء الجمعية في الدولة العلية - أيدها الله تعالى - نحذفه عند الوصول إليه؛ لأنه لا يؤلم أكثر الناس، ولا ينبغي أن يعرفه إلا الخواص، ولأجل ذلك اغتالت الكتاب بعدما طبع الأغوال، وأسدلت عليه أستار الليال، وفي آخر الكتاب (قانون جمعية تعليم الموحدين) التي اقترح المؤتمر إنشاءها وهو مؤلف من 48 قضية، وقد وعدنا جامع الكتاب بتنقيح النسخة التي سننشرها في المنار، وبإضافة زيادات إليها هدت إليها الحنكة والاختبار. وإننا سننجز في السنة الخامسة ما كنا وعدنا به من إتمام مباحث مدنية العرب ومبحث الكرامات، وسنجيب عن جميع الأسئلة المشكلة الدينية التي سألنا ويسألنا عنها المشتركون الكرام، ونوسع دائرة المباحث العلمية العصرية بعبارة سهلة، ولا نزيد في قيمة الاشتراك شيئًا، فكل من قبل الجزء الأول من السنة الخامسة؛ فإننا نعتبره مشتركًا إلى مدة سنة كاملة بخمسين قرشًا أميريًّا نتقاضاها منه، وإن رد الجزء الثاني أو شيئًا مما بعده، فمن لم يقبل بهذا الشرط فليرد الجزء الأول إلينا؛ لأن فقد جزء واحد فقد لأجزاء السنة كلها كما لا يخفى، وهذا الشرط عام لطلاب العلم وتلامذة المدارس ومن كان منهم فقيرًا ويود أن نسمح له ببعض القيمة لفقره فعليه أن يطلب ذلك منا مشافهة أو مكاتبة قبل صدور الجزء الأول من السنة الخامسة. هذا وإننا بعد الشكر لله على توفيقه وهدايته، نشكر لأولئك الفضلاء الذين وازرونا على القيام بفريضة الدعوة إلى الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، السعي في نشر المنار، وتكثير سواد قارئيه، فقد تضاعف عدد المشتركين في هذه السنة من غير وكلاء ولا دعاة إلا دعاة الخير؛ لأنه خير، وكثر في هذا الشهر طلب الاشتراك من السنة الخامسة، وهذا من المبشرات بنمو الحياة الملية في جسم الأمة، وتحقيق لرجائنا الذي أفصحنا عنه في فاتحة السنة الأولى. وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا في السنة الآتية لخير ما وفقنا في السنين الماضية، وأن يوفق أمراءنا وحكامنا للعدل في العباد وإصلاح حال البلاد، وعلماءنا للهدي والإرشاد، وأغنياءنا للبذل والإمداد، وأن يوفق الوالدين لتربية الأولاد، وينفخ في الجميع روح الاجتماع والاتحاد، وسلام على المرسلين، ومن تبعهم من المصلحين، والحمد لله رب العالمين.

فاتحة السنة الخامسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة الخامسة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. وبعد، فقد تم للمنار أربع سنين ودخل بهذا الجزء في السنة الخامسة. ولم ينس القراء أن فواتح السنين الخالية وخواتمها كانت تكتب بمداد الصبر والتبرُّم، على صحائف الأمل والتعلل، لِمَا لقيناه من معارضة أنصار الجهل، ومناهضة الذين ألفوا الذل، وما تحملناه من مناصبة الظالمين، ومغاضبة المقلدين، مع العناء الكبير، وقلة العون والنصير. ولو كان هذا المنار مُنْشأ لأجل الكسب، وابتغاء الرزق، لقوّضته أنواء المناوأة والمناكدة، ودكته رياح المماكرة والمكايدة. ولو قصد به التوسل إلى الوظائف والمناصب، والتوصل إلى الرتب والرواتب، لنال منها ما أراد، أو نالت منه ما تريد. ولو كان الغرض منه الرياء والفخر , وحسن السمعة والذكر , لتلاعبت به الأهواء , وعبثت به أيدي الزعماء والرؤساء , فأمالته عن الطريقة , وصرفته عن طلب الحقيقة. كلا والله ما كان شيء من ذلك ولن يكون {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) . صرحت في فاتحة السنة الأولى بأنني كنت في هذا العمل بين يأس ورجاء يحركني الباعثان , ويتنازعني العاملان , وفي خاتمتها بأن غوغاء الناس سلقونا بألسنة حداد , ورمونا بسهام الانتقاد , ولم تكن السنة الثانية بأمثل من الأولى , ولا بأقل بلاءً وأكثر قبولاً. وقلت في فاتحة السنة الثالثة: إن المنار قد انتشرت تعاليمه. ولم أقل: إنه زاد هو انتشارًا. وقلت: إن الكُتَّاب والخطباء قد تداولوا مسائله. ولم أقل: إنهم كانوا أعوانًا له وأنصارًا , بل صرحت بأنهم كانوا (بين مخطّئ ومصيّب ومنتقد ومجيب , وهكذا يكون الأمر في أوله وستتجلى الحقيقة للناس إن شاء الله عن قريب) . وكتبت في فاتحة السنة الرابعة أنه قد نما النمو الطبيعي المقدر له من أول نشأته (أي: التدريجي البطيء) ولقي صاحبه من الألاقي بعض ما لقي الذين تصدوا للإصلاح من قبله، وصبر كما صبروا {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) نعم إننا كنا نمزج هذه الشكوى بشكر العلماء , والاعتراف بفضل الفضلاء، الذين تقبلوا المنار بأحسن القبول، ورأوه من بواعث إحياء الأمل وحصول المأمول، مع الإيماء إلى قلتهم، والتبرم من عدم نجدتهم. هذا مجمل تاريخ المنار من أول نشأته إلى سنته الرابعة التي كان آخرها خيرًا من أولها وخاتمتها أفضل من فاتحتها، ولم ينس القراء أننا اعترفنا فيها بتضاعف قراء المنار، وكونه صار موضع الثقة في جميع الأقطار. ونزيد تحدثًا بالنعمة فنقول: لقد خشعت بفضل الله تعالى أصوات المشاغبين، وأعرض الناس عن جهل المعارضين، فخنست شياطين الوساوس، وطاشت سهام أرباب الدسائس، وصار لنا من مستحسني العمل في السر، من يدعو إليه في الجهر، ومن المتبرمين منه، من يناضل دونه ويدافع عنه، فلنا أن نقول الآن تحدثاً بالنعمة: إننا انتقلنا من مقام الصبر إلى مقام الشكر. فأما الصبر: فلا بد للداعي إلى الحق من الاعتصام به ولذلك قرن الله تعالى التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومن فوائد الصبر الظفر وحسن الجزاء قال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 96) وقال عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة: 24) بل وعد سبحانه أهل الصبر، بمضاعفة الجزاء والأجر، فقال: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} (القصص: 54) . وأما الشكر: فقد وعد الله تعالى صاحبه بالمزيد من النعمة والأمن من العذاب فقال عز شأنه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) وقال جل ثناؤه: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء: 147) فنسأله تعالى أن يوفقنا للشكر على الآلاء (ما وفقنا للصبر على البلاء) فإن الشكر مقام عزيز؛ لأن من شأن الإنسان أن تُبطره النعمة ويشغله الغرور بها عن الشكر عليها، ولذلك قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13) . الشكر هو: معرفة النعمة للمنعم تعالى والثناء عليها وصرفها في إقامة سننه وموافقة حكمته وموجبات محبته، ومَنْ شَكَرَ اللهَ شَكَرَ مَنْ أحسن العمل مِن عباده، فقد روى أحمد وأبو داود وابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) لهذا نشكر لأولئك الأفاضل الذين انتدبوا للدعوة إلى المنار والسعي في نشره عملهم، ونعرف لهم فضلهم، ونشكر أيضًا للمشتركين الكرام الذين يؤدون الحقوق في أوقاتها وفاءهم، ونعترف بالسبق بالفضل، لقوم سبقوا بالبذل؛ فأدوا قيمة الاشتراك عن السنة الخامسة قبل دخولها حتى إننا لم نقبل ذلك من بعضهم إلا بعد الإلحاح منهم والإصرار. ونرجو من سائر المشتركين الفضلاء أن يبادروا إلى حسن الأداء، فإنه من يُشكَر له، خير ممن يُصْبَرُ عليه، ونحمد الله تعالى أن أكثر قراء المنار، من المصطفين الأخيار فمنهم العلماء الفضلاء، والأمراء والوزراء، والقضاة المقسطون، والمحامون البارعون، ونظار المدارس وأساتذتها، والأذكياء النابغون من تلامذتها، وذوو الشهامة من الضباط المصريين، ونعِد الجميع بأننا سنبذل الجهد في زيادة الفوائد، وتحرير المسائل، والبحث عن أقرب الوسائل لنهضة المسلمين، ومنفعة جميع الشرقيين، بل نرجوا أن يكون عملنا خدمة للناس أجمعين. ونسأل الله أن يحفظنا من عثرة القلم، وزلة القدم، وأن يلهمنا السداد، ويوفقنا للصواب، وأن ينصر سلطاننا، وينير برهاننا، ويحقق آمالنا، ويحسن مآلنا، فهو نعم المولى ونعم النصير، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب المنار ومحرره ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيدرضا

القضاء في الإسلام ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القضاء في الإسلام النبذة الثانية (ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه) وجوب نصب القاضي: (الحديث) [1] قال صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمّروا عليهم أحدهم) وفي رواية: (إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم) استدل العلماء بهذا الحديث على أن نصب الأمير الذي يسوس الناس والقاضي الذي يحكم بينهم واجب شرعًا؛ لأن هذا أولى بالوجوب من تأمير المسافرين - وإن كانوا أقل الجمع - واحدًا منهم عليهم، والعلة ظاهرة والعمل عليها من أول الإسلام. وفي الحديث إرشاد إلى أن الأمة هي التي تولي الأمراء والحكام كما تقدم شرحه في باب الأحاديث الواردة في الأمراء من المجلد الرابع. موانع القضاء أو شروطه: تقدم في الأحاديث السبعة التي أوردناها في النبذة الأولى ما يدل على أن الضعيف لا يكون قاضيًا وبيَّنَّا أنواع الضعف، وأن الجاهل لا يكون قاضيًا. كما يؤخذ من حديث قاضي الجنة وقاضيي النار وغيره. وأن الجائر لا يكون قاضيًا، وأن المرأة لا تكون قاضية، وخالف في هذا الشرط الحنفية، ولو كان المخالف من علماء هذا العصر لحكم بكفره أكثر المسلمين، ورموه بمصانعة الأجانب وتقليد الأوربيين، وكذلك الصبي لا يكون قاضيًا، ونقل بعضهم الإجماع على هذا، ويستدل له بما اسُتدِلَّ به على منع قضاء المرأة، وفي هذه الموانع أحاديث أخرى نورد بعضها [2] : قال صلى الله عليه وسلم: (استعيذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان) والقضاء ضرب من الإمارة ولا نعرف في الناس من تُوَلِّي الصبيان القضاء، ولكنهم يولونهم الإمارة والسلطنة بالوراثة، وقد قلد المسلمون الأوربيين في هذه الوارثة. فأما أولئك فإنهم آمنون من مضرة ولاية الصبي؛ لأن حكوماتهم مقيدة بقوانين، ووزراء مسؤلين ومنفذين، وإنما الحاكم العام، (كالملك ورئيس الجمهورية) لأجل الوحدة في مصدر الأحكام، وهو لا يستبد دونهم بنقض ولا إبرام. وأما بلاد الشرق فلقد تأصل فيها الاستبداد ورسخت عروقه، واعتادت أممها عليه، وضعفت عن مقاومته، فلو قضت شئون السياسة وتقلب الحوادث على بعضها بوضع قانون يجعل أحكامها مقيدة بالقوانين التي تغل أيدي الأمراء والسلاطين، لَمَا وُجد مِن الأمة كافل يضمن تنفيذ القانون ولا استبد الحاكم الأكبر كيف شاء أو يجد قوة أجنبية تأخذ على يده وتوقفه عند حده. ولهذا المعنى كانت تولية الصبي الملك خطرًا في الشرق، ومثله المرأة. وأما رأس السبعين في الحديث فقالوا: إنه إنباء بما وقع في عشر السبعين من الفتن، كقتل سيدنا الحسين عليه السلام والرضوان ووقعة الحرة وغير ذلك. عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) [3] والنظر في هذا الحديث الشريف من وجهين: أحدهما: كونه خبرًا. وثانيهما: كونه حكما شرعيًّا؛ لأنه يتضمن بمعناه النهي عن تولية النساء الأمور العامة كالخلافة والقضاء. أما الأول فهو مبني على العادة التي كانت متبعة في الشرق بل في العالم كله وهي أن الأمر والنهي والتصرف السياسي والقضائي بأيدي الملوك والأمراء، ولا شك أن هذه الوظائف لا يصح أن تسند إلى النساء؛ لأنهن أضعف رأيًا لاسيما في محافل الرجال وما يتعلق بأعمالهم، وأقل جلدًا وثباتا وأميل مع الهوى؛ لرقة قلوبهن وسرعة انفعالهن، ولأنهن إن يشتغلن بذلك يضعفن عن وظيفتهن الطبيعية وهى تربية الأولاد وتدبير المنزل. فإذا كان في المرأة استعداد لأنْ تُجاري الرجل وتكون مثله في كل شيء كما يزعم بعض الأوربيين فهذا الاستعداد لما يتحقق فعلاً مع العناية بتربية النساء في أوربا فلا يعترض به على حديث قيل في شأن الفرس من ثلاثة عشر قرنًا، ولا ينبغي السعي في تحقيقه بتربية المرأة كما يتربى الرجل تماما؛ لأن هذا يضر النوع الإنساني من وجوه أهمها تربية الأولاد، فإن المُرَبِّي يجب أن يكون بينه وبين المُرَبَّى تقارب وتناسب في السجايا والأخلاق والأفكار والرغائب؛ ليسهل الائتلاف والامتزاج معه والتقليد له والأخذ عنه بالطبع لا بالتكلف. والمرأة وسط بين الأطفال وبين الرجال فهي التي تربي البنات كل التربية وتربي الصبية التربية الأولى التي تعدهم للأخذ عن الرجال والاقتداء بهم. وإذا اشتغل الرجل بتربية الأطفال، فإنه يعامل الذكران والإناث معاملة الرجال، وفي ذلك خروج بالبنات عن سنة الفطرة، وذهاب بالصبيان مع الفطرة. وأما الثاني - وهو كون الحديث حكمًا شرعيًّا بمنع ولاية النساء - فهو من جهةٍ مناسبٌ لاستعداد النساء ولوظيفتهن الفطرية، ومن جهة أخرى مناسب لما كانت عليه حالة الأمم في ذلك العصر ولا حاجة لإباحته في عصر آخر بل فيه الضرر المذكور في الوجه الأول وهو التعدي على وظيفة النساء الطبيعية. ولا يعترض بحال أوربا وكون الدولة الإنكليزية أفلحت في عهد الملكة فيكتوريا فلاحًا ما رأت هي ولا غيرها من الدول مثله؛ لأن فرقًا بين أمم أوربا والأمة الإسلامية، وهو أن المَلك فيهم ليس له من الوظائف مثل ما للخليفة عند المسلمين، فإن الخليفة هو الإمام الديني الذي يصلي بالناس ويخطب فهم ويؤمهم في حجهم عند حضوره الحج وكل الأئمة والخطباء في البلاد الإسلامية وكل القضاة والمفتين نوابه ووكلاؤه فهو الذي يقلدهم هذا المنصب بشرط الكفاءة، وإليه يرجعون في مسائل الخلاف ليفصل فيها، ومن شروط الكفاءة أن يكون القاضي والمفتي في مرتبة الأئمة المجتهدين في الدين ومعرفة مصلحة المسلمين. ولا يعرف هذا إلا من هو أهله. وإن فَرَضْنا أن في استعداد المرأة الوصول إلى هذه المرتبة، وأنه لا ضرر في هذا على النوع الإنساني، فهناك مانع آخر من إمامتها وهو: أنها تكون في طور لا تصح فيه صلاتها بنفسها؛ فكيف تكون إمامًا لغيرها؟ ولا يقال: تستنيب؛ لأن من ليس له الحق بشيء لا يصح أن يستنيب فيه؛ إذ النائب يؤدي وظيفة المنيب، ولا وظيفة له هنا - هذا بعض ما يقال في المنع من الجهة الدينية المحضة، وثَمَّ موانع أخرى من الجهة الدنيوية وهي كون الخليفة مدير السياسة والحروب ومتولي النظر في المصالح الداخلية والخارجية، ولذلك اشترطوا أن يكون شجاعاً فإن قيل: إن الإسلام شرع المشاورة في الأمور وجعلها فرضًا لازمًا ومنع الخليفة أن يستبد في أمر بنفسه، وهذا عين ما عليه الأوربيون في تقييد الملوك بالمجالس النيابية. قلنا: نعم هذا صحيح، ولكن الإسلام أوجب على الخليفة أن يكون عاملاً بالمشاورة لا أن يكون آلة تجري الأُمور باسمه بدون شعور. والكلام في هذا المقال كثير وفيما ذكرناه غناء للصبر. ومن موانع القضاء عند الجماهير الرق وحكي عن العترة أنه يصح أن يكون العبد قاضيًا، وكأنهم أخذوا بظاهر الحديث وهو: [4] قال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة) وفي رواية: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله) قال القسطلاني في شرح البخاري: معناه: إن استعمله الإمام الأعظم على القوم، لا أن العبد الحبشي هو الإمام الأعظم؛ فإن الأئمة من قريش. اهـ، أو المراد به الإمام الأعظم على سبيل الفرض والتقدير وهو مبالغة في الأمر بطاعته، والنهي عن شقاقه ومخالفته. اهـ أي: ليس المراد به ظاهره فإن العبد إذا ولي الخلافة لا يطاع بل يخلع ويعزل: قال الخطابي: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود. وقال الحافظ في الفتح: ونقل ابن بطال عن المهلب قال: قوله: (اسمعوا وأطيعوا) لا يوجب أن يكون المستعمِل للعبد إلا إمام قرشي لما تقدم من أن الإمامة لا تكون إلا في قريش وقد أجمع الأمة على أنها لا تكون في العبيد ويحتمل أن يكون سماه عبداً باعتبار ما كان قبل العتق. اهـ والحاصل أن شروط القضاء في الشرع سبعة، كما قال في الأحكام السلطانية: الرجولية، والحرية، والإسلام، والعدالة، والاجتهاد في العلم، والعقل، وسلامة الحواس. وجوّز مالك قضاء الأعمى كما جوز شهادته. *** آثار السلف عبرة للخلف عدل عمر: روى ابن عبد الحكم عن أنس أن رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، عائذ بك من الظلم. قال: عذت معاذًا. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم ابنه معه، فقدم، فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب. فجعل يضربه بالسوط، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين! إنما ابنه الذي ضربني، وقد استقدت منه. فقال عمر لعمرو: مُذْ كم تعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا! قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني. وروى عبد الرزاق في الجامع والبيهقي بسند صحيح عن ابن عمر قال: شرب أخي عبد الرحمن وشرب معه أبو سروعة عتبة بن الحارث وهما بمصر في خلافة عمر فسكرا فلما أصبحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا: طهّرنا فإنا قد سكرنا من شراب شربناه (يظهر من هذه الكلمة أنهما لم يكونا يقصدان السكر ولم يعرفا ما هو الشراب) قال عبد الله: فذكر لي أخي أنه سكر، فقلت: ادخل الدار أطهّرك ولم أشعر أنهما قد أتيا عَمْرًا فأخبرني أخي أنه أخبر الأمير بذلك فقلت: لا تحلق اليوم على رءوس الناس ادخل الدار أحلقك. وكانوا إذ ذاك يحلقون مع الحد فدخلا الدار. قال عبد الله: فحلقت أخي بيدي، ثم جلدهم عمرو فسمع بذلك عمر وكتب إلى عمرو أن ابعث إليَّ بعبد الرحمن على قتب ففعل ذلك، فلما قدم على عمر جلده وعاقبه لمكانه منه ثم أرسله فلبث شهرًا صحيحًا ثم أصابه قدره فمات فيحسب عامة الناس أنه مات من جلد عمر ولم يمت من جلد عمرو. وروى هذا الأثر ابن سعد في الطبقات مطولاً، ذكر فيه مجيء عبد الرحمن إلى مصر ونزوله في أقصاها وأن عَمْرًا خشي أن يزوره أو يهدي إليه شيئاً فيعلم أبوه عمر بذلك فيعاقبه؛ لأنه كان كتب إليه (إياك أن يقدم عليك أحد من أهل بيتي فتَحْبُوه بأمر لا تصنعه بغيره) حتى جاءه هو ورفيقه أبو سرعة منكسرَيْنِ يطلبان إقامة الحد عليهما. وفيه أن عمر لما علم أن عَمْرًا أقام الحد على ولده في بيته وحلقه في بيته ظن أنها خصوصية اختص بها ولده، فكتب إليه يوبخه ويهدده بالعزل ويطلب عبد الرحمن. وأن عَمْرًا اعتذر له بأن يحد كل مسلم وذمِّيٍّ في بيته. اهـ ملخصًا من كتاب كنز العمال، في سنن الأقوال والأفعال. ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 32 ـ عصمة الأنبياء عليهم السلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (الدرس 32) عصمة الأنبياء عليهم السلام (المسألة 79) حقيقة العصمة هي في اللغة: المنع، وقال الجرجاني ... في التعريفات: (العصمة ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها) أي إن المعصوم من الشيء يجد في نفسه قدرة عليه ويشعر بزاجر منها يحول دون الوقوع فيه. فالعصمة وازع نفسي راسخ في النفس وهي في الأنبياء فطرية، وقد يكون لغيرهم بحسن التربية من ملكة الفضيلة ما يربأ بنفوسهم عن موافقة الفجور والدنايا. ويسمي علماؤنا هذا المعنى حفظًا؛ للتفرقة، وإنما يكون هذا بالتربية الفاضلة بين الفضلاء مع مساعدة الوراثة واعتدال المزاج. وقد ينكر الذين ابتلوا باقتراف الكبائر هذا المعنى أن يكون لغير الأنبياء، ويسلمون به للأنبياء تقليدًا. ولهم العذر فإنه أمر لا يعرفه إلا من ذاقه وقليل ما هم. *** (م 80) العصمة في التبليغ. جاء في المواقف أن أهل الملل والشرائع قد أجمعوا على عصمة الأنبياء عن تعمد الكذب فيما دل المعجز على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه عن الله تعالى. وإن عاقلاً لا يجمع بين الإيمان والوحي والنبوة وبين تجويز كذب النبي على الله تعالى فيما يبلغ عنه، فإن كان هذا جائزًا؛ فأي ثقة بالوحي؟! وكيف يميز المكلف بين ما هو عن الله وما عن غير الله والمبلغ غير موثوق بصدقه؟ ! ولقد أبعد القاضي - أحد أئمة الأشعرية - في قوله بجواز صدور الكذب منهم سهوًا. وهو قول مردود لا يعوِّل عليه أحد. والدليل على هذا النوع من العصمة هو عين الدليل على النبوة من الآيات العلمية أو الكونية. *** (م 81) العصمة من الكفر. أجمع المسلمون من جميع الفرق على عصمتهم من الكفر قبل النبوة وبعدها وليس هنا شبهة لأحد فنتوسع فيه. *** (م 82) العصمة من كبائر الذنوب قال في المواقف وشرحه: (أما الكبائر) ، أي: صدورها عنهم عمدًا (فمنعه الجمهور) من المحققين والأئمة، ولم يخالف فيه إلا الحشوية، (والأكثر) من المانعين (على امتناعه سمعًا) قال القاضي والمحققون من الأشاعرة: إن العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة عقلاً إذ لا دلالة للمعجزة عليه فامتناع الكبائر عنهم سمعًا مستفاد من السمع وإجماع الأمة قبل ظهور المخالفين في ذلك. (وقالت المعتزلة بناء على أصولهم الفاسدة في التحسين والتقبيح العقليين ووجوب رعاية الصلاح والأصلح) (يمتنع ذلك عقلاً) ؛ لأن صدور الكبائر عنهم عمدًا يوجب سقوط هيبتهم من القلوب وانحطاط رتبتهم في أعين الناس فيؤدي إلى النفرة عنهم وعدم الانقياد لهم. ويلزم منه إفساد الخلائق وترك استصلاحهم وهو خلاف مقتضى العقل والحكمة. (وأما) صدورها عنهم (سهوًا) وعلى سبيل الخطأ في التأويل (فجوزه الأكثرون) والمختار خلافه. اهـ ولم يذكر ناقلي الإجماع ولا كيف وقع هذا الإجماع، وما أراه إلا الإجماع السكوتي. وعجيب من سادتنا الأشاعرة كيف ينقضون الأدلة العقلية على عصمة الأنبياء لأجل مخالفة المعتزلة ولو بالتكلّف؟ إذ استلزام دليلهم للتحسين والتقبيح بالمعنى النافي لاختيار الله تعالى ممنوع كما سنبينه. ثم إنهم جوّزوا وقوع الكبائرمنهم سهوًا وتأويلاً كما ترى. وذكر السيد أن المختار خلاف ما عليه الأكثرون. وقد جزم المتأخرون بهذا في عقائدهم، ولا شك أن المتأخرين أشد تعظيمًا بالقول للأنبياء والصلحاء وكذلك في الاعتقاد التخيلي دون البرهاني. على أنهم في هذه المسألة أقرب إلى الصواب من المتقدمين. *** (م 83) العصمة من الصغائر: قال في المواقف: (وأما الصغائر عمدًا فجوزه الجمهور إلا الجبائي، وأما سهوًا فهو جائز اتفاقًا إلا الصغائر الحسية كسرقة حبة أو لقمة. وقال الجاحظ: يجوز بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه وقد تبعه فيه كثير من المتأخرين وله نقول) قال الشارح: (أي نحن الأشاعرة) . *** (م 84) العصمة قبل النبوة: قال في المواقف بعد إيراد ما ذكر كله: (هذا كله بعد الوحي وأما قبله فقال الجمهور: لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة؛ إذ لا دلالة للمعجزة عليه ولا حكم للعقل. وقال أكثر المعتزلة: تمتنع الكبيرة وإن تاب منها؛ لأنه يوجب النفرة، وهي تمنع عن اتباعه، فتفوت مصلحة البعثة. ومنهم من منع عما ينفر مطلقًا كعهر الأمهات والفجور في الآباء والصغائر الحسية دون غيرها. وقالت الروافض: لا يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة قبل الوحي، فكيف بعد الوحي؟) اهـ. وقول الروافض هذا هو الذي اعتمده المتأخرون من أهل السنة، بل منع بعضهم وقوع المكروه منهم إلا على سبيل التشريع. *** (م 85) رَأْيُنا [1] : إنما ذكرنا هذا الاختلاف في العصمة ليعرف من يطلع عليه من دعاة النصارى ومجادليهم أن المسلمين لم يتكلفوا القول بعصمة الأنبياء تكلفًا لإثبات قدرتهم على إنجاء الناس من العذاب في اليوم الآخر كما يزعمون، وإنما يتبعون في ذلك - كغيره - ما يظهر لهم من الأدلة العقلية والسمعية أي: أدلة الوحي وإنما نقلنا عبارة كتاب المواقف الذي هو أعظم كتب الكلام عندنا لئلا يظن قليل الاطلاع من المسلمين أن الأقوال التي أوردناها في الخلاف هي أقوال شاذة أو مسندة لغير أصحابها سهوًا أو جهلاً لا سيما اعتماد متأخري أهل السنة قول الرافضة. والذي نراه أنه يصح الاستدلال بالعقل على عصمة الأنبياء عليهم السلام، ولا يستلزم ذلك القول بقاعدة التحسين والتقبيح العقليين ولا سلب الاختيار عن الله تعالى. وكذلك يستنبط من كثير من الآيات القرآنية ما يدل على نزاهتهم وكونهم قدوة في الخير والفضائل، ولكن ليس فيها نص صريح على العصمة من الذنوب مطلقًا؛ ولذلك قال صاحب المواقف بعد إيراد تلك الآيات: إنها ليست بالقوية فيما هو محل النزاع وهو الكبيرة سهوًا والصغيرة عمدًا. وفي الكتاب والسنة إسناد الذنوب إلى بعض الأنبياء عليهم السلام، وما جاز على بعضهم جاز على الآخرين. والعلماء يؤوِّلون ذلك. وقصارى هذا كله وجوب الاعتماد على الدليل العقلي والتوفيق بينه وبين ما ورد من إسناد الذنوب إليهم، فاطلب ذلك من الدرس الآتي. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة (س1) محمد توفيق أفندي حمزة بالفشن (المنيا) : هل يوجد حديث صحيح بأن في القرآن لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها وأن منه قوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) نرجو الرد على ذلك لإزالة الشبهة. (ج) لم يرد في هذا المعنى حديث صحيح ولا ضعيف ولا موضوع، ولكن الزنادقة الذين حاولوا العبث بدين الإسلام كما كان يفعل أمثالهم في الأديان الأخرى لما عجزوا عن زيادة حرف في القرآن أو نقص حرف منه؛ لحفظه في الصدور والصحف أرادوا أن يشككوا بعض المسلمين فيه بشيء يضعونه عن لسان الصحابة الكرام فزعم بعضهم أن عكرمة قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفًا من اللحن فقال: (لا تغيروها فإن العرب ستغيّرها، أو قال: ستقرأها بألسنتها، ولو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف) . وفي لفظ آخر: (أحسنتم وأجملتم، أرى شيئًا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها. ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد هذا) ، ولما تصدى المحدثون رضي الله عنهم لنقد الحديث والأثر من جهة الرواية التي راج في سوقها الطيب والخبيث تبين لهم في هذا الأثر ثلاث علل: الانقطاع، والضعف والاضطراب؛ فهو لا يعوّل عليه لو كان في الحث على فضائل الأعمال فكيف يلتفت إليه في موضوع هو أصل الدين الأصيل وركنه الركين؟ ومن يدري إن كان الساقط من سنده مجوسي أو دهري أو إسرائيلي؟ على أن الكلمة التي نسبت إلى عثمان تدل على أن اللحن في الرسم، وأنه لم يكن مما يشتبه في قراءته؛ لأنه لا يحتمل في النطق وجهًا آخر، كرسم الصلاة والزكاة والحياة بالواو مثلاً (الصلوة الحيوة) . ولكن الموسوسين حملوا ذلك على كلمات قليلة جاءت في المصحف على خلاف القواعد النحوية التي وضعها الناس لكلام العرب وتحكَّمُون بها عليهم، ومن ذلك الآية التي أشار إليها السائل وهي قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) وإنني لأعجب من دخيل في لغة قوم يتحكم عليهم في شيء يخترعه هو ويجعله أصلاً لها، وأعجب من هذا أن يكون هذا التحكم على أصح شيء في اللسان فإن الذين يؤولون ما ورد عن بعض سفهاء الأعراب من الشعر المخالف للقواعد أو يكتفون بأنه صحيح - لأنه هكذا سُمع - يتوقفون في بعض الكلم من القرآن إذا رأوا أنها على خلاف القياس. على أن علماء العربية خرجوا تلك الكلمات على ما يوافق قواعدهم من وجوه مذكورة في كتب التفسير وكتب النحو لا محل لها هنا. وسنفصل القول في مسألة جمع القرآن في دروس الآمالي الدينية بما يشفي الصدور إن شاء الله تعالى. *** (س2) أحمد أفندي الألفي في أبي كبير (شرقية) : ما أقرب الطرق لمعرفة أحكام العبادات من الكتاب والسنة؟ (ج) الكتاب العزيز لم يفصل القول في صور العبادات، وإنما بين روح العبادات والمقصود منها، وفيه كيفية الوضوء وذكر الركوع والسجود من أعمال الصلاة. والسنة بينت صورها وأذكارها. وأصحاب الكتب الستة التي هي أصح كتب الحديث إنما ألفوا كتبهم لمعرفة الدين منها، فجامع البخاري هو مذهبه الذي يعتمد عليه في فهم الدين وقد قال بعض العلماء: إن سنن أبي داود كافية فيما يشترط للاجتهاد من علم السنة. ويوجد كتاب يسمى (منتقى الأخبار) جمع فيه صاحبه أحاديث الأحكام من الكتب الستة ومن مسند الإمام أحمد، وقد شرحه الإمام الشوكاني وأورد في شرحه خلاف جمع أئمة المسلمين المشهورين من الصحابة والتابعين مع بيان الترجيح في الاستدلال. واسم الشرح (نيل الأوطار) ، فهو أجمع كتاب في أحكام الدين من السنة وهدي سلف الأمة لمن هو أهل للفهم. والأحاديث الشريفة أسهل فهمًا من كلام العلماء، ولكن لا يستغنى عن هدايتهم في معرفة ما يحتج به وما يختلف مع غيره. *** (س3) ومنه: هل يفيد حفظ القرآن في اكتساب ملكة البلاغة كغيره من الكلام البليغ؟ (ج) لعل سبب السؤال توهم أن القرآن في علو أسلوبه وإعجازه لا يمكن أن يحتذي بلاغته مَنْ لا يطمع أن يبلغ غايته. والصواب أن لحفظ القرآن مع فهمه أبلغ التأثير في ارتقاء ملكة البلاغة العربية، ولقد ارتقى به كلام العرب أنفسهم فكان كلامهم في المنظوم والمنثور بعد الإسلام أعلى منه قبله. فالقرآن أنفع الكلام في ارتقاء اللغة كما أنه أنفعه في إصلاح الأرواح وتهذيب النفوس وإكمال العقول. ولا يستلزم نفعه في ارتقاء البلاغة إمكان التسلق إلى درجته، والجري إلى غايته، وإن لنا لعودة إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى. *** (س4) ع. ا. ر. في الإسكندرية: لا يخفى ما رسخ في أوهام العوام من مسألة كرامات الأولياء والخروج في فهم حقيقتها عن الحد الذي نبهت عليه شريعتنا السمحة، وبثغرنا واحد من هؤلاء الدجالين الجهلاء المنتحلين لأنفسهم على الغيب، وله سبحة طويلة ينظر فيها عند سؤاله من العامة فيخبرهم بما يحصل لهم في غد من الحوادث فيصدقونه، والمنتبهون منهم إن سألوا بعض العلماء عن ذلك جوزوه بدعوى أنه كرامة من غير توضيح ما هي الكرامة ومن يكرم الله بها من عباده المتقين غير الدجالين الذين هم عن صلاتهم ساهون. ولما كان للإسلام والمسلمين صوًى و (منار) كمنار الطريق الذي يتخذونه نبراسًا لهم ودليلاً إن هم تاهوا في بيداء الحيرة وقبور الضلال، فقد أرسلت بهذه السور إليكم ملتمسًا من بحر علمكم وواسع حكمتكم أن توضحوا بعدد المنار المقبل (وإن كان سبق توضيح) : هل ورد في الشرع ما يجيز لأحد من الناس التهجم على غيب علم الله الذي ستره عن عباده وإخبار الناس بما يصيبهم من خير أو شر؟ فإن ضل أو استشعر من الخبط والخلط قال: (السبحة تايهة السبحة تايهة) فالمرجو أن توضحوا لنا ذلك بمناركم المنير وتزيلوا هذه الغيوم المتلبدة على العقول. (ج) لم يرد في كتاب الله ولا سنة نبيه عليه الصلاة والسلام ما يدل على جواز هذه الدعوى لأحد، بل ورد ما يدل على أن الأنبياء عليهم السلام قد أمروا بأن يتنصلوا منها: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} (الأنعام: 50) ، {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) ، {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل: 65) والآيات في هذا المعنى كثيرة. واستشكل بعضهم نفي علم الغيب عن النبي مع أنه أخبر بكثير منه، وأحسن جواب أجابوه ما تؤيده الآيات كقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إليَّ} (الأنعام: 50) فنقول فيما أخبر به من ذلك كما قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) وأما المنفي فهو ما يتعلق بمصالح الدنيا وما يكون من أمر الناس فيها واستشهدوا له بالحديث الصحيح الوارد في تأبير النخل وقوله لما خرج خلاف ما قاله عليه السلام: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) وفي رواية لمسلم: (إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم وإن كان من أمر دينكم فإلي) فالحديث يدل على أن الله تعالى لم يعط الأنبياء معرفة الغيب في مصالح الناس في دنياهم، وإنما جعل علم الدنيا كسبيًّا يعلمه الناس بالبحث والجد. أما هؤلاء الدجالون من أصحاب السبح ونحوهم فلا تزال بضاعتهم تروج ما دام هذا الجهل فاشيًا في جميع طبقات الأمة، ولا ينفع في الجاهل المُقَلِد الأعمى دليل ولا برهان. وراجعوا مقالات (كرامات الأولياء) في ص401 و417 و 449 و481 و 545 من مجلد المنار الثاني.

الكتاب الموعود بنشره

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكتاب الموعود بنشره (بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل المخلوقين وعلى آله وأصحابه أنصار دينه الأولين وعلى أتباعهم في مسالكهم إلى يوم الدين. أما بعد: فأقول: لما كان عهدنا هذا - وهو أوائل القرن الرابع عشر- عهدًا عم فيه الخلل والضعف جميعَ المسلمين، وكان من سنة الله في خلقه أن جعل لكل شيء سببًا، فلا بد لهذا الخلل الطارئ والضعف النازل من أسباب ظاهرية غير سر القدر الخفي عن البشر فدعت الحمية بعض أفاضل العلماء والسراة والكتاب السياسيين للبحث عن أسباب ذلك والتنقيب عن أفضل الوسائل للنهضة الإسلامية فأخذوا ينشرون آراءهم في ذلك في بعض الجرائد الإسلامية الهندية والمصرية والسورية والتاتارية. وقد اطلعت على كثير من مقالاتهم الغراء في هذا الموضوع الجليل واتبعت أثرهم بنشر ما لاح لي في جل هذا المشكل العظيم. ثم بدا لي أن أسعى في توسيع هذا المسعى بعقد جمعية من سراة الإسلام في مهد الهداية - أعني مكة المكرمة - فعقدت العزيمة متوكلاً على الله تعالى على إجراء سياحة مباركة بزيارة أمهات البلاد العربية؛ لاستطلاع الأفكار وتهيئة الاجتماع في موسم أداء فريضة الحج، فخرجت من وطني أحد مدن الفرات في أوائل محرم سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف وكلي ألسن تنشد: دراك فمن يدنف لعمري يدفن ... وما نافع نوح متى قيل قد فني دراك فإن الدين قد زال عزه ... وكان عزيزًا قبل ذا غير هين فكان له أهل يوفون حقه ... بهدي وتلقين وحسن تلقن إلام وأهل العلم أحلاس بيتهم ... أما صار فرضًا رأب هذا التوهن هلموا إلى (أم القرى) وتآمروا ... ولا تقنطوا من روح رب مهيمن فإن الذي شادته الأسياف قبلكم ... هو اليوم لا يحتاج إلا الألسن فسلكت الطريق البحري من إسكندرون معرجًا على بيروت فدمشق ثم يافا فالقدس، ثم جئت الإسكندرية فمصر، ثم من السويس يممت الحديدة فصنعاء فصُعُدًا إلى البصرة ومنها رجعت إلى حائل إلى المدينة على مُنوِّرِها أفضل الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة، فوصلتها في أوائل ذي القعدة، فوجدت أكثر الذين أجابوا الدعوة ممن كنت اجتمعت بهم من أفاضل البلاد الكبيرة المذكورة وسراتها قد سبقوني بموافاتها، وما انتصف الشهر - وهو موعد التلاقي - إلا وقدم الباقون ما عدا الأديب البيروتي الذي حرمنا القدر ملاقاته لسبب أنبأنا عنه فعذرناه. وفي أثناء انتظارنا منتصف الشهر سعيت مع بعض الإخوان الوافدين في تحري وتخيّر اثني عشر عضوًا أيضًا لأجل إضافتهم للجمعية، وهم من مراكش وتونس والقسطنطينية وبغجة سراي وتفليس وتبريز وكابل وكشغر وقازان وبكين ودهلي وكلكتة وليفربول. وإذ كنت المباشر لهذه الدعوة بادرت واتخذت لي دارًا في حي متطرف في مكة لعقد الاجتماعات بصورة خفية، ومع ذلك استأجرتها باسم بواب داغستاني روسي؛ لتكون مصونة من التعرض رعاية للاحتياط. وقد انعقد من منتصف الشهر إلى سلخه اثنا عشر اجتماعًا غير اجتماع الوداع جرت فيها مذكرات مهمة صار ضبطها وتسجيلها بكمال الدقة كما سيعلم من مطالعة هذا السجل المتضمن كيفية الاجتماعات مع جميع المفاوضات والمقررات غير ما آثرت الجمعية كتمه كما سيشار إليه. *** الاجتماع الأول يوم الإثنين الخامس عشر ذي القعدة سنة 1316 في اليوم المذكور انتظمت الجمعية للمرة الأولى وأعضاؤها اثنان وعشرون فاضلاً كلهم يحسنون العربية، فبعد أن عَرَّفت كلاًّ منهم بباقي إخوانه وتعارفوا بالوجوه بادرتهم بتوزيع اثنين وعشرين قائمة - كن مهيئات قبلاً - مطبوعات بمطبعة (الجلاتين) التي استعرتها من تاجر هندي في مكة لأجل طبع هذه القائمة وأمثالها من أوراق الجمعية، محررًا في نسخ القائمة مختصر تراجم إخوان الجمعية جميعهم ببيان الاسم والنسبة والمذهب والمزية المخصوصة، وموضحًا فيها أيضًا مفتاح الرموز التي يحتاج الإخوان لاستعمالها. وأعضاء الجمعية هم: السيد الفراتي، الفاضل الشامي، البليغ القدسي، الكامل الإسكندري، العلامة المصري، المحدث اليمني، الحافظ البصري، العالم النجدي، المحقق المدني، الأستاذ المكي، الحكيم التونسي، المرشد الفاسي، السعيد الإنكليزي، الموالي الرومي، الرياضي الكردي،المجتهد التبريزي، العارف التاتاري، الخطيب الفازاني، المدقق التركي، الفقيه الأفغاني، الصاحب الهندي الشيخ السندي، الإمام الصيني. ثم بادرت الإخوان جاهرًا بكلمة شعار الأخوة التي يعرفونها مني من قبل وهي (لا نعبد إلا الله) مسترعيًا سمعهم وخاطبتهم بقولي: من كان منكم يعاهد الله تعالى على الجهاد في إعلاء كلمة الله والأمانة لإخوان التوحيد أعضاء هذه الجمعية المباركة فليجهر بقوله: (عليّ عهد الله بالجهاد والأمانة) ، ومن كان لا يطيق العهد فليعتزلنا وما جال نظري فيهم إلا وسارع الذي عن يميني إلى عقد العهد ثم الذي يليه ثم الذي يليه إلى آخرهم. ثم التمست منهم أن ينتخبوا أحدهم رئيسًا يدير الجمعية ومذكراتها وآخر كاتبًا يضبط المفاوضات ويسجل المقررات، فأجابني العلامة المصري أن معرفة الإخوان بعضهم بعضًا جديدة العهد وأنك أشملهم معرفة بهم، فأنا أترك الانتخاب لك. وما أتم رأيه هذا إلا وأجمع الكل على ذلك، فحينئذ أعلنت لهم أن أتخير للرئاسة الأستاذ المكي وأتخير نفسي لخدمة الكتابة تفاديًا من إتعاب غيري في الخدمة التي يمكنني القيام بها، واستأذنت الأفاضل الأعجام منهم بنوع من التصرف في تحرير بعض ألفاظهم، فأظهر الجميع الرضا والتصويب. وصرح الأستاذ بالقبول مع الامتنان من حسن ظنهم به واستولى على الجمعية السكون ترقبًا لما يقول الرئيس. أما (الأستاذ الرئيس) فقطَّب جبينه مستجمعًا فكره ثم استهل فقال: الحمد لله عالم السر والنجوى، الذي جمعنا على توحيده ودينه وأمرنا بالتعاون على التقوى، والصلاة والسلام على نبينا محمد القائل: (المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ، وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله انتصارًا لدينه لم يشغلهم عن إعزاز الدين شاغل، وكان أمرهم شورى بينهم يسعى بذمتهم أدناهم، اللهم {إِيَّاكَ نَعْبُد} (الفاتحة: 5) لا نخضع لغيرك {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) لا ننتظر نفعًا من سواك ولا نخشى ضرًّا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ} (الفاتحة: 6) الذي لا خفيات ولا ثنيات فيه {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) بنعمة الهداية إلى التوحيد {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) بما أشركوا {وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 7) بعد ما اهتدوا، سبحانك ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدًا. وبعد: فيا أيها السادة الكرام، كل منا يعلم سبب اجتماعنا هذا من مفاوضات أخينا السيد الفراتي الذي أجبنا دعوته لهذه الجمعية شاكرين سعيه. ولذلك لا أرى لزومًا للبحث عن السبب، كما لا أجد حاجة لتنشيط همتكم، وتأجيج نار حميتكم؛ لأننا كلنا في هذا العناء سواء، ولكن أذكركم بخلاصة تاريخ هذه المسألة فأقول: إن مسألة تقهقر الإسلام بنت ألف عام أو أكثر، وما حفظ عز هذا الدين المبين كل هذه القرون المتوالية إلا متانة الأساس مع انحطاط سائر الأمم عن المسلمين في كل الشؤون إلى أن فاقتنا بعض الأمم في العلوم والفنون المنورة للمدارك فَرَقَت قوتها فنشرت نفوذها على أكثر البلاد والعباد من المسلمين وغيرهم ولم يزل المسلمون في سُباتهم إلى أن استولى عليهم الشلل على كل أطراف جسم الممالك الإسلامية وقرب الخطر من القلب - أعني: (جزيرة العرب) - فتنبهت أفكار من رزقهم الله بصيرة بالعواقب، ووفقهم لنيل أجر المجاهدين فهبوا ينشرون المواعظ والتذكرة والمباحث المنذرة، فكثر المتنبهون، وتحركت الخواطر لكنها حركة متحيرة الوُجهة ضائعة القوة، فعسى الله أن يرشد جمعيتنا للتوصل إلى توحيد هذه الوجهة وجمع هذه القوة. وبتدقيق النظر في النشريات والمقالات التي جادت بها أقلام الفضلاء في هذا الموضوع نرى كلها دائرة على أربعة مقاصد ابتدائية: (الأول) منها بيان الحالة الحاضرة ووصف أعراضها بوصف عام وصفًا بديعًا يفيد التأثر ويدعو إلى التدبر، على أن ذلك لا يلبث إلا عشية أو ضحاها. (والثاني) بيان أن سبب الخلل النازل هو الجهل الشامل، بيان إجمال وتلميح، مع أن المقام يقتضي عدم الاحتشام من التفصيل والتشريح. (والثالث) إنذار الأمة بسوء العاقبة المحدقة بها إنذارًا هائلاً تطير منه النفوس مع أن الحال الواقع لا تغني فيه النذر. (والرابع) توجيه اللوم والتبعة على الأمراء أو العلماء أو على الأمة كلها لتقاعدهم عن استعمال قوة الاتفاق على النهضة، مع أن الاتفاق وهم متشاكسون متعذر لا متعسر. فهذه المقاصد القولية قد استوفت حقها من أنواع بدائع الأساليب، وآنَ أوان استثمارها وذلك لا يتم إذا لم يشخص المرض أو الأمراض المشتركة تشخيصًا دقيقًا سياسيًا، فالبحث أولاً عن مراكز المرض ثم جراثيمه ليتعين بعد ذلك الدواء الشافي الأسهل وجودًا والأضمن نتيجة، وبالتنقيب ثانيًا عن تدبير إدخاله في جسم الأمة بحكمة تصرع العناد والوهم، وتتغلب على مقاومة أعضاء الذوق والشم. ثم أظنكم أيها السادة تستحسنون الاكتتام الذي اختاره أكثر هؤلاء الكتاب الأفاضل؛ لأن لذلك محسنات بل موجبات شتَّى ينبغي أن تستعملها جمعيتنا أيضًا فلنحرص كلنا على الاكتتام؛ لأن من موجباته التزام كل منا المشرب العمري، أعني القول الصريح في النصيحة للدين بدون رياء ولا استحياء ولا مراعاة ذوق عامة أو عتاة؛ لأن حياء المريض مهلكة، وكتم الأمر المستفيض سخافة، والدين النصيحة، ولا حياء في الدين. ومن موجبات الاكتتام أيضًا أن كل ما يتخالج الفكر في موضوع مسألتنا معروف عند الأكثرين ولكن بصورة مشتتة، والناس فيه على أقسام: فصنف العلماء إما جبناء يهابون الخوض فيه، وإما مراءون مداجون يأبون أن تخالف أقوالهم أحوالهم، وباقي الناس يأنفون أن يذعنوا لنصح ناصح صادع غير معصوم، ولذلك كان القول من غير معرفة القائل أرعى للسمع وأقرب للقبول والقناعة وأدعى للإجماع. ثم أظنكم أيها الإخوان تستصوبون أن نترك جانبًا اختلاف المذاهب التي نحن متبعوها تقليدًا، فلا نعرف مآخذ كثير من أحكامها، وأن نعتمد ما نعلم من الكتاب وصحيح السنة وثابت الإجماع؛ وذلك لكيلا نتفرق في الآراء، وليكون ما نقرره مقبولاً عند جميع أهل القبلة؛ إذ إن مذهب السلف هو الأصل الذي لا يرد، ولا تستنكف الأمة أن ترجع إليه وتجتمع عليه في بعض أمهات المسائل؛ لأن في ذلك التساوي بين المذاهب، فلا يثقل على أحد نبذ تقليد أحد الأئمة في مسألة تخالف المتبادر من نص الكتاب العزيز أو تباين صريح السنة الثابتة في مدونات الصدر الأول. ولا يكبرن هذا الرأي على البعض منكم فما هو برأي حادث بين المسلمين. بل جميع أهل جزيرة العرب ما عدا أخلاط الحرمين على هذا الرأي، ولا يخفى عليكم أن أهل الجزيرة وهم من سبعة ملايين إلى ثمانية كلهم من المسلمين السلفيين عقيدة الحنابلة , أو الزيدية أو الشافعية مذهبًا وقد نشأ الدين فيهم وبلغتهم فهم أهله وحملته وحافظوه وحماته وقلما خالطوا الأغيار أو وجدت فيهم دواعي الغرباء والتفنن في الدين لأجل الفخار ولا يعظمن على البعض منكم أيضًا أنه كيف يسوغ لأحدنا أن يثق بفهمه وتحقيقه مع بعد العهد ويترك تقليد م

علم تلامذة العرب وبلاغتهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ علم تلامذة العرب وبلاغتهم جاء في أمالي أبي علي القالي ما نصه: حدثنا أبو بكر بن دريد، قال: حدثنا أبو عثمان سعيد بن هارون الأشنانذاني، عن التوزي، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان لرجل من مقاول حمير ابنان يقال لأحدهما عمرو، وللآخر ربيعة، وكانا قد برعا في الأدب والعلم، فلما بلغ الشيخ أقصى عمره وأشفى على الفناء دعاهما ليبلو عقولهما ويعرف مبلغ علمهما، فلما حضرا قال لعمرو وكان الأكبر: أخبرني عن أحب الرجال إليك، وأكرمهم عليك. قال: السيد الجواد، القليل الأنداد، الماجد الأجداد، الراسي الأوتاد، الرفيع العماد، العظيم الرماد، الكثير الحُساد، الباسل الذواد، الصادر الوراد. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: ما أحسن ما وصف، وغيره أحب إلي منه. قال: ومن يكون بعد هذا؟ قال: السيد الكريم، المناع للحريم، المفضال الحليم، القمقام [1] الزعيم، الذي إن هم فعل، وإن سئل بذل. قال: أخبرني يا عمرو بأبغض الرجال إليك. قال: البرم اللئيم [2] ، المستخذي الخصيم [3] ، المبطان النهيم [4] العيي البكيم [5] ، الذي إن سئل منع، وإن هُدِّد خضع، وإن طلب جشع [6] . قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أبغض إلي منه. قال: ومن هو؟ قال: النموم الكذوب، الفاحش الغضوب، الرغيب عند الطعام [7] ، الجبان عند الصِّدام. قال: أخبرني يا عمرو، أي النساء أحب إليك؟ قال: الهركولة اللفاء [8] ، الممكورة الجيداء [9] ، التي يشفي السقيم كلامها، ويبرئ الوصب إلمامها [10] ، التي إن أحسنت إليها شكرت، وإن أسأت إليها صبرت، وإن استعتبتها أعتبت [11] ، الفاترة الطرف، الطفلة الكف [12] ، العميمة الردف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعت فأحسن وغيرها أحب إلي منها. قال: ومن هي؟ قال: الفتانة العينين، الأسيلة الخدين، الكاعب الثديين، الرداح الوركين [13] ، الشاكرة للقليل، المساعدة للحليل، الرخيمة الكلام، الجماء العظام، الكريمة الأخوال والأعمام، العذبة اللثام. قال: فأي النساء أبغض إليك يا عمرو؟ قال: القتاتة [14] الكذوب، الظاهرة العيوب، الطوافة الهبوب [15] ، العبسة القطوب، السبابة الوثوب، التي إن ائتمنها زوجها خانته، وإن لان لها أهانته، وإن أرضاها أغضبته، وإن أطاعها عصته. قال: ما تقول ياربيعة؟ قال: بئس والله المرأة ذكر وغيرها أبغض إلي منها. قال: وأيتهن التي هي أبغض إليك من هذه؟ قال: السليطة اللسان، المؤذية للجيران، الناطقة بالبهتان، التي وجهها عابس، وزوجها من خيرها آيس، التي إن عاتبها زوجها وترته [16] ، وإن ناطقها انتهرته. قال ربيعة: وغيرها أبغض إلي منها. قال ومن هي؟ قال: التي شقي صاحبها، وخزي خاطبها، وافتتضح أقاربها، قال: ومن صاحبها، قال صاحبها مثلها في خصالها كلها، لا تصلح إلا له ولا يصلح إلا لها، قال: فصفه لى؟ قال: الكفور غير الشكور، اللئيم الفخور، العبوس الكالح، الحرون الجامح، الراضي بالهوان، المختال المنان، الضعيف الجنان، الجعد البنان [17] ، القؤول غير الفعول، الملوم غير الوصول، الذي لا يرع عن المحارم، ولا يرتدع عن المظالم. قال: فأخبرني يا عمرو أي الخيل أحب إليك عند الشدائد، إذا التقى الأقران للتجالد؟ قال: الجواد الأنيق، الحصان العتيق، الكفيت العريق [18] ، الشديد الوثيق، الذي يفوت إذا هرب، ويلحق إذا طلب. قال: نعم الفرس والله نعت فما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أحب إليَّ منه. قال: وما هو؟ قال الحصان الجواد، السَّلس القياد، الشهم الفؤاد، الصبور إذا سرى، السابق إذا جرى، قال فأي الخيل أبغض إليك يا عمرو؟ قال: الجموح الطموح، النكول الأنوح [19] الصؤول الضعيف، الملول العفيف، الذي إن جاريته سبقته، وإن طالبته أدركته، قال: فما تقول يا ربيعة؟ قال: غيره أبغض إليَّ منه، قال وما هو؟ قال: البطيء الثقيل، الحرون الكليل، الذي إن ضربته قمص [20] ، وإن دنوت منه شمس، يدركه الطالب، ويقطع بالصاحب، قال ربيعة: وغيره أبغض إليّ منه، قال: وما هو؟ قال: الجموح الخبوط [21] ، الركوض الخروط [22] ، الشموس الضروط، القطوف [23] في الصعود والهبوط، الذي لا يسلم الصاحب - لعلها بالصاحب -. ولا ينجو من الطالب. قال: أخبرني يا عمرو أي العيش ألذ؟ قال: عيش في كرامة، ونعيم وسلامة، واغتباق مدامة. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: ونعم العيش والله وصف وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: عيش في أمن ونعيم، وعز وغنى عميم، في ظل نجاح، وسلامة مساء وصباح، وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: غنى دائم، وعيش سالم، وظل ناعم. قال: فما أحب السيوف إليك يا عمرو؟ قال: الصقيل الحسام، الناثر المجذام، الماضي السطام [24] ، المرهف الصمصام، الذي إذا هززته لم يكب، وإذا ضربت به لم ينب. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم السيف نعت وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: الحسام القاطع، ذو الرونق اللامع، الظمآن الجائع، الذي إذا هززته هتك، وإذا ضربت به بتك، قال: فما أبغض السيوف إليك يا عمرو؟ قال: القطار الكهام الذي إذا ضُرِبَ به لم يقطع، وإن ذبح به لم ينخع [27] . قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: بئس السيف والله ذكر، وغيره أبغض إلي منه. قال: وما هو؟ قال: الطبع الددان [28] ، المعضد [29] المهان. قال: فأخبرني يا عمرو أي الرماح أحب إليك عند المراس، إذا اعتكر البأس، واشتجر الدعاس [30] ؟ قال: أحبها إلي المارن المثقف [31] ، المقوم المخطف [32] ، الذي إذا هززته لم يتعطف، وإذا طعنت به لم يتقصف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: نعم الرمح نعت وغيره أحب إلي منه. قال: وما هو؟ قال: الذابل العسال، المقوم النسال [33] ، الماضي إذا هززته، النافذ إذا همزته [34] . قال: فأخبرني يا عمرو عن أبغض الرماح إليك. قال: الأعصل [35] عند الطعان، المثلم السنان، الذي إذا هززته انعطف، وإذا طعنت به انقصف. قال: ما تقول يا ربيعة؟ قال: بئس الرمح ذكر وغيره أبغض إلي منه. قال: ما هو؟ قال: الضعيف المهز. اليابس الكز [36] . الذي إذا أكرهته انحطم، وإذا طعنت به انقصم. قال: انصرفا، الآن طاب لي الموت اهـ. فهل نجد في تلامذتنا أو شيوخنا من يلم بمثل هذه المعاني أو يحسن مثل هذا الوصف؟ ! أنى ولا لغة لنا ولا علم إلا بلغة حية مرتقية فليرجع القارئ إلى ما جاء في نبذة التفسير من الحكم بأننا أجهل الجاهلية الأولى.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (سلم الارتقاء لمعرفة دروس الأشياء) مجموعة كتب علمية في التاريخ الطبيعي وحفظ الصحة والتدبير المنزلي والأِشياء (الطبيعيات) . شرع في تأليفها الفاضل محمد أفندي أمين من موظفي الإدارة بنظارة الأشغال العمومية. وقد صدر الجزء الأول منها وفيه 36 درسًا في مباحث التاريخ الطبيعي العمومية مع شيء من التفصيل في الإنسان. والغرض الأول من هذا الكتاب تسهيل فهم هذه العلوم على تلامذة المدارس فإنهم يتعلمونها باللغة الأجنبية في أثناء تعلم اللغة فيعسر عليهم فهمها كما يعسر عليهم فهم الكتب العربية المؤلفة فيها؛ لأنها لم توضع للمبتدئين. وقد تكرم المؤلف الفاضل بإهداء باكورة عمله إلينا. ورغب إلينا أن ندله على غلطه ليصلحه في طبعة ثانية ولكن بعض الأصدقاء أخذ الكتاب منا ليطلع عليه ويعيده بعد يوم أو يومين فعرض ما أوجب تأخير إرجاعه زمنًا طويلاً، ولذلك لم نتمكن من مطالعته، ولكننا تصفحنا قليلاً منه فألفيناه في غاية السهولة، فنتمنى أن يقبل عليه مع التلامذة نبهاء المجاورين في الأزهر الذين سألونا عن كتاب في هذا الفن يسهل عليهم فهمه من غير أستاذ. وأسلوب كتابة الكتاب أسلوب الجرائد السيارة وفيها من الانتقاد ما نود أن نذاكر المؤلف فيه مشافهة. وفي آخر الكتاب عدة رسوم، وثمنه خمسة قروش فقط. *** (الإحاطة في أخبار غرناطة) تاريخ عظيم لأديب الأندلس الشهير الوزير محمد لسان الدين بن الخطيب. عثرت عليه شركة طبع الكتب العربية فاختارت طبعه، وقد صدر الجزء الأول منه مطبوعًا طبعًا متقنًا. وهو مبتدأ بكلام عام في تلك العاصمة كوضعها، وفتحها، ونزول العرب الشاميين بها، وما آل إليه حال سكانها الأولين معهم، وحال ما يتصل بها وينسب إلى كُورتها، ووصف سورها، ونحو ذلك، وسائر الكتاب في تراجم من نشأ فيها من رجال السيف والقلم من الرجال والنساء. ولا شك أن كل قارئ بالعربية يتشوق إلى معرفة تاريخ الأندلس التي كانت أكبر فخر للعرب في العلم والمدنية وكل محب للأدب يتلذذ بقراءة كتابة لسان الدين بن الخطيب البليغة وكفى بهذين تشويقًا وترغيبًا، ولكننا أسفنا لما رأيناه في الكتاب من الغلط والتحريف كأكثر المطبوعات الجديدة، وإنما نبهنا على هذا؛ لأن هذه الشركة أقدر على ضبط كتبها من الأفراد الذين يتجرون بطبع الكتب. ولعل عذرها في هذا الجزء أنه لم يوجد منه إلا نسخة واحدة، وثمنه 15 قرشًا وصفحاته 375. *** (الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم) تصنيف العلامة عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي الأندلسي الشهير، واسم الكتاب يدل على سمو موضوعه، وهو على اختصاره قد جمع من الفوائد في بابه ما لم تجمعه الأسفار الكبيرة، ولا شك أنه من أنفع الكتب التي ألفها سلفنا. وقد طبعه واعتنى بضبطه وتصحيحه وشرح أبياته وتفسير غريبه أخونا الفاضل الشيخ أحمد عمر المحمصاني الأزهري بمراجعة إمام اللغة في هذا العصر الأستاذ الشيخ محمد محمود الشنقيطي الشهير. فنحث جميع الذين يعولون على رأينا في اختيار الكتب النافعة على قراءته، ثمنه ثلاثة قروش ولو لم أظفر به إلا بثلاثة دنانير لبذلتها مرتاحًا وسنعود إلى الاقتباس منه بعد. *** (مرشد مأموري الضبطية القضائية. ضبط الوقائع الجنائية) لقد أحسن صنعًا الفاضل محمد بك صبري عضو النيابة بمحكمة الزقازيق بتأليف رسالة سهلة العبارة في كيفية ضبط الوقائع الجنائية ليستعين بها العمد ومأمورو الضبطية فيما يعهد إليهم من هذا العمل العظيم الذي يتعلق بحفظ الدماء والأعراض، وأكثر العمد والمأمورين جهلاء بالطرق التي تتبع في ذلك، ويصعب عليهم الاستمداد من كتب القوانين، فسهل لهم هذا المؤلف ذلك، فعسى أن يقبلوا عليه ويحيطوا بما فيه. وهو مطبوع طبعًا حسنًا بمطبعة الشعب، ويطلب من مكتبة الشعب ومن حضرة مؤلفه *** (المصور) جريدة أسبوعية سياسية أدبية مصورة بالألوان أنشأها حديثًا أحد الكتاب المشهورين بآثارهم القلمية في المؤلفات العصرية والجرائد اليومية الفاضل خليل أفندي زينية. وقيمة الاشتراك فيها خمسون قرشًا أميريًّا في السنة، وهي جديرة بالرواج. *** (الرأي العام) جريدة مشهورة في مصر يمتاز صاحبها البارع إسكندر أفندي شلهوب بأسلوب في كتابة الجرائد يجذب القارئ إلى المطالعة فإذا أخذ جريدته قرأها كلها بلذة، وإن كان من لا يقرأون من الجرائد إلا ما يحبون موضوعه. وقد كانت احتجبت ثم أسفرت فعسى أن تظل مسفرة دائمًا.

حرية الجرائد والشعور العام بالفضيلة في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حرية الجرائد والشعور العام بالفضيلة في مصر أكبر النعم التي مُنحتَها مصر في عهد الاحتلال الأمن العام وحرية المطبوعات. ومن العجائب أن المتمتعين بهذه الحرية يشكون في هذه الأيام منها، ويطلب بعضهم أن تقيد الحكومة هذه الحرية المطلقة كمن يطلب احتكار الهواء الذي يحيا به الناس ليعطوا منه بقدر ما يراه المحتكر لازمًا لحياتهم. هذا ما يظهر بادئ الرأي من الذين يردون على طالبي التقييد، على أنه لم يطلبه أحد ونحن نذكر الحقيقة مع بيان السبب. كثرت الجرائد الأسبوعية في مصر، وأكثر أهلها ليسوا من أهل الصحافة فلا استعداد عندهم لجعلها حاجة من حاجات البلاد؛ ولذلك أشرعوا لهم طريقًا جديدًا وهو التنديد أو التعريض بمساوئ الأشخاص وقد وجدوا في هذا الطريق لماجًا وعوارض يرضون بها قومهم، فمن الناس من يفتدي عرضه منهم بقليل من المال أو العروض، ومنهم من يغريهم بذم عدو له بأجر معلوم، وقد أطمعتهم معاملة هؤلاء السفهاء بالعظماء والفضلاء فلم يسلم منهم صنف من الأصناف، وقد أكثروا في هاتين السنتين من الخوض (بالمعية السنية ... ) والإرجاف بأعمالها. هذا كله، والرأي العام ساكت عنهم، فما الذي أقام عليهم القيامة في هذه الأيام وأفاض التبرم والشكوى على جميع الألسنة والأقلام؟ الجواب عن هذا السؤال يعرفه كل من يقرأ الجرائد المصرية وإنما نذكره صريحًا؛ لأنه من المبشرات بدخولنا في الحياة الاجتماعية بعد أن كانت حياتنا فردية أحادية، وليكون مسجلاً في تاريخ مصر الأدبي. وهو أن جريدة (حمارة منيتي) الهزلية التي تكتب غالبًا باللغة العامية المصرية قد طعنت من عهد قريب بفضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية فهاج الرأي العام في مصر للطعن بهذا الإمام العظيم، وذهب الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بنفسه إلى محكمة مصر الكبرى وطلب من رئيس النيابة فيها محاكمة صاحب جريدة الحمار بعد أن طلب مقابلة النائب العمومي فقيل له أنه مسافر. وتقدمت المحاضر العمومية من العلماء وطلاب الأزهر ومن الأهالي في القاهرة ومن بعض البلاد في خارجها يطلبون محاكمته. وانطلقت أقلام الكتاب والشعراء في ذم صاحب الحمارة وأجمعت الجرائد على ذمه وانبرى بعض الكتاب لإحصاء عيوب جريدته منذ أنشئت، وذكروا منها إهانة القرآن وإفساد الآداب وإفساد اللغة والطعن بالسلطان والأمير وغير ذلك. وقد قال بعض الأدباء: إن بعض هذه الذنوب أكبر عقوبة من الطعن بمفتي الديار المصرية فلماذا سكت الناس عنها إلى الآن؟ وقد ذكر صاحب الحمارة نفسه هذا المعنى في مقدمة العدد الأول من السنة الخامسة ونصه: (قل لي بحقك ما الذي جناه صاحب الحمارة اليوم حتى قامت عليه هذه القيامة، وما هي بالله تلك الخطيئة التي ارتكبها واستحق عليها الملام، واتجهت إليه أسنة الأقلام. وانصبت عليه كل هذه السهام؟ فلم يبق في أرض مصر جريدة ولا مجلة ولا قصيدة إلا وقد حملت عليه، بعد أن كانت في العادة تحمل منه لا عليه، ولا يبقى شاعر، ولا كاتب واعر، إلا وحرك في ذكراه شفتيه، كأنهم يريدون ابتلاعه بكل ما لديه) إلخ. هذا هو السبب في تألم الرأي العام من إطلاق المطبوعات، وما من شيء في هذا الوجود إلا وله سيئات وحسنات، وهو دليل على أن الأمة المصرية قد دب فيها الشعور بشئون الحياة الاجتماعية، وصار الرأي العام يعرف لذي الفضل فضله. ولذا طالب بعض أعضاء الجمعية العمومية الرغبة إلى الحكومة بالاتفاق مع وكلاء الدول لوضع قانون عام عادل لفوضوية المطبوعات ليأمن كل إنسان على عرضه. واستحسن رأيه هذا بعض أصحاب الصحف الكبيرة وعده الآخرون وسيلة لتقييد حرية الصحافة والمطبوعات فأنكروه، ولا يزالون يتناقشون فيه وهم متفقون على أن حرية الطباعة والصحافة حسناتها أكثر من سيئاتها بأضعاف مضاعفة. وإذا رجعنا إلى مثلنا الأول نقول: إن هذه الحرية كالهواء الذي هو شرط للحياة فإذا مر في بعض الأيام على جيفة فحمل إلينا ريحها أو هب شديدًا فأثار الغبار في وجوهنا فلا شك أننا نبادر إلى ذمه والشكوى منه، ولكننا لا نطلب انقطاعه وإنما نطلب منع الجيف من طريقه وإزالة الغبار برش الأرض بالماء فلا خلاف إذن بين الناس في وجوب بقاء هذه الحرية. أما إزالة هذه الجيف فأمثل طرقها تصدي النيابة العمومية لمحاكمة أصحابها، فيجب عليها أن تحاكم كل من ينتهك حرمات الآداب وينال من أعراض الناس، وإن لم يطلب ذلك ممن يطعن فيه. إن لم تقم النيابة بهذه الخدمة للأمة فيجب على الناس أن يحاكموا من يطعن فيهم إلا عثرة الكريم فإنها تقال شرعًا وأدبًا. والامتناع عن محاكمتهم توهمًا أن ذلك يعلي شأنهم أو يخفض شأن من يحاكمهم خطأ كبير؛ فإن الحدود والعقوبات لم تسن في الشرائع الإلهية ولم توضع في القوانين البشرية إلا لهؤلاء المعتدين {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية:21) . وأما صاحب الحمارة فقد حاكمته النيابة العمومية فحكم عليه بالسجن مدة ثلاثة أشهر وبالنفقات، ولم يدخل المفتي في الدعوى مطلقًا ولا طلب حقًّا مدنيًّا. وكان في الجرائد التي حملت على صاحب الحمارة جريدة طلبت من المفتي العفو عنه، ولو كان هو الذي طلب ذلك تائبًا لأجيب طلبه قطعًا فإن الأستاذ سليم القلب واسع الحلم لا يحب أن ينتقم لنفسه، على أن ما كتبته الحمارة كان أكبر خدمة له؛ لأنه أظهر له مكانة عالية في نفوس خواص الأمة وعوامها لا يدانيه فيها أحد مع العلم القطعي لكل أحد بأنه بريء من سبب نهاق الحمارة براءة عائشة من إفك المنافقين، وصاحب الحمارة نفسه يعتقد ذلك أيضًا، لأن هذيانه لم يكن مبنيًّا إلا على الاستنباط من صورة اخترعها بعض المفسدين. أما العبرة التي نقصدها من إيراد هذه المسألة فهي إزالة شبهة علقت في أفهام أكثر الناس فكانت أضر اعتقاد تقلدوه، وهي أن من يشتغل بالعلوم الحقيقية ويتخلق بالأخلاق الفاضلة والسجايا الكاملة كالصدق والمروءة وعلو الهمة وبذل المعروف والسعي في خير الناس ومنفعتهم لا ينجح في عمله ولا يعرف له أحد فضله ويستدلون بأمثال يضربونها قد اشتبه عليهم حقها بباطلها، وهذا المثل الحق الذي يدحضها وهو أن الشيخ محمد عبده سلك هذه الطريقة فحل من نفوس الأمة محلاً عليًّا ونال فيها اسمًا سميًّا ما زاحمه فيه عالم ولا أمير، ولا شاركه فيه غني ولا وزير، والعاقبة كما قال الله تعالى للمتقين.

أمالي دينية الدرس ـ 33 ـ عصمة الأنبياء عليهم السلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (الدرس 33) عصمة الأنبياء عليهم السلام (المسألة 86) الدليل العقليّ على عصمة الأنبياء: يؤخذ الدليل على عصمة الأنبياء من وجه الحاجة إليهم في الكمال الإنساني، ومن وظائفهم المنطبقة على وجه الحاجة إليهم. وقد تقدم الكلام في ذلك، ومنه أن الوظائف خمس وهي نوعان: نوع في بيان الاعتقادات التي ترقي العقل وتعتقه من رق العبودية لمظاهر الطبيعة التي خلق مستعدًّا لتسخيرها والتصرف فيها فجنت عليه الوثنية فسخرته لعبادة كل مظهر منها لا يعرف علته ولا يحيط بحكمته. ونوع في تهذيب النفس وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة. ولا يرتقي النوع الإنساني إلا بمجموع ما يندرج في هذين النوعين من التكاليف وبارتقائه يكون خليفة الله تعالى في الأرض، وتلك غاية سعادته في هذه الحياة الدنيا التي تستتبع سعادته في الحياة الآخرة الباقية التي جعلت هذه الحياة مزرعة لها كما ورد. وبديهي أن العمدة في بيان النوع الأول صدق الخبر بحيث لا يحوم حوله الشك والريب. والعمدة في الثاني صدق الخبر كذلك مع حسن الأسوة وصحة القدوة بالمخبر؛ لأنه تربية وإنما التربية بالقدوة، والتعليم القولي مساعد للتأسي وأثره. ولا تحصل الثقة القطعية بصدق الخبر إلا إذا كان المخبر معصومًا من الكذب والخطأ في التبليغ. ولا تتم القدوة وتحسن الأسوة إلا إذا كان الإمام المقتدى به بريئًا من النقائص، منتهيًا عما ينهى عنه، مؤتمرًا بما يأمر به، متخلقًا بما يرغب في التخلق به إذًا لا تتم حكمة الله تعالى في إرسال الرسل إلا إذا كانوا بحيث ذكرنا من الصدق والنزاهة. والحكمة واجبة لله تعالى فوجب أن يكون الأنبياء المبلغون عنه سبحانه صادقين معصومين {لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) ولا يلزم من هذا إيجاب شيء على الله تعالى فيكون حجة للمعتزلة وإنما هو إيجاب الحكمة له كإيجاب العلم والقدرة. *** (م 87) الدليل النقلي على عصمتهم: إن الله تعالى ما أرسل المرسلين إلا ليُتبعوا ويُقتدى بهم، وقد أمر باتباعهم كقوله في خاتمهم عليه السلام: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) فلو كانوا يخالفون ما يجيئون به من الهدى لكان الله تعالى آمرًا بالشيء ناهيًا عنه في آنٍ واحد، وهو مُحال على الله تعالى، ولو فعلوا الفاحشة لكان الله آمرًا بها من حيث أمر باتباعهم أمر تشريع وأمر بالتأسي بالعظماء أمر تكوين بأن أودع ذلك في فطرة الإنسان. وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: 28) على أن الطاعة هي ما أمر الله تعالى به فلو فُرض أن المرسلين يرتكبون المعاصي لكان معنى ذلك أن الطاعات هي من المعاصي كما قال السنوسي في الكبرى وذلك تناقض لا يقول به عاقل. وهذا الاستدلال لا يصح على أصول أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويجب أن يكون أصلاً يرجع إليه جميع الأدلة التي يثبت هو بها فيكون ناقضًا لنفسه. *** (م 88) الشبه على العصمة: يقولون: ورد في القرآن إثبات الذنوب للأنبياء والمرسلين إجمالاً وتفصيلاً. أما الإجمال فكقوله تعالى {لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح: 2) وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (غافر: 55) وقوله عز وجل: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (النصر: 3) وأما التفصيل فكقوله: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121) وكقصة داود وسليمان عليهما السلام وكقصة إخوة يوسف، ونحن نجيب عن ذلك بالتفصيل. *** (م 89) مغفرة الذنوب: علمنا مما تقدم أن معنى عصمة الأنبياء في النوع الثاني (العملي) هو نزاهتهم وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها لئلا يكونوا قدوة سيئة مفسدين للأخلاق والآداب وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع. وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الضعف البشري من التقصير في القيام بحقوق الله تعالى على الوجه الأكمل، ومن الخطأ في الاجتهاد ببعض المصالح والمنافع ودرء المضار. كلا إن الإنسان خلق ضعيفًا، وما أوتي من العلم إلا قليلاً، ولا يمكن أن يحيط بوجوده المصالح والمنافع ودرء المضار والمفاسد إلا من هو بكل شيء عليم، ومن ليس له هذه الإحاطة قد يخطئ في اجتهاده فيعمل العمل وهو يعتقد أنه الصواب والخير فيجيء بخلاف ذلك - ومثل هذا يسمى ذنبًا من الكامل والمقرّب؛ لأن الإنسان مستعد لإدراك الصواب في تلك المسألة التي أخطأ فيها، فإذا وقع عَرَضًا من الأنبياء يعاتبهم الله تعالى عليه ويغفره لهم ويأمرهم بتبليغ ذلك لأمتهم؛ ليعرفوا الفرق بين الرب والعبد فلا يفضي بهم الغلوّ بتعظيم أنبيائهم والإعجاب بفضائلهم ونزاهتهم إلى عبادتهم مع الله تعالى-. ومن أمثلة ذلك اجتهاد نبينا صلى الله عليه وسلم في استمالة رؤساء قومه وأغنيائهم إلى الإيمان الذي أدّاه إلى الإعراض عن ابن أمّ مكتوم لما جاءه يسأله أن يعلمّه مما علّمه الله وكان يدعو صناديد قريش، فإنه كره أن يشتغل به عنهم لئلا ينفّرهم، ولا يخفى أن أولئك النفر من كبارهم هم الذين كانوا يحادّون النبي ويناصبونه ولو آمنوا أولاً لتبعهم سائر قريش، فهذا هو وجه اجتهاده صلى الله عليه وسلم في العناية بهم والإعراض عن الأعمى إذ جاء يشغله عنهم. فعاتبه الله تعالى على ذلك وردعه عنه بالقول الشديد كقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} (عبس: 3) ، فلَْتُتْلَ الآيات في أول سورة (عبس) وذلك أن سنة الله تعالى مضت في أن الأديان تقوم بالدعوة والاقتناع والرؤساء والمترفون أبعد الناس عن معرفة الحق وعن الخضوع له إذا عرفوه، وقد جاء في هذا المعنى آيات. ومن الأمثلة أيضًا عتابه في مسألة زيد وزينب (فلتراجع في ص 630 و714 من المجلد الثالث) . ومنها: إذنه صلى الله تعالى عليه وسلم للذين استأذنوه في التخلّف يوم الخروج إلى تبوك، وقد عاتبه الله تعالى على ذلك ألطف عتاب بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة: 43) الآية. فكان الأولى أن لا يأذن ليعلم الكاذب المنافق، من المؤمن الصادق، ومنها مسألة أخذ الفداء من أسرى بدر اجتهد صلى الله عليه وسلم وشاور فاختلف أصحابه فوافق رأيه رأي أبي بكر بأخذ الفداء فعاتبه الله تعالى عتابًا شديدًا حتى بكى وبكى أبو بكر، وذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 67-68) قال البيضاوي في تفسيره: والآية دليل على أن الأنبياء يجتهدون وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يُقَرُّون عليه. فهذه هي ذنوب الأنبياء وهم يستغفرون منها، وهي مغفورة لهم بفضل الله تعالى لأنهم لم يريدوا إلا الخير والنفع وليس فيها قدوة سيئة، وإنما فيها فائدة معرفة الناس أن النبي وإنْ جلّ قدره وعلت نفسه فهو بشر مثلهم ميزه الله تعالى بالوحي وجعله إمامًا في الخير، وأنه على هذه الخصوصية يعاتب وينسب إليه الذنب والتقصير، ويمنحه الله المغفرة دلالة على أن له أن يغفر له وله أن يعاقبه {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعا} (المائدة: 17) وعلى أنَّ توقع نزول العقوبة بأصحاب المعاصي التي تنتهك فيها الشرائع ويخالف الدين عمدًا - وهو ما لا يقع من الأنبياء - أقرب، وأنهم أولى بالخوف منه وأجدر بالتوبة. وأن الكمال المطلق لله تعالى وحده فلا رب غيره ولا معبود سواه. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة (س1) من الشيخ مقبل عبد الرحمن الذكير في البحرين: ما قول منار الإسلام وهداة الأنام سادتنا العلماء الأعلام في الأوراق المسماة بالأنواط التي وضعها بعض الدول للتعامل عوضًا عن بعض المسكوكات الفضية كالروبيات مثلاً والتزمت تلك الدولة التعويض عنها بالأثمان المقدرة بها؟ هل تجري مجرى العروض كما هو واقع من كثير من التجار يتعاطونها بيعًا وشراءً، رواجًا وبخسًا، أو تجري مجرى العين؟ فإن قلتم بالثاني فهل تقولون به من كل وجه وفي كل باب، أو من بعض الوجوه وفي بعض الأبواب؟ فإن قلتم بالأول فيقتضي أن لا يجوز صرف تلك الأوراق بباقي أيّة سكة من السكك الفضية إلا وزنًا بوزن، يدًا بيد وهو في الظاهر بعيد كما أن ذلك يقتضي أن لا يجوز الزيادة على الثمن الذي قدرت به بشيء ما، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذه المسألة، ويتفرع عنها في باب الزكاة وباب الصرف، وباب الدين والحوالة والبيع نقدًا ونسيئة، وما تقولون في الحديث الوارد: (إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم) . وبالضرورة أن الورق المذكور بل وجنس الورق كيف كان ليس هو من جنس أحد النقود الذهبية والفضية والنحاسية لا لغةً - وهي معتبرةٌ هنا في الشرع - ولا عقلاً وشرعًا ولا عرفًا عامًّا. والمأمول أن يكون التقرير في غاية الوضوح والبيان والمتانة على منهج القواعد الشرعية والأدلة المرعية والطرق الأصولية بالسيرة المرضية؛ لأن المسألة بعموم البلوى والضرورة العامة صار لها في البحث أهمية. ولكم الأجر والثواب من الملك الوهاب. (ج) الورق ليس مالاً ربويًّا في عرف فقهائنا؛ ولذلك أفتى بعض علماء الشافعية بأن هذه الأوراق المالية المسماة بالأنواط (مفرد: نوط) لا يجري فيها الربا، ويفتي غيرهم من علماء المذاهب بذلك؛ لأن الربا مخصوص بالنقدين والأقوات عند الشافعية ومن وافقهم. والعلة عند الحنفية الكيل مع الجنس أو الوزن، فكل مكيل أو موزون إذا بيع بجنسه متفاضلاً فهو ربًا محرم ولكن هذا لا يأتي في هذه الأنواط وإن ورقتين منها يتساويان في الوزن، وقيمة إحداهما مائة روبية والأخرى ألف روبية مثلاً. فلا بد من النظر في مقاصد الشريعة وحكمها وجعلها مدار معرفة الأحكام، وإننا نأخذ بكلام الفقهاء ما لم يخل بهذه المقاصد، فإذا أخل بشيء منها كمنع الزكاة أو إباحة الربا الضار الذي حرمه الله تعالى رحمة بالناس فإننا لا نقبله؛ إذ لا يصح أن يكون الاجتهاد مبطلاً للنص بل لا يصح مع النص، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. ولا يخفى على أحد أن هذه الأوراق المالية لا قيمة لها من حيث هي ورق، وإنما هي سند بمبلغ من النقود فقيمتها بحسب الرقم الذي يعين المبلغ. ولا يضر المتدين الأخذ بقول أي فقيه ما لم يمنع الزكاة أو يستبِح الربا. فأما الزكاة فلا تضيع إذا اعتبرنا هذه الأنواط من عروض التجارة؛ لأنها تقوم في كل حول بقيمتها وتؤدى زكاتها. وأما الربا فالذي أجمع المسلمون على تحريمه منه هو ربا النسيئة، والجماهير من الأئمة الأربعة وغيرهم على تحريم ربا الفضل أي: الزيادة في أحد العوضين مع التقابض فيما هو ربوي كالنقود والتمر والحنطة ونحوهما، وفيه خلاف بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين كابن عمر وابن عباس وأسامة بن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم، وكسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير من التابعين. واستدلوا بما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أسامة (إنما الربا في النسيئة) في رواية مسلم عن ابن عباس (لا ربا فيما كان يدًا بيد) . ومثل ذلك الأحاديث الصحيحة في جواز الصرف يدًا بيد. والعله أو الحكمة في منع الربا لا محل لتفصيلها في هذا الجواب. وإنما نقول بالإجمال: إن من أكل شيئًا من مال أخيه بغير مقابل من عين أو عمل فقد أكله بالباطل، وإن أخذ زيادة عما يعطي الإنسان لأخيه بمجرد التأخير في الوفاء من دواعي قسوة القلوب ومحو عاطفة التراحم وقطع طريق الصنيعة وعمل المعروف فلا يليق بالدين أن يبيحه. ومن بليغ الكلام , ما قاله الأستاذ الإمام , وهو: إن الربا عبارة عن استغلالك حاجة أخيك. وإن مشروعية التعامل بالنقود خاصة تفضي إلى الجناية على التجارة - وسنفصل القول في الربا ومضاره في فرصة أخرى. أما حقيقة الربا فليس بعد بيان الله تعالى فيها بيان قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) فعلمنا أن الربا قسيم البيع ومقابله، فالجامع بينهما المعاوضة، والفارق هو أن أحد العوضين في البيع وهو الثمن يقابل جميع العوض الآخر وهو المثمن بخلاف الربا فإن أحد المتعاوضين فيه يأخذ جزءًا من مال الآخر بدون عوض ولا مقابل، وهذه التفرقة معتبرة في التسمية إلى الآن، فالربا لا يسمى بيعًا، ولكن من البيع ما تدخله شبهة الربا بحسب ما توسع فيه الفقهاء من أحكامه وجزئياته، ولكن من فهم حكمة الشارع المبنية على درء المفسدة وجلب المنفعة لمجموع الأمة يقدر أن يميز بتفقهه في الدين بين المعاوضة والمقصود بها البيع، ونفع أخيه بمثل ما ينتفع به منه بالمعروف، وبين انتظار الفرص لضرورته واستغلال حاجته وأكل ماله بالباطل. وإنني أنصح للأخ السائل وغيره من تجار المسلمين الذين يهمهم أمر الدين أن يلاحظوا هذا الفقه الحقيقي ويجعلوه الأصل في معاملتهم؛ لأنه هو روح الدين وسره الذي يتعلق بإصلاح القلب وتزكية النفس، فإذا أفتاهم علماء الرسوم بفتوى تؤدي إلى منع الزكاة بحيلة من الحيل , أو أكل أموال الناس بلا بدل , أو تجعل البيع ربًا؛ فليحتاطوا لأنفسهم فإن الله تعالى ما تعبدنا بظواهر الألفاظ ومدلولات كلم الناس وما يضعون من الأقيسة والقواعد التي لا تصلح بها القلوب. وقد قال عليه السلام لوابصة (استفت نفسك البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه أحمد والبخاري في التاريخ وغيرهم. ومن فقه ما ذكرنا لا يحار سواء عليه أعد تلك الأنواط عروضًا أم عدها نقودًا، والذي يميل إليه القلب هو اعتبارها نقودًا. وأما الحديث الذي ذكره فهو جزء من حديث صحيح أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في مسنديهما ومسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجه في سننهما عن عبادة ابن الصامت ولفظه: (الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواءً بسواء يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إن كان يدًا بيد) ومعلوم أنه إذا اختلف الصنف بطل الربا ولا معنى لبيع شيء بمثله من صنفه إلا إذا كان من جيد ورديء، وفي هذه الحالة أجاز النبي صلى الله عليه وسلم المعاوضة بالتفاضل بشرط أن يكون بيعًا يقدّر بالثمن كما في حديث البخاري وغيره. وليس هذا من الحيلة التي تضيع بها حكمة التشريع، وإنما هي سدٌ لذريعة الربا وبيانٌ لقاعدة نافعة وهي أن الربا ينتفي بقصد البيع فكل ما تحقق فيه معنى البيع فليس من الربا في شيء. هذا ما يتسع له المجال الآن وسنعود إلى الموضوع ونطلب من العلماء الكرام بيان رأيهم لننشره والله الموفق للصواب. *** (س2) السيد أحمد منصور الباز ببني صالح: يعتري بعض الناس حال تسميها العامة (جذبًا) فيغيب عن وجوده حتى يصير كالمجنون لا يدري ما يقول ويفعل ويظهر هؤلاء بمظاهر مختلفة تعتقدهم العامة بل والعلماء، وكتب الصوفية طافحة بأخبارهم وأخبار القطب والأنجاب والأوتاد والأبدال، ويسمون مجموع هؤلاء الدائرة القطبية ورئيسها القطب الملقب بالغوث، ويقال: إنه يتلقى الأوامر الإلهية وتفيض منه إلى الدائرة القطبية بترتيب معروف عندهم فما رأيكم فيهم؟ نرجو الإفادة بالمنار ليظهر الحق للناس كافة. (ج) أما الحال التي يسمونها جذبًا فهي فن من فنون الجنون، وإنما يسمى صاحبها مجذوبًا أو بُهلولاً إذا كان سبب الحال هو الإفراط في الرياضة والمجاهدة النفسية والانقطاع للذكر والعبادة إكرامًا لمن كان كذلك أن يساوى بسائر المجانين والاعتقاد بهؤلاء البهاليل قديم العهد عندنا، وسببه أن منهم من كان يظهر على لسانه بعض الحكم؛ لأن من يذهب عقله لا يعدم كل ما كان أدركه وعَلمه، وإنما يعدم النظام بين الأفكار والمعلومات، ومنهم من ظهر على يديه بعض الغرائب أو أسنده إليهم بعض المغرورين الذين يضيفون الأشياء الغريبة إلى ما يقارنها من الحوادث، وإن لم يكن علة لها، كأن يؤذي إنسان آخر فيصاب عقيب ذلك بمصيبة تقع بوقوع سببها. وأما القطب وسائر الموظفين الروحانيين في دائرة تصرفه، الذين يسمونهم رجال الغيب كالإمامين والأوتاد والأبدال، فلم يرد فيه شيء صحيح في السنة إلا ما رووه في الأبدال وهي روايات ضعيفة مضطربة في بعضها يعدون ثلاثين وبعضها أربعين إلخ. ومن عجيب تمحلهم في الاستدلال على القطب ما نقله ابن حجر عن بعض المحدثين من حمله خبر أبي نعيم في الحِلْية على القطب وهو: (إن لله في كل بدعة كِيد بها الإسلام وأهله وليًّا صالحًا يذب عنه) إلخ. وأعجب من هذا أن المسلمين في الغالب لا يحفلون بمن يدافع عن البدع بالفعل ولا يسمونه وليًّا ولا قطبًا بل ربما عادوه، ولكن يسهل عليهم أن يقولوا: إن الذي يدافع عن البدع رجل خفي من رجال الغيب يدافع في الغيب عن الإسلام فلا يُعرف ولا تُعرف مدافعته. والحاصل أن الشرع لا يطالب أحدًا بتصديق ما لم يقُم عليه دليل، ولا يكلفه بالإيمان بهؤلاء الرجال المجهولين، بل يحرُم عليه أن يقول ما لا يعلم. وهذا لا يمنع أن تصطلح طائفة الصوفية على ألقاب تطلقها على أهل الخصوصيات، وليس لهم أن يفضوا بذلك إلى من لا يعرف تلك الخصوصية لئلا يكلفوه بالقول بغير علم. وللمبحث ذيول سنفصلها تفصيلاً. *** (س3) محمد أفندي مأمون كرشه بسنديون (غربية) : هل حكم الحاكم يرفع الخلاف أم لا، ومَن هذا الحاكم، فإن كان رافعًا فهل يبقى كذلك بعد موته؟ فإنه إذا لم يبق يلزم أن لا يعمل بحكم قاضي مصر السابق إلا إذا أجازه من يخلفه. (ج) حكم الحاكم الشرعي الذي رأيتم شروطه في الجزء الماضي يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية فيجب تنفيذه ولو عزل أو مات. ونعني بالمسائل الاجتهادية ما لا يخالف الكتاب والسنة والإجماع. قال في الجامع الصغير: (وما اختلف فيه الفقهاء فقضى به القاضي ثم جاء قاضٍ آخر يرى غير ذلك أمضاه) وعلَّله الكمال في الفتح بأن اجتهاد الثاني كاجتهاد الأول، ويرجح هذا باتصال القضاء به فلا ينقض بما دونه. *** (س4) ومنه: هل يصح ما يقول الوعاظ وعصابة الزار من أن الجنّ مسلطون على الإنسان؟ وهل الزار على هذا منكر يجب النهي عنه شرعًا أم لا؟ وإن أجبتم بالسلب، فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا الحمام المقاصيص فإنها تلهي الجن عن صبيانكم) ؟ ومعنى ما ورد في الآثار أن الجن يجري في جسم الإنسان مجرى الدم في الشرايين؟ (ج) لفظ الجن يطلق على المخلوقات الخفية، ويقال: إن منها ما هو مادي وما هو روحاني، وأجدر بهذه الأحياء التي يسمونها الميكروبات أن تكون من المادي وهي سبب الأمراض والأوبئة كالطاعون والهيضة، وعليها يحمل ما ورد من أن الطاعون من وَخْز الجن، فهي مسلطة على الإنسان وهو مسلط عليها بالعلم الصحيح، وإن كان لما يقدر على كثير منها بعد تمكنها في الجسم. وأما الروحانية فلا سُلطة لها على ال

القرآن والكتب المنزلة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القرآن والكتب المنزلة المقالة الثالثة للقس إسحاق طيلر نشرت في جريدة سنت جمس في 13 مايو سنة 1888. إن المسلمين قد آمنوا بالمسيح وصدقوا ببعثته وهو عندهم معدود في أولي العزم من رسل الله إلى خلقه، فهم عندنا مسيحيون نصلي لهم كل يوم أحد ونسأل الله أن يهديهم وإيانا إلى الحق وطريق مستقيم. ولا منافاة عندهم بين الاعتقاد بالقرآن وأنه كلام الله وتنزَّل من عنده، وبين الاعتقاد بسائر الكتب السماوية وأنها بوحي من الله وإلهام. بل يعرف من صريح كلام المسلمين أن اعتقادهم بالكتب السماوية إنما ساقه إلى قلوبهم الاعتقاد بالقرآن فهم في اعتقادهم بها يمتثلون أمرًا من أوامره ويجيبون داعيًا من دواعيه. وليس في المسلمين من يدعي أن القرآن يكذب شيئًا من الكتب الإلهية ولا في إمكان مسلم أن يدعي ذلك لما يشهد به القرآن من أنه مهيمن على ما بين يديه من الكتب يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، مصدق لما معهم من الحق ولكنهم يقولون: إن القرآن خاتمة الكتب كما أن من أنزل عليه (صلى الله عليه وسلم) خاتمة الأنبياء، ولا تجد مسلمًا إلا يؤمن بالتوارة والإنجيل والزبور والقرآن، فكل صحيفة من الكتب الإلهية ثبت مجيئها على لسان نبي صادق فهي عندهم كلام الله المنزه عن الخطأ والزلل. وما صح نقله عن عيسى عليه السلام فهو حق واجب التصديق، وكثيرًا ما ينقلون عن نبيهم صلى الله عليه وسلم فيما يعرف بالأحاديث شيئًا من أقوال المسيح ونصائحه وأحواله ويتلقونها بالقبول، غير أن المعروف عندنا أن الأناجيل المشهورة لم تكتب في عهد المسيح عليه السلام كما كتب القرآن وغيره في حياة من أنزل عليهم فلا لوم على المسلم إذا طلب التثبت وتحقيق السند لصحة النقل كما يكون منه ذلك فيما ينقل عن نبيه (صلى الله عليه وسلم) من الأحاديث؛ لأن عروض الشبهة في نقل من تتحقق عصمته أمر طبيعي عند عموم البشر. قال لي أحد المسلمين: إن القرآن يشهد بأن الله آتى عيسى عليه السلام الإنجيل وجعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، وما نعرفه من الكتب الإلهية نقبله ولا ننكر شيئًا منه، وإن كنا قد نختلف معكم على تفسيره وتأويله كما اختلف الأحزاب من بينكم، وعندنا أن كتابنا ونبينا صلى الله عليه وسلم قد بشر بهما أنبياؤكم من قبل كما تقولون في المسيح عليه السلام، وكما لم يقدح إنكار اليهود لعيسى في اصطفاء الله له، كذلك لا يقدح إنكار من أنكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم في ثبوت رسالته. ولقد أرشدني الاطلاع على مذاهب المسلمين في التعليم إلى أنهم لا يأبون عن تسليم أدلة القسيس بالي التي ذكرها في كتابه المسمى ببراهين دين المسيح غير أنهم يتخذون منها حججًا قويمة على أن دينهم الحق. مثلاً يعدون من بينات دينهم ودلائل أنه الحق سرعة انتشاره واستقبال القلوب وجهته على نحو غريب عزيز المثال، ثم إشراق نور الإخلاص من عقائد الذين اتبعوه كما يرشد إليه أدنى الفكر في أحوالهم من ثباتهم معه في ساعات العسرة ومصابرتهم في الشدائد وازدياد إيمانهم في الضراء واستقامة سيرهم في السراء. ومنها ما بهر العقول من الحكم الدقيقة التي برعت بها أحكام القرآن وانطباقها مجيب على ما تقتضيه طبيعة الإنسان الدينية (أي: من حيث يطلب دينًا) وتأثيرها الغريب في قلوب الآخذين بها والقائمين على سبيلها واحتباسها لنفوسهم على الكمالات الإنسانية، واجتذابها لهممهم عن الانبعاث إلى ما تدعو إليه الرعونة البدنية، فهي تلبسهم ثوب الوقار والحشمة في النعماء، وتشعرهم شعار التسليم والاصطبار في البأساء. وفي الحق أن لهم أن يسألونا: هل يمكن لأميّ مثل محمد (صلى الله عليه وسلم) أن يأتي بحقائق زكية نقية عليَّة وأحكام تسطو بسلطانها على النفوس كالتي جاء بها القرآن بدون أن يكون ذلك بوحي من الله وإمداد منه؟ أما ما يقال من أن القرآن لم يذكر فيه معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم سوى القرآن نفسه؛ فعلى فرض أن لا يصح شيء مما نقل في كتب الأحاديث من المعجزات مع أنها أشبه بالأناجيل عندنا يجاب عنه بأن هذا لا يقدح في رسالته، بل هو أوضح دليل على صدقه في دعواه؛ إذ لو كان ملبسًا أو مفتريًا (والعياذ بالله) لما أعوزه التمويه ببعض الغرائب المخترعة ليشبه على أصحابه ويحمل الناس على الإعجاب بغرائبه. وقد رأينا أن المسيح عليه السلام كان يوبخ اليهود على مطالبتهم له بالمعجزات، والذي يظهر لنا أنه لولا قساوة قلوبهم وعنادهم لما عوّل في دعواه عليها. على أن الأعاجيب التي رويت عن المسيح عليه السلام أصبحت في هذه الأيام مما يعد عقبة في طريق الاعتقاد بدينه فكثير من الناس يحسبون الدين سهل القبول لولاها. فعدول محمد (صلى الله عليه وسلم) في إثبات نبوته عن سبيل الغرائب واكتفاؤه من المعجزة بكتابه وصدق أنبائه، والبراهين العقلية التي تحدق إليها البصائر السامية، كل ذلك آيات بينات في صدور الذين أُوتوا العلم على صدقه، ولا إشكال فيه بل هو عين ما يطلبه المسلمون. ثم إن المسلمين لا يقفون في إثبات دينهم عند نهاية هذا الحد ولكنهم يذهبون إلى أن لهم في الكتب السابقة أدلة بينة على صدق كتابهم ونبيهم، صلى الله عليه وسلم وهم على يقين أن الأنبياء السابقين (عليهم الصلاة والسلام) قد توالت أنباؤهم على التبشير بنبيهم كما نقول في عيسى عليه السلام، وما يذهب إليه المسيحيون في تأويل بعض الأخبار المأثورة عن الأنبياء أو الأصفياء الأولين يخالفهم فيه المسلمون إلى تأويل أفضل لهم، وقد نجد التأويل الثاني ألصق بعبارة النبأ، فإن لم يكن فإنا نرى التأويلين في كفتين متعادلتين، وإنما يرجح كُلاًّ إِلفُ صاحبه ومَيله، ولذلك أمثال كثيرة يطول سردها ويسهل على الطالب إيجادها. أذكر ما نبهني إليه أحد أصدقائي المسلمين من معنى العددين المذكورين في آخر كتاب دانيال النبي عليه السلام وهما عدد 1290 وعدد 1335، فبعد أن بين بتاريخ انقطاع الذبيحة اليومية من يوم بني منسه ملك اليهود مذابح للأصنام في هيكل القدس، وفسر الصنم المصوغ الذي نصبه الملك في القدس بالرجس المخرب، وعبر عن الخراب بتسخير الأوديين لأورشليم فأراني كيف أن أحد العددين المذكورين يأتي بنا إلى زمان الهجرة النبوية، وأن الثاني ينتهي بنا إلى خلافة معاوية بن أبي سفيان عندما أتم المسلمون فتوحاتهم في سورية ومصر وفارس وأفريقيا، وكيف قطعت مصالحة الحسن بن عليّ دابر الشقاق بين الأمة، وسكن المسلمون الأرض آمنين مطمئنين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ولست أحكم بصحة التأويل ولا عدمها، ولكن أقول: إنه ليس بأقل جودة من بعض ما أول به قوم آخرون. وأهم ما نقصد الآن أن يعرف النصارى عندنا في إنكلترا كيف يستدل المحمديون بأنباء كتب اليهود والنصارى على إثبات دينهم وتحقيق يقينهم. بقي شيء يشتد الإنكار فيه منا على المسلمين وهو اعتقادهم بجنة جسمانية فيها من الحور العين ما تشتهيه نفوس المؤمنين، على أني أقول: وما إنكارنا ونحن نرى في كتاب نشيد الأناشيد المنسوب إلى سليمان بن داود (عليه السلام) عبارات إن حُملت على ظاهرها كانت أدخل في الجسمانية وعالم المادة من كل ما ينسب إلى القرآن غير إننا لمحنا من درس فصول ذلك الكتاب في ترجمته المشهورة أن تلك كنايات عن محبة المسيح لأمته، ثم إننا نرى ذِكرًا صريحًا للجنة الجسمانية في مكاشفات يوحنا المعدودة عندنا خاتمة الأناجيل، فإنه يذكر وصف أورشليم الجديدة وهي الجنة ومساحتها الدقيقة وحدودها وما فيها من أبواب من لؤلؤ وأزقة من ذهب وجدران من جوهر ويفيض فيما رواه ذلك مما لم يأت القرآن عليه. وإن لنا عبارة تألفها نفوسنا ونترنم بها في عبادتنا مع الافتخار إذ نقول: (أورشليم المذهبة المباركة باللبن والعسل) وليس يخطئ قائل لنا: إن نغمات المظفرين وأغاني المخلفين التي نجدها في مكاشفات يوحنا تذكّرنا بأن غاية المسيحي من إيمانه وأمله المطلوب من عبادته أن يصل إلى جنة نعيمه فيها أن يأكل ويشرب ويسكر ويغني كما نرى من عمله في هذه الدنيا أيام الأعياد المشهورة، على أننا نأول ذلك كله ونصرفه عن ظاهره، ونحمل كل لفظ وجد لمعنى محسوس على سر معقول. وإن العرفاء من المسلمين يعتقدون بأن لهم نعيمًا روحانيًّا يتعالى إلى غير النهاية عن النعيم الجسداني، ولسنا نكابر كما يكابر القسيس (مكول) ونحكم بأن المسلم لا مطمح له في أخراه إلا الأكل والشرب وقضاء شهوات أُخَرَ، وقد ذكر في القرآن في سورة القيامة من جزاء المؤمنين أن تكون وجوههم يوم القيامة ناضرة إلى ربها ناظرة، وفي الأحاديث عندهم ما يدل على ذلك ففيها عن نبيهم (صلى الله عليه وسلم) ما معناه أن أعظم فوز يفوز به العبد في الآخرة هو لقاء ربه في الغدوّ والآصال وهو نعيم يفوق كل نعيم كما يفوق البحر قطرات العرق، وفي حديث آخر أن المؤمنين يرون ربهم كما يرون القمر ليلة البدر. وفي آخر ما يشبه المعروف عندنا (إن الله قد أعد للمؤمنين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) . وإن في عقائد المحمديين أن رضوان الله أكبر من كل نعيم، فإن وافقنا المسلم على أن جنة جسدانية لا تليق أن تكون جزاء المؤمن في الآخرة؛ أفلا يجوز له أن يُؤول ما ورد في كتابه من ذلك كما وردت عبارة النشيد وعبارات المكاشفات والتأويل عليه أسهل منه علينا فإن عنده في كتابه ما يشير إلى أن بعض ما نص الله لهم من الكتاب لا يؤخذ على ظاهره، وله في السنة ما معناه: ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء لنا نحن. فلم يذكر لنا في المكاشفات ما يسوغ التأويل أو يشير إلى أن ما جاء فيها من الأوصاف ضرب من التمثيل؛ لأن صاحب الكتاب يصرح لنا بأن ما فيه من الأقوال حق لا ريبة فيه كما هو مذكور، فللمحمديين حق إن طلبوا الجنة الروحانية واللذائذ السامية العقلية، وهم مؤمنون بكتابهم، ويرون أن هذا المطلب عليهم أيسر منه على كثير من غيرهم، وإني أحسب من الظلم الفاحش أنَّا لا نسوغ للمسلمين سلوك طريق من التفسير لم نزل نسلكه في إيضاح غوامض كتابنا المقدس. ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسحاق طيلر

الاجتماع الثاني ـ الداء أو الفتور العام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتماع الثاني - الداء أو الفتور العام في مكة المكرمة يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة سنة 1316 في صباح اليوم المذكور انعقد الاجتماع وبعد قراءة ضبط الجلسة الأولى افتتح الكلام (الأستاذ الرئيس) فقال: إنا نجد الباحثين في الحالة النازلة بالمسلمين يشبهونها بالمرض فيطلقون عليها اسم الداء مجردًا أو مع وصفه بالدفين أو المزمن أو العضال، ولعل مأخذ ذلك ما ورد في الأثر وألفته الأسماع من تشبيه المسلمين بالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، ويلوح لي أن إطلاق الفتور العام أليق بأن يكون عنوانًا لهذا البحث لتعلق الحالة النازلة بالأدبيات أكثر منها بالماديات، ولأن آخر ما فيها ضعف الحس فيناسبه التعبير عنه بالفتور. إن هذا الفتور في الحقيقة شامل لجميع أعضاء الجسم الإسلامي فيناسب أن يوصف بالعام، وربما يتوقف الفكر في الوهلة الأولى عن الحكم بأن الفتور عام يشمل المسلمين كافة، ولكن بعد التدقيق والاستقراء نجده شاملاً للجميع في مشارق الأرض ومغاربها لا يسلم منه إلا أفراد شاذة. فيا أيها السادة، ما هو سبب ملازمة الفتور منذ قرون للمسلمين؟ من أي قوم كانوا، وأينما وجدوا، وكيفما كانت شئونهم الدينية أو السياسية أو الأفرادية أو المعاشية حتى إننا لا نكاد نجد إقليمين متجاورين أو ناحيتين في إقليم أو قريتين في ناحية أو بيتين في قرية، أهل أحدهما مسلمون وأهل الآخر غير مسلمين إلا ونجد المسلمين أقل من جيرانهم نشاطًا وانتظامًا في جميع شئونهم الحيوية الذاتية والعمومية، كذلك نجدهم أقل إتقانًا من نظرائهم في كل فن وصنعة مع أننا نرى أكثر المسلمين في الحواضر وجميعهم في البوادي محافظين على تميزهم عن غيرهم من جيرانهم ومخالطيهم في أمهات المزايا الأخلاقية مثل الأمانة والشجاعة والسخاء. فما هو والحالة هذه سبب شمول هذا الفتور وملازمته لجامعة هذا الدين كملازمة العلة للمعلول بحيث يقال: أينما وجدت الإسلامية وجد هذا الداء حتى توهم كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان. هذا هو المشكل العظيم الذي يجب على جمعيتنا البحث فيه أولاً بحث تدقيق واستقراء عسى أن نهتدي إلى جرثومة الداء عن يقين فنسعى في مقاومتها حتى إذا ارتفعت العلة برئ العليل إن شاء الله تعالى. قال (الفاضل الشامي) : إني أوافق الأستاذ الرئيس على تعريفه ووصفه الحالة النازلة بالفتور، ولا أعلم ما يعارض كون هذا الفتور عامًّا محيطًا بجميع المسلمين. قال (الصاحب الهندي) : إني وإن كنت أقل الإخوان فضيلة ولكنني جوّال، وقد خبرت البلاد وأحوال العباد، ولا شك عندي في أن هذا الفتور عامّ وإن كان لا يظهر في بعض المواقع التي ليس فيها غير المسلمين كقلب جزيرة العرب وبعض جهات إفريقيا، ولا يظهر أيضًا في بعض مواقع أخرى مجاورو المسلمين فيها ومخالطوهم من أهل النِّحل الوثنية الغريبة الوضع المتناهية في الشدة كبقايا الصابئة حول دجلة الذين يضيعون كثيرًا من أوقاتهم منغمسين في الماء تعبدًا، وكالكونغو من الزنوج، وكالبوذية من الهنود المعتقدين أن كل مصائبهم حتى الموت الطبيعي من تأثيرات أعمال السحرة عندهم، فإن أمثال هؤلاء أكثر فتورًا من المسلمين على أن ذلك لا يرفع صفة الفتور وعموميته عن المسلمين. فقال (الأستاذ الرئيس) : إن الصاحب الهندي مصيب في تفصيله وتحريره، ولذلك رجعت عن قولي بأن المسلمين أحط من غيرهم مطلقًا إلى الحكم بأنهم أحط من غيرهم ما عدا النحل المتشددة في التدين. قال (الحافظ البصري) : يلوح لي أنه يلزم استثناء الدهريين والطبيعيين وأمثالهم ممن لا دين لهم؛ لأنهم لا بد أن يكونوا على غير نظام ولا ناموس في أخلاقهم معذبين منغصين في حياتهم منحطين عن أهل الأديان كما يعترف بذلك الطبيعيون أنفسهم فيقولون عن أنفسهم: إنهم أشقى الناس في الحياة الدنيا. فأجابه (الصاحب الهندي) : إني كنت أيضًا أظن أنه يوجد في البشر أفراد ممن لا دين لهم، وإن من كانوا كذلك لا خلاق لهم، ثم إن اختباري الطويل قد برهن لي على أن الدين بمعناه العام وهو إدراك النفس وجود قوة غالبة تتصرف بالكائنات، والخضوع لهذه القوة على وجه يقوم في الفكر هو أمر فطريٌّ في البشر، وإن قولهم: فلان دهري أو طبيعي هو صفة لمن يتوهم أن تلك القوة هي الدهر أو الطبيعة فيدين لما يتوهم، فثبت عندي ما يقرره الأخلاقيون من أنه لا يصح وصف صنف من الناس بأنهم لا دين لهم مطلقًا، بل كل إنسان يدين بدين إما صحيح أو فاسد عن أصل صحيح، وإما باطل أو فاسد عن أصل باطل، والفاسدان يكون فسادهما إما بنقصان، أو بزيادة، أو بتخليط، فهذه أقسام ثمانية. فالدين الصحيح كافل بالنظام والنجاح في الحال والسعادة والفلاح في المآل، والباطل والفاسدان بنقصان قد يكون أصحابهما على نظام ونجاح في الحياة على مراتب مختلفة، وأما الفاسدان بزيادة أو بتخليط فمهلكة محضة، ثم أقول: بما كان تقريري هذا غريبًا في بابه فألتمس أن لا يقبل ولا يرد إلا بعد التدقيق والتطبيق؛ لأنه أصل مهم لمسألة الفتور العام المستولي على المسلمين. (قال الرئيس الأستاذ) : إني أجلكم أيها السادة الأفاضل عن لزوم تعريفكم آداب البحث والمناظرة، غير أني أنبه فكركم لأمر لا بد أن يكون في نفوسكم جميعًا، أو تحبوا أن يصرَّح به ألا وهو عدم الإصرار على الرأي الذاتي وعدم الانتصار له، واعتبار أن ما يقوله ويبديه كل منا إن هو إلا خاطر سنح له فربما كان صوابًا أو خطأً، وربما كان مغايرًا لما هو نفسه عليه اعتقادًا وعملاً، وهو إنما يورده في الظاهر معتمدًا عليه، وفي الحقيقة مستشكلاً أو مستثبتًا أو مستطلعًا رأي غيره، فلا أحد منا ملزم برأي يبديه ولا هو بملوم عليه، وله أن يعدل أو يرجع عنه إلى ضده؛ لأننا إنما نحن باحثون لا متناظرون، فإذا أعجبنا رأي المتكلم منا أثناء خطابه إعجابًا قويًّا فلا بأس أن نجهر بلفظ (مرحى) [1] تأييدًا لإصابة حكمه وإشعارًا باستحسانه، فلنمض في بحثنا عن أسباب الفتور العام على هذا النسق. قال (الفاضل الشامي) : إني أرى منشأ هذا الفتور هو بعض القواعد الاعتقادية والأخلاقية، مثل العقيدة الجبرية التي من بعد كل تعديل فيها جعلت الأمة جبرية باطنًا قدرية ظاهرًا (مرحى) ومثل الحث على الزهد في الدنيا والقناعة باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية كحب المجد والرياسة والتباعد عن الزينة والمفاخر والإقدام على عظائم الأمور، وكالترغيب في أن يعيش المسلم كميت قبل أن يموت، وكفى بهذه الأصول مفترات مخدرات مثبطات معطلات لا يرتضيها عقل ولم يأت بها شرع، ولمثلها نفى عثمان بن عفان رضي الله عنه أبا ذر الغفاري إلى الربذة. فأجابه (البليغ القدسي) : إن هذه الأصول الجبرية والتزهيدية الممتزجة بعقائد الأمة وما هو أشد منها تعطيلاً للأخذ بالأسباب، ولنشأة الحياة موجودة في جميع الديانات؛ لتعدل من جهة شره الطبيعة البشرية في طلب الغايات، وتدفعها إلى التوسط في الأمور، ولتكون من جهة أخرى تسلية للعاجزين وتنفيسًا عن المقهورين البائسين وتوسلاً إلى حصول التساوي بين الأغنياء والفقراء في مظاهر النعيم. ألا يرى إجماع كل الأديان على اعتقاد القدر خيره وشره من الله تعالى، أو خيره منه وشره من النفس أو من الشيطان، ومع ذلك ليس في البشر من ينسب أمرًا إلى القدر إلا عند الجهل بسببه سترًا لجهله، أو عند العجز عن نيل الخير أو دفع الشر سترًا لعجزه، وحيث غلب أخيرًا على المسلمين جهل أسباب المسببات الكونية والعجز عن كل عمل التجأوا إلى القدر والزهد تمويهًا لا تديُّنًا. وهذا التبتل والخروج عن المال من أعظم القربات في النصرانية، فهل كان قصد شارع الرهبانية أن ينقرض الناس كافة بعد جيل واحد، أم كان قصده أن يشرعها على أن لا يتلبس بها إلا القليل النزر؟ كلا لا يُعقل في هذا المقام إلا التعميم، وينتج من ذلك أنه لا يصح اعتبار هذه الأصول الجبرية والتزهيدية سببًا للفتور، بل هي سبب لاعتدال النشاط وسيره سير انتظام ورسوخ. وفي النظر إلى المشاق والعظائم التي اقتحمها الصحابة والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم لنيل الغنى والرياسة والفخار مع الأجر والثواب أقوى برهان مع أن الأمة إذ ذاك كانت زاهدة فعلاً لا كالزهد الذي ندعيه الآن كذبًا ورياءً (مرحى) . وإذا تتبعنا كل ما ورد في الإسلامية حاثًّا على الزهد نجده موجهًا إلى الترغيب في الإيثار العام؛ أي: بتحويل المسلم ثمرة سعيه للمنفعة العمومية دون خصوص نفسه، حتى إن كل ما ورد في الحث على الجهاد في سبيل الله مراد به سعي المؤمن بكل الوسائل حتى ببذل حياته لإعزاز كلمة الله وإقامة دينه، لا في خصوصية محاربة الكفار كما تتوهم العامة، كما أن المراد من محاربة الكفار هو من جهة: إعزاز الجامعة الإسلامية، ومن أخرى: خدمة الجامعة الإنسانية من حيث إلجاء الكفار إلى مشاركة المسلمين في سعادة الدارين؛ لأن للأمم المترقية علمًا ولاية طبيعية على الأمم المنحطة؛ فيجب عليها إنسانية أن تهديها إلى الخير ولو كرهًا باسم الدين أو السياسة. ثم قال: أما أنا فيخيل إليّ أن سبب الفتور هو تحويل نوع السياسة الإسلامية حيث كانت نيابية اشتراكية؛ أي: (ديمقراطية) تمامًا، فصارت بعد الراشدين بسبب تمادي المحاربات الداخلية ملكية مقيدة بقواعد الشرع الأساسية، ثم صارت أشبه بالمطلقة. وقد نشأ هذا التحول من أن قواعد الشرع كانت في الأول غير مدونة ولا محررة بسبب اشتغال الصحابة المؤسسين رضي الله عنهم بالفتوحات وتفرقهم في البلاد، فظهر في أمر ضبطها خلافات ومباينات بين العلماء، وتحكمت فيها آراء الدخلاء، فرجحوا الأخذ بما يلائم بقايا نزعاتهم الوثنية (وليتهم لم يدنسوا الإسلام بالدخول فيه) فاتخذ العمال السياسيون -ولا سيما المتطرفون منهم- هذا التخالف في الأحكام وسيلة للانتقام والاستقلال السياسي، فنشأ عن ذلك أن تفرقت المملكة الإسلامية إلى طوائف متباينة مذهبًا، متعادية سياسة، متكافحة على الدوام. وهكذا خرج الدين من حضانة أهله وتفرقت كلمة الأمة فطمع بها أعداؤها وصارت معرضة للمحاربات الداخلية والخارجية معًا، لا تصادف سوى فترات قليلة تترقى فيها العلوم والحضارة على حسبها , وقد أثر استمرار الأمة في هذه الحروب أن صارت باعتبار الأكثرية أمة جندية صنعةً وأخلاقًا، بعيدة عن الفنون والصنائع والكسب بالوجوه الطبيعية، ثم بسبب فقدان القواد والمعدات لم يبق مجال للحروب الرابحة فاقتصرت الأمة على المدافعات خصوصًا منذ قرنين إلى الآن؛ أي: منذ صارت الجندية عند غيرنا صنعة علمية مفقودة عندنا، فصرنا نستعمل بأسنا بيننا فنعيش بالتغالب والاحتيال لا بالتعاون والتبادل، وهذا شأن يميت الانتباه والنشاط ويولد الخمول والفتور (مرحي) . فابتدر (الحكيم التونسي) وأجابه: إن غيرنا من الأقوام -كجرمانيا مثلا- وُجِدُوا في حكومات مطلقة، وفي اختلافات مذهبية، وفي انقسامات إلى طوائف سياسية، وفي حروب مستمرة، ولم يشملهم الفتور بوجه عام فلا بد للفتور في المسلمين من سبب آخر. ثم قال: وفيما أتصور أن بلاءنا من تأصل الجهل في غالب أمرائنا المترفين الأخسرين أعمالاً الذين ضلوا وأضلونا سواء السبيل وهم يحسبون أنهم يُحْسنون صنعًا، حتى بلغ جهل هؤلاء دركةً أسفل من جهل العج

التعليم الذي ترتقي به الأمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم الذي ترتقي به الأمة أكثر الناس في بلاد الشرق - بلاد البطالة والكسل - يفنون أزمنتهم بالعبث واللغو من القول، فلا تسمع منهم في أنديتهم وسمّارهم إلا الخوض بفلان والإزراء بعلاّن ومما أشبه ذلك مما هنا وهنالك، ورب فئة قليلة تحب الجد وتختار للبحث والحوار المسائل النافعة، وقد كتبنا مقالة في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية في موضوع حديثهم في سامر من سمارهم وهو إصلاح الدولة العلية، ونذكر ههنا أنهم رأوا أن يقترحوا على كل واحد منهم كلما ضمهم نادٍ أو سامرٌ أن يتكلم في مسألة من المسائل النافعة، وابتدؤوا بالاقتراح على كاتب هذه السطور أن يتكلم في التعليم النافع للمسلمين فأجاب، وإنني أذكر بعض ما قلته هناك ملخصًا وقد ابتدأت بذكر عيوب التعليم عندنا وهي: العيب الأول: عدم اللغة: إحياء العلم لا يكون إلا بلغة حية، ولغة الإسلام والمسلمين العربية ولكنهم أهملوا تعلمها وتعليمها حتى إنني أقول ما قلته من قبل: إنني لا أعرف مدرسة في الدنيا تعلّم فيها اللغة العربية الصحيحة، ومن عنده حظ من هذه اللغة فإنما تعلّمه بنفسه؛ لاهتدائه إلى طريقة التعلم بذكائه أو بإرشاد مرشد آخر، وستأتي الإشارة إلى كيفية هذا التعلم، وإن كان المنار قد فصله من قبل تفصيلاً. العيب الثاني: في اختلاف منابع التعليم: التعليم النافع هو ما يكون فيه قوام الأمة وترقيها، والترقي إنما يكون بالرجال المتعلمين العلم النافع لها؛ لأن زمامها يكون في أيديهم، وقواد الأمة يجب أن يكونوا متفقين في مقاصدهم الإصلاحية، وإنما يكون هذا الاتفاق والاتحاد إذا كانت تربية عقولهم وأفكارهم متحدة، ولن تكون متحدة إلا إذا كان التعليم من منبع واحد. والتعليم في بلادنا بعضه في مدارس الحكومة وبعضه في المدارس الأجنبية من فرنسوية وأميركانية وإنكليزية وإسرائيلية، وليس منه شيء موافق لحاجة الأمة، ومنطبق على مصلحتها فإن لكل صنف من هذه الأصناف مقصد من التعليم إما سياسيّ وإما ديني غير إسلامي، والتعليم في المدارس الأهلية الإسلامية ناقص بحيث يصح أن نقول: إنه دون كل تعليم، ولا أستثني المدرسة الدينية الإسلامية الكبرى وهي الجامع الأزهر فكلنا نعرف أنها ليس فيها غناء وأنها مقصرة كل التقصير في وظيفتها الأولى وهي إحياء اللغة العربية وعلوم الدين. على أن علم الدين لا يكاد يوجد في علم الأزهر وما يتبعه من المساجد فهو على نقصه خير من غيره من هذه الجهة (ومن للعُمْي بالعور) . العيب 3: عدم التربية. التعليم لا يفيد النجاح المطلوب للأمة إلا إذا كان مقارنًا للتربية الملية القومية، وهذه التربية مفقودة عندنا؛ لأن القائمين على أمر التعليم لا يهمهم أمرها بل هو مباين لمقصدهم السياسي والديني. على أنهم لو حاولوها لما أحسنوها؛ لأنه لا يحسن الشيء إلا من يتوجه إليه بباعث الشعور بحاجته وحاجة أمته إليه مع العلم بطريقه الطبيعي. وقد علمنا أن أكثر المسلمين المشتغلين بالتعليم جاهلون بطرقه وعادمو الإحساس والشعور بالحاجة الملية القومية. وعلمنا حال مدارس الأجانب ولمدارس الحكومة في مصر حكمها؛ لأن روح التعليم فيها إنكليزي استعماري لا إنكليزي سكسوني. ولا يحسبنّ أحد أن مدارس الحكومة في بلاد الدولة العلية أمثل وأنفع من مدارس الحكومة في مصر، بل الصواب أنها دونها في كل البلاد لا سيما العربية منها إلا مدارس دار السلطنة فإنها أرقى من مدارس مصر؛ لأنها فيها روحًا وطنيًّا حقيقيًّا عجزت السياسة عن إزهاقه. هذه هي العيوب الأساسية للتعليم في البلاد الإسلامية، أما إزالة هذه العيوب من مواطنها؛ فلا سبيل إليه ولا طاقة لنا به، ولكن من الممكن السعي في إيجاد تعليم نافع وتربية قويمة، والطريق إليه واحد وهو إنشاء المدارس الكلية التي تربي الناشئين وتعلمهم التعليم الابتدائي والتجهيزي والعالي، ولكنه طريق يعسر تطريقه وإشراعه؛ لأننا فقراء في المال وفي العلوم والعقول، وهذا الفقر المعنوي أشد فينا فتكًا، ولكنه لا يعوزنا ويعجزنا في طريقنا هذا كما يعجزنا ويعوزنا الفقر المادي، فإن مَن أوتي نصيبًا من العلم والعقل والأدب يجود بما عنده مرتاحًا إليه إذا رجا الانتفاع به ولكن الذين أوتوا المال منا قد أوتوا معه البخل والسفه معًا، فهم يبذلون المال في طرق الفساد بغير حساب، ولا يخرج من أيديهم درهم في طريق الخير إلا نكدًا. وليس المقام مقام بيان تطريق الطريق لإنشاء مدرسة كلية في مصر ولكنني أقول: إن هذه الفئة تحب خدمة أمتها إذا لم تجتهد في إنشاء هذه المدرسة فلنا أن نحكم بأنها لم تعمل شيئًا يذكر، وإذا هي لم تعمل فلا ندري متى تلد أرض مصر خيرًا منها ليعمل خيرًا من عملها. أما التعليم والتربية في الكلية فلا نبحث فيهما؛ لأن الحاضرين يعرفون هذا الفن (البيداجوجيا) ، وإنما ننبه على وجوب إحياء اللغة العربية بالعمل بأن يكون الكلام العربي الصحيح هو اللسان الرسميّ فيها، ويعلم كما تعلم اللغات الأخرى في المدارس لا كما يعلم هو فيها. وأما تعليم الدين فيجب أن يكون أساسه القرآن والسنة الصحيحة ومعرفة الإجماع وأن يعدّ كل ما وراء هذا من الخلاف بين أئمة المسلمين وعلمائهم كالخلاف في المسائل العلمية، لا ينكث من فتل الأخوة الإسلامية، وكل ما هو من أعمال الجوارح يكون تعليمه بالعمل كالصلاة مثلاً، وما عدا ذلك يعلم بالقول. وأما التربية فمما يجب التنبيه عليه وتربية الإرادة والعزيمة التي هي منشأ الاستقلال الشخصي، والنوعيّ تبع للشخصي، وتربية الأخلاق بملاحظة السيرة والسلوك، وتربية الخيال التي تعد للخطابة والشعريات المؤثرة في النفوس، هذا ما أراه نافعًا من التعليم الإسلامي، وفّق الله المسلمين لتحقيقه، والسير طريقه، آمينَ.

مقدمتنا لكتاب أسرار البلاغة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمتنا لكتاب أسرار البلاغة بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ} (الرحمن: 1-3) ، فله الحمد أن علم، والشكر على ما أنعم، ومنه الصلاة والتسليم على نبيه الرؤوف الرحيم، الذي جاء بتوحيد اللغة والدين، وجعل الكتاب والحكمة في الأميين، فكانوا بذلك أئمة وكانوا هم الوارثين. الإنسان يمتاز بالعلم وإنما العلم بالتعلم، والتعلم باللغة. واللغات تتفاضل في حقيقتها وجوهرها بالبيان، وهو تأدية المعاني التي تقوم بالنفس تامة على وجه يكون أقرب إلى القبول، وأدعى إلى التأثير، وفي صورتها وأجراس كلمها بعذوبة النطق وسهولة اللفظ والإلقاء والخفة على السمع. وإن للغة العربية من هذه المميزات الميزان الراجح، والجواد القارح، يعرف ذلك من أخذها بحق، وجرى فيها على عرق، فكان من مفرداتها على علم، وضرب في أساليبها بسهم، ومن آية ذلك لغير العارف أن أولئك الشراذم والأوزاع من أهلها قد حملوها إلى الأمم، التي كان للغاتها في العلوم قدم، ولم يحملوهم عليها بالإلزام، ولا بالتعليم العام، وكان من أمرها مع هذا أن نسخت بطبيعتها لغة المصريين من مصرهم، والرومانيين من شامهم، واستعلت على الفارسية العذبة في مهدها وموطنها، وامتد شعاعها إلى الأندلس في غربي أوربا بعد ما طاف ساحل أفريقيا الشمالي وإلى جدار الصين من الشرق - كل ذلك في زمن قريب لم يعرف في التاريخ مثله للغة أخرى من لغات الفاتحين الذين يتخذون كل الوسائل لنشر لغاتهم وتعميمها بالتعليم العام وضروب الترغيب والترهيب. كانت لغة أميين وثنيين جاهليين فظهر فيها أكمل الأديان فكانت له أكمل مظهر، وتجلى لها العلم فكانت له خير مَجْلَى، وصارت بذلك لغة الدين والشريعة، وعلوم العقل والطبيعة، ولكن عَدَتْ على أهلها عواد كونية، وطرأت عليهم أمراض اجتماعية، فضعف فيهم كل مقوّم من مقوّمات الأمم الحية، ومن تلك المقوّمات الحقيقية اللغة؛ فقد فسدت ملكتها في الألسنة، والتوى طريق تعليمها في المدارس، حتى كادت تكون من اللغات الدوارس. ظهر ضعف اللغة في القران الخامس وكانت في ريعان شبابها وأوج عزها وشرفها، وكان أول مرض ألمّ بها الوقوف عند ظواهر قوانين النحو ومدلول الألفاظ المفردة والجمل المركبة والانصراف عن معاني الأساليب، ومغازي التركيب، وعدم الاحتفال بتصريف القول ومناحيه، وضروب التجوز والكناية فيه، وهذا ما بعث عزيمة الشيخ عبد القاهر الجرجاني إمام علوم اللغة في عصره إلى تدوين علم البلاغة ووضع قوانين للمعاني والبيان كما وضعت قوانين النحو عند ظهور الخطأ في الإعراب، فوضع هذا الكتاب في البيان، ومن فاتحته يتنسم القارئ أن دولة الألفاظ كانت قد تحكمت في عصره واستبدت على المعاني، وأنه يحاول بكتابه تأييد المعاني ونصرها، وتعزيز جانبها وشد أسرها. كتب قبل عبد القاهر في البيان بعض البلغاء مثل: الجاحظ، وابن دُريد، وقدامة الكاتب. ولكنهم لم يبلغوا فيما بنوه أن جعلوه فنًّا مرفوع القواعد، مفتح الأبواب كما فعل عبد القاهر من بعدهم، فهو واضع علم البلاغة كما صرح به بعض علمائها وإن لم يذكر له هذه المنقبة المؤرخون الذين رأينا ترجمته في كتبهم حتى إن ابن خلدون الذي تصدى دون القوم للإلمام بتاريخ الفنون أهمل ذكره، وزعم أن الذي هذب الفن بعد أولئك الذين كتبوا في مسائل متفرقة منه هو السكاكي، وما كان السكاكيّ إلا عيالاً على عبد القاهر تلا تلوه وأخذ عنه مع المخالفة في شيء من الترتيب والتبويب، ولكنه لم يسلم من التكلف في بعض عبارته، والتعقيد في بعض منازعه، فإذا جاز لنا أن نقول: إنه فاق لتأخره بالترتيب المعلوم، وبما حرره من الحدود والرسوم، فإننا لا ننسى من فضل المتقدم سلامة عبارته، وصفاء ديباجته، وغوصه على أسرار الكلام، ووضع دررها في أبدع نظام. كان السكاكيّ وسطًا بين عبد القاهر الذي جمع في البلاغة بين العلم والعمل، وأضرابه من البلغاء العاملين، وبين المتكلفين من المتأخرين الذين سلكوا بالبيان مسلك العلوم النظرية، وفسروا اصطلاحاته كما يفسرون المفردات اللغوية، ثم تنافسوا في الاختصار والإيجاز، حتى صارت كتب البيان أشبه بالمعمَّيات والألغاز، فضاعت حدوده بتلك الحدود، وَدَرَستْ رسومهُ بهاتيك الرسوم، وكان من أثر فساد ذوق اللغة اختيارُ هذه الكتب التي ملكت العجمة عليها أمرها على الكتب التي تهديك إلى العلم الصحيح بمعانيها، وتهدي إليك الذوق السليم بأساليبها ومناحيها، فكادت كتب عبد القاهر تمحى وتنسخ، وصارت حواشي السعد تطبع وتنسخ، وهذا هو حظ العلم النافع إذا ألقي إلى الأمة في طور التدلّي والضعف، فمثل عبد القاهر في أسرار بلاغته ودلائل إعجازه، كمثل ابن خلدون في مقدمته، كالسلطان سليمان العثماني في قوانينه. رب غذاء طيب نافع عافته النفس لمرض ألمّ بها حتى إذا نقهت أو أبلت اشتهته وطلبته، وهذا هو مثلنا أمس واليوم، فقد كنا متفقين على أخذ العلم من كتب علمائنا المتأخرين كما يختار المريض الغذاء الضار، فظهر فينا هداة مرشدون يسعون في إحياء ما أماته الجهل من آثار سلفنا ومصنفات أئمتنا، ويدلوننا على العلم الحيّ الذي تفجر من ينابيع النفوس الحية؛ لنفرق بينه وبين الرسوم الميتة التي سماها الجهل علمًا. ولما هاجرت إلى مصر في سنة 1315 لإنشاء (المنار) الإسلامي ألفيت إمام النهضة الإسلامية الحديثة الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده رئيس جمعية إحياء العلوم العربية ومفتي الديار المصرية اليوم مشتغلاً في بعض وقته بتصحيح كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني، وقد استحضر نسخة من المدينة المنورة ومن بغداد ليقابلها على النسخة التي عنده، فسألته عن كتاب (أسرار البلاغة) للإمام المذكور فقال: إنه لا يوجد في هذه الديار. فأخبرته بأن في أحد بيوت العلم في طرابلس الشام نسخة منه. فحثني على استحضارها وطبعها فطلبتها من صديقي الحميم العالم الأديب عبد القادر أفندي المغربي وهي مما تركه له والده فلبى الطلب. وعلمنا أن نسخة أخرى من الكتاب في إحدى دور الكتب السلطانية في دار السلطنة السنية، فندبنا بعض طلاب العلم الأذكياء لمقابلة نسختنا بتلك النسخة فخرج لنا من مجموعها نسخة صحيحة شرعنا في طبعها، ووضعنا في ذيل المطبوع شرحًا لطيفًا ضبطنا فيه الكلمات الغريبة، وفسرنا منها ومن جمل الكتاب ما رأيناه يستحق التفسير، وأشرنا إلى الخلاف بين النسختين، فيما يحتمل صحة الاثنتين. أما كون عبد القاهر هو واضع الفن ومؤسسه؛ فقد صرح به غير واحد من العلماء الأعلام أجلهم قدرًا، وأرفعهم ذكرًا، أمير المؤمنين، محيي علوم اللغة والدين، السيد يحيى بن حمزة الحسيني صاحب كتاب (الطراز في علوم حقائق الإعجاز) فقد قال في فاتحة كتابه. هذا وهو من أحسن ما كتب في البلاغة بعد عبد القاهر ما نصه: (وأول من أسس من هذا الفن قواعده، وأوضح براهينه وأظهر فوائده ورتب أفانينه الشيخ العالم النحرير علم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المشيد، وفتح أزاهره، من أكمامها، وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام أفضل الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه كتابان: أحدهما لقبه بدلائل الإعجاز، والآخر لقبه بأسرار البلاغة، ولم أقف على شيء منهما، مع شغفي بحبها وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم منهما) . وأما مكانة هذا الكتاب وبيان ما يمتاز به على كتب البيان فحسبي عرضه على الأنظار مع التنبيه على مسألتين نافعتين: (إحداهما) أن العلم هو صورة المعلوم مأخوذة عنه بواسطة الإدراك كما تؤخذ الصورة الشمسية بالآلة المعروفة، فإن كان المعنى المنتزع من الجزئيات قانونًا كليًّا يرشد إليها؛ فهو القاعدة، وإن كان صورة تناسبها وتقربها من الفهم؛ فهو المثل. (والثانية) أن القاعدة الكلية هي صورة إجمالية للمعلومات الجزئية، والأمثلة والشواهد صور تفصيلية لها. والتعليم النافع إنما يكون بقرن الصور المفصلة بالصورة المجملة؛ إذ بالتفصيل تعرف المسائل، وبالإجمال تحفظ في العقل، وبهذه الطريقة يجمع بين العلم والعمل الذي يثبت به العلم وهي طريقة عبد القاهر في كتابه هذا وكتاب دلائل الإعجاز. على أن كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- كله من آيات البلاغة فهو يعطيك علمها بمعانيه، وعملها بمبانيه، وبهذه المميزات يفضل هذا الكتاب جميع ما بين أيدينا من كتب الفن؛ لأنها إنما تقتصر على سرد القواعد والأحكام بعبارات اصطلاحية، تنكرها بلاغة الأساليب العربية، ولا تذكر من الشواهد والأمثلة إلا القليل النادر، الذي أدلى به السابق إلى اللاحق والأول إلى الآخر. لهذا بادر الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية في هذه الأعوام إلى تدريس الكتاب في الأزهر الشريف عقيب شروعنا في طبعه، فأقبل على حضور درسه مع أذكياء الطلاب كثيرون من العلماء والمدرسين وأساتذة مدارس الأميرية. وقد قال أحد فضلاء هؤلاء الأستاذين بعد حضور الدرس الأول: إننا قد اكتشفنا في هذه الليلة معنى علم البيان. وقد ظهر للأستاذ في غضون التدريس والمطالعة أغلاط في الكتاب بعضها من الطبع، وبعضها من تحريف النساخ في الأصل، وأغلاط أخرى في الهوامش، فأحصيناها كلها من نسخته، ووضعنا لها جدولاً في آخر الكتاب إتمامًا للفائدة، ومما يجب التنبيه عليه أن بعض تراجم فصول الكتاب هي من وضعنا؛ فإن المصنف رحمه الله تعالى كان يكتفي في كثير منها بكلمة (فصل) اهـ. ويلي هذا ترجمة المصنف. ((يتبع بمقال تالٍ))

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (فتح القدير شرح الهداية) لمجتهد الحنفية في القرن السابع الكمال بن الهمام يتعب طلاب فقه الحنفية عشرين سنة أو أكثر ليكونوا فقهاء في هذا المذهب، فيضيع تعب الأكثرين سُدًى؛ لاشتغالهم بكتب المتأخرين المحشوّة بالفروع الشاذة وغير الشاذة، والاضطراب في التصحيح والترجيح ولا يكون الإنسان بهذه الطريقة فقيهًا ولو أفنى عمره في المُدارسة. وقد كان لهؤلاء بعض العذر قبل أن يطبع هذا الكتاب (فتح القدير) الذي هو أحسن كتب المذهب في تحرير المسائل وبسط أدلتها وإرجاعها إلى أصولها. وقد كان العلماء يتنافسون في الاطلاع عليه حتى إن ابن عابدين المشهور ظفر بنسخة منه فاشتراها بوزنها ذهبًا. وقد كان طبع في الهند فطلب نسخًا منه أكابر فقهاء الحنفية فألفوه كما كان يقول أحدهم (الشيخ عبد الغني الرافعي رحمه الله تعالى) : توراة مبدّلة؛ أي: إنه كثير الغلط والتحريف. وقد طبعه أخيرًا السيد عبد الواحد بك الطوبي وأخوه في المطبعة الأميرية، واعتنى بتصحيحه، وأضيف إليه تكملته المسماة (نتائج الأفكار) للمولى شمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده. ووضع في هامشه (شرح العناية على الهداية) لأكمل الدين البابرتي وحاشية سعدي جلبي المفتي الشهير، فبلغ الجميع ثمانية مجلدات وجعل ثمنه 160 قرشًا و 165 من الورق النباتي، ويطلب من مكتبة طابعيه في مصر. فنوجه إليه أنظار الحنفية عامة وأهل الهند خاصة. * * * (جواهر الإنشاء) أنشأ أخونا الأستاذ الفاضل الشيخ طنطاوي جوهري مدرس العربية في المدرسة الخديوية نبذًا وفصولاً في موضوعات مختلفة؛ لتكون تمرينًا للتلامذة على الكتابة والإنشاء. ثم ضم إليها بعض الأحاديث النبوية في الفضائل ومحاسن الأعمال وشيئًا من الحِكَم المنثورة، ومن الأشعار المختارة في الآداب، ومنها نظم ملخص من كتاب (أدب الدنيا والدين) وسمى هذه المجموعة (جواهر الإنشاء) . وقد طبعت في مطبعة الترقي الشهيرة بالإتقان، وثمنها قرشان، وهي 90 صفحة وتطلب من مكتبة الترقي ومن حضرة ملتزم طبعها توفيق أفندي كاشف بشارع بركة الفيل. * * * (رسالة الشيرازي في علم الأخلاق) هي رسالة مختصرة مفيدة في الأخلاق والآداب سهلة العبارة اعتنى بطبعها المحامي الفاضل الأديب عبد العليم أفندي صالح، ولا يعرف مؤلفها، وربما يتبادر إلى الذهن أنها للشيخ أبي إسحاق وما هي له فيما يظهر من إهدائها في فاتحتها. على أن العبرة بالقول لا بالقائل، والرسالة نافعة في بابها، وهي ثلاثة أقسام: أحدها في الأصول الكلية لعلم الأخلاق. وثانيها فيما يجري مجرى الأمثال السائرة من الكلمات النادرة. وثالثها في محاسن أخلاق الملوك وآداب أتباعهم وحواشيهم وهذا القسم يدلنا على استبداد الملوك في ذلك العصر وإقرار العلماء على ذلك. فنشكر لطابعها فضله في إحياء هذه الآثار الأخلاقية التي نحن أشد حاجة إليها من سائر العلوم، ونحث الناس على قراءة هذه الرسالة وثمنها قرشان. * * * (تاريخ حرب الدولة العثمانية مع اليونان) كما يجب على الإنسان أن يعرف نفسه من حيث هو شخص يجب عليه أن يعرفها من حيث هو أمة؛ أي: عضو من أمة شرفه بشرفها ومهانته بمهانتها والأمم الحية تعتني بتاريخها فتعلمه أولادها بالتفصيل وتاريخ سائر الأمم والدول بالإجمال ولكننا نرى أكثر المسلمين يجهلون تاريخ الإسلام، وأكثر العثمانيين يجهلون تاريخ الدولة العلية ولآل العظم فضل على الفريقين بالعناية بالتأليف في التاريخين. فإذا كان رفيق بك العظم مشغولاً بتأليف تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام) فحقي بك العظم الفاضل مشغول بتاريخ الدولة العلية فبعد أن ألف كتاب (دفاع بلفنا) وطبعه، ألف لنا كتاب (تاريخ الحرب العثمانية اليونانية بالتفصيل) وطبعه، فجاء كتابًا حافلاً صفحاته 225، وفيه مباحث تاريخية واجتماعيه نافعة منها بحث (اللغة تحفظ كيان الشعب) ، ومنها التعريف بمقدمات الحرب وأسبابها والجمعية الوطنية اليونانية، ومنها تعليل الحوادث والوقائع ونتائجها، وختمه بنظرة سياسية في موقف الدولة العلية قبل الحروب وبعدها وأحوال ألبانيا ومكدونيا، واحتياج الدولة للرجال الأكفاء، وسبب سكوت الدولة عنها الآن. والكتاب مطبوع في مطبعة الترقي على ورق جيد ويطلب منها ومن إدارة المنار وثمنه عشرة قروش أميرية. * * * (البيان) مجلة إخبارية تاريخية تصدر مرة في الشهر باللغتين العربية والأوردية، لمُنشئها الفاضل الشيخ عبد الله العماوي، وصاحب امتيازها المولوي عبد الولي ابن الفاضل الراسي عبد العلي المدراسي. والغرض منها جمع كلمة الأمة الهندية , وإحياء الفضائل العربية , ومن المباحث النافعة فيها نبذة (الحضارة والهند) شكا فيها الكاتب من فقر الأمة وقلة الكسب، وكثرة الإتاوات والضرائب وهي نحو 500 مليون روبية، منها 160 مليونًا من الخراج و 85 مليونًا من الملح و 35 مليونًا من القراطيس القضائية و 55 مليونً من الخمور و 35 مليونًا الزيادات الخراجية و5 ملايين من التسجيل (السيكورتاه) . ومنها نبذة في مقاصد ندوة العلماء لم تتم، ولعلنا نلخصها بعد تمامها. ونرجو لهذه المجلة الرواج فقيمة الاشتراك فيها 8 روبيات في الهند و30 غرشًا أو 6 شلينات في الخارج. * * * (تنبيه) ضاق هذا الجزء عن باب الأخبار النبوية وآثار السلف وعن الأخبار والآراء والبدع والخرافات. * * * (للشاعر المجيد مصطفى أفندي صادق الرافعي في الساعة) تضرب كالقلب شفَّه السقم ... كأن فيها الهموم تضطرم ذات محيّا أظل أقرأ من ... خطوطه ما يخطه القلم ألفتها لا أذم صحبتها ... وعيّ بي في اصطحابها السَّأم وما أراها سوى الزمان أما ... يدور فيها النعيم والنِقم تُذكرني ما يمر من عمري ... فكل يوم يَجِدّ لي نَدم ما إنْ تراعي لأهلها ذممًا ... إن رعيت عند أهلها الذِمم وليس إذ ما سعت عقاربها ... يدب في غير مهجتي الألم ولا إذا أعجلت فجائعها ... في غير ضيق القلوب تزدحم يا أخت ذات البروج هل حجبت ... طوالع السعد هذه الظلم كأنها والخطوب تكتمها ... سر بقلب الزمان مُنكتم وهل تعود الجدود ثانية ... من بعد هذا العبوس تَبتسم ما أثبت الهم في الصدور إذا ... أمست ليالي الحياة تنهزم وهذه الدار كلها تعب ... سيان فيها الوجود والعَدم والناس كالنائمين ما لبثوا ... فكل ما يشاهدونه حُلم أبدع ذات العماد مبدعها ... فأين راحت بأهلها إرَم

أمالي دينية الدرس ـ 34 ـ الأجوبة عن شبهات العصمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (الدرس 34) الأجوبة عن شبهات العصمة (المسألة 90) معصية آدم عليه السلام: علمنا أن مذهب جمهور أهل السنة أن الأنبياء معصومون بعد النبوة لا قبلها، فلا ترد معصية آدم على هذا المذهب؛ لأنه لم يكن نبيًّا حين عصى ربه، بل لم يكن في طور التكليف إلا بالنسبة إلى النهي عن الأكل من الشجرة. ولا ترد أيضًا على ما اختاره المتأخرون من عصمتهم قبل النبوة (وإن كان يلزم منه أن هناك أحكامًا قبل التشريع والوحي) ؛ لأن الدليل العقلي الذي يمكن أن تثبت به هذه العصمة لا يأتي في مسألة آدم وهو أن يكون من اختياره للنبوة معروفًا في قومه بمكارم الأخلاق وأحاسن الأفعال؛ لأن سيّئ السيرة ممقوت منبوذ تحفظ مساويه وجرائمه فتحول دول قبول دعوته وكون هذا لا يجيء في مسألة آدم بديهيٌّ لا يحتاج إلى بيان. فإن قيل إن الدليل يرشد إلى أن فطرة الأنبياء زاكية ونفوسهم عالية فهم ينفرون من المعاصي والجرائم بوازع نفسي راسخ فيهم - كما علم من إثبات النبوة والوحي - فكيف يقترف آدم تلك المعصية مع كونه خلق في أحسن تقويم وأكمل صفة؟ والجواب: إن صاحب النفس الزاكية تربأ به نفسه عن تعمد إتيان المنكر وارتكاب الفاحشة التي يعرف مضرتها وسوء عاقبتها، وآدم لم يتعمد المخالفة بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (طه: 115) ولم يكن عالمًا بوجوه مضرتها لتنفر فطرته منها، بل كان يعتقد صدق الشيطان الذي وسوس إليه بأنها شجرة الخلد وملك لا يبلى فهذا الاعتقاد دفعه عند نسيان النهي إلى الأكل؛ ليكون مظهرًا لهذا النوع الذي هو أبوه، وليعلم مَن بعده مِن ولده غير المعصومين ما يجب على من عصى ربه من التوبة والإنابة إلى الله تعالى. على أن في قصة آدم وجهًا في التأويل، بأنها وردت مورد التمثيل، لإظهار طبيعة النشأة البشرية في أطوارها التدريجية، فالجنة والعيش الرغد فيها مثل لما كان عليه النوع البشري في طور السذاجة الأولى، وعصيان آدم وهبوطه هو وزوجه من الجنة مثل لدخول البشر في طور المخالفات التي تجر عليهم الشقاء والبلاء. والتوبة والمغفرة مثل لطور الكمال الكسبي والارتقاء العلمي والعملي (سيأتي إيضاح ذلك في باب التفسير المقتبس من مفتي الديار المصرية) . *** (م91) قصة داود عليه السلام وُلع بالإسرائيليات بعض الذين اشتغلوا بتفسير القرآن بالمأثور، فألصقوا بالقرآن ما تلقفوه من أهل الكتاب لأدنى مناسبة، ولولا ذلك لما كنا محتاجين إلى الجواب عن هذه الشبهة بعد ما قررنا في الدرس الماضي الفرق بين ذنوب الأنبياء وبين المعاصي الحقيقية التي عصمهم الله تعالى منها. القرآن مهيمن على الكتب السماوية؛ لأنه ثابت بالتواتر دونها، فما أثبته فهو الثابت وما نفاه فهو المنفي. وقصة داود مع الخصم ليس فيها بحسب نصّ القرآن إلا أن اجتهاد داود اختلف في قضيتين متشابهتين فعرفه الله خطأ الاجتهاد الأول بما عداه إليه في الثاني؛ لأن خطأ الأنبياء في اجتهادهم لا يُقرُّون عليه كما تقدم في الدرس الماضي عن البيضاوي. هذا إذا كان لقصة المرأة أصل، وإلا فإن قضية الخصمين اللذين تحاكما إلى داود عليه السلام ليست نصًّا في أنه أخطأ في قضية، أو تزوج امرأة بعد ما عرّض زوجها للقتل أو غير ذلك مما يزعمون. القضية أن أحد الخصمين له تسع وتسعون نعجة وللآخر نعجة واحدة فطلب الأول أن يضمها إلى نعاجه، وحاجّ صاحبها في بيان أن ذلك هو الصواب والأولى فعزّه وغلبه في الخطاب والكلام فحكم داود بأن صاحب التسع والتسعين ظالم وأن من شأن الخلطاء البغي، ولكن خَتْمَ النبأ بقوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (ص: 24-25) يدل على أن وراء القضية أو فيها هفوة لداود. ولقائل أن يقول: يحتمل أن تلك الهفوة في نفس الحكم؛ فإنه لا يبعد أن يكون الصواب ضم النعجة إلى القطيع لتحفظ وتأتي بالنسل، وأن بقاءها عند صاحبها مَضيعة لها فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية كما ورد في الحديث الشريف. واعتراف المدعي بأن خصمه عزّه في الخطاب دليل على أنه لم يطلبها إلا بحق وبعِوض كثمن المثل أو منفعة أخرى من اللبن أو النسل. وفي البيضاوي وغيره احتمال آخر في التأويل مروي، وهو أن الذين تسوروا المحراب كانوا يقصدون اغتيال داود في يوم انفراده فوجدوا عنده قومًا فتصنّعوا بالتحاكم، فعلم غرضهم وقصد أن ينتقم منهم ثم لم يجد مسوغًا شرعيًّا فعاتب نفسه، وظن أن الله تعالى أراد ابتلاءه واختباره بذلك فاستفغر ربه مما هم به؛ لأن ذلك ذنب بالنسبة إلى مقامه، وإذا كان لقصة امرأة أوريا أصل فيجب أن يكون مطابقًا لقضية الخصمين؛ بأن يكون داود اعتقد أن امرأة جميلة في بيت جندي فقير خلف أسفار لا تسلم من تطلع السفهاء وتعرّض الفجار، وأن الطريقة المثلى لصيانتها هي أن تكون في بيت النبوة والملك وأنه كلم زوجها في أن يكفلها فأقنعه وعزّه في الخطاب؛ لأن هذا هو الصواب. وإنما استغفر داود من ذلك؛ لأنه ظن أن اجتهاده في أمر المرأة مشوبٌ بشيء من ميل النفس إلى كفالتها وأن هذا الميل هو الذي رجَّح في نفسه الرأي الأول بدليل أنه ظهر له خلافه في قضية تشابه الأولى، ومثل هذا يعده هؤلاء الكمَلَة ذنبًا، وإن لم يكن فيه مخالفة لأمر الله تعالى وحيد عن شريعته. ومن تأمل ما تقدم القصة وما تأخر عنها من الثناء على داود عليه السلام علم أن القرآن يتنزه في حكمته وبلاغته أن يكون ذكر الفاحشة فيه محتفًّا بهذا الثناء والإطراء. ويقال: إن تنازل الرجل عن امرأته لآخر ليتزوج بها كان مشروعًا عندهم. وقد آثر الأنصار المهاجرين (رضي الله عنهم أجمعين) بزوجاتهم فكان من عنده امرأتان يطلق إحداهما ليتزوج بها أخوه المهاجر. وفي القصة روايات كثيرة في كل فرع من فروعها لا يعبأ بها أهل العقل ولا أهل النقل. فإن قبلنا منها شيئًا فلنقبل ما يوافق قواعدنا الثابتة، كرواية أن أوريا لم يكن متزوجًا بالمرأة وإنما كان خاطبًا، ورواية نهي الإمام علي كرم الله وجهه عن التحديث بالقصة على ما يرويه القصاص، ووعيده من خالف بجلد مائة وستين جلدة وذلك حد الفرية على الأنبياء عليهم السلام. (م 92) الشبهة الأولى على سليمان عليه السلام حاسب الله القصاص فلقد شوهوا كتب التفسير بقصصهم، استعرض سليمان نبيّ الله وملك بني إسرائيل الخيل وهو نعم العبد {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} (ص: 31-32) المعقود بنواصي الخيل لا عن هوى نفسي ولكن {عَن ذِكْرِ رَبِّي} (ص: 32) وَوحيه الذي أمر برباط الخيل للدفاع عن الحق. فما زالت تعرض {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 32) فقال {رُدُّوهَا عَلَيّ} (ص: 33) لأراها مقبلة ومدبرة أو لأختبر حالها. فقد قيل: إنه كان عالمًا بها وبأمراضها أو لأتمتع بمسح سوقها وأعناقها، فردُّوها عليه {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} (ص: 33) كما هو شأن محبّي الخيل في كل جيل وزمان. فأي هذيان أم أية شبهة في هذه الآيات على أن سليمان عليه السلام ترك صلاة العصر شغلاً بالخيل حتى غربت الشمس، وأنه انتقم منها بقطع سوقها وأعناقها - ولو كان المسح هو القطع لكان قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم} (المائدة: 6) بمعنى: اقطعوها - وأن قوله: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} (ص: 33) خطاب للملائكة الموكلين بالشمس يأمرهم بردها بعد غروبها ليصليَ العصر؟ وأيّ حاجة لتطويل الفقهاء البحث في هذه الصلاة هل هي أداء أم قضاء؟ ولكن هذا قضاء الله في قوم اشتغلوا عن لباب العلم بلَوْك القشور، ألا إلى الله تصير الأمور. *** (م93) الشبهة الثانية على سليمان عليه السلام رووا في تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34) روايات مضطربة متعارضة، فإذا حكَّمنا علم الرواية فإننا نقبل رواية البخاري ومن وافقه، وملخصها: أن سليمان قال: لأطوفنَّ الليلة على أربعين امرأة (من نسائه) تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله: فلم تحمل منهن إلا واحدة جاءت بشق رجل فألقي على كرسيه عرضًا عليه، وسمي جسدًا؛ لأنه ليس إنسانًا كاملاً، فكان ذلك فتونًا واختبارًا من الله تعالى له فأناب إليه وتاب أن يجزم بشيء دون الاستثناء بمشيئته؛ فأين التماثيل وعبادة الأصنام ووثبان الشياطين على كرسيّ الملك وما أشبه هذا الهذيان الذي رووه؟ *** (م94) الشبهة على عصمة يوسف عليه السلام إن ما جرى ليوسف مع امرأة العزيز كان قبل نبوته، وليس فيما قصه الله تعالى علينا إلا أنه: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه} (يوسف: 24) فيجوز أن يكون جواب لولا محذوفًا دلّ عليه ما قبله فتكون الآية ناطقة بأنه لم يهمّ، وبعض النحاة جوَّز تقديم جوابها؛ أي: إنه لولا رؤية برهان رّبه لهمَّ بها لتوفّر الدواعي ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء فلم يهمّ ولو فرضنا أن الجواب (لغَشْيِهَا) وأنَّ الهمّ وقع منه لكان لنا أن نقول: إن الأنبياء ليسوا معصومين من حديث النفس ومراودة الشهوة البشرية، ولكنهم معصومون من طاعتها والانقياد إليها. ولو لم توجد عندهم داعية إلى خطأ لما كانوا مأجورين على ترك المنكرات والمعاصي؛ لأنهم يكونون مجبورين على تركها طبعًا. والعنين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنا؛ لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعية ليس عملاً، وأما الترك مع الداعية فهو كفّ النفس عما تتشوّف إليه فهو عمل نفسي. *** (م 95) الشبهة على إخوة يوسف لا شك أن إخوة يوسف قد ارتكبوا المعصية المشتملة على عدة معاصي، ولكنهم لم يكونوا أنبياء. وأما ذكر الأسباط، فيمن أوحى الله تعالى إليهم من الأنبياء فالمراد به (والله أعلم) أنبياء الأسباط وهم فرق بني إسرائيل الاثنى عشر. قال تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} (الأعراف: 160) ، وقد بعث الله في كل أمة من هؤلاء الأسباط أنبياء وأوحى إليهم فعل الخيرات وهداية بني إسرائيل. وما رواه ابن جرير الطبري من استغفار يعقوب لهم في وقت السحر وتأمين يوسف عليهما السلام، وأن الله استجاب له على رأس العشرين سنة من دعائه وأوحى إليه أنه غفر لهم (وعقد مواثيقهم على النبوة) فهو غير صحيح هذا هو الحق في هذه القصص، وقد انكشفت به الشبه، فينبغي ذأن يلقن للمسلمين في الدروس ويعلم للأطفال لكيلا يغتر أحد بما في كتب العهد العتيق التى يسمونها التوراة وبما حشي في كتب قصص الأنبياء وبعض التفاسير من الإسرائيليات، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) . ((يتبع بمقال تالٍ))

لا وثنية في الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لا وثنية في الإسلام (نبذة من الجزء الثاني من كتاب أشهر مشاهير الإسلام الذي يطبع الآن) (رأيت ما قاله عمر رضي الله عنه لكعب الأحبار، وهو قول لا نحب أن يفوتنا البحث فيه، لهذا رأينا أن نفرد له هذا الفصل فنقول [1] : أولع الإنسان بالإفراط، كما أولع بالتفريط في كل شؤونه الروحية والجسمانية، ولو أنصف واعتدل ولم يطلق لنفسه العنان ليبلغ مقام الملائكة في أعلى عليين أو يهبط بها إلى مقر الشرور في أسفل سافلين؛ لكانت السعادة الدائمة به ألزم وطريق النعيم الحيوي لديه أوسع، ولما احتاج إلى كثير من هذه القوانين وقوّامها، وزعماء السيطرة وجنودهم، والحكام وأعوانهم، والسجون وحراسها، بل ولكان اكتفى بدين واحد قويم وشرع إلهيّ مستقيم ولم يشوّه وجه الشرائع ولم يدعُ لتعدد الأديان وإرسال الرسل في آن وآن. أجل، أولع الإنسان بالشطط حتى في العقائد، فبينا يكون هذا في طرف التفريط مارقًا من كل دين منكرًا لكل نحلة، هائمًا في المادة التي يتناولها حسه، وينكر ما فوقها عقله، يكون الآخر مسلمًا لعقيدته، بما لا يبعد طبعه عن طبيعته طالبًا بخياله ما يظن له قدرة فوق قدرته، وسلطة أعلى من سلطته، وأوّل ما يلاقيه في طلبه يعلق بقلبه ويظنه منتجع عقله والغاية التي يطلبها في سيره فتولع به نفسه ويقوى فيه أمله ويختص به عمله فيغلو في عبادته غلو المادي في مادته، حتى يساويه من طرف الأطراف بالتوجه تارة للأقمار وأخرى للأشجار وآونة للأحجار، ووقتًا للأرواح وآخر للأشباح إلى غير ذلك مما هو داخل في المادة قريب من متناول الحس. فكأن العقل الإنساني في حال الإيمان والكفر أسير المادة لا يفلت من شَرَك الحس ولا يذعن إلى ما فوق المادة ويصعد إلى أفق الكمال إلا هنيهة ريثما يتلقى برهان ربه بواسطة الأنبياء، ويطمئن إلى التسليم بقوة إلهية تفوق قوى المادة وتعلو عن العقل وتتحكم على الكائنات تحكم الصانع المختار، ثم لا يلبث أن ينحط عن هذه المرتبة، فيعود إلى نحيزته الأولى للهبوط إلى هوة النقص والتوجه إلى مظاهر المادة ولو تدريجيًّا حتى يلتصق بالحضيض، ويعود إلى الشرك وهو يظنه الإيمان ويخاله منتهى العبادة، وإنْ من دين إلا أصيب أهله بهذا المصاب وأشركوا مع الله الأرواح تارة، وأخرى الأنصاب توصلاً إليه على زعمهم بالحس، وارتياحًا إلى ما تحت النظر والعقل، والله سبحانه وتعالى فوق ما يتصورون، ليس من المادة ولا المادة منه، بل هي مخلوقة له مفتقرة إليه، وليس بينه وبين خلقه سبب منها يتوصل به إليه بل هو كما قال في كتابه الكريم: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) الآية. ومن الثابت أن العرب كانوا على دين إبراهيم الذي هو كباقي الأديان الإلهية دين التوحيد بالله والإيمان بأنه تعالى خالق الكون وما فيه، وإنكار ما دون ذلك من الاعتقاد بشيء من المادة ومن التمسك في العمل بأهداب الشرك، ولكن لم يلبثوا أن تدرجوا في مدارج المادة وهبطوا إلى حضيض الشرك، وتدرجوا من الاعتقاد بالأرواح إلى الاعتقاد بالأشخاص ثم إلى الاعتقاد بالأنصاب والأحجار، وغير ذلك مما هو داخل في المادة واقع تحت الحس. وهم مع ذلك كانوا يزعمون أنهم مؤمنون لا مشركون، وأنهم بعبادة المادة يعبدون الله ويتقربون بها إليه كما أخبر عن ذلك القرآن بقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) وهذا من الإغراق في الجهل، والانحطاط في العقيدة والإفساد لأصل التوحيد. ولم يكن هذا الإفساد قاصرًا على العرب فقط بل عمَّ سائر أرباب الأديان، مما لا محل لبسطه الآن. إذا تمهد هذا علمنا أن الإسلام بما جاء به من آيات التوحيد الخالص من كل شائبة من شوائب الشرك إنما جاء لاستئصال شأفة الوثنية من نفوس العرب وغيرهم من أرباب الأديان بمحو شائبة الاعتقاد بأي أثر من آثار المادة، وصرف النفوس عن التوجه إلى تلك الآثار بالحس لتتوجّه إلى واجب الوجود بالضمائر، والاكتفاء باستحضار هيبة جلاله في القلب، وتمكين الاعتقاد بأن الأثر الواقع تحت الحس إنما يقوم قوامه بالمؤثر المستحضر في الضمير الخارج عن الحس؛ إذ بغير هذا لا يقوم للتوحيد أثر متين في النفس ينجي من مزلة القدم إلى الوثنية المفضية إلى الشرك المؤدي إلى الجحود، وإنما الإنسان مادة، وهذه أعراض منها تنمو وتعظم في النفس ما دامت النفس مستشعرة بشيء من وجوب التعظيم لغير الله تعالى والتوجه لأيّ أثر من آثار المادة وساء منقلب الظالمين. هذا هو التوحيد الذي جاء به الإسلام ودعا إليه النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما اضطربت العقول وساءت الأوهام لتفاوت الأفهام، وتباين مراتب المسلمين في العلم بحقيقة الدين والإحاطة بأسراره، والوقوف على جميع مقاصده حتى على عهد الرسالة، وإليك الدليل: أخرج الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في سيرته العمرية عن المعرور بن سويد قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب في حجة حجها قال: فقرأ بنا في الفجر {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ} (الفيل: 1) و {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} (قريش: 1) فلما انصرف رأى الناس مسجدًا فبادروه فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هكذا أهلك أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعًا، من عرضت له فيه صلاة فليصلّ، ومن لم تعرض له صلاة فليمضِ. فلو كان أولئك المصلون يومئذ في مرتبة عمر في العلم، واستشعروا من إقبالهم على ذلك المسجد للصلاة فيه تعظيمًا له كما استشعر به عمر رضي الله عنه وعنهم أجمعين لما بادروا للصلاة فيه إلا إذا عرضت لهم صلاة. ولا جرم أن أعظم الناس فهمًا للإسلام وعلمًا بغوامض الدين ووقوفًا على مقاصد النبوّة المحمدية وما كانت تدعو إليه من التوحيد البحت الخالي عن كل شائبة من الشوائب التي مَرّ ذكرها - هم أهل السابقة من المهاجرين الأولين الذين تلقوا الدين أنجمًا كان ينزل بها الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من لدن البعثة، ولازموا الرسول ملازمة الظل، فاكتنهوا سرّ، شريعته وأدركوا مرامي غرضه، وقلدوه في أعماله وأقواله، وانتهجوا منهجه واهتدوا بسيرته، فتفوقوا على غيرهم في العلم بالدين وعرفوا حقيقة التوحيد. ومن هؤلاء من هم في المرتبة الأولى في فهم مقاصد الإسلام، ومنهم عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومن تتبع سيرته وأمعن النظر في أقواله وأفعاله وانطباقها على الكتاب الكريم ونهج السنة القويم، علم ما هو التوحيد الذي أرشد إليه الإسلام وعرفه أولئك الصحابة الكرام، فأرادوا أن يمحوا به كل أثر من آثار الوثنية عن صفحات الضمائر والقلوب. وحسب العاقل دليلاً على هذا قول عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار لما أشار عليه بجعل المصلَّى إلى الصخرة: (لقد ضاهيت اليهودية يا كعب. إلى قوله: اذهب إليك [2] فإنا لم نؤمر بالصخرة ولكنَّا أُمرنا بالكعبة) وقد مرّ الخبر في الفصل السابق نقلاً عن الطبري، ولأجله عقدنا هذا الفصل ليكون به عبرة وذكرى لقوم يعقلون. تقدم معنا كيف تدرّج العرب إلى الوثنية حتى أنسوا بلمس الأحجار، وعكفوا على عبادة الأصنام، وأن أصول التوحيد عند أرباب الأديان كلها أفسدت تدريجًا كما حصل في دين العرب. وإنما كان مبدأ هذا التدريج الاستسلام للشعور بوجوب تعظيم مظهر من مظاهر المادة يظن أن له صلة بما فوق المادة كالعابد مثلاً، ثم يأخذ هذا الشعور ينمو ويتعدى المظهر الأول إلى غيره، ويتدرج في أطوار التعبد له حتى تنقلب صورة التوحيد المرتسمة على صفحات الضمائر إلى صورة من صور المادة مجسمة للحس، ويستحيل الإيمان بإله واحد فوق المادة إلى آلهة شتى كلها من المادة أو لها صلة بها. وهذا هو الشرك التام الجلي، ومبدؤه ذلك الشرك الخفي، ولم تكن دعوة الإسلام قاصرة على استئصال الوثيقة فقط , بل كان من مقاصدها الأولى والغايات التي ترمي إليها - بل من أولاها بالاهتمام وأجدرها بالعناية - تطهير النفوس من كل أثر من آثار ذلك الشعور الفاسد، ولو أشبه بدقته دقة الجرثومة الحية التي لا ترى إلا بالنظارة المكبرة، إلا أنها إذا وجدت منبتًا صالحًا لها تولد عنها ما لا يحصى من الجراثيم في بضع ثوان. فمن قال بخلاف ذلك، أو ظن أن الإسلام يتسامح في تلك الجزئيات أو يبيح تعظيم أي مظهر من مظاهر المادة تعظيمًا دينيًّا؛ فقد أخطأ ونسب العبث إلى دين الله لهذا. ولما أشرب قلب عمر (رضي الله عنه) من التوحيد الحق الصادق لم يتسامح مع كعب الأحبار حتى في خلعه عند دخوله المسجد الأقصى، وأخذه على عمله ذلك كما أخذه على رأيه في جعل المصلى إلى الصخرة كما رأيت وسترى من أخباره بهذا الصدد إن شاء الله. هكذا كان فهم كبار الصحابة للدين , ومن أمعن النظر في قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه في إحدى خطبه التي مر إيرادها في هذا الكتاب وهو (إن الله لا شريك له، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره) يعلم كيف كان أولئك الصحابة الكرام يعلّمون الناس التوحيد، ويقتلعون من أعماق نفوسهم أصول الشرك. ورحم الله امرأً حاسب نفسه وعرف دينه وتأدب بأدب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه , ونبذ بدع النفوس وأهواءها، وتنكب مواضع الزلل ومواقع الخطأ وسوء الفهم، والله ولي الرحمة وهو القاهر فوق عباده) . اهـ

شبهات المسيحيين وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين وحجج المسلمين نشرت مجلة بشائر السلام الإنجيلية في الجزء الرابع منها نبذة في الطعن بالمسلمين عامة وبأكابر الصحابة الكرام خاصة، وذلك أن عابتهم وعابت دينهم بالرجاء لفضل الله والخوف من الله , وهذا مبلغ القوم من العلم بالله وبدين الله، أثبتت (إن كثيرين من المسلمين يموتون على بساط الرجاء بدخول الجنة والتنعم بنعيمها بناء على ما لهم من المواعيد الكريمة في قرآنهم) إلى أن قالت: (وما علة ذلك سوى جهلهم حقيقة أنفسهم وكمالات الباري تعالى) ثم قالت مستدركة: إن أولي العلم والذكاء من المسلمين غالوا في النسك والتعبد والصلاة والابتهال إلى الله تعالى وجعلتْ علة هذه العبادة أنهم لم يجدوا ما يريح نفوسهم من الشعور بثقل حمل خطاياهم. واستشهدت على المعلول دون العلة بكلام في الخوف من الله عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وسفيان الثوري، وعُدَّ سفيان من الصحابة وما هو من الصحابة، ولكن العلم ليس شرطًا للقول عند هؤلاء المشاغبين، وفي العبارة أيضًا تحريف، وليست الأمانة من شروط النقل عند هؤلاء المبشرين. وما لنا وللبحث في الروايات التي نقلتها وبيان التحريف , وضعف الضعيف؟ نضرب عن ذلك صفحًا، وعن العبارات التي أساء بها الكاتب الأدب مع هؤلاء الأئمة الذين يفتخر بهم النوع الإنساني , ولو صدق المسلمون هذه الكتب التي تسمى التوراة، وسمح لهم دينهم بتفضيل أحد على الأنبياء لكان لهم من التاريخ ما يفضلون به هؤلاء الأئمة على أنبياء التوراة؛ إذ لم ينقل عن واحد منهم مثلما نقل القوم عن أنبيائهم من القسوة والظلم والسكر والزنا وسفك الدماء برأهم الله مما قالوا. نغضّ الطرف عن هذا ونبين للقراء أن الغرض من ذم الخوف والرجاء اللذين هما الركنان لكل دين صحيح هو تقرير قاعدة إباحة المعاصي والشرور التي هي العنوان لبشارتهم والجاذبة إلي ديانتهم , وهي أن النجاة في الآخرة من العذاب والحياة الأبدية في الملكوت إنما يحصلان باعتقاد أن الإله لم يجد وسيلة لنجاة البشر من ذنب أبيهم آدم إلا بحلوله في جسم إنسان، وتسليط طائفة كانت أفضل الشعوب عليه، وصلبها إياه وصيرورته ملعونًا بحكم الناموس والشريعة! ! فمن أطفأ سراج عقله وأفسد فطرة نفسه وسلم بهذه القاعدة فهو الناجي الذي يرث الملكوت الأعلى، وإن قَتَلَ وَزَنى وسكر وأكل أموال الناس بالباطل وظلم العباد وكان آفة العمران. ولذلك صرح الكاتب الذي لا أقدر أن أصفه إلا بكونه مبشرًا داعيًا إلى هذه العقيدة بأن سبب خوف أبي بكر وعلي وسفيان من الله هو جهلهم بقاعدة الفداء , يعني أنهم لو عرفوا وصدقوا بها لكانوا عاشوا آمنين من مكر الله وعذابه، يسرحون ويمرحون في أهوائهم وحظوظهم. والحاصل أن المسلم الذي يغلب عليه الرجاء بفضل الله ووعده للمحسنين بالنعيم جاهل ضال , والذي يخاف الله هيبة وتعظيمًا أو لاتهام نفسه بالتقصير في الأعمال الصالحة النافعة للناس وفي المعارف والكمالات المزكية للنفس , فهو جاهل ضال. وأن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله من غير تفرقة بينهم وتهذيب الأخلاق وإصلاح الأعمال - كل ذلك لا ينفع المسلم الصادق ولا يغني عنه شيئًا، فما حيلة المسلم المسكين إذا ابتلاه الله تعالى بسلامة الفطرة ونور العقل فلم يقبل تلك القاعدة التي تفصَّى منها الذين تربوا عليها تقليدًا لما عقلوا وميزوا، على أن كتب القوم لا تخلو من نصوص تدل على أن رسلهم ومقدسيهم كانوا يخافون من الله تعالى ويرجون رحمته؛ لأنهم لم يكونوا إباحيين بل كانوا قومًا صالحين. إن القرآن الحكيم علمنا بأن دين الله تعالى واحد في جوهره , وأن جميع الأنبياء وصالحي المؤمنين بهم كانوا عليه، وهو توحيد الله تعالى وتنزيهه عن صفات الحوادث وإفراده بالعبادة والخوف الزاجر عن المعاصي والشرور والرجاء الباعث على الخير والصلاح، وإننا نرى جميع عقلاء المسيحيين يوافقوننا على هذه القاعدة ويودون أن يهتدي إليها دعاة كل دين ورؤساؤه ليكون الدين كما شرع الله سعادة للبشر , لا وبالاً وشقاءً عليهم , ومثارًا للخلاف والشحناء والبغضاء بينهم. وقد ذكر الإمام الغزالي أنواعًا للخوف كخوف الموت قبل التوبة، وخوف نقض التوبة ونكس العهد وخوف ضعف القوة عن الوفاء بالحقوق، وخوف زوال رقة القلب وتبدلها بالقساوة وخوف الميل عن الاستقامة، وخوف استيلاء العادة في اتباع الشهوات المألوفة، وخوف الغرور بالحسنات وخوف البطر بكثرة النعم وخوف انكشاف غوائل الطاعات بأن يبدو للمرء ما لم يكن يحسب وخوف ما عساه يطرأ عليه في مستقبله، وخوف نزول البلاء، وخوف الاغترار بزخرف الدنيا وخوف اطلاع الله على السريرة في حال الغفلة وخوف سوء الخاتمة. ويمكن استنباط أنواع أخرى، وأعلى الخوف خوف المهابة والإجلال لله عز وجل، وكل ذلك من الذنوب عند هؤلاء المبشرين. ((يتبع بمقال تالٍ))

الإسلام في إنكلترا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام في إنكلترا رأينا في كراسة سياسية تسمى (ديبلوماتيك فلي شينس) أي: المنشورات السياسية لشهري نوفمبر وديسمبر سنة 1887 مقالة بإمضاء المستر جورج كراشي أحد أعضاء البرلمنت الإنكليزي أخذنا منه ما يأتى تعريبه وهو: الإسلام دين لا يبتدع أحكامًا، ولا يخترع للوحي أساسًا جديدًا، ولا يوصي بغير معهود ليس له كهنوت خاص ولا رئاسة كنسية، ولكنه يسن للملة شرعًا وللدولة قانونًا يكون تنفيذهما باسم الدين. هذا ما قاله (داود أرقوهارت) في المجلد الأول من كتابه المسمى بروح الشرق في الصفحة الخامسة والعشرين من مقدمة طبعته الثانية سنة 1839. إن حقيقة الإسلام التي أماط الحجاب عنها أولاً من اشتهر بروح الشرق، وأبرزها للمرتابين من الغربيين، لم تزل تزداد وضوحًا منذ كشفها حتى تجلت اليوم بنفسها على وجه لم يبق معه للأكاذيب المفتراة على الإسلام سبيل لسلطتها على النفوس فيما بعد ذلك التجلي الباهر كان فيما ألقاه القسيس (إسحاق طيلر) من خطابته في المحفل الديني، صدق أرقوهارت في دعواه أن حقيقة الإسلام أمر مسلّم عند كثيرين، فالنبلاء الكرام (بالكراد) و. مبري و. راولنسون و. لايارد و. رولاند و. ستانلي أوف ألدرلي و. ديشانسكي وقوم آخرون من قبيلهم شاركوه في البصيرة وصدقوه فيما قرره. وكل مسافر عاشر الأقوام المحمدية وأنس إليهم، فله عنهم خبر محمود ومع ذلك كله نرى الجمهور في إنكلترا لم تزل آراؤهم في مواقفها الأولى. كانت الحقيقة في احتجاب عن أنظار العامة لأن أكثر أهالي إنكلترا مصروفون إلى النصرانية عن النظر فيما سواها، وتوارثوا فيها عصبية تظهر لهم في شعار الدين أما الآن وقد قام قسيس محترم من البيعة الإنكليزية يصدع بهذا الحق، فلا بد أن يصغي إلى قوله ويذعن له ملايين ممن كانوا يجعلون أصابعهم في آذانهم ويعرضون عن مقالات قوم يعدونهم سياحين أو متفلسفين. هذه الحقائق مما لا يقبل الإنكار، وإنما كان الإشكال في طريق اجتلاب الخواطر إليها حتى تجتليها، وحيث زال هذا الإشكال بهمة أحد القسيسين المحترمين فالغاية المطلوبة أصبحت مما لا يشك فيه معشر الذين قبلوا نصيحة داود أرقومارت. ليس السعي لبيان أن الإسلام مما يمكن احتماله فقط، بل لم نزل نطلب أن يكون من النفوس في مكانة الاحترام، وقد استيقنّا الآن أن رجاءنا المُرْجَأ قد تحقق ومدّعانا الحق قد سلم به. لا ينبغي أن يظن أننا نحسب دين الإسلام مخالفًا للدين المسيحي، فذلك مما لم يخطر لنا ببال قط، وقصارى ما نقول: إن الغاية من كل دين إنما هو العمل الصالح والمسلك المستقيم، ولسنا نحكم على أبناء جنسنا إلا كما قال المسيح عليه السلام (بثمراتهم تعرفونهم) وحيث استمسكنا بهذا الأصل فلنا أن نجهر بأن المعتقدين بالدين المسيحي في هذه الأوقات ليسوا بمنزلة يفضلون بها على المسلمين. هذا الحق ننادي به ونحن على يقين منه ونحثّ الذين يقولون إنا نصارى. على أن يضعوا الإسلام في منزلة تنطبق على الواقع ونفس الأمر، فإن استطاعوا أن يدحضوا حجتنا بالبراهين الساطعة فليعملوا على مكانتهم، وإن لم يفعلوا ولن يفعلوا فليكن نظرهم إلى الإسلام على حد ما بيّنا مناسبًا للحقيقة الواقعية، ولينصفوا الإسلام ذلك الدين القيم الذي هو نظام لمعيشة قسم عظيم من أمم كريمة كثيرة العدد من النوع البشري. مما يهم الشعب الإنكليزي خاصة أن يتخلصوا من أطوار التعصب التي لا تنحصر آثارها في إلحاق العار بهم فقط بل تتعدى إلى جلب المضرة عليهم أيضًا؛ لأن لحضرة الملكة ملايين من رعاياها كلهم مسلمون ونحن في مقام على أحد جانبيه دولة الروسية، وعلى الجانب الآخر الدولة العثمانية ولا يمكننا أن نزعم عدم المبالاة بعقابيل الحروب التي قامت على سوقها بين هاتين الدولتين من أمد بعيد، وإلى الآن لم تضع أوزارها وضعًا حقيقيًّا. إن الدولة الروس لا يمكنها أن تكون في حرب مستمرة، لكنها لا تراعي ما تكلف به من شروط السلام ولا يزال وكلاؤها الخفيّون مشتغلين بالعمل (كذا) وما من زمان إلا والحذر فيه من الروسية ضروري للباب العالي وهذا مجموع أحوال توجب على دولة الإنكليز أن تسأل نفسها آنًا بعد آن: هل لنا أن نقاوم الروسية أو ندعها وشأنها؟ كل وجه من وجوه السياسة يتعلق بسلامة الدولة الإنكليزية وبقائها، يرشدنا إلى الاعتراف بلزوم عقد معاهدة مع الدولة التي لم تضرنا قط، وفتحت فُرَصَها لتجارتنا، وأبواب بلادها لأشغالنا، أما الصيحة الفارغة بأن الروسية دولة نصرانية، والدولة العثمانية دولة محمدية فقد كان لها إلى الآن أسوأ الأثر في إعماء عقولنا وخطلنا في سياستنا، فلنأخذ من الآن بأصل صحيح وهو أن نعلق الحكم بالأعمال لا بالعقائد، فإنه ليس خاصًا بالأفراد، بل كما يكون بها يكون بالأقوام والدول أيضًا، فإن قابلنا بين روسيتنا النصرانية وبين العثمانية المحمدية لم يشك في أن المعاهدة مع العثمانية هي التي تظهر أفضليتها عند الحاكمين بالحق أجمعين، وإذا ذكرنا المعاهدة العثمانية فلا نستعمل اللفظ فيها بمعناه السياسي أو تركيبه الديبلوماسي، ولا ينبغي أن يفهم ذلك من كلامنا، إنما المعاهدة التي كنا نجتهد في إعدادها لسنين طويلة كانت معاهدة مبنية على شروط مساواة مؤسسة على الاحترام من الجانبين، وظهر لنا في الأزمان الماضية أن إكمال مثل تلك المعاهدة من المحال. أما الآن فلا نقول: إنها من قبيل الممكن الذاتي فقط بل صارت من قبيل ما بالقوة القريبة من الفعل.

الاجتماع الثاني ـ الداء أو الفتور العام ـ تتمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة الاجتماع الثاني لجمعية أم القرى الداء أو: الفتور العام أجابه (المرشد الفاسي) إننا كنا على عهد السلف الصالح وشريعتنا سمحة واضحة المسالك معروفة الواجبات والمناهي، فكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة لكل مسلم ومسلمة، وكنا في بساطة من العيش متفرغين لذلك، ثم شغلنا شأن التوسع فخصصنا لذلك محتسبين ثم دخل في ديننا أقوام ذوو بأس ونفاق أقاموا الاكتساب مكان الاحتساب، وحصروا اهتمامهم في الجباية وآلتها التي هي الجندية فقط؛ فبطل الاحتساب وبطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طبعًا، فهذا يصلح أن يكون سببًا من جملة الأسباب، ولكنه لا يكفي وحده لإيراث ما نحن فيه من الفتور. على أن انحصار همة الأمراء الدخلاء في الجباية والجندية أدى بهم إلى إهمال الدين كليًّا ولولا أن في القرآن آيتين اثنتين لهجروه ظهريًّا إحداهما قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) مع الغفلة عن المراد بكلمة (أولي) وما تقتضيه صيغة الجمع وما يقتضيه قيد منكم. والثانية قوله تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 218) مع إغفال بيان الجهاد المأمور به؛ هل هو ما يكون به إعزاز كلمة الله أم ما تؤيد به سلطة الأمراء العاملين على الإطلاق؟ فإهمال الاهتمام بالدين قد جر المسلمين إلى ما هم عليه حتى خلت قلوبهم من الدين بالكلية، ولم يبق له عندهم أثر إلا على رءوس الألسن لا سيما عند بعض الأمراء الأعاجم الذين ظواهر أحوالهم وبواطنها تحكم عليهم بأنهم لا يتراءون بالدين إلا لقصد تمكين سلطتهم على البسطاء من الأمة، كما أن ظواهر عقائدهم وبواطنها تحكم عليهم بأنهم مشركون ولو شركًا خفيًّا من حيث لا يشعرون. فإذا أضيف إلى شرهم هذا ما هم عليه من الظلم والجور يحكم عليهم الشرع والعقل بأن ملوك الأجانب أفضل منهم وأولى بحكم المسلمين لأنهم أقرب إلى العدل وإقامة المصالح العامة وأقدر على عمارة البلاد وترقية العباد، وهذه هي حكمة الله في نزع الملك من أكثرهم كما يقتضيه مفهوم {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) [1] . وقد افتخر النبي عليه السلام بأنه ولد في زمن كسرى أنوشروان عابد الواكب [2] فقال: (ولدت في زمن الملك العادل) [3] وحكى ابن طباطبا في (الآداب السلطانية والدول الإسلامية) أنه لما فتح السلطان هلاكو (وهو مجوسي) بغداد سنة (656) أمر أن يستفتى علماؤها: أيّ الرجلين أفضل السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟ فاجتمع العلماء في المستنصرية لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب حيث كان رضي الدين علي بن طاووس حاضرًا وكان مقدمًا محترمًا فتناول الفتيا ووضع خطَّه فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الظالم فوضع العلماء خطوطهم بعده. ثم قال: إني أظن أن السبب الأعظم لمحنتنا هو انحلال الرابطة الدينية؛ لأن مبنى ديننا على أن الولاء فيه لعامة المسلمين، فلا يختص بحفظ الرابطة والمسيطرة على الشؤون العمومية رؤساء دين سوى الإمام إن وجد وإلا فالأمر يبقى فوضى بين الجميع، وإذا صار الأمر فوضى بين الكل فبالطبع تختل الجامعة الدينية وتنحل الرابطة السياسية كما هو الواقع. ومن أين لنا حكيم (كبسمرك) أو ملزم (كغاريبالدي) يوفق بين أمرائنا أو يلزمهم بجمع كلمتنا. وقد زاد على ذلك فقدنا الرابطة الجنسية أيضًا، فإن المسلمين في غير جزيرة العرب لفيف أخلاط دخلاء، وبقايا أقوام شتى لا تجمعهم جامعة غير التوجه إلى هذه الكعبة المعظمة. ومن المقرر المعروف أنه لولا رءوساء الدين في سائر الملل وروابطهم المنتظمة المطردة أو من يقوم مقام الرؤساء من الدعاة أو مديري ومعلمي المدارس الجامعة المتحدة المبادئ لضاعت الأديان وتشعب أخلاق الأمم ونالهم ما نالنا من كون كل فرد منا أصبح أمة في ذاته. أجابه (المحقق المدني) إن فقد الرابطة الدينية والوحدة الخلقية لا يكفيان أن يكونا سببًا للفتور العام بل لابد لذلك من سبب أعم وأهم. ثم قال: أما أنا فالذي يجول في فكري أن الطامة هي من تشويش الدين والدنيا على العامة بسبب العلماء المدلسين وغلاة المتصوفين الذين استولوا على الدين فضيعوه وضيعوا أهله. وذلك أن الدين إنما يعرف بالعلم، والعلم يعرف بالعلماء العاملين، وأعمال العلماء قيامهم في الأمة مقام الأنبياء في الهداية إلى خير الدنيا والآخرة. ولا شك أن لمثل هذا المقام في الأمة شرفًا باذخًا يتعاظم على نسبة الهمم في تحمل عنائه والقيام بأعبائه. فبعض ضعيفي العلم وفاقدي الدم تطلعوا إلى هذه المنزلة التي هي فوق طاقتهم، وحسدوا أهلها المتعالين عنهم، فتحيلوا للمزاحمة والظهور في مظهر العلماء العظماء بالإغراب في الدين , وسلوك مسلك الزاهدين. ومن العادة أن يلجأ ضعيف العلم إلى التصوف كما يلجأ فاقد المجد إلى الكبر، وكما يلجأ قليل المال إلى زينة اللباس والأثاث (مرحى) . فصار هؤلاء المتعالمون يدلسون على المسلمين بتأويل القرآن بما لا يحتمله محكم لفظه الكريم، فيفسرون البسملة أو الباء منها مثلاً بسفر كبير تفسيرًا مملوءًا بلغط لا معنى له، أو تحكم لا برهان عليه، ثم جاءوا الأمة بوراثة أسرار ادعوها وعلوم لدُنيات ابتدعوها وتسنيم مقامات اخترعوها ووضع أحكام لفقوها وترتيب قربات زخرفوها. وبالإمعان نجدهم قد جاءوا مصداقًا لما ورد في الحديث الصحيح (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع - وفي رواية: حذو القذة بالقذة - حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال هو فمن؟) . وذلك أن هؤلاء المدلسين اقتبسوا ما هنالك كله أو جله عن أصحاب التلمود وتفاسيرهم ومن المجامع المسكونية ومقراتها ومن البابوية ووراثة السر ومن مضاهاة مقامات البطارقة والكردينالية والشهداء وأسقفية كل بلد ومطاهر القديسين وعجائبهم والدعاة المبشرين وصبرهم، والرهبنات ورؤسائها وحالة الأديرة وبادريتها، والرهبنة أي التظاهر بالفقر ورسومها والحمية وتوفيتها ورجال الكهنوت ومراتبهم وتميزهم في ألبستهم وشعورهم ومن مراسم الكنائس وزينتها، والبيع واحتفالاتها والترنحات ووزنها والترنمات وأصولها، وإقامة الكنائس على القبور وشد الرحال لزيارتها والإسراج عليها والخضوع لديها وتعليق الآمال بسكانها. وأخذوا التبرك بالآثار كالقدح والحربة والدستار من احترام الذخيرة وقدسية العكاز، وكذلك إمرار اليد على الصدر عند ذكر بعض الصالحين من إمرارها على الصدر لإشارة التصليب، وانتزعوا الحقيقة من السر، ووحدة الوجود من الحلول، والخلافة من الرسم، والسقيا من تناول القربان، والمولد من الميلاد، وحفلته من الأعياد، ورفع الأعلام من حمل الصلبان، وتعليق ألواح الأسماء المصدرة بالندامة على الجدران من تعليق الصور والتماثيل، والاستفاضة والمراقبة من التوجه بالقلوب انحناءً أمام الأصنام، ومنع الاستهداء من نصوص الكتاب والسنة من حظر الكهنة الكاثوليك قراءة الإنجيل على غيرهم، وسد اليهود باب الأخذ من التوارة وتمسكهم بالتلمود إلى غير ذلك مما جاء به المدلسون تقليدًا لهؤلاء شبرًا شبرًا واقتفاء لأثرهم بالدخول حيث دخلوا جُحرًا جحرًا. وهكذا إذا تتبعنا البدع الطارئة نجد أكثرها مقتبسًا وقليلها مخترعًا. وقد فعل المدلسون ذلك سحرًا لعقول الجهلاء، واختلابًا لقلوب الضعفاء كالنساء وذوي الأهواء والأمراض القلبية أو العصبية من العامة والأمراء السلسي القياد طبعًا إلى الشرك؛ لأن التعبد رغبة أو رهبة لما بين أيديهم وتحت أنظارهم أقرب إلى مداركهم من عبادة إله ليس بجوهر ولا عرض وليس كمثله شيء، ولأن التعبد باللهو واللعب أهون على النفس والطبع من القيام بتكليفات الشرع كما وصف الله تعالى عبادة مشركي الرب فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَة} (الأنفال: 35) أي: صفيرًا وتصفيقًا وهؤلاء جعلوا عبادة الله تصفيقًا وشهيقًا وخلاعة ونعيقًا (مرحى) . والحاصل أنه بذلك وأمثاله نجح المدلسون فيما يقصدون، ولا سيما بدعوى فئة منهم الكرامة على الله والتصرف بالمقادير وباستمالتهم العامة بالزهد الكاذب والورع الباطل والتقشف الشيطاني وبتزيينهم لهم رسومًا تميل إليها النفوس الضعيفة الخاملة سموها آداب السلوك ما أنزل الله بها من سلطان ولا عمل بها صحابي ولا تابعي، ظاهرها أدب وباطنها تشريع وشرك، وبجذبهم البله الجاهلين لتصعيب الدين من طريق العلم والعمل بظاهر الشرع، وتهوينه كل التهوين من طريق الاعتقاد بهم وبأصحاب القبور. وقد تجاسروا على وضع أحاديث مكذوبة أشاعوها في مؤلفاتهم حتى التبس أمرها على كثير من العلماء المخلصين من المتقدمين والمتأخرين مع أنها لا أصل لها في كتب الحديث المعتبرة. وجلبوا الناس بالترهيب والترغيب، أما الترغيب: فبالاستفادة من الدخول في الرابطات والعصبيات المنعقدة بين أشياعهم. وأما الترهيب: فبتهديدهم مناوئيهم أو مسيئي الظن بهم بإضرارهم في أنفسهم وأولادهم أموالهم ضررًا يتعجلهم في دنياهم قبل آخرتهم. (مرحى) وقد قام لهؤلاء المدلسين أسواق في بغداد ومصر والشام وتلمسان قديمًا، ولكن لا كسوقها القائم في القسطنطينية منذ أربعة قرون إلى الآن حتى صارت فيها هذه الأوهام السحرية والخزعبلات كأنها هي دين معظم أهلها، لا الإسلام، وكأنهم لما ورثوا عن الروم الملك حرصوا على أن يرثوا طبائعهم أصلاً حتى التوسع في هذه المصارع السيئة، فاقتبس لهم المدلسون كثيرًا مما طبقوه على الدين، وإن كان الدين يأباه، وزينه لهم الشيطان بأنه من دقائق الدين، ومن هذه العواصم سرى ذلك إلى الآفاق بالعدوى من الأمراء إلى العلماء الأغبياء إلى العوام. فهؤلاء المدلسون قد نالوا بسحرهم [4] نفوذًا عظيمًا، به أفسدوا كثيرًا في الدين وبه جعلوا كثيرًا من المدارس تكايا للبطالين؛ الذين يشهدون لهم زورًا بالكرامات المرهبة وبه حولوا كثيرًا من الجوامع مجامع للطبالين الذين ترتد من دوي طبولهم قلوب المتوهيمن، وتكفهر أعصابهم فيتلبسهم نوع من الخيل يظنونه حالة من الخشوع وبه جعلوا زكاة الأمة ووصاياها رزقًا لهم وبه جعلوا ربع أوقاف الملوك والأمراء عطايا لأتباعهم مما نسمي في البلاد العثمانية (دعا كوا وطعامية) (مرحى) . وبذلك ضاق على العلماء الخناق لا رزق ولا حرمة وكفى بذلك مضيعًا للعلم وللدين؛ لأنه قد التبس على العامة علماء الدين بالفقراء الأدلاء من هؤلاء المدلسين الأغنياء الأعزاء، فتشوشت عقائدهم وضعف يقينهم فضيع الأكثرون حدود الله وتجاوزوها، وفقدوا قوة قوانين الله ففسدت أيضًا دنياهم واعتراهم هذا الفتور. أجاب (المولى الرومي) إن كل الديانات مُعَرَّضة بالتمادي لأنواع من التشويش والفساد، ولكن لا تفقد من أهلها حكماء ذوي نشاط وعزم ينبهون الناس ويرفعون الالتباس، أو يعوضون قواعد الدين إذا كان أصلها واهيًا (لا متينًا كقواعد الإسلام) بقوانين موضوعة تقوم بنظام دنياهم ويتحملون في سبيل ذلك ما يتحملون من المشاق خدمة لأفكارهم السامية، ويبذلون ما عز وهان حفظًا لشرفهم القائم بشرف قومهم، بل حفاظًا لحياتهم وحياة قومهم من أن يصبحوا أمواتًا متحركين في أيدي أ

قوانين التعليم الرسمي والجمعية العمومية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قانون التعليم الرسمي والجمعية العمومية كان كل مصري يسيء الظن بكل عمل يجري على أيدي المحتلين فما زالت الأعمال تنقض وتبرم وتمحو وتثبت حتى اعترف الأكثرون بأكثر نتائج الأعمال الإصلاحية النافعة في الري والمالية والإدارة والسياسة، ولولا أن أكثر الناس أو كل الناس غير راضين عن سير نظارة المعارف لاعترفوا أجمعين بحسن نية المحتلين وإرادتهم الخير للبلاد وأهلها، وليس هذا مقام بسط هذه المسألة ولكن هذه الكلمة تمهيد لما يأتي وهو أن سخط الناس من سير نظارة المعارف في التعليم جعل شأنًا عظيمًا لاقتراح الوجيه الفاضل أمين بك الشمسي على الجمعية العمومية أن تطلب من الحكومة عرض قوانين التعليم (بروجرامات) ومنشورات المعارف على مجلس شورى القوانين ومجلس النظار. وتوقع الناس أن تقبل الحكومة هذا الاقتراح بمقدار ما لهم من حسن الظن فيها. وما كانوا ينتظرون أن يدافع صاحب السعادة ناظر المعارف الجمعية العمومية ويناضلها نضال بني ثعل؛ ليدفع عن نظارته هذا الاقتراح؛ لأنهم يعتقدون أنه مستريح من أعمال المعارف لثقته بأمين أسرارها العامل الدائب المستر دنلوب وسائر الموظفين تحت يده، ولأن من شأن الواثق بحسن عمل ينسب إليه حقيقة أو عرفًا بالذات أو بالواسطة أن يحب عرضه على الناس ويسعى في توجيه أنظارهم إليه لا سيما إذا كان الغرض من العمل المنفعة العامة وكان نقد الناظرين فيه من أسباب ترقيه وإتقانه كنظام التعليم ولكن الناظر جاء بما لم يكن في الحسبان ولا نخوض في تعليل ذلك مع الخائضين، ولكننا نبحث في دفاعه وتعليله في مناقشة الجمعية العمومية في جلسة 6 ذي الحجة سنة 1319 ونختصر ما نورده من المناقشات غالبًا ونحذف الألقاب الرسمية فنقول: عندما عرض اقتراح الشمسي بيَّن الناظر للجمعية كيفية وضع قوانين التعليم (البروجرامات) وهو أن نظار المدارس ومفتشيها يقدمون في آخر كل سنة مكتبية تقارير بما يرونه في نظام التعليم فتبحث فيه اللجنة العلمية المؤلفة من كبارهم، وتقدم ما تقر عليه منه إلى مجلس المعارف الأعلى فيبحث فيه ويقدم ما يراه منه إلى مجلس النظار (قال) : (والذي يتقرر يصدر الأمر بإجرائه) . فقال مفتي الديار المصرية: الذي يلاحظه الناس هو أن القوانين تعرض بمقتضى العادة على مجلس النظار ثم ترسل إلى مجلس شورى القوانين، ومن ذلك ما يكون متعلقًا بوضع مائة قرش غرامة ونحوه. فالقوانين المتعلقة بالأصول العامة للتربية والتعليم أولى بهذا، وهي لا تخص نظارة المعارف وحدها بل القطر كله، فيصح للجمعية العمومية أن تطلب ضمانًا زائدًا بالنسبة إلى حالة الأشخاص، فإن الكثيرين يعتقدون أن تلامذة السنة الثانية في المداس الابتدائية يعلمون بعض العلوم باللغات الأجنبية فلا يفهمونها طبعًا. ثم إن طرق التهذيب وتربية النفوس هي التي عليها مدار مستقبل الناشئين ومعرفتهم ما يجب عليهم لمصلحة أنفسهم فمن الضروري الاعتناء بأمثال هذه المسائل، فلو درس قانون التعليم بمجلس النظار وتحول إلى مجلس الشورى لكان ذلك أكثر ضمانًا، فإن المشتغل بعمل يحكم ذلك العمل عليه فيضيع منه كثير من الأشياء المتعلقة بالحالة العمومية. (الناظر) : (البروجرامات) جار نشرها قبل دخول السنة المكتبية، وما يفهمه البعض من أن السنة الثانية تدرس باللغة الأجنبية فهو خطأ؛ لأن التلميذ يبتدئ في هذه السنة في تعلم مبادي اللغة الأجنبية فقط، ولم يكن المعلمون وحدهم منفردين في إبداء رأيهم في سير التعليم بل المشتغل بذلك هم ونظار المدارس والمفتشون الذين هم من خيار الناس، فعندنا تقارير نظار المدارس وتقارير المفتشين وتقارير اللجنة العلمية وقرار مجلس المعارف وقرار مجلس النظار فهذه خمس ضمانات) . أوردنا جواب ناظر المعارف بلفظه كما نشر على ما فيه من ضعف العبارة لتظهر مغالطته بأتم إيضاح، وهي من وجهين: أحدهما قوله: إن التلميذ يبتدئ في السنة الثانية بتعلم اللغة الأجنبية؛ أي: العلوم فلا يتعلم بها شيئًا من العلوم والصواب أنه يبتدئ بتعلمها في السنة الأولى كما ترى في الصفحة 10 من قانون التعليم الابتدائي الصادر بإمضاء الناظر نفسه في جمادى الثاني سنة 1319 أي قبل هذه المناقشة بنحو نصف سنة، وكون التلميذ يتعلم في السنة الأولى وكذا الثانية لغة أجنبية خطأ ظاهر، وإننا لنعرف كثيرين من المعلمين ونظار المدارس يتبرمون منه ولكنهم يعتقدون أنه أمر مبرم هبط من سماء القوة على أرض الضعف والاستكانة، ولو علموا أن إبداء رأيهم يصل مجلس الشورى فيطالب به باسم الأمة لأبدوه آمنين من مغبته؛ لأن كل ما يتوقعونه حينئذ من المؤاخذة على نكث شيء من فتل ذلك الأمر المبرم يكون معلومًا للناس إذا وقع بعد إطلاع مجلس الشورى ومجلس النظار وسائر الناس على اقتراح المقترح. ثم إن تعليم التاريخ الطبيعي (الأحياء) وتقويم البلدان يكون باللغة الإنكليزية في السنة الثالثة الابتدائية والفرق بينها وبين السنة الثانية ليس كبيرًا وإنهم ليعلمون أنه لا يمكن أن يحصل التلميذ من اللغة الأجنبية في سنتين ما يتمكن به من فهم العلوم الطبيعية فيها، ولذلك يعيدون عليه في السنة الثالثة من دروس تقويم البلدان بالإنكليزية ما كان تعلمه بالعربية، فإن كان الغرض العلم فلا معنى لهذا الرجوع القهقرى، وإن كان المراد اللغة العربية فالأوقات المخصصة لها ليست بقليلة كما سنبينه في نبذة أخرى. والوجه الثاني: (الضمانات الخمس) وهي لا تصلح دفعًا لقول المفتي؛ لأنه قال: إن عرض نظام التعليم على مجلس الشورى أكثر ضمانًا أي: إن الخمس تكون به ستًّا فإذا كان الناظر واثقًا من إتقان نظام نظارته ويود أن تزداد إتقانًا وارتقاءً فماذا يضره لو عرض ذلك على كل من له رأي من الناس وعلم رأيه؟ ثم هو يعلم أن الحكومة أنشأت مجلس الشورى والجمعية العمومية لتعلم الأمة كيف تحكم ولتجعل لها رأيًا في قوانينها ونظاماتها لتكون أمة حية كأمم أوربا، حتى إذا ما استعدت لذلك يكون كل شيء برأي مجلسها النائب عنها، فلماذا يبخل عليها ناظر المعارف بالبحث في قوانين نظارته ونظام التعليم في مدارسها بواسطة أعضاء مجلس الشورى الذين هم من خيارها كما أن نظار المدارس ومفتشيها من الخيار كما قال وزيادة الخُيَّار خير. ولا يخفى عليه أن الأمة تثق بمجلس الشورى أكثر من ثقتها بأي مجلس من مجالس الحكومة؛ لأنها تعتقد أن أعضاءه لا سلطان عليهم للسياسة؛ لأن الحكومة وضعتهم للانتقاد على قوانينها، ولأنهم لا يتوقعون ضرًّا من مخالفة رغائبها. أما (الضمانات الخمس) فهي في المعنى شيء واحد، وإن شئت قلت: لا شيء؛ لأن العامل الذي تطلب الأمة الضمان على إتقان عمله هو نظارة المعارف، فلا يصح أن تكون هي الضامنة لنفسها بأن عملها برأي الموظفين فيها. وذلك التعدد في الضمانات لا تأثير له؛ لأن آراء المعلمين والناظرين والمفتشين يدغم بعضها في بعض، ولا يعرض على مجلس النظار إلا ما يراه مجلس المعارف الأعلى وحده فمجلس النظار لا يبحث في آراء أصحاب (الضمانات) الثلاث ولا يعرفها. ذلك أن المعلمين يبدون آراءهم لنظار مدارسهم فيختار منها هؤلاء ما يرضونه أو ما يرضون به، ويقدمونه للجنة العلمية فتمحو منه ما تشاء وتثبت ما تشاء وترفعه إلى اللجنة العليا فتنسخ منه ما تشاء، وتقدم الباقي إلى مجلس النظار فيصدق عليه. وإنما يتحقق الضمان من معلمي المدارس ونظارها ومنشئيها إذا أعطوا حرية بأن يقولوا ما يرونه وكان يعمل بما يقولون أو يبين المانع من العمل به وأعطوا مع ذلك ضمانًا بأن من رأت اللجنة العلمية أو العالية خطأ رأيه فإنه لا يؤاخذ سرًّا ولا جهرًا. ثم إن المفتي احتج على كون تلك (الضمانات) غير كافية بأمرين، أحدهما: استمرار التغيير في قانون التعليم (البروجرام) حتى في المسائل الكلية. قال: وهذا يدل على أن معلومات واضعي التقارير غير كافية. وأجاب الناظر عنه بأن التغيير يدل على دقة البحث. وظاهر أن هذا الجواب غير سديد؛ لأن دقة البحث إذا سلمت وكان من المسلم أيضًا أن التغيير مستمر حتى المسائل الكلية فذلك دليل على أن هذه الدقة لم تأت بالفائدة المطلوبة، وما ذلك إلا لأنها غير مبنية على علم كاف فهي تحتاج إلى الإمداد والمساعدة، وللحكومة مجلس أنشئ للبحث في القوانين خاصة فيجب أن يكون هو المساعد والممد لنظارة المعارف في تنقيح قوانينها. والأمر الثاني الذي احتج به المفتي: هو أن لكمال ثقة الناس بسير التعليم أكبر شأن وأهمه، وإن ذلك يكون باطلاع مجلس النظار ومجلس الشورى على قوانينه، وأجاب الناظر بإعادة ذكر (الضمانات الخمس) وزاد ضامنًا آخر سماه (الضمانة) الكبرى وهو طبع تلك القوانين ونشرها. قال: وقلما نرى واحدًا من الناس يقرؤها فيعرف سير التعليم. وظاهر أن هذا الجواب في غير موضوع الدعوى؛ لأن الدعوى هي أن ثقة الأمة بالتعليم مطلوبة، وأنها تكون بكذا بدليل طلب نوابها له. فكان ينبغي أن يكون الجواب إما بالتسليم وإما بمنع الحاجة إلى ثقة الأمة بالتعليم، أو بمنع أن ثقتها تكون بعرض قوانين التعليم على مجلس النظار ومجلس الشورى، فأما المنع الأول فيستحيل أن يصدر من ناظر المعارف، وأما الثاني فالفصل فيه للجمعية العمومية، وقد وافقت أخيرًا عند أخذ الآراء على وجوب عرض قوانين التعليم ومنشورات المعارف على مجلس الشورى فثبت رأي مفتي الديار المصرية، وأما الجواب عن (الضمانة) الكبرى، فهو أن عدم رؤية الناظر لقراء قوانين التعليم لا يدل على عدم القارئين لها فإذا قال: كان يجب أن ينتقدوها إن لم يرتضوها. نقول: إن العامل لا يتوجه إلى عمل إلا إذا رجا فائدته، ولا يطوف في ذهن أحد أن انتقاده قانون التعليم يكون سببًا لرجوع نظارة المعارف عن خطئها فيه. وإذا كان قد ظهر أن ناظر المعارف يدافع الجمعية العمومية الناطقة باسم الأمة المصرية، ويمنعها بالمغالطات عن طلب النظر في قوانين التعليم، فهل كان ينتظر أن يلتفت إلى قول واحد من الناس أو اثنين أو أكثر إذا هم انتقدوا على قوانينه؟ على أن الجرائد كثيرًا ما تنتقد المعارف في سير التعليم وسائر نظامها فيه ولم يغن ذلك شيئًا. ثم تكلم بعد المفتي الشيخ علي يوسف فذكر بعض ما ينتقد على نظام التعليم وقوانينه مما يصح أن يذكر في مجلس رسمي، وسنذكر ذلك الجزء الثاني مع جواب الناظر وبيان الصواب، ونزيد من الانتقاد على تلك القوانين ما شاء الله أن نزيد. ((يتبع بمقال تالٍ))

إلى الأغنياء

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ آثار علمية أدبية (إلى الأغنياء) قال الأديب الشهير حافظ أفندي إبراهيم في حريق ميت غمر الذي يذكر في باب الأخبار: سائلوا الليل عنهم والنهارا ... كيف باتت نساؤهم والعذارى كيف أمسى رضيعهم فقد الأ ... م وكيف اصطلى مع القوم نارا كيف طاح العجوز تحت جدار ... يتداعى وأسقف تتجارى رب إن القضاء أنحى عليهم ... فاكشف الكرب واحجب الأقدارا ومر النار أن تكف أذاها ... ومر الغيث أن يسيل انهمارا أين طوفان صاحب الفلك يروي ... هذه النار فهي تشكو الأوارا أشعلت فحمت الدياجي فباتت ... تملأ الأرض والسماء شرارا غشيتهم والنحس يجري يمينًا ... ورمتهم والبؤس يجري يسارا فأغارت وأوجه القوم بيض ... ثم غارت وقد كستهن قارا أكلت دورهم فلما استقلت ... لم تغادر صغارهم والكبارا أخرجتهم من الديار عراة ... حذر الموت يطلبون الفرارا يلبسون الظلام حتى إذا ما ... أشرق الصبح يلبسون النهارا حلة لا تقيهم البرد والحـ ... ـر ولا عنهم ترد الغبارا أيها الرافلون في حلل الوشـ ... ـي يجرون للذيول افتخارا إن تحت العراء قومًا جياعًا ... يتوارون ذلة وانكسارا أيُّهذا السجين لا يمنع السجـ ... ـن كريمًا من أن يقيل العثارا مر بألف لهم وإن شئت زدها ... وأجرهم كما أجرت النصارى قد شهدنا بالأمس في مصر عرسًا ... ملأ العين والفؤاد انبهارا سال فيه النضار حتى حسبنا ... أن ذاك الفناء يجري نضارا بات فيه المنعمون بليل ... أخجل الصبح حسنه فتوارى يكتسون السرور طورًا وطورًا ... في يد الكأس يخلعون الوقارا وسمعنا في (ميت غمر) صياحًا ... ملأ البر ضجة والبحارا جل من قسم الحظوظ فهذا ... يتغنى وذاك يبكي الديارا رب ليل في الدهر قد ضم نحسًا ... وسعودًا وعسرة ويسارا

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (كتاب الفوز الأصغر) هو للفيلسوف الإسلامي الشيخ أحمد بن مسكويه الرازي صاحب كتاب (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) المتوفى سنة 421 وضعه لتحقيق البحث النظري في ثلاث مسائل: (1) إثبات الصانع و (2) النفس وأحوالها و (3) النبوات وقد نزع فيه منازع دقيقة في الوفاق بين الفلسفة والدين، وجعل لكل مسألة عشرة فصول، فمن فصول المسألة الأولى فصل في بيان أن وجود الأشياء كلها إنما هي بالله عز وجل، وفصل في أن الله تعالى أبدع الأشياء من لا شيء ومعلوم أن الفلاسفة يقولون: يستحيل إيجاد شيء من لا شيء. وفي فصول المسألة الثانية إثبات النفس وكونها ليست جسمًا ولا عرضًا، وإثبات أنها جوهر حي باق وأنها ليست الحياة بعينها بل إنها تُعْطى الحياة، وبيان ماهية النفس والحياة، وبيان كمال النفس والكلام في السعادة وفي حال النفس بعد البدن. وفي فصول المسألة الثالثة بيان مراتب الموجودات واتصال بعضها ببعض وبيان أن الإنسان عالم صغير وقُواه متصلة ذلك الاتصال والكلام في كيفية الوحي وفي العقل وكونه ملكًا مطاعًا، وفي المنام الصادق، وفي الفرق بين النبوة والكهانة وفي النبي المرسل وغيره وفي أصناف الوحي، وفرق بين النبي والمتنبئ. وقد طبع الكتاب طبعًا جميلاً في بيروت ويباع في مكتبة أمين أفندي هندية بمصر، فنحث جميع المشتغلين بالعلم على مطالعته. * * * (كتاب تفصيل النشأتين. وتحصيل السعادتين) هو للإمام أبي القاسم الحسين بن محمد بن المفضل الراغب الأصفهاني المتوفى في رأس المائة الخامسة. ومباحث الكتاب فلسفية أخلاقية إسلامية، وقد قرن جميع مسائله بالآيات القرآنية فجعلها شواهد وأدلة، وبعضها لا يصلح لما وضعه له، ولكن له منازع دقيقة فيها. وأبواب الكتاب على اختصار 33 وهي في معرفة الإنسان نفسه، وفى أجناس الموجودات ومواضع الإنسان منها، وفي العناصر التي أوجد منها الإنسان والقوى التي جمعت فيه، وفي تدرج الإنسان حتى يصير كاملاً، وفي كونه مستصلحًا للدارين، وفي كونه هو المقصود من العالم وكون ماعداه خلق لأجله، وفي تفاوت الناس وسببه، وفي الشجرة النبوية وفضلها، وفي الشرع والعقل والعبادة وغير ذلك، وهو كالذي قبله جدير بالمطالعة وطبع حيث طبع ويباع حيث يباع. * * * (إقامة البراهين العظام على نفي التعصب الديني في الإسلام) رسالة من تأليف الشيخ محمد بن مصطفى بن الخوجة الجزائري بوجوب الخضوع لفرنسا وعدم الخروج عليها، وقد جاء فيها بمسائل نافعة تثبت أن دين الإسلام يأمر بمعاملة المخالفين في الدين بالعدل، ويحرم إيذاءهم والاعتداء عليهم وأنه شرع فيه ما يقتضي التآلف مع أهل الكتاب كحل مؤاكلتهم وتزوج المسلم منهم، وغير ذلك من الفوائد المسلمة. وفي الرسالة ما يُنتقد. فمنه أنه أخطأ في بعض ما أسنده إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية عند الاحتجاج بكلامه واصفًا إياه بكونه (خاتمة الأئمة وعلامة الآفاق على الإطلاق) فقد قال عن الأستاذ الإمام إنه قال في دروس التفسير بالأزهر: إن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) خاص بالواقعة التي كانت متوقعة للمسلمين في رواحهم إلى مكة إلخ. والأستاذ الإمام لم يقل بهذا التخصيص، وإنما قال: إن معنى {حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَة} (البقرة: 193) : هو أن يؤمن شر المعتدين ويأمن الدعاة إلى الدين على أنفسهم وعلى من يجيبهم إلى ما دعوا إليه. ومعنى {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه} (البقرة: 193) : أن يكون دين كل شخص خالصًا لربه لا تدخله محاباة ولامداجاة ولا يهدده مهدد، ولا ينقضه خوف من معتد. فلا يكون لغير خشية الله أثر في نفوس المؤمنين. وانظر بم يكون هذا؟ ومما ينتقد عليه أشد الانتقاد قوله في نصيحته للمسلمين بعد إطراء فرنسا وذمهم ووصف سوء حالهم: (فلا ينبغي لهم الاهتمام إلا بشئونهم المعاشية) إلخ كأنه يريد أن يجعلهم بهائم. وهل يرى ذلك الأستاذ أن فرنسا التي وصف عدلها وحريتها وفضلها ومدنيتها لا ترضى من المسلمين في الخضوع لها إلا أن يكونوا كالأنعام. لا يهتمون إلا بالأكل والشرب والمنام. وهل ينافي خضوعهم لها اشتغالهم بالعلوم والآداب التي يرتقون بها ارتقاءً معنويًّا ويسامون الإفرنج في الصفات البشرية؟ إن كان يقول هذا فهو ناقض به كل مدح مدح به فرنسا! فينبغي لهذا الشيخ المدرس وأمثاله إذا كُلفوا بالكتابة في مثل هذا المقام أن يقتصدوا ويقفوا عند حد معلوم وكان المجال واسعًا لإقناع المسلمين بعدم الخروج على فرنسا وتعريض أنفسهم للهلكة من غير عبث بالأحكام، ولا تكليف للمسلمين بأن يكونوا كالأنعام. وبهذا القدر كفاية وسلام. * * * (الحضرة الأنسية في الرحلة القدسية) للشيخ عبد الغني النابلسي الفقيه الصوفي الشهير رحلتان أو ثلاث، وهذه منها وهي أخصرها وقد طبعت في مطبعة جريدة الإخلاص الغراء على نفقتها، ووقف على طبعها أحد محرري الجريدة ديمتري أفندي نقولا المحترم صاحب مجلة الفكاهة. أما المؤلف فإنه يذكر في هذه الرحلة كيفية سفره من الشام إلى القدس ونواحيه، وما رآه وجرى له فيه، وأهمه زيارة قبور الأنبياء والصالحين بحسب تعريف المعرفين الذين يصحبون الزائرين في تلك البلاد وما في الكتب المؤلفة في تاريخها، وقد ختم الكتاب ملتزم طبعه بإحصاء ما ذكر في الرحلة من المدن والقرى والأمكنة ومقامات الأنبياء، والجوامع والمساجد والمدارس والكنائس والأديرة والأنهر والعيون والآبار وقبور الصحابة والأولياء والصالحين، وذلك أحسن ما في الرحلة وربما ينقل بعد في باب البدع شيئًا مما في الرحلة. وصفحاتها 84 وهي تطلب من إدارة جريدة الإخلاص الغراء وثمنها 5 قروش صاغ. * * * (الدنيا في باريس) هي الرسائل التي وصف بها مشاهد معرض باريس الأخير صديقنا الفاضل الشهير أحمد زكي بك الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار، وقد اشتهر أمر هذه الرسائل وانتشرت في البلاد؛ لأن رصيفنا البارع الدكتور عيد أفندي كان يطبعها ويوزعها مع مجلة (طبيب العائلة) وقد سبق للمنار تقريظها وبيان بعض فوائدها. الآن وقد جمعت هذه الرسائل كلها في كتاب واحد مزين بالرسوم صفحاته 372 وثمنها 15 قرشًا وسننقل بعض فوائدها عند سنوح الفرصة إن شاء الله تعالى. * * * (قاموس الجغرافية القديمة بالعربي والفرنساوي) أهدى إلينا صديقنا مؤلف رسائل (الدنيا في باريس) مع هذه الرسائل نسخة من هذا القاموس المختصر المفيد الذي يعرف الكتاب حاجتهم إليه من اسمه. قال المؤلف في مقدمته: هذا معجم صغير أوردت فيه كثيرًا من الأعلام الجغرافية التي لها ذكر في تواريخ الأقدمين من مصريين وآشوريين وروم وعجم وغيرهم من الأمم جمعته بعد أبحاث شتى ومطالعات عديدة، فكابدت فيه عناء ليس باليسير يعرفه من أُطِلعَ عليه أو انشغل بشيء من هذا القبيل ثم قال: (وإذا نال هذا الكتاب الصغير من الإقبال ما هو خليق به لشددت عزيمتي لإبراز المعجم الكبير الوافي الذي جمعته في هذا الموضوع المفيد) فعسى أن تتحقق الآمال وينال فوق ما يطبله مؤلفه الفاضل من الإقبال، والكتاب مطبوع في المطبعة الأميرية وثمنه 8 قروش وهو يطلب من مؤلفه ومن إدارة مجلة طبيب العائلة. * * * (مجموعة حقوقية طبية هندسية. لجميعة متخرجي المدرسة الخديوية لسنة ... 1901) إذا وجب أن نذكر ما ينتقد على نظارة المعارف في نظام التعليم وقوانينه فمن الواجب أيضا أن نذكر ما لها من الحسنات؛ لأن الله تعالى يحب العدل في كل شيء، ولأن فائدة استحسان الحسن لا تنقص عن فائدة انتقاد المنتقد، فكل واحد من الأمرين جعله الله سببًا لإتقان الأعمال واختيار النافع منها وتجنب الضار. ومن حسنات المعارف المصرية الإذن للتلامذة المتخرجين من المدرسة الخديوية بإنشاء جمعية علمية أدبية في نفس المدرسة يعدون فيها المقالات الضافية في مسائل العلوم التي يتعلمونها في المدرسة وفي المداس العالية التي ينتقلون منها إليها ويعرضونها للانتقاد والبحث والتمحيص وقد حضرت اجتماعًا في المدرسة فسررت سرورًا عظيمًا، ورغبوا إليّ في انتقاد ما تكلموا فيه وهو حقيقة الجنون وتاريخه وأنواعه فانتقدته علنًا فتلقوا انتقادي بالقبول والشكر كما هو شأن الباحث المستفيد. وقد طبعوا في هذه الأيام الجزء الأول من مقالاتهم التي تليت في السنة الماضية وسموه بما ذكر في صدر الكلام. وتفضل وكيل الجمعية الفاضل النبيل علي بك ماهر نجل صاحب السعادة ماهر باشا محافظ مصر بتقديم نسخة إلينا بنفسه فشكرنا له ذلك. وفي المجموعة ست مقالات: (1) في التربية والتاريخ لعلي بك ماهر بمدرسة الحقوق و (2) في أشعة رنتجن لعبد الرحمن أفندي عمر بمدرسة الطب و (3) في التكافل والتضامن لمحمد حلمي أفندي عيسى بمدرسة الحقوق. و (4) في التنويم المغناطيسي واستحضار الأرواح لمحمد أفندي شكري بمدرسة الطب و (5) في لوازم الحياة الأصلية لمحمد أفندي ماهر بمدرسة الطب. و (6) شهران بسويسرا لعلي بك ماهر وفي المقالات فوائد كثيرة وعدد صفحات المجموعة 612 فنحث جميع المصرين على اجتناء هذه الثمرة الشهية، التي أنتجتها فروعهم الذكية. * * * (مجلة الأحكام الشرعية) كثرت الجرائد والمجلات في مصر حتى تناولت كل موضوع يمكن أن تنشأ له إلا موضوع القضاء الشرعي كأن المحاكم الشرعية وأعمالها ليست من حاجات العمران التي يجب أن تخدمها الصحافة. وقد انبرى في أول هذا العام للقيام بهذه الخدمة الجليلة المحامي الشرعي الشهير حسن بك حمادة المتخرج في مدرسة الحقوق السلطانية في الأستانة العلية فأنشأ هذه المجلة الشهرية، وقد صدر الجزء الأول منها مفتتحًا بمقدمة بليغة في حالة القضاء الشرعي والمحاكم الشرعية وسيرها والحاجة إلى الإصلاح فيها على الوجه الذي حرره الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية في تقريره المشهور. وقد كادت هذه المقدمة أن تكون تاريخًا للمحاكم الشرعية بصورة مجملة. ويلي ذلك مقالة في القضاء الشرعي بمصر ماضيه وحاضر وهي تاريخية مفصلة، ومقالات أخرى في المحاماة والقضاء وفي المجالس الحسبية وتاريخها وفي المحاكم الشرعية وتنازع الاختصاص. وقد فتح فيها بابًا لنشر تراجم المشهورين من علماء الشرع، وبدأ بترجمة الإمام أبي حنيفة، وبابًا لأشهر القضايا الشرعية التي لها فائدة عامة وفي المجلة غير ذلك من الفوائد العلمية والأدبية وقيمة الاشتراك فيها ستون قرشًا في القطر المصري وعشرون فرنكًا في خارجه فتنتمى لها النجاح الذي تستحقه. * * * (تقويم المؤيد) صدر تقويم المؤيد لسنة 1320 على ما يعهد الناس وفوق ما يعهدون من الإتفان وكثرة الفوائد العلمية والفلكية والطبية والتاريخية والأدبية وغير ذلك، وقد جلد في هذه السنة تجليدًا جميلاً مزخرفًا اجتلب له جلد من أوربا منقوشًا عليه اسمه واسم مؤلفه فنهنئ صديقنا الفاضل محمد أفندي مسعود بما صادف عمله المتقن من النجاح الذي هو جدير به. * * * (النتيجة الوحيدة) أهدتنا مطبعة الموسوعات نسخة من هذه النتيجة التي تطبع فيها بالدقة والإتقان فنشكر لها إتقان طبعها، ولمؤلف النتيجة الحاسب المدقق السيد مصطفى محمد الفلكي المحامي تلك الفوائد التي فيها. * * * (التقويم الأزهري) يسر المسلمين أن يروا جميع الآثار العلمية منسوبة إلى الأزهر الشريف وصادرة من أهله، وهذا الشاب الفاضل الشيخ محمد محمد ع

الحريق في ميت غمر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحريق في ميت غمر (ميت غمر) بلدة في مديرية الدقهلية أصابها في آخر الشهر الماضي حريق دمر الدور، وقوض القصور، والتهم الأثاث والرياش، ولم يبق على الناس إلا من لجأ إلى الفرار قبل أن تحيط به النار، فيأخذه لسانها، أو يخنقه دخانها، ويقال: إن عدد البيوت التي أحرقت بأهلها إلا من أنجاه الله تقارب 500، وإن الخسائر تقدر بمئات الألوف من الجنيهات. وقد كان الهول عظيمًا، والخطب جسيمًا، وقد كاد يكون حال الذين نجوا شرًّا من حال الذين فقدوا، فإن عذاب ساعة وإن كان شديدًا دون العذاب المستمر الذي يتلون ألوانًا كثيرة، وكيف حال من أمسى واجدًا فأصبح معدومًا، وكان كاسيًا فصار عاريًا، وكان ذا مكان آهل، فعاد ولا مكان ولا أهل. صار الزوج أيّمًا، والمرأة أرملة، والولد يتيمًا، كما صار الغني فقيرًا والعزيز ذليلاً. وما من هؤلاء أحد إلا وقد لفحته النار أو لذعته أو أحرقت له عضوًا، وحاصل القول أن هؤلاء الذين سلموا من هذا الحريق قد صبت عليهم جميع المصائب التي تفرقت في العالمين فكان كل واحد منها باعثًا للرحمة والشفقة وسببًا للإغاثة والإعانة. وقد توجهت النفوس لجمع الإعانات لهم ولا شك أن الباخل في هذا الموضوع هو أبخل الناس بل هو من جنس الجماد، لا من نوع الإنسان ولا من جنس الحيوان. لا عذر لأحد من خلق الله في البخل على هؤلاء {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ} (محمد: 38) فمن وجد في قلبه قساوة وفى نفسه شحًّا مطاعًا وفي يده انقباضًا وإمساكًا فليمثل في نفسه هذا المصاب واقعًا به وبأهله، والناس معرضين عنهم لا يجودون عليهم بشيء، ولينظر كيف يكون حكمه عليهم، ثم لينظر هل يرضى بأن يكون محكومًا عليه عند الله والناس بمثل ما يحكم به عليهم. ليبذل كل إنسان ما يستطيع، ولولا الاعتماد على التعاون لوجب عليه أن يبذل كل ما يملك إن كانت وقاية إخوانه متوقفة على ذلك {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق: 7) .

القضاء في الإسلام ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القضاء في الإسلام النبذة الثالثة في آدابه (ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه) السكوت عند الغضب عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لايقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان) [1] وروي عن غير أبي بكرة أيضا وهذا أدب عظيم لا بد من مراعاته، فإن الغضب يذهب بالرويّة والفطنة ويحكم الهوى فلا يتيسر معه استيفاء النظر والإحاطة بأسباب الحكم العادل , وقد ذهب بعض العلماء المسلمين إلى أن الحكم في حال الغضب لا ينفذ لثبوت النهي عنه، والنهي يقتضي الفساد. وقال الأكثرون: إنه صحيح وإن كان إتيانه مكروها وينفذ إذا وافق الحق؛ لأن النهي الذي يفيد الفساد عند هؤلاء هو ما كان لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه اللازم له. وفي القاعدة خلاف لا محل للبحث فيه هنا. *** المساواة بين الخصمين عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: (قضى رسول الله صلى الله وعليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم) [2] . وهذا من المساواة التي جاء بها الإسلام. وقال بعض العلماء: إن هذه الهيئة مشروعة لذاتها لا لمجرد المساواة. [3] عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلي الله وعليه وسلم قال له: (يا علي، إذا جلس إليك الخصمان لا تقضِ بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء) . [4] عن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ومجلسه، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر) وهذا هو العدل الأكمل الذي ما بعده غاية. وذكر المسلمين فيه؛ لأن الكلام في دينهم وشرعهم وحكومتهم وإن كان المتقاضون من غيرهم كذلك؛ إذ لا فرق في حكمهم العادل بين مسلم وذمي ومعاهد. وما روي عن علي كرم الله وجه أنه جلس بجنب شريح القاضي في خصومة له مع يهودي أو نصراني وقال لو كان خصمي مسلمًا جلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول: (لا تساووهم في المجالس) فقد قال المحدثون: إنه منكر وأورده ابن الجوزي في العلل وقال: لا يصح، تفرد به أبو سمية هذا ما قالوه في رواية أن الخصم كان يهوديًّا. ورواية البيهقي التي ذكر فيها أن الخصم كان نصرانيًّا في إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي وهما ضعيفان. وقال ابن الصلاح: لم أجد له إسنادًا، فهو منكر وباطل ومضطرب، والعلة في سنده ومتنه معًا، وكان مروجه من الجهلاء الذين يرون تعظيم شأن المسلمين بظلم غيرهم، ولو كانوا كذلك لما قامت لهم دولة. ومما تجب ملاحظته هنا أن ملوك عصرنا وأمراءه لو فعلوا مثل ذلك ورضي أحدهم بأن يخضع للقضاء ويتحاكم مع بعض رعيته الموافقين أو المخالفين في الدين وجلس مع ذلك بجنب القاضي أو على رأسه لوصف بأنه أعدل العادلين، وفضل على الخلفاء الراشدين، وإنهم ليصفونهم بالعدل وينتحلون لهم ما شاء الهوى من الفضل، على حين أنهم رفعوا أنفسهم فوق الشريعة الإلهية، بل نسخوا أكثر أحكامها بقوانينهم الوضعية، فلا يمكن أن يتحاكم سلطان أو أمير مع كبير من رعيته ولا صغير، فأضاعوا بكبريائهم الدين وإلى الله المصير. [6] عن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إن لي على هذا أربعة دراهم، وقد غلبني عليها. فقال: أعطه حقه. قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قال: أعطه حقه قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئًا فأرجع فأقضيه قال: أعطه حقه. قال (الراوي) : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال ثلاثًا لا يراجع فخرج به ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة فنزع العمامة عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة فقال: اشتر مني هذه البردة فباعها منه بأربعة الدراهم فمرت عجوز فقالت: ما لك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأخبرها فقالت: ها دونك هذا - لبرد عليها طرحته عليه. وقد أوردت هذا في أدب المساواة وإن كان من باب آخر لمناسبة له. وانظر إلى شدة الإسلام في أداء الحقوق، وإلى قساوة اليهود في أخذ دينهم فقد ترك اليهودي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عريانًا لا ساتر لعورته إلا عمامته لأجل أربعة دراهم لم ينظره بها. *** ... الاحتجاب عن المتظلمين [7] عن عمرو بن مرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من إمام أو والٍ يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة إلا أغلق الله دونه أبواب السماء دون خلته وحاجته وسكنته) استدلوا بالحديث على منع الحاكم من اتخاذ حاجب لبابه لمجلس حكمه. والحديث ناطق بأن المراد منع المظلومين من التقاضي والشكوى اشتغالاً عنهم بشئون النفس أو حبًّا بالراحة أو ترفعًا عن الناس ونحو ذلك ولا يدخل في النهي الحُجّاب الذين يقفون على أبواب المحاكم لحفظ النظام ومنع الفوضى والخلل وهو الذي قال بعض علمائنا بجوازه وبعضهم باستحبابه. وإنما يدخل فيه حجاب الأمراء والسلاطين الذين يذودون الناس عن مجالسهم؛ لأنهم لا يقابلون إلا أشخاص معلومين لهم صفة رسمية عندهم ويجهلون سائر أصناف رعيتهم بدون عذر. ونقل ابن التين عن الداودي أنه قال: الذي أحدثه القضاة من شدة الاحتجاب وإدخال بطائق من الخصوم لم يكن من فعل السلف. ثم قال متعقبًا له: إن كان مراده البطائق التي فيها الإخبار بما جرى فصحيح، وإن كان مراده البطائق التي يكتب فيها للسبق ليبدأ بالنظر في خصومة من سبق فهو من العدل في الحكم. وقال الشوكاني: لو لم يحتجب الحاكم لدخل عليه الخصوم وقت طعامه وشرابه وخلوته بأهله وصلاته الواجبة وجميع أوقات ليله ونهاره. وهذا ظاهر لا نزاع فيه. *** منع الرشوة: [8] عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي) ، والرشوة هي السحت في قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42) . [9] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم) وفي هذا زيادة بيان. [10] عن ثوبان رضي الله عنه قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش، يعني الذي يمشي بينهما وفي هذا زيادة فائدة، ولا حاجة لبيان مفسدة الرشوة وتدميرها للممالك وثلها لعروش الأمراء والسلاطين فإن هذا يكاد يكون معلومًا للناس أجمعين. *** ... منع الحاكم من الهدية: [11] عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي صلى الله وعليه وسلم رجلاً من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال:هذا لكم وهذا أهدي إليّ فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر (قال سفيان أيضًا) فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لكم وهذا لي فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا. والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تَيْعر، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه (ألا هل بلغت) ثلاثًا. وتيعر الشاة بمعنى تصيح. [12] عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هدايا العمال غلول) وفي رواية: (هدايا الأمراء) . الغلول في الأصل: خيانة في الغنيمة وهي المال الذي كان يأتي إلى أيدي العمال والأمراء في الأكثر وورد في الكتاب العزيز التشديد فيه والهدية للحاكم مثله أو منه بحكم السنة. قال الحافظ ابن حجر: إسناده ضعيف. ولكن له شواهد وطرقًا متعددة تقويه. والهدية مستحبة لغير علة الحكم وما بمعناه. [13] عن بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذه بعد فهو غلول) . [14] عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخذ الأمير الهدية سحت وقبول القاضي الرشوة كفر) وإنني لأتنسم من تشديده الوضع. *** آثار السلف عبرة للخلف عدل عمر وسياسته (2) روى سعيد بن منصور في سننه، وأبو بكر بن شيبة في مسنده والبيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: اشتريت إبلاً وارتجعتها إلى الحِمى فلما سمنت قدمت، فدخل عمر السوق فرأى إبلاً سمانًا فقال: لمن هذه الإبل؟ قيل لعبد الله بن عمر فجعل يقول: يا عبد الله بن عمر! بخ بخ ابن أمير المؤمنين! ! فجئت أسعى فقلت ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ قلت: إبل اشتريتها وبعثت بها الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون. فقال: ارعو إبل ابن أمير المؤمنين. اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين. يا عبد الله بن عمر اغد على رأس مالك واجعل الفضل في بيت مال المسلمين. اهـ قوله: (ارعو إبل ابن أمير المؤمنين) إلخ حكاية قول الناس. فماذا يقول أمراؤنا الذين يستعبدون رعاياهم ما استطاعوا، ويمتصون دماءهم إن استطاعوا، ويسخّرونهم في خدمة أرضهم ومواشيهم. ما لم يأخذ الأجنبي الذي يسمونه كافرًا على أيديهم، فما هذا الزمان الذي يعلمنا فيه (الكفار) العدل بل يلزموننا به إلزامًا حتى يطمئن الرعية على أموالهم ويأمنوا على أنفسهم من أمرائهم وأئمتهم الذين انتحلو لأنفسهم إمامة الدين. *** (3) روى ابن سعد في الطبقات وابن راهويه عن عطاء قال: كان عمر بن الخطاب يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم فإذا اجتمعوا قال: يا أيها الناس إني لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ولا من أعراضكم إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم. فما قام أحد إلا رجل قام فقال: أمير المؤمنين إن عاملك فلانًا ضربني مائة سوط. قال فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك وتكون سُنة يأخذ بها من بعدك. قال أنا لا أقيد وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقِيد من نفسه [15] قال: فدعنا لنرضيه. قال: دونكم فأرضوه. فافتدي منها بمائتي دينار عن كل سوط بدينارين. فماذا يقول الناس هنا في أمرائهم الذين كانوا يضربون السياط بغير حساب لتحصيل الأموال الأميرية، ويضربونهم بغير حساب لتحصيل الضرائب والمكوس الظالمة، ويضربونهم بغير حساب لتحصيل ديون الخراجات، ويضربونهم بغير حساب لتسخيرهم في الأعمال العامة والخاصة. ومع هذا كله يمنون على البلاد أنهم أنقذوها من ظلم الظالمين السابقين؛ أي: إنهم حصروه في أنفسهم واحتكروه لها ولا فرق عند المظلوم بين أن يسمى ظالمه مالكًا أو مملوكًا. وإنه ليفرح بإنقاذه سواء سمي منقذه مسلمًا أم سمي كافرًا. فالحقائق لا تتبدل بتبديل الأسماء والألقاب وبالعدل قامت ممالك الإسلام، وبالظلم سقطت ممالك المسلمين {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: 8) . *** (4) روى ابن عساكر من مسند عمر عن الأحنف بن قيس قال: ما كذبت إلا مرّة قالوا: وكيف يا أبا بحر قال وفدنا على عمر بفتح عظيم فلما دنونا من المدينة قال بعضنا: لو ألقينا ثياب سفرنا ولبسنا ثياب صوننا فدخلنا على أمير المؤمنين والمسلمين في هيئة حسنة وشارة حسنة كان أمثل. فلبثنا ثياب صوننا وألقينا ثياب سفرنا حتى إذا طلع في أوائل المدينة لقينا رجل فقال: انظروا إلى هؤلاء أصحاب دين ورب الكعبة. فقال: فكنت رجل

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة نزول المسيح (س1) من أحمد أفندي عبد الحليم بشبين الكوم: هل يوجد دليل شرعي على أن المسيح سينزل ويحكم؟ وهل يكون بنزوله نبيًّا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين كما هو معلوم في الشرع، ولماذا حينئذ ينزل المسيح؟ وهل يكون قبل نزوله فترة؟ (ج) ليس في الكتاب والسنة نص قطعي الثبوت والدلالة على نزول المسيح توجب على المسلمين الاعتقاد بذلك، وإنما ورد في نزوله أحاديث اشتهرت لغرابة موضوعها وتخريج الشيخين لها وأكثرها عن أبي هريرة. وهذه المسألة من المسائل الاعتقادية التي يطلب فيها النص القطعي المتواتر. وقد استدل بعضهم عليها بآيتين من القرآن ليستا نصًّا فيها بل ربما كان الظاهر منهما خلاف ما حملتا عليه عند من ذكر، (إحداهما) قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159) جاءت الآية في سياق الكلام على المسيح ومزاعم أهل الكتاب فيه ومعناها الظاهر أنه لا أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن بالمسيح الإيمان الصحيح قبل أن يموت أي: قبل خروج روحه؛ لأنه وقت تشرف فيه النفس على العالم الآخر فيظهر لها الحق، ولكن إذا جاء هذا الوقت {لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} (الأنعام: 158) فالضمير في (موته) للمنفي في قوله: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَاب} (النساء: 159) الذي معناه لا أحد من أهل الكتاب. وعليه الأكثرون. وذهب المستدل بالآية على نزول المسيح إلى أن الضمير للمسيح، وأنهم يؤمنون به قبل أن يموت عندما ينزل ويقيم دين الإسلام ويحكم به، ولكن النفي العام في الآية لا يصح على هذا الوجه؛ لأنه لا يشمل أهل الكتاب الذين يموتون قبل النزول ولا يؤمنون به كاليهود في عصر التنزيل وما بعده إلى عصر النزول المدعى. على أن القرآن مصرح بأن المسيح قد توفي قبل رفعه كما هو المتبادر من قوله عز وجل: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} (آل عمران: 55) ولا يصار إلى التأويل ما لم يقم على خلاف الظاهر الدليل، هذا ما يقال في الآية بذاتها فهي من حيث إنها متواترة ليست نصًّا ولا ظاهرًا في المطلوب وإن وردت شاهدًا في بعض الروايات المرفوعة، وللرواية حكمها ومن ثبتت عنده وجب عليه الإيمان بها. والآية الثانية قوله تعالى بعد ذكر عيسى عليه السلام ومقارنة المشركين بينه وبين آلهتهم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الزخرف: 61) فذهب بعضهم إلى أن الضمير (إنه) لعيسى، واختلفوا في وجه كونه علمًا للساعة فقيل: إنه حدوثه، وقيل: إحياؤه الموتى وقيل: نزوله في آخر الزمان، والآية لا تدل على هذا وإنما هو احتمال، وإنما ذهب بعضهم إلى أن الكلام في القرآن؛ لأن فيه الإعلام بالساعة والاستدلال عليها بالأدلة التي تقرب الاعتقاد بها من العقول، وهذا مما امتاز به على سائر الكتب السماوية التي سكتت عن ذلك أو أشارت إليه من طرف خفي، ولا غرو، فنبي القرآن هو نبي الساعة، وقد عرفنا من أسلوب القرآن الانتقال من محاجة الزائغين في عقائدهم وتقاليدهم إلى الدعوة إلى القرآن واتباع من جاء به، وتتمة الآية تؤيد هذا القول الأخير، فظهر أن لا دليل في القرآن على نزول المسيح، وأما الأخبار فقد ورد فيها ذلك فتلقاه الناس بالقبول لا سيما بعد اشتهار كتابي الشيخين ولكنهم لم يذكروه في العقائد الإسلامية؛ لأنه ليس قطعيًّا. ومما يستحق الذكر أن القول بظهور المسيح في آخر الزمن قد اتفق فيه المسلمون مع اليهود والنصارى في الجملة، ولكنهم اختلفوا في التفصيل، فاليهود ينتظرون مسيحًا جديدًا يجدد ملك إسرائيل ولذلك يسعون لتحقيق هذه الأمنية سعيًا ماديًّا يناسب الملك. والنصارى ينتظرون مجيء المسيح في ملكوته وصليبه ليدين العالمين ويحاسبهم على نحو ما يعتقد المسلمون في الآخرة. والمسلمون يعتقدون أن المسيح ينزل في آخر الزمان فيكسر الصيلب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقيم الشريعة الإسلامية ويصلي مأمومًا وراء أحد أئمة المسلمين ليظهر أن الدين عند الله الإسلام. وقد بنت فرقة البهائية دينها على أساس هذا الاتفاق الإجمالي بين أهل الأديان السماوية، وزعموا أن زعيمهم (بهاء الله) دفين عكا هو المسيح المنتظر، وأن الباب هو المهدي الذي يقول المسلمون: إن ظهوره يتقدم ظهور المسيح. ولهم سبح طويل في تأويل الأحاديث وأقوال الصوفية الواردة في المهدي والمسيح وتطبيقها على الباب والبهاء وعندما يدعون النصارى إلى دينهم يعترفون بأن المسيح كان إلهًا كاملاً ويقولون: إنه لم يكن إلهًا بجسمه بل بروحه وهذه الروح الإلهية نفسها هي التي حلت في البهاء فهو إله كامل {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) . وفي الهند قائم يدعي الآن أنه المسيح عيسى ابن مريم وكان من مشايخ الطريق وأهل العلم الإسلامي، وقد رددنا عليه في مجلد المنار الثالث ورددنا على البهائية أيضًا، وإن لنا لعودة إن شاء الله تعالى. وإن من النصارى من يحمل ظهور المسيح أو نزوله في آخر الزمان على أن الصفات التي امتاز بها والتعاليم التي كان يرشد إليها هي التي تكون سائدة في الناس وهي المحبة والمسالمة والمؤاخاة والأخذ بمقاصد الدين والشريعة دون الوقوف عند الرسوم الظاهرة التي قالوا: إنه طمسها من اليهودية. ثم عاد المنتسبون إليه فوضعوا لهم رسومًا غيرها ربما تزيد عليها من بعض الوجوه. وهذا التأويل على حدّ (ظهر في المسلمين عمر) إذا قام فيهم ملك عادل (وهذا الجيش يقوده نابليون) إذا كان قائدة شجاعًا مدربًا ولا حاجة للمسلمين بالتأويل إلا إذا ثبت أن الأخبار الواردة متواترة ويعارضها قطعي آخر ككون محمد خاتم النبيين صلى الله عليهم أجمعين. فعلم من هذا أنه لا يكون زمن فترة يضيع فيها الإسلام فيجدده المسيح، وإنما يبقى الإسلام معمولاً به إلى قيام الساعة كما ورد في الحديث الصحيح. هذا وإن لفظ النزول يستعمل بمعنى الخروج كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ} (الحديد: 25) فإذا احتجنا للتأويل نقول: إن معنى حديث نزول عيسى هو ظهور حقيقته بظهور الإسلام واستعلاء برهانه فيعلم النصارى أن المسيح بشر لا إله، وأن دين الله واحد لا فرق فيه بين عيسى ومحمد وغيرهما من الرسل، وهو توحيد الله والإيمان بلقائه في الآخرة ووجوب عمل الخير وترك الشر وما يتفرع عن هذه الأصول، ولا شك أن الترقي في علم النفس وعلم الكون سيرتقي بالناس إلى هذه المعرفة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) . *** انتفاع الموتى بالقراءة (س2) من الشيخ أحمد حسن يوسف معمَّر بالأزهر: هل ورد دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع بانتفاع الموتى بقراءة القرآن عليهم أم لا؟ فإن كان ورد شيء يؤيد ذلك فما معنى قوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) الرجاء كشف النقاب عن هذه المسألة ولكم الفضل. (ج) لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع شيء يثبت انتفاع الأموات بقراءة غيرهم القرآن عليهم، والآية ناطقة بأن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله وكسبه، ومنه ما يبقى أثره أو عينه بعد موته كالصدقه الجارية والعلم النافع والذرية الصالحة، ولذلك ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم يُنْتَفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة. فهذه الثلاث ملحقة بعمل الإنسان ومعتبرة منه فلا حاجة إلى ما قاله بعضهم من تخصيص عموم قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) . بالحديث إذ لا منافاة. ومثل ذلك يقال فيمن سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل يتصدق عن أبيه، ومَنْ سأله هل يتصدق عن أمه، وإجابته إياهم بنعم ومنهم سعد بن عبادة الذي سأله: أي الصدقة أفضل؟ فقال: سقي الماء. ولم يرد مثل ذلك إلا في صدقة الأبناء عن الوالدين. وقد ألحقوا بهم غيرهم في الصدقة، ولا دليل على ذلك إلا إذا صح القياس في الأمور التعبدية. وخصوا الآية بالعبادات البدنية كالصلاة والقراءة. وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بالآية على أن ثواب القراءة لا يلحق الأموات، وهو مذهب مالك أيضًا. ولا نخوض هنا في خلاف العلماء وتأويلهم؛ لأن السائل لم يسأل عن ذلك. وأما حديث (اقرأوا يس على موتاكم) فقد رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي وابن حبان وصححه وأحمد بلفظ آخر. ولكن ابن القطان أعله بالاضطراب وبالوقف وبجهالة حال أبي عثمان وأبيه من رجال سنده، وقال الدارقطني: هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن. وتصحيح ابن حبان لا يُعول عليه مع هذا الجرح؛ لأنه كان يتساهل بالجرح فيعتمد جرحه دون تعديله إذا انفرد به كما صرح به الذهبي في (ميزان الاعتدال) على أنه فسره في صحيحه بقراءتها عند المحتضر فقال: (أراد به من حضرته المنية لا أن الميت يُقْرَأ عليه) وخالفه المنتصرون للقراءة على الأموات. ولو أن في الباب حديثًا صحيحًا لما احتاجوا للاستدلال بحديث وضع الجريدتين على القبر، ولا دلالة فيه كما هو ظاهر. *** اتخاذ الصور (س3) أحمد أفندي صادق الدباغ بالإسكندرية: ما حكم اتخاذ الصور وهل يحرم تزيين المنازل بها؟ (ج) اختلف العلماء في اتخاذ الصور فقيل: إنه محرم مطلقًا. وقيل: إن المحرم منها ما له ظل، وأما ما لا ظل له فلا بأس باتخاذه. وقيل: إن المحرم هو ما اتخذ بهيئة تعظيم، وهذا أقوى الأقوال عندي لوجهين: أحدهما حديث عائشة عند أحمد والبخاري ومسلم وهو: (أنها نصبت سترًا وفيه تصاوير فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزعه. قالت: فقطعته وسادتين فكان يرتفق عليهما) وفي لفظ أحمد (فقطعته مرفقتين فلقد رأيته متكئًا على إحداهما وفيها صورة) المرفقة: المتكأ والمخدة، ولو كانت الصورة ممنوعة لذاتها لأزالها من المرفقة، وإنما هتك الستر؛ لأنه كان منصوبًا كالصور المعبودة فهو يذكر بها وفيه تشبه بعابديها. ثانيهما: العلة الحقيقية في النهي عن التصوير والصور المعظمة وهي محاكاة عُباد الأصنام لا ما قالوا من أن فيها محاكاة خلق الله، فإن هذه العلة تقتضي تحريم تصوير الشجر والجماد، وقد نقل بعضهم الإجماع على حله. فإذا انتفت العلة انتفى المعلول والله تعالى أعلم.

الاجتماع الثالث ـ الداء أو الفتور العام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتماع الثالث الداء أو: الفتور العام في مكة المكرمة يوم الخميس ثامن عشر ذي القعدة سنة 1316 في الوقت المعين وهو بعد طلوع الشمس بساعة تم توارد الإخوان لمحفل الجمعية غير أن الأستاذ الرئيس تأخر نحو نصف ساعة ثم حضر واعتذر بأنه عاقه عن الحضور أن حضرة الشريف الأمير قد طلبه لزيارته فما وسعه إلا الإجابة باكرًا وما كان يظن أن يسترسل بينهما الحديث فيتأخر عن الميعاد، ولكن اتفق أن الحديث كان طويلاً. ثم قال الأستاذ الرئيس: إننا متشوقون لتمام بحث المولى الرومي، وأمر السيد الفراتي كاتب الجمعية فقرأ ضبط مذاكرات الاجتماع السابق حتى بلغ آخره من عبارة المولى الرومي، وهي قوله: وعندي أن داءنا الدفين دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين وبعبارة أخرى: ولاية الجهال المتعممين. فحينئذ أفاض (المولى الرومي) في الكلام فقال: وهم المقربون من الأمراء على أنهم علماء، وارتباط القضاء والإمضاء بهم فإن بعض هؤلاء المتعممين في البلاد الإسلامية كانوا اتخذوا لأنفسهم قانونًا جعلوا فيه من الأصول ما أنتج منذ قرنين إلى الآن أن يصير العلم منحة رسمية تعطى للجهال حتى للأميين بل وللأطفال. ويترقى صاحبها في مراتب العلم والفضل والكمال بمجرد تقادم السنين أو ترادف العنايات لا سيما إذا كان من زمرة الأصلاء. فإنه يكون طفلاً في المهد وينعت رسمًا بأنه (أعلم العلماء المحققين) ، ثم يكون فطيمًا فيخاطب بأنه (أفضل الفضلاء المدققين) ، ثم يصير مراهقًا فيعطى لقب (أقضى قضاة المسلمين معدن الفضل واليقين، رافع أعلام الشريعة والدين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين) ثم وثم حتى يبلغ الوصف (بأعلم العلماء المتبحرين، وأفضل الفضلاء المتورعين، ينبوع الفضل واليقين) . ولا يظن ظانّ أن هذا الإطراء من الأمراء للمتعممين هو بقصد أن يقابلوهم بالمثل بألقاب (المولى، المقدس، ذي القدرة، صاحب العظمة والجلالة، المنزه عن النظير والمثال. واهب الحياة، ظل الله، مهبط الإلهامات، سلطان السلاطين، مالك رقاب العالمين، ولي نعمة الثقلين، ملجأ أهل الخافقين، إلى غير ذلك من مصارع الكبرياء والمهالك) . هذا ولا ريب أن كثيرًا من هؤلاء العلماء المتبحرين لا يحسنون قراءة نعوتهم المزورة كما أن بعض أولئك المتورعين رافعي أعلام الشريعة والدين يحاربون الله جهارًا ويستحقون ما يستحقون من الله وملائكته والمؤمنين. ويكفي حجة عليهم بذلك تميزهم جميعًا بلباس عروسي مزركش بكثير من الفضة والذهب مما هو حرام في الإسلام، وقد اقتبسوا هذا اللباس من كهنة الروم الذين يلبسون القباء والفلنسوات المذهبة عند إقامة شعائرهم وفي احتفالاتهم الرسمية وكم من خطيب يستوي على المنبر ويقول: اتقوا الله. وعلى رأسه وصدره ومنكبيه هذا اللباس المنكر (مرحى) . ثم إن هؤلاء المتعممين ما كفاهم هذا القانون فألحقوه بقانون آخر جعلوا فيه التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وسائر الخدم الدينية كالعروض تباع وتشترى وتوهب وتورث وما ينحل منها نادرًا عن غير وارث يبيعها القضاة لمن يزيد في ثمنها أو يتكرمون بها على المتملقين، وبهذا القانون انحصرت الخدم الدينية في الجهلاء والمنافقين. ثم لما شكلت بعض الحكومات مجالس إدارية لم يرض المتعممون حتى جعلوا فيها قاضي المسلمين، وكذلك مفتي المؤمنين فهما في كل بلد عضوان في مجالس الإدارة يحكمان بأشياء كثيرة مما يصادم الشرع كالربا والضريبة على الخمور والرسوم العرفية وغيرها مما كان الأليق والأنسب بالإسلامية أن يبقى العلماء بعيدين عنه، كما أن القسيس بل الشَّماس لا يحضر مجلسًا يعقد فيه زواج أو تفريق مدينان ولا يشهد في صك دين داخله ربًا فضلاً عن أن يقضي أو يمضي بصفة رسمية كهنوتية أمثال ذلك من الأعمال التي تصادم دين النصرانية. وكذلك لما وضعت المحاكم العرفية (الأهلية) تهافت المتعممون على جعل قاضي المسلمين رئيسًا للمحكمة العرفية التي تحكم بما لم ينزل الله وبما يتبرأ الدين الحنيف منه من نحو ربًا صريح، ومن إبطال حدود الله التي صرح بها القرآن أو باستبدال عقوبات سياسية أو تغريمات مالية بها. ومن نحو معاقبة العباد بمجرد الظن والرأي وشهادة الواحد وشهادة الفاسق وشهادة العاهرة المجاهرة بما لا يلائم الشرع قطعًا، ومن نحو تنفيذ كل حكم عرفي حق أو باطل بدون نظر فيه، ومن تحصيل ضرائب وغرامات، ومن توقيف الأحكام الشرعية على استيفاء الرسوم من الأخصام وأموال الأيتام. ومن أهم دسائس المتعممين أنهم ينفثون في صدور الأمراء لزوم الاستمرار على الاستقلال في الرأي وإن كان مضرًّا، ومعاداة الشورى وإن كانت سنة متبعة والمحافظة على الحالة الجارية وإن كانت سيئة ويلقون عليهم بأن مشاركة الأمة في تدمير شؤونها وإطلاق حرية الانتقاد لها يخل بنفوذ الأمراء ويخالف السياسة الشرعية ويلقنونهم حججًا واهنة، ولولا أن أمامها جهل الأمة ووراءها سطوة الإمارة لما تحركت بها شفتان ولا تردد في ردها إنسان. والأمر الأمرّ أن أولئك الأمراء يقتبسون من هذه الحجج ما يتسلحون به في مقابلة من يعترض على سياستهم من الدول الأجنبية بقولهم: إن قواعد الدين الإسلامي لا تلائم أصول الشورى ولا تقبل النظام والترقيات المدنية، وإنهم مغلوبون على أمرهم ومضطرون لرعاية دين رعاياهم ومجاراة ميل الفكر العام. وبهذه القوانين استأثر الجهلاء الفاسقون بمزايا العلماء العاملين واغتصبوا أرزاقهم من بيت المال ومن أوقاف الأسلاف، فبالضرورة قلَّت الرغبات في تحصيل العلوم. وتثبطت الهمم وصار طالب العلم يضطر للاكتفاء ببلغة منه ويشتغل بالاحتراف للارتزاق، وهكذا فسد العلم وقل أهله فاختلت التربية الدينية في الأمة فوقعت في الفتور وعمت فيها الشرور. أجاب الرياضي الكردي: إن هذا الداء خاص ببعض الشعوب الإسلامية فلا يصاغ سببًا للفتور العام الذي نبحث فيه ونتساءل عنه , وعندي أن السبب العام هو أن علماءنا كانوا اقتصروا على العلوم الدينية وبعض الرياضيات وأهملوا باقي العلوم الرياضية والطبيعية التي كانت إذ ذاك ليست بذات بالٍ ولا تفيد سوى الجمال والكمال ففقد أهلها من بين المسلمين، واندرست كتبها وانقطعت علاقتها فصارت منفورًا منها على حكم (المرء عدو ما جهل) بل صار المتطلع إليها منهم يفسق ويرمى بالزيغ والزندقة، على حين أخذت هذه العلوم تنمو في الغرب وعلى مر القرون ترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في جميع الشئون المادية والأدبية حتى صارت كالشمس لا حياة لذي حياة إلا بنورها فأصبح المسلمون مع شاسع بعدهم عنا محتاجين إليها لمجاراة جيرانهم احتياجًا يعم الجزيئات والكليات من تربية الطفل إلى سياسة الممالك ومن استنبات الأرض إلى استمطار السماء، ومن عمل الإبرة والقوارير إلى عمل المدافع والبوارج، ومن استخدام اليد والحمار إلى استخدام البرق والبخار. ولا شك أن المسلمين أصبحوا بعد الاكتشافات الجديدة يستفيدون من العلوم الطبيعية والحكمية فوائد عظمية جدًّا بالنظر إلى كشفها بعض أسرار كتاب الله وبالغ الحكمة المطوية فيه مما كان مستورًا إلى الآن وقد خبط فيه المفسرون خَبْط عشواء. بل أضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية التي كادت تجعل الغربيين أدرى منا حتى بمباني ديننا كاستدلالهم بالمقايسة على أن نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل العالمين عقلاً وأخلاقًا؟ وكإثباتهم بالمقابلة أن ديننا أسمى الديانات حكمة ومزية. وعندي أنه لولا هذا القصور، لما وقع المسلمون في هذا الفتور. والأمل بعناية الله أنه بعد زمان قصير أو طويل لا بد أن يلتفتوا إلى هذه العلوم النافعة فيستعيدوا نشأتهم بل يجلبوا إلى دينهم العالم المتمدن؛ لأن نور المعارف على قدر إبعاده العقلاء عن النصرانية وأمثالها يقربهم من الإسلامية؛ لأن الدين المملوء بالخرافات والعقل المستنير لا يجتمعان في دماغ واحد. (مرحى) ثم إن تبعة هذا التقصير وإن كانت تلحق علماء الأمة المتقدمين إلا أن علماءنا المتأخرين أكثر قصورًا؛ لأنهم في زمان ظهرت فيه فوائد هذه العلوم ولم يحصل فيهم ميل لاقتباسها بل نراهم مقتصرين على تدريس فنون اللغة والفقه فقط أو بعلاوة شيء من المنطق إتمامًا للعقائد وشيء من الحساب إكمالاً للفرائض والمواريث قلما يفيد. وكذلك نرى وعاظنا مقتصرين على البحث في النوافل والقربات المزيدة في الدين ورواية الحكايات الإسرائيليات، ومثلهم المرشدون أهل الطرائق فهم مقتصرون على حكايات نوادر الزهاد من صحيح وموضوع ورواية كرامات الأنجاب والنقباء والأبدال وعلى ضبط وزن التمايل وأصول الإنشاد. ولا ننسى خطباءنا واقتصارهم على تكرار عبارات في النعت والدعاء للغزاة والمجاهدين وتعداد فضائل العبادات والشهور والمواسم، والحاصل أن تقصيرات العلماء الأقدمين واقتصارات المتأخرين وتباعد المسلمين إلى الآن عن العلوم النافعة الحيوية أحط من كثير من الأمم، ولا شك أنه إذا تمادى تباعُدهم هذا خمسين عامًا آخرين تبعد النسبة بينهم وبين جيرانهم كبعدها ما بين الإنسان وباقي أنواع الحيوانات فبناءً عليه يكون ناموس الارتقاء هو المسبب لهذا الفتور كما قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) . فأجابه الكامل الإسكندري: إن هذا سبب من الأسباب ولا يكفي وحده لحل الإشكال؛ لأن فقد العلوم الحكمية والطبيعية لا يصلح سببًا لفقد الإحساس المِليّ والأخلاق العالية؛ لأنها توجد في أعرق الأمم جهالة، وإنما سبب فتور حياتنا الأدبية هو يأسنا من المباراة وذلك أننا كنا علماء راشدين وكان جيراننا متأخرين عنا فغرنا البقاء فنمنا واجتهدوا فلحقونا , ولبثنا نيامًا فاجتازوا وسبقونا، وتركونا وراء، وطال نومنا فبعُد الشوط حتى صار ما بعد ورائنا وراء، فصغرت نفوسنا وفترت همتنا وضعف إحساسنا فيئسنا من اللحاق والمجاورة، وخرجنا من ميدان المنافسة والمباراة وألسنتنا تفيض بقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} (إبراهيم: 21) فعدنا إلى كهف النوم مستسلمين للقضاء , نطلب الفرج بمجرد التمني والدعاء ذاهلين على أن الله تعالى جلت حكمته رتب هذه الحياة لدنيا على أسباب ظاهرية ولم يشأ أن يجعلها كالآخرة عالم أقدار، فهذا اليأس هو سبب الفتور فنسأل الله تعالى اللطف في المقدور. أجابه العارف التاتاري: أن هذه شكاية حال ولا تفي بالجواب؛ لأنه ما السبب في أن هذا النوم غشي المسلمين ولم يزل يغشاهم دون كثير غيرهم من الأمم التي انتبهت وسارت ولحقت ظعن الأحياء، وما المسلمون بالأبعدين المتقطعين كأهل الصين ولا هم بالمتوحشين العريقين كأهل أمريكا الأصليين. ثم قال: أنا أرى أن عارضنا فقدنا السراة والهداة فلا أمير عام حازم مُطاع ليسوق الأمة طوعًا أو كرهًا إلى الرشاد، ولا حكيم معترف له بالمزيد والإخلاص لتنقاد إليه الأمراء والناس، ولا تربية متحدة المقصد ينتج منها رأي عام، لا يطرقه تخاذل وانقسام، ولا جمعيات منتظمة تسعى بالخير، وتتابع السير، ولذلك حل فينا الفتور وإلى الله ترجع الأمور. أجابه الفقية الأفغاني: إن ما وصفته من أمير وحكيم لا يوجدان في الأمم المنحطة إلا اتفاقًا، وأما الرأي العام والجمعي

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ الكتاب الثالث من أميل القرن التاسع عشر في اليافع [*] شذرات مقتطفة من جريدة أراسم. تحريرًا بمرازيون في سنة -185 الداخلة في سنة - 186 الشذرة الأولى حب الزوجة والولد والوطن منذ سنة تغيرت شئون حياتي كلها ولقد وجدتها هي بعينها [1] ولما تلاقينا كنا كأننا لم نفترق في حياتنا فإن النَّوى لم تغير شيئًا من ضروب وجداننا ولا من عاداتنا لبقاء قلبينا على ما كانا عليه من الارتباط والاتحاد، وغاية ما حدث أني أراني الآن آنس مني في جميع أيامي السالفة بحسن معاشرتها وجمال معاملتها. نعم إنها لم تبقَ طفلة كما عهدتها ولكنها لم تأخذ من مرور الأعوام وكرور الأيام إلا ما يزيد المرأة في القلوب محبة وفي النفوس تأثيرًا، فكأن روحها وملامح وجهها تكملت وتطهرت بأدائها فروض الأمومة المقدسة. كنت أوشكت أن أقنط من معرفتي لولدي، ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أن الذين هم أكثر الناس اشتغالاً بالتربية لم يرزقوا أولادًا أو رُزقوهم وحُرموا من رؤيتهم، وربما كان هذا هو الباعث لهم على الاهتمام بالتربية وجعل البحث في شئونها غايتهم ليؤدوا بذلك ما فرضه الله عليهم منها بنوع آخر من الأداء. فليت شعري بماذا استحققت أن أكون أسعد من هؤلاء مع كونهم أجدر مني بالسعادة؟. ما أشدني حُنُوًّا وتأثرًا عند تقبيل ولدي إياي، وما أعظم زهوي وإعجابي به عندما آخذ بيده أتنزه معه في المزارع، وإن الدنيا لتُرى في عيني جديدة وهو معي كأن لم أرها منذ سبع سنين. ولا جرم أن الإنسان لا يبصر وهو رهين السجن محروم من الحرية فكل ما كنت أراه من أشجار وصخور عمرت عمر الدنيا القديمة كأن يخيل إلي أنه لم يخلق إلا بالأمس. خطر في ذهني ساعة خاطر العود إلى فرنسا ولكن ألف مانع، وإن شئت فقل ألف وَهْم قد تحول بين المرء وبين معيشته في وطنه، وما أدراك أن من هذه الموانع ما يعتريني من الألم الممضّ الذي لا أستطيع التعبير عنه إذا رأيت أمة عظيمة عهدتها حرة قد أصبحت في قبضة حاكم وجميع ما يحصل في هذا الوطن لا يقل عن ذلك إيلامًا للقلب ولا إزهاقًا للنفس. يوجد في جميع عصور التاريخ رجال بررة صالحون رأوا من الواجب عليهم لأنفسهم ولأوطانهم أن يخدموا هذه الأوطان وهم بمعزل عنها، فمثل هؤلاء هم فيما أرى أشد حبًّا لها؛ لأنهم سواء قربوا منها أم بعدوا عنها يحيون بنفحاتها وينتشعون بمجاهداتها في سبيل الخير وبما لها من الآمال في الوصول إليه. جرحهم في صميم أفئدتهم ما مس أمتهم من القروح، وإن كان يبدو من حال الأمة عدم شعورها بألمها كأن في مرور الزمن عليها والاعتياد على احتمالها من قوة التأثير ما يكفي لاندمالها جميعاً. مثل هؤلاء المتطوعين بالاغتراب والنفي يلومون الناس وحوادث الدهر ولكن إذا حاول مجادل أمامهم أن ينقص من كرامة فرنسا ويحط من شأنها استشاطوا غضبًا وتليّغ الدم في عروقهم. ذلك أن هذه القطعة من الأرض التي تنازلوا عن سكناها مختارين قد تغلغل حبها في أحشائهم وأخذ بمجامع قلوبهم، فتراهم يبذلون الوطن نفسه في إعزاز شأن المعنى الذي قام في أذهانهم ويفضلون الحكم على أنفسهم بالبعد عنه على رؤيتهم إياه مهينًا ذليلاً. كأني بسائل يقول: لماذا اتخذت هذه العادة وهي تقييد أفكارك ومذكراتك كل يوم بحسب المصادفة والاتفاق؟ فأجيبه: إن هذا مطوي أيام معيشتي في السجن أنشره للناس، لأني لما لم يكن لي فيه أنيس أطارحه الحديث كنت أكتب كأني أراسل نفسي. اهـ *** الشذرة الثانية تعليم المسميات قبل الأسماء لم تُخْلِفْ طريقتها في تربية (أميل) أملاً من آمالي فلتبق على ما هي بسبيله من تهذيبه وتثقيفه بما تقدمه له من الأُسى وبما توحيه إلى نفسه من الثقة بها، على أننا من عهد أن أنعم الله علينا باللقاء رأينا من المفيد أن نقسم العمل بيننا؛ لأن التعليم - إن لم أكن غاليًا في حكمي - هو من وظائف الوالد غالبًا، وأما التربية فإنها من أعمال الوالدة، وإن أردت أن تعلم أين نحن من قيام كلٍّ بعمله فأقول: لما يدرس (أميل) شيئًا درسًا منتظمًا فهو إنما لقف دروسه الأولى في علم التاريخ الطبيعي متفرقة على نحو من الاتفاق وذلك بمعاينة ما كان يجده كل يوم على شاطئ البحر من أنواع المحار والصدف. ثم إنني أمكنه من النظر بالمنظار المعظم (الميكرسكوب) وهو آلة شائعة الاستعمال جدًّا عندنا محركًا أجزاءه بنفسي فيكبر له بعض عجائب المخلوقات غير المتناهية في الصغر وأريه بالمرقب (التليسكوب) وهو آلة أرصد بها النجوم ليلاً عجائب المخلوقات غير المتناهية في الكبر. وقد ملأنا إناءً من الزجاج بالماء المالح ووضعنا فيه حيوانات هلامية وحيوانات قشرية وأسماكًا وكنا نجدد ماءه كل ثمانية أيام، ومنه تلقى (أميل) كل ما عرفه فيما أرى من علم حياة الحيوانات التي تعيش في جوف البحر. وفي بعض الأحيان أكرر بمشهد منه بعض تجارب سهلة جدًّا في الكيمياء والطبيعة وهو على جهله باسمَيْ هذين العلمين يدرك بعض الإدراك تأثير بعض الأجسام الفطرية في بعض. ورآني يومًا أضع مقاييس للحرارة والهواء، ومع كونها لم تكن من الإتقان في شيء بدا لي منه أنه أدرك استعمالها في الجملة؛ لأني رأيته يريد محاكاتها. جميع ما تقدم هو كتب تعليمنا حتى الآن. لا بد أن أكون أنا و (أميل) تابعين في التعليم لمذهب أرسطاليس؛ لأن أغلب درسنا يحصل في وقت التنزه، فإني أدع لأمور الكون وحوادثه تنبيه ذهنه غير متعرض لها بشرح ولا تفسير إلا أن يكون إجابة عما يوجه إليّ من الأسئلة مجتهدًا في أن يكون الشرح واضحًا والبيان وافيًا. وقد عرفت من محاورته أن الوسيلة إلى إصغائه إليّ هي تتبع سلسلة أفكاره عند محادثته، وإن كثيرًا ممن يأخذون على أنفسهم تعليم الأطفال ليبالغون لهم في البيان ويفرطون في الشرح كما لو كانوا في حاجة إلى أن يثبتوا بذلك لأنفسهم أنهم على معارف واسعة وعلوم جمة. أنا لا أعلم (أميل) شيئًا بل إني أتعلم معه فعوضًا عن كوني أعلمه طريقتي في النظر أجتهد في معرفة طريقته وتمييزها وما لا يميل إلى معرفته بحال أجهله مثله أو أتجاهله. نعم إن هذه الطريقة ليس من شأنها أن تعلي قدر الأستاذ في نظر تلميذه، وأنه لا بد في اتباعها من تنزه العقل عن الغرض وتنازله عن بعض شهواته، ولكن ما هو متبع الآن من نقش صيغ العلوم وقوانينها وقضاياها في أذهان الأطفال ليس هو إلا كرقم الألفاظ على الرمل. ملكة البحث عند الطفل هي كغيرها من الملكات تنمو بالاعتياد والمراس، فإن الشوق إلى معرفة الأشياء يتولد في الإنسان ولا يولد معه وإنما يكتسب ذوق الملاحظة الاستقلالية بالملاحظة نفسها. إن لي أن أعين تنبه (أميل) والتفاته بأن أريه ما لا يراه في الأشياء لأول نظرة إليها غير أنه في هذه الحالة يجب أن يكون هو مصدر الميل إلى ذلك أيضًا، وأن يكون صدور هذا الميل منه فطريًّا. ثم إن الأطفال في الجملة مدفوعون جدًّا بسائق الطبع إلى الإكثار من السؤال، فرأيي أن التعجيل لهم بالجواب قبل السؤال وتجاوز حدود ما يطلبون معرفته مما تخبو به نار هذا الاستعداد المبارك، لأن ذلك يفضي بكثير منهم إلى التزام السكوت ليكفوا أنفسهم مؤنة سآمة الدرس وطوله. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

قوانين التعليم الرسمي والجمعية العمومية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قوانين التعليم الرسمي والجمعية العمومية النبذة الثانية تقدم في الجزء الماضي ملخص ما دار بين مفتي الديار المصرية وناظر مدرسة المعارف من المناقشة والمراجعة في اقتراح عرض قوانين التعليم في مدارس الحكومة على مجلس شورى كسائر قوانين الحكومة. ونذكر في هذا الجزء ملخص ما دار في الجمعية بين الناظر والشيخ علي يوسف مع ذلك مع بيان رأينا فيه ثم ننقد القانون فنقول: (الشيخ علي) (الضمانات) [1] التي ذكرها سعادة ناظر المعارف إنما هي كافية في التغييرات الإدارية كتحديد أوقات الدروس وحصص المدرسين، وأما القواعد الكلية المتعلقة بالعلوم من حيث ترتيبها في التعليم واللغة التي تعلم بها فربما لا يصح تغيير قوانينها في أقل من عشرين سنة مثلاً لذلك يجب الضمان. والتعليم باللغة الأجنبية معناه نقل أشخاص إلى العلم، وأما التعليم بلغة الأمة فهو نقل العلم إلى الأمة فيسهل على الطالب معه أن ينفع بيته بعلمه وبما يجيء به من كتب التعليم. وقد نشأ عن التعليم باللغة الأجنبية قلة التأليف بالعربية وعدم وجود الأساتذة الأكفاء في المدارس الحرة ولم نق من ذلك (ضمانات) ناظر المعارف. فالقوانين العمومية يجب عرضها على مجلس شورى القوانين؛ إذ لا يكفي فيها نظر الحكومة وحدها. (الناظر) إن الطرق المتبعة في التعليم ما وضعت إلا بعد تجارب شتى بمعنى أن هذا التعليم الذي تبين أن تعليمه بالعربية أنفع يكون تعليمه بها والعكس بالعكس إذ المدار في ذلك على الكتب والمدرسين والأقرب للترقي. ومما بينته من (الضمانات) وغيرها يتضح أن وضع (البروجرامات) يتبع فيه أحسن الطرق وأفضلها اهـ كما كتب. (الشيخ) ذلك يراد به الأسهل في التعليم، والذي نريده هو نفع الأمة وقد كان منذ عشر سنين تؤلف كتب في الطب والطبيعة وغيرهما من العلوم فيأتي بها التلميذ فيستفيد منها أبوه وأهله، ولا شيء من ذلك الآن؛ لأن التعليم والتأليف باللغة الأجنبية فيجب أن يكون التعليم الوسط بلغة البلاد، ويصح أن يكون في المدارس العالية باللغة الأجنبية. (الناظر) يترتب على هذا جعل التعليم ناقصًا، وانتشار العلم في البيوت لا يكون بوجود الكتب في أيدي أفرادها؛ إذ لا من يفهم الكتاب إلا من كانت عنده مبادي العلوم. وعند ما رأى أعضاء الجمعية أن الناظر يعيد كلامه ويحتج (بضماناته) كلما ألحت الجمعية بوجوب اطلاع مجلس الشورى على قوانين التعليم قال حسن بك مدكور إن أحسن ضمان هو إرسال قوانين التعليم لمجلس الشورى. وأمر الرئيس بأخذ الآراء (فتقرر بأغلب الآراء) طلب ذلك من الحكومة. ولا أدري هل كان في المخالفين أحد غير ناظر المعارف؟ إن كان فلعله من بعض الموظفين الذين يرون موافقة الناظر تأييدًا لحزب الحكومة وإن كانت المصلحة واحدة والشورى من الحكومة. أما الجواب الأول للناظر فقد أحسن الشيخ علي في نقضه بقدر ما يسمح له المجلس الرسمي، ونزيده إيضاحًا بأن هذا التعليم الذي وصفه الناظر بأنه أنفع وأحسن وأفضل قد خالفت النظارة فيه ما اتفقت عليه الأمم الأوربية كلها وفي مقدمتهم الإنكليز. ذلك أن التعليم الابتدائي في أوربا لا يكون إلا بلغة البلاد؛ لأن حياة الأمة بلغتها وتعلم لغة أخرى لأجل المزيد في العلم كتعلم الإنكليز لغة الألمان هو من الكماليات التي يجب أن تكون بعد الضروريات. فهل وصل نظار مدارس معارفنا ومفتشوها - إن كان قانون التعليم برأيهم - إلى ما لم يصل إليه فلاسفة أوربا وأساتذتها في علم التربية والتعليم؟ ؟ فإن قال الناظر: إذا ثبت أن تعلم الطبيعيات مثلاً أسهل باللغة الإنكليزية منه باللغة العربية فكيف نتنكب الطريق السهل ونسير في الحزون الوعرة؟ نقول له بعد التسليم: وهل تعدل عن الإنكليزية إلى التركية أو اليابانية إذا ثبت عندك أن التعليم بها أسهل والتحصيل أقرب؟ وإنما قلنا: أسهل وأقرب ولم نقل: (أنفع) كما قال الناظر لأن الأنفعية لا شبهة عليها إذا فسرت بالسهولة وقرب التحصيل؛ إذ لا يمكن أن يقول عاقل: إنني أسعى بمحو لغة أمتي واستبدال لغة أخرى بها لمنفعة من المنافع، وأي نفع في الدنيا يوازي ضرر إهمال الأمة التي هي من أقوى مقوماتها أو هي أقواها في نظر الأكثرين. وأما الجواب الثاني من أجوبة الناظر فأمثل ناقض له ما فعلته الجمعية من ترك المناقشة بالمكابرة والإصرار على أن الضمان على التعليم لا يكون للأمة إلا بعرض قوانينه على مجلس الشورى والجزم بطلب ذلك من الحكومة، وماذا عسى أن يقال لمن يقول: إن التعليم الابتدائي بلغة الأمة يكون ناقصًا وجميع الأمم الحية عليه كأن الكمال لم يوجد إلا في معارف مصر التي لا أثر لمعارفها يذكر بالنسبة إلى سائر الأمم. وماذا عسى أن يقال لمن يدعي أن انتشار الكتب العلمية في الأمة لا تأثير له في منفعة البيوت وترقي أفرادها؟ أليس تحدث التلامذة في بيوتهم ومذاكراتهم في المسائل العلمية بلغتهم مما يجعل الاصطلاحات العلمية مألوفة في البيوت لكثرة طروقها للسامع؟ أليس الآباء والأمهات الذين تلقوا شيئًا من مبادئ العلوم وقضت عليهم شئون المعيشة بعدم إتمام تعليمهم ينتفعون بالكتب المؤلفة إذا كانت بلغتهم؟ بلى وإننا نعود إلى الكلام في قانون التعليم فنقول: إن في هذا القانون (البروجرام) عيوبًا وتقصيرًا نسرد ما يظهر لنا منها باختصار على ترتيب القانون وهو: (1) كون القرآن لا يدرس في السنتين الأولى والثانية وكون الذي يقرأ منه جزأين فقط. والأمة ترغب في إقراء أولادها القرآن كله لما في قراءته من تقويم اللسان وتعويده على الفصاحة في النطق والاستعانة على الكتابة والخطابة، ولكونه أصل الدين والوسيلة العظمى لكمال من يفهمه. ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (2) كون تعليم الدين والتهذيب في أثناء سنتين فقط مع أنه يجب أن يكون ذلك موزعًا على جميع السنين؛ لأن الدين والتهذيب هما المقصود والأهم من التعليم ومن لم يتمكن منهما يكون خاسرًا في حياته وإن تعلم جميع الفنون الأخرى. ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (3) كون الوقت المخصص لتعليم الدين والتهذيب معًا ساعة واحدة في الأسبوع مع أن اللغة الأجنبية التي تعلم من السنة الأولى الابتدائية إلى آخر يوم من أيام التعليم العالي لها سبع ساعات في الأسبوع من السنتين الأوليين. فالساعات المقررة في القانون لتعليم علوم الدين وعلم التهذيب 36 ساعة في السنة و 72 ساعة في مدة الدراسة كلها، وتغتال منها أيام الأعياد والمواسم ما تغتال. فالمدة نحو ثلاثة أيام وهي لا تكفي لتعليم الأكل. فهل تكفي ببركة (الضمانات الخمس) لمعرفة الله وما أوجبه على عباده من أصول الإيمان وتثقيف الأخلاق وكيفية العبادات مع التهذيب المدني الدنيوي الذي نوه به ذلك القانون. هذا أكبر عيب ونقص في نظام المعارف ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (4) كون علم الدين لا شأن له في درجات ترقي التلامذة في الامتحان المعبر عنها بالنمرة، فلو فرضنا أن تلميذًا بلغ في فهم الدين ومعرفة أحكامه مبلغ الأئمة وكان مساويًا لآخر في سائر العلوم فإن هذه المعرفة لا ترفعه عنه درجة واحدة فإن زاد ذلك الآخر درجة واحدة في الخط الإفرنجي مثلاً فإنه يرتفع بذلك ويتقدم على ذلك الإمام الديني الجليل، ومن لاحظ أن التلامذة لا يجتهدون إلا لأجل السبق في الامتحان وعلم أن الدين لا مجال فيه للسبق؛ لأنه لا درجة له علم أن النظارة متعمدة إهمال الدين أو جاهلة منزلته ومكانته، وهذا نقص فاحش في قانون التعليم ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (5) كون المسائل التي يبتدأ بها في تعليم الدين تعلو على عقول المبتدئين وهي كما في الصفحة 12 من قانون (احتياج الإنسان إلى الدين - بيان الفوائد المترتبة على التمسك به - بيان أنه ليس قاصرًا على أنواع العبادات بل هو مشتمل على ما يلزم للإنسان من المعاملات وغيرها ويرشده إلى طريق المجد والشرف في الدنيا والآخرة - أول ما أوجبه الدين - ما يجب في حقه تعالى وما يستحيل وما يجوز - الحكمة في إرسال الرسل - ما يجب في حقهم عليهم الصلاة والسلام وما يستحيل وما يجوز - نسبه صلى الله وعليه وسلم من جهة أبيه وأمه) . ولا شك أن هذه المسائل يتوقف فهمها على معرفة الأحكام العقلية والإلمام بعلم الاجتماع فابتداء التعليم بها نقص. وإذا فرضنا أن تلاميذ السنة الثالثة الذين لم يكونوا تعلموا من الدين شيئًا مستعدون لفهم مقدمات هذه المسائل ثم لفهمها، ثم فرضنا أنهم يعلمون المقدمات فعلاً، فهل يقدر المعلمون على تعليم ذلك كله مع علم التهذيب في ست وثلاثين ساعة وهو الوقت المعين لدرس هذه الأشياء كما تقدم؟ اللهم إن هذا ما لا يستطيع أن يتصوره عاقل وإنه لنقص فاحش وخلل فاضح في قانون تعليم المعارف، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (6) كون هذه المسائل غير محيطة بالعقائد الدينية فهناك مسائل أخرى تجب معرفتها وليس بعد هذه السنة تعليم للعقائد وهذا نقص ضار منتقد، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا آخر. (7) كون الكتاب الذي تعلم به هذه العقائد وما معها ليس مؤلفًا على الوجه الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قانون التعليم قبل تلك المسائل التي ذكرناها، ثم إن أثر تلك الغاية لم يظهر في تلامذة مدرسة من المدارس كلهم أو جلهم فنقول: إن المدار على المعلمين في الوصول إليها وهذا إهمال عظيم ونقص محسوس ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (8) كون قسم الأخلاق الدينية لا وجود له في تعليم مدارس الحكومة وهذا نقص عظيم، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (9) كون علم الحلال والحرام مهملاً لا وجود له في التعليم الديني وهذا النقص قبيح، والغاية من تعليم الدين لا تتم إلا به، ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. (10) كون مسائل العبادات التي تدرس في السنة الرابعة غير كافية وغير مؤدية إلى الغاية المطلوبة، وكون الوقت المخصص لتعليم العبادة غير كافٍ، وهذه أنواع من النقص والخلل جعلناها واحدة؛ لأنه تقدم في قسم العقائد نظيرها. ولم تغن (الضمانات الخمس) عن هذا النقص شيئًا. وقد طال الكلام في انتقاد تعليم القسم الديني ومن بين لنا خطأ في شيء منه فإننا نرجع عنه؛ لأن قصدنا الإصلاح لا إظهار العيوب. وسنتكلم عن النقص في سائر الأقسام فيما يأتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

شهادة مفتي الديار المصرية لكتاب أسرار البلاغة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شهادة مفتي الديار المصرية لكتاب أسرار البلاغة طلبنا من مولانا الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية أن يكتب لنا رأيه في كتاب أسرار البلاغة الذي طبعناه بإرشاده فكتب حفظه الله ما يأتي: اطلعت على كتاب أسرار البلاغة من تأليف الإمام الجليل الشيخ عبد القاهر الجرجاني وسعيت في طبعه وقرأته درسًا في الجامع الأزهر. وقد وضعه مؤلفه في علم البيان والاستعارة والمجاز وسلك المسلك الذي يوافق العقل البشري سلوكه في تصوير المعاني وتشخيصها على وجه تتأثر منه العقول بالأثر المطلوب من إبرازها لها. ولم أرَ كتابًا في هذا الفن لا بقلم متأخر ولا بقلم متقدم يقرب من هذا الكتاب في حسن الأسلوب وحياة المعنى ورونقه. ولقد كان كنزًا مخفيًّا لا تصل إليه يد الباحث حتى يسر الله لنا نسخة بعث بها إلينا أحد أهل العلم من طرابلس الشام، وكان فيها نقص وتحريف فأرسلت أحد طلبة العلم إلى الآستانة العلية ليقابلها على نسخة هناك ثم أكمل تصحيحها أثناء الدرس فكان ظهور هذا الكتاب من نعم الله على المشتغلين بهذا الفن الجليل. وهو جدير بأن ينتفع به الأستاذ ويقتطف منه التلميذ وتزين به كل مكتبة في مشارق الأرض ومغاربها. ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي الديار المصرية ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده *** دلائل الإعجاز يعلم قراء المنار أن الإمام عبد القاهر الجرحاني قد أسس علمي البلاغة بكتابيه المشهورين (أسرار البلاغة) الذي طبعناه، وهو في فن البيان، و (دلائل الإعجاز) الذي نطبعه وهو في فن المعاني. وإنما سماه دلائل الإعجاز؛ لأنه لا طريق إلى معرفة كون القرآن الآن معجزًا ببلاغته (كما أنه معجز بهدايته) إلا بالقوانين التي وضعها في هذا الكتاب. وقد كتب رحمه الله مقالة أو رسالة سماها (المدخل في دلائل الإعجاز) وجعلها مقدمة له مبينة لمنزلته، ودالة على مكانته , ومصرحة بأنه هو الواضع للفن. وهي على اختصارها قد أشارت إلى أصول قواعد النحو، وقال بعد ذلك: إن جميع كلام العرب كان موافقًا لهذه القواعد، فإذا قال معترض: ما هذا الذي امتاز به القرآن حتى كان معجزًا؟ نقول: إن الجواب عن هذا السؤال هو كتاب دلائل الإعجاز لا جواب غيره. وإنني أذكر خاتمة كلامه في المدخل بنصه وقصيدة ختمه بها وهو: (إذا كان ذلك كذلك فما جوابنا لخصم يقول لنا: إذا كانت هذه الأمور وهذه الوجوه من التعلق التي هي محصول النظم موجودة على حقائقها وعلى الصحة وكما ينبغي في منثور كلام العرب ومنظومه، ورأيناهم قد استعملوها وتصرفوا فيها وكانت حقائق لا تتبدل ولا يختلف بها الحال؛ إذ لا يكون للاسم بكونه خبرًا لمبتدأ أو صفة لموصوف وحالاً لذي حال أو فاعلاً أو مفعولاً لفعل في كلام حقيقة هي خلاف حقيقته في كلام آخر - فما هذا الذي تجدد بالقرآن من عظيم المزية وباهر الفضل والعجيب من الرصف حتى أعجز الخلق قاطبة وحتى قهر من البلغاء والفصحاء بالقوى والقدر , وقيد الخواطر والفكر حتى خرست الشقاشق [1] ، وعدم نطق الناطق وحتى لم يجر لسان. ولم يُبِن بيان، ولم يساعد إمكان، ولم ينقدح لأحد منهم زَند، ولم يمض له جد وحتى أسال الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذًا؟ أيلزمنا أن نجيب هذا الخصم عن سؤاله، ونرده عن ضلاله، وأن نَطِبَّ لدائه ونزيل الفساد عن رائه؟ [2] فإن كان ذلك يلزمنا فينبغي لكل ذي دين وعقل أن ينظر في الكتاب الذي وضعناه، ويستقصي التأمل لما أودعناه، فإن علم أنه الطريق إلى البيان، والكشف عن الحجة والبرهان، تبع الحق وأخذ به وإن رأى أن له طريقًا غيره أومأ لنا إليه ودلنا عليه، وهيهات ذلك، وهذه أبيات في مثل ذلك: إني أقول مقالاًُ لست أخفيه ... ولست أرهب خصماً إن بدا فيه ما من سبيل إلى إثبات معجزة ... في النظم إلا بما أصبحت أبديه [3] فما لنظم كلام أنت ناظمه ... معنى سوى حكم إعراب تزجيه اسم يرى وهو أصل للكلام ... فما يتم من دونه قصد لتشبيه وآخر هو يعطيك الزيادة في ... ما أنت تثبته أو أنت تنفيه تفسير ذلك أن الأصل مبتدأ ... تلقى له خبرًا من بعد تثنيه وفاعل مسند فعل تقدمه ... إليه يكسبه وصفًا ويعطيه [4] هذان أصلان لا تأتيك فائدة ... من منطق لم يكونا من مبانيه وما يزيدك من بعد التمام فما ... سلطت فعلاً عليه في تعديه هذي قوانين يكفي من تتبعها ... ما يشبه البحر فيضًا من نواحيه فلست تأتي إلى باب لتعلمه ... إلا انصرفت بعجز عن تقصيه [5] هذا كذاك وإن كان الذين ترى ... يرون أن المدى دانٍ لباغيه [6] ثم الذي هو قصدي أن يقال لهم ... بما يجيب الفتى خصمًا يماريه تقول من أين أن لا نظمَ يشبهه ... وليس من منطق في ذاك يحكيه وقد علمنا بأن النظم ليس سوى ... حكم من النحو نمضي في توخيه [7] لو نقَّب الأرض باغٍ غير ذاك له ... معنًى وصعد يعلو في ترقيه [8] ما عاد إلا بخسر في تطلبه ... ولا رأى غير غي في تبغيه [9] ونحن ما إن بثثنا الفكر ننظر في ... أحكامه ونروي في معانيه كانت حقائق يُلفى العلم مشتركًا ... بها وكلا تراه نافذًا فيه فليس معرفة من دون معرفة ... في كل ما أنت من باب تسميه ترى تصرفهم في الكل مطردًا ... يجرونه باقتدار في مجاريه فما الذي زاد في هذا الذي عرفوا ... حتى غدا العجز يهمي سيل واديه قولوا وإلا فاصغوا للبيان تروا ... كالصبح منبلجًا في عين رائيه وقد كان هذا الكتاب كالذي قبله كنزًا مخفيًّا فظفر الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية بنسخة منه، وكان عند الأستاذ العلامة اللغوي الشيخ محمد محمود الشنقيطي نسخة أخرى، وكلاهما كان محرفًا ومبدولاً فعلم الأستاذ الإمام أن في المدينة المنورة نسخة منه وفي بغداد أخرى فعمل على استناسخها وصحح الكتاب هو والأستاذ الشنقيطي بمقابلة النسخ الأربع فكان الكتاب الوحيد الذي اجتمع على تصحيحه أعلم علماء العصر في المعقول والمنقول. هذا وإن هذا الكتاب أكبر من أسرار البلاغة حجمًا، وأغزر علمًا، فهو يزيد عليه بنحو عشر ملازم، وقد شرعنا بطبعه على ورق جيد وجعلنا قيمة الاشتراك فيه مع ذلك قيمة الاشتراك في أسرار البلاغة رفقًا بمجاوري الأزهر الذين سيكونون أكثر الناس اشتراكًا به؛ لأن الأستاذ الإمام سيقرأه درسًا في الأزهر الشريف. وستكون قيمته بعد تمام الطبع عشرين قرشًا أميريًّا فمن أراد الاشتراك فليدفع إلينا القيمة ويأخذ بها وصلاً بإمضائنا.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الاحتفال بتذكار محمد علي باشا) في يوم الأربعاء الماضي تم لتأسيس محمد علي باشا هذه الإمارة في مصر مائة عام هجري فاحتفل ديوان الأوقاف بذلك في جامع القلعة وكذلك احتفلت به مشيخة الأزهر في الجامع الأزهر، ومن بدع الزمان وغرائب الأيام أن يحتفل في بيوت الله تعالى بذكر الأمراء والسلاطين والظلمة من الحاكمين، وهي البيوت التي أذن الله أن ترفع عن الحظوظ الدنيوية ويذكر فيها اسمه وحده تقربًا إليه وابتغاء مرضاته لا لذكر أمير ميت ولا لمرضاة أمير حي. فلماذا تنفق أوقاف المسلمين على إحياء البدعة ومخالفة السنة؟ ولماذا لا تكون أمثال هذه الاحتفالات في قصور المنعمين كعابدين ورأس التين؟ فمحمد علي لم يؤسس دينًا ولم يكن إمام مذهب في دين وإنما أسس ملكًا عضوضًا بسفك الدماء والقوة والجبروت، هذا هو محمد علي في نظر الدين، والحكمة في الاحتفال بذكره والإشادة بحمده في بيوت الله تعالى دون بيوت الحكومة يعرفها جميع الناس. أما محمد علي في نظر التاريخ فهو من الرجال العاملين الذين يحفظ التاريخ فضلهم؛ لأن التاريخ سياسي أكثر مما هو ديني أو علمي، وقد جرت العادة أن يتملق الناس للأمراء بمدحهم ومدح سلفهم وجعل سيئاتهم حسنات، فإنك ترى العالم الديني الذي يحكم بكفر من يحكم بالقانون وظلمه وفسقه يقدس من وضع القانون باسمه ويحكم فيه بأمره فمدح الأمراء والسلاطين وأصحاب الجاه أكثره كذب، والمادح محل التهمة، والمنتقد لهؤلاء أقرب إلى العدل والإنصاف وإن احتمل أن يكون له هوى في بعض الأحوال، وإننا نقول في تاريخ محمد علي كلمة عادلة نرجو أن يتلقاها كل عاقل بالقبول وهي: إذا ذكر الرجل بأعماله فلمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة وهي: (1) تأسيس حكومة في بلاد مصر كانت مقدمة لدخول الأجانب فيها واحتلالهم إياها. و (2) محاربة الدولة العثمانية وإظهار ضعفها للبرية. و (3) محاربة الوهابية وخضد شوكتهم وإبطال امتداد دعوتهم. وكل عمل من هذه الأعمال محل نظر الناس من بعده له، ومنهم من يعده عليه وهم الأكثرون أو المحققون. أما الأول فالمكبرون لأعماله يتوسعون فيه ما شاءوا؛ لأن المجال واسع أمامهم فيذكرون إزالة دولة المماليك الظالمة الغاشمة وهو عمل جليل، ولكنهم يستدلون بذلك على أن دولته كانت عادلة وهذا غير صحيح، فإن حكومته كانت ظالمة منذ أسست إلى أن تولى الأوربيون السيطرة عليها فكان الظلم يقل كلما كثروا والبغي يضعف كلما قوي نفوذهم ولكن الحسن في إزالة دولة المماليك من وجهين: أحدهما: أن الظلم كان مشوشًا وحكومة محمد علي وأبنائه نظمته وكان متفرقًا فوحدته وكان غير محصور فحصرته. وثانيهما: أن نتيجة هذا النظام وهذه الوحدة هي تمهيد السبيل لدخول مدنية أوروبا في مصر والأعمال إنما تمدح وتذم بنتائجها وغاياتها والعاملون إنما يمدحون بحسن القصد والنية وبإتقان العمل، فأما محمد علي فقد أتقن عمله ولكن قصده لا يحمد في نظر الدين ولا في نظر الفضيلة وإنما يحمد في نظر متاع الحياة وزينتها؛ لأن سيرته الملطخة بالدماء المحترمة تدل على أنه لم يكن يقصد غير الملك وعظمته له ولذريته من بعده. وأما نتيجة عمله - فهي كما قلنا - دخول الأوربيين هذه البلاد ونشر مدنيتهم فيها وإلقاء سيطرتهم عليها بالاحتلال الإنكليزي، فمن يرى أن هذا خير وسيلة لنجاح البلاد وسعادتها فعليه أن يحمد عمل محمد علي وآل بيته مهما ظلموا في الأموال والأعراض؛ لأن الإصلاح الكبير لا يأتي إلا ببذل الثمن الكثير، ومن يقول: إن مدنية أوروبا شر على البلاد وأن الإصلاح الإنكليزي بلاء عليها ووبال، فليحكم على عمل محمد علي وذريته بالإفساد وليحفظ له سوء الذكر إلى يوم التناد. وأما العمل الثاني وهو الخروج على الدولة العثمانية ومحاربتها وقهرها وإظهار ضعفها، فلو سألت عنه أي مسلم في أي قطر لأجابك بأنه كان أضر عمل عمله إنسان على الإسلام والمسلمين؛ لأنه في ذاته خروج والٍ على موليه وسلطانه وتلك أكبر الخيانات، وأقبح الجنايات في الشرائع الإلهية، وفي القوانين البشرية. وفي نتيجته إضعاف وقهر لأقوى دولة إسلامية، في عصر قويت فيه الدول الأجنبية، فضعف بذلك الإسلام، ولم تقم لأهله قائمة بعد ذلك إلى الآن، ولكنك لا تعدم ثلاثة نفر أو ثلاثين من الثلاثمائة المليون المسلمين يعتذر عن عمله أو يعده فضيلة ومحمدة. فأشد هؤلاء المدافعين أَفَنًا في الرأي وصغارًا في النفس من يقول: إن الدولة العلية لم تكن مرتاحة لاستقلاله، فكانت تدس الدسائس لزلزاله؛ أي: إنه انتقم لنفسه من دولته، وحاربها لتمكين سطلته، ومن الناس من يقول: إن تلك الحرب كانت بمواطأة بين محمد علي ورجال الدولة العلية في الأستانة وأنهم هم الذين مكنوا له في أرض مصر ليخرج على الدولة، وأنه كان غرضهم الأخذ على يد السلطان محمود وتخفيف سلطته الاستبدادية ومنعه من سفك الدماء، وعزل العمال والوزراء بمجرد الهوى. وأما العمل الثالث وهو محاربة الوهابية فأكثر العامة أو كلهم يعتقدون أنه كان خدمة للإسلام، كفرت عن محمد علي جميع الذنوب والآثام، أما الخواص فإنهم يعلمون أن الوهابية كانوا قائمين بإصلاح إسلامي لو تم لعاد للإسلام مجده الأول وأن الذين وسوسوا لمحمد علي بمحاربتهم هم الأوربيون الذين ينظرون إلى غايات الأمور وعواقبها كما هو مصرح به في بعض تواريخهم، وأما ما شاع في بلاد الشام والحجاز من أن الوهابية خارجون عن السنة وملحقون بأهل البدعة فسببه بعض المصنفات التي لفقها العلماء الرسميون المصانعون للحكام وهي مملوءة بالأكاذيب، وإنما مذهب القوم مذهب السلف في العقائد مذهب الإمام أحمد في الفروع ولهم تشديد عظيم على مخالف السنة. هذا هو اعتقاد الخواص، وهم يقولون: إن هذا العمل الثالث هو أكبر سيئات محمد علي وأنه به وبما سبقه كان أكبر بلاء على الإسلام والمسلمين في القرن الماضي. * * * (مكتوب عالم هندي من أركان النهضة الإسلامية) كتب إلينا العلامة العامل، والسري الكامل، محسن الملك بهادر سيد مهدي علي خان ناظم مدرسة العلوم (في على كده) وكان انقطع المنار عنه؛ لأن جزءًا ردّ إلينا مما أرسل إليه لخطأ في عنوانه فتوهمنا أنه هو الذي ردّه فمنعناه فكتب إلينا يقول بعد رسوم المخاطبة ما نصه: (كانت ترد علينا في الأعوام الخالية مجلتكم الغراء وكنا نقرأها بشغف وفرحة لا مزيد عليهما، ونستفيد من مقالاتها الصافية العلمية الدينية الإسلامية في الرد على المنكرات والبدع والتعاليم الفاسدة التي انتشرت بين المسلمين انتشارًا عامًّا، ويسرُّنا ما لاح لنا من تآلف الأذواق وتوارد الخواطر بيننا وبينكم فإننا أيضًا قد بذلنا جهدنا منذ عشرين عامًا في إيقاظ المسلمين من نوم الغفلة التي غرقوا فيها حتى أضاعوا كل ما كان في أيديهم من العلوم والفنون والحكم والصنائع واتخذوا دينهم هزؤًا ولعبًا، فأصبحوا كأنهم قوم لا يعقلون. فأخذنا ندعوهم إلى الانتباه من منامهم الذي سبب امتهانهم لأجل تأخرهم عن الأقوام الذين كانوا شركاءهم في الوطنية بالمقالات المشتهرة في الجرائد والمجلات، والخطبات والتصنيفات والتأليفات، لتنبيههم واستنهاض هممهم على الأعمال النافعة، كتحصيل العلم حسب مقتضيات الزمان وتعلم اللغة الإنكليزية (في الأصل اللسان) التي هي لغة حكامنا العادلين مع الإقبال على تحصيل العلوم الجديدة المغربية، والنظر في شئون حياتهم الاجتماعية وأمورهم الدينية والالتفات إلى إصلاحهم من كل الوجوه. ولكننا نقول بأسف زائد: إن جميع مؤلفاتنا ومصنفاتنا ورشحات أقلامنا كلها في لغتنا الأوردية، (وفي الأصل لساننا) التي لا تكاد تفهم في البلاد الأجنبية، وإلا كان بودي أن نرسل إليكم بعض مؤلفاتنا. أما الآن فالمرجو من حضرتكم أن تفضلوا وتراسلوا بإرسال مجلتكم الغراء ولا تقطعوا عنا إرسالها. ونثني ثناء جميلاً على غيرتكم الدينية وشغفكم بالاجتهاد في إصلاح حال المسلمين وإرجاع مجدهم وحثهم على أسباب التقدم الملية والقومية. وقد سرني ما شاهدت في مجلتكم من المقالات البديعة البالغة حد الإعجاز، المطابقة لذوقي تمامًا وكمالاً. فبهذا تعرفون ما يناسب ذوقي من الكتب؛ لأن ما وجدتم أنه تلذكم مطالعته فلا بد من أنه يلذني أيضًا، فالرجاء أن ترسلوا إلينا من أمثال تلك الكتب، منها مصنفات حضرتكم ومصنفات حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده المصري صاحب رسالة التوحيد وغير ذلك من الكتب المفيدة ... إلخ. فنشكر لهذا الأستاذ حسن ظنه ونسأل الله أن يوفقنا جميعًأ لما يرضاه.

القضاء في الإسلام ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القضاء في الإسلام (ننشر في هذا الباب ما يعرف به المسلمون أصل مدنيتهم ومنشأ سعادتهم التي ذهبت بتركه) النبذة الرابعة ما به القضاء: (تمهيد) أركان القضاء وأصول الحكم في الإسلام أربعة: الكتاب العزيز والسنة المتبعة، والاجتهاد في الرأي، والمشاورة في الأمر، وإنها لأركان عظيمة، وأصول قويمة، والأساس الذي بنيت عليه هذه الأركان (درء المفاسد وجلب المصالح والمنافع) ولهذا كان الاجتهاد شرطًا في القاضي لوجوب تطبيق الأحكام على المنفعة في كل زمان ومكان بحسبه. فمن يدّعي أنه وجد في أمة من الأمم أساسًا أثبت من هذا الأساس وأركانًا أقوى من هذه الأركان فليدلنا على ذلك؛ وإلا فليذعن لنا الناس بأن شريعتنا خير الشرائع وأساس العمران ولا يحتج علينا بسوء حال قومنا الذين ما رَعَوها حق رعايتها في زمان ولا مكان، أما الأخبار والآثار الدالة على ما ادعيناه فهذا بعضها: (الحديث 25) [1] عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له لما بعثه إلى اليمن: (كيف تقضي؟) قال: أقضي بكتاب الله قال: (فإن لم تجد في كتاب الله؟) قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فإن لم تجد في سنة رسول الله؟) قال: أجتهد رأيي ولا آلو أي: لا أقصر، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: (الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى به رسول الله) . فهذا دليل على أن القاضي مفوض إليه تحري الحق في الأقضية والاجتهاد لاستبانة العدل المطلوب في الكتاب والسنة وذلك بعد اختياره من أهل الكفاءة الذين استوفوا الشروط التي نوهنا بها من قبل، وقد اتبع هذه الطريقة الانكليز في هذا العصر، فالعمدة في الأحكام اجتهاد القاضي العادل. (ح 26) [2] عن عمرو بن العاص وأبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران) والذي يصيبه الحاكم أو يخطئه هو الحق وإصابة الحق هي العدل، ومتى تحرى الحاكم العدل ولم يتعمد الميل إلى أحد الخصمين يظهر له الحق في الغالب فإذا تعمد الجور اختلط عليه الأمر وكان مخذولاً في الدنيا والآخرة. يدل على ذلك الحديث الآتي وهو: (ح 27) [3] عن واثلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مسلم ولي من أمر المسلمين شيئًا إلا بعث الله إليه ملكين يسددانه ما نوى الحق، فإذا نوى الجور على عمد وَكَلاه إلى نفسه) ويظهر من النصوص الواردة في الحق والعدل أن مراد الشرع منهما هو ما يعرفه الناس بالفطرة السليمة والعقل وإنما شُرعت الأحكام ووضعت القواعد لتهدي الحاكم إلى طريق الوصول إلى الحق الذي يتعمد الظالمون إخفاءه. (ح 28) [4] عن علي - كرم الله وجهه - قال: قلت: يا رسول الله إذا بعثتني في شيء أكون كالسُّكة المحماة أم الشاهد يرى ما لا يراه الغائب؟ قال: (بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب) وهذا دليل على أن مراعاة المصالح والمنافع هي الأصل في القضاء؛ لأن الأحكام القضائية ليست من الأمور التعبدية، وإنما هي وسائل لمعرفة الحقوق وإعطاء كل ذي حق حقه، ولذلك لا يحل لمن حُكم له بشيء يعلم أنه ليس له أن يأخذه وإن كان القاضي هو الرسول عليه الصلاة والسلام كما يُعلم من الحديث الآتي وهو: (ح 29) [5] عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إليَّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار) ، والألحن بالحجة: هو الأبلغ قولاً والأفصح عبارة. وبقي من أركان الحكم المشاورة، ولا أعرف فيها حديثًا مرفوعًا يتعلق بالقضاء وحسبنا الأمر العام بها في القرآن وستأتي شواهدها في آثار السلف. (ح 30) [6] عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماءَ رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المُدَّعَى عليه) قال النووي في شرح مسلم: وفي رواية البيهقي بإسناد حسن أو صحيح، زيادة عن ابن عباس مرفوعًا (لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر) . (ح 31) [7] عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (البينة على المُدّعِي واليمين على المُدَّعَىَ عليه) . (ح 32) [8] عن وائل بن حجرة قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت لأبي، قال الكندي: هي أرض في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: (ألك بينة؟) قال: لا. قال: (فلك يمينه) فقال: يا رسول الله! الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر الرجل: (أما لئن حلف على مالٍ لِيأكله ظلمًا لَيلقينّ الله وهو عنه معرض) . قال الإمام الحافظ الفقيه ابن القيم الجوزية في كتابه (إعلام الموقعين) ما نصه: البينة في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة اسم لكل ما يبين الحق فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمن. لا حَجْر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص. ونذكر من ذلك مثلاًُ واحدًا -وهو ما نحن فيه - لفظ (البينة) فإنها في كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَات} (الحديد: 25) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ} (النحل: 43-44) وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: 4) وقال: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} (الأنعام: 57) وقال: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّه} (هود: 17) وقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْه} (فاطر: 40) [9] وقال: {أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: 133) وهذا كثير لم يختص به لفظ البينة بالشاهدين بل ولا استعمل في الكتاب فيها ألبتة. إذا عرف هذا فقول النبي صلى الله عليه وسلم للمدعي (ألك بينة؟) وقول عمر: البينة على المدعي، وإن كان هذا قد روي مرفوعًا المراد به ألك ما يبين الحق من شهود أو دلالة؟ فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له ولا يردّ حقًا قد ظهر بدليله أبدًا فيضيع حقوق الله وعباده ويعطلها. ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحًا لا يمكن جحده ودفعه، كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على رأسه عمامة وبيده عمامة، وآخر مكشوف الرأس يعدو أثره ولا عادة له بكشف رأسه. فبينة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدق المدعي أضعاف ما يفيد مجرد اليد عند كل أحد، فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة ويضيع حقًا يعلم كل أحد ظهوره وحجته. بل لما ظن هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين وصار الظالم الفاجر ممكَّنًا من ظلمه وفجوره فيفعل ما يريد ويقول لا يقوم عليَّ بذلك شاهدان اثنان. فضاعت حقوق كثيرة لله ولعباده وحينئذ أخر الله أمر الحكم العام عن أيديهم وأدخل فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويضيع به أخرى ويحصل به العدوان تارة والعدل أخرى، ولو عرف ما جاء به الرسول على وجهه؛ لكان فيه تمام المصلحة المغنية عن التفريط والعدوان. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى نصاب الشهادة في القرآن في خمسة مواضع فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة في سورة النساء وسورة النور، وأما في غير الزنا فذكر شهادة الرجلين والرجل والمرأتين في الأموال فقال في آية الديْن {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان} (البقرة: 282) فهذا في الحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حقه لا في طريق الحكم وما يحكم به الحاكم فإن هذا شيء وهذا شيء. وأمر في الرجعة بشاهدين عدلين وأمر في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم، وغير المؤمنين: هم الكبار، والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على وصية (المسلم) في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين وقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده ولم يجئ بعدها ما ينسخها فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً وليس فيها منسوخ وليس لهذه الآية معارض ألبتة، ولا يصح أن يكون المراد بقول: (من غيركم) من غير قبيلتكم فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله: (من غيركم) أيتها القبيلة. والنبي صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية، بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه من بعده. (وهو سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلا بذلك. فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين ولا بالنكول ولا باليمين المردودة ولا بأيْمان القَسامة ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه) . اهـ المراد منه، وذكر بعده ما اتفقوا عليه من الشهادات وما اختلفوا فيه. *** (آثار السلف عبرة للخلف) قضاء الخليفتين (1) روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران أنه قال: (كان أبو بكر إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة فإن علمها قضى بها، فإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال أتانى كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجد في ذلك شيئًا فهل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا نعم قضى فيه بكذا وكذا؛ فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول عند ذلك: الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا. وإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به. وأن عمر ابن الخطاب كان يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن أو السنة شيئًا دعا رءوس المسلمين وعلماءهم واستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى بينهم) وإنما كان يرجع إلى أقضية أبي بكر؛ لأنها مبنية على ما ذكر فربما ذَكَّرَتْه بدليل كان عنه ذاهلاً. ولينظر في سؤال مثل أبي بكر رضي الله عنه عن قضاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وكون الصحابة كانوا يخبرونه بما لا يعرفه منها فإنه حجة على الجاهلين الذين كانوا يزعمون أن ملقديهم كانوا محيطين بالسنة لا يغيب عنهم منها شيء. وقد ورد بمعنى هذا الأثر آثار أخرى. وفي المحاكم الآن ضرب عن المشاورة. (2) روى البيهقي عن ابن سيرين أنه قال: إن كان عمر بن الخطاب لَيستشير في الأمر حتى إن كان ليستشير المرأة فربما أبصر في قولها الشيء يستحسنه فيأخذ به. وفي هذا الأثر من الفقه تكريم النساء

آثار محمد علي في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار محمد علي في مصر لغط الناس هذه الأيام في محمد علي وما له من الآثار في مصر وأهلها وأكثرت الجرائد من الخوض في ذلك والله أعلم ماذا بعث المادح على الإطراء، وماذا حمل القادح على الهجاء غير أنه لم يبحث باحث في حالة مصر التي وجدها عليها محمد علي وما كانت تصير بالبلاد إليه لو بقيت. وما نشأ عن محوها واستبدال غيرها بها على يد محمد علي. أذكر الآن شيئًا في ذلك ينتفع به من عساه ينتفع، ويندفع به من الوهم ما ربما يندفع، كانت حكومة البلاد المصرية قبل دخول الجيش الفرنساوى فيها من أنواع الحكومات التي كانت تسمى في اصطلاح الغربيين حكومات الأشراف وتسمى في عرف المصريين حكومات الالتزام وتعرف عند الخاصة بحكومات الإقطاع , وأساس هذا النوع من الحكومة تقسيم البلاد بين جماعة من الأمراء يملك كل أمير منهم قسمًا يتصرف في أرضه وقوى ساكنيها وأبدانهم وأموالهم كما يريد فهو حاكمهم السياسي والإداري والقضائي وسيدهم المالك لرقابهم. ومن طبيعة هذا النوع من الحكومة أن تنمو فيه الأثرة وتغلط فيه أصول الاستبداد وفروعه وتنزع نفس كل أمير إلى توسيع دائرة ملكه بالاستيلاء على ما في يد جاره من الأمراء. فكان من مقتضى الطبيعة أن كل أمير لا ينفك عن التدبير والتفكير فيما تعظم فيه شوكته، وما يدفع به عن حوزته، وأن يكون الجميع دائمًا في استعداد إما للوثوب وإما للدفاع. ولكن الأمراء في مجموعتهم كانوا يقاومون سلطة الملوك فيضطر الملك لاستمالتهم ومجابهة بعضهم للاستعانة به على البعض الآخر فضعف بذلك استبداد الملوك فيهم حاجة الأمراء إلى المال كانت تسوقهم إلى ظلم رعاياهم وكانت شدة الظلم تميل برعاياهم إلى خذلانهم عند هجوم العدو عليهم. ظهر ذلك في خصوماتهم المرة بعد المرة فاضطر الأمراء أن يخففوا من ظلمهم وأن يتخذوا لهم من الأهلين أنصارًا يضبطون عند قيام الحرب بينهم وبين خصومهم. أحسَّ الأهلون بحاجة الأمراء إليهم فزادوا في الدالة على الأمراء واضطروهم إلى قبول مطالبهم فعظمت قوة الإرادة عند أولئك الذين كانوا عبيدًا بمقتضى الحكومة وانتهى بهم الأمر أن قيدوا الأمراء والملوك معًا ولم يكن ذلك في يوم أو عام، ولكنه في عدة قرون كما هو معروف عند أهل المعرفة. نعم كانت الحكومة في مصر على نوع تخالف به جميع الحكومات المشرقية وكانت البلاد متوزعة بين عدة أمراء كل منهم يستغل قسمًا منها ويتصرف فيه كما يهوى، وكان كل يطلب من القوة ما يسمح له يده إلى ما في يد الآخر أو يدفع به صولته فالخصام كان دأبهم والحرب كانت أهم عملهم. لذلك كان كل منهم يستكثر من المماليك ما استطاع ليعد منهم جنده ولكن كانت تعوزه مؤنتهم إذا كثروا فاضطروا إلى اتخاذ أعوان من أهالي البلاد فوجدوا من العرب أحزابًا كما وجدوا منهم خصومًا. ثم رجعوا إلى سكان القرى فوجدوا فيهم ما يحتاجون إليه فاتخذوا بيوتًا منها أنصارًا لهم عند الحاجة وعرف هؤلاء حاجة الأمراء إليهم فارتفعوا في أعينهم وصار لهم من الأمر مثل ما لهم أو ما يقرب من ذلك. لهذا كنت ترى في البلاد بيوتًا كبيرة لها رؤساء يعظم نفوذهم ويعلو جاههم. ذلك كان يقضي على كل أمير من أولئك الأمراء أن يصرف زمنه في التدبير واستجلاب النصير، وإعداد ما يستطيع من قوة لحفظ ما في يده والتمكن من إخضاع غيره، أنصاره من الأهالي كانوا يجارونه في ذلك خوفًا من تعدي أعوان خصمه عليهم فوقعت القسمة بين الأهالي ولا تزال أسماء الأقسام معرفة إلى اليوم - سعد وحرام، هذا يحدث بطبعه في النفوس شممًا وفي العزائم من قوة ويكتسب القوى البدنية والمعنوية حياة حقيقية مهما احترقت نوعها. فكانت العناصر جميعها في استعداد لأن يتكون منها جسم حي واحد يحفظ كونه ويعرف العالم بمكانته. جاء الجيش الفرنساوى والبلاد في هذه الحالة. دخل البلاد بسهولة لم يكن ينتظرها، احتل عاصمتها واستقر له السلطان فيها. لم تكن أيام قلائل حتى ظهر فيه القلق وعظمت حوله القلاقل ولم تنقطع الحروب والمناوشات ولم يهدأ لرؤساء العساكر بال. يدلك على ذلك شكوى نابليون نفسه في تقاريره التي كان يرسلها إلى حكومة الجمهورية من اصطياد العربان لعساكره من كل طريق، وسلبهم أرواحهم بكل سبيل، واضطر نابليون أن يسير في حكومة البلاد بمشورة أهلها وانتخب من أعيانها من يشركه في الرأي لتدبيرها طوعًا لحكم الطبيعة التي وجدها. قتل بعض رؤساء الجيش واضطربت عليه البلاد، وجاء الجيش العثماني وعاونه الجيش الإنكليزي وخرجت عساكر الفرنساويين من مصر، ولا أطيل الكلام فقد ظهر محمد علي بالوسائل التي هيأها له القدر. ما الذي كانت تنتظره البلاد من نوع حكومتها؟ كانت تنتظر أن يشرق نور مدنية يضيء لرؤساء الأحزاب طرقهم في سيرهم لبلوغ آمالهم، وقد كان ذلك يكون لو أمهلهم الزمان حتى يعرف كل منهم ما بلغ به غيره الغاية التي كان يقصدها في بلاد غير بلاده. وما كان بينهم وبين ذلك إلا أن يختلطوا بأهل البلاد الغريبة ويرتفع الحجاب الذي أسدله الجهل دونهم. أو كانت تنتظر أن يأتي أمير عالم بصير فيضم تلك العناصر الحية بعضه إلى بعض ويؤلف منها أمة تحكمها حكومة منها ويأخذها منها ويأخذ في تقوية مصباح العلم حتى ترتقي بحكم التدريج الطبيعي وتبلغ ما أعدته لها تلك الحياة الأولي. ما الذي صنع محمد علي؟ لم يستطع أن يحيي ولكن استطاع أن يميت. كان معظم قوة الجيش معه وكان صاحب حيلة بمقتضى الفطرة فأخذ يستعين بالجيش وبمن يستميله من الأحزاب على إعدام كل رأس من خصومه ثم يعود بقوة الجيش وبحزب آخر على من كان معه أولاً وأعانه على الخصم الزائل فيمحقه وهكذا حتى إذا سُحقت الأحزاب القوية وجه عنايته إلى رؤساء البيوت الرفيعة فلم يدَع منها رأسًا يستتر فيه ضمير (أنا) واتخذ من المحافظة على الأمن سبيلاً لجمع السلاح من الأهلين وتكرر ذلك منه مرارًا حتى فسد بأس الأهالي وزالت ملكة الشجاعة منم وأجهز على ما بقي في البلاد من حياة في أنفُس بعض أفرادها فلم يبقِ في البلاد رأسًا يعرف نفسه حتى خلعه من بدنه أو نفاه مع بقية بلده إلى السودان فهلك فيه. أخذ يرفع الأسافل ويعليهم في البلاد والقرى كأنه كان يحن لشبه فيه ورثه على أصله الكريم حتى انحط الكرام وساد اللئام ولم يُبقِ في البلاد إلا آلات له يستعملهافي جباية الأموال وجمع العساكر بأية طريقة وعلى أي وجه فمحق بذلك جميع عناصر الحياة الطبيعية من رأي وعزيمة واستقلال نفس ليصيّر البلاد المصرية جميعها إقطاعًا واحدًا له ولأولاده على أثر إقطاعات كثيرة كانت لأمراء عدة. ماذا صنع بعد ذلك؟ اشرأبت نفسه لأنْ يكون ملكًا غير تابع للسلطان العثماني فجعل من العُدة لذلك أن يستعين بالأجانب من الأوربيين فأوسع لهم في المجاملة وزاد لهم في الامتياز خارجًا عن حدود المعاهدات المنعقدة بينهم وبين الدولة العثمانية صار كل صعلوك منهم لا يملك قوت يومه ملكًا من الملوك في بلادنا يفعل ما يشاء ولا يُسأل عما فعل. وصغرت نفوس الأهالي بين أيدي الأجانب بقوة الحاكم وتمتع الأجنبي بحقوق الوطني التي حُرم منها وانقلب الوطني غريبًا في داره، غير مطمئن في قراره، فاجتمع على سكان البلاد المصرية ذلان: ذل ضربته الحكومة الاستبدادية المطلقة، وذل سامهم الأجنبي إياه ليصل إلى ما يريده منهم غير واقف عند حد أو مردود إلى شريعة. قالوا: إنه طلع نجم العلم في سماء البلاد. نعم عني بالطب لأجل الجيش والكشف على المجني عليهم في بعض الأحيان عندما يراد إيقاع الظلم بمتهم. وبالهندسة لأجل حتى يدبر مياه النيل بعض التدبير، ليستغل إقطاعه الكبير. هل تَفكر يومًا في إصلاح اللغة عربية أو تركية أو أرنؤدية؟ هل تفكر في بناء التربية على قاعدة من الدين أو الأدب؟ هل خطر في باله أن يجعل للأهالي رأيًا في الحكومة في عاصمة البلاد أو أمهات الأقاليم؟ هل توجهت نفسه لوضع حكومة قانونية منظمة يقام بها الشرع ويستقر العدل؟ لم يكن شيء من ذلك بل كان رجال الحكومة إما من الأرنؤد أو الجراكسة أو الأرمن المورلية أو ما أشبه هذه الأوشاب، وهم الذين يسميهم بعض الأحداث من أنصاره اليوم دُخلاء. وكانوا يحكمون بما يهوون لا يرجعون إلى شريعة ولا قانون، وإنما يبتغون مرضاة الأمير صاحب الإقطاع الكبير. أين البيوت المصرية التي أقيمت في عهده على قواعد التربية الحسنة؟ أين البيوت المصرية التي كانت لها القَدَم السابقة في إدارة حكومته أو سياستها أو سياسة جندها مع كثرة ما كان في مصر من البيوت الرفيعة العماد الثابتة الأوتاد. أرسل جماعة من طلاب العلم إلى أوربا ليتعلموا فيها. فهل أطلق لهم الحرية أن يبثوا في البلاد ما استفادوا؟ كلا ولكنه استعملهم آلات تصنع له ما يريد وليس لها إرادة فيما تصنع. وُجد بعض الأطباء الممتازين وهم قليل، ووجد بعض المهندسين الماهرين وليسوا بكثير، والسبب في ذلك أن محمد علي ومن معه لم يكن فيهم طبيب ولا مهندس فاحتاجوا إلى بعض المصريين ولم يكن أحد من الأعوان مسلطًا على المهندس عند رسم ما يلزم من الأعمال ولا على الطبيب عند تركيب أجزاء العلاج فظهر أثر استقلال الإرادة في الصناعة عند أولئك النفر القليل من النابغين، وكان ذلك مما لا تخشى عاقبته على المستبدين. هل كانت له مدرسة لتعليم الفنون الحربية؟ أين هي؟ وأين الذين نبغوا من طلابها؟ فإن وُجد أحد نابغ، فهل هو من المصريين؟ عدوا إن شئتم أحياءً أو أمواتًا. وجد كثير من الكتب المترجمة في فنون شتى من التاريخ والفلسفة والأدب ولكن هذه الكتب أودعت في المخازن من يوم طبعت وغلقت عليها الأبواب إلى أواخر عهد إسماعيل باشا فأرادت الحكومة تفريغ المخازن منها، وتخفيف ثقلها عنها، فنثرتها بين الناس فتناول منها من تناول، وهذا يدلنا على أنها ترجمت برغبة بعض الرؤساء من الأوربيين الذين أرادوا نشر آدابهم في البلاد لكنهم لم ينجحوا؛ لأن حكومة محمد علي لم توجد في البلاد قراء ولا منتفعين بتلك الكتب والفنون. كانوا يختطفون تلامذة المدارس من الطرق وأفناء القرى (الأفناء: الناس ... المجهولون) كما يختطفون عساكر الجيش، فهل هذا مما يحبب القوم في العلم ويرغبهم في إرسال أولادهم إلى المدارس؟ لا بل كان يخوفهم من المدرسة كما كان يخيفهم من الجيش. حمل الأهالي على الزراعة ولكن ليأخذ الغلات، ولذلك كانوا يهربون من ملك الأطيان كما يهرب غيرهم من الهواء الأصفر، والموت الأحمر. وقوانين الحكومة لذلك العهد تشهد بذلك. يقولون: إنه أنشأ المعامل والمصانع! ولكن هل حبب إلى المصريين العمل والصنعة حتى يستبقوا تلك المعامل من أنفسهم؟ وهل أوجد أساتذة يحفظون علوم الصنعة وينشرونها في البلاد؟ أين هي؟ ومن كانوا؟ وأين آثارهم؟ لا بل بغّض إلى المصريين العمل والصنعة بتخسيرهم في العمل والاستبداد بثمرته فكانوا يتربصون يومًا لا يعاقبون فيه على هجر المعمل والمصنع لينصرفوا عنه ساخطين عليه، لاعنين الساعة التي جاءت بهم إليه. يقولون: إنه أنشأ جيشًا كبيرًا فتح به الممالك ودوخ به الملوك وأنشأ أسطولاً ضخمًا تُثقل به ظهور البحار، وتفتخر به مصر على سائر الأمصار. فهل علَّم المصريين حب التجنيد، وأنشأ فيهم الرغبة في الفتح والغلب وحبب إليهم الخدمة في الجندية وعلمهم الافتخار بها؟ لا بل علمهم الهروب منها وعلم آباء الشبان وأمهات

الاجتماع الثالث لجمعية أم القرى ـ تتمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بقية الاجتماع الثالث لجمعية أم القرى (المنعقد في مكة المكرمة في 18 ذي القعدة سنة 316) أجاب (السعيد الإنكليزي) إن المسلمين من حيث مجموعهم أغنياء لا يعوزهم المال اللازم للتدرج في العلوم حتى للسياحات البحرية والقطبية؛ لأن فريضة الزكاة على مالكي النصاب والكفارات المالية جاعلة لفقراء الأمة وبعض الشؤون العمومية نصيبًا غير قليل من مال الأغنياء، إذا عاش المسلمون مسلمين حقيقة أمنوا الفقر، وعاشوا عيشة الاشتراك العمومي المنتظم التي يتمنى ما هو من نوعها أغلب العالم المتمدن الإفرنجي الذين لم يهتدوا بعد لطريقة نيلها مع أنه تسعى وراء ذلك منهم جمعيات وعصبيات مكونة من ملايين باسم (كومون وفنيان ونيهلست وسوسيالست) كلها تطلب التساوي أو التقارب في الحقوق والحالة المعاشية، ذلك التساوي والتقارب المقررين في الشريعة الإسلامية دينًا بوسيلة أنواع الزكاة والكفارات، ولكن تعطيل إيتاء الزكاة وإيتاء الكفارات سبب بعض الفتور المبحوث فيه، كما سبب إهمال الزكاة فقد الثمرات العظيمة، من معرفة المسلم ميزانية ثروته سنويًّا فيوفق نفقاته على نسبة ثروته ودخله ولا شك أن الواحد من الأربعين يفي أن يبذل لأجل هذه الثمرة وحدها، والشريعة الإسلامية هي أول شريعة ساقت الناس والحكومات لأصول الميزانية المؤسس عليه فن الاقتصاد المالي الأفرادي والسياسي. ويخيل إليَّ أن سبب هذا الفتور الذي أخلَّ حتى بالدين هو فقد الاجتماعات والمفاوضات، وذلك أن المسلمين في القرون الأخيرة قد نسوا بالكلية حكمة تشريع الجماعة والجمعية وجمعية الحج، وترك خطباؤهم ووعاظهم خوفًا من الأمراء التعرض للشئون العامة كما أن علماءهم صاروا يسترون جبنهم بجعلهم التحدث في الأمور العامة والخوض فيها من الفضول والاشتغال بما لا يعني وعدهم إتيان ذلك في الجوامع من اللغو الذي لا يجوز وربما اعتبروه من الغيبة أو التجسس أو السعي بالفساد؛ فسرى ذلك إلى أفراد الأمة وصار كل شخص لا يهتم إلا بخويصة نفسه وحفظ حياته في يومه كأنه خلق أمة وحده وسيموت غدًا وهكذا صار المسلم جاهلاً أن له حقوقًا على الجامعة الإسلامية والجامعة البشرية وأن لهما عليه مثلها ذاهلاً عن أنه مدني بالطبع لا يعيش إلا بالاشتراك ناسيًا أو هاجرًا أوامر الكتاب والسنة له بذلك (مرحى) . ثم بتوالي القرون والبطون على هذه الحال تأصل في الأمة فقد الإحساس إلى درجة أنه لو خربت هذه الكعبة - والعياذ بالله تعالى - لما تقطبت الحياة أكثر من لحظة، ولا أقول لما زاد تلاطم الناس على سبعة أيام كما ورد في الأثر؛ لأن المراد بأولئك الناس أهل ذاك الزمان. وإذا دققنا النظر فى حالة الأمم الحية المعاصرة وهى ليس عندها ما عندنا من الوسائل الشريفة للاجتماع والمفاوضات نجدهم قد احتالوا للاجتماعات ولاسترعاء السمع وتوجيه النظر بوسائل شتى. (1) منها تخصيصهم يومًا في الأسبوع للبطالة والتفرغ من الأشغال الخاصة لتحصل بين الناس الاجتماعات وتنعقد الندوات فيتباثُّون ويتناجون. (2) ومنها تخصيصهم أيامًا يتفرغون فيها للمذاكرة في مهمات الأعمال لأعاظم رجالهم الماضين تشويقًا للتمثل بهم. (3) ومنها إعدادهم في مدنهم ساحات ومنتديات تسهيلاً للاجتماع والمذاكرات وإلقاء الخطب وإبداء التظاهرات. (4) ومنها إيجادهم المنتزهات الزاهية العمومية وإجراء الاحتفالات الرسمية والمهرجانات بقصد السوق للاجتماعات. (5) ومنها إيجادهم محلات التشخيص المعروف (الكوميديا) و (التياترو) بقصد إراءة العبر واسترعاء السمع للحكم والوقائع، ولو ضمن أنواع من الخلاعة اتخذت شباكًا لمقاصد الجمع والإسماع ويعتبرون أن نفعها أكبر من ضرر الخلاعة. (6) ومنها اعتناؤهم غاية الاعتناء بتعميم معرفة تواريخهم الملية المفصلة المدمجة بالعلل والأسباب تمكينًا لحب الجنسية. (7) ومنها حرصهم على حفظ العاديّات المنبهة وادخار الآثار القديمة المنوهة واقتناء النفائس المشعرة بالمفاخر. (8) ومنها إقامتهم النُّصُب المفكرة بما نصبت له من مهمات الوقائع القديمة. (9) ومنها نشرهم في الجرائد اليومية كل الوقائع والمطالعات الفكرية. (10) ومنها بثهم في الأغاني والنشائد الحكم والحماسات إلى غير ذلك من الوسائل التي تنشئ في القوم نشأة حياة اجتماعية وتولد في الرءوس حمية وحماسة وفي النفوس سموًّا ونشاطًا. أما المسلمون فإنهم كما سبق بيانه أهملوا استعمال تلك الوسائل الشريفة المؤسسة عندهم للشورى والمفاوضات والتناصح والتداعي، أعني بذلك الجماعة والجمعية وجمعية الحج حتى كأن الشارع لم يقصد منها غير أداء الفريضة فقط بصورة تعبدية بسيطة، والحال أن حِكمة الشارع أبلغ من ذلك، وعندي أن هذا أعظم أسباب الفتور (مرحى) . فأجابه (الإمام الصيني) إن هذا أشبه بالعوارض منه بالأسباب، فهو أليق بأن يكون دواء للداء ونحن مهتمون ابتداءً بمعرفة سبب الفتور. ثم قال: إني أرى أن السبب الأكبر للفتور هو تكبر الأمراء وميلهم للعلماء المتملقين المنافقين الذين يتصاغرون لديهم ويتذللون لهم ويحرفون أحكام الدين ليوفقوا بينها وبين أهوائهم، فماذا يُرجى من علماء يشترون بدينهم دنياهم ويُقَبِّلُون يد الأمير ليُقَبّل العامة أيديهم ويحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على ألوف من الضعفاء، أكبر همهم التحاسد والتباغض والتجادل والتفاضل لا يُحْسِنُون أمرًا من الأمور حتى الخصومة؛ فتراهم لا يرغمون إلا بتكفير بعضهم بعضًا عند الأمراء والعامة. وهذا داء عُياء صعب المداواة جدًّا؛ لأن كِبْر الأمراء يمنعهم من الميل إلى العلماء العاملين الذين فيهم نوع غلظة لا بد منها ونعمًا هي مزية لولاها لفقد الدين بالكلية (مرحى) . فلا شك أن أفضل الجهاد في الله في هذا الزمان الحط من قدر العلماء المنافقين عند العامة وتحويل وجهتهم لاحترام العلماء العاملين حتى إذا رأى الأمراء انقياد الناس لهؤلاء أقبلوا عليهم أيضًا رغم أنوفهم وأذعنوا لهم طوعًا أو كرهًا على أنه يجب على حكماء الأمة المجاهدين في الله أن يعتنوا بالوسائل اللينة لتثقيف عقول العلماء العاملين؛ لأن العِلم رافع للجهل فقط ولا يفيد عقلاً ولا كياسة فيلزم تعليمهم وتعريفهم كيف تكون سياسة الدين وهكذا يفعل الحكماء عندنا، معاشر إسلام الصين ولا تفقد أية بلدة كانت رجالاً حكماء نبلاء يمتازون طبعًا على العامة، لهم نوع من الولاء حتى على العلماء. وهؤلاء الذين نسميهم عندنا بالحكماء هم الذين يطلق عليهم في الإسلام اسم أهل الحل والعقد الذين لا تنعقد (الإمامة) شرعًا إلا ببيعتهم وهم خواص الطبقة العليا في الإسلام الذي أمر الله عز شأنه نبيه بمشاورتهم في الأمر الذين لهم شرعًا حق الاحتساب والسيطرة على الإمام والعمال؛ لأنهم رءوساء الأمة ووكلاء العامة والقائمون في الحكومة الإسلامية مقام مجالس النواب والأشراف في الحكومات المطلقة كالصين وروسية ومقام شيوخ الأفخاذ في إزاء أمراء العشائر العربية، أولئك الأمراء الذين ليس لهم من الأمر غير تنفيذ ما يبرمه الشيوخ. وإذا دققنا النظر في آراء الحكومات الإسلامية من عهد الرسالة إلي الآن نجد ترقيها وانحطاطها تابعَين القوة أو ضعف احتساب أهل الحل والعقد واشتراكهم في تدبير شئون الأمة. وإذا رجعنا البصر إلى التاريخ الإسلامي نجد أن النبي عليه السلام كان أطوع المخلوقات للشورى امتثالاً لأمر ربه في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) حتى إنه ترك الخلافة لمجرد رأي الأمة. ثم كان أول الخلفاء رضي اللهعنه أشبه به حتى إنه أخذ رأي سراة الصحابة فيمن استخلف. ثم إن الخليفة الثاني اتبع أثر الأول وإن استأثر في ترتيب الشورى فيمن يخلفه ثم لما اجتهد الخليفة الثالث في مخالفة رؤساء الصحابة في بعض المهمات لم يستقم له الأمر وظهرت الفتن كما هو معلوم ثم إن معاوية رحمه الله كان قليل الاستقلال بالرأي فحسنت أيامه عما كان قبلها. وهكذا كانت دولة الأمويين تحت سيطرة أهل الحل والعقد لا سيما من سراة بني أمية فانتظمت على عهدهم الأحوال كما كان كذلك على عهد صدر العباسيين حيث كانوا مذعنين لسيطرة رؤساء بني هاشم ثم لما استبدوا في الرأي والتدبير فخالفوا أمر الله واتباع طريقة رسول الله ساءت الحال ففقدوا الملك. وهكذا عند التدقيق في كل فرع من الدول الإسلامية والحاضرة، بل في ترجمة كل فرد من الملوك والأمراء، بل في حال كل ذي عائلة أو كل إنسان فرد نجد الصلاح والفساد دائرين مع سنة الاستشارة أو الاستقلال في الرأي. فإذا تقرر هذا علمنا أن سبب الفتور العام المبحوث فيه هو استحكام الاستبداد في الأمراء عُتوًّا وتَكبرًا، وترك أهل الحل والعقد الاحتساب جهلاً وجبانة، وهذا عند بعض الأقوام المسلمين، وأما الأكثر فقد أمسوا لا علماء هداة ولا سراة أُباة بل هم فوضى في الدين والدنيا ولا بدع فيمن يكونون على مثل هذه الحال أن لا يرجى لهم دواء إلا بعناية بعض الحكماء الذين ينتخبون من أية طبقة كانت من الأمة وقد قضت سنة الله في خلقه أن لا تخلو أمة من الحكماء. فأجاب (العالم النجدي) إن شئون السياسة في الصين تختلف كثيرًا عنها في غيرها، وليس في الصين ملوك كثيرة وأمراء جبابرة كما عند غيرهم، فالحكماء في الصين آمنون من جهة أخرى لم يزل الإسلام في الصين حنيفًا خفيفًا لم يفسده التفنن والتشديد وعلى ذلك نرى الفتور شاملهم أيضًا، ونحن الآن نبحث عن السبب العام لهذا الدواء وليس كل السبب أحوال الأمراء والعلماء. ثم قال: إني أجزم ولا أقول أظن أو إخال أن سبب الفتور الطارئ الملازم لجماعة هذا الدين هو هذا الدين الحاضر ذاته ولا برهان أعظم من الملازمة وما جاء الخفاء من شدة الوضوح، فهل بقي من شك بعد هذه الأبحاث التي سِيقت في جمعيتنا ولا سيما ما بينه المحقق المدني في أن الدين الموجود الآن بالنظر إلى ما ندين به لا بالنظر إلى ما نقرره وباعتبار ما نفعله لا باعتباره ما نقوله ليس هو الدين الذي تميزت به أسلافنا متين من السنين على العالمين كلا بل طرأت على الدين طوارئ تغيير غيرت نظامه. وذلك أن الخلف تركوا أشياء من أحكامه كإعداد القوة بالعلم والجهاد في الدين والأمر بالمعروف وإزالة المنكر وإقامة الحدود وإيتاء الزكاة وغير ذلك مما أوضحه الإخوان الكرام، وزاد المتأخرون بدعًا وتقليدات وخرافات ليست منه كشيوع عبادة القبور والتسليم لمدعي والتصرف في المقدور. وهذه الطوارئ من تغييرات أو متروكات أو مزيدات أكثرها يتعلق بأصول الدين وبعضها بأصل الأصول؛ أعني التوحيد، وكفى بأن يكون ذلك سببًا للفتور وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم} (الرعد: 11) - مرحى. ولقائل أن يقول: إن سلمنا أن الدين تغير عما كان عليه فما تأثير ذلك في الفتور العام الذي هو من شأن الحياة الدنيا، وها نحن أولاء نجد أكثر الأمم الحية التي نغبطها، قد طرأ على دينها التغيير والتبديل في الأصول والفروع ولم يؤثر ذلك فيها الفتور بل زعم كثير من حكماء تلك الأمم أنهم ما أخذوا في الترقي إلا بعد عزلهم شئون الدين عن شئون الحياة وجعلهم الدين أمرًا يتعلق بالنفس ولا علاقة له بشئون الحياة الجارية على نواميس الطبيعة. فالجواب على ذلك أنه كما ي

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر [*] تربية الذكور مع الإناث وتعليمهما معاً الشذرة الثالثة من جريدة أراسم إني لا أخشى مغبة إفراطي وإفراط هيلانه في مَيْلنا إلى تلك الصبية التي ألقتها العاصفة بين أيدينا لجواز أن يطلبها بعض ذويها يومًا ما، وكيفما كانت نتيجة هذا الميل فلا بد له هنا من إثبات أمر يتعلق بعلم تركيب الإنسان ووظائف أعضائه فأقول: كانت دولوريس لما التقطناها وآوينها إلى بيتنا محلاًّ لجميع العيوب التي توجد في نظائرها اللاتي من قبيلها وبلادها فإنها كانت مع ظرافتها مكسالاً وأناة قليلة العناية بشأنها، وإن كان لا بد من التصريح، قلت: إنها كانت كثيرة الوساخة، وكان هذا الإغفال منها لنفسها مع مقدار عظيم من التغنج والتدلل من موجبات تكدر هيلانه وحزنها، ولم ينجع في الكسر من زهوها والمطامنة من صلفها ما اتخذته لذلك من العظات وضروب التوبيخ وأنواع الإيلام الخفيفة ولِمَا كان فيها من حدة المزاج والتهيج عند مخالفتها فيما تريد كانت لا تبدي أدنى إشهاء للتعليم. أفرغت هيلانه جهدها في إيقاظ عقل هذه الحسناء ناعسة الغابة [1] من سباته، فأخفق مسعاها وبطل أثر ما استعملته من التعاويذ والطلاسم لرد هذا السحر الذي لا يدرى أي جنية خبيثة من جنيات البيرو رمتها به على ما يظهر وإن أردت أن تعلم من الذي أبطل هذا السحر فاعلم أنه (أميل) . ذلك لأن مَيْلَ (لولا) إلى أن تعجبه وأن تتحامى ضروب سخريته بها وأنواع زرايته عليها كان أشد تأثيرًا في إرادتها من جميع عظاتنا ونصائحنا. كان هذا أول سلطان (لأميل) على قلبها وهي لا خطر فيه في سنهما. من ذلك الحين وقع التنافس بينهما أما من جهته فلشدة زهوه وفخره بما له من التقدم عليها في علومه القليلة وأما من جهتها فلغيرتها ورغبتها في منازعة ذلك التقدم، والمرجو من هذا التنافس أن يعود دائمًا بفائدة على كليهما فإن درسهما مجتمعين أحسن وأتقن منه منفردين؛ لأنه إذا اعتبر (أميل) نفسه أعلم من (لولا) اجتهدت في التبريز عليه في ميدان المطالعة. أرى أن هذه الصحبة تفيدها في أخلاقها أيضًا فائدة كبرى فإن الأطفال على علم تام بما يشتركون فيه من العيوب، ولا يبقي بعضهم على بعض في تشهيرها وتعييره إياها لذلك نرى (أميل) قلما يوقر (لولا) فيما يراه فيها من النقائص، وهي أيضًا لا تقصر في أن تكيل له الصاع بمثله بدون أن يكون في هذه المشاغبات الخفيفة ما يكدر صفو مودتهما الشريفة في شيء، وكأني بقائل يقول: إن هذه المزايا بعينها توجد في معاشرة الأخ لأخته ووجودهما معًا! فأجيبه بأني في شك من ذلك لعدم تمام الشبه في الجهتين. زرت فيما مضى مدرسة للصم البكم كانت تنقسم في أول نشأتها إلى قسمين: أحدهما للذكور والآخر للإناث فلم تلبث التجربة أن كشفت عيوب هذا التقسيم فإن الصبايا اللاتي كن مقصورات في قسمهن كان يبدو عليهن التأخر عن الغلمان سنة أو سنتين ولم يكن الغلمان أنفسهم بارعين في التقدم والنجاح فخطر في بال القائمين على المدرسة أن يجمعوا الفريقين في غرف واحدة فكانت نتيجة هذا التغيير محمودة فإنه لم يمضِ إلا يسير من الزمن حتى زال تأخر أحد الفريقين وانحطاطه عن الآخر وتقدم الآخر تقدمًا لا نزاع فيه، ذلك لأن العُجب الذي هو خلق فطري في الذكر والأنثى والطمع الذي هاجه في نفوس الغلمان وجود منافسات زاهيات بأنفسهن بينهم واهتمامهم بأن يظهروا في أعينهن ممتازين عنهن كل ذلك ساعد من الجهتين على ازدياد درجة معارفهم في دروسهم مع أنهم كانوا هم التلامذة الأولين لم يتغيروا وإنما ظهر أن قواهم تضاعفت. لماذا لا يصح في حق الناطقين والناطقات ما صح في حق الصم والبكم. إنما يعارض القائمون على تربية الناشئين في الجمع بين الذكور والإناث بحجة المحافظة على الأخلاق والآداب، ولو كانت هذه المعارضة مبنية على سبب صحيح لكانت وجيهة سديدة ولكن لا بد أن نجيب هؤلاء المعارضين بأنه لم يفكر أحد مطلقًا في جمع هذين الصنفين في قاعات النوم العامة، ولا شك أن تقسيم محالّ المدرسة وأفنيتها والرياضيات المدرسية بالحكمة والتدبير يجنب كثيرًا من المضار التي يخشى منها على الآداب والأخلاق. على أن العمل العقلي إنما جعل لتذليل الغرائز والشهوات الخبيثة وقمعها لا تنبيهها وتقويتها وإني خلافًا لأولئك المعارضين أرى أن في التفريق الكلي بين الصنفين خطرًا على الفضيلة فإن فرط الاحتراس والاحتياط الصادر عن الرياء والنفاق لا يكون منه إلا دعوة الفساد إلى الاحتيال للتطرق إلى الأخلاق من سبيل الشر فلا يلبث أن يظهر فيها، وإن كثرة بث روح الحذر في أطهر المعاملات وأعفها توقظ في اليافعين ما هو نائم من شهواتهم، وتظهر ما يكون كامنًا من أشواقهم؛ فينبغي أن تزال هذه الحدود المادية ويعتاض منها بحدود الله التي فطرهم عليها وجعلها في نفوسهم سياجًا لما فرضه عليهم. لا أريد مما تقدم أن الذكر والأنثى في التربية سيان يصلح لأحدهما كل ما يصلح للآخر، كلا بل إن كلاًّ منهما يقتضي تربية خاصة لاختلافها في المواهب والفروض والغرض المخلوقَيْن من أجله، على أننا نرى النابغين والنابغات من الصنفين يتكافئون ويتناسبون في بعض ذرى العلوم والفنون الجميلة والشعر، فالأجدر بنا أن نفكر بإعداد الازدواج بين ما أوتيته الأنثى من رقة الوجدان وما أوتيه الذكر من حصافة الجنان، فإن في ذلك لذة حياة الصنفين. وإن تربية شطري النوع الإنساني منعزلين كأنهما لا يشتركان في شيء مما خلقا لأجله تعجيلاً بقطع الصلة الاجتماعية، وأما تقديم الصبية إلى الصبي وتفهيمه أنها ستكون له في المستقبل رفيقة في العمل والكدح في سبيل الخير والعدل والحق فهو أكثر انطباقًا على مقتضى الفطرة وعلم الأخلاق. وعلى كل حال ستتعلم (لولا) و (أميل) معًا إلى أن يقضي الحال التفريق. إني لأرجو لكل منهما خيرًا كثيرًا من وراء هذا الاقتران العقلي.اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

قوانين التعليم الرسمي والجمعية العمومية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قوانين التعليم الرسمي النبذة الثالثة في تعليم البنات إن المغامز العشرة التي ذكرناها في النبذة الثانية من انتقاد قوانين التعليم الرسمي كانت في موضوع تعليم الدين، وقد فاتنا التنبيه على مغمز آخر عظيم وهو: (11) لم يرد في قانون التعليم ما يدل على أن البنات يُعلَّمن ما يختص بالنساء من الأحكام والآداب الدينية، ورجعنا إلى كتب التعليم فلم نجد فيها شيئًا من ذلك. ونحن نعلم كما تعلم نِظارة المعارف أن النساء ليس لهن مورد من موارد العلم إلا هذه المدارس فإذا جاز أن يكتسب التلميذ بعض ما يفوته من الأحكام الدينية في المدرسة بمعاشرة أهل العلم الديني وحضور مجالسهم وسماع الخطب الدينية في يوم الجمعة وحضور دروس الوعظ في المسجد فمثل هذا لا يتأتى للبنات ولا للنساء؛ لأنه ليس فيهن عالمات بأمور الدين فيقتبس بعضهن من بعض ولم تجر العادة بحضورهن الجمعة ومجالس العلم في المساجد. ثم إن البنات أحوج من الصبيان إلى الدين عقائده وأعماله وآدابه لسبب آخر وهو أن صنفهن في الشرق لا يزال في تأخر عظيم، والنسبة بين الرجال والنساء في مصر كالنسبة بين المصريين والزنوج فإذا قرأت جريدة أو كتابًا على رجل وامرأة من الأميين، فإن الرجل يفهم منك ما لا تفهم المرأة، وأكثر النساء لا يفهمن من المقروء شيئًا ما؛ لذلك نشكر للحكومة ما نراه من الرغبة في تعليم البنات ولكن التعليم بغير تربية قليل الجدوى، ولا يزال أكثر الناس عندنا يعتقد ضرر التعليم للبنات وليس لنا من هؤلاء المتعلمات في المدارس حجة عليهم، فإن آداب هؤلاء البنات غير مُرضية والسبب في ذلك عدم العناية بالتربية التي ملاكها الدين. فإذا كانت الحكومة توافقنا على أن الحاجة إلى تعليمهن أشد لأنهن أضعف عقلاً؛ فعليها أن توافقنا على أن الحاجة إلى تربيتهن أشد أيضًا لأنهن أضعف نفسًا. وهناك وجه ثالث لوجوب العناية بتربيتهن أكثر من تعليمهن وهو أن وظيفتهن الطبيعية هي التربية لا التعليم فيجب أن تكون التربية هي المقصودة لهن بالذات من المدارس وأن يكون التعليم ممدًّا لها ومساعدًا عليها. ونظارة المعارف لا تخالفنا في أن ملاك التربية الدين لا سيما عند المسلمين ولا تقدر أن تنكر تقصيرها في تعليم الدين وإهمالها لتربيته. وإن تعجب فعجب أن موظفي النظارة من غير المسلمين كانوا ولا يزالون أشد محافظة على آداب البنات الإسلامية من كبار الموظفين المسلمين. فمن ذلك أن بعض الضباط من الإنكليز كان يعلم البنات في المدرسة السنية الألعاب الرياضية البدنية وهي ضروب شتى منها الانحناء والانثناء وتحريك بعض الأعضاء دون بعض، وكان المعلم لا يستغني في تعليمه عن اللمس والجسّ وربما تبع ذلك الجَت؛ فراع الأمر بعض المعلمين الذين لم يفقدوا نعرة الدين فاحتالوا في تبليغ ذلك بعض كبار الموظفين في المعارف من المسلمين وما كانوا جاهلين فلم يُفد ذلك حتى اتفق أن زار المدرسة يعقوب باشا وكيل النظارة ورأى بعينه ما رأى فعاد إلى الديوان وأصدر أمرًا بمنع ذلك. واذكرْ خبر (مسز جِريفِنسْ) الناظرة الأولى للمدرسة السَّنية التي كانت قبل (فُورْبِز) التي عزلت في السنة الماضية فلقد كانت من خير ما أنبتت أرض الإنكليز تربية وحرية وفضيلة وإنصافًا ولا أغلو في الإطراء إذا صعدت بها أفق الفلاسفة والحكماء. ومن أثرها أن اقترحت على نظارة المعارف أن تلزم جميع البنات في مدارسها بتعلم الديانة الإسلامية والتربية عليها عملاً. قالت: إن تعليمًا بلا تربية لا يفيد، وإن التربية لا تكون بغير دين وإن توحيد طرق التربية والتعليم ضروري فلا يصح أن يكون في مدرسة واحدة دينان، وإن أولى الأديان بالترجيح في مدارس حكومة إسلامية وبلاد إسلامية هو دين الحكومة وأكثر أهالي البلاد فالنتيجة أنه يجب على نظارة المعارف تعميم الديانة الإسلامية في مدرسة البنات وجعلها إلزامية. ومن آثارها تقنيع البنات، وكنَّ قبلها في المدارس حاسرات، فأخبرها بعض المعلمين لما عرف فضلها بأن كشف رءوس البنات أمام المعلمين محرم في الديانة الإسلامية وأن الصلاة لا تصح من مكشوفة الرأس، فكتبت إلى النظارة تطلب أن تجعل لكل بنت في المدرسة قناعين في السنة فأجيب طلبها، فطلب هذه الناظرة الحكيمة الفاضلة تعميم التربية الدينية حجة على النظارة وقد كانت إحدى (ضمانات) ناظر المعارف ولكنها لم تغن شيئًا بل لم يطل عليها الأمد في المدرسة حتى استبدلت بها الناظرة فوربز. اعتقد المصريون العارفون بخبرها أن المستر دنلوب نَقِمَ عليها أنها غير متعصبة للديانة المسيحية فأخرجها وهو العامل المستقل في النظارة بدون (ضمانات) الناظر وزاد هذا الاعتقاد رسوخًا سوء سيرة الناظرة التي خلفتها ولكن القوم لم يلبثوا أن عزلوا الناظرة الأخرى لما كثر الإرجاف بها وأنكروا عليها محادثة المستر هوتن المفتش الإنكليزي في المدارس واستبدادها في المدرسة. ويقال: إن اللورد كرومر هو الذي أوعز إلى الناظرة والمفتش أن يستقيلا معًا وإيعازه حكم لا يرد. نعم كان من سوء سيرة هذه الناظرة استقالة الأستاذين الفاضلين الشيخ حسن منصور والشيخ محمد عز العرب من المدرسة ومن خدمة معارف الحكومة وهما من خيرة الأساتذة تعليمًا وتربية بل لا يوجد في مصر أفضل منهما لتعليم البنات. فكانت استقالتهما من أسباب سوء الاعتقاد بالنظارة، وإن شئت فقل: بالمحتلين، وكانت الجرائد كالأهالي مجمعة على عدم الرضا بحالة المدرسة، ولا يوجد فيما أعلم موظف في الحكومة اتفقت على الارتياح لعزله الجرائد الإسلامية والقبطية والسورية إلا المستر هوتن وناظرة المدرسة السنية. عدّ هذا العقلاء مَحمدة للمحتلين ولم يشذ عن هذا إلا حَدَث السياسة المشهور بالخَطَل في كل ما يكتب فقد اتخذ عزل الناظرة والمفتش دليلاً على سوء قصد المحتلين ولاك عرضهما لوكًا خرج به عن محيط الأدب وكتب كتابة لا يصح أن تكتب في الجرائد التي تعرض على جميع الأنظار، ولكن كلامه لا أثر له في الأمة وقد مضى الزمن الذي كان الناس يرون فيه كل عمل يعمله المحتلون قبيحًا فقد زالت غشاوة السياسة الخرقاء عن عيون الأكثرين فهم يرون الحسن حسنًا والقبيح قبيحًا وقد قلنا في النبذة الماضية: إنه لم تبق نظارة ولا مصلحة للحكومة إلا واعترف الأهالي بالإصلاح الذي حصل فيها إلا نظارة المعارف فإنها لا تزال مثارًا لسوء الظن؛ لأن الإصلاح الحقيقي إنما يكون في التربية والتعليم، والناس يقولون: إن التعليم تدلى في عهد الاحتلال وصار سيره دون ما كان عليه من قبل وإن تَحَسَّنَ نظامه. وإنني أرى الواقفين على عناية المعارف الجديدة بإعانة الكتاتيب الأهلية وتنظيمها مع إبقائها على استقلالها يحمدون ذلك ويعدونه من الإصلاح ولا ينكرون منه إلا كون حفظ القرآن غير مُكافَأ عيه وإنها لغلطة من واضع القانون لم تغن عنها (الضمانات الخمس) شيئًا بل لا رأي في هذا القانون (للضمانات) فعسى أن يصلحه المستر دنلوب في سنة أخرى فيكون له ولقومه الثناء الجميل. هذا، وقد كدنا نخرج عن موضوع هذه النبذة وهو تعليم البنات وتربيتهن، فالأمة تطلب والعدالة تشفع أن تكون عناية المعارف بتربية البنات الدينية أشد ولكن قانون التعليم والعمل الذي في المدارس على ما قلناه من إهمال التربية والتقصير في التعليم فإلى ذلك نوجه أنظار أهل الحل والعقد العاملين. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مستقبل الحجاز وأمير مكة المكرمة) نشر المؤيد الأغر من أيامٍ رسالةً مطولةً (لعثماني صادق) عنوانها (مستقبل الحجاز) تكلم فيها صاحبها عن حالة البلاد في هذه الأيام كلامًا تاريخيًّا ينبغي أن يعلم وحمل على أميرها الشريف (عون الرفيق باشا) حملة منكرة عد عليه فيها سيئات، إذا صحت الرواية فهي أقبح السيئات، ولكن الكاتب عد عليه أيضًا ما يُعَدُّ له فكان بذلك متهمًا بالغرض أو الجهل، وقلما تجد كاتبًا يقف عند حدود الاعتدال. أما السيئات الحقيقية فهي الظلم في أرض الحرم والاستبداد في الحكم وعدم العناية بحفظ الأمن بل اتهمه بإغراء الأعراب بالحجاج لسلب المال منهم وهذا شيء عظيم لا نلوم الكاتب على التطويل بذمه ونقده، وإن كان أكثر كلامه من قبيل الشعر لا من قبيل سرد الحقائق وبيان الأوصاف، ويظهر أن الغرض من الكتابة حمل السلطان على عزل الشريف من إمارة مكة المكرمة. ومن غلو الكاتب المنكر شرعًا مخاطبة السلطان والاستعانة به بكلام لا يقال إلا في الله تبارك وتعالى كقوله: (فإليك يتوسل المسلمون، وبك يستغيث المؤمنون. يا غياث المستغيثين، وأمان الخائفين) . وإنه لكلام تقشعر من توجيهه لغير الله تعالى قلوب المؤمنين. وإذا كانت مبالغة في الذم على نسبة مبالغته في المدح فلا شك أنه كاذب فيما كتب، فالذي يجعل السلطان إلهًا اتباعًا لهواه لا يبعد أن يجعل الشريف شيطانًا اتباعًا لهواه. وعجيب من المؤيد كيف نشر هذا الإطراء وأقره. ولولا أن الطاعنين في هذا الأمير كثيرون لما حفلنا بهذه الرسالة وقد كنا نوهنا في المنار (14: 2) الصادر في 9 صفر سنة 1317 برسالة مطبوعة وردت علينا في بريد سنغافورة اسمها (ضجيج الكون من فظائع عون) وهي مملوءة بالشكوى من الشريف، وقد كتب إلينا يومئذ أنها ترجمت ووزعت في الأقطار فكانت لها تأثير عظيم؛ حتى إن بعض المساجد قطع الخطبة لمولانا الخليفة أيده الله تحاشيًا من الكذب بأنه خادم الحرمين الشريفين، وقد أرسلت هذه الرسالة يومئذ إلى الحضرة السلطانية ويظهر أن ذلك كان عمل جمعية ولكن لم يظهر لها أثر لأن الشريف متفق مع السلطان راضٍ عنه. وصاحب رسالة (مستقبل الحجاز) يؤكد القول بأن الشريف يجتهد في إقناع الناس بأنه لا يفعل فعلة إلا بإذن السلطان ومرضاته لينفرهم منه، فإذا ثبت هذا للسلطان فربما يعزل الشريف أو يرسل إليه واليًا حازمًا يغلّ يده ويحفظ الأمن ويكون هذا حجة على الذين يقولون: إن السلطان يحب أن يكون الشريف ظالمًا غاشمًا ليعلم المسلمون في جميع أقطار الأرض بأن حكم الترك أفضل من حكم أشراف العرب. ومما عده صاحب الرسالة (مستقبل الحجاز) من سيئات الشريف هدم بعض القبور والقبب والمساجد التي بنيت على بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتقصد لزيارتهم، وقال: إنه أزعجهم في قبورهم وكذلك القبر المنسوب إلى أمنا حواء عليها السلام. ومن أين لمثل هذا الكاتب الذي عدَّ هذه الأعمال ذنبًا لا يغفر أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بطمس القبور المشرفة ونهى عن بناء المساجد على القبور ولعن فاعليها ونهى عن شد الرحال إلى مثلها. أخرج الإمام أحمد ومسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي في سننهم عن أبي الهياج الأسدي، عن علي رضي الله عنه أنه قال: (أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله وعليه وسلم لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) قال الإمام الشوكاني في شرح هذا الحديث بعدما رجح أن رفع القبور زيادة عن القدر المأذون فيه حرام ما نصه: (ومن رفع القبور الداخل تحت الحديث دخولاً أوليًّا: القبب والمشاهد المعمورة على القبور وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعل ذلك كما سيأتي، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام. منها اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار بالأصنام. وعظم ذلك فظنوا أنها قادرة على جلب النفع ودفع الضرر فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج وملجأً لنجاح الطالب وسألوا منها ما يسأله العباد من ربهم وشدوا إليها الرحال وتمسحوا بها واستغاثوا. وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئًا مما كانت تفعله بالأصنام إلا فعلوه فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفظيع، لا نجد من يغضب لله ويغار حمية للدين الحنيف لا عالمًا ولا متعلمًا ولا أميرًا ولا وزيرًا ولا ملكًا. وقد توارد إلينا من الأخبار ما لا يُشَكُّ معه أن كثيرًا من هؤلاء القبوريين أو أكثرهم إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه حلف بالله فاجرًا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك ومعتقدك الولي الفلاني، تلعثم وتلكأ وأبى واعترف بالحق. وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين أو ثالث ثلاثة. فيا علماء الدين ويا ملوك المسلمين أي رزء للإسلام أشد من هذا الكفر! وأي بلاء لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير الله! وأي مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة! وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البين واجبًا؟ !) اهـ. ثم تمثل الشوكاني بعد ما تقدم بقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيًّا ... ولكن لا حياة لمن تنادي ولو نارًا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رماد والسبب في موت العلماء والأمراء الذي عناه بالتمثيل هو اختيار مرضاة العوام الذين فشا فيهم هذا المنكر على مرضاة الله تعالى، فالعوام بمقتضى طبيعة الكون تبع لهم ولكنهم لضعف إراداتهم وانحلال عزائمهم جعلوا أنفسهم تبعًا للعوام وسيتبرأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث جابر أنه قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُجَصَّصَ القبر وأن يُكتب عليه وأن يُبنى عليه) ولفظ الكتابة لم يذكره مسلم ولكنه على شرطه كما قال الحاكم، والتجصيص: الطلاء بالجِصّ وهو الكلس والجير، والنهي حقيقة في التحريم. وأخرج أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) زاد مسلم والنصارى. وأخرج أحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) وقد عد العلماء اللعن من علامة كون المعصية من الكبائر، وما كان كذلك تجب إزالته. فإذا تصدى مثل شريف مكة لإزالة هذا المنكر عملاً بسنة جده عليه أفضل الصلاة والسلام لقدرته على ذلك نَعُدُّه عاصيًا ومبتدعًا لقول كاتب جاهل ومجهول ونخاطب السلطان بما لا يخاطب به إلا الله عز وجل لأجل التنكيل به؟ ! لقد انقلب المعروف منكرًا والمنكر معروفًا فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أما مستقبل الحجاز فهو مما لا يصح لمثل هذا الكاتب أن يخوض فيه إلا إذا عرف ما ورد من الأخبار النبوية فيه وأخذ حظًّا من علم طبائع الأمم وسنلمّ بشيء من ذلك إن شاء الله تعالى في مقالة نكتبها في مستقبل الإسلام. ولا يُفْهم من انتصارنا للحق في مسألة القبب ومساجد القبور أننا ننتصر للشريف على كل حال فإننا كنا أول من وجه أنظار مولانا السلطان - أيد الله دولته - إلى تحقيق ما ينسب إليه في أمر الأمن وعدمه والظلم في الحرم وفعل ما يجب من إزالة ذلك، وذلك من مدة سنتين كما أشرنا إليه في أوائل الكلام ونكرر ذلك الآن، والله الموفق وإليه ترجع الأمور. * * * (وفاة الشيخ أحمد الجيتيكير) نعى إلينا بريد الهند في الشهر الماضي وفاة هذا العالم الفاضل والأديب الكامل الذي يعرف قراء المنار بعض فضله وغيرته الملية من قصائده التي نشرت في المنار مما كان ينشد في جمعية ندوة العلماء , وقد كانت وفاته في يومي 19 محرم رحمه الله رحمة واسعة وعَزَّى آله وأصدقاءه أحسن العزاء. *** (وفاة عقيلتين) في 17 صفر توفيت العقيلة عائشة عصمت كريمة المرحوم إسماعيل بك تيمور وأخت الفاضل أحمد بك تيمور وكانت أديبة شاعرة في العربية والتركية والفارسية وقد لقبها المؤيد بشاعرة مصر في هذا العصر. فنسأل الله أن يحسن عزاء أخيها وأنجالها الكرام. وفي 19 منه توفيت والدة الفاضل النبيل أحمد بك تيمور فاجتمع على هذا الفاضل مصابان عظيمان في شهر واحد مصاب الأخت ومصاب الأم، وله أكبر عزاء بما وُفِّقَ له من اتباع السنة في تشييع الجنازة والمأتم؛ إذ كان قدوة صالحة للناس الذين اعتادوا أن يروا في جنائز الكبراء والأمراء ألوان البدع كحملة مجامر الفضة وصحافها الملأى بالرياحين وكطغمة الخدم المؤتزرة بأُزُر الحرير وكزعنفة الصائحين بالأشعار والأدعية والصلوات وغير ذلك. ولكن أحمد بك تيمور انفرد دون أولاد الباشوات في مصر بمزيد الاستقامة واتباع السنة والاشتغال بالعلم والأدب بل لا نكاد نرى في هذه البلاد شابًّا مثله في استقامته وأدبه، وإن كثيرًا من أهل الفضل ليودون إبطال هذه العادات القبيحة ولكن إرادتهم ضعيفة لا تقوى على ما يتوهمون من الانتقاد ورميهم بالبخل على الموتى.مثل أحمد بك تيمور يصح أن يكون قدوة لهؤلاء إذا وفقهم الله تعالى. ولقد سمعت نفرًا من العامة يتحدوث في الطريق ونحن مشاة في تشييع الجنازة يسأل بعضهم بعضًا عن السبب في خلو هذه الجنازة من الصياح والضجيج ونحوه مما أشرنا إليه آنفًا فأجابه آخر بأن هذا هو السنة فحمدت الله تعالى أن جعل في العامة من يفرق بين السنة والبدعة ويعرف أهلهما فكما نعزي صديقنا الكامل أحمد بك تيمور في مصابيه نهنئه بما وفق له من إقامة السنة وخذل البدعة، ونسأل الله أن يجعله قدوة حسنة لأمثاله من الوجهاء الذين هم قدوة لسائر الطبقات في جميع التقاليد والعادات. *** (نصير محمد علي) استحسن الفضلاء ما كتبناه عن محمد علي وأعجبوا به وهنأونا بخدمة الدين والأمة به إلا حدث السياسة فإنه شتمنا في جريدته وعَيَّرنَا بلقب (الدخيل) يعني أننا لسنا من سلالة الفراعنة، وقد أمر الله بالإعراض عن مثله. ونحمد الله أننا من ذرية أفضل أنبيائه فوالدنا حسيني وأمنا حسينية. وذلك أفضل عند كل مسلم من السلالة الفرعونية. وأما إرجاف الحدث بذكر الاستعداد لثورة كالثورة العرابية فهو مما لا يفهم؛ لأن الثورة لا تكون إلا لمقاومة قوة ولا قوة في مصر إلا للمحتلين، فإن كنا نحن ومن (ينصرنا أو يحمينا) نريد أن نثور عليهم فإننا نستحق من سعادة الحدث الثناء لا الذم وإن كان يعني أننا نثور على جانب آخر فذلك الجانب هو الذي يشكو الحدث دائمًا من سلب حقوقه، ونشكو نحن العقلاء من الثورات المعنوية التي هاجها عليه هذا الحدث وأمثاله وكان من أثرها ما كان وما هو كائن ما دام هؤلاء الأحداث متصلين به.

شروط الواقفين وعدم التعبد بكلام غير المعصومين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شروط الواقفين وعدم التعبد بكلام غير المعصومين جرى على الألسنة واشتهر بين الناس قول بعض الفقهاء: (إن شرط الواقف كنص الشارع) وهو ما عليه عمل المحاكم من عهد بعيد إلى اليوم فيتمسكون بكلمات كُتِبَتْ في (الوقفيات) وربما لم يكن يفهمها الواقف، وإنما كتبها الكاتب فيما يكتب من عباراته التقليدية ويتركون أحيانًا المقصود من الوقف للشارع وللواقف؛ وقوفًا عند الألفاظ. وقد رأيت بحثًا نفيسًا في هذا الموضوع للإمام الحافظ الفقيه ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) أحببت أن أنشره في المنار ليعلم الناس أن ديننا دين مقاصد عالية ومصالح تقوم بها المنفعة لا دين ألفاظ تبتدع ثم تتبع قال رحمه الله تعالى - مناقشًا فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية في مسائل خالفوا فيها النص أو خرجوا عن القياس الصحيح - ما نصه بمقدمته: (فصل) وقالت الحنفية والمالكية والشافعية: إذا شرطت الزوجة أن لا يخرج الزوج من بلدها أو دارها وأن لا يتزوج عليها ولا يتسرى فهو شرط باطل فتركوا محض القياس بل قياس الأولى فإنهم قالوا: لو شرطت في المهر تأجيلاً أو غير نقد البلد أو زيادة على مهر المثل لزم الوفاء بالشرط. فأين المقصود الذي لها في الشرط الأولى إلى المقصود الذي لها في هذا الشرط؟ وأين فواته إلى فواته؟ وكذلك من قال منهم: لو شرط أن تكون جميلة شابة سوية فبانت عجوزًا شمطاء قبيحة المنظر أنه لا فسخ لأحدهما بفوات شرطه حتى إذا فات درهم واحد من الصداق فلها الفسخ بفواته قبل الدخول فإن استوفى المعقود عليه ودخل بها وقضى وطره منها ثم فات الصداق جميعه ولم تظفر منه بحبة واحدة فلا فسخ لها. وقِسْتُم الشرط الذي دخلت عليه على شرط أن لا يودها ولا ينفق عليها ولا يطأها ولا ينفق على أولاده منها ونحو ذلك مما هو من أفسد القياس الذي فرقت الشرعية بين ما هو أحق بالوفاء منه وبين ما لا يجوز الوفاء به وجمعتم بين ما فَرَّقَ القياس والشرع بينهما وألحقتم أحدهما بالآخر، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الوفاء بشروط النكاح التي يستحل بها الزوج امرأته أولى من الوفاء بسائر الشروط على الإطلاق فجعلتموها أنتم دون سائر الشروط وأحقها بعدم الوفاء. وجعلتم الوفاء بشرط الواقف المخالف لمقصود الشارع كترك النكاح (أي بأن وقف على أهل هذه التكية ما لم يتزوجوا) وكشرط الصلاة في المكان الذي شرط الصلاة فيه وإن كان (المصلي) وحده وإلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة المسلمين. وقد ألغى الشارع هذا الشرط في النذر الذي هو قربة محضة وطاعة فلا تتعين عنده بقعة عيَّنها الناذر للصلاة إلا بالمساجد الثلاثة (المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس) وقد شرط الناذر في نذره تعيينه فألغاه الشارع بفضيلة غيره عليه أو مساواته له فكيف يكون شرط الواقف الذي غيره أفضل منه وأحب إلى الله ورسوله لازمًا يجب الوفاء به؟ وتعيين الصلاة في مكان معين لم يرغب الشارع فيه ليس بقُربة لا يجب الوفاء به في النذر ولا يصح اشتراطه في الوقف. (فإن قلتم: الواقف لم يخرج ماله إلا على وجه معين فلزم اتباع ما عينه في الوقف من ذلك الوجه، والناذر قصد القربة، والقُرَب متساوية في المساجد غير الثلاثة فتعيين بعضها لغو. قيل: فهذا الفرق بعينه يوجب عليكم إلغاء ما لا قربة فيه من شروط الواقفين واعتبار ما فيه قربة فإن الواقف إنما مقصوده بالوقف التقرب من الله فتقربه بوقفه كتقربه بنذره، فإن العاقل لا يبذل ماله إلا لما فيه مصلحة عاجلة أو آجلة، والمرء في حياته قد يبذل ماله في أغراضه مباحة كانت أو غيرها وقد يبذله فيما يقربه إلى الله. وأما بعد مماته فإنما يبذله فيما يظن أنه تَقَرُّبٌ إلى الله. ولو قيل له: إن هذا المصرف لا يقرب إلى الله عز وجل أو إن غيره أفضل منه وأحب إلى الله منه وأعظم أجرًا لبادر إليه. ولا ريب أن العاقل إذا قيل له: إذا بذلت مالك في مقابلة هذا الشرط حصل لك أجر واحد، وإن تركته حصل لك أجران فإنه يختار ما فيه الأجر الزائد فكيف إذا قيل له إن هذا لا أجر فيه ألبتة؟ فكيف إذا قيل له: إنه مخالف لمقصود الشارع مضاد له يكرهه الله ورسوله. وهذا كشرط العزوبية وترك النكاح فإنه شرط لترك واجب أو سنة أفضل من صلاة النافلة وصومها أو سنة دون الصلاة والصوم. فكيف يلزم الوفاء بشرط ترك الواجب والسنن اتباعًا لشرط الواقف وترك شرط الله ورسوله الذي قضاؤه أحق وشرطه أوثق. (يوضحه أنه لو شرط في وقفه أن يكون على الأغنياء دون الفقراء وكان شرطًا باطلاً عند جمهور الفقهاء، قال أبو المعالي الجويني - هو إمام الحرمين رضي الله عنه -: ومعظم أصحابنا قطعوا بالبطلان. هذا مع أن وصف الغنى وصف مباح ونعمة من الله، وصاحبه إذا كان شاكرًا فهو أفضل من الفقير مع صبره عند طائفة كثيرة من الفقهاء والصوفية فكيف يلغى هذا الشرط ويصح الترهب في الإسلام الذي أبطله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لا رهبانية في الإسلام) يوضحه أنَّ مَنْ شَرَطَ التعزبَ فإنما قصد أنّ تركه [1] أفضل واجب إلى الله فقصد أن يتعبد الموقوف عليه بتركه، وهذا هو الذي تبرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه بعينه (فقال: من رغب عن سنتي فليس مني) وكان قصد أولئك الصحابة [2] هو قصد هؤلاء الواقفين بعينه سواء فإنهم قصدوا ترفية [3] أنفسهم على العبادة وترك النكاح الذي يشغلهم تقربًا إلى الله بتركه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ما قال وأخبر أن من رغب عن سنته فليس منه. وهذا في غاية الظهور فكيف يحل الإلزام بترك شيء قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من رغب عنه فليس منه؟ هذا مما لا تحتمله الشريعة بوجه [4] . فالصواب الذي لا تُسَوِّغُ الشريعةُ غيرَه عرضُ شروط الواقفين على كتاب الله سبحانه وعلى شرطه فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح وما خالفه كان شرطًا باطلاً مردودًا ولو كان مئة شرط وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم الله ورسوله ومن رد فتوى المفتي. وقد نص الله سبحانه على رد وصية الجنف (وفي نسخة الحائف وكلاهما بمعني الجائر في وصيته والآثم فيها) مع أن الوصية تصح في غير قربة وهي أوسع من الوقف وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه أمره فهذا الشرط مردود بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد أن يقبله ويعتبره ويصححه. ثم كيف يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما أخرج الواقف ماله لمن قام بها وإن لم تكن قربة ولا للواقفين فيها غرض صحيح مما يقربهم إلى الله ولا يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما بذلت المرأة بضعها للزوج بشرط وفائه لها بها ولها فيها أصح غرض ومقصود وهي أحق من كل شرط يجب الوفاء بنص رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهل هذا إلا خروج عن محض القياس والسنة. ثم من العجب العجاب قول من يقول: إن شروط الواقف كنصوص الشارع. ونحن نبرأ إلى الله من هذا القول ونعتذر إليه سبحانه مما جاء به قائله ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدًا. وإن أُحْسِن الظن بقائل هذا القول حُمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة وتخصيص عامّها بخاصّها وحمل مًطلقها على مقيدها واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها، وأما أن تكون كنصوصه في وجوب الاتباع وتأثيم من أخل بشيء منها فلا يُظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم. فإذا كان حكم الحاكم ليس كنص الشارع بل يرد ما خالف حكم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك. فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال. فقد ظهر تناقضهم في شروط الواقفين وشروط الزوجات وخروجهم عن موجب القياس الصحيح والسنة وبالله التوفيق. يوضح ذلك أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم كان إذا قسم يعطي الآهل حظين، والعزب حظًّا، وقال: (ثلاثة حق على الله عونهم) وذكر منهم الناكح يريد العفاف. ومصححو هذا الشرط عكسوا مقصوده فقالوا نعطيه ما دام عزبًا، فإذا تزوج لم يستحق شيئًا ولا يحل لنا أن نعينه؛ لأنه ترك القيام بشرط الواقف وإن كان قد فعل ما هو أحب إلى الله ورسوله فالوفاء بشرط الواقف المتضمن لترك الواجب أو السنة المقدمة على فضل الصوم والصلاة لا تحل مخالفته، ومن خالفه كان عاصيًا آثمًا حتى إذا خالف الأحب إلى الله ورسوله والأرضى له كان بارًّا مثابًا قائمًا بالواجب عليه؟ يوضح بطلان هذا الشرط وأمثاله من الشروط المخالفة لشرع الله ورسوله أنكم قلتم: كل شرط يخالف مقصود العقد فهو باطل حتى أبطلتم بذلك شرط دار الزوجة أو بلدها وأبطلتم اشتراط البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة وأبطلتم اشتراط الخيار فوق ثلاثة وأبطلتم اشتراط نفع البائع في المبيع ونحو ذلك من الشروط التي صححها النص والآثار من الصحابة والقياس كما صحح عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان اشتراط المرأة دارها أو بلدها وأن لا يتزوج عليها ودلت السنة على أن الوفاء به أحق من الوفاء بكل شرط وكما صححت السنة اشترط انتفاع البائع بالمبيع مدة معلومة فأبطلتم ذلك، وقلتم: يخالف مقتضى العقد وصححتم الشروط المخالفة بمقتضى عقد الواقف لعقد الوقف؛ إذ هو عقد قربة مقتضاه التقرب إلى الله تعالى، ولا ريب أن شرط ما يخالف القربة يناقضه مناقضة صريحة، فإذا شرط عليه الصلاة في مكان لا يصلي فيه إلا هو وحده أو واحد بعد واحد أو اثنان فَعُدُولُه عن الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجتمع فيه جماعة المسلمين مع قِدَمِهِ وكثرة جماعته فيتعداه إلى مكان أقل جماعة وأنقص فضيلة وأقل أجرًا اتباعًا لشرط الواقف المخالف لمقتضى عقد الوقف خروج من محض القياس وبالله التوفيق. يوضحه أن المسلمين مجمعون على أن عبادة الله في المسجد من الذِّكر والصلاة وقراءة القرآن أفضل منها عند المقابر فإذا منعتم فعلها في بيوت الله سبحانه وأوجبتم على الموقوف عليه فعلها بين المقابر إن أراد أن يتناول الوقف وإلا كان تناوله حرامًا كنتم قد ألزمتوه بترك الأحب إلى الله الأنفع للعبد والعدول إلى بعض المفضول والمنهي عنه (أي كالصلاة إلى القبور أو بقربها) مع مخالفته لقصد الشارع تفصيلاً وقصد الواقف إجمالاً فإنه إنما يقصد الأَرْضَى لله والأحب إليه ولما كان في ظنه أن هذا إرضاء لله اشترطه فنحن نظرنا إلى مقصوده ومقصود الشارع وأنتم نظرتم إلى مجرد لفظه سواء وافق رضا الله ورسوله مقصوده في نفسه أو لا. ثم لا يمكنكم طرد ذلك أبدًا فإنه لو شرط أن يصلي وحده حتى لا يخالط الناس بل يتوفر على الخلوة والذكر أو شرَط ألا يشتغل بالعلم والفقه ليتوفر على قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام النهار أو شرط على الفقهاء أن لا يجاهدوا في سبيل الله ولا يصوموا تطوعًا ولا يصلوا النوافل وأمثال ذلك، فهل يمكنكم تصحيح هذه الشروط. فإن أبطلتموها ففعل النكاح أفضل من بعضها أو مساوٍ له في أصل القربة وفعل الصلاة في المسجد الأعظم العتيق الأكثر جماعة أفضل، وذكر الله وقراءة القرآن في المسجد أفضل منها بين القبور. فكيف تلزمون بهذه الشروط المفضولة وتبطلون ذلك؟ فما هو الفارق بين ما يصح من الشروط وما لا يصح ثم لو شرط المبيت في المكان الموقوف ولم يشترط التعزب فأبحتهم له التزوج فطالبته الزوجة بحقها من المبيت وطالبتموه بشرط الواقف منه فكيف تقسموها بينهما أم ماذا تقدمون، أمَا أوجبه الله ورسوله من المبيت والقسم للزوجة مع ما فيه من مصلحة الزوجين وصيانة المرأة وحفظه

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة قراءة المولد بالتركية (س 1) من الشيخ م. م في مصر: ما حكم الله في قراءة قصة مولد النبي العربي صلى الله عليه وسلم باللغة التركية في بيت الله تعالى على قوم من العرب وبمحضر العلماء الذين لا يعرفون إلا لغة نبيهم كما يجري ذلك كل عام في مسجد الحسين رضي الله عنه، وإن تفضل السيد فذكر أصل ذلك في دين الله أو في السياسة الوضعية شكره الله والناس. (ج) يشبه أن يكون هذا من اللغو الذي لا يعني ولا يفيد؛ لأنه لا يفهم، وقد وصف الله المؤمنين بالإعراض عن اللغو في آيات من كتابه كقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْه} (القصص: 55) وقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 3) وقوله جل ذكره في وصف عباده: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان: 72) وأخرج أحمد وأبو داود عن عثمان بن طلحة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم دعاه بعد دخوله الكعبة فقال: إني كنت رأيت قرنيْ الكبش حين دخلت البيت فنسيت أن آمرك أن تخمرها فَخَمِّرْهَا فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي) ونهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحِلَق (جمع حلقة) يوم الجمعة قبل الصلاة كما في حديث أحمد وأصحاب السنن الأربعة. وقراءة قصة المولد يتحلقون في قبلة المسجد ويرطن خطيبهم بالقصة التركية ولا شك أن ذلك يلهي المصلي ولا فائدة فيه فهو داخل من منع الحديث من هذا الوجه أيضًا. وقد نهى الفقهاء عن رفع الصوت في المسجد بالقرآن الشريف والعلم النافع إذا كان يشغل المصلي. فما بالك بمن يرطن بالتركية على قوم لا يفهمون منها شيئًا؟ أما أصل ذلك في السياسة فهو أن أمراء السوء لما صعب عليهم إقامة الدين على وجهه جعلوا هذه المواسم المبتدعة من شعائر الإسلام ليوهموا عامة المسلمين بأنهم قائمون بإقامة الدين وإحياء شعائره وأن رياستهم الدينية هي بحق. ولما حكم الترك هذه البلاد جعل بعضهم قراءة قصة المولد بالتركية؛ لأن الأمير هو المقصود بالاحتفال وقراءة القصة لا الأمة، وإنما على هذه أن تعتقد تدينه وإحياءه للشعائر الإسلامية. وأعجب من هذا أن نحو اللغة العربية وصرفها يعلمان في مدارس الدولة العثمانية (وفقها الله وأيدها) باللغة التركية لأبناء العرب في سوريا وغيرها وكذلك علم الدين. وقد عين أحد الأرمن معلمًا للدين في بعض مدارس سوريا الأميرية كأنهم لم يجدوا مسلمًا يحسن تعليم الديانة الإسلامية بالتركية. فالأصل في هذه السياسة إحياء لغة الأمة الحاكمة وإماتة ما عداها وانتهى الخلل إلى هذا الحد، ومن هذا القبيل أن سلطاننا المعظم (وفقه الله) كان أرسل بعض الوعاظ الأتراك ليعلموا العرب في معان والكرك دينهم وليس في المعلمين من يعرف العربية ولا من المراد تعلمهم من يعرف كلمة تركية؛ لأنهم من صميم العرب الذين لا يزالون على بداوتهم. *** مس المحدِث القرآن (س 2) ومنه أن كثيرًا من المسلمين شعروا بحاجتهم إلى حفظ القرآن الكريم وتدبره فلما هموا بذلك صدهم تحريم الفقهاء مس الصحف لغير المتوضئ وما رضوا حِيلهم في ذلك من تقليب أوراقه بنحو عود أو مسه بنحو خرقة أو حمله مع متاع إلخ؛ لأنهم يعتبرونها ألاعيب، فهم الآن في حيرة، والرجاء كشف الغمة في هذه المسألة. ولكم من الله المثوبة، ومن المؤمنين الدعاء والشكر. اهـ (ج) مسألة مس المحدث المصحف خلافية بين المسلمين، وكذلك قراءة الجنب القرآن، وينبغي للإنسان أن يحكّم الاحتياط في المسائل الخلافية المتعارضة الدلائل. والاحتياط ممن يريد قراءة القرآن بالمصحف للتدبر والتعبد أن يختار قول من قال بوجوب الطهارة من الحدث الأكبر للقراءة ومن الحدثين لمس المصحف. وليس من الاحتياط أن يترك المسلم حفظ القرآن؛ لأنه يتعسر أو يتعذر عليه الحفظ ما لم يحمل القرآن ويمسه على غير وضوء فحفظه حينئذ هو الأحوط والأفضل. ونشير إلى الخلاف في المسألة وأدلته بالإيجاز فنقول: أما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 77-79) فقد فسروا الكتاب المكنون باللوح المحفوظ والمطهرين بالملائكة. ومنهم من قال: المطهرين من الأحداث وجعل الكتاب المكنون صفة للقرآن. قال البيضاوي في تفسير الآية: (لا يطلع على اللوح إلا المطهرون من الكدورات الجسمانية وهم الملائكة. أو لا يمس القرآن إلا المطهرون من الأحداث فيكون نفيًا بمعنى نهي، أو لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر) . اهـ وتفسير المطهرين بالملائكة مروي عن ابن عباس وقتادة. وأما حديث: (لا يمس القرآن إلا طاهر) فهو ضعيف لا يحتج به وكذلك حديث (لا يمس القرآن إلا طاهرة) فهو ضعيف لا يحتج به وكذلك حديث (لا يمس المصحف إلا على طهارة) كما جزم بذلك فيهما النووي وابن كثير. على أن بعضهم قال: إن المراد بالطاهر المؤمن أو الطاهر من النجاسة والمروي عن ابن عباس والشعبي والضحاك وداود جواز مس المصحف للمحدث حدثًا أصغر. والخلاف كبير في الحدث الأكبر حتى قيل: إنه لم يخالف فيه من الأئمة إلا داود الظاهري ولكن لا يعرف للجماهير دليل. وبقيت القراءة ولا نزاع في جوازها مع الحدث الأصغر، وقد ضَعَّفُوا ما ورد في الحديث في منع القراءة مع الجنابة ولكن الجماهير على التحريم. وأخرج البخاري عن ابن عباس أنه لم ير في القراءة للجنب بأسًا. قال في نيل الأوطار: ويؤيد التمسك بعموم حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه وبالبراءة الأصلية حتى يصح ما يصلح لتخصيص هذا العموم وللنقل عن هذه البراءة. ومع هذا لا أحب لحفظة القرآن القراءة مع الجنابة، ولكن لا بأس بحملهم المصحف مع الحدث الأصغر والقراءة كذلك وأنصح لهم أن يتحروا الطهارة والوضوء ما أمكن ذلك والله الموفق. *** الظلم بالأكل من الشجرة (س4) الشيخ محمد محمد عباد الحنفي بالأزهر. أرجو حضرتكم أن توضحوا معنى قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) وأن تبينوا معنى ظلمه مع ملاحظة قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُون} (البقرة: 254) وأن تبينوا معنى قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه: 121) مع ملاحظة عصمة الأنبياء. (ج) ترون معنى الآية الأولى في نبذة التفسير من هذا الجزء وتقدم الكلام في معصية آدم وعصمة الأنبياء في الدرس 34 من العقائد في (ج 3: 5) . والظلم أعم من الكفر فكل كفر ظلم وليس كل ظلم كفرًا فمن قَصَّر في فضيلة أو عمل نافع فقد ظلم نفسه بمقدار ما فاته من ثمرة الفضيلة وفائدة العمل فقوله تعالي: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254) لا ينافي هذا؛ لأن كون الظلم وصفًا راسخًا فيهم بأفظع أنواعه وهو الاعتماد في النجاة يوم القيامة علي الشفاعة ونحوها لا يمنع أن يلمّ غير الكافرين بنوع آخر من أنواعه الخفيفة. وقد فسر بعضهم الظلم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135) بالصغيرة وأنت ترى أن هذا ذنب تنتظره المغفرة والشرك ظلم عظيم و {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: 48) . *** إمهار الذمية قرءانًا (س 5) عبد الفتاح أفندي البدن بالإسكندرية: إذا أراد المسلم أن يتزوج ذمية واتفقا على أن يجعل صداقها من القرآن الكريم فهل يصح ذلك؟ (ج) يصح جعل المنفعة مهرًا وتعليم القرآن أعظم المنافع؛ لأنه نور وهدى للناس، وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله وعليه وسلم زَوَّجَ رجلاً فقيرًا امرأة فوّضت أمرها إليه بما معه من القرآن ولفظ العقد زوجتكها بما معك من القرآن) وكان سأل عنه فعين له السور التي يحفظها، وفي روايات وأحاديث أخرى ذكر التعليم وتعيين السور وفي بعضها ذكر عشرين آية، والراجح أن ذلك في وقائع متعددة فثبت بالسنة أن تعليم القرآن يصح أن يكون مهرًا وعليه الجماهير إلا الحنفية. ولم أرَ من استثنى الذمية في المقام ولا من ذكرها فيه وأنت تعلم أن القرآن أفضل ما يُدعى به إلى الدين وأكبر المنافع ولا شك أن رضاء هذه الذمية بتعلم شيء من القرآن هو لاعتقادها أن فيه منفعة لها. ولكن الذي منعوه هو تمليك القرآن لغير المؤمنين حذرًا من إهانته. ومن أراد الاحتياط وموافقة الجميع فليضف إلى التعليم قليلاً من المال. هذا ما ظهر لنا من الجواب والله أعلم بالصواب.

الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى الدين والإسلام والشرك والتصوف في مكة المكرمة يوم السبت العشرين من ذي القعدة سنة 1316. انتظم عِقْد الجمعية في هذا اليوم صباحًا وقرئ الضبط السابق حسب العادة وأذن الأستاذ الرئيس بالشروع في البحث. فقال العالم النجدي: إني أطلب السماح من السادة الإخوان عن إملالهم بمقدمات وتعريفات هم أعلم مني بها، بل هي عندهم في رتبة البدهيات ولكن لا بد منها للباحث رعاية لقاعدة التسلسل الفكري والترتيب القياسي فأقول: إن النوع الإنساني مفطور على الشعور بوجود قوة غالبة عاقلة لا تتكيف تتصرف في الكائنات بنواميس منتظمة، فالعامة يعبرون عن هذه القوة بلفظ الطبيعة والراشدون من الناس مهتدون إلى أن لهذه القوة من هو قائم بها يعبرون عنه بلفظ (الله) ثم إن هذا الشعور يختلف قوة وضعفًا حسب ضعف النفس وقوتها ويختلف الناس في تصور ووصف ماهية هذه القوة حسب مراتب الإدراك فيهم أو حسبما يصادفهم من التلقي عن غيرهم وذلك هو الضلال والهداية. على أن الضلال غالب؛ لأن موازين العقول البشرية مهما كانت واسعة قوية لا تسع وتتحمل وزن جبال الأزلية والأبدية واللامثال واللامكان ونحو ذلك ما يسمى العلم به لصعوبته على ما وراء العقل، ولهذا لا يقال في الضالين إنهم منحطون عقلاً عن المهتدين بل كثير منهم في الماضين والحاضرين أسمى عقلاً بمراتب كثيرة من المهتدين ولكن صعوبة التطور والحكم أوقعتهم في بحار من الأهام وظلمات من الضلال. على أن البارئ تعالى قدر اللطف ببعض عباده وأراد إقامة الحجة على الآخرين فأوجد بعض أفراد من البشر تميزوا في تطور ووصف ماهية هذه القوة تميزًا كبيرًا فصاروا هداة للناس وهم (الأنبياء) عليهم الصلاة والسلام. وقد قام بعض هؤلاء الأنبياء الكرام فيمن حولهم من الناس مقام المشرعين وأثبتوا ببراهين خرق العادات على يدهم عند التحدي أي عند طلب ذلك منهم [1] أن مخاطبيهم مكلفون باتباعهم هم (المرسلون) فآمن بهم من آمن أي شهدوا لهم بالرسالة واتبعوهم في هديهم مستسلمين فأخرجوهم من بحار الأوهام إلى ساحل الحكمة ومن ظلمات الضلال إلى نور الهداية وهؤلاء هم (المؤمنون) فهذه مقدمة أولى. (مرحى) ومن المؤمنين نحن معاشر (المسلمين) علمنا مما علمنا أن محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي العربي أجلّ البشر حكمة وفضيلة وصدقناه بأنه رسول الله إلى العالمين كافة مصححًا ملة إبراهيم داعيًا لعبادة الله وحده هاديًا إلى ما يكلف الله به عباده من أمر ونهي كافلين لكل خير من الحياة وبعد الممات. ومن أمهات قواعد الدين عندنا أن نعتقد أن محمدًا بلَّغ رسالة ربه لم يترك ولم يكتم منها شيئًا وأنه أتم وظيفته بما جاء به من كتاب الله وبما قاله أو فعله أو أقره على سبيل التشريع إكمالاً لدين الله. ومن أهم قواعد ديننا أنه محظور علينا أن نزيد على ما بلغنا إياه رسول الله أو ننقص منه أو نتصرف فيه بعقولنا، بل يتحتم علينا أن نتبع ما جاء به الصريح المحكم من القرآن الواضح الثابت مما قاله الرسول أو فعله أو أقره وما أجمع عليه الصحابة إن أدركنا حكمة ذلك التشريع أو لم نقدر على إدراكها وأن نترك ما يتشابه علينا من القرآن (يريد نفوض فيه) فنقول: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) ، {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران: 7) . ومن قواعد ديننا كذلك أن نكون مختارين في باقي شئوننا الحيوية نتصرف فيها كما نشاء مع رعاية القواعد العمومية التي شرعها أو ندب إليها الرسول وتقتضيها الحكمة أو الفضيلة كعدم الإضرار بالنفس أو الغير والرأفة بالضعيف والسعي وراء العلم النافع والكسب بتبادل الأعمال والاعتدال في الأمور والإنصاف في المعاملات والعدل في الحكم والوفاء بالعهد إلى غير ذلك من القواعد الشريفة العامة. وهذه مقدمة ثانية ويتفرع عن هاتين المقدمتين مسائل مهمة ينبغي إفرادها بالبحث تباعًا وإشباعًا. ومنها أن أصل الإيمان بوجود الصانع أمر فطري في البشر كما تقدم فلا يحتاجون فيه إلى الرسل وإنما حاجتهم إليهم في الاهتداء إلى كيفية الإيمان بالله كما يجب من التوحيد والتنزيه. هؤلاء قوم نوح وقوم إبراهيم وجاهلية العرب واليهود والنصارى ومجوس فارس ووثنيو الهند والصين ومتوحشو أفريقيا وأمريكا وسائر البشر كلهم كانوا ولا يزالون أهل فطرة دينية يعرفون الله وليس فيهم من ينكر كليًا كما قال عز من قائل: {َ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44) بل يغلب على البشر الإشراك بالله فيخصصونه تعالى شأنه بتدبير الأمور الكلية والشئون العظام كالخالقية وتقسيم الأرزاق والآجال كأنهم بجلونه عن تدبير الأمور الجزئية ويتوهمون أن تحت أمره مقربين وأعوانًا ووسطاء من ملائكة وجن وأرواح وبشر وحيوانات وحجر وأنه جعل لهم وللنواميس الكونية من أفلاك وطبائع وللحالات النفسية من سحر وتوجه فكر دخلاً وتأثيرًا في تيسر الأمور الجزئية إيقاعًا أو منعًا وأعطاهم شيئًا من القوة القدسية وعلم الغيب. وتوهمهم هذا ناشئ عن قياسهم ملكوت ذي الجبروت على إدارة الملوك في اختصاصهم بتدبير مهمات الأمور وتفويضهم ما دون ذلك إلى العمال الأعوان واستعانتهم بالبطانة والحاشية وربطهم مجرى الأعمال بالقوانين والنظامات (مرحى) . ومن تتبع تواريخ الأمم الغابرة وأفكار الأمم الحاضرة لا يرتاب فيما قررناه من أن آفة البشر الشرك الذي أوضحناه فقط وكفى بالقرآن برهانًا فقد قال الله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) وقال تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} (الأنعام: 41) وقال تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) وقال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) إلى غير ذلك من الآيات البينات المثبتة أن زيغ البشر هو الإشراك من بعض الوجوه فقط الإنكار ولا الإشراك المطلق؛ لأن العقل البشري مهما تَسَّفَل لا ينزل إلى درجة الشرك المطلق. بناء عليه جرت عادة الله - جلت حكمته - أن يبعث الرسل ينقذون الناس من ضلالة الشرك وينتاشونهم من وهدة شره في الحياة الدنيا والآخرة ويهدونهم إلى رأس الحكمة أي (معرفة الله) حق معرفته لكي يعبدوه وحده بذلك تتم حجته عليهم ويملكون حريتهم التي تحميهم من أن يكونوا أرقاء أذلاء لألف شيء من أرواح وأجسام وأوهام. فثمرة الإيمان بأن (لا إله إلا الله) عتق العقول من الأسر وثمرة الإذعان بأن (محمد رسول الله) اتباعه حقًا في شريعته التي تحول بين المسلم وبين نزوعه إلى الشرك وتنيله سعادة الدارين. {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) أو قَبُحَ ما أَجْهَلَهُ. لا يهتدي إلى التوحيد إلا بجهد عظيم ويندفع أو ينقاد بشعرة إلى الشرك فيتلبس به على مراتب ودرجات في اعتقاد وجود قوة قدسية ترجى وتتقى في غير الله أو تبعًا لله ذاهلاً عن أنه لو كان في الأرض والسماء آلهة غير الله أي أصحاب تصرف في شيء ولو في تحريك ذرة رمل - لفسدتا. فالناس سريعو الإعراض عن ذكر الله إلى ذكر من يتوهمون فيهم أنهم شركاء وأنداد لله فيعبدونهم أي يعظمونهم ويخضعون لهم ويدعونهم ويستمدون منهم ويرفعون حاجاتهم إليهم ويرجون عند ذكر أسمائهم الخير ويتوقعون من سخطهم الشر، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (طه: 124) والله صادق الوعد نافذ الحكم. وفي الواقع - وبالضرورة والطبع - لا معيشة أشد ضنكًا من معيشة المشركين الذين وصفهم الله عز وجل بأنهم لأنفسهم ظالمون فقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) وقال: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49) ، وهذا زيد بن عمرو بن نفيل الحكيم الجاهلي ضجر من الشرك فقال من أبيان له: أربًّا واحدًا أم ألف ربٍّ ... أدين إذا تقسّمت الأمور تركت اللات والعُزَّى جميعًا ... كذلك يفعل الرجل الخبير ومثل الحياة الأدبية في الموحدين والمشركين كبلد سلطانه حكيم قاهر بابه مفتوح لكل مراجع وينفذ قانونًا واحدًا ولا يصغي لساعٍ ولا شفيع ولا يشاركه في حكمه أحد. وبلد آخر سلطانه جبان مغلوب على أمره نال منه مقربوه المتعاكسون وأعوانه المتشاكسون من حوائج خير لذويهم أو دفع شر عن أتباعهم فهل يستوي أهل البلدين؟ كلا لا تستوي السعادة والشقاء ولله المثل الأعلى فإنه جلّت عظمته لا يرضى أن يشاركه في ملكه أحد كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء: 116) ولا شك أن الشرك من أكبر الفجور وعمل السوء وقد قال تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 14) وقال تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء: 123) وما الجحيم والمجازاة خاصين بالآخرة بل يشملان الحياة الدنيا والآخرة. ثم أقول: إذا أراد المسلم أن يعلم ما هو الشرك المشئوم عند الله بمقتضى ما عرفه إياه في كتابه المبين يلزم أن يعرف ما هو مدلول ألفاظ (إيمان وإسلام وعبادة وتوحيد وشرك) في اللغة العربية التي هي لغة القرآن إذا قال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (الزخرف: 3) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} (إبراهيم: 4) فإذا علم المسلم معنى هذه الألفاظ وأراد أن يمتثل أمر به بأن لا يتعدى حدود الله يتعين حينئذ عنده ما هو مراد الله بالشرك الذي لا يرضاه والذي أشفق وخاف علينا نبينا عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيه فقال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك) [2] . ومن يبحث عما ذكر من الألفاظ يجد أن أهل اللغة مجمعون على أن المدلول للفظ (الإيمان) الطاعة والتسليم بدون اعتراض [3] وللفظ (العبادة) التذلل والخضوع [3] وللفظ (التوحيد) العلم بأن الشيء واحد، وإذا أضيف إلى الله فيراد به نفي الأنداد والأشباه عنه. ومن هذه المادة الواحد والأحد صفتان لله تعالى معناهما المنفرد الذي لا نظير له أو ليس معه غيره. وأصل معنى مادة الشرك لغة الخلط واستعمالاً الإشراك بالله وفي اصطلاح المؤمنين الإشراك بالله في ذاته أو ملكه أو صفاته. ثم إذا وزعنا اعتقادات من وصفهم الله بالشرك في كتابه العزيز على هذه الأنواع الثلاثة نجد مظنة (الإشراك في الذات) قائمة في اعتقاد الحلول وهو أنه تعالى شأنه عما يصفون أفنى أو يفني بعض الأشخاص في ذاته كقول النصارى في عيسى ومريم عليهما السلام، وقول غلاتنا في وحدة الوجود. وهذا النوع من الشرك عسر التصور والتعريف حتى عند أساطين أهله ولذلك يسميه النصارى حقيقة سرية ويسميه غلاتنا حقيقة ذوقية، (مرحى) . أما مظنات (الإشراك في المُلْك) فيدخل تحتها اعتقاد اختصاص بعض المخلوقين بتدبير بعض الشئون الكونية كاعتقاد اليهود في ملك الموت وكاعتقاد بعض الناس تصرُّفَ غير الله في شيء من شئون الكون كقول من يقول: (فلان عليه دَرَك البر أو البحر. أو الشام أو مصر) وأما مظنات (الإشراك في الصفات) فهي الاعتقاد في مخلوق أنه متصف بشيء من صفات الكمال من المرتبة العليا التي لا تنبغي إلا لواجب الوجود جلت شئونه

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الشذرة الرابعة من جريدة أراسم [*] الجزيرتان - والتعليم بضرب الأمثال يحسن أحيانًا في حوار الأطفال أن يكون تفهيمهم الحقائق على طريقة ضرب الأمثال. سألني (أميل) منذ أيام لماذا وجد في الناس فقراء وبدا لي من (لولا) كثرة اهتمامها بمعرفة العلة في أن فيهم أغنياء. جرى على الألسنة جواب مشهور لهذين السؤالين وهو (ذلك ما أراده الله) وما كنت لأجيبهما بمثل هذا التعليل؛ لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى أذهان الأطفال معنى كبيرًا لعدل الذات العلية وما كنت أيضًا لأدخل معها في أعوص مسائل علم الاقتصاد السياسي وأصعبها، من أجل ذلك رأيت أن أحسن جواب أخرج به من هذه الحيرة أن أقص عليهما قصة فقلت: روي أنه كان يوجد في مكان سحيق من بحر لست على يقين من معرفته جزيرة بنى فيها الأغنياء قصورًا من المرمر وزرعوا في أرضها بساتين وحدائق ذات بهجة ربوا فيها من الأزهار ما يندر وجوده في غيرها واحتفروا بركًا توفيرًا لأسباب اللذة، ولم يكن في الدنيا ما يعادل زخرف موائدهم فقد كان يطاف عليهم بصحاف من الذهب بها أشجار ضخمة طبخت بمرقة سرطان البحر، وهو ألذ ألوان الطعام في ذوق (أميل) وكانوا في لباسهم بالغين حد الإفراط في التأنق خصوصًا نساءهم وكان أولادهم يلعبون الكُجَّة [1] في الميادين العامة بكرات من الماس. وأما فقراء تلك الجزيرة فكانوا يمشون حفاة وكانت صباياهم تغدو كل يوم في أسمال من الثياب فتطوف بأبواب الأغنياء التماسًا لما ألقاه خدمهم من قمامات موائد العشية، لم يقتصر الأغنياء في سوء معاملتهم على استعمالهم في الأعمال الشاقة الممقوتة، بل إنهم كانوا يحتقرونهم، وبلغوا من ذلك إلى حد أنهم كانوا يحظرون على ذوي الثياب الرثة منهم أن يوجدوا في المنتزهات العامة ولم يكن لهذا الحظر من سبب سوى خوفهم على بُسُط هذه المنتزهات السندسية أن تدنسها أقدامهم أو خشيتهم أن يكون منظر بؤسهم قذًى في عيونهم، وهذا هو الأقرب إلى الحقيقة. من أجل ذلك كله غادر الفقراء المدينة ذات ليلة وآووا إلى جبل ليأتمروا بالأغنياء فكان رأي الشبان منهم أن يأخذوا أسحلتهم ويسطوا عليهم وهم نيام في مضاجعهم ويقتسموا أموالهم فقام من بينهم شيخ حكيم وتربص حتى قَرَّتْ شقشقتهم ثم قال: إياكم أن تفعلوا من ذلك شيئًا لأسباب ثلاثة أبديها لكم، أولها: أن الأغنياء يقوم على حراستهم في صروحهم خدم هم شر منهم وكلاب أضرى من الحراس أنفسهم. ثانيها: أني لا أعتقد أن سطوكم هذا عليهم وسلبكم لأموالهم يكون من العدل؛ لأنهم قد كسبوا هذه الأموال التي تحسدونهم عليها أو كسبها أسلافهم من وجوه شريفة أو خسيسة ثم ملكوها من بعدهم بمقتضى قوانين أرى مع كوني لا أدرك كُنهها كمال الإدراك أنه لا بد لوجودها من سبب؛ لأن جميع الناس محافظون عليها راضخون لأحكامها حتى الآن. ثالثها: أن ما يجوز أن تنزعوا اليوم من أعدائكم بغلبتكم عليهم يجوز أن يسلبه غدًا منكم غيركم بقوته وضعفكم فعلينا إذن أن نفكر جميعًا في اتخاذ وسيلة أخرى. لا بد أنكم سمعتم بوجود جزر أخرى في البحر غير هذه الجزيرة التي قضى علينا نحس طالعنا بالولادة فيها، فقد حكى لنا فقراء الملاحين إخواننا الذين يحضرون إلى هنا بسفنهم مشحونة بالأوراق ومواد الزخرف التي يستعملها الأغنياء أنهم رأوا غير مرة في أسفارهم أرضين تمهد من الماء مكللة بالنباتات والأشجار الكبيرة المثمرة ويستفاد من حكايتهم أن إحدى الجزر خاوية من السكان ولا ينقصها إلا إرادتكم حتى تصبح جنة جمة الثمار دانية الجنى فإن لنا سواعد قوية تساعدنا على العمل وها أنا مع شيخوختي سأكون لكم قدوة فيه وأمدكم بنصائحي عند الحاجة، هذا هو رأيي قد أفضيت به إليكم فانظروا ماذا تفعلون. فتلقى جميعهم نصيحته بالقبول وما تمّموا أن هاجروا إلى تلك الجزيرة متعاقبين على سفن واهنة صنعوها بأنفسهم من ألواح خصاصهم فثمل الأغنياء فرحًا لسفر هؤلاء الغوغاء ولم يستطيعوا كتمان فرحهم وكانوا يصفقون ويجهرون بقولهم: حبذا حبذا هذا الخلاص! قلما كانت تلك السفن تقل إلا أشخاص المهاجرين؛ لأنهم لا يملكون شيئًا، أستغفر الله، بل إنهم حملوا معهم فيها أدوات عملهم. مضى على سفرهم بضع سنين انقطعت فيها أخبارهم واختلفت أقوال أهل الجزيرة في شأنهم فمن قائل بأن البحر ابتلعهم ومن واهم بأنهم أكل بعضهم بعضًا. وبينما هم في هذا الاختلاف إذ رأوا ذات يوم سفينة مشحونة بالغلال وعروض التجارة رست على ميناء جزيرتهم فلم يلبثوا أن عرفوا من لهجة ملاحيها وبعض ملامح وجوهم أنهم من سكانها السالفين وقد أخبرهم هؤلاء الملاحون أنهم آتون من جزيرة أخرى استقامت فيها أمورهم ونجحت نجاحًا عظيمًا؛ لأنهم ما حرثوا الأرض وأحيوا مواتها حتى جللتها الحصائد وملأتها المزارع والمواشي فاعتبر الأغنياء هذه الأخبار من الأساطير وقهقهوا لسماعمها قهقهة المجانين. على أن الملاحين لم يكونوا مبالغين في شيء مما قالوا، فإنه كان يخرج من أرض تلك الجزيرة القفرة على نحو من السحر حقول مكسوة بالزروع وقرى ومدن وطرق ومدن وترع، فكان سكانها في معيشتهم على وفاق تام؛ لأنهم كانوا منها في غبطة وهناء، وقد ضربت عليهم السكينة رواقها فكانوا يعتبرون أبناءهم بذورًا لخلف أرقى وأكثر منهم ولذلك كانوا يبكرون بتعليمهم العمل وإنشائهم على حبه. أصبح الأمر على خلاف ذلك في جزيرة الأغنياء فكانت الثروة تنقص من يوم إلى يوم؛ لأن سكانها لما كانوا من فرط الكبر والكسل بحيث إنهم يستنكفون أن يتولوا بأنفسهم حرث الأرض لم تلبث أن امتلأت عاقولا وتعطلت جميع الحرف والصنائع لفقد عمالها وتبع ذلك زوال مواد الزخرف وتداعت الصروح والقصور والمقصود فلم يوجد من الرجال من يقيم من منآدها. فزع الأغنياء في بدايا هذا الانحطاط إلى صناع الجزائر المجاورة لهم فلم يجيبوا دعوتهم؛ لأنهم كانوا على بينة مما كانوا به إخوانهم فلم يرضوا لأنفسهم ما قاساه هؤلاء من ضروب الإهانة. نعم إن من بقي في الجزيرة من سكانها كانوا يملكون كثيرًا من الذهب والفضة وأنهم اشتروا من التجار الأجانب كل ما كانوا في حاجة إليه مدة من الزمن ولكن كل كنز لا بد من نفاذه بالغًا من الكثرة ما بلغ خصوصًا إذا كان أصله لا يتجدد من أجل ذلك لم يمض إلا بضع سنين حتي غاضت أموالهم وأنشأوا يندمون ولات حين مندم على ما فرط منهم من القسوة والظلم في معاملة الفقراء. صاروا إلى حالة محزنة جدًّا فقد تخلى عنهم من كانوا يحوطونهم من الخدم والحشم لعجزهم عن دفع أجورهم وعجزت خيلهم عن جر عجلاتهم لفقدها من كانوا يقومون على تغذيتها وإصلاح شأنها وكانت نساؤهم تُرى في الشوارع منتعلات نعالاً من الديباج مشوهة الأعقاب ولابسات جلابيب من الحرير المذهب كلها ممزق ومخرق؛ لأنه يخجل أولئك السيدات الجليلات أن يرقعن ثيابهن بأيديهن فإذا نظر إليهن ناظر وهن في هذه الأهدام بهذا الصلف والعجرفة بعثته حالهم إلى الضحك والاستهزاء بهن لو لم يكن من القسوة واللؤم الاستهزاء بالتعساء البائسين ولو كانوا من الأشرار. وجملة القول أن جزيرة الأغنياء المترفين قد أصبحت جزيرة الفقراء المعدمين. كان القحط يزداد فيها من سنة إلى أخرى فقد ضعفت الأرض على التحصيل لعدم ما كان يخدمها من الأيدي وكاد الأغنياء يموتون جوعًا في صروحهم ولو لم يتداركهم أولئك الفقراء الذين أخرجوهم من ديارهم بالإفراط في سوء معاملتهم ويساعدوهم بما فضل عن حاجتهم لهلكوا عن بكرة أبيهم. كان (أميل) كثير الإصغاء إلي في حكايتي لهذه القصة وما فرغت منها حتى ابتدرني بقوله: (يستفاد من القصة إذن أن العمل هو سبب الغناء والثروة) فأجبته أن هذا ليس مطردًا ولكن أقل فائدة له أنه يغني الأمم التي تعرف مناهج العدل وتسلكها. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

أأحياها محمد علي وأماتها خلفه؟

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أأحياها محمد علي وأماتها خلفه؟ نشرنا ما نشرناه في المنار من الخلاصة التاريخية لمحمد علي الكبير وحده وليس فيه تعرض لذكر بيت الإمارة (العائلة الخديوية) في مصر بمدح ولا قدح ولكننا لم نسلم من عقارب السعاية، فقد قال المحّالون أننا أهنّا هذا البيت الرفيع، وهم كاذبون، فإننا نبرأ من إهانة البيت أو إهانة أي فرد من أمرائه، ولكن خواص الناس الذين اتفق لهم الاطلاع على خطبة مصطفى بك كامل التي ألفها وطبعها وقرأها في الإسكندرية قد عجبوا لما فيها من المبالغة والغلو في مدح محمد علي وذم خلفه في الإمارة لا سيما إسماعيل باشا ومن بعده. وإنما عجبوا - ولا عجب في خطل الأحداث - لعلمهم بأنه لا يراد بالخطبة خدمة لتاريخ، ولا تأييدًا لمعتقد، ولا تنبيه الأمة إلى عمل معين يمكن أن تعمله، وإنما المراد بها إرضاء الأمير الحاضر، والتزلف إليه، والشهرة بين الناس. ولهم أن يعجبوا ممن يحاول إرضاء إنسان بقوله: إن جدك الأعلى بنى، وأنت وأبوك وجدك الأدنى هدمتم، وجدكم الأعلى أحيا وأنتم أمتم، وجدكم الأعلى حفظ وأنتم أضعتم. فهذا هو ملخص الخطبة، ونحن نزيده تفصيلاً تبرئة للمنار من قول السعاة المحالين أنه أهان البيت الخديوي الآن، وتوجيهًا للأفكار إلى هذه المسألة الحيوية التي هي أم المسائل الاجتماعية والسياسية في مصر. كلام الخطبة المؤيّد بكلام صاحبها في جريدته - وسائر قوله صريح - في أن الأمة المصرية أمة حية قوية، عزيزة الجانب، مستعدة لأن تَبُذَّ جميع الأمم وتعلوها في كل علم وكل عمل، وإنما يظهر أثر هذا الاستعداد وهذه الحياة إذا كان أميرها ومدير شوؤنها كفؤا للإمارة، قادرًا على الإدارة، ولذلك جاءها محمد علي الكفؤ القادر، وهي على شر حال، فعمل بأيديها أعظم الأعمال، وصريح أيضًا في أن مصر الآن في ذل وصَغَار وضعف ومهانة: حقوق مغصوبة، ووظائف مسلوبة، وعزائم مقبورة، ومزايا مستورة ولكنه سكت عن التصريح بالسبب للعلم به مما قبله مع عدم إمكان التصريح به؛ لأن كل إنسان يفهم أن السيف الذي يقط الرقاب ويفلق الهام وهو صَدِيء مُفَلَّل لا يعجز عن ذلك بعد السن والشحذ، وأن العمل الذي يقدر عليه الإنسان وهو ضعيف ومريض يكون أقدر عليه بعد عود الصحة وثوب العافية. فكيف دوخت الأمة المصرية الأمم القوية وظفرت بالدول الحربية المستعدة مع محمد علي واستسلمت وخنعت للإنكليز على عهد توفيق وعباس الثاني، إن هذا لعجاب بلسان مقال مصطفى بك كامل، ولسان حاله بل مفهوم كلامه يقول: وعادة السيف أن يزهو بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل جاء في الصفحة الرابعة من الخطبة أن الأمة المصرية التي فتحت البلاد والأمصار، وكان عددها يومئذ لا يزيد عن ثلث عددها اليوم قادرة على بلوغ غاية العز ... وجاء فيها أن محمد علي ما ضرب وغلب وساد، وأخضع لسلطان مصر البحار والبلاد، إلا بعقل المصريّ وبأسه، وجاء في الصفحة الخامسة أنه أخذ مصر (وهي عليلة ضئيلة لا حراك بها) ... (فرآها بعد عهد الشقاء وزمن البلاء وأيام المحن والفتن قادرة على القيام بأعظم الأعمال، فيها من روح الحياة وقوة النهوض ما يزحزح الجبال الراسيات، وتخرّ أمامه الشمّ الثابتات) ثم ذكر الجند الذي جنده وهو جند الغزاة الفاتحين، وأنه (أخرج من أولئك الفلاحين الذين طالما تصرفت فيهم الكوارث كما شاءت أبطالاً وشجعانًا اهتزت الأرض تحت أقدامهم إجلالاً وإعظامًا وعجزت جيوش العالم عن مجاراتهم ومناظرتهم) . وفي الصفحة الخامسة كشف السر عن ظهور المصريين بعد ذلك الذل المهين بمظهر الفاتحين القادرين وهو أن (محمد علي) الذي أدرك بواسع عقله كنوز هذا الاستعداد في المصريين (لم يترك لليأس سلطانًا على نفسه) كأنه يقول إن الأمير الموجود لم يدرك هذا الاستعداد بعد ظهوره في أكمل مظهر بعمل جده وكان جده رآه وهو كنز مخفيّ، وأن هذا يئس من نفسه ومن أمته ولذلك لم يتصد للانتفاع بكنوز استعدادها الظاهرة. نعم إنه لم يصرح بهذا ولكنه قال في أول الصفحة السابعة أن من يعرف جيش مصر وأسطولها في زمن محمد علي يظن (أن حادثًا استثنائيًّا محا أمة إليها تنتهي القوة وأحلّ محلّها أمة عاداها الزمان فلم يترك لها إرادة ولم يلبسها غير لباس الوهن والاستسلام) فهل أن نفسر هذا الحادث الاستثنائي على رأيه بغير ما تقدم من عدم معرفة الأمير الحاضر بقوة الأمة المصرية ويأسه من نفسه ومنها؟ كيف والأمة في أعلى الدرجات؟ وكأنه ذكر الأسطول تعريضًا ببيع البواخر الخديوية على عهد هذا الأمير. بعد هذا نوهت الخطبة (ص7) بالمعامل والمصانع التي أنشأها محمد علي في المدائن والقرى، وبالعمال الذين ازدحمت بهم البلاد ولم يذكر لنا مَنْ هدم تلك المعامل، ومَنْ غلّ أيدي هذه الأمة الحية عن الأعمال بعد ارتقائها فيها، ثم عادت إلى التنويه بالقوة الحربية والسياسية ففي الصفحة التاسعة أن (محمد علي) أحاط مصر بسور من القوة والرهبة وجمع شملها بعد أن كانت مفرقة؛ فصارت وطنًا واحدًا لأمة واحدة. وأنه: (وهب مصر عقلاً مدبرًا وقلبًا شاعرًا وساعدًا شديدًا ومجدًا تليدًا (كذا) وأنه وهب المصريين وطنًا وأمة وحكومة ولسانًا، وطبع على قلوبهم وأفئدتهم محبة الوطن والشهامة والإقدام وحبّب إليهم الفتح والنصر ورفع الراية المصرية على كل صقع ومكان) . فأين ذهبت هذه المزايا كلها وكيف حل محلها (الوهن والاستسلام) وكيف هبطت من أعلى مكانة تعرج إليها الأمم إلى أسفل تيهور؟ لا يُفْهَمُ من الكلام إلا أن أحفاد ذلك الواهب هم الذين استردوا الموهوب وفرقوا الشمل المجتمع، وحولوا بسياستهم الشهامة والإقدام إلى ذل ووهن واستسلام، يدل على هذا ما بعده في الخطبة. جاء في الصفحة التاسعة عقيب ما تقدم أن حكومة محمد علي كانت (قائمة على مبادئ ثلاثة لا تدوم دولة بغيرها، ولا تحيا مملكة بدون إحياءها؛ وهي: أولاً: حماية الوطن من اعتداء الاجنبي وسلطته. ثانيًا: ترقية المصري إلى أسمى الوظائف وترشيحه إلى استلام مقاليد الأمور.. ثالثًا: الامتناع عن الدَّيْن واجتنابه كل الاجتناب، وظاهر أن أحفاد محمد علي لم يتمسكوا بهذه المبادئ التي لا تدوم دولة بغيرها فإسماعيل باشا أخذ الدَّين بالملايين وهو أساس الاستعباد كما في (ص11) من الخطبة، وتوفيق باشا لم يسمع شكوى المصريين حتى ضباط العساكر من ترقيته الجراكسة والأتراك (الدخلاء) في الوظائف السامية وحرمان أبناء الوطن العزيز منها ثم استعان عليهم بالإنكليز عندما اجتمعت كلمتهم وثاروا يطلبون أحد المبادئ (الثلاثة) التي زعم حَدث السياسة أن (محمد علي) أقام عليها حكومته، وأن إسماعيل باشا وتوفيق باشا هما اللذان أضاعا البلاد المصرية وأماتاها وهدما دولة جدهما. وفي هذا بيان لحقيَّة مطالب العُرابيين، فلا ندري هل فهم الخطيب من خطبته ما فهمه كل قارئ أم لا؟ إن كان قاله عن فَهْم فلم يعلن العُرابيين في جريدته؟ وإن كان قاله من غير فَهْم فكيف يكن هو مؤلف الخطبة ومنشئها ولا يفهمها! ! وفي الصفحة العاشرة فصل الخطاب في مقابلة الخطبة بين الماضي والحاضر قال: (مصر اليوم تمتثل الاستسلام للإنكليز، والرضوخ لسلطته، والامتثال لإرادته، وهي هي التي ردته عن الديار تحت إمارة محمد علي وفي ظل رايته) ثم أثنى على الأمة المصرية بغلب الإنكليز ما أثنى، وذكر أن إنكلترا (أرادت أن تقضي على هذا الملك الجديد وهذه الدولة الناشئة) فأراها يومئذ بنو مصر أي أمة هم وأراها محمد علي أي أمير هو! فتركت الثغور والبلاد آسفة على فشلها معجبة بهذا المجد الباهر، والعزم القاهر، والوطنية الحقة، والهمة الحديدية) منطوق الكلام صريح في أن الذي أرى الإنكليز ذلك العزم القاهر في نفسه، وفي الأمة المصرية هو محمد علي، وأنه هو الذي كان إمام الأمة في الاستقلال ومفهومه أن أميرها في عصر الاحتلال الحاضر لم يقدر أن يرى الإنكليز..، أي أمير هو؟ وأية أمة أمته؟ فالنتيجة أنه هو القائد والإمام في هذا الاستسلام. ولكن أكثر المصريين إن لم نقل كلهم قالوا: إن الأمير الحاضر (وفقه الله تعالى) قد جاء مصر بهمة محمد علي وعزمه، وزاد عليه بدينه وعلمه، ولكنه لم يجد في البلاد رجالاً أصحاب عزائم يعمل بهم كما وجد محمد علي، والسبب في هذا هو ما تقدم في المنار الماضي من كون محمد علي وجد الشجاعة والعزيمة والنجدة في البلاد فحارب بها وحاربها حتى فنيت بعد ولايته في زمن قريب، فمقالة (آثار محمد علي في مصر) التي نشرناها في الجزء الماضي يمكن أن يحتج بها من يعتذر لأميرنا الحاضر (أيده الله) وإذا سلمت هذه المدائح والمناقب التي ذكرت في الخطبة لمحمد علي فهي حجة على كل أولاده وأحفاده، ويجب أن تبعث في نفوس المصريين حب محمد علي وبغض جميع ذريته الحاكمين ومقتهم؛ لأنهم هم الذين أضاعوا استقلال النفوس فضاع في أثره استقلال البلاد لا سيما بُعْد الدين وإعطاء الوظائف (للدخلاء) . وإن تعجب فعجب سعي بعض الذين يزعمون حب سمو الخديو الحاضر أو سعايتهم إليه باسم النصيحة بأن يجتهد في مقاومة كل صاحب إرادة وعزيمة في مصر، حتى قال أحدهم لسموه (إذا لم تقطع هذه الرؤوس الناتئة كما فعل جدك فلا يصفو لك الملك في مصر) فليتق الله هؤلاء الذين يقدحون من حيث يمدحون، ويغشون في عين ما به ينصحون، ويضرون الراعي والرعية إذا رأوا أنهم ينتفعون. ومما يصح أن يعد حجة صريحة في الخطبة على ما تقدم فيها بالمفهوم من أن خلف محمد علي هدموا ما بناه، وأماتوا ما أحياه، ما في الصفحة (13) من المقابلة بين الأمة المصرية، والأمة اليابانية، وتفضيل نشأة الأولى على الثانية، والحكم بأنها لو سلكت السبيل الذي وجهها إليه محمد علي لبلغت من الشأن والشأو ما لا يُكْتَنَه كُنْهه، فإذا وجه الحكام المطلق الأمة إلى شيء هو في طبيعتها واستعدادها فمن الذي يحولها عنه بعد ذلك إلا الحاكم المطلق الذي هو مثله؟ الكلام صريح، ليس بتعريض ولا تلويح. هذه هي الخطبة من حيث المقابلة بين الماضي والحاضر ومدح محمد علي وهجو خَلَفه ولا نتعرض لما فيها من الغلو والكذب على التاريخ كزعم أن محمد علي وفق بين المدنية العصرية والدين والإسلامي وغير ذلك فمحمد علي لم يكن عالمًا ولا فيلسوفًا وإنما كان أميًّا لا يعرف من علوم الدين ولا من علوم الدنيا شيئًا. وفي الخطبة أنه تعلم القرءاة بعد الأربعين. ولكنه لم يتعلم من العلم شيئًا وحسبنا ما تقدم في المنار من حقيقة أمره. نعم إننا لم ننكر أنه كان جنديًّا باسلاً وشجاعًا حازمًا وبذلك تيسر له أن يكون قائدًا لأولئك الشجعان الذين أَبَادَ بِهِم ثم أبادهم. وبقى في الخطبة كلمتان لا بد من التنبيه عليهما. إحداهما ما جاء في الصفحة (15) من أنه بقى في مصر من الاستقلال الذي أزاله الإنكليز قوة كبرى إليها انتهت وتنتهي كل قوة في مصر وهي السلطة العالية التي استمدت وتستمد البلاد منها كل نجاح وفلاح وهي عرش الخديوية الذي يمثل قوة مصر في ماضيها وآتيها. فمن ذا الذي يستطيع أن يفهم هذا الكلام، بعد كل ما تقدم من الإيهام، وهل يصح أن يسأل قائله عن رأيه في استعمال صاحب هذا العرش المتولي على هذه الأمة الحيّة لهذه القوة الكامنة أولا؟ وثانيهما نصيحته في آخر الخطبة للمصريين أن يتركوا اليأس ويبنوا مجدهم المقبل على (التربية الوطنية) ليخرج منهم رجال عظام يبدلون ليل الأوطان بالنهار. فهل ير

مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب عظيم بوفاة عالم حكيم في يوم الجمعة 6 ربيع الأول أصيب الشرق بفقد رجل عظيم من رجال الاصلاح الإسلامي، وعالم عامل من علماء العمران، وحكيم من حكماء الاجتماع البشري، ألا وهو السائح الشهير، والرحالة الخبير، السيد الشيخ عبد الرحمن الكواكبي الحلبي مؤلف كتاب (طبائع الاستبداد) وصاحب (سجل جمعية أم القرى) الملقب فيه بالسيد الفراتي. اختطفت المنية منا بغتة هذا الصديق الكريم، والولي الحميم، بل هدمت منا الركن الركين، وقوضت أقوى الدعائم والأساطين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لو كان الرثاء والتأبين من موضوع المنار لرثيته بما يليق بخَطْبِه العظيم، وما كنت لأستعير المدامع لأستعبر القارئ والسامع، ولا لأستمدّ الرثاء من خيال الشعراء، ولا الحزن من فؤاد الخنساء، وإنما أستملي القلب بعض ما يجد من الكرب، فإنه ما أحزنني خطب كخَطْبِه، ولا أَمَضَّنِي كَرْب ككربه. حزني عليه دوره مسلسل ... مهما انتهى إلى النفاد انقلبا ولكنني أدع الرثاء والتأبين لأفاضل الشعراء المجيدين، وأذكر في المنار ما يليق بموضوعه من خلاصة سيرة هذا الرجل؛ ليعلم القراء منها كيف يُنْبِت الشرق الرجال العظام، وكيف تُضيّعهم الأمم والحكام، ولتكون ذكرى لمن يدَّكر، وعظة لمن يعتبر، وأبدأ بترجمة الفقيد الرسمية وهي مطبوعة في ورقتين رسميتين إحداهما مُصَدَّق عليها من والي حلب المشير عثمان نوري باشا ورؤساء حكومة حلب يومئذ، والثانية مُصَدَّق عليها من الوزير رائف باشا والى حلب وهي الأخيرة وإنما أبدأ بالسيرة الرسمية؛ لأنها من مواد استنباط سيرته الاجتماعية والسياسية والأدبية وهذا تعريبها ملخصًا: السيرة الرسمية هو عبد الرحمن أفندي ووالده الشيخ أحمد أفندي من آل الكواكبي ومن المدرسين في الجامع الأموي الكبير والمدرسة الكواكبية، وآخر وظيفة كان فيها عضوية مجلس إدارة ولاية حلب. وبيتهم من بيوتات المجد والشرف (خاندان) المشهورة في الأستانة العلية وحلب. ولد السيد عبد الرحمن أفندي الكواكبي في 23 شوال سنة 1265 وتعلم القراءة والكتابة في المدارس الأهلية الابتدائية، ثم استحضر له أستاذ مخصوص عَلَّمَه أصول اللسانين التركي والفارسي. وتلقى العلوم العربية والشرعية بمدرسة الكواكبية المنسوبة لأُسرته، وأخذ الإجازات من علمائها ودَرَّس فيها. وهو يقرأ ويكتب بالعربية والتركية. وقد وقف على العلوم الرياضية والطبيعية وبعض الفنون الجديدة بالمطالعة والمراجعة. ومن تأليفه تحرير الجريدة الرسمية (فرات) بقسميها التركي والعربي في سنة 1292 إلى سنة 1297. ومنه جريدة الشهباء التي أنشأها في حلب سنة 1293 وكان هو المحرر لها. خدمته ووظائفه: دخل في وظائف الدولة رسميًّا في الثامنة والعشرين من عمره وفي سنة 1293 عُيِّنَ محررًا رسميًّا للجريدة الرسمية بقسميها (كأنه كان في سنة 1292 يحررها بصفة غير رسمية للاختبار) براتب قدره ثمانمائة قرش. وفي 5 ربيع الأول سنة 1295 عُيِّن كاتبًا فخريًّا للجنة المعارف التي تأسست في ولاية حلب (يعنون بالفخري ما كان بدون راتب) . وبعد ثلاث سنين اتسعت دائرة اللجنة وزيد فيها قسم النافعة (الأشغال العمومية) وعين عضوا فخريًّا فيها. وفي 2 جمادى الأولى تعين محررًا للمقاولات (مسجل المحكمة) وفي 16 ربيع الثاني سنة 1298 صار مأمورالإجراء (رئيس قلم المحضرين) في ولاية حلب. وفي 7 رمضان سنة 1298 عين عضوًا فخريًّا للجنة (قومسيون) النافعة. وفي 22 ذي القعدة سنة 1299 عين بأمر نظارة العدلية (الحقانية) في الآستانة عضوًا في محكمة التجارة بولاية حلب مع البقاء في وظيفته الأولى (محرر المقاولات) وفي سنة 1303 انفصل من هذه الأخيرة وفي 4 رجب سنة 1304 عاد إلى وظيفة مأمور الإجراء، وفي 23 رجب سنة 1310 عُيِّنَ رئيسًا للبلدية. إلى هنا انتهت وظائف الترجمة الرسمية الأولى، وجاء في الثانية بعد ذكر ما تقدم أنه في 29 من ربيع الأول سنة 1312 عين رئيس كُتّاب المحكمة الشرعية في حلب (باشكاتب) بقرار من مجلس النواب في دار السعادة. وفي 28 ذي الحجة سنة 1312 عين ناظرًا ومفتشًا لمصلحة انحصار الدخان (الريجي) المشتركة مع نظارة المالية في ولاية حلب ومتصرفية الزور، وفي أثناء ذلك اتفق مع إدارة المصلحة وتعاقدا على أن يستلم من المصلحة جميع ما تقدمه من الدخان (التبغ) إلى الولاية المتصرفية بزيادة كثيرة عن القدر المعتاد وجميع ما يزرع فيهما منه، ويتولى بيعه، وتعهد في إزاء ذلك بمبلغ من المال يزيد عما كانت تبيع به المصلحة دخانها زيادة كبيرة. وفي غضون ذلك استقال من رياسة كُتَّاب المحكمة الشرعية ثم في 9 ذي الحجة سنة 1314 أعيد إليها وعين رئيسًا للجنة البيع والفراغ (أي استبدال الأراضي الأميرية من أصحاب اليد بالمال) وفي 7 ربيع الأول عين رئيسًا أولاً لغرفة التجارة في حلب ورئيسًا لمجلس إدارة المصرف (البنك) الزراعي، وفي 22 رجب عين قاضيًا شرعيًّا لراشيا التابعة لولاية سوريا. رتبه ووساماته: في 19 رجب سنة 1297 وجهت إليه نيابة دروس أدرنة العلمية. وفي 25 ربيع الثاني وجه إليه تدريس هذه الرتبة. وفي 22 ذي الحجة سنة 1312 وجهت إليه مولوية أزمير المجردة. وفي 28 من جمادى الثانية أعطي الوسام المجيدي من الدرجة الثالثة. اهـ إن من ينظر في هذه الترجمة الرسمية ولم يكن عارفًا بالمترجم ولا بسيره في هذه الوظائف العلمية الأدبية، الإدارية القلمية، الحقوقية التجارية، الزراعية المالية يقول: إن صاحبها من أوساط الناس لا من أفراد الرجال الذين يعدون من علماء الاجتماع وأركان العمران، ومهذبي الأمم كما وصف في فاتحة القول، ولكن من يعلم أنه في كل عمل منها آية بينة في إتقان العمل، وحكمة التصرف، يحار كيف يحسن رجل هذه الأعمل المتباينة. وإذا وقف بعد ذلك على بعض سيرته في العزيمة وقوة الإرادة وعلم ما كانت تسمو إليه نفسه، ويرمي إليه فكره، وقرأ بعض ما جادت به قريحته الوقادة، وفكرته النقادة، علم أنه من أفراد الزمان، وأدرك ماذا كان يرجى منه لو ساعد الزمان والمكان، وإننا نلم بشيء مما وقفنا عليه من سيرته في مدة صحبتنا له في هاتين السنتين اللتين أقامهما في مصر. أدبه وأخلاقه: توفيت والدة الفقيد وهو في أول سن التمييز فعهد والده بتربيته إلى خالة له (من بيوتات أنطاكية) من نوابغ النساء اللواتي قلما يعرف مثلهن الشرق، لا سيما في هذا الزمان، كانت تعرف بالعقل والكياسة والدهاء والأدب البارع فنشَّأته على أدب اللسان والنفس فكان من أخلاقه الراسخة الحلم والأناة والرفق والنزاهة والعزة والشجاعة والتواضع والشفقة وحب الضعفاء. وقد كنت ككل من عرفه معجبًا بأناته حتى كنت أقول: إنني أراه يتروّى في رد السلام ويتمكث في جواب من يحييه عدة ثوان! ولا أكاد أعرف أخلاقًا أعصى على الانتقاد من أخلاقه ولقد كان لسان الحال يصفه بقول ابن دريد: يعتصم الحلم بجنبي حُبْوتِي ... إذا رياح الطَّيْش طارت بالحبي لا يطبيني طمع مدنّس ... إذا استمال طبع أو اطَّبي والحلم خير ما اتخذت جُنَّة ... وأنفس الأبراد من بعد التقى علمه ومعارفه: نزيد على ما جاء في السيرة الرسمية أن الفقيد درس قوانين الدولة درسًا دقيقًا، وكان محيطًا بها يكاد يكون حافظًا لها وله انتقاد عليها يدل على دقة نظره في علم الحقوق والشرائع، ولهذا عينته الحكومة في لجنة امتحان المحامين. ولا أعلم أن برّز في فن أو علم مخصوص فاق فيه الأقران ولكنه تلقى ما تلقاه من كل فنُ يفْهَم، وعَقِل بحيث إذا أراد الاشتغال به عملاً أو تأليفًا أو تعليمًا يتسنى له أن ينفع نفعًا لا ينظر من الذين صرفوا فيه أعمارهم. ألا تراه كيف ألف كتابًا في طبائع الاستبداد لم يكتب مثله فيلسوف في الشرق ولا في الغرب فيما نعلم وكما سمعنا من كثيرين لهم اطلاع واسع في مؤلفات فلاسفة الغرب وكتابه. على أن الفقيد لم يتعلم شيئًا من علوم النفس والأخلاق والسياسة وطبائع الملل والفلسفة في مدرسة، وإنما عمدته في هذه العلوم ما طالعه فيها من المؤلفات والجرائد التركية والعربية. أرأيت عقلاً يتصرف هذا التصرف الذي يفوق فيه الحكماء والفلاسفة في علم لم يأخذه بالتلقي وهو أصعب العلوم البشرية وأعلاها. كيف يكون أثره لو تربى وتعلم في مدارس منتظمة كمدارس أوربا الجامعة وكان عنده من مواد العلم ومعرفة الأمة والحكومة بقيمة صاحبه مثلما في أوربا. وبالجملة إنك لم تكن تذاكره في شيء ولا علم إلا ويشاركك فيه على بصيرة. عمله ووجهته: كانت وجهة الفقيد في كل عمل عمله أو حاوله هي المنفعة العامة فأول شيء ولاَّه وجهه هو إنشاء جريدة في بلاد لم تكن تعرف الجرائد الأهلية ولم تكن بضاعة الكتب رائجة فيها ولو كان في بلاده حرية للجرائد لكان في (الشهباء) الأثر المحمود، ولكن البلاد التي تحكم بالاستبداد كالأرض الموبوءة لا تحيا فيها الجرائد، ولذلك لم تنجح جريدة من الجريدتين اللتين أنشأهما لأن نفسه الأبية لم تستطع إرضاء الحكام فيما يكتب. وهكذا كان شأنه في وظائفه: ولي رياسة البلدية فكان أول عمل عمله للبلدان أن وضع على طرق المدينة من خارجها سلاسل من الحديد تمنع الجمال التي كانت تسدّ الطرقات وتمنع المارين من التردد في حوائجهم وجعل لهذه الجمال التي تُحْمَل إلى البلد ومنه مكانًا أو أمكنة مخصوصة، وكانت مصلحة (القبان) قد حصرت في واحد من الأغنياء يأخذها من البلدية بالالتزام ولا يتجاسر على الزيادة عليه أحد لتقربه من الرؤساء فلما علم أن الرئيس الجديد لا يصدّه التقرب إليه عن خدمة المصلحة عرض عليه أربعين ألف قرش أو أكثر يعطيه إياها (رشوة) كل عام في مقابلة سكوته عنه فلم يقبل الفقيد أن يأخذ لنفسه شيئًا ولكنه قبل أن يكون المبلغ إعانة لصندوق البلدية فعلم الوالي بهذه الزيادة في الصندوق وسعى في أن يكون له سهم منها فأبى عليه الفقيد ذلك فعزله. وهكذا كانت سيرته مع الحكام في كل وظائفه أو جلها: يتصدى للإصلاح فيصدونه عنه لأجل منفعة مالية أو لتقليل نفوذه فلا يتم له عمل. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

أمالي دينية الدرس ـ 35 ـ عدد الأنبياء ومواطنهم وتعددهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (الدرس 35) عدد الأنبياء ومواطنهم وتعددهم (المسألة 96) عدد الأنبياء والمرسلين رووا في عددهم أحاديث لا يحتج بشيء منها ومنها الضعيف والموضوع وأمثلها ما رواه أحمد والطبراني وابن حبان والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء عن أبي أمامة قال: قلت يا رسول الله كم عدد الأنبياء؟ قال (مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمًّا غفيرًا) وفي رواية للحاكم والبيهقي عن أبي ذر (والمرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر وآدم نبي مكلّم) ومن حديث أنس عند الحاكم وابن سعد أن الأنبياء ثمانية آلاف ويفهم منه أن المراد بهم المرسلون، وفي حديث جابر عند ابن سعد، وأبي سعيد عند الحاكم (إني خاتم ألف نبي أو أكثر) ولعدم الثقة بهذه الروايات قال العلماء بالوقف في مسألة عدد الأنبياء؛ لأن القائل بعدد يكون نافيًا لما زاد عنه فهو كالمكذّب بالزائد وما يدريه لعل هناك زيادة. هكذا قالوا وأقوى منه أنه قول على الله بغير علم فهو من الكذب عليه جلّ ثناؤه ومن اتباع الظن في الأمور الاعتقادية {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) . وقد قال تعالى لنبيه {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78) فحسبنا من العدد ما قصّه الله تعالى في القرآن أن الرسل الذين ذُكروا في القرآن يجب الإيمان بهم تفصيلا. قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ} (الأنعام: 83-86) فهذا هو تفضيل النبوة والرسالة يَفْضُلُونَ به سائر الناس. وقد وردت هذه الأسماء متصلة على هذا الوجه، وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ} (مريم: 56) وقال جل جلاله في ذكر قصص المرسلين {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} (الأعراف: 65) وقال: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} (الأعراف: 73) وقال: {َإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} (الأعراف: 85) أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا ومثله ما بعده وقال تعالى: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ} (ص: 48) ، فذكر ذا الكفل بين الأنبياء، ولم يبق إلاَّ ذكر الفاتح وهو آدم والخاتم وهو محمد عليهم الصلاة والسلام وذكرهما في القرآن مستفيض. *** (المسألة 97) معاهد الأنبياء ومواطنهم: إن المعروف من تاريخ هؤلاء الأنبياء الكرام يدل على أنهم كانوا كلهم أو جلّهم من بلاد العرب وما يتصل بها من الشام وفلسطين والعراق كأن هذه القطعة الصغيرة من الأرض التي يكوّن منها القاموس الهنديُّ والبحر الأحمر والبحر المتوسط شبه جزيرة هي منبت الأنبياء والمرسلين من بعد آدم أي من عهد نوح إلى عهد محمد عليهما الصلاة والسلام. وكأن الله تعالى اختص أهلها بالهداية دون سائر خلقه وإن القول بحصر النبوة والرسالة في هذه البقعة لمن أقوى شبه الملاحدة على الدين وهو ينافي ما تقدم في بيان وجه الحاجة إلى إرسال الرسل فيمكن أن يبطلوا ذاك بهذا إن صح وقد حملهم ما رأوا في كتب اليهود والنصارى من حصر الأنبياء في بلاد فلسطين والشام وما جاورها على البحث في أخلاق أهل هذه البلاد وطبائعهم وعاداتهم فزعموا أن عند خواصهم استعدادًا خاصًّا للقيام بالدعوات الدينية والمذاهب والرياسة الروحية وأن عند عوامهم استعدادًا لإجابة كل داعٍ واتباع كل ناعقٍ قالوا: ولأجل هذا حدثت الأديان والمذاهب والفرق في هذه البلاد دون غيرها. هذه الوساوس لا منفذ لها إلى قلب من يفهم القرآن فقد قال جلت حكمته: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) فهذا نص قاطع صريح في أن هذه الرحمة الإلهية والهداية السماوية كانت منحة عامة لجميع الأمم في كل بقعة من بقاع الأرض. وإنه لقول فصل، تصافح فيه العقل والنقل، فإن قيل لِمَ لَمْ يذكر في بيان هذا الإجمال بذكر الأنبياء والمرسلين نبيَّا أرسل في الهند أو الصين أو أوربا أو أميركا؟ نقول إن ذكر الأنبياء لم يأت بيانًا لإجمال في هذه الآية وإنما أتى لبيان سنن الله تعالى في الأمم مع أنبيائهم لأجل العبرة للمنذَرِين. وتثبيت المرسلين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف: 111) وقال: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود: 120) وكل من العِبْرة والتثبيت إنما يكون بما هو معروف ولو بوجه ما، ولذلك تكرر ذكر الأنبياء الذين تعرف أقوامهم أو بلادهم بالتفصيل أكثر مما لا يعرف إلا بالإجمال. ويكفي ذكر آية واحدة لبيان أن رحمته تعالى لعباده بإرسال الرسل لهدايتهم عامة؛ لأن جميع الخلق عيال الله تعالى وهو بهم رؤوف رحيم. أرأيت لو جاء هذا النبي العربي قومه بذكر نبي كان أرسل في أميركا منذ مائة ألف سنة وذكر لهم بعض شأنه معهم أكان يحصل لهم من العِبْرَة بعض ما حصل من أخبار أمة اليهود، وخبر صالح في ثمود؟ كلا إن ذكر المجهول المطلق يحمل على التخيل والاختراع، ويقول الناس في أمثالهم: إذا أردت أن تكذب فأبعد الشهود. ولذلك كان يأمرهم أحيانًا بسؤال اليهود، ونزل في قصة ثمود: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (الصافات: 137-138) . وما يدرينا أن كونفشيوس كان نبيًّا مرسلا إلى أهل الصين، فإن آثار هدايته وحكمته لم تمح بالمرة وكذلك يقال في بوذة فإن قيل يوجد في عقائد القوم ما يحكم الإسلام بأنه لا يمكن أن يكون من دين الله لا سيما ما في الديانة البوذية من الشرك بالله تعالى؟ نقول أليس يوجد في عقائد من صرح القرآن الحكيم بأن كتبهم سماوية وديانتهم إلهية، أمثال هذه العقائد التي يعدها الإسلام وثنية؟ فما يدرينا أن هذا دخل على القوم بالتأويل والتحريف كما دخل على من بعدهم إلى يومنا هذا {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) إذن إن طول الأمد على البعثة مظنة الفسوق عن أمر الله تعالى والعبر بين أيدينا وعن أيماننا وشمائلنا، فألهمنا اللهم رشدنا. فإن قيل: إذا جوزتم أن تكون الأمم التي سبقت لها آداب سامية، ومدنية زاهية، قد استمدت ذلك من الديانة السماوية، كما قلت في الأمة الصينية، فما هو الحكم في الأمم الهمجية التي لا يكاد يَفْصِلها عن الحيوان الأعجم إلاَّ بدوُّ البشرة والضحك بالطبع كبعض زنوج أفريقيا وسكان بعض جزائر القاموس المحيط الأعظم؟ إن قلتم إنه بُعِثَ فيهم أنبياء فأين آثار هدايتهم في الأمة؟ وإن قلتم لّما يُرْسَل إليهم رسول فأين العموم في قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) فالجواب أن الله جلت حكمته خلق هذا الإنسان وجعل كماله الوجودي بالارتقاء التدريجي في عمله بالكون وعمل الكون به فكلما استعد لمرتبة من مراتب ذلك الكمال أعطاه إياها فهو يأخذ دائمًا بقدر استعداده. وإطلاق القول في العموم والخصوص يراعى فيه قيد ما عرف في نظام الوجود أنه شرط له فإذا قلنا: إن الأنثى تلد أو كل أنثى تلد فالمراد أنها تلد في سن الولادة وبشرطها الوجودي فلا ينقضه كون الصغيرة لا تلد. فإذا فرضنا أن المسئول عنهم لم يظهر فيهم مرشد ينذر قومه بما يعطيه الإلهام الإلهي من المعرفة سوء ما هم فيه من إفساد ويدلهم على الحق وطرق الإصلاح فلا شك أن ذلك لعدم استعدادهم لفهم الحق ومعرفة الخير من الشر. على أن عدم ارتقائهم في المدنية لا يدل على أنه لم يظهر فيهم نذير ولا مرشد لأن الناس في كل عصر لا يستفيدون في هداية الأنبياء إلا بقدر استعدادهم فكم من نبي لم يؤمن به إلا النفر القليل كما ورد في نوح عليه السلام. وكم من نبي لم يؤمن به أحد كما قال تعالى بعد ذكر قصة نوح: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ} (يونس: 74) وأكثر الأنبياء قد دَرَست آثارهم في الشرق حتى إن صحف إبراهيم لم يُحْفَظ منها شيء وهو أبو الأنبياء وخليل الرحمن والذي حفظت له الذكر الحسن جميع الأمم المؤمنة لأنها كانت قد ارتقت وصار فيها من يعرف قدر العظماء ويحفظه؛ ولأن النبوة تسلسلت في ذريته باتصال فهل ينكر مع هذا أن لا يحفظ للأنبياء الذين يظهرون في الأمم الجاهلة الهمجية أثر؟ *** (المسألة 99) ارتقاء الدين: جرى الدين في سنة الارتقاء وكان كماله في الشرق وذلك من عهد إبراهيم إلى عهد محمد خاتم النبيين فالأنبياء ليسوا سواء في إصلاح الأمم في عقائدها وأعمالها وآدابها وروابطها الاجتماعية؛ لأن الحاجة إلى الإصلاح تختلف باختلاف الأمم والأقوام فالبدو أقل من الحضر ضلالاً في الفكر وأقل علمًا لأنهم أهل فطرة لم تتحكم فيها المذاهب الوضعية والآراء النظرية وأقل فساداًُ في الأخلاق والآداب لسذاجتهم وبُعْدهم عن الترف وليس في البداوة من الشئون الاجتماعية مثل في ما في الحضارة فتحتاج إلى ما تحتاج إليه من الشرائع المدنية والقضائية والسياسية. كان الناس على بساطتهم وسلامة فطرتهم فلمّا دبَّ فيهم الفساد لم يَفْشُ إلا بالتدريج فكان يظهر فيهم الشكر في العبادة وهو التوجه إلى شيء من المخلوقات يكون صلة بينهم وبين الخالق الذي يشعر به فطرتهم، ولا يحيط به علمهم ولا تحدده مخيلتهم، ويفشو فيهم بعض الشرور فيُظهِر الله فيهم واحدًا منهم كبير العقل زكي النفس يلهم قلبه بوحي إليه أن ينذرهم العقوبة على ظلمهم وينهاهم عن الشك والرذيلة ويأمرهم بضدهما وبذلك تستقيم حال من أطاعه؛ لأن هذا الذي طرأ عليهم هو الذي يطفئ نور الفطرة بالتمادي فيكون الإنسان شيطانًا مريدًا. ألا ترى أن من الأنبياء من لم يذكر له القرآن إلا الدعوة إلى التوحيد فقط. ومنهم من ذكر له النهي عن معصية كانت فاشية فكان يدعو إلى التوحيد وينهى عنها دائمًا كما جاء في قصة لوط من النهي عن الفاحشة دائمًا. وكقوله تعالى في رسالة شعيب عليه السلام {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} (الأعراف: 85) ثم حكي عنه {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا المِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} (هود: 85) . فيفهم من تكرار ذلك أن المقصود الأعظم من رسالة شعيب عبادة الله تعالى وحده. وإيفاء المكيال

إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر

الكاتب: أمين عز الدين

_ إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر بقلم الشيخ أمين أفندي عز الدين من أهل العلم والأدب في طرابلس الشام ونزيل مصر الآن صدق الله العظيم وكذب هوس الناس: نقوم أمام المحراب تماثيل بشرية يحرك حكم العادة أيدينا بالتكبير وألسنتنا بالتلاوة والتسبيح ويحني ظهورنا للركوع ويثني عظامنا للسجود من غير أن يلم بنا شعور بهذه الأوضاع أو يفعل في أنفسنا تأثير من تلك الأعمال فضلاً عن نظر في مقاصدها وتوجه إلى غاياتها ونحسبها من الصلاة التي قال فيها رب محمد صلى الله وعليه وسلم {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) ونحن مشمرون للفواحش عن ذراع، سبحان الله نحن ما نحن مصلون. الصلاة ما جعلها الله أفعالاًِ ميتةً وأوضاعًا جامدةً تُقصد لذاتها ولكن جعلها مظاهر سكينة ومواقف خضوع تُؤذن الناس أنها شعار مناجاة بين العبد وبين ربه كل يوم ليكون هذا الإنسان على نوع من ذكر الله تعالى في معارك معاشه ومعامع حياته وفي الآخرة أعد الله له أجرًا عظيمًا. تعالى الله أن يكلف قلوبًا غلفًا ونفوسًا جلفًا باختلاجات عضوية فارغة الإناء ثم يعد لفاعلها حسن الجزاء. الصلاة أفعال مخصوصة ذات أركان معلومة جعلها دين الله الإسلامي مرقاةً لمراقبة المعبود أنزلت من السماء مائدة تحمل للأرواح غذاءها من العالم النوراني كيلا تضل في الغربة ويتغلب عليها سلطان الشهوة عالمين متباينين لكل منهما مطالب تناسب طبيعته في وجوده وبقائه والثاني: أثيري لطيف يستمد وجوده من النور القدسي، ويستفيض بقاءه من النفحات الإلهية فالأول جسم والثاني روح. تناول الجسد وجود من هذه البساط الأرضية فجرت عليه قوانين الطبيعة واعترته أحكام من قوة وضعف وزيادة ونقص وتحلل وتركب وأصبح من أجل ذلك في حاجة شديدة لتعويض ما تستلبه منه نواميس التحليل مثلاً بمثل وجنسًا بجنس وذلك غذاؤه وأما الروح فهو وإن كان آمنًا على وجوده من غارة الفناء وانحلال الأجزاء إلا أنه هبط من السماء وله مع العالم المادي شئون أيريد كل من المتجاورين أن يكون هو المتغلب ليتمكن من امتلاك هذا الهيكل الإنساني فيستسعيه في أمياله ويتصرف فيه كيف يشاء، ومن ثمة كان الروح مضطرًّا أن يستمد من عالمه العلوي ما يقوى به على التغلب أو يحفظ به مركز استقلاله وهذا هو غذاؤه، متى تمت الغلبة رفرفت بهذا الإنسان إلى معاهدها الأولى في مظاهر الملكوت ومصاف الملكية، وأذنت له أن يتصرف بما في آفاقه من الكونيات المادية إلى حيث يجعلها من خدم شئونه الحيوية على عكس من الجسد إذا تسنم صهوة القلب واقتعد سرير السلطة فإنه يهبط بالإنسان إلى عالمه في الدرجات السفلية وبرزخ العجم من الحيوانات إلى حيث ترتفع الطبيعة أن يمسها بكفه تصرف أو تمكنه من وطر، فأي الطريقين خير؟ أراد الإسلام بهذا الإنسان خيرًا فحتم عليه في سائر أحواله أن يجيب مطالب عالمه الروحي ويتقاعس عن مشتهيات عالمة المادي ما استطاع ودعاه أن يقف بين يدي ربه سبحانه وتعالى خمس وقفات في اليوم يناجيه بهيئة الذل وشعار الخضوع بحيث ينبذ ما سواه في العراء ليتأهل لقبول الفيض الإلهي الذي هو لروحه غذاء تتقوت به وتعتمد عليه في مناوراتها مع الجسم والمادة وتلك هي الصلاة التي تنهى عما تنهى وتقرب إلى الله زلفى. تلك التي كفكفت جبروت أولئك القوم الجاهلية في ردح من الزمن وهي التي كان مؤمن القلب في القرون الغابرة يتغيب فيها عن مشاعره بحيث لم يكن يشعر بالفواجع الخطرة والمؤلمات الجسدية ولو كان في هذه نشر عظمه أو عرق لحمه وها هوتاريخ حياة القوم كانوا يعلمون أن الصلاة ماهية دعامتها الخشوع. كانوا يعلمون أن ما فيها من الأعمال إنما هو ركن ثانوي يقصد به تمثيل الخضوع القلبي على الجوارح ليشترك السر والعلانية في التذلل والسكينة فطفقوا يصلون متجردين عن المشاغل الفكرية وهو السبب فيما يبلغنا عنهم من الغيبة عن مشاهد الكون في خلال الصلاة أما نحن فإننا ذهبنا إلى أن الصلاة إنما هي تلك الأعمال الظاهرية لا دخل فيها للخشوع ولا يغني فيها خضوع وأقبلنا نجتزئ بتلك الوقفات الجمادية والاختلاجات اللسانية وهي لا تصدفنا عن فحش نأتيه ولا تنهانا عن منكر نفعله فهل تخلف قول القرآن أم نحن لم نكن مصلين؟ نزعم أننا لم نخاطب خطاب التكليف بتلك الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر حيث فهمنا أنها هي الكاملة، ويكأن القوم لا يعلقون هل أمر الله إذ أمر بإقامة الصلاة أن تكون ناقصة أم دلت الإقامة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (البقرة: 43) على ذلك المعنى الناقص؟ أستغفر الله. قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) اللهم ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا.

الملائكة والنواميس الطبيعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الملائكة والنواميس الطبيعية سأل سائل: إذا كانت الملائكة هي عبارة عن القوى المعنوية والنواميس التي بها نظام العوالم الحية. فما معنى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ} (النبأ: 38) وأمثاله؟ والجواب: إن الذي تقدم في التفسير هو أن الملائكة عالم مستقل مستتر عنا وإنما كان ذكر القوى والنواميس الطبيعة جذبًا لمنكري الملائكة إلى التصديق؛ لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون، فيكف يكفرون لاختلاف الألفاظ لا أن الكلام كان إرجاعًا لنصوص الدين إلى أقوالهم.

نموذج في كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني (وهو يطبع الآن) فصل في الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه لا يخلو من كان هذا رأيه من أمور (أحدها) : أن يكون رفضه له وذمه إياه من أجل ما يجده فيه من هزل أو سُخْف وهجاء وسب وكذب وباطل على الجملة، (والثاني) : أن يذمه لأنه موزون مُقفّى، ويرى هذا بمجرده عيبًا يقتضي الزهد فيه والتنزه عنه (والثالث) : أن يتعلق بأحوال الشعراء وأنها غير جميلة في الأكثر، ويقول: قد ذُمُّوا في التنزيل، وأي كان من هذه رأيًا له فهو في ذلك على خطأ ظاهر وغلط فاحش، وعلى خلاف ما يوجبه القياس والنظر، بالضد مما جاء به الأثر، وصح به الخبر. أما من زعم أن ذمه له من أجل ما يجد فيه من هزل وسُخْف وكذب وباطل، فينبغي أن يذم الكلام كله. وأن يضل الخرس على النطق والعيَّ على البيان فمنثور كلام الناس على كل حال أكثر من منظموه، والذي زعم أنه ذم الشعر بسببه، وعاداه بنسبته إليه أكثر؛ لأن الشعراء في كل عصر وزمان معدودون، والعامة ومن لا يقول الشعر من الخاصة عديد الرمل. ونحن نعلم أنه لو كان منثور الكلام يجمع كما يجمع المنظوم. ثم عمد عامد فجمع ما قيل من جنس الهزل والسخف نثرًا في عصر واحد لأربى على جميع ما قاله الشعراء نظمًا في الأزمان الكثيرة، ولغمره حتى لا يظهر فيه، ثم إنك لو لم تَروِ من هذا الضرب شيئًا قط ولم تحفظ إلا الجِدّ المحض وإلا ما لا يعاب عليك في روايته وفي المحاضرة به وفي نسخه وتدوينه لكان في ذلك غنى ومندوحة، ولو وجدت طلبتك ونلت مرادك حصل لك ما نحن ندعوك إليه من علم الفصاحة، فاختر لنفسك ودع ما تكره إلى ما تحب (هذا) وراوي الشعر حاكٍ وليس على الحاكي عيبٌ. ولا عليه تبعة، إذا هو لم يقصد بحكايته أن ينصر باطلاً أو يسوء مسلمًا. وقد حكى الله تعالى كلام الكفار، فانظر إلى الغرض الذي له روي الشعر، ومن أجله أُرِيدَ وله دُوِّنَ، تعلم أنك قد زغت عن المنهج، وأنك مسيء في هذه العداوة، وهي العصبية منك على الشعر. وقد استشهد العلماء لغريب القرآن وإعرابه بالأبيات، فيها الفحش وفيها ذكر الفعل القبيح، ثم لم يعبهم ذلك إذا كانوا يقصدون إلى ذلك الفحش، ولم يريدوه ولم يرووا الشعر من أجله. قالوا: وكان الحسن البصري رحمه الله يتمثل في مواعظه وكان من أوجعها عنده: اليوم عندك دلها وحدثيها ... وغدًا لغيرك كفها والمعصم وفي الحديث عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ذكر المَرْزُباني في كتابه بإسناد عن عبد الملك بن عمير أنه قال: (أوتي عمر - رضوان الله عليه - بحلل من اليمن فأتاه محمد بن جعفر بن أبي طالب، ومحمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن طلحة بن عبيد الله، ومحمد بن حاطب، فدخل عليه زيد بن ثابت رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء المحمَّدون بالباب يطلبون الكسوة فقال: ائذن لهم يا غلام فدعا بحلل فأخذ زيد أجودها، وقال هذه لمحمد بن حاطب، وكانت أمه عنده وهو من بني لؤي فقال عمر رضي الله عنه: أَيْهَاتَ أَيْهَاتَ، وتمثل بشعرعُمارة بن الوليد: أسرك لما صرع القوم نشوة ... خروجي منها سالمًا غير غارم [1] بريئًا كأني قبل لم أك منهم ... وليس الخداع مرتضى في التنادم رُدّها، ثم قال: ائتني بثوب فألقه على هذه الحلل، وقال: أدخل يديك فخذ حلة وأنت لا تراها فأعطهم. قال عبد الملك: فلم أر قسمة أعدل منها. وعُمارة هذا هو عمارة بن الوليد بن المغيرة خطب امرأة من قومه، فقالت: لا أتزوجك أو تترك الشراب، فأبى ثم اشتد وجده بها، فحلف لها أن لا يشرب، ثم مر بخمَّار عنده شَرْب يشربون [2] فدعوه، فدخل عليهم، وقد أنفدوا ما عندهم فنحر لهم ناقته وسقاهم ببرديه ومكثوا أيامًا، ثم خرج فأتى أهله، فلما رأته امرأته قالت: ألم تحلف أن لا تشرب فقال: ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ... ثياب الندامى عندهم كالغنائم ولكننا يا أم عمرو نديمنا ... بمنزلة الرَّيان ليس بعائم [3] أسرك البيتين. فإذنْ: رُبَّ هزل صار أداة في جد، وكلام جرى في باطل، ثم اُستعين به على حق؛ كما أنه رُب شيء خسيس، تُوصِّلَ به إلى شريف، بأن ضرب مثلاً فيه، وجعل مثالاً له؛ كما قال أبو تمام: والله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلا من المشكاة والنبراس وعلى العكس، فرب كلمة حق أريد بها باطل، فاستحق عليها الذم كما عرفت من خبر الخارجي مع علي، رضوان الله عليه. وربَّ قول حسن لم يحسن من قائله حين تسبب به إلى قبيح كالذي حكى الجاحظ قال: رجع طاوس يومًا عن مجلس محمد بن يوسف وهو يومئذ والي اليمن فقال: ما ظننت أن قول سبحان الله يكون معصية لله حتى كان اليوم سمعت رجلاً أبلغ ابن يوسف عن رجل كلامًا فقال رجل من أهل المجلس: سبحان الله، كالمستعظم لذلك الكلام ليغضب ابن يوسف، فبهذا ونحوه اعتبر، واجعله حكمًا بينك وبين الشعر. (وبعد) فكيف وضع من الشعر عندك وكسبه للمقت منك أنك وجدت فيه الباطل والكذب، وبعض ما لا يحسن ولم يرفعه في نفسك، ولم يوجب له المحبة من قلبك، وأن كان فيه الحق والصدق والحكمة وفصل الخطاب. وأن كان مَجْنَى ثمر العقول والألباب، ومجتمع فرق الآداب، والذي قيد على الناس المعاني الشريفة، وأفادهم الفوائد الجليلة، وترسل بين الماضي والغابر، ينقل مكارم الأخلاق إلى الولد عن الوالد، ويؤدي ودائع الشرف عن الغائب إلى الشاهد، حتى ترى به آثار الماضين، مخلدة في الباقين، وعقول الأولين، مردودة في الآخرين، وترى لكل من رام الأدب، وابتغى الشرف، وطلب محاسن القول والفعل، منارًا مرفوعًا، وعلمًا منصوبًا، وهاديًا مرشدًا، ومعلمًا مسددًا، وتجد فيه للنائي عن طلب المآثر، والزاهد في اكتساب المحامد، داعيًا ومحرضًا، وباعثًا، ومحضضًا، ومذكرًا ومعروفًا وواعظًا ومثقفًا، فلو كنت ممن ينصف كان في بعض ذلك ما يغير هذا الرأي منك، وما يحدوك على رواية الشعر وطلبه، ويمنعك أن تعيبه أو تعيب به، ولكنك أبيت إلا ظنًّا سبق إليك، وإلا بادئ رأي عنَّ لك، فأقفلت عليك قلبك، وسددت عما سواء سمعك، فعيّ الناصح بك [4] ، وعسر على الصديق الخليط تنبيهك، نعم وكيف رويت (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا فَيَرِيَه [5] خير له أن يمتلئ شعرًا) ، ولهجت به وتركت قوله صلى الله وعليه وسلم: (إن من الشعر لحكمة وإن من البيان لسحرًا) [6] وكيف نسيت أمره صلى الله وعليه وسلم بقول الشعر ووعده عليه الجنة، وقوله لحسان: (قل وروح القدس معك) ، وسماعه له، واستنشاده إياه، وعلمه صلى الله عليه وسلم به، واستحسانه له، وارتياحه عند سماعه؟ (أما) أمره به فمن المعلوم ضرورة، وكذلك سماعه إياه فقد كان حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير يمدحونه، ويسمع منهم، ويصغي إليهم، ويأمرهم بالرد على المشركين [7] فيقولون في ذلك ويعرضون عليه , وكان عليه السلام يذكر لهم بعض ذلك كالذي روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال لكعب: (ما نسي ربك وما كان ربك نسيًّا شعرًا قلته) [8] قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: (أنشده يا أبا بكر) فأنشد أبو بكر رضوان الله عليه: زعمت سَخِينةُ أن ستغلب ربها ... وليغلبنّ مُغالب الغَلابِ [9] (وأما) استنشاده إياه فكثير، من ذلك الخبر المعروف في استنشاده حين استسقى فسُقِيَ قول أبي طالب: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامي عصمة للأرامل يطيف به الهلاَّك من آل هاشم ... فهم عنده في نعمة وفواضل الأبيات. وعن الشعبي رضي الله عنه عن مسروق عن عبد الله قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القتلى يوم بدر مصرّعين، فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه (لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأنامل) قال: وذلك لقول أبي طالب [10] : كذبتم وبيت الله أن جد ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأنامل وينهض قوم في الدروع إليهم ... نهوض الروايا في طريق حلاحل ومن المحفوظ في ذلك حديث ابن مسلمة الأنصاري [11] ... جمعه وابن أبي حدرد الأسلمي الطريق، قال: فتذاكرنا الشكر والمعروف، قال: فقال محمد: كنا يومًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال لحسان بن ثابت: (أنشدني قصيدة من شعر الجاهلية فإن الله تعالى قد وضع عنا آثامها في شعرها وروايته) فأنشده قصيدة للأعشى هجا بها علقمة عُلاثة: علقمَ ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا حسان لا تعد تنشدني هذه القصيدة بعد مجلسك هذا) فقال: يا رسول الله تنهاني عن رجل مشرك مقيم عند قيصر فقال النبي صلى الله وعليه وسلم: (يا حسان، أَشْكَرُ الناس للناس أَشْكَرَهُم لله تعالى، وإن قيصر سأل أبا سفيان بن حرب عني فتناول مني، وفي خبر آخر: فشعَّث مني وإنه سأل هذا عني فأحسن القول) فشكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وروي من وجه آخر أن حسان قال: يا رسول الله من نالتك يده وجب علينا شكره، ومن المعروف في ذلك خبر عائشة رضوان الله عليها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول (أبياتك) فأقول: ارفع ضعيفك لا يَحُرْ بك ضَعفُه ... يومًا فتدركه العواقب قد نَمَى يجزيك أو يثني عليك وأنَّ من ... أثنى عليك بما فعلت فقد جزى ((يتبع بمقال تالٍ))

الاجتماع الرابع لجميعة أم القرى ـ تتمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى ثم إذا انقلبنا في البحث إلى ما هو الشرك في نظر القرآن وأهله لنتقيه، نجد أن الله تعالى قال في اليهود والنصارى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) مع أنه لم يوجد من قبل ولا من بعد من الأحبار والرهبان من ادعى المماثلة ونازع الله الخالقية أو الإحياء أو الإماتة كما يقتضيه انحصار معنى الربوبية عند العامة من الإسلام، حسبما تلقوه من مروجي الشرك والإيهام، بل الأحبار والرهبان إنما شاركوا الله تعالى في التشريع المقدس فقط فقالوا: هذا حلال وهذا حرام. فقبل منهم أتباعهم ذلك فوصفهم الله بأنهم اتخذوهم أربابًا من دون الله. ونجد أيضًا أن الله تعالى سمى قريشًا مشركين مع أنه وصفهم بقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) أي يخصصون الخالقية بالله. ووصف توسلهم بالأصنام إلى الله بالعبادة فحكى عنهم قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) والمعظمة من المسلمين يظنون أن هذه الدرجة التي هي التوسل ليست من العبادة ولا الشرك ويسمون المتوسَل بهم وسائط ويقولون: إنه لا بد من الواسطة بين العبد وربه (وإن الواسطة لا تنكر) . ويُعلم من ذلك أن مشركي قريش ما عبدوا أصنامهم لذاتها ولا لاعتقادهم فيها الخالقية والتدبير بل اتخذوها قبلة يعظمونها بندائها والسجود أمامها وذبح القرابين عندها أو النذر لها على أنها تماثيل رجال صالحين كان لهم قرب من الله تعالى وشفاعة عنده فيحبون هذه الأعمال الاحترامية منهم فينفعونهم بشفاء مريض أو إغناء فقير وغير ذلك، وإذا حلفوا بأسمائهم كذبًا أو أخلوا في احترام تماثيلهم فيضرونهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم. ونجد أيضًا أن الله تعالى قال: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) وأصل معنى الدعاء النداء، ودعا الله: ابتهل إليه بالسؤال واستعان به، والدليل الكاشف لهذا المعنى هو قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ} (الأنعام: 41) وكذلك أنزل الاستعانة به مقرونة بعبادته في قوله جلت كلمته: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) . وبما ذكر وغيره من الآيات البينات جعل الله هذه الأعمال لقريش شركًا به حتى صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحلف بغير الله أنه شرك فقال: (من حلف يغير الله فقد كفر وأشرك [1] ) وجعل الله القربان لغيره والإهلال والذبح على الأنصاب شركًا وحرم تسييب السوائب والبحائر لما فيها من ذلك المعنى، وكان المشركون يحجون لغير بيت الله بقصد زيارة محلات لأصنام يتوهمون أن الحلول فيها يكون تقربًا من الأصنام، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام أمته عن مثل ذلك فقال: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى [2] ) . فلا ريب إذن أن هذه الأعمال وأمثالها شرك أو مدرجة للشرك. (مرحى) فلينظر الآن هل فشا في الإسلام شيء من هذه الأعمال وأشباهها في الصورة أو الحكم؟ ومن لا تأخذه في الله لومة لائم لا يرى بدًّا من التصريح بأن حالة السواد الأعظم من أهل القبلة في غير جزيرة العرب تشبه حالة المشركين من كل الوجوه وإن الدين عندهم عاد غريبًا كما بدأ كشأن غيرهم من الأمم. فمنهم الذين استبدلوا بالأصنام القبور فبنوا عليها المساجد والمشاهد وأسرجوا لها السرج وأرخوا عليها الستور يطوفون حولها مقبلين مستلمين أركانها، ويهتفون بأسماء سكانها في الشدائد ويذبحون عندها القرابين يُهلُّ بها عمدًا لغير الله وينذرون لها النذور ويشدون للحج إليها الرحال ويعلقون بسكانها الآمال، يستنزلون الرحمة بذكرهم وعند قبورهم، ويترجونهم بإلحاح وخضوع ومراقبة وخشوع أن يتوسطوا لهم في قضاء الحاجات وقبول الدعوات، وكل ذلك من الحساب والتعظيم لغير الله [3] والخوف والرجاء من سواه. ومنهم مَنْ استعاضوا عن ألواح التماثيل عند النصارى والمشركين بألواح فيها أسماء معظَّميهم مصدرة بالنداء تبركًا وذكرًا ودعاءً يعلقونها على الجدران في بيوتهم بل في مساجدهم أيضًا [4] ويتوّجون بها للأعلام من نحو (يا علي، يا شاذلي، يا دسوقي، يا رفاعي، يا بهاء الدين النقشي، ويا جلال الدين الرومي، يا بكتش ولي) ومنهم ناس يجتمعون لأجل العبادة بذكر الله ذكرًا مشوبًا بإنشاء المدائح لغُلاة شعراء المتأخرين التي أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه النبي عليه الصلاة والسلام حتى لنفسه الشريفة فقال: (لا تطروني كما أطرت اليهود والنصارى أنبياءهم [5] ) وبإنشادهم مقامات شيوخية تغالوا فيها في الاستعانة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لكفروهم؛ لأن أبلغ صيغة تلبية لمشركي قريش قولهم: (لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك غير شريك واحد تملكه وما ملك) وهذه أخف شركًا من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشادًا بأصوات عالية مجمتعة وقلوب محترقة خاشعة كقولهم: عبد القادر يا جيلاني ... يا ذا الفضل والإحسان صرت في خطب شديد ... من إحسانك لا تنساني وقولهم: الآهم يا رفاعي لي ... أنا المحسوب أنا المنسوب رفاعي لا تضيعني ... أنا المحبوب أنا المنسوب إلى غير ذلك مما لا يشك فيه أنه من صريح الإشراك الذي يأباه الدين الحنيف. ومنهم جماعة لم يرضوا بالشرع المبين فابتدعوا أحكامًا في الدين سموها علم الباطن أو علم الحقيقة أو علم التصوف، علمًا لم يعرف شيئًا منه الصحابة والتابعون وأهل القرون الأولى المشهود لهم بالفضل في الدين. علمًا انتزعوا مسائله من تأويلات المتشابه من القرآن مع أن الله تعالى أمرنا أن نقول في المتشابه منه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) وقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران: 7) وقال عز شأنه في حقهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (الأنعام: 68) وقال تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (هود: 112) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} (النور: 63) وانتزع هؤلاء المداحون أيضًا بعض تلك المزيدات من مشكلات الأحاديث والآثار ومما جاء عن النبي عليه السلام من قوله على سبيل الحكاية أو عمل على سبيل العادة، أي لم يكن ذلك منه عليه السلام من قول على سبيل التشريع. أو من الأحاديث التي وضعها أساطينهم إغرابًا في الدين لأجل جذب القلوب كهذا الحديث الذي ننقله بالمعنى وهو (يفتح بالقرآن على الناس حتى يقرأه المرأة والصبي والرجل فيقول الرجل قد قرأت القرآن فلم أتبع لأقومن بهم فيه لعلي أُتَّبَع فيقوم به فيهم فلا يُتبع، فيقول قد قرأت القرآن وقمت به فلم أتبع، لأحتظرن من بيتي مسجدًا لعلي أتبع فيحتظر من بيته مسجدًا فلا يتبع، فيقول قد قرأت القرآن وقمت به واحتظرت من بيتي مسجدًا فلم أتبع، والله لآتينهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه عن رسول الله لعلي أتبع) . ومنهم فئة اخترعوا عبادات وقربات لم يأت بها الإسلام ولا عهد له بها إلى أواخر القرن الرابع فكأن الله تعالى ترك ديننًا ناقصًا فهم أكملوه، أو كأن الله جل شأنه لم يُنَزِّل يوم حجة الوداع {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) أو كأن النبي عليه السلام لم يتمم كما يزعمون تبليغ رسالته فهم أتموها لنا، أو كتم شيئًا من الدين وأسرَّ به إلى بعض أصحابه وهم أبو بكر وعلي وبلال رضي الله عنهم، وهؤلاء أسروا به إلى غيرهم وهكذا تسلسل حتى وصل إليهم فأفشوه لمن أرادوا من المؤمنين؛ تعالى الله ورسوله عما يأفكون , أليس من الكفر بإجماع الأمة اعتقاد أن النبي عليه السلام نقص التبليغ أو كتم أو أسرَّ شيئًا من الدين (مرحى) . ومنهم جماعة اتخذوا دين الله لهوًا ولعبًا فجعلوا منه التغني والرقص ونقر الدفوف ودق الطبول ولبس الأخضر والأحمر واللعب بالنار والسلاح والعقارب والحيات يخدعون بذلك البسطاء ويسترهبون الحمقى. ومنهم قوم يعتبرون البلادة صلاحًا والخبل خشوعًا والصرع وصولاً والهذيان عرفانًا والجنون منتهى المراتب السبع للكمال. ومنهم خلفاء كهنة العرب يدَّعون علم الغيب بالاستخراج من الجفر والرمل أو أحكام النجوم أو الروحاني أو الزايرجه أو الأبجديات أو بالنظر في الماء أو السماء أو الودع أو باستخدام الجن والمردة، إلى غير ذلك من صنائع التدليس والإيهام والخزعبلات وليس العجب انتشار ذلك بين العامة الذين كالأنعام في كل الأمم والأقوام، بل العجب دخول بعضه على كثير من الخواص وقليل من العلماء كأنه من عزيز الكمالات في دين الإسلام (مرحى) . فهذه حالات السواد الأعظم من الأمة وكلها إما شرك صراح أو مظنات إشراك حكمها في الحكمة الدينية حكم الشرك بلا إشكال، وما أخر الأمة إلى هذه الحالات الجاهلية، وبالتعبير الأصح: رجع بها إلى الشرك الأول إلا الميل الطبيعي للشرك كما سبق بيانه مع قلة علماء الدين وتهاون الموجودين في الهدى والإرشاد. نعم، إن رد العامة عن ميلها أمر غير هين وقد شبه النبي عليه السلام معاناته الناس فيه بقوله: (مثلي كمثل رجل استوقد نارًا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فأنا آخذ في حجزكم عن النار وأنتم تقحمون فيها [1] ) وقد قال الله تعالى في العلماء المتهاونين عن الإرشاد كيلا يقابلوا الناس بما لا يهوون: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ} (البقرة: 174) ، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وآكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) فالتبعة كل التبعة على العلماء الراشدين، ولم يزل والحمد لله في القوس منزع ولم يستغرقنا بعد انتزاع العلماء بالكلية كما أنذرنا به النبي عليه السلام في قوله: (إن الله لا يقبض العلماء انتزاعًا من الناس ولكن يقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهلاء؛ فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا) ولا حول ولا قوة إلا بالله! ثم قال: ولننتقل من بحث الشرك والإعراض عن ذكر الله إلى بيان أسباب التشديد في الدين وحالة التشويش الواقع فيه المسلمون فأقول ... ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر [*] الشذرة الخامسة من جريدة أراسم الخط الديواني أنشأ (أميل) يخط بالقلم خطًّا مناسبًا لحاله ولكني في شك من جريه على قواعد الخط في شيء مما يكتب. كان الخط فيما مضي كأنه من صفات الكاتب الذاتية وكان يدل على حالة من أحواله، سواء فيه الحسن والقبيح، ولذلك وجد متوسمون يعتقدون أنهم يقرأون في خط من لا يعرفونه من الناس ضروب استعداده النفسي. ولا بدع في هذا فإن كل أعمال الإنسان منبعثة عن أخلاقه وسجاياه، فلا شيء من الاستحالة ولا من البعد عن الحقيقة - على ما أرى - في أن يكون الخط وهو الأثر الدقيق المثبت لصنوف الوجدان وأنواع المعاني على الورق سمة من سمات النفس وأمارة من أمارات الطبع. يشهد لذلك أن من الذين خطوطهم بين أيدينا قد غيروا في حياتهم طريقتهم في صوغ حروفهم عدة مرات، فلا يمكن أن يكون هذا التغيير الذي يحق لنا المراهنة على حصوله بغير شعور منهم أجنبيًّا عن بعض استحالات حصلت في عقولهم. ومن الأمور التي اعتقد الباحثون في هذه المسألة أنهم تنبهوا إليها ولاحظوها أن أقرب أطوار الكاتب إلى الفطرة هو ذلك الطور الذي يكون فيه خطه مرسومًا بأقرب السمات إليها أيضًا. اخترع الناس في هذه الأيام للخط طرقًا لا شك لها مزية في تهذيبه وتقويم يد الكاتب، ولكنها متى انتشرت وعم استعمالها اتحدت الخطوط وتشابهت فلم يبق بينها فروق تميز بعضها من بعض، فنحن في هذا القرن قرن السكك الحديدية والأقلام الحديدية نسارع كلنا إلى تحقيق الوحدة في كل شيء. لو أن هذا الميل إلى الصناعة اقتصر على أمارات الفكر وقوالب المعاني لكان الخطب هينًا ولكنه لم يقف عندها بل تعداها إلى الفكر نفسه. أنا على يقين من وفرة علومنا ومعارفنا فليست هي التي تعوزنا؛ إذ قد وجدت طرق سهلة صيرت مبادئ العلم وآداب اللغة والفنون الجميلة قريبة التناول لجميع الناس، وكل يوم يتحدث الناس بانتشار العرفان بيننا، وهو أمر أنا بعيد عن المنازعة في جلالة خطره وعظم شأنه، ولكني لا أرى علي حرجًا إن سألت نفس هذه الأسئلة وهي: هل ارتفع عقل الإنسان في هذه القرون إلى مدارك أسمى مما بلغه في القرن الثامن عشر؟ هل حصل له من قوة النفس والانبعاث الذاتي إلى العمل والأخلاق الممتازة التي تتجلى في صورة مجتمعة - المُظلمة والأعمال البديعة - أكثر مما كان له في ذلك القرن؟ هل ارتفعت قوة الإدراك مع انتشار تساوي الناس فيها كل يوم؟ واأسفى أني ألتفت حولي فيعروني الذهول ويملكني الدهش لما أراه من غلبة الأوساط في العقل وكثرتهم، وأسمع الناس يرددون القول بأن العقل والاستعداد قد شاعا في هذه الأيام حتى عما السابلة الغوغاء ولو أنهم قالوا: إن كل واحد أصبح فيه عقل غيره واستعداده. لكان هذا القول أصح وأقرب إلى الصواب. نعم إن قرننا قد وصل إلى طريقة بديعة في الإكثار من الدواليب والآلات المحاكية للفكر وقامت المهارة في الفنون مقام الاستعداد الفطري والعزيمة وأزهق التكلف في آداب اللغة روح الإلهام وأنزلت الدسيسة والخداع في مجرى الحياة وشئونها الفضل والجدارة عن عرشهما وحلا محلهما، فترانا الآن منحدرين على طريق مستقيم عام إلى محو ضروب الفصل والرجحان في العقل والخلق محوًا تامًّا، فعليك أيها الإنسان من الآن أن تقنع بأن تكون كجميع الناس. ولا شك أن هذه الحالة التي عليها العقول الآن ترجع إلى أسباب كثيرة ليس من غرضي استقصاؤها هنا، منها نظام معيشتنا وفقدان الحرية السياسية عندنا واهتمامنا المتزايد بالمصالح المادية، ومنها أمر لا يسعني إغفاله وإلا استحققت اللوم وهو أن التربية بالحالة التي هي عليها اليوم أقرب إلى ستر عيوب الأطفال وإخفاء مواضع الضعف فيهم ببعض طرق التعليم السريعة التي تكاد تكون آلة محضة. أقول: إنها أقرب إلى ذلك منها إلى قصة اكتشاف ملكاتهم وقواهم النفسية وتنميتها، فترى القائمين على التعليم عوضًا عن تميمهم أن الغرض من مجاهداتهم وكدحهم في التعلم إنما هو نيل الفخر بأن يكونوا عمالاً نافعين- يجعلون غايتهم الارتقاء إلى المناصب ونيل الغنى، ويقتضون منهم أن يبلغوا إليها وهم بذلك يبكرون بحمل الأحداث على أن يتبينوا أن المواضعة والصنعة هما أقرب طرق النجاح وأحسن وسائل الفلاح. اهـ الشذرة السادسة (مذهب تشغيل المتعلمين بالأعمال المادية الشاقة) توجد في بعض المدارس بإنكلترا عادات قديمة يدهش منها الأجانب كثيرًا ذلك أن التلامذة فيما يوجد منها بمدينتي راتون وهارو وهي التي يدخلها أبناء السراة غالبًا يخدم بعضهم بعضًا، وليس أمر الخادمية والمخدومية فيها متعلقًا بمكانة التلميذ في قومه، ولا بغنى أهله أو فقرهم بل بالأقدمية وبعض الدرجات المدرسية، فيجوز أن يلزم الطفل الغني السري بتنفيض ثياب الطفل الفقير الوضيع وتأدية مطالبه وتنظيف غرفته وإيقاد ناره وتسوية طعامه وحمل كتبه إليه في قاعة الدرس، فيقع الإلزام بالخدمة على من تجعلهم المدرسة في الدرجات الدنيا من أقسامها. والذي أستهجنه من هذه العادة ما يكون بين التلميذ الخادم والمخدوم من رابطة التابعية الذاتية، فإن الأقدمين من التلامذة يسيرون أحيانًا مع من يعتبرونهم خدمًا لهم من إخوانهم سيرة في غاية القسوة حتى إنه ليقع منهم في حقهم ما نقرأه في قصص موليير [1] المضحكة من الشتائم وضربات الأكف، وجميع ضروب سوء المعاملة التي تقع من صغار الموالي على خدمتهم بأرجلهم وأيديهم الخفيفة الحركة. أولئك الخدم الصغار الذين كانوا بالأمس أرقاء وصبرًا على الذل مستسلمين للجور يصيرون في الغد سادة متجبرين، وهكذا شأن الدنيا وبمثل هذا تنقل جميع أنواع العتو والطغيان من سلف إلى خلف. لا أرى فيما عدا هذا العيب شيئًا في هذه الطريقة فإنه لا ضرر مطلقًا في أن يقوم بخدمة المدرسة التلامذة أنفسهم. ولقد عرفت فيما مضى مدرسة كان يديرها رجل وافر العقل عالي الفكر اختار هذا المذهب وتيسر له أن يجني منه فوائد كبرى في تربية الناشئين، ذلك أنه عهد بمعظم أعمال مدرسته إلى جماعات من الغلمان واليافعين منقسمين إلى طوائف على حسب مقتضيات أذواقهم وضروب ميلهم الفطري؛ لأنهم كانوا في هذه الأعمال مختارين متطوعين فكان الواحد مهنم إما لبادًا أو كناسًا أو وقادًا للمصابيح أو موقظًا لإخوانه في الصباح أو منظمًا لقاعة الدرس وكانوا يتناولون خدمة المائدة وكانت الأعمال المسخرة التي تقتضي أكثر من غيرها إخلاصًا أجلَّ من غيرها أيضًا في نظر التلاميذ؛ لأن رئيس المدرسة كان يتظاهر بتميزها عن غيرها بما كان يوزعه من شارات الشرف على من كان يدعوهم إقدامُهُم إلى مباشرتها. وليتك زرت هذا المكان حتى كنت تشاهد مقدار التحمس المفرح الذي يبديه كل تلميذ في القيام بعمله كأنه فرض اختياري أوجبه على نفسه. كان من مزايا هذه الخدمة البيتية للتلاميذ أنها كانت تسلية لهم من عناء الدروس؛ لأنه كان من رأي رئيسهم أن في المراوحة بين الأعمال استراحة من مشقتها وكان من غرضه فوق ذلك أن يلقي في نفوسهم معنى احترام جميع الوظائف وكل فروع العمل اليدوي، فإن الإنسان لا يحتقر من غيره ما يباشره هو بنفسه. إني لتعرض لي في بعض الأحيان أحوال تحملني على اعتقاد أن ما ندعيه من حب المساوة ليس إلا رياءً ونقاقًا؛ لأني أرى من لا تفتر ألسنتهم عن اللهج بهذه الدعوى لا يجرون على مقتضاها في أعمالهم، فالطفل الذي يرى في المدارس أو البيوت أناسًا اُستؤجروا لخدمته يستنتج من ذلك طبعًا أن الأعمال الشاقة أو الكريهة هي من حظ الطبقة السفلى من قومه ولا يفيد في محو هذا الاعتقاد من نفسه أن تحدثه في المستقبل عن ضرورة تقسيم العمل بين الناس أو عن غير ذلك من المسائل النظرية الكثيرة فإنه يعلم كمال العلم أن ليس للخدم أن يأكلوا على موائد سادتهم ولما كان يتوسم في ما لديه أنهما يعدانه؛ لأن يكون من العلماء ويكفيانه بذلك مؤنة الاشتغال ببعض الأعمال التي من شأنها أن توسخ يديه أو تقذر وجهه كان رأيه في هذه الأعمال لا بد أن ينتقل إلى من يقارفونها من الناس فيحكم عليهم بحكمه عليها وبذلك لا يكون إلا كثير الانسياق إلى احتقار جميع الصناع والرزاية عليهم. صممت أنا وهيلانه على تكليف (أميل) بعمل كل ما يلزم لفراشه وهجرته وثيابه ولا أكره مطلقًا أن أراه يمسح نعليه ويسوي عند الحاجة طعامه، فإن الفائدة التي تعود عليه من ذلك ليست قاصرة على كونه يتعلم عدم امتهان من يكسبون قوتهم بمثل هذه الأعمال، بل إن فيه أيضًا تنمية لحريته الشخصية على الاستغناء عن مساعدة غيره، فالأسير المسكين من يعجز عن خدمة نفسه. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

الاحتفال السنوي بمدرسة الجمعية الخيرية وخطبة المفتي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال السنوي بمدرسة الجمعية الخيرية وخطبة المفتي في أصيل يوم الجمعة 21 ربيع الأول احتفل في قبة الغوري الاحتفال السنوي المعتاد بمدرسة الجميعة الخيرية الإسلامية في القاهرة، وقد أجاب دعوة رئيس الجمعية الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية والجم الغفير من الفضلاء والوجهاء حضروا الاحتفال، ابتدأ أحد التلامذة بترتيل آيات من سورة الفتح، ثم ارتقى أحد التلامذة الدكة التي يختبر عليها التلامذة فأعطي كتابًا ففتحه وقرأ فيه جملة صالحة قراءة صحيحة فسأله الرئيس بيان معناها فبينه، ثم اختبر آخرون بالإعراب وبالحساب وبرسم خريطة أفريقيا وبالتاريخ الطبيعي ككيفية الدورة الدموية وقرأ بعضهم مقالات محفوظة في فوائد الصوم وفوائد التربية وغير ذلك فأحسنوا جميعًا وصفق لهم النادس مرات متعددة. وأنكر الأستاذ الشنقيطي التصفيق على القوم لأنه بدعة فتركه بعضهم وأصر عليه الأكثرون؛ لأن بعضهم يراه من العادات المباحة التي اقترن بها تنشيط التلامذة وإدخال السرور على قلوبهم وبعضهم لم يصل إليه الإنكار. وكان الرئيس كعادته يناقش كل تلميذ فيما يقول ويطلب منه التعبير عما قاله حفظًا بعبارة أعرفية. ثم وزع الجوائز وهي على ما ذكرنا في السنة الماضية، قسمان أحدهما ريع المال الذي جمع لإقامة تذكار لعلي باشا مبارك لخدمته المعارف في مصر والثانية تبرع الأستاذ الشيخ عبد الرحيم الدمرداش فهذا وزع على نفر من الناجحين في المدرسة، وأما الأول فاستقر الرأي على أن يشترى به كل عام كتب نافعة تعطى للتلميذين اللذين يفوقان سائر التلامذة ممن أتموا المدة بشرط أن يشتغلا بعد المدرسة بتعلم صنعة من الصنائع وكذلك كان. وبعد ختم الاحتفال بترتيل أحد التلامذة آيات من الكتاب العزيز وقف رئيس الجميعة فشكر للحاضرين سعيهم في الخير لمشاهدة أولاد الفقراء المتعلمين ثم قال ما معناه ملخصًا: لا بد أن يكون بعض الحاضرين ممن يشتغلون بعلم التربية ينتقد علينا شيئًا، أنا أوافقهم على انتقاده قبل أن أذكره وأجيب عنه، وهو أن يحفظ التلامذة مقالات في الدين والأدب كالذي سمع منهم الآن فيها من الحكم والمعاني العالية مما لا ترتقي عقولهم إلى الإحاطة به وما تعجز ألسنتهم عن بيانه بغير العبارة المحفوظة. أعيد القول بأن هذا الانتقاد صحيح وأن حشو الأذهان بحفظ ما لا يفهم يُفسدها ويَذهب باستعداد العلم منها. ومدارس الجمعية تهتم بهذا الأمر فنحن نؤكد دائمًا على أن المعلمين أَنْ لا يعلموا التلامذة كلامًا لا يفهمونه والعمل على هذا والتفتيش من ورائه لتحقيقه. وأما ما سمعتم فقد جاء من باب الاستثناء لغرض صحيح يوافقنا عليه المنتقدون بادي الرأي. وذلك أن التلميذ يخرج من مدارسنا إلى العمل غالبًا ولا ثقة لنا بأنه يسمع في خطب المساجد وفي دروسها شيئًا من حكم الدين وأسراره التي تبعث النفوس على العمل بأحكامه كالذي سمعتم من حكم الصوم. وكذلك لا نرجو أن يجد معهدًا من معاهد العلم يسمع به شيئًا من مباحث التربية وعلم الاجتماع والآداب العالية بالأَوْلَى، فرأينا أن يحفظ كل تلميذ بعض مقالات في هذه المقاصد بجتهد في إفهامه معانيها بالجملة كما يقتضيه سنه ويوكل الفهم التفيصلي إلى حوادث الزمان وارتقاء الفكر فيها، فهذه المحفوظات القليلة المفيدة ذُخْر للتلميذ في مستقلبه وهي كبذرة وُضِعَتْ في أرض صالحة يتعاهدها الزمن بالسقي والتغذية حتى تثمر الثمرة الصالحة إن شاء الله تعالى. إذا أجلتم النظر في أحوال المسلمين دون أن نترك تعليم الدين على هذا الوجه من بيان فوائده وحكمه وغرسها في النفوس (وهو الفقه الحقيقي في الدين) فقد أدى إلى تركه من بعض المسلمين والإتيان على غير وجهه من بعض آخر. ولنضرب المثل بفريضة الزكاة التي حفظ تلامذتنا مقالة في فوائدها في العام الماضي كما يذكر من حضر احتفاله وفريضة الصوم التي سمعتم فوائدها وهي التي تلي الزكاة في الترتيب. الزكاة ركن من أركان الإسلام، وبذل المال في إقامة هذا الركن يفضل غيره من أنواع البذل، ولذلك قرنت الزكاة بالصلاة في القرآن في أكثر المواضع، وقد جعل الله إنفاق المال في سبيله آية الإيمان، وجعل تركه علامة النفاق والكفران، وقاتل الخليفة الأول بموافقة الصحابة كلهم رضي الله عنهم مانعي الزكاة ومع هذا كله نرى المسلمين قد هدموا هذا الركن ونسوه حتى كأنه ليس من الدين بالمرغوب وأطال الأستاذ الكلام في الزكاة وفي مضرة تركها ثم انتقل إلى الصوم وبيَّن أن بعض المسلمين تركوه وأن الذين يصومون لا يؤدون هذه الفريضة على الوجه الذي أراده تعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) وأوضح هذا بذكر ما عليه الناس، ثم انتقل إلى الكلام في تعليم مدارس الجمعية فقال: إن مدارس الجمعية وضعت لتعليم أولاد الفقراء ما لا بد منه لكل إنسان وهو أن يحسن القراءة بلغة أمته ويعرف ما يجب عليه من أحكام دينه ويتربى عليه عملاً والحساب والتاريخ وتقويم البلدان وطرقًا من مبادئ التاريخ الطبيعي وحفظ الصحة وآداب المعاشرة، ولا بد عندنا من تعليم هذه الأشياء على وجه مفهوم في أربع سنين وسن التلميذ لا يتجاوز الخمس عشرة سنة، وليس عندنا لغة أجنبية لأننا لا نعد التلاميذ للوظائف والشهادات وإنما نعدهم للعمل بالحرف والصنائع وما ذكرنا من التعليم لا يستغني عنه صانع ولا زارع. قال: كنت أحب أن يكون هذا التعليم عامًّا في البلاد ومبينًا في جميع الطبقات ثم يتسنى بعده لكل طبقة أن تتناول من العلوم والفنون واللغات في المدارس الثانوية والعالية ما هي مستعدة له , ولكن المانع للمشتغلين بالتعليم والتعليم من التوجه إلى سلوك هذه الطريقة أمران أحدهما: أن رغبة الناس منصرفة إلى جعل التعليم ذريعة لأخذ الشهادة؛ لأنها شرط للاستخدام في الحكومة، والسبب في رغبة الناس في خدمة الحكومة هو أن الناس لعدم ثقتهم بأنفسهم ولجهلهم بطرق الكسب الواسعة وضعف هممهم عن سلوكها يود كل واحد منهم أن يكون له مورد من الرزق مضمون يعتمد عليه وإن كان وشلاً آسًا فإذا اسْتُخْدِم بمائة وخمسين قرشًا ولو في أعلى الصعيد أو السودان ينام آمنًا مطمئنًا ويلقي هم الدنيا وراء ظهره إلا إذا تيسر له السعي في شفاعة تزيد في راتبه أو ينتقل بها إلى مكان غير مكانه ولو استعمل مواهبه التي منحه الله إياها وكدح في طلب الرزق من طرقه الواسعة لا سيما التجارة، لجاز أن يكون من انتقل إلى بيان السبب الآخر في عدم التوجه إلى التعليم النافع فقال: أما ثاني السببين فداؤه أقتل، وعلاجه أعسر، أتدرون ما هو؟ هو المعلمون والمربون فإننا تحتاج في التعليم الابتدائي إلى من يبدئ التلميذ في السنة الأولى بألف با فلا تنتهي السنة الرابعة إلا وهو يكتب ويعرف ما ذكرناه آنفًا وعرض عليكم نموذجيه، والذين يحسنون هذا النوع من التعليم قليلون. وقد عزمنا على تحديد مدرسة للجمعية، وكنا عند المذاكرة فيها كنا نشكو من قلة المعلمين. إننا نحتاج معلمًا لإحدى مدارسنا فنعلن ذلك في الجرائد فيجيئنا الراغبون بالعشرات فنمتحنهم ونختار من نراه الأمثل، وإن لم يكن على حسب الرغبة تمامًا ثم يتمرن على طريقتنا في المدرسة مع طول التنبيه والتفتيش، ومثل هؤلاء يجدر بنا أن نسميهم معلمي الضرورة. قال: ذكرت هذه لأوجه نفوس العلماء والوجهاء إلى تلافي هذا الخطب ومداوة هذه العلة التي هي أم العلل وذلك بإنشاء مدرسة لتخريج المعلمين ولا بد في هذا من سعي العلماء ومساعدة الأغنياء، ثم شكر للحاضرين سعيهم فانصرفوا شاكرين. أقول: كتبت بعد أيام من الاحتفال في إثر انحراف في الصحة فإن نقصتُ من فوائد الخطاب ففي غير الفوائد الأصلية وإن زدت فربما كان كلمة في معنى الكلام تزيد في إيضاحه.

تتمة سيرة الكواكبي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة سيرة الكواكبي وكان أول عمل عمله في إدارة مجلس البلدية هو قطع عرق الرشوة من العمال الذين يباشرون الأعمال والمصالح ويسمون (الجاويشية) ولكنه زاد في راتبهم؛ لعلمه بأن الذي يضطر أكثر العمال إلى الرشوة هو قلة الراتب. وكان من ظلم الوالي بعد عزل الفقيد من رياسة البلدية أن أرجع راتب الجاويشية كما كان وألزم صاحب الترجمة بدفع ما كان زاده لهم في مدته إلى صندوق البلدية كما ألزمه بدفع ما أنفق على سلاسل الحديد التي منع بها الجمال من طرق المدرسة؛ لأن الوالي أمر بإزالتها عقيب عزله ثم عاد فأمر بإعادتها بعد زمن قريب ولكنه لم يعد إلى الفقيد الغرامة التي ظلمه بها. ولما عين رئيسًا لكتاب المحكمة الشرعية كانت المحكمة في أسوإ الأحوال في الصورة والمعنى، فكان ينفق على إصلاحها من جيبه حتى إنه استحضر لها السجوف والأستار من بيته ومنع اختلاط النساء بالرجال إذ جعل لكلٍّ مكانًا ينتظر فيه دوره للتقاضي ورَتَّبَ الأوقات ونظَّم الدفاتر. وكان صاحب عزيمة قوية لا يهاب حاكمًا ولا يخاف ظالمًا وعزيمته هي التي جنت عليه فقد كان نجح في عمله عندما عين مديرًا ومفتشًا لمصلحة حصر الدخان كما تقدم في السيرة الرسمية حتى وقع النزاع بنيه وبين عارف باشا والي حلب يومئذ فبطل العمل عمل الفقيد في ضبط هذه المصلحة ما عجزت عنه إدراتها العمومية والحكومة جميعًا حتى كانت تخسر في ولاية حلب دون سائر بلاد الدولة، وكان المشتغلون بتهريب الدخان البلدي وبيعه في حلب سبعمائة رجل فعين لهم رواتب ومنعهم من التهريب بحكمة عجيبة وسيأتي مجمل خبره في عداء الوالي عند الكلام على بعض الصعوبات التي لقيها في طريقه. كانت مدة الاتفاق الأول مع مصلحة حصر الدخان ثلاث سنين فانفصل من إدارة العمل والتفتيش بعد سنتين بالسبب الذي ألمعنا إليه، ولثقة الفقيد بنفسه واقتداره على العمل ذهب إلى الأستانة بعد عزل عارف باشا من ولاية حلب فعقد اتفاقًا آخر مع المصلحة والحكومة مدته عشر سنين وكان أراد أن يضم إلى ولاية حلب متصرفًا فعقد اتفاقًا آخر مع المصلحة والحكومة مدة عشر سنين وكان أراد أن يضم إلى ولاية حلب ومتصرفية الزور ولايتي بيروت وسورية فلم يرض له ذلك من استشاره من الأقربين فرجع عنه. وقد نجح أيضًا في المرة الثانية ولكن حدثت بعد أربع سنين الفتنة الأرمنية فنهب الأرمن الدخان من عدة بلاد وقتلوا موظفي المصلحة فكان الفقيد يخسر في الشهر بضعة عشر ألفًا من الليرات فتوسل بذلك إلى الآستانة بحل العقد وإبطال الاتفاق فتم له ذلك بعد عناء وخسارة عظيمة ولإخلاصه بحب المصلحة العامة كانت أكثر وظائفه فخرية أي بغير راتب كما عرف من الترجمة الرسمية ويزيد على هذا أنه كان يبذل شيئًا من ماله فوق ما أخذه من راتب بعض الوظائف لأجل ترقية العمل وإتقانه، وهذا خلق لم يعرفه الشرق في هذا العصر. مشروعاته: طلب من الحكومة عدة امتيازات بأعمال عظيمة لم تكن تخطر لأهل بلاده على بال. (منها) إنشاء مرفأ في السويدية وطريق حديدي منها إلى حلب. و (منها) جلب نهر الساجور إلى حلب لأن ماء المدينة قليل، ولو تم هذا العمل لأحييت به أرض واسعة فكانت جنات وحدائق. (ومنها) أن عينًا خوارة في سفح جبل بين أرمنان وأدلب قد أغرقت أمواهها تلك الأرض فجعلتها مستنقعات تضر الناس، ولا يأوي إلى غاباتها إلا الخنزير البري فذهب الفقيد إليها واختبر حال الأرض والعين اختبارًا هندسيًّا زراعيًّا فعلم أنه يمكن جر مائها إلى أدلب القليلة الماء وتجفيف تلك المستنقعات فتصير نافعة وتحيا أرض أدلب ويحيا أهلها فطلب بذلك امتيازًا. و (منها) إنارة حلب وبيره جك ومرعش وأورفه بالكهربائية بواسطة شلال يحدثه من نهر العاصي في محل اسمه المضيق بالقرب من دركوش تابع لجسر الشغر وكان اختبر المكان اختبارًا هندسيًّا فعلم أن إحداث الشلال فيه ممكن. (ومنها) استخراج معدن نحاس من أرغنه التابعة لولاية حلب. وقد حال دون إعطاء بعض هذه الامتيازات ما يحول كل مصلحة عامة يطلبها الوطنيون كالرشوة ونحوها. وقد كان أعطى امتياز استخراج النحاس واشتغل به ثلاثة سنين ونيف وبعد ذلك أرادت حكومة الولاية إبطاله لأمر ما فأدخلت مع الفقيد في العمل بعض الأجانب وتوسلت بذلك إلى إبطاله. خدمته للناس وللحكومة: كان اتخذ له مكانًا بين داره ودار الحكومة سماه المركز يأوي إليه وكلاء الدعاوي فكان يؤمه أصحاب الحاجات والقضايا يستشيرون صاحب الترجمة في حل عقد المشكلات، ويستضيئون برأيه في دياجير المهمات، وكان في الغالب يفضل بينهم بالتراضي ويغنيهم عن المحاكمة والتقاضي فإن احتيج في قضية إلى الحكومة يندب له من يراه أهلاً لها من الوكلاء المحامين، وإن كانت عظيمة الشأن أن يندب نفسه ويحاكم المبطل حتى يحق الحق لصاحبه. وقد كان قُصَّادُ ذلك المركز يكادون يزيدون على قصاد دار الحكومة، وكانت الحكومة نفسها تستشيره في الشئون الغامضة تعتمد على رأيه. * * * مقاومة الحكام له: ورث الفقيد عن سلفه السادة الأمراء علو الهمة وقوة العزيمة وعدم المبالاة بالأخطار فهو من سلالة السيد إبراهيم الصفوي الأردبيلي المهاجر إلى حلب وما حديث الصفوية في الإمارة بمجهول. بهذا كان رحمه الله تعالى لا يهاب الحكام ولا يداريهم مع أن حكومتهم في الحقيقة استبدادية. وهذا هو الذي أحبط أعماله في بلده وذهب بثروته. غَاضَبَ عارف باشا أحد ولاة حلب فأغرى بعض الناس بأن يكتب إلى الأستانة شاكيًا من سيئات الوالي شارحًا لهم فعلم الوالي بذلك فعمل مكيدة لحبس الفقيد وضبط أوراقه وزوَّر عليه ورقة سماها (لائحة تسليم ولاية حلب إلى دولة أجنبية) وطلب محاكمته عليها، وحكمُ القانون في هذه الجريمة الإعدامُ ولكنهم غلطوا في معاملته بالحبس وطلب الاستنطاق غلطًا قانونيًّا ما كان ليخفى على الفقيد فكتب إلى الأستانة كتابة مطولة يظهر فيها أن خروج حكومة الولاية عن حدود القانون هو من دلائل تحاملها عليه وتحريها ظلمه، وطلب أن يحاكم في ولاية أخرى فأجيب طلبه وحُوكم في بيروت فحكم ببراءته وما زال يتتبع الوالي حتى عزل بعد عودته إلى حلب وكان هو أول من بشره بالعزل بواسطة قاضي الولاية ثم إنه أخرجه من حلب بإهانة عظيمة؛ لأنه أوعز إلى أصناف الفقراء الذين كانوا يسمون الفقيد أباهم لنصرته إياهم فاجتمعوا عند داره بهيئات غريبة فترك أهله وخرج كالهارب وسافر إلى الأستانة وتبعه الفقيد ليحاكمه ولكنه لم يكد يصل إليها حتى مات قهرًا. وكان الشيخ أبو الهدى أفندي الشهير من أعدائه ويقال أن السبب الأول في ذلك إباء الفقيد أن يصدق على نسب الشيخ أبي الهدى هذا، وإن الشيخ أبا الهدى صار نقيب أشراف حلب وكانت هذه النقابة من قبل في آل الكواكبي. ومن آداب الفقيد العالية أنه كان هنا يثني على صفات الشيخ أبي الهدى الحسنة كالمروءة والكرم والذكاء والثبات وقلما كان يخوض بانتقاده إلا مع الخواص الذين يعرفون الحقائق فكانت عداوتهما عداوة العقلاء. خسر الفقيد بتلك المحاكمة ألوفًا من الجنيهات وخسر أضعافها بإدارة شركة انحصار الدخان للمرة الثانية أيضًا؛ لأن الحكومة مكلفة بحفظ أماكن الشركة فلما حدثت فتنة الأرمن امتنع الوالي عن إرسال العساكر لمنع نهب الأرمن مال الشركة وخسر بعدم مداراة الحكام غير ذلك من المزارع والأرض (منها) مزرعة (جفتلك) جميل باشا الوالي التي اشتراها منه الفقيد فاعتدى عليها زعماء التركمان بإغراء خفي حتى أخذوها ومنها مزرعة (جفتلك) كانت مستنقعات تابعة للأراضي الأميرية فألف لها شركة وأخذها من الحكومة وجففها فأغرى المغرون بعض عشائر الأكراد بالتعدي على حصته فحاكمهم فحكم لهم عليه بالمساعدة الخفية، وفي أثر ذلك سافر مهاجرًا إلى مصر. سياسته ورأيه في الإصلاح: لم يكن الفقيد في اشتغاله بخدمة بيته وبلده وحكومته غافلاً عن شئون المسلمين العامة فقد كان يقرأ الجرائد التركية والمصرية حتى الممنوعة التي كانت تدخل إلى حلب كغيرها بوسائط خفية. ولما هاجر إلى مصر كان أول أثر له فيها طبع سجل جمعية أم القرى وكان يقول: إن لهذه الجمعية أصلاً، وأنه هو توسع في السجل ونقحه ست مرات آخره عند طبعه منذ سنتين ونيف أي عقيب قدومه إلى مصر. وقد قال لنا مرة: إن الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد بل إن بلاد الحرية تولد في الذهن من الأفكار والآراء ما لا يتولد في غيرها. ومن يقرأ الكتاب يظن أن صاحبه صرف معظم عمره في البحث عن أحوال المسلمين وتاريخهم في عقائدهم وعلومهم وآدابهم وتقاليدهم وعاداتهم ومنه يعلم رأي الفقيد في الإصلاح وقد كنا معه على وفاق في أكثر مسائل الإصلاح حتى إن صاحب الدولة مختار باشا الغازي اتهمنا بتأليف الكتاب عندما اطلع عليه وربما نشير إلى المسائل التي خالفنا الفقيد فيها في هامش الكتاب عند طبعه وأهمها الفصل بين السلطتين الدينية والسياسية. أما آراؤه السياسية فحسبنا منها كتاب طبائع الاستبداد الذي يكاد يكون معجزة للكتاب السياسيين. وقد زعموا أن معظم ما في هذا الكتاب مقتبس من كتاب لفليسوف إيطالي في الظلم. ومن كان له عقل يميز بين أحوال الإفرنج الاجتماعية وأحوالنا وذوقهم في العلم وذوقنا يعلم أن هذا الوضع وضع حكيم شرقي يقتبس علم الاجتماع والسياسة في حالة بلاده حتى كأنه يصورها تصويرًا، وإذا لاحظ مع ذلك أن هذا الكتاب كان مقالات مختصرة نشرت في المؤيد ثم مدها صاحبها مد الأديم العكاظي وزاد فيها فكانت كتابًا حافلاً يتجلى له علمه الأول بصورة أوضح وأجلى، وإذا علم بعد هذا كله أنه نقحه بعد الطبع فحذف منه قليلاً وزاد فيه كثيرًا يعلم علم اليقين أن ينبوع علم هذا الرجل صدره وأنه كان يزداد في كل يوم فيضانًا وتفجيرًا، نعم إن قال في مقدمته: إن بعضه مما درسه، وبعضه مما اقتبسه، وإننا نعلم أنه لم يولد إنسان عالمًا ولكن فرقًا عظيمًا بين من يحكي كلام كغيره كآلة (الفوتغراف) وبين من يُحَكِّم عقله في علوم الناس فيأخذ ما صح عنده وينبذ ما لا يصح. من كان له مثل هذا العقل الحاكم في كليات العلوم فهو الفيلسوف إن كان اجتهاده هذا في العلوم العقلية والكونية وهو الإمام إن كان اجتهاده في العلوم الدينية. وجهته الأخيرة: وجه همته أخيرًا إلى التوسع في معرفة حال المسلمين ليسعى في الإصلاح على بصيرة فبعد اختباره التام لبلاد الدولة العلية تركها وعربها وأكرادها وأرمنها، ثم اختباره لمصر ومعرفة حال السودان منها ساح منذ سنتين في سواحل إفريقية الشرقية وسواحل أسيا الغربية، ثم أتم سياحته في العام الماضي فاختبر بلاد العرب التي كانت موضع أمله أتم الاختبار فإنه دخلها من سواحل المحيط الهندي ومازال يوغل فيها حتى دخل في بلاد سوريا واجتمع بالأمراء وشيوخ القبائل وعرف استعدادهم الحربي والأدبي وعرف حالة البلاد الزراعية وعرف كثيرًا من معادتها حتى إنه استحضر نموذجًا منها. وقد انتهى في رحلته الأخيرة إلى كراجي (من مواني الهند) وسخر الله له في عودته سفينة حربية إيطالية حملته بتوصية من وكيل إيطاليا السياسي في مسقط فطافت به سواحل بلاد العرب وسواحل إفريقيا الشرقية فتيسر له بذلك اختبار هذه البلاد اختبارًا سبق به الإفرنج، وكان في نفسه رحلة أخرى يتم بها اختباره للمسلمين وهي الرحلة إلى بل

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة الدهر والزمن (س1) أحمد أفندي عبد الكريم بالزقازيق: نقرأ ونسمع كل يوم من مذام الدهر نظمًا ونثرًا من جميع الملل ما لا يخفى عليكم ولا نعلم ما يقصدون بالدهر الذي ينسبون إليه أفعالاً كالرفع والخفض والعسر واليسر وما مسمى هذا الاسم، أهي المدة الزمانية ولا دخل لها في الأفعال أم ماذا؟ والحامل على هذا السؤال أنني سمعت من أحد العلماء حديثًا أدهشني وهو: (لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله) وقد نرى أكثر سابِّي الدهر من العلماء الذي لا يغيب عنهم هذا الحديث فما رأيكم في هذا السؤال وفي صحة الحديث؟ أجيبوني ولكم مزيد من الشكر ومن الله الأجر. (ج) اختلف العلماء في تفسير الدهر والزمان والنسبة بينهما فقال الراغب: الدهر اسم لمدة العالم من مبدئه إلى منتهاه، ثم صاروا يطلقونه على المدة الطويلة، وأما الزمان فيطلق على المدة الطويلة والقصيرة إطلاقًا حقيقيًّا، وزعم السعد أن الدهر طول الزمان. وقد فشا بين الأدباء والشعراء ذم الدهر والزمان ونسبة الحوادث السيئة إليهما، وترى شعراء العرب بعد الإسلام قلما يذمون الدهر وإنما يذمون الزمن. ولا يقصد هؤلاء ولا أولئك بالزمن أو الدهر حركة الفلك أو الليل والنهار أو ما يقول المتكلمون في تعريف الزمن (مقارنة متجدد معلوم لمتجدد موهوم) وإنما يقصدون أن تعاستهم أو شقاءهم وكل ما يشكون منه لم يكن من تقصيرهم وإنما علته عدم مواتاة الشئون الكونية المتعلقة بغيرهم من الخلق ولما كانت هذه الشئون التي يتوقف عليها النجاح مع سعي الإنسان غير معينة صاروا ينسبوها إلى أعم شيء يمكن أن تسند إليه وهو الزمن أو الدهر. وقد حكى الله تعالى عن بعض الملاحدة نسبة الإحياء والإماتة إلى الدهر فقال: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) والظاهر أنهم يعنون أن هذا هو المعروف طول الدهر فلا يوجد شيء آخر يحيي ويميت، وهذا النفي المطلق جهالة لا دليل عليها. وأما الحديث فقد جاء في صحيح مسلم بلفظ (لا يسب أحدكم الدهر فإن الدهر هو الله تعالى) وورد بلفظ آخر عند أبي داود والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم وهو: (قال الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أقلب ليله ونهاره) ورواه غيرهم وله ألفاظ أخرى لا حاجة إلى استقصائها. ولم يرد اسم الدهر في أسماء الله تعالى؛ لأنه أطلق عليه سبحانه على سبيل التجوز والمعنى فيه أن الشيء الذي يسند إليه الناس الأفعال ولا يعرفون حقيقته وإنما يسمونه الدهر؛ لأنه غير متعين في علمهم الناقص هو الله جل شأنه؛ لأنه هو الفاعل المختار والذي يرجع إليه الأمر كله. *** الدعاء والقضاء وطول العمر (س2) أحمد أفندي متولي بمصر: اطلعت على حديث في تفسير الخازن هذا نصه: عن سلمان أن رسول الله صلى الله وعليه وسلم قال: (لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر) وهذا مضاد ما نعتقده من أنه لا رادّ لقضاء الله، وإن العمر لا يزيد ولا ينقص لقوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38) وقوله جل ذكره: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) فالرجاء إفادتنا عن ذلك. (ج) اتفق النقل مع العقل على أن كل ما يقع في الوجود فإنما يقع بحسب ما في علم الله تعالى؛ لأن وقوع شيء على خلاف ذلك يستلزم الجهل وهو مُحَال على الله تعالى فما خالف هذه العقيدة خلافًا حقيقيًّا فهو مردود نقطع بأنه مكذوب على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إذا لم يمكن تأويله وإرجاعه إليها، وقد أول العلماء حديث (لا يرد القضاء إلا الدعاء) فقالوا: قد يكون في علم الله تعالى أن فلان يصاب بكذا أو يكون بصدد أن يصاب به فيدعو الله فيكشف عنه البلاء الذي كان معلقاً نزوله أو دوامه على عدم الدعاء، وانكشافه على الدعاء ويسمون هذا القضاء المعلق. أما القضاء المبرم هو ما سبق في علم الله تعالى أن يكون لا محالة فهو الذي لا يمكن أن يرد. وإذا كان هذا التقسيم لأجل الجواب عن هذا الحديث فهناك أحاديث لا يمكن أن يجاب عنها منها ما أخرجه أبو الشيخ عن أنس مرفوعًا (أكثر من الدعاء فإن الدعاء يرد القضاء المبرم) وما أخرجه ابن عساكر عن نمير بن أوس مرسلاً (الدعاء جند من أجناد الله مجندة يرد القضاء بعد أن يبرم) والحديثان ضعيفا السند جدًّا. والحديث الوارد في السؤال رواه الترمذي والحاكم. وقد ذكر المحدثون أن من علامة الحديث الموضوع مخالفته للعقائد القطعية والأصول الثابتة ومنها مخالفته للعقل وللوجود. وأما كون البر يزيد في العمر فقد ورد بمعناه أحاديث في الصحيح وهو كلام في الأسباب لا في علم الله تعالى وقضائه في العباد. قال بعض العلماء في تفسيره: إن أهل البر يكونون أهنأ الناس عيشًا لما بينهم وبين والديهم وأهليهم وسائر الناس من الحب وحسن المعاملة، وهذه هي الزيادة في العمر فإن من يعيش بالمناكدة والفجور كأنه لم يعش لأن حياته تذهب سدًى. وفيه وجه آخر وهو أن البر وحسن الأخلاق والاعتدال في الأمور من أسباب الصحة واعتدال المزاج، والصحة هي مادة طول الحياة في الغالب، وهذا إنما يأتي بالنسبة لحالة البنية واستعداد الشخص لا بالنسبة لما في علم الله تعالى؛ لأنه لا يتغير، وأكثر الكلام بين الناس يكون في الأسباب لا في أصول العقائد، وقد أوضحنا هذه المسألة في الدرس 16 من الأمالي الدينية. (راجع 3: 558) *** رضاع الزوج من الزوجة (س 3) م. ص في الجيزة: إذا رضع الزوج من ثدي زوجته هل تحرم عليه؟ (ج) لا، فإن حكم الرضاع إنما ثبت في الصغير عند جماهير العلماء من السلف والخلف والمروي عن الأئمة الأربعة وغيرهم أنه لا تأثير له بعد الحولين وفيه حديث رواه الدارقطني عن ابن عباس: (لا رضاع إلا ما كان في الحولين) وفي حديث صححه الترمذي (لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام) والمراد بفتق الأمعاء كونه عمدة في التغذية ولكن وردت أحاديث أصح من هذه التحريم برضاع الكبير، وقد أجابوا عنها بما يحتمل البحث ومن أراد الاحتياط فليجتنب كل ما فيه خلاف. وأما سؤالكم الأول فإننا لم نفهمه وسنجيب عن اقتراحكم في الطلاق عند سنوح الفرصة.

فرنسا والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فرنسا والإسلام لا تزال دولة فرنسا في حيرة وعمه لا تهتدي معهما إلى طريقة تطمئن إليها في سياسة مستعمراتها الإسلامية فكتابها من الفلاسفة والسياسيين يواصلون البحث في الإسلام على مر الأيام والأعوام لأجل إشراع هذه الطريقة وما هم بمشرعيها ولما تطمئن نفوسهم إلى شيء كاطمئنان نفس إنكلترا في سياسة مستعمراتها الإسلامية وغير الإسلامية. ولقد ظهرت نتيجة حسن سياسة إنكلترا في ارتباكها بحرب الترانسفال فلقد كانت عاجزة عن تأديب مملكة واحدة من ممالكها الاستعمارية الواسعة إذا هي تألبت عليها وثارت تريد الخروج من دائرة سلطتها. والله يعلم ما يكون من أمر مستعمرات فرنسا معها إذا وقعت في مثل ذلك الارتباك وانتهت إلى مثل ذلك الخطر الذي كانت فيه إنكلترا أيام كانت الحرب في شبابها. سلكت فرنسا مع المسلمين مسلك العنف والضغط حتى حالت بين المسلمين الذين تحت سيادتها وبين العلم والتعليم وزعمت أن فرقًا بينها وبين إنكلترا فإنها تحكم شعوبًا لا تزال الشهامة الإسلامية والشجاعة العربية متمكنة في نفوسها، وأن إنكلترا تسوس قومًا فسد بأسهم وهجرتهم الشجاعة والشهامة بما توالى عليهم من ظلم حكامهم كالهنديين والمصريين الذين لا تخشى بادرتهم، ولا تحذر غائلتهم، وجهلت أقرب حوادث التاريخ في مصر وهو خروج المصريين على حكامهم الذين يدينون بدينهم وينطقون بلغتهم عندما أمكنتهم الغرة من الخروج عليهم حتى كان العلماء وهم أبعد الناس عن السياسة من خطباء الثورة العرابية ودعاتها بعدما كانوا يقولون بوجوب طاعة هؤلاء الحاكمين والخضوع لهم. لا أنسى كلمة سمعتها من كبير العلماء في بلد من سوريا قالها في محفل كبير ذكرت فيه الثروة العرابية فقال ذلك الشيخ رحمه الله: (كلنا عرابيون) ودعا لعرابي وحزبه بالنصر، وإذا وجد في العلماء رجل واحد بصير بالسياسة كان يحذر العرابيين وينذرهم سوء عاقبة الثورة كالشيخ محمد عبده فذلك لا ينافي أن الجماهير كانوا راضين عنها وداعين إليها. أتجهل فرنسا سياسة الظلم والقوة التي نفخت روح الثورة في المصريين الجبناء في نظرها على حكامهم المسلمين تخشى عاقبتها من الجزائريين والتونسيين وهم من أهل النجدة والبأس والشجاعة والشهامة؟ أتجهل السر في سكون هؤلاء الذين عهدهم بالثورة غير بعيد عند ظهور انكسار إنكلترا في الحرب المرة بعد المرة؟ السر ظاهر غير مكتوم، وهو أنهم في رخاء من العيش يرفلون في ظلال الحرية التامة ونعيمها. نعم إنهم يتمنون الاستقلال التام؛ لأنه هو كمال الحياة الاجتماعية ومن نجا من الاستعباد والاستذلال، يشتهي كمال الاستقلال، ولكن الناس لا ينبعثون إلى الثورة إلا بالظلم فإن الانفجار نتيجة الضغط. إذا كانت إنكلترا لا تساعد استعداد الشعوب على الترقي كما هو شأنها في زنجبار فإنها قلما تعارضه؛ لأنها لا تحارب الطبيعة فقد كان مسلمو الهند في جهل وخمول فتركتهم وشأنهم فظهر فيهم مرشدون اشتغلوا بتربيتهم وتعليمهم فصادفوا من الحكومة الإنكليزية ارتياحًا بل تنشيطًا ومساعدة وأعطتهم الحرية التامة في إنشاء المدارس والجرائد وعقد الجمعيات. والبريد عندهم حر فلم نسمع أن جريدة منعت عن الهند وإن مكتوبًا ضاع أو رسالة اختزلت أو كتابًا أرسل فلم يصل، فهل تعامل فرنسا أهل الجزائر بمثل هذه المعاملة أو بما يقرب منها؟ . لقد كان لفرنسا في سيرة الإنكليز في الاستعمال ما يغنيها عن كثرة البحث والتأليف والتصنيف في حال المسلمين، وكيف ينبغي أن يعاملوا ويغنيها عن تأليف اللجنة التي ألفتها من عهد قريب لتمحيص البحث في هذه المسألة. يحكم كتاب فرنسا وساستهم على المسلمين من غير أن يستشيروهم أو يعرفوا ما يكتبه الأحرار العارفون بالدين وأهله عنهم، ولكن بعض حكامهم يستكتبون بعض المصانعين لهم ما أرادوا ويغشون أنفسهم وقومهم بما يوهمونهم أن هذا هو رأي علماء المسلمين وأهل الرأي فيهم. أكثر ما يكتبه الفرنسويون عن الإسلام والمسلمين يُحفظ القلوب ويثير الأحقاد ويخرج الأضعان وكل هذا يُحْتَمَل ما دامت القوة، فإذا عرض عليها ما يضعفها فهناك يحصدون شر ما يزرعون. وليس من العقل الاغترار بدوام القوة. الفرنسيون أبعد الناس عن الدين وعن التعصب له، ولكنهم إذا كتبوا عن الإسلام فإنما ينفثون السموم ويُظلون المسلمين بظل من يحموم، إلا ما كان من فيلسوف حكيم يكتب للعلم لا للسياسة. حكومة الجمهورية ليست مسيحية فتتعصب على الإسلام لأجل النصرانية، وإنها لتقاوم النصرانية في بلادها كما تقاوم الإسلام في مستعمراتها، ولكنها تعتقد أن المسلمين قوم حرب وأن دينهم يطالبهم بأن يكونوا سائدين غير مسودين، وأنهم يتربصون بمن يسودهم الدوائر حتى إذا ما سنحت لهم الفرصة وثبوا، فسلبوا ونهبوا، وأن السياسة الواقية أن يوضعوا في الأوهاق، وتغل الأيدي إلى الأعناق، وأن تحجب شمس العلم عن الأنظار، وتحول بين السماع وما في الإسلام من الأخبار، وأن تراقب الحكومة السائحين، إذا كانوا مسلمين أو عثمانيين؛ ومن الاعتقاد ما هو ظن و {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) ولا شيء يحرج الصدور، ويُمِضُّ النفوس مثل هذه المعاملة السوءى؛ لأنها برهان على أن هذه الحكومة تبغض المسلمين، والجاهل لا يعرف سببًا للعداوة والبغضاء إلا الأمر العام وهو الدين؛ لذلك يعتقد الأكثرون في المستعمرات الفرنسية أن فرنسا تبغض المسلمين؛ لأنهم مسلمون يعبدون الله من دون المسيح ويؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. نحن والعقلاء نقول: إن الأمر ليس كذلك، ومثلنا من يقدر على إقناع المسلمين لأننا من خَدَمَةِ الدين والعلم فيهم، ولكن هذا الإقناع يتوقف على وصول صوتنا إلى تلك المسامع وفرنسا لا ترضى بذلك بل ولا ترضى بأن يتعلم المسلمون إلا اللغة الفرنسية التي تزيد المسلمين بغضًا في فرنسا كما صرح بذلك بعض كتباها وذلك أنهم يرون في الكتب والجرائد الفرنسية الطعن الموجع مصوبًا دائمًا إلى صدور المسلمين. وفرنسا أقدر منا على إقناع المسلمين بحسن نيتها وسلامة عاقبتها إذا برهنت عليه بالعمل ولكن يتعذر علهيا إقناع مسلم واحد بالقول وإن أوتيت من سحر البيان؛ وخلابة اللسان ما لم يؤته إنسان. فرنسا في شك مريب من أمر مسلمي مستعمراتها لا تدري أيمكن أن تعيش معهم في وئام وهدوء وسلام، أم ذلك من الأماني والأوهام التي لا تدرك ولا تُرَام، ولا شك عندنا نحن في الإمكان، والمرتاب لا يقنعه البرهان، ولكن ربما تقنعه حوادث الزمان، والمريب يكون دائمًا في حذر، والظالم لا يمكن أن يأمن الغير ولو أخلصت فرنسا التنبيه، لعرفت القضية، وبلغت الأمنية. لو أطلقت فرنسا لأهل الجزائر حرية العلم والدين وحافظت فيهم على أحكام شريعتهم وآدابها وساعدتهم على ترقي بلادهم وعمرانها وأقامت فيهم العدل وأباحت لكل أحد أن يمازجهم ويرى ما هم فيه حينئذ من غبطة ونعيم لكانت هذه المعاملة الحسنى أقوى جاذب يجذب جيرانهم المراكشيين إلى الدخول في حكم الولاية الجزائرية قبيلاً بعد قبيل لا سيما إذا جعلت للولاية حاكمًا مسلمًا يصدر الأحكام الشرعية وينفذها. قد نعلم أن من الفرنسيين من يسخر من هذا الكلام إذا سمعه متوهمًا أننا نقوله خداعًا لهم لا عن اعتقاد منا بصحته. ولا يعلم الساخر المفروض أننا أقرب إلى الشك في كون إحسانهم معاملة المسلمين خيرًا للمسلمين منا إلى الشك فيما قلناه، فإن الظلم والقسوة في المعاملة هي التي تربي الأمم وترجع إليها استعدادها المفقود، أو تبعث فها استعدادًا لم يكن بالموجود، ولقد كانت الحرب الروسية العثمانية أكبر منبه للمسلمين إلى الحياة الاجتماعية في مشارق الأرض ومغاربها، وإن كانت أكبر خسارة على المسلمين في الظاهر. وإن ساسة المسلمين وعقلائهم من يعتقد أن نجاح الإسلام الأكبر يتوقف على سقوط كل هذه الحكومات الإسلامية التي بقيت لها رسوم مماثلة فإن أعظم دواء المسلمين الاجتماعية اعتمادهم على حكوماتهم واستبداد حكامهم بهم فلن تعود إليهم قوتهم الحقيقة واستقلالهم الذاتي إلا بسقوط هذه الرسوم ليرجعوا إلى قوتهم الذاتية الاستقلالية. بم يفسر مسلمو الجزائر وتونس وغيرهم عداوة فرنسا للسيد المهدي السنوسي وهو من رجال الدين وشيوخ الطريق، ولماذا يكتب الفرنسيون في جرائدهم وكتبهم أنه لا بد من استئصال قوته، واصطلام دعوته وإخماد جذوته، كما كان بَيَّنَا في العدد 23 من منار السنة الأولى ولماذا لا يحفل الإنكليز بذلك ولا يبحثون عن زواياه وأتباعه في السودان ومصر ولماذا لم يكتب أحد من الإنكليز ناصحًا قومه ومبينًا لهم الحيل والدسائس التي تفتت القوة السنوسية؟ إن سياسة فرنسا في أفريقيا خرقاء وربما تكشف هذه المناوشات الأخيرة بينها وبين المهدي السنوسي خرقها إلا إذا أراد الله لها زيادة الاستدراج والإملاء إلى أجل مسمى وإلى الله المصير. (يطلب خبر محاربة فرنسا والسيد المهدي السنوسي في باب الأخبار)

نموذج من كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من كتاب دلائل الإعجاز للإمام عبد القاهر الجرجاني (تتمة الكلام على من زهد في رواية الشعر وحفظه وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه) كان آخر القول في النبذة الماضية أن النبي كان يستنشد عائشة فتنشده ما تقدم. قالت: فيقول عليه السلام (يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده صنع إليك عبدي معروفًا فهل شكرته عليه فيقول يا رب علمت أنه منك فشكرتك عليه قال فيقول الله عز وجل: لم تشكرني إذ لم تشكر من أجريته على يده) . (وأما) علمه عليه السلام بالشعر فكما روي أن سودة أنشدت (عدِيٌّ وتَيم تبتغي من تحالف) فظنت عائشة وحفصة رضي الله عنهما أنها عَرَّضَتْ بهما وجرى بينهن كلام في هذا المعني فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليهن وقال: (يا ويلكن ليس في عديكن ولا تيمكن قيل هذا، وإنما قيل هذا في عدي تميم وتيم تميم) وتمام هذا الشعر: فحالف ولا والله تهبط تَلْعة ... من الأرض إلا أنت للذل عارف [1] ألا من رأى العبدين أو ذكرا له ... عدي وتيم تبتغي من تحالف وروى الزبير بن بكار. قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر رضي الله عنه برجل يقول في بعض أزقة مكة: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد الدار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر هكذا قال الشاعر) قال: لا يا رسول الله ولكنه قال: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا سألت عن آل عبد مناف فقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم هكذا كنا نسمعها. (وأما) ارتياحه صلى الله عليه وسلم للشعر واستحسانه له فقد جاء فيه الخبر من وجوه من ذلك حديث النابغة الجعدي قال: أنشدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قولي: بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق مظهرا فقال النبي صلى اله عليه وسلم: (أين المظهر يا أبا ليلى؟) فقلت: الجنة يا رسول الله قال: (أجل إن شاء الله) . قال: (أنشدني) فأنشدته من قولي: ولا خير في حلم إذا لم تكن له ... بوادر تحمي صفوة أن يكدرا [1] ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال صلى الله عليه وسلم: (أجدت، لا يفضض الله فاك) قال الراوي: فنظرت إليه فكأن فاه البَرَد المنهلّ ما سقطت له سن ولا انفلت تَرَف غُرُوبه [2] (ومن ذلك) حديث كعب بن زهير روي أن كعبًا وأخاه بجيرًا خرجا إلى رسول الله عليه وسلم حتى بلغا أبرق العَزَّاف فقال كعب لبجير: القَ هذا الرجل وأنا مقيم ههنا فانظر ما يقول وقدم بجير على رسول الله صلى الله وعليه وسلم فعرض عليه الإسلام فأسلم وبلغ ذلك كعبًا فقال في ذلك شعرًا فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه فكتب إليه بجير يأمره أن يسلم ويقبل إلى النبي صلى الله وعليه وسلم ويقول: وأن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسقط ما كان قبل ذلك فقدم كعب وأنشد النبي صلى الله عليه وسلم قصيدته المعروفة: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفيد مغلول [4] وما سعاد غداة البين إذ رحلت ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول سحَّ السقاة عليه ماء مَحْنِيَة ... من ماء أبطح أضحى وهو مشمول [5] أكرم بها خلة لو أنها صدقت ... موعودها أولو أن النصح مقبول حتى أتى على آخرها فلما بلغ مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما بهم عن حياض الموت تهليل شهم العرانين أبطال لبوسهم ... من نسيج داود في الهيجا سرابيل أشار رسول الله صلى الله وعليه وسلم إلى الحِلَق أن اسمعوا قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون من أصحابه مكان المائدة من القوم يتحلقون حلقة دون حلقة فيلتفت إلى هؤلاء وإلى هؤلاء، والأخبار فيما يشبه هذا كثيرة والأثر به مستفيض. وإن زعم أنه ذم الشعر من حيث هو موزون مقفى حتى كان الوزن عيبًا، وحتى كان الكلام إذا نُظِمَ نَظْمَ الشعر اتضع في نفسه وتغيرت حاله. فقد أبعد وقال قولاً لا يُعرف له معنى، وخالف العلماء في قولهم: إنما الشعر كلام، فحسنه حسن وقبيحه قبيح [6] وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا. فإن زعم أنه إنما كره الوزن؛ لأنه سبب لأن يغني في الشعر ويلتهى به فإنا إذًا كنا لم نَدْعُه إلى الشعر من أجل ذلك وإنما دعوناه إلى اللفظ الجزل، والقول الفصل، والمنطق الحسن البين، والى حسن التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة، وإلى صنعة تعميم المعنى الخسيس فتشرفه، وإلى الضئيل فتفخمه، وإلى المشكل فتجليه، فلا متعلَّق له علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا فيما أنكر، فليقل في الوزن بما شاء، وليضعه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه، وهذا هو الجواب لمتعلِّق إن تعلّق بقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (يس: 69) وأراد أن يجعله حجة في المنع من الشعر ومن حفظه ومن روايته، وذاك أنا نعلم أنه صلى الله عليه لم يمنع من الشعر من أجل أن يكون قولاً فصلاً، وكلامًا جزلاً ومنطقًا حسنًا وبيانًا بينًا، كيف وذلك يقتضي أن يكون الله تعالى قد منعه البيان والبلاغة، وحماه الفصاحة والبراعة، وجعله لا يبلغ مبلغ الشعراء في حسن العبارة، وشرف اللفظ وهذا جهل عظيم. وخلاف لِمَا عرفه العلماء وأجمعوا عليه من أنه صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب. وإذا بطل أن يكون المنع من أجل هذه المعاني وكنا قد أعلمناه أنا ندعو إلى الشعر من أجلها ونحدو بطلبه على طلبها كان الاعتراض بالآية مُحالاً والتعليق بها خطلاً من الرأي وانحلالاً: فإن قال إذا قال الله تعالى {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} (يس: 69) فقد كره للنبي صلى الله عليه وسلم الشعر ونزّهه عنه بلا شبهة وهذه الكراهة كانت لا تتوجّه إليه من حيث هو كلام ومن حيث إنه بليغ بيّن وفصيح حسن ونحو ذلك فإنها تتوجه إلى أمر لا بد لك من التلبس به في طلب ما ذكرت أنه مرادك من الشعر وذلك أنه لا سبيل لك إلى أن تميز كونه كلامًا عن كونه شعرًا حتى إذا رويته التبست به من حيث هو كلام ولم تلتبس به من حيث هو شعر هذا مُحال. وإذا كان لا بد لك من ملابسة موضع الكراهة فقد لزم العيب براوية الشعر وإعمال اللسان فيه. قيل له [6] : هذا منك كلام لا يتحصل وذلك أنه لو كان إذا وزن حطّ ذلك من قدره وأزرى به وجلب على المفرِّغ له في ذلك القالب إثمًا، وكسبه ذمًّا. لكان من حق العيب فيه أن يكون على واضع الشعر أو من يريده لمكان الوزن خصوصًا دون من يريده لأمر خارج عنه ويطلبه لشيء سواه فأما قولك: إنك لا تستطيع أن تطلب من الشعر ما لا يكره حتى تلتبس بما يكره فإني إذًا لم أقصده من أجل ذلك المكروه ولم أرده له وأردته لأعرف به مكان بلاغة. وأجعله مثالاً في براعة. أو أحتج به في تفسير كتاب وسنة وأنظر إلى نظمه ونظم القرآن، فأرى موضع الإعجاز وأقف على الجهة التي منها كان، وأتبين الفصل والفرقان، فحق هذا التلبس أن لا يعتد عليّ ذنبًا وأن لا أؤاخذ به إذ لا تكون مؤاخذة حتى يكون عَمْدٌ إلى أن تواقع المكروه وقصد إليه [1] وقد تتبع العلماء الشعوذة والسحر وعُنُوا بالتوقف على حيل المموِّهين ليعرفوا فرق ما بين المعجزة والحيلة فكان ذلك منهم من أعظم البر إذ كان الغرض كريمًا والقصد شريفًا هذا وإذا نحن رجعنا إلى ما قدمنا من الأخبار، وما صحَّ من الآثار، وجدنا الأمر على خلاف ما ظن هذا السائل ورأينا السبيل في منع النبي صلى الله عليه وسلم الوزن وأن ينطلق لسانه بالكلام غير ما ذهبوا إليه وذاك أنه لو كان منع تنزيه وكراهة لكان ينبغي أن يكره له سماع الكلام موزونًا وأن ينزّه سمعه عنه كما ينزه لسانه ولكان صلى الله عليه وسلم لا يأمر به ولا يحثّ عليه. وكان الشاعر لا يعان على وزن الكلام وصياغته شعرًا ولا يؤيد فيه بروح القدس، وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن يعلم أن ليس المنع في ذلك منع تنزيه وكراهة بل سبيل الوزن في منعه عيه السلام إياه سبيل الخط حين جعل عليه السلام لا يقرأ ولا يكتب في أن لم يكن المنع من أجل كراهة كانت في الخط بل؛ لأن تكون الحجة أبهر وأقهر، والدلالة أقوى وأظهر، ولتكون أعم للجاحد [2] وأقمع للمعاند، وأردّ لطالب الشبهة، وأمنع في ارتفاع الريبة. وأما التعليق بأحوال الشعراء بأنهم قد ذُمُّوا في كتاب الله تعالى فما أرى عاقلاً يرضى به أن يجعله حجة في ذم الشعر وتهجينه، والمنع من حفظه وروايته، والعلم بما فيه من بلاغة، وما يختص به من أدب وحكمة؛ ذاك لأنه يلزم على قول هذا القول أن يعيب العلماء في استشاهدم بشعر امرئ القيس وأشعار أهل الجاهلية في تفسير القرآن وغريبه وغريب الحديث، وكذلك يلزمه أن يدفع سائر ما تقدم ذكره من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وإصغائه إليه واستحسانه له، هذا ولو كان يسوغ ذم القول من أجل قائله، وأن يحمل ذم الشاعر على الشعر لكان ينبغي أن يُخص ولا يعم وأن يستثنى فقد قال الله عز وجل: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} (الشعراء: 227) ولولا أن القول يجر بعضه بعضًا وأن الشيء يذكر بدخوله في القسمة لكان حق هذا ونحوه أن لا يتشاغل به وأن لا يعاد ويبدأ في ذكره اهـ.

الاجتماع الرابع لجميعة أم القرى ـ تتمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة الاجتماع الرابع لجمعية أم القرى قد وجد فينا علماء كان أحدهم يطلع في الكتاب أو السنة على أمر أو نهي فيلقاه على حسب فهمه ثم يُعدي الحكم إلى أجزاء المأمور به أو المنهي عنه أو إلى دواعيه أو إلى ما يشاكله، ولو كان من بعض الوجوه، وذلك رغبة منه في أن يلتمس لكل أمر حكمًا شرعيًّا، فتختلط الأمور في فكره وتشتبه عليه الأحكام ولا سيما من تعارض الروايات فليلتزم الأشد ويأخذ بالأحوط ويجعله شرعًا، منهم من توسع فصار يحمل كل ما فعله أو قاله الرسول عليه السلام على التشريع، والحق كما سبق لنا ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وفعل أشياء كثيرة على سبيل الاختصاص أو الحكاية أو العادة، ومنهم من تورع فصار لا يرى لزومًا لتحقيق معنى الآية أو للتثبت في الحديث إذ كان الأمر من فضائل الأعمال فيأخذ بالأحوط فيعمل في الشديد ويظن الناس منه لك ورعًا وتقوى ومزيد علم واعتناء بالدين فيميلون إلى تقليده ويرجحون فتواه على غيره. وهكذا عظم التشديد في الدين بالتمادي حتى صار إصرًا وأغلالاً فكأننا لم نقبل ما مَنَّ الله به علينا من التخفيف، وأن وضع عنا ما كان على غيرنا من ثقل التكليف، قال تعالى شأنه وجلت حكمته: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ، وقال جلت منته مبشرًا: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157) أي يخفف عنهم التكاليف الثقيلة. وعلمنا كيف ندعوه بعد أن بَيَّن لنا أنه {َلا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) وهو أن نقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا} (البقرة: 286) وقال تعالى: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171) وقد ورد في الحديث (لن يشاد الدين أحد إلا غلبه) [1] حديث آخر (هلك المتنطعون) أي المتشددون في الدين وظن بعض الصحابة أن ترك السحور أفضل بالنظر إلى حكمة تشريع الصيام فنهاهم النبي عليه السلام عن ظن الفضيلة في تركه، وقال عمر رضي الله عنه في حضور رسول الله لمن أراد أن يصلي النافلة بالفرض: بهذا هلك من قبلكم فقال النبي عليه السلام: أصاب الله بك يا ابن الخطاب وأنكر النبي عليه السلام على عبد الله بن عمرو بن العاص التزامه قيام الليل وصيام النهار واجتناب النساء، وقال له: (أرغبت عن سنتي؟ فقال، بل سنتك أبغي، قال: فإني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) وقد كان عثمان بن مظعون وأصحابه عزموا على سرد الصوم وقيام الليل والاختصاء، وكانوا حرموا الفطر على أنفسهم ظنًّا أنه قربة إلى ربهم فنهاهم الله عن ذلك؛ لأنه غلُّو في الدين واعتداء فيما شُرِّعَ فأُنزل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (المائدة: 87) أي أنه لا يحب من تعدى حدوده وما رسمه من الاقتصاد في أمور الدين، وقد ورد في الحديث الصحيح قوله عليه السلام: (والذي نفسي بيده ما تركت شيئًا يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئًا يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا نهيتكم عنه) فإذا كان الشارع يأمر بالتزام ما وضع لنا من الحدود فما معنى نظرنا الفضيلة في المزيد، وورد في حديث البخاري (إن أعظم المسلمين جُرمًا من سأل عن شيء لم يُحَرَّم فَحُرِّم من أجل مسألته) وبمقتضى هذا الحديث نقول: ما أحق بعض المحققين المتشددين بوصف المجرمين. وهذه مسألة السواك مثلاً فإنه ورد عن النبي صلى الله وعليه وسلم فيها أنه قال: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) فهذا الحديث مع صراحته في ذاته أن السواك لا يتجاوز حد الندب جعله الأكثرون سنة وخصصه بعضهم بعود الأراك، وعمَّم بعضهم الإصبع وغيرها بشرط عدم الإدماء، وفصّل بعضهم أنه إذا قصر عن شبر وقيل: عن فتر كان مخالفًا للسنة، وتفنن آخرون بأن من السنة أن تكون فتحته مقدار نصف الإبهام ولا يزيد عن غلظ إصبع، وبيَّن بعضهم كيفية استعماله فقال يسند ببطن رأس الخنصر ويمسك بالأصابع الوسطى ويدعم بالإبهام قائمًا، وفصَّل بعضهم أن يبدأ بإدخاله مبلولاً في الشدق الأيمن ثم يراوحه ثلاثًا ثم يتفل وقيل: يتمضمض ثم يراوحه ويتمضمض ثانية وهكذا يفعل مرة ثالثة، وبحث بعضهم في أن هذه المضمضة هل تكفي عن سنة المضمضة في الوضوء أم لا، ومن قال لا تكفي احتج بنقصان الغرغرة، واختلفوا في أوقات استعماله هل هو في اليوم مرة أو عند كل وضوء أو عند تلاوة القرآن أيضًا حتى صاروا يتبركون بعود الأراك يخللون به الفم يابسًا والبعض يعدون له كثيرًا من الخواص منها: إذا وضع قائمًا يركبه الشيطان والبعض خالف فقال: بل إذا ألقي يورث مستعمله الجذام، ويتوهم كثير من العامة أن السواك بالأراك من شعائر دين الإسلام إلى غير هذا من مباحث التشديد والتشويش المؤديين إلى الترك على عكس مراد الشارع عليه السلام من الندب إلى تعهد الفم بالتنظيف كيف ما كان. ثم قال (العالم النجدي) : هذا ما ألهمني ربي بأنه في هذا الموضوع، وربما كان لي فيه سقطات ولا سيما في نظر السادات الشافعية من الإخوان كالعلامة المصري والرياضي الكردي؛ لأن غالب العلماء الشافعية يحسنون الظن بغلاة الصوفية ويلتمسون لهم الأعذار وهم لا شك أبصر بهم منا معاشر أهل الجزيرة لفقدانهم بين أظهرنا كليًّا ولندرتهم في سواحلنا ولولا سياحتي في بلاد مصر والغرب والروم والشام لما عرفت أكثر ما ذكرت وأنكرت إلا عن سماع ولكنت أقرب إلى حسن الظن ولكن ما بعد العيان لتحسين الظن مجال، وما بعد الهدى إلا الضلال، فنسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل. فأجابه (العلامة المصري) أن أكثر الصوفية من رجال مذهبنا معاشر الشافعية نتأول لهم كثيرًا ما ينكره ظاهر الشرع ونلتمس له وجوهًا ولو ضعيفة لأننا نرى مؤسسي التصوف الأولين كالجنيد وابن سبعين من أحسن المسلمين حالاً وقالاً. وفيما يلوح لي أن منشأ ذلك فينا جملة أمور منها: كون علماء الشافعية بعيدون عن الإمارة والسياسة العامة إلا عهدًا قصيرًا. ومنها كون المذهب الشافعي مؤسسًا على الأحوط والأكمل في العبادات والمعاملات أي على العزائم دون الرخص ومنها كون المذهب مبنيًا على مزيد العناية في النيات. فالشافعي في شغل شاغل بخويصة نفسه وهو مستمر من جهة دينه ومحمول على تصحيح النيات وتحسين الظنون ومن كان كذلك مال بالطبع إلى الزهد والإعجاب بالزاهدين وحمل أعمال المتظاهرين بالصلاح على الصحة والإخلاص بخلاف العلماء الحنفية فإنهم من عهد أبي يوسف لم ينقطع تقاربهم في النظر في الشئون العامة في عموم آسيا وكذا المالكية في الغرب وإمارات أفريقيا والحنابلة والزيدية في الجزيرة ومن لوازم السياسة الحزم وتغليب سوء الظن وإتقان النقد والأخذ بالجرح ومحاكمة الشئون لأجل العمل بالأسهل الأنسب. وقد امتاز أهل الجزيرة في هذا الخصوص بأنهم كانوا ولايزالون بعيدين عن التوسع في العلوم والفنون وهم لم يزالوا أهل عصبية وصلابة رأي وعزيمة، وقد ورد قول النبي عليه السلام فيهم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المسلمون في جزيرة العرب ولكن في التحريش) أي إغراء بعضهم ببعض، وكذلك أهل الجزيرة لم يزل عندهم بقية صالحة كافية من السليقة العربية فإذا قرأوا القرآن أو الحديث أو الأثر أو السيرة يفهمون المعنى المتبادر باطمئنان فينفرون من التوسع في البحث ولا يعيرون سمعًا للإشكالات فلا يحتاجون للتدقيقات والأبحاث التي تسبب التشديد والتسويش، وأما غيرهم من الأمم الإسلامية فيتلقون العربية صنعة ويقاسون العناء في استخراج المعاني والمفهومات ومن طبيعة كل كلام في كل لغة أنه إذا مخضته الأذهان تشعبت وتشتت فيه الأفهام. وربما جاز أن يقال في السادة الشافعية - ولا سيما في علماء مصر منهم -: إن انطباعهم على سهولة الانقياد سهل أيضًا دخول الفنون الدينية المستحدثة عليهم ودماثة أخلاقهم تأبى عليهم إساءة الظن ما أمكن تحسينه فلذلك حازت هذه الفنون التصوفية المستحدثة قبولاً عند علماء الشافعية الأولين. هذا وحيث قلنا: إن من خلق المصريين سهولة الانقياد ولا سيما للحق وكذلك علماء الشافعية الأكراد كلهم أهل نظر وتحقيق فلا يصعب حمل الشافعية على النظر في البدع الدينية خصوصًا ما يتعلق منها بمظنات الشرك الجالب للمقت والضنك ولا شك أنهم يمتثلون أوامر الله في قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) وقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) هذا وكثير من علماء الشافعية الأقدميين والمتأخرين المنتصرون للمذهب السلفي السديد، المقاومون للبدع والتشديد، والحق أن التصرف المتغالى فيه لا تصح نسبته لمذهب مخصوص فهذا الشيخ الجيلي رضي الله عنه حنبلي وصوفي. قال (الأستاذ الرئيس) : إن أخانا العالم النجدي يعلم أن ما أفاض به علينا لا غبار عليه بالنظر إلى قواعد الدين وواقع الحال وكفى بما استشهد به من الآيات البينات براهين دامغة، ولله على عباده الحجة البالغة، وعبارة التردد التي ختم بها خطابه يترك بها الحكم لرأي الجمعية ما هي إلا نزعة من فقد حرية الرأي والخطابة فأرجوه وسائر الإخوان الكرام أن لا يتهيبوا في الله لومة لائم، ورأي كل منا هو اجتهاده وما على المجتهد سبيل، وليعلموا أن رائد جمعيتنا هذه الإخلاص، فالله كافل بنجاحها، وغاية كل منا إعزاز كلمة الله، والله ضامن إعزازه قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) . نعم هذا النوع من الإرشاد أعني الانتقاد على الاعتقاد هو شديد الوقع والصدع على التائهين في الوهلة الأولى؛ لأن الآراء الاعتقادية مؤسسة غالبًا على الوراثة والتقليد دون الاستدلال والتحقيق وجارية على التعاون دون التقانع، على أن أعضاء جميعتنا هذه وكافة علماء الهداية في الأمة يشربون والحمد لله من عين واحدة هي عين الحق الظاهر الباهر الذي لا يخفى على أحد فكل منهم يختلج في فكره ما يخالج فكر الآخرين عينه أو شبهه لكنه يهيب التصريح به لغلبة الجهل على الناس واستفحال أمر المدنسين ويخاف من الانفراد في الانتقاد، في زمان فشا فيه الفساد، وعم البلاد والعباد، وقلَّ أنصار الحق، وكثر التخاذل بين الخلق. ويسرني والله ظهور الثمرة الأولى من جمعيتنا هذه، أعني اطمئنان كل منا على إصابة رأيه واطلاعه على أن له في الآفاق رفاقًا يرون ما يراه ويسيرون مسراه، فيقوى بذلك جنانه، وينطلق لسانه، فيحصل على نشاط وعزم في إعلاء كلمة الله ويصبح غير هياب لوم اللائمين، ولا تحامل الجاهلين، ومن الحكمة استعمال اللين والتدريج والحزم والثبات في سياسة الإرشاد كما جرى عليه الأنبياء العظام عليهم الصلاة والسلام وقد بسطت ذلك في اجتما

قوانين التعليم الرسمي والجمعية العمومية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قوانين التعليم الرسمي - انتقاد النبذة الرابعة - تعليم اللغة والتاريخ والعلوم انتقدنا في النبذة السابقة قانون التعليم الرسمي من حيث تعليم الدين وودَدْنا لو نعلم لنِظَارة المعارف عذرًا نعذرها على تلك العيوب وضروب القصير ونتكلم في هذه النبذة على تقصير القانون فيما يتعلق بتعليم اللغة العربية لغة الأمة والبلاد وتعليم التاريخ والعلوم. العيب العامّ الأكبر هو ما جاء في عرض كلامنا على اقتراح الجمعية العمومية، أعني مزاحمة اللغة الأجنبية للبلاد في التعليم الابتدائي وقد خرجت نظارة معارف مصر في هذا عن سُنة أئمتها الأوربيين كلهم، فهي لا تجد لها دولة أوربية تقتدي بها. ولم تكتف بتعليم قواعد اللغة الأجنبية ومبادئها بل زادت على ذلك تعليم مبادئ العلوم، فالتاريخ الطبيعي يُبتدأ به في السنة الثانية وله درس واحد في الأسبوع، يقرأ بالعربية ثم يقرأ في السنتين الثالثة والرابعة باللغة الأجنبية وله فيها درسان في كل أسبوع فكأن دروس السنة الثانية تمهيد لما بعدها فتكون لغة البلاد وسيلة لا مقصدًا. وكذلك الحال في علم تقويم البلدان إلا أن دروسه في الثالثة والرابعة ثلاثة في كل أسبوع. ومَنْ نظر في جدول توزيع حصص الدروس في التعليم الثانوي لا يرى بإزاء خطوط اللغة العربية من الجدول إلا النقط والأصفار، فالعلوم كلها تقرأ باللغة الأجنبية وهي الحساب والهندسة والجبر وتقويم البلدان والتاريخ والطبيعة والكيمياء والرسم. وكأن (الضمانات الخمس) التي قدمها ناظر المعارف لنواب الأمة في الجمعية العمومية هي التي جعلت دروس الترجمة من حصص اللغة العربية في الجدول الابتدائي والثانوي ليزيد العدد فتقتنع الأمة بأن لغتها قد اعْتُنِيَ بها وأدخل فيها العلوم والفنون، ولكن هذا غش وخداع فإن الترجمة كما تكون من اللغة الأجنبية إلى العربية تكون بالعكس والعناية الكبرى فيها باللغة الأجنبية ومعلموها هم معلمو اللغة الأجنبية إلى العربية فكان الأقرب إلى الصواب أن تعد الترجمة من دروس اللغة الأجنبية. فدروس الأسبوع في التعليم الثانوي 33 درسًا: ثمانية منها للغة العربية نفسها (النحو والصرف والبلاغة) والباقي للغة الإنكليزية، تسعة لنفس اللغة وواحد للترجمة والباقي للعلوم.ومما يدل على أن حصص الترجمة تعدّ من دروس اللغة الأجنبية إهمال الكلام عليها في الفصل الذي يشرح كيفية تعليم العربية من القانون وذِكْرها في الفصول التي يشرح فيها كيفية تعليم اللغة الأجنبية. الأمور التي تهم الأمة في التعليم وتود الضمان عليها ثلاثة: الدين وهو في المرتبة الأولى، واللغة وهي في المرتبة الثانية، والتاريخ وهو المرتبة الثالثة، فأما الدين فقد بيّنا وجوه تقصير المعارف فيه وجعله كالرسم الدارس. وأما اللغة العربية فتقصيرها فيها من وجهين أحدهما نسبي وهو جعلها دون اللغة الأجنبية، والواجب أن تكون فوقها، وثانيهما عدم تعليم العلوم والفنون بها والواجب أن تجعلها لغة العلم؛ لأن الأمة لا تحيا حياة حقيقية إلا بجعل لغتها لغة العلم ليتسنى بذلك تعميم العلم فيها فتكون حياتها العلمية مُمِدّة لحياتها المعاشية والقومية. وإذا نحن جعلنا للعلم لغة ولسائر الشئون لغة أخرى نكون قد جعلنا في مقومات حياة الأمة تنازعًا بفصل العلم عن العمل ولا يمكن أن يكون العلم مرشدًا إلى العمل، والعمل منبعثًا عن العلم إلا إذا كان العامل عالمًا، ونتيجة هذا من غير تطويل بشرح المقدمات أن أحد الأمرين واجب لكمال الحياة؛ إما نقل العلم إلى لغة الأمة وهو المعقول المقبول، وإما نقل الأمة إلى لغة العلم الطارئ وهذا إعدام الأمة وجعلها غذاءً وممدة للأمة التي تنتقل إلى لغتها، وما أخال أن ناظر المعارف ورجال (ضماناته الخمس) من أمته يرضون بذلك سرًّا وجهرًا فإن كان لهم من الأمر شيء فليعلموا أبناء الأمة العلوم بلغتها وإن كانوا مغلوبين على أمرهم للمستر دنلوب ومن ينصره فلا يعارض ناظر المعارف الجمعية العمومية في طلبها عَرْض قوانين المعارف على مجلس الشورى ولا يكابر نفسه وقومه بزعمه أن قوانين نظارته موافقة لمصلحة الأمة ومؤيدة منها (بخمس ضمانات) ! ! وأما التاريخ فهو عند جميع الأمم الحية قِوام التربية الاجتماعية به تنفخ روح محبة الجنس والأمة والوطن في الناشئين فبتعليم التاريخ كانت ألمانيا ألمانيا وإنكلترا إنكلترا وفرنسا فرنسا، فالغرض الأول من علم التاريخ معرفة الإنسان أُمته أو معرفته نفسه من حيث هو أمة، ثم معرفته سائر الأمم ليعرف مكانه منها ومكانها منه وبذلك يُحصِّل الإنسان العلم النافع الذي هو غاية كل تربية وتعليم وهو الذي عرّفه حكيمنا الإمام بقوله: (العلم ما يعرّفك مَنْ أنت ممن معك) . إذا كان هذا هو الغرض من التاريخ فقد أصابت الأمم الأوربية بتلقين الناشئين في أول الأمر تاريخ أمتهم مفصلاً وجعلهم تاريخ بقية الأمم في الدرجة الثانية، فالتلميذ عندهم لا يعرف شيئًا من عظمة غير قومه وأمته إلا بعد أن يُشْرب قلبه عظمة سَلَفه وحبهم وحب بلادهم. ويقال إن أكثر الألمانيين لا يكادون يتعلمون شيئًا عن غير بلادهم وأمتهم إلا إجمالاً؛ لأن الواجب في رأيهم على كل إنسان أن يعرف نفسه وقومه الذين سعادته بسعادتهم وشقاؤه بشقائهم. وأما معرفة أحوال بقية الأمم فإنما تجب على طائفة من الناس كالذين يتصدُّون للسياسة وللتعليم ونحو ذلك مما يحتاج فيه إلى معرفة تاريخ الآخرين وأحوالهم. على هذا كان الواجب على نظارة معارفنا أن تجعل تاريخ الإسلام والسيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين في مقدمته هو أول ما يغرس في نفوس تلامذتنا وأن تتوسع في تاريخ جميع الدول الإسلامية وبيان أسباب تقدمها وتأخرها حتي تنتهي بالدولة العثمانية والبلادُ المصرية جزء منها وبعد هذا كله تلقن التلامذة بالإجمال تاريخ سائر الأمم لا سيما المجاورة للممالك الإسلامية ليعرفوا نسبتهم إلى قومهم ونسبة قومهم إليهم. ما أدت نِظَارة المعارف هذا الواجب ولا رَعَتْهُ حق رعايته فإنها لم تعتبر جنسية قومها في الدين ولا في اللغة ولا في الحكومة (وهي العثمانية) ولكنها اعتبرت أن جنسيتها نسبتها إلى مصر وأن سلف هذه الأمة الغربية هم الفراعنة والرعاة واليونان والرومان والعرب وخَلَفها الترك فهي والأَوْشاب تعلم التلامذة في الطور الابتدائي تاريخ هذه الأمم الكثيرة بهذا الترتيب. وأما تعليم التاريخ في القسم الثانوي: ففي السنة الأولى منه يعلمون تاريخ الرجال وذكرهم في قانون وليس فيهم مسلم ولا عربي إلا محمد على باشا وإسماعيل باشا أميرَيْ مصر، وفي السنة الثانية أقسام (1) الدولة الرومانية (2) الدولة الإنكليزية (3) الحروب الصليبية (4) الدولة العثمانية (5) عظم دولة أسبانيا وفيها الإصلاح المسيحي (6) عظم فرنسا (7) ارتقاء الروسيا وفيه تاريخ المسألة الشرقية وما فقدته الدولة العثمانية من أملاكها وتغلب روسيا عليها وإضعافها.. (8) ارتقاء بروسيا (9) نابليون (10) المستعمرات الأوربية. وفي السنة الثالثة أقسام أيضًا: (1) قيام أمم أوربا (2) نمو الحرية السياسية في أوربا (3) المدنية عند جميع الأمم ماعدا المسلمين (4) تقدم مصر (5) أسباب ارتقاء واضمحلال الأمم باختصار، وكل هذا يَعْلمه الأوربيون بلغتهم؛ فاعتبري أيتها الأمة المصرية (بضمانات ناظر المعارف الخمس) واطمئني له ولها ما أجدر هؤلاء التلامذة بأن يشبّوا لا يعرفون لهم أمة ولا جنسًا ينتمون إليه ويفتخرون به ويعملون على إحياء مجده وتجديد فخره. بل ما أجدرهم بفساد الفطر التي نراها في بعض أحداثهم الذين ينادون بالوطنية المصرية بغير عقل. فإن قيل لهم: هل الوطني المصري هو من يسكن مصر ويتخذها وطنًا؟ قالوا: لا لا إن ممن يسكنها النزلاء الإفرنج وهؤلاء يحترمون في الظاهر ويبغضون في الباطن ومنهم الدخلاء العثمانيون من سوريا وغيرها وهؤلاء يمقتون في الظاهر والباطن. وإن قيل لهم: هل الوطني المصري ما كان من سلائل القِبْط والفراعنة فيجب أن نبغض من يسكن مصر من سلائل العرب والترك الأرنؤود والجراكسة وإن كان حكامنا منهم؟ قالوا: لا لا إن الجنس القبطي هو شر الأجناس فنسميه وطنيًّا ظاهرًا، ولكننا في الباطن نفضل عليه المسلمين المصريين. فإن قيل لهم: إذن إن جنسيتكم هي الإسلام فيجب أن تعتصموا مع كل مسلم من أي مملكة كان؟ قالوا: لا لا إن هذا ينافي الوطنية الحقّة، وإننا لا نعتد إلا بالمسلمين المصريين الأصليين لا الذين سكنوا مصر من عهد قريب. فهذه الذبذبة والحيرة عند هؤلاء الأحداث من المسلمين لها سبب أقوى من هذا التعليم المذبذب. وظاهره أن نتيجة هذا التعليم الجناية على الرابطة الدينية وعلى الرابطة اللغوية وعلى الرابطة الوطنية؛ لأن هؤلاء الأحداث لا يحبون كل أبناء وطنهم بحيث يفضلونهم على سواهم. نعم إن مَضرّته وفساده في القبط أقل منها في المسلمين فإن القبطي المتعصب يقول: إن المصري هو القبطي وكل من عداه دخيل، وغير المتعصب يقول: إن المصري هو من يقيم في مصر ويتخذها وطنًا ينفعها وينتفع منها سواء كان شرقيًّا أم غربيًّا، مسلمًا أم مسيحيًّا. ولا يقول بهذا القول إلا أفراد قليلون على أنني أحكم بوجودهم بالرأي والتخيل، لا بالمعرفة والاختبار. رُبّ قائل يقول: إن غرض الحكومة أن تربّي الناشئة على هذا الرأي ونحن نقول: إن هذه غاية لا تُدْرك إلا بمحو الدين وذلك متعذر على الحكومة إذا فقدت الدين وأرادت محوه ولكن حكومة البلاد إسلامية، والشعب الكبير إسلامي وإذا وُجِدت آداب الإسلام الحقيقية فهي تقتضي الوطنية الحقيقية وهي اتفاق جميع سكان البلاد على ما فيه خيرهم وخير بلادهم ومعاملة الجميع بالعدل والمساواة بينهم بالحقوق وقد أوضحنا هذا في مقالة (الجنسية والديانة الإسلامية) فلتراجع في المجلد الثاني، والله أعلم.

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (كتاب حاضر المصريين أو سرّ تأخرهم) كتاب صنّفه أحد شبان المصريين النجباء المولعين بالبحث وهو أحمد أفندي عمر أحد مستخدمي مصلحة البريد تكلم فيه عن حالة المصريين الاجتماعية في معيشتهم وكسبهم وعاداتهم وأدبهم وعلمهم وقد جعله ثلاثة أقسام: قسمًا للأغنياء، وقسمًا للمتوسطين، وقسمًا للفقراء. ولا شك أن المؤلف قد تعب في الوقوف على عادات الطبقات الثلاث في المحبة والزواج والعشرة بين الزوجين وتربية الأولاد وتعليمهم وعاداتهم في النفقة والبذل والأوهام، وفي معرفة أحوالهم في التجارة والزراعة والطباعة والكتب والجرائد التي تنتشر فيهم، وبَحْثُه في جميع المسائل بحث انتقاد صحيح ينبّه الأفكار المستعدة إلى السعي في إصلاح الخلل واتقاء الزلل. ولا ينفع الناس شيء مثل علم ما هم فيه من نافع وضارّ لذلك نقول: إن هذا الكتاب من أنفع ما كتب في العربية في هذا العصر. الكاتب تحرّى الصواب وبيان الحقائق بقدر الاستطاعة مع الوقوف عند حدود الأدب فإن قصر في بعض المسائل فعُذْره أنه لم يستمد من كتب مؤلفة ينقل عنها بسهولة وإنما استمد من المشاهدة والاختبار، وأن ما تسنى من ذلك له كثير على من كان مشغولاً بوظيفة صغيرة كوظيفة تستغرق معظم أوقاته في خدمتها وقد طالعنا جملة صالحة من الكتاب فوافقناه في أبحاثه وقد انتقدنا عليه التقصير في تصحيح عباقرة الكتاب وعدم بدئه بالبسملة الشريفة عملاً بالحديث الشريف واتباعًا لسنة المسلمين سلفهم وخَلَفهم. وقد قرظ الكتاب القاضي الفاضل أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر وأجازه وأثنى عليه وبدأ تقريظه بسنة البسملة على أن العادة لم تَجْر بذلك وكأنه أراد مع اتباع السنة تنبيه المؤلف على تركها بالعمل دون القول. أقول: إنني لا أوفي هذا الكتاب حقه في التقريظ إلا بنقل فوائده في أجزاء أخرى على أنه هضم حق المنار عند كلامه على الجرائد الدينية فإنه لم يكتب عنه إلا جملة وجيزة في الهامش اعترف فيها بعناية المجلة بالإصلاح الديني والتنفير عن البدع، ولكنه عرَّض فيها بنا بأن للأمور الشخصية سبيلاً علينا وقد ظهر لنا منه أنه رجع عن هذا الرأي والله أعلم بالسرائر وهو الموفِّق للصواب. * * * (كنز الجوهر في تاريخ الأزهر) كتاب مختصر ألفه الفاضل الشيخ سليمان رصد الحنفي أحدُ المشغلين بالعلم في الجامع الأزهر الشريف وأهل الأزهر أجدر الناس بمعرفة تاريخه والتأليف فيه. الكتاب يشتمل على مقدمة ذكر فيها بعثة النبي صلى الله عليه وسلم واستطرد منها إلى الفتح الإسلامي. الذي كان منه فتح مصر وفيها الكلام على جامع عمرو بن العاص وجامع ابن طولون. ويلي المقدمة خمسة مقاصد أحدها في ابتداء تأسيس الجامع وما عرض عليه بعد ذلك وتجدد فيه، وثانيها في أروقة الأزهر والمؤسسين لها، وثالثها في شيوخ الأزهر وأشهر علمائه لهذا العهد، ورابعها في الحوادث الشهيرة كحادثة رواق الشواء في أثناء الوباء، وخامسها في عادات أهل الأزهر، ويتلو ذلك خاتمة في الإحصاء وفيه عدد المشتغلين بالعلم في القطر المصري وبيان مواضعهم. ومما ذكره من عادات أهل الأزهر أنه لا يمكن لأحدهم أن يعمل عملاً يكتسب به لا في أثناء الاشتغال ولا بعده. قال: (بل إذا انْتَحَل شيئا ينتفع به يعدّ في أعين أترابه كأنه اقترف ذنبًا عظيمًا) وذكر أن هذه علة فقرهم. وذكر أن غير المصريين من المجاورين في الأزهر أحسن حالاً من المصريين في المعيشة والنظافة وذكر من أسباب وساخة المصريين في أبدانهم وثيابهم وآنيتهم الانهماك في الطلب، وما يقع بين المشتركين منهم في المعيشة من العناد والتواكل، وَفَاتَهُ أن يبين أن الاشتراك هو الذي يساعد على النظافة لتوزيع الأعمال، وأن الوساخة واختلال نظام المعيشة يشوش الذهن ويضعف العقل فلا يفيد مع الانهماك في الطلب كثيرًا. قال: وأما عادتهم في الأكل وهو غالب أكل المجاورين فهو فول مدمس ونابت وطعمية ومُخلّل وكراث وغير ذلك من الأشياء التافهة لفقرهم بلا فرق بين مصري وغيره، وكذلك غالبهم يقوم بعمله بنفسه كغسل ثياب وطبخ وغير ذلك. هذه عبارته بحروفها ويسوءنا جدًّا ما نراه في الكتاب مثلها من كثرة الغلط والخطأ. ثم ذكر كيفية إلقاء الدروس والمطالعة قال: (واعتناؤهم فيها بفهم العبارات وحلّ التراكيب والمناقشات بالاعتراضات والأجوبة عنها والإطلاق والتقييد والمفهوم والمنطوق وغير ذلك من غير اعتناء بالحفظ فتجد كثيرًا منهم بحرًا للعلوم في الفهم في الكراس وإذا سئل من خارج فقلّ أن يجيب لعدم استحضاره) اهـ بالحرف أيضًا والكلام صحيح وصريح في أنه لا عناية عندهم بتحصيل مَلَكة العلم وتكيف النفس بها بحيث تكون قادرة على الكلام في المسائل عند السؤال والمناسبة وإنما العلم الذي يكونون فيه بحارًا زاخرة هو المناقشة في عبارات الكتب التي يقرؤونها وإعادة ما كتبه الشراح وأصحاب الحواشي على المتون قراءة. وبالجملة إن في الكتاب فوائد لا توجد في غيره من المصنفات في تاريخ الأزهر التي هي أوسع منه تحريرًا وصفحات الكتاب تزيد على 200 وثمنه خمسة قروش ويطلب من جميع المكاتب المشهورة بمصر والإسكندرية وطنطا فنحث على قراءته. * * * (شذا العرف في فن الصرف) كتاب صنفه الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد الحملاوي مدرس العربية في مدرسة دار العلوم سابقًا. وقد تصفحت بعض أوراقه ورأيت تقسيمه وتبويبه فظهر لي أنه أحسن كتاب لتعليم هذا الفن. وكان طبع في سنة 1312 بإذن نظارة الداخلية بناء على شهادة الإنبابي شيخ الجامع الأزهر لذلك العهد بصحته وخلوه من الخطأ. وقد طبع في هذه السنة طبعة ثانية بالمطبعة الأميرية بعد تنقيح وإضافة كثير من الأمثلة والشواهد وهذا من مزايا الكتاب فنحث كل طالب لفن الصرف على قراءته. * * * (كتاب الحساب) كتاب يؤلفه الفاضل عوض أفندي خليل، مؤسس وناظر مدرسة الاجتهاد الوطنية ببولاق وصاحب مجلة السمير الصغير المدرسية. وقد أصدر الجزء الأول منه وأودعه: ما هو مقرر للتعليم في السنة الأولى الابتدائية بحسب قانون التعليم في المعارف (البروغرام) فنحث التلامذة على الاستفادة منه. * * * (المستظرفات) كتاب وضعه الأديب إبراهيم أفندي زيدان جَمع فيه من كتب الأدب والتاريخ كثيرًا من النوادر الأدبية والفكاهية والغرامية وطبع في مطبعة الهلال على نفقة مديرها الهُمَام متري أفندي زيدان وثمن النسخة منه خمسة قروش ويطلب من مكتبة الهلال وهو مما يَرْغب فيه الناس فلا حاجة إلى الترغيب فيه. * * * (كتاب رسائل إرشاد الأفكار إلى طريق الأبرار) للشريف منصور أفندي رئيس جمعية التعاون الإسلامي. وقد كتب هذه الرسائل في مسائل سُئِلَها فأجاب عنها بفهمه واجتهاده على طريقة المتصوفة وقد تصفحنا بعض صفحاتها فعلمنا منها أننا نخالفه في بعض مسائلها ولا سعة معنا في الوقت الآن لقراءتها وبيان ما نراه صوابًا وما نراه منتقدًا، وربما يسمح لنا الوقت بذلك بعد.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (حرب فرنسا والسنوسي) كتب بعض كبار التجار في طرابلس الغرب إلى صديق له في بعض البلاد وكان سأله عن أخبار بلادهم ما نصه بحروفه: (ورد لنا جواب من بُومَه تاريخ 19 ماي أفرنجي ووصل لطرفنا تاريخ 14 ربيع أول سنة 1320 قال فيه بعد السلام: وبعد، أخي فقد تم البحث الذي وقع عليّ كما أخبرتك في شأن سيدي المهدي (يعني الشيخ السنوسي) ولما أن كانت نيتي طبق الإحسان والصدق مع الله تعالى وخلقه سلمت والحمد لله على كل حال، والآن أنا سافرت إلى فرانسة ثم أرجع إلى قسطنطينة الجزائر ثم أسافر من هناك ثانيًا، فالمطلوب من فضلك الكريم أن تجعل لنا جوابًا على كل مسألة داخل جوابنا هذا وتسأل خليفة سيدي المهدي ولا تذكر لي إلا الخبر الصحيح. أولاً: ما هي الأخبار الواردة لكم من ناحية داركانم وألبركو وزاوية الشيخ سيدي المهدي بعد ما وقع بعد من الحرب بين الفرنسيس وعرب أولاد سليمان والتوارق واستيلاء فرانسة على بيرهلالي. ثانيًا: هل يرضى الشيخ سيدي المهدي بالصلح مع دولة فرانسة بواسطتي فإن كان يقبل، وإن كان غرضه العافية لصلاح الجميع فَخَبِّرْنِي بذلك فأكلم الدولة الفرنساوية ويكون الخير إن شاء الله وإن كان نيته الحرب مع فرانسة والجهاد فخبرني وانصحني وقل للخليفة يعرفك بالحقيقة ولا يستخوش مني أبدًا. لا بد تعرفني بحقيقة الأمر وإن وجب السفر إلى طرابلس فعرفني أقدم إلى طرفك؟ ثالثًا: ما بلغ إليكم من أخبار واداي؟ رابعًا: ما هي أحوال إخوان طريقة سيدي المهدي مع دولة الأتراك هل اعتقاد الإخوان مثل الزمان الأول أم لا؟ خامسًا: من مات من الأعيان في المحاربة التي وقعت في بير هلالي علمي بذلك الشيخ سعد البراني والشيخ غيط والشيخ شرف الدين وغيرهم. اهـ قال التاجر: (حاصله: وقعت محاربة كبيرة بين دولة فرنسة والشيخ سيدي المهدي وأكلتها دولة فرنسة وإن الجواب الوارد لنا هو من نفس مهندس من طائفة فرنسة نحن نرسله إلى جغبوب ونحكي لهم بالكيفية وهم يعرفون شغلهم، ربنا ينصر الإخوان على القوم الكافرين! وبر السوادين واقع فيه حرب واليوم صار لدولة فرنسة مع المهدي مثل ما صار للإنكليز مع الترانسفال ندعو الله أن يهلك دولة فرنسة. وأرسلنا جواب إلى رحب خوجة المذكور وعرفناه هذه المسألة لا تهمنا والسلام. اهـ مكتوب التاجر. والقارئ لهذا الكتاب يظهر له أنه كتب عن معرفة وأنه صدق لا شبهة فيه ولكن فيه شيئًا من الإبهام. قال الذي أرسل صورته إلينا: حبذا لو علمنا من هو صاحب التحرير المرسل إلى التاجر وأين هي بلدة بُومَة؟ وما معنى قوله: تم البحث الذي وقع عليّ؟ وقد ذكر التاجر صاحب المكتوب أنه مهندس طائفة فرنسا وسماه رحب أو رجب خوجه. فما هذا السر؟ هل الرجل مسلم كما يظهر من كلامه أو مسلم جغرافي (كما تقولون في المنار) يريد أن ينتفع من فرصة الخلاف بين السنوسي وفرنسا؟ أو هو مسلم من مسلمي الجزائر وتونس موظف عند فرنسا ويريد أن يخدمها ويخدم سيده المهدي؟ وربما كان قوله: (تم البحث) إلخ إشارة إلى أنهم فتشوا عليه لكونه جاسوسًا من قبل المهدي أو متهمًا بالتجسس. والذي حملني على هذا الظن قوله في آخر الجملة: (سَلِمتُ) . ويفيد قوله: (وتسأل خليفة سيدي المهدي) أن للمهدي خليفة مقيمًا في طرابلس الغرب. والذي يجعل في النفس ريبة من قول صاحب المكتوب هو قوله: (ولا يستخوش مني أبدًا) وقوله: (ما هي أحوال الإخوان مع دولة الأتراك) إلخ أما نحن فنعلم أن للسيد المهدي السنوسي خلفاء في طرابلس وكل بلاد أفريقية الشمالية والوسطى وصحاريها ونرجح أن المهندس صاحب المكتوب جاسوس فرنسي كما أنه مهندس ولذلك لم يجاوبه التاجر عن أسئلته. *** (مسيح الهند والمنار) سبق لنا رد على القائم في الهند المدعي أنه المسيح الموعود به وعلى كتابه الذي سماه إعجاز المسيح، وإن كان قوله كالريح , وسجعه دون سجع شق وسطيح، وقد ترجمت رد المنار عليه الجرائد الهندية , وأذاعته في تلك الممالك القصية، فاستشاط الرجل غضبًا وملأ النواحي سبابًا وصخبًا، والمؤمن ليس بسبَّاب ولا بذيء ولا صخاب، فهل يكون المرسلون والمسحاء من أهل السفه والبذاء، وهل ينزل الوحي على أهل الإلهام، وتقام الحجة على الأنام بالسخرية والاستهزاء، والقول الهراء والانتصار للنفس، ومكابرة الحس، والتنفج والتبجح، والتجرم والتذقح، كما فعل هذا المدعي في الكتاب الذي لفقه في الرد على (المنار) فكان مجلبة الخزي والعار وقد سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) وما عهدت الهداية بشتم الورى. بعد أن أهدى إلينا كتابه وأرسل شتمه وسبابه. كتب إلينا أحد كبار علماء الهند من لاهور كتابًا يشكو فيه من انتشار البدع في الهند وقال فيه: (الآفة التي لا تذكر، والعاهة التي لا تسطر هي فتنة المسيح الدجال الهندي الشهير بميرزا غلام أحمد القادياني. فهي لا تنقطع كسير السواني، وهو في زعمه الباطل مجدد مهدي ملهم محدث مسيح مرسل إمام عند شرذمة قليلين. ما لهم من دنيا ولا دين، والحق أنه رجل خَتَّال ختار، بَطَّال شطار، يدعي الوحي والنبوة، ويثبت للمسيح البنوة، ويحرف آيات القرآن بتأويلات فاسدة، ويتنطع في أحاديث النبي بخزعبلات كاسدة، ثم ذكر هذا العالم مجادلته لعلماء الهند وإفحامهم اياه وانصرافه لدعوة العلماء في غير الهند ومنهم الفقير صاحب المنار. وانتقل من هنا إلى ذكر ردنا على كتابه (إعجاز المسيح) وذكر أن الجرائد الهندية نقلته عن المنار، وكان له شأن في تلك الديار، أثار من ذلك المدعي أشجانه، وأطلق بالسب لسانه، ثم رغب إلينا في الرد عليه وقال: (فإن لتحريركم وقعًا في النفوس، أشد من حرب البسوس) . نعم إن من وظيفة المنار الرد على هذا المدعي، ولو لم يرغب إلينا فيه ذلك العالم الألمعي، ولكن الرد إنما يكون على الشبهات التي تساق مساق البينات وليس لهذا المدعي شبهة يستند إليها، ولا تكأة يتوكأ عليها، إلا ذلك المؤلف الذي هو حجة عليه، بل سهام منه تصوب إليه فقد ادعى أنه معجز للبشر لا تأتي بمثله القوى والقُدَر، فما هو وجه الإعجاز فيه. الذي جعله عمدة تَحَدِّيه؟ إن قال: إن العمدة هي قصر المدة، فإنني ألفته في سبعين ولا يقدر على مثل ذلك أحد من العالمين، نقول: أولاً: إننا لا نصدقك في هذا التحديد على أنه طويل، فهل لك عليه من بينة ودليل؟ وثانيًا: إن كثيرًا من العلماء ألفوا كتبًا طويلة في مدة قليلة. ولم يدعوا أن ذلك من المعجزات؛ لأنه ليس من خوارق العادات فالفناري ألف شرحه على الأيساغوجي في يوم من أقصر الأيام ولم يتحدَّ به أحدًا من الأنام. وثالثًا: إننا نطلب منه محكمين من أهل الإنصاف، يرضى بهم كل منا ومنه للحكم في مواضع الخلاف، وعند ذلك نظهر له أغاليط كتابه في اللفظ والفحوى، والعاقبة كما قال الله تعالى للتقوى، ليعلم الناس أن تحدي النبوة والرسالة، لا يكون بالخطأ والجهالة، وأن ادعاء إقامة الدين وتأييد الشريعة لا يكون بتقويض أركانهما الرفيعة، وتشويه محاسنها السنية السنيعة، وأن إصلاح نفوس المسلمين لا يكون بشتم خاتم النبيين. وموعدنا الجزء الآتي. أما الآن فإننا نذكر بعض عباراته في الرد علينا، وما وجه من الطعن إلينا، ليعلم القراء مبلغ آدابه، وعسلطته في خطابه، قال بعدما زعم أنه آثرنا بكتابه (إعجاز المسيح) على علماء الحرمين والشام والروم ما نصه: (ثم لما بلغ كتابي صاحبَ المنار، وبلغه معه بعض المكاتيب للاستفسار، ما اجتنى ثمرة من ثمار ذلك الكلام، وما انتفع بمعرفة من معارفه العظام، ومال إلى الكلم والإيذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، وطفق يؤذي ويزري غير وان في الإزراء والالتطام، ولا لاو إلى الكرم والإكرام، كما هو سيرة الكرام وعمد أن يؤلمني ويفضحني في أعين العوام كالأنعام، فسقط من المنار الرفيع وألقى وجوده في الآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتن وحضى، وقال ما قال وما أمعن كأولي النُّهى، وأخلد إلى الأرض وما استشرف كأولي التقى، وخر بعدما علا وإن الخرور شيء عظيم فما بال الذي من المنار هوى، واشترى الضلالة وما اهتدى أم له في البراعة يد طولى، سيهزم فلا يرى، نبأٌ من الله الذي يعلم السر وأخفى. ثم قال: (وكنت رجوت أن أجد عندك نصرتي، فقمت لتندد بهواني وذلتي، وتوقعت أن يصلني منك تكبير التصديق والتقديس، فأسمعتني أصوات النواقيس وظننت أن أرضك أحسن المراكز، فجرحتني كاللاكز والواكز، وذكرتني بالنوش والنهش والسبعية، نبذًا من أيام الخصائل الفرعونية، ولست في هذا القول كالمتندم، فإن الفضل للمتقدم، وكنت أتوقع أن يتسرى بمواخاتك همي، ويرفض بجندك كتيبة غمي، فالأسف كل الأسف أن الفراسة أخطأت، أي: فلم يصدق عليه حديث (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله) ؛ لأنه ينظر بظلمة غروره والروية ما تحققت ووجدت بالمعنى المنعكس ريّاك (وهنا إشارة قبيحة تليق بقائلها ولا تليق بنزاهة من يصطفيهم الله تعالى لهداية خلقه) فهذه نموذج بعض مزاياك، (أنث النموذج وكم كنت مذكرًا) وعلمت أن تلك الأرض أرض لا يفارقها اللظى، وتفور منها إلى هذا الوقت نار الكبر والعلى، فعفى (كذا) الله عن موسى لِمَ تركها وما عفّى (وههنا أساء الأدب مع سيدنا موسى الكليم ونسب إليه الخطأ والذنب والتقصير، على أن تعفية مصر وإهلاكها بيد الله لا بيده عليه السلام) . ثم قال بعد مكابرة في ردنا على كتابه ونسبته للغلط والتكلف ما نصه: وحسبتك حبيبًا يريحني كنسيم الصباح، فتراءيت كعدو شاكي (كذا) السلاح، وخلت أنك تهدر بصوت مبشر كالحمام، فرأيت وجهك المنكر كالحمام، وأعجبني حدتك وشدتك من غير التحقيق (كذا) فأخذني ما يأخذ الوحيد الحائر عند فقد الطريق، لكني أسررت الأمر وقلت في نفسي: لعله تصحيف في التحرير، وما عمد إلى التوهين والتحقير، وكيف قصد شرًّا لا يزول سواده بالمعاذير. وكيف يمكن الجهر بالسوء، من مثل هذا النحرير (يذم ويمدح) ولما تحققت أنه منك تقلدت أسلحتي للجهاد، وقلت: مكانك يا ابن العناد، وعلمت أنك ما تكلمت بهذه الكلمات، إلا حسدًا من عند نفسك لا لإظهار الواقعات، (إنني لا أدعي المسيحية فأحسده على دعواها ولا شيء آخر يحسد عليه) فابتدرت قصدك، لئلا يصدق الناس حسدك، فإن علماء ديارنا هذه يستقرون حيلة للإزراء، فيستفزهم ويجرئهم عليّ كلما قلت للازدراء، ولولا خوف فسادهم لسكت وما تفوهت وما تجلدت، ولكن الآن أخاف على الناس، وأخشى وسوسة الخناس، وإن بعض الشهادات أبلغ من الضرب بالمرهفات، فأخاف أن يتجدد الاشتعال من كلمات المنار، ويسقط ميمه ويبقى على صورة النار) . ثم ادعى أنه كان غلب علماء الهند وسرق سجعات من كلام الحريري، وقال: (فالآن أحيي اللئام بعد الممات، وشد المنار عضدهم بالخزعبيلات (كذا) فأرى أنهم يتصلفون، ويستأنفون القتال، ويبغون النضال، ويخدعون الجهال، ورجعوا إلى شرهم وزادوا صدًّا، بما جاء المنار شيئًا إدًّا وجاز عن القصد جدًّا (كذا بالزاي والحريري استعملها بالراء من الجور) فأكبر كلمه حزب من العمين إلخ. ثم ذكر أنه كثيرًا ما كان يغضي عن المعترضين والمزدرين وقال: (ولكن رأيت أن صاحب المنار، عظم في عين هذه الأشرار، (كذا) وأكبر شهادته بعض زاملة المنار، وكانوا يذكرونها بالعشي والأسحار، فبلغني ما يتخافتون، وعثرت على ما يسرون ويأتمرون، وأخبرت أنهم يضحكون علي، وفي كل يو

أمالي دينية الدرس ـ 36 ـ محمد رسول الله وخاتم النبيين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (الدرس 36) محمد رسول الله وخاتم النبيين الكلام في نبوة خاتم المرسلين لا يتجلى للعقول كمال التجلي إلا بعد بيان مسألتين تجعلان مقدمة له: إحداهما بيان حاجة البشر إلى رسالته العامة، والثانية بيان استعداد الناس لها. *** (المسألة 101) حاجة البشر إلى هداية عامة: الحاجة إلى بعثة النبي عليه الصلاة والسلام في الجملة تعرف من البحث في حاجة البشر إلى إرسال الرسل كما تقدم في الدرسين 18، 19 (راجع المنار9 و140) ولا يوجد في أعداء الإسلام المؤمنين بالوحي والنبوة عاقل ينكر أن العرب كانوا في أشد الحاجة إلى بعثة رسول منهم ينتشلهم من تلك الوثنية، ويخرجهم من هاتيك الجهالة والهمجية، وأن تأثير هداية محمد فيهم كان مثل تأثير هداية موسى في بني إسرائيل أو أعظم وأظهر، ولكن الذين ينكرون حاجة الناس كافة إلى هذه الهداية الإلهية على لسان محمد عليه السلام كثيرون، وإنما حال بينهم وبين معرفة هذا الحق المبين التقليد الأعمى، فالتقاليد أعدى أعداء الحق في الدين والعلم وفي كل شيء؛ لأن المقلد ليس له عينان فينظر في الدليل والبرهان، بل ينكر الحسن والعيان، ويكابر الوجود والوجدان، وإنما نكتب ما نكتب ليزداد الذين آمنوا إيمانًا وليعتبر أصحاب المطلقة العقول المطلقة والأفكار الحرة من غير المؤمنين. بيان حاجة جميع الأمم إلى الإصلاح المحمدي يتوقف على معرفة تاريخ الأمم قبل الإسلام لا سيما تاريخ أهل الكتاب الذين يدعون أن في كتبهم ما يغني عن هداية الإسلام وإصلاحه، ولا يمكن سرد تاريخ الأمم تفصيلاً في التمهيد من مسائل العقائد ولكن في الإجمال مع الإحالة على كتب التاريخ غناء، وقد كتب أستاذنا الإمام نبذة في ذلك وافية بالمرام في (رسالة التوحيد) التي هي حجة الإسلام في هذا الزمان وما بعده إلى ما شاء الله، وإننا نقتبسها هنا فانظر هذه البلاغة في الإيجاز التي تكاد تبلغ به حد الإعجاز، قال حفظه الله: (ليس من غرضنا في هذه الورقات أن نلم بتاريخ الأمم عامة وتاريخ العرب خاصة في زمن البعثة المحمدية لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض خاصة في زمن البعثة المحمدية لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسة إلى قارعة تهز عروش الملوك وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء، وإلى نار تنقض من سماء الحق على أُدُم النفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به الأباطيل القاتلة للعقول، وصيحة فصحى تُزعج الغافلين وتُرجع بالباب الذاهلين، وتنبه المرءوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين، والهداة الضالين، والقادة الغارّين , وبالجملة تئوب بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنها الله له [1] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} (الإِنسان: 3) ليبلغ بسلوكه كماله، ويصل على نهجها إلى ما أُعِدَّ في الدارين له، ولكنَّا نستعير من التاريخ كلمة يفهمها من نظر فيما اتفق عليه مؤرخو ذلك العهد نظر إمعان وإنصاف. وكانت دولتا العالم [2] دولة الفرس في الشرق ودولة الرومان في الغرب في تنازع وتجالد مستمر، دماء بين العالمين مسفوكة، وقوى منهوكة، وأموال هالكة، وظلم من الإحن حالكة، ومع ذلك فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنن في الملاذ بالغة حد ما لا يوصف في قصور السلاطين والأمراء والقواد ورؤساء الأديان من كل أمة وكان شر هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حد فزادوا في الضرائب وبالغوا في فرض الإتاوات حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها، وانحصر سلطان القوي في اختطاف ما بيد الضعيف، وفكر العاقل في الاحتيال لسلب الغافل، وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروبٌ من الفقر والذل والاستكانة وخوف والاضطرابات لفقد الأمن على الأرواح والأموال. غمرت مشيئة الرؤساء إرادة من دونهم فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب يديرها من وراء حجاب، ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب، ففقد بذلك الاستقلال الشخصي وظن أفراد الرعايا لم يخلقوا إلا لخدمة ساداتهم وتوفير لذاتهم كما هو الشأن في العجماوات مع من يقتنيها. ضلت السادات في عقائدها وأهوائها وغلبتها على الحق والعدل شهواتها، ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها فلم يفارقها الحذر من أن بصيص النور الإلهي الذي يخالط الفطر الإنسانية قد يفتق الغُلف التي أحاطت بالقلوب، ويخرق الحجب التي أسدلت على العقول، فتهتدي العامة إلى السبيل، ويثور الجم الغفير على العدد القليل، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن ينشئوا سُحُبًا من الأوهام، ويُهيّئوا كسفًا من الأباطيل والخرافات ليقذفوا بها في عقول العامة فيغلظ الحجاب ويعظم الرين ويختنق بذلك نور الفطرة ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم , وصرح الدين بلسان رؤسائه أنه عدو العقل وعدو كل ما يثمره النظر إلا ما كان تفسيرًا لكتاب مقدس. وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب، ومدد لا ينفد، هذه كانت حالة الأقوام في معارفهم، وذلك كان شأنهم في معايشهم: عبيد أزلاء حيارى في جهالة عمياء، اللهم إلا بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية، والشرائع السابقة أوت إلى بعض الأذهان ومعها مقت الحاضر، ونقص العلم بالغابر، ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها بما انقلب من الوضع، وانعكس من الطبع فكان يرى الدنس في مظنة الطهارة، والشره حيث تنتظر القناعة، والدعارة حيث ترجى السلامة والسلام، مع قصور النظر عن معرفة السبب وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كل ذلك هو الدين. فاستولى الاضطراب على المدارك، وذهب بالناس مذهب الفوضى في العقل والشريعة معًا، وظهرت مذاهب الإباحين والدهريين في شعوب متعددة وكان ذلك ويلاً عليها فوق ما رُزِئَتْ به من سائر الخطوب) . (وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزعات، خاضعة للشهوات، فخر كل قبيلة في قتال أختها وسفك دماء أبطالها، وسبي نسائها وسلب أموالها، تسوقها المطامع إلى المعامع، ويزين لها السيئات فساد الاعتقادات، وقد بلغ العرب من سخافة العقل حدًا صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها، فلما جاعوا أكلوها، وبلغوا من تضعضع الأخلاق وهنًا قتلوا فيه بناتهم تخلصًا من عار حياتهن، أو تنصلاً من نفقات معيشتهن، وبلغ الفحش منهم مبلغًا لم يعد للعفاف قيمته، وبالجملة فكانت رُبُط النظام الاجتماعي قد تراخت عقدها في كل أمة، وانفصمت عراها عند كل طائفة) . (أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم برجل منهم يوحي إليه رسالته، ويمنحه عنايته ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم، التي أظلت رءوس جميع الأمم، نعم كان ذلك وله الأمر من قبل ومن بعد) . اهـ فعلم مما أورده الأستاذ الإمام أن فساد الأمم كان من فساد رؤساء الدين ورؤساء الدنيا وهم الملوك والأمراء، وأن قصارى سيرة الفريقين كان محصورًا في إطفاء نور الفطرة الإلهية وهدم ركني السعادة البشرية وهما استقلال الفكر واستقلال الإرادة. فإذا قيل: إنه كان في الدنيا دينان سماويان أي دين اليهود ودين النصارى وكتابان إلهيان وهما التوارة والإنجيل فكان يغني عن بعثة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلهام الله تعالى رؤساء الدينين وحملة الكتابين أن يقيما أصولهما ويسيرا على صراطهما ويَدْعُوا الناس إلى ذلك. نقول في الجواب: إن دين اليهود كان خاصًّا بشعب إسرائيل وهم المخاطبون بالتوراة دون سواهم؛ لعلم الله تعالى أن هذا كتاب يصلح لهدايتهم وحدهم في الزمن الذي أنزل فيه وبعده إلى أجل مسمى، وبعد ذلك أفسد بنو إسرائيل في الأرض فسلط الله عليهم الوثنيين فسبوهم وخربوا ديارهم وأحرقوا كتابهم. ثم إن كاتبًا منهم اسمه (عزرا) كتب لهم بعد زمن طويل ما يحفظه من كتابهم وشريعتهم بإذن الملك الوثني، ومنها الأسفار الخمسة التي يسمونها التوراة، وهي تحكي عن موسى بضمير الغائب وفيها ذكر وفاته وليس ذلك مما أوحي إليه، ولولا أن الله أخبرنا في كتابه بأن اليهود نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به لا جميع ما ذكروا به، ولولا أنه احتج عليهم بعدم العمل بالتوراة؛ والحجة تقوم ببعض كلام الله كما تقوم به كله - لما صدقنا كلمة واحدة من كتبهم ولا وثقنا بحكم واحد من أحكام شريعتهم. وحاصل القول أن الله تعالى لم يجعل التوارة منذ شرعها هداية عامة مرشدة لجميع البشر إلى كمال الفطرة فكيف تصلح بذلك بعدما طرأ عليها وعلى الناس ما طرأ. وأما السيد المسيح عليه السلام فإنه لم يأت بدين جديد، وإنما ديانته اليهودية وشريعته التوارة ولكنه كان مصلحًا؛ لأن اليهود جمدوا على ظواهر الشريعة حتى صاروا كالماديين فأرسله الله (إلى خراف إسرائيل الضالة) ليهديهم إلى الروحانية ويبالغ فيها بمقدار ما بالغوا في الظواهر والماديات؛ ليكون ذلك تمهيدًا لدين الفطرة الذي يجمع بين مصالح الروح والجسد. وأما الديانة البولسية التي انتشرت في أوربا بتعليم بولس ثم مساعدة قسطنطين ومن بعده من الملوك وإلزامهم الناس إلى إرسال الرسل لهدايتهم إلى سعادة الدنيا والآخرة بتربية الروح والجسد وليس فيها قاعدة واحدة من قواعد الفطرة وإنما هي عبارة عن شيء واحد وهو الإيمان بالمسيح على الوجه الذي يقولونه، وأنه لا حاجة مع هذا الإيمان إلى العمل بالشريعة، والظاهر من نصوص كتب العهد الجديد أن المسيح خلص العالم كله من العذاب، من آمن به ومن لم يؤمن وإنما يفضل المؤمن به غيره بأنه يحل فيه روح القدس. قال يعقوب في رسالته: (وليس من أجل خطايانا فقط بل من أجل عدة قرون يخبطون في دياجير الأوهام والجهالات حتى دخل عليهم الإصلاح الإسلامي من بلاد الأندلس والشرق كما سنبينه. *** (م 102) الاستعداد لعموم البعثة: حاجة الناس إلى الشيء تولد فيهم الاستعداد له فإذا استدللنا بالعلة على المعلول فالدليل أوضح؛ لأنه ههنا وجودي مشهود لا نظري مستنبط، وهو قبول الأمم على اختلافها في الأديان واللغات والمواقع هذا الإصلاح الروحي الاجتماعي الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام بالوحي الإلهي والإلهام فقد انتشر الإسلام في المشرق والمغرب بسرعة لم يعرف التاريخ مثلها، حتى كان ملك الإسلام بعد ثمانين سنة من ظهوره أوسع من ملك الرومان بعد ثمانمائة سنة والرومان أعظم أمم التاريخ الماضي في الحروب والفتوحات. هذا هو الإصلاح الذي غيَّر هيئة الأرض وبدَّل نظام الاجتماع الإنساني في السياسة والحرب والمدنية والعلوم والآداب على أيدي أمة كانت قبل الإسلام أبعد عن السياسة والمدنية والنظام والعلوم وهي الأمة العربية. ألم تر أن نور الهداية الفطرية ما خبا بعد الإسلام من مكان إلا وأومض أو تألق قي مكان آخر، وأن دعائم العمران ما تداعت في مملكة إلا وشيدت في غيرها وأن غرس العلم والفلسفة ما ذبل أو تصوح في أرض إلا ونما وترعرع في سواها، كل ذلك كان ينتقل مع الإسلام فكلما ظهرت قوة الإسلام، والمسلمون في الشرق والغرب ضعف العلم والعمران والمدنية في العالم، ولكنه لم يذهب من العالم فيحتاج العالم إلى مصلح آخر يبني له قواعد الاجتماع على أصول العلم الصحيح وسنن الكون إذ لو حصل لما كان محمد خاتم النبيين. ولكن تلك القواعد انتقلت من مسلمي الأندلس ومسلمي الشرق إلى أوربا مع تلامذة ابن رشد وفي الكتب التي أخذها الصليبيون من المسلمين. من عجيب

الزواج وشبان مصر وشوابها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الزواج وشبان مصر وشوابُّها أكثرت الجرائد العمومية اليومية الخوض في هذه الأيام في مسألة اجتماعية ذات بال وهي ميل كثير من الشبان المصريين إلى التزوج بالأوربيات، وإحجام كثير منهم عن التزوج بالمرة، وزعم بعض الباحثين أن السبب في الأمرين هو عدم وجود بنات مصريات (متربيات) يصلحن لشبان مصر (المتربين) . وههنا شرح بعض الكتاب سوء حال تربية البنات ووصف من جهلهن وأطنب في التنفير عنهن، وكنت أحب أن يكثر الكتاب البحث في تربية البنات في معرض غير معرض تفضيل الزواج بالأوربيات والترغيب عن الزواج بالوطنيات. المسألة كبيرة وفروعها متشعبة ولطريق البحث فيها نواشط كثيرة، وكأني بهذه النواشط قد تمثلت أمامي فلا أدري أي ناشط أختار في ابتداء السير لأَصِلَ منه إلى الطريق الأعظم. ولكنني أقول قبل كل قول: إن الذين تزوجوا بالأوربيات أو يفضلون التزوج بهن هم أبعد المصريين عن التربية الصحيحة النافعة. وإن أكثر الذين يتريثون بالزواج يتربصون الظفر بزوج غنية لا بزوج مهذبة متربية. ثم أقول: إنه لا تربية عندنا للفتيان ولا للفتيات، وإن الإناث يقربن من الذكور في الأخلاق والآداب والعادات والرغبات، ولكن الفرق بين الفريقين في التعليم، فالمتعلمون أكثر من المتعلمات، ولكن أكثر هذا العلم مما لا يصح التفاضل فيه؛ لأنه قليل التأثير في الحياة المنزلية والحياة القومية والحياة الملية. ولو ارتقى المتعلمون في شئون الحياة لأصلحوا بيوتهم، ورأس إصلاح البيوت تربية البنات فكما يريد الرجال يكون النساء؛ لأنهم القوامون عليهن والقوة بأيديهم فهم يسيرون العمران كيف شاءوا ورب متفرنج غبي ينغض رأسه إذا سمع قولنا: كما يريد الرجال يكون النساء. ويقول: إن هذا قول مَنْ لا يعرف الحقائق فإن الأوربيين يقولون: كما يريد النساء يكون الرجال. رويديك أيها الغر المتفرنج إن في كلمة سادتك شيئًا من المبالغة وإن كان نساؤهم وصلن إلى درجة من الاستقلال والعناية بالتربية بسعي الرجال صار لهن بها شأن في تربية الأطفال يصح معها أن تقال هذه الكلمة فيهن ولكن شأن بلادنا ونسائنا مباين لشئونهن. التربية شيء والتعليم شيء آخر: التربية هي تعاهد القوى الجسدية والنفسية ومساعدتها على الوصول إلى الكمال المستعدة له في أصل الفطرة حتى يكون المربي إنسانًا كاملاً سويًا في خلقه، مهذبًا في خلقه، نافعًا لنفسه ولقومه، والتعليم إيداع صور المعلومات في ذهن المتعلم، وقد وجد في مدارس مصر شيء من التعليم الناقص ولكن التربية لم توجد في المدارس ولا في البيوت فما في الأمة من الأخلاق والآداب الصحيحة فهو على قلته من سؤر ما تركه السلف الصالح من التراث، وأشد الناس جناية عليه وإتلافًا له هؤلاء المتعلمون الذين انتفعوا بالتعلم الجديد فصاروا ينفعون أنفسهم وأمتهم قليلون جدًّا، وإنما ساعدهم على الانتفاع استعداد قوي في الفطرة وبعض الأخلاق والآداب المورثة؛ ولذلك يعد نجاحهم شذوذًا لا نتيجة طبيعية لهذا التعليم الناقص في المدارس. وهؤلاء لا يَنصحون لشبان أمتهم أن يتزوجوا بالأوربيات، وإنما ينصحون لهم أن يربوا ويعلموا البنات، وإذا اشتكوا فإنما يشتكون من جهل الأغنياء وبخلهم إذ لا يسمحون بشيء من فضل مالهم لإنشاء معاهد أهلية للتربية والتعليم. أما تلك الحُثالة من سائر المتعلمين - وهم الأكثرون على أنهم قليل في مجموع الأمة - فإنها لم تستفد من التعليم إلا رطانة لغة أوربية بها يتمكنون من معاشرة بغايا الإفرنج مسافحات أو متخذات أخدان. وإن عقائل نساء الإفرنج ليترفعن ويستنكفن أن يعاشرن هؤلاء الغلمان السفهاء الأحلام بَلْهَ الاقتران بهم وقبولهم بعولة لهن فهذا التبجح الذي يتبجحه شباننا في الجرائد بعلمهم إنما هو التبجح بتفضيل البغايا الأجنبيات على المحصنات الوطنيات. لولا هؤلاء المتعلمون لما راج سوق الفحش في مصر، لولا هؤلاء المتعلمون لما نشأ داء الزهري في البلاد؛ لولا هؤلاء المتعلمون لما فشا السُّكْر في القطر لولا هؤلاء المتعلمون لما عُرِفَ الميسر والقمار في وادي النيل. لولا هؤلاء المتعلمون لما فتن الناس بزخرف الأثاث والرياش والماعون التي تُجلب من أوربا فتذهب بثروة البلاد. لولا هؤلاء المتعلمون لما خربت تلك البيوت العامرة التي ورثت الثروة والمجد عن أب وجد، لولا هؤلاء المتعلمون لما انتهكت حرمات الدين وتركت فضائله وسنته. فبماذا يفتخر هؤلاء المتعلمون المغرورون على البنات الأغرار الجاهلات؟ ولماذا يترفعون عليهن مع أن جهلهن لم يجن على الأمة والبلاد بعض ما جناه علم أولئك المتبجحين المترفعين. البنت الجاهلة تتربى في بيت زوجها تربية جديدة؛ لأن العذراء لا تستقر أخلاقها وعاداتها على شيء إلا بعد الزواج كأنها قبل ذلك ترى كل شيء موقتًا غير ثابت؛ لأنها في طور غير ثابت تنتظر في كل يوم الانتقال إلى الطور الذي بعده الذي حكمت الفطرة بأن تقضي حياتها فيه؛ وهو كونها زوجًا لرجل ثم أمًّّّّّّّا لولد. فليت شعري كم عدد المتعلمين الذين تزوجوا من هؤليَّا العذارى واشتغلوا بتربيتهن ليعيشوا معهن عيشة راضية؟ كم عدد الذين أحصنوا بالزواج فرضوا بأزواجهن حتى لا يَغْشَوْنَ المواخير ولا بيوت السر؟ ويا ليت شعري كم عدد البيوت التي كان فيها هؤلاء المتعلمون صالحين مصلحين وأزواجهم فاسدات مفسدات؟ أظن بل أوقن أن الرجال هم الذين يفسدون النساء بسوء المعاملة وقبح السيرة إلا ما جاء على سبيل الشذوذ. فما بال تلك (الفتاة التعيسة) التي أرادت الدفاع عن أخواتها التعيسات طفقت تذمهن وتهجوهن في مقالتها التي نشرتها في المؤيد توسلاً إلى كلمة تسترضي بها الشبان في آخرها بأنهم مقصرون وبأن في البنات الآن من المتعلمات من يليق بهم. الغميزة الكبرى في تربية بنات مصر هي أنهن يكلمن هؤلاء الشبان المغرورين ويعاشرنهم، وهذه الفتنة فاشية في المتعلمين والمتعلمات أكثر من فُشُوِّها في الجالهين والجاهلات، والذنب في هذه الغميزة على الشبان فمنهم بدأت الفتنة وإليهم تعود؛ لأنهم هم الذين يتعرضون لإغواء البنات، وقد حدثني غير واحد منهم بأنه لا يكاد يوجد تلميذ إلا وله خليلة من البنات. ولكن لا تكاد توجد بنت بدأت شابًّا بالمغازلة والمناغاة , فإذا كان هذا حظ شباننا المتعلمين من البنات فماذا ينقمون عليهن من فساد التربية! أينقم بعضهم على من يحبها أنها لا تُحسن الرطانة بلغة أوربية، كيف وهو أوسع مادة في المسائل التي يكلمها بها بلغته العرفية منه باللغة الأجنبية؛ لأنهما لا يتكلمان إلا باللغو والهذيان الذي يناسب العشاق الذين لا تربية لهم ولا تهذيب. يوهمنا بعض الكتاب أن هؤلاء المتعلمين يود أحدهم أن تكون له زوجة تعلمت مثلما تعلم تكون حياته معها إنسانية بالمذاكرات العلمية والأدبية لا حيوانية محضة مقصورة على التمتع البهيمي. ويا ليت هذا كان صحيحًا ولكن يحزننا ويمضنا أنه غير صحيح فإن موضوعات حوارهم في أنديتهم وسمارهم دون ما يقتضيه علمهم الناقص، كأن فساد التربية حال بينهم وبين الانتفاع بالعلم. ومن ذا الذي يطلب العلم ليعمل به أو ليكمل؟ كلنا نعرف علة طلبهم للعلم. هي أخذ الشهادة التي تعدهم لوظائف الحكومة والغرض من وظائف الحكومة الأكل مع الراحة لما جلبوا عليه من الكسل. نرى أحدهم يجد ويكد قريحته بالحفظ مدة الدراسة حتى إذا ما نال ورقة الشهادة التي سماها بعض الأوربيين (جلدة الحمار) قال: ذهب دور التعب والعناء وجاء دور التمتع؛ فيترك البحث والمذاكرة في كل ما تعلمه إلا إذا كان رزقه منه كالمهندسين والأطباء وقليل ما هم. إن من يدرس لحاجة كرشه وفرشه كالثور الذي يدرس ليأكل بل ربما كان الثور أنفع منه؛ لأنه يأكل ويأكل غيره من عمله بدرس الحنطة، ولكن أكثر الذين يدرسون العلم عندنا لا يأكلون ولا يأكل أحد من ثمرة دراستهم وهم الذين قال فيهم الشاعر: ودرس ثورين قد شُدَّا إلى قرن ... أقنى وأنفع من تدريس حَبرينِ أين أثر علم هؤلاء المتنفجين في التأليف أو العمل؟ أين الأندية والسمار الأدبية؟ أين الجمعيات العلمية؟ أين الشركات الصناعية؟ أين الأعمال التجارية؟ أين التآليف النافعة في العلوم اللغوية أو العلمية أو الأدبية أو الدينية. أخرت ذكر الدين؛ لأن أكثر المتعلمين؛ أجهل به من العامة الأميين، ولا يخفى أن الكلام كله في المجموع لا في عموم الأفراد فإن من التلامذة من يرغب في العلم لفضله ونفعه ومنهم من أحسن أهلُه أدبه وتربيته. فيا معشر المتنفجين بالعلم - وإن كان الجهل خيرًا منه - إذا فتنتم بالأوربيات أو استغنيتم بالسفاح عن الزواج الشرعي أو كنتم ترجئون الاقتران ليظفر أحدكم بامرأة غنية يتنعم بمالها؛ لأن المدرسة ربته على الترف والكسل معًا - فأقسم عليكم بالشرف الذي تذكرونه، والوطن الذي تتهمونه، بل أقسم عليكم بالله الذي تعبدونه أن لا تعتذروا عن ذلك بغميزة أخواتكم والإزراء بأمهاتكم! ومن كان منكم يغار على قومه وبلاده فليجتهد بتربية نفسه ثم تربية الأقرب فالأقرب، واعلموا أنه لو وجد عندنا تربية وتعليم لوجد عندنا رجال وإذا وجد الرجال توجد النساء كما يريد الرجال ويوجد المال ويوجد الاستقلال، فالرجال الذي عملوا كل شيء في الماضي وهم الذين يعملون كل شيء في المستقبل، وخير لهم أن يكون نساؤهم عونًا لهم من أن يكونوا كلاًّ عليهم، والسلام على من علم وعمل.

الاجتماع الخامس لجميعة أم القرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتماع الخامس لجمعية أم القرى (في مكة المكرمة يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي القعدة سنة 1316) في الوقت المعين من هذا اليوم تكامل الاجتماع واستعدت الهيئة للمذاكرة والسماع، وقرأ كاتب الجمعية ضبط الجلسة السابقة حسب القاعدة المرعية. قال (الأستاذ الرئيس) : سنبحث بعد يومين في وضع قانون الجمعية الدائمة وإني أرى أن نفوض للجنة منا من الذين سبق لهم دخول في جمعيات علمية أو الذين لم وقوف على مباني الجمعيات القانونية ولا سيما الغربية المعروفة باسم (أكاديميات) لتنظم لنا هذه اللجنة سانحة قانون نضعها تحت البحث في الجمعية. وإني أكلف بهذه اللجنة أخانا السيد الفراتي؛ ليقوم بكتابتها وأخانا السعيد الإنكليزي ليفيد اللجنة عما يعلمه عن الأكاديميات وعن مجربات جمعيات ليفربول ورأس الرجا وإخواننا العلامة المصري والصاحب الهندي والمدقق التركي وهذا يرأسهم؛ لأنه أسنّهم [1] وهؤلاء أعضاء فهل تَسْتَصْوِبُ الجمعية ذلك وترى فيه الكفاية والكفاءة أم تستدرك شيئًا. ثم ابتدر (السعيد الإنكليزي) للمقال مخاطبًا الأستاذ الرئيس فقال: إننا مسلمي (ليفربول) حديثو عهد بالإسلام ولنا إشكالات مهمة تتعلق ببحث اليوم، أعني بطريقة الاستهداء من الكتاب والسنة؛ لأن أكثرنا قد هدينا والحمد الله إلى الإسلامية منتقلين إليها من (البروتستانتية) أي الطائفة الإنجيلية لا من الكاثوليك أي الطائفة التقليدية فنميل طبعًا لاتباع الكتاب والسنة فقط، ولا نثق بقول غير معصوم فيما ندين. وقد تركنا دين آبائنا وقومنا لنتبع دين محمد نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام لا لنتبع الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي أو المالكي وإن كانوا ثقاة ناقلين. ولنا جمعية منتظمة لها شعبتان في أمريكا وجنوب أفريقيا، ونحن راغبون أن نسعى سعيًا حثيثًا في الدعوة للدين السامي الإسلامي المبين، والأقوام الذين ندعوهم غالبهم متمدنون أي أفكارهم متنورة بالعلوم والمعارف وأكبر أملنا معقود بهداية فئتين اثنتين: الأولى البروتستان والثانية الزنادقة. أما أملنا في البروتستان، فلأنهم منقلبون حديثًا من الكاثوليكية انقلابًا ناشئًا عن ترجيحهم الاقتصار على الإنجيل ومجموعة الكتب المقدسة متونًا فقط أي بإهمال الشروح والتفسيرات والمزيادات التي لا يوجد لها أصل صريح في الإنجيل. والبروتستان في أوربا وأمريكا يزيدون على مائة مليون من النفوس كلهم مفطورون على التدين قليلو العناد في الاعتقاد مستعدون لقبول البحث والانقياد للحق بشرط ظهوره ظهورًا عقليًّا، ولا سيما إذا كان الحق ملائمًا لأسباب هجرهم الكاثوليكية، من نحو إنكارهم الرياسة الدينية والرهبانية والتوسل بالقديسين وطلب الشفاعة منهم واحترام الصور والتماثيل والدعاء لأجل الأموات وبيع الغفران والقول بأن للبطارقة قوة قدسية وقوة تشريعية، وأن للبابا صفة العصمة عن الخطأ في الدين وأن للأساقفة ومن دونهم من القسيسين مراتب مقدسة إلى غير ذلك مما يُنْتِجُ في النصرانية سلطةً دينية وتشديدات تعبدية لا يوجد لها أصل في الإنجيل. وقد يشبه هؤلاء البروتستان في رأيهم فئة قليلة من اليهود تعرف باسم القرائين وهم الآخذون بأصل التوراة والمزامير والنابذون للتلمود أي للتفسيرات ومزيدات الأحبار والحاخاميين الأقدمين. أما الفئة الثانية فهم الزنادقة المارقون من النصرانية كليًّا؛ لعدم ملائمتها للعقل وهؤلاء في أوربا وأمريكا كذلك يزيدون على مائة مليون من النفوس غالبهم مستعدون لقبول ديانة تكون معقولة حرة سمحة تريحهم من نصب الكفر في الحياة الحاضرة فضلاً عن العذاب في الآخرة. ومن غريب نتائج التدقيق أن أفراد هذه الفئة كلما بعدوا عن النصرانية نفورًا من شركها وخرافاتها وتشديداتها يقربون طبعًا من التوحيد والإسلامية وحكمتها وسمحاتها، فبناءً على هذا الحال وهذه الآمال ترى جمعية (ليفربول) أهمية عظيمة لتحرير مسألة الاستهداء من الكتاب والسنة وتصوير حكمة وسماحة الدين الإسلامي للعالم المتمدن، فأرجو حضرة الأستاذ الرئيس أن يسمح لي بتفهم مسألة الاستهداء على أسلوب المحاورة والمساجلة مع بعض الإخوان الأفاضل في هذا المحفل العلمي العظيم. فأجابه (الأستاذ الرئيس) بقوله له: ساجِل مَن شئت وخاطبْ مَن أردت فالإخوان كلهم علماء أفاضل حكماء. فقال (السعيد الإنكليزي) مخاطبًا العالم النجدي: إنك يا مولاي قد صورت في مقدمة خطابك في التوحيد مَنْ هو المسلم وألزمتَه العمل بالكتاب والسنة فأرجوك أن تعرفني أولاً ما هو الكتاب وما هي السنة. فقال (العالم النجدي) أما (الكتاب) فهو هذا القرآن الذي وصل إلينا بطريق لا شبهة فيه؛ لاجتماع الكلمة واتفاق الأمة عليه وتناقُلها إياه جيلاً عن جيل حفظًا في الصدور وضبطًا في السطور مع الحرص العظيم على كيفية أدائه لفظًا وعلى هيئة إملائه كتابة ومع الاعتناء الكامل في تحقيق أسباب النزول ومكانه ووقته مع حفظ اللغة العربية المضرية القرشية التي نزل بها بإتقان لا مزيد عليه. وبقاء القرآن محفوظًا من التحريف والتغيير وموجات الريب إلى الآن هو أحد إعجازه حيث جاء مصدقًا لقوله تعالى فيه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) . أما (السنة) فهي ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أو فَعَلَه أو أقرَّه ولم يكن صدر منه ذلك على سبيل الاختصاص أو الحكاية أو العادة، وقد اعتنى الصحابة ولا سيما التابعون وتابعوهم رضي الله عنهم بحفظ السنة حديثها وآثارها وسِيَرها غاية الاعتناء وتناقلوها بالرواية والسند مُتحرين الوثوق منتهى مراتب التحري والتثبت، وقد حازت بعض مدونات السنة وثوقًا تامًا وقبولاً عامًّا في الأمة فوصلت إلينا بكمال الضبط خصوصًا منها الكتاب السنة. قال (السعيد الإنكليزي) لا يشك أحد حتى العدو المعاند في أنه لم تبلغ ولن تبلغ أمة من الأمم شأو المسلمين في اعتنائهم بحفظ القرآن الكريم وضبطهم التاريخ النبوي أي السنة، وكذلك يقال في اعتنائهم باللغة العربية التي هي آلة فهم الخطاب. وبالنظر إلى ذلك كان يجب أن نحرر الشريعة الإسلامية أحسن تحرير فلا يوجد فيها ما وجد في غيرها بسبب عدم ضبط أصولها من اختلافات ومباينات مهمة بين العلماء الأئمة فأرجوك أن تبين لي ما هو منشأ هذا التشتت الذي نراه في الأحكام. أجابه (العالم النجدي) أن الاختلافات الموجودة في الشريعة ليس كما يظن شاملة للأصول بل أصول الدين كلها والبعض من الفروع متفق عليها؛ لأن لها في القرآن أو السنة أحكامًا صريحة قطعية الثبوت قطعية الدلالة بإجماع الأمة الذي لا يُجَوِّز العقلُ فيه أن يكون عن غير أصل من الشرع [2] . أما الخلافات فإنما هي فروع تلك الأصول في بعض الأحكام التي ليس لها في القرآن أو السنة نصوص صريحة بل بعض علماء الصحابة رضي الله عنهم وفقهاء التابعين، ومن جاء بعدهم من الأئمة المجتهدين أخذوا تلك الأحكام التي اختلفوا فيها إما تلقيًا من بعض الصحابة، فكلٌّ قَلَّدَ مَن صادف [3] . وإما استنبطوها اجتهادًا من نصوص الكتاب أو السنة بالمدلول المحتمل أو بالمفهوم أو بالاقتضاء أو من قرائن الحال أو قرائن القال أو بالتوفيق أو بالتخريج أو التفريع أو بالقياس أو باتحاد العلة أو باتحاد النتيجة أو بالتأويل أو الاستحسان، وهذه الأحكام الخلافية كلها ترجع إلى دلائل إما قطعية الثبوت ظنية الدلالة، أو ظنية الثبوت ظنية الدلالة. ولكل واحد من المجتهدين أصول في التطبيق وقوانين في الاستنباط يخالف فيها الآخر، ومنشأ معظمها الخلافات النحوية والبيانية. ثم إن أكثر الخلافات هي في مسائل المعاملات وعلى كل حال جاحدها لا يكفر باتفاق الأئمة بل المخالفون لا يفسق بعضهم بعض إذا كان التخالف عن اجتهاد لا عن هوى نفس أو تقصير في التتبع الممكن للمقيم في دار الإسلام (مرحى) . قال (السعيد الإنكليزي) : إني أشكرك على ما أجملت وأوضحت غير أنك لم تذكر في جملة أسباب الاختلاف في اعتبار الناسخ والمنسوخ بين آيتين أو حديثين أو آية وحديث وإني أظن أن ذلك من أعظم أسباب الاختلاف في الأحكام. أجابه (العالم النجدي) : إن نواسخ الأحكام قليلة ومعلومة والخلاف فيها أقل؛ لأن النسخ في زمن التشريع لم يحصل إلا عن حكمة ظاهرة كالتدريج في منع السُّكْرِ كالنهي عنه حالةَ الصلاة ثم تعين منعُه. وكتغيير المقتضي للتوارث بالإخاء وهو القطيعة التي حصلت بين المهاجرين وذوي أرحامهم في بدء الأمر ثم لما تلاحقوا بعد فتح مكة نُسخ ذلك وجُعل التوارث بالنسب. وكالدعوة في أول الإسلام إلى التوحيد والدين بمجرد الموعظة بدون جدال ثم به بدون صدع ثم به بدون قتال ثم به في أهل جزيرة العرب فقط ثم بتعميمه مع قبول الجزية والخراج من غيرهم [4] (مرحى) قال (السعيد الإنكليزي) : إن ما وصفت من أصول الاجتهاد وقوانين استنباط الأحكام قد أنتج خلاف ما يأمر الله به في قوله تعالى: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) وخلاف ما تقضيه الحكمة فهل من وسيلة سهلة لرفع هذا التفرق. أجابه (العالم النجدي) إني لا أهتدي لذلك سبيلاً [5] ولعل في الإخوان من يتصور وسيلة لهذا الأمر المهم. فابتدر (العلامة المصري) مخاطبًا السعيد الإنكليزي وقال: إن رفع الخلاف غير ممكن مطلقًا ولكن يمكن تخفيف تأثيراته: وذلك أنه لما كان معظم الاختلاف كما قرره أخونا العالم النجدي في الفروع دون الأصول وفي السنن والمندوبات والصغائر والمكروهات دون الشعائر والواجبات والكبائر والمنكرات كان أكثر الأمة هم العامة الذين لا يقدرون أن يميزوا بين الواجب والسنة والمندوب وبين النفل والمباح بل تنقسم الأحكام كلها في نظرهم إلى نوعين أصليين فقط: مطلوب ومحظور، وبتعبير آخر: إلى حلال وحرام، وكانت أحكام الشريعة كثيرة جدًّا، فالعامة يجدون أنفسهم مكلفين بما لا يطيقون الإحاطة بمعرفته فضلاً عن القيام به ويرون أن لا مناص لهم من التهاون في أكثره أو بعضه فيقوم أحدهم بالبعض فيأتي بالنفل ويتهاون بالواجب ويتقي المكروه ويقدم على الحرام وذلك كما قلنا لاستكثاره الأحكام وجهله بمراميها في التقديم والتأخير [6] . بناءً على ذلك أرى لو أن فقهاء الأمة كما فرقوا مراتب الأحكام على المسائل يفرقون المسائل أيضًا على المراتب في متون مخصوصة. فيعقدون لكل مذهب من المذاهب كتابًا في العبادات ينقسم إلى أبواب وفصول تذكر في كل منها الفرائض والواجبات فقط وتنطوي ضمنًا الشرائط والأركان بحيث يقال: إن هذه الأحكام على هذه المذاهب هي أقل ما تجوز به العبادة. ويعقدون كتابًا آخر ينقسم إلى عين تلك الأبواب والفصول تذكر فيها السنن بحيث يقال: إن هذه الأحكام ينبغي رعايتها في أكثر الأوقات. ثم كتابًا ثالثًا مثل الأولين تذكر فيه السنن الزوائد بحث يقال: إن هذه الأحكام رعايتها أولى من تركها وعلي هذا النسق يوضع كتاب للمنهيات يقسم إلى أبواب وفصول تعد فيها المكفرات والكبائر وكذا الصغائر والمكروهات، ومثل ذلك تقسم كتب المعاملات على طبقات من الأحكام الاجتماعية أو الاجتهادية أو الاستحسانية. فبمثل هذا الترتيب يسهل على كل من العامة أن يعرف ما هو مكلف به في دينه؛ فيعمل عل حسب مراتبه وإمكانه، وبهذه الصورة تظهر سماحة الدين الحنيف ويصير المسلم

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الشذرة السابعة من جريدة أراسم [*] (رؤيا منام، أرجو أن تحققها لنا الأيام) رأيتني ممتطيًا جوادًا أسيح في بلاد مجهولة لا أدري إن كانت من الدنيا القديمة أو الجديدة ولكني بحسب ما بدا لي من ظواهرها أرى أنها لا بد أن تكون واقعة على تخوم بلاد الألدورادو [1] أو الأوتوبيا [2] . بصرت في طريقي بحظائرمسيجة باسيجة خضراء فيها قطعان من البقر والغنم وغيرها من الحيوانات المجترة التي لا توجد قط في مراعينا تسوم آمنة لا كلب يحرسها ولا راعي يراقبها ولاحظت في انتظام طرق الري في هذه البلاد وحسن توزيع الماء بين جهاتها على نحو يثير الاستحسان، ويدعو إلى الإعجاب أنه كان من مزاياه امتلاء جو ريفها بالنسيم البارد على ما فيه من حرارة النهار وشاهدت سلاسل من الهضاب مكللة بالأشجار كأنها في تتابعها واتصال بعضها ببعض تخط للرياح والسحاب طريقهما، ضرب الغنى سرادق حول قرى هذا الريف وظهرت على أهله آثار النعمة والاغتباط، نساؤه حسان وولدانه أسوياء أصحاء الأبدان يبشرون حكومتهم بأنهم سيكونون نسلاً قويًّا باسلاً. ثم رأيت حواضر هذا القطر فلم أكن لرؤيتها أقل مني دهشًا لرؤية قراه ومما أرشدت إليه من إحداها بناءان كانا أقيما في عصر يسميه أهلها الآن عصر الهمجية أحدهما سجن والثاني مأوى للمساكين وقد أصبحا من أهلهما خلاءً لعدم اللصوص والبؤساء ومع أنهما لم تبق لوجودهما فائدة حفظهما القائمون على شئون المدينة ليكون للأجانب فيها ذكرى لتاريخهم. حدد في هذه البلاد ما للناس وما عليهم من الحقوق والفروض وما للحكومة وما عليها من ذلك وامتاز بعضه عن بعض امتيازًا بينًا ولهذا تجد الرعايا لا يُوَلُّون حُكَّامهم من شئونهم إلا ما ليس من مصلحتهم أن يتولوْه بأنفسهم، وحقيقة الأمر أن القوانين فيها على قلتها جدًّا وصدورها عن رأي من اختارتهم الأمة نوابًا عنها لا سبيل لها إلا على ما كان من الأعمال متعلقًا بالحكومة، ولما كان الناس جميعًا هم الذين قد سنوا لأنفسهم هذه القوانين لحماية كل منهم كانت مخالفتها وعدم الرضوخ لأحكامها حمقًا وسخفًا على أنهم يؤملون تعديلها والتقليل من سلطانها بترقية العلوم وبث أضواء العرفان. رأيهم هو حاكمهم المطاع أمره النافذ قوله، ولم يعهد أن ملكًا من الملوك الممتنعين في صياصهم المعتزين بحصونهم كان له من المعاقل والمتاريس ما يعادل ما حيط به ذلك الحاكم من ضروب الكفالة وأنواع الضمان المؤيدة له القائمة على إعزازه فالقوم أحرار يتفكرون في كل ما يكتبون، ويكتبون كل ما يتفكرون، وإنه ليدهشم كثيرًا على ما أرى أن يعلموا أن فوق الأرض أممًا في قدرتها أن تستسلم للحاكم وتلقي بنفسها في قبضة ظالم. لاقيت في هذه المدينة شيخًا لا أذكر أين ولا كيف لاقيته، وقع التعارف بيني وبينه فأخذ على نفسه أن يشرح لي نظام حكومتهم ويطوف بي على المعاهد المُعَدَّة للمنافع العامة؛ لأني لم أر في المدينة قصورًا بُنِيَتْ لبعض الأفراد توفية لأسباب لذاته ولا مسالح ولا دور لجيش ولا مواخير للفحش. لما راقنى ما شاهدته قلت للشيخ: هل لك أن تخبرني باسم ذلك الواضع الكبير الذي سن لكم هذه القوانين. فتبسم ضاحكًا من قولي وقال: أراك آتيًا من عالم آخر فاعلم أن قوانينا ليست من وضع البشر وإني أراني الآن مضطرًّا إلى أن أقص عليك تاريخنا في كلمات قلائل فاستمع لما أقول: إننا قبل اليوم بنحو قرنين لم نكن أحسن حالاً من غيرنا من الأمم وآخر ملك تولى علينا ولا نذكر منه شيئًا حتى اسمه (لأن النسيان أحسن عقاب للمسيئين الأشرار) خلع عنه عرشه بعد حكم أسخط عليه جميع رعاياه وأَلَّبَهُم على نبذ طاعته والخروج عليه، ثم عرض الثائرون بعد خلعه صورًا مختلفة وأشكالاً متنوعة للحكومة، وكادوا يقتتلون على اختيارهم حاكم لولا أن آباءنا بما كان لهم من حكمة الدراية قد تراجعوا وقال بعضهم لبعض: إن الأولى لنا أن نرجئ الفصل فيما شجر بيننا وأن نترك لأعقابنا النظر لأنفسهم فيما هو خير لهم فإنه لا خير في أحسن الأوضاع ولا في أعدل القوانين إن لم نجد في أخلاق الناشئين وسيلة لاستبقائها وحينئذ اتفق القوم على أن يُبقوا من قوانيهم القديمة أكثرها مطابقة لحكم العقل حينًا من الدهر، وأن يُنَشِّأوا الجيل الجديد في هذه الفترة على حب الحرية والأخذ بها ثم لعلك لم تر مدرستنا، إنها أصل نظامنا السياسي فهيَّا بنا إليها. أخذني إلى مكان على مقربة من المدينة فما هو إلا أن تجلى لنظري في لسعة الشمس المشرقة قصر أو هيكل فوق ربوة شجراء قد عادل اتساعه وانفساح أرجائه ما له من الفخامة والجلال لو أردت أن أصف لك جملته لعييت بذلك. بني كل قسم من أقسامه الداخلية على طريقة حديثة في فن العمارة وبلغ من الازديان بما وضع فيه من التماثيل والصور وآثار الفنون إلى حيث إن جدرانه كانت تكاد تكفي أن تكون وحدها طريقة من طرق التعليم بكون ما حوته ينقش على أذهان التلامذة ومشاعرهم، وينقسم هؤلاء إلى عدة أمم يمثل كل منها جيلاً من أجيال الإنسان وقد وقع ذلك البناء في وسط مشاهد تأسر القلب وتأخذ باللب بما فيها من ضروب التباين ووجوه التخالف فنجد حوله الآجام والصخور ومساقط الماء وتحته البحر. وقفت على إحدى حلقات الدروس فإذا بغلمان يمارسون أنواعًا مختلفة من الرياضات البدنية بالمصارعة والعدو والرماية بالقوس، أكثر ما دهشت له في هذه الحلقات أن معلميها كانوا من هنود أمريكا الحمر الأصليين كما تبينت ذلك من لونهم ونحافة أعضائهم وما كان على شعورهم من مواد الزينة الوهمية. قال لي الدليل: إن هذه القبيلة المتوحشة لم تأت إلى بلادنا إلا من عهد قريب وإنما جذبها إلى حدودها حسن أخلاق قومنا ورقة طباعهم فإننا لم نعتبرهم أعداء لنا كما يفعل غيرنا بل دعوناهم إلى مشاركتنا في نعم الحضارة وأرشدناهم إلى ما تحصله لنا من الفوائد ومزايا مبينين لهم مقدار رُجْحانها على البداوة، ولما كنا لا نجهل ما لهم من المذاهب الفطرية التي نحن محرومون منها قد عرضنا عليهم معاوضة المنافع ومبادلة المرافق فقبل فريق منهم ذلك منا وهاهم أولاء الآن يروضون أبناءنا على احتمال الآلام الجسدية غير معطلين من جباههم وعلى استعمال أبصارهم وأسماعهم في اجتناب ما يُنْصَب لهم من الحبائل وإبطال ما يكاد لجلّهم من المكائد ويعودونهم على البسالة في ثني أعضائهم وإدارة مرافقهم لسلطان الإرادة، وعلى تعرُّف أخلاق الحيوانات وعوائدها في حالتها الوحشية. وفيما نحن نجول داخل هذا المكان الذي هو منقسم كما قلت إلى دارات مختلفة للتربية والتعليم شهدت أحد الأعياد التي تقام في هذه الدارات التاريخية أو العلمية من حين إلى حين فخيل لي أننا في أثينا (عاصمة بلاد اليونان) إن لم أكن واهما وأبصرت قامتها المسماة بالأقروبول شاخصة أمامي على صخرة يعلوها معبد وتماثيل وآلهة صنعت من النحاس الأحمر والمرمر ورأيت في الجانب الغربي لهذه القامة دهاليزها التي أقامها بريكليس [3] وكنت أشاهد طوائف من القيان في أزياء يونانية يُشَخِّصُون اليونان في أطوارهم وأحوالهم تشخيصًا يقرب من الفطرة ويتكلمون بلغتهم ويمثلونهم في تنزههم في المدينة أو غُدُّوهم إلى مرافئ بيريه [4] ومونخيي [5] وفالير [6] فاستغربت ما رأيت مع قلة استغراب الحالم وأقسمت بآتينيه بروماخوس لاكتنهن هذا السر. فلما رأى صاحبي شدة ولعي بمعرفة حقيقة ما رأيته قال لي: إن الأمر في غاية السهولة ذلك أننا لما تبين لنا بالاختبار أن التاريخ في تعليمه للأحداث يمر بأذهانهم مرور الظل غير تارك له فيها آثارًا بينة اجتهدنا في أن نجعل له جسمًا تخلد فيها صورته فترى تلامذتنا لا يقتصرون في تعلمه على مطالعة ما كان في العصور الخالية بل إنهم يعيشون في تلك العصور. فقلت له: لا بد أن تكون جمهوريتكم قد بلغت من الثروة غايتها حتى تقوم بنفقات هذه المعاهد فكان جوابه أنها غنية لمهارتها في طرق الكسب؛ ولأنها هي التي تدبر نفقاتها بنفسها على أني أرجو أن لا تنخدع بما تراه فإن ما تظنه بذلاً للمال وإسرافًا فيه هو في الحقيقة تدبير له وتوفير لو صح ما نسمعه عن أوربا القديمة لكان ما تنفقه أممها على حكوماتها في جانب التبذير وما تنفقه على التعليم العام في طرف التقتير، وأما نحن فأمورنا تجري على خلاف ذلك فحكومتنا لا تكلفنا أو لا تكاد تكلفنا شيئًا وتنفق كل أرزاقنا على مدارسنا فكان لنا بالسير على هذه السنن ما يسمى في عرف التجارة صفقة رابحة، ولله طريقتنا في التربية فإننا ببركتها استغنينا عن اتخاذ جيش دائم وكهنوت وغيرها من الأثقال التي توقع الحكومات في مهواة الفاقة وتؤديها إلى الخراب. هذه الأمة التي ضل عني الآن اسمها لا تقصد في تربية عقول أبنائها وتقويم طباعهم إعدادهم لأن يتبعوا في مستقبلهم نظامًا مقررًا كائنًا ما كان بل إنها عقدت النية على أن تقبل ما ينتج من التربية الحرة المؤسسة على نواميس الكون وأصول العلم من الثمرات فبعثها إقدامها على أن تعهد بمستقبل بلادها إلى معارف الأجيال الجديدة وعلومهم، فهي تعتبر المدرسة أمة في سبيل نشأتها لها قوانينها كما أن للحكومة قوانينها وترى تلك القوانين كأنها مقدمة لهذه وتبكر بتعليم التلامذة ممارسة ما يتحلى به الرجال من الفضائل القومية. ليس لمعلمي المدرسة على التلامذة أدنى سبيل إلى التأديب ولكنهم لا يُسَلَّمُون عليها بما يقترفونه من مخالفة قوانينها وعوائدها بل إنهم يعاقب بعضهم بعضًا على ما يقع منهم من المخالفات، فالمخالفون يحاكمون إلى محكمة ينتخب أعضاؤها من أخواتهم لمدة معلومة، ومن مصلحة هؤلاء الأعضاء أن يعدلوا في أحكامهم وأن لا يطيعوا فيها دواعي الهوى والغرض؛ لعلمهم أن الاعتداء على حقوق الناس قد يعود عليهم ضرره في الحال أو في المآل. ويقوم أمام هذه المحكمة محاميان أحدهما من جانب المدَّعِي والثاني من جانب المدَّعى عليه فيبينان لها وقائع الدعوى بالرزانة والوقار ثم يصدر المحلفون المتطوعون أحكامهم وهي واجبة الاحترام على الدوام وما يحكم به من الجزاء يصير على كونه غاية في الخفة شديد الإرهاب والزجر لأنه يؤدي إلى لوم المحكوم عليه وتأنيبه من المدرسة جميعها لا من معلميه فقط. يقيم الصبايا التلميذات بهذه المدرسة في قسم آخر منها غير قسم الصبيان ولكنهن يحضرن معهم في غرف التعليم بعض الدروس العامة التي تلقى نهارًا. قال لي الشيخ: إننا نعول كثيرًا في طريقة تربيتنا للناشئين على ما للنساء من التأثير المعنوي في النفوس فهن اللاتي نعهد إليهن بتوزيع الجوائز والمكافآت على التلامذة، فترى المهرة من هؤلاء في الرياضات البدنية يختبرون أنفسهم أمامهن في ساحتها ببعض الحركات التي هي مظاهر البأس والقوة، والمستعدين منهم لأنْ يكونوا خطباء المستقبل يَمثلون بين أيديهن على منبر المدرسة ويثير بعضهم على بعض في ميدان الفصاحة والبلاغة حربًا عوانًا كل ذلك في سبيل إرضائهن وهيج إعجابهن، ولما كان المعروف فيهن أنهن صائبات الرأي سديدات الحكم في مواد الفنون كان معلمو المدرسة تطيب أنفسهم بالركون إلى رأيهن في امتحان الشعر والموسيقى والتصوير فإذا صرن محكمات في الذوق، أعلنَّ حسان الأعمال ونوَّهن بقدرها وتوجنها تاج الشرف والفخار. كذلك يعتاد أحداثنا على أن ي

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (تأسيس النظر) كتاب وجيز صنفه الفقيه الأصولي أبو زيد عبيد الله بن عمر بن عيسى الدبوسي الحنفي في علم الخلاف، وهو أول من صنف في خلاف الأئمة في الفقه. وعلم الخلاف نافع لمن يريد معرفة مدارك الأئمة ودلائلهم ووجوه الترجيح فيما شجر بينهم من الاختلاف في الأحكام فهو فرع من علم أصول الفقه، وقد سعى في طبع هذا الكتاب الشيخ مصطفى القباني الدمشقي كما هو شأنه في السعي بإظهار كتب الأولين النافعة ونشرها، طبعه على نفقته ونفقة محمد أفندي أمين الخانجي على أجود الورق الناعم الموجود في مصر، وكنت أود أن يقف على تصحيحه أحد المشتغلين بالفقه والأصول ولا أعرف كتابًا طبع في علم الخلاف غيره فعسى أن يقبل أهل العلم على مطالعته. وقد طبع في آخر الكتاب رسالة (الأصول التي عليه مدار كتب الحنفية) وهي نحو أربعين أصلاً وضعها الإمام أبو الحسن الكرخي من فقهاء القرن الثالث ووضع لها الأمثلة والشواهد الفقيه عمر النسفي المتوفى سنة 537 ونحن نورد بعض أمثلتها عبرة للمتفكرين قال: الأصل أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تُحمل على النسخ أو الترجيح، أو الأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق) ويا ليته ذكر وجهًا آخر وهو الرجوع عن قول أصحابهم إلى الآية الكريمة ولو عند عدم ظهور وجه وجيه في التأويل. ومنها قوله: الأصل أن كل خبر (أي حديث نبوي) يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ أو على أنه معارض بمثله، ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح أو يحمل على التوفيق، وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه. أي أنه لا بد من تصحيح قول فقهائهم والعمل به على كل حال، ونحن نقول كما يحتمل نسخ الآية أو الحديث يحتمل رجوع ذلك الفقيه عن قوله، فالمنسوخ قليل جدًّا، ولكن الأقوال المرجوحة التي يرجع عنها العلماء أكثر من أن تُحْصى يقابل هذا بذاك وتبقى وجوه أخرى للعمل بالآية أو الحديث منها أنهما أصل الدين، فإن قبل قول الفقيه فإنما يقبل لاستناده إليهما أو أحدهما ولو ظَنًّا فإذا تعارض الأصل والفرع يُعمل بالأصل، ومنها أن الثقة بنقل الكتاب والسنة أعظم، ومنها أن خطأهما مُحَال، وكل إمام وفقيه عرضة للخطأ، ومنها أنهما أصح وأفصح الكلام، ففهمهما أسهل، وبيانهما أعظم والله الهادي وهو أعلم وأحكم. * * * (نهضة الأسد) قصة تاريخية تشرح حوادث الثورة الفرنسية الشهيرة ومقدماتها ونتائجها وهي من تأليف القصصي الشهير ألسكندر ديماس الكبير وقد عرَّبها صديقنا الفاضل فرح أفندي أنطوان صاحب مجلة الجامعة النافعة ونشرها تباعًا في ذيل مجلته ثم جمعها في أربعة أجزاء واسم الثالث منها (وثبة الأسد) والرابع (فريسة الأسد) وهي أنفع القصص المعرَّبة فيما أظن، لأن مطالعة حوادث الانقلاب في الأمم هي أكبر العبر، وأولى الناس بالإقبال على قراءة هذه الأخبار مَنْ دبَّت فيهم نسمة الحياة الاستقلالية واستعدوا لأن يكونوا أمة حية، فعسى أن يرغب شبابنا وشوابنا من مطالعة القصص الغرامية السخيفة إلى مطالعة مثل هذه القصة التي تفوق مثلها لذة وتزيد عليها المنفعة. * * * (مجلة المجلات العربية) نهنئ صديقنا الفاضل محمود باشا حسيب صاحب هذه المجلة بما وفق له من زيادة إتقانها وتكثير فوائدها فقد صدر آخر جزء منها يزيد على ما تقدمه في الفوائد العلمية والأدبية وكثرة الرسوم الجميلة التي لم تسبقه إليها مجلة عربية، فنسأل الله أن يزيد مجلته بكماله كمالاً، ويوفق الناس لأن يزيدوا عليها إقبالاً. * * * (الحجاج بن يوسف) قصة تاريخية غرامية تتلو قصصًا نشرت قبلها في التاريخ الإسلامي وسيتلوها غيرها فيه فهي الحلقة السادسة من السلسلة وفيها خبر حصار مكة على عهد عبد الله ابن الزبير وفتحها ومقتل ابن الزبير والكلام في أخلاق أهل الحرمين وعاداتهم، مؤلف هذه القصص صديقنا المؤرخ المنصف جرجي أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال الغراء، وقد اشتهرت هذه القصص بنشرها في الهلال بل زاد اشتهار الهلال وانتشاره بها لما فيها من اللذة والفائدة وما زلت أمنّي نفسي بمطالعة هذه القصص من أولها مطالعة تأمل وانتقاد ولما يتح لي ذلك. وقد رأيت من المسلمين من ينتقد هذا الوضع من وجهين: أحدهما أن من شأن القصص أن تكون فيها أخبار كاذبة فيشتبه على القارئ الحق بالباطل، وثانيهما استثقال نسبة العشق والغرام إلى رجال سلفنا الكرام، وقد كان بعض هؤلاء المنتقدين كتب رأيه في جريدة المؤيد ورد عليه المؤلف بما عرف واشتهر، وقد تصفحت ورقات من هذه القصة فألفيت أن الحوادث الغرامية لم تسند إلى أحد من رجال السلف العظام، والأئمة الذين يُجَلُّون عن الاشتغال بالغرام. وأما مسألة الاشتباه فقد رأينا في مقدمة هذه القصة ما يكشف عن الحقيقة فيها وهو قول المؤلف: (فالعمدة في رواياتنا على التاريخ وإنما نأتي بحوادث الرواية تشويقًا للمطالعين، فتبقى الحوادث التاريخية على حالها وندمج من خلالها قصة غرامية تشوق المطالع إلى استتمام قراءتها، فيصح الاعتماد على ما يجيء في هذه الروايات من حوادث التاريخ مثل الاعتماد على أي كتاب من كتب التاريخ من حيث الزمان والمكان والأشخاص إلا ما تقتضيه القصة من التوسع في الوصف مما لا تأثير له على الحقيقة) اهـ ولنا الثقة بالمؤلف الفاضل بأنه لا يكتب عن الإسلام والمسلمين إلا ما يعتقده وإن لم يكن مسلمًا؛ لأنه من أبعد خلق الله عن التعصب الديني وأحسنهم إنصافًا فإن فرط منه ما أوجب الانتقاد أو يوجبه فهو عن غير سوء قصد. ولا شك أن قراءة هذه القصص مفيدة فمن يرى من المنتقدين أن فيها تقصيرًا فليصنف ما هو خير منها، وإننا لا نتحزب لصديقنا بما لا نعتقد، وإذا أتيح لنا مطالعة هذه القصص أو بعضها وظهر لنا فيها خطأ فإننا ننبه عليه إن شاء الله تعالى، وثمن النسخة من هذه القصة عشرة قروش وأجرتها في البريد قرشان وتطلب من مكتبة الهلال بمصر. * * * (مسامرات الشعب) قصص مختصرة يؤلفها أو يُعَرِّبها بعض المشتغلين بالكتابة والأدب لمكتبة الشعب ومطبعتها فتطبع وتنشر على نفقة صاحب المكتبة والمطبعة الهمام، ويصدر في كل شهر قصتين، وجعل ثمن القصة قرشًا أميريًّا وقيمة الاشتراك إلى سنة عشرين قرشًا. وقد ذكر في مقدمتها أنه يقصد بنشر هذه القصص التهذيب وخدمة الوطن، وإنما يتحقق هذا إذا جُعلت هذه القصص حكايات عن أخلاق الشعب وعاداته مع استحسان الحسن واستهجان المستهجن، ولم أر أعلق بهذا القصد من القصة الرابعة واسمهما (الحال والمآل) فقد أودعها كاتبها أحمد عوض بيانًا في كيفية عشق الناشئين والناشئات، وما يتبع ذلك من المفاسد والمنكرات، وسنتكلم عنها في جزء آخر.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الوباء والعدوى والوقاية) ظهرت الهيضة الوبائية في بلدة موشة التابعة لمديرية أسيوط وانتقلت إلى القاهرة ثم ظهرت في عدة بلاد، وقد اعتنت الحكومة بالوقاية منها، واهتم رجال الصحة بمنع انتشارها بقدر الإمكان، ولا أظن أن العناية في غير القاهرة مثلها فيها وإن كان متيسرًا، على أن حفظ الماء من القذارة في الأرياف عسر جدًّا وإلزام الناس بالنظافة هناك أعسر، ومما يزيد الوباء فتكًا عدم مساعدة الأهالي للحكومة فيما تفعله لوقايتهم؛ لأنهم لجهلهم يتوهمون أن الحكومة تسعى في إهلاكهم وتريد إهانتهم وضررهم حتى أن الأكثرين يعتقدون أن أطباء الحكومة يُسفون المصابين الأدوية السامة ليميتوهم، ولا شك أن هذا الوهم فاسد، وأن الحكومة خير لهم في هذه الحال من أهليهم ومن أنفسهم لأنها تجتهد في وقايتهم قبل أن يصابوا وفي معالجتهم بعد ذلك بعلم ومعرفة وإنما تخدمهم برجالهم وتنفق عليهم أموالهم المحفوظة عندها. ونحن لا ننتقد على الحكومة إلا عدم الاعتناء بالتنظيف حيث يسكن الوطنيون كاعتنائها به حيث يسكن الأجانب، فقد استغاثت الجرائد بمصلحة الصحة طالبة تنظيف بعض الجهات القذرة التي اتخذها الناس مناصع (والمناصع هي المواضع يتخلى فيها للبول والغائط) كشارع الخليج من جهة باب الخلق، فكان الواجب على الحكومة أن تأمر بمنع التخلي هناك وفي أي شارع لئلا يتخلى فيه مصاب فيحمل الذباب جراثيم الداء من برازه إلى البيوت المجاورة، وشيء آخر لا يزال منتقدًا من رجال الصحة وهو معاملة الناس بالغلظة والخشونة عند أداء وظائفهم وهم يعلمون أن الناس معذورون بالجهل ولعل هذه المعاملة لطفت بعد أمر جناب مستشار الداخلية بالتلطف في المعاملة. ومن أسباب انتشار الوباء جهل الأهلين بصحة العدوى، وهي ثابتة شرعًا وعلمًا واختبارًا بالمشاهدة، وأما العدوى المنفية بالحديث فهي ما كان يعتقد في الجاهلية من حصول ذلك بطبعه من غير قدرة الله تعالى وفي روايات الحديث ما يدل على ذلك. أخرج أحمد والبخاري من حديث أبي هريرة: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفر من المجذوم كما تفر من الأسد) فبعد أن نفى ما كانت تعتقده الجاهلية أمر بالفرار من المجذوم، وصرح الحافظ ابن حجر وغيره من شراح البخاري في حديث المجذوم بأن العلماء المحققين لا سيما الشافعية قالوا بإثبات العدوى على أنها سبب من الأسباب العادية التي قام بها نظام الكون. وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة: (لا عدوى ولا هامة ولا صفر، ولا يحل الممرض على المصح وليحل المصح حيث شاء قيل: ولم ذاك يا رسول الله، قال: لأنه أذى) وهذا أصرح من الأول في إثبات سببية العدوى، وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف والنسائي عن الأول وأبو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها) فهذا الحديث الصحيح أصل في الحجر على المصابين أن يخرجوا فيخالطوا الناس الأصحاء فتنتقل إليهم بذلك العدوى، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. ومن أسباب انتشار الوباء الجهل بمداراة الصحة والوقاية من الأمراض، ولو كان الناس يعملون بالآداب الشرعية لكان لهم فيها غناء فإن أهم أركان الصحة النظافة وقد اشترط في تطهير الأشياء وتنظيفها عند الشافعية وأكثر أهل هذا القطر منهم أن يكون الماء الطاهر واردًا على الشيء الذي يراد تطهيره لا مورودًا، وهذا الشرط موافق للصحة، فإن الثوب أو العضو المتنجس إذا ورد على الماء ينتشر في الماء ميكروب المرض وإذا ورد الماء عليه يزيل النجاسة وما فيها من الميكروبات، ولا يجوز وضع النجاسة في الماء ولا اليد المتنجسة على تفصيل في ذلك. ومما لا خلاف فيه بين المسلمين أن كل ما علم ضرره بالاختبار أو بقول الطبيب الموثوق به فالواجب اجتنابه. وأما الاحتياط في الأكل والشرب فأحسن ما يذكر فيه الآن ما روي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بيان سبب عدم قبول الطبيب الذي أهداه إليه المقوقس ملك القبط وهو (لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع) ولا أذكر من خرَّجه من المحدثين وهو مذكور في كتب السير وهذا أصل عظيم في الوقاية من الهيضة الوبائية فإن جراثيم الهيضة لا تضر إلا إذا انتقلت من المعدة إلى الأمعاء في طعام غير مهضوم، فمن يأكل عن جوع حقيقي ولا يكثر من الأكل فإنه يهضم ما أكله بسهولة فإذا وجد في طعامه وشرابه شيء من جراثيم الهيضة الوبائية (الكوليرا) فإنه حينئذ يُهضم ولا يضر، وإذا كان مع هذا يراعي النظافة في الطعام والماء مراعيًا فيه وصايا الأطباء فذلك أكمل الاحتياط. ولا يتوهم أن الحديث المذكور آنفًا يدل على أن التطبب غير مطلوب شرعًا فقد وردت الأحاديث الصحيحة والحسنة أن لكل داء دواء إلا الموت وفي رواية إلا الهرم وكثير من الأحكام الشرعية يبنى على قول الأطباء حتى في العبادات، فالاعتماد على قول الطبيب العدل في ذلك واجب شرعًا، وكذلك غير العدل إن صدقه فإننا كثيرًا ما نجزم بصدق من لم توجد فيه صفات العدالة الشرعية كلها؛ لأننا عرفنا صدقه ومهارته بالتجربة. * * * (إبطال المولد الحسيني وغيره) أمرت الحكوم بإبطال المولد الحسيني وغيره؛ لأن الاحتياط الصحي يقضي بتقليل الاجتماع والازدحام في أيام الوباء لا سيما مثل اجتماع الموالد المشتملة على الفحش والفجور والإسراف في كل الأمور حتى تكون في بيت الله تعالى، كالمزبلة لا يمكن لمن يدخله أن يصلي فيه إلا إذا كان معه سجادة يصلي عليها. ولعل الله تعالى يوفق الحكومة إلى إبطال هذه الموالد بالمرة؛ إذا كان رجال الدين لا يسعون بإزالة المنكرات الدينية منها، فإن زعم الزاعمون أن فيها منفعة تجارية فلتكن أسواقًا تجارية لا صبغة للدين فيها، وقد أرادت إحدى الجرائد تسلية الناس عن إبطال المولد الحسيني فقالت: إن هذه الموالد ليست من أصول الدين ولكن النظافة من أصول الدين كأنها تعني أن الموالد من فروع الدين، وأن مراعاة الأصل مقدمة على مراعاة الفرع، ذلك جهل على جهل فأصول الدين عقائده، والنظافة ليست منها وإنما هي من الفروع العملية، وأما الموالد فليست من الأصول ولا من الفروع بل هي من البدع القبيحة والضلالات المشتملة على كثير من الفواحش والمحرمات. * * * (الخمارة الإسلامية والاستهانة بالدين اعتمادًا على الأولياء) فشا شرب الخمر في مسلمي مصر وجاهروا به حتى كأنه مباح أو مستحب ويقال أنهم أكثر شربًا من القبط والإفرنج، لكنهم ظلوا مقصرين في هذا النوع من الفسق إذ لم يشتغلوا ببيع الخمر حتى أزال عنهم عار التقصير واحد منهم اتخذ له حانة يفتخر بأنها الحانة الإسلامية الوحيدة، وكأن السكارى في الحانة الإسلامية هم المتحمسون فيما يسمّيه الجهلاء في هذه الأيام لباب الإسلام وأظهر مميزات المسلمين، مثال من ذلك أنني مررت من أمامها ليلاً فرأيت على بابها رجلاً يناهز الستين والكأس في يده وهو يصيح (يا سيد يا باب النبي) كأنه علم أن الذين يقلدهم هو وأمثاله في شرب الخمر يشربون على أسماء الكبراء والأمراء والملوك وهو ما تسميه الجرائد الآن النخب فأراد أن يشرب نخب السيد البدوي وإلا فهو يشيد باسمه لأجل أن يشفع له، فخطر لي أن أرمي كلمة أنهاه بها فقلت: وهل أمرك النبي بهذا؟ فصاح بأعلى صوته: هو يغفر لي، هو يحب السيد، الله يحب النبي والسيد، النبي عربي ما هو تركي، وقد علمت أنه يعرّض بذَمِّي بكلمة تركي؛ لأنه رأى زيّي كزي علماء الترك، وكأني بمن معه قد اعتقدوا أنه من الأولياء؛ لأنه ذكر اسم الله والنبي والسيد على الخمر، وإن كان الفقهاء يعدون هذا استهانة بالدين وبحثوا في كفر صاحبه. *** سيجمع ما كتبته الجرائد وما نظمه الشعراء في فقيد العلم والإصلاح السيد عبد الرحمن الكواكبي في مجموعة تطبع فنرجو من الأدباء الذين رثوه ولم يرسلوا إلينا مراثيهم أن يرسلوها عن قريب إلى إدارة مجلة المنار بمصر ولهم الثناء والشكر. (أرجأنا الكلام في مسيح الهند إلى الجزء الآتي)

الفليسوف أبو الوليد محمد بن رشد قاضي القضاة في الأندلس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الفيلسوف أبو الوليد محمد بن رشد قاضي القضاة في الأندلس هذا الفيلسوف أشهر فلاسفة المسلمين وأكبر أساتذة أوربا في العلم والفلسفة؛ لأن فلسفته انتقلت من الأندلس (أسبانيا) إلى سائر بلاد أوربا فكانت مبدأ نهضة الأوربيين الحاضرة. ولد سنة 520 في قرطبة، وتوفي سنة 595 في بلاد المغرب. وقد نشرت مجلة الجامعة الغراء تاريخه وتكلمت عن فلسفته، واستطردت إلى مسائل أخرى كمذهب المتكلمين في الوجود والمقابلة بين الإسلام والنصرانية في اضطهاد العلم والفلسفة وعدمه، وقد وقع في تلك الترجمة غلط في هذه المسائل. والإنسان دائما عرضة للخطأ والغلط فيما تعلمه وأتقنه فكيف يكون حاله فيما لم يتعلمه بالتلقي عن أهله إذا تكلم أو كتب فيه، وإن صاحب الجامعة الفاضل لم يتعلم علم الكلام الذي هو فلسفة العقائد الإسلامية لأنه ليس مسلمًا؛ ولا فلسفة اليونانيين لأنها قد نسخت بالفلسفة العصرية، فلا شك عندنا أنه لم يتعمد تكفير القاضي ابن رشد ولا نسبة أئمة المسلمين في العقائد إلى إنكار ارتباط الأسباب بالمسببات، ولكن بعض الذين قرأوا تلك الترجمة في مجلته أساءوا الظن به واحتموا عليه ورغبوا إلينا في الرد عليه؛ لأن من وظيفة المنار الدفاع عن العقائد الإسلامية وعن أئمة المسلمين. وطلب بعضهم مثل ذلك من بعض أساتذتنا الأعلام، الذين يُرجع إليهم إذا اعتكر من ليل الشبهات الظلام، ولما رأينا ذلك الأستاذ وعد الطالبين بأن يكتب في بيان حقيقة تلك المسائل التي وقع فيه الخطأ أمسكنا نحن عن الكتابة؛ لأنه هو الأجدر بالفصل بين الحق والباطل، والذي إذا قال لم يترك مجالاً لقائل، وقد تفضل علينا وعلى الجامعة بما كتب فننشر في هذا الجزء مقالته في فلسفة ابن رشد ومذهب المتكلمين (وسننشر في الأجزاء التالية مقالاته في الاضطهاد في النصرانية والإسلام) . تمهيد لمقالة الأستاذ الحكيم: لا بد لفهم قراء المنار هذه المقالة من ذكر ما قالته الجامعة في فلسفة ابن رشد لأن كاتب المقالة لم يذكر فيها إلا مواضع النقد قالت الجامعة: المادة وخلق العالم إن أعظم المسائل التي شغلت حكيم قرطبة مسألة أصل الكائنات، وهو يرى في ذلك رأي أرسطو، فيقول: إن كل فعل يُفضي إلى خلق شيء إنما هو عبارة عن حركة، والحركة تقتضي شيئًا لتحركه ويتم فيه بواسطتها فعل الخلق وهذا الشيء هو رأيه في المادة الأصلية التي صنعت الكائنات منها، ولكن ما هي هذه المادة؟ هي شيء قابل للانفعال ولا حد له ولا اسم ولا وصف، بل هي ضرب من الافتراض لا بد منه ولا غنى عنه، وبناء عليه يكون كل جسم أبديًّا بسبب مادته أي أنه لا يتلاشى أبدًا لأن مادته لا تتلاشى أبدًا، وكل أمر يمكن انتقاله من حيز القوة إلى حيز الفعل لا بد له من هذا الانتقال وإلا حدث فراغ ووقوف في الكون، وعلى ذلك تكون الحركة مستمرة في العالم ولولا هذه الحركة المستمرة لما حدثت التحولات المتتالية الواجبة لخلق العالم بل لما حدث شيء قط، وبناء عليه فالعامل الأول الذي هو مصدر القوة والفعل (أي الخالق سبحانه وتعالى) يكون غير مختار في فعله؛ لأن الحرية والاختيار يقتضيان كونه محدثًا والخالق تنزه عن أن يكون حديثًا. * * * اتصال الكون بالخالق (هذا فيما يختص بخلق العالم، وهو مذهب قريب جدًّا من مذاهب الماديين كما ترى، ولكن كيف يستولي العامل الأول على الكون ويدبره) . لابن رشد في ذلك تمثيل يدل على حقيقة مذهبه في هذه المسألة الخطيرة، فإنه يشبه حكومة الكون أي تدبيره بحكومة المدينة، فإنه كما أن كل شئون المدينة تتفرق وتتجه إلى نقطة واحدة وهي نقطة الحاكم العام فيها فيكون هذا الحاكم مصدرًا لكل شئون الحكم ولو لم تكن له يد في كل شأن من هذه الشئون كذلك الخالق في الأكوان فإنه نقطة دائرتها ومصدر القوات التي تدبرها، وإن لم يكن له دخل مباشرة في كل جزء من هذه القوات، فبناء على ذلك لا يكون للكون (اتصال) بالخالق مباشرة، وإنما هذا الاتصال يكون للعقل الأول وحده، وهذا العقل الأول هو عبارة عن المصدر الذي تصدر عنه القوة للكواكب، وعلى ذلك فالسماء في رأي فيلسوف قرطبة كون حي بل أشرف الأحياء والكائنات، وهي مؤلفة في رأيه من عدة دوائر يعتبرها أعضاء أصيلة للحياة والنجوم والكواكب تدور في هذه الدوائر، أما العقل الأول الذي منه قوتها وحياتها فهو في قلب هذه الدوائر، ولكل دائرة منها عقل أي قوة تعرف بها طريقها كما أن للإنسان عقلاً يعرف به طريقه، وهذه العقول الكثيرة المرتبطة بعضها ببعض والتي تلي بعضها بعضًا محكومة بعضها ببعض إنما هي عبارة عن سلسلة من مصادر القوة التي تحدث الحركة من الطبقة الأولى في السماء إلى أرضنا هذه، وهي عالمة بنفسها وبما يجري في الدوائر السفلى البعيدة عنها، وبناء على ذلك يكون للعقل الأول الذي هو مصدر كل هذه المحركات علم بكل ما يحدث في العالم. * * * طريق الاتصال وإن قيل: ما هي علاقة الإنسان بالخالق، فالجواب عن ذلك يأخذه ابن رشد أيضًا عن أرسطو من الفصل الثالث من كتابه (النفس) وخلاصة ذلك أن الكون عقل فاعل وعقل منفعل، فالعقل الفاعل هو عقل عام مستقل عن جسم الإنسان وغير قابل للامتزاج بالمادة، وأما العقل المنفعل فهو عقل خاص قابل للفناء والتلاشي مثل باقي قوى النفس، وإنما يقع العلم والمعرفة باتحاد هذين العقلين، ذلك أن العقل المنفعل يميل دائمًا للاتحاد بالعقل الفاعل كما أن القوة تقتضي شكلاً توضع به، وأول نتيجة تحصل من هذا الاتحاد تُدعى العقل المكتسب، ولكن قد تتحد النفس البشرية بالعقل العام اتحادًا أشد من هذا فيكون هذا الاتحاد عبارة عن امتزاجها جد الامتزاج بالعقل القديم الأزلي، ولا يتم هذا الاتحاد بالعقل الاكتسابي الذي تقدم ذكره فإنما وظيفة العقل الاكتسابي إيصاله إلى حرم الخالق الأزلي دون أن يدغمه به، وأما إدغامه واتصاله به فذلك أمر لا يتم إلا بطريق العلم، فالعلم إذًا هو سبب الاتصال بين الخالق والمخلوق، ولا طريق غير هذا الطريق، ومتى اتصل الإنسان بالله صار مثله يتصل به بأن ينقطع إلى الدرس والبحث والتنقيب ويخرق بنظره حجب الأسرار التي تكتنف الكون فإنه متى خرق هذا الحجاب ووقف على كُنه الأمور وجد نفسه وجهًا لوجه أمام الحقيقة الأبدية. أما المتصوفة فإنهم يقولون: (إن هذا الاتصال يتم بواسطة الصلاة والتأمل والتجرد، وليس العلم صروريًّا له) . وبناء على ذلك تكون فلسفة صاحب الترجمة عبارة عن مذهب مادي قاعدته العلم والكون في رأيه كما مر بك إنما صنع بقوة مبادئ قديمة مستقلة محكومة بعضها ببعض وكلها مرتبطة ارتباطًا مبهمًا بقوة عُليا، ومن هذه المبادئ شيء يستولي على العالم ويضع فيه العقل فهو عقل الإنسانية، وهذا الشيء الذي يسميه عقلاً أيضا هو عقل ثابت لا يتغير أي أنه لا يتقدم ولا يتأخر لا يزيد ولا ينقص، والناس يشتركون فيه ويستمدون منه بكميات متباينة، على أن من كان منهم أكثر استمدادًا منه كان أقرب إلى الكمال والسعادة. * * * الخلود ثم تكلمت الجامعة بعد ما تقدم عن رأي ابن رشد في خلود النفس فقالت بعد كلام ما نصه: (قال: إن العقل الفاعل العام الذي تقدم ذكره من صفاته أنه مستقل ومنفصل عن المادة وغير قابل للفناء والملاشاة، والعقل الخاص المنفعل من صفاته الفناء مع جسم الإنسان، وبناء عليه يكون العقل العام الفاعل خالداً والعقل المنفعل فانيًا، ولكن ما هو العقل الفاعل العام الذي هو خالد في رأي ابن رشد، إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية، فالإنسانية إذًا هي خالدة وحدها دون سواها، وبناء على ذلك لا يكون بعد الموت حياة فردية ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية) اهـ. * * * دفع وهم عن فلسفة ابن رشد والمتكلمين لأستاذ حكيم، وفيلسوف عليم قرأت ما نشرت الجامعة من ترجمة ابن رشد، مررت على ما نقلت من آراء المتكلمين وآرائه بغير تدقيق لأنني أعرف آراء الفريقين من قبل ولم يكن لي قصد إلى النقد وإنما أريد أن أستفيد جديدًا، لهذا لم يقف نظري لأول وهلة إلا على ما حوته تلك الجملة (الاضطهاد في النصرانية والإسلام) قرأتها بتروٍّ وانتهيت منها إلى حكم من الجامعة يخالف ما أعتقد ولا يلتئم مع ما أعرف ويعرف العارفون من الشواهد التاريخية، عند ذلك تحركت نفسي إلى كتابة سطور، أشير فيها إلى كشف مستور، أو إعادة ذكر مشهور على أسماع الجمهور. لاقاني بعض قراء تلك الترجمة فرأيت الأثر في نفسه أشد، ولسانه في العتب أحد، وذكر أشياء في غير هذا الفصل من الترجمة، ولفتني إلى إعادة النظر فيها، رجعت إلى الترجمة فوجدت فيها موضعين آخرين يطلبان مني الكلام عليهما وبأن أحاديث الجامعة فيهما، لو كانت منزلة الجامعة من نفسي منزلة غيرها من المجلات التي لا يُعْنَى كاتبوها إلا بنقل ما يقع تحت أنظارهم، أو تحبير ما يعبر عن أهوائهم وأفكارهم، من دون عناية بتقرير الحقيقة، ولا رعاية لمعتقدات القراء لوجدت من شواغل عملي ما يصرفني عن ذكر ما عرض فيها، لكنها من المجلات التي لو أهملت مباحثها من إمعان النظر وجعلتها في جانب عما تستحقه من النقل لبخستها حقها، ونَبَوْتُ بها عن موضعها. لهذا رأيت أن أذكر لها ما رأيت في ذينك الموضعين وأبين حقيقة الأمر في الثالث أما الموضعان فهما: (فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود) و (فلسفة ابن رشد وآراؤه في خلق العالم واتصال الكون بالخالق وطريق اتصال الإنسان به والخلود) وهما موضوع كلامي اليوم. * * * فلسفة المتكلمين وآراؤهم في الوجود قالت الجامعة: فلسفة المتكلمين هذه (أي في وجود العالم) مبنية على أمرين: الأول حدوث المادة في الكون أي وجودها بخلق خالق. والثاني: وجود خالق مطلق التصرف في الكون ومنفصل عنه ومدبر له وبما أن الخالق مطلق التصرف في كونه فلا تسأل إذًا عن السبب إذا حدث في الكون شيء لأن الخالق نفسه هو السبب وليس من سبب سواه، إذًا فلا يلزم عن ذلك قطعيًّا أن يكون بين حوادث الكون روابط وعلائق كأن ينتج بعضها عن بعض؛ لأن هذه الحوادث تحدث بأمر الخالق وحده وفي الإمكان أن يكون العالم بصورة غير الصورة المصوَّر بها الآن وذلك بقدرة هذا الخالق، ثم ذكرتْ في الجملة التي تلي ما تقدم أن هذه فوضى، وأن روحًا جديدًا أخذ يُدْخِلُ شيئًا من النظام فيها [1] . حدوث المادة عند المتكلمين ليس معناه أن تكون بخلق خالق، فإن الخلق في اصطلاحهم هو الإيجاد وكون المادة صادرة عن موجد لم يختلف فيه المتكلم والفيلسوف الإلهي، فأرسطو يقول: إن المادة قد استفادت وجودها من موجدها وهو الواجب وواسطة فيض الوجود عليها هو العقل الفَعَّال على ما سيأتي بيانه، وإن كان لا أول لوجودها، وإنما حدوث المادة عند المتكلمين هو وجود الأجسام وعوارضها بعد أن لم تكن موجودة بحيث يفرض لوجودها بداية زمانية تنتهي إليها سلسلتها من جانب الماضي، ولا يجوز أن يوصف بالأزلية إلا الله وحده في صفاته عند القائلين بأنها وجودية، وقبل هذه البداية التي لا يمكن تحديدها لم يكن وجود سوى وجود خالق الكون، ثم إنه أراد إيجاد الكون فأوجده من العدم البحت، هذا هو بناء مذهب المتكلمين وهو مذهب أهل النظر من المسيحيين واليهود أيضًا فلم يخالف فيه ملّي من أهل الملل الثلاث. أما كون هذا المذهب وحده هو الذي يصح أخذه من القرآن، أو أنه يجوز أن يتفق مع معاني القرآن رأي آخر بل هو الذي يظه

الاجتماع الخامس لجمعية أم القرى - تتمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة الاجتماع الخامس لجمعية أم القرى قال (المحدث اليمني) إننا معشر أهل اليمن ومن يلينا من أهل الجزيرة كما إننا لم نزل بعيدين عن الصنائع والفنون كذلك لم نزل على مذهب السلف في الدين بعيدين عن التفنن فيه، ومسلكنا مسلك أهل الحديث، وأكثرنا يُخَرِّجُ الأحكام على أصول اجتهاد الإمام زيد بن علي بن زين العابدين أو أصول الإمام أحمد بن حنبل وإني أذكر للإخوان حالتنا الاستهدائية عسى أن الذكرى تنفع المؤمنين، وعسى أن يعلم المسلمون ولا سيما الأتراك ومن يحكمون أننا من أهل السنة لا كما يوهمون أو يتوهمون فأقول: إن المسلمين عندنا على ثلاث مراتب: العلماء والقراء والعامة. فالطبقة الأولى (العلماء) وهم كل من كان متصفًا بخمس صفات: 1ـ أن يكون عارفًا باللغة العربية المضرية القرشية بالتعلم والمزاولة معرفة كافية لفَهْم الخطاب لا معرفة إحاطة بالمفردات ومجازاتها وبقواعد الصرف وشواذه والنحو وتفصيلاته والبيان وخلافاته والبديع وتكلفاته مما لا يتيسر إتقانه إلا لمن يفني ثلثي عمره فيه مع أنه لا طائل تحته ولا لزوم لأكثره إلا لمن أراد الأدب. 2- أن يكون قارئًا لكتاب الله تعالى قراءة فهم للمتبادر من معاني مفرداته وتراكيبه مع الاطلاع على أسباب النزول ومواقع الكلام من كتبها المدونة المأخوذة من السنة والآثار وتفاسير الرسول عليه السلام، أو تفاسير أصحابه عليهم الرضوان، ومن المعلوم أن آيات الأحكام لا تجاوز المائة والخمسين آية عدًّا [1] . 3 - أن يكون متضلعًا في السنة النبوية المدونة على عهد التابعين وتابعيهم أو تابعي تابعيهم فقط بدون قيد بمائة ألف أو مائتي ألف حديث بل يكفيه ما كفى مالكًا في موطئه وأحمد في مسنده، ومن المعلوم أن أحاديث الأحكام لا تجاوز الألف وخمسمائة حديث أبدًا [2] . 4 - أن يكون واسع الاطلاع على سيرة النبي وأصحابه وأحوالهم من كتب السيرة القديمة والتواريخ المعتبرة لأهل الحديث كالحافظ الذهبي وابن كثير ومن قبلهم كابن جرير وابن قتيبة ومن قبلهم كمالك والزهري وأضرابهم. 5 - أن يكون صاحب عقل سليم فطري لم يفسد ذهنه بالمنطق والجدل التعليميين [3] والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورسية وبأبحاث الكلام وعقائد الحكماء ونزعات المعتزلة وإغرابات الصوفية وتشديدات الخوارج وتخريجات الفقهاء المتأخرين وحشويات الموسومين وتزويقات المرائين وتحريفات المدلسين (مرحى) فأهل هذه الطبقة يستلهمون بأنفسهم ولا يقلدون إلا بعد الوقوف على دليل من يقلدون فإذا وجدوا في المسألة قرآنًا ناطقًا لا يتحولون عنه لغيره مطلقًا وإذا كان القرآن محتملاً لوجوه فالسنة قاضية فيه مفسرة له، ثم ما لم يجدوه في كتاب الله أخذوه من صحيح سنة رسول الله سواء كان الحديث مستفيضًا أم غير مستفيض عمل به أكثر من واحد من الصحابة المجتهدين أم لم يعمل به إلا واحد فقط ومتى كان في المسألة حديث صحيح لا يعدلون عنه إلى اجتهاد، ثم إذا لم يجدوا في المسألة حديثًا يأخذون بإجماع علماء الصحابة، ثم بقول جماعة من الصحابة والتابعين ولا يتقيدون بقوم دون قوم، فإن وجدوا مسألة يستوي فيها قولان رجَّحوا أحدهما بمرجح يقوم في الفكر لا يتبعون فيه أصولاً موضوعة غير مشروعة أو طرقًا مقررة غير مرفوعة وأهل هذه الطبقة عندنا ينورون أذهانهم بأصول استدلالات الإمام زيد رضي الله عنه أو غيره من الأئمة في تخريج الأحكام واستنباطها من النصوص بدون تقيد بتقليد أحدهم خاصة دون غيره؛ لأنهم لا يجوزون اتباع إمام إذا رأوا ما ذهب إليه في المسألة بعيدًا عن الصواب فلا يقلدون أحدًا تقليدًا مطلقًا كأنه نبي مرسل. والطبقة الثانية هم (القراء) وهم الذين يقرأون كتاب الله تعالى قراءة فهم بالإجمال مع اطلاع على جملة صالحة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء يستهدون في أصول الدين بأنفسهم؛ لأنها مبنية غالبًا على قرآن ناطق أو سنة صريحة أو إجماع عام مفسر لغير الناطق والصريح. وأما في الفروع فيتبعون أحد العلماء الموثوق بهم عند المستهدي من الأقدمين أو المعاصرين بدون ارتباط بمجتهد مخصوص أو عالم دون آخر مع سماع الدليل والميل إلى قبوله كما كان عليه جمهور المسلمين قبل وجود المتعصب للمذاهب. والطبقة الثالثة هم (العامة) وهؤلاء يهديهم العلماء مع بيان الدليل بقصد الإقناع، فالعلماء عندنا لا يَجْسُرُونَ على أن يفتوا في مسألة مطلقًا ما لم يذكروا معها دليلها من كتاب منتقى الأخيار الذي شرحه وهو ليس له، والعرب لم يهملوا المنطق وإنما خرجوا به عن النظريات المحضة إلى الكتاب أو السنة أو الإجماع، ولو كان المستفتي أعجميًا أميًّا لا يفهم ما الدليل وطريقتهم هذه هي طريقة الصحابة كافة والتابعين عامة والأئمة المجتهدين والفقهاء الأولين من أهل القرون الأربعة أجمعين (مرحى) . ... والتزام علمائنا هذه الطريقة مبني على مقاصد مهمة أعظمها تضييق دائرة الجرأة على الإفتاء بدون علم وفي هذا التضييق على العلماء توسعة على المسلمين وسد لباب التشديد في الدين والتشويش على القاصرين، ولهذه الحكمة البالغة بالغ الله ورسوله في النكير على المتجاسرين على التحليل والتحريم والمستسلمين لمحض التقليد. فالعالم عندنا لا يستطيع أن يجيب إلا عن بعض ما يسأل ولا يأنف أن يقف عند (لا أدري) بلى يحذر ويخاف من غش السائل وتغريره إذا أجابه بأن فلانًا المجتهد يقول: إن الله أحل كذا أو حرم كذا؛ لأن السائل لا يعلم ما يعلم هو من أن هذا المجتهد الذي ليس بمعصوم كثيرًا ما يخالف في قوله من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين ومن أنه يتردد في رأيه وحكمه، كم اجتهد وكم رجع، ومن أن أكثر دلائله إما ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة أو ظنيتهما، ومن أنه لم يدون ما قاله ولكن نقله عنه الناقلون، وكم اختلفوا في الرواية عنه بين سلب وإيجاب ونفي وإثبات وكم زيف أصحابه اجتهاده ورأوا غير ما رآه ومن أنه أي المجتهد إنما اجتهد لنفسه وبلغ عذره عند ربه وصرح بعدم جواز أن يتبعه أحد فيما اجتهد وتبرأ من تبِعة الخطأ. فهذا (الإمام مالك) رضي الله عنه يقول: ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقل المؤرخون أن المنصور لما حج واجتمع بمالك أراده على الذهاب معه ليحمل الناس على الموطأ كما حمل عثمان الناس على المصحف فقال مالك: لا سبيل إلى ذلك؛ لأن الصحابة افترقوا بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام في الأمصار يريد أن السنة ليست بمجموعة في موطئه الذي جمع فيه مرويات أهل المدينة. وحكي في اليواقيت والجواهر أن (أبا حنيفة) رضي الله عنه كان يقول: لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يأخذ بكلامي، وكان إذا أفتى يقول: هذا رأي النعمان بن ثابت- يعني نفسه - وهو أحسن ما قدرنا عليه فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب. وروى الحاكم والبيهقي أن (الشافعي) رضي الله عنه كان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وفي رواية: إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا بكلامي الحائط وأنه قال يومًا للمزني: يا إبراهيم لا تقلدني فيما أقول وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين، وكان يقول: لا حاجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويروى عن (أحمد بن حنبل) رضي الله عنه أنه رأى بعضهم يكتب كلامه فأنكر عليه وقال: تكتب رأيًا لعلي أرجع عنه، وكان يقول: ليس لأحد مع الله ورسوله كلام، وقال لرجل لا تقلدني ولا تقلد مالكًا ولا الأوزاعي ولا الحنفي ولا غيرهم وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسنة، وأسس مذهبه على ترك التأويل والترقيع بالرأي واتباع الغير فيما فيه طريق العقل واحد. ونقل الثقاة أن (سفيان الثوري) رضي الله عنه لما مرض مرض الموت دعا بكتبه فَغَرَّقَها جميعًا. وروي عن (أبي يوسف وزُفر) رحمهما الله تعالى أنهما كانا يقولان: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا، وقيل لبعض أصحاب أبي حنيفة: إنك تكثر الخلاف لأبي حنيفة فقال: لأنه أوتي من الفهم ما لم نؤتَ فأدرك ما لم ندرك ولا يسعنا أن نفتي بقوله ما لم نفهم دليله ونقنع (مرحى) . ثم قال: أيها الإخوان الكرام قد أطلت المقال فاعذروني فإني من قوم ألفوا ذكر الدليل وإن كان معروفًا مشهورًا وقد ذكرت طريقة علماء العرب في الجزيرة منوهًا بفضلها لا بفضلهم على غيرهم كلا بل غالب علماء سائر الجهات أحدّ ذهنًا وأدق نظرًا وأغزر مادة وأوسع علمًا، ولذلك لم نزل نحن في تعجب وحيرة من نظر أولئك العلماء المتبحرين في أنفسهم العجز عن الاستهداء وقولهم بسد باب الاجتهاد. نعم لم يبق في الإمكان أن يأتي الزمان بأمثال ابن عمر وابن عباس أو النخعي وداود أو سفيان ومالك أو زيد وجعفر أو النعمان والشافعي أو أحمد والبخاري رضي الله عنهم أجمعين، ولكن متى كلف الله تعالى عباده بدين لا يفقه إلا أمثال هؤلاء النوابغ العظام؟! أليس أساس ديننا القرآن وقد قال تعالى عنه فيه: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 3) وقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (فصلت: 3) وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) وقال {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (البقرة: 99) وقال تعالى: {َفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ} (النساء: 82) فما معنى دعوى العجز والتمثيل بمن قالوا: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (البقرة: 88) حمانا الله تعالى (مرحى) . أما السنة النبوية أفلم تصل إلينا مجموعة مدونة بِهِمَّةِ أئمة الحديث جزاهم الله خيرًا الذين جابوا الأقطار والبلاد التي تفرق إليها الصحابة رضي الله عنهم بسبب الفتوحات والفتن فجمعوا متفرقات ودوَّنوها وسهَّلوا الإحاطة بما لم يتسهل الوقوف عليه لغير أفراد من علماء الصحابة الذين كانوا ملازمين النبي عليه السلام. وكذا يقال في حق أسباب النزول ومواقع الخطاب ومعاني الغريب في القرآن والسنة فإن علماء التابعين وتابعيهم والناسجين على منوالهم رحمهم الله لم يألوا جهدًا في ضبطها وبيانها. وكذلك الأئمة المجتهدون والفقهاء الأولون علمونا طرائق الاستهداء والاجتهاد والاستنباط والتخريج والتفريع وقياس النظير على النظير فهم أرشدونا إلى الاستهداء وما أحد منهم دعانا إلى الاقتداء به مطلقًا (مرحى) . ثم إننا إذا أردنا أن ندقق النظر في مرتبة علم أولئك المجتهدين العظام لا نجد فيهم علمًا وهبيًا أو كسبيًا خارقًا للعادة فهذا الإمام الشافعي رحمه الله وهو أغزرهم مادة وأول وأعظم من وضع أصولاً لفقهه نجده قد أسس مذهبه على اللغة فقط من حيث المشترك والمتباين والمترادف والحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية والشرط والجزاء والاستثناء المتصل والمنفصل والمنقطع والعطف المرتب وغير المرتب والفور والتراخي والحروف ومعانيها إلى قواعد أخرى لا تخرج عن علم اللغة، واتبع أبا حنيفة في إدخاله في أصول مذهبه بعض قواعد منطقية مثل دلالة المطابقة والتضمن والالتزام ومعرفة الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض والمقدمين والنتيجة والقياس والمنتج واتبعه أيضًا في قياس ما لم يرد فيه قرآن أو حديث على ما ورد فيه، وهكذا فتح كل من أولئك الأئمة العظام لمن بعده ميدانًا واسعًا فجاء أتباعهم ومدوا الأطناب و

الأزهر والأزهريون ـ وفاضل هندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأزهر والأزهريون - وفاضل هندي إلى السيد الحكيم الفاضل محرر مجلة المنار الغراء: لست في حاجة أيها السيد الحكيم لأن أسهب لكم القول في فضل الانتقاد والمنتقدين وما لهم من الأيادي في ترقية الأمم فإن العوان لا تعلم الخمرة، وهذا مناركم الأغر لا يكاد يقف على رأس كل سنة حتى يكون قد ذكر فصولاً ضافية في الانتقاد، وإنه المقوم لما اعوج من أعمال الأمم والرافع لما خمل من شأنها والآخذ بيدها على مدارج الرقي والكمال، وعلم الله أنه لا حامل لي على أن أوجه بسطوري هذه إليكم آملاً في نشرها على صفحات مناركم إلا عظيم الثقة ووطيد الأمل: بأنكم لا تخشون في الله لومة لائم وأنه لا يوقفكم عن السير في سبيل الإصلاح غرض لهيان أو هنات مما يكتب في صدر فلان. خرجت ذات يوم إلى منتزه الجيزة لأبدد ما تراكم بصدري الحَرِج من الهموم والأكدار في تلك الرياض الفسيحة وذاك الفضاء الممتد حتى إذا كنت على قيد أذرع من رأس المنتزه الجديد حيث تقف هناك مركبات الكهرباء القادمة من الأهرام فالجيزة إذا أنا بأحد صبية الفلاحين وقد أخذ ناحية عن أعين الناس وهو قابض على كثير من الأوراق المكتوبة يتصفحها واحدة واحدة وبعضها يتناثر من بين يديه إلى حيث تتلاقفها الرياح فتعبث بها أضعاف عبثه من قبل فأهويت إلى واحدة منها وقد جرى بها الريح إلى ما تحت قدمي فإذا بها كلام عربي فتقدمت نحو الغلام وتلطفت في طلبها منه وأمرته أن يذهب فيجمع لي ما فرقته يده في الهواء في مقابلة فلس أعطيته إياه ففعل شاكرًا وذهب طيب الخاطر راضي النفس بعد أن علمت منه أنه عثر عليها وقد لفت في غلاف على طريق الكهرباء فيما بين الجيزة والجزيرة وأخذت أنا طريقي الأول حيث أشجار اللبخ القائمة على ضفة النيل الغربية فجلست هناك في ظلها الوارف وكان الوقت أصيلاً وصرت أقلبها وأجيل فيها النظر وأطيل الفكر حتى انكشف لي أمرها بعد طول إمعان وإعمال روية، إنها صحائف سَوَّدَها بعض أفاضل الهند المولعين بالبعد عن دين الإسلام المتين من بلدة يقال لها (الله أباد) وعلمت من مجموعها أن الرجل أخو أَسْمَارٍ وجَاشِم أخطار وجَوَّاب أقطار من حيث لا صاحب له إلا همة يحاول أن يطأ بها قمة العيوق ونفس تنزع به إلى ذرى شرف لا تتطاول إليه الأعناق وقد تجلى لي من رسائل كانت ترد إليه أن الرجل سيد بلدته، وأشرف بني جلدته، قدم هذه الديار سائحًا متجولاً كما جال في كثير غيرها من بلدان المسلمين ولا هم له إلا التنقيب عن أدواء الأمة الإسلامية وأسباب انحطاطها وقد عاهد صديقًا له في (حيدر أباد) على أن يوافيه برسائل متتالية يصف له بها كل ما يراه من أدواء الإسلام وعوامل ضعفه وأسباب تأخره، ولقد قلبت في الأوراق كثيرًا وقد كتب بعضها بالأُردية والبعض بالعربية علني أجد فيها ما يشير إلى الرغبة في كتمانها وصونها عن أنظار غيره فلم يظهر لي إلا عكس ذلك فقد وجدت في أولى رسائله عبارة صريحة يأذن لصاحبه فيها بنشر ما كتب ويكتب لكل من أحب. وأهم ما رأيت في تلك الرسائل ثلاثًا بعث بها إلى صاحبه في حيدر أباد يصف له فيها الأزهر والأزهريين بعبارة لا تسلم من العجمة ولكن لم يركب بها مخارم الإغراب ولم يتدل إلى حضيض العامية المبينة وقد تحامى في انتقاداته خشن القول وغليظ الكلام حتي جاء كلامه أكرم انتقاد وأعفه وأكفه وأحلمه. لذلك أحببت أن أبعث بها إلى أعظم مجلة إسلامية وأرسخها قدمًا في الإسلام وأحبها لنشر فضائل رجاله وأحرصها على رَأْب صدعهم ومداواة دائهم، وقد تصرفت بالعبارة تصرفًا لا يمس شيئًا من المعنى راجيًا أن لا تضيعوا لي أملاً، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهذه صورة الرسالة الأولى: (من القاهرة إلى حيدر أباد) سلام عليك أيها الأخ الفاضل، أمد الله في حياتك ولا حرمني إخاءك، وأسبغ علي رداء إخلاصك، وبعد فقد ورد إلي كتابك الكريم أحوج ما كنت إليه فاستعذبته وحسن موقعه من قلبي، وما ذكرت أيها الأخ من استبطاء المراسلة وإشفاقك من أن يصرم البعد حبل الود ويطفئ غلة الشوق والوجد ويضرب على ما سبق به الوعد، فأنا أستغفر لك الله في ذلك وهو العليم بما لك في فؤاد أخيك مهما شطت به دار الغربة وبعدت به النَّجْعَةُ. وما كان لي وأنت موضع ثقتي ومكان إخلاصي وبك أعتضد وعليك أعتمد أن أظهر قولك زورة طيف أو أنسى وعدك لمحة طرْف وإنما هي الأسفار أورثتني من الضعف والشحوب والإنضاء، ما لو رأيته لأصبحت عذيري فيما ارتكبت من الإبطاء، ويعلم الله أنني أكتب لك ما أكتب وأنا نضو سفر قد ألحفني وعثائه جلبابًا، وقل أطرقة ضربت علي من رواقها قبابًا، ولقد كان الأجدر بي أن لا أكتب لك كلمة حتى أتزيد من الراحة أيامًا، وأسترد بعض ما فقدت من القوة لولا ما أخشاه من جرح صدرك وتغير فؤادك، فأما ما ذكرتني به وأخذتني على تأخيره وسألتني إنجازه من زيارة مدرسة الأزهر الإسلامية الهائلة واستعجالي بزيارتها إن لم أكن فعلت ثم بالكتابة إليك بما استبان لي من أمرها وطريقة التعليم بها، وأن أسهب لك القول فيما أجده بها من مواضع النقد والملاحظة. فقد صادف جميع ما ذكرت سابق رأي مني فيه. وإن مدرسة يزيد عدد طالبيها على تسعة آلاف من المسلمين ما بين مصريين وسوريين وروسيين وعرب وأتراك وبربر وهنود لجديرة بأن لا أنساها في سياحتي بل جديرة بأن تكون زيارتها ودرس أحوالها جُلّ ما أنا قاصده من تجوالي في ربوع الإسلام غير أن كتابك قد ورد عليّ وأنا لم يمضِ لي غير يومين في القاهرة قد مضى يومان آخران من تاريخ وروده وأنا لم أزر تلك المدرسة إلا زورة واحدة لما ذكرت لك من الضعف واللغوب وسأكتب نموذجًا بما وقع لي منها في تلك الزورة مرجئًا التفصيل والإسهاب لغيرها من الرسائل ولا غَرْو أيها الفاضل أن أكتب رسالتي هذه مختصرة في الوصف مقتصرة على ما ذكرته لك على وجه الجملة شأن من كان غريب الدار غريب اللغة فأقول: كثيرًا ما كنت أسمع من إخواني في الهند إذا حادثتهم في شأن الأزهر كلمة مقولة وهي (الأزهر أكبر مدرسة دينية على سطح الكرة الأرضية) فكنت أهتز لذلك من الارتياح والطرب (كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب) ولطالما كان يقع في أذني إذ ذاك أنه على كثرة طالبيه وتعدد معلميه قليل النظام مختل طريقة التعليم عقيم النتيجة، ولكن ما كان ذلك لينتزع من قلبي تلك الهزة وذلك الإعجاب به وبكثرة طلابه وما كان ليسوئني من أن أجد فيه إذا دخلته قليلاً من النظام وبعض الترتيب ولقد بت ليلة قدومي إلى القاهرة من الوجد لزيارته بليلة الملسوع. حتى إذا كنت من صباح الغد وبلغت الساعة.. أسرعت بركوب عربة إليه ودخلت فإذا ساحة مترامية الأنحاء لا فرش فيها إلا الغبراء ولا غطاء عليها إلا السماء غير أنها تخلو من جمال هندام في جدرانها وكمال الهندسة في شكلها وإتقان صنعة فيما يحيط بها من الأبواب والنوافذ ورأيت بها - والفصل كما تعلمون شتاء - أناسًا كثيرين يتشمسون وقد اشتغل البعض بتلاوة القرآن والبعض بالمذاكرة في كراسة بيده، وآخرين ما بين مستلقٍ على ظهره ومُنْكَبٍّ على وجهه ومن بينهم من التفوا حول أدون المآكل يأكلون فيها بشهوة المنهوم فألقي في روعي لأول الأمر أنها ساحة يستريح بها الطلبة في أوقات معلومة بعد طول المطالعة والدرس، وإجهاد القوة ونصب النفس، فعَذَرْتُهم إذ ذاك على استلقائهم وانكبابهم وتزاحمهم على المأكل لتعويض ما اندثر من أدمغتم عقب الجد والتحصيل، والاشتغال الطويل، غير أني لم ألبث هُنية حتى أخبرني صاحب إلى جانبي من الطلبة السوريين - وكنت قد اصطحبته لمثل هذه الحال - بأن تلك الساحة قطعة من المدرسة نفسها وأن ما أراه إنما هو نظامهم في الطلب والتحصيل فكدت أن أصعق إذ ذاك، وتلبد فكري بغيوم الكدر والحزن حتى أوشكت أهلك أسًى وغمًّا، ولقد كنت أرى في تلك الساحة الرجل وقد كبرت سنُّه حتى خارت قوته ورقَّ عظمه فانحنى ظهره، وضعف عضده، حتى رعشت يده، وكلَّ بصرُهُ حتى لا يبصر إلا شفًا، وإنه على ذلك كله ليجلس وإلى جانبه فتًى حديث السن غض الشباب ماطر له شارب ولا خط له عِذار وكلاهما يدرس ويتفاهم مع الآخر على أنه من أضرابه في الطلب ومنافسيه في التحصيل ويجلس كل منهما في حلقة درس واحد. ثم اخترقت تلك الساحة وأنا مدهوش العقل ذاهل اللب لما أراه من اجتماع الأضداد المتناقضات وولجت من باب هناك إلى المقصورة المُعدة للتدريس، وقد كنا قبيل الظهر فإذا محل فسيح الأرجاء ذو سقف يقوم على نحو أربعمائة عمود يخال إلي من شكلها أنها نقلت إليه من المعابد والهياكل القديمة تميد بها تلك الألوف مَيدَانًا وهم على مثال من رأيت في صحن المدرسة من اختلاط الحابل بالنابل، وتلاشي النظام والترتيب إلى حد ظننت معه أنهم مأمورون بذلك، وأن من قوانين التعليم هناك استئصال حب النظام من الصدور كما يستأصل الخلق السيئ. وأعجب ما رأيته بين الطلبة من سلطان العادة على النفوس أن الطالب هناك لا تحلو له المذاكرة ولا يروق التحصيل إلا إذا رفع صوته بأقصى ما في إمكانه فيتألف من مجموعهم دَوِيٌّ يصم أذن القادم عليهم، فاخترق بي صاحبي السوري الجموع حتى انتهى بي إلى محل هناك يقال له (رواق الشوام) فصعد بي على مدارجه إلى غرفة هناك استرحت بها قليلاً وكان قد أذَّن الظهر فقال لي الصاحب هلم نمر بالدروس وهي منتظمة، أما الدوي فلا يلبث أن يسكن لاشتغال الطلبة بالسماع من معلمهم؛ فلم أتمالك نفسي علم الله من البكاء على أثر قوله انتظام الدروس وقلت - ومهجتي تذوب من الأسى فتنحدر من عيني دموعًا -: يا حبذا ذاك الدوي لو كان زمجرة رعد تبشر بسقوط غيث العلم من سماء على صدور الطالبين، فتنبت ما يقوم بشفاء داء الإسلام والمسلمين. ثم قمت وقام الصاحب حتى إذا كنا في واسطة الدرج أخذت أرسم له كيف يغشى بي الدروس، وذلك أن يبدأ بدرس أول كتاب يدرسونه في النحو ثم ينتقل بالتدريج حتى درس آخر كتاب اصطلحوا أن يكون خاتمة الطلب في الفن ففعل وكان أول درس وقفت عليه درس الكتاب الأول وأول كلمة سمعتها فيه قول المعلم (واختلف في الجارّ والمجرور هل هو متعلق بظرف أو بفعل) فالتفتّ إلى صاحبي وقلت أوتهزأ بي يا هذا، ألم أقل لك أن تذهب إلى أول كتاب فقال: لم أهزأ بك والشيخ إنما يقرأ أول كتاب في النحو ويقرر ثاني درس في الكتاب فقلت لن يثبت ما تقول في نفسي حتى تريني آية ذلك فأشار إلى غلام يليه من الدرس فسأله ماذا يقرأ الشيخ يا صاحبي؟ قال الكفراوي قلت أنا والكفراوي ماذا؟ قال: أول كتاب يقرأ في النحو؟ فأخذت بيد صاحبي إذ ذاك وأنا خَجِل من اتهامي إياه وقلت: اذهب بي توًا إلى الدروس الثانوية حتى أرى ماذا يقرأون.. . ولا أريد أيها الأخ أن أطيل لك القول في هذه الرسالة بتفصيل ما رأيته بعد ذلك بل أجمل لك فيه القول إجمالاً. وجدت معلم الكتاب الثاني يشتغل بتعريف المركب عند المناطقة طويلاً ثم لوى زمام الكلام إلى تعريف عند اللغويين فالبيانيين فالتوحيديين إلى فنون أُخَرَ ذهب عني أسماؤها وحفظ تعاريف واضعيها، أما الدرس الثالث فكان الشيخ فيه منهمكًا في تعريف الرئة واختلاف الأطباء الأقدمين فيها وما قالوا في تكييف الصوت إلى كلام طويل، وكان ذلك كله استطرادًا من قول النحاة: اللفظ صوت مشتمل على بعض الحروف وعلى ما ذكرت لك كان الحال في بقية الدروس حتى إذا انتهيت إلى درس آخر الكتب ك

أفكوهة أدبية

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

_ أفكوهة أدبية للشاعر المجيد مصطفى أفندي صادق الرافعي يا طير ما للنوم قد طارا ... وما قضينا منه أوطارا كأن هذا السهد لا يأتلي ... يطلب من أجفاننا نارا إن كنت ظمآن فذي أدمعي ... تفجرت في الأرض أنهارا أو كنت ذا مسغبة فالتقط ... حبة قلبي كيفما صارا أو كنت مشتاقًا فكن مثلنا ... على النوى يا طير صبارا وجارني إن كنت لي صاحبًا ... فإن خير الصحب من جارى يا طير كم في الحب من ساعة ... يزيد فيها العمر أعمارا إن قلت تلهبي بها فكرة ... جرت على الأفكار أفكارا أو قلت أنساها أقام الهوى ... من حرها في القلب تذكارا والصب ما ينفك في حيرة ... تزيده حزنًا وأكدارا ما لي أرى الأطيار نواحة ... كأنما فارقن أطيارا وما لأغصان الربى تلتقي ... كأنما استودعن أسرارا فأسأل نسم الصبح إن مر بي ... هل حملته الغيد أخبارا وأسأل عن الدار ويا ليتني ... أزور يومًا هذه الدار كأنها الجنة لكنني أبطنت ... من وحدي بها النارا سماؤها مطلعة أنجمًا ... وأرضها تطلع أقمارا وكم بها من أكحل إن رنا ... سلت لك الأجفان دبتارا وإن مشى بخطر في تيهه ... هزت لك الأجفان خطارا لا أنكر السحر وذا طرفه ... أصبح بين الناس سحارا يا فاتن الصب على رغمه ... والمرأ لا يعشق مختارا طورًا بنا هجر وطورًا نوى ... أهكذا تخلق أطوارا لو شبهوا بدر السماء درهمًا ... لشبهوا وجهك دينارا وكم دررًا فيك نظمتها تجل ... أن تحسب أشعارا لو أن بشارًا حكى مثلها ... أعطت لواء الشعر بشارا

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (خير الكلام في القراءة خلف الإمام، وقرة العينين برفع اليدين) كتابان مختصران للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح، جمع في الأول ما رواه من الأحاديث النبوية الدالة على وجوب القراءة خلف الإمام في الصلاة، وفي الثاني ما رواه في إثبات رفع اليدين عند الركوع وعند القيام، ومن التشهد الأول، والأحاديث في المسألتين كثيرة، وقد تذكرتُ الآن أنني سمعت أستاذنا الفقيه المحدث الشيخ محمود نشابه الطرابلسي الأزهري (رحمه الله تعالى) قال: وهو يقرأ لنا شرح البخاري في أوائل طلبنا للعلم أن البخاري روى رفع اليدين عن خمسين صحابيًّا وله فيه كتاب، ومن ذلك اليوم تمنيت أن أرى هذا الكتاب الذي أثبت البخاري المسألة فيه بالتواتر حتى رأيته مطبوعًا في هذه الأيام، وكنت أعجب لترك الناس هذه السنة حتى الذين أثبتها أئمتهم كالشافعية. الحنفية يتركونها لأن شيوخهم قالوا أنها مكروهة لأنها لم تثبت عند إمامهم وإن كان كل من شم رائحة علم السنة منهم موقن بأنها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتًا لو وقع مثله لإمامهم لما تركها مرة واحدة، وأما الشافعية فإنهم قد يتركونها مسايرة للحنفية. صلى كاتب هذه السطور إمامًا بأستاذه الشيخ حسين أفندي الجسر فرفعت يدي عند الركوع والقيام منه ومن التشهد الأول كما هو دأبي فلما فرغنا من الصلاة قال لي أحد الشيوخ من الشافعية وكان حاضرًا الصلاة:هلا تركت رفع اليدين أدبًا مع أستاذك؟ فقلت: ما علمني أستاذي أن أترك السنة أدبًا معه، ولا أرى أن الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينافي الأدب معه فقال ذلك الشيخ: إن إمامك الشافعي ترك القنوت في الصبح أدبًا مع الإمام أبي حنيفة عندما زار قبره فقلت معاذ الله أن يترك الإمام السنة لأجل أحد من الناس وقد أوَّلَ العلماء هذه الحكاية على تقدير ثبوتها (وما هي بثابتة) بأن الإمام ترك القنوت لشبهة عرضت له في بلده غَيَّرَتْ اجتهاده وقتئذ، فصدقني الأستاذ وقال: نعم هكذا أولوها. فليعتبر المسلمون بهؤلاء الشيوخ الذين يأمروننا بترك السنة مداهنة لأهل الجاه من الأحياء وتقليدًا لأهل الشهرة من الأموات، ومثل هؤلاء الشيوخ الذين يرجعون الدين إلى الأفكار الفاسدة يتجرأون على انتقاد أئمة العلماء والمصلحين من المعاصرين ويكثرون من عيبهم ويتملقون لهم أشد التملق في حضرتهم والعامة تغتر بهم إذا درسوا وخطبوا فيزيدونها غرورًا. الكتابان اللذان نحن بصدد تقريظهما طُبِعَا معًا في المطبعة الخيرية على نفقة صاحبها الهمام السيد عمر الخشاب ويباعان في مكتبته، فنحث محبي السنة على مطالعتهما والعمل بهما {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: 7) . * * * (الروضة الأنيقة في بيان الشريعة والحقيقة) كتاب يدل على مسماه من تصنيف العالم الصوفي الشيخ عبد العزيز الديريني المتوفى سنة 679 رحمه الله تعالى، وفي الكتاب مسائل نافعة يصح أن تجعل حُجة على الذين يدعون التصوف وينتهكون حرمات الدين، ويدعون أنهم أولياء الله وأحباؤه، من ذلك أنه عقد بابًا للإنكار على مشايخ الطريق الذين يجتمعون بالنساء، ويزعمون أنهم يرشدونهن واستشهد لذلك بعدم مصافحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء عند مبايعتهن على الإيمان وغير ذلك وقال: إنه لا يصلح لتعليم النساء إلا الراسخون في العلم والدين بشرط عدم الخلوة وعدم إظهار الزينة على أن المرأة إنما تتعلم من الأجنبي ما يجب عليها إذا لم يكن لها محرم يعلمها، وقد ختم المؤلف هذا الباب بفصل قال فيه: وقد زاد قوم فزعموا أن اجتماعهم بالنساء والشبان وتعاطي هذه الأمور مما تحصل به البركة فإن قرب المرأة أو الشاب من الرجل سبب لحياة القلب فإن النور يسري من القلب إلى القلب وأشباه هذه الزخارف الباطلة. فهؤلاء قوم تشبهوا بالشياطين فإن الشيطان يسول للجاهل أمورًا محرمة ويزينها بصور باطلة، فهذه حيلة فسق وحيلة مكر وخديعة كذب؛ فليت هؤلاء حيث وقعوا في هذه القبائح لم يضيفوا إليها ما هو أقبح منها، فإن العاصي المعترف بمعصيته أخف إثمًا وأقل جُرْمًا ويجب على من له أمر أن يردع هؤلاء بالتعزيز الشافي والزجر الكافي، ومن لم يقدر على ذلك فلينههم نهيًا كافيًا فإن لم يقبلوا وَجَبَ الإنكار عليهم بالقلب كما قال الله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتْعُوا} (الحجر: 3) الآية اهـ. وقد وضع ناشر الكتاب في آخره قواعد جميلة منها هذه القاعدة الثابتة، قال: إذا حُقِّقَ أصل العلم وعُرفت مواده وجرت فروعه ولاحت أصوله كان الفهم فيه مبذولاً بين أهله، فليس المتقدم فيه بأولى من المتأخر وإن كان له فضيلة السبق، فالعلم حاكم ونظر المتأخر أتم؛ لأنه زائد على المتقدم، والفتح من الله مأمول لكل أحد، ولله در ابن مالك رحمه الله حيث يقول: إذا كانت هذه العلوم مِنَحًا إلهية ومواهب اختصاصية فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين، نعوذ بالله من حسد يسد باب الإنصاف، ويصد عن جميل الأوصاف، انتهى وهو عجيب) والكتاب مطبوع طبعًا حسنًا على ورق جيد ومكتوب عليها (إيليا 1320) فليته بين أهل الطريق فينتفعوا باعتداله. * * * (الحال والمآل) قصة وضعها أحمد حافظ أفندي عوض كما ذكرنا في تقريظ (قصص مسامرات الشعب) شرح فيها كيفية عشق الفتيان والفتيات أو التلامذة والتلميذات في مصر، وكيف يغوي بعض البنات المتعلمات بعضًا، وقد علمنا أنه لم يذكر إلا بعض الواقع بالاختصار، القصة أنفع القصص التي ألفت لمكتبة الشعب أو أنفع ما ألف الشبان المصريون من هذه القصص، وإن كانت في عبارتها دون ما كتب حافظ من قبل؛ لأنه كان في وجل من طروق هذا الباب الذي يظهر من ورائه سوء التربية في قومه وفي حذر وانشقاق من عذل العاذلين، ولوم اللائمين، فلم ينطلق قلمه بحرية تامة وله الفضل إن طرق هذا الباب من أبواب الجد. موضوع القصة بنت اسمها (أسماء) نشأت - ولا أقول تربت - في حجر الدلال ثم وضعت في المدرسة فصاحبت فيها بنت أحد الأغنياء من المصريين المتفرنجين حتى صارت تركب معها أحيانًا إلى بيت أبيها فترى فيه الأثاث والرياش وكيفية المعيشة على الطريقة الإفرنجية فمقتت عادات بيت أبيها الشرقية وفي هذا المقام إلمام بكيفية الانتقال من العادات الشرقية إلى العادات الغربية في شئون المعيشة. امتدت المعاشرة بين البنتين حتى ركبتا يومًا للنزهة فلقيهما في الطريق أحد الشبان المتعلمين الذين قال حافظ في وصفهم (كان مبلغ ما تعلموه من المدارس وما تلقنوه من دروس الحياة مقصورًا على العناية بملابسهم وتنسيق هندامهم ووضع طرابيشهم المائلة إلى جهة الأذن على شعر لامع مدهون بكذا وكذا.. وياقة مرتفعة ورباط رقبة فيه دبوس من الماس ولباس - أي سراويل - ضيق وخواتم من الذهب ومنظار بسلسلة ذهبية وحذاء أصفر رفيع براق) وكان هذا الشاب عشيق الفتاة المصرية فكاشفت أسماء بعشقهما وسألتها عن العشق ولما عرفت أنها لا تعرفه نبذتها بلقب المسكنة، ثم أقبل الشاب وصافحهما مُسَلِّمًا ولما اضطربت من الخجل لأنها لم تتعود ذلك الشاب فقالت لها رفيقتها: (ما لي أراك قد خجلت وهل في الحديث والتسليم على الشبان عيب؟ إنما العيب أن لا ينظر إلينا أحد ولا ينظر إلى محاسننا إنسان) ثم رَغَّبّتْهَا في قراءة القصص الغرامية وأعطتها واحدة منها ففتنت أسماء بأخبار العشق والغرام، وشغلت عن الدرس والمنام، فتغير حالها حتى تنبهت والدتها لذلك التغير وسألتها عن سببه فكذبت في الجواب، قال المؤلف (وليس الصدق صفة محترمة عندنا معاشر المصريين بل يكاد الإنسان أن لا يعرف له مزية، بل إن شئت فقل إننا نتعلم الكذب في بيوتنا من آبائنا وأمهاتنا) ثم إن أسماء تعلمت العشق فعشقت شابًّا مهذبًا. ثم إن المصنف ذكر أن البنتين حضرتا احتفال عرس صديقة للثانية ووصف فيه ما هو جار في مصر الآن من مغازلة النساء المتزينات للرجال من النوافذ والكوى ومن شرب النساء الخمر جهرًا، وذكر أن أسماء تعلمت في تلك الليلة من البنات الشرب على أنه من (التمدن والمودة) فلما ثملت مع صديقتها قامتا إلى النوافذ كغيرهما فأبصرت كل منهما مع من تحب، وكانتا على موعد منهما فأشارتا إليهما بالانتظار فلما التقى الأربعة حصل التعارف بين الجميع - كذلك العادة بين الأحداث من العاشقين والعاشقات في مصر كما أخبره المجربون - ثم ركبت أسماء مع عشيقها في مركبته كما ركب عشيق نجية معها في مركبتها وانطلقوا إلى الجزيرة ولكن ساء صاحب أسماء سكرها وتهتكها الذي تعلمته من نجية، وعَنَّفَها على ذلك فوعدته بأن تكون كما يحب وهيهات ذلك فإن السائر في طريق الرذيلة كمن يتدهور بين حالين لا يقف حتى يبلغ القرار كما أشار المصنف، ثم إن عاشق أسماء يأس من صلاح حالها فتركها ثم قضى أهلها عليها بالتزوج بأحد أولاد العمد الأغنياء فرضيت كارهة وعاملت زوجها أقبح المعاملة لاحتقارها إياه لأنه لا يعرف الفرنسوية وفنون التخنث والتهتك وكان أولاً يحبها ويتحمل إهانتها حتى عيل صبره فأبغضها وعلق بالراقصات وعرف البغايا وشرب الخمر واعتزلها بالمرة فشكت يومًا إلى صديقتها القديمة فأشارت عليها بأن تعامله بالمثل فتنتقم منه بالبغاء ففعلت فأصيبت بداء الزهري وانتقل منها المرض إلى ولدها بالعدوى، عاث فيها المرض فتقرح بدنها وانقلبت سحنتها وتحول ذلك الجمال إلى قبح تقشعر منه الجلود وانتهى بالجنون ثم بالموت. هذا هو الوباء الساري في حياة مصر الأدبية وما وصف كاتب القصة إلا بعض ما علم فهل يوجد في مصر قوم يغارون على الملة والأمة فيسعون في تربية الناشئين والناشئات تربية دينية تصادم هذه الشرور، وتقلل من هذا الفجور؟ الآباء مهملون والأمهات جاهلات فماذا يفعل البنون والبنات؟ إذا كان رب البيت بالطبل ضاربًا ... فلا تلم الأولاد فيه على الرقص الرجال هم الذين يغيرون أحوال الأمم الاجتماعية وليس عندنا رجال، نعم إن خير رجال مصر هم الذين أسسوا الجمعية الخيرية الإسلامية ولكن عملهم للأمة لا يزال ناقصًا، فإذا استطاعوا أن يوجدوا مدرسة كلية في مكان بعيد من المدن بل عن الناس يربون فيها طائفة من الناشئين حتى يكونوا رجالاً عاملين فذلك باب النجاح دون سواه وإن لم يستطيعوا فمستقبل مصر مظلم جدًا والله أعلم بمصير الأمور.

قصص (روايات) مجلة الهلال

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قصص (روايات) مجلة الهلال جاءنا من بعض فضلاء القراء ما يأتي بحروفه: (رأيت في مجلة المنار الصادرة في غرة جمادى الأولى سنة 1320 تقريظًا للرواية الأخيرة من روايات حضرة محرر مجلة الهلال التي عنوانها (الحجاج بن يوسف) وقد ألمعتم فيه إلى ما انتقد به على المؤلف حينما ظهرت رواية (عذراء قريش) وقد ظهر لبعض القراء أن حضرتكم لا تنقمون على هذه الروايات لما قدمتموه من الأعذار عما يشوبها من الأكاذيب التي هي من لوازم وضعها مع أن منها نسبة العشق إلى مثل محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما مع شهرته في التاريخ بضد ذلك، وتشبه عذراء قريش بالرجال ووقوفها في مجمع الصحابة ترشدهم إلى حقائق الدين وتوبخهم على ما حصل منهم في بدء الفتنة المشهورة، ولا يخفى حضرتكم أن مثل مقدمته التي نقلتموها لا يبرئ الكاتب مما يأتي به مخالفًا لحقائق التاريخ كما هو مبدأ الإسلام في كراهة الكذب على أية حال، وإني متيقن أنكم لو كنتم اطلعتم على هذه الرواية لما قلتم كلمة واحدة في تقريظها وما كنا نهتم لو جاء هذا المدح في غير مجلة المنار التي هي المجلة الدينية الموثوق بها فيما تبديه من الآراء في أحكام الدين، فمعظم القراء يطلبون من حضرتكم الإفصاح عما ترون فيها لأن المسألة عظيمة؛ إذ أساسها تاريخ الإسلام والصحابة الذين هم الأسوة الحسنة في أعمالهم وهم نقلة الحديث وهم الثقات فيما يروون، وأنا واثق أن كلمة منكم ليست ككلمة من غيركم، فنسأل الله لنا ولكم التوفيق إلى الحق والسلام) . (المنار) قد صرحنا في تقريظ القصة الأخيرة بأننا لم نقرأ القصص التي ينشئها صاحب الهلال في التاريخ الإسلامي فنحكم لها أو عليها، وإنما ذكرنا أننا قرأنا في المؤيد نقدًا عليها وعلمنا أن بعض الفضلاء ناقمين من مؤلفها؛ لأنه وصف بعض رجال السلف الكرام بالعشق الذي لا يليق بمقامه، وقلنا في القصة الأخيرة إننا رأيناها خالية من هذا العيب، وهذا دليل على إنصاف المؤلف وعمله بما يقتضيه نقد الناقد برجوعه عن نسبة العشق إلى الصحابة وأئمة السلف رضي الله عنهم. والحاصل أن ما تنتقد به هذه القصص أمران أحدهما عدم حفظ كرامة السلف بأن ينسب إليهم ما لا يليق بهم، وقد كان المؤلف وقع في هذا تقليدًا للإفرنج الذين لا يتحامون مثله، ويظهر أنه رجع عنه إرضاءً لقراء ما يكتب من المسلمين، وثانيهما اشتباه الحق بالباطل في سرد وقائع التاريخ ممزوجًا بأخبار الغرام الكاذبة ونحن نرى أن المقدمة التي نقلناها عنه تبرئه من هذا النقد إلا أن تكون غير صادقة، فإذا كان يقول إن كل ماعدا الحكاية الغرامية من القصة هو من التاريخ المنقول فلا سبيل إلى تخطيئه إلا ببيان أن بعض ما في تلك القصص وراء الحكاية الغرامية التي تتخللها غير صحيح أو أن هناك اشتباهًا بين الحكاية والتاريخ، فعلى المنتقد الشواهدُ والبيناتُ إذا ادعى هذا، وعلينا أن ننشره ونبين رأينا فيه والله يوفقنا جميعًا لما يحبه ويُرضِيه.

مسيح الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسيح الهند ملأ هذا الرجل المدعي المهدية والمسيحية الدنيا صراخًا ونشر الكتب والرسائل الناطقة بدعواه في الهند ثم في سائر الأقطار الإسلامية، ولكن لا يتفهم أحد حقيقة مراده، والأصول التي يدعو إليها في كتبه ورسائله كلها سجع كسجع الكهان، بل هو أقل وأضعف، فإن صبر الإنسان على قراءته ليفهم مراده يرجع إلى ذهنه بعد القراءة فلا يجد فيه إلا إطراء هذا المدعي أو الدعيّ نفسه والإغراق في الثناء عليها وذم الذين لا يؤمنون به ولا يجيبون دعوته وربما يجد في الكتاب الطويل كلمات في دينه الجديد لا يعقل أحد لها فائدة إلا تزلفه للإنكليز ليتركوه وشأنه يتمتع بلقبه الذي زعم أن الله منحه إياه (المسيح) كنسخه حكم الجهاد وتحريمه على المسلمين، وكمدحه الإنكليز والدعاء لهم؛ لأنهم يحمونه. ليخبرنا هذا المسيح الدجال أين المسلمون المشتغلون بالجهاد فيجعل ركن دعوته وأسّ إصلاحه إرجاعهم عنه، ألم ير أن معظم بلادهم ذهبت من أيديهم لإهمالهم أمر المدافعة عنها؟ ألم ير أن الأجانب الذين يعيبونهم بأنهم أمة حربية قد سبقوهم في الفنون الحربية حتى سادوا عليهم؟ فهل نزل عليه الوحي من أوربا بأن الحرب عار على المسلمين، فضيلة للمسيحيين، فصدَّق الوحي الأوربي وقام يدعو إليه قومه ليهديهم ويلم شعثهم ويرأب صدعهم! يزعم أن الأخبار الواردة بنزول المسيح كلها تصدق عليه، الأخبار ناطقة بنزول عيسى ابن مريم، فأين عيسى عليه السلام من غلام أحمد القادياني عليه الملام! الأخبار ناطقة بأن المسيح ينزل من السماء بين ملكين فأين الهند من السماء؟ وأين الملائكة من أتباعه البلداء؟ الأخبار تصف المسيح بما لا ينطبق عليه مهما تنطع في التأويل، وزخرف الأباطيل، يقول: (إن ظاهر القرآن يدل على أن المسيح قد توفي وأنهم اكتشفوا قبره) . نقول: إذا سلمنا لك أنه مات لأنه هو ظاهر القرآن، فهل يدل موته على أنك أنت المراد بالأخبار الواردة في نزوله؟ كلا فإما أن تؤول الأحاديث تأويلاً مقبولاً، وإما أن تقول إنها غير صحيحة متنًا، وإن صحت سندًا؛ لأن القرآن متواتر قطعي وهو كلام الله تعالى فكل قول خالفه فهو باطل إذا كان لا يتفق معه بالتأويل. يدعي هذا الدجال أنه جاء بخوارق العادات؛ لأنه ألف كتابًا عظيمًا في عينه وحقيرًا في أعين الناس، لما فيه من الهذيان والوسواس فإذا كان التأليف السخيف دليل المهدية والمسيحية، فهل يكون التأليف الذي يستحسنه جميع العقلاء دليلاً على الألوهية؟ أيظن هذا الغافل أن القرآن كان معجزة للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لأنه كتاب مؤلف؟ كلا إنه معجزة؛ لأنه اشتمل على أعلى العلوم الإلهية والاجتماعية التي اهتدى بها الناس وصلحت عقائدهم وأخلاقهم، وقد ظهر مع ذلك بلسان أمي لم يتعلم شيئًا؛ فهذا هو الوجه الأعلى في إعجازه، ومن وجوهها أنه وصل من البلاغة إلى حد عجزت عن بلوغه البلغاء مع أنَّ الجائي به لم يكن معروفًا بالبلاغة، ومن بلغ الأربعين ولم يعرف له امتياز بالشيء فلا يعقل أن ينتقل مرة واحدة إلى درجة يفوق بها جميع الناس بذلك الشيء إلا بإمداد من بيده خرق العادات، والمؤيد مَن شاء بالآيات البينات، وأما زعمه أن الفاتحة تدل على مسيحيته وأن لفظ الرحمن الرحيم يدل على محمد خاتم الأنبياء وعلى مشيخة أحمد القادياني فهذا أقبح تلاعب بالقرآن ويمكن أن يستدل صاحبه بكل كلام على كل شيء لأنه لا يتقيد بلغة ولا عقل ولا فهم، فعسى أن يرجع هذا القادياني إلى رشده، ونرى الجزر قلل من طغيانه ومده. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار وآراء (مثال من أمثلة طفولية الأمة إبطال مدرسة فرجللي) تحمس حسين بك فرجللي واحتمى على نظارة المعارف المصرية منذ أربع سنين؛ لأنها لم تقبل بعض أولاده في مدارسها وسوَّل له تحمسه أن ينشئ مدرسة ينسبها إلى نفسه تكون حجة على (وطنيته) وزلفى يتزلف بها إلى أميره وسلطانه لأنها ضد المحتلين؛ فأوحى إلى الجرائد أن تنوه به فنوهت وساعدناها نحن على تنويهها؛ لأن إنشاء المدارس الأهلية هو أفضل عمل يعمله الأهلون لأمتهم وبلادهم، والرياء قنطرة الإخلاص، كما يقول الصوفية، ومما تبجح به وافتخر أن مدرسته تزيد على مدارس الحكومة بتعليم التركية إثباتًا لجنسيته وبتعليم الدين خدمة للملة، وقد كان أول دليل على انفراد زاوية الخلف بين القول والعمل أن اللجنة التي عقدها في داره لانتخاب المعلمين للمدرسة عرض عليها فيمن عرض من المعلمين رجل اعترفت اللجنة بأنه أقدر المعروضين على تعليم الدين والعربية ولكن فرجللي بك ومستشاريه من الأحداث الذين يسمون أنفسهم (الشبيبة المصرية الحقة) ويمتازون بكثرة اللغط بالوطنية المبهمة لم يقبلوا هذا المعلم؛ لأنه ليس مصريًّا، فلم تشفع لذلك الرجل عند هؤلاء الوطنيين ديانته الإسلامية، ولا جنسيته العثمانية. مع هذا كنا ندعو أن يثبت هذا الرجل في عمله حبًّا في المحمدة ولكن بلغنا في هذه الأيام أنه لم يتم على إجازة المدرسة الصيفية الشهر حتى أرسل إلى معلميها يخبرهم بعزلهم وإبطال المدرسة، واختار هذا الوقت ليحرم الأساتذة من أجورهم مدة الإجازة. الأمة في طفولية، وسقوط الطفل ليس بعجيب، وإنما العجيب ثباته فإذا سقطت مدرسة فرجللي فإن من ذوي المدارس الأهلية من هم أقوى عزيمة منه ولذلك ثبتت مدارسهم كالمدرسة العثمانية وكمدرسة الماجدي وغيرها، فلا تيأس إذا سقط قوم ونهض قوم ما دمنا نرى الأمة متحركة لطلب العلم والعمل على أننا نرجو أن يثوب فرجللي بك لرشده وينثني عن عزمه الأخير والله الموفق وهو نعم النصير. * * * (الوباء والعدوى) ثبت بالمشاهدة أن في قيء المصاب بالهيضة الوبائية وبرازه مادة سامة حية تنمو وتزيد في الجوف الذي تدخله، فالعدوى التي يقولها الأطباء هي انتقال هذه المادة السامة من شخص إلى آخر كما ينتقل السوس والبق والثعابين، إلا أن الفرق بين جنة الوباء وغيرها أن الأولى لا ترى إلا بالنظارة، فالاحتياط الصحي هو ما يمنع انتقال جنة الوباء من مريض إلى صحيح والدواء الذين يطهرون به أمتعة المصاب كالدواء الذي يقتل البق والسوس، فما معنى إنكار هذه العدوى باسم الدين ممن لا يعرفون دينًا ولا دنيا؟

الاضطهاد في النصرانية والإسلام

الكاتب: محمد عبده

_ الاضطهاد في النصرانية والإسلام المقالة الثانية لذلك الأستاذ الحكيم والفيلسوف العليم ذكرت الجامعة في الجزء الثامن من السنة الثالثة في سياق الكلام على ما جرى لابن رشد أن للناس آراء في: هل الدين المسيحي أوسع صدرًا في احتماله مجاورة العلم والفلسفة، أو أن الدين الإسلامي هو الأرحم خلقًا والأوسع حلمًا من الدين المسيحي في قبول أهل النظر في الكون إذا نزلوا بداره، ولاذوا بجواره، وذكرت أن للقائلين بتسامح الدين المسيحي مع العلم وأهله دون الدين الإسلامي أن فولتير وديدرُو ورُوسُّو ورِنَان قالوا فيما يضاد الدين ما قالوا ولم يصابوا بضرر، وابن رشد لم يقل شيئًا سوى أنه قرر ما قال أرسطو وأوضحه مع تصريحه بسلامة اعتقاده ومع ذلك أهين وبصق على وجهه. وللقائلين بسعة حلم الإسلام أن الإسلام لم يحكم بإحراق أحد لمجرد الزيغ في عقيدته، وكم حكمت المسيحية بذلك! ثم جعلت أهل الرأي الأول آخر من يتكلم وقالت: (فيردُّ عليهم الأولون بقولهم: هل يجب أن يكون التسامح مع القريب فقط، أم مع القريب والغريب معًا؟ ثم، ألا تذكرون الحروب والفتن التي قامت بين شعوب المسلمين وحكامهم بسبب الاعتقادات الدينية فأضعفت أمتهم وفرقت كلمتهم، فهل يجوز أن تسموا محاربة شخص واحد وإعدامه (محاربة للإنسانية) ولا تُسموا كذلك محاربة شعب لشعب وأمة لأمة) اهـ. ثم قالت الجامعة: إنها لا تفصل بين القولين، ولكنها فصلت فيهما فصلين الأول في قولها: (إنا نرى أن السلطة المدنية في الإسلام مقرونة بالسلطة الدينية بحكم الشرع؛ لأن الحاكم العام هو حاكم وخليفة معًا، وبناءً على ذلك فإن التسامح يكون في هذه الطريقة أصعب منه في الطريقة المسيحية، فإن الديانة المسيحية قد فصلت بين السلطتين فصلاً بديعًا مَهَّدَ للعالَم سبيل الحضارة الحقيقية والتمدن الحقيقي وذلك بكلمة واحدة: (أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) . وبناءً على ذلك؛ فإن السلطة المدنية في هذه الطريقة إذا تركت للسلطة الدينية مجالاً للضغط على حرية الأفراد من أجل اعتقاداتهم الخصوصية فضلاً عن قتلهم، وسقي الأرض بدمائهم البريئة، فإنها تجني جناية هائلة على الإنسانية، وعلى ذلك لا يكون في هذه الطريقة من التسامح أكثر مما في تلك إذا بدا منها نقص، ولو كان هذا النقص أخذ شقيقتها؛ لأنه لا نقص أعظم من نقص القادر على التمام، والفصل الثاني في قولها: (إن العلم والفلسفة قد تمكنا إلى الآن من التغلب على الاضطهاد المسيحي ولذلك نما غرسها في تربة أوربا وأينع وأثمر التمدن الحديث، ولكنهما لم يتمكنا من التغلب على الاضطهاد الإسلامي، وفي ذلك دليل واقعي على أن النصرانية كانت أكثر تسامحًا) اهـ * * * (الجواب الإجمالي) وإني أعجل في الجواب بما يلاقي هذين الحكمين إجمالاً، أما الأول فإن كان الإنجيل فصل بين السلطتين بكلمة واحدة، فالقرآن قد أطلق القيد من كل رأي بكلمتين كبيرتين لا كلمة واحدة، قال في سورة البقرة: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256) وقال في سورة الكهف {وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) . وأما الثاني فأسأل الجامعة في جوابه: أين الاضطهاد الواقع على العلماء اليوم عند المسلمين؟ وأين أولئك العلماء المضطهدون؟ وأريد بالعلماء أولئك الذين يساوون مَن ذكرتهم من فولتير وديدرو وروسو وأمثالهم، وكيف ساغ لها أن تقول ما تقول، وهي في أرض مصر، ومصر بلاد إسلامية وحالها كما ترى؟ فإذا أرادت شاهدًا على حال المسيحية والعلم، فلتمر بنظرها اليوم على أسبانيا، ولتقف برهة من الزمان ثم لتحكم، يمكنها أن تعد من طلبة العلوم المسلمين مئين في مدارس المسيحيين من جزويت وفرير وأميركان وهي مدارس دينية، خصوصًا مدارس الجزويت، فهل يمكنني أن أجد طالبًا واحدًا مسيحيًّا في مدرسة دينية إسلامية يباح الدخول فيها لكل طالب علم من أي ملة؟ لا نجد إلا قليلاً منهم في مدارس الحكومة لعلمهم أنها مدارس رسمية لم يقم بناء تعليمها على الدين، فهل سمع أن والدًا اضطهد لأنه بعث بولده إلى مدرسة مسيحية يديرها قسوس مسيحيون؟ ألا يعد هذا من تسامح الإسلام مع العلم اليوم؟ لولا أن موضوع كلامي محدود باعتبار التسامح بالنسبة إلى العلم والفلسفة وحدهما لذكرت لصاحب الجامعة أنه يوجد في بلاده طائفتان تعد إحداهما بالألوف وتزعم كل منهما أن لها نسبة إلى الإسلام وهي تعتقد بما لا ينطبق على أصل من أصوله حتى أصل التوحيد والتنزيه عن الحلول ولا تقول بفرض من فروضه المعلومة منه بالضرورة، وأجمع فقهاء الأمة على أنهما من قبيل المرتدين والزنادقة لا تؤكل ذبائح أفرادهما، ولا يباح لهم أن يتزوجوا من المسلمات، وإنما اختلفوا في قبول توبة من تاب منهم، ومن العلماء من قال لا تقبل توبته، وهم مع ذلك عائشون بجوار المسلمين ومضى عليهم ما يزيد على تسعمائة سنة وقد كانوا تحت سلطان المسلمين والإسلام في أوج القوة، دخلوا في حكم الأتراك وهم أيام كان ملك فرنسا يستنجد بملكهم وكانت عساكرهم على أسوار فيينا، كان أولئك الذين يراهم المسلمون قد خرجوا من دينهم وأَسَرُّوا عقيدةً تُنَاقض عقيدتهم قد ظهروا بأعمال تضاهي أعمالهم وهم جيرانهم وتحت أيديهم وفي مُكْنتهم محوهم، ومع ذلك عاشوا إلى اليوم ولهم أحبة وأصدقاء بين المسلمين، وللمسلمين بينهم مصافون وأودَّاء، فهل عُهِدَ مثل ذلك عن المسيحيين؟ غير أن موضوع قولي محدود كما قلت فلا أخرج عنه وأراني أضفت فيه بكلمتي المجملة، ولكن لا يكفي لبيان ما عرضت به الجامعة في قولها (هل يجب أن يكون التسامح مع القريب فقط أو مع القريب والغريب إلخ) ولا لتحقيق الحق فيما حكمت به في حكمها إلا تفصيل تعرض فيه حالة الدينين مع العلم تحت نظر القارئ على وجه يمكن معه الحكم عن فهم، ولا تلتبس فيه الحقيقة بالوهم. * * * (الجواب التفصيلي) أرى الجامعة جاءت في كلامها بأربعة أمور آتي بها على حسب ترتيب النسق في تعبيرها. (الأول) : أن المسلمين قد تسامحوا لأهل النظر منهم ولم يتسامحوا لمثلهم من أرباب الأديان الأخرى. (الثاني) : أن من الطوائف الإسلامية طوائف قد اقتتلت بسبب الاعتقادات الدينية. (الثالث) : أن طبيعة الدين الإسلامي تأبى التسامح مع العلم وطبيعة الدين المسيحي تيسر لأهله التسامح مع العلم. (الرابع) : أن إيناع ثمرالمدنية الحديثة إنما تمتع به الأوربيون ببركة التسامح الديني المسيحي؛ فلا بد لي من الكلام على كل واحد من هذه الأمور الأربعة، وأبتدئ منها بالثاني لقلة الكلام عليه. * * * (نفي القتال بين المسلمين لأجل الاعتقاد) لم يُسمع في تاريخ المسلمين بقتال وقع بين السلفيين (الآخذين بعقيدة السلف) والأشاعرة مع الاختلاف العظيم بينهما، ولا بين هذين الفريقين من أهل السنة والمعتزلة مع شدة التباين بين عقائد أهل الاعتزال وعقائد أهل السنة سلفيين وأشاعرة كما لم يسمع بأن الفلاسفة الإسلاميين تألفت لهم طائفة وقع الحرب بينها وبين غيرها، نعم سمع بحروب تعرف بحروب الخوارج كما وقع من القرامطة وغيرهم وهذه الحروب لم يكن مثيرها الخلاف في العقائد، وإنما أشعلتها الآراء السياسية في طريقة حكم الأمة، ولم يقتتل هؤلاء مع الخلفاء لأجل أن ينصروا عقيدة ولكن لأجل أن يغيروا شكل حكومة، وما كان من حرب بين الأمويين والهاشميين فهو حرب على الخلافة وهي بالسياسة أشبه بل هي أصل السياسة. نعم وقعت حروب في الأزمنة الأخيرة تشبه أن تكون لأجل العقيدة وهي ما وقع بين دولة إيران والحكومة العثمانية وبين الحكومة العثمانية والوهابيين ولكن يتسنى لباحث بأدنى نظر أن يعرف أنها كانت حروبًا سياسية ويبرهن على ذلك بالولاء المتمكن بين الحكومتين اليوم مع بقاء الاختلاف في العقيدة وبين الحكومة العثمانية وابن الرشيد أمير الوهابيين. أما الحروب الداخلية التي حدثت بعد استقرار الخلافة في بني العباس وأضعفت الأمة وفرقت الكلمة فهي حروب منشأها طمع الحكام وفساد أهوائهم وحبهم الاستئثار بالسلطان دون سواهم ومصدر ذلك كله جهلهم بدينهم وارتخاء حبل التمسك به في أيديهم، وأكبر داء دخل على المسلمين في هممهم وعقولهم إنما دخل عليهم بسبب استيلاء الجهلة على حكومتهم. أقول: (الجهلة) وأريد أهل الخشونة والغطرسة الذين لم يهذبهم الإسلام ولم يكن لعقائده تمكن من قلوبهم، ولو رزق الله المسلمين حاكمًا يعرف دينه ويأخذهم بأحكامه لرأيتهم قد نهضوا والقرآن الكريم في إحدى اليدين، وما قرر الأولون وما اكتشف الآخرون في اليد الأخرى ذاك لآخرتهم وهذا لدنياهم وساروا يزاحمون الأوربيين فيزحُمونهم. ما لنا وللحكام نعرض لهم؟ الذي عليّ أن أقول ولا أخشى منازعًا: إنه لم تقع حرب معروفة بين المسلمين للحمل على عقيدة من العقائد أو على تركها، على أن هذا الأمر الذي جاءت به الجامعة، وألجأتنا إلى الكلام فيه خارج عن الموضوع بالمرة؛ لأن الكلام في التسامح الديني مع العلم، لا فى تسامح عقيدة مع عقيدة أو دين مع دين وإلا لأوردنا لها من حروب الطوائف المسيحية بعضها مع بعض وحروبها مع غيرها ما يستغرق أجزاء الجامعة بقية هذه السنة إذا أوجزنا ما استطعنا، هل أذكرها بما كان يقع في القسطنطينية من سفك الدماء بين الأرثوذوكس والكاثوليك على عهد القياصرة الرومانيين؟ هل أذكرها بحادثة برتملي سنتهلير التي سفك فيها الكاثوليك دماء إخوانهم البروتستانت وأخذوهم في بيوتهم على غرة وقتلوهم نساء ورجالاً وأطفالاً، بماذا أذكّر الجامعة من أمثال هذه الوقائع التي اسود لها لباس الإنسانية، وتسلّبت لحدوثها البشرية؟ هل يمكن لأحد أن يروي حادثة مثلها وقعت بين شعوب المسلمين بعضهم مع بعض لخلاف في العقيدة مهما عظم الاختلاف. * * * (تساهل المسلمين مع أهل العلم والنظر من كل ملة) ثم أرجع إلى الأمر الأول من الأمور الأربعة؛ لأن الكلام عليه أقل منه على الأمر الثالث، وإنني لا أستدل على رعاية الإسلام للحكماء من الملل غيرالمسلمة بقول كاتب مسلم، وإنما أرجع في جميع ما أذكر إلى كتب المؤرخين والفلاسفة من المسيحيين وأذكر أسماء جماعة من المسيحيين وغيرهم بلغوا من الحظوة عند الخلفاء وعامة المسلمين وخاصتهم ما لم يبلغه غيرهم قال المستر دراير أحد المؤرخين وكبار الفلاسفة من الأمريكان: (إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين ومن اليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيرًا من الأعمال الجسام، ورقوهم إلى المناصب في الدولة حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا مسنيه) (هو يوحنا بن ماسويه الشهير) وقال في موضع آخر: (كانت إدارة المدارس مفوضة مع نبل الرأي وسعة الفكر من الخلفاء إلى النسطوريين تارة وإلى اليهود تارة أخرى، لم يكن ينظر إلى البلد الذي عاش فيه العالم ولا إلى الدين الذي ولد فيه بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة. قال الخليفة العباسي الأكبر المأمون: (إن الحكماء هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده؛ لأنهم صرف

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة (س1) غمغمة المتصوفة: من الشيخ عبد الله عبد الرحمن بالقايات: قال بعد كلام يعرِّض فيه بعلماء التقليد وعدم الثقة بهم ويثني فيه على المنار ما نصه: (ما يرى سيدي فيمن نطق بالشهادتين أو بطلاق امرأته أو بأي عقد يحتاج في اعتباره إلى صراحة اللفظ نطق به كما تصنعه هذه الفرقة (المتصوفة) في ذكرهم (وأريد غمغمتهم) أهو إسلام صحيح أو طلاق صريح، أو عقد معتبر شرعًا؟ فإن قلتم بصحته كلية فما هذا الذي ينكره الناس على هذه الطائفة؟ وإن رأيت غيره فأي شيء هو؟ أَلَغْوٌ من الكلام، لا يثبت به إسلام، ولا يعطي ما يعطيه اللفظ الصريح من المعاني؟ (ج) الغمغمة هي النطق لا بيان فيه، وأصلها أصوات الثيران عند الذعر وتقع من الناس اضطرارًا يقال: غمغم الأبطال عند الكفاح في الحرب، وهذا هو الذي يناسب المعنى الحقيقي، فإذا عغمغم الإنسان مختارًا فإنما يكون لاعبًا وهازلاً فإذا جاء في هزله بكلمة الشهادة فلا يعتد بها ظاهرًا ولا باطنًا، أما عدم الاعتداد بها في الباطن فلأن اللعب بأصل الدين سخرية وهزء وهو مزيد في الكفر، فكيف يحصل به الإيمان؟ وأما عدم الاعتداد بها في الظاهر فلأنها غير ظاهرة وربما لا يعرف غير المغمغم أنها وقعت في غمغمته؛ ولأن قرينة الهزء والسخرية تصرف الكلام عن ظاهره، ومثل هذا يقال في الطلاق، لا أن الفقهاء من الحنفية والشافعية يعتبرون هزل الطلاق جدًّا. فإذا اعترف بأنه في غمغمته نطق بصيغة الطلاق المعتبرة فربما كان يحكم القاضي عليه بما تقتضيه تلك الصيغة في مذهبه، وإذا كان المغمغم يعتقد ذلك فهو يعمل به أيضًا، والسائل يعلم أن العقود التي من شأنها أن يحكم فيها الحاكم تكون العبرة فيها بظاهر القول وبالعرف، وأما العبادات فالعبرة فيها بما ورد في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة مع الإخلاص في القلب وصحة التوجه إلى الله تعالى. فالناس ينكرون على المتصوفة المغمغمين في الذكر أنهم اخترعوا لأنفسهم عبادة لم يأذن بها الله تعالى في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيتلو لهم قوله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) ويصدق عليهم قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا} (الأعراف: 51) وكل مسلم ألحق في إنكار كل عبادة لم ترد في الكتاب والسنة في ذاتها أو صورتها فقد أخبرنا الله تعالى في كتابه بأنه أكمل ديننا وأتم علينا نعمته فكل من يزيد فيه شيئًا فهو مردود عليه؛ لأنه مخالف للآية الشريفة وللحديث الصحيح (كل من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) . كل بدعة في الدين فهي ضلالة كما ورد في الحديث، وأما البدع التي منها حسن ومنها سيئ فهي الاختراعات المتعلقة بأمور المعاش ووسائله ومقاصده وهي المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ولولا ذلك لكان لنا أن نزيد في ركعات الصلاة أو سجداتها والله أعلم. *** (س2) خرافة المشاهرة محمد أفندي عباسي السمرة ببولاق: أرجوكم إفادتي عن (المشاهرة) وهي أن تدخل امرأة تحمل عقدًا من اللؤلؤ على إحدى النساء الواضعات فيكون أثر ذلك في الواضعة أنها لا تحبل بعد ذلك أبدًا إلا أن تأتي بعقد من اللؤلؤ فتضعه في الماء بشكل مخصوص فإنها بعد ذلك تحبل، وقد أثبتت كثرة التجارب كثيرًا من هذا، فهل ورد عنه شيء في الشرع الشريف؟ (ج) الشرع أباح للناس أو أرشدهم إلى البحث عن منافعهم الدنيوية ليستفيدوا مما ثبتت لهم فائدته ويجتنبوا ما ثبتت لهم مضرته، فلو فرضنا أن التجارب التي ذكرها السائل صحيحة محققة لكان حكمها في الشرع أنه يحرم على المرأة أن تدخل على النساء بعقد من اللؤلؤ؛ لأنها تضرها بمنع الحبَل ثانية لا سيما إذا كان العقد خفيًّا أو كانت النفساء لا تعرف العلاج أو لا تقدر عليه، وأنه يجوز لمن منع حبلها بذلك أن تعالج نفسها بوضع عقد من اللؤلؤ في الماء إذا أرادت إزالة المانع. أما نحن فلا نعتد بتجارب العامة ولاسيما النساء ولا نرضى للسائل أن يصدقهن بهذه المزاعم، وكم لهن من أمثالها كزعمهن في الزار، فالعاقل يشك في مزاعم هؤلاء الجاهلات إذا كانت في ذاتها قريبة في نظر العقل فكيف يصدقهن فيما يكون بعيدًا من النظر كمسألتنا فإن العقل لا يتصور علاقة لعقد اللؤلؤ بأمر الرحم والتناسل لا سيما في صورة الانفصال والبعد.

إيمان المسلمين وأعمالهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إيمان المسلمين وأعمالهم جاء في الجزء 8 من مجلة بشائر السلام نبذة تحت هذا العنوان ملخصها أنه يجوز على مذهب أهل السنة (أن يؤمن أحد بالإسلام إيمانًا حقيقيًّا وتبقى أعماله شريرة) واعترض الكاتب على هذا اعتراضين؛ أحدهما: أن الإيمان الذي لا ينشئ في صاحبه توبة وعملاً صالحًا بل يتركه وسيئاته تفوق حسناته ومضاره تزيد عن منافعه.. . فهو إيمان باطل عديم النفع يحط من كرامة الخلق ويزيد في شقاوة المخلوق. ثانيهما: عجز الإيمان المحمدي عن الخلاص التام. وقد أورد الكاتب بعد الاعتراض الأول كلمات من كتب العهدين تدل على أنه يطلب من الإنسان أن يكون كاملاً، ولكنها لا تدل على أن المؤمن يكون معصومًا من الذنوب، وأورد بعد الثاني كلمات تدل على أن الإيمان بالمسيح كافٍ للخلاص ولكن لم يشترط مع الإيمان عملاً صالحًا. لو كان هؤلاء المعترضون يعتقدون بما يقولون لكانت هدايتهم قريبة وإقناعهم أقرب ولكنهم يلوكون الكلام ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليفتنوا به عامة المسلمين الجهلاء ولا يبالون إن كان الكلام حجة عليهم، عهدهم الجديد ناطق بأن البر والعمل بالناموس الإلهي لا يغنيان عن الإنسان شيئًا وإنما يغني عنه الإيمان بالمسيح فقط وبذلك ينجو ويرث الملكوت وإن كان شر الأشرار وأفجر الفجار والقرآن لا يكاد يذكر الإيمان إلا مقرونًا بذكر العمل الصالح، وورد في السنة الصحيحة أن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان، وهذه السنة مؤيدة بخمس وسبعين آية من القرآن، وهذا ما عدا الآيات التي ذكر فيها العمل الصالح بدون ذكر الإيمان قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) وقال عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًا وَلاَ نَصِيرًا * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} (النساء: 123-124) وقال جل ذكره: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاّ} (الأنفال: 2-4) وقال تقدست أسماؤه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) ، فهذه السورة القصيرة أجمع للفضائل، وأبلغ في الهداية من جميع الكتب التي في العالم سماوية كانت أو غير سماية، وهي كافية لأن تكون دينًا مستقلاً لقوم يتدبرون. إن الشبكة التي يصيد بها الجاهلين هذا الكاتبُ وأمثاله إلى المسيحية هي أن خلاص الإنسان محصور في أن يؤمن - أي: يقول وإن لم يعقل - أن الإله مركب من ثلاثة أصول كل واحد منها عين الآخرين، فالثلاثة واحد، وأن أحد الثلاثة وهو الابن حل في جسم إنسان بواسطة آخر وهو روح القدس فصار هذا الإنسان الإله وابن الإله وإنسانًا وابن الإنسان وصار هو الله ثم إنه سلط أعداءه على نفسه فصلبوه واحتمل الألم واللعنة الإلهية لأجل خلاص الناس من ذنب أبيهم آدم؛ لأنه لم يجد غير هذه الطريقة لخلاص عباده. لا يطلب هذا الكاتب وأمثاله ممن يدعوهم إلى دينه إلا هذا القول الذي لا يعقل ولا يحمل النفس على عمل صالح بل يجرِّئها على جميع المعاصي، والجاهل يحب أن تباح له المعاصي ويكون ناجيًا بكلمة يقولها، فإذا كان دعاة النصرانية قد بدا لهم أن يشترطوا مع هذه الكلمة التي يسمونها إيمانًا ترك المعاصي والأعمال الصالحة فأية مزية لدينهم غير تلك الكلمة التي لا تعقل ولا تفهم؟ ألا يعلم أنه إذا دعا مسلمًا إلى دينه وطالبه بترك المعاصي وبعمل الصالحات فإنه لا يستطيع أن يصيده مهما كان جاهلاً؛ لأنه يقول: إن هذا يكلفني بمثل ما يكلفني به ديني ويزيد علي ثقلاً آخر وهو الإيمان بما لا أعقله ولا أفهمه وهو أن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن الله عجز عن إنجاء الناس بدون أن يهين ذاته العلية بالحلول في أحدهم وبالتألم وبلعن نفسه. المسلمون يعتقدون أن الإيمان يهذب الأخلاق ويصلح الأعمال، وأنه يجوز مع ذلك أن تغلب على شهوته أو غضبه فيعمل شرًّا لا سيما إذا لم يترب على أعمال الإيمان من النشأة الأولى ولكنه يرجع ويتوب عن قريب قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201) وقال سبحانه: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (النساء: 17) ومن التوبة أن يعمل صالحًا يكفر سيئته {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} (هود: 114) فإذا قصر فهو تحت مشيئة الله. فتبين مما ذكرنا بالاختصار أن الإيمان عند المسلمين يثمر الأعمال الصالحة وأن العمل لا قيمة له في إيمان النصارى، أما قول مجلة بشائر السلام في نتيجة الاعتراض الأول: (وبناءً على ما تقدم كل إيمان لا يكون الكمال غايته والتقوى ثمرته فهو إما إيمان كاذب بالإله الحق كإيمان النصارى بالاسم واليهود بالاسم أو إيمان صادق لكنه بإله باطل خيالي قائم على الأوهام) فهو مسلم ولقد أنصفت فيما كتبت عن إيمان النصارى ولم يكن من شأنها ذلك فإن إيمانهم ليس إلا أسماء سموها وأقوالاً لا تعدو الفم؛ لأن العقل ينكرها، ولا يستطيع أن يتصورها. وأما قولها بعد ذلك: (وأظنك لم تنس ذكر القوم الذين هم على الإسلام بالإجماع وهم مع ذلك من أهل العصيان والفجور بحيث يحكم عليهم بالسجن في جهنم مدة لا تنقص عن تسعمائة سنة ولا تزيد عن سبعة آلاف) إلخ، فهذا التحديد فيه لم يصح في كتاب ولا سنة فهو لا يعتد به عند المسلمين، وإن ذكر في بعض الكتب فكم في الكتب من أحاديث موضوعة وأقوال مكذوبة، ولا حجة علينا إلا في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، وأما كلام المؤلفين في أمور الآخرة فلا يعتد به ما لم يكن منقولاً على أنه لا يجب الإيمان فيما يتعلق بعالم الغيب كأحوال الآخرة إلا بالقرآن والأحاديث المتواترة وهي قليلة جدًّا، وهذا الذي قلناه هو الأصل المعمول عليه عند المسلمين. وأما قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} (مريم: 71) فليس خطابًا للمسلمين كما زعم الكاتب؛ لأن الآيات التي قبلها كلها في الكفار فقيل: إن الخطاب لهم خاصة. وقيل: إنه عام. والمراد بورود المؤمنين حينئذ المرور عليها والجثو عندها قبل دخول الجنة وبذلك يعرفون مقدار نعمة الله تعالى عليهم بدخول الجنة. (كلمتان) أختم هذا الرد بكلمتين أولاهما للسلمين الذين يرسلون إلينا هذه الجرائد لنرد عليها: لا يحزنكم أيها المسلمون هذا الاعتداء الذي لم تعتادوه، ولا تعدوه من سيئات حرية المطبوعات فهو من حسناتها؛ لأن هذا الاعتداء على الطعن بدينكم هو الذي يوقظكم من نومكم ويبعث فيكم شعور البحث والاستدلال ويحيي فيكم روح الغيرة الملية والمباراة القومية حتى تعرفوا حقائق دينكم بالبراهين والدلائل، والبحث لا يزيد الحق إلا ظهورًا. والكلمة الثانية للنصارى المعترضين، الذين يسمون أنفسهم مبشرين , وهي: إننا نعتقد أنكم تطعنون بدين الإسلام الذي لولاه لا يثبت دين في هذا العصر المنير مأجورين لا معتقدين بما تقولون وما تكتبون، ولذلك يترك أحدكم التبشير إذا عزل من الجمعية ومنع عنه الراتب الذي كان له، ولو كنتم تعتقدون بالدين لعلمتم أن دين الله واحد وهو تنزيه الباري وتوحيده والإخلاص في عبادته وترك الشرور وعمل البر ونفع العباد، وكنتم ترون أن الإسلام قد خدم العالم الإنساني بهذا الإصلاح المنقح وأنه هو دين الأنبياء أجمعين ظهر في أكمل ارتقاء وأخرج أهل الكتاب من الخلاف والمشكلات ولكن الهوى يصدكم عن هذا فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (المصريون في أوربا وسوء التقليد) لما ولع أمراء المصريين وكبراؤهم بالاصطياف في أوربا دب فساد التقليد في نفوس الطبقات المتوسطة المتصلة بهم فصار الكثيرون منهم يهاجرون إلى أوربا لتبذير الأموال، واقتباس أسوء الخلال. قد علمنا أن شيخًا من هؤلاء استدان مبلغًا من المال وسافر به إلى باريس وقد أتحف بنتًا له في المدرسة السنية برقعة بريدية مصورة (كرت بوستال) أرسلها إليها في البريد، ولو علم القراء ما هي الصورة التي عليها لكان لهم عبرة في هذا التقليد الضار ولا يكون التقليد إلا ضارًّا. تلك الصورة هي صورة أشهر بغي من مومسات باريس وقد صورت على الرقعة عارية لترغيب الفساق بالإقبال عليها وكتب تحت الصورة وصفها ووصف مكانها وكتب الشيخ المصري لبنته تحت تلك الكتابة الفرنسوية انظري يا بنتي ما أجمل هذه الغادة الباريسية! فماذا نرجو من رجال يربون بناتهم هذه التربية وكيف نقول: إن البنات مَلُوَمات على فساد أخلاقهن وأدبهن؟ ولو أن ناظرة المدرسة السنية اطلعت على هذه الرقعة مع البنت لطردتها من المدرسة وأَنَّى لها بالاطلاع عليها. ولا يتوهمن أحد أن هذا الشيخ الجاهل هو من شيوخ العلم أو شيوخ الطريق كلا إنه من المتعممين الذين ليس لهم لقب أفندي أو بيك. * * * (ابن الرشيد وابن سعود في نجد) قد استولى ابن سعود على القسم الجنوبي من بلاد نجد إلى حدود بلاد اليمن فصار في يده نصف البلاد أو يزيد، والباقي في يد ابن الرشيد، ويود جميع الأهالي لو خلصت الإمارة لابن سعود لأنه أعلم وأرحم، وابن الرشيد أجهل وأظلم، والأميران الآن في شبه هدنة؛ لأن ابن الرشيد يتوقع إعانة الدولة العلية وإمدادها إياه بالرجال والسلاح، وهذا دليل على معرفته بعجزه , وعندنا الحكمة في عدم دخول الدولة العلية في هذا الأمر بالفعل؛ لأن عاقبة ذلك وخيمة جدًّا، والخطر متوقع على كلا الحالتين الآتيتين - إذا خلصت الإمارة لابن سعود من غير أن تحاربه الدولة فإنه يكون مواليًا لها وخاضعًا لأمرها كابن الرشيد أو أشد ولاءً وخضوعًا، وإذا غلب على أمر البلاد بعد مناوئة من الدولة فيخشى أن يسقط نفوذها من قلب البلاد العربية، وهذا أحد الخطرين، وأما الخطر الثاني وهو أشدهما فهو ما ينتظر من احتماء ابن سعود بدولة إنكلترا إذا جردت الدولة عليه جيشًا لا قِبَل له به، ولولا أن وصل إلى آذاننا شيء من الهمسات الخفية التي يتناجى بها سعاة الفتن في بلاد العرب لَمَا كان يخطر في بالنا أن يكون شيء من هذا، وقانا الله وبلاد العرب من عواقب هذه الفتن. لهذا قلنا: إن من الحكمة أن لا تسيء الدولة العلية أحد الخصمين بالفعل، ولا شك أن العاقبة الحسنة تكون لها إذا اتقت هذين الخطرين (والعاقبة للمتقين) .

الإسلام والنصرانية ـ مع العلم والمدنية

الكاتب: محمد عبده

_ الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم طبيعة الإسلام مع العلم بحكم أصوله (تمهيد للأصل الأول) للإسلام في الحقيقة دعوتان: دعوة إلى الاعتقاد بوجود الله وتوحيده ودعوة إلى التصديق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فأما الدعوة الأولى فلم يُعَوَّل فيها إلا على تنبيه العقل البشري وتوجيهه إلى النظر في الكون واستعمال القياس الصحيح والرجوع إلى ما حواه الكون من النظام والترتيب وتعاقد الأسباب والمسببات ليصل بذلك إلى أن للكون صانعًا واجب الوجود عالمًا حكيمًا قادرًا وأن ذلك الصانع واحد لوحدة النظام في الأكوان، وأطلق للعقل البشري أن يجري في سبيله الذي سَنَّتْهُ له الفطرة بدون تقييد فنبَّهه إلى أن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وتحريك الرياح على وجه يتيسر للبشر أن يستعملها في تسخير الفلك لمنافعه وإرسال تلك الرياح لتثير السحاب فينزل من السحاب ماء فتحيي به الأرض بعد موتها وتنبت ما شاء الله من النبات والشجر مما فيه رزق الحي وحفاظ حياته - كل من آيات الله عليه أن يتدبر فيها ليصل منها إلى معرفته. ثم قد يزيده تنبيهًا بذكر أصل للكون يمكن الوصول إلى شيء منه بالبحث في عوالمه فيذكر ما كان عليه الأمر في أول خلق السموات كما جاء في آية: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء: 30) ونحوها من الآيات، وهو إطلاق لعنان العقل البشري شوطه الذي قدر له في طريق الوصول إلى ما كانت عليه الأكوان، وقد يزيد التنبيه تأثيرًا في إيقاظ العقل ما يؤيد ذلك من السنة كما جاء في خبر من سأل النبي صلى الله عليه وآله: أين كان ربنا قبل السموات والأرض فأجابه عليه السلام: (كان في عماء تحته هواء) [1] والعماء عندهم السحاب، فنرى القرآن في مثل هذه المسألة الكبرى لا يقيد العقل بكتاب، ولا يقف به عند باب، ولا يطالبه فيه بحساب؛ فليقرأ القارئ القرآن، يغنني عن سرد الآيات الداعية إلى النظر في آيات الكون - {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} (الأعراف: 185) ، {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ المَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} (يس: 33) - {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُم} (الروم: 22) وأمثال ذلك، فلو أردت سرد جميعها لأتيت بأكثر من ثلث القرآن بل من نصفه في مقالي هذا. يذكر القرآن إجمالاً من آثار الله في الأكوان تحريكًا للعبرة، وتذكيرًا بالنعمة، وحفزًا للفكرة، لا تقريرًا لقواعد الطبيعة، ولا إلزامًا باعتقاد خاص بالخليقة، وهو في الاستدلال على التوحيد لم يفارق هذا السبيل، انظر كيف يقرع بالدليل: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (المؤمنون: 91) . فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي، والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري، (وهو ما نسميه بالنظام الطبيعي) فلا يدهشك بخارق للعادة، ولا يغشي بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية، وقد اتفق المسلمون إلا قليلاً ممن لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل ولا من الكتب المنزَّلة [2] فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله وبأنه يجوز أن ينزل كتابًا أو يرسل رسولاً. وقالوا كذلك: إن أول واجب يلزم المكلف أن يأتي به هو النظر والفكر لتحصيل الاعتقاد بالله لينتقل منه إلى تحصيل الإيمان بالرسل وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة. وأما الدعوة الثانية فهي التي يحتجّ بها الإسلام بخارق العادة، وما أدراك ما هو الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي عليه السلام؟ هذا الخارق للعادة هو الذي تواتر خبره، ولم ينقطع أثره، هذا هو الدليل وحده وما عداه مما ورد في الأخبار سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وَهِيَ فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على سبيل تقوية العقد لمن حصل أصله، وفضل من التأكيد لمن سلمه من أهله، ذلك الخارق المتواتر المُعَوَّل عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم وقد نزل على وتيرة واحدة، هاديًا للضال مقومًا للمُعْوَجِّ كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذًا لهم من خسران كانوا فيه وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه حتى لقد دُعِيَ الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجوزا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به إلى أن ألجأوهم إلى الدفاع عن حقهم وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جِوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم فإما وجدوا طريقًا لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلاً على المدعى فعليهم أن يأتوا به قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه} (البقرة: 23) وقال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: 82) وقال غير ذلك مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رغم من العقل. معجزة القرآن جامع من القول والعلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم، فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها وأطلقت له حق النظر في أحنائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها حظه الذي لا ينتقض، فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها، أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم أو شفاء علة من بدن فهي مما ينقطع عنه العقل، ويجمد لديه الفهم، وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم، ولم تضئ عقولهم بنور العلم، وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات [3] . ثم إن الإسلام لم يتخذ من خوارق العادات دليلاً على الحق لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم ترد فيه كلمة واحدة تشير إلى أن الداعين إليه يمكنهم أن يغيروا شيئًا من سنة الله في الخليقة ولا حاجة إلى بيان ذلك فهو أشهر من أن يحتاج إلى تعريف. *** (الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل الإيمان) فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي، والنظر عنده هو وسيلة الإيمان الصحيح فقد أقامك معه على سبيل الحجة وقاضاك إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن إلى سلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه. بلغ هذا الأصل بالمسلمين أن قال قائلون من أهل السنة: إن الذي يستقصي جهده في الوصول إلى الحق ثم لم يصل إليه ومات طالبًا غير واقف عند الظن فهو ناج، فأي سعة لا ينظر إليها الحَرِجُ أكمل من هذه السعة. *** (الأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض) أسرع إليك بذكر أصل يتبع هذا الأصل المتقدم قبل أن أنتقل إلى غيره: اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا يُنْظَرُ إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أُخِذَ بما دل عليه النقل وبقي في النقل طريقان طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمة وتفويض الأمر إلى الله في علمه، والطريق الثانية تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل، وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم مُهِّدَتْ بين يدي العقل كل سبيل، وأُزِيلَتْ من سبيله جميع العقبات، واتسع له المجال إلى غير حد، فماذا عساه يبلغ نظر الفيلسوف حتى يذهب إلى ما هو أبعد من هذا؟ أي فضاء يسع أهل النظر وطلاب العلوم إن لم يسعهم هذا الفضاء؟ إن لم يكن في هذا متسع لهم فلا وسعتهم أرض بجبالها ووهادها، ولا سماء بأجرامها وأبعادها. *** (أصل ثالث من أصول الأحكام في الإسلام البعد عن التكفير) هلا ذهبت من هذين الأصلين إلى ما اشتهر بين المسلمين وعرف من قواعد أحكام دينهم وهو: إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حُمِلَ على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر، فهل رأيت تسامحًا مع أقوال الفلاسفة والحكماء أوسع من هذا؟ وهل يليق بالحكيم أن يكون من الحمق بحيث يقول قولاً لا يحتمل الإيمان من مائة وجه؟ إذا بلغ به الحمق هذا المبلغ كان الأجدر به أن يذوق حكم محكمة التفتيش البابوية ويؤخذ بيديه ورجليه فيلقى في النار. *** (أصل رابع في الإسلام الاعتبار بسنن الله في الخلق) يتبع ذلك الأصل الأول في الاعتقاد - وهو أن لا يعول بعد الأنبياء في الدعوة إلى الحق على غير الدليل وأن لا ينظر إلى العجائب والغرائب وخوارق العادات - أصل آخر وضع لتقويم ملكات الأنفس القائمة على طريق الإسلام وإصلاح أعمالها في معاشها ومعادها، ذلك هو أصل العبرة بسنة الله فيمن مضى ومن حضر من البشر وفي آثار سيرهم فيهم، فما جاء في الكتاب العزيز مقررًا لهذا الأصل {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) ، {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (الإسراء: 77) ، {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم} (الروم: 9) إلخ. في هذا يصرح الكتاب بأن لله في الأمم والأكوان سننًا لا تتبدل والسنن الطرائق الثابتة التي تجري عليها الشئون وعلى حَسَبِهَا تكون الآثار وهي التي تسمى شرائع أو نواميس ويعبر عنها بالقوانين، ما لنا ولاختلاف العبارات والذي ينادي به الكتاب أن نظام الجمعية البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل وعلى من يطلب السعادة في هذا الاجتماع أن ينظر في أصول هذا النظام حتى يرد إليها أعماله ويبني عليها سيرته وما يأخذ به نفسه، فإن غفل عن ذلك غافل فلا ينتظرن إلا الشقاء، وإن ارتفع إلى الصالحين نسبه، أو اتصل بالمقربين سببه فمهما ب

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الشذرة الثامنة من جريدة أراسم [*] (تجلي العلم في العمل) زرت بالأمس أنا وأميل ولُولا مسبك قصدير في بانزانس واقع على ضفاف خليج الجبل ولست أقضي العجب من منعطف هذا الخليج الذي كأنه في عظمه وجماله صدر تيتيس [1] أحاطت به السكة الحديدية فجعلت له من شريطها قلادة. يوجد المسبك تجاه الخليج ويتألف بناؤه من أماكن قديمة تقوم على أعمدة من الخشب تغطيها سُقُفٌ من البلاط الأسود لا يتردد الناظر إليها في أن يحسبها سقائف لانخفاضها وانفراجها للرياح من كل ناحية. رأينا في إحدى هذه السقائف أكوامًا من تراب أسمر يسمى بمعدن الحجر جمعت فيه ووزعت على غير نظام وتنحصر أعمال المسبك في إحالة هذا التراب القسطني اللون (كذا) إلى معدن يطلبه التجار كثيرًا. كانت زيارتنا للمسبك في نحو الساعة التاسعة من المساء أي بعد غروب الشمس بزمن طويل في ليلة ظلماء كان يتخلل ظلامها بصيص نار الأفران التي بنيت بالآجر وجعل لكل منها باب من حديد في وسطه ثقب مستدير كأنه حدقة من نار. يصهر القصدير وبعد مكابدته مِحَنًا مختلفة يتجرد مما كان ممتزجًا به من المواد المكدرة لصفائه وهي الحصا والكبريت والنحاس فإذا تم ذلك جاء وقت صبه وهي الساعة المشهورة. يخرج هذا المعدن الثقيل الصافي من ثقب في أسفل الفرن وقد بلغ من الحرارة درجة البياض ويسقط في خابية من الحديد المصبوب فيذكر الناظر ساعة باستدارة سطحه ولمعانه القمر في إحدى ليالي الصيف أبيض ساطعًا. إذا صُبَّ القصدير في الخالية آخر مرة (ولا بد من إذابته أكثر من مرة) ألقيت عليه أغصان من الشجر الأخضر خصوصًا أغصان التفاح فتفوره وتهيجه وويل حينئذ للعمال أو الناظرين الذين لا يبادرون بالابتعاد عنه ليتقوا عوادي هذا المعدن الغضبان. ذلك أن فقاقيع الهواء التي تنفصل منه ترتفع معها قطيرات محرقة تسمع لها نشنشة تنبجس من كل ناحية انبجاس الشرر من باقة نار الزينة. لا جرم أن أميل ولُولا لم يدركا السر الكيماوي في جميع هذه الاستحالات التي تعاورت معدن الحجر قبل صيرورته قصديرًا بل إنهما ربما لم يحصل في ذهنهما من مجموع ما حصل من الأعمال إلا معنى في غاية الإبهام ولكن قد شاقهما من هذا المنظر جدته فإنهما رجواني أن آخذهما إلى المسبك مرة أخرى. أرى أن القائمين على تربية الناشئين قد أفرطوا في التفريق بين العلم وبين ما يربطه بالصناعة من الروابط ومع كوني لا أنكر أن ما في المدارس من المعامل الكيماوية والمجموعات التعليمية والدروس العامة هو من المساعدات العظمى على التعليم، وأقصد قصدًا أكيدًا أن أستعين به على تعليم ولدي في مستقبله تراني أفضل الآن أن أختلف به إلى معهد آخر تتمثل فيه أمامه الأعمال وتتراءى له الوقائع. زرنا معًا متحفًا من متاحف الدفائن الأثرية في بانزانس، وهي ليست كثيرة في بلاد كرنواي والكثير فيها إنما هو المعادن المفيدة كالرصاص والقصدير والنحاس وغيرها من المعادن الحجرية الغريبة فلم يلفت ذهن (أميل) ما في خزائنه من قطع هذه الدفائن المرتبة إلا قليلاً، وأما دولوريس فأخص ما استرعى نظرها ما يوجد فيها من فلذ البلور وبعض الحجارة التي لو تناولتها يد الصناعة لصارت من مواد الزينة الجميلة. ثم أخذنا طريقنا بعد ذلك بأيام إلى متحف كبير يمتد مكشوفًا على ضفاف المحيط بين جبال من الصوان بَعَّجَتْهَا يدُ الإنسان فكان مَرْآه في نظر الفلاحين أحسن من جميع متاحف الدنيا. ففرق عند الطفل بين أن يرى من وراء الزجاج معادن حجرية رتبت في رواق ترتيبًا خاليًا من دواعي التأثر وبين أن تتمثل أمامه الصخور في وضعها الطبيعي ويشاهد الأرضين وقد شاه وجهها وانقلبت ظهرًا لبطن وكتل البلاط الأسود والرخام السماقي في جسامتها المريعة وقد تناوبها المصدع وبارود المدفع فأوسعاها صدعًا وأشبعاها كسرًا، وقد هاج شوق (أميل) منظر أعمال النحت هيجًا شديدًا فطفق يخاطب النحاتين، ولا بدع فالإنسان في سِنِّهِ لا يستنكف أن يخاطب كل من يراه؛ لأن قلبه حينئذ لا يكون قد أفسده الكِبْر، وقد استفاد من مجاورته معهم فلم تذهب عليه عبئًا. إن فتى إيقوسيًّا اسمه هوج ميلار صار من أشهر العلماء في بريطانيا العظمى ببركة تكسيره الأحجار ونحتها من منحت حجر رملي قديم واستولى استيلاء المالك على إقليم ذلك المنحت الحافل بالدفائن الأثرية وأصبح اسمه كأنه علم له. ربما احتذى (أميل) مثال هذا العالم إذا زرنا معا إقليم ديقُو نشَايرْ فاعتضد المطرقة وحمل المتحاف فإني أراه مدفوعًا على ذلك بسائق الطبع؛ لأنه يشتهي كغيره من أترابه أن يهجم على ما يلاقيه من العقبات فيدمره ويزيله؛ ولأن الدفائن الأثرية التي يستخلصها الإنسان بنفسه من الصخرة أعلى في نظره كثيرًا مما يجده منها مرتبًا في المتاحف ذلك؛ لأن آثار الأجسام العضوية تكون غالبًا من الاختباء في باطن الحجر بحيث إنه لا بد قبل استخلاصها من تمييزها منه بل ربما صح لي أن أقول: إنه لا بد من تخمين وجودها بما يبدو من تحت غطائها الجافي من سمة تدل عليها أو طرف من أطرافها ثم إن الصخرة تارة تكون صلبة فتقاوم منحات الناحت وتحتمله وطورًا تكون هشة فتتلاشى وتتفتت وفي كلتا الحالتين يَهدم الخرْق والخطأ بنقرة واحدة عملَ الدهر في قرون كاملة وما أكثر ما يتعلم الطفل في هذا الجهاد. نعم إن (أميل) سيخدع فيه غير مرة وسيتفق له أن يخسر لقطاته أو يعيها على حين اعتقاده أنه حصل عليها سالمة من كل نقص ولكن لا شيء في هذا فإن مثله من اليافعين إذا غلبته العقبات المادية وجد عليها وبعثه ذلك على الانتقام لنفسه منها فلا يلبث أن يظفر بها. كأن مشاهدة المناحت واسطة ينتقل بها الذهن من علم طبقات الأرض إلى فن العمارة فسيذكر (أميل) إذا عرض له في طريقه ما في المدن من الأبنية الفخيمة أن حجارتها تحنت من قاع البحار القديمة، وإذا رأى المعابد والقصور فإن نوع حجارتها سيحضر في ذهنه الصخرة التي نحتت منها والمخلوقات العضوية القديمة التي صارت هذه الصخرة رَمْسًا لها. العلم الذي يحصله الإنسان بعرق جبينه ربما لا يكون واسعًا ولكنه يكون متينًا راسخًا خذ لذلك مثلاً: الزهرة التي تُجْنَى من غَوْر بعد اقتحام ما كان دونها من العقبات يكون لها في ذاكرة جانيها آثار أقوى مما يكون لزهرة رآها بلا عناء مجهزة محفوظة في إحدى صحف المجموعات النباتية. وما يجمعه المرأ بنفسه من المحار والصدف على شاطئ البحر يدرب بصره على إدراك ما يميزه من صفاته الظاهرة أكثر مما يدربه على ذلك ما يوجد منه مرتبًا ومَعَنْوَنًا في رواق مُعَدّ له فالبحث يُكسب البصر واليد دربة ومرانة. أنا لا أشك في أن التجارب الكيماوية والطبيعية مفيدة لمن منحوا الميل إلى التعلم ولكني أرى أن عامة الأطفال قد يبدون من الارتياح إلى العلم معمولاً به في الصناعة ومن الانفعال بما يرونه من آياته فيها أكثر مما يبدونه لمثل هذه التجارب وقلما يوجد معمل من المعامل الكبيرة إلا وهو أيضًا مدرسة كبرى للعقل فما أبهر ما يُرى فيه من قوى للطبيعة مقيدة ومطلقة و (كلٍّ) مؤلف من عجلات وأسنان تسحق الحجر سحقًا وتمضغ الحديد ومضغًا وتقطع الخشَبَ قطعًا وآلاف مؤلفة من إنباض البخار الذي يحرك جسم هذا (الكل) وإنسان استبدل بأعضائه هذه الأعضاء الصلبية في كده وكدحه فحلت محله وجرت على مقتضى إرادته وقام هو عليها يلاحظ مجاهداتها العجيبة بعين قريرة ساكنة. نعم إن هذا المشهد لا يأخذ أول الأمر إلا ببصر اليافع ولكنه متى كان فيه شيء من الشوق إلى العلم لا يلبث أن يسأل عن سبب هذه الحركات الاستقلالية وعَمَّا للمواد بعضها على بعض من التأثير المتناوب وبالجملة عن سر الطرق التي تحيل المادة الفطرية إلى محاصيل صناعية. ليس أحقر الأشياء بأقلها دائمًا في صنعة إثارة للشوق ولا ملاحظته بأقل جدوى في التعليم فعلبة الكبريت والدبوس والشمعة (كما بَيَّنَه فاراداي [2] حق البيان) لها بعلمَيْ الطبيعة والكيميا تعلق يدركه كل واحد من الناس ويعرفه لأول نظرة. أنا أعلم أن تحصيل عِلْمِ عِدَّةٍ من الصناعات والاختصاص به يقتضي أن يعيش الإنسان أضعاف عمره ولذلك لا أرجو مطلقًا أن (أميل) إذا رأى غيره يشتغل بحرفة يحيط خيرًا بأسرار العمل فيها. على أن الشبان أقل حاجة إلى الوقت من غيره فلو أن القائمين على التعليم أحسنوا في توجيهه إلى غايته ما شككت أبدًا في أن الطفل الذي بين الثانية عشرة والثالثة عشرة من عمره يتعلم في المعامل شيئًا كثيرًا. وجملة القول أن لدينا في جميع المدن الكبرى بل وفي القرى كثيرًا من معاهد العمل التي لو اختلف الطفل إليها لأدرك بالعيان والحس بعض قوانين المادة وتعلم حب العامل وتعظيمه، وكانت أقل فائدة له من ذلك: ملاحظة طرق الصناعة أو الزراعة إن لم يباشر شيئًا من أعمالها بيديه وتلك مزية أخرى له فليت شعري هل يصح في نظر العقل أن نغفل هذه الينابيع المتدفقة للعرفان وتبخس حقوقها من العناية وتكون دراسة الألفاظ هى موضع الاهتمام والرعاية. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

مثال من أمثلة تسامح الإسلام وضيق صدر المسيحية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مثال من أمثلة تسامح الإسلام وضيق صدر المسيحية تعرض صاحب مجلة الجامعة للكلام في علم العقائد الإسلامية وهو لا شك جاهل به؛ لأنه لو عرفه لكان مسلمًا أو لو كان مسلمًا لعرفه، فزعم أن علماء الكلام (وهو العلم الذي وضع لإثبات العقائد وردّ الشُّبَهِ عنها) ينكرون ارتباط الأسباب بالمسببات، وإن كان القرآن يثبتها. وتعرَّض للكلام في طبيعة الدينين الإسلامي والمسيحي فزعم أن طبيعة الإسلام تنافي العلم والحكمة دون طبيعة المسيحية ولذلك ارتقت العلوم في أوربا وماتت في البلاد الإسلامية يعني أن طبيعة الإسلام حكمت على المسلمين بالجهل والغباوة والبعد عن المدنية، ونتيجة هذا أنهم لا يرتقون إلا إذا تركوا هذا الدين وصاروا نصارى {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى} (البقرة: 120) وتعرض للكلام في تاريخ بعض حكماء الإسلام، فأورد عنه ما يقتضي كفره وهو غير صحيح. كل هذا في جزءٍ واحد من أجزاء مجلته وهو أعظم جناية جناها على قارئيها من المسلمين؛ لأنه يشكك غير العالم الراسخ في دينه، والشك في الدين كفر. قامت قيامة من اطلع على هذا الجزء من أذكياء المسلمين وعدوا هذه المجلة أضر عليهم من المجلات النصرانية الدينية التي تطعن في الإسلام طعنًا صريحًا؛ لأن مجلة الجامعة تكلمهم بلسان العلم المحبوب عندهم بطبيعة دينهم فيخشى أن يغتر الغافل بما فيها، وتلك المجلات والجرائد تقابلهم بالعدوان الظاهر فينفرون منها. وقد علم القراء أن المستائين رجعوا إلينا وإلى إمام من أئمتنا راغبين في الردّ ورأوا أن ذلك الإمام كتب في بيان الحقيقة كتابة أثنى فيها على صاحب الجامعة وعلى مجلته على ما كان منه، وأن تلك الكتابة كانت مثال الأدب والكمال الذي يليق بسعة صدر الإسلام وتسامحه مع المخالفين، وإن كانوا طاعنين وقادحين، والتمس له العذر على طعنه بالدين القيّم وبأعظم علمائه وحكمائه. وَرَأَوْا أيضًا أن المنار قد حسن الظن فيه واعتذر عنه وَبَرَّأَهُ من سوء القصد. ولكن صاحب الجامعة لم يرض بذلك كله وأثبت لنا في الجزء الأخير أنه متعمد لذلك الطعن ومُصِرّ عليه. وقد قابلنا على الاعتذار عنه بالسب والشتم. أما شتمه لنا فلأننا قلنا أنه قال: إن تلك المقدمة تنتج هذه النتيجة. يعني أن (الفضيلة والحقيقة والضمير) التي يلهج بأسمائها تقضي علينا أن نقول: إنه لا يعرف اللغة الفرنسية إذا هو قال إننا لا نعرفها. وأما شتمه للإمام صاحب الرد فلم ينتحل له سببًا والسبب معروف وهو تأثير النصرانية في عدم التسامح وحملها على الشدة مع المخالف بقدر الاستطاعة. وفي مصر الآن من الحرية ما يسمح للصغير أن يتسامى ويتسلّق للطعن في الكبير، وربما زين الغرور لصاحبه أن كلام الوضيع في الرفيع هي الطريقة المثلى للانتقال من الضعة إلى الرفعة لذلك نرى أكثر المتطفلين على إنشاء هذه الجرائد التي تبرز كل حين في مصر ثم تخفى كفقاقيع الماء يستهلون جرائدهم بالنيل من الجرائد الغنية المنتشرة توهمًا أنها تهتم بالرد عليهم فيكونون سواء وينالون ما نال أولئك من الشهرة والثراء، ولا نرضى هذه الخطة للجامعة وصاحبها. قال بعض الناس الذين رأوا الجامعة الأخيرة للإمام: أرأيت ما كان من صاحب الجامعة الذي أثنيت عليه وعلى مجلته حتى رفعتها إلى أعلى منزلة للمجلات. فقال الإمام: (لا خسارة في حسن الأدب) ولم يزد على ذلك شيئًا. فهل يتوهمنّ الرصيف المحترم صاحب الجامعة أن صاحب هذا الأدب الباهر يتنازل تواضعًا إلى تصحيح مقاله والعناية بإرشاده بعد العلم بأنه لا قابلية فيه لذلك ولا استعداد، ولا يعرف قيمة هذا الإرشاد، أم يتوهمن أن أحد تلامذته يحفل برد سفسطة الجامعة وتحريفها الكلم لأجل تصحيح أغلاطها. أما ما تفتأت به على المسلمين وتتقوله على اعتقادهم فإننا نبّين الحق فيه لا بصفة رد أو مناظرة بل نجعله في باب رد شبهات المسيحيين وحجج المسلمين؛ لأن الجامعة التي كان اسمها (الجامعة العثمانية) ثم صار اسمها (الجامعة) فقط قد صارت (الجامعة النصرانية) ولا نعيب صاحبها بخدمة الدين الذي ينتسب إليه ولكننا ننصح له بالتروي والاعتدال. المنار مجلة مِلِّيَّة، كما أنها علمية أدبية، وهي -مع ذلك- لا تتعرض لدين المخالفين إلا ردًّا على ما يعتدون به على الإسلام. والجامعة لا تعترف بأنها مجلة ملية مسيحية وهي مع ذلك تطعن في الإسلام والمسلمين ابتداءً. وتفتحر الكلام في ذلك افتحارًا، فهي في ظاهرها علمية أدبية صحية كالمقتطف والهلال وفي باطنها دينية ملية كراية صهيون وبشائر الإسلام والمشرق ونحب لها أن يكون ظاهرها كباطنها. قلنا: إن صغار التلامذة لا يحفلون برد سفسطة الجامعة التي سمتها ردًّا فإن القيد الذي خلفته لتصحيح زعمها إنكار المتكلمين للأسباب (وهو أنهم ينكرونها كما يفهم الفلاسفة) لا يفيدها شيئًا. فإن قولها الأول بالإنكار كان مطلقًا وحكم المطلق أن يجري على إطلاقه كما هو معلوم. وقولها: إن ابن رشد كَفَّرَ الأشعرية وقال بضلالهم لأمور نسبها إليهم منها إنكار الأسباب الضرورية. واستدلالها بذلك على أن المتكلمين ينكرون الأسباب كما يفهمها الفلاسفة هو حجة عليها؛ لأن ابن رشد يرد على الأشعرية بذلك ردًّا دينيًّا - وهو من علماء الدين الراسخين - لأنه بنى عليه التكفير والتضليل، والفلاسفة لا يسمون مخالفهم كافرًا فكأن ابن رشد يقول: إن من أنكر الأسباب فهو عند المسلمين كافر أو ضالّ؛ لأن من أصول الإسلام التي يشهد لها القرآن وتنطبق على سيرة السلف والخلف المهديين أن الأسباب مربوطة بالمسببات وأن للكون سننًا ونواميس مطردة، قال الله تعالى فيها: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) . وأما زعمه أن المعتزلة ليسوا من المتكلمين، فكل طالب علم يعرف تقوّله فيه على المسلمين، فالمتكلمون منهم المعتزلة ومنهم الأشاعرة ومنهم الماتريدية. وكذلك الفقهاء منهم الحنفية والشافعية والمالكية. وكما اختلف هؤلاء في بعض المسائل الفقهية وكلهم فقهاء اختلف أولئك في المسائل الكلامية وكلهم متكلمون. والجميع مسلمون من أهل القبلة. ومن أعجب المزاعم زعمه أن الاعتقاد بوجود النواميس (أي سنن الكون) والاعتقاد بتغيرها نقيضان لا يجتمعان. وهو يعلم أن الفلاسفة أنفسهم يقولون بإمكان تغير النواميس بل يقولون بأن التغير حدث ويحدث بالفعل، وهو ما يعبرون عنه بفلتات الطبيعة. فإن احتاج الفلاسفة إلى تأويل هذه الفلتات فالمسلمون أحوج؛ لأن أساس هذه الفلسفة كلها قوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) . ومما يُضْحِك صغارَ التلامذة استدلالُه على معاداة الإسلام للعلم والعقل بكلمة جارية على ألسنة العامة لا يعرف قائلها وهي: (من تمنطق تزندق) ويفهمون منها أن من تعلم المنطق صار زنديقًا. هذه الكلمة لعاميٍّ مجهول في شخصه وفي ملته ودينه، والدليل على كونه عاميًّا أن معنى (تمنطق) لبس المنطقة وليس معناها أنه تعلم المنطق خلافًا لما يُوهِمُه (المصباح) ، يستدل بهذه الكلمة صاحب الجامعة الذي لا يراعي في قوله إلا (الحقيقة والضمير) على ما ذكره وينسى أو يتناسى أنه لا يوجد طالب علم في المسلمين لم يقرأ المنطق وأن الأزهر لا يعطي شهادة العالمية إلا لمن يؤدي الامتحان في علم المنطق ومثله جميع المدارس الإسلامية. ومن كلام حجة الإسلام (من لا يعرف المنطق فلا ثقة بعلمه) . لا يبعد أن يكون صاحب الجامعة قد كتب ما ذكرنا عنه وهو يعتقد أنه مموِّه. ويقرب أن يكون مغترًّا بما أجاب به عن تخطئته في تلخيص فلسفة ابن رشد؛ لأن سنده في هذا الجواب ثلاثة أمور: أحدها: زعمه أن النساخ من العرب كانوا يحذفون من كتب ابن رشد المواضع المهمة أو يبدلونها فرارًا من الملام والاضطهاد. أي أن أولئك النساخ كانوا علماء بالفلسفة وبعلوم الدين ومكلفين بأن يتصرفوا بما ينقلونه بحسب معارفهم حتى يكون الكتاب مشتملاً على فلسفة الناسخ لا فلسفة المؤلف. فإذا خالفوا لامهم من استأجرهم للنسخ أو اضطهدهم! ! ! ثانيها: أن الفيلسوف رينان - الذي نزهته الجامعة عن التعصب والذي علمنا عنه أنه كان أشد المتعصبين على الإسلام حتى إن السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده ناظراه في باريس وأرجعاه عن كثير من خطئه - قال: إن العرب أخطئوا في فهم فلسفة اليونان ونقلها. ومنهم ابن رشد. ثالثها: أنه (لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن الإفرنج أنفسهم ولا يشترط في هذا الأخذ سوى حسن اختيار المؤلف أي أن يكون ثقة ومنصفًا غير متعصب لفريق دون فريق. وهذا ما توخته الجامعة) اهـ بنصه. ولاحتمال اغترار الكاتب بهذه المقدمات التي صحح بها قوله نبشره بأنها لا تروج عند أحد طلاب العلم لأمور: أحدها: أن العرب قد اعتنوا بأمر النقل والرواية اعتناء لم يسبقهم به سابق، ولم يلحقهم فيه لاحِق، ومن آثار ذلك أنهم نقلوا فلسفة اليونان بغاية الدقة والإتقان، وقد تعلموا اليونانية ولهم فيها قواميس، وقد اعترف لهم الإفرنج المنصفون بذلك وفضَّلوهم به على أنفسهم ومنهم سيديو المؤرخ الشهير. ثانيها: أن الإفرنج برعوا في علوم التجربة ولكنهم لا يوثق بهم في علوم النقل فكتبهم طافحة بالكذب على الإسلام والمسلمين في دينهم وتاريخهم. قال سيديو في مبحث باشتغال العرب بالعلوم الرياضية: (وليس للعرب مجرد نقل كتب اليونان حرفيًّا كما زعم بعض الإفرنج) ثم ذكر أنهم زادوا عليها ما اخترعوه في هذه الفنون. وقال في أول المبحث الذي عقده في عدم اقتصار العرب على شرحهم فلسفة أرسطو ما نصه معربًّا: (زعم الإفرنج أنه لم يكن فلسفة عربية، وما ذاك إلا لجهلهم بأشغال العرب فإن جميع الدروس بمدارس أوربا في القرون المتوسطة مستمدة من تآليف العرب الفلسفية) إلخ وقال غير ذلك بمعناه. ثالثها: غير معقول أن الذين كانوا يستنسخون الكتب الحكمية كانوا يرضون بأن يغير النساخ فيها وغير معقول أن النساخ كانوا يستطيعون التصرف في تلك الكتب ويعملون بتلك الاستطاعة. رابعها: أن ما نقلته الجامعة عن الإفرنج غير موثوق به؛ لأن صاحبها غير عالم بالفلسفة فيستطيعَ نقلها من لغة إلى لغة؛ لأنه إذا كان لم يفهم فلسفة المتكلمين بالعربية فكيف يفهم فلسفة ابن رشد واليونان من الفرنسية؟ ولو فرضنا أنه أحسن الفهم فلا يسهل علينا أن نفرض أنه حسن القصد؛ لظهور تعصبه على الإسلام والمسلمين، وإصراره على هذا التعصب ومُمَاراته ومُكَابرته فيه بعد بيان الحق له بالتي هي أحسن. وقد زعم في هذا الجزء أن المسلمين كاليهود والنصارى يعتقدون أن العالم وجد منذ بضعة آلاف من السنين وليس هذا من اعتقاد المسلمين في شيء. فما يدرينا أن كل نقله من هذا القبيل. وأما كلام الجامعة فيما سمته الأمور الجزئية فحسبها فيه الخلط بين الاصطلاحات العلمية ومعاني الكلم اللغوية. وزعمها أن ما قاله الإمام في علاقة الإنسان بالخالق غير صحيح؛ لأن رنان أفرد فصلاً لهذا البحث استعان فيه بكلمات أرسطو اليونانية. وهل يقول عاقل: إن قول فلان غير صحيح لأن فلانًا خالفه فيه وما يدري صاحب الجامعة أن ما قاله الإمام هو الصحيح وما قاله رنان هو الخطأ إن صح نقلها عن رن

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ باب الأخبار والآراء (الإسلام والنصرانية، مع العلم والمدنية) قد نشرنا من هذا الكتاب مقالين أحدهما اضطهاد النصرانية للعلم بمقتضى أصولها، نشر في الجزء الحادي عشر الماضي واقتبسته جريدة المؤيد، وثانيهما أصول الإسلام القاضية بالتسامح مع العلم أينما وجد وإكرام العلماء من أي ملة كانوا نشر في هذا الجزء، ويلي هذا مقال آخر في نتائج هذه الأصول الإسلامية المذكورة في هذا الجزء وآثارها في ترقية العلم والعمران، وإيجاد مدنية فاضلة للإنسان، وسينشر في الجزء الآتي مؤيدًا بالشواهد التاريخية، وشهادات المؤرخين والفلاسفة من الأمم الأوربية، ويتبع هذا مقال رابع في شرح حالة المسلمين في هذا العصر, وما نُكبوا به في كل قطر، ويختم الكلام بمقال خامس في كيفية معالجة الداء، وبيان النجاة من البلاء، بحسب رأي هذا الطبيب الروحاني، والإمام الرباني، لا زال ذخرًا للإسلام ومرشدًا للأنام، وسنشر ذلك تباعًا في المنار، وربما وفقنا للتعجيل ببعض الأجزاء وإصدارها قبل وقتها إكرامًا للقراء، فقد رأينا منهم إقبالا على ما نُشر وإعجابًا به لم نر ما يشابهه إلا إعجابهم بالرد على موسيو هانتو، ولا غرو فهذه الحِكم متدفقة من ينبوع واحد، لا ينكره مكابر ولا حاسد. * * * (عبرة وتنبيه في موت وجيه) كتب إلينا من بومباي (الهند) أنه توفي فيها (حسني بك نائب سفير الدولة العلية) فيها فاحتفل المسلمون بتشييعه احتفالاً عامًّا وغلقوا الدكاكين وتركوا جميع الأعمال عامة يومهم، وسيرسلون كتابًا يعزون به أهله في الآستانة العلية. والاعتبار في الخبر من وجوه - أحدها شدة تعلق مسلمي الهند بالدولة العلية؛ لأنها أقوى الدول الإسلامية، وهذا أثر من آثار هداية الإسلام الذي من مقاصده جعل البشر كلهم إخوة ولو وجد في الهند مثلما يوجد في مصر من أحداث السياسة وخطباء الفتنة الذين يحثون قومهم على بغض كل ما لم يكن له نسب عريق في بلادهم ويسمُّون هذا وطنية لما بقي لحب الدولة العلية في قلوبهم عرق ينبض ولا لحقوق المسلمين حكم يفرض، (ثانيها) أن آمال المسلمين لا تزال معلقة بالسياسة ورجالها، والحكومات وأعمالها، وليتهم ينظرون أولا إلى أنفسهم وأعمالهم، ويعتمدوا بعد الله على كفاءتها واستقلالهم، و (ثالثها) حرية الحكومة الإنكليزية فلو أن أهل جاوه أرادوا أن يعملوا عملا كهذا لتصدت لهم الحكومة الهولندية وصدتهم عنه، فيا ليت المسلمين الذين هب عليهم نسيم الحرية المنعش للأرواح يعرفون كيف تكون به الحياة الطيبة ويعملون بما يعلمون ولا يحفلون بما يلغط به الغاشون الذين يقبحون لهم نعمة الحرية بذم مصدرها. * * * (السيد محمد المهدي السنوسي) نعت إلينا برقيات أوربا في الشهر الماضي هذا الرجل العظيم الذي اشتهر بالعلم والعمل والدعوة إلى الله تعالى والإرشاد إلى طريق الرشاد فارتبنا في صحة الخبر وتربصنا به التكذيب، فما كان إلا أن أكدته الجرائد الغربية تأكيدًا وتبعها غيرها. وقد اطلعنا اليوم قبل الطبع على كتاب من طرابلس الغرب لأحد التجار جاء فيه ما نصه: (وردت مكاتيب مشعرة بوفاة الأستاذ المهدي وبالتحقيق لم يثبت ذلك إلى الآن أصلا بالكلية بل المتحقق أنه انتقل إلى جهة من الجهات مجهولة. (محاربة الفرنساويين بالأقطار السودانية لم نحصل على خبر منها إلى الآن، وقد كان في تلك المحاربة رجل من الجزائر أتى إلى قسطنطينة إحدى الممالك الجزائرية وأرسل إلينا جوابًا يفيد أنه قادم إلى طرفنا وعند وصوله نفهم منه حقيقة الواقع تفصيلا وإجمالا وما الذي سيصنعه الفرنساويون بخصوص ما ذكر ونعرفكم بذلك والسلام) ا. هـ وسيأتي البحث في ذلك وقول من يكذب خبر المحاربة فيما ننشر من ترجمته. (الترجمة) جمع هذا الرجل من الصفات والخلال، ما يندر أن يكون لأحد من الرجال، - الشرف والعلم والزهد والإرشاد وسيادة العصبية، فهو الرجل الديني الوحيد الذي كانت تلهج بذكره الجرائد الأوربية وتستقري أعماله وتتبع حركاته وسكناته، وتبني عليها الآراء السياسية بل كان على زهده وانزوائه في زاويته أشبه بملك عظيم أو قائد باسل مستعد لكفاح الأقران، وفتوح البلدان، وكان الناس في أوربا وفي الشرق مختلفين في أمره، وهائمين في أودية الظنون من شأنه، والأكثرون يعتقدون أن طريقته جامعة بين الدين والسياسة ومن أصولها الاستعداد للمدافعة والمقارعة عند الحاجة إلى ذلك، واشتهر بين الناس في هذه البلاد وغيرها أن أتباعه كانوا يعتقدون أنه المهدي المنتظر، وقد عرفت أحد دراويشه الصالحين في صحراء طرابلس الغرب واستفدت منه فوائد كثيرة عن السنوسيين فكان مما قاله: أنه يعتقدون أن شيخهم هو المهدي المنتظر، وأنه سيحج ويبايع في حرم مكة أو في عرفة (الشك مني) وقال: إذا ذهب سيدي المهدي إلى الحجاز فال يتخلف أحد من المغاربة عن الحج في تلك السنة إلا لعجز مُقعِد، وكان يقول أيضا: إن من أصول الطريقة إحياء الأرض وغرس الأشجار واقتناء السلاح، ونحن نعلم أن للسنوسيين أتباعًا في مصر يكتمون كل ما يعرفون من أمرها بل يكتمون في الغالب كونهم من أهلها. مثل هذه الأخبار وذلك الاختبار، هو الذي أثار في النفوس عندنا ما أثار، وأما الأوربيون فمنشأ أوهامهم وأحلامهم في السنوسيين جرائد فرنسا وكلامها. (راجع صفحة 178 وما بعدها من مجلد المنار الأول تجد فيه النقول التي تؤيد هذا) . وقد بلغنا أن الحكومة الفرنسوية قد خصصت مئة ألف فرنك في كل سنة لمقاومة سلطة أصحاب الطريق في الجزائر وما يليها ويتصل بها وأن الذين يأخذون هذا المال هم الذين كانوا يعظمون أمر التيجانية ثم صاروا يعظمون أمر السنوسية بما يكتبونه في الجرائد والكتب، والله أعلم بالحقيقية، وإنما غرضنا من هذه الجملة كلها بيان اختلاف الناس في أمر السنوسية وعذرهم في هذا الاختلاف. وقد كُتب في جريدة (الحاضرة) التونسية مقال بتوقيع (محمد الحشايشي) في بيان الطريقة السنوسية وترجمة صاحبها، قال الكاتب: إنه كتب عن علم وروية؛ لأنه ساح في الصحراء الكبرى وما جاورها من البلاد المجهولة واختبر السنوسيين الاختبار التام، وكتب في ذلك رحلة سماها الرحلة الصحراوية، ونلخص من مقالته المفيد؛ لأنها أوسع ما كتبه المسلمون في هذا الرجل الكبير فنقول: ساق أولا نسبه إلى سيدي إدريس بن عبد الإله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط ابن علي من فاطمة الزهراء عليهم السلام. ثم قال إن صاحب الترجمة من مدينة مستغاقم بعمالة وهران (التابعة للجزائر) من قبيلة الخطاطبة، ارتحل والده إلى مدينة فاس في سنة 1229 بعد أن حفظ القرآن بالروايات السبع وكان ابن ثمان فاجتمع بالشيخ أحمد التيجاني شيخ الطريقة التيجانية الشيهر وتلقى هناك العلوم حتى برز فيها ثم ارتحل إلى المشرق سنة 1245 قاصدًا أداء فريضة الحج (وظهرت له كرامات عديدة في طريقه فأقام بمكة المشرفة سنين عديدة ونشر في أثنائها طريقته المستمدة من نفس الطريقة المحمدية التي أخذ إجازتها عن سيدي أحمد بن إدريس، فانتشرت الطريقة في الحجاز واليمن إلى أن بلغت العراق وفي سنة 1259 انتقل إلى الجبل الأخضر من وطن درنه وبنغازي (من ولاية طرابلس الغرب) وتصدى للإرشاد، وولد له صاحب الترجمة سنة 1260 بالزاوية البيضاء فرباه التربية الدينية في مهد العلم والإرشاد وحفظ القرآن في الثامنة ثم حفظ الكثير من المتون الفقهية وغيرها واشتغل بطلب العلم على الأستاذ الحافظ الشيخ أحمد الريقي بعد ما قرأ القرآن على مؤدبه الشيخ هاشم الصفاقسي والحافظ الشيخ مدين وأخذ علمي " التفسير والتصوف عن والده وعلوم الأدب عن الشاعر الأديب الشيخ محمد أبو سيف وعلمي الحديث والأصول عن الشيخ أحمد الريقي، جميع هؤلاء من علماء المغرب بعضهم من الأقصى وبعضهم من الأدنى. (لها بقية)

الإسلام والنصرانية ـ مع العلم والمدنية

الكاتب: محمد عبده

_ الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية وهو المقال الثالث لذلك الإمام الحكيم والأستاذ العليم نتائج هذه الأصول وآثارها في المسلمين إلام أفضت طبيعة الإسلام بالمسلمين؟ وماذا كان أثرها في أسلافهم الأولين؟ فتح عمرو بن العاص رضي الله عنه مصر واستولى بجيشه على الإسكندرية بعد لحاق النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - بالرفيق الأعلى بست سنوات، في رواية وتسع سنوات، في رواية أخرى والإسلام في طلوع فجره، وتَفَتُّح نوره، فكان من بقايا ما تركت الأزمان الأولى: رجلُ مسيحيُ من اليعقوبيين اسمه يوحنا النحوي كان في بدء أمره ملاحًا يعبرُ الناسُ بسفينته، وكان يميل إلى العلم بطبيعته فإذا ركب معه بعض أهل العلم أصغى إلى مذاكرتهم. اشتد به الشوق فترك الملاحة واشتغل بالعلم وهو ابن أربعين سنة فبلغ فيه ما لم يبلغه الناشئون فيه من طفوليتهم وقد أحسن من العلم فنونًا كثيرةً حتى عُدَّ من فلاسفة وقته وأطبائه ومناطقته. يقول كثير من مؤرخي الغربييين ومؤرخي المسلمين: إن عمرو بن العاص سمع به فاستدناه منه وأكرمه لعلمه ووقعت بينهما محبة ظهر أمرها واشتهر حتى قال أحد فلاسفة الغربيين: (إن المحبة التي نشأت بين عمرو بن العاص فاتح مصر ويوحنا النحوي ترينا مبلغ ما يسمو إليه العقل العربي من الأفكار الحرّة والرأي العالي. بمجرد ما أعتق من الوثنية الجاهلية ودخل في التوحيد المحمدي أصبح على غاية من الاستعداد للجوَلان في ميادين العلوم الفلسفية والأدبية من كل نوع) . خالط المسلمون أهل فارس وسوريا وسواد العراق وأدخلوهم في أعمالهم ولم يمنعهم الدين عن استعمالهم حتى كانت دفاترهم بالرومية في سوريا ولم تغيّر بالعربية إلا بعد عشرات من السنين فاحتكت الأفكار بالأفكار، وأفضت سماحة الدين إلى أن أخذ المسلمون في دراسة العلوم والفنون والصنائع. * * * (اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية ثم العقلية) وبعد عشرين سنة من وفاته عليه الصلاة والسلام أخذ الخليفة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - يحضُّ على تعليم الآداب العربية ويطلب وضع القواعد لها لما رأى من حاجة الناس إلى ذلك، وأخذ المسلمون يتحسّسُون نور العلم في ظلام تلك الفتن استرسالاً مع ما يدعوهم إليه دينهم وتنبّههم لطلبه شريعتهم. وإن كانت الحروب الداخلية التي اشتعلت نارها في أطراف بلادهم للنزاع في أمر الخلافة قد شغلتهم عن كل شيء من مصالحهم فإنها لم تشغلهم عن تلمس العلوم والتناول منها بالتدريج على سنة الفطرة. فالبراعة في الآداب من علم بوقائع العرب وتاريخهم وقول الشعر وإنشاء البليغ من النثر قد بلغت في خلافة بني أمية مبلغًا لم تبلغه أمة قط في مثل مدتها، وكان الخلفاء الأمويون يعلون منزلتها ويرفعون مكانات الشعراء والخطباء والعلماء بالسير، ثم ظهرت آثار العلوم العقلية في آخر دولتهم وترجمت جملة من الكتب العقلية والصناعية قبل نهاية القرن الأول. نقل الخلفاء الأمويون دار الخلافة من المدينة إلى الشام، ولم يسيروا في الزهد سيرة الخلفاء الراشدين فقد جاء رسول من الفرس إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلما سأل عنه دُلَّ عليه فذهب إليه فإذا هو نائم على الأرض تحت نخل البقيع بين الفقراء وجاءت رسل الملوك إلى معاوية - رحمه الله - فإذا هو في قصر مشيد محلَّى البنيان بأجمل ما يكون من الصنعة العربية، مزين بالجنات والرياض وينابيع الماء، مفروش بأحسن الفرش يرى الناظر فيه أفخر الأثاث والرياش. ولم يكن معاوية في ذلك قد خالف الدين أو حاد عن طريقه وإنما تناول مباحًا وتمتع برخصة آتاه الله إياها ولا يخفى ما في ذلك من ترويج فنون الإبداع في الصنعة على اختلاف ضروبها. * * * (اشتغالهم بالعلوم الكونية في أوائل القرن الثاني) انقضت دولة بني أمية والناس في ظلمات من الفتن كما قلنا ودالت الدولة لبني العباس واستقرت في نصابها من آل بيت النبي قرب نهاية الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة (سنة 132) ، ثم نقل المنصور عاصمة الملك إلى بغداد فصارت بعد ذلك عاصمة العلم والمدنية أيضًا. وأخذ المنصور ينشئ المدارس للطب والشريعة وكان قد جعل من زمنه ما ينفقه في تعلم العلوم الفلكية، وأكْمَلَ حفيدُه الرشيدُ ما شرع فيه وأمر بأن يلحق بكل مسجد مدرسة لتعليم العلوم بأنواعها. وجاء المأمون فوصلت به دولة العلم إلى أوج قوتها، ونالت به أكبر ثروتها، ويقال: إنه حمل إلى بغداد من الكتب المكتوبة بالقلم ما يثقل مائة بعير، وكان من شروط صلحه مع ميشيل الثالث أن يعطيَهُ مكتبةً من مكاتب الأستانة. فوجد مما فيها من النفائس كتاب بطليموس في الرياضة السماوية فأمر المأمون في الحال بترجمته وسمَوه بالمجسطي ولا يسهل على كاتب إحصاء ما ترجم من كتب العلوم على اختلافها في دولة بني العباس أبناء عم الرسول صلى الله عليه وسلم. * * * (إنشاؤهم دور الكتب العامة والخاصة) وقد أخذت دول الإسلام تعتني بديار الكتب عناية لم يسبقْها مثلها من دول سواها حتى كان في القاهرة في أوائل القرن الرابع مكتبة تحتوي على مائة ألف مجلد منها ستة آلاف في الطب والفلك لا غير. وكان من نظامها أن تعار بعض الكتب للطلبة المقيمين في القاهرة. وكان فيها كُرَتَان سماويتان إحداهما من الفضة يقال: إن صانعها بطليموس نفسه وإنه أنفق فيها ثلاثة آلاف دينار. والثانية من البرنز، ومكتبة الخلفاء في أسبانيا بلغ ما فيها ست مائة ألف مجلد. وكان فهرستها أربعة وأربعين مجلدًا. وقد حققوا أنه كان في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عمومية. وكان في هذه المكاتب مواضع خاصة للمطالعة والنسخ والترجمة. وبعض الخاصة كانوا يولعون بالكتب ويجعلون ديارهم معاهد دراسة لما تحتوي عليه. يقال إن سلطان بخارى دعا طبيبًا أندلسيًّا ليزوره فأجابه أن ذلك لا يمكنه؛ لأن كتبه تحتاج إلى أربعمائة جَمَل لتحملها وهو لا يستغني عنها كلها. وكان حنين بن إسحق النسطوري في بغداد ممن جعل في داره مكتبة عامة يَفِدُ إليها طلاب العلوم العقلية والرياضية وكان يتبرع بمذاكرتهم فيما يريدون المذاكرة فيه. * * * (إنشاؤهم المدارس للعلوم وكيفية التدريس) غُطي بسيط المملكة الإسلامية على سعتها بالمدارس. نقول (على سعتها) لأنها زادت في السعة على المملكة الرومانية بكثير. فكنت تجد المدارس في كل الأقطار: في المغول، في التتار من جهة المشرق، في مراكش، في فاس، في أسبانيا من جهة المغرب. كانت طريقة الأساتذة في التدريس أن كل مدرس يُعِدُّ درسه ويكتب في الموضوع الذي يلقي الدرس فيه ما يريد أن يكتب ثم يلقيه على التلامذة وهم يكتبون عنه، ثم تكون هذه الدروس كتبًا وأماليّ تنشر بين الناس في كل علم. وهنا نبادر إلى القول بأن المؤرخين قد أجمعوا على أن جميع المقالات والكتب كانت تنشر ويتداولها الناس بدون أدنى مراقبة ولا حجر ولا نقص شيء مما كتب صاحب الكتاب غير أن مؤرخًا واحدًا رأيته ذكر أنه قد وُضِعَ قانونٌ في بعض الممالك الإسلامية لنشر كتب العقائد مقتضاه أن لا ينشر منها شيء إلا بإذنٍ، على أني لا أعلم شيئًا من ذلك وقع في الممالك الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا. نرجع إلى الكلام في المدارس الإسلامية، يقول جبون في كلامه على حماية المسلمين للعلم في الشرق وفي الغرب: (إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء، في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان عن ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة. أنفق وزير واحد لأحد السلاطين (هو نظام الملك) مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد، وجعل لها من الريع يصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة. وكان الذين يُغْذوْن بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة وابن الغني يكتفي بمال أبيه. والمعلمون كانوا يُنقدون رواتب وافرة) . اهـ انقسمت الممالك الإسلامية في زمن من الأزمان إلى ثلاثة أقسام وتنازع الخلافة ثلاث شيع. كان العباسيون في آسيا (الشرق) والأمويون في الأندلس من أوروبا (الغرب) والفاطميون في مصر من أفريقيا (الوسط) ولم يكن تنافس هذه الدول الثلاث قاصرًا على الملك والسلطان ولكن كان التنافس في العلم والأدب. وكان مرصد سمرقند قائمًا في ناحية المشرق يشير إلى ما كان عليه المشرقيون من العناية برياضة الأفلاك، ومرصد جيرالد في الأندلس يجيبه بأن أهل المغرب ليسوا بأحط منهم في الإدراك. جميع المدارس في البلاد الإسلامية أخذت نظام الامتحان في المدارس الطبية عن مدرسة الطب في القاهرة وكان من أشد النظامات وأدقها. ولم يكن لطبيب أن يمارس صناعته إلا على شريطة أن تكون بعد شهادة بأنه فاز في الامتحان على شدته. وأول مدرسة طبية أنشئت في قارة أوربا على هذا النظام المحكم هي التي أنشأها العرب في ساليرن من بلاد إيطاليا، وأول مرصد فلكي أقيم في أوروبا هو الذي أقامه العرب في أشبيلية من بلاد أسبانيا. وُلع المسلمون بالعلوم الكونية على اختلافها، والفنون الأدبية بجميع أنواعها، حتى القصص والأساطير الخيالية، في الأحوال الاجتماعية، وابتدأوا بأخذ العلم عن اليونانية والسريانية، وأخذوا ينقلون كتب الأولين من تلك الألسن إلى اللغة العربية بالترجمة الصحيحة، وكان مترجموهم في أول الأمر مسيحيين وصابئين وغيرهم، ثم تعلم كثير من علماء المسلمين اللسان اليوناني واللاتيني وكتبوا معاجم في اللسانين. وذلك كله ليأخذوا العلوم من أصولها، وينقلوها إلى لسانهم على حسب ما يصل إليه علمهم فيها، وكان المعلمون لأبناء العظماء في أول الأمر من المسيحيين واليهود ثم أنشئت المدارس الجامعة وكان المدرسون فيها من كل ملة ودين. كلٌّ يعلّم العلم الذي عرف هو بالبراعة فيه. * * * (علوم العرب واكتشافاتهم) كان علم العرب في أول الأمر يونانيًّا لكنه لم يلبث كذلك إلا دون قرن واحد ثم صار عربيًّا. ولم يرض العربيّ أن يكون تلميذًا لأرسطو وأفلاطون أو إقليدس أو بطليموس زمنًا طويلاً كما بقي الأوربي كذلك عشرة قرون كاملة من التاريخ المسيحي. قالوا: إن باكون هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة للعلوم العصرية وأقامها مقام الرواية عن الأساتذة والتمسك بآراء المصنفين وأطلق العلم من رق التقليد. ذلك حق في أوربا. أما عند العرب فقد وضعت هذه القاعدة عندهم لبناء العلم عليها في أواخر القرن الثاني من الهجرة. أول شيء تميز به فلاسفة العرب عمن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم على المشاهدات والتجربيات وأن لا يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة حتى لقد نقل جوستاف لوبون عن أحد فلاسفة الأوربيين: أن القاعدة عند العرب هي (جرّب وشاهد ولاحظ تكن عارفًا) وعند الأوربي إلى ما بعد القرن العاشر من التاريخ المسيحي (اقرأ في الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالمًا) . (فلينظر المصريون وغيرهم من الشرقيين كيف انقلب الحال، وماذا أعقب من سوء المآل) قال ديلاَمبْر في تاريخ علم الهيأة: (إذا عددت في اليونان اثنين أو ثلاثة من الراصدين أمكنك أن تعد من العرب عددًا كبيرًا غير محصور) . أما في الكيمياء فلا يمكنك أ

الإسلام اليوم أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام

الكاتب: محمد عبده

_ الإسلام اليوم أو الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم ربما يسأل سائل فيقول: سلمنا أن طبيعة الإسلام تأبى اضطهاد العلم بمعناه الحقيقي، وأنه لم يقع من المسلمين الأولين تعذيب ولا إحراق ولا شنق لحملة العلوم الكونية، ومقوّمي العقول البشرية، لكن أليس العلماء من المسلمين اليوم أعداء العلوم العقلية، والفنون العصرية، أوَليس الناس تبعًا لهم؟ أفلا يكون للأديب عذره فيما يراه ويسمعه حوله؟ ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافة، ومقالاً بَيَّنَ فيه رأيه في مذهب الصوفية وقال: إنه ليس مما انتفع به الإسلام بل قد يكون مما رزئ به أو ما يقرب من هذا وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله، فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه هاج عليه حَمَلَةُ العمائم، وسَكَنَةُ الأثواب العَباعِب، وقالوا: إنه مرق من الدين، أو جاء بالإفك المبين، ثم رفع أمره إلى الوالي فقبض عليه وألقاه في السجن. فرفع شكواه إلى عاصمة الملك وسأل السلطان أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلف عليه بين يدي عادل لا يجور، ومهيمن على الحق لا يحيف، إلخ ما يقال في الشكوى. فأجيب طلبه لكن لم ينفعه ذلك كله فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه ولم يعف عنه إلا بعد أشهر مع أنه لم يَقُل إلا ما يتفق مع أصول الدين ولا ينكره القارئ والكاتب، ولا الآكل والشارب. ألم يسمع السامعون أن الشيخ السنوسي (والد السنوسي صاحب الجغبوب) كتب كتابًا في أصول الفقه زاد فيه بعض مسائل على أصول المالكية، وجاء في كتاب له ما يدل على دعواه أنه ممن يفهم الأحكام من الكتاب والسنة مباشرة وقد يرى ما يخالف رأي مجتهد أو مجتهدين. فعلم بذلك أحد المشايخ المالكية (رحمه الله تعالى) وكان المقدم في علماء الجامع الأزهر الشريف فحمل حربة وطلب الشيخ السنوسي ليطعنه بها؛ لأنه خرق حرمة الدين، واتبع سبيلاً غير سبيل المؤمنين، وربما كان يجترئ الأستاذ على طعن الشيخ السنوسي بالحربة لو لاقاه وإنما الذي خَلَّصَ السنوسي من الطعنة، ونجّى الشيخ المرحوم من سوء المغبة، وارتكاب الجريمة باسم الشريعة، هو مفارقة السنوسي للقاهرة قبل أن يلاقيه الأستاذ المالكي. هل غاب عن الأذهان ما كان ينشر في الجرائد من نحو ثلاث سنين بأقلام بعض علماء الجامع الأزهر من المقالات الطويلة الأذيال الواسعة الأردان في استهجان إدخال علم تقويم البلدان (الجغرافيا) بين العلوم التي يتلقاها طلبة الجامع الأزهر؟ وكان كتاب تلك المقالات يعرضون علوم الدين. أم لم تنشر في العام الماضي فصول بأقلام بعضهم تشير إلى الطعن في عقيدة البعض الآخر وإرادة التشهير به مع أنه لم يجهر بمنكر ولم يقل قولاً يبعد من الكتاب والسنة؟ ألم تحمل إلينا الرواة ما عند علماء الأفغان والهند والعجم من شدة التمسك بالقديم، والحرص على ما ورثوا عن آبائهم الأقربين، وإقامة الحرب على كل من حاول أن يزحزحهم أصبعًا عما كان عليه سلفهم، وإن كان في البقاء عليه تلفهم، وما عليه الحال اليوم في حكومة المغرب من الغلوّ في التعصب والمعاقبة بقطع بعض الأعضاء في شرب الدخان أو بالقتل في كلمة ينكرها السامعون، وإن أجمع عليها المسلمون الآخرون. ثم ألا يتخيل المؤمل أنه يسمع من جوف المستقبل صَخَبًا ولَجَبًا وضوضاء وجَلَبَةً، وهَيْعاتٍ مضطربة، إذا قيل إنه ينبغي لطلبة الأزهر أن يدرسوا طرفًا من مبادئ الطبيعة أو يُحَصِّلُوا جملة من التاريخ الطبيعي؟ ألا تقوم قيامة المتقين، ألا يصيحون أكتعين أبتعين: هذا عدوان على الدين، هذا توهين لعقده المتين، هذا تغرير بأهله المساكين، ولا يزالون يشيرون بهذا إلى أن لا يبقى شيء عرف له اسم في اللغة إلا ألصقوه بهذه البدعة في زعمهم. هل هذه الحال جديدة على المسلمين حتى يقال: إنها عارض عرض عليهم، أو مرض من الأمراض الوافدة إليهم؟ لا يسهل على من يعرض أحوال المسلمين تحت نظره من قرون متعددة أن يظن أن هذه الحال من العلل الطارئة على أمزجة الأمم خصوصًا عندما يجد الوحدة في الصفات، والشمول في جميع الاعتبارات، فلو أخذ مسلمًا من شاطئ الأطلانطيق وآخر من تحت جدار الصين لوجد كلمة واحدة تخرج من أفواههما وهي: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) ، وكلهم أعداء لكل مخالف لما هم عليه وإن نطق به الكتاب واجتمعت عليه الآثار. اللهم إلا فئة قليلة زعمت أنها نفضت غبار التقليد وأزالت الحُجُبَ التي كانت تحول بينها وبين النظر في آيات القرآن ومتون الأحاديث لتفهم أحكام الله منها. ولكن هذه الفئة أضيق عطنًا وأحرج صدرًا من المقلّدين وإن أنكرت كثيرًا من البدع ونحّت عن الدين كثيرًا مما أضيف إليه وليس منه. فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد، والتقيد به بدون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها منحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء، ولا للمدينة السليمة أحبّاء. هل يمكن أن ينكر أحد جمود الفقهاء ووقوفهم عند عبارات المصنفين على تباينها واختلافها واضطراب الآراء في فهمها، وإذا عرضت حادثة من الحوادث ولم يكن لمصنف معروف رأي فيها أحجموا عن إبداء الرأي واجتهدوا في تحويلها عن حقيقتها إلى أن تتفق مع قول معروف في كتاب من الكتب حتى لقد جاء طالب علم من بلد من بلاد الدولة العثمانية وأراد الالتحاق بأحد الأروقة في الجامع الأزهر فوقع الشكل هل بلده مما لأهله استحقاق في ذلك الرواق على حسب نص الواقف؟ فقال قائل لشيخ الرواق: إن كتب تقويم البلدان تشهد بأن البلد داخل في شرط الواقف فقال: إنني لا أقنع بما في تلك الكتب وإنما الذي يصح أن آخذ به هو أن يكون فقيه (ممن مات) قال: إن هذه البلد من قطر كذا وهو الذي وقف الواقف على أهله. وإذا قيل لأحدهم: إن الأئمة أنفسهم لم يعينوا مواقع البلدان ولم يضعوا لنا جدولاً لبيان ما يحويه كل قطر وبيان الحدود التي ينتهي إليها، وإن أصول ديننا تسمح لنا بأن نأخذ بأقوال العلماء في هذه الفنون (وهم منا) وبتواتر الأخبار وما أشبه ذلك من البديهيات قال: إنما أريد نصًّا فقهيًّا، لا دليلاً عقليًّا. وإذا قيل لهم: اختلت الشئون، وفسدت الملكات والظنون، وساءت أعمال الناس، وضلت عقائدهم، وخوت عباداتهم من روح الإخلاص، فوثب بعضهم على بعض بالشر، وغالت أكثرهم أغوال الفقر، فتضعضعت القوة، واخترق السياج، وضاعت البيضة، وانقلبت العزة ذلة، والهداية ضلة، وساكنتكم الحاجة، وألفتكم الضرورة، ولا تزالون تألمون مما نزل بكم وبالناس، فهلا نبهكم ذلك إلى البحث في أسباب ما كان سلفكم عليه، ثم علل ما صرتم وصار الناس إليه - قالوا: ذلك ليس إلينا، ولا فرضه الله علينا، وإنما هو للحكام ينظرون فيه، ويبحثون عن وسائل تلافيه، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا، فذلك لأنه آخر الزمان وقد ورد في الأخبار ما يدل على أنه كائن لا محالة وأن الإسلام لا بد أن يرفع من الأرض ولا تقوم القيامة إلى على لُكَع ابن لكع. واحتجوا على اليأس والقنوط بآيات وأحاديث وآثار تقطع الأمل، ولا تدع في نفس حركة إلى عمل. رأي رنان في الإسلام: هذا الجمود - الذي لو أردنا بيان ما امتد إليه من طبقات الأفكار وثنيات الوجدان لكتبنا فيه كتبًا - هو الذي حمل الموسيو رنان الفيلسوف الفرنسي المشهور أن يقول في عرض كلام له في تساهل المذاهب الدينية مع العلم نقلته عنه الجامعة: (على أنني أخشى أن يثبت الدين الإسلاميّ وحده في وجه هذا التسامح العام في العقائد ولكنني أعرف أن في نفوس بعض الرجال المتمسكين بآداب الدين الإسلامي القديمة وفي بضعة من رجال الآستانة وبلاد الفرس جراثيم جيدة تدل على فكر واسع وعقل ميال إلى المسالمة. إلا أنني أخشى أن تختنق هذه الجراثيم بتعصب بعض الفقهاء فإذا اختنقت قُضيَ على الدين الإسلامي. ذلك أنه من الثابت الآن أمران - الأول أن التمدن الحديث لا يريد إماتة الأديان بالمرة؛ لأنها تصلح أن تكون وسيلة إليه. والثاني: أنه لا يطيق أن تكون الأديان عثرة في سبيله. فعلى هذه الأديان أن تسالم وتلين وإلا كان موتها ضربة لازب) . اهـ كلام رينان بتصرف لفظي قليل. فمن أين يكون هذا الجمود العام الذي سمح للطاعنين أن يحكموا على الإسلام بأنه عثرة في طريق المسلمين يسقط بهم دون أن ينالوا فلاحًا في سعيهم، أو نجاحًا في أعمالهم، من أين يكون هذه الجمود إن لم يكن من طبيعة الدين؟ ومن أين يكون ما سردناه من الحوادث إن لم يكن ناشئًا من أصول الدين؟ فإن لم تسلم بأن هذا اضطهاد من لوازم الدين الإسلامي فعليك أن تسلم بأنه عداوة للعلم أو اشمئزاز منه، أو استهجان له أو احتقار لشأنه، وأحد هذه الأمور كافٍ إذا عم بين المسلمين في أن ينفر بهم عن كل مجد، وأن يحرمهم كل نفع، وأن يحقق فيهم ما تنبأ به رنان وغيره فما قولك في هذا؟ ؟ (له بقية) (المنار) سيأتي الجواب في الجزء الآتي وفيه بيان حقيقة هذا الجمود وأسبابه وكونه لا بد أن يزول إن شاء الله تعالى فانتظر العجب العجاب. ((يتبع بمقال تال))

الاجتماع السادس لجمعية أم القرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتماع السادس لجمعية أم القرى يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي القعدة سنة 1316 في الضحى الأول من اليوم المذكور تألفت الجمعية حسب معتادها وقرئ الضبط السابق واستعدت الأذهان لتلقي ما يفيضه الله على ألسنة أهل الإيمان من الإخوان. قال (الأستاذ الرئيس) مخاطبًا (الشيخ السندي) : إنك يا مولانا لم تشاركنا في البحث إلى الآن، فنرجوك أن تتكرم على إخوانك بنبذة من عرفانك تنور بها أفكارنا، ونرجوك أن لا تحتشم من التلعثم في بعض التعبيرات اللغوية لغلبة العجمة عليك فإن لك أسوة بالفيروزابادي والسعد والفخر وغيرهم. فقال (الشيخ السندي) : إنكم أيها السادة الإخوان، سراة أفاضل الزمان، وسباق فرسان كل ميدان، قد أفدتم وأجدتم ولم تتركوا لقائل من مجال، ولا لمثلي غير الإصغاء والامتثال، وإني أحب أن أذكر لكم حالتي وفكرتي قبل هذه الاجتماعات وما أثرته فيّ هذه المفاوضات فأقول: إنني من خلفاء الطريقة النقشبندية، وإذ كان والدي المرحوم هو ناقل هذه الطريقة للأقاليم الشرقية والجنوبية في الهند فقد صرت بعد والدي مرجعًا لعامة خلفائها ثم جرت لي سياحات مكررة في تلك الأرجاء وفي أيالات كاشغر وقازان حتى سبيريا وتلك الأنحاء وبسبب حرصنا على تعميم طريقتنا صار لها شيوع مهم وانتشار عظيم بين مسلمي هاتيك الديار. ومن المعلوم أن طريقتنا من أقرب الطرائق للإخلاص وأقلها انحرافًا عن ظاهر الشرع وهي مؤسسة على الذكر القلبي وقراءة ورد خواجكان ومراقبة المرشد والاستمداد من الروحانيات، وإني لم أكن أفكر قَطّ في أن الذكر وقراءة الورد على وجه راتب فيه مظنة البدعة أو الزيادة في الدين ولا أن المراقبة والاستفاضة والاستمداد من أرواح الأنبياء والصالحين فيها مظنة الشرك إلى أن حضرت هذه الاجتماعات المباركة فسمعت وقنعت وأقلعت والحمد لله. على أني عزمت أيضًا على أن أتلطف في الأمر بالنصيحة والموعظة الحسنة عسى أن أوفق لهداية جماهير النقشبندية في تلك البلاد وإلى تصحيح وجهتهم بأن يذكروا الله قلبًا ولسانًا بدون عدد مخصوص معين قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم بدون هيئة أو كيفية معينة متى شاءوا وأرادوا بدون وقت مرتب فرادى ومجتمعين بدون تداعٍ. وأن يتركوا المراقبة ويستعيضوا عنها بالدعاء بالغفران والرحمة لكل من الشيخ بهاء الدين النقشي مرشدهم الأعلى ولخليفته مرشدهم الأدنى الذي هم مبايعوه. وقد فتح الله عليّ ببركة جمعيتنا هذه فهم أسباب ميل المسلمين في هاتيك البلاد صالحهم وفاسقهم للانتساب إلى إحدى الطرائق الصوفية وكنت قبلُ أحمل ذلك على مجرد إخلاص المرشدين، والآن اتضح لي أن السبب هو أن السادة الفقهاء عندنا من الحنفية والشافعية قد ضيقوا على المسلمين العبادات تضييقًا لا يعلم أن الله تعالى يطلبه من عباده وكثروا الأحكام في المعاملات تكثيرًا ضيع الناس وشوش الإفتاء والقضاء حتى صار المسلم لا يكاد يمكنه أن يصحح عبادته أو معاملته ما لم يكن فقيهًا. فتوسيع الفقهاء دائرة الأحكام أنتج تضييق الدين على المسلمين تضييقًا أوقع الأمة في ارتباك عظيم ارتباكًا جعل المسلم لا يكاد يمكنه أن يعتبر نفسه مسلمًا ناجيًا لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته على ما يتطلبه منه الفقهاء المتشددون الآخذون بالعزائم، فبذلك أصبح الجمهور الأكبر من المسلمين يعتقدون في أنفسهم التهاون اضطرارًا فيهون عليهم التهاون اختيارًا كالغريق لا يحذر البلل؛ لأنه كيف يطمئن الحنفي العامي حق الاطمئنان في الاستبراء لتصح طهارته، وكيف يحسن مخارج الحروف كلها وقد أفسدت العجمة لسانه لتصح صلاته. وكذلك كيف يصحح الشافعي العامي نيته على مذهب إمامه في الصلاة أو يعرف شدات الفاتحة الثلاث عشرة ويتنبه لإظهارها كلها ليكون أدَّى فريضته؟ بل أيُّ عامّيٍّ يعرف وصف الكلام ومعنى الاستواء وتأويل الوجه واليد واليدين وتعيين الجزء الاختياري وإضافة الأعمال له أو لله إلى غير ذلك ليكون عند الحنفية الماتريدية والشافعية الأشاعرة مسلمًا مقلدًا يرجى له قبول الإيمان؟ ومَنْ مِن العامّة يحيط علمًا بكل ما ثبت بالنص القاطع حتى صفرة بقرة بني إسرائيل مثلاً لكيلا يعتقد خلافه فيكفر فيحبط عمله ومن جملته انفساخ نكاحه؟ وكم من مسلم يحكم عليه الفقيه الشافعي بأنه نسل سِفَاحٍ ومقيم على السِّفَاحِ وراضٍ لمحارمه بالسِّفَاح إلى غير ذلك مما ينافي سماحة الدين ومزية التدين به في الدنيا قبل الآخرة. فبهذا التضييق صار المسلم لا يرى لنفسه فرجًا إلا بالالتجاء إلى صوفية الزمان الذين يهونون عليه الدين كل التهوين. (مرحى) وهم القائلون: إن العلم حجاب و: بلمحة تقع الصلحة. و: بنظرة من المرشد الكامل يصير الشقي وليًّا، وبنفخة في وجه المريد أو تفلة في فمه تطيعه الأفعى وتحترمه العقرب التي لدغت صاحب الغار عليه الرضوان [1] وتدخل تحت أمره قوانين الطبيعة. وهم المقررون بأن الولاية لا ينافيها ارتكاب الكبائر كلها إلاّ الكذب، وأن الاعتقاد أولى من الانتقاد وأن الاعتراض وجب الحرمان؛ أي: أن تحسين الظن بالفسَّاق والفجَّار أولى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من الأقوال المهونة للدين والأعمال التي تجعله نوعًا من اللهو الذي تستأنس به نفوس الجاهلين. على أن الناس لو وجدوا الصوفية الحقيقيين - وأين هم؟ - لفروا منهم فرارهم من الأسد؛ لأن ليس عند هؤلاء إلا التوسل بالأسباب العادية الشاقة لتطهير النفوس من أمراض الإفراط في الشهوات وتصفية القلوب من شوائب الشره في حب الدنيا وحمل الطبائع بوسائل القهر والتمرين على الاستئناس بالله وبعبادته عوضًا عن الملاهي المضرة، وذلك طلبًا للراحة الفكرية والعيشة الهنية في الحياة الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة. وأين التهوين السالف البيان لصوفية الزمان من هذه المطالب التهذيبية الشَّاقَّة، ومن حقائق العرفان المعنوية التي لا يعرفها وتلمس بها إلاّ من وفقه الله وكشف عن بصيرته. وذلك نحو العرفان عن يقين وإيمان أن من أعز كلمة الله أعزه الله، ومن نصر الله نصره الله، ومن توقع الخير أو الشر جازمًا نال ما توقع، ومن ت‍َصْفُو نفسُه يُلْهمُ رشده ومن اتكل على الله حقًّا كفاه الله ما أهمه، ومن دعا الله مضطرًا أجاب دعاءه إلى غير ذلك من الحقائق المقتبسة من القرآن وأسرار حكمة سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم (مرحى) . قال (الأستاذ الرئيس) : قد أحسن أخونا الشيخ السندي توصيفه المتفقهة المتشددة والمتصوفة المخففة وإني ملحق تقريره بما يناسب أن يكون مقدمة تاريخية لبحث التصوف فأقول: قد كان التنسك في المسلمين شيمة لأكثر الصحابة والتابعين ثم إن التوسع في الدنيا قلل عدد المتنسكين فصار لأهله حرمة مخصصة بين الناس، وصار بعض المتفرغين يقصدون نيل هذه الحرمة بالتلبس بالتنسك وإلزام النفس بالتمرن عليه وإذا كان من لوازم استحصال تلك الحرمة إظهار التقشف؛ اتخذوا الصوف دِثارًا واسم الفقر شعارًا فغلب عليهم اسم الصوفية واسم الفقراء أن بعض العلماء من هؤلاء المعتزين بالتنسك أحبوا التميز بالرياسة أيضًا فصاروا يدعون الناس إلى التنسك ويرشدونهم إلى طرائق التمرن عليه ومن هنا جاء اسم الإرشاد واسم الطريق. وإذ كانت إرادة الاعتزاز بالدين إرادة حسنة؛ لأن فيها إعزازًا لكلمة الله فلا يؤخذ بشيء على المرشدين الأولين ولا على البعض النادر من المتأخرين ولو من أهل عهدنا هذا كالسادات السنوسية في صحراء أفريقيا. أما دخول الفساد على التصوف وإضراره بالدين وبالمسلمين مما ذكره أخونا الشيخ السندي وغيره من الإخوان الكرام فقد نشأ من أن بعض المرشدين من أهل القرن الرابع لما رأوا توسع الفقهاء في الشرع وتفنن المتكلمين في العقائد فهم كذلك اقتبسوا من فلسفة فيثاغورس وتلامذته في الإلهيات قواعد وانتزعوا من لاهوتيات الكتابيين والوثنيين جملاً وألبسوها لباسًا إسلاميًّا فجعلوه علمًا مخصوصًا ميزوه باسم علم التصوف أو الحقيقة أو الباطن. وهكذا بعد أن كان التصوف عملاً تعبديًّا محضًا جعلوه فنًّا نظريًّا اعتقاديًّا بحتًا. ثم جاء منهم في القرن الخامس وما بعده بعض غلاة دهاة رأوا مجالاً في جهل أكثر الأمة لأن يحوزوا بينهم مقامًا كمقام النبوة بل الألوهية باسم الولاية والقطبانية أو الغوثية وذلك بما يدّعون من القوة القدسية والتصرف في الملكوت فوسعوا فلسفة التصوّف بأحكام تشبه الحكم بَنَوْها على زخرف التأويلات والكشف والتحكمات والمثال والخيال والأحلام والأوهام وأَلفوا في ذلك الكتب الكثيرة والمجلدات الكبيرة محشوة بحكايات مكذوبة وتقريرات مخترعة وقضايا وتركيبات لا مفهوم لها ألبتة حتى ولا في مخيلة قائليها كما أن قارئيها أو سامعيها لا يتصورون لها معنًى مطلقًا وإن كان بعضهم يتظاهر بحالة الفهم ويتلمظ بأن للقوم اصطلاحات لا تُدْرَكُ إلا بالذوق الذي لا يعرفه إلا من شرب مشربهم. وبعض هؤلاء الغلاة قُتِلُوا كفرًا، ومع ذلك شاعت كتبهم ومقالاتهم وحازوا المقام الذي ادعوه بعد مماتهم؛ لأن في تعظيم شأنهم ترويج مقاصد المقتفين لآثارهم كالإباحيين. وبعضهم لم يكن من الغلاة ولكن أخلافه إعظامًا لأنفسهم في نظر حمقى ذلك حتى في عهدنا هذا ولا حول ولا قوة إلا بالله. (له بقية) (المنار) لقد بالغ الرجل رحمه الله في النقد وأن للقوم في مجموعهم حسنات لم يذكرها كما أن لهم سيئات وقد بينا ما لهم وعليهم من قبل. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة (س1) الاستمطار بالكهربائية ومفاتح الغيب - محمد أفندي كامل الكاتب بمحكمة أسيوط: رأيت في بعض المجلات أن علماء الطبيعة في اليابان أمكنهم أن يستحدثوا سحبًا ويستمطروها حسب أهوائهم. ورأيت في مجلة أخرى أنهم في بلاد الإنكليز يستمطرون السحب الطبيعية. وقد ورد في القرآن الشريف للإعجاز أن الخالق جلّت قدرته هو الذي ينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام إلخ. وورد أيضًا أن الغيث ينزل بقدر معلوم، وأن الله تعالى هو الذي يرسل السحاب حيث يشاء. فهل ما ذكر عن الإنكليز واليابان ينافي الإعجاز الوارد في القرآن وما حدده من علم الإنسان بالكائنات؟ نرجو البيانات وتفسير الآية (نفعنا الله والمسلمين بغزارة علمكم) اهـ باختصار. (ج) إن الأمة الأميركية هي السابقة إلى ادعاء إمكان الاستمطار بالعمل وذلك بإرسال مقدار عظيم من الكهربائية في الجوّ تنتشر في السحاب فتجتمع بها دقائق البخار فتكون ماء فينزل مطرًا. ويقال إنهم جربوا ذلك فنجح بعض النجاح ولكنه لم يأت على حسب المراد، ويصير خاضعًا لكسب الإنسان يفعله متى أراد، والذي نبههم إلى هذا ملاحظة حدوث المطر عَقيب الحرب حيث تطلق المدافع فتحدث في الجوّ تغيرًا عظيمًا. وليس من المحال عقلاً ولا شرعًا أن يصل علم الإنسان بسنن الله في الخلق إلى حد يستمطر به السحاب متى شاء فإن الله تعالى لم يجعل لعلم الإنسان بالكائنات حدَّا معينًا، بل تشير آيات القرآن بإطلاقها إلى أنه لا حدَّ له كقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) ولا ينافي ذلك - إن حصل - كون الله تعالى هو الذي ينزل الغيث وكونه ينزله بقدر معلوم فإن ما يناله الإنسان بسعيه وكسبه لا يخرج عن قدرة الله تعالى وعلمه، ولم يرد ذلك للإعجاز. أرأيت هذه الينابيع التي تفجّرها. والآبار التي تحتفرها، أهي تخرج بكسبنا عن سلطة القدرة الإلهية. وتحتجب بسعينا عن علمه المحيط بالبريّة؟ كلا. أما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: 34) فليس نصًّا في كون علم الإنسان يصل إلى معرفة شيء من هذه الأمور. ولكن يشتبه على الناس تفسير قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) بهذه الخمس المذكورة في الآية كما في حديث أحمد والبخاري. وقد قال الإمام الرازي وغيره: إن المراد مفاتح خزائن الغيب، أي: فلا يعلم جميع ما في خزائن الغيب إلا من بيده مفاتحها وهو الله تعالى. وقد ظهر لي في أيام طلب العلم وقراءة التفسير وجه دقيق لجعل هذه الخمس مفاتح للغيب ولم أر أحدًا من المفسرين تعرض لذلك. وقد عرضت هذا الوجه يومئذ على أستاذنا الشيخ محمود نشابة وعلى شيخنا القاوقجي (رحمهما الله تعالى) فاستحسناه وكتبته في كتابي (الحكمة الشرعية) وهو: إن المفاتح جمع مَفتح بفتح الميم أو كسرها بمعنى الخزائن أو المفاتيح، والغيب ما غاب عن الناس وهو عالم الآخرة وعاَلم البرزخ بين الدنيا والآخرة وبعض عالم الدنيا وهو النبات الذي لم ينبت والحيوان الذي لم يولد وما تكسبه الأنفس في المستقبل. فالساعة مفتح عالم الآخرة، والغيث مفتح عالم النبات، وما في الأرحام مفتح عالم الحيوان، وقوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا} (لقمان: 34) ظاهر في مفتح الكسب والأعمال التي ستحدث. وكذلك الموت مفتح عالم البرزخ ظاهر في باقي الآية. اهـ. وفي الكتاب تصوير لمعنى الآية بصورة أخرى. ولك أن لا تسمي الموت برزخًا ولا تجعل البرزخ عالمًا. *** (س2) الأعطار الإفرنجية - أ. ز. غ. في السويس: أرجو الإفادة عن العطر المسمّى (باللوندا) ونحوه أطاهر أم نجس إلخ. (ج) هو طاهر كما بيناه بالأدلة في الصفحة 500 من المجلد الرابع فليراجعه السائل. *** (س3) الخطباء والموضوعات - أ. على. بالأزهر: صلينا آخر جمعة من جمادى الثانية في الأزهر الشريف فسمعنا الخطيب ذكر في الخطبة الحديث الذي كنتم ذكرتموه في المنار أنه موضوع وهو: من صام يومًا من رجب فله كذا إلخ فإذا كان ما نقلتم عن المحدثين من وضعه هو الصحيح الثابت فكيف يتجرأ خطيب الأزهر على إسناد الأحاديث المكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب على رءوس أشهر علماء الدين في المسلمين. وهل يجب منع أمثال هؤلاء الخطباء من ذلك أم لا؟ (ج) جاء في فتاوى ابن حجر المكي الحديثية أنه سئل عن خطيب يَرْقَى المنبر في كل جمعة ويروي أحاديث كثيرة ولم يبين مُخَرِّجِيها ولا رواتها. فَذَكَر في الجواب اشتراط معرفة الحديث في جواز ذلك أي: أن يكون الخطيب محدثا يروي ما صح عنده أو ينقله من كتب الحديث المعتبرة. قال: (وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك فلا يحلّ ذلك) من فعله عزّر عليه التعزير الشديد. وهذا حال أكثر الخطباء فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث حفظوها وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلاً أم لا، فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا الخطباء عن ذلك ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه) . اهـ ولا يخفى أنه ليس عندنا في هذا العصر حفاظ ولا محدثون فيا ليت مدير الأوقاف يلزم الخطباء بتخريج الأحاديث من الكتب الصحيحة وعزوها في الخطبة إلى مخرجيها كالبخاري ومسلم وغيرهما من الحفاظ. والذي ساق الخطباء إلى اختيار الأحاديث الموضوعة والواهية هو التزامهم إنشاء الخطب في مدح الشهور والمواسم المبتدعة. وإذا لم يجدوا حديثًا صحيحًا ولا حسنًا في صوم رجب ذكروا المكذوب والواهي. أكثر المشتغلين بالعلم جهلاء بالحديث، ومن كان منهم عالمًا به في الجملة فهو غير عامل، فلا ينهى عن المنكر ولا يأمر بالمعروف ولذلك استمرت هذه المنكرات حتى كاد يعدها العامة من ضروريات الدين، ألا تراهم يحتفلون بصلاة الرغائب في دار السلطنة وغيرها وهى كما نص الفقهاء والمحدثون بدعة مذمومة (راجع بدع رجب في المجلدين الثاني والثالث) . *** (س4) القراءة على القبر - الشيخ أحمد حامد بدوي بالأزهر: قرأت في رواية (عذراء قريش) لحضرة جرجي أفندي زيدان (أنه لما اشتد الخلاف على عثمان رضي الله عنه دخل علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - عند قبر رسول الله عليه الصلاة والسلام شكا إليه حال الأمة ودعا لها ثم قرأ الفاتحة) ونحن نعتقد أن قراءة القرآن لا تجوز على القبور مطلقًا فجئنا بهذه السطور لنسأل المنار هل ما نعتقده صحيح أو يجوز قراءة القرآن كما فعل الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه (كما قاله صاحب الرواية) وللإسلام منكم مزيد الفضل والشكر. (ج) إن الأخبار والآثار التي يحتج بها شرعًا لا تؤخذ من القصص ولا من كتب التاريخ وإنما تؤخذ عن المحدثين الذين يبينون أسانيدها ليُعلم: أيحتجُّ بها أم لا، فالأثر المنقول في الرواية غير صحيح، ولو صح لجاء فيه الخلاف في الاحتجاج بعمل الصحابي، ثم يقال بعد هذا: إن العلماء مختلفون في جواز القراءة عند القبر ولا بد أن يكون اعتقاد السائل بالمنع مبنيًّا على عدم الاعتداد بما ذكر المجيزون من الدليل فكيف يعتد بعد هذا برواية في قصة لمن ليس من أهل الحديث؟ وقد ذكرنا رأينا في المسألة من قبل؛ فلا نعيده. فليراجع السائل الجزء الرابع من هذه السنة والمجلدات السابقة.

الإسلام والدولة البريطانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (أرجأنا تتمة ترجمة السنوسي إلى الآتي) الإسلام والدولة البريطانية لهج بعض الجرائد في هذه الأيام بمقالة لكاتب إنكليزي اسمه (مسترد. ج. كوربت) نشرت في الجزء الخامس من كتاب إنكليزي كبير في الدولة الإنكليزية ومستعمراتها. عنوان هذه المقالة (الإسلام والدولة البريطانية) وقد أرسلها كاتبها إلى بعض الجرائد الإسلامية ومنها جريدة المؤيد وطلب منها رأيها فيها، وقد عربتها جريدة المؤيد ونشرت التعريب في ستة أجزاء فكان له وقع عظيم عند المسلمين. ونحن نلخص عيون المقالة في أربع مسائل: (1) إنكلترا أكبر دولة إسلامية، يقول الكاتب في إثبات هذه المسألة: إن المسلمين الذين تحكمهم الدولة العثمانية ستة عشر مليونًا ونيفًا بحسب الإحصاء الرسمي، والذين تحكمهم دولة الصين 32 مليونًا، والذين تحكمهم روسيا ستة ملايين. وهذه الدول الثلاث أكثر الدول تابعًا من المسلمين بعد إنكلترا التي تحكم 107076804 مسلمين. وقد بين الكاتب ذلك بالتفصيل في ثلاثة جداول إحصائية. واستدركت عليه جريدة المؤيد قائلة: إن هذه الجداول مأخوذة من إحصاء 1891 وقد زاد عدد المسلمين في المستعمرات الإنكليزية في العشر الأخير زيادة عظيمة فقد كان عدد مسلمي الهند في العشر الماضي 57 مليونًا وصار عددهم بحسب الإحصاء الأخير 87 مليونًا بل 89 مليونًا و125 ألفًا. وبالجملة فإن المؤيد قدر عدد المسلمين الخاضعين للإنكليز 138. 706. 740 وقال: إن هذا المجموع أقل من الحقيقة بكثير. (2) معاملة الإنكليز للمسلمين: يقول الكاتب: (إن المسلمين في المستعمرات الإنكليزية يتمتعون بالحرية الدينية ويرتقون في معارج الحياة الاجتماعية، ويزدادون بالتدريج ثروة وعلمًا وأدبًا وستكون الهند مصدرًا لمدنية آسيا، ومصر منبعًا لحياة ما يجاورها من آسيا وأفريقيا، ثم إنه مع هذا ينسب إلى قومه الإنكليز التقصير في القيام بمصالح المسلمين ويثبت لهم أن مستقبل بريطانيا العظمى مرتبط بمستقبل المسلمين، ومصالحهم مقرونة بمصالحهم. ويقول: إن الإنكليز ارتكبوا هفوات مع المسلمين جهلاً وغرورًا ونقل عن الدكتور ليتنر الذي وصفه بأنه حجة ثقة جملة جاء فيها أن الصلة انقطعت بين الإنكليز والمسلمين في الهند بإبطال محكمتي الصدر الديواني ونظام عدالت. قال الدكتور: (وإن أحكام محاكمنا (أي الإنكليزية) صارت بعيدة عن الغرض المقصود لجهل قضاتنا باللغة العربية التي لا يمكن أن يكون لأحد مع المسلمين نفوذ بدون معرفتها لارتباطها بالشريعة المحمدية ارتباطًا لا انفكاك له) . وينقل الكاتب عن هذا الدكتور أيضًا القول بوجوب ردّ الإنكليز المرتبات والهبات التي منعت عن المسلمين بغير حق ليستعينوا بها على (التربية الدينية والأدبية اللازمة للأمة المحمدية) . ويقول: إذا اتبعنا نصيحة الدكتور فإننا نكفّر عن سيئاتنا الإدارية وغلطاتنا السياسية التي وقعت من بعض حكام الهند قديمًا خصوصًا إقفال أبواب المدارس العليا في وجوه الناشئة الإسلامية وما تبع ذلك من التضييق عليهم في وظائف الحكومة، ويعترف الكاتب للسيد أحمد خان بأنه كان هو السبب في تقرب الإنكليز من المسلمين وأنهم خطوا بسعيه خطوات واسعة ويمدح مدرسته التي كانت مساعدة على هذا التقرب وإزالة سوء التفاهم بين الفريقين. ويوجب على الإنكليز مساعدة المدارس التي تربي الناشئة على الاستقلال ومحاسن الأخلاق وصفات الرجولية كمدرسة أحمد خان. (3) ارتباط مصلحة الإنكليز بالمسلمين، قال: يجب علينا - وراء التكفير عن سيئاتنا ومساعدة إخواننا المسلمين على الترقي - أن نزيل ما علق بأذهان بعضنا من سوء فهم الدين الإسلامي فإن نتيجة هذا الجهل جعلهم أعداء لنا. ثم نقل أن المسلمين دعوا الله تعالى في مساجد الهند بأن ينصر الإنكليز على البربر واستدل بهذا على إخلاصهم لحكومتهم وعلى وجوب جذبهم إليها لكيلا تصيبهم السموم التي ينفثها أعداؤها. وذكرالأفغان وما يكون لهم من الشأن إذا حاربت روسيا الإنكليز في الهند. وانتقل إلى أفريقيا وذكر قوة السنوسيين فيها وازدياد نفوذهم وأنها ستكون وبالاً على الإنكليز إذا هم لم يجذبوا المسلمين إليهم فإنهم لا يلومون في المستقبل إلا أنفسهم. قال: (الواسطة الوحيدة لتمكين سلطتنا في آسيا وأفريقيا هي أن نبذل جهدنا في إفهام المسلمين أن مصالحها الدينية والسياسية مرتبطة بمصالحنا وأنهم بخدمة مصالحهم يخدمون مصالحنا ونحن كذلك. ويلزم المسلمين لذلك أن يعلموا أن كثيرًا من معتقداتهم التي يحسبونها من الدين ليست منه ولا جاء بها كتابه) . يقول القاضي سيد أمير علي أحد نبهاء المسلمين: (إن سبب تأخر المسلمين وبقائهم على ما هم عليه من التأخر يرجع في الغالب إلى ما رسخ في أذهانهم من أن لا حَقََّ لهم في استعمال عقولهم في فهم دينهم؛ لأن ذلك قد انتهى بانقراض المجتهدين الأولين فصار الاجتهاد بعدهم محرمًا، وأن المسلم لا يكون مسلمًا صادقًا إلا إذا كان مقلدًا لمذهب من المذاهب المعروفة. فيترك المسلم ما يعتقد وما يفهم ويتمسك بآراء أهل القرن التاسع من المفسرين والفقهاء غير ملتفت إلى الآراء والأفكار التي وصل إليها العالم في القرن التاسع عشر) . وقد ختم الكاتب كلامه بذكر حركة العالم الإسلامي الآن للترقي وحتم على الإنكيز مساعدة هذه الحركة والاستفادة منها، وعلق الأمل في ربط الألفة بين الفريقين بمسلمي ليفربول. (4) دين الإسلام دين مدنية: أثنى الكاتب على الإسلام ثناء من فهمه ورد على المعترضين عليه بفهم وعقل ونقل أقوال ثقات الحكماء والعلماء الغربيين في مدحه وأجاب عن الاعتراضات المشهورة بأجوبة حسنة. وربما نلخص تلك الأقوال والمدائح بعد. وإن لنا كلامًا في الوفاق الإسلامي الإنكليزي نذكره في الجزء الآتي.

مثال من أمثلة طفولية الأمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مثال من أمثلة طفولية الأمة جمعية مكارم الأخلاق يعرف قراء المنار أن جمعية وجدت في القاهرة سميت (جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية) ثم وجد لها فروع في الزقازيق والإسكندرية وغيرهما. وقد أقبل الناس في القاهرة على الجمعية حتى صار أعضاؤها يعدون بالمئين أو تجاوزوها وأنشأت الجمعية مجلة سمتها باسمها بلغ عدد المشتركين فيها بعد أشهر من ظهورها زهاء أربعة آلاف مشترك. وكان الفرع الذي تفرع منها في الزقازيق أكبر الفروع نفعًا وأعزها نفرًا فإنه أنشأ مدرسة وعالَ بعض الفقراء. ولكن الجمعية الكبرى لم تلبث أن انحلت وأبطلت مجلتها بعد مرض عرض على إدارتها وغول غال ماليتها، وظلت جمعية الزقازيق بعد سقوط أمها قائمة على طريقها حتى جاءنا في هذه الأيام خبر سقوطها وإبطال مدرستها وبيع أدواتها وأثاثها واقتسام الأعضاء له. يعلم الله أننا نكتب هذا بمداد الأسف والامتعاض. ويعلم أهل الفضل والمروءة من أفراد الجمعية بعض ذلك منّا بحثنا إياهم على إحياء الجمعية في القاهرة وتعيين رئيس لها صالح للإدارة يخدم الجمعية للجمعية. وإننا لم نيأس من همة هؤلاء الفضلاء، فإن كان النهوض بعد السقوط عسرًا فهو إذا حصل أجدر بالثبات وأحرى بالدوام ويسرنا بقاء فرع الجمعية في الإسكندرية ثابتًا، وقد أحدث للمجلة مطبعة وأعاد نشرها.ولا شك أن أهل الإسكندرية أرقى في الحياة الاجتماعية من أهل الزقازيق ولكنهم ليسوا في مجموعهم بأرقى من أهل القاهرة فلعل هؤلاء سيحققون رجاءنا فيهم ولا يقنطهم سقوط الطفل قبل فطامه من نهوضه وقيامه.

محادثة بين صاحب جريدة الحاضرة ورئيس تحرير جريدة فرنسوية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محادثة بين صاحب جريدة الحاضرة ورئيس تحرير جريدة فرنسوية اجتمع صاحب جريدة الحاضرة العربية الوحيدة في تونس بموسيو ترديون رئيس تحرير جريدة الدبيش تونزيان، وتكلما في موضوع التعليم الذي تبغيه فرنسا بتونس. فرأينا أن نلخص ما دار بينهما لما فيه من العبرة للمسلمين الذين استعمر بلادهم الأوربيون، أو احتلوها باسم الحماية أو غير ذلك. (الصحافي الفرنسي) : ما قولك أيها الرصيف في المقالة التي نشرت اليوم في جريدتنا تحت عنوان (ما هي النسبة التي علينا أن نعلمهم - أي التونسيين - عليها؟) جوابًا على مقالة في هذا الشأن نشرت في التونزي فرانسيز تحث على حرمان التونسيين من نعمة التعليم العالي الموصل إلى النتائج الفكرية النافعة من طب وهندسة وخصام (كذا ولعله يريد الحقوق) وتحرير إذ رأى محرر هذه الجريدة أن نظام الحماية قاض بإبقاء التونسي دائمًا في دياجير الجهل حتى لا يهتدي إلى الصواب والترقي الفكري سبيلاً، وبمعاملته كما تعامل البهائم حتى لا يطمح إلى الاستقلال ولا يتوصل إلى إنكار ما يلحقه من الأذى والظلم. (الصحافي التونسي) بعد جملة في مدح العلم: هل تنكرون أن فرنسا اختلت هذا القطر لبثِّ أنوار العرفان ونشر راية المدنية بين أهالي المملكة فكيف يمكن الجمع بين هذه الدعوى وبين قضية حرمان شبان التونسيين من التعليم. (الفرنسي) : نحن لم نقل بحرمان التونسي من كل تعليم بل زدنا على السماح له بالتعليم الابتدائي أن أجزنا أن يتعلم بعض الأفراد العلوم العالية بصفة استثنائية خاصة لا عامة؛ لأن انتشار العلوم العالية يثقف العقول ويفتح البصائر ويولد الطمع بالاستقلال في نفوس المسلمين لما هم عليه من صفات الرجولية والشجاعة وحب الجلاد والمحافظة على شعائرهم بخلاف اليهود فإنهم لا وطن لهم ولا مطامع، سياسية وهم بكثرة تقليدهم وميلهم لمجانسة الأوربي كادوا أن يكونوا على صبغته فنحن على خلاف رأي التونزي فرانسيس ترى تقييد نشر العلوم العالية وتخصيصه ببعض الشبان لا حرمان جميع الأفراد منه بالمرة. (التونسي) : لعلكم سلكتم هذا المسلك مصانعة لأصحاب الأسهم من التونسيين (وفي الأصل مراعاة لخاطر أصحاب الأسهم) . (الفرنسي) : ربما كان ذلك من جملة الأسباب ولكن هذا هو رأينا الخاص. (التونسي) كيف يسوغ ذلك التقييد، والعلم نور ساطع لا يمكن إخماده وفي محاولة حجبه عن الناس خصوصًا القادرين منهم على اقتباسه بأنفسهم من إيغار الصدور وجلب البغضاء ما لا يليق بدولة حرة هي قدوة الأمم في ترقي الفكر. (الفرنسي) : لقد ضيق الإنكليز من قبل دائرة تلقي الشبان المصريين للعلوم العالية في مدارس الحكومة. (التونسي) : لكنهم لم يتمكنوا من منع النهضة المصرية التي أغنت الأمة عن مدارس الحكومة بما أقامه أفراد نبهائها ونبلائها من المدارس في كل علم وفن وعدلوا عن هذه السياسة في ممالك الهند حيث أقام أشراف القوم وسراتهم المدارس الكثيرة للعلوم العالية من قديمة وحديثة وذلك؛ لأنهم رأوا هذه السياسة أكفل للولاء وتعلق رعاياهم بحكمهم. (الفرنسي) : نحن نود أن لا تثقف أذهان التونسيين عامة بالعلوم العالية وأن لا يتخرجوا فيكونوا أساتذة قادرين على النفع والانتفاع بتحصيلهم حتى نأمن مقاصدهم فلا يسلكوا مسلك المكي كمون في التحامل على الحكومة والنظامات التونسية. (التونسي) : هذا كلام فيه نظر فإن كمال التعليم يقي الكامل من الجنوح إلى الباطل ويسلك به طرق الجد والعمل النافع له ولقومه وإن تطرف المكي كمون من ثمرات التعليم الابتدائي الناقص الذي تجيزه. (الفرنسي) : لو تجنس كل نابغ في العلوم العالية بالجنسية الفرنسية لما أوحينا منه خيفة؛ لأنه حينئذ يكون عضوًا فرنسيًّا يؤدي واجب الخدمة العسكرية من عهد الشبيبة. (التونسي) : هل يتساوى بهذه الجنسية التونسي والفرنسي في جميع الحقوق والمصالح؟ إننا رأينا من خواص الفرنسيين من لا يرى هذه المساواة مطلقًا ويعيب مجانسه بحداثة التجنس. (الفرنسي) : ذلك لأنهم مع التجنس وبعد أداء الخدمة العسكرية في الجيش يعودون إلى عوائدهم كلبس الطربوش، وربما لبسوه عثمانيًّا وارتداء لباس البادية والإقبال على الصلوات والأذكار! ! ! (التونسي) : لعلكم تقصدون بالتجنس ترك شعائر الدين وتغيير الأزياء ولو شاطركم المتجنس في أعز الامتيازات الوطنية كمشاطرة اليهود لكم في الحقوق والمصالح الحيوية بتغييراتهم الصورية، فهل المخلص لكم من يَتَزَيَّا بأزيائكم مع العلم بأن لبس الزُّنار لا يقتضي الترهب وهل تنطبق هذه الأفكار على حرية (التدين) إن لم نقل ترك التدين؟ ألا يُعد هذا لو صدر من مسلم من التعصب الذميم والتغالي الممقوت في عرف مدنية هذا العصر الذي ضيقت الحكومة فيه على مدارس الرهبان؟ (الفرنسي) : إنما نقصد نحن امتلاك القلوب، ولذلك نود أن يتنازل لنا المسلم عن أحكام دينه الذاتية كالأنكحة والمواريث مما هو مصداق الحالة الشخصية. (التونسي) : إذا كان القصد من التجنس هو تغيير الدين وأصوله الأساسية بما يخرج عن دائرة دينه وملته فهو مما لا يرغب فيه مسلم ذو مروءة؛ لأن المارق من دينه ممقوت عند الله وعند الناس ولو كان دخيلاً فيهم. ثم إن في التجنس بهذه الصفة قلب الهيئة الإسلامية بتغيير الأنساب والنسب في المواريث وحقوق الزوجية في التصرف؛ إذ المرأة عندنا حرة لا يتوقف تصرفها على إذن زوجها إلى غير ذلك من مسائل الأرحام والأنساب التي جاءت بها أحكام الشريعة الإسلامية المنزلة. فلماذا لا تتغير أحكام القانون الفرنسي إلى الأحكام الإسلامية؟ (الفرنسي) : الحق لكم في هذا المبحث فإن نسبة المواريث مقصودة لأجل إبقاء الميراث بيد الذكور أعمدة البيوت وهو ما قصده الإنكليز من أحكامهم في هذا الباب. على أنه لا مانع من البحث عن طريقة للتوفيق بين مصالح الهيأتين الأهلية والفرنسية لدوام الألفة وحسن المعاشرة في هذه الأوطان. (التونسي) : ذلك أحسن مرغوب تتجه إليه القلوب وترتاح له النفوس ويا حبذا لو سعت الجرائد المحلية في تحقيقه. غير أني أقول بالإجمال: إن أكفل وسيلة لبلوغ هذه الأمنية هي توزيع الفوائد والمغانم وتقسيم المنافع المادية بصورة عادلة توفر للأهالي حظًّا من فوائد القطر ومغانمه حسية كانت أو معنوية كالوظائف والمساعدات المادية والأدبية والحث على الترقي الفكري الذي هو ثمرة المدنية. (قال) ثم وادعنا رصيفنا المومى إليه قانعًا بما وضحنا له من الخطاب. اهـ ... ... ... ... * * * (المنار) نقلنا هذا الخطاب بتصرف لفظي قليل لا يغير شيئًا عن المعنى ولا نستنبط منه شيئًا بل ندعه للقارئ يفهم منه ما يفهم. ونعرف رصيفنا الفاضل صاحب الحاضرة بأن الإنكليز لم يحاولوا مقاومة التعليم الأهلي فيقال: (إنهم لم يتمكنوا من منع النهضة المصرية) إلخ وأن المدارس التي حدث عنها لم تغن عن مدارس الحكومة ولا قاربتها في حسن التعليم، ولو أن المصريين عرفوا قيمة حرية الإنكليز في العلم والدين وكل ما يحتاجه من يتولون أمورهم لكانت لهم مدارس كما وصف الرصيف ولكنهم رزئوا بأحداث يبغضون إليهم الإنكليز وأعمالهم ويمنونهم بأن فرنسا ستخرجهم من وادي النيل بهذيان أولئك الأحداث ولغطهم فاشتغلوا بهذا عن كل شيء حتى علمهم الزمان بحوادثه حقيقة غرور الأحداث وتغريرهم والآن صار يُرجى منهم النهوض الحقيقي والتعليم النافع فإن فعلوا فإن الإنكليز يساعدونهم كما يساعدون إخوانهم في الهند، والله الموفق.

مثال من أمثلة تعصب النصرانية على العلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مثال من أمثلة تعصب النصرانية على العلم صاحب مجلة الجامعة - الذي يدعي أن النصرانية أكثر تسامحًا مع العلم من الإسلام - أرثوذكسي المذهب. وفي القاهرة جريدة لأرثوذكسي آخر تصدت للانتصار له والتنويه بخدمته وفلسفته، وهذه الجريدة دينية إخبارية وإن لم يكتب عليها (دينية) وقد نشرت في العدد الذي انتصرت فيه لصاحب الجامعة المحترم مقالة عنوانها (المدارس والإكليرس) يصح أن تكون مثالاً أو أن يؤخذ منها مثل متعددة لتعصب النصرانية على العلم حتى اليوم (من فمك أدينك) . جاء في المقالة أن عاملين يتنازعان النجاح وعدمه في تعليم الأولاد (الأول التعصب الديني الذي يحمل الآباء على إرسال أولادهم إلى مدارسهم الطائفية سواء كانت مفيدة أو غير مفيدة) إلخ. (والثاني النظر إلى المستقبل) وذكر أن الناس يتراوحون بين هذين العاملين ثم قال ما نصه بحروفه: (وما زلنا نرى الناس في هذا التضعضع نرى رؤساء الأديان مع الفئة الأولى المتعصبة يسعون إلى الضغط على الأفكار وإرغام الأهالي التابعين لهم على إرسال أولادهم إلى مدارسهم كأن يقولون لهم: اتركوا مستقبل أولادكم وحافظوا على صحة اعتقادهم؛ لأن هاته المدارس ما فتحت في بلادكم إلا لتسلب منكم أولادكم وتضطرهم إلى ترك معتقدات آبائهم وأجدادهم. (وهذا ما قاله أيضًا غبطة البطريرك المسكوني ونقله إلينا البريد الأوربي فقد جاء في جريدة (التان) لمكاتبها في الآستانة: (أصدر غبطة البطريرك المسكونى للروم الأرثوذكس في الآستانة منشورًا شديد اللهجة إلى جميع المطارنة ضد المدارس الدينية الفرنساوية حرض به أبناء الطائفة الأرثوذكسية أن لا يرسلوا أولادهم إليها) . اهـ فهل سمع مثل هذا عن شيخ الإسلام في الآستانة أو شيخ الأزهر في مصر؟ أليست المدارس الفرنسية ملأى بأولاد المسلمين المخالفين لهم في أصل الدين لا في مذهب من مذاهبه كالخلاف بين الكاثوليك والأرثوذكس. نعم إن الإسلام ليس فيه سلطة دينية تجعل الملقب بشيخ الإسلام أو شيخ الأزهر مسيطرًا على الناس ولكن فيه وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجدر الناس بالقيام بهذا الواجب هم الذين يرتقون إلى مثل هذه المنصب، ولكن تسامح الإسلام قد غلب حتى خرج عن كونه تسامحًا وتساهلاً وصار إهمالاً وتفريطًا. نسب صاحب هذه الجريدة ما نكتبه في الرد على صاحب مجلة الجامعة إلى رجل صاحب منصب سامٍ في المسلمين وما كان له أن يصرح بظنه؛ لأن الحق يعرف بذاته لا بقائله والباطل كذلك؛ ولأن آداب الصحافة تقضي بذلك فليس لي إذا رأيت مقالة منتقدة في جريدة منسوبة لكاتب غير معين أن أنسبها لعظيم أحب غميزته والنيل منه، أو أحب أن أجعل نفسي مناظرًا له ليتوهم الجاهلون بي وبه أنني من نظرائه. ولم يكتف صاحب الجريدة المشار إليها بالنسبة المذكورة والمقارنة بين شاب من المبتدئين في الكتابة من أهل مذهبه وبين هذا الشيخ الجليل الذي ذكره بل خرج عن الموضوع في عدد آخر (وهو العدد الأخير) وأتى بجانب أسمه بما لا يليق أن يصدر من السوقة،هذا وكل من قرأ الرد على الجامعة أعجب بنزاهة الكلام وأدبه؛ لأنه لا يشم منه رائحة تحقير أحد فليس فيه أن صاحب الجامعة (أساء الفهم وتجاهل) ولا (أنه حقر المسلمين) بل كل ما فيه سرد النقول من كتب الدين وكتب التاريخ وما يتبادر إلى الفهم منها مع الاعتذار عن المعترض على الإسلام والمسلمين والثناء عليه بما عده الناس فوق ما ينبغي. فما كان لمن عومل هذه المعاملة أن يعامل بضدها من عدهم من الأصدقاء، وهو مأمور بمحبة الأعداء، ولا أن يستنجد ابن مذهبه ليقول في الانتصار له ما لا يقوله هو أو يرضى منه ذلك ليحقق التهويل الذي أشار إليه وأرجف به وتبرّأ من تبعته ألقاها على من رد عليه. تلك آداب دين التعصب والغلظة وهذه آداب صاحب الجريدة المنتصرة لدين المسامحة والمسالمة ومحبة الأعداء. أقام الله منهم أدلة على دعاويهم، وأيد كلمة الحق بما تقذفه أفواه متأدبيهم. وبقي أن نقول: إن فضلاء المسيحيين وأدباءهم قد قدروا الرد الذي ننشره قدره وعرفوا قيمته؛ إذ فهموا أنه أبلغ ما كتب في إقناع المسلمين بوجوب حسن المعاملة مع المخالف في الدين، ووجوب الأخذ بأسباب الارتقاء الذي هو الوسيلة الوحيدة لسعادة الشرق والشرقيين، ولو تأنى الرصيف المحترم صاحب الجامعة الغراء وصبر حتى قرأ الرد كله (ولم يحكم بأنه 35 صفحة فقط.. .) لجاز أن يظهر له منه ما ظهر لعلماء المسيحيين وكبار كتابهم من أنه أكبر خدمة خدم بها الشرق، والله الهادي إلى سبيل الحق.

سخافة بشائر السلام في الجاهلية والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سخافة بشائر السلام في الجاهلية والإسلام نشرت مجلة بشائر السلام الإنجيلية في جزئها التاسع نبذة في الجاهلية والإسلام زعمت فيها أن الإسلام في عقائده وأعماله دون الجاهلية، وقد توسعت في الكلام على الركن الأعظم في الإيمان وهو توحيد الله تعالى فزعمت أن الإسلام زاد الجاهلية وثنية على وثنيتها! ! ! واحتجت على ذلك بستة أمور: (1) كون الإيمان بمحمد محتمًا بعد الإيمان بالله تعالى فجعلت هذا شركًا بالله وما هذا الإيمان بالوحي والرسل فإن من ينكر نبوة موسى أو عيسى كافر عند المسلمين كمن ينكر نبوة محمد عليهم الصلاة والسلام. فيظهر أن الإيمان بالوحي شرك ووثنية عند الكاتب الإنجيلي. وتعبيره بمقارنة الاسمين في الشهادتين لا يزيد الشبهة قوة فإن صيغة الشهادة المروية في الصحيحين هي (أشهد أن لا اله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) فهل يكون العبد ربًّا وإلهًا؟ ! وأما المقارنة في الذكر قولاً وكتابة فهي لا تمتنع إلا إذا حرم ذكر الله تعالى ومنع بالمرة! ألا يقول الكاتب: رحم الله فلانًا ونحو هذا؟ وقد كبرت على الكاتب كلمة توجد في بعض كتب المسلمين وهي أن كلمتي الشهادة مكتوبتان على العرش قبل خلق السماوات والأرض. القول بهذه الكتابة ليس من عقائد الإسلام فمن عاش ومات ولم يسمع بها، أو سمع ولم يصدق بأنها وردت في الحديث بالمرة فلا يعدّ هذا ولا ذاك نقضًا لإيمانه ولا نقصًا منه. وإذا قلنا إن هذه الكتابة ثبتت وصحت فأيّ وثنية فيها والإله إله والعبد عبد؟ نعم إن ذلك يدل على التشريف. وهل يقول الكاتب أن جميع عباد الله سواء في معرفته وعبادته ونفع خلقه وأن تشريف بعضهم وتفضيله على الآخر شرك بالله؟ وأن التوحيد الخالص هو أن يعتقد الإنجيلي بأن موسى كفرعون وإبراهيم كنمرود بلا فرق؟ هذا هو فهم دعاة النصرانية في الدين، وهذا ما ينقمون من المسلمين، والحمد لله رب العالمين. (2) زعم الكاتب أن المسلمين أنزلوا حديث النبي منزلة القرآن وجعلوهما سواءً في أخذ الأحكام مع اعتقادهم بأن القرآن كلام الله والحديث كلام محمد. وزعم أن الشيعة تركوا الحديث فأسخطوا أهل السنة. وكل من الزَّعْمَين باطل فأهل السنة لا يقولون بأن القرآن والأحاديث سواء، والشيعة لم يرفضوا الأحاديث. القرآن أصل الدين، والسنة مبينة له قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وللقرآن خصائص ومزايا ليست للسنة كوجوب الإيمان بجميع ما فيه وكالتعبد بتلاوته. وأما الأحاديث فلا يضر في الإيمان إنكار أي حديث منها (ومن ثبت عنده شيء بالتواتر لا يستطيع إنكاره وإن لم يكن حديثًا فلا يجيء الحديث المتواتر هنا) ، وهي على أقسام فيما كان منها متعلقًا بأمور الدنيا لا يجب الأخذ به، ويجوز أن يكون خطأً كما في حديث تأبير النخل الصحيح وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وما كان متعلقًا بأمر الدين فإما أن يكون عن اجتهادٍ، وإما أن يكون عن وحي. أما اجتهاد الأنبياء فقد جوّز علماء أهل السنة أن يقع فيه الخطأ ولكن لا يُقَرُّون عليه، بل يأتيهم الوحي بيان الحق إليه كما في واقعة أسرى بدر. وأما ما يقولونه عن وحي من الله فيجب الأخذ به، ويفرق المسلمون بين القرآن وبين الوحي الذي يعبر عنه النبي بعبارة من عنده، ويسمى عند المسلمين خبرًا وحديثًا بما تقدم، وبأنه إذا وقع تعارض بينهما ولم يمكن الجمع بعمل بالقرآن دون الحديث. فالحديث الصحيح في المرتبة الثانية لا يمكن أن يساوي القرآن ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا عندما أرسله إلى اليمن بماذا يحكم، فقال: بكتاب الله وأنه إذا لم يجد يحكم بالسنة، فأجازه على ذلك. وهذا هو المروي عن أبي بكر وعمر وغيرهم من أئمة الدين أي: إنهم ينظرون في القرآن أولاً فإن رأوا فيه حكم ما يطلبون قضوا به وإلا بحثوا في السنة وعملوا بها. فلينظر المسلمون كيف يخترع المسيحيون لهم أصولاً للدين، ويبنون عليها رميهم بالشرك المبين، فهذا هو تعصيبهم وهذا تساهلنا والحمد لله رب العالمين. قال: (الثالث ذكرُ اسم محمد مع اسم الله في مواضع جمة من القرآن نظير شريك له في الأمر والنهي والحل والربط ووجوب الطاعة له والمحبة) إلخ، وقال الكاتب إنه لا يذكر الشواهد إلا من سورة التوبة وحدها ولكنه ذكر ثلاث آيات: اثنتان منهما من التوبة والثالثة من الأحزاب. وقد حرف الآيتين مع وضعهما بين علامات تدل على أنه نقلهما بنصهما فكتب (إن الله بريء مما يشركون ورسوله) والله تعالى يقول: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 3) وكتب (وما كان لمؤمن أو مؤمنة) إلخ، والله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} (الأحزاب: 36) الآية. أما الجواب عن الشبهة فهو واضح وهو أن أحكام الله تعالى إنما تؤخذ عن رسوله، فكل ما يقضي به الرسول من أمر الدين فهو مبلغ له عن الله تعالى ويصح إسناده إليه كما يصح إسناد الحوادث الطبيعية إلى أسبابها؛ لأن الله تعالى جعلها مرتبطة بها ولا يسمى شيء من هذا شِركًا. وكأني بالكاتب يقول: إن دينه يحكم بشرك من يقول: (ينبغي للإنسان أن يستحي من الله ومن الناس) ونحو هذا؛ لأنه قرن اسم الناس باسم الله في حكم واحد. فلينظر المسلمون إلى ثقة دعاة النصرانية في النقل وليقابلوا بين ما ذكر من التحريف في الآيات والخطأ في العزو إلى السورة وبين ما وقع لنا مع أحد كبار العلماء وهو أنه نبهنا إلى وجوب التنبيه على غلطة وقعت في المنار نقلاً عن الإنجيل وهي (لم تجربونني) وقد حذف نون الوقاية من الفعل بالطبع فطبعت (تجربوني) . وليتأمل المنصفون في نقلنا عن القوم ونقلهم عنا للتمييز بين الصادقين والكاذبين، والتزييل بين المتساهلين والمتعصبين، والحمد لله رب العالمين. قال: (الرابع اتخاذ المسلمين محمدًا سيدًا لهم) ثم استنبط من هذا أن المسلمين يعتقدون بأنهم عبيد لمحمد وقال: إن هذا هو الشرك الذي عناه. وجوابه أن المسلمين لم يوجبوا أن يقول أحد عند ذكر النبي كلمة (سيدنا) ولم يرد الأمر بوصفه عليه الصلاة بذلك في الكتاب ولا في السنة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن إضافة لفظ (سيدنا) على صيغ الصلاة الملحقة بالتشهد مكروهة، وقال بعضهم إنها مستحبة؛ لأن هذا اللقب من ألقاب التكريم التي اعتادها الناس مع الكبراء ومع الأقران. وأما استدلال الكاتب على هذه السيادة التي تستتبع الشرك عنده بآية {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي} (الأحزاب: 56) فهو غريب؛ لأن الصلاة من الله الرحمة، ومن غير الله الدعاء كما صرح بذلك العلماء. فلو كان كل من تطلب له الرحمة إلهًا لنا وكل من نخاطبه بلقب السيادة إلهًا لنا؛ لكان لنا وللكاتب آلهة لا تحصى‍‍‍! ! ! نعم إن المسلمين يعتقدون أن محمدًا أفضل بني آدم وسيدهم ولكنهم ليسوا عبيدًا له. أما وجه تفضيله فهو ظاهر بأثره وقد كتبنا فيه وسنكتب أيضًا إن شاء الله. فليتأمل المتأملون في تمحّل هؤلاء الدعاة المسيحيين، واستنباطهم الذي يضحك المحزونين، والحمد لله رب العالمين. قال: (الخامس مغالاة المسلمين في قِدمية محمد إلى أن قالوا: إنه نور كائن قبل البشر) إلخ. ونقول إن هذه المغالاة ليست من الدين في شيء فلا توجد في القرآن ولا في كتب السنة الصحيحة ولا في كتب العقائد، وإنما توجد في كتب القصص والموالد التي لا اعتبار لها، والدين ينهى عن القول بغير علم. على أن العامة الذين يروج عندهم هذا الغلو لا يختلفون في حدوث نبيهم وغيره من الأنبياء فلا يصح أن يسمّى القائل بذلك مشركًا بوجه ما. ولينظر الناظرون مبلغ علم هؤلاء الناس بالأديان التي يحكمون ببطلانها ويدعون أهلها إلى تركها وليدلونا على مسلم يتكلم مثلهم بغير علم، ويعتدي عليهم في الدعوى ثم في الحكم، وحسبنا أننا من المسلمين، والحمد الله رب العالمين. قال: (السادس والأخير اتخاذ المسلمين محمدًا شفيعًا) ثم قال: (واتخاذ المخلوق شفيعًا عند الله هو عين الشرك الذي كان عليه العرب في الجاهلية لا أكثر ولا أقل) ، ثم ذكر أن اتخاذ الجاهلية شفعاء كثيرين أخف شركًا من حصر المسلمين الشفاعة في شفيع واحد. على أن المسلمين لم يحصروا، والجواب أن الشفاعة عند المسلمين هي الدعاء، ولذلك يقولون في الصلاة على الميت: (وقد أتيناك راغبين إليك شُفَعَاءَ له، اللهم إن كان محسنًا فزد في إحسانه) إلخ. فكل مسلم شفيع، بل كل مؤمن بالله يدعو الله تعالى لنفسه ولغيره والدعاء للغير يسمّى شفاعة. كأن الكاتب الإنجيلي يقول: إن دينه يحكم بشرك كل من يذكر ميتًا كوالده أو غيره ويقول رحمه الله تعالى. فهكذا يفعل (دين التساهل) بفتات أهله على المخالفين، وإذا أجابوهم بالحق يدعونهم متعصبين، ولكن هذا لا يخرجنا عن تساهل المسلمين. والحمد لله رب العالمين. وإن تَعْجَبْ فعجبٌ قول من اتخذوا نبيّهم إلهًا: إن الذين يقولون إن نبيهم عبد لله ولكنه أفضل عباده؛ لأنه نفع خلقه أفضل منفعة وهداهم بإذنه أكمل هداية هم مشركون بالله لأنهم يعرفون فضل نبيهم ويسألون له رحمة الله تعالى ويطيعونه فيما يبلغه عن الله تعالى. قال الكاتب بعد إيراد ما يقدم: (ويردّ على ذلك اتخاذنا نحن النصارى السيد المسيح شفيعًا وحيدًا بين الله والناس على ما جاء في الإنجيل. فأجيب إذا كنا معتقدين أن المسيح مخلوقًا (كذا واتخذناه) شفيعًا وحيدًا أو معه غيره نكون بلا شك مشركين ولكن إذا كان المسيح بالحقيقة كلمة الله الأزلي وهو الخالق وغير المخلوق الذي كان به كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان، فلسنا مشركين بل نعبد إلها واحدًا تبارك اسمه) ! ! ! يعني أن الشرك هو اعتقاد أن نبيهم عبد لله وأن شفاعته دعاء لله وأن التوحيد الخالص هو اعتقاد الناس أن نبيهم الذي ولد منذ 1902 هو الله القديم الأزلي الخالق لكل شيء مما كان قبله وما يكون بعده. وأنه شفيع بمعنى أنه وساطة بين الناس وبين نفسه؛ يصلبها ويلعنها لإنجائهم! ! بخ بخ ما أحسن هذا التوحيد. هذه شبهات المسيحيين المصلحين. فلله الشكر والمنة أن جعلنا مسلمين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

الإسلام والنصرانية ـ مع العلم والمدنية

الكاتب: محمد عبده

_ الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية تتمة المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم (الجواب) أقول هذا كلام فيه شِيَة من الحق، ولمعة من الصدق، أما ما نسمعة حولنا من سَجن مَن قال بقول السلف فليس الحامل عليه التمسك بالدين فإنَّ حملة العمائم إنما حركهم الحسد لا الغَيْرة. وأما صدور الأمر بالسجن فهو من مقتضيات السياسة والخوف من خروج فكر واحد من حبس التقليد فتنتشر عدواه فينتبه غافل آخر ويتبعه ثالث، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين - إلى آخر ما يكون من حرّية الفكر يعوذون بالله منها. فإن شئت أن تقول: إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فإنا معك من الشاهدين. أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يُلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يُجَنُّ أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس، يدلك على أن العقوبة سياسة أن الرجل كان يقول بقول السلف من أهل الدين. لا تقل: إن هذه السياسة من الدين، فإني أُشْهِدُ الله ورسله وملائكته وسلفنا أجمعين، أن هذه السياسة من أبعد الأمور عن الدين، كأنها الشجرة التي تخرج في أصل الجحيم، {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإَلَى الْجَحِيمِ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالَّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات: 65 - 70) . * * * (جمود المسلمين وأسبابه) وأما ما وصفت بعد ذلك من الجمود فهو مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون أصلاً يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته (رينان) وغيره. وإنما هي علة عرضت على المسلمين عندما دخل على قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة الإسلام في أفئدتهم. وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من عقولهم هو السياسة، كذلك هو تلك الشجرة الملعونة في القرآن عبادة الهوى واتباع خُطُوات الشيطان هو السياسة. لم أرَ كالإسلام دينًا حفظ أصله، وخلط فيه أهله، ولا مثله سلطانًا تفرق عنه جنده، وخُفِر عهده، وكُفِر وعيده ووعده؛ وخَفِيَِ على الغافلين قصده، وإن وضح للناظرين رشده، أكل الزمان أهله الأولين، وأدال منهم خُشَارة من الآخرين، لا هم فهموه فأقاموه، ولا هم رحموه فتركوه، سواسية من الناس اتصلوا به، ووصلوا نسبهم بسببه، وقالوا نحن أهله وعشيرته، وحماته وعصبته، وهم ليسوا منه في شيء إلا كما يكون الجهل من العلم، والطيش من الحلم، وأفَنُ الرأي من صحة الحكم. انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله. كان الإسلام دينًا عربيٍّا ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيٍّا بعد أن كان يونانيًّا، ثم أخطأ خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له. ظن أن الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك. وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما يبيح له ذلك. هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا. خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه وبئس ما صنع بأمته ودينه: أكثَرَ من ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه، فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم ولم يكن لهم ذلك العقل الذي يرضاه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين. بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم. لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم. ومنهم من تولى أمره، أيّ عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرّف الناس منزلتهم ويكشف لهم قبح سيرهم؟ فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم. أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء وأن يتسربلوا بسرابيله ليُعدُّوا من قبيلة، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه. ودخُلوا عليهم وهم أَغرار من باب التقوى وحماية الدين. زعموا الدين ناقصًا ليكملوه، أو مريضًا ليعلِِّلوه، أو متداعيًا ليدعموه؛ أو يكاد أن ينفضّ ليقيموه. نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم من الأمم النصرانية، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو بَرَاءٌ منه لكنهم نجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم، وهم يد الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات وتلك الاجتماعات، وَسَنّوا لنا من عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة وأركس الناس في الضلالة، وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر وتجمد العقول. ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعينه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان. وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك لله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه. ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام. وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبطًا للعزائم وغلاًّ للأيدي عن العمل. والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين وموافقة الهوى. أمور إذا اجتمعت أهلكت؛ فاستتر الحق تحت ظلام الباطل ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم كما يقال. هذه السياسة سياسة الظلمة وأهل الأثرة هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السماوات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات، فجلُّ ما تراه الآن مما تسميه إسلامًا فهو ليس بإسلام وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج وقليل من الأقوال التي حرفت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا. نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه. فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سموه إسلامًا. والقرآن شاهد صادق {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) يشهد بأنهم كاذبون، وأَنهم عنه لاهون، وعما جاء به معرضون، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود نثبت أنه علة لا بد أن تزول. * * * (مفاسد هذا الجمود ونتائجه) طال أمد هذا الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه، وولوع شهواتهم بالدفاع عنه، وقد حدثت عنه مفاسد يطول بيانها وإنما يحسن إجمال القول فيها. كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم ويسيح به في الأرض ويصعد به إلى أطباق السماء ليقف به على أثر من آثار الله أو يكشف به سرًّا من أسراره في خليقته، أو يستنبط حكمًا من أحكام شريعته، فكانت جميع الفنون مسارح للعقول تقتطف من ثمارها ما تشاء وتبلغ من التَّمَتُّع بها ما تريد، فلما وقف الدين، وقعد طلاب اليقين، وقف العلم وسكنت ريحه، ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار سير التدريج. إفساد الجمود للغة: أول جناية لهذا الجمود كانت على اللغة العربية وأساليبها وآدابها فإن القوم كانوا يُعنون بها لحاجة دينهم إليها - أريد حاجتهم في فهم كتابهم إلى معرفة دقائق أساليبها - وما تشير إليه هيئة تركيبها، وكانوا يجدون أنهم لن يبلغوا ذلك حتى يكونوا عربًا بملكاتهم، يساوون من كانوا عربًا بسلائقهم، فلما لم يبق للمتأخر إلا الأخذ بما قال المتقدم قصر المحصلون تحصيلهم على فهم كلام مَنْ قبلهم واكتفوا بأخذ حكم الله منه بدون أن يرجعوا إلى دليله، ولو نظروا في الدليل فرأوه غير دالّ له بل دالاًّ لخصمه بأن كان عرض له في فهمه ما يعرض للبشر الذين لم يقرر الدين عصمتهم لَخَطَّأُُوا نظرهم وأعموا أبصارهم وقالوا: نعوذ بالله أن تذهب عقولنا إلى غيب ما ذهب إليه متقدمنا وأرغموا عقلهم على الوقفة فيصيبه الشلل من تلك الناحية. فأي حاجة له بعد ذلك إلى اللغة العربية نفسها وقد يكفيه منها ما يفهم به أسلوب كلام المتقدم وهو ليس من أولئك العرب الذين كان ينظر الأولون في كلامهم. وهكذا كل متأخر يقصر فهمه على النظر في كلام من يليه هو غير مبال بسلفه الأول، بل ولا بما كان يحفّ بالقول من أحوال الزمان فهو لا ينظر إلا اللفظ وما يعطيه فتسقط منزلته في تحصيل اللغة بمقدار بعده عن أهلها حتى وصل حال الناس إلى ما نراهم عليه اليوم. جعلوا دروس اللغة لفهم عبارة بعض المؤلفين في النحو وفنون البلاغة - وإن لم يصلوا منها إلى غاية في فهم ما وراءها - فَدَرَسَتْ علوم الأولين وبادت صناعاتهم، بل فقدت كتب السلف الأولين رضي الله عنهم، وأصبح الباحث عن كتاب المدونة لمالك - رحمه الله تعالى - أو كتاب الأم للشافعي - رحمه الله تعالى - أو بعض كتب الأمهات في فقه الحنفية كطالب المصحف في بيت الزنديق. تجد جزءًا من الكتاب في قُطْر، وجزءه الآخر في قُطْر آخر فإذا اجتمعت لك أجزاء الكتاب وجدت ما عرض عليها من مسخ النساخ حائلاً بينك وبين الاستفادة منها. هذا كله من أثر الجمود وسوء الظن بالله وتوهم أن أبواب فضل الله قد أغلقت في وجوه المتأخرين، ليرفع بذلك منازل المتقدمين، وعدم الاعتبار بما ورد في الأخبار من أن المبلَّغ ربما كان أوعى من السامع [1] وأن هذه الأمة كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره [2] وقلة الالتفات إلى أن ذلك قد أضاع آثار المتقدمين أنفسهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. لا ريب أن القارئ يحيط بمقدار ضرر هذه الجناية على اللغة ثم يكفيه من ذلك أنه إذا تكلم بلغته لغة دينه وكتابه وقومه لا يجد من يفهم ما يقول، وأي ضرر أعظم من عجز القائل عن أن يصل بمعناه إلى العقول. إفساد النظام والاجتماع: وأعظم من هذه الجناية جناية التفريق وتمزيق نظام الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في الدين. كان اختلاف السلف في الفُتْيَا يرجع إلى اختلاف أفهام الأفراد، والكل يرجع إلى أصل واحد لا يختلفون فيه وهو كتاب الله وما صح من السنة فلا مذهب ولا شيعة

الوفاق الإسلامي الإنكليزي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوفاق الإسلامي الإنكليزي لقد أذن الله المسلمين أن يهبُّوا من رُقادهم، ويسترجعوا مجد أجدادهم، وقد سبق لنا أن قلنا في مقالة نشرت في الجزء الرابع من المجلد الثالث: إن مجد الإسلام قام على أساسين وإنه هدم بهدمهما وإنما يعود بإقامتهما وهما: استقلال الفكر واستقلال الإرادة، أما الأول فإقامته بالاجتهاد في علوم الدين والدنيا، وأما الثاني فإقامته بالقوة إلخ ما هناك، وقد لاحظ من قرأ مقالة (مستر. ج. كوربت) الإنكليزي الذي عربتها جريدة المؤيد ونشرتها في ستة أعداد وذكرنا أقطاب مسائلها في نحو صفحتين من الجزء الماضي أن هذا الكاتب السياسي بَنَى دعوة قومه إلى الاتفاق مع المسلمين على أمرين: (أحدهما) أن دين الإسلام دين مدنية يمكن لمتبعيه أن يتفقوا مع أمة راقية كالأمة الإنكليزية، ويسيروا معها في كل طريق من طرق العمران فتنتفع بهم وينتفعوا بها. وهو يشترط في ارتقائهم، ما يشترطه أشهر فضلائهم، وهو إطلاق العقل من القيود والأغلال، وتمتعه بنعمة الاستقلال، والتربية الدينية. التي تعيد إليهم صفات الرجولية. و (ثانيهما) أن للمسلمين قوتين واحدة في آسيا وهي الأمة الأفغانية وأخرى في أفريقيا وهي الفرقة السنوسية. وقال الكاتب: إن الواجب على الإنكليز أن يستعينوا بمسالمة القوتين على تمكين سلطتهم في القارتين. وذلك يجعل مصالحهم متفقة مع مصالح الأمة الإسلامية. ومساعدتها على العروج في معارج المدنية، فإنها أمة واحدة لا جنسية فيها ولا وطنية. (فليعتبر بالأحداث الذين يفرقون بين المصري والشامي، والمغربي والحجازي) . هل نحن في حاجة إلى مساعدة دولة قوية حرة كالدولة الإنكليزية؟ وهل الدولة الإنكليزية في حاجة إلينا؟ نعم ولكن فرقًا بين الحاجتين. نحن نحتاج إلى مثل الإنكليز الذين لهم السلطان الرسمي وغير الرسمي على نحو نصفنا لأجل النهوض والقيام، وهم يحتاجون إلينا لأجل الثبات والدوام، أو نحن نحتاج إليهم في الحال، وهم يحتاجونك إلينا لأجل الاستقبال. وهل يصدق الإنكليز في مساعدتنا على التقدم والرقي إذا نحن صدقناهم؟ نعم إذا قالوا صدقوا، ولن يقولوا حتى يعتقدوا بأن المصلحة في ذلك وحتى يثقوا بنا. وقد رأينا هذا الكاتب منهم يحاول إقناعهم بالمصلحة وبكوننا أهلاً للثقة وقد سبقه إلى ذلك غيره من كتابهم وعلمائهم، فهل وجد فينا من حاول إقناعنا بذلك مع أننا أحوج إلى الوفاق منهم إذ من البديهي أن المحكوم الجاهل الضعيف أحوج إلى مرضاة حاكمه العالم القوي. ولكن الجاهل يمنعه الجهل أن يعلم المصلحة وإذا علمها يمنعه الضعف أن يدعو قومه إليها؛ لأن الجاهلين إنما يتخاطبون بما يهوون لا بما ينتفعون. أرأيت كيف كان السيد أحمد خان ظَنيناً في قومه متَّهمًا في بلاده عندما قام يدعو إلى الوفاق بين مسلمي الهند وحكامهم من الإنكليز؟ لا جرم أن هذا هو شأن الجهل ولكن المسلمين أنشأوا يتسللون منه لواذا، ولذلك لا يلاقي من يجهر في مصر بمثل دعوة المرحوم السيد أحمد خان عشر معشار ما لقي من الظِنة وما عانى من مرارة التهمة وإن كانت مصر ليست من الإمبراطورية البريطانية كالهند. المسلمون في مصر عرفوا ما كان عليه إخوانهم مسلمو الهند أيام الجفاء بينهم وبين الإنكليز وعرفوا ثمرة دعوة أحمد خان وثمرة مدرسته في حفظ حقوقهم ومصالحهم بالوفاق مع الإنكليز واسترجاع ما كان سلب منها بالتدريج. وظهر لهم خذلان أحداث السياسة الذين جعلوا النعاق بالتنفير من الإنكليز منبعاً للمال ومنبراً للجاه وعلموا أنهم غاشون خادعون ضالون مضلّون فتغيرت الأحوال وصار شيخ الجامع الأزهر يزور عميد الإنكليز في مصر وشاعر الخديو يمدح ملك الإنكليز وينشر ذلك في الجرائد التي تنتمي إلى الإنكليز وليس هذا ولا ذاك ممن تضطرهم وظيفتهم أو تقضي سياستهم بأن يفعلوا ما فعلوا. إننا نعلم مع هذا أن أكثر المسلمين يرتابون في تحقيق هذا الوفاق ولو عرفوا مصلحتهم ومصلحة القوم بالبرهان لما كان لهم أن يرتابوا. إن من مصلحتنا التي لا نشك فيها أن تكون تربيتنا إسلامية دينية ونرى الإنكليز الداعين إلى الوفاق يرون رأينا في هذا. إن من مصلحتنا أن نكون رجالاً مستقلين في علومنا وأعمالنا ونرى الإنكليز يدعوننا إلى ذلك ويقولون: إنه يساعد على الوفاق بيننا وبينهم. إن من مصلحتنا إحياء اللغة العربية لغة الكِتاب والسنة واللغة الجامعة للأمة ونرى الإنكليز يدعوننا إلى ذلك. فهل ترتاب في أن شيئًا من هذه الأمور هو من أهم مصالحنا؟ كلا، يقول قائل: إن كاتب المقالة وطائفة من الكتاب والسياسيين الإنكليز قالوا بهذا القول ولكن الدولة لم تقل به ولم ينتشر بعد فيصر رأيًا للأمة البريطانية فنقول: إن الحكومة ستضطر إلى مجاراة الأمة. فهل نخدع لقول بعض الكاتبين، ونثق بمن لا يتفق معنا في لغة ولا جنس ولا دين؟ ونقول في الجواب: قد قال مثل ما قال هؤلاء حاكم الهند العام الذي يحكم مائتي مليون من النفوس منهم نحو تسعين مليوناً من المسلمين أو زهاء خمسة أضعاف ما تحكمه الدولة العلية من المسلمين. وهب أنه لم يقل بذلك أحد من الحاكمين البريطانيين فأنا سائلك: أي خدمة تقدمها أنت وقومك للإنكليز جزاءً على اعتقادك بإخلاصهم في حب الوفاق معكم فتخاف أن تضيع هذه الخدمة مع من لا يستحقها؟ لو أن هذه الدولة محتاجة إلينا اليوم في عمل اختياري وهي تخطب ودادنا لنخدمها به لكان لنا أن نقول: إنه يجب علينا أن نأخذ بالاحتياط ولا نخسر عملنا حتى نثق بصدق مجاملنا. يقولون لنا بلسان حالهم أو بلسان مقالهم: تربوا التربية الدينية. واتصفوا بصفات الاستقلال والرجولية. وتعلموا العلوم والفنون. وحصلوا المال والثروة ونحن نساعدكم على ذلك. فهل معنى الاحتياط أن لا نشتغل بشيء من ذلك؛ لأن هذا ثقة بالقوم ولا ينبغي لنا أن نثق بهم إلا بعد قيام البرهان على صدقهم. كيف يكون هذا وأن ما يصدر عنهم هو عين البرهان على صدقهم. يقول القائل: إنهم يخادعون بمثل هذه الأقوال أمير الأفغان والسنوسي ليكون الأول معهم على روسيا وليأمنوا من إغارة الثاني على السودان. ونقول: إن هؤلاء الكتاب يخاطبون دولتهم وإنَّ حاكم الهند كان يخاطب رعيته المسلمين ومثله حاكم سيراليون (راجع صفحة 707 من المجلد الرابع) فهل اتفق هذا وهو في غربي أفريقيا مع ذلك في شرقي آسيا على مخادعة السنوسي الذي لا يسمع خطبهما ولا يقرأ الجرائد فيعرف خبرهما؟ . نعم إن أمير الأفغان يعرف أحوال الهند وما يقول حاكمها. ولكن حاكم الهند العام لا يقول للمسلمين: (إنني لو كنت مسلماً لما أضعت من وقتي خمس دقائق من غير فكر في ترقية شأن الإسلام) ولا ينصح للمسلمين بأن يقيموا التربية الدينية ويعدهم بمساعدة الحكومة لهم لمجرد المخادعة فإنه إنما كان يخاطب قوماً عاملين يخاطب رجال التربية الإسلامية في احتفالهم العام بمدرسة عليكدة. فقوله هذا أكبر منشط لهم بالفعل. ثم ما كان لأمير الأفغان أن ينخدع بالأقوال. التي لا تنطبق على الأعمال. يقول هذا القائل: إن هؤلاء الحكام يقولون هذا ليطمئن المسلمون إلى حكومتهم وهم يعلمون أن المسلمين لا يعملون. ونقول: إذا كنت أيها المسلم أسوأ ظنًّا بقومك منك بالإنكليز فلا تجعل الذنب على خير الفريقين ولكن اجعله على شرهما وهو من يقال له اعمل لنفسك فلا يعمل ثم يعتذر بأن من يقول له اعمل غير مخلص في قوله. واعلم أن عقلاء المسلمين لا يرضون لأنفسهم ما وصفتهم به وأن الإنكليز لم يقولوا ولن يقولوا للمسلمين اقعدوا ونحن نسعى لكم. وأنهم إن قالوا لرعاياهم: اعملوا ونحن لا نعارضكم فلهم الشكر. فإن زادوا وقالوا ونحن نساعدكم فلهم الفضل العظيم فإن سائر المستعمرين من الإفرنج يمنعون رعاياهم ومن في حمايتهم من غير أهل دينهم من التعلم، وكل وسائل التقدم. هذا الوفاق يراه المصريون رأيًا جديدًا ويراه سائر العثمانيين قديماً فهو رأي أكثر وزراء الدولة وساستها ولكنه كان وفاقًا إنكليزيًّا تركيًّا. وكان عليه العمل بين الدولتين ولا ننسى مساعدة بريطانيا العظمى للدولة العلية في الحروب الروسية حرب القريم وما بعدها. ثم تراخت عرى الصلة بينهما بعد احتلال إنكلترا مصر وكادت سياسة المستر غلادستون التحمسية تقطع تلك العرى تقطيعًا بما ظهر من تعصبه على الدولة وعلى الإسلام في إبان الفتنة الأرمنية. وكان من أثر ذلك توثيق عرى الصلة بين السلطان وعاهل الألمان وضعف نفوذ الإنكليز وكسدت تجارتهم في البلاد العثمانية حتى قال البرنس بسمرك ما معناه: إنَّ المعلم غلادستون قد هدم بشقشقته الحمقى ما بنته دولته في نحو قرن. ولا يزال أكثر نبهاء العثمانيين يفضلون الإنكليز على كل دولة أوربية، وهذا كله مبني على قاعدة مسلّمة عندهم وهي أنه لا بد للدولة من الاعتماد على دولة أوربية في سياستها الخارجية. إنكلترا قصرت مع الدولة العلية وإنَّ مجاملتها لها تزيد جميع مسلمي مستعمراتها ثقة بها فهي تنفعها في الوفاق الإسلامي الإنكليزي أكثر مما تنفع المسلمين الذين تحكمهم فيما نظن، فإن تعلق آمال أولئك المسلمين بالدولة العلية يثبط هممهم عن السعي في الاستقلال الذاتي الذي هو روح الحياة الاجتماعية كما بيناه من قبل ويزيد عليهم ضغط حكامهم؛ لأنهم يرونهم ميالين إلى حكومة أخرى. ومن شأن الضغط أن يفيد ولكنه لا يفيد ههنا؛ لأن المضغوط عليه لا يحاول الخلاص من الضغط لاعتماده على غيره وقد ثبت هذا بالتجربة المؤيدة للنظر. كان الوفاق إنكليزيًّا تركيًّا فأصبحنا نتحدث بوفاق إسلامي إنكليزي وهو وفاق أشرف وأعلى وأعم وأنفع. كانت سياسة إنكلترا في ذلك الوفاق مبنية علي قاعدة: يجب أن لا تسقط تركيا ولا تقوم يجب ألا تموت ولا تحيا. وأما قاعدة هذا الوفاق فهي: يجب أن يعود للمسلمين استقلالهم الذاتي وأن ينفخ فيهم روح الدين الإسلامي بفضائله وآدابة ليبعثهم إلى المدنية الحقيقية ولكن يشترط أن يكونوا هم العاملين والإنكليز من المساعدين. فإذا صح هذا فهو أكبر أمنية يتمناها كل عاقل من المسلمين. ويرضى هؤلاء العقلاء من إنكلترا بأن لا تكون على الدولة العلية إذا لم تكن معها وبأن لا تدخل جزيرة العرب ولا تمكن دولة غير مسلمة من دخولها كيفما كان حال الدولة العلية؛ لأن الجزيرة عند المسلمين معهد ديني كالمسجد، ومن أركان الوفاق إقامة دين الإسلام، لا هدم مناره وتعطيل شعاره. الواثقون بدينهم من هؤلاء العقلاء يعتقدون بأن الأمة الإنكليزية الحرة إذا عملت بنصيحة مستر كربت وأضرابه (ومنهم إسحاق طيلر الذي نشرنا كثيراً من مقالاته في أجزاء من السنة الماضية والسنة الحاضرة) ودرست الإسلام درسًا صحيحًا فإنها تدخل فيه أفواجًا. وقد سبق لنا القول بأن أمة أوربية كهذه إذا دخلت في الإسلام فإنها تملك بالمسلمين الشرق كله ولا يبعد أن تملك بهم الغرب أيضاً فإن أكبر قواد الحرب في أوربا قالوا: إنه يسهل عليهم أن يفتحوا أوربا كلها بمائة ألف من جيوش المسلمين. أنَّى لنا بصوت نديٍّ من ذي برهان قوي. يبلغ قومنا مبلغ انتفاعهم من هذا الوفاق ويعلمهم كيف يقنعون الإنكليز به ويمثّلون له مصلحتهم فيه مشدودة مع مصحلتنا في قرن. إن هذا من وظيفة الجرائد ووظيفة أهل الرأي في الأمة. وقد علمنا ممن ذكرناهم من عقلاء المصريين الارتياح لهذا الوفاق إذا وثقوا من رضاء الدولة الإنكليزية به، ورأي

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (تاريخ التمدن الإسلامي) كتاب جديد يشتغل بتأليفه صديقنا المؤرخ المنصف جرجي أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال الشهيرة (وهو يبحث في نشوء الدولة الإسلامية وتاريخ مصالحها الإدارية والسياسية والمالية والجندية وسعة مملكتها وبيان ثروتها وحضارتها وأبهتها وأحوال خلفائها ومجالسهم وقصورهم، وكل ما يتعلق بهم وتاريخ العلم والصناعة والأدب والشعر والآداب الاجتماعية والعادات والأخلاق في إبّان ذلك التمدن وعلاقته بالتمدن الحديث) وقد صدر الجزء الأول منه في هذه السنة وفيه من المباحث المهمة: (1) بحث (العرب والتمدن) وفيه إثبات أن العرب عريقون في التمدن وأولو استعداد له راسخ فيهم. (2) عصر الجاهلية في الحجاز. و (3) حكومة العرب في الجاهلية. و (4) النهضة العربية قبل الإسلام أي: استعداد العرب لظهور الإسلام فيهم بارتقاء عقولهم وآدابهم وإحساس بعض خواصهم بالحاجة إلى الاجتماع. و (5) الدعوة الإسلامية. و (6) الروم والفرس عند ظهور الإسلام، وما كانوا عليه من الفساد والانفصام. و (7) انتشار الإسلام وأسبابه. ومثل هذه المباحث يراها الجاهل طعنًا في الإسلام؛ لأنها تبين أنه قام على سنن الكون المعقولة، والمسلم العالم يراها مؤيدة للإسلام ومبينة لبعض حقائقه؛ لأن من مقاصد هذا الدين ترقية العقل وهدايته إلى سنن الله في الخلق ليسير عليها حتى يبلغ كماله وما هو بدين الغرائب والعجائب. ومن مباحثه: الكلام في الخلفاء الراشدين والفتوحات الإسلامية والدول العربية في الشرق والغرب. والكلام في الخلافة والولاية والوزارة والجند والسلاح ونظام الحرب والأساطيل أو بيت المال وموارده ومصادره والقضاء والحسبة، والكتاب مزين بالرسوم وصفحاته 203. يرى القارئ أن هذا وضع في العربية جديد بهذا الترتيب والتبويب ويحكم بالإجمال قبل أن يراه بأنه وضع مفيد، وأن الأمة في افتقار إليه شديد، وقد قدره الباحثون في التاريخ من المسلمين قدره إذ تصدى غير واحد منهم لانتقاده فكتبوا في المؤيد مقالات يظهرون فيها ما عدوه عليه من الخطأ في بعض المسائل وقد رد المصنف على بعض من كتب واعترف ببعض الخطأ وأشار إلى سببه وأنه غير مهم. وقد كنا شرعنا في قراءة الكتاب بالتدقيق لننتقده بما يظهر لنا، ولما رأينا شواغلنا الكثيرة لا تسمح لنا بإتمامه إلا بعد عدة أشهر ورأينا المناقشة في أمره كثرت رأينا من حقه علينا أن نبادر إلى التنويه به والاعتراف بأنه مثال مفيد لقراء العربية، ولكن مسائله لا تؤخذ قضايا مسلّمة فعلى من اطلع على النقد والردّ أن يُحَكِّمَ الإنصاف وقواعد العلم مع النقل وعلى من لم يطَّلع على ذلك أن يراجع الكتب فيما يراه محلاًّ للتوقف. أقول هذا وأنا واثق بأن مؤلف الكتاب لم يكتب إلا ما اعتقده مع حسن النية وصحة القصد. وأوضح دليل على ذلك أحجُّ به من أساء به الظن من المسلمين؛ لأنه غير مسلَّم هو أنه أثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قام بالدعوة وهو موقن بأنه مرسل من الله تعالى وأنه لم يكن طالب ملك ولا مال ولا جاه بل طالب إصلاح ألهمه الله تعالى القيام به ولعلنا نعود إلى انتقاد الكتاب بعد إتمام مطالعته. أما ثمنه فعشرون قرشًا وهو يطلب من مكتبه الهلال بالفجالة. * * * (المروءة والوفاء) أو الفرج بعد الضيق، قصة عربية جاهلية حدثت في الحيرة من العراق العربي بين الغَرِيَّيْن قرب الخورنق والسدير على ضفة الفرات قبل الإسلام في يوم بؤس النعمان بن المنذر. وقد نظمها ومدّ فيها ما شاء فقيد بيت الأدب الشيخ خليل اليازجي بن الشيخ ناصيف اليازجي الشهير ومثلت في بيروت على عهد الناظم. وقد طبعت في هذه السنة بمطبعة المعارف الشهيرة بإتقان الطبع. وقد قرأنا منها جملة فإذا شعر محرر، وهو على صاحبه لا ينكر، وثمن النسخة خمسة قروش وهو ثمن لا يذكر. * * * (التهذيب) (جريدة تهذيبية أدبية علمية تاريخية دينية لطائفة الإسرائيليين القرايين بمصر) يحررها الأديب الأصولي مراد أفندي فرج المحامي. وهي تصدر في شكل كراسة، وقيمة الاشتراك فيها عشرة قروش تدفع إلى (الحاخامخانة) أنشئت الجريدة في العام الماضي، وقد أهدانا جناب الحاخام الفاضل ورئيس اللجنة الملية المجلد الأول منها فألفيناه طافحًا بالمباحث التاريخية والأدبية والدينية. وقد كنا نعجب قبل العلم بهذه الجريدة للشعب الإسرائيلي كيف لا تكون له جريدة علمية أدبية أو مِلية في مصر مع ارتقاء الإسرائيليين في العلم والأدب والثروة والرابطة المالية. وقد سَرَّنَا من هذه الجريدة عدم تعريضها بما يسوء أحد الطوائف. ولا غرو فآداب الإسرائيليين العالية تقضي بذلك. * * * (السعادة) مجلة نسائية علمية تهذيبية تاريخية فكاهية تصدر في الشهر مرتين صاحبتها ومنشئتها روجينا عواد وقد تصفحنا العدد الثامن منها الصادر في (15 أكتوبر) فإذا هو مفتتح بمقالة في (الدفاع عن النساء) تناقش فيها الرجال الجاهلين الذين يرون حرمان الأنثى من التعليم من الدين. ويليها وصية من والدة لابنتها وهي وصية تدور على وجوب قيام المرأة بتدبير بيتها بنفسها وإن كانت غنية، ووجوب تحببها إلى زوجها حتى يرى سعادته مرتبطة بها. ويتلوهما مقالة في المرأة لصاحب المطبعة التجارية بعد بضعة أسطر غريبة في خبر غريب عنوانه (دير في سفينة) وهو أن رهبان جبل أثوس اتخذوا لهم سفينة في البحر ديرًا. ولعلهم يتمرنون فيها على الأعمال البحرية كما يتمرنون في أديار الجبل المقدس على الأعمال الحربية. لأنهم كما يقال: رهبان مرابطون بإرشاد روسيا. وسيكون لهم شأن في مستقبلها مع تركيا. هذا وإن المجلة مؤلفة من ثلاث كراسات وقيمة الاشتراك فيها خمسون قرشًا مصريًّا في مصر و 16 فرنكًا في خارجها فعسى أن تلقى رواجًا ونجاحًا. * * * (أسرار القصور) قصة وضعية (تبحث عن ماهية الروح ومحالها من الجسد وعن التنويم المغناطيسي الشائع بأوربا، وعن الزار والمندل بالأقطار الشرقية) مؤلفها محمد أفندي حسين محرر جريدة البوسته وقد كتب في مقدمتها أنه نشر فيها رأيًا له منذ ست سنين. وكان سنة ثلاث وعشرين، وهو اليوم لهذا الرأي من المنتقدين. * * * (المصري) (جريدة أسبوعية علمية مدرسية تصدرها جمعية التلامذة الإسلامية) ويحررها مدير الجمعية علي أفندي عبد الكريم. يطفو في مصر كثير من هذه الجرائد الصغيرة ثم يرسب بل يبدو ثم يخفى، ولا نذكر منها شيئًا لعلمنا بأنها في حكم العدم. ولكن للتلامذة عندنا شأنًا كبيرًا ويا ليت شأنهم عند أنفسهم كذلك. لهذا نقول: إنه يسرنا أن تتوجه نفوسهم إلى الأعمال الاجتماعية فيتكلموا بألسنتهم وأقلامهم عنها في وقت التعليم ليقوى استعدادهم ويكمل رشادهم، حتى إذا صاروا في سن العمل كانوا من العاملين (ويسوءنا جدًّا أن ترضى جمعية التلامذة الإسلامية لنفسها إصدار جريدة تطبع على أردأ الورق، وتخوض في الموضوعات الخسيسة والهزلية. والأشعار الخمرية والغرامية، فإن المرء المهذب يحفظ أحسن ما يسمع، ويقول أحسن ما يحفظ، وهو مع هذا يتساهل في القول ما لا يتساهل في الكتابة التي يعرض فيها عقله وأدبه وأخلاقه على الناس أجمعين. فعسى أن يلتفت من يصدر هذه الجريدة إلى قبول نصيحتنا باختيار الحسن من الكلام والورق حفظًا لكرامة التلامذة وفائدتهم، والله الموفق.

الاحتفال بافتتاح مدرسة بني مزار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بافتتاح مدرسة بني مزار أنشئت في هذه السنة مدرسة خيرية إسلامية في بني مزار من مديرية المنيا بتعاون أهل الخير والبر، وقد أنيطت إدارتها بالجمعية الخيرية الإسلامية التي أنشأتها بمساعدة الأهلين فهي ليست كسائر مدارس الجمعية خاصة بأولاد الفقراء وخالية من اللغات الأجنبية، بل هي كالمدارس الابتدائية الأميرية إلا ما يرجى من زيادة العناية فيها بأمر الدين ويتعلم فيها أولاد الأغنياء بأجرة قليلة، وقد كان افتتاحها في يوم السبت الماضي باحتفال رَأَسَهُ الأستاذ الشيخ محمد عبده رئيس الجمعية الخيرية، وحضره الوجهاء والفضلاء في مقدمتهم سعادة مدير المنيا وقاضي المديرية رئيس لجنة المدرسة حسن بك عبد الرازق العضو في مجلس شورى القوانين عن مديرية المنيا، وقد كتب إلينا المحامي الفاضل حسن أفندي عبد الرازق تفصيلاً عن هذا الاحتفال لخَّصْناه بما يأتي: لمَّا كمل نظام المحفل قام الأستاذ الرئيس خطيبًا فبدأ بالبسملة وفاتحة الكتاب والصلاة والتسليم على النبي الهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وأعلن افتتاح المدرسة ثم شكر للمتبرعين بإنشاء المدرسة غيرتهم وفضلهم ومما قاله لهم: إنكم أنفقتم في خير سبيل. وتاجرتم أربح متاجرة. فإن هذه المدرسة ملككم لو أن العلم يُملك، وما الجمعية الخيرية إلا نصيرتكم في عملكم وهي لأنني في معاونتكم بإذن الله وتُؤمل أن تكونوا سواعدها وأعضادها. ثم قال: إن ما فرض على التلامذة الموسرين من أجر التعليم (وهو ثلاث مائة قرش سنويًّا) ليس مما يضيق به صدر الكريم وتعلمون أن نفقة التلميذ في المدارس الأخرى تبلغ ثمانية جنيهات في السنة أو تزيد، ولو أنكم دفعتم في مدرسة هي لكم ضعف ما تدفعون في مدارس غيركم لكنتم الرابحين؛ لأن فرقًا بين من ينفق في بناء دار هي له ومن ينفق على دار مستأجرة. ثم قال ما ملخصه: لا نريد أن نخاطب الموسرين الذين أغوتهم شرة الغنى وأسكرتهم خمرة الشباب فقذفوا بأموالهم في هوّة الضياع وصرفوا الطارف والتليد، فيما يضر وما لا يفيد، فأولئك كالأنعام بل هم أضلّ. وإنما نخاطب العقلاء من الأغنياء فنقول: إذا كنتم تقتصدون لتوفروا من مالكم ما تتركون لأولادكم حتى لا يكونوا فقراء تعساء فقد سعيتم في طريق محمود مهَّده الإسلام، ودعا إليه النبي عليه الصلاة والسلام، وإن ما تَصرفونه في سبيل العلم والتربية هو من هذا القبيل أيضًا؛ لأنه توفير لسعادة الأبناء، بل لا سعاده بالمال إذا لم تصحبه تربية نافعة وعلم صحيح يَهتدي بهما المتمول إلى كيفية الانتفاع. ولا يكون الإنسان سعيدًا إلا إذا كان عائشًا مع مهذبين سعداء، هب أنك تركت لولدك ما تبتغي من الثروة وهو في موطن خيمت عليه الجهالة، واستحوذت على أهله الضلالة، أتراه يعيش سعيدًا بين الأشقياء، ويحيا غنيًّا بين الفقراء، ولا تمتد إليه يد الغواية وتغلب عليه طبائع السفهاء وتستهويه شياطين الأهواء؟ كلا، إن المرأ بقرينه، ورجل الخير بين أبناء الشرور على خطر، فمن أنفق من ماله للعلم والتربية فهو الذي يوطئ لذريته أكناف السعادة، ويوطد لهم دعائم المعيشة الراضية؛ لأنه يصلح لهم مباءة يعيشون في ظلالها آمنين. ثم بين الأستاذ أسباب اقتصار المدرسة في هذه السنة على تعاليم السنة الأولى للتلامذة وعدم إنشاء فرق من تلامذة السنة الثانية وما بعدها مع أن في طلاب التعليم من هم أهل لذلك. وتلك الأسباب هي ضيق المحل الذي استؤجر للمدرسة إلى أن يتم بناؤها ولم يوجد غيره. وكون الوقت بين قبول الجمعية الخيرية إدارة المدرسة وافتتاحها لم يكن كافيًا لاختيار المعلمين الأكفاء والظفر بهم لقلة عددهم في مصر. وثَمَّ سبب ثالث عام وهو أن السُّنة الإلهية في الترقي أن يبدأ الشيء صغيرًا ثم يترقى بالتدريج، وأن الأمور التي تنشأ كبيرة فالغالب أن ينحل عقد نظامها في القريب العاجل، والعياذ بالله تعالى. ثم تكلم الأستاذ الرئيس في مسألة سن التلميذ فقال: إن الجمعية الخيرية الإسلامية لم تحدّد سن التلميذ في نظامها عبثًا ولا تقليدًا ولكن حددته لفوائد سامية، تعلمون بالضرورة أن ليس كل من دخل هذه المدرسة يكون تحت لواء الوظائف بل سيكون منهم التاجر والزارع والصانع فإذا دخل التلميذ المدرسة في الثامنة وأتم التعليم في أربع سنين أو خمس، يخرج منها غضًّا طريًا مهيئًا للدخول في أي عمل شاء. وإذا تقدم في السن ودخل المدرسة بعد العاشرة عاقه يبس عوده عن أن يلين للأعمال الصناعية أو الزراعية وربما عجز أبوه عن إتمام تعليمه وهو عاجز عن الاشتغال بأعمال المعاش فيضيع بين عجزين. ثم ختم القول بشكر سعادة المدير لحضور الاحتفال واستنهض همته لتعميم المدارس في المديرية، وشكر لعبد الرحمن بيك فهمي مأمور مركز بني مزار سعيه في الاكتتاب لهذه المدرسة. ثم دعا للمدرسة الدعاء الصالح ولسمو الخديو المعظم فأمّن الحاضرون. وقام في أثر المدير فشكر للرئيس فضله وسعيه ووجه أنظار الوجهاء الحاضرين لتدبر نصائحه، ثم تلاه حسن أفندي عبد الرازق فبدأ قوله بخطاب الرئيس مثنيًّا عليه بما هو أهله مبينًا تحويم القلوب عليه. وتوجه نفوس طلاب الترقي إليه. ثم أثنى على المتبرعين للمدرسة وخصَّ بالذكر كرام المسيحيين الذين عرفوا قيمة الوطنية. فتبرعوا للمدرسة مع علمهم بأنها إسلامية، ثم تلاه المأمور فأظهر السرور والابتهاج بالاحتفال وأثنى على فضيلة الرئيس وسعادة المدير. ثم خطب حسن بك عبد الرازق رئيس لجنة المدرسة فتكلم بمعنى ما تقدم فأحسن وكان الختام مِسكًا، فجزى الله هؤلاء المحسنين خير الجزاء ووفق سائر الناس إلى حسن الأسوة والاقتداء.

تتمة سيرة السنوسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة سيرة السنوسي (المنشورة في الجزء 12) وكان اعتناؤه منصرفًا إلى علوم القرآن والتفسير والحديث، ولم يذكر كاتب المقالة السبب في هذا وما هو إلا النزعة الاجتهادية التي كان عليها والده وربّاه عليها، ولذلك تولى تعليمه التفسير والحديث بنفسه. وكأن الاجتهاد في الدين وفهم الحكام من الكتاب والسنة صار معيبًا عند المسلمين، ولذلك حاول كاتب المقالة تكذيب ما أشيع من أن المهدي غير مالكي المذهب وزعم أن كل السنوسيين على مذهب الإمام مالك (رضي الله عنه) قال: (ويُبَسْمِلُونَ في الصلاة ويقبضون أيديهم) لعله يريد أنهم لا يتركون المشهور من مذهب مالك إلا في بعض المندوبات. والصواب أن السيد محمدًا المهدي السنوسي لا يعمل إلا بما صح عنده في الكتاب والسنة كما كان والده من قبله. ثم يتكلم الكاتب عن سياسته فقال: إن السنوسيين لا يخوضون فيما لا يعنيهم كالسياسات، فذلك عندهم كالمحرمات وما أشيع عن السنوسي من أنه مستعد للحرب ويدخر الأسلحة المتقنة المجلوبة من أوربا، وأنه يشيّد الحصون بالصحراء ويصنع البارود، وله عسكر وخيول مسوّمة ويبغض الإفرنج فهاته كلها خرافات وأراجيف لا أصل لها وسيعرف الناس ذلك عندما تسمح الحال بالمواصلات بين أفريقيا الشمالية والجهات الصحراوية. وكتب مستشهدًا: ولا ينبّئك مثل خبير. ثم أطنب الكاتب في تكذيب هذه الإشاعات ونسبها إلى ذوي الأغراس حتى كاد إطنابه يوقع في الظنّة. واحتج على صدق قوله بأن الرحّالة (مونتاي) وصف السنوسي وإخوان طريقته بما يقرب مما قاله. قال الكاتب: وفي هاته المدة ظهر داعٍ بنواحي بحيرة تشاد لِشَنِّ الغارة وإثارة الفتن اسمه محمد السنوسي وهو من أتباع رابح سلطان برنو الذي قتل في السنة الفارطة، وكانت له أخت اسمها فاطمة في عاصمة رابح. ثم وصف من ظلم هذا السنوسي الجديد وعتوّه، وذكر أن بعض الكتاب الفرنسيين لما سمعوا بخبره طفقوا ينددون بالسنوسي صاحب الطريقة ظانين أنه جاهرهم بالعدوان - وسرى هذا الغلط الفاحش إلى الطبقات العالية من أهل الصحف كالطان وغيره، وقال: إنه لا لوم على تلك الصحف في غلطها (لأن هذا الإيهام سرى أيضًا لبعض الصحف الإسلامية نفسها مثل مجلة المنار فقد ذكرت أن السنوسي المهدي له حرب مع الفرنسويين. ثم قال: إن الشيخ المهدي السنوسي رحل سنة 1312 من بلد جغبوب على حين غفلة مع أهله وولده وبعض الإخوان قاصدًا بلد الكفرة بالصحراء الشرقية في عرض 25 درجة وطول 20 درجة (من باريس) فوصل إليها بعد مسير أربعين يومًا وسماها بغدامس الجديدة، ولم يعلم السبب في ارتحاله والذي أظن هو مَيَلانه للانزواء وابتعاده عن الوساوس والمطامع الإنكليزية إذ كان قدم عليه بعض سياح الإنكليز في جغبوب. وفي سنة 1317 ارتحل من الكفرة فتوجه إلى نواحي كانم ولا زال في تلك الأماكن على عادته المألوفة من عبادة ربه وعدم اشتغاله بما لا يعنيه هو وطائفة من إخوانه إلى أن بلغنا انتقاله إلى الدار الآخرة في شهر جمادى الأولى سنة 1320 على طريق الصحف الإخبارية رحمه الله تعالى وجعل الجنة متقلبه ومثواه. (المنار) : قد انتهى تلخيص ما كتب في جريدة الحاضرة. ونحن نقول: إن أمر موته لا يزال مشكوكًا فيه، فإن السنوسيين الواردين من زوايا الصحراء على مصر يكذبون ذلك، ولا يبعد أن يكون تكذيبهم مبنيًّا على اعتقادهم بأنه المهدي المنتظر، فإن اختفى أيامًا فلا بد أن يظهر، ولذلك نرى أنه يقتضي الشك في موته لا ترجيح عدمه. وأما خبر مناوشة الفرنسيين للسنوسيين فإنما اعتمدنا على مكاتبات السنوسيين أنفسهم لا على الإشاعة والاستنباط، وليس حديث هذه المناوشة بالحديث وإنما كان في العام الماضي، فقد راجعنا بعد نشر مكتوب ذلك الطرابلسي مكتوبًا آخر من أحد بطانة السنوسيّ مؤرخًا في رمضان سنة 1319 وفيه ما نصه: (الأخبار الواردة من جهة كانم أن الفرنسيين لما سمعوا أن سيدي البراني توجه للزيارة قصدوا الزاوية مرادهم في هتك حرمها فوجدوا بها بعضًا من الإخوان وبعضًا من العربان وبعضًا من التوارق، والتقوا عند طلوع الشمس 26 رجب، ثم انتشب بينهم الحرب من الصباح إلى الزوال، وقتل منهم جماعة وافرة وثلاثة من كبارهم، والمقاتلون الذين بأيديهم السلاح ثمانية عشر رجلاً لأن الناس متفرقة والكفار أتوهم على حين غفلة لكن نصر الله المسلمين وهزم المشركين واستشهد فيها من الإخوان أخونا سليمان ابن أخ سيدي البراني وأخونا عبد الرزاق فقيه الزاوية وأخونا حسين بن الفضل. ومن المجابرة ثلاثة: أخونا أبو علي النمر وأخونا عبد الله بن موسى وأخونا مهدي بن شعيب، واستشهد أيضًا الشيخ غيث بن الشيخ عبد الجليل وابن عمر المضبوه المغربي وبعض التوارق واثنان من جماعة السلطان قورن كانا عند الأستاذ زائرين، وواحد قطروني وباعوا نفوسهم لله كما قال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة} (التوبة: 111) ولما أتى الخبر إلى الأستاذ رضي الله عنه وجه سيدي البراني والحاج محمد الثنيّ ومعهم جيشًا من المجابرة وذويه لقتال أعداء الله، ربنا ينصر المسلمين على أعداء الدين. اهـ باختصار قليل جدًّا. ومنه ومن أمثاله من الكتب (ومنها ما نشرناه في الجزء الثامن) يعلم القراء أنه حصل شيء بين الفرنسيين والسنوسيين استمر قريبًا من سنة ولا نعلم كيف انتهى؛ لأن الأخبار الخصوصية انقطعت عنا من مدة طويلة وإننا نتوقع الخبر اليقين عن قريب. ومما ذكرناه يعرف القراء أن السنوسيين مستعدون للدفاع عن أنفسهم ولكنهم ليسوا أهل اعتداء فهم يمتثلون قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وستكون هذه الآية الكريمة هي منتهى المدنية في الحرب فإن بقي صاحب المقالة المنشورة في الحاضرة في ريب بعد هذا فإننا نذكر له في جزء آخر شيئًا من نفوذ السنوسيين في واداي ونواحيها وتوليتهم للملوك وحلهم للمشكلات بينهم بذكر وقائع معينة بالأسماء والجهات ليعلم أننا نتكلم عن بصيرة. وقد كنا قد ذكرنا ذلك الخبر لغرابته بالنسبة إلى المصريين وليس من موضوع المنار التوسع في هذه المسائل؛ لأنها أقرب إلى السياسة منها إلى التاريخ ولا غرض لنا بالسياسة. أما العبرة التاريخية في ترجمة السنوسي فهي في شيئين: (أحدهما) اجتهاده في الدين وعدم تقيده بمذهب من المذاهب، وقد مهد له والده رحمه الله تعالى السبيل إلى ذلك بكيفية تعليمه وبما ترك له من مؤلفاته التي بين بها الحجج على وجوب العمل بالكتاب والسنة، وعدم الرغبة عنهما إلى قول أي عالم أو إمام. وقد اطلعنا على كتابه (بقية المقاصد. في خلاصة المراصد) وهو مختصر كتاب (المراصد) وفيه القدر الكافي من الاحتجاج على وجوب العمل بالكتاب والسنة. و (ثانيهما) تأليف عصبية كبيرة بسلطة الطريقة. ومما ننتقده على أصحاب هذه الطريقة أنهم غلوا في شيخهم كسائر أهل الطريق مع شدة تمسكهم بالدين الذي ينهى عن الغلو وأنهم يعتقدون أن شيخهم المترجم هو المهدي المنتظر، وهذا الاعتقاد يضر في المستقبل عندما يتبين لهم كما تبين لغيرهم عقمه وإننا نرى عقلاءهم لا يعتقدون هذا الاعتقاد ويقولون: إن شيخهم لا يرضاه، والله أعلم بمصير الأمور.

مشروع مجلة الجامعة الاقتصادي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع مجلة الجامعة الاقتصادي كانت مجلة الجامعة تصدر في الشهر مرتين، ثم جعلت في السنة الثالثة (الحاضرة) شهرية وجعلت عشر كراسات (ملازم) أو إحدى عشرة ويضاف إليها كراستان من القصة المعربة الملحقة بها. فتعذر على منشئها إصدارها في مواقيتها على نشاطه واجتهاده حتى كان بين الجزء وما يليه أكثر من شهرين. ثم إنه شرع الآن في جعل المجلة خمس كراسات مع بقائها شهرية وجعل القصة التي يضيفها إليها كذلك فتوفر عليه تعريب ثلاث كراسات في كل شهر. ثم إنه يطبع من القصة الملحقة بالمجلة نسخًا زائدة يربح منها مثل ربح المجلة أو أكثر. ونرجو أن يتمكن بذلك من إصدار المجلة في كل شهر مرة. وما كان له أن يسمِّي هذا العمل مشروعًا؛ لأن الناس اصطلحوا على إطلاق لفظ المشروع على الأعمال الكبيرة العمومية الجديدة التي تعدها الحكومات أو الشركات والجمعيات ثم تشرع في تنفيذها. وتعريب القصص ونحوها من الكتب لا يستحق هذا الاسم لا سيما إذا كانت منفعة الناس به تكون أقل مما كانت، كما هو الشأن في هذا العمل، فإن مجلة الجامعة كانت صفحات مجموعتها السنوية تزيد على ألف صفحة بعد تجريد القصص الملحقة فصارت الآن تنقص عن خمسمائة. وانتقدنا على الرصيف أيضًا اختياره قصة بولس وفرجينى للتلخيص، وإلحاقها بالجزء الأخير الذي ابتدأ به مشروعه وبنينا عليه ملاحظتنا. وذلك أن حسن هذه القصة في لغتها الفرنسية هو الإطناب في وصف العيشة البدوية فباختصارها زال هذا الحسن وليس في الموضوع فائدة أخرى تستحق العناية. ثم إن القصة عربت بتمامها من قبل وطبعت. ثم أعاد تعريبها بعض الأدباء. وهو ينشرها تباعًا في جريدة التمدن الغراء. فعسى يكون اختيار الرصيف للأجزاء التالية أنفع من هذا الاختيار. هذا ما كتب للجزء الماضي من المنار، وقد تبين أن العجز مستمر؛ لأن المجلة لمَّا تصدر. فعسى أن يزول قريبًا بزوال الضنك المالي.. (البراعة في الإعلان) كان صاحب مجلة الجامعة يرسل لكل جزء يصدر من مجلته إعلانًا إلى جريدة المؤيد يثني فيه على الجزء ما شاء، ويشترط أن يكتب في الأخبار المحلية بصفة تقريظ وكانت سماحة الإسلام تحمل المؤيد على القبول. ثم إنه تحرش بصاحب الهلال ليناقشه فيشوق قراءه إلى الاطلاع على ما يجيب به ولكن صاحب الهلال لم يرد عليه مطاعنه فيه حبًّا بالمسالمة التي هي طبع له. ولما ضاق ذرعه تحرش بالإسلام وطعن فيه وفي أئمته فتصدينا للردّ عليه؛ لأننا كنا نعتقد فيه حسن القصد ولا نكره التنويه بمجلته وانتشارها. ثم إنه خيّب ظننا فيه وأظهر أنه متعمد للطعن، فعجبنا لذلك حتى زال العجب لَمَّا علمنا أنه أرسل كتابًا إلى صديق له يقول فيه عن الطعن بالإسلام: قد عرفت أنه اكتشاف مهم للإعلان عن الجامعة وتكثير مشتركيها، وسترى قريبًا في الجامعة بحثًا آخر عن الغزالي سيكون بصفة إعلان أشهر وبمثل ذلك تزول (عني العسرات وينمحي الضنك) بفضل إقبال المشتركين من المسلمين حتى لم يبق جزء واحد في الإدارة من هذه السنة. هذا ما كتبه فعلمنا أن خدمة (الحقيقة والضمير) هي خدمة المجلة لإزالة (الضنك والعسرات) وإننا نعلم على اليقين أن المسلمين لا يقبلون على تعضيد من يطعن في دينهم وأئمتهم، وأنه لم يكتب إلى بعض أصحابه ما كتب إلا ليشيعوا ذلك فيكون تتمة للإعلان. ونذكر الرصيف المحترم بجريدة كبيرة منتشرة في القطر المصري انتشارًا لا تطمع فيه الجامعة نقلت طعنًا في الإسلام مرة فكادت تسقط لشدة إعراض المسلمين عنها مع قوتها وترثها فكيف تثبت الجامعة أمام هذه العاصفة على ضعفها. ونبشره بأن للمسلمين شعورًا يميزون به بين ما يسيء وما يسر، ولا يمكن أن يعضدوا لمن يطعن بدينهم. مهما كانوا مقصرين في خدمته. فعدم الشهرة خير من الشهرة السيئة فليترك الغزالي وغيره وليتكلم بما يعلم، فهو أنفع وأسلم. وهذا آخر نصائحنا له أو إعلاننا له. (النقل أمانة) نرى بعض الجرائد في هذه الديار وغيرها تنقل عن المنار ولا تعزو إليه. ومن ذلك أن جريدة المأمون الغراء تنقل المقالات الطويلة من مجلدات المنار السابقة تغير عناوينها أو تقسم المقالة إلى مقالات تجعل لكلٍّ عنوانًا وكثيرًا ما تسند المقالة إلى عالم مجهول فتكتب (قال بعض علمائنا) فنذكرها بوجوب إسناد الشيء إلى مأخذه؛ لأن النقل أمانة.

الإسلام والنصرانية ـ مع العلم والمدنية

الكاتب: محمد عبده

_ الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية وهو المقال السادس لذلك الإمام الحكيم (حرية العلم في أوربا الآن، ونسبتها إلى الماضي والحاضر في الإسلام) لم يبق علينا من الكلام إلا ما يتعلق بالأمر الرابع مما ذكرته الجامعة [1] وهو (أن يتمكن العلم والفلسفة من التغلب على الاضطهاد المسيحي في أوربا، وعدم تمكنهما من التغلب على الاضطهاد الإسلامي دليل واقعي على أن النصرانية كانت أكثر تسامحًا مع الفلسفة) . ليس من السهل عليَّ أن أعتقد أن أديبًا كصاحب الجامعة يقول هذا القول وهو ناظر إلى الحقيقة بكلتا عينيه مع معرفته بلسان الغربيين واطلاعه على ما كتبوا في هذه المسألة وهي من أهم المسائل التاريخية. وإنما هي عين الرضا تناولت من حاضر الحال ومما انتهى إليه سير التاريخ ما تناولت ثم أملت على قلبه ما جرى به قلمه. هل يصح أن تُسمَّى الاستكانة للغالب تسامحًا؟ وهل يُسمَّى العجز مع التطلع للنزاع عند القدرة حلمًا، أم يُسمَّى غلّ الأيدي عن الشر بوسائل القهر كرمًا؟ هل تعد مساكنة جناب البابا لملك إيطاليا في مدينة واحدة واجتماع الكرسيين العظيمين كرسي المملكة الإيطالية والمملكة البابوية في عاصمة واحدة تسامحًا من قداسة البابا مع الملك؟ أليس الأجدر بالمنصف أن يسمي ذلك تسامحًا من الملك مع البابا؛ لأنه صاحب القوة والجيش والسلطنة، ويمكنه أن يسلب البابا تلك الثمالة التي بقيت له من السلطة الملكية؟ كما أن الأليق به أن يسمي تلك الحالة التي عليها أهل أوربا اليوم من طمأنينة العلم بينهم بجانب الدين تساهلاً من العلم مع الدين لا تسامحًا من الدين مع العلم بعد ما كان بينهما من الحوادث ما كان وبعد غلبة العلم واستيلائه على عرش السلطان في جميع الممالك ورضاء الدين بأن يكون تابعًا له في أغلبها. *** (اقتباس مدنية أوربا من الإسلام، وأسباب ظهورها التام) السبب الأول الجمعيات: كان جلاد بين العلم والدين في أوربا وتألفت لنصرة العلم جمعيات وأحزاب منها ما اتخذ السرَّ حجابًا له حتى يقوى ومنها ما ابتدأ بالمجاهرة. وكان الدين يظفر بالعلم كما سبق بيانه لكثرة أعوانه وضعف أعوان العلم حتى أشرقت الآداب المحمدية على تلك البلاد من سماء الأندلس وتبع إشراق تلك الآداب واشتعال الناس بها سطوع نور العلم العربي من الجانب الشرقي كما ذكرنا. وقد وجد هذان النوران استعدادًا من النفوس للاستضاءة بهما في السبيل التي تؤدي بهما إلى المدنية التي كانا يحملانها. هذا الاستعداد كسبته الأنفس بما ضايقها من غلوّ رؤساء الدين في استعمال سلطانهم واشتدادهم في استعباد العقل والوجدان حتى ضاق ذرع الفطرة عن الاحتمال، فأخذ الشعور الإنساني يتلمّس السبيل إلى الخلاص وإذ لاح له هذان النوران اتخذهما له هداية واستقبلهما بوجهه، وكان بعد ذلك ما كان من تأثُّر الدين لأهل العلم وإحراقهم بالنيران، ونفيهم من الأوطان، ومقاومة رؤساء الدين للحكومات ولأهل الأفكار المستقلة في أدنى الأشياء وأعلاها حتى إنه عندما شرع ملوك فرنسا في فرش شوارع باريس بالبلاط على الأسلوب الذي وجدوه في مدينة قرطبة، وصدر الأمر بمنع تربية الخنازير في تلك الشوارع أغضب ذلك قسوس القديس أنطوان ونادوا بأن خنازير القديس لا بد أن تمر في الشوارع على حريتها الأولى. وحصل لذلك شغب عظيم اضطر الحكومة أن تسمح بذلك مع صدور الأمر بأن توضع في أعناقها أجراس. وقالوا إن الملك فيليب السمين مات بسقطة عن فرسه عندما انزعج الفرس من منظر خنزير وصلصلة الجرس في عنقه. لقائل أن يقول: إن القسوس في ذلك الزمان كان يمكنهم أن يمتنعوا من وضع الأجراس في أعناق الخنازير، فرضاهم بذلك يعد تسامحًا عظيمًا مع العلم (أو الصناعة) ويسهل عليٍّ أن أوافقه على أن مثل هذا الضرب من التسامح في أجراس الخنازير كان يظهر من حين إلى حين إلا أنه فيما أظن لا يكفي في تشييد هذه المدنية التي يفتخر بها الأوربيون اليوم ونحن لا ننجسها قدرها كذلك. السبب الثاني الضغط الديني: شدة الحاجة وغلوُّ الرؤساء كانا يوقدان الغيرة في قلوب طلاب العلوم فلم تفتر لهم همة فعظم أمرهم واكتشفوا كثيرًا من الحقائق التي نفعت العامة، وتنبهت العقول للأخذ بما يهدون عليه وصارت الحرب بينهم وبين رؤساء الدين سجالاً إلى أَنْ ظهر دعاة الإصلاح الديني (البروتستانت) فانضم دعاة العلم إليهم ظنًّا منهم أن سيكونون معهم من المجاهدين في سبيل العلم. وكان منهم إيراسم الشهير فلما انتصر طلاب الإصلاح ودالت لهم دولة استمروا يعاقبون بالموت على الأفكار التي تخالف ظاهر ما يعتقدون كما تقدم، فانفصل إيراسم ومن معه من حماة الحرية واستقلال الإرادة الشخصية، وترك المصلحين يتفرقون شيعًا ويقتل بعضهم بعضًا وقال: ما كنت أظن أن دعاة الإصلاح يكونون كذلك أعداء العلم. هذه الطوائف التي تفرقت عقائدها في الإصلاح لم تنتظر إلا أن تأمن عدوها العامَّ وهو الكنيسة الكاثوليكية الرومانية فلما أمنتها أخذ بعضها يصول على بعض واشتعلت نيران الحروب بينهم. قال أحد أفاضل مؤرخيهم: (وكلما ارتفعت طائفة منهم إلى عرش القوة لوثت يديها بالجرائم وفي العمل لإفناء البقية حتى سئمت النفوس دوام تلك الحال، ووجدت من توالي حوادث الانتقام وظهور مضارّه في كل طائفة أن الفضل لكل طائفة أن تمنح الأخرى من الحرية ما لا تستغني عنه واحدة منها. والعلم كان يعمل عمله في كشف الحقائق وترقية الآداب وكان من أقوى المنبهات إلى مضار الحروب ومفاسد العدوان على حرية الأشخاص من أي طائفة كانت. من هذا نشأ ذلك الأصل العظيم أصل التسامح والرضى بمجاورة المخالف في الرأي. نشأ من القهر والقسوة التي كانت كل طائفة تعامل بها الأخرى) انتهى كلام المؤرخ بالمعنى. السبب الثالث: الثورة: ولا حاجة بي إلى ذكر ما جاءت به الثورة الفرنسية وكيف كانت قيامتها على الدين ورؤسائه مما هو معلوم. وإنما أنبه القارئ إلى الاعتبار بما تقدم من القول، وبما يمكنه أن يقف عليه في كتب القوم، ليعلم أن الدين المسيحي في أوربا لم يحتمل العلم فضلاً وكرمًا وإنما قويت عليه أحزاب العلم فساموه استكانة وخضوعًا، ولو شاء أن يحتمل لم يستطع إلى ذلك سبيلاً. السبب الرابع: ترك المسيحية: رؤساء الدين المسيحي رجال ذوو عزيمة وإقدام قلما يدانيهم فيها رؤساء دين من الأديان. وهم مع غلوهم في الدين واشتدادهم في استعمال سلطانهم على النفوس كانوا ولا يزالون يتخذون كل وسيلة لتأييد دينهم. وهم أشد الناس حرصًا على تقويم أركانه ودفع الشبه عنه ولم يزدهر العلم الجديد إلا وسائل وسبلاً لترويج عقائده وآدابه، ولم تفتر لهم همة في نشره وتزيينه للقلوب. ومع ذلك كله نرى أن رجال العلم وحماة المدنية يتسللون منه، والعامة من الشعوب في تخاذل عنه، والأمة الفرنسية التي كانت تدعى بنت الكنيسة أصبحت من أشد الناس عليه، ورأت فلسفتها أن تحدّد حرية أهل الدين في تعاليمهم واجتماعهم. كل ذلك ومدارس اللاهوت لا تزال عامرة وطلاب اللاهوت يعدّون بالألوف. كل ذلك وكثير من الدول ترى من مزاياها حماية الدين المسيحي في أقطار الأرض. قال أحد رؤساء البروتستانت في خطبة من خطبه التي ألقاها في بعض البلاد الفرنسية سنة 1901 بعد كلام له في أن المسيحية رومانية أو بروتستانية فقدت خاصتها الدينية كما فقدت فائدتها الاجتماعية ما نصه مترجمًا: إذا كان الدين المسيحي ليس شيئًا سوى الكثلكة المحتاجة إلى الإصلاح (المذهب الروماني) أو الكثلكة التي دخلها الإصلاح بالفعل (المذهب البروتستانتي) فالقرن الموفي للعشرين (القرن الحاضر) لا يكون مسيحيًّا أبدًا. وقد جاء في كلام هذا الخطيب بأنه يريد أن يطلب للمسيحية معنًى آخر ينطبق كل الانطباق على اعتقاد المسلمين فيها، فإن وفّق للنجاح في سعيه زال الخلاف - إن شاء الله - بين الدين والعلم، بل بين المسيحية والإسلام. عَوْدٌ إلى سماحة الإسلام: آخذ بيد القارئ الآن، وأرجع به إلى ما مضى من الزمان، وأقف به وقفة بين يدي خلفاء بني أمية والأئمة من بني العباس ووزرائهم والفقهاء والمتكلمين والمحدثين والأئمة المجتهدين من حولهم؛ والأدباء والمؤرخين والأطباء والفلكيين والرياضيين والجغرافيين والطبيعيين وسائر أهل النظر من كل قبيل مطيفون بهم؛ وكلُّ مقبل على عمله فإذا فرغ عامل من العمل أقبل على أخيه ووضع يده في يده يصافح الفقيهُ المتكلمَ والمحدثُ الطبيبَ والمجتهدُ الرياضيَّ والحَكيم، وكلُّ يرى في صاحبه عونًا على ما يشتغل هو به، وهكذا أدخل به بيتًا من بيوت العلم فأجد جميع هؤلاء سواء في ذلك طبيب يتحادثون ويتباحثون، والإمام البخاريُّ حافظ السنة بين يدي عمران بن حطان الخارجي يأخذ عنه الحديث وعمرو ابن عبيد رئيس المعتزلة بين يدي الحسن البصري شيخ السنة من التابعين يتلقى عنه وقد سئل الحسن عنه فقال للسائل: (لقد سألت عن رجل كأن الملائكة أدّبته وكأن الأنبياء ربته إن قام بأمر قعد به، وإن قعد بأمر قام به، وإن أمر بشيء كان ألزم الناس له وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، ما رأيت ظاهرًا أشبه بباطن منه ولا باطنًا أشبه بظاهر منه بل أرفع بصري فأجد الإمام أبا حنيفة أمام الإمام زيد بن علي (صاحب مذهب الزيدية من الشيعة) يتعلم منه أصول العقائد والفقه ولا يجد أحدهم من الآخر إلا ما يجد صاحب الرأي في حادثة ممن ينازعه فيه اجتهادًا في بيان المصلحة وهما من أهل بيت واحد - أمُرُّ به بين تلك الصفوف التي كانت تختلف وجهتها في الطلب وغايتها واحدة وهي العلم وعقيدة كل واحد منهم أنَّ فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة كما ورد في بعض الأحاديث [2] . الخلفاء أئمة في الدين مجتهدون وبأيديهم القوة وتحت أمرهم الجيش. والفقهاء والمحدثون والمتكلمون والأئمة المجتهدون الآخرون هم قادة أهل الدين ومن جند الخلفاء. الدين في قوته، والعقيدة في أوج سلطانها، وسائر العلماء ممن ذكرنا بعدهم يتمتعون في أكنافهم بالخير والسعادة ورفه العيش وحرية الفكر لا فرق في ذلك بين من كان من دينهم ومن كان من دين آخر، فهنالك يشير القارئ المنصف إلى أولئك المسلمين، وأنصار ذلك الدين، ويقول: ههنا يطلق اسم التسامح مع العلم في حقيقته، ههنا يوصف الدين بالكرم والحلم، ههنا يعرف كيف يتفق الدين مع المدنية، عن هؤلاء العلماء الحكماء تؤخذ فنون الحرية في النظر، ومنهم تهبط روح المسالمة بين العقل والوجدان (أو بين العقل والقلب) كما يقولون. يرى القارئ أنه لم يكن جلاد بين العلم والدين وإنما بين أهل العلم أو بين أهل الدين شيء من التخالف في الآراء شأن الأحرار في الأفكار الذين أطلقوا من غل التقييد، وعرفوا من علة التقليد، ولم يكن يجري فيما بينهم اللمز بالألقاب فلا يقول أحد منهم لآخر: إنه زنديق أو كافر أو مبتدع أو ما يشبه ذلك. ولا تتناول أحدًا منهم يد بأذًى إلا إذا خرج عن نظام الجماعة وطلب الإخلال بأمن العامة فكان كالعضو المجذَّم فيقطع ليذهب ضرره عن البدن كله. * * * (ملازمة العلم للدين، وعدوى التعصب في المسلمين) متى ولع المسلمون بالتكفير والتفسيق، ورُمِيَ زيد بأنه مبتدع وعمرو بأنه زنديق؟ أشرنا فيما سبق إلى مبدأ هذا المرض ونقول الآن: إن ذلك بدأ فيهم عندما بدأ الضعف في الدين يظهر بينهم، وأكلت الفتن أهل البصيرة من أهله (تلك الفتن التي كان يثير

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة حدوث العالم في نظر الإسلام والفلسفة (س1) المولى رضاء الدين أفندي قاضي القضاة وعضو الجمعية الإسلامية العامل في أوفا (الروسيا) : قد طال النزاع وقوي الجدال وكثر في هذه الأيام القيل والقال بين الناس في هذا القطر في مسألة حدوث العالم من جهتها الشرعية. فبعضهم يقول: إن الاعتقاد بالحدوث الزماني حسب ما قرره علماء الكلام من متأخري المسلمين فرض على العباد مثل الاعتقاد بوحدة الله تعالى وصدق رسوله وسائر الاعتقادات الواردة في القرآن الشريف. وبعضهم يخالفه ويقول: إن الاعتقاد بحدوث العالم حدوثًا زمنيًّا لا يكلف به الشرع ولا أخبر به النبي ولا نطق به القرآن الكريم بل هو من آراء أهل الكلام وبدعهم، أخذوه من فلاسفة اليونان ولقنوه العوام باسم الدين وما هو من الدين أصلاً. بل هو من باب التدين بالرأي. وإنما الواجب على المسلمين هو اعتقاد أن العالم مخلوق له تعالى من غير تعرض إلى حدوثه بالزمان أو بالذات. وهو الذي نطق القرآن به في عدة مواضع. وبالجملة، إن القول بالحدوث الذاتي أو الزماني إنما هو من مسائل الفلسفة لا تعلق له بالشريعة. ولما كانت جريدة المنار هي الجريدة الدينية الوحيدة، جئنا إلى حضرتكم نستسفر رَأْيَكُم في هذه المسألة ونَشْرَه أيضًا في أحد أعدادها ويكون هو - إن شاء الله تعالى - الفاصل بين الحق والباطل. (ج) إن الصواب في الرأي الثاني. وما كان لدين الفطرة مقرر الحنيفية السمحة الذي ظهر في الأميين ودعا إليه المتوحشين والممدنيين - أن يكلف كل فرد في تصحيح الإيمان بنظريات فلاسفة اليونان، والتمييز بين تلك الخلافات في الحدوث بالزمان والحدوث بالذات. ثم خلافات الفلاسفة مع أهل الكلام في أصل وجود الزمان. فالمتكلم يقول: إنه أمر اعتباري، والفيلسوف اليوناني يقول: إنه وجودي، وإنها لمعارك يحارب الباحث فيها غير عدوّ حتى إذا أعيا من مقارعة الدليل بالدليل، ونفض عنه عثير القال والقيل، رجع إلى أحد الأمرين: وقوف الحيرة أو دين الفطرة، المقصد الأول من مقاصد القرآن المبين، تقرير عقائد الدين، ثم هو لم ينطق بكلمة من مادة الحدوث للأعيان، لا بحسب الذات ولا بحسب الزمان، فللناظر أن يقول: إن اطّراد السنن الإلهية في العوالم العلوية والسفلية، ووحدة النظام مع الإتقان في جميع هذه الأكوان: يدلاّن على أن لها خالقًا عليمًا، قادرًا حكيمًا حيًّا قيومًا، لا رادّ لإرادته، ولا معقب لحكمه وحكمته، وأنه واحد لوحدة النظام المشهود في جميع الوجود، وبهذا يكون مؤمنًا بالبرهان، متبعًا طريق القرآن وإن لم يخطر بباله حدوث الذات وحدوث الزمان. أما مسألة حدوث العالم في نظر الفلسفة فالمتفق عليه عند فلاسفة العصر أن كل ما نراه ونحس به من هذه العوالم الأرضية والسماوية فهو حادث بمعنى أنه لم يكن كما هو الآن ثم كان، ولكن عضلة العقد عند المتقدمين والمتأخرين هي مسألة منشأ التكوين. وهم متفقون على أن الوجود المطلق قديم وأنَّ العدم المطلق لا حقيقة له ولا يتصوره العقل وأنه لا يحدث شيء من لا شيء. فالفلاسفة والمتفلسفون يحسبون أن هذه المسائل القطعية لا تنطبق على الأديان وإن سماوية، ونحن نقول: إنها هي التي جرى عليها القرآن وقررها الإسلام فليس في كتاب الله تعالى آية تدل على أن الوجود الحقيقي صدر عن العدم الخيالي، بل قال: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} (الفرقان: 2) والخلق لغة: الترتيب وهو لا يكون في العدم، بل قال: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) وحلُّ المسألة بطريقة إسلامية أن هذا الوجود الذي نشاهده كله ممكن حادث، وأنه صدر عن وجود واجب قديم لا تعرف حقيقته ولا كيفية صدوره عنه، وإنما قام البرهان بأنه صدر بإرادة وقدرة وعلم وحكمة. وذلك ما ذكرناه من وحدة النظام والإحكام وإطراد النواميس والسنن. *** دعوى كتابة النبي بالتركية (س2) ومنه: قال الفاضل المرجاني القزاني صاحب (ناظورة الحق) في رسالته (مستفاد الأخبار) : إن حديث أبي هريرة المذكور في أسد الغابة المطبوع بمصر القاهرة (ج4 ص140) وقع فيه عدة أغلاط وقت طبعه، والصواب ما في النسخة الخطية في زمان قريب من عصر المؤلف ابن الأثير رضي الله عنه. وهو هكذا: (وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لعمير ومن معه كتابًا تركيًّا ذكره. فإن رواته نقلوه بألفاظ عربية، وبدلوها وصحفوها تركناها لذلك) . ولما لم يكن لدينا نسخة أخرى سوى المطبوعة المذكورة لنقابلها رجونا من حضرتكم مقابلة النسخة المطبوعة مع الأصول المصححة خدمة للعلم والدين، ثم بيانه إلينا لنكون على بصيرة من ذلك وأجركم على الله. ج ـ لم يكن التحريف والتبديل في النسخة المطبوعة وإنما كانا في رسالة الفاضل القزاني (مستفاد الأخبار) فإن ما كتبه عن النسخة الخطية هو عين ما في النسخة المطبوعة إلا أنه صَحَّفَ لفظ (تركنا ذكره) بقوله: (تركيًّا ذكره) ولفظ (غريبة) بلفظ (عربية) فكان التبديل والتحريف من هذا التصحيف، وسببه أن النسخة الخطية التي رآها غير منقوطة فأوقعت الفاضل فيما رأيت. وما كان لمثله أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يكتب لقوم من العرب كتابًا تُركيًّا، فإن جاز أن يعرف هو التركية من طريق المعجزة فمن أين لعمير وقومه بني أسلم علْم ذلك؟ وما هو الداعي إلى مخاطبة العرب بلسان العجم؟ ثم ما كان لمثله أن يخفى عليه أن كلمة (ذكره) بعد كلمة (تركيا) لا معنى لها، ولكن معناها ظاهر إذا كانت الكلمة (تركنا) وهو أن المصنف ترك ذكر الحديث لوقوع التحريف فيه، وسبب التحريف وجود الألفاظ الغريبة التي لم يفهمهما رواته. أما عبارة الكتاب فهي كما في ترجمة عمير بن أقصى الأسلمي: روى أبو هريرة قال: قدم عمير بن أقصى في عصابة من أسلم فقالوا: يا رسول الله إنا من أرومة العرب نكافئ العدو بأسنة حداد، وأذرع شداد، ومن ناوأنا أوردناه السامة، وذكر حديثًا طويلاً في فضل الأنصار، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب لعمير ومن معه كتابًا تركنا ذكره، فإن رواته نقلوه بألفاظ غريبة وبدلوها وصحفوها تركناها لذلك أخرجه أبو موسى. اهـ وقد قابلنا النسخة المطبوعة بنسخة خطية في مكتبة الحكومة المصرية كتبت في سنة 722 أي بعد وفاة ابن الأثير بأقل من قرن فألفيناها مطابقة لها. *** السلام على غير المسلم (س3) الشيخ بسطويسي بركات بالمحلة الكبرى: قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) وقال تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: 94) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور:27) الآية. فهل هذا الإطلاق في الآيات الكريمة يشمل المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب وغيرهم من بني آدم أم هو خاصّ بالمسلمين قيدت إطلاقه عليهم أحاديث صحيحة صريحة؟ وهل قوله صلى الله عليه وسلم فيما معناه: (إن من حق المسلم على المسلم إفشاء السلام) يعتبر من قيود الإطلاق لفهم البعض سقوط حق غير المسلم أم لا؟ وإذا قيل: إنه عام فهل ينبغي شيوعه بين الطوائف حتى يصير عادة مألوفة أم لا؟ (ج) إن الإسلام دين عامٌّ ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو بالتدريج وجذب بعضهم إلى بعض ليكون البشر كلهم إخوة. ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوة إفشاء السلام إلا مع المحاربين؛ لأن من سلّم على أحد فقد أمّنه، فإذا فتك به بعد ذلك كان خائنًا ناكثًا للعهد. وكان اليهود يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فيردّ عليهم السلام حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ (السَّام) أي: الموت فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحييهم بقوله: (وعليكم) وسمعت عائشة واحدًا منهم يقول له: السَّام عليك. فقالت له: وعليك السام واللعنة. فانتهرها عليه الصلاة والسلام مبينًا لها أن المسلم لا يكون فاحشًا ولا سبّابًا، وأن الموت علينا وعليهم وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنهم كانوا يقولون للذمّيّ: السلام عليك. وعن الشعبي من أئمة السلف أنه قال لنصرانيّ سلم عليه: وعليك السلام ورحمة الله تعالى، فقيل له في ذلك فقال: (أليس في رحمة الله يعيش) وفي حديث البخاري الأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف، وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} (النساء: 86) فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا للمسلمين، {أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) لأهل الكتاب. وعليه يقال للكتابيّ في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة. هذه لمعة مما روي عن السلف، ثم جاء الخلف فاختلفوا في السلام على غير المسلم فقال كثيرون: إنهم لا يُبدأون بالسلام لحديث ورد في ذلك وحملوا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على الحاجة، أي: لا يسلم عليهم ابتداءً إلا لحاجة. وأما الرّد فقال بعض الفقهاء: إنه واجب كردّ سلام المسلم وقال بعضهم: إنه سنة وفي الخانية من كتب الحنفية: ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالردّ، وهذا يدل على أنه مباح عند هذا القائل لا واجب ولا مسنون مع أن السنة وردت به في الصحيح، أما ما ورد من حق المسلم على المسلم فلا ينفي حق غيره، فالسلام حق عام ويراد به أمران: مطلق التحية وتأمين من تسلّم عليه من الغدر والإيذاء وكل ما يسيء. وقد روى الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة: (أن الله تعالى جعل السلام تحية لأمتنا وأمنًا لأهل ذمتنا) . وأكثر الأحاديث التي وردت في السلام عامة وذكر في بعضها المسلم كما ذكر في بعضها غيره كحديث الطبراني المذكور آنفًا. أما جعل تحية الإسلام عامّة فعندي أن ذلك مطلوب وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن اليهود كانوا يسلمون على المسلمين فيردون عليهم فكان من تحريفهم ما كان سببًا لأمر النبي صلى الله تعالى عليه والسلام بأمر المسلمين أن يردوا عليهم بلفظ (وعليكم) حتى لا يكونوا مخدوعين للمحرفين ومن مقتضى القواعد أن الشيء يزول بزوال سببه. ولم يرد أن أحدًا من الصحابة نهى اليهود عن السلام؛ لأنهم لم يكونوا ليحظروا على الناس آداب الإسلام ولكن خلف من بعدهم خَلْفُ أرادوا أن يمنعوا غير المسلم من كل شيء يعمله المسلم حتى من النظر في القرآن وقراءة الكتب المشتملة على آياته، وظنوا أن هذا تعظيم للدين، وصَونٌ له عن المخالفين، وكلما زادوا بُعدًا عن حقيقية الإسلام زادوا إيغالاً في هذا الضرب من التعظيم، وإنهم ليشاهدون النصارى في هذا العصر يجتهدون بنشر دينهم ويوزعون كثيرًا من كتبه على الناس مجانًا، ويعلمون أولاد المخالفين لهم في مدارسهم ليقربوهم من دينهم، ويجتهدون في تحويل الناس إلى عاداتهم وشعائرهم ليقربوا من دينهم حتى إن الأوربيين فرحوا فرحًا شديدًا عندما وافقهم خديو مصر الأسبق على استبدال التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري، وعدُّوا هذا من آيات الفتح. ونرى القوم الآن يسعون في جعل يوم الأحد عيدًا أسبوعيًّا للمسلمين يشاركون ف

الأزهر والأزهريون ـ وفاضل هندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأزهر والأزهريون، وفاضل هندي (الرسالة الثانية مما وعد به الشيخ عبد العزيز العريشي الأزهري والأولى نشرت في الجزء 10) من القاهرة إلى حيدر أباد إليك أيها الأخ، سلام صديق طبع قلبه على الإخلاص لك، وارتبط بأسباب محبتك، وشكوى شوق قد برح بي برحًا، لا أستطيع له شرحًا. وبعد فقد ذكرت لك في رسالتي السابقة طرقًا من نظام مدرسة الأزهر وطرق التعليم بها على وجه الجملة، والآن أريد أن آتي لك بعبارة أوسع وتفصيل أشفى على كل ما رأيته من نظام طلبتها وسلوكهم مناهج التحصيل مقتفيًا أثر الطالب في كل دور من أدوار طلبه من إبان دخوله فيها حتى يترشح لنيل شهادتها مُبينًا لك قوته وما حصل عليه في كل دور منها. زرت أيها الأخ تلك المدرسة من تاريخ الرسالة الأولى حتى اليوم زورات متعددة في أوقات مختلفة وقفت فيها على تلك الدروس وقفة العاشق الدنف على الربع المحيل وهو يبكي لأناس عاهدوا الرحيل على أن لا يملُّوا الذميل. فكانت نتيجة ذلك البحث الدقيق والتنقير المتواصل أن ظهر لي ما عليه تلك المدرسة الواسعة الكثيرة العدد، ووقوفي على مواضع خللها وسوء نظامها على ما أنا عليه من الغربة وبعد الدار. ورأيت أن أجعل كل موضوع رأسًا مستقلاً بنفسه أذكر فيه كل ما استبان لي من النقد كما سيمر بك إن شاء الله. انتظام الطلبة: وأول أمر رغبت في كشف سره وبيان سببه من أمور هذه المدرسة هو سبب كثرة طلابها حتى بلغوا التسعة آلاف أو يزيدون، وأغلبهم من المصريين كما قدمت لك في رسالتي السابقة فكان غاية ما وقفت عليه من ذلك ما سمعته هناك من أخ ثقة خبير قال: لا يكاد يمر الإنسان ببلدة من البلدان المصرية أو قرية من قراها حتى يرى مئات من شبان المصريين حلفاء المتربة وضيق ذات اليد وهم يطاردون الجوع بالفأس والمحراث، وتمضية يومهم الطويل في الحقول والمزارع والتعب والنصب تحت شمس تذيب بوهجها رأس الضب. ومن بينهم أفراد لا يكاد يخلو منهم بلد من البلدان أو قرية من القرى معطلون عن كل عمل يطلقون عليهم تارة لقب الفقهاء أو الوعاظ وطورًا اسم المأذونين، ترى الواحد منهم في جبة وقباء وعمامة عجراء يأكل جميع ساعات نهاره إما متربعًا في بيته خاليًا من كل عمل أو قاعدًا في إحدى الزوايا ينثر من فيه على بُسطاء أهل الفلاحة ما يسمونه وعظًا وإرشادًا، وما هو إلا أقاصيص أو لغو في حكمها يدعو الناس به إلى حب التواكل والبطالة حتى إذا أتى على آخر الدرس لبث مكانه منتظرًا ما تدر به أيدي أولئك العملة المساكين الذين لم يحصلوا على الدرهم إلا طرادًا، ولم ينالوا اللقمة إلا جهادًا، ومن ذلك يتألف لهؤلاء المعطلين عيشة لا تعب فيها ولا نصب فإذا رزق الله أحد الفلاحين الفقراء ولدًا وقع بين نارين إما أن يدعه يشتغل بما يشتغل هو به فيعيش عيشة البؤس والخصاصة، وإما أن يدفع به إلى الأزهر ويثابر على أن يقسم له ما يناله من الأجر على أعماله حتى يمضي عليه عدد من السنين فيخرج منه وقد ترشح لأنْ يأكل من أوساخ الناس ويعيش عالة على العباد متوسدًا الراحة من عناء كل عمل. فإذا ترجح عنده الأمر الثاني دفع به إلى الأزهر، وأخذ يجري عليه من النفقة ما يقطعه من قوت يومه الضروري. لذلك لا تكاد تجد في المائة واحدًا من الطلبة من البيوتات الشريفة التي يعمل أهلوها لمستقبل شريف كالقضاء والإفتاء. فأنت إذا سرت في ساحة تلك المدرسة فإنما تشق أجسامًا تنبو عن رؤيتها النفس وهم مختلفون متبعثرون ليس لهم نظام ولا ترتيب، ويغلب أن يكون سن الطالب عند اندراجه في سلك الأزهريين ما بين الخامسة عشرة إلى الثلاثين، وقد كان امتحان الدخول في هذه المدرسة بسيطًا قاصرًا على معرفة القراءة والكتابة، أما اليوم فهم يشترطون مع ذلك حفظ جميع القرآن للكفيف ونصفه لغيره. ولأجل أن أتمكن من أن أبين لك أدوار الطالب هناك وأوقفك على قوته في كل دور منها أقسمها إلى ثلاثة أدوار؛ كل دور ثلاث سنوات فيكون المجموع اثنتي عشرة سنة، وهي أقل مدة أمكن بعض الطلبة نيل الشهادة فيها. الدور الأول: يتقدم الطالب للانتظام في الأزهر وهو في السن الذي قدمت لك فإن كان من الفلاحين (وهو الأغلب) رأى نفسه قد انتقل طفرة من بين رعاء الشاء، إلى حلقات المدرسين ومجالس العلماء، وإن كان من البيوتات الكبيرة والأسر الخاصة (وقليل ما هم) انتقل المسكين وثبة في يوم واحد من نعيم العيش وحسن الحال إلى عيش الشظف والخشونة، وبُدّل في ساعة واحدة برؤية أهله وهم على ما عهد من النظافة وجمال الهندام رؤية أولئك الذين ذكرت لك. وسواء كان الطالب من العامة أو من الخاصة فإنه يتساوى مع غيره في الطلب وطرق التحصيل. يدخل الطالب تلك المدرسة وهو لا يدري كيف يحضر، ولا ماذا يقرأ، ولا على من يتلقى دروسه، ولا على أي وجه يسير فيها، ولا ما هي الكتب تُشرى لذلك الغرض من حيث لا ناظر له هناك ولا رقيب عليه يأمره بشراء كتاب معلوم والاختلاف إلى درس مخصوص، بل يمكث هناك المسكين أيامًا يجول في أركان الأزهر وهو على ما ذكرت من البساطة والسذاجة ويأخذ كل يوم في التطواف بحلقات الدروس يتساءل من الطلبة المتقدمين عن كتاب يشتريه، ودرس ينتظم في سلك طالبيه، حتى إذا تيسر له ذلك بعد الذي تقدم من الحيرة والتعب وضياع الوقت وحضر أحد الدروس أخذ يقلب طرفه فيما بين يديه، ويحدد أذنيه لسماع ما يلقى عليه، فلا ينظر إلا نقوشًا لا مَقْدِرَة له إلا على النطق بها دون أن يعقل لها أقل معنى. ولا تقع في أذنه إلا ألفاظ هي أشبه بالرطانة منها بما يتكلم به الناس، فيظل سنته الأولى وهو يروح إلى الدروس كما يغدو إليها خاليًا من الفائدة مجردًا من فهم أي شيء مما يتلوه عليه معلمه، اللهم إلا أن يحفظ بعض كلمات مثل: ضرب زيد، وقتل بَكر عَمرًا، وتأبَّط شرًّا، وقال رحمه الله تعالى، إلخ.. هذا مبلغ ما يصل إليه الطالب من اختلافه إلى دروس النحو في سنته الأولى - وأريد قبل أن أسلك بالكلام إلى دروس الفقه أن أقول: كنت أود أن أطلعك على جميع ما يشتغل به الطالب من الكتب على المذاهب الأربعة إلا أني لا أرى في استقصائها كبير فائدة بل الأحسن أن أفصل كتب مذهب واحد، واخترت أن يكون الحنفي لأنه الأشهر، وإن لم يكن الأكثر، ثم أنت تقيس ما بقي من الكتب في المذاهب الأخرى عليه لما بينهما من المشاكلة التامة في صناعة التأليف وأسلوب التحرير. وما حصل عليه في سنته الأولى من النحو يحصل على ما يشاكله في الفقه، وأول كتاب في النحو يسمونه الكفراوي وما يقابله من الفقه يُسَمَّى مراقي الفلاح. أما الكفراوي فقد وضعه صاحبه شرحًا لمتن صغير اسمه الآجُرُّومِيَّة، مشوش العبارة مختصرًا جدًّا. وأما مراقي الفلاح فهو كتاب يقتصر من الفقه على العبادات فقط وهو على ذلك مجلد ضخم سلك به مؤلفه مسلك الإسهاب والإطناب. على أنه على ما به من التطويل يعد أحسن كتاب في الفقه هناك. وقصارى القول أن الطالب يقطع شهور سنته الأولى كلها ولا يعلق بذهنه ما يستحق أن أذكره لك. وإنما هي كُليمات يسمعها فتمر عليه مر الخيال الساري - ثم يدخل في سنته الثانية وهو على هذه الحال فيأكل أيامها وهو بالحيرة والذهول لقصور ذهنه عن إدراك أيّ شيء مما يسمع أو يقرأ. وكثيرًا ما يلحق الطالب أو أهله القنوط من النجاح فيخرج من هناك ليحترف. ولا كتب يحضرها في سنته الثانية على الغالب إلا ما أمضى فيها سنته الأولى وسيره فيها لا يتميز عن السنة الفائتة إلا بكونه وصل إلى أن يعرب جملاً بسيطة معلومة حفظ إعرابها حفظًا على غير فهم ولا تفكر. ويعرف بعض أسماء الأئمة وشيء من الاصطلاحات الفقهية في الفقه. ثم يتدرج من هاتين السنتين إلى السنة الثالثة، وفي أولها يكون قد أثر في ذهنه كثرة ما يرد عليه من تعقيد الجمل وتشويش العبارات تأثيرًا يحمله على الجلد والتصبر على تلك الأساليب، وربما فهم إذ ذاك بعض الجمل بعد أن ينصب نفسه ويتعب فكره كل التعب وينتقل حينئذ من الكفراوي إلى كتاب يسمونه (الشيخ خالد) وهو كتاب أصغر في الحجم من الكفراوي وأسهل منه عبارة، ولكن يظهر أن سهولته لم ترُق للأشياخ هناك فانبرى له بعضهم وعلق عليه حواشي من المفروض على الطالب الأزهري أن يكد ذهنه في فهمها ولم أر - علم الله - كتابًا يكد الفكر ويتعب القارئ في فهم عباراته المشوشة المضطربة مثل ذلك الكتاب. ويقابل هذا بكتاب من الفقه في هذه السنة كتاب (الطائي) أخو تلك الحاشية في فساد العبارة وسماجتها وقبح تحريرها ركب به مؤلفه أسلوبًا لم أر ما يشاكله في كل ما وقع لي من مؤلفات العرب فهو يحذف ما يلزم إثباته ويكتب ما من حقه الحذف ويؤخر ما له التقديم، ويقدم ما من شأنه التأخير. وأعجل إليك قبل أن أرتقي إلى ذكر الكتب الفقهية الكبيرة ببيان أن هذا الطالب الضعيف يفاجأ في هذه المدة بتلك الأبواب الطويلة المحشوة بالخلاف وتضارب آراء الأئمة فيما لا يعود بأقل فائدة على التلميذ، ولا ينتظر أن تكون منه فائدة لغيره مثل أبواب العتق والرق، إلخ. وهناك أبواب أخرى فتحها نافع ولكن توسعتها ضارة؛ لأن مؤلفي تلك الكتب خرجوا بها عن دائرة التشريع إلى بيداء واسعة من الخيال المحض فلا تكاد تنظر في باب من أبواب الطلاق مثلاً حتى ترى الكثير من الصور الغريبة النائية عما يقصد الشرع في كتاب الله الحكيم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما جرى عليه أصحابه وأئمة السلف في الصدر الأول من الإسلام. على ما قدمت ينتهي التلميذ من دوره الأول، ولو أتي بغلام سليم الفطرة إلى معلم حكيم في التعليم وأخذ يملي عليه كل يوم قليلاً من النحو والفقه ويفهمه إياه حق التفهيم لبلغ في ثلاثة شهور من التحصيل إلى أضعاف ما يبلغه طالب الأزهر في ثلاث سنوات. الدورالثاني: إذا خرج الطالب من هذا الدور وهو على ما مر بك وأخذ يدخل في الدور الثاني كان أول شيء يبدأ به أن يضم إلى درسي النحو والفقه درسًا أو درسين في التوحيد أو المنطق أو البلاغة أو العَرُوض، واختيار الطالب أي فن من هذه الفنون أمر موكول إلى المصادفات التي تسوقه إلى أي فن منها، وكثير من الطلبة لا يمد عينيه إلى تلك العلوم إلا بعد مضي ست سنوات، ولا أريد أن أذكر لك الآن ما هي هذه الكتب وما يستفيده الطالب منها، بل أدع ذلك لفرصة أخرى وآتي لك قبل ذلك على وصف ما يشغل به من الكتب في العلمين الأصليين عندهم الفقه والنحو. وأول كتاب يفتحون به السنة الرابعة في الفقه كتاب يقال له: (منلا مسكين) يقضي فيه الطالب على الغالب سنتين، ومنلا مسكين هذا كسائر ما تقدم من الكتب محشوّ بالخلافات على غير جدوى والتعمق في فروع تنقضي الأعمار، ولا تقع، ولا يُحتاج إليها، غير أنه يمتاز عن تلك الكتب بالخطأ فيما يورده من تَقول أئمة المذاهب الأخرى في معترض الرد عليهم وتزييف أقوالهم، وهو ما لا يكاد يخلو منه كتاب أو باب من الأبواب. بعد أن يُتمم المسكين (منلا مسكين) يأخذ في تلقي كتاب بعده يقال له: (العيني) ، وهو كتاب بلغ به صاحبه حد النهاية من الخطأ والغلط والتمحل في تزييف مذهب الإمام الشافعي واختراع الصورة الفقهية، ولا يكاد يأتي الطالب على آخره وفي صدره شيء من جوهر العلم، اللهم إلا تلك الصور الذهنية والمسائل الخيالية والمماحكات اللفظية، وحفظ أسماء أغلب من اشتغلوا بهذا الفن لكثرة ما يرد من أسمائهم في صدد الخلاف. وإن تعجب فعجب بل ألف عجب اتفاق أكثر جماع

رسالة الكسائي في لحن العوام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة الكسائي في لحن العوام ظفر بها الباحث الألماني (بركلمن) وطبعها في ألمانيا، وأهدى نسخة منها إلى صديقنا أحمد زكي بك الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار، فرأينا أن ننشرها في المنار لما فيها من الفائدة للكتاب والطلاب وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين. اللهم صلّ على محمد وآله الطاهرين، هذا كتاب ما تلحن فيه العوام مما وضعه عليّ بن حمزة الكسائي للرشيد هارون ولا بد لأهل الفصاحة من معرفته. تقول: حَرَصت بفلان فتح الراء. قال الله عز وجل: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) . ولا تقول: تحرَص بفتح الراء. قال الله تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلّ} (النحل: 37) . وتقول: ما نقَمت منه إلا عجلته بفتح القاف، لا يقال غيره. قال الله عز وجل: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} (البروج: 8) . وتقول: دعه حتى يَسْكُت من غضبه بالتاء ولا يقال بالنون يَسْكُن [1] قال الله عز وجل: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغَضَبُ} (الأعراف: 154) . وتقول: قد نَفِدَ المالُ والطعامُ بكسر الفاء قال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْر} (الكهف: 109) . وتقول: عجزت عن الشيء بفتح الجيم ومنه قوله تعالى ذِكْرُه: {أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ} (المائدة: 31) وتقول: كسرت ظفُر زيد بضم الفاء والظاء جميعا [2] قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (الأنعام: 146) . وتقول: قد صرفت فلانًا وقد صرف وجهه بغير ألف. ولا يقال أصرفت، قال الله عز وجل: {ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} (التوبة: 127) وتقول: قد أَصْرَفَت الكلبةُ: إذا طَلَبَت المُعاظَلَةَ. وتقول: قد استدّت البِطانة بكسر الباء [3] قال الله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران: 118) وتقول لنا على المضيّ إلى فلان [4] بتشديد الياء قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًا وَلاَ يَرْجِعُونَ} (يس: 67) وتقول: شكرت لك ونصحت لك ولا يقال: شكرتك ونصحتك. وقد نصح فلان لفلان وشكر له. هذا كلام العرب قال الله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (البقرة: 152) . {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ} (هود: 34) . وتقول عَسَيْتُ أن أكلّم زيدًا بفتح السين قال الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْض} (محمد: 22) . وتقول: قد أريتُ فلانًا موضع زيد، ولا يقال أوريته فإنه خطأ. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا} (طه: 56) وقال أيضًا: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} (الأعراف: 143) وتقول: قد أوريت النار إذا أشعلتها بالواو. وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ} (الواقعة: 71) وقال عديّ بن زيد في شاهد ذلك: وطُفَُّ حديثَ السُّوء بالصمت ... إنه متى تور نارًا للعتاب تَأجَّجَا [5] ويقال: وقع القوم في صَعُودٍ وهبوط وحَدُورٍ مفتوحات الأوائل وكذلك السَّحُور سحور الصائم [6] والفَطور أيضًا على مثال فَعُول قال الله عز وجل: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} (المدثر: 17) وكذلك الرَّكوب. قال الله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُم} (يس: 72) . وتقول شُدَّ ثوبَك وشُدَّ عليه بضم الشين قال تعالى: {فَشُدُّوا الوَثَاقَ} (محمد: 4) وتقول: ذَرْهُ ودَعْه وذَرِ الأَمْر ولا يقال: وَذرْتُه ولا ودَعْته قال الله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا} (الحجر: 3) ولا يقال منه فعلته ولكن تركته. وتقول: جَهدت به كل الجُهد، والجيم الأولى مفتوحة والثانية مضمومة. قال الله: {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} (التوبة: 79) وتقول: دمَعت عيني بفتح الميم، وبخصت عينه بالصاد، ولا يقال: بخست بالسين [7] إنما البخس والنقص أن تنقص الرجل حقه. وتقول: وَدِدْتُ أني في منزلي بكسر الدال. الأولى قال بعض الأعراب: أُحبُّ بُنَيَّتي وودِدت أني ... حفرت لها برابية قَبيرا [8]

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ (الصراط المستقيم) كثرت شكوى الباحثين في الإصلاح - ورأسه إصلاح التربية والتعليم - من كتب القرون المتوسطة وما بعدها وَوُعُوَرة مسالكها وصعوبة أسلوبها وعدم موافقتها للتعليم فقيّض الله تعالى لهم من أنفسهم من يسعى في إحياء كتب السلف ليستعان بها على إحياء اللغة والدين. ومن يشتغل بتأليف كتب جديدة يستعان بها على التربية والتعليم. فبينا جمعية إحياء العلوم العربية تشتغل بطبع (المخصص) وتسعى باستنساخ مدونة الإمام مالك وكتاب الأم للإمام الشافعي لتطبعهما، ومنشئ هذه المجلة يشتغل بطبع (دلائل الإعجاز) بعد طبع (أسرار البلاغة) إذا بالشيخ أحمد زناتي ناظر مدرسة القبة الخديوية وأستاذ العربية والدين فيها يؤلف الكتب القريبة التناول في التعليم، القوية التأثير في علم الدين. وأكبر مؤلفاته نفعًا، وأحسنها صنعًا، كتاب في علم الدين سماه الصراط المستقيم، وقد جعله ثلاثة أقسام: قسم في العقائد وقسم في العبادات وقسم في الآداب وفي كل قسم فصول في الواجبات الاعتقادية والعملية والأدبية. يبتدئ الفصلَ بالآيات الكريمة الواردة في الواجب الذي يتكلم عنه فيه ثم يأخذ الحكم مما تهدي إليه مع بيان معناها. فهكذا يجب أن تكون كتب الدين لتطمئن بها القلوب، وتؤثر في النفوس. وقد التزم في الكتاب بيان أسرار العبادات والآداب الدينية، ومنافعها الدنيوية والأخروية، وبعد فراغ المؤلف من كتابه عرضه على الأمير العباس - أيده الله تعالى - فسُرّ به وأمر بأن يطبع على نفقة الخاصة الخديوية، فطبع في المطبعة الأميرية طبعًا متقنًا على ورق جيد، وجعل في جانب كل صفحة منه جدولين يذكر في أحدهما بإزاء الآيات القرآنية التي افتتحت بها الفصولُ اسم السورة وفي الثاني عدد الآية، ولو كان هذا البيان عامَّا لجميع الآيات القرآنية في الكتاب لكان النفع أتم. وصفحات الكتاب 400 وثمنه 12 قرشًا صحيحًا. * * * (الهداية إلى الصراط المستقيم) اختصر المؤلف كتاب الصراط المستقيم بكتاب سماه بهذا الاسم، وهو مثل الأول في ترتيبه وأسلوبه إلا أن حجمه نصف حجمه، والغرض من الاختصار أن يكون المختصر كتاب تعليم يرتقي منه التلميذ إلى المطول، ويهتدي بتلقي هذا دراسةً إلى فهم ذاك بنفسه. وقد طبع الكتاب الثاني على نفقته الخاصة أيضًا وفق الله مولانا الأمير إلى ما فيه إحياء العلم والدين. وثمنه ثمانية قروش صحيحة، فَنَحُثُّ كل من يطلب فهم الدين على مطالعة الكتابين. * * * (حجج القرآن) كتاب من أجل ما كتب علماء الإسلام في خدمة الدين للإمام أبي الفضائل أحمد ابن محمد بن المظفر بن المختار الرازي جمع فيه الآيات القرآنية التي تحتج بها الفرق المفترقة من الإسلام في المسائل المختلف فيها بينهم ليعلم الناظر في الحجج مجتمعة لديه. ممثلة أمام عينيه، أيها أحق بالقبول. وأدل على المدلول، وقد ذكر في فاتحته أن أصل الفِرَقِ ثمانٍ: الجبرية وفي مقابلتها القدرية، والمرجئة وفي مقابلتها الوعيدية، والصفاتية وفي مقابلتها الجهمية، والشيعة وفي مقابلتها الخوارج. قال: (ومن هذه الفرق الثمان تشعبت الفرق الثلاث والسبعون) أي التي ورد بشأنها الحديث المشهور. وأبواب الكتاب ثلاثون بابًا في كل باب فصول كثيرة جمعت المسائل بدون أن يطلع على هذه الآيات التي يحتج بها كل فريق على رأيه، ولا نعرفها مجموعة في غير هذا الكتاب. لهذا نقول: إن إحياء هذا الكتاب خدمة جليلة للإسلام؛ فجزى الله الشيخ أحمد عمر المحمصاني الأزهري خير الجزاء أن طبعه ونشره بين الناس بثمن بخس وهو قرشان صحيحان. ومن طلبه من الخارج فليرسل مع الثمن قرشًا لأجرة البريد، وهو يوجد في إدارة المنار بمصر وفي مكتبة هندية ومكتبة المليجي ومكتبة الرافعي ومكتبة المؤيد ومكتبة الهلال. * * * (حياتنا التناسلية) أو (دليل العازب وطبيب المتزوج) كتاب يدل اسمه على موضوعه، مؤلفه الطبيب سعيد أبو جمرة الذي تلقى الطب في المدرسة الكلية ببيروت وأتمه في (كلية ماريون سمس) في الولايات المتحدة، وهو ببحث عن أعضاء التناسل في الذكور والإناث وما يعرض لها من العلل والأمراض قبل الزواج وبعده. وعبارته سهلة يفهمها كل قارئ ولا غنى لقارئ عنها، فإن أكثر الناس عرضة للأمراض والأدواء التي تتولد في هذه الأعضاء أو في البدن كله من استعمالها فيما يحرّمه الدين والطب (وكل ما ثبت ضرره طبًّا فهو محرم شرعًا) ومن ذلك العادات الضارّة التي تكون من الشبان في حال الانفراد ويحسبونها هينة وما هي بهينة، وإنما هي علة العلل والأدواء والأمراض القاتلة. ولو علم الناس ما وراءها لأعانهم العلم على مغالبة الشهوة، ومحاربة اللذة؛ لأنه هو الركن الركين، بعد تربية الدين، وأين التربية الدينية من قوم يذكر أطباؤهم ومرشدوهم عجائب صنع الله تعالى وحكمه وآياته في الآفاق وفي أنفسهم فيسندونها إلى شيء مجهول يسمونه: الطبيعة، ولا يسندونها إليه جلّت قدرته كما فعل صاحب كتابنا هذا. وإننا لا نرى في هذا الكتاب غير هذا العيب. ونقول على كل حال: إنه ينبغي لأهل كل بيت اقتناء هذا الكتاب ومطالعته والاستعانة به على تربية الأولاد. وهو مطبوع في مطبعة الهلال وعدد صفحاته مئتان ونيف وثمنه 12 قرشًا مصريًّا، ويطلب من مكتبة الهلال بمصر. * * * (نيل الأرب في موسيقى الإفرنج والعرب) الموسيقى فن من الفنون التحسينية يرتقي في الأمم بارتقاء المدنية والحضارة ويتدلّى بتدليهما. والميل إليه طبيعي في الإنسان بل الميل إلى حسن توقيع النغم معهود في الحيوان الأعجم. ولقد كان للعرب حظ منه أيام مدنيتهم فذهب بذهابها. ولما دالت الحضارة إلى الأمم الغربية ارتقى عندهم هذا الفن حتى صار ركنًا من أركان الفنون الحربية، كما أنه ركن من أركان التربية النفسية، وكان من موضع العجب أن المصريين اشتغلوا بتقليد الإفرنج من زمن طويل، وأخذوا عنهم كثيرًا من علومهم، ولكنهم لم يضعوا لنا كتابًا مصنفًا أو مترجمًا في فن الموسيقى حتى ظهر هذا الكتاب في هذه السنة لمؤلفه أحمد أفندي أمين الديك. ومن عرف المؤلف يحكم بأنه إنما ألف هذا الكتاب بباعث طبيعي، وشعور بأن قومه في حاجة إلى هذا الفن، وأنه أراد أن يكون البادئ بسدّ هذه الحاجة. وإنما قلنا هذا؛ لأنه شاب بعيد من التفرنج ومذاهبه متمسك بالدين عملاً وآدابًا على أن الشائع في قومه أن الموسيقى من الفنون المذمومة في الدين، وما المذموم في الدين إلا هذا التخنث الشائع عندهم في الغناء، أما الموسيقى فهي نافعة في الحرب والآداب والأخلاق، هذا وإننا لا نحكم على الكتاب من الجهة الفنية لأننا نعترف مع الخجل بأننا لا نعرف الفن. والكتاب مطبوع بالرسوم وأشكال (النوتة) بالمطبعة الأميرية وثمنه خمسة قروش. * * * (الاتجار بالنساء) هي القصة العاشرة من (روايات مسامرات الشعب) معربة بقلم حسن أفندي توفيق الدجوي من ضباط البوليس ومعرِّب كتاب (التربية الحديثة) وقد صدّر القصة صاحب مطبعة الشعب بكلمة للصحافة المصرية يطالبها فيها بانتقاد هذه القصص التي يقصد بنشرها خدمة الأمة، وينتقد تقريظ الجرائد بمدح كل كتاب أو قصة تنشر وتمني الرواج لها. الانتقاد واجب وإن كان يسيء ناشري الكتب كما جربنا. وإذا لم يسمح وقت أصحاب الجرائد وكتابها بقراءة الكتاب كله أو بعضه، فلا يجوز لهم تقريظه؛ لأن التقريظ حكم لا بدّ فيه من العلم بالمحكوم عليه. ولقد طالعنا قصة الاتجار بالنساء هذه ظنًّا منا أن الذي حمل ناشرها على تعريضها للنقد هو ثقته بأنها تعلو عليه لما فيها من الإرشاد النافع فألفيناها مشحونة بأخبار الفسق والفحش والكيد وسفك الدم والانتقام. ومثل هذه الحوادث التي تشرحها القصة يؤثر الكلام عنها في النفس أسوأ تأثير ويكون غذاء رديئًا للنفوس المستعدة للشرور؛ لأنها لم تتربَّ تربية صالحة. وأين التربية الصالحة في هذه البلاد؟ يحتج ناشرو أمثال هذه القصة بأنها لا تخلو من بيان سوء عاقبة المجرمين. ونحتج عليهم بأن الكتابة في تمثيل عواقب الجرائم والمآثم يشترط فيها أن يكون ما يكتبون فيه شائعًا فيمن يكتبون لهم بحيث تفيدهم الكتابة عظة وعبرة، ولا تزيدهم علمًا بوجوه المنكرات وطرق السيّئات؛ لأن ما لا شبهة فيه أن كل قارئ يوجه فكره إلى ما يناسب طباعه ورغائبه من الكلام ويغفل عن غيره. والجرائم المشروحة في هذه القصة لم تأت على الشرط بخلاف قصة (الحال والمآل) التي قرظناها من قبل فإنها جاءت على الشرط؛ لأنها ذكرت منكرًا معروفًا فاشيًا في مصر وبينت سوء عاقبته لذلك أثنينا عليها وأنكرنا على هذه ولعل كلامنا في الموضعين يكون حاملاً على الرغبة عن الضارّ إلى الرغبة في النافع والله الموفق. * * * (روايات الحدّاد) أحسن القصص التي تنشر في مصر لهذا العهد عبارة ما عربه فقيد التحرير نجيب أفندي الحداد وقد أُهديت إلينا قصتان منها منذ أشهر أضعناإحداهما واستعار الأخرى أحد أصدقائنا ولم يُعدها فكتبنا هذه الكلمة لئلا يتوهم المُهدي أننا أغفلنا تقريظهما إجحافًا بحقه.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (ألقاب التعظيم) سَرَتْ إلى الكتابة العربية وإلى أهل العربية عادةٌ من عادات الأعاجم المفضولة، وهي إضافة ألقاب التعظيم والتبجيل إلى أسماء الأشخاص عند ذكرهم في القول والكتابة. ولقد أسرف الناس في هذه الألقاب حتى ألحقوا بها المفضول بالفاضل، وساووا العالم بالجاهل، وإننا كنا نألم لاتباع عادة الجرائد في ذلك على تحرّينا القصد فيها، ونرى النفس تنزع إلى اتباع سلفنا فيه، ولكننا نرجئ ذلك حتى كان في هذا الجزء أن كتبنا نبذة من رسالة الكسائي، وذكرنا في ترجمتها اسم طابعها واسم المهداة إليه مقرونين بألقاب التعظيم المألوفة، ثم لم نلبث أن نقلنا اسم الكسائي وهو من أئمة العلم وهارون الرشيد وهو من أعظم الخلفاء بعد الراشدين ولم نرهما مقرونين بلقب. فتنبهت النفس إلى ما كانت تنزع إليه وأمرت بترميج تلك الألقاب التي كانت كتبت فرُمِّجَتْ. ونحن بعد اليوم لا نذكر مع اسم أحد إلا اللقب الذي يميزه في نفسه أو صنفه، كالشيخ والبك والأفندي. ومن كان غير معروف للقراء نعرّفه بجملة خبرية لا بألقاب مفردة ينعت به نعتًا وتنظم مع اسمه عقدًا. ويدخل في هذه القاعدة أساتذتنا وأمراؤنا. فإذا نقلنا قولاً عن أستاذنا الأكبر (ولفظ الأكبر هنا بيان للواقع) نقول: قال الشيخ محمد عبده أو مفتي الديار المصرية. وإذا كان الكلام عن الجمعية الخيرية نقول: قال رئيس الجمعية. ولكننا إذا أسندنا إليه قولاً من غير ذكر اسمه فإننا نشير إليه بلقبه الذي اشتهر وهو (الأستاذ الإمام) ، وإنما سبق لنا تعريفه بلقبين لأن لفظ (الأستاذ) وحده ينصرف في كتب الكلام والأصول إلى الشيخ أبي إسحق الإسفرايني ولفظ (الإمام) وحده ينصرف إلى فخر الدين الرازي، ولفظ (الشيخ الإمام) أطلقه تاج الدين السبكي في كتبه على والده الشيخ تقي الدين. فعندما استقر رَأْيُنَا على أن نجعل لأستاذنا الذي يكثر نقلنا عنه لقبًا مختصرًا يغني عن ذكر اسمه ووظيفته اخترنا هاتين الكلمتين لأنه لم يشتهر بهما أحد. وقد عرف ذلك قراء المنار في جميع الأقطار لذلك نقره بشرطه. *** (كلمة في المنار) قد كتبنا مرات متعددة على غلاف المنار بأنه لا حقّ للمشترك أن يطلب جزءًا من المنار لم يصل إليه بعد صدور ما بعده. ثم رأينا بعضهم يحتج بأنه إذا تأخر جزء يتوهم أنه لم يصدر فلا يعرف أنه قد صدر إلا بعد وصول ما بعده إليه. لذلك رأينا أن نمدّ في الوقت فنجعله عشرين يومًا في القطر المصري. فمن طلب الجزء الذي يصدر في أول الشهر مثلاً في الحادي والعشرين منه فما بعده فعليه أن يرسل ثمنه 25 مليمًا سواء كان قد صدر الجزء الذي بعده أم لا. ومن وصل إليه الجزء فأضاعه أو وهبه فلا يجوز له أن يطلب بدله إلا بالثمن. وربما يعدّ بعض القراء هذا تشديدًا في موضع التساهل، ولكنه إذا علم أن الطالبين للأجزاء المفقودة كثيرون جدًّا، وأن كل جزء نرسله يُضيّع علينا مجموعة سنة كاملة فإنه يعذرنا لا محالة. *** (سكة الحديد الحجازية) أخبرنا من شاهد العمل في هذه السكة واختبره بنفسه أن الهمة المبذولة فيه عظيمة، وأن الآلات والأدوات الحديدية والخشبية التي في بيروت والشام كافية لإيصال الخط إلى مكة المكرمة، وأن مهندسًا ألمانيًّا هناك قال: إن هذا الخط أمتن وأحسن من خطوط الحديد في إنكلترا، ومع هذا كله، لا بد لإتمام العمل من أربعة ملايين جنيه. وهو مبلغ لا يرجى له إلا سخاء صاحب المشروع الذي يخلّد له بتمامه على يديه أشرف الذكر وهو مولانا السلطان، وفقه الله تعالى لما فيه خير الأمة والدولة. ومما ينتقده جميع الذين شاهدوا العمل أمر التضييق على العسكر المشتغلين به، فإنهم لا يجدون ما يكفيهم من الغذاء والدواء وهم يعملون بجلد وثبات حيّر المهندسين الأوربيين والوافدين المتفرجين، وقد علمنا أن الرئيس الذي يدير العمل من خير الناس فعسى أن يوفق للمحافظة على صحة أولئك الجنود المساكين. *** (الأذان السلطاني) بلغنا أن شيخ الجامع الأزهر أنكر في جامع القلعة هذا الأذان في الليلة السابعة والعشرين من رجب التي احتفل فيها بقراءة قصة المعراج، وكاشف بإنكاره مفتي الديار واتفقا على النهي عنه فَنَهَيَا فعسى أن يؤثر إرشادهما في محو هذه البدعة السيئة. *** (نصيحة للقارئات ومن يسمع من الأميات) إن من خلائق الأنثى وسجاياها ما هو عون للسفهاء على إغوائها وهو أنها تحب دائمًا أن تكون موضع الإعجاب والاستحسان. ولذلك يتملق إليها المبصبصون ويخادعونها بالمدح (والغواني يغرهن الثناء) حتى يستميلوها إليهم ويهينوا شرفها بالمغازلة على الأقل. ومن الضعف في الأنثى أن تعتقد أن كل من رمى ببصره إليها يكون مستحسنًا لها. ناهيك بصاحب التحديق ونظر الترنيق وهو نظر العاشق المستهترعادة والمبصبص المتعلق اختلابًا وخداعًا فإنه يغر الفتاة الغرَّ ويقع من قلبها موقع السهم الذي سقي بالسم، وقد ورد في الحديث: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها خوفًا من الله آتاه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه) رواه الحاكم وصحح إسناده. بلغ النساء عندنا من الغرور بتطلّع السفهاء إليهن أنك تجد نساءنا يتلفتن في الأسواق ماشيات. وينحنين وهن في المركبات، وقد يكنّ مع هذا من المحصنات النزيهات، وإن هو إلا حب توجيه الأنظار، وإعجاب النظار، وترى نساء الإفرنج يمشين قاصرات الطرف، مستقيمات العطف، تحسبهن في أدبهن الظاهر من الملائكة المقربين، وإن كان فيهن من هن أغوى من الشياطين، وما ذلك إلا لأنهن تربين على أدب الاجتماع، وتعلمن ما يبعد بهن عن سرعة الانخداع، وإن الظهور في المنكر ليزيد في ضرره لما فيه من إغواء الناس وتسهيل سبله على من لا يعرفه، ولذلك ورد في الشرع أن المعصية الصغيرة تكون كبيرة بالمجاهرة، وترى القوانين الوضعية عند الأمم كلها تحظر الجهر بما ينافي الآداب حتى ما تبيحه منه في السر. السبب في هذا التبرّج والتغنج، والتشوف والتقصف، والانثناء والانحناء، الذي يزيد في فساد السفهاء، هو حبُّ الأنثى لأن تكون زينة في الأعين وشغلاً للقلوب، وإنها لتكون كذلك في جميع الأعين وجميع القلوب إذا ظهرت بمظهر الكمال والصيانة ولم تلتفت لكلاب المبصبصين ولم تكلمهن إذا تعرضوا لمكالمتها فإن هذه الأماديح التي تسمعها منهم تنقلب إلى ضدها بعد أن تبعد عنهم فلا تسمع ما يقولون، فإن سفهاء الناس وغوغاءهم لا يزالون يعرفون قيمة الفضيلة ويحترمون أهلها. هذا اللين في العطف والخضوع في القول قد أطمعا أصحاب القلوب المريضة في كل امرأة تمر في الطريق فلا تكاد تسلم من سفههم أو عبثهم امرأة، ولا يعهد مثل هذا المنكر في مدينة ولا قرية مثلما يوجد في هذه البلدة الظالم أهلها. وإنا لنعجب من ضعف غيرة الرجال التي أباحت لهم التساهل مع نسائهم حتى أباحوا لهن كل هذا، إننا ليسوءنا جدًّا أن نرى البنات ينشأن على مثال أمهاتهن وعماتهن في هذا اللين المذموم، لا فرق بين المتعلمات منهن والجاهلات. وإننا ليحزننا أن نرى التلامذة الذين هم محل الرجاء، مستنين بسنة أولئك السفهاء، حتى إنك لا تكاد تجد فرقًا بين من نشأ في المدارس ومن نشأ في الطرق والشوارع. رأيت من أيامٍ تلميذًا يمشي مع إخوانه في السوق خارجين من المدرسة فمر بامرأة فوضع يده على وجهها وعبث ببرقعها ولم أر مثل هذه الوقاحة من غوغاء الحشاشين، فهل يغر البناتَ تَطَلُّعُ أمثال هذا التلميذ إليهن وتصديه لإغوائهن؟ وهل كان مغرمًا بتلك المرأة التي عبث ببرقعها؟ أفكان الغرام هو الحامل له على إهانتها في السوق؟ وهل مثل هذا الغرام - إذا فُرِضَ - مما يرغب فيه. إنَّ ما تقدم من القول هو مقدمات النصيحة التي أقدمها للقارئات؛ والنتيجة المقصودة هي أن الإنسان يؤخذ دائمًا من جهة ضعفه، ومن الضعف في الأنثى الانخداعُ لمن يظهر لها الحب والاستحسان. وأن الرجال دائمًا يخادعون النساء حتى إن أحدهم ليثبت على التظاهر بالحب زمنًا طويلاً ليُصدّق. فيجب على الفتاة المتعلمة أن لا تصدق أحدًا من هؤلاء الشبان الذين يظهرون لها الحب والغرام فإن أحدهم ليخاتل كل فتاة يراها يمثل هذه المخاتلة. ولو كان صادقًا فيما يظهر من الإعجاب بمحاسنها والرغبة في الاقتران بها، وكان أهلاً لذلك لكان يغار عليها من نفسه ومن غيره، فلا يعاملها بهذه المعاملة من البصبصة والمغازلة، ولكنه يزيد على هذه الإهانة التي تكون منه في كل طريق، بأن يحدّث بها كل صديق ورفيق. *** (الحسود المعمّم) كتب ذو عمامة إلى صاحب الجامعة يغريه بالطعن في صاحب مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) لأن صاحب العمامة حسد صاحب هذه المقالات على ما أوتيه من سعة العلم وقوة التأثير وعلوّ المكانة فحاول أن يطفئ نار حسده بذَنُوب من ذنوب ذلك الطعن الذي أمر به ولكن صاحب الجامعة أعقل من صاحب العمامة، وأعلم منه بقيمة تلك المقالات. وإن أنكر من فاتحتها ما عرف حكمته في أثنائها وخاتمتها، وإنه ليعلم أن مثل صاحب العمامة معه كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر، إلخ. فهو لا يراه إلا بعين النقص ولا يعتقد فيه إلا ما يليق به في رقة عقله ودينه، ولا يرضى لنفسه أن يكون مع صاحب العمامة كما كان صاحب الحمارة، على أن الطعن في مثل هذه الحال على مثل ذلك المقال، لا يزيد المطعون فيه إلا احترامًا وإجلالاً. ولكنه يسلّي الحسود لأن عقله صغير، وفكره قصير. *** (مفكرة مطبعة الموسوعات) اخترع الإفرنج هذه الدفاتر التي يسمونها المفكرة أو المذكرة لأصحاب الأشغال الكثيرة من الحكام والتجار والمحامين. ولما رأت مطبعة الموسوعات أن المصريين يشترون هذه الدفاتر الإفرنجية ويتعبون في كتابة التاريخ في كل صفحة منها بالعربية أصدرت في هذه الأيام (مفكرة) عربية لسنة 1903 وضمّت التاريخ الهجري في كل صفحة منها إلى التاريخ المسيحي، رجعت في آخرها جداول لتحويل النقود فجاءت خيرًا من المفكرات الإفرنجية. وجعلت ثمن النسخة 12 قرشًا ونصفًا صحيحًا فهي أرخص من المفكرات الإفرنجية وتطلب من المطبعة، والمنتظر أن تصادف رواجًا عظيمًا.

المستقبل للإسلام

الكاتب: محمد توفيق البكري

_ المستقبل للإسلام بقلم صاحب السماحة السيد الشيخ محمد توفيق البكري شيخ مشايخ الصوفية [1] (الفصل الأول في رأس مال الإسلام) (المكان والسكان) إن مستقبل الأمم يتوقف في الحقيقة على أمرين طبيعيين هما كثرة السكان وخصب المكان، فإذا استوفت الأمة حظها من هذين الأمرين عظم مستقبلها بقدر ذلك مهما حرمت في الحال من الأسباب الأخرى الكسبية كالعلم والأخلاق والقوانين والحكومة وغير ذلك، فإن هذه جميعها يأتي بها دور الزمان وإن أخرتها آونة طوارق الحدثان، ولذلك قال (مونتورو) و (تين) وغيرهما: إن مستقبل الصين أكبر من مستقبل أية دولة أخرى، ومَن شَاهد رُقِيَّ اليابان وما كانت عليه الروسيا منذ ثلاثة قرون، وما هي عليه الآن من ضخامة السلطان لا يشك في صواب ذلك القول المتقدم. وقد أشار ابن خلدون إلى شيء من هذا حيث قال: إن اتساع نطاق الدولة يكون بقدر اتساع عصبيتها في الأصل. وقال الشاعر: (وإنما العزة للكاثر) . فإذا تقرر ذلك علمنا أن مستقبل الإسلام كبير، وشأنه خطير. فإن حظه من هذين الأمرين وافر، وقسطه متكاثر، وإليك البيان. إذا تأمل المسلم في مصوّر الجغرافية يجد ثلاثة عوالم قد تقسمت الأرض وهي: العالم الإسلامي في الوسط، والعالم المسيحي عن يساره، والعالم الوثني عن يمينه على هيئة قلب وجناحين. ويرى أن قسط العالم الإسلامي من هذا الاقتسام عظيم، ونصيبه جسيم، فهو يمتد في فسحة من الأرض بدؤها بحر الأطلنطيق، ونهايتها رسيف الباسيفيك آخذة من حواشي سيبريا شمالاً إلى جزر المحيط جنوبًا، أقاليم متصلة، وأقطار غير منفصلة، وأمصار متتاخمة، وأخياف متلاحمة، وبين ذلك قصور وخيام، ودور وآطام، ووبر ومدر، وبدو وحضر، بقاعٌ هي أطيب المعمور رقعة، وأمرعه نجعة، فيها النيل والفرات، وسيحون وجيحون، فيها أوداء مصر، وسهول الهند وميطان الصين وسواد العراقين، وبطاح الأناضول وجبالها، وريف فارس ورمالها، فيها مرقد النبي العربي الهاشمي، ووطن المسيح ابن مريم، ومبعث موسى الكليم، ومهبط الوحي على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من هواء طلق، وماء عذب، وجوٍّ صحو، حسنات وراء حسنات، تقصر دونها الأمصار، وتموت حسرة عليها الأقطار، ذهب بعض مجوس الهند إلى لوندرة فقال له بعض أهلها: كيف أنتم تعبدون الشمس. فقال المجوس: وأنتم لو رأيتموها لعبدتموها. ثم إن هذه السعة في الأرض والبسطة في الخصب التي رزقها العالم الإٍسلامي أصل كبير في نموّ أفراده وحسن حالهم إذ ارتباط المكان بالمكين في السعادة والشقاء والقلة والكثرة أمر مقرَّرٌ في علم الاجتماع الإنساني. قال (لوبون) : ما دامت الأرض القابلة للزراعة كافية للسكان يتأتّى لهؤلاء أن يزيدوا عدًّا فيكثرون وينمون بالفعل فإن تعادلت موارد الأرض وعدد السكان بقي هؤلاء على حالتهم لا يزيدون ولا ينقصون، فإن زاد عديدهم عن موارد الأرض وقعوا في إفرة الشدائد والضيق وتواترت عليهم المصائب والأزمات إلى أن تأتي حروب جارفة أو أوبئة قاشرة فتعدل الكفتين. هذه حقائق بسيطة ومع ذلك قد تغيب من أفهام كبار الخواص وأشهر الكتاب فلا يفتأون يطلبون كل يوم زيادة السكان بأية وسيلة كانت بلا مراعاة لما تقدم وقد وقع في مثل هذا الخطأ (جول سيمون) وزير معارف فرنسا السابق على سعة علمه حيث قال في خطاب ألقاه على مجمع المعارف سنة 1868: (إن من يمكنه أن يزيد سكان) فرنسا مليونًا من النفوس يفيدها أكثر مّمن يزيد حدودها بعض فراسخ من الأرض بواسطة الحرب والدم بألف ضعف، وهذا كلام يخلو من الصواب؛ لأن من يزيد مساحة فرنسا يكثر مواردها فيجعل الزيادة في السكان محتمة. ومن شك في هذه الحقيقة أحلناه على قول أستاذ لا يشق له غبار في هذا المضمار وهو (يبليج) الشهير قال: (قد اقتضت الحال زيادة السكان في بلدان أوربا زيادة كثيرة غير طبيعية حتى اختلت النسبة بين عديدهم وبين غلاّت تلك البلاد، فلا يمضي غير حقبة من الزمن حتى تعجز الأرض عما يفي بحاجاتهم مهما أنهكوا قواها يختلف الأسمدة، وعندها لا يحتاج إلى نظريات علمية أو قياسات فنية لإيضَاح الناموس الطبيعي الذي يأمر الإنسان بأن لا يغفل عن المحافظة على أبواب رزقه ويعاقبه العقاب الأليم عند مخالفة ذلك. ولا يكون ثمة للأمم الأوربية من حيلة ولا مخلص إلا أن تتفانى لتبقى فترى إذن أمثال مجاعات سنة 1316 وسنة 1317 وحروب بعد ذلك تليها حتى يحمل الأمهات جيف القتلى لإطعام أطفالهم كما وقع ذلك في (حروب الثلاثين سنة) المعروفة، فكل ذي دُرية ورويّة دَقَّقَ النظر في أمر ممالك أوربا ومستقبلها يجدها غير قائمة على أسس متينة بل على أسنة الإبر) . اهـ هذا، وربما ذهب بعض العرافين إلى أن طبيعة أرض الشرق مفسدة للهمم، مقعدة للأمم، في تكون إذن هذه الأرضون من النعم بل من النقم، وهذا رأي تفنده الأقيسة الصحيحة، والآراء النافذة، قال (فوليتر) في دحضه ما نصه: (نسأل من يذهب إلى أن طبيعة الأجواء يتوقف عليها حالة الأمة وأخلاقها لما قال الإمبراطور (جوليان) : إن الذي أعجبه من أهل باريس هو متانة أخلاقهم وأخذهم بالجد والصلابة والسكون في طباعهم. وها هي أجواء باريس كما هي وأهلها فيها الآن أخف أحلامًا وطباعًا من فراشة. أطفال في زيّ رجال، وصغار وإن كانوا كبارًا، وهؤلاء المصريون الذين يصفهم لنا المؤرخون بقوة العزائم ومتانة الطباع وعظم الفتوح أصبحوا الآن أمة رخوة ضعيفة العزائم، طعمة لكل آكل، ولِمَ لا يوجد الآن في أثينا مثل (أناقريون) و (أرستطاليس) و (زوقسيس) ، ولِمَ استعاضت روما عن (شيشيرون) وعن (قاطون) وعن (تتليف) قومًا بها لا يحسنون أن يقولوا ولا أن يعملوا. أعظم أمانيهم ينحصر في أن يكون الزيت رخيص الثمن لديهم. وقد كان من عادة (شيشيرون) الخطيب الروماني أن يهزأ بالإنكليز ويتنادر عليهم حتى إنه كتب مرة في رسالة لأخيه (أقانتوس) الذي كان ضابطًا مع قيصر في غزوته التي غزاها بإنكلترا يسأله مستهزءًا إن كان وجد ثمة فلاسفة كبارًا أو رياضيين عظامًا. فهلا علم (شيشيرون) أنه نشأ بعده فيها أعظم فلاسفة العالم ورياضيه تحت تلك السماء المظلمة بعينها. هذه كلها أمثلة تدل أن ليس للإقليم أثر يذكر في ارتفاع الأمم وانخفاضها، بل العوامل الأخرى مثل الحكومة أو الدين تفعل في ذلك أكثر منها بمائة ضعف. كأن الله سبحانه وسعدانه، أراد أن لا تنزع هذه البلاد الجميلة من أيدي المسلمين إذا أعجزهم الضعف يومًا ما عن صونها حتى يئوبوا إلى القدرة على حفظها فجعلها شبه وقف عليهم، وذلك أن جعل وسطها الطبيعي غير صالح؛ لأن تعيش فيه الأمم المتغلبة الآن وهي الأمم الأوربية، ولبيان هذا نقول: قد تقرر في الطبيعيات أن الحيوان أو النبات أو الإنسان إذا نشأ في وسط طبيعي لا يعيش في وسط آخر غير مماثل له، وأقيم على ذلك هناك البرهان. وعندهم أنه كما لا يمكن للسمك أن يعيش في البيداء، ولا للناقة أن تدوم في الماء، ولا للنخلة أن تنبت بين صخور الجليد، لا يمكن للإنكليزي أن يستوطن الهند، ولا لابن للألمان، أن ينبت في السودان، قال (لوبون) في كتاب الفسيولوجي: (ذكر بعض المؤلفين أن الإنسان يمتاز عن الحيوان بكونه يعيش في كل جوّ وعلى كل أرض. وهذا خطأ عظيم، ووهم كبير، فقد أثبت التاريخ مرارًا أن أهل الشمال لا يمكنهم العيش في أرض الجنوب. انظر إلى البربر من أهل الشمال وبلاد الجليد الذين فتحوا أرض الرومان وسكنوا أقاليمها الحارة كيف لم يمضِ قرن واحد حتى أفناهم الموت وأتى عليهم الفناء فلم يبق من الغوطيين واحد في إيطاليا، وهذه مصر حكمتها عشرون أمة فأكلتهم وبقي الفلاح المصري كما هو على أرضه. وكذلك عجز الرومان عن أن يستوطنوا أفريقية مع أنهم استوطنوا أسبانيا وأرض الجول حتى جعلوهما بلادًا لاتينية بحتة. ولا ريب أننا سنلاقي في الجزائر ما لاقاه فيها الرومان في سابق الزمان، فتهلك هذه الأرض ذراري فاتحيها ما لم يفعلوا كما يفعل الإنكليز في الهند من إرسال أبنائهم ليتربوا في أوربا. وبالجملة: إن الإنسان إذا اختلف وسطه الطبيعي هلك وخصوصًا إذا جاء من الشمال إلى الجنوب) . اهـ جميع ما تقدم متعلق بالمكان أي مواطن الإسلام وبلاده. أما السكان وهم الأمم المسلمة فحدث ولله الحمد عن حصى البطحاء، ورمال الدهناء، أو نجوم السماء، كثرة آحاد، ووفرة أعداد، فَمِن هؤلاء في أفريقية ما ترى: 9000000 في مُراكش 4500000 في الجزائر 1500000 في تونس 1400000 في طرابلس 10000000 في مصر 6000000 في السودان المصري 4000000 في الصحراء الكبرى 13000000 في السودان الذي تحت حماية فرنسا 9000000 في السودان الذي تحت حماية إنكلترا وفي النيجر 5000000 في السودان الأوسط كواداي وباجرمي ونحوهما 1500000 في الكونغو 4000000 في توبو وقامرون 3000000 في الأوغندة 3500000 في الأريطرا والحبشة 30000000 في موزمبيق ومدغشقر والكاب والزنجبار وأوبوك وأفريقيا الوسطى 105400000 مجموع ما في أفريقيا وفي أوربا ما ترى: 2500000 في تركية أوربا 700000 في البوسنة والهرسك 1000000 في البلغار والرومللي الشرقي 60000 في رومانيا

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقاريظ من باب الآثار الأدبية (اللؤلؤ النظيم في رَوْم التعلم والتعليم) كتيّب لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926 ذكر فيه شروط الاشتغال بالعلم وآفاته. ثم ذكر العلوم المعروفة في العربية وتعريفاتها. أما ما ذكره من الشروط والآفات فهو حسن جدًّا. ويا ليت أهل الأزهر يتدبرون قوله ويسيرون على منهجه كما يقرأون منهجه في الفقه وغيره من كتبه. فقد ذكر من الشروط أن يقصد كل طالب بالعلم الذي يميل إليه طبعه؛ لأن كلاًّ ميسَّرٌ لما خلق له، وهم لا يراعون هذا. وذكر منها اختيار الكتب الجيّدة، وهم قد التزموا كتبًا مفضولة لا حجة لهم على اختيارها إلا تقليد الآخر لمن سبقه في ذلك. وذكر منها أن لا يدخل علمًا في آخر، وهذه الحواشي التي التزموها قد امتزجت فيها العلوم امتزاجًا، فصارت أخلاطًا وأمشاجًا. وأما ما ذكره في تعريفات العلوم وفوائدها فقد جرى فيه على المعروف عند أهل عصره في الغالب وفيه خطأ وقصور من أغرب ذلك قوله في الكيمياء: (علم بأصول يعرف بها معدن الذهب والفضة) وقوله: (علم الهيئة علم يعرف به الأجرام البسيطة من حيث كمياتها وكيفياتها وأوضاعها وحركاتها اللازمة لها) . * * * (تعريف اصطلاحات علم الأصول) رسالة أو مقدمة للشيخ زكريا الأنصاري أيضًا ينبغي لمن يبتدئ بتعلم الأصول الاطلاع عليها، فإنها تؤنسه بتلك الاصطلاحات على ما فيها من خطأ وقصور، ومن غريب ذلك قوله في تعريف المعدوم: (ضد الموجود) مع قوله عقيبه: (الضدان أمران وجوديان يستحيل اجتماعهما في محل واحد) وهذا يفيد أن المعدوم من الأمور الوجودية! ! ومنه قوله: (الذاتي ما يستحيل فهم ذاته قبل فهمه) ومنه تعريفه العدل والعدالة بالاعتدال والثبات على الحق. وإنما نبهت على هذه الأغلاط لألفت طلاب الأزهر إلى عدم التسليم بكل ما قال الشيوخ المؤلفون؛ لأنهم ألفوا وماتوا. هذا وقد طبع الرسالتان أو المقالتان أو الكتيبان الشيخ أحمد عمر المحمصاني الأزهري وجعل لهما مقدمة وخاتمة فكان جميع ذلك 36 صفحة صغيرة ولكن الثمن أصغر من ذلك فهو نصف قرش صحيح. * * * (المعلقات السبع) هي أشهر من أن ينوَّه بها، فما من مشتغل بالعلم إلا وهو يعلم أنها أبلغ ما يؤثر عن العرب في الجاهلية، وأنها يحتاج إليها في اكتساب ملكة فصاحة اللسان وذوق اللغة، ولكن نسخها التي في الأيدي غير موثوق بضبطها وصحتها؛ لذلك انبرى الشيخ أحمد عمر المحمصاني إلى تصحيحها وضبطها على الشيخ محمد محمود الشنقيطي، وهو كما يعلم القراء إمام اللغة في هذا العصر وقد طبع النسخة المصححة مضبوطة بالشكل، وذكر في هامشها اختلاف الروايات وأضاف إليها القصيدة المعروفة بلامية العرب مضبوطة مثلها، وجعل ثمن النسخة من الورق الأبيض الناعم قرشين صحيحين والنسخة من الورق النباتي قرشًا ونصفًا، فَنَحُثُّ كل مشتغل بالعربية على حفظها بهذا الضبط والتصحيح. ويا حبذا لو كان أضيف إلى ذكر الروايات تفسير الغريب. * * * (سفينة النجاة في قواعد النحاة) اسم لكتاب تعليمي مؤلف من أجزاء طبع الثالث منها أخيرًا طبعًا حسنًا مضبوطًا بالشكل على ورق حسن، وهو أوسع من كتاب النحو الرابع الذي يقرأ في المدارس الأميرية أو مثله لكنه أكثر تمرينًا فهو خير كتاب رأيت في تسهيل تعليم النحو. ومما رأيته منتقدًا فيه ذكر جمل فاسدة في التمرينات لأجل إصلاح التلامذة لها وعندي أن هذا مما يترك للمعلمين ولا يكتب في الكتب. والخطب سهل، ومنه ذكر بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والحكم المأثورة مع تصرف فيها بالزيادة والنقصان، أو التبديل والتغيير والمعنى صحيح، ولعل المؤلف يعتذر بأن هذا من قبيل الاقتباس الذي اعتادوا التصرف فيه بالمأثور، وهو عذر يقال وإنما انتقدت؛ لأن القارئ يقع في الوهم من ذلك السرد الذي ليس مظنة للاقتباس إذ لم يعتد في مثل هذا المقام، أما مؤلف الكتاب فهو أحد (الفرير) وقد أشار إلى اسمه بهذه الإشارة (ح. ط.) وأتبعها بهذه العبارة (مفتش اللغة العربية في أحد المدارس الكبرى بالقاهرة) . * * * (المنار وجريدة (تربيت) الفارسية) جاء في جريدة تربيت الفارسية التي تصدر في طهران تحت عنوان (مجلة المنار) ما ترجمته: إنَّ العلوم والمعارف في هذا العصر قد بنيت في عمدة أقسام الدنيا كما ينبغي أن تبنى، وأحكمت كما يجب أن تحكم، ولم يبق إلا القليل من الأمكنة التي يعيش أهلها بالأوهام الباطلة، والخيالات الواهية، جاعلين عنان اختيارهم بأيدي أهواءٍ مختلفة ورياح متناوحة، يسلكون المناهج المظلمة عميًا لا يبصرون. إن معارف الفلاسفة الأقدمين وأفكار العلماء العرفاء من أهل الفروق المتوسطة قد أصبحت مفاتح لحكماء هذا العصر الجديد حتى سهل لهم بها تذليل الأقفال الصعبة، وفتح الأبواب الموصدة، وأصبح عمر الإنسان القصير من جراء هذه الاكتشافات يعد بالألوف من السنين. والعالم يفهم أن بمعنى العيش وحقيقة الحياة هو العلم، ومن فوائد العلم القدرة على العمل، ومن لا علم له لا قدرة له. والأشياء التي يرومها الجاهل في عمره ويرجو أن يدفع بها آلامه وأوجاعه هي التي تولد الأمراض وتضاعف الأوجاع. فحكمها حكم الخمرة التي يشربها الشارب في جنح الليل لصدع همومه فيحدث في صباحه ما يكثر همومه من الصداع والكسل، قال أحد عبدة الخمر: إني لم أشرب في عمري غير جام واحد لترويح النفس، وكل ما شربته بعده فإنما كان لدفع ما أورثته تلك الكأس من الخمول والخمود. لا نبعد، فالغرض هو العلم إذ به أصبحت أكثر الممالك في هذا العصر جنات دانية الجنى، وقد تسلسلت أنهار الفضل ببعضها، وصيرت السراب بحرًا متدفق الجوانب بالأمواه العذبة. وأحد تلك البحور الزاخرة التي ليس لها ساحل هو وادي النيل وكرسي الفراعنة الذي صار حقيقًا بأن يدعى في عصرنا هذا بعرش الحكمة، وأي دليل على ما نقوله أقوى من وجود منبع الفضل العلامة الأوحد مولانا الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية _ متعنا الله بطول حياته - في الجامع الأزهر في القاهرة. (الجامع الأزهر هو مدرسة تحتوي على آلاف من الطلبة مشغولين فيه بتحصيل العلوم) ، وقبل هذا كثيرًا ما تكلمنا عن الجرائد والمجلات المصرية، وإننا نكرر الحديث فيها حتى لا نكون مدينين بشيء لشرح هذا المطلب المهم، ولا يفوتنا مستحب مؤكد بل فريضة لازمة. في هذا الأسبوع وردت على إداره التربية (مجلة المنار) ففاز رواد المعارف الذين هم في حوزتنا الصغيرة من مطالعة تلك المجلة بأكبر المنافع، وبها عرفنا منزلة صاحبها سيد الفضلاء الأستاذ الألمعي السيد محمد رشيد رضا ومقدار ما عليه حضرته من الفضل والأدب. أقول: لم يبق في هذا العصر للأمة المصرية شيء يمنعها من بلوغ مقاصدها السامية فإن أسباب الكمال مجموعة لديها فكاتبها مثل السيد ومحررو أخبارها من ذكرنا قبلُ ومرشدها فيلسوف مثل فضيلة الشيخ الأجل محمد عبده (شكر الله مساعيه) ، ودار كتبها الشهيرة (الكتبخانه الخديوية) لا يحيط بها الوصف. فإذا لم يصل أولئك القوم إلى أقصى درجات العلم والحكمة فلا أدري من أي جهة يكون التقصير، وما هو السبب فيه؟ المنار مجلة علمية أدبية تهذيبية ملية وفيها أخبار متنوعة تصدر في غرة كل شهر وفي السادس عشر منه هي جنس يجب أن يُشْرى بالروح. ومن زينة الحياة الدنيا أن هذه المجلة الواحدة تكفي وتغني. إن ما يسطر فيها يمزج بماء الحياة ويشرب فهو ينقذ من مخالب الاستسقاء المهلك، ويحي الروح وينجي من الموت ولم يؤلف كتابًا ولا رسالة أحسن من مجلة المنار؛ لأجل الوصول إلى الحقيقة ومزايا الإسلام، ولو أن ابن خلدون الحضرمي كان حيًّا لعلم ما أقوله وأثبته. في كل مقالة من هذه المجلة الغراء أثر من طيب ريحانة الفاضل الخبير، والنحرير الذي ليس له نظير، رئيس معلمي قاموس كل علم، علم الأعلام، سند الإسلام، فضيلة الشيخ محمد عبده - دام علاه - الذي هو كمال المشرق والمغرب وجمالهما. وإذا راقت الآراء المعدودة من حكمائنا في أعين العرفاء من الإفرنج فأول تلك الآراء هي تصورات ذاك المولى الكبير - أعني الشيخ محمد عبده جعل الله إلى أعلى المقامات منتهاه، وإلى أعظم البحور طريقه. ومن هذه الجملة استنبط حسن حظ المصريين الذين هم إخواننا المسلمون، واعلم أن شكر هذه النعمة من الواجب، وبعد الأسف الكثير على حال المسجونين في ظلام الجهل أقول: بخ بخ لمصر التي منحت فوق دار الكتب ودار الآثار والعاديات والمدارس كنوز معارف من المجلات المضيئة المفيدة، وما أطيب زمن طلاب جامع الأزهر إذ يحكمون مباني عقولهم وأفهامهم، وينورون ساحات قلوبهم وأبصارهم بسماع حكمة تلك الكلمات والآيات وجواهر أحاديث الفيلسوف الأعلم، الجناب المستطاب المعظم، الشيخ محمد عبده سلمه الله تعالى. يحسن من أهل بلادنا أيضًا أن يطلبوا مقدارًا من هذه المجلة، ويسرحوا النظر فيها، وإذا نشأ عن ذلك خطايا فخطاياه في عنقي. طالت حياة شيخنا الأجلّ الشيخ محمد عبده إذ فيها خير المسلمين، وإن شاء الله سنزين أوراق التربية بشرح ذاك مع الفوائد العظيمة من مجلة المنار. *** (المنار) لقد سبق أن قرظ المنار من علماء الأقطار وفي خير الجرائد والمجلات العلمية في مصر وغيرها، ولم نقل من ذلك شيئًا لأننا نرى أن ناقل مدحه كمادح نفسه بنفسه، ولكننا عنينا بتعريب ما كتب في هذه الجريدة (تربيت) ونشرناه لا لأن صاحب الجريدة من أكابر العلماء والفضلاء، وخيرة الكتاب البلغاء. ولا لأن الجريدة لها المكانة العالية في نفوس كبراء الفرس وفضلائهم كما أخبرنا بذلك صديقنا مِيرزا مهدي بك صاحب جريدة (حكمت) الغراء بل لأن صاحبها على مذهب الشيعة، فأحببنا أن يعرف قراء المنار من أهل السنة أن من فضل الله تعالى على الإسلام والمسلمين أن نزع من قلوبهم في هذا العصر تلك العصبات والتحزبات التي خضدت بها من قبل شوكتهم، وفرقت كلمتهم، فذهبت ريحهم، وخبت مصابيحهم، تقشعت الظلمات وانجلت الغياهب عن فضلاء الأمة فأبصروا أن مصلحتهم واحدة لأن جامعتهم واحدة وهي جامعة الدين الحق الذي جعلهم إخوانًا. صار المسلم في فارس يفرح لأخيه المسلم في مصر إذا أحسن عملاً ويحزن لأخيه في مُرّاكش إذا أساء صنعًا، وكذلك حال المصري يبتهج بما يسمع من حسن حال إخوانه في إيران. ويستاء إذا هضمت حقوقهم في بلوجستان، إلا ما يلغط به بعض الأحداث، وإن لم يصادف أقل اكتراث، فلا وطنية ولا عصبية في هذه الديانة الإسلامية، وعلى كل حال يجب أن نشكر لأخينا صاحب جريدة (تربيت) حسن ظنه بنا وبالمنار على ضعفنا وتقصيرنا. أما ما قاله في الأستاذ الإمام، فهو الذي اتفق عليه ذوو الأفهام، ولكن الشرط في حصول المراد، هو كمال الاستعداد.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مدرسة الشوربجي في كفر الزيات) الناس معادن والاستعداد للخير يظهر أحيانًا في أفراد لا يهتدي أحد من الناس إلى السر في ظهوره فيهم؛ لأنهم لم يمتازوا في تربيتهم امتيازًا يرفعهم عن قومهم فيسند إلى تلك التربية ما يندفعون إلى القيام به في الأعمال النافعة والمشروعات العامة. وإنما بتعلل علماء النفس والأخلاق في التعليل بأن ذلك الاستعداد جاء من الوراثة لأحد الأجداد السابقين وَفَاتَهُم أن لله في بعض البشر عناية أزلية، وفي بعض القلوب إلهامات خفية، وليس هذا وذاك من الشذوذ عن النواميس الفطرية ولكنه غير معروف بالتحقيق والتعليل الصحيح عند علماء النفس. مصطفى بك الشوربجي تربى في الحقول والمزارع لا في المكاتب والمدارس، وهو لا يقرأ الكتب والجرائد التي تُرغّب في إنشاء المدارس والمستشفيات، وقد وفق من سنين إلى إنشاء مستشفى ومدرسة للبنين والبنات في بلده (بمديرية البحيرة) وأوقف عليهما من الأرض ما يفي ريعه بنفقتهما ثم إنه لما صار يتردد إلى بلدة كفر الزيات (بمديرية الغربية) لمعاهدة أراض اشتراها فيها ورأى أنه ليس فيها مدرسة للمسلمين شرع في بناء مدرسة للبنين والبنات فيها وبناء بيوت بجانبها توقف عليها. وكان يوم الجمعة الماضي يوم الاحتفال بالتأسيس، وكان رئيس الاحتفال عدلي باشا يَكَن مدير الغربية حضره كثير من الوجهاء والفضلاء. وبعد أن وضع المدير الحجر الأول الأساس على الطريقة الأوربية الجديدة دعي كاتب هذه السطور إلى الخطابة فقام وقال ما فتح الله به من بيان حسنات العلم ومنافعه في الزراعة والصناعة والتجارة وكل أعمال الحياة الاجتماعية لا سيما جمع كلمة الأمة وتوحيد مصالحها ومنافعها الذي يتحقق به معنى الإنسانية، ثم بيان أن نشر العلم الذي له هذا الشأن في الحياة هو أفضل الفضائل على الإطلاق حتى إن إنشاء المدارس وبيان أن جميع طبقات البشر متقاربون في اللذات الحسية وإن أوهمت المظاهر الصورة خلاف ذلك فلم يبق من فائدة للاستزادة من جمع المال إلا الشرف، وكان في أيام الجهل محصورًا في الاتفاق على احتفالات الأعراض والمآثم ونحوه ولكن أهل هذا العصر لا يرون الشرف إلا في العلم والسعي في نشره والقيام بثمراته فينفع الناس، فعلى من يريد أن يكون شريفًا عزيزًا في الدنيا أن يسعى في إنشاء المدارس، وعلى من يريد أن يكون سعيدًا في الآخرة أن يسعى في ذلك أيضًا. ثم نبهتُ بعد هذا على إقبال القبط على تعميم التعليم وسَبْقهِمُ المسلمين فيه مبينًا أن العلم هو القوة الكبرى فإذا وجدت في فريق من الأمة دون آخر يرى الفريق العالم أنه الأحق بالسيادة والرفعة وينشأ عن ذلك التنازع والتغابن بينه وبين الفريق الجاهل فإذا كان هذا على نسبة قريبة منه في العدد والثروة يسرع إليه الغلب والتلاشي ويسود العلم على الجهل سريعًا كما يرشد إليه قوله تعالى: {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) أي: الذين يصلحون لعمارتها، والعمل بسنن الله في ترقيتها. وإذا كان للفريق الجاهل قوة من العدد والمال يكون النازع شديدًا، وخراب البلاد وشيكًا، والنتيجة أن خير البلاد في أن يكون أهلها متفقين على غمرانها ولينفقوا في العمل حتى ينفقوا في العلم بالمصلحة. وذكرت أيضًا العلم النافع وأنه ما يصلح العمل للدنيا أو الدين أو ما يصلح الاعتقاد ويقوّم الفكر. ثم ختمتُ القول بحث وجهاء الغربية الحاضرين على مجاراة وجهاء المنوفية في إنشاء المدارس وعلقت الرجاء بسعادة مدير الغربية وسعيه وبالله التوفيق، ثم قام إبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير فألقى خطابًا مفيدًا بيّن فيه أن العلم كان حلية وزينة في الزمن الماضي وصار ضروريًّا للحياة في هذا الزمن. وإن كانوا يمتازون بالسجايا الفطرية فصاروا يمتازون بالمعارف الكسبية، ولذلك صار العلم حياة حقيقية والجهل موتًا حقيقيًّا وضرب المثل بهنود أمريكا الذين انقرضوا؛ لأنهم لم يقدروا أن يعيشوا بجهلهم مع المستعمرين العالمين إلى غير ذلك من الفوائد التي اشتهرت بتنويه المؤيد بها. وقد ضم الخطيب صوته إلى صوتي في تعليق الرجاء بالمدير. ثم قام جندي أفندي إبراهيم صاحب جريدة الوطن الغراء فألقى خطابًا قال فيه: إن الذي حمله عليه هو ما قاله الخطيب الأول (صاحب المنار) في النسبة بين المسلمين والقبط، وقال: إنه موافق في القول وشاكر عليه. ثم ذكر بمآثر المصريين مشيدي الأهرام وذكر أن السبب في سبق القبط المسلمين في التعليم هو العناية بتعليم البنات وأطال في بيان فائدة تعليمهن فجعله أهم من تعليم الذكور. وكان من محاسن الاحتفال حضور بعض التلامذة والتلميذات من مدرسة الشوربجي في البحيرة فخطبوا وأنشدوا الأناشيد في مدح العلم ومؤسس المدرسة، ثم انصرف الناس داعين شاكرين. *** (المستقبل للإسلام) شغلنا معظم هذا الجزء بهذه الرسالة الجليلة ليحيط القراء بفوائدها مرة واحدة. وإذا كان هذا رأي شيخ عامة المسلمين في القطر وهم الصوفية وما تقدم في مقالات (الإسلام والنصرانية) هو رأي شيخ خواصهم من العلماء والكتاب. وقد اتفقا وبرهنا على أن المستقبل للإسلام والعاقبة للمتقين فلم يبق عذر للمسلمين في تقدير القول قدره، والعمل في تحقيق حسن العاقبة.

أيصومون ولا يصلون وهم مؤمنون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أيصومون ولا يصلون وهم مؤمنون؟ إذا كان الله تعالى قد منحنا الدين ليهدينا به إلى سعادة الدارين ومنافع الحياتين فلا غرو أن يكون لكل عبادة فيه وجهان: أحدهما روحاني ينظر إلى توثيق عقدة الإيمان وتهذيب الأخلاق، والآخر اجتماعي دنيوي ينظر في إحكام عُرى الارتباط بين المؤمنين العابدين لتتأكد أخوّتهم. وتُبرم جامعتهم، وتتحقق وحدتهم، وقد اهتدى علماء الاجتماع في هذه العصور إلى وجوب توحيد عادات الأمة؛ لأن الوفاق كلما كثر وتعدد ما به يكون اشتدت الأواخي وأمنت التراخي حتى يكون مجموع الأفراد كالشخص الواحد. فتراهم قد اتفقوا في أنواع العادات فهم يلبسون زيًّا واحدًا ويأكلون في وقت واحد ويتنزهون في وقت واحد كما يتعلمون على طريقة واحدة ويتربون على مثال واحد، وبهذا صاروا كأنهم أهلُ بيت واحد يتعاطفون ويتعاضدون؛ بل صاروا في مجموعهم كالجسد الواحد كما ورد الحديث في وصف المؤمنين. الصوم والصلاة عبادتان علَّمَتَا المسلمين الأولين مراقبة الله تعالى والتوجه إليه وطلب مرضاته فصلحت نفوسهم وسمت هممهم وتهذبت أخلاقهم وعَلَّمَتَاهُمُ الاجتماعَ في أوقات معينة والأكل في أوقات متفقة فأرشدتهم إلى النظام وطرق الوحدة فصلحت أحوالهم باطنًا وظاهرًا فكانوا كما قال الله تعالى في خطابهم: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) أو كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا كما ورد في الحديث. مضت سُنّة الأولين من أهل الملل أن الدين يضعف فيهم ويَضْمَحِلّ على هذا النحو؛ تزول حقيقته المعنوية أولاً ثم تزول بعدها صورته الظاهرة بالتدريج. الجسد الحيّ بقاؤه ببقاء روحه فإذا أُزْهِقَتِ الروحُ منه أسرع إليه الفساد ثم التلاشي والاضمحلال. وإنما تَزْهَقُ روح الدين بأمراض تُعُرِّضَ لها بعد فَقْدِ الأطباء الروحانيين أو إهمال خواص الأمة لهم وتركهم طبَّهم لأرواحهم عند مرضها. والسبب في رغبة هؤلاء عن مداواة نفوسهم هو أن الأمراض التي تلّم بهم مستلذة؛ بل هي لا تعدو الإفراط في اللذة مع الجهل بالعافية وما وظيفة الدين إلا هداية الإنسان إلى موقف الاعتدال في استعمال قواه الفكرية والنفسية لتبقى فطرته سليمة معتدلة. الصلاة أفضل من الصيام؛ لأن سلطانها على الروح أعلى، وجذبها إياه إلى عالم القدس أقوى، ولأن تأثيرها في جمع القلوب والتأليف بين الأفراد أبلغ، وإشعارها نفوس الطبقات المختلفة معنى المساواة أشد. الصيام يُذكّر النفس بالسلطان الإلهي عندما تُعْرَضُ لها الطيبات في النهار فترى أنها ممنوعة منها بأمر الله تعالى شأنه وعند الفطر والسَّحُور إذا تذكّرت أن تغيير مواقيت الأكل إنما كان لتحقيق هذه العبادة التي فرضها البارئ جل جلاله على عباده ترويضًا لأرواحهم وجسومهم وتعويدًا لهم على حكم قواهم النفسية كيلا تَفْرُطَ عليهم وتطغى ليستعدوا بذلك كله لتقواه جلّ وعَلا. وأما الصلاة فكل قول من أقوالها وكل عمل من أعمالها فهو ينفخ هذا الروح الحي فيمن يُقيم الصلاة لا في كل مَن يُصلي؛ لأن فصلاً بعيدًا بين إقامة الشيء على وجهه وبين الإتيان بصورته كالفصل بين خَلْق الإنسان وبين رَسم صورته على لوح أو جدار. إذا قال مقيم الصلاة: الله أكبر، أعطته هذه الكلمة من تجريد التفضيل في التكبير أن الله تعالى أكبر مِن كل ما يوجد ويُتصور فيطمئن قلبه بالتنزيه وتستولي عليه هيبة الكبرياء والعظمة، ثم إذا قال: وجهت وجهيَ للذي فطر السموات والأرض (وهو مستحضرٌ أنه يعبر عن توجه قلبه، إلى حضرة معرفة ربه) فإن نفسه تسمو عن الالتفات إلى الدنايا، وتسمو عن الاشتغال بالخسائس، حسبك من الصلاة ما تعطيه هاتان الكلمتان، فكيف بك إذا تدبرت سائر الأذكار والتلاوة وفقهت أثر ذلك القيام والقعود، والركوع والسجود؟ كأني ببعض المكابرين الذين يحكمون على الدين وتأثيره بما يجدون في أنفسهم وما يعرفون من حال معاشريهم والعائشين معهم يقولون: إنْ هذه إلا معاني مخترعة، وأسرار مبتدعة، وخواطر سانحة، وموازين غير راجحة. وعذرهم في ذلك: الحرمانُ، وعدم تدبر سيرة الذين سبقونا بالإيمان، ومن ذاق عرف، ومن عرف وصف، ولست واقفًا هنا موقف المناظر، ولم أقصد بهذا القول إقناع المكابر، وقد سبق للمنار القول في بيان فوائد الصوم النفسيّة والبدنية والاجتماعية (فليراجع في المجلدين الثاني والرابع) وكذلك القول في فوائد الصلاة، إنما نريد الآن أنْ نذكُر أمرًا غريبًا في التصور ولكنه واقع شائع وهو أن كثيرًا من الناس يصومون رمضان ولا يصلون إلا في رمضان أو لا يصلون مطلقًا. الصوم من آيات الإيمان فلا يجامع الكفر والجحود، ولكن كيف يكون المرء مؤمنًا بدين ثم هو يستبيح ترْك أفضل عباداته وآكد فرائضه وأعظم شعائره، وما هي علة هذا الترك المطلق، والإهمال المستغرق إذا كان الإيمان هو الذي بعث ذلك الصائم على الصوم، فلماذا لم يَدُعُّهُ دَعًّا إلى الصلاة التي تلي الإيمان في المرتبة؟ أيتصور أن يكون لعلة واحدة معلولات فتوجد ويتخلّف عنها أول تلك المعلولات وأَوْلاها، ثم يوجد أضعفها وأقصاها، هذا موطن مِن مواطن العجب، ولا بد من بيان السبب، قد يقال: إذا كان ترك الصلاة لا يجامع الإيمان وترك الصيام لا يجامع الكفر فلا بد أن يكون مَن يصوم ولا يصلي في مرتبة بين المؤمن الصادق والكافر المارق، وهو ما كانوا يدعونه المنافق، فهو مرتاب يصوم لاحتمال صحة الدين، ولا يصلي لفقد اليقين، ويمكن أن يقال: إن صوم مثل هذا ليس من ثمرات الإيمان، وإنما هو مجاراة للأهل والجيران، فهو عادة لا عبادة. ولو تركه المعاشرون والأقران، لما بعث عليه القرآن، ولذلك ترى الذين لا يبالون بالعادات لقوة عزائمهم في العمل بما يعتقدون قد تركوا الصوم فهم يحاربون الدين جهرًا ولا يحترمون أهله ولا يجاملونهم مِن حيث هم به مستمسكون. ويصحّ أن يقال: إن مِن تاركي الصلاة المارق، ومنهم المنافق، ومنهم مَن يتركها لمرض الجهل والكسل لا لمرض الارتياب أو الجحود. ولذلك يصوم هذا صومًا حقيقيًّا يفيده تقوى الله تعالى في أمور كثيرة فهو يظمأ ويَصْدَى ولا يشرب في خلوته لعلمه بأن الله تعالى يراه ولا يرضى له أن يكون ضعيف النفس مغلوبًا لشهوة الماء يعصي الله لأجلها. فإن لم يلاحظ مثل هذا بالتفصيل فلا أقل مِن الإجمال. أما الجهل الذي يساعد الكسل على ترك الصلاة فهو ذو شعب كثيرة يوجد بعضها عند أبناء العصر العتيق. يقول أبناء العصر الجديد: إن الله تعالى لا يُعَذِّبُ الناس إذا قصّروا في عبادته؛ لأن الدين لا يصح أن يكون عقوبة للبشر وإنما فرضت الصلاة لتعين على تهذيب النفس ونحن قد تهذبت نفوسنا فلا نرضى لأنفسنا أخلاق هؤلاء المصلين الذين فشا فيهم الكذب والغش والزور والطمع والدناءة. إلخ. قول اشتبه حقه بباطله ومسلك الجهل فيه دقيق، ولنا أن نقول لهم صدقتم في قولكم: إن الدين لا يصح أن يكون عقوبة بل هو رحمة من الله تعالى، قال تعالى لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقال في خطاب المتكلفين: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ} (البقرة: 220) ولكنه لم يشأ فله الحمد والشكر. وقال جل ثناؤه: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) وفي معناه قوله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ولكن العقوبة على ترك الصلاة ليست من الحرج وإنما هي من الرحمة، فإن الصلاة منفعة وترك المنفعة ضارّ؛ لأنه وقوع في الضد وهي واقعة في الدنيا ومعقولة فمن الجهل الارتياب فيها، ألا ينظر هؤلاء القائلون في صنفهم والذين تعلموا وتربوا مثلهم كيف تفتك فيهم الفواحش المنكرات فتذهب بمالهم وبصحتهم وتُكَبِّلُ بلادهم بالسلاسل والأغلال وتسلمها إلى الأجانب. وإذا وجد فيهم أفراد ساعدهم الاستعداد الفطري وما يسمونه (الظروف) والوراثة الطبيعية لسلفهم المصلّين على تهذيب نفوسهم فهل استغنوا بهذا التهذيب الذي امتازوا به على العدد الكثير مِن أمتهم المريضة عن تكميل نفوسهم بمناجاة الله تعالى؟ أليس لكل واحد منهم أمراض نفسية لو أقام الصلاة لوجد فيها شفاءها؟ منهم الهَلُوعُ الذي يَجْزَعُ لكلّ شر يصيبه حتى كأنه امرأة ضعيفة أو طفل صغير، والذي إذا أصابه الخير أمسكه عن إعانة الضعيف وإغاثة للهيف، بل الذي لا يخرج منه الحق الثابت عليه إلا نكدًا. وإذا فرضنا أن جهله بحقيقة نفسه وحقيقة الصلاة زيّن له عدم حاجته إليها ولو لِشُكْرِ اللهِ تعالى وحِفْظِ شعارِ الدين الذي ينتمي إليه فهل يُزينُ له أيضًا أنّ أهله مِن زوجة وبنينَ وبناتٍ في غنى عن هذه الصلاة؟ وإذا لم يكونوا في غنًى عنها، فهل يرى أن إقامتهم إيّاها من الأمور السهلة إذا كان هو لا يصلي، أما صلاة فاسدي الأخلاق الذين يتمثل بهم هؤلاء فهي شبيهة بصيامهم أي إنها محاكاة وتمثيل لهيأة الصلاة الظاهرة. وجملة القول في جواب هؤلاء أن اعتذارهم بعدم العقوبة على ترك الصلاة غير سديد وأنهم لم يفهموا معنى العقوبة على تركها، ولو فقهوا تأثيرها في النهي عن الفحشاء والمنكر لفقهوا معنى كونها رحمة تزكي النفس فتفلح في الدنيا والآخرة. وكونِ تركها نقمة تُدَسِّي النفس وتسهل لها سبل الفواحش والمنكرات فتسلكها فتخسر في الدنيا والآخرة. لو تأمل المتأمل المؤمن بالله معناها وما وصفها به الكتاب العزيز لفقه ذلك ولو علم أنها الآية الكبرى في انقلاب أحوال مسلمي الصدر الأول وتبدل أخلاقهم وسجاياهم لَفَقِهَ ذلك، ولو كان عندنا اليوم عدد من مقيمي الصلاة لاستغنينا عن هذا وذاك في تعليم الجاهل وتنبيه الغافل وإقناع المجادل. هذا ما يقول لنا أبناء العصر الجديد وما نقول لهم الآن بالإيجاز وإنَّ لنا لعودة نفصِّل فيها القول تفصيلاً إن شاء الله. وأما أبناء العصر العتيق فإنّ لهم مِن الضلال في فهم الشفاعات والمكفرات والانتساب إلى أصحاب الأضرحة والمقامات ما يصرفهم عن إقامة الصلاة، ويغلّ أيديهم عن أداء الزكاة، فكيف إذا أضافوا إلى ذلك الغرور بالله والتشدق بذكر الرحمة والمغفرة. وقد كشفنا من قبل جميع هذه الشبهات وأنَّ أكبرَ آية على ضلالهم في فهمهما سوء تأثير هذا الفهم فيهم حتى انتهى بهَدْمِ أركان الإسلام وتَرْكِ شعائرِهِ فكاد ينطمسُ مَبناه بعدما جهل معناه؛ ولكن خطباء الفتنة وعلماء السوء هم الذين يروّجون هذه الأضاليل فهم قادة المقلدين، وعونهم على إضاعة الدنيا والدين، وكأنك بغربانهم تنعق على أعواد المنابر بهذه المكفرات ومنها المكذوب على الله ورسوله كقولهم: (إن الله يعتق في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق مِن النار، فإذا كان آخر ليلة منه أعتق بقدر ما مضى) . وأمثال ذلك، وفي أقوالهم ما تصح روايته ولكن الفساد في جهل معناه، لذلك نرى أكثر العامة يصومون ولا يصلون ولا يزكّون، ومنهم الذين لا يحلّون ولا يُحرمون. الصوم أسهل على النفس مِن المحافظة على الصلاة ومِن إيتاء الزكاة فهو الرسم الباقي عند أكثر المسلمين فإذا دَرَسَ (والعياذُ بالله تعالى) كان دروسه خطرًا كبيرًا على الرابطة الإسلامية؛ لهذا نرى أن الذين يجاهرون بالإفطار في رمضان مِن المسلمين الجغرافيين أشد فتكًا بالإسلام والمسلمين مِن ك

الاجتماع السادس لجمعية أم القرى ـ تتمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة الاجتماع السادس لجمعية أم القرى (تابع لما في الجزء 13) ثُم قال (الأستاذ الرئيس) للخطيب القازاني: إن الإخوان يترقبون منه أيضًا أن يفيدهم بما يلهمه الله مما يناسب موضوع مباحث الجمعية. قال (الخطيب القازاني) : إن الإخوان الأفاضل لم يتركوا قولاً لقائل، ولذلك لا أجد ما أتكلم فيه وإِنَّما أقصّ عليهم مساجلة جَرَت في الاستهداء بين مفتي قازان وإفرنجيٍّ روسيٍّ من العلماء المستشرقين العارفين باللغة العربية المُولعين باكتشاف وتتبع العلوم الشرقية ولا سيما الإسلامية، وقد هداه الله إلى الدين المبين فاجتمع بمفتي قازان وقال له: إنه أسلم جديدًا وهو بالغ من معرفة لغة القرآن والسُّنة مبلغًا كافيًا وعالم بموارد ومواقع الخطاب عِلمًا وافيًا، فيريد أن يتتبع القرآن وما يمكنه أن يتحقق وروده عن رسول الله فيعمل بما يفهمه ويمكنه تحقيقه على حسب طاقته؛ لأنه لا يرى وجهًا معقولاً للوثوق بزيد أو عمرو أو بكر أصحاب الأقوال المتضاربة المتناقضة لأن حكم العقل في الدليلين المتعارضين التساقط وفي البرهانين المتباينين التهاتر فهل من مانع في الإسلامية يمنعه من ذلك؟ فأجابه (المفتي) : إن أكثر الأمة مطبق منذ قرون كثيرة على لزوم اعتماد ما حرره أحد المجتهدين الأربعة المنقولة مذاهبهم، فإطباق الأكثرية دليل على الصحة فلا يجوز الشذوذ. فقال (المستشرق) : لو كان الصواب قائمًا بالكثرة والقدم وإن خالف المعقول لاقتضى ذلك صوابية الوثنية ورجحان النصرانية ولاقتضى كذلك عكس حكم ما صح وروده على النبي صلى الله عليه وسلم من أن أمته تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة هي التي كان هو وأصحابه عليها وقد وقع ما أخبر به وكل فرقة تدعي أنها هي تلك الواحدة الناجية ولا شك أن الاثنتين والسبعين فرقة أكثر من أي واحدة كانت منها فأين يبقى حكم الأكثرية؟. فأجابه (المفتي) أنه قد سبقنا من أهل التحقيق والتدقيق الذين تشهد آثارهم بمزيد علمهم ألوف من الفضلاء، وكلهم اعتمدوا لزوم اتباع أحد تلك المذاهب القديمة حتى بدون مطالبة أهلها بدلائلهم؛ لأن مداركنا قاصرة عن أن توازن الدلائل وتميز الصحيح والراجح من غيرهما، ومثلنا في تلك كالطبيب لا يلزمه أن يجرب طبائع المفردات كلها ليعتمد عليها بل يأخذ علمه بطبائعها عما دونه أئمة الطب. فقال (المستشرق) : نعم إن الطبيب يعتمد على ما حققه الأوّلون ولكن فيما اتفقوا عليه، وأما ما اختلفوا فيه على طرفي نقيض بين نافع أو سامٍّ فلا يعتمد فيه على أحد القولين بل يهملهما ويجدد التجربة بمزيد الدقة والتحقيق؛ لأن اعتماده على أحدهما يكون ترجيحًا بلا مرجح. هذا وإننا لنرى ببادئ النظر أن هؤلاء الأئمة الأقدمين لم يقدروا أن يطلعوا على ما لا يقدر المتأخرون أن يطلعوا عليه ويكفينا برهانًا على ذلك: (أولاً) تخالفهم في كل الأحكام إلا فيما قلّ وندر تخالفًا مهمًّا ما بين موجب وسالب ومحلل ومحرم حتى لم يمكنهم الاتفاق في نحو مسائل الطهارة وستر العورة وما يحل أكله وما لا يحلّ. (ثانيًا) ترددهم في الأحكام وتقلبهم في الآراء وذلك كحكم أحدهم في المسألة ثم عدوله عنه إلى غيره كما يقول أصحاب الشافعي أنه كان له مذهبان رجع بالثاني منهما عن الأول. (ثالثًا) اختلاف أتباعهم في الرواية عنهم كأصحاب أبي حنيفة الذين قلّما يتّفقون على روايةٍ عنه ويؤوّل ذلك لهم بعض المتأخرين بتعدد مذاهبه في المسألة الواحدة والحاصل أنّ الإنسان الذي يتقيّد بتقاليد أحد أولئك الأئمة ولا سيما الإمام الأعظم منهم لا يتخلص من قلق الضمير أو يكون كحاطب ليل وعلى ذلك لا بد للمتحري في دينه من أن يهتدي بنفسه لنفسه أو يأخذ عمن يثق بعلمه ودينه وصوابية رأيه ولو من معاصريه؛ لأن الدين أمر عظيم لا يجوز العقل ولا النقل فيه المماشاة واتباع التقليد. أجابه (المفتي) : نحنُ لا نحتّم بأن الصواب مقطوع فيه في جانب أحد تلك المذاهب بل المقلد منّا، إما أن يقول بإصابة الكل أو يرجح الخطأ في جانب من تَرَكَ مع احتمال الصواب. فقال (المستشرق) : هذا القول يستلزم تعدد الحق عند الله أو القول بالترجيح بلا مرجح؛ لأنكم تتحامون المفاضلة بين الأئمة، واعترافكم باحتمال المذاهب للخطأ يقتضي جواز تركها كلها مع أنكم توجبون اتباع أحدها أفليست هذه قضايا لا تتطابق ولا تعقل، فلماذا لا تجوزون وأنتم على هذا الارتباك أن يستهدي المبتلى لنفسه، فإذا تحقق عنده شيء عن يقين أو غلبه ظن اتبعه وإلا كان مختارًا ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. أجابه (المفتي) : إننا لِبُعْدِ العهد لم يبق في إمكاننا التحقيق فما لنا من سبيل غير اتباع أحد المتقدمين ولو كان تحقيقه يحتمل الخطأ. قال (المستشرق) : ما الموجب لتكليف النفس ما لم يكلفها به الله؟ أليس من الحكمة أن يحفظ الإنسان حريّته واختياره فيستهدي بنفسه لنفسه حسب وسعه فإن أصاب كان مأجورًا وإن أخطأ كان معذورًا ويكون ذلك أولى من أنْ يَأْسِرِ نفسه للخطإ المحتمل من غيره. أجابه (المفتي) : إن هذا الغير أعرف مِنّا بالصواب وأقل منا خطأ؛ فتقليده أقرب للحق. قال (المستشرق) : هذا مسلَّم فيما اتفق عليه الأقدمون، أما في الخلافيات فالعقل يقف عند الترجيح بلا مرجح ولا سيما إذا كنتم لا تجوزون أيضًا البحث عن الدليل ليُحكّم المبتلى عقله في الترجيح، بل تقولون نحن أسراء النقل وإن خالف ظاهر النص. أجابه (المفتي) : إننا إذا أردنا أن لا نعدّ من شرعنا إلا ما نتحقق بأنفسنا دليله من الكتاب أو السنة أو الإجماع تضيق حينئذ علينا أحكام الشرع، فلا تفي بحل إشكالاتنا في العبادات ولا لتعيين أحكام حاجاتنا في المعاملات فيحتاج كل منا أن يعمل برأيه في غالب دقائق العبادات والمعاملات ويسير القضاء غير مقيد بإيجابات شرعية، وهل من شك في أن اطراد الآراء وانتظام المعاملات أليق بالحكمة من عدم الاطراد والنظام. قال (المستشرق) : لا شك في ذلك ولكن أين الاطراد والانتظام منكم ولا يكاد يوجد عندكم مسألة في العبادات أو المعاملات غير خلافية إن لم تكن في المذهب الواحد فبين مذهبين أو ثلاث. هذا وربما يقال: إن توفيق العمل على قول من اثنين أو أكثر أقرب للاطراد من الفوضى المحضة في تفويض الأمر لرأي المبتلى أو تفويض الحكم لحرية القاضي فيجاب عن ذلك بأن الأمر أمر ديني ليس لنا أن نتصرف فيه برأينا ونعزوه إلى الله ورسوله كذبًا وافتراءً وإفسادًا لدين الله على عباده، ولو أن الأمر نظام وضعيُّ لما كان أيضًا من الحكمة أن يلتزم أهل زماننا آراء مَن سلفوا من عشرة قرون ولا أن يلتزم أهل الغرب قانون أهل الشرق وعندي أن هذا التضييق قد استلزم ما هو مُشاهد عندكم من ضعف حرمة الشرع المقدس. ثم قال (المستشرق) : وأعيد قولي، إنكم تحبون أن تكلفوا أنفسكم بما لم يكلفكم به الله، ولو أن في الزيادات خيرًا لاختارها الله لكم ولم يمنعكم منها بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38) أي مما يتعلق بالدين [1] وقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3) وقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229) ولكن علم الله الخير في القدر الذي هداكم إليه وترك لكم الخيار على وجه الإباحة في باقي شئونكم لتوفقوها على مقتضيات الزمان أبي الغير وموجبات الأحوال التي لا تستقر فبناء عليه إذا أتيتم أكثر أعمالكم الحيوية باطمئنان قلب بإباحتها يكون خيرًا من أن تأتوها وأنتم حيارى لا تدرون هل أصبتم فيها أم خالفتم أمر الله فتعيشون وأفئدتكم مضطربة تحاذرون في الدين شؤم المخالفة وفي الآخرة عذابًا عظيمًا. وليس هذا من مخافة الله التي هي رأس الحكمة ولا من مراقبة الوازع التي هي مزية الدين بل هذا من الارتباك في الرأي والاضطراب في الحكم ونتيجة ذلك فقد الحزم والعزم في الأمور. ثم قال: اعلم أيها المفتي المحترم أن هذه الحالة التي أنتم عليها من التشديد والتشويش في أمر الدين هي أكبر أسباب انحطاط المسلمين بعد القرون الأولى في شئون الحياة كما انحط قبلهم الإسرائيليون بما شدّده وشوّشه عليهم أهل التلّمود وكما انحطت الأمم النصرانية لما كانت (أرثوذكسية) مغلظة أو (كاثوليكية) متشددة يتحكم فيها البطارقة والقسيسون بما يشاءون تحت اسم الدين فكانوا يكلفون الناس أن 0يتبعوا ما يُلَقِّنُونُهم مِن الأحكام بدون نظر ولا تدقيق حتى كانوا يحظرون عليهم أن يقرأوا الإنجيل أو يستفهموا عن معنى التثليث الذي هو أساس النصرانية كما أن التوحيد أساس الإسلامية. وبقي ذلك كذلك إلى أن ظهرت (البروتستان) أي الطائفة الإنجيلية التي رجعت بالنصرانية إلى بساطتها الأصلية وأبطلت المزيدات والتشديدات التي لا صراحة فيها في الأناجيل وإلى أن اتسع من جهة أخرى عند الأمم النصرانية نطاق العلوم والفنون رغمًا عن معارضة رجال الكهنوت لها فتلطفت أيضًا الكاثوليكية والأرثوذكسية عند العوام واضمحلتا بالكلية عند الخواص؛ لأن العلم والنصرانية لا يجتمعان أبدًا كما أن الإسلامية المشوبة بحشو المتفننين تضلل العقول وتشوش الأفكار. أما الإسلامية السمحة الخالصة من شوائب الزوائد والتشديد فإن صاحبها يزداد إيمانًا كلما ازداد علمًا ودق نظرًا؛ لأنه باعتبار كون الإسلامية هي أحكام القرآن الكريم وما ثبت من السنة وما اجتمعت عليه الأمة في الصدر الأول لا يوجد فيها ما يأباه عقل أو يناقضه تحقيق علمي. وكفى القرآن العزيز شرفًا أنه على اختلاف مواضيعه من توحيد وتعليم وإنذار وتبشير وأوامر ونواهٍ وقصص وآيات آلاء، قد مضى عليه ثلاثة عشر قرنًا تمخضه أفكار النقادين المعادين ولم يظفروا فيه ولو بتناقض واحد كما قال الله تعالى فيه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} (النساء: 82) بل الأمر كما تنبه إليه المدققون المتأخرون أنه كلما اكتشف العلم حقيقة وجدها الباحثون مسبوقة التلميح أو التصريح في القرآن. أودع الله ذلك فيه ليتجدد إعجاز ويتقوى الإيمان بأنه من عند الله؛ لأنه ليس من شأن مخلوق أن يقطع برأي لا يبطله الزمان. فهذه القضايا التي قررها حكماء اليونان وغيرهم على أنها حقائق ولم تتردّد فيها عقول عامة البشر ألوفًا من السنين أصبحت محكومًا على أكثرها بأنها خرافات. وكذا يقال كفى السنة النبوية شرفًا أنه لم يوجد في أعاظم الحكماء المتقدمين والمتأخرين من يربو عدد ما يعزي إليه من الحكم التي قررها غير مسبوق بها على عدد الأصابع مع أن في السنة المحمدية على صاحبها أفضل التحية من الحكم والحقائق الأخلاقية والتشريعية والسياسية والتعليمية ألوفًا من المقررات المبتكرة يتجلى عِظم قدرها مع تجدد الزمان وترقي العلم والعرفان. وكفى بذلك ملزمًا لأهل الإنصاف بالإقرار والاعتراف لصاحبها عليه السلام بالنبوة والأفضلية على العالمين عقلاً وعلمًا وحكمة وحزمًا وأخلاقًا وزهدًا واقتدارًا وعزمًا وكفى أيضًا بهذه المزايا العظمى ملزمًا بتصديقه في كل ما جاء به واتباعه في كل ما أمر أو نهى؛ لأن الدهر لم يأتِ بمرشد للبشر أكمل وأفضل منه. (م

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (رمضان - المنكرات فيه) هو شهر الصيام، والتلاوة والقيام، والإقبال على الله، والإعراض بقدر الإمكان عن سواه، وإن تأثيره ليظهر في جميع بلاد المسلمين بترك معاهد اللهو والعكوف في المساجد وتغيير العادات، إلا أن هذا التأثير في هذه المدينة (القاهرة) أضعف منه في سائر بلاد الإسلام فيما أعلم وأظن إلا ما تمتاز به من كثرة المرتلين للقرآن في البيوت ترى أكابر العلماء في غير القطر المصري قد انتدبوا فيه لقراءة الدروس الدينية وإلقاء المواعظ المؤثرة منتشرين في المساجد وترى مساجد القاهرة التي عدد علمائها يزيد على عدد العلماء في كل مدينة سواها خالية منهم إلا قليلاً كالمسجد الحسيني والمسجد الزَّينبي، وأكثر من يتصدى للوعظ الجاهلون الذين يغرون الناس بالأماني ويقصون عليهم القصص الخرافية والأساطير الوضعية، وفي كل سنة نذكر الشيخ عليًّا الببلاوي شيخ المسجد الحسيني بوجوب منع هؤلاء القصاصين منه، ولعله يفعل في هذا العام كما يفعل شيخ الأزهر في المسجد الزينبي لا يأذن لأحد بالوعظ فيه إلا إذا وثق بعلمه. إذا كانت معاهد العلم والإرشاد ليست عامرة في القاهرة فلا عجب إذا عمرت معاهد اللهو والفسق حتى في رمضان فقد اطلعنا منذ أيام على (إعلان) ينشر في الطرق والشوارع فإذا فيه أن زعيمًا من زعماء الملاهي قد استحضر مغنية شهيرة وراقصة بارعة لأجل إحياء ليالي رمضان الشريف! ! ! ولو بقي عند هؤلاء المسلمين الجغرافيين الذين يخربون بيوتهم بأيديهم ليعمروا بيوت أعدائهم بقيةٌ من الغيرة الملية والشهامة الإسلامية لكافأوا هذا المستهين بهم والمستهزئ بدينهم بالإعراض عن قينته وراقصته وإن لم يتوبوا عن الفسق توبة نصوحًا. *** (الجرائد ورمضان - أو - المنار والمنارات) سمعنا من بعض أصحاب الجرائد المنتشرة الشكوى من بخل رمضان عليهم وهو أبسط الشهور في الإنفاق يدًا وأكثرهم في التوسع مددًا، ولكن هذا البَسْطُ هو السبب في ذلك القبض أعني قبض الأيدي عن دفع اشتراك الجرائد؛ لأن الناس يحبون الإنفاق في رمضان على المآدب لا على الآداب وفي القربات الدينية، لا في الكربات السياسية، ولهذا لم يكن المنار من الشاكين وإنما هو من الشاكرين؛ لأن حظَّه في رمضان كحظ أخواته منارات المساجد كما أن وظيفته كوظيفتهن، كل منهما وضع لدعوة المسلمين إلى الصلاة والصيام، وكل يزيد مدده في هذه الأيام، أما المنارة فمددها الزيت والقناديل، وأما المنار فمدده الدراهم والدنانير، وحق المنار آكد وأثبت من حق المنارة؛ لأن دعوته عامة تشمل العقائد والأخلاق، ودعوتها خاصة بالصلاة والصوم، ودعوته يسمعها الألوف، ودعوتها يسمعها نفر قليل، ودعوته مؤيدة بالبرهان، ودعوتها تذكير مجرد لأهل الإذعان، ودعوته متوقفة على مدد القراء. ودعوتها لا تتوقف على الزيت ولا الكهرباء. ولهذا كان إمدادها هذا منتقداً عند المتورعين، وترك إمداده منتقدًا عند المتدينين، وقد سبق إلى العمل بهذا الحكم أهل المنصورة والسنبلاوين، وستتلوهم الفيوم وشبين، اللهم آمين. *** (بدعة جديدة في مسجد جديد) جدد ديوان الأوقاف مسجدًا من المساجد المدعثرة في الفيوم وقد احتفلوا بافتتاحه في يوم الجمعة الماضية بالصلاة فيه، وكان الاحتفال بعد الصلاة وسماع خطبة الخطيب الخرافية التى مدح واضعها فيها المسجد مدحًا استنبطه من حروفه. ويا لله كيف يرضى المسلمون بأن يقول خطباؤهم مثل هذا الكلام اللغو الذي أمر الله تعالى بالإعراض عنه كما أمر بالاستماع للخطبة حتى إن حاضر مثل هذه الخطبة لا يدري أهو مطالب بأن يكون ممّن قال الله تعالى فيهم: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 3) وقال فيهم: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْه} (القصص: 55) ؟ أم هو مطالب بامتثال قوله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} (الأعراف: 204) على قول المفسرين أنها نزلت في الخطبة؟ أما كون ذلك من اللغو فيعرفه العاميّ إذا لاحظ أن كل حرف يكون مبدأ كلمات تدل على معاني شريفة وكلمات تدل على معاني خسيسة؛ فالدال أول حرف من كلمة الدين والدعاء والدراية، وكذلك هو أول حرف من كلمة الدنس والدناءة والدعارة. ثم قام خطيب الاحتفال بعد الصلاة وقال: (أفتتح المسجد باسم الخديو) إلخ ثم مضى في كلامه والناس تصفّق له لا سيّما عند ذكر الأمير حتى كأنهم انقلبوا عن الإسلام إلى عبادة الجاهلية التي نزل فيها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} (الأنفال: 35) والتصدية هي التصفيق، فليعلم الغافلون أن بيوت الله تفتتح بسم الله والخشوع له وتجتنب فيها عبادات الجاهلية، وبدع المدنية، فمن كان مخلصًا لسلطانه وأميره فليدع الله تعالى فيها بأن يصلح شئونهما ويوفقهما لما فيه خير المِلّة والأمة، وليعلم أنها بيوت يستوي فيها المأمور والأمير في الخضوع لله العليّ الكبير. *** (استشارة في أمرٍ ذي بالٍ) رأى القراء فيما قرأوه من مباحث جمعية أم القرى في الاجتماعات الستة أن كل ما ذكره أعضاؤها من أسباب فتور المسلمين وضعفهم يرجع إلى الدين والشئون الاجتماعية والسياسية العامة، وفي الاجتماع السابع الآتي تفصيل أسباب الفتور في سياسة الدولة العثمانية وإدارتها وهي عشرون سببًا. وقد كنا ذكرنا عند التنويه بسجل الجمعية وذِكْرِ العزم على نشره في المنار أن ما فيه من القول بسيئات الدولة العلية يؤلم أكثر القارئين، وإننا نختار حذفه عند الوصول إليه. ولكنا رأينا كثيراً من الناس يُفَنِّدُ هذا الرأي ويقول إن قراء المنار كلهم أو جلهم من خواص الناس وأهل الفضل الذين يزيدهم العلم بعيوب دولتهم حرصًا على بقائها وسعيًا في إصلاح حالها إن استطاعوا فيجب أن لا يحرموا من الاطلاع على الآراء والمباحث التي دُوِّنَتْ في سجل الجمعية. فلم يقنعنا هذا القول تمام الإقناع وأحببنا أن نستشير قراء المنار الآخرين فمَنْ كان يرى نشر السجل بُرمته وذِكْر كل ما فيه عن الدولة والترك فحسبه سكوته دليلاً على رأيه. ومن كان يرى وجوب حذف ما ينتقد على الدولة فعليه أن يذكر لنا رأيه قولاً أو كتابة وإننا لنرجح هذا الرأي إذا كان عليه عُشر المشتركين ولا يصح لمن يسكت قبل النشر أن يلوم بعده. * * * (أشهر مشاهير الإسلام) صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب في سيرة سيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وفيه أبواب من العبرة واسعة، ومباحث في التاريخ والسياسية الإسلامية نافعة، منها بحث (حكم الإسلام في المسيحيين وحكم الأوربيين في المسلمين - ومنه يعلم أي الفريقين أعدل - وبحث الردة وحقيقتها. وبحث كون دمشق كانت قاعدة الغسانيين أوكون سوريا كانت وطنهم. وبحث شجاعة المسلمات ومساعدتهن للرجال في الفتوح، وبحث الحكم النيابي والشورى في الإسلام، وبحث الاستعمار، وأبحاث تدوين الدواوين وترتيب العمال وضرب النقود ووضع البريد والحكومة العسكرية والحكومة القانونية وبيت المال، وغير ذلك مما يؤخذ من سياسة سيدنا عمر وسيرته العادلة التي تضرب الأمم بها الأمثال، ناهيك بذكر الوقائع والفتوح والقضاء. وإننا نشكو من كثرة أغلاط الطبع فيه ولكننا واقفون على سببه وهو أن معظم الكتاب طبع ومؤلفه (رفيق بك العظم) غائب في الشام ولما علم منع إصداره حتى استخرج له جدولاً أحصى فيه الأغلاط وألحقه به، ولولا ذلك لصدر من بضعة أشهر. وصفحاته تزيد على 300 وثمنه 10 قروش صحيحة، وأجرة البريد قرشان، وهو يُطلب من إدارة مجلة المنار بمصر ومن المكاتب المشهورة.

كيف يكون المستقبل للمسلمين

الكاتب: محمد فريد وجدي

_ (كيف يكون المستقبل للمسلمين) قرأت في (المنار) الزاهر مقال سماحة السيد البكري فأيقظ في نفسي آمالاً كبارًا، وهاج من قلبي مرامي بعادًا، ورأيته يتفق معي في الغاية، ويلاقي قلمه قلمي في النهاية، إلا أنه سار إليها مِن طرق المعارف التشريحية، وانتحى إليها وجهة علم الظواهر الجوية، وناط ذلك المستقبل بالفواعل الطبيعية، والأحوال الوسطية مِن كثرة السكان وخصوبة المكان وعدم إمكان الإنسان المعيشة في كل مكان، وهي قضايا يتناولها النقد، ويمكن فيها الأخذ والرد والإقبال والصد، إن رضيها (جوستاف لوبون) رفضها (لينيه) و (كاترفاج) و (داروين) و (وروسل ولاس) و (هكسلي) و (لامارك) و (كوفييه) و (بوفون) وغيرهم من إخوانه الفسيلوجيين، على أن تعليق حياة الإسلام على مؤثرات الوسط وعوامل المكان لا يناسب مجده وعلو شأنه، وأهميته أكبر مِن أن تدفع الكاتب إلى تحري أفكار الأفراد لتسكين الخواطر على نجاة بلدانه، وسلامة أوطانه، فإن كان الإسلام له المستقبل الباهر والآتي الزاهر، فليس ذلك إلا لكونه الحق الصميم، والنور الصريح، والكلمة العليا، والمحجة البيضاء، أنشودة الإنسان وضالة العرفان ونظام العلم والدين؛ وسلك الفلسفة الحسية واليقين، إن كان ينشره الصوفية اليوم بين الشعوب الشرقية المنحطة في درجات المدنية والعلوم الكونية، فسينشره غدًا لَهَامِيم الفلسفة الحسية، ويَآفِيخ المعارف الطبيعية، ليس لكونه كما اعتدنا أن نقول دينًا جمع بين المصالح الروحية والجسدية ويربط بين الأمور الدنيوية والأخروية فقط، هذه بعض مزايا الإسلام تابع بسيط لتعاليم نسردها سردًا لبعض العقول البسيطة التي لا تدرك غيرها، ولا تتمسك بالدين إلا مِن أجلها؛ أما غدًا وليس ببعيد يوم تجيء دولة الروح ويخرج الإنسان مِن قهر المادة العمياء وسلطة الطين الأصم وينتهي دور الزخارف الحيوانية، وتزول سلطنة البطن والأميال البهيمية، وينقلب شأن الإنسان مِن حال مادي إلى حال روحاني كما انقلب مِن حال فطري إلى حال فكري عقلي؛ فتشرق الروح في عالمها وتزعج الإنسان إلى أداء مطالبها، وتصيح به لأنْ يَعرُجَ بها إلى محتدها، ويصعد معها إلى أوجها، كما كانت تزعجه المادة إلى القيام برغائبها، وتميل به إلى عالمها، وتطالبه بالركون إلى طينها، ذلك اليوم تطلب الروح بابًا لعروجها، وترتاد طريقًا لصعودها، تلتفت إلى جثمانها فتراه عبئًا ثقيلاً ومانعًا كثيفًا، وأنّى له اختراق طبقات اللطافة الملكوتية بها؟ وكيف له السبح في العوالم النوارنية معها؟ هنالك يكون التنازع بين الروح والجسد لا كما هو الآن تنازع بين مطالب غذائية. وزخارف مادية، وأغذية دهنية وشحمية وألبسة قطنية أو حريرية، بل تنازع في كيفية اعتمادهما معًا على السبح في سبحات النور الأقدس، والجري يدًا بيد في باحات الكمال الأقدم. هنالك سيدور الإنسان على نفسه دورة أخرى على محور لا يتخيله الآن إلا كبار الأفئدة كبار العقول، هنالك سيكون الإسلام قائد تلك الحركة وسلطان تلك الدولة والداعي إلى الكمال بلسان العدالة المطلقة والمؤاسي بمراهمهه الشافية القلوب اليائسة، هنالك سيحوم الناس حول الإسلام كما يحول الفراش حول النور يطلبون نجاة أرواحهم وأجسادهم معًا لا أرواحهم فقط. هذه حقائق لا خيالات إلا أن تجليها للأذهان يحتاج إلى كلام كثير بل سَفَرٍ كبير. فمستقبل الإسلام فيما أعلم وأرى مِن هذا الباب دون غيره وهو أليق بعلو شأنه وأنسب لرفعة مكانه وأولى به دينًا إلهيًّا ووحيًا عُلويًّا؛ ولكن متى نصل إليه، وأيّ نوع من أنواع الوسائل نُعوِّلُ عليه؟ هذه جهة الخلاف بيني وبين سماحة السيد. يرى أنّ أَنْجَعَ الوسائلِ لذلك فتحُ المدارس وترتيبها؛ وترجمة الكتب العلمية ونشرها، ومشاطرة الأجانب في لغاتهم والتعمق فيها؟ ويرجو لذلك أن تعقد جمعيات وتشكل هيئات، وتنضم أصوات وتتحد وجهات وتتفانى هِمم أبيّة، وتتكاتف عزائم إسلامية، وتبذل أنْفس عزيزة وأرواح، وتباع في سبيل الوحدة بيع السماح، وكلها مطالب سامية ورغائب عالية، ولكن هل تتحقق؟ لِنُجِلْ في إمكانها نظرًا ونعمل في احتمالها فكرًا، فإن لاح لنا برق أمل ضممنا صوتنا إلى صوته وإلا أبدينا فيها رأينا، وعززناه بأسلوبنا. حكم السيد بأن لا وطن للإسلام ولا جنسية، وأن رابطتنا الوحيدة هي جامعة العقيدة وآصرة الإيمان ووشيجة اليقين، فلينظر هل تلك الرابطة اليوم صالحة لأن تضم أجزاءنا وتلمّ شعثنا وتوجّه عواطفنا إلى تيار واحد لنحقق بذلك آمالاً عظامًا، ونرأب بها مِن جسم هيئتنا صدوعًا جسامًا؟ يضربُ لنا السيد مثلاً بالجمعيات الأجنبية التي تألّفت للوحدة الإيطالية؛ والجامعة السلافية، والجنسية السكسونية، وعاج مِن ذلك على ذِكر الثورات الأرمنية والمقدونية والكريدية، ثم قال إنها: (تعمل أعمال الجبابرة في الخلاص مِن حضيضِ الأسر، إلى أوج النسر، والأمة الإسلامية التي ملأت المشرقين والمغربين تنتفض انتفاض الطائر في شباك الصائد، ولا تعمل للنجاة عملاً، وكيف ترجو الوصول إلى الغاية وهي لا تنقل إليه قدمًا، ولا تحرك شفة ولا قلمًا، ومَن طَلَبَ شيئًا وَجَدَهُ، ومَن تَرَكَهُ فقده) ثم أَرْدَفَ ذلك لقوله: (ولا يعتذر الجبان المفقود القلب بأنّ عَقْدَ هذه الجمعيات مما يتعذّر حصوله في البلاد الإسلامية الآن؛ إذ أي جمعية أنشئت قبل هذه فلم تقابل بالكفران وتُحط بالنيران، لكنها العزيمة التي ترى أن الموت في حياة الأمة خيرًا من الحياة في موتها وأن لا محيص من الصَدْرِ أو القبر) . نقول ولسنا بجُبَناء ولا مفقودي القلب ولا يائسين ولا مفتونين: لقد سلك السيد في مقاله مسلك الكاتب الحماسي، ولكنه لم يَسِرْ سَيْرَ العالم ولا الفيلسوف العمراني. ولو كان قبل أن كتب مقالته تدبّر في ألوف المقالات التي كتبت قبل مقالته بعشرين سنة وكان فيها مِن ضُرُوب الحَضِّ والحَثِّ والتحميس ما لا يمكن المزيد عليه، ومع ذلك لم تنتج أثرًا، ولم تحقق لكاتبها ولا لخلافه أملاً، لكان رجع إلى نفسه وعلم أن المانع للأمة مِن سماع تلك الصيحات، والإصاخة لتلك الهيعات أمر جَلَلٌ وخطب كبير. ولتراءت له أدواء يجب فحصها وعلل لا ينجع دعاء بوجودها. قررت العلوم النفسية، وحكمت المشاهدات الوجودية أن الإنسان لا يعمل عملاً بل ولا يتحرك حركة إلا وهو معتقد صلاحية ما يعمله أو يتحرك مِن أجله ومتيقن مِن الوصول إلى غايته فهل لدى فُضلائنا الذين يُطلب منهم تأليف تلك الجمعيات مِن العقيدة الراسخة واليقين الثابت ونحن في القرن العشرين ما يحملهم على تشكيل الجمعيات وبذل نفوسهم ونفائسهم دفاعًا عن حقيقتهم وقراعًا دون حريمها؟ أنا أول مَن يقول بأنّ المستقبل للإسلام وكُتبي ومُؤلفاتي تشهدُ لي بذلك؛ ولكني لا أحب أنْ أجعلَ للخيال سلطانًا على قلمي، ولا للحماسة التي تنطفئ بمجرد الكتابة نفوذًا على إحساسي؛ بل أعلم أني عائش في عصب الفلسفة الحسية والمدنية المادية، والمعارف الطبيعية. وصَرَفْتُ زمنًا ليس بالصغير في فَحْصِ وَسَطِي الذي أعيشُ فيه وأمّتي التي أنا بين ظهرانيها، ورأيت بالحسّ أننا إن لم نسع لمداواة عللنا من أصولها تُهنا في تطبيبها، وضللنا في علاجها وذهبت كل صيحاتنا أدراج الرياح كما ذهبت خاصتنا لأداء وظيفتها الصحيحة فوهن العقيدة وضعف الإيمان، وما دامت على هذه الصفة فلا يرجى منها اجتماع على أمر ألبتة. مجرد اعتقاد أن الإسلام دين يدعو إلى الفضائل ويحضّ على الأخذ بالماديات والمعنويات معًا، وأنه آخذ في الانتشار بين القبائل الشرقية، أو أنه مَهِيبُ الجانب في بعض البلاد الأجنبية، وكما اعتاد كثير من خاصتنا التفكه به في المجالس إظهارًا لِغَيْرَتِهم على الإسلام وتحمّسًا لكثرة براهينه لا يفيدُهم في اليقين شيئًا؛ لأن كلهم تقريبًا ممّن تعلّموا اللغات الأجنبيّة، ودرسوا العلوم الطبيعية، والمعارف التشريعية، ووقفوا على تعاليم (داروين) و (جوستاف لوبون) الذي استَشهد به السيد وعرفوا منهما ومن أمثالهما أنّ أصل الإنسان قِرْدٌ وأنه لا آدم ولا حواء ولا كتابًا سماويًّا ولا روح ولا نفس ولا حَشْر ولا نشر ومَن يرد أن نعطيه صورة موجزة مِن فلسفة هذه المدنية التي يقرأها خاصتُنا مِن عَرفة اللغات الأجنبية ويعتقدون حقيتَها فإليه غير مضنون عليه. يقولون: يا معشر المتدينين، إنكم لو جرّدتم نفوسكم عن الهوى، ووجّهتم وجوهكم شَطْرَ الهدى، لرأيتم أنه ليس دينكم إلا أثرًا مِن آثار الماضين، وبقية من بقايا أوهام السالفين، ليس لها مِن القِيمةِ والقَدْرِ إلا كما لسائرِ آثارهم الأخرى مِن العلوم الطبيعية، والصناعات اليدوية، فقد حكم العلم - معاذ الله - بأن نواميس الكون كافية في تعليل ظواهره، وقوانينه قد فسّرت أكثر غوامضه، فلا داعي لفرض وجود قوىً وراء الطبيعة، ولا موجب لتوهُّمِ عالم علوي بعد هذه المرئيات المحسوسة، أما الوجود فقديم إن لم يكن بصورته فبمادته الأولى. وأما القوى التي تصرفه فلا استقلال لها في ذاتها بل هي صفة لهيولاه الأصلية فلا مادة بلا قوة ولا قوة بلا مادة بل المادة في نفسها مَظْهر مِن مظاهر القوّة المتحركة في الأثير مِن الأزل. أما الإنسان وما نسبتموه إليه مِن نفس مستقلّة عن الجسد وما منحتموها مِن مزية الخلود بعد فنائه، وتبعثر ذراته فما تبطله الشواهد العلمية، وتحيله البدائية التشريحية، فقد قرّر العلم - معاذ الله - أنه لا فرق بينه وبين غيره مِن الكائنات السفلية ولا ميزة له على سواه مِن الأنواع الحيوانية، بل ليس هو في ذاته إلا حيوانًا فاق في قوة التعقل والإدراك غيرَه مِن أبناء نوعه، على أن أبناء نوعه - الحيوانات- غير محرومة مِن قِسْطٍ مناسب مِن التعقّل والإدراك. وإذا أردت الدليل فدونك كتب حياة الحيوان ترى مِن آثار الفِكْرِ ونتائج التعقّل ما يدلّك تمام الدلالة على أنّ العقل ليس بوقف على الإنسان ولا هو وصفه المميز، فإذا نسبت للإنسان روحًا مستقلة عن الجسد ومنحتها مزية الخلود والبقاء اعتمادًا على القوة العقلية فلِمَ لا تحكم هذا الحكم نفسه بالنسبة إلى الحيوانات أيضًا؟ أليس هذه من آثار المعلومات السابقة النافعة حينما كان الناس لا يميزون بين ما يؤيده الحس والعيان. وبين ما هو من قبيل الخيالات التي تنشأ في الوجدان بلا روية ولا إمعان؟ أما الفضائل التي تقرعون الآذان بها، وتضربون وجوه مناظريكم بسلاحها مُدّعين أنكم قادتها وزعماؤها، وأنّ لكم حق السيطرة على الناس بها، فليست في الحقيقة تبعًا لتعليم من التعاليم القديمة لكتب خاصة يقوم بها رجال ذوو صفات خاصة؛ بل هي تابعة لنواميس طبيعية تظهر في الأمم الحية ظهور سائر آثار النواميس الأخرى فلا علاقة لها بدين ألبتة. ألا ترون أنّ كثيرًا مِن المتدينين بُعداء عن الفضيلة، مغمورين في غمرات الرذيلة، ودونك الإحصائيات المدققة التي يعتني بجمعها علماء الإنسان؛ ترى أن أكثر أصحاب الجرائم من المتدينين المتشددين في الدين، وإليك كتب علماء الجرائم مثل (لومبروزو) و (فريرو) و (سيرجي) ترى العجب العجاب، بل انظر بعينيك إلى الأمم التى تزعم أن لها ارتباطًا بالدين وغيرة على اليقين، ألا تراها في حالة مِن الإجرام والتسفّل تفضل عليها معها الأمم ال

مسير الأنام.. ومصير الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسير الأنام.. ومصير الإسلام كتب الباحثون من أهل أوربا مقالات كثيرة في مستقبل الإسلام في القرن العشرين فخاضوا فيه من الجهة الدينية والاجتماعية والجهة السياسية حتى ضربوا في كل فج، وهاموا في كل وادٍ، فمن زعم أن المسلمين سائرون إلى العدم والانقراض؛ لأنهم أعداء المدنية الحديثة القائم بناؤها على سنن الكون ونواميسه التي لا تتبدل ولا تتحول فهم بذلك أعداء الوجود ومن عادى الوجود فالعدم أولى به ومن قائل إن هذه الأمة الكبيرة لا تنقرض كما انقرض هنود أمريكا لأنهم أرقى منهم بما سبق لهم من المدنية، ولكن يزول سلطانهم فلا تبقى لهم حكومة فتخطفهم الأمم القوية ويعيشون أذلاء مستضعفين، إلى أبد الآبدين، ومن ذاهب إلى أنهم سينهضون ومن بعد غلبهم سيغلبون، واختلف هذا الفريق في هذه النهضة كيف تكون وأين توجد؟ . فظن بعضهم أن ستكون بالأخذ بمدنية أوربا وتنشأ في الهند وفارس والأستانة ومصر ورجح بعض أنها تكون بالعصبية الدينية والقوة الحربية وتنشأ في أفريقيا أو الصين. وغفل كل من المختلفين عن منبتين آخرين لمجد الإسلام المستقبل وهما أوربا وأمريكا إذا أسرع بهما العلم ونظام الاجتماع إلى الإسلام، الذي لا بد أن تنتهي تلك الأمم إليه في يوم من الأيام، أو جزيرة العرب إذا أبطأ بهما سير العرفان وسنن العمران، فظلت أوربا تطارد المسلمين وتضطهدهم حتى يأرز الإسلام برجالاته المحنكين إلى جزيرة العرب كما تأرز الحية إلى جحرها، ومن ثَمَّ ينفثون سموم التعصب في الشرق كله فما ينظر الأوربيون فيه إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون. أراني عجلت برأي قبل التمهيد له وذكرت نتيجة لمقدمات مطوية ودلائل خفية، فلا غَرْوَ أن ينكرها عليّ المسلمون قبل أن يعرفها الأوربيون إلا مَنْ بَعُدَ نظره، وغاص في أعماق المسألة فكره، فلنترك المُنْكِر في إنكاره، ولنساير المتفكر في أفكاره باحثين معه في مسير الأنام ومستقبل الإسلام. أين تذهب الأمم المتقدمة دائمًا إلى الأمام، وإلى أي غاية ينتهي سير هؤلاء الأقوام، وهل تزداد الشعوب المتقدمة تقدمًا، وتزداد الشعوب المتخلفة تخلفًا، وتزداد الأمم الحية حياة والمائتة موتًا، حتى تكون الثانية غذاء للأولى كما قال اللورد سالسبوري سياسي إنكلترا الكبير. هل تبقى هذه المدنية الأوربية مادية حيوانية تبيح الفحشاء والمنكر، وهل يجرف سيلها ما في بلاد الإسلام من بقايا العفة والصيانة والتراحم والتواصل حتى لا يبقى للمسلمين - وقد أخلقت فيهم أخلاق العمران - من الصفات ما يستحقون به رحمة الله تعالى فيكونوا من الهالكين؟ هل تظل أوربا تواثب الدين كلما قلت حاجة السياسة إليه، وعَدَت العلوم الكونية عليه، وهل يكون حظ الإسلام عند المتعلمين الآتين كحظ النصرانية عند المتعلمين الحاضرين والغابرين، يتسللون منه لواذًا، ويمرقون منه زرافات وأفذاذًا؟ هل تنبت المدنية العصرية في أرض الإسلام كما نبتت في المغرب وتنمو كما نمت وتثمر كما أثمرت سواء بسواء فيرجع المسلم القهقرى إلى القرن السادس عشر الميلادي فيبتدئ منه؟ أم يكون أول سَيْره من نهاية القرن التاسع عشر فتكون مدنيته أسرع وأعجل، ومعارفه أتم وأكمل؟ إذا أراد الناظر أن يستنبط الجواب من سيرة المسلمين الذين ولَّوْا وجوههم شَطْر المدنية، ولقفوا هذا اللَّماج من العلوم الأوربية، لا يسعه إلا أن يقول: إن حال هذه المدنية ستكون - أو هي كائنة منذ اليوم - دون حال الأوربيين وأنهم سينبذون الإسلام بأسرع مما نبذ أولئك النصرانية؛ لأن لرؤساء الدين في النصرانية دولة لها في كل فرقة رئيس عام، وموظفون يسيرون بقانون ونظام، وهم مستقلون في ذلك عن الحكام، ولذلك تيسر لهم محاربة العلم زمنًا طويلاً ولما دالت للعلم الدولة، وفاز بالنصر سالموه واستعانوا به على حفظ الدين حتى إن أزمة المدارس أصبحت في أيديهم فلم يتركوا مدرسة بدون كنيسة، ومن عجزوا عن إقناعه بقضايا الدين وإلزامه بالعمل به والدعوة إليه لا يعجزون عن إقناعه باحترامه والدفاع عنه باعتبار أنه رابطة للجنسية ولا يزال لهم من السلطان في الأمم المسيحية حتى أكفرها بالدين كفرنسا ما يُخيف الحكام منهم فيضطهدونهم. وليس للمسلمين مثل هذه الرياسة المنتظمة في فرقة من الفرق ولا في قُطْر من الأقطار وما عند الشيعة من المجتهدين ليس لهم من النظام والثروة ما للإكليروس عند النصارى ولا يرجى منهم مثلما كان من أولئك. ترى رئيس علماء الدين في مصر - وإن لقبوه بشيخ الإسلام - لا يرجع إليه بشيء من أمور المسلمين ولا يستشار في كيفية تعليمهم وتربيتهم وليس له سلطان ما على أوقافهم الخيرية، ولا إشراف على أعمالهم الاجتماعية، وكذلك شيخ الإسلام الرسمي في دار السلطنة العثمانية لا وظيفة له إلا تعيين القضاة والمفتين وعزلهم فهو موظف تحكم عليه السياسة ويعزله السلطان متى شاء وليس له من الاستقلال في علمه مثلما لرؤساء الديانة النصرانية على أن عمله للحكومة لا للأمة. وأكبر من هذا كله أن رجال الدين الإسلامي لا يعهد إليهم بشيء يستقلون به دون الحكومة ولا خدمة المساجد، فالحاكم السياسي هو الذي يجعل إمام الصلاة إمامًا وخطيب الجمعة أو الحج خطيبًا فهو عند المسلمين رئيس ديني مستقل وإن شرع لحكومته غير ما شرع الله، وصار يحكم بين المسلمين باسمه دون اسم الله ‍‍‍‍‍‍! ! ! يقول الناظر: إذا كان حال الحكام المسلمين ما نرى من البعد عن الدين وصاروا كما قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) . إذا كان المسلمون على هذا راضين عنهم وخاضعين لهم مع علمهم بأنهم خاضعين للأجانب إما ظاهرًا وباطنًا وإما باطنًا فقط. وإذا كان علماء الدين لا يرجع إليهم بشيء من سير الأمة الاجتماعيّ والأدبيّ ولا هم ينتدبون لذلك من أنفسهم ويجعلون الأمة مضطرة إلى الرجوع إليهم، والاعتماد في تربيتها عليهم. وإذا كان المتعلمون على الطريقة الأوربية من المصريين والأتراك كثيرًا ما ينبذون الدين ظِهريًّا، ويحسبونه شيئًا فريًّا، ويستحلون الخمور، ويستمرعون مرعى الفجور، ويفضلون الظلمة على النور. وإذا كان هؤلاء المتعلمون هم الذين يتولون الأحكام، ويأخذون من الأمة بكل زمام، وإذا كان الناس على دين ملوكهم، والرعايا تبعًا لحكامهم، وناموس الاجتماع قاضٍ بتقليد الناس لأمرائهم وكبرائهم - أفلا يحق لنا أن نحكم بأن المسلمين سيكونون أسرع في ترك دينهم ممن سبقهم، فإن كان الجهاد بين العلم والدين في أوربا مدة خمسة قرون قد أنجم ببقاء الدين في نمو وسلطانه في نفوذ وعلو، فلا يمضي على المسلمين قرن أو قرنان إلا وهم في خبر كان، وإذا لاحظنا أنه ليس للمسلمين جنسية ولا وطنية تقوم مقام الرابطة الدينية، وأن الذين أحبوا الامتياز فيهم والانتفاع منهم بدعوتهم إلى الوطنية لم ينجحوا؛ لآن تأثير الدين لم يجعل لهم تأثيرًا بل عدّهم الذين يفهمون حكم الإسلام وأسراره أعداء للإسلام، وإن كانت أسماؤهم أسماء المسلمين - فلنا إن نحكم بأن المسلمين سيفقدون بانحلال الرابطة الدينية كل استقلال، ويكون مصيرهم إلى الزوال، فلا تفيدهم سعة البلاد، ولا كثرة التعداد؛ إذ لا كثرة مع فقد الرابط العام، كما لا يكون العقد بغير نظام. هذا ما يقول الناظر بإحدى عينيه، إلى ما بين يديه، وأعني بإحدى العينين العين التي تنظر إلى السوءى دون الحسنى وإلى منافذ الخوف دون أبواب الرجاء وأعني بما بين اليدين الظاهر الشائع من حال الأمم دون الخفي الذي لا يرى إلا بالتحديق، وبنفوذ أشعة البصر من الحجاب الصفيق، ذلك أن كل إنسان يدرك مما يشاهده ويمر به ما هو مستعد لإدراكه وينبو طرفه عما سواه وإن كان واضحًا جليًّا. فما بالك إذا كان ما يعلو استعداد الناظر الحسير خفيًّا سرُّه، مجهولاً عنده أمره. إنّ سير الأمم يشبه سَيْرَ الظل لا نعد له الخطوات، وانتقالها يحاكي انتقال النجوم السيارة لا تدركه لا وقد فات، والوليد يُعذر إذا أنكر سير الظل وجزم بأنه واقف؛ لأنه لا يرى حركته، والجاهل بعلم الفلك يُعذر إذا أنكر بديئًا أن السيارات تسير من الغرب إلى الشرق؛ لأنه يراها تغيب في جانب الغرب فهو يرى أثر حركة الأرض؛ لأنه قريب يكون كل يوم ولا يلاحظ سبب تأخر طلوع القمر كل ليلة فضلاً عن غيره من السيارات، كذلك يُعذر الماجن إذا جاء باريس فعكف فيها على الحانات والمواخير وإذا قال إن غاية مدنية أوربا إباحة الفواحش والفجور ولا غاية وراءها ويُعذر كَلِيلُ النظر إذا جاء مصر فرأى فيها كل شيء دون ما كان يسمع إذا حكم على مستقبلها بضد ما كان يحكم به وهو بعيد عنها ويئس من مستقبل الإسلام بالنسبة إليها. يعذر باليأس إذا دخل الأزهر فرآه كعالم الخيال لا أثر لحال الناس في علمه ولا أثر لعمله فيما عليه الناس في سيرهم ورأى أن الآثار القلمية التي تصدر عن مصر ليست منه في شيء ولا هي مرضية في الغالب عند أهله وإنما جل علمهم مناقشة في أساليب المؤلفين وتدقيق في تحليل عبارات كتب مخصوصة اختاروا تدريسها، ثم رأى أن أهله غير محترمين عند طبقة من طبقات الأمة حتى إن الحوذي (سائق المركبة) ليسخر من المجاور في الأزهر ومن العالم أيضًا إلا بعض الوجهاء الذين يحترمون لمناصبهم التي بقيت لهم أو لثروتهم وقليل ما هم. ويُعذر به إذا غادر الأزهر إلى المدارس فرأى فيها العناية باللغة الإنكليزية أضعاف العناية باللغة العربية، ورأى التلامذة يتلقون تاريخ الدين عن المدرسين الأوربيين، ورأى علم الدين كالرسم الدارس، لا يحفل به المدرس ولا الدارس، وظن لذلك أن الإنكليزية سوف تستبدل بالعربية، ويُعذر به إذا شاهد الجريدة الهزلية البذيئة تطبع منها ألوف من النسخ فتباع بالنقد يدًا بيد ويتهافت عليها القارئون والقارئات من جميع الطبقات، يلغون بها مقهقهين ولا مثار للقهقهة والكركرة، ولا للإهلاس والهرنفة، ثم يرى قراء المجلات العلمية والتهذيبية على قلتهم يلوون ويمطلون ولا يخرج منهم حقها إلا نكدًا. ويعذر به إذا لاحظ حال تلامذة لمدارس وبلا أخبارهم، واكتشف ضمائرهم وأسرارهم، فرأى أكثرهم مشغولين بالسفاسف فاسدى التربية قصيري الآمال لا همَّ لأحدهم إلا أن يكون موظفًا في الحكومة لا ليرفع شأن أمته ولا ليخدم مصلحة بلاده ولكن ليكون رزقه مضمونًا فلا يتكلف عناء الأعمال، وإن كان وراءها نعيم الاستقلال - ويعذر به إذا رأى الأغنياء والوجهاء لا همَّ لهم إلا التمتع باللذات تنبسط أيديهم في الإسراف والمخيلة، وتنقبض عن الأعمال الجليلة ويكون أعذر باليأس والقنوط إذا رفع بصره إلى الحكام والأمراء ورآهم ألعوبة في أيدي الأجانب. وقد أخذتهم الفتن من كل جانب. هذا ما يراه الطرف القصير والبصر الحسير، ويبني عليه حكمه الجائر ولكن الإسلام يسير من وراء مدى طرفه سيرًا طبيعيًّا، ويتقدم تقدمًا تدريجيًّا، يسير بلغته وعلومه سير الظل الوارف وينتقل انتقال الكواكب من الغرب إلى الشرق في الباطن ومن الشرق إلى الغرب في الظاهر بل كل واحد من الخافقين يسير نحو الآخر كلما خطا المسلم إلى المدنية الأوربية المسرفة خطوة، خطا مثلها الأوربي إلى الإسلام أو أبعد منها أو أقرب ولا ندري وهما في مبدإ السير أيّهما يكون الأسبق إلى

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم (س1) مصطفى أفندي رشدي المورلي بالزقازيق: ما هي الحكمة في تعدد زوجات النبي أكثر مما أباحه القرآن الشريف لسائر المؤمنين وهو التزوج بأربع فما دونها وتعين الواحدة عند خوف الخروج عن العدل؟ ج: إن الحكمة العامة في الزيادة على الواحدة في سن الكهولة والقيام بأعباء الرسالة والاشتعال بسياسة البشر ومدافعة المعتدين دون سنِّ الشباب ومساعدة البالغين على السياسة الرشيدة. فأما السيدة خديجة وهي الزوجة الأولى، فالحكمة في اختيارها وراء سُنة الفطرة معروفة وليست من موضوع السؤال. وقد عَقَدَ بعد وفاتها على سودة بنت زَمْعَة وكان توفي زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية , والحكمة في اختيارها أنها كانت من المؤمنات الهاجرات لأهليهن خوفَ الفتنة، ولو عادت إلى أهلها بعد وفاة زوجها - وكان ابن عمها - لعذبوها وفتنوها فكفلها عليه الصلاة والسلام وكافأها بهذه المنة العظمى، ثم بعد شهر عقد على عائشة بنت الصديق والحكمة في ذلك كالحكمة في التزوج بحفصة بنت عمر بعد وفاة زوجها خنيس بن حذافة ببدر وهي إكرام صاحبيه ووزيريه أبي بكر الصديق وعمر - رضي الله عنهما - وإقرار عينهما بهذا الشرف العظيم. وأما التزوج بزينب بنت جحش فالحكمة فيه تعلو كل حكمة وهي إبطال تلك البدع الجاهلية التي كانت لاحقة ببدعة التبني كتحريم التزوج بزوجة المتبنى بعده وغير ذلك، وقد نشر في المجلد الثالث من المنار مقالتان في هذه المسألة إحداهما للأستاذ الإمام فليراجعهما السائل هناك , ويقرب من هذه الحكمة الحكمة في التزوج بجويرية وهي برة بنت الحارث سيد قومه بني المصطلق فقد كان المسلمون أسروا من قومها مئتي بيت بالنساء والذراري فأراد عليه الصلاة والسلام أن يعتق المسلمون هؤلاء الأسرى فتزوج بسيدتهم فقال الصحابة عليهم الرضوان أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أسرهم وأعتقوهم فأسلم بنو المصطلق لذلك أجمعون وصاروا عونًا للمسلمين بعد أن كانوا محاربين لهم وعونًا عليهم وكان لذلك أثر حسن في سائر العرب. وقَبْل ذلك تزوّج عليه السلام بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش بأُحُد وحكمته في ذلك أن هذه المرأة كانت مِن فُضليات النساء في الجاهلية حتى كانوا يدعونها أم المساكين لبرها بهم وعنايتها بشأنهم فكافأها عليه التحية والسلام على فضائلها بعد مصابها بزوجها بذلك فلم يدعها أرملة تقاسي الذلّ الذي كانت تُجير منه الناس وقد ماتت في حياته وتزوج بعدها أم سلمة واسمها هند وكانت هي وزوجها - عبد الله أبو سلمة بن أسد ابن عمة الرسول برة بنت عبد المطلب وأخوه من الرَّضاعة - أول من هاجر إلى الحبشة وكانت تحب زوجها وتجله حتى إن أبا بكر وعمر خطباها بعد وفاته فلم تَقْبل , ولمَّا قال لها النبي صلى الله عليه وسلم (سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرًا) . قالت: ومَنْ يَكُنْ خيرًا من أبي سلمة؛ فمن هنا يعلم السائل وغيره مقدار مصاب هذه المرأة الفاضلة بزوجها، وقد رأى عليه الصلاة السلام أنه لا عزاء لها عنه إلا به فخطبها فاعتذرت بأنها مُسِنّة وأُمّ أيتام فأحسن علية السلام الجواب - وما كان إلا محسنًا - وتزوج بها، وظاهرٌ أنّ ذلك الزواج ليس لأجل التمتع المباح له وإنما كان لفضلها الذي يعرفه المتأمل بجودة رأيها يوم الحديبية ولتعزيتها كما تقدم. وأما زواجه بأمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيان بن حرب فلعلّ حكمتُه لا تخفى على إنسان عرف سيرتها الشخصية وعرف عداوة قومها في الجاهلية والإسلام لبني هاشم ورغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تأليف قلوبهم. كانت رملة عند عبيد الله بن جحش، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصّر هناك وثبتت هي على الإسلام فانظر إلى إسلام امرأة يكافح أبوها بقومه النبيَّ ويتنصر زوجها وهي معه في هجرة معروف سببها. أمن الحكمة أن تضيع هذه المؤمنة الموقنة بين فتنتين؟ أم من الحكمة أن يكفلها من تصلح له وهو أصلح لها؟ كذلك تظهر الحكمة في زواج صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير وقد قتل أبوها مع بني قريظة وقتل زوجها يوم خيبر. وكان أخذها دحية الكلبي من سيد خيبر فقال الصحابة: (يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك) ، فاستحسن رأيهم وأبى أن تذل هذه السيدة بأن تكون أسيرة عند من تراه دونها فاصطفاها وأعتقها وتزوّج بها ووصل سببه ببني إسرائيل وهو الذي كان يُنْزِلُ النَّاس منازلَهم وآخر أزواجه ميمونة بنت الحارث الهلالية (وكان اسمها برة فسماها ميمونة) والذي زوجها منه هو عمّه العباس - رضي الله عنه - وكانت جعلت أمرها إليه بعد وفاة زوجها الثاني أبي رَهم بن عبد العزّى وهي خالة عبد الله ابن عباس وخالد بن الوليد فلا أدري هل كانت الحكمة في تزوجه بها تشعب قرابتها في بني هاشم وبني مخزوم أم غير ذلك. وجملة الحكمة في الجواب أنه صلى الله عليه وسلم راعى المصلحة في اختيار كل زوج من أزواجه - عليهن الرضوان - في التشريع والتأديب فجذب إليه كبار القبائل بمصاهرتهم وعلم أتباعه احترام النساء دون الرجال، ولو ترك واحدة فقط لما كانت تغني في الأمة غناء التسع، ولو كان عليه السلام أراد بتعدد الزوجات ما يريده الملوك والأمراء من التمتع بالحلال فقط؛ لاختار حسان الأبكار على أولئك الثيبات المكتهلات كما قال لمن استشاره في التزوج بأرملة: (هلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك) هذا ما ظهر لنا في حكمة التعدد، وإن أسرار سيرته صلى الله عليه وسلم أعلى من أن تحيط بها كلها أفكار مثلنا. * * * تَرْكُ الملوك والأمراء فريضة الحج (س2) 1-ع بالأزهر: (من المعلوم أن الحج لبيت الله الحرام فريضة عينية على كل مسلم استطاع إليه سبيلاً وبديهي أن أمراء المسلمين وحكامهم هم أَقْدَر على الاستطاعة، فلم لا يحجّون، وهل هناك مانع شرعي أو ما يوجب سقوطَهُ عنهم سيّما وقد مضى نحو الثلاثة قرون ولم نسمع بملك منهم حج أو اعتمر. أفيدونا الجواب ولكم الأجر والثواب) . (ج) لا نعلم لأحد منهم عذرًا في تَرْكِ هذا الركن الديني العظيم، وقد كنّا شددنا النكير في هذه المسألة في الصفحة 386 من منار السنة الأولى. وإننا نرى العقلاء من صاروا يلهجون بهذه المسألة، ويقولون ما بال بعض ملوكنا وأمرائنا كشاه العجم وخديو مصر يذهبون إلى أوربا المرّة بعد المرّة ولا يذهبون إلى مكّة المكرمة فإذا كان السلطان عبد الحميد يخاف على نفسه من قومه الترك أو من الأرمن - دون سواهم من رعيته - إذا خرج حاجًّا؛ لأنه لا يتيسر له من الاحتياط في السفر ما يتيسر له في قصره. وإذا كان سلطان المغرب الأقصى وأمير الأفغان يخافان على بلادهما من الفتن أو إقامة غيرهما في مكانهما إذا خرجا من بلادهما فما بال غيرهم ممن لا يخشى علي نفسه ولا على بلاده لا يحج. نعم إن الحج مفروض على التراخي فلا يعترض على شخص بعينه أنه لم يحج لجواز أن يكون لم يؤخر الحج إلا وهو عازم عليه، ولكن يظهر من حال ملوكنا وأمرائنا الحاضرين أن سيكونون كمَنْ سبقهم من عدّة قرون، ويعتقد المشتغلون بالسياسة أن السلطان عبد الحميد لا يرضيه أن يحج شاه العجم ولا أمير مصر وأنه يمنعهما إذا أرادا ذلك ما استطاع، وكذلك سلطان مراكش لأنه يخاف أن يعملوا في البلاد المقدسة عملاً سياسيًّا كتحويل الخلافة إلى أنفسهم فهذا كل ما نعلمه في اعتذار المعتذرين والله أعلم بالسرائر. أما الفوائد التي تكون من حج الأمراء والسلاطين لأنفسهم وللمسلمين فهي كبيرة جدًّا فإن الاجتماع في تلك البقاع المقدسة هو خير سبيل في تعارفهم وتحالفهم على ما فيه مصلحة الملة والأمة مع بقاء كل منهم في إمارته أو سلطنته. ونعيد ما قلناه في المنار من خمس سنين وهو أنه لو كان لعواهل أوربا وقياصرتهم وملوكهم مثل هذا المجتمع العظيم لما تركوا الاختلاف إليه. * * * اختلاف الشريعة باختلاف الزمان والمكان (س3) م. ر. بمدرسة الحقوق بمصر: يقول أرباب الشرائع والقوانين إنه يجب في تحقيق عدالتها أن تكون موافقة لأخلاق الأمم وعاداتهم وطبائعهم ودرجة تربيتهم وأقاليمهم وأحوالهم المعاشية والاقتصادية. فإذا كان الأمر كذلك فلم لم نشاهد سوى قانون واحد لدى الأمم الإسلامية - الشريعة الغراء - مع أنه يوجد اختلاف عظيم بين تلك البلاد في العادات والأخلاق والأقاليم؟ (ج) إن علماء الحقوق والقوانين الوضعية إنما يضعون قوانينهم لأهل السياسة وهم إنما يهمهم من رعاياهم جباية الأموال والأمن من الخروج عليهم لا سيما إذا كانوا من غير جنسهم، وما يساعد على ذلك من منع التعدي فواضع القانون يحترم عادات كل قوم وإن كانت ضارة كالسُّكر والزنا ويخص أحكامه بحفظ النظام فيها ومنع التعدي وأما الشريعة الإلهية فإصلاح الأخلاق والعادات فيها مقصود بذاته، وأساس هذه الشريعة دَرْءُ المفاسد وحفظ المصالح سواء كان ذلك في الأفراد أو الجماعات وما بينهم من الروابط والصلات، وقد وضع الإسلام على هذا الأساس أصولاً عامّة للأحكام لا تختلف باختلاف الزمان والمكان كالمساواة في الحقوق وإقامة القسط ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، وكون درء المفاسد مقدَّمًا على جَلْب المصالح، وارتكاب أخف الضررين، وجعل البينة على المدّعي، وهي كل ما يتبين به الحق وجعل الحاكم مستقلاً مجتهدًا يستنبط الأحكام مع فرض الاستشارة عليه إلى غير ذلك من الأصول العادلة وبَعْدَ هذا كله جعلت العرف محكمًا كوضع الشرع ليراعي فيما يختلف من أحوال البلاد والعباد التي لا تخل بمقاصد الشريعة والدين في التهذيب وتقريب الشعوب بعضها من بعض لتكون الأمم كلها أمة واحدة. لهذا الذي أجملناه لم تلزم الشريعة الإسلامية أتباعها بالتزام جزئيات الأحكام التي صدرت في عهد التشريع كما هي بدون مراعاة أساس درء المفاسد وحفظ المصالح، وقد تقدمت الأدلة على هذا في مقالات (محاورات المصلح والمقلد) فليراجعها السائل في أواخر المجلد الثالث وأوائل الرابع من المنار، ومنها يعلم أن هذا الوضع من أسباب جعل الشريعة خاتمة الشرائع ونبيها صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين كما بيناه مرارًا بالتوضيح. * * * طهارة السبيرتو أو الكحول (س4) علي أفندي حسني بكمرك السويس: قد ألجأت حالة الوقت إلى (السبيرتو) في إزالة ما على الملابس والطرابيش من الوسخ والدهن، وقد تردد الناس في طهارته ونجاسته للشكِّ في أصله، فإنْ كان نجسًا فهل تطهر الطرابيش المنظفة به بحرارة النار عند كيها أو بكونه سريع الطيران كما يقال؟ (ج) قد أثبتنا من قبل طهارة الكحول بأنواعه في المنار بالأدلة بل هو أقوى المطهرات على أنه سريع الطيران ولو لم يعرض الثوب على حرارة النار. والقول بنجاسته وتنجيسه تشديد مبني على فلسفة غير صحيحة. [راجع ص 500 م 4] .

الاجتماع السابع لجمعية أم القرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتماع السابع لجمعية أم القرى (في مكة المكرمة يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة1316) في صباح اليوم المذكور انتظمت الجمعية، وقرئ الضَّبْطُ السابق حسب القاعدة المرعية، قال (الأستاذ الرئيس) مخاطبًا السيد الفراتي: إن الجمعية لتنتظر منك فوق همتك في عقدها وقيامك بمهمتها التحريرية أن تفيدها أيضًا رأيك الذاتي في سبب الفتور المبحوث فيه؛ وذلك بعد أن تقرر لها مجمل الآراء التي أوردها الإخوان الكرام إذ أحطْت بها علمًا مكررًا بالسمع والكتابة والقراءة والمراجعة فأنت أجمعنا لها فكرًا. هذا والجمعية ترجو الفاضل الشامي والبليغ الإسكندري أن يشتركا في ضبط خطابك بأن يتعاقبا في تلقي الجمل الكلامية وكتابتها؛ لأنهما كباقي الإخوان لا يعرفان طريقة الاختصار المستعمل في هذا المقام. نظر (الفاضل الشامي) إلى رفيقه واستملح منه القول ثم قال: إننا مستعدان للتشرف بهذه الخدمة. قال (السيد الفراتي) : حبًّا وطاعة، وإن كنت قصير الطَّوْل كليل القول قليل البضاعة. ثم انحرف عن المكتبة فقام مقامه عليها الفاضل الشامي والبليغ الإسكندري، وما لبث أن شرع في كلامه فقال: يستفاد من مذكرات جمعيتنا المباركة أن هذا الفتور المبحوث فيه ناشئ عن مجموع أسباب كثيره مشتركة فيه لا عن سبب واحد أو أسباب قلائل تمكن من مقاومتها بسهولة، وهذه الأسباب منها أصول ومنها فروع لها حكم الأصول وكلها ترجع إلى ثلاثة أنواع وهي أسباب دينية وأسباب سياسية وأسباب أخلاقية، وإني أقرأ عليكم خلاصتها من جدول الفهرست الذي استخرجته من مباحث الجمعية رامزًا للأصول منها بحرف (الألف) وللفروع منها بحرف (الفاء) ، وهي: (النوع الأول: الأسباب الدينية) (1) تأثير عقيدة الجبر في أفكار الأمة (أ) (2) تأثير المزهدات في السعي والعمل وزينة الحياة (ف) (3) تأثير فتن الجدل في عقائد الدين (أ) (4) الاسترسال في التخالف والتفرق في الدين (أ) (5) الذهول عن سماحة الدين وسهولة التدين به (أ) (6) تشديد الفقهاء المتأخرين في الدين خلافًا للسلف (أ) (7) تشويش أفكار الأمة بكثرة تخالف الآراء في فروع أحكام الدين (ف) (8) فقد أمكن مطابقة القوة للعمل في الدين بسبب التخليط والتشديد (ف) (9) إدخال العلماء المدلّسين على الدين مقتبسات كتابية وخرافات وبدعًا مضرّة (أ) (10) تهوين غلاة الصوفية الدين وجعلهم إياه لهوًا ولعبًا (ف) (11) إفساد الدين بتفنن المداحين بمزايدات ومتروكات وتأويلات (ف) (12) إدخال المدلسين والمقابرية على العامة كثيرًا من الأوهام (أ) (13) خلع المنجمين والرّمالين والسحرة والمشعوذين قلوب المسلمين بالمرهبات (ف) (14) إيهام الدجالين والمداحين أن في الدين أمورًا سرية وأن العلم حجاب (أ) (15) اعتقاد منافاة العلوم الحكمية والعقلية للدين (أ) (16) تطرق الشرك الصريح أو الخفي إلى عقائد العامة (ف) (17) تهاون العلماء العاملين في تأييد التوحيد (ف) (18) الاستسلام للتقليد وترك التبصر والاستهداء (ف) (19) التعصب للمذاهب ولآراء المتأخرين وهجر النصوص ومسلك السلف (ف) (20) الغفلة عن حكمة الجماعة والجمعة وجمعية الحج (1) (21) العناد على نبذ الحرية الدينية جهلاً بميزتها (ف) (22) التزام ما لا يلزم لأجل الاستهداء بالكتاب والسنة (ف) (23) تكليف المسلم نفسه ما لا يكلفه به الله وتهاونه فيما هو مأمور به (ف) . (النوع الثاني الأسباب السياسية) (24) السياسية المطلقة من السيطرة والمسئولية (أ) (25) تفرق الأمة إلى عصبيات وأحزاب سياسية (ف) (26) حرمان الأمة من حرية القول والعمل وفقدانها الأمن والأمل (ف) (27) فقد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمة (ف) (28) ميل الأمراء للعلماء المدلسين وجهلة المتصوفين (ف) (29) حرمان العلماء العاملين وطلاب العلم من الرزق والتكريم (أ) (30) اعتبار العلم عطية يحسن بها الأمراء على الأخصاء وتفويض خَدْم الدين للجهلاء (أ) (31) قلب موضوع أخذ الأموال من الأغنياء وإعطائها للفقراء (أ) (32) تكليف الأمراء القضاة والمفتين أمورًا تهدم دينهم (ف) (33) إٍبعاد الأمراءِ النبلاءَ والأحرار وتقريبهم المتملقين والأشرار (أ) (34) مراغمة الأمراء السراة والهداة والتنكيل بهم (ف) (35) فقد قوة الرأي العام بالحجر والتفريق (ف) (36) حماقة أكثر الأمراء وتمسكهم بالسياسات الخرقاء (ف) (37) إٍصرار أكثر الأمراء على الاستبداد عنادًا واستكبارًا (ف) (38) انغماس الأمراء في دواعي الشهوات وبُعدهم عن المفاخرة بغير الفخفخة والمال (ف) (39) حَصْر الاهتمام السياسي بالجباية والجندية فقط (أ) . (النوع الثالث الأسباب الأخلاقية) (40) الاستغراق في الجهل والارتياح إليه (أ) (41) استيلاء اليأس من اللحاق بالفائزين في الدين والدنيا (ف) (42) الإخلاد إلى الخمول ترويحًا للنفس (ف) (43) فقد التناصح وترك البغض في الله (أ) (44) انحلال الروابط الدينية الاحتسابية (أ) (45) فساد التعليم والوعظ والخطابة والإرشاد (ف) (46) فقد التربية الدينية والأخلاقية (أ) (47) فقد قوة الجمعيات وثمرة دوام قيامها (أ) (48) فقد القوة المالية الاشتراكية بسبب التهاون في الزكاة (أ) (49) ترك الأعمال بسبب ضعف الآمال (ف) (50) إهمال طلب الحقوق العامة جبنًا وخوفًا من التخاذل (ف) (51) غلبة التخلق بالتملق تزلقًا وصغارًا (ف) (52) تفضيل الارتزاق بالجندية والخدم الأميرية على الصنائع (53) توهم أن علم الدين قائم في العمائم وفي كل ما سطر في الكتاب (ف) (54) معاداة العلوم المالية ارتياحًا للجهالة والسفالة (أ) (55) التباعد عن المكاشفات والمفاوضات في الشئون العامة (أ) (56) الذهول عن تطرق الشرك وشؤمه (أ) . ثم قال (السيد الفراتي) : هذه هي خلاصات أسباب الفتور التي أوردها إخوان الجمعية وليس فيها مكررات كما يظن , وإذ كان للخلل الموجود في أصول إدارة الحكومات الإسلامية دخل مهم في توليد الفتور العام؛ فإني أضيف إلى الأسباب التي سبق البحث فيها من قبل الإخوان الكرام الأسباب الآتية، أعددها من قبيل رءوس مسائل فقط إٍذ لو أردت تفصيلها وتشريحها لطال الأمر ولخرجنا عن صدد محفلنا هذا. والأسباب التي سأذكرها هي أصول موارد الخلل في السياسة والإدارة الجاريتين في المملكة العثمانية التي هي أعظم دولة يهم شأنها عامة المسلمين. وقد جاءها أكثر هذا الخلل في الستين سنة الأخيرة أي بعد أن اندفعت لتنظيم أمورها فعطلت أصولها القديمة ولم تُحسن التقليد ولا الإبداع فتشتت حالها ولا سيما في العشرين سنة الأخيرة التي ضاع فيها ثلثا المملكة وخرب الثلث الباقي وأشرف على الضياع لفقد الرجال وصرف السلطان قوة سلطته كلها في سبيل حفظ ذاته الشريفة وسبيل الإصرار على سياسة الانفراد، وأما سائر الممالك والإمارات الإسلامية فلا تخلو أيضًا من بعض هذه الأصول كما أن فيها أحوالاً أخرى أضر وأمر بطول بيانها واستقصائها والأسباب المراد إلحاقها ملخصة هي: (الأسباب السياسية والإدارية العثمانيتين) (57) توحيد قوانين الإدارة والعقوبات مع اختلاف طبائع أطراف المملكة واختلاف الأهالي في الأجناس والعادات [1] (أ) (58) تنويع القوانين الحقوقية وتشويش القضاء في الأحوال المتماثلة (أ) (59) التمسك بأصول الإدارة المركزية مع بعد الأطراف عن العاصمة وعدم وقوف رؤساء الإدارة في المركز على أحوال تلك الأطراف المتباعدة وخصائص سكانها (ف) (60) التزام أصول عدم توجيه المسئولية على رؤساء الإدارة والولاة عن أعمالهم مطلقًا [2] (ف) (61) تشويش الإدارة بعدم الالتفات لتوحيد الأخلاق والمسالك في الوزاء والولاة والقواد مع اضطرار الدولة لاتخاذهم من جميع الأجناس والأقوام الموجودين في المملكة بقصد استرضاء الكل (ف) (62) التزام المخالفة الجنسية في استخدام العمل بقصد تعسر التفاهم بين العمل والأهالي وتعذر الامتزاج بينهم لتأمن الإدارة غائلة الإنفاق عليها (ف) (63) التزام تفويض الإمارات المختصة عادة ببعض البيوت كإمارة مكة وإمارات العشائر الضخمة في الحجاز والعراق والفرات لمن لا يحسن إدارتها لأجل أن يكون الأمير منفورًا منه ممن ولي عليهم مكروهًا عندهم فلا يتفقون معه ضد الدولة (أ) (64) التزام تولية بعض المناصب المختصة ببعض الأصناف كالمشيخة الإسلامية والسر عسكرية لمن يكون منفورًا منه في صنفه العلماء أو الجند لأجل أن لا يتفق الرئيس والمرءوس على أمر مهم [3] (ف) (65) التمييز الفاحش بين أجناس الرعية في الغُنْم والغُرْم [4] (66) التساهل في انتخاب العمال والمأمورين والإكثار منهم بغير لزوم وإنما يقصد به إعالة العشيرة والمحاسيب والمتملقين الملحين. (67) التسامح في المكافأة والمجازاة تهاونًا بشئون الإدارة حسنت أم ساءت كأن ليس للملك صاحب (68) عدم الالتفات لرعاية الشئون الدينية كوضع نظامات مصادمة للشرع بدون لزوم سياسي مهم أو مع اللزوم ولكن بدون اعتناء بتفهيمه للأمة والاعتذار لها جلبًا للقناعة والرضا [5] (69) تضييع حرمة الشرع وقوة القوانين بالتزام عدم اتباعها وتنفيذها والإصرار على أن تكون الإدارة نظامية اسمًا إدارية فعلاً [6] (70) التهاون في مجاراة عادات الأهالي وأخلاقهم ومصالحهم استجلابًا لمحبتهم القلبية فوق طاعتهم الظاهرية. (71) الغفلة أو التغافل عن مقتضيات الزمان ومباراة الجيران وترقية السكان بسبب عدم الاهتمام بالمستقبل (72) الضغط على الأفكار المتنبهة بقصد منع نموها وسموها واطلاعها على مجاري الإدارة، محاسنها ومعايبها، وإن كان الضغط على النمو الطبيعي عبثًا محضًا ويتأتى منه الإغراء والتحفز وينتج عنه الحقد على الإدارة (73) تمييز الأسافل أصلاً وأخلاقًا وعلمًا وتحكيمهم في الرقاب الحرّة وتسليطهم على أصحاب المزايا، وهذا التهاون بشأن ذوي الشئون يستلزم تسفل الإدارة (74) إدارة بيت المال إدارة إطلاق بدون مراقبة، وجزاف بدون موازنة وإسراف بدون عتاب، وإتلاف بدون حساب حتى صارت المملكة مديونة للأجانب بديون ثقيلة توفي بلادًا ورقابًا ودماءً وحقوقًا. (75) إدارة المصالح المهمة السياسية والملكية بدون استشارة الرعية ولا قبول مناقشة فيها وإن كانت إدارة مشهودة المضرة في كل حركة وسكون. (76) إدارة المُلك إدارة مداراة وإسكات للمُطَّلعين على معايبها حذرًا من أن ينفثوا ما في الصدور فتعلم العامة حقائق الأمور والعامة مَن إذا علموا قالوا، وإذا قالوا فعلوا وهناك الطامة الكبرى. (77) إدارة السياسة الخارجية بالتزلف والإرضاء والمحاباة بالحقوق والرشوة والامتيازات والنقود. فتبذل الإدارة ذلك للجيران بمقابلة تعاميهم عن المشاهد المؤلمة التخريبية وصبرهم على الروائح المنتنة الإدارية، ولولا تلك المشاهد والروائح لما وجد الجيران وسيلة للضغط مع ما ألقاه الله بينهم من العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. ثم قال (السيد الفراتي) إن بعض هذه الأسباب التي ذكرتها هي أمراض قديمة ملازمة لإدارة الحكومة العثمانية منذ نشأتها أو منذ قرون وبعضها أعراض وقتية تزول بزوال محدثها وربما كان يمكن الصبر عليها لولا أن الخطر قرب، والعياذ بالله من القلب كما أشار إليه الأستاذ الرئيس في خطابه الأول [7] . ثم قال: ويلتحق بهذه الأسباب بعض أسباب شتى لفصلها بعد تعدادها إلحاقًا بالخلاصات. وهي: أسباب شتى (78) عدم تطابق الأخلاق بين الرعية والرعاة (79) الغرارة أي الغفلة عن ترتيب شئون الحياة (80) الغرارة عن لزوم توزيع الأعمال والأوقات (81) الغرارة عن ال

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الشذرة التاسعة من جريدة الدكتور أراسم [1] تعليم الأطفال اليونانية واللاتينية وإقراؤهم كتبهما تناظرت مع هيلانة غير مرة في ضرورة تعليم (أميل) تينك اللغتين وإقرائه ما ألف فيهما من الكتب ولست ذاكرًا لك من هذه المناظرات إلا ملخصها فأقول: الواجب أن يربى كل طفل تربية من ينبغي أن يكون من كيان الرجال فذلك هو الوسيلة التي يفضل بها عامة الناس ويمتاز عنهم في مستقبله، ولهذا كان حقًّا على المربي أن يعرف طبعه ويبحث في دروب ميله ويَخْبُر أنواع استعداده العقلي, ولما كان الفضل والامتياز يحصلان في هذه الدنيا بكيفيات مختلفة وينالان بطرق شتى كان أول فرض عليه أن يبحث في هذه الطرق عما يلائم طبعه ويناسب استعداده. فالذي أعيبه في طريقة المربين عندنا هو إغفال ما للناشئين من القوى وضروب الاستعداد الذاتية وعدم اعتبارها في شيء من التربية، ذلك أنك ترى بعض الناشئين مثلاً قد ولد رحالة ليضرب في الأرض ويجوب آفاقها أخص حاجة له فيما خلق لأجله هي معرفة اللغات الحية ليتفاهم بها مع الأجانب في بلادهم فيبدأ المربون بتعليمه لغتين مهملتين انقطع التخاطب بهما من على وجه الأرض , وترى آخر خلق ميالاً إلى معرفة علم القوى المحركة وقوانين التوازن (الميخانيقا) يلقون به في بحر من الكتب ما له من قرار, وتجد ثالثًا أعد للتجارة، ورابعًا سُخّر للزراعة لا يراعي ما لكل منهما من الميل إلى ما أعد له، بل يتبع في حقهما ما قضت به العادة وجرى عليه العرف وهو أنه لا بد من يريد الاشتهار في هذه الدنيا من سجنه في المدرسة ثمانِ سنين. كم رأينا من متعلمي اللاتينية واليونانية من يقضي عليهم بأن لا يستعلموهما في حياتهم؛ لأنهم متى تخرجوا من المدارس واشتغلوا بمصالحهم قلَّ وايم الحق أن يخطر ببالهم تصفح كتب فرجيل [2] أو ديوان عمير [3] والنظر في صحفهما البالية التي قضوا في مطالعتها كثيرًا من ساعات التعب والسآمة ولست أقصد بقولي هذا تجريد أي معرفة من معارف العقل كائنة ما كانت من الفائدة مطلقًا ولكن لا حرج علي أن تربيت في أن ما يخسره كثير من التلامذة من زمنهم في تعلم تينك اللغتين لا يساويه ما يعود عليهم من الفوائد بتعلمها. أنا أعلم كل ما للمنتصر لهما من وجود الاحتجاج على ضرورة تعليمهما فله أن يقول: إن معرفتهما حاسة سادسة لنا ندرك بواستطها دقائق آداب لغتنا وأنه لا يسع لأحد من الناس إنكار ما كان لمطالعة الكتب القديمة المؤلفة بهما من التأثير الماثل في عقول الناشئين الذين تغذوا بلبان معارف الأقدمين حق التغذية وأن مطالعة هذه الكتب تخلصنا من شواغل وقتنا المادية وتعارض عصرنا الذي صارت فيه الناس تمحو درجات التفاضل بينهم واشتغل أهلهم بالحقائق الثابتة دون غيرها كعصور الأبطال، وأفاد من مخترعات الخيال وتستر مواضع الضعف فينا بحجاب الجمال الظاهر بدون أن تغير من طبيعتنا شيئًا، ثم إن بُعْدَ أهل تلك العصور عنا ومباينتهم لنا في الأخلاق مما يساعدنا أيضًا على أن نبصر من خلال كتبهم الشعرية ضياء منتهى الكمال المطلوب. وفوق ذلك فإن هذه الكتب حافلة بالأناشيد الوطنية التي كان من آثارها ما كان في عهد الجمهورية الجميل من احتقار الملوك وجر ذيل الخيلاء عليهم فلقد كفت صحة هبت من رومة أو من أثينا في إثارة بغض السلطان المطلق بقلوبنا في القرن الثامن عشر فإن حكماء هذا القرن وزعماء الفتنة الفرنسية فيه قد استمدوا مما دعوه من الكتب المدرسية أصلح الصور لإيقاظ العقول وبث روح الحياة السياسية في النفوس، وكان لخيالات الغابرين في ذلك الجهاد الذي قام في سبيل الحق من البلاء ما كان للأحياء أنفسهم فلا تقل لابني غرافوس [4] وبروتوس [5] وقالون أوتيفا [6] أنهم قد ماتوا بل هم أحياء يعينوننا على كفاحنا ويعاضدوننا في جهادنا ويسمعوننا من أصواتهم ويشهدوننا من أساهم ما يقوي عزيمتنا على السعي وراء الحرية التي هي غاية النفوس الأبية. لا أنازع في أن معرفة اليونانية واللاتينية قد تكون من الرياضيات النفسية المفيدة ولكني أقول: إن لرياضة النفس وتربية العقل طُرقًا شتّى وإنّ من الظلم الفاحش قصر معنى التعليم على فرع واحد من العلوم فقد يكون الإنسان عالمًا يشار إليه بالبَنان، وخطيبًا باهر البيان وسياسيًّا حصيف الجنان (وفي أمريكا ما يشهد لصحة ذلك) وهو لم يقرأ في حياته كتب أرسطو [7] ولا ديموستين [8] ولا سيسرون [9] باللغة التي ألفت بها , ذلك أن مراقبته بنفسه للأمور ومعاملته للناس واختلاطه بهم ودراسته لآداب لغته واستعداده الفطري كثيرًا ما تغنيه عن الزخارف المدرسية فرأْيي هو أنّ الأحوال التي تَحْتَفُّ بالطفل وما يكون فيه من القوى والملكات الذاتية هي الواجب التعويل عليها في تحديد الطريقة التي ينبغي سلوكها في تربيته، فإنّ طرق التعليم إنما أُجِدَتْ للأحداث ولم توجد الأحداث لها. لمَّا أعلمْ حق العلم ضروب استعداد (أميل) ولا حالة عقله حتى أحكم على أليق أنواع التعليم به وأشدها ملائمة لطبعه والذي أتمناه له هو أن لا يكون بعيدًا عن العلوم ولا عن آداب اللغة ولست أرى من وجوه الاعتراض على الجمع بين هذين النوعين من المعارف سوى ما يقتضيه تعلم اليونانية واللاتينية من الزمن، فإن إنفاق سبع سنين أو ثمانٍ من العمر في تحصيل لغتين مهملتين تحصيلاً في غاية النقص غالبًا هو إسراف كبير في عصر لا يحصل الإنسان فيه متوسط المعارف الضرورية إلا بإنفاق معظم حياته، وإني باحث الآن فيما إذا كانت إضاعة ذلك الزمن الطويل في تحصيلها لازمة لطبيعة الصعوبات التي يصادفها المتعلم فيه أو أنها ليست من لوازمها وإن من الميسور التغيير فيها والتقليل منها. أول سبب فيما أرى لطول مدة تعلم هاتين اللغتين هو إفراط المعلمين في تعجيل تعليمهما للأطفال؛ لأنهم يبدأونهم به قبل أن يكونوا تعلموا أو راقبوا شيئًا بأنفسهم فتراهم لجهلهم كيفية صوغ الألفاظ وتركيب الأساليب التي هي قوالب المعاني لا يكادون يتمتمون بلغتهم نفسها مضبوطة ولحبسهم بين جدران المدرسة من نعومة أظافرهم اعتادوا اعتبارها سجنًا تتعاقب عليه الأجيال الناشئة تكفيرًا لسيئة جهل آبائهم الأولين فهم لا يعرفون شيئًا من الكون، وقد حالت المدرسة بينه وبين المحابّ البيتية والجواذب الأهلية وهي التي كانت تحبب العمل إليهم وتشعر قلوبهم قدره فأصبحوا لا تصلهم حرارتها إلا من بعيد جدًّا ففي أول عمل لهم يمرنون به قواهم الناشئة تفاجئهم ألفاظ وحشية وصيغ نحوية وتراكيب مجهولة فيتصيدون اتفاقًا بأيديهم العسراء من محابرهم الكدراء ضروبًا من مخالفة القياس وأنواعًا من ضعف التأليف تجري بها أقلامهم , ولا تدركها أفهامهم , فَرُحْمَى لهم من حيارى ذاهلين لا ينفعهم تعاقب التمارين ولا تتابع الأمثال فليس تكرار الأغلاط والخطئآت الواحدة في تعلم لغة مجهولة هو الوسيلة إلى إصلاحها. أنا أحب أن يرى ولدي قبل تعلم اللاتينية شيئًا من العالم وأن ينفتق ذهنه باحتكاكه بالصناعة ودراسته تاريخ الموجودات، فإن كل واقعة روقبت تولِّدُ في نفس مراقبها لذة وتنمي فيه الحاجة إلى المعرفة فإذا حصل له بكسبه بعض معانٍ بينة صار بهذه الواسطة أحسن استعدادًا لفهم ما يتلقاه عن غيره من المعاني ولو ظهرت في صيغ مهمّة من الألفاظ، ثم إن من أسباب طول المدة التي تقضى في تعلم اليونانية واللاتينية على ما أرى أن المربين يعلمونهما للأطفال قبل أن يطَّلعوا على شيء من أحوال الرومان واليونان والإنسان لا يحسن تعلم لغة قوم إلا في بلادهم، ومن أجل ذلك سأَهْتَمَّ عند تعليمهما (أميل) بأن أجعل له من آثار أهلهما بلادًا يتعلمهما فيها , وفي هذا المقام تظهر فائدة إنشاء معاهد التعليم التي من قبيل القصر البلوري، نعم إني على يقين من أن مشاهدة ما يكون في مثل هذه المعاهد من التماثيل والصور، ومثل المعابد والمباني الأثرية العامة لا تعين التلميذ على فهم شعر عمير وفرجيل، ولكن اليونانية واللاتينية إذا اقترن تعليمهما بتعليم تاريخ قومهما وما يشهد لهم من دلائل التقدم القديم لا تبقيان لغتين مندثرتين اندثارًا تامًّا كما لو عُلِّمَتا مجردتين. ذلك أن لفنون الرسم من التأثير في نفوس الناشئين ما هو فوق المظنون بها كثيرًا بسبب إجالتها للعقل في آثار الغابرين وسموها بالنفس في أعمال الماضيين ولأن سن الإيقاع هو السن الذي يسهل فيه اندماج اليافع في شخص غيره لسبب سهل الإدراك وهو أن معنى الاستقلال الذاتي لا يظهر في هذا الطور من الحياة فبكثرة هذا النوع من المعيشة مع اليونان والرومان فيما بقي من آثارهم ينتهي التلميذ بأن يهتم بأخلاقهم وعاداتهم وشئونهم قبل أن يعرف لغتهم فتراه يتابع بعقله الأسطول اللاتيني في سلامين [10] ويشهد خلف بومباي [11] واقعة فرسالا [12] , ولا يسبقن إلى خاطرك أن هذا الوجود الفكري فيما غير من الزمن ليس هو إلا وهمًا محضًا فإنه لا شيء مما كان في الماضي قد مات موتًا تامًا. لم تجد طريقتنا في تعليم اللغتين اللَّتين نحن بصدد الكلام عنهما فإنها لا تزال عليها مسحة من تعليم القرون الوسطى وهي التي طبعها عليها القسيسون والرهبان؛ إذ لا تزال العقبات تقوم في سبيل دراسة آثار الأقدمين دراسة صادقة وأولها ما للدين المسيحي من الأوهام والوساوس في آلهتهم التي تراه على قهره إياها لا يزال يعتقدانها مضرة حتى في انهزامها أمامه فإن رجال هذا الدين مع استئثارهم على توالي القرون باللغات القديمة واحتكارهم معرفتها كانوا يعنون في تعليمهم بإزهاق ذلك الروح الذي ألهم الصناع ما ظهر على أيديهم من تحف الصنائع وطرفها وكانت فنون الوثنيين وآداب لغاتهم من الغنائم التي اهتم أولئك الرجال بحفظها غير أنهم كانوا يحترسون كل الاحتراس من إظهار آخر ما اكتشفوه من أسرارها للأحداث وكان من مصلحتهم أن لا يزيلوا عن تلك الأسرار إلا طرفًا من حجابها؛ لأنه كان لا بد لما يعيه الخلف من آثار السلف أن يردهم يومًا ما إلى عبادة الطبيعة وجمالها ومن أجل ذلك كان رؤساء الدين لا يفتأون يذكرون الناشئين بأن آلهة الوثنيين آلهة باطلة لا أصل لها إلا الكبرياء والكذب وأنه لا ينبغي النظر إليها إلا من بعيد مع الاسترشاد في ذلك بهدي الدين المسيحي. أنا لا أحترس كل هذا الاحتراس في تعليم (أميل) تينك اللغتين وإقراءه كتبهما؛ إنه لا بد لمن يزاول دراسة أمر من الأمور أن يكون له فيه شيء من الاعتقاد فما ضره لو أنه أخلص في الاشتغال بهرقل [13] وأعماله ومن ذا الذي ينقم منه إن قدم قربانًًا للآلهات العفيفة [14] ولمنروة [15] الحكيمة الأبية فإن في كشف حقيقة الأشخاص الخرافيين الذين وجدوا في خيال الأقدمين وكانت حياتهم ملائمة كل الملائمة لخيال اليافعين وإزالة الوهم من عقول هؤلاء في شأنهم في ذلك تعجيلاً بزعزعة عقيدتهم في النوع الإنساني , ولا يظن ظانٌّ أني أقصد بما أقول أنْ أوقف (أميل) عند الوثنية فإني إنما أريد بهذا القول أنه لا بد لمن يريد النفوذ إلى أسرار لغة قوم من اختلاس آلهتهم. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

مقدمة كتاب الإسلام والنصرانية

الكاتب: محمد عبده

_ مقدمة كتاب الإسلام والنصرانية {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) . ظهرت في العالم مَدنيّات ثم خفيت , ودُرِسَتْ فيها العلوم والفنون ثم دَرَست , وصَلحت أحوال الأناسي ثم فسدت وطلعت فيهم أقمار الهداية الدينية ثم خسفت ولم يزل الناس في قيام وقعود , وهبوط وصعود , والأمم في تلاشٍ وفناء، ونشوء وارتقاء حتى استعد المجموع في حملته للرقيّ العام , فمنحه الله تعالى دين الإسلام. جاء الإسلام والعالم كله في تأخر من جميع الوجوه من جهة الدين، من جهة العلم، من جهة المدنية، من جهة السياسة، فلم يمر قرن واحد حتى جدَّد للعالم كلِّه دينًا قيمًا، وعِلمًا محكمًا، ومدنية سعيدة وسياسة رشيدة، ونشر ذلك في مشارق الأرض ومغاربها بقوة الحق، وسرعة البرق فتغير وجه الأرض ونفخ في الإنسان روحًا جديدًا أعطاه من جراثيم الحياة ما لا يقبل الفناء، ما دامت الأرض والسماء [1] . ينبوعٌ تَفَجَّرَ في أرض وفاض ماؤه على غيرها فأحيا الأرض بعد موتها ولكن القائمين على حراسته وتعاهده وضعوا فوقه أنقاضًا من خرائب جيرانهم فغيض الماء وما بقي منه صار مستنقعات تُجْتَوى، لم يلبث بعدما غاض أن فاض منه شيء في مواضع أخرى فانتفع أهلها به وحافظوا عليه ولكن الأكثرين منهم لا يعرفون من أين جاءهم كما أن أكثر أهل الينبوع المنتسبين إليه بالاسم لا يعرفون أن ذلك الماء الذي تفجر في تلك المواضع فأنشأ أهلها به حدائق ذات بهجة هو من ماء ينبوعهم، وإنهم لو أزالوا عنه تلك الأنقاض لفاض ورجع إليهم خصبهم ونماؤهم كأحسن ما كان؛ لأنهم تعلموا من غيرهم كيف يستخدم الماء للأحياء. ذلك مثل المسلمين اليوم مع الأمم الغربية الحية الراقية، أخذ الغربيون من الإسلام كل أصول الإصلاح الذين هم فيه وهم يقولون: الإسلام عقبة في طريق كل إصلاح، يقولون للمسلمين: إن ماءنا صافٍ نقي يحيي البلاد والعباد وماؤكم آسن أُجاج، أحدث مستنقعات أهلكت الحرث والنسل، فكيف يستوي الماءان وقد اختلف الأثران؟ منهم من يقول هذا معتقدًا، ومنهم من يقوله منتقدًا، ونحن ساكتون؛ لأننا جاهلون بأنفسنا وبهم. ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، ويظهر الحق من الباطل، فتقوم الحجة على الجاهل بدينه ونفسه، والمكابر لوجدانه وحِسّه، لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذِكْرًا فيرجعوا إلى أصول دينهم وهو الأولى بهم والأحرى، فقد أعدهم بنوائب الزمان، وصروف الحدثان، لأن يعترفوا بذنبهم وليتوبوا بالتدريج إلى ربهم، إذا ظهر فيهم علماء ربانيون وأطباء روحانيون، يعرفونهم بحقيقة الداء ويصفون لهم الدواء، وما طلب الإنسان بلسان استعداده شيئًا من مولاه إلا تفضل عليه به وأعطاه إياه [1] . لهذا سخر الله للمسلمين حكيمًا من الأعلام، وإمامًا من أئمة الإسلام، يطلب لديهم، ويجمع ما تفرق من آرائهم، وقد كتب في هذه الأيام كتابة جليلة في العلم والمدنية - بالنسبة إلي الديانتين النصرانية والإسلامية - رد فيها على أحد كتاب المسيحيين قوله: إن المسيحية كانت أكثر تسامحًا مع العلم من الإسلام، وأن الإسلام أكثر اضطهادًا للعلم والفلسفة من النصرانية وبيَّن في آخر ما كتبه حال المسلمين السوءى وعدم موافقتها لما تقضتيه طبيعة ديانتهم، فبرأ الإسلام وسلفُهُ من الملام ولكنه لم يبرئ المسلمين المتأخرين بل دلهم على حقيقة دائهم وهداهم إلى طريقة معالجته والخروج منه بإذن الله تعالى، ولعمري إنه أنذر فأعذر، وبرئ من وعيد الكتمان، {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} (يونس: 108) . ويلي هذا في المقدمة، إلماع لشبهات ذلك الكاتب وقد عرفها القراء من قبل كما عرفوا الردّ عليها فلا حاجة لذكرها، وقد تم طبع الكتاب وإصداره وثمنه 5 قروش صحيحة وأجرة البريد في مصر ستة أعشار القرش (6 مليمات) ويطلب من إدارة المنار بمصر. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (سعي في الوفاق الإسلامي الإنكليزي) عَلِمَ القراء من المقالة الافتتاحية في هذا الجزء، أنّ من الفائدة الكبرى للإسلام والمسلمين أن يعرف أهل أوربا حقيقة الإسلام؛ لأنهم متى عرفوا حقيقته يعرفون حقيته وفضله فيكونون نصراء له وتقل مقاومة حكامهم لأهله، ولا ريب أن من عرف منهم هذه الحقيقة يكون أقدر منا على تعريفهم إيّاها بصورة يقبلونها، كما لا يرتاب عاقل في أن معرفة الإنكليزية بالإسلام تكون أنفع للمسلمين من معرفة غيرهم من الأوروبيين؛ لأن للإنكليز سلطانًا على الشعوب الإسلامية ليس لغيرهم مثله أو ما يقاربه؛ ولأنهم أقرب الأمم الأوروبية إلى أخلاق الإسلام وفضائله وأرجاهم لفائدة أهله. بعد التذكير بهذا نقول: إن الحاج عبد الله براون الإنكليزي الذي اهتدى إلى الإسلام من عدة سنين وثبت عليه ومازج أهله توجهت نفسه إلى القيام بخدمة صالحة لأهل دينه الذي اهتدى إليه لأبناء جنسه الذين نبت فيهم وذلك بأن ينشئ جريدة إنكليزية في مصر غرضها الأول التوفيق بين مصلحة الإنكليز ومصلحة المسلمين في مصر وفي المستعمرات الإنكليزية كالهند وغيرها، وقد سافر إلى الهند بمساعدة أهل الغيرة والنجدة من المسلمين الذين يعرفون قيمة هذا السعي ليعرض رأيه على كبراء المسلمين هناك ويستمدهم في الإسعاد عليه، وقد بلغنا أن اللورد كرومر مرتاح إلى هذا العمل ومساعد عليه ويرجى من كبراء عقلاء المسلمين في الهند أكثر مما يرجى من عقلائهم في مصر إسعادًا وإرفادًا. ومما يدلنا على أن هذا العمل يرجى نجاحه أننا رأينا الحوادث قد أعدّت النفوس من الفريقين له كما علم من الكتابات الكثيرة التي دلت على توجه حكام الإنكليز وكتابهم إلى مساعدة المسلمين على التربية المِلّية الاستقلالية والتعلم النافع وقد عرب المؤيد كثيرًا منها فعرفه المصريون كما عرفوا بالاختيار سوء مغبة ما جرى عليه أحداث السياسة عندهم من اللغط بسبِّ الإنكليز وشتمهم وجعل حسناتهم سيئات فرجع المصريون إلى رأي إخوانهم مسلمي الهند الذين جربوا قبلهم معاداة القوة، ثم رجعوا فعرفوا فائدة المسالمة وهو أنه لا أنفع للمسلمين من التوفيق بين مصالحهم ومصالح الإنكليز والعمل معهم بالصدق والإخلاص، وكل هذا من مقدمات مجد الإسلام المستقبل {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) . *** (ما بعد الاستشارة) استشرنا قراء المنار في نشر ما جاء في سجل جمعية أم القرى من معايب السياسة والإدارة في دولتنا - أيدها الله تعالى - فكتب إلينا بعضهم يجزم بوجوب نشر السجل كله ليعرف محبو الاطِّلاع أسباب الفتور السياسية كما عرفوا غيرها، ولم يكتب إلينا أحد قط باستحسان عدم النشر لئلا ينفر المحب الجاهل الراغب في بقائه على جهله من المنار ويظن أنه ينفر عن الدولة العلية التي هي أعظم دولة إسلامية، ولكننا رأينا أن انتفاع الجمهور بعلم كل ما يقال عن الدولة أولى بأن يُرجّح على انتفاع إدارة المنار من رضاء محبي الجهل عنها، أما الانتفاع بما نشر فهو أن مثل هذه الأفكار هو الذي يقنع الترك والعرب والمسلمين بأنه لا شيء أضر عليهم من حل الرابطة الإسلامية استغناء بالروابط الجنسية، ويظهر أن مولانا السلطان عبد الحميد - وفقه الله تعالى - مقتنع بهذا المعنى كما اقتنع به من قبل أعظم سلفه السلطان سليم ياوز ولذلك تراه يعتمد في مهماته على أبناء العرب أكثر من غيرهم، ولو كان قادرًا على إزالة الجنسية التركية لأزالها فيما يظهر، وقد رأينا كثيرين من عقلاء الأتراك مقتنعين بهذا الرأي، أعظمهم المشير مختار باشا الغازي، ولولا أنهم عرفوا مضرة الجنسية وعرفوا أن عقلاء العرب عرفوها لما اقتنعوا بها، ولا يجوز أن يحملنا ما ورد في سجل الجمعية على بغض الترك فنزيد في ضرر الجنسية، وإنما يجب أن نسعى في إزالة الجنسية والرجوع إلى الرابطة الإسلامية وحدها، على أن ما ذكر من بغض الترك واحتقارهم للعرب ليس عامًّا فيهم، وإنما هو شنشنة مَن أفسدتهم السياسة الفاسدة، وأكثرهم أخلاط في الأصل من الأجانب والعناصر الغريبة، وقد بلغنا أن الترك العريقين في الأناضول يتبركون بالعربي إذا رأوه ويجلونه؛ لأنه من بلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان في شخصه وضيعًا سافلاً، ويكادون يعبدون من ينتسب إلى آل البيت عليهم السلام. *** (الجرائد والمجلات والمشتركون) يكتب إلينا كثيرون طالبين الاشتراك بالمجلة دون الِقيمة المعروفة؛ لأنهم تلامذة أو لأنهم فقراء،ومنهم من يصف حاجته إلى المنار وضيق ذات يده المانع من دفع جميع الاشتراك وصفًا غريبًا، ولا شك أن منهم من يستحق أن يسمح له بما يطلب؛ لأنه صادق في استثقال دفع خمسين قرشًا مرة واحدة؛ لأنه فقير اليد، ومنهم من يجزم أن يساعد على إطاعة شحه؛ لأنه فقير النفس غنيّ اليد، وقد يشتبه هذا بذاك فإن لم يشتبه فإن الثاني يجني على الأول. كنا جعلنا قِيمة الاشتراك لطلاب العلوم 40 قرشًا، فرأينا العلماء وأساتذة المدارس ونُظّارها لا يدفعون إلا 40 قياسًا على التلامذة والطلاب بجامع الاشتغال بالعلم، ورأينا القضاة الشرعيين وجميع من تَخرّج من المدارس إلى الوظائف بأنواعها لا يدفعون إلا 40 عملاً بقاعدة الاستصحاب الفقهية أو جريًا مع حركة الاستمرار الطبيعية، وبهذا يضيع حق المنار بين القاعدة الفقهية والناموس الطبيعي بسوء التطبيق، وإذا جعلنا الفقر سببًا للرضا بنصف الاشتراك، وكان كل إنسان هو المعرف للفقر، وإذا كان أكثر الأغنياء الحَقيقيين مع هذا لا يحفلون بالعلم والدين، ولا يعضِّدون من يخدمهما فلا شكّ أنه لا يسلم لصاحب الجريدة خمسة في المئة من المشتركين يدفعون قِيمة الاشتراك كاملةً، وإذا عُلِمَ بعد هذا أن الغني والفقير، والمُعلم والتلميذ سواء في المطل أو الإرجاء في دفع قِيمة الاشتراك ولو إلى آخر السَّنة، وأن بعضهم يستحلّ أكل ثمن الجرائد والمجلات، وأن بعض المحصِّلين للجرائد منهم من يقتدي ببعض المشتركين باستحلال أكل ما يُحصّله كما وقع لهم مِرارًا، ومنهم من يشارك صاحب الجريدة بالخمس حتى كأن المال غنيمة والمُحصّل هو السلطان أو بيت المال، فإن العالم بذلك يخجل أن يطلب الاشتراك بنصف القِيمة في مجلة يبلغ صفحات مجلدها في السنة نحو ألف صفحة ويصرف صاحبها في تأليفه سنة كاملة. (المنار) أقل مجلات القطر الشهيرة ثمنًا، فمنها ما ثمنه في السنة جنيه ومنها ما ثمنه 80، وما ثمنه 70، وما ثمنه 60، وبعض هذه المجلات أصغر من المنار حجمًا، وربما كان التعب فيها أقل، فإننا ربما نشتغل عدة ساعات في البحث عن حديث واحد لنعرف جميع مخرجيه وما قيل فيه؛ فلهذا ولمجموع ما تقدم يعذرنا الذين طلبوا الاشتراك بنصف القيمة على مجاوبتهم، والاعتذار لكل واحد منهم، وقد كتبنا هذه النبذة ليعلم الجميع، وليعلم المطلعون على المنار أو يسمعوا ممن يطلع أننا لا نقبل من أحد الاشتراك بأقل من خمسين قرشًا في السنة فيستريحوا ويُريحونا، ومن نعلم باليقين أنه يَعْسُرُ عليه أن يوفر من نفقته في السنة خمسين قرشًا يجعلها ثمنًا لمجلة يحب أن يقرأها ويُرجى أن يقنع بها فإننا نرسل إليه المنار بلا ثمن.

رأي في علم الكلام، وطريقة في إثبات الوحي

الكاتب: عالم عامل وكاتب فاضل

_ رأيٌ في علم الكلام، وطريقةٌ في إثبات الوحي لعالم عامل وكاتب فاضل سلام عليكم أيها القارئون ورحمة الله وبركاته، وإنعامه وإكرامه، هذه كلمات قليلة قدمتها لكم على صفحات هذه المجلة النافعة، أشير فيها لبيان شيء من حال علم الكلام وأختمها بذكر طريقة سهله للسالك قريبة للآخذ في إثبات الوحي. الذي دعاني لتحرير هذا كيفما التفت الإنسان بحسه أو فكره لا يجد شيئًا إلا وشيء آخر يقابله هو ضدٌّ له، وكيفما تقلب لا يلقى نفسه إلا بين شيئين يُسمَّى أحدهما (المحبة) والآخر (النُّفرة) . وكيفما تحرك فهو إما طالب لما يحب، وإما هارب مما ينفر، يا ويح الإنسان الذي يشتغل مدة حياته بالطلب والهرب، ثم يا ويحه حين يرى لما يطلبه طلابًا كثيرين يزاحمونه وينازعونه، ثم حين يجد نفسه غير مستقل فيما يحب وينفر يحب شيئًا فيعاتب ويكره شيئًا فيعاقب، ثم يا ويحه حين يعلم أفراد نوعه متاضدين ومتجادلين من أجل التضاد. هذا الجدال قد يحتدم بين الإخوة بني النوع من أجل الاحتياج الذي فطروا عليه، وقد يكون الاحتياج دواء مسكنًا من هذا الغليان، وطالما شوهدت أشياء مثل الاحتياج تكون داءً ودواءً. من أجل الاحتياج يتفرق النوع ويتخاذل، ومن أجله يلتئم ويتعاون، وليس كل احتياج منشأه الضرر بل كثير منه حب التميز، ومن فضل الخالق أن جعل كلاً محتاجًا ومُحتاجًا إليه؛ المطعمون محتاجون للكاسين، والكاسون محتاجون للمطعمين، والفريقان محتاجان للبانين، والثلاثة محتاجون للبائعين، والأربعة محتاجون للحافظين، وفحول الكل محتاجون للإناث، وإناث الكل محتاجون للفحول، والكل حريصون على تحصيل الأولاد وأمهاتهم، والكل محتاجون مع العمل إلى العلم والمعلمين، وفي هذا كله حِكم عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها. ما أحوجنا مع هذا الاحتياج والتعاون في لوازم الحس إلى التحابّ والتعاون في لوازم العقل، فيا للأسف لم نر أنفسنا إلا على هذه الحالة متفرقين وما نحن ابتدعنا التفرق، بل كان قبل أن كانت أشخاصًا وسيبقى إلى من بعدنا ليس علينا رفع الخلاف ولا نقوى نحن عليه، ولكن علينا أن لا نزيده كما زاده المتعالمون المطاعون في حياتهم والمُتَّبَعُون بعد موتهم، أولئك الذين يكدرون على الناس صفاء فطرتهم، ويفسدون عليهم سلامة تصورهم، بل علينا أن نجتهد في تحقيقه وذلك لا يكون إلا بصقل العقول من صدأ الأوهام، فعلينا مجاهدة الأوهام وأهلها مبلغ جهدنا، وما أجمل هذه من وظيفة نشكر عليها المحيط المقسِم الممِد الذي جعل لنا منها نصيبًا، وآتانا عليها عونًا. وأحسن جلاء للعقول هو إزالة سيطرة المتعالمين عنها فهو الصدأ العظيم واستعمالها في فهم أسرار الكائنات وحكم الشرائع، وأفضل عون لها في بلوغها في هذا السبيل هو الدين الخالص من شوب الناس، ذلك؛ لأن البشر منذ القديم كدروا العقل بتصورات سقيمة في شأن الموجد الأول فالدين يرشد لأسلم، وحملوا النفوس على عادات قبيحة ضارة سموها عبادات، فالدين يهدي لأجمل وأنفع، وحمّلوها أثقالاً من القوانين الجائرة، فالدين يوصي بأعدل، وزيّنوا لها أخلاقًا فاسدة، فالدين يدل على أصلح. لكن الناس أصناف مصنفة، أكثرهم يميلون لما هو ضد الخير وتَحِنّ نفوسهم إلى الرذائل الخارجة عن حد الاعتدال في كل شيء كما هو دأب الذين خلوا من قبل، فمن لم يتمسك بالدين ألبتة فلا كلام فيه هنا، ومن تمسك فيه تراهم في مغايرته على نوعين: نوع يغايرونه بالفعل ويتمسكون منه بالاسم وهم كثيرون. ونوع يغايرونه بعلوم يحدثونها يُبصّرون الناس فيها أنهم أولياؤه. فأما الذين يغايرونه بالفعل؛ فالوظيفة معهم وظيفة العاقل مع العاقل في الدعاوى والبينات، وتحق الحقيقة ويبطل الغلط. ولما عرفت أن الدين كلام يفهمه العاقلون، ولا يحتمل ما يعزوه إليه المتفرقون، حرصت نفسي على كشف حال كثير من العلوم المحدثة فأقول ما لها وما عليها، ليعلم طلابها ما يضرهم وما ينفعهم، ذلك منذ علمت أن سعادتي في أن أكون مخلص القلب للمجتمع الإنساني القائم على ناموس ربانيّ، وأن أكون شاكرًا لنعم العاملين بما ينفع الناس ملتئمًا مع من عرفوا النعم فشكروها، أو جهلوها فاستعرفوها، نافرًا عمن كفروا بها واستيقنتها أنفسهم. فهذا ما دعاني اليوم لتحرير هذه الكلمات الشارحة رأيًا في علم الكلام، وطريقة في إثبات الوحي. تمهيد وتقسيم هذا الإدراك الذي أوتيه الإنسان لم يقف به عند استعراف ما يطعمه ويكتسيه ويأوي إليه بل ساح به من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، من عالم الحس إلى عالم الحدس. يسأل الإنسان نفسه بنفسه ما هو المُوجِد الأول أو ما هو الموجود الأول، من صنع هذه الكواكب الزاهرة، مَن أوجد هذه البحار الزاخرة، مَن أنشأ هذه الأرواح العاقلة، من خلق هذه الأسباب الظاهرة والباطنة، مَن سَوَّى هذه الروابط الثابتة، من صور هذه الصور المتغيرة، من يُدبر هذه الكائنات المتنوعة. ثم ينتقل من هذا السؤال إلى سؤال آخر فيقول، ما هي نفسنا ما هو إدراكنا، لماذا أفرادنا متفاوتون فيه، ما هي هذه الحياة التي نحياها، ما الفائدة لنا منها، ما الحكمة للذي سوّى فيها، ما الذي يجب أن نعمله معها، أين تذهب أرواحنا عند اضمحلال هذه الحياة، لماذا نحبها وهي مع قصرها مُرّة المذاق، كدرة الموارد، لماذا نتزاحم، لماذا نتجادل، ما السبيل لسلامتنا بعضنا من بعض؟ هذه الأسئلة وأمثالها شغلت فكر هذا النوع من زمن قديم ليس لنا ولا لغيرنا علمه، وما زال الناس ولا يزالون يتساءلون ويتجاوبون في هذا إلى ما شاء الله، وليس البحث في هذه الأمم المتفرقة، وقد يعقب البحث والتفكر تصور ويعقب التصور عقد، ويحمل العاقد بشيء غيره أن يعتقد كما أعتقد، فهكذا تكونت نحل الناس ومِلَلهم. والذين اشتغلوا بتدوين العلوم قد تقيدوا باصطلاحات خاصة زَعْمَ أن بها يمكنهم تعميم فائدتها، وأما الذين عرفوا كيف يُقَّرب العلم من أفهام الطبقات المختلفة فيحبون أن تتجافى عباراتهم عن الاصطلاحات مهما أمكنهم. ذكَّرني بذكر هذه القضية أني رأيت مدوني هذه المباحث في لغتنا قد تباعدوا بها عن أفهام الأكثرين بكثرة ما جاءوا فيها من الاصطلاحات وهم ما قصدوا إلا التفهيم بل زعم بعضهم أن الناس أجمعين مكلفون أن يعلموا علمهم ذلك، ولا بد أن يزعم هذا أن اصطلاحاتهم يفهمها كل أحد من أهل اللغات المختلفة، ولعل عذرهم أنهم دونوها كما وجدوها على اصطلاح الباحثين من أمم أخرى، وهو عذر مقبول في الجملة. هذه المباحث يقال لمجموعها في اصطلاح المدونين (فلسفة) وهي كلمة منحوتة من اليونانية قالوا معناها (حب الحكمة) ، ومن أجل شيوع هذه الكلمة بهذا المعنى ظن البعض أن الفلسفة اليونانية هي أول فلسفة ومن أجل أن علم الكلام - الآتي ذكره - يَرُدُّ كثيرًا من أراء فلاسفة اليونان كما يَرُدُّ الفلاسفة بعضهم على بعض ظن أن علم الكلام إنما جعل لنقض الفلسفة، والظن الأول يُزهقه التدقيق في التاريخ العام للأزمنة القديمة التي يجهل منها أكثر مما يعرف، والثاني يزهقه معرفة أن علم الكلام فلسفة يعرف بها صحة الدين، وليست كل الفلسفة مناقضة للدين حتى يحتاج الدين إلى علم به تنقض الفلسفة كما أنه ليس كل كلام أهل الكلام مقبولاً عند الدين بل كثير منه مردود بشهادة بعضهم على بعض، والمدقق يعلم أن ليس علم الكلام إلا قسمين قسمًا يجمعون فيه نظريات على طريقة الفلاسفة القدماء يوافقونهم في أشياء ويخالفونهم في أشياء، وقسمًا يجمعون فيه خلافات ومنازعات بينهم أنفسهم. ويعلم أيضًا أن الدين انتصر بروحه الذكية السالمة من الشوائب قبل أن يجيء علم الكلام ناصرًا له وناقضًا للفلسفة، ولكي يعلم الناظر ههنا آراء الناس في الإلهيات قبل الإسلام وقبل علم الكلام أذكر نموذجًا يسيرًا منها في فصل، ومنه أنتقل لعلم الكلام في فصل آخر. (الفصل الأول) الفلسفة الإلهية عند الأمم السالفة كان الصابئة (وهم طائفة منبتها بلاد فارس منها انفصل إبراهيم النبي الذي هاجر إلى فلسطين وتسلسلت النبوة في عقبه) يقولون: إن للعالم صانعًا فاطرًا حكيمًا مقدسًا عن سمات الحدثان، والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقربين لديه وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرًا وفعلاً وحالة وهم ينكرون نبوة البشر ولكنهم يعترفون بمعلمهم الأول هرمس (قيل هو إدريس) ويثبتون عالمًا روحانيًّا على نحو ما يسميه الكتابيون الملائكة وقسموا هذا العالم الروحانيّ إلى طوائف منها مدبرات الكواكب التي هي هياكلها؛ إذ لكل روحانيّ هيكل ولكل هيكل فلك ونسبة الروحانيّ إلى ذلك الهيكل نسبة الروح إلى الجسد فهو ربه ومدبره ومديره، وربما يسمون الهياكل أربابًا وربما يسمونها آباءً والعناصر أمهات، فوظيفة هذه المدبرات تحريك الكواكب على قدر مخصوص ويحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات فيتبعها قوى جسمانية ويركب عليها نفوس روحانيّة مثل أنواع النبات والحيوان، ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحانيّ كليّ وقد تكون جزئية صادرة عن روحانيّ جزئيّ، فمع جنس المطر ملك ومع كل قطرة ملك. واتخذ هؤلاء صورًا وتماثيل على صور الكواكب وأمثلتها وبنوا لها البيوت وأقاموا لها الهياكل واحتفلوا من أجلها بفروض ومراسم شرحها يناسب كتب الجدل والتاريخ، وليس غرضنا إلا النموذج اليسير. وكان (الزروانية) (وهم طائفة من الفرس) يقولون: إن النور أبدع أشخاصًا من نور كلها روحانية نورانية ربانية لكن الشخص الذي اسمه (زوران) شك في شيء من الأشياء فحدث (أهرمن) (الشيطان) من ذلك الشك ولهم في ذلك أساطير لم نجوز سردها لقلة فائدتها. وكان (الزرادشتية) (وهم طائفة فارسية أخرى زعيمهم زرادشت) يقولون إن النور والظلمة أصلان متضادان وكذلك (يزدان) و (أهرمن) وهما مبدأ موجودات العالم وحصلت التراكيب من امتزاجهما وحدثت الصور المختلفة، والبارئ تعالى خالق النور والظلمة ومبدعهما وهو واحد لا شريك له ولا ضد ولا ند ويدعي أصحاب (زردا شت) معجزات كثيرة له. وكان (طاليس) اليوناني-الذي تعلّم الإلهيات والهندسة والهيئة في مصر وهو أعظم مؤلفي الفلسفة المسماة يونانية، يقول: إن جميع ما في الكون لا يخلو عن إحساس ما، وإنه مملوء بما لا يدركه الطرف من المخلوقات وكلها متحركة ذات أرواح. وكان (فيثاغورث) يقول: إن العالم له روح وإدراك وإن روح هذا الدولاب العظيم هو الأثير فمنه جميع الأرواح الجزئية وكان يقول: إن الأرواح لا تفنى فهي تسيح في الهواء إلى أن تصادف جسمًا فتدخل فيه، ولذلك كان يشدد في منع أكل الحيوانات، وادعى فيثاغورث معجزات كثيرة جلها لتأييد مذهبه في تناسخ الأرواح ومما فعل أنه بنى له تحت الأرض حجرة صغيرة وعاهد أمه أن تكتب له كل ما يكون ويحدث فغاب فيها سنة ثم خرج نحيفًا أشعث أغبر وجمع الناس وأخبرهم أنه كان في جهنم ولا حل أن يصدقوه، شرع يخبرهم بما حصل في غيبته فظنوا أنه فوق جميع البشر (تأمّلْْ) . وكان (هيرقليس) يقول: إن الكون ممتلئ مِن الجن والعقول وإن الإله لما قضى أزلاً بوجود الأشياء تركها لتدبير خلقه (تأمّلْ) . وكان (إنكسغوراس) يقول بالعقل الذي يفيض على كل مادة ما يليق بها من الصورة وكان يقول لا فراغ في الجو بل هو مملوء وإنّ جم

شبهات المسيحيين وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات المسيحيين وحجج المسلمين { ... يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ ... } (النساء: 46) . قد علم قرّاء المنار أننا لم نفتح هذا الباب للطعن في دين النصارى أو غيره ابتداءً، وإنما فتحناه لرد شبهاتهم التي ربما تشكك الجاهل بالإسلام في الدين مطلقًا فتفسد أخلاقه ويكون مصيبة على نفسه وعلى الناس، ولا غرض لطعن الطاعنين بالإسلام إلا هذا التشكيك الذي يحل الرابطة الإسلامية ويضعف المسلمين؛ لأنه يخرجهم عن كونهم أمة فيكونون أفرادًا مقطعين، لا جنسية لهم ولا دين، ولو أنهم كانوا يطمعون في تنصيرهم لكان لهم عندنا بعض العذر، ولكن التجربة أفادت التاريخ أن الملايين من النصارى صاروا مسلمين ولا يوجد بإزاء كل مليون من هؤلاء واحد من المسلمين تنصّر إلا ما كان من أفراد ليس لهم من الإسلام إلا وراثة الاسم من آبائهم الأولين. قيل للسيد جمال الدين الأفغاني الحكيم الشهير - رحمه الله تعالى -: ما سبب الدعوة إلي مذهب الدهريين في الهند وعدم الاقتصار على الدعوة إلى النصرانية؟ فقال: إن المسلم يستحيل أن يكون نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة فهو يأمر بالاعتقاد بنبوة عيسى وحقيّة دعوته ويرفض الخرافات والبدع التي زادتها الجمعيات النصرانية في دينه، فلما جرب الذين يبتغون حل الرابطة الإسلامية بالدعوة إلى النصرانية فلم تنجح، عمدوا إلى تشكيكهم في أصل الدين المطلق بالدعوة إلى الدهرية. وكذلك رأى مثل صاحب الجامعة أن تشكيك المبشرين بالنصرانية لم ينجح في المسلمين من الطريق الديني فانبرى لتشكيكهم من الطريق العلمي وبذل جهده لإقناعهم (1) بأن دينهم كغيره عدوّ للعقل والعلم و (2) أن أئمتهم في العقائد (المتكلمين) ينكرون الأسباب و (3) أن جمع السلطة الدينية والسلطة السياسية المدنية في خليفة الإسلام ضارّ بالمسلمين وسبب لتأخرهم، ومن رأي صاحب الجامعة أن المسلمين إذا أرادوا الرقيّ والنجاح فلا بد لهم من سماع نصيحته وهي: (1) أن يضعوا دينهم في جانب من العقل والعلم؛ لأنهما قاضيتان بهدمه كقضائهما بهدم النصرانية، فإذا حاولوا الجمع بين الدين والعلم كما ينصح لهم بعض أئمتهم بما ينشر في المنار وغيره فإنما يحاولون محالاً بل إنما يهدمون دينهم فيخرجون بلا علم ولا دين، و (2) أن يعتقدوا أن سُنّة الله تعالى في الأسباب والمسببات مطردة في الواقع خلافًا لما يحكم به الدين وعلماء الكلام، فإذا صدقوا بالواقع فعليهم أن يكذبوا أئمتهم والعكس بالعكس، و (3) أن يجعلوا خليفتهم حاكمًا مدنيًّا يخترع الشرائع والأحكام ويتركوا ما شرعه الله لما شرعه السلطان ويجعلوا الدين خالصًا بالعبادة لله تعالى، أي إنه يجب على المسلمين في رأي صاحب الجامعة أن يتركوا نصف دينهم وهو أحكام المعاملات الدنيوية ويجعلوا النصف الثاني لمن يريد أن يترك العقل والعلم والأسباب لأجل العبادة، هذا ملخص نصح صاحب مجلة الجامعة للمسلمين ولأجل أن يجعله مقبولاً أورد لهم كلمات عن بعض أئمتهم حرّفها عن معناها ليخدع البسطاء بها، وإننا نشرح هذه المسائل ونبين الحق فيها ليكون حجة على هؤلاء المعتدين الذين {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) . *** الأسباب أو سنن الله تعالى في الخلق وإثبات الإمام الغزالي لها ذكر صاحب الجامعة في كتاب لَفَّقَهُ أننا أوردنا قوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) لإثبات أن النواميس الطبيعية لا تتغير ولا تتبدل ثم قال: (مع أنه لو قام حجة الإسلام الإمام الغزالي من قبره وسمع هذا القول لكسر قلم صاحب تلك المجلة وضحك من بساطته وعدم اطلاعه على الشئون التي يبحث فيها؛ لأنه استشهد بتلك الآية للغرض الذي ذكره مع أنها لم ترد في القرآن لهذا الأمر بوجه الإطلاق) . يقول هذا صاحب الجامعة تمهيدًا لخلابة المسلمين بأن ما يتحكم هو فيه من الحكم بتفسير كتاب الله برأيه الأفين مقتبس من الإمام الغزالي الذي حرف قوله عن موضوعه ولم يفهم مراده منه. إذا كان الغزالي يضحك من (بساطة) من أخذ معظم علمه في الدين من كتابه إحياء العلوم اعتقادًا وعملاً ودرسه من أول نشأته المرة بعد المرة كما درس كل ما اطلع عليه من كتبه بإمعان وإخلاص - فهل يضحك أو يبكي من (تركيب) جاحد معاند يلتمس من كلامه كلمة يحرفها عن موضعها ليغش المسلمين بشيء يخالف دينهم محتجًّا بكلام إمام من أئمتهم ولا موضع للاحتجاج؟ نترك مثل هذا ونسرد مذهب الغزالي في الأسباب وسنن الله تعالى ونبين الحق في المسألة التي اشتبه فهمهما على كثير من الناس حتى صار التشكيك فيها متيسرًا لمثل صاحب الجامعة مع عوام المسلمين الذين لا يزال فيهم من يقرأ ما يكتبه ذهابًا مع سماحة الإسلام. مذهب الغزالي: قال حُجة الإسلام في الفصل الثالث من كتاب التوكل ما نصه: (الأسباب التي يجلب بها النافع على ثلاث درجات: مقطوع به ومظنون ظنًّا يوثق به وموهوم وهمًا لا تثق النفس به ثقة تامة ولا تطمئن إليه، (الدرجة الأولي) المقطوع به، وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطًا مطردًا لا يختلف كما أنّ الطعام إذا كان موضوعًا بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول: أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، ومدُّ اليد إليه سعي وحركة، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسافله؛ فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء، فإنك إذا انتظرت أن يخلق الله فيك شبعًا دون الخبز أو يخلق في الخبز حركة إليك أو يسخر ملكًا ليمضغه لك ويوصله إلي معدتك فقد جهلت سنة الله تعالى، وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله نباتًا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها السلام فكل هذا جنون، وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه) اهـ بحروفه. وبعد أن قرر أن هذه الدرجة لا يأتي فيها التوكل بترك العمل تكلم عن الدرجة الثانية وهي ما كان السبب فيها مظنونًا وبين أن التوكل لا يأتي فيها أيضًا قال ما نصه: (فإذا التباعد عن الأسباب كلها مراغمة للحكمة وجهل بسنة الله تعالى والعمل بموجب سنة الله تعالى مع الاتكال على الله عز وجل دون الأسباب لا يناقض التوكل) . هذا التفصيل في جانب المنافع وقد أورد مثله في منعها وفي دفع المضرات التي أسبابها قطعية أو ظنية وبين أن التوكل إنما يكون في ترك الأشياء الوهمية كالرقية والطيرة والكيّ التي ورد بها الحديث، ومما صرح فيه بذكر السنة الإلهية هنا قوله: (وكذلك في الأسباب الدافعة عن المال فلا ينقضي التوكل بإغلاق باب البيت عند الخروج ولا بأن يعقل البعير؛ لأن هذه أسباب عرفت بسنة الله تعالى إما قطعًا وإما ظنًا، ثم أورد الشواهد من الكتاب والسنة وهي مشهورة. وقال في الكلام على التداوي، وهو من منع المضار (هذه الكلمة الجليلة ليس من التوكل الخروج عن سنة الله أصلاً) وقال أيضًا في تداوي النبي صلى الله عليه وسلم (وإنما لم يترك الدواء جريًا على سنة الله تعالى وترخيصًا لأمته فيما تمس إليه حاجاتهم) . وأظهر من هذا قوله بعد شرح طويل للأسباب: (فبهذا تبين أن مسبب الأسباب أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهارًا للحكمة والأدوية أسباب مسخرة بحكم الله تعالى كسائر الأسباب، فكما أن الخبز دواء الجوع، والماء دواء العطش فالسكنجبين دواء الصفراء والسقمونيا دواء الإسهال لا يفارقه إلا في أحد أمرين أحدهما أن معالجة الجوع والعطش بالماء والخبز جليٌّ واضح يدركه كافة الناس ومعالجة الصفراء بالسكنجبين يدركه بعض الخواص، فمن أدراك ذلك بالتجربة التحق في حقه بالأول، والثاني أن الدواء يسهل والسكنجبين يسكن بشروط آخر في الباطن وأسباب من المزاج ربما يتعذر الوقوف على جميع شروطها وربما يفوت بعض الشروط فيتقاعد الدواء عن الإسهال، وأما زوال العطش فلا يستدعي سوى الماء شروطًا كثيرة، وقد يتفق في العوارض ما يوجب دوام العطش مع كثرة شرب الماء لكنه نادر، وإختلال الأسباب أبدًا ينحصر في هذين الشيئين وإلا فالمسبب يتلو السبب لا محالة مهما تمت شروط السبب) اهـ بحروفه. فأي نص في التلازم بين الأسباب والمسببات أقوى من هذه الجملة الأخيرة؟ فهذا هو الإمام الغزالي الذي يوهم المسلمين صاحب الجامعة بأنه ينكر الأسباب وينكر أن معنى سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول الأسباب وارتباطها بالمسببات، فهل بعد هذا يوثق بقول صاحب الجامعة أو بحسن قصده؟ وهل يجوز لغير العالم الراسخ أن ينظر في قول هذا المشكك الذي يريد أن يفسد على عوامّ المسلمين عقائدهم؟ ؟ *** التوفيق بين هذا وبين ما قاله في تهافت الفلاسفة مسألة الأسباب التي شرحها الإمام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل هي ما يعتقده المسلمون، وإنما كتبها للمسلمين لأنه بين في هذا الكتاب مقام التوكل الذي هو أعلى مقامات الإيمان، وله كلام آخر في هذه المسألة مع الفلاسفة لا مع المسلمين، وكلامه هناك يجب أن يكون بلسان يخالف هذا اللسان ولكن لا يناقضه ذلك أنه هنا يشرح الواقع الذي يدل عليه الوجود وينطق بموافقته الشرع وهناك يتكلم على العلل والتأثيرات الحقيقة في الإيجاد والإعدام وما قاله في الموضعين هو الحق الذي لا محيد عنه كما نبينه. ولا بد قبل الخوض في القسم الثاني من كلمة تمهيدية في الموضوع وهي أن المغرورين بالظواهر من الفلاسفة المتقدمين كانوا ينزلون الأسباب العادية الظاهرة منزلة العلل العقلية القاطعة وينسبون إليها التأثير ويزعمون أنها مطردة اطرادًا ضروريًّا يستحيل انفكاكه، ولو نهضت لهم الحجة البالغة على ذلك لما خالفهم المسلمون؛ لأن القاعدة المتفق عليها عند المتكلمين هي أن قدرة الله تعالى وإردته لا تتعلقان بالمستحيل وإنما تتعلقان بالممكن فقط، ولكن لا حجة لهم على ذلك وإنما هي شبهات كشف الحجاب عنها الغزالي وغيره، وتلك الأسباب التي مر القول في اطرادها ممكنة فهي مطردة بفعل الله تعالى. ولو سلَّم الناس بقول أولئك الفلاسفة لوقفت حركة العلم عند تلك الظواهر التي كانوا يرون تغييرها محالاً عقليًّا وإنما المحال العقلي شيء واحد وهو اجتماع النقيضين أو الضدين المساويين للنقيضين أو ارتفاعهما، ولو أن هذه الغرائب التي كشفها العلم في عصرنا ذكرت لأولئك الفلاسفة القاصرين لجزموا باستحالتها وأوردوا على ذلك من الشبهات النظرية مثلما أوردوه على القول ببعث الأجساد، وأمثلة بعث الأجساد ظاهرة اليوم لعلماء الكيمياء ظهورًا تامًّا، قال الإمام الغزالي في كتاب تهافت الفلاسفة ما نصه: (هذا ما أردنا أن نذكره في العلم الملقب عندهم بالإلهيّ، أما الملقب بالطبيعيات فهي علوم كثيرة نذكر أنواعها لتعرف أن الشرع ليس يقتضي المنازعة فيها ولا إنكارها إلا في مواضع) وأنبه القارئ إلى عطفه الإنكار على المنازعة لتغايرهما، فالإنكار هو القول ببطلان الشيء مرة واحدة والمنازعة هي المباحثة في دليله ليظهر الصواب م

الاجتماع الثامن لجمعية أم القرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتماع الثامن لجمعية أم القرى في مكة المكرمة يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1316. في صباح ذلك اليوم انتظمت الجمعية وقرأ البليغ الإسكندري ضبط اليوم السابق علي العادة المألوفة وأذن الأستاذ الرئيس للسيد الفراتي بإتمام بحثه. فقال (السيد الفراتي) : إنَّ من أعظم أسباب الفتور في المسلمين غرارتهم أي عدم معرفتهم كيف يحصل انتظام المعيشة؛ لأنه ليس فيهم مَن يُرشِدُهم إلى شيء من ذلك بخلاف الأمم الأخرى فإنَّ من وظائف خدمة الأديان عندهم رفع الغرارة أي الإرشاد إلى الحكمة في شئون الحياة، وأما الأقوام الذين ليس عندهم خدمة دين أو الشراذم الذين لا ينتمون لخدمة دينهم فمستغنون عن ذلك بوسائل أخرى من نحو التربية المدرسية والأخذ من كتب الأخلاق وكتب تدبير المنزل ومفصلات فن الاقتصاد والتواريخ المتقنة والرومانات الأخلاقية والتمثيلية أي الحكايات الوضعية نحو ذلك مما هو مفقود بالكلية عند غير بعض خاصة المسلمين. على أن الخاصة السالمين من الغرارة علمًا لا يقوون غالبًا على العمل بما يعلمون لأسباب شتى منها بل أعظمها جهالة النساء المفسدة للنشأة الأولى وقت الطفولية والصبوة ومنها عدم التمرن والألفة [1] ومنها عدم مساعدة الظروف المحيطة بهم للاستمرار علي نظام مخصوص في معيشتهم. ثم قال: ولا أرى لزومًا للاستدلال على استيلاء الغرارة علينا؛ لأنها مدركة مسلمة عند الكافة وهي ما ينطوي تحت أجوبتنا عند التساؤل عن هذه الحال بقولنا: إن المسلم مصاب، وإن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه، وإن أكثر أهل الجنة البُلْهُ، وحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، وإن غيرنا مستدرجون، وإنهم كلاب الدنيا، وإنهم يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، وإنهم في غفلة عن الموت وغفلة عن أنّ الدنيا شاخَتْ. ثم قال فمن (الغرارة) في طبقاتنا كافة من الملوك إلى الصعاليك أننا لا نرى ضرورة للإتقان في الأمور، وقاعدتنا أن بعض الشيء يغني عن كله، والحق أن الإتقان ضروري للنجاح في أي أمر كان بحيث إذا لم يكن مستطاعًا في أمر يلزم ويتحتم ترك ذلك الأمر كليًّا والتحول عنه إلى غيره من المستطاع فيه إيفاء حق الاتقان. (ومن الغرارة) توهمنا أن شئون الحياة سهلة بسيطة فتظن أن العلم بالشيء إجمالاً ونظريًّا بدون تمرن عليه يكفي للعمل به فيقدم أحدنا مثلاً على الإمارة بمجرد نظره في نفسه أنه عاقل مدبر قبل أن يعرف ما هي الإدارة علمًا ويتمرن عليها عملاً ويكتسب فيها شهرة تعينه على القيام بها. ويقدم الآخر منا على الاحتراف مثلاً ببيع الماء للشرب بمجرد ظنه أن هذه الحرفة عبارة عن حمله قِرْبة وقدحًا وتعرضه للناس في مجتمعاتهم ولا يرى لزومًا لتلقي وسائل إتقان ذلك عمن يرشده مثلاً إلى ضرورة النظافة له في قربته وقدحه وظواهر هيئته ولباسه وكيف يحفظ برودة مائه وكيف يستبرقه (كذا) ويوهم بصفائه ليشهي به، ومتى يغلب العطش ليقصد المجتمعات ويتحرى منها الخلية له عن المزاحمين، وكيف يتزلف للناس ويوهم بلسان حاله أنه محترف بالإسقاء كفًّا لنفسه عن السؤال إلى نحو هذا من دقائق إتقان الصنعة المتوقف عليها نجاحه فيها وإن كانت صنعته بسيطة حقيرة. ومن الغرارة ظننا أن الكياسة في (أدْرِي وأقدرُ) جوابًا للنفس في مقاصد كثيرة شتى، والحقيقة أن الكياسة لا تتحقق في الإنسان إلا في فن واحد فقط يتولع فيه فيتقنه حق الإتقان كما قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) فالعاقل من يتخصص بعمل واحد ثم يجاوب نفسه عن كل شيء غيره: لا أدري ولا أقدر؛ لأن الأول يتكلف أعمالاً لا يحسنها فتفسد عليه كلها، والثاني يتحرى لكل عمل لازمه من يحسنه فتنتظم أموره ويهنأ عيشه. فالملك مثلاً وظيفته النظارة العامة وانتخاب وزير يثق بأخلاقه ويعتمد على خبرته في انتخاب بقية الوزراء والسيطرة عليهم في الكليات، فالملك مهما كان عاقلاً حكيمًا لا يقدر على إتقان أكثر من وظيفته المذكورة، فالملك إذا تغرر وتنزل للتداخل في أمور السياسة أو الإدارة الملكية أو الأمور الحربية أو القضاء فلا شك أنه يكون كربّ بيت يُداخل طبّاخه في مهنته، ويشارك بستانيه في صنعته؛ فيفسد طعامه ويبور بستانه فيشتكي ولا يدري أن آفته من نفسه. ومن (الغرارة) اللوث في الأمور أي تركها بلا ترتيب، والحكمة قاضية على كل إنسان ولو كان زاهدًا منفردًا في كهف جبل فضلاً عن سائس رعية أو صاحب عائلة أن يتخذ له ترتيبًا في شئونه وذلك بأن يرتب: (أولاً) أوقاته حسب أشغاله ويرتب أشغاله حسب أوقاته والشغل الذي لا يجد له وقتًا كافيًا يهمله بالكلية أو يفوضه لمن يفي حق القيام به عنه. (ثانيًا) يرتب نفقاته على نسبة المضمون من كسبه، فإن ضاق دخله عن المبرم من خرجه يغير طرز معيشته ولو بالتحول مثلاً من بلده الغالية الأسعار أو التي مظهره فيها يمنعه من الاقتصاد إلى حيث يمكنه ترتيبها على نسبة كسبه. (ثالثًا) يرتب تقليل غائلة عائلته عند أول فرصة ملاحظًا إراحة نفسه من الكد في دور العجز من حياته فيربي أولاده ذكورًا أو إناثًا على صورة أن كلا منهم متى بلغ أشده يمكنه أن يستغني عنه بنفسه معتمدًا على كسبه الذاتي ولو في غير وطنه. (رابعاً) يرتب أموره الأدبية على نسبة حالته المادية، أعني يرتب أموره الدينية ولذاته الفكرية وشهواته الجسمية ترتيبًا حسنًا فلا يحمل نفسه منها ما لا تطيق الاستمرار عليه. (خامسًا) يرتب ميله الطبيعي للمجد والتعالي على حسب استعدادة الحقيقي فلا يترك نفسه تتطاول إلى مقامات ليس من شأن قوته المادية أن يبلغها إلا بمحض الحظ أي المصادفة، وخلاصة البحث أن الغرارة من أقوى أسباب الفتور الشخصي ليس من عقيمات الأمور. ثم قال إن لانحلال أخلاقنا سببًا مهمًا آخر أيضًا يتعلق بالنساء وهو تركهن جاهلات على خلاف ما كان عليه أسلافنا حيث كان يوجد في نسائنا كأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي أخذنا عنها نصف علوم ديننا وكمئات من الصحابيات والتابعيات راويات الحديث والمتفقهات فضلاً عن ألوف من العالمات والشاعرات - اللاتي في وجودهن في العهد الأول بدون إنكار- حجة دامغة ترغم أنف الذين يزمعون أن جهل النساء أحفظ لعفتهن فضلاً عن أنه لا يقوم لهم برهان على ما يتوهمون حتى يصح الحكم بأن العلم يدعو للفجور وأن الجهل يدعو للعفة، نعم، ربما كانت العالمة أقدر على الفجور من الجاهلة ولكن الجاهلة أجسر عليه من العالمة، ثم إن ضرر جهل النساء وسوء تأثيره في أخلاق البنين والبنات أمر واضح غنيّ عن البيان، وإنما سوء تأثيره في أخلاق الأزواج فيه بعض خفاء يستلزم البحث فأقول: إن الرجال ميالون بالطبع إلى زوجاتهم، والمرأة أقدر مطلقًا من الرجل في ميدان التجاذب للأخلاق ولا يتوهم عكس ذلك إلا من استحكم فيه تغرير زوجته له بأنها ضعيفة مسكينة مسخرة لإرادته حال كون حقيقة الأمر أنها قابضة على زمامه تسوقه كيف شاءت، وبتعبير آخر يغره أنه أمامها وهي تتبعه فيظن أنه قائد لها والحقيقة التي يراها كل الناس من حولهما دونه أنها إنما تمشي وراءه بصفة سائق لا تابع، وما قدَّر قدْر دهاء النساء مثل الشريعة الإسلامية حيث أمرت بالحجب والحجر الشرعيين حصرًا لسلطتهن وتفرغهن لتدبير المنزل فأمرت باحتجابهن احتجابًا محدودًا بعدم إبداء الزينة للرجال الأجانب وعدم الاجتماع بهم في خلوة أو لغير لزوم، وأمرت باستقرارهن في البيوت إلا لحاجة ولا شك أنه ما وراء هذه الحدود إلا فتح باب الفجور، وما هذا التحديد إلا مرحمة بالرجال وتوزيعًا لوظائف الحياة. والصينيون وهم أقدم البشر مدنية التزموا تصغير أرجل البنات بالضغط عليها لأجل أن يعسر عليهن المشي والسعي في إفساد الحياة الشريفة ذاك الشرف الذي هو من مقاصد الشرقيين بخلاف الغربيين الذين لا يهمهم غير التوسع في الماديات والملذات. وقد أمرت الشريعة برعاية الكفاءة في الزوج وذلك أيضًا مرحمة بالرجال ولكن الأئمة المجتهدين أغفلوا لزوم تحري الكفاءة في جانب المرأة للرجل وأوجبوا أن يكون هو كفؤًا لها فقط لكيلا تهلكه بفخارها وتحكمها على أن لرعاية الكفاءة في المرأة بالنسبة إلى الرجل أيضًا موجبات عائلية مهمة منها التخير للاستسلام والتخير لتربية النسل، وللتساهل في ذلك دخل عظيم في انحلال الأخلاق في المدن؛ لأن للتزوج بمجهولات الأصول أو الأخلاق أو بسافلات الطباع والعادات أو بالغربيات جنسًا أو الرقيقات مفاسدَ شتى؛ لأن الرجل ينجر طوعًا أو كرهًا لأخلاق زوجته فإن كانت سافلة يتسفل لا محالة، وإن كانت غريبة بَغَّضَتْ إليه قومه وجرته إلى موالاة قومها والتخلق بأخلاقهم ولا شك أن هذه المفسدة تستحكم في الأولاد أكثر من الأزواج. وربما كان أكبر مسبب لانحلال أخلاق الأمراء من المسلمين أتاهم من جهة الأمهات والزوجات السافلات؛ إذ كيف يُرجى من امرأة نشأت سافلة رقيقة ذليلة [2] أن تترك بعلها وهو في الغالب أطوع من خلخالها أن يجيب داعي الشهامة أو المروءة أو أن تغرز في رءوس صبيتها مقاصد سامية أو تحمسهم على أعمال خطرة! كلا، لا تفعل ذلك أبدًا، إنما تفعله الشريفات اللاتي يجدن في أنفسهن عزة وشهامة [3] وهذا هو سر أن أعاظم الرجال لا يوجدون غالبًا إلا من أبناء وبعول نسوة شريفات أو بيوت قروية، وهذا هو سبب حرص أمراء العرب والإفرنج على شرف الزوجات. (ثم قال السيد الفراتي) أيضًا: وإني أرى أن هذا الفتور بالغ في غالب أهل الطبقة العليا من الأمة ولا سيما في الشيوخ مرتبة (الخور في الطبيعة) لأننا نجدهم ينتقصون أنفسهم في كل شيء ويتقاصرون عن كل عمل ويحجمون عن كل إقدام ويتوقعون الخيبة في كل أمل، ومن أقبح آثار هذا الخور نظرهم الكمال في الأجانب كما ينظر الصبيان الكمال في آبائهم ومعلميهم فيندفعون لتقليد الأجانب وأتباعهم فيما يظنونه رقة وظرافة وتمدنًا وينخدعون لهم فيما يغشونهم به كاستحسان ترك التصلب في الدين والافتخار به فمنهم من يستحي من الصلاة في غير الخلوات، وكإهمال التمسك بالعادات القومية فمنهم من يستحي من عمامته، وكالبعد عن الاعتزاز بالعشيرة كأن قومهم من سقط البشر، وكنبذ التحزب للرأي كأنهم خلقوا قاصرين، وكالغفلة عن إيثار الأقربين في المنافع، وكالقعود عن التناصر والتراحم بينهم كي لا يشم من ذلك رائحة التعصب الديني وإن كان على الحق - إلى نحو ذلك من الخصال الذميمة في أهل الخور من المسلمين الحميدة في الأجانب؛ لأن الأجانب يموهون عليهم بأنهم Hkkkkkkkkkkkيحسنون التحلي بها دونهم. وهؤلاء الواهنة يحق لهم أن تشق عليهم مفارقة حالات ألفوها عمرهم كما قد يألف الجسم السقم فلا تلذ له العافية فإنهم منذ نعومة أظفارهم تعلموا الأدب مع الكبير يُقبّلون يده أو ذيله أو رجله، وألفوا الاحترام فلا يدوسون الكبير ولو داس رقابهم، وألفوا الثبات ثبات الأوتاد تحت المطارق، وألفوا الانقياد ولو إلى المهالك، وألفوا أن تكون وظيفتهم في الحياة دون النبات ذاك يتطاول وهم يتقاصرون، ذاك يطلب السماء وهم يطلبون الأرض كأنهم للموت مشتاقون، وهكذا طول الألفة على هذه الخصال قلب في فكرهم الحقائق وجعل عندهم المخازي مفاخر فصاروا يسمون التصاغر أدبًا والتذلل لطفًا والتملق فصاحةً واللكنة رزانةً وترك الحقوق سماحة وقبول الإهانة تواضعًا والرضاء ب

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الشذرة العاشرة من جريدة الدكتور أراسم [*] (التقليد والذاكرة) مثل هاتين القوتين في فتنة العقل والتغرير به كمثل الفتانات الخرافية التي كانت تظهر في بحر صقلية وتستهوي الملاحين بشجي صورتها فتوردهم في شعابه مورد الهلكة فإنهما بعلو مكانتهما وجلال خطرهما في دراسة اللغات وبخداعهما العقل أحيانًا في آدابها بما يأخذانه عن الغير من محاسن القول وطرائفه يأكلان الاستعداد الحقيقي أكلاً، وقد يكون الذنب في ذلك على المربين دونهما لما ينهجونه من طريقة التربية فإن أحدًا لا يرتاب في كون تينك القوتين من المواهب الخلقية الميمونة، بيد أن هذا لا ينبغي أن يكون سببًا للإفراط في تنميتها فإنك ترى التلميذ الذي تربى على طريقتنا يصف لك بما قرأه في الكتب أشياء لم يرها في حياته ويفوه أمامك بجمل من القول المنثور أو المنظوم تدل على ضروب من الوجدان وهو لم يشعر بشيء منها قط ويبدي من الهيج والانفعال في بعض أحوال لا علاقة له بها من حياة غيره ما لا أثر له في نفسه ولو أنك سألته أن يتغنى بذكر الأشجار وظلالها والأنعام ورعاتها والربيع وأزهاره لوجد فيما يذكره من محفوظاته جميع ما قاله فيها فرجيل [1] وهوارس [2] من النعوت والأوصاف ومع أنه قد يكون خيرًا له أن يذهب إلى المزارع ويرى بنفسه ما يحصل فيها وكيف يحصل تراه شديد الاحتراس من موافاتها خشية أن يخسر فيها وما تواضع عليه الأقدمون من الصور اللفظية لتأدية ما كان يعرض لأذهانهم من المعاني والأفكار وإذا استوصفته قتالاً انبرى يصف لك ما استعمل فيه من الآلات وكيف كان اصطدام الجيشين بألفاظ مطنطنة وعبارات مجلجلة وهو لم يشهد شيئًا من ذلك أبدًا فإذا كان مرادك اختباره في محاصرة العدو وجدته قد انتهى من حصاره كما انتهى فرتوت [3] ولقد عرفت فيما سبق تلميذًا كان يبدو عليه كثير من مخايل النجابة نال إكليلاً مكافأةً له على قرضه شعرًا وصف فيه زجّ سفينة في البحر وهو لم ير في عمره سفينة ولا بحرًا. نعم إن الشبان في هذه الأيام لا يكادون ينفلتون من المدارس إلا وهم رافضون لآثار السلف نابذون لها ظهريًا غير أنه لا معنى لهذا إلا أنهم يعتاضون عن مثل الغابرين ومُثُل الحاضرين لأن محو طيّات التقليد وغضونه من النفس وإرجاعها إلى صقالتها الفطرية ليس من السهولة بالمقدار المتوهم فإننا كل يوم نقرأ في وصف الكتاب والشعراء المبتدئين قول واصفيهم في الواحد منهم أنه نابغة يفتش على نفسه فليقلْ لي بربه هذا الفتّاش أين أضلّ نفسه حتى أصبح ينشدها. إن تربيةً تكون بدايتها إضلال وجدان الاستقلال إلى حد أنه ينبغي لأجل الاهتداء إليه تلمسه سنين طويلة لمن الغرابة بمكان. أنا لا أشتهي ولا أرجو أن يكون (أميل) ميّالاً إلى وقف نفسه على دراسة آداب اللغة ولو أني وهيلانة دأبنا في تحبيبها إليه وأفلحنا في حجب حالة عقله بزخارف الذاكرة لأخفقنا في مسعانا إلى غايتنا المطلوبة، فاتقاء لهذا الخطر تراني مصمّمًا على إرجاء تعليمه اللغات القديمة وإقرائه كتب مؤلفيها وقد جعلت له مشاهدة الأشياء مقدمة على علم الألفاظ فأصبحت علومه على ما فيها من النقص لها أصول في الخارج ترجع إليها ودعائم في الواقع تستقر عليها وسعيت في إيتاءه من آلات الضبط والدقة العقلية ما هو لازم للإنسان في بحثه عن الحسن والحق أكثر جدًّا من سعيي في الإفضاء إليه بما لي أو ما لغيري من المعاني. وقبل أن أجعل البحث في مثل الأقدمين في مكنته سأعني كل العناية بتنبيهه إلى أنَّ مثل هذه المثل لا تقلد فإنه من السخف المحقق أن نباري الغابرين مباراة نحن على يقين من غلبنا فيها من قبل أنْ ندخلها، وكيف لا نكون مغلوبين لهم ونحن نرضى لأنفسنا طريقتهم في الكلام والكتابة والذي لا غضاضة علينا في أخذه عن كتاب اليونان والرومان إنما هو روح آداب لغتهم وما يناسب كل زمان وكل قوم من أساليب الإنشاء وترتيب المعاني والدقة في التعبير عنها إنتقاد الألفاظ اللائقة بها فكما أن من يعاشر بعض خواصّ الأجانب يقتبس شيئًا من خصائصهم بغير أنْ يكون ذلك موجبًا لمشابهته لهم بحال من الأحوال كذلك معاشرة الأقدمين بواسطة ما تركوه من آثارهم توحي إلينا شيئًا من عوائد العقل واللسان المناسبة لكافة الأقوام المستضيئين بضياء العرفان. التقليد الخسيس سواء قُلِّد فيه الغابرون أو الحاضرون لا يقتصر سوءُ أثره على إضعاف الذوق والميل إلى الفنون بل إنه يسلب الناشئين شرف النفس وكرامتها فلشَدَّ ما ينخدعون بما تؤديه لهم الألفاظ والجمل تفعل في نفوسهم ما يفعله السحر الحقيقي فتراهم يتوهمون أنهم يتفكرون فيما يقولون ويكتبون والحق أنهم يرددون ما فكر فيه المفكرون ولعمري إن هذا هو أصل بعض الأباطيل التي تحاول من قرون عديدة إطفاء نور العقل، ذلك أن ضروب الاستعباد متلازمة فمن قبل واحدًا منها فقد أخذ على نفسه الرضوخ إلى جميعها ألا ترى الشابّ المتعلم الذي اعتاد تقليد ما يصفه المقلدون بالمُثل الحسنة يصاحبه في سيرته وأطواره روح اللين والانقياد الذي ألّفه من التقليد فنجده يجبن ويفزع عند كل عزيمة ذاتية. نعم إنه قد يخاطر بحياته في براز أو يعرضها للهلكة في ساحة قتال لأنه يرى ذلك مستحسنًا في نظر الناس ولكنه إذا دعي إلى مقاومة عادة بربرية أو تأييد حق قل ناصروه ورأى أن من وراء ذلك الاستهداف للسخرية والزراية عليه نكص على عقبيه نكص الجبان وفر فرار الرعديد. مثل هؤلاء المخلوقين المجردين عن ذواتهم يجدون طريق عيشهم ذلولاً ويأتيهم رزقهم بلا نصب لكن ما أكثر ما يسومون أنفسهم من الخسف وما أحط ما يسفلون بها إليه من دركات الذل، عرفت امرأة بَرْزَةً [4] محبوبةً حسنةَ المظهر وكانت أرملة ولها ولد كان قبلة آمالها، فبدا لها في يوم من الأيام أن تنشئه على أحسن آداب المواضعة المعروفة فرأت أن الاستشهاد بأقوال الكتاب اللاتينيين في المقامات المناسبة من المحاورة والتمثيل بأشعارهم وإيراد أمثالهم من الأمور التي لا بأس بها بل إنه يكسو المحاور إذا كان حسنًا بردًا من الخطر ويلقي عليه مسحة من جلال القدر فأرسلت ولدها إلى المدرسة فغادرها كيوم كدخلها خفيف العقل لم يستفد من العلم إلا قشورًا محبوبة عند الناس ولكونه أوتي ذاكرة مباركة كان يتكلم في كل موضوع ويناقش في كل شيء ولا يبدي رأيًا إلا قوبل بالاستحسان لأنه يسهل على كل إنسان أن يرضي الناس عنه إذا سلم لهم ما يقولون ولم يعارضهم في شيء من آرائهم فكان ثرثارًا عديم الخلق حسن الصورة عقيم الفكر أرادت والدته أن تصيّره رجلاً من الأكياس أو نائبًا لأحد الحكام أو معتمدًا سياسيًّا لحكومته في بعض البلدان وإن أحببت أن تعرف ماذا صيرته قلت إنها صيرته طفيليًّا. إن طريقتنا في التربية تظهر بادي الرأي سخيفة مضحكة وإن جاز أن تكون مما يتعاصى على الأفهام إدراكه وربما لا تطابق أي طريقة غيرها مطابقتها لمقاصد حكامنا ونظامنا السياسي. التلامذة في مدارسنا مقترعون مدنيون تبكر الحكومة بتأهيلهم لوظيفتهم على نظام معنوي يشف عن حذق واضعه، فأنت ترى القائمين على تربيتهم يوزعون عليهم متاعًا من الآراء والعلوم التي يجب عليهم تقلدها في مستقبلهم مراعين في ذلك الدقة العسكرية التي تراعى في توزيع متاع الجند وينادونهم: (الهوينا) أيها الأحداث، وإياكم أن تحيدوا عن الخطة المضروبة لكم، نعم إن منهم من يولونهم أدبارهم ولا يصغون إلى ندائهم وإن كثيرًا من هؤلاء يتحيزون إلى فئة الآخذين بحرية النظر ويتضاعف عددهم كل يوم ولكن لشدة ما يلاقون على ذلك من العقاب يحرمون من تقلد الوظائف العلمية في المدارس الجامعة ومن القيام بالوظائف الإدارية في الحكومة فلا يولَّى أحدهم شيئًا منها وفوق ذلك تراهم إن لم يسيروا سيرة مرضية وقد أخذت الحكومة على نفسها تعليمهم كيف يسيرون بما تتابعه لهم من ضروب الإيذاء وما تبلوهم به من العقوبات والنكبات السياسية ولا جرم، فإنهم في قبضة ماهر، والذنب عليهم في أنهم لم يعرفوا من قبل أن لهم واليًا يقوم عليهم وأستاذًا يرشدهم. ولمّا لم يكن هذا هو الفلاح الذي أرجوه (لأميل) وكان الذي يعنيني من أمره قبل كل شيء إنما هو حفظ كرامته وشرفه من حيث هو إنسان كان نصيب هذه الطريقة مني محض الإعجاب بها دون أن أرضاها لتربيته. *** الشذرة الحادية عشرة في المؤلفات المفيدة للناشئين واختيارها أجد في نفسي انبعاثا كثيرًا إلى اعتقاد أنه لا شيء أضر على كتاب الأقدمين وأدعى إلى هجر مؤلفاتهم من إطراء المعلمين إياهم واعتيادهم الإعجاب بما كتبوا، ذلك أن هؤلاء بإلزامهم الطفل حفظ ما يختارونه له من هذه المؤلفات وإرشادهم إياه إلى ما يجب عليه أن يراه فيها من ضروب المحاسن خشية أن يقصر في احترام آثار سلفه وإكراههم له على ملاحظة جميع ما فيها حتى علامات الفصل والوصل بذلك كله لا يفلحون غالبًا إلا في أن يكرهوها إليه وهي أحسن أعمال عقل الإنسان. فالإفراط في الوقاية من جانب المُعلِّم يصير سببًا للضعف من جانب المُعلِّم وإفراط ذلك في إعجابه بما يعلمه يذهب بالحمية من نفس هذا فيما يتعلمه. والمقصود من التعليم على أي حال إنما هو إنشاء القوة الحاكمة في نفس الطفل، أنا في شك من بلوغ هذه الغاية بالجري على تلك الطريقة فإنه على فرض وجود التلامذة الذين يكون فيهم من الامتثال ما يكفي لأن يروا الحسن فيما يمدح لهم والقبح فيما يذم (وفي التلامذة من هم كذلك) لا تكون أذواقهم من أجل ذلك أسلم من أذواق غيرهم ولا أكثر منها دربة بل إن هذا مما يدعو إلى سلبهم قوة تمييزهم الأمور بأنفسهم؛ فتكون همتهم في مستقبلهم مصروفة إلى النظر في الأمور والحكم عليها حكمًا مستقلاً. سأدع ابني وشأنه في انتقاء كتبه فلا أجتنب إلا ما يكون منها ضارًّا بالأخلاق لأنّي أود أن يكون هو صاحب الخيار فيما يفضل في نظره من كتب الآداب فإذا ضلّ ذوقه في الاختيار عَوّلت في ردّه إلى الصراط السويّ على ضروب نمو عقله لا على ما يدعو إليه كدري من أنواع التوبيخ والتأنيب ومع كوني لا أضن عليه بالإرشاد متى سألني إياه تجدني أقصد أن يلتمس في ما يطالعه تنمية أفكاره وتربية ضروب وجدانه الذاتي. نعم إني قد أشتهي أن أقدم له بعض كتب مخصوصة وأغتبط لو أنه اتفق معي في التأثر بما فيها غير أني لا أجدني مُحقًّا في اقتضاء ذلك منه لأن الإعجاب بالشيء من أجل أن يكون مفيدًا لا بد أن يتصدر عن نفس المعجب ولأن الإنسان في كل طور من أطوار حياته منفردًا كان أو مجتمعًا يتصور للحسن كمالاً يطابق بالضرورة بعض أحوال تتعلق بنفسه أو بوظائف أعضائه، يدلك على أننا لا نكاد نعرف الآن ما قرأناه في عهد شبيبتنا من الكتب ولا مؤلفيها ولا نحس بشيء من الميل إلى كتب الأدب التي طالعناها في ذلك الزمن، ولم يبق من الشعراء والكُتَّاب الذين كانوا أساتذة فيه بكتبهم من يصحبنا في شيخوختنا إلا النزر اليسير. ((يتبع بمقال تالٍ))

الإسلام والنصرانية ـ مع العلم والمدنية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية لقد أقبل الناس على هذا الكتاب إقبالاً لم يعهد في هذه البلاد وأمثالها حتى إننا لنتوقع نفاذ نسخه المطبوعة كلها في زمن قريب جدًّا، وقد قدمنا نسخة منها إلى رئيس علماء الدين في مصر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر فتقبلها بأحسن قبول وأظهر لنا غاية الارتياح لطبعه وأثنى بما هو أهله ثم إنه لم يرض إلا أن كافأنا بما هو أضعاف ثمن الكتاب وألزمنا بقبول المكافأة وحسبنا رضاه عن هذا الأثر أدامه الله نصيرًا للإسلام، وقد نشرنا في آخر الكتاب أبياتًا من قصيدة في تقريظه لأحمد أفندي الكاشف وإننا ننشرها أيضًا في المنار وهي: سلامًا حجة الإسلام فينا ... ورضوانًا رجاء المسلمينا عنيت بما كتبت فكان وحيًا ... يؤيد وحي ملهمك المبينا فلم تترك لمتهم مكانا ... يرى فيه المزاعم والظنونا فما بطل يخوض الحرب فردًا ... فما يدعو بآخر مستعينا جهادًا في سبيل الله يفدي ... بمهجته المواطن أن تهونا بأبقى منك آثارًا وذكرًا ... وقدرًا في قلوب العالمينا وكان يراعك المنصور سيفًا ... وكان كتابك الدرع الحصينا ملكت به معاقل عاليات ... نبت عنها سيوف الفاتحينا وما ضرَّ الضلالُ الخلق حتى ... نفعتهم وأوضحت اليقينا فرفقًا بالمكابر قد كفاه ... مجادلة وأوشك أن يدينا ودعه في تأمله عساه ... يجيئك باعتراف المهتدينا

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (رحلة صادق باشا العظم إلى صحراء إفريقية الكبرى) الفريق صادق باشا المؤيد العظم أحد حُجّاب مولانا السلطان عبد الحميد خان كاتب أديب وقائد شجاع وأمين عند مولاه يبعثه في المهمات السياسية والفنية والعملية، فكان عهد إليه بأمر مد الأسلاك البرقية في الحجاز ثم بأمر النظر في سكة حديد الحجاز من الأمور الفنية عهد إليه من قبل بالرحلة إلى صحراء أفريقيا واكتناه شؤونها عامة وشؤون السنوسي وجماعته خاصة فقام بذلك وعهد إليه من بعد بالذهاب مع بعثة إلى روسيا لمقابلة فيصرها في أمر سياسي، أما سفره إلى الصحراء بأمر السلطان فقد كان مرتين وكتب فيها ما شاهد في المرة الثانية رحلة باللغة التركية أودعها وصف ما رآه واختبره من أحوال المكان والسكان، وقد عرب الرحلة جميل بك العظم طبعت في كتاب مستقل بعد طبعها في جريدة (معلومات) ولا شك أن قراء العربية كلهم يحبون الاطلاع على مثل هذه الرحلة إلا من لا يحب التاريخ ولا يحفل بما يبنى عليه من أحوال السياسة الحاضرة، والرحلة تطلب من إدارة مجلة المنار بمصر. *** (الإسلام في عصر العلم) كتاب جديد يشتغل بتأليفه وطبعه محمد أفندي فريد وجدي، وقد جعله ثلاثة أقسام أحدها في (الإنسان) وثانيها في (المدنية) وثالثها في (ما وراء المادة) ورابعها في (حياة النبي صلى الله عليه وسلم) والغرض من الكتاب تأييد الدين الإسلامي بمباحث العلوم على ما انتهت إليه في هذا العصر. الغرض شريف وحاجة المسلمين إليه شديدة فإن المفتونين منهم بمدنية أوربا يخطف أبصارهم كل شيء يرونه من آثارهم ويختلب أفئدتهم كل ما يسمعونه من علومها وعقولهم تتبع أفئدتهم وأبصارهم، فترى الكثيرين منهم في شك من دينهم الذي انتموا إليه ولم يعرفوه حق المعرفة لاعتقادهم أن أولئك الذين تلك المدنية مدنيتهم وتلك العلوم علومهم لا يعتقدون بصحة الدين، ومنهم الضعيف الواهن الذي يكفي لإيقاعه في الشك أن تخفى حقية مسألة واحدة مما يعزى إلى دينه أو يراها مخالفة لما يقول أولئك الخاطفون لبصره والمختلبون لفؤاده وربما تكون تلك المسألة ليست من الدين بل من التقاليد اللاصقة بأهله أو تكون من الأمور الواردة فيه لا على سبيل القطع أو يكون لها معنى غير ما يفهم أو يكون المخالف للمسألة هو المخطئ ولكن من فتن باعتقاد عظمة إنسان لا يخطر له أنه يخطئ، التقليد يفتك بعقل المقلد حتى يجعله أسيرًا لكل من يعتقد عظمته يسلم له بكل شيء تسليمًا. أمثال هؤلاء يجب أن يعرفوا نسبة هذه العلوم وهذه المدنية إلى الإسلام وما يؤيده منها ومن علومها، ولن يجدوا حاجاتهم هذه على طرف التمام إلا إذا انصرفت همة الباحثين للتأليف فيها وهذا ما توخاه صديقنا محمد فريد وجدي في كتابه هذا فنسأل الله تعالى أن يوفق إخواننا المسلمين لمساعدته على عمله بالإقبال عليه، وقد اختار هو أن يصدر الكتاب لمن يشترك فيه منجمًا تنجيمًا في كل شهر 64 صفحة من القطع الصغير اللطيف، وقيمة الاشتراك في السنة 30 قرشًا صحيحًا تدفع سلفًا أو على ثلاثة نجوم، وهو يطلب من مؤلفه بالسويس. *** (قاموس ألماني عربي) إن الحاجة التي تسوق الأمم إلى الاقتراب من الأمة الألمانية ودراسة لغتها أصبحت متأكدة وتزداد من يوم إلى آخر ذلك بأنها من حرب السبعين إلى اليوم وصلت في علومها وصنائعها وتجارتها وسائر ضروب المدنية إلى درجة أبهتت العالم فأخلت الأمم لها المحل الأول وصار الكثيرون من المتكلمين يدرسون لغتها ويرحلون إليها في طلب الكمال وقد أخذ عدد من الشرقيين ليس بالقليل في دراسة هذه اللغة يبتغون أن يصيبوا من هذا ما يصيبه غيرهم وسينمو هذا العدد من غير شك تبعًا لامتداد العلائق بين البلاد الألمانية وبلادهم وازدياد المتكلمين وطلاب الحقائق في هذه البلاد، هذا قول حق نلفت به القراء منهم إلى قاموس ألماني عربي ظهر في هذا العهد، ألف هذا الكتاب العالم الفاضل اللغوي المؤرخ الدكتور أرنست هردر المحرر بإحدى الجرائد الشهيرة التي تصدر ببرلين (بَحْلشْ رُنْد شَوْ) والقاموس المذكور مشتمل على ثلاث وثمانمائة صفحة جمعت نحو ثمانية عشر ألف كلمة مُرَاعى في جمعها حاجة المتكلم والقارئ في الكتب الأدبية سواء كانت جرمانية الأصل أو دخيلة شائعة في اللغة، إن هذا الدكتور- وقد عاشرته زمنًا طويلاً - بعيد أن يضع للكلمة الألمانية أخرى عربية بإزاءها إذا لم يكن المعنى واحدًا بل يعمد إذا لم يصب الكلمة المطلوبة إلى التعبير عن المعنى في جملة يصيب بها الغرض قدر ما يمكن ساعده على أداء هذه المهمة التي يعمل لها منذ عهد بعيد معرفته باللغة المصرية الدارجة والفصحى وقد وضع فيها آجُرُّومِيَّة باللغة الألمانية سنة 1898 (بمطبعة هيدلبرج) وصادفت إقبالاً طيبًا، قد يضع المؤلف لغرض ما إزاء الكلمة الألمانية أخرى من اللغة الدارجة مع التنبيه على ذلك، لم يوجد من قبل قاموس ألماني عربي إلا واحد لحضرة البروفيسور فارمولد النمساوي إلا أنه غير واف بالغرض؛ ومن هذا أن كلماته لا تزيد على الثلث من ألفاظ الكتاب الجديد، إن هذه الخدمة الجليلة التي قام بها هذا المؤلف هي في منفعة الناطقين باللغة العربية أكبر منها في صالح قومه ولهذا نشكر له هذا العمل ونسأل له دوام التوفيق للعمل على الصالح العام. ومن أراد أن يكاتب حضرة المؤلف في أمر يخص كتابه أو نحو هذا فليتفضل بالاستفهام عن طريقة ذلك من حضرة السيد الفاضل صاحب هذه المجلة (أحد القراء) . (مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر) صدر الجزء الأول من هذا الكتاب لمؤلفه المؤرخ المنصف جرجي أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال وهو خاص بتراجم الملوك والأمراء والقواد ورجال الإدارة والسياسة ولم نتمكن من مطالعة شيء منه ولكننا نعلم أن طريقته في الهلال بل هو قبسة من نور الهلال، وصفحاته 264 وفيه 72 رسمًا وثمنه 15 قرشًا صحيحًا ويطلب من مكتبة الهلال بمصر. *** (الحال بين العامة) رسالة دينية أدبية تهذيبية اجتماعية، ألفها عبد العزيز أفندي فتحي الجورجستاني وقال في مقدمتها إن أكبر داع دعاه إلى تأليفها هو أنه سمع من الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية كلمة قالها للناس بعد صلاة الجمعة في بلده (محلة نصر) وهي: يكاد قلبي يقطر دمًا عندما أرى بدعة أسندها مبتدعها إلى الدين: وتلا الأستاذ قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} (الأعراف: 51) الآية، أما فصول الرسالة فهي: (1) الصدق والأمانة وضدهما (2) الاقتصاد وبعض ما ورد في مدحه وذم ضده و (3) الإصلاح والمعاونة. (4) حسن المعاملة وطاعة أولي الأمر. (5) النميمة والغيبة والحسد. (6) نشر المعارف وفضل العلم. (7) العمل وترك الكسل. (9) المفاسد في الموالد. (10) الطريق. وختم الرسالة في انتقاد الوعاظ، ولا شك أن مطالعة العامة لهذه الرسالة نافعة لأنها تنفر عن المنكرات وتحث على المعروف والخير، ولكن اسمها لا يطابق مسماها إلا في كلمات من الفصول الأخيرة لأن سائر الفصول لا تشرح من أحوال العام ما ينبغي شرحه فعسى أن يوفق المؤلف إلى كتابة ما يعرفه من المنكرات الفاشية بين العامة بالتفصيل، ولم يعتن بتصحيح الرسالة كما يجب وذلك لا يمنع من الانتفاع بها. *** (النخبة) ديوان شعر جديد لناظمه رشيد أفندي بن حنا مصوبع اللبناني وقد عرفنا الناظم شابًّا متوقِّد الذكاء ومن أحسن شعره قصيدة يصف بها سوق إحسان أقامها سرب من العذارى الإسرائيليات في فندق (كونتننتال) بمصر قال فيها: حي في مصر أربع الغادات ... ومغاني الحسان والحسنات أربع قد حوين كل صنيع ... من جميل وأوجه سافرات يتجارى الفتيان فيه إلى البذ ... ل بإغراء أعين الفتيات آنسات صيرن من كان في القو ... م بخيلاً يجود بالمكرمات يستبيه لحظ الحسان فلا يلـ ... بث أن يبذل اللُّهى والهبات كل خود للسحر في مقلتيها ... عقد خلبن بالنَّفَثَات أخذت للفقير منا زكاة ... قابلتها من حسنها بزكاة وغدا الزهر غالي السعر إذ قد ... كان يعطي من تلكم الراحات ينثر الورد حولنا من يديها ... فنخال الخدود منتثرات وتعير النسيم من صدرها أن ... فاس طيب نردها زفرات إلى أن قال: سوق حسن للعاشقين وسوق ... من جميل للبائسين العفاة أنشأتها أيدي الكواعب منهـ ... ن ويا حسنهن من منشئات ما كفننا محاسن العين حتى ... ملكتنا الحسان بالهبات هكذا يجعل الجمال لفعل الـ ... خير لاللخلاب والمنكرات هكذا تشفق الحسان وتغدو ... للذي رام قربها قاسيات هكذا يكرم المتيم بالور ... د ولكن يُحْمَى عن الوجنات هكذا يعرض الجمال مُحَلَّى ... بجميل الأفعال والغايات هذا ما أردنا نشره من هذه القضية الرشيقة لتكون أحسن مثال للديوان، طبع الشاعر ديوانه هذا وأهداه إلى نقولا بك توما المحامي لما شاهد من حبه للأدب وأهله. *** (حديث ليلة) قصة فكاهية غرامية تأليف القصصي الفرنسي الشهير إسكندر دياس الكبير، وقد عربها الشيخ نجيب الحداد الذي كان أحسن كتاب هذا الوقت تعريبًا للقصص في مطبعة المعارف التي هي في مقدمة المطابع المصرية إتقانًا للطبع فاجتمعت في هذه القصة محاسن التأليف والتعريب والطبع ولذلك يرجى لها الانتشار بالطبع. *** (المجلة المدرسية) مجلة علمية أدبية وتصدر في كل شهر شمسي مرة، مديرها ومحررها سيد أفندي محمد ناظر المدرسة التحضيرية الأهلية وقد صدر الجزء الأول منها في أول يناير سنة 1903 في 16 صفحة وهو مصدر برسم سمو الخديو المعظم وفيه نبذة من تاريخ سموه ونبذَّة بعدها في الكلام على الأسد كأن المراد بوضعه بعده مراعاة النظير، وتشبيه الأسد بالأمير، في القسم الأدبي منه مقالة في (اللغة) وفي ختامه خطب وجيزة لتلامذة المدرسة التحضيرية. نحن نعرف من سيد أفندي محمد شابًّا غيورًا على الأمة والملة مجتهدًا في تهذيب تلامذة مدرسته وقد أنشأ لهم جمعية في المدرسة يتمرنون فيها على الخطابة والبحث بالقول ثم أنشأ لهم هذه المجلة ليتمرنوا بها على البحث بالكتابة والقراءة فنرجوا له النجاح ونحث تلامذة سائر المدارس على قراءة مجلته ومساهمة إخوانهم في مباحثها ولعله لا يعدم من محبي العلم والأدب في غير المدارس تنشيطًا وإسعادًا، وقيمة الاشتراك في المجلة المدرسية 15 قرشًا صحيحًا في السنة. *** (العلم الصناعي) مجلة علمية صناعية تاريخية تصدر في كل شهر مرة لمنشئها عبد الرحيم أفندي وفوزي وحسن فهمي أفندي أحمد المتخرجين في مدرسة الفنون والصنائع الخديوية، صدر الجزء الأول منها في هذا الشهر في 16 صفحة مطبوعًا طبعًا جميلاً بمطبعة الشعب على ورق جيد، وهي مفتتحة بمقالة في تاريخ الصناعة وتأثيرها في (العمران) وتتلوها مقالة في سيرة مخترع القلم الأمريكاني مصدرة برسمه وفيها نبذ أخرى في النتائج الصناعية، وقد كتب على غلاف المجلة أن مراسلاتها تكون بعنوان (الشركة الصناعية بمصر والسودان بشارع محمد علي) فإذا كان هناك شركة تصدر المجلة فإن النجاح يرجى لها بقدر رسوخ تلك الشركة وثباتها وإلا فلا بد من تنويع مباحثها ليقبل عليها صنوف القراء لأنَّ البلاد لم ترتق إلى حيث يكون فيها لكل نوع من أنواع الفنون والعلوم جريدة أو مجلة خاصة، وقيمة الاشتراك في هذه المجلة عشرون قرشًا فعسى أن تصادف إقبالاً ورواجًا لتحبب الصناعة إلى أهل هذه البلاد الذين هم في أشد الحاجة إليها. *** (النبات) جريدة إسبوعية علمية أدبية تهذيبية بشكل الجريدة الرسمية تصدر

إعجاز أحمدي أو سخافة جديدة لمسيح الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعجاز أحمدي أو سخافة جديدة لمسيح الهند كل يوم تبتدي صروف الليالي ... خلقًا من أبي سعيد غريبا وأبو سعيد هذا الزمان هو غلام أحمد القادياني المفتون بنفسه. المغلوب على عقله وحسه، فهو كل يوم يأتينا بخلق غريب. وخَلْق من إفكه عجيب، ففي الشهر الماضي أرسل إلينا قصيدة من المخزيات، ولكنه نظمها في سلك ما يّدعيه من المعجزات، وجعل لها مقدمة هذيانية. ولكنها باللغة الأوردية، وأرسل لنا معها منشورًا باللغة الإنكليزية، يقول فيه أنه أوتي من البلاغة في العربية ما لم يؤته أحد من العالمين، وأنه يتحدى بقصيدته هذه جميع المطلعين، ومن يعارضها في الهند من شعراء العربية يُعطى عشرة آلاف روبية، ولم يذكر لنا الحاكم الناقد، الذي تعرض عليه القصائد ليميز بين سحر البيان، وبين اللغو والهذيان، وقد أخرنا الكتابة في هذه السخافة الجديدة لأننا كنا عازمين على قراءتها كلها وإظهار ما فيها من الأغلاط اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية والتنبيه على ما فيها من السرقات الشعرية، التي سلخها من كلام فحول الرجال، ومسخها ولا غَرْوَ أن يظهر المسخ على يد المسيخ الدجال، ثم بدا لنا أن هذه الانتقادات ليست بضرورية، عند العارفين باللغة العربية، فإنَّ عَرْضَ القصيدة عليهم يكفي لمعرفة دركها في السخافة، وأما المخدوعون به من الأعجمين في الهند فلا يفهمون انتقادنا إذا هو وصل إليهم لذلك نذكر هنا أبياتًا من القصيدة ونترك للقراء الضحك منها ومن غرور المستدل بها على دعوى المسيحية قال: أيا أرض مُدٍّ قد دفاك مدمر وأرداك ضلّيل وأغراك موغر دعوتِ كذوبا مفسدًا صيدي الذي ... كحوت غدير أخذه لا يعزّر وجاءك صحبي ناصحين كإخوة ... يقولون لا تبغوا هوًى وتصبّروا فظل أُسارى كم أسارى تعصب ... تريدون من يعوي كذئب ويختر فجاءوا بذئب بعد جهد أذابهم ... ونعني ثناء الله منه ونظهر فلما أتاهم سرهم من تصلف ... وقال افرحوا إني كميّ مظفر وقال استروا أمري وإني أردهم ... أخاف عليهم أن يفروا ويدبروا وأرضى اللئام إذا دنا من أرضهم ... على النار مشاهم وقد كان يبطر ومنها في هجو منكر عليه: فلما اعتدى وأحس قومي أنه ... يصرّ على تكذيبه لا يقصر دعوه ليبتهلن لموت مزوّر ... مضل فلم يسكت ولم يتحسر وكذب إعجاز المسيح وآيه ... وغلطه كذبًا وكان يزور ثم قال هذه الأبيات التي كتب بإزائها في الهامش أنها وحي من الله تعالى: فقد سرني في هذه الصور صورة ... ليدفع ربي كلما كان يحشر فألفت هذا النظم أعني قصيدتي ... ليخزي ربي كل من كان يهذر وهذا على إصراره في سؤاله ... فيكف بهذا السُّئل أغضى وأنهر وليس علينا في الجواب جريمة ... فنهدي له كالأكل ما كان يبذر فإن أك كذابًا فيأتي بمثلها ... وإن أك من ربي فيغشى ويثبر وهذا قضاء الله بيني وبيهم ... ليظهر آيته وما كان يخبر قطعنا بهذا دابر القوم كلهم ... وغادرهم ربي كغصن نجذر أرى أرض مُدّقد أريد تبارها ... وغادرهم ربي كغصن تجذر أيا محسنى بالحمق والجهل والرٌّغا ... رويدك لا تبطل صنيعك واحذر أتشتم بعد العون والمن والندى ... أتنسى ندى مدٍّ وما كنت تنصر ترى كيف أغبرت السماء بآيها ... إذا القوم آذوني وعابوا وغبّروا فلا تتخير سبل غيّ وشقوة ... ولا تبخلن بعد النوال وفكر *** سخافة أخرى لمسيخ الهند الدجال قلنا إنه أرسل إلينا في الشهر الماضي قصديته الإعجازية، ونقول أيضًا: إنه أرسل إلينا في هذا الشهر رسالة باللغة الإنكليزية، وكتبها باسم ملك الإنكليزلا باسم الله، وجعلها خدمة للدولة الإنكليزية - في زعمه ووهمه -، ولكن لم يكتب في الحقيقة ما هو أضر منها على السياسة الإنكليزية. وهذا شأن الصديق الأحمق يريد أن ينفع فيضر. من سياسة هذا المسيخ الدجال أنه نسخ حكم الجهاد في الإسلام لكيلا تعارضه الدولة الإنكليزية في دعوته ظنًا منها أنه يؤلف عصبية دينية للخروج عليها في الهند كما يفعل أمثاله الدجالون الذين يَدَّعي كل خارج منهم أنه المهدي المنتظر، وقد كتب في هذا المعنى كثيرًا، وإنما كانت كتابته في هذه الرسالة وأمثالها ضارّة ومناقضة للسياسة الإنكليزية؛ لأنه يقول فيها: إن جميع علماء المسلمين يقولون بوجوب الجهاد الديني، وأنهم جهلاء مخطئون في هذه الدعوى. فإذا انتشرت هذه الرسالة، وقرأها الناس فربما تتحرك نفوسهم إلى الأمر الذي تصرح الرسالة بأن العلماء مُجْمِعون عليه ولا تلتفت إلى تخطئة خارجي مثل غلام أحمد القادياني لهم. وأما الرأي الأفين الذي أشار به على الحكومة الإنكليزية وهو جمع مؤتمر من العلماء للنظر في مسألة الجهاد واستقراء أدلتها في الكتاب والسنة ليظهر لهم أنه غير واجب فيقرروه - فهو رأي لا ترضى به سياسة حكيمة كالسياسة الإنكليزية ولا هي محتاجة إليه. أمّا عدم رضاها به فلأنه إذا قرر العلماء خلاف ما يقول غلام أحمد الدجال فيخشى من وقوع فتنة عظيمة، وأما عدم حاجتها إليه فلأن أهل الهند راضون من حكومتهم ولا يخطر في بالهم الخروج عليها وحسبها هذا منهم. ولو كان هذا الدجال يتجنب هذه الأوحال، لكان أسلم له على كل حال.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الحج في هذا العام) أمرت حكومة تونس وحكومة الجزائر الفرنسية بمنع الحج في هذا العام لئلا يحمل الحجاج من بلاد الحجاز جراثيم الوباء الموهوم إلى بلادهم فَتَيْبَأ بهم وأرادت حكومة مصر أن لا يحج في هذا العام إلا الأغنياء القادرون على الاحتياطات الصحية؛ إذا نزل البلاء ووقع الوباء واحتيج إلى النفقة الواسعة. فأمرت بإلزام كل مَن يريد الحج بدفع خمسين أو سبعين جنيهًا للحكومة تكون أمانة عندها تنفق عليه منها ما تنفقه بقدر الحاجة وترد إليه ما يبقى بعد عودته إذا عاد وبقي من المال بقية. ضمنت الحكومة للحجاج بإزاء ذلك القيام بجمع شؤونهم في السفر. وقد استكثر الناس هذا القدر من المال واعتقد الأكثرون أن الغرض منه التنفير من الحج والتمهيد لمنعه ولذلك طلب مجلس الشورى من الحكومة أن تنقص منه فلم تقبل، والناس في استياء عظيم من جراء ذلك، وقد كتبوا من جهات متعددة يشكون للحكومة بل لمستشاريها ومديريها من الإنكليز ثقل ذلك المال المفروض، وأكثر الشكوى كانت لمستشار نظارة الداخلية ولكنها لم تغن شيئًا. على أن الوقت لم يفت واللورد كرومر صاحب النقض والإبرام في السودان. ولقد كان في هذا العمل فرصة للإنكليز يمكنون بها ميل المصريين عامة إليهم لو اغتنموها وخففوا من المال المفروض شيئًا. ولعل الذي يمنعهم من تلبية الأهالي وسماع شكاويهم هو لغط أحداث السياسة بالمسألة، ونشر تلك الشكاوي في بعض الجرائد المتطرفة على ما فيها من الطعن بالحكومة الإسلامية التي فرضت ذلك المال بالاتفاق. فكأن مستشار الداخلية خجل من أن يطلب من هذه الحكومة الرجوع عن شيء قررته، وكان هو راضيًا به لأن الأمة التجأت إليه وحده دون الأمير ودون نظار حكومته، بل مع التعريض بذمهم والطعن بدينهم. ولو أراد المصلحة من أشرنا إليه من أحداث السياسة لما نشر في جريدته كلمة من شكاوي الأهالي الجارحة لثلاثة أمور: (أحدها) أن نشرها يثبت أن قلوب الأهالي انحرفت عن الحكومة الخديوية الإسلامية، ولم يبق لها رجاء تتيممه في مصلحة من مصالح دينها ودنياها إلا المحتلون. (ثانيها) أن نشرها يكون صادًّا للمحتلين عن إغاثة الناس؛ لعلمهم بأن ذلك يتضمن إهانة الحكومة على لسان من يفتخر دائمًا بالطعن في الحكومة وفي المحتلين بسبب وبدون سبب، ويرمي الجميع بسوء القصد. فلا يرضى المحتلون أن يغيثوا الأهالي ليفتخر ذلك الحدث الصغير بأنه كان الحامل لهم على ذلك بما لجريدته من قوة التأثير. (ثالثها) أن نشرها في الجرائد ينتهي بإقرار من نشرها وتسجيله كون المحتلين هم الغوث الوحيد للمسلمين، والقائمون بمصالحهم الدينية والدنيوية دون حكومة الأمير الإسلامية، هذا لو أَشْكَوْا الأهالي وأجابوا طلبهم، وعند ذلك لا يبقى للأحداث سبيل إلى الطعن فيهم وهو بضاعتهم التي يعيشون منها. ولذلك تعجب الناس من نشر تلك الشكاوي المفصحة عن تعلق قلوب مسلمي مصر بالإنكليز من جريدة الأحداث التي تتَّجر بذمهم. قالوا: إذا كانت الجريدة لا ترجو نفع تلك الشكاوي فهي ساعية في هدم سياستها الأولى، وهي لا يمكن أن تنجح بغيرها، وإن كانت لا ترجو نفعها، وإنما تنشر صور تلك الشكاوي لعلمها بأن نشرها يغيظ المحتلين، ويحملهم مع الحكومة على الإصرار؛ فهي لا تقصد نفع المسلمين ولا تسعى في تسهيل الحج عليهم. وأصحاب الرأي يعلمون أن تلك الجريدة لا يهمها كَثُرَ الحجاج أو قلُّوا، وإنما سبب الصياح والعويل شيء واحد وهو جذب قلوب الأهالي إلى الجريدة وإيهامهم أنها أشد غَيْرة عليهم وعلى دينهم من غيرها، وهذا مقصد يتلاشى أمامه التفكير في نتيجة النشر هل تكون تسجيل مدح الإنكليز والطعن بحكومة الأمير أو تكون الإصرار على تنفيذ ما أمرت به الحكومة. والذي لا ريب فيه أن نشر تلك الشكاوي الجارحة كلها كان ضارًّا وما كان يتصوَّر له وجه منفعة قط. أما نحن الذين لا يهمنا إلا تسهيل سبيل الحج لأنه عبادة لله تعالى - ونحن دعاة دين لا دعاة سياسة - فلم ينقطع أملنا من سمو الأمير ومن حكومته لأننا نعلم أنهم لم يأمروا بما أمروا به ليصدُّوا الناس عن سبيل الله. كيف وحكومة مصر لا تقاس بحكومة إسلامية أخرى كحكومة تونس مثلا؛ لأن أكبر شرف لها عند المسلمين أنها تسيّر ركبًا مخصوصًا للحج وتقدم كسوة الكعبة فهي مساهمة للدولة العلية في خدمة الحرمين الشريفين وهي جارة البلاد المقدسة. فحكومة عزيز مصر لا يسهل عليها أن يخدش هذا الشرف ولا أن ينتقص. ولكنها أمرت بما أمر به لتمنع الفقراء عن الحج خوفًا عليهم وعلى البلاد في هذا العام فإذا لاحظت الآن أن الأغنياء قلّما يحجون لأنهم مشتغلون بتمتعهم، وهم أحرص الناس على حياة وأن الخير في جميع الأمم إنما يكون غالبًا في الطبقة المتوسطة، وأن أهل هذه الطبقة هم أقرب إلى الصحة من الأغنياء لقلة الإسراف وقلة الوهم والوساوس، ولكن يثقل على الأكثرين منهم أن يعطي أحدهم الحكومة خمسين جنيهًا أو سبعين غير ما يأخذه معه وما يتركه لأهله وعياله من النفقة - وإذا لاحظت مع هذا أيضًا أن الأمة كلها مستاءة من ثقل هذه الفريضة، وتشكو منها وتطلب تخفيفها وكل الحكومات العادلة والدستورية تحترم الرأي العام - فلا غرو أن يأمر مولانا الأمير - أعزه الله - باجتماع مجلس النظار ثم يصدرون أمرًا آخر بتخفيف ما فرض أوّلاً إلى نصفه مثلا، والنسخ معهود في الشرائع السماوية وفي القوانين الوضعية بالأولى. يجب أن يكون الأمير وحكومته محل الرجاء وغاية ما نرجو من حرية المحتلين أن لا يعارضوا في مثل هذا الأمر الديني وما كانوا معارضين. إذا كان غرض الحكومة أن يكون ركب الحج في هذا العام مؤلفًا من أهل اليسار فما كان أجدر الموسرين بالانتظام في هذا السلك الدريّ الذي لا خرز بين درره ولآلئه، ونخص بالذكر المترفين الذين يؤخرون الحج لما يكون فيه من الزحام وقلة العناية بالنظافة لصعوبتها مع كثرة السواد من الفقراء. ولو هزّت الأريحيّة الإسلامية بعض النظّار إلى الحج لكان فيمن يحج منهم هذا العام أسوة حسنة لكثير من الأغنياء ولكان أجره بذلك عند الله مضاعفًا ومقامه في نفوس المصريين رفيعًا مشرفًا، وإذا لم يبادر عدد كبير من الأغنياء إلى الحج لإحياء شعائره وحفظ شرف مصر الديني فلا سلام على الأغنياء. ولا زادهم الغنى إلا تعاسة وشقاء. *** (الجامعة الدينية والجامعة الوطنية) بينا رأينا في الجامعتين مرات كثيرة وأحسن ما كتبناه في ذلك وأوضحه مقالة مسهبة في المجلد الثاني من المنار عنوانها (الجنسية والدين الإسلامي) أثبتنا فيها بالبرهان المعقول أن تمسك المسلمين بدينهم واعتصامهم بعروة جامعته هو المؤلف الوحيد بين مصالحهم ومصالح من يساكنهم في بلادهم، والحامل لهم على موادّة من ليس على دينهم ففيه معنى الوطنية التي يطلبها بعض عقلاء المسيحيين في الشرق لعلمهم بأن سعادته في تأليف بين شعوبه المتفرقين في الدين تفرقًا كثيرًا. ومن هؤلاء العقلاء بعض أصحاب الجرائد السوريّة المسيحية في سوريا ومصر وأمريكا ومما نعتقد فيه الإخلاص من هذه الجرائد (المناظر) ، ويعرف أصدقاؤنا في مصر أننا كثيرًا ما فضلناها على غيرها من الجرائد العربية، ونوّهنا بموضوعاتها النافعة. ومن الناس المشتغلين بالصحافة من يلغط بالوطن والوطنية بغير علم ولا هدى منهم الذي يلقب في المنار بحدث السياسة؛ فإنه خلق وطنية لا يعرفها أحد سماها (الوطنية الحقة) ومعناها أن يبغض المصريُّ المسلم كل من ليس مصريًّا؛ لأنه ليس وطنيًّا وإن كان كالمصري في لغته ودينه وجنسيته السياسية، وهي (العثمانية) وأن لا يحبَّ القبطيَّ المصري لأنه مسلمًا. فهذه الوطنية الباطلة التي لا يتصور فيها العاقل إلا المَضَرَّة هي التي تحمل عليها في المنار حملاتنا المعروفة، وإننا نرى جميع الكتاب من المسلمين والمسيحيين يوافقوننا على محاربة هذا الهذيان الضار. وقد اتفق لبعض الكاتبين السوريين في البرازيل أنْ كتب في (المناظر) كتابة في الدعوة إلى الوطنية، ونبذ التعصبات الدينية، ثم اتفق له أن رأى في المنار كلمة في (حدث السياسة) ووطنيَّته فظن أنه المَعْنيُّ وطفق يرد علينا ملقبًا إيانا (بكهل السياسة) وعساه يطلع على هذه النبذة فعلم أنه ليس المَعْنيّ بالحدث وإننا لسنا من السياسة في شيء، وإننا إن كنا ندعو المسلمين إلى النهوض باسم الإسلام، فإنما ندعوهم إلى العلم والتعليم والتربية التي تقضي بها حالة العصر لا على السياسة وأحزابها وعصبياتها وملوكها وأمرائها، نرى المسلم في تركيا وروسيا والهند والجلوه ومصر وتونس والجزائر وفي سائر الأقطار متأخرًا في العلم والتهذيب والعمل النافع. ونرى أن للتقاليد تأثيرًا في هذا التأخير فهو يتوهم أن ذلك من الدين ونحن نعلم أن الدين ضده فنحن ندعوه باسم الإسلام الحقيقي إلى نبذ الوهم أو تحصيل العلم ليجاري مجاوريه في سبيل الحياة، ولا يمكن أن ندعوه هذه الدعوة باسم الوطنية بأن مجلتنا ليست سياسية ولا تجارية ولا زراعية لتحث أهل الوطن الواحد على الاتفاق في ترقية هذه الأمور باسم الوطن، على أننا لا نقصر في الدعوة إلى التأليف، بل هو أمر عرفنا به ولا نعرف كاتبًا عربيًّا كتب فيه ما كتبنا. *** (التعصب الديني والجرائد والمجلات) التعصب الديني بمعنى الاعتصام به، والاستمساك بعروته فضيلة هي أُم الفضائل، والتعصب بمعنى إيذاء المتدين لمن يخالفه في دينه رذيلة تتولد منها مصائب كثيرة لا سيما إذا أنشئت لهذا التعصب جرائد ومجلات تدعو إليه وتحركه، والتعصب بالمعنى الأولى قوي عند المسلمين لا يساويهم فيه أحد حتى في هذا الطور الذي هم فيه الآن طور الضعف والتأخر، والتعصب بالمعنى الثاني لا يسلم منه أهل مِلَّة ولكنه عند المسلمين أضعف منه عند غيرهم ولا سيما النصارى. انظر ترى المسلمين أكثر من تسعة أعشار أهل القطر المصري، ولكنه ليس لهم جريدة دينية ولا مجلة مِلِّية إلا المنار وهو حديث العهد فيهم. والنصارى لهم فيه عدة جرائد ومجلات دينية على قلة عددهم. واقرأ هذه الجرائد والمجلات تجدها ملأى بدعوة المسلمين إلى النصرانية والطعن بالإسلام ولا ترى في (المنار الإسلامي) دعوة للنصارى إلى ترك دينهم والدخول في الإسلام، وقد مرّت عليه ثلاث سنوات من أول نشأته وهو مُعْرِض عن الرد على المعترضين والقادحين في الإسلام، على كونهم يرسلون إليه كتبهم وجرائدهم؛ لأننا لم نكن نرى المسلمين مبالين بها فأحببنا بقاء ذلك السكون بالسكوت عنهم. ولكننا لما رأينا سوء تأثير بعض الكتب والمجلات فتحنا في المنار بابًا لرد شبهات المسيحيين، التزمنا فيه الأدب والحجة وما كنا معتدين. أليس عجيبًا أن تسعة ملايين من المسلمين في مصر ومئات من الملايين في غيرها لا تعرف لهم إلا مجلة دينية واحدة، ويوجد في كل قطر من أقطارهم جرائد ومجلات كثيرة لأولئك الشراذم الذين يساكنونهم وهم أقل منهم عددًا ومالاً وتمسكًا بالدين؟ نعم، إن هذا عجيب وأعجب منه أن جرائد الشراذم الصغيرة تعتدي على تلك الملايين الكثرة، وتطعن بدينهم وتدعوهم إلى تركه واتِّبَاع دينها. وإن تعجب فهناك ما هو أعجب من الأمرين، وهو أن المسلمين يشتركون بتلك الجرائد ويعضدونها بإقبالهم عليها! ! وهم يعلمون أن النصارى لا يكادون يشتركون بجريدة صاحبها مسلم إن

الإسلام دين العقل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام دين العقل كنا ولا نزال نصرح بأن دين الإسلام هو دين العقل وحجتنا الكتاب والسنة وكلام الأئمة، ولكننا ابتلينا بمن يشكك المسلمين في دينهم وفي الدعاة إليه بإيهامهم أن ما نقول ليس من الدين وأنه ضار به؛ ولأن الإسلام يجب أن يكون كسائر الأديان التقليدية عدوًّا للعقل وأن بناءه على العقل مُؤذن بهدمه كغيره، وأنه لو كان معقولاً لكان علمًا ولم يكن دينًا إلى غير ذلك من التشكيك، وإنما نأخذ ديننا عن الأدلة العقلية والنقلية من كتاب ربنا لا عن المخالفين المشككين. *** بسم الله الرحمن الرحيم {حم تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ * وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ * وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (الجاثية: 1-8) . فهذا كتاب الله يقيم الأدلة والبراهين مطالبًا بها أهل العقل باليقين في الإيمان؛ واليقين لا يكون إلا بالبرهان، ومعرفة الشيء ببرهانه هو أعلى العلم وأقواه، ولذلك قال تعالى بعد آيات ذَكَرَ فيها أهل الكتاب: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18) . وقال بعد آية {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية: 20) والبصائر جمع بصيرة وهي الحجة توصل إلى اليقين، ثم قال في الجاحدين تقليدًا {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) فنفى عنهم العلم وبيّن أن الظن لا ينفع في الدين، لأن المطلوب فيه علم اليقين، كما في سورة أخرى {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) تلك آيات من سورة قصيرة تدل على أن الإسلام دين العقل وأنه علم وأنه يطلب فيه اليقين ولا يكتفى بالظن في الإيمان بأصوله كوحدانية الله تعالى وعلمه وقدرته، وبعثة الأنبياء ورسالة خاتمهم عليه وعليهم السلام، وقد جاء في القرآن كلمة (يعقلون) بالياء والتاء نحو خمسين مرة، وفيه ذكر العقل والعقلاء في الخطاب وإقامة الآيات على الإيمان بغير هذا الحرف كالنُّهى واللّب فلفظ الألباب جاء في بضع عشرة آية، لهذا كان العلم بالكون طريق الإيمان والإسلام، قال عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: 27-28) فديننا ولله الحمد علم، وكل علمنا دين لأنه يزيدنا إيمانًا ومعرفة بالله سبحانه، وقد ورد في الحديث (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) ، وأما قول المشككين إن العلم محصور في المحسوسات فكل ما لا تحس به لا يقال في عرف الفلاسفة إنك عالم به فهو من المغالطة أو الجهل فإنه لا علم يعتصم باليقين كعلم الرياضيات وبراهينها معقولة غير محسوسة. * * * (تعارض الدليل العقلي مع الدليل النقلي) ذكرنا في المنار غير مرة أن الذي عليه المسلمون اليوم من أهل السنة وغيرهم من الفِرَق المعتد بإسلامها أن الدليل العقلي القطعي إذا جاء في ظاهر الشرع ما يخالفه فالعمل بالدليل العقلي متعين، ولنا في النقل التأويل أو التفويض وهذه المسألة مذكورة في كتب العقائد التي تُدَرَّس في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية في كل الأقطار كقول الجوهرة: وكل نصّ أوهم التشبيها ... أوّلْه أو فوّضْ ورُمْ تنزيها قال الإمام الرازي في تفسير قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) عند ذكر التأويل: (إنه قد ثبت أنه متى وقع التعارض من القاطع العقلي والظاهر السمعي؛ فإما أن يصدقهما وهو محال لأنه إبطال للنقيضين، وإما أن يكذب القاطع العقلي ويرجح الظاهر السمعي وذلك يوجب تطرق الطعن في الدلائل العقلية، ومتى كان كذلك بطل التوحيد والنبوة والقرآن، وترجيح الدليل السمعي يوجب القدح في الدليل العقلي والدليل السمعي معًا، فلم يبق إلا أن يُقطع بصحة الدلائل العقلية ويحمل الظاهر السمعي على التأويل) اهـ ثم إنه أقام الدليل بهذا الوجه على المعتزلة في مسألة التكليف لأنهم يتفقون مع أهل السنة فيه. هذه المسألة مشهورة عند علماء المسلمين لا تحتاج إلى تأييدها بنقول ولكن فشت بيننا في هذا العصر مطبوعات المشككين في الدين؛ فإذا نقل المسلم عبارة من أصول دينه يقولون: إن هذا من عنده ولا يبعد أن يوجد من الجاهلين من يغتر بأقوالهم، وقد تقدم في مقالات (الإسلام والنصرانية) أن الأصل الثاني للإسلام تقديم العقل على النقل عند التعارض، وهذا دليله من القرآن ومن كلام بعض الأئمة ولو أردنا سرد النقول من المواقف والمقاصد وسائر كتب الكلام والتفسير ومن كتب المتأخرين كحواشي الباجوري والرسالة الحميدية لأطلنا الكلام في معنى واحد. * * * (الشكوك في المسألة) فإن قيل: إن الإمام الغزالي بعد أن أظهر تهافت الفلاسفة في أدلتهم النظرية في علم الله تعالى قال: (فإذن ليس ينفك فريق منهم عن خزي في مذهبه وهكذا يفعل الله بمن ضل عن سبيله، وظن أن الأمور الإلهية يستولي على كنهها بنظره وتخيله) فهل يدل هذا القول على أن الدين غير مقبول أم لا؟ فالجواب: أنه ليس من مقتضى الدين ولا من مقتضى الفلسفة الوقوف على كُنْه الخالق وحقيقته، وكُنْه صفات البارئ وحقيقتها، وإذا عجز الحكماء والعلماء عن معرفة كُنْه الأجسام المشاهدة فكيف يطمع الطامعون بمعرفة كُنْه خالق الأجسام بأدلة نظرية وتخيلات شعرية؟! هذا شيء لم يكلفنا به الدين، فيكون قول الغزالي بإنكاره على الفلاسفة دليلاً على أن الإسلام يكلف الناس بغير المعقول كما يزعم المشكك. ومثل هذا قوله في هذا البحث (بحث العلم الإلهي) مخاطبًا للفلاسفة بعد إظهار عجزهم وتهافتهم: (المقصود تعجيزكم عن دعواكم معرفة حقائق الأمور بالبراهين القطعية وتشكيككم في دعاويكم، وإذا ظهر عجزكم ففي الناس من يذهب إلى أن حقائق الأمور الإلهية لا تُنال بنظر العقل بل ليس في قوة البشر الاطلاع عليها ولذلك قال صاحب الشرع صلوات الله عليه: (تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله) اهـ. فهذه الجملة من الإمام الغزالي كالجملة السابقة خاصة ببيان عجز البشر عن إدراك حقيقة البارئ وحقائق صفاته. وقد مرت القرون والأجيال وستمر قرون وأجيال أخرى إلى أن ينقضي عمر البشر ولا يصلون إلى معرفة حقيقة الله وحقيقة علمه وسائر صفاته، وهكذا قال صاحب مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) قال (ص544 من المنار) : لا بد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين، على سنة القرآن والذكر الحكيم؛ ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه، (تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله) وعند ذلك يكون الله قد أتم دينه ولو كره الكافرون، وتبعهم الجامدون القانطون (فكلام الإمام الغزالي وكلام هذا الإمام واحد لا فرق بينهما، ولو كان الإسلام كلفنا بأن نعرف كنه ذات الله تعالى وكنه صفاته لكان مكلفًا لنا بما لا يُعقل ولا يستطاع ولكن الله يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) . هذا وإن الإمام الغزالي لم يقصد بكتاب (تهافت الفلاسفة) الذي نقلنا منه تينك الجملتين بيان القواعد الإسلامية، وإنما قصد بيان فساد نظريات الفلاسفة في الأمور الإلهية وقد يُدفع الفاسد بالفاسد ولذلك قال قبل الجملة الثانية بأسطر (ص45) : (نحن لم نخص في هذا الكتاب خوض الممهدين، بل خوض الهادمين المعترضين، ولذلك سمينا الكتاب (تهافت الفلاسفة) لا (تمهيد الحق) فلا يصح أن يؤخذ من هذا الكتاب مذهبه في العقائد ولا في غيرها كما نبهنا على ذلك في مقالة الأسباب والمسببات في الجزء التاسع عشر والعشرين، وإنما يؤخذ مذهبه من كتبه في العقائد والأصول وهو فيها موافق لسائر أئمة السنة من أن العقل أصل الإسلام، وأن براهينه القطعية لا ترد فإن قيل: قد علمنا أن أئمة المسلمين في العقائد والأصول لم يختلفوا في أن دين الإسلام هو دين العقل، فهل تعلم أن الفلاسفة الإسلاميين خرجوا عن هذا الأصل وفصلوا بين العقل والدين؟ فالجواب: كلا، إن الفلاسفة أحرص على التوفيق بين العقل والشرع من غيرهم، وقد ألف فيلسوف الإسلام أبو الوليد بن رشد - رحمه الله تعالى - كتابًا في هذه المسألة أثبت فيها ما أثبته أهل السنة من قبله، ذلك الكتاب هو (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) ففي هذا الكتاب أثبت أن الشرع الإسلامي أَوْجَبَ النظر بالعقل وجعله أساسًا للعقائد ثم قال (في ص 8) ما نصه: (وإذا كانت هذه الشرائع حقًا وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق؛ فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النص البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق لا يبطل الحق، بل يوافقه ويشهد به، وإذ كان هذا هكذا فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو ورد به، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارُض هناك وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي، وإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقًا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفًا، فإن كان موافقًا فلا قول هناك، وإن كان مخالفًا طلب هناك تأويله. ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخلّ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عهدت في تعريف أصناف الكلام المجازي، وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب العلم بالبرهان، فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني والعارف عنده قياس يقيني. ونحن نقطع قطعًا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب فيها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجرّبه، وقصد من الجمع المعقولَ والمنقول، بل نقول إنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إلي

الاجتماع التاسع لجمعية أم القرى ويتبعه الاجتماع 10 و 11

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتماع التاسع لجمعية أم القرى ويتبعه الاجتماع 10 و 11 (في مكة المكرمة يوم السبت السابع والعشرين من ذي القعدة سنة 1316) في صباح اليوم المذكور انعقدت الجمعية وقرأ كاتبها السيد الفراتي ضبط مفاوضات اليوم السابق حسب الأصول المرعية. قال (الأستاذ الرئيس) : إننا نقرأ اليوم قانون الجمعية، وقد علم الإخوان من مطالعة السانحة التي وضعتها اللجنة أن هذا القانون هو الآن في حكم قانون مؤقت إلى أن تتشكل الجمعية الدائمة إن شاء الله وتزاول وظائفها فهي تعيد النظر فيه وتعتني بتطبيقه على الموجبات والتجربات ثم تعرضه على الجمعية العامة التي سيأتي ذكرها فيه، فإذا أمضته صار حينئذ قانونًا راسخاً. فلْنقرأ الآن قضايَا القانون فقرة فقرة حتى إذا كان لأحد الإخوان ملاحظة على بعض الفقرات منه فلْيبدها عند قراءتها وبعد المناقشة إما أن تُقبل أو ترد أو تعدل بالأكثرية، وعلى كل حال تضبط المناقشة في سجل مخصوص يكون كشرح للقضايا يرجع إليه عند اللزوم. ثم أمر (الأستاذ الرئيس) بقراءة سانحة القانون فقُرِئَتْ وجَرَتْ على بعض القضايا وبعض الفقرات منها مناقشات وتولى المدقق التركي رئيس اللجنة إعطاء الإيضاحات اللازمة عن المقاصد التي لاحظتها اللجنة فيه فقبل أكثر قضاياه وعدل بعضها وضبطت المناقشات على حدة. وقد استغرقت مباحث القانون جلسة ذلك اليوم وكذلك جلسة الاجتماع العاشر المنعقد يوم الأحد الثامن والعشرين من الشهر وجلسة الاجتماع الحادي عشر المنعقد مساء الأحد أي ليلة الإثنين. *** الاجتماع الثاني عشر (في مكة المكرمة يوم الإثنين التاسع والعشرين من ذي القعدة سنة 1316) في صباح اليوم المذكور انتظمت الجمعية حسب معتادها. أمر (الأستاذ الرئيس) بقراءة القانون الذي تقررفي الاجتماعات الثلاث السابقة متنًا مجردًا فقُرئ وهذه صورته. *** قانون جمعية تعليم الموحِّدين (المقدمة) قد تقرر في الجمعية المنعقدة في مكة المكرمة في ذي القعدة سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف المسماة (جمعية أم القرى) النتائج التالية: (1) المسلمون في حالة فتور مستحكم عامّ. (2) يجب تدارك هذا الفتور سريعاً وإلا فتنحل عصبيتهم كليًا. (3) سبب الفتور تهاون الحكماء ثم العلماء ثم الأمراء. (4) جرثومة الداء الجهل المطلَق. (5) أضرُّ فروع الجهل الجهل في الدين. (6) الدواء هو إنارة الأفكار بالتعليم أولاً وإيجاد شوق للترقي في رؤوس ... الناشئين ثانيًا. (7) وسيلة المداواة عقد الجمعيات التعليمية القانونية. (8) المكلفون بالتدبير هم حكماء ونجباء الأُمة من السُراة والعلماء. (9) الكفاءة لإزالة الفتور بالتدريج موجود في العرب خاصة. (10) يلزم تشكيل جمعية ذات مكانة ونفوذ في دائرة القانون الآتي البيان ... باسم (جمعية تعليم الموحِّدين) . *** الفصل الأول في تشكيل الجمعية (قضية 1) تتشكّل الجمعية من مائة عضو منهم عشرةٌ عاملون وعشرةٌ مستشارون وثمانون فخريون ويرتبط بالجمعية أعضاء محتسبون لا يتعين عددهم. (قضية 2) يجب أن يكون الأعضاء كلهم متّصفين بست صفات عامة وهي: (1) سلامة الحواسّ وكون السن بين الثلاثين والستين ابتداءً. (2) الإسلام من أي مذهب كان من مذاهب أهل القبلة. (3) العدالة بحيث يكون غير متجاهر بمعصية شرعية إجماعية ولا متلبس أو معروف بخلة منافية للمروءة. (4) المَزِيَّة بعلم أو جاه أو ثروة [*] . (5) الكتابة بإتقان في لغة ما ولو عامية. (6) النشاط بأن يكون ذا همة ونجدة وحمية. (قضية 3) يشترط في الأعضاء العاملين والمستشارين زيادة أربع صفات على ما سبق وهي: (1) القدرة على التكلم والكتابة بالعربية. (2) إمكان الإقامة ثمانية أشهر في مركز الجمعية وهي ما عدا ذا الحجة ومحرمًا وصفرًا وربيعًا الأول. (3) تفرُّغ العاملين للحضور في نادي الجمعية أربع ساعات في كل يوم ما عدا الجمعة وأيام الأعياد. (4) تفرُّغ المستشارين لحضور جلسة يوم واحد في كل أسبوع. (قضية 4) يشترط في الأعضاء الفخريين زيادة ثلاث صفات وهي: (1) القدرة على الكتابة في إحدى اللغات الأربع وهي العربية والتركية والفارسية والأوردية. (2) الاستعداد لمراسلة الجمعية بإحدى هذه اللغات في كل شهر مرة بمقالة أو رسالة أو فصل من تأليف يُقْترح موضوعه من قبل الجمعية أو هو يَتخيَره والجمعية تستصوبه وتقرره. (3) الإذعان لانتقادات، وتنقيحات الجمعية وتصحيحها [1] . (قضية 5) تتشكل جمعية عامة في كل سنة مرة في أوائل ذي القعدة يُدعى إليها جميع الأعضاء حتى المحتسبون فيحضرها الأعضاء العاملون مطلقًا ومَنْ شاء من الباقين. (قضية 6) الجمعية العامة بالمذاكرة والانتخاب الخفي والأكثرية المطلقة تُميّز المترشحين للهيئة العاملة ثم المترشحين للهيئة المستشارة. (قضية 7) الهيئتان العاملة والمستشارة تجتمعان وبالمذاكرة وأكثرية الثلثين تميزان المترشحين منهم للرئاسة ولنيابة الرئاسة وللكتابة الأولى وللكتابة الثانية ولأمانة المال، ثم تنتخبان من المترشحين رئيسًا لأجل سنة ونائب رئيس لأجل سنتين وكاتبًا أول لأجل ثلاث سنين وكاتبًا ثانيًا وأمين مال لأجل أربع سنين. (قضية 8) الهيئتان العاملة والمستشارة يدققون في صفات الذين يراد أن يكونوا من الأعضاء الفخريين أو المحتسبين، ثم بالانتخاب الخفي والأكثرية المطلقة يُقبلون أو يُردون. (قضية 9) للهيئتين العاملة والمستشارة أن يرفعوا صفة العضوية عمن يُعلم وقوع حالة منه تستوجب ذلك وتتحقق خفيًا وتصدق بأكثرية الثلثين. (قضية 10) الجمعية العامة تقوم بأربع وظائف وهي: (1) تدقيق إجمالي في جميع الأعمال التي أجرتها الجمعية في السنة الماضية. (2) التدقيق في حساباتها الماضية. (3) تقرير ما يلزم التشبث به من الأعمال الكبيرة في السنة المقبلة. (قضية 11) المركز الرسمي للجمعية مكةُ المكرمة ولها شعبات في القسطنطينية ومصر وعدن وحائل والشام وتفليس وطهران وخيوه وكابل وكلكته ودلهي وسنغابور وتونس ومراكش وغيرها من المواقع المناسبة. (قضية 12) يكون تشكيل الشعبات على نمط تشكيل الجمعية المركزية مصغرًا وتكون مرتبطة تمامًا بالجمعية فيما عدا ماليتها وجزئيات أمورها فإن لها الخيار أن تكون مستقلة المالية والإدارة. (قضية 13) تتشكل الشعبات على التراخي ويعطى للبعض المناسب الموقع منها هيئةٌ تصلح معها؛ لأن تُتّخذ عند مسيس الحاجة هي المركز الأصلي [1] . *** الفصل الثاني في مباني الجمعية (قضية 14) الجمعية لا تتدخل في الشئون السياسية مطلقًا فيما عدا إرشادات وتنبيهات بمسائل أصول التعليم وتعميمه. (قضية 15) ليس من شأن الجمعية أن تكون تابعة أو مرتبطة بحكومة مخصوصة على أنها تقبل المعاونة أو المعاضدة من قبل السلاطين العظام والأمراء الفخام المستقلين والتابعين بصفة حماة فخريين. (قضية 16) لا تنتسب الجمعية إلى مذهب أو شيعة مخصوصة من مذاهب وشِيَع الإسلام مطلقًا. (قضية 17) توفق الجمعية مسلكها الديني على المَشْرَب السلفي المعتدل، وعلى نبذ كل زيادة وبدعة في الدين، وعلى عدم الجدال فيه إلا بالتي هي أحسن. (قضية 18) يكون شعار الجمعية القولي: [لا نعبد إلا الله] ، وشعارها الفعلي: التزام (المصافحة) على وجه السنة ووجهتها (الغيرة على الدين قبل الشفقة على المسلمين) ، وأهم أعمالها (تعليم الأحداث وتهذيبهم) . تراجع قضية 46 و47 و48) . (قضية 19) أعضاء الجمعية لا يتكلفون التناصر والتعاون فيما هو ليس من مقاصد الجمعية أي التعاون بالمال أو الجاه فيما بينهم إلا لِمَنْ يصاب ويتضرر بسبب الجمعية. (قضية 20) تتكفل الجمعية بكفاية عدد مخصوص من أصحاب المزايا العلمية الخاصة أو العزائم الخارقة العادة بشرط أن يكونوا مجرَّدين لا عيال لهم أو شبيهين بالمجرَّدين. *** الفصل الثالث في بيت مال الجمعية (قضية 21) نفقات الجمعية تُبْنى على غاية البساطة والاقتصاد وهي تسعة أنواع: (1) إكمال كفاية الهيئة العاملة بما لا يزيد على ستين ذهبًا إنكليزيًّا لكل واحد في السنة. (2) رواتب الكُتّاب والمترجمين والخدم. (3) أجرة محلات المركز والشعبات غير المستقلة مالية. (4) نفقات البعوث المتجولة. (5) نفقات المطبوعات. (6) نفقات التحرير والتأليف. (7) نفقات البريد والرسائل. (8) كفاية المذكورين في (القضية 20) . (9) النفقات المتفرقة. (قضية 22) تعتمد الجمعية في الحصول على نفقاتها على جهتين فقط النصف من ربح مطبوعات الجمعية أي طبع المؤلفات الآتي ذكرها في الفصل التالي من نحو طبع المصحف الشريف بصورة متقنة للغاية تستوجب الاختصاص بطبعه والنصف الآخر من إعانات أصحاب الحمية والنجدة من أمراء وأغنياء الأمة وبعض الأعضاء المحتسبين. (قضية 23) أمين المال يكون من أغنياء التجار المشهورين المقيمين في مركز الخدمة حسبة لربه ودينه ويكون المال في يده بوجه مضمون. (قضية 24) أمين المال يُعطِي وُصُولات بمقبوضاته تكون مطبوعة مرفوعة مرقومًا عليها عدد متسلسل في جانب منها مجموع الوارد ومجموع المصروف في تلك السنة باعتبار غاية الشهر العربي المنصرم. (قضية 25) أمين المال لا يصرف شيئًا إلا بورقة صرف مطبوعة عليها عدد متسلسل ومُوقَّع عليها من القابض وكاتب الجمعية ورئيسها. *** الفصل الرابع في وظائف الجمعية (قضية 26) الهيئتان العاملة والمستشارة بالاتفاق أو أكثرية الثلثين تعيدان النظر في قانون الجمعية مرة ابتداءً، ثم كل ثلاث سنين مرة وتنظمان القوانين التي تُلتزم ويجب مطلقًا أن يكون ترتيب القوانين تابعًا لقواعد التروي والتدقيق والتأمين وترتبط كل قضية بشرح مفصل مسجل يُرجَع إليه، ولا يصير القانون دستورًا للعمل إلا بعد قراءته في الجمعية العامة السنوية وقبوله، ويجوز للهيئتين عند الضرورة تقرير العمل بالبعض من أحكام تلك القوانين مؤقتًا، ثم تعرض على الجمعية العامة الأسباب المُجْبِرَة على التعجيل. (قضية 27) إيقاظ فكر علماء الدين إلى الأمور الخمسة الآتية وتنشيطهم للسعي في حصولها ومساعدتهم بإرَاءَةِ أسهل الوسائل وأقربها إليها وهي: (1) تعميم القراءة والكتابة مع تسهيل تعليمهما. (2) الترغيب في العلوم والفنون النافعة التي هي من قَبِيل الصنائع مع تسهيل تعليمهما وتلقِّيهما. (3) تخصيص كل من المدارس والمدرسين لنوع واحد أو نوعين من العلوم والفنون ليوجد في الأمة أفراد نابغون متخصصون. (4) إصلاح أصول تعليم اللغة العربية والعلوم الدينية وتسهيل تحصيلها بحيث يبقى في عمر الطالب بقية يصرفها في تحصيل الفنون النافعة. (5) الجِدّ وراء توحيد أصول التعليم وكتب التدريس. (قضية 28) السعي في تأليف متون مختصرة بسيطة واضحة على ثلاث مراتب: (1) لتعليم المبتدئين أو المكتفين بالمبادئ. (2) لتعليم المنتهين الطالبين الإتقان. (3) لتعليم النابغين الراغبين في الاختصاص. (قضية 29) الاهتمام في جعل المعلمين على أربع مراتب: (1) العامة ومعلموهم أئمة المساجد والجوامع الصغيرة. (2) المهذبون ومعلموهم مدرسو المدارس العمومية الكبيرة. (3) العلماء ومعلموهم مدرسو المدارس المختصة بالعلوم العالية. (4) النابغون ومعلموهم الأفاضل المتخصصون. (قضية 30) السعي لدى أمراء الأُمة بمعاملة كافة طبقات العلماء معاملة الأطباء أي بالحجر رسمًا على من يتصدر للتدريس والإفتاء والوعظ والإرشاد ما لم يكن مُجازًا من قبل هيئة امتحانية رسمية موثوق بها تقام في العواصم. (قضية 31) التوسل لدى الأمراء أن يعطوا لأحد العلماء الغيورين

أحوال العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحوال العالم الإسلامي (المؤتمر الإسلامي في الهند) أشرنا في الجزء الماضي إلى انعقاد مؤتمر التربية الإسلامية في الهند ونذكر الآن مجملاً من خبره. انتخب المسلمون في هذه السنة رئيسًا لمؤتمرهم (السير آغاخان) وهو شاب من الكبراء الذين يقرن باسمهم لقب (السمو) وقد اشتهر بالذكاء والنبل، والعلم والفضل، ولهذه المزايا اختارته طائفة الإسماعيلية رئيسًا لها، وهي الطائفة الباطنية المعروفة بالتروي في اختيار الرؤساء ولذلك كان أمرها منتظمًا في كل البلاد إلى اليوم، ولا توجد طائفة تنتمي إلى الإسلام في هذا العصر أشد من هذه الطائفة تعاونًا وتحابًّا والتئامًا ونظامًا. والفائدة الكبرى التي استفدتها من خبر مؤتمر هذه السَّنة هي انتخاب هذا الأمير رئيسًا للمؤتمر الذي معظم رجاله من أهل السُّنة، بل هذا هو الدليل القاطع عندي على أن إخواننا مسلمي الهند قد ارتقوا عنا وعن سائر المسلمين الذين نعرف أخبارهم، ذلك أن أَدْوَأ أدواء المسلمين التفرق في الطوائف وعدم معرفة قيمة النابغين لا سيما إذا خالفوا الجماهير في بعض تقاليدهم - وهذه الخلة لازمة للنابغين لا تفارقهم - ذلك بأن مبدأ النهوض في كل أمة منحطة هو ظهور أفراد فيها كبار العقول أقوياء القلوب يوجهون عزائمهم إلى الخدمة القومية، فإذا ظهروا في أمة مستعدة للنهوض تشعر الأمة بفضلهم وتقدرهم حق قدرهم وتعطيهم مكانة الهامة من الجسد فيدبرونها ويعرجون بها إلى ما هي مستعدة له من الارتقاء، وإذا ظهروا قبل استعداد الأمة للاستفادة من مواهبهم ترى الجماهير من خواصّ قومهم يمقتونهم ويُنفّرون العامة منهم ويتوكئون على ما لا يخلو نابغ عنه من المخالفة للجماهير في تقاليدهم وعاداتهم وأعني بالخواص الرؤساء والأغنياء الذين يعبر عنهم القرآن بالمُتْرَفين، وهم الذين كانوا أعداء الأنبياء والمرسلين، وكانوا ولا يزالون أعداء الإصلاح والمصلحين. أما قولنا: إن بعض النابغين الذين يتوجهون إلى إصلاح الأمم لا بد أن يخالفوا قومهم في بعض عادهم واعتقادهم، فليس معناه أنهم يتحرَّوْن المخالفة طلبًا للشهرة أو الامتياز وإنما ذلك أمر طبيعي لازم، وبيانه أن الفساد إنما يضرب بجرانه في الأمة ويفتك بها لفسادٍ يطرأ على العقول فتأخذ بالاعتقادات الباطلة، وفسادٍ يلم بالنفوس فتستبدل الأخلاق الذميمة بالأخلاق الفاضلة، وتتولد من الفسادين العادات الضارة ويفتك كل ذلك بالأمة فتكًا. فالنابغ الذي يتصدى للإصلاح يعرف بما ميزه الله تعالى به من نفوذ البصيرة منشأ الفساد في الأعمال، وينفر بما خصه به من كرامة النفس وزكائها عن كل ما يعتقده فاسدًا ويرى أثره ضارًّا، فهو بهذا وذاك يكون مخالفًا للأمة في بعض اعتقاداتها وعاداتها حتمًا بغير تكلف ولا تصنع بل يوجد من محبي الإصلاح من يتكلف إخفاء المخالفة وإظهار الموافقة في بعض الأمور لأجل أن يقبل منه غيرها. ليس هذا موضع الإطالة في أخلاق المصلحين مع أقوامهم ولكني أقول: إن أكثف الحُجُب بين المصلح وبين قومه هو أن يُنبز بأنه مخالف لهم في بعض الأمور الدينية أو مقصر فيها فإذا وصلت الطبقة المتوسطة في قوم إلى أن يعرفوا درجة المستعد للإصلاح وأن لا يصدهم عن الانتفاع به كونه مخالفًا لهم في بعض المسائل الدينية أو غيرها؛ لأنهم يعرفون كيف ينتفعون، وبم ينتفعون وهم واثقون بأنفسهم لا يخافون من شذوذ رئيسهم في بعض المسائل أن يتعدى إليهم ومنهم إلى الأمة بأسرها فأولئك هم القوم الذين أَذِنَ الله بترقيتهم ونجاحهم. خطب رئيس المؤتمر وذكر أمراض المسلمين التي هبطت بهم إلى الدَّرك الذي هم فيه بين الأمم، فذكر أن جراثيم هذه الأمراض أربع: (1) عقيدة الجبر التي حلت العزائم وأَلْصَقَ تبعتها بالإمام أبي الحسن الأشعري (رحمه الله) . (2) اعتقاد أن ترك الشئون العامة والاشتغال عنها بالعزلة والعبادة من مهمات الدين وزعم أن منشأ ذلك اعتزال بعض الصحابة (عليهم الرضوان) الحرب بين عليّ ومعاوية وقولهم: إن هذا أَسْلَم للدين. (3) إهمال تعليم النساء وتربيتهن لِمَا حال دون ذلك من التشدد في الحجاب والخروج به عما جاء به الشرع وأثبت أن هذه المعضلة الاجتماعية قد سرت عَدْوَاها من مُتْرَفي الفرس إلى بني العباس وبسببهم رسخت في الأمة الإسلامية وكان من أثرها حبس نصف المسلمين في السجن الأبديّ والقضاء عليه بالجهل والخمول. ويرى القارئ في كل مسألة من هذه الثلاث نزعة يصح أن تكون تَوَلَّدَتْ في دماغه من التمكن في مذهبه الذي أصله الغلو في التشيع إلى ادعاء الحلول في بعض أئمة آل البيت ورمي عظماء المسلمين من الصحابة فَمَن بَعْدَهم بالإضرار بالدين ولو عن غير عمد. لو قام مثل هذا الخطيب الذي يفتخر به مسلمو الهند اليوم وخطب خطبته هذه في مصر لشتموه، أو في الشام لضربوه، أو في تونس لنَفوه وأبعدوه، أو في الجزائر أو مراكش لقتلوه، فلنا أن نقول: إنه لم يرتقِ في البلاد الإسلامية إلا مسلمو الهند الذين أَثْنَوْا على هذا الخطيب ووقروه؛ لأن له مزايا ينتفع بها في العمل المِلّي الذي تيمموه فإذا اعتقد أهل السنة منهم أنه أخطأ في تعليل جعل اعتزال الأعمال العامة من الدين بأنه الاقتداء بفضلاء الصحابة وأخطأ بإسناد عقيدة الجبر إلى الإمام الأشعري فهم يعذرونه بأنه قال ما يعتقد بإخلاص ولا يمكن أن تظهر الحقائق في قوم لا حُرية عندهم للعالم بإظهار اعتقاده، ومن الغريب أن ترى البلاد التي يدعي أهلها اتباع السنة قد اعتصم علماؤها بُحُبْوَة التَّقِيَّة التي يعيبون بها إخوانهم الشيعيين ويحتجون عليهم بأن من يقول بالتقيَّة لا يوثق بعلمه ولا بدينه؛ إذ يجوز أن يكون كل ما يُظْهره مخالفًا لما يعتقده عملاً بالتقية، ومن تراهم يتقون؟ يتقون العوام الجاهلين المقلدين لهم، أليس من أعجب العجائب أن العالم يتبع الجاهل فَيُؤَوِّل له تقاليده وخرافاته ليكون راضيًا عنه ويبقى معظِّمًا ومكرمًا له؟ ؟ قد علم أن المرض الأول من الأمراض التي ذكرها رئيس المؤتمر يتعلق بالاعتقاد، والمرض الثاني يتعلق بالأخلاق والأعمال والمرض الثالث يتعلق بالعادات والأعمال؛ ولذلك رتبناها هذا الترتيب المخالف لترتيب الخطيب، أما المرض الرابع فهو خاصّ بالسياسة وهو احتكار الخلافة والإمارة في بيت مخصوص يتوارثها أفراده، وقد صبّ إثم هذه الجريمة على بني العباس الذين مزقوا شمل الأمويين ثم العلويين، وكادوا يفنونهم أجمعين، والقارئ يرى في هذا من الظنة ما يرى فيما سبقه، ولكن مجموع الخطبة يبرئ الخطيب من سوء القصد في كلامه كله فقد أثنى على عمرو بن العاص الذي كان عضد معاوية وساعده ويده التي تناول بها الخلافة وساد على العلويين من أول الأمر - نعم إنه لم يثن عليه بهذا العمل ولكنه أثنى عليه بالسياسة الحكيمة التي لا يُغْمِض حقه فيها بصيرٌ وإن كان مثلي من صميم العلويين، بَلْهَ ثناءه على الخليفة الثاني وعلى الصحابة كلهم في الجملة. وحاصل القول أن الخطيب أحسن في كلامه وأبان به عن عقل وبصيرة واستعداد لرياسة المؤتمر وإن كان في بعض القول مجال لمن لا شغل لهم إلا القيل والقال وهم بمعزل عن الأعمال. أما نتيجة المؤتمرالتي وجه عنايته إليها فهي إنشاء مدرسة كلية عامة كمدرسة أكسفورد الإنكليزية أو جعل مدرسة عليكدة كذلك، وقد قدّر الرئيس في خطبته نفقة إيجاد هذه المدرسة بعشرة ملايين روبية (666.666 جنيه إنكليزي وكسور) وما أجلَّ قول الخطيب: ألا تشترون يا قوم مجد الإسلام بعشرة ملايين روبية؟ أهذا الثمن كثير؟ ؟ ومن بعد فكره وصائب رأيه أنه ذكر في هذا المقام صلة مسلمي الهند بالعثمانيين والإيرانيين والأفغانيين، وأشار بوجوب جعل المدرسة الكلية كعبة العلم لجميع المسلمين، كأنه لم يخطر في باله نزعات شيطان (الوطنية الحقة) التي يدعو إليها بعض الأحداث في مصر وهي قطع صلات الأمة الإسلامية ومجافاة بعض شعوبها لبعض حتى الذين تجمعهم لغة واحدة وينتسبون إلى دولة واحدة! ! هذا الرأي الحميد رأي توقف نجاح الأمة على المدارس الكلية الجامعة قد نوَّهْنا به من قبل وطالبنا به عقلاء المصريين وأصحاب التأثير فيهم قولاً وكتابة، وإذا يسر الله تعالى ووفق المسلمين إلى إنشاء كليتين واحدة في الهند وأخرى في مصر فذلك منتهى السعي الحميد في إحياء المسلمين وإعادة مجدهم ولا توجد بلاد إسلامية غنية والتعليم الأهليّ فيها حرّ إلا البلاد الهندية والبلاد المصرية، ولا يتم هذا العمل في مصر إلا بسعي مثل السعي الذي في الهند وهو أن يتألف مؤتمر ويكون جميع أفراده دعاة إلى هذا العمل ساعين في جمع المال له من كل مكان، نعم، يظهر أن أهل مسلمي مصر أقل استعدادًا من مسلمي الهند بالنسبة إلى المجموع ولكن في مصر رجالاً ربما لا يوجد خير منهم في بلاد إسلامية أخرى ولهم أن يجعلوا كليتهم في أول الأمر صغيرة ثم يوسعوا دائرتها بالتدريج، وقد سمعت أكبر مرجوّ فيهم لمثل هذا السعي يقول: إنه يمكن الإقدام على العمل إذا تيسر جمع مائة ألف جنيه فقط، ولو اعتبر أغنياء مصر بالسر كاسل الإنكليزي الذي بذل من ماله أربعين ألف جنيه لأجل دراسة مرض الرمد في مصر لتيسر لهم بذل ما ينشئ مدرسة كلية تكون حياةَ قومهم وأمنهم، ومنشأ عزهم وسعادتهم. * * * (تونس - أو حادثة صفاقس) بينا مسلمو الهند يصفقون لرئيس مجمعهم وخطيب مؤتمرهم الإسماعيلي المذهب رجوعًا إلى تساهل الإسلام في الصدر الأول أيام كان الحافظ البخاري يتلقى الحديث عن عمران بن حطّان الخارجي وإذا بمسلمي البلاد التونسية يهيجون ويحتمون على مدرس من أهل مذهبهم في الأصول والفروع؛ لأنه أنكر عليهم بعض البدع التي أَلِفوها وألصقوها بالدين وتكلفوا لهذا الإلصاق ضروبًا من التأويل تصادمها نصوص الكتاب والسُّنة، تلك البدعة أو البدع هي التي أقام (المنار) بها القيامة على أهلها وكتب فيها أكثر من سبعين مرة وهي ما يفعله الجهلاء عند قبور الأولياء من التضرع والدعاء، والاستغاثة والاستجداء، والطواف والاعتكاف، والتذلل والاستعطاف، والقيام والقعود، والركوع والسجود، وما رخص الدين في زيارة القبور بعد النهي عنها ليُدعى أربابها من دون الله، ويقول المأول {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) ولا لينسخ بهم قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وقوله: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) . إلخ إلخ. الواقعة هي أن عالِمًا مدرسًا في مسجد صفاقس اسمه (الشيخ محمد شاكر) كان يقرأ عقيدة التوحيد فلما انتهى إلى وحدانية الأفعال التي يكاد يكون الكلام عليها في بعض كتب العقائد جبرًا محضًا نهى عن بدع القبور، والاستعانة بأهلها والتقرب إليهم بتقديم النذور، فَكبُر ذلك على الذين يأكلون تلك النذور فوشوا ومَحَلُوا وحرّفوا وتمحلوا، ورفع الأمر إلى المحكمة الشرعية، ثم إلى العامل المدني في صفاقس، ثم إلى الوزارة في الحاضرة (تونس) فحكم بعزله من التدريس في جامع صفاقس والتطويع في جامع الزيتونة، وقد ذكرت الواقعة بعض الجرائد المصرية نقلاً عن جرائد فرنسية، وذكرت أن قاضي تونس ومفتيها هما اللذان طلبا من الوزارة عزله وما نظن ذلك صحيحًا، وإذا كان القاضي والمفتي وشيخ الجامع الأعظم لم يسعوا ب

رد الشبهات عن الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رد الشبهات عن الإسلام السلطتان الدينية والمدنية نحن المسلمين نعتقد أن دين الله تعالى واحد في جوهره وأن البيان والهدى فيه إنما يختلفان باختلاف الأزمنة وأن الناس كانوا في كل زمان يأخذون من هداية الدين بقدر استعدادهم، وأن حالة الاجتماع في الأمم السابقة كانت قاضية بإضاعة كتب الدين كلها أو بعضها إذا طال الأمد على من جاء بها، وأن أقرب الملل ظهورًا من الإسلام لم تسلم من هذه الإضاعة، وأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي حفظ كتابه كله وظهر في وقت ارتقت فيه حالة الاجتماع حتى يمكننا أن نحكم بأنه لم تتلاش ثمرة من ثمار العقول بعد الإسلام ولن تتلاشى فهو مبدأ تاريخ جديد في البشر. قلنا: إن أقرب الملل زمنًا من الإسلام لم تسلم من الضياع، وظاهر أننا نعني اليهودية والنصرانية فكل من الفريقين قد فقد السند المتصل لكتبه المقدسة فهو غير موجود قولاً ولا كتابة، وهذا هو المراد بقوله تعالى فيهم: {أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الكِتَابِ} (آل عمران: 23) وقوله عز وجل في كل منهما: {فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) والحظ بمعنى النصيب أي أنهم حفظوا بعض ما أوتوه ونسوا بعضه، ومتى ذهب بعض الدين صار الباقي غير موثوق به وإن سلم من التحريف فيه والإضافة إليه، فكيف إذا لم يسلم، وقد أنزل الله تعالى القرآن {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} (المائدة: 48) والمراد بالكتاب الجنس والمهيمن المراقب الذي عنده نبأ ما يرقبه، فما صدقه القرآن من تلك الكتب فهو من النصيب الذي أوتوه، وما أخبر به وليس موجودًا فهو من الحظ الذي نسوه، وما كذبه فهو مما زادوه وأضافوه فهو الحكم العدل، وإنه لقول فَصْل وما هو بالهزل، وكان الواجب أن يُحكموه فيما شجر، وينتهوا عما نهى ويأتمروا بما أمر، وكذلك فعل المُوفَّقون، وصد عنه الآخرون، والسبب في الصدود هو السلطة الدينية التي جعل ذووها الدين لمصلحتهم تقليديًا محضًا؛ عقود عقائده بأيدي الرؤساء مثل الأحبار والأساقفة يقلدونها الناس ويحمونهم سواها وينشئون الأحداث، من الذكران والإناث على اعتقاد وجوب التسليم لهم، والرجوع في كل أمر الدين إليهم، ولا يزال أثر هذه التنشئة ظاهرًا فيمن يتربَّى في مدارس القسيسين فتراه يناظرك في المسألة فإذا قامت عليه حُجّتك قال إن هذا الذي تقول ظاهر في نفسه ومعقول، ولكنه من أمر الدين والقسيس يقول بخلافه ولا قول في الدين إلا ما يقول القسيس ولا يشترط أن يكون قوله معقولاً ولا مفهومًا! ! فإذا قال النصراني: إن السلطة الدينية مثار التعصب الذميم، ومبعث العداوة والبغضاء بين الجيران والأقربين، والحجاب دون المساواة بين أهل الوطن الواحد في الحقوق، والقيد الذي تُقَيَّد به الإرادة والعزيمة، والغل الذي يغلل به العقل والفكر، فالمسلم يصدقه ولا ينازعه يصدقه حامدًا لله تعالى أن ليس في دينه طائفة جعل لها الإسلام حق السيطرة على العقول والأرواح تودع فيها ما تشاء وتحرمها مما تشاء، وتتصرف في المسلمين باسم الدين كما تشاء، ثم يلتفت فيرى أن المسلمين الذين قلدوا الرؤساء الروحيين عند النصارى لم يبلغوا أن صار لهم سلطة حقيقية منتظمة يحاسبون بها الأفكار على خواطرها والعقول على معارفها بل هؤلاء هم الذين كانوا يتسامحون مع الفكر والخيال ما لا يتسامح غيرهم ويعدون كل معرفة تقرب من الله تعالى؛ لأنهم يقولون: إن لله طرائق بعدد أنفاس الخلائق، ثم يلتفت من جانب آخر فيرى أن هؤلاء المقلدين في السلطان الروحاني لا تعظم سلطتهم إلا حيث يصغر العلم بالدين، ولا يقوى نفوذهم إلا حيث يضعف نفوذ الحكم الإسلامي، وما عز لهم سلطان في مكان، إلا وكان وبالاً على المسلمين والإسلام، فإن كنت نسيت حوادث مَهْدِيّ السودان، فأمامك حادثة خارجي مراكش الآن. للعلماء والعقلاء والكُتّاب والخطباء أن يقولوا في السلطة الدينية النصرانية ما شاءوا، ولهم أن يسعوا في فصلها وإبعادها عن السلطة المدنية ما استطاعوا، فإنها سلطة كانت ولا تزال ضارّة حيث وُجِدَتْ وتوجد، وكان معظم ضررها أيام كانت مقرونة بالسلطة المدنية، لهم أن يسموها سلطة فإن لها في كل مملكة رئيسًا عامًّا يولي سائر الرؤساء في المملكة، وهؤلاء الذين هم أركان سلطته منبثون في كل مدينة وفي كل قرية ولا يوجد حكام مدنيون في جميع القرى والمزارع كما يوجد هؤلاء الحكام الروحانيون، ولهم أن يعادوا هذه الحكومة ويقاوموها، ولهم أن يضعفوا من شوكتها ويضعفوا من صولتها، ولهم أن يعذروا الأمة الفرنسية إذا حاولت اصطلام هذه السلطة بالكلية، فالمسلم يعذرهم في كل هذا؛ لأنه من الإصلاح الذي جاء به الإسلام كما ألمعنا في صدر هذا المقال فمن لم يأخذه من الإسلام مباشرة فله أن يأخذه من نظام الفطرة إذا هداه العلم إليه، وما الإسلام إلا دين الفطرة الهادي إلى نظامها وسنن الله فيها. ومن الظلم البين أن نرمي الإسلام نفسه بتقرير السلطة الدينية المعروفة عند النصارى، والإسلام هو الذي أبطل كل سلطة يكون بها فريق مسيطرًا على روح فريق وحاكمًا على حريته في غير ما يحرمه الشرع على كل رئيس ومرؤوس أو يطالب به كل رئيس مرؤوس، إن الذين اتبعوا سنن من قبلهم وقلدوهم في مثل هذا الأمر لم يتقنوا التقليد، وكان روح الإسلام مانعًا أن يبلغوا منه كل ما أرادوا، ولكن الإسلام لم يسلم من أعداء يلصقون به كل عيوبهم ويقولون عليه الكذب وهم يعلمون، نعم إنهم يعلمون أنهم يخلقون عليه إفكًا؛ لأنهم اطلعوا على ما كتبنا وكتب بعض الأئمة في بيان نفي هذه السلطة، ثم يفتؤون يعيبون الإسلام بها ولهم غرض يرمون إليه وراء تشكيك المسلمين في دينهم وتنفيرهم منه، وقد أشرنا إليه في مقال مضى ووعدنا ببيان الحق فيه كما بيناه في غير ذلك من شكوكهم وشبهاتهم. * * * (شاهد في الموضوع الأول) صدّرنا العدد 22 من منار السنة الأولى بمقالة في (سلطة مشيخة الطريق الروحية) قلنا أولها: (لقد أتى على الإنسان في طور اجتماعه، ومرت عليه أجيال وأعصار، وهو مغلول الإرادة ومقيد الجوارح بسلطتين عظيمتين قويتين للقائمين عليهما النفوذ التامّ في أفراده، والتصرف المطلق في آحاده، وهما سلطة الدين وسلطة السياسة - أو كما يقول أهل العصر - السلطة الروحية والسلطة الزمنية) . ثم قلنا بعد كلام في حال هاتين السلطتين وتأثيرهما وحال الأمة التي تحكم بهما ما نصه: (وبالجملة إن أُمَّة هذا شأنها تكون دائمًا متقلقلة كقِدْح الراكب لا تثبت على حال ولا تستقر على شأن، وجميع ما انتاب الأمم من رفعة وضِعَة وعلم وجهل وسعادة وشقاء فقد كان مرجعه إلى تصرف الأمراء والحاكمين، والرؤساء الروحيين، ولقد كان الشرّ أغلب على الأمم من الخير والشقاء أشمل لها من السعادة؛ لأن الرئيس الفاضل الحكيم لا يأمن من العثار، وإذا عثر عثرت معه الأمة وهوت وقد يهدم الرئيس الجاهل الغويّ في مدة قليلة ما بنته الحكماء في الأجيال الطويلة. ولهذا كانت سعادة البشر موقوفة في نَيْلها أو كمالها على تحديد القوانين والشرائع الروحية والزمنية (المدنية) وجعل الناس فيها شرعًا (أي سواء) لا مزية لرئيس على مرؤوس إلا بما يمتاز به المرؤوسون بعضهم على بعض وبما لا تقوم الرياسة بدونه كوجوب الطاعة للسلطان ولا طاعة لأحد على أحد فيما وراء الشريعة والقانون، ولكن لم تأتِ شريعة سماوية ولم يوضع قانون بشري لهذا التحديد والمساواة حتى جاءت الديانة الإسلامية فحدّدت الشريعتين (المدنية والروحية) معًا وجعلت الناس فيهما سواءً، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعلم والعمل، واقتلعت جذور الطاعة العمياء وبينت أن الدعوة إلى الحق لا تكون إلا بالحُجة والبرهان بمثل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فسّر العلماء البصيرة بالحجة الواضحة، وقوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) . (وبناءً على هذا كان الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم الرأي قائلين: هل هذا شيء قلته مِنْ عندك يا رسول الله أو نزل به وحي؟ فإن قال: هو من عندي جاءوا بما عندهم من الرأي، وربما رجع النبي إلى رأيهم كما جرى في بعض الغزوات (منها بدر وأحد) وأوقف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الإمام عليًّا مع رجل من آحاد يهود للمحاكمة، وعاتبه عليٌّ بعد المحاكمة بأنه لم يساوِ بينه وبين خصمه؛ لأنه كنَّاه وسمَّى خصمه وفي التكنية تعظيم وتعظيم أحد الخصمين ولو بمثل هذا مُنافٍ للعدالة والمساواة، وراجعت امرأةٌ عمرَ وهو على المنبر في مسألة تحديد المهر محتجة عليه بآية {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر. وأَبْلَغُ من هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام طعن سواد بن غزية بقدح (سهم لا نصل له ولا ريش) في بطنه وهو مكشوف ليستوي في الصف يوم بدر فقال: قد أوجعتني فأقْدِني: فكشف له عن بطنه ليقتص منه فطفق يتمسّح به، وكان ذلك منه توسُّلاً للتوصل إلى هذا الشرف العظيم وآذن الناسَ قبل موته بأن من له حق عنده فليطلبه، وإذا كان نحو ضرب فليقتص منه وأَذِنَ لرجل أن يضربه حين ادّعى أنه ضربه يومًا فقال الرجل: إنني كنت عاري الكتف أو الظهر: (شك من الراوي) فألقى له الرداء عن عاتقه الشريف وكان شأنه في ذلك شأن سواد بن غزية. (والنتيجة أن الإسلام قرَّر العبودية لله وحده والحرية في ضمن دائرة الشريعة والمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات وإطلاق الإرادة والفكر من سلطة كل زعيم وسيطرة كل رئيس روحي، ومقتضى ذلك أن يكون المسلم عبدًا كاملاً لله حرًّا كاملاً بالنسبة لِمَا سواه) . هذا بعض ما قلناه في المسألة من نحو خمس سنين وبعده كلام في سلطة مشيخة الطريق كيف ظهرت وماذا أعقبت. * * * (مجمل الدلائل على نفي السلطة الدينية في الإسلام) (1) أَقْوَى الدلائل على أنه لا سلطة دينية في الإسلام كما في النصرانية تحديد وظيفة الرسول في القرآن بأنه مُبَلّغ لا مسيطر ولا وكيل ولا جبار على الناس قال تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) وقال عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272) : وقال عز اسمه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) وقال تبارك شأنه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) وقال تعالى جَدّه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وقال جل جلاله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام: 107) فأين هذا كله من ملة يدّعي رؤساؤها أنهم وكلاء الله في الأرض؟ هل يقاسُ النقيض على النقيض؟ ؟ (2) سيرة النبي عليه السلام فقد سمعت آنفًا أنه كان يَقيد من نفسه ويرجع عن رأيه إلى رأي أصحابه، وأَعْجبُ من هذا أنه رجّح الرأي الموافق لرأيه في مسألة أسرى بدر وكان الرأي الآخر هو الأصلح فعاتبه الله عتابًا شديدًا حتى بكى عليه الصلاة والسلام. (3) سيرة الخلفاء الراشدين كما سمعت آنفًا عن عمر، ويُؤْثَر مثله عن سائرهم ولم تكن سيرتهم في المساواة وفي تحكيم الأمة بأنفسهم من مزاياهم الشخصية، وإنم

الاجتماع الثاني عشر لجمعية أم القرى ـ تتمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة الاجتماع الثاني عشر لجمعية أمُّ القُرَى قال (الأستاذ الرئيس) : ها نحن أولاً قد استوفينا قراءة القانون للمرة الثانية ولم يستدرك عليه أحد من الإخوان شيئاً فهل أنتم مُقِرُّوه؟ فأجاب جميع الأعضاء: نعم نُقرّه. قال (العلامة المصري) : إني بالنيابة عن هيئة الجمعية أشكر لحضرة الأستاذ المكي الرئيس براعته في حسن إدارة الجمعية، كما أنني أقدر للمدقق التركي ورفقائه وَاضِعي سانحة القانون قدر فضلهم وحُسْن إحاطتهم. وإني لأرى في هذا القانون أشبه نور بين القضايا والسطور نور يشرق على المنارات فيبدر الأهلة ويبهر النسور، نور معقود اللواء لنشأة جديدة وحياة حميدة وعاقبة سعيدة، نور يمزق دَيْجور القبور ويحيي ميت الشعور، وما ذلك على الله بعزيز. قال (المحقق المدني) : بمناسبة أني جار النبي صلى الله عليه وسلم أرى كأن رسول الله مسرور بكم أيها الإخوان الكرام، يتضرع إلى ربكم أن يوفقكم في مشروعكم خدمة لدينه وأُمّته خدمة تُلْحِقُكم بالمجاهدين الصديقين الأولين. قال (الأستاذ الرئيس) إذا تقرر أن يكون تأسيس الجمعية الدائمة ابتداءً في بور سعيد أو الكويت بصورة غير علنية في الأول فأرى أن نفوض اتخاذ أسباب هذه المهمة للعلاّمة المصري والسيد الفراتي فهما بعد ستة أشهر يجتمعان في مصر، وبعد تهيئة الأسباب وترتيب ما يلزم ترتيبه يسعيان أولاً بطبع هذه المذاكرات مع القانون ثم يهتمان بترجمة ذلك إلى بقية أمهات اللغات الإسلامية التركية والفارسية والأوردية فيطبعانها وينشرانها ذكرى وبشرى للمؤمنين. ثم بعد استطلاعهما ما يلزم استطلاعه من آراء وأفكار ذوي الهمم السامية، يباشران أسباب تشكيل الجمعية مع التروي والتأني اللازمَيْنِ حكمة، وربما لا يساعدهما الزمان فيحتاجان لترقب الفرصة ولو تأخر الأمر إلى اجتماعنا الثاني، وأخونا السيد الفراتي يعدنا بأنه لا يقطع عنا سائله وإعلامنا بسير المسألة والأمل بعنايته تعالى أن نجد في اجتماعنا الثاني بعد ثلاث سنين الجمعية الدائمة متشكلة على أحسن نظام. ثم قال (الأستاذ الرئيس) : وإني على أمل أن الجمعية الدائمة ستُلْحِقنا بأعضائها الفخريين فنخدم مقاصدها الجليلة المتعلقة بإعزاز ديننا وإخواننا وأنفسنا فننال بذلك أجر المجاهدين وشرفًا عظيمًا نفتخر به نحن وأحقابنا من بعدنا إلى يوم الدين. ثم قال: وإن جمعيتنا هذه قد اختارت أن تجعل مركزها المؤقت في مصر، ومصر دار العلم والحرية وكانت أخذت في العمران بسرعة ولولا تهاون سعيد وتطاول إسماعيل، وسقوط نفوذ الفرنسيين بحرب السبعين، وانفراد الإنكليز ويأسهم من قبول المريض التمريض وتهاتر قوات الدول بتوازنها لبقيت تلك الحركة العمرانية مستمرة ولما رجع الشيخ إلى دور الانحلال، ولا وقع الابن في دور الاحتلال. ثم خاطب (السيد الفراتي) هيئة الجمعية فقال: أيها السادة لا غَرْو أن أكون أكثر الإخوان سرورًا بإنتاج سعيي وسياحتي هذه الخطوة الكبيرة في هذا السبيل وإني مستبشر من تسهيل المولى تعالى البداية أن يسهل السير إلى النهاية ولا يعز على الله شيء والعزائم لا شك تذلل العظائم. وإني أيها الإدارة سأريكم إن شاء الله بمهمات ما يحصل ويتم ولا أستغني أن توفدوني بآرائكم ولو عن بُعد وتسعفوني بأدعيتكم بالتوفيق، وليس هذا اليوم آخر عهد جمعيتنا بل يلزم أن نجتمع أيضًا في هذا المحفل رابع أيام التشريق فتكون تلك جمعية الوداع، وفيها يكاشفكم حضرة الأستاذ الرئيس ببعض تدابير وبشائر يجب إسرارها فتُوقَرُ في الصدور لا تسجل ولا تذاع، وفي ذاك اليوم يتم بتسهيل الله طبع سجل مذاكرات جمعيتنا إلى هذه الساعة (بمطبعة الجلاتين) فيوزع عليكم نسخ منها كما يعطى لكم نسخ من ضبط المناقشات على القانون ونسخ جديدة من مفتاح الكتابة الرمزية والمفتاح المختصر الأول مذيلاً بتراجم الإخوان بصورة أكثر تفصيلاً من الأولى وعلى الله التيسير. ثم قال (السيد الفراتي) : أخبركم أيها السادة بأني أخذت بالأمس رسالة من أخينا الأديب البيروتي الذي لم يمكنه القدر من موافاة الجمعية كما بينت ذلك قبلاً فهو يقرئكم السلام ويدعو للجمعية بالتوفيق ويطلب أن أتلو عليكم قصيدة له يخاطب بها المسلمين. فقال (الأستاذ الرئيس) وعليه السلام وأمر بقراءة القصيدة فقرئت وأُثْبَت منها بإشارة الأستاذ الرئيس بعضُ أبيات وهي: غيَّرْتُمُوا يا حيارى ما بأنفسكم ... فغير الله عنكم سابغ النعم الله لا يهلك القرى إذا كفرت ... وأهلها مصلحون في شؤونهم ترك التآمر بالمعروف أورثكم ... ما حاق من نُذُر يا زلة القدم يا قومنا صححوا توحيد بارئكم ... بدون إشراك أحياء ولا رمم ونقحوا الشرع من حشو ومخترع ... رُجْعَى إلى دين أسلاف ذوي ذمم خذوا بمحكم آيات منزلة ... وسنة بينت في الفعل والكلم دعوا البدائع في الدين وإن حسنت ... ولا يغرنكم تأويل محتكم سماحة الدين مَنَّ الله خالقكم ... بها عليكم دعوا الكفران بالنعم وحافظوا ملة بيضاء ساطعة ... وسمحة قد حبتكم كل مغتنم راقت فضائلها في كل فلسفة ... قوامها حكمة تفضي إلى شمم هَذِي وسيلتكم لا غيرها أبدا ... فاسعوا لنهضتكم يا خيرة الأمم في غير جامعة التوحيد لن تجدوا ... من جامع لكمو لستم ذوي رحم سياسة الدين أولى ما تساس به ... شتى الخلائق من عرب ومن عجم فيها الحياة وفيها حفظ رايتكم ... خضراء سوداء حول الركن والحرم * * * ذيل قررت الجمعية في اجتماع الوداع المنعقد في رابع أيام العيد بعض أمور مهمة ينبغي أن تُسرّ ولا تذاع غير أنها رأت أن يلحق منها بهذا السجل ما يأتي فقط. * * * قرار عدد 6 إن الجمعية بعد البحث الدقيق، والنظر العميق في أحوال وخصال جميع الأقوام المسلمين الموجودين وخصائص مواقعهم والظروف المحيطة بهم واستعدادهم وجدت أن لجزيرة العرب ولأهلها بالنظر إلى السياسة الدينية مجموعة خصائص وخصال لم تتوفر في غيرهم، فرأت الجمعية أن حفظ الحياة الدينية متعينة عليهم لا يقوم فيها مقامهم غيرهم مطلقًا وأن انتظار ذلك من غيرهم عبث محض. على أن لبقية الأقوام أيضًا خصائص ومزايا تجعل لكل منهم مقامًا مهما في بعض وظائف الجماعة الإسلامية. مثل أن معاناة حفظ الحياة السياسية ولا سيما الخارجية متعينة على الترك العثمانيين [1] ومراقبة حفظ الحياة الدينية التنظيمية يليق أن تناط بالمصريين، والمقام بمهام الحياة الجندية يناسب أن يتكفل بها الأفغان وتركستان والخزر والقوقاس يمينًا ومراكش وإمارات أفريقيا شمالاً، وتدبير حفظ الحياة العلمية والاقتصادية خير من يتولاها أهل إيران وأواسط آسيا والهند وما يليها. ولما كانت الجمعية لا يعنيها غير أمر النهضة الدينية رأت من الضروري أن تربط آمالها بالجزيرة وأهلها العرب عمومًا وذلك لأجل رفع التعصب السياسي أو الجنسي ولأجل إيضاح أسباب ميل الجمعية للعرب فنقول: 1- (الجزيرة) : هي مشرق النور الإسلامي. 2- (الجزيرة) . فيها الكعبة المعظمة. 3- (الجزيرة) فيها المسجد النبوي وفيه الروضة المطهرة. 4- (الجزيرة) أنسب المواقع لأن تكون مركزاً للسياسة الدينية لتوسطها بين أقصى آسيا شرقًا وأقصى أفريقيا غربًا. 5- (الجزيرة) أسلم الأقاليم من الأخلاط جنسية وأديانًا ومذاهب. 6- (الجزيرة) أبعد الأقاليم عن مجاورة الأجانب. 7- (الجزيرة) أفضل الأراضي لأن تكون ديار أحرار لبُعْدها عن الطامعين والمزاحمين نظرًا لفقرها الطبيعي. 8- (عرب الجزيرة) هم مؤسِّسو الجامعة الإسلامية لظهور الدين فيهم [2] . 9- (عرب الجزيرة) مستحكم فيهم التخلق بالدين لأنه مناسب لطبائعهم الأهلية أكثر من مناسبته لغيرهم. 10- (عرب الجزيرة) أعلم المسلمين بقواعد الدين؛ لأنهم أعرفهم فيه ومشهود لهم في أحاديث كثيرة بالمتانة في الإيمان. 11- (عرب الجزيرة) أكثر المسلمين حرصًا على حفظ الدين وتأييده والفخار به، والعصبية النبوية لم تزل قائمة بين أظهرهم في الحجاز واليمن وعمان وحضرموت والعراق وأفريقيا. 12- (عرب الجزيرة) لم يزل الدين عندهم حنيفًا سلفيًّا بعيدًا عن التشديد والتشويش. 13- (عرب الجزيرة) أقوى المسلمين عصبية وأشدّهم أنفة لما فيهم من خصائص البدوية [3] . 14- (عرب الجزيرة) أمراؤهم جامعون بين شرف الآباء والأمهات والزوجات فلم تَخْتَل عزتهم. 15- (عرب الجزيرة) أقدم الأمم مدنية مهذبة بدليل سعة لغتهم وسمو حكمتهم وأدبياتهم. 16- (عرب الجزيرة) أقدر المسلمين على تحمّل قشف المعيشة في سبيل مقاصدهم وأنشطهم على التغرّب والسياحات، وذلك لبعدهم عن الترف المذلّ أهله. 17- (عرب الجزيرة) أحفظ الأقوام لجنسيتهم وعاداتهم فهم يخالطون ولا يختلطون. 18- (عرب الجزيرة) أحرص الأمم الإسلامية على الحرية والاستقلال وإباءِ الضَيْم [4 {. 19- (العرب على الإطلاق) لغتهم أغنى لغات المسلمين في المعارف ومصونة بالقرآن الكريم من أن تموت. 20- (العرب) لغتهم هي اللغة العمومية بين المسلمين البالغ عددهم 300 مليون. 21- (العرب) لغتهم هي اللغة الخصوصية لمائة مليون من المسلمين وغير المسلمين. 22- (العرب) أقدم الأمم اتباعًا لأصول تساوي الحقوق وتقارب المراتب في الهيئة الاجتماعية. 23- (العرب) أعرق الأمم في أصول الشورى في الشؤون العمومية [5 {. 24- (العرب) أهدى الأمم لأصول المعيشة الاشتراكية. 25- (العرب) من أحرص الأمم على احترام العهود عزة واحترام الذمة إنسانية واحترام الجوار شهامة وبذل المعروف مروءة [6 {. 26- (العرب) أنسب الأقوام لأن يكونوا مرجعًا في الدين وقوة للمسلمين فإن بقية الأقوام قد اتبعوا هديهم ابتداءً فلا يأنفون من اتباعهم أخيرًا. فهذه هي الأسباب التي جعلت جمعية أمّ القرى تعتبر العرب هم الوسيلة الوحيدة لجمع الكلمة الدينية بل الكلمة الشرقية، والجمعية تسأل الله تعالى أن يوفق ملوك المسلمين وأمراءهم للتصلب في الدين والحزم والعزم عساهم يحفظون عزهم وسلطانهم إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها وأن يحميهم من التعصب السيئ للسياسات والجنسيات ومن الكبر والأنفة، ومن التخاذل والانقسام ومن الانقياد إلى وساوس الأجانب الأضداد لئلا ينتابهم الخطر القريب المحدق بهم وتتخاطفهم النسور المحلقة في سمائهم، والله الموفق وإليه ترجع الأمور. وهكذا تمت الاجتماعات وختمت المذاكرات وانفضّ الجمع على وعد التلاقي. ((يتبع بمقال تالٍ))

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر الشذرة الثانية عشرة [*] (لا يسلم وجه الشمس من كلف) قضية لا محيص من تسليمها فإننا في طور الانتقاد الذي لا ينفلت من تحليله وتفتيشه شيء فقد تناول الأديان وآداب اللغات والتاريخ والأوضاع القومية فلا تجد عبادة من العبادات إلا وقد وجه إليها العلم ضروبًا من البحث لا قِبل لها بمقاومتها وأصبح ما كان يُخِلّه الناس من اللغات والنقوش البرمائية والحروف معميات لا سبيل إلى الاهتداء إلى معانيها وقد نبذت مغاليقها وألقت بين يدي العلم مقاليدها وأسلمت إليه أسرارها ولم يُغنِ عن الأغاليط التي شيبها مرّ الدهور أنها تفلح في التغرير بالعقل بما لها من القدم فقد عرف سبب حدوثها وكشف الستار عما كانت ترتعد له فرائص الأقدمين من المجردات الخيالية، فعرف الإنسان نفسه وكله دهش واستغرب لخوفه وفزعه؛ لأنه قد عرف اليوم كيف نشأت الآلهة [1] ورأى مذاهب كان لها ما للبديهيات من القوة والرسوخ تلاشت أمام العلم بالنواميس الكونية التي كان يتوهم أن هذه المذاهب فوقها وأبصر أسرارًا مستغلقة كانت تعاصت على العقل أذعنت إليه الآن فمضى بحكم فيها يكشف أصلها وبيان منشئها. من الظلم والإجحاف عدم اعتبار هذه الحركة العلمية في تربية الناشئين فكيف يصح أن لا يدخل المدارس ما وصل إليه العلم من نتائج بحثه إلا بعد قرون من ظهوره لو دخلها. *** انتقاد آداب اللغتين اليونانية واللاتينية أنا لا أريد الآن أن أشتغل من وجوه الانتقاد إلا بما يتعلق بآداب اللغتين اليونانية واللاتينية، وأقول: قد اعتاد المعلمون أن يفردوا هذه الآداب بالدرس دون بقية آثار الأقدمين كما لو كانت آداب كل لغة فرعًا مستقلاًّّ عن تلك الآثار ولا أراهم يستندون في ذلك إلا إلى وهْم عُنيتُ من قبل بدحضه، ولهذا تراني ذكرت (لأميل) أسماء آلهة عُمَيْر وما ورد من صفاتهم في أساطير الهنود، وقصصت عليه أَشْهَر وقائعهم وسيكونون من معارفه القدماء ولم يبقَ عليه إلا أن يعرف كيف أنهم كانوا يواصلون الأسفار ويجوبون الأقطار، وكيف أن الواحد منهم كان يظهر في صور مختلفة ويبدو في هيئات متباينة وهو أمر لمّا يجئ وقته. ذكرت من شعراء الأقدمين عمير، ولهذه المناسبة أود لو أدري ما الذي يعود على التلامذة من تفهيم المعلمين إياهم أن ديوانَيْهِ الموسوم أحدهما بالعِلْياد (الإليازة) والثاني بالعُدِيسي هما من ابتكار رجل من الغابرين إذا كان جميع الناس اليوم يعلمون كيف تولدت القصص الشعرية الحماسية في الأمم القديمة والحديثة. لا ريب أن في هذه القصص محاسن كبرى وعبرًا جليلة غير أني سأتحامى كل التحامي أن أجعل سيرة أشيل [2] مثلاً نموذجًا (لأميل) يحتذيه في سيرته فإن هذا البطل الذي عبث ولها عن مصلحة أمته وقعد عن منازلة أعدائها في حومة الوغى أبى عليه قومه جارية رقيقة كانت محلاً لأطماعه، وكان بهذا سببًا في طول مدة رزايا الحرب وشدائدها، لم يكن حقيقًا برضاء الآلهة عنه، وميلهم إليه فهمْ باشتغالهم به وإعانتهم إياه على خصمه لشجاعته غير مراعين إغفاله لواجبه قد جعلوا عاقبة الحرب عبرة سيئة وهي ظفره بهكتور [3] أي ظفر الطيش الحربي بالوطنية الصحيحة. لم يقتصر الأقدمون فيما جهلوا من الأمور على نكرهم بعض الأصول التي هي الآن أساس وجدان الإنسان بل إنهم تركوا لنا ميراثًا من الأباطيل والمذاهب الفاسدة التي تدعو دراسة كتبهم إلى بقائها إن لم يقارنها الاحتراس والحذر فإن سحر ما يحفظ الناس من آثارهم قد حمى كثيرًا من المظالم القومية قرونًا عديدة من وثبات العقل، ولا يزال يذودها عنها، وإن المُغرم منا بالمطالعة المفرط في المعيشة بين كتبه المفرط فيها بين أبناء وقته يُرى في أكثر أوقاته قليل التأثر جدًا بما شاع في الناس من العادات السيئة الكثيرة التي يرجع أصلها إلى أخلاق الأقدمين وعوائدهم. إن الحضارة اليونانية كان لها من وجوه الحسن ما يثير الإعجاب بها ولو أن (أميل) كلف بدراستها صادقًا لما كنت إلا في غاية الرضى عن ذلك ولكني لا أحب أن يكون خدعة التشدد في ميله إليها لما فيها من وجوه القبح أيضًا فلشَدَّ ما احتقر فيها الرقيق وبُخِسَتْ قيمته ونسيت حقوق البؤساء والمغلوبين فلم يحض عليها أحد اللهم إلا صيحتين أو ثلاثًا انبعثت من أعماق وجدان الإنسان ووصلت إلينا بعد اختراق حُجُب ما مر من الأزمان، ولَكَمْ هلك في سبيل تلك الحضارة من أجيال وبادَ مِنْ إنسان ولم يكن فيها أحد، يُعنى بتخفيف مضض البؤس الذي كانت تقاسيه الدَّهْماء ولم يكن العمل يستوجب للعامل أدنى حق من الحقوق؛ لأنه لم يكن يصلح إلا لأيدي الطغام، نعم إن ظاهرها ومنظرها كان مؤنَّقًا، فإن ما ازدانت به من الفنون والشعر والدين السمح والآلهة الباسمين في وجوه الأبطال كان يكسو تلك الأُمة المغتبطة بُرُودًا جمعت كل ما للكمال المنشود من ضروب العظم والبهاء ولكن العبرة بالمَخْبَر لا بالمنظر. التاريخ الروماني هو دون التاريخ اليوناني بكثير لا لأن رومة لم تنتج رجالاً كبارًا بل لأنها كانت تفرط في عبادة القوة، وقد لاقت جزاء هذا الإفراط فإنها بعد أن استعبدت غيرها من الأمم آلَ أمرها إلى استعباد نفسها، فلتقل لي هذه الأمة الفاتحة وقد أظهرت للعالم ما للفتح من النتائج اللازمة: ما هي الأمم التي علمتها والشعوبُ التي أصلحت شؤونها؟ أرى الناس تتميلهم أخبار غزواتها وتهزهم أحاديث نصراتها ولا أرى أحدًا منهم يستقصي أسباب مصائبها ليشفى من جنون الحرب ويبرأ من هوس القتال. إني إذا أقرأت (أميل) اليونانية واللاتينية وفجرت له بذلك ينبوع الآداب القديمة والتاريخ كان قصدي منه ولا شك توسيع عقله وتنمية إدراكه بَيْد أني أرمي إلى غاية أخرى أمكن في نفسي من هذا وهي أن أنشئ في نفسه الاستعداد للسلوك في هذا الكون، ذلك لأن ما تتضمنه تلك الآداب من أسى الإقدام النفسي والإخلاص في العمل وحب الوطن أشد في قلب اليافع تأثيرًا وأبلغ في نفسه موعظة من جميع ما يقوله الخطباء ويوصي به الحكماء بل إن في نفس التحمس الذي يبدو منه في استحسانها بذلاً لنفسه؛ لأنه يخرجها من معقل امتناعها ويخلعها عن عرش صلفها ليسويها بمن استحق الحياة استحقاقًا صحيحًا، وإني لأقنط من فلاح الطفل الذي لا يروقه شيء، وأما مَنْ آنس من نفسه التأثر بما لغيره من بهاء العظمة ورونقها فذلك الذي أُوتِيَتْ نفسه سرًّا من أسرار الله، إن فضائل الغابرين أبلغ من فضائل الحاضرين في خلب الخيال بما عليها من مُسْحة القوة والبسالة، وأعمال اليونان والرومان لبُعْدها عنا بحسب ترتيب الأزمان يحليها البعد والغرابة ببعض السمات التي قد تغالي بها فتجعل لها من القيمة فوق ما تستحقه ولكن ذلك لا يزيدها إلا لَجَاجة في دعوة الناشئين إلى إجلالها وإعظام قدرها، وإذ علمت ذلك رأيتني غير مخطئ في التعويل على تأثير الأقدمين في ترقية أفكار ولدي وتهذيب خلقه. على أني أعلم حق العلم أن جميع ما خلفوه لنا لا يدعو إلى الإعجاب على السواء فما سيبيون [3] الذي جندل أنيبال [4] ودمر قرطاجة [5] مثلاً بالبطل الذي سأسترعي إلى سيرته ذهن (أميل) كلا، بل إني سأوجه كل همتي إلى تفهيمه أن ما يلاقي من الهزائم إجلالاً لوجدان الحق أعلى منزلة وأعظم خطرًا من الانتصار ببيض الصفاح سمر الرماح وأن المجد الصحيح إنما هو في علو النفس وشرفها، وسأقول له أرأيت اليوم الذي انتصرت فيه رومة على قرطاجة فذلك اليوم الذي وفّى فيه ريجولوص [6] بعهده فانطلق إلى إفريقيا وحده لا يُثْنِيه عنه لَجَاجة زوجته وأولاده ولا دعاء إخوانه وأصدقائه مع علمه بأنه ملاقٍ حتفه وساع إلى هلاكه، في ذلك اليوم ظهر أن رومة قد برزت على قرطاجة في صدقها ووفائها ولم يكن تبريزها عليها في غير هاتين الفضيلتين إلا أمرًا مرتهَنًا بوقته إذ كان لا بد لقرطاجة من الغلب والقهر. لا مِراء في أن الجمهورية الرومانية أيام مجدها وعلوها كانت تسفر عن أخلاق شريفة وطباع كريمة وليس كذلك حالها في عصر تَدَلّيها واضمحلالها، ولو أني أردت تبصير (أميل) علة هذا التدلّي له لحصرتها في إعواز الفضائل الجمهورية إعوازًا كان سببًا لنجاح الحكم المطلق في رومة وطول مدته، فلست أخشى على الحرية ما قد ينتابها من الأخطار المادية ولا أرهب على رومة أن يقف بأبوابها التركينيون [7] أو بورشينا [8] يبتغون الاستيلاء عليها ما دام فيها أمثال موشيوس سيفولا [9] وإنما الذي نعاني منه اليوم هو خسة الضمائر ولؤم السرائر. نفوسنا هي مواطن الظلم ومكامن البغي، فالذي علينا هو أن نحاربه فيها ونجليه عنها قبل محاربة الملوك الظالمين وإجلاء الجبابرة الغاشمين، ومن أجل هذا لم يك ينفع بروتس وأنصاره أن بقروا بطن القيصر، فإن قلب رومة كان مقروحًا بالداء القيصري كان أولى بذلك الرجل وقد أراد أن ينزع تاج الملك ممن كان مستعدًا له أن يرجع أولاً إلى قلبه فينزع منه كِبْر الأشراف وأنفة السُّراة، ثم ينزع إن استطاع من نفوس قرنائه ما علق بها من الرذائل والنقائص التي تقتضي وازعًا يرد من جماحها ويكفّ من ثوراتها ولولا تقصيره في ذلك لاستحق ما آتاه من الأعمال الدالة على الشهامة والبسالة أن تبيض به صحف التاريخ بل إن هذه الأعمال كان من شأنها أن تؤخر استقرار حكم الاستبداد، ولكنها لا تستطيع أن تقوم بالأمة من وَهْدة انحطاطها. أُحْدِثَتْ في أخريات أيام الجمهورية الرومانية أحداث كثيرة شوهت محاسنها كالنظام العسكري الوحشي وإهدار الدماء وضروب التعذيب والأطماع الخسيسة وبيع الضمائر بتناوب إرسال الضعفاء والأوغاد والتعلق بعجلة الظافر على أنه كان لا يزال يظهر في جهات مختلفة من قرارة الدهماء المنهوكين المنحطين بعض الأخلاق الفاضلة ظهور الصخور التي تشرف على ما حولها من المياه المنخفضة. ولا قنوط من ارتفاع شأن الحرية ما بقي في الناس أُباة للضيم موقنون بظفرهم في الذود عنها فإن هؤلاء يشهدون الجهاد في سبيلها وقد يلاقون الهزيمة فيه ولكنهم لا يشهدون اندثارها اندثارًا لا قيام منه وإنما تزهق روح الأمل من حياتها متى انحازت العقول بعد كلالها، وهي صامتة إلى حكومة مطلقة لكنها ساكنة مطمئنة تلين للمحكومين كلما شعرت بازدياد أمنها وزوال مخاوفها، فأضرّ نظام سياسي على أمة من الأمم إنما هو الحكم الاستبدادي المجرد من الصرامة والقسوة، وكذلك كان حكم أغسطس للرومان. كان عُجْب الأمة في ذلك الحكم لا يزال يتغذى ببعض ضروب من الغرور غريبة ككونها لا تزال خير أمة بل أميرة الأمم وكون أعلامها وألويتها لا تزال مبجَّلة في الخارج، وكونها تنتصر على المتوحشين من حين إلى حين وكونها صاحبة الآلهة وتحف الكائنات والفنون الجميلة والآثار الفخمة التي تروق الأجانب وكونها جددت بناء رومة وهي المدينة الأبدية من قواعدها إلى سقوفها - كل هذا صحيح ولكن واحسرتاه، فليست تعبئة الجيوش ولا إنشاء القلاع والحصون ولا بناء المعابد مما يُغْني عن الأمة من سقوطها شيئًا فقد بقي معبد المشتري المسمى بالقابلتول في رومة بعد فناء الرومان. ليس لي كلمة أقولها في شعراء عصر أغسطس وهي أن أَحْسَن هؤلاء الشعراء قطعًا في نظر المعلِّمين فرجيل وهوراس فهما اللذان أحب أن تجعل كتبهما في أيدي الناشئين أكثر من غيرهما، وإن كان كلاهما قد تجرد في معظم ما كتب من شرف النفس وكرامت

مسألة الشيخ محمد شاكر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة الشيخ محمد شاكر جاء في العدد 5545 من جريدة الدبيش تونيزيين تحت هذا العنوان ما نصه: نشرت جريدة الدبيش تونيزيين الصادرة بتاريخ 30 نوفمبر الأخير فصلاً إضافيًّا ببيان حادثة الشيخ محمد شاكر أحد أساتذة جامع صفاقص الذي استحضرته الحكومة بناء على شكوى قدمها إليها قاضي تلك المدينة ومفتيها ويهددوه بالعزل من وظيفة التدريس. وقد أوردنا في ذلك الفصل موضوع هذه الشكوى إذ قلنا: إن الشيخ كان في خلال دروسه بالمسجد يطعن في التقاليد وينكر المعتقدات الباطلة والظواهر الخارجية المقتبسة من خرافات العجائز وتخرصاتهن، وأوردنا مثلاً عليها زيارة قبور الأولياء المصحوبة بتقديم النذور على اعتقاد الحَظوة بواسطة هؤلاء الأولياء في تحصيل المنافع ووقاية الذات من طوارئ الحدثان، وقلنا: إنه نسب هذه الأضاليل إلى ما انزلق في دين الإسلام الصافي المنهل من بقايا عقائد الوثنيين وقال: إن كثيرًا من التقاليد التي تسير عليها بعض الطرق الإسلامية كالعيسوية مثلاً مناقضة كل المناقضة للقواعد التي بني عليها الدين الإسلامي. ولا يخفى ما ينجم عن تلك العادات والمعتقدات من إعاقة الأمم عن النهوض من كبوة التأخر ومنعها عن بلوغ الشأْو البعيد من التقدم والارتقاء وإسدالها ظلمات الجهل الذي يزيد تلك الأمم وأمثالها مصابًا على مصابها. فمن الواجب - والحالة هذه - إنقاذ طبقات الناس من ظلمات التقاليد والبدع والمعتقدات الفاسدة التي لا غرض لأصحابها غير التذرع بها لتحصيل سعادة الدنيا بحمل البسطاء والسُّذّج على الاعتقاد بأنها من الدين وما هي من الدين في شيء بل الدين منها بَراء، وقد ختمنا ذلك الفصل يومئذ بقولنا: (فإذا كان ما ذكرناه قد وقع فعلاً فلنا الأمل الوطيد في أن تقلع الحكومة التونسية عن متابعة أهواء القائمين بأمور الشرع في صفاقس من قاضٍ ومُفتٍ وأن تطلب منهما بُعدًا في النظر وسعة في الصدر) . وكنا نظن أنه يكفينا مجرد سرد وقائع تلك الحادثة كي تكفل الوقاية من الاضطهاد لرجل فاضل لا عيب له سوى أنه فاق على أشباهه فوقًا عظيمًا، ببُعْد النظر وحرية اللسان وصدق القول، وكان ينبغي أن يجازى على هذه المزايا بالتشجيع والتعضيد. نأسف الأسف المُرّ لكون أن الحكومة التونسية لم توضح معنى ما دعوناها إليه حتى انقادت في تصرفاتها إلى تغريرات المغرورين مما لا نرى منه مندوحة عن البحث في عواقبه ونتائجه. فإنها لم تكتفِ بفصل الأستاذ عن وظيفته بقرار من الوزير الأول بل سلبت منه لقب مطوع الذي يفيد أنه حائز على إجازة لنبوغ في العلوم والفنون في الجامع الأعظم؛ ولذا رأينا أن لا نجر ذيل التغافل والسكوت عن هذا الحادث الذي يوجب الكدر والأسف. لم يكن الشيخ محمد شاكر الذي فُصل من وظيفته من الطاعنين في العمر كما قلناه خطأ، وإنما هو شاب في مقتبل العمر، ومع كونه كفيف البصر كان في مقدمة طلبة الجامع الأعظم نباهةً وذكاءً ونال إجازة العالمية التي استُردت منه ظلمًا وعدوانًا، وكان ذلك الشيخ الشاب يتلقى غير الدروس المعتادة في الجامع الأعظم علوم المدرسة الخلدونية [1] ونجاهر هنا بأعلى صوتنا بأن الفضل الأول لهذه المدرسة التي اقتبس منها تلك الأفكار العالية التي انقضت عليه بسببها صواعق غضب الطبقة العتيقة من المسلمين. ويضاف إلى ما تقدم أن ذلك الشاب مُلِمٌّ بما يحدث الآن في القطر المصري من التقدم العلمي وهو في مقدمة المعجبين بالشيخ محمد عبده قاضي القضاة في مصر [2] الذي هو من أكابر المسلمين ذوي الأفكار النيرة التي توافق المدنية ومن ثقاتهم وله مؤلفات وفصول في الجرائد تشهد بسعة اطلاعه يقصد بها إعادة الإسلام إلى ما كان عليه من الرونق وتطهيره من التقليد والبدع التي من شأنها أن تغرس في القلوب التعصب الديني وعدم الاحتمال والتسامح وتجعل بين العالم الإسلامي والمدنية سدًا منيعًا. هذه الخطة تسير عليها جريدة مصرية تُدعى (المنار) يكتب فيها الشيخ محمد عبده بدون أن يذيِّل كتاباته بإمضائه وهي حريصة على ملازمة خطتها هذه حرصًا يزداد كل يوم. إن النشء الإسلامي في هذا العهد - ومنه الناشئون في تونس - قد أيقنوا أن لا تكون نهضة للسلالة العربية إلا ببث مثل تلك الأفكار؛ ولهذا تَلَقَّتْ كتابات الشيخ محمد عبده ومقالاته بالصدر الرحيب، ومن واجبات الحكومة التونسية في هذا الوقت الذي تنبه التعصب فيه من سباته بالبلاد المراكشية وزعزع عرش سلطان متهم بشدة الميل إلى الحديث أن تساعد بما في وسعها من الجهد الأفكار التي من شأنها بث مبادئ الاحتمال والتسامح بين طبقات العالم الإسلامي ولكنها بدلاً عن ذلك عاملت الرجل الذي لم يخشَ بأسًا بالمجاهرة بأفكاره معاملة الساعي في غرس بذور الفتنة بل معاملة أحقر الناس وأدناهم؛ إذ طردته طرد الأشقياء فأصبح على قارعة الطرقات لا مال في يده ولا أمل في قلبه. ولو أن هذا الرجل حاول أن يقلب معالم الدين الإسلامي أو لو أنه أبدى من الأفكار والخواطر ما يخالف مبادئ وقواعد هذا الدين لقلنا: إن الحكومة التونسية رامت المحافظة على الأمن العام والسلام بين الناس فاتخذت قبله وسيلة من وسائل الشدة والجبروت لتكون العبرة الزاجرة، ولكنها اضطهدته اضطهادًا ديني الصبغة في حين أن حماية فرنسا على تونس تفيد تصدي دولة متمدنة لإفاضة أنوار العلوم على جموع من الناس في حاجة إلى التعلم والترقي وأي جناح على رجل لجأ إلى الأحاديث النبوية الشريفة مستشهدًا بها على فساد ما تذهب إليه العامة من ضرورة إرسال الهدايا إلى أضرحة الأولياء لكي تنال المنافع بحسن تأثرهم في أحوال المعيشة اليومية. قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في حديث له (لا تتخذوا قبري وثنًا) . وحقيقة الأمر أن ذنب الشيخ محمد شاكر الذي لا يغتفر ولا يعفى عنه بسببه. هو تجرؤه على المسّ بعادات يتخذها مشايخ الزوايا والمستفيدون منها مصدرًا من مصادر الكسب ويرون أن سيئول أمرها إلى النضوب إذا سادت الأفكار التي يسعى الشيخ في بثها بين طبقات العامة. قلنا: إن الشيخ محمد شاكر كان أستاذًا في صفاقس وإن الزاوية التي كان يقوم فيها بوظيفته تسمى بزاوية سيدي (كراي) التي يرى العامة في الولي المدفون بها أنه الحامي لتلك البلدة والتي قد استفادت سلالته بشهرته فعكفوا إلى الآن فيها يستأثرون بالنذور التي تقدم إليه وهم يعيشون بواسطتها في نعيم ورخاء فلمّا اطلعوا على ما كان يلقيه الشيخ محمد شاكر للطلبة من الأفكار المغايرة لمصلحتهم ثارت عليه ثورتهم فبدؤوا أولاً برفع الشكوى إلى كل من القاضي والمفتي اللذين استدعيا إليهما الأستاذ وأنّبوه على الخطة التي انتهجها في التدريس فأراد الشيخ أن يقيم لهم الدليل على أنه لم يمس الدين بشيء مستشهدًا بالكتب مؤيدًا حجته بأقوال السلف الصالح ولكنه عبثًا جَاهَدَ في هذا السبيل؛ لأن المناقشة بينه وبين القاضي انتهت بقول هذا الأخير له إن الضوء لا يأتي من أعمى فأجاب الشيخ محمد شاكر: (وأنا أدعو أن يخلص الناس من عمايتهم) فاعتبر القاضي أن هذه الإجابة شبه فاضحة له استلزمت استدعاءه إلى الوزارة حيث حاول التبرّؤ من الذنب الذي عُزِيَ إليه ولكنه لم يكن أمامها أسعد حظًّا من أمام القاضي) . ولكن من الأسف أن الحكم عليه كان صادرًا من قبل؛ لأن للقاضي والمفتي الصفاقسَّيين أركانًا في الحكومة يستندان إليهم فطلبوا الإقرار على العزل بالرغم عن المساعي العديدة التي بذلت لديهم في صالح المعزول، وقد أمضى الوزير الأول هذا القرار بدون أن يكون مقتنعًا بصحة السند الذي أفضى إليه. هذا تفصيل شرح حادثة الشيخ محمد شاكر أستاذ مسجد سيدي كراي قضي على هذا الرجل؛ لأنه تجاسر على القول بأن الأباطيل والبدع والتقاليد صواعق الأمة وأن أرباب الطرائق الدينية يعيشون من سذاجة الأفراد وسرعة اعتقادهم، وبهذه المثابة يبثون التعصب في نفوسهم. ولا ننسى أن حوادث مرغريت ومشاكل مراكش الحديثة ليست في الحقيقة سوى نتيجة من نتائج التعصب الذي ما دام كامنا في أفئدة المسلمين فلا بد لنا أن نتوقع حدوث أمثال تلك الحوادث فلا غرابة إذا عجبنا بعد ذلك من اضطهاد رجل لا ذنب له إلا الوعظ لإنقاذ أبناء دينه من ربقة الجهل الذي قوّس ظهورهم منذ أجيال ومنعهم من المشاركة في التقدم الذي يدفع بالإنسانية إلى الأمام. اهـ

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (عربي كريم وولي حميم) في أوائل هذا الشهر جاءنا نبأ برقي من بومبي (الهند) يقول فيه مرسله: إن صديقكم (محمد عبد الوهاب باشا شيخ دارين) قد سافر اليوم إلى الحجاز في باخرة (الإمبراطور) وسيعرج على السويس، وقد علمت أن باخرة الإمبراطور تصل إلى السويس مساء الأربعاء (11 فبراير) فيممت السويس في ذلك اليوم للقاء صديق مخلص أحبني وأحببته على البُعد - أحبني في الله بحبه للمنار ورضاه عن خدمته وإعجابه به وعمله بما يرشد إليه ويفتي به في أمر الدين- وأحببته في الله لما تنسمته في كتبه إلي من الغيرة الدينية والإخلاص في كل ما يقول. لقيته فلقيت منه الفضائل العربية، والأخلاق الإسلامية، الأناة والوقار والشهامة وكرم النفس واليد، ومن كرمه أنك ترى منه أبا القِرى، يقصد أمُّ القُرَى، فهو يسير إليه بركب يبلغ ثلاثين رجلا أكثرهم من جماعته وحاشيته العرب الكرام، وبعضهم من مسلمي الهند، ومن كرمه أنه يمد لكل غداء وعشاء الخوان، وينصب الجفان، وفيها ما شئت من الألوان، ومن كل فاكهة زوجان، ومن كرمه أنه رأى في السويس كثيرًا من الفقراء الغرباء يبغون الحج ويلتمسون المساعدة عليه بأن يُحْملوا بغير أجرة في سفينة الخاصّة الخديوية فارتاح إلى حملهم على نفقته وأرسل يطلب من محافظ السويس بيان عددهم وأسماءهم وإن كثروا، ومن كرمه أنه لم يمض عليه في السويس يوم أو يومان، حتى عرف منزله فقراء البلد فانتحَوه من كل مكان، فألفوه لا يرد سائلا، ولا يخيب آملا، حتى إننا عذلناه على بسط يده لهم، عندما كاد يتعذر علينا أن ننفذ معه من بينهم، ولعَمْري إن هذا الجواد قد أرانا خير نموذج من كرم خلفاء العرب وأمرائهم الأولين الذين حفظ التاريخ مناقبهم وخلد مآثرهم. وقد اختار أن يسافر بجماعته في باخرة الخاصة الخديوية (البحيرة) إذ رأى معنا ما فيها من النظافة وتيسير العبادة وأخبرناه أن سموّ عزيز مصر قد أنشأ هذه الباخرة لتسهيل سبيل الحج على المسلمين وأنه يَسُرّه أن تكون العبادة متيسرة فيها للمسافرين؛ ولذلك جعل مستخدميها من المسلمين فسُرّ صاحبنا بذلك ورفع إلى سمو العزيز رسالة برقية يشكر لسموه عنايته بإنشاء هذه الباخرة لتسهيل الحج بها على الفقراء ويشكر حفاوة حكومته به لا سيما محافظ السويس ووكيل المحافظة ويعتذر بضيق الوقت عن عدم التشرف بزيارة سموه وتقديم الشكر الشفاهي، فأجابه سموه بالبرق جوابًا لطيفًا هذا نصه: (سراي عابدين) حضرة الأمير الجليل محمد بن عبد الوهاب أمير دارين تحت لواء نجد بالسويس، نشكر حضرتكم خالص الشكر على التلغراف الذي أرسلتموه إلينا ونتمنى لكم حجًّا مبرورًا وصحة وسلامة في السفر والإقامة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عباس حلمي) *** (موكب الحجّ المصري وضعف الدين في مصر) احتفل في هذه السنة بموكب الحج المصري أو المحمل المصري كما كان يحتفل في غيرها من السنين، وما المحمل وموكبه إلا تعظيم وإشهار لركب الحج، ومن العار العظيم والخزي القبيح على مصر، وهي المملكة الإسلامية الثانية التي للحاج فيها موكب رسمي أن يكون الحجاج منها أقل من حجاج قرية من قرى سائر البلاد الإسلامية أو أقل من الركب الذي جاء به صديقنا الفاضل الهُمَام محمد عبد الوهّاب باشا من بلده الصغيرة (دارين) . يتشدق الذين دِينُ ألسنتهم وأقلامهم قويّ متين، ودين عقولهم وقلوبهم ضعيف مهين، يقولون: لا لوم ولا عار على الأمة المصرية إن لم يخرج إلى الحجّ منها في هذه السنة إلا 27 رجلاً، فإن الأغنياء الذين يستطيعون دفع ما فرضته الحكومة والخروج إلى الحج إنما تركوه احتجاجًا على الحكومة (فالعار محصور في الحكومة! وهذه الحجة أضعف من حجة من جاء المسجد فوجد الباب مغلقًا فترك الصلاة معتذرًا بأن المسجد لم يقبله! وإنما كان عذر القاعدين عن الحج من الأغنياء أضعف؛ لأن باب الحرم أو باب الطريق غير مغلق في وجوههم، وإذا فرضنا أن المتشدق بما ذُكِرَ غيدار (الغيدار هو الرجل يسيء الظن فيصيب) وكانت الحكومة تحب أن تصدّ الناس عن الحج في باطنها أو بإلجاء المحتلين لها على ذلك فهل تقضي قوة الدين بأن تضعف الأمة أمامها. وتجعل دينها هدفًا لسهامها، أم الواجب عليها بذل النفس والنفيس في مقاومتها وحفظ شعار الدين، وإقامة هذا الركن الركين، الأمر ظاهر ولكن ممن يلمز بالحكومة من هو أشد تنفيرًا وتثبيطًا عن إقامة ركن الإسلام الذي يدعي الدفاع عنه فحسبنا الله ونعم الوكيل. *** (سكة حديد الحجاز - وضريبة لها جديدة) تعلقت إرادة مولانا السلطان بأن يؤخذ قرش صحيح عن كل ورقة تقدم للحكومة في العدلية وغيرها من الدوائر سواء كانت الورقة مستقلة أو تابعة لأوراق أخرى كالأوراق التي يحتج بها الخصماء في الدعاوى (المستندات) والمال الذي يجمع من هذه الضريبة مخصوص بسكة حديد الحجاز لأن نفقاتها تزيد كل يوم باتساع العمل. وفي هذا المقام ننّوه بغيرة إخواننا مسلمي الهند واهتمامهم بهذا المشروع الإسلامي الكبير، ونخص بالذكر الأستاذ الهمام الملا عبد القيوم فإن الجرائد الهندية توافينا دائمًا بذكر تجواله في البلاد وخطبه المؤثرة في الحث على جمع مال الإعانة للسكة، ولم نسمع بأن عالمًا مصريًّا أو تونسيًّا نبس بكلمة خير في هذا الموضوع، نعم إن الحرية الممنوحة للمصريين لم تقدر أن تنقذ قلوبهم من الاستعباد للحكومة، فلو أن حكومتهم أرادت جمع إعانة لأرادوا أو لو ظنوا أنها تريد ذلك لبادروا إليه كما امتنعوا عن الحج لأنهم ظنوا أن حكومتهم لا تريد أن يحجوا في هذا العام (هذا وما فكيف لو) . *** (إصلاح لبنان - لائحة للمتصرف الجديد) أهدتنا جريدة المناظر الغراء التي تصدر في البرازيل رسالة مطبوعة أو (لائحة) من جماعة اللبنانيين المهاجرين إلى صاحب الدولة مظفر باشا متصرف لبنان وهي رسالة جليلة صادرة عن فكر حيّ نقتطف منها ما يأتي: (مولاي: الأمة اللبنانية مستقلة في شؤونها الداخلية فهل استقلت على سبيل الاستعداد؟ ينبئنا التاريخ وتدلنا الحالة الحاضرة على أن الأمة لا تتحرك فيها عاطفة الاستقلال إلا متى أَنِفَتْ من الرضوخ للسلطة الأجنبية، وأنها لا تأنف من هذا الرضوخ إلا متى شعرت بطاقتها على أن تحكم نفسها، فالأمة اللبنانية لم تستقل على سبيل الاستعداد. (قد تقدم الاستقلال الداخلي اللبناني شيء مما يتقدم الاستقلال غالبًا تقدمته دماء ولكن ليست كالدماء التي جرت في أمريكا سنة 1775 وما يليها إلى سنة 1783 تقدمته معارك ولكنها ليست كالمعارك التي حدثت في بولونيا سنة 1830، تقدمه جهاد ولكن ليس كالجهاد الذي حدث في جنوبي أفريقية في السنوات الثلاث الأخيرة إنما الدماء التي تقدمت استقلالها كلها دماء لبنانية لم تمتزج بها نقطة من دماء جيوش الدولة المتسلطة ولا دار في خلد اللبناني في السنوات التي تقدمت استقلاله أن يخرج على الدولة التي كان ولا يزال يرفع رايتها، والمعارك التي حدثت قُبَيْل الاستقلال كلها أهلية نَازَل فيها اللبناني أخاه اللبناني، والجهاد الذي حدث لم يخالطه من الروح الوطني ولا نسمة دماء تعصب ومعارك صليبية وجهاد طائفي، تلك مقدمة الاستقلال اللبناني أو مقدمة المؤتمر الدولي الذي التأم في بيروت في حزيران سنة 1861 وقرر للبنان حالته السياسية الحاضرة. (فانظر يا مولاي ما هي مقدمات الاستقلال اللبناني الداخلي؛ تعلم سر اختلال اللبناني في حكومة نفسه سر اختلال اللبناني في حكومته لنفسه أو سر الاختلال السياسي في لبنان هو الفساد الاجتماعي الذي كان مصدرًا لمقدمات الاستقلال. فالإصلاح في لبنان يجب أن يكون اثنين: إصلاحًا اجتماعيًّا ينتهي بالإصلاح السياسي الاختياري وإصلاحًا سياسيًّا يستمر حتى تستقر نتيجة الإصلاح الأول. ما استقلت (يا مولاي) الأمة اللبنانية وهي قادرة على سيادة نفسها ولكنها استقلت فيجب أن تجعلها أهلاً لهذه السيادة) . ثم قال الكاتب بعد أن ذكر أن المصلحة العامة لم تربط اللبنانيين ولم تربطهم وحدة اللغة بل قال: إنه ليس لهم حتى الآن مصلحة عمومية، وإنهم ما داموا كذلك فهم في حكم العدم، وبعد أن أوجب البحث في سبب ذلك وجزم بأنه أهم ما يقال في الفساد الاجتماعي، قال: مولاي: الأرض التي يسكنها الدرزي اللبناني يسكنها المسيحي اللبناني، الهواء الذي يتنشقه الواحد يتنشقه الآخر، اللغة التي يتكلم بها هذا يتكلم بها ذاك. إذا راجت سوق الحاصلات اللبنانية في الخارج استفاد كلاهما معًا وإذا كسدت تضرّرا معًا فلماذا وعَلامَ اقتتلا؟ مولاي: ما هو الفرق بين الأرثوذكسي والماروني وبين كل منهما والملكي، وبين كل منهم والمسلم وبين كل من هؤلاء والشيعي في كل ما هو لبناني دنيوي على الإطلاق؟ لا تستطيع يا صاحب الدولة أن تجد مِنْ فَرْق فما هو سبب استقلال كل واحدة من طوائف لبنان عن الأخريات فيما هو دنيوي. لا يوجد في لبنان إلا أربع مدارس دينية. والمدارس الدينية مشروعة الاستقلال. فهل اقتصر الاستقلال عليها؟ كلا يا صاحب الدولة إن الاستقلال الطائفي تناول كل مدارس الجيل الاستعدادية والعالية. فما هي مشروعية هذا الاستقلال الطائفي في مدارس نقول أن تعاليمها دنيوية. الإحسان لا ينكره دين ما فما سَوَاغِية انفراد أبناء هذه الطائفة عن أبناء تلك في المشروعات الخيرية والآداب والعلوم المشتركة، فما معنى اصطباغ الجمعيات الأدبية والعلمية بالصبغات الطائفية. إذا أنعمت الحضرة العالية السلطانية على ابن هذه الطائفة بوسام أو رتبة عاليين سر أبناء الطائفة نفسها واستاء أبناء الطوائف الأخرى. المؤلف يشفع اسم في صدر كتابه بنسبته الطائفية، ومؤلَّفه عندئذ مفيد عند طائفته غير مفيد عند الطوائف الأخرى. الطبيب الدرزي طبيب الدروز، والمحامي الماروني محام للمارونة، والعالم الأرثوذكسي موضوع ثقة الأرثوذكس فقط، والكاتب الملكي معتبر عند الملكيين فقط. فما هو سبب هذا التدافع، هذه المواربة، هذا التناقض، هذا الاستقلال في قوم تجمعهم المصلحة الطبيعية واللغة؟ هو التعصب الديني يا صاحب الدولة - التعصب الذميم الذي يُزَيِّن لكل طائفة في لبنان أنها مستقلة بمصلحتها عن الطوائف الأخرى، ولا مصلحة لها في الحقيقة يصح أن تُسمَّى مصلحة طائفية عموميَّة، ولا فائدة من استقلالها في مثل ما قدمنا من الأمثلة إلا فائدة رؤسائها الزمنية - فائدة استخدام هذا الاستقلال فيما يفيد الرئيس وأنسباءه وأصدقاءه باسم الطائفة - فائدة استخدام الدين في المنافع الذاتية، التعصب الديني هو سبب الاستقلال الطائفي، وهذا الاستقلال هو سبب انتفاء المصلحة العمومية، فكيف نلاشي هذا الاستقلال لتستتب لنا تلك المصلحة. ثم بُيِّنَ بعد ذلك في اللائحة كيفية الملاشاة وسنذكرها في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. *** (المنار في البلاد الإسلامية) جاءنا من طهران كتاب يقول فيه مرسله أن للمنار ذكرًا سائرًا في مجالس العلماء والمجتهدين وأن الإمام العلام، ملاذ الأنام، السيد محمد الطباطبائي المجتهد المشهورة (قد بالغ في مجلسه الغاص بالعلماء في تقريض مجلتكم والثناء عليكم) وأن الفاضل القمقام، علامة علماء الإسلام، الحاج الشيخ زين الدين، الملقب بملك الواعظين؛ لأنه أول واعظ ومتكلم على المنبر في هذه الأقطار، كان يعظ في شهر رمضان في أحد جوامع طهران الموسوم بالجامع ا

مسألة النساء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة النساء مضار تربية النساء الاستقلالية في الإفرنج (تمهيد) للأمم طريقان تسير عليهما في حياتها الاجتماعية طريق الهداية الدينية مع النظر والتجربة وطريق النظر والتجربة بدون استعانة بهداية الدين. ولا يعرف التاريخ أمة من الأمم ارتقت في الحياة الاجتماعية دون دين ولكن كثيرًا من قادة الإفرنج في السياسة والعلم قد مرقوا من النصرانية واستدبروا تعاليمها الاعتقادية والأدبية والعلمية في طريق مدنيتهم مقررين أنه لا يعتمد في شؤون الحياة إلا على النظر والتجربة معًا دون ما عداهما فاشتهر في العالم أن الإفرنج مرقوا من الدين في الواقع وإنما ينصرونه ويتعصبون له لأجل السياسة الخارجية وأنهم لم يرتقوا إلى فئة حضارتهم هذه إلا بهذا المروق والاستدبار. وهذه شبهة أو حجة على بطلان النصرانية إذا كان الدين كما يقول المسلمون سائقا إلى إصلاح الدارين وسعادة الحياتين، ولكننا رأينا من كُتاب النصاري من يقول: إن الدين خاص بطلب الدار الآخرة، ومراعاة تعاليمه في أمور الدنيا مفسد لها. وقد خدع بمثل هذه الأقوال والأحوال بعض المسلمين الجغرافيين الذين لا يعرفون من الإسلام إلا بعض ما يرون ممن عاشوا معهم فحسبوا أن المسلمين لا يرتقون إلا بمثل ما ارتقى به الإفرنج من استدبار الدين والاعتماد على النظر والتجربة اللذين هما طريق تمحيص العلم. يقيسون دينًا على دين يخالفه في حقيقة معناه وفي تعاليمه الاعتقادية والأدبية والعملية وفي آثاره الاجتماعية والمدنية ولا حجة لهم إلا أن الإفرنج باستدبار الدين ناجحون والمسلمين في الواقع ونفس الأمر خاسرون، ولو أبصروا لرأوْا أن هذا الخسار، إنما تولد من المروق والاستدبار. وأن قياسهم إنما هو قياس الضد على الضد، ولله الأمر من قبل ومن بعد. لقد سبَح القلم إلى ما ليس من موضوعنا في هذا التمهيد والذي نريد أن نقوله هو أن الإنسان على كونه أرقى الأحياء في هذه الأرض لم يستغن ولن يستغني بنظره وتجاربه عن هداية الدين وإرشاده، ولدين وثني خير له من ترك التدين بالمرة. وأن كل أصول الارتقاء التي بُني عليها عمل مُستَدْبري النصرانية في أوروبا مستفادة من الدين إما من بقايا دينهم تقليدًا وإما مما وصل إليهم من الإسلام اجتهادًا. وأنه يجب على المسلمين الذين وجهوا وجوههم للحضارة الإفرنجية بالتربية والتعليم أن يترووا في نظام هذه التربية وقوانينها فلا يجعلوها تقليدية خالصة. وأنه يجب أن يكون أول هذا التروّي تقوية الرابطة الملية التي كانوا بها أمة لئلا تكون التربية مفرقة لاجتماعهم ممزقة لشملهم فيكونوا كالباحث عن حتفه بظلفه، وأنه يجب إقامة ما قرره الدين على سبيل القطع والتروّي والاجتهاد فيما وكله إلى الناس والاعتماد فيه على النظر والتجربة والاعتبار بسِيَر الأمم ونتائجه. وأن أكبر العبر ما وقع فيه الإفرنج من الأمراض الاجتماعية بشذوذهم عن هداية الدين في كثير من المسائل وإن انتفعوا نفعًا عظيمًا في أمور أخرى إذا خالفت النصرانية فإنها توافق الإسلام بل هي لا بد ترجع إلى أصل من أصول هدايته كما تقدمت الإشارة إليه آنفًا. مسألة النساء: وبعد هذا التمهيد نقول: إن لدينا الآن مسألة كبيرة وهي مسألة النساء، كيف يُعلَّمن، وكيف يُربَّيْن ليكن عونًا للرجال على الارتقاء ومجاراة الأمم الحية؟ . إن طلاب تغيير سير الأمة بالتربية والتعليم قد وضعوا نصب أعينهم أوربا وارتقاءها فمنهم من يطلب محاكاتها وهم الحكام وبعض العقلاء، ومنهم من يستحب تقليدهم تظرفًا وتزلفًا وهم الذين أخذوا قشورًا من العلوم المصرية في مدارس أوربا أو مدارس بلادهم التي أنشئت لهذه العلوم وفتنوا بزخرف المدينة الأوربية وبهرجها. كانت فرنسا هي القبلة الأولى للأستانة ومصر في طلب هذا التحول؛ لأنها أم هذه المدنية الجديدة في الغرب والشرق. ثم إن مصر وجهت وجهها في هذه السنين إلى إنكلترا بحكم طبيعة الاحتلال الإنكليزي ومثلها الهند في هذا التوجه. ويرى هؤلاء أن الإنكليز أَقْوم تربية من الفرنسيس، ولذلك نورد لهم ما استفدناه بالمذاكرة والمناظرة مع بعض أهل العلم والخبرة التامة من الإنكليز في مسألة النساء ليعلموا أن التروي الذي قلنا بوجوبه في التمهيد لا بد منه. ثم ننتقل إلى الحكم بضرورة اتباع الهداية الإسلامية في مسألة النساء والتربية القويمة التي تنطبق عليها ليتبين لهم أن طريقة النظر والتجربة في هذا القرن لم تُغن عن الهداية التي جاءت على لسان نبي أمي منذ ثلاثة عشر قرنًا ونيفًا. الغرض من التربية والتعليم سعادة الأمة بهناء المعيشة وشرف المنزلة وإنما يطلب الهناء والشرف للحي النامي، فإذا كانت طريقة التربية والتعليم تؤدي إلى قلة النسل وعدم نموه فتلك هي الطريقة السوءى، وسلوكها هو الجناية الكبرى على البشر. وتربية الإناث تربية استقلالية كما يتربى الذكور سواء مخل بوظيفة النساء الفطرية ومؤدّ إلى تلك النتيجة المخيفة قلة النسل المؤذنة بهلاك البشر. أنتجت هذه التربية في إنكلترا النتائج الآتية: (1) اعتماد النساء على أنفسهن في المعيشة والكسب. (2) توجههن إلى الأعمال الخارجية، أي التي تكون خارج البيوت وتنافي تدبير المنزل. (3) رغبة الكثير منهن عن الزواج بالمرة، وقال بعض أطباء الإنكليز: إنه عرف بالاختبار أن نحو أربعين في المائة من النساء كذلك. وقال بعض أطباء فرنسا: إن إناث البشر كإناث سائر الحيوانات، الأصل فيهن الرغبة عن مباشرة الرجال إلا في وقت مخصوص وهو وقت الاستعداد لقبول التلقيح، وإن ما عدا هذا فهو عارض على البشر وبين أسبابه وذكر أن هذا العارض يكون في بعض الأفراد مرضًا من نوع (الهستيريا) وليس هذا محل شرح أقواله. (4) أن أكثر النساء المتعلمات المتربيات يكرهن الأمومة إما لما في الحبَل والولادة من المشقة والتعب وإما لإضطرارهن إلى ملازمة البيوت في معظم مدة الحبَل والرضاعة إذا هن أرضعن أولادهن، والبيوت صارت في نظرهن كالسجون لتعودهن على كثرة الخروج. وإما لاحتياجهن في ذلك إلى نفقات كثيرة تعوزهن أو يفضلن التوسع بها في الترف. ومنهن من يذهب في ذم الأمومة مذهب الخيال الذي يلتبس عليهن بنظريات الفلسفة أو تقاليد الدين المسيحي في جعل الإنسان ملكوتيًا فيقلن: إن الحبل والولادة من صفات الحيوانات فينبغي الترفع عنه. وهذه جهالة بمعنى الإنسان وما هو إلا حيوان أَرْقى من سائر الأنواع في جنسه. وليس في استطاعة الخيال أن يخرجه عن كونه حيوانًا وإن استند إلى الفلسفة أو الدين. (5) أنه قد نشأ في النساء تناول الأدوية لمنع العلوق وللإسقاط بعد تحققه. (6) أن البنت قلما تتزوج في أول طور الاستعداد للأمومة وهذا التأخير من أسباب عسر الولادة؛ لأن الأعضاء في طور الحداثة تكون مرنة تتمدد بسهولة فإذا كبر السن قلَّت هذه المرونة المسهلة للولادة. ويزيد العسر عسرًا ضعف الأجسام بالإفراط في الترف والنعيم فصار من الضروري أن لا تلد المرأة إلا وهي مخدرة بالكلوفورم وبمساعدة الأطباء. (7) أن الولادة قلما تنتهي بسلامة من مرض خطر، فهذه سبع نتائج بعضها سبب لآخر ونضيف إليها نتيجتين عامتين في النصارى وهما: (8) أن المرأة ملزمة في عرف النصارى بأن تدفع لمن ترغب في التزوج به مهرًا، وكثيرًا ما يعسر عليها ذلك فتضطر إلى التبتل أو البِغاء. (9) أن الرهبانية مشروعة للنساء كالرجال ومعدودة في الفضائل الدينية عند أكثر النصارى. فهذه تسع أسباب من أسباب قلة النسل ومقدمات انقراض الأمم. وما عدا الأخيرين منها فهو من آثار التربية الأوربية. ولما كانت فرنسا هي السابقة في هذه التربية النسائية ظهر فيها قلة النسل وأطباؤها وساستها في حيرة من أمره. وستتبعها إنكلترا في ذلك بعد سنين، وإن خفي ذلك على المعجبين بتربيتها من الشرقيين. وإذا التفتنا إلى جانب الرجال نراهم في إنكلترا يأخذون إخذ الذين سبقوهم بهذه المدنية الفاسقة في فرنسا، فأكثر الشبان يرغبون عن الزواج بالمسافحة والمخادنة، ولا يكاد أحدهم يتزوج حتى يناهز الأربعين سنة أو يجاوزها، ثم هو لا يود أن يكون له ولد كثير وإنما يبتغي وليًّا يرث ماله ويحفظ اسم بيته إن كان من أصحاب البيوتات ولا يكره أن يكون له ثانٍ يخلف الأول إذا هو درج فإن عُزِّر بثالث احتمله وكره كرهًا شديدًا أن يزيد ولده عن عدد (الأقانيم الثلاثة) ويتفق مع زوجه على الإجهاض إذا كانت ودودًا ولودًا. ولا تحسبن هذا الصياح والعويل من ساسة فرنسا وبعض كُتَّابها في الشكوى من قلة النسل عامة في الأمة بل الأكثرون يرون ذلك شرطًا في سعادة الأمم كما يرونه شرطًا في سعادة البيوت فإن الأمة التي يتضاعف سكانها في مدة قريبة لا تلبث أن تضيق بها بلادها وتضطر إلى المهاجرة إلى بلاد دونها لتعمرها وتغالب أهلها عليها وفي ذلك من الشقاء استبدال الدار الخربة بالدار العامرة. ويقولون: إن الدولة لا تشكو من قلة النسل حبًا في الأُمة ولكن طمعًا في مباراة الدول المستعمرة، فالسبب في ذلك طمع المُلْك الذي لا يكتفون ببذل رفاهة الأمة في سبيله وإنما يبذلون أيضا أموالها ودماءها. لهذا يعسر على مثل فرنسا أن تعالج هذا الداء الاجتماعي القاتل مادامت على هذه الطريقة في التربية والتعليم وفساد العقيدة وحرية الفسق والفجور. بقي علينا أن نلتفت لفتة ثالثة إلى البيوت لننظر كيف يعيش الزوجان اللذان نظرناهما منفردين أو وصفناهما من حالهما منفصلين. يتوهم المفتونون بمدنية أوربا أن السعادة المنزلية ونعيم المعيشة الزوجية، يوجدان في الغرب حيث توجد العلوم العالية والتربية المشتركة بين الصنفين. ويتوهم أكثر الذين قرأوا ذلك الوصف البليغ المؤثر للحياة الزوجية السعيدة في كتاب (تحرير المرأة) أنه وصف منتزع من البيوت الأوربية، فمنهم من يتمنى مثله بتربية مثل تلك التربية وتعليم مثل ذلك التعليم، ولا مانع لنا منه كما يقول الكتاب. ومنهم من يرى أن المسلمين محجوبون عن تلك السعادة بحجاب النساء وأنه لا سبيل إليها فما لنا إلا أن نسأل الله أن يعوضنا عنها في الآخرة ما هو خير منها. الحق الذي لا مِرْية فيه أن هناء المعيشة الزوجية لا يتحقق إلا بتحقيق أمور: (أحدها) إذعان المرأة بأن الرجل هو سيد المنزل ورئيسه وأنها هي تابعة ومرءوسه له. ولا تذعن في نفسها هذا الإذعان إلا إذا تربت عليه واعتقدته دينًا. (ثانيها) ثقة الزوجين بالاختصاص بأن يعتقد الرجل أنه لا يشاركه أحد في زوجه وتعتقد المرأة أن زوجها لا يختلف إلى غيرها من خدن أو بغيّ. وهذان الأمران متحققان في الشرق بالدين أكثر من تحققهما في الغرب. ولا أستثني من الشرق مصر التي هي أفسق بلاد الشرق وأكثرها فسادًا في البيوت (العائلات) . (ثالثها) المشاكلة في الطباع والمقاربة في السجايا والأفكار. وهذا الامر ظاهر في الغربيين وهو في الشرقيين كذلك في الغالب. ومن غير الغالب بعض المتعلمين من المصريين فإنهم لا يجدون في النساء من يقاربهم في أفكارهم. وهم الذين يشكون من حال النساء ويطلبون تغييرها بتربية وتعليم جديدين وإن لرغبتهم تأثيرًا كبيرًا في الأمة؛ لأنها موافقة لرغبة الحكومة وسعيها. والعمل على هذا وإن أنكره بالقول الأكثرون. نعم يجب أن يكون النساء على مقربة من الرجال في الأفكار والأخلاق والمقاصد والرغبات، فالبلاد التي انتشر

إحياء الإسلام لمدينة اليونان والرومان والمصريين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إحياء الإسلام لمدينة اليونان والرومان والمصريين ذكرنا في آخر الجزء الماضي أن المقتطف الأغرّ قرَّظ كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) وانتقد في تقريظه التمثيل الذي أوردناه في مقدمة الكتاب مُوردًا انتقاده في صورة سؤال يستحب أن يسمع جوابه إن كان عندنا جواب، وها نحن أولاء نوافيه بما يجب بعد إيراد السؤال أو الانتقاد. قال الكاتب الفاضل بعد ذكر اسم الكتاب ونسبته إلى من نسب إليه: (وهو مقالات نشرت في مجلة المنار الإسلامي، ثم جمعت على حدة في كتاب. قال حضرة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار في تمهيد وضعه لها ما نصه: (ينبوع تفجر في أرض وفاض ماؤه على غيرها فأحيا الأرض بعد موتها ولكن القائمين على حراسته وتعاهده وضعوا فوقه أنقاضًا من خرائب جيرانهم فَغِيضَ الماء وما بقي منه صار مستنقعات تُحتوى، ولم يلبث بعدما غاض أن فاض منه شيء في مواضع أخرى فانتفع أهلها به وحافظوا عليه ولكن الأكثرين منهم لا يعرفون مِنْ أين جاءهم كما أن أكثر أهل الينبوع المنتسبين إليه لا يعرفون أن ذلك الماء الذي تفجر من تلك المواضع فأنشأ أهلها به حدائق ذات بهجة وهو من ماء ينبوعهم وأنهم لو أزالوا عنه تلك الأنقاض لفاض ورجع إليهم به خصبهم ونماؤهم كأحسن ما كان؛ لأنهم تعلموا من غيرهم كيف يُسْتَخْدَمُ الماء للإحياء. ذلك مثل المسلمين اليوم مع الأمم الغربية الحية الراقية، أخذ الغربيون من الإسلام كل أصول الإصلاح الذي هم فيه) . (ثم قال الكاتب بعد نقل هذه الجملة ما نصّه) : (ويا حبذا لو بيّن لنا حضرة الأستاذ الفاضل من أين أتى الماء الذي أحيا مدنية اليونان والرومان فأنشؤوا به الحدائق والجنات والماء الذي أحيا مدنية المصريين الأقدمين فبقيت آثارهم الصناعية إلى الآن لم يقوَ ملوك العرب على محوها مع ما بذلوا في ذلك من العناء وآثارهم الأدبية مرسومة في صفائح الصخور تُعلّم أسمى الفضائل وأفضل الآداب) . * * * (جواب المنار) كنا بالأمس أو بالأُمُوس نردّ شبهات بعض المتطفلين على موائد العلم والمتهجمين على الطعن في الإسلام بغير فهم، ونحن اليوم إنما نذاكر عالمًا غزير المادة واسع الاطلاع، ونناظر أديبًا ذكي الفؤاد، دقيق الانتقاد إلا أن قلمه عثر في هذا الميدان وقد يكبو الجواد. من حسنات المقتطف أنه ينتقد الكتب التي يقرظها ولا يتبع سنن الجرائد في مدح كل ما يهدى إليه من كل وجه وإن كان مذمومًا من وجوه كثيرة، وانتقاد الكتب التي تنشر بين الناس أمر نافع ولكنه وعر المسلك؛ لأن وقت كتاب المجلات والجرائد قصير يضيق عن قراءة كل ما يهدى إليهم من المطبوعات لانتقاده، ولأن أصحاب تلك المطبوعات من المؤلفين أو الناشرين يألمون من الانتقاد وإن كان حقًّا ومقنعًا، وبعض الانتقاد يؤلم الجماهير من الناس إذا كانوا على خلاف رأي المنتقد، فالتصدي للانتقاد مع هذه الوعورة في طريقه يُعدّ فضيلة توجب الثناء والشكر على من يعرف فوائد الانتقاد في تجلي الحقائق وتحري الصواب وتنقيح العلوم والفنون، ولقد قلت من قبل قولاً في ذلك كشف به عما في نفسي وهو: سواء عندي مَنْ مدح قولي ومن انتقده؛ لأنني في حاجة إلى معرفة ما يستحسن منه وما يستقبح على سواء بل ربما كنت أَحْوَج إلى معرفة موضع النقد، مني إلى معرفة موضع الحمد؛ لأن هذا أبعث على إصلاح العمل، وأهدى إلى توقي الزلل. أما عثرة المقتطف فهي ظاهرة لأول وهلة في تحويل التمثيل عن موضعه فإنه صريح في كون الكلام في (المسلمين أو مع الأمم الغربية الحية الراقية) لا مع المصريين الأولين، ولا مع اليونانيين والرومانيين، وصريح في كون الأمم الحية أخذت من ينبوع الإسلام كل أصول الإصلاح الذي هم فيه، وهذه المسألة المجملة في مقدمة الكتاب مفصلة بعض التفصيل في الكتاب نفسه؛ ولذلك لم يطلب المنتقد بيانها؛ لأنه طلب تحصيل الحاصل، أما مدنية المصريين واليونان والرومان فالناقد يعلم أنها قد ماتت قبل ظهور الإسلام وإن بقي لها آثار تدل عليها ويعلم أن الإسلام أحياها بعد موتها فأنشأ أهله - لا أهلها - بها حدائق العلم والعمل في بغداد ومصر وقرطبة أو في الشرق والغرب والوسط، ومن هذه البلاد انتقل العلم والمدنية إلى الأمم الغربية الحية بلا نزاع. ولم يكن الكلام في ذلك التمثيل في المدنية الصناعية وإنما كان في الإصلاح البشري أي الإصلاح الذي ارتقت به عقول البشر وتهذبت نفوسهم وتوثقت روابطهم الاجتماعية وعرف بعضهم لبعض حق الإنسانية، فإذا كانت تلك الأمم التي سبقت الإسلام بالمدنية الصناعية وبنى أهلها أهرامًا لم يَبْنِ مثلها المسلمون، فالإسلام قد أفاد البشر ما لم تفده تلك الصناعة أفادهم ارتقاء في العقول، علّمهم أن تلك الأهرام وما يشابهها قد بُنِيَتْ باستعباد البشر وأَسْر أرواحهم وأشباحهم وتسخير الملايين منهم لخدمة شهوة ملك من الملوك الظالمين أو لخدمة وساوسه الدينية. علمهم أن تلك المدنية كانت تسخر بعلمها المحصور في طبقة مخصوصة أبصار الأُمة وتخيل للناس ما ليس له حقيقة فتسترهبهم وتحملهم على الخضوع الأعمى لأولئك الرؤساء الضالين المضلين، الغارّين المغرورين. علمهم كيف يحكمون على اليونانيين بفساد الفكر في الخضوع لآلهة لا وجود لها إلا في الخيال وتحكم تلك الأوهام في مدنيتهم وحربهم وصناعتهم فهيكل جوبيتيير الذي يدهش الناظرين بديع صناعته هو آية على أن تلك المدنية الصناعية كانت مقترنة بضلال العقل وفساد الفكر في المسائل التي يمتاز بها البشر على النحل والنمل والعنكبوت وهي حشرات أتقنت أعمالاً من الصناعة كانت فيها من أساتذة الإنسان كما يقول بعض العلماء. علمهم كيف يحكمون على شرائع تلك الأمم وقوانينها بالظلم وهَضْم حقوق الإنسان بما يفضلون شعوبهم على سائر الشعوب في الحقوق فإنه لم توجد شريعة وَضْعية ولا سماوية معروفة قبل الإسلام تساوي بين أهلها وبين جميع من يقبل حكمها من المخالفين وإن كانوا قومًا مُعادِين {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) وهذه الآية من سورة المائدة التي هي آخر القرآن نزولاً ومعناها لا تحملَنَّكم معاداة قوم على ترك معاملتهم بالعدل فإن العدل واجب مع الولي والعدو؛ لأنه من تقوى الله الخبير بالأعمال والمجازي عليها، والمصريون كانوا يستحلّون ظلم غير المصري بل يُعبّدونه تعبيدًا لمَلِكهم كما فعلوا بالإسرائيليين، وكذلك اليونان والرومان وهذا تاريخ اليهود شاهد بأن الرومان قد ظلموا الإسرائيليين ظلمًا يضاهي ظلم المصريين لهم، فأين هؤلاء وأولئك من معاملة الإسلام لليهود، تقدمت الذكرى في الجزء الماضي بمساواة عمر بين علي بن أبي طالب (وما أدراك مَنْ هو) ورجل من آحاد اليهود، وعندنا ما هو أعظم من ذلك وأشرف: روى الطبراني وابن حبان والحاكم والبَيْهَقِيّ وغيرهم (عن زيد بن سَعْنَة وكان من أحبار اليهود أنه ابتاع من النبي صلى الله عليه وسلم تمرًا إلى أجَل وأعطاه الثمن، فلما كان قبْل الأجل بيومين أو ثلاثة أتاه يطالبه بالتمر (قال) : فأخذْتُ بمجامع قميصه وردائه ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقّي فوالله إنكم يا بني عبد المطلب مُطْلٌ. فقال عمر: أي عدو الله , أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، فوالله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليّ في سكون وتُؤدة وتبسم ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك- يا عمر - أن تأمرني بحسن الأداء وتأمره بحسن التقاضي اذهب به فاقضه وزده عشرين صاعًا مكان ما رُعته) ففعل ثم أسلم هذا الحبر الجليل وقال بعد ذلك: إنه فعل ليختبر أخلاق النبوة وعلاماتها فلما رآها كملت فيه عليه السلام آمن به. وجملة القول أن الإسلام علم البشر أصول السعادة الحقيقية التي لم تكن معروفة عند المصريين ولا اليونان ولا الرومان أهمها: (1) صقل العقول بصقال التوحيد الخالص وتطهيرها من صدأ الخرافات والأوهام ليكون الفكر مستقلاًّ فيما يعتقد يرفض التقليد ويعتمد على البرهان. (2) بيان أن للكون سننًا ونواميس ثابتة ينبغي أن يهتدي بها الإنسان في سيره العلمي والعملي. (3) توسيع دائرة الجنسية بجعل شريعته تساوي بين جميع الأمم والملل إذا قبلوا حكمها، وقد كانت جنسية المصريين مصر واليونانيين أثينا والرومانيين رومية. (4) القصد في المعيشة فقد أسرف القوم في الشهوات إسرافًا صاروا بها شرًّا من البهائم. ولو شئت أن أسرد محاسن الإسلام وأعدد مساوئ تلك المدنيات القديمة لخرجت من جواب سؤال إلى تأليف أسفار كبيرة، وقد نشرنا في الجزء الماضي نبذة معربة من كتاب أميل القرن التاسع عشر في انتقاد آداب اليونان والرومان وفيها عبرة لمن اعتبر. فإن قيل: إن النصرانية قد سبقت الإسلام إلى إخراج اليونان والرومان من ظلمة الوثنية أقول أولاً: إن النصرانية لم تنتشر في تينك الأمتين إلا بعدما داخلتها هي الوثنية ولكنها قربتهم من التوحيد؛ لأنها نقلتهم من عبادة مخلوقات كثيرة إلى عبادة مخلوق واحد على أن فيه معنى من الألوهية مركبًا من ثلاثة أقانيم، وثانيًا أن النصرانية لم تجتمع مع مدنية الأمتين وإنما أجهزت عليها حتى محت تلك العلوم قبل أن تبلغ كمالها، وطمست تلك الأعمال الصناعية وشوهت جمالها، وما زالت في تدل وانحلال، حتى جاء الإسلام فانتشلها من براثن الاضمحلال، ذكر المؤرخون أن المسيحية تمكنت في أثينا أثناء القرن الخامس، وفي أول القرن السادس قطع يوستنيانوس أجرة المعلمين العموميين في أثينا ومنع تعليم الفلسفة؛ لأن المدارس كانت مضرة بالنصرانية، ومن ذلك الوقت أخذت أثينا بالانحطاط. ونختم القول بنتف من التاريخ في مساوئ وخرافات اليونان والرومان الذين يباري المقتطف بهم الإسلام، قال في برهان البيان: (بينما كان الرومانيون محتفلين بعمل موسم تشريف لروح قيصر؛ إذ ظهرت نجمة ذات ذنب طويل ومكثت سبعة أيام فظنت الأمة الرومانية أن روح قيصر صعدت إلى السماء وتصورت بهذه الصورة وانتظمت في سلك العالم العلوي) ! ! فلولا وجد من الرومانيين من يقول كما قال النبي الأمي عليه الصلاة والسلام لقومه عندما كسفت الشمس يوم مات ولده إبراهيم وظنوا أنها كسفت لموته: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته) . وجاء في ذلك التاريخ أيضًا: كان من ثوابت عادات اليونان وأهل آسيا بناء هياكل للملوك، بل ولكبار الحكام ليكون ذلك أقوى في الدلالة على الانقياد والعبودية، وأما الرومانيون فكانوا يعبدون أسلافهم في معابدهم الخاصة فقط: ثم ذُكر أنه من عهد رومولوس إلى عهد قيصر لم ينتظم أحد في سلك الآلهة التي لها هياكل ومعالم عامة. ومن ظلمهم أن طيباريوس اتخذ القانون القاضي بعقوبة كل من يُهْدي إلى الأمة الرومانية آلة للانتقام كما يشتهي، وكانت الأمة استعدت لذلك من زمن أغسطس الذي سلب الأمة حق التشريع والحكم في الجنايات فتفاقم الشر واستشرى الفساد في عهد طيباريوس الذي سلب الأمة حق الانتخاب أيضًا؛ لأنه كان يعاقب كل من يتهم بقول أو عمل إشارة تعد انتقادًا على الأمة، وكل الأمة كانت عيوبًا ولا بد للناس من

لاحقة سجل جمعية أم القرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لاحقة سجل جمعية أم القرى يقول (السيد الفراتي) : إنه بعد تفرق الجمعية بنحو شهرين ورَدَ إليّ من الصاحب الهندي كتاب يذكر فيه أنه بعد مفارقته مكة المكرمة اجتمع بأمير جليل فاضل من أعاظم نبلاء الأمة ورجال السياسة. فاستطلع رأي الأمير في شأن النهضة الإسلامية، وبعد أن دار بينهما حديث طويل تحقق من خلاله سمو فكر الأمير والتهاب غيرته، ذكر له اطلاعه على سجل جمعية أم القرى وأشياء من مذاكراتها ومقرراتها فأظهر الأمير سروره من الخبر وشديد شوقه للاطلاع على السجل الذي ذكره له فعندئذ وعده إعارته نسخة من السجل، ثم أرسلها إليه وبعد أيام تلاقيا فدارت بينها المحاورة الآتية: قال الأمير: أشكر لك أيها الصاحب هذه الهدية العزيزة ويا لذة ليلة أَحْييتُها في مطالعة تلك المذاكرات الغنية التي لم أتمالك أن أتركها تلك الليلة حتى أتيت على آخرها ثم في الأيام التالية أعدت النظر فيها بالتدقيق. قال الصاحب: يظهر من عبارة مولاي الأمير استحسانه كيفية تشكل الجمعية وامتنانه من مجرى مذاكراتها. قال الأمير: كيف لا أعجب بذلك ولطالما كنت أتمنى انعقاد جمعية يتضافر أعضاؤها على مثل هذا المقصد، وتكون فيهم المزية التي ظهرت على رجال هذه الجمعية. الذين حَلُّوا المشكلة حلاًّ سياسيًّا ودينيًّا معًا، وكنت أستبعد وجود أكفاء كهؤلاء، وأعظم إعجابي هو في هذا الرجل الملقب بالسيد الفراتي، كيف اهتدى في رحلة قصيرة مع إقامته أيامًا قلائل في مكة لانتخاب هؤلاء الأعضاء الأجلاء. قال الصاحب: لا بد أن يكون هذا الرجل مخلصًا في قصده فأعانه الله عليه كما ورد في الخبر: إذا أراد الله أمرًا هيّأ أسبابه: فلعل في الأقدار شيئًا آن أوانه. قال الأمير: نعم للأقدار دلائل، ولنعم البشائر. قال الصاحب: أود أن أستفيد من مولاي الأمير وجوه إعجابه بهذه الجمعية ومذاكراتها لأصحح رأيي في بعض انتقادات تختلج في فكري القاصر، فإن أذن لي أعرضها عليه مسألة مسألة. قال الأمير: قل، ولعلي أقف على ما لم أنتبه إليه. قال الصاحب: يظهر أن أعضاء الجمعية ليس بينهم بعض من السياسيين المحنكين، فلو وجد ربما كانت تأتي المقررات أشد إحكامًا. قال الأمير: لا أظن في الأمراء والوزراء المسلمين المعاصرين من هم أعلى كعبًا في السياسة من بعض هؤلاء الأعضاء الذين تشفّ آراؤهم عن سعة اطلاع وسمو فكر وبُعد نظر مع ملاحظات السياسة الدينية والحالة العلمية والتدقيقات الأخلاقية. قال الصاحب: أرى أن الجمعية أعطت لمباحث السياسة الدينية الموقع الأول وقد أصابت، على أن السياسة الإدارية أيضًا جديرة بالاهتمام فتُركت بدون تدبير كاف. قال الأمير: لا شك أن السياسة الإدارية مهمة أيضًا، وقد ابتدأت الجمعية بها ولكن رأت أفضل وسيلة لحصول المطلوب هي رفع علة الفتور إذ أنتجت مباحثاتها أن علة الفتور هي الخلل الديني فحولت اهتمامها لجهة العلة حتى إذا زالت العلة زال المعلول، ومع ذلك لم يترك السيد الفراتي في فصل الأسباب الإدارية شيئًا من أمهات أصول الإدارة إلا وأشار إليه بما يغني عن تفصيله. قال الصاحب: أليس بعض الأعضاء كالعالم النجدي والمجتهد التبريزي قد أسهب كثيرًا بما كان بعضه يكفي عن باقيه. قال الأمير: إن مسألتَيْ التوحيد والاستهداء ركنان مهمان في الدين، وقد تطرق إليهما الخلل منذ قرون كثيرة فصار إصلاحهما وردهما إلى أصلهما من أصعب الأمور، وفي مثل ذلك لا بد من الإسهاب في البحث والتعميق فيه أَوَلاَ يرى ولله المثل الأعلى كيف جاء القرآن الكريم بألف أسلوب في تأييد التنزيه والتوحيد والحث على اتباع الكتاب والنبي دون التقليد. قال الصاحب: إني أرى أيضًا بعض مكررات في المذاكرات خلافًا لما قاله السيد الفراتي أي أنه لو اهتم ذو غَيْرة في اختصارها يكون حسنًا. قال الأمير: إني لا أوافقك على هذا أيضًا؛ لأنك إذا دققت النظر لا تجد مكررات وإنما هي آراء فلا بد أن يعاد فيها بعض ما سبق، وعلى كل حال هذا سجلّ قد ضُبط فيه ما وقع فلا يجوز اختصاره والتصرف فيه وإني أرى من أكبر محاسن هذه المذاكرات أن جاءت مباحثها متسلسلة مترقية، فكل موضوع فيها يتلوه ما هو أهم منه فلا يملّ منها سامع ولا مُطالع. قال الصاحب: ما هو رأي مولانا الأمير في القانون الموضوع؛ لأجل تشكيل جمعية تعليم الموحدين هل هو قانون محكم الترتيب، وهل هو قابل الإجراء والتطبيق على الأحوال الحاضرة والمنتظرة. قال الأمير: القانون هو أهم ما أثمرته الجمعية وقابل الإجراء مع الصعوبة. قال الصاحب: لا أدري هل أصابت الجمعية أم أخطأت في تعليق أكبر أملها في إعزاز الدين بالعرب دون دولة آل عثمان وملوكها العظام. قال الأمير: لا يفوتك أن مطمح نظر الجمعية منحصر في النهضة الدينية فقط وتؤمل أن يأتي الانتظام السياسي تبعًا للدين ولا شك أن لا يقوم بالهدي الديني ويغار على الدين أمة مثل العرب. قال الصاحب: أليس دولةٌ راسخة الملك إدارة وعسكرية وسياسة وافرة القوى مالاً وعُدّة ورجالاً تكون أقدر على تمحيص الدين وإعزازه من العرب الضعفاء من كل وجه. وإذ قد ألفت الأمة سماع لقب خدمة الحرمين قديمًا ولقب الخلافة أخيرًا في حضرة السلطان العثماني فلا تستنكف عن الإذعان الديني له بسهولة. قال الأمير: إن حضرة السلطان المعظم يصلح أن يكون عضدًا عظيمًا في الأمر، أما إذا أراد أن يكون هو القائم به فلا يتم قطعًا؛ لأن الدين شيء، والملك شيء آخر، والسلطان غير الدولة. قال الصاحب: ما فهمت المراد من أن الدين غير الملك، وأن السلطان غير الدولة، فهل يتفضل مولاي الأمير بإيضاح ذلك؟ قال الأمير: أريد أن احترام الشعائر الدينية في أكثر ملوك آل عثمان هي ظواهر محضة، وليس من غرضهم بل ولا من شأنهم أن يقدموا الاهتمام بالدين على مصلحة الملك وهذا مرادي بأن الدين غير الملك وعلى فرض إرادتهم تقديم الدين على الملك لا يقدرون على ذلك ولا تساعدهم الظروف المحيطة بهم؛ لأن دولتهم مؤلفة من لفيف أهل أديان ونِحل مختلفة كما أن الهيئة التي تتشكل منها الدولة أعني الوزراء هم كذلك لفيف مختلفة الأديان والجنسيات وهذا مرادي بأن السلطان غير الدولة. فخدمة الحرمين ولقب الخلافة ورسوخ الملك ووفرة القوى كلها لا تكفي للمرجع في الدين نعم؛ إذا بذل آل عثمان العظام قوتهم في تعضيد وتأييد من يقوم بذلك يأتون بفضل عظيم. قال الصاحب: قد وجد في هذا البيت الكريم بعض أعاظم خدموا إعزار الدين خدمًا كبيرة كالسلطان محمد الفاتح والسلطان ياوز سليم والسلطان سليمان والسلطان محمود والسلطان الحالي المعظم فهم أولى وأجدر بالخلافة من غيرهم. قال الأمير: أرجوك لا تنظر للمسألة بنظر العوام بل بنظر حكيم سياسي فأبعد النظر ماضيًا ومستقبلاً وقلب صفحات التاريخ بدقة؛ تجد أن إدارة الدين وإدارة المُلك لم تتحدا في الإسلام تمامًا إلا في عهد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز فقط رضي الله عنهم واتحدتا نوعًا ما في الأمويين والعباسيين. ثم افترقت الخلافة عن الملك، وأما سلاطين آل عثمان الفخام فإني أذكر لك أنموذجًا من أعمال لهم أتوها رعاية للملك وإن كانت مصادمة للدين، فأقول: هذا السلطان محمد الفاتح وهو أفضل آل عثمان قد قدم الملك على الدين فاتفق سرًا مع (فرديناند) ملك (الأراغون) الإسبانيولي ثم مع زوجته (إيزابيلا) على تمكينهما من إزالة ملك بني الأحمر آخر الدول العربية في الأندلس ورضي بالقتل العام والإكراه على التنصر بالإحراق وضياع خمسة عشر مليونًا من المسلمين بإعانتهما بإشغاله أساطيل أفريقية عن نجدة المسلمين وقد فعل ذلك في مقابلة ما قامت له به رومية من خذلان الإمبراطورية الشرقية عند مهاجمته مكدونيا ثم القسطنطينية. وهذا السلطان سليم غدر بآل العباس واستأصلهم حتى إنه قتل الأمهات؛ لأجل الأجنة، وبينما كان هو يقتل العرب في الشرق كان الإسبانيول يحرقون بقيتهم في الأندلس. وهذا السلطان سليم ضايق إيران حتى ألجأهم إلى إعلان الرفض. ثم لم يقبل العثمانيون تكليف نادرشاه لرفع التفرقة بمجرد تصديق مذهب الإمام جعفر كما لم يقبلوا من أشرف خان الأفغاني اقتسام فارس كي لا يجاورهم ملك سني. وقد سعَوْا في انقراض خمس عشرة دولة وحكومة إسلامية ومنها أنهم أغروا وأعانوا الروس على التتار المسلمين وهولانده على الجاوة والهنديين. وتعاقبوا على تدويخ اليمن فأهلكوا إلى الآن عشرات ملايين من المسلمين يقتل بعضهم بعضًا لا يحترمون فيما بينهم دينًا ولا أخوة ولا مروءة ولا إنسانية حتى إن العسكر العثماني باغت المسلمين مرة في صنعاء وزبيد وهم في صلاة العيد. وهذا السلطان محمود اقتبس عن الإفرنج كسوتهم وألزم رجال دولته وحاشيته بلبسها حتى عمت أو كادت ولم يشأ الأتراك أن يغيروا منها الأكمام رعاية للدين؛ لأنها مانعة من الوضوء أو معسرة له وهذا السلطان عبد المجيد رأى من مؤيدات إدارة ملكه إباحة الربا والخمور وإبطال الحدود. ورأى مصلحة في قهر الأشراف وإذلال السادات بإلغاء نفوذ النقابات ففعل. وفي هذا المقدار كفاية لإيضاح قاعدة أن مؤيدات الملك عند السلاطين مُقدَّم على المحافظة على الدين. أما صفة خدمة الحرمين وأُلفة مَسَامع العثمانيين للقب الخلافة فهذا كذلك لا يفيد الدين وأهله شيئًا وليس له ما يتوهم البعض من الإجلال عند الأجانب. ولو أن السطان المعظم أخذ على نفسه تأييد الدين بما أمدّه الله به من القوة المادية بدون استناد إلى صبغة معنوية لتمكن من أن يخدم دينه وملكه حقًّا خدمًا مقبولة عند الله مشكورة عند المؤمنين كافة ولَرُفِعَتْ له راية الحمد في شرق الأرض وغربها واحترمه الأبيض والأحمر وعظمه المسلم والكافر. وأظن أنه قد قرب اليوم الذي يتنبه فيه فيتروّى في الأمر فيعدل عن الاعتماد على غيرالماديات ويضرب على فم بعض الغشاشين المتملقين الخائنين الذين ينسبون حضرته إلى ما لم ينتسب هو إليه ويُشيعون عنه دعوى ما ادّعاها قَطّ أحد من أجداده العظام بوجه رسمي. وهؤلاء العثمانيون يُغْرُونَ حضرة السلطان بهذه الدعوى بما يُهْرِفُون به عليه وبما يؤلفونه هم وأعوانهم من الكتب والرسائل التي يعزون بعضها لأنفسهم وبعضها لغيرهم من المنافقين أو لأسماء يسمونها أو كتب يختلقونها فيجعلون تارة آل عثمان العظام يتصلون نسبًا بعثمان بن عفان رضي الله عنه، وأخرى يرفعون نسبهم إلى أعالي قريش ويعطونه حق الخلافة مرة بالتنازل والإدلاء من العباسيين وأخرى بالاستحقاق والوراثة وآونة بالعهد وأخرى بالبيعة العامة، وحينًا بخدمة الحرمين الشريفين ووقتًا بحفظ المخلفات النبوية. وكأن هؤلاء الغشاشين يريدون بهذه الدسائس أن يجعلوا حضرة السلطان نظيرهم دعيّ نسب كاذب كدعواهم لأنفسهم السيادة ومتسنِّم مقام موهوم كدَعْواهم الولاية والقُطْبانية في أنفسهم وآبائهم وأجدادهم فيحشون في تلك المؤلفات أنسابًا انتحلوها لأنفسهم مقرونة بنسب السلطان ويستطردون لحكايات كرامات لأجدادهم ملفقة مخترعة لا يعترف بها لهم أحد من المسلمين يدسّونها بين حكايات وقائع الخلفاء والسلاطين. ومن المعلوم عند أهل الوقوف أن التلقب بالخلافة أو الإمامة الكبرى أو إمارة المؤمنين في أل عثمان العظام حدث في عهد المرحوم السلطان محمود؛ إذ صار بعض وزرائه يخاطبونه بذلك أحيانًا تفننا في

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة أحوال الآخرة (س1) علي أفندي مهيب بتفتيش التلغرافات بمصر: جاء في كتاب الإحياء للإمام الغزالي في باب العقائد من الجزء الأول أنه لا يُقْبل إيمان العبد حتى يؤمن بالأمور الآتية وهي: (1) سؤال منكر ونكير. (2) عذاب القبر. (3) وزن الأعمال يوم الحساب. بميزان ذي كِفَّتين وصِنَج. (4) صراط ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة وأحد من السيف. (5) حوض مورود لمحمد صلى الله عليه وسلم. (6) شفاعة الأنبياء والعلماء والشهداء. (7) فضيلة النبي عليه الصلاة والسلام على جميع الناس ومن بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي. فهل كل ذلك صحيح ثابت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يقول صاحب الإحياء؟ أفيدونا أثابكم الله، ونفعنا بعلمكم. (ج) إنما ذكر الغزالي ما ذكره في أصول الاعتقاد على الوجه الذي عليه الأشاعرة وأشار إلى الرد على مخالفيهم من المعتزلة وبعض أهل السنة الذين أولوا ما ورد في بعض ذلك. والغزالي لا يقول بكفر أولئك المخالفين للأشاعرة بل صرح في مواضع من كتبه (لا سيما كتاب إلجام العوام عن علم الكلام) بأن المؤمن إذا عاش ومات ولم يعلم بتلك المسائل التي اختلف فيها المتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم لا يخل ذلك بإيمانه. ومن تلك المسائل الخلاف في صفات الله تعالى، هل هي عين الذات أو غير الذات؟ والخلاف المعروف في كلام الله تعالى إلخ.. فكيف يكفر أهل القبلة بعدم الإيمان بالمسائل التي ليست من أصول الدين وعقائده. كالتفاضل بين الصحابة. فقوله إن لا يتقبل إيمان أحد حتى يؤمن بما أخبر به (النبي) بعد الموت صحيح، فإن أركان الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله وصفاته، والإيمان بالنبوة، والإيمان بالآخرة. وأحوال الآخرة تعرف بالسمع، فكل ما صح بالتواتر وجب الإيمان به قطعًا، وكان إنكاره كفرًا بشرطه، ويؤخذ على ظاهره المفهوم من أسلوب اللغة إذا لم يكن مُحالاً عقليًّا، فإن كان ظاهره مُحالاً، فاعتقاد المُحال غير مكلف به في الإسلام، فلك أن تأول، ولك أن تفوّض. وإن كان ما ورد غير متواتر مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فلا يكفر منكره، ومن ثبت عنده الحديث وجب عليه الإيمان بمضمونه، وله أن يأوله إذا كان ظاهره غير مقبول حتى ينطبق على وجه معقول. وأما ما فَصَّله الغزالي بعد تلك الكلمة الصحيحة في إجمالها فلا يريد به أن هذا التفصيل شرط في تقبل الإيمان، وإنما يريد أن هذا هو الراجح عند أهل مذهبه. ولذلك أشار إلى توجيهه والرد على مخالفيه في ركن السمعيات في الفصل الثالث لوامع الأدلة، ولم يذكر هناك الحوض، وفيه أحاديث صحيحة، وأما وصف الصراط بما ذكر فقد رواه مسلم عن أبي سعيد موقوفًا عليه فإنه قال: بلغني (لم يرفعه) إلى النبي صلى الله وعليه وسلم ولكن رفعه أحمد من حديث عائشة والبيهقي في الشُّعَب والبَعْث من حديث أنس وضعَّفه، والمأولون يقولون: إن الصراط هو صراط الدين أي طريقه، ورد عليهم بقوله تعالى: {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الجَحِيمِ} (الصافات: 23) ولكن الآية لا تدل على أن المراد بالصراط ما كان بذلك الوصف. وأما الميزان فلم يرد في وصفه بما وصفوه به من الكفتين واللسان والصنج أحاديث صحيحة. وفي القرآن الكريم ذكر الوزن والموازين، قال بعض المفسرين: إنها جمع موزون، والأكثرون على أن هناك وزنًا حقيقيًّا، وذهب بعض إلى أنه تمثيلٌ المراد به العدل قال تعالى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} (الأنبياء: 47) روى الطبري من طريق أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: (إنما هو مَثل كما يحرر الوزن، كذلك يحرر الحق) ومن طريق ليث بن أبي سليم عنه أنه قال: (الموازين العدل) ، وقد نقل هذا القول عن غيره من السلف كالضحاك والأعمش. ولما أخذ المعتزلة بهذا القول عرف بهم، وصار ينسب من يقول به إلى الاعتزال، حتى قال أبو داود عن أبي سلمة عثمان بن مقسم البري المُحَدِّث الثقة الصدوق: إنه قدري معتزلي: وما كان معتزليًّا إلا أنه أنكر الميزان، والمقصود من هذه النقول أنهم لا يقولون بكفر من خالف الجمهور في هذه المسائل، فتبيَّن بهذا أن ما ذكره الجمهور في وصف أحوال يوم القيامة بالتفاصيل المعروفة ليس شرطًا في صحة الإيمان بحيث يكفر من لا يعتقده، وما ورد فيها ليس كله قطعي الثبوت والدلالة، والأسلم في الأمور الغيبية أن لا يبحث الإنسان في كيفيتها، بل يُسلِّم بما ثبت في النصوص القطعية، ويفوض الأمر في الكيفيات إلى عالم الغيب والشهادة ولا يعتقد مُحالاً عقليًّا. *** الجهر والإسرار بالصلاة وخطبة الجمعة والعيدين (س2) و. ز في سوريا: لماذا شرع الجهر بالقراءة في الفجر والركعتين الأوليين من المغرب والعشاء، ولماذا كانت خطبة الجمعة قبل صلاتها وخطبة العيدين بالعكس، أفيدونا لازلتم ملجأ للإسلام؟ (ج) إنما الجهر في الصلاة الليلية التي تصلى في وقت الظلام غالبًا، فقد جاءت السنة الصحيحة بأنهم كانوا ينصرفون من صلاة الصبح ولا يكاد يَرى بعضهم بعضا. ومن المعهود أن الإنسان في وقت الظلام لا يخلو من أحد حالين، النعاس أو الخواطر الكثيرة ورفع الصوت، يُعين على طرد النعاس ودفع الخواطر والوسواس، كما ورد في الأثر عن سيدنا عمر رضي الله عنه، فالأقرب عندي أن هذه هي حكمة الجهر في هذه الصلوات، وفي معناها اهتداء داخل المسجد ليلاً إلى معرفة المصلي ليأتم به. وللصوفية وغيرهم في ذلك أقوال غير جلية، وأما تقديم خطبة الجمعة فللاهتمام بها؛ لأنها هي المقصود الأول في ذلك الاجتماع؛ ولذلك قصرت صلاة الظهر لأجلها، وأما خطبة العيد فهي مقصود ثانٍ حتى إن صحة الصلاة لا تتوقف عليها بخلاف الجمعة كما أنها إذا قدمت على الصلاة تجزي عند بعض الأئمة، وقد فعل ذلك مروان فأنكر عليه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وقال له: خالفت السنة، ولكنه لم يقُل بأن الصلاة لم تصحّ ولا طالبه بإعادة الخطبة، والأثر في البخاري وغيره وفيه أن سبب تقديم مروان الخطبة أنه رأى الناس ينصرف كثير منهم بعد الصلاة - كما يفعلون الآن - ولا ينتظرون سماع الخطبة فلعل هذه البدعة أقدم البدع في ترك السنة. *** الحشيش والأفيون (س3) الشيخ محمد البهي بفاقوس: ثبت عن الفقهاء أن الحشيش ومثله الأفيون يجوز تعاطي القليل منه، مع أن القاعدة الأصولية أن ما أسكر كثيره فقليله وكثيره حرام، والحشيش يسكر كثيره فكيف العمل بهذه القاعدة مع تجويز العلماء لما قل منه، أرجوكم أن تتفضلوا بالجواب الشافي عن ذلك جُزيتم عن الدين أحسن الجزاء. ج - لا أذكر أن أحدًا من الفقهاء الذين يُعتد بأقوالهم أجاز قليل الحشيش على أن قول العالم: إذا خالف أصول الشريعة وقواعدها الثابتة لا يُلتفت إليه ما لم يذكر دليلاً يثبت به أن قوله لا ينافي تلك الأصول، وتحريم ما أسكر القليل منه ثابت بالأحاديث الصحيحة. وقد استحسنتُ أن أنقل هنا عبارة أوردها ابن حجر الهَيْتَمِيّ في كتابه الزواجر لابتلاء الناس في هذه البلاد بالحشيش وهي: (واعلم أن الحشيشة المعروفة حرام كالخمر من جهة أنها تُفسد العقل والمِزاج إفسادًا عجيبًا، حتى يصير في متعاطيها تخنّث قبيح، ودِياثة عجيبة، وغير ذلك من المفاسد فلا يصير له من المروءة شيء ألبتة، ويشاهد من أحواله خنوثة الطبع وفساده، وانقلابه إلى أشر من طبع النساء، ومن الدياثة على زوجته وأهله فضلاً عن الأجانب ما يقضي العاقل منه بالعجب العُجاب. وكذا متعاطي نحو البَنج والأفيون وغيرهما مما مر قُبَيْل البيع، والخمر أخبث من جهة أنها تفضي إلى الصَّيال على الغير وإلى المخاصمة والمقاتلة والبطش، وكلاهما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة. (ورأى آخرون من العلماء تعزير آكلها كالبنج، ومما يقوي القول بأنه يُحدّ أن آكلها ينتشي ويشتهيها كالخمر وأكثر حتى لا يصبر عنها وتصده عن ذكر الله وعن الصلاة مع ما فيها من تلك القبائح، وسبب اختلاف العلماء في الحد فيها وفي نجاستها كونها جامدة مطعومة ليست شرابًا، فقيل: هي نجسة كالخمر وهو الصحيح عند الشافعية، وقيل: المائعة نجسة والجامدة طاهرة (قال) وهي على كل حال داخلة فيما حرم الله ورسوله من الخمر المُسْكِر لفظًا ومعنى. (قال أبو موسى - رضي الله عنه - يا رسول الله، أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن (البِتْع) وهو من العسل يُنبذ حتى يشتد، و (المِزْر) وهو من الذرة والشعير يُنبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُعطيَ جوامع الكلم بخواتيمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ، ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين نوع ونوع ككونه مأكولاً أو مشروبًا. على أن الخمر قد يُتأدّم بها بالخبز، والحشيش قد تذاب، فكل منهما يؤكل ويشرب، وإنما لم يذكرها العلماء؛ لأنها لم تكن على عهد السلف الماضين، وإنما حدثت في مجيء التتار إلى بلاد الإسلام وما أَحْسَنَ ما قيل: فآكلها وزاعمها حلالاً ... فتلك على الشقيّ مصيبتان فو الله ما فرح إبليس بمثل فرحه بالحشيشة؛ لأنه زينها للأنفس الخسيسة) اهـ

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (الجواهر الكلامية، في العقيدة الإسلامية) الشيخ طاهر الجزائري هو أشهر العلماء ودعاة الإصلاح في بلاد الشام وقد كان ألّف عقيدة مختصرة لتلامذة المدارس أيام كان مفتش معارف ولاية سوريا تحرَّى فيها السهولة وجعلها أسئلة وأجوبة، فكانت أمثل المختصرات للتلامذة المبتدئين وفيها ما لا يوجد في غيرها من العقائد كبيان اعتقاد المسلمين في التوراة والإنجيل والزبور الموجودة الآن وما هي من المذكورة في القرآن، وفي العقيدة بعض المسائل الخلافية التي كنت أودّ لو لم توجد وهي قليلة وما ذكره فيها هو المشهور عن الجمهور. *** (الجوهرة الوُسْطى) ثم إنه لما رأى في هذه السنة إقبال المدارس على عقيدته نقحها وألف رسالة أخرى سماها الجوهرة الوسطى سلك فيها مسلكًا لطيفًا في التبصرة والاستدلال ينبغي أن يختص بتلامذة المدارس الثانية أو العالية، وقد طبعت الرسالتان معًا بحرف دقيق في شكل صغير فكانتا 120 صفحة فننصح لمدارس مصر الأهلية بأن تقرأ هذه العقيدة في مدارسها، وثمنها قرشان صحيحان. *** (كتاب (لسان الصدق) جواب للكتاب المسمى (ميزان الحق) في الرد على النصارى) تأليف الشيخ علي البحراني أحد علماء الإمامية الأعلام في الهند وهو كتاب جليل في بابه محكم الوضع، قوي الحُجة حسن الترتيب فيه مقدمة في إثبات الصانع وصفاته وإثبات الرسالة أشار فيها إلى ضعف مذهب الأشعرية وغيرهم في بعض المسائل ويتلو المقدمة ثلاث مقالات في كل مقالة مقدمة وعدة مناطق يرد بها القسيس مؤلف كتاب (ميزان الحق) ومن مباحث المقالة الأولى إثبات النسخ في الشرائع والتحريف في التوراة والإنجيل، وبيان كون القرآن يغني عنهما، ومن مباحث المقالة الثانية تفنيد دَعْواهم اتفاق اليهود والنصارى في ما عدا الاعتقاد بالمسيح وبيّنا تناقض الأناجيل وإبطال ألوهية المسيح. ومن مباحث الثالثة تفنيد مطاعنهم في القرآن وفي النبي عليه الصلاة والسلام، وبيان بشارات كتبهم به والكلام في الأحاديث النبوية، وبالجملة إنه لم يترك مطعنًا من مطاعنهم إلا وفنده وأزال شبهتهم فيه، ثم ختم الكتاب بخاتمة في إثبات مذهب الإمامية، وجعل في آخرها قصيدة أشار فيها إلى مطالب الكتاب ومباحثه. وذلك أن فرقة الشيعة أشد عناية في سائر المسلمين بالدعوة إلى مذهبهم. وقد كان الكتاب طبع في الهند طبعًا سقيمًا كسائر المطبوعات الهندية، فانتدب الكُتَبِيّ الغيور الشيخ محمد المليجي وأعاد طبعه بمطبعة الموسوعات في مصر فكان طبعًا متقنًا نظيفًا وبلغت صفحاته 475 من القِطْع المتوسط وهو يُطْلب من مكتبته بقرب الأزهر وغيرها فنحث أهل العلم والفضل على مطالعته. *** (وقاية الشبان، من المرض الإفرنجي والسيَلان) كتاب جديد ألفه الدكتور سعيد أبو جمرة مؤلف كتاب (حياتنا التناسلية) أما حاجة أهل هذه البلاد التي فشا فيها الفسق إليه فظاهرة، وأما كون الكتاب وافيًا بهذه الحاجة فلنا أن نحكم به أو نستأنس له بتوجيه همة المؤلف وعنايته إلى هذه المباحث حتى إنه ألَّف فيها كتابين، وطبع هذا الكتاب كسابقه في مطبعة الهلال وصفحاته زهاء مئتين، وثمنه 12 قرشًا وأجرة البريد قرشان ويطلب من مكتبة الهلال بمصر. *** (الراوي) جريدة يومية سياسية تجارية أنشأها في العاصمة يوسف بك طلعت وأنشأ لها مطبعة خاصة واختار لها عدة محرِّرين من كُتَّاب السوريين المشهورين بالاشتغال بالصحافة فَنَوَّدَ لو تصادف رواجًا ونجاحًا، ولكنَّ رجاءنا في ذلك ضعيف إلا أن تسلك الجريدة مسلكًا تمتاز به ولا يجده القراء في سائر الجرائد الإخبارية، وما ذاك إلا أن تتبرَّأ من الميل إلى إحدى القوتين الموجودتين في البلاد، وتصبر زمنًا طويلاً على قول الحق الخالص من غير نظر إلى مرضاة الناس وغضبهم وأعني بهذا أن تكون تاريخية لا سياسية، وبعد ذلك تكون موضع ثقة جميع العقلاء والفضلاء.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (العربي الجواد، وهل سلم من سعاية وانتقاد) ذكرنا في الجزء الماضي خبر تعرج صديقنا محمد باشا عبد الوهاب شيخ دارين (وأشهر تجار اللؤلؤ في خليج العجم) على السويس في طريقه إلى الحج وكيف بسط يديه بالنوال، حتى صار كل من لقف خبره يذكر كرم أمراء العرب الأولين، وعطايا الخلفاء والسلاطين، ونقول الآن: إنه بعد أن وزع الصدقات على الفقراء، وأهدى الهدايا للأغنياء، وبعد أن بذل المساعدة للمدارس الإسلامية والقبطية والأجنبية، وبعد أن أخذ على نفقته نحو مائة وعشرين حاجًّا من الفقراء، وبعد أن ظهر امتعاضه لأن سائر قاصدي الحج رجعوا خائبين لأن سفينة (البحيرة) لم تسَعْهم وأوصى من كان قائمًا بشئونه (وهو السيد النسيب مصطفى هاشم) وكان الباشا في السويس بصفة ضيف ونزيل في هذا البيت الكريم) بأن يجمع من بقي من الفقراء، وهم يعدون بالمئين، ويرسلهم على نفقته في أول وابور يحمل حجاجًا من السويس، وبعد أن جاء في بعض الجرائد أن السيد المذكور وَفَّى بما عُهِدَ إليه؛ فاستأجر سفينة مخصوصة من بواخر شركة ليمتد (بواخر البوسطة الخديوية) فحمل عليها الحجاج الباقين، بعد هذا بعضه أو كله كافأ بعض الناس في مصر هذا المحسن الجواد، بالسعاية والانتقاد. بَيْنَا كُنَّا نسمع بعض الوجهاء في السويس يقول: إنه لم يبق بيت في هذه المدينة لم يصبه نوال هذا الأمير العربي؛ إذا ببعضهم يقول: إن أكثر هذه العطايا في غير موضعها، ولو كان بنى بهذه الأموال جامعًا - مثلاً - لكان أفضل وأبقى لذكره! ! فأجابه كاتب هذه السطور: إن الكرم على قسمين: كرم العقل، وكرم النفس. فالأول: يجري فيه الحساب والتقدير واختيار الطريق الذي يوصل إلى نباهة الذكر أو زيادة النفع، وهذا الكرم يكون في الغالب مكتسبًا بالتربية والتعليم، وأما الثاني: فهو سَجيَّة في النفس يكون لصاحبها أريحيّة وهزة تبعثه على البذل متى وجد له طريقًا ما، ولا يأتي فيها الحساب والتقدير، ولا توخي نباهة الذكر ولا حسن المصير، وكرم صاحبنا من هذا النوع، ومنه كرم سائر الأجواد المعروفين كحاتم الطائي وكعب بن مامة ومَعْن بن زائدة. ثم رأينا جريدة مصباح الشرق تسأل سؤال قضاة التحقيق عن تاريخه، ونسبه، وحدود بلاده، وعدد رعيته، ومقادير العطايا التي جاد بها، وعن الحجاج الذين حملهم، هل دفع عنهم التأمين الذي فرضته الحكومة على الحجاج المصريين وعن منابع ثروته، واستنتجت من ذلك تَوْهين خبر الجرائد! ونحن نجيب بأن رواة الجرائد، كتبوا إليها ما رَأَوْه بأعينهم وسمعوه بآذانهم، فلم يكن لهم حاجة في تصديق الخبر بإمساك هذا الرجل عن عمل البر وإشغاله بإملاء تاريخه وتاريخ بلاده عليهم؛ لأنه يوجد في مصر جريدة ساء ظنها بالناس حتى إنها تكتفي في مقام الذم بأضعف الشبهات، وتكتفي في مقام المدح بالمشاهدة حتى يؤيدها جميع ما يخطر بالبال من النظريات. قلنا: إن الرجل أمير أي أنه أمير في نفسه وقومه، لا أنه سلطان ذو مملكة ورعية، وقلنا: إنه شيخ دارين أي أنه رئيس تلك الجهة، وإن شئت قلت إنه أميرها؛ ولكن العرب هناك يفضلون كلمة (شيخ) على كلمة (أمير) فيقولون شيخ الكويت وشيخ البحرين، وأما دارين فهي ميناء نَجْد على خليج العجم من زمن الجاهلية وفيها قال الشاعر العربي ما يُعْرف في شواهد كتب النحو وهو: يمرون بالدهنا خفافًا عيابهم ... ويرجعن من (دارين) بُجْرَ الحقائب وقد كانت عفت فأحيا معالمها محمد عبد الوهاب هذا، وأما ينبوع ثروته التي استكثرها صاحب المصباح فهو تجارة اللؤلؤ وقد جاء فيها ما نصه: (وإليك بيان كمية اللؤلؤ الذي صيد في هذا العام: جهزت سواحل الخليج 420 سفينة فيها 7560 غائصًا فاصطادوا ما قيمته 840.000 روبية (الروبية فرنك واحد و 68 سانتيما) فاشترى هذا الصيد كله تاجر واحد من جزيرة داريان (الصواب من دارين) وجهز من البحرين سبعمائة سفينة، فيها اثنا عشر ألف رجل فعادوا بما قيمته 200.000 روبية، هذا ما كان من المَغَائص المشهورة، وأما ما أخرج في غيرها من المَغائص فلم تزل قيمته مجهولة) اهـ. ونحن قد علمنا من صاحبنا أنه يجهز السفن، وأنه يعطي الغوّاصين الدراهم في أثناء السنة، ويحاسبهم عليها عند إخراج اللؤلؤ، فتفنيد مصباح الشرق قول بعض الجرائد إنه جهز ثلاث مئة حاجّ بقوله: إن ذلك يقتضي أن يكون قد دفع عنهم تأمينًا للحكومة قدره خمسة عشر ألف جنيه على الأقل، وقوله عنه إذا كان (قد بذل من خزائنه مثل هذه القدر العظيم من المال الذي يكاد يكون أَبْلَغَ ثروة تُدخر بين ساكني نجد وتهامة من أول الزمن إلى هذا العهد فهو بلا شك حاتم هذا الزمان وقارون هذه الأيام) ! ! كلاهما غير سديد، وقد ذهل صاحب المصباح عند كتابة الكلمة الأولى عن كون التأمين الذي تطلبه الحكومة المصرية عن كل حاج في هذا العام هو خاص بالمصريين الذين لا يباح لهم السفر إلى الحج بعد سفر المحمل، وقد سافر هذا الأمير بفقراء الحجاج بعد سفر المحمل بأيام، هذا وجه خطأ عبارته الأولى، وأما استكبار ثروة الرجل، وقوله فيها، فقد عُلِمَ أيضًا أنه في غير محله، ونؤكد له القول بأن ثروته أكبر مما استكبره على أهل نجد وتهامة من أول الزمن إلى هذا العهد. وبقي أن نشير إلى معنى كلمة (السعاية) التي أشرنا في العنوان إلى أن هذا المحسن لم يسلم من إساءة أهلها. وذلك أننا علمنا أن عقارب بعض السعاة المحَّالين الذين يُسمَّوْن هنا (جواسيس الآستانة) قد دبت إلى مرجعها، ودبرت حيلة لإيذاء هذا الرجل المحسن في بيت الله وحرمه الآمن بواسطة من هم أهل لذلك في الآستانة وكادوا له كيدًا، فنسأل الله أن يرد كيدهم في نحورهم {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 64) . *** (إصلاح لبنان) ذكرنا في الجزء الماضي نبذة عن اللائحة التي قدمت إلى متصرف جبل لبنان على أنها من جماعة المهاجرين اللبنانيين، وعلم من تلك النبذة أن الغرض منها إثبات أن سبب تأخر لبنان وانحطاطه هو التعصب الديني في طوائفه، أو (الاستقلال الطائفي) الذي ينافي الاستقلال الوطني الذي تعمر به البلاد، وبقي علينا أن نشير إلى رأي اللائحة في ملاشاة الاستقلال الطائفي الذي هو شرط الاستقلال الوطني المطلوب. بدأ كاتب اللائحة رأيه بتخطئة القانون اللبناني في جعل وظائف الحكومة مقسمة بحسب المذاهب الدينية وقال: إن هذا يزيد التعصب ثم أتبعها بنبذة افتتحها بكلمة واشنطون محرر أميركا في أول خطاب أرسله إلى الندوة بعد استقلال الولايات المتحدة وهي (يجب أن نُوَحّد مبدأ الشعب الأميركي المستقبل بالمدرسة) ثم قال بعد تمهيد: (يجب أن نجعل الشعب لبنانيًّا ولا سبيل لنا إلى هذه الأمنية إلا بإعداد رجال المستقبل، فكيف نعدهم؟ بالمدرسة جعل واشنطون العظيم الشعب الأميركي بمبدأ واحد، وبالمدرسة جعله هكذا عظيمًا، وبالمدرسة الحرة جعله هكذا حرًّا) . بالمدرسة يقول بسمرك: إنه استطاع أن يتغلب على فرنسا، بالمدرسة استطاعت اليابان أن تخرج من الظلمة الأسيوية الحالكة المدلهمة، إن الأفكار القديمة لا تجد لها مانعًا دون عقول الصغار إلا المدرسة، فبالمدرسة فقط يستطيع الشعب اللبناني أن يصير وطنيًّا، وأن يَتَّحِد على مصلحته الطبيعية. (مولاي قد قال الشارع الفرنسي في نظام التعليم الإلزامي: من حق الحكومة حامية المنافع العمومية أن تحتاط بكل وسيلة لئلا يكون في الشعب أفراد يجهلون حقوقهم وواجباتهم؛ فلتكن المدرسة من حق الحكومة التي ترأسونها ومن واجباتها أيضًا. (إن المدرسة التي نرجو أن تكون حاجزًا بين صغارنا وأفكارنا القديمة ليست المدرسة الفرنسية، ولا الإنكليزية، ولا الأميركية، ولا الألمانية، ولا الإيطالية، لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا أوربيين وأميركيين في لبنان، وليست المدرسة الجزويتية؛ لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا متواكلين ضعفاء خبثاء، ولا المدرسة الطائفية لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا موارنة ودروزا وأرثوذكسا وملكيين ومتأوِّلة وإسلامًا -، ولا المدرسة الدينية لأننا لا نريد أن يكون صغارنا مثلنا لاهوتيين يتجادلون على ما لا يعلمون. إن هذه المدارس موفورة لنا وحالتنا الاجتماعية لا تزداد إلا فسادًا وتقهقرا. فالمدرسة التي نرجو أن تكون لنا بابا إلى الحياة الجديدة هي المدرسة الوطنية الحرة، هي المدرسة التي تتولاها حكومة منفصلة عن الكنيسة كالحكومة اللبنانية) اهـ، باختصار قليل، ثم بَيَّن طريق إيجاد المدارس الحرة، والنفقة عليها، وبحث عن عيوب الحكومة، وبَيَّن سبيل الإصلاح. ونحن نقول: إن هذه هي (الوطنية الحقة) لا التي يَلْغَط بها بعض أحداث المصريين في مصر، بغير فَهْم ولا شعور؛ ولذلك كان هذا اللَّغَط منه سخرية عند جميع الطوائف في مصر. وإننا نعترف بصحة رأي اللائحة، ونجزم بأن بلادًا فيها للكنيسة سلطان على الحكومة والأمة لا يمكن أن تنجح، ولا أن يتفق أهلها على ترقيتها. ولْيعلمْ رصيفنا الفاضل صاحب جريدة المناظر؛ أن ما قاله في المقالة التي رد فيها على مقالة السيد البكري (المستقبل للإسلام) من أن في مصر فريقين أحدهما يدعو إلى الوحدة الوطنية، والآخر يدعو للوحدة الإسلامية، وأن قوة الأول حملت السيد البكري على الانتصار للثاني، كل ذلك غير واقع، وإنما الوطنية التي نَرُدُّها ونسفّه دائمًا أحلام أَحْدَاثِها؛ هي وطنية خاطئة كاذبة اتُّخِذَت في وقت ما وسيلة للحطام، وبقي الكلام فيها أحيانًا بناموس الاستمرار، وصاحب هذه الوطنية يمقت طائفة من سكان بلاده الذين هم أَعْرَف منه بالوطنية، ويمقت مَنْ هاجروا إلى هذه البلاد واتخذوها وطنًا وصارت سعادتهم بسعادتها، ومصلحتهم بمصلحتها، وإن كانت لغته لغتهم، وحكومته حكومتهم، ودولته دولتهم، بل وإن كان دينه دينهم، فهل تستطيع أيها الوطني الصادق أن تجيز لنا هذه الوطنية الكاذبة؟ *** (ملجأ الأيتام واللُّقطاء) يسرنا أن جمعية المكارم في الإسكندرية قد شرعت في عمل نافع عظيم وهو إنشاء ملجأ للأيتام وللقطاء، وهم الآن يسعون في جَمْعِ المال بطريقة الاكتتاب المألوفة، وقد افتتح التبرع سمو الأمير بمئة جنيه، ثم إن صاحبة الدولة والدة سموه تبرعت بخمسين جنيهًا، وتبرع كثيرون من الأغنياء والوجهاء بما دون ذلك. ولا شك أن سير الاكتتاب بهذا البطء والشحّ لا يبشر بنجاح يذكر، وكأني بكثير من الأغنياء لا يجودون بما يليق بثروتهم من السَّعَة احتجاجًا بأن الأدب يقضي بأن لا يدفع أحد مثل ما دفع الأمير؛ فمن كان أقل بذلاً كان أكثر أدبًا مع سموه وما هذه إلا حجة البخلاء، فلو صح أن الأدب في التقصير عما بذل الأمير لكانت زيادة الأدب على حسب نسبة النقص والتقصير؛ فمن دفع قرشًا كان أكمل أدبًا ممن يدفع جنيهًا! ! الأمير يقصد بما يعطيه إظهار رضاه عن المشروع، فلنا أن نقول: إن من كان أكثر عطاءً كان أقرب إلى ما يرضيه، وأكمل فضلاً وأدبًا في نظره، على أن الواجب في هذه المقام طلب مرضاة الله تعالى، وملاحظة المنفعة لعيال الله تعالى، ولكن البخيل ينتحل لنفسه أضعف الأعذار في الإمساك والشحّ؛ فمن كان جازمًا بأن من الأدب مع الأمير أن لا يبلغ مَبْلَغه في البذل، فليكتف من الأدب بنقص جنيه واحد عنه، ولو أن كل غني في مصر يشعر بالحاجة إلى هذا العمل يلاحظ هذا ولا يبعد في النسبة؛ لنجح العمل والله ال

رأي في إصلاح المسلمين أو رأيان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأيٌ في إصلاح المسلمين أو رأيان كتب إلينا وكيل للمنار في بعض الأقطار رأيه في طريقة إصلاح المسلمين في خاتمة جواب يتعلق بأمر الاشتراك والمشتركين؛ فأحببنا أن يطلع عليه القراء لِمَا فيه من دقة النظر، وبُعْد الغَوْر، قال حياه الله: (رأيك بالعناية في إصلاح النفوس والعقول والأفكار والأخلاق لا أظن أنه يوجد من يخالفك فيه على شرط أن تجمع من أيدي الناس كتب التصوّف النظري، وكتب العقائد التي أُلِّفت على طريقة أرسطو (لا كتب أرسطو نفسها) والتفاسير التي ألبسها أصحابها لِبَاس الفلسفة اليونانية، وكذا الكتب الفقهية التي كتبها الأعاجم ومَنْ احتذى حَذْوهم، لا الكتب التي كتبت بطريق الرواية كالموطأ وغيره، وطرح القواعد التي دوّنها الأصوليون، وجعلوها من أصول تعاليم الدين، وتحويل تَكَايا الطرق إلى مدارس تُعلَّم فيها العلوم الكونية بأسرها، على شرط أن تكون إدارتها بيد أُناسيّ من علماء أمم أوربية صغيرة كسويسرة والبلجيك ويعزل الشباب المتعلمون عن الأمة حتى يمتنع سريان عدوى الأخلاق التي أَرْزَأَت أمم الإسلام من الأسلاف إلى الأخلاف، وبعد أن تندرس هذه الرمم التي صارت مع طول الزمن رُكام أقذار مُفسِد للتمدن؛ يتسنّى للمصلحين أن يشيدوا على أنقاضها معاقل إصلاح. وهيهات هيهات أن يفوز المصلحون بتلك المطالب العسيرة التي أعيت هممًا، وبيضت لِمَمًا، وأشفت أمما، ظهر كونفوشيوس قبل عصرنا هذا بإحدى وعشرين قرنًا لمعاناة إصلاح مذهب سكياموني، وتجديد ما تداعى من بنيانه العتيق الذي كرت عليه الدهور الدهارير، وبالرغم من مساعيه الكبيرة وهمته القَعْساء، وعزمه الصارم بقيت آراء سكياموني كما هي محتكرة في الهياكل لكهنة الشعب، ولم يزدها ذلك المصلح بقارعته العظمى إلا ثباتًا وتمكينًا، وهذا المسيح قام ليعدل سلطة أكليروس اليهود وليجدّد ما اخلولق من مذهب التوراة فلم يقبل له رأيا إلا من خذله في أداء الشهادة وقت المحاكمة. وما عسى أن أقول ونبينا الكريم عليه السلام قد أرسله الله مهيمنا على الكتب، ومجددًا لشرائع الكون التي اقتضت سنة العمران تجديدها بتجدد المقتضيات فلم يقبل دعواه من أرباب تلك الأديان إلا مَن نكَّب عن فئته، وانحاز لغير بيئته، وهكذا شأن كل مصلح يفلت من أسر العادة وينسلت من قيود المصطلحات، وتؤثر في نفسه الحقائق، وتشعل بصيرته المشاهدات الصحيحة يستنكر ما يستحسنه الناس ويستحسن ما استنكروه فيسفه أحلامهم، ويبين أوهامهم، إلى أن يثوبوا إلى رجعة الهدى، أو يكوِّن نَشْأ جديدًا، ودون ذلك خَرْط القَتاد على فرض سلطة الظروف المحيطة. على أن هناك مَهْيَعًا آخر أقرب إلى السلامة، وأضمن للنتيجة، وهو سبيل رجالات أوربا الكبار، ودهاقنها العظام، وبيانه أن يشتغل المصلح بعد ترقية نفسه، وترتيب منزله، وتنظيم معيشته، وتدبير مأكله، بتنمية ثروته بالطرق القانونية ويختار له منها الطريق الأضمن على شرط أن يحتذي مذهب الصدق ويتقيل نمط الأمانة، ولا يعتمد إلا على نفسه فلا يمر عليه غير زمن قليل حتى يكون من أكبر المُثْرين في العالم مثل مرجان وسيسل رود وغيرهم، فلا يصعب عليه بعد تكوين الثروة تأسيس المشروعات، وعقد الشركات وإنشاء المدارس، وفتح المعامل، وإرسال الفُلْك تمخر عُباب اليمّ تجمع له كنوز المخلوقات. وأما طريقة إصلاح الأمم أو النفوس بإلقاء الخطب، وكتابة المقالات، فلا تفيد المسلمين في شيء، اللهم إلا من كان له هَوَس منهم فيهما؛ لأن العالم والصانع والزارع والصراف والتاجر في البلاد المربلة [1] لا يُصِيخُون الأسماع للخطب، ولا يعيرون الأبصار للمقالات إلا في أوقات الفراغ من الأعمال فهي عندهم بمثابة المسليات والمنبهات، والذي يُصيخ وينظر في بلادنا القاحلة هو المِكْسال المتقاعس عن حير نفسه ونفع جنسه؛ وإذا تنبه لبُّه واستنارت بصيرته فلا يكون منه غير التأوه على الإسلام، والبكاء على المسلمين، ولهذا اتفقت كلمة العمرانيين على أن ترقي الأمم لا يفيد إلا إذا كان ماديًّا بحتًا، مطهيًا على أثافي الصناعة والزراعة والتجارة، وطهاته الإقدام والحزم والعزم والنشاط والثبات، وحققوا أنه لا يتوقف على دين، ولا يحتاج إلى بعثة رسول، وإنما تدعو إليه الحاجة، ويبعث إليه اختلاط العناصر المختلفة ببعضها) . يدين سكان الجابون بدين وثني، أخمد نفوس أهله آلاف السنين، وأبقاهم خاملين تحت سُجُف طقوسه الواهنة، حتى ذاق أفراد منهم عُسَيْلة الإثراء؛ فانبرت نفوسهم ساعية وراء التأسيسات النافعة، وما فتئوا يفكرون حتى تنبه لهم الأقران؛ فتلاحقوا بهم ثُبى، وما كادت تتنبه لهم الحكومة حتى اضطرها تفاقم المساعي إلى التنازل عن كثير من حقوقها المكللة بطيلسان الكهنوتية المقدس، وأتاحت لهم بغير عناد حكومة مقيدة باحتساب الأمة عليها، وقد صارت الآن تضارع أعظم الأمم شوكة واقتدارا، وما دين المسيحية بأصفى منهلاً من المنبع البوذيّ، وهذا مبتدع وذاك مخترع، والمنزع القديم في الغالب مقتبس ومتبع (كذا) ومع ما هو عليه من التشويش والتشويه والتبلس بتلك الحجب التي حاكتها يد المجامع المقدسة لم يزل دينًا للأمم الراقية ذات الطول والحَوْل والمَنَعَة والعزة رغمًا عن النهضة العلمية والأخلاقية. لا أحاول الجدال، ولا أريد الحوار، وإنما غايتي أن أطلعك على فكري الخاص في إصلاح الأمة الإسلامية بالوسائل الصحيحة التي لا تستلزم زمنًا طويلاً ولا تكلف تعبًا كبيرًا، وهي أن نترك القادري يَعْمُه في قادريّته، والرفاعيّ يعشو في رفاعيته، كما تركنا النصراني يتخبط في ظلام نصرانيته والوثني يهرف في وثنيته، ونسعى مع الجميع متكاتفين لنحصل فرنكًا واحدًا عن كل شخص من المسلمين، ذاك لروح شيخه، وهذا باسم وَلِيّه، وذا في سبيل النهضة، وهذا باسم الوطنية، إلى أن نتمكن من جمع مال كثير؛ فنؤسس به مشروعًا يكون جزيل الفائدة، كبير العائدة، وما علينا والصراخ في الهواء، والنداء في الأجواء، والاحتراس من السياسة، والتوقي من الرياسة، فذاك في مذهبي شيء لا يجدي والسلام) . *** رأي المنار في الموضوع لقد أحسن الكاتب النبيل القصد في قوله ولكن فيه إجمالاً يحتاج إلى بيان ونظرٍ في بعض الجزئيات، وما كان الإجمال منه إلا لأنه كتبه لمن يغنيه الإجمال عن التفصيل، وفرق بين ما كُتِب ليُطْوَى وما كتب لينشر، ولقد سرَّنا توارد الخواطر وتلاقي الأفكار بيننا وبين الكاتب النبيل، والوكيل الأصيل، في وجوب عزل المتعلمين عن الأمة؛ لأن قِوام التربية بالقدوة والمحاكاة المتولدتين من المعاشرة والمخالطة، وقد بدأ الله تعالى تربية نبيه الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بعزله عن الناس فحبب إليه الوحدة، وألهمه الانزواء والعزلة، ثم علمه بالوحي ما شاء أن يعلّمه، ولقد قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي) فعلينا أن نستفيد من هذه الحكمة، مع من منحه الله العصمة، وموافقة أخرى في الرأي وهي الاستعانة على تعليم الفنون والعلوم الكونية، بأساتذة من أصغر الشعوب الأوربية، لأن هؤلاء أبعد عن السياسة التي تفسد كل صلاح، وتحول دون كل نجاح. الذي لاح لي من كلام الكاتب في إخفاق رجال الإصلاح المعنوي هو أن غرضه منه تحويل وجوه المتعلمين عنه؛ ليتولوا شطر الإصلاح المادي الذي يراه، وإلا فإن كل واحد من المصلحين الذين ذكرهم قد كان له تأثير كبير في أنواع الانقلاب الذي حدث في العالم المرة بعد المرة، وليس من شرط النجاح في المشروع أن يأخذ به كل أحد، ولا أن يكمل فيه كل من أخذ به. فإذا كان الإصلاح المعنوي لم يعم أفراد الأمم التي ظهر فيها فكذلك الإصلاح المادي، والسبب في هذا وذاك أن الاستعداد في البشر متفاوت تفاوتًا كبيرًا وكل يعمل بحسب استعداده؛ ففي أوربا من يملك ألوف الألوف وفيها من يموت جوعًا وكأيَّنْ من عالم يطلب الثروة، وتعوزه الكِسْرة والحُسْوَة، وليس هذا مقام بيان تأثير أولئك المصلحين العظام في الأمم، والكاتب يعرفه ولكن غرضه ما ذكرنا. والقول في تأثير الخطب والمقالات يتصل بالقول في تأثير رجال الإصلاح المعنوي؛ لأن الخطباء والكتّاب الداعين إلى الإصلاح هم ورثة الأنبياء والشارعين وهم أركان الإصلاح الاجتماعي والسياسي، ومَنْ ينكر أن لِلُوثر وأشياعه وميرانو وأضرابه تأثيرًا عظيمًا في تحويل أوربا عما كانت عليه، ونقلها إلى ما انتهت إليه، ومن ينكر تأثير تلك المقالات والرسائل التي كانت تنشر في فرنسا قبل الثورة الكبرى، وأن ذلك التأثير هو الذي ثلّ عرش الملك، وسلط الصعاليك على الأمراء والنبلاء؟ فالإصلاح في جميع الأمم إنما جرى على أيدي الفقراء والمتوسطين؛ بباعث معنوي، ولم يوجد إصلاح في الأرض بدأ به الأغنياء؛ بتأسيس المشروعات المادية النافعة، وإن شئت فقل إنه لم يوجد إصلاح ماديّ بحت، ولكن كل إصلاح يُرَقِّي البشر ينتج العمران، والعمران المادي إنما يكون في النهاية لا في البداية. كل هذا يعرفه الكاتب الفاضل، ولكن الرأي الذي أبداه؛ إنما هو في اختيار أقرب الطرق، ولَعَمْري إنه لطريق أُمم، لولا أن فيه من العقبات الكؤود ما يتعذر معها سلوكه على الضعفاء المحتاجين إلى الإصلاح كالمسلمين. فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال يقول: إن الواجب على مريدي إصلاح المسلمين أن يسلكوا سبيل (سسل روس) بعد إصلاح شؤون منازلهم وتنظيم طرق معيشتهم. مَنْ هم هؤلاء المريدون للإصلاح، وما هي طبيعة بلادهم التي يعيشون فيها؟ هم نفر من وسط الناس سلمت فطرتهم، وصَفَتْ فكرتهم، وحسنت في الجملة وبالمصادفة تربيتهم، وامتازوا بالميل إلى البحث في الأمور العامة والاهتمام بأمر الأمة والملة، ولم يكن لهم شيء من هذه الخصائص بواسطة تعليم وتربية أُودِعَا في نفوسهم؛ إذ لا يوجد للمسلمين مدرسة في قُطْر من الأقطار تذكر فيها مصلحة الأمة، أو توجه نفوس تلامذتها في تعليم كل علم وفن إلى أن المراد به الإصلاح وإنقاذ الأمة مما هي فيه، وإنما هو الاستعداد الفطري مع مساعدة التوفيق الذي يعبرون عنه بالظروف والمصادفات، ولو أن هؤلاء اشتغلوا بغير البحث في الأمور العامة، وطرق الإصلاح؛ لضعف استعدادهم فيه؛ لأنه لم يتربَّوْا عليه، ولم يتعلموا طرقه تعلمًا فيكون همّهم بعد المدرسة السعي في اتخاذ الوسائل لما وَجّههم إليه المربون والمعلمون. وأما طبيعة بلادهم فهي كما يعلم الكاتب ليس فيها موارد قريبة للثروة الواسعة من الطرق القانونية كالثروة التي جمعها سسل رود. والأعمال الكبيرة التي يتوقف عليها إيجاد الموارد لا تكون إلا مِنْ قوم تعلَّموا طرقها وفنونها، وتربَّوْا تربية صاروا بها محلاَّ للثقة في إناطة الأعمال بهم، وأنَّى لبلاد المسلمين بهؤلاء العاملين العالمين! ! وجملة القول أن الذين يفكرون في الإصلاح من المسلمين ليس عندهم استعداد لجمع الثروة الكبيرة، وأن بلادهم ليس فيها الآن منابع لهذه الثروة مفجَّرة يسهل عليهم ورودها وأن الأُمة التي يعيشون فيها ليس لها استعداد لتفجير ينابيع الثروة الطبيعة التي خصّ الله بلادهم بها؛ لجهلهم وفساد تربيتهم، ونسكت عن حال حكوماتها وما يُنْتظر أن يلاقيه منهم مريد الإصلاح إذا حاول سلوك الطريق المشروعة الشريفة لجمع المال. إن العمران المادي كان نتي

مدنية العرب - 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدنية العرب النبذة السادسة تابعة لما نشر في الجزء 23 من المجلد الثالث ينبغي للإنسان أن يجتنب الوعد ما استطاع، وأن يجتنب تحديد الوعد بزمان أو مكان، إذا هو وعد إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا، وقلما يأتي الاضطرار في الأمور العامة، كُنَّا شرعنا في السنة الثالثة للمنار بكتابة مقالات في مدنية العرب أو مدنية الإسلام في عهد الدول العربية، فكتبنا خمس نُبَذ في منشأ تلك المدنية، وكونها قامت على أساس الدين وتولدت من تعاليمه، ثم في اشتغال العرب بالعلوم الكونية، وما اكتشفوه واخترعوه في علم الفلك وسائر العلوم الرياضية كالحساب والجبر والهندسة، ووعدْنا بأن نتم هذا المبحث في السنة الرابعة، فمرت السنة الرابعة ولم يتح لنا فيها الوفاء بالوعد، ولكننا استأنفنا وعدًا آخر في آخرها بأننا نتم ذلك في هذه السنة، وقد مرت السنة حتى لم يبق منها إلا هذا الجزء ولم نتمكن من إنجاز الوعد لأن المقالات المتسلسلة زادت في هذه السنة عما قبلها بنشر مقالات جمعية أم القرى ومقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) التي كان فيها شيء إجمالي من موضوع مدنية العرب، وقد رأينا أن نختم هذا الجزء بنبذة سادسة وفاءً بالوعد بقدر الإمكان فنقول: *** الجغرافيا الرياضية وتقويم البُلْدان أشهر كتب الجغرافيا اليونانية كتاب بطلميوس وأَزْياجه وقد كانت آراء بطليموس تؤخذ على عِلاتها؛ لأن العلم صار تقليديًّا حتى تناوله اجتهاد العرب؛ فطَفِقوا من عهد المأمون يصححون أغلاط اليونان في الفلك وسائر الرياضيات - كما تقدم -، ومن ذلك أنهم صححوا أرصاد المجسطي بالزِّيج الجديد، وأعادوا تحديد أطوال الأرض فكان أتمها تصحيحًا تحديد بلاد العرب والخليج الفارسي والجزيرة وبلاد فارس والبحر المتوسط، ولما اشتغل الأوربيون بهذا العلم ظلوا زمنًا طويلاً مغرورين بكتاب بطليموس حتى ظفروا بكتب العرب وتصحيحهم لأغلاط بطليموس. بدأ العرب بتصحيح أَزْياج بطليموس في أول القرن الثالث على عهد المأمون، ولكن ذلك التصحيح لم يكن تامًّا، فإن البيروني في أول القرن السابع هو الذي صحح الغلط في حساب أطوال بلاد الروم، وما وراء النهر، والسند، وألف قانونًا جغرافيًّا، كان قدوة للمشتغلين بالقسموغرافية من بعده. وأتم عمر الخيّام حساب جداول التقويم السنوية (الروانامه) في سنة 469 و 470 وحدد مدة السنة الفلكية أصح تحديد وصنع الشريف الإدريسي في أوائل القرن السادس خريطة جغرافية من الفضة لملك صقلية حفر فيها باللغة العربية صور جميع الممالك المعروفة في ذلك العهد، وألَّف كتابًا في الجغرافية بَيَّن فيه أول نقطة تماس بين جغرافية اللاتينيين وجغرافية المدارس الإسلامية، وقد عكف رسامو الخرائط الجغرافية في أوربا على مُؤَلَّفِهِ ثلاثة قرون ونصف، يتقلدونه كما هو لا يزيدون فيه ولا ينقصون منه، وكان من علماء هذا الفن في المغرب أبوالحسن علي المراكشي في أول المئة السابعة للهجرة الشريفة، وقد قال سيديو: إن كتابه كان أجلّ الآثار العلمية فيما عليه العرب من علم الجغرافية، وكان لعلم الجغرافية خرائط بحرية أيضًا عثر الأوربيون على بعضها في أول المئة التاسعة للهجرة، ووجدوا خريطة بحرية أخرى من رسم عمر العربي سنة 1684م أي سنة 1058 هـ. أما الجغرافية الوصفية أو التخطيطية فقد عرفها العرب قبل الجغرافية الرياضية، واتسعت معرفتهم بها باتساع فتوحاتهم وتجارتهم، قال سيديو: إنهم حين امتدّت مملكتهم من المحيط الأطلانطيقي إلى تُخُوم مملكة الصين أنشؤوا بالتدريج أربع طرق عظيمة تجارية توصل بين مدينتي قادس وطَنجة إلى أقصى آسيا. (إحداها) تخترق أسبانيا وأوربا وبلاد سلاوونة إلى بحر جرجان ومدينة بَلْخ وبلاد تجزجز. (والثانية) تخترق بلاد المغرب ووادي النيل ودمشق والكوفة وبغداد والبصرة والأهواز وكرمان والسند والهند. (والثالثة والرابعة) تعبران البحر الأبيض المتوسط وتتجه إحداهما من الشام والخليج الفارسي والأخرى من الإسكندرية والبحر الأحمر للتوصل إلى بحر الهند، فكثرت بهذه الطرق السياحات ونقل السياحون إلى أقصى البلاد ما عند العرب من الأفكار والتمدن واستفاضت الأخبار الجليلة الفوائد؛ فنورت أذهان الملاحين وعرفتهم الأخطار التي يخشى عليهم الوقوع فيها؛ إذا سافروا في ولايات غير مكتشفة تمام الاكتشاف، واشتملت الأزياج التي حررها البتاني بالرَّقَّة سنة تسعمائة (287هـ) وابن يونس في القاهرة سنة ألف (390هـ) على كتاب رَسْم الأرض بلا تغيير كبير، وأما ابن حوقل والإصطخري والمسعودي المشهورون في نصف القرن العاشر من الميلاد فوصفوا في كتبهم صورة الاكتشاف الجديد، وحسب العلامة الكومي سنة 1067 الأطوال من ابتداء الطرف الشرقي من الأرض القارة. وزعم بعض الفرنج أن العرب كانوا متَّبعين في أول عصر بني العباس الرواياتِ الهندية مع أن كتاب مبادئ الفلك المسمى (بسند هند) إن صح نقله إلى المنصورة سنة 775 (158) لم يكن له عظيم اعتبار عند العرب؛ فإنهم ظفروا عما قليل برسالات يونانية وتركوه لا يتفوّهون باسمه إلا ليبينوا ما فيه من الغلط، ولم يعولوا في شيء من الجغرافية على كتب توضح أن شبه جزيرة هندستان في مركز العالم وأن خط نصف النهار الذي يبين نقطة وسطها يخترق مدينة أوجين وجزيرة سيلان، وبحث العرب في كتبهم عن خط نصف نهار القبة الأرضية، وهي فيه عرين للتنصيص على الأطوال، فظن بعض الفرنج أن المراد من (عرين) مدينة أوجين وهو خطأ فادح، فإن القبة المنسوبة إلى عرين هي نقطة تقاطع الدرجة التسعينية من حساب بطلميموس مع خط الاعتدال على بعد متساوٍ من الجهات الأربع الأصلية، وليست هي قبة أوجين فإن العرب كانوا يعرفون حق المعرفة محل أوجين الجغرافي وأما (عرين) فكلمة اصطلاحية أرادوا بها جزيرة موهومة بين هندستان وبلاد الحبشة سماها المؤرخ ديودور الصقلي جزيرة أورانوس، وبدل العرب خط نصف نهار عرين أو قبة الأرض بخط نصف النهار المار بالجزائر الخالدات فاتُّبِعَ ذلك من ابتداء القرن الحادي عشر إلى الثالث عشر. اهـ وقد ألف العرب كتبًا مخصوصة في مسالك البلدان حتى صار علمًا مستقلاً وفي أسماء البلاد والأماكن ككتاب مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع ومعجم ياقوت والمشترك، وتقويم البلدان للملك المؤيد صاحب حُمَاه وتقويم البلدان للبلخي كتاب (أوضح المسالك إلى معرفة البلدان والممالك) (وهذا أُلِفَ في عهد الدولة العثمانية وأهداه مؤلفه محمد بن علي الشهير بسباهي إلى السلطان مراد الثالث 980 ثم اختصره بالتركية. *** العلوم الطبيعية الكيمياء والصيدلة: قد ارتقت العلوم الطبيعية عند العرب، واتسعت مذاهبها، وكثر الاكتشاف والاختراع فيها، على أن حظها كان دون حظ العلوم الرياضية؛ لأن العمدة في العلم الرياضي العقل والعمل مؤيد له، والعمدة في العلم الطبيعي العمل والعقل مساعد له، وما يتوقف الارتقاء فيه على العمل لا يرتقي إلا بالزمن الطويل، كانت العلوم الطبيعية من عهد أستاذها الأول أرسطاليس ضئيلة ضاوية، ثم ماتت بضعفها، ولمَّا أحياها العرب بإحياء الإسلام لهم تنكبوا طريق النظر المحض فيها، واعتمدوا على التجربة؛ فحولوا الكيمياء الوهمية إلى حقيقية واشتقوا منها فن الصيدلة (تركيب الأدوية) ، وانتقلوا إلى التاريخ الطبيعي فاكتشفوا بذلك خواص نبات بلادهم وصموغها البلسمية، وأفادوا بها الطب والصناعة فوائد جليلة، قال سيديو: إن البحث عن الجواهر الطبية الذي مدحه ديوسقوريدس لأهل مدرسة الإسكندرية كان من مخترعات العرب، فإنهم هم المنشئون للصيدليات (الأجزخانات) الكيماوية والموروث عنهم ما يسمى الآن بقواعد تحضير الأدوية الذي انتشر بَعْدُ من مدرسة سالرنة في الممالك التي في جنوب أوربا: ومن مخترعات العرب في الكيمياء، الكحول أو الغُول، الذي صار قِوَام الأعمال الكيمياوية والصيدلية، وتركيب حمض الكبريت، والماء الملكي، والماء المعشر، والجلاب، وغير ذلك من الأدوية والمعاجين والمربيات والهلامات. قال في دائرة المعارف: (وهم أول من اخترع السواغات لإذابة الأصول الفعالة للأدوية سواء كانت معدنية أو نباتية أو حيوانية، واخترعوا الأنبيق والتقطير والتسامي ووضعوا في أيام الخلفاء قانونًا أقرباذينيا، كانت جميع التراكيب الأقراباذينية المذكورة فيه مثبتة من طرف الحكومة لا يجهز خلافها) أي أنهم هم الذين جعلوا عمل الصيدلة رسميًّا بمعرفة الحكومة. وأشهر العلماء المخترعين في الكيمياء والأقراباذين (الصيدلة) أبو بكر الرازي صاحب كتاب (الترتيب) فيها، والكتب الكثيرة في الطب والفلسفة (توفي سنة311هـ) وهو المخترع للمسهلات اللطيفة، ولاستعمال كثير من النبات في الطب، والرئيس أبو علي بن سينا فيلسوف الشرق وأكبر أطبائه، وابن رشد فيلسوف الغرب، وأكبر أطبائه، وقد ترجم الأوربيون أكثر كتب هذين الفيلسوفين، وانتفعوا بها كما انتفعوا بكتب الشيخ أبي بكر الرازي ويشهدون للجميع بالتبريز في العلوم. *** الطب: لا يعرف التاريخ أُمة أقدم عهدًا في صناعة الطب من المصريين فهم أساتذة اليونانيين وأئمتهم، ولكن طبهم كان ممزوجًا بالأوهام والتقاليد الخرافية كاعتقادهم أن الصرع يكون بدخول عفريت من الجن في جسم الإنسان، وكانوا يعالجونه بالرُّقى والعزائم، وإنما برعوا في فرع واحد من فروع الطب، وهو التحنيط، وكان التشريح مذمومًا عندهم، والأطباء من غير الكهنة محتقرين يعاقبون إذا مات من يعالجون، ثم لمَّا دالت دولة العلم إلى اليونان بعد انحلال المصريين عنوا بالطب، فكان علمًا محترمًا، ثم قضى الرومانيون على علم اليونان، كما قضوا على دولتهم، وكانت عنايتهم في المعالجة مقصورة على الرُّقَى والطلاسم ومجربات العامة التي يتناقلونها، ثم أحوجتهم الحضارة إليه فأجلوا الأطباء بعد احتقارهم، ولكن الرومان أنفسهم لم ينبغوا في الطب وفنونه، بل احتقروه في أول دولتهم واحترموه في عنفوانها، ثم عفا وانحلّ بانحلال دولتهم حتى إذا نهض الإسلام بالعرب لم تكن لهذه العلوم سوق نافقة في الأرض فأحيوها بعد موتها. دائرة المعارف: ولما كانت فتوحات العرب، وضربوا في طول البلاد وعرضها كان الطب كسائر العلوم في أسفل دَرْك الهوان والخمول؛ فنهضوا به نهضة جديدة، والتقطوا مسائله من كتب اليونان وغيرهم وأودعوه كتبهم مع زيادة مما توسعوا فيه بالبحث والتحري، وأجادوا بتعريفه ووصفه وتقسيمه: (ثم قال) : ولم يكد يفرغ الخلفاء ومَن وَلِيهم من بني أمية من بسط جناح الإسلام حتى أخذ الخلفاء يلِجون باب العلم كما ولجوا باب الفتوحات فكان للطب علم وافر، واستعانوا بعلماء اليهود والنصارى عملاً بالحديث القائل (استعينوا على كل صنعة بصالح أهلها) فكانت للأمويين من ذلك بعض الآثار، ولكن الآثار المشيدة والمساعي الحميدة، إنما كانت للعباسيين في بغداد ومن ثم للأندلسيين فاتخذ السفَّاح العباسي أطباء ماهرين أقام بختيشوع النسطوري رئيسًا عليهم وطبيبًا خاصًّا له كما كان جويه اليهودي عند عمر بن عبد العزيز الأموي: ثم ذكر بعض كبار أطباء العرب ومؤلفاتهم واكتشافاتهم، وقال: (وعلى هذا كانت دولة العرب عُرْوَة الوصل بين طب المتقدمين وطب المتأخرين، ولولاهم لانتثر العقد، وعفا الكثير من مع

الكرامات والخوارق ـ 7

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق المقالة السابعة تابعة كما في العدد 41 من المجلد الثاني نشرنا في منار السنة الثانية مقالات في كرامات الأولياء ذكرنا في مقدمة المقالة الأولى منها (2: 26) أن النظر في هذه المسألة من وجوه حقيقتها، والحكمة فيها. حجج القائلين بجوازها ووقوعها. حجج المنكرين لها، ادعاء جميع الأمم لها، منفعة الاعتقاد بها ومضرّته، تمحيص الحقيقة فيما نقل من الكرامات، وقد بَيَّنا هذه الوجوه والمباحث إلا مبحث منفعة الاعتقاد بالخوارق ومضرته فقد كنا عازمين على أن نرجئه إلى أن ننقل طائفة من الخوارق التي تُؤْثَر عن كهنة الوثنيين والكتابيين؛ إيضاحًا لما جاء في عرض القول من أن جميع الأمم تدعي لرؤساء دينها الخوارق والكرامات، ولما كان هذا يتوقف على مراجعة كتب الدين لتلك الملل، وذلك لا يتيسر إلا في وقت الفراغ ظللنا نتربص هذا الوقت فمرت السنة الثالثة ولم نُصِبْه فيما بعدها؛ فوعدنا في آخرها بأن سنتم في الرابعة مبحث الخوارق، ومبحث مدنية العرب، ومرت الرابعة مختومة بوعد آخر لم نر بدًّا من الوفاء به مع الإيجاز كما بدأنا الوفاء بمبحث مدنية العرب، ونسأل الله تعالى أن يتوب علينا من الوعود المحدودة؛ وإن كانت آجالها ممدودة. اضطررنا إلى الوفاء بهذا الوعد (إكمال مبحث الكرامات) الذي ضاق عنه حولان كاملان في أضيق الأوقات علينا وأكثرها شواغل - في جزء آخر سنة تقدمه عيد لا عمل فيه، وانحراف في المزاج من النزلة الوافدة (الإنفلونزا) وزاحمه مع الأعمال الإدارية والحسابية الاشتغال بالانتقال من المنزل الذي نحن فيه إلى منزل آخر مجاور له والاشتغال بتأسيس مطبعة المنار، وهذه عاقبة من عواقب التسويف السيئة ذكرناها تأديبًا لنفسنا ولغيرنا ولتكون لنا في الاختصار والإيجاز في موضوع كنا نود التطويل فيه؛ لأن للاعتقاد بالخوارق تأثيرًا في الأخلاق والآداب والعادات وشئون المعيشة والكسب، وإن شئت فقل: إن لها التأثير العظيم في سير الأمم، فرسوخ هذا الاعتقاد في قوم وزِلْزاله أو زواله من نفوس قوم هو من علل ما عليه الأقوام من التقدم والتأخر في السيادة والثروة وضدهما. *** (الخوارق عند الوثنيين) كانت الأديان الوثنية كلها قائمة بخوارق العادات، وكان لقدماء المصريين منها النصيب الأوفر ولا يزال وَثَنِيُّو الهند إلى اليوم يأتون بخوارق مدهشة، ومن أغرب خوارق البراهمة الجلوس في الهواء، ولكن الأوربيين تمكنوا بصناعتهم من محاكاة هذه الخارقة، ومن خوارقهم أنهم يضعون النار في أفواههم، فلا تضرهم على أنهم يلفظونها غير مطفأة، ومنها أنهم يظهرون أشياء من العدم، ومنها أنهم يستنبتون الشجر من البِزْرة في مدة قليلة خارقة للعادة، ومنها أنهم يذبحون الإنسان ثم يحيونه، ومنها أنهم يخبرون عن المغيّبات فيصيبون، ومن أحقرها ملاعبة الأفاعي والثعابين والتعرض للسعها. وقد نشرت جريدة الأهرام من مدة قريبة بعض العجائب والخوارق التي تظهر على أيدي هؤلاء الهنود، والهنود معروفون بهذه الخوارق من قديم الزمان، وقد اعترف لهم بعض المتصوفة بشيء مما وصل إليهم، وعللوا ذلك بأنه أثر الرياضات الشديدة التي تكون منهم (راجع كتاب الجواهر والدرر للشَّعْرَانيّ وغيره) ومن هذا التعليل يعلم أن أصحاب تلك الخوارق لم يكونوا كلهم من الأشرار، أو الذين يتعرضون لإيذاء الناس فتأتي التفرقة التي يُفرق بها بعض المتكلمين بين المعجزة والسحر، بل الكثيرون منهم عباد زهّاد نُسّاك متسمكون بدينهم أتم الاستمساك، أما التفرقة الحقيقية بين السحر وآيات الأنبياء فقد تقدمت في بحث الآيات من الأمالي الدينية. *** (الخوارق عند النصارى) كل ما ذكره الذين ألفوا الكتب منا في مناقب الصالحين، وكل ما يتناقله الناس فيما بينهم من كرامات، أولئك الصالحين أحياءً وأمواتا؛ يوجد مثله في كتب النصارى، وفي رواياتهم اللسانية التي يدعون أنها عن مشاهدة أو ترتقي إلى المشاهدة، ومن ذلك ظهور المسيح ووالدته عليهما السلام للعباد في اليقظة والمنام، وظهور غيرهما من القديسين. ومنه استجابة الدعاء، والإخبار بالمغيبات الذي يسميه المسلمون كَشْفًا، ويسمونه نبوّة، ومنه طيّ الأرض، وتقريب المسافات البعيدة، ومنه إشراق الوجوه بالأنوار وقت العبادة، ومنه نزول المصائب والرزايا بمن يؤذي القديس، ومنه قضاء الحاجات، والفوز بالخيرات لمن يتوسل بأحد القديسين والرهبان المتوحدين ويتخذه شفيعًا عند الله، ومنه شفاء المرضى والمجانين ببركات القديس الحي إذا لمس المريض أو صلى له (أي دعا) . والقديس الميت إذا زار المصاب قبره، ومنه حَبَل النساء العواقر بالبركة والزيارة، ومنه إخراج الشياطين من المصروعين، ومنه ظهور الملائكة للقديسين ومصاحبتهم ومساعدتهم إياهم في بعض الشئون، ومنه الصبر عن الأكل والشرب زمنًا طويلاً، ولكن الذي ينقل عن الهنود من هذه الخارقة لم ينقل مثله عن غيرهم؛ فإن أحدهم يدفن في الأرض نحو شهر أو أكثر ثم يخرج منها حيًّا، وينقلون من كرامات القديسين ما هو أعظم مما ذكر، ويدّعون في بعضها التواتر، فقد جاء في كتاب (العيشة الهنية في الحياة النسكية) أن من عجائب القديس أغناطيوس التي تزيد على مائة عجيبة ما هو ثابت بشهادة ستمائة وسبعين رجلاً. هذا تواتر حقيقي، والتواتر حجة عقلية باتفاق علماء المسلمين وغيرهم، والذين يدعون هذه الدعوى للقديس أغناطيوس يسهل عليهم أن يسردوا أسماء أولئك الشاهدين ومَنْ نََقَل عنهم، فلا يبقى للمنكر عليهم إلا أن يلجأ إلى تأويل تلك الخوارق، وإثبات أنها خوارق وَهْمية لا حقيقية، وهنا يَحْكُم العقل السليم من شوائب التحيز والتعصب، الذي ينظر إلى الأمم نظرًا واحدًا لا يريد منه إلا استجلاء الحقائق بأن التأويل إذا جاز فيما ينقل عن قديسي النصارى وكهنة البراهمة جاز ينقل عن شيوخ المسلمين، فإذا كانت طرق النقل عند جميع الأمم واحدة؛ فإما أن نصدق الجميع، وإما أن نكذب الجميع، وإما أنْ نُؤَوِّل الجميع ولا رابع لهذه الوجوه، ومن قال من هذه الفِرَق: إنني أثق بنقل قومي دون غيرهم لأنني عالم بحسن سيرتهم، يقال له: وغيرك كذلك فليس لك أن تحتج بأن ما ينقل عن صالحي ملتك دليل على صحتها لأن هذا الدليل هو الذي يسميه علماء النظر مشترك الإلزام. وإذ ذكرنا القديس أغناطيوس - وهولويولا مؤسس (طُغْمة الجزويت) التي يستغيث من طمعها سائر فرق النصرانية - فإننا نشير إلى بعض عجائبه أو خوارقه على سبيل النموذج، قال القَسُّ أفرام في ترجمته عند ذكر رياضته الأولى بعد تركه الجندية ودخوله في الإكلركية: (وقد اتفق له مرة أنه نهض لممارسة رياضته هذه الاعتيادية فتقدم إلى أيقونة والدة الله (تعالى الله عن الوالدة والولد) وجثا أمامها بأقوى ما يكون من العبادة، وقدم نفسه للسيد المسيح بواسطتها وخصص حياته لخدمة الابن ووالدته المجيدة، واعدًا إياهما بكل نشاط نفسه أنه يخدمهما خدمة دائمة، وفي انتهاء صلاته هذه سمع صوتًا عظيمًا، وتزلزل المكان الذي كان فيه وانكسر كل زجاج النوافذ حتى إن حائط المكان انشق أيضًا، وأظهر الله تعالى بذلك سروره بتقدمة عبده نفسه لخدمته عز وجل) اهـ. وكأني بإخواني المسلمين وقد ضحكوا من هذه الأعجوبة ونظموها في سِمْط الخوارق التي سماها المتكلمون خذلانًا، وتلوا قوله عز وجل: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقًّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} (مريم:90-92) ولكني أذكر لهم مالا يمكن أن يعدوه خذلانا. قال القَسُّ أفرام: (وقد شاء ابن الرجل الذي كان أغناطيوس مقيمًا بمنزله، أن يعرف كيف يقضي الليل فرآه مرة ساجدًا متأملا بوجه ملتهب مبتلّ بالدموع ومرة أخرى أبصره مرتفعًا من على وجه الأرض ولامعًا بالنور كالشمس متنهدًا وقائلاً مرارًا كثيرة: (يا إلهي يا حبيب قلبي وسرور نفسي، ليت الجميع يعرفونك حتى لا يجسر أحد منهم أن يغيظك، فيا ما أعظم جودك ورحمتك لأنك تحتمل خاطئًا مثلي) وكأني بهم يقولون: إن هذه رواية آحاد أو وِلْدان لا يعتد بها في هذا المقام وإن صحت: وإنني أرضى بهذا القول بشرط أن لا يقبل قائله مثل هذه الروايات الآحادية عن صالحي قومه لأن ما جاء على خلاف سنن الكون لا يُقْبل إلا بالدليل القاطع الذي لا يقبل النقض كمعجزات الأنبياء عليهم السلام. ومن قبيل هذه الأعجوبة قول القَسّ المذكورِ عنه أنه حينما كان يومًا يتلو صلوات الكنيسة لإكرام مريم العذراء الجليلة رأى بغتة صورة ربه الثالوث الأقدس وهذه الرؤيا نوّرته وعزته جدا حتى إنه لم يقدر في ذلك النهار كله أن يكف عن ذرف الدموع، ولم يتكلم إلا عن الثالوث الأقدس بنوع جلي سام بحيث كان يذهل بخطابه عقول أجلّ علماء اللاهوت مع أنه كان لا يعرف حينئذ إلا القراءة والكتابة، ومرة أخرى رأى في القداس حقيقة وجود جسد المسيح ودمه في القربان المقدس) اهـ. ولهم أن يقولوا في الكلام اللاهوتي الذي قاله من غير تعلم إنه ليس من الخوارق؛ لأن الأذكياء إذا توجهوا إلى شيء واعتنوا به، فلا يبعد أن يقولوا فيه قولاً غير منتظر ممن في درجتهم العلمية، وليس في درجتهم العقلية، ثم إننا لا نعرف ما هو ذلك القول لنحكم أنه محل للإعجاب في الجملة فكيف نحكم بأنه علم لَدُنيّ إلهي جاء بغير تعلم، وربما كان في الواقع خطأ، نعم إن أهل العلم والعقل من المسلمين يقولون هذا، ولكن فينا كثيرًا من المدعين للولاية ليس لهم كرامة إلا الأقوال التي يسمونها علومًا لدنية، وما هي إلا من اللغو والجهالة، ومنهم دجال الزقازيق الذي يدعي أنه يفسر القرآن بالإلهام، ويعتقد صدقه الجمّ الغفير فيقصدونه من كل جانب بالهدايا والنذور ومثله كثير. وأما رؤية جسد المسيح ودمه في القربان، فهي دعوى بغير برهان، ومثل ذلك دعوى ظهور الشيطان له بزي ملك النور وحثه على الرياضات والعبادة ليصرفه عن العلم عندما قلل العبادة واشتغل بالعلم (قالوا) : ولكنه عرفه ولم ينخدع. ولكن عندنا مثل هذه أيضاً فقد ذكروا أن الشيطان ظهر للشيخ عبد القادر الجيلي بصورة نورانية وقال له إنه رفع عنه التكاليف فعرفه عبد القادر وقال: اخسأ يا ملعون. فعند ذلك تحول إلى ظلمة، وقال له نجوت مني بعلمك يا عبد القادر وإنني قد فتنت بهذه الحيلة كذا من العباد وذكر عددًا كثيرًا. ومن عجائب أغناطيوس وخوارقه التي دونوها، أنه عندما رجع من القدس إلى أوربا طلب من ربان سفينة (الربان رئيس الملاحين) أن يحمله إلى إيطاليا حبًّا في الله؛ فأبى وحمله ربان آخر فانكسرت سفينة الذي أبى؛ ونجت سفينة الذي حمله، ومثل هذه أنه رأى مرة جماعة يلعبون (فطلب منهم الصدقة؛ فنظر إليه واحد من الجمهور وهتف قائلاً نحو القديس: ليحرقني الله حيًّا إن كان هذا الرجل لا يستحق أن يحرق حيّا، وفي ذلك النهار عينه حضر فرجة دنيوية مبهجة، وكان واقفًا على برميل ممتلئ بارودًا؛ وإذا بشرارة ملتهبة وقعت على ذلك البرميل فاشتعل البارود حالاً وأحرق الرجل حيًّا) . وعجيبة أخرى من هذا القَبِيل وهي أنه لما جمع (ينسي) بأمره الرهبان في مكان ليقرأ عليهم قوانينه التي وضعها لهم بعد الخروج من المائدة، واجتمعوا انهدم الرواق الذي كانوا يتذاكرون فيه بعد

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة المَلَكانِ ومسائل عبد الله بن سلام (س 1) ا. ز. ع بالسويس: سأل عبد الله بن سلام النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه وكان اسمه أشماويل ألفًا وأربعمائة مسألة وأربع مسائل من غوامض التوراة، أذكر منها سؤالاً نصه: (أخبرْني أين مقعد الملكين من العبد وما قلمهما وما لوحهما ومدادهما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: مقعدهما بين كتفيه، وقلمهما لسانه، ودواتهما ريقه، ولوحهما فؤاده، يكتبان أعماله إلى مماته. فقال صدقت يا محمد) إلخ. وقرأت حديثًا في مجلة مكارم الأخلاق الإسلامية أُتِيَ به لسؤال عنوانه (القضاء والقدر) وهذا معناه: (كل يوم ينزل على العبد مَلَكان مع كل منهما صحيفتان إحداهما بيضاء والأخرى مكتوب فيها أعمال العبد من حسنات وسيئات، فيكتبان في الصحيفتين البيضاويتين ما عمله طول يومه، حتى إذا انتهى النهار طالع الملكان الصحيفتين اللتين كتباهما على الأُخْرَيَيْنِ فيجدانهما مثل بعضهما حرفًا بحرف) إلخ، فهذان الحديثان ينافي أحدهما الآخر ففي الأول أن لوحهما فؤاد العبد وفي الثاني أنه صحيفتان ينزلان بهما فالرجاء الإفادة هُديتم للهدى. (ج) كل من الحديثين غير صحيح، ولا يجوز لكم أن تأخذوا بحديث ترونه في كتاب أو مجلة أو جريدة، إلا إذا كان موصولاً بذكر من خرجه من أئمة الحديث، حتى تسهل مراجعته، ومعرفة صحته من عدمها إن لم يذكر مخرجه ذلك ولم يكن في الصحيحين، وهذه القصة المؤلفة في مسائل عبد الله بن سلام المذكورة في جريدة العجائب - جعبة الكذب - قصة موضوعة الذي في صحيح البخاري أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاث، عن أول الساعة، وعن الولد ينزع لأبيه وأمه، والرواية هكذا في غير البخاري، وفي كتب السير، قالوا وكان اسم ابن سلام الحصين فلما أسلم سمّاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (عبد الله) . *** ما رُؤِيَ في الإسراء مستقر الأرواح. عذاب القبر (س2) منصور أفندي رفعت بمصر، ماذا رأى نبينا محمد في ليلة الإسراء؟ (ج) {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} (النجم: 18) . *** (س3) ومنه: أين تستقر أرواحنا بعد الممات؟ (ج) لم يرد في هذا نص صريح قطعي، والعلماء مختلفون فيه، والراجح عندنا اتباع طريقة السلف في تفويض الأمر لله تعالى في الأمور الغيبية، وعدم البحث فيها. وحَسْبنا أن ما ورد جائز عقلاً وقد أخبر به المعصوم. *** (س4) ومنه: ما هو عذاب القبر المنصوص عليه وهل هو عذاب مستمر أو وقتي وهل يقع على الروح فقط أو الجسم فقط أو هما الاثنين؟ (ج) الإحساس بالألم أو اللذة من شأن الأحياء، والجسد لا حياة له إلا بالروح، فإذا كانت الروح في الجسد وصل إليها الألم بواسطته، يصح أن يقال إن هذا الألم ألمَّ بالروح والجسد، وإن كان الشعور للروح وحدها، وإذا كان الروح خلقًا مستقلاً مدركًا كما نعتقد، فلا شك أنه يجوز أن يدركه الألم في حال تجرده، كما كان يدركه في حال تقيده بالجسد؛ فعلم بهذا أن قول العلماء: إن عذاب القبر - أي الألم الذي ينزل بالإنسان بعد الموت وإن لم يقبر- يكون على الروح والجسد: يتضمن القول بأنه يبقى للروح بعد الموت علاقة، واتصال بمادة الجسد الذي كانت فيه وإن تفرقت هذه المادة وانحلت إلى أجسام كثيفة وغازات لطيفة، ويستلزم هذا القول أحد أمرين: إما عدم فناء مادة الجسم، وإما انقطاع العذاب بفنائها، والمشهور عن المتكلمين الأشاعرة أن الجسم ينعدم على الراجح كما قال اللقاني: وقلْ يعاد الجسم بالتحقيق ... عن عَدَم وقِيلَ عن تفريق والقول بالتفريق - أي بعدم تلاشي مادة الجسم - هو الراجح عند متكلمي المعتزلة وبعض الأشاعرة، وهو الموافق لرأي الفلاسفة القائلين باستحالة العدم، والراجح عندنا ما قلناه في جواب السؤال السابق من تفويض أمر عالم الغيب إلى عالم الغيب سبحانه وتعالى. *** تأثير العين (س5) أحمد أفندي كمال الكاتب بمحكمة شبين الكوم. جاء في القرآن الكريم وغيره من كتب الشرائع والديانات وكذا الأمثال قديمة وحديثة ما أثبت وبرهن على وجود العين الحاسدة، وتأثيرها في المحسود فأرجو بيان حقيقة تلك المؤثرات التي تخرج من العينين أو القلب، وكيفية تأثيرها في المحسود من جماد ونبات وإنسان بطريقة شرعية. (ج) ليس في القرآن الكريم ما يثبت العين، ولكن ذكر المفسرون مسألة العين وجهًا في تفسير قوله تعالى {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} (القلم: 51) والمعنى المتبادر أنهم كانوا ينظرون إليه نظر الغيظ والحنق، وفي آية أخرى في المنافقين {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} (محمد: 20) . قد ورد في حديث الشيخين وغيرهما (العين حق) أي أمر ثابت عند الناس وواقع فيهم، ولم يرد في بيان كيفية تأثير العين شيء في الشرع، وإنما ورد ما يدل على أنها تؤثر ولا حاجة في فهم هذا التأثير إلى أكثر من المعرف المشهور، فإن لبعض الناس استعدادًا نفسيًّا قويًّا في التأثير. ولبعضهم مثله في التأثُّر، ومن ذلك صناعة التنويم المغناطيسي المعروفة عند الغربيين، وانتقال مطلق التأثير من نفس إلى نفس معهود في جميع الناس أو أكثرهم فقلَّ مَنْ ينظر صاحب تأثُّر شديد بحزن أو خوف إلا ويجد في نفسه أثرًا من ذلك. *** المسألة المأمونية (س6) شيخ العرب إبراهيم جلبي بالسعدين: نرجو من سيادتكم أن تفيدونا عن المسألة المأمونية التي سأل الخليفة المأمون يحيى بن أكثم عنها حين ولاه القضاء ما هي وما جوابها. (ج) المسألة المأمونية مسألة في الفرائض، وهي: أبوان وابنتان لم تقسم التركة حتى ماتت إحدى البنتين، وتركت من في المسألة، وقد سأل المأمون عنها يحيى عندما وُصف له، وأراد توليته القضاء فقال: يا أمير المؤمنين الميت الأول رجل أم امرأة؟ فعلم المأمون من هذا السؤال أنه قد فهم المسألة؛ لأن الإشكال فيها كان إبهام الميت الأول الذي مات عن أبوين وبنتين، وبيان الجواب: أن الميت الأول إذا كان رجلاً تصح المسألتان من أربعة وخمسين، وإن كانت امرأة لم يرث الجَدّ في الثانية فتصح المسألتان من ثمانية عشر.

وصية بطرس الأكبر قيصر روسيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وصية بطرس الأكبر قيصر روسيا (ننشر هذه الوصية تمهيدًا لمقال سنكتبه في فتنة مكدونيا وحال الدولة العلية وروسيا وأوربا) . المادة الأولى - من اللازم أن تقاد العساكر دائمًا إلى الحرب، وينبغي للأمة الروسية أن تكون متمادية على حالة الكفاح لتكون أليفة الوغى، وترْك وقت لراحة العساكر، أو لأجل إصلاح المالية وتوفيرها، وإن كان ضروريًّا يلزم معه أن يكون تنظيم المعسكرات متعاقبًا وتكون مراقَبَة الوقت الموافق للهجوم متصلة. وعلى هذه الصورة ينبغي لروسيا أن تتخذ زمن الصلح والأمان وسيلة قوية للحرب، وهكذا من الحرب للصلح وذلك لأجل زيادة قوتها وتوسيع دائرة منافعها. المادة الثانية - في وقت الحرب ينبغي اتخاذ جميع الوسائل الممكنة لاستجلاب ضباط للجنود من بين الملل والأقوام الذين هم أكثر علمًا منا في أوربا، وكذلك في زمن الصلح يتعين استجلاب أرباب العلم والمعارف منهم أيضًا ويلزم الاعتناء بما يجعل الأمة الروسية تستفيد من منافع سائر الممالك ومحسناتها بحيث لا تضيع فرصة للسعي في تحصيل المحسنات المخصوصة بمملكتها. المادة الثالثة - عند سُنوح الفرصة ينبغي وضع اليد والمداخلة في جميع الأمور والمصالح الجارية في أوربا وفي اختلافاتها ومنازعاتها، وعلى الخصوص في شئون ممالك ألمانيا الممكن الاستفادة منها بلا واسطة بسبب شدة قربها. المادة الرابعة - ينبغي استعمال ضروب من الرشوة لأجل إلقاء الفساد والبغضاء والحسد دائمًا في داخلية ممالكهم وتفريق كلمتهم واستمالة أعيان الأمة ببذل المال واكتساب النفوذ في مجلس الحكومة حتى نتمكن من المداخلة في انتخاب الملك، وبعد الحصول على انتخاب مَن هو مِن حزب روسيا من تلك الأمة ينبغي حينئذ دخول عساكر روسيا في البلاد لأجل حمايتهم والتعصب لهم باحتلال العساكر المذكورة مدة مديدة هناك إلى أن تحصل الفرصة لاتخاذ وسيلة تمكننا من الإقامة، وعندما تظهر مخالفة في ذلك من طرف الدول المجاورة فلأجل إخماد نار الفتنة مؤقتًا ينبغي أن نقاسم المخالفين في ممالكهم، ثم نترقب الفرص لاسترجاع الحصص التي تكون قد أُعطيتْ لهم. المادة الخامسة - ينبغي الاستيلاء على بعض الجهات من ممالك أسوج بقدر الإمكان ثم نسعى في اغتنام وسيلة لاستكمال الباقي منها ولا نتوصل إلى ذلك إلا بوجه تضطرب فيه تلك الدولة إلى أن تعلن الحرب على دولة روسيا وتهاجمها. والذي يلزم أولاً هو أن نصرف المساعي والهمَّة لإلقاء الفساد والنُّفرة دائمًا بين أسوج والدانمرق بحيث يكون الاختلاف والمراقبة بينهم دائمَيْنِ باقيين. المادة السادسة - يجب على الأسرة الإمبراطورية الروسية أن يتزوجوا دائمًا من بنات العائلة الملوكية الألمانية وذلك لتكبير روابط الزوجية والاتحاد بينهم ومشاركتهم في المنافع بهذه الصورة يمكن إجراء نفوذهم في داخل ألمانيا ويربطون أيضًا الممالك المذكورة لجهة منافعنا ومصلحتنا. المادة السابعة - أن دولة إنجلترا هي الدولة الأكثر احتياجًا إلينا في أمورها البحرية، ولهذه الدولة فائدة عظيمة جدًا أيضًا في أمر زيادة قوتنا البحرية؛ فلذلك كان من الواجب ترجيح الاتفاق معها في أمر التجارة على سائر الدول وبيع حاصلات ممالكنا كالأخشاب وسائر الأشياء إلى إنجلترا وجلب الذهب من عندهم إلى ممالكنا واستكمال أسباب الروابط والصلات الدائمة بين تجار وملاحي الطرفين فيتوسع بهذه الوسيلة أمر التجارة وسير السفن في ممالكنا. المادة الثامنة - على الروسيين أن ينتشروا يومًا فيومًا شمالاً في سواحل بحر البلطيق وجنوبًا في سواحل البحر الأسود. المادة التاسعة - ينبغي التقرب بقدر الإمكان من إستانبول والهند وإن من القضايا المسلَّمة أن من يحكم على إستانبول يمكنه أن يحكم على الدنيا بأسرها من اللازم إحداث المحاربات المتتابعة تارة مع الدولة العثمانية وتارة مع الدولة الرومانية وينبغي الاستيلاء على بحر البلطيق أيضًا؛ لأنه خير موقع لحصول المقصود والتعجيل بإضعاف بل ومَحْو دولة إيران لنتمكن من الوصول إلى خليج البصرة وربما نتمكن من إعادة تجارة الممالك الشرقية القديمة إلى بلاد الشام والوصول منها إلى بلاد الهند التي هي بمثابة مخزن للدنيا، وبهذه الوسيلة نستغني عن ذهب إنجلترا. المادة العاشرة - ينبغي الاهتمام بالحصول على الاتفاق والاتحاد مع دولة أوستريا والمحافظة على ذلك، ومن اللازم التظاهر بترويج أفكار الدولة المشار إليها من جهة ما نبتغي إجراءه من النفوذ في المستقبل في بلاد ألمانيا، وأما الباطن فينبغي لنا فيه أن نسعى في تحريك عروق حسد وعداوة سائر حكام ألمانيا لها وتحريك كل منهم لطلب الاستعانة والاستعداد من دولة روسيا، ومن اللازم إجراء نوع حماية للدول المذكورة بصورة يتسنَّى لنا فيها الحكم على تلك الدول في المستقبل. المادة الحادية عشرة - ينبغي تحريض العائلة المالكة في أوستريا على طرد الأتراك وتبعيدهم من قطعة الروملي، وحينما نستولي على إستانبول يجب علينا أن نسلط دول أوربا القديمة على دولة أوستريا لتأخذها حربًا أو نُسكن حسدها ومراقبتها لنا بإعطائها حصة صغيرة من الأماكن التي نكون قد أخذناها من قبل، وبعد ذلك نسعى بنزع هذه الحصة من يدها. المادة الثانية عشرة - ينبغي أن نستعمل جميع المسيحيين الذين هم من مذهب الروم المنكرين رياسة البابا الروحية والمنتشرين في بلاد المجر والممالك العثمانية وفي جنوبي ممالك (له) ونلجئهم إلى أن يتخذوا دولة روسيا مرجعًا ومعينًا لهم، ومن اللازم قبل كل شيء إحداث رياسة مذهبية حتى نتمكن من إيجاد نوع من الحكومة الرهبانية عليهم فنسعى بهذه الواسطة لاكتساب أصدقاء كثيرين ذوي غيرة نستعين بهم في كل ولاية من ولايات أعدائنا. المادة الثالثة عشرة - حينما يصبح الأسوجيون مشتتين والإيرانيون مغلوبين واللاهوتيين محكومين والممالك العثمانية مضبوطة لنا أيضًا تجتمع معسكراتنا في محل واحد مع المحافظة على البحر الأسود وبحر البلطيق بقواتنا البحرية، وعلى ذلك نظهر أولاً لدولة فرنسا كيفية مقاسمة حكومات الدنيا بأسرها بيننا لدولة أوستريا وبعرض ذلك على كل من الدولتين المشار إليهما كل منهما على حِدَة بصورة خفية جدًا لقبول ذلك، وإذ كان لا بد من أن إحداهما تقبل هذه الصورة فعند ذلك ينبغي مداراة واحترام كل منهما، ونجعل من كانت منهما قابلة بما عرضناه عليهما واسطة لتشكيل الأخرى. وإذ تكون دولة روسيا حينئذ قد استولت على جميع الممالك الشرقية، ويكون مثل ذلك أَعْظَم قطع أوربا حديثة الدخول في يد تصرفها فعنده يسهل عليها أن تقهر وتُنكِّل فيما بعد أية دولة بقيت في الميدان من الدولتين المذكورتين. المادة الرابعة عشرة - على فرض المُحَال أن كلا من الدولتين المشار إليهما لم تقبل بما عرضته عليهما روسيا، فينبغي حينئذ لروسيا أن تصرف الأفكار لمراقبة ما يحدث من النزاع والخلاف بينهما، فإذا وقع ذلك فلا بد أن أحد الفريقين يشتبك مع الآخر ويضعف كل منهما، وفي ذلك الوقت يجب على روسيا أن تنتظر الفرصة العظيمة وتسوق حالاً معسكراتها المجتمعة أولاً بأول على ألمانيا فتهجم على تلك الجهات، ثم تُخْرِج قسمين كبيرين من السفن أحدهما من بحر أزق المملوء بالعساكر الوافرة المجتمعة من أقوام الأناضول المتنوعة، والثاني من ليمان أرخازكل في البحر المتجمد الشمالي فتسير هذه السفن وتمر في البحر الأبيض والبحر المحيط الشمالي مع الأسطول المقيم في البحر الأسود وبحر البلطيق وتهجم كالسيل على سواحل فرنسا، وأما ألمانيا فإنها تكون إذ ذاك مشغولة بحالها، وبما ذكرناه تصبح المملكتان الواسعتان المذكورتان مغلوبتين على هذه الصورة، فالقطعة التي تبقى من أوربا تدخل بالطبع تحت الانقياد بسهولة وبدون محاربة وتصير جميع قطعة أوربا قابلة للفتح والتسخير.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام) سمعنا بأن أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا بمصر ألف كتابًا أو رسالة، وأنها توزع في جميع المحاكم الشرعية، وعلى جميع مأذوني الشرع بالثمن، فتشوَّفت نفوسنا للاطلاع عليها ظانين أنها في إصلاح هذه المحاكم التي يشكو الناس من سوء سيرها، وقد استحضرنا نسخة منها، وهي كراسة للسيد محمد بخيت المشهور في مسائل اختلف الناس فيها هل هي بدعة ينبغي تركها أم لا؟ وقد مهد المؤلف لها بكلام في السُنة والبدعة، أما المسائل المقصودة بها فهي الترقية التي اعتادها المسلمون في المساجد يوم الجمعة، وكذلك قراءة سورة الكهف في المسجد الجامع عند اجتماع الناس لصلاة الجمعة والاجتماع لقراءة قصة المعراج والمولد، وفضائل ليلة النصف من شعبان، ورفع أصوات المشيعين للجنازة بنحو ذكر وغير ذلك، وقد كان شيخ الجامع الأزهر السابق الشيخ سليم البشري سئل عن الترقية وما في معناها فأفتى بأنها بدعة تجتنب، ولكن ديوان الأوقاف صاحب السلطة على المساجد لم يعمل بهذه الفتوى؛ لأن السلطة الإدارية لا تنفذ كل ما يُفتي به رجال الدين، وإن كانت رياستهم الرسمية من قبل رئيسها، وفي الكراسة على صغرها فوائد كثيرة منها ما يُسلَّم، ومنها ما هو منتقد، ولما كان المؤلف من كبار علماء الأزهر الذي يُعتنى بكلامهم وجب علينا الاعتناء بكلامه والبحث فيه فنقول: ذكر المصنف بعد سرد الأسئلة التي كتب رسالته جوابًا عنها أن الأصل في الأحكام الشرعية الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس الصحيح وأن كل ما استند إلى أصل من هذه الأصول فهو حكم الله وشرعه، وأن كل ما لم يكن مأخوذًا من واحد منها فهو بدعة وضلالة وإحداث ما ليس من الدين فيه، قال: وليس كل ما يفعل في عهده صلى الله عليه وسلم بدعة شرعية مذمومة، بل إذا حدث فعله بعد زمنه عليه الصلاة والسلام كان بدعة لغوية وحينئذ تعتريها الأحكام الخمسة. ونقول: إن ما ذكره هو المعروف عن العلماء وذكره ابن حجر في فتاواه الحديثية، وسبقه الحافظ في الفتح، وفيه إجمال يحتاج إلى بيان، وهو أن ما حدث بعد زمن التشريع إن كان داخلاً فيما لا قياس ولا اجتهاد فيه كالأمور الاعتقادية والتعبدية فهو بدعة وضلالة قطعًا لا سميا إذا اتخذ شعارًا دينيًا، وإلا لجاز لنا أن نزيد في الدين عبادات وشعائر كثيرة يُعْرف بها المسلمون وهي مما لم يعرف عن الله ورسوله، وإنما نخترع لها أقيسة نسميها بها بدعًا مستحسنة، فيلحفظ القارئ هذا. وكما انتقدنا الإجمال في هذا الموضع ننتقد فيه التمثيل فقد مثل للبدعة الشرعية المخالفة للأدلة القطعية بالقول بفرضية المَسْح على الرِّجْلين دون غسلهما وعلله بالمخالفة (لنص الكتاب) ، وما جاء في الكتاب ليس نصًا فيما قال لا يحتمل سواه، بل إن قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ} (المائدة: 6) على قراءة الجر (وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم أي: أكثر السبعة) ، ظاهر في وجوب المسح، ولذلك أوله العلماء القائلون بعدم الاكتفاء بالمسح بأن الجر في الرِّجْلين للمجاورة، وقد ردَّه القائلون بالمسح بأنه قد عُدّ لحنًا؛ لأنه لم يرد إلا شاذًّا في الشعر الذي يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره لمكان الوزن وبأنه على شذوذه لم يرد بالعطف كما في الآية وبأنه يشترط فيه الأمن من الالتباس ولا أمن هنا. وكلام الله المعجز ببلاغته ينزه عن الشذوذ والالتباس. وتأويل قراءة النصب بالعطف على المحل أقرب من هذا التأويل، نعم: إن الغسل مسح وزيادة وإنه ثبت في السنة الصحيحة وعليه الجماهير إلا الشيعة وإنه أحوط، ولكن هذا كله لا يصحح تعليل المؤلف، بأن القول بفرضية المسح بدعة لمخالفة نص الكتاب. ثم ذكر البدعة المكروهة وعدَّ منها زخرفة المساجد بغير الذهب والفضة، وقال كما قال ابن حجر (وإلا كانت من القسم الأول) أي المحرم، ثم ذكر البدعة الواجبة فقال: (وتارة يكون بدعة واجبة كنصب الأدلة للرّد على أهل الفِرق الضالة وتعليم العلوم التي يتوقف عليه فَهْم الكتاب والسنة) ولا أدري كيف ساغ لهم عدّ نصب الأدلة للرد على الفرق الضالة من البدع والقرآن الكريم طافح بهذه الأدلة، نعم، إن المتكلمين سلكوا فيها غير مسلك القرآن بعنايتهم في الأدلة النظرية المحضة وأكثر أدلة القرآن مستندة إلى المحسوسات ولكن الإتيان بأدلة جديدة لا يقتضي أن يكون أصل نصب الأدلة بدعة، فإن البدعة في اللغة ما كان على غير مثال سبق. ثم طفق يستدل على أن البدعة تنقسم إلى الأقسام المذكورة فذكر أمورًا منتقدة أولها إخراج الصحابة اليهود والنصارى من جزيرة العرب، وثانيها قتالهم غير العرب من الكفار، والثاني منصوص في الكتاب والأول جاءت به السنة أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث عمر (إن عشت لأُخرجَنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أترك فيها إلا مسلمًا) وأخرج الترمذي والحاكم من حديثه أيضًا (لئن عشت، إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب) وأخرج أحمد وأبو يعلى في مسنده والحاكم في الكنى وغيرهم عن أبي عبيدة قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أخرجوا يهود الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شر الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، وأخرج أحمد من حديث عائشة (لا يبقى في جزيرة العرب دينان) وبقيت أحاديث بمعنى ما ذكر. وقد أحسن المؤلف في قوله: (نَعَمْ ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم مع وجود مقتضٍ لفعله كان تركه سُنّة وفعله بدعة مذمومة، ولذلك كره أصحابه عليه الصلاة والسلام استلام الركنين الشاميين، والصلاة عقب السعي بين الصفا والمروة إرضاء للنبي صلى الله عليه وسلم لذلك مع أنه كان يعلِّم المناسك للناس) نقول: وكذلك يقال في جميع العبادات والشعائر الدينية؛ لأنها مبنية على الاتباع المحض ولا مجال لاجتهاد الناس فيه؛ لأنها ليست مما يختلف باختلاف الزمان والمكان، وتقدم إيضاح هذه المسألة في غير هذا الجزء من المنار هذا ما نقوله في تمهيد هذه الرسالة، ولنا قول آخر في المسائل المقصودة منها بالذات نرجئه للجزء الآتي. *** (الإسلام في عصر العلم) صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب، وهو مؤلَّف من أربع كراسات [كل كراسة 16 صفحة صغيرة] الأولى في الفصل الأول من الباب الأول من مبحث الإنسان، وهو في معرفة الإنسان نفسه، والثانية في تمهيد للبحث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والثالثة في البحث عما وراء المادة وعظيم شأنه عند علماء أوربا المشتغلين بمسألة استحضار الأرواح، والرابعة في ملحق الكتاب الموضوع للبحث في داء الأمة ودوائها، وقد اختار المؤلف أن يصدر في كل جزء كراسة من كل باب من أبواب الكتاب لئلا يطول على القراء الكلام في المقدمات فيملُّوا. وهاهنا نذكر رأيًا رآه غير واحد، وهو أن المؤلف الذي عُني أشد العناية بتتبع أقوال الباحثين في استحضار الأرواح ويرى أنها الذريعة الوحيدة لإثبات الدين ينبغي له أن لا يكتفي بالاطلاع على أقوال المثبتين لهذه المسألة وتعريبها، بل الذي ينبغي له هو أن يشتغل بالمسألة عملاً ويثبتها بالتجربة والاختبار طريق العلم في هذا العصر، وعسى أن تنهض به الهمة إلى السفر إلى أوربا والاجتهاد بتحقيق هذه الأمنية، وههنا نعيد الترغيب في الإقبال على كتابه مساعدة له على هذه الخدمة. *** (مذهب تولستوي) كتاب باللغة الروسية عرَّبه سليم أفندي قبعين وهو (يحتوي على مختصر ترجمة الفيلسوف تولستوي وآدابه وفلسفته وآرائه الدينية، وحرم المجمع المقدس له واعتراضه واحتجاج زوجته على مضمون الحرم، ثم ردود رجال الدين الروسي على آرائه الدينية (مزيّنا برسمه) وقد طبع الكتاب على نفقة إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية بمصر وأهدانا نسخة منه، ولما نتمكن من مطالعته، ويعلم القراء أن للفيلسوف تولستوي يدًا في الحركة العلمية في بلاد روسيا، ولذلك كان هذا الكتاب جديرًا بأن يُقرأ، وهو يطلب من المكتبة الشرقية. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (فكاهة بدوية في أخبار البلاد العربية) تفكه القراء بنص كتاب أرسله بدوي نجدي إلى مثله من النجديين الذين يختلفون إلى هذه الديار للتجارة ونصه: (ورد علينا جواب من بمباي ويذكر فيه بأن ابن سعود كان على ابن سبهان وابن جراد على النبقي، ومعهم سبعة أسلاف من شَمَّرَ وحروب وقحاطين وصليلات، وقطعهم قطعًا ومعهم جميع ذخرة ابن رشيد وجيشه، والذي سلم منهم زَبَنَ بريدة وابن رشيد نازل على الحفر، ويوم جاءه الخبر شدّ وشمّل. ويذكر صالح الحسن وأهل القصيم معهم قيمة 200 ذلول نازل البطان وجابر ابن صباح وقومهم على الصبيحة، هذا الذي ورد علينا والكون في 28 شوال) . *** (تفسير الغريب) ابن سبهان وابن جراد قائدان من قواد ابن رشيد، والنبقي واد في أرض القصيم، والأسلاف الطلائع الذين يتقدمون الجيش، وله أصل في الفصيح، قال في الأساس: وسَلَف القوم تقدموا سُلوفًا، وهم سَلَف لمن وراءهم وهم سُلاف العسكر: وحروب يريد به طوائف من بين حرب، وعلى هذا النحو جمع قحطان وصليلة. والذُّخرة مؤنث الذُّخر بمعنى الذخيرة. وقوله: (زَبَنَ بريدة) أي لجأ إليها وهي قرية من قرى القصيم الكبيرة، والزبن في اللغة الدفع ومنه سُمي الشرطة وأعوان النار زبانية؛ لأنهم يدفعون الناس ويدعُّونهم، وجاء في كلامهم (تحته جمل يزبن المطيّ بمنكبيه) أي يسبقها. كأن البدوي هنا يريد أنهم لجؤوا إلى بريدة مدفعوعين بقوة أعدائهم. والحفر بين البصرة وبلاد نجد كما يقولون. وشمّل سار إلى جهة الشمال. وفي الفصيح: شمل به: أخذ ذات الشمال، والبطان - وقال لنا من أرسل إليه الكتاب: الصواب البطانيات - مياه ينزلون عليها في جهة الدهناء، والذَّلول الناقة المذللة عربية فصيحة. والصبيحة بالقرب من الكويت، وهي منسوبة إلى ابن صُباح، وجابر هذا هو ابن مبارك الصُّباح شيخ الكويت. (والكون) يريد به الغزو الذي ذكره. *** (مشيخة الجامع الأزهر ونقابة الأشراف) قضت إدارة الأمير بعزل الشيخ سليم البشري من مشيخة الأزهر، وقد استشار نظاره هذه المرة فيمن يولي بدلاً منه، فكان لهم في كل واحد من كبار الشيوخ المرشحين من سموه لهذا المنصب علة تحول دون توليته إياه حتى إذا رشح السيد الشيخ علي الببلاوي نقيب الأشراف اتفقوا عليه فأصدر العزيز أمره بتوليته فنهنئه بهذه الثقة، ونسأل الله تعالى أن يجعل أيامه أيام إصلاح يتقدم فيها الأزهر تقدمًا مبينًا، وإن لنا مع هذا الدعاء رجاء فإننا نعهد بالسيد الرفق وهو عنوان الخير، والله يحب الرفق في الأمر كله كما في حديث عائشة عند أحمد والشيخين والنسائي وابن ماجه. وقال صلى الله عليه وآله وسلم (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شَانَهُ) رواه عبد بن حميد والضياء عن أنس، وأما الخُرْق (ضد الرفق) فإن صاحبه يشغله الغرور عن الإحساس بالحاجة إلى الإصلاح. وإن لنا لَعودة إلى الكلام في الأزهر إن شاء الله تعالى. ثم قضت إرادة الأمير بأن يعيد منصب نقابة الأشراف إلى نصابه الأول، وهو بيت البكري الشهير فأمر بإعادة النقابة إلى صاحب السماحة السيد محمد توفيق أفندي البكري شيخ مشايخ الطرق، وكانت تحولت عنه من بضع سنين، وعهد إلى ديوان الأوقاف العمومية بالنظر في أوقاف الأشراف وإدارتها وكان النقيب هو الذي يديرها. *** (مدرسة ماهر) كنا استبشرنا عندما علمنا بأن المرحوم عثمان باشا ماهر أوقف أرضًا واسعة على إنشاء مدرسة إسلامية، ونوهنا بذلك تنويهًا حسنًا، ولكن قد خاب أملنا في هذه المدرسة منذ علمنا أنه عُيِّنَ في الوقفية لكل معلم يعلِّم فيها راتب لا يزيد على أربع مائة قرش في الشهر، وما كان لأحد يحسن التعليم أن يرضى بهذا الراتب في مصر وإنما فائدة المدرسة بالمعلمين، ولقد كان الذي أشار بهذا التعيين هو الذي أحبط عمل الواقف بما جعله صورة بغير معنى، وإن هذا لَمِنَ البراهين المثبتة لرَأْينا بأن نجاح الأمة لا يُعْوزه المال وإنما يُعْوزه الرجال، فالمال كثير والرجال قليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. *** (إصلاح حروف المطابع العربية) للحروف العربية شكل في الإفراد وشكل في تركيب الكلمات، بل أشكالٌ فائدتها الاختصار فإن الكلام إذا كتب بالحروف المفردة يشغل من مساحة الورق أكثر مما يشغله إذا كتب بهذا التركيب المعروف، وبهذا يَفْضُل خطنا خطوط اللغات الإفرنجية ولكن له سيئة في الطباعة وهي كثرة أشكال الحروف التي تتألف منها الكلم وقد زاد هذه السيئة سوءاً واضعو أشكال حروف الطبع، فإنهم جعلوا أشكالها بضع مئين؛ لأنهم جعلوا للحرف الواحد أشكالاً مفردة وأشكالاً مركبة مثنى وثُلاث ورُباع فبلغت أشكال الحروف في مطبعة بولاق الأميرية تسعمائة شكل وهي في غيرها من مطابع أوربا والأستانة والشام أقل من ذلك ويزعمون أن كثرة الأشكال لحفظ جمال الخط العربي، ولكننا نرى أن أكثر هذه المطابع أشكالاً أقلُّها جمالاً. وقد ارتقت الطباعة العربية في الأستانة والشام وقلت أشكال الحروف الإستامبولية ووجدت هذه الحروف في مصر فحسنت بها الطباعة وصار طبع المطبعة الأميرية - وهي أشهر المطابع العربية في الدنيا - أقبح الطبع، وإن كانت لا تزال ممتازة بالتصحيح لذلك توجهت عناية نِظَارة المالية إلى إصلاح هذه المطبعة فألفت لجنة للبحث في طرق الإصلاح رئيسها إبراهيم باشا نجيب وكيل الداخلية وأعضاؤها الشيخ حمزة فتح الله مفتش في نظارة المعارف وشيلو بك ناظر المطبعة الأهلية والجرائد الرسمية وأمين سامي بك ناظر مدرسة الناصرية وأحمد زكي بك الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظَّار، وكان عمل هذا النظر في اختصار صندوق الطباعة وتسهيل جمع الحروف فاختبر حال المطابع العربية في الآستانة وأوربا فوجد أن أقل المطابع حروفًا مطبعة أكسفورد في إنكلترا، فأشكال حروفها 282 شكلا، وبعد البحث والتدقيق اهتدى إلى جعل هذه الحروف 112 يضاف إليها بعض الحروف الأعجمية المستعملة في اللغات الشرقية التركية والفارسية والهندية والجاوية والماليزية، وبعض المركبات والأرقام والعلامات التي لا بد منها فتكون 178 وَفاتَهُ أن يضيف علامات العلوم الرياضية أيضًا. وذكر أن فوائد هذه الطريقة تقليل أدوات الطباعة والاقتصاد في المال والوقت والعمال، والتناسق الهندسي في السطور، وقد كتب مذكرة في رأيه فقبلتها اللجنة وسمحت نظارة المالية بثمانية آلاف جنيه ونيف لتنفيذ الإصلاح. وأهل الصناعة يتنازعون في بعض الفوائد ولكنهم لا ينكرونها من أصلها وقد أضافوا إلى زعمهم أن هذا الاختصار يذهب ببعض جمال الخط الذي يحفظ الطبع صورته بسبب حذف بعض الأشكال واستبدال المفضول بالأفضل ولو اتَّخذت المطبعة الأميرية صندوقًا أو أكثر من الأشكال التي قضي بحذفها وخصتها بكتابة العناوين ورقاع الزيارة والدعوة ونحو ذلك لأحسنت عملاً. الاقتصاد في الوقت يظهر بادئ الرأي ولعله لا يتم تجربة لأن العامل يمد يده إلى الصندوق الذي كل حروفه مفردة بعدد حروف الكلمة وإلى ما فيه حروف مركبة أقل من ذلك. ومن الجلي أنه لا اقتصاد في ثمن الحروف لأن قلة الأشكال لا يقتضي قلة عدد الحروف. ولكن قلة الحروف مسهلة لتعليم جمع الحروف وسرعة التمرن بل هي مسهلة لتعليم القراءة والكتابة أيضًا. *** (تنبيه للمشتركين) يرى القراء من الخاتمة الآتية أننا سنزيد المنار إتقانًا، ولكننا لم نزد ثمنه إلا قليلا بالنسبة إلى خارج البلاد المصرية، فكل مَنْ قَبِلَ العدد الأول من السنة السادسة في القطر المصري فهو يعد مشتركًا إلى نهاية السنة ويلزم بدفع خمسين قرشًا صحيحًا، وقيمة الاشتراك في خارج القطر 18 فرنكا وفي الهند 10 روبيات وفي روسيا 7 ريالات (روبل) .

خاتمة السنة الخامسة للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الخامسة للمنار قد تمت بهذا الجزء سَنَة المنار الخامسة وكان انتشاره فيها فوق ما كنا نرجو ونتوقع فقد زاد عدد المشتركين عما كنا نقدر بالقياس على السنين السابقة زيادة صالحة تجاوزت عدد جميع المشتركين في النسة الأولى والثانية. ثم إن نموّه المعنوي قد زاد أيضًا وتضاءل حزب الشيطان المعارض تضاؤلاً أو انحل انحلالاً وتنبه المسلمون إلى أن لهم مجلة دينية تخدم ملتهم بحق كما أن لسائر الأمم مجلات وجرائد دينية تخدم مللهم ونحلهم المتفرقة، نعم صار المنار موضع ثقة العلماء والفضلاء والعامة في بلاد العرب والعجم، وقد سبق القول بأنه صار يخطب به على المنابر، ويحتج به في المحاكم ويعتمد عليه في رد شبهات المعترضين على الدين، وإقامة حججه للمسترشدين. أشرنا فيما سبق إلى شهادات بعض أعلام المسلمين العارفين بالمصالح العامة كوزير مصر الأكبر رياض باشا وكمحسن عبد الملك بهادر وسيد مهدي علي خان ناظم مدرسة العلوم في عليكيده (الهند) وبعض المجتهدين والعلماء في إيران، ونقول الآن: إن المنار ظفر برضاء كبار شيوخ الطريقة أصحاب النفوذ ونذكر كلمة لأشهرهم في بلاد مصر والسودان وهو الشيخ علي الميرغني زعيم الطائفة الميرغنية الكبيرة فقد كتب إلينا في 29 ذي القعدة الماضي كتابًا يقول فيه: (ويسرنا أن نبلغكم مزيد سرورنا وارتياحنا لهذه المجلة القائمة بالخدمات الصادقة الجليلة للإسلام والمسلمين ونسأل الباري أن يكلل عملكم المفيد بالنجاح والفلاح. ولا شك عندنا في أن هذا أثر الإخلاص وحسن النية في العمل فهذه هي بضاعتنا التي لا ربح لنا في سواها والتي نرجو أن تكون مكفِّرة لجميع سيئات ضعفنا في العلم والتحرير وما يلزم عنهما من الخطأ والتقصير فإننا نتبرأ من حَوْلِنا وقوتنا إلى حول الله وقوته وهو نعم المولى ونعم النصير. كما نذكر تقريظ الفضلاء عملنا تحدثًا بنعم الله وشكرًا له ولعباده الأخيارالذين ينوهون بالمنار ويرغِّبون الأمة فيه نذكر انتقاد أهل الفضل مع الثناء والشكر أيضًا لأن حاجتنا إلى الأمرين واحدة إذ الفائدة واحدة وهي زيادة البصيرة في العمل، فإذا كان رياض باشا يثني على المنار في غيبتنا على مسمع الملأ ويقول في محفله الحافل: ينبغي لكل ذي إحساس ديني أن يقرأ المنار ويساعده فهو يذكر لنا إذا خَلَوْنَا به كل ما يراه منتقدًا وقد انتقد مما نشر في هذه السنة أمرين أحدهما الكلام في محمد علي باشا الكبير والثاني لاحقة سجلّ جمعية أم القرى التي فيها ما فيها من مساوئ الدولة العلية (أيدها الله) وقال: إن ذلك ليس من موضوع المنار ولا ينبغي له. وإذا كان الشيخ محمد محمود الشنقيطي ينوه بالمنار كثيرًا وسبق له تقريظه بقصيدة فهو يذكر لنا ما يراه أحيانًا منتقدًا وقد كنا ذكرنا انتقاده كلمة (الاستلفات) وتعدية التعزية بالباء داخلة على المعزَّى عنه، ونذكر الآن أنه انتقد ما ورد في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} (البقرة: 34) من حكاية قول للعلماء في أن الملائكة الموكلين بالعوالم الحية هم مِنْ قبيل القوى أو أرواح يكون بها نظام حياة تلك الأحياء ومن ذلك خواطر الخير في الإنسان، كما أن خواطر الشر من أرواح خبيثة تسمَّى الشياطين، نقلنا هذا القول من تفسير الأستاذ الإمام، وذكرنا في الهامش كلمة في المسألة للإمام الغزالي في كتاب شرح عجائب القادر، وقد سمى الأستاذ الإمام هذا الرأي في هذا النوع من الملائكة تأويلاً، بل ذكر ما يقتضي أنه من باب الإشارة إذ قال: (فيه إيماء إلى الخاصَّة) إلخ، ولم يجعله العمدة في تفسير الملائكة، وقد اشتبه هذا القول على كثيرين وتعلَّقوا به وغفلوا عن تصريح الأستاذ الإمام، بأن الواجب اعتقاده أن الملائكة خلق غيبي مستقل وأنهم فرق كما دلّ عليه قوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} (الصافات: 165-166) وأول سورة الصافات والمرسلات والنازعات، ونرى أن سبب انتقاد الشنقيطي نقل ذلك القول - وإن كان من الإشارة إلى الخواصّ (وهو منهم) - هو أنه مثار لأوهام العوام وهو مصيب في ذلك. وانتقد مما نشر في هذه السنة أيضًا تشبيه النساء المهذبات بالملائكة الذي ورد في نصيحة للنساء (ج15 - 5) وقد سرى هذا التشبيه إلينا من كتاب العصر الذي يكثرون منه، وهو تشبيه قديم كما يدل قوله تعالى: {مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: 31) وإنما ينكره الأستاذ في الكوافر. وانتقد منه أيضًا افتتاح مقالة في الرد على كاتب نصراني بقوله تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} (المائدة: 13) إلخ، والآية نزلت في اليهود باتفاق، وإنما قُصِدَ بها الاقتباس لا التفسير. وقد فاتنا أن نذكر من قبل انتقاده ما جاء في بعض مقالات المحاورة بين المصلح والمقلد التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع من ترجيح أحد المتناظرين حِلّ المتعة وقد رغب إلينا الأستاذ بأن ننشر احتجاج القاضي يحيى بن أَكْثَم على المأمون عندما أباحها ورجوع المأمون عن ذلك وسنفعل إن شاء الله تعالى، وعسى أن يتحفنا الأستاذ دائمًا بما يراه منتقدًا في المنار ونعده بأننا نتقبل ذلك بقبول حسن ونشكره أفضل الشكر. وههنا ننبه جميع العلماء إلى القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كاد يضيع الدين بإهمالها ولا ترجى حياته إلا بالقيام بها، وندعو من يطلع على المنار منهم إلى تنبيهنا على ما يرونه خطأ بالقول أو الكتابة، ومَنْ أحب منهم أن ينشر انتقاده معزوًّا إليه؛ فإننا ننشره له مقرونًا برأينا فيه مع الأدب والشكر وليس من شأن أهل الدين أن ينكر الإنسان عمل أخيه في غيبته، ويكتمه عنه، وإننا نسمع عن بعض الذين يطروننا ويطرون المنار أمامنا كلامًا لا يُرضي، هذه شَنْشَنْة المنافقين وشرّ الناس يوم القيامة عند الله ذو اللسانين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه كما في حديث أحمد والشيخين. من الناس مَنْ يعتذر عن نفسه في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأن الناس لا يقبلون أو بأنهم يؤذون من يأمرهم وينهاهم بالقول أوالفعل، وها نحن أُولاء نقول على رؤوس الأشهاد: (إن أمنّ الناس علينا وأحقَّهم بالشكر منا من يدلنا على ما يراه خطأ في المنار فمن يدعي أن في المنار خطأ في المسائل الدينية أو غيرها، ولم يذكره لنا قولاً أو كتابة فهو فاسق بتركه فريضة النهي عن المنكر من غير عذر وعلى الناس أن يستدلُّوا من قوله على أنه فاسق أو منافق ومن كان كذلك لا يقبل له قول في العلم والدين) . روى ابن عدي والحاكم عن أنس وغيرهما عن غيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن هذا العمل دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) . لا نلحّ هذا الإلحاح في حمل الناس على انتقاد المنار إعجابًا به وتوهمًا أنه يعلو عن الانتقاد، ولكن حرصًا على بيان الحق الذي نطلبه واستعانة عليه بأنصاره، والراغبين في إعلاء مناره، ونقول هنا ما قاله الأستاذ الإمام: (إنه ما من أحد بأصغر من أن يُعِين ولا أكبر من أن يُعان) . ونَعِد القراء بأن سنزيد المنار إتقانًا في السنة السادسة فنجعل ورقه أجود من هذا الورق ونتحرى المباحث التي نراها أكبر فائدة وأكثر نفعًا. وفي النية العَوْد إلى التوسع في باب العقائد وباب (آثار السلف عبرة للخلف) وفي مباحث آداب اللغة مع الاستمرار على نشر التفسير المقتبس من مفتي الديار المصرية والعود إلى باب (البدع والخرافات والتقاليد والعادات) وربما نجعل البحث في شئون النساء، وما يتعلق بهن من أمر الزواج والبيوت بابًا يطرق في أكثر الأجزاء. وإن أجلَّ تحفة نتحفهم بها في السنة الجديدة تلك المقالة أو المقالات التي وعد بها ذلك الإمام الحكيم صاحب مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) التي يبين فيها كيف تكون البدع التي رجعت بالمسلمين القهقرى هي السبب في حياتهم الملية المستقبلة. ونختتم المجلد الخامس بحمد الله، والصلاة والسلام على خاتم رسل الله، وآله وصحبه ومَنْ والاه.

فاتحة السنة السادسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة السادسة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام الهداة والمصلحين، وعلى آله وصحبه الراشدين المهديين، وعلى من تبعهم بهديهم إلى يوم الدين. وبعد: فقد بلغ المنار - بفضل الله وتوفيقه - السنة السادسة وهذا أول جزء منها، ولله مزيد الشكر والثناء أن أعطانا فوق ما تعلق به الأمل والرجاء، وزادنا على ما كنا نتوقع من زيادة القراء والمشتركين، عددًا صالحًا يدخل في عقود المِئِين، من غير دعاة مندوبين، ولا وكلاء مُسْتَخْدَمين؛ إلا ترغيب أهل الغيرة الملية، وتنبيه ذوي الأريحية الإسلامية، صادفًا من قلوب إخواننا المسلمين شعورًا ينمو، ووجدانًا يسمو، وعلمًا بالحاجة الشديدة إلى توثيق الرابطة الدينية، وإحكام عقدة العقائد الإسلامية، والجمع بين مجاورة الأمم المعاصرة، وحفظ ما فيه حياة الدار الآخرة، من العقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والأعمال النافعة، وهذا ما أنشئ المنار للدعوة إليه، وهو عين ما يدعو إليه الإسلام، ما زدنا فيه ولا نقصنا منه، وإنما نتوخى بيانه، ونقيم برهانه، بما يناسب حال الزمان، وما انتهى إليه رُقِيُّ الإنسان. لقد أتى على المسلمين حِينٌ من الدهر وهم في مرض اجتماعي يشبه داء السكتة، تعيث في جامعتهم جراثيم المرض وهم لا يشعرون، وتهددهم بالفناء والزوال ولا يعلمون، حتى إذا فار التنور، وجاء القدر المقدور، تخرق حجاب الغرور، وطفق يدب دبيب الشعور؛ ولكنه شعور يظهر أنه زاد الأمة مرضًا، حتى كادت تكون حَرَضًا، شعور هبط ببعض ذويه في مهاوي الإياس، وطوح ببعضهم إلى موامي الوسواس؛ فكان انتقالاً من طور الخدر والسبات، إلى طور الحيرة والشتات، ولَحيرةٌ في الفكر وشتات في الأمر خير من خدر الحواس، وفقد الإحساس؛ لأن هذا من أمارات العدم والزوال، وذاك من علامات الحياة على كل حال. ذهب أقوام في هذه الحيرة إلى أن وقاية المسلمين من الخطر إنما تكون بالاعتماد على الأمراء والسلاطين، والاستماتة في الخضوع لهم وتقديس سلطتهم؛ ولأن الخطر إنما ينذرنا من الجانب الغربي جانب القوة القاهرة، والمدنية الساحرة وملوكنا - وإن جاروا - هم القابضون على بقايا ما عندنا من القوة التي نكافح بها تلك القوى، فلا بد من تعزيزهم وتعزيرهم، وإجلالهم وتوقيرهم؛ بل لا بد لنا من تنزيههم وتقديسهم بكرة وأصيلاً! وذهب آخرون إلى أن الملوك والأمراء قد استبدوا بسياسة الأمة بدون مشاورتها قرونًا طويلة فما كان منهم إلا أن أوقعوها في هذا الضعف والهوان، والفقر والخذلان، والجهل بأمر الدنيا والدين؛ لأجل الخضوع الأعمى لهم وإن كانوا ظالمين، وإذا كانوا هم مصدر الشرور والفتن , ومثار البلايا والمحن، فأول واجب على الأمة مقاومة استبدادهم، ومقاومة استعبادهم، وإلزامهم بالمشاورة في الأمر، وتقييد السلطة في الحكم، وإعلامهم بأنهم أجراء الرعية، كما قال أبو العلاء حكيم الشعراء: ظلموا الرعية واستجازوا كيدها ... فعدَوْا مصالحها وهم أُجراؤها وبذلك يصلح الحال، وتتحقق الآمال، ونثق من حسن الاستقبال، وأما دوام الاستماتة في الخضوع للمستبدين فإنه يردينا في أسفل سافلين، فهم الذين يُجْهِزُونَ على ما أبقى أسلافهم من قوى الأمة الحسية والمعنوية، وهم الذين يسلمون بقية بلادها للدول الأجنبية، إلا أن الفريق الأول أكثر عددًا، وأغزر مددًا، والفريق الثاني أكثر علمًا، وأبعد فهمًا، ولكل منهما صحف منشَّرة، وجرائد محررة؛ ولكن جرائد حزب القوة أعز أنصارًا، وأكثر دينارًا والنجاح من حجج القوة على الضعف وما كل ناجح محق، وما كل خائب مظلوم. وقد فات حزب المحافظين أنهم يطلبون بناءَ ما كان على ما كان. فإذا طلب أحدهم إصلاحًا فإنما يطلبه في فرع من الفروع، ولا إصلاح إلا بصلاح الأصول. (متى يستقيم الظل والعود أعوج؟ !) . وفات حزب المعارضين أنهم لا يدرون من يطالبون، ولو دروا لعلموا أنهم يلغون ويعبثون، فإنه لا يقوِّم الحكام إلا الأمة المتعلمة المهذبة، فالسعي في تكوين أمة عالمة مهذبة هو الواجب الأول على الذين شعروا بمُصَاب المسلمين وأبصروا من وراء الحجاب ما كمن لهم من الغوائل والرزايا. ولا طريق لهذا التكوين إلا التربية الملية الصحيحة والتعليم العام، ولا يكمل هذا إلا في المدارس الكلية كما سبق لنا القول. هذا رأي لا يختلف فيه أهل البصيرة من عقلاء المسلمين؛ ولكن هؤلاء لم يبلغوا أن تكون لهم صحف تنشر، وجرائد تدعو - على أن كل الصحف عون لهم - حتى إذا ما أنشئ المنار كان هو صحيفتهم؛ لأنه لم ينشأ لمقاومة سلطة ولا حكومة ولا لمدح سلطان أو أمير ولا لذمهما وإنما أنشئ لمساعدة العقلاء على السعي في (تكوين الأمة) من طريق التربية الملية والتعليم النافع؛ ولذلك قلنا في مقدمة العدد الأول: إن الغرض الأول من المنار الحث على التربية والتعليم، لا الحط على الأمراء والسلاطين.. إلخ. وقلنا في أواخر مقالة نشرت في العدد 16 من السنة الأولى عنوانها (إلى تربية وتعليم نحن أحوج) - بعد كلام في تعلم الفنون العصرية بصبغة أوربية - ما نصه: (فيجب على العلماء والكُتاب الشرقيين أن يوجهوا عنايتهم الكبرى إلى هذا الأمر - تكوين الأمة -، ويجتهدوا فيه قولاً وعملاً، ويجب على مؤسسي المكاتب والمدارس الوطنية ومعلميها وأساتذتها أن يجعلوه نصب أعينهم وأهم ما تدور عليه تعاليمهم بحيث يغرسون في قلب كل تلميذ أن حياته كلها لأمته وبلاده وأن علمه وعمله لا شرف له فيهما إلا إذا صرفهما لمنفعة الأمة والبلاد..) إلخ. في طريق هذه التربية وهذا التعليم عقبة في طريق المسلمين يتعسر اقتحامها وهي سوء فهم الدين وتقليد الجاهلين بعضهم بعضًا فيه، لهذا كان الذي جمع بين مصالح الدارين. وليس المراد من جعْل المنار دينيًا إلا بيان ما هو الدين على وجهه الحق والتفرقة بينه وبين ما ليس من الدين في شيء وكيفية الجمع بين مصالح الروح والجسد، وكل هذا مما يتقبله جميع المسلمين بالإجمال، وفي التفصيل مزلة الأقدام، ومضلة الأقوام. ومن مقدمات الإصلاح إحياء اللغة؛ إذ لا أمة بدون لغة حية ومنها إزالة حجب الغرور عن حقائق الأمور، ومن هذا القبيل ما ينشر أحيانًا من النبذ الأدبية والتاريخية ومن جوائب الأخبار، التي تتضمن العظة والاعتبار. هذا هو موضوع المنار نشير إليه على رأس كل سنة، لا ينازع حزبًا من الأحزاب في مشربه ولذلك سالمه أصحاب الجرائد السياسية، من وقف نفسه منهم على مدح الأمراء والسلاطين ومن وقفها على ذمهم، ومن رضي بنفوذ الحكومات الأجنبية في البلاد التي يسكنها ومن سخط عليها. وسالمه أيضًا أصحاب المجلات العلمية والدينية وسالمهم، إلا مَن استهواه الغرور فطعن في أصول الإسلام الاعتقادية أو الأدبية أو العلمية فردَّ المنار طعنه، وأخرج ضغنه. وجملة القول: إن المنار قد جاء بمشرب جديد استعذبه الأقلون، ومجّه الأكثرون، استعذبه من ذاقه فعرفه، ومجّه من جهله فما أنصفه، أولئك أسرى التقليد، ينفرون من كل جديد إلا أن يكون بدعة دينية، ويفرون من كل داعٍ إلا أن يدعو إلى لذة بهيمية يألمون مما هم فيه، ويتنكبون طريق تلافيه، يطلبون النجاة من الشقاء ويصرون على أسباب البلاء؛ يهرب مدعي العلم فيهم من المناظرة، وينبري المعترف بالجهل منهم إلى المماراة والمهاترة، يتبرأ زعيمهم من الدليل المعقول والمنقول ويحاول أن يقلّد في كل ما يقول، حجتهم استبداد الأمراء، واعتقاد الدهماء، وقد سحل مرير هذا الاعتقاد وانتكث فتل ذلك الاستبداد؛ وتقلص ظل ذلك الزمان؛ الذي كان يحتكر فيه الدين والإيمان، وخلّى بين العقول والاستقلال، وبين الإرادة والأفعال، فساء صباح المقلدين، وأذن مؤذن بينهم {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) ، فخذل الجاهلون {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) . هذا ما كان في كثير من بلاد المسلمين، وهذا ما سيكون في باقيها بعد حين، ولحرّيةٌ تبيح بعض المنكر ولا تمنع شيئًا من المعروف أهون من عبودية تنهى عن المعروف وتأمر بالمنكر، فالعبوية تطفئ نور الفطرة البشرية، والحرية تظهر مبلغ استعداد القوى الإنسانية. فيا حسرة على سلطة تهدم بمعاول الاستبداد والاستعباد، ويا ضيعة لحرية يفسدها سوء الاختيار وضعف الاستعداد، ويا طوبى لمن اغتنم فرص الزمان؛ فعمل في نفسه لنفسه، وعمل في أمته لأمته، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) .

الكرامات والخوارق ـ 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق المقالة الثامنة في (منفعة الاعتقاد بها ومضرته) يذهب كثير من الناس إلى أن جميع الأديان وثنية وسماوية قائمة على قواعد الخوارق فإذا تزلزلت هذه القواعد في دين انقضّ الجدار وخر السقف وذهب بناء الدين حتى لا يبقى له أثر. قول يقوله الملاحدة، ويوافقهم عليه رجال كل دين على حدة، فهو حجة الدين عند أهله، وهو الحجة عليه عند أعدائه، وتلك عضلة العقد، ومحك المنتقد، يقول كل ذي دين: إن الخوارق التي نعتقد بها قد ثبتت عندنا بالمشاهَدة بالنسبة إلى قوم، وبالنقل عن الثقات بالنسبة إلى آخرين وقد بلغ عدد الناقلين في بعضها مبلغ التواتر الحقيقي وفي بعضها الآخر مبلغ التواتر المعنوي أو الاستفاضة أو الشهرة بين الآحاد الثقات على الأقل. وأما ما يدعيه أهل الملل الأخرى فهو كذب وافتراء، أو شعوذة وسيمياء، ويقول الملحد - لا سيّما إذا دُعي إلى الدين -: إنه ليس من العدل، ولا من مقتضى العقل أن ينظر طالب الحقيقة في قول أحد المدعين، ويغفل أقوال الآخرين؛ بل الصواب أن ينظر في جملتها ليتسنى له الترجيح، وقد فعلنا ذلك فألفينا أن الآية الكبرى في كل دين هي دعوى الخوارق لزعماء الدين. وإننا لنعلم أن كل دين من هذه الأديان يحرم الكذب، ونعلم أن من أهل كل منها الأخيار والأشرار فلا وجه لترجيح أحدها على الآخر فلم يبق إلا تصديق الجميع أو تكذيب الجميع! والتصديق يستلزم التكذيب؛ إذ لو قلت: كل واحد من هؤلاء صادق لدخل في تصديق كل واحد تكذيب الآخرين؛ لأنه يدعيه وهو صادق فتكون النتيجة أن كل واحد صادق كاذب في حال واحد وهو محال فتعين إذن تكذيب الجميع. ثم إن هؤلاء المنكرين يقولون أيضًا: إن من ينشأ في دين يجوِّز وقوع الخوارق آنًا بعد آن من كبار المتمسكين يكون عقله دائمًا متقلقلاً أسير الأوهام والخرافات؛ بل يكون ألعوبة في أيدي الدجالين والمشعوذين، الذين يلبَسون ثياب الصالحين، أو الذين يتخذون الدين حرفة يعيشون بها في سوق الغرور والغفلة. ولذلك نرى هذه الخوارق التي يدعونها تكثر ويكثر مدعوها في البلاد التي خيَّمت فيها الجهالة، وعُرِفَ أهلُها بالغباوة والبلادة، وإننا نعرف كثيرًا من البلاد الأوربية كان أهلها يدعون كثيرًا من هذه العجائب ويزعمون أنهم يروون ما يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ويحسون في أنفسهم، ومن ذلك زعمهم أن القديسين والشهداء يخرجون من قبورهم في صورة نورانية فيطوفون في الأرض ويأتون بعض الأعمال، ثم لما تقشعت عنها سُحُب الجهل، وأشرقت عليها شمس العلم بطلت هذه الدعاوى، وانتقضت هاته القضايا، وطاحت تلك الإشارات، وذهبت هاتيك العبارات، ومحيت آيات الليل بآية النهار، وصار النور بدلاً من الظلام شرطًا في الإبصار. ويقولون أيضًا: إن العلم قد كشف الستار عن أكثر هذه الخوارق للعادات، وعرف علة ما أدركه من هذه العجائب والكرامات، وقد حاكى العلماء بعض ما رأوه من مدهشات سحرة إفريقيَّة وكهنة الهنود وعرفوا علة بعض وإن لم يحاكوه فمنهم من توصل إلى الجلوس في الهواء بحيلة صناعية ومنهم من أظهر للملأ أنه أطاح رأس إنسان عن بدنه، ثم أعاده إليه. فتبين من استقراء هذه الأمور والبحث فيها أن منها ما له أسباب علمية صحيحة كان يعرفها بعض الناس فيكتمها عن الآخرين لما يكون له بها من السلطان عليهم. ومنها ما هو حيل وشعوذة يخيل المتمرنون عليها إلى الناس أنهم يوجدون أشياء وما هم بموجديها ولكنهم قوم يخدعون. وقد رأى هؤلاء الناس ما كتب كثير من القسيسين في إنكار نبوة نبينا - عليه الصلاة والسلام - واحتجاجهم بأنه لم يكن يحتج على نبوته إلا بما جاء به من العلم والهدى في الكتاب وهو أمي لم يقرأ ولم يكتب وزعمهم أن هذا لا يكفي في إثبات النبوة، وأنه لا بد من إظهار الخوارق الكونية، فضحكوا من احتجاجهم وزعمهم وقالوا: إن صح ما ذكرتموه فهو أقوى البراهين على صدقه وبراءته من الغش والتمويه الذي كان يتيسر له لو أراده لعلو فكره وقوة ذهنه. وقال بعض فلاسفة فرنسا منهم: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن محتاجًا إلى عمل العجائب لمثل ما كان يحتاجها الأنبياء من جذب النفوس إلى الإيمان به فإنه كان يقرأ القرآن باسم الله في حال وَجْد ووَلَه روحاني ينتقل تأثيره من نفسه إلى نفوس من يسمعه فيكون ذلك جاذبًا لهم إلى الإيمان بجاذبَيْ الإذعان والوجدان إيمانًا يملك على النفس أمرها حتى لا يمكنها الانسلال منه، وإن قاست في سبيله من الأهوال ما يشيب النواصي، ويدك الصَّيَاصِي، فأين هذا الإيمان من إيمان قوم رأوا أعجوبة لا يدركون سرها فخضعوا لصاحبها وسلموا بما يقول، وإن لم تدرك فائدته العقول، حتى إذا ما غاب عنهم برهة من الزمان عبدوا ما يصوغون من الأوثان، فإذا كانت فائدة المعجزات جذب النفوس إلى الإيمان فلا شك أن هذه الفائدة أظهر في القرآن منها في سائر المعجزات؛ لذلك كان إيمان المسلمين أشد من إيمان جميع أتباع الأنبياء الآخرين. وقال أحد القسيسين العلماء: إننا نفضل الإنجيل بما فيه من كثرة الخوارق والعجائب المنسوبة إلى صاحبه على أن القرآن لم يسند إلى من جاء به عجيبة واحدة وإنما ذكرت فيه العجائب حكاية عن السابقين ويقول في جواب الذين طالبوا محمدًا بالآيات: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) ، (قال) : ولكننا صرنا إلى عصر تعد فيه الخوارق من العقبات في طريق الإيمان، ويفضل فيها القرآن على الإنجيل بذلك! هذا مجمل اعتقاد خواص الناس في الأقطار الغربية في الخوارق والعجائب وهو اعتقاد أكثر الذين يتعلمون على طريقهم في البلاد المشرقية، وهذا الصنف المتعلم هو صاحب السلطة على غير المتعلم وإنَّا لنراه لا يوجد في بلاد إلا وينمو نموًّا مستمرًّا بطيئًا كان أو سريعًا ونرى أهله يتسللون من الدين لِوَاذًا ويمرقون منه زُرافات وأفذاذًا؛ ولهذا رسخ في أكثر الأذهان أن العلم والدين ضدان، وصار المستمسكون بالدين ينفرون من العلم؛ ولكن أهله يسودون عليهم تارة بالحرب وتارة بالسلم، ولهذا يظن الناظرون في سير الإنسان أن العلم يفتأ يفتك بالدين، حتى يمحوه من لوح الوجود ولو بعد حين، وما لهؤلاء الظانين من علم بأن في العالم دينًا حل جميع المشكلات، وأزال جميع الشبهات وهو دين العلم والعرفان إلى آخر الزمان. فعُلم - مما شرحناه - أن أهل الأديان يرون للخوارق التي تجري على أيدي رجال الدين فائدة عظيمة وهي تأييد الدين بها في أثنائه، كما قام بها في أول ظهوره؛ ولذلك قال بعض علمائنا: إن كرامات الأولياء شعبة من معجزات الأنبياء فيخشى على منكر الفرع أن ينكر الأصل , وقد شرحنا هذا أتم شرح في المقالة الأولى فلتراجع في المجلد الثاني، ويذكرون لها فائدة أخرى وهي انتفاع الناس بالكرامة فإنها إما أن تكون جلب منفعة لإنسان، أو دفع مضرة عنه، أو إيقاع سوء بمنكر أو فاسق ليرتدع غيره. وعُلِم أن من غوائل الاعتقاد بالخوارق ومضراتها تنفير خواصِّ أهل الدنيا من الدين وهذه غائلة تتبعها غوائل أشرنا إليها آنفًا وهي تتطرق إلى معجزات الأنبياء كما تقدم، ولم يكن ذلك من موضوعنا هنا وقد سبق لنا القول في إثبات آيات الأنبياء فليراجع في الأمالي الدينية من المجلد الرابع. ونزيد الآن أنها كانت في أزمنة تحقق فيها أن البشر كانوا في أشد الحاجة إليها، وثبت أنهم انتفعوا بها في عقولهم ونفوسهم وفي أعمالهم ومعايشهم؛ ذلك لأنهم كانوا لم يرتقوا إلى معرفة العقائد ببراهينها وكانوا ألاعيب في أيدي السحرة والدجالين يتصرفون في عقولهم ونفوسهم وأموالهم فأنقذهم الأنبياء بإذن الله تعالى وتأييده من ذلك كله، وعلموهم أن أولئك السحرة قوم مبطلون وأنه ليس لهم من الأمر - الذي يزعمونه - شيء وأن التصرف فيما وراء الأسباب التي يقدر على الوصول إليها الناس خاص بالله تعالى وحده وأن تلك الأعمال التي يظهر بادي الرأي أنها عن اقتدار إنما هي {كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) ، ولولا أن جاء كل نبي بمعجزة أو أكثر لما تسنَّى له جذب أولئك القوم الغلف القلوب، الغلاظ الرقاب، الضعاف الاستعداد. والدليل على أن المراد من بعثة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - تطهير العقول من لوث الخرافات والأوهام وعتقها من أسر السحرة والدجالين وأن الآيات الكونية كانت هي الآلات الجاذبة لهم إلى الإيمان بالتوحيد الذي هو المطهر الأكبر للعقول، وأنه لو أمكن جذبهم بالآيات العلمية الأدبية لما خرق الله على أيديهم شيئًا من الأمور العادية هو بناء نبوة خاتم النبيين على الآية العلمية الكبرى. والهداية الأدبية العظمى وهي القرآن الحكيم، المنزل على النبي الأمي اليتيم، الذي علَّم به الأميين الكتابَ والحكمةَ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. ومكَّن به لهم في الأرض وجعلهم أئمة وارثين، وبلّغ رسالة ربه الأممَ المجاورةَ وأَمرَ بأن يبلغ الشاهدُ الغائبَ. ومن أصول دينه أن زمن الوحي والمعجزات قد انتهى به فلن يعود، وأن لله في الخلق سننًا لن تتغير ولن تتبدل، وأن الأمور تُطلب بأسبابها، وأنه ليس وراء الأسباب شيء إلا معونة الله تعالى وتوفيقه، فليس لمؤمن أن ييئس إذا تقطَّعت به الأسباب من خير يتطلبه أو النجاة من سوء يترقَّبه، فثبت بهذا أن الدين القيم الذي يمكن أن يتفق مع العلم في كل زمان هو هذا الدين الذي يحكم بأن زمن المعجزات قد مضى ولا يُكَلَّف الآخذ به بأن يعتقد بخارقة على يد أحد الناس بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. أما البحث في آيات الأنبياء كيف وجدت وهل كانت كلها بمحض قدرة الله تعالى التي قامت بها السماوات والأرض أم كانت لها سنن روحانية خفية عن الجمهور خصَّهم الله تعالى بها كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور؟ فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضارًّا. ومبلغ العلم فيها أنها كما قال ابن رشد: قد وجدت ونقلت نقلاً متواترًا اعترف به المؤمنون بهم والكافرون الذين سموها سحرًا لجهلهم بالتفرقة بينها وبين تلك الشعوذات والحيل الباطلة، وفي شرح المواقف أن (المعجزة كل ما يراد به إثبات النبوة وإن لم يكن من الخوارق) . فعلم بهذا أن آيات الأنبياء - عليهم السلام - مصونة من إنكار المنكرين، واعتراض الواهمين، وأنها قد انتهت فلا يُخشى أن يضر الاعتقاد بها في الزمن الحاضر وما بعده، كما أنه لم يكن ضارًّا في الماضي، وإنما كان نافعًا. وبقي القول في كرامات الأولياء ومقتضى ما تقدم أن الاعتقاد بها يضر كما يضر الاعتقاد بالخوارق عند كهنة الوثنيين وقدّيسي المسيحيين. والمنفعة التي تدعيها كل الطوائف من الاحتجاج بهذه الخوارق على صحة الدين أو الاستعانة بها على تمكين اعتقاد المؤمنين، ممنوعة بأنها من المشترك الإلزام كما تقدم في الجزء الماضي. فإذا دعوت إنسانًا إلى دينك بحجة أن من قومك من يعمل العجائب وتظهر على يديه الخوارق يلزمك بأن في قومه أيضًا مَن له مثل ذلك أو ينازعك في دعوته داعٍ آخر يحتج بمثل هذا الاحتجاج. ووجه آخر للدفع وهو أن أهل العلم والبحث يرون دعوى الخوارق من الأدلة على بطلان الدين كما سبق آنفًا، وأما العوام فإنهم أسرى التقليد ولذلك يصدقون ما يسمعون من قومهم من الأخبار ويكذبون ما تدعيه لقومك، هذا وإن دعوة ا

وفد بني تميم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفد بني تميم عن جابر قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنادوه: يا محمد، اخرج إلينا؛ فإن مدحنا زَيْن، وإن سبنا شَيْن. فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول: إنما ذلكم الله عز وجل فما تريدون؟ قالوا: نحن ناس من بني تميم جئناك بشاعرنا وخطيبنا لنشاعرك ونفاخرك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بالشعر بُعثنا ولا بالفخار أُمرنا ولكن هاتوا. فقال الأقرع بن حابس لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك وفضل قومك. فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالاً نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض وأكثرهم عددًا وأكثرهم سلاحًا، فمَن أنكر قولنا فليأتِ بقول هو أحسن من قولنا وبفَعَال (كرمٍ) هو أفضل من فعالنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس الأنصاري - وكان خطيبه -: (قم فأجبْه) فقام ثابت فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني نمر أحسن الناس وجوهًا وأعظم الناس أحلامًا فأجابوه، الحمد لله الذي جعلنا أنصاره ووزراء رسوله وعزًّا لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فمَن قالها منع منا ماله ونفسه ومن أباها قاتلناه وكان رغمه في الله علينا هينًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. قال الزبرقان بن بدر لرجل منهم: يا فلان قم واذكر أبياتًا تذكر فيها فضلك وفضل قومك، فقال: نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... نحن الرؤوس وفينا يقسم الربع ونطعم الناس عند المحل كلهم ... من السديف إذا لم يؤنس الفزع [1] إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ... إنَّا كذلك عند الفخر نرتفع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليَّ بحسان بن ثابت. فذهب إليه الرسول فقال: وما يريد مني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإنما كنت عنده آنفًا. قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم وخطيبهم، فتكلم خطيبهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس، فأجابه , وتكلم شاعرهم فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك لتجيبه. فقال حسان: قد آن لكم أن تبعثوا إلى هذا العود (والعود الجمل الكبير) . فلما أن جاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حسان، قم فأجبه. فقال: يا رسول الله مُره فليُسمعْنِي ما قال. قال: أسمعْه ما قلت. فأسمعه، فقال حسان: نصرنا رسول الله والدين عنوة ... على رغم باد من معدٍّ وحاضر بضرب كإيزاع المخاض مشاشه ... وطعن كأفواه اللقاح الصوادر [2] وسلْ أُحدًا يوم استقلت شعابه ... بضرب لنا مثل الليوث الخوادر [3] ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى ... إذا طاب ورد الموت بين العساكر؟ ! ونضرب هام الدارعين وننتمي إلى حسب من جِذم غسان قاهر [4] فأحياؤنا من خير مَن وطئ الحصى وأمواتنا من خير أهل المقابر فلولا حياء الله قلنا تكرُّمًا على الناس بالخيفين هل من منافر؟ [5] فقام الأقرع بن حابس فقال: إني - والله - يا محمد لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء، إني قد قلت شعرًا فاسمعْه. قال: هاتِ. فقال: أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ... إذا اختلفوا عند اذِّكار المكارم وأنَّا رؤوس الناس من كل معشر ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وأن لنا المرباع في كل غارة ... تكون بنجد أو بأرض التهايم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا حسّان فأجبه. فقام وقال: بني دارم لا تفخروا إن فخركم ... يعود وبالاً بعد ذكر المكارم هُبلتُم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خَوَلٌ ما بين قِنٍّ وخادم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لقد كنت غنيًّا يا أخا بني دارم أن نذكر منك ما قد كنت ترى أن الناس قد نسوه منك "، فكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد عليه من قول حسان ثم رجع حسان إلى قوله: وأفضل ما نلتم من الفضل أنكم ... ردافتنا من بعد ذكر المكارم فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم فلا تجعلوا لله ندًّا وأسلموا ... ولا تفخروا عند النبي بدارم وإلا - ورب البيت - مالت أكفّنا ... على رأسكم بالمراهفات الصوارم فقام الأقرع بن حابس فقال: يا هؤلاء ما أدري ما هذا الأمر؟ ! تكلم خطيبنا؛ فكان خطيبهم أرفع صوتًا وأحسن قولاً، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أرفع صوتًا وأحسن قولاً، ثم دنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يضرك ما كان قبل هذا) ا. هـ رواه الروياني وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر. وقد طعنوا بالمعلى بن عبد الرحمن بن الحكيم الواسطي راويه، حتى رماه الدارقطني بالكذب، ولا يستلزم هذا أن يكون الحديث بطوله غير واقع فإن احتمل أن فيه زيادة أدرجها المعلى فذلك لا يمنع أن يستفاد من الحديث ما فيه من الأدب والعبرة، وإنما يمنع الاحتجاج به في إثبات الأحكام ورُوي في السير بألفاظ أخرى.

ورع أبي بكر رضي الله عنه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ورع أبي بكر رضي الله عنه عن زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر مملوك يغلّ عليه فأتاه ليلة فتناول منه لقمة، فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟ قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني فلما أن كان اليوم مررت فإذا عرس لهم فأعطوني. قال: أفٍّ لك كدت أن تهلكني. فأدخل بيده في حلقه فجعل يتقيأ وجعلتْ لا تخرج فقيل له: إن هذا لا يخرج إلا بالماء. فدعا بعسّ [1] من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها. فقيل له: يرحمك الله، كل هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل جسد نبت من سُحت فالنار أولى به) فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. رواه الحسن بن سفيان وأبو نعيم في الحِلية والدِّينوري في المجالسة بهذا السياق. وروى أحمد في الزهد من طريق ابن سيرين والبيهقي عن زيد بن أرقم ما يؤيد الواقعة. وعن أبي بكر حفص بن عمر قال: جاءت عائشة إلى أبي بكر وهو ما يعالج الميت ونفسه في صدره فتمثلت هذا البيت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين (وفي رواية: ليس كما قلت يا بنية) ؛ ولكن: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} (ق: 19) ، إني كنت قد نحلتك حائطًا وإن في نفسي منه شيئًا فرُدِّيه على الميراث قالت: نعم. فَرَدَّتْهُ، أما إنَّا منذ وُلِّينا أمر المسلمين لم نأكل دينارًا ولا درهمًا ولكن قد أكلنا من جريش طعامهم [2] في بطوننا، ولبِسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي وهذا البعير الناضح وجرد هذه القطيفة [3] فإذا متّ فابعثي بها إلى عمر وأبرئيني منهن. ففعلت فلما جاء الرسولُ عمرَ بكى حتى جعلت دموعه تسيل على الأرض وجعل يقول: رحم الله أبا بكر لقد أتعب مَن بعده , يا غلام، ارفعْهن. فقال عبد الرحمن بن عوف: سبحان الله تسلب عيال أبي بكر عبدًا حبشيًّا وبعيرًا ناضحًا وجرد قطيفة ثمنه خمسة دراهم؟ ! قال: فماذا تأمر؟ قال: تردهن على عياله. قال: لا والذي بعث محمدًا بالحق لا يكون هذا في ولايتي أبدًا ولا يخرج أبو بكر منهن عند الموت وأردهن أنا على عياله. الموت أقرب من ذلك، رواه ابن سعد. (المنار) هكذا تكون خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه هي السيرة التي كان يجب على المسلمين أن يُلزموا بها ملوك بني مروان وبني العباس الذين سموا أنفسهم خلفاء، وكذلك غيرهم من الملوك. والله ما نكل بالإسلام وأوقع المسلمين في هذا الهوان إلا استبداد أولئك الملوك بالسلطة وجعلهم الرعية وأموالها ملكًا لهم يتوارثونها ويتصرفون فيها بما شاؤوا، حتى إذا ظهر فيهم عادل يحاول وضع الحق موضعه - كمعاوية الأصغر وعمر بن عبد العزيز والمأمون - ألزموه بقوة العصبية على أن يجري في طريقهم أو يخلع من الملك. ولقد تعب عمر بن عبد العزيز فيما قدر عليه من العدل تعبًا عظيمًا. نعم، إن هذه السُّنَّة التي سنَّها أبو بكر متعبة لا يقدر عليها إلا مثل عمر ويظهر أنه كان يعتقد أن ما فرض له من الانتفاع من بيت المال (كما ذكرنا في السنة الماضية) يجب أن يكون مشروطًا بمدة عمله للمسلمين، وأنه إذا بقي منه بقية يجب أن ترد إلى بيت المال ولا يجوز لورثته التمتع بها؛ لأنهم لا يعملون للمسلمين ما كان يعمله. وإنَّا لنتمنى اليوم أن يأخذ أمراؤنا وملوكنا أضعاف كفايتهم، وأن يورث عنهم ما بقي عن نفقاتهم بشرط أن يكفوا عن تبذير ما في خزائن الأمة من الأموال والتحف والإفضاء بها إلى أوليائهم بمجرد شهواتهم وأهوائهم، وقد سبق لنا القول في السنة الرابعة بأن في خزائن الدولة العلية من الذخائر والجواهر ما يكفي بعضه للقيام بإنشاء الأساطيل البحرية وترقية القوة الحربية، بحيث تقاوم بها أعظم الدول القوية، وهذه الذخائر كغيرها تحت تصرف شخص السلطان، ولا يكاد يسمح بشيء منها إلا لقيصري الروس والألمان.

ديوان الرافعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ديوان الرافعي مصطفى أفندي صادق الرافعي يعرف شعره قراء المنار؛ فلا حاجة لتعريفهم به، وقد جمع منظوماته في ديوان يطبع الآن، وإننا ننشر كلمة له فيه تنويهًا به وترغيبًا فيه وهي: كلمة الناظم أول الشعر اجتماع أسبابه، وإنما يرجع في ذلك إلى طبع صقلته الحكمة، وفكر جلا صفحة البيان، فما الشعر إلا لسان القلب إذا خاطب القلب، وسفير النفس إذا ناجت النفس، ولا خير في لسان غير مبين، ولا في سفير غير حكيم. ولو كان طيرًا يتغرد لكان الطبع لسانه، والرأس عُشه، والقلب روضته، ولكان غناؤه ما تسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء، وحسبك بكلام تنصرف إليه كل جارحة، ويجني من كل شيء حتى لتحسب الشعراء من النحل تأكل من كل الثمرات، فيخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس. وكأنما هو بقية من منطق الإنسان اختبأت في زاوية من النفس، فما زالت بها الحواس حتى وزنتها على ضربات القلب، وأخرجتها بعد ذلك ألحانًا بغير إيقاع، ألا تراها ساعة النظم كيف تتفرغ كلها، ثم تتعاون كأنما تبحث بنور العقل عن شيء غاب عنها في تفنن الشعراء، حتى لكأن الحُطيئة يعوي في أثر القوافي في عواء الفصيل في أثر أمه. وترى المجيد من أهل الغناء إذا رفع عقيرته يتغنى ذهب في التحرك مذاهب، حتى كأنما ينتزع كل نغمة من موضع في نفسه، فيتألف من ذلك صوت إذا أجال حلقه فيه وقعت كل قطعة منه في مثل موضعها من كل مَن يسمع فلا يلبث أن يستفزه طربه، كأنما انجذب قلبه، وتصبو نفسه كأنما أخذ حسّه، لا فرق في ذلك بين أعجمي وعربي، ومن أجل هذا ترى أحسن الأصوات يغلب على كل طبع، وإنما الشاعر والمغني في جذب القلوب سواء، وفي سحر النفوس أكْفَاء، إلا أن هذا يوحى إلى القلب، وذاك ينطق عنه، وأحدهما يفيض عليه، والثاني يأخذ منه، والويل لكليهما إذا لم يطرب هذا، ولم يعجب ذاك. والشعر موجود في كل نفس من ذكر وأنثى، فإنك لتسمع الفتاة في خدرها، والمرأة في كِسر بيتها، والرجل وقد جلس في قومه، والصبي بين إخوته يقصون عليك أضغاث أحلام، فتجد في أثناء كلامهم من عبق الشعر ما لو نسمته لفغمك، وحسبك أن تكسر وسادك تتحدث إليهم؛ فتراه طائرًا بين أمثالهم وفي فلتات ألسنتهم، وهو كأنما قد ضل أعشاشه، ولقد نبغ فيه من نساء هذه الأمة شموس سطعن في سماء البيان، وطلعن في أفق البلاغة، ولا يزال الناس إلى اليوم يروون للخنساء وجنوب وعلية وعنان ونزهون وولاّدة وغيرهم وبحسبك قول النواسي: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة منهن الخنساء وليلى. ولو كان الشعر هذه الألفاظ الموزونة المقفَّاة لعددناه ضربًا من قواعد الإعراب، لا يعرفها إلا مَن تعلمها؛ ولكنه يتنزل من النفس منزلة الكلام، فكل إنسان ينطق به، ولا يقيمه كل إنسان، وأما ما يعرض له بعد ذلك من الوزن والتقفية، فكما يعرض للكلام من استقامة التركيب والإعراب، وإنك إنما تمدح الكلام بإعرابه، ولا تمدح الإعراب بالكلام. ولم أقرأ أجمع فيه من قول حكيم العصر وإمام الإفتاء في مصر: (لو سألوا الحقيقة أن تختار لها مكانًا تُشرف منه على الكون لما اختارت غير بيت من الشعر) ، ولا فيما قالوه في الشعراء أجمع من قول كعب الأحبار: (الشعراء أناجيلهم في صدورهم، تنطق ألسنتهم بالحكمة) . ولم يكن لأوائل العرب من الشعراء إلا الأبيات يقولها الرجل في الحاجة تعرض له، كقول دويد بن زيد، حين حضره الموت، وهو من قديم الشعر العربي: اليوم يبنى لدويد بيته ... ولو كان للدهر بلى أبليته أو كان قرني واحدًا كفيته وإنما قُصِدَت القصائد على عهد عبد المطلب أو هاشم بن عبد مناف، وهناك رفع امرؤ القيس ذلك اللواء، وأضاء تلك السماء التي ما طاولتها سماء، وهو لم يتقدم غيره إلا بما سبق إليه مما اتبعه فيه مَن جاء بعده، فهو أول مَن استوقف على الطلول ووصف النساء بالظباء والمهى والبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعِصي، وفرق بين النسيب وما سواه من القصيدة، وقرب مآخذ الكلام وقيد أوابده وأجاد الاستعارة والتشبيه، ولقد بلغ منه أنه كان يتعنت على كل شاعر بشعره. ثم تتابع القارضون من بعده، فمنهم من أسهب فأجاد، ومنه من أكب كما يكبو الجواد، وبعضهم كان كلامه وحي الملاحظ، وفريق كان مثل سهيل في النجوم يعارضها، ولا يجري معها، ولقد حدوا في ذلك حتى إن منهم مَن كان يظن أن لسانه لو وضع على الشعر لحلقه، أو الصخر لفلقه. ذلك أيام كان للقول غرر في أوجه ومواسم؛ بل أيام كان من قدر الشعراء أن تغلب عليهم ألقابهم بشعرهم، حتى لا يعرفون إلا بها كالمرقش والمهلهل والشريد والممزق والمتلمس والنابغة وغيرهم، ومن قدر الشعراء كانت القبيلة إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنأتها بذلك، وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر كما يصنعن في الأعراس، وأيام كانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج، وكانت البنات ينفقن بعد الكساد إذا شبَّب بهن الشعراء. ولم يترك العرب شيئًا مما وقعت عليه أعينهم أو وقع إلى آذانهم أو اعتقدوه في أنفسهم إلا نظموه في سَمْط من الشعر، وادخروه في سفط من البيان؛ حتى إنك لترى مجموع أشعارهم ديوانًا فيه من عوائدهم وأخلاقهم وآدابهم وأيامهم وما يستحسنون ويستهجنون حتى من دوابهم، وكان القائل منهم يستمد عفو هاجسه وربما لفظ الكلمة تحسبها من الوحي وما هي من الوحي ولم يكن يفاضل بينهم إلا أخلاقهم الغالبة على أنفسهم، فزهير أشعرهم إذا رغب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا طرب، وعنترة إذا كلب، وجرير إذا غضب، وهلم جرًّا. ولكل زمن شعر وشعراء ولكل شاعر مرآة من أيامه؛ فقد انفرد امرؤ القيس بما علمت واختص زهير بالحوليات واشتهر النابغة بالاعتذارات وارتفع الكميت بالهاشميات وشمخ الحطيئة بأهاجيه، وساق جرير قلائصه وبرز عدي في صفات المطية وطفيل في الخيل والشماخ في الحمير، ولقد أنشد الوليد بن عبد الملك شيئًا من شعره فيها فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حمارًا! وحسبك من ذي الرمة رئيس المشبهين الإسلاميين أنه كان يقول: (إذا قلت (كأن) ولم أجد مخلصًا منها، فقطع الله لساني) ! ! وقد فتن الناسُ ابنُ المعتز بتشبيهاته، وأسكرهم أبو نواس بخمرياته، ورقت قلوبهم على زهديات أبي العتاهية وجرت دموعهم لمراثي أبي تمام، وابتهجت أنفسهم بمدائح البحتري، وروضيات الصنوبري ولطائف كشاجم. فمن رجع بصره في ذلك وسلك في الشعر ببصيرة المعري، وكانت له أداة ابن الرومي، وفيه غزل ابن ربيعة وصبابة ابن الأحنف وطبع ابن برد وله اقتدار مسلم، وأجنحة ديك الجن ورقة ابن الجهم وفخر أبي فراس وحنين ابن زيدون وأنفة الرضي وخطرات ابن هانئ، وفي نفسه من فكاهة أبي دلامة ولعينه بصر ابن خفاجة بمحاسن الطبيعة وبين جنبيه قلب أبي الطيب، فقد استحق أن يكون شاعر دهره، وصناجة عصره. ولا يهولنّك ذلك إذا لم تستطع عد الشعراء الذين انتحلوا هذا الاسم ظلمًا، وألحقوه بأنفسهم إلحاق الواو بعمرو، فكلهم أموات غير أحياء وما يشعرون. وأبرع الشعراء مَن كان خاطره هدفًا لكل نادرة، فربما عرضت للشاعر أحوال مما لا يعني غيره، فإذا علق بها فكره تمخضت عن بدائع من الشعر؛ فجاءت بها كالمعجزات وهي ليست من الإعجاز في شيء، ولا فضل للشاعر فيها إلا أنه تنبه لها، ومَن شدَّ يده على هذا جاء بالنادر، من حيث لا يتيسر لغيره، ولا يقدر هو عليه في كل حين. وليس بشاعر من إذا أنشدك لم تحسب أن سمعه مخبوء في فؤادك، وأن عينك تنظر في شغافه، فإذا تغزل أضحكك إن شاء وأبكاك إن شاء، وإذا تحمس فزعت لمساقط رأسك، وإذا وصف لك شيئًا هممت بلمسه، حتى إذا جئته لم تجده شيئًا. وإذا عتب عليك جعل الذنب لك ألزم من ظلك، وإذا نثل كنانته رأيت مَن يرميه صريعًا، لا أثر فيه لقذيفة ولا مدية، وإنما هي كلمة فتحت عليها عينه، أو ولجت إلى قلبه من أذنه، فاستقرت في نفسه، وكأنما استقر على جمر. وإذا مدح حسبت الدنيا تجاوبه، وإذا رثى خفت على شعره أن يجري دموعًا، وإذا وعظ استوقفت الناس كلمته وزادتهم خشوعًا، وإذا فخر اشتم من لحيته رائحة الملك؛ فحسبت إنما حفت به الأملاك والمواكب. وجماع القول في براعة الشاعر أن يكون كلامه من قلبه؛ فإن الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الآذان. ولقد رأينا في الناس مَن تكلف الشعر على غير طبع فيه، فكان كالأعمى يتناول الأشياء ليقرها في مواضعها، وربما وضع الشيء الواحد في موضعين أو مواضع وهو لا يدري! وأبصرنا فيهم كذلك مَن يجىء باللفظ المونق والوشي والنضر، فإذا نثرت أوراقه لم تجد فيها إلا ثمرات فجة. ورأينا في المطبوعين مَن أثقل شعره بأنواع من المعاني، فكان كالحسناء تزيدت من الزينة، حتى سمجت فصرفت عنها العيون بما أرادت أن تلفتها به! على أن أحسن الشعر ما كانت زينته منه وكل ثوب لبِسته الغانية فهو معرضها. وهو عندي أربعة أبيات: بيت يُستحسن، وبيت يسير، وبيت يندر، وبيت يجن به جنونًا، وما عدا ذلك فكالشجرة التي نقض ثمرها، وجني زهرها، لا يرغب فيها إلا محتطب. أما مذاهبه التي أبانوها من الغزل والنسيب والمدح والهجاء والوصف والرثاء وغيرها - فهي شعوب منه، وما انتهى المرء من مذهب فيه إلا إلى مذهب، ولا خرج من طريق إلا إلى طريق {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} (الشعراء: 225) وما دامت الأعمار تتقلب بالناس فالشعر أطوار، آونة تخطر فيه نسمات الصبا ما بين أفنان الوصف إلى أزهار الغزل، ويتسبسب فيه ماء الشباب من نهر الحياة إلى مشرعة الأمل، وطورًا تراه جم النشاط تكاد تصقل بمائه السيوف، وتفرق بحده الصفوف، وحينًا تجده وقد ألبسه المشيب ثوب الاعتبار، وجمَّله بمسحة من الوقار، وهو في كل ذلك يروي عن الأيام وتروي عنه، وما أكثر فنون الشعر إذا رويت عن أفانين الأيام. وأما ميزانه فاعمد إلى ما تريد نقده فرده إلى النثر، فإن استطعت حذف شيء منه لا ينقص من معناه أو كان في نثره أكمل منه منظومًا؛ فذلك الهذر بعينه أو نوع منه، ولن يكون الشعر شعرًا حتى تجد الكلمة من مطلعها لمقطعها مفرغة في قالب واحد من الإجادة، وتلك مقلدات الشعراء، إليك مثلاً قول ابن الرومي - يصف منهزمًا -: لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه فقلِّبْ نظرك بين ألفاظه وأجِلْه في نفسك، ثم ارجع إلى قول ذلك الخارجي، وقد قال له المنصور: أخبرني أي أصحابي كان أشد إقدامًا في مبارزتك؟ فقال: ما أعرف وجوههم ولكن أعرف أقفاءهم، فقل لهم: يديروا أعرفك، ألست ترى في ذلك النظم من كمال المعنى وحلاوة الألفاظ ما لا تراه في هذا النثر. ولقد بقي أن قومًا لم يهتدوا إلى الفرق بين منثور القول ومنظومه، والذي أراه أن النظم لو مد جناحيه وحلق في جو هذه اللغة ثم ضمهما لما وقع إلا في عش النثر وعلى أعواده، ولن تجد لمنثور القول بهجة إلا إذا صدح فيه هذا الطائر الغرد، بل لو كان النثر ملِكًا لكان الشعر تاجه، ولو استضاء لما كان غيره سراجه. ومازال الشعراء يأتون بجمل منه كأنها قطع الروض إذا تورَّد بها خد الربيع، وهذا ابن العباس وكتبه، وابن المعتز وفصوله والمعري ورسائله، وانظر إلى قول بشار وقد مدح المهدي فلم يعطه شيئًا، فقيل له: لم تجد في مدحه، فقال: (والله لقد مدحته بشعر لو قلت مثله في الدهر لما حتف صرفه على حر، ولكني أكذب في العمل فأكذب في الأمل) ، وبشار ه

تتمة تقريظ (أحسن الكلام)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة تقريظ (أحسن الكلام) أورد المصنف - بعد مقدمته تلك - حديث أبي هريرة الصحيح في النهي عن الكلام وقت خطبة الجمعة وهو (إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنصتْ. والإمام يخطب فقد لغوتَ) ، وقال: إنه قد أخرجه الستة، ونقول: إن ابن ماجه لم يخرجه. وأورد بعده احتجاج أبي حنيفة بأقوال الصحابة على منع الكلام من وقت خروج الإمام، وأن صاحبيه خالفاه؛ لأنهما لا يحتجّان برأي الصحابي؛ لأن المجتهد لا يقلد مجتهدًا، واستنتج من ذلك أن الترقية المتعارفة في زماننا جائزة عند الصاحبين ما لم تشتمل على تغنٍّ وتلحين مخل، قال: (وإلا فهي مكروهة اتفاقًا) ، ثم قال: إنه لا وجه للإنكار على الترقية مع هذا الخلاف بين المجتهدين، (وإنما يجب الإنكار فيما اتفق الكل، وأجمعوا على عدم جوازه) . ونقول: الظاهر أن مصنف الرسالة هو الذي استنبط هذا الجواز من قواعد الصاحبين، فإن كان يدعي أن بدعة الترقية كانت في عهدهما، وأنهما نصَّا على جوازها فليدلنا على النص، وإذا كان هو المستنبط للجواز فلنا في استنباطه إشكالات: أحدها: إنه ليس لمثله أن يستنبط ولا أن يرجح، وإنما هو من الطبقة التي لا يُقبل منها إلا نقل نصوص المذهب كابن عابدين، ولا يدعي أنه فوق طبقة ابن عابدين الذي صرح بأنه لا يُقبل منه إلا النقل لنصوص المذهب المرجحة، بل قالوا: إن أبحاث الكمال بن الهمام لا يعمل بها إذا خالفت نصوص المذهب. ثانيها: إذا فرضنا أنه ادّعى أنه فوق الكمال في الفقه، وأن له أن يستنبط من نصوص أئمته فلماذا لا يستعمل هذه الموهبة في وظيفة ويزحزح عن المحكمة بعض قيود الفقهاء الذين ضيقوا مذهب الحنفية؟! وأكثرهم من الذين لم يبلغوا هذه الدرجة - درجة الاستنباط من أصول المذهب - وإذا كان المؤلف وصل إليها فلا يجوز له التقيد بأقوال مَن هم دونه من الفقهاء، وأي نعمة على المحاكم الشرعية في مصر؛ بل على مذهب الحنفية من وجود مجتهد فيه ينقحه، ويسهل وعورته، فيصلح به حال هذه المحاكم التي يحتج قضاتها بأنهم ممنوعون عن الإصلاح بقيود الفقهاء التي كُلفوا بالجمود عليها، وعدم التصرف فيها كأنما ألفاظها قرآن تعبّدوا به تعبدًا. ثالثها: أن ما يُنقل عن الصحابة عليهم الرضوان إن كان من قبل الرأي فهو الذي لا يكلف المجتهد باتباعهم فيه إلا إذا وافق دليله دليلهم، وأما إذا كان مما لا مجال للرأي فيه كالعبادات، فله حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأقرب أن مسألتنا من هذا القسم، فإن لم يسلم بأنه الأقرب فلا أراه ينكر أنه الأحوط. رابعها: أن الكلام الذي أجازوه في المسجد في غير وقت الخطبة ليس فيه شبهة التعبد به، واتخاذه شعارًا لازمًا، كما هو الشأن في الترقية المعروفة في هذه الأزمنة، فقياس الترقية على الكلام قياس مع الفارق، على أن ما كان من قبيل الشعائر الدينية والتعبد لا يجوز القياس فيه، كما تقدم في النبذة الماضية؛ لأنه مما يجب فيه الوقف عند نص الشارع؛ فثبت بهذا أن الترقية بدعة منكرة لا وجه لجوازها في مذهب من المذاهب. خامسها: أن الترقية المسؤول عنها مشتملة على التغني والتلحين المخل، فهي منكرة حتى في رأي المصنف؛ ولكن إيراد قياسه على تقدير خلوها من ذلك والحكم بأنه لا وجه لإنكارها يوهم من يطلع على الرسالة من غير أهل التدقيق أنه بذلك القياس يجيز ما عليه الناس، وهو إنما أجاز صورة من صور الترقية غير موجودة، وخلاصة القول إن هذه الرسالة لا تبيح الترقية المعهودة الآن، وإنما تبيح ترقية مشروطة بشرط غير موجود بناءً على قياس في غير محله. ثم تكلم المصنف في حكم قراءة سورة الكهف، فقال: (إنها جائزة اتفاقًا، ولا وجه للقول بمنعها) ، ثم ذكر أنها عبادة لم يرد النهي عنها بخصوصها، (ولم يدخل ذلك تحت نهي عام، واستثنى من ذلك القراءة وقت الخطبة، أو عند خروج الإمام على الخلاف المار) ، ثم صرح بأن قراءتها برفع الصوت في المسجد لا تمنع، وأورد حديث: (لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن) ، وقال: إنه على فرض صحته لا يصلح حجة للمنع وكذلك حديث: (لا ضرر ولا ضرار) قال: (وعلى فرض وجود مصلٍّ لنحو تحية مسجد وقت قراءتها فلا يحصل من ذلك تشويش عليه) ، ثم قال: (إنه ورد أحاديث كثيرة بطلب قراءتها) ، وأورد منها حديثين، ثم نفى أن يكون الاجتماع الخاص في المسجد لسماعها بدعة لدخوله في عموم الترغيب في الاجتماع للذكر. نقول: إن في هذا الاستدلال نظرًا ظاهرًا، لا سيما على قواعد الحنفية الذين يقلدهم المصنف، فإنهم نصوا في كتبهم على أن قراءة (الم.. السجدة) و (الإنسان) في فجر الجمعة مكروهة، مع أن الأحاديث فيها صحيحة ليست كأحاديث قراءة سورة الكهف، وعللوا الكراهة بأن فيها هجرًا لباقي القرآن، بل قالوا باتجاه التحريم في ذلك، فإن قيل: إنهم قالوا بذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلتزم قراءة (الم.. السجدة) و (الإنسان) في فجر الجمعة؛ بل ورد أنه قرأ غيرهما أيضًا، فقالوا بكراهة المواظبة عليهما، نقول: إن ما ورد فيهما أصح مما ورد في غيرهما، ويدل على التكرار، ولم يرد حديث صحيح في قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، والناس يواظبون عليها مع الاجتماع والتوقيت، حتى كأنها من شعائر الإسلام المنصوصة، مع أنها معارَضة بأحاديث منها ما رواه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعًا: (مَن قرأ السورة التي يُذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته، حتى تحجب الشمس) ، ومنها ما رواه ابن مردويه عن كعب مرفوعًا بسند صحيح: (اقرؤوا سورة هود يوم الجمعة) ، نعم، إنه مرسل، ولكن الحنفية يحتجون بالمرسل، وإن لم يحتج به مصنف الرسالة في منع الكلام عند خروج الإمام إلى الجمعة، ومنها حديث الطبراني في الكبير عن أبي أمامة: (مَن قرأ حم.. الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتًا في الجنة) ، ومنها أحاديث في قراءة سورة في ليلة الجمعة. وأما الأحاديث التي اختارها مما ورد في قراءة سورة الكهف فهي كما ذكرها بالنص، قال: منها ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعًا: (مَن قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عَنان السماء، يضيء له إلى يوم القيامة، وغُفر له ما بين الجمعتين) . وما رواه غير واحد عن أبي سعيد الخدري: (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق) . أقول: قد طعن في سند كل منهما، بل قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الأذكار: إن أقوى ما ورد في قراءة سورة الكهف حديث أبي سعيد عند الحاكم في التفسير والبيهقي في السنن: (مَن قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) ، وقد أورده الحاكم من طريق نعيم بن حماد عن هشيم عن أبي هاشم وصححه؛ ولكن قال الذهبي في الميزان: بل نعيم بن حماد ذو مناكير، وقد ورد في قراءة آيات مخصوصة من الكهف بدون ذكر الجمعة روايات قوية، وبعضها في صحيح مسلم. وأما تشويش هؤلاء القراء في المساجد على المصلين فهو مما لا شك فيه، وما فرضه صاحب الرسالة من وجود المصلين وقت قراءة سورة الكهف في المسجد أمر واقع مشاهَد؛ ولكن هؤلاء الفقهاء يتكلمون بالفروض كأنهم في كون مفروض غير موجود. وكون التشويش على المصلين غير جائز مما لا ينبغي أن يشك فيه، والصلاة هي المقصودة من المساجد بالذات؛ ولذلك صرح الفقهاء بمنع الجهر بالتلاوة في المسجد إذا كان فيه مَن يصلي. وقد أوَّل المصنف حديث: (لا يجهر بعضكم على بعض بالقراءة) ورواه (بالقرآن) بأن معناه الظاهر: (لا يذم أحد أحدًا بالقرآن، أو لا يشتم بعضكم بالقرآن انتصارًا على البعض الآخر) ، ولم يعلم أنه عُلل بإيذاء المصلي، رواه الخطيب عن جابر. وروى أبو داود عن أبي سعيد الخدري: (اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر، وقال: ألا إن كلكم مناجٍ لربه، فلا يؤذِ بعضكم بعضًا، ولا يرفعْ بعضكم على بعض في القراءة) ؛ ولكن أكثر المشتغلين بالفقه لا يطلعون على كتب السنة إلا قليلاً. ولا يخفى أن إيذاء من يجهر لمَن يسر بالصلاة أو القراءة أشد من إيذائه لمن يجهر مثله؛ لأن الجهر يُدفع بالجهر. فسقط جميع استدلال المصنف، وثبت أن قراءة سورة الكهف في المسجد يوم الجمعة - في الوقت الذي يجتمع الناس فيه للصلاة - بدعة محظورة، لا سُنة مطلوبة. (للتقريظ بقية)

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ ... ... (كتاب إصابة السهام فؤادَ مَن حاد عن سنة خير الأنام) أهدانا الشيخ محمود محمد أحمد خطاب السبكي أحد علماء الأزهر نسخة من كتاب له جديد سمّاه بهذا الاسم، وهو في بيان البدع والمنكرات الفاشية بين أهل العلم والدين، وفي المساجد وحلقات الدروس وغير ذلك، ولم تتيسر لنا مطالعته، وإنما أخذناه الآن في يدنا، وقرأنا جملة من فهرسه، فإذا فيها: (مطلب تحريم القراءة إذا لزم عليها تشويش خلافًا لمن قال بالكراهة) ، فراجعنا هذا المطلب، وأحببنا أن ننقل منه تأييدًا لما ذكرنا آنفًا في الانتقاد على رسالة الشيخ بخيت ما يأتي، قال المصنف - في سياق الكلام على المنكرات الفاشية في الجامع الأزهر ومنها التشويش على المصلين برفع الصوت بالنية - ما نصه: (قال ابن العماد: لو توسوس المأموم من تكبيرة الإحرام على وجه يشوش على غيره من المأمومين حرم عليه ذلك، كمن قعد يتكلم بجوار المصلي، وكذا تحرم عليه القراءة جهرًا على وجه يشوش على المصلي بجواره) . اهـ وقوله: (من المأمومين) : يعني مثلاً، وكذا قوله: (على المصلي) ، وإلا فالتشويش حرام، ولو على النائم، وأما قول ابن حجر بكراهة القراءة عند التشويش، وردّه قول ابن العماد بالحرمة فهو المردود، وكيف لا، وقد أضر بقراءته المتعبدين، ورسوله صلى الله عليه وسلم قال: (لا ضرر ولا ضرار) . اهـ ثم رأيت فيه مبحث قراءة سورة الكهف في المساجد فأحببت نقله أيضًا، وهو: ومنها - أعني البدع التي اخترعوها في الجامع الأزهر ونحوه - قراءة سورة الكهف يوم الجمعة بصوت مرتفع وترجيع، والمسجد ممتلئ من الناس ما بين راكع وساجد وذاكر وقارئ ومتفكّر إلى غير ذلك، ومع ذلك يرتبون للقارئ لها أجرة من الوقف، وذلك ممنوع من وجوه: (الأول) كونه مخالفًا لما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أصحابه والسلف، والخير كله في الاتباع، والشر كله في الابتداع والأحاديث في ذلك معلومة. (الثاني) أن فيه تشويشًا على مَن بالمسجد متلبّسًا بعبادة، وقد تقدم غير مرة أن التشويش ممنوع بالإجماع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ملعون مَن ضارَّ مؤمنًا) . (الثالث) فيه صرف المال في غير مصرف شرعي؛ بل هو منكر، وهو ممنوع، ولا سيّما من مال الوقف. (الرابع) أن ذلك كان سببًا في اعتقاد العوام أن قراءة السورة المذكورة بهذه الصفة من معالم الدين، فأدخلوا في الدين ما ليس منه، وتقدّم أنه ممنوع بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم. (الخامس) فيه رفع الأصوات في المسجد لغير ضرورة شرعية، وقد ورد النهي عن ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجهر بعضكم على بعض في القراءة) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (يا عليُّ، لا تجهر بقراءتك ولا بدعائك حيث يصلي الناس؛ فإن ذلك يفسد عليهم صلاتهم) . وقال في الدر المختار للسادة الحنفية: (يحرم رفع الصوت في المسجد بذكر إلا للمتفقهة) . اهـ. ولعل موضوعه فيما إذا كان في تشويش، وقال ابن العماد الشافعي: (تحرم القراءة جهرًا على وجه يشوش على نحو مصلٍّ) اهـ ومر. ويأتي النص على أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون رفع الصوت بالذكر والقرآن، ولا سيّما في المساجد، فإذًا عند التشويش لا يشك في التحريم، نعم، ورد النص على فضل قراءة هذه السورة ليلة الجمعة ويومها، ولكن ليس كما اعتاده هؤلاء الناس، بل يقرأ لنفسه في بيته مطلقًا، أو في المسجد بدون رفع صوت؛ حذرًا من التشويش، وعبارة (قرة العين) مع شرحها (فتح المعين) للعلامة زين الدين المليباري الشافعي نصها: (وسُن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة وليلتها لأحاديث فيها، وقراءتها نهارًا أوكد، وأولاها بعد الصبح مسارعة للخير، وأن يكثر منها ومن سائر القرآن فيهما، ويكره الجهر بقراءة الكهف وغيرها إن حصل به تأذٍّ لمصلٍّ أو نائم، كما صرّح به النووي في كتبه) وقال شيخنا في شرح الباب: (ينبغي حرمة الجهر بالقراءة في المسجد، وحمل كلام النووي بالكراهة على ما إذا خِيفَ التأذي، وعلى كون القراءة في غير المسجد) اهـ. قال محشيّه السيد علوي قوله: (.. لأحاديث) فقد صح أن من قرأها ليلتها أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق. اهـ وفي فتاوى قاضي خان: (رجل يقرأ وبجنبه رجل يكتب الفقه لا يمكنه أن يستمع كان الإثم على القارئ؛ لأنه قرأ في موضع يشتغل الناس بأعمالهم، ولا شيء على الكاتب) . اهـ فما بالك بمَن كان مشغولاً بنحو صلاة، ويشوش القارئ عليه كالحاصل بقراءة سورة الكهف يوم الجمعة، ونحوه في الفتح عن الخلاصة قال: (وعلى هذا لو قرأ على السطح والناس نيام يأثم) . اهـ، قال ابن عابدين: (أي لأنه يكون سببًا لإعراضهم عن استماعه، أو لأنه يؤذيهم بإيقاظهم) ، ثم قال: (يجب على القارئ احترام القرآن بأن لا يقرأه في الأسواق ومواضع الاشتغال، فإذا قرأ فيها كان هو المضيع لحرمته، فيكون الإثم عليه دون أهل الاشتغال دفعًا للحرج) اهـ (وكذا في مذهب السادة الحنبلية وغيرهم، فتحصل أن قراءة السورة المذكورة بهذه الكيفية التي اعتادها كثير من الناس ممنوعة بإجماع المسلمين، وكيف لا وهي من الحدث في الدين لمخالفتها لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه وصالح السلف، ومعلوم أن كل ما خالف ذلك فهو في شَرَك الوبال والتلف) . اهـ. هذا ما رأينا نقله الآن من كتاب السبكي من غير بحث فيه، وسنعود إلى النقل عن هذا الكتاب الذي نودّ أن يطلع عليه جميع المسلمين، ونشكر لمؤلفه عنايته بخدمة الدين. *** (تقويم المؤيد) صدر تقويم المؤيد للسنة الهجرية الجديدة، وفيه من الفوائد والمباحث العلمية والتاريخية والسياسية والأدبية ما جمع - على اختصاره - بين الفائدة واللذة، وقد توسع فيه بالكلام عن مصر والسودان، حتى إنه يُغني عن كتاب (دليل مصر) لما فيه من بيان أحوال البريد والسكك الحديد ... وذكر في باب وفيات الأعيان ملخص تراجم كبار الرجال الذين ماتوا في العام الماضي، ومنهم باي تونس والسيد الكواكبي، وذكر في باب القضاء أهم المسائل التي يحتاج إلى معرفتها المتخاصمون في المحاكم المصرية مرتبة على حروف المعجم، وفي باب الإحصاء طلبة العلم والعلماء بمساجد مصر، البريد المصري، سكك الحديد في العالم، الأمم المدمنة السكر، نسبة المتعلمين في الأمم، العائلات وضعف التناسل، الجرائد في العالم، سكان الأرض، السفن، اللغات، الزنا في فرنسا، النساء في الولايات المتحدة، أعمار النساء، وغير ذلك. وجملة القول في هذا التقويم: إنه نديم المقيم، ورفيق المسافر، وقاموس العلم، ومكتبة الحبيب، وهو يُطلب من مؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر بالمؤيد، ومن المكاتب الشهيرة، وثمنه خمسة قروش. *** (النخبة الأزهرية في تخطيط الكرة الأرضية) كتاب حافل في تقويم البلدان يدخل في أربعة أجزاء: الجزء الأول: عموميات على الدنيا، الجزء الثاني: مصر والحكومة السودانية، الجزء الثالث: إفريقيا وأوربا، الجزء الرابع: آسيا وأمريكا والأقيانوسية والأقاليم القطبية، وفيه 47 خريطة ملونة و66 صورة وشكلاً، ومؤلفه إسماعيل أفندي علي الموظف بنيابة الاستئناف الأهلية، ومدرس علم تقويم البلدان بالجامع الأزهر الشريف. هذا ملخص التعريف بالكتاب، ونقول إن قُراء العربية في أشد الحاجة إلى كتب مطولة في هذا الفن ومن العجيب أن وُجدت كتب مطولة في أكثر العلوم العصرية دون هذا العلم الذي يجب أن يكون عامًّا، ومن الفضائح أن يجهله ذكر أو أنثى، فمن نعم الله تعالى على قراء العربية أن سخر لهم رجلاً من أوسعهم اطلاعًا وتدقيقًا فيه، فوضع لهم هذا الكتاب، وهو مؤلفه إسماعيل أفندي علي الذي زاول تعليمه في المدارس الأميرية أعوامًا طويلة، ثم لا يزال يعلّمه في الأزهر إلى اليوم. ومن شكر النعم أن يبادورا إلى اقتناء الكتاب والاستفادة منه؛ لأن الشكر إنما يكون بوضع النعمة في موضعها الذي وجدت لأجله، ومن آيات الجهل الفاضحة أن يحبس هذا الكتاب الجليل في مكاتب الباعة زمنًا طويلاً، ومن الإساءة أن ينفق هذا المؤلف زمنًا طويلاً من وقته في التعريب والتأليف ووضع الخرائط بالعربية، ثم يصرف مبلغًا كبيرًا من ماله في نفقات طبع الكتاب، ولا تكون أقل مكافأة له من الأمة سرعة الإقبال على كتابه. أما صفحات الكتاب فهي 640 من الشكل الكبير جدًّا، وثمنه أربعون قرشًا صحيحًا، ومَن لاحظ الصعوبة في طبع الخرائط الملونة بالألوان الكثيرة، وصعوبة وضعها يعلم أن ثمن الكتاب رخيص بصرف النظر عن فائدته. إننا تصفحنا بعض الكتاب بالإجمال، وإنما نثق به لثقتنا بسعة اطلاع مؤلفه على كتب الإفرنج الحديثة، وله العذر إذا وقع فيه شيء من الخطأ في إحصاء أهالي بلاد كالبلاد العثمانية، لا يتيسر له الوقوف على كتب حديثة فيها كما يتيسر له في غيرها، وقد كان أول مَن انتقد ذلك في الكتاب هو أول المعجبين به صديقنا رفيق بك العظم، قال: (إنه اعتمد على الإحصاءات القديمة) ، كقوله - عن سكان دمشق - إن عددهم 60 ألفًا، مع أن الإحصاء الجديد الوارد ذكره في سلنامة الولاية الرسمية هو 143321، وفي الحقيقة إنه يزيد عن هذا العدد أيضًا؛ إذ يقدر العارفون سكان دمشق بمائة وستين ألفًا، وعلى هذا يقاس ما ذكره عن عدد نفوس بقية البلدان الكبيرة في الزيادة والنقصان كحلب وبيروت وحماة وغيرها، ولو اعتمد في النقل على سلنامات الدولة الرسمية لكانت خدمته العظيمة أتم، ووضعه الجميل أكمل، وانتقد عليه أيضًا عدم تعيينه درجات العرض للبلدان الكبيرة بالتفصيل، أو الأقطار بالإجمال، ولو فعل لأغنى المطالع عن مراجعة الخرائط الموجودة في الكتاب لمعرفة عرض كل بلد أو قطر، كما فعل غيره في كتب أصغر من كتابه، وانتقد أيضًا اختصار الكلام في المملكة العثمانية، وهو يرجو - كما نرجو - أن يضع لها كتابًا مخصوصًا.

الدولة العلية ومكدونية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدولة العلية ومكدونية نجم من عدة أشهر ناجم من الثورة في بلاد مكدونية فشخصت له أوربا وأسرعت روسيا والنمسا إلى الدولة العلية بالنصيحة والحث على تلافي الأمر والمسارعة إلى إصلاح البلاد ووضعتا للإصلاح (لائحة) عرَّفتا بها سائر الدول ثم قدمتاها إلى الدولة ملحّتين في المبادرة إلى قبولها فلم تلبث الدولة أن قبلتها على عِلاَّتها خلافًا لعادتها في التريث والليِّ. ومن موضوع اللائحة وجوب استعمال الأوربيين في الإصلاح؛ لأنه لا ثقة لأوربا برجال الدولة وقد ساء هذا معشر الألبانيين ولم يقع موقعه من نفوس معاشر المسيحيين؛ لأن نفوسهم طمعت بالاستقلال، فكل ما دونه يعد عندهم من ألاعيب الأطفال. كان في أثر ذلك أو معه حركة في البلغار وهزة في (السرب) ، وطاف في الأذهان أن هذه الفتنة ستعم بلاد البلقان، وظهرت من بعض الدول العظام أمارات الاتفاق مع روسيا والنمسا، ومن بعضهن علائم السكوت وعدم المعارضة، واختلفت الظنون في نية روسيا فجنح بعضٌ إلى ترجيح كفة السلم من جانبها؛ بدليل نصائحها المتتابعة للبلغاريين وغيرهم من شعوب البلقان بأن يخلدوا إلى السكينة ويتفيّؤوا ظلال الهدوء والمسالمة، ومال بعض إلى ترجيح كفة الحرب بدليل التقاليد القديمة التي وضعها بطرس الأكبر في وصيته (التي نشرناها في الجزء الماضي) وما يصدق ذلك من أخبار استعدادها الحربي في هذه الأيام. الحق أن لكل من الرأيين وجهًا وجيهًا، وأن سياسة روسيا أصبحت دقيقة المسالك مشتبهة الأعلام فبينا ترى قيصرها ينادي بوجوب تعميم الأمن والسلام، ومد ظلاله على رؤوس جميع الأنام، تراه يستعد للكفاح استعدادًا صوريًّا ومعنويًّا. فأما الصوري فبإنشاء الأساطيل وتكثير الأسلحة وإتقان العلوم العسكرية، وأما المعنوي: فبمحالفة بعض الدول القوية ومسالمة بعض. ولقد كان الإنكليز عون الدولة العثمانية على روسيا فحال لوْن السياسة الجامعة بينهما وتغير شكلها وتبدل السلطان عاهل الألمان بالإنكليز، وهو ملك يَطْعَمُ ولا يُطْعِمُ شديد الجشع، قوي الطمع إذا رأى روسيا وقد جدَّ جدها يكتفي منها بلقمة كبيرة يلتهمها ويتركها بعد ذلك وشأنها، ولا يطوف في خاطر عاقل أنه يسمح بجندي ألماني واحد لصديقه السلطان إذا نزل مع الروس في ميدان الطعان! كانت قلوب المسلمين في العيدين محوّمة فوق بلاد مراكش تؤلمها فتنة الخارج، كما تسوءها سيرة المالك، وقد دخلت عليها السنة الجديدة فاستقبلها همّ أكبر من هم مراكش، همّ الدولة المسلمة الكبرى (وقاها الله تعالى) ولا خوف عليها إلا من روسيا. فإذا كانت لا تريد سوءًا فدع البلقان يضطرم بنيران الثورة اضطرامًا ولا تخش مغبته فالدولة قادرة على تأديبه. وأسوأ عاقبة تنتظر حينئذ استقلال مكدونية أو وضعها تحت حماية الدول الكبرى على المذهب الجديد في سير أوربا بالمسألة الشرقية مذهب التفكيك وتحليل العناصر، وهذا المذهب خير لدول أوربا وأسهل طريقًا من حرب الدولة لأجل الفتوح والتغلب؛ لأن هذا يعوزه الاتفاق على ما يتعسر الاتفاق عليه ويقتضي بذل أموال غزيرة، وسفك دماء عزيزة هو خير للشرقيين أو المسلمين، وأسهل عليهم أيضًا؛ لأن كل عنصر ينحل من عناصر بلادهم وكل قطعة تنتقص من أرضهم تفيدهم عبرة كبرى وتعلمهم كيف يحفظ الباقي فإذا لم يتعلموا بتكرار النُّذر وأنواع العبر، وكانوا يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، فهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيَّان يبعثون! مسألة مكدونية مسألة عشواء والحكم فيها غامض لما تقدم؛ ولأن النصارى فيها وفي جميع ما بقي تحت حكم العثمانيين من بلاد أوربا وما يدانيها كبلاد الأرمن قد توجهت نفوسهم إلى الاستقلال واعتقدوا أن أوربا نصيرة لهم وأن الذريعة الوحيدة لإثارة نعرتها عليهم وتصدِّيها لفصلهم من جسم الدولة الثورات التي تضطر الأتراك إلى سفك قطرات من دمائهم تأديبًا لهم ولعل أوربا في مجموعها وروسيا حاضنة جراثيم فكر الاستقلال في البلقان في خاصتها تعجز عن ضبط حركة هذه الثورة التي تولدت وتأصلت ورسخت واندفعت عن بصيرة أو غير بصيرة. هذا ما يُخشى على تقدير إرادة روسيا إطفاء الثورة والاكتفاء بما طلبت من الإصلاح فكيف إذا كانت تريد شيئًا آخر؟ ! وماذا يجب على الدولة أن تفعله في هذه الفتنة وماذا يجب عليها أن تفعله في نفسها لأجل مستقبلها؟ أما الأول: فالظاهر أن الذي تعمله الآن من إجابة طلب روسيا والنمسا إلى الإصلاح الذي طلبتاه بدون تحوير ولا تأخير ومن اختيار الموظفين الأوربيين للإصلاح من الأمم الأوربية الضعيفة ومن الاستعداد للكفاح إذا طرأ ما هو أعظم من ذلك هو الواجب الذي لا يمكن غيره. وأما الثاني: فإن الجواب عنه لا يفهم ويقبل إلا بعد العلم بأمور كثيرة أهمها (مالية الدولة) وإن لدينا رسالة مطولة أو كتابًا صغيرًا في ذلك لأحد الكُتاب العثمانيين مستقًى من الينابيع الرسمية وإننا ننشره تِبَاعًا في أجزاء المنار ليصح للقارئين معرفة الدولة وما يجب أن تعمله لتنجو من الخطر. وإن فهم حقيقة الدولة مما لا بد منه للمشتغلين بمسألة الإصلاح الإسلامي لما لهذه الدولة من المكانة في الوجود ومن المكانة في نفوس المسلمين في جميع أقطار الأرض. ولهذا أخذنا على أنفسنا أن نكتب في كل جزء من منار هذه السنة شيئًا عن الدولة العلية من بيان حقيقة وجودية ورأي معقول نرجو الانتفاع به. ونتجنب في ذلك المدح والذم للأشخاص المعينين.

سلطان زنجبار والأمير العربي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سلطان زنجبار والأمير العربي نحمد الله تعالى أن حفظ البلاد المقدسة في هذه السنة من الوباء والأمراض، وقد كتب إلينا من مكة المكرمة بأن صديقنا الأمير العربي الكريم محمد باشا عبد الوهاب شيخ دارين قد كان له من الحفاوة والاحترام عن سيادة الشريف ودولة والي الحجاز ما يليق بمقامه، وأنه قد وُفِّقَ إلى توزيع ألف وخمسمائة جنيه على علماء الحرم الشريف وخدمته وغمر بصدقاته الفقراء والمعوزين، وأنه تبرع بمئة جنيه وعشرة جنيهات إعانة لسكة حديد الحجاز وأن سلطان زنجبار تبرع لهذه السكة أيضًا بمئة جنيه وخمسة جنيهات ووزع على المجاورين والمستخدمين في الحرم الشريف ست مئة ريال (بوم) . (تنبيه) كل مَن قبل هذا الجزء من المنار فهو مشترك إلى آخر السنة ويجب عليه دفع القيمة المعينة على غلاف المجلة. ونستثني عمال البريد خاصة، فنقبل منهم نصف القيمة.

الكرامات والخوارق ـ 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق المقالة التاسعة فيما ينبغي عليه التعويل علم مما تقدم أن الأمور الغريبة التي تسمى خوارق عادات وعجائب منقولة عن جميع الأمم فهي واقعة حتمًا، ومنقولة بالتواتر اللفظي وبالتواتر المعنوي، وإن ادعاها كثيرون من الناس كذبًا وتعمَّلوا للاشتهار بها تعملاً. ثم إن هذه الأمور على ضربين: ضرب عرف عن أهله أنه صناعي يتوصل إليه بالعلم والعمل كالسحر والشعوذة، فهو من الخوارق بالنسبة إلى الذين لا يعرفون طريقه ولم يقفوا على عِلَله قال تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (البقرة: 102) وقال عز وجل: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) أي: والحقيقة خلاف ذلك التخيل وقال: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوَهُمْ} (الأعراف: 116) وقال - حكاية عن فرعون -: {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} (طه: 71) وضرْبٌ عُرِفَ عن أهله أنه ليس له طريق صناعي يوصل إليه العلم، وإنما هو وراء الأسباب والثابت القطعي من هذا القسم آيات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتقدم الكلام عليها في المقالة الأولى وفي الأمالي الدينية ومنه ما يدعيه أو يُدَّعى لكبار رجال الدين من أهل الملل والكلام فيه، والمقصود منه بالذات ما عندنا معشر المسلمين وقد ذكرنا حجج مثبتي الكرامات وحجج منكريها وأوردنا ما رواه المثبتون من الكرامات المأثورة عن الصحابة والتابعين، وبينا ما صح منها وما لم يصح فليراجع كله في المجلد الثاني من المنار. وإننا نختم القول في مبحث الكرامات بمسائل أكثرها مستفاد من المقالات السابقة، وهذه المسائل هي خلاصة رأينا في الموضوع فمن أنكر علينا منها شيئًا فليكتب إلينا مدليًا بحجته، ونعده بأننا ننشر ما يكتب بمعناه أو بلفظه إذا كان صحيحًا ومختصرًا وغير خارج عن محل النزاع استطرادًا إلى مسائل أخرى. فإن كانت الحجة ناهضة سلمنا وإن كانت داحضة بيَّنَّا. ولا ينبغي لأحد أن يرد علينا في الموضوع إلا بعد الاطلاع على المقالات التسع؛ لئلا يبحث في شيء سبق بيانه فيُهمَل كلامه: (المسألة الأولى) إن الأصل في كل ما يحدث في الكون أن يكون له سبب وأن يجري على سنة من سنن الله تعالى في الخلق، وهذه الأسباب مطردة متى تمت شروطها (كما قال الغزالي) وتلك السنن ثابتة لا تبدل ولا تحول كما علم بالمشاهدة والاختبار وبنص القرآن، فهي مسألة اتفق فيها الحس والعقل مع نصوص الشرع، فهي قطعية. (المسألة الثانية) إن من قضايا العقول - التي نصها علماء الأصول - أن الظن الراجح لا يعارض العلم اليقين وأيد هذا القرآن أيضًا بمثل قوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا} (النجم: 28) وقوله عز وجل: {وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) وغير ذلك من الآيات الواردة في إبطال عقائد أهل الزيغ والجحود. (المسألة الثالثة) أجمع العلماء من الأصوليين والمحدثين على أن روايات الآحاد العدول الثقات كالصحابة وأئمة التابعين المعروفين ومن عُرف بالصدق وحسن السيرة مثلهم لا يفيد أكثر من الظن، وأجمعوا على أنه إذا روي عنهم ما يخالف المعقول القطعي والمنقول القطعي كنص القرآن فإنه لا يعتد بالرواية ولا يعول عليها إلا أن يوفق بينها وبين القطعي منقولاً كان أو معقولاً فقط. (المسألة الرابعة) إن العجائب والخوارق قد نقلت عن جميع الأمم فليس من الصواب التفاضل بينها وادعاء أن بعضها على حق وبعضها على باطل بسبب ذلك وإنما يجب تمحيص النقول وتحريرها فإن الناس مولعون أشد الولع بالغرائب، وأكثر ما يتحدثون به منها كاذب. (المسألة الخامسة) كما يجب تمحيص النقل والرواية يجب تمحيص المرويّ المنقول من الغرائب؛ ليعلم أنه واقع حقيقة ولم يكن تخييلاً للأنظار أو خداعًا للأبصار أو الأفكار. (المسألة السادسة) قد كشف العلم أسبابًا لأمور كثيرة كانت تسمى خوارق وكرامات، فإذا علم بعد تمحيص الرواية والمروي أن شيئًا من هذه الغرائب وقع لا محالة، فينبغي الرجوع لالتماس الأسباب من مظانها في العلم الطبيعي وعلم النفس فإن لم يظهر له سبب يحمل عليه، ولا وجه يمكن أن يؤوَّل إليه فهو الذي يصح أن يسمى خارقة أو أعجوبة والنظر فيه من وجهين: حال مَن ظهر على يده، وإمكان قياسه على غيره. (المسألة السابعة) لثبوت الخارقة - على ما ذُكر - طريقان: الحسّ السليم والتواتر الصحيح وكلاهما عسر جدًّا؛ لأن الحواس تُخدع حتى تكذب صاحبها فيما ترى وتسمع، وأمر التواتر أبعد في العسر وصعوبة التحقق فإن من شرطه أن ينتهي إلى حس محقق باليقين، وقد علمت أن الحس يخدع في هذا المقام. ومنها أن يكون الناقلون لذلك الخبر المحسوس جمعًا يستحيل في العقل السليم تواطؤهم على الكذب وانخداعهم بما أدركوه بحسهم وأن ينقل عنهم مثلهم في كل طبقة من الطبقات وإنك ترى أكثر الناس يسمون الأمور المشهورة بينهم متواترة، لا سيما إذا كثر تحدث الناس بها فإذا استقريت حلقات سلاسل الروايات وجدتها كلها معلقة في آخرها بحلقة واحدة أو حلقتين أو ثلاث مثلاً. وما انتهى إلى واحد أو آحاد فهو خبر يحتمل الصدق والكذب لذاته، وربما رجحتَ الكذب في أكثر الغرائب المشهورة التي يسمونها متواترة. الحق أن الإنسان متهم طبعًا بإذاعة كل غريب لا سيما إذا صادف هوى في النفس أو طابق التقاليد والاعتقادات المسلّمة. فالحمد لله الذي جعل آية نبينا بينة قائمة على وجه الدهر محفوظة من المعارضة والنقض مادامت السموات والأرض. (المسألة الثامنة) إنك إذا بحثت في حال الذين يدعون الخوارق تجدهم طلاب مال، وطلاب جاه وأنهم يقصدون بما يأتون استرهاب الناس بما يوهمونهم من قدرتهم على إيذائهم متى شاءوا أو تعليق آمالهم بهم وإيهامهم أن بأيديهم مقاليد الرزق ومفاتح الخير، أو الجمع بين الأمرين حتى إنهم جعلوا إرادة الله تابعة لإرادتهم! كما قالوا في الكلمة المأثورة عن الربانيين منهم وهي: (إن لله عبادْ، إذا أرادوا أرادْ) ! (هكذا يقولونها بالوقف على العباد على لغة ربيعة) . وينقلون عنهم من مثل هذه الجرأة على الله تعالى كلمات كبيرة وأشعارًا وأغانٍ تختلب قلوب العامة. وفي كتب العقائد التي تُقرأ في الأزهر وغيره من المدارس الدينية (كحواشي الباجوري على الجوهرة والسنوسية) أن خوارق العادات تظهر على أيدي جميع أصناف الناس حتى الكفار والفساق، وتسمى إذا صدرت من هؤلاء على نحو ما يحبون (استدراجًا) ؛ لأنها تغرهم بما هم فيه من الباطل فيسترسلون فيه حتى لا مطمع في هدايتهم، وإذا ظهرت على يد مستور الحال تسمى (معونة) . ويخصون اسم الكرامة بالخارقة التي تكون للمتمسك بالشريعة اعتقادًا وتخلقًا وعملاً في الظاهر والباطن. وإننا نقول لمن يأخذون أقوال هؤلاء العلماء بالتسليم: إذا كانت الخوارق تقع على أيدي جميع طبقات الناس فلا يجوز الاستدلال بها على أن من تظهر على يديه محق في اعتقاده أو مرضي عند ربه، وإنما يعرف ولي الله تعالى والصالح من عباده بأمر واحد وهو مطابقة اعتقاده للحق المؤيد بالبراهين الصحيحة، وموافقته في أخلاقه وسجاياه وأعماله السرية والجهرية لما أرشد إليه الدين والعقل من الفضائل والمنافع العامة والخاصة بقدر الاستطاعة. ونحن نرى العامة يبيحون لمن يجري على يديه شيء من الغرائب جميع المنكرات، فهم يحكّمون خوارقه في حاله من الاعتقاد والعمل، والعلماء يحكّمون حاله في خوارقه، فقد تناقض اعتقاد العامة مع اعتقاد العلماء ولا نرى أحدًا منهم ينكر على الآخر ولا يجذبه إليه؛ لأن حرية الإسلام قد انقلبت إلى فوضى بعد ذهاب منصب الخلافة وتولية الجاهلين بالدين أمور المسلمين! (المسألة التاسعة) مَن رأى بعينه خارقة للعادة أو نُقلت إليه بطريقة التواتر الصحيح وعرف أنها لم تكن خداعًا ولا تخييلاً وعلم أن من ظهرت على يديه ليس من أهل التلبيس والشعوذة، ولا من طلاب المال والجاه واستمالة القلوب إلى الاعتقاد به، وصعب عليه أن يحملها على وجه من وجوه التأويل الآتية - فإن له أن يقيسها على ما عرف تأويله بأن يقول: إن كثيرًا من الغرائب وخوارق العادات المألوفة قد كان يظن أنها خارجة عن نظام الخليقة وسنن الكون ومنتثرة من سمط الأسباب التي تنتظم بها المسببات ثم ظهر أنها لم تكن شاذة عن تلك السنن الإلهية، ولا نادَّة من دائرة الأسباب الكونية، وهذا الذي أراه الآن هو مثل تلك في ذاك الزمان، فيجوز أن يظهر له مثل ما ظهر لها من السبب، وتزول الغرابة ويبطل العجب، وهذا الرأي هو الذي عليه جميع العقلاء والحكماء في هذا العصر وإنهم ليتوقعون ظهور علل جميع الغرائب التي حدثت في العالم حتى معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. (المسألة العاشرة) إذا فرضنا أن العلم أظهر لما يُؤثَر من المعجزات عللاً روحانية وأسبابًا خفية فلا يَهِمَنَّ واهِمٌ أن ذلك قدح في النبوة، أو ظهور لبطلانها. كلا، إنه إن تحقق فلا يبعد أن يكون تحققه مظهرًا لحقية النبوة؛ كأن يتبين أن الأرواح العالية تتصل بالعالم الأعلى وتستمد من عالمه الذي يسمى الملائكة قوة العلم والهداية وقوة الأعمال الغريبة كإحياء الموتى وقلب العصا حية. فإن لم يتبين به صدقها فلا وجه لظهور عدمه؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما كانوا يدَّعون أن الآيات التي يؤيدهم الله تعالى بها خارجة من سننه الظاهرة والخفية، وما كانوا يدعون أن لهم سلطانًا في ملك الله تعالى يتصرفون فيه بمشيئتهم وإرادتهم متى شاءوا وكيفما شاءوا وإنما كانوا يتبرؤون من حولهم وقوتهم ويسندون ما يؤيدهم الله سبحانه به إليه، ويقولون: إنه واقع بإذنه، وقد كان اعتمادهم في دعوتهم إلى الله على البرهان وكانوا لا يُعطون الآيات إلا بعد معاندة ومجاحدة من قومهم وإلحاح في طلب آية لا يعرف مثلها عن البشر في أفعالهم السببية، وكان الله تعالى يقيم عليهم الحجة التي يطلبونها، ولم تكن هي العمدة في إثبات الدعوة إلى الله وبيان وحدانيته وقدرته وعلمه ووحيه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (إبراهيم: 9 - 11) . فهذه هي سنة الله في الأنبياء والأمم، يدعو النبي قومه إلى الله بالبينة وهي كل ما يتبين

دعوى صلب المسيح ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعوى صلب المسيح (1) جاء في الجزء الأخير من الجريدة البروتستنتية نبذتان في الطعن بالإسلام: إحداهما محاورة في صلب المسيح، والثانية طعن في القرآن وقيح، وقد كانت هذه المجلة تطعن في الإسلام وكتابه ونبيه مع شيء من الأدب ونراها في هذه المدة هتكت ستار الأدب وتجاوزت حدوده، مع أننا كنا نرجو أن تزيد في تحريه بعدما أسند تحريرها إلى نقولا أفندي روفائيل الذي نعرفه دمثًا لطيف الشمائل، ولكنها نشوة الحرية في مصر، والشعور بضعف نفوس المسلمين في هذا القطر فَعَلا في نفوس هؤلاء الدعاة إلى النصرانية ما لا تفعل الخمر، فصار الواحد منهم إذا نسب الافتراء إلى سيد الأنبياء بالتصريح وكتبه ونشره يرى نفسه كأنه قد جلس على كرسي ميناس الأول أو رعمسيس الأكبر. ونحن نقول: إن الحرية تنفع الحق ولا تضره، وإن سوء الأدب يضر صاحبه ولا ينفعه وإن الشعب الضعيف قد يقوى بشدة الضغط المعنوي عليه فيتنبه إلى التمسك بحقه والدفاع دونه وعند ذلك تزهق الأباطيل. وإننا لم نطلع على ما ذكر إلا بعد تهيئة أكثر مواد هذا الجزء من المنار فاختصرنا مقالة الخوارق والكرامات وكتبنا بدل تتمتها هذه الكلمات، ونرجئ تفنيد أقوالهم في القرآن إلى الجزء الثالث من المنار، ونخص كُليماتنا هذه في مغامز ذلك الحوار. ذكرت المجلة أن الحوار كان في مكتبة البروتستان في السويس بين محررها وبعض المسلمين، وأن المسلم احتج بالقرآن على نفي الصلب فأجابه المحرر: هبْ أنك كنت معاصرًا للمسيح وممن يعرفونه شخصيًّا وحضرت في مشهد الصلب خارج أورشليم فماذا كنت ترى؟ قال: كنت أرى - ولا شك - المسيح مصلوبًا كما رآه الجمهور، قلت: وماذا يكون إيمانك ويقينك حينئذ؟ قال: كنت أوقن وأؤمن وأشهد أنه صُلب حقًّا كما أبصرت بعيني وأبصر الجمهور في رائعة النهار. قلت: افرض أنك فيما أنت مؤكد بهذا التأكيد عن صلب المسيح وإذا برجل أمي من العرب - أولئك القوم المشركين - يقول لك: أنت المؤمن وقد مضى على حادثة الصلب نحو سبعمائة سنة عبارة القرآن هذه: (وما صلبوه وما قتلوه) (كذا) فهل تستطيع أن تكذب عيانك وعيان الجمهور وتصدق خبر هذا الأمي؟ وهل الخبر أصدق من العيان؟ قال: إذا كنت أعلم أن هذا الأمي المكذب للصلب رسول الله فأصدق خبره وأكذب عياني وعيان الجمهور؛ لأن الله أعلم منا بحقائق الأمور. قلت: وهل علمت أنه رسول الله وأن هذه العبارة من وحي الرحمن لا من تلقين الشيطان؟ قال: نعم علمت ذلك بدون شك، أجبت: كيف علمته؟ قال: إن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لما بعث رسولاً أيده الله بالمعجزات الباهرة. قلت: ليس لمحمد معجزة بدليل قوله: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولكن هب أن له معجزة وأنت رأيتها فبأي حق تُرجح حكم حسك في رؤية معجزات محمد على حكمه في رؤية صلب المسيح أَوَ لست تعلم أنه إذا أرى اللهُ الناسَ شيئًا على خلاف حقيقته ثم كذَّب ما أراهم إياه لا يعود الناس يصدقونه إذا أراهم شيئًا على حقيقته! تعالى الله عن ذلك التلاعب، وهل هذا هو الدليل القرآني الذي تحاول أن تنفي به حقيقة شهدت لها الكتب المقدسة من قبل ومن بعد، وأثبتها التاريخ والآثار وعاينها جمهور عظيم من كل أمة تحت السماء؟ ! وعند سماعه حجتي لم يكن عنده رد عليها وأمسك عن الكلام وخرج هو وأصحابه! وعدا ذلك اعلم - أيها القارئ العزيز - أن عبارة القرآن: {وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) منقولة عن بقايا فرقة صغيرة من النصارى قد مرقت عن الحق يقال لها (الدوسيتيين) الذين اعتقدوا بلاهوت المسيح تمامًا كما تعتقد النصارى اليوم ومن البدء؛ ولكنهم أنكروا ناسوته وزعموا أن الجسد الذي ظهر به المسيح إنما كان صورة فقط لا حقيقة له أشبه بالظل والخيال وأوَّلوا الآيات الإنجيلية التي تثبت كون جسده كسائر الأجساد ما عدا الخطيَّة فقالوا عن نموه في القامة: ما كان ينمو ولكن شبه لهم وعن تناوله الطعام قالوا: ما كان يأكل ولا يشرب؛ ولكن شبه لهم، وعن نومه وسائر أعماله الجسدية المشار إليها في الإنجيل قالوا: لم تكن حقيقية بل شبهت لهم وعن صلبه وموته قالوا: (ما صلبوه وما قتلوه ولكن شبه لهم) فمحمد إذ سمع مقالتهم بصلب المسيح صورة دون الحقيقة ولم يكن يعلم المبدأ الذي ترتب عليه هذا القول بادر بالمصادقة عليه رغبة في تنزيه المسيح عن الموت المهين ونكاية في اليهود، والدليل على ذلك أن مقالة التشبيه هذه لا يمكن أن تخطر مباشرة على بال عاقل ما لم يكن لها مبدأ كالذي ذكرناه اهـ. هذه هي المحاورة التي أوردها بحروفها ونقول له في الجواب: إن الإسلام سيهدم الوثنية التي غشيت جميع الأديان السماوية حتى يرجع الناس إلى الدين القيم دين التوحيد القائم على أساس الفطرة المطابق للعقل حتى يعترف الناس أن الوثنية السفلى كعبادة الحجر والشجر مثل الوثنية العليا، وهي عبادة البشر، فهو يهدم كل دين بالبراهين الراجحة، فكيف تقوى عليه هذه السفسطة الفاضحة؟ ! إذا فرضنا أن أجوبة المسلم له كانت قاصرة في معناها على ما كتبه فلا شك أن ذلك المسلم عامي غِرٌّ، والظاهر أنه زاد في القول ما شاء وحرَّف فيه ما شاء كما هي عادتهم، وكما تدل عليه المبالغة في تأكيد الصلب من المسلم بناءً على ذلك الفرض ككلمة (كنت أرى ولا شك) وكلمة (كما رآه الجمهور) وكلمة (كنت أوقن وأؤمن وأشهد) ومن عادة المنكِر إذا أقر بشيء على سبيل التسليم الجدلي الفرضي أنه لا يؤكده بمؤكد ما فكيف نصدق أن ذلك المسلم انسلَّ من هذه العادة الطبيعية العامة وغلا كل هذا الغلو في تأكيد الصلب ثم انقطع عن المناظرة وتوهم أنه رأى المسيح مصلوبًا حقيقة وحار في التطبيق بين مشاهدته، وقول مَن قام البرهان على عصمته؟ ! ونحن نذكر للكاتب البارع جواب المسلم العالم بدينه عن هذه المسائل. أما الجواب عن السؤال الأول: فكل من يعرف الإسلام يقول فيه: إنني لو كنت في زمن المسيح وكنت أعرف شخصه لجاز أن يشتبه عليَّ أمر تلك الإشاعة كما اشتبه على غيري، فالنصارى أنفسهم لا ينكرون أنه وقع خلاف في الصلب، وأن بعض الأناجيل التي حذفتها المجامع بعد المسيح بقرون كانت تنفي الصلب ومنها إنجيل برنابا الذي لا يزال موجودًا رغمًا عن اجتهاد النصارى في محوه من الأرض كما محوا غيره. وإذا كانت المسألة خلافية وكان الذين اختلفوا فيه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن فما علينا الآن إلا أن نأخذ بما قاله عالِم الغيب والشهادة في كتابه المنزل على نبيه المرسل. وبهذا الجواب سقط السؤال الثاني وجوابه وكذلك السؤال الثالث. ومع هذا نقول: إن السؤال الثالث غير وارد بحال فإنه ليس عندنا مسألة مشاهَدة وجاءنا رجل أمي من المشركين يكذبها ولو وقع هذا لكذبنا المشرك الأمي وصدقنا بصرنا. وإنما عندنا مسألة تاريخية اختلف فيها الناس وظهر فينا نبي أمي باتفاق جميع الأمم؛ ولكنه علمنا الكتاب والحكمة وهدم الشرك والوثنية من معظم الممالك بقوة إلهية أعطاه الله إياها. ومما جاء به حل عُقد الخلاف بين الملل الكبيرة ومنها هذه العقدة فوجب اتباعه في ذلك. وعجيب من نصراني يبني دينه على التسليم بأقوال مناقضة للحس والعقل في كتب ليس له فيها سند متصل ثم يحاول هدم كتاب سماوي منقول بالتواتر الصحيح حفظًا في الصدور والسطور بمعول وهمي، وهو فرض أننا رأينا المسيح مصلوبًا وما رأيناه مصلوبًا، والفرض الموهوم لا يمس الثابت المعلوم، يقول هذا النصراني: إن التوراة التي يحملها هي كتاب موحى من الله تعالى وكله حق. وفي هذه التوراة مسائل كثيرة مخالفة للحس والبرهان العلمي فكيف يؤمن بها؟ كيف يؤمن بقولها إن الرب قال للحية: (وترابًا تأكلين كل أيام حياتك) وهذه العبارة تفيد بتقديم المفعول أنها لا تأكل غير التراب وقد ثبت بالمشاهدة أنها تأكل غير التراب كالحشرات والبيض ولا تأكل التراب مطلقًا، وكيف يؤمن بأن الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، وأن كلاً من هذه الوحدة وهذا التعدد حقيقي؟ وأمثال ذلك كثير في الكتابين. وأما السؤال الرابع فجوابه أننا علمنا أن محمدًا رسول الله، وأن ما جاء به وحي من الله بالبراهين القطعية، ومنها ما أشرنا إليه آنفًا في مقالات الكرامات والخوارق (راجع المسألة العاشرة) ، وقررناه بالتفصيل في مقالات سابقة، وأثبتنا آنفًا من نص توراتكم وإنجيلكم أن الآيات والعجائب الكونية لا تدل على النبوة وأنها تصدر على أيدي الكذبة والمضلين. هذا إذا سلمنا أن النبي e لم يؤتَ إلا آيات الكتاب العلمية، وما كان على يديه من الهداية العملية وكلاهما يدل على نبوته كما تدل المؤلفات النفيسة في علم الطب والمعالجات الناجعة النافعة على أن صاحبها طبيب بخلاف عمل العجائب، إذا جعل دليلاً على أن صاحبه طبيب؛ لأنه لا ينخدع به إلا الجاهلون؛ لأنه لا علاقة بين معرفة الطب وبين عمل الأعجوبة وللمسلم أن يقول: إن النبي الأعظم e قد أُوتي آيات كونية كثيرة ولكنه لم يجعلها هو ولا أتباعه من بعده عمدة في الدعوة إلى دينه؛ لأن دلالة هذا النوع من الآيات أضعف ولأن خاتم النبيين جاء يخاطب العقول ويؤيد العلم ويحدد الأسباب ويبطل السحر والكهانة والعرافة والدجل؛ ليرتقي الإنسان بعلمه وعمله ولا يستخذي لعبد من عبيد الله تعالى. وأما قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) فهو مخصوص بالآيات التي تقترحها الأمة، فتعريف الآيات فيه للعهد بدليل ما رواه أحمد والنسائي والحاكم والطبراني وغيرهم في سبب نزوله وهو أن قريشًا اقترحت على النبي e أن يجعل لهم الصفا ذهبًا وأن ينحّي عنهم الجبال فيزرعوا! ولا يخفى أن هذه أسئلة تعنت وعناد وإلا فالآية أو الآيات التي أيده الله تعالى بها بينة لم يقدروا على معارضتها ولا نقضها. ولما طلبوا آية غير معينة كما هنا نزل قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) . وأما قول النصراني: إن محمدًا أخذ إنكار الصلب عن الدوستيين. فهو من اللغو الذي يعرض عنه المسلم؛ ولكننا نذكر بمناسبته خليقة من خلائق هؤلاء المعتدين من دعاة النصارى وطريقتهم في الاعتراض على القرآن وهي أنهم يقولون فيما ورد فيه عن الأنبياء والأمم مما هو معروف ويعترف به أهل مذهبهم: إنه أخذه عنا وليس وحيًا من الله. وفيما هو معروف عند غيرهم ولم يوافق أهواءهم: إنه مأخوذ عن الطائفة الفلانية الكاذبة الضالة المبتدعة وليس وحيًا! وفيما لا يعرف عندهم ولا عند غيرهم كالأمور التي جهل تاريخها واندرست رسومها: إنه غير صحيح ولا وحي؛ لأنه لا يعرفه أحد، ولا يخلو الكلام في الأمم من هذه الأقسام، والنبي الأمي لم يتعلم من أحد مذاهب الأمم وآراء الفرق المختلفة؛ لأنه لم يكن في بلاده من يعرفها؛ ولأنه لم يكن يعرف غير لغة قومه الأميين الجاهلين؛ ولأنه لم يوافق طائفة في كل ما تقول وتَدين بل اتبع الوحي المنزل عليه من الله والله علام الغيوب. وإن لنا في هذا المقام تنبيهًا آخر: وهو أن اعتداء هؤلاء المعتدين على الإسلام وتصدينا للرد على أباطيلهم عقبة في طريق الدعوة إلى الاتفاق، وإزالة الضغن والشقاق والتعاون على عمارة البلاد؛ فإن المسلمين يعلمون أن هؤلاء الطاعنين في الإسلام مستأجَرون

معجزات نبينا عليه السلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ معجزات نبينا عليه السلام (س) علي أفندي مهيب بتفتيش عموم التلغرافات بمصر: أرجو أن تبينوا لنا كل المعجزات الثابتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير القرآن الشريف؛ لأن الناس في اختلاف كثير فيما جاء عن معجزاته عليه الصلاة والسلام وسيكون قولكم هو الفصل في هذا الموضوع. جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا. (ج) إن آيات النبوة أعم من المعجزات، فمن آيات نبوته بشائر الأنبياء السابقة وهي لا تسمى معجزات، وإن في مكتبة الفاتكان برومية إنجيلاً مكتوبًا بالقلم الحِمْيَري قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وفيه هذه العبارة بحروفها: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6) ، ثم إن معجزة القرآن تتضمن معجزات كثيرة، كما علم من مباحث المنار السابقة، وسنبين ذلك في الأمالي الدينية والرد على شبهات النصارى. والظاهر أنكم تسألون عن المعجزات الكونية لا العلمية والأدبية، وهذه كثيرة جدًّا ومستفيضة؛ ولكنها لم تُجعل عمدة في الدعوة إلى الإسلام وطريق إثباته للحكمة التي بيناها في مقالات متعددة آخرها المقالتان الثامنة والتاسعة من الكرامات والخوارق وأوضحها مقالة (الآيات البينات على صدق النبوات) في المجلد الرابع ولهذا لم يعتنِ بنقلها الصحابة والتابعون لتنقل عنهم بالتواتر، وإنما اشتهرت ثم تواترت من بعدهم وتنتهي أسانيدها إلى أفراد فنقْلها شبيه بنقل معجزات المسيح عليه الصلاة والسلام من حيث استفاضت على ألسنة المتأخرين ولم تؤْثر إلا عن أفراد من أهل القرآن الأول. إلا أن نقل معجزات نبينا الكونية أضبط وأصح من نقل معجزات المسيح (عليهما السلام) لأن لها أسانيد متصلة، أشخاصها معروفون؛ إذ وضع لهم كتب مخصوصة في تاريخهم؛ ولذلك ترى المحدثين يقولون: إن سند هذه المعجزة صحيح وسند هذه ضعيف وهذه ثابتة وهذه مكذوبة أو واهية؛ لأن في سندها فلانًا الذي كان يكذب في بعض الأحيان، أو فلان الذي كان كثير النسيان، وليس للنصارى مثل هذه الأسانيد المتصلة، أما استقصاء ما كان سنده صحيحًا أو حسنًا وما كان مختلفًا فيه لترجيح أحد الوجهين فليس جواب السؤال بمحل له على أنه غير ضروري ويتوقف على مراجعة جميع ما نقل بأسانيده وتاريخ رجالها، وهو كثير جدًّا حتى إن بعض المتأخرين ألَّف في المعجزات كتابًا يدخل في ثمان مائة صفحة ونيف. ومن المروي في الصحيحين خبر انشقاق القمر روياه كغيرهم عن جماعة من الصحابة، ودفع العلماء ما اعترض به من أن ذلك لو وقع لعرفه أهل الآفاق ونقلوه بالتواتر، وإن لم يذكروا سببه بأنه كان لحظة وقت نوم الناس وغفلتهم وأن القمر لا يُرى في جميع الأقطار في وقت واحد لاختلاف المطالع، وإن بعض المشركين لما قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة فانتظروا السُّفَّار وانتظروهم جاؤوا فأخبروا بأنهم رأوا القمر من ليلتهم تلك قد انشق ثم التأم وبأنه يجوز أن يكون رآه غيرهم وأخبر به فكذبه من أخبرهم أو خشي أن يكذبوه فلم يخبر، وليس بضروري أن يراه في تلك اللحظة علماء الفلك على قِلتهم في الجهة التي رؤي فيها. ولكنني لا أذكر أن أحدًا أجاب عن كون هذه المعجزة كانت مقترحة مع أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لم يعطِ الآيات المقترحة؛ لأنها سبب نزول العذاب بالأمم إذا لم يؤمنوا. وقد روي أن انشقاق القمر كان بطلب بكفار قريش ولا أذكر لهم أيضًا جمعًا بين آية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) ، وآية {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولا بد من تأويل إحداهما وقد أوّل بعضهم الأولى فقط وليس هذا المقام مقام التطويل في هذه المباحث. ومن المعجزات الواردة في الصحيح أيضًا إطعامه عليه السلام النفر القليل من الطعام القليل جدًّا رواه الشيخان وغيرهما من حديث جابر ومن حديث أنس وقد وقع ذلك مرات كثيرة. ومنها نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم حتى كفى الجيش وقد تكرر هذا أيضًا وبعض رواياته في الصحيحين. وقالوا: إن هذه المعجزة أعظم من انفجار الماء من الحجر على يد موسى عليه السلام فإن من شأن المياه أن تنبع من الأحجار، ومنها الإخبار بالغيوب في وقائع كثيرة جدًّا وبعضها في الصحيحين وغيرهما كقوله: (ويح عمار تقتله الفئة الباغية) قال السيوطي في الخصائص: هذا متواتر رواه من الصحابة بضعة عشر وقد قتلته فئة معاوية عند خروجها على علي أمير المؤمنين - عليه السلام - ولما ذكر لهم الحديث لم ينكروه؛ لأن منهم مَن كان يرويه قبل هذه الفتنة كعمرو بن العاص، وإنما أوَّلوه بتأويل سخيف فقالوا: إنما قتله مَن أخرجه ويلزم من هذا أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام هو القاتل لعمه حمزة ولسائر أصحابه الذين دافعوا معه عن الدين، وتُروى هذه الحجة عن أمير المؤمنين كرم الله وجهه. ومن اللطائف في هذا الباب ما رواه ابن سعد في الطبقات من طريق عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: شهد خزيمة الجمل وهو لا يسل سيفًا، وشهد صفين وقال: أنا لا أضل أبدًا حتى يقتل عمار، فأنظر مَن يقتله؛ فإني سمعت رسول الله e يقول: (تقتله الفئة الباغية) ، قال: فلما قتل عمّار، قال خزيمة: قد بانت لي الضلالة، ثم اقترب فقاتل حتى قُتل. ومن قبيل حديث عمّار قوله صلى الله عليه وسلم في الحسن عليه السلام: (ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والطبراني عن أبي بكرة عن الحسن ومع هذا قد بحث بعضهم في سماع أبي بكرة عن الحسن؛ لأن بعض المحدثين أنكره، والصحيح أنه سمع والمثبت مقدم على النافي. ومنها حنين الجذع الذي كان يخطب عليه رواه البخاري وغيره، وقال التاج السبكي: إنه متواتر كانشقاق القمر، روي عن نحو عشرين صحابيًّا من طرق صحيحة وتفصيل للوقائع التي كانت فيها هذه الآيات يطول فليطلب من مواضعه ومنها إبراء كثير من العاهات والأمراض باللمس أو التفل. ولو أردنا أن نذكر طعن المحدثين في بعض أسانيد المعجزات التي لم تصح - كقول ابن كثير في حديث إحياء البنت الميتة: إنه منكر جدًّا. وقول ابن الجوزي في حديث نطق الحمار: إنه موضوع. وقول المُزني في حديث نطق الضب: لا يصح لا سندًا ولا متنًا.. إلخ - لكانت عبرة للموافق والمخالف في تحري المسلمين وتثبُّتهم في نقل معجزات نبيهم. فليأتنا المخالفون بضبط كهذا الضبط وأسانيد كهذه الأسانيد فيما يروون عن رسلهم ومقدسيهم ثم ليتبجحوا على عامتنا بعجائبهم وغرائبهم. وفرق أكبر من هذا بيننا وبينهم، وهو أنهم إذا عجزوا عن إثبات عجائبهم لا يبقى لهم شيء ونحن عندنا آيات الله الكبرى (القرآن) والعلم الأعلى من الأمي وما يتبع ذلك وبهذا القدر كفاية.

الدولة العلية وماليتها

الكاتب: مؤرخ عثماني

_ الدولة العلية وماليتها بقلم المؤرخ العثماني صاحب التوقيع الرمزي إن بالمال قوام الدول وعزها وقد كثر الكلام في إصلاح الدولة العلية ما كان منه وما يجب أن يكون، وأكثر المتكلمين في ذلك على جهل بحقيقة الحال فرأينا أن نكتب في مالية الدولة وأحوالها كتابًا نستقي مسائله من الموارد الرسمية. لا يظن ظانٌّ أن الخلل في مالية الدولة حديث بل هو قديم يصعد تاريخه إلى أواسط حكم السلطان عبد العزيز، وإنما زاد في الأدوار الأخيرة الإسراف والترف من جهة وسوء سلوك المستخدمين بتحصيل الأموال من جهة أخرى، فسرى داء الخلل في سائر فروع الحكومة حتى استعصى الداء وعز الدواء. وأضحت الخزينة العثمانية يضرب بها المثل في الإفلاس، وصارت تؤخر دفع رواتب المستخدمين أشهرًا متصلة فكان لذلك ضرر عظيم حتى على سياسة السلطنة؛ إذ لو كانت الحكومة تدفع رواتب المستخدمين في أوقاتها كباقي الحكومات المنظمة لما كان الظلم وصل إلى هذا الحد، ولما كان ظهر هذا التألم العام والشكوى من الحكومة وأعمالها ولما كان للأجانب منفذ للتداخل في شؤون الدولة الداخلية ويا ليتهم يتداخلون لمصلحة جميع رعايا الدولة بدون تفريق بين الملل والأجناس إنما يتداخلون انتصارًا لفئة دون أخرى، فإذا كان المستخدم لا يقبض راتبه في السنة سوى شهرين أو ثلاثة شهور فلا بد أن يظلم العباد لسلب أموالهم حتى يسد رمقه ورمق عياله وأولاده، على أن أكثر صغار المستخدمين في الحكومة العثمانية هم من أفقر الناس لا يملكون شروى نقير سوى الراتب الرسمي الذي تجده قليلاً جدًّا بالنسبة إلى الوظيفة. وكثيرًا ما نسمع بأن الحكومة ألفت لجنة لإيجاد طريقة تعطي بها الرواتب لأربابها، وبعد أن تعقد تلك اللجنة بضع جلسات وتنشر بعض شذرات عن أعمالها في الجرائد يختفي أثرها ولا نعود نسمع لها ذكرًا حتى تنقضي شهور فتزف الجرائد حينئذ إلينا بشرى تأليف لجنة أخرى بناءً على إرادة سنية ولم نَرَ حتى الآن نتيجة تلك اللجان الكثيرة العدد. تقسم دواوين الحكومة من حيث دفع الرواتب في عاصمة الدولة إلى ثلاثة أقسام: قسم تغطي رواتب مستخدميه كل شهر بصورة منظمة مثل نظارة البوستة والتلغراف وأمانة الرسومات (الجمارك) وما يتبعها من الفروع ونظارة الدفتر الخاقاني وصندوق الدين العثماني والبنك الزراعي؛ ولهذا السبب يتهافت طلاب الاستخدام على الدواوين المذكورة تهافت الجياع على القصاع. وقسم يقبض ثمانية أو تسعة شهور في السنة ومن هذا القسم وزارة المعارف ووزارة العدلية (الحقانية) وأمانة الشهر (مشيخة المدينة) . والقسم الثالث لا يقبض إلا أربعة شهور أو أقل مثل وزارة المالية والخارجية والداخلية ويستثنى من هذه مصلحة النفوس ذات الريع؛ لأنها تدخل في القسم الأول وشورى الدولة ونظارة الضبطية ومستخدمي المابين الهمايوني ووزارتي البحرية والحربية، وهذه الأخيرة هي أسوأ حالاً من جميع الوزارات لكثرة المطالب عليها واتساع نفقاتها وكثرة عدد الضباط العظام. أما الحالة المالية في الولايات، فهي أسوأ منهما بالعاصمة؛ لأن الولاة يضطرون إلى امتثال الأوامر التي تصدر دائمًا من الآستانة قاضية بإرسال كل ما جمع عندهم من الدراهم قليلاً كان أو كثيرًا إلى الآستانة، وإذا لم يتمكن الوالي من سرعة الامتثال يأتيه التوبيخ وراء التوبيخ حتى يعزل من وظيفته شر عزلة؛ فلذا ترى الولاة يتسابقون إلى إرسال الدراهم إلى العاصمة ولا يبقون عندهم لدفع الرواتب أو للمشروعات المفيدة شيئًا. وقد كانت الحكومة في السنين الأخيرة اتخذت طريقة زعمت أنها ترضي الناس فما كان منها اتساع دائرة الخلل اتساعًا عظيمًا واشتداد الأزمة المالية وهذه الطريقة هي إرضاء كل من يشكو أو يتألم من شيء أو ينتسب إلى أحد العظماء بوظيفة عضو في أحد المجالس أو بإعطائه راتبًا كبيرًا يقبضه وهو جالس في منزله والإنعام بالرتب ذات الرواتب الكبيرة جزافًا بدون تفريق بين المستحق وغير المستحق. والجدول الآتي المستخرج من سجلات الحكومة العثمانية الرسمية لسنة 1218 هجرية يظهر صدق ما نقول. * * * شورى الدولة هذا المجلس ينقسم إلى ثلاثة فروع: الأول دائرة الملكية، والثاني دائرة التنظيمات، والثالث دائرة المحاكمات. ودائرة المحاكمات هذه تنقسم إلى محاكم ابتدائية استئنافية ويحاكَم فيهما أكابر المستخدمين الذين يرتكبون ما يحط بقدر وظيفتهم، أو يخل بمواد القانون. وكان الأعضاء في مجالس شورى الدولة الثلاثة قبلاً لا يتجاوزون الأربعين أما الآن فإن عددهم يزيد على مئة وخمسين بينهم 7 برتبة وزير و5 برتبة بالا وواحد برتبة صدر روم إيلى وواحد برتبة صدر أناطولي و20 برتبة أولى من الصنف الأول و12 برتبة روم إيلي بكلر بكي و20 برتبة أولى من الصنف الثاني والباقون من أصحاب رتبة المتمايز فما دونها. ولا يخفى أن عضو شورى الدولة الذي هو أعظم مجالس الدولة الحائز لرتبة وزير أو بالا أو روم إيلي بكلر بكي لا يمكن أن يكون راتبه أقل من مائة وخمسين جنيهًا في الشهر وليس بين أعضاء هذا المجلس من يقبض أقل من عشرين جنيهًا في الشهر فإذا فرضنا لكل عضو في المجلس - ومنهم أصحاب الرتب السامية وهم الأكثرون - 40 جنيهًا شهريًّا يكون المجموع 6000 جنيه، هذا أقل ما يمكن تصوره للأعضاء ويزيد عليه رواتب المستخدمين من الرؤساء والكُتَّاب وغيرهم. * * * وزارة المعارف يوجد في وزارة المعارف مجلسان يقال لأحدهما مجلس المعارف والآخر يسمى (أنجمن تفتيش) وكان هذا قبل أن تعطى الوظائف جزافًا يتألف من بضعة أعضاء مقتدرين ذوي أهلية واستعداد لإدارة معارف السلطنة بخلاف ما نرى عليه أعضاءهما الآن، ولا نخوض غمار هذا الباب؛ لأنه ليس من خصائص رسالتنا هذه وربما عدنا إليه في رسالة أخرى. أعضاء المجلسين اليوم هم خمسة وستون ماعدا الرؤساء وكتبة أقلامهما وراتب كل منهم لا يقل عن 15 ج ولا يزيد عن 50 ج في الشهر فإذا فرضنا لكل منهم 10 جنيهات يكون المجموع 650 ج شهريًّا ولا يدخل في هذا الحساب رواتب الكتبة والرؤساء. والمدارس التابعة لوزارة المعارف كثيرة جدًّا وأغلبها مجانية وهذا هو سبب الإقبال عليها. ويوجد في الآستانة وحدها 42 مدرسة تتبع الوزارة المذكورة منها ست عالية، وهي المكتب الملكي ومكتب الحقوق ومكتب الطب الملكي ودار الشفقة ودار المعلمين ومدرسة الفنون الجميلة وخمس تجهيزية، واحدة منهن خاصة بالتجارة. وللبنات ثلاث عشرة مدرسة واحدة منها عالية وهي مدرسة المعلمات وثلاث للصنائع وتسع ابتدائية. أما مدرسة الصنائع للذكور فإنها تتبع ديوان الأشغال كما أن كثيرًا من المدارس عالية وتجهيزية وابتدائية تتبع ديوان المعارف العسكري التابع لوزارة الحرب، وسيجيء بيانه في الكلام على الوزارة المذكورة. ولهذه الوزارة في أغلب عواصم الولايات وبعض حواضر الألوية (اللواء في الولايات كالمديرية في مصر) مدرسة تجهيزية ماعدا بعض الولايات الآسيوية ومدارس ابتدائية وأما مراكز القضاء فقلما يوجد فيها مدارس. والتعليم في المملكة العثمانية إجباري قانونًا لا عملاً وكل من لا يعلم ابنه أو بنته يعاقَب حسب المادة الواردة في نظام المدارس فيجب - والحالة هذه - على الدولة أن تعتني اعتناءً تامًّا بإدارة هذه المدارس المهمل أمرها وتختار لها أساتذة مقتدرين ذوي كفاءة تامة، وتحور بروجراماتها وتجعلها على أساس متين كمدارس أوربا مع العناية بالعلوم الدينية والعقائد وتنفذ أحكام القانون القاضي بإجبار الناس على تعليم أولادهم وتنشئ مدارس ابتدائية في كل مركز قضاء ومدارس تجهيزية في حواضر الألوية وتكثر من مدارس الصنائع والتجارة في عواصم الولايات ولا بأس من فرض مبلغ جزئي على تلميذ نظير أجرة التعليم ليساعد على نفقات المعارف. ولهذه الوزارة حصة معلومة من أعشار الدولة قدرها اثنان في المئة غير إيراداتها الخاصة بها. فلو أُنفقت هذه الأموال في الوجوه الموضوعة لها لعادت على الأمة بالنفع العظيم. ... ... ... ... ... ... ... ... (العثماني) (م. ق.) ... (لها بقية)

كتاب من صديق إلى صديق في هذه الديار يصف له فيه حال بعض الأقطار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب من صديق إلى صديق في هذه الديار يصف له فيه حال بعض الأقطار سيدي الأخ.. إذا تذكرت مصر فلا أذكرها إلا بك، وإذا جنحت إليها فلا أجنح إلا إليك، قلبي يهواك، ولساني يذكرك؛ لأنك مطلب الروح ومبتغى النفس. فإن كرمك وحلمك وفضلك وعلمك ونبلك وفخرك - تلك نياشين المجد - جعلت لك سناءً يخطف أبصار عشاق الخلال الكاملة وإن لم يروك فما بالك مولاي وأنا ذاك الذي مَلَّكك قلبه على بينة بعد درس جدك ونشاطك وعزمك وحزمك وعفتك ونزاهتك وغيرتك على دينك، وشدتك في الحق ونزوعك إلى نصرته خلال تفوق عدد رمال الدهناء، وتربو على نجوم السماء، فكيف أتبين منك هذه الخلال العظيمة وأستطيع مع البعد سلوًا؟ هذا وإنني بين قوم تتعالى نفوسهم عن الحق، وتتجافى جنوبهم عن مضاجع الصدق، لا هم ماتوا فاستراحوا، ولا هم انتبهوا فأراحوا، غشيهم طائف من الجهل جعلهم يخبطون في بعضهم بعض [1] كالذي يتخبطه الشيطان من المس حتى اضطررت أن أعتصم بحبل العزلة وأنزوي في ركن بيتي على خلاف عادتي التي تعرفها. أستقذر - والله - مخاطبة واحد من هؤلاء القوم لما هم عليه من الغباوة الزائدة والجهل المطبق والحمق الشديد والعياذ بالله تعالى فلا بلاهة المصري، ولا غباوة السوري ولا استبداد التركي ولا جهل الأعجمي [2] ولا غطرسة الأفغاني بأشد على نفوس العقلاء من تمخرق هؤلاء.. [3] فإن أولئك القوم مع ما هم عليه قد نجب فيهم أحرار أبرار يفرد واحدهم بأمة كاملة فحيا الله بلادًا وسقيًا لها ورعيًا تنجب أمثال عبده وعثمان [4] والكواكبي ورفيق ورشيد وكمال ومدحت وعالي وفؤاد والباب وقرة العين وجمال الدين وسحقًا لأمة ... [5] . مولاي: لا يستطيع القلم أن يصف لك ولو شيئًا قليلاً مما رُزئتْ به هذه البلاد من نكد الطالع وجهل بأمر وطيش حلم وافن رأي بهذه الورقة الصغيرة؛ ولكن لا أظنه ينحل عليك ببيان رؤوس منها ومنها تعلم البقية. (لنا علماء) ولكنهم جاهلون متكبرون متغابنون متغابون وهم آلهتنا (يريد أنهم عبَّدوا الناس باستعلائهم) ، حديثهم بطونهم وتدقيقاتهم ومباحثهم خاصة بعجائب التكايا وكرامات القبور، وعلمهم كعلم آلهة الآشوريين لا يزيد ولا ينقص ولا يتجدد ولا ينعدم وهو محصور في تصريف: أكل يأكل أكلاً! وفي إعراب هذه الجملة: ليت لي قنطارًا من الذهب فأحجَّ به، وهو عندهم من تمني ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر، وفي اكتشاف متعلق الجار والمجرور في إعراب البسملة، وفي فرض وجه للحكم في عدة زوج الممسوخ هل تعتد عدة طلاق أو عدة وفاة، وفي جواز تزوج الجني بالإنسية والإنسي بالجنية أو عدمه، وفي اختراع نكت في التفسير في معنى تفاخر فرعون بجريان الأنهار من تحته في حكاية القرآن فغاصت أفكارهم في النهر ولم يوقف لهم فيه على أثر! ! إذا قلت لهم: إن هذه أوهام في أوهام زمجروا واستكبروا ومزقوا ثيابهم وطمبروا [6] وصخبوا ونعبوا وبكوا وانتحبوا وقالوا: هذا آخر الزمان، ووشوا عنك أنك كافر، لا تؤمن باليوم الآخر، واستعانوا عليك بخلطاء العامة فيسكتونك إما طوعًا وإما كرهًا - طوعًا إذا وثقت بعجزك عنهم وكرهًا إذا وثقوا بقدرتك عليهم فاستعملوا معك سلطة الحكومة [7] التي لا ينحل بها عليهم الدخلاء - وربما كان ذلك من مقتضى سياستهم؛ لأنهم لا يودون أن يتبصر الناس ولا أن يرفعوا رؤوسهم من شبكة الاستبداد. وهناك يتحكم القضاء. ويجري البلاء. وأين الصابرون الذين يوفون أجرهم بغير حساب؟ ! (لنا حكام) ولكنهم أميون جبناء متخاذلون إرادتهم شريعة قاهرة، وحكمهم سلطان نافذ، لا رادّ لقولهم ولا ممانع لحكمهم، فالحاكم منهم يجمع في شخصه ثلاث سلطات فهو مشرع منفذ مراقب كأنه المسيح عند النصارى يجمع في شخصه ثلاثة أقانيم. أستغفر الله من أين للمسيح المقهور أن ينال سلطة من السلطتين الأخيرتين ولو نالها لتمكن بها على الأقل من تخفيف وطأة أكليروس اليهود. آهٍ! دعني أنفث الآهات حتى يفرغ الصدر فإن الناس عندنا أرقاء وأسواق المحاكم أسواق الاسترقاق، فلا قانون يزَع ولا مسؤولية تردع. حكامنا إما قضاة شرعيون، وإما حكام سياسيون فالقضاة الشرعيون يتولون الخطة بعد دراسة تلك الكتب القديمة التي أخنى عليها الذي أخنى على لبد فيعطي أحدهم راتبًا قليلاً فيمد يده بسائق الضرورة إلى الرشوة ويستعمل الغبن في وظيفته ويجور، ويعبد الدرهم والدينار لا يكتفي بأحدهم فلا يمر عليه زمن قليل حتى تتعدد مركباته بعدد أنواعها وتكثر قصوره بعد مواقعها ويكثر خدمه وحشمه وعبيده وجواريه فلا الخديوي في مركبه، ولا السلطان في موكبه، بأعظم من قاضٍ شرعي في بلاد إذا تمشَّّى في الأسواق أو دخل المحكمة. هذا والعامة والخاصة يعتقدون أنهم سجادة الرسول وشرع المصطفى، وأن ما يحكمون به في الأرض يبرم في السماء وإذا تظلم منهم مظلوم تقوم على رأسه القيامة، وتأتي عليه الآخرة بعذابها. أولئك يشيعون أنه مارق من الدين لا يرضى بالشرع ولا يقبل حكم الله فيه فتكفره العامة - وأنت أدرى بعاقبة هذا التكفير -. على أن أهل الحل والعقد لا يجدونه نفعًا [8] ابتغاء مرضاة القضاة حتى يفشو الاختلال في الشريعة وتأنف الأمة من نفسها التقاضي لدي حكامها وتطلب استبدال الشريعة بالقانون [9] . وليس رجال محاكمنا الأهلية بأقل خطرًا على الأمة من قضاة الشريعة؛ لأن مصدر تربيتهم واحدة.. فأعمالهم بالطبع تكون متقاربة متشابهة ولا يكون هناك فرق بينهم اللهم إلا في الشكل فإن القاضي الشرعي يتردى بأردية الإهمال والكسل، والآخر يلبَس لبوس النشاط والعمل، وهذه غاية الفرق بينهم. أما الأحكام: فالقاضي الشرعي يرجع فيها إلى قواعد مشتتة متضاربة متخالفة يطبقها على القضايا بحسب ما يراه، والقاضي الأهلي يعتمد فيها العادات والاصطلاحات التي جرت عليها السياسة السالفة بدون أن يكون لديه قانون يرجع إليه، أو دستور يعول عليه، فالطريقة الأولى كسيت صبغة الشرع اسمًا، وهذه أعطيت لقب القانون رسمًا، وفي الواقع لا شرع ولا قانون. (أحداثنا) هم مطمح آمالنا وزهرة حياتنا وهم ينقسمون إلى قسمين: قسم عامة وهم لا كلام عليهم. وقسم خاصة وعددهم لا يزيد على رُبع! عُشر! تسع! ثمن! سدس! خمس! معشار الأربعين من مجموع الأمة وهم ينقسمون على أنفسهم إلى قسمين: قسم تربى في المعهد الديني.. وأهل هذا القسم عبارة عن مختصر أزهري فهذا أيضًا لا كلام عليه. بقي الكلام على القسم الثاني وهو المراد من قولنا: (أحداثنا هم مطمح آمالنا) : فإن هذا القسم مع قلة عدده وضعف مدده ليس بكامل التربية، هذا إن لم نقل إنه لا تربية له؛ لأنه لم يتعلم شيئًا يرقي ذهنه عن أفراد قومه وغاية ما تلقنه من التربية قشور عارية عن اللب كدرس اللغة الأجنبية ومبادئ تقويم البلدان وقواعد من الطبيعة وشيءٍ من الحساب، وكل ذلك لا يخرج عن درس الأشياء التي يتلقاها تلامذة المدارس الابتدائية في البلاد المتمدنة ولا حظ له من تعلم اللغة العربية مطلقًا حتى يعرف أن لديه لغة وافرة المواد كثيرة المصادر لديها من ألفاظ موسعات العلوم ما يكفي لتلقيح نهضة جديدة إذا أفرغت في قوالبها الحقائق المكتشفة والاختراعات المتجددة. وعلى فرض وجود من درس هذه اللغة فإن معلوماته لم تتجاوز الحلقة الضيقة من التعليم الابتدائي فضلاً عن الثانوي والعالي فهل معرفته لها والحالة هذه تجدى نفعًا؟ ! فهذا القسم الذي نظن فيه خيرًا ونعلق عليه آمالاً هو من العامة ولا شك (وأي نفع من العامة؟ !) وإن ضرره أكبر من نفعه. ما ظنك بشاب دخل المدرسة ولا يدري أبواه ما سيتعلمه فيها، وما سيكون من أمره فخرج منها متعودًا التأنق في الملبس والمأكل والمشرب وحب الرياضة مع العوانس والأبكار والجلوس في المحلات العمومية للمقامرة والتسلي بالمشروبات الغولية، وذلك بلا ريب يستلزم كثرة الأموال واتساع نطاق المكاسب فإن كان غنيًّا بعثر المال واستنزف الدينار استنزافًا، وإن كان فقيرًا أهراق ماء الحياء وعبث بشرفه واستهان بناموسه وراء دريهمات يسد بها حاجات تربيته الجديدة الناقصة. ومن يهُن عليه العبث بشرف نفسه فشرف أمته لديه أهون ولا شك. وهذا لا يعزب عنك أن هذه المفقِدات لجامعة الأمة والمحللات لعناصرها إذا كانت تدفعها يد ماهرة كيد الدخلاء فإنها تلم بها من طرق مجهولة كثيرة الشعاب وخطرها متوقع لا محالة. وهذه الأخطار الحافة بهؤلاء القوم المساكين ليست بنت زمن ولا منشأ سبب بل هي نتيجة اشتركت في تربية مقدماتها الأزمان والأسباب وصعب على عاجز مثلي أن يُفهم هؤلاء القوم خطر موقفهم مادامت النفس غير قابلة والقلوب واهنة والبصائر مطموسة والحواس مغشوشة وثائرة الجهل قائمة، فعبثًا أحاول إصلاح ما فسد من أخلاقهم وتجديد ما اخلولق من خلائقهم. ما يجدي الإصلاح في قوم يعتقدون أن كل كلمة طيبة (هرتقة) وكل كلمة حادة زندقة، وكل خلق جدير كفر، وكل سعي إلى الأمام خطوة من خطوات الشيطان، ماذا يجدي الإصلاح في قوم ينتظرون خروج الدابة وقيام الدجال وظهور المهدي، ونزول المسيح وطلوع الشمس من مغربها ونفخة إسرافيل، وهذه أشراط الساعة والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق! ماذا يجدي الإصلاح في قوم خلقوا أشرارًا فجارًا فساقًا ضُلالاً كتب الله عليهم أن يكونوا عائثين في الأرض مفسدين في السماءلإنشاء دولة وتكوين أمة أهون على نفوس العانين بالإصلاح من إصلاح أمة من الإسلام! عفوًا يا مولاي فإني قد أطلت عليك وحمَّلتك همًّا على همّك وزدتك غمًّا على غمك فلا تلُمني فصدري ضاق على اتساعه وحمل همومًا ناءت أمة كاملة بحملها فكيف يستطيع حملها ذلك الشكل الصنوبري؟ فسل لأخيك قرب المخرج من هذه الديار فإن العيش على شوك السيال في منقطع العمران لأهون عليَّ من معاشرة قومي ما تنكر شخص قومه كما تنكرتهم وما بئس ساعٍ لرشد كما يئست. قوم لو حاولت أن أحصي لك العقلاء فيهم لما أكملت شناتر اليد عدًّا. أليس هذا من بواعث اليأس ودواعي البأس؟ اهـ. المراد منه. (المنار) هذا كتاب رجل كنا نَصفُه أيام كان بيننا بأكثر مما وصف به نفسه من سعة الصدر. كنا نصفه بأنه لو تفطَّرت السموات وانشقت الأرض وخرت الجبال هدًّا لما بالى ولا اهتم وها هو يشكو هذه الشكوى المُرة من حال بلاده. أليس في هذا عبر لمن يعقل، أليس دالاًّ على الفرق بين هذه البلاد وغيرها فأين شكر النعمة من المنعَم عليهم؟ وأين الاعتبار بالبلاء ممن حل بهم؟ ! وقد ختم الكتاب بأن الرأي الوحيد في تحريك أذهان قومه نشر المجلات والجرائد النافعة والكتب المفيدة. نجَّح الله مقاصده وهيأ له من المصطفَيْن الأخيار مَن يشد عضده.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الدولة العلية والحرب) تستعد الدولة العلية للحرب؛ لأن الفتنة في بلادها لا تزال تزداد وقد كنا في خوف عظيم من روسيا حتى أعطتنا الجوائب الأوربية بعض الاطمئنان من جهة روسيا نفسها ومن جهة الدول العظمى. أما روسيا فقد قررت ترك منشوريا بسبب العسر المالي والمعسر لا يضرم نارًا للحرب مختارًا لا سيما إذا كان خصمه من أقرانه في ميادين الكفاح. وأما أوربا فإننا نرى إنكلترا تتقرب من فرنسا، وفرنسا تقبل تقربها بقبول حسن ولا نرى سببًا لزيارة ملك الإنكليز للجمهورية الفرنسية إلا إقناعها بعدم إعانة روسيا على حرب تركيا؛ بل عدم إجازتها على الحرب لما في ذلك من الخطر العظيم على أوربا كلها. أما الحركات العسكرية التي تجريها روسيا فليست أكبر مما يعتاد في أيام السلم من الاستعداد والتمرين ولله في غيبه شؤون. فإذا كان استمرار بغاة مكدونية على بغيهم وتماديهم في ثورتهم اتكالاً على البلغار والصرب فلا خطر على الدولة من ذلك، وهي قادرة على تدويخهم وإن لم تستفد من ذلك شيئًا لما علمناه من تعصب أوربا عليها، واتفاق الدول الكبرى على منع المسلمين من الانتفاع من النصارى أو التسلط عليهم ولو بحق، والناس يوجسون خيفة من تألب الألبانيين وخروجهم لعدم الرضى بمطالب أوربا. وروسيا والنمسا تلحان على الدولة بوجوب كبحهم وإخضاعهم دون المكدونيين؛ لأنهم مسلمون، ولعل حكمة مولانا السلطان تكفي الدولة مغبتهم بالتي هي أحسن. *** (ثورة مراكش) لا يزال أمر الخارج على سلطان مراكش في استفحال وقد طمع في الملك وتجرأ على خطاب بعض الدول بالاعتراف بكونه السلطان الرسمي لمراكش ويقال إنه سيزحف على فاس وهذه عواقب الجهل والإهمال، وسننشر في جزء تالٍ شروط الصلح بين صاحب مراكش ولويس السادس عشر ملك فرنسا؛ ليعلم مَن لم يقرأ التاريخ أن عهد مراكش بالعزة والقوة غير بعيد. *** (فرنسا والجزائر) كنا كتبنا مقالة عنوانها (فرنسا والإسلام) ، نصحنا فيها لهذه الدولة العظيمة بأن تعامل مسلمي مستعمراتها بالحسنى لتملك قلوبهم وتأمن غائلتهم. ونحن نعلم أن فرنسا لم تكن مرتاحة إلى تلك المعاملة القاسية التي كانت تعامل بها مسلمي الجزائر ولكنها كانت ترى أنها هي الطريقة المتعينة، وأنه يجوز أن يظهر لها خير منها. وفي هذه الأيام قد زار الجزائر رئيس الجمهورية وبشر الأهلين بأن هذه الزيارة مبدأ معاملة جديدة مرضية وبالغ في استمالة القلوب وطلب الائتلاف، ولولا العزم على حسن الفعل لما صدر عنه مثل هذا القول وما جزاء الإحسان إلا الإحسان! *** (المدرسة القضائية في السودان) علمنا أن حكومة السودان قد قررت إنشاء مدرسة لتخريج القضاة الشرعيين واشترطت في تلامذتها أن يكونوا قبل الدخول فيها معروفين بالاستمساك بالدين تخلقًا وعملاً، وأن يكونوا عارفين ما تجب معرفته من العقائد الإسلامية والعبادات وصاحِبِِي إلمام بأحكام المعاملات. ومدة الدراسة أربع سنين والعلوم التي تعلم فيها هي الخط والإملاء والحساب والهندسة وتقويم البلدان والتجويد والتوحيد والمنطق والحديث والتفسير والفقه وأصوله، والنحو والصرف والبلاغة والإنشاء وتاريخ الإسلام والآداب الدينية، وحكمة التشريع والتمرينات القضائية والتوثيقات ونظام المحاكم، ومما يدرس فيها كتاب إحياء العلوم وكتاب حجة الله البالغة. وإننا نتمنى لو يبادر أولياء الأمر في مصر إلى مثل العمل الذي كنا اقترحناه على مشيخة الأزهر من نحو أربع سنين، فإن داء المحاكم الشرعية في مصر لا يمكن برؤه إلا بتربية القضاة تربية تؤهلهم للقيام بأعبائه كما صرح به اللورد كرومر في تقريره وكما يعلمه كل عاقل بصير. وهذه الدولة العلية لها مدرسة مخصوصة لتخريج القضاة (مكتب النواب) وهي غير مدرسة الحقوق فالواجب على أولي الأمر في مصر العمل بما كنا اقترحناه من انتخاب طائفة من نابغي الأزهر يعلمون فيه التعليم القضائي ليكون قضاة فإن كان هناك مانع من تعصب المشيخة فالمتعين إنشاء مدرسة مخصوصة لذلك. وإننا لنتنسم من حكومة السودان أنها ستحمي الإسلام في تلك الأقطار وتقيم أحكامه فإن هي فعلت فلا شك أنها تمتلك جميع ما بقي مستقبلاً من الممالك السودانية؛ لأن المسلمين في تلك الأقطار شديدو التمسك بدينهم والتعصب له كأهل الجزائر فإذا قيدوا به سلسوا للانقياد. وإلا أصروا على العدوان والعناد. وإن لدينا نبأ من تقرير قاضي قضاة السودان عن المحاكم الشرعية يبشر بسير حسن وعاقبة حميدة، ونية للحكومة سليمة وسننشره في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. *** (تنبيه) ضاق هذا الجزء عن باب التقريظ ومنه تتمة الكلام في انتقاد رسالة الشيخ محمد بخيت ولدينا انتقاد على عبارة في التفسير وموعدنا في ذلك الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.

النبأ العظيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النبأ العظيم آثار جديدة. هدم دين أو دينين. ملك أم إله. مذهب جديد في النصرانية، قيصران أم نبيان. خطوة من أوربا. وثبة إلى الإسلام. ظهور آية من آيات القرآن. حيَّا الله التاريخ والمؤرخين فكم كَشَفا من خفايا الأكوان، وأظهرا من خبايا الأزمان، وكم أضل الجهل بالتاريخ من إمام كبير، وعالم نحرير، فانحرف عن سبيل، وأخطأ محجة تأويل، فقد كان مثل الإمام فخر الدين الرازي يتوهم أن التوراة منقولة بالتواتر، ويحيل لذلك أن يكون وقع في ألفاظها التحريف والتبديل ويصرف الآيات الواردة في ذلك إلى التحريف المعنوي، وسبقه إلى هذا الرأي مثل الحافظ البخاري قياسًا على نقل المسلمين لكتابهم وما كان ينبغي لأمثال هؤلاء أن يضعوا الأقيسة النظرية، حيث يجب أن تكون البراهين اليقينية؛ ولذلك خالفهم الأكثرون. وإننا لنسمع في كل يوم ناعقًا من دعاة النصرانية يصيح محتجًّا على عوام المسلمين بقول فلان وفلان من علمائهم أن التوراة التي بين الأيدي سالمة من التحريف اللفظي محفوظة من التبديل. وكيف نقبل قول أحد في أمر عندنا فيه الحكم العدل، والقول الفصل، وهو كتاب الله تعالى. ولسان الوجود أفصح مفسر لكتاب الله تعالى. كان علماء المسلمين يحكمون على التوراة والإنجيل ولا يطلعون عليهما فلما اطلعوا سددوا وقاربوا؛ ولكن لم يتجلَّ حكم القرآن إلا بعلم علماء أوربا وبحثهم عن آثار الأولين، ووقوفهم على تاريخ الأقدمين. بيَّن هؤلاء العلماء أن كلام التوراة في الخليقة مخالف لما أثبته العلم في مسائل كثيرة فقام أهل التأويل يقولون: إن العلم غير الدين، وإن كتب الدين إذا تكلمت عن الخليقة فإنما تتكلم بما هو معروف عند الناس؛ لأنه ليس من غرضها بيان حقائق الموجودات وإنما غرضها إصلاح القلوب، وهذا الكلام صحيح ولكنه ليس عذرًا مقبولاً عند العلماء عن ذكر أمور مخالفة للواقع لا حاجة إليها في إصلاح القلوب وإذا سكتوا لهم على هذا فبأي تأويل يدفعون ما أظهرته الاكتشافات الأثرية من مخالفة تاريخ التوراة للآثارات التي حفظها بطن الأرض للأمم؟ ! أم كيف يدفعون تلك القوارع التي تظهر من علماء الألمان قارعة بعد قارعة؟ ! وبها استبان أن التوراة مقتبسة من البابليين بعد السبي حتى شرائعها وأحكامها. كتب بعض هؤلاء العلماء كتابًا حديثًا أودعه جداول أحصى فيها ما وقف عليه من الكلمات البابلية في كتب العهد القديم التي يطلق على مجموعها لفظ (التوراة) وبيَّن أن تلك الكلمات التي مازجت لغة هذه الكتب العبرية لم تكن معروفة على عهد موسى (عليه السلام) واستنتج من مباحثه أن هذه الكتب أُلفت بعد أن سبى البابليون بني إسرائيل بأزمنة مختلفة؛ ولعل هذا الكتاب النفيس يُنقل إلى العربية في زمن قريب فإن اعتداء دعاة البروتستانت قد أعد النفوس للعناية بمثل هذه الكتب فكانوا نافعين للإسلام والمسلمين، خلافًا لما يتوهم بعض الغافلين! بعد هذا ظهر من علماء الألمان نبأ أخص من هذا وهو أنه وُجد في الآثار التي اكتشفت من عهد قريب في خرائب سوس من بلاد بابل شريعة (حمورابي) أو (ملكي صادق) منقوشة على عمود من صم الصفا (الصوان) فإذا هي متفقة مع شريعة التوراة في أكثر الأحكام فجزم الباحثون بأن الإسرائيليين قد اقتبسوا شريعتهم التي يسمونها التوراة من هذه الشريعة أيام كانوا في أسر البابليين. وكانت النتيجة عند هؤلاء العلماء أن موسى لم يكن نبيًّا وشريعة قومه لم تكن وحيًا! ! اشتبه عليهم الباطل بالحق والحق بالباطل وإننا نجلِّي الحقيقة في هذا المقال بما هو لب اللباب، والعجب العُجاب. حمورابي أو ملكي صادق يقول علماء ألمانيا الأعلام كغيرهم: إن حمورابي هذا هو أمرافل المذكور في الفصل الرابع عشر من سفر التكوين في قصة لا تنطبق تمامًا على الاكتشافات الحديثة وهو هو (ملكي صادق) ؛ لأن معنى هذه الكلمة العبرانية (ملك البر أو ملك السلام) وهو يلقب نفسه بهذا اللقب في شريعته المذكورة آنفًا، ومما جاء في الفصل الرابع عشر من سفر التكوين أن ملكي صادق هذا قد بارك على إبراهيم (عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام) وأن إبراهيم أعطاه العشور. قال بعد ذكر محاربة إبراهيم لكدر لعومر واسترجاعه الأسرى ومنهم لوط أخوه: (17 فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من كسرة كدر لعومر والملوك الذين معه إلى عمق شوى الذي هو عمق الملك 18 وملكي صادق ملك شاليم أخرج خبزًا وخمرًا وكان كاهنًا لله العلي 19 وباركه وقال: مبارك إبرام من الله العلي مالك السموات والأرض 20 ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك، فأعطاه عشرًا من كل شيء) . وقال بولس زعيم الديانة النصرانية المعروفة لهذا العهد في آخر الفصل السادس وأول الفصل السابع من الرسالة إلى العبرانيين ما نصه: (19 حيث دخل يسوع كسابق لأجلنا صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد (1) لأن ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي استقبل إبراهيم راجعًا من كسرة الملوك وباركه (2) الذي قسم له إبراهيم عشرًا من كل شيء. المترجم أولاً ملك البر ثم أيضًا ملك ساليم أي ملك السلام (3) بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبه بابن الله. هذا يبقى كاهنًا إلى الأبد (4) ثم انظروا ما أعظم هذا الذي أعطاه إبراهيم رئيس الآباء عشرًا أيضًا من رأس الغنائم) . هذا هو ملكي صادق بشهادة العهدين العتيق والجديد فإذا كان الله - تبارك وتعالى - يحل في الأجسام كما يقول النصارى فمَن أجدر بهذا الحلول من ملكي صادق وهو يمتاز على المسيح بكونه من غير أم ولا أب وكونه بلا بداية ولا نهاية؟ ! وهو الذي بارك إبراهيم أبا الأنبياء وهو واضع الشرائع التي اقتبست منها التوراة والنتيجة أنه بشهادة العهدين أعظم من إبراهيم وموسى وعيسى وإن شئت فقل: إن بولس نزهه عن البشرية، ووصفه بأخص صفات الألوهية، والتاريخ يشهد أنه وثني أفليست هذه الكتب أيضًا كتبًا وثنية؟ ! *** هذه التوراة لا خلاف ولا نزاع بين أهل الكتاب في أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فُقدت. ثم وجد عندهم غيرها وفقد ثم وجد غيره. والأخبار عندهم في ذلك معمَّاة وطرقها مشتبهة الأعلام، حالكة الظلام، جاء في الفصل الرابع والثلاثين من أخبار الأيام الثاني: (14 وعند إخراجهم الفضة المدخلة إلى بيت الرب وجد (حلقيا) الكاهن سِفر شريعة الرب بيد موسى 15 فأجاب حلقيا وقال لشافان الكاتب: قد وجدت سفر الشريعة في بيت الرب وسلم حلقيا السفر إلى شافان 16 فجاء شافان بالسفر إلى الملك..) إلخ. وفي دائرة المعارف أنهم ادعوا أن هذا السفر الذي وجده حلقيا هو الذي كتبه موسى (قال) : ولا دليل لهم على ذلك. وأقول: إن ادعاء شخص بمثل هذه الدعوى لا يوثق به فإنه مهما كان عادلاً لا يزيد خبره عن كونه مظنون الصدق محتمل الكذب. ثم إن هذه النسخة التي وجدوها قد فُقدت أيضًا، والمعتمد عليه عندهم أخيرًا هو ما كتبه عزرا كما فصلناه من قبل في المجلد الرابع من المنار. ففي الفصل السابع من سفر عزرا ما نصه: (وبعد هذه الأمور في ملك أرتحشستا ملك فارس عزرا بن سرايا بن عزريا بن حلقيا 2 بن شلوم بن صادوق بن أخيطوب 3 بن أمريا بن عزريا بن مرايوث 4 بن زرحيا بن عزي بن يقي 5 بن أبيشوع بن فينحاس بن العازار بن هرون الكاهن الرأس 6 عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر في شريعة موسى التي أعطاها الرب إله إسرائيل. وأعطاه الملك حسب يد الرب إلهه عليه كل سؤاله - إلى أن قال - (8 وجاء إلى أورشليم في الشهر الخامس في السنة السابعة للملك 9 لأنه في الشهر الأول ابتدأ يصعد من بابل وفي أول الشهر الخامس جاء إلى أورشليم حسب يد الله الصالحة عليه 10 لأن عزرا هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعلم بها وليعلم إسرائيل فريضة وقضاءً) . وذكر بعد هذا صورة الكتاب الذي كتبه هذا الملك لعزرا الكاهن بالإذن لبني إسرائيل بالعودة إلى أورشليم معه من شاء منهم وفيه ما نصه: (25 أما أنت يا عزرا فحسب حكمة إلهك التي بيدك ضع حكامًا وقضاة يقضون لجميع الشعب..) - إلى أن قال - (16 وكل من لا يعمل شريعة إلهك وشريعة الملك فليقضَ عليه عاجلاً إما بالموت..) إلخ. بهذه العبارة يستدلون على أن عزرا كتب التوراة بعد فقدها وهو لا يدل على زعمهم وأنَّى له أن يكتب التوراة كما أنزلت وقد مضت القرون عليها وهي مفقودة ولم ينقل أن أحدًا حفظها كما يحفظ المسلمون القرآن في صدورهم. نعم، لا يعقل أن أمة تُؤْتَى شريعة وتعمل بها وتساس بأحكامها ثم تنساها بالترك كلها بحيث لا تحفظ منها شيئًا بل المعقول أن العمل من أسباب الحفظ فالإسرائيليون - وإن طال عليهم أمد السبي وحُكموا زمنًا طويلاً بغير شريعتهم - لا بد أن يكون أهل الفهم والبصيرة منهم قد ظلوا يذكرون كثيرًا من تلك الأحكام الإلهية فلما رحمهم أرتحشستا ملك بابل وأذن لهم بالعودة إلى بلادهم وأمر كاهنهم عزرا بأن يضع لهم قضاة وحكامًا يعملون بشريعة إلههم وشريعة الملك كتب لهم عزرا هذه التوراة الحاضرة وأودعها ما كان لا يزال يحفظه من وصايا الرب وأضاف إليه ما حفظه من شريعة الملك فجاءت هذه التوراة الحاضرة وأضاف إليه ما حفظه من شريعة الملك فجاءت هذه التوراة مزيجًا من الشريعتين كما تبين بالاكتشافات الجديدة. وكتب العهد العتيق التي يسمون مجموعها التوراة تؤكد كون الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى عليه السلام قد كُتبت بعده بزمن طويل كما بيناه في الجزء التاسع عشر من المجلد الرابع، ومن ذلك ما جاء في الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثنية الاشتراع ونصه: (24 فعندما كمل موسى كتابة هذه التوراة في كتاب إلى تمامها 25 أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلاً 26 خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب..) إلخ. ومنه ذكر وفاة موسى في الفصل الأخير من هذا السفر المنسوب إليه، وقول كاتبه بعد ذلك (ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم (ثم قوله) ولم يقم بعدُ نبي في إسرائيل مثل موسى) وهاتان الجملتان تدلان على أن هذه التوراة قد كتبت بعد موت موسى واندراس قبره بزمن طويل. وقد ذكرنا في ذلك الجزء أن علماء بروتستانت لم يسعهم إلا الاعتراف بفقد توراة موسى وأن صاحب كتاب (خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية) صرح بفقدها وانقطاع عبادة الله الحقيقية بين الإسرائيليين في مدة ملك منسا وأمون وأنه قال بعد ذلك (والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان من أمرها. والمرجح أنها فُقدت مع التابوت لما خرب بختنصَّر الهيكل وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريًا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فُقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيًّا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية) هذا نص عبارته بالحرف. وقد علمت أن ليس في سفر عزرا ذكر نسخ ولا كتب وإنما قصارى ما يفهم منه أن الملك البابلي أمره بتعيين حكام لإسرائيل يحكمون بما يعرف من شريعة إلهه وشريعة الملك. ونتيجة ما تقدم كله أن أسفار التوراة الحاضرة نفسها تؤيد الاكتشافات الحديثة وأنه ثبت بمجموع الأمرين أن التوراة الحاضرة ليست توراة موسى وإنما فيها شيء منها لاستحالة أن تكون نسيت كلها وذلك كافٍ في هدم الديانة اليهودية والديانة المسيحية المبنية على كتبها. * * * زلزال النصرانية في أوربا أنس النصارى واليهود بما في كتبهم من الد

الكرامات والخوارق ـ 10

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق المقالة العاشرة (فيما ينبغي عليه التعويل) (المسألة الرابعة عشرة) استدل منكرو الكرامات من المعتزلة وبعض علماء السنة كالأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي ومن على رأيهم بسبع حجج على نفي الجواز، وتقدم بسطها وما قالوه في الجواب عن بعضها في المقالة الثالثة (449-2) واستدل المثبتون بأربع حجج كما ذكر السبكي في الطبقات الكبرى وهي ترجع إلى شيء واحد هو أنها وقعت بالفعل كما يعلم من بعض قصص القرآن والآثار المروية عن الصحابة. وتقدم في المقالة الرابعة بيان أن تلك القصص لا دليل فيها يصلح حجة في هذا المقام إلا على ما يسمونه الإلهام وما في معناه من مكالمة الملائكة، وكان ذلك لأم موسى وأم عيسى عليهما السلام (راجع 481-2) وفي المقالة الخامسة والسادسة أنه لم يثبت بسند صحيح من الكرامات المأثورة عن الصدر الأول إلا مثل ذلك الإلهام أيضًا، واستجابة الدعاء والبركة في الطعام (راجع 545-2و657-2) . (المسألة الخامسة عشرة) أن ما يقال عن الصحابة (عليهم الرضوان) من هذه الكرامات - ما صح سنده منه وما لم يصح - يعد على الأنامل لقلته وصار المسلمون كلما بَعُد الزمان وقل العلم وكثر الفسوق والعصيان يكثر فيهم القول بهذه الكرامات حتى إنهم يعدون لبعض الشيوخ المتأخرين ما يكاد يتجاوز عقد المئين. وهم متفقون على أن الصحابة أفضل ممن بعدهم من الأولياء بلا قيد ولا استثناء. وقد أجاب بعضهم عن هذا بأن المسلمين كانوا في عصر الصحابة وما يقاربه أقوياء الإيمان فلم يكونوا محتاجين إلى كرامات وخوارق تقوي إيمانهم. وهذا الجواب مبني على قاعدتهم التي ذكرها السبكي وغيره وهي أنه لا يجوز إظهار الكرامة إلا عند ضرورة شديدة كتقوية إيمان شاك، وصواب القول في الجواب أن أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين كانوا لقوة إيمانهم ويقينهم لا يكذبون ولا يخادعون الناس بالوهم ولذلك لم يدَّعوا هذه الخوارق التي ربما كانوا أحوج إليها ممن بعدهم لإقامة الحجة على المشركين والكافرين الذين كانوا مشتغلين بدعوتهم ومجاهدتهم. ولكنهم لرسوخهم في معرفة مقاصد الإسلام كانوا يكتفون بالحجج المعقولة ولا يعتمدون على شيء من الخوارق الكونية التي يضل فيها الفهم، ولا يهتدي فيها الوهم، وهذه المسألة كنا وعدنا ببيانها في المقالة السادسة. (المسألة السادسة عشرة) أن ما يصح أن يسمى كرامة من هذه الغرائب التي تظهر على أيدي الناس هو ما كان ثمرة لارتقاء الروح، وصفاء النفس؛ بل هذا هو معنى ما ذكروه في كتب العقائد كما تقدم في المسألة الثامنة. وإذا كان الأمر كذلك فالواجب أن تبقى هذه الثمرة معلقة بهذه الشجرة أي: يجب أن لا تتجاوز هذه الخصوصية أهلها الخواص. فإذا تجاوزتهم إلى من لا يعرف منشأها كانت فتنة له وضارة به؛ ولذلك قال كبار الصوفية والمتكلمين المثبتين للكرامات بوجوب إخفائها لأنها فتنة للناس وضارة بهم ومن مبالغتهم في ذلك القول المأثور عن الشيخ أحمد الرفاعي: إن الولي يستتر من الكرامة كما تستتر المرأة من دم الحيض! . (المسألة السابعة عشرة) أكبر ضرر وأعظم فتنة في فشو الاعتقاد بالكرامات بين العامة وكونها عند الصالحين صناعة من الصناعات، وأنها زلزلت قاعدة العقائد الكبرى وهي توحيد الله تعالى وأوقعت الناس في ضروب من الشرك الأصغر والأكبر. وليس زلزال التوحيد محصورًا في اعتقاد تعدد الخالقين للسموات والأرض المشتركين في الإيجاد والتكوين وإنما الشرك في التماس المنافع أو دفع المضرات من غير الله تعالى، وبواسطة غير سننه التي أقام بها نظام الكون وجعل الانتفاع بها عامًّا لجميع خلقه. بل ورد في الأحاديث تسمية الرياء في العبادة شركًا فكيف لا يكون دعاء غير الله تعالى شركًا. روى أحمد وابن ماجه وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه من حديث شداد بن أوس قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يبكي فقلت: ما يبكيك؟ ! فقال: (إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنمًا ولا شمسًا ولا قمرًا ولا حجرًا ولكنهم يراؤون بأعمالهم) ! وإنما سمي الرياء شركًا؛ لأن المرائي يطلب منفعة من المرائَى والمنافع لا تطلب إلا من الله تعالى ومن الطرق والأسباب التي سنها لها. والغرض من العبادة طبع ملكة الاعتماد على الله تعالى في القلب لتقوية التوحيد فإذا لوحظ بها الناس وفعلت رئاءهم فقد قطعت طريق التوحيد ودلت على عدم تمكنه من النفس. فما بالك بمن يعتمد على غير الله تعالى ابتداءً ويجعله حجابًا بينه وبين الله يزعم أنه يقربه إليه زلفى. ولو كان الشرك عبارة عن تعدد الخالقين لما كان فيه ما هو أخفى من دبيب النمل. روى ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد والطبراني من حديث أبي موسى الأشعري قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (أيها الناس اتقوا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل) فقالوا: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه) وروى غيرهم عن غيره أحاديث بمعناه منها حديث ابن عباس عند الحكيم الترمذي: (الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا) . إذا عدت عيناك عما تشاهد كل يوم من العامة لا سيما في أضرحة الصالحين. ونبا سمعك عما تسمع منهم من دعاء غير الله، والاستغاثة والاستعانة بغير الله، وطلب الحوائج ورد البلاء من غير الله والتماس الصدقات (على قبول فلان وفلانة) من دون الله، وقلت كما قال بعض علماء الأزهر: إن هؤلاء العامة لا يعقلون التوحيد وإن الإمام محمدًا صاحب أبي حنيفة قال في عامة زمنه وهم خير منهم: (لو كانوا عبيدى لأعتقتهم وأسقطت حق الولاء) فهل تعدو عينك عما ترى في الكتب المنتشرة كانتشار الجهل في العبارات الشركية التي تقشعر منه جلود الموحدين، كقولهم في كتاب ترياق المحبين وكتاب طبقات الوتري وغيرهما من كتب الرفاعية: (إن عبد الرحيم الرفاعي كان يميت ويحيي ويفقر ويغني ويسعد ويشقي) وقولهم إن أحمد الرفاعي وصل إلى مرتبة صارت السموات السبع في رِجْله كالخلخال! . ولهم في هذين وغيرهما أقوال أخرى يتبرأ منها حتى دين بولس ودين بوذا! وقد ذكرنا في المسألة الثامنة كلمتهم التي يجعلون إرادة الله تعالى فيها تابعة لإرادتهم. وإنك لتجد من حَمَلَة العمائم من يصحح مثل هذه الأقوال ويحرف كلام القرآن عن مواضعه للتوفيق بينه وبينها. وإذا بحثت عن سبب هذا الغلو كله تجده الاعتقاد بالكرامات بغير قيد ولا حد ولا حساب. قالوا: يجوز إظهار الكرامة لتقوية الإيمان؛ ولكننا نرى إظهارها كان أكبر جناية على أساس الإيمان. وأما هؤلاء العامة الذين قوي إيمانهم بأصحاب القبور المشرفة (خلافًا لنهي الشارع عن تشريفها) فلو لم يعلموا بشيء من هذه الكرامات لما كان إذعانهم وتسليمهم بالدين ينقص ذرة؛ لأن الدين عندهم تقليدي في أحكامه وفروعه، وجداني فطري في أصله. (المسألة الثامنة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بالكرامات إباحة الموبقات وتحريم الواجبات، وذلك أنه استقر عند العامة وأكثر الذين يعدون من الخاصة أنه لا يجوز الإنكار على الأولياء وما الأولياء عندهم إلا من تظهر على أيديهم العجائب والخوارق؛ لأن المعصية التي تشاهد منهم لا بد أن تكون صورية لا حقيقية ولذلك يجب تأويلها. فإذا رأيت أحدهم يشرب الخمر فاعتقد أنها انقلبت عينها كرامة له فصارت لبنًا أو عسلاً أو شربًا آخر من الأشربة المباحة، وإذا رأيته يترك الصلاة فاعتقد أنه يصلي بمكة أخذًا من قول السيد البدوي في الرد على الذين اتهموه بذلك: وفي طندتا قالوا صلاتي تركتها ... ولم يعلموا أني أصلي بمكة أصلي صلاة الخمس في البيت دائمًا ... مع السادة الأقطاب أهل الطريقة ولهم في هذه التأويلات حكايات غريبة يسخر العقلاء من بعض المستفيض منها، كزعمهم أن بعضه رؤي يأتي الفاحشة ثم تبين أن سفينة كانت خرقت في البحر وأشرفت على الغرق فبادر ذلك الولي إلى سد الخرق بما كان منه! (المسألة التاسعة عشرة) من مضرات فشو الاعتقاد بهذه الكرامات عدم ثقة جماهير المعتقدين بها بالعقل وقضاياه ونظام الكون وسننه فهم دائمًا أسرى الأوهام، وعبيد الخيالات والأحلام، فضعفت بذلك المدارك، وانقلبت في التصور الحقائق، وصار معظم الناس يخضع للدجالين، ويؤمن بالمشعوذين والعرافين، ومن أنكر عليهم شيئًا من ذلك اتهموه بالفلسفة ورموه بفساد العقيدة؛ فالعرافة والكهانة عندهم إيمان، والحكمة (الفلسفة) كفر أو عصيان، والله تعالى يذكر في كتابه أنه بعث رسوله ليعلم الناس الحكمة: {وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269) ، ويقول نبيه فيما علّمنا من الحكمة: (مَن أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد) رواه أحمد والحاكم عن أبي هريرة. وروى أحمد ومسلم في صحيحه عن بعض أمهات المؤمنين أن النبي e قال: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل صلاته أربعين يومًا) نعم، إنهم لا يسمون هؤلاء المخبرين عما وقع وعما يتوقع كهانًا وعرافين لما كان من الخلل في اللغة، والعبرة بالحقائق لا بالأسماء. فإذا كان العراف يخرج عن كونه عرافًا بتسميته وليًّا مكاشفًا فالخمر تخرج عن كونها خمرًا بتسمية بعض أصنافها كونياك أو شمبانية. ومثل هذا يقال في تسميتهم الاستعانة بغير الله توسلاً وما أشبه ذلك. وإن وراء الخضوع للدجالين والعرافين الذين يدعون الكرامات مفاسد لا يكتنه كنهها ولا تحصي أنواعها وأفرادها فمن الناس من يبذل لهم المال، ومنهم من يحكمهم في النساء والعيال، وإننا لنعرف أشخاصًا من هؤلاء الدجالين قد اشتهر أن النساء يتجردن لهم فيكتبون من طلاسمهم وحروفهم على بطونهن ما يزعمون أنه ينفع لحبل العاقر، أو يحبب البغيض منهن إلى زوجها أو غيره ممن تهوى. ومنهم من يخلو بالنساء متى شاء من ليل أو نهار برضى أزواجهن الذين يعتقدون أن هؤلاء من المقربين عند الله تعالى فلا يمكن أن تقع منهم الفاحشة فالرجل يكون ديوثًا وصاحب الكرامة فاجرًا أو قَوَّادًا وكل ذلك ببركة الاعتقاد بالخوارق والكرامات ولولاها لما كان شيء من ذلك بهذه الصور. (المسألة العشرون) من مضرات الاعتقاد بهذه الكرامات ترك مجموع الأمة الاهتمام بأمورها العامة اعتقادًا بأن هذه الأمور قد وكلها الله تعالى إلى رجال الغيب فلا يجري في الأمة شيء إلا ما قرروه في الديوان الأعلى، وما قرروه قضاء لا مرد له إلا أن يكون بتصرفهم. وفي كتب الصوفية كلام كثير عن هذا الديوان ومحله ورياسته وأعضائه ولغتهم وأعمالهم. وقد كان من أسباب خضوع بعض البلاد الإسلامية المعروف عن أهلها الشجاعة والأنفة للأجانب قول بعض المعتقدين من أهل الطريق: إنه علم من أهل الله أن الله قد سلط الأجانب على تلك البلاد عقوبة لها! وينقلون أن أهل الشام رغبوا إلى ولي كبير كان عندهم أن يدفع عنهم إغارة تيمور لنك فخرج فوجد الخضر على مقدمة جيشه، فقال: أنت معه؟ فقال: نعم أنا وربك! فعلموا أن مقاومته عبث؛ لأنها محاربة لله تعالى! وقد أشيع في إثر الاحتلال الإنكليزي في هذه البلاد أن بعض الصالحين استغاث بأهل البيت وبالسيد البدوي لإخراجهم، فكشف عنه الحجاب فرآهم مقيدين بسلاسل وقيل له: إنهم حاولوا إخراجهم فقُيدوا؛ لأن الله تعالى أراد هذا الاحتلال! أمثال هذه الحكايات تسري في الأم

دعوى صلب المسيح ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعوى صلب المسيح (2) تكلمنا في الجزء الماضي عن تمويه محرر مجلة البروتستانت على بعض عوام المسلمين في هذه المسألة وأقوى ما يخادعون به أنه لا يعقل أن رجلاً مشهورًا كالمسيح يشتبه على اليهود وشرطة الرومان فلا يميزونه من غيره. وفاتنا أن نذكر أن في الأناجيل عبارات كثيرة تدل على أن الاشتباه حصل بالفعل. وقد كتب إلينا من السويس كاتب في ذلك فرأينا أن ننقل عبارته بنصها وهي: (قد اطَّلعت على ما جاء في المنار ردًّا على بشائر السلام في مسألة صلب المسيح) . ولما كنت قد كتبت على المجلة المرسلة إليَّ من نقولا كتابة في هذا الشأن ورددتها إليه رأيت أن أطلع حضرتكم على مضمون ما كتبت فلعلك تجد فيه ما يناسب المنار، وإن كان ما كتبته موجزًا فعلى المنار الإيضاح والمراجعة والتفصيل. قلت عند قوله: (قال المفسرون إن الله ألقى شبهه.. إلخ) إن المفسرين قسمان قسم يفسر من طريق الإيمان على سنة المسيحية وهم الذين نقلت قولهم، وقسم يفسر من طريق العلم والعقل على سنة الإسلام وقد فسروا هذه الآية بما لا يبعد عما ورد في أناجيلكم التي تقرؤونها ولا تفهمونها، ورد في الإنجيل أن المسيح قال لتلامذته: إنكم ستنكرونني قبل أن يصيح الديك.. إلخ (أنكرت الشيء لم أعرفه) وورد أيضًا فيه أن المسيح خرج من البستان فوجد أعداءه فقال لهم: مَن تطلبون؟ فقالوا: المسيح. فقال: هو أنا ذا فقالوا: إنما أنت بستاني ولست بالمسيح وهكذا كانوا كلما وجدوه أنكروه وخانتهم أبصارهم في رؤيته وعمي عليهم واشتبه منظره (وخيانة النظر ثابتة قطعًا) فلما أعيتهم الحيل استأجروا يهوذا الإسخريوطي بثلاثين درهمًا ليدلهم عليه لتمكُّّّنه منه فلا يشتبه عليهم، وهذا في الإنجيل أيضًا فهذه الحيرة المفضية إلى استئجار دليل يدل عليه مع ملاحظة أنه رُبِّيَ في وسطهم وكانوا يعجبون بفصاحته وحكمته كما هو وارد في الإنجيل أيضًا تدل بأجلى بيان وأوضحه على أنهم كانوا في شك منه، وكان يشبه لهم بغيره فكلما اجتمعوا عليه اشتبه عليهم وعمي في نظرهم وخانتهم أبصارهم وظنوه غيره وما حصل لهم حصل لدليلهم (يهوذا) وقد ورد في الإنجيل أنهم حينما ساقوه للصلب كانوا يستحلفونه: هل أنت المسيح؟ فكان يقول: هذا ذا فمنه يعلم أنهم كانوا لم يزالوا في شكهم حتى بعد الاستئجار ووجود المرشد والدليل، فلما أعياهم الأمر عمدوا إلى مَن غلب على ظنهم أنه هو المسيح والمسيح في السحابة البيضاء مع موسى كما في الإنجيل أيضًا ثم صلبوا ذلك الرجل الذي كانوا يستحلفونه، وغلب على ظنهم أنه هو المسيح فهل كل هذا كان لظهور المسيح واضحًا لهم أو لأنهم كلما طلبوه شُبه لهم وألقى شبه غيره عليه وعمي عليهم وخانتهم أبصارهم فعمدوا إلى يهوذا واستأجروه ليدلهم عليه، فما كان بأمثل منهم في ذلك وأدتهم خاتمة المطاف إلى أخذ من غلب على ظنهم أنه هو وصلبوه، وما هو منه بشيء بل المسيح ساخر منهم ضاحك عليهم يقول: أنا المسيح! فيقولون: لست هو، حتى قتلوا غيره وصلبوه وهو محجوب عن أنظارهم مشتبه عليهم قد شُبه لهم بالبستاني مرة وبغيره أخرى وبذلك نجَّاه الله من كيدهم فما نالوه بسوء {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّن} (النساء: 157) المبني على إرشاد يهوذا المشكوك فيه كما علمت من نص الإنجيل {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} (النساء: 157) . هل فهمت يا حضرة المبشر الآية وكيف كانت عبارات الإنجيل حجة للإسلام لا عليه؟ . فاقرؤوا الأناجيل وافهموها؛ فقد وسع الله لكم على يد البروتستانت ولا تكونوا كالذي يحمل أسفارًا اهـ. أركان الدين الصحيح ضاق هذا الجزء عن رد شبهات النصارى على القرآن وغير ذلك مما كنا وعدنا به لطول مقالة (النبأ العظيم) أكثر مما كنا نتوقع، وقد صدر الجزء الخامس من المجلة البروتستنتية قبل صدور هذا المنار قرأنا فيها نبذة في أركان الدين الصحيح يقول فيه الكاتب الذي ينتمي إلى المسيح ما نصه: وإن المذهب الذي يجب على كل فرد أن يختاره لنفسه هو أكثر المذاهب مشابهة لروح الآلهة وأقربها لصفاتهم.. إلى آخر ما قاله وكرر فيه لفظ (الآلهة) ثم فسر هذا المذهب بقوله: (ذلك المذهب الذي ينادي: أن يا قوم أحسنوا إلى مَن أساء إليكم فتلك صفات الله، ذلك المذهب إنما هو مذهب إلهي بلا مراء) ، ثم ذكر أن المذهب إذا قال لتابعيه جاهدوا في سبيل الله ودافعوا عن أنفسكم في سبيل الله يكون بريئًا من الله والله بريئًا منه؛ لأن العزة الإلهية لا تأمر بالقتال مهما كان الغرض شريفًا. وأجاب عن أمر التوراة بني إسرائيل بإبادة بعض الأمم المجاورين لهم (بأنه) كان أمرًا وقتيًّا لازمًا للتوصل إلى المسيحية ديانة السلام والمحبة) ! . ثم ذكر اعتراض الناس على هذا المذهب بكون محبة الأعداء وترك المدافعة عن النفس مستحيل، واعترف بأن هذا صحيح بالنسبة إلى معارف البشر الآن وقال: إن معارفهم سترتقي في المستقبل إلى فهمه. فملخص هذا الدين الإلهي: (1) أنه يوجد آلهة متعددة وأن أخلاقهم متفقة على محبة أعدائهم ولا شك أن أعداءهم هم الذين لا يؤمنون بهم، ولا معنى لمحبتهم إلا عدم مؤاخذتهم على الكفر فالنتيجة أن هذا الدين دين إباحة ومبطل لنفسه ولغيره. (2) أنه يأمر بمحبة الأعداء وترك المدافعة وذلك مستحيل بحسب ما وصلت إليه معارف البشر إلى القرن العشرين من ظهوره؛ ونتيجة هذا أنه لم يتبعه أحد حتى الآن. و (3) أن هذا المذهب يخالف قول المسيح: (وهذه هي الحياة الحقيقية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع المسيح الذي أرسلته) (يوحنا 17) وقوله: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا؛ بل سيفًا؛ فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد حماتها وأعداء الإنسان أهل بيته) (متّى 10-34و35) وقوله: (جئت لألقي نارًا على الأرض) (لوقا 13-94) وقوله: (إن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضًا فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا) (لوقا 14-26) وقوله: (أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي) (لوقا 19-27) وأمثال ذلك. فأي الدينين دين المسيح عليه السلام؟ !

قتل بني إسرائيل أنفسهم وبعثهم بعد موتهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قتل بني إسرائيل أنفسهم وبعثهم بعد موتهم جاءنا من حضرة المحامي الشهير صاحب الإمضاء ما يأتي: رأينا فيما أوردتموه بأحد أعداد المجلة في تفسير قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنْفُسَكُم..} (البقرة: 54) إلى قوله جل شأنه: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 56) أن سيدنا موسى دعا من يرجع إلى الرب من قومه، فأجابه بعضهم فأمرهم بأن يأخذوا السيوف ويقتل بعضهم بعضًا ففعلوا، وقتل منهم نحو ثلاثة آلاف. وإن البعث بعد الموت عبارة عن كثرة نسلهم والبركة في أحفادهم تعويضًا لهم عن قتل آبائهم، على أننا لو أعدنا التأمل نرى أن الأمر والإرشاد للتوبة لا يستلزمه قتل نفوس التائبين وكذلك البعث بعد الموت لا يكون معناه زيادة النسل. وحينئذٍ يكون الأقرب هو أن قتل النفس معناه إماتتها عن الفساد والمعصية بسيف التوبة والندم ليبعثها الله بعد هذا الموت المعنوي إلى عالم الفلاح والتقوى، وأن البعث هنا معناه هو الوصول إلى الحقيقة بعد ذلك الضلال الذي ماتت عنه عواطفهم. فأرجوك أيها الصديق الفاضل إنعام النظر في ما أوضحته وإرشادي إلى الحقيقة. ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل عاصم (المنار) تقدم في تفسير الآيات أن سؤال بني إسرائيل رؤية الله تعالى الذي عوقبوا عليه بالصاعقة كان في واقعة مستقلة غير واقعة اتخاذ العجل الذي عوقبوا بالقتل وقوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56) وارد على غير الذين قتلوا أنفسهم بالتوبة، فإذا اعتبر الخطاب لمجموع الأمة فلا فصل فهي التي قتلت وهي التي صعقت، وهي التي بعثت وهذا ما عليه الأستاذ الإمام في إسناد الله تعالى أعمال سلف بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل الذين كانوا في زمن التنزيل، وعليه لا إشكال في إسناد] بَعَثْنَاكُم [إلى الذين ماتوا بالصاعقة أو غيرها ولا بعد في تفسير هذا البعث بعد الموت بكثرة النسل لا سيما مع ملاحظة أن المخاطَبين بهذا كله هم اليهود الذين كانوا معاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم. أما قتل بعضهم بعضًا في التوبة فهو المنقول في كتبهم المقدسة والذي يتناقلونه خلفًا عن سلف، وبه قال جماهير المفسرين، وذهب القاضي عبد الجبار من المعتزلة إلى أن القتل هنا مجاز وما كان الله ليكلف الناس بالقتل؛ لأن التكليف لمصلحة العبد ولا مصلحة في القتل لمن يقتل. ووجه الآية توجيهًا مقبولاً في اللغة وأساليبها وهو نحو ما في السؤال لم يحصل بالفعل وإن كان يجوز التكليف به. قال الآلوسي: ومن الناس من جوَّز ذلك إلا أنه استبعد وقوعه فقال (معنى اقتلوا: ذللوا) ومن ذلك قوله: إن التي عاطيتني فشربتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرًا، ونقل عن قتادة أنه قرأ (فاقتلوا أنفسكم) والمعنى أن أنفسكم قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه وقد هلكت فاقتلوها بالتوبة والتزام الطاعة وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات اهـ. وقال في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ} (البقرة: 56) بعدما أورد القول المشهور: ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانًا وهمودًا لا موتًا حقيقة كما في قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: 17) ومنهم من حمل الموت مجازًا كما في قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} (الأنعام: 122) وقد شاع ذلك نثرًا ونظمًا ومنه قوله: أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم ومعنى البعث على هذا التعليم أي: ثم علمناكم بعد موتكم اهـ. فما ورد في السؤال معقول وجيه ولم أذكره في تفسير الآيات؛ لأنني لم أتذكر أن الأستاذ الإمام أورده على أنه ما كان ليغفل مثل هذه الوجوه المعقولة ولعلي نسيت وسبحان مَن لا ينسى.

استدراك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استدراك ذكرنا في هامش صفحة 123 أننا لا نتذكر في أي موضع من التوراة ذُكر ذلك الحكم الذي أشار إليه الأستاذ الإمام في تفسير الآية ثم ذكرنا أنه في أول الفصل الحادي والثلاثين من سفر تثينة الاشتراع ونصه: (إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعًا في الحفل لا يعلم مَن قتله 2 يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل 3 فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث فيه ولم يزرع ويكسرون عنق العجلة في الوادي 5 ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي؛ لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون لك خصومة وكل ضربة 6 ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي 7 ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم وأعيننا لم تبصر 8 اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب، ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم) اهـ. وقد ذكر معنى ذلك الأستاذ الإمام في الدرس؛ ولكن جاءت عبارتنا عنه غير كافية، فأوضحناها بهذا الاستدراك.

الإنجيل الصحيح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإنجيل الصحيح (مقدمة كتاب الفيلسوف تولستوي الروسي الذي سماه الأناجيل) (تمهيد) ينعق دعاة النصرانية فينا دائمًا: أن القرآن شهد بأن الإنجيل كتاب الله المنزل على المسيح وأنه حق، فإذا لم تكن هذه الأناجيل الأربعة التي في أيدينا هي كتاب المسيح فأين هو كتابه؟ وقد سبق لنا في المنار الجواب عن هذا السؤال وبيان أن إنجيل المسيح - في اعتقاد المسلمين - هو مجموع المواعظ والحكم والأحكام التي جاء بها المسيح وعلمها بني إسرائيل مع تصديقه للتوراة وأن ذلك لم يحفظ كله، وإنما حفظ منه شيء ونسيت أشياء كما قال تعالى في أهله {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظُّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) وما كانوا يعترفون بهذا ولكن الله عرف نبيه الأمي به فعلم الناس ما لم يكونوا يعلمون. كانت تعاليم الدين محسوبة في هذه الأمة عند الرؤساء؛ ولكن ما أحدثه البروتستنت من حرية البحث فيه وما كتبه مؤرخو أوربا الأحرار في التاريخ العام قد أظهر لنا تفسير قول الله في الإنجيل فكان ذلك من دلائل نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؛ لأنه ضرب من ضروب إعجاز القرآن وآية من آياته البينات. فإن التواريخ الكنيسية وغير الكنيسية أظهرت لنا أن أتباع المسيح في زمنه كانوا من العوام الجاهلين، وأنهم مُزِّقوا من بعده في الأرض كل ممزق وكانوا مُضطهَدين من اليهود والرومان جميعًا حتى قضت السياسة على الملك قسطنطين بالدخول في النصرانية واتخاذ عصبة جديدة منها. فلما صار لهذه الديانة سلطة طفقت تنشئ المجامع وتجمع الآثار فظهر عندها أناجيل كثيرة تحكَّم فيها الرؤساء كما شاءوا وأقروا منها أربعة وحكموا ببطلان ما عداها. وإن كانت هذه الأربعة إلا تواريخ للمسيح فيها بعض كلامه المأثور عنه منقولاً عن آحاد لا يجزم العقل بصحة روايتهم كلها ولا بكذبها كلها؛ فالذي يمكن الوثوق به في الجملة أن فيها حظًّا من كلام المسيح وبقي حظ آخر هو الذي نسوه وليس فيها كلمة تدل على أن أحد مؤلفيها يدعي أنه جمع فأوعى كل ما قال المسيح؛ بل كانت آخر جملة في الرابع منها قول يوحنا مؤلفه: (وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة) اهـ. وإننا بغض الطرف عن الغلو في العبارة نقول: إن الأفعال الكثيرة المرادة لا بد أن تكون مصحوبة بأقوال وتعاليم تُركت كتابتها كما تركت كتابة الأفعال، ولعلنا في جزء آخر نورد بعض أقوال مؤرخي أوربا في ذلك. ونقول الآن: إن العقول المطلقة من أسر تقليد الكنيسة قد اهتدت إلى ما حكم به الإسلام في الجملة. ومن أكبر هذه العقول عقل الفيلسوف تولستوى الروسي الشهير فقد ألف كتابًا أرجع فيه الأناجيل الأربعة إلى إنجيل واحد وحذف منها ما لا يوثق به من الأقوال التاريخية والخوارق الكونية، وإن كان بعضه صحيحًا. وإننا ننشر في المنار مقدمة كتابه هذا معربة عن الفرنسية لتكون عبرة للعقلاء وإن كنا لا نسلم بكل ما فيها تسليمًا. ذكر في أول المقدمة أن كتابه هذا (واسمه الأناجيل) ملخص ارتقائه في الفكر الذي أعانه على معرفة الحق والصواب في التعاليم المسيحية كما يعتقد الآن. وثانيها في خلاصة المذهب المسيحي المعروف عند الكنائس لخصه مما يؤثر عن الحواريين والمجامع وجمهور القسيسين وأضاف إليه شرحًا (يوضح فساد تلك التعاليم الكنائسية) وثالثها في خلاصة الأناجيل الأربعة وجعلها إنجيلاً واحدًا يحتوي على التعاليم المسيحية الصحيحة - بحسب ما وصل إليه اجتهاده - ورابعها خلاصة عامة للمعنى الحقيقي الذي تدل عليه التعاليم النصرانية وللأسباب التي أوجدتها والنتائج التي تستلزمها. (قال) : وهذا الكتاب الذي أنشره الآن على رؤوس الأشهاد هو خلاصة القسم الثالث. ثم قال: (ولقد حاولت في القسم الثالث من مؤلَّفي الكبير الذي سبقت إليه الإشارة أن أترجم وأنشر الأناجيل الأربعة جملة جملة لا أغفل منها سطرًا واحدًا؛ ولكن رأيت من الواجب أن أتعمد في هذه الخلاصة حذف كل العبارات التي ترتبط بهذه الموضوعات وهي: الحمل بالمسيح وميلاد القديس يوحنا المعمدان وسجنه وقطع رقبته وميلاد المسيح ونسبه وهروبه إلى مصر، والمعجزات التي حصلت في كانا وكفر ناحوم والعزائم لإخراج الجن من أجساد الناس والسير على سطح البحر ولعن شجرة التين والقيامة وكل ما يشير إلى النبوات التي جاء مصداقها في حياة المسيح) . طويت كشحًا عن هذه العبارات لأنها لا تحتوي على شيء مما يتعلق بالتعاليم المسيحية وإنما لها علاقة ببيان الحوادث التي حصلت قبل تصدر المسيح للتعليم وفي أثنائه وبعده فليس فيها فائدة في إيضاح حقيقة التعاليم التي جاء بها المسيح بل يسوغ لنا أن نقول: إنها موجبة للتشويش في فهمها والارتباك في إدراكها ومهما كانت الوسيلة في ترتيب المعاني على هذه الموضوعات فإنها لا تغير تعاليم المسيح نقضًا ولا إثباتًا وإنما الغرض منها إقناع الذين لا يعتقدون بألوهية عيسى المسيح ولذلك لم يكن فيها أقل فائدة لرجل لا يؤثر حكايات الخوارق والعجائب في إقناعه فضلاً عن كون في نفس تعاليم المسيح الدلائل الكافية على ثبوت ألوهيته) . (ثم قال) : (وأقول بوجه العموم فيما يتعلق بمخالفة ترجمتي في بعض المواضع للنص الرسمي المعتمد في الكنيسة: إن القارئ لا ينبغي له أن ينسى أنه من الخطأ الفاحش والكذب الصراح أن يقال: إن الأناجيل الأربعة هي كتب مقدسة في جميع آياتها وفي جميع مقاطع كلماتها وإنها مقدسة بحيث يحرم تبديل شيء منها فلا يصح للقارئ أن ينسى أن عيسى لم يؤلف كتابًا قط كما فعل أفلاطون وفيلون ومارك أوريل، وأنه لم يلقِ تعاليمه مثل سقراط على رجال من أهل العلم والأدب وإنما عرضها على قوم من الجهال قد خشنت طباعهم، كان يصادفهم في طريقه. وإنما جاء بعد مماته بزمان يقارب المئة عام رجال أدركوا مكانة كلماته فخطر ببالهم أن يدونوها بالكتابة ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن مثل هذه المدونات كانت كثيرة وقد ضاع معظمها وإن منها ما كان محشوًّا بالخطأ والغلط وأن النصارى قد استخدموا كل هذه المدونات في أول الأمر حتى اختاروا منها مع توالي الأيام ما ظهر لهم أنه أقرب للكمال وللصواب - وإن الكنائس حينما اختارت أحسن الأناجيل بين مئات الألوف من المصنفات التي جادت بها قرائح المشتغلين بالعلم في أوائل النصرانية وقعت فيما يقوله المثل الروسي: (لا يخلو القضيب من العقد) فأخذت عقدًا كثيرًا من هذه المجامع وأن الغلط في الأناجيل القانونية هو بقدر الغلط في الأناجيل المهملة لاعتبارها محلاًّ للشك والارتياب. وإن هذه الأناجيل المتروكة تشتمل على أشياء جميلة قد تعادل ما تضمنته الأناجيل الرسمية! . لا ينبغي للقارئ أنه ينسى أن تعاليم المسيح هي المقدسة وأن ذلك التقديس لا يتعدى إلى عبارات مسطورة وكلمات مرقومة وأن اعتبار بعض الكتب مقدسة لا يكفي في إحاطة التقديس بكل ما جاء فيها إلى آخر سطر منها. فليس الآن في عالم المدنية من يجهل أعمال النقد التاريخي منذ مئة عام سوى جمهور الناس في بلادنا الروسية فإنهم لا يزالون يعتقدون بهذا الرأي الساذج وهو أن أناجيل متّى ومرقس وبولس قد كُتبت كما هي الآن وأن المؤلفين المنسوبة إليهم قد كتب كل واحد منهم ما كتبه على حدته دفعة واحدة. لا ينبغي للقارئ أن ينسى أن هذا الرأي المبني على الجهل بالمباحث العلمية إنما تعادل قيمته اليوم قول أسلافنا في القرن الماضي: إن الشمس تدور حول الأرض. ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل المجملة المندمجة في بعضها إنما هي ثمرة المباحث الطويلة ونتيجة سلسلة من أعمال الحذف والزيادة وأنها أثر من آثار ما أوحاه الخيال على آلاف من الرجال وأنها ليست بنتيجة ما نطق به الروح القدس على لسان الإنجيليين كما يزعمون. ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن الأناجيل بشكلها الحاضر لا تتضمن ألبتة شهادة الحواريين وتلامذة عيسى مباشرة وأن القول بذلك من الخرافات التي لا تصبر على محك الانتقاد فضلاً عن عدم بنائها على أدنى أساس سوى رغبة نفوس أرباب التقوى والورع في أن تكون كذلك. فقد توالت القرون والناس يدونون الأناجيل ويهذبون موضوعاتها، ويتوسعون في عباراتها، ويشرحون أقوالها، فإن أقدم النسخ التي وصلت إلينا قد تمت كتابتها في القرن الرابع للميلاد وهي مكتوبة على نسق واحد من أولها إلى آخرها أي بلا فواصل ولا غير ذلك من الإشارات التي تستعمل لإيضاح الكلمات وبيان الجمل؛ ولذلك دعت الضرورة حتى بعد القرنين الرابع والخامس إلى تفسيرها بطرائق متخالفة من كل الوجوه وصارت نسخ هذه الأناجيل تقارب الخمسين ألفًا! بل يجب على القارئ أن يستحضر في ذهنه كل هاتيك الاعتبارات حتى لا يعول على هذا الرأي السائد فيما بيننا وهو أن الأناجيل وصلت إلينا صادرة مباشرة عن الروح القدس بشكلها الحاضر ويجب عليه أيضًا أن يسلم معنا بأنه ليس من المحرم علينا أن نحذف من الأناجيل العبارات التي لا فائدة فيها وأن نستعين ببعض معانيها على بيان معاني البعض الآخر بل إن الحرام والكفر كل الكفر هو عدم التجاسر على فعل ذلك! ! ! وأن نعتقد بتقديس بعض العبارات، وطائفة من الكلمات، بحيث نرى أنه لا يجوز مساسها على الإطلاق. هذا، وإنني أسال القارئ الكريم أن يتذكر أنني إذا كنت لا أعتبر الأناجيل كتبًا مقدسة قد نزلت علينا من السماء مباشرة بوحي من الروح القدس الذي جعلها لنا عهدًا ووصية، فإنني لا أذهب أيضًا إلى أن هذه الأناجيل ليست إلا آثارًا تاريخية تدل على حالة التأليف في العلوم الدينية بل إنني مصدق بما حوته من التصور الديني والتاريخي؛ ولكنني أتصورها بطريقة أخرى ولذلك أرجو من القارئ الكريم الذي يمعن نظره في ترجمتي بأن لا يترك نفسه في أثناء تلاوتها تسير في طريق الضلال من حيث الوجهة الدينية أو من حيث الوجهة التاريخية اللتين أقر عليهما أرباب الآداب وعنوا بهما في هذه الأيام فلست أذهب إلى واحدة منهما دون الأخرى، فكلاهما في نظري سواء. لا جرم أنه يستحيل عليَّ أن أعتبر النصرانية وحيًا لا يشوبه شيء أو مظهرًا مجردًا من مظاهر التاريخ في هذا الوجود؛ ولكنني أذهب إلى أن النصرانية هي النحْلَة الوحيدة التي تجعل معنى لهذه الحياة ولم يدفعني اللاهوت ولا التاريخ إلى اعتناق النصرانية! ولكن الأسباب التي حملتني على قبول هذا المذهب هي ما يأتي: ... ... ... ... ... (لها بقية) ... ... ... ... ((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ... ... ... ... ... ... ...

تتمة تقريظ رسالة الشيخ محمد بخيت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة تقريظ رسالة الشيخ محمد بخيت قال المؤلف بعد ما تقدم: ومن هذا القبيل بلا شبهة الاجتماع للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لأنها جماع الخير ومفتاح البركات بإجماع المسلمين. أقول: إن الصلاة على النبي والدعاء له مشروع ولكن لم يقل أحد من السلف ومن ينظر إلى قوله من الخلف بمشروعية الاجتماع لها وكونها شعارًا دينيًّا يُعيَّن له وقت مخصوص وصيغ مخصوصة واجتماع مخصوص. وإذا كان الشعار لا يثبت إلا بشرع كما تقدم فعلى المصلين أن يتحاموا ذلك وليصلوا ويدعوا مجتمعين وفرادى ما تحاموا جعل ذلك شعارًا. ولا معنى لهذا الإجماع الذي ذكره. فالذين ينعقد بهم الإجماع لم يُنقَل عنهم هذا القول: (إنها جماع الخير ومفتاح البركات) وإن أراد أنهم قالوا ما هو بمعناه قلنا: إن معناه غير محدد متعين وما ذاك الذي قالوه بمعناه ومن الذي نقله بالإجماع؟ الذي يقوله كل مسلم إنها مشروعة وكل مشروع خير نافع ومفيد وبهذا القدر كفاية. بدع المواسم: ثم قال: ومن هذا القبيل الاجتماع لقراءة وسماع نحو قصة المعراج وفضائل ليلة النصف من شعبان وليلة القدر في لياليها المشهورة؛ لأن الأولى سيرة النبي وأحاديثه الصحيحة والثانية والثالثة آيات قرآنية وأحاديث نبوية جاءت في فضل الليلتين وبيان معاني ذلك مما يرغّب في العمل الصالح. ونقول: الاجتماع لهذه القصص صار له كيفية مخصوصة، ووقت مخصوص ويكون في المساجد ويقتضي نفقات كثيرة تؤخذ من أوقاف المسلمين بغير حق فيكثرون فيه إضاءة القناديل والشموع في المساجد والمنائر وتدار في بعض المساجد أقداح الشراب الحلو على الحاضرين وقد تكون هذه الأقداح من الذهب أو الفضة وذلك حيث يكون الأمراء ومن يتبعهم من الحكام والعلماء وبعض القصص التي تقرأ فيها تشتمل على الأحاديث المكذوبة والواهية، لا سيّما قصة المولد التي تدخل في كلامه بمقتضى كلمة (نحو) . ثم إن هذا الشعار المبتدع يستتبع بدعًا أخرى كاجتماع أهل اللهو الباطل المصبوغ بصبغة الدين بطبولهم ومزاميرهم في المسجد يعزفون ويغنون ويصفقون ويهزأون بأسماء الله تعالى إذ يذكرونها في لهوهم هذا ويجتمع عليهم في بعض المساجد (كمسجد القلعة) الغوغاء والإفرنج نساءً ورجالاً فيكونون في نظر هؤلاء سخرية وآية على أن دين الإسلام دين المجانين والحمقى (حاشاه) . هذا بعض وصف هذه الاجتماعات التي جعلت شعائر إسلامية تقام في بيوت الله تعالى، ومن يقرأ رسالة المؤلف لا يفهم منها إلا كون هذا الاجتماع المعروف مشروعًا في الإسلام ومن القرائن أن الناس يرون العلماء يحضرون هذه الاحتفالات، نعم، إنه قال في جملة أخرى: لا يجوز التكلف في تغيير الصوت في الذكر والصلاة على النبي e كما يفعله العوام فيمنع، ثم قال: وكذا يمنع كل منكر وكل شيء اشتمل عليه مجلس الذكر والخير دون نفس الذكر والخير، وهذا القول يشبه أن يكون احتراسًا من الانتقاد فإن الاجتماعات التي ذكرها معظمها بدع ومنكرات حتى صار الأقرب أن يؤمر بتكريم ذكر الله أن يكون فيها احترامًا له فإن هذه الاجتماعات قد تكونت هكذا من المنكرات فلا سبيل إلى إجازتها وجعلها مشروعة واعتبار المنكرات عرضًا لاحقًا بها يخص بالإنكار دونها. وهذه الآيات وتفسيرها والأحاديث وشرحها تقرأ في مجالس العلم ولا يخطر في بال أحد أن يقول إنها منكرة. بل نقول: إن مجالس العلم في نحو الأزهر لا تخلو من منكر في الغالب ولكن ذلك هو المنكر العارض والأصل في المجلس والاجتماع إفادة العلم واستفادته. بدع الجنائز: وقد أحسن المصنف عقيب ذلك في الجزم بحظر ما يكون في الجنائز من (رفع أصوات المشيعين للجنازة بنحو قرآن أو ذكر أو قصيدة بردة أو يمانية) وعده ذلك من البدع المذمومة وعلل ذلك بأن النبي e تركه مع قيام المقتضى لفعله قال: (فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة) كما هو الحكم في مثله بل نقل حديثًا رواه أبو داود مرفوعًا وهو: (لا تتبع الجنائز بصوت ولا نار) . ثم ذكر أن بعض المتأخرين جوز رفع الصوت بالذكر (مخالفة لأهل الكتاب؛ لأنهم يمشون في الجنائز ساكتين) رد عليه هذا القول بوجهين: أحدهما اتباع النص الناهي عنه والنافي أن العلة ممنوعة فإن أهل الكتاب يرفعون أصواتهم في الجنائز لهذا العهد ونزيد عليه أن هذه العادات سرت إلى المسلمين منهم. ثم قال ما نصه: (وأما ما يفعل في زماننا أمام الجنائز من الأغاني ورفع الصوت بالبردة واليمانية على الوجه الذي يفعل في هذا الزمان والمشي بالمباخر فلا يقول بجوازه أحد) ثم بيَّن أن عرف الناس لا يعتبر في هذا الزمان كما صرح به فقهاؤهم. أقول قد أحسن في القول بحظر هذه البدع ومثل هذا الذي ذكره في كونه مبتدعًا مذمومًا ما تقدم الكلام فيه من الاجتماع لقصة المعراج وليلة النصف وليلة القدر وليلة المولد. وأما العرف المحكم شرعًا فلا معين لاشتراط كونه جرى في عهد الصحابة وإلحاقه بالإجماع كما قال، وإنما هو العرف الذي يجري في المعاملات الدنيوية ويتواطأ الناس عليه لموافقته لمصلحتهم وهو لا يخالف نص الكتاب والسنة ولا يتعلق بالأمور الدينية المحضة. لا عبرة بسكوت العلماء على المنكر: وأحسن أيضًا كل الإحسان في قوله بعد إبطال عرفهم فيما ذكر: (وكذا ما تعارفوه من التغني أي بمدح السلاطين والترضي وغير ذلك وقت الخطبة فإن كل ذلك ممنوع اتفاقًا يثاب من منعه أو أمر بمنعه كما أن فعل شيء مما علم أنه بدعة مذمومة شرعًا في بعض المواضع التي يكون بها العلماء كالجامع الأزهر مع سكوتهم عليه لا يصلح دليلاً على الحل؛ لأن المعول عليه في الأحكام الشرعية هو ما ذكرنا من الأدلة الأربعة) ، فليتأمل قول هذا العالم الأزهري أولئك العوام الذين يحتجون على المنار في إنكار بدع الموالد والمساجد بأن العلماء يشاهدونها ولا ينكرونها بل يقرون الناس عليها. وهذا آخر ما أردنا كتابته في تقريظ هذه الرسالة الوجيزة انتقادًا واستحسانًا وذلك عناية منا بمؤلفها فما كل مَن كتب يبالى بكلامه.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (مختصر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) كنا نسمع بكتاب العلم لحافظ المغرب الإمام أبي عمر يوسف بن عبد البر ونرى النقل عنه في كتب الحديث والأثر فنشتهي أن نراه ونتمنى لو يطبع. وقد أعطانا الله ما نتمنى، إذ أظفر الشيخ أحمد عمر المحمصاني البيروتي الأزهري المعروف بحسن اختيار الكتب بنسخة من هذا الكتاب ووفقه لاختصارها وطبعها. وما كان اختصاره إلا حذف الأسانيد والمكرر. وقد ذيّله بهوامش فسر بها الغريب من الكلم، ونوه ببعض الفوائد والحكم وجعل في آخره فهرسًا للأعلام ذكر فيه جميع أسماء الصحابة والعلماء الذين جاء ذكرهم فيه مبينًا مواضعها من الصفحات والأسطر، وقد بلغت صفحات الكتاب 232 وهو بشكل المنار وطبع بحروف كحروفه الصغيرة ولا أجد قولاً أقرظه بعد شهرته وبعد صيت مؤلفه إلا أن أتحف القراء ببعض فوائده وسيكون ذلك في غير هذا الجزء؛ ولكنني أعجل بالنصيحة لأهل العلم الإسلامي ومحبيه بأن يقرؤوا هذا الكتاب ويقتنوه وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة وهو يطلب من مؤلفه بالأزهر ومن إدارة مجلة المنار. ومن جميع المكاتب الشهيرة في مصر وغيرها. *** (إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان وطريق الهجرتين وباب السعادتين) كتابان جليلان للإمام الحجة شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قيّم الجوزية، موضوعهما النهي عن البدع والمحرمات والكلام في الأخلاق والآداب الدينية والمواعظ والرقاق والاعتصام بالكتاب والسنة، ومثل هذا الإمام الحافظ هو الجدير بالتأليف في ذلك؛ فقد كان هو وشيخه؛ بل شيخ الإسلام وعلم الأعلام أحمد ابن تيمية أعلم أهل الأرض بالكتاب والسنة وعندي أنه لا يستغني أحد يطلب علم الدين عن الاطِّلاع على كتبهما وأن هذين الكتابين يصلحان لإفادة العوام وإن كان لا يستغني عنهما الخواص. وقد طبع الثاني منهما في هامش الأول وبلغت صفحات المجلد الذي جمعهما 423 من القطع الكامل وهو يطلب من مطبعة ومكتبة الحلبي بمصر. *** (غنية المؤدبين في الطرق الحديثة للتربية والتعليم) كان حديث الوضع والطبع ألفه الشيخ عبد العزيز شاويش أحد مفتشي نظارة المعارف العمومية بدأه بمقدمة في تاريخ التربية وجاء فيه بفصول في علم النفس وفصول في التربية على اختلاف ضروبها، وفصول في أساليب التعليم ونظام المدارس وفي هذه الفصول فوائد ومسائل لا تكاد توجد في كتاب عربي؛ لأنها مقبوسة من علوم العرب - وقد تربى المؤلف في أحسن مدرسة لهم وهي مدرسة دار العلوم بمصر - ومن علوم الإفرنج - وقد تخرج في مدرسة من أحسن مدارس الإنكليز - وقد تصفحنا صفحات من الكتاب فاستحسنا وضعه ورجونا نفعه ولم ننتقد فيه شيئًا يضع لذاك الوضع أو يحول دون هذا النفع، وإنما هي كلمات نبت عن مواضعها، وقضايا لا تؤخذ على إطلاقها. أما الكلمات فبعضها من تحريف الطبع وبعضها من استعمال المدارس ككلمة (تخته) فإنها فارسية معناها (الخشب) وتعريبها (تخت) وهو وعاء تصان فيه الثياب وسرير من خشب أو غيره غلبت في عرش السلطان، واستعمال المؤلف في اللوح الذي يكتب عليه ومنها ضرب من ضروب التجوز أو التوسع في الكلام بنحو التعدية والتقديم والتأخير كقوله: (كفى لهم معلم واحد) وقوله في ابتداء كلام: (كانت تعلم اليهود القراءة) يريد كانت اليهود تعلم. ونحو ذلك من الجمل التي تنكر بعضها البلاغة وإن عرفها النحو، ومثلها كثير في كلام المعاصرين من الكتاب والمؤلفين الذين يغفر لهم ما لا يغفر لمعلمهم فن التربية والتعليم مثل صديقنا مؤلف كتاب (غنية المؤدبين) . وأما القضايا التي يتنقد إطلاقها فمثل ما حكاه في أول الكتاب عن التربية عند اليهود وعند العرب فقد ذكر أن التربية كانت عند الإسرائيليين إلى سنة 64 قبل الميلاد منزلة دينية قال: (فيربو الطفل وليس في قلبه شيء غير الله وجلاله) وهذه نتيجة فيها مبالغة عظيمة ولا بد أن يكون المؤلف نقلها عن كتاب أوربي يطري اليهود، والتاريخ يدل على أنهم لم يكونوا في عصر من الأعصار آخذين بروح الدين بمثل هذه العناية. ومثل ما حكاه عن طريق التعليم عند العرب فإنه إنما ذكر رأي ابن خلدون في ذلك ولم يذكر ما يذكر ما كان عليه العرب في نفس الأمر. ومثل هذا لا ينافي كون الكتاب لا نظير له في بابه وأنه ينبغي للمعلمين والمربين الاستعانة به والاستفادة منه. ويا ليت أهل الأزهر يقرأونه ويطلعون على ما كتبه واحد كان منهم ثم تعلم بعد علومهم ما لم يتعلموا وقد قال بعض أفاضل المشتغلين بتعليم فن التربية والتعليم في تقريظ هذا الكتاب كلمة ينبغي أن تكون فصل الخطاب وهي: إنني كنت إذا أردت إلقاء الدرس في هذا الفن لا أجد ما أقول إلا بعد بحث واستقصاء وجهد وعناء فلما طبع هذا الكتاب نظرت فيه فأصبت في كل فصل من فصوله ما ينبغي أن يلقى في الدرس الذي يبحث ذلك الفصل في مسائله مع زيادات لا يستغنى عنها، ولا بد للمعلم منها، والكتاب يطلب من مكتبة المؤيد ومكتبة الشعب بمصر. * * * (المنتحل للإمام أبي منصور الثعالبي) الثعالبي من أئمة اللغة والأدب المعروفين وله الكتب النافعة فيهما ومنها هذا الكتاب الذي أودعه مفردات ومقاطيع من مختار الشعر في ضروب الكلام وشجونه مما يحسن إيراده في الرسائل والفصول الأدبية والأخلاقية والاجتماعية. ولقد كان سرًّا مضمرًا في خاطر الدهر حتى وقعت نسخة منه للشيخ أحمد أبي علي أمين مكتبة البلدية في الإسكندرية وهو من أهل العلم والأدب، وعشاق الفنون فأذاعه بما حرص على نشرها بالطبع بعد عناء في تصحيحها وتعليق شرح وجيز عليها جعله كالطراز على مطارف بعض الصحائف. * * * (المنتخل في تراجم شعراء المنتحل) كتاب لطيف لشارح المنتحل وطابعه رتب فيه أسماء الشعراء الذين ألف المنتحل من مختار كلامهم على حروف المعجم وذكر سيرهم مختصرة مفيدة فكانت صفحات الكتابين معًا 360 والكتاب طِلْبة المتأدبين وقد طبع على ورق جيد وضبط ما يستحق الضبط من كلِمه بالشكل وثمن النسخة منه 20 قرشًا صحيحًا وأجرة البريد قرشان وهو يطلب من طابعه ومن إدارة مجلة المنار بمصر، وإننا نذكر نموذجًا منه ونبدأ بباب الأمثال والحكم والآداب. قال امرؤ القيس بن حجر الكندي: الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل * * * لقد طوقت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب * * * فإنك لم يفخر عليك كفاخر ... ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب * * * وجرح اللسان كجرح اليد ... * * * وقال طَرَفَة بن العبد: كفى واعظًا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي وظلم ذوي القربى أشد مضاضةً ... على المرء من وقع الحسام المهندِ إذا ما رأيت الشر يعقب أهله ... وقام جناة للشر فاقعدِ ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزودِ *** يا راقد الليل مسرور بأوله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا *** كلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحة *** لنا يوم وللكروان يوم ... تطير البائسات ولا تطير *** وأعلم علمًا ليس بالظن أنه ... إذا ذل مولى المرء فهو ذليل *** وقال الأفوه الأودي واسمه صلاة بن عمرو: تهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... وإن تولت فبالأشرار تنقادُ والبيت لا يُبتنى إلا على عَمَد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا [1] *** وقال محمد بن مناذر: يا عجبًا من حاله كيف لا ... يخطئ فينا مرة بالصواب *** وقال أبو نواس: كفى حزنًا أن الجواد مقتر ... عليه ولا معروف عند بخيل *** وأوبة مشتاق بغير دراهم ... إلى قومه من أعظم الحدثان *** وقال محمود الوراق: وإذا غلا شيء عليَّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا *** ولم أر بعد الدين خيرًا من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شرًّا من الفقر وقال علي بن الجهم: وعاقبة الصبر الجميل جميلة ... وأفضل أخلاق الرجال التفضل ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ... ولكن عارًا أن يزول التجمل *** وقال أبو تمام: ومن لم يسلم للنوائب أصبحت ... خلائقه طرًّا عليه نوائبا *** وقال أبو الطيب المتنبي: أهمّ بشيء والليالي كأنما ... تطاردني عن كونه وأطارد وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد *** إنا لفي زمن ترك القبيح به ... من أكثر الناس إحسان وإجمال *** وقال آخر: فيا نفس صبرًا إنما عفة الفتى ... إذا عفَّ عن لذاته وهو قادر دع الوطن المألوف رابك أهله ... وعد عن الأهل الذين تكاشر فأهلك من أصغى وعيشك ما صفا ... وإن نزحت دار وقلت عشائر وكيف يُنال المجد والجسم وادع ... وكيف يحاز الحمد والوفر وافر وهل تحجب الشمس المنيرة ضوءها ... ويستر نور البدر والبدر زاهر *** وقال آخر: وكنت إذا خاصمت خصمًا كببته ... على الوجه حتى خاصمتني الدراهم فلما تنازعنا الخصومة غلبت ... عليَّ وقالوا قم فإنك ظالم ولما التقينا لجلجت في حديثها ... ومن آية الشر الحديث الملجلج *** إن الأمير هو الذي ... يضحَى أميرًا بعد عزله إن زال سلطان الولا ... ية فهو في سلطان فضله *** شعار الفتى ذم الزمان الذي أتى ... ومن شأنه مدح الزمان الذي مضى *** (مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر) صدر الجزء الثاني من هذا الكتاب لمؤلفه جُرجي أفندي زيدان منشئ مجلة الهلال الشهيرة وهو خاص بتراجم رجال العلم والأدب والشعر ومنهم كُتَّاب الجرائد، وطريقة المؤلف في التأليف وذوقه في تحرير التاريخ مما لا يحتاج إلى تنويه. ولا يكاد يوجد قارئ بالعربية إلا ويجب أن يطلع فيه على ترجمة فيلسوف الشرق السيد جمال الدين الأفغاني وغيره من رجال العلم والأدب كالدكتور فانديك والسيد أحمد خان وبطرس البستاني والشيخ أحمد أفندي فارس وكمال بك نامق ومحمود باشا الفلكي وأمثالهم. نعم، قد انتقد عليه أنه ذكر بعض الأدباء الذين لا يعدون من رجال النهضة والذين يوجد لهم نظائر وأمثال كثيرون. والكتاب يطلب من مكتبة الهلال وثمنه 15 قرشًا صحيحًا. *** (ديوان الرافعي) لم ينسَ القراء أننا نشرنا مقدمة هذا الديوان في الجزء الأول وقد تم طبع الديوان مذيلاً بشرح وجيز لشقيق الناظم محمد كامل أفندي الرافعي. ومَن أراد أن يعرف مكانة هذا الديوان في دواوين الشعر والأدب فلينظر ما قرظه به فرسان هذا الميدان كمحمود باشا سامي البارودي والشيخ عبد المحسن البغدادي وحافظ أفندي إبراهيم وغيرهم وإننا ننشر تقريظ هذا الأخير لاختصاره قال: قد قرأنا نظيمكم فقرأنا ... حكمة كهلة وشعرًا فتيّا وتلونا نثيركم فشهدنا ... كاتبًا بارع اليراع سريّا خاطر يسبق العيون إلى القلـ ... ب ويطوي منازل البرق طيّا ومعانٍ كأنها الروح في الصـ ... يف تهز النفوس هز الحميّا من بنات المحار يصبو إليها ... تاج كسرى وتشتهيها الثريّا إيه يا رافعي أحسنت حتى ... لا أرى محسنًا بجنبك شيّا أنت والله كاتب بدوي ... إن عددناك شاعرًا بدويا ولا غَرْوَ، فهذا الشاعر في بدايته قد فاق كثيرًا من شيوخ الشعراء في نهايتهم فنتمنى لو يقبل الناس على ديوانه تنشيطًا للأدب وأهله. (ورقة الآس) هي القصة الرابعة عشرة من قصص (مسامرات الشعب) الشهرية كتبها أحمد بك شوقي شاعر الأمير وقد قرأتها فألفيتها أحسن ما قرأت من هذه القصص عبارةً وأسلوبًا وتأثيرًا حتى كدت أقول: إنها هي القصة الأولى والأخيرة من هذه المسامرات. وقد صدر بعدها قصة مصارع الشهوات وقصة الفتاة اليابانية وهي الأخيرة ومؤلفها حسن أفندي رياض وقد نظرت ف

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (شرف العرب وفضلهم على الأمم) صدر الجزء الصادر في هذا الشهر من المقتطف بمقالة في عمران العراق أورد الكاتب فيها ملخص مقالة لجريدة التيمس في شريعة حمورابي (وضبطه همورابي) جاء فيها أن هذا الملك الشارع العظيم الذي يرى العلماء في أوربا أن معظم التوراة مستمدة من شريعته - هو من أسرة عربية الأصل. قال: (فالعرب هم الذين وضعوا تلك الشريعة) ، فحسب العرب فخرًا وشرفًا أن أقدم شريعة عُرفت في الأرض إلى هذا العهد هي منهم وآخر شريعة وجدت في الأرض وهم ساسة الأمم ومهذبوها في القديم والحديث. أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع نعم، إنهم قد هضموا أنفسهم منذ قرون فهضمت حقوقهم الأمم حتى صار يلغط المتطفلون على موائد العلم والكتابة بذمهم والقول بأنهم لا استعداد فيهم للسياسة , ولا للحضارة فصدق عليهم قول شاعرهم: ومَن لم يكرم نفسَه لا يُكرم ولا طريق لتكريم النفس إلا بالعلم والتهذيب، فأما التهذيب فأهل البداوة منهم أرسخ الناس عرقًا في أصول الفضائل وهي الشجاعة والشهامة والمروءة والنجدة والسخاء والوفاء والنصفة. وأهل الحضارة منهم أقوى الناس استعدادًا له. وأما العلم فآلته الذكاء والعقل، والعرب أذكى الناس أفئدة وأكبرهم حلومًا، ولكن للعلم في كل زمن طريقًا، فلا بد للعرب كغيرهم من التوصل إلى العلم الدنيوي من الطريق الذي سار عليه الإفرنج قبلهم فسادوا واعتزوا. وأما علم الدين فهو منهم على طرف الثمام، فإذا عقل سراتهم هذا فلا يعدون وسيلة لإشراع هذا الطريق وبالله التوفيق. *** (البيوت) المحبة الزوجية قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) وقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة} (البقرة: 228) ، وهي السيادة، فالرجل والمرأة زوجان من نفس واحدة، سعادتهما في سكون كل منهما إلى الآخر، وشقاؤهما في نفور أحدهما من الآخر. هذا السكون فطري في البشر والحيوان وإن شئت قلت في الأكوان؛ ولكن البشر أُعطوا علمًا واختيارًا في التصرف بالفطرة فتارة يكون تصرفهم جاريًا على سننها ونظامها فيرقيها. وتارة يكون منحرفًا عنه فيفسدها ويدليها، فكل ما تراه من الشقاء في البيوت فسببه فساد التربية وسوء الاختيار. وقد يصحب هذا الفساد شيء من العلم فيموهه، وقد يكون مع الجهل فيشوهه، وقد ينتهي الجهل إلى قلب الطباع، وتغيير الأوضاع. الرجل يسكن إلى الأنثى سكونًا فطريًّا لأنها أنثى وهي تسكن إليه لأنه رجل وللرجولية صفات تتبعها أعمال كلما قويت في الرجل كان جديرًا بزيادة ميل المرأة إليه، وللأنوثة صفات تتبعها أعمال كلما قويت في المرأة كانت خليقة بزيادة ميل الرجل إليها. فصفات الرجولية الشجاعة والنجدة والسيادة ومن أعمالها الحماية والمدافعة والكفالة ونحو ذلك، وصفات الأنوثة اللطف والرقة والحياء والدماثة ومن أعمالها التربية والخدمة كتربية الأطفال وتمريض المرضى؛ ولذلك قلنا في مقالة عقدناها لبيان مضار تربية النساء الاستقلالية: إن هذه التربية تقرب المرأة من صفات الرجولية فتفسد فطرتها وتضعف وساطتها بين الأطفال والرجال في نقل الطفل بالتدريج من طفوليته وإعداده للرجولية؛ وبذلك يقل ميل الرجل وسكونه إليها لأن الرجل لا يسكن هذا النوع من السكون إلى الأنثى من حيث هي أنثى تمتاز بصفات مخصوصة تمثل الأنوثة بما يفصلها عن الرجولية. سكون كل من الصنفين إلى الآخر طبيعي لا يزول ولكن الصفات الطبيعية المذكورة تزيده قوة وتحفظه برسوخها وتفسده أو تضعفه بضعفها. وقد صارت الخشونة والزينة من عادة الشبان في المدن التي لا تربية فيها كمصر، فصار النساء يملن إلى ذلك في الرجال ولو بصرت المرأة التي تحب شابًّا مخنثًا متورنًا (كثير الزينة والطيب) شابًّا شهم الجَنان شجاع القلب مفردس الصدر ضخم الكراديس شثن الكفين، سبط الزندين لفضَّلته على حبيبها المخنَّث تفضيلاً! . (هذا وما، فكيف لو) ولو تربت تربية صحيحة لظهر هذا الميل فيها أقوى فقد جاء في المقتطف المفيد ما نصه: ما تستحسنه المرأة في الرجل (ألقي هذا الموضوع على كثيرات من نخبة الكاتبات الإنكليزيات، فكتبت سارة يولي تقول: إن المرأة تُعجب بشجاعة الرجل واستقلاله وتود أن يكون زوجها متسلطًا عليها، ولقد كان ذلك شأنها منذ العصور الغابرة، وإن كان العمران الحاضر قد ساوى بين الرجل والمرأة في الحقوق؛ لكن الإعجاب بقوة الرجل لا يزال ديدن المرأة؛ ولذلك تراها تعجب بالجنود لأنهم يمثلون القوة البدنية، وبخَدَمَة الدين؛ لأن لهم سلطة أدبية ودينية. وكتبت للياس داندصن: إن المرأة ضعيفة، فتعجب بقوة الرجل سواء كانت جسدية أو عقلية أو أدبية وهي تطلب رجلاً يسود عليها، فإذا وجدته خضعت له، وقد غُرس هذا الخلق في فطرتها؛ ولذلك تصف الرجال بما ينقصها، وتعبدهم ولا يعبأ النساء بالوجه الجميل، ولا ينفرن منه إذا لم يكن جميلاً؛ لأن ليس فيهن ذوق خاص بالجمال كما في الرجل، وقد خصت الطبيعة الرجل بحب الجمال وخصت المرأة بالجمال؛ لكي يكون جاذبًا له إليها، وكذلك خص الرجال بالقوة، فصارت قوتهم جاذبًا للنساء إليهم وهن يُعجبن بالشجاعة والقوة والصبر على المكاره، هذه هي الفضائل التي تود المرأة أن يكون زوجها متصفًا بها، وهي لا تسامحه إذا فقد هذه المزايا؛ ولكنها تسامحه إذا فقد غيرها. وكتبت إدلين سرجنت: إن القوة الجسدية تجذب المرأة والقوة العقلية تسحرها، والقوة الروحية تتسلط عليها، وسبب ذلك واضح وهو ضعف المرأة، فلا شيء يستولي على قلبها مثل الاعتقاد بأن زوجها قوي الإرادة أو قوي الذراع. وكتبت سارة دودني: إن المرأة تعجب بقوة الرجل، ونظرة واحدة إلى رجل قوي تنسينا مائة وجه جميل، وخطاب فصيح، إلا إذا كانت لنا عيون لا تبصر! وأقول بالاختصار: إن الشيء الذي تعجب به أكثر من غيره هو القوة والعظمة مع الميل إلى الحِلم. وكتبت ماري كنور ليتن: إنه إذا كان في رجل دليل على أنه يفعل فعل الجبابرة حينما تدعو الحال إلى ذلك فهو الذي تعجب به المرأة أكثر من غيره وتفضله على غيره، وما من امرأة تعجب بجبان أو تحبه، وليس لجمال المنظر شأن كبير في عيون النساء. وكتبت مس إليصابات بنكس: إن الشجاعة والحلم أسمى مناقب الرجال في عيون النساء، وكل امرأة تحب أن يكون زوجها سيدًا عليها. وكتبت السيدة ميد: إن المرأة تتبع الرجل إذا كان قويًّا، وتعبده إذا كان مع قوته كريم الأخلاق. وكتبت مس أثل هدل: إن كرم الأخلاق خير الصفات التي يتصف بها الرجل. والكاتبات خمس عشرة من أشهر كاتبات الإنكليز، وقد كدن يتفقن كلهن على أن المرأة تفضل الشجاعة على غيرها من أوصاف الرجال) اهـ. وقد سُر القراء بما كتب المقتطف، وكتب إلينا صاحب الإمضاء ما يأتي: حضرة العلامة المِفضال منشي المنار الزاهر طالعت في الأخبار العلمية من (مقتطف) شهر مايو الجاري سؤالاً وجهه أحد علماء الإنكليز لجماعة النساء عن ما تستحسنه المرأة في الرجل، فأجاب عن هذا السؤال خمس عشرة كاتبة من فُضليات نسائهن، وقد كدن أن يتفقن على أن المرأة تفضل الشجاعة والقوة على غيرهما من أوصاف الرجل، وقد ذهب بعضهن إلى ذكر أوصاف لا تخلو من حقيقة، وهو بحث يحق للإنكليزيات أن يفتخرن به؛ إذ طابق ما جاء في كتابنا الحكيم حكاية عن موسى وابنتي شعيب عليهما السلام في سورة القصص {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ} (القصص: 26) ؛ ذلك بعد أن سألهما موسى عليه السلام عند الماء عن سبب ذود غنمهما، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا..} (القصص: 23-24) برفْعه الصخرة عن فُوَّهَة البئر بذراعيه القويتين، وهذا مما يدل على ما كان عليه موسى عليه السلام من القوة والشجاعة؛ ولذلك أُعجبت إحداهما به، وأرادته زوجًا لها على فقره، وعدم معرفتها أصله ونسبه، وهذا مما يثبت لنا أن قرآننا الحكيم لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها من أمر هذا الكون العظيم من أخلاق وعادات بني الإنسان، وما تجري عليه سنن جميع المخلوقات، فسبحان الله العلي العظيم! ومن موجبات الأسف أنه يوجد بين أيدينا هذا الكتاب الكريم شاملاً لجميع المطالب، ونحن المسلمين في لهو عنه، وعن محكم آياته، وغيرنا يبحث وينقب عن الحقائق حتى يجدها، ولو اشتغلنا بما في كتابنا لوجدنا فيه من الفوائد الجليلة المنافع ما به رفع شأننا دنيا وأخرى، وما كان لأحد أن يسبقنا في مضمار العلوم والمعارف مادمنا عاكفين عليه؛ ولكن هو الكسل والتقليد الأعمى قد ألقيا على بصائرنا غشاوة كثيفة لا يزيلها إلا الحض على التعليم الصحيح، دون التفات إلى ما في المجلدات الضخمة، بل العمل بمقتضى الحال ومجاراة الأمم الراقية بعقول أفرادها، فإذا نحن جاريناهم في مباحثهم ومطالبهم - وبين أيدينا هذا المرشد الصادق - فلا شك أننا نصبح على درجة عالية لا يصلها إلا مَن اتبعنا، وعمل بمقتضى شريعتنا، والسلام. ... ... ... ... ... ... (حسين العقاد)

الاحتفال بمدرسة الشوربجي في كفر الزيات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بمدرسة الشوربجي في كفر الزيات احتفل في يوم الجمعة الماضي بافتتاح مدرسة مصطفى بك الشوربجي التي أنشأها في كفر الزيات احتفالاً حضره الجم الغفير من وجهاء العاصمة في مقدمتهم مفتي الديار المصرية وبعض العلماء وعدلي باشا يكن محافظ مصر وبعض الأعيان، ومن أصحاب الجرائد صاحب المؤيد وصاحب الوطن وصاحب الجوائب المصرية وصاحب الرائد المصري وبعض وجهاء الإسكندرية وطنطا وغيرهما من مدن القطر. وقد سبق لنا ذكر الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة في شعبان الماضي وقد تم بناؤها في نحو ستة أشهر لما للمنشئ - حيَّاه الله تعالى - من الهمة العالية والعناية الصحيحة في هذا العمل العظيم. بُدئ الاحتفال بتلاوة آيات شريفة من سورة الفتح وبإنشاد التلميذات والتلامذة بعض الأناشيد والخطب في فضل العلم والتعليم، ومنهم حفيد وحفيدة لصاحب المدرسة فخرًا بجدهما وحَقَّ لهما الفخر به. ثم بعد ذلك دُعي كاتب هذه السطور إلى الخطابة، فقمت، وقلت - بعد البسملة والحمدلة والتصلية - ما خلاصته: كنت حضرت الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة ودعيت إلى الخطابة فقلت كلمة شكر وكلمة ترغيب وقد دعيت الآن لقول كلمة أخرى إلا أني أراني في موقفي هذا غيري في موقفي الأول، أراني في حاجة إلى الاعتذار وما كنت معتذرًا، أعتذر عن ذنب التقصير قبل ملابسته فإنني أتوقعه؛ لأنه يتنازعني الآن شعوران ملكا على نفسي أمرها شعور السرور والابتهاج بسماع الكلام العربي الفصيح من التلميذات، على حين أننا نرى العجائز لا يصححن قراءة الفاتحة، هذا الشعور قد أبكاني من حيث كان ينبغي أن يضحكني سرورًا ولكن الجو الذي نعيش فيه مملوء بالمبكيات ولكن تكسرت النصال على النصال، فجفَّت العيون بعد ما كانت تبكي وصارت لا تجود بالدمع إلا في موقف السرور. والشعور النافي هو أن في هذا المجلس روحًا عالية تفيض العلم والعرفان في هذه البلاد، وأنا ممن يستمد منها؛ لذلك الخجل أن أعرض شيئًا من العلم في مجلس تحضره هذه الروح العالية. أعود إلى ذكر الشعور الأول فأقول: إنه منبعث عن روح البر والخير التي أنشأت هذه المدرسة لإفادة العلم وهي روح مصطفى بك الشوربجي الزكية قد كنت قلت في كلمتي الأولى: إن إنشاء المدارس أفضل من إنشاء المساجد من حيث إن المصلي في المسجد إذا كان جاهلاً تكون عبادته فاسدة، وذلك ذنب يستحق العقاب وفي المدارس يزاح الجهل وتصح أعمال الدين وأعمال وصاحبها يستحق أفضل الثناء والشكر فيجب أن نشكر لهذا الرجل الجليل عمله والله تعالى يشكره له ويجزيه عليه أفضل الجزاء. ثم انتقلت إلى حث الأغنياء على إنشاء المدارس ونشر العلم فقلت: لا أدري أي فضل وأي فائدة للمال إذا كان صاحبه لا ينفق من فضل ماله في هذا السبيل وهي أفضل السبل. ثم بينت فساد رأي من يجمع المال لأجل اللذات الحسية وقلت: لا أرى مثلاً لمن يجمع المال لكنزه في الصناديق أظهر مما ضربه به الإمام الغزالي للمرابي الذي يجعل المال مقصودًا لذاته في العمل والكسب؛ إذ قال: إنه مثله مثل من يحبس القاضي العادل الذي يفصل في الخصومات وينصف المظلوم من الظالم ويترك الناس فوضى يتناهبون ويتواثبون. وإن الذي يقدر على نشر العلم ثم يقصر فيه أجدر بهذا المثل فإن أهل التعدي ومرتكبي الجرائم إنما يجترحون السيئات بإغواء الجهل وفساد التربية فإن المربي العالم بما لغيره عليه من الحقوق لا يسرق ولا يعتدي فإثم جميع الجرائم التي تقع في البلاد على عاتق الأغنياء بل عليهم تبعة جميع ما نحن فيه من التأخر في العلم والكسب والشئون الاجتماعية. وإذا كانوا يجمعون المال لأجل الشرف وارتفاع المكانة فقد زال ذلك الزمان الذي كان يعد فيه التوسع في الإنفاق على احتفالات الأفراح والمآتم والموالد من الشرف وصارت هذه النفقات منتقَدة ومنظورة بعين السخط من العقلاء والفضلاء. وأما الإنفاق في طريق العلم فقد كان ولا يزال هو الشرف الأعلى وصاحبه هو المحمود عند الله وعند الناس بل هو أفضل الناس إذا قام بحقوق المال مع سائر الحقوق وهو الذي يسمى الغني الشاكر. يتوهم قوم أن الزهد - الذي يستحبه الدين - عبارة عن اختيار الفقر وتفضيله والرغبة عن الكسب وهو توهم باطل فإن النبي e فضَّل الأخ المكتسب على الأخ المنقطع للعبادة. أزيد على هذا أن الحديث الذي استدل به بعض العلماء على أن الفقير الصابر أفضل من الغني الشاكر قد استدل به نفسه آخرون على أن الغني الشاكر أفضل، الحديث هو أن بعض الفقراء شكوا للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سبق الأغنياء لهم بالخير والأجر؛ لأنهم يصلون مثلهم ويتصدقون بفضول أموالهم فأمرهم بالذكر والتسبيح والتحميد فرضوا ثم عادوا وقالوا إنهم يفعلون ذلك فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} (المائدة: 54) ، والمتبادر أن الإشارة إلى المال الذي ينفق في سبيل الله - وسبيل الله هو كل ما فيه فائدة ومنفعة للناس - وإنما الزهد المحبوب هو أن لا يكون الإنسان عبدًا للمال، وهو زهد النفس. هذا هو الغني الذي يجمع للإنسان بين خيري الدنيا والآخرة. ويظن بعض الناس أن عمل الخير لأجل الشرف والمحمدة مذموم في نظر الدين ولا ثواب لصاحبه عند الله تعالى بل هو مؤاخَذ كما يؤخذ من كتب الصوفية. إن هذا الظن غير صحيح وما كان الله ليؤاخذ الإنسان على شيء أودعه في فطرته وجعله سائقًا له إلى كماله وهو حب المحمدة الحقة. وأما المذموم عند الله تعالى وعند الناس هو حب المحمدة الباطلة والثناء الكاذب ما توعد الله الذين يحبون أن يحمدوا بما فعلوا، وإنما توعد الذين {وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} (آل عمران: 188) ، كيف يكره الله تعالى للعاملين حب الثناء بالحق ورفعة الذكر، وقد امتنَّ بذلك على أفضل العاملين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال تعالى في خطاب خاتم النبيين: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) ، وقال تعالى في كل من إبراهيم وموسى وهارون وغيرهم من الأنبياء: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} (الصافات: 78) ، أي: تركنا عليه الثناء الحسن. حب المحمدة الحقة لا ينافي كون العمل الصالح لوجه الله تعالى بل هو معنى من معانيه. وإننا لن نبلغ نفع الله فننفعه ولن نبلغ ضره فنضره كما ورد وإنما كُلفنا بعمل الخير لأجلنا لا لأجله؛ فابتغاء وجه الله في العمل هو إرادة المنفعة الباقية به فإن لكل شيء في هذه الدنيا وجهين: وجهًا إلى الحظوظ الجزئية الفانية ووجهًا إلى المنافع الكلية الباقية وهذا هو وجه الله تعالى والذي يرضيه ويثيب عليه. والثناء عليه حق. {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) . إذا عرف الناس للعامل المحسن فضله وشكروا له علمه يكون ذلك باعثًا للهمم إلى المباراة والمسابقة في ميادين الأعمال النافعة، وإن تقدم الأمم وارتقاءها على قدر مباراة أفرادها في الأعمال النافعة ومسابقتهم في ميادينها. وإذا كان الملوك والأمراء هم الذين يحفلون بما يكون من أفراد رعاياهم ويقدرون المحسنين قدرهم فلا تسلْ عن مبلغ تأثير ذلك في تقدم الأمة وارتقائها. أذكر أن السلطان ملكشاه السلجوقي قد احتفل بعالم نبغ في عصره لا أذكر اسمه الآن وكان من عاداتهم أن يقودوا في موكب الاحتفال الخيل المسوّمة أمام المحتفَل به وعليها المياثر المونقة. وكان من عناية السلطان أن مشى في الموكب مشيًا ووضع على عاتقه وظهره ميثرة من المياثر التي توضع على الخيل، فلامه وزيره نظام الملك في نفسه على هذه المبالغة في التواضع، وسأله عن السر في ذلك فقال له: سأجيبك عن هذا السؤال بعد بضع سنين، فلم تمر السنون المعينة إلا وقد نبغ في تلك البلاد عدد عظيم من العلماء الأعلام، فقال السلطان للوزير: هذا هو جواب سؤالك. قلت: وأجدر أمراء المسلمين بالعناية بأمر العلم في هذا العصر أمير هذه البلاد فإنه أعرفهم بقيمة العلم؛ لأنه قد تربى في المدارس العالية وأخذ من العلوم حظًّا لا نعرف أميرًا مسلمًا يساهمه فيه. فإذا هو أظهر رضاه واغتباطه بمثل هذا العمل الجليل فلا نلبث أن نرى الأغنياء والوجهاء يتبارون في مثله (قلت هذا وأمامي مندوب من الأمير يحمل الوسام العثماني من الدرجة الثالثة لمصطفى بك الشوربجي كما يأتي) . ثم بعد ختم الكلام بالحث والترغيب دُعي إلى الخطابة إبراهيم بك الهلباوي فقام واعتذر بمثل ما اعتذرت به وزاد عذرًا ثالثًا وهو أنه لم يكن يتوقع الخطابة ثم قال إنه يوافق الخطيب الأول في قوله إلا أنه لا يرى حوله إلا ما يسر من الإقبال على العلم وافتتاح المدارس وذكر حال البلاد قبل ثلاثين سنة وما كانت عليه من الرغبة عن العلم والتعليم، لا سيما تعليم البنات وقال: إن الأهالي كانوا يعتقدون أن تعليم العلوم إذا لم يكن مذمومًا بلسان الدين فإنه ليس محمودًا وإن حال العلماء كان يقوي هذا الاعتقاد فيهم وإن من تحوُّل الحال أن صرنا نرى كبار العلماء تؤسس المدارس وتحضر احتفالاً وأن أكثرهم يرسلون أولادهم إلى المدارس لابسي الطرابيش والسراويل الضيقة كسائر أبناء العصر الجديد وخص بالذكر مفتي الديار المصرية ركن العلم الركين ورئيس الجمعية الخيرية الإسلامية التي تدير عدة مدارس منتظمة في تأسيسها. وكذلك مدارس جمعية العروة الوثقى. واستطرد من ذكر الجمعيات إلى الثناء على صاحب الاحتفال مصطفى بك الشوربجي وقال: إنه صار فينا الفرد يعمل عمل الجمعية كهذا الرجل الفاضل الذي وجه عنايته إلى تأسيس المدارس المتعددة. ثم قام بعده جندي أفندي إبراهيم صاحب جريدة الوطن الغراء خطيبًا وقال في فاتحة كلامه: إن الخطيبين السابقين اعتذرا بما اعتذرا به عن التقصير الذي تقتضيه مهابة روح العلم الحاضرة وإنه أجدر بالاعتذار لولا أن جرَّأه اعتقاده بحلم العلماء وإغضائهم ثم قال: إن الخطيبين تكلما في فضل العلم والحث عليه وإنه اختار أن يجعل معظم كلامه في مكارم الأخلاق فإن العلم لا يفيد بدون مكارم الأخلاق شيئًا وأطنب في ذلك ما شاء وأثنى على المحتفل بما هو أهله. ثم رغب مدير الاحتفال إلى الأستاذ الإمام بأن يشنّف الأذان بدُرَر كَلِمه ويحلي العقول بعقود الجوهر من حِكَمه، فقام واقفًا ولما وقف اضطرب الجمع وطفقوا يقتربون حتى كادوا يكونون عليه لِبدًا. ولما تكلم امتدت الأعناق، وشخصت الأبصار. وأصاخت الآذان وخشعت الأصوات، وأمر العازفون بالموسيقى بالكف عن عزفهم. ولكن الأستاذ كان - لسوء الحظ - قد عرض له شبه بحّة منعته من رفع الصوت والاسترسال في الكلام حتى ترك لها الدرس في الجامع الأزهر فلم يُطل القول كما كان يحب هو ويحب الناس وساوى في الاعتذار الخطباء الذين اعتذروا بمهابته وإجلاله عن الاسترسال في القول والإجادة في الخطابة. اعتذر بما ذكر وقال إن هذا العذر كاد يمنعه حضور الاحتفال بالمرة كما منعه الإجابة إلى حضور الاحتفال التأسيسي؛ ولكنه تحمل المشقة للترغيب والتنشيط في إنشاء بيوت العلم ورؤية هذا الرجل الموفق للخير المسوق إليه بوازع الفطرة السليمة. قال: إنني من زمن بعيد كنت أشتهي أن أرى الخير الفطري البسيط في الإنسان وما كنت أظفر به، رأيت كثيرًا من الأخيار ولكنني كنت أرى الخير فيهم مركبًا من الاستعداد الطبيعي والتأديب الصناعي لا بسيطًا ساذجًا حتى إذا رأيت اليوم هذا الرجل مصطف

الإصلاح الشرعي في السودان المصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح الشرعي في السودان المصري يتمشى الإصلاح في السودان كتمشي البُرء في السقم ومن فضل الله تعالى على هذه البلاد أن كان الشيخ محمد شاكر هو قاضي القضاة فيها وحسبك أنه موضع إعجاب اللورد كرومر فمن دونه من رجال السياسة والإدارة والقضاء الإنكليز الذين قلما يشهدون لشرقي في هذا الزمن، ولا شك عندي أن رضاء اللورد كرومر وحاكم السودان العام من هذا الرجل وثناءهما عليه والعناية بإجابة اقتراحاته وتنفيذ مشروعاته - ولو بالتدريج - من دلائل حسن النية في عمران السودان وإقامة الشرع الإسلامي فيه إقامة لا نظير لها في بلاد إسلامية في عصرنا هذا. ذكرنا في الجزء الثاني أن الحكومة السودانية قررت إنشاء مدرسة قضائية لتخريج القضاة الشرعيين وما ذلك إلا مشروع من مشروعات قاضي القضاة ثم إننا علمنا مما وصل إلينا من أنباء تقريراته التي رفعها إلى الحكومة آراءً سديدة في إصلاح المحاكم بجميع فروعها وأعمالها الإدارية والشرعية والمالية. ولم يكتفِ بهذا حتى اقترح على الحكومة نشر العلم الإسلامي، وعمارة المساجد، وإقامة الشعائر الدينية. وقال: إن البلاد السودانية الآن في حاجة إلى بناء خمسين مسجدًا وأن للحكومة أن تستعين على بنائها بديوان الأوقاف العمومية في مصر. واقترح تعيين رواتب للعلماء الذين تفلَّتوا من الفتنة السودانية وإعانة تلامذتهم المشتغلين بطلب العلوم الدينية لتنفخ في الأمة روح الميل إلى العلوم الحقيقة؛ وليكون من هؤلاء التلامذة طائفة تصلح في المستقبل للوعظ والإرشاد وتعليم العامة وقال في بيان فوائد ذلك ما معناه: إن من يتتبع الحوادث المشؤومة الماضية ويسندها إلى عللها وأسبابها الحقيقية يعلم أن مثارها الأكبر خلط التعاليم الدينية بالتلبيس على العامة والشعوذة والدجل وإيهام البسطاء بذلك أن أولئك الدجالين المحتالين أولياء الله وأن اتِّّّباعهم واجب وطاعتهم مفروضة، فعلى الحكومة أن تستأصل جراثيم هذه الخرافات بالتعليم الإسلامي الصحيح الذي يطهر القول منها تطهيرًا. ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان - ونرجو أن تلحقها فيه محاكم مصر - الطلاق على الغائب والمعسر؛ فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر المحاكم منشورًا تأذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك (رضي الله عنه) . وقد جاء في تقرير لقاضي القضاة بيان فائدة هذا الحكم، وهو إنقاذ النساء الضعيفات اللاتي يتركهن أزواجهن بلا نفقة ولا عائل حتى يلجأن إلى خدمة دنيئة أو تكفف الناس أو ما هو شر من ذلك وهو الكسب بأعراضهن. وفيه أن القضاة قد طلقوا على الغائبين والمعسرين في مائتي قضية أو أكثر؛ ولكن بعضهم لجهله وغباوته لم يتحرَّ في الأمر كما يجب فطلقوا في وقائع يعرف فيها مكان الزوج ويسهل على الحكومة إخباره (إعلانه) بالمحاكمة. وذكر أن مثل هذا الخطأ كثير في كل فروع القضايا لجهل القضاة ووعد بأن سيتبع المنشور الأول بمنشور آخر يعلم القضاة فيه الغرض من هذا الطلاق ليسهل عليهم الوقوف عند حدود الحق فيه. وقال - في مقدمة التقرير الذي قدّمه إلى الحاكم العام وطلب فيه تعميم المحاكم - ما مثاله: إنني أوجه نظر سعادتكم أولاً إلى أن القضاء عند الأمم الحية لا يعد من موارد الكسب كغيره من مصالح الحكومة التي يقصد أن يكون ريعها أكثر مما ينفق فيها، وإنما هو من المصالح الكمالية الضرورية؛ لأنه عبارة عن إقامة العدل في الأمة ولولا اعتبارات خاصة لما ساغ لحكومة أن تضرب على إقامة العدل في الرعية ضريبة تحت ستائر الرسوم القضائية؛ فوظيفة المحاكم الحقيقية هي إقامة العدل وفصل الخصومات لا جباية الأموال وتحصيل الضرائب، ثم قال: (وإنه ليسرني أن سعادتكم أول من نظر إلى القضاء بعين الرعاية والعناية، ولا أزال أكرر بمزيد السرور تلك الكلمة التي سمعتها من سعادتكم وهي: أن الدين الإسلامي غير مقام في البلاد بسبب قلة الدوائر القضائية) ، ثم اقترح تعميم المحاكم. وربما عدنا إلى الكلام في ذلك بعد حين.

تقريظ المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المنار كتب إلينا محسن الملك سيد مهدي خان ناظم مدرسة العلوم في عليكره وأحد أركان النهضة الإسلامية في الهند كتابًا، ذكر فيه المنار بما يقتضيه الحب وتنظره عين الرضى فقال ما نصه: (قرأنا خاتمة المنار للسنة الخامسة بفرحة وامتنان لا مزيد عليهما. وقد سرَّنا ما علمنا من أن المنار الإسلامي قد ازداد شهرة وقبولاً في جميع أنحاء الكرة الأرضية، وصار موضع ثقة العلماء والفضلاء في البلاد العجمية والعربية. ولا غَرْوَ، فإننا نقطع قطعًا أن مجلتكم هي المجلة الوحيدة التي تخدم الأمة المحمدية والديانة الإسلامية بجد ونشاط وعزم وثبات وعقل وتدبر وإن مقالاتها الطنانة الرنانة البالغة حد الإعجاز ما كتب مثلها على ما نعلم عرب ولا عجمي. ولا يستطيع كاتب هندي أن يصف المجلة حق وصفها مهما أوتي من الفصاحة وحسن البيان فغاية ما نقول: جزاكم الله خير الجزاء. ومَن قال ذلك فقد أبلغ بالدعاء وبلغ غاية الثناء. لا شك أن المنار في هذه السنة قد نما نموًّا عجيبًا وانتشر انتشارًا غريبًا في البلاد المصرية، غير أن شهرته وانتشاره في البلاد الهندية لا يقل عن شهرته وانتشاره في مصر؛ فإن مئات من مقالاته الحكمية والإسلامية نقلناها في لغتنا الهندية ونشرناها في جريدتنا الأسبوعية (على كدة أنسيثيوت كزت) ، ثم تناقلتها الجرائد الإسلامية؛ فقرأها ألوف من قرائنا وقراء سائر الجرائد وحازت رضى العلماء والفضلاء في المدارس والجوامع والمساجد. ومن غريب الاتفاق أن مترجم مقالاتكم لجريدتنا هو أيضًا سمي حضرتكم اسمه رشيد أحمد الأنصاري وهو من محرري جريدتنا ومن مشاهير الكُتاب والمترجمين المجيدين في الهند. يسرنا أن الحرية التي حلت في ربوع مصر بواسطة الاحتلال لا شك أنكم تعرفون قيمتها وتقدرونها حق قدرها لاقتصاركم على المباحث الدينية الإسلامية والمقالات العلمية والفضائل الأخلاقية، واجتنابكم المسائل السياسية، وإننا تجزم جزمًا أن هذه الخطة التي رسمتموها للمنار هي أسلم له وأضمن للوصول إلى الغرض المقصود وأوفق وأفيد للمسلمين من الخطة التي سار عليها بعض كُتاب الجرائد المصرية. الإسلام يأمرنا بالمسالمة والمجاملة وحسن القصد مهما كانت الظروف والأحوال. فلا ينبغي لمسلم أن يكون عليه سلطان (لعفريت الوطنية الكاذبة) ، وينبذ بها أوامر دينه ومصالح أمته وراء ظهره. وفق المسلمين لما يحب ويرضى.

أمالي دينية الدرس ـ 37 ـ في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العقائد من الأمالي الدينية [*] الدرس (37) في نبوة محمد عليه الصلاة والسلام (المسألة ال103) حكمة ظهور الإسلام في العرب: نذكر هنا كلمة من مقالة (إعادة مجد الإسلام) التي كتبناها في الجزء الرابع من المجلد الثالث هي: كان العالم الإنساني قبل ظهور الإسلام في غمرة من الشقاء والتعاسة وظلمات من الفتن وفساد الأخلاق وتداعي أركان المدنية السابقة وصدع بنيانها فأراد الحي القيوم أن يحيي هذا النوع حياة طيبة ويقيم بناء مدنيته على أساس من الحكمة ليثبت ويبقى إلى ما شاء الله تعالى، ويبلغ به الإنسان كماله المستعد هو له في أصل الفطرة القويمة، فأظهر له - جل ثناؤه - الإسلام في الأمة العربية فحملته وطافت به العالم المستعد لقبوله بما سبق له من المدنية فما كان إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى عم نوره المشرق والمغرب، ودخل الإنسان في طور جديد وأقام أركان مدنيته على أسس جديدة ثابتة لا تتزعزع ولا تتزلزل مادامت الأرض أرضًا والسماء سماءً. وكيف تتزلزل نواميس الفطرة أو تزول سنن الخليقة وقد أخبر مبدعها الحكيم الخبير بأنها محفوظة من التبديل والتحويل. لماذا اختار الله الأمة العربية لهذا الإصلاح على سائر الأمم؟ اختارهم وهو أعلم لأسباب ووجوه: (أحدها) أنها كانت وسطًا بين الأمم التي سبقت لها المدنية والبلاد التي أقيم فيها من قبل بناء الحضارة وهي بلاد مصر وسوريا والجزيرة والعراق وفارس، حيث كان التمدن الكلداني والآشورى والبابلي والفارسي والفينيقي والمصري واليوناني والروماني فيسهل عليها بذلك أن ترمي بذور المدنية في الأرض القابلة وتلقي مبادئ الإصلاح في النفوس المستعدة. (ثانيها) أنها كانت - ولا مدنية لها سابقة (معروفة) - أشد استعدادًا من تلك الأمم التي سبقت لها المدنية لمبدأ الإصلاح الإسلامي الجديد ووضع أساسه الأول، وهو استقلال الإرادة واستقلال الفكر والرأي؛ لأنه لم يكن لها رؤساء في الدين والسياسة يحكمونها بالجبروت والاستبداد فتفنى إرادتها في إرادتهم، وتتلاشى آراء أفرادها في آرائهم، فلا يرجع إليهم أحد قولاً، ولا يملك لنفسه من دونهم ضرًّا ولا نفعًا، وأما تلك الأمم فقد كان المرؤوسون فيها ذائبين في رؤساء الدين والدنيا حتى لم تبق لهم إرادة ولا فكر ولا رأي إلا ما ينفذ إرادة الرؤساء ويمثل أفكارهم وآراءهم (ومن هنا نفهم حكمة ظهور الإسلام بمظهر السيادة وعناية خلفائه بالفتح والاستيلاء وهي إزالة ذلك السلطان الغاشم والاستبداد القاهر ليكون الناس أحرارًا فيما يعتقدون ولهم بعد ذلك الخيار في الإسلام وعدمه إذ {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: 256) وزال المانع من طريق الإدراك والفهم) . (ثالثها) أن رقة الوجدان وقوة الفهم والإدراك كانتا بالغتين فيها درجة الكمال بمجرد سلامة الفطرة، وأمة هذا شأنها تكون أقبل الأمم لدين الفطرة الذي جاء يخاطب العقل والوجدان معًا ويمحو من الكون أثر التقليد الأعمى ويطمس رسومه، وتكون أسرع انفعالاً بالمؤثرات، وأشد تمسكًا بالمعتقدات. (رابعها) أنه كان عندها من عزة النفس وشدة البأس وكمال الشجاعة والحرية الشخصية وما يتبع هذا من الفضائل ما يحملها على حفظ ما تعتقده حقًّا والاستماتة في المدافعة عنه على حين أمات نفوس الأمم الأخرى وذهب بإرادتها - ما تواتر عليها من الظلم والاضطهاد أحقابًا طويلة - حتى سهل عليها مشايعة الظالمين على خذل الحق وتأييد الباطل كما هو واقع في غير أهل البادية من المسلمين لهذا العهد. وهذا الوجه يقرب في المعنى من الوجه الثاني. (خامسها) أنه لم يكن عند العرب من التقاليد الدينية شيء يستندون فيه على وحي سماوي على سلف من الأنبياء أو الحكماء والربانيين فيدافع ما جاء به الإسلام أو يزاحمه. وإنما كان عندهم الشرك في العبادة الذي يسهل إبطاله بالبرهان، على وجه يقبله العقل وينفعل له الوجدان، إذا وجد استقلال الفكر والرأي وكذلك كان اهـ. ونزيد الآن سببًا سادسًا هو السبب الأظهر، والوجه الأنور، ونذكره على النسق السابق فنقول: (سادسها) كون العرب أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولم تمارس الأحكام السياسية والمدنية والقضائية. وبيان هذا من وجهين: (أحدهما) ما فهم من الأسباب السابقة وهو وجوب كون الإصلاح الجديد الذي احتاجته الأمم كلها غير مشوب بشيء من أمشاج الأديان والمدنيات السابقة؛ لأن تلك الأديان قد انطمست وجوهها وتلك المدنيات قد انقلبت إلى ترف مفسد وبهيمية محضة. فلو ظهر الإصلاح في أهلها لصدهم عنه ما هم فيه ولضاع الزمن الطويل في مكافحة الجديد للقديم وكانت الأقوام قد تقيدت بما هي فيه حتى لا طريق لخروجها منه إلا قارعة من دونهم تحل بهم فتزلزل ما هم فيه زلزالاً! كانت تلك الأمم تقيم بناء مدنيتها على أركان الدين والعلم والسياسة المنتظمة وأحكامها، وهذه هي أركان السعادة البشرية في هذه الحياة ولكنها أساءت استعمالها فلفحها هجير الشقاوة فكانت من تلك الأركان في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، بل كان كل ما حل بها من الشقاء هو من دخان ذلك الظل الذي ذهب بكل نور، فالأديان كانت قد انقلبت وثنية تضل العقول، وتذل النفوس، والعلوم كانت وسائل الترف، وذرائع السرف، والأحكام كانت سوط البغي والعتو، وسيف القهر والعلو، فكانت جميع آلات الرقي آلات للتدلي والهويّ. وكانت العرب في إبان ذلك خلوًا من كل ذلك ولكنها كانت على جهلها وفساد أخلاقها ترتقي في بداوتها ارتقاءً فطريًّا، وتستعد لقبول الهداية استعدادًا طبيعيًّا، حتى إذا جاءها العلم والإصلاح كانت كما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا (والوجه الثاني) وهو أوجه الوجوه وأظهر الأسباب والحكم، ظهور الآية الكبرى والحجة العظمى، ظهور العلم الأعلى، والتعليم الأجلى، على يد أمي نشأ في الأميين، وتربى بين الجاهلين، ولو نشأ في أمة من تلك الأمم لقيل إنه عالم نقح العلوم وهذبها، وحرر الشرائع وشذبها، وحكيم نظر في تاريخ البشر فاستخرج منها الحكم والعبر: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) . (م 104) حال النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته: لم يكتب الكاتبون في هذا المقام مثل ما كتبه في رسالته الأستاذ الإمام ذلك أنه بيَّن ما كانت عليه الأمم قبل البعثة من الفساد والشرور ثم قال: أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم برجل منهم يوحي إليه رسالته، ويمنحه عنايته، ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم، التي أظلت رءوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك ولله الأمر من قبل ومن بعد. في الليلة الثانية عشرة من ربيع الأول عام الفيل (20 أبريل سنة 571 من ميلاد المسيح عليه السلام) ولد محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي بمكة. ولد يتيمًا توفي والده قبل أن يولد، ولم يترك له من المال إلا خمسة جمال وبعض نعاج [1] وجارية ويروى أقل من ذلك، وفي السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضًا فاحتضنه جده عبد المطلب وبعد سنتين من كفالته توفي جده فكفله من بعده عمه أبو طالب وكان شهمًا كريمًا غير أنه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله. وكان صلى الله عليه وسلم من بني عمه وصبية قومه كأحدهم على ما به من يُتم فقد فيه الأبوين معًا وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول ولم يقم على تربيته مهذِّب، ولم يُعنَ بتثقيفه مؤدب، بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من حلفاء الوثنية، وأولياء من عبدة الأوهام، وأقرباء من حفدة الأصنام، غير أنه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدنًا وعقلاً وفضيلةً وأدبًا حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه بالأمين، أدب إلهي لم تجرِ العادة بأن تزين به نفوس الأيتام من الفقراء خصوصًا مع فقر القَوَّام. فاكتهل e كاملاً والقوم ناقصون، رفيعًا والناس منحطون، موحدًا وهم وثنيون، سلمًا وهم شاغبون [2] ، صحيح الاعتقاد وهم واهمون، مطبوعًا على الخير وهم به جاهلون، وعن سبيله عادلون. ومن السنن المعروفة أن يتيمًا فقيرًا أميًّا مثله تنطبع نفسه بما تراه من أول نشأته إلى زمن كهولته ويتأثر عقله بما يسمعه ممن يخالطه لا سيّما إن كان من ذوي قرابته وأهل عصبته، ولا كتاب يرشده، ولا أستاذ ينبهه، ولا عضد إذا عزم يؤيده فلو جرى الأمر فيه على جاري السنن لنشأ على عقائدهم. وأخذ بمذاهبهم إلى أن يبلغ مبلغ الرجال، ويكون للفكر والنظر مجال، فيرجع إلى مخالفتهم إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم، كما فعل القليل ممن كانوا على عهده [3] ولكن الأمر لم يجرِ على سنته بل بُغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} (الضحى: 7) ، لا يفهم منه أنه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد أو على غير السبيل القويم قبل الخُلق العظيم، حاش لله؛ إن ذلك لهو الإفك المبين، وإنما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الإخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين، وإرشاد الضالين، وقد هدى الله نبيه إلى ما كانت تتلمسه بصيرته باصطفائه لرسالته، واختياره من بين خلقه لتقرير شريعته. وجد شيئًا من المال يسد حاجته - وقد كان له في الاستزادة منه ما يرفه معيشته - بما عمل لخديجة رضي الله عنها في تجارتها وبما اختارته بعد ذلك زوجًا لها وكان فيما يجتنيه من ثمرة عمله غناءً له وعونًا على بلوغه ما كان عليه أعاظم قومه؛ لكن لم ترقه الدنيا ولم تُغْرِهِ زخارفها، ولم يسلك ما كان يسلكه مثله في الوصول إلى ما ترغبه الأنفس من نعيمها، بل كلما تقدم به السن زادت فيه الرغبة عما كان عليه الناس كافة ونما فيه حب الانفراد والانقطاع إلى الفكر والمراقبة والتحنث بمناجاة الله تعالى والتوسل إليه في طلب المخرج من همه الأعظم في تخليص قومه ونجاة العالم من الشر الذي تولاه، إلى أن انفتق له الحجاب عن عالم كان يحثه إليه الإلهام الإلهي، وتجلي عليه النور القدسي، وهبط عليه الوحي من المقام العلي، في تفصيل ليس هذا موضعه. لم يكن من آبائه ملك فيطالب بما سلب من ملكه وكانت نفوس قومه في انصراف تام عن طلب مناصب السلطان، وفي قناعة بما وجدوه من شرف النسبة إلى المكان، دل عليهما ما فعل جده عبد المطلب عند زحف أبرهة الحبشي على ديارهم. جاء الحبشي لينتقم من العرب بهدم معبدهم العام، وبيتهم الحرام، ومنتجع حجيجهم ومستوى العلية من آلهتهم، ومنتهى حجة القرشيين في مفاخرتهم لبني قومهم، وتقدم بعض جنده فاستاق عددًا من الإبل فيها لعبد المطلب مئتا بعير وخرج عبد المطلب في بعض قريش لمقابلة الملك فاستدناه وسأله حاجته فقال: هي أن ترد إليَّ مئتي بعير أصبتها لي، فلامه الملك على المطلب الحقير، وقت الخطب الخطير، فأجابه: أنا رب الإبل أما البيت فله رب يحميه، هذا غاية ما ينتهي إليه الاستسلام وعبد المطلب في مكانه من الرياسة على قريش فأين من تلك المكانة محمد صلى الله عليه وسلم في حالة من الفقر ومقامه في الوسط من طبقات أهله حتى ينتجع ملكًا أو يطلب سلطانًا؟ ، لا مال، لا جاه، لا جند، لا أعوان، لا سليقة في الشعر، لا براعة في الكتاب، ولا شهرة في الخطا

الكرامات والخوارق ـ 11، 12

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق تتمة المقالة العاشرة (المسألة الخامسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أن الكرامة على قسمين: كرامة حسية كالمشي على الماء، وكرامة معنوية وهي التوفيق لكمال المحافظة على حدود الشريعة ظاهرًا وباطنًا وما ينشأ عن ذلك من العلوم والمعارف الإلهية. وذكر أن الأكابر لا يحفلون بالكرامات الحسية وأن أعظم كرامة عندهم العلم بالله تعالى والدار الآخرة وما تستحقه الدار الدنيا وما خُلقت له ولأي شيء وُضعت حتى يكون الإنسان من أمره على بصيرة من حيث كان فلا يجهل من نفسه ولا من حركاته شيئًا. بل قال: إن الكرامة ليست إلا العلم. أما المعنوية فظاهر أن العلم بمداها وثمرتها وأما الحسية فإنه يشترط أن تكون بتعريف إلهي وهو عين العلم. ونقول: إن هذه الكرامة المعنوية لا ينكرها أحد وكلها نفع وليس فيها ضرر ولا خداع فإن العلم نور لا ظلمة فيه. والولي المحمدي لا يليق به التعويل على غير هذه الكرامة فإن آية نبيه الكبرى معنوية والكرامة قبس من نور المعجزة كما يقولون. (المسألة السادسة والعشرون) ذكر الشيخ الأكبر في فتوحاته أيضًا أن الخوارق التي تحصل على أيدي الصالحين قد يكون فيها مكر خفي واستدراج، وشرط لصحة كونها كرامة أكرم الله بها العبد لا مكرًا به ولا استدراجًا له أن تكون ناتجة عن استقامة أو منتجة لاستقامة وأن تكون بتعريف إلهي. هذا ما اشترطه شيخ الصوفية الأكبر، وهو مخالف لما في كتب علماء الظاهر من كون الكرامة هي الأمر الخارق للعادة الذي يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح. ولو اعتبر بهذا وما قبله الذين يعتدون المصادفات الغريبة كرامات وإن ظهرت على أيدي المستورين أو الفاسقين لكفوا من غلوائهم. (المسألة السابعة والعشرون) أن الكرامة في عرف العامة هي الفصل الذي يميز طائفة من الناس يسمونهم الأولياء والولي في اللغة الناصر والمتولي للأمور وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من دونه أولياء وقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} (البقرة: 257) ، وأولياء الله هم أنصار دينه والمميز لهم كمال الاتباع المعبر عنه بالتقوى، فكل مؤمن تقي ولي وليس عمل الغرائب ولا صدور الخوارق دليلاً على التقوى ولا على الولاية؛ قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) ، وفي الباب السادس والثمانين بعد المئة من الفتوحات المكية أن تارك الكرامات هو المتحقق باتخاذ الحق وكيلاً له امتثالاً لقوله تعالى: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً} (المزمل: 9) . (المسألة الثامنة والعشرون) يستدل العامة على ثبوت وقوع الكرامات للأولياء بقوله تعالى: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} (الزمر: 34) وهي جراءة على تحريف القرآن فاشية فيهم، وإنما الآية في أهل الجنة في الجنة وقد اختزلوا منها هذه الجملة فكان استدلالهم بها على أن الأولياء يعطيهم الله في الدنيا ما يشاؤون من الخوارق كاستدلال بعض المتلاعبين على تحريم الصلاة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ ... } (النساء: 43) وترك القيد وهو قوله: { ... وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء: 43) ، وأكثر الذين رأيناهم يستدلون على الكرامة بما ذُكر جاهلون بما عدا تلك الكلمة من الآية؛ ولهذا نكتبها لهم بتمامها، وهي {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ ... } (الشورى : 22) ، ثم قال بعدها: { ... ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} (الشورى: 23) ... إلخ، فأنت تراها بشارة للمؤمنين العاملين بما سيكون لهم من الجزاء في الآخرة، فهي كقوله تعالى - بعد ذكر الجنة ودخول المتقين فيها -: {لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (ق: 35) ، فأين ذلك من حديث الخوارق في الدنيا؟ ! (المسألة التاسعة والعشرون) أن الاعتقاد بالكرامة ليس من أصول الإيمان، التي يكلف المؤمن باعتقادها كما تقدم وإنما ذكروها في كتب الدين؛ لما تقدم من الاستدلال على وقوعها بالكتاب في قصة أم موسى وأم عيسى عليهما السلام. وقد علم من المقالة الرابعة أن قصارى ما يدل عليه الكتاب هو الإلهام الصحيح للأولى وتمثل الملك الروح الثانية ومكالمتها وذلك من مقدمات نبوة ولديهما كحبل مريم بنفخ الروح فيها. فمثل هذا لا يقاس عليه لأنه آية لم تأتِ على قياس؛ لأن زمن النبوة قد انقطع فلم يبق إلا تحكيم العلم في مسألة الخوارق فما أثبته فهو الثابت وما نفاه فهو المنفي وما توقف فيه فالوقف حتم إلى أن يتجلى فيه شيء. (المسألة الثلاثون) لنا أن نجعل الدين معينًا للعلم في البحث عن الخوارق التي تحقق وقوعها وذلك أن الدين علمنا أن وراء العالم المحسوس عالمًا غيبيًّا لا تستقل الحواس بإدراكه. ومن حكم الدين في الأخبار بهذا توجيه همة الإنسان إلى شيء أرقى من هذه المحسوسات التي تشاركه فيها البهائم والحشرات حتى لا يقف باستعداده غير المحدد عند هذه الحدود القريبة. وإن للعالم الغيبي اتصالاً بعالم الشهادة المحسوس ومنها أرواحنا التي بها نحيا وندرك. وهذه المسألة تنفعنا في تعليل كثير من الوقائع التي تسمى خوارق وهي خوارق عادات حقيقة؛ ولكنها ليست خوارق للسنن الإلهية فإذا لم تظهر لها سنة حسية جليلة فإن لها سنة معنوية خفية. وهذه التعليلات والتأويلات الآتية من قبيل تعليل علماء المادة كثيرًا من الظواهر الطبيعية بالأثير يسندون إليه الآثار وإن لم تدركه الأبصار بل هي أظهر منها وإننا نجعل هذه المسألة آخر المسائل التي نجلي بها مبحث الخوارق والكرامات. فعلم من هذا أنه ليس في الدين دليل على وقوع الخوارق لغير الأنبياء إلا في وقائع متصلة بهم ومتعلقة بظهورهم وأن المعول عليه فيما وراء ذلك هو العلم والاختبار. وسترى أنواع الخوارق في المقالات التالية وحكم العلم والاختبار فيها. * * * المقالة الحادية عشرة في أنواع الكرامات وضروب التأويل ما رأيت أحدًا توسع في الكلام على الكرامات كالتاج السبكي في الطبقات الكبرى؛ ولذلك جعلنا كلامنا في المقالات الأولى معه. وقد تكلم في أنواع الكرامات وقال: إن بعض المتأخرين عدد أنواع الواقعات من الكرامات فجعلها عشرة وهي أكثر من ذلك وأنا أذكر ما عندي فيها، ثم ذكر خمسة وعشرين نوعًا لا تخلو من تكرار وتداخل ثم قال: وأظن أن أنواع كراماتهم تبلغ المئة، وقد زدت عليه في خاتمة كتاب (الحكمة الشريعة في محاكمة القادرية والأحمدية) أنواعًا مشهورة عنهم. وإننا نسرد هذه الأنواع المشهورة ونحرر القول فيها. ونشير إلى وجوه التأويل التي تعتريها فنقول: (النوع الأول: إحياء الموتى) ذكر السبكي فيه حكايات في إحياء نحو دابة ودجاجة وحدأة وطفل صغير وقع من سطح فمات ثم قال: لا يثبت عندي أن وليًّا حيي له ميت مات من أزمان كثيرة بعد ما صار عظمًا رميمًا ثم عاش بعدما حيي زمانًا كثيرًا، هذا القدر لم يبلغنا ولا أعتقده وقع لأحد من الأولياء ولا شك في وقوع مثله للأنبياء عليهم السلام. فمثل هذا يكون معجزة ولا تنتهي إليه الكرامة فيجوز أن يجيء نبي قبل اختتام النبوة بإحياء أمم انقضت قبله بدهور ثم إذا عاشوا استمروا في قيد الحياة أزمانًا. ولا أعتقد الآن أن وليًّا يحيي لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمنًا طويلاً كما عمّرا قبل الوفاة ولا زمانًا قصيرًا يخالطان فيه الأحياء كما خالطاهم قبل الوفاة. اهـ كلامه. أقول: إذا كان يعترف بأن الشيخ عبد القادر الجيلي أحيا الدجاجة بعد أكلها مطبوخة! ، فلماذا يستنكر على مثله إحياء الشافعي وأبي حنيفة وبماذا يفرق بين الإحياءين؟ ! إن كان الكلام في الجواز وعدمه فهو حكم عقلي لا يختلف باختلاف الأشخاص، وإن كان الكلام في الوقوع فهو يتوقف على المشاهدة أو السماع من المعصوم أو النقل بالتواتر الصحيح عن أحدهما ولا شيء من ذلك بثابت إلا ما حكى الله تعالى من قول عيسى عليه السلام: {وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} (آل عمران : 49) ، ولم يقل إنه أحيا ميتًا أو أمواتًا مضى على موتهم من الزمن الطويل؛ حتى صاروا رممًا بالية ثم عاشوا بين الناس وحدثوهم بما كان من أمرهم بعد الموت، ولو فعل هذا لما بقي أحد إلا وآمن به. ولسنا نريد أن عدم النص والتصريح بأنه أحيا الموتى بالفعل يقتضي أنه لم يقع منه إحياء حقيقي بالفعل أو أن المراد بالموتى موتى الجهل والكفر وبالإحياء الهداية إلى الإيمان والحق كما قال المأوِّلون وإنما نريد أن السبكي لا يجد نصًّا يؤيد به دعواه وأنه متحكم، وإن كان مصيبًا في قوله وِفاقًا للقشيري: إن الكرامة لا تبلغ مبلغ المعجزة ويظهر أن الميزان الذي يزن به هذه الأحكام هو عظمة الأشخاص أو الأصناف في نفسه فلما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم الناس قدرًا أعطاهم إحياء العظام الرميم وكون من يحيونه يعيش الزمن الطويل، وأعطى الأولياء إذا كانوا دونهم إحياء الطيور والأطفال! كان للنصارى غرام بنقل الآيات والخوارق والأمر الغريب إذا اشتهر بين الناس لا ينسى وإن كان سنده واهيًا أو موضوعًا. ولم ينقل القوم عن المسيح أنه أحيا العظام الرميم بل روى لوقا في آخر الفصل الثامن من إنجيله أن ابنة رئيس المجمع ماتت وأن المسيح قال: (لا تبكوا لم تمُت لكنها نائمة 53 فضحكوا عليه عارفين أنها ماتت 54 فأخرج الجميع خارجًا وأمسك بيدها ونادى قائلاً: يا صبية قومي، فرجعت روحها وقامت في الحال) اهـ. وروى يوحنا في الفصل الحادي عشر من إنجيله قصة إحياء (لعازر) أخي مريم ومرثا وكان المسيح يحبه ويحبهما وكان مرض فأخبر المسيح تلاميذه بأنه نام وأنه يريد إيقاظه ويعني أنه مات فجاء معهم من أورشليم إلى قرية بيت عينا، حيث كان لعازر وأختاه وكان قد مات ووضع في مغارة منذ أربعة أيام فجاءها وأمر برفع الحجر ورفع هو عينيه إلى فوق وقال: أيها الأب أشكرك؛ لأنك سمعت لي وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا أنك أرسلتني، ولما قال هذا صرخ بصوت عظيم لعازر هلم خارجًا فخرج الميت ... إلخ. هذا ما رووه وهو على انقطاع إسناده ليس في شيء مما قال السبكي. أما حكاية البنت فيحتمل أنها كانت في نوم حقيقي كما هو ظاهر قوله. وأما الحكاية الثانية فإننا معشر المؤمنين نسلم بها إذا صح نقلها بالتواتر وإن كان ملاحدة النصارى قالوا فيها باحتمال المواطأة بين المسيح ولعازر على ما كان (نعوذ بالله من كفرهم) وباحتمال أن يكون ذلك من قبيل النوم الطويل فقد ثبت أن من الناس من ينام عدة أسابيع أو عدة أشهر ثم يستيقظ بسبب أو بدون سبب، ولولا ما ثبت في القرآن من نبوة المسيح وتأييد الله تعالى له بإحياء الموتى لكان التأويل متعينًا فليس عندنا نقل متواتر يعتد به. هذا، وإننا خرجنا عن الموضوع بإدخال المعجزة في البحث. والذي نقوله في هذا النوع من حيث عدُّه في الكرامات إنه لم يثبت والأصل عدمه. وإن ما أورده السبكي من الحكايات ينطبق على القاعدة التي قررها في طبقاته وهي عدم جواز إظهار الكرامة إلا لأمر عظيم يضطر إليها حتى إنه انتحل تطبيق ما أورده من الكرامات

اليهود والماسونية وحدث الوطنية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اليهود والماسونية وحَدَثُ الوطنية اليهود لا يوجد شعب في الدنيا كشعب إسرائيل في تمسكه بالرابطة الملِّية، والعصبية الجنسية، فهم يحبون ويحاولون أن يحولوا جميع منافع الشعوب الذين يعيشون معهم إليهم. ولولا أنهم يعتقدون أن دينهم خاص بهم لا يجب عليهم الدعوة إليه لحاولوا إرجاع جميع الأديان إليه بالهمة التي يحاولون بها تحويل قوى الشعوب كلها إلى منفعة بني إسرائيل وكل هذا - لولا غلو فيه - من الفضائل التي يحمد صاحبها عليها؛ ولكن الغلو في حب الذات كالتقصير فيه كلاهما من الأمور الضارة بصاحبها؛ لهذا نرى هذا الشعب مضطهَدًا من جميع الشعوب والأمم لا يتسع له صدر إلا صدر المسلمين، ألم تَرَ أن الذين تطردهم الممالك وتخرجهم من أرضها لا يجدون في الغالب ملجأً إلا بلاد الدولة العلية حتى بلاد فلسطين التي يطمعون أن يستقلوا بها ويحدثوا فيها ملكًا جديدًا. * * * الماسونية جمعية سياسية سرية تكونت في أوربا - خلافًا لما يزعمون من قدمها - لمقاومة استبداد رؤساء الدنيا من الملوك والأمراء ورؤساء الدين من البابوات والقسيسين الذين كانوا متضافرين على استعباد الناس وحرمانهم من نور العلم والحرية، وقد اتفق على تكوينها اليهود والنصارى؛ ولذلك جعلوا رموزها وإشاراتها منتزعة من الكتاب المشترك الذي يسمى الكتاب المقدس وأسندوها إلى بناة الهيكل المقدس هيكل سليمان عليه السلام وهو المسجد الأقصى. وقد قامت هذه الجمعية بعملها على أحسن وجه ولم يعد لها الآن عمل في تلك البلاد وإذ كان منشئوها والمنشأة لهم من غير المسلمين كان فيها أمور متعددة تخالف الإسلام، وكان الداخل فيها عرضة لمخالفة دينه إلا أن يكون عالمًا متمكنًا! ثم إن الإفرنج عندما تغلغلوا في الشرق ورأوا مزاج السيادة الإسلامية لا يقبل مشاركًا له في حكمه فهو يجيش انفعال جميع المسلمين لنبذ سلطة كل من يحاول السيادة عليهم استعانوا بالماسونية على إضعاف هذا المزاج وتوسلوا إلى بعض كبراء المسلمين وأغنيائهم بما توسلوا واستعانوا عليهم بنصارى بلادهم ويهودها فأدخلوا طائفة منهم وبقي أكثر المسلمين إلى اليوم يعد الماسونية نزغة من نزغات الكفر أو وسيلة إليه، إلا أن الشعب المصري سريع الانقياد إلى التقليد؛ ولذلك كثر الداخلون في هذه الجمعية من أهله على أن أهلها يتنصلون من الأديان ويدعون عدم التعرض لها بحال. ولما هاجر السيد جمال الدين حكيم الشرق وموقظه إلى هذه البلاد رأى من استبداد إسماعيل باشا الخديوي الأسبق ما يزيد على ما كان في أوربا من الاستبداد ورأى أن الجمعية الماسونية تجر هذه البلاد إلى أوربا بخيوط سياسية خفية؛ ولكنها متينة قوية فهي كالخيوط التي يربط بها المشعوذ التماثيل التي يلعب بها وراء الستار فيحسب الصبيان أنها هي التي تلعب بنفسها، وكذلك كانت مصر ألعوبة في أيدي الأوربيين. فأراد السيد رحمه الله أن يربي فيها رجالاً يعرفون كيف يحفظون بلادهم وأنفسهم فوجَّه همته إلى استخدام الماسونية في تعليم تلامذته ما لا يمكن التصريح به إلا في جمعية سرية فدخل في الماسونية ودخل معه تلامذته النابغون فجعل بهم قوة للمصريين وصار رئيس محفلهم، ولكنه كان غاليًا في مضادة الإنكليز لما كان من زحفهم على بلاده ولما كان يعتقد من طمعهم في مصر وقد صرّح به كتابةً فقاوموه حتى اضطروه إلى ترك الماسونية مع كبار حزبه ولم يكن للماسونية عمل في مصر لمصر إلا في تلك المدة، ثم إن الماسونية صارت في مصر آلة لبعض زعمائها في جلب المنافع ثم كثر فيها الغوغاء حتى قلّ احترامها وانطلقت الألسنة بالطعن فيها وليس هذا مما يعنينا الآن. * * * حدث الوطنية شاب يعرف قراء المنار أنه يلغط بالوطنية على غير هدى وإن له جريدة أنشأها لتعظيم شخصه باسم الوطنية وللانتقام لشخصه بكل اسم. يمقت كل مَن ليس مصري الأصل لأجل مصر، ويمقت من المصريين الأصلاء من ليس مسلمًا لأجل المسلمين، ويمقت كل مصالح المسلمين لأجل شخصه فهو لنفسه علة العلل. في كل قول له وعمل، وإليك هذا الشاهد العادل: مفتي الديار المصرية مصري الموطن ويشغل في مصر أكبر الوظائف الدينية ويرأس جمعية خيرية ليس لها ثانية لخدمة مسلمي مصر وهو في علوم الدين والدنيا وفي كبر العقل وقوة الإرادة مفخر المسلمين ومفزعهم يرجعون إليه في الدفاع عن دينهم وفي قضاء حوائجهم ويرون أكبر خدمة قام بها للإسلام تفسير القرآن الشريف على طريقة روحية عمرانية تظهر أن القرآن الحكيم ينبوع السعادة الدينية والمدنية في كل عصر. ولكن هذا الرجل خلق من طينة الجد فهو لا يقيم وزنًا للأحداث المتنفجين فينزلهم منزلة العدم، لا يحترمهم ولا يحتقرهم. وحدث الوطنية يحب أن يدهن له كل عظيم فهو لا يحب مفتي الديار المصرية. وكان ينبغي أن يعامله بالمثل لا يعظمه ولا يتطاول ويتسلق ويتعالى لغمط حقه فإذا لم يستطع صبرًا فلينتظر له هفوة يتيسر له التلبيس بها على العامة بأنها تضر بالوطن الذي يدعي حبه أو الإسلام الذي يتألف حزبه؛ ولكن من الناس من يبلغ من نفسه مبلغًا لا يصل أحد إليه إلا بخذلان من الله! ! ! انظر الفرص التي ينتهز مثلها حدث الوطنية: كان مفتي الإسلام في جماعة من (كبار الوطن العزيز) قد ركبوا مركبة مما أعدته الحكومة للمدعوين لحضور احتفال خزان أسوان فحاول أحد الخَدَمة من الإفرنج إنزالهم منها ليركب فيها نساء من قومه فانتهره المفتي فعاد خائبًا. ولما علم بذلك زعيم الوطنية بزعمه بادر إلى إرسال رسالة برقية إلى جريدته جعل عنوانها (إهانة المفتي) وحكى القصة على غير وجهها، فهذه هي الوطنية الحقة التي يتنفج بها يفتخر بأن خادمًا أجنبيًا أهان أكبر رجال (الوطن المحبوب) وما أهانهم ولكنه يفتخر بما يفتجر ويفتحر. وإن تعجب فاعجب مما قصصناه من فرصة هذا الوطني التي اغتنمها لخدمة الوطن ما نقصّه الآن من فرصة هذا المسلم التي اغتنمها لخدمة الإسلام بل لتأييد بعض ماسون اليهود في الاحتجاج على تفسير القرآن: إن نبذة التفسير التي نشرناها في الجزء الثاني من منار هذه السنة هي مأخوذة من الدرس الذي ألقاه المفتي في 6 ذي القعدة سنة 1317 أي منذ ثلاث سنين وشهور وقد نقلتها عنا جريدة الرائد العثماني التي قامت تندد في هذه السنة بسيئات اليهود حتى أنهم حاكموا صاحبها وحكم عليه بشدة علم بها أن الحكومة انتصرت لهم وما كانوا مهضومين ولا مظلومين. توهم بعضهم أن مفتي الديار المصرية صاحب النفوذين الديني والأدبي كتب الآن يساعد تلك الجريدة بقلمه المؤثر فوجلوا ووجموا ولجأوا إلى جمعيتهم الماسونية وكتبوا بقلم الطيش والعجلة احتجاجًا باسم الماسونية على مفتي الديار المصرية الذي يفسر القرآن العزيز في الأزهر باسم الله الرحمن الرحيم وطلبوا إيقافه عند حده. وأرسلوا نسخًا من احتجاجهم إلى أمير البلاد وإلى اللورد كرومر وإلى رئيس النظار وإلى جميع الجرائد اليومية فلم يحفل أحد باحتجاج هذا المحفل إلا رئيس الماسونية العام في هذه الديار (عطوفتلو) إدريس بك راغب فإنه كتب محتجًّا على الاحتجاج مبينًا للمحفل أنه خالف قانون الجمعية. ولكن حدث الوطنية نشر صورة الاحتجاج في جريدته وقام ينتصر لعثرة عثرها بعض يهود الماسون على مفتي الإسلام من حيث هو مفسر للقرآن وسوَّل إليه غروره أن ذلك انتقام من المفتي فما كان إلا زيادة في إجلاله وتعظيمه حضر رئيس ذلك المحفل الماسوني من الإسكندرية مخصوصًا لزيارة المفتي في الأزهر والاعتذار له ثم كتب هذا الرئيس رسالة نشرها في الجرائد المشهورة في ذلك أثنى فيها بما أثنى وزاره في الأزهر أيضًا الرئيس الأعظم للمحافل الإفريقية إدريس بك راغب وكتب بعض أدباء اليهود في الجرائد يبين خطأ الاحتجاج ونشره وأثنى على المفتي بما أثنى وكتبت الجرائد المعتبرة مقالات في ذلك بأقلام كتابها وأقلام غيرهم من الفضلاء سفهوا فيها منشور الاحتجاج والجريدة التي نشرته وفي مقدمة هذه الجرائد المؤيد والأهرام والمقطم والبيراميد ولولا أن كان جميع الكاتبين متفقين على الاعتذار عن المحتجين بسوء الفهم والاعتراف بأن مفتي الديار المصرية لهذا العهد هو روح الوفاق والوئام وداعية الاتحاد والالتئام وأنه لا يرضيه أن يهضم حق فرد من الأفراد ولا طائفة من الطوائف لأن الشريعة التي هو أحد أئمتها - قضت بالعدل والمساواة حتى كان خلفاؤها الراشدون يساوون آحاد اليهود بأكبر كبرائهم - لولا هذا لأحدث ذلك المنشور ثورة فكرية قلمية على اليهود سيئة المغبة وكان إثم ذلك على من كتب المنشور بسوء الفهم. ومن نشره بسوء القصد. {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى} (الروم: 10) وأي شيء أسوأ ممن أرضى نفسه وأغضب اليهود الذين انتصر لهم بما كاد يوقعهم فيه من الفتنة وأغضب المسلمين؛ لأنه انتصر لليهود عليهم في أمر ديني محض، وأغضب الله تعالى؛ لأنه انتصر لأفراد من اليهود على كتابه العزيز وأراد أن يساعدهم على إيقاف من يبينه للناس عند حده وما هو إلا منعه من بيانه للناس ونقض ميثاق الله الذي أخذه على العلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) . وههنا نكته لطيفة وهي أن اليهود قد كتبوا ما كتبوا معتزين بالحرية التي في مصر الآن كما صرحوا بذلك في منشورهم، وحدث الوطنية يتبجح دائمًا بذم هذه الحرية؛ لأن منبعها الاحتلال الإنكليزي فهل كانت هذه الحرية جديرة بالمقت والذم من حيث رفعت أثقال الظلم عن كاهل الأمة المصرية وصارت جديرة بالرضى والمدح من حيث يراد بها منع تفسير القرآن من الجامع الأزهر؟ ! كلا، إن تلك الحرية ما كانت مذمومة عنده من جهة الأحكام إلا لأنه لم يقدر أن يكون فيها حاكمًا وصارت ممدوحة عند الاستعانة بها على منع كتاب الله إلا لأن مفسره لا يدهن له ولا يعتبره زعيمًا للوطن فثبت بهذا أن حدث الوطنية لا يخدم إلا شخصه مباشرة واسم الوطنية والإسلام إنما يُذكران إذا صلحا للاستخدام! فعلم مما تقدم أنه لم يكن من مصلحة اليهود أن يطرقوا هذا الباب - دعوى تحامل المسلمين عليهم وكراهتهم لهم - لئلا يُفتح فيعجزوا عن إغلاقه هم والحرية التي استنجدوا بها وهي العون عليهم ما لم يخالف أحد القانون في اعتدائه. والمسلمون أقرب الناس إلى مسالمتهم بما يرشد إليه الإسلام والتاريخ شاهد عدل في الماضي والحاضر؛ ولكن أهل هذه البلاد يؤثر فيهم القول والوهم فإذا صدقوا أن مفتي الإسلام قد برى قلمه للنيل منهم يعتقدون أنهم خطر كبير على المسلمين أو المصريين. ومن يقدر على إزالة اعتقاد العامة بعد رسوخه؟ قدر بعض الأحداث على تحريك أضغان المصريين على السوريين بكلمات هذوا بها فكان من أثرها أن الألوف من الناس يعتقدون أن السوري بلاء على مصر، على أن السوريين موافقون لهم في اللغة والجنسية العثمانية ومنهم من هم على دينهم وليس لهم امتياز يثقل عليهم كامتياز الأجانب. ثم إنهم أقل الشعوب التي هاجرت إلى هذه البلاد كسبًا فاليهود والأرمن واليونان وجميع الشعوب الأوربية تفوقهم ثروة ومن هؤلاء من أفسدوا البلاد بالخمور ولا ترى مع هذا جريدة مصرية تذكر أحدًا منهم بما تذكر به السوريين مما لا يرضي. والسوريون هم الذين خدموا العلم والأدب خدمة لم يدركهم بها المصريون إلى الآن، نعم، إن فيهم بعض السفهاء وفاسدي الآداب

أمالي دينية الدرس ـ 38 ـ آية الله الكبرى (القرآن)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ باب العقائد من الأمالي الدينية (الدرس 37) آية الله الكبرى (القرآن) نبدأ هذا البحث الجليل بما كتبه القاضي عياض في الشفاء من وجوه الإعجاز وبعد ذلك نذكر ما هو أقوى منها أو أوضح، قال رحمه الله تعالى: (فصل في إعجاز القرآن) اعلم - وفقنا الله وإياك - أن كتاب الله العزيز منطوٍ على وجوه من الإعجاز كثيرة، وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة وجوه: م 105: (أولها) حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام، قد خُصوا من البلاغة والحكم بما لم يخص به غيرهم من الأمم. وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان. ومن فصل الخطاب ما يفيد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعًا وخلقة وفيهم (غريزة) وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب. فيخطبون بديهًا في المقامات وشديد الخطب، ويرتجزون به بين الطعن والضرب، ويمدحون ويقدحون ويتوسلون ويتوصلون ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال، ويطوقون من أوصافهم أجمل من سَمْط اللآل. فيخدعون الألباب، ويذللون الصعاب. ويذهبون الإحن ويهيجون الدمن. ويجرّئون الجبان ويبسطون يد الجعد البنان ويصيرون الناقص كاملاً. ويتركون النبيه خاملاً. منهم البدوى ذو اللفظ الجزل والقول الفصل والكلام الفخم، والطبع الجوهري والمنزع القوى ومنهم الحضري ذو البلاغة البارعة والألفاظ الناصعة والكلمات الجامعة، والطبع السهل. والتصرف في القول القليل الكلفة الكثير الرونق الرقيق الحاشية. وكلا البابين فلهما في البلاغة الحجة البالغة. والقوة الدامغة والقدح الفالج والمهيع الناهج، لا يشكُّون أن الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم. قد حووا فنونها. واستنبطوا عيونها. ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعلوا صرحًا لبلوغ أسبابها. فقالوا في الخطير والمهين. وتفننوا في الغث والسمين، وتقاولوا في القل والكثر. وتساجلوا في النظم والنثر. فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) ، أُحكمت آياته وفصلت كلماته وبهرت بلاغته العقول. وظهرت فصاحته على كل مقول. وتضافر إيجازه وإعجازه وتظاهرت حقيقته ومجازه. وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه وحَوَت كل البيان جوامعه وبدائعه. واعتدل مع إيجازه حسن نظمه وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه. وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالاً وأشهر في الخطابة رجالاً وأكثر في السجع والشعر سجالاً، وأوسع في الغريب واللغة مقالاً، بلُغتهم التي بها يتحاورون ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخًا بهم في كل حين، ومُقرعًا لهم بضعًا وعشرين عامًا على رؤوس الملأ أجمعين {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (يونس: 38) ، {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِه ... } (البقرة: 23) إلى قوله: {.. وَلَن تَفْعَلُوا ... } (البقرة: 24) ، و {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ ... } (الإسراء: 88) الآية [1] و {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} (هود: 13) ، وذلك أن المفترَى أسهل، ووضع الباطل والمختلق على الاختيار أقرب. واللفظ إذا تبع المعنى الصحيح كان أصعب، ولهذا قيل: فلان يكتب كما يقال له وفلان يكتب كما يريد وللأول على الثاني فضل وبينهما شأوٌ بعيد. فلم يزل يقرعهم صلى الله عليه وسلم أشد التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفه أحلامهم ويحط أعلامهم ويشتت نظامهم ويذم آلهتهم وآباءهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم [2] وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته، محجمون عن مماثلته ويخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والإغراء بالافتراء وقولهم: { ... إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} (المدثر: 24) ، و {سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} (القمر: 2) ، و {إِفْكٌ افْتَرَاهُ} (الفرقان: 4) ، و {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} (الأنعام: 25) والمباهتة والرضا بالدنيئة، كقولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} (البقرة: 88) ، و [3] {فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} (فصلت: 5) ، و {لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) ، والادعاء مع العجز بقولهم: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} (الأنفال: 31) ، وقد قال لهم الله: { ... وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) فما فعلوا ولا قدروا. ومن تعاطى ذلك من سُخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلا فلم يخفَ على أهل الميز منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم بل ولوا عنه مدبرين وأتوا مذعنين من بين مهتدٍ وبين مفتون؛ ولهذا لما سمع الوليد ابن المغيرة من النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ... } (النحل: 90) الآية قال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر. وذكر أبو عبيد أن أعرابيا سمع رجلاً يقرأ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) ؛ فسجد، وقال: سجدت لفصاحته، وسمع آخر رجلاً يقرأ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًا} (يوسف: 80) ؛ فقال: (أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام) وحكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يومًا نائمًا في المسجد فإذا هو بقائم على رأسه، يتشهد شهادة الحق، فاستخبره فأعلمه أنه من بطارقة الروم ممن يحسن كلام العرب وغيرها، وأنه سمع رجلاً من أسرى المسلمين يقرأ آية من كتابكم، فتأملتها، فإذا قد جُمع فيها ما أُنزل على عيسى ابن مريم من أحوال الدنيا والآخرة وهي قوله: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} (النور: 52) الآية، وحكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية، فقال لها: قاتلك الله، ما أفصحك! فقالت: أوَ يُعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} (القصص: 7) الآية [4] ، فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. فهذا نوع من إعجازه منفرد بذاته غير مضاف إلى غيره على التحقيق والصحيح من القولين، وكون القرآن من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أتى به معلوم ضرورة وكونه صلى الله عليه وسلم متحديًا به معلوم ضرورة وعجز العرب عن الإتيان به معلوم ضرورة وكونه في فصاحته خارقًا للعادة معلوم ضرورة للعالمين بالفصاحة ووجوه البلاغة. وسبيل من ليس في أهلها علم ذلك بعجز المنكرين من أهلها عند معارضته واعتراف المفترين بإعجاز بلاغته. وأنت إذا تأملت قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) ، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} (سبأ: 51) ، وقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) ، وقوله: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} (هود: 44) الآية، وقوله: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً000} (العنكبوت: 40) الآية وأشباهها من الآي، بل أكثر القرآن حققت ما بينه في إيجاز ألفاظها وكثرة معانيها وديباجة عبارتها وحسن تأليف حروفها وتلاؤم كَلِمها وأن تحت كل لفظة منها جملاً كثيرة وفصولاً جمة وعلومًا زواخر مُلئت الدواوين من بعض ما استفيد منها وكثرت المقالات في المستنبطات عنها. ثم هو في سرد القصص الطوال وأخبار القرون السوالف التي يضعف في عادة الفصحاء عندها الكلام ويذهب ماء البيان - آية لمتأمله من ربط الكلام بعضه ببعض والتئام سرده وتناصف وجوهه كقصة يوسف على طولها. ثم إذا ترددت قصصه اختلفت العبارات عنها على كثرة ترددها حتى تكاد كل واحدة تُنسي في البيان صاحبتها وتناصف في الحسن وجه مقابلها، ولا نفور للنفوس في ترديدها، ولا معادة لمعادها. * * * فصل م 106 (الوجه الثاني من إعجازه) صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب ومناهج نظمها ونثرها الذي جاء عليها ووقفت مقاطع آيه وانتهت فواصل كلماته إليه. ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له، ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه بل حارت فيه عقولهم، وتدلهت دونه أحلامهم، ولم يهتدوا إلى مثله في جنس كلامهم من نثر أو نظم أو سجع أو رجز أو شعر. ولما سمع كلامه صلى الله عليه وسلم الوليد بن المغيرة وقرأ عليه القرآن رق فجاءه أبو جهل منكرًا عليه قال: والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني والله ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا. وفي خبره الآخر حين جمع قريشًا عند حضور المواسم وقال: إن وفود العرب ترد فأجمعوا فيه رأيًا لا يكذب بعضكم بعضًا. فقالوا: (نقول كاهن) قال: والله ما هو بكاهن ما هو بزمزمته ولا سجعه. قالوا: (مجنون) قال: وما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته. قالوا: (فنقول شاعر) قال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومبسوطه ومقبوضه وما هو بشاعر. قالوا: (فنقول: ساحر) قال: وما هو بساحر ولا نفثه ولا عُقده. قالوا: (فما نقول؟) قال: وما أنتم بقائلين في هذا شيئًا إلا وأنا أعرف أنه باطل وإن أقرب القول أنه ساحر فإنه سحرٌ يفرق به بين المرء وابنه [5] والمرء وأخيه والمرء وزوجه والمرء وعشيرته. فتفرقوا وجلسوا على السبل يحذرون الناس فأنزل الله تعالى في الوليد: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً 000} (المدثر: 11) الآيات. وقال عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن: (يا قومي قد علمتم أني لم أترك شيئًا إلا وقد علمته وقرأته والله لقد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة) وقال النضر بن الحرث نحوه. وفي حديث إسلام أبي ذر ووصف أخاه أنيسًا فقال: والله ما سمعت بأشعر من أخي أنيس لقد ناقض اثني عشر شاعرًا في الجاهلية أنا أحدهم، وأنه انطلق إلى مكة وجاء إلى أبي ذر بخبر النبي صلى الله عليه وسلم قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر، كاهن ساحر، لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعته على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدى [6] أنه شعر وإنه لصادق وإنهم لكاذبون. والأخبار في هذا صحيحة وكثيرة والإعجاز بكل واحد من النوعين الإيجاز والبلاغة بذاتهما والأسلوب الغريب بذاته كل واحد منهما نوع إعجاز على التحقيق لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما؛ إذ كل واحد خارج عن قدرتها مباين لفصاحتها وكلامها وإلى هذا ذهب غير واحد من أئمة المحققين. وذهب بعض المقتدى بهم إلى أن الإعجاز في مجموع البلاغة والأسلوب وأتى على ذلك بقول تمجه الأسماع. وتنفر منه القلوب. والصحيح ما قدمناه والعلم بهذا كله ضرورة وقطعًا. ومن تفنن في علوم البلاغة وأرهف خاطره ولسانه أدب هذه الصناعة لم يخْفَ عليه ما قلناه. وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه فأكثرهم يقول: إنه ما جمع في قوة جزالته ونصاعة ألفاظه وحسن نظمه وإيجازه وبديع تأليفه وأسلوبه لا يصح أن يكو

شبهات النصارى وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ باب شبهات النصارى وحجج المسلمين طعنهم في القرآن العزيز قل للذين لا يرون الجذوع في عيونهم ويعيبون الكحل (بالتحريك) في عيون الناس: إذا كان كتاب دينكم لم يُكتب في عهد نبيكم، وإذا كان الذين كتبوا تاريخه من بعده بأزمنة مختلفة يروون عنه روايات مختلفة لا سند لها بالمرة، وإذا كانت مجامعكم قد تحكمت بذلك المكتوب بأهوائها وأهواء الرؤساء السياسيين، فحذفت ما شاءت وشاؤوا وأبقت ما شاءت وشاؤوا ونقحت ما شاءت وشاؤوا، وأنتم تقبلون ذلك وتعدُّونه أصلاً للدين! فما بالكم لا تخجلون من الكلام في كتاب لم يوجد في العالم إلى اليوم كتاب مثله، نُقل عن صاحبه بالتواتر الصحيح حفظًا وكتابةً وروايةً ودرايةً وأداءً، وهو القرآن العزيز: {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) . نرى العالم الشهير والفيلسوف الكبير يؤلف كتابًا في عاصمة من عواصم أوربا، فتطبع منه مئات الألوف من النسخ ويثق الناس بإسناده إلى صاحبه، وإنما يكون صاحبه أعطاه إلى صاحب مطبعة أو ملتزم طبع في خلوته، فأخذه وطبعه، فيكون رواية واحد عن المؤلف، وقد كان الصحابة لا يقبلون رواية الواحد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من القرآن، وإن كان في نواصيهم علمًا وعدالة وحفظًا ودراية، وبعد هذا كله تتكلمون في نقل القرآن وجمعه ولا تخجلون من أنفسكم ولا من الناس. ولا تعلمون أن هذا يزيد المؤمنين إيمانًا بكتابهم، وبحثًا عن كتابكم، وهذه هي الفضيحة الكبرى! نشرت مجلة (البروتستنت) المصرية في الجزء الرابع من المجلد الثالث - نبذة في الطعن بالقرآن نقلتها عن كتاب لهم يقال أن للشيخ إبراهيم اليازجي يدًا في تصحيحه أو تأليفه أو ترجمته والزيادة فيه، وهو عندهم أقوى طعن في الإسلام على ما فيه من الكذب والسخافة والتحريف. وإننا نستقصي شبهاته ونبين بطلانها. قال الكاتب: زعم أهل السنة والجماعة - متابعة لنبيهم - أن القرآن كلام الله نفسه لفظًا ومعنى وأنه معجز في الفصاحة والبلاغة، إلا أن ذلك باطل ولنا على بطلانه أدلة متعددة، ثم طفق يسرد تلك الأدلة، وإننا نذكرها ونجيب عنها بالاختصار اكتفاءً بما نكتبه في دروس الأمالي. وقد بدأ بالطعن في طريقة كتابته وجمعه، فذكر أمورًا نأتي عليها واحدًا واحدًا، فنقول: اعلم أولاً أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يُلقِي ما ينزل عليه من الوحي إلى المؤمنين، فيحفظه الجم الغفير من الرجال والنساء، ويأمر بكتابته، فيكتبه الكاتبون. وقد حفظ القرآن كله جماعة من الصحابة وقرءوه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنهم لم يجمعوه في مصحف واحد إلا على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه؛ وذلك أن عمر رضي الله تعالى عنه أشار على أبي بكر بجمْعه في مصحف يأخذ عنه الناس، لما خشي أن يستحرّ القتل بالقراء في قتال الردة فيقل عدد من يلقن الناس القرآن، فجمعوا ما كان كتبه الكاتبون وهم يعرفونه؛ لئلا يقع شيء من الغلط باستقلال فرد أو أفراد منهم بإملائه. وكانوا يعرفون ما يوجد عند كل واحد من أولئك الكاتبين حتى الآية والآيتين من السورة، يقولون إن آية كذا عند فلان فاطلبوها منه، فيطلبونها وإن كانوا حافظين لها؛ زيادة في التثبت ومنعًا لما عساه يحدث بعدُ من إبراز منافق آية أو سورة فيها زيادة أو نقص يشكك به الناس، ومع هذا كله كانوا يطالبون مَن يأتي بشيء منه بالشهود؛ يشهدون أنه كتبه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ورد في كل هذا الذي ذكرناه روايات مسندة، ربما نذكرها مَعْزُوَّة إلى مخرجيها بعد. إذا علمت هذا فاسمع ما قاله ذلك الكاتب النصراني في الاستدلال على طعنه بجمع القرآن وحفظه: (الدليل الأول) : حديث: (رحم الله فلانًا؛ لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أسقطتهن) ، ويُروى (أُنسِيتهن) . عزاه إلى (الشفاء) ، وهو فيه غير مسنَد ولا مخرَّج. والذي أعرفه أن هذا الإسقاط أو النسيان كان في الصلاة، وربما تعدد، وهو أنه كان يقرأ سورة فلا يتمها فيسأله بعض الصحابة عن ذلك فيقول نحوه. وقد يكون الإسقاط عمدًا؛ إذ ليس بواجب على مَن بدأ بسورة في الصلاة أو غير الصلاة أن يتمها، فإذا ترك من السورة آية أو آيات عمدًا للاختصار، أو لاختبار حفظ السامعين، أو نسيانًا لمثل هذه الحكمة، أو لما يعرض للبشر عادة، فأي حرج في ذلك وتلك الآيات قد بُلِّغت وحُفظت في الصدور والسطور؟ وأي دليل في ذلك على ترك شيء من القرآن الذي بلغه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحفظه عنه الجماهير في الصدور والمصاحف؟ نعم، إن نسيان التبليغ غير جائز على الأنبياء عليهم السلام، ولكن مثل هذا النسيان الذي يعرض أحيانًا لما هو محفوظ ومقرر - لا يخل بالتبليغ، وقد أطال القاضي في (الشفاء) القول في تقرير عصمة الأنبياء من النسيان في التبليغ وفي حفظ القرآن وعدم ضياع كلمة أو حرف منه، ولكن طلاب الباطل يعمون عن الحق، ويأخذون بأقل شبهة على تقرير باطلهم. (الدليل الثاني) قال: (وكذلك ثبت أن الصحابة حذفوا من القرآن كل ما رأوا المصلحة في حذفه) ، وعزا هذا إلى مقدمة الشاطبية. والشاطبية قصيدة في القراءات ليس فيها شيء من هذا البهتان. ومَن علم أن أفسق المسلمين لا يتجرأ على حذف حرف من القرآن لاعتقاده أن متعمد ذلك يخرج من الدين، ويعد من شرار الكافرين - يتيسر له أن يعرف مكان هذه الفِرْية. روى مسدّد عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: (أي سماء تُظلُّنِي وأي أرضي تُقلُّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أسمع) ، وروى نحوه البيهقي عنه، ورُوي مثل ذلك عن علي كرَّم الله وجهه. ونحن نعلم من التاريخ أنه لم يُعرف في الناس أشد إيمانًا من الصحابة لا سيما السابقين الأولين، فهؤلاء أصحاب موسى لم تُغْنِ عنهم مشاهدة آياته عن الميل إلى الوثنية، وإعناته في قبول الشريعة السماوية، حتى إنهم اتخذوا العجل بأيديهم وعبدوه وهو حي يناجي الله تعالى. وهؤلاء أصحاب عيسى عليه السلام تشهد عليهم أناجيلهم بأنهم خانوه في وقت الضيق، حتى إنه طرد أكبرهم وأفضلهم وسمّاه شيطانًا. وأما أصحاب محمد عليه السلام فقد عرَّضوا أنفسهم للقتل، ورضوا بالنفي والذل. ولم يزحزحهم ذلك شبرًا عنه، فكيف يصدق مع هذا قول كافر بدينهم يجيء في آخر الزمان، ويدعي أنهم حذفوا ما شاءوا من القرآن، ولا بينة له ولا برهان؟ ! ولقد نعلم أن الذي ذكَّره بأن يفتري هذه الفرية - هو ما رواه الكثيرون من أن الصحابة قد تحاموا أن يكتبوا في المصاحف ما ليس قرآنًا كأسماء السور وكلمة (آمين) في آخر الفاتحة، وكلمة (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) في أولها، وكالتفسير المأثور عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، روى ابن أبي شيبة عن عامر الشعبي، قال: كتب رجل مصحفًا وكتب عند كل آية تفسيرها، فدعا به عمر، فقرضه بالمقراضين. وإنما فعلوا هذا خشية أن يشتبه بعض التفسير بالقرآن على بعض الناس، وقد كان هذا التشديد سببًا في قلة ما رُوي صحيحًا من التفسير. فهذا معنى حذفهم ما رأوا المصلحة في حذفه من القرآن، إن صح أن أحدًا عبر بمثل هذا التعبير. وقد نقل الكاتب عن عبد المسيح الكندي أن عليًا (عليه السلام) حذف من القرآن آية المتعة وكان يضرب مَن يقرؤها، وأن عائشة (رضي الله عنها) كانت تشنع عليه بها وقالت: إنه بدَّل القرآن وحرَّفه. وأن منه ما كان يرويه أُبيّ بن كعب وهو قوله: (اللهم إنا نستعينك ونستغفرك..... إلخ الوتر) . ونقول: إن عبد المسيح لم يتقن الأكذوبة الأولى، ولم يقدر على تمويهها، كما موَّه غيرها من أباطيله؛ فإن أتباع علي وآل بيته (الشيعة) هم الذين يقولون بالمتعة دون سائر المسلمين، ولو كان علي هو المشدد في منعها وعائشة هي المثبتة لها لما كانوا إلا أبعد الناس عنها، وإن الآية التي يستدلون بها على المتعة هي قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} (النساء: 24) ، وهي لم تُحذف، ولكن يُروى أن أُبيًّا كان يزيد فيها: ( ... إلى أجل مسمى) ولم يثبت هذا بالتواتر، فعُدَّ من قبيل التفسير، وهو مثبَت في كتب التفسير والحديث لم يسقط، ولو تواتر لأُثبت في المصحف، وكان نصًّا في المسألة. وأما صيغة القنوت التي أولُها: (اللهم إنا نستعينك ... ) فقد روي عن أبيٍّ أنه كان يعدها قرآنًا، وكأن هذا جاءه من قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لها في الصلاة، ولكن سائر الصحابة علموا منه عليه السلام أنها ليست بقرآن، وهي لم تسقط ولم تحذف، بل هي موجودة يحفظها الصبيان، ويقرؤها في الصلاة الملايين من الناس. (الدليل الثالث) قال: (إن كثيرًا من آيات القرآن لم يكن لها من قيد سوى تحفظ الصحابة لها، وكان بعضهم قد قُتلوا في مغازي محمد وحروب خلفائه الأولين وذهب معهم ما كانوا يتحفظونه من قبل أن يوعز أبو بكر إلى زيد بن ثابت بجمعه؛ فلذلك لم يستطع زيد أن يجمع سوى ما كان يتحفظه الأحياء) . ونقول: إن هذه دعوى باطلة، أقامها مقام الدليل على دعوى أخرى وهي متهافتة بنفسها كأنها من كلام الصبيان؛ فإن خلفاء محمد عليه الصلاة والسلام هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والأول منهم هو الذي جمع في أول خلافته القرآن في مصحف واحد، وكان مكتوبًا كله في عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ومحفوظًا لكثيرين ممن قُتلوا في يوم اليمامة، وممن كانوا في المدينة وفي غيرها من البلاد، ولم يخرجوا إلى تلك الحرب. روى ابن أبي شيبة عن محمد بن كعب القرظي قال: (جمع القرآن في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة نفر من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب) وروى ابن سعد ويعقوب بن سفيان والطبراني والحاكم عن الشعبي مرسلاً أن ممن جمعه من الأنصار أيضًا زيد بن ثابت وسعيد بن عبيد وأبو زيد، وأكثر هؤلاء قد عاشوا بعده، وبعد جمع أبي بكر وكتابة عثمان زمنًا طويلاً. وقد وجه عمر ثلاثة منهم إلى بلاد الشام، يعلّمون الناس القرآن، كما سنفصله بعد، وروى هؤلاء أيضًا أن مجمع بن جارية كان قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثًا. وإنما يعنون بالجمع الجمع بالكتابة، وأما الحفظ فأهله كثيرون جدًّا، وإنما قالوا إن أبا بكر جمعه، يعنون بين اللوحين، وقد كان جمع مَن ذكرنا من الأنصار، ومن لم نذكر من المهاجرين في صحف منشرة. وقد روى ابن الأنباري في (المصاحف) من عدة طرق أن الذين قتلوا من قراء القرآن يوم اليمامة أربعمائة رجل، فهل يجد النصارى عندهم رواية عن واحد فقط حفظ إنجيل المسيح كله أو أكثره أو ما هو دون ذلك؟ ! (الدليل الرابع) : قال: (أما ما كان مكتوبًا منه على العظام وغيرها فإنه كان مكتوبًا بلا نظام ولا ضبط، وقد ضاع بعضها، وهذا ما حدا بالعلماء إلى الزعم بأن فيه آيات قد نُسخت حرفًا لا حكمًا، وهو من غريب المزاعم) . ونقول: إن هذه دعوى مفتراة أيضًا وقد عُلم كذبها مما تقدم. ويا ليت شعري هل اطَّلع هذا النصراني على تلك العظام وغيرها، فرآها بغير نظام؟ ! وهل كان عدَّها في أيدي كتاب الوحي في زمنه، ثم عدها في زمن أبي بكر فوجدها قد نقصت؟ وهل يفقه أن ضياع بعضها لا يضر مع تعدد الكاتبين والحافظين؟ إلا إذا ثبت أن سورة أو آية بخصوصها قد أضاعها كل مَن كتبها ومن حفظها؟ وأنَّى يثبت هذا؟ رُوي بأسانيد صحيحة أن المكتوب وافق المحفوظ، ولم يفقد

أي الفريقين المتعصب المسلمون أم النصارى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أي الفريقين المتعصب: المسلمون أم النصارى؟! نشرت إحدى الجرائد السورية التي تصدر في نيويورك مقالة في أخلاق (الألبان) وعوائدهم، جاء فيها ما نصه: (ومن أشد متاعس البلقان وجود الأرناؤوط من النصارى والمسلمين في أرض واحدة تجمع بينهم لغة واحدة ووطن واحد ونسب يرجع إلى أصل واحد وهم - مع ذلك - منقسمون على بعضهم بعضًا متطرفون في التعصب الديني وأولئك المتعصبون من المسلمين هم نصارى من الأصل انقلبوا عن النصرانية ودخلوا في دين محمد فخلعوا عنهم بذلك الانتقال رداء اللين المسيحي وتقمصوا بقميص القساوة التركية! وذلك لأن الحياة التي اعتنقوها حديثًا هي ديانة قامت بالسيف مبنية على أساس الجهاد ولا ثبوت لها إلا بالقوة القاهرة. ومن الغريب أننا نرى أشد المسلمين تعصبًا وقساوة هم المتحدرون من سلالة نصرانية، فإن أشد الأكراد ضراوة وهمجية وتعصبًا بين إخوانهم الأكراد القائمين على حدود بلاد العجم هم الأولى تحدَّروا من نسل نصارى الأرمن وأضرى مسلمي البلغار المقيمين في جبال رودوب هم المتحدرون من نسل النصارى وكذلك نرى أن مسلمي القراوطين والسرب وأهل البشناق من المتسلسلين من عيال نصرانية أشد مسلمي تلك البلاد تعصبًا وشرًّا.ا. هـ بحروفه. (المنار) من عجائب تأثير التقليد أنه يجعل نتيجة الدليل الموجبة سالبة والسالبة موجبة ويجمع لصاحبه بين النقيضين، فيستدل على إقبال الليل بطلوع الشمس وعلى إقبال النهار بغروبها. شاع بين الناس أن دين الإسلام قام بالسيف وهي قضية بديهية البطلان، فإن الداعي إلى هذا الدين قام يدعو إليه وحده ولا سيف معه ولو كان معه سيف لكان من المُحال أن يغلب به سيوف العالمين الذين جاء لدعوتهم إلى دينه، ثم إنه بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته هاجر مستخفيًا من بلده وليس معه إلا رجل واحد وذلك لأنه كان على خطر من قومه، ولولا حفظ الله وعنايته لقتلوه هو وتلك الفئة القليلة التي آمنت به وهربت من مكة مهاجرة إلى الحبشة لنجاة أرواحها. ثم إنه لما صار له في مهاجره أتباع يتيسر لهم المدافعة كانوا يدافعون المشركين ولم يعتدوا عليهم في قتال قط اتباعًا لقوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) ، ولا سعة في هذا الرد لتطويل في شيء سبق القول فيه، ونرجو أن نوضحه بعدُ أتم الإيضاح وإنما نقول: إن الناس قلد بعضهم بعضًا في تلك القضية الكاذبة حتى المسلمين، كما قلد بعضهم بعضًا في أن الدين المسيحي انتشر بالدعوة، مع أن التاريخ يشهد أنه لم ينتشر لا سيما في أوربا إلا بالقوة القاهرة. كان من تأثير هذا التقليد أن تشاهد القسوة وشدة التعصب في النصارى أضعاف ما هي في المسلمين حتى أن الجنس الواحد يوجد فيه العريق في الإسلام والحديث العهد به فيكون الثاني أشد تعصبًا من الأول ويلاحظ هذا أهل البحث والذكاء ويثبتونه بالكتابة ثم يقرنون به القول بأن شدة التعصب قد لابست نفوس هؤلاء الداخلين في الإسلام بتأثير الإسلام وكونه دين قسوة وجهاد! ألم يكن الأقرب إلى الإنصاف أن يقال إن هؤلاء المرتقين إلى الإسلام عن النصرانية قد حملوا ما كان عندهم من شدة التعصب في دينهم القديم إلى دينهم الجديد وبذلك امتازوا في التعصب على الأصلاء فيه الذين ورثوا التساهل وتربوا على الدين القاضي باللين والمجاملة، فلم يكن عندهم شيء من ذلك التعصب الذميم؟ ولكن التقليد يحول دون هذا الحكم العادل.

سؤال في التثليث

الكاتب: بعض الأفاضل

_ سؤال في التثليث لبعض الأفاضل سؤال للمسيحيين أرجو ... إجابتهم عليه مع اليقين هل التثليث في المولى قديم ... أم الأقنوم أُحدث بعد حين وليس على الحدوث يقر قوم ... وعن قدم القديم تجاوبوني أموسى كان يجهل أم بمين ... أتى أم غيروا أركان دين وليس بجهله أحد مقرًّا ... ولا بالمين يرمى والمجون فقولوا قومه نقصو وزادوا ... بذلك صح قرآن الأمين وأما كون موسى قد دعاهم ... على قدر العقول فسامحوني وإن الحق يغلب كل ظن ... دعوا تثليثكم أو جاوبوني شرح السؤال أرجو قبل كل شيء من المسيحيين عمومًا - وأخص ذوي العقول السامية والأفكار الراقية خصوصًا - أن يجاوبوا بما يطمئن إليه فؤادهم وترتاح إليه ضمائرهم، ويسكن إليه خاطرهم، ولمنع سوء التفاهم أو التجاهل سأشرح السؤال شرحًا كافيًا، وهو: هل التثليث في ذات الله سبحانه مع الأقانيم حادث أو قديم؟ فإن كان حادثًا لزم الغِيَر في ذات الله، وهو مُحال باتفاق، وإن كان قديمًا فمن المعلوم أن الله أرسل قبل المسيح عليه السلام رسلاً أو آباء - كما تسمون - بشرائع مخصوصة، نخص من بينهم موسى عليه السلام؛ لوجود بقية من أتباعه، ولاعتراف المسيح بناموسه وإقراره بأصل شريعته، وأنه مكمل لها فقط، ولو سألنا قومه عن أصل شريعتهم وعن اعتقادهم في الله المبني على دعوة موسى - لأجابوا بالتوحيد المطلق المجرد عن التثليث والأقانيم أحد من كتبهم. فهنا نقول: هل هذه هي دعوة موسى، وأنها كانت للتوحيد المطلق أو أن قومه غيروها وكانت بالتثليث؟ فإن قالوا بالأخير صدق القرآن في أنهم يغيرون ويبدلون، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وما صدق على أحد المثلين يصدق على الآخر، فلا ثقة إذا في الديانة المسيحية وكتبها ولا داعي لاعتقاد صحتها، بل يجب أن تكون الثقة في الموثوق به وهو القرآن المجيد. وإذا أجابوا بالأول وأن دعوة موسى كانت للتوحيد قلنا: هل كان موسى يجهل ما يجب اعتقاده في مولاه الذي أرسله واصطفاه من بني إسرائيل المصطفين على العالمين؟ أو كان يكذب على قومه فيدعوهم إلى أن الله واحد فقط وهو يعلم أنه ثلاثة في واحد أو واحد في ثلاثة أقانيم ؟ أو كان يستعمل التورية في أساس الرسالة؛ إذ معرفة الله أصل كل دين وأساس كل رسالة وشريعة سماوية، سيقولون: إنه كان يعلم أنه واحد في ثلاثة (أي يعلم التثليث) ولكن لم يؤمر بتبليغه؛ لأن الشرائع تأتي علي قدر العقول. ولكن نقول لهؤلاء: إن المعهود في تاريخ البشر هو ميلهم إلي الوثنية والتعدد وهؤلاء قدماء المصريين ووارثوهم اليونان وبعدهم الرومانيون الذين بنيت دولتهم بأنقاض دولة اليونان كان تعدد الآلهة فيها وقبلها آخذًا حده - ولعل سر التثليث جاء من هنا - فلو أتي موسى قومه ودعاهم علي قدر العقول لكان الأليق به أن يدعوهم إلى التثليث ويقلل تعدد الآلهة نوعًا ما خصوصًا وقد كان ظهوره في مدة مجد المصريين، وتعدد الآلهة عندهم أشهر من أن يذكر - فهذا قول لا يقوله عاقل. وإن قالوا: إن قضية التثليث غير معقولة فيجب الإيمان بها اتباعًا للوحي نقول: فلِمَ لَمْ يدعُ إليها موسى والأنبياء وهي لا يشترط فيها العقل ولا الاستعداد؟ ! والنتيجة أن التثليث ليس بحادث ولا قديم وكل ما كان كذلك فهو باطل، فالتثليث باطل لأنه لو كان حادثًا للزم التغير في ذات الله وهو باطل، فالتثليث ليس بحادث ولو كان قديمًا لقال به موسى عليه السلام والأنبياء ولكنهم لم يقولوا به فهو ليس بقديم. ولا يعقل أن موسى عليه السلام كان جاهلاً أو كاذبًا أو مورِّيًا في أصل الدعوة والمعقول أنه لم يكن تثليث فثبت ما تقدم من نفيه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (س ن. ان)

الإنجيل الصحيح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإنجيل الصحيح (النبذة الثانية من مقدمة كتاب الأناجيل للفيلسوف تولستوي) قال: لما قضيت الخمسين من عمري سألت الحكماء الذين عرفتهم عن كوني الخاص وعن معنى حياتي. فكان الجواب أنني عبارة عن ذرات اجتمعت ببعضها وأن حياتي خلو من المعنى بل إنها رديئة. فداخلني اليأس من هذا الجواب وكاد يحملني على الانتحار ولكنني ذكرت حالتي في عهد الطفولية حينما كان الإيمان راسخًا في قلبي وكان للحياة معنى عندي، ثم نظرت فرأيت جمهور الناس حولي راضين بالإيمان ولم يبطرهم المال فيجرهم إلى الفساد؛ فلذلك يعيشون عيشة حقيقية مملوءة بالمعاني فكان بعد ذلك كله أنني بدأت أرتاب في الجواب الذي أوحت به إلي حكمتي وحكمة أمثالي وعاودت النظر كرّة أخرى عساني أدرك الجواب الذي تجيب به النصرانية أولئك القوم الذين كنت أراهم عائشين عيشة حقيقية. فطفقت حينئذٍ أدرس النصرانية كما كنت أراها في حياة الناس وشرعت في مقابلة هذه النصرانية المعمول بها على الأصول المنبعثة عنها. وهذه الأصول إنما هي الأناجيل، وقد وجدت فيها هذا المعنى الذي يسمح للناس أن يعيشوا عيشة حقيقية. ولكني رأيت فيما آلت إليه النصرانية في هذه الأيام كما يرى الناظر في الينبوع. رأيت ماءً صافيًا مشوبًا بالأكدار والأوحال، وهذه الشوائب هي التي حالت بيني وبين رؤية صفاء هذا الماء إلى الآن. رأيت حينئذ أنني خلطت بين سمو العقيدة النصرانية وبين العقيدة العبرانية والعقيدة الكنائسية وأن كلتا هاتين العقيدتين أجنبيتان عنها بل مخالفتان لها. فشعرت بما يجده الرجل الذي يعطونه كيسًا من التراب ولكنه بعد الكد والكدح والتعب والنصب يعثر فيه على بضع لآلئ تعلو قيمتها الوصف والتقدير، فمثل هذا الإنسان لا يرى أنه قد أذنب في نفوره من التراب وكذلك الذين جمعوا تلك اللآلي مع بقية ما حواه والكيس وحفظوه بما فيه من ثمين ومبتذل ليسوا أيضًا بمذنبين، بل يستحقون الإجلال في محل الإكرام والإجلال. ثم هو يتساءل بعد ذلك عما يجب عليه فعله بهذه الدراري الغالية التي وجدها مختلطة بالأوحال والرمال. وهذا لعمري موقف حرج. ولقد لبثت فيه إلى أن أدركت في أحد الأيام أن هذه الأحجار الكريمة لم تكن دائمًا مختلطة بما يشوبها من الأكدار وأنه يتسنى تخليصها منها وتمييزها عنها. لم يكن لي علم بماهية النور وكان يخطر ببالي أن هذه الحياة ليس فيها أدنى حقيقة على الإطلاق ولكنني لما أدركت أن النور وحده هو حياة الناس طفقت أبحث عن مطالع النور وقد عثرت عليها في الأناجيل بالرغم مما أدخلته الكنائس فيها من شوائب التوفيق والتطبيق. فلما وصلت إلى هذه المشارق التي ينبعث منها النور انبهرت من شدة ضيائها ثم وجدت فيها بعد ذلك الجواب السديد عن المسائل التي كانت تخالج فؤادي فيما يتعلق بمعنى حياتي وحياة سائر الناس، وقد ألفيت هذا الجواب مطابقًا من كل الوجوه للجواب الذي نالته الأمم الأخرى بل هو في نظري يزيد عليه زيادة عظيمة، ولقد كنت أبحث عن ماهية الحياة وعن حل مسألة لاهوتية أو تاريخية ولذلك لم يكن يعنيني العلم بالذي كتب الأناجيل ولا بوقت تسطيرها ولا بما إذا كانت هذه الأسطورة أو تلك الأمثولة صادرة عن المسيح نفسه أم لا. وإنما الأمر المهم عندي هو ذلك النور الذي أرسل شعاعه على الناس منذ ألف وثمان مئة عام والذي استضأت به ولا أزال أستضيء به أيضًا. أما الاسم الذي يليق بمطلع هذا النور والعناصر التي يتألف منها موجده، فكل هذه أمور لم يكن لها نصيب من عنايتي على الإطلاق. ثم أخذت أنظر إلى هذا النور وأراقب وأدرس كل ما يستضيء به، فكنت كلما تقدمت في هذا السبيل تتضح لي زيادة الفرق المتعاظم على التوالي بين الحق والكذب، وفي مبادئ عملي كان الشك لا يزال عالقًا بنفسي وكنت أحاول فنونًا من التأويلات الصناعية، ولكنني كلما واليت البحث كانت الحقيقة تتراءى لي في ثوبها الناصع الجميل. وكان مثلي حينئذ كمن يجمع قطع التمثال المتكسر، فإنه في أول الأمر يتشكك ويسائل نفسه: هل هذه القطعة مما يجب وضعه في الساق أو في الذراع؟ ولكنه متى تسنى له إعادة الساق تامة كاملة يتحقق أن تلك القطعة ليست من الساق في شيء ومتى وجد في الذراع نقصًا تنطبق عليه تلك القطعة تمام الانطباق فإنه لا يتردد لحظة واحدة في تعيين المكان الذي كان مخصصًا في أول الأمر لهذه القطعة من التمثال. فكنت كلما تقدمت في عملي يزداد هذا الشعور تمكنًا في نفسي. وإذا لم يكن الجنون قد استولى على عقلي فلا شك أن القارئ يجد في نفسه أيضًا مثل هذا الوجدان حينما يقرأ ترجمتي الكبيرة للأناجيل، فإن كل نظرية من نظرياتي مشفوعة بالدليل اللغوي وبمقارنة النصوص المختلفة ببعضها وبانطباقها تمام الانطباق على الفكرة الأساسية التي بني عليها تعليم المسيح. وربما ساغ لي الوقوف عند هذا الحد واختتام المقدمة بما أوردته إلى الآن إذا كانت الأناجيل من الكتب التي عثر عليها الباحثون حديثًا أو كانت التعاليم المسيحية لم تصادفها على الدوام من ألف وثمان مائة عام سلسلة متوالية من الأباطيل في التأويل. ولكي يفهم الناس في هذه الأيام حقيقة دين المسيح كما كان يدركها هو نفسه أرى من الواجب التنبيه على الأسباب الجوهرية التي أوجبت تلك التأويلات الفاسدة وتلك التصورات الكاذبة التي جرتها على أثرها. إن السبب الأصلي لهذه التأويلات الباطلة التي يصعب علينا معها اليوم العثور على حقيقة دين المسيح هو أن هذا الدين قد اختلط بمقالات وطقوس الفارسيانيين وبما جاء في العهد القديم من الآراء والمذاهب وكان ذلك منذ أيام بولس الذي لم يدرك قط حقيقة دين المسيح [1] والذي لم تخطر على باله أيضًا بصيغتها التي عرفها الناس بها من بعده على مقتضى إنجيل متى، فقد جرت العادة على اعتبار بولس كرسول الوثنيين وكالرسول القائم بالاحتجاج (البروتستانتي) ولقد كان كذلك في الواقع ونفس الأمر ولكن فيما يتعلق بالصيغ الخارجية فقط كالختان وغيره. بل هو الذي أدخل في النصرانية تعاليم اليهود وسننهم بضمّه العهد القديم إلى العهد الجديد وقد كانت هذه التعاليم المشوبة بسنن اليهود السبب الأساسي في تشويه العقيدة المسيحية وتأويلها على غير وجه الحق. فمن عصر بولس كان ابتداء ذلك التلمود المسيحي الذي هو اليوم عبارة عن تعاليم الكنيسة، ومن ذلك الوقت أصبح دين المسيح لا يعتبر واحدًا وكاملاً وإلهيًّا، بل مجرد حلقة من حلقات سلسلة الوحي العظيمة التي تبتدئ من يوم الخليقة وتمتد حتى تصل إلى الكنيسة في أيامنا هذه. وبنى على هذا التأويل الباطل تسمية المسيح بالإله ولكن الاعتراف بألوهية المسيح لا يلزم (كما يظهر) على تعليق أدنى أهمية على كلمته الإلهية أكثر من اهتمامه بكلمات التوراة والمزامير وأعمال الرسل ورسائلهم والرؤيا، بل بقرارات المجامع وكتابات الآباء [2] . وهذا التأويل الباطل لا يسوغ مع تصور العقيدة المسيحية إلا إذا كانت موافقة لكل ما جاء به الوحي قبل المسيح وبعده بحيث يكون الغرض من هذا التأويل هو التوفيق بقدر الإمكان بين كتب مختلفة يناقض بعضها بعضًا مثل التوراة والمزامير والأناجيل والرسائل والأعمال وسائر الكتب المعتبرة مقدسة. ومن البديهي أنه إذا كان المبدأ بهذه الصفة لا يجوز لإنسان أن يطمع في إدراك تعليم المسيح كما ينبغي. وهذا المبدأ الفاسد هو الذي أوجب تعدد الآراء واختلافها الكثير في حقيقة معنى الأناجيل. إذ لا يخفى أنه يمكن حدوث عدد غير محدود من أمثال هذه التأويلات التي لا يقصد منها البحث عن الحقيقة، بل توفيق النقيضين اللذين لا يتفقان وهما العهد القديم والعهد الجديد. وفي الحقيقة أن هذه التفاسير لا تدخل تحت حصر ولأجل إظهار هذه التفاسير في مظهر يشابه الحقيقة اضطر أصحابها إلى الالتجاء إلى وسائل خارجية مثل الخوارق ونزول الروح القدس عليهم ونحو ذلك. وقد اجتهد كل واحد منهم - ولا يزال يجتهد - في التوفيق على ما يراه ثم ترى كلاً منهم يدعي بأن توفيقه هو آخر وحي صادر عن الروح القدس. مثال ذلك ما جاء في رسائل بولس وفي قرارات المجامع التي تبتدئ بهذه العبارة: (قد وافقنا ووافق الروح القدس) ومثال ذلك أيضًا الأوامر الصادرة عن الباباوات وعن المجامع المقدسة للأرثوذكسيين والبولسيين وكل هؤلاء المفسرين الكاذبين في دعوى بيان فكر المسيح. فكلهم يلتجئون إلى هذه الرسائل الشاذة المستنكرة لتأييد صحة ما يذهبون إليه من التوفيق، فهم يجزمون بأن هذا التوفيق ليس من نتائج أفكارهم الشخصية وإنما هو شهادة صادرة عن الروح القدس مباشرة. ولسنا نحاول البحث والتنقيب في هذه الديانات المتنوعة التي يزعم أصحاب كل واحدة منها أنها هي الحق دون سواها ولكننا نقول بأننا نرى مع ذلك أنها كلها تبتدئ بتقديس الكتب الكثيرة التي تضمنها العهد القديم والعهد الجديد وأنها توجب بنفسها على نفسها حدوث عقبة لا تزول في فهم الدين المسيحي الحقيقي ويترتب على ذلك حتمًا تعدد الشيع المتناقضة تعددًا لا يدخل تحت حصر. ولكن هذا التعدد الذي لا يتناهى إنما نشأ عن التزام القوم التوفيق بين عدد عظيم من آثار الوحي المتعدد فإن تفسير مذهب الشخص الواحد الذي يعتبرونه كإله لا يمكن أن يستوجب اختلاف النِّحل والشيع مطلقًا إذ لا يصح القول بتفسير التعليم الذي جاء به إله قد نزل على الأرض ويكون هذا التفسير بطرق مختلفة. فإذا كان الله نزل على الأرض لإظهار الحق للناس فأقل ما كان يصنعه أنه يبين لهم هذا الحق بطريقة يفهمها الجميع بلا التباس ولا اشتباه، فإذا لم يكن قد صنع هذا فذلك دليل على أنه لم يكن إلهًا!!! وإذا كانت الحقائق الربانية هي بحيث لم يقدر الإله نفسه على إبرازها في صورة يدركها الناس، فمن الطبيعي أن الناس لا يتمكنون أيضًا من الوصول إلى هذا الغرض. ومن جهة أخرى نقول: إذا كان المسيح ليس هو الله وإنما هو من عظماء الرجال ونوابغهم فإن تعليمه لا يترتب عليه أيضًا كثرة الشيع المتناقضة؛ لأن مذهب الرجل العظيم لا يكون عظيمًا إلا لكونه أوضح بصفة صريحة واضحة ما قاله غيره بطريقة مبهمة بعيدة عن الإدراك. وكل ما كان غير مفهوم في خطاب الرجل العظيم لا يمكن أن يكون عظيمًا فإن مذهب الرجل العظيم ينبغي أن يجمع الناس كلهم على حقيقة واحدة يشتركون فيها على السواء وإنما التأويل الذي يزعم صاحبه أنه صادر عن وحي من الروح القدس وأن فيه الحق وحده - هو الذي يثير البغضاء في النفوس ويوجب اختلاف الشيع والمذاهب ولا عبرة بما يقوله أصحاب بعض المذاهب من أنهم لا يحكمون بالضلال على من يخالفهم وأنهم لا يودون لهم السوء وليس في أنفسهم حفيظة عليهم، فإن ذلك مما لا يمكن أن يكون له نصيب من الحقيقة. فمنذ عهد آريوس لم يوجد مذهب واحد ولدته غير الرغبة في معارضة المذهب الذي يناقضه! وأقصى درجات الغرور والجنون أن يقال بأن هذه العقيدة هي صادرة عن الوحي ومقتبسة من الروح القدس ومن منتهى الغرور أن يقول الإنسان بأن ما يصدر عنه من الآراء إنما هو من قول الله نفسه على لسانه. ولا أرى أكذب من ذلك الذي يجيب مثل هذا الإنسان بقوله: (كلا، إن الله لم يتكلم بلسانك، بل بلساني وإنه يقول ما يناقض ما نسبته إليه على خط مستقيم) وهذه لعمري طريقة المجامع كلها والكنائس بلا استثناء والشيع على اختلاف مقالاتها وآرائها، وهذ

الباب وقرة العين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الباب وقرة العين يرى بعض الفضلاء أن من حقوق قراء المنار علينا إذا نحن نشرنا شيئًا من كلام غيرنا أن ننتقد ما نراه فيه منتقدًا في اللفظ أو الفحوى، سواء كان ذلك مرسلاً إلينا أو منقولاً من الكتب أو الجرائد والمجلات. ولم نَرَ أحدًا التزم مثل هذا ونظن أن أكثر الناس لا يقول به إلا في موضوع يقصد صاحب المجلة إلى إثباته فيجيء في الكلام المنقول ما ينفيه، فينبغي له حينئذٍ أن يحتج لرأيه ولكن لا يجب عليه أن يصل كل ما ينشره لغيره بمقال ينتقده فيه مطلقًا إذا هو وجد ما يصح أن ينتقد. ومما انتقد علينا بالنص سكوتنا على ما جاء في ذلك المكتوب المنشور في الجزء الثاني من ذكر الباب وقرة العين في النابغين الذين يُعَد واحدهم بألف، قال المنتقد: إن الباب رجل مبتدع دجال لم يأتِ بشيء يرفعه إلى مصاف النابغين وأما قرة العين فهي بَغي أباحت نفسها للناس وفتنتهم بجمالها وقد عاقبتها الحكومة الإيرانية بأن ربطتها في أذناب الخيل فعدَتْ بها حتى مزقتها كل ممزق. ونحن نوافق المنتقد ونظن أن عذر الكاتب عدم الوقوف على كل ما يعرفه أمثاله؛ فإن هذا إيراني وذلك مغربي، يسمع أن الباب أنشأ مذهبًا تبِعه فيه خلق كثير وأن قرة العين كانت من دعاة مذهبه وكانت عالمة خطيبة مؤثرة وهذا هو ما كنا نسمعه قبل الاختبار وتمام الاطلاع. ولا أقول أن الكاتب يعتقد صحة مذهب الباب، بل أنا أعتقد أنه لا يشك في بطلانه. ومن قدر على إنشاء مذهب باطل يتبعه فيه ناس كثيرون فهو نابغ في استعداده الفطرى ولكنه وجه استعداده إلى الباطل، ولو وجهه إلى الحق لنفع نفعًا عظيمًا؛ لأن قوة استعداده تؤيَّد بقوة الحق. ونعيد هنا ما كنا قلناه من قبل وهو أن البابية أو البهائية لم يأتوا بمذهب جديد في الإسلام، وإنما أحدثوا دينًا جديدًا كالنصرانية سواء، وأن أتباعهم ليسوا من الكثرة كما يدعون. وإنما هم قوم يوهمون ويموهون.

الطلاق على الغائب والمعسر في السودان

الكاتب: أحمد علي ضيف

_ الطلاق على الغائب والمعسر في السودان حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة المنار الإسلامي: اطلعت في المنار الأخير على مدحكم خطة قاضي قضاة السودان وما أدخله من الإصلاح في المحاكم الشرعية وغيرها، فكنت أشارككم في الشكر له حتى انتهيت إلى عبارة استوقفت نظري، فكنت محتاجًا لشرحها منكم بأجلى بيان وهي قولكم: (ومن الإصلاح الذي سبقت إليه محاكم السودان ونرجو أن تلحقها فيه محاكم مصر الطلاق على الغائب والمعسر فقد كانت المحكمة الكبرى نشرت في سائر المحاكم منشورًا تؤذنها فيه بالحكم في ذلك على مذهب الإمام مالك) ولقد أردت فهم هذه الجملة على وجه الوضوح فلم أتمكن وذلك لأن قاضي قضاة السودان مأذون من قاضي مصر النائب عن الإمام في الحكم على مذهبه فهو حينئذٍ ملزم بأن يحكم ويأمر بالحكم على مذهب الإمام وأيضًا كثير من هؤلاء القضاة من هو حنفي المذهب فيكون مضطرًّا لأن يحكم على غير مذهبه ومن المقرر في الفقه أنه إذا قضي القاضي بغير مذهب الإمام وقد اشترط عليه أن يحكم به يكون حكمه لاغيًا وهو معزولاً من منصبه وكذلك إذا حكم غير المجتهد بغير مذهب يكون أيضًا حكمه لاغيًا. فكيف يكون حكم هؤلاء القضاة وهم مأذونون من قاضي مصر النائب عن الإمام وفيهم من هو حنفي المذهب وليسوا بمجتهدين؟ الرجا توضيح هذه المسألة؛ ليكون لكم الفضل وعظيم الأجر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه أحمدعلي ضيف ... ... ... ... ... ... ... ... بالأزهر (المنار) إن ما قاله الفقهاء من اشتراط كون القاضي الذي ينفذ حكمه منصوبًا من قبل الإمام أو السلطان ليس أمرًا تعبديًّا فرضه الله تعالى علينا في كتابه أو على لسان رسوله لنعبده به، وإنما هو أمر لا بد منه لأجل وحدة الأحكام وتنفيذها. والسلطان أو الإمام عندهم هو من ينفذ الأحكام الشرعية فإذا كان عاجزًا عن ذلك بالفعل فهو ليس بسلطان ولا إمام. وأنتم تعلمون أن السلطان الذي نصب قاضي القضاة في مصر لا يقدر على تنفيذ الأحكام الشرعية في السودان بالفعل، وأنتم تعرفون الذي يقدر على ذلك. وإنما للسلطان العثماني حق الحكم في السودان بالتبعية لمصر، والإنكليز قد احتلوا مصر بإذنه لمنع الفتن التي كانت فيها فلا يصح لهم أن يتغلبوا على جزء من أملاكها باسم الفتح لأن يدهم على البلاد يد أمانة. وهذه مسألة سياسية تتبعها رسوم معروفة، فإذا لم تقل: إن الأحكام في السودان كالأحكام في الهند، فقل: إنها تشبه الأحكام في الجزائر أو تونس التي تعتبرها الدولة العلية من بلادها إلى الآن أو في كريد. الحق أنه ليس للمسلمين الآن إمام قادر على تنفيذ الأحكام الشرعية في بلادهم كلها حتى البلاد التي ليس فيها أعلام أجنبية. فهذه مصر تحكم محاكمها الشرعية ببعض الأحكام فلا تنفذ والخديو وقاضي مصر نائبا السلطان صاحب السيادة (الاسمية الرسمية) على مصر يعلمان ذلك. لأجل هذا نرى بعض المعتقدين بصحة قول الحنفية أنه يشترط في صلاة الجمعة أن تكون في بلاد تنفذ فيها الأحكام الشرعية - لا يصلون الجمعة في بلاد مصر ولكنهم يصلون الظهر. وكان الواجب على كل المعتقدين بهذا المذهب أن يسعوا في تنفيذ الأحكام الشرعية في مصر كحكم قاضي (أبي كبير) وغيره بإلحاق زوجات الداخلين في الإسلام من القبط بأزواجهم وأن لا يصلوا الجمعة حتى يتم لهم ذلك. نرى السائل قد اضطرنا إلى ذكر أمور يجهلها الأكثرون ويستنكرها المغرورون، وإنما ذكرناها لنذكره أين هو وأين السودان من السلطان. وإننا نرجع بعد هذا إلى الحجة البيضاء الناصعة وهي أن جميع أئمة المسلمين قد اشترطوا أن يكون القاضي مجتهدًا يحكم بما يرى فيه المصلحة، ولم يقل بجواز كونه مقلدًا إلا بعض المقلدين الذين لا يعتد بأقوالهم، ونذكر هنا ما كتبناه في مقدمة طبع (تقرير مفتي الديار المصرية في إصلاح المحاكم الشرعية) وهو: (الأمر الثالث) أن تؤلف لجنة من العلماء لاستخراج كتاب في أحكام المعاملات الشرعية ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر لا سيما الأحكام التي هي من خصائص المحاكم الشرعية يكون سهل العبارة لا خلاف فيه كما عملت الدولة العلية في مجلة الأحكام العدلية. ولا يكون هذا الكتاب وافيًا بالغرض واقيًا للمصالح إلا إذا أخذت الأحكام من جميع المذاهب الإسلامية المعتبرة ليكون اختلافهم رحمة للأمة. ولا يلزم من هذا التلفيق الذي يقول الجمهور ببطلانه كما لا يخفى. وقد أشير في صفحتي 38و40 من التقرير إلى عدم التقيد بالمذهب الحنفي وتوهم بعض الناس أن هذا يمس حقوق مولانا الخليفة وأن الأحكام بغير مذهب الحنفية لا تصح ولا تنفذ لهذا، ونجيب عنه بأمور: (1) جاء في كتاب الأحكام السلطانية ما نصه (فلو شرط المولي وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة فهذا على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في جميع الأحكام، فهو شرط باطل سواء كان موافقًا لمذهب المولي أو مخالفًا له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطًا فيها وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي رحمه الله، على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي - كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء تضمن أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن يحكم بما أداه إليه اجتهاده سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط المولي لذلك قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز ولا يكون قدحًا إن جهل، لكن لا يصح مع الجهل أن يكون موليًّا ولا واليًا، فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية فقال: قد قلدتك القضاء على أن لا تحكم فيه إلا بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة - كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط اهـ المراد منه. (2) لا يعدل عن مذهب الحنفية إلا في الأحكام التي لا تنطبق على مصلحة الناس في هذا العصر إذا حكم فيها بمذهبهم وهذه حالة ضرورة أو حاجة تنزل منزلة الضرورة، وبهذا الاعتبار تكون من مذهبهم لأن الحكم الذي تمس إليه الحاجة أو يضطر إليه يصير متفقًا عليه. اهـ المراد هنا، ومنه يعلم الجواب والاجتهاد يتجزأ على الراجح.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الاجتهاد والتقليد (س1) : م. غ. بالأزهر: طالعت في مجلتكم الغراء (م4) بحث الوحدة الإسلامية والاجتهاد والتقليد والرجوع إلى بساطة الدين الأولى بأخذ الأحكام الدينية من الكتاب والسنة اللذين من تمسك بهما نجا ومن حاد عنهما هلك. وقد عثرت على كتاب (كشف الغمة) للشيخ الشعراني، فإذا هو كتاب في الحديث مرتب كترتيب كتب الفقه ذكر فيه أدلة الأئمة كلهم ولم يتعصب لمذهب من المذاهب وإذا تعارض حديثان صحيحان من جهة التخفيف والتشديد حمل أحدهما على الرخصة والآخر على العزيمة ولا يحكم بنسخ حديث إلا بحديث آخر مصرح بنسخ الأول كقوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن الانتباذ في الأسقية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرًا) فهل أحاديث هذا الكتاب صحيحة، فنعتمد عليه في العمل؟ وإذا عرض لنا حكم لم نجده فيه ولا في غيره من كتب السنة الصحيحة كالكتب الستة ومسانيد الأئمة الأربعة فهل يجوز لنا أن نأخذ هذا الحكم من مذهب أي إمام غلب على ظننا صحة قوله أم يجب علينا أن نجتهد لنأخذ ذلك الحكم؟ أفيدوا تؤجروا. (ج) هذا الكتاب أحسن ما كتب الشعراني والخلط فيه قليل جدًّا وليست أحاديثه كلها صحيحة ولا حسنة بل فيها ما لا يصح الاستدلال به. وأحسن منه في هذا الباب كتاب (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار) فإن مؤلفه الإمام الشوكاني يخرج أحاديث المنتقى ويأتي بما قاله أهل الجرح والتعديل في أسانيدها وباستنباط الأئمة منها، فهو أفضل كتاب يهدي إلى فهم السنة في أحكام العبادات والمعاملات. أما ما يعرض للإنسان من المسائل التي لا ذكر لها في الكتاب والمعروف من السنة فالواجب عدم البحث عنها عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) وإنما يأتي هذا في أحكام العبادات خاصة التي تمت على عهده صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى في ذلك قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ؛ فالعبادات لا اجتهاد فيها ولا استنباط إلا الاجتهاد في التمييز بين الصحيح وغيره من الأخبار وفي تحصيل مَلَكَة العربية لفهم ذلك والاجتهاد الحقيقي إنما يكون في الأحكام الدنيوية التي يتنازع فيها الناس ولا تنازع في عبادة الله تعالى. وعندنا أن من يعرف الحق في هذه باقتداره على الاستنباط يعمل به ومن لم يعرفه أو عرفه وكان له خصم لا يقبل حكمه، فالواجب عليه رده إلى أولي الأمر، قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وأما السؤال عن الأخذ بقول من يغلب على الظن صحة قوله ففيه أن غلبة الظن لا تأتي إلا من الاطلاع على الدليل والوقوف على وجه ترجيحه على مخالفه، إن كان هنالك مخالف وهذا لا نزاع فيه، وصاحبه لا يسمى مقلدًا. *** مأتم عاشوراء (س2) ر. ع. بمصر: كنا نتوقع منكم أن تكتبوا في شهر المحرم شيئًا في انتقاد ما يفعله إخواننا الشيعة من المنكرات في عاشوراء كضرب رؤوسهم بالسلاح حتى تسيل منها الدماء على وجوههم وثيابهم وما يتبع ذلك مما هو مشاهَد. وليس المنار خاصًّا بأهل السنة حتى تنتقدوا كل المنكرات الفاشية فيهم وتتركوا إخوانهم من أهل الشيعة، وإنما هو منار عام. فإن كنتم تجدون لهم وجهًا يسوغ ما يفعلون فتفضلوا بإعلامنا به. (ج) لقد صدق السائل في حكمه بأن المنار عام وقد جاءنا بعد ورود هذا السؤال كتاب من بعض الفضلاء في (تبريز) يقول فيه: إن الأمة الإسلامية أحوج إلى مثل هذا (المنار) منها إلى سائر المعارف وأنه ينبغي أن يكتب فيها ما يرشد أهل إيران والهند ولا يصح أن يكون خطابه مع أهل مصر خاصة. ونقول: إن مباحث المنار كلها عامة إلا ما يتعلق ببعض المسائل الجزئية وأحوال المسلمين فيها متشابهة فالعبرة فيها عامة. وما منعنا أن نتكلم في شؤون البلاد الإسلامية البعيدة إلا قلة الوقوف على تفصيلها وتأثيرها، وزِد على ذلك قلة القراء في البلاد الإيرانية على أن قليلهم لا يقال له قليل لأنهم من كبار العلماء والأمراء أصحاب النفوذ الروحي والاجتماعي. أما ما يفعلونه في عاشوراء من ضرب أنفسهم وجرحها بالسيوف فهو منكر تقشعرّ منه الجلود ويجعل المسلمين في نظر الأجانب كالوحوش أو المجانين على أنه لا فائدة فيه مطلقًا. نعم، كان يتصور أن يفيد لو كان لأولئك الذين قاتلوا آل البيت عليهم السلام عصبية موجودة وشوكة نافذة وهم على ظلمهم وهضمهم؛ لأن مثل هذه الأعمال تحيي في النفوس شعور العداوة والانتقام وتوطّنها على سفك دماء أولئك الأعداء، ولكن أولئك الظالمين قد خضدت شوكتهم، وذهبت سلطتهم؛ بل مُحي اسمهم من لوح الوجود حتى لا نكاد نرى من ينتسب إليهم. فكان ينبغي الاكتفاء في عاشوراء بمثل ما كنا ارتأيناه في المولد النبوي والمولد الحسيني وهو أن يخطب الخطباء في سيرة صاحب المولد وما كان عليه من الخلق العظيم وما وفقه الله تعالى له من العمل النافع مع توجيه النفوس للتأسي والاقتداء به فإذا كنا لسنا في حاجة إلى الانتقام، وإذا كنا قد ذقنا فعرفنا جناية سلّ الحسام، وإذا كنا مهددين في كل أرض لأن ديننا الإسلام وإذا كنا - كما نعلم - على خطر لا ينجي منه إلا الاتحاد والالتئام، وإذا كان هذا الاتحاد متعذرًا من جهة وحدة السلطة والأحكام - أفلا يجب علينا أن نلتمسه من جهة الوحدة الدينية في العقائد المتفق عليها والأخلاق التي لا خلاف فيها. والأخوة التي دعانا القرآن إليها؟ أفلا ينبغي أن تتخذ هذه المواسم مذكرات بأفضل ما كان من سلفنا، وأنفع ما كان من أئمتنا، ونجتهد في أن نجعل شعورنا واحدًا حتى يصدق علينا قول نبينا صلى الله عليه وسلم: (ترى المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) رواه الشيخان عن النعمان بن بشير وفي رواية عنه لمسلم: (المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله) . *** حبس النساء بالجوع والعري (س3) أ. ع. بالأزهر: يذكر بعض الناس حديثًا أوله: (أجيعوا المرأة) ويظهر أنه غير صحيح وإن استشهد به بعض مَن كتب في النساء فالمرجو بيان ذلك. (ج) جاء في آخر كتاب النكاح من كتاب (اللآلى المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) للحافظ السيوطي ما نصه: (ابن عدي) : حدثنا محمد بن داود بن دينار حدثنا أحمد بن يونس حدثنا سعدان بن عبدة حدثنا عبيد الله بن عبد الله العتكي عن أنس مرفوعًا: (أجيعوا النساء جوعًا غير مضر وأعروهن عريًا غير مبرح؛ لأنهن إذا سمنَّ واكتسين فليس شئ أحب إليهن من الخروج وإن هن أصابهن طرف من العري والجوع فليس شئ أحب إليهن من البيوت وليس شيء خيرًا لهن من البيوت) لا يصح. العتكي عنده مناكير، قال ابن عدي: وسعدان مجهول وشيخنا محمد بن داود يكذب. وقال الشوكانى في فوائده: لا أصل له وكذا (أعروا النساء يلزمن الحجال) لا أصل له، وكذا: (استعينوا على النساء بالعري) . أقول: ومثل هذه الأحاديث المفتراة حديث: (لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة وعلموهن المغزلة وسورة النور) رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي كان يضع الحديث. وقد أخرجه الحاكم من غير طريقه وقال: إنه صحيح الإسناد. وما أسرع الحاكم في الحكم بالتصحيح، وتعقبه الحافظ ابن حجر في أطراقه فقال: إن في إسناد الحاكم عبد الوهاب بن الضحاك وهو متروك. *** الاقتداء بالمخالف وطهارة الكلب (س4) السيد محمد طه في بربر: ما قولكم دام فضلكم في رجل شافعي المذهب اقتدى بإمام مالكي توضأ بماء دون القلتين ولغ فيه كلب فهل هذه القدوة صحيحة؟ وما حكم هذا الماء المنجس بفم الكلب؟ (ج) إن المسائل الاجتهادية يعذر فيها كل مجتهد بما يراه ولا يجوز أن يكون اختلاف الرأي سببًا في التفريق بين المسلمين، فإن كنت تتصور أن الإمام الشافعي يحرم الاقتداء بشيخه الإمام مالك فحرم أنت الاقتداء بمن يتبع مالكًا اتباعًا للشافعي، ومعاذ الله أن يظن مسلم ذلك في الأئمة بعد قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، نعم، إن للفقهاء في هذه المسألة قولين مصححين: أحدهما الذي قلنا، والثاني أن القدوة غير صحيحة ورجحه بعض المتأخرين سامحهم الله تعالى والحق ما قلنا. وأما الماء الذي ولغ فيه كلب فقد ذهب الشافعي إلى نجاسته لما ورد من الأمر بغسل الإناء وتتريبه وغيره يقول بأن الأمر بالغسل سبع مرات مع التتريب ليس لأجل النجاسة؛ إذ المقصود من غسل النجاسة إزالتها وليس للولوغ تأثير تتوقف إزالته على التسبيع والتتريب، ومال بعضهم إلى أن الأمر تعبدي وذهب بعض الصوفية إلى أن له سببًا معنويًّا وهو أن شراب سؤره يقسي القلب، ولا يبعد أن يكون السبب هو التوقّي من داء الكلب القتّال. ومهما كان السبب فلا يجب على المسلم أكثر مما ورد في الحديث؛ لأنه إذا لم يظهر السبب يكون الأمر تعبّديًّا لا يقاس عليه وإن ظهر السبب وقفنا عنده لا نتعداه. *** أجرة التعدية (س5) ومنه: إذا كان الحاكم مستوليًا على البحر أو النهر وأذن للناس بالعبور على المراكب ونحوها من ناحية إلى أخرى وجعل على أصحاب المراكب ضريبة فهل يجوز للمسلم أن يتخذ له مركبًا يعبر الناس عليه والبهائم بالأجرة؟ (ج) : نعم.

مأثرة للمنشاوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مأثرة للمنشاوي أحمد باشا المنشاوي من أكبر المصريين ثروة ووجاهة وقد وجه في هذه الأيام نفسه إلى التبرع وحبس الأراضي على معاهد العلم فأوقف على مدرسة محمد علي الصناعية مائتي فدان، اشترط أن تسلم إليها بعد إنشائها بالفعل. وأوقف ثمانين فدانًا على طلاب العلم في الجامع الأحمدي بطنطا وتبرع بالقسم السفلي من دار له فسيحة في طنطا لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية فيها. ويقال أنه عزم على إنشاء مدرسة للبنات في القسم العلوي ويا حبّذا لو أنفذ هذا وعهد بإدارتها إلى الجمعية الخيرية. بل يتحدثون عنه بما هو أعظم من هذا يتحدثون عنه بأنه عازم على إنشاء مدرسة كلية وهذا هو العمل العظيم الذي نحلم به في الليل ونتمناه في النهار ونرى أن سعادة هذا القطر متوقفة عليه وأن الأمة الإسلامية بمجموعها لم تستعد في مصر للقيام به تمام الاستعداد. فإذا وفق الله هذا المثري الكبير لإنفاذه فلنا أن نسميه محيي مصر وعظيمها وصاحب الفضل الكبير عليها.

أمالي دينية الدرس ـ 39 ـ آية الله الكبرى (القرآن)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العقائد من الأمالي الدينية (الدرس 39) آية الله الكبرى (القرآن) فصل [*] (م109) : (هذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها ولا مرية ومن الوجوه البينة في إعجازه من غير هذه الوجوه آي وردت بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا على ذلك، كقوله لليهود: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً} (البقرة: 94) ، الآية قال أبو إسحاق الزجَّاج: في هذه الآية أعظم حجة وأظهر دلالة على صحة الرسالة لأنه قال: (فتمنوا الموت) وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدًا فلم يتمنه واحد منهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لا يقوله رجل منهم إلا غص بريقه) يعني يموت مكانه، فصرفهم الله عن تمنيه وجزعهم ليظهر صدق رسوله وصحة ما أوحي إليه إذ لم يتمنه أحد منهم، وكانوا على تكذيبه أحرص لو قدروا ولكن الله يفعل ما يريد، فظهرت بذلك معجزته، وبانت حجته. قال أبو محمد الأصيلي: من أعجب أمرهم أنه لا يوجد منهم جماعة ولا واحد من يوم أمر الله بذلك نبيه يقدم عليه ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد لمن أراد أن يمتحنه منهم. وكذلك آية المباهلة من هذا المعني حيث وفد عليه أساقفة نجران وأَبَوا الإسلام فأنزل الله تعالى آية المباهلة بقوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ 000} (آل عمران: 61) الآية فامتنعوا منها ورضوا بأداء الجزية وذلك أن (العاقب) عظيمهم قال لهم: قد علمتم أنه نبي وأنه ما لاعن قومًا نبي قط فبقي كبيرهم ولا صغيرهم، ومثله قوله: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} (البقرة: 23) إلى قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا} (البقرة: 24) ، فأخبرهم أنهم لا يفعلون كما كان [1] وهذه الآية أدخل في باب الإخبار عن الغيب ولكن فيها من التعجيز ما في التي قبلها. * * * فصل (م110) : ومنها الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأسماعهم عند سماعه والهيبة التي تعتريهم عند تلاوته لقوة حاله وإنافة خطره، وهي على المكذبين به أعظم حتى كانوا يستثقلون سماعه ويزيدهم نفورًا - كما قال تعالى - ويودون انقطاعه لكراهتهم له، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن صعب مستصعب على من كره وهو الحكم) وأما المؤمن فلا تزال روعته به وهيبته إيَّاه مع تلاوته تُولِّيه انجذابًا وتكسبه هشاشة لميل قلبه إليه وتصديقه به. قال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23) ، وقال: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ 000} (الحشر: 21) الآية، ويدل على أن هذا شيء خص به أنه يعتري من لا يفهم معانيه ولا يعلم تفاسيره، كما روي عن نصراني أنه مر بقارئ فوقف يبكي فقيل له: مِمَّ بكيت؟ قال: للشجا والنظم، وهذه الروعة قد اعترت جماعة قبل الإسلام وبعده، فمنهم من أسلم لها لأول وهلة وآمن به ومنهم من كفر. فحكي في الصحيح عن جبير بن مطعم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور فلما بلغ هذه الآية: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ 000} (الطور: 35) إلى قوله {000 المُسَيْطِرُونَ} (الطور: 37) كاد قلبي أن يطير للإسلام. وفي رواية: وذلك أول ما وقر الإسلام في قلبي. وعن عتبة بن ربيعة أنه كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلاف قومه فتلى عليه (حم فصلت) إلى قوله: {000 صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت: 13) فأمسك عتبة بيده على فِي النبي صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم أن يكف. وفي رواية: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ وعتبة مُصغٍ مُلقٍ يديه خلف ظهره معتمد عليهما حتى انتهى إلى السجدة فسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقام عتبة لا يدري بما يراجعه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قومه حتى أتوه فاعتذر لهم وقال: والله لقد كلمني بكلام والله ما سمعت أذناي بمثله قط فما دريت ما أقول له. وقد حكي عن غير واحد ممن رام معارضته أنه اعترته روعة وهيبة كف بها عن ذلك فحكي أن ابن المقفع طلب ذلك ورامه وشرع فيه فمر بصبي يقرأ: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} (هود: 44) ، فرجع فمحا ما عمل وقال: (أشهد أن هذا لا يعارَض وما هو من كلام البشر) ، وكان من أفصح أهل وقته. وكان يحيى بن حكم الغزال بليغ الأندلس في زمنه فحكي أنه رام شيئًا من هذا فنظر في سورة الإخلاص ليحذو على مثالها وينسج بزعمه على منوالها (قال) : فاعترته خشية ورقّة حملته على التوبة والإنابة. * * * فصل (م111) : ومن وجوه إعجازه المعدود كونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله بحفظه فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) وقال {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) ، الآية وسائر معجزات الأنبياء قد انقضت بانقضاء أوقاتها فلم يبقَ إلا خبرها. والقرآن العزيز الباهرة آياته الظاهرة معجزاته على ما كان عليه اليوم مدة خمس مائة عام وخمس وثلاثين سنة لأول نزوله إلى وقتنا هذا حجته قاهرة ومعارضته ممتنعة والأعصار كلها طافحة بأهل البيان حملة علم اللسان وأئمة البلاغة وفرسان الكلام وجهابذة البراعة، والملحد فيهم كثير، والمعادي للشرع عتيد. فما منهم من أتى بشيء يؤثر في معارضته. ولا ألف كلمتين في مناقضته ولا قدر فيه على مطعن صحيح. ولا قدح المتكلف من ذهنه في ذلك إلا بزند شحيح بل المأثور عن كل من رام ذلك إلقاؤه في العجز بيديه، والنكوص على عقبيه. * * * فصل (م112) : وقد عد جماعة من الأئمة ومقلدي الأمة في إعجازه وجوهًا كثيرة منها أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة وترديده يوجب له محبة. لا يزال غضًّا طريًّا، وغيره من الكلام ولو بلغ في الحسن والبلاغة مبلغه يمل مع الترديد ويعادَى إذا أعيد، وكتابنا يُستلذ به في الخلوات ويؤنس بتلاوته في الأزمات، وسواه من الكتب لا يوجد فيها ذلك، حتى أحدث أصحابها لحونًا وطرقًا يستجلبون بتلك اللحون تنشيطهم على قراءتها، ولهذا وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عبره، ولا تفنى عجائبه، هو الفصل ليس بالهزل ولا يشبع منه العلماء ولا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة هو الذي لم تنتهِ الجن حين سمعته أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ 000} (الجن: 1-2) . (م 113) : ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوته خاصة بمعرفتها ولا القيام بها ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم. ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع والتنبيه على طريق الحجج العقلية، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة بينة سهلة الألفاظ موجزه المقاصد. رام المتحذلقون بعده أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا عليها. كقوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} (يس: 81) ، {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (يس: 79) ، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) إلى ما حواه من علوم السير، وأنباء الأمم، والمواعظ والحكم. وأخبار الدار الآخرة. ومحاسن الآداب والشيم. قال الله جل اسمه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38) ، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ 000} (النحل: 89) ، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} (الروم: 58) وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله أنزل القرآن آمرًا وزاجرًا وسنة خالية ومثلاً مضروبًا، فيه نبأكم وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول الرد. ولا تنقضي عجائبه، هو الحق ليس بالهزل، من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن خاصم به فلج ومن قسم به أقسط ومن عمل به أجر ومن تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم والنور المبين والصراط المستقيم وحبل الله المتين والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد) ونحوه عن ابن مسعود وقال فيه: (ولا يختلف ولا يتشانأ [2] فيه نبأ الأولين والآخرين) وفي الحديث قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: (إني منزل عليك توراة حديثة، تفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، فيها ينابيع العلم، وفهم الحكمة وربيع القلوب) وعن كعب: عليكم بالقرآن فإنه فهم العقول ونور الحكمة، وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) وقال: {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى} (آل عمران: 138) الآية فجمع فيه مع وجازة ألفاظه وجوامع كلمه أضعاف ما في الكتب قبله التي ألفاظها على الضِّعف منه مرات. (م114) : ومنها جمعه فيه بين الدليل ومدلوله وذلك أنه احتج بنظم القرآن وحسن وصفه وإيجازه وبلاغته وأثناء هذه البلاغة أمره ونهيه ووعده ووعيده، فالتالي له يفهم موضع الحجة والتكليف معًا من كلام واحد وسورة منفردة. (م115) : ومنها أن جعله في حيز المنظوم الذي لم يعهد ولم يكن في حيز المنثور؛ لأن المنظوم أسهل على النفوس وأوعى للقلوب وأسمح في الآذان وأحلى على الأفهام. فالناس إليه أميل والأهواء إليه أسرع. (م116) : ومنها تيسيره تعالى حفظه لمتعلميه وتقريبه على متحفظيه. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلْذِكْرِ} (القمر: 17) وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم فكيف الجماعة على مرور السنين عليهم والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة [3] . (م117) : ومنها مشاكلة بعض أجزائه بعضًا وحسن ائتلاف أنواعه والتئام أقسامها. وحسن التخلص من قصة إلى أخرى والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهي وخبر واستخبار ووعد ووعيد وإثبات نبوة وتوحيد وتفريد وترغيب وترهيب إلى غير ذلك من فوائده دون خلل يتخلل فصوله. والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوته. ولانت جزالته. وقل رونقه وتقلقلت ألفاظه. فتأمل أول سورة (ص) وما جمع فيها من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم وما ذكر من تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتعجبهم مما أتى به، والخبر عن اجتماع ملئهم على الكفر، وما ظهر من الحسد في كلامهم، وتعجيزهم وتوهينهم ووعيدهم بخزي الدنيا والآخرة. وتكذيب الأمم قبلهم وإهلاك الله لهم ووعيد هؤلاء مثل مصابهم، وتصبير النبي صلى الله عليه وسلم على أذاهم. وتسليته بكل ما تقدم ذكره، ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء، كل هذا في أوجز كلام وأحسن نظام. ومنه الجملة الكثيرة التي انطوت عليها الكلمات القليلة وهذا كله وكثير مما ذكرنا، أنه ذكر في إعجاز القرآن إلى وجوه كثيرة لم نذكرها إذ أكثرها داخل في باب بلاغته فلا نحب أن يعد فنًّا منفردًا في إعجازه إلا في باب تفصيل فنون البلاغة. وكذلك كثير مما قدمنا ذكره عنه يعد في خواصه وفضائله لا إعجازه. وحقيقة الإعجا

شبهات النصارى وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات النصارى وحجج المسلمين الشبهة الثانية على القرآن زعمهم التعارض في كلامه استشهد ذلك الكاتب على سخافته هذه بأمور نأتي عليها واحدة واحدة ونبين الصواب كما فعلنا في الشبهة الأولى: (الشاهد الأول) زعم أن وجود الآيات المتشابهات فيه ينافي كونه مبينًا. وهذا دليل على أنه لم يفهم معنى المتشابهات ولا معنى البيان فهذا المسيح عليه السلام يزعم المنتقد أنه إله وقد كان الكثير من كلامه مع تلاميذه وهم الراسخون في دينه - غير مفهوم لهم فهل يرى هذا دليلاً على عجز مقام الألوهية عن البيان أم يستدل بالشيء في مكان ويترك الاستدلال به في مكان؟ ولم ينقل عن الراسخين من الصحابة شئ من الاشتباه في القرآن كما ينقل النصارى عن تلاميذ المسيح (رضي الله عن الجميع) . المتشابهات في القرآن آيات تشابهت وجوه دلالتها على معانيها القريبة والبعيدة حتى ليتسنى لأصحاب الزيغ تأويلها بالباطل وصرفها إلى غير الصواب، وهذا أمر لا مندوحة عنه؛ لأنه ضروري في ذاته وذلك أن أهم ما يجيء به الوحي هو العلم بالله تعالى وبعالم الغيب لترتفع بذلك مدارك العقول وتعلو همم النفوس، ومن المعلوم أن الناس وضعوا ألفاظ اللغات لما يعرفون من المعاني في هذا العالم فيتعين على من يريد إخبارهم بشيء مما لا يعرفون أن يستعير بعض ألفاظهم الموضوعة لما يعرفون وينصب القرائن لمنع الاشتباه، ولا شك أن أفهام الناس تختلف في فهم القرائن وأن الذي يريد الفتنة يسهل عليه أن يتبع ما تشابه من القول لأن له معنى يدل على ما وضع له في الأصل ومعنى آخر تناوله بالكناية أو الاستعارة وغيرها من ضروب التجوز وهو المراد فيحمله على غير المراد ويضل به الناس فإذا أطلق النبي على الله تعالى لفظ (الأب) في مقام بيان الرحمة والعناية حمله أهل الزيغ على الأبوة الحقيقية وقالوا: إنه أبوه الذي ولده، ويصرفون من يفتنونهم عن القرائن العقلية التي تحيل الأبوة الحقيقية على الله تعالى، والقرائن القولية التي تطلق لفظ الأب على غير النبي كقول المسيح عليه السلام - إن صح النقل -: (إني ذاهب إلى أبي وأبيكم) وكذلك يقال في لفظ الابن إذا أطلقه النبي على نفسه يحمله أهل الزيغ على البنوة الحقيقية مع قيام القرائن العقلية واللفظية على إحالته كسابقه، ومن ذلك إطلاقه على صانعي السلام فيما ينقلونه عن المسيح عليه السلام. وإذا أراد المعترض أن يعرف الفرق بين بيان القرآن وبيان الإنجيل وبين أتباعهما، فلينظر إلى أثر المتشابهات في الأمتين، يجد أن قومه (النصارى) كلهم قد اتبعوا ما تشابه مما حفظوا من كتابهم ابتغاءَ تأويله. وأن المسلمين قد اتبعوا المحكم وردوا المتشابه إليه فجمعوا بين العقل والنقل إلا فريقًا منهم لا يقام له وزن كالباطنية والمجسمة. (الشاهد الثاني) زعم أن قوله تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} (الأعراف: 28) ، وقوله: عز وجل في سورة الأنعام: {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) يناقضان قوله جل شأنه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) قال: لأنه أثبت فيها الأمر بالفسق وهو أمر بالفحشاء، وإهلاك أهل قرية لأن مترفيهم فسقوا فيها كما أمروا ظلم. لا أقول إن صاحب هذا القول سيئ الفهم إلى هذه الدرجة ولكنني أرجح أنه متعمد للتحريف فإن من له أدنى شمة من فهم اللغة والعقل لا يستجيز أن يعمد إلى قول سيد في عبده: إنني أمرت عبدي فخرج عن طاعتي فعاقبته، فيفسره بأنه أمره بالخروج عن طاعته فخرج فعاقبه على الامتثال. الفسوق في اللغة: الخروج عن الشيء يقال: فسقت الرطبة عن قشرها وفسقت الفأرة عن جحرها، والفسوق عن أمر الله هو الخروج عنه وعدم امتثاله. أما حذف معمول (أمرنا) فهو ما تقتضيه البلاغة هنا؛ لأن المقام مقام بيان جزاء الفسوق عن أمر الله تعالى أيًّا كان، لا بيان ضروب التكليفات الشرعية، وما يأمر الله تعالى به معروف بالإجمال. ولا يخطر على بال عاقل أن يقدِّر أحد هذا المعمول بنقيض ما تقضي به الضرورة فيقول: إن الله قال أنه أمر هؤلاء الناس ولم يقل بماذا أمرهم، ونقول نحن: إنه أمرهم بالفسوق! ! هذا غير معقول في نفسه ثم إن العبارة تنافيه بذاتها فإن الفسوق يقتضي أن يكون هناك شئ يفسق عنه، فإذا كان الأمر متعلقًا بالفسوق نفسه يكون أمرًا بلا شيء، مثاله أن تقول لرجل: أمرتك بأن تخرج، ولم يكن في شيء يخرج عنه حين أمرته لا حسي كبيت ولا معنوي كعمل. فإن قيل: إن الأمر في الآية ينصرف إلى الفسوق عما هم فيه مما يختص بهم في الجملة، نقول إن ما كانوا فيه هو الترف فيكون معنى قوله في الآية (ففسقوا فيها) أنهم خرجوا من الترف ورجعوا إلى القصد وهذا نقيض ما تدل عليه الآية بالبداهة وهو أن الاستمرار على الترف بعد الأمر بما جرت عادة الله تعالى أن ينزل وحيه به من الأمر بالقصد والاعتدال في الأخلاق والأعمال هو الذي يكون سبب التدمير، وينتهي بالآثم إلى شر مصير. هذا الذي قلناه متبادر إذا تجلى لأي عامي في لغته يتيسر له أن يفهمه بلا توقف، وليس هو من المتشابهات التي تبتغى بها الفتنة بالتأويل والتحريف. وللآيات وراء هذا معانٍ عالية، وفيها معارف سامية، وهي أرفع من أن يدركها ذلك الطرف الحسير، أو يتطاول إليها ذلك الفهم القصير، ذلك أن آية (الأنعام) وآية (الإسراء) تهديان إلى أنفع سنن الله في نظام نوع الإنسان ونواميس الاجتماع البشري. تدل آية (الأنعام) على أن الأمم لا تهلك بمجرد التلبس بظلم تكون عليه مادام أهلها غافلين عما يجب عليهم الأخذ به من ضده، لا ينذرهم به منذر ولا يدعوهم إلى الحق داعٍ. فإذا جاء النذير وقذف بحقه على باطلهم وبعدله على ظلمهم يدمغه؛ فإذا هو زاهق وإذا بالأمة في عداد الهالكين وفي آية أخرى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ؛ والمراد بالظلم: الشرك، كما روي من حديث ابن مسعود مرفوعًا عن أحمد والبخاري ومسلم والترمذي في تفسير قوله تعالى في سورة الأنعام: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} (الأنعام: 82) يعني أن الأمم لا تهلك وإن كانت مشركة بالله تعالى مادامت مُصلحة في أعمالها وأحكامها. ويطابق هذا قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً 0000} (الإسراء: 16) الآية، فهذه الآيات تعلمنا أن سعادة الأمم أو شقاءها في هذه الحياة إنما هو نتيجة سيرتها في أعمالها. لا أن السعادة هبة إلهية على ما لا يُعلم سره والشقاوة نقمة إلهية على ما جُهل أمره، وتعلمنا أيضًا أن الباطل إنما يطول أمده وتُبطئ نتيجته في الإهلاك، إذا لم يكن هنالك حق يصادمه. ومن هنا أخذ الأستاذ الإمام كلمته الحكيمة: إنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه، ومن هنا نفهم السر في استيلاء الإفرنج على الأمم الشرقية وهو أنهم مصلحون في أعمالهم، وقد أوضحنا هذه المسائل من قبل في مقالات متعددة. وحسبنا هذا في الرد على شبهة المحرفين. (الشاهد الثالث) زعم أن قوله تعالى في فرعون {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} (الإسراء: 103) يناقض قوله عز وجل فيه: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ، وقد شنع هنا على المسلمين أنهم أوَّلوا الآية وهو يزعم أنه نجا ببدنه وروحه وإن كانت الآية ناطقة بأن بدنه هو الذي ينجو. ومحل الشبهة عنده في لفظ (ننجيك) فإن ظهور الجثة بعد الموت بالغرق لا يسمى تنجية، وفاته أن هذا التعبير للتهكم على حد {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (آل عمران: 21) ومن تتبع ضروب التجوز في كلام البلغاء وحاول حملها على الحقيقة - وهي لا تصح عليها - يمكنه أن يموه بأن أكثر الكلام البليغ كذب، على أن الذي ينجو من الغرق يطلق عليه اسم الغريق فلو فرضنا أن الله تعالى نجى فرعون من الغرق الذي ألمَّ به وبقومه لما كان قوله (أغرقناه) مناقضًا لقوله (ننجيك) فقد يغرق إنسان إنسانًا ويريه خطر الهلاك ثم ينتشله وينجيه، ولكن هذا ليس مرادًا هنا. الحكمة في ظهور بدن فرعون موسى بعد الغرق ظاهرة فإنه استعبد الناس وادعى الألوهية بما موّه على الجاهلين بسحره. ولو لم يظهر بدنه لادعى المغرورون فيه ما يدعي عبَدَة الحاكم العُبَيدي إلى اليوم - من أنه قد عرج إلى عالم أعلى. وارتقى إلى مقام أسمى. فهذا هو معنى قوله تعالى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} (يونس: 92) ولو نجا بروحه وبدنه لما كان في ذلك آية على انتقام الله منه لكفره بنبيه وإيذائه لقومه. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الكرامات والخوارق ـ 13

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق المقالة الثالثة عشرة في أنواع الخوارق وضروب التأويل (النوع الثالث: انفلاق البحر وجفافه والمشي على الماء) قال السبكي: وكل ذلك كثير وقد اتفق مثله لشيخ الإسلام وسيد المتأخرين تقي الدين بن دقيق العيد، وأقول: يا ليت لنا من هذا الكثير الذي يدعيه واقعة واحدة منقولة بالتواتر الصحيح المستوفي الشروط التي يذكرها السبكي في جمع الجوامع الذي ألفه لكد الأفهام، لا لتُراعَى أحكامه في مثل هذا المقام. وفي خاتمة الفتاوى لابن حجر الهيتمي قال في الرسالة عن بعضهم: كنا في مركب فمات رجل منا فأخذنا في جهازه فلما أردنا أن نلقيه في البحر جف، فحفرنا له قبرًا ودفناه فارتفع الماء والمركب وسرنا. وكل ما في المباحث حكايات عن مثل هذا البعض المجهول وأصحاب المراكب المجهولين. ولو حكَّمنا فيها أصول المسلمين لعددناها من الموضوعات أو الواهيات، وإن رويت على أنها من المعجزات لانقطاع أسانيدها، وجهالة رواتها، وأضف إلى ذلك هنا شبهة الهوى ومخالفة شروطهم في الكرامة، فقد علمت ما قاله السبكي من اشتراط الضرورة والخفاء وأين هما مما نحن فيه؟ نعم، إن قبول هذه الحكايات يليق بأهل دين لا سند لهم في أصوله ولا في فروعه، وإنما هي الثقة العمياء بأن روح القدس حل في رؤسائهم وقدّيسيهم فعملوا العجائب، ووجب قبول كل ما يؤثر عنهم وإن تناقضت قضاياه، واستحال مغزاه. إذا ثبت انفلاق البحر ثبوتًا قطعيًّا فلا شك أنه يكون من الخوارق التي يتعذر تأويلها وتعليلها. وأما المشي على الماء فيحتمل التلبيس والتأويل بحسب الأشخاص والمواقع والأزمنة، ففي بعض البلاد يجمد ماء النهر لشدة البرد مدة ثم يسيل، ويقال أن الإفرنج اخترعوا أحذية يمشون بها على الماء. بل الذي يعول عليه حقيقة في تعليل المشي على الماء إذا فرضنا أنه ثبت ثبوتًا قطعيًّا لا يحتمل التأويل هو غلبة الروحانية التي يخف معها الجسد خفة عجيبة على نحو ما يحكونه عن المشتغلين باستحضار الأرواح في أوربا، فإن لهم في ذلك حكايات تقرب من بعض حكايات الصوفية، على أن هؤلاء إنما يوجهون نفوسهم إلى الأرواح يكلمونها ويرونها ولم يعنوا بأن يكونوا هم روحانيين كما يفعل الصوفية في رياضاتهم. نعم، إن من الناس من لا يصدق ما ينقل عن هؤلاء وعن أولئك ومن الناس من يصدق لأن تشابه الحوادث وتصور العلة العامة لها يقربها من العقل. وما نبغي إثبات ما ينقل ولا نفيه وإنما نبغي إقناع من يصدق لثقته بالناقلين أو من يشاهد شيئًا من أعمال الحاضرين بأن ذلك غير خارج عن سنن الله تعالى في الخلق وأنه ليس من الخوارق الحقيقية وإنما هو من الخوارق الإضافية أي التي تعد خوارق بالإضافة إلى من لا يعرف طريقها كالأعمال الصناعية التي لا يعرفها إلا بعض الناس. أرأيت إذا تعلم بعض الناس التخاطب (بتلغراف ماركوني) الذي يكون التخاطب به بدون واسطة الأسلاك وذهبوا إلى بلد أو مملكة وجعلوا يتخاطبون به على البعد الشاسع، ألا يعد ذلك الناس منهم أكبر الخوارق؟ وقد ذكروا أن الواسطة الذي يحضر الروح يخف وزنه مدة حضور الروح إلى نصف ما كان ومن كان بهذه الخفة يمشي على الماء بسهولة، وسيأتي أن بعضهم كان يطير في الهواء، ونقل مثل هذا أيضًا عن بعض الفلاسفة وسنوسع القول في الأمور الروحية في موضع آخر. (النوع الرابع: انقلاب الأعيان) قال السبكي: حكي أن الشيخ عيسي الهتار اليمني أرسل إليه شخص مستهزئ إناءين ممتلئين خمرًا فصب أحدهما في الآخر وقال (بسم الله كلوا) فإذا هو سمن لم يُر مثل لونه وريحه (قال) وقد أكثروا في ذكر نظير هذه الحكايات. أقول: لا يوجد نوع من الأنواع يأتي فيه التلبيس والشعوذة مثل هذا النوع ولذلك ترى أكثر أعمال المشعوذين منه، وهو على ضربين: أحدهما الخفة والمهارة في إخفاء شيء وإحضار غيره. وثانيهما: الاستعانة بالأعمال الكيماوية. فمن غرائبهم في الضرب الأول أن أحدهم يأخذ ماءً من البحر في كوب ويعطيه آخر فيشربه، فإذا هو شراب سكري. والحيلة فيه أن يكون تحت إبط المشعوذ أو الدجال (مدعي الولاية) إناء من الجلد أو الكاوتشتك له أنبوبة دقيقة تصل إلى يده فإذا غمس الكوب في البحر يوهم الرائي أنه ملأه ماءً - وما ملأه - ويفرغ فيه الشراب من الأنبوبة بلطف، وقد أخبرني بعض الناس أن رجلاً من المعتقدين تناول كوبًا من زيت البترول وسقاه فإذا هو ماء فيه سخونة وما جاءت السخونة إلا من حرارة إبطه حيث كان الماء. ومن الضرب الثاني أن بعض الدجاجلة الفسّاق الذين يخدعون الناس بانتحال الكرامات أخذ أمام بعض العامة كوبًا زجاجيًّا فيه شيء من الخمر فوضعه على فيه، فإذا هو في أعينهم لبن أبيض. والحيلة فيه أن الخمر التي كانت فيه هي من النوع الذي يسمونه (عرقي الزبيب) ولونها كالماء حتى إذا مزجت بالماء ابيضت وصار لونها كلون اللبن الممزوج وقد كان الماء في فم الدجال فمجه في الكأس بلطف. ولو أردنا أن نملأ المنار بمثل هذه الوقائع التي تستغرب قبل كشف الستار عن وجه التلبيس فيها لفعلنا، فنقل أمثالها إذا صح سنده فهناك ما يمنع من التصديق بمتنه لاحتمال دخول الغش والتلبيس فيه على الناقلين، وأنت ترى أن هذا النوع كان من أبواب الفسق والدجل والشعوذة والحيل. (النوع الخامس: انزواء الأرض أو طيّها) قال السبكي: حكوا أن بعض الأولياء كان في جامع طرسوس فاشتاق إلى زيارة الحرم فأدخل رأسه في جيبه ثم أخرجه وهو في الحرم (قال) : والقدر المشترك من الحكايات في هذا النوع بالغ مبلغ التواتر ولا ينكره إلا مباهت. أقول: إن السبكي تحمس هنا فرجع إلى كتابه جمع الجوامع وتقلد حججه في الاستدلال فزعم أن الحكايات في انزواء الأرض متواترة تواترًا معنويًّا، أي أن كثرتها تدل على أن لها أصلاً وإن كانت كل حكاية منها لم تثبت بخصوصها وستعلم ما فيه، واعلم أنهم لا يقصدون بانزواء الأرض وطيها أن أطرافها تجتمع وتطوى كالثوب، وإنما يعنون بذلك قطع المسافة في زمن قصير وهو مجاز صحيح واستعمله الشعراء وغيرهم قال: وكنت إذا ما جئت ليلى أزورها ... أرى الأرض تُطوى لي ويدنو بعيدها وما ذكره السبكي من حكاية ولي جامع طرسوس ليس من هذا النوع وإنما تلك زيارة خيالية أو روحانية لأنه لم يكن فيها مسير وإنما قبع ذلك الولي في مكانه كالقنفذ فرأى نفسه في الحرم كما يرى ذلك في الحلم، فإذا كان مثل صاحب جمع الجوامع قد اشتبه عليه الأمر فعدَّ في هذا النوع ما ليس منه فكيف تثق بسائر الناقلين لهذه الحكايات وهم في العادة الغالبة من جهلة العوام؟ ! وإذا لم تكن الوقائع صحيحة بالمرة فكيف يتألف من غير الصحيح دليل صحيح فنقول: إن في مجموع الحكايات تواترًا معنويًّا؟ ! ثم إن في أنباء قطع المسافات البعيدة في الزمن القريب مواضع للتلبيس والإيهام؛ فإن الحكايات في ذلك تؤْثر عن السائحين المتجردين، وأكثر هؤلاء خفاف سراع أهون سيرهم الوجيف، فإذا مر أحدهم بمكان ثم رؤي في مكان آخر لا يكفي الزمن لبلوغه إياه في السير المعتاد يتناقل الناس هذا ويعدونه كرامة ويبالغون فيه ويغلون وينتشر الخبر لغرام الناس بنقل مثله. وعلى هذا النحو تكثر هذه الأخبار حتى يدعي مثل التاج السبكي أنها كرامة متواترة تواترًا معنويًّا. ويدعي من لا يفهم مثله معنى التواتر أنها متواترة تواترًا حقيقيًّا، وينسى هؤلاء أنه يوجد في البوادي من يسابق عتاق الخيل وعشار النياق فيسبقها. والناس يعلمون أن هذا النوع من المعاول التي هدمت الدين، فإن كثيرًا من الدجالين الذين يدعون الولاية يتركون الصلاة ويزعمون أنهم لا يصلون إلا في حرم مكة فيصدقهم الجاهلون المخدوعون. هذه إشارة إلى طريق التأويل والتلبيس التي تقل معها الثقة بالنقل. وأما التعليل بعد الاختبار الصحيح والثقة التامة بأن إنسانًا انتقل بجسمه من قطر إلى آخر في زمن قصير لا يكفي لبلوغه إياه وإن كان أسرع من العتاق السبق، والجياد القرّح فهو أن يقال: إن ذلك المنتقل من الروحانيين الذين تحمل أرواحهم أبدانهم فتمر بها مر النسيم، وذلك داخل في السنن الروحية. وربما تكون في يوم من الأيام مشهورة جلية فيعذر من كان في غير هذه الأوقات ينظمها في سمط الخوارق والكرامات ويظهر فضل الدين بأن الروح والنفس لها وجود مستقل وسنن غير سنن الحس. ((يتبع بمقال تالٍ))

الإنجيل الصحيح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإنجيل الصحيح (النبذة الثالثة من مقدمة كتاب الأناجيل للفيلسوف تولستوي) على هذا المنوال جرت تلك الديانات الصادرة عن الروح القدس وكل واحدة منها تؤكد لنا أن ختام الوحي ونسخ الديانات السابقة بطريقة حاسمة قاطعة مما تقضي بهما كتابة الرسول بولس أو قرارات بعض المجامع أو أوامر الباباوات أو الإلهام الشخصي لبعض الناس، وكلها تحاول بلا طائل الاستناد في آخر الأمر على الوحي الهابط على آباء الكنيسة أو على (الكاتشزم) الذي ألفه لوثير أو فيلارتيوس وتأبى أن تعنون نِحلتها باسم أولئك المشيدين لدعائمها وتعاند في القول بأن المسيح هو الذي أوحى إليهم بهذه التعاليم وتصر على ذلك إصرارًا لو صدقناها فيه لذهبنا معها إلى أن المسيح نفسه هو الذي أوحي إلى أصحابها بأنه افتدى بني الإنسان بعد سقوطهم بسبب خطيئة آدم وأن الله يتألف من ثلاثة أشخاص وأن الروح القدس هبط على الحواريين وأن المسح باليد (في تناول الأسرار) نقله إلى القسيسين وأن تقديس الأرواح سبع مرات مما لابد منه للحياة المسيحية وغير ذلك. وهم يحملوننا على الظن بأن هذه الأمور كلها من تعاليم المسيح، على أننا إذا بحثنا في تعاليم المسيح لا نجد فيها أقل إشارة إليها ولا إلى بعضها. لا جرم أن الكنائس التي تقول بهذه الأشياء ينبغي لها أن تجهر بأنها من تعاليم الروح القدس وليست من تعليم المسيح، فإنما المسيحيون هم الذين يعتبرون الوحي الأخير الذي جاء به المسيح كما هو وارد في الأناجيل طبقًا لما قاله المسيح: لن يكون لكم أستاذ غيري [1] . ربما ظن بعض الناس أن هذه المسألة ليست بذات بال وأنها من الأمور التي لا تستحق البحث فيها ولكن مما لا مراء فيه أن القوم قد أهملوا النظر إليها بعين الاعتبار إلى يومنا هذا، وبدلاً من بذل نهاية المجهود في تنقية تعليم المسيح من شوائب علاقته الصناعية بالعهد القديم التي لا ترى ما يزكيها ويؤيدها، وتصفيته من تلك الإضافات التي ألصقتها به الأهواء باسم الروح القدس - لا يزال القوم حتى يومنا هذا يوجهون همتهم كلها إلى تقوية هذه الروابط التي لا أصل لها. ومن غرائب المشاهدات أننا نرى الاتفاق سائدًا في هذه المسألة بين الخصمين المتعاندين وأعني بهما المتحزبين للكنائس وأرباب الأفكار الحرة من أصحاب التاريخ. فأما أحزاب الكنائس الذين يقولون بأن المسيح هو ثاني شخص في الثالوث فلا يريدون أن يفهموا تعليمه إلا تطبيقه على الوحي الموضوع على لسان ثالث الثلاثة (أي الروح القدس الذي نطق بلسان الرؤساء) كما هو وارد بالعهد القديم وفي أوامر المجامع وقرارات آباء الكنيسة. وتراهم ينادون ويبشرون بأمور هي منتهى الحماقة ويؤكدون مع ذلك بأنها من دين المسيح. وأما الآخرون - أي أولئك الذين يمتنعون من اعتبار المسيح إلهًا - فهم أيضًا يدركون عقيدته، لا كما أتى هو نفسه بها ولكن على الوجه الذي صوّرها فيه بولس وغيره من المفسرين، فأولئك العلماء مع اعتبارهم المسيح فردًا من أفراد البشر لا إلهًا يحرمونه من الحق الطبيعي الذي لكل واحد من الناس، ألا وهو أن يكون مسؤولاً عن أقواله فقط وغير مؤاخَذ بما يقوله عنه غيره. وحينما حاولوا إيضاح تعليم المسيح نسبوا إليه أفكارًا لم تخطر قط على باله وهو في قيد الحياة. فإن القائمين بهذا المذهب وفي مقدمتهم (رنان) المحبوب عند الجمهور لم يروا وجهًا لإجهاد أنفسهم في التمييز بين ما قال به المسيح وبين ما نسبه إليه مفسرو كلامه زورًا وبهتانًا. ولعدم زيادتهم على الكنائس في الاهتمام بالتعمق في فهم تعليم المسيح الصحيح انساقوا إلى البحث في حوادث حياته وفي الحوادث التاريخية التي وقعت في عصره لمعرفة أسباب نفوذه وشيوع أفكاره. على أن هذا المبحث هو كما يظهر آخر خطأ يجوز للمؤرخين ارتكابه فإن المسألة التي كان عليهم السعي في حلها هي ما يأتي: منذ ثماني عشرة مائة من السنين كان رجل فقير يعيش في بعض الجهات وكان يصدر عنه بعض الأقوال، فاضطهده الناس وشنقوه ثم نسيه العالم كله كما نسي آلافًا من الحوادث المماثلة لأمره، فلم يذكره أحد من العالمين ولكن يظهر أن بعضهم بقيت في ذاكرته كلمات هذا الإنسان، فأعادها على مسمع من ثانٍ فثالت، ومازالت آخذة في الشيوع والانتشار، حتى أن ألوف الألوف من الناس سواء فيهم العقلاء والمجانين والعالمون والجاهلون اعتقدوا اعتقادًا مطلقًا بأنه هو الله وحده! [2] وهذا من غرائب مظاهر الكون فكيف يكون تفسير ذلك؟ ! قالت الكنائس: إن هذا الرجل - أي المسيح - هو الله حقيقة. والأمر واضح في هذه الحال لا يحتاج إلى بيان؛ ولكنه إذا لم يكن هذا الإنسان هو الله فكيف نفسر اعتبار الناس له إلهًا دون سواه؟ ! أما علماء المذاهب التاريخية فقد عنوا عناية بالغة بجمع الخصائص المتعلقة بحياة ذلك الإنسان، وهم في الحقيقة لم يجمعوا منها ولا واحدة سوى ما وجدوه في الأناجيل وفي تاريخ (فلافيوس يوسيفوس) ولم يتفطنوا إلى أنهم لو توصلوا إلى الوقوف على هذه الخصائص كلها، ووفقوا إلى إعادة حياة المسيح تامة بأصغر تفاصيلها بحيث عرفوا ما أكله في يوم كذا ويوم كذا وعرفوا في أي منزل أمضى تلك الليلة - لكان هذا السؤال الجوهري يبقى قائمًا ولا جواب عليه وهو: لماذا كان لعيسى لا لغيره هذا التأثير في الناس أجمعين؟ ! [3] . الجواب المطلوب لا يأتي من العلم بالطريقة التي ولد بها عيسى أو كانت تربيته على مقتضاها أو غير ذلك ولا يستنبط من العلم بالحوادث التي وقعت في رومية في ذلك العصر وكانت داعية الأمم إلى الاعتقاد بالخرافات والأضاليل ونحو ذلك. وإنما يُنال الجواب بالبحث في أمر واحد وهو معرفة التعليم الذي جاء به المسيح علمًا مؤكدًا يقينيًّا ومعرفة كُنه هذا التعليم الذي حمل كثيرًا من الناس على جعل الرجل فوق سائر الناس واعتباره إلهًا منذ ثماني عشرة مائة من الأعوام. الباحث الذي يريد حل هذه المعضلة يجب عليه قبل كل شيء أن يجتهد في إدراك تعليم المسيح وأعني به تعليمه الصحيح دون تلك التفاسير الغامضة الشاذة التي ذهب إليها بعض الناس، وهو أمر أهمله الباحثون إلى الآن، فإن علماء التاريخ من أهل النصرانية فرحون بما ذهبوا إليه من أن المسيح ليس هو الله ولذلك تراهم لا ينفكُّون يسردون الدلائل على أنه لم يكن فيه شيء من الألوهية ولكن لا يتفكرون في أمر بسيط لا يصح أن يغيب عن الأذهان وهو أن الاحتجاج على كون المسيح واحدًا من الناس مجردًا من كل صفات الألوهية يزيد المسألة غموضًا وبعدًا عن الأفهام. [4] مثل ذلك صاحبنا رنان أو الموسيو (هافيت) فقد لاحظ بسذاجة لطيفة أن المسيح لم يكن فيه قط شيء (مسيحي) ! أما الموسيو سوري فقد أظهر ما ليس فوقه شئ من الابتهاج والارتياح حينما ذهب إلى أن المسيح (كان رجلاً بغير تثقيف وأنه كان من ذوي العقول الساذجة) ! ليس الأمر الجوهري هو إثبات عدم ألوهية المسيح ولا أن تعليمه ليس إلهيًّا ولا إيراد الدلائل على أن المسيح لم يكن كاثوليكيًّا وإنما هو فهم عناصر هذا التعليم الذي ظهر للناس في أسنى المظاهر وأجلاها وأعلاها وأغلاها حتى قالوا ولا يزالون يقولون بأن الرجل الذي قال به إنما هو الله. هذا هو الأمر الذي حاولت البحث فيه والذي نجحت في الوصول إليه والوقوف عليه وذلك بالنسبة إلى شخصي على الأقل، وهو ما أريد إبلاغه إلى إخواني. يخيل إليَّ أن القارئ لهذا الكتاب إنما هو فرد من ذلك المجتمع العظيم الذي يتألف منه فريق المتمدنين الذين تهذبوا ودرجوا على الاعتقاد بقول إحدى الكنائس ومنعوا أنفسهم على الدوام من الجهر بالانفصال عنها مع ما ثبت لهم من مناقضة تلك العقائد لما أرشدتهم إليه عقولهم. وأوحت به ضمائرهم. سواء كان ذلك مبنيًّا على صبابة باقية من الحب والاحترام لذلك التعليم المسيحي أو لاعتبارهم النصرانية كلها خرافة، فهم لا يرتبطون بها إلا في الظاهر. إذا كانت هذه حال القارئ فإني أرجوه أن يعمل بالمثل السائر: (ألقِ بالخلعة في النار إذ صارت مباءة للقُمَّل) ! ولكنني أرجوه من باب أولى أن يتفكر أن الذي نفر منه طبعه وسمعه وظهر له بمظهر الخرافات ليس هو التعليم الصادر عن المسيح، وأنه من الظلم مؤاخذة المسيح بالحماقات التي علقها الناس بعده على تعليمه. وغرضي الوحيد إنما هو تحديد تعليم المسيح في شكله الخاص به كما وصل إلينا أي بواسطة الأقوال والأفعال التي بلغنا بطريق التواتر أنها أقوال المسيح وأفعاله [5] ومن كان من القراء من الصنف الذي سبق لي وصفه فإن كتابي يريه أن النصرانية ليست مزيجًا من الأمور العالية والأمور المبتذلة وأنها ليست من الخرافات بل إنها عبارة عن التعليم بما وراء الطبيعة الذي توصلت إليه الإنسانية إلى الآن بطريقة أخلاقية تهذيبية وطيدة الأركان ثابتة البنيان صافية من الشوائب مكملة من كل جانب، وأنها التعليم الذي ترتكز عليه بغير إدراك جميع مظاهر الإنسانية العالية في السياسة والعلم والشعر والفلسفة. أما إذا كان القارئ من تلك الفرقة القليلة التي لا تزال في كل يوم آخذة في الاضمحلال وأعني بها أولئك المتمدنين الذين ما لبثوا مرتبطين بتعاليم الكنيسة ويقبلون الدين لراحتهم الداخلية لا لغرض خارجي فإنني أرجو هذا القارئ أن يسائل نفسه عن أعز الأمرين لديه: أراحته أم الحقيقة؟ فإن اختار الراحة سألته أن يقفل هذا الكتاب، وأما إذا جنح إلى الحقيقة فإنني أسأله أن يعتبر تعليم المسيح المبسوط في هذا الكتاب يناقض كل ما علَّمه إياه الناس وأنه بإزاء هذا التعليم في موقف المسلم بإزاء النصرانية، فليس عليه بعد ذلك أن تكون العقيدة المشروحة في هذا الكتاب توافق عقيدته أو تخالفها بل أن يعلم أيهما أكثر انطباقًا على عقله وقلبه، أعقيدة كنيسته أم عقيدة المسيح الممحضة؟ وعليه بعد ذلك أن يختار لنفسه أحد الأمرين: الرضى بقبول العقيدة الجديدة أو البقاء على عقيدة كنيسته. وأما إذا كان القارئ من أولئك الذين يذهبون إلى احترام عقيدة إحدى الكنائس والتسليم بها في الظاهر لا لصحة هذه العقيدة ولكن بالنظر إلى اعتبار المنافع التي يجدونها فيها، فهذا القارئ يجب عليه أن يقول لنفسه بأنه ليس من المتهِمين (بكسر الهاء) بل من المتهَمين (بفتحها) مهما كان عدد الذين يماثلونه في الرأي ومهما كانت سطوتهم ومهما كانت تيجان الملوك معهم، وشهادات الأكابر منهم مصدِّقة لما بين أيديهم، وليس يكون ذلك القارئ من الذي تقع عليهم التهمة أمامي بل أمام المسيح، وينبغي لهذا القارئ أن يقول لنفسه إنه لن يطالَب (بفتح اللام) بأي برهان مما يمكنه الإتيان به من الدلائل، فقد جاء بها السابقون عليه بزمان طويل وأنه لو أتى بألف حجة على براءته لما كان في موقف يضطره إلى تزكية نفسه. نعم، إنه يبقى عليه أن يزكي نفسه أولاً من وصمة الكفر والتدنيس اللذين ارتكبهما بجعل عقيدة المسيح الذي هو الله (تعالى الله عن هذا الزعم) كعقيدة اسدراس والمجامع وثاوفليكتس وإفراغه كل قواه العقلية لتبديل كلمات الله حتى يجعلها موافقة لكلمات البشر. ثم يجب عليه أن يزكي نفسه ثانيًا من التجديف الذي ارتكبه بحمل كل ما في قلبه من الخرافات على (حساب) المسيح الذي هو الله (سبحان الله) ثم يبقى عليه في آخر الأمر أن يزكي نفسه أيضًا من الخيانة التي ارتكبها بإخفائه عن الناس دين الله الذي جاء إلى الدنيا ليأتي

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة صخرة بيت المقدس (س1) : السيد أحمد منصور الباز بطوخ القراموص: ما رأي سيادتكم في الصخرة الموجودة ببيت المقدس هل هي مرفوعة في الهواء كما يزعم بعضهم وهل رفْعها كان معجزة للنبي؟ نرجوكم إظهار الحقيقة ورفع الّلبس. (ج) : إننا قد زرنا المسجد الأقصى ورأينا الصخرة وعرفنا منشأ الشبهة في أقاويل الناس فيها، على أنها ليست مرفوعة في الهواء. ذلك أن الداخل في الحرم يرى في صحنه الفسيح بناءً مرتفعًا يصعد إليه بالسلالم وسطح هذا البناء الواسع مرصوف بالبلاط وفيه قباب أعظمها وأكبرها وأكثرها زخرفا قبة الصخرة وبالقرب منها قبة يسمونها قبة المعراج يقولون إن النبي e عرج منها، والصخرة موضوعة في قبتها وقد جعلت سقفًا لمغارة صناعية تحتها لها باب ينزل إليه بسلم قصير. فهم يقولون إن الصخرة كانت في الهواء حيث هي الآن، وإن الناس بنوا تحتها هذا البناء ووصلوه بها، وشبهتهم أن الصخرة مرتفعة عن أرض الحرم التي هي الآن سطح الحرم الأصلي الذي تحت الأرض. وفاتهم أن رفع الصخرة من أرض الحرم الذي في الأرض أو سطحه الذي هو صحن المسجد لهذا العهد متيسر للإنسان ويوجد له نظائر في مباني الغابرين والحاضرين. *** حجارة الوقود بجوار الكليم (س2) : ومنه هل في الحجارة التي بجوار سيدنا موسى معجزة له أن تكون وقودًا في تلك الأرض وإذا نقلت منها تكون كسائر الحجارة لا تشتعل؟ (ج) : إنه لا يوجد في الدنيا حجارة تشتعل تكون وقودًا إلا بسبب طبيعي ولا معنى لهذه المعجزة الآن والناس متَّهَمون جميعًا بنقل الغرائب فيجب التحري التام فيما ينقلون منها فمن تحرى عَلِمَ ومن لم يتحرَّ وهم. *** شمهورش قاضي الجن (س3) السيد حسين السبلجي بمصر: يزعمون أنه كان للجن قاضٍ يقال له شمهورش وأنه كان يتلقى العلوم بالأزهر وكان يحضر دروس الشيخ الباجوري ويسأله عن بعض المسائل التي تشكل عليه على مرأى من الناس ومسمع، وقد حضرت مناظرة في ذلك بين فريقين منكر ومصدق، فأبى المصدق أن يرجع إلا بفتوى دينية وهي ما ننتظره من المنار الأنور. (ج) : إن الجن من العوالم الغيبية واسمهم يدل على خفائهم واستتارهم وقال الله في إبليس وهو من الجن: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) وقد نقل عن الإمام الشافعي تشديد عظيم على من يدعي رؤيتهم حتى قيل أنه أفتى بكفره لهذه الآية. وقد اختلف النقل عن الصحابة في رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم، فروي عن ابن مسعود أنه رآهم، وروي عن ابن عباس أنه لم يرهم، وأنه لو رآهم لما قال الله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) وقال بعض العلماء: إن ابن عباس قال بما يدل عليه القرآن وابن مسعود قال بما ثبت عنده ولا منافاة بينهما. وادَّعى بعضهم أن رؤيتهم تكون كرامة للأولياء وسيأتي البحث فيه في موضعه من مقالات الخوارق والكرامات ولكن لم يقل أحد من المسلمين ولا من غيرهم: إن الجن يظهرون ويسألون العلماء على مرأى من الناس ومسمع. وإن للناس من الحكايات عن الجن في كل قطر وكل شعب ما يكاد يصل بهم إلى حد الجنون. والله يعلم إنهم لكاذبون. *** الدليل على وجود الجن (س4) بكير بن سماية بالجزائر: هل يوجد دليل على وجود الجن؟ (ج) إن وجود أي شيء من الموجدات لا يعرف بالأدلة العقلية وإنما يعرف بالحس أو بالخبر الصادق، فإننا نعتقد بوجود كثير من الحيوانات والنباتات والمعادن ولم نرها. أما العقل فإنه يدلنا مع الاختبار بأن في هذا الكون موجودات كثيرة لا نعرفها وترون في أصغر الكتب الطبيعية (كالنقش في الحجر) للدكتور فانديك أن في هذا الكون عوالم لا نعرفها لأنها لا تدرَك بحواسنا هذه ولو خلق لنا حواس غيرها لأدركنا ما لا ندركه الآن. الجن عالم خفي أو غيبي أخبرنا بوجوده الأنبياء المؤيدون من خالق الكون بالوحي والإلهام فوجب التصديق بذلك. وإننا نرى الاعتقاد بوجودهم فاشيًا في جميع الأمم والشعوب الهمجية والممدنة الوثنية والموحدة والملحدة. وإننا نعد من نوع الجن هذه الأحياء الصغيرة التي لا ترى إلا بالنظارات المكبرة فاللفظ اللغوي (جن) يتناولها وفي الحديث القائل بأن الطاعون من وخز الجن ما يدل على ذلك والله أعلم. *** الإيمان بخاتم النبيين (س5) عبد الحميد أفندي نجيب بنيابة الزقازيق: هل يكون إيمان المسلم صحيحًا إذا اعتقد أن رحمة الله تعالى لا تسع مَن لا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومات على ذلك وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) وقال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156) . (ج) إن رحمة الله تعالى وسعت كل شيء حتى المشركين فإنهم إنما يعيشون برحمته ويتمتعون بفضله ومن رحمته بالعالمين أن أرسل إليهم خاتم النبيين يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. ولا توجد طريقة لترقية الروح وتزكيتها تزكية تستوجب بها الرحمة الخاصة في الآخرة إلا شريعته وملته ولذلك قال عز وجل - بعد بيان أن رحمته وسعت كل شيء -: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ} (الأعراف: 156-157) الآية. فمن بلغته دعوة هذا النبي الكريم على وجهها وأعرض عنها فلا يعتد بإيمانه. ولكن إذا بلغته على غير وجهها أو نظر بإخلاص وبحث فلم يظهر له صدقها فهو معذور وتقدَّم بسط هذا المعنى في (المنار) غير مرة. *** ترجمة القرآن (س6) رضاء الدين أفندي قاضي وعضو الجمعية الشرعية في أوفا (الروسية) : نشكر لكم بما لا مزيد عليه ما كتبتم في المنار جوابًا عن سؤالي في مسألة حدوث العالم فإنا طالعناه مع الأحباب والعلماء الكرام بمزيد الشوق وعجبنا من سعة اطلاعكم وبتبحركم في الفنون. ثم إني أعرض على حضرتكم سؤالاً آخر وهو: هل يجوز ترجمة القرآن الشريف إلى اللغات الأعجمية كالفارسية والتركية وغيرهما؟ ونسمع أن بعض الهند نقله إلى لغة الأوردو فهل ذلك صحيح وما حكم الشريعة في ذلك؟ نرجو من حضرتكم الجواب في أحد أعداد المنار لتكون الفائدة عامة لنا ولغيرنا. (ج) إن هذا القرآن عربي {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} (فصلت: 44) ومن مقاصد الإسلام العالية جمع البشر على دين واحد ولغة واحدة لتكمل وحدتهم. وتتحقق أخوتهم. وقد بينا هذه الحكمة من قبل ولا سبيل إليها إلا بتحتيم بقائه عربيًّا. وأن بقاءه عربيًّا داخل في معنى حفظ الله له. فترجمته غير جائزة وغير متيسرة فإنه معجز في بلاغته وتأديته للمعاني ولن يستطيع أن يترجمه إلا من يصل إلى درجة الإعجاز في اللغة التي يحاول نقله إليها ويكون مع هذا في فهم الأساليب العربية منقطع القرين، وفي فهم الإسلام ومعرفة حقائقه آية في العالمين، كلا إنني موقن بأن ترجمة القرآن مستحيلة ولا يوجد في البشر من يستطيع أن ينقله إلى لغة أخرى بحيث يَفهم قارئ الترجمة كل ما يمكن أن يفهم من القرآن العربي المبين، وإن من أكبر الجرائم والجناية على الدين أن يحاول المسلمون هذا الأمر فيكون عند التركي قرآن تركي وعند الفارسي قرآن فارسي وهلم جرّا. وقد عثر بعض العلماء فقال بجواز القراءة بالفارسية لمن عجز عن العربية ولكن طبيعة الإسلام لفظت هذا القول وتركته كالشيء اللقا، ولم يعمل به أحد من المسلمين، مع احترام قائله؛ لأنه لم يكن سيئ القصد. ولو أخذ الناس بهذا القول لما انتشرت اللغة العربية في الأقطار الإسلامية ولصدم الإسلام صدمة أرجعته إلى جزيرة العرب وحبسته فيها. أقول هذا على تقدير أن المراد من السؤال ترجمة القرآن وحسبان الترجمة قرآنًا باعتبار أن العبرة بالمعاني كما قال بعض العلماء والاكتفاء بذلك. وأما إذا ترجم شيء من القرآن بقصد جعله وسيلة للدعوة إلى الإسلام فلا بأس بذلك، لا سيما إذا كان من تُراد دعوتهم كالإفرنج الذين يبحثون عن أصول الأديان ولا يكتفون بعرض آراء علمائها عليهم لأنهم يعتقدون أن علماء كل دين تصرفوا فيه باجتهادهم أو بأهوائهم. ومن يترجم القرآن بعضه أو كله لهذا الغرض فعليه أن يبين في مقدمة الترجمة أنه نقل إلى لغة كذا ما فهمه هو من القرآن إن كان يعتمد على فهمه أو ما فهمه فلان المفسر ويذكر من اعتمد على تفسيره، وإذا اعتمد على غير واحد من المفسرين فليذكر أسماءهم وإذا أشار في هامش الترجمة إلى عزو كل قول إلى قائله فذلك أفضل وأكمل. وحسب المسلمين من الأعجمين تقصيرًا في حق القرآن أن فسروه بلغاتهم وكان الواجب عليهم أن يجتهدوا في تعميم اللغة العربية ويفهموه بالعبارة العربية التي أنزل بها. ولولا الصدمات السياسية التي صدمت الإسلام لظل أهل فارس ومن يجاورهم إلى هذا الزمن ينطقون بالعربية كما كانوا في القرون الأولى للإسلام، بل لكانت بلاد الهند والأفغان والترك وجزء عظيم من بلاد الصين كبلاد سوريا ومصر لهذا العهد ولكان في ذلك للإسلام سياج من الوحدة لا يخرق. وإذا لم يسع المصلحون في تلك البلاد وأمثالها بتعميم اللغة العربية فما هم بمصلحين ولا عاملين للإسلام. وليعلموا أن اعتصامهم بالجنسية اللغوية لا يمنعهم من ابتلاع أوربا لهم في يوم من الأيام، أما ترجمة أحد علماء الهند القرآن بلسان الأوردو فلم نسمع به ونرجو من قراء المنار في الهند إعلامنا بالحقيقة.

نظام الحب والبغض

الكاتب: للعالم العالم ع. ز.

_ نظام الحب والبغض رسالة في علم النفس وفلسفة الأخلاق للعالم العامل ع. ز. (تمهيد) (1) إن للشرور أسبابًا معظمها ناتج من أوهام باطلة. فيجب إحياء الحقائق وإزهاق الأوهام. (2) إن للأوهام أبوابًا معظمها ناشئ من الجهل - البسيط والمركب - فيفرض تنوير الأذهان بقدر العلم وإن كان قليلاً. (3) إن للجهل أسبابًا معظمها آتٍ من قلة القراءة والكتابة الصحيحتين. فيلزم السعي في تكثير القراء الذين يفقهون ما يكتب - كتابة صحيحة - والكُتاب الذين يعرفون كيف يكتبون. (4) إن لقلة القراءة والكتابة - الصحيحتين - أسبابًا، معظمها صادر عن رداءة أصول التعليم. فيتحتم الدلالة على الأصول النافعة وتعويد الناس عليها. (5) إن لرداءة أصول التعليم أسبابًا جُلها من التقليد الأعمى وإهمال الفكر فلا بد من النصح والتناصح بالتفكر. (6) إن للتقليد الأعمى أسبابًا أكثرها ناجم عن اختلال شئون النفوس في حبها وبغضها فيتعين وصف علاجات تشفي من هذا الاختلال ولو قليلاً. هذه الفرائض المشروحة لا يشك في وجوبها عاقل ولكن مَن هم المكلفون بها؟ أنتم يا علماء النفس مكلفون بهذه الفرائض. ومنذ كلفت نفسي أن تتشرف بالدخول في زمرتكم طفقت أطالع صفحات كتاب الوجود بعين البصيرة وأقيد النتائج في دفتر الذاكرة. فهذا ما شجعني اليوم على أن أشارككم في أعمالكم. ومن أجل هذه المشاركة حررت فصولاً لتأدية بعض هذه الفرائض، أكثرت فيها من التوضيح وأقللت الفضول وتوخيت أسهل العبارات وأجمل الإشارات وراعيت فيها فهم الصغير (من حيث القراءة لا من حيث السن) والكبير. ووهم الجليل والحقير، وعدلت عن قيل زيد وعبيد واستمسكت بما أرسل الله لأبصارنا وبصائرنا من الأمثال. وإليكم يا قراء المنار الزاهر أقدم هديتي هذه (نظام الحب والبغض) بمساعدة منشئه العلّامة المرشد، أعلى الله مناره وأيَّده بعنايته. قطبان في الإنسان عليهما تدور أحوال نفسه هما: الحب والبغض. فهل يمكن إدخالهما تحت أحكام نظام؟ (الجواب) في هاتين القوتين المتنافرتين تكلم الأنبياء والمرسلون. والحكماء المتبعون، والعلماء المعلمون، والشعراء الواصفون والأدباء المحاضرون، وبهما تقارب الناس وتباعدوا، وتحازبوا وتحاربوا، واجتمعوا وتفرّقوا، وتعاونوا وتخاذلوا؛ ومن أجلهما طغوا واعتدلوا، وأنصفوا وجاروا. تكلم الناس كلهم في الحب والبغض ولكن اختلفت الاصطلاحات، وتنوعت المقاصد، واختلفت المشارب، فتعددت الأسماء، وكثرت الكلمات، وتوفرت المعارضات والمجادلات. فكلام الناس فيهما الدائر على ما يجب أن يُحب وما يجب أن يُبغض يلوح ويصرح بأنه من الممكن إدخال هذين المؤثرين تحت حكم (نظام) . وعلى هذا نكون سالمين من الخطأ في تعبيرنا عن علم النفس وأخلاقها بنظام الحب والبغض. بل نكون قد أصبنا عبارة هي أوضح من أخواتها في الدلالة على هذا العلم النفيس المفيد. هذا - أي إمكان دخول الحب والبغض تحت نظام - رأي طوائف العالم على اختلافهم، به تشهد الأديان والعقول، وله تؤيد المشاهدة والتجربة. ولآخرين قليلين رأي آخر هو عدم الإمكان. وسيرى الذين يخالفون بيانًا شافيًا في هذا المقال. وسيذّكر فيه الموافقون. (ما هو الحب وما هو البغض؟) إن لحياة الإنسان (كسائر الحيوانات) نظامًا عرف بعد وجوده ولم يعرف مبتدأ وجوده. وقد عرف أن هذا النظام شبيه بنظام مملكة كثيرة الأجزاء بعض أفرادها مهم جدًّا، خلوها منه يوجب خللاً كبيرًا فيها. وبعضها من قبيل الخدم والأعوان لا يوجب خلوها منه خللاً يذكر. وقد احتاج الناس من قديم الزمان لأجل التعريف بمعروفاتهم إلى تسمية الأشياء بأسماء يتواضعون عليها. فأما التي يشيع عرفها بين الناس فتصير أسماؤها من قبيل مفردات اللغة التي يتكلمون بها، بمعنى أن استعمالها العام لمعناها المشهور يجعل معناها اللغوي المشهور عامًّا. وأما التي لا يشيع عرفها إلا بين العلماء منهم فتصير أسماؤها من قبيل مفردات العلوم التي يتداولونها، بمعنى أن استعمالها الخاص يجعل معناها المقصود عند العلماء خاصًّا. مثاله: (1) كلمة (المبتدأ) معناها العام (الأول) ومعناها الخاص عند علماء النحو: الكلمة المسند إليها حكم من الأحكام. ومثاله: (2) كلمة (المجاز) معناها العام (الممر) ومعناها الخاص عند علماء البيان: العدول في كلمة عن معناها الأصلي. والأجزاء التي يتكون منها نظام الحياة قد سمي كل منها باسم وجرى على كل منها الاستعمال العام، أما مجموع ما به نظام الحياة فسماه القدماء من أهل لغتنا (النفس) لكن هذه الكلمة لدلالتها على مدلول عظيم شأنه قد اتخذه العلماء لمعنى غير الذي يفقهه منها العامة من الناس. ومن ثمة كانت جديرة أن نقول (إنها كلمة علمية) بمعنى أن لها معنى خاصًّا عند العلماء بخواصها وأحوالها. (والحب والبغض) من هذا القبيل أي أنهما في اعتبار العامة كلمتان من جملة ما هو مشهور المعنى من مفردات لغتهم. وفي اعتبار العلماء - علماء النفس - هما كلمتان مدلولاهما تحت النظر والبحث يتساءلون فيما بينهم عن تعريفهما. على أنه يجب أن نصرح بأن العلماء من حيث الجملة كثيرًا ما يعرفون المعروفات ويوضحون الواضحات. وكثيرًا ما ينتج من كثرة كلماتهم واصطلاحاتهم في توضيح الواضحات إيهامات يشغلون بها أذهان القارئين على غير جدوى. هذه حقيقة يجب أن لا نتغافل عنها. وأن لا نغفل ذكرها. وهي تفرض علينا أن لا نقلدهم في كل أبحاثهم وأن لا نشاركهم في الكلمات التي ابتدعوها في أكثر المواضع لا لشيء إلا حب توسيع مسافة الفرق بينهم وبين العامة. ولكن لهذا الأمر مستثنيات هي التي تفتح لحسن الظن بنيَّاتهم بابًا كبيرًا، وهذان الحرفان اللذان نحن بصددهما من مستثنيات هذا الأمر. فكلنا نحب ونبغض ولكن في الحقيقة ما كل واحد منا يعرف ما هو الحب وما هو البغض. ومن ثم اختلفت تعاريفهما أيضًا بلسان العلم. والتعريف الموافق هو أن الحب اعتقاد خير، راجع أو مناسب للنفس المحبة من الجهة المحبوبة [*] والبغض ضده فهو اعتقاد شر - إلى آخر التعريف وبهذا التعريف يمكننا بغاية السهولة أن نعرف العلة ونجيب عن هذا السؤال: (لماذا نحب ونبغض؟ !) وهذا التعريف الحقيقي هو الذي سهل لنا الحكم بأن دخولهما تحت حكم (نظام) ممكن لأن الاعتقاد قد يكون صوابًا وقد يكون خطأً شأن كل اعتقاد، فكما أمكن بواسطة العلم إرجاع كثير من الناس عن خطأهم في أشياء كثيرة يمكن إرجاع معتقد الخير والملاءمة أو الشر والمباينة في جهة من الجهات عن ذلك الاعتقاد، فبينما المرء يحب إذا هو يبغض. وإذا سلمنا التعسر أحيانًا لا نقول بالتعذر وسيوضح هذا أمثلة كثيرة. حب الذات وعلى حسب التعريف السابق للحب وضده، وعلى حسب التعليل المتقدم (لماذا نحب - لماذا نبغض) يظهر أن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، فهو بهذا الحب لم يخرج عن حب ذاته إلا بحسب الصورة فقط، فهل هذا صحيح؟ وما الدليل عليه؟ وهل محبة الذات أمر نافع أم أمر ضار؟ نعم، إن الإنسان لا يحب غيره إلا لأجل ذاته، وهذه الحقيقة دقيقة جدّا يدركها البعض بالبداهة ولا يدركها البعض إلا بالإيضاح، ونحن نجمل الكلام ونذكر رؤوس المباحث التي تتعلق بأذيالها، ونشرحها قضية قضية موجزين: 1- الإنسان يحب ذاته. 2- حب الذات في أصله طبيعي نافع. 3- ذات غيرنا كذاتنا فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا، فحب الذات له حدود. 4- إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا. 5- إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود. 6- إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا. 7- بغض الذات مرض. 8- قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور. 9- متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتابة القرآن بالحروف الإنكليزية كتب بعض المسلمين في الترنسفال إلى جريدة في مصر ثلاثة أسئلة لتعرضها على بعض علماء الأزهر، فعرضتها على الشيخ محمد بخيت فأجاب عنها ونشرت الجريدة أجوبته. أحد الأسئلة عن التزوج بأخت الرضيعة وجوابه معروف وهو أنه لا يحرم على الرجل إلا مَن رضعت هي وإياه من امرأة وأما أخت الرضيعة فلا تحرم. والسؤال الثاني يتعلق بالاقتداء بالمخالف وبينَّا الراجح فيه عندنا في آخر الجزء الماضي وأن في المسألة قولين مصححين، ولكن الشيخ ذكر أن الأصح خلاف ما رجحناه وهو المذكور في كتب الفقه وهم أسرى تلك الكتب. وأما السؤال المهم فهو ما جعلناه عنوانًا لهذه النبذة وقد أجاب عنه الشيخ بجواب ننقله عن تلك الجريدة مع السؤال ثم نبين رأينا فيه وهو: سؤال: ما قولكم علماء الإسلام ومصابيح الظلام أدام الله وجودكم: هل يجوز كتابة القرآن الكريم بالحروف الإنكليزية والإفرنسية مع أن الحروف الإنكليرية ناقصة عن الحروف العربية ومعلوم أن القرآن الكريم أنزل على لسان قريش فالإنكليزي مثلاً إذا أراد أن يكتب مصر بالإنكليزية تُقرأ (مسر) أو أحمد تكتب (أهمد) ويكتب (شيك) بمعنى شيخ لا سيّما وإخواننا المسلمون في مصر يعرفون اللغة الإنكليزية وغيرها والبعض من المسلمين في جنوبي إفريقيَّة في جدال عنيف، منهم من يجوّز ومنهم من يقول غير جائز. أفيدونا ولكم الأجر والثواب من الله تعالى. جواب: اعلم أن القرآن هو النظم، أي اللفظ الدال على المعنى لأنه الموصوف بالإنزال والإعجاز وغير ذلك من الأوصاف التي لا تكون إلا للفظ. وأما المعنى وحده فليس بقرآن حقيقة. وقيل: إن القرآن حقيقة هو المعنى ويطلق على اللفظ مجازًا. والحق هو الأول، وعليه فلا يجوز قراءة القرآن بغير العربية لقادر عليها وتجوز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بشرط أن لا يختل اللفظ ولا المعنى، فقد كان تاج المحدثين الحسن البصري يقرأ القرآن في الصلاة بالفارسية لعدم انطلاق لسانه باللغة العربية. وفي (النهاية والدراية) أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرأون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم. وقد عرض ذلك على النبي e ولم ينكر عليه. وفي (النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية) ما يؤخذ منه حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتب بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته، ويحرم مسه لغير الطاهر اتفاقًا، وفي كتب المالكية أن ما كتب بغير العربية ليس بقرآن بل يعتبر تفسيرًا له. وفي (الإتقان) للسيوطي عن الزركشي أنه لم ير كلامًا لعلماء مذهبه في كتابة القرآن بالقلم الأعجمي وأنه يحتمل الجواز لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية. والأقرب المنع، كما تحرم قراءته بغير العربية ولقولهم: القلم أحد اللسانين. والعرب لا تعرف قلمًا غير العربي وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) . فتلخص من ذلك أن المنصوص عند الحنفية جواز القراءة والكتابة بغير العربية للعاجز عنها بالشروط المار ذكرها وأن الأحوط أن يكتبه بالعربية ثم يكتب تفسير كل حرف وترجمته بغيرها كالإنكليزية. اهـ. (المنار) عندنا مسألتان: إحداهما ترجمة القرآن إلى لغة أعجمية، أي التعبير عن معانيه بألفاظ أعجمية يفهمها الأعجمي دون العربي وهذه هي التي سأَلَنا عنها الفاضل الروسي ونشرنا السؤال والجواب في هذا الجزء. والثانية كتابة القرآن العربي بحروف غير عربية، وهذه هي التي يسأل عنها السائل الترنسفالي. وقد رأى القراء أن جواب المجيب عنها مضطرب والنقول التي نقلها مضطربة، لذلك رأينا أن ننقله ونحرر القول في المسألة تحريرًا. المقصود من الكتابة أداء الكلام بالقراءة فإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها لا تغني غناء الحروف العربية لنقصها كحروف اللغة الإنكليزية فلا شك أنه يمتنع كتابة القرآن بها لما فيها من تحريف كَلِمه ومن رضي بتغيير كلام القرآن اختيارًا فهو كافر. وإذا كان الأعجمي الداخل في الإسلام لا يستقيم لسانه بلفظ محمد فنطق بها (مهمد) وبلفظ خاتم النبيين فيقول (كاتم النبيين) فالواجب أن يجتهد بتمرين لسانه حتى يستقيم، وإذا كتبنا له أمثال هذه الكلمات بحروف لغته فقرأها كما ذكر فلن يستقيم لسانه طول عمره. ولو أجاز المسلمون هذا للرومان والفرس والقبط والبربر والإفرنج وغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام لعلة العجز لكان لنا اليوم أنواع من القرآن كثيرة ولكان كل شعب من المسلمين لا يفهم قرآن الشعب الآخر. وإذا كانت الحروف الأعجمية التي يراد كتابة القرآن بها مما تتأدى بها القراءة على وجهها من غير تحريف ولا تبديل كحروف اللغة الفارسية مثلاً، ففي المسألة تفصيل والذي نقطع به أن الكتابة بخطها لا تكون إخلالاً بأصل الدين ولا تلاعبًا به وإن هو خالف الخط العربي، فالفرق بين الخط العربي والخط الكوفي أبعد من الفرق بين الخطين العربي والفارسي ونرى علماء المذاهب متفقين على هذه الخطوط كلها ولكنهم يعتدونها عربية. وإذا قيل: إنها مختلفة اختلافًا لا يكفي لمتعلم أحدها أن يقرأ الآخر كالكوفي والفارسي - نقول: قصارى ما يدل عليه ذلك أن كل خط جائز بشرطه، ولكن عندنا ما يدل على أنه ينبغي الاتفاق علي خط واحد. فهم المسلمون هذا من روح الإسلام فكانوا متحدين في كل عصر على كتابة القرآن بخط واحد يتبع فيه رسم المصحف الإمام لا يتعدى إلا إلى زيادة في التحسين والإتقان. ذلك من آيات حفظ الله له وهو عندي واجب فإن القرآن هو الصلة العامة بين المسلمين والعروة الوثقى التي يستمسك بها جميع المؤمنين. ومن التفريط فيه أن يفد المسلم القارئ على مصر قادمًا من الصين فلا يستطيع القراءة في مصاحفها، وكذا يقال في سائر الشعوب وتصريح كثير من الأئمة بأن خط المصحف توقيفي وأنه لا يجوز التصرف فيه يؤيد ما ذهبنا إليه. ولقائل أن يقول: إن في هذا الرأي تضييقًا على نشر القرآن وتوسيع دائرة الدعوة إلى الإسلام، وإننا نرى النصارى قد ترجموا أناجيلهم إلى كل لغة. وكتبوها بكل قلم، حتى إنهم ترجموا بعضها بلغة البرابرة. فما بال المسلمين يضيقون وغيرهم يتوسعون؟ ولنا أن نقول في الجواب: إننا جوَّزنا ترجمة القرآن لأجل الدعوة عند الحاجة إلى ذلك ولا شك أن الترجمة تكتب باللغة التي هي بها؛ ولكن المسلم الذي يقرأ القرآن بالعربية لا يحتاج إلى كتابته بحروف أعجمية إلا في حالة واحدة وهي تسهيل تعليم العربية على أهل اللسان الأعجمي الذين يدخلون في الإسلام وهم قارئون كاتبون بحروف ليست من جنس الحروف العربية. وإذا وجد للإسلام دعاة يعملون بجد ونظام كالدعاة من النصارى فلهم أن يعملوا بقواعد الضرورات ككونها تبيح المحظورات وكونها تتقدر بقدرها. فإذا رأوا أنه لا ذريعة إلى نشر القرآن واللغة العربية إلا بكتابة الكلام العربي بحروف لغة القوم الذين يدعونهم إلى الإسلام ويدخلونهم فيه فليكتبوه به ماداموا في حاجة إليه ثم ليجتهدوا في تعليم من يحسن إسلامهم الخط العربي بعد ذلك ليقووا رابطتهم بسائر المسلمين. وكما يعتبر هذا القائل بترجمة القوم لكتبهم فليعتبر بحرص الأمم الحية منهم على لغاتهم وخطوطهم. اللغة الإنكليزية أكثر اللغات شذوذًا في كلمها وخطها ونرى أهلها يحاولون أن يجعلوها لغة جميع العالمين وهم يبذلون في ذلك العناية العظيمة والأمور الكثيرة فما لنا لا نعتبر بهذا؟ ! وفي جواب الشيخ محمد بخيت مباحث ليس من غرضنا الإحفاء فيها، ونكتفي بأن نقول إن ما يصح أن ينظر فيه من نقوله هو ما ذكره عن السلف، فأثر سلمان إن أريد به أنه كتب لهم ترجمة الفاتحة بلغة الفرس فكيف يكون ذلك وسيلة للين ألسنتهم، وهم لم يقرءوا إلا بلغتهم؟ ! وإن أريد به أنه كتبها بالخط الفارسي فالخط الفارسي قريب من العربي ولا دخل له أيضًا بلين الألسنة، والصواب أن الأثر غير صحيح. وأما الحسن البصري الذي ذكره فما هو الحسن التابعي المشهور وكأنه أحد الفرس الحنفية، ولا حجة في قوله فكيف يحتج بعمله؟ على أن فيه ما في الذي قبله وهو أن القراءة بالفارسية لا يلين بها اللسان للعربية إلا أن يقال: كان يقرأ الترجمة حتى تمرن لسانه على العربية باستعمالها وممارسة الكلام فيها.

كتاب البؤساء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب البؤساء هو أشهر ما كتبه شاعر فرنسا الحكيم وأديبها العظيم (فيكتورهيجو) وهو هو الكتاب الذي رفع به ذكره، وعلا في عالم المدنية قدره، حتى صارت فرنسا تفاخر به العالمين. وتحتفل لشيخوخته ولوفاته احتفالات لا يعهد مثلها للملوك والسلاطين، وقد نقلت جميع الأمم الحية هذا الكتاب إلى لغاتها وهمّ به بعض المشتغلين بالتعريب فما أطاقوه وكأنهم هابوا بلاغته في لغته؛ لأنه في الذروة العليا مما كتب بالفرنسية حتى أقدم عليها محمد حافظ أفندي إبراهيم المشهور برسوخ العرق في العربية وآدابها وطول الباع في التنقيح والتحرير، والإجادة في المنظوم والمنثور، فشرع فيه وسلخ في تعريب الجزء الأول منه اثني عشر شهرًا - كما قال في المقدمة - وهو نحو 150 صفحة. وقد قدّم الكتاب إلى الأستاذ الإمام وحكيم الإسلام، فشكر له الأستاذ ذلك بكتاب بليغ نستغني بنشره عن الكلام في مكانة التعريب من البلاغة، ومحله من الفائدة. ونبدأ بما كتبه حافظ أفندي في أول النسخة المطبوعة وهو: إلى الأستاذ الإمام.. إنك موئل البائس ومرجع اليائس وهذا الكتاب - أيدك الله - قد ألمَّ بعيش البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور وسماه كتاب البؤساء وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة وتلك الحكمة البالغة (الرحمة فوق العدل) . وقد عنيت بتعريبه لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب. وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار ورأيت أن أرفعه إلى مقامك الأسنى. ورأيك الأعلى لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث: أولها التيمن باسمك والتشرف بالانتماء إليك. وثانيها ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى الرجل الذي يعرف مهر الكلام ومقدار كد الأفهام. وثالثها امتداد الصلة بين الحكمة الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق. فليتقدم سيدي إلى فتاه بقبوله والله المسؤول أن يحفظه للدنيا والدين وأن يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين اهـ. فأجابه الأستاذ الإمام بهذا التقريظ وهو: لو كان بي أن أشكرك لظنٍّ بالغت في تحسينه أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت في تزيينه - لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ويجري في الشكر إلى الغاية مما يطلبه فضلك، لكنك لم تقف بعرفك عندنا بل عممت به مَن حولنا، وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا. زففت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية سحرت قومها، وملكت فيهم يومها. ولا تزال تنبه منهم خامدًا وتهز فيهم جامدًا؛ بل لا تنفك تحيي من قلوبهم ما أماتته القسوة وتقوّم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة، حكمة أفاضها الله على رجل منهم فهدى إلى التقاطها رجلاً منا فجردها من ثوبها الغريب وكساها حلة من نسج الأديب وجلاها للناظر وحلاها للطالب بعد ما أصلح من خلقها وزان من معارفها حتى ظهرت محببة إلى القلوب شيقة إلى مؤانسة البصائر تهش للفهم وتبش للطف الذوق وتسابق الفكر إلى مواطن العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي من النفس في مكان الإلهام. حاول قوم من قبلك أن يبلغوا من ترجمة الأعجم مبلغك فوقف العجز بأغلبهم عند مبتدأ الطريق ووصل منهم فريق إلى ما يحب من مقصده ولكنه لم يعنَ بأن يعيد إلى اللغة العربية ما فقدت من أساليبها ويرد إليها ما سلبه المعتدون عليها من متانة التأليف وحسن الصياغة وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه. أما أنت فقد وفيت من ذلك ما لا غاية لمريد بعده ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده. ولو كنت ممن يقول بالتناسخ لذهبت إلى أن روح ابن المقفع كانت من طيبات الأرواح فظهرت لك اليوم في صورة أبدع ومعنى أنفع، ولعلك قد سننت بطريقتك في التعريب سُنة يعمل عليها من يحاوله بعد ظهور كتابك ويحملها الزمان إلى أبناء ما يستقبل منه فتكون قد أحسنت إلى الأبناء كما أجملت في الصنع مع الآباء وحكمت للغة العربية أن لا يدخلها بعدُ من العجمة سوى ما هو في الأسماء - أسماء الأماكن والأشخاص لا أسماء المعاني والأجناس - ومثلي مَن يعرف قدر الإحسان إذا عم ويعلي مكان المعروف إذا شمل ويتمثل في رأيه بقول الحكيم العربي: ولو أني حييت الخلد فردًا ... لما أحببت بالخلد انفرادا فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا فما أعجز قلمي عن الشكر لك وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللقاء. تقول: إن الذي وصل سببك بسر صاحب الكتاب ووقف بك على دقائق من معانيه اشتراكك معه في البؤس ونزولك منزلته من سوء الحال، وربما كان فيما تقول شيء من الحقيقة، فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه بتلك الحكمة ثم كان سببًا في امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة - سألت الله أن يزيد وفرك من هذا البؤس حتى يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ وأن يجعلك في بؤسك أغنى من أهل الثراء في نعيمهم. والسلام. ... ... ... ... ... ... ... (محمد عبده) وقد طبع الكتاب بمطبعة التمدن على نفقة صاحب السعادة أحمد حشمت باشا مدير الدقهلية وهي أريحية لا يعرفها أهل العربية في أنفسهم إلا ما كان أيام سلفهم وثمن النسخة من الكتاب عشرة قروش أميرية وأجرة البريد قرش واحد وهو يطلب من إدارة المؤيد ومن مطبعة التمدن بمصر، فنحث أهل العلم والأدب على اقتنائه ونعدهم بنشر نموذج منه.

إعانة سكة الحديد الحجازية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعانة سكة الحديد الحجازية نتذكر أننا ذاكرنا صاحب الدولة مختار باشا الغازي في مسألة إعانة هذه السكة عندما بدؤوا بجمعها فقال: كان من رأيي أن يفرض على كل مسلم مبلغ قليل في كل سنة من سني العمل فيكون ذلك مع الموارد الأخرى المخصصة لنفقات السكة ريعًا ثابتًا مقدرًا، ويمكن معه تقدير الأعمال ولا يثقل على أحد من الناس. وكنت استحسنت هذا الرأي وقد ظهر لنا الآن أن مولانا السلطان لم يكن غافلاً عنه ولكنه أطلق عنان الإعانة أولاً ليظهر كرم المسلمين في أول نشأة العمل ثم رجع إلى هذا الآن فأصدر أمره بتعيين مبلغ أقله خمسة قروش على كل مسلم، وأي مسلم يعسر عليه دفع خمسة قروش في السنة؟ ! ويسرنا أن مسلمي مصر قد اندفعوا إلى تأليف اللجان وجمع الإعانات ونرجو أن يسبقوا غيرهم في هذا المضمار وإن كره لهم ذلك أصحاب السعادة النظار، فإن كراهتهم لا أثر لها في جلب منفعة ولا دفع مضرة {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} (التوبة: 72) وليعلموا أنهم أكثر مسلمي الأرض رخاءً وهناءً وسعة إلا أن يكون في الصين من يفضلهم في ذلك من حيث لا ندري، ثم إنهم قد ذاقوا مرارة صدهم عن بيت الله وإقامة العقبات في وجوه مريدي الحج إليه ولا يدرون ما هو مخبَّأ لهم في المستقبل، فليبادروا إلى تسهيل سبيل بيت الله. وأجرهم على الله وهو لا يضيع أجر المحسنين.

الكرامات والخوارق ـ 14

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق المقالة الرابعة عشرة في أنواع الخوارق وضروب التأويل والتعليل (النوع السادس: كلام الجمادات والحيوانات) قال السبكي: ولا شك فيه وفي كثرته ومنه ما حكي أن إبراهيم بن أدهم جلس في طريق المقدس تحت شجرة رمان فقالت له: (يا أبا إسحاق أكرمني بأن تأكل مني شيئًا) قالت ذلك ثلاثًا وكانت شجرة قصيرة ورمانها حامضًا فأكل منها رمانة فطالت وحلا رمانها وحملت في العام مرتين وسميت رمانة العابدين! ! ! وقال الشبلي: عقدت أن لا آكل إلا من حلال فكنت أدور في البراري فرأيت شجرة تين فمددت يدي لآكل منها فنادتني الشجرة: (احفظ عليك عقدك ولا تأكل مني فإنني ليهودي) فكففت يدي. هذه حكايات السبكي التي بنى عليها نفي الشك في هذا النوع وإن لم تتفق مع أصله وشروطه ولم تروَ بطرق صحيحة وأسانيد معروفة. وإذا صح أن ابن أدهم والشبلي قد قالا ما نقل عنهم في ذلك، فالأقرب أنهما كانا يعنيان القول بلسان الحال، فحمله بعض الناقلين على لسان المقال حبًّا في الإغراب أو غلوًّا في تعظيم الصالحين، على أن من الصوفية من يقول بأن صفة الحياة سارية في جميع المخلوقات حتى الأحجار والمعادن ويمرون قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44) ، على ظاهره فيقولون: إنه تسبيح حقيقي قولي، لا لسان حال ودلالة على أثر مؤثر، والقضية ممكنة في ذاتها ولا يبعد أن يكون لكل صنف من المخلوقات حياة تليق به بل هذا هو اللائق بالإبداع الإلهي والنظام العام. ولكن البعيد أن يكون الجماد والنبات عالمين بسائر الشؤون وناطقين بجميع اللغات فيكلمان هذا بلسانه ويفصحان لذاك عن بعض شأنه، وأبعد من هذا البعيد أن لا يكون ذلك الكلام المزعوم سنة عامة بأن يكون خروجًا عن السنن الإلهية لتحقق لابن أدهم شهوته وللشبلي عزيمته، ومثل هذه الخارقة مما نقل عن عُباد النصارى (كاسبيريدون العجائبي) وحكاياتهم فيها شبيهة بحكاياتنا، وكل حزب بما لديهم فرحون! * * * (النوع السابع: إبراء العلل) أشار السبكي في الكلام على هذا النوع إلى حكاية الرجل الذي لقيه السرِي السَّقَطي ببعض الجبال يبرئ الزمنى والعميان والمرضى. وإلى ما روي عن الشيخ عبد القادر الجيلي من أنه قال لصبي مقعد مفلوج أعمى مجذوم: قم بإذن الله، فقام معافى لا عاهة به. أقول وقد ذكر الشيخ علي القاري هذه الحكاية مفصلة في كتابه (نزهة الخاطر الفاتر في مناقب السيد عبد القادر) وأوردتها في كتاب (الحكمة الشرعية) وقفّيت من بعدها بحكاية أخرى لصاحب هذا الكتاب. وأمثال هذه الحكايات كثير عن الصالحين جدًّا، ولا شك عندي في أن الكثير منها صحيح لا شبهة فيه، وينقل مثله أيضًا عن رجال الدين المعتقدين من النصارى والوثنيين وقد وقع على يدي شيء من ذلك في بعض الأمراض العادية، وليس في ذلك شذوذ عن السنن الطبيعية. إن الوهم يفعل في شفاء الأمراض العصبية ما لا يفعل العلاج، ولا يوجد مثار للوهم أقوى من اعتقاد المعتقدين بالسلطة الروحانية والقوى الغيبية يؤتاها بعض رجال الدين. ويكفي في توثيق عرى هذا الاعتقاد في المستعدين له ما ينقل إليهم بلسان زيد وعمرو، وهند ودَعْد. من الحكايات الغريبة، والوقائع العجيبة، وإذا رأى أحدهم بعينه واقعة منها أو بعض واقعة أو شبهة على واقعة كأن يرى فلانًا الذي كان مريضًا قد شفي بعد رقية رقي بها، أو تميمة علقت عليه. فهناك الجزم بأن كون الشيخ فلان يشفي المرض بالسر. ويبرئ العلل بالبركة من القضايا اليقينية الأولية، لا يتسرب إليه الشك. ولا يحوم حوله الريب. وأن من ينكره فهو مريض الاعتقاد، أو من أهل الجحود والإلحاد. عرف هذا الأطباء والعقلاء فاستعانوا بالإيهام على معالجة الأمراض العصبية فنجحوا نجاحًا عظيمًا، وهم يتفننون في تصوير الوهم بالصور المناسبة لحال المرضى في اعتقاداتهم، بل يخلقون لهم اعتقادات ببعض الأشخاص أو ببعض الأدوية ويبالغون في تعظيم شأنها حتى يشغلوا خيال المريض بها ثم يسلطونها على مرضه. وإنك لترى حكيمًا من الحكماء يدعو إلى منزله دجالاً من الدجاجلة الذين يدَّعون التصرف في الجان والسلطة على العفاريت الذين يمَسُّون الأناسي - يدعوه ليعالج بإيهاماته الدجلية امرأة عنده مصابة بمرض عصبي مما يسميه الأطباء (الهستريا) بعد أن يعجز عنها الأطباء. ويخيب فيها كل دواء فتشفى برؤية زيّه وبزته وشم بخوره وسماع رقيته، ويعترف له ذلك الحكيم بأنه يفعل بكلماته وعزائمه ما لا يفعل الطبيب بأدويته ومراهمه. أتقول: إن هذا الحكيم يعتقد بحقية هذا الخرافات، ويَدين بأن ذلك الدجال من أهل الخوارق والكرامات، أم تقول: إنه سلط الوهم على الوهم. كما يدفع في الجدل الرأي الفاسد بالدليل الفاسد، وأنه يرى المريض في عصبه كالمريض في عقله. ذلك يتأثر بأوهام الدجل وهذا يقتنع بمغالطات الجدل؟ الأمراض العصبية التي تفعل فيها الأوهام ضروب مختلفة، منها بعض فنون الجنون ومنها مقدماته، ومن المصابين بها من يعتقد بالشيطان يخالط روح الإنسان ويعتقد بأن لبعض الناس سلطانًا على الشياطين بطريقة صناعية كالبدعة الذميمة التي يسمونها (الزار) ، وهي منبع المآثم والأوزار أو بطريقة روحانية كبركات الشيوخ ورُقاهم وعزائمهم. وتجد الذين ينتحلون هذا الأمر بسلوك كل من الطريقتين يعيشون في مثل هذه البلاد بأكل أموال الناس بالباطل، فكثيرًا ما يوهمون من يرونه مستعدًّا لهذه الأمراض من النساء والرجال بأنه مصاب بها وما هو بمصاب فيؤثر قولهم في نفسه فيمرض ويحكِّمهم في نفسه يعالجونها كيف شاؤوا؛ بل يحكمهم في حاله وشرفه أحيانًا. وكثيرًا ما يزيدون الداء إعضالاً بحمقهم وسوء سلوكهم. جاءتني جريدة (المؤيد) وأنا أكتب في هذا النوع فرأيت في رسالة الإسكندرية منها كلامًا في انتشار وباء الزار في تلك المدينة وفعله في النفوس والأعراض ما لم يفعل الطاعون في الأجسام. وفي الأموال والعروض ما لم يفعل القمار والمدام. وقد رأيت أن أنقل ما كتب الكاتب بنصه فاقرأه تحت عنوان (بدعة الزار) . * * * (مضار بدعة الزار) أصدرت محافظة ثغرنا في الأسبوع الماضي أمرها إلى أقسام المدينة بمراقبة النسوة المشتغلات بالزار لأن جمعياتهن كثرت برواج خزعبلاتهن فألحقن بربات البيوت أضرارًا أدبية ومادية لا يحسن التغاضي عنها وعهدت المحافظة أمر تجسس هذه المحرمات إلى مشايخ الحارات ظنًّا منها أنها تستفيد من دقة مراقبتهم وتضرب بواسطة نفوذهم على أيدي أولئك النساء الشريرات. أما نحن فنقول: إن أوامر نظارة الداخلية الصادرة من عشر سنين ونيف والمصدق عليها من مجلس علماء الأزهر الشريف وإفتائه بتحريم استعمال بدعة الزار الشنيعة لم تكن في حاجة إلى أوامر جديدة وهمة حديثة ليقال معها أن حكومتنا اليوم التفتت إلى ضرر لتلافيه، ونظرت إلى محرم فلاحقته بعدلها بل يجب أن تصرح بأنها أغضت زمنًا عن واجب مقدس ثم تنبهت إلى نظام موضوع من أجله فهبت الآن لتلافي الشر ووقاية هاته العيلات وثروتها وآدابها بها من نتائجه الكثيرة التي منها الإملاق والجنون والطلاق والمروق عن جادة الاستقامة والعفاف وغير ذلك من الأضرار الظاهرة التي لا تحتاج إلى استطلاع وفلسفة. أما الإملاق والجنون فيكفي أن نشير إليهما بحادثة امرأة أشفقت على ابنتها المصابة بمرض عصبي (هستيريا) فلجأت إلى الزار فصارت تبذل لهن مطالبهن الكثيرة من ذهب وطعام وغنم ودجاج حتى احتاجت إلى المال فباعت (كنها) الوحيد الذي يستظلون به ويلجأون إليه وكانت النتيجة جنون الفتاة وموت أمها غمًّا وقهرًا؛ لأن ألعاب الزار وأوهامه من شأنها أن تثير العواطف وتنبَّه الأعصاب إلى ما كمن من الداء فيظهر بشدة حينئذٍ ويصبح على التوالي ملكة لا يرضيها غير هذه الأعمال الخيالية النفسانية فبدلاً من تسكين لاعجه يزداد شرًّا على شر ويكون من نتائجه الجنون وكفى بالفقر مُذهبًا للرشاد ومضيعًا للعقول. وكم من زوج طلق عروسه لتبذيرها ونبذها طاعته في سبيل هذا الزار الذي استحكم فصار عادة بين النساء وموضع افتخار بعضهن. وقليل من العقل والروية يكفي لنبذ الرجل زوجته إن والت معاندته والعمل على إساءته وهي لا تدري أنه البر الرؤوف بها في منعها عن الانغماس في حمأة هذه الأوضار؛ بل تظن به الشح والوسواس والكفر والكراهة إلى غير ذلك من الظنون السخيفة التي تزرعها نساء الزار في رؤوس البسيطات من هؤلاء الأمهات والفتيات، فيقضين على راحتهن ومستقبلهن قضاءً مبرمًا بالتفرقة والخراب وكفى بهذه النتائج المحزنة داعيًا إلى التفات الحكومة ومطاردتها للمشتغلات بهذه الدنايا والرزايا. أما المروق عن جادة الاستقامة والعفاف فهذا كثير، فإن لقهرمانات الزار فنونًا وحيلاً ينفر منها إبليس ويستعيذ بسلبها منهن بالله لأنها فوق قدرته لو أبنَّاها في هذه العجالة وقليلها يكفي للإشارة إلى سوء الحال وشر المآل. حُكي أن امرأة تعشَّقها سفيه دنيء فاحتال للوصول إليها كثيرًا حتى لجأ إلى نساء الزار فلعبن دورهن مع المرأة حتى أثَّّرن عليها بأنها ملموسة بروح شريرة مما يعبرن عنه (بأن عليها شيخ) وعندما ملكنها بهذه الخزعبلة قلن لها: إن شيخك يحب شابًّا صفته كذا وكذا.. إلخ إلخ. ولا سبيل لسكون هذا القادر إلا باجتماعهما. وما زلن بها حتى رضيت بالشاب فكان من اجتماعهما ما كان من سكون لواعج النفس بطرد حركة الشيخين وكثيرًا ما يجمع النسوة الشريرات مدبرات الزار الرجال بالنساء ويمهدن سبل الدنايا والموبقات على أشكال وضروب لا يليق بيانها وبذلك تتقوض أسس المحبة الزوجية فتكون العواقب أشد وخامة على الذرية التي لم تجنِ ما جناه الأبوان من جهلهما وتساهلهما. والغاية من رسالتي هي أني أريد إفهام الحكومة أن تكليفها مشايخ الحارات بمراقبة المشتغلات بالزار ومنازل طلابهن ومريديهن لا خير فيه ولا فائدة لأنها تفتح لهؤلاء المشايخ المراقبين باب رزق وسيع، فإنهم يسعون الآن باحثين منقبين على من يحيي ليالي الزار وأيامه ليستفيدوا أتاوة الصمت والتغاضي وهو ربح حسن يفضل الأرباح العائدة عليهم من المخافر والضمانات وغيرها، وبذلك يزيد الزار انتشارًا وضررًا. اهـ بنصه. (المنار) إن ما رآه الكاتب في مشايخ الحارات صحيح، فإنهم قوم لا خلاق لهم. وإذا كان وجهاء الناس والذين يظن فيهم العقل والأدب والدين ينخدعون للنساء المنتحلات لبدعة الزار الضارة ويعتقدون نفعها فماذا عسى ينتظر من مشايخ الحارات وأكثرهم من التحوت والغوغاء الذين يشترون بالآداب والأعراض ثمنًا قليلاً؟ ولو جعلت الحكومة لمن يدلها على ذلك جُعْلاً ولو قليلاً لما خفي عليها شيء، ولتيسر لها أن تستأصل هذه البدعة الضارة استئصالاً. ومن العجائب أن الرجال يسمعون بآذانهم ويقرؤون بألسنتهم ويشاهدون بأعينهم مفاسد الزار وفتكه بالأموال والأعراض وإفساده للأخلاق والعقائد، وهم مع ذلك يسمحون لنسائهم بعمله وبحضوره فأيُّ شرفٍ وأي نخوة بقي عند هؤلاء الرجال السفهاء الأحلام الميتي الإرادة؟ والله لو صلح الرجال لما فسد النساء، ووالله ما أفسد النساء إلا الرجال، فلعن الله مَن لا غيرة له، ولعن الله من لا نخوة له، ولعن الله من لا شرف له. *** لكل قوم نصيب من الوهم يليق بحالهم واعتقادهم، وقد ألمعنا إلى بعض شأن الذين يعتقدون بالأرواح الخي

شبهات النصارى وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات النصارى وحجج المسلمين (تتمة الكلام في الشبهة الثانية على القرآن) (الشاهد الرابع) زعم المعترض أن ما في سورة (المؤمن) من أن موسى أرسل إلى فرعون وهامان وقارون يدل على أن قارون من قوم فرعون فهو مناقض لقوله تعالى في سورة القصص: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ} (القصص: 76) . ونقول في الجواب: إن كون قارون من قوم موسى مجمع عليه عند المسلمين سلفهم وخلفهم كما قال ابن عطية، وقالوا: إنه من ذوي القربى لموسى عليه السلام ولكنهم اختلفوا في جهة القرابة، فنقل عن ابن عباس وغيره أنه كان ابن خالته، وقيل غير ذلك مما لا يعنينا. ولم يفهم أحد من العرب ولا ممن بعدهم من أهل اللغة ما فهم هذا النصراني في آخر الزمان. قال تعالى في سورة (القصص) أن رجلاً اسمه قارون كان من قوم موسى وكان طاغيًا بطرًا بماله، فبغى على قومه بني إسرائيل فأنذروه عاقبة البغي ونصحوا له بأن يبتغي بماله الدار الآخرة إلى ما يتمتع به من الدنيا فلم يقبل، وكل هذا يدل على أنه كان كافرًا طاغيًا جاحدًا من قوم سبق لهم إيمان وكتاب. وقال في سورة (المؤمن) أنه أرسل موسى إلى فرعون وهامان وقارون فذهب بعض المفسرين إلى أن قارون هذا كان مصريًّا وكان قائدًا لجند فرعون، وذهب بعض إلى أنه قارون الإسرائيلي، ولكنه ذكره مع فرعون ووزيره هامان لأنه كان رئيسًا باغيًا مثلهما وهؤلاء الرؤساء الطغاة البغاة هم الذين يحُولون بين الرسل والأمم، وإنما أرسل الله تعالى موسى لهداية بني إسرائيل كما علم من النص ومن الواقع، ولما كان بنو إسرائيل مستعبَدين مقهورين لفرعون وكبار أعوانه كهامان وقارون ابتدأ موسى بدعوة هؤلاء بأمر الله تعالى حتى أراهم آياته وكانت العاقبة إخراج بني إسرائيل من مصر وإيتاءهم الشريعة. لا دليل بل لا شبهة على التناقض في قول من القولين. أي مانع يمنع أن يكون هناك قارونان في زمن واحد أو زمنين مختلفين، فإن قارون قوم موسى ذكر ولم يذكر في قصته أن موسى نصح له أو دعاه إلى شيء، بل جاء فيها أن قومه هم الذين نصحوا له: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ} (القصص: 76) ، إلى آخر الآيات فيجوز بل يقرب أنه كان بعد موسى. ثم أي مانع يمنع أن يتخذ فرعون لنفسه رجلاً إسرائيليًّا باغيًا فسق عن تقاليد قومه وصار لا يهمه إلا بيع مصالحهم بما ينفع شخصه، ويجعله عونًا له على الإسرائيليين ويحكمه فيهم لأنه أعلم بدخائلهم، وأدرى بمقاتلهم؟ أليس من المعهود في كل زمان أن يستعين الذين يحكمون أقوامًا غير قومهم بأفراد أولئك الأقوام يبيعون مصالح قومهم للحكام الأجانب بالمال والجاه لأشخاصهم؟ فلماذا يستنكر أن يصطنع فرعون لنفسه طاغية من الإسرائيليين يكون واسطة بينه وبينهم فيما يريد من ضروب الاستبداد والاستعباد؟ ثم إذا فرضنا أنه لم يكن عاملاً لفرعون ولا صنيعة له وإنما كان أغنى بني إسرائيل وأقواهم سلطانًا وأنفذهم شوكةً كما تدل عليه سورة (القصص) أفليس هذا مسوغًا لأن يذكر مع فرعون وهامان وقد استنَّ بسنتهما وجرى على طريقتهما؟ بلى ولكن الذي يتلمس التناقض في القرآن لا يظفر إلا بمثل هذا الخذلان! . (الشاهد الخامس) زعم أن قوله تعالى في موسى: {فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} (غافر: 25) يناقض قوله تعالى: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي اليَمِّ} (طه: 38-39) فإن هذا القذف لم يكن إلا هروبًا من أن يقتله قوم فرعون فدل ذلك على أنهم كانوا يقتلون الأطفال قبل بعثته. ونقول في الجواب: أولاً: إن هذه الآية لم تعلل بهذا التعليل، وإنما ذكرت غايتها المقصودة منها بالنص، وهي قوله تعالى: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} (طه: 39) أي أن الغاية من قذفه في اليم أن يأخذه فرعون ويربيه فيكون من أمره بعد ذلك ما يكون. وثانيًا: إن الأمر بقتل الأبناء أولاً لا ينافي إعادته ثانيًا لأجل التأكيد والتشديد عند وجود المقتضي. ومثال هذا حاضر بين أيدينا - نُظار الحكومة المصرية كانوا نهوا جميع المستخدمين في الحكومة أن يجمعوا مالاً لإعانة سكة الحديد الحجازية أو يساعدوا الجامعين، وكان ذلك من عدة سنين ثم أعادوا هذا النهي الآن بمناسبة توجه الناس إلى الإعانة بعد أن أمر السلطان بمطالبة المسلمين كافة بإعانة اختيارية، أقلها خمسة قروش على الشخص، وأكثرها غير محدود، وقد ذكرت الجرائد هذا وذاك، فهل يقال: إن النهي الثاني مناقض للنهي الأول؟ كذلك كان فرعون قد أمر القوابل بأن يقتلن أبناء بني إسرائيل ليقل نسلهم، فلما ظهر موسى ودعاه إلى اتباعه وإلى إرسال بني إسرائيل معه - أكد الأمر الأول وأعاده وأمر بما هو أشد منه وهو أن يُقتل الأبناء جهرًا. هذا الأمر موافق لذلك لا مناقض له، فإن التناقض أن تكون إحدى القضيتين موجبة والأخرى سالبة، كقول يوحنا في الفصل الخامس من إنجيله حكاية عن المسيح عليه السلام: (31 إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا) مع قوله في الفصل الثامن: (14 أجاب يسوع وقال لهم: وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق) ! أرأيت أيها القارئ المنصف لو كان يوجد في القرآن أمثال هذا التناقض ماذا كان يقول ويكتب هؤلاء الجاحدون الذين يسمون الحكاية عن الأمر بمعنى الأمر تناقضًا ويسمون اختلاف القضيتين في الإيجاب والسلب توافقًا يدل على الألوهية؟ ! (الشاهد السادس) زعم المعترض أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) وقوله عز وجل: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) مناقضان لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) . وقوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (التوبة: 73) وقوله تبارك اسمه: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ} (البقرة: 193) . ونقول في الجواب: إن للمعترض بعض العذر إن لم يفهم هذه الآيات حتى توهَّّم أنها متناقضة، وإن كانوا يقولون: إن الذي كتبها أو صححها هو أعلم النصارى بالعربية (الشيخ إبراهيم اليازجي) ، فإن هؤلاء ينظرون في كتاب الله ليعترضوا لا ليفهموا ولو ابتغوا الفهم لفهموا، على أن منهم من يفهم ويكابر نفسه ويماري الناس، فيقول غير ما يعتقد. معنى الآيات ظاهر، وإن كان للمفسرين في فهم بعضها وجهان، فأمّا الآية الأولى فمعناها أن كل أمة من الأمم المؤمنة بالوحي والأنبياء لا تكون آمنة ناجية بمجرد انتمائها إلى دين النبي الذي بُعث فيها ولكن الناجين منها هم الذين يصح إيمانهم بالله وباليوم الآخر ويكون على وجه الحق ويعملون الصالحات. وهذا حكم لا يعارض كون الدين اختياريًّا لا إكراه فيه ولا إلزام، ولا يعارض الإذن بمحاربة المعتدين من الكافرين والمنافقين ولا البغاة من المؤمنين، فإن الله تعالى أمر بقتال الطائفة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. وأما الآية الثانية فمعناها أن الدين يقوم بالدعوة، والدعوة تؤيد بالحجة وبيان الرشد في الإيمان من الغي في الكفر. وأما الآية الثالثة فمعناها أن الإسلام هو دين الأنبياء الذي كان عليه إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ولا يقبل الله تعالى دينًا غيره في الآخرة، ولم يكن يعني من الإسلام الذي دعي إليه الناس في القرآن ما سيكون عليه الطوائف الذين يسمون أنفسهم مسلمين كيفما كانت عقائدهم وتقاليدهم حتى المجسمة والباطنية والنُّصَيرية، وإنما معناه الدين الذي روحه إسلام الوجه (القلب) إلى الله تعالى والإخلاص له في العبادة والطاعة كما قال: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} (آل عمران: 20) وقال: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ} (الحج: 78) ، وقال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 132) ، فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن المراد بالإسلام دين الأنبياء من إبراهيم إلى محمد عليهم السلام. ولقد كان الأنبياء من قبل إبراهيم على دينه ولكن إبراهيم أقدم الأنبياء الذين لم يمت ذكرهم ولم ينقطع التوحيد من ذريته، وهذا المعنى مطابق لمعنى الآية الأولى مطابقة تامة. وأما الآية الرابعة الآمرة بجهاد الكفار والمنافقين فليس فيها كلمة تومئ إلى أن الجهاد لأجل الإكراه على الدين، كيف والمنافقون كانوا متلبِّسين بالدين في الظاهر وكان النبي يعاملهم معاملة المسلمين، حتى إن المفسرين قالوا: إن الجهاد لا يصح هنا إلا إذا كان بمعنى المحاجّة بالبرهان، فإن الجهاد في اللغة ليس بمعنى القتال وإنما هو بذْلُك الجهد في مقاومة شيء، ولذلك أُمرنا بجهاد أنفسنا أي بذل الجهد في مقاومة شهواتها. ويصح أن يكون الأمر بجهاد الكافرين والمنافقين معًا بمعنى مقاتلتهم إذا كانت الآية نزلت في مثل غزوة الأحزاب التي اتحد فيها طوائف المشركين مع اليهود والمنافقين من الفريقين على استئصال المسلمين، وفيها هدد الله المنافقين بقوله: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً} (الأحزاب: 60) . نعم، إن القتال شرع في الإسلام لمقاومة المعتدين وتأمين المؤمنين الذين كانوا يُفتنون عن دينهم في أنفسهم وأهليهم ويدل على كونه مأذونًا فيه للضرورة الآيات الواردة فيه. أول هذه الآيات نزولاً آية السيف وهي قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) ولا تنس قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) . وأما الآية الخامسة وهي قوله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) فهي مطابقة لهذه الآيات والمعنى الذي قلناه

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع (1) الإنسان يحب ذاته - قضية يؤيدها الحس وبها تعلل كل أعماله وكل محباته، ومن محبته لذاته تحمُّله الأتعاب العظيمة والآلام الشديدة في العاجل لأمله أن تبقى ذاته وتنال خيرًا في الآجل، وهذا أعظم الأمثلة لمحبة الإنسان ذاته. (2) حب الذات في أصله طبيعي ونافع - هذه المحبة تخلق مع الإنسان من قبل أن يعرف نفسه وغيره، ومن قبل أن يعرف النافع والضار، والدليل على ذلك أنه منذ يبدأ أن يعرف النافع والضار من طريق الحس يبدأ أن يحب مرضعته قبل سواها. وهل يقتدر أحد أن يعلل محبة الطفل لمرضعته بشيء غير طبيعي؟ وهل ذلك الشيء الطبيعي أمر غير محبة الإنسان ذاته بحسب الجبلة؟ ولا ريب في أن هذا الشيء الطبيعي نافع لازم. أما كونه لازمًا فقد يدلنا عليه كونه طبيعيًّا؛ لأنه من المجرب عند قراء سنن الوجود أن الشيء متى كان وجوده لازمًا من اللوازم العامة كان طبيعيًّا. وأما كونه نافعًا فلأنه الأساس الأعظم في حفظ الشخص وبقاء النوع. وستأتون على تفصيل هذا الإجمال مرات كثيرة. ومن المجرب المحقق أن محبة المرء ذاته تنمو فيه على التدريج منذ طفوليته إلى أن تكمل رجوليته. ونفعها ينمو على هذا الوجه وأعظم آثارها شيئان طبيعيان متضادان تنشأ عنهما آثار متضادة أيضًا، هما: شهوة تجذب، وغضب يدفع. (3) ذات غيرنا كذاتنا، فلا بد من حد في الحقوق لنا ولغيرنا - فحب الذات له حدود قل أن نجد قضية مستغنية في ذاتها عن قيود وشروط فقولنا (محبة الذات نافعة) قضية لا تسلم من الجرح إلا إذا ساعدناها وقيدناها بقيد. وهذا الشرط مشروح بكلمة (ذات غيرنا كذاتنا) وتوضيحه أننا إذا لم نضع لذاتنا حدًّا لا يضع غيرنا لذاته حدًّا. فما نطلبه لذاتنا يطلبه غيرنا لذاته. ويظهر من هذا أن محبة الذات لا تكون نافعة إلا إذا كانت تابعة لنظام وواقفة عند حد وينتج ذلك ما ترى. (4) إذا تجاوزنا الحدود في حب الذات صار ضارًّا. كيف لا وجميع ما نسميها شرورًا إنما منشؤها مجاوزة الحدود في محبة الذات؛ لأنه لا معنى للشر إلا الاعتداء على الحقوق، وهل هذا الاعتداء شيء غير مجاوزة الحدود؟ ولا فرق بين أن تكون أنت المعتدي على غيرك لأجل ذاتك وأن تكون يعتدي عليك غيرك لأجل ذاته، فالأول شر لأنك لا تسلم فيه من جزاء ما، وقد يكون الجزاء طبيعيًّا كجزاء الشرِه، والثاني شر لأنك فقدت حقك لأجل شره غيرك فيه. الصنعة بديعة كاملة أتقنها حكيم عليم قد جعل لكل شيء سنة، ناموسًا، طبيعة خاصة، نظامًا (قل ما شئت أن تقول وسمِّ ما أردت أن تسمي، لا تناقش باحثًا في لفظ يؤدي إلى معنى يؤديه لفظك أو قريبًا منه) مزج ما تبتغيه النفس بما تنفر منه، وعلمها السبل في الوصول إلى المبتغَى، وجعل للسبل حدودًا عن يمين وشمال. فمن تعدَّى الحدود فاته المقصود. وربما وقع في المكروه. ومن لم يتعدها فاز ونجا، وتم له الرضى. {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229) . (5) إذا لم نحب غيرنا لا نقدر أن نقف عند الحدود. إذا كان لكل داء دواء فلا علاج لداء الشرور إلا محبة الناس محبة تابعة لنظام. وهذا العلاج لا يتخلف نفعه أي أنه متى استعمل ينفع، فنحن نستطيع أن نقول: إن هذا العلاج يستأصل الداء لمن استعمله ولكن لا نستطيع أن نقول: إنه يعم استعماله وتستأصل الشرور كلها. وليس فيها مستحيلاً عقلاً ولكن التجربة تجعلنا لا نطمع فيه على أننا إذا لم نرجُ أن تستأصل الشرور نرجو أن تخف ونجتهد في أن نعلّم الناس محبة الناس؛ كذلك كان الناس من قبل فهدى العلم بعضًا ببعض، كما أضل الجهل بعضًا ببعض، ولا يزال العلم يجاهد الجهل إلى أن ينصره الملك القدوس السلام على أيدي رجاله الأعلام. (6) إذا لم نحب ذاتنا لا نقدر أن نحب غيرنا. من لطف العناية الأزلية أن كان استعمال هذا العلاج سهلاً إذ ثبت في الفطرة أن من لوازم محبة الذات محبة الغير، فلا جناح علينا أن كان حب غيرنا لأجل ذاتنا؛ لأن هذا هو العلاج في محبة الغير وهذا الثاني هو العلاج في تخفيف داء الشرور، ولكن الجناح علينا إذا لم نتبع نظامًا في محبة الذات ومحبة الغير، وهنالك الشر. (7) بغض الذات مرض. يظهر مما تقدم أن لمحبة الذات نفعين: أحدهما يرجع إلى الذات والآخر يرجع إلى الغير. وينتج أن لبغض الذات ضررين: أحدهما للذات والآخر للغير. وإذا ثبت هذا فلا شك في أن بغض الذات مرض مشوه للفطرة السليمة. وشائن لصاحبه يؤديه إلى نوع رديء من أنواع الرذائل وإثم كبير من الآثام التي يناقش عليها المجتمع. مبغض ذاته بالطبع يبغض غيره، وتكثر حيرته، يعترض على الصانع الحكيم في صنعته، وعلى الإنسان العليم في علمه، عاطل معطل، طائش مطيش، غر مغرر، مخبول مخبل، ناقم على الأحياء، متأفف من الحياة، جانٍ على الاجتماع، قليل الرغبة، قليل الرهبة، قليل الحياء، قليل المروءة، قليل الغيرة، عديم الهمة، عديم النشاط، عديم الفلاح، عديم السعادة. وإن شئت أن تعرف مبغضي ذواتهم فأولئك هم مخالفو الفطرة التي فطرت عليها النفوس، وأذعنت لحكمتها العقول، أقول هذا ولا أزيدكم شرحًا لتقدحوا زند ذكائكم، وتعلموا من أشرنا إليهم بصفاتهم متى رأيتموها في إنسان. وزيدوا عليهم طوائف المستعبدين. هذا وقد نسأل ويقال لنا: لماذا نرى بعض الحكماء قد يوصون ببغض الذات ويأمرون بمنابذة اللذات المشروعة وإيثار الآلام؟ فالجواب: (8) قد يكون هذا المرض نافعًا إذا سلمت به النفوس من الشرور، كما إذا كان امرؤ لا يملك أن يتزوج ويريد أن يستعمل قوة باهه في غير ما خلق لأجله كوطء بهيمة أو دبر أو استمناء بيد أو تسلط على عِرض فيه حق الغير - يؤمر في هذه الحالات أن يجوّع نفسه لتضعف قوة باهه. فإن فسرت تجويع نفسه ببغض ذاته وسميت هذا البغض المتعمد لحكمة مرضًا، قلنا: إن هذا المرض لمثل هذه النفس نافع * وربما صحت الأجسادُ بالعللِ * وإن سميت هذا التجويع حمية أو علاجًا فلا إشكال، وكما إذا كان يكنز النقود الكثيرة لا يتاجر بها ولا ينفق منها على نفسه، يؤمر أن ينفقها على غيره ولو افتقر؛ لأن حاله قبل الإنفاق على غيره هي عين حال الفقراء فالفقر بعد الإنفاق قد تسلم به نفسه من شر عظيم مؤلف من الجهل وبغض الغير وهو كنز تلك الحجارة التي لا معنى لها إلا المبادلة وتسهيل معاملات الناس. وكما إذا كان كثير الاعتداء على النفوس بقتلها ويؤذيها، يؤمر بالتوبة وتسليم النفس للقصاص. وهل من معنى لتسليم النفس للقصاص غير بغض الذات؟ وليس يرتاب أحد بأن من كان كثير الاعتداء على النفوس إذا مرض ببغض الذات إلى درجة يسلم بها نفسه للقصاص كان مرضه نافعًا له ولغيره. وأمثلة هذا كثيرة قيسوا على ما ذكرت ما يظهر لكم. (تنبيه مهم) إذا قلنا: إن الله أحب إلينا من أنفسنا، يجب علينا أن نفهم معنى هذا الكلام حتى نكون على بينة وصدق مما نقول، وإلا كان كلامًا يراد به تزكية النفس بمجرد إيراد حروفه. وسيأتي نحوه من تفسير هذا الكلام أو تفسيره، ولكن أحببت ههنا أن أبادر إلى كلمة واحدة من تفسيره قد تغني الأذكياء. وما هذه المبادرة إلا لأن هذه الكلمة من علائق الصدد: إن معنى محبة الله اتباع الحدود ورعاية حقوق الغير وبذل وسع النفس في هذا الشأن وكل فروعه. وليس من بغض الذات تجريعها الصبر في هذه السبيل الحميدة البالغة بها أسنى المقامات وأسمى السعادات. بل هو من محبتها فإذا أحببت معلمك أكثر من محبتك لنفسك لا تكون أبغضت ذاتك بل أحببتها حبًّا جعلك تحب كل ما يرقيها ويصلح شأنها حبًّا شديدًا. (9) متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة. هذه المسألة كنتيجة لما تقدم وكفاتحة لما يأتي لأن كل علوم الناس وأعمالهم وأقوالهم مقصود بها تحصيل السعادة التي هي فائدة هذه الحياة عند القائلين بوجود السعادة. وعلم النفس في انفرادها واجتماعها هو العلم الوحيد الذي يهدي الحائر في هذه المهامه. وعندنا أن السعادة موجودة ممكن تحصيلها، ومن السعادة اعتقاد وجودها وهذا المبحث المهم يحتاج فضل بيان، أما ههنا فأكتفى بتقرير هذه القاعدة لتحفظ في الذهن وتتوجه النفس إلى شرحها وهي: (متى كان الحب والبغض ناشئين عن فكر سليم كانت السعادة) لأن سعادة النفس في أحوال ثلاث (تصورها وطلبها وفوزها) فمتى كان التصور صافيًا سليمًا قويًّا التذت النفس وانبعثت للطلب ومتى كان الطلب مشروعًا نظاميًّا التذت النفس وأشرفت على الفوز، فإن فازت فذاك هو وإن لم تفز فسعادتها أنها لم تقصر في الطلب، على أن الطلب في نفسه لذيذ وفي الأكثر يفيد فائدة ما مما تبتغيه النفس إذا جدَّت وثبتت. وقلّ مَن جدّ في أمر يحاوله ... ولازم الصبر إلا فاز بالظفر هذا والفكر السليم هو الذي يميز بين الخير والشر والنفع والضر. ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.) ((يتبع بمقال تالٍ))

تحريم الخنزير ونجاسة الكلب

الكاتب: أحد طلبة الطب بمصر

_ تحريم الخنزير ونجاسة الكلب حضرة الأستاذ الفاضل / صاحب مجلة المنار الأغر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فإني أتيت بهذه المقالة راجيًا نشرها في مجلتكم الغراء، حتى تتبين للناس الحكمة في اعتبار الشريعة الإسلامية أن الكلب نجس وفي تحريمها لحم الخنزير معتمدًا فيما أقول على المباحث العلمية الطبية الحديثة التي أثبتتها التجارب الحسية حتى لا يبقى عند أحد ريب في صحة ما أتت به هذه الشريعة الغراء والعمل بموجبه، فإنها أحكم من أن تضع حكمًا عبثًا وأجلُّ من أن تسن قانونًا لا فائدة للناس فيه، ومهما خفي سببه في بادئ الأمر فلا بد أن تتجلى فائدته عاجلاً أو آجلاً، فأقول: لتحريم لحم الخنزير أسباب كثيرة أجلها ثلاثة قبل أن أتكلم على هذا السبب الأول يجب أن أقدم مقدمة في (علم الديدان) حتى لا يعسر على أحد فهم ما أقول. (الأول ومقدمته) قد يوجد في أمعاء الإنسان عدة أنواع من الديدان قلّ أن يخلو منها أحد، ومضار هذه الديدان متفاوتة فمنها ما ضرره عظيم ومنها ما ضرره حقير ومن هذه الأنواع ما يسمى بالديدان الشريطية. أذكر منها الدودة الوحيدة بتفصيل يسير لأن لها صلة بموضوعنا وأشير إلى غيرها فيما بعد. تسمى هذه الدودة (تينيا سوليم) وهي كلمة يونانية ومعناها (الشريط الوحيد) سماها الواضع بهذا الاسم لظنه أنه لا يوجد منها في الأمعاء إلا واحدة فقط وهذا خطأ فقد يوجد منها أحيانًا اثنتان أو ثلاث، وطولها يختلف من 7 أقدام إلى عشرة أقدام وهي مقسمة إلى عدة أقسام تبلغ 850 وفي الأقسام الخلفية توجد أعضاء التناسل فتجد أن كل قسم منها فيه أعضاء الذكر والأنثى، فإذا تممت هذه الأعضاء وظيفتها وتكونت البويضات في داخل الرحم انمحت الأعضاء إلا الرحم فتبقى البويضات محفوظة فيه فإذا سقطت هذه الأقسام المشتملة على البويضات من دبر الإنسان وقت التخلي كما يحصل كثيرًا لمن كان مصابًا بها ووصلت هذه البويضات إلى معدة الخنزير أثناء تقممه القاذورات وأكلها ذاب قشرها بواسطة العصير المعدي وخرجت الأجنة فتثقب الغشاء المخاطي للمعدة وتصل إلى أوعية الدم الذي يحملها إلى العضلات وغيرها وهناك تنتقل إلى طور جديد تصل به إلى تمام نموها. وهذا الطور هو أن تكوّن هذه الأجنّة حويصلات صغيرة واحدها قدر حجم الحمصة في داخل اللحم وبعد ذلك يبرز في داخل هذه الحويصلات هنات مخروطية الشكل، كل هنة منها رأس لدودة جديدة فإذا أكل إنسان هذا اللحم خرجت هذه الرؤوس من حويصلاتها وعلقت بالغشاء المخاطي للأمعاء وكونت كل واحدة دودة طويلة تامة النمو وتسبب من وجودها في الأمعاء أعراض كثيرة فيحصل للمصاب بها مغص أو قيء وربما صار نَفَسه كريه الرائحة ويصاب بالإقهاء (فقد شهوة الطعام) أو النهم الشديد وقد يصاب بآلام في رأسه أو دوار أو إغماء ويشعر بضعف عام في جسمه وتضطرب أفكاره وأحيانًا تنتابه نوبات صرعية وتشنجات عصبية قوية. وليس هذا كل الضرر الذي ينشأ عن هذه الدودة، بل هناك خطر آخر عظيم وذلك أن بعض الأقسام قد يتلف وهو في الأمعاء فيجرح البويضات مع البراز، فإذا أصابت ملابسه أو يده أو غير ذلك ووصلت إلى معدته أثناء أكله أذاب العصير المعدي قشورها وخرجت الأجنة وتطورت بذلك الطور الذي ذكرناه في الخنزير فتتكون الحويصلات المذكورة سابقًا في أعضائه، وكثيرًا ما تصيب عينه فتتلفها أو بعض أجزاء مخه فتفسدها وتبطل عملها، فيحصل له شلل في بعض أعضائه أو غير ذلك مما يتسبب عن إصابات جوهر المخ وقد تصيب أعضاءً أخرى فتعمل فيها ما عملته في العين والمخ ويصير الإنسان منبعًا لعدوى غيره فإذا صافح آخر وانتقلت إليه البويضة تعمل فيه ما عملته في الأول. وكثيرًا ما يتخلى أهل الأرياف وغيرهم في المزارع أو في مياه الشرب فتنقل بسبب ذلك الحويصلات إلى أناس كثيرين، ولولا الخنزير لما أصاب الإنسان شيء من ذلك فإنها لا توجد في حيوان يؤكل سوى الخنزير، وقد توجد في الكلب أيضًا والقرد. واعلم أنه لا توجد دودة تتم طور الحويصلات في الإنسان سوى هذه وأخرى نذكرها فيما بعد وحويصلات هذه الدودة تقاوم الحرارة في درجة 60 سنتجراد نحو نصف ساعة على الأقل إذا كانت توجد في داخل لحم الخنزير وهو موصل رديء للحرارة فإذا غلي الماء الذي حوله أثناء الطبخ حتى صارت درجته 100 فلا تصير درجة ما في داخل اللحم 60 أو 70 إلا بعد زمن ثم ترتفع شيئًا فشيئًا حتى تصير 100 ولهذا تجد أن كثيرًا من الأوربيين مصابون بها وذلك لصعوبة قتلها بالحرارة وكلما ازداد الإنضاج للثقة بقتلها عسر هضم اللحم لتجمد المواد الزلالية. هذا ولما كان اختيار أخف الضررين هو الواجب عند الاحتياج إلى ارتكاب أحدهما - ولا يخلو لحم من مضار - وجب أن نختار ما هو أخف أذى، قلت ذلك لأن الحيوانات الأخرى المأكولة كالضأن أو غيره لا تخلو من ديدان أخرى شريطية كالسابقة. من ذلك دودة (تينيا ساجنيتا) التي توجد حويصلاتها في البهائم التي تؤكل ولكن هناك فرقًا بين هذه وتلك لأن الحويصلات في هذه إذا وصلت إلى معدة الإنسان وتكونت منها الدودة التامة وفيها البويضات فلا يمكن إذا ازدرد الإنسان البويضات ثانيًا أن تكوّن طور الحويصلات فيه مطلقًا؛ لأنه لا يفعل ذلك إلا دودة الخنزير وبذلك يكون الإنسان مطمئنًا على عينه وعلى مخه وغير ذلك من الأعضاء الرئيسة ولا يكون منبعًا لعدوى غيره وذلك لأن هذه البويضات يلزم لها حيوان آخر غير الإنسان حتى تتم طور الحويصلات فيه وبعد ذلك تنتقل منه إلى الإنسان فتكون في أمعائه الدودة التامة البالغة النمو. وفي الحقيقة إن أعظم الأخطار هو تكوّن الحويصلات في أعضاء الإنسان الرئيسة وأما في الأمعاء فربما لا ينشأ عنه شيء مضر به وإذا حصل بعض الأعراض التي ذكرت كالقيء والإسهال والصداع فإزالة الدودة بكثير من الأدوية سهل جدًّا، ولكن إزالتها وهي في طور الحويصلات من المخ وغيره عسير بل مستحيل. ويا ليت هذا هو ضرر الخنزير الوحيد؛ بل هناك مضار أخرى فاسمع الغرائب الآتية: (الثاني) كثيرًا ما يأكل الخنزير الفيران الميتة التي كثيرًا ما تكون عضلاتها محلاًّ لأجنة دودة تسمى (تريكينا اسبايرالس) أي الشعرة الحلزوينة؛ لأنها دقيقة جدًّا وملتوية على شكل حلزوني فإذا وصل هذا اللحم إلى معدة الخنزير هضم وخرجت الأجنة من أغشية الأمعاء المخاطية وتصل إلى عضلات الخنزير فإذا أكلها إنسان ولم يكن قد عرضها بالطبخ لحرارة كافية لإماتتها نمت في أمعائه إلى أن تلد أجنة كثيرة تنفذ إلى عضلات الإنسان وخصوصًا عضلات التنفس وكذلك القلب، وحينئذ يصاب بمرض شديد فترتفع حرارته ويعتريه إسهال وقيء وتلتهب جميع عضلاته فلا يقدر على تحريكها ويصير لمسها مؤلمًا فلا يمكنه أن يمضغ أكله فيمتنع عنه ويصعب عليه أن يتنفس لالتهاب عضلاته، ولا يقوى على تحريك عينيه وبعد ذلك يحصل له ارتشاح في جميع جسمه فيرم وتسرع حركات نبضه وحركات تنفسه بطيئة جدًا حتى يموت! وهذه الأعراض لا يمكن علاجها مطلقًا؛ إذ لا يمكن إزالة هذه الديدان من عضلاته بعد تحصنها فيها. وهذا المرض كثيرًا ما يحصل في البلاد الأوروبية بسبب أكل هذا اللحم المشئوم ولا يتسبب عن أكل لحم سواه كالضأن وغيره لأنها لا تأكل الفيران الميتة إلا إذا أُلقي في غذائها أو وقع فيه بالاتفاق وأكلته بالتبع له، فحينئذ تصاب بما يصاب به الخنزير، ولكن هذا نادر جدًّا، والنادر لا حكم له، بخلاف الخنزير؛ فإن حبه للفيران الميتة يوقعه في ذلك مرارًا عديدة، ولعل هذا السبب أيضًا هو أحد الحِكَم في تحريم لحوم الحيوانات التي تأكل اللحم لأنه عرضة للإصابة بهذا المرض كثيرًا. (الثالث) لحم الخنزير هو أعسر اللحوم هضمًا باتفاق، وذلك لأن أليافه العضلية محاطة بخلايا شحمية عديدة أكثر من الحيوانات الأخرى المباح أكلها وهذه الأنسجة الدهنية تحول دون العصير المعدي فلا تسهل عليه هضم المواد الزلالية للعضلات فتتعب المعدة ويعسر الهضم ويحس الإنسان بثقل في بطنه ويضطرب القلب؛ فإن ذرع الآكل القيء وإلا تهيجت الأمعاء وانطلق البطن بالإسهال فمن لم يتعود أكله تعب منه كثيرًا ومن تعوده وكان قوي المعدة كان الأولى له صرف قوتها في الأغذية الجيدة النافعة وإن لم يكن قوي المعدة ناله من شر هذا اللحم ما يستحق. والخلاصة: أن من ابتعد عن أكله أمن من الإصابة بالدودة الوحيدة أو حويصلاتها ولم يكن سببًا في عدوى غيره وسلم من الإصابة بمرض دودة الشعرة الحلزونية، الذي ربما فاق الحمى التيفودية، فإنه من أصابه لا يرجى شفاؤه ولا بد من موته - وحفظ معدته من التعب وعسر الهضم وأسباب القيء والإسهال وضعف تغذية الجسم إلى غير ذلك من المضار التي سبق شرحها. أما اللحوم الأخرى فإنها أسهل هضمًا ولا يتسبب عنها عادة مرض الشعرة الحلزونية ولا حويصلات في أعضائه الرئيسة يتلفها وإن نشأ عنه دودة شريطية فعلاجها سهل ولا تحدث أعراضًا مهمة. فعلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين يجب أن نقول: لا تأكلوا لحم الخنزير فإنه رجس وكلوا غيره مما أبيح شرعًا. الدين الإسلامي لم يأتِ لإصلاح الروح فقط بل لإصلاح الروح والجسم معًا فأتى بما ينفعنا في دنيانا وآخرتنا وأنفسنا وأبداننا ولم يترك ضارًّا لأحدهما إلا ونبه عليه تصريحًا أو إجمالاً على حسب شيوعه وعدمه بين الناس، فلو ترك التكلم في المأكولات ونحوها لما كان مرشدًا للأنام في جميع أحوالهم الضرورية، فلو لم يحرم لحم الخنزير مثلاً لمضى زمن طويل حتى يهتدي الناس إلى ضرره. ولو اهتدى إليه بعض الأمم لما علمه فيها إلا الخاصة فقط ويمضي الزمن الطويل حتى تعلمه العامة ولو علمته العامة لما قويت على ترك ما اعتادته وعهدت اللذة فيه بخلاف الأمر الديني فإن كل الأمم المؤمنة به تخضع له في أقرب وقت، تخضع له العامة كما تحترمه الخاصة ويعمل في نفوس الجميع ما لا يعمله قول الخطباء ولا نصح النصحاء؛ ولذلك تجد أن شرب الخمر في أوروبا شائع بين سائر الطبقات وكلٌّ يعلم ضرره ومع ذلك لا يمتنعون عنه لا بقول خطيب ولا بقول عالم، فكم خطبت الخطباء ونصحت العلماء ولكن أين مَن يسمع؟ ! فلو لم يكن للدين التأثير الأقوى في أهل الشرق لفاقوا أهل الغرب في الشرب وسبقوهم في تربية الخنزير وأكله ولولا أنهم أخذوا يقلدونهم الآن لما وجدت بينهم شارب خمر ولا آكل خنزير إلا نادرًا ولَمَا سمعت بمرض مما ينشأ عنهما فيهم. فأي إنسان يمكنه الآن أن يعترض على الدين ويقول: (ما له يتكلم في المأكول والمشروب؟ !) وفاته أنه لم يأتِ إلا للإصلاح العام في كل ما يمكن إصلاحه. فلم يتكلم في العقائد فقط بل في المعاملات أيضًا وكما أمر بإصلاح القلب وطهارته أمر بحفظ صحة الجسم ونظافته، فأنعِمْ به من دين جمع فأوعى وأحكِمْ به من صراط سوي مستقيم. بقي علينا أن نتكلم في نجاسة الكلب، لا نقول: إن السبب في ذلك هو أنه عرضة للإصابة بداء الكلب فإن هذا الداء لا يصاب به الكلب وحده بل قد تصاب به الهرة والبقرة والحصان وغيرها، ومتى أصيب الكلب به عرفه الناس وقتلوه فإنه متى أصيب به شل سريعًا عن الحركة وسهل قتله ومجرد لمسه في هذه الحالة لا يعدي بل لا بد من العض ودخول لعابه في جلد الإنسان. فلماذا يعتبر الكلب نجسًا في جميع أحواله ولا تعتبر البقرة والحصان كذلك؟ السبب في ذلك ما يأتي: في أمعاء أكثر الكلاب دودة شريطية صغيرة جدًّا طو

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (ميزان الأفكار) كتاب في مهمات القوانين المنطقية وضعه (أحمد أفندي الهادي المقصودي) أحد علماء قزان (روسيا) بأسلوب جديد في اللغة العربية، وترتيب وتبويب لم يعهد في كتبها المنطقية، وأدخل فيه فوائد ومسائل ليست من هذا الفن ولكنها تتصل بنسبه، وتدلي بسببه، وترغب فيه الباحثين، وتزيد نشاط المشتغلين. فقد أصبح المنطق في العلوم العربية شبيهًا بالأعضاء الأثرية، تُقرأ مسائله، وتهمل في العمل تعاريفه ودلائله؛ لأن العلوم العقلية التي وضع لها قد انطوى بساطها وتقلص ظلها. بدأ المؤلف كتابه بتمهيد عنوانه (علم الروح وعلم المنطق) وبين بعده فائدة المنطق وكونه فطريًّا في الإنسان، ووجه الحاجة إلى تعميمه وذكر أشهر علمائه القدماء من اليونان والعرب والمتأخرين من الإفرنج، ثم تكلم في مقدمة الكتاب عن الوجود والعدم والواجب والممتنع والممكن والجوهر والعَرَض ومقولات الأعراض والعناصر والمواليد والحواس الظاهرة والباطنة والعلم وتحصيله بالتفكر والاستدلال ثم انتقل إلى الدلالات، ومباحث الألفاظ ثم إلى سائر المباحث وجاء فيها بضروب من التقسيم والبحث غير معهودة إلا في كتب الإفرنج. فالكتاب جامع بين المنطق القديم والمنطق الحديث. وقد طبع المؤلف كتابه وجعله ذكرى لمرور عشرين سنة على خدمة (إسماعيل بك الغصفري) محرر جريدة (ترجمان) في بلدة (باغجه سراي) الروسية. فنثني على المؤلف ونهنئ رصيفنا الكامل (إسماعيل بك) بلسان المنار (كما هنأناه بلسان البرق) على خدمته للمسلمين بجريدته ومطبوعاته وبما وفق له من إنشاء المدارس حتى كان ركن النهضة الإسلامية، في بلاد القِرْم بل في البلاد الروسية، ونسأل الله تعالى أن يكثر في المسلمين من أمثاله. *** (القصائد الهاشميات) الكُميت بن يزيد الأسدي الكوفي أحد الشعراء والأدباء الأولين ولد سنة 60 ومات سنة ست وعشرين ومئة وأحسن شعره (القصائد الهاشميات) التي سارت بها الركبان. وقد عني في هذه الأيام الشيخ محمد شاكر الخياط النابلسي أحد مجاوري الأزهر المجدين بطبعها بعد ما صححها على إمام أهل الأدب في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي. ومن سوء الحظ أن عاثت المطبعة في ذلك التصحيح فأفسدت فيه ما شاءت، ولكنه عاد فأصلح بعض غلط الطبع بالقلم فجزاه الله خير الجزاء. أما الذي طبعه على نفقته فهو الشيخ محمد توفيق الخياط النابلسي أحد المجاورين المجتهدين فنشكر للطابع وللمصحح عنايتهما بهذا الأثر النافع ويا ليتهما يعيدان طبعه مصححًا. ونحث طلاب آداب العربية على حفظ هذه القصائد أو كثرة قراءتها. *** (هناك وهنا) كان أحمد حافظ أفندي عوض قد كتب في جريدة المؤيد بعض مقالات عنوانها (هناك وهنا) شرح فيها تاريخ استيلاء إنكلترا على الهند وسياستها فيها وعلاقة مسلمي الهند ونهضتهم الأخيرة بالطوائف الأخرى ومن ذلك الكلام في المجاعات وفي التجارة وفي النفقات الحربية والتعليم. وقد طبعت هذه المقالات على حدتها بمطبعة الشعب فبلغت 76 صفحة من القطع الصغير وهي جديرة بالمطالعة. *** (القول السديد في حرب الدولة العلية مع اليونان) كتاب جديد ألفه علي بك شاكر نجل المرحوم محمد شاكر باشا الفريق الطوبجي، صفحاته زهاء مائتين وهو مزين برسوم القواد والمواقع الحربية، ولم نوفق لمطالعة شيء منه ولكننا نظن أن الروح التي تجول فيه هي تعظيم شأن الدولة العلية وتوجيه القلوب إلى حبها لأننا نرى المؤلف مغرمًا بدولته لاهجًا دائمًا بمحاسنها ومدح مولانا السلطان عبد الحميد أيد الله دولته ووفقه لخدمة الإسلام. وثمن الكتاب 30 قرشًا صحيحًا إلا للجنود فثمنه لهم 20 قرشًا، وهو يطلب من مطبعة الموسوعات بمصر. هذا ما كنا كتبناه لجزء مضى ولم يتيسر نشره إلا في هذا الجزء ثم رأينا في بعض الجرائد أن المؤلف جعل الثمن 20 قرشًا لجميع الناس ووعد بجعله إعانة لسكة الحديد الحجازية، فصار يطلب لذاته وللإعانة معًا وكفى بذلك ترغيبًا. *** (ألف ليلة وليلة) أتمت مطبعة الهلال الجزء الثالث من هذا الكتاب مزينًا كسابقيه بالصور والرسوم، منزهًا عن الفحش والمجون، وصفحاته 216 وثمنه 10 قروش وأجرة البريد قرشان وهو يطلب من مكتبة الهلال بمصر. *** (كتاب الخدمة المدرسية في تسهيل قواعد العربية) ألف هذا الكتاب جرجس أفندي الخوري المقدسي (ب. ع) مدرس اللغة العربية في المدرسة الأميركية بطرابلس الشام وطبع هناك وقد سلك فيه مسلك السهولة وأكثر فيه من الأمثلة، فعسى أن يلتفت إليه نظار المدارس ويختاروه للتعليم في مدارسهم إذا رأوه أمثل من الكتب التي فيها وأسهل. *** (ارتياح الفكرة من جهة الكُلَره) كتيب وضعه أحمد أفندي رفعت في الفيوم أيام وباء الهيضة من العام الماضي وطبعه بعد ذلك، وعبارة الكتاب أقرب إلى العامية وإننا لم نقرأه ولكننا نذكر المسائل التي يبحث فيها بعبارته لعل أحدًا يريد أن يعرف رأيه فيها وليعذرنا القراء في حكمنا على عبارته قال: قد جئت بالبحث والإيضاح عن السبعة أوجه التي يهم كل إنسان الوقوف على حقيقتها وهي: أولاً: هل يوجد كلرا حقيقة كما يقولون؟ البعض بالإثبات والبعض بالنفي. ثانيًا: هل ينفع فيها العلاج واستشارة الأطباء لتدارك الشفاء أم لا؟ ثالثًا: هل الاحتياطات الصحية في ذلك مما يجب مراعاته والأخذ به أم طرحه ظهريًّا؟ رابعًا: هل مسألة الإصابة بالعدوى صحيحة أم غير صحيحة؟ خامسًا: هل سير رجال الصحة في عمل الاحتياطات موافق للشرع الشريف أم مخالف له؟ سادسًا: هل ما يشاع من وجود من يقصدون تعمد وضع أشياء مسممة للناس في الأطعمة والمياه حق أم باطل لا أصل له؟ سابعًا: هل أصدق بقولي إن الكلرا الثانية الآتي بيانها هي أشد وطئًا وأعبأ ثقلاً على الناس أم لا؟ اهـ. بحروفه، وصفحات الكتيب 72 ويطلب من أكثر المكتبات الشهيرة. *** (مسامرات الشعب) صدرت القصة السابعة عشرة واسمها (اليتيم) ومؤلفها حافظ أفندي عوض وقد كان طبعها الطبعة الأولى من نحو خمس سنين وقرأناها فحمدنا التأثير، وانتقدنا التقصير في التحرير، وصدرت القصة الثامنة واسمها (شهداء الآباء) ومؤلفها مصطفى أفندي إبراهيم وهي تمثل سوء عاقبة ما عليه أولاد الأغنياء في مصر من فساد الأخلاق واتباع الشهوات. وفاتنا أن نذكر من قبل قصة (الفتاة اليابانية) وهي قصة موضوعها مفيد قرأناه بارتياح وودنا لو يطالعها تلامذة المدارس المصرية عسى أن يميزوا بين التعليم الحي وتعليم المحاكاة التقليدية، ومؤلفها حسن أفندي رياض وهي القصة السادسة عشرة من المسامرات.

الجمعية الخيرية الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجمعية الخيرية الإسلامية الاحتفال بمدرستها في القاهرة احتفلت الجمعية الخيرية الإسلامية في يوم الأربعاء الأسبق بمدرستها في القاهرة احتفالاً رأسه مفتي الديار المصرية وحضره كبار العلماء والوجهاء وفي مقدمتهم شيخ الأزهر ومدير الأوقاف. وقد كان الاحتفال على نحو الاحتفالات السابقة حسنًا ونظامًا وموضع إعجاب بما امتاز به تلامذة الجمعية على سائر المتعلمين من أمثالهم، وهو أنهم لا يحفظون شيئًا بدون فهم ولذلك كان رئيس الجمعية والاحتفال يناقش التلامذة في كل ما يسألون عنه فيحسنون الجواب. ولما أراد الرئيس توزيع الجائزة التي باسم المرحوم علي باشا مبارك ذكر من خدمته للمعارف ثلاثة أمور عظيمة: أحدها تعميم المدارس في المديريات وثانيها إبطال الضرب من المدارس وكان الضرب فيها مفروضًا رسميًّا، فالتأديب فيها كان (بالكرباج) كتأديب المذنبين والمجرمين في شريعة محمد علي باشا وقوانينه. وقد قال الأستاذ الرئيس في هذا المقام كلمة جليلة وهي: إن علي باشا مبارك أبطل بمنع ضرب التلامذة التربية بالإهانة والقسوة وجعل التعليم مقرونًا بكرامة النفس وهي قوام التربية، فإن المعاقبة على الذنب بالإهانة والقسوة لا تؤدب النفس؛ لأنها تخفي الأخلاق الذميمة ولكنها لا تمحوها بل تزيدها وتقويها فتكون كامنة حتى إذا تسنى لها الظهور تظهر في أقبح الصور. وأمّا الذي يمحو الأخلاق الذميمة فهو الإقناع بقبحها وضررها وحسن المعاملة وتكريم النفس حتى تتكرم عن الشوائن وتأنف من كل ما ينافي الشرف. وأما الأمر الثالث فهو إنشاء مدرسة دار العلوم التي تسمى الآن (مدرسة المعلمين الناصرية) قال: إن تلامذة هذه المدرسة يؤخذون من طلاب العلم في الأزهر فيضمون إلى العلوم الأزهرية جملة صالحة من العلوم الكونية التي تقرأ في المدارس. وقد تخرج في هذه المدرسة كثيرون خدموا المعارف في مصر خدمة نافعة، فمنهم معلمو العربية في جميع مدارس الحكومة وبعض المدارس الأخرى ومنهم المشتغلون في المعارف بالتفتيش في المدارس والكتاتيب وهم محافظون على زيهم المصري زي أهل العلم الديني، ولهذه المحافظة تأثير عظيم في التربية العربية. وبعد ذلك وزعت المكافأة السنوية التي يتبرع بها الشيخ عبد الرحيم الدمرداش للنابغين من تلامذة مدرسة الجمعية في القاهرة وهي ألف قرش. ثم انفض القوم بختم الاحتفال داعين للمدرسة بزيادة النجاح وللجمعية ببلوغ الكمال.

المحسن المصري العظيم منشاوي باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحسن المصري العظيم منشاوي باشا ذكرنا في جزء مضى أن صاحب السعادة أحمد باشا المنشاوي الشهير تبرع بمائة فدان من أطيانه لمدرسة الصنائع التى تنشئها جمعية العروة الوثقى في الإسكندرية. وقد كتب رئيس الاكتتاب لإعانة المدرسة صاحب الدولة مصطفى رياض باشا كتاب شكر إلى هذا المحسن العظيم وأرسلت الجمعية طائفة من أعضائها إلى داره في الشرقية يشكرون له بأنفسهم هذا الإحسان. ولما كان الشكر مدعاة المزيد هزته أريحية الكرم فتبرع بوقف ثلاث مائة فدان على هذه الجمعية الخيرية فكتب إليه رياض باشا كتاب شكر آخر ترغيبًا في الإحسان وإسعادًا على الترغيب فيه وهو: سعادتلو أفندم أحمد منشاوي باشا حضرتلري: سلام وثناء عليك يا مَن عرفت كيف تصرف الأموال وكيف تخدم الأوطان وكيف تتقدم البلاد، إنني كثيرًا ما تمنيت الخير وكثيرًا ما حببت فيه وكثيرًا ما ناديت الأمة المصرية إلى جمع الأموال لتأسيس المدارس العلمية والصناعية وبعد أن أوشك اليأس أن يستولي عليَّ رأيتك أيها الشهم الكريم وقفت مائة فدان على مدرسة محمد علي الصناعية. فعملك هذا جدد فيَّ الآمال وحببني في الأمة المصرية بأجمعها لوجود مثلك وجعلني أعتقد بأن أغنياء الأمة سيقتدون بك في هذا العمل الجليل الذي قمت به لتعلمهم ما يجب على الأغنياء نحو وطنهم وكتبت لسعادتكم من آيات الشكر ما تستحقه من الله والأمة ثم جاءني كتاب من سعادتك ينبئني بأنك أيها البار بوطنك وقفت ثلاث مائة فدان على جمعية العروة الوثقى، فالحق يقال. إن حبك لبلادك وكرم نفسك وسخاء يدك أدهشني إعجابًا بهمتك العالية وحسن عاطفتك للخير نحو أمتك لأنني لم أر مصريًّا جاد بما جدت به وستشكرك الأجيال المستقبلة على فضلك هذا كما شكرتك الأمة بأسرها. وأهلاً بزيارتك التي وعدت بها في خطابك. نسأل الله أن يمد في أجلك لإحياء بلادك ولتكون قدوة حسنة لغيرك. والسلام عليك أيها المفضال. (رياض) في 3 ربيع آخر سنة 1321 فحق علينا أن نعترف الآن بأن أحمد باشا المنشاوي هو أول غني يفتخر المصريون بكرمه الحميد وإحسانه النافع بل هو مفخرة لجميع المسلمين الذين صار أغنياؤهم في هذه القرون يبخلون بالدرهم في طريق المعارف وما دون المعارف من الخير ويبذلون القناطير المقنطرة في الإسراف والمخيلة والتمتع بالشهوات التي تفسد الأخلاق والآداب وتضعف الأمة بذهاب ثروتها والإدلاء بها إلى الأجانب. وإننا لننتظر من محسننا العظيم نفحة من هذه النفحات لأخت جمعية العروة الوثقى وشقيقتها الكبرى وهي الجمعية الخيرية الإسلامية، ولعله يخبئ لها إنشاء المدرسة الكلية التي لا تتحقق أمنيتها إلا بكرمه وجوده ومما لهجت به الجرائد في هذه الأيام أن محسننا العظيم تبرع بألفي ليرة عثمانية إعانة لسكة الحديد الحجازية وبخمس مائة ليرة باسم قرينته، فجزاه الله أفضل الجزاء بمنّه وكرمه.

جمعية الفضائل الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية الفضائل الإسلامية ألَّف نفر من ذوي الغيرة الملّية في الفيوم جمعية سموها بهذا الاسم وفرضوا على كل داخل فيها خمسة قروش في الشهر على أن يشتروا بما يجتمع في كل شهر نسخًا من المنار وبعض مؤلفات الأستاذ ويوزعوها على الناس. وهؤلاء النفر الكرام: محمد رمزي وإبراهيم أبوعيشة وأحمد نصار وحسن ناصر وعبد الجواد حسن وإبراهيم الصعيدي. فحيَّاهم الله ونمَّاهم.

قراء الصحف المنشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قراء الصحف المنشرَّة يقرأ هذه الصحف التي تسمى المجلات والجرائد جميع أصناف الناس في جميع البلاد، فأصحاب الصحف الرائجة المشهورة أجدر الناس بمعرفة حال الناس في المعاملة مطلاً ووفاءً. وقد علمنا بالاختبار أن لكل صنف خلقًا ولأهل كل قطر خلقًا فمسلمو بلاد روسيا أحسن خلق الله وفاءً. أكثرهم يرسل مع طلب الاشتراك أوراقًا مالية بقيمته وأوراقًا مطبوعًا عليها عنوانه ثم يرسلون القيمة في أول كل سنة ومن أرجأ الإرسال عن أول السنة فلا يرجئه إلا قليلاً، ويليهم أهل جزيرة العرب. وأسوأهم معاملة وأكثرهم مطلاً وإهمالاً مسلمو الهند ويليهم أهل الجزائر، فإن كثيرًا من المشتركين في هذين القطرين لَيقرأ المجلة أو الجريدة عدة سنين ولا يخطر بباله أن يرسل إلى صاحبها شيئًا. ومن العجيب أن السلائل العربية في كل بلاد يتبوأونها يحافظون على أكثر أخلاق العرب الفاضلة، فتجار العرب في الهند وجاوه وسنغافوره هم الذين يرسلون قيم الاشتراك من غير مطالبة ولا تذكير، وأهل المغرب الأقصى كأهل الجزائر إلا أفرادًا في مدينة فاس يشبهون مسلمي روسيا في الوفاء. والحق أنه ليس لنا أن نحكم على أهل تلك البلاد لأن القراء فيهم قليلون وأصلهم في الغالب مجهول، وأما أهل تونس فهم وسط، أكثرهم إذا طولب يدفع وإذا سُكت عنه يسكت وقليل منهم يرسل وإن لم يطالب، ولا أعرف أحدًا منهم إلى اليوم طولب فمطل حتى لا يرجونه، إلا أن الوكيل طلب منع المنار عن نفر قليل؛ لأن الحق لا يخرج منهم إلا نكدًا وأظن أنهم دفعوا وليس عندهم شيء وسيتبين هذا بعد قليل، لأن المحصل لا يزال يشتغل بالتحصيل، فإن قيل إن علي بن زنين الذي كان وكيلاً للمنار قد جمع طائفة من الاشتراكات وثمن كتب أرسلتموها إليه بطلبه كتقرير مفتي الديار المصرية وكتاب الدروس الحكمية وماطلكم في ذلك عدة سنين، نقول: إننا لا نزال نرجوه وقد كان بعض الناس يكتب إلينا يحذرنا منه فلم نحفل بذلك والذي تحققناه أنه ماطل ولا نقول إنه لا ذمة له ولا أمانة إلا إذا كتب إلينا الوكيل الذي كلفناه بمحاسبته ومطالبته - أنه لا يدفع مختارًا أو تقاضاه في المحكمة. هذا وإن الوكيل هناك يشكو من عناء التحصيل ولعل ذلك لكرم نفسه وعدم اختباره الناس في حرصهم على المال. هذا إيماء إلى ما كان من اختبارنا، فإذا أردنا أن نعلل ذلك بتأثير الحكومات بأن نقول: إن الأمة التي تظلمها حكومتها تتعلم والأمة التي تحكم بالعدل تجري على العدل - خاننا التعليل وإن كان له وجه وجيه؛ إذ يصعب علينا أن نفضل حكومة روسيا على حكومة الهند. والصواب أن حسن المعاملة تابع لحسن الخلق والأخلاق آثار الوراثة والتربية في النفس إذا رسخت وانطبعت. ولا شك أن الأمم المحكومة تؤثر كيفية الحكم في أخلاقها ولكن أخلاق الأمم تنطبع في الزمن الطويل ولا تتغير إلا في الزمن الطويل، ولذلك لا يصح الحكم على أخلاق الأمة بحال حكومتها الحاضرة الحادثة فإن الذين يفعل الاستبداد والاستذلال في نفوسهم عدة قرون لا يتطهرون من تلك الآثار الخبيثة في عشرات من السنين لا سيما إذا انتقلوا من عبودية ذلك إلى حرية مجون وخلاعة. ومسلمو روسيا لم يكونوا أذلاء ولا مُجَّانًا من قبل حكمها وهي لم تظلمهم إلا بالتضييق على المعارف زمنًا ثم أعطتهم حرية ما في التعليم والتربية فهم يجدُّون فيها ويجتهدون على بصيرة يفضلون فيها سائر المسلمين، وأهل الهند كانوا أذلاء بالاستبداد ثم كانت لهم حرية فاسقة مع تضييق في أمور المعارف ثم صارت لهم حرية تامة لم تؤثر فيهم تأثيرها لقصر الزمن. وأما أهل المغرب الأقصى فهم على بداوتهم في ظلمات من الفوضى والجهل لا يبصرون ولذلك قلنا إن الحكم عليهم غير صحيح، ونظن أن الأخلاق في الجزائر لم تفسد بالمرة وأنها هناك خير منها في تونس لأن الجزائريين أبعد من التونسيين عن الخلاعة والترف وقد كانوا من قبل حكم فرنسا أقرب في حضرهم إلى البداوة ولم يؤثر حكمها في أخلاقهم إلا قوة الاعتصام برابطة الدين والجنس لأنها أزالت منهم السلطة الإسلامية، ولا يستطيع إفساد المسلمين إلا الحكام الطغاة من المسلمين؛ إذ لا يفل الحديد إلا الحديد. والبلاد العثمانية نزلت عليها آية الحجاب فلا كلام فيها. بقي الكلام على بلاد مصر، كانت هذه البلاد ولا تزال أم العجائب وفيها من المماطلين والخائنين والهاضمين للحقوق ما لا يوجد في غيرها، كما أن فيها من الفضلاء وأهل الكرم والوفاء نفرًا يعز وجود أمثالهم في سواها. في هذه البلاد رأينا من الفروق بين الأصناف كما يرى الراؤون بين الأشخاص، وأظن أن غير العالم المختبر يحسب أن أحسن الناس وفاءً، وأسهلهم قضاءً علماء الدين أو قضاة الشرع أو القضاة عامة؛ لأنهم هم الذين يعملون لإقامة العدل وأداء الحقوق إلى أهلها وهم أعلم الناس بآثار الليِّ في الحقوق ومضراته؛ لأنها ممثلة كل يوم أمام أعينهم في أقبح صورها وأشكالها. وليس هذا الحسبان بصحيح ولعل القارئ لا يتوقع أن أقول أحسن الناس وفاءً وأطهرهم ذمة المهندسون. ولعل السبب في ذلك تأثير العلوم الرياضية في نفوسهم كما تؤثر في عقولهم فإنها هي العلوم التي ليس فها أوهام ولا ظنون فاسدة ولا خرافات ولا مسائل تؤخذ بالتقليد الأعمى. أما المُطل فهو على أشده في أهل البطالة ثم في كتاب الدواوين وغيرها لأن أكثرهم لا همّ له من حياته إلا أن يكون له رزق مضمون يتمتع به وإن كان قليلاً، أعني أنهم لا تهمهم الأمور العامة وليس لهم مقاصد عالية وإنما يذكرون لفظ الملة أو الوطن حكاية للألفاظ التي تكثر في الجرائد. ومن يشترك في الجرائد منهم فإنما يشترك تشبهًا بالوجهاء والرؤساء. هذا كلامنا في الأكثرين، ومنهم أفراد من أرباب البيوت التي لها سلف في حسن الأخلاق أو التي لها قرب من سذاجة الفلاحين الفطرية التي لم يطغَ عليها طوفان فساد ما يسمونه (التمدن) فأولئك يشتركون ليستفيدوا وليكونوا عونًا للصحيفة التي يعتقدون نفعها، وقليل ما هم. ومن العجيب أن يكثر المطل والليُّ وهضم حقوق العلم والأدب في رجال القضاء وأعوانهم من رجال (النيابة) فإن في قضاة الاستئناف الذين يرون أنفسهم فوق جميع رجال الحكومة عدلاً وعدالة وعفة واستقامة مَن يدافعون محصل الجريدة من شهر إلى شهر حتى تصير هذه الشهور سنين فما بالك بمَن دونهم؟ ! أما أهل العلم الديني ومنهم قضاة الشرع ومعلمو المدارس فهم أحرص على المال وأضن من جميع الناس إلا أنهم قلما يشتركون في الجرائد ولكن يطلبها الوجهاء منهم على أن تكون هدية ومن أراد الاشتراك من غير الوجهاء، فإنه يجتهد في أن ينقص من قيمة الاشتراك المعينة شيئًا، النصف فما دونه، ويلحّ في ذلك إلحاحًا ثم إنهم بعد ذلك لا يتنزهون عن المطل والتسويف ولكنهم قلما يستحلون أكل قيمة الاشتراك وهضمها بالمرة كما يفعل بعض كتاب الدواوين وبعض التجار والفلاحين والعُمَد. هؤلاء العمد يحبون الجرائد ويكرهون المجلات، يحبون الجرائد لما يتوقعون من مدحها إياهم ودفعها عنهم فيما يتهمون به؛ ولذلك يدفعون لها الاشتراك، ويزيدونها عطاءً ومساعدةً، ويكرهون المجلات لأنهم لا يتوقعون منها ذلك ولا يفهمونها وليس عندهم روح حب العلم والأدب وقد اعتاد أكثرهم على الظلم وهضم الحقوق حتى إن الأستاذ الإمام يضرب المثل في الدرس ببلادتهم. وليس هذا الحكم عامًّا فإنني أعرف نفرًا منهم يحبون العلم والأدب منهم المتعلم في المدارس النظامية ومنهم من له حسب عريق وأخلاق موروثة. وإنما قلت ما قلت في العمد عن سماع لا عن اختبار فإن المشتركين منهم في المنار قليلون وإنني شاكر لهم لا شاكٍ منهم ولا أستثني إلا اثنين لا أذكرهما بالاسم ولا بالوسم؛ لأن هذا ليس من شأن المنار تجرَّءا على هضم حقه. ومن الناس من يحتال على قراءة الصحف المنشرة بالانتداب لخدمتها بالمكاتبة أو الدعوة إليها وتكثير سواد قرائها وقد عانينا من هؤلاء المحتالين ما عانى غيرنا ولم يبق لأحد يعرف المنار مطمع في مكاتبته؛ لأن مائدته لا تقبل المتطفلين ولكننا نتلقى في كل حين كتابًا ممن يصفون أنفسهم بالغيرة على العلم والدين، والرغبة في إسعاد الكتاب والمنشئين، وبعد إطرائنا وإطراء أنفسهم يطلبون أن يكونوا وكلاء. وقد أجبنا طلب كثير منهم بإرسال المجلة إليهم وحثهم على نشرها فلم يصدُق أحد منهم وإنما كانوا يخادعوننا في أول الأمر بطلب المجلة لواحد أو اثنين ويشهدون لمن يطلبون له الأمانة والاستقامة ويعدون بأخذ قيمة الاشتراك منه في أثناء السنة فتمر السنة ولا يفي أحدهم بوعده ومن يدري أأخذ من المشترك أم لا. وقد كان لنا من أرجى هؤلاء العاضدين للأدب بالوكالة أن حبانا مشتركًا في أول العهد بوكالته (في السنة الماضية) ثم إن ذلك المشترك كتب إلينا بأنه لم يرضَ أن يكون عونًا للمجلة بالاشتراك فقط وإنما هو مستعد لنشرها وطلب وصولات لأجل التحصيل ممن يدعوهم إلى الاشتراك فكتبنا إليه نطالبه فلم يرسل إلينا مالاً. ولم يرجع إلينا قولاً، فرجعنا إلى الوكيل الذي أمر بإرسال المجلة إليه فكتب أنه طالبه فادعى أن المجلة ترسل إليه على أنه وكيل لها، لا أنه مشترك فيها! ! ثم طلبها لمشترك جديد ... فكتبنا إليه: إنك كنت وكيلاً على مشترك واحد فلما صار هو وكيلاً صرتما وكيلين على لا شيء! وأنت الآن تطلب المجلة لآخر، ونخشى أن يصير في آخر السنة وكيلاً، فيكون لنا ثلاثة وكلاء على لا شيء ثم يتجدد هذا في كل عام وما يدرينا أننا إذا أطعنا هذا الوكيل يصير خبره إلى جميع المشتركين فيختارون أن يكونوا وكلاء، يتحكم كل منهم بإرسال المجلة إلى مَن شاء! ! !

نحن واليازجي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نحن واليازجي الشيخ إبراهيم اليازجي في الطبقة الأولى من أدباء نصارى بلاد الشام، وقد اشتهر بالعناية والبحث في اللغة العربية وانتقاد ما يكتب بها وإن قومه ليجلون قدره. ولكننا كنا نراهم على فخرهم به يشكون من عجبه وصلفه، ويألمون من غروره وتنفجه، ويقولون: إن هذه الخلال حالت دون انتفاعه بعلمه وانتفاع الناس به، وأنها تحمله على أن يغمط العلماء والفضلاء الذين لا يدانيهم في علمهم (كمنشئ المقتطف) لما قد يقع في كلامهم أحيانًا من كلمة دخيلة أو عامية، أو عبارة تخالف بعض قواعد العربية، على أن كلامه لا يسلم من مثل ذلك، ولكنه لانصرافه بكل همته إلى التنقيح يقل في كلامه الغلط والشذوذ، وللقوم شغل بالعلوم يأخذ من همتهم حظًّا هو أشرف ما تصرف إليه الهمم، ومما سمعناه عنه في بلاد الشام وفي هذه البلاد أن غروره بنفسه في فهم اللغة جرَّأه على الطعن في القرآن العظيم الذي خضعت له أعناق البلغاء وسجدت له جباه الفصحاء، أيام كانت البلاغة في أوج سلطانها، والفصاحة في ريعان شبابها، فكان لهذا الرجل في خيالنا صورة منتزعة من سيرته المسموعة غير جميلة لذلك لم تتوجه النفس إلى طلب معرفته؛ لأننا من قوم يفضلون الأخلاق الكريمة على العلوم العقلية والكونية، بله الفنون اللغوية، ثم إن كلاً منا يشتغل بالصحافة؛ ولكن ليس بيننا وبينه مبادلة، فلا نحن نطَّلع على مجلته ولا هو يطَّلع على مجلتنا إلا أن يكون ذلك مصادفةً واتفاقًا. ثم كان في العام الماضي أن جمعية الكتاب المصرية ضمتنا في بعض جلساتها فرأينا صورة أجمل من تلك الصورة الخيالية رأينا لطافة ودماثة وأدبًا كدنا نكذب به كل ما سمعنا مما لا يرضى، لولا أن هذا اللقاء لا يصح أن يسمى اختبارًا يحكم به على الأخلاق. على أن اعتقادنا فيه حسن ورجحنا أن في قول الناس فيه مبالغة حتى اتفق لنا ما كشف الستار، من حيث لا نحتسب. رأى القراء أننا حين شرعنا في رد شبهات النصارى على القرآن قلنا أن المجلة البروتستنتية نقلت هذه الشبهات من كتاب لهم يقال أن للشيخ إبراهيم اليازجي يدًا في تصحيحه أو تأليفه أو الزيادة فيه وهو عندهم أقوى طعن في القرآن. معتقدين صدق الذين قالوا لنا ذلك لنبين لصاحب تلك المجلة وغيره أن آخر سهم في كنانتهم طائش وأن ما ارتضاه أعلمهم باللغة وعدّه طعنًا في القرآن ليس بأمثل مما يهذي به أجهلهم، فهو دليل على سوء قصده وإلا فعلى جهله، ولكنني حفظت لليازجي حق ذلك الاجتماع القليل، فأوردت الرواية بصيغة المجهول التي تُشعر بالشك (يقال) ثم إنني لم أكن راضيًا عن نفسي تمام الرضى بما نشرته وأنا أشبَه بالمضطر مني بالمختار لأن مدافعة المشاغبين الذين يطعنون في الدين من الفروض الإسلامية الكفائية إذا لم يقم بها أحد يكون جميع المسلمين العارفين عاصين لله تعالى وقد لقيت بعد أيام من صدور المنار صاحبًا لي وللشيخ إبراهيم فأخبرني بأنه استاء مما كتبت وأنكر ما نُسب إليه. فقلت له إن أحب شيء إليَّ أن أجد سندًا لإعلان براءته وحسبي في ذلك ما نقلت أنت عنه وإنني سأبرِّئه في أول جزء يصدر من المنار فقال: لا تعجل حتى ترى ما يكتب فإن الذي أطلعه على المنار أغراه بالرد عليه والإغلاظ له ثم جاءني صاحب آخر بما كتبه فإذا هو قد أعاد لي تلك الصورة التي صوَّرها الناقلون الأولون. أكبر الرصيف أمر تلك الكلمة (يقال ... ) إكبارًا حتى مثّلها لقارئ كلامه بصورة جبل عظيم يريد أن ينقضّ على العالم فتنقض معه المعاقل والصياصي، وتشيب لهوله النواصي. وعدها من (الفوضى القلمية في هذا القطر وانقطاع كل عقال فيه حتى أصبح كل شيء مباحًا وصار الكاتب إذا هجس في صدره خاطر متخرص (كذا) أو مر بسمعه قول مرجف لا يلبث أن ينشره بغير تثبت ولا فحص، يشوش به الأفكار ويجعله مصدرًا للقيل والقال) . كأنه يرى أن ما كتبه أصحاب الجرائد الأسبوعية في الأئمة الأعلام، وفي كبار الأمراء والحكام لا يُذكر في جانب تلك الكلمة في مقامه ولا تصل به الحرية إلى حال الفوضى القلمية وكأنه يتوهم أن أبناء الملتين الكبيرتين (الإسلامية والنصرانية) ينتظرون سماع اسمه ونقل كلمة عنه حتى إذا ما قيل إن الشيخ إبراهيم قال كذا تضطرب الأفكار، وتجيش الصدور، وتستعر نيران الجدال، وتكون كلمته موضوع القيل والقال؛ ولكن الكلمة قد قيلت ولم يحفل بها أحد. وأما المنار فإنما رد عليه كما رد من قبل على ما كتبه ذلك القبطي الذي لا يُعرف اسمه إلا مكتوبًا على غلاف تلك المجلة فلا هو من العلماء ولا من الكتاب ولكنه من المشاغبين الذين ينشرون شبهات المشككين. وقال بعد نقل الكلمة أنه وقف يقلب الطرف في هذا الكلام ويتمثل أيامه وأحلامه الماضية ليتذكر عهد اشتغاله بالمناقشات الدينية. ثم استدل من الكلمة على شدة حرصنا على إلصاق التهمة به وعلى أنه مأخوذ بها إما من جهة التأليف أو من ناحية التصحيح أو من جانب الزيادة. ثم قال أننا بينا هذا الحرص وهذا الحكم بالأخذ على شهادة (يقال) وهي شهادة ما أنزل الله بها من سلطان. وكتب ما شاء أدبه من الطعن والهجو. ولعمري إن استنباط هذه المعاني كلها من كلمة (يقال) ثم ادعاء أنها هي نفسها إنما جعلت شاهدًا على المستنبطات ثم الاعتراف بأنها شهادة لا تدل على شيء من ذلك - كل ذلك يناسب فهم ذلك المنتقد على القرآن الذي عمد إلى الآيات المتناسبة الواردة في تأييد حقيقة واحدة فجعلها متعارضة مناقضة. سبحان الله! إننا لم نكتب عنك - يا عَلاَّمة اللغة - إلا تلك الكلمة (يقال ... ) فإذا كانت لا تدل على ثبوت شيء فمن أين استنبطت كل هذه المعاني؟ لعلك استنبطتها من الطريقة التي فسرت بها القرآن بهواك. فسبحان مَن أعطاك. أو من التمرن على مجادلة (الجزويت) . فلله أنت ولله ما أوتيت. ثم قال أننا كنا نستطيع أن نستثبت ذلك منه مشافهة وأنه كان يعتقد إلى الساعة التي علم فيها بالكلمة أننا من أصدقائه - وإن لم تثبت مع التعصب صداقة - وأن ذلك يكفينا إعنات النفس في الاستخبار والاستطلاع أو كدّ المخيلة في الحدس والتكهن (كذا) . ما أشبه هذه الأقوال بتلك في الخطل والعسلطة. أيظن الرصيف اللغوي أن تلك الكلمة (يقال ... ) لم تأتِ إلا من إعنات النفس في سؤال الكثير من الناس: هل كان لليازجي يد في كتاب كذا أم لا؟ أو من كدّ المخيلة في التكهن؟ إن هذا الظن من أعجب وحي الغرور. وأعجب منه أن يظن رجل مثله شاخ في اختبار الناس أن فلانًا صديقه وهو لم يختبره في شيء وإنما رآه مرتين أو ثلاثًا ولم يتحدث معه إلا بعض دقائق! أما قوله بأنه كان ينبغي لنا الاستثبات منه فهو صواب لكنه محتفٍ بغروره إذ كلفنا أن نجيئه وهو يعلم أننا لا نعلم في أي ناحية من مصر يقيم وأن أوقاتنا لا تسمح لنا بزيارة جميع أصدقائنا الذين يزوروننا، فضلاً عن إضاعة الأوقات في السؤال عن غيرهم، ولعمر الحق أنه لو خطر في بالنا ذلك عند الكتابة لكتبنا إليه وإن كان الوقت قصيرًا وأنه لو كتب بعد ذلك رقعة يبرئ بها نفسه لبادرنا إلى تبرئته ولكن هذا الغيظ الذي استولى عليه حتى كتب ما كتب مما كنا نجله عنه يدل على أن ما قيل عنه صحيح وإن بالغ في تنزيه نفسه عن المناقشة في الأديان فإن الإنسان لا يتألم مثل هذا الألم إلا إذا كان ما قيل فيه حقًّا. أما الصداقة فنؤكد له القول بأنه قلما يوجد في بلاد سوريا ومصر مَن له أصدقاء يخلص لهم ويخلصون له مثلنا، وأن أصدقاءنا من فضلاء النصارى يعرفون حرصنا الحقيقي على الوفاق بين المِلَل وأن مدافعتنا ما يفتريه أو يموه به القسيسون والمبشرون وأعوانهم على الإسلام مما يعيننا على الدعوة إلى الوفاق والوئام.

الكرامات والخوارق ـ 15

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخوارق والكرامات المقالة الخامسة عشرة في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل (التنويم المغناطيسي) بقية بحث إبراء العلل قلنا إن من وجوه التعليل في إبراء العلل تأثير النفس الذي يعبر عنه الصوفية بتأثير الهمة، وقد كان هذا فاشيًا فيهم؛ لأنهم كانوا يعرفون تربية الهمة النفسية أي: تربية الإرادة والعزيمة، وقلنا: إنهم لم يكونوا يقصرون هذا على أنفسهم بل كانوا يعترفون بوقوعه للوثنيين كالهنود وغيرهم، وإنما سرى هذا إلى المسلمين من الهنود، ونقول الآن: إن هذا التأثير قد ظهر في هذا العصر - عصر الصناعات والعلوم الطبيعية - بشكل صناعي يعبرون عنه بالتنويم المغناطيسي الذي شاع ذكره واشتهر أمره وكثرت فيه الدعاوي ومن أغربها أن المنوم إذا سأل المنوم عن شيء من الأمور الغيبية التي لم يسبق له بها علم يجيبه عنه لأن روحه بغيبتها عن الحس تطلع على ما وراءه، ومنه أن المنوم إذا قال للمنوم: إنك قد برئت من علتك وشفيت من مرضك، وهو مريض - فإنه يبرأ حالاً وإذا قال: إن الجو بارد ينتابه البرد حالاً ويقفقف وإن كان الحر شديدًا وكذلك إذا قال له إن الحر شديد في إبان البرد القارس فإنه يسرع إليه العرق مما يجد من الحر! ومن العلماء من ينكر هذه الدعاوي ويعد منتحليها من المشعوذين. والمحققون من الأطباء الطبيعيين يقولون: إن الذي يثبت بهذا التنويم شيء واحد وهو تأثير النفس في النفس وحكم الإرادة القوية على الإرادة الضعيفة، وهذا هو الذي كان معروفًا عند القدماء من الصوفية وغيرهم على ما علمت من الجزء الماضي. وقد جاءنا بعد صدوره العدد 22 من جريدة (الأفكار) التي يصدرها في سان باولو البرازيل (أمريكا الجنوبية) الدكتور سعيد أبو جمرة، فرأينا فيه مقالة في ذلك رأينا أن ننشرها هنا لما نعلم من تشوف أكثر القراء إلى الوقوف على آراء العلماء المحققين في هذه المسألة قال بعد العنوان ما نصه: كانت أمامنا مجلة نيويورك الطبية عدد 18 نيسان الماضي وبها مقالة بديعة عن التنويم المغنطيسي تتضمن أحدث الآراء وأدق المعاني عن مسألة هامة شغلت عقول العلماء والأطباء مدة طويلة، وإلا ورد علينا سؤال من صديق عزيز علينا يسألنا إبداء رأينا في استعمال التنويم طبيًّا في إحدى الحالات المرضية فاخترنا إذ ذاك تلخيص هذه المقالة حبًّا بإفادة القراء، وهي خطاب لأشهر طبيب أمركاني (الدكتور هاورد) ألقاه أمام عمدة مدرسة الأطباء والجراحين في مدينة بلتيمور. وهاك فحواه مع بعض التصرف والاختصار: أيها السادة. كثر الدجالون القائلون الآن باستعمال التنويم المغنطيسي في كل الأمراض تقريبًا، وكثر الناس الذين - لسوء الحظ - يصدقون بأقوالهم المزخرفة وبراهينهم السطحية السفسطية حتى صار صبيان الأزقة عندنا يقولون: (المغنطيس الحيواني والهستيريا والمغنطيس) وهلم جرّا. وإننا لسوء الحظ نقول: إن بعض هؤلاء الدجالين هم أطباء قانونيون مثلنا. ولكنهم يستعملون هذا السلاح الحاد بدون معرفة وبلا تمييز حتى صِرْتُ أَوَدّ من كل قلبي أن تختفي المعرفة عن التنويم فإني أرى أضرارها أكثر من منافعها في يدي هؤلاء المشعوذين والسحرة. وإني لا أخفي عليكم رأي شَارْكو شيخ الأطباء الحاليين في كل العالم من هذا القبيل، أعني قوله لي في وسط مكتبه وعلى مسمع من عشرات من أطباء الأرض يقصدون باريس سنويًّا للاستفادة من شَارْكو ذلك البحر الزاخر قال لي: إن التنويم والهستيريا فرعان لأصل واحد! أي: إن المريض المهستر يقبل التنويم، والذي يقبل التنويم يكون مهسترًا أو ضعيف العقل والإرادة والعكس بالعكس. وهذا هو عين الواقع أيها الرصفاء. وعلى هذا قد صادق الدكاترة برنهاين وليبول في أوروبا وأنا في أمريكا بعد إحصاءات عديدة حسية في المستشفيات هنا وفي مكتبي الخاص أيضًا. ولما كان هذا الخطاب لأجل الحقائق لا لأجل تقديم الآراء فإني أنتقل بغتة إلى التجارب الحسية أمامكم لإقناعكم بصحة قول شاركو وقولي. انظروا هذه الدجاجة على الطاولة أمامي ها إني الآن أنومها (فَنَوَّمها فمدت ساقيها وذبلت جفنيها ونامت مغنطيسيًّا حالاً) بإشارة صغيرة. وعلى الطرف الآخر انظروا هذه الحمامة. ها قد نامت أيضًا. والآن تقدمي يا مس.. . (ونادى سيدة كهلة عزباء مصابة بمرض تتطبب عنده) فترون أيها السادة الرصفاء أن كلمة صغيرة إلى مس.. تجعلها تحت تسلط إرادتي. نامي.. أقول لك: أنت الآن نائمة. لا تشعرين. لا تنظرين. لا تسمعين.. فها قد نامت هذه السيدة مثل الدجاجة والحمامة حالاً. ولكنكم إذا أتيتم بشاركو وكل أطباء الأرض وعلمائها فإنهم لا يقدرون أن ينوموني. (ضحك واستحسان ( ... وهذا يأتي بنا طبعًا إلى هذا السؤال المهم وهو: مَن هم الناس الذين ينامون وما هي ماهية التنويم؟ فعن الأول أجيب: إن الناس الذين ينامون هم كل الذين يشكون من ضعف ما في مراكز العقل والإرادة، وهؤلاء كثار العدد خلاف ما تتصورون. وعلى ما أظن أنهم 30 بالمائة في العالم المتمدن وأكثر من نصف الناس في غيره. ولكن أنواع التنويم وهيئاته مختلفة. فإني إذا نومت زيدًا وقلت له لا تشعر بالألم فإنه لا يشعر وإذ ذاك فأقدر أن أعمل عملية جراحية صغيرة عليه وهو كأنه تحت البنج. ولكني إذا فعلت ذلك مع عمرو لا أنجح بل أنجح إذا قلت مثلاً إنك لا تسمع أو لا تبصر أو لا تبرد مع أن الماء المثلج يسقط على بدنه العاري. أما عن الثاني أي: ماهية التنويم فأقول بالاختصار: إنها غير معروفة تمامًا. سوى أن المظنون هو حكم إرادة قوية على إرادة ضعيفة بمظهر كبير. وعلى هذا القياس نقدر أن نقول: إن من يستولي على عقول الناس وأميالهم وأفكارهم ليس سوى منوم وما الناس الذين يقادون له إلا مصابون بنوع من أنواع الضعف العقلي (أو الدماغي) حتى أصبحوا عرضة لأن يُنَوَّموا بالتنويم المغنطيسي ولو بمظهر بسيط وبهيئة دارجة عادية قلما يعلق عليها الناس كبير أهمية. ولهذا السبب لا تعجبوا إذا قلت لكم: إن نصف العالم عرضة للتنويم المغنطيسي بأحد أنواعه هذا إذا لم أقل نصف المتمدنين (استغراب وهمس في الحضور) . استعماله طبيًا: أما دائرة استعماله العلمي فضيقة لكنها مفيدة للغاية في يد منوم شريف عفيف عالم. ومضرة للغاية أيضًا في يد المحتال محب المال الدجال الساحر الغاشم الكافر. ورأي شاركو في استعمال التنويم هو: يحسن (أي لا يجب) بنا أن نستعمله إلا في أمرين فقط وهما: (1) عند وجوب تحقيق أو تشخيص أمراض الدماغ والعصب للتمييز بين الأمراض العقلية منها وبين أمراض مادة الدماغ ذاتها أي: للتمييز بين الأمراض الوظائفية والأمراض الآلية. مثلاً إذا جن زيد فيجب علينا تحقيق سبب الجنون هل هو ناتج عن خلل في إحدى وظائف الدماغ أم عن مرض أصاب الدماغ ذاته كنزيف أو احتقان أو ضغط عظم جمجمة مكسورة وهلم جرا. و (2) عند تخفيف الآلام ومعالجة الأرق أو قلة النوم التي تضنك الجسم وتسبب له الضعف الشديد والتعرض للجنون بأحد أنواعه، وعلى هذا فاستعملوه في آلام الحمى الروماتزمية (داء المفاصل الحاد) . في الأرق المستديم. في الأمراض العصبية التي تأتي بالألم الشديد ليلاً. في بعض أنواع الفالج وما أشبه من الحالات. أما في الهستيريا وهو المرض الذي يكثر به احتيال الدجالين فاستعملوه نادرًا وبحذر تام؛ أي أنه يحسن بنا أن نستعمله في الهستيريا إذا كانت المهسترة أو المهستر متألمًا جدًّا من ارتجاف الأعضاء أو تقلصها أو انكماشها أو شللها أو التوقف عن عمل وظائفها الطبيعية كحبس البول، أو الامتناع عن الأكل والشرب والنوم وما شاكل ذلك من العوارض التي إذا دامت مع العليل تؤذيه، وتأتي له بأمراض ثانوية مضنكة. ولا بأس من استعماله في حالات السُّكر إذا كان السكران عرضة لأن يضر ذاته أو غيره، وكذلك في حالات المانيا (نوع من الجنون) الحادة أو الملانخوليا التي تجعل المصاب عرضة للانتحار , وفي كل هذه الظروف فليكن استعماله بحذر تام وباعتدال لحد الإمساك. ... ... ... انتهى باختصار وتصرف. ا. هـ (المنار) نكتفي بهذا البحث في هذا الجزء وسنعود في الأجزاء الآتية إلى الكلام في بقية أنواع الخوارق وتعليلها المعقول إن شاء الله تعالى. وقد نقلنا عبارة الأفكار بحروفها وفيها من النقد في اللغة والأسلوب ما يعذرنا القراء على عدم التعرض له. ((يتبع بمقال تالٍ))

شبهات النصارى وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات النصارى وحجج المسلمين النبذة الثالثة في رد شبهاتهم على القرآن (الشاهد التاسع على تناقض القرآن بزعمهم) قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 22-24) مع قوله تعالى في سورة النساء: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42) ، والجواب عنه من وجهين: أحدهما أن لفظ (يوم) له إطلاقان إطلاق بمعنى مدة بياض النهار أو مجموع ليل ونهار، وإطلاق بمعنى الوقت مطلقًا، وإذا أضيف إلى حادثة وقعت أو قدر وقوعها في المستقبل يراد به الإطلاق الثاني، ومنه أيام العرب المشهورة لا يريدون باليوم منها بياض نهار ولا مجموع نهار وليل وإنما يريدون الوقت، وإن كان ساعة واحدة أو أيامًا طويلة بحسب الإطلاق الأول. ومنه أيضًا ما عبَّر عنه في القرآن الكريم بكلمة يومئذ أو يوم يكون كذا كقوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} (الأنعام: 22) ، وقوله {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا 000} (النساء: 42) ، إلخ. ومثلهما كثير جدًّا لا سيّما في سياق الكلام على الآخرة التي ليس فيها أيام تتعاقب مع الليالي فمعنى (يوم) في كل آية: وقت يحدده الفعل الذي تعلق هو به في آية أو المضاف إليه كيوم الحسرة. إذا تمهد هذا فاعلم أن الآيتين اللتين زعم النصراني تناقضهما تنبئان بأمرين يكونان في يومين أي: وقعتين مختلفتين أحدهما حشر المشركين وسؤالهم عن الشرك وقد أخبر أنهم يومئذ ينكرون كما في آية الأنعام، وثانيهما: إتيان الله بعد ذلك الإنكار بالشهداء يشهدون عليهم وفي ذلك الوقت (أو اليوم) يضطرون إلى الاعتراف فيعترفون ولا يكتمون كما في آية النساء. وقد حذف المعترض الآية التي قبل قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا 000} (النساء: 42) إلخ، وهي التي تدل على أن عدم الكتمان إنما يكون بعد شهادة الشهداء، وهي قوله عز وجل {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} (النساء: 41) ، ومجموع الآيات يمثل لنا محاكمة في الحساب الأخروي ينكر فيها الخصم جريمته أولاً ثم يضطر إلى الاعتراف بعد شهادة الشهداء وإقامة البينة كما يعهد في الدنيا، والحكمة في هذا ردع العصاة وإنذارهم عاقبة الفضيحة في تلك المحاكمة التي لا يظلم فيها أحد، فالآيات متوافقة متطابقة وما أظن أن ذلك العلاَّمة اللغوي الذي حرر الاعتراض يجهل ذلك، وإنما هو مكابر ومشاغب. هذا هو الوجه الأول في الجواب. وأما الوجه الثاني فهو ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الواو في قوله: {000 وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} (النساء: 42) ، واو الحال وليست واو العطف فتدل على عدم الكتمان ومعنى الآية حينئذ: أن أولئك الكافرين العاصين تأخذهم الرهبة ويحيط بهم الوجل فلا يتجرأون على الكذب على الله تعالى وإنكار ما كان منهم، بل يودون أن يكونوا ترابًا فتسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا، يعلمون أنه محيط به وأنه لا يعزب عن علمه، كما تقول: أود أن أُقتل ولا أغشك، أي أنني أستحب الموت وأفضله على غشك. وبهذا التفسير تكون هذه الآية بمعنى الأولى، وهو لا يأباه النظم ولا ينبذه الإعراب ولا ترفضه البلاغة والفصاحة، وما هو بتأويل. ولا انحراف عن السبيل، ولو شاء المجيب أن يُكثِر من الوجوه لفعل فإنه يشترط في تحقق التناقض الاتحاد في الموضوع والمحمول والزمان والمكان، إلى آخر ما يسمونه الواحدات الثَّمان فكما أن الجواب الأول أَبَانَ عدم التناقض لعدم الاتفاق في الزمان (والجواب الثاني في الخلاف بالمرة) فلنا أن نجيب جوابًا ثالثًا باختلاف الموضوع فنقول: إن التناقض غير متحقق لاختلاف القضيتين في الموضوع فإن إحداهما تحكي عن المشركين والأخرى عن الذين كفروا وعصوا الرسول، وتشمل الموحدين الذين لم يشركوا ولكن كان كفرهم برفض الإيمان بالنبي عليه الصلاة والسلام كما تشمل الذين آمنوا برسالته، ولكن عصوه في هدايته، وهذه آيات القرآن تصف اليهود بالكفر دون الشرك، ثم إن لنا أن نجيب جوابًا رابعًا بمنع التناقض لاختلاف المكان، فإن ليوم القيامة مواقف كما ورد فيحتمل أن ينكر المشركون والكافرون جميعًا في بعضها، ويعترفوا في بعض آخر، والجواب الأول هو العمدة ويليه في القوة الثاني. (الشاهد العاشر) قوله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) (إلى قوله) : {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 10-12) زعم المعترض أن هذا الكلام يفيد أمرين: أحدهما أن خلق الأرض والسموات في ثمانية أيام والآخر أنه خلق السماء بعد الأرض لا قبلها، لكن الأول منقوض في سبعة مواضع من القرآن بما معناه أن خلقهما وما بينهما في ستة أيام لا في ثمانية، والثاني منقوض بقوله في سورة النازعات: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} (النازعات: 27- 30) ، ونقول في الجواب عن الأمر الأول: إن من المستعمل الشائع عند العرب أن يقال مثلاً: سرت من القاهرة إلى طنطا في يومين وإلى الإسكندرية في أربعة أيام، ويراد في يومين آخرين كانا مع ما قبلهما أربعة أيام ولذلك لم يتوقف أحد من الصحابة في فهم الآية، ولم ير مفسروهم كابن عباس وغيره أن هذه الآية تحتاج إلى بيان، وإنما اختلف في إعرابها وإعراب أمثالها النحاة فقدر بعضهم مضافًا محذوفًا للقرينة فقال المعنى: (في تتمة أربعة أيام) كما قدروا في مثل (واسأل القرية) كلمة (أهل) أي: اسأل أهل القرية، وذهب الزمخشري إلى أن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يفيد أن العمل أو السفر كان في أربعة أيام على طريق الفذلكة ولما كان المعترض مطلعًا على هذا ومقتنعًا بحسنه في قلبه لم ير سبيلاً لصرف الوجوه عنه إلا شتم قائليه بتسمية ذلك تأولاً من عبث الولدان، وقد زين له تعصبه أن يقول: إنه لو صح هذا (للزم منه أن يقول بعد ذلك عن السموات فقضاهن سبع سموات في ستة أيام لا في يومين كما قال) واحتج على ذلك بزعمه فقال: إن موضع الفذلكة آخر الكلام لا أوله. وقد تجاهل أن الآية التي تنطق بخلق الأرض قد تمت وجاءت الفذلكة في آخرها وأن الكلام في خلق السموات جاء في آية أخرى ابتدأت بثم التي تستعمل في التراخي في الزمن، أو في رتبة العمل ونوعه بصرف النظر عن زمنه كما في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف: 189) ، وهكذا شأن أهل العنت والبهت والتعصب الذميم. وأما الأمر الثاني فقد أخذه المعترض من اختلاف المفسرين في خلق السموات والأرض أيهما أسبق لاختلاف فهمهم في الآيتين وله بعض العذر - وهو ينظر بعين السخط والنقد - إذا آنس فيهما خلافًا أو شبهة خلاف فتشبث بها وصرف ذهنه عن الجمع بينهما بما جمع به المفسرون. وإنني أقول: إن جميع المفسرين قد قصروا في تفسير أمثال هذه الآيات التي تتكلم في أمور المبدأ والمعاد، وغير ذلك من الأمور الغيبية ولهم العذر فإن هذه الأمور لم تذكر في الكتب المنزلة لشرح حقائقها وبيان كنهها بالتفصيل ولا لبيان تاريخها، وإنما يذكر الخلق والتكوين للاستدلال على قدرة الله وعلمه وحكمته، ولتوجيه الأنظار إلى الاعتبار بما في المخلوقات والمكونات من العلوم والحِكَم ووجوه المنافع. وقد أجاز بعض علماء اللاهوت من النصارى أن يجيء في الكتب المقدسة من العبر والدلائل الصحيحة ما يُبنى على اعتقاد الأمم المخاطَبة بها، وإن خالف الحقيقة لأن شرح الحقائق الكونية ليس من موضوع الدين وإنما موضوعه الهداية إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وإنما أجازوه لأنه كثير في كتبهم. ومن عجائب القرآن وضروب إعجازه أن يصوغ الحقائق في قوالب العبر فترى العبرة بادية يستفيد منها العوام والخواص، والحقائق كامنة فيها يستخرج منها أصحاب القرائح والفهوم ما ينتهي إليه استعدادهم في كل زمن بحسب ارتقاء العقول وتقدم العلوم فيه. كان الناس يتلون فيه آيات التكوين منذ ثلاثة عشر قرنًا فيهتدون بدلائلها ويتعظون بعبرها، ولا يرون فيها شيئًا مخالفًا للحقائق الكونية التي كشفها العلم. ثم ارتقى العلم الكوني في آخر هذه المدة وقرر أهله أشياء في أمور الخلق والتكوين تؤيد القرآن من حيث لا يعلمون. قالوا إن السموات والأرض قد خُلقتا من مادة تشبه الضباب سماها بعضهم (سديمًا) كانت مادة واحدة فانفطرت أو انفتقت فكان منها أجسام كرية الشكل، انفصل منها كرات أخرى، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في القرآن بمثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 11) وقوله: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) ، وقوله: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام: 14) . وقالوا: إن هذه الأرض لم تخلق هكذا ابتداءً وإنما خلقت أطوارًا فكانت نارية ثم مائعة ثم يابسة ليس فيها نبات ولا حيوان، ثم صار فيها الحيوان والنبات، وما حدثت هذه الأطوار إلا بالتدريج الطويل، كل طور في زمن يليق به. وهذا التفصيل الذي قالوه يفسر الإجمال في قوله عز وجل: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 9) ، والمعنى: أن أصل التكوين تم في زمنين (ولا تنس ما تقدَّم شرحه من استعمال كلمة) يوم (في مطلق الزمان) ، ولا يأبى ذلك أن تكون في أحدهما كرة نارية، وفي الثاني مائعة، ثم قال: إنه بارك فيها وقدر فيها الأقوات حتى صارت صالحة للسكنى وارتفاق الأحياء في يومين تتمة أربعة أيام وذلك صريح أو كالصريح في طور اليابسة التي ظهرت في الماء وطور الأحياء التي ظهرت في اليابسة. ثم انتقل بعد هذا البيان إلى ذكر خلق السماء فذكر أنها كانت دخانًا وأنه خلقها في يومين أي: في زمنين كل منهما تم فيه طور خاص، فكان خلق السماء وتكوينها كخلق الأرض ولم يخبرنا بما قدر فيها بعد ذلك ولا بعدد الأزمنة التي تدل على عدد الأطوار؛ لأن العبرة والاستدلال المقصودين من ذكر التكوين لا يتمان إلا فيما للإنسان فيه علم ما وإن لنا علمًا بوجود السموات والأرض فذكر لنا خلقهما وعلمًا بما في الأرض من الأقوات والخيرات فذكر لنا خلق ذلك. فأنت ترى أنه لا يراد بالأيام التي خلقت فيها السموات والأرض أزمان متعاقبة بينهما، ولا غير متعاقبة، وإنما ي

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع ما هو الخير والشر؟ هاتان الكلمتان (الخير والشر) وما رادفهما يرد ذكرهما كثيرًا في العلم الباحث عن أحوال النفس ومعاملاتها، بل عليهما مدار هذا العلم في أوامره ونواهيه؛ لأن الإنسان في محبته طالب خير وفي بغضه هارب من شر. وهذا هو ديدن الإنسان مدة حياته. وكل واحد يعتقد في الجهة التي يطلبها الخير لنفسه وفي الجهة التي يهرب منها الشر (اللهم إلا مبغضي ذواتهم!) ، وكل واحد ينبسط للخير وينقبض من الشر. ولكن هل كل واحد يعرف ما هو الخير وما هو الشر، وهل كل من اعتقد في جهة من الجهات الخير أو الشر مصيب؟ لو كان كل واحد عارفًا بهما لكان كل واحد مصيبًا في طلبه وهربه، ولو كان كل واحد مصيبًا لتضاءل الشر وتبارك الخير. هذه القضايا مسلمة، وبناءً عليها نسأل ويقال لنا: من ذا الذي يتولى للناس تعريف هاتين الكلمتين؟ فنقول: هم الباحثون في أحوال النفس. فنسأل مرة أخرى ويقال لنا: من هم أولئك الباحثون؟ هل هم إلا أناس أمثالنا؟ وفي هذا السؤال رائحة الإباء والاستنكاف فيجب أن يكون في الجواب رائحة الرفق والأناة فنقول: الباحثون في علم النفس أناس أمثال غيرهم من حيث الصور الجسدية، وكذلك الباحثون في كل علم. ولكن لكل امرئ في هذه الحياة عمل تتفق له فيه إجادة لا تتفق لغيره سيما إن كان ذلك الغير ليس من أرباب ذلك العمل. مثاله الشاعر هو رجل وأنت يا أيها الفلاح رجل فلِمَ أنت عاجز عما يعلمه ويعمله هو؟ أليس لأنك لم تعانِ الشعر؟ (بلى) وإني أبشرك بأنه هو عاجز أيضًا عما تعلمه وتعمله أنت؛ لأنه لم يعانِ ما عانيته. كذلكم قولوا في الصائغ هو عاجز عما يعلمه ويعمله الخياط، والثاني عاجز عما يعلمه الأول. وكذلكم قولوا في أرباب العلوم والصنائع كلها. ويومئذ لا يصعب عليكم أن تقولوا: إن الذي يعانيه علماء النفس من التفكر والتذكر واختبار الأحوال وتجربة الأمور ربما لا يتفق لغيرهم أن يعانوه. فإذا كانوا أمثالهم من جهة صورة الجسد لا يلزم أن يكونوا أمثالهم من جهة صورة الفكر. ولعمركم إن ابن خلدون والغزالي لا يحصى مشابهوهما في الخلقة، ولكن مشابهوهما ومقاربوهما في صنعتيهما يعدون على الأصابع، وربما لا يبلغون عدد أصابع الكفين. فإذا علم السائل هذا وسهل عليه أن يعرّف له علماء النفس (في انفرادها واجتماعها) الخير والشر، فليصغِ إلى ما اقتبسناه منهم بفكر خالص من الوهم والتقليد، وليتأمله بعقله المستفاد لا بعقله المستعار. (الخير هو استعمال الإنسان ما خلق الله له من القوى والاستعدادات فيما خلقت لأجله استعمالاً مشروعًا (أي: تابعًا لشرع) يراعى فيه حق الغير) ، والشر ضده أي: عدم الاستعمال مطلقًا أو الاستعمال في غير ما خلقت لأجله أو الاستعمال الذي ليس بتابع لشيء. هذا التعريف وافٍ جامع لكن التعاريف في الحقيقة لا يستغني بها الناس عن الشروح والإيضاحات والأمثلة (اللهم إلا أذكى الأذكياء) ، فكأنها إنما تسطر لتكون قاعدة وأصلاً للشروح، ولتحفظ عبارتها الجامعة بعد أن يحيط الناس خبرًا بالمسألة من الإيضاحات والأمثلة. إن الله جل ثناؤه قد خلق في الإنسان قوى واستعدادات بعضها نصيبها مباشرة المحسوس، وبعضها نصيبها ملاحظة المعقولات فكل ما يستعمل فيه الإنسان قواه ويناله يلتذ به، وكل ما يلتذ به الإنسان خير إلا لذة تؤدي إلى ألم، أو لذة يغصب فيها حق الغير. وكل ما يمنع الإنسان عن استعمال القوى فهو شر. (مثال أول) أنت إذا أكلت فمعناه: (1) أنك تمكنت من أن تأكل وهو دليل عدم مرضك وعدم حرمانك من حصول الطعم. و (2) أنك استعملت القوة المخلوقة لك لأجل الأكل لحكمة حياتك، وهو دليل محبتك لذاتك؛ لأنك لو لم تستعملها لم تحي. ودليل أنك وافقت الفطرة التي فطرك الله عليها. و (3) أنك تلذذت في أكلك وهو دليل سلامة حواسك، وكل هذه الأشياء في كونها خيرًا. أما إذا أكلت فوق الشبع فإنك سوف تتألم إما عاجلاً وإما آجلاً. وقد عطلت في هذا الأكل القوة التي تستطيع بها أن تأكل. وقللت لذلك فيما بعد. وخالفت الأدب، وكل هذه شر، وكذلك إذا تعديت في أكلك على حق الغير كأن غصبت الذي أكلته من غيرك فإن هذا يؤدي إلى أن يشاجرك عليه، وقد يقوى عليك بقوته، أو القوة المؤلفة لحفظ الحقوق (قوة الحكومات) وإذا قوي عليك، فقد يغصب منك ما تحتاج إليه، وقد يعمل فيك أعمالاً تمنعك عن الالتذاذ بالأكل، وكذلك إذا استعملت القوة في غير ما خلقت لأجله كما إذا أكلت سمًّا أو ترابًا. أو لم تستعملها ألبتة كبعض الذين يعملون ذلك، ويجوعون أيامًا عمدًا، فكل هذه المذكورات شر. (مثال ثانٍ) وأنت إذا واقعت فمعناه: (1) أنك تمكنت من الوقاع ولم يمنعك مانع، و (2) أنك استعملت القوة المخلوقة فيك لأجل الوقاع لحكمة بقاء النوع، و (3) أنك وافقت الفطرة، و (4) أنك أحببت غيرك , و (5) أنك تلذذت. وكل هذه المذكورات دليل سلامة حواسك وسلامة فطرتك وسلامة عقلك ودليل أمنك في الموانع الغيرية كالموانع الذاتية، وكلها خير إذا كان وقاعك تابعًا لنظام، أما إذا أفرطت في الوقاع إفراطًا يعطل القوة، أو استعملت القوة في غير ما خُلقت لأجله، كأن واقعت بهيمة أو دبرًا أو أهملت الوقاع المشروع من غير مانع، فإن هذه الأشياء عين الشر. (مثال ثالث) وأنت إذا اكتسيت فمعناه: (1) أنك حصلت ما تتقي به الحر والبرد، و (2) أنه أحبك الغير إذ عمل لك ما تلبس، وأحببت الغير إذ سترت عن عينه ما ربما يكره أن يراه، و (3) أنك أحببت ذاتك إذ وقيتها أو زينتها، وكل هذه خير. أما إذا لبِست ما لا عدل فيه كلبس ما لا يلائم عملك كديباج وأنت تعمل في الطين، أو قنب غليظ وأنت حاكم أو بزاز، وكلبس شيء يليق بالإناث دون الرجال وكالتزين بشيء يحتاجه الناس للمبادلة أشد الاحتياج. أو أبغضت ذاتك فلم تلبَس، أو لبِست ما يلائم عملك، أو لبست ما لا يلائم الزمان، كلبس أخف الثياب في أشد الأيام بردًا وبالعكس. فكل هذه وما أشبهها من الأشياء التي لا عدل فيها شر. (مثال رابع) وأنت إذا أويت إلى مبيت وبت في أمان فمعناه: (1) أنك نلت حاجة لا يعلو فيها عليك الملوك إلا بالزخرف. و (2) أنك نلت من فوائد اشتراكك مع الهيئة المجتمعة؛ لأنك ما وجدت هذا المبيت إلا بفضل اجتماعهم، ولا وجدت هذا الأمان إلا بفضل التكافل المشروط طبعًا ووضعًا وشرعًا، ولولا ما ذكرنا لما كان مبيتك أفضل من جحر الوحش، ولا كنت بآمن من حمام بين صقور. ولا آنس من حي بين موتى القبور، فقدر هذا الخير بنظرك لتعلم فضل غيرك على ذاتك، ولتعلم أن لذاتك فضلاً على غيرك به استوجبت فضله عليك. ولتعلم من هذا أن الأمر تكافؤ وتكافل. لا تطول وتفضل. وأن الفضل كله لله وحده. وأن الخيرات لا تعدونا طرفة عين، ولكننا غافلون نجلب الشر على أنفسنا بأنفسنا حنينًا منا إلى جهالات سبقت، ونحن لها متوارثون إلى أن يأذن الله بتقشعها رويدًا رويدًا. أما إذا استوحشت نفسك وتشبهت بالوحوش في مساكنها ومعايشها فمعناه أنك أهملت الاستعداد الذي فيك وخالفت الفطرة، وأبغضت ذاتك فلا شك بأن هذه الحالة من الشر. (مثال خامس) وأنت إذا تفكرت في خواصّ المحسوسات وعجائب المعقولات فأنت يومئذ الخَيِّر العظيم يوم يُنْتِجُ تفكرك علمًا، وعلمك عملاً، وعملك نفعًا عميمًا وشرفًا للنوع عظيمًا. بربكم قولوا لنا: إذا استثنينا من هذا النوع أُولي الألباب من الأنبياء، وذوي الأفكار من الحكماء والمخترعين والمعلمين فأية مزية تبقى في الباقين وأي شرف لهم؟ أولئك هم مفاتح أبواب الخير ومصادر الشرف الأعلى لهذا النوع. أما من أساء استعمال التفكر كأن تفكر بالعدوان وأساليبه فهو الشرير العظيم. ومثله أو قريب منه من أهمل الفكر؛ لأنه يصعب علينا أن نفرق بين عامل بالشر، وحامل عليه؛ لأنه تفكر وبين واقع في الشر، ومحمول عليه؛ لأنه لم يتفكر. نسأل الله السلامة لأفكارنا من أن نهملها، ومن أن نعملها في باطل، ومن أن نعميها بالتقليد. هذا ويرى القارئ أننا تساهلنا أو سهلنا العبارة، وتنازلنا بالتمثيل إلى أمور ليس إدراكها بالصعب، فربما ظن أننا نكتب كتابًا لقراءة المبتدئين. وهذا الظن قد ينشأ من أمرين: الأول الأسلوب الذي التزمناه لزيادة التوضيح وعدلنا به عن سرد الكلام، والثاني استصغار هذه الأمور التي مثلنا بها. ولما كان الواقع يكبر هذه الأمور التي سَبَكْنَا نضار حقائقها بقالب سهل المأخذ وجب أن نزيدها تبيانًا ونزيد الخير والشر تعريفًا. إن الإنسان هذا المخلوق العظيم، صاحب العقل المنير، صاحب الرأي والتدبير، صاحب السلطان على مخلوقات الأرض، والإشراف على مصنوعات السماء، صاحب التمدين والاجتماع، صاحب الإبداع والاختراع، صاحب المنطق المفيد، والعزم الشديد. صاحب الصورة التامة، والروح العالية، صاحب المآثر والآثار، كاشف الخواص والأسرار، هذا السائد بالفكر الممتاز به لم يخرج في كل مزاياه التي عددناها وغيرها مما يعجز القلم عن تصويرها تصويرًا شعريًّا خياليًّا أو حقيقيًّا عن كونه حيوانًا محتاجًا كالحيوانات إلى طعام وشراب ومأوى مسوقًا من طبيعة خلقته إلى الوقاع ومعالجة ألم البأة. فهب أننا سميناه قطب هذا الوجود، وصفوة السر من كل موجود، وهب أننا رفعنا علومه فوق الشمس مقامًا وضياءً. وأحللنا فضائله فوق التصور درجة واستقصاءً، ونوهنا بمنزلته عند خالقه، وعظمنا الاعتبار للطبيعي من خلائقه، أفنستطيع أن نقول: إنه مقدس عن المطعم والمأوى والمنكح، بعدما اختبرناه دهورًا دهارير، وبلوناه فذًا وفي العير والنفير. هل علمنا منه غير كونه هلوعًا، إذا مسه الخير مما يغذوه ويكسوه كان منوعًا، وإذا مسه الشر من جوع وعري كان جزوعًا، هل عهدنا به إلا التقاتل من طمع أفراده وحبهم الاستئثار؟ هذا هو الإنسان الذي يعرفون ماضيه وما أنتم عن حاضره بغافلين. هذا هو المخلوق الذي فطره خالقه محتاجًا ويسّر له ما يحتاج إليه، وخلق فيه سائقًا يسوقه نحوه وجاذبًا يجذبه ودافعًا يدفع ما يرى استغناءه عنه. أفتسمي هذا التركيب الذي ركّبه الصانع شرًّا. أم عمل المخلوق بحسب التركيب. أم تيسر الحاجة التي لا بد منها. أم اللذة الطبيعية في نيل هذه الحاجة؟ وإذا لم تكن هذه شرًّا فهل بقي إلا الخير؟ سيقول قائلون: إن هذا الاحتياج لا يدفعه الإنسان عن نفسه بتحصيل الحاجة إلا بكد ونصب، وقصارى الأمر في حصول الحاجة أنها تسكن ألمًا تقدم الحصول، فهب أننا سمينا تلك الأمور خيرًا، أفليس الشر قبلها وبعدها؟ هذا كلام له وجه ظاهر ولكن ههنا اعتقادان في حياة الإنسان، أحدهما أن الإنسان يستفيد منها، والآخر أنه لا يستفيد، فإن كان السائل ممن يعتقدون استفادة الإنسان من الحياة فجوابنا له أن الألم السابق الذي يسكنه نيل الحاجة وتعقبه بهذا النيل اللذة ليس شرًّا، بل هو لتعرف به اللذة ويشعر بها، ولو كانت دائمة لما أحس بها المرء، وهذا كسبق العدم على الوجود، والجهل على العلم، والضعف في الطفولية على القوة في الرجولية ونظائر ما ذكرنا. على أنه إذا سمينا تلك الآلام وما يتبعها من لزوم الكد والنَّصَبِ والمجاهدة شرورًا فلا ضير فيها إذا كانت الخيرات تدفعها وتهونها، ويدلنا على ذلك استعذاب الحياة مع كل المرارات التي تصادف في سبيلها، وما ذلك إلا لأن الخيرات لا يطول احتجابها، كالشمس إذا حجبها الدجى واستأنف النهار يشرق بضيائها. وإن كان السائل ممن لا يق

نموذج من دلائل الإعجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من دلائل الإعجاز [*] تمتاز كتب الإمام عبد القاهر الجرجاني واضع فنون البلاغة (رحمه الله تعالى) - على سائر الكتب التي أُلفت من بعده بعدة مزايا: منها أَنَّ عبارتها بليغة وأساليبها رشيقة، ومنها تصوير المعاني شخوصًا تامة سوية، حتى كأن العقولات ملموسة مرئية، ومنها كثرة إيراد الشواهد والأمثلة على الوجه الذي اختاره الأوربيون ومقلدوهم في كتب التعليم لهذا العهد. وإننا نورد هنا نموذجًا من كتاب دلائل الإعجاز في علم المعاني، وذلك من حيث انتهينا في الطبع بمطبعتنا (الكراسة أو الملزمة 44) . بيَّن - رحمه الله - في فصول متعددة فساد رأي الذين ذهبوا إلى أن الفصاحة والبلاغة صفة للفظ دون النظْم والأسلوب، باعتبار تصوير المعنى، ثم ختم ذلك بفصل في الموازنة بين المذهبين، فقال: * * * فصل قد بلغنا في مداواة الناس من دائهم، وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم كل مبلغ، وانتهينا إلى كل غاية، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسفون فيها إلى السَّنن اللاحب، ونقلناهم عن الآجن المطروق إلى النمير الذي يشفي غليل الشارب، ولم ندَع لباطلهم عِرقًا ينبض إلا كويناه، ولا للخلاف لسانًا ينطق إلا أخرسناه. ولم نترك غطاءً كان على بصر ذي عقل إلا حسرناه، فيا أيها السامع لما قلناه، والناظر فيما كتبناه، والمتصفح لما دوَّنَّاه، إن كنت سمعت سماع صادق الرغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة، ونظرت نظر تام العناية في أن يورد ويصدر عن معرفة، وتصفحت تصفح مَن إذا مارس بابًا من العلم لم يقنعه إلا أن يكون على ذروة السنام، ويضرب بالمعلى من السهام، فقد هُديت لضالتك، وفتح لك الطريق إلى بُغيتك، وهيئ لك الأداة التي بها تبلغ، وأوتيت الآلة التي معها تصل، فخذ لنفسك بالتي هي أملأ ليديك، وأعْوَد بالحظ عليك، ووازن بين حالك الآن - وقد تنبهت من رقدتك، وأفقت من غفلتك، وصرت تعلم (إذا أنت خضتَ في أمر اللفظ والنظم) معنى ما تذكر، وتعلم كيف تورد وتصدر - وبينها [1] وأنت من أمرها في عمياء، وخابط خبْط عَشْواء. قصاراك أن تكرر ألفاظًا لا تعرف لشيء منها تفسيرًا. وضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع لها تبيينًا، فإنك تراك تطيل التعجب من غفلتك، وتُكثر الاعتذار إلى عقلك من الذي كنت عليه طول مدتك، ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصده وننتحيه، لوجهه خالصًا، وإلى رضاه عز وجل مؤديًا، ولثوابه مقتضيًا، وللزلفى عنده موجبًا بمنَّه وفضله ورحمته. ثم عقد فصلاً لكشف شبهة الذين جعلوا الفصاحة والبلاغة للألفاظ، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أنه لما كان الغلط الذي دخل على الناس في حديث اللفظ كالداء الذي يسري في العروق، ويفسد مزاج البدن - وجب أن يتوخَّى دائبًا فيهم ما يتوخاه الطبيب في الناقِه، من تعهده بما يزيد في مُنَّته، ويُبقيه على صحته، ويؤمنه النكس في علته، وقد علمنا أن أصل الفساد وسبب الآفة هو ذهابهم عن أن من شأن المعاني أن تختلف عليها الصور، وتحدث فيها خواص ومزايا من بعد أن لا تكون، فإنك ترى الشاعر قد عمد إلى معنى مبتذل، فصنع فيه ما يصنع الصانع الحاذق إذا هو أغرب في صنعة خاتم، وعمل شنف، وغيرهما من أصناف الحلي. فإن جهلهم بذلك من حالها هو الذي أغواهم واستهواهم، وورَّطهم فيما تورطوا فيه من الجهالات، وأداهم إلى التعليق بالمُحالات؛ وذلك أنهم لما جهلوا شأن الصورة وضعوا لأنفسهم أساسًا، وبنوا على قاعدة، فقالوا: إنه ليس إلا المعنى واللفظ ولا ثالث، وإنه إذا كان كذلك وجب إذا كان لأحد الكلامين فضيلة لا تكون للآخر، ثم كان الغرض من أحدهما هو الغرض من صاحبه - أن يكون مرجع تلك الفضيلة إلى اللفظ خاصة، وأن لا يكون لها مرجع إلى المعنى، من حيث إن ذلك - زعموا - يؤدي إلى التناقض، وأن يكون معناهما متغايرًا وغير متغاير معًا. ولما أقروا هذا في نفوسهم حملوا كلام العلماء في كل ما نسبوا فيه الفضيلة إلى اللفظ على ظاهره، وأبوا أن ينظروا في الأوصاف التي أتبعوها نسبتهم الفضيلة إلى اللفظ، مثل قولهم: لفظ متمكن غير قلق ولا نابٍ به موضعه، إلى سائر ما ذكرناه قبل، فيعلموا أنهم لم يوجبوا للفظ ما أوجبوه من الفضيلة، وهم يعنون نطق اللسان وأجراس الحروف، ولكن جعلوا كالمواضعة فيما بينهم أن يقولوا اللفظ وهم يريدون الصورة التي تحدث في المعنى، والخاصة التي حدثت فيه، ويعنون الذي عناه الجاحظ، حيث قال: وذهب الشيخ إلى استحسان المعاني، والمعاني مطروحة وسط الطريق، يعرفها العربي والعجمي والحضري والبدوي، وإنما الشعر صياغة [2] وضرب من التصوير، وما يعنونه إذا قالوا: إنه يأخذ الحديث فيشنفه ويقرطه، ويأخذ المعنى خرزة، فيرده جوهرة، وعباءة فيجعله ديباجة، ويأخذه عاطلاً فيرده حاليًا، وليس كون هذا مرادهم، بحيث كان ينبغي أن يخفى هذا الخفاء، ويشتبه هذا الاشتباه، ولكن إذا تعاطى الشيء غير أهله، وتولى الأمر غير البصير به - أُعضل الداء، واشتد البلاء، ولو لم يكن من الدليل على أنهم لم ينحلوا اللفظ الفضيلة، وهم يريدونه نفسه، وعلى الحقيقة إلا واحد، وهو وصفهم له بأنه يزين المعنى، وأنه حلي له -لكان فيه الكفاية؛ وذاك أن الألفاظ أدلة على المعاني، وليس للدليل إلا أن يعلمك الشيء على ما يكون عليه، فأما أن يصير الشيء بالدليل على صفة لم يكن عليها، فما لا يقوم في عقل، ولا يتصور في وهم. ثم ذكر الأخذ والسرقة وبيَّن أن التفاضل يكون بالأسلوب لا بالألفاظ، ثم أورد الأمثلة فقال: ثم إن أردت مثالاً في ذلك فإن من أحسن شيء فيه ما صنع أبو تمام في بيت أبي نُخَيْلَة، وذلك أن أبا نخيلة قال - في مَسلمة بن عبد الملك -: أمسلم إني يا ابن كل خليفة ... ويا جبل الدنيا ويا واحد الأرضِ شكرتك إن الشكر حبل من التقى ... وما كل مَن أوليته صالحا يقضي وأنبهت لي ذكري وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعضِ [3] فعمد أبو تمام إلى هذا البيت الأخير، فقال: لقد زدت أوضاحي امتدادًا ولم أكن بهيمًا ولا أرضي من الأرض مجهلا [4] ولكن أياد صادفتني جسامها أغرّ فأوفت بي أغر محجَّلا وفي كتاب الشعر والشعراء للمرزباني فصل في هذا المعنى حسن، قال: ومن الأمثال القديمة قولهم: (حرًّا أخاف على جاني كمأة لا قُرًّا) يضرب مثلاً للذي يخاف من شيء، فيسلم منه، ويصيبه غيره مما لم يخفه، فأخذ هذا المعنى بعض الشعراء، فقال: [5] وحذرت من أمر فمرَّ بجانبي ... لم يَنْكِنِي ولقيت ما لم أحذر وقال لبيد: أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد [6] قال: وأخذه البحتري، فأحسن وطغى اقتدارًا على العبارة، واتساعًا في المعنى، فقال: لو أنني أُوفي التجارب حقها ... فيما أرت لرجوت ما أخشاه وشبيه بهذا الفصل فصل آخر من هذا الكتاب [7] أيضًا، أُنشد [8] لإبراهيم بن المهدي: يا مَن لقلب صِيغَ من صخرة ... في جسد من لؤلوء رطبِ جرحت خديه بلحظي فما ... برحت حتى اقتصَّ من قلبي ثم قال: قال علي بن هارون أخذه أحمد بن أبي فنن معنًى ولفظًا، فقال: [9] أدميت باللحظات وجنته ... فاقتص ناظره من القلب قال: ولكنه بنقاء عبارته، وحسن مأخذه قد صار أولى به، ففي هذا دليل لمَن عقل أنهم لا يعنون بحسن العبارة مجرد اللفظ، ولكن صورة وصفه وخصوصية تحدث في المعنى، وشيئًا طريق معرفته على الجملة العقل دون السمع، فإنه على كل حال لم يقل في البحتري: إنه أحسن، فطغى اقتدارًا على العبارة من أجل حروف: (لو أنني أوفي التجارب حقها) ، وكذلك لم يصف ابن أبي فنن بنقاء العبارة من أجل حروف: (أدميت باللحظات وجنته) . * * * ثم عقد فصلاً للموازنة بين نظم المعنى المتحد في اللفظ المتعدد فقال: وقد أردت إن أكتب جملة من الشعر الذي أنت ترى الشاعرين فيه قد قالا في معنى واحد، وهو ينقسم قسمين: قسم أنت ترى أحد الشاعرين فيه قد أتى بالمعنى غفلاً ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب، وقسم أنت ترى كل واحد من الشاعرين قد صنع في المعنى وصوَّر. وأبدأ بالقسم الأول الذي يكون المعنى في أحد البيتين غُفْلاً، وفي الآخر مصوّرًا مصنوعًا، ويكون ذلك إما لأن متأخرًا قصر عن متقدم، وإما لأن هدي متأخر لشيء لم يهتدِ إليه المتقدم، ومثال ذلك قول المتنبي: بئس الليالي سهرتُ من طربي ... شوقًا إلى مَن يَبيت يرقدها مع قول البحتري: ليلٌ يصادفني ومرهفة الحشا ... ضدين أسهره لها وتنامُهُ وقول البحتري: ولو ملكت زَمَاعًا ظل يجذبني ... قَوْدًا لَكَانَ نَدَى كفَّيْك من عُقُلي [10] مع قول المتنبي: وقيدت نفسي في ذُراك محبة ... ومَن وجد الإحسان قيدًا تقيَّدا وقول المتنبي: إذا اعتلَّ سيف الدولة اعتلت الأرضُ ... ومَن فوقها والبأس والكرم المحضُ مع قول البحتري: ظللنا نعود الجود من وعكك الذي ... وجدت وقلنا اعتلَّ عضو من المجدِ وقول المتنبي: يعطيك مبتدِئًا فإن أعجلته ... أعطاك معتذرًا كمَن قد أجرما مع قول أبي تمام: أخو عَزَمَات فعلُه فعلُ محسنِ ... إلينا ولكن عذرُه عذرُ مذنبِ وقول المتنبي: كريمٌ متى استوهبت ما أنت راكبٌ ... وقد لقحتْ حربٌ فإنك نازلُ [11] مع قول البحتري: ماضٍ على عزمه في الجود لو وهب الشَّـ ـم باب يوم لقاء البيض ما ندما [12] وقول المتنبي: والذي يشهدُ الوغى ساكنُ القلـ ... ـبِ كأن القتالَ فيها ذِمامُ ((يتبع بمقال تالٍ))

البابا لاون الثالث عشر ـ ترجمته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البابا لاون الثالث عشر - ترجمته في يوم الإثنين الماضي (20 يوليو) توفي عظيم النصرانية ورئيس الطائفة الكبرى فيها بابا رومية عن ثلاث وتسعين سنة، قضى جُلها في خدمة مذهبه الكاثوليكي منها خمس وعشرون سنة، أو ربع قرن في منصب البابوية، وقد كان لسياسته من التأثير في عالم النصرانية والمدنية ما لم يكن في حسبان أحد من العالمين، وكاتب هذه السطور يعتقد أنه كان أعقل رجال أوربا وأعلاهم كعبًا في السياسة. وإننا نذكر من ترجمته ما فيه العبرة للمسلمين كما يليق بمجلة إسلامية مثل المنار، فلا تقل - أيها المسلم - ما لهذه المجلة الإسلامية ولزعماء النصرانية؟ ! الكاثوليك أكثر فرق النصارى عددًا، واعتقادهم في البابا كاعتقاد أكثر المسلمين في الخليفة أو أمير المؤمنين من حيث الرياسة الدينية والدنيوية في الجملة، وكاعتقاد بعض الفرق الإسلامية في وجوب عصمة الإمام الحق، ثم إنه يُنتخب من طائفة مخصوصة ولا يأخذ هذا المنصب بالوراثة، وتلك سنة الإسلام في انتخاب الإمام من طائفة مخصوصة. قال ياقوت في معجمه: (والبابا رئيس الفرنج هو عندهم نائب المسيح كما هو أمير المؤمنين عند المسلمين ينفذ أمره في جميع ما يتعلق بالدين في جميعهم) ، وقال الشريف الإدريسي في كتابه نزهة المشتاق: (وفي مدينة رومة قصر الملك المسمى البابة، وليس فوق البابة فوق في القدر والملوك دونه، ويقيمونه مقام الباري جل وعز! !) إلى أن قال: (وحكمه نافذ ماضٍ على جميع ملوك الروم، ولا يقدر أحد منهم يرد عليه) وقال أبو الفداء في كتاب تقويم البلدان عن أهل بيزة: (وليس لهم ملك، وإنما مرجعهم إلى الباب خليفة النصارى) وقال عن رومية: (وهي مدينة مشهورة ومقر خليفة النصارى المسمى بالباب) ، وقد تكلم ابن خلدون عن هذه الرياسة وصاحبها بإيضاح تام؛ ولهذا كله قال بعض علماء أوربا: إن البابوية أو النصرانية مقتبسة من الإسلام! جلس لاون الثالث عشر على كرسي هذه الخلافة (سنة 1778م) ، وأوربا بقضّها وقضيضها وعلومها وصنائعها ومدنيتها معادية للكاثوليك أشد من معاداتها للإسلام؛ لأنها تعتقد أن الكاثوليك والبابوية من الأمراض الباطنية التي أصابت الوطن في القلب والكبد والرئتين، فهي تفتأ تفتك به، حتى تبيده، فالكثلكة خطر في الباطن تحارب خوفًا وحذرًا من شرها، وأما الإسلام فهو عدو على البعد يحارب طمعًا في أرضه ودياره. ولكن البابا لاون الثالث عشر حول بسياسته ودهائه ذلك العداء إلى ولاء، وذلك الاستخفاف والاحتقار واعتبار، والفضل في ذلك لحسن الانتخاب والاختيار، إذ لو كان هذا المنصب وراثيًّا لما ارتقى إليه مثل هذا الرجل. ولد ليون الثالث عشر (وكان اسمه قبل البابوية بتشي) في 2 مارث سنة 1810م في بلدة كاربنتو من إيطاليا، وتعلم التعليم الابتدائي في مدرسة للجزويت ببلدة فيترب، وجاء رومية سنة 1824 وأتم دروسه بمدرسة الجزويت فيها، ثم بمدرسة رومية الجامعة، وعني أولاً بالعلوم الطبيعية والكيمياء حتى نبغ فيها، ثم اشتغل بآداب اللغة اللاتينية حتى عد من الكتاب البلغاء والشعراء المجيدين، ثم درس علوم الفلسفة واللاهوت فأتقنها ومنح لقب (دكتور) في الفلسفة. ثم وجه عنايته إلى علم الحقوق فبرع حتى أخذ الشهادة العالية فيه من مدرسة رومية الجامعة. وفي سنة 1837 عين قسًا ونائبًا عن البابا في بعض البلاد، وفي سنة 1843 عين رئيسًا لأساقفة دمياط، ثم وكيلاً للبابا في بروكسل عاصمة بلجيكا فأقام في تلك البلاد ثلاث سنين منحه ملكها في آخرها وسام (ليوبولد) من الدرجة الأولى وهو من أعلى الوسامات عنده، وفي سنة 1846 عين رئيسًا لأساقفة بيروز. وقد لبث في منصب الأسقفية 32 سنة كان فيها حسن السلوك يستتيب اللصوص والبغاة المعتدين حتى خلت منهم السجون التي كانت ممتلئة بهم قبل عهده. وفي سنة 1877 صار كردينالا ومديرا في الفاتيكان والكنيسة الرومانية، وفي سنة 1878 توفي البابا بيوس التاسع فانتخب خلفًا له. وقد ذكرنا هذه النبذة الوجيزة في تعليمه وتقلبه في الأعمال الدينية لأجل المقابلة بين تربية رؤسائهم ورؤسائنا حتى لا يعجب أحد من تقدمهم وتأخرنا. إذا سأل المسلم عن كيفية تربية رئيس أمته العام من أمير وسلطان أو ولي عهدهما أو الرئيس الخاص كشيخ الإسلام في الآستانة وشيخ الأزهر في مصر، وسأل: ماذا تعلم هؤلاء من العلوم التي لا بد منها للأمة التي يرأسونها، وما هي الأعمال والمناصب التي تقلبوا فيها فظهر استعدادهم لخدمة الأمة فرشحوا لها بسببها فماذا يكون جواب هذا السائل؟ لعل الأكثرين يجيبونه بأن الواجب علينا أن نقبل رياستهم من غير سؤال عن استعدادهم، وعن علومهم وأعمالهم، ومن تحدث بشيء من ذلك فهو عدو للملة والدين. وفتنة لجميع المسلمين، وذلك أن الأمة في طور الضعف لا يرضيها إلا أن يمدح منها كل شيء، وذلك أنها تشعر بفقد مقومات السعادة بالفعل فتحب أن تخادع نفسها بالمدح كما يتكبر الوضيع ويتنفج ليظهر في مظهر الكبراء. فقد الكاثوليك السلطة الدنيوية، سلبها الملوك من البابا الذي كان يفيضها عليهم ولو تسنى لهم في أي يوم من الأيام إرجاعها لوجدوا في الفاتيكان رجالاً يديرونها أحسن مما يديرها ملك إيطاليا، وحكومته في جميع أصولها الإدارية والمالية والقضائية والعسكرية؛ لأن رجال الدين عندهم يتعلمون كل شيء. أرأيتك هؤلاء الذين يسمون رجال الدين في الإسلام إذا قيل لهم - وهم يشكون من خروج الأحكام عن الشرع إلا ما يسمونه الأمور الشخصية ومحاكمها على خطر -: تعالَوْا فأديروا أعمال الحكومة الكلية من إدارية ومالية وحربية وقضائية وسياسية (خارجية) وغير ذلك، أيجدون في الأزهر من يحسن عملاً من هذه الأعمال كما يجد الكاثوليك في الفاتيكان؟ أنَّى وهم إلى اليوم يتنازعون بينهم: هل علم تقويم البلدان يقطع على الطالب طريق الدين أم لا؟ الجمهور على أنه يقطع وأنه ينبغي أن لا يُقرأ في الأزهر. وهل الحساب العملي والهندسة العملية يفسدان العقل حتى يضعف استعداده لفهم العلوم الدينية أم لا؟ الجمهور على أنه يفسد العقل وينبغي أن لا يدرس في الأزهر كما صرح بذلك الشيخ (ثابت بن منصور) والشيخ محمد راضي البحراوي من كبار المدرسين هنالك في مقالاتهما المنشورة في المؤيد. ثم أَنَّى يجدون في الأزهر مَن يحسن عملاً ما وليس فيه من يعد لعمل ما إلا القضاء الشرعي، وهؤلاء القضاة الخارجون منه تبكي من سيرة أكثرهم السماء والأرض وتستغيث العدالة بلسان المظلومين المهضومين بأن ينقذها الله منهم ويرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون! ! ولقد كان رجال الكاثوليك في يوم مضى مثل رجال الأزهر يعدون كل علوم العمران حجابًا دون الدين حتى كأن الدين آلة الخراب والدمار، وكان أكثر عامتهم على رأي رجال الدين كما هو الشأن عندنا حتى اليوم، ولكنهم لم يلبثوا أن علموا على أن بقاء الدين محال ما لم تجعل علوم العمران نصيرة له فعكفوا على العلوم حتى برعوا في جميع فنونها، فمدارسهم جامعة تفوق غيرها نظامًا وإحكامًا، وعلماؤهم من القسيسين وغير القسيسين مستعدون لكل عمل يرتقي فيه العمران. فمتى يعود قومنا إلى هذا وهم أحق به من كل أحد؟ أنت يا رب مسئول بتوفيق العقلاء للسعي وإليك وحدك المشتكى. قلنا: إن لاون الثالث عشر قد ولي البابوية والأخطار محدقة بها من كل جانب فقد كان في عهد سلفه بيوس التاسع ما كان من الثورات والانقلاب حتى نشر على عهده في باريس (إعلان) في تحريض بلاد إيطاليا على إنشاء جمهورية إيطالية، لا يكون فيها بابا ولا دين بالمرة. وأصابت البلاد سَنة فذهب الجماهير إلى أن المحل والقحط من شؤم السلطة البابوية، وقد أشاع المرجفون على عهده بأن النمسا تعضد مؤامرة سرية على خلع البابا، وإقامة حكومة عسكرية في البلاد البابوية كلها فاضطربت رومية، وكثر فيها الهرج، وعجزت الحكومة عن ضبط النظام؛ إذ كانت المدينة غاصة بجماهير المسلحين من الأهلين. ثم فتح مجلس الشورى فطلب إناطة الأعمال الإدارية بالعوام (يطلق لفظ العوام في مقابل لفظ (الأكليروس) في اصطلاحهم) وحرية المطابع وطرد اليسوعيين (الجزويت) وإعتاق اليهود، وكان الشعب الثائر يؤيد طلب المجلس. ثم عم الهياج بلاد إيطاليا من شمالها إلى جنوبها، وكان على أشده في رومية، وتوقع الناس سقوط الدولة البابوبة من الأرض، وقلّ احترام البابا في البلاد الأجنبية حتى ما كان يجد نصيرًا. ونقول بالاختصار: إنه لم يستقر للسلطة البابوية قرار من بعد ثورة فرنسا سنة 1848، بل كانت الفتن تتفاقم يومًا بعد يوم، وقد أظهر البابا بيوس التاسع من حب الإصلاح وإرادة الخير للشعب ما لا مزيد عليه، ولم ينقص ذلك من قوة الحزب الجمهوري شيئًا. ولقد بلغ من الاستهانة بالبابا أن كتب إلى إمبراطور النمسا يلتمس إخراج عساكره من إيطاليا فكان كتابه سخرية في فينا بعد أن كان لا مرد لأمره، ولا معقب لحكمه. وحدث في هذه السنة من الأحداث ما زعزع الكرسي البابوي من الشعب الذي كان يقول: إن هذا الكرسي هو كرسي بطرس الرسول نائب المسيح. ومن ذلك اتفاق الشعب والحرس المدني والعساكر المنظمة والجيش الروماني على محاصرة الكويرنال وقتل أمين أسرار البابا، وإكراهه بعد ذلك على قبول وزارة إصلاحية وجعْله كالأسير في قصره تاركًا الأحكام الدينية والمدنية جميعًا، حتى اضطر إلى الفرار متنكرًا بهيئة قسيس إلى غايتا. ثم اشتعلت نيران الفتن والثورات في جميع البلاد التابعة له كما أشرنا إليه آنفًا؛ حتى خسر سلطته في تلك البلاد، وسنذكر نبذة من سلوك لاون الثالث عشر في مقاومة الأخطار، وصرف التيار، وما في ذلك من العظة والاعتبار. ((يتبع بمقال تالٍ))

الخديو وجمعية المسلمين في لوندره

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخديو وجمعية المسلمين في لوندره زار عزيز مصر في هذا الصيف عاصمة الإنكليز بصفة غير رسمية، فلقي من حفاوة ملك الإنكليز وكبار أسرته ورجال حكومته ما كان فوق الحسبان. وقد زار سموه في تلك العاصمة وفد من جمعية الاتحاد الإسلامي فيها رئيسه السيد علي البلجرامي الهندي الشهير، فخطب خطبة بلسان الوفد رحب فيها بالعزيز، وذكر مقصد الجمعية وسعيها في ترقية المسلمين والتأليف بين شعوبهم، ووصف الأمير بتأييد العلم وافتخر بالأزهر، وذكر ما سمع من عود الحركة العلمية إليه بعد سكونها. فأجابه الأمير بأنه قد سرَّه أن تكون هذه الجمعية جامعة لأفراد من طوائف المسلمين المتفرقة على الاتحاد، وقال كلمة كبيرة وهي: (إن الإسلام دين اشتراكي يأمر بالمساواة بين الغني والفقير، والكبير والصغير) ، ثم ذكر استياءه من قلة عدد المجاورين الهنديين في الأزهر، وأنه يرجو أن يزيدوا في مستقبل الأيام، ثم ذكر الحج والحجاج، وقال: إنه يحب أن يسهل الحج على مسلمي كل الأقطار؛ لأنه من أركان الدين (فإذا أهمل المسلمون فريضته حلت بهم الأرزاء لإهمال دين قويم يعتقده 300 مليون من الناس) . وعندنا أن اجتماع أمرائنا برجال هذه الجمعيات مفيد جدًّا للمسلمين. وعسى أن يعتبر بكلمة الأمير بعض الأحداث من رعيته الذين يكتبون ويخطبون للتفريق بين المسلمين باسم الوطنية، ويسمون المسلم السوري في مصر دخيلاً. وأما إقبال الهنود وغيرهم على الأزهر فهو موقوف على ترقية التعليم فيه، وذلك بيد الأمير وفقه الله تعالى. وإلا فإننا لا نأمن أن ينفر المصريون منه بعد حين إلا فارًّا من العسكرية، أو عاجزًا عن الكسب فيتخذه له تكية!

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (لائم مليم) تألم مما كتبناه عن قراء الصحف رجل هضم حقوق المنار سنتين أو ثلاثًا كان يعد ويمطل، ثم صرح بأنه لا يجوز أخذ قيمة الاشتراك منه؛ لأنه كاتب وأديب ولم نعرف عن غيره أن تعريف الأديب أو خاصته هضم حقوق خدمة العلم والدين والآداب. تألم فكان طول ليله يحسو كؤوس المُدام، ويسدد إلينا سهام الملام، ويحرض سمَّاره (الأدبا) ، على اتباع سنة صاحب اللواء، في معاداة الذين يسميهم الدخلاء، بأن ينفروا عن المنار وصاحبه؛ لأنه ذكر المصريين في مقال يذكر فيه معاملة الأمم وأصناف الناس لقراء الصحف فضَّل فيه بعض البلاد على بعض، وبعض الأصناف على بعض، وقال: إن هذا يعد شتمًا للمصريين. ونعيد بهذه المناسبة ما كنا كتبناه من قبل، وهو أن أكثر المشتركين في المنار من أهل الفضل والدين، والكثيرون منهم يدفعون قيمة الاشتراك من غير مطالبة حتى أنه لا يكاد توجد جريدة أو مجلة منتشرة مثل المنار ليس لها وكلاء إلا في بلدين أو ثلاثة بلاد. ولم نكتب ما كتبناه تألمًا منهم، ولكن عظة وذكرى، وإنا لنحن المقصرون إذ تمر السنة بعد السنة ولا نطالب الواحد منهم بشيء. نعم إن فيهم من يمطل ولكن لا يكاد يوجد فيهم من يهضم إلا تسعة رهط، نحن منهم في شك وعسى أن يصلح الله حالهم. *** (جريدة المناظر، إبطالها) سبق أن نوهنا بهذه الجريدة التي يصدرها في سان باولو (البرازيل) نعوم أفندي لبكي السوري، وسبق أن افتخرنا بنهضة السوريين المهاجرين إلى أمريكا في الآداب لأجلها؛ فإننا كنا معجبين بحرية هذا الجريدة وإنصافها وشدة غيرة منشئها على قومه وحبه لجنسه ولوطنه، وحسن اختياره فيما يكتب وتوخيه النفع فيه. ومن دلائل طفولية الشعوب الشرقية (حاشا اليابان) أن يضطر صاحب هذه الجريدة النافعة إلى إبطالها بعد جهاد بضع سنين. أقول الحق ولا أستحي من رصفائي الفضلاء: إنه إذا صح الاستدلال بفحوى الكلام ولحنه على قصد المتكلم وغرضه، فإن صاحب المناظر في مقدمة المخلصين في قصدهم الذين يقدمون نفع قومهم حتى على مصلحة أنفسهم. ويظهر أن أكثر قراء العربية هناك يجهلون أقدار أهل الإخلاص وأصحاب الوجدان الشريف، ولا همّ لهم من الجرائد إلا أن يتلذذوا بمدح أنفسهم أو ذم أعدائهم. كتب صاحب المناظر نشرة يودع بها الصحافة ووزعها على قراء جريدته. قال في أولها: (غدًا تنضب دمعة وتذرف دمعة، تنضب دمعة هذا القلم، وتذرف دمعة هذا الكاتب، غدًا يودع الصاحبان بعضهما بعضًا، لا يرجوان التقاءً حيث اجتمعا على مكتب الصحافة) وأقول: إن كل ذي شعور بقيمة أهل الوجدان الشريف يشارك هذا الكاتب في ذرف الدموع، ولكن ما أقل الذين يشعرون! وقال: إنه دخل باب الصحافة لثلاثة أغراض: مقاومة فساد الأمة حيث الكلمة حرة، وترقية المهاجرين السوريين، وتمكين علاقتهم بوطنهم لئلا تبتلعهم الأمة التي هاجروا إليها. وأنا أعتقد أنه صادق في دعواه وأحترم أغراضه، وأحترمه على البُعد؛ لأني أعتقد أنه يريد نفع الناس، ولكن أكثر رجالنا كالأطفال يحبون من يسعى في لذتهم، لا من يسعى في منفعتهم، ولقد كان يجل كل كلام جليل نافع للناس، وإن لم يكونوا ممن أنشأ لهم جريدته. ومن آية هذا أنه كان ينقل عن المنار مثل مباحث جمعية أم القرى ومقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) نعم إنه نشر ردًّا لبعض الكتاب على الثانية في شيء من التحامل، ولكن لا أقول إنه هو كان متحاملاً. وقال في سبب إبطال الصحيفة: إنه كان يعلم أن من يكتب لتلك الأغراض لا يكون موضوعًا للإقبال، ولكنه لم يكن يحسب أنه يهمل ويقاوم حتى يعجز عن النفقة عليها؛ لأنه يقصر في مدح الذين يتجنسون بغير جنسيتهم (السورية) وفي ذكر حركات المشتركين، وتقلبهم في البلاد. وقد لقي ما لم يكن في الحسبان. وبالجملة: إن إبطال هذه الجريدة خسارة على السوريين لا عوض عنها، فعسى أن يوجد من أهل الغيرة والنجدة من يسعى في إعادتها من حيث يجدّون في مساعدتها. *** (كتاب دلائل الإعجاز) نشرنا نموذجًا من هذا الكتاب الجليل في البلاغة بالحروف والهوامش التي نطبعه فيها ومنه يرى القراء أن المطبعة قد استكملت أنواع الحروف حتى الشكل، وصارت مستعدة لطبع الكتب وغيرها. أما الاشتراك في الكتاب فهو 15 على كبره وحسن ورقه وطبعه، وسيكون ثمنه بعد تمام الطبعة عشرين قرشًا. *** (كيفية جمع إعانة سكة حديد الحجاز) أخبرَنا شاهدا عدلٍ أن أحد مختاري القرى في سوريا جمع من كل رجل من قريته ريالاً للإعانة، ولكنه لم يدفع مما جمعه إلا نحو ثلثيه، فإذا كان المتصرف يأخذ ثلث الباقي أيضًا ويرسل إلى الولاية ثلثيه، وكان الوالي يفعل هكذا فيما يرسله إلى الآستانة فإن الذي يبقى للآستانة نحو الخمس، حتى كأن المال غنيمة لا يصل إلى بيت المال منه إلا خُمسه. والسبب في وقوع هذه الخيانة من مثل ذلك المختار - الذي لا ذمة له ولا أمانة - هو عدم نشر كل ما يدفعه الناس هناك في الجرائد، وعدم طبع وصولات مسلسلة الأعداد يحاسب بها الجامعون للإعانة. فعسى أن تتنبه الحكومة العثمانية في جميع الولايات لتلافي ذلك، وأن تأمر بإصدار صحف تابعة للجرائد الرسمية في كل ولاية يبين فيها كل ما يدفعه الناس، وترسل كل صحيفة إلى الجهة التي ذكر أسماء أهلها فيها. وأن لا يجمع شيء من الإعانة التي يأمر بها السلطان أخيرًا إلا بوصولات مختومة مسلسلة الأعداد. هذا وقد كثر الذين يجمعون الإعانة في هذه البلاد، ومنهم من لا يوثق بأمانته فيجب على كل أحد أن يحتاط فيما يتبرع به فلا يضعه إلا في يد أمين كإدارة المؤيد في مصر، واللجنة الكبرى التي يرأسها أحمد باشا المنشاوي في الغربية.

عود إلى سرد الأحاديث الموضوعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عود إلى سرد الأحاديث الموضوعة مناقب الصديق (1) حديث إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم قال: (يا أبا بكر ألا أبشرك؟ قال: بلى فداك أبي وأمي، قال: إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة ويتجلى لك خاصة) رواه الخطيب عن أنس مرفوعًا، وقال: لا أصل له وضعه محمد بن عبد بن عامر، وله طرق منها أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأبي بكر: (أعطاك الله الرضوان الأكبر) فقال بعض القوم: يا رسول الله وما الرضوان الأكبر؟ قال: (يتجلى الله في الآخرة لعباده المؤمنين عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة) رواه أبو نُعيم عن جابر مرفوعًا، وفي إسناده محمد بن خالد الختلي وهو كذاب، ولا يَغُرنك ذِكْر الحاكم له في مستدركه فكم في المستدرك في الأحاديث الموضوعة والواهية. (2) حديث إن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني كنت معك في الصف الأول فكبرت وكبرت فاستفتحت بالحمد فقرأتها فوسوس إليَّ شيء من الطهور، فخرجت إلى باب المسجد فإذا أنا بهاتف يهتف بي وهو يقول: وراءك، فالتفت فإذا أنا بقدس من ذهب مملوء ماء، أبيض من الثلج وأعذب من الشهد وألين من الزبد عليه منديل أخضر مكتوب عليه: لا إله إلا الله. الصديق أبو بكر، فأخذت المنديل فوضعته على منكبي وتوضأت للصلاة وأسبغت الوضوء ورددت المنديل على القدس، ولحقتك وأنت في ربع الركعة الأولى فتممت صلاتي معك يا رسول الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبشر يا أبا بكر الذي وضأك للصلاة جبريل، والذي مندلك ميكائيل، والذي مسك ركبتي حتى لحقت للصلاة إسرافيل. هو موضوع ومحمد بن زياد المذكور في إسناده كذاب، وقد روى نحو هذا لعلي بن أبي طالب، وفيه ذكر المنطل والمنديل، والكل كذب موضوع. ونقول: يا ليت عزرائيل انتقم من واضع هذا الحديث؛ لأنه لم يجعل له حظًّا في هذه الخدمة فأخذ روحه الخبيثة قبل أن تصل أكاذيبه إلى الناس. وإن الممارس للسنة الفقيه في الدين ليعرف فيه الكذب وإن لم يطلع على نقلنا عن المحدثين في وضعه وكذب مخترعه، ولكن جهلة العامة يُفتنون بمثله وينظمونه في سلك الكرامات والخوارق. (3) حديث إن الله لما خلق الأرواح اختار روح أبي بكر الصديق من بين الأرواح، فجعل ترابها من الجنة، وماءها من الحيوان، وجعل له قصرًا في الجنة من درة بيضاء ... إلخ رواه الخطيب عن عائشة مرفوعًا، وقال: لا يثبت وقد اتهم به هارون بن أحمد العلاف المعروف بالقطان. وقد جزم الذهبي في ترجمته من الميزان بأن هذا باطل، وفي معناه أحاديث نترك ذكرها، فلتقس عليه. (4) حديث أن يهوديًّا قال لأبي بكر: والذي بعث موسى وكلمه تكليمًا إني أحبك، فلم يرفع أبو بكر له رأسًا تهاونًا به فهبط جبريل وقال: (يا محمد إن العلي الأعلى يقرئك السلام ويقول لك: قل لليهودي الذي قال لأبي بكر: إني أحبك - إن الله قد أحاد عنه في النار خلتين: لا توضع الأنكال في عنقه ولا الأغلال في عنقه لحبه أبا بكر ... ) ... إلخ رواه ابن عدي عن أنس مرفوعًا وهو موضوع في إسناده وضَّاعان. (5) حديث: (إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله ووحيه فاسمعوا له تفلحوا وأطيعوه ترشدوا) رواه الخطيب عن ابن عباس مرفوعًا، وهو موضوع للاحتجاج به على الشيعة، بل كل هذه الأحاديث قد وضعت لمثل هذا الغرض فقد كانت سوق الرواية رائجة في أيام الفتن والخلاف، فوضع الكذابون من كل قوم من الأحاديث ما شاءوا، ينصرون بها مذهبهم فما كان أشأم تلك المذاهب على الإسلام! ! ! (6) حديث: بينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع جبريل إذ مرَّ أبو بكر فقال: (هذا أبو بكر) قال: (أتعرفه يا جبريل؟) قال: (نعم، إنه لفي السماء أشهر منه في الأرض وإن الملائكة لتسميه حليم قريش، وإنه وزيرك في حياتك وخليفتك بعد موتك) رواه ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا، وفي إسناده إسماعيل ابن محمد بن يوسف كذاب. وذكر له صاحب (اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة) طريقًا أخرى فيها وضاع. وقال الذهبي: إسناده مظلم، وتعقبه ابن حجر في لسان الميزان بأن رجاله معروفون بالثقة، وليس فيهم من ينظر في حاله إلا المعلَّى بن الوليد، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. قال في الفوائد المجموعة مستدركًا على ابن حجر: بل في إسناده إسماعيل بن محمد وهو كذاب، وقد قال الحاكم: إنه يروي الموضوعات. فلينظر القارئ كيف يشتبه في مثل هذا الحديث الحافظ ابن حجر، وينسى إسماعيل الذي حكم عليه بالوضع الحاكم على تساهله ووقوعه في رواية الموضوعات بحسن ظنه.

البيوت ـ منكراتها وعادتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البيوت منكراتها وعاداتها تهتك النساء تبتدع نساء المسلمين في مصر كل يوم زيًّا جديدًا من أزياء الخلاعة والتهتك، فلم يكتفين عند الخروج بإظهار بعض الرأس ومعظم الوجه وصفحتي العنق والنحر حتى جعلن في هذه الأيام أكمامهن قصيرة واسعة فهن يمشين في الأسواق، وسواعدهن بارزة من وراء معاصمهن المطوقة بالأَسْوِرة، فلم يبق من الزينة شيء إلا وقد أبدينه حتى وقعن في مخالفة نص القرآن الذي لا خلاف فيه وهن مع هذا كله معدودات من أهل الحجاب. فأين أهل الغيرة؟ أين أهل الصيانة؟ أين الذين ملؤوا أرض مصر صراخًا وعويلاً أن قال قاسم بك أمين ينبغي أن نربي المرأة ونعلّمها ثم نأذن لها بعد ذلك بأن تميط هذا المنديل عن أنفها لتستنشق الهواء النقي، ثم لتستر مع ذلك رأسها ونحرها وصفحتي عنقها وسائر بدنها؟ أليس ما قاله أهون بشرطه وبغير شرط مما عليه نساء أولئك الصائحين النائحين الذين ينكرون الكلام. ولا ينكرون الموبقات العملية التي يشاهدونها في كل آن؟ ! الخدم في البيوت يعلم كل مقيم في مصر أن الناس يبيحون للخدم من الرجال الخلوة بالنساء في جميع الحالات، فالخادم يساعد سيدته في المطبخ حاسرة عن رأسها وذراعيها، كاشفة عن صدرها وساقيها، ومنهن من تلبس في حال غسل الثياب الأخلاق الممزقة فيبدو منها ما لم يكن يبدو. ويصعد معها إلى السطح يساعدها على نشر الثياب وهي في مثل ما ذكرنا من ثياب البذلة، ويدخل معها في بيت الدواجن لإطعامها، وربما أغلق الباب عليهما لئلا يطير الحمام أو يفر الأرنب. ورب البيت يعرف كل هذا ولا يبالي به ولا يتأثم منه، وإن كان في خادمه من الشباب والفتاء ما ليس فيه! وليس هذا المنكر مما تدعو إليه ضرورة المعيشة بل لا حاجة إليه ولو كان محتاجًا إليه لكانت الموانع التي تمنع منه أولى بالترجيح من الحاجة التي تدعو إليه؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح في نظر الشرع والعقل معًا. وإننا لنعجب من أمر هؤلاء الرجال الذين نبذوا الشرع آدابه وأحكامه، وحرموا ثمرة العقل من البصيرة والاحتياط كيف أفسدت عليهم عادات البلد السوأى وجدان الغيرة، فسمحوا لهؤلاء الخدم - الذين هم أضل سبيلاً من الأنعام بخبث طينتهم وسوء تربيتهم - أن يمازجوا نساءهم في الخلوات والجلوات، والدين لم يسمح بهذا لأطفالهم في جميع الحالات. إذ أمر تعالى بأن يستأذنوا في بعض الأوقات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلاةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ العِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ} (النور: 58) ؛ فإذا كان الله لا يسمح لأولادكم أن يروا النساء في الأوقات التي هي مظنة التساهل في الستر لئلا ينقش في ذهن الولد من رؤية العورات ما يشتغل به خياله. وتسوء في الآداب حاله، فكيف تسمحون لهؤلاء الرجال الأشرار بما لا يسمح به الشرع للأطفال الصغار؟ ! الفقيون في البيوت يطلق أهل هذه البلاد على حافظ ألفاظ القرآن لفظ (فَقِي) ويجمعونه على (فُقَهَا) ، وإن كانوا في الغالب لا يكادون يفقهون حديثًا، وما ذكرناه في العنوان من الجمع هو أولى من جهتي اللفظ والمعنى معًا. ومن العادات الضارة في هذه البلاد - وإن صبغت بصبغة الدين - أن أكثر البيوت يعين لها فقيون يجيئونها في ساعة من ليل أو نهار فيقرءون شيئًا من القرآن، حيث يكون النساء وينصرفون. وإنهم ليخلون بالنساء كثيرًا والخلوة محرمة بإجماع المسلمين سواء كان الرجل والمرأة بصيرين أو أعميين أو أحدهما أعمى فقط. وقد سمعنا من أهل النقد والبصيرة حكايات كثيرة في مفاسد هذه الخلوات بل حدثنا غير واحد من أهل النقد بأن من هؤلاء الفقيين من يتوسل بكلام رب العالمين إلى الصلة بين المعشوقات والعاشقين، فكأن هؤلاء العميان يكافئون صنف المبصرين الذين يقودونهم بعمل من جنس عملهم، فكل صنف يساعد الآخر على ما لا وصول إليه بدونه، ويقوده في المسالك التي يحتاج فيها إلى قيادته. وليت شعري ماذا يريد الذي يعين فقيًا أعمى يقرأ لامرأته في بيته ما لا تفهمه ولا تعقله؟ أيريد تقوية دينها بقراءة ذلك المأجور؟ كيف وهو لم يلقنها عقيدة المسلمين، ولم يرضها بشيء من أخلاق الدين، ولم يعلمها الصلاة بالقول، ولم يمرنها على أدائها بالعمل، ولم يذكرها يومًا من الأيام بالدار الآخرة، ولم يحدثها في ليلة من الليالي بالحساب والعقاب، فأي فائدة لها في سماع نغمات ذلك الرجل المأجور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً؟ نعم، إن هؤلاء الفقيين لا كسب لهم، وإن أكثرهم مستحق للصدقة فمن تصدق عليهم فلا يجعل صدقته أجرًا لهم عن التغني بكتاب الله في بيته والوقوف على عورات أهله، وإن أمن فتنتهم فكيف به إذا لم يأمنها. فإن قيل: إن المسلمين يحسنون الظن بحَمَلَة القرآن، وأنت تحملهم على إساءة الظن بهم - أقول: روى أحمد وأبو داود والترمذي (وصححه) والنسائي وابن حبان من حديث أم سلمة قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمر بالحجاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (احتجبا منه) فقلنا: يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ ! فقال: (أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ !) وقد علل المحققون النهي بأن الأعمى قليل العناية بالستر. فإذا كان هذا قول النبي لأزواجه اللواتي أذهب الله عنهن الرجس وطهرهن تطهيرًا في شأن ابن أم مكتوم الذي عاتب الله النبي في الإعراض عنه لدعوة سادات قريش وقال في شأنه: {وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} (عبس: 8-10) فماذا تقولون أنتم في عميان مصر، دار الفسق في هذا الزمن الذي فشا فيه الفجور وفار التنور؟ فاتقوا الله أيها المسلمون. وطهروا بيوتكم واستعينوا بذلك على تربية أولادكم، وإلا هلكتم وأهلكتم بلادكم. وأقبح من خلوة الفقيين بالنساء في البيوت، خلوتهم بهن في (أحواش) القبور، فإن هذه الخلوة أتم من تلك؛ لأن البيوت لا تخلو في الغالب من الأولاد والخدم، فالخلوة الصحيحة فيها متعسّرة على أن في الجلوة من المفاسد ما فيها. وإن الشافع لجميع ما يكون في المقابر من البدع والمنكرات استحباب زيارة القبور أو الإذن فيها لأجل الاعتبار بالموت. فيستباح لأجل هذا الاستحباب من المحرمات ما يستباح، ويعد كله قربة إلى الله تعالى وإن كان كله فسادًا لا شيء من العبرة والعظة فيه. هذا وإن الأحاديث الصحيحة تدل على أن الإذن بزيارة القبور بعد النهي عنه خاص بالرجال، ولقد لعن صلى الله عليه وسلم زائرات القبور. هذا ما ننصح به لإخواننا المسلمين، وإن سمّاه ذلك (الكاتب الأديب) شتمًا للمصريين، فإن النهي عن المنكر فريضة؛ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) . طلب الزواج بلسان الصحف رأينا في بعض المجلات والجرائد عادة جديدة قلد المصريون فيها الأوروبيين وهي طلب الزواج بلسان الصحف، يكتب الفتى شيئًا في ترجمة نفسه ومورد معاشه ثم يذكر الصفات والنعوت والحالات التي يحبها فيمن يريد التزوج بها، ثم رأينا أكثرهم بطلب أن ترسل إليه صورتها الشمسية (الفوتُغرافية) وطلب بعضهم أن يأذن له أبواها أو غيرهما من أوليائها برؤيتها في حضرتهم، وهذا طلب شرعي، ولا بأس به إذا كان أهل الفتاة راضين مِن أخلاق مَن يخطب إليهم وواثقين بأنه يمنعه أدبه أن يذكر ذلك إذا لم يتم الاتفاق على الزواج. وأما طلاب الصور فلا شك أنهم من النابتة المتفرنجة الذين لا يخطر في بالهم أدب الدين ولا أحكامه، ولو تفكروا في ذلك لعلموا أن تصوير الفتيات يتوقف على بروزهن للمصوّر سافرات حاسرات كما هي العادة. ولا يتوهم أن أحدًا يطلب صورة امرأة ملفوفة في ملاءتها متبرقعة لا يظهر منها إلا الحدق! سبحان مقلب القلوب والأبصار قد صار شبان المسلمين يشترطون فيمن يريدون التزوج بها أن تكون ممن تبرز أمام المصورين، وكانوا يغارون على النساء من الأهل والأقربين!

الكرامات والخوارق ـ 16

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق المقالة السادسة عشرة في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل (النوع الثامن: طاعة الحيوانات والجمادات) استشهد السبكي للأول بحكاية الأسد مع أبي سعيد بن أبي الخير ومع إبراهيم الخواص من قبله، وللثاني بحكاية الشيخ عز الدين بن عبد السلام مع الفرنج. فأما حكاية الأسد فلا أعرفها، وأما حكاية الريح فهي كما في ترجمة الشيخ عز الدين (رحمه الله تعالى) من طبقات السبكي أن الفرنج وصلوا إلى المنصورة في المراكب واستظهروا على المسلمين فنادى الشيخ بأعلى صوته: يا ريح خذيهم، (عدة مرار) فعادت الريح على مراكب الفرنج، وكسرتها، وكان الفتح، وغرق أكثر الفرنج وصرخ من بين المسلمين صارخ: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم رجلاً سخَّر الله تعالى له الريح. أخذ السبكي من هاتين الحكايتين أن الحيوانات والجمادات تطيع الأولياء، وتمتثل أمرهم، وإنما الطاعة عمل بإرادة واختيار يقصد به امتثال أمر المطاع، فهو يبني هذا على قول بعض الصوفية: إن للجمادات حياة وإدراكًا، ولولا ذلك لسمي ما كان من الريح تسخيرًا من الله تعالى كما قال ذلك الصارخ. وتسخير الله الريح لا يستلزم أن يكون بقدرة لا حكمة معها، ولا نظام، بل ذلك مُحال على الحكيم العليم، وإنما يكون ذلك بتوفيق الله تعالى بين أسباب هبوب الريح وأسباب خروج الفرنج كأن يكونوا خرجوا في وقت سبقته أو قارنته حرارة شديدة في هذا الإقليم، فاشتدت حرارة الهواء فصعد إلى الحار منه بتمدده وخفته إلى الجو، فتحرك الهواء لأجل الموازنة فكان عاصفة أغرقت الفلك بمن فيها من الفرنج. ووافق ذلك قول الشيخ تلك الكلمة فعدَّ الحادث كرامة له؛ لأن الله ألهمه ذلك القول في ذلك الوقت. يعلم كثيرون من القراء أن البارجة (فيكتوريا) أعظم بوارج الأسطول الإنكليزي في البحر المتوسط قد غرقت عند دخول الأسطول ميناء طرابُلس الشام منذ بضع سنين أو أكثر، وقد اتفق عند ذلك أن رجلاً من الظرفاء في طرابلس كان مع جماعة في منتزه التل من تلك المدينة يتفرج على الأسطول فقال: إذا تصرفت لكم بهذا الأسطول فأغرقت بعض بوارجه أتشهدون لي بالولاية والكرامة؟ قالوا: كيف لا وأنت أهل للتصريف؟ ! فقال ما معناه أنه تصرف، ولم يمض ِإلا قليل من الوقت حتى رأوا كأن الأسطول قد نقص بارجة فشكّوا في ذلك حتى علموه اليقين. ولو كان ذلك الرجل وسخ الثياب كثير الهذر والدعوى بحيث يعتقد العامة فيه الولاية والبركة لسارت الركبان بأن غرق البارجة كان كرامة له! وأما طاعة الحيوانات فالحكايات فيها كثيرة عند جميع الأمم لما يقع من الحوادث التي يعدها المعتقدون بولاية شخص كرامة له، ولو وقعت بعينها لغيره ممن لا يرونه أهلاً للكرامة لما عدّوها إلا مصادفة لا تتعدى حدود المعتاد، فإن الحيوانات لا تعرف لحركاتها في إقبالها وإدبارها وهجومها على الشيء وانصرافها عنه أسباب مطردة. وقد وقع لكثير من جُوّاب الآفاق أن يصادفوا السباع في بعض الفيافي مقبلة عليهم، ثم لا تلبث أن تنصرف عنهم بغير سبب يعرف. وعدم العلم بالسبب لا ينفي وجود السبب فربما تذكّر السبع في الساعة التي انصرف فيها شيئًا حمله على الانصراف عمن كان يقصده، كأن شم رائحة أو سمع صوتًا من الجهة التي فيها أشباله فخاف عليها عدوان عادٍ. وقد اتفق لفصيلة من العساكر المصرية في السودان أن سارت ليلة مقمرة، فاعترضهم الأسد في الطريق، فذعروا وحاروا لا يدرون ما يصنعون، ولكن الأسد لم يلبث أن زأر وعدا كالسهم، وسمعوا في أثناء ذلك عواء كثير فعلم بعضهم بما سبق له من الاختبار أَنَّ عرجلة من الضباع هجمت على لبؤة ذلك الأسد من شدة الخوف، فشعر بذلك الأسد فذهب لنصرتها. قد علم مما ذكرناه في المسائل أن الحكايات التي يتناقلها الناس لا ثقة بها فمنها الإفك المبين، ومنها جعل ما هو معتاد ليس خارقًا للعادة، ومنها ما يضاف إلى غير سببه، ويعلل بغير علته. ولو شئنا لذكرنا من هذا النوع حكايات كهذه الحكايات أسندها غير المسلمين إلى من يعتقدون لهم الكرامة وعمل العجائب. وإذا جاءنا السبكي أو غيره بحكاية منقولة بالتواتر لا تحتمل التأويل، فإننا نجزم بأنها خارقة، وما كان ينبغي لمثله في العلم أن يقول: إن هبوب الريح وإغراقها للمراكب من خوارق العادات، وما زال الناس في كل زمان يشاهدون مثل ذلك بأعينهم في جميع البحار والأنهار التي تجري فيها السفن. وكلمة الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى لا تجعل المعتاد خارقًا للعادة. فإن قال: إن الكرامة لا يشترط أن تكون خارقة للعادة ومخالفة للسنن الكونية، وإنَّ توفيق الله تعالى بين حوادث الطبيعة ومصلحة المؤمنين عند دعاء بعض الصالحين أو بشارته يصح أن يسمى كرامة لذلك العبد الصالح - فلا منازع له في قوله، ولا معارض له في حكمه؛ لأن التسليم بهذا لا يفسد عقول العامة فيحول دون الاعتقاد بحكمة الله واطراد سننه، ولا يغرهم بالأشخاص فيطلبوا الشيء بغير سببه ومن غير معدنه، وما نريد بالبحث في الخوارق إلا المدافعة عن هذا الاعتقاد، والحرص على إزالة هذا الغرور. * * * (النوعان التاسع والعاشر: طي الزمان ونشره) قال السبكي: وفي تقرير هذين القسمين عسر على الأفهام، وتسليمه لأهله أَوْلَى بِديِن الإيمان، والحكايات فيهما كثيرة: أقول: يريدون بطي الزمان أن تمضي الأيام الكثيرة على المرء، ولا يشعر بمرورها، فيمر الشهر عليه كأنه يوم أو بعض يوم. ويعنون بنشر الزمان: أن تكون الساعة الواحدة كالسنين الطويلة. ومن الحكايات التي استحيا السبكي من سردها أن بعضهم أحدث وهو في المسجد الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب، فوضع بعضهم عليه عباءته وقال: اذهب فتوضأ فذهب إلى مكة فتوضأ ثم عاد! والإمام يخطب ومنهم من رأى نفسه في مثل هذه الحالة في بلاد فمكث فيها عدة سنين وتزوج ورُزق بأولاد، ثم عاد فرأى الناس في مجلسهم الذي فارقهم فيه. وهم يزعمون أن مثل هذا واقع حقيقة لا تخيّلاً، ولذلك قال: إن في تقريره عسرًا , وأي الخوارق قرر فكانت قريبة من الفهم، سهلة القبول في نظر العقل؟ ويا ليته قرر ما عنده، ولم يذكر (دين الإيمان) فيما لم يرد في كتاب ولا سنة، وما أرى عنده إلا التسليم والتقليد. ويا ليت شعري ما هي الفائدة للأمة - التي يشترطها السبكي لإظهار الكرامة - في هذين النوعين. على أن هذا شيء لا يظهر لأنه لا يقع وإنما ادعي ادعاءً بلا بينة ولا برهان، فيكف جاز لهم ادعاؤه وأمر الكرامة مبني - كما قال - على الكتمان؟ قالوا وأكثروا فإذا كان العقل والدين يقضيان بأن لا يصدق المرء بكل ما يسمع وأن عليه أن يتثبَّت في الأخبار التي تسند إلى الحس، ويستشهد فيها الناس فكيف يسلم العاقل بما هو غريب عن العقل والعادة، ولا حجة على قول مدعيه إلا نفس دعواه فقوله هو الدليل وهو المدلول. رأى الدجالون أن الناس يسلمون لمدعي الولاية بالتظاهر بالصلاح كل ما يقول، فطفقوا يدعون كل ما يخطر ببالهم، وقد كان العلماء يفندون أقوالهم فصاروا في مقدمة الخاضعين لهم المسلِّمين بكل ما يقولون. فإن كان في أهل الصدق من قال بطي الزمان ونشر الزمان، فلا نظنه يعني به أن ذلك قد وقع حقيقة في عالم الحس، وإنما يعنون - والله أعلم - ما يكون لهم من الأحوال التي يغيبون فيها عن الحس ويطيرون في جو الخيال، ويجولون في عالم المثال، فيكونون أيقاظًا وكأنهم في منام، فأما طي الزمان فغيبة تامة، وأما نشره فرؤى وأحلام، وقد يسمى القوم التصور تطورًا، والأحوال النفسية عوالم غيبية، وإذا صح أن الأرواح تتجرد قبل الموت كما يقولون، وتكون في عالم وسط بين عالم الملك وعالم الملكوت، فمن الحماقة أن يحدث الناس كافة بشيء يفوق إدراكهم، ويعلو على أفهامهم، وليس فيه من الفائدة إلا أنه فتنة لهم، ولو لم يدخلوه في الدين لكانت الفتنة أهون، بل لكان فيه فائدة للخواص؛ لأنهم يجتهدون في كشف حقيقة هذا الأمر، فإن كانت هناك عوالم حقيقية، طريقها الرياضة الروحانية، يسلكون إليها طريقها، ويدخلون عليها من بابها، ولكنهم الآن يقولون: إنَّ هذا من خوارق العادات، وإنَّه لا يكون إلا بالخصائص والعنايات، وهذا السبكي أحد علماء الأصول يقول فوق ذلك: إنَّه يعلو الأفهام، وإنَّ التسليم به أولى في دين الإيمان وشريعة الإسلام، والعامة من ورائه تستخذي لمدعي هذه الكرامات، وتنظم تعظيمهم في سلك العبادات، وتطلب منهم ما لا يُطلب إلا من الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ((يتبع بمقال تالٍ))

النرد والشطرنج ونحوهما

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النرد والشطرنج ونحوهما (س1) النرد - الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ القراموص: ما هو النرد وتاريخه ومخترعه وما سبب اختراعه، وما حكم الشرع فيه؟ وما حكمة ذلك؟ وإذا الشارع حرمه فهل قال أحد من الأئمة الأربعة أو غيرهم بحله إذا خلا عن الرهن؟ وكذا نرجو الإجابة على هذا النحو على الشطرنج والضُّمنة والكُتشينة، وهي أوراق مزوقة بالصور، وما هي القاعدة الفاصلة بين الحل والحرمة وما حكمتها؟ (ج) (النرد) : هو ما يسمونه اليوم (الطاولة) ، وهذا يغني عن وصفه ووصف اللعب به، على أننا رأيناه ولكن لا نعرف كيفية اللعب به، وهو من وضع الفُرس ويقول صاحب القاموس المحيط وغيره: إن واضعه أردشير بن بابك أحد ملوكهم قال: ولهذا يقال له النردشير، وأردشير هذا هو مؤسس الدولة الساسانية في الفرس التي هي الطبقة الرابعة من ملوكهم، وذلك في سنة 226م، وقبل موته توج ابنه سابور وولاه واختار هو العزلة ومات من سنته وهي 240م، ويظن أنه اخترع النرد في تلك العزلة للتلهي به، وإن كان مشغولاً بالعبادة في بيوت النيران فإنه هو الذي أرجع في تلك المدة مذهب زرادشت المجوسي إلى الفرس. وفي شرح القاموس أن سبب تسمية أردشير هو أن (شير) اسم الأسد، وقد نُقل أن الأسد شمه وهو طفل ولم يأكله. وقال الماوردي: قيل إنه وضعه على البروج الاثني عشر والكواكب السبعة؛ لأن بيوته اثنا عشر كالبروج ونقطه من جانبي القصر سبع كالكواكب السبعة فعدل به إلى تدبير الكواكب والبروج، وقال البيضاوي في شرح المصابيح: يقال أول من وضعه سابور بن أردشير ثاني ملوك الساسان ولأجله يقال له النردشير، وشبّه رقعته بالأرض، وقسمها أربعة أقسام تشبيهًا بالفصول الأربعة. أما حكم الشارع في النرد بخصوصه فالحظر؛ فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي موسى مرفوعًا: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) ومن حديث بريدة (من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير ودمه) ، وأما الحكمة في ذلك فهي أنه كالأزلام يعول فيه على ترك الأسباب والاعتماد على الحظ والبخت فهو عبث يخشى ضره ولا يرجى منه نفع. قال النووي في شرح مسلم عند الكلام على الحديث: وهذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد. وقال أبو إسحاق المروزي: يكره ولا يحرم. وقيل: وسبب تحريمه أن وضعه على هيئة الفلك بصورة شمس وقمر وتأثيرات مختلفة تحدث عند اقترانات أوضاعه ليدل بذلك على أن أقضية الأمور كلها مقدرة بقضاء الله، ليس للكسب فيها مدخل، ولهذا ينتظر اللاعب ما يُقضى له به. وقد اختلف فقهاء الشافعية في درجة حظره، فذهب الأكثرون إلى أنه من الكبائر ترد الشهادة بالمرة الواحدة منه، وقيل: هو من الصغائر، وقال بعضهم بكراهته لقول الشافعي في المختصر: وأكره اللعب بالنرد للخبر، وردوه بأنه كثيرًا ما يقول مثل هذا في المحرمات واختلف النقل عن (الأم) . ونقل الموفّق الحنبلي في مُغنيه الإجماع على تحريم اللعب، وكأن الذين قالوا بالكراهة لم يعتدوا بهذا النقل، وعندي أن تحقق الإجماع في غير الأمور العملية المتواترة كهيئة الصلاة وعددها عزيز. ولكن أقل ما في نقل الموفق أنه لم يقل أحد من الأئمة المشهورين بحِلّه. (الشطرنج) وأما الشطرنج فهو معروف. والمشهور في كتب التاريخ والأدب أن واضعه أحد حكماء الهند القدماء، ويزعم بعض الإفرنج أن اليونانيين هم الذين وضعوه في أثناء حرب ترواده الشهيرة. وأما سبب وضعه فقد قالوا فيه: إنَّ الحكيم صيصه بن داهر الهندي رأى أن ملك زمانه فتى مستعد للخير والعدل في الرعية، ولكن بطانته قد حببوا إليه اللهو واللعب والترف والمخيلة، وصرفوه في حظوظهم وأهوائهم، ورأى أن الملوك يثقل عليهم سماع النصح الصريح فأحسن الحيلة في إيصال النصيحة إلى الملك في صورة اللعب باختراع الشطرنج الذي مبناه على أن بقاء الملك ببقاء الرعية، وأنه في نفسه ليس بشيء، وهو بهم كل شيء. ولما اخترعه وعلم به الملك استقدمه ليعلّمه اللعب به فكان يلاعبه ويشرح له في ضروب اللعب ما يمثل له حالته، وما يتوقع من أخطارها، ففهم النصيحة، وعمل بها فحسنت الحال. ويقال: إنه أراد أن يكافئه فقال له تمنَّ عليَّ واقترح، فاقترح أن يوضع في بيت من بيوت الشطرنج حبة قمح واحدة، وتضاعف في البيت الذي بعده، ثم تستمر المضاعفة بأن يضاعف في كل بيت ما قبله إلى آخر البيوت وعددها 64 ويعطى مجموع ذلك، فاحتقر الملك هذا المطلب ثم علم أن خزائنه لا تفي به. وقد عنى بعضهم بضبط العدد الحاصل من هذه المضاعفة، قال ابن السمان الدمشقي: إنَّ جملته ثمانية عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف - ست مرات - وأربع مائة وسبعة وأربعون ألف ألف ألف ألف ألف - خمس مرات - وسبع مائة وأربعون ألف ألف ألف ألف - أربع مرات - وثلاثة وسبعون ألف ألف ألف - ثلاث مرات - وسبع مائة وتسعون ألف ألف - مرتين - وخمس مائة وواحد وخمسون ألف وست مائة وخمس عشرة. وقدر بعضهم أن هذا العدد يملأ 16384 مدينة في كل مدينة 1024 بيتًا في كل بيت 17476 مكيالاً من القمح، كل 32768 حبة. أما حكمه فقد اختلف فيه الفقهاء والأكثرون على أنه غير محرم , أباحه قوم بشرط أن لا يدخل في القمار، وأن لا يصد عن ذكر الله وعن الصلاة وبديهي أن الإكثار من اللعب به وبغيره يُسقط المروءة، ولا يرضاه العاقل لنفسه، فهو مكروه كراهة شديدة. وقد رووا في تحريمه أحاديث لا يصح منها شيء بل هي إلى الوضع أقرب منها إلى الضعف، ومنها حديث: ملعون من لعب بالشطرنج، رواه الديلمي عن أنس، ورواه غيره بزيادة: والناظر إليها كآكل لحم الخنزير، وروى من حديث واثلة: أن الله تعالى ينظر في كل يوم ثلاث مائة وستين نظرة لا ينظر فيها إلى صاحب الشاه: يعني الشطرنج. ورواه الخرائطي بلفظ آخر، وروى البيهقي وابن عساكر عن عمار بن أبي عمار أن عليًّا عليه السلام مر بقوم يلعبون بالشطرنج فوثب عليهم فقال: (أما والله لغير هذا خُلقتم ولولا أن تكون سنة لضربت بها وجوهكم) ، وروى الثاني عنه أنه قال: لا تسلم على أهل النردشير والشطرنج , وروايته ضعيفة. وقد روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد - كلاهما من شيوخ البخاري - وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن علي كرم الله وجهه أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرًا حتى يطفئه خير له من أن يمسها) وفي (الزواجر) أن ابن عمر (رضي الله عنهما) سئل عن الشطرنج فقال: (هي شر من الميسر) وقال الإمام مالك: هي كالنرد. وروي عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه ولي مالاً ليتيم فوجدها في تركة والد اليتيم فأحرقها، ولو كان اللعب بها حلالاً لما جاز إحراقها. وقال النووي في فتاويه: الشطرنج حرام عند أكثر العلماء وكذا عندنا إن فوت به صلاة عن وقتها أو لعب به على عوض فإن انتفى ذلك كره عند الشافعي وحرم عند غيره، قال ابن حجر في الزواجر: فإن قلت: ما الفرق عندنا بين النرد والشطرنج؟ قلت: فرق أئمتنا بأن التعويل في النرد على ما يخرجه الكعبان فهو كالأزلام، وفي الشطرنج على الفكر والتأمل، وأنه ينفع في تدبير الحرب. وقد أحببت أن أختم الكلام في النرد والشطرنج بما جاء في كتاب (الصادح والباغم) فيهما؛ لما فيه من الفكاهة والحكمة. قال - في سياق حكاية -: ثم بدا لي فرأيت رجلاً ... شيخًا يناجي صاحبًا مكتهلا قد أكثرا الخصام والجدالا ... وأعلنا الشجار والمقالا وافتخرا وكثرة المفاخره ... تدعو إلى العناد والمشاجره فكان قول الشيخ قومي الهند ... الحكماء العلماء اللّد لهم علوم وحلوم وفطن ... وحكمة بالغة إذ تمتحن لو لم يكن من فضلهم إذ يختبر ... فضل الرجال منصف ويعتبر إلا الذي أبدوه في الشطرنج ... للناس من علم سديد النهج جد عظيم لقبوه هزلا ... يصير الرأي الأفين جزلا فيه إشارات إلى مواعظ ... نافعة لكل واعٍ حافظ قد رسموها للهدى مثالا ... إن الحكيم يضرب الأمثالا يعنون أن العيش في التدبير ... وليس بالقسمة والتقدير والمرء للأفعال مستطيع ... محكم يحفظ أو يضيع وذلك العدل بلا خلاف ... لو وفق الرجال للإنصاف قال له الكهل وقومي الفرس ... الحكماء ما بذاك لبس لهم سياساتٌ وتدبيرٌ حسنْ ... كالشرع عدلاً في الفروض والسننْ وملكهم معتضد بالحكمه ... كأنهم قد أُيدوا بالعصمه لا نعبد الأصنام والأوثانا ... ولا نرى الظلم ولا العدوانا والعيش بالرزق وبالتقدير ... وليس بالرأي ولا التدبير وقد وضعنا النرد للمثال ... لو فطنت بصائر الرجال وما قصدنا بالفصوص اللعبا ... حاشا لنا لكن قصدنا الأدبا وإنما سمي لعبًا حيله ... تخفى به ما فيه من فضيله وإنما يعشقه الرجال ... لأنه لعب كما يقال ولو دروا أن المراد الأدبُ ... بوضعه وصنعه ما لعبوا فالحق قد تَعْلَمَهُ ثقيلُ ... يأْباه إلا نفرٌ قليلُ وإنما أخفيت المصالح ... وموّه القول الشفيق الناصح ودلست بظاهر اللذات ... كم راحة تكمن في أذاة كمثلما ركبت الألحان ... ووضعت للحكمة العيدان يظنها الجاهل لهوًا ولعب ... ولو درى بوضعها ماذا طلب من راحة الروح وبسط النفس ... وهزها لطبعها بالأُنس لم يستمع قط الغناء ونفر ... عنه لأن الحق ما فيه وطر قال له الهندي هذه حجتي ... سلكت فيما جئته محجتي شطرنجنا لمثل هذا وُضعا ... أول فن في العلوم اختُرعا وفضله بادٍ بغير مَيْن ... ما أوضح الصبح لذي عينين وإن برهاني فيه ظاهر ... والحق لا يدفعه المكابر أما الضمنة فهي لعبة حديثة فيما أظن، وأما الكتشينة فهي نوع من اللعب بالورق الذي سماه الفقهاء (الكتحفة) ، وكلاهما يعلم من القاعدة التي نذكرها لتكون فصل الخطاب وهي: قاعدة في حكم الملاهي إن العلة في تحريم كل حرام هي المضرة في الدين أو النفس أو العقل أو العِرْض أو المال، فما لا ضرر فيه لا يحرم، وما ورد في النرد فسببه الأول أنه شبيه بالأزلام التي كانوا يلقونها في الجاهلية لمعرفة الخير والشر؛ فإن المعوَّل في النرد على البخت الذي يخرجه الكعبان (يأخذ كل لاعب كعبين يسمونها الآن الزهر) ، كما أن المعول في الأزلام على البخت الذي تخرجه القداح، وقد حرم الاستسقام بالأزلام لما فيها من التغرير بالعقل، وبناء الأمور على الوهم، وإهمال الفكر والنظر، ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن النرد لما فيه من معنى الأزلام ومن التذكير بها، وأحب لكل مسلم أن يجتبنه وإن انتفت العلة عنده بأن كان لا يعتقد بالبخت، ولا يبني حكمًا إلا على سبب صحيح، احترامًا للنهي الصريح. وأما الشطرنج فقد قالوا: إنه لم يكن معروفًا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من دلائل وضع ما ورد فيه مرفوعًا، وأما الآثار فمنها القوي، ومنها الضعيف، فمَن لم يحتج بها فليحكم قاعدة دفع الضرر في كل لعب، وقد قال بعض أئمة الشافعية: إن اللعب الذي فيه حساب وفكر يباح، وما لا حساب فيه ولا فكر فهو مكروه، أي: إن لم يضر، وإلا فهو حرام، أقول: ومن اللعب ما يفيد رياضة البدن وتحريك الدم فيه، وينبغي أن يكون محمودًا محبوبًا، لا مذمومًا ولا مكروهًا، وأي حرج - ليت شعري - على مَن أنهك بدنه أو عقله التعب من شغله، فحاول ترويح نفسه، أو ترويض جسمه ببعض الألعاب التي تنفعه ولا تضر غيره، ولا تخل بمروءته. أقول: إن ترك مثل هذه الرياضات يضر أحيانًا، فإذا ظن ضرر تركها كان الترك مكروهًا، وإذا تحقق الضرر كان الترك حرامًا، وإذا لم يكن في الفعل ولا في الترك ضرر فالفعل مباح، ما لم يخل بال

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار علم الهيئة والقرآن (س2) ومنه: كيف ينطبق علم الهيئة الجديد من أن هناك عوالم شمسية لا يحصي عددَها سوى خالقها غير عالمنا الشمسي، وأنها ممتلئة بالمخلوقات على قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ} (الجاثية: 13) وأن نبينا صلى الله عليه وسلم مرسل لكافة الخلق، وأنه سيد الوجود على الإطلاق؟ (ج) السموات هي الأجرام السامية فوقنا، وهي كثيرة جدًّا فمنها سبعة كواكب تابعة لشمسنا وهي نبتون وأورانوس وزحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد وهذه الكواكب سيارة، ولها أقمار تتبعها كقمر الأرض، ومنها شموس لها عوالم تابعة لها لا نعرف حقيقة أمرها، ولكننا نعرف أن جميع هذه السموات التي فوقنا مسخرة بقدرة الله تعالى لنا ننتفع بنورها الذي هو من أسباب الحياة في الأرض، ونهتدي بها في ظلمات البر والبحر كما قال في آية أخرى مبينة للإجمال في الآية الواردة في السؤال {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالْبَحْرِ} (الأنعام: 97) ويصح أن يكون من وجوه التسخير وضروب الانتفاع ارتباط بعضها ببعض بالسنة الإلهية التي يعبرون عنها بالجاذبية العامة؛ إذ لولا بقاء هذه الجاذبية لاصطدم بعض هذه الأجرام ببعض، وخرب العالم كله كما أنه لولا النور المنبعث منها لما عاش حيوان ولا نبات في الأرض. فهي مسخرة لنا بهذه الاعتبارات. وأما بعثة نبينا لجميع المخلوقات في جميع العوالم فلا دليل عليها في عقل ولا نقل، أما العقل فلا معنى عنده لكونه مرسلاً لقوم يسكنون في كوكب آخر، وهو في كوكب الأرض وهو الوجه في السؤال، وأما النقل فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) أما ذكر العالمين في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ؛ فيراد به من أرسل إليهم للجمع بين الآيتين ولما عهد في تفسير مثل هذا التعبير، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) وأما كونه سيد الوجود فهذا اللقب لم يرد في كتاب ولا سنة، وإنما ورد في كلام بعض المتأخرين، ولكن ورد في الحديث الصحيح: (أنا سيد ولد آدم) قال الشيخ محيي الدين بن عربي: إنَّه لولا هذا الحديث لما فضلناه على غيره من الأنبياء. فإن هذا التفاضل لا يُعرف إلا بالنص الصريح عن المعصوم؛ لأنه لا ذوق لنا في مقامات الأنبياء، وهو يرد ما قاله بعض المتكلمين من تفضيل خمسة على الجميع، وجعْل الفضيلة بين الخمسة على ترتيب الذكر في هذا البيت: محمد إبراهيم موسى كليمه ... فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلمِ ويعد هذا مجازفة وتحكمًا. وقد سبق لنا الاستدلال في (المنار) على تفضيله عليه السلام بأدلة معقولة، والحق الذي لا مرية فيه أن سيد الوجود على الإطلاق هو الله تعالى وحده، ومن غرور الإنسان أن يفضل جنسه على جميع خلق الله على جهله بهم، والله تعالى يقول في بني آدم:] وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاًَ [ الإسراء: 70) وأن هذه الأرض التي يسكنها الإنسان إذا نُسبت إلى ملك الله الواسع كانت كذرة من جبل أو نقطة من بحر؛ بل كانت أقل من ذلك {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (المدثر: 31) . والله أعلم وأحكم. والسكوت عما لا يعلم المرء أسلم. *** السعدية والرفاعية (س3) الشيخ قاسم محمد غدير بأسيوط: ما قولكم دام فضلكم فيما تفعله طائفتا السعدية والرفاعية من ضرب بعضهم بعضًا بالسيوف، والاتكاء عليها من غير أن يصيبهم ضرر، هل هذا كرامة لشيخهم أم لا، وإن كان الثاني فما وجه عدم الضرر؟ (ج) إن هذه إلا ضُرُوب من اللعب يتمرنون عليها، ويوجد في أوربا من الولدان والبنات الحسان من يفوقهم في ذلك، والذكي الفطن لا يخفى عليه من أمرهم شيء إذا هو تأمل. رأيت بعيني رجلين رفاعيين قابضين على سيف من طرفيه، فجاء ثالث فوضع بطنه على السيف مكشوفًا يوهم الناس أن ثقله كله على السيف، وهو في الواقع معتمد بيديه على الرجلين بحيث يتمكن من إلقاء الثقل على السيف بقدر الحاجة، ولو كان هذا اللعب من الكرامات لكان كرامة لفاعليه لا لشيوخهم و (تلك العصا من هذه العُصَيَّة) . *** دخول الفرن (س4) ومنه: قرأت في (المؤيد) المؤرخ في 26 ربيع الأول لمكاتبه الإسكندري أنه علم أن شخصًا من ذرية سيدي عبد السلام الأسمر بالغرب جاع بمريوط، واستُطعم فلم يُطعَم، فدخل فرنًا هناك فيه لحم يشوَى فأكله فما هذا؟ (ج) سترون الجواب في مقالات الكرامات والخوارق، واعلموا أن رواة الجرائد ليس فيهم شروط العدالة التي يعتبرها المحدثون في الرواة الذين تفيد روايتهم الظن، فكيف نعتمد عليها فيما يُطلب في اليقين كالذي نحن فيه؟ ! *** قراءة الفاتحة (س5) ومنه: ما حكم قراءة الفاتحة في الاتفاق على أمر، أهي بمنزلة اليمين أم لا، وما جزاء مَن لم يعمل بما قُرئت الفاتحة لأجله؟ (ج) جرت عادة الناس في هذه البلاد، وفي بلاد غيرها بأن يقرأ المتعاقدان على شيء الفاتحة بعد إبرام الاتفاق، يجعلونها علامة على إبرام العقد والوفاق تفاؤلاً بأن يكون ما اتفقا عليه خيرًا، ويتم بخير، وليس لقراءة الفاتحة حكم خاص في هذا المقام، ولا أعرف له أصلاً في الدين، ولكن التعاقد على شيء يجب الوفاء به إن لم يمنع من ذلك مانع شرعي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) .

نموذج من دلائل الإعجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من دلائل الإعجاز (تابع لما في الجزء الماضي من الموازنة) مع قول البُحتري: لقد كان ذاك الجاش جاش مسالم ... على أن ذاك الزي زي محارب وقول أبي تَمَّام: الصبح مشهور بغير دلائل ... من غيره ابتغيت ولا أعلام مع قول المتنبي: وليس يصح في الأفهام شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل وقول أبي تمام: وفي شرف الحديث دليل صدق ... لمختبر على شرف القديم مع قول المتنبي: أفعاله نسب لو لم يقل معها ... جدي الخصيب عرفنا العرق بالغصن وقول البحتري: وأحب آفاق البلاد إلى فتى ... أرض ينال بها كريم المطلب مع قول المتنبي: وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب وقول المتنبي: يقر له بالفضل من لا يوده ... ويقضي له بالسعد من لا ينجِّم مع قول البحتري: لا أدعي لأبي العلاء فضيلة ... حتى يسلمها إليه عداه وقول خالد الكاتب: رقدت ولم ترثِ للساهر ... وليل المحب بلا آخر مع قول بشار: لخديك من كفيك في كل ليلة ... إلى أن ترى ضوء الصباح وساد تبيت تراعي الليل ترجو نفاده ... وليس لليل العاشقين نفاد وقول أبي تمام: ثوى بالمشرقين لهم ضجاج ... أطار قلوب أهل المغربين [1] وقول البحتري: تناذر أهل الشرق منه وقائعًا ... أطاع لها العاصون في بلد الغرب [2] مع قول مسلم: لما نزلت على أدنى ديارهم ... ألقى إليك الأقاصي بالمقاليد وقول محمد بن بشير: أُفرغْ لحاجتنا ما دمت مشغولاً ... فلو فرغت لكنت الدهر مبذولا مع قول أبي علي البصير: فقل لسعيد أسعد الله جده ... لقد رث حتى كاد ينصرم الحبل فلا تعتذر بالشغل عنا فإنما ... تناط بك الآمال ما اتصل الشغل وقول البحتري: من غادة منعت وتمنع وصلها ... فلو انَّها بُذلت لنا لم تبذل مع قول ابن الرومي: ومن البلية أنني ... عُلقت ممنوعًا منوعا وقول أبي تمام: لئن كان ذنبي أن أحسن مطلبي ... أساء ففي سوء القضاء لي العذر مع قول البحتري: إذا محاسني اللاتي أُدل بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر وقول أبي تمام: * قد يُقدم العَيرُ من ذعرٍ على الأسد * مع قول البحتري: فجاء مجيء العير قادته حيرة ... إلى أهرت الشدقين تدمَى أظافره [3] وقول معن بن أوس: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ... إليه بوجه آخر الدهر تقبل مع قول العباس بن الأحنف: نقل الجبال الرواسي من أماكنها ... أخف من رد قلب حين ينصرف [4] وقول أمية بن أبي الصلت: عطاؤك زين لامرئ إن أصبته ... بخير وما كل العطاء يزين مع قول أبي تمام: تُدعى عطاياه وفرًا وهي إن شهرت ... كانت فخارًا لمن يعفوه مؤتنفا [5] ما زلت منتظرًا أعجوبة عننًا ... حتى رأيت سؤالاً يجتني شرفا [6] وقول جرير: بعثن الهوى ثم ارتمين قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق مع قول أبي نواس: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق وقول كُثير: إذا ما أودت خلة أن تزيلنا ... أبينا وقلنا الحاجبية أول [7] مع قول أبي تمام: نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول وقول المتنبي: وعند مَن اليوم الوفاء لصاحب ... شبيب وأوفى من ترى أخوان [8] مع قول أبي تمام: فلا تحسبا هندًا لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند وقول البحتري: ولم أَرَ في رنْق الصَّرَى لي موردًا ... فحاولت ورد النيل عند احتفاله [9] مع قول المتنبي: ق0واصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا وقول المتنبي: كأنما يولد الندى معهم ... لا صغر عاذر ولا هرم مع قول البحتري: عريقون في الإفضال يؤتنف الندى ... لناشئهم من حيث يؤتنف العمر وقول البحتري: فلا تغلين بالسيف كل غلائه ... ليمضي فإن الكف لا السيف تقطع مع قول المتنبي: إذا الهند سوت بين سيفي كريهة ... فسيفك في كف تزيل التساويا وقول البحتري: سامَوْك من حسد فأفضل منهم ... غير الجواد وجاد غير المفضل فبذلت فينا ما بذلت سماحة ... وتكرمًا وبذلت ما لم تبذل [10] مع قول أبي تمام: أرى الناس منهاج الندى بعد ما عفت ... مهايعه المثلى ومحّت لواحبه [11] ففي كل نجد في البلاد وغائر ... مواهب ليست منه وهي مواهبه وقول المتنبي: بيضاء تطمع فيما تحت حلتها ... وعز ذلك مطلوبًا إذا طلبا مع قول البحتري: تبدو بعطفة مطمع حتى إذا ... شغل الخلي ثنت بصدفة مؤيس [12] وقول المتنبي: إذكار مثلك ترك إذكاري له ... إذ لا تريد لما أريد مترجما مع قول أبي تمام: وإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي وقول أبي تمام: فنعمت من شمس إذا حجبت بدت ... من خدرها فكأنها لم تحجب مع قول قيس بن الخطيم: قضى لها الله حين صورها م الخالق أَلَّا تكنها سدف وقول المتنبي: راميات بأسهم ريشها الهُد ... ب تشق القلوب قبل الجلود مع قول كثير: رمتني بسهم ريشه الكحل لم يجز ... ظواهر جلدي وهو في القلب جارح [13] وقول بعض شعراء الجاهلية ويُعزى إلى لبيد: ودعوت ربي بالسلامة جاهدًا ... ليُصِحَّنِي فإذا السلامة داء مع قول أبي العتاهية: أسرع في نقص امرئ تمامه ... تدبر في إقبالها أيامه وقوله: أقلل زيارتك الحبيـ ... ـب تكون كالثوب استجده إن الصديق يمله ... أن لا يزال يراك عنده مع قول أبي تمام: وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد وقول الخريمي: زاد معروفك عندي عِظَمًا ... أنه عندك محقور صغير تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشهور كبير مع قول المتنبي: تظن من فقدك اعتدادهم ... أنهم أنعموا وما علموا وقول البحتري: ألم تر للنوائب كيف تسمو ... إلى أهل النوافل والفضول مع قول المتنبي: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن وقول المتنبي: تذلل لها واخضع على القرب والنوى ... فما عاشق من لا يذل ويخضع مع قول بعض المحدثين: كن إذا أحببت عبدًا ... للذي تهوى مطيعا لن تنال الوصل حتى ... تلزم النفس الخضوعا وقول مضرس بن ربعي: لعمرك إني بالخليل الذي له ... عليَّ دلال واجب لمفجَّع وإني بالمولى الذي ليس نافعي ... ولا ضائري فقدانه لممتَّع مع قول المتنبي: أما تغلط الأيام فيَّ بأن أرى ... بغيضًا تُنائي أو حبيبًا تقرب وقول المتنبي: مظلومة القد في تشبيهه غصنًا ... مظلومة الريق في تشبيهه ضربا مع قوله: إذا نحن شبهناك بالبدر طالعًا ... بخسناك حظًّا أنت أبهى وأجمل ونظلم إن قسناك بالليث في الوغى ... لأنك أحمى للحريم وأبسل *** ذكر ما أنت ترى فيه في كل واحد من البيتين صنعة وتصويرًا وأستاذية على الجملة فمن ذلك، وهو من النادر قول لبيد: وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل مع قول نافع بن لقيط: وإذا صدقت النفس لم تترك لها ... أملاً ويأمل ما اشتهى المكذوب وقول رجل من الخوارج أُتي به الحَجّاج في جماعة من أصحاب قَطَرِيٍّ فقتلهم ومنَّ عليه ليد كانت عنده، وعاد إلى قَطَرِيٍّ فقال له قَطَرِيٍّ: عاود قتال عدو الله الحجاج، فأبى، وقال: أأقاتل الحجاج عن سلطانه ... بِيَدٍ تقر بأنها مولاته ماذا أقول إذا وقفت إزاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته وتحدث الأقوام أن صنائعًا ... غرست لديَّ فحنظلت نخلاته [14] مع قول أبي تمام: أسربل هجر القول من لو هجوته ... إذن لهجاني عنه معروفه عندي [15] وقول النابغة: إذا ما غدا بالجيش حلَّق فوقه ... عصائب طير تهتدي بعصائب جوانح قد أيقنَّ أن قبيله ... إذا ما التقى الصفان أول غالب [16] مع قول أبي نواس: وإذا مَجَّ القنا علَقًا ... وتراءى الموت في صُوَره ... راح في ثنيي مفاضته ... أسد يدمى شبا ظُفره [17] ... يتأيَّي الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جَزره [18] المقصود البيت الأخير. (له بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (كيمياء السعادة) رسالة في علم النفس والأخلاق أو التصوف لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي طُبعت في مطبعة المنار عن نسخة خطية قديمة، وصححها بالمقابلة على نسخة خطية أخرى بدار الكتب المصرية ملتزم طبعها الشيخ إبراهيم إسماعيل خاطر، أحد المجاورين في الأزهر، وجعل ثمن النسخة الواحدة من الورق الجيد قرشًا صحيحًا ومن ورق متوسط نصف قرش، وكفى بعزوها إلى حجة الإسلام ترغيبًا فيها، وهي تُطلب من ملتزم طبعها، ومن إدارة مجلة المنار بمصر، وأجرة البريد مليمان. *** (كتاب اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع) ألف الحفّاظ والمحدثون كتبًا كثيرة في الأحاديث الموضوعة التي عزيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذبًا عمدًا أو جهلاً محضًا حتى إن المقلد لكل متقدم ليظن أنهم لم يدعوا لمتأخر مقالاً، ولم يتركوا له في التأليف مجالاً، ولكن من يتوجه إلى الإفادة بإخلاص قلب يفتح الله عليه ما يفيد به. فهذه الكتب المؤلفة في الموضوعات لا تكاد تجد لها قارئًا واحدًا في الألف من طلاب العلم. ونظن أن كتاب (اللؤلؤ المرصوع) الذي طبع في هذه الأيام سيكون حظه عند أهل هذا الزمن أكبر من حظ تلك الكتب؛ لأن مؤلفه هدى بإخلاصه فجمع فيه كثيرًا من الأحاديث الموضوعة التي تدور على ألسنة الناس وفي بعض الكتب ورتبها على حروف المعجم فكانت كتابًا تزيد صفحاته عن المائة. مؤلف الكتاب الشيخ محمد أبو المحاسن القاوقجي الطرابلسي أحد شيوخنا في الحديث. وكفى بذكر القاوقجي تعريفًا فإنه قد اشتهر بصلاحه في هذه البلاد وغيرها ومريدوه يعدون بالألوف رحمه الله تعالى رحمة واسعة. وقد طبع الكتاب على نفقة الحاج عبد الله العطار من مريدي المؤلف، وصححه الشيخ محمد كمال الدين القاوقجي الأزهري نجل المؤلف، وطبعت في آخره رسالة الحافظ الصغاني في الموضوعات. فنحث جميع القراء على مطالعته كيلا يغتروا بما اشتهر من تلك الأحاديث المكذوبة. *** (ديوان الكاشف) أحمد أفندي الكاشف شاعر قوي السليقة بعيد من الصنعة مشهور بما نُشر له من القصائد في الجرائد، وقد جمع شعره من سنة 1315 إلى سنة 1320 وطبعه في ديوان سمّاه (ديوان الكاشف) وصدَّره بمقدمة في ترجمة نفسه بلغت 30 صفحة، وبلغ الديوان بها 160 صفحة. وقد سلك في الترجمة مسلك الحرية فذكر ما يمدح وما يذم وباح بأسرار الخواطر والهواجس. ويعلم منها أنه كان موكولاً إلى نفسه، مسترشدًا بوجدانه وحسه، يُبتلى فيستسلم لدواعي الأحزان، ويتحمس فيسلك مسالك الشجعان، ويعشق فيسترسل في طاعة الغرام، ولم يصبر على مرارة التعليم، ولم يسلس قياده لنظار المدارس، فاكتفى ببعض المبادئ ورضي من ثمرة العلم والأدب بالشعر يوحيه الذوق وتنظمه السليقة. وهو دموي المزاج حادُّه محب للفخر والعلو ويرى أن الشعر كافٍ في رقي صاحبه إلى ذرى المعالي، وحسبانه في عداد النابغين، كتب ما كتب في مقدمته وشعر بأنه جاء فيها ما يعتذر منه فقال في آخرها: إن له ثلاثة أعذار: المرض وضيق الوقت وفقد النصير. افتتح الديوان بعد المقدمة بتقديمه إلى الله تعالى فقال: رب هذا شعري وهذا بياني ... شهدا لي بصحة الإيمانِ لي داعٍ من فطرتي قبل أن أَتْـ ... ـلُوَ كتابًا إلى اليقين هداني من يكن قام بالعقائد تقليـ ... ـدًا فإني استقمت بالبرهانِ مسلمًا عشت لا لإسلام أمي ... وأبي والأمير والسلطانِ أنا لو كنت ناشئًا ومقيمًا ... بين قوم من عابدي الأوثانِ لم أجد غير دين أحمد أولى ... باتباعٍ من سائر الأديانِ ثم قدمه إلى النبي بأبيات لا تشعر بالتقديم، ثم إلى أمير المؤمنين، ثم إلى مصر ثم إلى قومه، ثم إلى الشعراء. وجعل الديوان أبوابًا في مدح السلطان ومدح أمير مصر ومدح العظماء والإخوان. وفي السياسة والتاريخ ومن هذا الباب قصيدة في فتح السودان، وقصيدة في ذكر الثورة العرابية. وفي التربية والتعليم والأخلاق والآداب والحكم والفكاهات وفي الوطنية وفي الشكوى والعتاب، وفي الخصوصيات والأغراض، وفي حوادث الغرام، وفي المراثي والتعازي، وثمن النسخة من الديوان عشرة قروش في بلاد مصر و15 قرشًا في غيرها من البلاد، فعسى أن يلقى هذا الديوان من إقبال القراء ما تقر به عين الناظم. *** (فتح الأندلس) قصة تاريخية غرامية هي الحلقة السابعة من سلسلة (روايات تاريخ الإسلام) تتضمن تاريخ أسبانيا قبيل الفتح، ووصف أحوالها الإدارية والسياسية والدينية وعلاقة بعضها ببعض، وبسط عادات القوط والرومان هناك، والفرق بين طبقات الناس، وقدوم طارق بن زياد لفتحها، والسبب الذي دعاه إلى ذلك - إلى مقتل رودريك ملك القوط في واقعة وادي ليتة سنة 93هـ (هذا ما لخص به الرواية مؤلفها جُرجي أفندي زيدان، وهي كما قال، رغب إلينا المؤلف في قراءة القصة قبل تقريظها حبًّا في النقد الذي لا يحبه إلا الواثق بحسن عمله، الراغب في تكميله فقرأناها بلذة عظيمة، وشهدنا له بحسن تصنيف القصص، فإن القارئ لا ينتهي من فصل من فصولها إلا بشوق يلح به، ويحفزه إلى قراءة ما بعده حتى ينتهي بالفصل الأخير. وننتقد عليه أن المقصود من القصة بيان تاريخ الإسلام كسوابقها، وليس فيها منه إلا ذكر الفتح بغاية الإيجاز. وانتقد غيرنا من نبهاء المسلمين على هذه القصص أنها تصوِّر للقارئ أن انتصار المسلمين في الفتوحات لم يكن إلا بسبب ما كان ألمَّ بالأمم التي فتحوا بلادها كالرومانيين والفرس والمصريين والبربر والقوط من فساد الأخلاق واختلاف المذاهب الدينية، وتفرق الكلمة. ويرى هؤلاء المنتقدون أن هذا غمْط لحقوق المسلمين وعدم اعتراف بشجاعتهم وعناية الله تعالى بهم حمل المؤلف عليهما التعصب الديني. ونحن ننكر عليهم هذا الرأي كتابة كما أنكرناه قولاً، فإن ما ذكره من فساد دين الأمم وأخلاقها وتفريق كلمتها هو السبب الأول في قهر أولئك الشراذم من المسلمين لتلك الأمم القوية العظيمة السلطان بل لولا ذلك الفساد العام لما أرسل الله تعالى ذلك المصلح العام كافة للناس بشيرًا ونذيرًا (صلى الله عليه وسلم) وأيده بعنايته فجمع له كلمة الأمة العربية التي لا يعرف لها التاريخ اجتماعًا، فأدبها وأدب بها - على بداوتها - أمم العلوم والمدنية، على أن المؤلف نوه بشجاعة العرب وفضلهم وعدلهم، ولم ينقصهم منه شيئًا. أما عبارة القصة فقد كنت أتوقع أن تكون خيرًا مما سبقها فإذا هي كغيرها في السلاسة، ولكن فيها كلمات وعبارات عامية لم أَرَ مثلها في كتابة قبلها للرصيف فجزمت بأنه متعمد ليسهل فهم كتابته على العوام، وعندي أن سلاسة عبارته كافية في الوصول إلى هذا المرام، وصحة العبارة لا تحول بين المعنى والأفهام. *** (فتاة غسان) قصة تاريخية غرامية أخرى لجرجي أفندي زيدان أيضًا كتب على ظهرها بعد ذكر اسمها (تشرح حال الإسلام من أول ظهوره إلى فتوح العراق والشام مع بسط عوائد العرب في آخر جاهليتهم وأول إسلامهم ووصف أخلاقهم وأزيائهم وسائر أحوالهم) أهدانا المؤلف نسخة من الجزء الأول منها طبع ثانية قبل إهداء (فتح الأندلس) ، فلم ننظر فيه؛ لأن وقتنا قصير، وعملنا كثير فلما طالعنا هذه إجابة لطلب المودة ساقتنا اللذة إلى مطالعة الأخرى، فكانت اللذة فيها لا تقل عن اللذة في أختها، وعبارتها أسلم من عبارتها، وفائدتها في التاريخ الإسلامي أكبر من فائدتها، وإن كانت لم تشرح حال الإسلام كما قال شرحًا، ولم تبسط عوائد العرب وأخلاقهم وسائر أحوالهم بسطًا، فإنه ذكر جملة صالحة من ذلك كان يجهلها السواد الأعظم من القراء لأن أكثرهم من العوام وإن تعلم الكثيرون منهم في المدارس الابتدائية فإن مدارس مصر لا حظ لها من تاريخ الإسلام. ولذلك كنت أناظر جماعة من أهل العلم يدعون أن قراءة هذه القصص ضارة وأدعي أنا أنها نافعة. يحتج هؤلاء بأن في هذه القصص أغلاطًا تاريخية حتى في الأمور المشهورة ومثل هذا لا يسلم منه كتاب، منها قوله: إن أمير العرب على فتح العراق هو (سعد بن مالك) وهو إغراب، وكان يُدْعَى سعد بن أبى وقاص وإن كان اسم أبيه مالكًا، ويعدون عليه مسائل كهذه جزئية منها ما يستند هو فيه إلى نقل صحيح كهذا أو ضعيف، فمن الأول قوله: إن أبا سفيان حيَّا هِرَقْل بقوله: (أبيت اللعن) وهم ينكرون ذلك محتجين بأنها تحية الحِمْيريين للملوك دون المُضريين، وله أن يحتج هو بإطلاق بعض علماء اللغة والتاريخ أنها تحية الملوك في الجاهلية. ومن الثاني نص كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى هرقل، فإنه نقلها عن (الأغاني) هكذا: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم. السلام على من اتبع الهدى، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن إثم الأكابر عليك) . والرواية الصحيحة في البخاري وغيره: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله (وفي رواية رسول الله) إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين (وفي رواية الأكارين - لا الأكابر - وكلاهما بمعنى الفلاحين، يريد: رعيته أهل الحرث) و {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) ، هذا هو نص الكتاب، ولا شك أن المؤلف قصر في اعتماده على كتاب أدبي دون كتب الحديث وكتب السير في أهم شيء من موضوع قصته. وذكر في آخر الكتاب صورة خاتم النبي صلى الله عليه وسلم نقلاً عن الواقدي وهي أن لفظ (محمد) في السطر الأعلى، ولفظ (رسول) في السطر الأوسط، ولفظ الجلالة (الله) في السطر الأدنى، والمشهور العكس، والواقدي يروي الموضوعات وقصته في فتوح الشام مملوءة بالكذب وهذه المسألة أهون من غيرها. أما ما ذكره مؤلف القصة عن أبي سفيان من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأبو سفيان لم يقلها، ولا هو ينقله عنه بالرواية، وإنما جمع المؤلف أقوالاً من الكتب، وألفها مع بعض آرائه وأسندها إلى أبي سفيان لأنهم يستجيزون ذلك في القصص؛ لأن العبرة عندهم بالمسائل لا بالرواية وإن سمى أهل العربية هذه القصص روايات كذبًا ومينًا والمعروف في الصحيح أن أبا سفيان لم يتجاوز أجوبة أسئلة هرقل. ومن المسائل الباطلة التي حكاها المؤلف عن أبي سفيان مسألة الغرانيق. رآها في الطبري، فنظمها في سلك الحكاية، وقال: إن أبا سفيان قال: إن محمدًا ذكر آلهتهم (أي بخير) فيما نزل عليه، ثم رجع عن ذلك (وأبدل هذه الفقرة بفقرة تزيدنا نفرة منه، فقال: (إن تلك إنما ألقاها الشيطان على لسانه) ، ثم ذكر آلهتنا بكل سوء فقال: (إنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) إلى غير ذلك مما زادنا نفورًا وبُعدًا) . هذه العبارة بين الهلالين منقولة من القصة بحروفها، وهي توهم أن جملة (إن تلك.. إلخ) مروية عن النبي عليه السلام، وذلك غير صحيح وفيها تحريف للآية الكريمة: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} (النجم: 23) ... إلخ. والسبب في ذلك اعتياد القوم على التساهل في النقل، والاعتماد على المعنى الذين يفهمونه، ويحسبون هذا التساهل هينًا حتى في الأمور الدينية، وهو عن

المحسن العظيم منشاوي باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المحسن العظيم منشاوي باشا أبو الوطن لا الإسكندريةوحدها زار صاحب السعادة والفضل أحمد باشا المنشاوي مدارس العروة الوثقى الخيرية في الإسكندرية، فتلقاها أعضاء الجمعية الكرام بما يليق بمقامه في فضله وإحسانه، وكانوا قد أمروا بأن تزين المدارس حفاوة به، فابتدأ بزيارة مدرسة عباس الأول للذكور وهناك قدموا له كتابًا مصفحًا بالذهب ذكرى شكر على إحسانه وعند ختام الاحتفال وتلاوة الخطب والأناشيد، وعد التلامذة بأنه أوقف حياته لتربيتهم. ثم زار مدرسة إسماعيل الأول للبنات، ثم مدرسة كوم الشقافة ومدرسة عباس الثاني ومدرسة توفيق الأول والمكتب العباسي، ثم مدرسة عباس الأول للبنات فمدرسة إبراهيم الأول، وكانت كل مدرسة تقدم له ذكرى تليق بها. وقد هزته الأريحية لما شاهده من حال هذه المدارس والمكاتب وحال التلامذة والتلميذات الذين كانوا يتدفقون بزيارته بِشرًا وشكرًا، فأمر بأن تكون كسوة تلامذة المكاتب على نفقته، ووعد بأنه سيوقف أطيانًا يخص ريعها بتجهيز بنات الفقراء المتعلمات في هذه المدارس عند زواجهن. وذكرت مدرسة جمعية الحمالين (الشيالين) في الكمرك فوعد بمساعدتها. ثم أمر بصرف راتب شهر لكل واحد من معلمي هذه المدارس. ننشر خبر هذه الزيارة وإن كنا نغفل ذكر زيارات الملوك والأمراء الحاكمين للمعاهد العامة والخاصة لأن شأن الإسعاد على العلم لا يعلوه عندنا شأن، وإننا لنفتخر بهذا المحسن العظيم الذي طوق الإسكندرية بفضله وإحسانه حتى قال بعض الأدباء: يجب أن نكنيه بأبي الإسكندرية، ونحن نتوقع أن يطوق بفضله القطر كله بمساعدة الجمعية الخيرية الإسلامية العامة كما طوق الإسكندرية بمساعدة جمعية العروة الوثقى الخاصة فيكون أبا الوطن كله لا أبا الإسكندرية وحدها. أدام الله توفيقه. وألهم سائر أغنيائنا أن يسلكوا طريقه.

مدرسة المعلمين الإلهامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدرسة المعلمين الإلهامية وفق الله تعالى صاحبة الدولة والدة الجناب الخديوي فألهمها بأن تنشئ مدرسة لتخريج معلمي المدارس الابتدائية، وتجعلها تذكارًا لوالدها (إلهامي باشا) وقد وُضع جدول الدروس واتخذ للمدرسة مكان موقت، وستُبنى لها دار فسيحة في الحلمية على نفقة المنشئة أثابها الله تعالى. وقد عين عابدين أفندي خير الله ناظرًا لهذه المدرسة. أما العلوم التي تُقرأ في المدرسة فهي تجويد القرآن الكريم وتفسيره والنحو والصرف والبلاغة والإنشاء قولاً وكتابةً والفقه والتوحيد والحساب والهندسة وتقويم البلدان والخط، وتقبل المدرسة ثلاثين طالبًا مجانًا بشروط معرفة القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم والصحة، وكون السن لا تزيد على 18 ولا تنقص عن 12 سنة. العلم المقصود جليل، ولكنه لا يتم بالدار الفسيحة والنفقة الواسعة من كرم الإمارة، وإنما يتم بانتقاء المعلمين الفضلاء الأَكْفَاء الذين يحسنون التربية أولاً والتعليم ثانيًا، فإذا لم يكن المعلمون مربين فلا فائدة لهم ولا جدوى. وفق الله ناظر هذه المدرسة لانتقاء الرجال، كما وفق منشئتها الكريمة لبذل المال.

وفاء قراء الصحف ومطلهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفاء قراء الصحف ومطلهم كتبنا مقالة أخلاقية في وفاء قراء الصحف المنشَّرة ومطلهم بالنسبة إلى البلاد وإلى الأصناف، بنينا الحكم فيها على اختبارنا الخاص، فأخذ (المقتطف) الأغر خلاصتها، وقال: إنها ذكرته بحثًا مثل بحثنا للفيلسوف سبنسر الشهير ظهر له منه أن خدمة الدين أقل وفاءً بالحقوق من غيرهم. ثم ذكر إحصاءً لأصناف المشتركين في (المقتطف) و (المقطم) من حيث الوفاء والمطل كانت نتيجته موافقة لنتيجتنا. ظهر من إحصاء المقتطف أن أصحاب الأملاك يتأخر عندهم سبعة في المائة من حقوق الجرائد والمجلات، ويتأخر عند العلماء 9 في المائة وعند التجار 15 في المائة وعند المحامين 25 في المائة وعند القضاة 30 في المائة وعند الموظفين 40 ونصفًا في المائة. قال الكاتب: (وهذه النتيجة تنطبق على نتيجة صاحب المنار إلا من حيث العلماء، ولعل سبب ذلك أننا جمعنا معهم المعلمين. أما موظفو الحكومة فأكثرهم من المستخدمين الصغار، لا من الموظفين الكبار. ومن الغريب أن يدخل حضرات القضاة والمحامين في باب المطل ولو لم تكن النتيجة التي وصلنا إليها نحن مطابقة للنتيجة التي وصل إليها صاحب المنار لظننا حسابنا خطًا) . أما ما ذكره في علة اختلاف الحسابين في العلماء فصحيح؛ لأن المعلمين في المدارس يقل فيهم الماطلون، وقد قلنا هذا فلا خلاف، أما المحامون فقد نسينا أن نذكرهم في تلك المقالة وهم أحسن وفاءً من القضاة وإن كنا نسمع القضاة يتبرمون منهم. ونحن لا نشكو إلا من المحامين الشرعيين فإن أكثرهم يمطلون، وأما المحامون في المحاكم الأهلية فكلهم يؤدون حق المنار، ويقل فيهم مَن يخرج منه الحق نكدًا. ومن عجيب ما وقع لنا من القضاة الأهليين أن أحدهم اجتمع عنده اشتراك ثلاث سنين فطلب منا أن نعطيه ثلاث مجلدات من المنار بثمنها ونعطيه وصولاً بما يطلب منه من غير أن يدفع قرشًا واحدًا واحتجَّ بأنه ينقصه بعض الأجزاء، فيا حرمان مَن يتقاضى عند مثله.

الكرامات والخوارق ـ 17

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق المقالة السابعة عشرة في أنواع الخوارق وضروب التعليل والتأويل (النوع الحادي عشر: استجابة الدعاء) قال السبكي: وهو كثير جدًّا وشاهدناه من جماعة. أقول: هذه مسألة من أكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين المذاهب الإسلامية ويذكرونها في العقائد والمشهور أن أهل السنة يقولون بنفع الدعاء والمعتزلة ينكرونه. قال اللقاني في الجوهرة: وعندنا أن الدعاء ينفع ... كما من القرآن وعدًا يسمع وقد تقدم في مقالات الكرامات الأولى أن جمهور أهل السنة يقولون بجواز وقوع الكرامة والخوارق، والمعتزلة ينكرون ذلك. وقد عدَّ السبكي وغيره استجابة الدعاء من الكرامات والخوارق ويلزم من ذلك أن يكون الخلاف في الدعاء فرع الخلاف في الكرامات، ولكنك تراهم يخصونه بالذكر ويعدونه مسألة مستقلة ويرون الخلاف فيه أقوى، ويشنعون فيه على المعتزلة ما لا يشنعونه في مسألة الكرامات. ولقد انقرض المعتزلة وذهبت كتبهم ولكن المسائل التي اختلفوا فيها مع الأشعرية لا يزال الكثير منها حيًّا يقول فيه بقولهم كثير من الناس فنحمد الله أن جعل أئمة الفريقين أرقى عقلاً ودينًا من أن يكفّر بعضهم بعضًا، فلو كفر أبو الحسن الأشعري وكبار أصحابه منكري نفع الدعاء وجواز الكرامات أو وقوعها لرأيت المسلمين اليوم في شقاق شر من ذلك الشقاق، ولامتنع أهل العلم والدين من الصلاة على موتى أكثر المتعلمين من أبناء هذا العصر. على أن الباحثين في هذه المسائل لا يسلمون من تكفير غلاة المقلدين ولكنه تكفير باللسان لا يعدو الشتم ولا يتجاوز الشاتمين، وإذا مات المرمي بالكفر صلوا عليه ودفنوه بين المسلمين، ثم إنه شتم قلما يقع من المطلعين على المذاهب والعالمين بما يؤْثَر عن العلماء من الخلاف. الحق أقول: إن الخلاف في الدعاء أقوى من الخلاف في الكرامات، فإن مسألة الكرامات ليست من أصول الدين ولا من فروعه، ولا يوجد في الكتاب والسنة دليل على طلب حصولها، ولا على مطالبة الناس بالإيمان بها. وأما الدعاء فهو مطلوب بلا خلاف، والآيات والأحاديث الصحيحة التي يذكر فيها كثيرة جدًّا. ويعجبني جعلهم محل الخلاف في نفع الدعاء، لا في استجابته، خاصة وأنه لم يقل أحد أئمة المسلمين بأن الدعاء يستجاب حتمًا ولا أن الأصل أو الأكثر أنه يستجاب، ولكنهم قالوا إن الدعاء ينفع سواء استجيب أم لم يستجب، وهذا القول حق كما سنبينه. ولو كانوا يرون أن الدعاء يستجاب من كل داع تحققت فيه الشروط التي ذكروها لما كان لعدّهم استجابة الدعاء من الكرامات والخوارق معنى. وردت آيات في الدعاء ولكن يراد بها في الأكثر العبادة، ومن غير الأكثر مجرد الطلب، كقوله تعالى حكاية عن بنت شعيب: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (القصص: 25) وأقرب الآيات إلى ما نحن فيه من دعاء الله تعالى وطلب الحاجة منه توقعًا للإجابة بقضائها قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) ، وقريب منها قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) . ولكن ورد في الصحيح تفسير الدعاء في الأولى بالعبادة. روى أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وابن حِبَّان في صحيحه والحاكم وغيرهم من حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْْ} (غافر: 60) وفسرت الاستجابة على هذا بقبول العبادة، ومن العلماء من فسر الدعاء في الآية بطلب الحاجات والاستجابة بقضائها. وفسرت الآية الثانية بمثل ما فسرت به الأولى من الوجهين. وقد علم أن الآيتين ليستا نصًا في موضوع الخلاف فيحتج بهما على المعتزلة ومَن على رأيهم من أهل هذا العصر؛ ولهذا لم يكفروا من قال بأن الدعاء لا تأثير له في قضاء الحاجات وإنما عدوه مخالفًا للسنة لما ورد في الدعاء من الأحاديث الصحيحة. ورد في الصحيح أن لكل نبي دعوة مستجابة. وقد قال العلماء: إن المراد أنها مستجابة قطعًا وما عداها من دعوات الأنبياء فهو محتمل للإجابة ولعدمها. أي أن الحديث لا يُفهم منه أن الله لا يستجيب لنبي إلا دعوة واحدة. وورد الأمر بالدعاء وعدم الاستعجال بالاستجابة. وترى العلماء متفقين على أن الاستجابة تكون بإحدى ثلاث وردت في الحديث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن تدفع عنه من السوء مثلها. وللحديث طرق بعضها ضعيف وبعضها قد صحح الحاكم إسناده، ولم يروه من أصحاب الصحاح والسنن إلا الترمذي وقال: حسن صحيح غريب، والسبكي يجعل الأولى من الثلاث - إن أُعطيها الداعي - كرامة وتعريفنا للكرامة لا يأباه ولكن يأباه قول من يجعل الكرامة من الخوارق التي تأتي على خلاف السنن الإلهية في الخلق. ونحن لا نشك في أن كثيرين من الداعين قد استجيب دعاؤهم بأن سخر الله لهم من الأسباب ما لم يكن في أيديهم تسخيره، ولم يكن يخطر لهم على بال كيف يجابون وقد وقع لنا مثل ذلك وحمدنا الله عليه، ولكننا لا نقول إلا أنه جاء موافقًا لسنن الله تعالى في الأسباب والمسببات على ما فيه من العناية الخفية والتوفيق الإلهي. وقد اشترطوا في الدعاء شروطًا منها أن لا يدعو بمحال عقلاً ولا شرعًا ولا عادة، وإذا كان الدعاء بالمحال في العادة ممنوعًا وغير جدير بالإجابة؛ لأنه من إساءة الأدب مع الله تعالى كأن الداعي يقول: اللهم أبطلْ حكمتك في نظام خليقتك وبدّل سننك في خلقك لأجلي فكيف يتحقق في الدعاء أمر خرق العادة؟ هذا تنافٍ بين أقوالهم. * * * وعندي أن الدعاء على قسمين: اضطراري واختياري فأما الاضطراري فهو الالتجاء إلى القوة الغيبية عند تقطّع الأسباب بالإنسان وسد منافذ الرجاء بالسعي. وكل مؤمن بقوة غيبية يرى نفسه ملتجئة إليها عند اشتداد البأس، والخطر المشرف بها على اليأس، فيدعو صاحب القوة العليا، ويستغيث به، وعند ذلك تُفتح في وجهه أبواب الرجاء، وتنزل عليه السكينة بعد الاضطراب، وهذه فائدة كبرى للدعاء تتلوها فوائد أظهرها أن اليائس ينقطع عن السعي فإذا اشتد به الضيق فربما يبخع نفسه انتحارًا بيده؛ ولذلك يكثر الانتحار في قوم لا يؤمنون، فالرجاء الذي يحدثه الالتجاء بالدعاء يعطي المضطر قوة جديدة، ويهديه إلى طرق جديدة يسلكها في إعادة السعي حتى ينجو من الخطر، أو يبلغ بعض الوطر، ويقول الأستاذ الإمام: قلما وله قلب المؤمن إلى الله تعالى داعيًا مخلصًا في حال اضطرارية كهذه إلا وأجاب الله دعاه، وهذا الفرع من الدعاء هو ميزان الإيمان ومعيار التوحيد الخالص، فإن الله تعالى جعل أعمال الإنسان في الأسباب والمسببات، فالمؤمن الكامل يذكر الله عند كل سبب، ويزداد إيمانًا بزيادة العلم بالأسباب لما فيها من الحكمة والنظام العجيب، والغافلون تحجبهم الأسباب عن رؤية حكمة واضعها وإن كانوا مؤمنين حتى تكون الشدائد هي التي تذكرهم بما تقطَّع من الأسباب التي يعرفونها، فيرجعوا إلى مَن بيده ملكوت كل شيء وواضع كل سبب فيدعوه بإخلاص {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) ، وفي آية أخرى: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32) ؛ وإنما كان الدعاء في حالة الاضطرار معيارًا للإيمان؛ لأن من يعتقد بقوة غيبية وراء الأسباب لغير الله تعالى فهو يلجأ إليه في تلك الحالة بطبعه، وينطق لسانه بدعاء صاحبها وندائه. ولا توجد أمارة على الشرك أظهر من هذه الأمارة وإن استهان بها الذين يدعون في الشدائد فلانًا وفلانًا ويستغيثون بهم من صميم أفئدتهم ويولهون إليهم، لا يلاحظون أنهم وسطاء بين الله تعالى وبينهم يقربونهم إليه زلفى كما يزعم أهل التأويل؛ لأن القلب في مثل تلك الحالة لا يسع شيئين فمن يدعو فلانًا من المعتقدين في وقت الشدة لا يخطر في باله غيره، ولا يدعوه إلا وهو يعتقد أنه هو الذي يفرج كربه، فهو موحد له من دون الله تعالى. وإذا وسع قلبه قوتين إحداهما مؤثرة في الأخرى تحملها على العمل فتعمل فهو مشرك شركًا ظاهرًا لا خفيًا. وإذا كان - ليت شعري - هؤلاء الوسطاء المزعومون أسبابًا خفية كما يدعي بعض المأولين، وجوزنا أن يلجأ إليهم في وقت الضيق ففي أي وقت نوجب على المؤمن أن يلجأ إلى الله تعالى وحده دون سواه؟ ألا يوجد عند هؤلاء الذين يمتاز دينهم بالتوحيد الخالص حال يجب على العبد أن يتوجه فيها إلى الله تعالى وحده، لا يكون في قلبه سواه من عبيده الضعفاء؛ {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28) ؟ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. فعلم مما شرحناه أن هذا الدعاء أثر من آثار الإيمان بقوة وراء الطبيعة، فمن كان يعتقد أن مع صاحبها من يحمله على الفعل أو الترك فهو المشرك، وهذا الأثر الذي ذكرناه هو روح العبادة، وأكبر مظاهرها؛ لأنه الأثر الطبيعي للإيمان؛ ولذلك فسر الدعاء في القرآن بالعبادة في جميع الموضوعات الدينية وورد في الحديث: (الدعاء مخ العبادة) رواه الترمذي، وتقدم حديث (الدعاء هو العبادة) فكل من يدعى وينادى عنه شدة الحاجة وتعسر الأسباب الكسبية فهو معبود لمن ناداه ودعاه {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) . وأما القسم الثاني من الدعاء وهو الاختياري فإنه من الأعمال التي تزيد في الإيمان، وتمده وتدعمه كسائر العبادات المطلوبة في الدين، وليس أثرًا طبيعيًّا له، ولولا ذلك لما كان للتكليف به معنى إذا قال العبد: اللهم وسع عليَّ في الرزق، يتذكر أن سعيه في طلب الرزق من أسبابه التي هداه الله تعالى إليها بالحواس، والعقل يتوقف على حفظ قواه، وعلى توفيق الله بين سعيه وبين الأحوال والأمور الخارجية التي يتوقف عليها النجاح، فيزداد إيمانه بهذا الذكر، ويزداد نشاطه باعتقاده أن الله يعينه ما راعى سننه في خليقته، وأتى البيوت من أبوابها. وإذا قال: اللهم اغفر لي. يتذكر أنه عرضة للهفوات والخطايا، وأن الغفران الإلهي له طريق بيَّنها الكتاب العزيز بمثل قوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) فإن لم يتذكر الآية فإنه يتذكر معناها إلا إذا كان جاهلاً بالدين مكتفيًا منه بما يسمعه ممن يعيش بينهم من الجاهلين، وإذا تذكر أن الدين علَّم البشر أن للذنوب والخطايا آثارًا سيئة في النفس، وأن غفرها ومحوها إنما يكون بالرجوع عن الذنب وعمل طاعة من جنسه تؤثر في النفس ضد أثره فإنه يكون قريبًا من العمل الصالح قال تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) وقال عليه الصلاة والسلام: (وأتْبع السيئة الحسنة تَمْحُهَا) . أقول: هذا تمهيدًا لبيان أن هذا النوع من الدعاء هو أحد خصال الإيمان. والإيمان كما يورد في الأحاديث الصحيحة: قول باللسان واعتقاد با

شبهات النصارى وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات النصارى وحجج المسلمين النبذة الخامسة في رد شبهاتهم على القرآن العزيز (الشاهد الحادي عشر) : قال المعترض - الذي كتب ما لا نعتقد -: وعدّ في جملة هذه المنقاضات مائة وخمسًا وعشرين آية متفرقة في ثلاث وستين سورة منه تأمر بالصفح والتولي والإعراض والكف عمن لم يكن مسلمًا، وقد نقضتها كلها آية السيف وهي قوله في سورة التوبة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ وَخُذُوَهُمْ وَاحْصُرُوَهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} (التوبة: 5) (قال) : وهذا في زعمهم كلام الله يأمرهم في مائة وخمسة وعشرين موضعًا من (كتابهم) بالصفح عمن خالفهم في الدين، ثم يبطل ذلك كله اعتباطًا، ثم هذى بعد ذلك بما يعد شتمًا، لا اشتباهًا فنُعرض عن ذلك عملاً بإحدى تلك الآيات التي أشار إليها ونخص الكلام بدفع الشبهة فنقول: نعوذ بالله من الغلو في التعصب الذي يعمي ويصم ويوقع المرء في مثل الفضيحة التي وقع فيها هذا الكاتب المعترض، فقد جمع آيات الفضائل العالية والآداب السامية، وحسد المسلمين عليها، ولم يجد سبيلاً إلى الاعتراض عليها إلا بزعمه أنها منقوضة بآية سيف، والتناقص إنما يكون في القضايا الخبرية، لا في الأوامر والنواهي التهذيبية، ونحوها من الجمل الإنشائية، وإذا قيل: إنه لا يعني بالتناقض ما هو مقرر في علم المنطق وإنما يعني به أن آية السيف التي ذكرها تنافي تلك الآداب والفضائل نقول: إن هذا زعم باطل، وكأن قائله شعر بضعفه وتداعيه، فدعمه بأكذوبة افتراها من عنده إذ زعم أن الأمر بقتال المشركين كان (اعتباطًا) أي: ظلمًا لا قصاصًا ولا مدافعة عن حق. وأصل الاعتباط ذبح البهيمة من غير علة، وقالوا: اعتبط فلانًا: أي قتله ظلمًا لا قصاصًا. يزعم هذا المتعصب أن المسلمين هم الذين اعتدوا على المشركين وحاربوهم ابتداءً وتناسى أن المشركين هم الذين كانوا يرمون النبي عليه الصلاة والسلام بالحجارة، ويلقون عليه فرث الكرش وهو يصلي وأخرجوه هو ومن آمن معه من ديارهم وأموالهم وأهليهم، وكانوا يوقعون بكل من ظفروا به منهم. ثم لما كانت بينه وبينهم معاهدة الحديبية عاملهم بكل ما تأمر به تلك الآيات من الحلم والتساهل، وهو قوي لا ضعيف حتى رضي بأن يُرجع إليهم من يجيئه منهم مسلمًا، وأن لا يرجعوا من يجيبهم من عنده، وبعد ذلك كله كانوا هم الغادرين الناكثين للعهد، وتناسى أيضًا الآية التي قبل الآية التي أوردها وزعم أنها هدمت جميع الفضائل (اعتباطًا) وهي قوله عز وجل: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التوبة: 4) وقوله تعالى - بعد آيات - {وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ 000} (التوبة: 12-13) . فالمعترض قد قرأ كل هذه الآيات التي تحيط بالآية التي ذكرها من أمامها وورائها، وعلم أن المشركين هم الذين نكثوا، العهد وهم الذين بدأوا المسلمين بالعدوان، وهو مع هذا كله يكتب بلا حياء ولا خجل زاعمًا أن المسلمين قاتلوهم (اعتباطًا) . ثم إنه تناسى الآيات الأخرى التي تنهى عن الاعتداء في القتال كقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِين َ} (البقرة: 190) وقوله جل وعز وهو أول ما نزل في الإذن بالجهاد دفاعًا عن الحق والأنفس التي تُظلم وتهان لأنها تمسكت به، وتركت عبادة الأصنام والأوثان وذلك قوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ 000} (الحج: 39- 40) الآيات وفيها من بيان حكمة هذا الإذن بمدافعة أولئك المعتدين من عُباد الأصنام أنه لولا هذه المدافعة لهدمت معابد أهل الكتاب كلهم، وأنه يشترط على المؤمنين المأذون لهم بالمدافعة - إذا مكَّنهم في الأرض - أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة مواساة للفقراء ونحوهم من المستحقين، ويمنعوا المنكرات الضارة، ويأمروا بالمعروف. فهل تعد هذه المدافعة لعباد الحجارة الباغين المتعدين هدمًا للفضائل وظلمًا للعباد، ويمتنع أن تكون بوحي من الله تعالى؟ وهل كانت المسوغات لموسى ويوشع وسائر أنبياء بني إسرائيل (عليهم السلام) حين حاربوا الأمم المشركة أظهر من هذه المسوغات؟ وهل اشترط عليهم - كما اشترط الإسلام - أن لا يبدأوا بالعدوان ولا ينقضوا لمشرك عهدًا، وأن يصلحوا في الأرض بمشاركة الناس في أموالهم وإزالة المنكرات من الأرض؟ جاء في الفصل العشرين من سِفْر تثنية الاشتراع (التوراة) ما نصه: (10 حين تقرب من مدينة لتحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك 12 وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرْها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبًا فلا تستبق منها نسمة ما) أليس من العار والفضيحة على من يعتقد أن هذا وحي من الله تعالى أن ينكر تلك الآيات الكريمة الرحيمة التي أذنت بمدافعة المعتدين بقدر الضرورة؟ أليس من رحمة الله تعالى بعباده أن تُنسخ هذه الأحكام القاسية الآمرة بإهلاك الأمم التي لها حق الجوار حتى لا يبقى منها امرأة ولا طفل بشريعة تحرم قتل النساء والأطفال ورجال الدين وكل من لا يعتدي ولا يقاتل؟ بلى ولكن تعصب هؤلاء ووقاحتهم من المدهشات! علم مما ذكرناه أن الآية التي ذكرها وسمّاها آية السيف وزعم أنها نقضت جميع الفضائل التي بنتها الآيات الكثيرة؛ إذ أمرت بقتل المشركين (اعتباطًا) تتقدمها آيات، وتتلوها آيات تبطل ما زعم. وما هي إلا إذن بقتال المشركين الذين نكثوا العهد كما في الآيات التي قبلها وبعدها. وذلك أن المسلمين عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم عهدًا فنكثوا إلا بني ضمرة وبني كنانة، فأمر الله تعالى بأن ينبذ للناكثين عهدهم ويمهلوا أربعة أشهر إلى آخر المحرم من الأشهر الحرم، فإن تابوا وإلا قوتلوا، قال البيضاوي في تفسير الآية ما نصه - مع اختصار قليل يتعلق بالألفاظ -: (فإذا انسلخ) : انقضى، (الأشهر الحرم) التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها (فاقتلوا المشركين) : الناكثين، (حيث وجدتموهم) من حل وحرم (وخذوهم) وأسروهم؛ والأخذ: الأسر (واحصروهم) واحبسوهم أو حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام (واقعدوا لهم كل مرصد) كل ممر لئلا يتبسطوا في البلاد. ا. هـ. فأين الأمر بقتل جميع المشركين ظلمًا وعدوانًا كما زعم المعترض؟ ! وروى أصحاب الصحاح وأهل السير والتاريخ أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عاهد قريشًا عام الحديبية عهدًا كاد يخالفه لأجله المسلمون لما رأوا من الغضاضة عليهم في تساهله مع المشركين، وكان أهم ما في العهد أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعة في عهده، وبنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح حتى تظاهروا عليهم، وفي ذلك يقول عمرو الخزاعي فيما أنشده يخاطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن قريشًا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي من كداء رصدا ... وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقل عددا ... هم بيتونا بالحطيم هُجدا وقتلونا رُكَّعًا وسُجدا ... وقد كان هذا الغدر سببًا في فتوح مكة، وآذنهم قبل ذلك بأن لا يطوف بالبيت عُريان، وأن يتم لكل ذي عهد عهده، وأرسل أبا بكر ثم عليًّا إلى مكة فقرأ عليهم نحو أربعين آية من صدر سورة (براءة) وفيها الآيات التي تقدم ذِكرها. ثم كيف كانت معاملته للمشركين عندما فتح مدينتهم العظمى؟ هل أبادهم كما أمرت التوراة التي يعتقد بها المعترض النصراني فلم يُبقِ منهم نسمة، أم عاملهم بما أرشدته إليه الآيات الـ 125 الآمرة بالصفح وحسن المعاملة؟ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطى رايته سعد بن عُبادة فبلغه أنه قال قبل أن يصلوا إلى مكة: اليوم يوم الملحمة اليوم تُستحَل الحرمة، اليوم أذل اللهُ قريشًا، فأمر بنزع الراية منه وأعطاها لابنه، وقال عليه الصلاة والسلام: (اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشًا) ودخل مكة لم يسفك دمًا، وإنما كانت ساعة قتال بين خالد بن الوليد وبين الذُّعر من قريش الذين حاولوا صدّه فقُتل من جيشه اثنان، ومن المشركين أربعة وعشرون. ثم دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم الكعبة فاجتمع الناس فقال: (يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ !) قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ! أفيرى المعترض أن هذه المعاملة مناقضة للرفق والصبر والصفح عن المخالفين في الدين؟ إن كان يرى ذلك فليصور لنا معاملة أفضل منها وأرحم! ثم إننا نعود إلى آيات الصفح والصبر وحسن المعاملة والرفق والحلم فنقول: إنها وردت في ضروب من السياق مختلفة، منها تسلية النبي صلوات الله عليه عندما كان يضيق صدره لإعراض الناس عن الحق وعدم إصغائهم إليه. ومنها تقبيح جهلهم وبيان أن الكمال في الإعراض عنه لا في مقابلته بمثله. ومنها بيان أن الأنبياء عاجزون عن هداية الناس بالفعل، وأن القادر على ذلك هو الله تعالى الذي وضع السنن على أساس الحكمة والنظام. ومنها بيان أن وظيفة الأنبياء البيان وحسن التبليغ وأن الإيمان لا يكون بالإكراه، وإنما يكون بالإقناع، وهذا قريب مما قبله ولكنه غيره. كقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (الطور: 48) وقوله: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وقوله: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 89) وقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) وقد كانت هذه الآيات تقرن بآيات أخرى تشعر بأن الله ينصر رسوله، ويجعل العزة والغلبة لحزبه، كقوله تعالى في سورة الصافات وهي مكية: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ * وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} (الصافات: 171-175) وإنك لتجد من التهديد والوعيد في السور المَكِّية التي نزلت في زمن الضعف ما لا تجد مثله في السور المدنية التي نزل

نموذج من دلائل الإعجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من دلائل الإعجاز تتمة ما سبق من الموازنة الشعرية رأيت أبا نواس ينشد قصيدته التي أولها: * أيها المنتاب من عفره * فحسدته فلما بلغ إلى قوله: يَتَأَيَّى الطير غدوته ... ثقة بالشبع من جزره قلت له: ما تركت للنابغة شيئًا حيث يقول: إذا ما غدا بالجيش.. البيتين فقال: اسكت فلئن كان سبق فما أسأت الاتباع، وهذا الكلام من أبي نواس دليل بيِّن في أن المعنى يُنقل من صورة إلى صورة، ذاك لأنه لو كان لا يكون قد صنع بالمعنى شيئًا لكان قوله: فما أسأت الاتباع محالاً؛ لأنه على كل حال لم يتبعه في اللفظ. ثم إن الأمر ظاهر لمن نظر في أنه قد نقل المعنى عن صورته التي هو عليها في شعر النابغة إلى صورة أخرى، وذلك أن ههنا معنيين: أحدهما أصل وهو علم الطير بأن الممدوح إذا غزا عدوًّا كان الظفر له وكان هو الغالب، والآخر فرع وهو طمع الطير في أن تتسع عليها المطامع من لحوم القتلى، وقد عمد النابغة إلى الأصل الذي هو علم الطير بأن الممدوح يكون الغالب - فذكره صريحًا، وكشف عن وجهه واعتمد في الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى، وأنها لذلك تحلق فوقه على دلالة الفحوى. وعكس أبو نواس القصة فذكر الفرع الذي هو طمعها في لحوم القتلى صريحًا فقال - كما ترى -: * ثقة بالشبع من جزره * وعول في الأصل - الذي هو علمها - بأن الظفر يكون للممدوح على الفحوى، ودلالة الفحوى على علمها أن الظفر يكون للممدوح هي في أن قال: (من جزره) وهي لا تثق بأن شبعها يكون من جزر الممدوح حتى تعلم أن الظفر يكون له، أفيكون شيء أظهر من هذا في النقل عن صورة إلى صورة؟ ارجع إلى النسق، ومن ذلك قول أبي العتاهية: شِيَم فتّحت من المدح ما قد ... كان مستغلِقًا على المُدَّاح مع قول أبي تمام: نظمت له خرز المديح مواهب ... ينفثن في عقد اللسان المقحم وقول أبي وجزة: أتاك المجد من هَنَّا وهنا ... وكنت له كمجتمع السيول مع قول منصور النمري: إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع وقول بشار: الشيب كُره وكره أن يفارقني ... أعجب بشيء على البغضاء مودود مع قول البحتري: تعيب الغانيات عليَّ شيبي ... ومَن لي أن أمتع بالمعيب وقول أبي تمام: يشتاقه من كماله غده ... ويكثر الوجد نحوه الأمس مع قول ابن الرومي: إمام يظل الأمس يُعمل نحوه ... تلفت ملهوف ويشتاقه الغد لا تنظر إلى أنه قال: (يشتاقه الغد) ، فأعاد لفظ أبي تمام، ولكن انظر إلى قوله: (يعمل نحوه تلفت ملهوف) . وقول أبي تمام: لئن ذمت الأعداء سوء صباحها ... فليس يؤدي شكرها الذئب والنسر [1] مع قول المتنبي: وأنبت منهم ربيع السباع ... فأثنت بإحسانك الشامل وقول أبي تمام: ورب نائي المغاني روحه أبدًا ... لصيق روحي ودانٍ ليس بالداني مع قول المتنبي: لنا ولأهله أبدًا قلوب ... تلاقَى في جسوم ما تلاقى وقول أبي هِفَّان: أصبح الدهر مسيئًا كله ... ما له إلا ابن يحيى حسنه مع قول المتنبي: أزالت بك الأيام عَتبي كأنما ... بنوها لها ذنب وأنت لها عذر وقول علي بن جبلة: وأرى الليالي ما طوت من قوتي ... ردته في عظتي وفي أفهامي مع قول ابن المعتز: وما ينتقص من شباب الرجال ... يزد في نُهاها وألبابها وقول بكر بن النطاح: ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها فليتقِ الله سائله مع قول المتنبي: إنك من معشر إذا وهبوا ... ما دون أعمارهم فقد بخلوا وقول البحتري: ومَن ذا يلوم البحر إن بات زاخرًا ... يفيض وصوب المُزْن إن راح يهطل مع قول المتنبي: وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسدُّ طريق العارض الهطل وقول الكِنْدي: عزوا وعز بعزهم من جاوروا ... فهم الذرى وجماجم الهامات إن يطلبوا بتراتهم يعطوا بها ... أو يطلبوا لا يدركوا بترات مع قول المتنبي: تفيت الليالي كل شيء أخذته ... وهن لما يأخذن منك غوارم وقول أبي تمام: إذا سيفه أضحى على الهام حاكمًا ... غدا العفو منه وهو في السيف حاكم مع قول المتنبي: له من كريم الطبع في الحرب منتضٍ ... ومن عادة الإحسان والصفح غامد ثم احتج المصنف بهذه الأمثلة على أن البلاغة والفصاحة إنما تكون بالنظم والأسلوب، دون خفة اللفظ. ((يتبع بمقال تالٍ))

قصة بقرة بني إسرائيل ليس فيها معجزة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قصة بقرة بني إسرائيل ليس فيها معجزة حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء، دام بقاه. بعد السلام، رأيت فيما أوردتموه بالعدد الرابع من المجلة في تفسير قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ المَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 73) تفسير الأستاذ الأكبر مولانا الشيخ محمد عبده أنه لم يستحسن قول المفسرين الذين قالوا: إنهم ضربوا المقتول فعادت إليه الحياة، وقال: ضربني أخي أو ابن أخي فلان إلى آخر ما قالوه، وقال: والآية ليست نصًّا في مجمله، فكيف بتفصيله، والظاهر أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع فيمن القاتل إذا وجد القتيل بين بلدين كما قدمنا ليعرف الجاني من غيره، فمَن غمس يده في الدم وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية، ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء إلى آخره، على هذا ما معنى استغراب بني إسرائيل الأمر بذبح البقرة كما تقدم في تفسير الأستاذ مع قوله: (إنَّ ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء..) إلى آخره، وما الثمرة التي نتجت من الضرب حتى أمر الله به، وما الذي منع الجاني من أن يغمس يده في الدم حتى لا تثبت عليه الجناية؟ وقد سكت الأستاذ الإمام عن تفسير قوله تعالى: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (البقرة: 73) فما معناه على هذا التأويل؟ فأرجوك أيها الأستاذ الفاضل إرشادي إلى الحقيقة ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسكندرية ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... مصطفى محمد الإسكندراني (المنار) وجه الاستغراب ظاهر، فإن الأمر بذبح بقرة لا علاقة له في بادي الرأي بالفصل في قضية قتيل تنازع فيه طائفتان حتى كادت إحداهما توقع بالأخرى، والظاهر أن هذه الواقعة كانت هي السبب الأول في اشتراع تلك الطريقة للفصل في الدماء المتنازع فيها مثلها، وقد أشرنا إلى ذلك في تفسير الآيات. وأما الذي يمنع الجاني من وضع يده في الدم، وتلاوة الدعوات فهو الإيمان والاعتقاد الذي يمنع الجاني المؤمن من اليمين الكاذبة، فإن المؤمن إنما يُقْدِم على الجريمة ناسيًا أو مغلوبًا بانفعال النفس ثم يرجع على نفسه باللائمة، ويصعب عليه أن يحلف بالله كاذبًا، وقد كانت تلك الهيئة التي يأتيها بنو إسرائيل من اجتماع الشيوخ الأشراف ووضع أيديهم في الدم وتلاوة الدعوات مؤثرة جدًّا حتى أن الجاني ليضطرب إذا أقدم عليها منكرًا للحق وربما يظهر عليه الاضطراب، ولو كان شاكًّا في الدين. وكثيرًا ما يحتال القضاة في كل زمان بالمؤثرات القولية والفعلية على حمل المجرمين على الإقرار بجرائمهم فيقرون. وأما تفسير {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} (البقرة: 73) : فهو ظاهر، ولا أدري أكان الأستاذ الإمام سكت عنه أم ذكره، ونسيته أنا أو ذهلت عنه لظهوره. السائل يعلم أن لفظ الآيات يطلق على ما ينزله الله تعالى من الأحكام فتوهَّمه أن معنى (الآيات) في هذا المقام (المعجزات) مبني على اعتقاده بأن هناك معجزة ظهرت، ومن المصادرة أن يلزم من لم ير ذلك بأن يفسر الآيات هذا التفسير. وإننا نذكِّره بقرن القرآن مثل هذا التعبير بآيات الأحكام الشرعية من سورة البقرة نفسها. قال تعالى - بعد ذكر أحكام الصيام -: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (البقرة: 187) وقال - بعد بيان تحريم الخمر والميسر -: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (البقرة: 219) وقال - بعد بيان أحكام النساء في الطلاق وغيره -: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 242) .

تحرير يوم مولد النبي عليه الصلاة والسلام

الكاتب: أحد المشتركين

_ تحرير يوم مولد النبي عليه الصلاة والسلام أستاذنا الأجل السيد محمد رشيد رضا صاحب ومحرر مجلة المنار الغراء.. أفتتح كتابي هذا بالشكر الذي يجب على كل مسلم أنه يقدمه لسيادتكم على ما لكم من الأيادي البيضاء، والهمة الشماء في منافع المسلمين، وتخليص الدين من شوائب المضلين، فالله ينفع بكم البلاد والعباد، ويوفق الكل للعمل بتعاليمكم المفيدة. أما بعد: فيا أيها السيد جاء في العدد الخامس من مجلد هذه السنة ضمن كلام للأستاذ الإمام (نفعنا الله به وبعلومه) : أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد ليلة الاثنين 12 ربيع الأول عام الفيل (20 أبريل سنة 571 ميلادية) وقد اطلعت على رسالة لصاحب السعادة محمود باشا الفلكي وضعها باللغة الفرنساوية، أثبت فيها أن ميلاده -عليه الصلاة والسلام - ليلة الاثنين 9 ربيع الأول عام الفيل - 20 أبريل سنة 517 أيضًا وأورد على ذلك أدلة كثيرة استنتج منها أن ليلة الولادة لا بد أن تكون ليلة الاثنين 8 أو 10 أو 12 ربيع الأول حسبما جاءت به روايات الأئمة الأعلام. وبعد الحساب الدقيق وجد أن أول الشهر المذكور وقع في 11 أبريل سنة 571م، حيث كان الاجتماع الحقيقي للقمر، وعليه لا يكون يوم اثنين بين 8 و12 منه إلا يوم 9 منه وجاء في نهاية عبارته: (يتلخص من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وُلد ليلة الاثنين 9 ربيع الأول عام الفيل - 20 أبريل م، فاحرص على هذا التحقيق) . وأنا مع اعتقادي بأن منار المسلمين لا يجب عليه البحث في مثل هذا الموضوع إلا بما تسمح به الظروف لكني آنست منه أن نرشد فيه إلى سواء السبيل؛ لذا جئت بهذا راجيًا الإفادة عما يلزم أن نعتقده، أو كيف يمكن الجمع بين القولين والسلام. ... ... ... ... ... ... ... (أسيوط) - أحد المشتركين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (أ. ف.) (المنار) في تعيين تاريخ مولده عليه السلام أقوال أرجحها أنه ولد ليلة الاثنين لثمانٍ خلون من ربيع الأول، وأشهرها لاثنتي عشرة ليلة خلت منه، وترجيح الأول هو المعروف عند علماء الحديث والتاريخ 9، قال في (السيرة الحلبية) : (وقيل لثمان مضت منه، قال ابن دحية: وهو الذي لا يصح غيره، وعليه أجمع أهل التاريخ، وقال القطب القسطلاني: هو اختيار أكثر أهل الحديث أي: كالحميدي وشيخه ابن حزم) . وظاهر أن معناه أنه ولد في اليوم التاسع من الشهر (لا فرق بين ليله ونهاره) لأن التاسع هو الذي يتلو الثمان التي خلت من الشهر. ولجهل كثير من أهل هذا العصر بأسلوب العرب في التاريخ كقولها في أول الشهر: لثمان خلت ونحوه وقولها في أواخره لثمان بقين مثلاً يظنون أن معنى (ولد لثمان خلت من الشهر) أنه ولد في الثامن منه. ومن آية ترجيح هذه الرواية موافقتها للحساب الذي نقلتموه وقد جمع الأقوال كلها بعضهم فقال: ولد عام الفيل يوم الإثنين (ولا خلاف في هذين) لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، أو لليلتين خلتا منه، أو لثمان أو لعشر خلون منه. أقوال (خاتمة مجمع بحار الأنوار) وهناك أقوال أخرى ذكرها أهل السير، ولا عبرة بها بعد تصحيح النقل بما يوافق الحساب الدقيق. الخلاف في تحديد اليوم الذي ولد فيه عليه الصلاة والسلام لا يترتب عليه حكم شرعي ولا دنيوي ولذلك يتساهل العلماء فيه، ويحتفلون مع المحتفلين بتذكار المولد في الثاني عشر من الشهر وهم يعتقدون أن المولد كان في التاسع على الراجح فيحتمل أن يكون قد كتب الأستاذ الإمام ما كتب تعمدًا لهذا التساهل ويحتمل أن يكون قد جرى قلمه بالمشهور سهوًا. ولا محل للعجب من اشتهار القول المرجوح في هذه المسألة فإذا كان الخلاف في مولد نبينا بأيام فالغلط في مولد المسيح بعد بالسنين كما في كتاب (تقريب التقويم) تأليف يعقوب باشا أرتين وكيل المعارف في مصر، وفانتر باشا باشمهندس الدائرة السنية. وقد عرَّب هذا الكتاب محمد أفندي كامل المدرس بالمدرسة الحربية، وقرأنا في (المقتطف) الأغر نقلاً عنه ما يأتي: (إذا جعلنا مبدأ جميع الأزمان الماضية من التاريخ المسيحي 16 يوليه سنة 622 يوليانية تجنبنا كل إشكال، فإن من المعلوم أن طريقة حساب السنين بالابتداء من ميلاد المسيح وُضعت سنة 526 بمعرفة ديونيسيوس أحد قسس (أي: قسوس) بعض الأديرة (أي: الأديار) برومة، وقد أخطأ في حسابه بجعله مبدأ التاريخ المسيحي متأخرًا بنحو خمس سنوات؛ لأنه بموجب حساب أمهر المؤرخين المؤسَّس على مؤلَّفات القدماء مثل يوسيفوس ورديون كسيوس، كان ميلاد المسيح في 25 ديسمبر سنة 6 قبل التاريخ المسيحي، وليس 25 ديسمبر سنة 1 قبل التاريخ المذكور كما يظنه العوام. وهو خطأ لا يزول، لما يترتب على تصحيحه من الارتباك المهول) اهـ. (المنار) من العبر في هذا التحرير أن ما يشتهر على ألسنة العوام لا قيمة له وإن وافقهم الخواص سكوتًا، وأن اتفاق الملايين من العوام على أمر لا يصلح دليلاً على جعله متواترًا، فإن نقل التواتر لا بد أن يكون في كل طبقة من الناقلين حتى ينتهي في الطبقة الأولى إلى الحس الذي لا شبهة فيه.

الرد على شبهات النصارى ـ وترجمة البابا

الكاتب: عبد الله نصوحي

_ الرد على شبهات النصارى وترجمة البابا حضرة الأستاذ الكامل إن ما ينشره البروتستنت ضد الدين الحنيف وضد القرآن ما كان يدري به أحد من المسلمين لولا ما تنشرونه تباعًا في مناركم في باب شبهات النصارى وحجج المسلمين؛ فإن كتاباتهم ومجلاتهم الدينية لا يقرؤها إلا هُم، ولم يكن لها مشتركون إلا منهم، ولا بد أن يكون فرحهم بنشركم خزعبلاتهم، والرد عليها أكثر من سرورهم من نشرها في جرائدهم. بالله وما مناسبة ذكر ترجمة البابا لاون الثالث عشر في مناركم الأخير، هل قصدكم إظهار فضله وورعه ومناقبه للمسلمين، ألا يكفي في ذلك جرائدهم؟ هداكم وهدانا الله لما فيه خير المسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإسكندرية ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله نصوحي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قرائكم (المنار) لم يكن هذا الانتقاد جديرًا بالنشر لضعفه في كلتا المسألتين، ولكننا نشرناه لنُطمِع كل قارئ للمنار بانتقاد ما يراه فيه منتقدًا، ولتوقًُّع أن يكون في القراء مَن ينتقد ما ذُكر لاتفاقه مع هذا المنتقد في الرأي. أما الجواب عن الأول، فمن وجوه: (أحدها) أننا نخبر المنتقد بأن المجلة التي نرد عليها تُرسل إلى شيخ الجامع الأزهر وطائفة من كبار شيوخه، فمنهم مَن يردها، ومنهم من يقبلها لعلمه بأنه لا يطالَب باشتراكها، وتُرسل إلى غيرهم من المسلمين، فإذا لم يرد عليها أحد فإن ناشريها يحتجون فيما بينهم، ويحتجون على عوام المسلمين الذين يحضرون مجالسهم في المكتبة الإنكليزية وغيرها - بأن علماء المسلمين قد عجزوا عن دفع تلك الشُّبَه؛ لأنها أُرسلت إليهم، ولو كانوا قادرين على الرد فيها لفعلوا. وهذا باب من أبواب تشكيك العوام في الدين، يجب علينا إغلاقه. (ثانيها) أن هذه الشبه منشورة في كتب لهم مطبوعة، تباع للمسلمين وغيرهم، ويطَّلع عليها بعض المسلمين في المجلة التي تنقل من الكتب. ومتى أظهر المخالفون الاعتراض على الإسلام فالواجب على المسلمين مدافعتهم، وبيان فساد شبههم، فإذا لم يفعل ذلك أحد يكون جميع المسلمين العالمين بذلك عصاة فساقًا، على أن هذه المطاعن في أصل الدين فهي من الكفر، ولعلكم تعرفون حكم مَن يسكت على ذلك، ويقره، وهو قادر على إبطاله. (ثالثها) أننا ننشر تلك الشبهات مع ردها بالدلائل الناصعة التي نرى قراء المنار - حتى من النصارى - مقتنعين بأنها أزالت كل شبهة، وكشفت كل غمة، فكيف يتوهم المنتقد مع هذا أن يفرح المنتقدون ببيان جهلهم وإظهار بهتانهم؟ ! إن هذا وهم عجيب إلا ممن لم يقرأ تلك الأجوبة السديدة. (رابعها) أن كثيرين من المسلمين يطالبوننا بالرد على هذه الشبهات، وكثيرًا ما ترد إلينا نسخ المجلة البروتستنية من جهات مختلفة في البريد، فنعلم أنه لا غرض لمرسليها إلا الرد على ما فيها، ومتى سُئل العالِم في أمر الدين يحرم عليه الكتمان بلا خلاف. (خامسها) إذا فرضنا أن ما يكتبه القوم لا يعدوهم، وأنهم هم الذين يقرؤونه دون سواهم - فإننا نرى من الواجب أن نزيل من أمام أعينهم الشبه التي تحجب عنهم محاسن الإسلام، وتحملهم على سوء الاعتقاد به، وتجعل لهم حجة يحتجون بها على البقاء فيما هم؛ فإن شيوع هذ الشبهات بينهم مانعة من تحقُّق بلوغهم دعوةَ الإسلام على حقيقتها، وهي أن تكون الدعوة على وجه يحرك إلى النظر والبحث، والدعوة الصحيحة واجبة على المسلمين، والجرائد والمجلات خير وسيلة لها. ولا نرى للمسلمين جريدة ولا مجلة تنشر محاسن الإسلام وأصوله وأحكامه على وجه يحرك إلى النظر؛ ولذلك جعلنا أشرف مقاصد المنار إحياء هذه الفريضة الإسلامية التي يأثم المسلمون كلهم بتركها. وإنني أخبر المنتقد بما كنت أحب أن أكتمه، وهو أنه جاءني في الأسبوع - الذي كتب إليَّ فيه - كتاب من أحد المشتركين في (أنشاص الرمل) ، يقول فيه مرسله: إنه اجتمع بأحد المتنصِّرين، فسأله عن سبب تنصره، فأخرج له الكتاب الذي تنقل عنه المجلة البروتستنية الطعن في القرآن، وقال له: إن قراءة هذا الكتاب هي السبب في ذلك، لا ضيق المعاش ونحوه من الأسباب التي تُخرج بعض جهلة المقلدين عن دينهم أحيانًا. وقد سألني مَن كتب إليَّ بذلك أن أرشده إلى كتاب يرد على ذلك الكتاب المضل؛ ليطَّلع عليه ذلك المتنصر، لعله يعود إلى هداه، وإنني لا أعرف أن أحدًا ردّ عليه، فما على السائل إلا أن يُطْلع ذلك المتنصر على مقالات المنار في الرد؛ لعله يهتدي بما أظهرناه من جهل مؤلف الكتاب، ومن تحريفه وكذبه وسوء فهمه وقصده، ويقيس على ما رددناه ما سنزيده، حتى يتم الرد كله، وبالله التوفيق. وأما سؤاله عن سبب ترجمة البابا في المنار فجوابه صريح في النبذة التي كتبناها، والظاهر أنه رأى الترجمة فأنكرها ولم يقرأها، نرغب إليه أن يقرأها، وإننا رأينا الفضلاء في مصر قد سُروا بهذه الترجمة سرورًا عظيمًا، وذهب بعضهم إلى أنها من أنفع ما كُتب في المنار، وقال بعضهم: وددنا لو يموت في كل يوم بابا لنسمع موعظة مثل هذه الموعظة! {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) .

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (مجلة الأحكام الشرعية) أتمت هذه المجلة سنتَها الأولى ودخلت في الثانية وأصدرت فيها أربعة أعداد. وإننا نهنئ منشئها حسن بك حمادة بما وفق له من النجاح في عمله وانتشار مجلته على خصوصية موضوعها، وآية هذا النجاح الكبرى أن نظارة الحقانية قد اشتركت في نسخ من المجلة بعدد المحاكم الشرعية في القطر المصري، وأذنت لصاحب المجلة بأخذ صور الأحكام التي تبحث في المبادي القضائية من كل محكمة مجانًا والتزم هو نشر الإعلانات الإدارية لهذه المحاكم مجانًا. وآية أخرى أن بعض كبار رجال القضاء يكتبون في هذه المجلة انتقادات على بعض المرافعات وصور الأحكام، نعم، إنهم يكتمون أسماءهم ولكنهم يجهرون بأفكارهم. *** (عروس النيل) مجلة أدبية اجتماعية عمومية أنشأها في القاهرة سليم أفندي قبعين، يدخل كل عدد منها في 24 صفحة يتبعه ذيل أربع صفحات ينشر فيه قصة (البعث) للفيلسوف تولستوي معربة عن اللغة الروسية. وقد صدر العدد الأول في أول أغسطس مصدرًا برسم المرحوم علي باشا رفاعة، وتأبينه، ويتلو ذلك مقدمة المجلة وبعدها مقالة لمحمد أفندي فاضل الأزهري موضوعها: (الاستقلال) ، يتلوها لغز فكاهي يتبعه نبذة في سكة حديد الحجاز، من ورائها كلمة في التعليم، فنبذة في مقتل الملكين (ملك الصرب وزوجه) وبعض المقاطيع الشعرية. وقيمة الاشتراك في المجلة سبعون قرشًا صحيحًا في السنة. *** (الأوقاف المصرية) مجلة جديدة أسبوعية صاحبها محمد غالب أفندي فطين، ويظهر أن صاحبها اكتفى باسمها في الدلالة على موضوعها، فلم يكتب تحته في غلافها وصفًا يشعر بذلك وقد التمسنا بيان تحديد الموضوع في مقدمتها فلم نر فيها إلا فاتحة كفواتح (الوقفيات) تذم الدنيا وتمدح الصدقة، ثم قرأنا بعدها (معذرة لتأخير مقدمة الجريدة) نذكرها بنصها لما فيها من الدلالة على مكانة المجلة في التحرير والفكر قال: (اكتفاءً بالخطبة وبناءً على طلب حضرات الأصدقاء النبهاء ممن لا تسعنا مخالفتهم لعلو منزلتهم لدينا، وهم أرقى منا فكرًا ورأيًا وعقلاً قد أخرنا درج المقدمة في هذا العدد للعدد الآتي، وعذر حضراتهم في ذلك أن الخطبة بحسب أفكارهم العالية كادت بفضل الله تغني عن الإيضاح وأن المواد أصبحت دارة الجريدة كثيرة جدًّا بحيث تكفي لأعداد مقبلة، فبناءً عليه نلتمس ونرجو من حضرات القراء الكرام قبول المعذرة والمسامحة وعدم الملام، والموعد قريب إن شاء الله) اهـ. ثم قرأنا عنوانات المجلة فإذا هي (مقابلة مع سعادة مدير الأوقاف) بلَّغ صاحب المجلة فيها المدير أنه مستعد لنشر إعلانات الأوقاف مجانًا و (مقابلة مع سيدة مصرية) وقيمة الاشتراك في المجلة 75 قرشًا صحيحًا في السنة. *** (الانتقام) هي القصة العشرون من مسامرات الشعب، عرَّبها أحمد حافظ أفندي عوض عن الإنكليزية، وليست بشيء لولا أنها مقدمة لقصة أخرى تتصل بها.

الدولة العلية ومكدونية ورأي في الإصلاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدولة العلية ومكدونية ورأي في الإصلاح كتبنا في الجزء الأول والجزء الثاني من هذه السنة نبذتين عن الثورة التي نجمت في بلاد مكدونية قلنا في الأولى: إن المسألة عشواء، والحكم فيها غامض؛ لأن أهل هذه البلاد وغيرهم من النصارى في بلاد الدولة طامعون بالاستقلال، وأوربا عون لهم، ولأن غرض روسيا غير معروف، وعليه المدار في هذه المسألة. وقلنا في الثانية: إننا اطمأننا من جهة روسيا بعض الاطمئنان، وبنينا ذلك على ما كان نقل من ترك روسيا لمنشوريا بسبب الحاجة إلى المال. وتوقعنا من تقرب إنكلترا إلى فرنسا وزيارة ملك الأولى لرئيس الثانية أن يتفقا على عدم إسعاد روسيا على حرب تركيا إذا كانت تريد ذلك وتمهد له بالثورة. وقلنا أيضًا: إنه إذا كان اتكال بغاة مكدونية على البلغار والصرب فلا خطر على الدولة العلية؛ لأنها قادرة على تدويخ هاتين بسهولة، وإن هي لم تستفد من تدويخهما شيئًا لتعصب أوربا. ثم تحولت الأحوال، وظهر لنا من الوقائع ما لم نكن نحتسب. ظهر لنا أن روسيا لا تترك منشوريا وهي أول ثمرة تذكر بتلك الملايين التي أنفقتها في مد خطوط الحديد إلى الشرق الأقصى، ووراءها من المقاصد الاستعمارية والتجارية ما وراءها. ثم علمنا أن توجيه عناية الروس الكبرى إلى تلك البلاد، ومزاحمة اليابان بالمناكب في ربوعها قد حرك في نفوس اليابانيين الإباء والحميَّة فصاروا يهجسون بمحاربتها حتى قال قائلهم: إننا قد جارينا أوربا في كل علم وكل عمل وجاريناها في القوى البرية والبحرية حتى صرنا في مقدمة دولها العظمى، وهي مع ذلك ترانا دونها ذهابًا مع التقاليد الماضية التي تفضل الجنس الأبيض على الجنس الأصفر فلا وسيلة لإقناع أوربا بمساواة الجنسين إلا بمحاربة روسيا، فإظهار شرفنا ببرهان ساطع يخطف أبصار أمم المدنية لا يكون إلا بهذه الحرب، وما أرى هذه الهواجس إلا من وسوسة الإنكليز الذين يعتمدون عليها في إغراء بعض الشعوب ببعض، وكانت أنفع لهم من أساطيلهم التي يفاخرون بها. هذا شاغل كبير لروسيا عن القصد إلى حرب الدولة العثمانية، فإن محاربة الترك تضطر روسيا إلى توجيه جميع قواها إلى الشرق الأدنى، وهي لا تأمن حينئذ من اليابان، ولكنها إذا وجهت جميع قواها إلى الشرق الأقصى لمحاربة اليابان فإنها لا تخاف من الترك اعتداءً، ولا تخشى لأنهم أمسوا كما قال الشاعر العربي: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا يجزون مَن ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانًا كأن ربك لم يخلق لخشيته ... سواهم من جميع الخلق إنسانا فهذا هو السبب فيما ظهر لنا من رغبة روسيا أولاً وآخرًا في مبادرة الدولة إلى الإصلاح، وفي سكوتها عن عقاب قاتل قنصلها الأول؛ لأن قاتله من الألبانيين الذين كانوا متمردين على الدولة، وفي اكتفائها بعقاب قاتل قنصلها الثاني، ومن عاونه بأشد العقوبات، ونفي والي موناستير إلى طرابلس الغرب، وفي نصحها للبلغار بعدم مساعدة الثائرين. ولو كانت تريد سوءًا لوثبت إليه بما فتح لها من المنافذ وما أشرعت لها الفتنة من الطرق. ويقال: إن بين السلطان والقيصر اتفاقًا سريًّا نذكر موضوعه بعد. يعجب الواقفون على أخبار الثورة من سلوك البلغار مع سلوك روسيا فإنهما يسيران متدابرين فيما يتراءى للناظرين، روسيا تسعى في إطفاء النار، والبلغار تذكيها وتحضها وتمد االبغاة في غيهم حتى أن ضباط عساكرها ينسلون من معسكرهم لإدارة الثورة إدارة عسكرية منتظمة، وذلك لا يكون إلا بإيعاز من حكومتهم أليس في هذا السلوك مثار للريب؟ أيعقل أن تنحرش بلغاريا الضعيفة بالأسد التركي إلا إذا كانت واثقة بأن وراءها أسدًا أو أسودًا؟ إذا لم يكن الأسد الروسي الذي أعطى هذه البلاد استقلالها هو الذي يحميها من قرنه التركي فعلى أي الأسود تعتمد؟ الأقرب عندي أن يكون الخوف اليوم في موضع الرجاء بالأمس. فإننا لما كنا نسيء الظن بروسيا أحسنَّا الظن بالإنكليز حتى توقعنا أن يكون الغرض من زيارة ملكهم لفرنسا الاتفاق معًا على عدم الرضى من روسيا بمحاربة تركيا لكيلا تساعدها فرنسا على ذلك، ولما ترجح عندنا الآن أن روسيا لا تريد حربًا ولا تضمر غدرًا انعكس الرأي الأول، وظننا السوء بإنكلترا، وتوقعنا أنها قد اتفقت مع فرنسا على النفخ في نار الثورة، وإغراء البلغار بإمدادها، ووعدها بالمساعدة على ضم مكدونية إليها كلها أو بعضها. وهل يتيسر لهما الوفاء بالوعد إذا لم تكن روسيا والنمسا معهما؟ لا حاجة لنا بالبحث في الجواب، ولكننا في حاجة إلى التأمل في معاملة أوربا لنا، وماذا يجب علينا. إن سلوك أوربا الجديد في حل المسألة التي يسمونها الشرقية ويعنون بها الإسلامية سلوك عجيب، وأعجب صوره، وأغرب أشكاله ما كان من نتيجة محاربة الدولة العلية لليونان، فقد جعلت أوربا الدولة البادئة بالعدوان المغلوبة في ميدان الطِّعان - هي الفائزة بالنتيجة إذ جعلت ولي عهدها حاكمًا على ولاية عظيمة من بلاد الدولة المنتصرة (وهي جزيرة كريت) على أن تكون هي الحافظة والحامية لتلك الولاية. وما يدرينا لعلهم يريدون الآن سلخ ولايات مكدونية من الدولة بمثل تلك الطريقة. وهكذا يقطعون في كل مرة عضوًا من جسم الدولة يغذون به من يرونه أولى به حتى لا يبقى إلا الرأس والقلب فيسهل على الرؤوس الاتفاق على الإيقاع به. إننا نرى دول أوربا عابثة في كل حين باستقلال الدولة، ففي كل حادثة لهم أوامر تُطاع ومناهي تُجتنب، والدولة راضية، وكل ما تجنيه من الظفر في بعض الأحيان لا يخرج عن مراوغة في تنفيذ بعض الأوامر أو إرجائها، وكلما تم للدولة ضرب من ضروب هذا الظفر الوهمي هتف المغرورون مع الغارين: نحن أصحاب السياسة المثلى والكلمة العليا، فإذا انتهى أجل الإرجاء، وحل اليأس محل الرجاء، سكتوا واجمين. أو خادعوا أنفسهم معتذرين. يقول الأوربيون: إن الذي أذل تركيا وذللها لهم هو ظلمها لمَن ليس على دينها من رعيتها لا سيما النصارى: ولنا أن نقول: إن وجدنا سامعًا: إذا كانت هذه الدولة تظلم المخالفين لها في الدين فلماذا يهرب اليهود من مشرق أوربا (روسيا) ومغربها (أسبانيا) إلى بلادها؟ أمن المعقول أن يهرب الناس من ظل العدل إلى هاجرة الظلم؟ وإذا زعمتم أنها تظلم النصارى خاصة فكيف يعقل أن تظلم المخالف الذي يجد أنصارًا أقوياء ينتقمون له، وتدع من لا ولي له ونصير؟ وإذا كانت أوربا تعبث باستقلال الدولة وتقتات عليها في سياستها الداخلية حبًّا بالعدل بالمظلومين، فما بال هذه الرحمة لا تحرك لهم عاطفة على اليهود الذين يستحر القتل فيهم بأيدي النصارى لأنهم يهود؟ ليس موقفنا مع أوروبا موقف جدال وحجاج، ولكنه موقف قوة وضعف فالقوة تفعل والضعف ينفعل. لماذا كنا ضعفاء وعندنا جيش يشهد له الأعداء بأنه في مقدمة جيوش الأمم الحربية بسالة وشجاعة وتدريبًا؟ يقول قوم: إن ضعفنا محصور في قلة المال، ونقول: إن عند الدولة من الذخائر ما يساعد على كل عمل تريده، وعندها من موارد الثروة ما إن أحسنت استغلاله واستعماله كانت من أغنى الدول. ويقول آخرون: إن ضعفنا محصور في الجهل دون سواه، ونقول إن الأمة جاهلة ولكن عند الدولة من الرجال من لا ينقصهم شيء من علوم الإدارة والسياسة، والصواب أن ضعفنا كله معلول لعلة واحدة وهي السلطة المطلقة. صاحب السلطة المطلقة أقدر على الإصلاح إذا هو علم وأراد، ولكنه قلما يريد. ولم نر أمة من الأمم صلح حالها وارتفع شأنها بسرعة كالأمة اليابانية التي نهضت بهمة عاهلها (الميكادو) على أنها هي الأمة الوحيدة التي ارتقت بملكها وسائر الأمم المرتقية إنما نهضت بأنفسها، وأصلحت حال حكامها وأوقفتهم عن حدودهم. قد بينا في السنة الأولى أركان الإصلاح التي يجب على الدولة العلية إقامتها بعد بيان أسباب الضعف ومناشئ الخلل من تاريخ الدولة الرسمي (تاريخ جودت باشا) ، ويعتذر بعض الناس عن السلطان بأن مداراة دول أوربا في الخارج ومناهضة حزب الترك الأحرار في الداخل لم يدعا له وقتًا يصرفه في إصلاح المملكة. ونقول في الجواب: أما حزب الأحرار فالصادقون من أهله تؤمن غائلتهم بمجرد الشروع في الإصلاح، والمحتالون على المناصب والرواتب علاجهم الإعراض عنهم وعدم المبالاة بهم مهما قالوا وفعلوا. وأما دول أوربا فلا مفر من عدوانها وافتئاتها على الدولة وعبثها باستقلالها في بلادها إلا بالقوة. فأول عمل يجب على السلطان وجوبًا فوريًّا هو الإسراع بإصلاح القوة البحرية، وزيادة القوة البرية حتى تكون القوتان في المكانة الأولى، ولا أستحيي أن أقول: إنه يجب أن يكون قصده في عمله هذا إلى جعل قوة الدولة في البر والبحر كقوة دولة فرنسا سواء. ولا يمكن القصد إلى هذا العمل العظيم إلا بعد السماح ببيع تلك الكنوز من ذخائر الملوك الذهبية والجوهرية إلا ما كان أثرًا تاريخيًّا يفيد بقاؤه العلم. فإذا أنف السلطان من بيع تلك القناطير المقنطرة من أواني الذهب والفضة ومن الجواهر التي لا صناعة فيها يضن بها التاريخ، وكان لا يجد المال لهذا الإصلاح إلا ببيعها فإن دولته ستفقدها من يوم من الأيام، ويكون قد أبى بيعها بعز الدولة لبيعها بذُلّها وهوانها (لا قدر الله تعالى) . ومن الناس من يزعم أن دول أوربا لا تمكن السلطان والدولة من زيادة القوة وإبلاغها درجة الكمال، فإذا هي شعرت بأنه يقوي البحرية ويعمم التعليم العسكري في الولايات فإنها لا تمهله أن تقتسم بلاده وتعجله بحل عقدة المسألة الشرقية. ونحن نقول: إذا كان من الثابت عند السلطان أن أوربا لا تمكنه من الإصلاح؛ لأنها تريد أن تحتج بالخلل على تمزيق الدولة وتقطيعها قطعًا يسهل عليها ابتلاعها، وأنه إذا حاول تقوية دولته لتتمكن من الاستقلال ظاهرًا وباطنًا، فإن دولها تتفق حينئذ على الإيقاع بها مرة واحدة، فأي مرجح للرضى بالتقطيع إربًا إربًا على الاستبسال والتعرض لإحدى الحُسنيين: حفظ الاستقلال أو موتة الأبطال؟ يقال: إنه كان من رأي رجل الدولة العظيم فؤاد باشا أن تمنح الدولة العلية جميع ولاياتها النصرانية في أوربا استقلالاً إداريًّا وأنه صرح في وصيته المشهورة بأن هذه الولايات لا بد أن تفصل من جسم الدولة في المستقبل، فإذا أعطتها الاستقلال الإداري النوعي باختيارها فإنها تقبل مع الشكر والحمد كل ما تشترطه عليها الدولة، وإلا فإن كل ولاية منها لا تنفصل إلا بعد أن تسفك الدولة في سبيلها دماءً عزيزة، وتنفق أموالاً غزيرة فيكون انفصال كل منها ضعفًا على ضعف، وقد علمت الدولة صدق هذه الفراسة باليقين، وذاقت مرارتها بالفعل، فما بالها تُلدغ من الجُحر الواحد مرتين؟ ! يجب على الدولة أن تهتم بالإصلاح اهتمامًا صادقًا، وأن تنشر لواء العدل والمساواة في الحقوق على رءوس جميع رعاياها، وأن تبدأ بما قلناه من ترقية قوتيها البحرية والبرية، وتبذل في سبيل ذلك كل رخيص وغال، فإن علمت أن أوربا تحُول دون ذلك وأنها قادرة على أن تحول، وأنه لا يرضيها الآن ما كان يرضيها من قبل كالعمل بالقانون الأساسي فليس أمامها إلا سلوك إحدى طريقتين لحفظ حياتها المستقبلة: (الطريقة الأولى) : أن تجعل ولاياتها كالولايات المتحدة في أمريكا تستقل كل ولاية في إدارتها الداخلية ويكون حكامها منها، ولا مجال هنا للخوض في كيفي

البابا لاون الثالث عشر ـ تتمة ترجمته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البابا لاون الثالث عشر - تتمة ترجمته بينا في النبذة الأولى التي نشرناها في الجزء التاسع أن الأخطار كانت محدقة بكرسي البابا عندما جلس عليه لاون الثالث عشر، ووعدنا بالإلماع إلى سلوكه في مقاومتها، وما كان من نجاحه فيه، فنقول: إن الدول الكاثوليكية - التي يَدين أكثر رعاياها بالخضوع إلى البابا كفرنسا والنمسا وإيطاليا - كانت عاملة على محو سلطته، فما بال روسيا الأرثوذكية، وإنكلترا وألمانيا البروتستنتيتين لا يَكُنَّ من أعدائه العاملات على محوه، ومحو طائفته من الأرض، وقد كان بين أهل مذهبه ومذهبهن من الخلاف وسفك الدماء ما كان؟! سلطة البابا رسمية دولية، وللدول عنده وكلاء كالسفراء عند الملوك، وقد كان أول عمله استمالة الملوك العظام، والتوسل إليهم بالرفق بالكاثوليك، فنجح في ذلك، حتى عاد إليه اعتباره، وتيسر لطائفته السير في طرق الترقي في كل مملكة كانوا مهددين فيها، حتى تقدموا تقدمًا مبينًا. ولم تبقَ حكومة لم تسالمه ويسالمها إلا إيطاليا التي أزالت ملكه، ونزعت سلطته المدنية (أو الزمنية) ، واستولت على أملاكه، وفرضت له مبلغًا عظيمًا من المال بدلاً عنها، فلم يقبله، ومَن يبيع المُلك بالمال؟ ! ولكنه على استمراره على عداوة الحكومة لم يقصر في استمالة الشعب الإيطالي، ومن ذلك أنه بعث وفدًا دينيًّا إلى ملك الحبشة، يسأله إطلاق الأسرى الذين أسرهم من جند إيطاليا في الحرب المعروفة. سياسته مع الدول الكاثوليكية: قد كان من إساءة فرنسا والنمسا في معاملة بيوس التاسع، والإنحاء على كرسيه ما أومأنا إليه في الجزء التاسع، وقد استطاع أن يسالمهما مع حفظ حقوقه، فكان يحث الكاثوليك على الخضوع للحكومة الجمهورية التي اختارتها الأمة لنفسها، على أن أكثر أعدائها منهم. وكذلك جامل النمسا بقدر الإمكان، وأحسن في تعزية عاهل النمسا والمجر جوزيف عند وفاة ولي عهده والتجائه إليه، حتى قيل: إنه لم يرد الزيارة لملك إيطاليا حلفه مصانعة للبابا والتماسًا لرضاه. وقد كانت الصلات السياسية تقطعت بين بلجكا والفاتيكان، فأعاد رابطتها، حتى صارت حكومة البلاد إلى وزارة كاثوليكية. وأما سياسته مع الدول غير الكاثوليكية فهي السياسة المثلى، وإننا نتوسع بعض التوسيع فيها، فنقول: سياسته مع ألمانيا: يعرف التاريخ ما كان في ألمانيا من اضطهاد الكاثوليك بعد سفك تلك الدماء في التنازع الديني بينهم وبين البرتستنت، فإن ألمانيا مهد لوثر مؤسس المذهب الثاني الذي كان مبدأ كل ما كان. وقد كان البرنس بسمارك داهية السياسة يبغض الكاثوليك ويناصبهم. فلما ولي المترجَم كان أول عمله العناية بمسالمة ألمانيا واستمالتها، وجمع كلمة الكاثوليك فيها، فكتب إلى عاهل الألمان بتوليته. ثم رأى البرنس بسمارك اتحاد الكاثوليك وارتباطهم بالبابا، ورأى نفسه محتاجًا إليهم في مقاومة الاشتراكيين في مجلس النواب، فلم يَرَ بُدًّا من استبدال الملاينة بالمخاشنة، فكتب إلى البابا رقيمًا أطراه فيه إطراءً لم يكن يخطر بالبال، وكان من اعتبار ألمانيا للبابا أن حكَّمته في الخلاف بينها وبين أسبانيا على جزائر كارولين، فكان من حكمته ودهائه أن تمكن من إرضاء الفريقين معًا بما حكم به. ثم إنه أسلس لألمانيا حتى أطمع عاهلها بلينه في إرضائه بأن تكون دولته حامية الكاثوليك في الشرق؛ ولهذا الطمع زاره غليوم الثاني مرتين سنة 1888 وسنة 1893، ولكنه لم ينل منه هذه الأمنية، ولم ييأس منها. ولولا دهاؤه لسلب فرنسا التي قاومته، وقاومت الدين أشد مقاومة هذه المزية - حماية الكاثوليك - وهي أقوى آلتها السياسية في الشرق، ومنحها لعدوتها (ألمانيا) ، ولكنه لم يحب أن يزيد الخرق اتساعًا بينه وبينها. سياسته مع إنكلترا: لم يكن حظ الكثلكة في إنكلترا مع الإصلاح بأمثل من حظها في ألمانيا؛ فقد اضطُهِد الكاثوليك في تلك الجزائر وسفكت دماؤهم وسِيموا خسفًا وهوانًا في القرون الثلاثة: السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وكذلك الثلث الأول من القرن التاسع عشر، حتى قل عددهم، وانطمست رسومهم في تلك البلاد، فلم يبق من الإنكليز على مذهب الكنيسة الرومانية إلا نحو 160 ألفًا. أحسن ليون الثالث عشر التودد لملكة الإنكليز، واختار لرياسة الكنيسة في بلادها بعض رجاله الدهاة، حتى حسنت الحال، وصارت الملكة تتلقى الكرادلة الوافدين عليها من قِبَله بالحفاوة العظيمة، بل صاروا يتقدمون في قصرها على رئيس أساقفة (كنتربري) رئيس الكنيسة الإنكليكانية الرسمي، الذي يتوج ملوك الإنكليز، وأُعطي الكاثوليك حرية من الحكومة الإنكليزية، لم تكن تصل إليها أمانيهم، فارتقوا ارتقاءً مبينًا، وزاد عددهم، حتى صار البروتستنت يرجعون إلى الكثلكة، وحتى طلب بعض قسوسهم رجوع الكنيسة الإنكليكانية إلى رسوم الرومانية، فطمع البابا المترجَم باتحاد الكنيستين، وكتب يدعو إلى ذلك. ويقول العارفون: إنه لو قدر على ترك بعض الرسوم والتقاليد - التي لا يمكن أن يطيقها أهل مذهب الإصلاح بعدما تفصوا من عُقلها - لتم له ما يريد. أرأيت الكاثوليك الذي كانوا في أول القرن التاسع عشر يعدون في إنكلترا بالألوف، إنهم صاروا يعدون بالملايين؛ فقد جاء في إحصاء سنة 1891 أن عدد الكاثوليك في إنكلترا نفسها مليون ونصف، وفي أيرلاندة 3.549.956 وفي سكوتلنده 356000، وتبع هذا التقدم والنمو في بلاد الإنكليز التقدم والنمو في مستعمراتها، حتى علم من ذلك التقويم أن عددهم في البلاد والمستعمرات يزيد على عشرة ملايين ونصف، وأن لهم فيها من كراسي رؤساء الأساقفة 28، ومن كراسي الأساقفة 105. ونخص الهند بالذكر فنقول: إن عدد الكاثوليك في الهند لم يكن يزيد في أوائل القرن التاسع عشر على نصف مليون، ولم يكن لهم إلا ثلاثة أساقفة، وقد تبين من الإحصاء - الذي أشرنا إليه - أن عددهم صار يزيد على مليونين، وأن لهم 33 كرسيًا أسقفيًا و800 كاهن أوربي، و650 كاهنًا هنديًّا و600 راهبة أوربية و200 راهبة هندية و200 راهب من جمعية الإخوة (فرير) و70 مدرسة كبرى، و2200 مدرسة ابتدائية، وتلامذة هذه المدارس مائة ألف، وإن لهم مدرسة دينية خاصة (على أن جميع مدارسهم دينية) ، فيها ستة آلاف تلميذ، يكونون كلهم دعاة للدين ورهبانًا وقِسِّيسين. وإن لهم أيضًا 98 ملجأً للأيتام، فيها 5800 ولد. وقد زار ملك الإنكليز البابا في هذه السنة. ولما مرض مرض الموت كتب إليه بخطه، يسأله عن صحته، كما كتب إليه عاهل ألمانيا بخطه. سياسته مع روسيا: الخلاف بين الكنيسة الرومانية والكنيسة الشرقية - التي يحميها قيصر روسيا وأكثر رعيته من أتباعها - قديم كان ولم يكن في الدنيا بروتستانت، وقد كانت روسيا في سرور عظيم من قيام أوربا بمناهضة البابا وكنيسته، ولم تقصر في اضطهاد كاثوليك بلادها. وكانت الصلات السياسية قد تقطَّعت بين هذه الدولة وبين الفاتيكان في عهد البابا بيوس التاسع، فلما جاء بعده ليون الثالث عشر كان أول شيء عمله في تلافي ما سبق أن أرسل كتابًا بخط يده إلى القيصر، يخبره فيه بتوليته، ولما كاد النيهلست للقيصر وحاولوا اغتياله سنة 1879 و1880، فنجا من كيدهم - كتب إليه البابا يهنئه بذلك، فكان لهذه المجاملة من التأثير ما حمل القيصر على التساهل في تعيين الأساقفة للكاثوليك في بلاده، وأعيد أسقف ورسو من منفاه في سيبريا. وكتب البابا إلى أساقفة بولندا يأمرهم بالخضوع لحكام بلادهم وقوانينها، وبِحَثّ العوام على ذلك، وأرسل سفيرًا من قِبَله لحضور تتويج القيصر الحالي سنة 1896. سياسته مع الدولة العلية: إن هذه الدولة تختلف مع البابا في أصل الدين لا في المذهب، ولكن التساهل الذي تقضي به طبيعة الإسلام جعل الكاثوليك في بلادها أحسن حالاً منهم في جميع البلاد الأوربية أيام ذلك الاضطهاد، والتسافك في الدماء، وقد قابل البابا السياسي هذه المعاملة الحسنة بالشكر، فازدادت المودة بينه وبين السلطان العثماني. وقد أرسل السلطان مندوبًا خاصًّا إلى رومية لتهنئة ليون الثالث عشر بمنصبه، وقد اجتهد السلطان أيضًا بالفصل في الخلاف الذي كان من الأرمن الكاثوليك، والشقاق الذي كان من الكلدان الكاثوليك، فكان البابا يعلن الشكر له على ذلك. ولما احتفل بعيد البابا الكهنوتي (يوبيله الفضي) سنة 1887، أرسل السلطان عبد الحميد يهنئه بهدية نفيسة، وهي خاتم من جوهرة يتيمة، كبيرة الحجم، بيضية الشكل، تنبعث منها أشعة تنعكس أنوارها على الزوايا، فيخال الناظر إليها أنها مجموع أحجار كريمة تتراءى فيها ألوان الطيف التي في قوس السحاب، وكانت هذه الجوهرة من النفائس المحفوظة في خزائن سلاطين آل عثمان. وقد وضع الخاتم في غلاف من الذهب الوهَّاج على هيئة تاج ملكي يضيء الخاتم من خلال فروجه. ولما احتفل بعيد البابا الأسقفي (يوبيله الذهبي) سنة 1792، أهداه السلطان هدية كانت عنده، وعند أهل ملته أنفس من الأولى، وهي الكتابة التي يقولون إن القديس أبرقيوس - أسقف هيرا بوليس، وتلميذ يوحنا الحبيب - نقشها في أواسط القرن الثاني الميلادي على صفيحة أوصى بأن تُجعل فوق ضريحه. ولو أردنا أن نذكر ما خدم به ملته وأمته في الصين واليابان والحبشة، وفي سائر البلاد لخرجنا إلى التطويل الذي ليس من موضوعنا ولا من غرضنا؛ لأن العبرة التي نقصدها تتم لنا بالقليل الذي يغني عن الكثير، فكيف بنا إذا حاولنا إحصاء المكاتب والمدارس، والأديار والكنائس، والملاجئ والمستشفيات، والرهبان والراهبات، والأطباء والممرضات، والمبشرين والمربيات، والمعلمين والمعلمات، والمتنصِّرين والمتنصرات؟ ! هل من الحكمة والرأي أن نجهل ما يفعله القوم من خدمة دينهم ونشره، وأن نكتم ما يتفق لنا علمه؛ لأنه مما يُمدحون عليه؟ هل تقضي علينا الغيرة الدينية بأن نسمي جهلنا علمًا، وتقصيرنا تشميرًا، وضعفنا قوة، وأن نسمي حذقهم بلادة، ونشاطهم كسلاً، وعلمهم جهلاً، وقوتهم ضعفًا؟ ! منزلة ما خلتها يرضى بها ... لنفسه ذو أدب ولا حِجى لا شيء أنفع من معرفة الحقيقة والواقع، ولا شيء أضر من الجهل بالحقيقة والواقع، ومَن أنهكه المرض حتى صار حَرَضًا، وأشرف على الهلاك، ويئس من روح الله - لا يرضيه إلا أن يغش نفسه بالمدح الكاذب، ويكابر حسّه وعقله، فيذم من مناظريه ما يراه محمودًا. وإننا نبدئ هذا القول ونعيده، ثم إننا نجد ممن يطلعون عليه من يقول: إن محبنا الذي ينصح لنا هو مَن يمدحنا ويمدح رؤساءنا ولو بالباطل، وينكر حقوق من يخالفنا، ويذمهم ولو كاذبًا. والعلة في هذا أن هؤلاء الضعفاء لا غرض لهم من حياتهم إلا اللذة، والحق مر في ذائقة المبطلين، والجد مملول عند الهازلين. إليكم عنّا يا عشّاق اللذة الباطلة، ومحبي الجهالة القاتلة، لسنا نكتب لكم، وإنما نكتب لقوم استعدوا لقبول العلم النافع، وهو - كما قال الأستاذ الإمام -: (ما يعرفك مَن أنت ممن معك) ، فإلى هؤلاء نسوق هذه الترجمة، ونقول: أين علماؤكم الأعلام، أين الذين تلقبونهم بمشايخ الإسلام، أين الأمراء الذين انتحلوا لأنفسهم الرياسة الدينية، وزعموا أنهم أولو الأمر الذين تجب طاعتهم على الرعية، خبِّرونا ماذا تعلموا وماذا عملوا حتى استحقوا هذه الرياسة، وهل كان للأمة رأي في اختيارهم لها، وبماذا خدموا الإسلام فيها، هل يعرف شيخ الإسلام حدود بلاد المسلمين، هل وقف على شي

الهيضة الوبائية في سوريا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهيضة الوبائية في سوريا انتشرت الهيضة الوبائية في سوريا حتى كادت تعمها. ظهرت أولاً في ولاية الشام، ثم في ولاية بيروت، وأصابت بلادًا من فِلَسطين وولاية حلب. وأن فتكها في طرابلس والشام وحِمْص أشد منه في سائر البلاد، وقد بلغنا أن أكثر أهالي طرابلس هلعوا وجزعوا وفرّ نحو ثلثهم إلى لبنان قبل انتشار الوباء، وأكثر الفارين من النصارى. ومن بقي في البلدة ومينائها فهم فريقان متناقضان في العلم والعمل - الفريق الأول أكثر المسلمين، وهم يعتقدون أن الوباء سوط سماوي يصب على بعض الناس بدون سبب لقبول المزاج له أو لوقوعه بمن يصاب به، وإنما يكون لمحض الإرادة الإلهية الخفية فلا تنفع طرق الوقاية ولا يفيد الاحتياط شيئًا - هذا مبلغهم من العلم، وأما عملهم فهو أنهم يأكلون ما ينهى الأطباء عن أكله ويمتنعون عن اتخاذ الأدوية التي تضاد العفونات وتقتل جنة الهيضة ونحوها المعبر عنها بالميكروبات. والفريق الثاني عقلاء المسلمين وأكثر النصارى أو كلهم، وهم يعتقدون أن كل شيء في هذا العالم جارٍ على سنة الله تعالى في الأسباب والمسببات، وأن لكل داء دواءً وأن التخمة وأكل المواد التي يسرع إليها التعفن كالفاكهة والبقول التي لم يحسن إنضاجها بالطبخ من أسباب استعداد البدن لفتك الهيضة، وأن النظافة والقصد في الأكل وشرب الماء بعد غليه وتبريده من الأسباب التي تحول دون فتك هذا المرض في أمعاء الآكلين الشاربين فهم يعملون بذلك، وقد علم بالاختبار أن الوباء فتك بالفريق الأول دون الثاني {اعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

شبهات النصارى وحجج المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات النصارى وحجج المسلمين النبذة السادسة في رد شبهاتهم على القرآن (الشاهد الحادي عشر) قال المعترض: ومما يقضي بالعجب أن يناقض القرآن نفسه في القدر الذي هو من الإيمان، وركن مهم من أركان الإسلام فقال: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 3-4) أي: من كل أمر قُدر في تلك السنة كما عليه جمهور المفسرين، وقال أيضًا: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) وهي عندهم ليلة القدر التي تفصل فيها الأقضية، ويُفْرَقُ أي: يقدر كل أمر يقع ذلك العام من حياة أو موت أو غير ذلك إلى مثلها من قابل، وهذا يترتب عليه أن أمور الخلق تقدر عامًا عامًا. لكن ذلك منقوض بقوله في سورة الحديد: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا} (الحديد: 22) أي: إلا مكتوبة في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله من قبل أن تخلق، وأنت تعلم أن هذا اللوح قد كُتبت فيه بزعمهم كل الأمور، وقدرت من قبل أن تكون ليلة القدر. وزاد ذلك إيضاحًا فقال: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (الإسراء: 13) أي: ألزمناه عمله وما قُدر له وعليه منذ ميلاده حتى لزمه لزوم الطوق للعنق. ويترتب على هذا أنه قُدر على الإنسان دفعة كل ما يعمله في عمره، لا ما يعمله في عامه فقط، وهذا تناقض بيِّن في أركان الإيمان لا يصح وقوعه في كتاب جميع ما فيه كلام الله.ا. هـ قوله بحروفه إلا كلمة (أنفسكم) من الآية الكريمة بدلها بنفوسكم فكتبنا الأصل الصحيح. ونقول في الجواب: إننا كتبنا كل ما كتبه في تقرير هذه الشبهة، وحسبه ما كتبه فضيحة ودلالة على سوء القصد، وتعمد التمويه، ولو قلنا: إنه يزعم أن بين تلك الآيات تناقضًا ولم نذكر ما قرر وشرح به ذلك التناقض لما أفاد القول إلا أنه جاهل لم يفهم تلك الآيات، وهذا عار عليه أكبر وخلاف الواقع. أما كونه خلاف الواقع فهو أنه اطَّلع على تفسير الآيات وفهمها، وأما كونه أكبر عارًا فذاك أن الجهل عار عند جميع الناس من أهل ملته وغيرهم، وأن قومه يعدونه من كبار الكُتاب والبلغاء، فإذا ظهر لهم أنه لا يفهم هذه الآيات فإنهم يحتقرونه وينزعون عنه لباس تلك الخصوصية فيكون عاريًا من كل مزيَّة، وليس في سوء القصد وسلوك السبيل المغالطة في تشكيك عوام المسلمين بدينهم إلا احتقار العقلاء والفضلاء من جميع الطوائف وأهل الإنصاف من قومه النصارى خاصة، وأما المتعصبون منهم مثله فإنه ليرضيهم الطعن بالإسلام والمسلمين، وإن جاء صاحبه بالإفك المبين. هذه الشبهة لا تحتاج إلى جواب من حيث هي شبهة على القرآن؛ لأن محلها في زعمه أن بعض الآيات نص في أن أمور الخلق تقدر عامًا فعامًا، وبعضها نص في أنها تقدر دفعة واحدة، وليس شيء منها كما قال. فقوله تعالى: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) لا يدل على أن أمور الخلق تقدر عامًا عامًا كما زعم، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان؛ إذ ليس فيها ذكر للتقدير ولا للسنين والأعوام. وقوله جل وعز: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ..} (الحديد: 22) الآية ليس نصًّا في أمور المخلوقات تقدر دفعة واحدة كما ادعى، وإنما تدل على أن المصائب في الآفاق وفي الأنفس معلومة قبل وقوعها لله تعالى علم الأمر المحصي في الكتاب أو هي مكتوبة كتابة تناسب عالم الغيب وتليق به، وليس فيها أن تلك الكتابة التي ذكرت على سبيل التمثيل أو المجاز أو الحقيقة الغيبية حصلت دفعة واحدة، أو بالتدريج أو أنها كانت في أول العام، أو قبل خلق الأنام. ولكن العقل والنقل يدلان على أن علم الله تعالى قديم لا تدريج فيه؛ لأن التدريج لا يكون إلا في الحوادث، وهو يستلزم الجهل فتعين أن يقال: إن ما يقع من المصائب وغيرها معلوم لله تعالى في الأزل. فإن أريد بالكتابة العلم الإلهي فظاهر، وإن أريد أن هناك كتابة فلا شك أنها تكون للملائكة الموكلين بالأعمال الذين جعل الله بهم قوام السنن العامة، والنواميس الكلية، والذين يسميهم المحجوبون قوى ونواميس طبيعية. وعند ذلك يصح أن تكون الكتابة في كل عام، ولكن الآية ليست نصًّا في هذا فلا يمكن الاعتراض عليها بحال. وكذلك قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (الإسراء: 13) ليس نصًّا في كون أعمال الإنسان قدرت عليه دفعة واحدة، ولا منافيًا لكونها تقدر عليه في كل عام كما هو ظاهر، وإنما معناه أن الإنسان رهين بعمله ومطوق به لا يستطيع أن يتفلت من تبعته لما له في التأثير في نفسه، فإن الأعمال تطبع الملكات وتكوّن الأخلاق التي هي صفات النفس، فآثارها لازمة للإنسان لزوم الطوق للعنق، فأين هذا المعنى الظاهر مما زعمه المعترض، وكيف السبيل إلى القول بتناقضه مع تلك الآية لو فرضنا أنها نص فيما فسرها؟ بقي أن يقال: إن المعترض بنى حكمه على قول المفسرين في ليلة القدر أنها الليلة المباركة الموصوفة في سورة الدخان بقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) وقد فسر الفرق بالتقدير، وقال جمهورهم بأن المراد تقدير أمور العام، ونقول في الجواب: (أولاً) إنَّه قد علم مما شرحناه أن آية الحديد وآية الإسراء لا تناقضان هذا التفسير؛ لأن المطلق لا ينافي المقيد، ولا يناقضه، ولعلماء الأصول في مقابلة المطلق بالمقيد قولان: أحدهما: أن المطلق يجري على إطلاقه، والمقيد يجري على قيده. فلو فرضنا أن معنى الآيات ما ذكر لما كان من مانع لأن يقال: إن هناك تقديرًا أزليًّا وهو ما في علم الله الأزلي، وتقديرًا سنويًّا يحدد في كل عام لحكمة من الحكم ككون الملائكة المدبرات للأعمال والشؤون تجري عليه. ولا شك أن الملائكة لا يعلمون كل ما في علم الله تعالى، ولا يستطيعون أن يعلموا كل ذلك، فالله تعالى يُعْلمهم بما تقضي حكمته أن يعلموه. وإذا صح هذا فيشبه في عالم الشهادة أن الفلكي يكتب تقويمًا للسنة، ثم يستخرج منه في كل شهر تقويمًا لغرض من الأغراض كسهولة المراجعة مثلاً. ومن الناس من كتب تقويما لألوف من السنين، فإذا كتب تقاويم أخرى للأعوام عامًا عامًا أو للشهور شهرًا شهرًا وقال قائل: إن فلانا كتب تقويمًا لخمسة آلاف عام، ثم قال في سياق آخر: إنه كتب تقويمًا للسنة فهل يقال: إن هذين القولين متناقضان؟ كلا إنما يقول ذلك الجاهل الذي يفهم معنى التناقض. وثاني قولي الأصوليين أن المقيد يقيد المطلق كما قالوا في الأمر بإعتاق القاتل رقبة مؤمنة أنه يقيد أمر الحانث باليمين بإعتاق رقبة لم تقيد بأنها مؤمنة. ومن أمثلة ذلك أن يكتب المؤرخ أو صاحب الجريدة أن فلانًا صار عالمًا، وألف كتابًا نفيسًا ثم يكتب في وقت آخر: إن فلانًا قد ألف كتابًا في علم البيان: فيحمل هذا على ذاك، ويقال: إنه أراد بالكتاب المطلق البيان. والأمثلة من القولين كثيرة ويختلف الترجيح باختلاف الوقائع والأحوال. ثم نقول (ثانيًا) : إنه لا يصح للعاقل أن يجعل رأي بعض المفسرين، ولا جمهورهم حاكمًا على الكلام الذين يفسرونه إذا كان يرى أن الكلام لا يدل عليه، وظاهر لكل من يعرف العربية أنه لا يوجد في آية من الآيات ما يدل على التقدير السنوي لا بمنطوق الآيات، ولا بمفهومها، ولكن جرت عادة المفسرين بأن يذكروا في كل موضوع ما يتعقبه من الآراء أو الأحكام المروية عن السلف وأئمة المذاهب، مرفوعة أو موقوفة، صحيحة أو ضعيفة كما يذكرون آراء النحاة في إعراب الآيات فمن يتعلق برأي أو رواية مما يوردونه في التفسير يرى آية أخرى تنافيه فيجعل هذا شاهدًا على تناقض القرآن نفسه فهو كمن يتعلق برأي من آراء النحاة التي يوردونها يمنع أو يجيز حكمًا في الإعراب، لا ينطبق ذلك الحكم على آية أخرى غير التي أوردوه في إعرابها ثم يقول: إن هذه الآية مخالفة لتلك في الإعراب فهي غلط أو لحن، ما هي بمخالفة إلا لرأي ذلك النحوي! وبعد هذا كله نقول: إن (القدر) في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} (القدر: 1) معناه: الشرف، وهو المتبادر منه وليس معناه: التقدير، وقد قدم البيضاوي القول الأول في تفسيره، وذكر الثاني بصفة التمريض (قيل) ومعنى الشرف فيها ظاهر فإنها الليلة التي بدئ فيها نزول القرآن، فهي شرف للنبي عليه الصلاة والسلام ولقومه ولجميع المؤمنين كما قال تعالى في القرآن: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِك} (الزخرف: 44) : أي: شرف لكم. وأي شرف أعظم من هذه الهداية الإلهية العظمى. وأما قوله تعالى: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) فمعناه: أنهم يتنزلون من أجل أمر من أمور الوحي لا من أمور الخلق؛ لأن سياق الكلام فيه لا في التكوين. وأما قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) - إلى قوله -: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) فمعناه: أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة، والبركة فيها ظاهرة كما أن الشرف فيها ظاهر فهي ليلة القدر خلافًا لبعض المفسرين الذين قالوا: إنها ليلة النصف من شعبان، وقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) معناه: أنه يفصل فيها، ويبين كل أمر من أمور الوحي لا من أمور الخليقة بدليل أن سياق الكلام في إنزال القرآن، وبدليل الآية التي بعدها وهي: {أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} (الدخان: 5) فبيَّن أن هذه الأمور هي التي تختص بإرسال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. واعلم أنه قد ورد في تفسير هذه الآية أن الملائكة تكتب فيها الأقدار، ولكن هذا ليس منصوصًا في الكتاب العزيز، ولا في الحديث المتواتر، فيكون قطعيًّا والاعتقاد به محتمًا ولا في الأحاديث المرفوعة الصحيحة الأحادية، فيكون ظنيًّا والاعتقاد به من الاحتياط، وإنما ورد عن بعض الذين اشتهروا بالتفسير من السلف ورويت عنهم فيه الموضوعات والأكاذيب حتى قال الإمام أحمد: إنَّه لا يصح في التفسير شيء، وأقوى ما رُوي في ذلك ما رواه عبد الرزَّاق وغيره عن مجاهد وعكرمة وقتادة. وقد علمت أن المعترض قد سقط بشبهته سواء صح ذلك عن هؤلاء المفسرين أم لم يصح. {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: 118-119) .

بيان القرآن وبلاغته وما يوهم غير ذلك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيان القرآن وبلاغته وما يوهم غير ذلك (س1) الشيخ أحمد محمد الألفي بطوخ القراموص: كيف الجمع بين قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (النساء: 79) ، وقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} (الكهف: 28) . (ج) راجعوا ما كتبه الأستاذ الإمام في الجمع بين الآية الأولى، وبين قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) في الصفحة 157 من مجلد المنار الثالث. *** (س2) ومنه: كيف الجمع بين قوله تعالى في أوائل السور: حم، الر، ن، ق، وقوله: {عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} (النحل: 103) ، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (يوسف: 1) ، {قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر: 28) .. إلخ. (ج) إنَّ (حم) ونظائرها أسماء للسور على الراجح عند المحققين، ودلالة الاسم على المسمى بينة لا عوج فيها، وأنتم تعلمون أن: (الأسماء لا تعلَّل) فلا يقال: لماذا سميت السورة المعلومة (ن) فإن كانت سميت به لذكر الحوت فيها والنون من أسماء الحوت فلماذا سمي غيرها بأسماء حروف مفردة ومركبة لا يعرف لها معنى غير تلك الحروف؟ لا يقال هذا؛ لأننا إذا جوزنا أن يقال لقيل في جميع الأسماء ولذلك قالوا: الأسماء لا تعلل، وأما الذين يقولون بأن لتلك الحروف إشارات لمعانٍ سامية تعلو أفهام العوام، ولا يعرفها إلا الراسخون من العلماء الربانيين، فقولهم هذا - إذا صح - لا ينافي أنها أسماء للسور، وأن القرآن مبين وظاهر يتيسر لكل من يعرف اللغة العربية مفرداتها وأساليبها أن يفهمه ويهتدي به. ومثال هذا في المحسوسات الأهرام، فإن جميع المؤرخين والقارئين للتاريخ يعرفون الغرض منها، ثم إن الرياضي منهم يستخرج من مساحة أضلاعها وهيئة أوضاعها ما لا يعرفه غيره ممن عرف معناها والغرض منها، ولم يعلم أن تلك الأطوال والعروض وضعت بالمقادير المخصوصة لتدل على مقاييس البلاد في الزمن الذي بنيت فيه وغير ذلك. فكل ما يمكن استخراجه من القرآن بطريق معقول فلا ينبغي أن يتوقف في قبوله؛ لأنه لم يهتدِِ إليه إلا بعض الخواص. وأما الذي لا يقبل فهو ما كانت دلالته على معناه غير وضعية ولا عقلية كاستخراج المعاني من هذه الحروف بالعدد الذي يسمونه حساب الجُمل. وهذا المعنى الذي قلناه ظاهر عند أهله في العلوم العالية المشروحة في القرآن وأعني العلوم الإلهية والغيبية فإن آياتها ظاهرة للعارف باللغة فهي في غاية البيان ووراءها معانٍ أخرى يعرفها بعض الخواص، وهي توافق المعاني الظاهرة، وتزيد عليها بما لا يخالفها ولكنه يَدِقُّ عن أفهام العامة. وهذا ضرب من ضروب إعجاز القرآن لعلنا نوفق لشرحه في وقت آخر. نعم إن كون القرآن مبينًا لا يمكن أن يجامع القول بالتقليد الذي يزعم أهله أن الكتاب والسنة المبينة له لم يفهمها إلا نفر ماتوا، ولا يمكن أن يوجد بعدهم من يفهمهما! *** (س3) ومنه: أن كثيرًا من المسيحيين لهم القدح المعلَّى في اللغة والبلاغة ومع ذلك لم يعترف بإعجاز القرآن مع ما فيه من أسرار البلاغة وضروب الأحكام والحكم وبديع المعاني والبيان، مما جعل عرب زمن التنزيل في دهشة منه واعترفوا بإعجازه، ومن كفر فإنما كفر عن حسد وعناد. ومع ذلك ترى هذا المسيحي الأديب الفصيح متمسكًا بالنصرانية فيقول: لا ريب أن المسيح (عليه السلام) الإله وإنسان، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود، ورب وعبد، ومخلِّص ومصلوب، وبارّ وملعون [1] وآب وابن وروح قدس، فهو ثلاثة حقيقة وواحد حقيقة، إلى غير ذلك من ضروب المتناقضات فهل لذلك من سبب؟ ثم هو ينظر إلى الكتاب المقدس نظر المَغْشِي عليه، فيغض الطرف عن تناقضه واختلافه وانقطاع إسناده ومخالفته لصريح العقل ومقبول النقل وفساد آدابه، ثم يفتح عينيه لانتقاد القرآن الحكيم فيأتي بالمضحك والمبكي المحزن للإنسانية والفضيلة والعدل والحرية في القول والعمل، فهل لذلك من سبب أيضًا؟ (ج) السبب في هذا وذاك أن مَن ذكرتم قد اتخذوا الدين جنسية ورابطة اجتماعية سياسية، فهم يحافظون على العقائد والتقاليد والعادات المِلية التي تربطهم بعامة أهل ملتهم؛ إذ لو أهملوها لانحلت جامعتهم وصاروا بغير أمة وغير ملة. ولم ينظروا في الإسلام نظر إنصاف فيفهموه من أصوله؛ لأن المسلمين الذين اتخذوا الدين جنسية أيضًا قد عادوهم عداوة لم يأذن بها الإسلام فكانت هذه المعاداة سببًا في بحث كل فريق عن عيوب الآخر فقط، لا عن حقيقة ما عنده. وأنتم تعلمون أن البدع والمنكرات الفاشية في المسلمين كافية لأن تكون حجابًا دون محاسن الإسلام حتى تحجبَ العاقل المنصف، بله المعاند المتعسف، فالعارفون بفنون البلاغة من النصارى قلما ينظرون في القرآن نظر إنصاف، ومن نظر ولاح له أنه معجز فإن العداوة الجنسية تمنعه من قول الحق لا سيّما إذا كان يرى أن كون القرآن معجزًا ببلاغته لا يدل على كونه منزلاً من عند الله تعالى، وجلهم أو كلهم يرون ذلك. وقد وجد من أهل العلم والإنصاف منهم من صرح بأن القرآن قد بلغ حد الإعجاز في بلاغته، كالمعلم جبر أفندي ضومط أستاذ البلاغة في المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت، فإنه قد صرّح بذلك في فاتحة كتابه (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) . هذا، وقد علمنا بالاختبار أن أكثر المتعلمين العقلاء من النصارى لا يعتقدون بالتثليث، ولا بشيء من الخرافات المعروفة عند قومهم، بل منهم المتطرفون الذين لا يعتقدون إلا بالمحسوسات والبديهيات المعقولة، ولو أن المسلمين الذين يعيش معهم هؤلاء النصارى أهل نظر وبرهان، واطلاع على علوم هذا الزمان، لا أهل تقليد للأموات، وتسليم بالخرافات، وكانوا يعاملونهم بالإنصاف، ويجادلونهم بالتي هي أحسن - لرأيت كثيرين منهم دخلوا في الإسلام، ولرأيت من لم يدخل فيه يعترف بفضله ولا يعاديه، وإنني أرى أننا أحوج إلى حسن معاملتهم والقسط إليهم في هذا العصر منا إلى ذلك العصور السابقة، وأن هذا خير لنا ولهم في الدين والدنيا فعسى أن يوجد في عقلاء المسلمين كثيرون يسعون في هذه السبيل. *** (س4) محمد أفندي عمر السمان بمصر: اختلف المفسرون في تفسير آيات القرآن الشريف اختلافات شتّى، وبين كل واحد لها معنى قلما يتفق مع الآخر وأغلبهم من علماء العربية بأسرارها ودقائقها، فما معنى بلاغة القرآن مع انبهام معانيه حتى على الخاصة الذين هم أولى الناس بفهمه، وهل يعد كلام بليغًا إذا انبهم معناه على سامعيه، واختلفوا في فهم المراد من طرائق شتى؟ نرجو أن تفيدوا في مناركم الوضاح جواب هذا السؤال بعبارة يفهم كل القراء معناها، ولا يخفى على الخاصة منهم مغزاها ولكم الفضل. (ج) نقول قبل كل شيء: إن السائل قد غلا في تقرير الخلاف في فهم الآيات حتى زعم أن الاتفاق بين المفسرين العارفين بأسرار العربية قليل، والصواب أن الخلاف بين المحققين العارفين هو القليل، وأن الأكثر متفق عليه، ثم إن الجواب يتجلى في مسائل نذكرها بالاختصار فنقول: (1) إنَّ الغرض من البلاغة أن يبلغ المتكلم ما يريد من نفس المخاطب وهو الفهم والتأثير، وقد بلغ القرآن من نفوس من دعوا به إلى الإسلام مبلغًا لم يعهد مثله لكلام آخر عربي ولا عجمي، وما ذلك إلا أنهم فهموا معانيه بدلائلها وبراهينها وتأثروا بحِكَمه ومواعظه حتى تركوا عقائدهم وتقاليدهم وعاداتهم التي كانوا يفاخرون بها، وأُنشِئوا خلقًا جديدًا، وحتى كان المشاغبون المعاندون منهم لم يروا وسيلة للتخلص من تأثيره إلا بالإعراض عن سماعه، واللغو واللغط عند تلاوته حتى لا يصل منه شيء إلى نفوسهم كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) ولم ينقل عن العرب من آمن منهم، ومن لم يؤمن أنهم اختلفوا في فهمه كما اختلف من بعدهم وإنما كان الراسخون في العلم كالخلفاء لا سيما رابعهم، وكالعبادلة فهم أعلى من فهم سائر الناس كما فهم ابن عباس من سورة النصر أن النبي عليه الصلاة والسلام قد دنا أجله، وأن قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} (النصر: 3) نعي له وأقرّه النبي على ذلك. ولا شك أن سائر الصحابة قد فهموا معنى السورة كما فهمها ابن عباس، وهي على بلاغتها، وهذا الفهم الجديد من ابن عباس مزيد في البلاغة ودليل على أن لها مراتب متفاوتة، ولا يمكن أن يكون الناس المتفاوتون في فهم كل شيء، والعلم به يتفقون في فهم القرآن، والعلم به وهو أعلى كلام وأجمعه للمعارف العالية الإلهية والنفسية والشرعية (راجع جواب السؤال الثاني) . (2) إنَّ علماء اللغة والبلاغة اختلفوا في فهم كل كلام بليغ غير القرآن كالمعلقات السبع وغيرها مما يؤثَر عن البلغاء في الجاهلية والإسلام، فلو كان اختلاف الأفهام في الكلام ينافي بلاغته لما كان لنا أن نقول إن في الكلام بليغًا إلا بعض الجمل البديهية من العامة الجهلاء كقولهم: أكلت رغيفًا وشربت كوزًا من الماء، وقد يختلفون في فهم ما عدا البديهي من كلام العامي كما يختلفون في فهم البديهي من كلام العالم بحمله على الكناية أو المجاز. وإذا قرأت القرآن على عامي عرف العربية ولو ممزوجة باللحن والدخيل، وأنشدته قصيدة من شعر امرئ القيس أبلغ شعراء العرب لرأيته فهم من القرآن ما لم يفهم من القصيدة، وكان للقرآن في نفسه الأثر الذي ليس للقصيدة ما يدانيه، ومن هنا تعلم أن بيان القرآن عجيب، وأن لكل من يعرف العربية منه نصيب: ولكن تأخذ الأذهان منه ... على قدر القرائح والفهوم (3) إنَّ أكثر ما تعهد من الخلاف في التفسير سببه أن المتخلفين لم يحاولوا فهم القرآن بذاته، وإنما حاولوا تطبيقه على مذاهبهم في النحو والبلاغة والكلام والفقه حتى كأن مذاهبهم هي الأصل الثابت، ولا بد من تطبيق القرآن عليه، ولو حاولوا فهمه بذاته، وأعدوا له مزاولة أساليب اللغة، ومعرفة متنها والاطلاع على السنة من غير تقيد بمذهب مخصوص؛ لأن القرآن فوق المذاهب والآراء - لكان خلافهم أقل ووفاقهم أكثر، ولكان رجوع أحد المختلفين إلى الوفاق بعد النظر في دليل الآخر قريبًا، فالتقليد في الدين وفي قوانين اللغة هو منشأ البلاء الأعظم في الخلاف. وله أسباب أخرى مفصلة في كتاب (الإنصاف في أسباب الخلاف) وهو كتاب نفيس يطلب من إدارة المنار، وثمنه 3 قروش، وأجرة البريد نصف قرش. فعلم ما قلناه أن الخلاف دون ما قال السائل، وأنه لا ينافي البلاغة قل أو أكثر. ولو كان الخلاف في الكلام هل هو صحيح أو غير صحيح، وهل هو بليغ أو غير بليغ، وكان كل ذي قول يورد الأدلة على تأييد رأيه لكان للجاهل أن يشك في بلاغته؛ لأنه علم أن أهل الشأن اختلفوا فيها، وهو غير قادر على الترجيح. والأمر في القرآن على غير ذلك، فقد أجمع بُلغاء العرب - من آمن منهم ومن لم يؤمن - على إعجازه، وكذلك العلماء بالعربية الذين أخذوها بالصناعة، فلم يبق للجاهل عذر بعد العلم بأن هذه مسألة لا نزاع فيها عند العارفين بهذا الشأن، والله أعلم.

مضار تربية النساء الاستقلالية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مضار تربية النساء الاستقلالية كتبنا من قبل في بيان مضار استقلال النساء بتربيتهن كتربية الرجال وإقناعهن بأنهن مساويات لهم من كل وجه، فإن هذا أمر مخالف لسنن الفطرة التي بينها دين الفطرة في كتابه السماوي فقال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) أي: أن المساواة بين الزوجين واجبة في الحقوق مع حفظ حق سيادة المنزل للرجل. وقد أوردنا الشواهد والأمثلة عن أهل أوروبا لا سيما نساء الإنكليز على وجوب جعل المرأة تحت سيادة الرجل وعلى كون التربية عندهم صارت تعارض ذلك. وقد رأينا عنهن شاهدًا جديدًا في هذه الأيام، وهي أن النساء الكاتبات الفاضلات اللواتي تربين وتعلمن في هذا العصر طفقن يكتبن في الجرائد منتقدات شاكيات من تربية بناتهن تربية جعلت همهن محصورًا في الزينة والولوع بصرف الأوقات في المنتزهات، حتى صار يثقل عليهن مساعدة أمهاتهن في تدبير المنزل! وقد نقل المقطم نبذة من ذلك إلى العربية عنوانها (حرب سجال) نوردها ها هنا تأييدًا لقولنا وهي: في إنكلترا الآن حرب أقلام ثار عجاجها على صفحات الجرائد الإنكليزية بين الأمهات وبناتهن، ورُب قلم أحدّ من السنان وأمضى من الحسام. وقد كانت الأمهات البادئات بالعداء فإن أمًّا منهن رأت من بناتها تقصيرًا في قضاء الواجبات المنزلية المفروضة عليهن وميلاً إلى عصيان كل أمر تصدره إليهن، فهالها طغيانهن وتهاملهن وضاقت ذرعًا عن كبح جماحهن، فاستغاثت بالجرائد وبعثت برسالة إلى إحدى الجرائد المشهورة بإمضاء (أم خائبة الأمل) ! وهذا نصها بعد الديباجة: أريد أن أعلم آراء قراء جريدتكم في هذه المسألة. فإن لي ثلاث بنات عمر الصغرى منهن 17، والكبرى 21، وقد تعلمن في مدارس معروفة، وأكملن دروسهن ولَزِمْنَ البيت. وزوجي متقلد منصبًا حسنًا فلا حاجة بهن إلى احتراف حرفة يرتزقن منها. ولكن أملي بهن خاب لما يبدين من الميل إلى الحرية والاستقلال فبدلاً من أن يساعدنني ويتفكرن فيَّ تراهن لا يتفكرن في غير أنفسهن وملاذهن كالألعاب الرياضية وغيرها مما هو خارج عن دائرة الأشغال المنزلية، ويكرهن البقاء في المنزل أيام استقبال الزائرين ورد الزيارات معي قائلات: إن ذلك من قبيل إضاعة الوقت، وهن يسخرن بأذواقي، ويعددنها أذواقًا قديمة ليست حسب الأذواق الحديثة، ولا يزلن يتعلمن الموسيقى إلى الآن فيقضين نصف النهار في التمرن عليها. (هذا وإني لست أريد معارضتهن في كل شيء، ولكني أريد أن أعلم إنْ كانت بنات الناس كذلك، ومما لم أستحسنه فيهن استعمالهن كلمات زقاقية وعبارات اللغو والمبالغة في حديثهن. فهل توافقني سائر الأمهات على أن هذه هي (مُودَة) هذا الزمان) . وكأن هذه الرسالة جرَّأت الأمهات على ما لم يجترئن عليه قبلها فبعثن بالرسائل تباعًا إلى إدارة الجريدة يشكون أمورًا كثيرة يأتيها بناتهن مما ينكرنه عليهن، فنذكر بعضًا للتفكُّه: قالت إحداهن: (إني أوافق على كل ما قالته صاحبة الرسالة بإمضاء) الأم الخائبة الأمل (فإننا كلنا في الهوى سوى) وأن للبنات حرية زائدة هذه الأيام في العمل والكلام، فإذا قاطعتهن انتقمن لأنفسهن برد جوابات فيها ما فيها من الصلف والوقاحة. وهذا اختبار أم أخرى خاب أملها) . وقالت غيرها: (أخشى أن ما تشعر به (الأم الخائبة الأمل) يكون مطابقًا لشعور الأمهات في جميع العالم، وهو دليل على انحطاط الشعور القديم من نحو العائلة، وانتشار (المودة) الجديدة، وهذا آفة على التهذيب القديم الذي كان أمهاتنا يعتقدن بقوة تأثيره فينا) . وقالت أخرى: إني أشارك الأم الخائبة الأمل في ما تراه وتشعر به، وأقول: إن تمرد البنات شر متفاقم تشعر الأمهات بضرره الشديد. فإن الأمهات حاولن تربية بناتهن على مثل ما ربين عليه أيام كانت الحشمة الحقيقية ناتجة عن رقة الشعور واحترام الآخرين. ولكن تلك الأفكار أمست قديمة مبتذلة الآن فبات البنات لا يحترمن أمهاتهن ولا يخضعن لهن. بل يفعلن ما يردن غير مكترثات لآراء والديهن، فما هي نتيجة ذلك يا تُرى؟ وكيف تربي أولئك البنات أولادهن متى تزوجن؟ هذا مثال الرسائل التي أرسلها الأمهات يعترضن فيها على سلوك بناتهن ووافقهن أخ أرسل رسالة بإمضاء (أخ مشمئز) قال فيها: (إن هذا العصر هو ما يسمونه عصر (التقدم) و (تساوي الجنسين) وغير ذلك من الأسماء فكانت نتيجته (المرأة الجديدة) التي نراها الآن بعيوبها الكثيرة! وما كادت هذه الرسائل تُنشر حتى استشاطت البنات حنقًا، وأرسلن الرسائل تترى إلى الجريدة المذكورة جوابًا على شكاوى الأمهات، ونصرهن بعض الآباء والأمهات كما سيأتي. وهاك أجوبة بعض البنات: قالت إحداهن بإمضاء (ابنة مضطربة) : (أنا ابنة مدركة سن الرشد وأحوالي على ما وصفت (الأم الخائبة الأمل) في رسالتها، ولا شيء يسرني مثل مساعدة والدتي على تدبير المنزل، وتخليصها من همومه الكثيرة، ولكنها لا تعتمد عليَّ في عمل من أقل الأعمال؛ لأنها تعتقد أن لا أحد يحسن عملاً إلا إذا كانت يدها فيه وهي تراقب عمله. وعليه عدلت عن الاهتمام بتخليصها من عناء الأشغال والأعمال المنزلية لأني وجدت الاهتمام يضيع سدى. فكيف تؤمل الأمهات أن تثق بناتهن بهن ما دمن لا يثقن ببناتهن، وهل يستغرب من البنات الاهتمام بما هو خارج البيت إذا كُنَّ لا يجدن فيه من يهتم بهن ويعطف عليهن) . وكتبت بنت كتابًا طويلاً بالأصالة عن نفسها والنيابة عن أخواتها قالت فيه ما ملخصه: إن معظم بنات هذه الأيام يقضين عدة سنوات في المدارس يلعبن فيها ألعابًا مختلفة لترويض أجسادهن، ومتى خرجن منها ودخلن البيت ينتظر أمهاتنا منا أن نكون رفيقاتهن، وأن لا نعمل عملاً سوى الاهتمام بشئون المنزل، فشتان ما بين جلوسنا في غرفة الاستقبال نسمع انتحاب أمهاتنا وزائراتهن من فساد أمر البنات في هذا الزمان، وحديثهن الدائم عن الخدمة والخادمات، وبين التنزه على ضفة النهر أو لعب الألعاب الرياضية، ولسنا نقصد أن نكون محبات لأنفسنا ونقضي العمر بالتمتع بنعيم هذه الحياة فقط، بل إننا ندخل البيوت مشتاقات إلى مساعدة أمهاتنا مستعدات لتعلم الأعمال والأشغال البيتية، ولكننا نريد أن نقوم بالواجب علينا على الطريقة التي نحبها ونهواها. فكل يوم نرى شيئًا جديدًا نحب اقتباسه وإدخاله إلى منزلنا، ولكن أمهاتنا يعارضننا بدلاً من أن يوافقننا على أذواقنا قائلات: إن العجب لا يعجبنا وإننا لا نستحسن شيئًا في البيت، بل نجد عيبًا في كل شيء، ونرى منازل الآخرين أحسن من منازلنا. مثال ذلك أن أكثر البنات مولعات بترتيب الأزهار التي تُوضَع على مائدة الطعام وفي غرف الاستقبال، فيرتبنها وينظمنها على أذواقهن، ولكن أمهاتهن يغتنمن فرصة غيابهن ويقحمن بين تلك الأزهار الجميلة المتناسقة أزهارًا ذات ألوان لا توافق الذوق السليم فيضيع تعب البنات سدى! وأكثرنا ينتظر بسرور مجيء اليوم الذي نصبح فيه ربات منازل مستقلة فتكثر همومنا ومشاغلنا، ويأتي دورنا للزيارات وردها فلماذا هذه العجلة الآن؟ أما الأمهات اللواتي انتصرن لبناتهن فمنهن أم كتبت كتابًا بإمضاء (أم مسرورة شكورة) قالت فيه: (لما قرأت كتاب (الأم الخائبة الأمل) حزنت عليها فقد مرت بي سِنُو هَمٍّ وشقاءٍ من شراسة زوجي، ولكن بنتي كانت تعزيتي وقوتي على احتمال مصيبتي وقد عرض كثيرون من الأصدقاء والأقارب أن يأخذوها معهم في أسفارهم للتنزه ومشاهدة هذا العالم، واتهموني بحب الذات؛ لأني لا أسمح لها بالابتعاد عني، ولكنني أؤكد لكم أنني لم أجبرها على عمل شيء، بل تركتها تفعل ما تشاء) . ومنهن أم كتبت رسالة بإمضاء (أم راضية) قالت فيها: (إن لي أربع بنات لا يتأخرن عن مساعدتي حينما أشاء، ولكنني لا أطلب منهن الشيء الكثير؛ لأن للشباب مطالب لا يصح الإغضاء عنها، فبعض الأمهات يطلبن من بناتهن أمورًا كثيرة، وقلما يخطر ببالهن أن الألعاب والملاهي لازمة لهن وعندي أنَّه يكفي البنات أن يشتغلن بجمع الأزهار وتنسيقها وترتيبها ونفض أثاث البيت من الغبار إلا إذا اضطرت الحال إلى أكثر من ذلك) . أما الأب الذي انتصر للبنات فقد عدل في حكمه، ولم يجُر فاعترف بإهمال البنات وتطرفهن، ولكنه نسب ذلك إلى إهمال الأمهات حيث قال: (لو عرفت الأم الخائبة الأمل كيف تعلم بناتها عمل الواجب عليهن لما احتاجت إلى كتابة رسالتها، فإن البنات يربين هذه الأيام تربية مطلقة من كل قيد ويعطين كل ما تشتهيه نفوسهن، فينكر الوالدون أنفسهم حبًّا بهن، ولكنهن لا يفهمن معنى إنكار النفس فيشببن وقد تعودن طلب كل شيء بالأمر والنهي كأن لهن حقًّا شرعيًّا فيه بدلاً من أن يطلبنه طلبهن للمعروف. فأي حق لفتاة سنها 17 سنة في الاعتراض على شيء من الأشياء، إنما يجب عليها أن تفعل ما يطلب منها، وأما الألعاب فإذا رأى الوالدون أقل ضرر منها لم يصعب عليهم منع أولادهم من لعبها بالامتناع عن إعطائهم الدراهم لمشترى لوازمها، ويحسن بهم أن يهدوا تلك الألعاب إلى ذوي السلوك الحسن من أولادهم ويعوِّدوهم أن يحصلوا عليها بتعبهم بدلاً من أن يأخذوها كأنها حق طبيعي من حقوقهم) . اهـ المراد، وبقي في المقطم قول لبعض الشعراء أهملناه. (المنار) يجب أن تربَّى البنت لتكون زوجة، ويجب أن تكون زوجة لتكون أمًّا وهي لا تكون زوجة إلا إذا أراد الرجل، ومن مصلحة الرجل أن تكون زوجته أمًّا، ولا تصلح أن تكون أمًّا إلا إذا تربت على الأعمال المنزلية وتربية الأطفال والمدرسة الطبيعية التي تربيها وتعلمها أعمال الأمهات هي بيت أبيها الذي تدبر أعماله أمها. فالبنت التي ترى الحرية والاستقلال يبيحان لها ترك البيت وصرف الأوقات في الملاهي والمنتزهات ومخالفة والدتها في ما تأمرها به بلسان المقال أو بلسان الحال من القيام بالأمور المنزلية هي كالتلميذ الذي يستبيح أن يترك المدرسة إذا شاء، ويتعلم فيها ما شاء ويعصي ناظرها وأساتذتها متى شاء، فمن يقول: إن هذا التلميذ يفلح في اتباع هواه، فليقل: إن تلك البنت تفلح في اتباع هواها. غلط الإفرنج في محاولة جعل النساء كالرجال في تمام الاستقلال، ومغبة غلط الأمم لا تظهر إلا بعد زمن طويل، وها هو قد نجمت نواجمه في قلة النسل، وفي إهمال النساء والبنات البيوت إهمالاً يفسد شأنها، وفي كثرة طلب الطلاق، وفي قلة التزوج والاستغناء عنه بالفسق. ومن أعجب أنواع هذا الظهور شكوى الأمهات من البنات مع شدة حبهن لهن وعنايتهن برفاهتهن وراحتهن، ومع مبالغتهن في إظهار محاسنهن وإخفاء مساويهن. ولا بد أن تحمل هذه المضرات القوم على تدارك الأمر والاجتهاد في جعل البنت تحت سيطرة أمها وأبيها في البيت ليكون ذلك مقدمة لسيطرة زوجها عليها من غير أن يثقل ذلك عليها. أما ما قرأت من مدح بعد الأمهات لبناتهن فهو موافق لانتقاد الشاكيات من الحرية وتمام الاستقلال. هكذا تظهر الحوادث بعد تجارب القرون أن تهذيب القرآن وتعليمه فوق كل تهذيب وتعليم، وما ذلك إلا لأنه تنزيل من لدن حكيم عليم.

نموذج من دلائل الإعجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من دلائل الإعجاز قال المصنف في سياق إثبات أن البلاغة والفصاحة للنظم لا للكلم المفردة ما نصه: وهذه جملة من وصفهم الشعر وعمله وإدلالهم به: (أبو حية النُّمَيْري) إن القصائد قد علمن بأنني ... صنع اللسان بهن لا أتنحل [1] وإذا ابتدأت عروض نسج ريض ... جعلت تذل لما أريد وتسهل [2] حتى تطاوعني ولو يرتاضها ... غيري لحاول صعبة لا تقبل (تميم بن مقبل) إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها قائلاً بعدي أطبّ وأشعرا وأكثر بيتًا سائرًا ضربت له ... حزون جبال الشعر حتى تيسرا أغر غريبًا يمسح الناس وجهه ... كما تمسح الأيدي الأغر المشهرا (عدي بن الرقاع) وقصيدة قد بت أجمع بينها ... حتى أقوّم ميلها وسنادها نظر المثقف في كعوب قناته ... حتى يقيم ثِقافه منآدها [3] (كعب بن زهير) فمَن للقوافي شانها من يحوكها ... إذا ما توى كعب وفوّز جرول [4] يقومها حتى تلين متونها ... فيقصر عنها كل ما يتمثل (بشار) عميت جنينًا والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موئلا وغاص ضياء العين للعلم رافدًا ... لقلب إذا ما ضيع الناس حصلا وشعر كنور الروض لاءمت بينه ... بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا [5] (وله) زور ملوك عليه أبهة ... يغرف من شعره ومن خطبه [6] لله ما راح في جوانحه ... من لؤلؤ لا ينام عن طلبه يخرج من فيه للنديّ كما ... يخرج ضوء السراج من لهبه [7] (أبو شريح العمير) فان أهلك فقد أبقيت بعدي ... قوافي تعجب المتمثلينا لذيذات المقاطع محكمات ... لو أن الشعر يُلبَس لارتدينا (الفرزدق) بلغن الشمس حين تكون شرقًا ... ومسقط قرنها من حيث غابا بكل ثنية وبكل ثغر ... غرائبهن تنتسب انتسابا [8] (ابن ميادة) فجرنا ينابيع الكلام وبحره ... فأصبح فيه ذو الرواية يسبح وما الشعر إلا شعر قيس وخِندف ... وشعر سواهم كلفة وتملُّح وقال عقال بن هشام القيني يرد عليه: ألا بلغ الرماح نقض مقالة ... بها خطل الرماح أو كان يمزحُ لقد خرق الحي اليمانون قبلهم ... بحور الكلام تستقي وهي طفحُ وهم علموا من بعدهم فتعلموا ... وهم أعربوا هذا الكلام وأوضحوا فللسابقين الفضل لا تجحدونه ... وليس لمسبوق عليهم تبجحُ (أبو تمام) كشفت قناع الشعر عن حر وجهه ... وطيرته عن وكره وهو واقع بغر يراها من يراها بسمعه ... ويدنو إليها ذو الحجى وهو شاسع يود ودادًا أن أعضاء جسمه ... إذا أنشدت شوقًا إليها مسامع (وله) حذّاء تملأ كل أذن حكمة ... وبلاغة وتدر كل وريد كالدر والمرجان ألف نظمه ... بالشذر في عنق الفتاة الرود كشقيقة البرد المنمم وشيه ... في أرض مهرة أو بلاد تزيد يعطي بها البشرى الكريم ويرتدي ... بردائها في المحفل المشهود بشرى الغني أبي البنات تتابعت ... بشراؤه بالفارس المولود (وله) جاءتك من نظم اللسان قلادة ... سمطان فيها اللؤلؤ المكنون أحذاكها صنع الضمير يمده ... جفر إذا نضب الكلام معين [9] أخذ لفظ الصنع من قول أبي حية: ... ... ... ... .. بأنني ... صنع اللسان لا أتنحل ونقله إلى الضمير وقد جعل حسان أيضًا اللسان صنعًا وذلك في قوله: أهدى لهم مِدَحًا قلب مؤازره ... فيما أحب لسان حائك صنع ولأبي تمام: إليك أرحنا عازب الشعر بعدما ... تمهل في روض المعاني العجائب غرائب لاقت في فنائك أنسها ... من المجد فهي الآن غير غرائب ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في السنين الذواهب ولكنه صوب العقول إذا انجلت ... سحائب منه أعقبت بسحائب (البحتري) ألست الموالي فيك نظم قصائد ... هي الأنجم اقتادت مع الليل أنجما ثناء كان الروض منه منورًا ... ضحى وكان الوشي منه منمنما (وله) أحسنْ أبا حسن بالشعر إذ جعلت ... عليك أنجمه بالمدح تنتشر فقد أتتك القوافي غب فائدة ... كما تفتح غب الوابل الزهر (وله) إليك القوافي نازعات قواصد ... يسير ضاحي وشيها وينمنم [10] ومشرقة في النظم غر يزينها ... بهاءً وحسنًا أنها لك تنظم [11] (وله) بمنقوشة نقش الدنانير يُنتقى ... لها اللفظ مختارًا كما ينتقى التبر (وله) أيذهب هذا الدهر لم ير موضعي ... ولم يدرِ ما مقدار حلي ولا عقدي ويكسد مثلي وهو تاجر سؤدد ... يبيع ثمينات المكارم والمجدِ سوائر شعر جامع بِدَد العلى ... تعلقن من قبلي وأتعبن مَن بعدي يقدر فيها صانع متعمل ... لأحكامها تقدير داود في السرد (وله) لله يسهر في مديحك ليله ... متململاً وتنام دون ثوابه يقظان ينتحل الكلام كأنه ... جيش يريد أن يلقى به فأتى به كالسيف رقرق صيقل ... ما بين قائم سِنخه وذبابه [12] ومن نادر وصفه للبلاغة قوله: في نظام من البلاغة ما شك م امرؤ أنه نظام فريد وبديع كأنه الزهر الضاحك ... في رونق الربيع الجديد مشرق في جوانب السمع مايخـ ... ـلقه عوده على المستعيد حجج تخرس الألد بألفا ... ظ فرادى كالجوهر المعدود ومعانٍ لو فصَّلتها القوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد حزن مستعمل الكلام اختيارًا ... وتجنبن ظلمة التعقيد وركبن اللفظ القريب فأدركـ ... ـن به غاية المراد البعيد كالعذارى غدون في الحلل الصفـ ... ـر إذا رحن في الخطوط السود ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الاحتفال بتذكار عيد الجلوس السلطاني) في يوم الثلاثاء الماضي زُينت حديقة الأزبكية احتفالاً بتذكار جلوس مولانا السلطان عبد الحميد خان على عرش السلطنة العثمانية - أيدها الله تعالى - وكان رئيس لجنة الاحتفال أحمد باشا المنشاوي، وقد أذاعت الجرائد بأن المال الذي يُجمع لأجل الاحتفال ينفق منه على الزينة، ويصرف ما بقي منه إلى إعانة سكة الحجاز، فأقبل الناس على البذل، وعلى شراء ورق الدخول في الحديقة، وتبرع إسكندر أفندي فرح - صاحب جوقة التمثيل العربي - بأن يمثل في الحديقة رواية صلاح الدين مجانًا، وتبرع كذلك الحاج حسن النوتي، الذي تولى إقامة معالم الزينة بنصف الأجرة؛ لهذا ولقلة العناية بالزينة يُرجى أن يكون ما بقي من المال لإعانة السكة عظيمًا جدًّا - فإن الجمعية الخيرية الإسلامية تنفق أضعاف ما أنفقت اللجنة على زينتها، ويبقى لها من الربح زيادة عن ألف ومئين من الجنيهات في كل عام. * * * (الأستاذ الإمام في أوربا) يسافر أكثر أمراء المصريين وكبار الموظفين منهم كل عام إلى أوربا مصطافين، فيقضون أشهر الصيف هناك في لهو ولعب وتمتع باللذَّات، وخيرهم من يسافر لغرض صحيح كترويض جسمه بالاستحمام في الحمامات المعدنية وصعود الجبال، أو لاختبار يفيده في صناعته التي بها قوام منافعه الشخصية، ولم نسمع عن أحد منهم أنه سافر لاختبار حال التربية والتعليم في تلك البلاد التي أجمع علماؤها وعقلاؤها على أنهم ما سادوا الأمم إلا بالتربية والتعليم، والاستفادة من ذلك لتكميل نفسه والاستعانة على نفع قومه إلا الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية فإنه قد سافر من قبل غير مرة لتعلُّم أفصح لغات القوم (الفرنسية) فتعلمها، وأحسنها، ووقف بها على أهم معارفهم التي تعينه على ترقية أمته. وقد وّلَّى وجهه في هذه السنة شطر المدارس الكلية التي يتخرج فيها كبار الرجال ليختبر شؤونها حتى إذا حقق الله تعالى رجاءه بإيجاد مدرسة جامعة في هذه البلاد يكون على بصيرة في كيفية تأسيسها ونظامها كما يرشد إليه قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الحج: 46) وكما قال الشاعر: قد سلك الطريق ثم عادا ... ليخبر القوم بما استفادا وقد سبق له رؤية المدارس الفرنسية العالية، وكان في بعض أسفاره قد أخذ إذنًا من ناظر معارف فرنسا بأن يزور أي معهد من معاهد العلم في أي وقت شاء. ولما كانت التربية ونظام التعليم في البلاد الإنكليزية مفضَّلين عند علماء هذا الشأن من الفرنسيين على مثلهما في سائر الممالك الأوربية سافر في هذه السنة لزيارة أعظم مدارس هذه الدولة العظيمة، وأعظمها كلية أكسفورد وكلية كمبردج. وقد ذكرت جرائد لوندرة هذه الزيارة وما كان من احتفال رجال العلم في المدرستين، وإجلالهما للأستاذ، وأثنت الجرائد عليه بما هو أهله من العلم الواسع والعقل الكبير والهمة العالية، وذكرت غير ذلك من تقلبه في البلاد كزيارته للفيلسوف سبنسر أعظم فلاسفة أوربا الاجتماعيين، ونزوله ضيفًا كريمًا على المستر ويلفرد بلنت في قصر (كرايت بارك) . وقالت: إن المستر كوكرنل قد صحب فضيلته في زيارة مدرسة أكسفورد، وأن الأستاذ بويل المؤلف الشهير كان دليلاً له؛ لأنه من معلمي التاريخ في تلك المدرسة، وقالت: إنه لما زار مدرسة كمبردج خرج لاستقباله في المحطة طائفة من أساتذتها، وإن المستر إدوار براون قد دعاه فيها إلى طعام الغداء، ودعا لأجله طائفة من الأساتذة وبعض المستشرقين وكبار المستخدمين، وإنه تناول طعام العشاء في قاعة المدرسة الكبرى. وذكرت تفصيل الزيارة بما لا حاجة لي بيانه هنا، وقد لخصته الجرائد اليومية المصرية، وذكرت ثناء الجرائد الإنكليزية على معارف الأستاذ الواسعة. وقد كتب الدكتور إدوارد براون أستاذ اللغتين العربية والفارسية في كلية كمبردج رسالة إلى جريدة المؤيد ذكر فيها خبر الزيارة بنحو التفصيل الذي جاء في الجرائد الإنكيلزية، ومما جاء في رسالته قوله كما في العدد 4042 من المؤيد: (ولقد كان كل مَن في المدرسة فرِحًا مسرورًا بزيارة هذا الرجل العالم العظيم، وأعجب بعلمه وفضله وسمو آرائه جميع العلماء والعظماء، وتمنوا لو أقام بينهم زمنًا طويلاً وفي اعتقادي أن فضيلة المفتي قد شرَّف الشرق وعلماءه في هذه الديار) ! اهـ. فالحمد لله الذي جعل فينا مَن نفتخر به أمام كبار رجال العلم في أوربا الذين يرون الشرق وأهله في ظلمات من الجهل لا يبصرون! وقد ذكرت الجرائد الإنكليزية أن المفتي سافر من إنكلترا قاصدًا فرنسا ليسافر منها إلى تونس والجزائر، وهذا ما كنا علمناه من هنا قبل سفره، وقد كان عازمًا على أن ينتهي إلى بلاد أسبانيا (الأندلس) حيث كانت الدولة العربية التي أفاضت العلوم على أوربا، فانتقم منها التعصب فأفناها عن آخرها، ولا ندري هل بقي من زمن إجازته ما يكفي لذلك أم يعود من تونس إلى بلاده التي ظمئت لمعارفه؟ ! كان الله له وأيده بروحه حيث كان، ومد في أجله حتى يرتقي بهذه الأمة إلى أعلى ما في عالم الإمكان. * * * (مكانة القسطنطينية بمكانها) لهذه المدينة بموقعها ومكانها امتياز على سائر بقاع الأرض، وهي أنها ملجأ وحصن بحري طبيعي، لا نظير له في بحار الدنيا، فطبيعة المكان توجب على صاحبه أن يكون صاحب قوة بحرية لا تساويها قوة كما توجب طبيعة الأرض الخصبة على صاحبها أن يكون غنيًّا بزراعته، وصاحب الأرض المعدنية أن يكون غنيًّا بتجارته. فإذا أهمل صاحب الأرض الخصبة زراعتها واشتغل عنها بشيء آخر فإن شريعة العمران تقضي بنزعها منه، وقاضي الزمان ينفذ حكمها عند حلول الأجل الموافق له. وكذلك كل مَن قصر في استعمال ما وهبته له طبيعة الوجود. أُعطيت مُلكًا فلم تحسن سياسته ... كذلك من لا يسوس الملك يُنزَعه لهذا قلنا في المقالة التي كتبناها في الجزء الحادي عشر: إنه يجب على الدولة العلية أن تكون في مقدمة الدول البحرية بأن تكون أساطيلها كأساطيل فرنسا، وقلنا: إنها إذا عجزت عن ذلك فإنها لا فائدة لها من هذا الحصن فتتركه طوعًا بفائدة لئلا تتركه كرهًا بدونها. وإذا هي وُفقت لذلك ولو بعد حين من شروعها الذي يجب أن يكون عاجلاً فإنها بذلك تحفظ مجدها، بل تعيد ما فقدت منه حتى تكون في مقدمة دول الأرض (إن شاء الله) ؛ لأن أساطيل كأساطيل فرنسا لها حصن عظيم، كبحر مرمرة يسهل أن يكون صاحبها مالك البرين (بَرَّي أوربا وآسيا) والبحرين (الأبيض والأسود) ، ويصعب على مَن له قوة كقوته في البحر أن يناوئه، فإن صاحب الحصن البحري العظيم يلجأ عند الضيق بأساطيله إلى حصنها حتى يأخذ أهبته فيخرج مهاجمًا، ومَن لا حصن له لا ملجأ له فهو إما مغلوب وإما غير غالب. * * * (موسيو روا الكاتب العام للدولة التونسية) جاءنا من تونس أن قد صدر الأمر بثبيت موسيو (روا) في منصبه السامي بعدما أشيع بأنه سينقل من تونس، وقد سرت النابتة التونسية، وجميع عقلاء المسلمين من تثبيته، بل كتب إلينا أن جميع التونسيين قد سروا بذلك، ولا غَرو فإن هذا الرجل قد خُص بمزيَّة عظيمة وهي القدرة على الجمع بين مصلحة أمته الحامية، وبين رضاء الأمة المحمية فهو على صدقه في خدمة فرنسا يخدم تونس وأهلها الخدمة التي ترضيهم عنه، وعن قومه، وتؤلف بين القلوب. ولو أن عند فرنسا كثيرًا من مثله في الجزائر لانحلت بحكمتهم المسألة التي يبحثون دائمًا عن طريقة مرضية لحلها، وهي: كيف يكون كل فريق راضيًا من الآخر مرضيًّا عنده. وقد بينا في مقالة سابقة أنه لا طريقة لذلك إلا حسن المعاملة والجمع بين المصلحتين، وقد بلغنا أن موسيو (روا) يسلك هذا المسلك الحميد، فنهنئ به تونس وفرنسا جميعًا. * * * (البابية في بلاد فارس) جاء في بعض الجرائد الأوربية أن المسلمين في بلاد فارس قد احتموا على طائفة البابية، وطفقوا يفتكون بهم، ويسفكون دماءهم لأجل الخلاف الديني بينهم وشبهت جريدة التيمس الإنكليزية هذا التعصب بتعصب الروسيين على اليهود وذكرت من وصف البابية أنهم يقربون في عقائدهم من الأوربيين، وشنعت على الحكومة الإيرانية لتقصيرها في حمايتهم. ونقول: إن قياس التيمس البابية على اليهود قياس غير صحيح، فإن اليهود أصحاب دين قديم تعترف به جميع الأمم، ولكن النصارى والمسلمين يقولون: إن المسيح ومحمدًا عليهما السلام نسخا بعض أحكامه، وأقرا بعضها فيجب عليهم الأخذ بآخر هداية جاء بها الوحي. وأما البابية فإنهم قوم ارتدوا عن الإسلام، وأحدثوا لأنفسهم دينًا وضعيًّا مؤلفًا من أمشاج الوثنية والمدنية، وهم يستخفون به ويظهرون في مظاهر النفاق ليتمكنوا من تشكيك أهل كل دين في دينهم، ولا يزال دينهم سريًا ولذلك يتمكنون من مخادعة أهل كل دين، ولإقناعهم بأنهم منهم، ولكنهم يريدون إصلاحهم. ولقد علمنا من شابين غَويين في مصر انخدعا لهذه الطائفة أنهم لا يطلعون أحدًا على كتبهم الأساسية كالبيان للباب والكتاب المسمى بالكتاب الأقدس للبهاء حتى الداخل فيهم جديدًا. وكيف تطالب حكومة إيران بأن تطلق الحرية لقوم يثيرون شغب الأهالي بادعائهم الإسلام في الظاهر، ودعوة الناس للاعتقاد بألوهية البهاء وعبادته في الباطن، إذا كانت الحرية الدينية في نظر التيمس محمودة فهل تنكر التيمس أن بعض أفراد الحرية في بعض البلاد تأتي بأعظم المضرات. بماذا تحتج إنكلترا على عدم إطلاق الحرية في بلاد زنجبار؟ أليست حجتها أضعف من حجة إيران في عدم إطلاق الحرية لهذه الطائفة التي تشكك العوام في عقائدهم وتثير إحنهم وتخرج أضغانهم، بحيث يخشى أن تقع البلاد في الفتن والثورات الداخلية؟ بلى ولكن التيمس لم تقل ما قالت حبًّا في الحرية، وإنما أرادت تنبيه حكومتها إلى أن لها بابًا مفتوحًا يسهل عليها أن تدخل منه إلى ما عساها تحب الدخول فيه. إذا كان للخبر حقيقة فلا أرى إلا أن منشأه المشاغبة بين دعاة الدين الجديد وعوام المسلمين كأن يقول البابي للمسلم: إن ربك البهاء دفين عكا فيحتمي عليه ويقول: كلا؛ بل ربي الله الحي الذي لا يموت ولا يدفن، وتنتهي المكالمة بالملاكمة فينتصر قوم هذا لهذا وطائفة ذاك له، فكيف ترضى الحكومة بهذا؟ وكيف تحاول جريدة التيمس أن تطالب الفارسي المتدين بأخلاق الإنكليزي أو الفرنسي الذي لا يبالي بالدين؟ ومن هنا علمنا أن فرقًا آخر بين اليهود والبابية وهو أن اليهود لا يعرضون لتفنيد دين آخر، ولا لدعوته إلى دينهم بخلاف البابية فإنهم يعيبون على الناس دينهم وليس من مصلحة الحكومة أن تبيح لهم ذلك من جهة السياسة فكيف والدين يوجب عليها منعهم من تشكيك عوام المسلمين في الإسلام، وقد علمنا بعد كتابة ما مر أن سبب الفتنة أن بعض البابية سب النبي عليه السلام علنًا فأفتى العلماء بقتله وهاج الناس ولجأ هو إلى قنصل روسيا فمنعه من الناس، ولكن الحكومة طلبته فسلمه القنصل وشُنق، وكان ذلك مبدأ الفتنة. أما زعم بعض الجرائد الأوربية أن دينهم منتشر، وأن أتباعه صاروا يعدون بالملايين فهو من الكذب الذي يُنقل عن البابية أنفسهم، فإننا رأينا أحد دعاتهم في مصر يزعم أن منهم ملايين في إيران، وملايين في الهند وقد سألنا بعض الإيرانيين والهنديين عن ذلك فأنكروه وقالوا إنهم في الهند يزعمون أن أتباعهم

الكرامات والخوارق ـ 18

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكرامات والخوارق المقالة الثامنة عشرة في أنواع الخوارق وضروب التأويل والتعليل (النوع الثاني عشر: إمساك اللسان عن الكلام وانطلاقه) لم يذكر السبكي أمثلة لهذا النوع ولو ذكر شيئًا منها لوضح الحق من خلاله أشد من وضوحه بالبحث فيه من غير ذكر للوقائع التي سماها كرامات وخوارق عادات. والظاهر أنه يعني بإمساك اللسان وانطلاقه أن بعض الناس يحضر مجلس الرجل الصالح فيريد الكلام فيحصر وتأخذ الحبسة لسانه لما يعروه من الهيبة والإجلال ثم يزول ذلك بالأنس أو المباسطة. وهذا أمر يقع كل يوم من المعتقدين مع الصالحين ومن المرؤوسين مع الرؤساء ومن أفراد الرعايا المهضومين مع الأمراء. وما يقع منه بين رجال الأديان، ومَن يعتقد رياستهم الروحانية من المقلدين كثير في كل أمة وملة ولكن كل فريق يعد هذا مزية له وكرامة من كراماته يجهل حال الآخر؛ إذ العارف بأحوال الملل وشئون الناس لا يغتر ولا يستسلم للنصارى وأهلها فالآفة الكبرى هي الجهل والجهل سياج الدجَّالين، ولذلك تراهم في كل ملة يعادون العلم وينهون عنه ويزعمون أنه حجاب دون الدين، ومفسد لعقائد المؤمنين، ويصدقهم في ذلك الجاهلون، ويتعصبون لهم على الذين يعلمون والذين يتعلمون. * * * (النوع الثالث عشر: جذب القلوب النافرة) لم يذكر السبكي لهذا مثالاً أيضًا، وهو نحو الذي سبقه وأضعف منه؛ فإن كثيرًا من أهل الشهرة ما نالوا شهرتهم إلا بجذب القلوب؛ وذلك أن في كل صنف من الناس مَن له هذه الخاصية فمنهم من يختلب القلوب بمهابته، ومنهم من يسحر الألباب ببلاغته، ومنهم من يستحوذ على النفوس بقوة روحه وتوجيه إرادته، ومنهم من يخدع بعض البسطاء بزيه وشارته وقد رأيت بعيني كثيرًا من الناس ناقمين على رجل من أهل الفضل منكرين عليه نافرين منه مسيئي الاعتقاد به وقد حضروا مجلسه واحدًا بعد واحد وما منهم إلا وقد انجذب قلبه إليه وامتلأ هيبةً وإعظامًا له وصار من المتعصبين له اللاهجين بالثناء عليه. والسبب في ذلك أن النفور الأول كان لسوء ظنٍ أحدثه سماعُ كلام الحاسدين، ولما شاهدوا الرجل رأوه بالضد مما كانوا سمعوا، رأوا فضلاً كبيرًا وعلمًا واسعًا وأمارات تنطق بحسن القصد وإخلاص القلب من حيث كانوا يتوهمون خلاف ذلك فتحولت قلوبهم مرة واحدة. فهل نقول إن هذا مِن باب الخوارق وننظمه في سلك الكرامات والسبب فيه معروف والعلة ظاهرة؟ ! حَسْبُ العاقل دليلاً على فتنة الناس بمسألة الكرامات أن يرى العالم الأصولي منهم (كالتاج السبكي) يعد ميل القلب إلى شخص بعد النفرة منه كرامة له، كأن الفتنة قد سحرت النفوس وأفسدت العقول وأعمت الأبصار وأصمت المسامع وساوت بين العَالِم والجاهل والذكي والغبي في عدم التمييز بين المعتاد وخارق العادة والغفلة عن الوقائع المتشابهة المتماثلة في مثل هذا الأمر التي تقع لمن يعتقدون كرامتهم ومَن يعتقدون كفرهم أو ابتداعهم، وفي طبقات السبكي كثير من هذه الوقائع يحكيها هو والمؤرخون عن زعماء الفتن ودعاة البدع، ومؤسسي المذاهب الباطلة والطرق المعوجة الملتوية، وما رأيت في التاريخ أشد جذبًا بالنفوس، وتلاعبًا بالعقول من رجال طوائف الباطنية فلقد كانوا يفعلون بالألباب ما لا تفعل الخمر، ويؤثرون في النفوس ما لا يؤثر عن فعل السحر. فإن قال قائل: إن جذب أئمة الكفر وزعماء البدع قلوبَ بعض أتباعهم أو بعضَ الضعفاء المستضعفين لقبول ضلالتهم هو من باب الاستدراج والإملاء ليسترسلوا في غيهم حتى يأخذهم الله تعالى بالانتقام في الدنيا أو بالموت الذي يسوقهم إلى الانتقام في الآخرة. وأما أولياء الله تعالى فإنهم يجذبون القلوب إلى الحق ويؤثِّرون فيها تأثير الخير النافع، وبهذا كان جذبهم من الكرامة دون جذب غيرهم. ونقول في الجواب إننا نسلّم بأنَّ ما ذكرتم يصح أنْ يعد كرامة إذا سلمتم معنا بأنَّ الكرامة ليست من الخوارق الحقيقية وإنما هي من الخصائص الشريفة النافعة فإنَّ أمرًا يُعقل سببه وتعرف علته ويقع من جميع أصناف الناس ومن أهل كل ملة ودين لا يصح للعاقل أنْ يجعله من خوارق العادات التي على غير النظام المعهود والسنن المطردة ولكم بعد ذلك أن تأولوا ما يقع من ذلك للصالحين من أهل الملل الأخرى فإنه يوجد في كل أمة الصالح والطالح كما لا يخفى على المنصف الخبير. وإننا نختم الكلام في هذين النوعين - المهابة التي تمنع الكلام وجذب القلوب- بشيء من العبرة بما كان لرؤساء الباطنية من الاحترام الروحي في نفوس أتباعهم ولم يصل الصوفية الصادقون إلى مثل ذلك. قال المؤرخون: إنَّ الحسن بن الصباح زعيم الإسماعيلية قد استهوى قلوب أتباعه واستحوذ على نفوسهم حتى كانوا يطيعونه في السر والجهر ولو بما يذهب بأرواحهم. ولقد كان مِن أمره لمّا أرسل السلطان يطلب منه الطاعة أنْ دعا نفرًا مِن أتباعه وقال لأحدهم: اقتلْ نفسك، ففعل بدون توقف ولا تردد! وقال لآخر: ارمِ بنفسك مِن هذا الحصن، فرمى بنفسه ومات! ثم التفت إلى رسول السلطان وقال له: قل لمولاك هكذا يطيعني سبعون ألفًا من الرعايا الأمناء، فمَن كان هذا شأنه وهذه منزلته في نفوس أتباعه فكيف تكون مهابته في نفس مَن يحضر مجلسه وكيف يكون انجذاب القلوب المعتقدة بفضله أو المستعدة لقبول عقيدته إليه وتحويمها عليه؟ الصوفية الذين ينقل عنهم جذب القلوب والتسلط على نفوس المجالسين بالهيبة والوقار كانت سيرتهم على مقربة من سيرة زعماء الباطنية؛ بل هم فرقة منهم وتأثيرهم من نوع تأثيرهم، فالمؤرخ لا يكاد يفصل بين هذا وهذا إلا بالانتماء للمذاهب المعينة كالإسماعيلية وغيرهم، وأما كلامهم في الدين وتفسيرهم للقرآن والحديث فإنه متشابه؛ لأنهم يقولون فيه أقوالاً تنكرها اللغة وأساليبها وتأباها سيرة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وحجة الفريقين فيها واحدة وهي الاطلاع على الحقائق الخفية، والوقوف على أسرار الدين الروحانية وقد سلم الناس لهم بذلك تسليمًا لا سيّما بعد موت العلم بحمل الناس على التقليد وحظر الأخذ بالدليل عليهم، فمَن لا دليل له يسلم لكل مَن يعظم الناس أمره. وما رأيت في أمر الذين يسمى صنفهم صنف علماء الدين أعجب من تسليمهم لهؤلاء الباطنية الذين يدعون الولاية كل ما يقولونه وإن لم توافق تقاليدهم فهم يسلمون لهم القول المخالف بغير دليل ويحجرون على غيرهم المخالفة بالدليل. وأنت تعلم أنَّ مبنى علومهم كلها على الكشف وسيأتي الكلام عليه مفصّلاً في النوع الرابع عشر، ولذلك جعلنا هذه المقالة مختصرة حتى نتمكن من جعل الكلام في الكشف في جزء واحد. هذا وقد كنت قرأت في بعض الجرائد أنَّ رجلاً دخل على أحد علماء الكهرباء وهو في عمله وبين يديه الآلات والبطاريات فحدث في الكهربائية تأثُّر بدخوله لم يبق في ذهني ما هو ذلك التأثر الذي شوهد في الآلات فقال العالم للرجل: أقبلْ فأقبل ثم قال له: أدبرْ فأدبر فكان التأثر بإقباله غير التأثر بإدباره؛ إذ كان أحدهما في الكهربائية الإيجابية والآخر في السلبية وكان لقربه أشد التأثير. فإذا صحت الرواية فلا بد أنْ يكون هذا الاكتشاف مفتاحًا لمعرفة أسرار كثيرة كسر الحب والبغض والتأثير في النفوس؛ فإن في كل أحد كهربائية ويظهر أنها في بعض الناس أقوى منها في بعض فلا عجب إن كان صاحب الكهربائية القوية يؤثر في صاحب الكهربائية الضعيفة وأن يكون لتوجيه الإرادة والهمة عملاً في قوة التأثير ولا مانع مِن أنْ يكون لاختلاف الكهربائية في الشخصين شأن في الحب والبغض فقد يبصر الإنسان الجمال البارع في شخص ويمقته بلا سبب ظاهر مع اعترافه بجماله وقد يعشق ولا جمال. ومن الناس أفراد يستثقلهم كل أحد وأفراد يحبهم كل مَن عرفهم ويعبّر الناس عن سبب الحب في هؤلاء بالجاذبية يقولون: فلان ذو جاذبية وفلانة ذات جاذبية ويصفونهم بخفة الروح وخفة الدم. ومن الناس من يهابهم كل من يجالسهم؛ وإنْ كان من أقرانهم ولعلَّ للكهربائية أثرًا في كل ذلك تُظهره الأيام ويكشفه العلماء. فأين حديث الخوارق الكونية من هذه العلل الطبيعية؟ ! ولا يهولنّ القارئ تأثير الإنسان في الآلات الكهربائية فقد ثبت أن للسنانير تأثيرًا عجيبًا فيها، تنبهوا إلى هذا حين ثبت أنَّ قطًا وقف على سلك من أسلاك المسرة (التليفون) فأبطل عمله. فإن قلت: إنه ما أثر فيه إلا باتصاله به فكيف يؤثر الإنسان في كهربائية لم يتصل بآلاتها؟ أقول: لا يبعد أن ينتقل التأثير بواسطة كهربائية الجو أو الهواء أو الأثير ونحن في عصر يتخاطب الناس فيه بالكهربائية من غير واسطة الأسلاك وهو ما يسمونه (تلغراف ماركوني) فهل يليق بأهل هذا العصر أن يقلّدوا الميتين من بضع مئين من السنين أو أكثر في مزاعم غريبة عن العقل غير قريبة من الشرع، ويقولوا مع ذلك إن عقولهم أرقى من عقولنا، وعلومهم أغزر من علومنا، كلا، إنما يرضى بهذا مَن احتقر نعمة الله على أهل عصره، وسجل الخِزْيَ والخَسار على نفسه، فأنكر كرامة الله له ليثبت كرامته لآخرين، وخسر بجهله الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة لما نشرنا تلك المحاورات بين المصلح والمقلد في بحث الاجتهاد والتقليد ووحدة الأمة الإسلامية في المجلدين الثالث والرابع من المنار كتب إلينا بعض الفضلاء من قراء المنار في البحرين يسألنا: هل اطَّلعتم على كتاب (إعلام الموقعين) للإمام ابن القيم؟ فأجبناه أننا لم نطّلع عليه ولكننا رأينا في بعض الكتب نقلاً عنه عرفنا به مكانته. فكتب إلينا ثانيًا أنَّ فيه مناظرة بين مقلد وصاحب دليل كالمناظرة التي نشرتموها وأننا سنرسل إليكم نسخة منه، ولم يلبث أن أرسلها وكانت مقالات المحاورات قد تمَّت. وقد رأينا الآن أنْ ننشر هذه المناظرة أيضًا لأن هذا المبحث أهم المباحث، والاجتهاد ركن من أركان الإصلاح بل هو أقوى أركانه. ولقد أورد المصنف شبه المقلد كلها سردًا ثم ذكر حجج متبع الدليل الناهضة والناقضة لأقوال المقلد وشبهة واحدة بعد واحدة ولذلك نترك شبهات المقلد خشية التكرار ونبتدئ بالحجج فنقول: قال المؤلف رحمه الله تعالى ونفعنا به: (قال أصحاب الحجة) عجبًا لكم معاشر المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم فما للمقلد وما للاستدلال وأين منصب المقلد من منصب المستدل وهل ذكرتم من الأدلة إلا ثيابًا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس وكنتم في ذلك متشبعين بما لم تُعطوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه، وذلك ثوب زور لبِستموه، ومنصب لستم من أهله غصبتموه، فأخبرونا هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه، وبرهان دلكم عليه، فنزلتم من الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل، أم سلكتم سبيله اتفاقًا وتخمينًا من غير دليل، وليس إلى خروجكم من أحد هذين القسمين سبيل، وأيُّهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم، ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة قلتم لنا لسنا من أهل هذه السبيل، وإنْ خاطبناكم بحكم التقليد فلا معنى لِما أقمتم من الدليل. والعجب أن كل طائفة من الطوائف وكل أمة من الأمم تدّعي أنها على حق حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدّعون ذلك ولو ادّعوه لكانوا مُبطلين فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه، وبرهان دلَّهم عليه، وإنما سبيلهم محض التقليد. والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل. وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم وقالوا نحن على مذاهبهم وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأَوْصُوهم إذا ظهر الدليل أنْ يتركوا أقوالهم ويتَّبعوه فخالفوهم في ذلك كله وقالوا نحن من أتباعهم، تلك أمانيُّهم وما أتباعهم إلا مَن سلك سبيلهم واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم. وأعجب من هذا أنهم مصرّحون في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه وأنه لا يحل القول به في دين الله ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته ومنهم مَن صحَّح التولية وأبطل الشرط. وكذلك المفتي يَحْرُم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس، والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده؛ إذ طريق ذلك مسدودة عليه. ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ويترك له كل ما خالفه من كتاب أو سنة أو قولِ صاحبٍ أو قولِ مَن هو أعلم من متبوعه أو نظيره وهذا من أعجب العجب. (وأيضًا) فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلاً منهم يقلده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئًا، ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في التابعين ولا تابعي التابعين فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما حدثت هذه الفتنة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وآله وسلم فالمقلدون لمتبوعيهم في جميع ما قالوه يبيحون به الفروج والدماء والأموال ويحرمونها، ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه مَن قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء. (وأيضًا) فنقول لكل من قلد واحدًا من الناس دون غيره: ما الذى خص صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره؟ فإن قال: لأنه أعلم أهل عصره. وربما فضَّله على مَنْ قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجئ بعده أعلم منه. قيل له: وما يدريك - ولست مِن أهل العلم بشهادتك على نفسك - أنه أعلم الأمة في وقته فإن هذا إنما يعرفه مَن عرف المذاهب وأدلتها وراجحها ومرجوحها، فما للأعمى ونقد الدراهم! وهذا أيضًا باب آخر من القول على الله بلا علم. ويقال له (ثانيًا) فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن مسعود وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أعلم من صاحبك بلا شك فهلاّ قلدتهم وتركته بل سعيد بن المسيب والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك فلِمَ تركت تقليد الأعلم والأفضل والأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى مَن هو دونه فإنْ قال: لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني فتقليدي له أوجب على مخالفة قوله لقول من قلدته؛ لأن وفور علمه ودينه يمنعه من مخالفة مَن هو فوقه وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى مِن قول كل واحد من هؤلاء، قيل له: ومِن أين علمت أنَّ الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من الدليل الذي صار إليه مَن هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره، وقولان معًا متناقضان لا يكونان صوابًا بل أحدهما هو الصواب ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل بالصواب أقرب مِن ظفر مَن هو دونه، فإن قلت: علمت ذلك بالدليل فههنا إذًا فقد انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال وأبطلت التقليد. ثم يقال لك (ثالثًا) هذا لا ينفك شيئًا ألبتة فيما اختلف فيه فإنَّ مَن قلّدته ومَن قلَّده غيرك قد اختلفا وصار مَن قلده غيرك إلى موافقة لأبي بكر وعمر أو علي وابن عباس أو عائشة وغيرهم دون مَن قلدته فهلاّ نصحت نفسك وهُدِيتَ لرشدك وقلت: هذان عالمان كبيران ومع أحدهما مَن ذكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه. ويقال له (رابعًا) إمام بإمام ويسلم قول الصحابي فيكون أولى بالتقليد. ويقال (خامسًا) إذا جاز أن يظفر مَن قلدته بعلم خَفِيَ على عمر بن الخطاب وعلى علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ودونهم فأحق وأحق فأجوز وأجوز أن يظفر نظيره ومَن بعده بعلم خُفِيَ عليه هو فإن النسبة بين مَن قلّدته وبين نظيره ومَن بعده أقرب بكثير مِن النسبة بين مَن قلّدته وبين الصحابة. والخفاء على مَن قلّدته أقرب من الخفاء على الصحابة. ويقال (سادسًا) إذا سوغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم بقول المفضول فهلاّ سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا عكس ما ارتكبت؟ ! ويقال (سابعًا) هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر الله أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد من الصحابة؟ فإن قال: نعم، قال: ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانه وإن قال: لا، فقد كفانا مؤنته وشَهِدَ على نفسه بشهادة الله ورسوله وأهل العلم عليه. ويقال (ثامنًا) تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده فإنه نهاك عن ذلك وقال لا يحل لك أنْ تقول بقوله حتى تعلم مِن أين قاله ونهاك عن تقليده وتقليد غيره مِن العلماء فإن كنت مقلدًا له في جميع مذهبه فهذا مِن مذهبه فهلاّ اتبعته فيه؟ ! ويقال (تاسعًا) هل أنت على بصيرة في أنَّ مَن قلدته أولى بالصواب من سائر مَن رغبت عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة؟ فإن قال: أنا على بصيرة، قال ما يعلم بطلانه. وإنْ قال: لست على بصيرة وهو الحق قيل له: فما عذرك غدًا بين يدي الله حين لا ينفعك مَن قلّدته بحسنة واحدة ولا يحمل عنك سيئة واحدة إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه هل هو صواب أم خطأ؟ ويقال (حادي عشر) هل تقول إذا أفتيت وحكمت بقول مَن قلّدته: إنَّ هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشرعه لعباده ولا دين له سواه؟ أو تقول: إنَّ دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ ولا بد لك مِن قولٍ مِن هذه الأقوال ولا سبيل لك إلى الأول قطعًا فإنَّ دين الله الذي لا دين له سواه ولا تسوغ مخالفته [1] وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين والثاني لا تدعيه فليس لك ملجأ إلا الثالث. فيالله العجب كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمر أحسن أحواله وأفضلها (لا أدري) : فإنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ ... وإنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيبَةُ أَعْظَمُ ويقال (ثاني عشر) على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع وليتكم اقتصرتم على ذلك بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع؟ أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى أو على ضلالة؟ فلابد من أن تقرّوا بأنهم كانوا على هدى فيقال لكم فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن والسنن والآثار وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة على ما يخالفها والتحاكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان؟ وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنَّى تؤفكون؟ فإن قالت كل فرقة من المقلدين وكذلك يقولون: صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف واقتفى منهاجهم وسلك سبيلهم، قيل لهم: فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد صاحبكم بالاتباع، وحُرِمَهُ مَن عداه فلا بد من واحد من الأمرين؟ فإن قالوا بالثاني فهم أضل سبيلاً من الأنعام وإن قالوا بالأول فيقال: فكيف وقفتم لقبول قول صاحبكم كله ورد قول مَن هو مثله أو أعلم منه كله فلا يرد لهذا قول ولا يقبل لهذا قول حتى كأن الصواب وقف على صاحبكم والخطأ وقف على مَن خالفه ولهذا أنتم موكلون بنصرته في كل ما قاله وبالرد على ما خالفه في كل قاله وهذه حال الفرقة الأخرى معكم. ويقال (ثالث عشر) فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم، فأنتم أول مخالف لهم، قال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب، وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري! وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه؟ وقال أحمد: لا تقلد دينك أحدًا. ويقال (رابع عشر) هل أنتم موقنون بأنكم غدًا موقوفون بين يدي الله وتُسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبشارهم وأموالهم وعما أفنيتم به في دينه محرّمين ومحللين وموجبين؟ فمَن قولهم نحن موقنون بذلك. فيقال لهم: فإذا سألكم من أين قلتم ذلك فماذا جوابكم؟ فإن قلتم جوابنا أنا حلّلنا وحرّمنا وقضينا بما في كتاب الأصل لمحمد بن الحسن مما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من رأي واختيار، وبما في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأي واختيار، وبما في الأم من رواية الربيع من رأي واختيار، وبما في جوابات غير هؤلاء من رأي واختيار، وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سَمَت همتُكم نحوه، بل نزلتم عن ذلك طبقات، فإذا سُئلتم: هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسو

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة خطبة الجمعة بالأعجمية (س1) الشيخ عبد الحق الأعظمي خطيب المسجد ذي المنارات في بمبي (الهند) : هل يجوز العدول عن تلاوة خطبة الجمعة باللسان العربي إلى لسان البلد التي تقام فيه الجمعة حتى ينتفع بها العموم ويحصل منها الإرشاد المطلوب فإن بتلاوتها بالعربية على أعاجم لا يعرفون هذه اللغة فوات لفائدتها وهو إيصال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أفهامهم وتمكين آثار الوعظ في قلوبهم وإنني في كل أسبوع أنشئ خطبة وألقيها يوم الجمعة على مئات من المسلمين وبعد الجمعة أسأل المتعلمين منهم الذين مارسوا اللغة العربية هل فهمتم ما تلوته على المنبر فيقولون لم نفهم إلا كُليمات قليلة لأننا وإن كنا قرأنا قوانين اللغة العربية وعلومها إلا أننا لا نفهم ما يُقرأ علينا بها اللهم إلا إذا نحن قرأناه وتأملناه مليًا. فآسف على تعبي في إنشاء الخطبة فأردت أن أخطب فيهم بلغتهم الأُوردية مع ذكر أركان الخطبة بالعربية فهل ورد في السنة وآثار السلف ما يمنع من ذلك ويحتم أداءها كلها بالعربية وإن لم يفهمها حاضرو الجمعة كلهم أو جلهم، وبماذا كان يخطب الصدر الأول في بلاد الأعاجم التي افتتحوها؟ (ج) قد بينا غير مرة أن معرفة اللغة العربية واجبة على كل مسلم؛ لأن فهم الدين وإقامة شعائره وأداء فرائضه كل ذلك موقوف على فهم هذه اللغة ولا تصح إلا بها وخطبة الجمعة من أقلها تأكيدًا وثبوتًا وإن كانت من أكبر الشعائر فائدة، وقد كان الذين يدخلون في الإسلام من الأعاجم على عهد الصدر الأول يبادرون إلى تعلم اللغة العربية لأجل فهم القرآن والسنة والارتباط بصلة اللغة التي لا تتحقق وحدة الأمة بدونها وكان الصحابة يخطبون الناس باللغة العربية في كل بلاد يفتتحونها وما كان يمر الزمن الطويل على بلاد يدخلونها إلا وتتحول لغتها إلى لغتهم في زمن قصير بتأثير روح الإسلام، لا بالترغيب الدنيوي ولا بقوة الإلزام، ولو كانوا يرون إقرار مَن يدخل في دينهم من الأمم الأعجمية على لغاتهم لَبادروا هم إلى تعلم لغات تلك الأمم وأقاموا لهم فرائض الدين وعباداته بها وبقي الروماني رومانيًّا والفارسي فارسيًّا وهلمّ جرًّا. وإن التفريق الذي نراه اليوم في المسلمين باختلاف اللغات هو من سيئات السياسة ومفاسدها الكبرى وإذا لم ترجع الدولتان العثمانية والإيرانية إلى السعي في تعميم اللغة العربية في مملكتيهما فسيأتي يوم تندمان فيه وإننا لا نعتد بإصلاح في الهند ولا بغيرها من بلاد المسلمين ما لم يجعل ركن التعليم الأول تعلم العربية وجعلها لغة العلم. لا يصعب عليك أن تجد عند الحنفية وجهًا لجواز الخطبة بلغة من تخطبهم لأجل حصول المقصود من الخطبة كما جوزوا كون القاضي والمفتي من المقلدين خلافًا لنصوص المذهب بل المذاهب كلها في اشتراط كونهما مجتهدين وكما جوزوا كون القاضي جاهلاً وفاسقًا وكما جوزوا صلاة الجمعة في الأمصار التي ليس فيها حاكم ينفذ الأحكام الشرعية وكما جوزوا إمامة مَن ليس مستوفيًا لشروط الإمامة، وغير ذلك من الأحكام التي جوزوها للضرورة، وليس معنى جواز الشيء للضرورة أن يُترك الأصل ويرضى الناس بالضرورة إلى أبد الأبيد وإنما معناه أن يأخذوا بالاستعداد لإقامة الحق والرجوع إلى الأصل مع الإتيان بالشيء ناقصًا وذلك بأن يترخصوا بترك بعض الشروط فيه مع الجد في تحصيلها إلى أن تتم الشروط ويستقر كل شيء في نصابه وإلا كان لنا أن نترك الدين كله أو نحوله عن وجهه تعللاً للضرورات التي تتحكم فيها الأهواء كما تشاء. قلت: إن خطبة الجمعة أهون من غيرها لأنها غير مجمع على وجوبها فإن من السلف من قال إنها مندوبة كخطبة العيد فإذا أقيمت أركانها الأصلية بالعربية وزِيد فيها شيء من الوعظ بلغة أخرى للحاجة لا يخل ذلك بصحة الصلاة ولا بصحة الخطبة ولكنه يدخل في الشعائر الإسلامية تشويهًا يخشى أن يصير مستمرًّا. وليست المصيبة في عدم فهم الخطبة أقوى من المصيبة في عدم فهم الفاتحة وغيرها من السور والآيات التي تقرأ في الصلاة، اللهم اجزِ مَن نصروا لغاتهم على لغة كتابك حتى حالوا بينه وبين عبادك - بما يستحقون؛ فقد صارت صلاة المسلمين تقليدية محضة لا روح فيها كصلاة كثير من أهل الملل الأخرى. ويسهل على السائل أن يترجم خطبه النافعة بلغة القوم ويقرأ عليهم الترجمة بعد الصلاة لينتفعوا بها ويتحسروا لعدم فهمهم أصلها العربي في إقامة الشعار الديني لعلهم يرجعون. والسائل يعلم أن المسلمين ما زالوا يخطبون بالعربية في جميع بلاد الأعاجم لملاحظتهم ما قلناه، لم يختلف في هذا سني ولا شيعي. وقد عد بعض الحنفية الضرورة التي تجيز العدول عدم وجود خطيب يحسن العربية حتى يوجد وقالوا لا بد من السعي في إيجاده. قال شارح الإحياء: (وهل يشترط كون الخطبة كلها بالعربية وجهان، الصحيح اشتراطه فإن لم يكن فيهم من يحسن العربية خطب بغيرها ويجب عليهم التعليم وإلا عَصوا ولا جمعة لهم) : يعني أن الضرورة لا يجوز أن تجعل مستمرة بل يجب السعي في إزالتها. ونحن نقول يجب عليهم تعلم العربية ليفهموا الخطبة وما هو أهم من الخطبة كالفاتحة وسائر الأذكار والسور، فإن لم يفعلوا كانوا عاصين ولا صلاة لهم ولا قراءة لهم وإنما لهم الصور التي لا تؤثر في القلب ولا تزكي النفس، وما كان كذلك فلا تأثير له في سعادة الآخرة ولا في سعادة الدنيا والله أعلم. * * * حد اللواطة (س2) ومنه: ما الحكمة في أن الشارع لم ينص على حد اللواط مع منافاته لأصل الطبيعة وفظاعته عند سائر الأمم من قديم الأزمان وأنه يُحدث أمراضًا خطرة حسية ومعنوية فيضعف النفوس ويحط الهمم ويهدم مستقبل صاحبه ويسمه بميسم الذل والشنار؟ ! وما باله يفشو في هذا الزمان في كثير من البلدان مع انتشار العلم وكثرة الكتب وتقدم فن الطب واستنارة الأفكار حتى لقد كاد أن يكون منبعه في منابع العلم كالمدارس وفُشوّه بين أرقى الطبقات كأولاد الأغنياء وبين المنقطعين للعبادة المتزهدين المتنسكين كسكنة التكايا والأديار وغيرها؟ ! (ج) ليست الشريعة محصورة في جلود كتب الحنفية فقد ورد في اللواط من التشديد والعقوبة في السنة نحو ما ورد في الزنا وورد فيه عن الصحابة القتل والرجم والإحراق بالنار. أما الوارد في القرآن فالمجمل منه يشمل الفاحشتين والتفصيل جاء في الزنا ومن العلماء مَن قال إنه يشمل اللواط أما كون المجمل ورادًا في الفريقين، فهو أنه تعالى قال أولاً: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنّ} (النساء: 15) الآية ثم قال: {وَالَّلذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} (النساء: 16) الآية، فتثنية (الذي) لا يجوز أن يراد بها الرجلان اللذان يزنيان لأنها تكون لغوًا فتعين أن يراد بها فاعِلا اللواط أو الزاني واللائط كما قال مجاهد وأبو مسلم وغيرهما وبه أخذ الشافعي. وهذا الإيذاء مُجْمَل بَيَّنَتْه السُّنَّة. قال عليه الصلاة والسلام: (من وجدتموه يعمل بعمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول) ورواه أحمد وأصحاب السنن والدارَقُطني والحاكم والبيهقي والضياء عن ابن عباس. وفي رواية لأحمد عنه: (اقتلوا الفاعل والمفعول به في عمل قوم لوط والبهيمة والواقع على البهيمة ومن وقع على ذات محرم فاقتلوه) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (ارجموا الأعلى والأسفل، ارجموهما جميعًا) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة. وقال صلى الله عليه وسلم: (من عَمِلَ بعَمَلِ قوم لوط فارجموا الفاعل والمفعول به) الحاكم عن أبي هريرة وروى مثل ذلك عنه الخرائطي في مساوي الأخلاق وابن جرير. هذا بعض ما ورد في الأخبار وأما الآثار فقد روى الشافعي وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور في سننه وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي عن يزيد بن قيس أن عليًّا رجم لوطيًّا. وروى ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن بشران والبيهقي عن محمد بن المنكدر أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق أنه وُجِدَ رجل في بعض ضواحي بلاد العرب يُنْكَحُ كما تُنكح المرأة وأن أبا بكر جمع لذلك ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم علي بن أبي طالب أشدهم يومئذ قولاً، فقال: إنَّ هذا ذنب لم تعمل به أمة من الأمم إلا أمة واحدة فصُنِعَ بها ما قد علمتم أرى أن تحرقوه بالنار، فكتب إليه أبو بكر أن يُحرق بالنار، وروى الطبراني عن سالم بن عبد الله وأبان بن عثمان وزيد بن حسن أن عثمان بن عفان أُتي برجل قد فجر بغلام من قريش فقال عثمان: أُحْصِن؟ قالوا: قد تزوج بامرأة ولم يدخل بها بعد فقال علي لعثمان: لو دخل بها لحل عليه الرجم فأما إذا لم يدخل بها فاجلدْه الحد. فقال أبو أيوب: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الذي ذكر أبو الحسن. فأمر به عثمان فجُلد. وهذا الأثر أقوى من الذي قبله. وأما أقوال السلف والفقهاء في ذلك فقد جاء في (الزواجر) من ذلك ما نصه: قال البغوي: اختلف أهل العلم في حد اللوطي فذهب قوم إلى أن حد الفاعل حد الزنا إن كان محصنًا يُرجم وإن لم يكن محصنًا يُجلَد مائة وهو قول ابن المسيب وعطاء والحسن وقتادة والنخعي وبه قال الثوري والأوزاعي وهو أظهر قولي الشافعي ويحكى أيضًا عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وعلى المفعول به - عند الشافعي على هذا القول - جلد مائة وتغريب عام رجلاً كان أو امرأة، محصنًا كان أو غير محصن. وذهب قوم إلى أن اللوطي يرجم ولو غير محصن رواه سعيد بن جبير ومجاهد عن ابن عباس وروي عن الشعبي وبه قال الزُّهْري وهو قول مالك وأحمد وإسحاق. وروى حماد بن إبراهيم عن إبراهيم - يعني النخعي - قال: لو كان أحد يستقيم أن يرجم مرتين لرُجم اللوطي. والقول الآخر للشافعي إنه يُقتل الفاعل والمفعول به كما جاء في الحديث اهـ. ثم قال صاحب (الزواجر) : (قال الحافظ المنذري: حَرَقَ اللوطية بالنار أربعة من الخلفاء: أبو بكر وعلي وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وهشام بن عبد الملك) ، ثم ذكر ما كتبه خالد إلى أبي بكر وقد تقدم آنفًا. أما ما ورد في وعيد فاعل هذه الفاحشة فكثيروقد شنَّع ابن حجر على مَن يأتيها من المترفين، ولعنهم كما يلعنهم جميع المؤمنين، وقد وصفوا من شناعة هذه الجريمة ولكنهم لم يذكروا أعظم مضرة لها وأقبح غائلة من غوائلها، وهي إفساد البيوت فقلما يوجد بيت للوطي طاهر من الفسق وإنما يعم الفسق كباره وصغاره ونساءه وأطفاله. ومع هذا كله نرى أناسًا في هذه المدينة يزنون بالهنات، ويغلبون حب البنين على البنات، وهم يصفون أنفسهم بأنهم من الأدباء والشعراء وتستخدمهم الحكومة ويحترمهم سائر الناس، فَتَبًّا لهذه الأخلاق، ولهؤلاء الجبناء الذين ليس لهم خلاق! وأما سبب فشو هذه الفاحشة فيمن ذكرتم فسببه الترف واتباع خطوات مدنية أوربا في التمتع بالشهوات واللذات وأما فشوه في المدارس ونحوها فسببه بُعد الرجال هناك عن النساء وتعذُّر الإفضاء إليهن. وليس لهذه المفسدة وأمثالها علاج إلا التربية الدينية الصحيحة وكماله بإقامة الحدود. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. * * * التأمين على المال (س3) ومنه: كيف يُجري المسلم عقد السكرتاه (التأمين على المال وغيره) مع الذمي على غير أساس شرعي وكيف يستحل ماله فهل يمكن استخراج أصل شرعي يستأنس به؟ (ج) قد سألنا هذا السؤالَ كثيرون من أهل مص

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع حب الزينة وحب التميز لست من محبي الأمور الفانية، ولا المغرورين بها ولكني أحب ذلك السر الرباني الذي به نعلم خواص هذه الأمور مفردة ومركبة. وبه نتصرف فيها على أمثلة لا يعي مجموعها عقل واحد. وإنكم لتعلمون أن ذلك السر الرباني الذي أُودِعناه من أعظم خواصه محبة الجميل. وحرام على من لم يروا ببصائرهم شيئًا من أسرار الصنعة الإلهية أن يخوضوا في علم الأخلاق وعلم شرائع الاجتماع. احفظ لي أيها القارئ هذا الكلام لعلك تتذكر وتتدبر إذا فاجأتك منّي مخالفةٌ لبعض كتّاب هذا العلم. لحياة الإنسان لوازم هُنَّ حاجاته الضرورية، والحيوانات تشاركه بنظائرها. وتوابع هنَّ حاجاته الكمالية. وليس للحيوانات حظ بأشباهها. ويمكننا باعتبار الأولى والثانية أن نقسّم حياته الواحدة إلى قسمين: حياته الجنسية. وحياته النوعية. الحياة الجنسية يمكن حصر ما به قوامها. فالغذاء قد يكون من الأعشاب كدأب آكلة النبات من الأنعام وغيرها. وليس هذا مبنيًا علي خيال شعري يعظمه الزهد فيما تقبله طبيعة الإنسان؛ بل هو مجرّب محسوس أثبته لنا بالفعل قوم أوحى إليهم الوهمُ ما أوحى من نبذ ما خلقه الله للبشر. والإواء قد يكون حجرًا كأوجار الوحوش. وقد أتاح الله لنا أن نشاهد بالذات معيشة بني هذا النوع في الغيران؛ ولا أعني بالذين شاهدناهم قومًا من إخوان الوحوش في السيرة والطباع والانقطاع عن الإنس؛ بل هم فئات من زراع هذه البلاد أولو ثاغية وراغية وأولو حرث في بلاد ذات زرع وحب الحصيد. والكساء قد يُستغنى عنه وقد يكون من جلود الصيد أو الأنعام. ولدينا قبيلة يقال لهم (الصُّلَيب) لم نشاهد من أكسيتهم غير جلود الآرام التي جُلّ غذائهم من لحومها. والوقاع لا يحتاج منه إلى أكثر مما في طبيعة النوع من تراضي أنثى وفحل وانجذابهما لهذا الأمر بسائق ما في الفطرة. وبهذا القدر الذي مثلنا به تُحْفَظُ الأشخاص ويبقى النوع كما حفظت أشخاص السوارح العجماوات وأنواعها. قلنا: إن هذا القدر يمثل لنا الحياة التي يمكن أن يعيش بها الإنسان ويتناسل. وهل يمكننا أن نقول يوجد شيء يميز الإنسان عن باقي الحيوان في هذا المثال من الحياة؟ قد كان يمكننا أن ندعي وجود مميز لو كان له مع هذه الحياة أفكار عالية. وهيهات فقد أنبأنا التاريخ أن الإنسان كان معدمًا من الأفكار العالية يوم كان يعيش مثل هذه المعيشة وكذلك بلونا الذين يحيون هذه الحياة في يومنا فلم نجد لديهم فضل إدراك ينيفون به على الغابرين. بلى، إن وعد الله حق وإن الإنسان بمجموعه ارتقى ولكن كان ذلك منذ طفق الاستعداد النوعي تنجلي مظاهره، وتتجلى مناظره، ولن يبرح في رقيه ما دامت الغبراء في إزاء الزرقاء، تتجلى عليها شمسها وتؤتيها من لدنها نظامًا. عرَّفنا لكم الحياة الجنسية بالتمثيل وبه أوضحنا قولنا إنه يمكن حصر ما به قوامها. أما الحياة النوعية فمن الصعب جعل حد لما يتعلق بها كما كان من الصعب تحديد الأوهام والأفكار التي هي تابعة لها. ولكن يمكن أن نقول إن أكثر الأشياء التي هي من فروع الحياة النوعية تابعة لناموسين عظيمين من طبيعة النفس الإنسانية هما: (1) حب الزينة و (2) حب التميز. ونتكلم فيهما على الإفراد لشدة العلاقة بينهما. (حب الزينة) نأخذ من التمهيد المقدم كلمة نقولها هنا: لو كان الإنسان هو الآكل المواقع لكان من السهل في معرفة ما هو أن نقول: هو آلة من جملة هذه الآلات الكونية المتحركة بأصل صنعتها ولكن هنا فصول وقيود كثيرة زائدة على هذين الوصفين لا نريد الآن ذكرها كلها؛ بل ذكر واحد منها وهو كونه (محبًا للجميل) فهذا القيد وحده يمنعنا أن نقول في تعريفه ذلك الكلام ويجعلنا نتفكر وسعنا في خصائص هذا المخلوق الكريم المصنوع لأمر عظيم. من تأمّل في الإنسان وجد العوالم محشورة في ذرّات صغيرة من مواقع إدراكه، ووجده حاكمًا فيها بأحكام كثيرة وإن لم تنلها يده؛ بعض تلك الأحكام له نسب بالحقيقة متصل، وبعضها له سبب إلى طائف الوهم ممدود. أما الذي يتعلق بالوظائف الطبيعية لحياته الفكرية من تلك الأشياء المتكثرة فهو تقسيمه المحسوسات والمتخيلات إلى قسمين: مستحسن محبوب، ومستقبح مكروه. ما هو الحسَن، ما هو الزَّيِّن، ما هو الجميل؟ الحسن والزين والجميل كالحُسن والزينة والجمال، ألفاظ متعددة تدل على معنى واحد عند رواد لب البيان. وعلى معانٍ متقاربة عند رواد القشور. وتعدد الألفاظ مع توحد المعنى (وهو الذي يسمونه الترادف) لا عيب فيه على لغة؛ لأنه كتعدد الحُلل لكاسية واحدة. ولكن بعض المتورعين في حفظ الدلالات اللغوية من طوارق النسيان يجتهدون أن لا يثبتوا الترادف بادعاء معان متقاربة أو فروق لا تكاد تذكر في مثل هذه المترادفات ولا نعيب فعلهم هذا فإن له فوائد؛ ولكن نسألهم أن لا يعيبوا قولنا بترادف هذه الكلمات التي رُمنا بتعديدها تفسير بعضها ببعض وبيان ترادف ما اشتقت منه ليتم من قولنا (حب الزينة) إعلام بحب الجمال الطبيعي كالصناعي، وقد حملنا على هذه الإيضاحات ما نعلمه من تفريق الاصطلاح وأهله بين هذه المتحدات تفريقًا أفضى إلى تشتيت الفهوم. وهنا أستغفر من هذا الاستطراد الطويل وإنْ أوجبه المقام. نعود إلى معرفة حقيقة الحسن الزين الجميل ثم نسأل نفسنا وغيرنا: ما هو الحَسَنُ؟ ما هو الحُسْنُ؟ ما هو الاستحسان؟ ما هو حب المستحسن؟ لماذا نستحسن؟ لماذا نحب الحسن؟ لماذا نختلف بالاستحسان؟ ما هو عشق المستحسنات الذي يميل بكلٍّ نحو مستحسن فيغرم به؟ هذه مسائل تخطر في بال كثيرين ولكن قلَّ أن تجد في حجرات السرائر مقرًا تقيم فيه برهة طويلة، أستدل على ذلك بعدم ثبات إراداتها معشر بني النوع؛ اللهم إلا قليلاً من أحكام الحكماء الذي تزكت أرواحهم فكانوا بالأسرار من العارفين، ولا جُناح عليَّ أن أعترف بأني لا أملك تلك المَلَكَة التي بها يتيسر الجواب عن كل مسألة من هذه المشروحات ولكني أظن أن هذا لا يكون مانعًا من عرض ما استفاده الفكر من ملاحظاته في عالمَيْ الشهادة والغيب. فأشد ما ساح في هذين العالَمين في سبيل اكتشاف هاتيك الشؤون. (1) ما هو الحسن؟ نجيب عن السؤال الأول جوابًا يفتح كل مغلق أمامه من المسائل فنقول: الحسن إن كان محسوسًا فهو ما يفي بالحاجات ويزيد عليها أمورًا تنبسط النفس بمرآها لمناسبة ما خُفِيَّةٍ تَنْقدِح في النفس ويظهر للقارئ أن هذه المناسبة ببقائها خفية بقي الكثير من أسرار الاستحسان في المحسوسات غامضًا وستأتي زيادة بيان، وإن كان الحسن غير محسوس فهل هو ما يستحسنه كل عقل لنفسه؟ كلا، بل هو ما تتفق العقول السليمة كلها أو جُلها على استحسانه ويجب أن نصرّح هنا بأنه لا عبرة بكثرة الذين يستحسنون الشيء تقليدًا بل العبرة بكثرة الحكماء الذين يستحسنون الشيء عن طول تفكر. وإذا وجدناهم مختلفين في شيء وفي جانب كل حزب كثرة؛ فإن لأصحاب العقول من أهل الزمان الذي هم فيه أن يتفكروا كما يتفكرون، ولهم أن يصرّحوا باستحسان ما استحسنوه فليس ثمّة أغلال للأفكار. ويختلج في الأذهان أن حرية الاستحسان في غير المحسوسات توجب انفراجًا واسعًا بين الأفراد. وإنه ليكاد هذا الظن أن يكون صوابًا لولا سببان عظيمان: أحدهما: أن توسع حاجة النوع إلى الاجتماع وتوسع حاجاته في الاجتماع قد ضَيَّقا بالتدريج ذلك الانفراج من قبل أن يتسع اتساعًا عظيمًا؛ إذ كما تتسع أشياء من الضيق تضيق أشياء من السعة. الثاني: أن العلم الذي رزقه مجموع النوع قد قارب بين الأفكار بأنواع خاصة سيجيء بيانُها. وبهذا التقارب صار الأفراد الذي لا يُحصَوْن جماعات تحصى، ومن المشاهد أن لكل جماعة مستحسنات عامة لا يستنكرها الأفراد وإن لم تكن حسنة في الحقيقة؛ لأنهم مقلدون. وأكثر هؤلاء الجماعات يذهبون إلى أن الحسن ما حسنته مذاهبهم الدينية على أنه مهما بالغ المبالغون في حبس حرية الأفكار فلا يسعهم مناقشة الناس إذا بدا لهم ضد ما حسنته المذاهب؛ بل يضطرون إلى المجاملة بضروب من الاصطلاحات معروفة لمن مرَّ بتلك الأبواب. وبمثل هذا كانت ولا تزال تحصل التغيرات في العالم، ويجب أن لا نكتم أن حكماء الناس هم حكماء الأفكار؛ ولكن قد تصير فترات تضيع فيها الحكمة ويقوم أناس ينتحلون لأنفسهم هذه الوظيفة بصبغة أخرى فيحيون ضالين مضلين. وفي هذه الأيام يصير غير الحسن حسنًا. يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسنِ هذا، والمقام يحتاج إلى فضل بيان ولكننا أجملناه إجمالاً فمَن لم يسع ما في باطنه كفاه ظاهره الواضح. وسواء كان المستحسن مستحسن جماعة أو مستحسن فرد من محسوس أو متخيل لا يمكننا تعليل وجه الاستحسان في كل شيء؛ ولكن نعلم أن العلة العامة في استحسان الأشياء هي مناسبة تنقدح في النفوس. ونعلم أن استحسان كل شيء علة محبته، والاهتمام به على مقدار درجة المحبة (إذ لها درجات) . ونعلم أن هذه الاستحسانات من حيث هي طبيعية في النوع. ونعلم أنها هي التي أوصلت مصانع الإنسان إلى هذه الصورة الباهرة الساحرة ونعلم أن هذه المصانع من المميزات العظمى لهذا النوع. ونعلم أن الإنسان سيتسامى رقيُّه مادام يستحسن ويسعى وراء ما يستحسنه باهتمام يسوق، وأمل يقود، وعزم يعين. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

شكوى الأمهات من تربية البنات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شكوى الأمهات من تربية البنات لما نشر (المُقَطَّم) شكوى نساء الإنكليز من تربية بناتهن في هذا العصر طلب أن يعرف رأي الأمهات في بناتهن في مصر فكتب إليه من بعضهن الشكوى في إثر الشكوى من سوء حال تربية البنات المتعلمات وكونهن لا يحفلن بغير اللهو والزينة والعزف بالبيانو ونحو ذلك من التُّرَّهَات، ولم تصادف هذه الشكوى أقل اهتمام من البنات ولا دفاع عن أنفسهن، وقد توالى الحث عليهن من المقطم وكثر الترغيب حتى جاءه رسالتان من بلدين قال أنه لم يرد منهما شكاوى من الأمهات، إحداهما بإمضاء (ابنة قبطية) والثانية بإمضاء (ابنة شاكرة) وفحوى الرسالتين واحد وهو أن الذنب في كل ما تشكو منه الأمهات عليهن وعلى الآباء في عدم العناية بتربية البنات والاعتراف بأن التعليم لا يغني عن التربية شيئًا وإن كان في نفسه نافعًا. ولا يزال المقطم يثير كوامن الرغبات، ويحرك سواكن همم البنات، ونظن أنه إذا نُثلت الكمائن، وبُعثرت الدفائن، وفار فى الجدل التنّور، وحُصِّلَ ما في الصدور؛ فإنه لا يكتب في الجرائد شيء يخرج عن معنى ما كتب إلا أن تفتخر بنت بأنها أصلحت من بيت أبيها ما كان فاسدًا، ونظمت ما كان مختلاً! أو تفتخر أم بأن بنتها كذلك! وسواء كتب هذا أو بقي الفريقان متفقين على سوء تربية البنات، وعلى كون الذنب في ذلك على الآباء والأمهات، فإن الحقيقة في مجموع الشعب المصري لا تظهر بمثل هذه الرسائل لا سيّما مع الظن الراجح بأن أكثر صواحبها من السوريات ثم من القبط، والسوريات لهن أخلاق وراثية وعادات تقليدية ليست للمصريات وإن كانت هجرتهن إلى مصر من زمن بعيد وتربى بناتهن في مصر وتعلمن فيها، وأما نساء القبط وبناتهن فيشاركن المسلمات المصريات في بعض الشؤون ويفارقهن في بعضها ومسافة الخُلْف في المتعلمات من الطائفتين أوسع فإن القبطيات المتعلمات يمزقن الحجاب ويحضرن مجالس الرجال في زينتهن كنساء الإفرنج بلا فرق، فلا بد أن يكون لذلك أثر في سيرتهن لا يُعرف في المسلمات اللواتي هن أكثر أهل البلاد. ويوجد سبب آخر للخلف حتى في بنات الطائفة الواحدة وهو اختلاف معاهد التعليم فإن من البنات المتعلمات مَن تعلمت في مدارس الحكومة ومنهن من تعلمت في مدارس الجِزْوِيت أو الفِرِير ومنهن من تعلمت في مدارس البروتستانت الأمريكان أو غيرهم ومنهن من تعلمت في المدارس الأهلية الإسلامية أو القبطية. ولكل نوع من هذه المدارس تأثير خاص في نفوس من يتعلم فيها يحدث خلفًا كبيرًا في الأخلاق والعادات والرغبات. انظر إلى هذه الفصول بين طبقات الأمة المصرية هل تجد مثلها في إنكلترا التي يحاولون في هذا المقام أن يسلكوا طريقها في اختبار حال البيوت ومعرفة تأثير التربية في البنات. الأمة هنالك واحدة، وللمدارس طريقة واحدة وللتربية العامة نظام واحد، فإذا شكا بعض النساء الإنكليز من تربية بناتهن فلك أن تعتبر شكواهن ميزانًا للتربية في الأمة وأن تقول إن ما يصدق على هؤلاء يصدق على مَن في طبقتهن فإذا رأيت الشكوى من جميع الطبقات فلك أن تحكم على الأمة في مجموعها بما تضمنته الشكوى؛ حتى إذا استثني بعض الأفراد كان ذلك لأسباب خاصة فإن القواعد الاجتماعية لا تستغرق جميع أفراد الأمم والشذوذ فيها مطَّرد. إذا سألنا عن حال البنات المتعلمات في البيوت هل هُنَّ قرة عين لأمهاتهن أم لا، فلا بد لنا من معرفة الجواب عن ذلك من الرجال المتعلمين المختبرين، والذي يقرب من النظر ويؤيده الخبر أنَّ تعلّم البنات في مصر سطحي كما يقولون وأنه عندهن ضرب من ضروب الزينة فهو في الغالب يشغلهن عن مساعدة أمهاتهن على تدبير المنزل وخدمة البيت ومنهن مَن يعتقد أنهن أرفع منزلة من ذلك. أما حال الأمهات معهن فيختلف باختلاف الطبقات، فالبيوت الغنية يرضى الأمهات فيها أن يرين بناتهن مشغولات بالزينة في جميع الأوقات وأن يكنَّ ممتازات بمعرفة ما لا يعرفه سائر البنات: من إتقان اللغات الأجنبية وإحسان العزف بالبيانو والتفنن في بدع الزينة ويعتقدن أن هذه المزايا هي المُرَغِّبَات الكبرى لمريدي الزواج، والأسباب الصحيحة للمسرّة والابتهاج! وأما البيوت التي يحتاج فيها لمساعدة البنات، والتي يعسر على أصحابها موافاة رغباتهن الجديدة التي أحدثها التعليم الجديد فلا شك أن الأمهات فيها يتبرَّمن من تقصير البنات في مساعدتهن على تدبير المنزل وتربية الأطفال ولكنهن يكتمن ذلك في الغالب ولا يبدينه إلا لمن يسهل عليهن إِطْلاعَهُ على عوراتهن، ووقوفه على مساويهن. اعتذر بعض الرجال عن البنات بمثل ما اعتذر به الكاتبتان صاحبتا الرسالتين في المقطم بأن الذنب على الوالدين لا على البنات، فإنهما يعلمان بناتهما إلا أنهما لا يربيانهن. وحسن الحال في المعيشة، وكل أعمال الحياة يتوقف على التربية أكثر من توقفه على التعليم لا سيما تعليم المدارس الذي أكثره فيما لا عمل فيه؛ إذ بالتربية يكون تمرين الأعضاء على العمل، وبالتربية تتكون الأخلاق والعادات الحاكمة على الإرادة. والإرادة هي التي تنفّذ ما يقضي به العلم ويظهر وجه المصلحة فيه فمن لا تربية له لا ينفعه علمه الذي تعلمه في مدرسة العلم ولا علمه الذي تعلمه في مدرسة الوجود، لأن العلم عنده يكون صورًا خيالية تلوح في ذهنه ثم تغيب. وأقول: إن هذا العذر على صحته لم يصب موقعه من تبرئة البنات المتعلمات؛ لأن القصد من تعليمهن إصلاح البيوت التي أفسدها جهل أمهاتهن فإذا كان علم المدرسة يفيد البنت الكسل، ويزيدها إعراضًا عن العمل، ويُبَغِّضُ إليها عادات أهلها وقومها، نافعة كانت أو ضارة ويحبب إليها تقليد قوم آخرين في الزينة والترف وإن أعجز الوصول إليهما أباها وأمها - فلا شك أن هذا التعليم سم قاتل، وبلاء نازل، وأن تركه واجب ومقاومته ضربة لازب. السبب الحقيقي في سوء حال البنات المتعلمات وسوء حال غير المتعلمات هو- كما قيل - سوء التربية العامة أو ترك التربية الصحيحة النافعة، ولكن أليس من الضروري أن يكون سوء الأخلاق الذميمة، وفتك العادات الرديئة، أقل تأثيرًا في نفس المتعلمة منه في نفس غيرها؟ أليست فائدة العلم الكبرى مساعدة التربية لأن المتعلم يحكم على ما عليه الناس بغير ما يحكم به الجاهل فيميز بين الضار والنافع والصالح والفاسد أليس التعلم هو تربية للعقل الذي هو أفضل القوى النفسية، فإذا امتازت البنت على أمِّها بالعقل وصحة الحكم على الأمر، وعرفت من الحقوق ما لا تعرف، وساوتها في ضعف الإرادة والخضوع لسلطان العادة، أليس من المعقول أن يتنازع ما به الامتياز وما به التساوي فيقوى هذا تارة وهذا تارة ويكون ترجيح العقل فيما غلب فيه مبدأ دخول الإصلاح المطلوب؟ بلى؛ إن إصلاح حال الأمم يجري في هذه السبيل ولو كان التعليم في هذه البلاد يقصد به إلى إصلاحها لارتقت في الأخلاق والأعمال كما ارتقت في التعليم على أكثر بلاد المشرق. والأمر بخلاف ذلك فإن أخلاق الناس في كل بلاد نعرفها أرقى من أخلاق أهل هذه البلاد كما أن عاداتهم أمثل من عاداتهم، على أن التعليم هنا أكثر انتشارًا منه في تلك البلاد التي نعنيها، والمصريون الذين سافروا إلى تلك البلاد يعرفون هذا وينطقون به؛ وأعجب من هذا أن أكثر الفساد والفجور لم ينتشر في أكناف هذه البلاد ويتغلغل في أحشائها إلا بالمتعلمين، فكأنهم لم يتعلموا لأجل العمل إلا شرب الخمور ولعب الميسر والتفنن في الزينة والانغماس في الشهوة البهيمية حاشا نفرًا يعدّون على الأنامل هم الذين أفادهم العلم وحدهم من ألوف المتعلمين. السبب في هذا أن العلم الذي يعلم في المدارس المصرية - سواء كانت للحكومة أو للأجانب أو للأهلين - لم يُقصد به إلى إصلاح النفوس وارتقائها وجعل المصريين سعداء أعزاء، فإن مثل هذا القصد لا يأتي إلا ممن يغارون على الأمة ويرون سعادتهم بسعادتها وعزهم بعزها، ورؤساء الحكومة المصرية ليسوا كذلك، والجِزْوِيت والفرير والأمريكان ليسوا كذلك، ومنشئو المدارس الأهلية كان يجب أن يكونوا كذلك؛ ولكنهم ليسوا كذلك وهذا شيء يعرفه كل أهل البصيرة في مصر وربما نشرحه في مقالة أخرى. تبين من هذا أن قلة استفادة البنات من التعليم سببها أنه لم يقصد به إصلاحهن ولا إعدادهن لإصلاح بيوتهن فإن هذا التعليم جاء من الإفرنج وزمامه بأيديهم في مدارسهم ومدارس الحكومة التي هم قُوَّام عليها (والمدارس الأهلية مُقلَّدة لهذه المدارس تقليدًا أعمى أصم) وإنما يقصد الإفرنج جذب نساء هذه البلاد إلى النطق بلغاتهم، والتزيِّي بأزياء نسائهم، واستحسان عادات قومهم وتعظيم شؤونهم، ليقبضوا من صدور الأمة حب جنسها ووطنها ويقطعوا جميع روابطها المالية فتكون طعمة لهم. ومَن تراه انتفع بتعليمهم من ذكر وأثنى وصَلُحَ حاله فاعلم أن ذلك كان بمعونة استعداد فطري عظيم وتربية محمودة وتوفيق إلهي أمام ذلك ووراءه. والنتيجة أنه لا يرجى أن نستفيد من تعليم البنات ولا تعليم الذكور ما يصلح به شأننا وترتقي به أمتنا إلا إذا وُجِدَتْ عندنا مدارس يتولى إدارتها رجال يهمُّهم إصلاح الأمة وإعلاء شأنها. وقد وُفق القبط إلى هذا أكثر مما وفق المسلمون، فإذا نهضت بهؤلاء الهمة إلى إنشاء مدرسة كلية تناط إداراتها برجال الجمعية الخيرية الذين أثبتوا لنا بثباتهم على خدمة الأمة أنهم خير رجالها - فبشرهم بالنجاح العاجل، والخير الآجل، وإلا كانوا على خطر عظيم ربما لا يتنبهون له إلا بعد فوت الفرصة، ووقوع الغصة، والأمر لله العلي الكبير.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (إرشاد الألبا إلى طريق تعليم ألف با) في أيدي الناس ألوف من الكتب المؤلفة في العلوم والفنون ولكن أكثرها متشابه؛ لأن بعضها في الغالب منقول من بعض مع اختصار مخل أو غير مخل وزيادة ضارة أو نافعة وكيفما كان هذا التأليف فهو تقليد من المتأخر للمتقدم، منهم مَن أحسنه ومنهم مَن أساء فيه وسواء كان التقليد متقنًا أو غير متقن فهو ليس من العلم في شيء والمقلد لا يكون عالمًا ولا مفيدًا للعلم ولا مستفيدًا له؛ وإنما ينتفع بكلام العلماء ومباحثهم من ينظر في ذلك بعين البصيرة والاستدلال. ومن نزع من عنقه ربقة التقليد هُدي إلى الاستفادة والإفادة حتى يصح أن يقال في تأليفه إنه له وأن فيه علمه وحتى إن الباحث المجتهد ليفيد كل موضوع وإن كان ما يظنه الناس بديهيًا لا مجال فيه للبحث. أمامنا الآن كتاب (إرشاد الألبا إلى طريق تعليم ألف با) الذي وضعه حديثًا الشيخ طاهر الجزائري الشهير واسمه يدل على موضوعه. فقد سلك فيه صاحبه مسلكًا في الاجتهاد لم يخرج فيه عمّا قاله أئمة اللغة العربية ولكنه أحسن الاختيار والتصرف فقرَّب البعيد، وسهّل الحزَن، وذلّل الصعب الجامح، حتى أخرج لنا علم الأوائل في أحسن صورة انتهى إليها رُقي الأواخر. فلا يتوهمنَّ أحد من الاسم أن الموضوع بديهي لا يحتاج المؤلف فيه إلى سعة اطلاع، ولا براعة في الوضع والتأليف، وأن لا ينتفع بهذا الكتاب إلا مُعَلِّم الكتّاب، كلا، إنه كتاب لا يستغني عنه معلم عربي مهما علت منزلته في العلم، وإن كان كمؤلفه في سعة الاطلاع وقوة الفهم، فإن هذا الرجل أعلم علماء سوريا في العلوم العربية بل هو أوسع مَن نعرف اطلاعًا على مؤلفات المتقدمين والمتأخرين من أهل هذه اللغة مع تمكنه في علومها. وإننا نود أن يطلع عليه جميع علماء الأزهر وجميع معلمي العربية في مدارس الحكومة والمدارس الأهلية فعسى أن يتنبه لذلك شيخ الأزهر ومفتشو العربية في المعارف ونظار سائر المدارس فيأمروا بنشر هذا الكتاب في مدارسهم. لو أردنا أن ننشر ما انطوى ما في الكتاب من مباحث الحروف المفردة والمركبة ومباحث النطق والكتابة والتعليم ونورد طائفة من الشواهد والأمثلة التي وردت فيه تسهيلاً لسبيل التعليم لأَطَلْنا في التقريظ ولا سعة هنا للتطويل. وقد طبع الكتاب في بيروت طبعًا حسنًا على نفقة الشيخ أحمد طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون) الغراء وضبط فيه ما ينبغي ضبطه وصفحاته 144 وثمن النسخة منه أربعة قروش وهو يطلب من إدارة المنار ومن مكتبة أمين أفندي هندية. (رسالة ألف با) هي رسالة مستخرجة من كتاب (إرشاد الألبا) لأجل التعليم وهي توافق الطرق الحديثة في التعليم على أنها مقتبسة من وضع الأئمة المتقدمين وصفحاتها 32 وثمن النسخة منها نصف قرش صحيح وتطلب من مكتبة هندية أيضًا. *** (تدبير الأطفال) كتاب حديث في فن تربية الأطفال وتدبير أمرهم في الصحة والمرض من تصنيف الدكتور إسكندر جريديني بك مساعد أستاذ الفيسيولوجيا سابقًا في كلية ماريون سمس الطبية في سانت لويس، أميركا، ابتدأ المؤلف كتابه بفصل في تدبير صحة الحوامل وأمراض الحمل وحال الولادة ثم تكلم على تدبير الأطفال منذ يولدون فلم يترك شيئًا يجب أن يبحث فيه إلا وفّاه حقه، ولم يقتصر على الكلام في الوقاية من الأمراض الجسدية ومعالجتها؛ بل بحث في تربيتهم النفسية أيضًا وأطال القول في ثيابهم وغذائهم وخدمتهم، وكلامهم في العلل والأمراض التي تطرأ عليهم سهل يفهمه كل متعلم ومتعلمة. وجملة القول في هذا الكتاب: إنه نعمة كبيرة على قراء العربية وإنه لا يستغني عنه بيت من البيوت فنحث جميع المتعلمين على قراءته ونخص الأمهات بالحث عليه. وقد طبع طبعًا حسنًا في مطبعة الهلال وصفحاته 268 وثمن النسخة منه 12 قرشًا صحيحًا وأجر البريد قرشان وهو يطلب من مكتبة الهلال بالفجالة. *** (الألفاظ المترادفة) رسالة للإمام أبي الحسن علي عيسى الروماني (رحمه الله تعالى) اعتنى بشرحها وطبعها محمد أفندي محمود الرافعي بعد أن صححها وضبط ألفاظها على الشيخ محمد محمود الشنقيطي إمام اللغة في هذا العصر. والمراد بالألفاظ المترادفة فيها الألفاظ التي يجمعها معنى عام وإن كان لكل لفظ منها معنى خاص يغاير الآخر فهي في المفردات نحو كتاب (الألفاظ الكتابية) للهمداني في الجمل ولكن فيها من الفوائد ما لا يُغني هو عنه. وقد طبعت بالشكل في مطبعة الموسوعات وتباع في المكتبة الأزهرية وثمن النسخة منها قرش ونصف فنحث طلاب العلم لا سيما المشتغلين بالكتابة والشعر على اقتنائها ومطالعتها. *** (مراقي الترجمة) صدر الكتاب الرابع من مراقي الترجمة من الإنكليزية إلى العربية وبالعكس وهو خاص بتلامذة السنة الرابعة في المدارس الابتدائية ومن فوائد هذا الجزء أنه مشتمل على مسائل الشهادة الابتدائية في الترجمة التي امتحن بها الطلاب في المعارف من سنة 1892 إلى سنة 1903 فنشكر لمؤلفه وناشره أبي زيد أفندي فايد عمله ولمساعديه على التأليف عبد الحميد أفندي الشربيني ومحمود أفندي عثمان عطا الله (الثلاثة من المدرسين في مدرسة الناصرية الأميرية) ونحث جميع متعلمي الإنكليزية على الانتفاع بكِتَابهم وثمنه قرشان ونصف قرش فقط. *** (المقامات العشر لطلبة العصر) انتخب الشيخ محمد المبارك الجزائري عشر مقامات من مقامات الحريري واختار أن يقرأها طلاب العلم لتكون مادة لهم في اللغة وقد شرحها ليسهل عليهم فهمها فطبعها على نفقته الشيخ أحمد حسن طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون) الغراء في بيروت وجعل ثمن النسخة منها ثلاثة قروش ولعل محبي هذه المقامات من طلاب العلم يكتفون بها ويجعلون همهم الاستفادة من مفرداتها من غير عناية بأسلوبها وهي تطلب من مطبعة هندية. *** (ملكة على عرش الفراعنة) أسطورة إنكليزية تشرح بعض عادات المصريين الأولين وفراعنتهم وموضوعها أن فرعون موسى عشق غادة مصرية اسمها (تاهوسر) كانت عاشقة للشاب الإسرائيلي (بويارى) مدير الأملاك الخاصة بالأسرة الملكية وكان من كبار الأغنياء وكانت الفتاة من أولاد أكابر الكهان ذات ثروة عظيمة ولم تجد سبيلاً للقرب من معشوقها إلا مغادرة قصرها متنكرة بزي فقيرة والدخول في قصره والانتظام في سلك خوادمه لعلها تستميله بما يشاهد من جمالها وكمالها ولكنها لسوء حظها علمت بعد ذلك أنه عاشق لفتاة من قومه اسمها (راحيل) على أن الفتاة الإسرائيلية رضيت بأن يجمع خطيبها بينها وبين المصرية إذا هي تركت دين قومها وعبدت مع الإسرائيليين إلهًا واحدًا وكاشفتها بذلك وأخبرتها بأن سيخرجون مع موسى من مصر فرضيت المصرية بالخروج معهم ولكن خادمة راحيل دلت فرعون عليها فأخذها إلى قصره وكان يستميلها فلا تميل إليه حتى إذا ظهر موسى عليه السلام يدعوه إلى إرسال بني إسرائيل معه صارت تلين له القول ليسمع نصحها له بعدم الفتك ببني إسرائيل وفي الأسطورة من خبر موسى مع فرعون ما يصح وما لا يصح. ومن فوائد هذه القصة العلم بأن بعض الإسرائيليين كانوا مقربين من الفراعنة لإحسانهم خدمتهم وكانوا أصحاب ثروة واسعة على ما مني به قومهم من الظلم والاضطهاد، ومنها تعليل عشق فرعون للفتاة وتذلُّله لها بأن نساءه على جمالهن البارع كن يعاملنه معاملة العبد للمعبود وأن حظ الرجل الطبيعي من المرأة هو أن يكون لها سلطان على قلبه نظير سلطانه على قلبها وأن يعامل كل منهما الآخر معاملة النظير للنظير في الشئون الزوجية وذلك ما أعوز فرعون حتى التمسه في عشق الفتاة فوجده، لولا أنه لم يستطع امتلاك قلبها كما ملَّكها قلبه. ومن الخطأ فيها نسبة الكذب إلى موسى عليه السلام، وزعم أن فرعون لم يكن يعرفه قبل بعثته وأنه بُعث وهو شيخ كبير وأن العصا كانت لهارون وكان هو الذي يعمل بها العجائب بأمر موسى عليهما السلام وغير ذلك وهو خطأ ضار. أما ترجمة الرواية فحسنة ومترجمها نقولا أفندي رزق الله وهي تطلب منه ومن المكاتب الشهيرة بمصر وثمن النسخة 8 قروش.

وفاة حسن باشا ناظر البحرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفاة حسن باشا ناظر البحرية ننقل ترجمة هذا الوزير عن جريدة (محمدان) الهندية كما نقلتها عن جريدة الأخبار الإسلامية (مسلم كرونيكل) وهي رسالة لمُكاتب هذه في لندن مأخوذة من رسالة من الآستانة، كتب في اليوم الثالث لموت الوزير. وقد نشر في بعض الجرائد المصرية ترجمة الرجل على نحو ما في جريدة الدولة الرسمية خالية من كل عبرة وفائدة وذلك أن جرائد المسلمين في مصر تنحو في الأخبار العثمانية منحى جرائد الآستانة وسوريا وهي لا تكاد تنشر إلا ما يوافق الأهواء. ومن هنا نستدل على كون جرائد المسلمين في الهند أرقى حرية من أخواتها في مصر، ولعل سبب ذلك أن القارئين صاروا هنالك أرقى منهم هنا في الحرية؛ إذ يحبون أن يعرفوا الحقيقة لا أن يتلذذوا بالمدح وإن كان كذبًا. قال المكاتب ما تعريبه: الرأي العام مجمع على أن قوة الدولة العثمانية الحربية توازن قوة أية دولة من الدول الكبرى ولكن بَحرية الدولة صارت من عدة سنين قرحًا في جسمها ومرضًا في بنيتها، وقد كانت إلى عهد حرب القِرم، بحيث لا تقل عن قوة فرنسا وروسيا إن لم تكن من أعلى القوى البحرية لذلك كان مما يثير العجب أن لا يكون لتركيا موقف مع الدول البحرية لهذا العهد. وقد علم قراء (الكرونكل) من رسائلي السابقة في هذا الموضوع الأسباب والأحوال التي هبطت ببحرية الدولة إلى هذا الحضيض. وكل هذا الهبوط والتأخر ينسب إلى رجل واحد استحق لعن الأمة التركية هذا الرجل البغيض هو حسن باشا حسني. مات حسن باشا حسني ناظر البحرية العثمانية أول أمس وكان يرجو الناس موته من زمن بعيد وكان موته في قصره بالكوروششمه على ضفة البوسفور وهو في سن الثمانين، ولم يُعرف في تاريخ البشر من أول الخليقة إلى الآن رجل كان أشد بغضًا ومقتًا إلى أمته من هذا الرجل الذي مكث في منصبه هذا نحو ربع قرن. ولي البحرية العثمانية وهي في الدرجة الثانية من قوى البحرية الأوربية، وتركها وهي أدنى القوى البحرية في العالم وأضعفها. ولقد تستحوذ الدهشة على الإنسان وتملكه الحيرة إذا حاول فهم سبب إهمال البحرية من دولة حربية عارفة بمكانة القوى البحرية في هذا العصر. على أن هذا الناظر لم يكن أقل علمًا من أعظم أمراء البحر في أوربا؛ بل المشهور عنه أنه كان من أمثل أمراء البحر في الدول البحرية العظمى وأمهرهم وأحذقهم، ولكن هذا الرجل الذي كان من أكبر رجال الدولة هو الذي أضعف تلك القوة العظمى عامدًا متعمدًا، وقد وصفته إحدى الجرائد التركية اليوم بأنه أعظم عبيد السلطان أمانة وأشدهم استقامة؛ ولكنَّ أفكارنا وشَكْلَ الحكومات الراقية في هذا العصر يحولان دون الاعتقاد بأن الخائن لأمته ودولته يكون ناصحًا لسلطانه وصادقًا في خدمته؛ ذلك لأن النصح للحاكم والإخلاص في خدمته أمران لازمان لحكومته؛ إذ لا معنى لخدمة الحاكم من حيث هو حاكم إلا خدمة الحكومة التي هو رئيسها، وكان فساد طوية حسن باشا وتركه محاسبة نفسه واستفتاء قلبه حال دون التمييز بين الرجل من حيث هو حاكم ومن حيث هو شخص ربما يرجى نفعه ويخشى ضره لذلك كان يقضي ليله ونهاره مدة ربع قرن في تجريد السفن الحربية من جميع عدتها التي تكون بها صالحة للحرب. ولا يدري أحد من الناس أين صُرفت الأموال العظيمة المخصصة للبحرية في ميزانية الدولة؛ إذ لم يطالبه أحد بحسابها؛ بل كان مطلق التصرف ومتمتعًا بالسلطة التامة في نظارته إلى آخر حدودها، وكان يولي ويعزل من شاء من غير سؤال ولا مراقبة من أحد نافذ الرأي مطاع الأمر في نظارته وفي مجلس الوزراء بل وفي قصر يلدز نفسه. ولقد مات موتة شنيعة سبقها مرض عاثَ في جسمه سنة كاملة كان فيها موضعًا لسبعين نوعًا من الأعمال الجراحية وذاق فيه من الآلام ما لا يُطاق، وكان يجمجم وهو يتقلب في غمرات الموت بهذه الكلمة توبة وندمًا: (ما جنيت إذ جنيت وحدي ولكن كان لي شركاء) ! أو ما هو في معناها وسيكون موته عبرة لغيره ممن يدفعون إلى الجري على سننه. عين حسن باشا ناظرًا للبحرية ولم يكن يملك شيئًا؛ حتى ولا بيتًا يقيم فيه ومات بالأمس وهو يكاد يكون أغنى رجل في تركيا وتقدر ثروته المنقولة والثابتة بثمانية ملايين من الجنيهات وكان دخله السنوي مئتي ألف جنيه وكان يشتري كل ما يباع حيثما وجده وإن لم يكن قادرًا على كمال الانتفاع به؛ لأنه لم يكن يسمح له بالخروج من القسطنطينية. وقد أقبل الناس هنا (الآستانة) على الجرائد التي نَعَتْه بالأمس واشتروا منها عددًا عظيمًا وقد أخذتهم روعة من السرور استغرقت شعورهم وطفق يهنئ بعضهم بعضًا بالجهر من القول بكمال الحرية، وكان الفرح عامًا في السواحل البحرية فإن أتراك الآستانة وسواحل البحر الأسود وبحر مرمرة والساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط وخليج العجم مولعون جدًا بالبحرية؛ فالسفينة المدرعة أبهى في نظرهم من الخميس العَرَمْرَم من الجيش، ولو كانت ترجمة الرجل الرسمية مما يستحق العناية لنقلتها من الجريدة الرسمية بحروفها؛ ذلك أن أعماله قليلة جدًّا فلا نصيب لها من التطويل. كان حسن ولدًا لباشا فريقٍ في البحرية ولا ينبغي أن يعتقد أنه ارتقى بنَسَبِه؛ بل كان أنجب التلامذة في المدرسة والمقدم في فرقته ومحبوبًا لكل أساتذته، ولما نال الشهادة من المدرسة البحرية التي كانت وقئتذ حديثة النشأة عُيِّن ملازمًا في السفينة المسماة (خداداد) وقام بخدمة الحكومة في البحر المتوسط على سواحل إِفريقيَّة وسواحل الجبل الأسود وجزيرة كريد والبحر الأحمر وشهد حرب القِرْم وأبلى بلاءً حسنًا في حرب سيباستبول وكان يومئذ أمير عمارة البحر الأسود في الحرب الروسية العثمانية الأخيرة وقد أُعجب الناس بنجاحه ومهارته يومئذٍ في إنزال الجنود العثمانية في باطوم. ترك حسن باشا اثني عشر ولدًا، أكثرهم مستخدمون في دار الصناعة (الترسانة) العثمانية. وكان يتكلم بالتركية واليونانية والإنكليزية.

فتنة بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتنة بيروت في بيروت رهط من الأشقياء يسفكون الدماء ويهينون الوجهاء ويسلكون في شرورهم مسلك التحمس الديني فيزعمون أنهم ينصرون الدين بفسادهم فإذا سمع المسلم أن نصرانيًا أهان مسلمًا أو قتله يفعل كما يفعل النصراني إذا سمع بمثل ذلك ينتقم كل منهما للمنتسب إلى دينه وإن كان مجهولاً من أي مخالف له وإن كان بريئًا ولم توجد شريعة وضعية فضلاً عن شريعة إلهية تأمر بأخذ البريء بجريرة الأثيم لأنه يشاركه في الانتساب إلى الدين. وأشهر هؤلاء الأشقياء جانٍ اسمه إلياس الحلبي فقد بلغنا عنه أنه إذا عزم على الفتك بمسلم ما يذهب أولاً إلى الكنيسة فيسجد للسيدة العذراء عليها السلام ويمس صورتها بسلاحه ويطلب منها الإعانة على الفتك بأعداءه وأعدائها، وما كان المسلمون من أعدائها فإنهم يبرئونها من الدنس ويحكمون بكفر قاذفها ثم ينطلق إلى جنايته قرير العين معتقدًا أنه مؤيَّد بتلك الروح الطاهرة التي هي أبعد الأرواح عن الرضى بهذا العدوان والشر الكبير. ويجهل هذا الشرير وصايا الإنجيل بمحبة الأعداء ولا يجد من يذكِّره هو وأمثاله بها كما لا يجد أشرار المسلمين من يذكرهم بوصايا الكتاب والسنة ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ظلم أهل الذمة أديل للعدوّ) رواه الطبراني عن جابر بلفظ: (كانت الدولة دولة العدو) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة.. إلخ) رواه أحمد والنسائي، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس منا مَن دعا إلى عصبية وليس منا قاتل على عصبية وليس منا مَن مات على عصبية) رواه أبو داود عن جبير بن مطعم. وقوله عليه السلام: (العصبية أن تعين قومك على الظلم) رواه البيهقي عن واثلة ونحو هذه الأحاديث. بل إننا نسمع أن من وجهاء الطائفتين من يساعد أشقياءهما حتى إن إلياس الحلبي قد رَتَّب له بعض الأغنياء في بيروت وكبار الموظفين في لبنان الرواتب الكافية، ولا أحب أن أذكر أسماءهم. وأعجب من هذا وذاك أن الوالي رشيد بك الذي عهد إليه السلطان حفظ الأمن كان هو الذي يغري بعض الأشقياء ببعض لينتفع من الفريقين وكل أهل بيروت ولبنان يعرفون هذا، وقد نوّهنا بسوء سيرته في السنة الأولى والسنة الثانية من المنار وقلنا: إن السماء والأرض تستجيران من ظلمه. ولكن من يسمع لنا إذا كانت الآستانة لم تسمع من المتظلمين من رعيته شكواهم عليه؛ فقد علمنا أن طائفة من أهل بيروت شكوه بالبرق إلى السلطان، وقد كان علم فسبقهم وأرسل إليه يقول إن طائفة من شيعة الترك الأحرار قد أعيتهم الحيل في تتبّعي حركاتهم وسكناتهم فأرادوا أن يتظلموا مني إلى مولاي بأمور يتجرمون بها فقبل السلطان قوله ولم يسمع لهم شكوى! هذا الإهمال جرّ إلى تفاقم الشرور، وتغلغل الأحقاد في الصدور؛ فكانت توري كلما قدحت الحوادث بزندها حتى إذا قتل في آخر الأسبوع بعض الأبرياء من المسلمين انفجر البركان، وتلاحم الفريقان، وكان في أول الأسبوع الماضي ما كان، كانت في بيروت فتنة عامة قتل فيها كثيرون من الطائفتين وجرح الكثيرون وتعب الجند في إخماد النار وقتل منهم أفراد وهو أمر لم يسبق له نظير ونزح عشرات الألوف من النصارى إلى جبل لبنان فعوملوا معاملة الإخوان للإخوان، ودخل وكلاء الدول في الأمر وطلبوا من الوالي الغوي رشيد بك أن يتعهد بحفظ الأمن فأبى لعلمه بأنه هو المجرِّئ بسوء سيرته لجميع الأشقياء بالعدوان؛ حتى لم يبق له عليهم سلطان وقد ثبت هذا للقناصل بالبحث والاختبار فكتبوا بذلك إلى دولهم وكان ذلك سببًا في عزل الوالي الغوي وصدور الأمر لوالي سوريا ناظم باشا بالقدوم إلى بيروت وإعادة الأمن ومعاقبة الجناة إلى أن يعيّن لها والٍ جديد فصدع بالأمر وأعاد الأمن وأمر الناس بالعود إلى أشغالهم بعد ما أقفلت المخازن والدكاكين وبطلت الأعمال كلها فأبى النصارى الامتثال وقال مطران الروم للوالي أن أبناء طائفته لا ثقة لهم بالأمن إلا أن يكون بعهد من الدول الأجنبية. والحق أنهم يثقون به في قلوبهم ولكنهم افترصوا الحادثة لطلب ما ذُكر. هذا ما يطمع فيه قوم منهم وبعضهم يطمع في جعْل بيروت تابعة للجبل وظنوا أن هذه الحادثة فرصة تُغتنم ويرجى فيها أن تساعد الدول على الإلحاق فتكون حكومة عروس سوريا أو عروس المملكة العثمانية (بيروت) مسيحية كما أن قواها المالية والأدبية مسيحية وهم معذورون في هذا الطلب وذاك من حيث هم مسيحيون؛ إذ لو كنت في موقع كموقعهم لتمنَّيْتُ أن يكون حاكمي مسلمًا، ولكن لا عذر لمن يمهدون لهم السبل لذلك من المسلمين بل الواجب عليهم أن لا يدعوا لهم منفذًا للشكوى إن استطاعوا , ولعمري إن الحكومة قادرة على ذلك إذا كان الوالي مثل ناظم باشا وإنني سمعت الناس في سوريا يلهجون بأن مدحت باشا كان ألَّف بين الفريقين في بيروت كسائر سوريا حتى صاروا كالإخوة في التعامل ويعتقدون أن ناظم باشا قادر على مثل هذا التأليف لا سيّما إذا علم أنه يُرضي السلطان. لما وقعت الحادثة وردت الرسائل من النصارى إلى الجرائد السورية ومن المسلمين إلى الجريدة الإسلامية (المؤيد) في شرح الحادثة وكل فريق يلقي التبعة على الآخر ويعد نفسه مظلومًا، وقد انتصرت كل جريدة لقومها معتمدة على ما كتب إليها وطفقت جرائد السوريين تلوم (المؤيد) بأنه انتصر للمسلمين تعصبًا لهم وتنسى نفسها مع أن السوريين أعلم من المؤيد بخبث الفريقين ولهم علم يميز ما في الرسائل من المبالغة دونه وكانوا يقولون ذلك أحيانًا مع الإنحاء على المسلمين خاصة إلا أن جريدة (الأهرام) كتبت كتابة العثماني المعتدل الذي يريد المصلحة وإن نشرت رسائل لغير المعتدلين. ولو كان لي سلطان على الجرائد لألزمتها بأن تكتب في تأنيب الطائفتين كما كتبت جرائد بيروت الإسلامية والمسيحية (لا جرائد لبنان) ؛ بل لألزمتُ المسلم بشدة لوم المسلمين والنصراني بشدة لوم النصارى؛ لأن هذا هو الأنفع في رأيي.

سعاية خائبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سعاية خائبة لما علم بعض الأشرار بالطبع أن الأستاذ الإمام يقصد في صيف هذا العام زيارة بلاد الجزائر وبلاد تونس افترصوا ذلك فكتبوا في السعاية به إلى حكومة الجزائر رسالتين، إحداهما أرسلت من مصر والأخرى من الإسكندرية باسم الحاكم الفرنسي العام وفيهما ما فيهما من قول الزور والإغراء بالإمام بزعم أنه لا يقصد بالسفر إلى الجزائر إلا تحريض المسلمين على الثورة والخروج على الحكومة ونبذ طاعتها وأنه قادر على ذلك، كما كتبوا بمثل ذلك إلى الآستانة عندما توجه إلى زيارتها منذ عامين. كتبوا هذا لاعتقادهم أن الحكومة الفرنسية هناك حكومة خرقاء تأخذ بالشبهة وتنتقم من البريء لأدنى وهم يوسوس به شيطان من شياطين الإنس، أو يهجس به في الخاطر عِفريت من الجن، ولظنهم أن الحكومة الفرنسية تجهل قدر الأستاذ الإمام ومقامه الديني. ولكن الحكومة الفرنسية فوق أوهامهم وأحلامهم فقد بلغنا أنها قد تلقت الرجل العظيم بالحفاوة والإجلال اللائقين بشخصه وبمقامه الديني والعلمي كما تلقاه في إنكلترا كبراء الإنكليز وعلماؤهم، فسُرَّ بهذه المعاملة الحسنة لأشهر أئمة المسلمين في هذا العصر مسلمو الجزائر ورأوا ذلك دليلاً على حسن قصد حكومتهم وحسن سياستها فليعتبر فضلاء المصريين بهؤلاء الأبالسة الذين يعز عليهم أن يوجد في الأمة رجل جليل عالي القدر محترم المقام حتى إنهم يبذلون جهدهم في تنميق الكذب ليحملوا الأجانب على إهانة سادتهم وأئمة الدين الذي ينتسبون إليه وإن كان يتبرأ منهم. ولو شاء الفضلاء الانتقام الأدبي من هؤلاء الأشرار لفعلوا ولكنهم لا يتفقون.

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلِّد وصاحب حجة تابع لما في الجزء الثالث عشر ويقال (سادس عشر) كل طائفة منكم - معاشرَ المقلدين - قد أنزلت جميع الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا مَن قلَّدتموه في مكان مَنْ لا يعتد بقوله، ولا ينظر في فتواه، ولا يشتغل بها، ولا يعتد بها، لا وجه للنظر فيها إلا للتمحُّل وإعمال الفكر وكده في الرد عليهم، إذا خالف قولهم قول متبوعه وهذا هو المسوِّغ للرد عليهم عندهم فإذا خالف قول متبوعهم نصًا من الله ورسوله فالواجب التمحل والتكلف في إخراج ذلك النص عن دلالته، والتحايل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم، فيا لله لدينه وكتابه وسنة رسوله ولبدعة كادت تثل عرش الإيمان وتهد ركنه لولا أن الله ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بإعلامه ويذب عنه، فمَن أسوأُ ثناءً على الصحابة والتابعين، وسائر علماء المسلمين، وأشد استخفافًا بحقوقهم، وأقل رعايةً لواجبها، وأعظم استهانةً بهم ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وليجة من دون الله ورسوله. ويقال (سابع عشر) من أعجب أمركم - أيها المقلدون - أنكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام الله وكلام رسوله مع سهولته وقرب مأخذه واستيلائه على أقصى غايات البيان واستحالة التناقض والاختلاف عليه، فهو نقل مصدق عن قائل معصوم وقد نصب الله سبحانه الأدلة الظاهرة على الحق، وبيَّن لعباده ما يتقون، فادعيتم العجز عن معرفة ما نصب عليه الأدلة وتولى بيانه ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أوْلى بالتقليد من غيره، وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه، وهلم جرّا. وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب أصولهم؛ فعجبًا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله عليه الأدلة من الحق ولم يهتدِ إليها واهتدى إلى أن متبوعه أحق وأولى بالصواب ممن عداه ولم ينصب الله على ذلك دليلاً واحدًا. ويقال (ثامن عشر) أعجب من هذا كله من شأنكم - معاشر المقلدين - أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها، والعمدة في نفس الأمر على ما قاله لا على الآية، وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف قوله لم تأخذوا بها وتطلَّبتم لها وجوه التأويل وإخراجها عن ظاهرها حيث لم توافق رأيه وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء - إذا وجدتم حديثًا صحيحًا يوافق قوله أخذتم به وقلتم لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم كيت وكيت، وإذا وجدتم مائة حديث صحيح بل أكثر تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث منها ولم يكن لكم منها حديث واحد فتقولوا لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وكذا. وإذا وجدتم مرسلاً قد وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك، وإذا وجدتم مائة مرسل تخالف رأيه أطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها وقلتم لا نأخذ بالمرسل. ويقال (تاسع عشر) أعجب من هذا أنكم إذا أخذتم بالحديث مرسلاً كان أو مسندًا لموافقته رأي صاحبكم ثم وجدتم فيه حكمًا يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك الحكم وهو حديث واحد وكأنَّ الحديث حجة فيما وافق رأي مَن قلدتموه وليس بحجة فيما خالف رأيه، ولنذكر من هذا طرفًا فإنه من عجيب أمرهم: (1) فاحتج طائفة منهم في سلب طهورية الماء المستعمل في رفع الحدث بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل وقالوا: الماء المنفصل عن أعضائها هو فضل وضوئها، وخالفوا نفس الحديث فجوَّزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل طهور الآخر وهو المقصود بالحديث؛ فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت وليس عندهم للخلوة أثر ولا لكون الفضلة فضلة امرأة أثر فخالفوا نفس الحديث الذي احتجّوا به وحملوا الحديث على غير محمله؛ إذ فضل الوضوء بيقين هو الماء الذي فَضُلَ منه ليس هو الماء المتوضّأ به فإن ذلك لا يقال له فضل الوضوء فاحتجوا به فيما لم يرد به وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به. (2) ومن ذلك احتجاجهم على نجاسة الماء بالملاقاة وإن لم يتغير بنهيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يبال في الماء الدائم ثم قالوا: لو بال في الماء الدائم لم ينجسه حتى ينقص عن قلتين. (3) واحتجوا على نجاسته أيضًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا) ثم قالوا: لو غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء ولا يجب عليه غسلها وإن شاء أن يغمسها قبل الغسل فعل. (4) واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بحفر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها ثم قالوا: لا يجب حفرها؛ بل لو تركت حتى يبست بالشمس والريح طهرت. (5) واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يا بني عبد المطلب إن الله كره لكم غسالة أيدي الناس) يعني الزكاة. ثم قالوا: لا تحرم الزكاة على بني عبد المطلب. (لعل الصواب بني المطلب) . (6) واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف غيره من ميتة البر فإنه يُنَجَّسُ الماء؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في البحر: (هو الطهور ماؤه الحل ميتته) ، ثم خالفوا هذا الخبر بعينه وقالوا: لا يحل ما مات في البحر من السمك ولا يحل شيء ما فيه أصلاً غير السمك. (7) واحتج أهل الرأي على نجاسة الكلب وولوغه بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات..) ثم قالوا: لا يجب غسله سبعًا بل يغسل مرة ومنهم من قال ثلاثًا. (8) واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره بحديثٍ لا يصح من طريق غطيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه: (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) ثم قالوا: لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم. (9) واحتجوا بحديث علي بن أبي أطالب - كرم الله وجهه في الجنة -[1] : في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومائة أنها ترد إلى أول الفريضة فيكون في كل خمس شاة وخالفوه في اثني عشر موضعًا منه. ثم (10) احتجوا بحديث عمرو بن حزم أن ما زاد على مائتي درهم فلا شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم وخالفوا الحديث بعينه في نص ما فيه في أكثر من خمسة عشر موضعًا [2] . (11) واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المصرّاة وهذا من إحدى العجائب فإنهم من أشد الناس إنكارًا له ولا يقولون به فإن كان حقًّا وجب اتِّباعه، وإن لم يكن صحيحًا لم يجُز الاحتجاج به في تقدير الثلث مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه والذي احتجّوا عليه به لم يدل عليه. (12) واحتجوا لهذه المسألة أيضًا بخبر حبَّان بن مُنْقِذ الذي كان يغبن في البيع فجعل له النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخيار ثلاثة أيام، وخالفوا الخبر كله فلم يُثْبِتُوا الخيار بالغبن ولو كان يساوي عشر معشار ما بذله فيه وسواء قال المشتري: لا خلابة، أو لم يقل وسواء غبن قليلاً أو كثيرًا لا خيار له في ذلك كله. (13) واحتجّوا في إيجاب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان بأن في بعض ألفاظ الحديث أن رجلاً أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفِّر ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا إن استفّ دقيقًا أو بلع عجينًا أو أهليلجًا أو طيبًا أفطر ولا كفارة عليه. (14) واحتجّوا على وجوب القضاء على مَن تعمد القيء بحديث أبي هريرة ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: إن تقيأ بأقل من ملء فيه فلا قضاء عليه. (15) واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقصر بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسافة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو ذي محرم) ، وهذا مع أنه لا دليل فيه ألبتة على ما ادَّعَوْه فقد خالفوه نفسه فقالوا: يجوز للمملوكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم! (16) واحتجوا على منع المحرم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وَقَصَتْه ناقتُه وهو مُحَرِم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تخمِّروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة مُلبِّيًا) وهذا من العجب فإنهم يقولون: إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه. (17) واحتجوا على إيجاب الجزاء على مَن قتل صيدًا في الإحرام بحديث جابر أنه أفتى بأكلها وبالجزاء على قاتلها وأسند ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه آله وسلم ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: لا يحل أكلها. (18) واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مخاض فأعطى ثلثي ابنة لبون فساوى ابنة مخاض أو حمارًا يساويها أنه يجزئه بحديث أنس الصحيح وفيه: (مَن وجبت عليه ابنة مخاض ليست عنده وعنده ابنة لبون فإنها تؤخذ منه ويرد عليه الساعي شاتين أو عشرين درهمًا) . وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه الحديث من تعيين ذلك ويستدلّون على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به. (19) واحتجّوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها بحديث: (لا تقطع الأيدي في الغزو. وفي لفظٍ: في السفر) ولم يقولوا بالحديث فإن عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك. (20) واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالأضحية وأن يطعم منها الجار والسائل فقالوا: لا يجب أن يُطعَم منها جارٌ ولا سائلٌ. (21) واحتجّوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو سارق بالخبر الذي فيه (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دُعي إلى طعام مع رهط من أصحابه فلما أخذ لقمة قال: (إني أجد لحم شاة أُخذت بغير حق) فقالت المرأة: يا رسول الله إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تطعم الأسارى) وقد خالفوا هذا الحديث فقالوا: ذبيحة الغاصب حلال ولم يحرم على المسلمين. (22) واحتجوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (جرح العجماء جبار) في إسقاط الضمان بجناية المواشي ثم خالفوه فيما دلّ عليه وأريد به فقالوا: مَن ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لما عضت بفمها ولا ضمان عليه فيما أتلفت برجلها. (23) واحتجوا على تأخير القَوَد إلى حين البرء بالحديث المشهور أن رجلاً طعن آخر في ركبته بقرن فطلب القَوَد فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (حتى يبرأ) فأبى فأقاده قبل أن يبرأ.. الحديث. وخالفوه في القصاص من الطعنة فقالوا: لا يقتص منها. (24) واحتجوا على إسقاط الحد عن الزاني بأَمَة ابنه أو أم ولده بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنت ومالك لأبيك) وخالفوه فيما دل عليه فقالوا: ليس للأب من مال ابنه شيء ألبتة ولم يبيحوا له من مال ابنه عُود أراك فما فوقه وأوجبوا حبسه في دَينه وضمان ما أتلفه عليه. (25) واحتجوا على أن الإمام يكبّر إذا قال المقيم: قد قامت الصلاة، بحديث بلال أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تسبقني بآمين، وبقول أبي هريرة لمروان: أن لا تسبقني بآمين، ثم خالفوا الخبر جهارًا فقالوا: لا يؤمّن الإمام ولا المأموم. (26) واحتجوا على وجوب مسح ربع الرأس بحديث المُغِيرة بن شُعبة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مسح بناصيته وعمامته ثم خالفوه فيما دل عليه فقالوا: لا يجوز المسح على العمامة ولا أثر للمسح عليها ألبتة فإن الفرض سقط بالناصية والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ)) ________

الدليل على اشتراط الإسلام في القاضي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدليل على اشتراط الإسلام في القاضي (س1) رضاء الدين أفندي قاضي القضاة ببلدة (أوفا) في الروسية: إنه يستفاد من كتب الفقهاء متأخريهم ومتقدميهم اشتراط الإسلام في القاضي الذي يقضي فيما بينهم ولا سيّما في الدعاوي التي تخص العائلات مثل النكاح والطلاق وثبوت النسب والرضاع؛ بمعنى أن قضاء غير المسلم في هذه الأمور فيما بين المسلمين لا يصح ولا ينفذ إذا قضى فيه لا ظاهرًا ولا باطنًا ولكن هل يوجد لهذا الاشتراط دليل صريح من القرآن الشريف أو السنة المباركة، فنرجو حضرة الأستاذ الإحسان بالجواب في المنار بحيث يقنع المشتبه المنصف. والفقير يظن وإن لم يتيسر له الاطلاع إلى دليله القاطع أن القضاء فيما بين أهل الإسلام خصوصًا في الدعاوى التي تتعلق بالزوجية وعدمها وثبوت الأنساب من المناصب الدينية لا يجوز من غير المسلم أصلاً ولو كان عالمًا حق العلم قواعد الشريعة الإسلامية. كما أن غير المسلم لا تجوز إمامته في الصلاة وإن كان عارفًا أحكامها بأسرها، والعجب من صاحب (الهداية) مع التزامه ذكر طريق الاستدلال في كل مسألة وابن الهمام في الفتح مع تبحّره في علم السنة وأصول الاستدلال - لم يذكرا في هذه المادة ما يشفي العليل والله أعلم. (ج) القضاء ولاية وسلطة مدنية دينية أهم شروطها: العلم بالكتاب والسنة والقدرة على الاستنباط وكون المستنبط الذي ينفذ حكمه وتجب طاعته مسلمًا والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ، وقوله تعالى في الأمر المتنازع فيه: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) ، فقوله (مِنكُمْ) و (مِنْهُمْ) يعني به المسلمين. وقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) . فهذه الآيات أدلة واضحة في المقصود وقد استدل بالآية الأخيرة صاحب كتاب (الأحكام السلطانية) على اشتراط الإسلام في القاضي. ويصح أن يستدل على ذلك أيضًا بمثل قوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، فهذا يشمل جميع أنواع الولاية العامة والخاصة، ومن ثَم كان اشتراط الإسلام في القاضي مجمعًا عليه عند المسلمين والأحاديث الواردة في القضاء مبنية على شيء معروف في الإسلام وهو كون القاضي مسلمًا، وقد جرى على ذلك الصحابة ومن بعدهم مِن المسلمين؛ فقد قلدوا الذميين ضروبًا من الأعمال ولكن لم يقلدوهم القضاء وقد قال الماوردي في (الأحكام السلطانية) بجواز كون وزير التنفيذ ذميًّا دون وزير التفويض؛ لأن هذا الثاني يحكم ويولي ويجب أن يكون مجتهدًا في الدين. وإذا نظرنا في المسألة بعين القياس نجد العلة ظاهرة؛ فالقاضي عند المسلمين هو ولي مَن لا ولي له في كثير من الأحكام الدينية فهو يزوج المسلمة إذا غاب الولي أو فُقد أو عضل، وهو يُطَلِّقُ على الزوج ويفسخ العقود الزوجية عندما تقتضي المصلحة ذلك. وأمثال هذه الأحكام خاصة برجال الدين في عرف جميع الأمم، وتقاليد جميع الملل والنِّحَل، ولعل صاحب الهداية وشارحها لم يريا حاجة للتوسع في الاستدلال على مسألةٍ إجماعية لا نزاع فيها على أن طريقتهما في الاستدلال هي كما ذكرتم بالنسبة إلى كتب الحنفية التي نرى أكثرها غفلاً من الاستدلال؛ ولكن لو تعقبهما المُحدِّثُ الفقيه في السُّنة لبيَّن تقصيرهما في مواضع كثيرة جدًا ولا أقول في أكثر المواضع.

تحريم تحليل المطلقة ثلاثا وبدع المحللين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحريم تحليل المطلقة ثلاثًا وبدع المحللين (س2) عوض أفندي محمد الكفراوي بزفتى: لما كنتَ الرجل الوحيد الذي يذبُّ عن الدين جئتُك راجيًا الإجابة عن السؤال الذي تجده بهذه الصحيفة وهو: هل يجوز في أعمال المحلل للمطلقة ثلاثًا: أن يكون عالمًا بذلك؟ وإن كان يجوز فهل العادة التي اتخذها المأذونون في صيغة العقد صحيحة، وهي أن يقول الرجل: (بالتقاء الختانين تكون الزوجة مطلّقة) فهل يجوز العقد بذلك أم لا؟ ثم إنه يوجد في أكثر البنادر رجال مخصوصون للتحليل لا كسب لهم إلا منه، فتجد الرجل يتزوج المرأة للتحليل ثم يتزوج بعد أختها أو خالتها أو عمتها لهذه الغاية. فما قولكم في ذلك وفي سكوت المحكمة عليه؟ أفيدونا مأجورين. (ج) اعلم أن المطلقة ثلاث مرّات لا تحل لمَن طلقها إلا إذا تزوجت غيره زواجًا صحيحًا شرعيًا ثم اتُّفِق إن مات زوجها الثاني أو طلقها، وهذا التحليل المعروف ليس بزواج شرعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن فاعله واللعنة لا تكون على سنة من سنن الدين والفطرة وإنما تكون على الكبائر من المعاصي وليس بزواج عرفي؛ إذ لا يقول الناس في المحلل إنه متزوج. وقد روي عن كثير من أئمة السلف القول بأن العقد المقصود به التحليل غير صحيح وجوزه بعض الفقهاء بالرأي مع الكراهة الشديدة إذا لم يشترط في العقد أن يطلق أو نحو ذلك من الشروط الفاسدة والقول بالجواز غير سديد، وما أَمْرُ فاعله برشيد، ولا يليق بمحاسن الشريعة الإلهية أن تُنسب إليها هذه الفضيحة الشيطانية، وإننا نبدأ أولاً بما جاء في (الزواجر) من حكاية الجواز وعدمه ثم نبين مفاسد هذه البدعة الذميمة فنقول: قال الفقيه ابن حجر الهيتمي في الجزء الثاني من (الزواجر) ما نصه: (الكبيرة الستون والحادية والستون والثانية والستون بعد المائتين) (رضاء المطلق بالتحليل وطواعية المرأة المطلقة عليه ورضاء الزوج المحلل به) : أخرج أحمد والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بالتَّيْس المستعار) قالوا: بلى يا رسول الله قال: (هو المحلِّل، لعن الله المحلِّل والمحلَّل له) قال الترمذي: والعمل على ذلك عند أهل العلم، منهم عمر وابنه وعثمان رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء من التابعين. وأبو إسحق الجوزجاني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحلل فقال: (لا، إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله عز وجل ثم تذوق العُسيلة) وروى ابن المنذر وابن أبي شيبة وعبد الرزَّاق والأثرم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما، فسئل ابنه عن ذلك فقال: كلاهما زانٍ، وسأل رجل ابن عمر فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لأحلها لزوجها لم يأمرني ولم يعلم فقال له ابن عمر: لا، إلا نكاح رغبة إن أعجبتك أمسكتها وإن كرهتها فارقتها وإنا كنا نعد هذا سِفاحًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسئل عن تحليل المرأة لزوجها فقال: ذلك هو السفاح، وعن رجل طلق ابنة عمه ثم ندم ورغب فيها فأراد أن يتزوجها رجل ليحلها له فقال: كلاهما زانٍ وإن مكثا عشرين سنة أو نحوها إذا كان يعلم أنه يريد أن يحلها، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن طلق امرأته ثلاثًا ثم ندم فقال: هو عصى الله فأندمه وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، قيل له: فكيف ترى في رجل يحلها؟ فقال: مَن يخادع الله يخدعه. (تنبيه) عَدُّ هذا كبيرة هو صريحُ ما في الحديثين الأولين من اللعن وهما محمولان عند الشافعي رضي الله عنه على ما إذا شرط في صلب نكاح المحلل أنه يطلق بعد أن يطأ أو نحو ذلك من الشروط المفسدة للنكاح وحينئذٍ التحليل كبيرة فيكون كل من المطلق والمحلل والمرأة فاسقًا لإقدامهم على هذه الفاحشة وعلى ذلك يحمل إطلاق غير واحد من الشافعية أن التحليل كبيرة؛ إذ هو بدون ذلك مكروه لا حرام فضلاً عن كونه كبيرة ولا عبرة بما أضمروه ولا بالشروط السابقة على العقدة. وأخذ جماعة من الأئمة بإطلاق الحديثين فحرّموا التحليل مطلقًا منهم من ذكرناه من الصحابة والتابعين والحسن البصري فقال: إذا همّ أحد الثلاثة بالتحليل فقد أفسد العقد، والنخعي فقال: إذا كانت نيّة أحد الثلاثة: الزوج الأول أو الزوج الآخر أو المرأة التحليل فنكاح الآخر باطل، ولا تحل للأول، وابن المسيب فقال: مَن تزوج امرأة ليحلها لزوجها الأول لم تحل له، وتبعهم مالك والليث وسفيان الثوري وأحمد وقد سئل عمن تزوج امرأة وفي نفسه أن يحلها للأول ولم تعلم هي بذلك فقال: هو محلل وإذا أراد بذلك التحليل فهو ملعون.ا. هـ كلام (الزواجر) . أما مفاسد هذه البدعة الذميمة وفضائحها فهي كثيرة وقد فصل القول فيها ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) أحسن تفصيل في سياق الكلام على تغير الفتوى واختلافها باختلاف الزمان والمكان والأحوال عقيب المثال السابع من أمثلة ذلك التغير والاختلاف وهو ما ورد في صحيح مسلم وغيره من أن الطلاق الثلاث باللفظ الواحد كان يجعل طلقة واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومدة خلافة أبي بكر وصدر من خلافة عمر ثم لما رأى عمر رضي الله عنه اختلاف الحال بكثرة هذا الطلاق المخالف للسنة رأى من المصلحة أن يمضيه على الناس ليرجعوا عنه فأمضاه. ويقول المصنف وسبقه إلى ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن الزمان قد اختلف الآن وصار من المصلحة جعل الثلاث باللفظ الواحد واحدة كما كان في الصدر الأول وقد بيّنوا ذلك، وأوضحوه بما ليس من غرضنا ذكره إلا ما كتبه ابن القيم في مفسدة واحدة من مفاسد الطلاق الثلاث في عصره وهذه العصور وهي مفسدة التحليل. قال بعد ما تقدمت الإشارة إليه في المثال: فصل إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة كما عرفت لما رآه الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مفسدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن باب التحليل الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاعله مفتوحًا بوجه ما؛ بل كانوا أشد خلق الله في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم وكانوا عاملين بالطلاق المأذون فيه وغيره. وأما في هذا الأزمان قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رمد؛ بل عمى في عين الدين، وشجى في حلوق المؤمنين، من قبائح تشمت أعداء الدين به، وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول فيه بسببه [1] بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب؛ يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، وغيرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وزعم أنه قد طيبها للحليل، فيا لله العجب أي طيب أعادها هذا التيس الملعون، وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون، أتُرى وقوف الزوج المطلق أو الولي على الباب، والتيس المعلون قد حل إزارها وكشف النقاب. وأخذ في ذلك المرتع، والزوج أو الولي يناديه لم يُقدّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت والزوجة، ونحن والشهود والحاضرون، والملائكة الكاتبون، ورب العالمين، أنك لست معدودًا من الأزواج، ولا للمرأة وأوليائها بك رضى ولا فرح ولا ابتهاج، وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب، الذي لولا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب، فالناس يظهرون النكاح ويعلنونه فرحًا وسرورًا، ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال ونجعله أمرًا مستورًا، بلا نثار ولا دف ولا خوان ولا إعلان، بل بالتواصي (بهس) و (مس) والإخفاء والكتمان، فالمرأة تُنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها، والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك فإنه لا مسك بعصمتها؛ بل قد يدخل على زوالها، والله تعالى جعل كل واحد من الزوجين سكنًا لصاحبه وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم، وتتم بذلك المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم. فَسَلِ التيس المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب، وسله هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشًا يهوي إليه، ثم سلها هل رضيت به قط زوجًا وبعلاً تعول في نوائبها عليه، وسل أولي التمييز والعقول هل تزوجَتْ فلانة بفلان، وهل يعد هذا نكاحًا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؛ وكيف يلعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً من أمته نكح نكاحًا شرعيًا صحيحًا، ولم يرتكب في عقده محرمًا ولا قبيحًا وكيف يشبهه بالتيس المستعار، وهو من جملة المحسنين الأبرار، وكيف تعيّر المرأة به طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذُكِرَ ذلك التيس بين النسوان؟ ! وَسَلِ التَّيْسَ المُستعارِ: هل حدّث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق بنفقة أو كسوة أو وزن صداق، وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو حدثت نفسها به هنالك، وهل طلبت منها ولدًا نجيبًا، واتخذته عشيرًا وحبيبًا، وسل عقول العالمين وفِطرهم هل كان خير هذه الأمة أكثرهم تحليلاً، أو كان المحلل الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلاً؟ ! وسل التيس المستعار ومن ابتُليت به: هل تجمَّل أحد منهما بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال، وسل المرأة هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرَّى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى أو تسأل عن ماله وصنعته، أو حسن عشرته وسعة نفقته، وسل التيس المستعار: هل يسأل قط عمّا يسأل عنه مَن قصد حقيقة النكاح، أو توسل إلى بيت أحمائه بالهدية والمحمولة والنقد الذي يتوسل به خاطب المِلاح، وسله: هل هو أبو يأخذ أو أبو يعطي، وهل قوله عند قراءة (أبي جاد) هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو (حطي) [2] وسله: هل تحمل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العقد أو حطي وسله عن وليمة عرسه هل أولم ولو بشاة، وهل دعا إليها أحدًا من أصحابه فقضى حقه وأتاه، وسله: هل تحمل من نفقة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون، أم جاءه كما جرت به عادة الناس الأصحاب والمهنئون، وهل قيل له: بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية، أم لعن الله المحلل والمحلل له لعنة تامة وافية. فصل ثم سل مَن له أدنى إطلاع على أحوال الناس: كم من حرة مصونة أنشب فيها المحلل مخالب إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان، وكان بعلها منفردًا بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان، فلعَمر الله كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء، وألقاها بين براثن العشراء والحرفاء، ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القنا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها، وسل أهل الخبرة: كم عقد المحلل على أم وابنتها، وكم جمع ماؤه في أرحام ما زاد على الأربع وفي رحم الأختين، وذلك محرم باطل في المذهبين، وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن تُفرد بالذكر، وهي كموجة واحدة من الأمواج ومَن يستطيع عد أمواج البحر، وكم من امرأة كانت قاصرة الطرف على بعلها فلمّا ذاقت عُسيلة المحلل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحسان والعفة بعد ذلك بشملها، وما كان هذا سبيله فكيف يحتمل

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع (2) ما هو الحُسن؟ قد عرفتم بالذي قلناه في تعريف الحسن ما هو الحسن، وبقي أن أقول - لأجل تذكير القارئ بأصل الموضوع - إنه هو الزينة من غير نظر منا إلى الفرق بين الحسن الذاتي والحسن الصناعي. (3) ما هو الاستحسان؟ هو انبساط النفس لذلك الشيء الذي وجدت فيه ما يناسبها. ليست الصعوبة في تعريفه بهذا الرسم وإنما الصعوبة في معرفة أن الاستحسان يحصل للمرء بالبداهة أو بالنظر والتأمل وقد سبق شيء من الإشارة إلى هذا الأمر ولكني لا أراه مستغنيًا عن زيادة الشرح. أما استحسان بعض المحسوسات فيحصل للبعض بالبداهة وتعقبه محبة. ولهذا السر ظن البعض أن الحب يكون اضطراريًا على أن هذا السر وإن بقي غامضًا لا يُثبت هذه النظرية بمثل هذه الحوادث الفذة لثبوت ضد هذه النظرية ببراهين حسية وعقلية معًا. وأما استحسان كل المعقولات فمن أهل التفكر نتيجةُ نظرٍ وتأملٍ، ومن أهل التقليد نتيجة ثقة بالمقلدين. والأولى أن لا يعد استحسان هؤلاء استحسانًا لأننا إذا أدخلناهم في صف مَن لا فكر لهم من المخلوقات لم نكن عملنا غير الصواب لأنه هو المطابق لروح الواقع ونفس الأمر. (4) ما هو حب المستحسن؟ تقدم تعريف الحب وليس سؤالنا عن تعريفه بل عن ذلك السر المودع في طبيعة النفس من محبة أشياء تعتبرها جميلة. ولعل ذلك السر هو شوقها الطبيعي إلى ما وراء جسمانية المادة وما يلحقها من الجمادية المحضة. (5) لماذا نستحسن؟ هذا السر مودوع في نفوس الخاصة والعامة من بني النوع ولمّا أوتينا المزية العظيمة التي تسمى (الإرادة) أراد الفاطر أن تتجلى فينَا ظاهرة باهرة فانقسمت الأشياء في نظرنا كافة إلى ما تتوجه نحوه إرادتنا وهو ما نستحسن وإلى ما تنصرف عنه وهو ضده. فهذا هو السر في كوننا نستحسن. (6) لماذا نحب الحسن؟ يظهر بالذي قلناه سر حبنا الجميل ونزيد عليه علة لا يتوقف في فهمها إنسان وهو أننا نحب الحسن لنعمل. فلولا ذلك لقنعنا بما تنبت الأرض من كلأ، وما تفيض به من ماء، ويظهر من ملاحظة سير الماضين والغابرين، وسنن الوجود في الأولين والآخرين - أننا لم نخلق لمثل هذا بل خلقنا لأسرار عظيمة لا تظهر فينا إلا بحبنا الحُسن والحَسن. (7) لماذا نختلف بالاستحسان؟ إذا كنا نحب الجميل لنعمل فنحن نختلف بالاستحسان لتختلف أعمالنا. على أن لاختلافنا في الاستحسان عللاً أخرى منها اختلاف الأمزجة. وبيان السر في اختلاف الأمزجة لا يبعد عن صدد علمنا هذا ولكنه قد يبعد عن صدد هذا الفصل أو قد يبعد بنا عن الغاية التي أشرفنا عليها. وكذلك لاختلافنا في الأعمال علل أخرى ولكن الذي ذكرناه هو من أقدم الأسباب. (8) ما هو عشق المستحسنات الذي يميل بكل نحو مستحسن فيغرم به؟ يبقى علينا سؤال عن أمر آخر غير الحب المعتاد وهو العشق الذي مبلغ العلم فيه أنه أعظم درجات الحب ومنتهاه. والجواب على ذلك في غاية السهولة وهي أن النفوس قوابل، والواردات عليها فواعل، وبعض النفوس أشد قبولاً وانفعالاً لِمَا تعرضت له من الواردات فيصيبها العشق الذي هو أعظم الحب في حين أن كثيرًا من أخواتها اللائي يتعرضن لمثل ما تعرضت هي له لا يصيبهن إلا الحب البسيط وكثيرًا من غير أولئك لا يصيبهن شيء ما. هذا، وإن فيه لبلاغًا في بيان الموضوع، وكشفًا لبعض السر المودوع، ويحار فيه من لم يرد من البيان مشارعه، ولم يذق من التقرير مشاربه، وأولئكم ليسوا من أهل (المنار) ، ولا عليهم في مثل هذا الكلام المدار وحَسْبُ أولئكم مما تقدم أن يسمعوا هذه الخلاصة: (لولا حب الزينة لَمَا كان من حاجة إلى أكثر الصنائع. ولولا كثرة الصنائع لَمَا توفرت أسباب الاجتماع. ولولا الاجتماع لَمَا تبدلت الأفكار. ولولا تبادل الأفكار لما حصلت المعارف الإنسانية. ولولا المعارف الإنسانية لكانت حياة الإنسان كحياة البهائم) . ولو شئنا لشرحنا هذا الكلام بفصول كثيرة ولكننا تقللنا منه بما سبق، وفي هذا الترتيب الذي وضعنا وضوح تام، وللعمرانيين ههنا شركة في البحث والبيان، وتركنا لهم وظيفتهم التي هي البناء بعد أداء وظيفتنا التي هي الأساس. ولكيلا يفوتنا النصيب من تصحيح أفكار أولئك الذين نعلمهم ناقمين على حب الزينة ونعلم أنهم سينقمون منا تمثيلنا حب الزينة هذا التمثال الذي ستراه البصائر فخيمًا. وكأني بهم رافعين عقيرتهم يقولون هل: يجني الناس منه إلا الدأب والكد العمر كله في طلب الفواني، وهل في سبيل هذه المحبوبات التي لا تنتهي إلا الوقوع في أنواع الرزايا المعروفة؟ لكيلا يبقى هذا الاعتراض بلا جواب نقول: إن الذي قلناه هو وصف لأمر واقع على سبيل العموم والشمول لا حث وحض على حب الزينة، وأن الذي نعلمه أن ذلك الأمر الذي وصفناه طبيعي لا يصده عن النفوس أن ينقم الناس عليه كما أن الأكل مهما سببناه لا نستغني عنه، ثم إننا نعلم أنه لا يقول ذلك القول إلا واحد من ذينك الاثنين الضدّين المتسفّل في دركات العواجز من الحيوانات التي تكره الحركة وتهوى السكون، والمتسامي بعقله إلى ما فوق الفواني المتجافي عن الزوائد من مقومات الحياة الماديّة تشوُّفًا إلى المعقولات العالية. ومن عجبٍ أن يتَّحدا في قولهما مع اختلافهما في نيتهما. ولم يكن ذلك إلا لأن الثاني فاتته حكمة الاعتبار بأصل الفطرة وسرها، وفاته النظر إلى الواقع ونفس الأمر، ولم يبق علينا إلا أن ننظر هل يجوز لنا أن ننهى عن حب الزينة والجمال؟ والجواب: لا يجوز لنا ذلك لأنه لا يجوز لنا أن نحاول العبث. وهذا هو وجه الحقيقة الذي لاح لأهل علمنا فشهدوا كما رأوا. وعلماء العمران ستراهم يقيمون أشد النكير على رجل يقول بجواز النهي عن حب الزينة. ونحن في أمن من هذا لعلها (الوغى) لأننا لا نزيد على قولنا: (إنه لا يفيد) وليس في هذا القول مصادمة لقاعدة أن الحب يدخل تحت (نظام) لأننا لم نخرجه عن النظام بهذه الكلمة ولكن الآخرين يريدون أن يخرجوه عن الوجود لا عن النظام فقط ويوضح هذا مثال: (إذا قلنا لا يجوز النهي عن الأكل مطلقًا لأنه لا يفيد؛ إذ هو أمر بتغيير الفطرة) فلا يفهم أحد قط من هذا الكلام أنه لا يدخل الأكل تحت نظام، فلينظر ذو فكر ما يقول. وقد يذهب ظن القارئ إلى أن محرر هذه الكلمات رجل من غلاة المفتونين بهذه الصور المتحولة الفانية أو تلك المادة الجماد الخامدة، وإني لا أحاسب الناس على ظنونهم ولكن من يحاول التعريف بشيء عن نية صافية يحرص على مقصوده أكثر من ذي أجر وإني حريص أن يأخذ قارئ كلامي بالنصيب الأوفى من علم طبيعة النفوس من حيث المجموع مع مراعاة حالاتها في الاجتماع وحالاتها الشخصية فإني على يقين أن هذا العلم يورث صاحبه سلامة ذوق وسلامة صدر وسلامة فكر ويؤديه إلى الاعتدال الذي هو محور نظام الإصلاح. ومن أجل ذلك أذكِّر القارئ بما استحفظته إياه في صدر الكلام ومنه يعلم أن قليلاً من التدبر يكشف عوارِ كثيرين من الذين كتبوا في الأخلاق والشرائع ويجلي محاسن المحسنين. ومن ههنا أخالف الذين ينهون عن صرف شيء من المال في سبيل حب الزينة، ولا أجد في مذهبهم ذلك رائحة من الحكمة قط؛ بل هو جهل بطبائع الاجتماع فإنه لن يعدم الخاسر ما يستعيض به من الرابح، وإلا لعدم البائع مَن يبتاع. ومن المؤمنين بما قررناه قائل يقول: قد يحتاج الفرد وهو سابح في الأوهام بحب الزينة إلى من ينبهه إلى الأخطار وهو حق ولكن عندي أن يكون المنبه من نفسه في مثل هذه الحالة خيرًا من أن يكون من آخر لنربح في هذا التعود أمرًا هو أعز وأغلى من المال الذي نخسره، ذلك هو التفكر وصدق الإرادة في مباشرة الأشياء، ولا شك بأننا سنلقي أسارى كثيرين في هذه المعارك قد قيدتهم الشهوات الكاذبة بأغلال الخسار، وقذفت بهم الإرادات المريضة في مهاوي الدمار، ولكن أن نعدم أمثال هؤلاء الأسرى وإنْ كثروا خير مِن أنْ نعدَّهم مِن أبطال الجهاد في هذه الحياة. وخير من أن لا نعدهم وكثيرًا ما يختلف طب النفوس عن طب الأبدان؛ لأن أحدها يعالج مرضًا محسوسًا بعلاج محسوس. والآخر يداوي مرضًا معقولاً بدواء معقول ولأطباء النفوس في هذا الباب أدوية - لو استُعملت - شافية ولكن الناس أعاروها آذانًا صمًا، ونريد أن يكون لهم علاج من المحسوسات ذلك ما تعطيه مجاري الأحوال وينتج صحة التفكر وسلامة الإرادة. وآخرون سيقولون لقد أسرف هذا وكاد أن لا يرى في الإسراف شيئًا مذمومًا. كلا، إن الإسراف مذموم عندي كما هو عند الناس كافة ولكن الذين ينهون عنه هو ما دون الإسراف وهو الذي لا أنهى عنه. ولا أريد من هؤلاء أكثر من أن يعلموا أنه لولا أن نصرف المال فيما زين لنا لما وُجد المال، ولكن عِلْمُ هذا صَعُبَ عليهم، ونهوّنه بأنْ نُعلِمهم أن المال ليس شيئًا غير قيمة جملة الأعمال التي يعملها النوع وإذا علموا ذلك فليتذكروا أنه لولا حب الزينة لما كان من حاجة إلى أكثر الصنائع، لولاه لأقفلت أسواق ومصانع يعمل فيها حاج للناس من غير اللوازم الضرورية التي لا تتجاوز ما مثلنا به آنفًا من الغذاء والكساء والإواء. ما إذا زُيِّن لهؤلاء بعض هذه الأسواق والمصانع ودوران فلك الأعمال على هذه الأقطاب الحالية وما داناها في الماضي وما سيفوتها في الآتي فما البأس عليَّ إذا دار الفلك على حسب أحلامهم؛ وإنما البأس على قوم يبلغ بهم الهوس أن يروا الخير والسعادة في أولي السِّير من الحياة وهي سيرة الأُنس بالأوجار والأحجار؛ والفزع من خطور الأشباح وهبوب الأرواح [1] . نتيجة عظيمة وما قررناه أساس متين لبناء نظامي الأخلاق والشريعة. يبنى عليه في الأخلاق ذم جمود النفس الذي من لوازمه نسيان الحظ من الحياة النوعية إلا ما وجدت عليه الآباء. وذم غليانها الذي من لوازمه تجاوز الحدود التي وُضعت لحفظ الحقوق. ومدح الاعتدال. وفي التمهيد نحوت المنحى الذي يفهم منه ذم جمود النفس؛ لأنه الغالب في مشرقنا. ويُبنى عليه في الشريعة الحرية في المطاعم وموائدها، والملابس وأزيائها، والمباني وأشكالها، وغير ذلك من الحاجات اللوازم والتوابع، وكل شريعة لم تُبْنَ في هذه الأبواب على مثل هذا الأساس لا يقوم لها بنيان، ولا يوفق الناس أعمالهم على أحكامها وإن تلوا حروفها، وإذ كانت كل شريعة تنسخ ما قبلها كانت تتقرب من هذا المعنى بحسَب ترقي النوع ولذا كانت الشريعة الأخيرة حائزة هذا المعنى تمامًا. وحرم منها ما يضر بصحة العموم، وما يصادم نفعًا عامًّا أو حقًّا خاصًّا. وما يجمع علماء الأخلاق على مضرته بجوهر النفس وهذا التحريم في الحقيقة معين على صيانتها وحسن التصرف فيها، والمطلعون سيدركون ما وراء هذه الجمل من التفاصيل. ومَن عداهم سيأتيهم التفصيل في مواضع متعددة وحسبُهم الآن أن يتدبروا هذه النتيجة ويفكروا فيها بفكر نقي. حبُّ التميِّز في الفطرة زيادة على حب الزينة حب التميز فلولا هذا الثاني لبلغنا نهاية فيما نحب من الزينة أو غيرها ولكن هو الذي أبعد الغاية على الطالبين. والذين هم أشد حبًا للزينة هم أشد حبًّا للتميز. وعند التأمل في آثار هذه الطبيعة نجدها ينبوعًا للخيرات والشرور معًا. وهكذا نجد الشر موجودًا دائمًا في منابت الخير ولذلك كان تحصيل الخير في هذه الحياة عناءً كبيرًا كالعناء في تحصيل الحنطة من بين الشوك ثم تميزها من الزؤان بل هو أكبر. ولكن أجر هذا العناء عظيم وهو بلوغ الإنسان كماله المعد له

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ الشذرة الثالثة عشر من جريدة الدكتور أراسم [*] السفر من أركان التربية لا ينبغي على أحد ما لِمَا تتأثر به النفس وتحفظه الذاكرة في الصغر من اللصوق والتمكن. هذا شكسبير [1] يدعو حاله إلى اعتقاد أن معظم الفضل في بلوغه تلك المكانة العالية في الشعر يرجع إلى نشأته بالقرب من نهر الآون [2] الأنيق الذي تفيض مياهه على مدينة إستراتفورد [3] وما تحيط به من الأودية الخصبة الغنية بالشجر والنبات ومجاورته لغابة أردان [4] التي كانت متنزهًا له في سنيه الأولى من حياته. يدلك على ذلك أنه لما كتب فيما بعد القصة الهزلية التي عنوانها (كما تحب وترضى) اتخذ هذه الغابة نفسها محلاًّ لأهم منظر من مناظرها ومثل أماكنها للنفوس وجلى مواقعها للأذهان بأوجز العبارات، وأوضح الإشارات، لم يكن هذا إلا لكونه مع نزوحه عن مركز إستراتفورد الذي هو مسقط رأسه لم ينس منظر هذا الريف بل حفظه في مطوى من مطاوي نفسه وهذا أولفيار جولد سميث [5] ذو العقل الثاقب والذكاء المتوقد لم يذهله حين أقام في لوندرة - ما شاهده فيها من الاختلاط والتشوش عن ذكر قرية لشوى التي نشأ فيها ولم يُنْسِهِ ما كان يراه هناك من جدول الماء والطاحون والكنيسة وفندق الحمائم الثلاث وسياج العضاة وغير ذلك من خصوصياتها بل إنه مدحها في القصة التي كتبها فيما بعد وسمَّاها الكميت (الأُوَرْن) . وكان واشنجتون أرفنج [6] الكاتب المجوني الرحَّالة الذي استهوى النفوس ببدائع ظرفه، وخلب الألباب بدقائق وصفه، يحمد الله تعالى أن أنشأه على ضفاف بحرِ أوتسون [7] ويقول: إن ما كسبه طبعي المختلف العناصر من الخير والتهذب يصح أن أُرجعه إلى محبتي لهذا النهر في صغري فقد كنت في حدة الحمية الصبيانية أكسوه بعض الخصائص النفسية وأعتقد أن له روحًا يقوم بها وأعجب ما في طبعه من الحرية والشجاعة والصدق والاستقامة ذلك لأنه ليس من الأنهار التي تبسم صفحاتها عن خداع وتُدْمِرُ السوءَ بما تحتها مِن الشعاب المهلكة والصخور الغدارة بل هو طريق مائي بهي جمع إلى عظم عمقه كثرةَ اتساعه، يحمل السفن التي توكل إلى أمواجه بقلب سليم ونية شريفة، وكنت أتخيل نوعًا من المجد والعجب في استقامة مجراه وسكينته وسلامته الباهرة. إنما مثلت ببعض الشعراء لأنهم هم الذين نعرف شيئًا من أحوالهم النفسية في حياتهم غير أني لا أرتاب أبدًا في أنَّ ما يحتفّ بالناس من الأصول والأمور الخارجية لا يُحْدِثُ في نفوس جميعهم أثراً واحداً وأنهم يختلفون أيضًا في درجة التأثر بها وأن ما شاهده الإنسان في صغره يلازمه في كبره ويصير جزءًا من نفسه وما صحبه من الأشياء وهو يافع لا يجانبه في كبره بل يظهر أثره في صورة خلقه وفي مجرى أفكاره. ليس كل ما يحيط بالإنسان مما تتناوله مشاعره يصلح على السواء لحفظ صحة عقله فقد روي أن ملتون [8] كان يتألم ويشكو مر الشكوى وهو يتلقى دروسه في مدرسة كمبردج الكلية من ضواحي هذه المدينة مُعلِّلاً شكواه بأنها خلو من الظلال الوارفة التي تجذب إلاهات الشعر وتؤويها. وكان روبرت هول الكاتب الإنكليزي الذائع الصيت الذي كان يتعلم في تلك المدرسة بعد ملتون بقرن ونصف - ينسب أول نوبة أصابته من نوبات الجنون إلى استواء الأرض بمركز كمبردج وخلوّها من الرُّبَى والهضاب الشجراء. والناس وإن اختلفوا في درجات تأثرهم بفقد ما هم محتاجون إليه لا أظن أنه يوجد منهم من لا يتأثر ألبتة بما يكون من العيوب والمناقص في المناظر الريفية التي يراها على الدوام اللهم إلا قليلاً لا يُعتد بهم، وإذا صح ذلك فلشد ما يبلغ هذا التأثر السيئ من أذهان الأطفال فإن الرجل البالغ قد حصل له من قوة النفس والخيال ما يكفي لمفاعلة ما يحتف به من الأشياء فحسبه في معظم الأحيان أن يخترق قلبه شعاع من أشعة الحب أو يكون في نفسه وجدان قوي أو تجتمع في ذهنه بعض المعاني حتى يرتقي بالريف المبتذل الذي لا قيمة له في ذاته من شيوع الابتذال إلى الاختصاص بشرف الخيال، وليس هكذا حال الحدث الذي بين الثانية عشرة والثالثة عشرة من عمره فإنه في هذا السن لا عمل له في فطرة ما حوله من المخلوقات إذ ليس في استعداده إذ ذاك ما يكسوها بهاءً، ويزيدها رونقًا ورواءً، بل إنه يتأثر بها كما هي فمن الفوائد الكبرى له أنه يولد أو يتربى بالقرب من بعض المناظر الكونية العظمى كمنظر نهر جميل أو بحيرة أو جبل أو غابة.. منظر الريف في كورنواي منظر مهيب غير أنه واحد لا تغير فيه وليت هذه البلاد كانت أكثر أشجارًا مما هي الآن، فإن مثل اليافع الذي لا يرى قط إلا ناحيةٍ مِن نواحي الكون كالصخور أو البحر كمثل مَن لم يقرأ إلا كتابًا واحدًا. لا بد في تربية الإنسان خصوصًا في صغره مِن تنوع الفواعل لتتنوع آثار انفعاله بها ذلك لأن كل فرد من أفراده يميل إلى بعض المناظر دون البعض حتى يكون من هذا البعض الذي ميل إليه كطبعه في الاختصاص به ومعنى هذا أن ضروب الحسن في الطبيعة تقابلها في نفوس الناس مناسبات ذاتية وليس المنظر الذي يتخيره الإنسان ويرتاح إليه يأتيه على الدوام، عفوًا بل لا بد من السعي وراء تحصيله فمن الناس مَن ينشأ اتفاقًا في سهل من السهول ويكون ميله للمناظر الجبلية ويوافق هذا قول أحد الكُتّاب في وصف رجل لا أذكر الآن مَن هو: إنه عربي وُلد في ظل شجرة تفاح بنورمنديا [9] . قد بلغ (أميل) السن الذي تبدو فيه حاجة الناشئ إلى الاختلاط بما حوله والمربون يخدعون هذه الحاجة في معظم المراهقين بإيتائهم قصصًا في الأسفار وهي ولا ريب أدعى الكتب إلى التفاتهم إليها واشتغالهم بها غير أنه مما لا نزاع فيه أن وصف البلاد بالغًا ما بلغ من قوة البيان وضبط التحرير لا يرتقي في تأدية العلم بها إلى درجة المعاينة؛ بل إنه أدنى منها كثيرًا فلا يمكن أن يستغني به عنها، من أجل ذلك كان سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة هو السن الذي يظهر فيه هوس الملاحة في رءوس الصغار من سكان البلاد المجاورة للبحر كإنكلترا فكم من هؤلاء الصغار البسلاء مَن يصيبهم مِن ولوعهم بالتجوال في الأقطار السحيقة مرض لا يحد ولا يوصف كما يصيب العصفور الخطاف في الفصل الذي يهاجر فيه رفاقه فيتسللون من بيوت أهليهم فلا يعودون إليها في حياتهم. وأما سكان البلاد الأخرى فإن حب السفر لا يكون في الكثير منهم إلا حاجة وقتية لأنهم بعد أن يقضوا بضع سنين على سفر يركبون فيه متن المهالك يرجعون إلى أوطانهم فيعيشون معيشة الاستقرار. الذي يدهشني من المربين هو قعودهم حتى الآن عن البحث في الانتفاع بالأسفار في التربية وجعلها ركنًا من أركانها، إن قيل: إنما يمنعهم من ذلك حاجتهم إلى الزمن: قلت إن السفر إلى أمريكا مثلاً لا يقتضي الآن منه أكثر مما يلزم لتعليم التلميذ شكل الكرة الأرضية تعليمًا فيه شيء من الحق على ما في السفر ومعاينة الأشياء من الفوائد الكثيرة التي لا يستفيدها المتعلم من أي درس من دروس تقويم البلدان كتابية كانت أو شفاهية، وإن قيل: إن ما يقتضيه السفر من النفقات هو الذي يخيف المربين منه ويصدهم عنه، قلت: قد فهمت هذا الاعتراض إلا أنه يوجد من الطرق غير واحدة للسفر بدون كبير نفقة وإنما أكبر العوائق في هذا السبيل هو حذر الآباء والأمهات وخوفهم على أولادهم، فإن فكرة غياب الغلام الغِرّ عن نظر أمه ووكله لأمواج البحار ومخاوف الأسفار وتخليته ونفسه مما يُهَيَّجَ نفوس الأمهات وتثور له قلوبهن. لا جرم أن اهتمامهن بأولادهن حقيق بالاحترام والإجلال ولكن ينبغي أن يُفهمهن القائمون على التربية أنّ ليس في الغياب شيء يقطع أواصر الرحم وأنّ عرى المحبة والوداد تجمع بين القلوب الشريفة والنفوس الكريمة مهما اتسعت مسافة البعد بينها وأنه لا خوف من الحرية إلا على الأبناء الذين لم يبكر بتعليمهم الاستقلال بالسير في هذه الحياة على أنه لا يصح أن تكون محبة الوالدين لأولادهما الأعزاء مقصودًا بها لذاتهما؛ بل لا بد أن تكون غايتها الحرص على مصلحتهم فإن رحمتهما بهم تدب إليها شبهة الأثرة إذا انحصرت في إبقائهم في كنفهما وإن أخل ذلك بتلك المصلحة وفوق ذلك فإنه لم يكن من العبث أن استعملت في أيامنا هذه قوة البخار في طي المسافات السابقة، وتقريب الأقطار المتنائية، وأبعدت والملاحة في فتوحاتها، ورخّصت للناس أسعارها، فأصبح السفر إلى البلاد المسامتة لنا من أسفل معتبرًا عند شبان الإنكليز من قبيل التنزه وتمضية وقت الفراغ في البحر وقد شعر النوع الإنساني بنمو أجنحته للرقي فلا محيص من التسليم، وإني لأخشى أن لا تغني حكمة الشيوخ الزاجرة عن السفر ولا الجدول الأطلانطيقي شيئًا مما يجده خَلَفُنا في نفوسهم من الحمية والحاجة إلى رؤية العالم. جميع الأمم الحرة أمم رحّالة لا يعوقها بُعْدُ المسافات ولا اختلاف الأقاليم ولا العقبات المادية بل ولا تعلقها المتين الأعمى بالزاوية التي تعيش فيها من الأرض. إن القوانين التي جرى عليها توزيع أجيال النوع الإنساني على البلدان قد تحدد بعضها بالفطرة وبعضها بالتاريخ وكثير منها بسياسة الحكومات، وما زال الحاكمون في كل عصر يعنون أشد العناية بأن يعيش المحكومون ويموتون في الأرض التي ينبسط عليها سلطانهم سواء في ذلك الأغنياء منهم والفقراء وقد استنتجوا من كون هذا الأمر مفيدًا لمصالح ملكهم أنه مِن الفروض التي لهم على رعاياهم، ونجحوا في إقناعهم بذلك وكان من أوهام المربين وخيالات الشعراء وأفكار رجال الدين ما تضافر في قرون طويلة على أن يغرس في القلوب غريزة يشترك فيها الإنسان مع العجماوات وهي حبه للمكان الذي ولد فيه، نعم، إنها من الغرائز الحسنة ولا تنس أنها هي السبب في تآلف الجماعات، ولكن لا يعزب عن ذِكْرِكَ أيضًا أنه يسهل أن يساء استعمالها ليبقى المستضعفون من الناس عبيدًا للأقوياء الغاشمين. لما كانت جماعات الإنسان في بداية نشأته قد انحصرت كل واحدة منها في بقعة من بقاع الأرض كانوا معتادين من صغرهم على المعيشة في الأماكن التي يجدون فيها ما يقتاتون به ووصلت بهم في هذه الحالة إلى حَدِّ أنهم قد عدّوا هذه العادات الانحصارية من الفضائل، وأما أنا فلا أعدها إلا معيبة ولا أقدرها بما لا تستحق فما زال الفلاح اللاصق بأرضه يقلبها ويزرعها أدنى منزلة في الجملة من المدنِي والمدني نفسه يستفيد ويرتقي كثيرًا إذا اتسع نطاق معاملاته مع العالم. الأمم التي تكون عالة على أرضها أجنبية عن لغات غيرها في وسعها ولا شك أن تقوم بعظائم الأمور وجلائل الأعمال لكنها تكون أكثر من غيرها استهدافًا لقوارع البغي السياسي، فإنها لا تتأثر من تعطيل القوانين، ولا من إبطال كفالات الحرية ولا من دوس حقوق الأفراد واهتضامها، ذلك لأن أبناءها يلتصقون وهم كالمستميتين بقطعة الأرض التي تؤويهم وقد دنسها الدم الذي سفكه عدوها الظافر وجعل منه قرابًا لسيفه فالاغتراب أشد رهبة في صدورهم من جميع المصائب ولو أحاطت بهم فوادح الخطوب القومية من كل ناحية، فإذا نفى بعض ذوي الوجاهة والنفوذ من الأحزاب المستضعفة إما بحكم الضرورة أو بما يتخذ من طرق القهر في زمن الفتنة كان النفي أبلغ المحن في نفوسهم ألمًا فتراهم حيارى لا يدرون أين يذهبون ولا ماذا يصنعون وقد صارت الدنيا في أعينهم وهم خارجون من ديارهم صحراء يعوزهم فيها الدليل، وموحشة لا يجدون فيها

المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت التعليم الابتدائي لا بد منه لكل فرد من أفراد الأمة صُناعها وزراعها وأجرائها والتعليم العالي لا بد منه لطائفة من خواصّ الأمة الذين يعملون الأعمال الكبيرة كالمعلمين والمؤلفين والساسة والقضاة والأطباء ومديري الشركات المادية وكبار التجار فإذا لم تتعلم الطبقات الدنيا التعليم الابتدائي كان أفرادها كالبهائم لا صلة بينهم وبين المتعلمين ويسهل على كلِّ دجال ومحتال أن يقودهم إلى ما شاء من الشرور، وإذا اكتفى الخواص بالتعليم الابتدائي كان ضررهم في الأمة أشد من ضرر العوام الأميين لأنهم يعجزون عن الرقي بها والقيام بشؤونها الكلية فيختل النظام، ويعتل مزاج المصالح، وينصرف هؤلاء الزعماء إلى الإفساد في الأرض بجهالاتهم وشهواتهم، ولا يكون لهم حظ من التعليم الناقص إلا تقليد الأمم الراقية في الأزياء والماعون والأثاث وذلك يُذهب بثروة الأمة ويمينيها بسوء الأسوة، ويجعلها ألعوبة بأيدي الفاتحين، وحلبانة ركبانة للمستعمرين. ومن العار على مصر أن تكون على سبقها البلاد العربية كلها إلى التعليم العصري خالية من مدرسة كلية للعلوم العالية بجميع فروعها فإن المصريين يشتغلون منذ قرن كامل بالتعليم ومنهم مَن تخرج في مدارس أوربا العالية ومع هذا لم تَسْمُ همتهم إلى إنشاء مدرسة كلية تغنيهم عن المدارس الأجنبية الخالية من لغتهم، ومن التربية الملّية التي تليق بهم، على أن مصر أغنى البلاد العربية وأحوجها إلى العلوم العالية، وخواصها أعرف بهذه الحاجة من خواص مسلمي سوريا وتونس، بله الجزائر ومراكش فإن الكثيرين منهم يرسلون أبناءهم إلى أوربا وإلى سوريا لتكميل دراستهم في مدارسهما العالية. في بيروت عدة مدارس كلية وليس في القاهرة مدرسة واحدة وفي تلك المدارس مئات من أبناء المصريين وقليل من أبناء مسلمي سوريا وإنما كان هؤلاء قليلين لأن الآباء يخافون على عقائد أبنائهم من هذه المدارس فإنها كلها دينية ومديروها ونظارها من القسيسين وهم يُلزمون التلميذ المسلم بدخول الكنيسة وصلاة النصارى فيها. وفي مدارس الجزويت يَحُولون بينه وبين كل ما يذكِّره بدينه حتى إنهم يحرفون ما يطبعونه من كتب المسلمين فينسبون كلام الله فيه إلى الناس المجهولين، وكذلك كلام رسوله عليه السلام ويكذِبون على الإسلام والمسلمين في التاريخ لينفّروا تلامذتهم عنه، وأَمْثَلُ مدارس سوريا وأوربا للمسلم (المدرسة الكلية الأمريكانية) في بيروت فإنها أحسن تربية لما فيها من روح الحرية والاستقلال، واللغة العربية فيها معتنى بها لا سيّما في هذا العهد؛ إذ الأستاذ الأول لعلومها جبر أفندي ضومط صاحب كتاب (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) وكتاب (فلسفة البلاغة) ، الواسع الاطلاع على الآداب الإسلامية، المجبولة طينته بفضيلة الإنصاف، المغرم بتربية النفوس على الفضائل، غرامه بتربية العقول على الاستقلال في طلب الحقائق، الذي يعتمد في علم الأخلاق على كتاب (الإحياء) للغزالي أكثر مما يعتمد على سواه. وقد وجد هذا المعلم المربي مجالاً فسيحًا للعمل بمذهبه في التعليم والتربية على عهد رئيس المدرسة الكلية الحاضر الدكتور (هوردبلس) الذي يقول إن حياة المدرسة في ثلاث: (كلمة لا إله إلا الله) وطلب الحقيقة بالإخلاص، والنظر إلى المخالفين في الدين من جهة الاتفاق لا من جهة الاختلاف. هكذا حدثنا عنه صديقنا جبر أفندي عند زيارته القاهرة في أوائل هذا الشهر وخطبته في كنيسة المدرسة يوم المولد النبوي تؤيد ذلك، وقد نشرت (ثمرات الفنون) يومئذ مُلَخَّصًا فدلَّ ذلك على أن هذا الرجل أشبه بفيلسوف إلهي منه بقسيس نصراني، فأين منه الأمريكان المتعصبون في مصر؟ ! وجملة القول: إن المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت أمثل للمسلم من مدارس مصر وسوريا والآستانة وأوربا فهي مدرسة رَبَّت ولا تزال تربي رجالاً؛ بل هي الآن للمسلم خير منها قبل الآن. أما المدارس الابتدائية فخيرها للمسلمين المدرسة العثمانية الأهلية في بيروت.

الأستاذ الإمام ـ عودته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأستاذ الإمام - عودته عاد الأستاذ من سياحته في أوربا والجزائر وتونس فتلقاه في محطة القاهرة الجماهير من العلماء والوجهاء وهي حفاوة داعيتُها المحبة والإجلال. ولم تُعهد لغيره في هذه الديار وقد أثنى على حفاوة أهل الجزائر وتونس وحكومتيهما به، وقال: إنه رأى روحًا جديدًا في العلماء وتوجهًا جديدًا من فرنسا للمسلمين وإنه يرجو بذلك للبلدين حياة علمية سعيدة، ونهضة إسلامية قريبة، فيأتلف الحاكم والمحكوم ويوجه العلم إلى المعلوم. وسننشر بعض فوائد رحلته فيما بعد.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (كلمة للمشتركين أو كلمتان) لا يكاد يمضي يوم إلا ويجيئنا فيه مع البريد كتاب أو كتب من المشتركين يطلبون فيها أجزاءً ناقصة من (المنار) وقلّما يرسل أحد منهم ثمنها الذي عيَّناه وننشر إعلانه على الغلاف دائمًا، ومنهم مَن يلح في ذلك ويكرر الطلب ولنا العذر في عدم المجاوبة (يراجع الإعلان في الصفحة الرابعة من الغلاف) . هذه هي الكلمة الأولى وأما الثانية فنرجو من المشتركين الكرام - حيث لا وكلاء للمنار - التفضل بإرسال قيمة الاشتراك حوالة على البريد في مصر وأن لا يحوجونا إلى المكاتبة ونفقة التحويل كما فعل ذلك الغني العظيم في بني سويف؛ إذ طالبناه بثمن المجلدات التي اشتراها من المنار وبقيمة الاشتراك فما أغنى عنه الطلب، وحولنا عليه فلم يغنِ التحويل. فلو استن الناس بسُنة هذا الغني لبطلت الأعمال وفسد العمران وهلك الإنسان ولعله يرجع إلينا المجلدات والأجزاء إذا شقّ عليه إرسال ثمنها ولا يحوجنا إلى التصريح باسمه خلافًا لعادتنا. *** (العبرة في ثورة مكدونية) كل يوم تأتينا البرقيات والصحف الأوربية بضروب من أخبار الثورة وآراء أهل أوربا فيها وكلها عِبَر للمسلم، ولكنَّ نَقَلَتَها في صحفنا لا يوجهون النفوس إلى طرق الاعتبار بها، قامت قيامة أساقفة الإنكليز على حكومتهم، وكتبوا يحرضون الأمة على الحكومة لتحملها معهم على الانتصار لنصارى مكدونية، والسعي في إنقاذهم من حكم المسلمين، وقد اضطرت الحكومة أن تدافع عن نفسها، وتبرئها من تهمة مساعدة الدولة العثمانية في الربع الأخير من القرن الماضي، وتفتخر بأنه تيسر بمساعدتها وضع قبرص والبلغار ورومانيا والبوسنة ومصر وكريت تحت لواء أوربا، كما اعتذرت عن عدم السعي في استقلال مكدونية بأن العنصر الأقوى فيها مسلمون متعصبون لدينهم ولسلطانهم. هذا، وإنك ترى أكثر الجرائد الأوربية والمقلدة لها في الوسائل والمقاصد تندد بذبح الأتراك وتنكيلهم بالنصارى في البلاد الثائرة - أي بالثائرين ومساعديهم- ولكنها تمدح الثائرين وتطلب مساعدتهم على إحراق بيوت الله وبيوت الناس والفتك بحكامهم الترك وسائر المسلمين، ولو أن الدولة العلية قصرت أو عجزت عن تأديب هؤلاء الثوار الأشرار لكانت - في نظرهم - أحق بالتأنيب، وأحوج إلى التأديب، وقد كتبت جريدة فرنسية مقالة في هجو اليونان؛ لأنهم لم يساعدوا الثائرين عملاً بمصلحتهم، وقالت الجريدة إن المسألة ملّية يجب فيها العمل بالغيرة الدينية، دون المصلحة السياسية، وقد عرَّبت هذه المقالة جريدة الجوائب المصرية. فليعتبر بهذا المتفرنجون الذي يزعمون أن أوربا فقدت الغيرة الدينية، ويجهلون أنه لولا هذه الغيرة لما ثار ثائر نصراني في كريت ولا مكدونية ولا غيرهما، وأنّ هؤلاء الثوار يعلمون أنهم يعجزون عن الخروج من سلطة الدولة العثمانية بالقوة، ولكنهم يعتمدون على انتصار الشعوب الأوربية لهم، وإلزامها حكوماتها بمساعدتهم، وإن كانت الحكومات تقدم مصالحها على مصلحة الدين فإن من مصالحها أيضًا إرضاء رعاياها ومراعاة إحساسهم الديني! أما هذه الثورة فقد استعد لها المقدونيون في بلاد الدولة وفي بلاد البلغار استعدادًا عظيمًا مبنيًا على العلوم والصنائع؛ فمدارس النصارى في تلك البلاد تعلمهم عمل الديناميت لأجل الاستقلال، وغير ذلك من العلوم والأعمال، والمسلمون لا يتعلمون إلا ما ينكث فتلهم ويقطع روابطهم، فلو صبر الثوار لاستولوا عليهم بالعلم، ولكنهم عجلوا إلى امتشاق السيف، والدولة لم تكن غافلة عما يعملون، ولكن السلطان الأعظم يحب مداواة الأدواء باللين ما وَجَدَ إلى ذلك سبيلاً؛ ولذلك كان يَمنح الرتبَ والوسامات لكل مَن توسم منه الشر، فلما جاء الميقات لم تغنِ الرتبُ ولا الوسامات، وكل ما هو آتٍ آت.

فتك الهيضة في حمص وطرابلس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتك الهيضة في حِمْص وطرابُلس كان فتك الهيضة في هذين البلدين أشد منه في سائر البلاد السورية وقد قلنا في جزء مضى أن أكثر مَن يصاب ويموت به في طرابلس الفقراء الذين لا يبالون بالنظافة ومداراة الصحة ولكن قد مات به في حمص جماعة من خيار أهل العلم والدين وهم: (1) الشيخ محمد المحمود الأتَّاسي: كان هذا الرجل شيخ العلماء وكبيرهم في حمص مات عن ثمانين سنة لم يسأم التدريس والتعليم في أواخرها كما سئم لَبيد الحياة في مثل سِنِّه؛ لأن الإنسان لا تطيب له الحياة بعد ذهاب الطيبين إلا إذا كان له حياة عقلية روحانية ينعم بها وكان رحمه الله تعالى ورعًا قنوعًا لم يأكل قط بعلمه ودينه على أنه كان أكبر العلماء جاهًا ولم يأخذ من مال الأوقاف شيئًا على أنه كان المدرس الأول في الجامع الكبير. وكان عالي الهمة سليم القلب رقيق الطبع حسن الفكاهة حفَّاظًا للناس في غيبهم كحضورهم ويعتقد العارفون بحال البلاد أنه أحد الأفراد الذين حُفِظَ بهم العلم الإسلامي منذ ستين سنة؛ إذ بلغ النهاية من التلاشي. (2) الشيخ أنيس الملوحي وهو من فقهاء الحنفية المهرة وكان مرجعًا للخاص والعام في أحكامٍ في المعاملات لا سيما مسائل الأزواج قضى في سن الخمسين، ولم يكن من الفقهاء الجامدين. (3) محمد سعيد أفندي الحكيم:- كان من الشبان الأذكياء المشتغلين بالعلم المحبين للإصلاح وتعلم الطب من والده وغيره وعمل به ولكن الأجل إذا جاء لا ينفع معه طب ولا ينجو منه طبيب على أنه يقع بسببه ولكن الإنسان لا يهتدي دائمًا للوقوف على الأسباب والعمل بها. (4) الشيخ علي العمري:- أما طرابلس الشام فلم يمُت فيها من الرجال المشهورين بالعلم أو غيره أحد إلا الشيخ عليًا العمري وهو لم يمت بالهيضة الوبائية بل بمرض آخر كما يفهم من ترجمته في جرائد بيروت، مات عن تسعين سنة وكان أكثر الناس يعتقدون صلاحه وكرامته ويتناقلون عنه من الخوارق والغرائب ما لا يُحصى وأشهرها أنه كان ينفث في فنجانة القهوة وقدح الشاي أو يشرب منهما قليلاً فتكون لهما رائحة مسكية ويأخذ عودًا أو قطعة مِن الحصير أو غيره فيضعها في النار فتكون رائحة دخانها كرائحة العمود الهندي ويأخذ عودًا من الكِبريت أو خلالاً فيبله بريقه ويكتب به تميمة لطالبها على أنه كان أميًا. من الناس من يأوّل أمثال هذه الغرائب وينقلون عنه ما هو أغرب منها. ومِمَّا امتاز به على منتحلي الكرامات من شيوخ الطريق أنه كان يأتي بأغرب خوارقه في ملأ الأمراء والوزراء، على أن القوم يخصون بها العامة والأغبياء، وأن مختار باشا الغازي يروي عنه مِن الخوارق مثلما يروي عنه الدَّهمْاء في طرابلس الشام. وقد عرفناه وكان بيننا وبينه مودة ولكن كاتب هذه السطور لم يَرَ منه شيئًا يتعاصى على التأويل. أما أخلاقه فأخصَّها التواضع والمروءة وحفظ اللسان والسعي في مصالح الناس وكان محترمًا عند العظماء مقبول الشفاعة عند الولاة والحكام وقد كان يتهمه بعض الناس بترك الصلاة ولكنني ما رأيته ترك صلاة وأذكر أنه كان نائمًا عندنا في الحجرة التي أنام فيها فاستيقظت في جوف الليل على تهجده ولم أُشعره بذلك، ولم يكن يعاهد الناس على الطريق ولا يجمعهم على الذكر ولا يتكلم بالتصوف ولا الوعظ. تغمده الله تعالى برحمته الواسعة وأحسن عزاء أنجاله ومحبيه.

سورة العصر

الكاتب: محمد عبده

_ سورة العصر اقترح بعض العلماء في الجزائر على الأستاذ الإمام أيام كان عندهم أن يقرأ لهم درسًا عامًّا يستفيدون منه، ويتحقق به تلقِّيهم عنه، ففسر لهم سورة العصر وقد كتب بعض من حضر الدرس ملخص ما قاله الإمام، وكتب بعضهم يقول: إن بعض الكاتبين أخطأوا فيما كتبوا واقترح أن يكتب الأستاذ الإمام نفسه تفسير السورة ويُنشر في (المنار) ليصحح عليه الكاتبون ما كتبوا فعرضنا ذلك عليه فكتب - أيده الله بروحه - ما يأتي: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 1-3) المرجح أن هذه السورة من المكيات. وقد ورد عن الشافعي فيها أنه قال: لو لم ينزل إلا هذه السورة لكفت الناس، وفي رواية عنه: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم، وصح أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا اجتمع اثنان منهم لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر هذه السورة إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الآخر. وقد ظن الناس أن ذلك كان للتبرك وهو خطأ وإنما كان ليذكِّر كل واحد منهما صاحبه بما ورد فيها خصوصًا من التواصي بالحق والتواصي بالصبر حتى يجتلب منه قبل التفرق وصية خير لو كانت عنده. جرت سنة الله في كتابه أن يُقْسِمَ أحيانًا بشيء من خلقه أو بشأن من شؤونه لينبه الناس إلى ما أودع فيه من الحكمة وأنهم إن كانوا قد نسبوا إليه شيئًا من الشر أو ظنوا فيه ضربًا من السوء فهم مخطئون؛ فإن السوء والشر ليسا في هذه الأشياء وإنما هذا في نفوس المستعملين أو المعتقدين وقد كانت أديان يظن أهلها أن هذا الكون الزماني وما فيه كون شر وفساد ومن الواجب على طلاب السعادة أن يحقروه وأن يفروا من طيباته ويجردوا نفوسهم إلى عالم آخر فوق عالم الكون والفساد فجاء الكتاب المبين يبيّن لهم سوء فهمهم عن الله. ومن طرق تنبيههم إلى خطأهم تلك الأساليب التي جاءت في القَسَمِ ووردت في الكتاب. أراد أن يكشف لهم أن هذه الأشياء من حكمة الله بالمنزلة التي تبلغ أن يُقْسِمَ اللهُ بها كأنها مما يعظمه الله، وناهيك بذلك الذي يعظمه خالق كل شيء ووجود كل موجود الذي لا وجود لشيء إلا منه. العصر: إما القطعة المعروفة من الدهر وهو الزمن الذي يعيش فيه المتكلم مع غيره سواء قدّر بعدد من السنين كمئة سنة مثلاً أم لم يقدر، وإما الوقت المعروف من النهار ما بين الظهر والمغرب وكل منهما تصح إرادته. وقد اعتاد الناس سبّ الأول فكلٌّ يشتكي من عصره ويقول: هو عصر جهالة ونذالة، ونقص مروءة، وخبث طويَّة، ورداءة عمل، وينسبون ما شاؤوا من الخير إلى ما كان قبل عصرهم من العصور فأراد الله أن يزعج نفوسهم عن مثل هذا الاعتقاد بأن أقسم به ليدهش عقولهم بتعظيم ما أَلِفُوا تصغيره، ورفع قدر ما اعتادوا تحقيره، والعصر بالمعنى الثاني كان الوقت الذي يجتمع فيه الأعطال من العرب، قريش وغيرها إما عند الحرم أو في مواضع أخر من منتديات الأحياء ويخوضون فيما لا خير فيه من غيبة أو هزء وسخرية أو لغو من الحديث مُلْهٍ عن جد العمل فوقر في نفوسهم أن ذلك الوقت نفسه هو قرارة السوء ومجتمع الشر فدفع الله ذلك عن الزمان إليهم وعلمهم أن الوقت نفسه بمنزلة من الشرف يصلح معها لأن يُقْسِمَ به خالق السموات والأرض فكان عليهم أن يستعملوه فيما يناسب هذه المنزلة ويشغلوه بطيبات الأعمال فيخلصوا بذلك من الخسران الذي لم يلحق بهم إلا بسيئات أعمالهم. إنما ورد هذا القَسَمُ على أي المَعْنيين تأكيدًا للخبر الذي أراد الله أن يسوقه إلينا وهو أن الإنسان في خسر.. إلخ، وإنما احتاج هذا الخبر إلى التأكيد لأن كثيرًا من الناس يظنون أن من الأحوال والأعمال وراء ما ذُكر في هذه السورة ما لا خسار فيه، بل يعتقدون أن السعادة في التخلص من عقد الإيمان والعتق من قيود الفضائل، وانطلاق النفس فيما يسمونه متسع الفكر، وحرية العمل، بدون تحرج من رذيلة، ولا إحجام عن فاحشة، متى كانت تلذ للنفس في العاجل، وإن أدت بها إلى الهلكة في الآجل، وإنّ من الأمم مَن يسعد وإن اتبع أفرادها أهواءهم، وملكتهم شهواتهم، ما داموا يكسبون المال ويوفرون على أنفسهم وسائل القوة في زعمهم، سواء آمنوا أم لم يؤمنوا، عملوا الصالحات أم لم يعملوا، تواصوا بالحق والصبر أم لم يتواصوا، وأمثال هؤلاء الظانين يفوق عددهم الحصر في كل زمان ومكان. (أل) : في الإنسان للاستغراق كما يدل عليه الاستثناء في قوله:] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا [والاستغراق بأل في لسان العرب ليس كالاستغراق بلفظ (كل) الذي يسوّر بها المناطقة قضاياهم الكلية وليست (أل) مساوية لكلٍّ التي تضاف إلى النكرة ويريد بها العربي تعميم الحكم في جميع أفراد الجنس وإنما يراعى في (أل) استغراق المعهود عن المخاطبين لأنها في لسانهم للعهد، وتعريف الجنس إما في فرد أو أفراد ولن تفارق العهد في حال من الأحوال. وكذلك التي يسميها النحاة للعهد الذهني ويتحيرون في الفرق بينها وبين النكرة ثم يقول مَن لا يعرف خصائص اللسان منهم: إنّ الفرق في اللفظ وإجراء أحكامه، أما المعنى فلا فرق فيه، وهو وهم فاسد فإن قول الرجل لعبده: اشترِ اللحم من السوق، لا يُفهم منه أي لحم في الكون بأسره ولا أي سوق في العالم. ولكن قد عهد السيد نوعًا خاصًا تعوَّد العبد شراءه وأسواقًا خاصة هي أسواق المدينة التي يقيم فيها وإن لم يتعين أحدها فالعهد والتعريف به لم يفارقها. والفرق بين المعنى معها في النكرة واضح لمن يعرف خصائص اللسان. والإنسان الذي تجري عليه أحكام الإنسانية ويحدَّث عنه في مثل هذه الشئون هو مَن بلغ سن الرشد عاقلاً يميز بين الخير والشر وليس يخطر بالبال عند التخاطب في مثل هذا المقام الصبيان غير المكلفين ولا المجانين. ولو أتى بلفظ (كل إنسان) لشمل ذلك. ولا تؤدي (أل) مؤدى (كل) إلا بقرينة. فالاستغراق في الآية على حقيقته وهو شامل لجميع أفراد المكلفين من الناس سواء كانوا ممن بلغته رسالات الأنبياء أم لم تبلغهم كما سيأتي بيانه. والخُسر: في اللغة يطلق على الضلال وعلى الهلاك وعلى النقص وكل ما جرَّ عليك عملك من شر فهو خسر لك وخسران وخسارة؛ لأنك كنت تبتغي بعملك الفائدة والثمرة الطيبة تجنيها منه فإذا جر عليك ما كنت تتوقاه، وحرمك ما كنت تتوخاه فقد خسرت لأنك ضللت في القصد، ودخل النقص عليك في بغية نفسك، وأتاك التعب من حيث تطلب الراحة، وكل ما آلمك وأشقاك وأقلق نفسك، واضطرب له قلبك فهو نقص في لدتك. وإذا عملت عملاً وأنت تقصد به سكون القلب، وهناء العيش فحدث انزعاج النفس، ونقص الطمأنينة فقد ضللت به في القصد، وخسرت في السعي، والخسر: في الآية مطلق لا يتقيد بدنيوي أو أخروي، فكل مكلف ممن لم يتصف بالأوصاف الآتية (في السورة) يصيبه حظ من الخسران في هذه الحياة أو في التي بعدها؛ لأن السورة مكية كما قلنا والخطاب في المكيات كانت تراعَى فيه العمومات في كثير من الآيات، كما تراه في سورة {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) مثلاً، والخسر بفقد الراحة وطمأنينة النفس. الإيمان: في هذه السورة مطلق كذلك لم يتقيد بشيء كما ترى ولكنه محمول على ما هو معروف عند المخاطبين، والأمسّ بعموم الخِطاب أنه إذعان النفس لليقين بالفرق بين الخير والشر والفضيلة والرذيلة وبأن على الوجود مسيطرًا يرضى الخير ولا يرضى الشر ويحب الفضيلة ويكره الرذيلة، وأنّ مِن رحمته أنْ يَخُصَّ مَن شاء من خلقه بإطلاعهم على شيء من سره وأمرهم بأن يبيّنوا للناس ما التبس عليهم من مذاهب أعمالهم، ويعرّفوهم مداخل الأهواء الفاسدة إلى قلوبهم، ومسالك الدلائل الصحيحة إلى عقولهم، فيُقبلوا على هذه ويَتَلَقَّوْا ما يُساق إليهم منها، ويسدوا على أنفسهم تلك ويقيموا من العزم حارسًا على نوافذها يمنع ما عساه يهوي إليها، وهذا الإيمان هو المدلول عليه بقوله تعالى في سورة: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) ، {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (الليل: 6) ، وليس الإيمان ها هنا هو التصديق المقرون بالإذعان لتفصيل الأحكام الواردة في شرعنا خاصة، فإن الحكم إنما هو على الإنسان في جميع أمكنته وأزمنته لا يختص بأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ بل يعم الأمم جميعها ماضيها وحاضرها ومستقبلها. فالكلام في السورة لتقرير حكم عام من أحكام الإنسان في نفسه وإنما تدخل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم في رسالة في حكم هذا العام ويكون مَن بلغته تلك الرسالة ولم يصدق بجميع ما ورد به القطعي سندًا ودلالة من نصوصها خاسرًا في الدنيا والآخرة بحكم هذا النص من جهة عمومه وبالنصوص التفصيلية الأخرى التي وردت في كثير في سور القرآن. وليس الإيمان كذلك مجرد ما يسميه الناس اعتقادًا وإن كان بمحض التقليد لا عمل لعقل ولا لوجدان فيه فإن مثل هذا الإيمان قد خسرت معه أمم كثيرة ممن صدقت بمرسلين صادقين، وأنبياء هادين، وإنما المراد منه ذلك التصديق المقرون بطمأنينة النفس وخضوع القوى لحكم ما آمن به {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) ذلك الإيمان هو الذي كان الله ولا يزال ينوط به النجاة من الخسران في الدنيا والآخرة. وسيأتي إيضاح ذلك أيضًا. أما هذا الذي يتلقاه الناس من أفواه آبائهم فينشأ ابن المسلم لا يفهم معنى لما يعتقد أو لما يقول أبوه وإنما ينطق كما ينطق وتأخذه الحمية لما يراه، يحمى له لا يفهم لذلك معنى ولا يجد لنفسه فيه بصيرة كما ينشأ ابن النصراني أو ابن اليهودي أو ابن المجوسي على مثل ذلك، فهو مما لا يعتد الله به وإنما يعتد الله بتلك السكينة الروحية التي تشعر النفس بمهبطها إليها، وذلك العقد القلبي الذي يعرف القلب مكانه منه، هذا هو الإيمان الذي يليق أن يسمى حياة للنفس يعدها للشعور بجميع ما يلزم له وما يصح أن يحمل عليه. أما ذلك الذي سموه إيمانًا هو ليس به فهو مما يقتل النفوس ويهلك الأرواح ويسلك بها مسالك الجهل وينتهي بها إلى مهاوي الهَلَكَة. أما الصالحات: في هذه السورة فهي تلك الأعمال التي عرفت عند الناس بأنها من أعمال الخير النافعة لخاصتهم وعامتهم المتفقة مع مصالحم التي لا تنكرها الأذواق السليمة، ولا تجافيها الطباع المستقيمة، ومنها ما هو من ضروب الشكر لمفيض الخير والإحسان على الخلائق أجمعين كالعبادات الصحيحة التي جاء بها كل دين صحيح في أي أمة من الأمم التي دعيت إلى الأخذ بذلك الدين زمن العمل بشريعتها. ومنها ما هو من ضروب البر كبذل الأموال في طرق الخير والسعي في إغاثة المنكوبين، وإقالة العثار، والعدل في الحكم، وإنقاذ المظلوم من الظلم، ونحو ذلك مما يطول تفصيله، ومنه فضائل الملكات التي تصدر عنها الصالحات كالأمانة والعفة والإنصاف والمحبة والإخلاص وأمثال ذلك. كل هذا يسمى صالحات وإن كان منه ما هو بدني يتعلق به العمل الظاهر، ومنه ما هو نفسي يتعلق به العمل الباطن، والعمل يتعلق بالملكات لأنها إنما تحصل عادة بترويض النفس عليها، ومجاهدتها في سبيل تحصيلها، ويدخل في هذه الأعمال عند كل أمة ما وردت به شريعة رسولها ويدخل فيها ما هُدي إليه العقل ع

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مُقلِّد وصاحب حجة تابع ويتبع (27) واحتجوا لقولهم في استحباب مساوقة الإمام بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما جُعل الإمام ليؤتم به) قالوا: والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله سواء، ثُم خالفوا الحديث فيما دل عليه فإنّ فيه: (فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون) . (28) واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في صلاته، حيث قال له: (اقرأ ما تيسر معك من القرآن) وخالفوه فيما دل عليه صريحًا في قوله: (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا) وقوله: (ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ) فقالوا: مَن ترك الطمأنينة فقد صلى وليس الأمر بها فرضًا لازمًا مع أنّ الأمر بها وبالقراءة سواء في الحديث. (29) واحتجوا على إسقاط جلسة الاستراحة بحديث أبي حميد حيث لم يذكرها فيه وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. (30) واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والسلام في الصلاة بحديث ابن مسعود، (فإذا قلت ذلك فقد تمت صلاتك) ، ثم خالفوه في نفس ما دلَّ عليه، وقالوا صلاته تامة، قال ذلك أو لم يقله. (31) واحتجوا على جواز الكلام والإمام على المنبر يوم الجمعة بقوله صلى عليه وآله وسلم للداخل: (أصليت يا فلان قبل أن تجلس) قال: لا، قال (قم فاركع ركعتين) وخالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا: مَن دخل والإمام يخطب جلس ولم يصلِّ. (32) واحتجوا على كراهية رفع اليدين في الصلاة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما بالهم رافعي أيديهم كأنها أذناب خيل شمس) ثم خالفوه في نفس ما دل عليه فإن فيه: (إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه من عن يمينه وشماله السلام عليكم ورحمة الله) فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك ويكفيه غيره من كل منافٍ للصلاة. (33) واحتجوا في استخلاف الإمام إذا أحدث بالخبر الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر وتقدّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلى بالناس ثُم خالفوه في نفس ما دل عليه فقالوا من فعل مثل ذلك بطلت صلاته وأبطلوا صلاة من فعل مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر ومَن حضر من الصحابة فاحتجوا بالحديث فيما يدل عليه وأبطلوا العمل به في نفس ما دل عليه. (34) واحتجوا لقولهم إن الإمام إذا صلى جالسًا لمرض صلى المأمومون خلفه قيامًا بالخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج فوجد أبا بكر يصلي بالناس قائما فتقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجلس وصلى بالناس وتأخر أبو بكر، ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه وقالوا: إن تأخر الإمام لغير حدث وتقدم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جميع المأمومين. (35) واحتجوا على بطلان صوم من أكل يظنه ليلاً فبان نهارًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا: لا يجوز الأذان للفجر بالليل لا في رمضان ولا في غيره ثم خالفوه من وجه آخر فإن في نفس الحديث: (وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت) ، وعندهم من أكل في ذلك الوقت بطل صومه. (36) واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها) وخالفوا الحديث نفسه وجوزوا استقبالها واستدبارها بالبول. (37) واحتجوا على شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أن يوفي بنذره وهم لا يقولون بالحديث فإن عندهم أن نذر الكافر لا ينعقد ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام. (38) واحتجوا على الرد بحديث تحوز المرأة ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها التي لاعنت عليه ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مال لقيطها، وقد قال به عمر بن الخطاب وإسحاق بن راهويه وهو الصواب. (39) واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه: التمسوا له وارثًا أو ذا رحم، فلم يجدوا؛ فقال: أعطوه الكُبر [1] من خزاعة، فلم يقولوا به في أن مَن لا وارث له يعطى ماله الكُبر من قبيلته. (40) واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (لا يرث قاتل ولا يقتل مؤمن بكافر) ، فقالوا بأول الحديث دون آخره. (41) واحتجوا على جواز التيمم في الحضر مع وجود الماء للجنازة إذا خاف فوتها بحديث أبي جهيم بن الحرث في تيمم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرد السلام ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين: أحدهما أنه تيمم بوجهه وكفيه دون ذراعيه، والثاني أنهم لم يكرهوا رد السلام للمحدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام. (42) واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حجرين بحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذهب لحاجته وقال له: ائتني بأحجار فأتاه بحجرين وروثة فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: (هذه ركس) ثم خالفوه فيما هو نص فيه فأجازوا الاستجمار بالروث واستدلوا به على ما لا يدل عليه من الاكتفاء بحجرين. (43) واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاملاً أمامة بنت العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو سجد وضعها ثم قالوا من صلى كذا بطلت صلاته وصلاة من أتم به، قال بعض أهل العلم ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة (مدهامتان) بالفارسية ثم يركع قدر نفس ثم يرفع قدر حد السيف أو لا يرفع بل يخرُّ كما هو ساجدًا ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح ذلك ولا جبهته؛ بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نفس واحد ثم يجلس مقدار التشهد ثم يفعل فعلاً ينافي الصلاة من فُساء أو ضُراط أو ضحك أو نحو ذلك. (44) واحتجوا على تحريم وطء المسبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة) ، ثم خالفوا صريحه فقالوا: إن أعتقها وزوجها وقد وطئها البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة. (45) واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بها لخالتها ثم خالفوه فقالوا: لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتها. (46) واحتجوا على المنع من التفريق بين الأخوين بحديث علي في نهيه عن التفريق بينهما ثم خالفوه فقالوا: لا يرد المبيع إذا وقع كذلك وفي الحديث الأمر برده. (47) واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقاد يهوديًا من مسلم لطمه ثم خالفوه فقالوا: لا قَوَد في اللطمة والضربة لا بين مسلمين ولا بين مسلم وكافر. (48) واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن لطم عبده فهو حر) ثم خالفوه فقالوا: لا يعتق بذلك. (49) واحتجوا أيضًا بالحديث الذي فيه: (مَن مثَّل بعبده عتق عليه) فقالوا: لم يوجب عليه القَوَد ثم قالوا لا يعتق عليه. (50) واحتجوا بحديث عمرو بن شعيب: (في العين نصف الدية) ثم خالفوه في عدة مواضع منها قوله: وفي العين القائمة السادة لموضعها ثلث الدية، ومنها قوله: في السن السوداء ثلث الدية. (51) واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النعمان بن بشير وفيه: (أَشْهِدْ على هذا غيري) ثم خالفوه صريحًا فإن في الحديث نفسه: (إن هذا لا يصلح) وفي لفظ: (إني لا أشهد على جور) فقالوا: بل هذا يصلح وليس بجور ولكل أحد أن يشهد عليه. (52) واحتجوا على أنّ النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث: (إذا وطأ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب لهما طهور) ثم خالفوه فقالوا: لو وطأ العذرة بخفيه لم يطهرهما التراب. (53) واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشجة ثم خالفوه صريحًا فقالوا: لا يجمع بين الماء والتراب بل إما أن يقتصر على غسل الصحيح إن كان أكثر ولا يتيمم، وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجرح أكثر ولا يغسل الصحيح. (54) واحتجوا على جواز تولية أمراء أو حكام أو متولين مرتين واحدًا بعد واحد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أميركم زيد فإن قُتل فعبد الله بن رواحة فإن قُتل فجعفر) ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا: لا يصح تعليق الولاية بالشرط ونحن نشهد بالله أن هذه الولاية أصح ولاية على وجه الأرض وأنها أصح من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها. (55) واحتجوا على تضمين المتلف ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين فرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صاحب القصعة نظيرها ثم خالفوه جهارًا، فقالوا: إنما يضمن بالدراهم والدنانير ولا يضمن بالمثل. (56) واحتجوا على ذلك أيضًا بخبر الشاة التي ذُبحت بغير إذن صاحبها وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يردها على صاحبها ثم خالفوه صريحًا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يملكها الذابح بل أمر بإطعامها الأسارى. (57) واحتجوا في سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يسرع إليه الفساد بخبر: (لا قطع في ثمر ولو كثر) ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع أحدها أن فيه: (فإذا آواه إلى الجرين ففيه القطع) وعندهم لا قطع فيه آواه إلى الجرين أو لم يؤوه. الثاني أنه قال (إذا بلغ ثمن المجن) وفي الصحيح أن ثمن المجن كان ثلاثة درهم وعندهم لا يقطع في هذا القدر. الثالث أنهم قالوا ليس الجرين حرزًا فلو سرق منه تمرًا يابسًا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع. ((يتبع بمقال تالٍ))

درس عام في التعليم الإسلامي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ درس عام في التعليم الإسلامي أول خطاب ألقاه الأستاذ الإمام في تونس على ملأ عظيم من العلماء والفضلاء ولخصته جريدة الحاضرة التونسية الغراء ونحن ننقل عنها كل نقل المؤيد والثمرات مع شيء من التصحيح بإذن الإمام. إن بعض إخواننا الذين عرفناهم في تونس قد طلبوا من الفقير مسامرة أو محاورة وربما كان ذلك اصطلاحًا عندهم ثُم قالوا درسًا فسألني بعضهم عن ذلك فقلت: نعم هو درس ولكن لا تظنوا أنه درس في تحقيق مسألة علمية فإن عندكم من جلة العلماء مَن نعترف بفضلهم، فمن أراد تحقيق مسألة علمية فليراجعهم، أما هذا الفقير فرجل سائح قصدت هذه الديار للتعرف ببعض المسلمين والنظر في أحوالهم وأمور دينهم من حيث العلم والتعليم ولذلك لما أجبت طلبهم في إقراء الدرس ما قصدت إقراء درس حقيقي؛ ولكن التكلم فيما يختلج بفكري من أمر التعليم والعلم والإعراب عما في ضميري مما أتمناه لإخواننا المسلمين من التقدم في العلم. وقد رأيت في بلاد الإسلام التي سِحْتُ فيها عدة أناس يشتغلون بالعلم ولكني وجدت عند الأغلب اشتباهًا في ما هو العلم الذي يُنفق الوقت في تحصيله. هذا فيما يخص الأمر المهم الذي أكرره لكم ولا زلت أكرره من أهمية التعليم حتى يُنتج ذلك التكرار ما نتمناه من التقدم ما دام الناس في حاجة إلى التكرار. ثُم إن هناك مسألة مشتركة بيننا وبينكم عامة في سائر بلاد الإسلام وهي مسألة الرضاء بالموجود ولها تعلق أيضًا بالتعليم. فإذا ذكرت نقصًا أو عيبًا في طريقة أو في حالة من الأحوال قيل لك ماذا نصنع ونحن أناس متوكلون على الله وهذا مراد الله من عباده؟ ! وهو عذر المقصر عند تقصيره في بلاد الإسلام وعون على ما نراه من النقص في طرق تحصيل العلم ولذلك أردت ضمه إلى مبحث التعليم. معنى العلم أما الكلام في معنى العلم فليس الغرض منه الخوض فيما اصطلح عليه علماء السلف الصالح أو غيرهم من المتكلمين أو الفلاسفة أو غيرهم حتى من الزنادقة؛ لأن هذه ألفاظ اصطلاحية طالما شغلت أهل العلم بتغيُّرها والأخذ والرد في معانيها. مع أن واضعيها إنما حددوا بها المعاني حتى تنضبط ويسهل تناولها والوصول إليها، ولكن يصح أن يقال فينا وفيهم إنهم أرادوا خيرًا فاستعملنا شرًا. ولذلك أترك الألفاظ الاصطلاحية وأتكلم في معنى العلم من حيث هو معروف في الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح وعلى لسان العامة والخاصة. العلم جاء ذكره في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) .. الآية، وهو استفهام إنكاري معناه أنه لا يستوي عالم وجاهل. وقال تعالى: {هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} (الرعد: 16) : أي أن الظلمة لا تساوي النور فبيَّن لنا تعالى أن الظلمة مثال لحال من لا يعلم وأن النور مثال لحال من يعلم. فتبيّن من ذلك أن عدم العلم يشبه الظلمة ونحن نعلم ما يكون من الإنسان إذا اشتد به الظلام وهو سائر في طريق يقصد غايةً معلومة؛ فإن الظلام يعمي عليه الطريق وربما سلك طريقًا يبعده عن مقصده. وقد يصادف مهواة فيسقط فيها فتدركه هلكته قبل الوصول إلى غايته. وهذه حال الجاهل بوسائل أي غاية من الغايات التي يعرض للإنسان قصدها في حياته، فكلُّ مَن طلب غاية في حياته بدون علم لا يصل إليها. وحينئذٍ فيؤخذ من هذه الآية الكريمة أن الله تعالى بيَّن لنا أن العلم للإنسان كالنور لا بمعنى أن العلم سراج أو مصباح وإنما ذلك مثل لحال من يعلم الطريق المُوصِّلة له إلى مطلبه والوسائل المؤدية إليه. فإن حاله يشبه من يمشي وبين يديه نور يبين له السبيل ويكشف له ما فيه من الموانع فيتجنبها أو يذللها حتّى ينتهي إلى غايته ظافرًا بعافيته وسلامته؛ لأن الآيات والأعلام المنصوبة لا يراها المغمور بالظلام وإنما يراها المبصر بالضياء والنور ولما كان العلم ضوءًا يهدي إلى الخير في الاعتقاد والعمل كان أول ما نزل على النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب قوله تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 1-2) .. الآية فافتتح الله الوحي بتعليم القراءة، والقراءة تَعَلُّم، وجاء في الحديث الشريف أنه قال في أول مرة: (ما أنا بقارئ) وما زال الملك به حتى قرأ الآيات. ثم بعد أن أمر تعالى بالقراءة من لا يقرأ عادة وبيَّن له أن الذي يأمره بالقراءة هو الذي خلق الخلق كله وهو قادر على أن يقرئه بعد أن لم يكن قارئًا وأنه الذي خلق الإنسان الحي الناطق المفصح عما في نفسه من علق أي دَمٌ منجمد لا عقل فيه ولا نطق فهو قادر على أن ينشئ فيه القراءة والعلم وإن لم يسبق له تعلم. بعد أن ذكر هذا قال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) فخص من العلم العلم بالقلم والكتابة تنويهًا بشأن التحرير والبيان وتنبيهًا على عظم فائدته وهو إنما يكون بعلم اللسان والبراعة فيه. لا نريد من العلم تصور القواعد وإنما نريد منه ملكة الإفصاح والبيان وكون المراد منه هذا أمر بديهي إذ لولا الكتابة لما وصلْنا إلى درجة من الدرجات التي نراها. فافتتاحُ الله تعالى الوحي بطلب العلم والثناء عليه سبحانه بأنه هو الذي علمه ووهبه الإنسان إرشادٌ إلى فضل العلم وحثٌّ على تحصيله خصوصًا العلم بالقلم. فالعلم ما يبصر الإنسان في الغاية التي يطلبها ويهديه إلى الحق الذي هو مَعقد النجاة قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم: 22) ولم يقل للجاهلين أو الغافلين. فإذا كان للعلم هذه المزية فلا يصح أن يكون العلم المُمَثَّل له بالنور إلا علم إرشاد وتبيين، ثم جاء في الأحاديث والأدعية المأثورة قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علمًا) [1] كأنه يقول اللهم اجعل علمي علمًا صحيحًا ينطبق على ما بينته في كتابك، ويُروى أنه قال: (إذا أتى عليَّ يوم لا أزداد فيه علمًا فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) [2] ثم إننا نجد في الآثار وأقوال العلماء غير ذلك ما يطول ذكره كما تجدون فيما يدور على ألسنة الناس عند ذكر العلم ما يرشد إلى أنهم لا يفهمون من العلم إلا معنى التبصر في أي أمر من الأمور والإتيان به على الوجه الأكمل بقدر الاستطاعة، فتبين من ذلك إذًا أن معنى العلم الحقيقي الذي أثنى اللهُ عليه وميّز به المهتدين من الضالين هو الكشف عن الأمر الحقيقي بحيث إذا أراد أن يُميلَك عنه مميلٌ لا يقدر على ذلك كمن عرف طريقًا موصلة إلى غاية فلا يعدل عنها مهما حاول مضله. فلا يكون العلم حقيقيًا ولا تنبعث النفس إلى تحصيله إلا إذا كان كذلك بالنسبة إلى الغاية المطلوبة منه فإذا وجدنا من العلم ما يوصلنا إلى البصيرة بما نقصد من الغاية في مدة قصيرة كيومين مثلاً ورأينا ما سمي علمًا ولكنه إنما يوصلنا في مدة أطول كأربعة أيام مثلاً كان لنا أن نعد الأول علمًا حقيقيًا لأنه أرشدنا إلى أقرب طريق مؤدية إلى الغاية وأن نعد الثاني غير علم لأنه عاقنا عنها وأوجد لنا العثار فيها فالعدول إليه سقوط في الضلة. وأولى بأن يسمى ضلة علمٌ يقصد بتحصيله غاية ثم هو لا يؤدي إلى تلك الغاية بالمرة بعد إنفاق الزمن الطويل في تحصيله. فتسميته علمًا من الخطأ الذي لا يتفق مع ما جاء في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة واستعمال الخاصة والعامة. ولكن من الناس من يقول لك العلم يطلق بإطلاقات ثلاثة: الإدراك والقواعد والملكة، فتحصيل القواعد وإن لم تحصل الملكة يسمى علمًا على الحقيقة فاشتغالنا بتحصيله اشتغال بتحصيل العلم غير أن هذا القائل لم يراعِ ماذا قصد المسمي للقواعد علمًا فإنه لم يضع لها هذا الاسم إلا لأنها توصل إلى الغاية في رأيه. فإذا استعملت لغير الغاية فقدت معناها وعُدَّتْ من الشواغل عن العلم المطلوب، فإن شاء سمّى هذه الشواغل جهلاً؛ لأنها ضلت عن العلم وإن شاء فليسمِّها علمًا كما يهوى، لا كما يعرف الناس! ((يتبع بمقال تالٍ))

المدارس المصرية لا تربي رجالا مستقلين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المدارس المصرية لا تربي رجالاً مستقلين رد على المقتطف نقل المقتطف الأغر المقالة التي كتبناها في الجزء الثالث عشر تحت عنوان (شكوى الأمهات من تربية البنات) واستحسن محرره الفاضل ما كتبناه في التربية العقلية وكون العقل المستنير يقوى أخيرًا ويكون من وراء قوته الإصلاح المطلوب. وأنكر قولنا: (إن العلم الذي يعلم في المدارس المصرية لا يقصد به إلى إصلاح النفوس وارتقائها وجعل المصريين سعداء أعزاء) وقال: إن هذا خطأ على ما يُعْلم ويا ليته قال: على ما نظن؛ فإنه يظن ظنًّا وما هو بمستيقن وعلل علمه بقوله: (لأن نظار المدارس ومعلميها يشغفون بالتعليم والتهذيب شغفًا حتى يتفانوا في تعليم التلامذة وتهذيبهم كما يشغف كل عامل بعمله، وهذا نعلمه بالخبر مدة تعلُّّمنا في المدارس الأجنبية نحن ونساؤنا ومدة مشاركتنا لهم في التعليم. فالوصمة التي وصمهم بها جائرة جدًّا ولو اختبر اختبارنا لقال قولنا. ولا نقول إن ذلك يعم كل النظار وكل المدرسين ولكنه شامل لأكثرهم، ولا شبهة عندنا أن أثر المدارس المصرية وطنية كانت أو أجنبية حسن جدًّا وأنه لم يظهر حتى الآن ظهورًا باهرًا لأنها قليلة بالنسبة إلى اتساع البلاد ولأن النجاح لا يظهر جليًّا لمن لم يراقبه عن قرب ويرى تدرُّجه البطيء ولكن لو قابل حضرته حال هذه البلاد العلمية والأدبية الآن بحالها منذ عشرين سنة لرأى بين الحالين بَوْنًا شاسعًا ورآها الآن أرقى مما كانت كثيرًا وسيزيد هذا الارتقاء في العشرين سنة التالية أضعاف ما زاد في العشرين سنة الماضية) هذه عبارة المقتطف بنصها. يقرأ القارئ في بعض الأحيان شيئًا فيعلق بذهنه شيء مجمل منه فينكره غافلاً عن التفصيل الذي لا مذهب معه لإنكار ثم يستدل على إنكاره بما لا دلالة فيه أو بما فيه الحجة عليه وبمثل هذا وقع صاحب المقتطف في تحفظ دعوى المنار على ما نعهد فيه من التحري في النقد. لم يكن الكلام في مقالتنا تلك مبنيًّا على الطعن في معلمي المدارس المصرية ولا في نظارها فيرد علينا بدعوى تفانيهم في التعليم والتهذيب. ولم يكن أكثر منا اختبارًا لهؤلاء المعلمين والنظار فيصح له أن يقول ما قال، وليس قياسه المدرسة الكلية الأمريكانية التي تعلّم فيها على المدارس المصرية قياسًا صحيحًا، وليس البَوْنُ الشاسع بين حال البلاد اليوم وحالها منذ عشرين سنة نتيجة حسن التربية والتعليم في المدارس المصرية وكون الغرض منه تربية المصريين على الاستقلال والفضائل والترقي الصوري والمعنوي. وإننا نشرح هذه المسائل بعض الشرح فنقول: تبين من امتحان الشهادة في هذا العام أن مدارس الحكومة أكثر من غيرها نجاحًا ومثلها مدرسة خليل أغا ومدرسة أم عباس وأن المدارس الأجنبية أقل المدارس نجاحًا ومعظم تقصيرها في اللغة العربية وعلومها لأن مرسلي الأمريكان والجزويت والفرير والإنكليز لا يهمهم أمر هذه اللغة ولو استطاعوا محوها من بلادها لفعلوا وإنما يهمهم نشر مذاهبهم الدينية ولغاتهم الأعجمية وليس في هذا إصلاح لنفوس المصريين الذين دين أكثرهم الإسلام ولغة جميعهم العربية وإنما تتم سعادة الأمم بآدابها الدينية ورابطتها اللغوية. وإنما يعلمون اللغة العربية في مدارسهم لأجل أن يصيدوا بها الناس ولو أبطلوها لبطلت مدارسهم،، ثم إن هذه المدارس ليس فيها تعليم عالٍ وما دون التعليم العالي لا يُكوِّنُ رجالاً فإذا كان التعليم المطلوب ناقصًا والتربية المطلوبة مفقودة من هذه المدارس فهل يُغني عن سعادة المصريين شغف معلمي هذه المدارس ونظارها وتفانيهم في نشر دينهم ولغاتهم المقصود بهما إفساد دين المصريين ولغتهم؟ ! أما المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت فقد كان التعليم والتربية فيها أفضل ما يعد النصارى للسعادة ولا يقصر عن إفادة المسلمين الذين ليس لهم مدارس عالية في تلك البلاد وقد كان تعليم العلوم في هذه المدرسة على عهد منشئ المقتطف باللغة العربية ثم تحوّل الآن إلى اللغة الإنكليزية فقلَّت فائدتها لأبناء اللسان العربي ومع هذا لا نزال نقول إنها أمثل المدارس في مصر والشام وقد كتبنا في الجزء الماضي نبذة مخصوصة في تفضيلها وما أعوزنا ذلك لخبر كخبر محرر المقتطف الذي تعلّم وعلّم فيها وهو عندنا في علمه وأدبه من آيات تفضيلها. أما مدارس الحكومة التي هي أحسن المدارس في مصر فقد صرّح المحتلون - الذين يديرونها كما يشاءون لا كما يشاء النظار والمدرسون الذين يقيمونهم فيها - بأن الغرض منها إيجاد نفر يخدمون الحكومة ولا يخفى على ذي بصر أن من يعلّم إنسانًا ليخدمه إنما يعلمه ما يعينه على تسخيره في خدمته، وتصريفه بمقتضى إرادته، لا ليكون مستقلاً في نفسه متفانيًا في حب أمته وجنسه، وهَبْ أن المحتلين لا غرض لهم من البلاد المصرية إلا ترقيتها وإعانتها على كمال الاستقلال لتستغني عنهم وعن غيرهم فهل يقول عاقل إن من المصلحة أن يكون التعليم خاصًّا بإعداد المتعلمين لخدمة الحكومة فقط؟ ! تعميم التعليم واجب فلو كانت فائدة التعليم هي خدمة الحكومة كما ترضى لوجب أن نعد أفراد الأمة كلهم لأن يكونوا مستخدمين في الحكومة وإذا كان جميع الأفراد حكامًا فمَن يكون المحكوم؟ الوظائف الكبيرة تنتزع من الوطنيين بأيدي المحتلين وما قضت السياسة بإبقائه لهم فإنما بقاؤه صورة بدون معنى ولقب بدون عمل فنظار الحكومة المصرية لا يبرمون ولا ينقضون، ولا يحلون ولا يعقدون إلا ما يوحيه إليهم المستشارون من الإنكليز فصار المتعلم المصري يائسًا من الاستقلال في أي عمل يعمله للحكومة؛ وإنما يكون التعليم لسعادة الأمة وعزتها إذا كان الغرض منه الاستقلال الشخصي والاستقلال القومي وما أظن أن المنتقد الفاضل يقول إن المحتلين يقصدون بالتعليم إلى الإنعام على المصريين بهذا الاستقلال الذي حصرنا فيه السعادة والعزة القومية ولا ينكر علينا عاقل حصرنا هذا. نعم، إنهم قاموا ببعض الإصلاح ولكن الأجانب يصلحون فيما يستعمرون الأشياء لا الأشخاص. طلب مجلس الشورى في السنة الماضية أن تعرض عليه قوانين التعليم في مدارس الحكومة ونظام التعليم فيها فكبُر ذلك على نظارة المعارف وكابرت في إجابة الطلب مكابرة بعيدة ودافع ناظر المعارف بما أوحي إليه من أهل الحل والعقد مدافعة الأبطال وقد رددنا دفاعه وبينا تهافته في مقالات نشرناها في المجلد الخامس انتقدنا فيها قانون التعليم وسيره وبينا تقصير النظارة بما لا ينفع معها عذر معتذر. ولو كان تعليم نظارة المعارف على الوجه الذي فيه سعادة الأمة وعزتها لما كبر عليها أن يُطْلع مجلس الأمة على قوانينها الداخلية ولأصغت إلى شكوى الأمة من المعارف بلسان مجلسها ولسان جرائدها. لا يوجد في مصر قارئ ولا كاتب ولا محب لسماع الجرائد والوقوف على الأخبار والحوادث إلا وهو يعلم أن التعليم في مدارس الحكومة بيد المستر (دنلوب) القسيس الإنكليزي ولم تبق جريدة وطنية معتبرة في مصر إلا وقد ملأت جو هذا القطر صياحًا في الشكوى من سيرة هذا الرجل وانتقاد أعماله في المعارف و (المقطم) شقيق (المقتطف) لم يرد فيما نعلم هذه الشكاوي التي ترددها جرائد المسلمين والقبط والسوريين والإفرنج مع أنه أنشئ لتأييد سياسة المحتلين ذلك لعلمه بأنها في تفصيلها أو جملتها حق لا وجه لردها. وإذا كان المنتقد الفاضل يعرف من نظار المدارس الأميرية ومعلميها أكثر مما نعرف كما تفيد عباراته فهو لا شك يعرف أكثر مما نعرف من تبرمهم وشكواهم وشدة انتقادهم وتبرمهم من سير النظارة ومن عيوبها وأعني النظار المصريين وأخص بالذكر منهم معلمي العربية لغة البلاد الرسمية. وكل موظف في المعارف يعرف كيف يعاقَب الناظر أو المعلم الذي يثبت لدنلوب أنه انتقد أو اعترض على شيء من سير النظارة السري أو الجهري وهم يعلمون أن هذا الرجل هو المضطلع وحده بهذه النظارة لا بكفاءته ولكن بقوة دولته ثم هم يائسون من قصده إلى الإصلاح الحقيقي الذي يربي الأمة تربية حقيقية فهم يسكتون واجمين، ويهمسون بالشكوى مستخفين، ولئن سئلوا جهرًا ليقولنَّ إننا نحن راضون، وهم عند أنفسهم وعند أكثر الناس معذورون، وقد عيل صبر طائفة من خيارهم فاستقالوا وهم مختارون. إن الأعمال الكبيرة لا يظهر أثرها في الأمم إلا بعد الزمن الطويل ولكن أعمال (دنلوب) قد ظهر أثرها في نظارة المعارف في زمن أقرب مما كان ينتظر، ظهر أثرها في سقوط مدرستين عاليتين من مدارس الحكومة وهما مدرسة (المهندس خانة) و (مدرسة المعلمين التوفيقية) وما أحوج البلاد إلى المدرستين وهذه نظارة المعارف في أشد الحاجة إلى معلمين ولم تغنِ عنها الأوشاب الذين يجيء بهم دنلوب من بلاده في كل سنة هذا بعد ما ألغى التعليم المجاني وأدخل في التعليم الابتدائي اللغة الأجنبية خلافًا لجميع الأمم التي حتَّمت جعله باللغة الأهلية ولا تسل عن اندراس رسوم الدين في المدارس وما في ذلك من إفساد الآداب وتدنيس الأرواح حتى إنك ترى بيوت الفسق في الأزبكية عامرة بالتلامذة وقلما ترى أحدًا منهم في بيوت الله تعالى. هذا حال مدارس الحكومة فما بالك بما دونها؟ يقول المقتطف الأغر إن البلاد ارتقت في العشرين سنة الأخيرة بالتعليم حتى فاقت هذه السنين ما قبلها بالرقي فوقًا ظاهرًا. ونحن نقول: إن هذه البلاد تشتغل منذ مائة سنة بالتعليم والمدنية فإن كان هنا تقدم ظاهر في شي من الأشياء فهو نتيجة هذا السعي الطويل في مدة قرن كامل ولا ننكر أن لهذه السنين الأخيرة فضلاً في الحرية والعمران وإصلاح الحكومة وأن هذا من حسنات المحتلين ولكننا مع هذا لا نرى فيمن تعلم في هذه السنين الأخيرة رجالاً مستقلين نفتخر بعلومهم أو بأعمالهم ونستبشر بخدمتهم للأمة والبلاد بل نرى خير رجال مصر علمًا وعملاً نفرًا تربوا وتعلموا قبل أن يتحكم دنلوب في مدارس الحكومة. ثم إننا نرى سيرة أكثر المتعلمين ملطخة بفساد الأخلاق والإخلاد إلى الشهوات، والمجاهرة بالمنكرات، والاستهانة بما ينسب إلى أمتهم من الأخلاق والعادات ولا حجة لهم في هذا إلا أنه مخالف لعادات المترفين من الأوربيين، فهم بذلك يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الطامعين، وقد قامت أوربا وقعدت لإقناع إنكلترا باستبدال المِتْر الفرنسي باليَرْد الإنكليزي لأنه خير منه ولتتوحد المقاييس في أوربا فأبت هذه الدولة - التي تعتقد أن عزها وسلطانها بالمحافظة على تقاليد سلفها وعاداتهم - أنْ تغيّر مقياسها محتجة بأن الأمة التي يسهل عليها الخروج من العادات القومية إلى عادات الأجانب لا يثبت لها استقلال، ولا يستقيم لها حال، فأين متعلمونا الذين يسارعون في تقليد سفهاء الإفرنج في الشهوات - من محافظتهم على هذه الروابط المقوّمات؟ ! محرر المقتطف الأغر يعتقد اعتقادنا في نقص التعليم في مصر وكونه غير مؤدٍّ إلى الغاية منه ولعله نسي اعتقاده عند تخطئتنا. ولا حاجة لاستشهادٍ على ذلك بأكثر من جواب سؤال له في هذا الجزء الذي انتقَدنا فيه نذكره مع السؤال بنصه وهو: (س) : كثر بيننا عدد المتخرجين من المدارس العالية ولم نسمع أن واحدًا منهم قام بامتحان القضايا العلمية وإنتاج النتائج والاستدلالات التي يقف عليها علمًا وعملاً، فهل ذلك يُعزى لنقص في التعليم أو إهمال من المتخرجين؟ (ج) يُعزى إلى الاثنين وإلى

شذرة باب الآثار الأدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شذرة باب الآثار الأدبية لما قَدِمَ الأستاذ الإمام من سياحته في هذا العام هنأه بالقصائد الطنَّانة جماهير العلماء والأدباء في الأزهر وغيره ونذكر هذه الأبيات للشاب الذي زاحم في بدايته أهل النهاية تنشيطًا له على العناية بالأدب وهو الشيخ مصطفى نجل حسن بك عبد الرازق قال: أقبل عليك تحية وسلام ... يا ساهرًا والمسلمون نيام تطوي البلاد وحيث جئت لأمة ... نُشِرت لفضلك بينهم أعلام كالبدر أتى سار يشرق نوره ... والحق أنَّى حل فهو إمام إن يقدروا في الغرب علمك قدره ... فلَمصر أوْلى منهم والشام فيك الرجاء لأمة لعبت بما ... يلهي الصغار وجدت الأيام لا زلت غيظًا للضلال وأهله ... والله يرضى عنك والإسلام * * * مسيح الهند عثرت في مسيرها الأيام ... أم هو الدهر هكذا والأنام أهله بين ذي هدى وضلال ... ولياليه ذو سنا وظلام وأرانا بمدة العمر نشقى ... وعدو المسوّمات اللجام ليس كل الذين تبصر ناسًا ... إن بعضًا من الطيور الحمام ولكل الورى رؤوس فإن لم ... يكن العقل كانت الأوهام إيه (يا هند) عن مسيحك ما زلـ ... ـت وزالت ببيتك الأصنام كان في جسمك الوباء فقد دب ... إلى العقل بعد ذاك السقام ضلة للفتى ومن تبعوه ... أشرق الصبح والقبور نيام مسحته الجِنَّان أم مسخته ... وتولاه جُلْجُل أم عزام؟ ! [1] وأتته الأقوام تترى ولا غر ... وعلى الجرح للذباب ازدحام وإذا كان في الرؤوس ضلال ... وقفت عند قصدها الأقدام نسخ السيف ذلة ورياءً ... وجدير بناسخيه الحسام أيهذا المسيح إن الليالي ... في بنيها من الزمان سهام وأرى الدهر كالوغى وقديمًا ... كان بين الأنام هذا الخصام فارفع الأرض فوق قرنيك وأمر ... يملأ الأرض بعد ذاك السلام أو فعُد للسماء إن الشياطيـ ... ـن عليهم باب السماء حرام وتحدَّ الورى بسخفك أو سجـ ... ـعك إن الكرى له أحلام لو سألت الحمار حين تراه ... في نهيق لقال ذي أحكام ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى صادق الرافعي

نصيحة الأستاذ الإمام لأهل الجزائر وتونس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نصيحة الأستاذ الإمام لأهل الجزائر وتونس من يعرف الأستاذ الإمام يعرف أن كل حديثه في جميع أوقاته نصح وتعليم فمُجالسه ومُسايره يستفيد علمًا وحكمة في كل أمر من أمور الدنيا والآخرة ولذلك نعتقد أن الذين عرفوه واجتمعوا به في رحلته الأخيرة إلى الجزائر وتونس قد سمعوا منه نصائح لا تُحصى ولكن النصيحة العامة الشاملة التي كان يشافِه بها أهل العلم والدراية في القطرين هي: (1) الجد في تحصيل العلوم الدينية والدنيوية من طرقها القريبة التي أرشد إليها في الخطاب الذي ألقاه في تونس. (2) الجد في الكسب وعمران البلاد من الطرق المشروعة الشريفة مع الاقتصاد في المعيشة. و (3) مسالمة الحكومة وترك الاشتغال بالسياسة. بهذا الأخير يتم لهم كل ما يريدون من مساعدة الحكومة الفرنسية لهم على ما قبله فإن الحكومات في جميع الأرض يضيقون على البلاد التي يستعمرونها ماداموا يعتقدون أن أهلها ساخطون عليهم أو لهم ضلع مع حكومة أخرى. وهذا الإعراض عن السياسة لا ينافي مخاطبة الحكومة فيما يرونه ضارًّا بهم من القوانين والمعاملات فإذا لم تكشف ظُلامتهم بعد الالتجاء إليها في كشفها كانوا معذورين إذا سخطوا وتربصوا بها الدوائر. والمشهور عند العارفين بالسياسة العامة أن فرنسا تبحث دائمًا عن طريقة يطمئن بها أهل الجزائر لحكومتهم وتطمئن هي لرضاهم عنها ولا شك أن هذه الطريقة تنفع الحاكم والمحكوم وعدم السير فيها يضر بالمحكوم أكثر مما يضر بالحاكم. ونحن نعتقد أن الطريقة الوحيدة هي حسن المعاملة من فرنسا وإعراض الجزائريين والتونسيين عن السياسة إلى العلم الذي ينير العقول، والعمل الذي يشغل عن الفضول. وقد ذكرنا في الجزء الماضي أن الأستاذ الإمام أنس من الحكومة الفرنسية هناك الميل إلى هذه المعاملة وأنس من أهالي الجزائر الرجاء الحسن بحاكمهم الجديد (موسيو جونار) وقد ذكرنا في جزء سابق أن الموسيو (روا) يميل في تونس إلى هذا المذهب. حقق الله الرجاء وأصلح الأحوال بمنه وكرمه.

الخطر في مراكش

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخطر في مراكش استفحل أمر الخارج على الحكومة المراكشية وكانت الحرب بينه وبينها سجالاً إلا أن الظفر في جانبه أكثر وقد تبين أن الخارج أو القائم من بيت الملك وهو (مولاي محمد) وأن اسم (أبو حمارة) كان لقبًا مستعارًا. وقد توالى انتصار القائم أخيرًا ويظن أنه لو أنه هاجم السلطان مرة واحدة لرجي أن يظفر ويقضي الأمر. ولا ريب أن كل حال تنتقل إليها تلك البلاد هي خير من حالها الحاضرة في الفتنة وقبل الفتنة بمائة سنة ونيف فإذا ظفر مولاي محمد فلا بد أن تُجدّد البلاد حكومة فيها شيء من القوة والنظام وينتظر أن تكون أمثل من حكومة عبد العزيز، على كل حال فإن هذا مفتون بالزينة والترف فقد كانت البلاد في النزاع أو النزع والدول الأوربية في التنازع عليها وهو على إملاق حكومته يرسل ذلك الشاب التونسي الذي تقرب منه بما يعلمه الخبيرون ليشتري له من أوربا ما تصبو إليه نفسه من آلات الزينة وأدواتها وماعونها وأثاثها ويشتري له من الآستانة الولدان والجواري الناعمات الحسان ليتمتع كما يتمتع غيره مما كان ولا يزال على شاكلته. فتن هذا السلطان بزخرف مدينة أوربا - ويا ليته فتن بقوتها ونظامها - فسلك سبيل أبناء الوارثين المصريين في شراء المركبات الكهربائية ونحوها فجرَّ عليه ذلك ما وقعت فيه بلاده من الويل والثبور. ولقد كنا نصحنا لحكومته منذ ست سنين كما نصح غيرنا من الكاتبين بأن تعتني قبل كل شيء بتأليف قوة عسكرية منتظمة وبنشر المعارف وأن تستعين على هذا بأختها الدولة العثمانية. و (المنار) يرسل من أول نشأته إلى وزير خارجية المغرب الأقصى وغيره من كبراء البلاد ولكن من يقرأ ومن يسمع لنا ولأمثالنا، والمغرور بقوته - وإن وهمية - يرى أنه مستغنٍ عن جميع العالمين {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وكيف ترضى تلك الحكومة الجاهلة أن تستعين بدولة إسلامية أرقى منها وحكام المسلمين قد مزقوا الإسلام وأهله كل ممزق لأجل شهواتهم التي أعظمها عندهم لقب (خليفة وأمير المؤمنين) فلو ذهبت دول الإسلام والإسلام نفسه فداءً لهذه الألقاب لما كان ذلك إلا قرة عين للمغرورين بها. كتب بعض الكاتبين مقالات في جريدة (الحاضرة) التونسية يصفون فيها أمراض تلك البلاد الراجعة إلى الجهل والتمسك بخرافات الخوارق وضعف الحكومة رأى كاتب جزائري أن تسلم تلك البلاد إلى دولة أوربية لتصلحها كما أصلحت بلاده (الجزائر) ورد عليه كاتب تونسي بأن هذا انتحار لا علاج وأن الدواء الحقيقي في التعليم والنظام والقوة وأنه لا يتم هذا لتلك الحكومة إلا بالاستعانة بدولة أوربية وقال إن فرنسا أحق من غيرها لقربها وجوارها. ونحن نقول إنه ليس من مصلحة دولة من أوربا أن تستولي الآن على مراكش استيلاءً تامًّا بمعنى أن تضمها إلى أملاكها لأن المسلمين في كل بقعة وجيل أشجع الناس وأعصاهم على الخضوع للأجنبيين ولا طريق إلى إذلالهم وتذليلهم إلا حكامهم وأمراؤهم فهم الذي يتيسر لهم أن يفسدوا بأسهم بالظلم المقبول منهم على الرأس والعين وببذر بذور الترف والسرف والفسق الذي يدمر البلاد ويهلك العباد، وهذا ثابت بالاختبار والأخبار، وقد أوردنا في المجلد الرابع ما ورد فيه من الأحاديث والآثار. أما إذا استعان سلطان مراكش على تمدين بلاده بدولة أوربية قبل الأخذ بالقوة كما كان يحاول عبد العزيز فيمكن بذلك أن يستولي الأجانب على تلك البلاد بسعي حكومتها ولكن تلك البلاد لا تزال بدوية لم يذللها الضعف كما ذلل البلاد المصرية لمحمد علي باشا بسطوة المماليك وظلمهم فتمكن هو وذريته من الاستعانة بالدول الأوربية على تمدينها هذا التمدين التي كان وسيلة لاحتلالهم فيها وتمكُّنهم منها ولهذا لا نظن أن دولة أوربية تمد يدها إلى مراكش بدون واسطة حكام منها، إنه لم يوجد في هذه القرون التي طغى فيها طوفان أوربا على الشرق حاكم مسلم سلك سبيل الرشاد في سياسة بلاده فحفظها وجعل لها شأنًا عليًا إلا عبد الرحمن أمير الأفغان الماضي (تغمده الله برحمته) فإنه سلك الطريقة المثلى التي تعلّمها ممن سلكها قبله وهي دولة الروس التي رُبي في بلادها، تلك هي طريقة القوة العسكرية المنتظمة ومنع الأجانب من دخول البلاد إلا بإذن خاص إلى أجل معلوم ثم السعي في نشر التعليم وكان يسهل على مراكش أن تحذو حذوه كما يسهل الآن على دولة الفرس (إيران) لا سيما إذا اتفقت معه. وبلاد مراكش أقرب شَبهًا ببلاد الأفغان فإن الأمتين بدويتان شديدتا البأس لا يعوزهما إلا العلم والنظام. على أن دخول الأوربيين في البلاد بأي صفة دخلوا أقرب إلى النظام والعمران وخير من الخلل والفوضى في الحكومة الأهلية الاستبدادية الجاهلية ولا بد أن يتعلم الأهالي منهم بالتدريج فنون العمران كما نرى في مصر. وكان الأفضل أن يصلحوا أنفسهم بأنفسهم ولكن حكامهم لا يمكِّنونهم ولا يصلحونهم ولا بد من عمران الأرض فإن لم يعمرها أهلها عمرها الآخرون. {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) .

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (58) واحتجوا في مسألة الآبِق يأتي به الرجل أن له أربعين درهمًا - بخبر فيه: (أن مَن جاء بآبق من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينار) ، وخالفوه جهرة، فأوجبوا أربعين. (59) واحتجوا على خيار الشفعة على الفور بحديث ابن البيلماني: (الشفعة كحل العقال ولا شفعة لصغير ولا لغائب ومَن مُثِّل به فهو حر) ، فخالفوا جميع ذلك إلا قوله: (الشفعة كحل العقال) . (60) واحتجوا على امتناع القَوَد بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث: (لا يقاد والد بولده ولا سيد بعبده) وخالفوا الحديث نفسه فإن تمامه: (.. . ومَن مثّل بعبده فهو حر) . (61) واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن وليدة زمعة وفيه: (الولد للفراش) ، ثم خالفوا الحديث نفسه صريحًا، فقالوا: الأمة لا تكون فراشًا وإنما كان هذا القضاء في أمة، ومن العجب أنهم قالوا إذا عقد على أمه وابنته وأخته، ووطئها لم يحد للشبهة، وصارت فراشًا بهذا العقد الباطل المحرم وأم ولده، وسريته التي يطؤها ليلاً ونهارًا ليست فراشًا له. (62) ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية ينشئها من النهار قبل الزوال بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدخل فيقول: (هل من غداء؟) فتقول: لا، فيقول: (فإني صائم) ، ثم قالوا لو فعل ذلك في صوم التطوع لم يصح صومه. والحديث إنما هو في التطوع نفسه. (63) واحتجوا على المنع من بيع المدبر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية، وفي بيعه إبطال لذلك، وأجابوا عن بيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدبر بأنه قد باع خدمته، ثم قالوا لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضًا. (64) واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله: (قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة في كل شرك في ريعة أو حائط) ، ثم خالفوا نص الحديث نفسه، فإن فيه: (لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به) ، فقالوا: لا يحل له أن يبيع قبل إذنه، ويحل له أن يتحيل لإسقاط الشفعة، وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضًا بالشفعة، ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه. (65) واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان، ثم خالفوه نفسه فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه. (66) واحتجوا على أن عطية المريض المنجزة كالوصية لا تنفّذ إلا في الثلث بحديث عمران بن حصين: أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته لا مال له سواهم فجزأهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ثم خالفوه في موضعين فقالوا: لا يقرع بينهم ألبتة ويعتق من كل واحد سدسه. وهذا كثير جدًّا. والمقصود أن التقليد حَكَمَ عليكم بذلك، وقادكم إليه قهرًا، ولو حكّمتم الدليل على التقليد لم تقعوا في مثل هذا؛ فإن هذه الأحاديث إن كانت حقًا - وجب الانقياد لها والأخذ بما فيها، وإن لم تكن صحيحة لم يؤخذ بشيء مما فيها. فأما أن تصحح ويؤخَذ بها فيما وافق قول المتبوع، وتضعف وترد إذا خالفت قوله أو تأول فهذا من أعظم الخطأ والتناقض، فإن قلتم: عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه ولم يعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه وإطراحه - قيل لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة، فإن كانت منسوخة لم يحتج بمنسوخ ألبتة. وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها ألبتة، فإن قيل: هي منسوخة فيما خالفناها فيه ومحكمة فيما وافقناها فيه - قيل: هذا مع أنه ظاهر البطلان يتضمن لِما لا علم لمدَّعيه به، قائل ما لا دليل عليه، فأقل ما فيه أن معارضًا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه، ولم يكن بينهما فرق، ولا فرق وكلاهما مدعٍ ما لا يمكنه إثباته، فالواجب اتباع سنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل القاطع على نسخ المنسوخ منها، أو تجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها وحال الثاني محال قطعًا؛ فإن الأمة - ولله الحمد - لم تجمع على ترك العمل بسنة واحدة إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها، وحينئذٍ يتعين العمل بالناسخ دون المنسوخ، وأما أن يترك السنن لقول أحد، فلا، كائنًا مَن كان وبالله التوفيق. (الوجه العشرون) : أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر الله وأمر رسوله وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أمر الله فإنه أمر يُرَدُّ ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى مَن قلدناه. وأما أمر رسوله فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين وأمر أن يتمسك بها ويعض عليها بالنواجذ، وقال المقلدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول مَن قلدناه، ونقدمه على كل ما عداه، وأما هدي الصحابة فمِن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلاً واحدًا في جميع أقواله ويخالف مَن عداه من الصحابة، بحيث لا يُرد من أقواله شيئًا، وهذا من أعظم البدع وأقبح الحوادث. وأما مخالفتهم لأئمتهم؛ فإن الأئمة نهوا عن تقليدهم وحذروا منه، كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم. وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك منهم قبلوه ودانوا الله به وقضوا به وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه وردوه، وما لم يتبين لهم كان عندهم من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع، لا واجبة الاتباع، من غير أن يُلزِموا بها أحدًا ولا يقولوا إنها الحق دون ما خالفها، هذه طريقة أهل العلم سلفًا وخلفًا. وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق وقلبوا أوضاع الدين فزيفوا كتاب الله وسنة رسوله وأقوال خلفائه وأصحابه فعرضوها على أقوال من قلّدوه، فما وافقها منها قالوا: لنا وانقادوا له مذعنين وما خالف أقوال متبوعهم منها قالوا: احتج الخصم بكذا وكذا ولم يقبلوه ولم يَدينوا به واحتال فضلاؤهم في ردها بكل ممكن، وتطلَّبوا لها وجوه الحيل التي تردها، حتى إذا كانت موافقة لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنعوا على منازعهم وأنكروا عليه ردها بتلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا ترد النصوص بمثل هذا ومن له همة تسمو إلى الله ومرضاته ونصر الحق الذي بعث به رسوله أين كان، ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم، والخلق الذميم. (الوجه الحادي والعشرون) : أن الله سبحانه ذم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون. وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم بخلاف أهل العلم فإنهم وإن اختلفوا لم يفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعًا بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق وإيثاره عند ظهوره وتقديمه على كل ما سواه، فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدهم وطريقهم، فالطريق واحد والقصد واحد والمقلدون بالعكس مقاصدهم شتى وطرقهم مختلفة، فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق. (الوجه الثاني والعشرون) : أن الله سبحانه ذمّ الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون. والزبر الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب الله ما بعث الله به رسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 51- 53) ، فأمر تعالى الرسل بما أمر به أممهم أن يأكلوا من الطيبات وأن يعملوا صالحًا وأن يعبدوه وحده وأن يطيعوا أمره وحده وأن لا يتفرقوا في الدين، فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك ممتثلين لأمر الله قابلين لرحمته، حتى نشأت خلوف قطَّعوا أمرهم بينهم زُبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، فمن تدبر هذه الآيات ونزَّلها على الواقع تبين له حقيقة الحالة، وعَلِمَ من أي الحزبين هو، والله المستعان. (الوجه الثالث والعشرون) : أن الله سبحانه قال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) فخصّ هؤلاء بالفلاح دون مَن عداهم، والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب الله وسنة رسوله، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان. (الوجه الرابع والعشرون) : أن الله سبحانه ذمّ مَن إذا دُعي إلى الله ورسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره وهذا شأن أهل التقليد، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (النساء: 61) ، فكل مَن أعرض عن الداعي له إلى ما أنزل الله ورسوله إلى غيره فله نصيب من هذا الذم، فمستكثر ومستقل. (الوجه الخامس والعشرون) : أن يقال لفرقة التقليد: دين الله عندكم واحد أو هو في القول وضده، فدينه هو الأقوال المتضادة التي يناقض بعضها بعضًا ويبطل بعضها بعضًا كلها دين الله؟ [1] ، فإن قالوا: بل هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضًا كلها دين الله خرجوا عن نصوص أئمتهم، فإن جميعهم على أن الحق في واحد من الأقوال، كما أن القبلة في جهة من الجهات، وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول الصريح، وجعلوا دين الله تابعًا لآراء الرجال. وإن قالوا: الصواب الذي لا صواب غيره أن دين الله واحد وهو ما أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده، كما أن نبيه واحد وقبلته واحدة فمن وافقه فهو المصيب وله أجران ومَن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه، قيل لهم: فالواجب إذًا طلب الحق وبذل الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان؛ لأن الله سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة، وتقواه فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فلا بد أن يصرف العبد ما أُمِر به ليفعله وما نهي عنه ليجتنبه وما أُبيح له ليأتيه، ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلب وتحرٍّ للحق، فإذا لم يأتِ ذلك فهو في عهدة الأمر ويلقى الله ولمَّا يقضِ ما أمره. (الوجه السادس والعشرون) : أن دعوة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة، والواجب على مَن بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه، وإن تنوعت صفاته وكيفياته باختلاف الأحوال، ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يَعرضون ما يسمعون منه صلى الله عليه وآله وسلم على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم قول غير قوله، ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلاً وكان هذا هو الواجب الذي لا يتم الإيمان إلا به، وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة، ومعلوم أن هذا الواجب لم يُنسخ بعد موته ولا هو مختص بالصحابة فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع حب القوة والروابط التي تُحدث القوة إذا رجعنا إلى الأصل والمبدأ في تاريخ كل شيء نصف به أعيان الكائنات نجد ثمّة إما العدم المحض وإما ذرّة لا تُذكر في جنب ما صارت إليه. والإنسان واحد من هذه الكائنات الباهرة. فإذا أخذنا الآن لنظرنا أرقى فرد من أفراده ووصفناه بما هو أهله من العلم واعتدال الخَلْق والخُلُق وصحة الإرادة وقوة العزيمة وما يتبع ذلك من الفروع التي هي أجزاء التكمل فلا بد من أن نحار وننثني في دهشة. وخليق بالأفراد الكاملين أن يحيّروا الأفكار. ولكن إذا راجعنا تاريخ هذه الأجزاء التي حصل بمجموعها ذلك الكمال يجب أن يزيد اندهاشنا حين لا نرى لها وجودًا في الأطوار والأدوار الأُول من حياة هذا الحيوان الناطق. نجد علمه الباهر يرجع إلى عدم العلم؛ إذ خلق الإنسان جهولاً. وقوته الرائعة ترجع إلى عدم القوة إذ خلق الإنسان ضعيفًا. وبالجملة يرجع اعتدال خلقه وخلقه إلى لا شيء؛ لأنه كان جمادًا؛ بل لم يكن شيئًا مذكورًا. وأين النسبة بين البشر السوي، العليم القوي، وبين الجماد؟ ! وأَلْصَقُ شيء بموضوع نفس الإنسان هو بيان تدرجه في كل جزء من الأجزاء التي يكمله اجتماعها ولذلك كان من غرضنا في هذا الفصل الكلام في أعظم جزء من تلك الأجزاء وهو القوة. وقسمنا الكلام إلى ثلاثة أبواب: في الأول نُعرّف القوة ونقسمها ونتكلم على حب الإنسان لها وسببه. وفي الثاني نبين كيف حدثت القوة للإنسان ونتكلم في الروابط الثلاث: رابطة الأديان، ورابطة الأجناس، ورابطة الحكومات، وهو أهم الأبواب. وفي الثالث نذكر ما يحفظ القوة وما يضيعها. وهو صفوة الكلام في هذا المقام. (1) القوة: القوة فاعل ذو أثر. وهي بأنواعها منبثة في كل الموجودات الحسية والغيبية. ويعبر عنها بحسب اختلاف الموجودات واختلاف الاصطلاحات بعبارات شتى كما يعبر عن موجود ما بحسب اختلاف اللغات بألفاظ شتى. وأكثر ما يكون الاختلاف في التعبير عن قوى الموجودات الحسية والتعبير عن قوى الموجودات الغيبية. وقد نسمي قوة حسية روحًا. وبهذا الاسم نسمي قوة غيبية. وقد نسمي في المحسوسات مَلَكَة. وفي الغيبيات مَلَكًا. ولا يعلم جنود الخالق إلا هو. أقسام القوة البشرية: قبل معرفة قوانا وأقسامها يجمل بي وبكم أن نترنم بكلمة سواء بيننا وبين البشر أجمعين ليستقيم بها سبيلنا في العلم. وتقرب غايتنا في العمل. إن القوة الحقيقية هي للخالق وحده، وهي القوة التي لم يسبقها ضعف، ولن يلحقها ضعف. وهي قوة التصرف ببدء المبروآت وتصويرها ونظم شؤونها ومنح خواصها بسائط ومركبات. وهي القوة المقدسة من كل شوب. المادة (أي مانحة المدد) لكل مُصوَّر حتى حين. هذه هي القوة الربانية التي تخشع لها وحدها قلوبنا وتتوجه تلقاءها وجوهنا رهبة ورغبة، وإليها تطير الجوانح شوقًا وهيامًا، وتحن لها الأرواح الواردة من لدنها، وتتنسَّم من كل وجهة إقبال مددها فتحيا برجائها، وتصبر في هذه الدار حتى يأتيها أمرها. أما نحن فليس لنا من قوة إلا ودائع أودعها البارئ في خِلقتنا، لنتغلب فيها على عوالم الأرض التي استخلفنا فيها. ثم لنتغالب فيها فيما بيننا، لنكون فريقين متضادين، أعلين وأدنين، ومن قبل سبقت إرادته في الخلق أن يكون لكل مخلوق مقابل، والخالق يفعل ما يشاء وهو العليم الحكيم، ولو شاء لجعلنا أمة واحدة. ولو شاء لهدانا أجمعين. ولا يسأل سبحانه عن مشيئته. ولكن عن الودائع تسأل كل نفس ماذا كسبت. فبشرى للذين يحسنون صنعًا. أودع الخالق فينا قوى كثيرة. وجعلنا متفاوتين فيها تفاوتًا عظيمًا. فمنا من يرزق قوة منها تعشى لها أبصارنا ونظنها من خوارق العادة وما هي من الخوارق وإنما لديه منها فضل عظيم به يصبح ما لدينا كأن لم يكن. وقِس على الواحدة غيرها. القوى التي فينا تنقسم إلى حسيّة. وعقليّة. وقلبيّة. أريد بالحسية قوى الجسد وبالعقلية قوى الإدراك، وبالقلبية قوى الإرادة. فأمّا القوى الحسية فظاهرة كظهور الجسد. ولحفظها ما وجدت واستردادها إن فقدت علم خاص من صدد موضوعنا أن نوصي به. وأما العقلية فمعروفة بالتأمل ويعرض لها من الأمراض أكثر مما يعرض للقوى الحسية فقسم من أمراضها تابع لطب القوى الحسية. وقسم منها تابع لموضوعنا. وأما القوى القلبية فخفية لا يعرفها إلا قليل من الذين في أنفسهم يتفكرون. والذين لا يعرفونها يشوبون فيها الكلام بكثير من الأوهام. ويعرض لهذه القوى القلبية من الأمراض أكثر مما يعرض للحسية والعقلية. وبيانها وعلاجها هو عين موضوعنا. حب القوة وسببه: حب القوة تابع من توابع حب الذات وهو أعظمها. وله سببان: أحدهما تابع لسبب حب الذات. والآخر مستقل وهو أن الكمال بأصل الفطرة معشوق للنفس، والقوة جزء من أجزاء الكمال ومِرقاة إلى أجزائه. ولعل القارئ لم ينسَ القاعدة التي ذكرناها في باب حب الذات وهي: (متى كان وجود الشيء لازمًا من اللوازم العامة كان طبيعيًّا) . فإذا حفظ القارئ هذه القاعدة يبقى عليه أن يمعن النظر: (هل حب القوة لازم من اللوازم العامة؟) ونسعفه الآن بإبداء ما بدا لنا بهذه المسألة: (إن حب القوة لازم من اللوازم العامة) والدليل عليه من الحس والعقل، أما دليله من الحس فلأننا نجده من متممات الحياة. ولولاه لعدت علينا العوادي الكثيرة التي من أيسرها الجوع فإذا نحن هباء في هواء. ولو استقرأنا استقراءً تامًّا لما ازددنا إلا تصديقًا بهذه القضية. ولنطق لنا كل حي معترفًا بأن هذا الأمر حليف جوانحه كل حين. ولا يريبنَّكم في هذه القضية فئة ترونهم يسعون في إضعاف أنفسهم من إدامة جوع ومواصلة سهر وموالاة قعود في بيت مظلم واستمرار على صمت أو تكرار حروف وكلمات وما أشبه ذلك من أنواع الإضعاف فإن هؤلاء لا يقصدون بصنيعهم ذلك إلا القوة. أعني أنهم يضعفون القوى الظاهرة ليتوصلوا إلى قوى وهمية (هي من فروع القوى القلبية) لها تأثير في مرضى العقول والقلوب. وكم استعبد هؤلاء الموهمون الناس بهذه القوى حتى اتخذوهم آلهة بمعنى أنهم يفيضون ويصرفون الخير والشر لمن أرادوا وعمن أرادوا متى أرادوا بزعمهم! وفئة أخرى يقلدون هؤلاء عن غير معرفة بالطريق ليصلوا إلى تلك الغاية فبشِّرْهمْ بالجنون المطبق إنهم مفتونون! وأما دليله من العقل فلأننا نعرف من كون الإنسان أعظم عوالم الأرض كونه مخلوقًا لأمر عظيم. ونعرف من هذا أن القوة لازمة لهذا المخلوق العظيم. ونعرف من هذا أن حب القوة لازم له لأجل تحصيلها؛ لأنه مخلوق ذو إرادة تسبق الإرادة عمله. ويمكننا أن نأخذ الدليل العقلي في هذه المسألة من عين السبب الذي ذكرناه آنفًا وهو (أن الكمال في أصل الفطرة معشوق للنفس) ولا نبالي بما يتراءى من شبه الدور فإننا طالما عرفنا شيئًا بآخر ثم ازدادت معرفتنا بالأول بواسطة الثاني الذي عرفناه بواسطة الأول وقد يتلازم الشيئان حتى يُستدل على أحدهما بالآخر، ولنا على هذا الأخير أن نستدل على كون الشيء لازمًا من اللوازم العامة بكونه طبيعيًا وعلى كونه طبيعيًا بكونه لازمًا كذلك. وللمتلازمين تارة حكم المترادفين ككلمتي (الطبيعة) و (سنة الخالق) جل وعلا. ومن كونه طبيعيًا أو لازمًا من اللوازم العامة نعرف أنه نافع لأنه تقرّر أن الأشياء الطبيعية (أي التي اقتضتها إرادة الخالق على سنة مطردة) جميعها نافعة نفعًا عامًا. ولكن المرض في العقل قد يمنعه عن أن يرى البعض منها نافعًا وقد يضله عن السبيل المستقيم في الانتفاع منها. فمَن ثمّة يحكمون بمرض الفطرة على فرد لا يحب القوة حبًا يحمله على تحصيلها بقدر الطاقة. وعلى أمة تقصر عن غيرها في القوة بمرض عام في تربية أفرادها تلصق أعراضه بكل واحد منهم وإن كان بعضهم أشد مرضًا من بعض، ويتكون من مجموعها أعراض عامة قاتلة إن دامت. خلاصة: وقد تبين لكم أمران جديران أن يقيدا في لوح الذهن، ذانكم أن: (1) حب القوة (كحب الذات) لازم نافع. وأن: (2) التقصير في حب القوة مرض نفسي واجتماعي. فإنِ امرؤٌ أتاكم معترفًا بمرضه، مستشفيًا من دائه، فانظروا ماذا ينفعه من العمل ومُروه أن يأخذ من العلم ما يلزم لإصلاح العمل. وإن كان مهملاً ولم يشأ أن يعمل عملاً صالحًا للنفس والمجتمع فانتظروا أن تبيده الأقوياء غير مشكور. وإن أمةٌ صُدّت عن النُّذُر، وكفرت بالسنن، فالتمسوا منها مخرجًا إن كنتم فيها وقُوا أنفسكم البوار الهون؛ إنهم قوم بور. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.) ((يتبع بمقال تالٍ))

درس عام في التعليم الإسلامي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ درس عام في العلم الإسلامي والتعليم العلوم الإسلامية ومن هنا يمكنني أن أتخلص إلى الكلام على حالتنا في تحصيل العلم في جميع بلاد الإسلام وهو موضوعنا فنقول: عندنا علوم شتّى نشتغل بتحصيلها ونسميها العلوم الإسلامية، وإنما سميت بهذا الاسم؛ لأن موضوعاتها لها علاقة بدين الإسلام كالفقه وأصوله؛ وهو علم يُبحث فيه عن طريق استنباط الأحكام من أدلتها، وكعلم التوحيد وهو علم إسلامي يبحث فيه عن وجوده تعالى وصفاته الكمالية ثم العلوم النقلية كالتفسير والحديث واللغة والنحو والمعاني والبيان والبديع وما سمي علم الوضع. ومن هذه العلوم وسائل ومقاصد ونحن مشتغلون بجميعها وسائل ومقاصد. ولا حاجة إلى الكلام في تبيين طرق الاشتغال بها عندنا وعندكم. إنما الكلام في أمر عام معروف عند الجميع وهو طرق تحصيل هذه العلوم. علم النحو وتدريسه فالنحو مثلاً يدرس بتونس بكتبه التي تقرأ بمصر كالقَطْر والأشموني والصبّان وله غايتان: الأولى التمكن من فهم كتاب الله وكلام نبيه عليه الصلاة والسلام وكلام سلف الأمة. والثانية إصلاح اللسان من الخطأ. نشتغل بعلم هذه القواعد في هذه الكتب ثم نشغل أنفسنا بالبحث في عبارة المؤلف هل تدل على ما قصده فقائل يقول: نعم، ويأتي قائل آخر يقول لا. وقائل ثالث يرجح قول نعم، ورابع يرجح قول لا، ونحو هذا مما ترونه في التقارير المكتوبة على الحواشي ويطول بذلك الزمان وتضيع الفائدة. وينصرف الذهن عن القاعدة، ثم بعد الفراغ من العلم لا يجد الطالب تقويمًا في لسانه ولا صحة في تحريره ولا قدرة على فهم ما جاء في كلام العرب أو في كتاب الله وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، ويزيد الأمر صعوبة طريقة الابتداء التي اختاروها في تدريس النحو فإن الأستاذ يبادئ الطالب وهو لا يعلم شيئًا من اصطلاحات العلم بتحقيق المسائل وتفتيتها كما يقولون كأنه عريق في العلم. ولا يراعي مقدار استعداده للفهم. وقد وقع لي أني مكثت سنة ونصف سنة لا أفهم شيئًا من شرح الكفراوي على الآجرومية فحملني عدم الفهم على الهرب من طلب العلم لتمكن اليأس من نفسي؛ ولكن لأمرٍ أراده الله قهرني والدي على الرجوع إلى الطلب فهربت في الطريق؛ ولكني صادفت في مهربي مَن علمني كيف أطلب العلم من أقرب وجوهه فذقت لذته واستمررت في طلبه. فعلى الأستاذ أن يكون بيده ميزان يزن به ذهن الطالب ودرجة استعداده لقبول ما يقول. فيجب على المدرس أن يتنازل مع المبتدي إلى درجته ثم يرتقي به شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى الدرجة التي يتمكن فيها من إدراك دقيق المعاني. وهذا الفن - فن معرفة درجات الأذهان وكيفية الاستفادة - فن مخصوص تستلزم قراءته ست عشرة سنة إذا كان شرح المطول يحتاج في قراءته إلى ثمان سنين. ومن أنفق أوقاته في هذا الفن الذي أُلِّفت فيه الكتب وبُسطت في الأفكار فإني أضمن له ثوابه عند الله تعالى أضعاف أضعاف ثواب من يختم إقراء المطول لما أنه يرشدنا إلى الغاية التي طالبنا الله بها. علم المعاني والبيان والغاية منه علم المعاني والبيان علمان يُبحث فيهما عن البلاغة وهي مطابقة الكلام لمقتضى الحال. فما هو ذلك المقتضى؟ نجد الناظر في هذا الفن أو المعلم له يقول هل تتحقق البلاغة بمطابقة الكلام لمقتضى الحال في الجملة أم لا بد من مراعاة جميع مقتضيات الأحوال؟ فإن كان الأول فكيف يعد بليغًا من لم يراعِ الحال كما ينبغي وهو يعلم أنه غير مراعٍ له، وإن كان الثاني فلا تختلف طبقات البلاغة ولا يكون لها أعلى وأسفل. ويطول البحث ويكثر الجدال في ذلك وينصرف الذهن عن البلاغة نفسها ولا يجد الباحث ما يرده إليها. وهكذا نجد البحث يطول في الغالب إلى حد يشغل الذهن عن الغرض المقصود. مع أنه لو قال الأستاذ: البلاغة صفة في الكلام تبلغ المتكلم مراده من نفس السامع على قدر طاقته ثم إنها تكون بمراعاة حال المخاطب، وذلك ينقسم إلى قسمين ما يتعلق بفهم الكلام وما يتعلق بالمعنى الذي سيق له الكلام، فما يتعلق بنَظْم الكلام هو موضوع علم المعاني، ثم ينطلق في بيان ذلك وتقرير المعاني التي سمّاها الإمام عبد القاهر الجرجاني واضع هذا الفن (معاني النحو) . أما القسم الثاني: وهو حال المخاطب بالنسبة إلى المعنى الذي سيق له الكلام فتتوقف معرفته على أمور كثيرة ومعارف جمة يتوصل بها إلى معرفة طبائع الأشخاص ومداخل المعاني إلى قلوبهم، فمن أراد أن يقنع مخاطِبه بعقيدة مثلاً فعليه أن ينظر فإن كان المخاطب ممن لا يقنع إلا بالبرهان فعليه أن يُقِيمَهُ له، وإن كان ممّن لا يدرك البرهان، ولكنه يقنع بالمسلَّمات مثلاً سلك معه له تلك السبيل ولا يكون بليغًا إلا إذا لاحظ ذلك مع ما يتعلق بالنَّظْم: لو سلك الأستاذ هذا المسلك لجمع المعاني الكثيرة إلى ذهن الطالب ووَجَّهَ نفسه إلى الغاية المطلوبة منها ثم إنه بعد ذلك كله لا يعد معلمًا للبلاغة إلا إذا وجّه فكر الطالب إلى ممارسة كلام العرب ونسْج في التحرير والتعبير على ما نسجوا عليه حتى تحصل له ملكة البلاغة ويصل إلى الغاية مِن علمه. فإن غاية هذا العلم تشمل كِلا أمرين: الأول أن يكون الطالب فصيحًا بليغًا فيما يكتب أو يخطب. والثاني أن يقيس بلاغة البلغاء ببلاغة القرآن فيدرك حقيقة الإعجاز. وهذا الأمر الثاني هو في الحقيقة ثمرة الأمر الأول، فإنّ مَن لم يكن بليغًا بالملَكَة والعمل لا يمكنه أن يميز بين طبقات البلاغة. أسهل طرق تعليمه سُئِلَ الأصمعي أي الرجلين أشعَر أمسلم بن الوليد أم أبو نواس؟ فحكم لأبي نواس. فقيل له إن أخاك أبا عبيد يحكم لمسلم بأنَّه أشعر فقال: إن أبا عبيد يروي الشعر، ولكنه لم يكابد مشقة العمل في صناعته فليس أهلاً للحكم، وهذا قول حق فإن مَن لم يذقْ لم يعرفْ. وأمّا ما يظن من أنه يتيسر للطالب بعد معرفته اصطلاحات علم المعاني أن ينظر في كتب التفسير كالكشاف مثلاً ويعرف ما يقول الكشّاف في وجوه بلاغة الآية، وبذلك يكون ممن عرف بلاغة القرآن وإعجازه فليس من كلام المحصلين؛ لأنه لو كفى ذلك لما كانت حاجة إلى صرف الزمان الطويل في تحصيل علم المعاني؛ بل كان لنا أن نقول إن القرآن معجزة لأن صاحب الكشاف قال إنه معجز وننتفع بزماننا في تحصيل ما هو أنفع وذلك مما لا يعقل. ورُبَّ قائل إن المتكلم اليوم يقول ذلك من قبيل من يأمر غيره بالبر ولا يأتمر به فقد عرض بنفسه جزافًا بإلقاء خطبة على أناس لا يدري أخلاقهم ولا يدري ما يقولون بعده ولا يعرف مواضع الخطاب من أنفسهم. فالجواب: نعم لم أقف على هذه الأمور تفصيلاً؛ ولكن مدة إقامتي بهذه الحاضرة كانت مدة اجتماع بأفاضلها وعلمائها وبذلك حصلت لي خبرة إجمالية فخطر ببالي أن ألقي جملة فيما يطابق مقتضى الحال، وفي ظني أن ما أقوله إن لم يقع موقعًا حسنًا من نفوس جميع السامعين فلا أقلّ مِن أن يستحسنه بعضهم وذلك يكفيني في مطابقته لمقتضى الحال. اختلط علينا الأمر بالنظر في المعاني الاصطلاحية، وكثرة البحث فيها وانقلب الغرض منها إلى مصاب نزل بنا في علومنا وعقولنا فانصرفنا بها عما طلب منها. ولهذا يلزمنا أن نأخذ مأخذًا في العلوم يسهّل تحصيلَها وييسرها على الطالب. وفي ظني أنه إذا هذبت طرق التعليم لطالب علم البلاغة مثلاً أمكنه أن يبلغ الغاية منه في ثلاث سنين. وكذلك من أراد بلوغ الغاية من النحو لا يحتاج إلى أكثر من ذلك بحيث يصير الطالب بعد هذا فصيحًا بليغًا مميزًا بين طبقات البلاغة شاعرًا بمعنى إعجاز القرآن قادرًا على فَهم ما جاء في كلام السلف والانتفاع به فيما يصلح معاشه ومعاده. وجملة القول إن الغاية من هذه العلوم العربية هي أن يبلغ المرء بالتعلم مَبْلغًا كان عليه العربي بالسليقة وهذا يحصل بما قدّمناه. ومما يلزم التنبه له في التعليم أنه من حق الإنسان أن يفتح للطالب باب النظر بنفسه في العلوم فيبيّن له القاعدة مثلاً ثم يطالبه بما يراه في انطباقها على جزئياتها في العمل فإنه إذا عوّده على أن يقول له كل شيء، وأن يقوده في كل أمر وقف ذهنه عند حد الاتباع وصعب عليه أن يحقق أمرًا بنفسه فعليه أن يطالبه بالعمل دائمًا ويعلّمه طريقةَ معرفةِ الخطأ والرجوع إلى الصواب. وهذا هو ما يطلب من الدرس بين يدي الأستاذ حتى تحصل ملكة التمييز. أما الوصول إلى غاية الكمال في العلم بقدر الإمكان فأمره موكول لاجتهاد الطالب بعد مفارقة الدرس. ووقوف ذهن هذا المنقاد في كل شأن عن معرفة الأمور بنفسه من الأمور المحسوسة؛ فمن ذلك أني لما جئت هذا البلد كنت أمرُّ من طريق قصيرة من محطة سكة الحديد إلى البيت ذهابًا وإيابًا ولكن مصحوبًا بالسيد خليل بو حاجب وقد رأيت أمس اليوم أن أذهب إلى المحطة راجلاً فبعد أن مضيت في طريقي خطوات قيل لي إن هذا ليس هو الطريق إلى المحطة فرجعت إلى طريق أخرى وطال عليَّ السير حتى صعب عليَّ الرجوع إلى المنزل لتشتُّّت الطرق علي واضطررت إلى سؤال بعض المارة عن المحطة فدلني عليها وإذا بيني وبينها أطول مما بيني وبين البيت الذي خرجت منه. ثم بعد عودي إلى البيت خرجت ماشيًا مرة أخرى بعد نحو ساعة فاهتديت إلى طريق المحطة؛ ولكن وقع لي اشتباه على مقربة منها. ولم تُزَلْ الشبهة إلا بسؤال مار. أما بعد ذلك فإني لا أضل في هذه الطريق أبدًا. فالعصمة من الضلال إنما تأتي في الحقيقة من عمل العقل وحده مع الاستعانة بما أرشد إليه المرشدون الراشدون. الغاية من علم التوحيد ومن العلم ما يكون العلم والعمل به واحدًا كعلم الكلام فإن المقصد منه إنما هو تحصيل اليقين بمسألة كثبوت الوجود لله تعالى وصفاته الكمالية التي ورد النص بإثباتها له ودفع شبه الملحدين الذين ينكرون ثبوت شيء منها وثبوت بعثة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا العلم إن جرينا في تعلمه على التقليد في الدليل كالتقليد في النتيجة، واكتفينا بفهم ما جاء من الأدلة على ألسنة من كتبوا فيها أعرضنا عن الغاية من وضعه؛ لأن اليقين لا يحصل بقراءة الأدلة وخزنها في الأذهان؛ وإنما يحصل بالاستدلال الصحيح وإدراك العقل وجه الدلالة من نفسه بدون تقليد؛ وإنما يعد النظر في دليل المستدل السابق معينًا ومهيئًا للعقل إلى تصحيح النظر. فالطريقة التي يجري عليها أغلب المعلمين ليست من غرض علم الكلام في شيء، ومن الناس مَن إذا سألته في أمر يتعلق بعقيدة من العقائد فاجأك بقوله: لا تقل ذلك فتكفر أو تعتزل، أو ما أشبه ذلك وهو سلاح يتخذه المرتابون في عقائدهم ترسًا يدفعون به ما يخشون من الشبه التي تزلزل عقائدهم ولكن هذا الدفاع يدل على ارتياب صاحبه في عقيدته قبل الدفاع؛ فإن صاحب اليقين يرتاح إلى كل ما يسمع فإن وجد عند مخاطبه شبهة أمكنه أن يزيلها من نفسه. وتلك الطريقة من طرق الدفاع عن العقائد هي التي أغلقت دون المسلمين أبواب العلم، فإنه كلما لاح نور إلهي في يقين الطالب يهديه إلى طلب الحق وجد من هذه الكلمات كالاعتزال والفلسفة ما يخمد ذلك النور فيه. ومن سوء الاستعمال في تعليم هذا العلم أن يعلم الطالب متن السنوسية مثلاً وهو لم يحصل شيئًا من مادي العلوم. فيقال: إن الحكم العقلي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الواجب والمستحيل والجائز، ثم تقرأ له هذه الأقسام بالتعاريف الاصطلاحية وهو على جهل تام بما يدعه لفهم معنى الحكم فضلاً عن أقسامه فيضطر الطالب إلى حفظ هذه الألفاظ بدون أن يحصل من

دلائل الإعجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دلائل الإعجاز اللغة وقوانين اللفظ والنظم اللغة مَلَكَة لسانية، والملكات إنما تكون بمزاولة العمل، فمن زاول كلام قوم زمنًا طويلاً تصير لغتهم ملكة له ينطق بها بغير تكلف. والملكات تتفاوت في أفراد من تكون لهم، فمنهم من يكون أملك بالشيء خلقًا وأملأ به يدًا فيكون العمل به كما تمتطي الريض الذلول، ومنهم من لا يملكه إلا كما يملك الخادم البليد، يريده على شيء فيذهب في غير ما يريد، وتسمى ملكة اللغة في الأول فصاحة وبلاغة، وفي الثاني عيًا وفهاهة. ثم إن كل شيء يتفق فيه كثيرون كاللغة لا بد أن يكون منضبطًا في نفسه بطرق معروفة لهم بالسليقة المكتسبة بالمزاولة إذ لو ذهب كل واحد مذهبًا في القول لا يتفق مع مذاهب الآخرين لما تيسر التفاهم بالتخاطب، وما كان كذلك يسهل أن توضع له قواعد وقوانين تعرف بها تلك الطرق السليقية بوجه كلي يعين على فهم الجزئيات ومعرفة ما عساه يطرأ على ذلك الشيء مما ليس منه في خصائصه التي امتاز بها. ولكن ما ينضبط به الشيء في نفسه لا يشمل في العادة العامة جميع جزئيات ذلك الشيء إلا إذا تواطأ قوم محصورون على وضع قوانين كلية وأخذ الجزئيات منها بالاتفاق بينهم ولم يكن وضع اللغة كذلك، ولهذا كانت القوانين التي وضعوها للعربية شاملة لأكثر الكلام العربي في أوزان مفرداته وضوابط نَظْمه غير محيطة بذلك تمام الإحاطة. بدأ واضعو هذه القوانين بوضع الضوابط العامة التي يشترك فيها جميع أهل اللغة وهي قواعد أبنية الألفاظ المفردة وقواعد التركيب التي يتأدَّى بها المعنى المقصود من التكلم وسموا ذلك علم النحو ثم قسموا هذا العلم إلى قسمين، سموا الآخر منهما الصرف. لما فتحت العرب الممالك الأعجمية ودخل أهلها في دينهم وحكمهم استعرب العجمي واستعجم العربي وصار هؤلاء الأعاجم المستعربون والعرب المستعجمون يتعلمون اللغة العربية بمعونة قواعد النحو والصرف وهي - كما قلنا - موضوعة لما يشترك فيه الجماهير وغير محيطة بما كان ينفرد به بعض أهل اللغة فضعف الناطقون والكاتبون بالعربية عن الترقي في ملكتها إلى الدرجة العالية مما به التفاوت وهي مرتبة الفصاحة والبلاغة واحتاجوا إلى قوانين أخرى ترشدهم إلى المعراج الذي يظهرون عليه إلى تلك المرتبة فكان أول مَن عُني بوضع هذه القوانين إمام اللغة في القرن الخامس للهجرة الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتابيه أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز - الأول في فن البيان والثاني في فن المعاني- وقد كان اسم البيان عامًا لكل ما يُبحث فيه عن البلاغة ثم إنهم من بعد الشيخ عبد القاهر قسموه إلى قسمين خصوا أحدهما باسم البيان وأطلقوا على الآخر اسم (المعاني) أخذًا من قول عبد القاهر إن مسائله هي معاني النحو. قوانين النحو تفيدنا معرفة التراكيب الصحيحة في العربية وكيفية أدائها على وجهها ولكنها لا تفيد متى يرجح استعمال أحد التركيبين اللذين يفيدان معنى واحدًا على الآخر نحو (قام زيد) و (زيد قام) و (عمر المنطلق) , و (المنطلق عمر) والذي يعرفنا موضع كل واحدة من هذه الجمل هو علم المعاني المنتزعة قوانينه من تتبع أساليب البلغاء وملاحظة الأحوال المختلفة التي يتغير التعبير في كلامهم بحسبها ولذلك قالوا: إن البلاغة هي موافقة الكلام لمقتضى الحال. ولكن هذه الأحوال لا تنضبط؛ لأنها تختلف باختلاف معارف المخاطبين بموضوع الخطاب وأذواقهم ومقاماتهم ولذلك كان الطريق الموصل إلى تحصيل ملكة البلاغة هو كثرة مزاولة الكلام البليغ لتحصيل ذوق البلاغة؛ لأن القوانين التي وُضعت للمعاني أقل غَنَاءً من القوانين التي وضعت للنحو وقد علمت أن قوانين النحو غير محيطة، وكتابا عبد القاهر أبين للقوانين وأعون على ذوق الأساليب. ونذكر هنا عبارة كتبناها في خاتمة طبع كتاب (دلائل الإعجاز) الذي تم طبعه في هذا الشهر بينا فيها مكانته من كتب هذا الفن وهي: أما الكتاب فيعرف مكانته من يعرف معنى البلاغة وسر تسمية هذا الفن بالمعاني وأما من يجهل هذا السر ويحسب أن البلاغة صناعة لفظية محضة قوامها انتقاء الألفاظ الرقيقة، أو الكلمات الضخمة الغريبة، فمثل هذا يعالج بهذا الكتاب فإن اهتدى به إلى كون البلاغة ملكة روحية، وأريحية نفسية، رُجي أن يبرأ من علته، ويقف على مكانة الكتاب ورتبته، وإن بقي على ضلاله القديم، وجهله المقيم، فَأَحْكِمْ بإعضال دائه، وتعذر شفائه. إنما وضع الكلام لإفادة المعاني، والبلاغة فيه هي أن تبلغ به ما تريد من نفس المخاطب من إقناع وترغيب وترهيب وتشويق وتعجيب أو إدخال سرور أو حزن وغير ذلك. وكل هذه المقاصد أمور روحانية يتوصل إليها بالكلام. فمعرفة قوانين النحو والمعاني والبيان شرط فيها، ولكنها غير كافية للوصول إليها، بل لا بد من الهداية إلى أسباب كون الكلام مؤثرًا وإيراد الشواهد والأمثلة الكثيرة في المعنى الواحد والموازنة بين الكلامين يتفقان في المعنى ويختلفان في التأثير كقول المعبِّر الأول لذلك الملك الذي رأى في نومه أنه فقد جميع أسنانه: إن جميع أهلك وذوي قُرباك يهلكون، وقوله المعبر الثاني له: الملك يكون أطول أهله عمرًا، وهذا المذهب هو الذي ذهب إليه الإمام عبد القاهر في كتابيه (دلائل الإعجاز) و (أسرار البلاغة) وقد خلف من بعده خلف جعلوا البلاغة صناعة لفظية محضة، فقالوا: المسند يعرف لكذا وكذا وينكر لكذا وكذا.. إلخ، ولم يبينوا السر في ذلك ولم يوازنوا بين مسند منكر عرفته البلاغة وآخر أنكرته وهو مثله ويُبيِّنوا السبب في ذلك ولم يعنوا بإيراد الشواهد والأمثلة والبحث في الفروق. وقد اختار أهل هذه الأزمنة الأخيرة هذه الكتب المجدبة القاحلة على مثل كتب عبد القاهر الخصبة الحافلة لكثرة الحدود والرسوم والقواعد والمشاغبات في كتب المتأخرين فكان أثرها فيهم أن حُرموا من البلاغة والفصاحة حتى إن أعلمهم بهذه الكتب وأكثرهم اشتغالاً بها هو أعياهم وأعجزهم عن الإتيان بالكلام البليغ (بل والصحيح) قولاً وكتابةً. ولا غرو فقد قال أحد كبار مؤلفي هذه الكتب المشهورة إن بعض فحول هذا الفن (البلاغة) ليسوا بلغاء، ففصل بين البلاغة وعلمها وجعله غير مؤدٍّ إليها فلم يبقَ إلا أنه ابتدع ليتعبد به. ولولا أن قيَّض الله تعالى للعربية في هذا العصر أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فطفق يحيي كتب السلف النافعة وعلومها لكنا في يأس من حياة هذه اللغة الشريفة بعد ما قضى عليها حفَظتها وأساتها. فنسأل الله تعالى أن يمد في أيامه. ويكثر من أنصاره وأعوانه. آمين.اهـ. وقد صدر الكتاب بورق جيد، وثمن النسخة 20 قرشًا صحيحًا، وأجرة البريد قرشان، وهو يطلب من إدارة مجلة المنار بمصر.

كتاب نهج البلاغة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب نهج البلاغة قد طبع هذا الكتاب الجليل، المستغني بشهرته عن التعريف، طبعة جديدة مضبوطة بالشكل على نفقة الشيخ محمد سعيد الرافعي الكتبي وهي الطبعة الثالثة بإذن شارحه الأستاذ الإمام وقد طبع في سوريا طبعة أخرى بغير حق. وتعدد الطبع آية على معرفة الناس بقدر الكتاب. ولا نرى وسيلة لتعريف غير العارف به إلا تزيين المنار بخطبة الشارح - حفظه الله تعالى - فإنها في أسلوبها ومعناها صورة مصغرة للكتاب وهي: بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لله سيّاج النعم، والصلاة على النبي وفاء الذمم، واستمطار الرحمة على آله الأولياء، وأصحابه الأصفياء، عرفان الجميل، وتذكار الدليل، وبعد: فقد أوفى لي حكم القدر بالاطِّلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمل أصبته على تغير حال، وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وغطلة من أعمال، فحسبته تسلية، وحيلة للتخلية، فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جُملاً من عباراته، من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات، فكان يخيل لي في كل مقام أن حروبًا شبت، وغارات شنت، وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة، وأن للأوهام عرامة [1] وللريب دعارة، وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام، وصفوف الانتظام، تنافح [2] بالصفيح الأبلج، والقويم الأملج، وتمتلج المهج، برواضع الحجج، فتفل [3] من دعارة الوسواس، وتصيب مقاتل الخوانس، فما أنا إلا والحق منتصر، والباطل منكسر، ومرج [4] الشك في خمود، وهرج الريب في ركود، وإن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. بل كنت كلما انتقلت من موضع منه إلى موضع أحس بتغير المشاهد، وتحول المعاهد، فتارة كنت أجدني في عالم يعمره من المعاني أرواح عالية، في حُلَل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوّم منها مرادها. وتنفر بها عن مداحض المزال، إلى جوادّ الفضل والكمال. وطورًا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة، وأنياب كاشرة، وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور، قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها، واغتالت فاسد الأهواء، وباطل الآراء. وأحيانًا كنت أشهد أن عقلاً نورانيًّا، لا يشبه خلقًا جسدانيًّا، فُصل عن الموكب الإلهي. واتصل بالروح الإنساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت الأعلى. ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمار جانب التقديس، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس. وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة، ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمة، يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصرهم مواضع الارتياب، ويحذرهم مزالق الاضطراب، ويرشدهم إلى دقائق السياسة. ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة، ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير. ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضِيّ رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، جمع متفرقه وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسمًا بما تليق بالدلالة على معناه من هذا الاسم، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه ولا أن آتي بشيء في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما ستراه في مقدمة الكتاب. ولولا أن غرائز الحيلة، وقواضي الذمة تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه وشكر المحسن على إحسانه ما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج البلاغة من فنون الفصاحة، وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصًا وهو لم يترك غرضًا من أغراض الكلام إلا أصابه، ولم يدَع للفكر ممرًّا إلا جابَهُ. إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا. قد نجد فيها غرائب ألفاظ في غير وحشية، وجزالة تركيب في غير تعقيد، فربما وقف فهم المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفردات أو مضمونات بعض الجمل. وليس ذلك ضعفًا في اللفظ أو وهنًا في المعنى، وإنما هو قصور في ذهن المتناول. ومن ثَم همت بي الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة. والمشارفة بالمكاشفة. وأعلق على بعض مفرداته شرحًا، وبعض جمله تفسيرًا، وشيء من إشاراته تعيينًا. واقفًا عند حد الحاجة مما قصدت، موجزًا في البيان ما استطعت، معتمدًا في ذلك على المشهور من كتب اللغة والمعروف من صحيح الأخبار، ولم أتعرض لتعديل ما روي عن الإمام في مسألة الإمامة أو تجريحه؛ بل تركت للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها، والأخبار المأثورة الشاهدة عليها، غير أني لم أتحاشَ عن تفسير العبارة، وتوضيح الإشارة، لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر، وذكر ما أحفظ، تصونًا من النسيان، وتحرزًا من الحيدان، ولم أطلب من وجه الكتاب إلا ما تعلق منه بسبك المعاني العالية في العبارات الرفيعة في كل ضرب من ضروب الكلام وحسبي هذه الغاية فيما أريد لنفسي ولمن يطلع عليه من أهل اللسان العربي. وقد عني جماعة من أجلَّة العلماء بشرح الكتاب، وأطال كل منهم في بيان ما انطوى عليه من الأسرار، وكُلٌّ يقصد تأييد مذهب، وتعضيد مشرب، غير أنه لم يتيسر لي ولا واحد من شروحهم إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم في بطون الكتب. فإن وافقت أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق وإن كنت خالفتهم فإلى صواب فيما أظن. على أني لا أعد تعليقي هذا شرحًا في عداد الشروح. ولا أذكره كتابًا بين الكتب. وإنما هو طراز لنهج البلاغة وعَلَمٌ تُوَشَّى به أطرافه. وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان فائدة للشبان من أهل هذا الزمان، فقد رأيتهم قيامًا على طريق الطلب، يتدافعون إلى نيل الأرب من لسان العرب، يبتغون لأنفسهم سلائق عربية، وملكات لغوية، وكل يطلب لسانًا خاطبًا، وقلمًا كاتبًا، لكنهم يتوخَّوْن وسائل ما يطلبون في مطالعة المقامات، وكتب المراسلات. مما كتبه المولدون، أو قلدهم فيه المتأخرون، ولم يراعوا في تحريره إلا رقة الكلمات، وتوافق الجناسات، وانسجام السجعات، وما يشبه ذلك من المحسنات اللفظية، التي وسموها بالفنون البديعية، وإن كانت العبارات خلوًا من المعاني الجليلة، أو فاقدة الأساليب الرفيعة. على أن هذا النوع من الكلام بعض ما في اللسان العربي وليس كل ما فيه بل هذا النوع إذا انفرد يعد من أدنى طبقات القول وليس في حلاه المنوطة بأواخر ألفاظه ما يرفعه إلى درجة الوسط، فلو أنهم عدلوا إلى مدارسة ما جاء عن أهل اللسان خصوصًا أهل الطبقة العليا منهم لأحرزوا من بغيتهم ما امتدت إليه أعناقهم، واستعدت لقبوله أعراقهم، وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الإمام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه وأغزره مادة وأرفعه أسلوبًا وأجمعه لجلائل المعاني، فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة والطامعين في التدرج لمراقيها أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم معانيه في الأغراض التي جاءت لأجلها، وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها؛ ليصيبوا بذلك أفضل غاية، وينتهوا إلى خير نهاية. وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم، وتحقيق أملي وآمالهم اهـ. هذا، وقد جعل ثمن النسخة من هذه الطبعة المشكولة 15 قرشًا وهو يطلب من طابعه.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية وأدبية (ثمرات الأفكار) لمحمد أفندي حمدي النشار الدمياطي أحد كُتّاب محكمة الإسكندرية الأهلية شعر منسجم هَامَ به في كل واد، وارتقى به كل نجاد، فاستغاث وناجى، ومدح ورثى، وتغزل ونسب، ولم ينسَ باب الوعظ والأدب، فقد امتاز على أكثر شعراء العصر بانتقاد ما فشا فيه من المفاسد والمثالب، وما للمدنية الحاضرة من الفضائح والمعايب، وقد طبع الجزء الثاني من ديوانه (ثمرات الأفكار) في هذا العام بمطبعة (المنار) وكان طبع الجزء الأول منه منذ عشرة أعوام، وإننا نورد نموذجًا منه للقراء حتى إذا ما أحب أحد أن يطّلع على باقيه طلب الديوان من صاحبه. قال في بيان حالة أكثر الشبان والكهول في هذه البلاد التي باعها الترف والسرف والفسق للأجانب بثمن بخس؛ بل بثمن موهوم يسمونه كما قال (التمدن الجديد) : (التمدن الجديد) بين الندامى والمدامه ... ضاع الحياء والاستقامه وعلى الغواني والظبى ... بعنا المروءة والكرامه وعلى الجميلة والجميـ ... ـل قد انقضى عهد الشهامه وتسرّبت منا الدرا ... هم في الفجور ولا ندامه والدار بعناها لند ... رك وصل هند أو أُمامه ونفائس الميراث قد ... رهنت على ثمن المدامه والدين إن كُتب السدا ... دُ له ففي يوم القيامه (سبحان مَن قسم الحظو ... ظ فلا عتاب ولا ملامه) غيري بِيَ استغنى وما ... أبقيت من مالي قلامه فسد الزمان وأهله ... يا رب نسألك السلامه هذا تمدن معشر ... جعلوا الفسوق له علامه من كل مياس القوا ... م له على الخدين شامه يهتز إعجابًا كما ... هزت معاطفها الحمامه وإذا رأى أهل المعا ... رف ظل يهزأ بالعمامه يأتي الصباح ولم يدع ... في غير زينته اهتمامه ويطل في المرآة هل ... في الحسن قد وفى نظامه ويظل ينظر خلفه ... حينًا وآونة أمامه وكأنما بلغ الوزا ... رة والإمارة والإمامه حتى إذا جاء المسا ... والليل قد أرخى ظلامه هجر الرقاد فعينه ... بالغمض لم تعرف منامه متناولاً كأس الحميا ... جامة من بعد جامه فإذا أضاع رشده ... وغدا ولم يحسن كلامه ألوى العنان إلى ذوا ... ت الحسن كي يشفي هيامه وأعاد كرّة سكره الـ ... أُولى وسمّاها (انسجامه) فسحرنه وسلبن ما ... أبقت يداه بابتسامه ودعون مركبة لتحـ ـمله وقلن (مع السلامه) فأتى إلى الدار التي ... وأبيك ما ذاقت طعامه هو يبذل العشرات كي ... يرضى هواه أو غرامه وهي التي تبكي لفا ... قتها بدمع كالغمامه فاستقبلته بما يليـ ... ـق من التحية والكرامه صفعت قفاه وأتبعت ... بالصفع خديه وهامه ولربما طرحته خلـ ... ـف الباب لا ترعى ذمامه فإذا استفاق معاتبًا ... وعلى الهوان رأى مقامه قالت له اعذرني فمَن ... غرس القبيح جنى الندامه يستوجب الإذلال مَن ... لم يتّبع طرق السلامه *** (قلائد الذهب في شرح أطواق الذهب) كتب الشيخ محمود بن عمر الزمخشري الشهير مئة مقالة في الحكم والمواعظ سماها (أطواق الذهب) وقد تنكَّب في كتابتها طريقته المثلى في الكتابة ونحا فيها منحى الحريري في مقاماته في التسجيع والتجنيس. ولا زراية على الزمخشري بهذا النحو من القول فإنه كان في عصره فنًّا من فنون الأدب وصنعة من صناعات القول يتقنها مثله ومثل الحريري من أئمة اللغة. ولم يرد الزمخشري بهذه الحِكم المنثورة، ولا الحريري بتلك المقامات المأثورة أن يسنَّا لكتّاب العربية سنة جديدة يتبعونها، ويرغبون عن الكلام المرسل العفو إليها؛ وإنما كان لهما فيما يظهر لي غرضان: أحدهما الاحتيال بهذا الوضع الطريف على توجيه النفوس إلى ما فيه من الحكم والمَثُلات، وثانيهما جمع طائفة من فرائد اللغة في المفردات، ومحاسن الجمل في المجاز والكنيات، تزيد الناظر سعة في العربية، وقدرة على صوغ الجمل المجازية. وقد شرح (أطواق الذهب) وفسر مفرداته غير واحد وطبع في هذا العام شرح منها لميرزا يوسف خان ابن اعتصام الملك الأشتياني، قال فيه إنه: (أجمع وأكفى من الشروح والتعاليق التي علقت على تلك المقالات إلى الآن) ، وقد أضاف إلى تفسير الكلمات ما يضاهي المقالة من رسالة (أطباق الذهب) للشيخ عبد المؤمن الأصفهاني فإنه تلا فيها تلو الزمخشري واحتذاه كما ترى في هذا المثال. قال الزمخشري في (المقالة 58) : (موسر يشح بالنوال، ومعسر يُلِحّ في السؤال، إذا التقيا فجندلتان تصطكان، وجدلتان من الضرائر تحتكان، هذا كزّ شحيح غير مِعوان، له في وجه الصعلوك فحيح أفعوان، وذاك ملحٍ ملحف، محف مجحف، وهذا يقول هات، وهو يجيبه هيهات، له دق بالوجنتين، دق القصار بالمجينتين (الميجنة مدقة القصار) إن منح تبشبش وتطالق، وتبصبص وتملق، وإن منع أخذ بالمخانيق، ورمى بالمجانيق) وقال صاحب أطباق الذهب: (من شداد الدنيا غني عابس، يلقاه فقير بائس، يطرقه حافيًا، ويسأله محفيًا، يستميح شحيحًا لا يفتح الباب لضيفانه، ولا يكسر حواشي رغفانه، فيرجع خاسرًا، وينقلب باسرًا، حتى إذا فجأه في طريق، ولقيه في مضيق، فيأخذ بعِنانه، طمعًا في إحسانه، والبخيل يحمر ويصفر، ويفر وأين المفر، هناك يصدم الأشدان. ويزدحم الضدان، فهما كصخر قرعه حديد، وقيح كدره الصديد، ونفس يعلوه زاج، وحميم يشوبه أجاج، ودخان يتلوه عجاج) اهـ وفي المقالات ما هو أظهر في السرقة من هذه. أُهدي إلينا الكتاب المطبوع منذ أشهر ولم نفرغ لتصفح شيء من الشرح ولكننا في النظرة السطحية انتقدنا عدم ضبط الكلمات عند تفسيرها وإن كانت قد ضبطت مقالات الزمخشري بالشكل الكامل. وقد طبع في (مطبعة التمدن) على ورق جيد وهو يطلب منها. *** (الطرائف) جريدة أسبوعية جديدة أنشأها في القاهرة رشيد أفندي المصوبع الشاعر السوري الذي سبق لنا تقريظ ديوانه، وقد عرفنا هذا الشاب مغرمًا بالأدبيات هائمًا في أودية الشعر، فلا شك في أن سيكون لجريدته الحظ الوافر من المباحث الأدبية التي هي أنفع من خوض أكثر الجرائد في هذر السياسة التي لا نكاد نجد في القنطار منها درهمًا من الفائدة. وقد افتتح الكاتب جريدته بمقدمة قال فيها: (أقدمت على إنشاء هذه الجريدة وأنا عالم كل العلم بما صارت إليه بضاعة الأدب من الكساد، وما زاد من الجرائد على حاجة البلاد) وهذه الدعوى قديمة وكم قالها الذين من قبله في عصور كانت خيرًا من العصور التي قبلها كما أن هذا العصر خير مما قبله في رواج الأدب وانتشار الجرائد والإقبال عليها وإن كان دون ما ينبغي ويُطلب. أما قيمة الاشتراك في الطرائف فثمانون قرشًا في القطر المصري وجنيه إنكليزي في سائر الأقطار. فنتمنى لرصيفنا الجديد النجاح ولجريدته حسن الانتشار.

الإسلام والمسلمون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام والمسلمون نشر في جريدة (ناسيونال زيتونغ) الألمانية مقالة في الانتقاد على الإسلام والمسلمين دلت على جهلٍ من كاتبها بالأديان والتاريخ أو تجاهل حمل عليه التعصب الشديد، وقد عرَّبت جريدة مصرية هذه المقالة وردَّتْ عليها ردًّا لم يفند جميع المسائل والتهم الباطلة التي افتجرها الألماني؛ فرأينا أن نخلص هذه المسائل ونفندها واحدة واحدة لا سيّما بعد انتشارها باللغة العربية، وإننا نشكر لهذه الجريدة تعريبها على ضعف شبهات كاتبها، والرد عليها على ما فيه من التقصير؛ لأنها قامت بما في وسعها، وعملت بنصيحة كنا نصحنا لها بها في أول ظهورها وهاك ملخص مطاعن الألماني مع الرد السديد: (1) افتتح الألماني كلامه بذكر الثورة المكدونية واهتمام أوربا بها واعترف بأن الدولة العثمانية راغبة في إخمادها وتحسين حال المسيحيين بحسن نية، واعترف بأن الثوار المسيحيين هم الذين يَحُولون دون الإصلاح. وهذا الاعتراف إثبات لسوء قصدهم ولبعد المسيحي عن الخضوع لحكمه والامتزاج بغيره وبأن حكومة الترك الإسلامية التي تصفها أوربا بالجور والظلم والتي هي في الواقع ونفس الأمر دون حكومة الخلفاء الراشدين ومَن بعدهم ولا سيّما في هذا العصر - تحب رعاياها الذين من غير دينها وترغب في إصلاح حالهم وهذا يتضمن أن تأثير الإسلام في أهله أحسن تأثير، فما كان ينبغي لصاحب الجريدة المصرية أن يعجب من ألماني يكتب هذه الكتابة ويبني عجبه على ما اشتهر من صداقة عاهل ألمانيا لسلطان تركيا فإن هذا الكلام لا ينافي الصداقة. ولا يطالب الكاتب بأن لا يكتب إلا ما يوافق هوى أميره وسلطانه. (2) واصل الألماني اعترافه المذكور بقوله: إن المكدونيين والبلغاريين يحولون دون إجراء أي إصلاح كما أن الإسلام ظهر في كل زمان بمظهر المعادي للمدنية المسيحية الأوربية وسيبقى كذلك على الدوام. ونقول: إن الإسلام ظهر في زمان كانت المسيحية فيه قد دمرت مدنية المصريين واليونانيين، فشيَّد الإسلام ما هدمته المسيحية وأحيا المدنية بعد موتها كما شرحنا ذلك في مقالات سابقة وبعد أن أدخل المدنية في أوربا عن طريق الأندلس كافأته على فضله بمحاربتها إياه واجتهادها في إبادته. إن الإسلام قاوم همجية المسيحيين في القرون المتوسطة التي يسمونها القرون المظلمة ولكنه أوغل فيها برفق فإنه دخل بلاد الأندلس وقد تمزق شملها بالظلم واستعباد الأحرار، فجعلها بالعلم والعدل جنات تجري من تحتها الأنهار. ولما قوي ساعد أهلها بما منحهم الإسلام من الحرية لم يرضوا من مكافأة المسلمين إلا بإبادتهم من تلك البلاد. فأين المدنية المسيحية التي قامت هناك مقام مدنية الإسلام؟ أليست حال تلك البلاد إلى اليوم شرًّا مما كانت عليه مع أن الرقي طبيعي في الإنسان؟ (3) زعم الألماني أن دين محمد لا يقصد إدخال الناس في عقيدته كدين بوذا وموسى وعيسى ولكنه يحاول إخضاع الشعوب وإبادتها. وهذا غلو منه في الجهل أو التجاهل الذي هو أفضح من الجهل؛ فإن البوذيين لا يدعون إلى دينهم ولا يحاولون تعميمه وكذلك اليهود دينهم خاص بشعب إسرائيل لا يتعداه ولذلك لم ينمُ عدد هذه الأمة القديمة. وأما النصارى فإن نبيهم عيسى لم يكن إلا مصلحًا بالديانة الموسوية، وقد أكد ذلك بصيغة الحصر إذ قال: (لم أُرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة) وأمّا ما ينقلونه عنه من أنه قال لتلامذته: (اكرزوا بالإنجيل في الخليقة كلها) . فيجب تخصيص الخليقة فيه بشعب إسرائيل ليتفق القولان. فلم يبق دين تدل نصوص كتابه على كونه عامًا للناس كلهم إلا دين محمد عليه الصلاة والسلام فإن كتابه يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) وقد بعث وحده فقام دينه بالدعوة وانتشر بالدعوة ولم يكن ما كان من الجهاد في آخر عهده إلا لحماية الدعوة من المعتدين. طالب الناس بالدخول في دينه ليصلح فسادهم. والشعوب التي خضعت لأصحاب هذا الدين لم تَرَ أرفق من حكامه، ولا أعدل من أحكامه، كما اعترف بهذا بعض علماء أوربا. وإنه ليوجد في بلاد الإسلام من الملل والنحل ما لا يوجد في بلاد أخرى وكلهم حافظون لعقائدهم وتقاليدهم ومعابدهم ومعاهدهم. ولم توجد في الأرض أمة عملت ولا تزال تعمل لإبادة من يخالفها إلا الذين قالوا إنا نصارى من أهل أوربا فقد أبادوا الوثنيين من أوربا كلها ثم أبادوا المسلمين واليهود من غربي أوربا، وهم الآن يحاولون إبادتهم من شرقيها ولذلك لا يقبلون من الترك إصلاحًا مهما حسنت النية فيه؛ لأن الترك مسلمون تجب في رأيهم إبادتهم من أرض سبقهم إليها المسيحيون فهم يتعاهدون على ما بينهم من الضغائن والأحقاد على نزع سلطة المسلمين من بلاد أوربا كما اعتدوا عليهم في آسية وإفريقيَّة، بل كان كل أهل مذهب من مذاهب النصرانية يسعى في إبادة أهل المذهب الآخر وهذا لم يُعرف في غير نصارى تلك البلاد. (4) قال الألماني: إن الإسلام سلاح بيد أمة حربية لفتح بلاد العالم. ونقول: نعم إن الإسلام أقوى سلاح للفتح وهل يعد هذا الألماني وقومه القوة الحربية ضَعَة ورذيلة؟ أنَّى وتلك شهادة على أمته بأنها في الدرك الأسفل من المهانة والضعة؛ لأنها في الدرج الأعلى من القوى الحربية. نعم إن بين قوة الإسلام وفتوحاته وقوة الألمان في فتوحاتهم فصلاً واسعًا وهو أن الإسلام كان يقصد بالفتح هداية الأمم إلى الحق الذي تسعد به في الدنيا والآخرة وذلك بأن يريها عدله في الأحكام وفضل متبعيه في الأخلاق وقوة يقينهم في الإيمان فيرغب فيه عقلاؤها ويدخلون فيه بالإقناع والإذعان. لا كما دخل وثنيو أوربا في النصرانية بالسيوف والنيران. وأما قصد ألمانيا وسائر أمم أوربا من الفتح فهو التمتع الحيواني بخيرات البلاد التي يفتحونها وتسخير أهلها في خدمة شهواتهم وجمع المال لهم ولم توجد بلاد في آسية ولا إفريقية افتتحها الأوربيون ثم كانت في ظل سلطتهم متمتعة بالعدل والحرية في الدين والدنيا كما كانت في عهد فاتحي العرب الأولين. فهذه إنكلترا أقرب أوربا إلى العدل والحرية تفضل الصعلوك من الإنكليز في الهند على الأمير المسلم أو الوثني الهندي وقد ساوى عمر بن الخطاب بين صعلوك قبطي وبين ابن عمرو بن العاص فاتح مصر وحاكمها في عهده وأقاده منه … نعم إن الإسلام قد تحولت سلطته الديمقراطية المعتدلة المقيدة بالشورى ورأي أهل الرأي من الأمة إلى سلطة فردية مطلقة بما صار لأمرائه من العصبية التي مكنتهم من جعل السلطة وراثة في عقبهم فأفسدوا فيه وجعلوا الفتح من متممات شهواتهم ولكن هذا مرض عرض للمسلمين لا الإسلام وقد انتقم الله تعالى منهم بتسليط أوربا عليهم تسومهم سوء العذاب، ومتى بلغ الانتقام حده يرجع المسلمون إلى أصول دينهم ويقيمون لأنفسهم سلطة إسلامية صحيحة تتكون بها المدنية الفاضلة الصحيحة التي يسعد بها العالم الإنساني. ولا يخفى على من استيقظ من المسلمين أن أوربا تجتهد في محو السلطة المنسوبة للإسلام من الأرض وإنها تتوهم أن هذا المحو لا يعقبه إثبات؛ ولكنهم يعتقدون أن هذا المحو هو الذي يكون سبب الإثبات فإن السلطة الحقة المنتظرة لا تكون إلا إذا استيقظ أكثر المسلمين من هذا النوم المستغرق ولإيقاظهم هذا صوتان: أحدهما صوت العلم وهذا لا يمتد إلا بالتدريج الطويل وثانيهما صوت انقضاض آخر ركن من أركان سلطتهم المبعثرة وما هو إلا صيحة واحدة فإذا هم قيام ينظرون. فلتعلم أوربا أن محافظتها على السلطة العثمانية وإبقائها واهنة هو الذي يسهل لها التمتع بخيرات بلاد المسلمين دون سواه؛ لأن حكام المسلمين عودوا المسلمين منذ قرون طويلة على الاعتماد عليهم وإلقاء المقاليد لهم فإذا رجعوا بعد اليأس من حكامهم أو زوالهم إلى قوة الإسلام نفسه فإن بأس ثلاث مئة مليون من الأسود الباسلة يعتمدون على الله وعلى ما وهبهم من القوة على دفع الضيم لا يكون أثره في الأرض قليلاً. (5) قال الألماني بعد ما ذكر من قوة الإسلام ما ذكر: إن القوة التي ساد بها في آسية وإفريقية ستكون مصدر مصائبه فإنه ينقصه ما في الديانات الأخرى من قبول الأصول والقواعد (وفي الأصل المبادئ) التي عند غير أهله وعدم الاعتداء على الأمم التي لا تَدين به. ونقول إن القوة التي ساد بها الإسلام أيام كان إسلامًا هي قوة الحق والعدل وما جاءته المصائب وأحاطت به النوائب إلا بعد أن حولت سلطته التي تقيم هذين الركنين إلى سلطة استبدادية تعبث بها كما قلنا آنفًا فالقوة الفاتحة قد زالت من زمن طويل والسلطة السائدة إلى هذا العصر إنما بقيت سيادتها بقاعدة الاستمرار؛ فإنها لم يكن لها مقاوم يزيل استبدادها اللهم إلا ما كان من المبادلة بين المستبدين في بعض الأحيان. ونحن على علم بأن هذا الاستبداد لا يدوم وإذا لم يزله المسلمون لاستعباد الملوك والأمراء لهم فهذه أوربا تزيله بالتدريج. أما زعمه بأن مصدر مصائب الإسلام ستكون من أصلين فيه: أحدهما أن المسلمين لا يقبلون اقتباس ما عند الأمم الأخرى وثانيهما أنهم لا يكفون عن الاعتداء عليها فهو زعم باطل مبني على الجهل الفاضح، أو التعصب الواضح، ذلك أن الإسلام يرشد المسلمين إلى أن يأخذوا الحكمة أنَّى وجدوها وينهاهم عن الاعتداء على من لم يعتدِ عليهم قال الله تعالى:] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ (البقرة: 190) [وقال عز وجل:] فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ (البقرة: 194) [أي لا تزيدوا على مقابلته بمثل اعتدائه. فإن أراد بعدم قبول الإسلام أصولاً زائدة عليه الأصول الدينية لا المعاشية فهذا صحيح وهو مصدر قوته ولكن المسلمين لم يقصروا في مخالفته في هذا الحكم فأخذوا عن النصارى والوثنيين كثيرًا من البدع والتقاليد وصبغوها بصبغة إسلامية وهي التي كانت سبب ضعفهم في دينهم الذي هو أمضى سلاح بأيديهم كما قال وحكّمت غيرهم فيهم فالأمر على ضد ما زعم. (6) قال الألماني: امتاز الإسلام بفتوحات سريعة قاسية تدل على شهامة العرب والترك وتعصبهما وخضوعهما للأقدار وكان لهذه الفتوحات تأثير في أوربا فقد استمر حكم العرب في الجنوب الغربي منها (أسبانيا أو الأندلس) سبعة قرون وحكم الترك في الجنوب الشرقي ستة قرون ولم يستطع الترك ولا العرب إيجاد رابطة بينهم وبين الأمم التي أخضعوها. ونقول: إن التاريخ لم يعرف أرفق وألين من فاتحي المسلمين حتى قال أحد فلاسفة الإفرنج فيهم وفي دينهم: (إن شعوب الأرض لم تَرَ قط فاتحًا بلغ من الحِلم هذا المبلغ ولا دينًا بلغ في لينه ولطفه هذا الحد) (راجع ص 105 من كتاب الإسلام والنصرانية) . أخطأ في نسبة القسوة إلى المسلمين في فتوحاتهم وأصاب في وصفها بالسرعة ووصفهم بالشهامة والخضوع للأقدار ولكن مع العمل والأخذ بالأسباب التي لا يجوز التوكل والاعتماد على القدر عندنا إلا بعد استيفائها. ومن البلاء أن هذه المزية العظيمة قد ضعفت بعض الضعف في المسلمين ببدعة الجبر التي فشت فيهم وروجها لابسو مرقعات الصوف من مدعي الصلاح ومن الذين يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ومع هذا كله لا يزال المسلمون في مجموعهم أشجع الشعوب

الأمر الصغير الكبير

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأمر الصغير الكبير لقد ضقت ذرعًا من أمر صغير، ولكنه على صغره كبير، فهو كالبعوض أو كالبق يضجر منه الكمي الباسل. ويضيق عنه حلم الحكيم الفاضل، ذلك الأمر الذي أعياني علاجه، وعمي على طريقه ومنهاجه، هو إفهام الكثيرين من قراء المنار أن إدارة المجلة لا ترسل لأحد ما يطلبه من الأجزاء المفقودة إلا إذا أرسل مع الطلب قيمة كل جزء قرشان ونصف قرش (25 مِليمًا) لا يستثني هذا الحكم أحد ولا يقبل تأجيل الثمن ليرسل مع قيمة الاشتراك وإنما يستثنى طلب آخر جزء إذا علم بصدوره المشترك ولم يصل إليه وكذلك الجزء الذي قبل الأخير بهذا الشرط. كتبنا هذا غير مرة وجعلنا له (إعلانًا) ثابتًا في غلاف المجلة وكل هذا لم يغنِ شيئًا فإن الرسائل تتبع الرسائل من المشتركين في كل بلد هذا يطلب جزءًا وهذا يطلب أجزاء وهذا يقول إن المجلة لم ترسل إليه منذ شهر أو شهور وذلك يعترف بأن العدد قد فُقد بعد وصوله ويطلب أن يرسل إليه مرة ثانية من باب الكرم والتفضل وذاك يَعِد بأنه سيرسل ثمن ما يطلبه أو سوف يرسله مع قيمة الاشتراك (إن شئنا) .

حكمة الصيام وفضل رمضان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكمة الصيام وفضل رمضان (1) قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الصيام جُنَّة) ، أي وقاية، رواه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة والترمذي عن معاذ وروياه مع ابن ماجه عن عثمان بن أبي العاص بلفظ: (الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال) ، وفي رواية للنسائي والبيهقي عن أبي عبيدة: (الصيام جنة ما لم يخرقها) ، وزاد الطبراني في الأوسط: (بكذب أو غيبة) ، وقد روى الحديث غيرهم من طرق أخرى. والمعنى أن الصوم سبب للوقاية من النار كالجنة تكون سببًا للوقاية من الطعن والضرب ما لم تخرق، وإنما كان الكذب والغيبة - وهي ذكر الناس بما يكرهون - أن يذكروا به خارقين لجنة الصيام؛ لأن الغرض من الصيام تعويد النفس على ترك المعاصي والشهوات المحرمة، فإن مَن يترك المباح له في الأصل - كالأكل والشرب والملامسة الخاصة بينه وبين امرأته، وهو متمكن من فعل ذلك في كل وقت يعنُّ له وإنما يتركه امتثالاً لأمر ربه وعملاً بما فرضه من وسائل تأديبه - كان جديرًا بأن يتمكن من ترك المحرم عليه في الأصل، إذا اشتهى أن يصيب منه. فالصيام يزيد في الإيمان بالله تعالى؛ لأن هذه المباحات التي يجب تركها فيه هي التي يحتاجها الإنسان دائمًا، وتعرض له في كل وقت، فهو لا يتركها إلا امتثالاً، وهي تذكِّره في كل وقت بالله تعالى؛ فيزداد مراقبة له، واتقاءً لمخالفته، حتى يملك نفسه، ويضبط نزعاته الشهوية بالتكرار الذي يطبع الملكات في النفوس، كما شرحنا ذلك في بعض المجلدات السابقة من النار. سألني أحد الإفرنج: هل تصوم رمضان كله، فلا تفطر فيه جهرًا ولا سرًّا؟ فقلت: نعم، إنني أصومه، وكم زدت عليه من صيام التطوع. قال: وهل تظن أن الله يكون مسرورًا ومبسوطًا من تركك الأكل والشرب ويغتاظ إذا أكلت؟ فقلت: إن ديننا ليس كالأديان التي تعرفها، يجعل العبادة تعذيبًا للنفس بزعم أن الله يحب أن يحرج نفوس الناس ويعنتهم كما يفعل الملوك الظالمون وإنما يعلمنا ديننا بأن الله تعالى لم يجعل علينا في الدين من حرج ويمن علينا بأنه لو شاء لأعنتنا ولكنه لم يفعل لأنه أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا ويرشدنا إلى أنه ما فرض علينا شيئًا إلا لمنفعتنا وما حرم علينا شيئًا إلا لأنه يضرنا وقد ورد في الحديث القدسي: (يا عبادي لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني..) إلخ، فهذا الصيام نافع لنا؛ لأنه يربي لنا ملكة الحكم على أهوائنا وشهواتنا فلا يصعب علينا مع هذه الملكة أن نترك المعاصي المضرة ... قال: إننا نعهد أن الذي يمنع من شيء يكون بعد زوال المنع أشد ولوعًا وأكثر ضراوة به وإنني أعرف في بلادنا كثيرًا من الناس ربّوا أولادهم على المنع من القبائح كالسُّكْر والزنا والقمار وما هو أهون من ذلك، فلما زالت عنهم سلطة المنع كانوا أشد الناس انغماسًا في الشهوات، وأكثرهم ارتكابًا للموبقات، فقلت: نعم إن هذا أمر طبيعي فإن الذي يمنع بالقهر والإلزام عمّا يحبه ويشتهيه يزداد ميلاً إليه وحبًا فيه، وقد قال الشاعر العربي: منعت شيئًا فأكثرت الولوع به ... أحب شيء إلى الإنسان ما منعا ولكن المنع من الأكل ونحوه في الصيام ليس منع قهر وتحكم؛ وإنما هو امتناع اختياري عن اقتناع واعتقاد بأنه خير ونافع وسبب من أسباب السعادة ولولا ذلك لما صام الصائم، إذ يتمكن كل أحد من الإفطار سرًّا إذا كان يستحي من الناس أن يفطر جهرًا. ولهذا المعنى كانت تربية القسوة والقهر ضارة ومفضية إلى الإفساد وكانت التربية الدينية الإسلامية المبنية على الاعتقاد والاقتناع هي التربية النافعة التي لا ضرر فيها، وإننا نرى الأولاد الذين يُربَّوْن بالقسوة والحكم القاهر أذل الناس نفوسًا وأفسدهم أخلاقًا وكذلك نرى تأثير الحكومات المستبدة القاسية في الرعية تفسد بأس الأمة وتهبط بأخلاقها وآدابها إلى أسفل سافلين. وقد لاحظ الفيلسوف العربي ابن خلدون هذا المعنى فعقد له فصلاً في مقدمته واستشهد له بإنكار عمر بن الخطاب رضي الله عنه على سعد بن أبي وقاص قائد جنده في حرب الفرس معاملة أحد الشجعان بالقهر، حين أخذ سلب قتيل قتله بدون إذنه، واحتج عمر على سعد (رضي الله عنهما) بأن ذلك يفسد بأس ذلك الشجاع ... قال محدثي بعد تمام الحوار: إن كل ما ذكرته صحيح. وأزيد الآن - وإن أطلت في شرح الحديث بما ليس من موضوع الصوم - عبارة ابن خلدون في المثال الذي أوردته قال بعد ذكر عزة الذين يُساسون بالرفق والعدل: وأما إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر حينئذ من سَوْرة بأسهم وتذهب المنعة عنهم لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة كما نبينه. وقد نهى عمر سعدًا رضي الله عنهما عن مثلها لما أخذ زهرة بن حوبة سلب الجالنوس (سلب القتيل بالتحريك ما معه من سلاح وغيره) ، وكانت قيمته خمسة وسبعين ألفًا من الذهب وكان اتبع الجالنوس يوم القادسية فقتله وأخذ سلبه فانتزعه منه سعد وقال له: هلاَّ انتظرت في اتباعه إذني، وكتب إلى عمر يستأذنه فكتب إليه عمر: (تعمد إلى مثل زهرة، وقد صلى بما صلى به وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فوقه [*] وتفسد قلبه) ، وأمضى له عمر سلبه ثم انتقل ابن خلدون إلى بيان كون الأحكام الشرعية لا تُذهب بالبأس والمنعة؛ لأن الوازع فيها نفسي ونقل عن عمر أنه قال: (مَن لم يؤدبْه الشرع لا أدبه الله) ، حرصًا على أن يكون الوازع لكل أحد من نفسه. (2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون فيدخلون منه فإذا دخلوا أُغلق فلم يدخل منه أحد) رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن سهل بن سعد. وقد فسر بعض أهل البصيرة الحديث وأمثاله بأن المراد بأبواب الجنة أصول الطاعات ومجامع الخير وكأنهم أخذوا هذا من حديث الطبراني عن سهل أيضًا: لكل باب من أبواب البر باب من أبواب الجنة وإن باب الصيام يدعى الريان، وتسميته بالريان يشير إلى ذلك. واستدل عليه الشيخ محيي الدين بن عربي في فتوحاته بحديث ورد في أن أبا بكر يدخل الجنة من أبوابها كلها وهو لا يعقل إلا بهذا التفسير. (3) وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب وإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفسُ محمد بيده لخَلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه) . رواه الشيخان والترمذي من حديث أبي هريرة. ومعنى: (كل عمل ابن آدم له) أن لكل طاعة من الطاعات لذة يجدها مَن أقام تلك الطاعة فللصلاة من لذة المناجاة لله تعالى ما ليس لغيرها، ووالله إن البكاء فيها لهو ألذ عند الخاشعين من الضحك في سواها، فيا حسرةً على مَن حُرم منها، وللزكاة لذة التفضل وعزة الغنى والسيادة، ولمناسك الحج عمل في تحريك الشعور الديني، والتوجه إلى العالم الروحاني، يشترك فيه الجاهل بأسراره مع العالم بها؛ ولذلك ترى العوام ينجذبون إليه كالخواص، ولا يوجد مسلم إلا وهو يحن إلى تلك المعاهد حنين الطير إلى أوكارها، وهذه اللذة مطَّردة فيما عدا الأركان من أعمال البر إلا الصوم فإنه ترك لا لذة ولا حظ للنفس فيه لأنه أمر عدمي وأثره الوجودي هو الألم، فهو جدير بأن يتولى الله تعالى مثوبة صاحبه بترقية نفسه في الكمال والتهذيب حتى يلقاه بقلب سليم، ويستحق جنات النعيم، وقد مر تفسير كون الصيام جنة في شرح الحديث الأول. والرفث المنهي عنه هو الإفضاء إلى النساء الذي يكون بين الزوجين وقيل هو الكلام الفاحش؛ لأن ترك الأول مما لا يتحقق الصيام إلا به، والصَّخَب (بالتحريك) الصوت الشديد واختلاط الأصوات. وكيف لا يكون ترك الفحش والصخب والتسابّ وسائر المعاصي من مهمات آداب الصوم أو شروطه مع أنه لا يتحقق إلا بترك المباح الذي لا قبح فيه وهذه الأشياء من أقبح القبائح، ولقد أحسن حجة الإسلام في تمثيل من يترك الأكل والشرب المباحين ويفعل المحرمات بمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا. وخلوف الفم: تغيُّّّّّر رائحته من الصيام والكلام كناية عن كون هذا التغير الذي يعرض للصائم ومن شأنه أن يكون مكروهًا عند الإنسان هو محمودًا في حكم الله تعالى مرضيًّا عنده من عبده؛ لأن أثره نافع له في تهذيب نفسه الذي هو أساس سعادته. وقيل إن ذلك يكون في الآخرة حقيقة وورد فيه حديث. وأما الفرحتان فأمرهما ظاهر فالفرحة عند الإفطار معروفة لجميع الصائمين وهي ليست جثمانية محضة؛ بل هي روحانية جثمانية؛ فإن الإصابة من الطعام المباح المستلذ بعد الجوع يصحبها الشعور الروحاني بلذة إتمام العبادة ورجاء الرضوان الإلهي؛ ولذلك نرى لطعام رمضان شأنًا لا نجده لغيره في أوقات الجوع التي تعرض لنا في غير الصيام مما ربما يزيد عن الجوع بالصيام. وأما الفرحة الأخرى فلا تُعرف حقيقتها إلا بالوصول إليها. واللهَ نسأل أن يسهل لنا سبيلها بالقيام بحقوق الصيام بحيث تتهذب به نفوسنا وترتقي به أخلاقنا، وأن يهب لنا من فضله فوق ما نستحقه بأعمالنا. (4) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو يؤيد ما قلناه في شرح الحديث السابق. (5) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم ذنبه) . رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، وفي حديث آخر: (مَن قام) . وقد اتفق العلماء على أن المراد بالذنوب الصغائر أو الكبائر باعتبار قيد التوبة ورَدِّ الحقوق إلى أهلها؛ لأن هذا القيد معروف من أصل الشريعة المتفق عليه. ونقول: إن الفقه في الحديث هو أن من صام شهرًا بباعث الإيمان واحتساب الأجر على الله تعالى - لا بمقتضى العادة وموافقة الناس في تغيير مواعيد الأكل يجعلها في الليل بدلاً من النهار - فلا شك أن إيمانه يقوى ويزداد ونفسه تتزكى من آثار الذنوب التي يلم بها المؤمن بسبب الغفلة عن الله تعالى. فتحل بالصيام الذكرى محل الغفلة، ويشرق النور في مكان الظلمة، وتمحو الحسنات ما كان في النفس من أثر السيئات، فتحسن الحال، وتصلح الأعمال، فهذا هو معنى المغفرة؛ لأن الغفر في اللغة هو الستر والتغطية ولا أبلغ في ستر الشيء من إزالة أثره كما تزيل الحسنات السيئات. ورواية: (ما تقدم من ذنبه وما تأخر) ضعيفة. (6) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا جاء رمضان فُتّحت أبواب الجنة وغُلّقت أبواب النار وصُفّدت الشياطين) رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة. وأبواب الجنة هي الطاعات وأبواب النار هي المعاصي كما تقدم ولا شك أن هذه تغلق دون الصائمين وتلك تفتح أمامهم فيدخلون فيها أفواجًا، ومعنى: (تصفَّد الشياطين) أنه لا يكون لها سبيل للوسوسة والإغواء؛ لأن أبواب المعصية والشهوات مقفلة لا سبيل إلى الدخول فيها. وفي رواية زيادة: (وينادي منادٍ: يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر أقصر) وفي رواية: (أمسك) . باغي الشيء مريده والكلام كناية عن كون حال الصيام تقتضي المزيد في الخير والإمساك عن الشر. وسمعت الأستاذ الإمام يقول: إن شهر رمضان لا يصلح فيه عمل الدنيا؛ فينبغي للعبد أن يتخلى فيه لعمل البر ما استطاع، أو م

أحاديث في الوقف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحاديث في الوقف نشر المقطم في الشهر الماضي مقالةً بإمضاء (عزيز خانكي) بحث فيها كاتبها في الوقف والمحاكم الشرعية وزعم أن الوقف ليس من الدين الإسلامي في شيء واستدل على ذلك بعدم ورود شيء في مشروعيته في القرآن الشريف أو في السنة، قال: (إلا حديثًا واحدًا في كتاب ابن ماجه) وقد كتبتُ نبذة في بيان نقض زعمه هذا نُشرت في المقطم أيضًا ذكرت فيها أنه ورد في الوقف عدة أحاديث رواها الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه الذي اعترف به الكاتب دون غيره لعدم اطِّلاعه على كتب الحديث؛ لأن الصحيحين أوْلى منه بالذكر إلا أن يكون أراد إيهام الناس أن الحديث محتمل للطعن فيه؛ فإن في سنن ابن ماجه ما طعن المحدثون في إسناده، وعند ذلك يكون غير طالب للحق، ولا مقرر له؛ فأحسن ما يحمل عليه زعمه أنه لم يَرَ في الوقف إلا حديث واحد لابن ماجه هو عدم الاطلاع، وليس هذا طعنًا في الكاتب فإنه ليس عالمًا مسلمًا فيُعاب بعدم الاطلاع على السنة، لا سيّما في هذا الزمن وهذه البلاد التي قلما ترى في علمائها من يشتغل بالحديث. وذكرت فيها غير الصحيحين وأصحاب السنن ممن روى أحاديث الوقف كابن أبي شيبة وعبد الرزّاق والطبراني والطحاوي وابن جرير وابن عساكر. وقد بلغنا أن عزيز أفندي خانكي قد اعتمد في نفي ما عدا حديث ابن ماجه من أحاديث الوقف على شيخ مسلم له هوى في ذلك، وأنه عاد إليه بعد ما رددنا قوله وكلمه في ذلك، وأجابه بأن الحديث واحد وهو مروي في جميع تلك الكتب. ثم رأيت بعد ذلك مقالة أخرى في المقطم لداود بك عمون المحامي الشهير ذكر فيها مقالة عزيز أفندي، وزعمه أنه لم يَرِد في الوقف إلا حديث واحد، وذكر ردنا عليه وزعمنا أنه ورد عدة أحاديث وكتب هنا هذه الكلمة (وإن لم يذكرها) فيظهر أن القوم يظنون أن الحجة تنهض له في عدم مشروعية الوقف إذا ثبت أنه لم يرد فيها إلا حديث واحد. والصواب أن المشروعية تثبت بحديث واحد إذا كان ثابتًا يحتج به وزيادة عدد الأحاديث لا يزيد الحكم مشروعية. وإنما ذكرت في الرد على عزيز أفندي خانكي أسماء المحدّثين الذين رووا أحاديث الوقف، وذكرت أن حديث عمر قد رواه أحمد والبخاري ومسلم لبيان أن الحديث صحيح وإزالة توهم ضعفه بانفراد ابن ماجه به. ثم إن كون الشيء من أمور الدين لا يتوقف على ورود شيء فيه بخصوصه؛ بل يكفي دخوله في بعض النصوص العامة، ولذلك كان وقف أبي طلحة - رضي الله تعالى عنه - عملاً بعموم قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، وكل عمل يُعمل لأجل التقرب إلى الله تعالى- بكونه برًا، ويدخل في عموم النصوص التي لا معارض لها - فهو من أمر الدين. ونذكر هنا بعض ما ورد في وقف أشهر الصحابة ومشروعية الوقف: (وقف عمر) عن ابن عمر أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر فقال: يا رسول الله أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على مَن وليها أنْ يأكل منه بالمعروف ويطعم غير متموّل، وفي لفظ: غير متأثل مالاً رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة. وفي حديث عمرو بن دينار قال في صدقة عمر: ليس على الولي جناح أن يأكل ويؤكل صديقًا له غير متأثل، قال: وكان ابن عمر هو يلي صدقة عمر ويهدي لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم، أخرجه البخاري. وفي رواية له: (تصدق بأصلها لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره) ، فما شرط عمر ما شرط إلا بأمر صريح. وجاء هذا أيضًا مرفوعًا في رواية البيهقي. وفي رواية الدارقطني زيادة: (حبيس مادامت السموات والأرض) فاشتراط هذه الشروط بأمر الشارع وإجازته دليل على أنها مشروعة وأنها من أعمال الدين. قال في منتقى الأخبار: وفي الحديث من الفقه أن من وقف شيئًا على صِنف من الناس وولده منهم دخل فيه. يريد أن ابن عمر من ذوي القربى على أن المراد بهم قرابة عمر الواقف وهو ما جزم به القرطبي وقيل إن المراد بهم: مَن له الحق في الخُمس. والولي على الوقف هو ما يسمونه اليوم (ناظر الوقف) ، وفي رواية ابن أبي شيبة والعدني أن عمر أوصى به إلى حفصة أم المؤمنين ثم إلى الأكابر من ولد عمر. أي الأكبر فالأكبر وفيه أن الولاية على الوقف تكون بعهد من الواقف ولعل عبد الله وليه بإذن حفصة أو بعدها. (وقف عثمان) عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يُستعذب غير بئر رومة (بالضم) فقال: (من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة) فاشتريتها من صلب مالي. ذكره البخاري تعليقًا ورواه النسائي والترمذي وقال حديث حسن، وفيه جواز انتفاع الواقف بوقفه العام. أخذ الترمذي ذلك من قوله (فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين) . (وقفُ عليٍّ) عن عمرو بن دينار أن عليًا تصدق ببعض أرضه جعله صدقة بعد موته وأعتق رقيقًا من رقيقه وشرط عليهم أنكم تعملون في هذا المال خمس سنين. رواه عبد الرزاق في الجامع. وعن أبي جعفر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في جيش فأدركته القائلة وهو ما يلي الينبع فاشتد عليه حر النهار فانتهوا إلى سمرة (شجرة السمر) فعلقوا أسلحتهم عليها وفتح الله عليهم فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع السمرة لعَلِيٍّ في نصيبه، قال فاشترى إليها بعد ذلك فأمر مملوكيه أن يفجروا لها عينًا فخرج لها مثل عين الجزور فجاء البشير يسعى إلى علي يخبره بالذي كان فجعلها علي صدقة فكتبها صدقة لله يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ليصرف الله بها وجهي عن النار صدقة بتة بتلة في سبيل الله للقريب والبعيد في السلم والحرب واليتامى والمساكين وفي الرقاب. رواه ابن جرير. وروى ابن عساكر عن أبي معشر قال: كان علي بن أبي طالب اشترط في صدقته أنها لذوي الدين والفضل من أكابر ولده. ولعله يعني الولاية عليها. (وقف أبي طلحة) عن أنس أن أبا طلحة قال: يا رسول الله إن الله يقول: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) وإن أحب أموالي إلي بَيْرَحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال: (بَخٍ بَخٍ ذلك مال رابح مرتين، وقد سمعت، أرى أن تجعلها في الأقربين) ؛ فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، رواه أحمد والشيخان. وفي رواية لما نزلت هذه الآية {لَن تَنَالُوا البِرَّ} (آل عمران: 92) إلخ، قال أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فأشهدك أني جعلت أرضي بيرحاء لله.. إلخ، وفيه أنه جعلها في حسان وأُبَيِّ بن كعب. وفي رواية أنه قال له: (اجعلها في فقراء أقاربك) . وبَيْرَحاء بفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الراء تمد وتقصر ومعناها: الأرض المنكشفة. (وقف جماعة آخرين من أكابر الصحابة) روى ابن جرير عن محمد بن عبد الله القرشي قال: حبس عثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله دورهم، وهناك روايات أخرى للبيهقي في وقف أبي بكر وسعيد وعمرو بن العاص وحكيم بن حزام وأنس وزيد بن ثابت، وصح في وقف المنقول مرفوعًا أن خالدًا احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله. أما الأصل في الحث والترغيب الصريح من الشارع على الوقف فقد ورد فيه حديث أبي هريرة المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، قال العلماء: لو جاز بيع الوقف لما كانت الصدقة جارية بل لكانت منقطعة. وحديثه أيضًا: (من احتبس فرسًا في سبيل الله إيمانًا واحتسابًا فإن شبعه وبوله وروثه في ميزانه يوم القيامة حسنات) رواه أحمد والبخاري، وهو دليل على جواز وقف المنقول وقد فعله بعض الصحابة كما تقدم. هذا ما أردنا أن نذكره في توضيح الرد على من زعم أنه لم يرد في الوقف شيء من الأحاديث إلا حديث ابن ماجه في وقف عمر وقد ذكره مختصرًا. ولو أردنا أن نذكر مذاهب العلماء وما استنبط من هذه الأحاديث من الأحكام لضاق دون ذلك المقام.

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (الوجه السابع والعشرون) : أن أقوال العلماء وآراءهم لا تنضبط ولا تنحصر ولم تضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا، فلا يكون اتفاقهم إلا حقًّا، ومن المُحال أن يحيلنا الله ورسوله على ما لا ينضبط، ولا ينحصر، ولم يضمن لنا عصمته من الخطأ، ولم يقم لنا دليلاً على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله من الآخر؛ بل يترك قول هذا كله، ويؤخذ قول هذا كله محال أن يشرعه الله أو يرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولاً والآخر كاذبًا على الله، فالغرض حينئذٍ ما يعتمده هؤلاء المقلدون مع متبوعهم ومخالفيهم. (الوجه الثامن والعشرون) : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) ، وأخبر أن العلم يقل، فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق، ومعلوم أن كتب المقلدين قد طبقت شرق الأرض وغربها، ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت، ونحن نراها كل عام في ازدياد وكثرة، والمقلّدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه وشهرتها في الناس خلاف الغربة؛ بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره فلو كانت هي العلم الذي بعث الله به رسوله لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم في شهرة وظهور وهو خلاف ما أخبر به الصادق. (الوجه التاسع والعشرون) : أن الاختلاف كثير في كتب المقلدين وأقوالهم وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه؛ بل هو حق يصدق بعضه بعضًا ويشهد بعضه لبعض وقد قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) . (الوجه الثلاثون) : أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدًا دون عمرو؛ بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد الآخر عند المقلدين. فإن كان قول مَن قلده أولاً هو الحق لا سواه فقد جوزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه. وهذا محال وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق، وإن قلتم: القولان المتضادان المتناقضان حق فهو أشد إحالة ولا بد لكم من قِسْم من هذه الأقسام الثلاثة. (الوجه الحادي والثلاثون) : أن يقال للمقلد بأي شيء عرفت أن الصواب مع من قلدته دون مَن لا تقلده؟ ! فإن قال: عرفته بالدليل، فليس بمقلد. وإن قال: عرفته تقليدًا له فإنه أفتى بهذا القول ودان به وعلمه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقول غير الحق. قيل له: أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ؟ فإن قال بعصمته أبطل، وإن جوّز عليه الخطأ قيل له فما يؤمّنك أن يكون قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره. فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور. قيل: أجل، هو مأجور لاجتهاده وأنت غير مأجور لأنك لم تأتِ بموجب الأجر؛ بل قد فرطت في الاتباع الواجب فأنت إذًا مأزور. فإن قال: كيف يأجره الله على ما أفتى به ويمدحه عليه، ويذم المستفتي على قبوله منه وهل يعقل هذا؟ قيل: المستفتي إن قصّر وفرّط في معرفة الحق مع قدرته عليه لحِقه الذم والوعيد، وإن بذل جهده ولم يقصر فيما أمر به واتقّى الله ما استطاع فهو مأجور أيضًا. وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عيارًا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنها بها فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه ردّه فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والصواب. وإن قال: وهو الواقع - اتبعته وقلدته ولا أدري أعلى صواب هو أم لا فالعهدة على القائل وأنا حاكٍ لأقواله. قيل له: فهل تتخلص بهذا من الله عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد الله وأفتيتهم به؟ فو الله إن لِلْحكام والمفتين لموقفًا للسؤال لا يتخلص فيه إلا مَن عرف الحق وحكم به، وعرفه وأفتى به، وأما من عداهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء. (الوجه الثاني والثلاثون) : أن تقول: أخذتم بقول فلان لأن فلانًا قاله أو لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله. فإن قلتم: لأن فلانًا قاله، جعلتم قول فلان حجة وهذا عين الباطل. وإن قلتم: لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاله، كان هذا أعظم وأقبح فإنه مع تضمنه للكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقوّلكم عليه ما لم يقله، وهو أيضًا كذب على المتبوع؛ فإنه لم يقل هذا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد دار قولكم بين أمرين لا ثالث لهما: إما جعل قول غير المعصوم حجة. وإما تقويل المعصوم ما لم يقله - ولا بد من واحد من الأمرين، فإن قلتم: بل منهما بد، وبقي قسم ثالث؛ وهو أنَّا قلنا كذا لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا أن نتبع مَن هو أعلم منا، ونسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم، ونرد ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم فنحن في ذلك متبعون ما أمرنا به نبينا. قيل: وهل نُدَندن إلا حول اتباع أمره صلى الله عليه وآله وسلم فحيَّهلاً بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتم الإيمان والإسلام إلا به فنناشدكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول من قلدتموه؛ هل تتركون قوله لأمره صلى الله عليه وآله وسلم وتضربون به الحائط وتحرمون الأخذ به، والحالة هذه حتى تتحقق المتابعة كما زعمتم أم تأخذون بقوله وتفوضون أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الله، وتقولون هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منا ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو مُعارَض بما هو أقوى منه أو غير صحيح عنده؟ ! فتجعلون قول المتبوع محكمًا وقول الرسول متشابهًا فلو كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم بالأخذ بقوله لقدمتم قول الرسول أين كان، ثم نقول في: (الوجه الثالث والثلاثون) : وأين أَمَرَكم الرسول بأخذ قول واحد من الأمة بعينه وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول وهل هذا إلا نسبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنه أمر بما لم يأمر به قط. يوضحه. (الوجه الرابع والثلاثون) : أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم، فإن الله سبحانه أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر الله نساء نبيه أن يذكرونه بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34) ؛ فهذا هو الذكر الذي أمرنا باتباعه وأمر مَن لا علم عنده أن يسأل أهله وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزل على رسوله ليخبروه به فإذا أخبروه به لم يسعه غير اتباعه وهذا كان شأن أئمة أهل العلم، لم يكن لهم مقلد معين يتبعونه في كل ما قال فكان عبد الله بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو فعله أو سنَّه لا يسألهم عن غير ذلك وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصًا عائشة عن فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيته وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم فقط وكذلك أئمة الفقه كما قال الشافعي لأحمد: يا أبا عبد الله أنت أعلم بالحديث مني فإذا صح الحديث فأعلمْني حتى أذهب إليه شاميًّا كان أو كوفيًّا أو بصريًّا ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده ويخالف له ما سواه. ((يتبع بمقال تالٍ))

خطبة منبرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة مِنبرية نموذج من خطب الشيخ عبد الحق البغدادي الأزهري إمام وخطيب المسجد ذي المنارات في بمبي (الهند) الحمد لله الذي أعزّ مَن أطاعه، وأذل مَن عصاه، الحكيم الذي أنزل على النبي الكريم كتابًا، مَن تمسك به فاز بالسعادة في دنياه وأُخراه، ومَن أعرض عنه أخزاه وأرداه، وبثوب الهوان كساه، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله التوفيق للسعي والعمل، والابتعاد عن الخمول والكسل، وأشهد أن لا إله إلا الله، الواحد الأحد، المنزه عن الشريك والصاحبة والولد، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، قام بأمر ربه خير قيام، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وأصحابه، الذين أزالوا ظلمات الكفر بنور الإسلام، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فيا أيها الناس: اعلموا أن السبق في مضمار الحياة الدنيوية لا يُنال إلا بالمثابرة على العمل، والسعي الحثيث، وتقوية الأمل، والاتحاد والاتفاق، والمحبة والوفاق، والتكافل والتضامن، والتناصر والتعاون، كما لا يأتي التقصير والفشل إلا من الضجر والكسل، وترك الأسباب والتمسك بشعرات الاتكال، وفتور العزائم في الأعمال، والتباغض والتخاذل والتحاسد، والتفرق والاختلاف وعدم التعاضد. ألا وإن الديانة الإسلامية والشريعة المحمدية أمرت بالاشتغال للمعاش والمعاد، وحثَّت على ترقية النفوس وتقوية الأجساد، وبينت مطالب الحياتين الدنيوية والأخروية، ووضعت قوانين للعمل لها واضحة جلية، وقد رتبت حصول الدنيا على إقامة الدين، والتمسك بحبله المتين، كما جعلت أكثر أسباب الفوز بالسعادة الأخروية موقوفًا على إصلاح الحالة الدنيوية، فلا ينال المسلمون في الدنيا فلاحًا وعزة ونجاحًا إلا بالدين، ولا يحصدون في الآخرة خيرًا ورضوانًا إلا بإصلاح مزرعتها ورب العالمين. فقد دلت الآثار وأفادت الأخبار أن المسلمين لما كانوا متمسكين بالدين، عاملين بالقرآن العظيم، وسُنة خاتم المرسلين - انقادت لهم الدنيا بأسرها، وأطاعتهم أمم المعمورة من عربها وعجمها؛ فدوخوا الممالك، ووطأوا بسنابك خيولهم معظم عواصم المعمور، وما استقروا في مكان إلا مصَّروا الأمصار، وشيدوا للعلوم خير دار، وأقاموا للمجد والسيادة دعائم، وأحْيَوْا للسياسة معالم، ورفعوا للدين المنار؛ فأضاءوا للإسلام طريق الانتشار، فانتشر شرقًا وغربًا، وشمالاً وجنوبًا، ينصب أعمدة المدنية الإسلامية على أساس المحبة القومية، والمساواة بين أفراد الأمم بلا استثناء، ويُفهمهم أن الأمة كجسم واحد لا تستقيم أمورها إلا بانتظام سائر الأعضاء، على تلك الحال قضت تلك العصابة المؤمنة حياتها النشيطة، وها هي آثارها نصب أعيننا منتشرة في أطراف البسيطة - تخبرنا بأنها فازت من قداح العز والعظمة والجاه في الدنيا بالمعلى والرقيب، وستنال في العُقبى من الرضاء والخير أوفر نصيب. أما نحن الخلف الطالح لذلك السلف الصالح فقد هدمنا كل ما شادوه، وأتلفنا جميع ما أوجدوه وضيعنا سائر ما تركوه، وطمسنا معالم ما أوضحوه، وشوهنا وجه ما زينوه، وتسربلنا بثياب الرضوخ للمهانة والضَّعَة، وفقدنا أخلاق الشهامة والشمم والشجاعة، فلم نفُز من الدنيا بغير الخسران، والعِوَز والهوان، ولَجزاءُ الآخرة أشد وأخزى، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) ، وما كان تغيُّر حال المسلمين من ذلك العز والرفعة إلى هذا الذل والضعة إلا بعد أن أعرضوا عن الدين، ولم يأتمروا بأوامر ربهم، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ?، أفليس من الفضيحة والعار أن تصيروا - معاشر المسلمين - إلى هذا الصَّغار، والإسلام أمامكم، والقرآن مرشدكم، وكذلك كان بين الأمم شأنكم، ألم يأنِ لكم أن تتركوا الأباطيل والأوهام، وتتجنبوا الخرافات التي ألحقت بكم الأضرار الجِسام، وتقيموا الدين الصحيح غير مشوب ببدعة؛ لتنالوا رضوان الله والغِنَى والرفعة، فاتقوا الله عباد الله، وعودوا إلى التمسك بالدين يَعُدْ لكم عز آبائكم الأولين، وارجعوا إلى العمل بالقرآن العظيم يرجع لكم بين الأمم مقامكم القديم، وحافظوا على إقامة السُّنّة يحفظْكم الله من كل محنة، وأنيبوا إلى الله فإنه يقبل مَن أناب، وتضرّعوا إليه قائلين: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8) . (الحديث) : عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (مَن تعلَّم كتاب الله، ثم اتبع ما فيه هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب) ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنِ اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة) ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يَزيغ عنها إلا هالك) . (التلاوة) {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} (طه: 123) 0 0 0الآيات.

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة هل الدراسة عذر في ترك الصوم؟! (س1) هل الدراسة عذر في ترك الصوم؟ - من تلميذ بمدرسة مسيحية في مصر! أرجوكم أن تتكرموا بإجابة سؤالي هذا، لا زال مناركم ضياء المسلمين، وكعبة السائلين: كنت السنة الماضية بإحدى المدارس الأميرية، وكنت أستيقظ (في رمضان) الساعة 8 ونصف، وأحضر من المدرسة، وأنام توًّا إلى المغرب ثم أفطر وأذاكر دروسي إلى الساعة 10 وأنام، وأستيقظ للسحور الساعة 3، وأنام ثانية الساعة 5 وأستيقظ صباحا الساعة 8 ونصف وهلم جرًّا. وأما في هذه السنة فأصبحت في مدرسة أهلية مسيحية، وأريد أن أشتغل في دروسي زيادة عن المطلوب! ولا يمكنني أن أنقطع عن الحصص أو بعضها؛ لأنني إذا فعلت ذلك لا يمكنني إلا أن أنقطع النهار كله فإذا لازمت الطريقة التي كنت أفعلها وأنا في المدرسة الأميرية تعطلت عن المدرسة مدة شهر رمضان وناهيك بعطلة شهر للتلميذ، فأنا إذن ملزم بأن أستيقظ الساعة 7، وأحضر من المدرسة الساعة 5 تقريبًا؛ ولكنني لا أقدر أن أصوم مع الشغل طول النهار، فهل يجوز لي أن أفطر أم لا يا مولاي؟ ! (ج) إن أكثر المسلمين يعملون في رمضان من أول النهار؛ أي قبل اشتغال المدارس بدروسها إلى قبيل المغرب، فلا أرى أن السائل وقع في عمل شاق لا يستطيعه الشاب في هذه الأيام القصيرة المعتدلة التي لا حر فيها، ولا زمهرير، وما هو إلا أن عادته تغيرت بعض التغيير، ولو كان رمضان في الصيف لكان تلامذة المدارس الأميرية يشتغلون بالمدارسة مع مكابدة مشقة الحر في الصيام أكثر مما يشتغل غيرهم في المدارس النصرانية الآن، ولا شك أن المسلمين منهم يصومون في الصيف كما يصومون في الشتاء. وأعني بالمسلمين الذين عرفوا الإسلام وتربّوا عليه لا المسلمين الجغرافيين، الذين يعدون في إحصاء الحكومة المصرية بتسع ملايين. وأرى أنه عرض للسائل وهْم من زيادة الدراسة عليه في هذه السنة ساعتين وتوهم أن سيصيبه من ذلك الجهد والمشقة، وأن هذا عذر يبيح الإفطار ولا مشقة هناك تبيح الفطر في هذا العمل الاختياري إلا أن يكون هناك ضعف أو مرض. وإنني أرجو الله تعالى أن يعينه إذا غلَّب دينَه وعقلَه على وَهْمِه، وجرّب وصام، فلا يجد من الجهد ما يتوهمه الآن. * * * سؤال المَلَكين (س2) - محمد أفندي حلمي كاتب سجون حلفا: هل يوجد حقيقةً ملكان يسألان في القبر وما هي كيفية سؤالهم؟ ورد في أخبار صحيحة أن هناك ملكين يسألان الميت بعد موته عن الإيمان بالله ورسوله وأن السؤال يكون بصيغة التشكيك مثل: (ما تقول في هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟) ، ويسمى هذا السؤال فتنة القبر ويسمى الملكان السائلان فتَّانا القبر. والفتنة معناها الاختبار. وقد حمل أكثر المسلمين القول على ظاهره وأوَّله بعضهم كالمعتزلة. أما كيفية السؤال فلا يعرفها إلا مَن عرف حقيقة الملائكة والأرواح المجردة، ونكتفي بأن نقول: إنها أمور غيبية تُبنَى على التسليم كسائر أمور الآخرة التي يصح النقل عندنا بها ولا حاجة إلى تأويل ما لم يكن ظاهره مستحيلاً عقلاً، ولا نكفّر مَن أوَّل الخبر وأخرجه عن ظاهره، ولا من أنكر صحته إذا لم يكن متواترًا معلومًا من الدين بالضرورة. وليراجع ما كتبناه في مسألة عذاب القبر في المجلد الخامس. *** كروية الأرض (3) ومنه: هل يوجد دليل في القرآن الحكيم على أن الأرض كروية؟ (ج) إن الله تعالى أنزل القرآن هاديًا للناس، ومصلحًا لأرواحهم ومبينًا لهم ما يتعذر عليهم الوصول إليه بغير الوحي، ولو أنزله لبيان أحوال المخلوقات لكان ألوفًا من المجلدات، ولكن فيما يذكره تعالى في الاستدلال على قدرته وحكمته ما يفهم منه أن الأرض كروية كقوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) ، وقوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54) . *** ليلة نصف شعبان (س4) ومنه: هل ورد في ليلة النصف من شعبان والدعاء المختص بها أحاديث صحيحة يعمل بها؟ (ج) إن اتخاذ هذه الليلة موسمًا من مواسم الدين من البدع الحادثة في القرون المتوسطة، وهذا الدعاء ابتدعه أحد الجهال وما يقولونه في فضائل الليلة غير صحيح، وقد رأيتم في النبذة السادسة من رد شبهات النصارى على القرآن العزيز (في الجزء الثاني عشر) بيان خطأ القائلين: إن ليلة النصف من شعبان هي الليلة التي فيها قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) ، وإثبات أن هذه هي ليلة القدر المجهولة وأن الأمر الحكيم هو أمر الوحي والشريعة؛ لأنها الليلة التي نزل فيها الكتاب المبين. وقد ذكرنا في الجزء الذي صدر في 16 شعبان سنة 1318 (من السنة الثالثة) بدع ليلة النصف من شعبان ومنكراتها، وهي 15 بدعة وسادس عشرها الدعاء المعروف الذي لم ينزل الله به من سلطان. وذكرنا في موضع آخر من المنار أن الصلاة التي يروون استحبابها فيها من البدع باتفاق المحدثين والفقهاء ولا عبرة بذكر الغزالي إياها في (الإحياء) بصيغة الضعف فإنها مكذوبة لا ضعيفة. وأمثل ما ورد في ليلة النصف من شعبان حديث ابن ماجه عن علي: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها) ، وهو حديث ضعيف إلا أن العُبَّاد عملوا به من زمن طويل وأكثر الفقهاء على أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال المشروعة في جنسها؛ لأنها إذا لم تصح لم يكن العامل قد جاء بمنكر. وقد زاد فيه عبد الرزّاق في مصنفه: (فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له، ألا من مسترزق فأرزقه حتى يطلع الفجر) . قالوا أي ينزل أمره أو ملك بإذنه. أورد في شرح الإحياء ما ورد في شعبان من الأحاديث وقول المحدثين في وضعها واختلاقها، ثم قال ما نصه: وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية في (العلم المشهور) : حديث ليلة النصف من شعبان موضوع. قال أبو حاتم: محمد بن حبان بن مهاجر يضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث أنس فيها موضوع أيضًا لأن فيه إبراهيم بن إسحق. قال أبو حاتم: كان يقلب الأخبار ويسرق الحديث وفيه وهب بن وهب القاضي أكذب الناس) . ا. هـ وقال التقي السبكي في (تقييد التراجيح) : الاجتماع لصلاة ليلة النصف من شعبان ولصلاة الرغائب بدعة مذمومة. ا. هـ وقال النووي: هاتان الصلاتان بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر بذكرهما في كتاب القوت والإحياء، وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما بقوله صلى الله عليه وسلم: (والصلاة خير موضوع) ؛ فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة اهـ. قلت: وقد ذكر التقي السبكي في تفسيره أن إحياء ليلة النصف من شعبان يكفر ذنوب السنة وليلة الجمعة تكفر ذنوب الأسبوع وليلة القدر تكفر ذنوب العمر اهـ. وقد توارث الخلف عن السلف في إحياء هذه الليلة بصلاة ست ركعات بعد صلاة المغرب، كل ركعتين بتسليمه يقرأ في كل ركعة منها بالفاتحة مرة والإخلاص ست مرات، وبعد الفراغ من كل ركعتين يقرأ سورة (يس) مرة ويدعو بالدعاء المشهور بدعاء ليلة النصف، ويسأل الله تعالى البركة في العمر ثم في الثانية البركة في الرزق ثم في الثالثة حسن الخاتمة، وذكروا أن مَن صلى هكذا بهذه الكيفية أُعطي جميع ما طلب، وهذه الصلاة مشهورة في كتب المتأخرين من السادة الصوفية، ولم أَرَ لها ولا لدعائها مستندًا صحيحًا في السنة؛ إلا أنه من عمل المشايخ، وقد قال أصحابنا إنه يكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي المذكورة في المساجد وغيرها. وقال النجم الغيطي في صفة إحياء ليلة النصف من شعبان بجماعة إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء وابن أبي مليكة وفقهاء أهل المدينة وأصحاب مالك، وقالوا ذلك كله بدعة ولم يثبت في قيامها جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه شيء، واختلف علماء الشام على قولين: أحدهما: استحباب إحيائها بجماعة في المسجد، وممن قال بذلك من أعيان التابعين خالد بن معدان وعثمان بن عامر ووافقهم إسحق بن راهويه. والثاني: كراهة الاجتماع لها في المساجد للصلاة وإليه ذهب الأوزاعي فقيه الشام ومفتيهم اهـ. يعني بقوله (أصحابنا) الحنفية. وإذا اتفق لبعض عباد التابعين إحياؤها وزاد عليهم المتأخرون دعاءها وسائر البدع التي ذكرها ابن الحاج في (المدخل) فهل ذلك ينافي كون صلاتها وكل ما يعملونه فيها بدعة مذمومة؟ كلا، إنها بدعة زاد في قبحها جعْلها شعارًا دينيًا. *** صيام رجب (س5) : ومنه: هل ورد في صوم ثلاثة أيام من رجب، أو أقل قول؟ (ج) ورد في ذلك أحاديث موضوعة وواهية، وقد بيَّنَّا ذلك في المجلدين الثاني والثالث، فلتراجع فيهما، وربما سقنا تلك الأحاديث كلها في فرصة أخرى بالتفصيل. *** التداوي بالخمر (س6) : ومنه: إذا أمر أحد الأطباء المسلمين مريضًا مسلمًا بشرب مقدار من الخمر لأجل التداوي فهل يوجد مانع شرعي من ذلك؟ (ج) اختلف العلماء في التداوي بالخمر، فمنعه بعضهم مطلقًا، وأجازه بعضهم بشرط أن لا يقوم مقام الخمر غيرها في ذلك، ومَن عرف حكمة تحريم الخمر وأسبابه (علم أن) التداوي الحقيقي لا يتحقق فيه التحريم؛ لأنه لا يسكر ولا يضر، ولا يكون سببًا للعداوة والبغضاء، ولا يصد عن ذكر الله، ولا عن الصلاة؛ ولكن المؤمن المتقي يبعد عن المحرم بقدر الاستطاعة لئلا يأنس به، وكم من متدين سولت له نفسه شرب الخمر بحجة التداوي مكابرة لشعورها الخفي بالشهوة، ولم يكن هناك حاجة حقيقية إلى التداوي بالخمر إلا أن تكون كلمة يرمي بها فساق الأطباء: اشرب كذا لأجل تقوية المعدة، فيشرب المغرور فينتعش فيعتاد فيدمن فيكون من الفاسقين، ويضيع الدنيا والدين! *** المرور بين يدي المصلي (س7) ومنه: هل المرور من أمام المصلي يبطل صلاته ويوجب عليه إعادتها وهل هو حرام أو مكروه كما شاع عند أغلب الناس؟ (ج) ورد في الأحاديث الصحيحة الأمر بأن يصلي المصلي إلى جدار أو سارية أو سترة ولو عصا يغرزها أمامه ليعلم أنه يصلي. وورد في أحاديث صحيحة النهي عن المرور بين يدي المصلي والأمر بمدافعة المار لإرجاعه حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم، وظاهر النهي والوعيد أن ذلك حرام. وفي رواية للبخاري زيادة: ماذا عليه من الإثم، وقيد أكثر العلماء ذلك بالمرور بين يدي المصلي إلى سترة وأن من قصر في ذلك لا يحترم بترك المرور بين يديه وجوبًا، والظاهر أن ذلك ممنوع على كل حال قصر المصلي أم لم يقصر. وما بين يدي المصلي هو ما بين موقفه وسجوده وهو نحو ثلاثة أذرع وقد أخذوا هذا القيد من أحاديث وردت فيه لا محل هنا لذكرها. وأما قطع الصلاة وبطلانها إذا مر بين يدي المصلي مار فقد وردت فيها روايات في أشياء مخصوصة ولم يأخذ بها الجمهور وورد أنه يقي من بطلانها أن يكون بين يدي المصلي سترة مثل آخرة الرحل. فينبغي للمسلم أن يصلي إلى سترة وأن لا يمر بين يدي مصلٍّ مطلقًا. * * * الصلاة بالنعلين (س8) : إسماعيل أفندي لبيب بمصر: نرجوكم الإجابة عما إذا كان يجوز للمصلي الصلاة بنعله (جزمته) أم لا وهل ثبت في السنة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتذٍ النعل وإذا ثبت فهل كان ذلك للضرورة أو للتشريع؟ هذا ما نرجوكم ال

الهدايا والتقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهدايا والتقريظ (النظام والإسلام) للشيخ طنطاوي الجوهري أستاذ العربية في المدرسة الخديوية، ولوع بمزج العظات والحِكَم الدينية بالكلام في محاسن الكون الطبيعية، وقد ألف في هذا كتابيه (ميزان الجواهر) و (جواهر العلوم) اللذين سبق لنا تقريظهما وبيان مزيَّة هذه الطريقة، ثم كتب بعدهما مقالات في ذلك جمعها محمد أفندي مسعود المحرر بالمؤيد، وطبعها بمطبعة الجمهور فكانت كتابًا صفحاته نحو 320 من القطع اللطيف، وقد قال المؤلف في مقدمة الكتاب ما نصه: ولقد حدا بي شدة ولوعي وشوقي لمعرفة الكون أن جعلت أوقات الرياضة لصرف عنان الفكر للتأمل في مصنوعات الله جل وعلا مؤثرًا تلك اللذة على ما سواها بالطبع والغريزة، فكنت إذا هبت النسمات في الخلوات أو بين أغصان الأشجار، أو غردت الأطيار وسمعت خرير ماء الأنهار تمثل لي من تلك الأصوات، تجلي من مباهج تلك الألوان بهجة العلم وحكمة المبدع بأظهر مجلى، وأبدع معنى، ومن هذا كانت هذه الخواطر المودعة في هذا الكتيب الذي سميته (النظام والإسلام) ، ورتبته على مقدمة وثلاثة أقسام: (القسم الأول) في جمال الكون ونظامه وميزانه؛ إذ يتجلى لقارئه كيف انتظم النبات ووزن بميزان حقيقي ويفهم السر المكنون المعبر عنه بالميزان في آيات كثيرة كقوله: {وَوَضَعَ المِيزَانَ} (الرحمن: 7) ، ونحوه وبهذا قرنت الإسلام بالنظام تذكيرًا بأنه هو الذي أيقظني إلى النظر في هذه العلوم النظامية في الكون. و (القسم الثاني) نموذج في كيفية فهم قَصص القرآن الشريف، وما المقصود منها كسورة يوسف وسورة سليمان عليهما السلام مما يتساءل عنه الدارسون للعلوم، المتشوقون للاطلاع، وكيف تدعو تلك القصص إلى الملاينة والنظام كحكمة سليمان وآداب يوسف الخلقية ليزداد المؤمن يقينًا، ويوقن الشاكُّون من إخواننا الشبان المسلمين. (القسم الثالث) فيما يجب على الملوك والرؤساء والعلماء والحكام ودعاة الأمة والخطباء من الآداب العامة الكافلة لنظامها كما انتظم الكون أجمعه بالنواميس العالية والملائكة الصافين. والكتاب يطلب من طابعه وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة. *** (واقعة السلطان عبد العزيز) سبق لنا القول في مقالات (الترك والعرب) بأن إخواننا الترك قد سبقونا في هذه الأيام بالاشتغال وتحصيل العلم، ومن جملة مزاياهم العلمية: تدوين تاريخهم على الطريقة الحديثة في تأليف التاريخ وهي بيان الحوادث بعللها ونتائجها وبيان العبرة فيها. ومن الكتب الحديثة في ذلك كتاب (واقعة السلطان عبد العزيز) وضعه باللغة التركية أحمد صائب بك الكاتب التركي المشهور في مصر، وبعد أن طبع بالتركية عرَّبه محمد توفيق أفندي جانا وطبع بالعربية. وقد مهد المؤلف للكلام في السلطان عبد العزيز تمهيدًا بيَّن فيه ما توجه إليه السلطان سليم الثالث من إصلاح الخلل الذي طرأ على الدولة العثمانية من أول القرن الحادي عشر (الهجري) ، وما وضعه لذلك من القوانين والقواعد الوافية بذلك ثم ما قام به بعده السلطان محمود من إصلاح الجيش وزلزلة التقاليد الزمنية بتغيير زي رجال الدولة في اللبوس ثم ما وضع على عهد السلطان عبد المجيد من قواعد المساواة بين الرعية. ثم بين أن كل ذلك لم يؤثر في نهوض الدولة تحت أثقالها لسببين: أحدهما معارضة الروسية للدولة. وثانيهما إهمال المعارف. ثم تكلم عن أحوال الباب العالي في عهد السلطان عبد العزيز، وعن الصدور العظام في زمنه والإسراف والثورات الداخلية في عهده وبيّن بعض فضائل فؤاد باشا وعالي باشا أعظم صدور الترك في هذا العصر. (رحمهما الله تعالى) وما تشبَّثا به من أمور الإصلاح. ثم ما قام به محمود نديم باشا الداماد من التخريب والهدم لكل جدار أقيم وركن بني خدمة للروسية، ثم بين في فصل آخر سوء حال الإدارة في أواخر مدة السلطان عبد العزيز؛ أي بعد موت عالي وفؤاد، وفيه الكلام عن تربية أولاد الأسرة المالكة، وعن صدارة مدحت باشا وخدمة حسين عوني باشا العسكرية، وعن أحوال المالية، ومن ذلك أن الدولة اقترضت في مدة إحدى عشرة سنة 4 مليارات و571 مليونًا و800 ألف فرنك، ثم تكلم عن سعي أغناتيف سفير الروسية في الآستانة باستمالة السلطان بمساعدة محمود نديم باشا، ونجاحه في ذلك، وعن الخلل الذي سرى في الدولة بدسائس السفير البارع الصادق في خدمة دولته وعن تألُّب عقلاء العثمانيين لذلك، وعن المطبوعات والجرائد والمطابع وتألف حزب العثمانيين الأحرار، وأولهم الأمير مصطفى فاضل باشا المصري، وعن القصر السلطاني وحال النساء فيه، وعن تكبر السلطان عبد العزيز وتعاظمه، وعن سوء استعمال الامتيازات التي مُنحت لمصر وغير ذلك. وبعد ذلك كله انتقل إلى سعي مدحت باشا في مقاومة هذا الاستبداد وظفره أخيرًا بخلع السلطان وتولية السلطان مراد. من قرأ الكتاب لا يشك في أن الكاتب متحرٍّ للصدق محب مخلص لدولته وجنسه، وقد انتقدنا اختصاره الذي قضى أن يكون سرد الحوادث والوقائع فيه قليلاً، أما التعريب فسهل منسجم؛ ولكن فيه غلطًا كثيرًا، لا يخفى على العارف وثمن النسخة منه عشرة قروش، وهو يطلب من إدارة جريدة (شوراي امت) بمصر. *** (مراثي الأمة القبطية) انتقد شاب قبطي رؤساء الدين في ملته بمقالات نشرها في بعض الجرائد اليومية ثم رأى أن يجمعها ويزيد عليها، ويطبع ذلك كله ويوزعه رسائل متتابعة يطلق عليها (النبذات) ، وقد صدرت النبذة الأولى منها، فعُلِمَ مما كتب على غلافها أن سيكون مجموعها 12 نبذة، وقد قرأناها فعلمنا أن هناك شيئًا حقيقًا بأن يُشكى منه، وليس لأمثالنا الحكم في جزئيات هذه الشكوى، وإنما ننظر في هذه المسائل نظرًا عامًا، فنقول إن انتقاد نابتة الأمة لتقاليد الرؤساء، وتصرفهم هو من علامات الحياة فيها، وإنّ تلقِّي الجماهير لهذا الانتقاد بالاستحسان والقبول دليل على أن الحياة متمكنة، ومقابلتهم إياه بالسخط والاستهجان مِن أمارات ضعف الحياة، وأن لنا في نهضة القبط الحديثة رأيًا ننشره في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى. وثمن النبذة من هذه النبذ نصف قرش، وهي تطلب من المكتبة الشرقية ومن كاتبها توفيق أفندي حبيب. *** (مضار الزار) الزار بدعة من أقبح البدع التي تُحدِثها النزعات الوثنية والاعتقادات الخرافية؛ كاعتقاد دخول الشياطين في أجسام الناس، وإحداث الأمراض فيها، وتعاصيها عن الخروج منها إلا بأسرار الشيوخ التي تستنجد بها شيخة الزار في حفلته التي لا تعرف في غير هذه البلاد الموبوءة بالشيوخ والشيخات والبدع والخرافات. كان العقلاء يمقتون بدعة (الزار) ، وأهل الدين ينكرون ما فيها من الأوزار، ولم يكن الأكثرون يعرفون منها إلا مَحْملاً من قبائحها، ورموزًا خفية من فضائحها؛ لأنها من أسرار النساء المكتومة، ومكايدهن المشئومة، التي استعبدن بها الرجال، وأفسدن بها عليهم الدين والعرض والمال، حتى شَمَّرَ في هذه الأيام عن ساعد الجد والاجتهاد الشاب النشيط محمد حلمي أفندي زين الدين مترجم ديوان الأوقاف وكشف الحجب والأستار، عن تلك المُخبآت والأسرار، فجمع إلى ما اكتشفه بعض الناس من قبله ما لم يكتشفوه وأورد ذلك كله في قصة سمّاها (رواية مضار الزار) بيَّن فيها كيف تستهوي شيخة الزار أفئدة النساء إلى هذا العمل الذميم حتى تفتك بهن الأوهام فتكًا، بدايته الأمراض، ونهايته الموت الزؤام، وذكر في آخر القصيدة الأناشيد التي ينشدونها في حفلة الزار، وهي جديرة بأن تكون فتنة للنساء الجاهلات، ومؤثرة في نفوسهن الضعيفة، وعقولهن السخيفة، وربما ننشرها أو نموذجًا منها في باب البدع والخرافات من جزء آخر، وقد طبعت هذه القصة المفيدة على ورق جيد، وثمن النسخة منها نصف قرش فقط. *** (الذمار) جريدة اجتماعية أسبوعية يصدرها في الإسكندرية الشيخ شاهين الخازن والشيخ نسيم العاذار، وغرضها الأول خدمة السوريين، والمدافعة عن حقوقهم، والمنشئان أهلٌ لذلك فيما نعرف عنهما، والسوريون أجدر بالقيام بحقوق من يخدمهم، فنتمنى للرصيفة الجديدة ما تستحقه من الرواج والانتشار. وقيمة الاشتراك فيها 13 فرنكًا.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الجامعة الدينية والوطنية) كتب إلينا صديقنا نسيم بك خلاط من وجهاء طرابُلس الشام ما يأتي (تأخر وروده ثم نشره) .. مولاي الجهبذ الهمام: أمسكت الكتابة عن سيدي أمدًا كاد يكون في نظري دهرًا وأنا - كما علمت - يقيمني الشوق ويقعدني كل يوم إليه وذاك لأني كنت أُسَوِّف اللقاء، وأعلل النفس بقرب الملتقى، في ربوع ظللها الصفا وتحت سماء خلت من أكدار العاذل والرقيب، وكنت أقول للنفس المشتاقة: عنك ومشقة الكتابة ما دام لك في مغامزة الأرواح، ما يغني عن مراسلة الأحباب، لكن وقد طال لهذا الآن الموعد خفت أن يحسب السكوت لدى مولاي مللاً أو نكرانًا لجميله في تقريظ رحلتي في غربي أوربا جئت الآن وأنا في أعالي لبنان بين رياض وغياض حيث الهواء بليل والماء نمير أبثه أشواقي وأنفحه من خالص التحية ما ينفحني المكان من خالص النعيم وأبدي إليه امتناني وأشهد القرطاس على شغفي به واشتياقي إليه ولي فيما عدا ذلك - باعث يحملني لو سمح سيدي أن أشرح له إعجابي بما حواه مناره الأسنى من جلائل المواعظ القمين بها والمحتاج إليها أهل العصر عمومًا والإسلام خصوصًا. فإنك يا مولاي لم تألُ جهدًا في تقويم ما اعوجَّ من أفنان العبادة، ولم ترهب من تقريع مَن شطّوا فيها عن سواء السبيل حتى استغابك مَن ألفوا التُّرَّهَات أو حادوا عن محجَّة الدين القويم فلا سد فوك، ولا عاش من يشنوك، إنما لي عليك سؤال عساك لا تستنكر صدوره من عاجز مثلي يشفع به علم الجميع بأني لم أبغِ عمري غير تمكين الوئام وتوثيق الألفة وإعلاء منار الجامعة الوطنية؛ لأني منذ بلوغي الرشد (إذا كنت للآن رشدت) رأيت وخبرت أن مصيبة الشرق وبلادنا على نوع أخص؛ إنما كانت وتكون أبد الدهر في ظل المذاهب والأديان فلو أريد تسويد دين على آخر أو تعميمه وجمع العالمين في كنفه ليتم هناء الناس كما زعم البعض لكان المطلب وعرًا لأسباب جمّة أخصها ما جاء في نص: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ..} (هود: 118) إلخ، وما علم بالاختبار الطويل العريض من أن الإنسان حليف التخاذل وولوع بالخلف وشتات الآراء، وأن من المستحيل اجتماعه على رأي واحد فيما سوى النظريات؛ فما معنى القول إذن بالجامعة الدينية وتخيل اعتبارها من الممكنات والإعراض عن الجامعة الوطنية الميسورة والمشهود لها قديمًا وحديثًا بأنها داعية العمران ومصدر القوة والحضارة. فمَن لي بمثل منارك المضيء في ظلمات الأفهام أن يزين للقوم فضلها ومنافعها أن يجهر بالقول: (إن ما رام في الوطنية؛ بقطع النظر عن اختلاف الأديان ما يقوم بما أنزل الرحمن من وجوب الألفة والنصفة بين الناس، والتساوي وأحكام القسط بينهم، وتكليفهم للذب يدًا واحدة عن أعراضهم ومرافقهم، وفيها إعلاء شأن من يحسن صنعًا؛ ولو كان من أحطهم قومًا وأخسهم محتدًا تكن في منارك يا مولاي فعلت ما أنت أهله من الإحسان وكسرت قيودًا طالما أن منها - واأسفَى - الشرق، فإن شئت إدراج كتابي أو ملخصه في منارك الأغر، ولعلي أظنك فاعلاً رجوت الاتِّئاد إذ لاح لك تعقيبه وكان لاتِّئادك بي من مكان) اهـ. (المنار) نشكر للصديق الفاضل وفاءه، ونحمل عليه حمده وثناءه، ثم نشكر له هذا النصح الذي تجلى بلسان السائل، وقلب المحب المخلص، ولو كان الصديق قرأ جميع أجزاء المنار واستقرأ ما كتبته في الجامعتين الدينية والوطنية لوجد فيه جواب سؤاله، أو العمل بنصحه وإرشاده. ولا بد لي من كلمة وجيزة أقولها الآن: الجامعة الدينية لا تنافي عندنا الجامعة الوطنية بل تستلزمها كما أوضحنا ذلك في مقالة عنوانها (الجنسية والدين الإسلامي) ولا يقصد الداعون إلى الجامعة الإسلامية أن يجعلوا جميع الناس مسلمين، فيقال إنهم مخطئون في نظر العقل ونص قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} (هود: 118) وإنما هم يدعون المسلمين إلى العلم والمدنية الفاضلة التي لا فحش فيها ولا فسوق ومجاراة غيرهم من أهل الملل في فنون العلم والعمل، فإنهم على كونهم العنصر الأقوى في الشرق الأدنى قد أصبحوا وراء جميع العناصر في هذه الفنون، ويحتج الأكثرون منهم على عداوة العلم بالدين فوجب أن يحاجوا من طريق الدين. وأن يدعوا باسم الدين. فإنه صاحب السلطان الأعلى على نفوس هؤلاء المتخلفين، ولكنهم لبسوه كما يلبس الفرو مقلوبًا (الكلمة لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه) فنكروا معروفه وجعلوه سبب الجهل وداعية التفريق وآلة الاستعلاء والإيذاء بعد أن كان في أول نشأته سبب العلم وداعية الوفاق وآلة العدل والمساواة بين جميع الناس. وللأهرام كلمة حق تقولها دائمًا وهي: إن الشرق لا يرتقي إلا بارتقاء المسلمين، وللمقتطف كلمة حق قالها وهي: إن المسلمين لا يرتقون إلا بعد الإصلاح الديني، وذكر هناك أن المنار داعية لهذا الإصلاح وأن صاحبه من زعمائه، فالمنار مشتغل بدعوة المسلمين إلى الإسلام لا بدعوة النصارى وغيرهم إليه؛ وإنما يرد شبهات دعاة النصرانية التي ينشرونها في كتبهم وجرائدهم المنشرة؛ لأنه اعتداء يجب في اعتقاده رده؛ ولأنه معارض له في دعوته، ويبين في محاسن الإسلام ويُرَغِّب فيها من غير إيذاء لأحد. فإذا قال الصديق: إذا كانت الجامعة الوطنية من لوازم الجامعة الإسلامية فلماذا لا يدعو المنار إليها بالتصريح؟ فإني أذكره أو أذكر له أنني لم أقصر في ذلك؛ ولكنني أكثرت منه في السنة الأولى أيام كان المنار منتشرًا بين أهل الوطن الذين هم في أشد الحاجة إلى الوفاق والتعاون؛ حتى لامني بعض المسلمين المتحمسين ولم يعضدني أحد من غيرهم. وأقللت من ذلك بعد منع المنار من تلك البلاد وانتشاره في بلاد أفرط فيها أحداث دعاة الوطنية حتى خرجوا عن الوطنية. لا خلاف ولا نزاع في هذه البلاد بين المسلمين والقبط باسم الدين؛ ولكن بعض الأحداث يحرضون المصريين عامة على عداوة السوريين خاصة، وهم من أبناء لغتهم وأتباع دولتهم والمساوين لهم في قوانين حكومتهم، وذلك بعد أن استوطنوا بلادهم وخدموها خدمة علمية أدبية لم يخدموا أنفسهم بمثلها، ولا حجة لهؤلاء الأحداث إلا أن السوريين ليسوا بوطنيين وإنما هم (دخلاء) فإن كان الوطني في عرفهم هو مَن ثبت اتصال نسبه بالفراعنة؛ فالواجب عليهم أن يُخرجوا منها أمراءها وأكثر أهلها. وإلا فليفقهوا أن الدخيل هو الأجنبي عن لغتك وحكومتك الذي لا يخضع لقانونك ولا لشريعتك، والذي يمتص ثروة بلادك فيحولها إلى بلاده ليُغنى من حيث تفتقر ويُعز من حيث تذل. المنار يدافع عن الإسلام، ولا ينسى الوصية بالوفاق والوئام، وأنه يرى المسلمين أقرب إلى معنى الوطنية الصحيحة من غيرهم، فهذه جرائد المسيحيين حتى الدينية البحتة منها يشترك فيها المسلمون بالمئات والألوف، وقد وجد للإسلام جريدة واحدة أو مجلة (وهي المنار) فلم تجد في المسيحيين عشرة نفر يشتركون فيها مع اعتراف فضلائهم بأنها نافعة ومفيدة، وهناك شواهد أخرى. المنار يدعو المسلمين إلى العلم، والعلم هو الذي يعرِّف الناس بمكانة اتفاق عناصر الوطن على ترقيته وإعلاء شأنه. أما الذين ليس لهم من علوم العمران ما يقرب بعضهم من بعض فإقناعهم بالوفاق والوئام باسم الوطنية غير متيسر ولكن المتيسر هو إقناعهم بذلك من طريق الدين وهو ما نحاوله. فالمنار يخدم الوطن الخدمة النافعة ولكنه لا يلغو باسم الوطن والوطنية؛ لأن هذا اللغو من شِنْشِنَة الذين يقولون ما لا يفعلون. *** (مكتبة إسلامية عمومية في روسيا) تتضافر الأنباء على حسن حال إخواننا المسلمين في بلاد روسيا وعنايتهم بالعلم والتربية الإسلامية، حتى إن العارفين يفضلونهم على جميع المسلمين في مكارم الأخلاق، وفي الاتحاد والاتفاق. وقد كتب إلينا من مدينة خاركوف أن مسلميها على قلة عددهم يشتغلون الآن بإنشاء مكتبة عمومية لا نظير لها في بلاد روسيا، وقد انبرى لهذا الأمر وتبرع له بالمال الكثير محمد غني أفندي بن سعد الدين أحد قراء المنار الأخيار، فجلب الكتب الكثيرة من البلاد، فنسأل الله تعالى أن يكثر من أمثال هذا الشاب الغيور في المسلمين. ومن هنا نستدل على حسن معاملة حكومة القيصر للمسلمين، وعلى حرية العلم فيهم، لولا أن مراقبي المطبوعات في موسكو وغيرها يمنعون عنهم بعض أجزاء المنار بسوء فهم مترجميه لهم، لا بشيء فيه يقتضي ذلك فإنه لم يعب السياسة الروسية لهم فقط. *** (مسألة مراكش رأي المنار ومكاتب التيمس) كتبنا في الجزء العاشر مقالة في الخطر المحدق ببلاد مراكش قلنا فيها: إن الفتنة أقوى من سلطان تلك البلاد، ويوشك أن تذهب بملكه وأن ما ارتآه بعض الناس من وجوب استيلاء فرنسا على بلاد الغرب الأقصى لا يوافق مصلحتها؛ فإن المسلمين أشداء لا يتيسر تذليلهم إلا بأمرائهم وحكامهم.. إلخ، ثم بعد عشرين يومًا من انتشار المنار نشرت جريدة الأهرام مثل هذا الرأي للمستر هاريس مراسل التيمس في مراكش (صاحب العلامة الكبرى والزلفى العظمى لدى مولاي عبد العزيز) ، فأشار باستيلاء فرنسا على الإدارة، واستخدام سلطة السلطان الدينية لذلك، ويفهم من كلامه أن السلطان مستعد لذلك والدول موافقة ...

زكاة الفطر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ زكاة الفطر زكاة الفطر هي أول زكاة فُرضت على هذه الأمة وهي أخف الزكوات وأيسرها؛ لأنها عبارة عن قيام كل واجد زيادة عما يكفيه في يوم عيد الفطر بكفاية واحد من المسلمين عادم ما يكفيه في ذلك اليوم. وهي منسوبة إلى الفطر؛ لأنها تجب به؛ أي: بالفطر من رمضان كله وذلك بالدخول في ليلة العيد وقيل: بطلوع فجره وقال بعض العلماء: إن المراد بالفطر الفطرة والخلقة؛ لأنها تجب على الواجد الذي لم يصم لعذر أو لغير عذر ويجب على المكلف أن يخرجها أيضًا عن أولاده الصغار الذين لا يصومون. والصواب الأول. والحكمة في وجوبها على مَن ذكر ظاهرة؛ فإنها شرعت لكفاية جميع الفقراء وإغنائهم عن ذل السؤال في يوم العيد الذي هو يوم ضيافة الله تعالى للمؤمنين فلما دخل في الفقراء أطفالهم وجب على الأغنياء أن يزكوا عن أطفالهم أيضًا، وكذلك السيد يُخرج زكاة الفطر عن عبده وقالوا: إن الصغير إذا كان ذا مال فإنها تجب في ماله ويخرجها الولي وإن كان أبًا وإلا أخرج عنه من مال نفسه. وقد ورد أنها كفارة للصائم تكفر عنه ما عساه يقع منه مما ينافي حكمة الصيام فهي كالرواتب للصلاة تجبر ما يقع من النقص فيها. ولنذكر ما ورد في مشروعيتها وأحكامها من الأحاديث الشريفة: (1) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم. (2) عن أبي سعيد قال: (كنا نخرج زكاة الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة فقال: إني لأرى مُدين من سمراء الشام يعدل صاعًا من تمر، فأخذ الناس بذلك) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم وزاد مَن عدا البخاري: قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه. (3) وعن أبي سعيد أنه قال: (ما أخرجنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا صاعًا من دقيق أو صاعًا من تمر أو صاعًا من سلت أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من شعير أو صاعًا من أقط) رواه الدارَقُطني عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن عياض بن عبد الله عنه وفيه: (قال ابن المديني لسفيان بن عيينة: يا أبا محمد إن أحدًا لا يذكر في هذا الدقيق. فقال: بلى هو فيه) ، أورد الحديث صاحب (منتقى الأخبار) وذكر أن الإمام أحمد احتج به على إجزاء الدقيق. وقد ورد ذكر الدقيق في غير هذه الرواية وطعن الجمهور في روايتها وقد قال أبو داود في سننه: إن ذكر الدقيق وَهْمٌ من ابن عيينة. (شرح الألفاظ) الطعام في الحديث الحنطة؛ لأنه الغالب فيها عرفًا عن العرب كالمال في الإبل ويصرف اللفظ إلى ما غلب استعماله فيه عند الإطلاق ولكن روى البخاري وغيره عن أبي سعيد أنه قال: (وكان طعامنا الشعير والزبيب والأقط والتمر) ؛ ولذلك ذهب ابن المنذر إلى أن ذكر الطعام مجمل فسره ما بعده من تعدد أصنافه ولكن نظم الحديث يأبى هذا وإن كان لفظ الطعام يشمل ما ذكر؛ لأنه في الأصل ما يطعم ويذاق، وقوله: حتى قدم معاوية. زاد مسلم: (حاجًّا أو معتمرًا وكلم الناس على المنبر) ، وسمراء الشام: حنطتها. وقد بيَّن النووي أن قول معاوية هذا ليس بحجة؛ لأنه رأي له لم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولذلك لم يأخذ به أبو سعيد راوي الحديث. والأقط بتثليث الهمزة مع سكون القاف وبتثليث القاف مع فتحها هو الجبن يُتخذ من اللبن الحامض غير منزوع الزبد، والسُّّّلت بالضم: نوع من الشعير أملس كالحنطة ولكن برودته وطبعه كالشعير. أما الصاع فهو خمسة أرطال وثلث عراقية كما قدره الإمام مالك وعليه الحجازيون وعامة أهل الحديث وقال الحنفية إنه ثمانية أرطال؛ لأن الصاع الذي يتعامل به أهل العراق كذلك. ولكن أبا يوسف رجع أخيرًا عن قول أبي حنيفة إلى قول مالك لما ناظره ووقف على حجته. روى الدارقطني والبيهقي عن إسحق بن سليمان الرازي أنه قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله كم قدر صاع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته، فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم قال: مَن هو؟ قلت: أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال. فغضب غضبًا شديدًا ثم قال لجلسائنا: يا فلان هاتِ صاع جدك يا فلان هات صاع عمك يا فلان هات صاع جدتك. قال إسحق: فاجتمعت آصع فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال هذا: حدثني أبي عن أخيه أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.. فقال مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثًا، ولعمري إنه لا يقدَّم على قول مالك قول في مثل هذه الأمور التي اختبرها بنفسه في مدينة الرسول عليه السلام مع قرب العهد وهذه الأرطال تبلغ ست مئة درهم وثمانين وخمسة أسباع درهم من الحنطة وهي قدحان من أقداح مصر. *** وقت أداء الفطرة (4) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة. رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا ابن ماجه. والمراد بالصلاة هنا صلاة العيد وذلك أن الغرض منها كفاية الفقراء في ذلك اليوم وروى ابن خزيمة أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 14-15) ، نزل في زكاة الفطر وصلاة العيد ورفع ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا ينافي عموم الآية وأن تزكية النفس وتطهيرها يكون بغير زكاة الفطر من الفضائل والأعمال النافعة كما يكون بها. (5) عن ابن عباس قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطرة طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه. وهو يدل على عدم جواز تأخير أداء الفطرة عن صلاة العيد ولكن الجمهور على أن أداءها قبل صلاة العيد هو الأفضل ولا يجوز تأخيرها عنه إلى آخر النهار، واتفقوا على أنه لا يجوز تأخيرها عن يوم العيد والحديث حجة قائمة لا ينبغي أن يتهاون به لقول أحد. وقد جوز بعض العلماء تقديمها على يوم العيد وقال بعضهم: إنها كالصلاة لا تقدم على وقتها كما أنها لا تؤخر عنه. والمروي في البخاري أنهم كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. وبه قال أحمد وعده تعجيلاً وروي أيضًا عن مالك وذهب الشافعية إلى جواز إخراجها من أول رمضان. وتوسع آخرون فقالوا بجواز إخراجها قبل دخول رمضان؛ وذلك أنهم أدخلوا فيها القياس وقد علمت أن ذلك ينافي حكمة إغناء المساكين في يوم العيد عن السؤال فقد روى البيهقي والدارقطني عن ابن عمر أنه قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر وقال: (أغنوهم في هذا اليوم) وفي رواية للبيهقي: (أغنوهم عن طواف هذا اليوم) وأخرجه ابن سعد في الطبقات من حديث عائشة , وأبي سعيد. فمن وفقه الله لاتباع السنة يتحرى إخراجها بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العيد فإن رأى في ذلك مشقة أو في التعجيل مصلحة فليخرجها قبل العيد بيوم أو يومين اتباعًا. واختلف العلماء في مسائل أخرى من أحكام زكاة الفطر فذهب الشافعية إلى أنها تجب من القوت الغالب في كل بلد. ولذلك يتعين في مثل هذه البلاد القمح رخص ثمنه أو غلا وعندهم قول ثانٍ وهو أنه يجب على كل أحد أن يخرجها من غالب قوته هو وإن لم يكن غالب قوت البلد. وقول ثالث وهو أنه يخيَّر في الأجناس المنصوصة. وقد رأيت في النصوص أنهم كانوا يخرجونها مما يأكلون ولا أرى من يرسل إلى الفقير في صبيحة العيد شيئًا من الخبز واللحم والحلوى إلا عاملاً بما ورد ومتبعًا للسنة لا سيّما مع ملاحظة أن نفوس الفقراء والمساكين تتشوف في يوم العيد إلى أكل الواجدين الموسرين ولذلك نرى الذين ترسل إليهم زكاة الفطر من الحنطة يدخرون ما يعطون ثم هم يطوفون في يوم العيد على الأبواب يسألون الموسرين الطعام. فإن قال الفقهاء: إننا تعبدنا بتلك الأصناف المذكورة في الحديث فلا يحل لنا أن ننظر في المقصود منها فنعمل به، نقول: إن ظاهر الحديث التخيير بين الأصناف فعليهم أن لا يقيسوا عليها غيرها من الأقوات وأن لا يجيزوا استبدال غيرها بها ولا دفع قيمتها. واختلفوا أيضًا فيما يملكه من تجب عليه زكاة الفطر فقاسها بعضهم كالحنفية على الزكاة وقال: إنها لا تجب على من لا يملك نصابها وهو قياس مع الفارق؛ لأن تلك زكاة الأموال وهذه زكاة الأبدان ولهم حديث عام في الصدقة معارَض بما هو أقوى منه. وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أنها تجب على من يملك ما يزيد عن حاجته وحاجة من تلزمه نفقتهم يوم العيد وليلته عملاً بإطلاق أحاديث الوجوب واعتبارًا بما ورد في تعليلها من أنها (طهرة للصائم) كما تقدم في حديث ابن عباس وقد قالوا: إن الحاجة تختلف باختلاف طبقات الناس فلا تجب زكاة الفطر إلا على مَن عنده فضل عما يليق بأمثاله في طعامه وشرابه ولبوسه وماعونه وأثاثه. وهو ظاهر لا غبار عليه. هذا ما نذكره فتحًا لباب النظر في السنة وتحريها في العمل والاعتبار بحكم الدين والتفقه فيه. وإن خطباء المساجد يبينون في خطبة العيد أقوال أهل المذاهب الأربعة لمقلديها. وقد أشرنا إلى بعض الخلاف بينهم ومن أهمه أن الحنفية على اعترافهم بأن الفطرة تجب في الطعام وموافقتهم للآخرين في أن الحنطة في مثل هذه البلاد هي القوت الغالب الذي ينبغي اعتباره في هذه الزكاة أجازوا أن يقدر ثمن نصف الصاع من البر ويُعطَى للفقير نقدًا وقالوا: إن هذا أفضل؛ لأنه أنفع وقد أطال الغزالي في الإحياء البيان في رد هذا القول. والاحتياط أن يتحرى الإنسان موافقة الأئمة في اتباع السنة ولا خلاف بينهم في جعل زكاة الفطر من الحنطة والله أعلم.

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (الوجه الخامس والثلاثون) : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أرشد المستفتين كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه وسنته فقال: (قتلوه قتلهم الله) ، فدعا عليهم حين أفتَوْا بغير علم وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد فإنه ليس علمًا باتفاق الناس فإن ما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فاعله فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم. فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم والله الموفق. وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم فإنهم لما أخبروه بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في البكر الزاني أقره على ذلك ولم ينكره فلم يكن ثَمَّ سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم. (الوجه السادس والثلاثون) : قولهم: إن عمر قال في الكلالة: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر، وهذا تقليد منه له فجوابه من خمسة أوجه: (أحدها) : أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم ونحن نذكره بتمامه. قال شعبة: عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة: أقضي فيها برأيي فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان والله منه بريء، هو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إني لأستحي من الله أن أخالف أبا بكر. فاستحى عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه وإنه ليس كلامه كله صوابًا مأمونًا عليه الخطأ ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أقر عند موته أنه لم يقضِ في الكلالة بشيء وقد اعترف أنه لم يفهمها. (الوجه الثاني) : أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يذكر كما خالف في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغه خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا من ولدت لسيدها منهن ونقض حكمه ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم. وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر. وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأى أبو بكر التسوية ورأى عمر المفاضلة. ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصرّح بذلك فقال: إن أستخلف فقد استخلف أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يستخلف. قال ابن عمر: فو الله ما هو إلا أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلمت أنه لا يعدل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدًا وأنه غير مستخلف. فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقول غيره لا يعدلون بالسنة شيئًا سواها، لا كما يصرح به المقلدون صراحًا. وخلافه له في الجد والإخوة معلوم أيضًا. (الثالث) : أنه لو قدر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك مستراح لمقلدي مَن هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يداني الصحابة ولا يقارنهم فإن كان - كما زعمتم - لكم أسوة بعمر فقلِّدوا أبا بكر واترُكوا تقليد غيره والله ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي بكر. (الرابع) : أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا كما استحيى منه عمر؛ لأنهم يخالفون أبا بكر وعمر معه ولا يستحيون من ذلك لقول من قلدوه من الأئمة بل قد صرح بعض غلاتهم في بعض كتبه الأولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر ويجب تقليد الشافعي فيا لله العجب الذي أوجب تقليد الشافعي حرم عليكم تقليد أبي بكر وعمر ونحن نُشهد الله شهادة نسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صح عن الخليفتين الراشدين اللذين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعهما والاقتداء بهما قول وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم ونحمد الله أن عافانا مما ابتلى به من حرم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة وبالجملة فلو صح تقليد عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر الله ولا رسوله بتقليده ولا جعله عيارًا على كتابه وسنة نبيه ولا هو جعل نفسه كذلك. (الخامس) : أن غاية هذا أن يكون عمر قد قلد أبا بكر في مسألة واحدة فهل في هذا دليل على جواز اتخاذ رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول مَن سواه، بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت قوله، فهذا - والله - هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة. (الوجه السابع والثلاثون) : قولهم: إن عمر قال لأبي بكر: رأينا لرأيك تبع. فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من الحديث على هذه الكلمة واكتفى بها، والحديث من أعظم الأشياء إبطالاً لقوله ففي صحيح البخاري عن طارق بن شهاب قال: جاء وفد براخة من أسد وغَطَفان إلى أبي بكر يسألون الصلح فخيَّرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية. فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال: ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا وتَدُونَ لنا قتلانا، وتكون قتلاكم في النار وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل حتى يُرِي الله خليفة رسوله والمهاجرين والأنصار أمرًا يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم. فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيًا سنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنِعم ما ذكرت وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت وأما ما ذكرت من أن تدون من قتلانا وتكون قتلاكم في النار؛ فإن قتلانا قاتلت فقُتلت على أمر الله، أجورها على الله، لها ديات، فتتابع القوم على ما قال عمر فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه: قد رأيت رأينا ورأينا لرأيك تبع، فأي مستراح في هذا لفرقة التقليد؟ ! ((يتبع بمقال تالٍ))

أسئلة الشيخ محمد نجيب أفندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة الشيخ محمد نجيب أفندي وردت علينا الأسئلة الثلاثة الآتية من الشيخ محمد نجيب أفندي ابن الشيخ شمس الدين محمد المدرس بالمدرسة الشمسية في توفتار (الروسية) فذكرناها بنصها واختصرنا في جوابها لما سبق لنا من القول في موضوعاتها إلا المسألة الثانية أطلنا فيها. المسجد الأقصى وقت الإسراء (المسألة الأولى) إن بعضًا من المخالفين اعترض على آية الإسراء فقال ما حاصله: إن المسجد الأقصى كان خرابًا في ذلك الوقت بشهادة التواريخ الإسلامية فكيف يصح قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) الآية. انتهى. وقد خطر في خاطري في الجواب عنه: (أولاً) أن المسجد الأقصى كما يطلق على بنائه يطلق على محله والمحل باقٍ ألبتة إلا أن يشكله ما وقع في حديث آحادي من ربط البراق في حلْقة الباب وهو يفيد الإسراء إلى البناء لا إلى المحل، والآية تحتمل المعنيين. (وثانيًا) أن أمر المعراج والإسراء من الأمور العادية؛ لكونه من المعجزات، فهو وإن كان روحانيًّا جسمانيًّا عندنا - إلا أنه ليس بجسماني عادي بل هو شبيه بالروحاني وأنه من أطوار النبوة ويحصل فيها ما لا يحصل في غيرها وقد روي في الخبر أن النبي عليه السلام رأى ليلة المعراج طوفان نوح عليه السلام ونار نمروذ عليه اللعنة، ويونس عليه السلام في بطن الحوت من الأمور الماضية، وأهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من الأمور الآتية، بحيث كُوشِفَ بجميع تلك الأمور الحادثة وما يحدث بأوقاتها لكونه صلى الله عليه وسلم منخلعًا عن قيد الزمان عند هذا الحال فحضر الجميع عنده بأوقاته فلا يبعد أن يكون رأى المسجد الأقصى بوقت معموريته عند هذا المكان وإن لم يره المحبوس في مطمورة الزمان ولا مانع من تصديقه من جهة العقل أيضًا بعد الإيقان بأنه من المعجزات؛ لأن شأن المعجزات يكون هكذا فوق طور العقل وإنما حظ العقل منه العلم بإمكانه وهذا يكفي للإذعان له. وأما تعقل المعجزات فهو ليس من وسع العقل؛ بل هو بمعزل عنه ولا فرق في ذلك بين أمر المعراج وسائر الأمور الخارقة. هذا ما ظهر لي في الأمر والمأمول من الأستاذ زيادة التحقيق والإتقان. (ج) إن هذا الاعتراض ليس بشيء، فذلك المكان المعبر عنه بالمسجد الأقصى كان معروفًا وقد هُدم غير مرة وبُني، وكان يُسمى في حال هدمه وحال بنائه باسم واحد وهو (هيكل سليمان) ، يقولون: هُدم الهيكل وبُني الهيكل وبَقِي الهيكل مدة كذا خرابًا. وقد بنى أنيبال الروماني على أطلاله هيكلاً للمشترى ولم يتغير اسمه عند اليهود لاعتبارهم ذلك شيئًا عارضًا لأمر ثابت لا يزول. ولو استشكل المعترض تسميته مسجدًا لكان له وجه في الجملة ونقول: إنه أطلق عليه المسجد كما أطلقه على حرم مكة وهو لم يكن يومئذ مسجدًا وإنما كان بيتًا للأصنام وفي ذلك وجهان: أحدهما أنه سماه مسجدًا باعتبار ما كان عليه وما وضع له فما بنى إبراهيم وإسماعيل الكعبة ولا سليمان الهيكل إلا للعبادة الصحيحة. وثانيهما أنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهم وهو كونهما مسجدين للمسلمين. وما ذكره السائل من كون الإسراء والمعراج من الأمور الروحانية حسن وسبق لنا فيه قول ولكنه ليس الوجه في تسمية ذلك المكان بالمسجد. ثم إن ربط البراق بالحلقة في بعض الروايات ليس مشكلاً؛ إذ هدم المكان لا ينافي وجود حلقة في أطلاله تربط بها دابة. هذا إذا كان البراق والربط في عالم الحس والملك، فما بالك إذا كان أمرًا ملكوتيًّا، أو تمثيلاً روحانيًّا. (تفسير: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} (الأعراف: 190) ... الآيات) (المسألة الثانية) إن أحد المخالفين أيضًا اعترض على قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الأعراف: 190) ، قال ما حاصله: إن قوله تعالى:] جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ [يُشعر بأن آدم وحواء عليهما السلام كانا مشركين. انتهى. وما ذكر في كتب التفاسير من التوجيهات من تقدير همزة الاستفهام أو المضاف أو التصرف في الشرك فلم يقبلها المعترض وقال: لا بد من تصحيح الآية على ظاهرها - أيها المسلمون - فإن كان فيه وجه آخر غير ما ذكر في التفاسير فعليكم بيانه أيها الأستاذ. (ج) لك أن تحل الآية بهذا التفسير: الله {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (الأعراف: 189) في جنسها وهي الروح التي تتصل بالأبدان فتحييها بعد موتها ] وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [أي: جعل لها زوجًا من جنسها وذلك بعد دخولها في عالم الأجسام. وإلى هذا التراخي أشار بقوله تعالى في سورة الزمر: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الزمر: 6) أي: جعل تلك النفس الواحدة زوجين ذكرًا وأنثى كما قال في سورة النجم: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} (النجم: 45-46) ثم بيَّن علة جعل الزوج من جنس الزوج فقال: ] لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [وسكون كل من الزوجين إلى الآخر معروف بالطبع لجميع البشر فلا حاجة للإشعار به. ويؤيد هذا التفسير قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) . وقد علمنا من أسلوب القرآن البديع أنه ينتقل من ذكر الآيات الكلية إلى ذكر الوقائع الجزئية التي لها أثر عام في عقائد البشر وأخلاقهم كما يذكر الوقائع الجزئية أحيانًا ويبني عليها الأحكام العامة. وقد انتقل هنا من ذكر خلق الزوجين وبيان الحكمة في ذلك إلى ما يقع لهما ولنسلهما من الكفر بالنعمة، والجهل بتلك الحكمة، فقال في ذلك الزوج المبهم مع زوجه: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (الأعراف: 189) ظاهر أن المراد بالتغشي ما يكون سبب الحمل وأصله التغطية وفيه من النزاهة ما ترى. ومرت به بمعنى استمرت على حالها قبل الحمل] فَلَمَّا أَثْقَلَت [بالحمل وأصابتها الشدة ووهم الإسقاط والإجهاض] دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا [ قائلين:] لَئِنْ آتَيْتَنَا [ولدًا أو نسلاً صَالِحًا] لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [لنعمتك، المؤمنين بأن الخير كله بيدك، {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} (الأعراف: 190) بأن نسبا ذلك إلى تأثير ما يسمى سببًا وما لا يصلح أن يكون سببًا من الأمور الموهومة كالأصنام ونحوها وغفلا عن المؤثر الحقيقي الذي بيده أزِمَّة الأسباب وهو الفاعل المختار فسرى هذا الشرك في ولدهما] فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [وهذه الآية كقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) . هذا الذي قلناه في معنى الآية ظاهر لا إشكال فيه ولا اعتراض عليه. وإنما جاء الإشكال من تفسير النفس الواحدة بآدم وزوجها بحواء مع اعتقاد عصمة آدم من الشرك. وليست الآيات نصًّا ولا ظاهرًا في ذلك ويؤيد قولنا تتمة السياق وهو قوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوَهُمْ إِلَى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوَهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} (الأعراف: 191-196) . فهذه الآيات الناطقة بأبلغ الحجج على نفي الشرك وبطلانه وفساد آراء منتحليه من مشركي العرب الذين كانوا يعتزون بأصنامهم ويستنصرون بها على النبي عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن تكون فاتحتها قد نزلت في الاحتجاج على آدم وحواء والنعي عليهما ما كانا عليه من الشرك المجهول - إن كان - إذ السياق صريح في الاحتجاج على مشركي قريش ومن على شاكلتهم ولذلك حمل بعض المفسرين النفس على قصي وكانت زوجه قرشية مثله ومن الشرك فيما آتاهما الله من الولد أن سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد اللات. وإلا ظهر ما قلناه من التعميم. فإن قيل: هل من جواب معقول عن الآية على القول بأن المراد بها آدم وحواء؟ أقول: إن أمثل ما يقال إذًا فيها هو ما جاء في الرواية وهو أنهما سميا ولدهما عبد الحرث فقد روى أحمد والترمذي والحاكم من حديث سمرة بن جندب مرفوعًا: (لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها: سميه عبد الحارث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره) وأراد بالحارث نفسه فإنه كان يسمى به بين الملائكة. وفي الحديث مقال وإن حسنه الترمذي وصححه الحاكم وكم صحح الحاكم ضعيفًا وموضوعًا وقد أطال الرازي في رد كون الآية في آدم وحواء. وإن سلمنا بالصحة نقول: إن الذنب على حواء وإنما أسند إليها مع زوجها؛ لأنهما متكافلان وكان ينبغي له أن ينهاها عن هذه التسمية وليس ذلك شركًا حقيقيًّا؛ لأنها لم تكن تعتقد بأن الحارث إله ولكنه صورة للشرك فأطلق عليه اسم الشرك مبالغة في الزجر والله أعلم. تعليم النساء الكتابة (المسألة الثالثة) إن بعضًا من علمائنا لا يجوزون تعليم الكتابة للنساء وينقلون في ذلك حديثًا وهو: (لا تعلموا النساء الكتابة ولا تنزلوهن الغرف) ، فهل له أصل بيّنوه؟ أيها الشيخ. وهذا الفقير متردد في قبوله بل يجده مخالفًا لشرعه عليه السلام فإنه عليه الصلاة والسلام أمر كل مسلم ومسلمة بطلب العلم والكتابة مقدمة الطلب سيما في هذه الأعصار فإنه لا يمكن فيها الطلب بدونها على أنه مخالف صريحًا لحديث آخر وهو أنه عليه السلام قال للشَّفَّاء بنت عبد الله وهي عند حفصة: (ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة) ففيه دلالة على جواز تعلم الكتابة للنساء؛ لأن حفصه تعلمت الكتابة من الشفاء ولم يمنعها النبي عليه السلام وهو دليل الجواز. ثم إن حديث النهي هل هو محمول على التنزيه أو مقصور على مورده أو بينهما تناسخ، فالمرجو من جناب الأستاذ شرح ذلك لكي يحصل التوفيق بينهما. هذا ما تذكرت وقت تحرير هذا الكتاب. فلو تفضلتم بالجواب ولكم الأجر والمنة والله لا يضيع أجر المحسنين. (ج) الحديث رواه الحاكم من حديث عائشة مرفوعًا وصححه، والصواب أنه موضوع فإن في إسناده عبد الوهاب بن الضحاك الحمصي، قال أبو حاتم الرازي فيه: كان يكذب، وقال العقيلي والنسائي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: كان يسرق الحديث لا يحل الاحتجاج به، وقال الدارقطني: منكر الحديث وقال أبو داود: يضع الحديث، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: عبد الوهاب بن الضحاك بن أبان العُرْضي - بض

اعتبار رؤية الهلال في الشهور العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اعتبار رؤية الهلال في الشهور العربية (س4) : من رضاء الدين أفندي قاضي القضاة في أوفا (الروسية) : حديث: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا) الذي أخرجه الشيخان وغيرهما يوجب صوم شهر رمضان عند رؤية هلاله أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا ولكن هذا الحكم هل يتعدى إلى غيره من شهور السنة بأن يقال: إذا لم يُرَ هلال شعبان يكمل رجب ثلاثين يومًا وإذا لم ير هلال رجب يكمل جُمادَى الآخرة ثلاثين يومًا وهلم جرًّا على ما يفيده قول ابن الهمام في حاشيته على الهداية (ج2، ص 60، طبع بولاق بمصر) أم هذا الحكم خاص بأول شهر رمضان فقط لا يتعداه إلى سواه؟ وأما ابتداء شعبان وسائر الأهلَّة فيعرف بغير هذا مثل التقويمات المطبوعة في عصرنا أو بعد السنة القمرية ثلاث مائة وأربعة وخمسين يومًا من ابتداء شعبان الماضي أو غير ذلك مما لا يتعلق به حكم شرعي أصلاً. فإننا نحن سكان القطبة الشمالية لا يمكن لنا رؤية الهلال في أول ليلته إلا نادرًا وخصوصًا أيام الشتاء التي يقصر فيها النهار جدًّا. فعلى الاحتمال الأول أعني لزوم رؤية هلال شعبان ورجب وغيرهما ربما يتردد ابتداء رمضان وشوال بين ثلاثة أيام أو أزيد ولذلك يكثر فينا الاختلاف بين أئمة المساجد في الصوم والإفطار وقد صار هذا الاختلاف في هذه الأيام أضحوكة عند أهل سائر الملل الذين يعيشون معنا فكثيرًا ما يصوم أهل محلة ويفطر أهل محلة أخرى والمسافة بينهما قريبة، بل ربما يختلف إمامان لمسجد واحد وأشخاص من أهل بيت واحد. ولما كانت هذه المسألة من المسائل الشرعية وحَرية بالاهتمام وجريدة المنار هي المجلة الوحيدة التي تذب عن الدين - نرجو الإجابة عن هذا السؤال ولعلّي أستفيد من جوابكم عن هذا أيضًا، كما استفدت من أجوبتكم المتقدمة ويستفيد أيضًا سائر الإخوان وطلاب الحقيقة. (ج) قد علم مما كتبناه في الجزء الماضي حكمة الشارع في جعل المواقيت الدينية مما يشترك في معرفته العامة والخاصة، وعلم أيضًا أن اتفاق المسلمين في كل قطر من الأقطار على هذه المواقيت ممكن، ولا أرى كثرة الخلاف في رؤية الهلال من أهل البلاد المتجاورات إلا بسبب استحلال الكذب أو الاستهانة في الشهادة برؤية هلال رمضان، بحيث يشهدون بتوهم الرؤية، لا سيما في بلاد يكرمون فيها أولئك الشهود وأذكر أنني رأيت في بعض السنين الشمس قد غربت كاسفة ثم شهد رجلان أظن فيهما العدالة - بأنهما رأيا الهلال فحكم القاضي بشهادتهما في الدعوى التي جرت البدعة الذميمة بها في إثبات شهري الصيام والإفطار وصام الناس. ولا شك أنهما كانا كاذبين في شهادتهما؛ إذ لا معنى لغروب الشمس كاسفة إلا غروبها مع القمر. ولا أزال ألتمس لهما العذر بأنهما لكثرة التحديق تخيلا أنهما رأيا الهلال فشهدا بالتوهم. وإذا كان الهلال بحيث يُرى فإنه يراه في كل بلد كثيرون من المستهلين إلا أن تختلف المطالع ولما كان إخواننا من الشيعة يعملون بالرؤية نراهم قليلي الاختلاف فيها وذلك أنهم لا يحاولون موافقة تقاويم الحاسبين فهذه المحاولة وتلك المساهلة هما السبب عند السنيين في كثرة الخلاف التي صاروا بها سخرية إلا حيث يتلافون ذلك كما يفعلون في مصر وقد ذكرناه في الجزء الماضي. وحاصل القول في الجواب أن اعتبار رؤية الهلال في المواقيت الدينية لازم متعين وهو لا يجب في الأمور الدنيوية، وإذا دقق الحكام فإنهم يمنعون الخلاف إلا قليلاً، وإن الاختلاف في الرؤية لا يقتضي من الخلاف في إثبات الشهور القمرية بالرؤية أو إكمال العدة أكثر مما يقتضيه الاعتماد على التقاويم فإننا نرى التقاويم التي تطبع في مصر كل عام تختلف في إثبات هذه الشهور. وماذا علينا إذ كان من مقتضى عرفنا الشرعي أن يكون أول الشهر القمري في الشرع متأخرًا يومًا واحدًا عن أول الشهر الفلكي، ولماذا لا يعمل المسلمون في كل قطر بما يثبت عند حاكم عاصمته والمسلمون أمة واحدة، هذا ما نراه كافيًا وإن استُزِدْنَا زدنا.

حديث غريب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حديث غريب حديث في جمع الجوامع وصدى دعوة المنار لتعميم العربية (س5) من عبد الرحمن أفندي مستقيم بقرية زويه التابعة لمركز سينبر (الروسية) قال - بعد الثناء والدعاء -: أما بعد فقد قرأت في مناركم الأغر جوابكم لسؤال عبد الحق الأعظمي في شأن قراءة الخطبة بغير العربية فوجدت كل كلمة منه شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها كما تحب وترضى وتشاء فهذه جنات تجري من تحتها الأنهار، وهذه أشجار تنثر على المستظلين بها أحلى الثمار، وقلت في نفسي: كيف لا وهو جواب مَن امتزجت العلوم بروحه امتزاج الماء بالراح، ورسخت الفهوم في صدره مع عظيم الانشراح، كشفتم الحجب والأستار من بيننا؛ لأن هذه المسألة كانت متنازعة من منذ زمان بيننا، زاد الله عمركم وإقبالكم، وكثّر أمثالكم. (سترون جرًّا جديدًا بحبل حديد) ، بعض العلماء يقول: هو حديث نبينا صلى الله عليه وسلم مذكور في جامع الجوامع للسيوطي. وبعضهم يقول: ليس بحديث؛ لأن ألفاظه تأبى أن يكون حديثًا. والحقير رجعت إلى (كشف الظنون) فما وجدت كتابًا اسمه جامع الجوامع للسيوطي وراجعت أيضًا كتاب السيوطي المسمى بحسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة وعد كتب المؤلف فيه فما وجدت فيه أيضًا الكتاب المذكور فنرجو من سيادتكم أن تبين لنا القول المذكور هل هو حديث أم لا؟ وإن كان حديثًا ففي أي الكتب هو مذكور؟ في مناركم الغراء ليقف عليه كل من يريد الاستفهام عنه ودمتم وعناية المولى ترعاكم. (ج) للسيوطي كتاب جمع فيه كتب الحديث المعروفة للحُفاظ والمحدثين وجميع ما وقف عليه من الأحاديث المتفرقة في غيرها من الكتب وسماه (جمع الجوامع) ويطلق عليه أيضًا اسم الجامع الكبير. وكتابه الجامع الصغير المشهور مختصر من قسم الأقوال من ذلك الكتاب. والكتاب جامع للأحاديث الصحيحة والضعيفة وكثير من الموضوعات فوجود الحديث المسؤول عنه فيه لا يقتضي إثبات إسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبحث بعض العلماء في أسلوبه وزعمهم أنه على غير الأساليب المعهودة في الحديث له وجه.

سكنى الشيطان في بدن الإنسان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سكنى الشيطان في بدن الإنسان (س6) : محمد فؤاد أفندي بأنشاص الرمل: جاء في كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) صحيفة 60 التابعة للقول في تمهيد للأصل الأول من القسم الثاني من الكتاب في الإسلام ما يأتي: قال الأستاذ الإمام في ص 59: معجزة القرآن أجمع من القول والعلم وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم، إلى أن قال ص 60: فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها، وأما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم.. إلخ. فهل يسكن الشيطان جسم الإنسان؟ فإن كان الأمر كذلك وكما فهمته أنا من هذه العبارة السابقة فيصدق قول من قالوا بالزار فإنهم يعتقدون بأن العفاريت إِبَّان هيجانها تقف عن حدها بدق الطبول. فالأمل تفسير هذا المقال ولكم الشكر الجزيل منها. (ج) يشير الإمام الحكيم بعبارته تلك إلى أنواع المعجزات المعزوَّة في التواريخ الأربعة التي تسمى الأناجيل إلى المسيح عليه السلام فهو يذكرها على سبيل الحكاية ولا يستلزم ذلك إثباتها ولا نفيها؛ بل ربما فُهم من العبارة التعريض بأن تلك الكتب تسند إلى المسيح ما لا يصح إسناده إليه، ونحن - المسلمين - لا نعتقد بمعجزة للمسيح وراء ما أثبته له القرآن العزيز. على أننا إذا سلّمنا بأن بعض الشياطين دخلت في أجسام بعض الناس وأنها خرجت على يد المسيح معجزة له فلا يلزم من ذلك أن نقيس خرافات عجائز (الزار) على معجزات الأنبياء المصطفَيْن الأخيار.

لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة أو التشبه بالنصارى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة أو التشبه بالنصارى يسافر في كل سنة عدد عظيم من أمراء المصريين وحكامهم ووجهائهم إلى أوربا فيلبَسون فيها لَبوس الإفرنج ويتزيَّوْن بزيهم لا يدعون منه شيئًا على أن زي هؤلاء في الأغلب هو الزي الإفرنجي لا فرق إلا فيما يوضع على الرأس فأكثر المصريين يتبعون حكامهم بلبس الطربوش الذي أخذه الترك عن الروم وهم في أوربا يلبسون البرنيطة لا فرق في ذلك بين الأمير والمأمور إلا أفرادًا يعدهم الجمهور شذاذًا ويلومون بعضهم على محافظتهم على لبس الطربوش هناك. ويظن أكثر المسلمين أن لبس البرنيطة مخل بالدين الإسلامي حتى إن جريدة (الحاضرة) تجرأت منذ عامين على التعريض بعزيز مصر لما بلغها من لبسه البرنيطة في أوربا وقالت: إن هذا ممنوع في الإسلام. وأجبناها يومئذ في المنار. ونرى الناس يلهجون في هذه الأيام بخبر فتوى من بعض العلماء بعدم إخلال لبس البرنيطة بالدين الإسلامي. قالوا: إن رجلاً من مسلمي الترانسفال سأل العالِم عن ذلك، وقال له: إن المسلمين في تلك البلاد مضطهَدون ومهضومو الحقوق لأنهم مسلمون وأنه لا طريق إلى معاملة حكامهم وجيرانهم لهم بالمساواة إلا مساواتهم لهم في زيهم ولا يتم ذلك إلا بلبس البرنيطة. فأجابه العالم بأن اللبس من أمور العادات لا من أمور الدين وأن ما قاله بعض الفقهاء من كراهة التشبه بالكافر في عاداته قد قيدوه بقصد التعظيم لدينه لا بقصد المصلحة وأهل الترانسفال على ما يقول السائل لا يقصدون إلى ذلك بل تحملوا كثيرًا من الأذى في تركه والضرورات تبيح المحظورات، فأمر الكراهة أهون. هذا ما سمعناه في المسألة ويقال: إن بعض المتفقهة استكبروا الأمر وعدّوه من المشكلات الدينية وطفقوا يتهامسون ويتباحثون فيه، وما ذاك إلا من قلة الفقه ومن عدم النظر في السنة وفي تاريخ الأمة فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبِس الجبة الرومية وهي من لبوس النصارى ولبس الطيالسة الكسروية وهي من لبوس مجوس الفرس. وكذلك الصحابة عليهم الرضوان لبسوا في كل بلاد فتحوها من لبوس أهلها حتى قلنسوة النصارى بغير نكير إلا ما كتبه عمر إلى عتبة بن فرقد لما خشي على قومه الترف والسرف وفساد البأس والمنعة فقد كتب إليه يأمره بالبروز إلى الشمس وبالخشونة وبترك زي الأعاجم وهو أمر للمصلحة لا للتشريع، كيف وعمر يعلم أن الشارع قد لبس لبوس الأعاجم. وقد لبس المسلمون بأمر المنصور قلانس كقلانس الكفار ولم ينكر ذلك أحد إلا ما كان من هزل بعض الشعراء؛ ولكن المسلمين وجموا واستنكروا تغيير السلطان محمود العثماني زي قومه بزي الإفرنج لما كانوا عليه من الجمود على العادات ولكن عقلاء الترك الآن يعدون ذلك أصلاً من أصول الإصلاح؛ لا لأن تغيير الزي كبير النفع؛ ولكن لما فيه من زلزال ذلك الجمود الذي كان مانعًا من اقتباس الدولة كثيرًا من النظام النافع في الجند والإدارة والسياسة عن أوربا التي سبقت وبرزت فيه وقد رأينا أثر سبقها وجمودنا باستيلائها على معظم بلاد المسلمين. نعم، إنني لا أنكر أن اختيار التشبه بالأجنبي هو أثر الضعف القاضي باحتذاء المغلوب مثال الغالب في زيه وعاده وأنه ينبغي للأمة أن تحافظ على عادتها أشد المحافظة ما لم تكن ضارة وإذا أرادت استبدال عادة بأخرى فليكن ذلك بحسب المصلحة لا تقليدًا محضًا للأجنبي. ولا أنكر أن المصريين الذين يلبسون البرنيطة في أوربا ملومون وأن سبب لبسهم إياها ضعف العزيمة ولكنني لا أقول: إنهم قد عصوا الله تعالى واستحقوا عقوبته بذلك. ولو كان أمر اللبس من أمور الدين لوجب أن نتبع فيه الشارع وقد كان يلبَس الإزار والرداء ولم يلبس السراويل قط بل لم يلبس هذه الجبة والفرجية ذات الأكمام الواسعة والأذيال الطويلة التي جمد عليها علماء المسلمين لهذا العهد ولكنه نهى عنها ولبس الجبة الرومية الضيقة الأكمام فكان يتعذر الوضوء بها حتى كان يخرج يديه من أسفلها عند الوضوء ليغسلهما. وقد كنت كتبت في موضوع اللباس والتشبه فيه بالأجانب عشرات من الصحائف في كتاب (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) ، ذكرت فيه حكم الملابس في الدين وفي المنفعة وفي الذوق وفي عرف الصوفية وفي السياسة وذكرنا حكم التقليد فيها وقد جاء في أول الفصل المعقود للبحث في (كيفية اللبوس والتقليد فيه) ما نصه: قد علم مما تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعض أصحابه عليهم الرضوان قد لبسوا القباء والفروج والطيالسة الكسروية واستعملوا المياثر [1] وكل ذلك من لبوس الفرس وأنهم لبسوا أيضًا البرانس والجبب الرومية وهي من لبوس النصارى. والجبة الرومية لم يتقدم لها ذكر وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبسها فكان يخرج يديه من أسفلها عند إرادة غسلهما في الوضوء لضيق أكمامها الذي لا يمكن معه التشمير. ولبسوا أيضًا البرود والحبر المخططة والمعلمة وهي من لبوس اليمن. وتلك الثياب كانت كغيرها تُجلب إليهم من العراق والشام ومصر واليمن، لا أنهم كانوا يحتذون مثال هذه الشعوب في صنع لبوسها؛ إذ لم يكونوا أصحاب صنائع. وفي ذلك دليل على أن الشرع ينيط أمر اللباس من حيث كيفية الأثواب وتفاصيلها باختيار اللابس ولا يحظر على شعب وقبيل استعمال جديلة شعب آخر؛ لأنها أمور عادية لا تتعلق بحقوق الله تعالى ولا بحقوق الخلق لذاتها. نعم، كان أكثر ما يلبس النبي وأصحابه الرداء والإزار تبعًا لعادة قومه لا لوحي نزل بأولوية ذلك وأفضليته شرعًا. على أنه مناسب لحلة القطر الحجازي الحار. وإذ لم يرد في الشرع تفضيل كيفية مخصوصة وشكل معين في الملابس، لأن الشرع نزل فيما هو أهم من ذلك فينبغي أن يناط ذلك بالرأي الصحيح وهو إنما يرجح ما يوافق حالة المكان والزمان) . اهـ المراد منه. وبعد هذا تفصيل في تفضيل بعض الملابس على بعض لاختلاف الزمان والمكان. وقد حكَّم الفقهاء العادة في أمر الملابس حتى في الشرع فاستحبوا ما كرهته السنة لمعنى يقتضي الكراهة مع بقاء ذلك المعنى وحجتهم أنه صار عادة. فقد ورد في الحديث النهي عن إطالة الثياب ووعيد الذي يجر ثوبه خيلاء واتفق الفقهاء على أن إطالة الأذيال أو الأكمام للخيلاء حرام ولغير الخيلاء مكروه شرعًا. ثم إنك ترى مثل الشيخ الحفني يقول في تفسير الحديث من حاشيته على الجامع الصغير: إن كراهة زيادة طول الثوب عن الكعبين لغير المختال مخصوصة بمن لم يصِر ذلك عادة لهم كأهل مصر. وقال النووي في شرح مسلم نقلاً عن القاضي عياض وأقره: وبالجملة يكره كل ما زاد على الحاجة والمعتاد في اللباس من الطول والسعة والله أعلم، وذكر الشمس الرملي في شرح المنهاج أن إفراط توسعة الثياب والأكمام بدعة وسرف وتضييع للمال ثم قال: نعم ما صار شعارًا للعلماء يندب لهم لبسه ليعرفوا بذلك فيسألوا، وليطاوعوا فيما عنه زجروا، فأنت ترى أنهم جعلوا المحظور بنص الشارع مندوبًا شرعًا وقد رأيت ضعف شبهتهم فإننا إذا سلمنا لهم بأنه ينبغي أن يكون للعلماء زي خاص نقول: إنه ينبغي أن يكون ذلك الزي مما لم ينهَ عنه الشارع نهيًا صريحًا. ولئن صح ما يقولون من تحكيم العادة بالشرع من غير ضرورة ولا حاجة ليكوننَّ وزر هذا الزي المنهي عنه في السنة على مَن اخترعه لهؤلاء العلماء من سلفهم الذين كانوا خيرًا منهم باعترافهم. ولا أعرف المخترع الأول لزي علماء مصر، وهو أبعد الأزياء عن أدب السنة وعن الذوق وعن المصلحة من حيث السعة والطول؛ ولكنني أعلم أن أول مَن اتخذ لأهل العلم زيًّا مخصوصًا فقلدوه فيه بالتدريج هو القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة (رحمه الله) وما أظن أنه كان من السعة والطول بالقدر الذي نشاهد ولا براءة من هذا إلا بجعل ابتداء العادة كاستمرارها. ولقد بلغ من سلطان العادة على علمائنا أنهم صاروا ينكرون على من يخالفهم من أبناء صنفهم في الأردان المكبرة، والأذيال المجررة، فلا عجب إذا حملت العادة بعضهم على إنكار لبس قلنسوة النصارى ولو لضرورة دفع مفسدة أو جلب مصلحة مع العلم بأن الصحابة والتابعين لبسوا في صدر الإسلام البرانس وهي من قلانس النصارى كما في البخاري وشرحه. أما حجة هؤلاء وأمثالهم التي تروج عند العامة فهي أن ذلك تشبُّه بالنصارى الذين يجب علينا مخالفتهم و ... وهذا الكلام غير صحيح على إطلاقه وإنما هو مقيد بالمخالفة في الأمور الدينية التي لا يوجد في ديننا ما يؤيدها كالأناشيد في الجنائز وحمل المباخر ونحوها أمام النعش واتخاذ قبور الأولياء والصالحين مساجد وغير ذلك مما تشبهنا بهم فيه، بل جعلناه من شعائر ديننا مع النهي عنه في الأحاديث الصحيحة. وأما الأمور الدنيوية كالأكل والزي فليس مما تجب فيه المخالفة بل تقارب الناس في العادات يؤلف بينهم ويزيل التنافر الذي يعمي كل فريق عن فضائل الآخر وإذا زال التنافر ظهر الحق على الباطل. وقد علمت أن النبي وأصحابه لبسوا زي المشركين والمجوس بله النصارى الذين نطق القرآن الحكيم بأنهم أقرب مودةً لنا. وأكثر ما قاله الفقهاء في هذا أنه يكره أن يأتي المسلم أمرًا بقصد التشبه بالأجنبي عن دينه بل يأتيه أو يتركه للفائدة والمصلحة أو عدمهما. ولا أرى من مصلحة المصريين أن يلبسوا قلنسوة الإفرنج (البرنيطة) ؛ لأن هذا من مضعفات الرجاء باستقلالهم، وأما أهل الترانسفال وأهل الرجاء الصالح فلا رجاء في استقلالهم لقلتهم وغلبة الإفرنج عليهم في كل شيء، على أنه ينبغي لهم المحافظة على كل ما لا تضرهم المحافظة عليه من عاداتهم التي لا تخالف الشرع. أما اتقاء الضرر فواجب شرعًا إن كان محققًا، ومندوب إن كان مظنونًا، هذه هي القاعدة الشرعية ولكن أكثر الناس عبيد العادات إلا الذين انسلخوا من التقليد الأعمى. وقد فصلنا القول في مضار تقليد الأجانب في الأثاث والماعون والزينة في كتاب (الحكمة الشرعية) ، ونقلنا منه نبذة في منار السنة الأولى، فلتراجع.

احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية تقيم هذه الجمعية احتفالها السنوي المعتاد في مساء عيد الفطر المبارك وهو اليوم الذي تستحب فيه الزينة وإظهار السرور، واليوم الذي تترك فيه الأعمال لأجل تلاقي الناس وتزاورهم، واليوم الذي تنبسط فيه الأيدي بالبذل والإنفاق، واليوم الذي يجتمع فيه بالقاهرة وجهاء القطر من كل ناحية. واحتفال الجمعية الخيرية نِعم المساعد على ذلك كله فإنها ستزين حديقة الأزبكية زينة بديعة وتجعل فيها جميع ضروب اللهو المباح فهناك يكون ملتقى الأصدقاء والمتحابين، وهناك تكون نزهة الوافدين مع المقيمين، وهناك تكون لذة البذل للأجواد والمحسنين، وهناك تكون فرحة الفقراء والمعوزين، وهناك ينمو الشعور بحب الوطن في نفوس جميع الوطنيين، وهناك تكون المزية الكبرى ألا وهي الجمع بين زينة الحياة الدنيا والعمل بروح الدين. فإن الله ما شرع الدين إلا لمصلحة العباد وإنما قوام هذه المصلحة بالتراحم بين الناس والتعاون على البر والتقوى وكل من يشتري ورقة من أوراق احتفال الجمعية الخيرية يشعر في نفسه بأنه قد بذل ثمنها في إعانة إخوانه الفقراء والمستحقين للإعانة والمساعدة من حيث قد متع نفسه بأبهج المناظر وأشهى النغمات والاجتماع بمن يحب من الناس في يوم مشهود تتلألأ فيه على الوجوه أنوار البهجة والسرور وشكر نعمة الله تعالى. فحيّا الله تعالى أولئك الرجال رجال الجمعية الخيرية لا سيّما ركنيها الركينين رئيسها الشيخ محمد عبده ووكيلها حسن باشا عاصم، فهما الحاملان لها على كاهليهما وسائر الأعضاء الكرام أعوان لهما وأنصار. ونسأل الله تعالى أن يعرِّف المصريين بفائدة هذه الجمعية ويلهم قلوبهم مساعدتها وشد أزرها فإننا - نحن المسلمين - لا نزال وراء الأمم كلها في التعاون على الأعمال الخيرية الاجتماعية بعد أن كنا في مقدمتها وناصيتها. وعار على أغنياء المصريين المسلمين أن لا تنتشر مدارس جمعيتهم الوحيدة ومبراتها في كل رجا من أرجاء القطر ولن تنتشر إلا إذا اشترك فيها الناس من جميع بلاد القطر، والله الموفق.

ربح صندوق التوفير في إدارة البريد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ربح صندوق التوفير في إدارة البريد أشيع في هذه الأيام أن الحكومة استفتت مفتي الديار المصرية في ربا صندوق التوفير الذي أُنشئ في إدارة البريد، فأفتاها به، والحق أن الحكومة لم تستفتِ في ذلك؛ إذ لا معنى للاستفتاء في شيء صدر به الأمر العالي ونُفذ منذ سنين. ولكن بعض رجال الحكومة - ومنهم مدير البوسطة - قالوا للمفتي في حديث عادي: إن أكثر من ثلاثة آلاف مسلم من مودعي النقود في صندوق التوفير - لم يأخذوا الفائدة المخصوصة بذلك بمقتضى الدكريتو الخديوي تدينًا، فهل توجد طريقة شرعية تبيح للمسلمين أخذ ربح أموالهم من صندوق التوفير؟ فقال: إن الربا المنصوص لا يحل بحال، ولما كانت مصلحة البريد تستغل الأموال التي تأخذها من الناس - لا أنها تقترضها للحاجة - فمن الممكن تطبيق استغلال هذه الأموال على قواعد شركة المضاربة، ويقال: إن الحكومة كلفت المفتي ببيان هذا التطبيق لتُغير قانون صندوق التوفير، وتجعله مطابقًا لأحكام الشريعة رعاية لمصلحة رعيتها المسلمين، وإنه شرع في ذلك بمساعدة بعض العلماء. ويقال أيضًا: إنه لما علم الأمير بذلك افترصه، وأمر بتأليف لجنة من علماء الأزهر ليبينوا كيفية هذا التطبيق على الوجه الشرعي، حتى إذا عُرض عليه القانون المنقح لإصدار أمره به يكون على بصيرة من المشروع. ويقال: إن اللجنة التي ندبها الأمير هي غير اللجنة التي تشتغل مع المفتي بالتطبيق الذي طلبته الحكومة. وفي هذا مزيد عناية ببيان الحق، ولكن الناس فهموا منه أن الأمير على خلاف مع حكومته في ذلك، فعسى أن يزول سوء الفهم، ويرجع إلى الحق أهل الوهم. وإن لنا في موضوع الربا والمصارف قولاً مبينًا، نرجئه لفرصة أخرى. (تنبيه) تأخر باقي الرد على مقالة الألماني لكثرة المواد.

الأحاديث الموضوعة في الصيام ورمضان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأحاديث الموضوعة في الصيام ورمضان حديث: (إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة وإذا غاب بعد الشفق فهو لليلتين) ، قال ابن حِبَّان: لا أصل له. حديث: (إذا كان أول ليلة من رمضان نادى الجليل رضوان خازن الجنة، فيقول: لبيك وسعديك. فيقول: هيئ جنتي وزينها للصائمين من أمة أحمد ولا تغلقها عنهم حتى ينقضي شهرهم. ثم ينادي جبريل: يا جبريل. فيقول: لبيك ربي وسعديك. فيقول: انزل إلى الأرض فغل مردة الشياطين عن أمة أحمد لا يفسدوا عليهم صيامهم. ولله في كل ليلة من رمضان عند طلوع الشمس وعند وقت الإفطار عتقاء يعتقهم من النار عبيد وإماء وله في كل سماء ملك ينادي.. إلخ) الحديث بطوله لا يصح؛ لأن أصرم راويه كذَّاب. حديث: (لو علم العباد ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها) فقال رجل من خزاعة: حدثنا به. قال: (إن الجنة تزين لرمضان من رأس الحول إلى الحول حتى إذا كان أول يوم من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة فينظر الحور العين إلى ذلك فيقلن: يا رب اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجًا تقر أعيننا بهم وتقر أعينهم بنا.. إلخ) . موضوع، آفته جرير بن أيوب. قال الشوكاني بعد الإشارة إلى الحديث وما قبله في فوائده: وسياقه (أي: الأخير) وسياق الذي قبله مما يشهد العقل بأنهما موضوعان فلا معنى لاستدراك السيوطي لهما على ابن الجوزي بأنه قد رواهما غير مَن رواهما عنه ابن الجوزي؛ فإن الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعًا برواية الرواة. حديث: (إن الله يعتق في كل ليلة رمضان ستمائة ألف عتيق من النار.. إلخ) موضوع، وله روايات بألفاظ أخرى ما زادته إلا نكارة وتوغلاً في الوضع والبعد من العقل والدين. وقد كنا ذكرنا هذه الأحاديث وغيرها من موضوعات رمضان في المجلد الرابع، وإنما أعدنا التذكير ببعضها الآن لكثرة تداولها وغرور الناس بها.

الولدان في الحمامات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الولدان في الحمامات من العادات السيئة في مصر غشيان الولدان الحمامات في ليالي رمضان فإنك لتراهم عامة الليل يلعبون ويمرحون فيها وكثير منهم ينامون فيها حتى إذا كانت ليلة العيد كثروا فيها كثرة فاحشة وزاحموا الرجال في المغطس وغيره والأكثرون من الفريقين مكشوفو العورات كما هي عادتهم السوءى. ومن العجيب أن كثيرًا من هؤلاء الولدان يحضرون إلى الحمام مع آبائهم وقرابتهم أو بإذنهم؛ فأولياؤهم هم - في الحقيقة - أعداؤهم؛ لأنهم يفسدون آدابهم ويعودونهم على القحة وقلة الحياء. وإنه ليتعذر تربية الأولاد بغير الاستعانة بالحياء الذي هو أصل الفضائل كلها، وقد ورد في الحديث المتفق عليه: (إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت) وورد: (إن لكل دين خلقًا وخلق الإسلام الحياء) رواه ابن ماجه عن أنس وابن عباس بسند صحيح.

إعلان الفسق في موسم العبادة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعلان الفسق في موسم العبادة بلغ من استهانة قادة الفسق ودعاة الفحش بمسلمي مصر أن ينشروا لهم في رمضان شهر الطاعة وموسم العبادة هذا (الإعلان) الذي ننشره بنصه الفاسد ما عدا اسم المحل وأسماء الفواسق فيه وهو: (نعلن حضرات العموم أنه قد حضر حديثًا لهذا الطرف حضرات الرقاصات والمشخّصات الشهيرات اللتين حازا قصب السبق في ميادين هذا الفن وهن ... ، وبالنسبة لشهر رمضان المعظم وإرضاءً لخاطر زبايننا الكرام قد اتفقنا معهن بتعاطي صناعتهم التي تأخذ بمجامع القلوب في محلنا المذكور أعلاه ابتداءً من هذه الليلة. فالأمل من العموم التشريف كي يشنّفوا أسماعهم من الأنغام الشجية النادرة في الوجود ومَن تأخر ندم، حيث لا ينفعه الندم، وليس الخبر كالعيان والاعتماد على الله) ! اهـ. (المنار) لو بقي لفساق مسلمي مصر بقية من الغيرة الملية أو الحياء الإسلامي أو الشرف الإنساني لتجنبوا هذه المواضع النجسة المعدة لإعلان الفسق ولو في شهر رمضان ونحوه من الأيام التي يعدونها مواسم دينية كليلة المولد النبوي، فإننا نتذكر أننا في السنة التي قدِمنا فيها إلى مصر رأينا إعلانًا مثل هذا (الإعلان) ، فيه أن فلانة قد استحضرت من الراقصات من استحضرت (لإحياء ليالي المولد النبوي الشريف) ! وإنها لسخرية من أئمة الفسق بالإسلام والمسلمين، وما جرَّأهم عليها إلا فساق المسلمين! وإن الإسلام ليتبرأ من هؤلاء الفاقدي النخوة والشرف ولو أظهروا التبرؤ منه لكان اللوم أخف عليهم من انتسابهم إلى دين جعلوه هزؤًا ولعبًا.

بتخسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بِتْخِسِّي كلمة شيطانية هدمت ركنًا من أركان الدين في نفوس نساء مصر، هو أقوى الأركان عندهن وهو ركن الصوم الذي عهدنا النساء أشد تمسكًا به من الرجال. تلك الكلمة هي كلمة (بتخسي) ، يقول الشيطان للمرأة: لا تصومي بتخسي؛ أي: تذبلي وتهزلي، ويقول ذلك بعضهن لبعض. والحق أن الصيام من أسباب الصحة، وإذا فشا ترك الصوم في النساء فهناك الطامة الكبرى في الفساد العام، فليتنبه الرجال لتلافي هذا الأمر إن كانوا يعقلون.

الوقف من الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوقف من الدين رد ثانٍ على عزيز أفندي خانكي مَن يكتب أو يتكلم لطلب الحقيقة أو لتقريرها يستفيد من المناقشة والمعارضة أكثر مما يستفيد من البحث والتنقيب ويرجع إلى الحقيقة إذا ظهرت له على يد غيره ويأخذ الحكمة أنَّى وجدها، ومن يكتب أو يتكلم لغرض يرمي إليه، أو فائدة له يناضل دونها لا يزيده بيان الحق إلا إعراضًا عنه، ولا يفيده تجلي الصواب إلا مكابرة فيه، فهو يجادل لإخفاء الحقيقة وصرف الأنظار عنها، وتلوين الباطل بلونها ليشتبه على الناظرين بها، وقد اتخذ هذا التلوين والتمويه صناعة نفر من (المحامين) الذين نصبوا أنفسهم لقبول الوكالة في كل دعوى والخصام في كل قضية، والدعوى تكون دائمًا بين خصمين أحدهما محق والآخر مبطل وإنك لتجد لكل خصم محاميًا فنصف هؤلاء المحامين يخاصمون في الباطل ويجاهدون في إبطال الحق بالقول المموه والتلوين الذي يخفي ما كان ظاهرًا، ويخدع من كان ناظرًا، وقد أتقن هؤلاء المحامون الخلابة في الخطابة حتى إنك لتجد القضاة يشكون دائمًا من خلابتهم في خطابتهم ويقطعون عليهم الكلام ويطلبون منهم عدم الخوض فيما وراء موضوع الدعوى. ومنهم الذين يستعينون على تقرير ما يريدون تقريره بالكتابة في الجرائد لإقناع الجمهور بما يدعون؛ لأن لاعتقاد الجمهور أثرًا في نفوس القضاة والحاكمين، واعتبارًا خاصًّا في وضع القوانين، ولا وزر على الجرائد إذا نشرت آراء الناس في القضايا العامة وعرضتها بذلك للبحث والنقد فكثيرًا ما يظهر الحق في ذلك على خلاف ما يريد الباحث الأول أو على وفق ما يريد. هذا الصنف أو النصف الطبيعي من المحامين يصور الحجة بشبهة داحضة، ويمثل الشبهة حجة ناهضة، فإذا عارضته بالنقل في موضوعه قال: إنك من أهل التقليد، وإذا قلت: هذه بيناتي هن أظهر لك. يقول: لقد علمت ما لنا في بيناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد. ذلك ما سلكه معنا عزيز أفندي خانكي المحامي - كتب مقالاً في (المقطم) يريد به الطعن في بعض أحكام المحكمة الشرعية في الوقف على غير ما يريد ويحب فتطرف فيه إلى القول بأن الوقف ليس من الدين الإسلامي في شيء ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة - وما هو من أهل هذا الدين ولا معرفة له بالكتاب ولا بالسنة - فكتبنا في (المقطم) نعلمه بأن الوقف من أحكام الدين، وقد جرى عليه أهله من الصحابة والتابعين، وذكرنا له كتب الحديث التي أنكر أن فيها شيئًا في الوقف. ذكرنا ذلك في (المقطم) بالإجمال وفصلناه في (المنار) (ج 17، ص 816) بعض التفصيل. وكنا نظن أنه كتب تلك الكلمة بغير علم وأنه إذا جاءه العلم يقنع ويرجع فإذا به وقد زاده العلم إصرارًا على رأيه، وتمويهًا له في نظر غيره، فقد كتب مقالة في الرد علينا جاء فيها شيئًا من الخلابة غريبًا، و (أسمعني من الشعر العجيبا) بدأها بذم التقليد تمهيدًا للقول بأنه يدعو المسلمين إلى مدنية جديدة بإنكار كون الوقف من الدين، وجعل أوقاف المسلمين تحت أهواء المحامين وتصرف الحاكمين، ولإيهام أنني أدعوهم إلى الجمود على اتباع السنة، وذلك تقليد يخالف (بزعمه) الحكمة، وقد رأى قراء (المنار) أن النبذة التي كتبناها في أحاديث الوقف ردًّا عليه تتلوها نبذة من نبذ متسلسلة في إبطال التقليد مبتدأة بالوجه السابع والعشرين ومختتمة بالوجه الرابع والثلاثين من وجوه إبطال التقليد في الإسلام. ويعلمون أن هذا مذهب المنار منذ أنشئ يقيم البرهان عليه كلما عنت له المناسبة، ولكن المحامي البارع يريد بذم التقليد أن نترك اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنبطل ما شرعه وننبذ سيرة الخلفاء الراشدين تقليدًا لرأيه الأفين في أن ذلك من المدنية والعمران وأن الوقف منافٍ لمبادئ الاقتصاد السياسي. قال المحامي: إنه كتب ما كتب عن الوقف مستهديًا بعظات التاريخ مسترشدًا بأصول علم السياسة المالية مستضيئًا بكتب أئمة الفقه محترمًا أصول وأحكام الدين الحنيف. ثم بعد أن ذكر كتاباته عن فساد التقاضي وخلل المرافعات في المحاكم الشرعية قال: (فنفر إلينا شيخ رمانا بالجهل وبالجراءة على كتابة ما كتبنا ونشر ما نشرنا ويستفز رجال الشرع (على) تكذيبنا، ولو أنه قرع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان لهان إلا أنه اكتفى بالسباب والمهاترة عن الجدال والمناظرة (سامحه الله) ! اهـ. ونقول: من قرأ ما كتبنا علم أننا لم نرمِهِ بما قال ولم ندعُ أحدًا إلى تكذيبه في كل ما كتب ونشر كما يوهم إطلاق عبارته وإننا وكلنا مناقشته في شأن المحاكم إلى أهلها ولم نتعرض إلا لغلطه في قوله: إن الوقف ليس من الدين في شيء وإنه لم يرد فيه حديث إلا ما انفرد به ابن ماجه في وقف عمر. وأظهرنا العجب لجراءته على هذا النفي المطلق، واعتذرنا عنه بأنه لم يطلع على كتب الحديث وأنه لا لوم عليه في ذلك؛ إذ قلنا: (إن هذا ليس طعنًا في الكاتب فإنه ليس عالمًا مسلمًا فيعاب بعدم الاطلاع على السنة..) إلخ، فأين البراهين التي جاء بها على نفيه ما عدا حديث ابن ماجه فيطالبنا بقرع البرهان بالبرهان وكيف ساغ له أن يسمي اعتذارنا عنه سبابًا ومهاترة؟ لقد ظهر أنه يريد بهذه الألفاظ إلهاء خيالات القارئين، كما هو شأن الصنف الذي قلنا: إنه نصف المحامين. ولقد كان منه بعد تعميته وإبهامه، وتعريضه وإيهامه، أن زعم أنه عاد إلى تعزيز رأيه الذي فندناه، ونفيه الذي أثبتنا سواه، فبدأ هذا التعزيز بكلام في تاريخ الرومانيين والفرنسيين وكلام في حرية المعاملات وسهولة التجارة ورأي له في استحسان تدريس علم الاقتصاد السياسي في المدارس الثانوية، وجعل كل هذا تمهيدًا لرد قولنا: إن غير ابن ماجه من المحدثين رووا أحاديث في الوقف خلافًا لنفيه المطلق، فما هذه الحجج والبراهين عند هذا الصنف من المحامين؟ ! اللهم أفرغ الصبر الجميل على قلوب القضاة الذين يبتلون بسماع أمثال هذه الحجج والبينات. ثم جاء بعد هذه التمهيدات العجيبة بالحجة البالغة عنده على نفي كون الوقف من الدين وهي أن القاضي شريحًا قال: (إن الوقف غير جائز شرعًا) ، وما قال القاضي شريح ذلك على إطلاقه كما يجيء، ولئن قاله فلا يُلتفت إلى قوله؛ لأنه رأي له واجتهاد منه ولا رأي ولا اجتهاد مع النص عن الشارع وإجماع أئمة الفقه الذين يستضيء محامينا بكتبهم فتعظيمه وتبجيله بعد ذلك لشريح لا يغني عنه شيئًا، وكذلك إيهامه الجاهلين بأنه من الصحابة، إذ قال: إنه قام بعد وفاة النبي عليه السلام يقول للملأ جهارًا: إن الوقف غير جائز شرعًا. والصواب أنه من التابعين الذين لا يحتج أحد بآرائهم وما كان لمثله أن يعلِّم الصحابة ما يجوز شرعًا وما لا يجوز. على أن الصحابي لا يحتج الجمهور برأيه أيضًا. قال المحامي البارع: إن القاضي شريحًا بنى رأيه في عدم جواز الوقف مطلقًا على أن الوقف فيه حبس عن فرائض الله المنزلة في كتابه. ونحن نرد هذا بأنه لم يصح عنه كما سيجيء وبأن الحبس عن الفرائض المنصوصة إنما يتحقق ويكون ممنوعًا إذا قصد الواقف حرمان بعض الورثة. من حقه في التركة كله أو بعضه لما في ذلك من الإيذاء. ومن أسباب العداوة والبغض، فإذا انتفى هذا القصد كأن يقف على شيء من أعمال الخير كما وقف الصحابة عليهم الرضوان فأي شيء في هذا يقضي بالمنع؟ أما لو كان هذا ممنوعًا لكان كل عمل خيري وكل وصية للمنافع العامة كالمدارس والملاجئ وترقية العلم من المحظورات التي لا تجوز ولا تحل لأنها تحبس المال عن الورثة. فهل يقول المحامي البارع بهذا؛ لأن له الآن حظًّا في زلزال أوقاف المسلمين؟ وأما زعم أن أوقاف الصحابة لم تجز إلا لأن وُرَّاثهم أجازوها كما نقل عن العيني فهو باطل؛ لأن أحدًا لم ينقل في تلك الأحاديث أنهم استجازوا ورثتهم أو استشاروهم ولم يوجد في روايات الأحاديث أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم بذلك أو اشترطه عليهم فالقائل به مدَّعٍ بلا دليل. وقد جاء المحامي البارع بشبهة على كون الوقف ليس من الدين حشاها بين دعوى القاضي شريح ودليله وإننا نذكرها متأخرة رعاية للنسق ونردها على قائلها بالسند وهي أن الفقهاء بحثوا في مشروعية الوقف وعدمها قال: فدل ذلك على أن المسألة خلافية بين نحارير العلماء أنفسهم، ونقول: إن العلماء النحارير قد نقلوا الإجماع على مشروعية الوقف ولزومه، قال النووي في شرح صحيح مسلم: إن المسلمين أجمعوا على أوقاف المساجد والسقايات. وهو يتضمن أن مطلق الوقف مجمع عليه. وأطلق القرطبي فقال: رادّ الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه. لا يخفى أن إثبات الإجماع في غير الأمور العملية متعسر ومتعذر وقد علمنا بالتواتر أن المسلمين يقفون من عهد النبي وأصحابه إلى هذا اليوم الذي جاءنا فيه محامٍ نصراني يريد إبطال الوقف في الإسلام أو إباحة التصرف بالأوقاف تمدينًا للمسلمين بزعمه وقطعًا لطرق الخير والبر في الواقع ونفس الأمر أو تحكيمًا للحكام فيها، ولا حجة له إلا أن شريحًا من التابعين لم يكن يقول بالوقف؛ لأنه حبس عن الفرائض وإننا لنوافق القاضي والمحامي في هذه الجزئية ونقول للناس: لا يجوز لكم أن تقفوا أوقافًا بقصد منع ورثتكم من الفرائض التي فرضها الله لهم؛ بل افعلوا الخير للخير كما أمر الله ورسوله. ولعل هذا يرضي القاضي في الآخرة ولا يرضي المحامي في الدنيا. ثم ذكر المحامي البارع أن: (أقطع برهان للدلالة على أن نظام الوقف يقبل التغيير والتعديل شرعًا ما رواه العيني في شرح البخاري من أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قال: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها، فلما قال عمر هذا دل على أن نفس الإيقاف للأرض لم يكن يمنعه من الرجوع فيها؛ وإنما منعه من الرجوع فيها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمره فيها بشيء وفارقه على الوفاء به؛ فكرِه أن يرجع عن ذلك) اهـ نقل المحامي. ونقول: إن كلمة عمر في الرجوع عن الوقف منقطعة الإسناد؛ لأن قائلها ابن شهاب لم يدرك عمر وقد أوردها بعض الحنفية حجة لقول أبي حنيفة: إن قول النبي لعمر: (احبس أصلها) لا يستلزم التأبيد بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره. قال الحافظ في الفتح: ولا يخفى ضعف هذا التأويل. ولا يفهم من قوله: (وقفت وحسبت) إلا التأبيد حتى يصرح بالشرط عند من يذهب إليه، وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها: (حبيس ما دامت السموات والأرض) ثم ذكر نقل القرطبي الإجماع على الوقف. فالصواب أن عمر يريد - إن صح النقل - أنه لو لم يذكر ذلك للنبي فيجعله النبي شرعًا مقررًا لكان رجع عنه ولكنه صار ممنوعًا من الرجوع شرعًا، لا أنه كره الرجوع كراهة لما فيه من عدم الوفاء ولضعف تأويل أبي حنيفة (رحمه الله) هنا خالفه صاحباه ووافقا الجمهور. فظهر أن قول عمر حجة على أنه لا يجوز الرجوع في الوقف بعد تأبيده. ثم ذكر ما قاله الحنفية أيضًا من أن قول النبي عليه الصلاة والسلام لعمر: (إن شئت حبست أصلها) لا يستلزم إخراجها عن ملكه. ومن الغرائب أن يتشبث أحد بمثل هذا، وليس في هذه الرواية إلا أن الوقف قربة اختيارية من قرب الدين، وليس مفروضًا على المسلمين، وهذا مما لا خلاف فيه. وأما كون العبارة تفيد جواز الرجوع عن الوقف، فمما لا وجه له ولا يذهب إليه إلا المتعلل بالأوهام فإنه فهم تتبرأ منه العربية. ثم انتقل المحامي البارع من هذا إلى إيهام أبعد منه عن الصواب فاستدل على زعمه السابق أنه لم يرد في الوقف إلا حديث عمر بعدم ذكر

بلرم ـ صقلية ـ 1

الكاتب: سائح بصير

_ بلرم - صقلية ملاحظات سائح بصير {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) قضت المقادير أن أغير خطة سفري عن طريق مرسيليا إلى طريق إيطاليا وكان لي في ذلك خطان من السير: أحدهما يمر بالروم ثم يصل إلى نابولي ثم تكون الإقامة في نابولي نحو أربعة أيام ويعدو المركب بنا إلى ماسينا ومنها يذهب إلى الإسكندرية، والآخر ينتهي عند بلرم (أو باليرم) وتكون الإقامة خمسة أيام نذهب بعدها إلى ماسينا كذلك، وكان بودي لو ذهبت مع الخط الأول فكنت رأيت بلدانًا كثيرة وآثارًا عظيمة تزيد في علمي كثيرًا مما لم أعلم إلى اليوم، غير أن بعض أصحابي قال لي: إن بلرم هي عاصمة صقلية ويوجد فيها من الآثار العربية ما يهم العربي أن يراه وفيها داران للكتب لا تخلو كل منهما من كتب عربية قديمة ربما يستغرق الاطِّلاع عليها زمنًا مثل الزمن الذي تقضي الضرورة بصرفه إلى يوم السفر إلى ماسينا، ففضلت النزول إلى بلرم ولا أذكر الآن شيئًا مما لاقيت من الحمالين وغيرهم من مستقبلي المسافرين ولكن أعود إليه. بعد أن أخذت مكانًا في نُزُل سنترال بشارع رومه خرجت لإيصال بعض رسائل التوصية إلى من أرسلت إليهم فلقيت منهم ما سرني وكان أحدهم موصى بأن يسهل لي طريق زيارة المكتبة العمومية ودار المحفوظات الرسمية والتمكن من رؤية ما يكون فيها فوعدني بالمجيء في الغد لمرافقتي إلى المكتبة. ثم بعد ذلك بدأت بزيارة قصر الملك ولا حاجة بي إلى وصفه فإن ذلك من شأن صاحب جريدة أو سائح يطلب إظهار البراعة في حسن الوصف وسعة العبارة. وغاية ما أقول إنه قصر (أو سراي) واسع كبير البيوت باهر الزينة والأثاث كسائر قصور الملوك في أوربا أو في غيرها من البلاد الشرقية والغربية مما تنفق فيه الأموال بحساب وبغير حساب ولا شيء منها من كد الملك أو الأمير، وإنما هي من أموال الرعية وكسب الحفاة العراة الذين لا يجدون ما به يستترون ويشتهون، لو أنفق على جدران أبدانهم وأركان أجسادهم جزءٌ من المليون مما أنفق على حيطان تلك القصور وزواياها وسقوفها، ما أنا بذاكرٍ شيئًا من وصف ذلك الغنى في بلد الفقر ولكن أذكر ما رأيت فيه مما يحب الشرقي أن يطلع عليه إما لعبرة وأما لفكاهة. ذهب بي حارس القصر أولاً إلى حيث توجد كنيسة الملك ولا حاجة إلى وصفها كذلك - إلا لو كان الله يحب أن تزين له معابده وتنقش لمجده مساجده كما يحب ذلك ملوك الأرض - فوجدت في الممر الموصل إليها على الحائط المتصل بالكنيسة حجرًا قد كتبت عليه هذه العبارة: (خرج الأمر من الحضرة الملكية المعظمية الرجارية العلية أيد الله أيامها وأيد أعلامها بعمل هذه الآلة لرصد الساعات بمدينة صقلية المحمية سنة ست وثمانين وخمسمائة) ثم في أعلى الحجر سطور بالحرف اليوناني يظهر أنها ترجمة هذه العبارة والحضرة الرجارية هي حضرة الملك رجار أو (روجير) النُّرْمَنديِّ الذي دخل جزيرة صقلية وفتحها على العرب وكان لسانه الرسمي في حكومته اللسان العربي واليوناني أما ميله في البناء والزينة فكان إلى الرسم اليوناني. ولهذا الملك آثار كثيرة في بلرم ويوجد كثير من المحررات العربية والصكوك مما كتب في أيامه أن العرب كانوا في زمن النرمنديين ممتعين بحرية تامة في شعائر دينهم وتصرفهم في شؤونهم وإن كان هذا الملك قد هدم مساجد كثيرة لنقل أعمدتها الجميلة إلى الكنائس التي رأى تجديدها في المدينة ويظهر من العبارة المرقومة على الحجر أن هذا النرمندي كان عندما دخل البلاد ذهب مذهب أهلها من العرب في المدينة ولم يحتقر ما وجد من آثار العلم فكان يأمر بصنع الآلات الفنية والفلكية ويساعد القائمين بعملها. رأيت في خزينة الجواهر من قصر الملك صُندوقًا عربيًّا في طول نحو ثلثي ذراع وارتفاع ثلاثة أرباع الذراع صنع من ثمانِ مائة سنة على ما يقول الحارس وهو مغشى بالنقوش الذهبية من أجمل ما تراه عين الآن وقيمته عند الدولة خمس مائة ألف فرنك ورأيت في أحد بيوت القصر بابًا من الحديد مطليًّا بطلاء أصفر جميل من أجمل ما يصنع من الأبواب وهو من صنع أيدي العرب أيام دولتهم. رأيت بيتًا من بيوت القصر فيه صور نواب الملوك في عهد البربون بعد النرمنديين ومع كل نائب منهم كردينال كما كان للملوك كردالة يصحبونهم ويشركونهم في كثير من شؤون الملك لذلك كان النائب عن الملك يصحبه كردينال يرجع إليه في أمور دينه وفي أعماله السياسية أيام كانت الأحكام المدنية والسياسية مما يدخل فيه رجال الدين كما نقول عندنا (المفتي أو شيخ الإسلام) في عهد الملوك الذين لا تسمح لهم أوقاتهم بتعليم العلوم الدينية فيحتاجون إلى من يرجعون إليه من علماء الدين. غير أن المفتي وشيخ الإسلام إنما يجيب عما يسأل عنه أو يؤدي ما كُلف به، أما الكردينال فكان يبتدئ المشوار ويقترح المطلب ويقيم نائب الملك على المذهب ويكف يده عن العمل لا يرضاه ويحمله على بسطها فيما يتوخاه فكانت السلطة الحقيقية مدنية سياسية دينية في نظام واحد لا فصل فيه بين السلطتين وهذا الضرب من النظام هو الذي يعمل الباباوات وعمالهم من رجال الكثلكة على إرجاعه؛ لأنه أصل من أصول الديانة المسيحية عندهم، وإن كان ينكر وحدة السلطة الدينية والمدنية مَن لا يدين بدينهم. كان مما قيده بعض أصدقائي في جريدة الأمكنة التي يرغب في رؤيتها محل يسمى بالدوم؛ أي: القبب فذهب إليه وإذا هو الكنيسة الكبرى التي تسمى كاتيدرال، رئيسها هو مرجع رؤساء بقية الكنائس في المدينة أو الولاية وهي من عظمة البناء وبهجة الزينة على ما يطول شرحه وأصل هذه الكنيسة الكبرى مسجد باقٍ على ما هو عليه حتى بابه الخشبي الجميل، غاية ما في الأمر أنه زِيدتْ فيه الصور والتماثيل. وضروب أخرى من الزينة الكنائسية ويمكن للناظر أن يتفرس ذلك بمجرد رؤيته من الظاهر؛ لأن رسم البناء على الطريقة العربية في عامة المساجد. زرت بعد ذلك ديرًا يسمى دير سانت جواني وهو مما كان قد كُتب في جريدة الأماكن ولم أر فيه شيئًا سوى أن أسفل الدير كان مسجدًا فلما جاء النرمنديون حولوه إلى كنيسة بناها راجار ونقل إليها هذه الأعمدة من المساجد التي خربها لما أعجبه من أعمدتها، ثم أخذني السادن بعد ذلك إلى قبة قريبة من الكنيسة وقال لي: إنها على شكل عربي ولما رأيتها خالية من الزينة المعتادة رؤيتها في أماكن العبادة النصرانية سألته في ذلك فأخبرني أن الأسبانيين عندما غلبوا على سيسيليا سلبوا ما كان في هذه الكنيسة من المورابيك (زينة من أجمل ما تزين به الأماكن والأدوات تصنع من قطع دقيقة من الحجارة على أشكال مختلفة بحيث يصور بها جميع ما يمكن تصويره من الرسوم والصور) وحملوا ذلك إلى بلادهم، وقال: إنهم لم يقتصروا على ذلك؛ بل سلبوا الكنائس كل ما كان فيها من المصنوعات الفضية كذلك، فقلت لصاحب كان معي: يظهر أن كل فاتح يرى من الواجب عليه أن يفسد شيئًا من عمل من سبقه فكل منهم يقوم بما رآه واجبًا عليه. عرفت قسيسًا حلبيًّا معلمًا للعربية بمدرسة دير الكبوشيين في بلرم - وسنأتي على ذكره - فمما أرشدني إليه رؤية بقية من قصر يسمى العزيزة وهو اسمه في الطليانية، فذهبت معه إليه وإذا هو قاعة كبيرة فيها سلسبيل ماء بنيت على نمط ما كنا نسميه عندنا (القاعات الحرمية) حيطانها مزينة بالموزاييك من أجمل ما تحب عين أن تراه ولم يبق من القصر مكان ينظر إليه السائحون إلا تلك القاعة. أما أعلى القصر فيسكنه أناس من أهل المدينة وقد دخل بتمامه في ملك بعض الأغنياء. والقصر من بناء الملك راجار النرمندي بناه لابنته عزيزة. وعلى مقربة من هذا القصر قبة يقول القسيس: إنها مسجد عربي فأخذنا نحوها فإذا هي في بستان كبير قد أغلق بابه وقيل لنا: إن خادم البستان فيه، وذهب ذاهب ليناديه، وطال بنا الوقوف، واجتمعت علينا من الصغار والنساء صفوف أو زحوف، جلبتهم علينا تلك العمامة وصاحبتها الجبة، وكلما طردنا فوجًا أقبل فوج، أو نجونا من موج علا علينا موج، إلى أن جاء رجل قيل: إنه حارس البستان، وبعد قيل وقال في فتح الباب، واحتياجه إلى إذن من صاحب البستان، رضي بالفتح، طمعًا في النفح، فدخلنا ورأينا صعوبة جديدة في فتح القبة فذللناها. القبة من قباب المشائخ التي يقيمها المسلمون على قبور الأولياء أو الأمراء على خلاف ما يأمر به الدين وأظن أنها على قبر من هذه القبور وليس فيها من أثر عربي سوى شكلها هذا. كنيسة موريالي وتساهل العرب وأين هم اليوم؟ ! مما رأيته في بلرم (صقلية) كنيسة موريالي وجميع سقفها والأغلب من جدرانها مغشى بالموزاييك ألوانًا وأشكالاً من أبهى ما يبهج الناظر، وأجمل ما يسرح فيه الخاطر، وفي ناحية منها قبة تعرف بمعبد الصليب فيها من التماثيل وضروب الزينة ما يقصر عنه الوصف. وأهم ما يذكر في شأنها أنها مبنية في القرن السادس من التاريخ المسيحي فيكون لها نحو ألف وثلاث مائة سنة والمصنوعات الخشبية الجميلة محفوظة من ذلك العهد لم يجرؤ السوس على قرض شيء منها ببركة العناية والاهتمام بالتنظيف وأما ما يقول به بعض الحذاق في معرفة طبائع هذه الهوام الدقيقة من أنها تعرف الصلب وما خصص له من الأدوات وتشعر باحترام تلك الصور والتماثيل التي صورت في تلك الأخشاب وأنها بذلك صارت مسيحية كاثوليكية فلا يباح لها قرض الخشب المسيحي، ثم إن اعتقادها بحرمة القرض، حملها على العمل فخالفت شهوة الأكل قيامًا بالفرض - فلا أظنه في غاية الصحة، بل ولا في أولها كذلك. ويقال: إن الكنيسة من بناء الملك كيليولمو الثاني وقبره فيها صندوق من حجر فيه جثته. ومن ذلك تعرف أن العرب رحمهم الله لم يمسُّوا هذه الكنيسة بسوء مع عظمة سطوتهم وامتداد ملكهم في سيسيليا، وتلمح من هذا أن العرب - وإن فسق كثير منهم عن أمر ربهم - فروح الدين الإسلامي كانت تنوس في كثير من أعمالهم، نهى الدين عن هدم الكنائس إذا لم تكن مربضًا لشر يخشى خطره على الدولة فحفظوا لرعاياهم كنائسهم ومعابدهم ولم يصنعوا بها ما صنع غيرهم ممن جاء بعدهم، ولم يريدوا أن يقتفوا أثر خصومهم ممن كان يهدم مساجدهم، ويخرب معابدهم، فحيا الله أيامهم. لا جرم أن الإسلام عربي وأحق الناس برعايته والوقوف عند حدوده بعد فهم حقيقته هم العرب فأين هم؟ يمكن أن يقول قائل: إنهم في جزيرة العرب أو في الشام أو في العراق أو في مصر أو في تونس والجزائر أو في المغرب الأقصى، أفلم يكفك كل هذا العدد في أكثر من ألف بلد، حتى تقول: أين هم؟ ولكني أقول له: إنما يكون القوم أولئك القوم إذا بقيت لهم أخلاقهم، وحياة أرواحهم، فإن كان لم يبق إلا أشباح تشبه أشباحهم فليسوا بهم، فلي الحق أن أقول عن العرب: فأين هم؟ دير الكبوشيين ومدرستهم ومقبرتهم في بلرم وفيه بحث الدعوة إلى الدين وإحياء اللغة للكبوشيين دير في بلرم فيه معبد ومدرسة ومقبرتان. أما المعبد فهو المعبد لا يحتاج إلى الكلام عليه ولا يختلف عن غيره من المعابد، وأما المدرسة فهي لتعلم اللغات والفنون والعلوم التي يحتاج إليها المرسلون الذين يكلفون بالدعوة إلى الدين المسيحي والتبشير بالإنجيل ونشر ما تقتضي الغيرة الدينية نشره في الأقطار النائية كب

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع باب (2) : كيف حدثت القوة للإنسان؟ تلك القوى [*] تابع أصل وجودها من حيث الجملة لفطرة النوع. وأما قسط كل فرد من كل قسم من أقسامها فتابع لتوزيع عام مرتب اقتضاه نظام الوجود المؤسس على وجود المتضادات. فمن كان يرجو أن ينال نصيبًا حسنًا من ذلك التوزيع فليعرض عن الذين يجادلون في مثل هذا المقام في عمل الإنسان كقول فريق منهم: إذا كانت قوته من صانعه قلت أو كثرت فأي فضيلة أو رذيلة له. وكقول آخرين: إذا كانت قوته منه فلم يعتذر بصانعه إن قصر. ولم نوصِ بهذا الإعراض تقييدًا للأفكار أن تجول في المعقولات كما خولها الفاطر، ولا استصغارًا لهذه المسألة؛ بل لأننا نجدنا كيفما قلنا نجري في هذه الحياة على إثابة المحسن ومؤاخذة المسيء. فعلمنا أن البحث عقيم وإن أنتج فهو لا يعدو هذه النتيجة الموافقة لما في الإنسان من مكنونات الأسرار. ولا نعيا أن نقول لأمثال أولئك السائلين: إن الفاطر (جل وعلا) فطر هذا النوع على صورة يتصرف معها في عوالم الأرض ثم ينتهي إلى عالم الغيب ليُتم هنالك فيه أمرًا لم يبتدئه عبثًا، وكان من حكمته أن يكون أفراد هذا النوع درجات. وجعل في الأفراد شوقًا للترقي من درجة دنيا إلى درجة عليا. وأغاث هذا الشوق بإيجاد استعداد عام في أصل الفطرة للترقي. فمن أزعجه الشوق حتى عرض نفسه لنيل نصيب من الاستعداد العام يوشك أن ينال المنح والتحف مما في أصل الفطرة، ومن احتج على الشوق في تسفله الخاص بأنه تابع لترتيب الدرجات العام فحجته في نفسه داحضة؛ لأن القضاء العام في تفاوت الدرجات يقابله إيجاد استعداد عام. فلئن صح حجة في وجود متسفلين يقابلون متعالين فلا يصح حجة في تسفل فرد بعينه. هذا هو سبيلنا الذي اتفق البشر كلهم على سلوكه في قوانينهم الحقوقية والجزائية وليس بعد هذا إلا هراء غاليَيْنِ: أحدهما ينكر إفاضة القوة الغيبية على القوة الحسية مطلقًا، والآخر ينكر وجود القوة الحسية مطلقًا. فنذرهم في هرائهم يتجادلون ونأخذ لأنفسنا نصيبًا من بناء الحكم على الواقع لنستفيد علمًا نافعًا لنا في يومنا هذا وفي اليوم الموعود. تدرج الإنسان في القوة لكل فرد من أفراد الإنسان نوعان من القوة: (1) قوة طبيعية وهي ما منحه الفاطر لشخصه من قوة جسد وعقل وقلب. (2) قوة صناعية وهي ثمرة التعاون الذي اهتدى البشر لفوائده. أما تدرج الإنسان في القوة الطبيعية فتابع لارتقائه في القوة الصناعية [**] ولذلك نفيض الآن في بيان القوة الصناعية وشرح كيفية حدوثها ونحصر الكلام ههنا في ثلاث روابط فيها ينحصر التعاون العظيم الذي ينتج القوة الصناعية. وهي: (1) رابطة قرابة الأجساد بواسطة الأرحام، ونسميها رابطة القومية. (2) رابطة قرابة الأفكار بواسطة الاتباع لذي دعوة، ونسميها رابطة الدين والمذهب. (3) رابطة قرابة القلوب بواسطة التراضي في اقتسام الأعمال التابعة لحب الزينة وحب التميز، ونسميها رابطة المدنية. رابطة القومية في الإنسان أشواق لا تسكن لمطالب لا تحصر، فمنها مطالب تقتضيها مادة جسمه. ومنها مطالب يقتضيها جوهر نفسه، ومنها مطالب تقتضيها مادة الجسم والنفس معًا. وهذا القسم من المطالب هو الأكثر. والباحثون في الإنسان ينفعهم أن يعرفوا هذا التقسيم فإنه يفيدهم في التفريق بين العلل. وما أجدرهم أن يحرصوا على إصابة الحقائق في إلحاق كل معلول بعلته. وما أجدر الحقائق أن تكون مستورة لتمتحن طلابها. وما أجدر من توجه إليها بفكر حر متزودًا من الإخلاص؛ أن يبلغ ما يسير به الشوق إليه. وقد عرف من قبل ومن بعد أن الإنسان لا يبلغ شيئًا من مطالبه بدون التعاون إلا أن يكون شيئًا من بعض المطالب التي يقتضيها جوهر النفس وحده كالجمال المتجلي في الأشباح الطبيعية بروحه المناسبة للنفس الإنسانية. فكأن العجز الفردي بالنسبة إلى المطالب التي لا تفتأ تتجدد كل حين - داء عظيم يحول بين الإنسان وما تطالبه به فطرته. ويهدد كل فرد بالضعف المميت. وكأن التعاون دواء هذا الداء فهو يرفع من أمامه الحوائل، ويدفع عنه الغوائل، ويهب كل فرد قسطًا بقدر من القوة المحيية. لكن هذا الدواء إنما يشفي عجز كل فرد من المتعاونين بالنسبة إلى غيرهم من إنسان وغير إنسان. فما الذي يشفي عجز كل فرد منهم بالنسبة إليهم أنفسهم إذا أجمعوا أمرًا أن يخذلوه؟ الجواب عن هذا سيتضح من الكلام على الرابطتين الآتيتين، وإنما عجلنا بإيراد هذا السؤال الآن للإشعار بادئ بدء بأن رابطة القومية المؤسسة على مطلق التعاون لا تجعل المتعاونين على الغير في أمن من أن يعدو بعضهم على بعض ولذلك نضطر أن نقول: لئن كانت هذه الرابطة قد نفعت الإنسان فإن نفعها أبتر وقد ضرته أيضًا. قلنا نفعته؛ لأننا لا نستطيع أن ننكر أنها قوت منه ضعفاء، وجمعت منه متفرقين، وفي حِضنها ربت له أنواعًا من الاستعدادات حتى دبت ودرجت وسارت لتبلغ أشدها. ونقول: ضرته؛ لأنها كما جمعت منه متفرقين فرقت منه مجتمعين. وكما عرفت له قربى. نكرت له قربى. وكما آنسته أوحشته. وكما حببته إلى طائفة بغضته إلى أخرى. ولم تزل واقفة به أحقابًا طوالاً وقفة إخوانه من الحيوانات التي ينهش بعضها بعضًا، لا يميزه عنها إلا استواء القامة وإبانة هذه اللحمة (اللسان) عن مكنون ضميره، ولا مكنون هنالك غير ما يريد أن يدعو به عصبته لنهش عصبة أخرى. أو لم تروا إلى الذين جمدوا على هذه السنة القديمة من أهل البوادي؟ أرأيتم إن أمسك الصناع عنهم أكسيتهم وأخبيتهم والأدوات اللازمة لهم هل يخصفون غير ورق الأشجار، وهل يلبثون إلا في جوف الأوجار؟ فلولا الذين غسلوا عن أذهانهم وضر الاغترار بهذه القوة البسيطة التي لا يعدو نفعها أمن الفرد من الغريب بفضل عون القريب لكنا حتى هذا اليوم والأنعام سواء. ولكن أولئك النفر لما أتاهم ذلك الذكر وعلموا أن الإنسان قريب الإنسان، كيفما كان اللون واللسان، وأَنَّى كان المسعى والمكان، أزعجهم الشوق وتشوقت نفوسهم أن تشرف على قوى أخرى هي أسمى من تلك وأنفع للبشر الذين هم إخوان أجمعون فأفاضت عليهم القوة الغيبية ما أفاضت من العناية بهم وبإخوانهم بني الإنسان وذلك هو اليوم الذي طفقت فيه مواهب النوع الكامنة تتألق في هذه الأرض التي هي عرش سلطانه، ومجلى تجليات عرفانه. ولا تزال تلك المواهب تزداد إشراقًا ما ازداد الناسجون على منوال أولئك النفر الكرام لهم منا التحيات الطيبات. وهب أن فينا من لم يصل فهمه إلى ما أرشد أولئك إليه فلم يعرف له فائدة عائدة لنفسه في هذه الحياة ولم يؤمن بنصيبه في الحياة الثانية التي يتم فيها المقصود من الجوهر الإنساني القائم في هذه الصورة البشرية فهل يحسن به أن لا يفرق في حياته هذه بين ما يجعله عن البهائم رفيعًا، وما يجعله لها رفيقًا؟ وها نحن أولاء ننبئكم عن هذه الرابطة بما تعلمون به أنها ترفع الإنسان على الأنعام إلا قليلاً، ونريد أن نزيد في هذا المقام تبيانًا لتدرج اتصال الإنسان وانفصاله ونجلو في هذا المعنى أقدم شؤونه فمن كان قد حدثه بمثله عقله فسوف يحدث له ذكر أو مَن لم يكن قد حدثه من قبل فإنه ملاقيه مفيدًا. وتاليه لذيذًا. كان الإنسان واحدًا أبدعه الموجود مثالاً لكمال الخلق في هذه الأرض. وخلق فيه خاصة التفريع. أما تفرع أول فرع من ذلك الأصل الواحد فلم يزل عند العقل من الأسرار الغامضة وهو يعد خاتمة الأدوار لتكون الإنسان على هذه الصورة المحسوسة اليوم من توقف التفريع أو التوليد على زوجين يتولد من امتزاج خلاصة من جسديهما فرع كأحدهما (أي: إما ملقح وهو الفحل أو متلقح وهي الأنثى) ، وللتفريع أو التوليد في كل الكائنات الأرضية ناموس تكويني هو ناموس التلقيح وهو اقتران أجزاء معلومة ببعضها ليتولد بينها وليد جديد. وقد عرف الآن بما ارتقى إليه علم التحليل (الكيميا) أن كل أنواع المواليد الثلاثة تابعة لهذا الناموس. ولذلك أصبح من المعروف كيفية تولد كل شيء إلا الأجزاء المولدة. وما يدرينا ما يحدث من العلم بعد. فتوليد الإنسان بتوقفه على العمل المدعو بالتلقيح لأجل امتزاج الأجزاء المعلومة ليس ببدع ولا هو أغرب من توقف النباتات بل الجمادات على ذلك، بيد أن هذه الخاصة التي للإنسان في التوليد يشاركه بنظيرها بعض أنواع الحيوان، والبعض الآخر من أنواع الحيوان كالديدان مثلاً هو الذي جعل مجالاً لظن بعض من الذين لم يخضعوا للكتب الموحاة بأن التفريع الأول من الأصل الأول الذي هو الجماد قد وجدت منه فروع كثيرة متعددة وأن هذه الفروع في خلقتها - خاصة التفريع - على هذا التلقيح المعروف. أما نحن الملِّيين فلا نتبع أمثال هذه الظنون بل نتبع ما أنبأ به الوحي فنقول: إن الأصل الأول هو الجماد. والأصل الثاني بشر سوي ذو حياة كحياتنا في الاستعداد وهو واحد. والفرع الأول الذي اشتق من ذلك البشر السوي واحد. ثم جعل الفاطر فيهما سوائق طبيعية لإجراء التلقيح. أولها سكون النفس في كل من المتلاقحين واطمئنانها وانبساطها وتلذذها برؤية الآخر وغايتها انجذاب كل منهما للآخر وتلاصقها، بحيث لو ساعدت الخلقة بأكثر من هذا الوجه لتضامت ذرات أجزائهما تمام التضام فصارا جسمًا واحدًا. ولكن الفاطر قد جعل لهذه الكهربائية حدًّا معلومًا. وسيسألك أهل الشرائع أن تبين لهم السبب في جواز تلقيح هذا الأصل الذي كأنه والد، لذلك الفرع الذي كأنه ولد، ثم جواز تلقيح فروعهما بعضها لبعض مع أنهم إخوة. ولَبَيانُ السبب في حدوث الشرائع ثم حدوث الاختلاف فيها أنفع لهم لو كانوا يتفكرون. وأول واجب أن يعرفوه لعلهم يعلمون بذلك هو أصلح الشرائع وأنفعها، وأبقاها وأسماها. وسنتلوا عليهم من هذا الحديث لعلهم يشعرون؛ ليتذكروا أن الشرائع إنما تفصل من أجل الاجتماع وأن التلقيح في ذلك اليوم لم يكن محتاجًا إلى شريعة، وأن الذي تمنعه الشرائع ليس كله قبيحًا في ذاته وإنما يقبح لعلة من العلل. فلا تعجلوا ولا تعجبوا من ذلك التلقيح الذي هو سبب تكثر هذا النوع. ولا تسألوا عنه ولكن سلوا عن اختلاف هذه الفروع التي أصلها واحد. وإليكم هذا البيان الكاشف: إنه لم يكن في تلك الأيام هذه البيوت المبنية للوقاية من الحر والبرد فيظهر أنهم كانوا يلجؤون إلى الكهوف والمغارات ويتخذون الأوجار، إما حفرًا بأيديهم إن كانت أظفارهم يومهم ذاك أقوى من الأظافر يومنا هذا. وإما غصبًا مما حفره غيرهم من الحيوانات كدأب قبائل منهم أبقاهم الصانع على تلك السنة لتكون حالهم ذكرى للذين ارتقوا وآية يعتبر بها عشاق الارتقاء. ولكن أي المغارات تكفي لأن تستكن فيها تلك الفروع التي طفقت تزيد وتتضاعف في كل عام ما شاء الخالق أن تتضاعف. فكأنهم لما تعددوا نشأ كل زوج منهم يلتمس في الأرض مغارًا يكنه وأولاده فهذا التفرق في المقر هو أول تفرق وتباعد حصل بين أولئك الإخوة وذراري الإخوة. وهو من الأسباب الأصول في اختلاف البشر هذا الاختلاف العظيم. ولما كان بين الإنسان وسائر الحيوان بون في الفطرة والاستعداد وخلقه بهذه الصورة البشرية يضطره في جلب النافع وجبّ الضار إلى التعاون وهو يقتضي اجتماع متعددين ولو قليلاً منهم أتم البارئ تكوين هذا المخلوق الحي على هذا الوجه بأشياء جعلها من أعظم مميزاته التي تبلغه الغاية من الكمال الذي يقدر لمخلوق من أعظمها: (1) الاستعداد للصناعة و (2) الفضل في

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (كتاب التمرين - على البيان والتبيين) قرظنا في الجزء الثالث عشر (كتاب إرشاد الألبا إلى تعليم ألف با) وهو المِرقاة الأولى من مراقي علم الأدب للشيخ طاهر الجزائري. وقد صدر في هذه الأيام كتاب التمرين له وهو المرقاة الثانية (قال) : (وقد جعلت لتمرين الطالب قبل أن تبدر إليه بوادر الكلام، على ما رق وراق من النثر والنظام، ليتمثل مثل ذلك في مرآته، ويقوى النور في مشكاته، فيحوز حسن البيان في أقرب مدة، بدون عناء ولا شدة. وهذا هو الأصل الأول، وعليه في الفصاحة المعوَّل) . وقد جعل الكتاب على قسمين: قسم في فصول شتى مختارة من كتب مختلفة بعضها منثور وبعضها منظوم، فالفصل الأول في الإنسان والثاني في الحيوان وفيه نبذ في كثير من البهائم والطيور والثالث في حكم مأثورة والرابع في أبيات مختارة من ديوان الحماسة، وقسم في نبذ مختارة من كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ. وقد أحسن المؤلف الاختيار والانتخاب، ولكنه أوجز واختصر، حيث يرجى التطويل والإسهاب. وثمن النسخة منه قرش ونصف وهو يطلب في مصر من إدارة المنار ومن مكتبة الحاج مصطفى البابي الحلبي. *** (تدريب اللسان على تجويد البيان) جعل مؤلف مراقي الأدب للمرقاة الثانية التي تكلمنا عنها آنفًا تتمة خاصة بعلم تجويد القرآن الكريم سماها (تدريب اللسان) ... إلخ ولكنها طبعت على حدتها، وقد صدَّرها بترجمة القراء السبعة ورواتهم مختصرة وجعل الرسالة ثمانية فصول، أولها في مخارج الحروف وآخرها في الوقف والابتداء. وثمن النسخة قرشان ويطلب من حيث يطلب الأول. وقد عني بطبع هذه المراقي الشيخ أحمد أفندي حسن طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون) الشهيرة في بيروت طبعًا متقنًا ضبط فيه ما ينبغي ضبطه بالشكل وتطلب هناك منه. *** (كتاب جواهر الأدب في صناعة إنشاء العرب) هذا الكتاب من الكتب التي ظهرت في هذا العام، وصادفت ما تستحقه من الرواج والإقبال، مؤلفه الشيخ أحمد الهاشمي، ومزيته التي قضت بالترغيب فيه والتشويق إليه - هي جمعه لكثير من الرسائل والقصائد من كلام كُتاب العصر وشعرائه كما جمع مثل ذلك من كلام الغابرين فلم يدع موضوعًا مما ترغب نابتة العصر في الخوض فيه، إلا وجاء بشيء منه، كالشوق والتعارف والتهادي والاستعطاف والعتاب والشكر والشكوى والتهنئة والعيادة والتعزية والشفاعة والوصف وغير ذلك. والكتاب كبير، صفحاته أربع مائة ونيِّف من القطع الصغير وثمن النسخة منه خمسة قروش. *** (كتاب تربية الأطفال) وضع هذا الكتاب الدكتور عبد العزيز أفندي نظمي (حكيم بعموم مصلحة الصحة وطبيب اختصاصي لأمراض العيون والأطفال من كليتي مونبلييه وطولوز (فرنسا) سابقًا) . وقد سمى فصول الكتاب زيارات وهو يخاطب بها الأمهات فالأولى في إثبات وجوب إرضاع الأمهات لأولادهم، والثانية في قوانين الرضاعة من ثدي الأم، والثالثة في سرير الطفل وحجرة نومه، والرابعة في قانون صحة النفاس والخامسة في الرضاعة الصناعية وشروطها، والسادسة في فطام الطفل وغذائه والسابعة في قماط الطفل وملابسه، والثامنة في نظافة الجسم ولعب الطفل، والتاسعة في علاج الجروح واتقاء العدوى، والعاشرة في علاج أمراض الأطفال المنتشرة، والحادية عشرة في مشي الطفل ونمو ذكائه. وقال في المقدمة والخاتمة إنه تجنب الاصطلاحات وبالغ في جعل العبارة سهلة تفهمها الأمهات. وظاهر أن هذه المسائل لا تستغني أم عن معرفة قوانين الصحة فيها فعسى أن يُقبل الناس على الكتاب وثمنه أربعة قروش فقط. *** (ثلاث قصص) أُهديت إلينا القصص الثلاث الآتي ذكرها ولم يسمح لنا الزمن بقراءتها أو تعرُّف موضوعاتها في الجملة فاكتفينا بالإشارة إليها، والثناء على مهديها وهي: (الوفاء في الحب) : قصة أدبية تاريخية غرامية تمثيلية، مؤلفها عمر أفندي سري وقد طُبعت بمطبعة التمدن. (غانية البادية) : هي القصة الثانية من قصص يصدرها إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية باسم (حديقة الفكاهة) وفي كل شهر يصدر منها ثنتان وقيمة الاشتراك فيها عشرون قرشًا صحيحًا في السنة. (الجزاء العادل) : هي القصة الثالثة والعشرون من قصص (مسامرات الشعب) الشهيرة وهي من تأليف أحمد حافظ أفندي عوض مبنية على القصتين الصادرتين قبلها وقد سبق لنا ذكرهما ولا بد أن يكون قارئوهما راغبين في الوقوف على ما جرى ليوسف البائس الفقير الذي هو موضوع القصتين الأوليين. *** (مجلة بقراط الطبية) (مجلة طبية عملية للأطباء وصحية للعائلات تصدر مرتين في الشهر، لمنشئها الدكتور حسين (أفندي) يسري، قيمة الاشتراك في السنة 40 قرشًا في القطر المصري و50 قرشًا في الممالك الأجنبية تدفع سلفًا) . صدر عددان من هذه المجلة يدخل الواحد في 32 صفحة وفيهما كثير من المقالات الطبية والإرشادات الصحية ولا شك أن البلاد العربية في حاجة شديدة إلى مثل هذه المجلة النافعة، فنتمنى لها النجاح والانتشار. *** (النيل) جريدة سياسية أدبية انتقادية أسبوعية مصورة، أصدرها في القاهرة حديثًا محمد أفندي غانم وسليم أفندي قبعين، وهما من الذين سبق لهم الاشتغال بخدمة الصحافة واختبارها، فنتمنى لهما من النجاح والتوفيق أقصى ما انتهى إليه استعدادهما، وقيمة الاشتراك في الجريدة مائة قرش صحيح في مصر وسائر بلاد الدولة العثمانية و30 فرنكًا في الممالك الأجنبية. *** (دلائل الإعجاز) إذا أردت أن تحصل فنون البلاغة بسهولة وتقف على أسرارها فتكون كاتبًا أو شاعرًا وتفهم بلاغة القرآن فما دونه فعليك بمطالعة كتاب (دلائل الإعجاز) في فن المعاني وكتاب (أسرار البلاغة) في فن البيان لواضع العِلمين الإمام عبد القاهر الجرجاني وثمن كل منهما 25 قرشًا ومن أسرار البلاغة ما ثمنه 15؛ لأن ورقه دون ورق الأول ويطلبان من إدارة المنار بمصر وأجرة البريد عن كل منهما قرشان.

سيرالون

الكاتب: سائح محب للمنار

_ سيرالون لسائح محب للمنار قال بعد رسوم الخطاب: إني من الذين قدّر الله لهم الاستفادة بالمنار من ابتداء ظهوره، وإني أعد انتشاره خدمة مهمة للإسلام فسعيت حتى وجدت له مشتركين في خانيه (كريت) ثم في فاس ومنذ بلوغي هذه الديار مازلت أُشَوِّق الناس إلى اقتناء المنار حتى كدت أن أيأس غير أني وفقت أخيرًا إلى مشترك واحد. ولما جاءتنا المجلة أطلعت عليها كثيرًا منهم فوجدوا مباحثها موافقة لإخباري وأخذوا يطالعونها بكل ارتياح رغمًا عن قلة معرفتهم بالعربية. ولهذا السبب أرجو أن ستؤثر تعليماتكم المفيدة فيهم؛ لأنهم أحوج المسلمين إليها؛ لفشو الجهْل بينهم وتأصل الغباوة في رؤوسهم ولانقطاع علائقهم بالشرق الإسلامي لبعد المسافة ولفقدان الحمية الدينية منهم. وبما أن المنار الأغر مشتغل بأحوال المسلمين عمومًا فيجب عليَّ إخبار الشيخ أعزّه الله بأحوال هذه البلاد مع الاختصار فأقول: إن عدد السكان في هذا القطر يبلغ ثلاثة ملايين، نصفهم أو ما يقرب من ذلك على دين الإسلام كما تحققت ذلك في خلال أسفاري في الأرياف على أنه قبل عصر واحد بالتقريب كان عُشر السكان على هذا الدين. وذلك الانتشار السريع لم يحصل إلا بعد تملك إنكلترا للبلاد. وأما عاصمة القطر (فري تاون) فيبلغ أهل الإسلام فيها عشرة آلاف نسمة وهذا العدد نحو ثلث السكان. والجماعة الإسلامية مركبة من أقوام مختلفة أكثرهم عددًا قوم آكو وهم من الأرقاء الذين ركبوا البحر من سواحل لاغوس قبل مائة سنة فأنقذهم الإنكليز في الطريق وأسكنوهم هنا في حيين (حارتين - فولاتون وفوربي) على أن هؤلاء القوم لا يتفقون أبدًا فالعداوة متمكنة بينهم خصوصًا أهل فوربي الذين لا تنقطع من بينهم المخاصمات والمشاغبات بحيث إن المحاكم الإنكليزية قد ملتهم بسبب مخاصماتهم المستمرة والبعض من أهل هذا الحي لا يتقربون إلى الجامع لما لهم من العداوة مع إخوانهم. وفي هذه المدينة أربعة جوامع وأربع مدارس كل واحد منها مخصوص بقوم منهم والمدارس تأخذ إعانة من الحكومة (220 ليرة للجميع في السنة) ولما جئت ووجدت طريقة التدريس معوجة في الدرجة القصوى وعرفت أنه لا يمكن للتلميذ أن يفهم شيئًا من العربية مهما طالت مدة التدريس صممت على تبديلها بالطريقة السهلة وإرشاد معلميهم إلى أصول التعليم ولا سيما توجيه نظرهم إلى أخلاق التلامذة وسلوكهم السيئ ولكني لم أصب آذانًا واعية بل قابلوا اقتراحاتي بالإعراض. ومع ذلك فإني ما سئمت ولكن ظللت ناصحًا لهم ملحًّا في بياناتي حتى إني وفقت إلى استمالة بعض الشبان من أهل فولاتون ومنهم ذاك المشترك. وبعد قراءة فصول المنار أخذت في تفسير مباحثه من دينية واجتماعية وأن الطريق التي يرشد إليها المنار هي التي لا أزال ساعيًا في إدخالهم فيها. على أن إقبالهم على المجلة وإحلالهم إياها محل الاعتبار قد جدد آمالي. وقصدي أن أستمر على وعظهم بالمنار. وأما أهل فوربي فإنهم أعرضوا عني كل الإعراض وصرحوا لي بأنهم لا يرضون أن يسمعوا الوعظ في جامعهم مع أن هذه الأيام أيام رمضان ينبغي فيها تكثير الوعظ وتكرير التذكير خصوصًا مع فقدان الوعاظ من جوامع هذه البلاد ولا تسل يا سيدي عما هنا من الأمور المخالفة للشرع وللآداب الإسلامية التي يعمل بها عندنا في الشرق أقل الناس إيمانًا وأضعفهم اعتقادًا فهؤلاء السودانيون يباينون الديانة الإسلامية على خط مستقيم في أكثر الأمور بل فيها جميعًا ولا يريدون التحلي بتلك الآداب المحمدية بل يفضلون عليها عبادات أجدادهم المجوس! وأخبركم أيضًا أن هنا رجلاً من نصارى الزنوج اسمه الدكتور بلائدن اشتهر في إنكلترا وأميركا بمعارفه الواسعة وبتدقيقاته العميقة في دين الإسلام وله مؤلفات معتبرة أشهرها (النصرانية والإسلام وجنس الزنوج) فذكر فيه من الخبر ما أدعي أنا أنه لم يصل إلى درجته فيه أحد من علماء أوربا في الاعتراف بمحاسن ديننا وفضائله وله إلمام بالعربية؛ فلذا أسعى في الصلة بينه وبين المنار. وهو يقول في وجوه المسيحيين: إنهم عبثًا يسعون في تنصير الزنوج لكون هذه البلاد دار الإسلام. ومن الأسف أن لا يعرف العالم الإسلامي هذا الرجل! واحترازًا من التصديع أوجز الكلام فأقول: أرجو من سيادة الشيخ أن يكتب بضعة أسطر في أحوال هذه البلاد لإيقاظ المسلمين من غفلتهم ناصحًا إياهم أن يتركوا الطريقة القديمة في مدارسهم، وأن يدخلوا فيها الكتب النافعة من مصر وغيرها؛ إذ لا يمكن تدريس العربية بلا كتب مع كثرتها اليوم في الشرق وأن يصيخوا لنصيحة من يدلونهم على طريق الخير والصلاح. على أن الدجالين يجدون عندهم كل ترحيب واعتبار وهم المغاربة وسكان الصحراء ومعلوم أنهم لا يقدرون على نفعهم ولو أرادوا ذلك لكونهم محرومين من جميع أسباب الترقي وفاقد الشيء لا يعطيه كما قال الأستاذ. والمأمول أن حضرة الشيخ سيُسْدي النصيحة لهؤلاء البسطاء العقول كما يسديها لغيرهم لعل الذكرى تكون نافعة لهم.

عدن وبلاد العرب

الكاتب: سائح محب للمنار

_ عدن وبلاد العرب لسائح محب للمنار قال بعد رسوم الخطاب: وقد وصلنا إلى عدن منذ عشرة أيام، ولم نجد سبيلاً للسفر إلى حضرموت لعدم مصادفة ركب متوجه إليها، والأمل أن نصادفه عن قريب. وقد كررنا التوسم في معارفنا بعدن علّنا نهتدي لمن يقوم بنشر المنار فلم نجد كفؤًا لذلك إلا صاحبنا؛ إذ هو خير الموجودين ويجتمع لديه كثير من أهل عدن يوميًّا فعسى أن يستفيد بعضهم. وإن شئتم الاستعلام عن أحوال أهل هذا الطرف فهم أناس عمَّهم الجهل وغمرهم، ولهم اجتماعات على أكل القات؛ وهو نبت يشبه الشاي مشهور لعله مخدر أو مفرح كما قيل؛ لكن من المعلوم أنه متلف للمال مميت للوقت؛ إذ يضيع لأحدهم في الجلوس لأكله نحو ثلاث ساعات وهي قريب من ثلث عمره بعد إخراج الأوقات اللازمة للضروريات ويصرف بعضهم فيه يوميًّا من ثلاث ربيات إلى عشر ربيات بلا فائدة. ثم إنه لا يلذ لهم أكله إلا وهم مجتمعون في مكان مظلم وحولهم أباريق الماء يتلمظون به الجرعة بعد الجرعة وأمامهم المداعات (آلات التدخين) وبجوارهم جذور وأصول القات والعشب الذي يلف به ولا يلذ لهم حينئذٍ إلا الكلام الميت الفارغ إن كانوا من الأخيار، أو الملاعنة والسباب إن كانوا من غيرهم. ومع سخائهم ببذل عصارة أبدانهم - وإن شئت فسمِّها دية أنفسهم - في شراء ذلك النبت النحيس تراهم في معيشتهم مُقترين وبيوتهم وثيابهم وسخة إلا أناس قليلون إلا أن معاملتهم سيّما مع الغرباء حسنة إلا ما ندر ولهم صبر على الضيوف بالنسبة لغيرهم في هذا الزمان. ومعاملة الحكومة الإنكليزية للأهالي منها المشكور ومنها المذموم، ورئيس كل مصلحة له فيها تمام الاستبداد، والقاضي بالمحكمة الإنكليزية رجل فارسي له مدة طويلة؛ وهو في مركزه، والأهالي يحبونه ويذكرون عنه رفقًا وعدلاً ونزاهةً، والأمان فيها مستتب فلا تكاد تسمع بسرقة، والآن عندهم برد غير أنه حر بالنسبة لغيرهم إذ درجة الحرارة غالبا نحو 86 فهرنهيت أي 30 سنتكراد وأزقة عدن أكثرها وسخ قذر عفن سيما مع المطر؛ إذ نزل منذ يومين مطر بلَّ الأرض وغمرها فصار الناس يخوضون في الأزقة بالنجاسات والقاذورات إلى نصف الساق كأنهم في الجمالية بمصر حتى بخرت الشمس تلك الرطوبات ولذلك ترى الحميات العفنة فيها كثيرة، وحركة التجارة فيها مشكورة. والحكومة الإنكليزية مهتمة بتوسيع دائرة نفوذها ولها مركز في جهة اليمن يسمى الضالع يبعد عن عدن 140 ميلاً؛ أي: مسير ستة أيام بسير القوافل ولها فيه نحو ستة آلاف عسكري ولها في عدن وما والاها أكثر من أربعة آلاف عسكري جُلهم من الهنود، والجمال التي تشتغل بنقل المهمات يوميًّا نحو أربعة آلاف جمل. وقد أرادت أن تستولي على جهات جبل يافع المشهور فأرسلت أحد أبالستها إلى أمير الجبل المسمّى في جهته سلطان الجبل فأطمعه في رشوة كبيرة على دخوله تحت حماية الإنكليز واستدرجه حتى وصل به عدن وبوصوله تنسَّم بعض أهالي الجبل من سكان عدن بعض الأسرار فذهب إلى قومه منذرًا فاجتمعوا وتم رأي كبارهم على عزل الخائن وإهدار دمه هو ومن ساعده وأقاموا لهم أميرًا آخر فلما بلغ هذا الخبر إلى عدن ضاق واليها به ذرعًا وتحيّر الخائن ولم يدرِ أين يذهب؟ ! ثم عمل الإنكليز على الانتقام من أهالي يافع فأرسلوا شرذمة من عساكرهم التي بالضالع إلى جبل شعيب وهو أول حدود جبل يافع وبينه وبين الضالع مسيرة يومين، فصمم عرب تلك الجهة على الهجوم على العسكر ليلاً وأنذر بهم الإنكليز فانسحبوا راجعين إلى الضالع. وربّما كان أهل لندن لم يستحسنوا فتح حرب اليمن قبل انتهاء حرب السومال. والمناوشات بين العرب وعساكر الإنكليز مستمرة لا يخلو منها أسبوع غالبًا حتى فيما قارب عدن؛ إذ منذ أيام قطع الطريق رؤساء قبيلة تبعد عن عدن نحو 24 ميلاً لقطع الإنكليز راتبهم عنهم وهو 500 ربية كل شهر وقد تحصن 40 نفسًا من العرب في رأس جبل ومعهم بنادق مارتين، وخرج إليهم من الهنود مئتا جندي ثم لحقتهم فرقة أخرى نحوهم وبعد المحاربة ببضع ساعات انهزم الهنود وقتل منهم نحو أربعين منهم ضابط إنكليزي وجُرح كثيرون؛ منهم كبير تلك الفرقة، وقُتل من العرب تسعة نفر، ويقال: إن الحرب ستجدد عليهم. والحروب مستمرة في سواحل حضرموت وقد أمد الإنكليز أمير المكلا ببنادق مارتين ومدافع قدموها له مع أحد بواخرهم الحربية، أما جيش أمير المكلا بقيادة ابنه الذي قدمه إلى جهة حجر في أوائل رجب فقد عاد منهزمًا؛ لأن البدو كمنوا له في بعض تلك الجبال وصارت بين الفئتين مناوشة طفيفة انسحب بسببها جيش صاحب المكلا؛ غير أن الخسائر من الطرفين لا تذكر. ولم يزل أمير المكلا يحشد الجنود وقد اجتمع له نحو أربعة آلاف رجل للحملة على حجر واجتمع نحو ستة آلاف من البدو للدفاع عن أوطانهم وأتى وفد من السادات للصلح بين الطرفين وستكون الحرب أو الصلح وهو الأقرب في أثناء رمضان. وأما أخبار السومال فهي كثيرة جدًّا لكن لم أثق بصحتها فلا أتعبكم بقراءتها ومن مجموعها يفهم أن الانكسارات تعددت على الإنكليز وأن جنود المنلا أو الرداد كثيرة جدًّا وعنده بعض ذخائر وسلاح لا كما تزعم الجرائد نقلاً عن المصادر الإنكليزية. أما اليمن التركية فحالتها تعيسة جدًّا ولا بد أن يكون بلغكم ما فعل بعض قبائل عسير وأنهم غدروا بسبعة طوابير [*] صغار من الترك فقتلوهم إلا نحو ثلاثين نفرًا تمكنوا من الهرب والسبب في ذلك طغيان الترك وظلمهم المكرر وعدم الإنصاف، وإذا لم تنتبه الحكومة التركية فإنها تتسبب في إهلاك الرعية والعساكر والبلاد والمال. (المنار) قد ذاكرنا بعض الإنكليز هنا في مسألة تعديهم في جهة عدن على العرب مع شدة بأس العرب وعدم أمن من يدخل بلادهم من الفتن والثورات الدائمة فقال: إننا نعلم هذا حق العلم ولا رغبة لنا في فتح شيء من تلك البلاد؛ وإنما جل قصدنا أن تكون عدن في أمن دائم من العرب، وكل ما يكون هناك من المناوشات فسببه اعتداء العرب، والمدافعة ضرورة لا بد منها وهي لا تقف عند حد معلوم.

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (الوجه الثامن والثلاثون) : قولهم: إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يتكلف إيراده؛ وإنما كان يوافقه كما يوافق العالم العالم، وحتى لو أخذ بقوله تقليدًا لعمر فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدها أو كان من عماله وكان عمر أمير المؤمنين وأما مخالفته ففي نحو مائة مسألة: منها: أن ابن مسعود صح عنه أن أم الولد تعتق من نصيب ولدها. ومنها: أنه كان يطبق في الصلاة إلى أن مات، وعمر كان يضع يديه على ركبتيه. ومنها: أن ابن مسعود كان يقول في الحرام: هي يمين. وعمر يقول: طلقة واحدة. ومنها: أن ابن مسعود كان يحرم نكاح الزانية على الزاني أبدًا، وعمر كان يتوّبها وينكح أحدهما الآخر. ومنها: أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها، وعمر يقول: لا تطلق بذلك.. إلى قضايا كثيرة. والعجب أن المحتجّين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر، وتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي أحب إليهم وآثر عندهم، ثم كيف ينسب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول: لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أعلمهم بكتاب الله ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلت إليه. قال شقيق: فجلست في حلقة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما سمعت أحدًا يرد ذلك. وكان يقول: والذي لا إله إلا هو ما من كتاب الله سورة إلا أنا أعلم حيث نزلت وما من آية إلا أنا أعلم فيما أنزلت ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه. وقال أبو موسى الأشعري: كنا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له. وقال أبو مسعود البدري - وقد قام عبد الله بن مسعود - ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك بعده أعلم بما أنزل الله من هذا القائم. فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا ما غِبنا ويؤذَن له إذا حُجبنا. وكتب عمر إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليكم عمارًا أميرًا وعبد الله معلمًا ووزيرًا، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أهل بدر، فخذوا عنهما، واقتدوا بهما، فإني آثركم بعبد الله على نفسي. وقد صح عن ابن عمر أنه استفتى ابن مسعود (في ألبتة) وأخذ بقوله ولم يكن ذلك تقليدًا له؛ بل لما سمع قوله فيها تبيّن له أنه الصواب. فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضًا. وقد صحّ عن ابن مسعود أنه قال: (اغدُ عالمًا أو متعلمًا ولا تكوننَّ إمَّعة) ؛ فأخرج الإمعة وهو المقلد من زُمرة العلماء والمتعلمين، وهو كما قال رضي الله عنه؛ فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعلم والحجة كما هو معروف ظاهر لمن تأمله. (الوجه التاسع والثلاثون) : قولهم: إن عبد الله كان يدَع قوله لقول عمر، وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي. وزيد يدع قوله لقول أُبي بن كعب. فجوابه: أنهم لم يكونوا يدعون ما يعرفون من السنة تقليدًا لهؤلاء الثلاثة كما يفعله فرقة التقليد؛ بل من تأمل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا يدعونها لقول أحد كائنًا من كان وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة. وابن عباس ينكر على من يعارض ما بلغه من السنة بقوله: (قال أبو بكر وعمر) ، ويقول: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. فرحم الله ابن عباس ورضي عنه، فوالله لو شاهد خلَفنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: قال فلان وفلان. لمن لا يداني الصحابة ولا قريبًا من قريب. وإنما كانوا يدعون أقوالهم لأقوال هؤلاء؛ لأنهم يقولون القول ويقول هؤلاء فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم كما يفعل أهل العلم الذين هو أحب إليهم مما سواه، وهذا عكس فرقة أهل التقليد من كل وجه وهذا هو الجواب عن قول مسروق: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس. (الوجه الأربعون) قولهم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قد سن لكم معاذ فاتبعوه) فعجبًا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين الله وهل صار ما سنه معاذ سنة إلا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فاتبعوه) كما صار الأذان سنة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم وإقراره وشرعه لا بمجرد المنام فإن قيل: فما معنى الحديث؟ قيل: معناه أن معاذًا فعل فعلاً جعله الله لكم سنة وإنما صار سنة لنا حين أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا لأن معاذًا فعله فقط وقد صح عن معاذ أنه قال: كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال منافق بالقرآن؛ فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم. وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب، وأما القرآن فإن له منارًا كمنار الطريق لا يخفى على أحد فما علمتم منه فلا تسألوا عنه أحدًا وما لم تعلموه فَكِلُوهُ إلى عالمه، وأما الدنيا فمن جعل الله غناه في قلبه فقد أفلح. ومَن لا فليست بنافعته دنياه، فصدع رضي الله عنه بالحق ونهى عن التقليد في كل شيء وأمر باتّباع ظاهر القرآن وأن لا يبالي بمن خالف فيه. وأمر بالتوقف فيما أشكل وهذا كله خلاف طريقة المقلدين. وبالله التوفيق. (الوجه الحادي والأربعون) : قولكم: إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم الأمراء. وقيل: هم العلماء. وهما روايتان عن الإمام أحمد والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين وطاعتهم من طاعة الرسول لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يطاعون في طاعة الله إذا أمروا بأمر الله ورسوله فكان العلماء مبلغين لأمر الرسول، والأمراء منفذين له فحينئذٍ تجب طاعتهم تبعًا لطاعة الله ورسوله. فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثار التقليد عليها. (الوجه الثاني والأربعون) : أن هذه الآية من أكبر الحجج عليهم وأعظمها إبطالاً للتقليد وذلك من وجوه: أحدها: الأمر بطاعة الله التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه. الثاني: طاعة رسوله ولا يكون العبد مطيعًا لله ورسوله حتى يكون عالمًا بأمر الله ورسوله ومن أقر على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر الله ورسوله وإنما هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة الله ورسوله ألبتة. الثالث: أن أولي الأمر قد نهوا عن تقليدهم كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وغيرهم من الصحابة وذكرناه نصًّا عن الأئمة الأربعة وغيرهم وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال. الرابع: أنه سبحانه قال في الآية نفسها: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ، وهذا صريح في إبطال التقليد والمنع من رد المتنازَع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد. فإن قيل فما هي طاعتهم المختصة بهم؛ إذ لو كانوا إنما يطاعون فيما يخبرون به عن الله ورسوله كانت الطاعة لله ورسوله لا لهم؟ قيل: وهذا هو الحق وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال ولهذا قرنها بطاعة الرسول ولم يعد العامل وأفرد طاعة الرسول وأعاد العامل؛ لئلا يتوهم أنه إنما يطاع تبعًا كما يطاع أولو الأمر تبعًا وليس كذلك بل طاعته واجبة استقلالاً كان ما أمر به ونهى عنه في القرآن أو لم يكن. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الفتاوى الثلاث في لبس قلنسوة أهل الكتاب وأكل ذبائحهم واقتداء الشافعية بالحنفية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الفتاوى الثلاث في لبس قلنسوة أهل الكتاب وأكل ذبائحهم واقتداء الشافعية بالحنفية ذكرنا في الجزء الثامن عشر أنه شاع أن بعض علماء مصر أفتى رجلاً ترنسفاليًّا بجواز لبس القلنسوة التي يلبسها أهل أوربا وتسمى (البرنيطة) وأن بعض الناس أكبر هذه الفتوى جهلاً منهم بالدين، وذكرنا من هداية السنة السَنَيَّةِ ما تَبيّن به أن الإسلام لم يقيد أهله بزي مخصوص؛ لأن الزي من العادات التي تختلف باختلاف حاجات الشعوب وأذواقهم وطبائع بلادهم فهو مباح لهم فلم يكن من حكمة هذا الدين العام لجميع البشر أن يقيد شعوب الأرض كلها بعادة طائفة منهم كأهل الحجاز أو غيرهم؛ ولهذا لبس النبي عليه الصلاة والسلام من لبوس النصارى والمجوس والمشركين كما ثبت في الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إلى بعضها في ذلك الجزء ولذلك ترى للمسلمين في كل قطر زيًّا يشاركهم فيه غالبًا من ليس من دينهم؛ بل أكثر لبوسهم مأخوذ عن النصارى برمته ومنه زي العثمانيين الرسمي كما تقدم. ثم بعد كتابة ما أشرنا إليه رأينا في بعض الجرائد أن الذي أفتى بما ذكر هو مفتي الديار المصرية، وأنه أفتى بفتويين أخريين كانتا أيضًا موضوع لغط الجاهلين الذين لا يعرفون من الدين إلا ما ينسب إليه من العادات والتقاليد الشائعة بين المسلمين في بلادهم خاصة. وقد ذكر في إحدى الجرائد نص الأسئلة التي رفعت إلى المفتي مع أجوبتها، ويقال: إن بعض أصحاب الجرائد اشترى ورقة الفتوى من الترنسفالي بمال كثير لظنه أن فيها ما يثبت مخالفة المفتي في ذلك للمشهور من مذهب الحكومة التي يفتي به الحكومة وللمعروف عند العامة، فيؤاخَذ!! وسعى بعد ذلك في نشرها في الجرائد وانبرت إحداها للرد عليها أو التنويه بخطئها بدعوى المدافعة عن الدين. ولو كان صاحبها يعتقد بأن الفتاوى خطأ كلها أو بعضها لكان الواجب عليه أن لا يصرح بأن إمامًا كبيرًا أفتى بها؛ لأن كثيرًا من الناس في مشارق الأرض ومغاربها يثقون بفتواه ويعملون بها ولا يصدهم عن ذلك أن صاحب جريدة سياسية لم يرضَ بها. فإن كان يرى أن المستفتي معتقد بصحة الفتوى فكان عليه أن يقنعه بعدم صحتها إن قدر. أما الأسئلة التي قدمها الترنسفالي للمفتي فهي بنصها: (1) يوجد أفراد في هذه البلاد تلبس البرانيط لقضاء مصالحهم وعود الفوائد إليهم فهل يجوز ذلك أم لا؟ (2) إن ذبحهم (أي: نصارى الترنسفال) مخالف؛ وذلك لأنهم يضربون البقر بالبلط وبعد ذلك يذبحون بغير تسمية والغنم يذبحونها من غير تسمية أيضًا هل يجوز ذلك أم لا؟ (3) إن الشافعية يصلُّّون خلف الحنفية بدون تسمية ويصلون خلفهم العيدين ومن المعلوم أن هناك خلافًا بين الشافعية والحنفية في فرضية التسمية وفي تكبيرات العيدين فهل تجوز صلاة كلٍّ خلف الآخر أم لا؟ هذا نص الأسئلة كما نشرتها الجرائد. فأما المسألة الأولى فقد علمت ما فيها. وأما الثانية فظاهر السؤال أنه عن جواز فعلهم وليس من شأن المسلم أن يبحث عن أفعال غير المسلمين في نفسها، فلا بد أن يكون المراد الاستفهام عن جواز أكل المسلم من تلك الذبائح، وقد أفتى المفتي بالجواز واستدل عليه بالآية وهو موافق في ذلك للجماهير من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين كما ستعلم ذلك بنصوصه. وأما المسألة الثالثة ففتواه فيها بالجواز موافق لعمل سلف الأمة الصالح بلا استثناء، وإنما استنكرها الجاهلون؛ لأن بعض الفقهاء من الحنفية والشافعية حكى في ذلك خلافًا مبنيًّا على استنباطاتهم المعروفة الناشئة عن التعصب للمذاهب الذي يفرق بين المسلمين ويجعلهم شيعًا، كل شيعة تبطل عبادة الأخرى وكأنهم يرون أن يكون لكل أهل مذهب مساجد خاصة بهم كالنصارى: وكل خير في اتباع مَن سلف ... وكل شر في ابتداع مَن خلف كان الإمام أحمد يرى الوضوء في الفصد والحجامة والرعاف فقيل له: فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ هل تصلي خلفه؟ فقال: كيف لا أصلي خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب؟ هكذا كان السلف الصالحون، حتى جاء الخلف المتعصبون المفرقون، ولكن سَورة التعصب للمذاهب قد سكنت في هذا العصر لذلك لا يرى المفسدون وجهًا للغط في هذا الجواب. * * * طعام أهل الكتاب أما مسألة ذبيحة أهل الكتاب فهي التي أكثرت اللغط فيها الجريدة السياسية والسؤال ناطق بأن أهل تلك البلاد (الترنسفال) يذبحون البقر بعد ضربها بالبلطة ولكن موضع المخالفة لبعض المسلمين أنهم لا يذكرون اسم الله عليها. والمفتي أفتى بالأخذ بنص آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) ؛ فقد قال الله هذا بعد آية تحريم الميتة، وأحل طعامهم وهو يعلم ما يقولون عند الذبح ويعلم ما يعتقدون بعُزَيْرٍ والمسيح. وإننا ننقل بعض كلام أئمة السلف من الصحابة والتابعين في ذلك ثم نأتي بفقه الدين في تحريم الميتة وما أُهل به لغير الله فنقول: جاء في تفسير الآية من كتاب (فتح البيان في فهم مقاصد القرآن) ما نصه: (والحاصل أن حل الذبيحة تابع لحل المناكحة على التفصيل المقرر في الفروع. والطعام اسم لما يؤكل ومنه الذبائح وذهب أكثر أهل العلم إلى تخصيصه هنا بالذبائح ورجحه الخازن. وفي هذه الآية دليل على أن جميع طعام أهل الكتاب من اللحم وغيره حلال عند المسلمين وإن كانوا لا يذكرون اسم الله على ذبائحهم وتكون هذه الآية مخصصة لعموم قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 121) ، وظاهر هذا أن ذبائح أهل الكتاب حلال وإن ذكر اليهودي على ذبيحته اسم عزير وذكر النصراني على ذبيحته اسم المسيح، وإليه ذهب أبو الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس والزهري وربيعة والشعبي ومكحول. وقال علي وعائشة وابن عمر: إذا سمعت الكتابي يسمي غير الله فلا تأكل. وهو قول طاوس والحسن وتمسكوا بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 121) . ويدل عليه أيضًا قوله:] وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ [وقال مالك: إنه يُكره ولا يُحرم. وسئل الشعبي وعطاء عنه فقالا: يحل فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. فهذا الخلاف إذا علمنا أن أهل الكتاب ذكروا على ذبائحهم اسم غير الله. وأما مع عدم العلم فقد حكى الكيا الطبري وابن كثير الإجماع على حلها لهذه الآية ولما ورد في السنة من أكله (صلى الله عليه وسلم) من الشاة المصلية التي أهدتها إليه اليهودية وهو في الصحيح وكذلك جراب الشحم الذي أخذه بعض الصحابة من خيبر وعلم بذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو في الصحيح أيضًا وغير ذلك) . ثم ذكر أهل الكتاب مَن هم واستثناء سيدنا علي بني تغلب منهم؛ لأنهم من العرب الذين لم يأخذوا من النصرانية إلا شرب الخمر وذكر الخلاف في المجوس ونقل بعد ذلك عن القرطبي أنه قال: (قال جمهور الأمة: إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم وكذلك اليهود) وفي تفسير ابن جرير نحو ما تقدم ومنه روايات عن الصحابة بحل ما ذبحه النصارى للكنائس عملاً بعموم الآية. فعلم من هذه النقول أن ذبائح أهل الكتاب حِل عند جماهير المسلمين وإن لم يكن ذبحها على الطريقة الإسلامية؛ بل وإن كانت على خلاف الطريقة الإسلامية عملاً بإطلاق الآية الكريمة التي هي آخر ما ورد في الأكل نزولاً وبذلك استدل مفتي الديار المصرية وقال في نصارى الترنسفال: إنهم من أشد النصارى تعصبًا في دينهم وتمسكًا بكتبهم ثم قال: (ومجئ الآية الكريمة: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) من بعد آية تحريم الميتة: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (المائدة: 3) بمنزلة دفع ما يتوهم من تحريم طعام أهل الكتاب؛ لأنهم يعتقدون بألوهية عيسى وكانوا كذلك كافة في عهده عليه الصلاة والسلام إلا مَنْ أسلم منهم. ولفظ (أهل الكتاب) مطلق لا يصح أن يحمل على هذا القليل النادر فإذًا تكون الآية كالصريح في حل طعامهم مطلقًا كما كانوا يعتقدونها حلاًّ في دينهم دفعًا للحرج في معاشرتهم ومعاملتهم) . اهـ وهو موافق للنقول التي قال بها جماهير الأئمة كما تقدم. * * * الفقه في تحريم الميتة وكيفية التذكية {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) . وألحق في آية المائدة بالميتة ما في حكمها مما مات بغير قصد التذكية وهو المنخنقة بدخول رأسها بين عودين أو في حبل ونحو ذلك والموقوذة وهي التي ضُربت بعصا أو حجر غير محدد ولا بقصد الذبح حتى انحلت قوتها وماتت والمتردية من شاهق، والنطيحة أي التي تموت بالمناطحة وما أكل السبع، قال تعالى بعد ذكر هذه الأنواع: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: 3) ؛ أي: ما أدركتم فيه حياة فذكيتموه بالقصد ثم قال: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} (المائدة: 3) وهي أحجار كانوا يذبحون عليها للأصنام. فأما تحريم ما أهل لغير الله به فهو أشد المحرمات تحريمًا؛ لأن علة تحريمه تتعلق بحفظ جوهر الإيمان؛ لأن ذكر اسم غير الله مما يعتقد على الذبيحة ضرب من الوثنية وعمل المشركين، وأما الميتة فقد قيل: إن علة تحريمها أن احتباس الدم فيه يجعل أكلها ضارًا وهو تعليل ينافي إطلاقه علم الطب كما ينافيه الكتاب والسنة الصحيحة في الإذن بأكل الصيد تصيده بالجوارح فيموت من غير تذكية وكذلك صيد اليد بشرطه قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (المائدة: 4) أي: ما أحضره الكلب ونحوه لصاحبه ولم يأكل منه روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك فعلى نفسه) ، وفي رواية لهم أن عديًا قال: قلت: وإن قتلن: قال (وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها) قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيد؟ قال: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكُلْه وإن أصبته بعرضه فلا تأكله) ، وقد اختلف في تفسير المعراض فقيل هو سهم لا نصل له ولا ريش وقيل هو خشبة ثقيلة في آخرها عصا محدد رأسها وقيل هو عصا في طرفها حديدة وكأنه كان يطلق على هذه الأشياء، وكانوا يرمون الصيد بها والمراد بالخزق الخدش فإذا جرحت هذه العصا الصيد فمات حل أكله. وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة والحكم مجمع عليه إلا أن أحمد وإسحق منعا الصيد بالكلب الأسود البهيم وفي رواية من حديث عدي متفق عليها أيضًا أنه قال عليه السلام: (إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيًّا فاذبحه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة) ومذهب الشافعي أنه إذا أكل منه بعد إحضاره يحل. وروى أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي ثعلبة الخُشني قال: (إذ رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن) وروى البخاري والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة أن قومًا قالوا: يا رسول الله إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذُكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: (سمّوا عليه أنتم وك

شبهة على الوحي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهة على الوحي (س1) أحد قراء المنار بمصر: حضرة الأستاذ الرشيد - عرضت لي شبهات في وقوع الوحي (وهو أساس الدين) فعمدت إلى رسالة التوحيد للشيخ محمد عبده حيث وقع اختياري عليها وقرأت في بابي (حاجة البشر إلى الوحي) و (إمكان الوحي) فوجدت الكلام وجيهًا معقولاً غير أن الحاجة إلى الشيء لا تستلزم وقوعه وكذا إمكانه وعدم استحالته عقلاً لا يقتضي حصوله. ثم ما ذكر بعد من أن حالة النبي وسلوكه بين قومه وقيامه بجلائل الأعمال وبوقوع الخير للناس على يده هو دليل نبوته وتأييد بعثته فليس شيئًا، فإنه قد يكون (كون) النبي حميد السيرة في عشيرته صادقًا في دعوته - أعني معتقدًا في نفسه - سببًا في نهوض أمته ولا يكون كل ذلك مدعاة إلى الاعتقاد به والتسليم له. ولقد حدث بفرنسا في القرن الخامس عشر الميلادي؛ إذ كانت مقهورة للإنكليز أن بنتًا تُدعى (جان دَارْك) من أجمل النساء سيرةً وأسلمهن نيةً اعتقدت وهي في بيت أهلها بعيدة عن التكاليف السياسية أنها مرسلة من عند الله لإنقاذ وطنها، ودفع العدو عنه وصارت تسمع صوت الوحي فأخلصت في الدعوة للقتال وتوصلت بصدق إرادتها إلى رئاسة جيش صغير وغلبت به العدو فعلاً ثم ماتت غب نصرتها موتة الأبطال من الرجال؛ إذ خذلها قومها ووقعت في يد عدوها فألقوها في النار حية فذهبت تاركة في صحائف التاريخ اسمًا يعبق نشره وتضوع رياه. وهي الآن موضع إجلال القوم وإعظامهم فلقد تيسرت لهم النهضة بعدها وجروا في العلم والرقي بعيدًا فهل نجزم لذلك أن تلك البنت نبية مرسلة؟ ! ... ربما تذهبون إلى أن عملها لا يذكر مقارنًا بما أتت به الرسل وما وصل للناس من الخير بسببهم فأقول: هل هناك من ميزان نزن به الأعمال النافعة لنعلم إن كانت وصلت إلى الدرجة التي يجب معها أن نصدق دعوة صاحبها وهل لو ساعدت الصدف (كذا) رجلاً على أن يكون أكبر الناس فعلاً وأبقاهم أثرًا واعتقد برسالة نفسه لوهم قام يفضي بنا ذلك إلى التيقن من رسالته؟ ! أظن أن هذا كله مضافًا لغيره يدعو إلى الترجيح ولا يستلزم اليقين أبدًا على أنني أنتظر أن تجدوا في قولي هذا خطأً تقنعونني به أو تزيدونني إيضاحًا ينكشف به الحجاب وتنالون به الثواب. هذا، وإني أعلم من فئة مسلمة ما أعلمه من نفسي ولكنهم يتحفظون في الكتمان ويسألون الكتب خشية سؤال الإنسان ولكنني لا أجد في السؤال عارًا وكل عقل يخطئ ويصيب ويزلّ ويستقيم. (أحد قرائكم) . (جواب المنار) لقد سَرَّنَا من السائل أنه على تمكن الشبهة من نفسه لم يذعن لها تمام الإذعان فيسترسل في تعدي حدود الدين إلى فضاء الأهواء والشهوات التي تفسد الأرواح والأجسام بل أطاع شعور الدين الفطري ولجأ إلى البحث في الكتب ثم السؤال ممن يظن فيهم العلم بما يكشف الشبهة ويقيم الحجة، وإن كثيرًا من الناس شبوا على حب التمتع والانغماس في اللذة ويرون الدين صادًّا لهم عن الانهماك والاسترسال فيها، فهم يحاولون إماتة شعوره الفطري. كما أمات النشوء في الجهل برهانه الكسبي. أرى السائل نظر من رسالة التوحيد في المقدمات ووعاها ولكنه لم يدقق النظر في المقاصد والنتائج لذلك تراه مسلّمًا بالمقدمات دون النتيجة مع اللزوم بينهما ولو عاد إلى مبحث (حاجة البشر إلى الرسالة) وتدبره وهو مؤمن بالله وأنه أقام الكون على أساس الحكمة البالغة والنظام الكامل، فإنني أرجو له أن يقتنع. ثم إنني آنست منه أنه لم يقرأ مبحث (وقوع الوحي والرسالة) أو لعله قرأه ولم يتدبره فإنه لم يذكر البرهان على نفس الرسالة ويبني الشبهة عليه وإنما بناها على جزء من أجزاء المقدمات وهي القول في بعض صفات الرسل عليهم السلام. وإنني أكشف له شبهته أولاً فأبين أنها لم تصب موضعها ثم أعود إلى رأيي في الموضوع. إن (جان درك) التي اشتبه عليه أمرها بوحي الأنبياء لم تقُم بدعوة إلى دين أو مذهب تدعي أن فيه سعادة البشر في الحياة وبعد الموت كما هو شأن جميع المرسلين ولم تأتِ بآية كونية ولا علمية لا يعهد مثلها من كسب البشر تتحدى بها الناس ليؤمنوا بها، وإنما كانت فتاة ذات وجدان شريف هاجه شعور الدين وحرَّكته مزعجات السياسة؛ فتحرك، فنفر، فصادف مساعدة من الحكومة واستعدادًا من الأمة للخروج من الذل الذي كانت فيه، وكان التحمس الذي حركته سببًا للحملة الصادقة على العدو وخذلانه. وما أسهل تهييج حماسة أهل فرنسا بمثل هذه المؤثرات وبما هو أضعف منها فإن نابليون الأول كان يسوقهم إلى الموت مختارين بكلمة شعرية يقولها ككلمته المشهورة عند الأهرام. وأذكِّر السائل الفطن بأنه لم يوافق الصواب في إبعاد الفتاة عن السياسة ومذاهبها فقد جاء في ترجمتها من دائرة المعارف ما نصه: كانت متعودة الشغل خارج البيت كرعي المواشي وركوب الخيل إلى العين ومنها إلى البيت وكان الناس في جوار دومرمي (أي: بلدها) متمسكين بالخرافات ويميلون إلى حزب أورليان في الانقسامات التي مزقت مملكة فرنسا وكانت جان تشترك في الهياج السياسي والحاسة الدينية وكانت كثيرة التخيل والورع تحب أن تتأمل في قصص العذراء وعلى الأكثر في نبوءة كانت شائعة في ذلك الوقت وهي أن إحدى العذارَى ستخلص فرنسا من أعدائها. ولما كان عمرها 13 سنة كانت تعتقد بالظهورات الفائقة الطبيعة وتتكلم عن أصوات كانت تسمعها ورؤى كانت تراها، ثم بعد ذلك ببضع سنين خُيل لها أنها قد دُعيت لتخلص بلادها وتتوج ملكها، ثم أوقع البرغنيور تعديًا على القرية التي وُلدت فيها، فقوى ذلك اعتقادها بصحة ما خُيل لها، ثم ذكر بعد ذلك توسلها إلى الحكام وتعيينها قائدة لجيش ملكها وهجومها بعشرة آلاف جندي، ضباطهم ملكيون على عسكر الإنكليز الذين كانوا يحاصرون أرليان وأنها دفعتهم عنها حتى رفعوا الحصار في مدة أسبوع وذلك سنة 1429. ثم ذكر أنها بعد ذلك زالت خيالاتها الحماسية؛ ولذلك هوجمت في السنة التالية سنة (1430) فانكسرت وجُرحت وأسرت. فمن ملخص القصة يعلم أن ما كان منها إنما هو تهيج عصبي، سببه التألم من تلك الحالة السياسية التي كان يتألم منها مَن نشأت بينهم مع معونة التحمس الديني والاعتقاد بالخرافات الدينية التي كانت ذائعة في زمنها. وهذا شيء عادي معروف السبب وهو من قبيل الذين يقومون باسم المهدي المنتظر كمحمد أحمد السوداني والباب؛ بل الشبهة في قصتها أبعد من الشبهة في قصة هذين الرجلين وإن كانت أسباب النهضة متقاربة فإن هذين كانا كأمثالهما يدعوان إلى شيء يزعمان أنه إصلاح للبشر في الجملة. أين هذه النوبة العصبية القصيرة الزمن، المعروفة السبب، التي لا دعوة فيها إلى علم ولا إصلاح اجتماعي إلا المدافعة عن الوطن عند الضيق التي هي مشتركة بين الإنسان والحيوان الأعجم، التي لا حجة تدعمها، ولا معجزة تؤيدها، التي اشتعلت بنفخة وطفئت بنفخة، أين هي من دعوة الأنبياء التي بيَّن الأستاذ الإمام أنها حاجة طبيعية من حاجات الاجتماع البشري طلبها هذا النوع بلسان استعداده فوهبها له المدبر الحكيم {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) ؛ فسار الإنسان بذلك إلى كماله فلم يكن أدنى من سائر المخلوقات الحية النامية بل أرقى وأعلى. وأين دليلها من أدلة النبوة وأين أثرها من أثر النبوة؟ إن الأمم التي ارتقت بما أرشدها إليه تعليم الوحي إنما ارتقت بطبيعة ذلك التعليم وتأثيره وإن فرنسا لم ترتقِ بإرشاد (جان درك) وتعليمها وإنما مثلها مثل قائد انتصر في واقعة فاصلة بشجاعته وبأسباب أخرى ليست من صنعه واستولت أمته بسبب ذلك على بلاد رقتها بعلوم علمائها وحكمة حكمائها وصنع صناعها ولم يكن القائد يعرف من ذلك شيئًا ولم يرشد إليه فلا يقال: إن ذلك القائد هو الذي أصلح تلك البلاد وعمرها ومدنها، وإن عدّ سببًا بعيدًا فهو شبيه بالسبب الطبيعي كهبوب ريح تهيج البحر فيغرق الأسطول وتنتصر الأمة. أين حال تلك الفتاة التي كانت كبارقة خفت (ظهرت وأومضت) ثم خفيت، وصيحة علت ولم تلبث أن خفتت، من حال شمس النبوة المحمدية التي أشرقت فأنارت الأرجاء، ولا يزال نورها ولن يزال متألق السناء، أمي يتيم قضى سن الصبا وسن الشباب هادئًا ساكنًا لا يعرف عنه علم ولا تخيل ولا وهم ديني ولا شعر ولا خطابة ثم صاح على رأس الأربعين بالعالم كله صيحة: إنكم على ضلال مبين، فاتبعونِ أهدكم الصراط المستقيم، فأصلح - وهو الأمي - أديان البشر: عقائدها وآدابها وشرائعها وقلب نظام الأرض، فدخلت بتعليمه في طور جديد؟ لا جرم أن الفرق بين الحالين عظيم إذا أمعن النظر فيه العاقل. لا سعة في جواب سؤال لتقرير الدليل على النبوة وإنما أحيل السائل على التأمل في بقية بحث النبوة في رسالة التوحيد ومراجعة ما كتبناه أيضًا من الأمالي الدينية في المنار، لا سيما الدرس الذي عنوانه (الآيات البينات على صدق النبوات) وإن كان يصدق على رسالة التوحيد المثل: (كل الصيد في جوف الفرا) فإن بقي عنده شبهة فالأولى أن يتفضل بزيارتنا لأجل المذاكرة الشفاهية في الموضوع فإن المشافهة أقوى بيانًا، وأنصع برهانًا، ونحن نعاهده بأن نكتم أمره وإن أبى فليكتب إلينا ما يظهر له من الشبهة على ما في الرسالة والأمالي من الاستدلال على وقوع النبوة بالفعل وعند ذلك نسهب في الجواب بما نرجو أن يكون مقنعًا على أن المشافهة أولى كما هو معقول وكما ثبت لنا بالتجربة مع كثير من المشتبهين والمرتابين.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه! (س2) الشيخ محمد حلمي أستاذ العربية بمدرسة سواكن الأميرية: ضمني وبعض العلماء مجلس ودار بيننا الحديث في مرتبة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء وآل البيت بعد الممات وهل هم قادرون على إجابة دعوة الداع إذا دعاهم وهل يملكون لأنفسهم نفعًا أو ضرًّا وفي: (لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه) ! هل هو حديث صحيح ومذكور في البخاري وفي الجامع الصغير. فقلت أنا بالسلب في الكل وقالوا هم بالإيجاب، وقد رأينا أن نكتب لجنابكم لتأتوا لنا في مجلتكم (المنار) بفصل الخطاب؛ فإنك نِعم الحكم الذي تُرضى حكومته، ولكم من الله الأجر ومنا الشكر. (ج) دعوة غير الله تعالى شرك ونعني بها اللجأ إلى غيره في طلب ما وراء المساعدة والمعاونة الكسبية التي تكون بين الناس عادة: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقد أمر الله نبيه أن يبين للناس عمل الرسل ووظيفتهم بقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ 000} (الجن: 20-23) إلخ، قال البيضاوي وغيره في تفسير قوله:] ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا [أي: لا ضرًّا ولا نفعًا ولا غيًّا ولا رشدًا (عبّر عن أحدهما باسمه وعن الآخر باسم سببه أو مسببه إشعارًا بالمعنيين) ، أو هذا هو الذي يسميه البُلغاء (الاحتباك) ومنه قوله تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} (الإِنسان: 13) ؛ أي: شمسًا ولا قمرًا ولا حرًّا ولا زمهريرًا. وقالوا في قوله] إلا بلاغًا [: إنه استثناء من قوله: (لا أملك) ؛ أي: لا أملك إلا التبليغ والله الفاعل المؤثر الذي ينفع الناس ويرشدهم بالفعل. وهذه الآية بمعنى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (فصلت: 6) وما في معناها من آيات حصر وظيفة الأنبياء في التبليغ وقد شرحنا المقام مرارًا كثيرة. وأما الحديث فقد جاء في كتاب (اللؤلؤ المرصوع) ، فيه ما نصه: حديث (لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه) موضوع كما قاله ابن تيمية. وقال ابن الجوزي: هو من كلام عُبّاد الأصنام. اهـ ومن أعجب العجائب أن أمة التوحيد قد فشا فيها هذا الحديث المفترى منذ فشت فيهم نزغات الوثنية ودعاء غير الله حتى إن كل عامي يحفظه، ولما نبهنا على وضعه في درسنا العام في المسجد الحسيني وبينا فساد الاحتجاج به قام بعض السدنة لتلك الهياكل يغري العامة بالقول بأننا نفسد لهم دينهم أن قلنا - في عمود الرخام الذي في المسجد يتمسح به الناس ويلتمسون نفعه -: إنه لا ينفع في الحقيقة ولا يضر وأن النافع الضار هو الله وحده ولكنه جعل للنفع والضر أسبابًا وهدانا لاجتناب الضار واجتلاب النافع بما وهب لنا من العقل والحواس والدين، وعَمَّ اللغط بذلك، حتى نصرنا الله رب العالمين. * * * الدعاء بين الخطبتين (س3) الشيخ مبين شيخ رواق الأفغان في الأزهر: ما قولكم دام فضلكم في رفع اليدين والصوت وتشويش الناس بالدعاء عند جلوس الإمام على المنبر بين الخطبتين في يوم الجمعة كما هو رسم في زماننا فهل هو سنة أو مندوب أو بدعة أو مكروه؟ وحديث عبد الله بن سلام أصح من حديث أبي موسى الأشعري في تعيين الساعة التي يجاب فيها الدعاء. بينوا تؤجروا أثابكم الله. (ج) حديث أبي موسى الذي يشير إليه السائل هو أن النبي عليه السلام يقول في ساعة الجمعة: هي ما بين أن يجلس الإمام - يعني على المنبر - إلى أن يقضي الصلاة. رواه مسلم وأبو داود وقد أعلوه مع ذلك بالانقطاع والاضطراب؛ أما الأول: فلأن مخرمة بن بكير راويه عن أبيه قد نقل عنه أنه قال: إنه لم يسمع من أبيه شيئًا. وأما الثاني: فهو أنهم قالوا: إن أكثر الرواة قد جعلوا هذا الحديث من قول أبي بردة مقطوعًا وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه بردة ... إلخ ما قالوه وقد استدركه الدارقطني على مسلم. وأما حديث عبد الله بن سلام فهو ناطق بأن الساعة التي يجاب فيها الدعاء هي آخر ساعة من النهار وقد رواه ابن ماجه مرفوعًا ورواه مالك وأصحاب السنن وغيرهم من طريق محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن عبد الله بن سلام من قوله ورجاله رجال الصحيح وفي معناه أحاديث أخرى تؤيده ويعارضها حديث أبي سعيد عند أحمد وابن خزيمة والحاكم وهو أنه سأل النبي عنها فقال: (قد كنت علمتها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر) ورجاله رجال الصحيح أيضًا، وأجيب عنه بأنه لا يصلح للمعارضة لجواز أن يكون ذكر بعد ما نسي. وللعلماء في تعيين ساعة الإجابة أربعون قولاً ونيف والأكثرون على ترجيح أحد الحديثين المشار إليهما في السؤال، والأرجح أنها آخر ساعة من نهار الجمعة والمراد بالساعة الزمانية وتصدق بدقيقة أو دقائق. أما رفع اليدين والأصوات بالدعاء عند جلوس الخطيب بين الخطبتين فلا نعرف له سنة تؤيده ولا بأس به لولا التشويش وأنهم جعلوه سنة متبعة بغير دليل والمأثور طلب السكوت إذا صعد الإمام المِنبر، وإنما السكوت للسماع؛ لذلك نقول: لا بأس بالدعاء في غير وقت السماع، ولكن يدعو خُفية، لا يؤذي غيره بدعائه ولا يرفع كل الناس أيديهم، فيكون ذلك شعارًا من شعائر الجمعة بغير هداية من السنة فيه؛ بل إنهم يخالفون صريح السنة؛ إذ يقوم الإمام ويشرع في الخطبة الثانية وهم مستمرون على دعائهم، فأَولى لهم سماع وتدبر وقت الخطبة وفكر وتأثر وقت الاستراحة وأهون فعلهم هذا أن يكون بدعة مكروهة والله أعلم. * * * منصب شيخ الإسلام وتاريخه (س4) : من أ. ع. بالأزهر: يقرع الأسماع كثيرًا لفظ (شيخ الإسلام) فهل هذا اللفظ مما اصطلح عليه المسلمون وله مدخل في شأنهم ويعتبر من الوظائف الدينية التي يوجبها الشرع أم هذا لفظ وضعي لا مساس له بالشرع؟ ومَن أول من اخترعه. نرجو الجواب ولكم الأجر والثواب. (ج) : إن هذا اللقب من الألقاب الحادثة لمنصب حادث ووظيفة شيخ الإسلام في الدولة العثمانية الفتوى الرسمية؛ فهو المفتي الأكبر في المملكة وأحد أعضاء مجلس الوزراء وقد وضع الملوك هذا المنصب بعد ما صارت أمور المسلمين في أيدي الجاهلين بالشرع من السلاطين وأعوانهم الوزراء فمن دونهم وكانوا محتاجين إلى من يفيدهم حكم الشرع في بعض ما يعرض لهم في سياستهم للأمة لا سيما قبل أن يستبدلوا القانون بالشرع في كثير من أحكامهم. وكان اختراع هذا اللقب في أوائل القرن التاسع زمن السلطان مراد خان الثاني الذي ولي السلطنة في الثامنة عشرة من سنه وقد وليه في زمنه محمد شمس الدين 828 وفخر الدين العجمي سنة 834 وشيخ الإسلام في الدولة هو الذي يولي القضاة والمفتين في المملكة كلها بإذن السلطان، هذا هو اللقب الرسمي والعلماء كانوا يطلقونه على البارعين في علم السنة وفقه الدين كابن تيمية والعز بن عبد السلام ويطلقونه في مصر على شيخ الجامع الأزهر.

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع قد سمعنا أقوال الناس في أنساب الشعوب، ولكل أمة أساطير تحكيها في أصلها ونسبها وتنتحل لها من الفضل والتميُّز ما تنتحل. وكل الذي زعموه خيال لا يصح و (كذب النسابون) . أما هؤلاء البحاثة النسَّابة من الأوربيين وهم أمثل النسابين في هذا العهد لإنعامهم في التدقيق وإمعانهم في التحقيق فإنهم يذهبون إلى أن القرابة القريبة إنما تعرف بتقارب اللغات. وقد يصح هذا لو كان لنا ثقة بأن الأقوام المتباعدة لم يطرأ على ألسنتهم تغييرات توجب فيها قربًا من ألسنة البعداء وبعدًا من ألسنة القرباء ولكن أنى لنا تلكم الثقة؟ وههنا نكتة كنا نود أن يسلم منها هؤلاء المحققون وهي نسبة العترة المتولدة من والدين مختلفي القبائل إلى قبيلة الأب من دون الأم. فما الداعي أن نقول: فلان ابن فلان حتى نوصله إلى أصل قبيلة ذي الصلب المشكوك ولا نقول: فلان ابن فلانة حتى نوصله إلى قبيلة ذات الرحم المتيقن؟ ولكن سرى لهؤلاء التقليد أيضًا وخلطوا ما قبل التاريخ بما بعد التاريخ؛ إذ قالوا: أصول البشر: (1) الساميون (2) والإريانيون و (3) التورانيون ثم ألحقوا كل جيل من الشعوب الحاضرة بأصل من هذه الأصول. وإن نتبع الظن كما اتبعه غيرنا فإني لا أرى من قرابة للأجيال قريبة إلا باعتبار تقارب المقرّات التي تفرق فيها البشر وهذا الرأي يعرفنا بقربى شعوب الأرض من بعضهم فيما قبل تعريفًا يوصلنا إلى ما بعد. ويعطينا قاعدة نعتقد فيها بقرابات الشعوب الحاضرة اعتقادًا جديدًا غير اعتقاد أولئك النسابين ومقلديهم. وهي أن العبرة بآخر دور من المزيج وهذا يتحقق بتقارب المقر لا بتقارب اللغة، فكم نعلم من فئة هاجرت من ديارها وحلت في ديار أخرى وتغذت من مواليدها وتزوجوا بنسائها، ثم تغذت أولادهم من مواليدها وتزوجوا بنسائها فلم يلبثوا بطونًا قليلة حتى صارت أعقابهم بعضًا من الذين هاجروا إليهم في اللون وتركيب البنى. فأي الفريقين أقرب إلى هؤلاء؟ آلذين هاجروا عنهم لتقارب لغاتهم، أم الذين هاجروا إليهم لامتزاجهم بها وتقارب أبدانهم واشتراكها في التركب من مواليد أرض واحدة؟ ولِمَ لا ننسب أولاد المهاجرين المتولدين من بنات المهاجر إليهم إلى قبيلة أمهاتهم؟ هذا إن حافظوا على أصل لغتهم أو أبقوا القرابة بينها وبين تلك، وقد يكون هذا إن كان المهاجرون كثيرين كالعرب الذين هاجروا - قبل الإسلام - من الجنوب إلى الشمال وكالأوربيين الذين هاجروا - قبل التمدن - من الشمال إلى الجنوب. وأما إذا لم يحافظوا على اللسان - وهو كثير - فهل تجدون لهم قريبًا غير مَن هاجروا إليهم ثم امتزجوا بهم؟ على أنه ما من أمة اختلطت بغيرها وأخذت منها إلا وتعطيها كما أخذت؛ فإن أمة هاجرت وأخذت من المهاجر إليهم ألفاظًا وبيانات، حتى خالفت من هاجرت عنهم بعض المخالفة فإنها تعطيهم ألفاظًا وبيانات من عندها حتى يوافق من هاجروا إليهم لمن هاجروا عنهم بعض الموافقة، ثم قد تحدث أسباب تجعل هذا القليل من المخالفة أو الموافقة كثيرًا. وإنما التزمنا التعرض لهذا المبحث؛ لأن كلامنا في هذا الباب استدعى بيان ما هو الأقدم من أحوال البشر؛ لتفيدنا معرفة تقلبه في الأطوار والأدوار معرفة ما هو الأنسب الراجح من سننه، فإن الأنسب البقاء وبمثله يكون الارتقاء والمرجوح منه ما باد، ومنه ما سيبيد بهمة المتفكرين. وبالذي حررناه ينجلي لكم أن رابطة القومية قد أسسها قصد التعاون من بعد تفرق الأزواج في كل مغار، فهو الذي جمع أبناءً من أزواج متعددين على رابطة معناها قانون يحكم فيه بتكافل القرباء وتوحيد مصالحهم التي هي بالنسبة إلى غيرهم. وقد رضخ البشر لهذا القانون الصناعي المادي حتى ظنه الظانون طبيعيًّا روحيًّا فيئسوا من معالجة المرضى بالتعصبات التي لم تأذن بها الإنسانية (هي المعنى المخلوق لأجله الإنسان) ويدلنا على كونه غير طبيعي كثرة ما يدعو اختلاف المصالح بين القرباء إلى تبعيدهم وتقريب البعداء. وكم علمنا من حوادث جرت على هذه السنن. وليس بعيدًا عهد المستعينين بالمماليك وهم أبعد البعداء على سراة أمتهم وخواص أسرتهم وهم أقرب القرباء، وسواء كان المستعينون بالغريب على القريب مدافعين أو مهاجمين فكلتا الحالتين تهدياننا إلى وقوع تعاد بين القرباء يوقع الفرقة والتِّرَة، وحدوث تعاون بين البعداء يحدث الصلة والفرة. وهذا يهدينا إلى أن الأصل صناعي لا طبيعي. ولعل الذين يرون رسوخ ذلك الرضوخ لذلك القانون (رابطة القومية) طبيعيًّا، إنما يبنون ظنهم على أن قرابة الأبدان توجب قرابة الأفكار والقلوب. وهو ظن ليس ببعيد؛ بل يتبادر إلى ذهن كل امرئ، بيد أن إنعام النظر يهدي إلى أن الحس يخطئ هذا الظن؛ وذلك أننا نجد أخص قرابة وهي قرابة الأولاد من الوالدين لا توجب قرابة الأفكار والقلوب إلا إذا كانت أفكار الأولاد مأسورة بيد الوالدين أو أحدهما وهو الأكثر. والبداهة تشهد أن هذه القرابة الفكرية على هذا الوجه صناعية أيضًا. ومن المشاهَد أن الذين خلصوا من هذا الأسر قد بعدوا بأفكارهم عن أفكار والديهم بعدًا شاسعًا. ومن العجب أن هؤلاء الخالصين من ذلك الأسر على قلتهم وانفرادهم في أممهم كانوا هم المغيرين لعادات البشر وأخلاقهم. والتغيرات التي حدثت في النوع هي الدرجات التي تنقل فيها حتى بلغ هذا اليوم وشعوبه وأجياله متفاوتة هذا التفاوت. بل نحن نجهر بما أخفى من هذا وهو أن البشر قبل أن يرتقوا (أي: قبل أن تحدث لهم روابط أخرى غير رابطة القومية) لم تكن رحمتهم لأولادهم طبيعية لعلة أنهم أجزاء منهم، وأقرب الأغيار إليهم، وأمانة عظمى في أيديهم، بل كانت رحمتهم طبيعية لعلة أنها لازمة من اللوازم العامة فلم يكُ من فرق بينها وبين تلك الرحمة الموجودة عند الحيوان مادام مولوده صغيرًا محتاجًا للرحمة. وتظهر الثمرة من اختلاف العلتين في نقصها متى كبر أو فقدانها إلا أن تنقلب إلى معنى آخر فيكون الحكم لذلك المعنى لا لها. وذلك المعنى قد يكون الأمل بأن يكون عونهما يوم يكونان ضعيفين ويكون قويًّا وقد يكون حنين النفس إلى ما ألفته بواسطة التربية. ومألوف النفس مرحوم عندها ومحبوب ومولوه به. وقد تألف النفس جمادًا أو نباتًا أو حيوانًا فيكون لديها أعز من الولد. ولا سيما إذا شارك الألفة شيء من التربية؛ لأن من جملة حب الذات حب صنعتها وإلا لما صنعت والتربية من الصنعة؛ بل هي أم الصنائع لأن في معناها التزييد وهو روح الصنع. فالأمل هو الذي يجعل الأبناء أعز وأحب من البنات؛ بل فقده هو الذي كان يجعل البنات حملاً ثقيلاً يجب الإسراع بطرحه كمثل أولئك الذين كانوا يئدونهن فلو كانت رحمتهم للأولاد لتلك العلة المظنونة (علة كونهم أجزاء من الوالدين وأمانة كبيرة عندهما) لما كان هذا الفرق. ولما كان فرق أيضًا بين أولاد الأبناء وأولاد البنات وإنك لتراهم يفرقون. قال قائل منهم: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد والأمل هو الذي يكثر الحب والرحمة للأولاد إذا قلوا ولا سيّما إذا كان الوليد وحيدًا ويقلله إذا كثروا. والتربية هي التي تجعل الصغير أعز من الكبير غالبًا عند الأمهات. والذكر أعز من الأنثى لدى الآباء. والتربية هي التي تجعل المربى البعيد من الإنسان في حكم الولد. كمثل ولد حملت به زوجته من غيره ثم وضعته على فراشه وربياه في خبائهما؛ بل كولد التقطاه ليكون لهما في حكم الولد. وتجعل غير المربى القريب من الإنسان في حكم البعيد كولد حملت به منه غير زوجته ووضعته على غير فراشه، وولد حملت به ولما وضعته رمته ليلتقطه الأبعدون أو لتأكله الكلاب والذئاب. هذا، وما نحن في هذه البيانات بواترين حق تلك الصناعة التي كشفنا أسرارها من أول نشأتها. ولكننا مهدنا تقلبها لنشير إلى بطلان أكثر التعصبات المبنية عليها عند الذين تزكت نفوسهم وصحت أخلاقهم. فإنه لا معنى لدى أهل هذا العلم (علم النفس وما يصلحها - علم الأخلاق) لتعصب كل قوم على آخرين بغير الحق إلا الإثم والعدوان، والبغي والطغيان. وساء ذلك من تعاون. وما هو إلا التغابن لو كانوا يفقهون. وقد اغترّ بها الإنسان. يوم عداه العرفان. من أجل هذا كتب عليه الأثقلان. الجهاد والعدوان. وغلب عليه المهلكان. الاستبداد والكفران. وبئس ذلكم الشان. وأقبح من تلك التعصبات الباطلة الفخر بالأنساب وتخيل الشرف والمجد بالتولد من ذاك الوالد وذاك الجد. وإن تلك لأوهام باطلة، لا تروج إلا على العقول العاطلة، ولا يتعلق بها إلا كل ختال ختار. فقُوا أنفسكم من هذا العار - أن تكونوا لها فاعلين، أو تكونوا بها مؤمنين. هذا ما توصيكم به الفضيلة وهي التي تزكي حقائقكم وتهب كل نفس قوتها وسعادتها. أما ما توصيكم به السياسة وهي التي تزكي أسماء جماعاتكم. وتهب كل جماعة حظها من التميز على أختها فإنها توصيكم أن لا تنسوا حظكم من تلك الرابطة، وإن استعنتم بالأوهام، وتوصيكم أن لا تجمدوا عليها لئلا تبقوا كالأنعام؛ كما بقي أهل المغارات وإخوانهم من في الخيام، فكونوا من إخوان الفضيلة أو إخوان السياسة إنكم مخيّرون. وتفكروا ينفعكم التفكر ولعلكم ترشدون. ولا تقلدوا إن المقلدين إخوان الهون. ومن ظن أن حكم الأمم بهذه الرابطة فأعلموه أنهم بالسياسة حاكمون. وفي الآتي نفصله للذين يقرؤون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز.) ((يتبع بمقال تالٍ))

استمساك العرب بالدولة العلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استمساك العرب بالدولة العلية زار اللورد كرزون حاكم الهند العام الخليج الفارسي من مدة قريبة ولما عرج على جزيرة البحرين زار فيها هو وقرينته صديقنا محمد باشا عبد الوهاب أمير دارين الشهير في محله التجاري بالبحرين، ورغبت اللادي كرزون إليه أن يطلعها على جميع أصناف اللؤلؤ فسُرت مما شاهدته منها، ولم تكن رأته وقد زار صديقنا المذكور جناب اللورد في بارجته الحربية كما زاره غيره من الأمراء؛ ولكن كتب إلينا من هناك أن الزورق الذي حمل محمد باشا عبد الوهاب إلى بارجة اللورد كان مرفوعًا عليه العلم العثماني دون غيره، وأنه عند اللقاء قدَّم إلى جناب اللورد كتابًا بدأه بالبسملة الشريفة وحمد الله تعالى ثم ذكر أن الملوك والحكام إنما يتفاضلون بالائتلاف الذي فيه صلاح البرايا، ثم انتقل من ذلك إلى الثناء على السلطان عبد الحميد خان الذي أتحفه بالرتب العالية والوسامات السامية وذكر أن بلاده تتقدم في الحضارة وترقى التجارة في ظل الدولة العلية ترقيًا مستمرًّا. ثم أثنى بعد ذلك على الحكومة القيصرية الهندية وعلى جناب اللورد خاصة لتشريفه بزيارته ولما يراه من الرعاية وتسهيل سبل التجارة عليه في الممالك الهندية. وأعرب في ختام الكتاب عن رجائه ورجاء أهل بلاده في: (أن يكون هذا التشريف الميمون سببًا في زيادة الاتفاق الصادق بين الدولتين الفخيمتين، الدولة العلية العثمانية والدولة الفخيمة القيصرية) . ولا يخفى أن إنكلترا تعتبر جزيرة البحرين تحت حمايتها، أما دارين فإنها تابعة للدولة العلية، وهي - في الحقيقة - ميناء بلاد نجد في جنوب بلاد العرب، ووجود مثل محمد باشا عبد الوهاب فيها يزيد في تعلق أهلها بالدولة العلية، والاستمساك بعُروتها، وفق الله الدولة وأمراء العرب إلى ما به دوام الاتفاق وخير المسلمين، آمين.

نصيحة لمسلمي سيرالون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نصيحة لمسلمي سيرالون قد علم من الرسالة المنشورة في الجزء الماضي عن سيراليون أن مسلمي تلك البلاد قد فتك فيهم الجهل والتعادي، ولا علاج لهم من هذا الداء إلا بالتعليم والتمسك بآداب الدين، وقد قيَّض الله لهم في هذه الأيام من يرشدهم إلى ترقية تعليم العربية والدين؛ فعليهم أن يغتنموا هذه الفرصة ويأخذوا بإرشاد ذلك السائح. وقد جاءنا رجل منهم سوداني اسمه هارون الرشيد يريد طلب العلم في الأزهر فأخبرنا بمثل ما كتب السائح من حالهم التعيسة وأثنى عليه ثناءً حسنًا.

كلمة في القبور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة في القبور [*] لا نريد بهذا العنوان البحث عن تاريخ القبور كالنواويس والأهرام وما شاكلها من معالم الوثنية الأولى، وإنما نريد الوقوف بفكرة القارئ عند اختلاف المؤرخين في مكان قبر أبي عبيدة كاختلافهم في تعيين كثير من قبور رجلة الصحابة الكرام الذين دوخوا هذا الملك العظيم وتحلوا بتلك الشيم الشماء وبلغوا من الفضل والتفضل والتقوى والصلاح غاية لم يبلغها أحد من الأولين ولا الآخرين. وقد بسط المؤرخون أخبار أولئك الرجال العظام وعنوا بتدوين آثارهم العظيمة في فتوح الممالك والبلدان حتى لم يتركوا في النفوس حاجة للاستزادة ونعم ما خدموا به الأمة والدين. إن القارئ إذا وقف بفكره عند هذا الأمر وقفة المتأمل لا يلبث أن يأخذه العجب لأول وهلة من ضياع قبور أولئك الرجال العظام، واختفاء أمكنتها عن نظر نقلة الأخبار ومدوني الآثار على جلالة قدر أصحابها وشهرتهم التي طبقت الآفاق وملأت النفوس وإعظامًا لقدرهم وإكبارًا لجلائل أعمالهم وثناءً عليهم وتكريمًا لذكر أسمائهم وشكرًا لآلائهم واعترافًا بجميلهم وإقرارًا بفضيلة سبقهم بالإيمان ونشرهم دعوة القرآن. لا جرم أن القارئ أقل ما تحدثه به النفس عند التأمل في هذا الأمر أن أولئك الرجال ينبغي أن تعلم قبورهم بالتعيين، وتشاد عليها القباب العاليات ذات الأساطين، إذا لم يكن لشهرتهم بالصلاح والتقوى وصدق الإيمان وصحبتهم للنبي عليه الصلاة والسلام فلما أتوه من كبار الأعمال، التي تعجز عنها أعاظم الرجال، فكيف غابت قبورهم عن نظر المؤرخين، ودرست أجداثهم التي تضم أكابر الصحابة والتابعين، حتى اختلف في تعيين أمكنتها أرباب السير، وعفا من أكثرها الأثر، إلا ما علموه بعدُ بالحدس والتخمين، وأظهروا أثره بالبناء عليه بعد ذلك الحين، مع أن المشاهَد عند المسلمين صرف العناية إلى قبور الأموات بما بلغ الغاية بالتأنق في رفعها وتشييدها ورفع القباب عليها واتخاذ المساجد عندها لا سيما قبور الأمراء الظالمين الذين لم يظهر لهم أثر يشكر في الإسلام، والمتمشيخة والدجالين الذين كان أكثرهم يجهل أحكام الإيمان، ولا نسبة بينهم وبين أولئك الرجال العظام كأبي عبيدة ابن الجراح وإخوانه من كبار الصحابة الكرام الذين تلقوا الدين غضًّا طريًّا، وبلغوا بالتقوى والفضيلة مكانًا قصيًّا. والجواب عن هذا أن الصحابة والتابعين لم يكونوا في عصرهم بأقل تقديرًا لقدر الرجال وتعظيمًا لشأن من نبغ فيهم من مشاهير الأبطال وأخيار الأمة إلا أنهم كانوا يأنفون من تشييد قبور الأموات وتعظيم الرفات لتحققهم النهي الصريح عن ذلك من صاحب الشريعة الغراء الحنيفية السمحة التي جاءت لاستئصال شأفة الوثنية ومحو آثار التعظيم للرفات، أو العكوف على قبور الأموات، ويرون أن خير القبور الدوارس وأن أشرف الذكر في أشرف الأعمال. لهذا اختفت عمن أتى بعد جيلهم ذلك قبور كبار الصحابة وجلة المجاهدين إلا ما ندر ثم اختلف نقلة الأخبار في تعيين أمكنتها باختلاف الرواة وتضارب ظنون الناقلين. ولو كان في صدر الإسلام أثر لتعظيم القبور والاحتفاظ على أماكن الأموات بتشييد القباب والمساجد عليها لما كان شيء من هذا الاختلاف ولما غابت عنا إلى الآن قبور أولئك الصحابة الكرام كما لم تغب قبور الدجاجلة والمتمشيخين التي ابتدعها بعد العصور الأولى مبتدعة المسلمين وخالفوا فعل الصحابة والتابعين. حتى باتت أكثر هذه القباب تمثل هياكل الأقدمين وتعيد سيرة الوثنية بأقبح أنواعها وأبعد منازعها عن الحق. وأقربها من الشرك. ولو اعتبر المسلمون بعدُ باختفاء قبور الصحابة الذين عنهم أخذوا هذا الدين وبهم نصر الله الإسلام لما اجترؤوا على إقامة القباب على القبور وتعظيم الأموات تعظيمًا يأباه العقل والشرع وخالفوا في هذا كله الصحابة والتابعين الذين أدوا إلينا أمانة نبيهم فأضعناها وأسرار شريعته، فعبثنا بها، وإليك ما رواه في شأن القبور مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ؟ أن لا أدَع تمثالاً إلا طمسته ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سوَّيته. وفي صحيحه أيضًا عن ثمامة بن شُفَيّ، قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسُوِّي. ثم قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأمر بتسويتها [1] . هكذا بلغونا الدين وأدوا إلينا أمانة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تأكيدًا لعهد الأمانة بدؤوا بكل ما أمرهم به الرسول بأنفسهم لنستن بسنتهم ونهتدي بهدي نبيهم ولكن قصرت عقولنا عن إدراك معنى تلك الجزئيات. وانحطت مداركنا عن مقام العلم بحكمة التشريع الإلهي والأمر النبوي القاضي بعدم تشييد القبور اتقاء التدرج في مدارج الوثنية. فلم نحفل بتلك الحكمة وتحكمنا بعقولنا القاصرة بالشرع فحكمنا بجواز تشييد القبور استحبابًا لمثل هذه الجزئيات حتى أصبحت كليات وخرقًا في الدين وإفسادًا لعقيدة التوحيد، إذ مازلنا نتدرج حتى جعلنا عليها المساجد وقصدنا رفاتها بالنذور والقربات ووقعنا من ثم، فيما لأجله أمرنا الشارع بطمس القبور كل هذا ونحن لا نزال في غفلة عن حكمة الشرع نصادم الحق ويصادمنا حتى نهلك مع الهالكين. اهـ.

مسألة ذبائح أهل الكتاب تأييد الفتوى بالإجماع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة ذبائح أهل الكتاب تأييد الفتوى بالإجماع واقعة الفتوى أن النصارى في قطر من الأقطار (هو الترنسفال) يضربون البقر قبل ذبحه بآلة محددة تسمى البَلْطَة ثم يذبحونه ذبحًا، وأنهم في زعم السائل لا يسمون الله على ذبائحهم. (تحرير الجواب) وتحرير الجواب من حيث صحة الذبح أن ضرب الحيوان قبل ذبحه بمحدد أو غير محدد لا ينافي كون ذبحه بعد ذلك من التذكية التي يحل بها أكله فهو حلال بإجماع المسلمين من السلف والخلف، والمتبادر من تصريح السائل بذبح البقر هو أنهم يذبحونه وفيه حياة، إذ الميت لا يذبح. والمتبادر أن هذه الحياة هي التي يسميها بعض الفقهاء من الخلف الحياة المستقرة التي من علامتها انفجار الدم والحركة العنيفة، إذ لو ذكي الحيوان وليس فيه إلا الرمق لما اعتد العامي (كالمستفتي في الواقعة) بذبحه؛ بل لما سمّاه ذبحًا فالحياة هي الأصل، ولم يرد في السؤال مما يدل على زوالها أو بقاء الرمق فيها فقط فيقال: إنها حلال على رأي الجمهور والأكثر كما قال المفسرون (ونقلنا ذلك عنهم في الجزء الماضي) لا بالإجماع كما تدعي. وما قلناه من أن إطلاق السؤال أنهم يذبحون بعد الضرب يقتضي أن يكون المذبوح حلالاً بالإجماع نعرضه على علماء الإسلام في مصر وفي سائر الأقطار، ونقول: إنه لا يمكن لأحد منهم رده. ومن يزعم أن أئمة المسلمين اختلفوا في حل الحيوان يذبح بعد ضرب بأي شيء فليكتب إلينا بالبيان لننشر قوله ونحن على يقين من أن كل عالم إسلامي يعلم أنه لا خلاف في ذلك وإنما الخلاف فيما إذا ثبت أن الحيوان ذبح بعد عروض سبب يحال عليه الهلاك وليس فيه حياة مستقرة فقال بعض الفقهاء: لا يحل. وقال أكثرهم: إنه يحل. وتقدم في الجزء الماضي قول المفسرين في ذلك. وعلامة الحياة المستقرة انفجار الدم والحركة العنيفة كما قاله فقهاء الشافعية وقد علمت مما نقلنا عن الصحابة وغيرهم في الجزء الماضي أنه يكفي في الموقوذة ونحوها علامة تدل على الرمق من الحياة كحركة الجفن أو الذنب وأنه المتبادر من قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} (المائدة: 3) . وأما مسألة التسمية في الواقعة فنقول: إنه لا سبيل إلى الحكم على أهل قطر من الأقطار بأنهم لا يذكرون الله على ذبائحهم إلا إذا كان دينهم يمنعهم من ذلك. والمسؤول عنهم في واقعة الفتوى ليسوا كذلك؛ لأنهم نصارى ولو أحل الله ذبائحهم وهم كذلك لما كان للاختلاف في اشتراط تسميتهم وعدمها وجه من الوجوه. وقد نصوا على أن ذبيحة الكتابي لم يعلم أذكر اسم الله عليها أم غيره أم لم يذكر شيئًا هي حلال بالإجماع وذلك هو الواقع في مسألتنا؛ إذ العلم بعدم ذكر اسم الله على كل ذبيحة في قطر الترنسفال أو في أي بلد من البلاد متعذر، وإنما يتيسر العلم بذلك في ذبيحة معينة وليس هو واقعة الفتوى. فالمسؤول عنه هو في الواقع ونفس الأمر من المجهول وهو حلال بالإجماع. وإننا نعرض هذا أيضًا على علماء الإسلام في مصر وفي سائر الأقطار الإسلامية، ونقول: إنه لا يمكن رده ولا نقضه ومن زعم خلاف ذلك فعليه بالبيان. وممن صرح بالإجماع في المسألة الطبري وابن كثير كما تقدم في الجزء الماضي. وأما محل الخلاف في مسألة التسمية من الكتابي وعدمها فهو إذا علم المسلم في ذبيحة معينة أن الكتابي لم يذكر اسم الله عليها أو ذكر اسم غيره وقد رأيت النقل من الجزء الماضي عن المفسرين في أن ممن قال بالحل من الصحابة (رضي الله عنهم) أبا الدرداء وعبادة بن الصامت وابن عباس ومن التابعين الزهري وربيعة (شيخ الإمام مالك) والشعبي ومكحول وعطاء، وأن الشعبي وعطاء سُئلا عن اليهودي يذكر اسم عُزير والنصراني يذكر اسم المسيح فقالا: إن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون: ورأيت أن عليًّا وابن عمر وعائشة القائلين بالمنع إنما قالوا: إذا سمعت الكتابي يذكر اسم غير الله فلا تأكل، وهذه العبارة على كونها تشترط السماع ليست نصًّا في التحريم؛ إذ يحتمل أن يكون النهي للتنزيه. وإذا سلمنا أنه للتحريم فلنا أن نقول: إن المسلم في الترنسفال يسهل عليه أن يأكل من اللحم الذي يجده في السوق لانتفاء الشرط وله أن يتورع في الذبيحة التي يسمع النصراني يذكر عليها اسم غير الله فلا يأكل منها ليوافق الإجماع في الحالين، ولا تنسَ أن السائل لم يقل: إنهم يذكرون اسم غير الله، فعلمنا من هذا أن الفتوى في واقعتها ليست مؤيدة برأي القاضي أبي بكر بن العربي؛ بل هي مؤيدة بالإجماع ومن الجهل العام أن يستطيع رجل جاهل بالشرع - معروف بسوء القصد - تشكيك بعض الناس في حلها. فإن قيل: لماذا استدل المفتي بقول القاضي أبي بكر بن العربي من أئمة المالكية ولم يستدل بالإجماع إذا كانت المسألة إجماعية كما قلت؟ والجواب أن المفتي لم يكن في جوابه في مقام المناظرة والاحتجاج؛ وإنما سئل عن حكم الله فاستدل بكتاب الله لا بقول ابن العربي وبعد الاستدلال بالنص، قال: وأرى أن يعولوا على ما قاله فلان في تفسير الآية. والغرض من ذلك الإرشاد إلى الأخذ بالاحتياط في شبه مسألة اختلف فيها الصحابة (رضي الله عنهم) وهي ذبيحة نصارى بني تغلب قال علي كرم الله وجهه: لا تحل لأنهم لم يأخذوا من النصرانية إلا شرب الخمر. وقال غيره: منهم تحل لأنهم انتموا إلى النصرانية ولا يجب علينا البحث عن أعمالهم. فأراد المفتي أن يأخذ أهل الترنسفال بالاحتياط فلا يأكلوا إلا من الذبيحة التي يأكل منها القسيسون مع العامة، وإلى أن الدين يسر يبيح أكثر مما في واقعة السؤال، ولم يكن قول ابن العربي هو العمدة له في الاستدلال. وما ذكرناه في مقالة الجزء الماضي يتضمن كل ما لخصناه هنا ولكن الكلام هناك متشعب والنتائج فيه ممزوجة بالمقدمات والدلائل والنقول فاختصرناه هنا؛ ليعقله كل قارئ. والمراد بالإجماع بشرطه إجماع أهل السنة المحلين لذبائح أهل الكتاب دون الشيعة. تهافت المرجف في الفتوى ما قام أحد بدعوة إلا ووجد من لبّى دعوته حتى الذين ادعوا الألوهية من دون الله وشبيه الشكل منجذب إليه. وقد بدأ بالإرجاف في الفتوى رجل من محرري الجرائد الساقطة عرف بالطعن في المفتي من عدة سنين حتى زعم أنه ينكر الله أو توحيده وحوكم في ذلك وفي مثله وحكم عليه غير مرة وسجن. ولما دفع أو اندفع صاحب الجريدة المحدثة إلى الإرجاف استخدمه فصار يكتب له باسمه وينقل بعض ما يكتبه له في جريدته التي صرح فيها بأنه المحرر لها فصارا اثنين في (الظاهر) ولكنهما واحد في الحقيقة. ثم علمنا أن صاحب (الحمارة) الذي حوكم قبل الآن في طعنه بالمفتي وسجن وحدث السياسة المشهور بالطعن في المفتي أيضًا قد انضما إليه أو إليهما فحدث السياسة رابعهم. فهؤلاء حماة الإسلام اليوم الذين يتبجحون بنصره والمدافعة عنه بتحريم ذبائح أهل الترانسفال وهي حلال بإجماع أهل السنة والجماعة كما تقدم بل الحقيقة أن المعترض هو الأول وحده والآخران يصدقانه فقط. أما مَنْفَذ الإرجاف فقد كان في أول الأمر تسمية ذبائحهم موقوذة وقد أكثر اللغو في ذلك. ولما نشرت الجرائد المنتشرة المقالات المبينة أن حقيقة الموقوذة هي ما ضربت بغير محدد حتى ماتت قبل أن تذبح وفيها حياة خرق له منفذًا ثانيًا وهو أن أحبار اليهود وقسوس النصارى لا يعتدون بذبيحة أهل الترنسفال. وقد أخذ بخناقه هذا المنفذ فخلط فيه أشد مما خلط في الأول؛ إذ كان ينقل من العبارة فيهما بعضها على حد: (لا تقربوا الصلاة) يقتصر عليها من يريد تحريم الصلاة. وإذا صح أن قسوس النصارى لا يعتدون بتلك الذبيحة ولا يجيزون أكلها فالفتوى صريحة في تحريمها؛ إذ فيها اشتراط أن يأكل منها قسيسهم وعامتهم ويتفقون على أنها حلال في دينهم. فانظر كيف يناقض المرجف نفسه فيؤيد الفتوى من حيث لا يفهم، ثم يفندها من حيث لا يعلم. ثم خرق له منفذًا ثالثًا وهو الطعن بابن العربي؛ لأن المفتي ذكره في فتواه وأيد رأيه في الأخذ بالآية الشريفة مع اعتبار ذلك الشرط المذكور آنفًا. أما طريق هذا الطعن فهو أن بعض الفقهاء بحث في فتوى لابن العربي بحل ما يختقه الكتابي وقد تهافت قول المرجف وتناقض في هذا أيضًا ونقل في هذا أيضًا ونقل عن المالكية ما يصرح بأن فتوى القاضي ابن العربي صحيحة على خلاف فيها وأن وجه النقد عليها من جهة العبارة فقط وهو أنه أطلق القول ولم يقيده بأن يكون فتل عنق الدجاجة المسؤول عنه بقصد التذكية؛ أي: الإماتة لأجل الأكل فقد جاء في نقله عن المالكية بعد نقل ما قاله ابن العربي ما نصه: ظاهر كلام ابن العربي التعارض ولكن جمع بينهما ابن عرفة ونصه: وقول: ابن عبد السلام: أجاز ابن العربي أكل ما قتله الكتابي ولو رأيناه يقتل الشاة؛ لأنه من طعامهم، يرد بأن ظاهره نوى بذلك الذكاة أولاً وليس كذلك فنقل جميع ما تقدم عنه مختصرًا وقال ما نصه: قلت: فحاصله أن ما يرونه مذكى عندهم يحل لنا أكله وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة.اهـ) اهـ من جريدتي المرجف. وما قاله ابن عرفة وهو من أكبر فقهائهم موافق لما قلناه في الجزء الماضي من أن مجموع الأحاديث يدل على أن الذكاة هي ما كان إزهاق الروح فيه بقصد الأكل لا مطلق التعذيب والإعدام. وظاهر أن مسألة فتوى ابن العربي لم يكن ينقصها إلا النص على أن قتل عنق الدجاجة يعد ذكاة إذا أرادوا به ذلك وكأنه لم يذكره لدلالة القرينة عليه. ثم ذكر قولاً آخر عن (المعيار) في المسألة وأنه أيد فتوى ابن العربي أيضًا وقولاً آخر عن الزياتي وأنه سلمه فعلم أن المسألة مسلمة عند فقهاء هذا المذهب. وإنما أورد المرجف هذه النقول وهي حجة عليه؛ لأنه وجد أن بعض المتأخرين قال: إن في هذا الكلام نظرًا من وجوه. وقد تصفحنا تلك الوجوه فرأيناها غير وجيهة، فإنه في أولها يستشكل تصديق أحبار أهل الكتاب ورهبانهم في أن هذا حلال عندهم ويستدل على ذلك بأن القرآن شهد عليهم بالتحريف والتبديل وثبت أنهم كذبوا بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنه عليه الصلاة والسلام قال: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) ، وهذا الوجه حجة على ذلك المتأخر فإن الله تعالى قد أطلق القول بحل طعامهم وهو عالم بذلك منهم وأخبر به نبيه والمؤمنين. فدل ذلك على أنه لا يطلب منا؛ بل يحرم علينا أن نعتمد على ما في كتبهم المحرَّفة وعلى أقوالهم فيها، وإنما يحل لنا أكل طعامهم من غير بحث عن حكمه عندهم وإنما طعامهم ما يأكلون إلا ما حرم لذاته كلحم الخنزير. وقصارى هذا أن فقهاء المالكية كابن العربي أخطؤوا في اشتراط كون طعامهم مما يأكل منه رجال الدين عندهم. وهذا صحيح ولذلك قلنا في الجزء الماضي: إن ما قاله ابن العربي وعوّل عليه المفتي هو من باب الورع والظاهر ما عليه أكثر الصحابة من حل طعامهم مطلقًا وإن لم يتمسكوا بشيء من كتبهم وأحكام دينهم كبني تغلب من متنصرة العرب. والوجه الثاني: البحث في التفرقة بين لحم الخنزير وما يقتلونه بالعقر كالضرب بالشاقور. ونقول: إن الفرق قد تقدم في الجزء الماضي نقلاً عن كتاب (صفوة الاعتبار) ، وباقي الوجوه مناقشات في العبارات على أن مقتضى هذه الأبحاث أن لا يحل من طعام أهل الكتاب شيء إلا ما علمنا أنهم جروا فيه على أحكام الشريعة الإسلامية وما هم بفاعلين فيكون قصارى قول الباحث أن الآية لا معنى لها، ولم تفد حكمًا جديدًا وهو ظاهر البطلان. وإذا اعتبرنا كلام هذا المتأخر فأكثر ما فيه أن تكون مسألة أ

بلرم ـ صقلية ـ 2

الكاتب: سائح بصير

_ بلرم - صقلية (2) المكتبة العمومية ودار المحفوظات أما المكتبة العمومية فقد جاءني من أوصي بصحبتي ويثقل عليَّ ذكر اسمه لطوله؛ فذهبت معه إلى تلك المكتبة، وهو أخو مديرها، وله احترام في نفوس خدمتها، وكان يعرف قليلاً من اللغة الفرنسية، فسألته أن يطلب لي فهرس الكتب العربية إن كانت، فطلب ذلك فبدت حركة شديدة في الخدمة وكثر الداخل والخارج، والذاهب والآئب، ولغطت الألسن، وارتفعت الأيدي بالإشارات، وطال الزمن نحو ربع ساعة، كل ذلك وأنا لا أفهم أسباب هذا الاضطراب، وآخر الأمر جِيء إليّ بدفتر صغير جدًّا يحتوي على نحو خمسين صفحة وكانت تلك الضوضاء للبحث عنه، وكل يتهم صاحبه بأنه هو الذي يعرف مقره والآخر يدافع عن نفسه تهمة معرفته. ولم يرعني عند تصفحه إلا كثرة ما فيه من كتب الأدعية والصلوات، كأنه فهرس خزانة لشيخ من مشايخ الطريقة الخلوتية، أو مكتبة السادات البكرية؛ قدس الله أرواحهم جميعًا، وإنما رأيت فيها قطعة من شرح ابن رشد على مدونة الإمام مالك رضي الله عنه وكتابًا في السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، إلا أنه لا يمكن قراءة سطر واحد من تلك السيرة؛ لأن خطوطًا قد جرت على السطور بعناية غريبة حتى عمت الحروف الأصلية وحجبت حقيقتها عن النظر مع سلامة الظاهر من التشويه؛ فعجبت لذلك وسألت عن السبب فقيل لي: إن قسيسًا من أهل القرن الثامن حمله التعصب على أن يأتي إلى المكتبة، ويطلب الكتاب بحجة أنه يريد قراءته، وكان يعرف العربية حق المعرفة فسلم إليه فصنع به ذلك حتى يصد الناس عن مطالعة ما فيه. وقد فعل مثل ذلك بمصحف من المصاحف وزوّر كتبًا كثيرة أفسدها. وقد انكشف للحكومة حاله؛ فحوكم وصدر الحكم عليه بالحبس مدة عشر سنين في رواية، ومدة خمس عشرة سنة في رواية أخرى. أما القطعة من شرح ابن رشد فكانت سليمة وخطها مغربي جيد تسهل قراءته على طالب العلم. والكتاب الفرد الكامل الذي رأيناه في المكتبة هو كتاب النخل لأبي حاتم السجستاني وهو صغير في نحو ستين ورقة بخط ضيق مضبوط صحيح. قرأت منه عدة صفحات ونقلت منه عدة فقرات في تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} (إبراهيم: 24-25) ... إلخ. ومما نقلته في ذلك قول أبي حاتم رحمه الله: ومما كرم الله به الإسلام وكرم به النخل أنه قدر جميع نخل الدنيا لأهل الإسلام فغلبوا عليه وعلى كل موضع فيه نخل، وليس في بلاد الشرك منه شيء، فرحم الله أبا حاتم ما كان أبعده عن صحة الحكم في طبائع العمران، وإن كان من أفضل أهل السير وأجلّ علماء اللغة والكتاب مفيد في اللغة وهو بخط مشرقي تاريخ نسخه شهر جُمَادَى الآخرة سنة 394، وقد بلغنا أنه طبع في ألمانيا وكان الأجدر به أن يطبع في مصر، ولعلّ ذلك يكون إن شاء الله متى ساوى المصريون أهل ألمانيا في اهتمامهم باللغة العربية ونفائسها! ثم زرت دار محفوظات الدولة وهي مثل (الدفتر خانة) عندنا إلا أنها لم تبع أوراقها ولا دفاترها لا بالقنطار ولا بالرطل كما فعل بالدفتر خانة المصرية؛ بل هي محفوظة على ما كانت عليه من عدة قرون لا يفرط في ورقة واحدة منها. وقد طبعت الدولة ما في الأوراق التاريخية المحررة باللسان العربي، وغيره من الألسن الشرقية حتى يسهل على الناظر فيها معرفة ما كتب في تلك الأوراق، ويتيسر له بعد ذلك قراءتها في أصولها خصوصًا إذا كان غير متعود على قراءة الخطوط العربية المختلفة فإذا قابل بين المطبوع والمرقوم عرف صحة العبارة في النسختين. ولعل المكتبة المصرية الكبرى تصنع مثل ذلك في الخطوط المكتوبة على أوراق البَرْدِي وغيرها مما كتب بالكوفية أو النسخ القديم أو ما عفى بعضه القدم لتتم فائدة حفظ هذه الأوراق والانتفاع بها إن شاء الله. من العادة في المكاتب وديار حفظ الأوراق أن يجعل لها دفاتر يكتب فيها الزائر اسمه ولقبه وتاريخ الزيارة وهي عادة حسنة تليق بأماكن أقيمت لحفظ الآثار العلمية والمذكرات التاريخية. أما عمال المكتبة العمومية في بلرم فلم يحفلوا بهذه العادة، واكتفوا بتقديم ورقة من أوراق طلب المطالعة لوضع إمضائي عليها كما فعل ذلك خَدَمَة المكتبة العمومية في مسينا لكن عمال دار محفوظات الدولة راموا أن تجري تلك العادة مجراها فطلبوا ذلك الدفتر فلم يجدوه فجدّوا في البحث والتنقيب وأخذت الأصوات تتقاذف، والإشارات تنمو وتتزايد، على نحو ما فعل عمال المكتبة العمومية، في اكتشاف فهرس الكتب العربية، وكنت على عجل أريد زيارة محل آخر فحبست مدة حتى يسر الله ووجد الدفتر ووضعت إمضائي فيه. وأظنهم حمدوا الله لأن كنت السبب في العثور عليه بعد ضياعه. هذا وذلك يدلانك على أحد أمرين: إما قلة الزائرين لهذه الأماكن العلمية من الأجانب وطلاب النظر في الآثار العربية، وقلة الدارسين من أهل البلاد في تلك الكتب التي كتبت في لسان غير لسانهم اكتفاءً بتراجمها أو لعدم الحاجة إليها، وإما شدة الإهمال من موظفي هذه الديار. وقد يتيسر لك الجمع بين الأمرين، ولم أعهد في مكتبة أوروبية أن وقع لي مثل ما وقع في مكتبتي بلرم. حاجة السائح إلى معرفة اللغات وأيها أنفع ومن الأمور التي لا أجد بدًّا من نقدها أن موظفي هذه المكاتب لا يعرفون من اللغات إلا الإيطالية، فلا يعرفون الفرنسية مع قربها من لغتهم ومن عرف منها بعض كلمات يصعب عليه أن يؤدي بها مراده. وكان رفيقي يترجم بيني وبينهم عندما كان معي في المكتبة العمومية، لكني بعد انصرافه وقعت في وحشة يزيدها لزم الصمت وعدم الفائدة في الكلام وضيق الصدر عند إرادة الاستفهام عما يراد فهمه، ولا يوجد السبيل إليه إلا من طريق الإشارة. ولا يخفى عليك أن الإشارة إنما تصلح للإفادة والاستفادة من الأخرس إذا كنت والدة له على ما في المثل: (أم الأخرس أعرف بلغته) فلا بد من التعود على ضرب من الإشارة مخصوص حتى يتيسر الفهم والإفهام؛ ولهذا لم يمكني أن أستفيد شيئًا فيما ينبغي أن يصنع لاستنساخ شيء من الكتب العربية كتلك القطعة من شرح ابن رشد مثلاً. وبعد طول الكلام بفرنسية لا يفهمونها وإيطالية لا أفهمها انصرفت وأنا من الجهل على مثل ما دخلت به لكن قد انكشفت عني غمة هذا الجهل بملاقاة مَن أمكنه فهم ما أقول وأمكنني فهم ما يقول من أهل المدينة. يناسب في هذا المحل ذكر ما يقال من أن الذي يعرف اللغة الفرنسية يسهل عليه السفر في جميع بلاد أوربا ويتيسر له الفهم والإفهام؛ لأنها لغة عامة لا تجد نُزلاً ولا مكانًا يرغب في زيارته إلا وأنت تجد فيه من يكفيك حاجتك فيما تريد. وقد رأيت أن هذا القول اضمحلت صحته في مكاتب بلرم، ولم ألقَ ما يقوي صحته في مكتبة مسينا، والمكاتب من ديار العلم التي يكثر فيها العارفون باللغات الأجنبية، ولا ينبغي أن تخلو منه لمسيس الحاجة إليهم. وقد بت ليلة في لوندرا، ونزلت في أكبر نزل فيها يسمى (كير أفنور أوتيل) فيه ما يزيد على ستمائة بيت للنوم، ولم أجد فيه من يعرف الفرنسية إلا خادمين أحدهما بواب والآخر من خَدمة قاعة الطعام، أما خَدمة أماكن النوم وغيرهم فلا يفهمون كلمة واحدة والحاجة إليهم أشد فإن المطالب الخاصة جميعها منوطة بهم أو بهن. إذا طلبت ماءً أو لبنًا أو قهوة أو تهيئة حمام أو نقل متاع من مكان إلى مكان أو تصحيح منكسر أو كسر صحيح لم تجد من تطالبه إلا أولئك الذين لا يعرفون كلمة من الفرنسية، غير أنهم لتعودهم فيما يظهر على كثرة ورود هذا النوع من الخرس صاروا أو صرن كوالدة الأخرس يسهل عليهم أو عليهن فهم الإشارات بدون إتعاب شديد لأعضاء المشيرين (أي: الذين يتفاهمون بالإشارة لا الذين حازوا رتبة المشيرية العسكرية العثمانية) ؛ لكن لا يخفى عليك أن من المطالب ما لا تعبر عنه الإشارة، فماذا تصنع إذا كنت أعلم العلماء بالفرنسية وعرض لك مثل هذا الطلب، وليس عندك وقت يسع تعلم اللغة الإنكليزية؟ لا يسعك إلا الإقرار بأن ذلك القول الذي قالوا مبني على تجربة قاصرة لا تصلح أن تكون مقدمة من مقدمات البرهان المعدودة في فن المنطق. أزيدك شيئًا في هذا؛ وهو أنك إذا كنت لا تعرف لسان القوم الذين تنزل فيهم يجدونك طعمة أو هبة من الله سيقت إليهم؛ فهم يكلفونك من النفقات ما يشاؤون، ولا يجدون في أنفسهم دانقًا من الرأفة بك أو الرحمة لغربتك، ولا يمكنك أن تبحث مع ناهبك في موضوع نهبك؛ لأنه لا يفهم ما تقول، وأنت لا تفهم ما يقول، فينتهي أمرك بدفع ما رُقم لك رغم أنفك، وغاية ما يمكنك فعله أن تتنفس الصعداء وتهز رأسك وتلوي عنقك علامة على غضبك ولكن هذا كله لا يوفر عليك ما نقصه منك الجهل باللسان. وفي ظني أن من أراد أن يسافر إلى بلد لا يعرف لسانه فأولى له أن يتعلم من لسان ذلك البلد ما يكفيه للتعامل، ومدة سنة قبل السفر تكفي لذلك، وأجرة الأستاذ المعلم لا تصل إلى نصف ما يخسره ببركة الجهل باللسان. أستغفر الله من خطأ فيما قلت. إذا أراد السفر إلى صقلية (سيسيليا) من بلاد إيطاليا فعليه أن يجدَّ لمعرفة اللغة الإيطالية حتى يتكلم بسرعة، ويفهم بسرعةٍ يسبق بها كلامُه وفَهمُه كلامَ الإيطاليين وفَهمَهم، وإلا سأل الله العوض فيما يفقد من متاعه وما يؤخذ منه أجرة على ضياعه. عند وضع قدمه على ساحل صقلية يجتمع عليه الحمالون والمرشدون المضلون ويتجاذبون متاعه وثيابه كلٌّ يأخذ قطعة فإن كان لا يعرف اللسان، كان ما كان مما لا يسعه الإمكان، فإذا سلم له متاعه من التحطيم أو الضياع، أو أصابه من ذلك ما لم يفد فيه الدفاع، وجد أمامه جيشًا من الطالبين كل واحد يطالبه بقيمة عمله، وما هو ذلك العمل؟ هو حمل قطعة من المتاع وكلمة قيلت غير مفهومة في هدايته إلى المحل الذي وصل إليه، مع أنه وصل برجليه، ومن طريقٍ، كل الناس يمشون فيه. ولا تنس أنهم يجاذبونك أعضاءك حتى إن جميع أجزائك لفي خطر من مجاذبتهم إذا لم تكن حريصًا عليها. فإذا كنت في حاجة إلى السفر إلى هذه البلاد، والإقامة فيها مدة من الزمان لتبديل الهواء، وترويح النفس بجمال المناظر خصوصًا أيام الربيع فعليك أن تصرف سنتين في تعلم اللغة الإيطالية وما تنفقه في التعلم أقل مما تخسر مع تعذر التفاهم. وجدت أن الذي يعرف الإنكليزية أسعد حظًّا في فرنسا ممن يعرف الفرنسية في إنكلترا فإنك لا تجد نزلاً في البلاد الفرنسية إلا وفيه كثير من الخدم الذين يعرفون الإنكليزية. سألت عن السبب في ذلك قيل لي: إن أهل فرنسا قلما يسيحون في بلاد الإنكليز. أما الإنكليز والأميريكيون فيملؤون سهول فرنسا وجباله، ويُدهشون بالذهب صغارها ورجالها، فاضطر الفرنسي إلى ترويج الإنكليزية في بلاده لتعجب الزائرين، وليستكثر من الناثرين. ويل لك إذا أقمت يومًا أو يومين في نُزُل بمسينا من أكبر ما يقصده السائحون، رب النُّزل يعرف بعض كلمات قليلة من الفرنسية يمكنه بها أن يفهمك أن أجرة محل النوم وحده بلا أكل ولا شرب عشرة فرنكات في الليلة ويمكنك أن تفهمه بأنك قبلت ذلك على شرط النظافة وتوفر الراحة وإن كان لا يعمل من ذلك بما فهم منك وإنما العمل على ما فهمت أنت منه. تنام عند الساعة العاشرة فلا يمر عليك نصف ساعة إلا وقد أطار نومك صياح وجلبة ودوي حركات تذهب وتجيء خار

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (رباعيات أبي العلاء المعري) أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعرّي أشهر من أن يُعرَّف، كان إمامًا في اللغة والأدب وحكيمًا كبير العقل بعيد الفكر حر القول ذهب بشعره في فلسفة الأفكار مذاهب لم يسبقه بها سابق، ولم يلحقه بمثلها لاحق، إلا أن يكون عمر الخيام؛ فإنه جرى على آثاره في إيداع الشعر فلسفة أفكاره، وقد عني الفرنج بنقل أشعار هذا إلى لغاتهم وولعوا بها وصار له فيهم أنصار ومريدون؛ ولكنهم لم يهتدوا بعد إلى أشعار إمامه وقدوته فيما امتاز به وهو أبو العلاء المعري حتى انتدب من عهد قريب أحد أدباء سوريا إلى نقل بعض شعره إلى اللغة الإنكليزية وطبعه في أمريكا وسماه (رباعيات أبي العلاء المعري محاكاة لكتاب ترجم إلى تلك اللغة يسمى (رباعيات عمر الخيام) . ذلك الأديب هو أمين أفندي ريحاني نزيل أميركا أحد دعاة الوطنية وأعداء التعصب الذميم. وقد صدر الرباعيات بمقدمة يذكر فيها شيئًا من شمائل أبي العلاء وفضائله وبعد فكره في فلسفة الدين والاجتماع، وقد فضله على غيره من فلاسفة العرب حتى على الرئيس ابن سينا ولكنه أومأ إلى انتقاد المسلمين بإهمال شعره، وعدم الإشادة بذكره، وإننا نقول: إن أبا العلاء لم يكن مغمورًا في زمنه، ولا مهجورًا في موطنه، وإنما أخذ عنه بعض النابغين كأبي القاسم علي بن المحسن التنوخي والخطيب أبي زكريا التبريزي؛ بل كانوا يتبركون به كما يتبركون بالأولياء والصلحاء فقد قال الحافظ السلفي: أخبرني أبو محمد عبد الله بن الوليد بن غريب الإيادي أنه دخل مع عمه على أبي العلاء يزوره فرآه قاعدًا على سجادة لبد، وهو شيخ قال: فدعا لي ومسح على رأسي وكنت صبيًّا وكأني أنظر إليه الساعة وإلى عينيه: إحداهما نادرة والأخرى غائرة جدًّا، وهو مجدر الوجه نحيف الجسم، ولو وجد في عصره في أوربا من يقول مثل قوله: إذا رجع الحكيم إلى حِجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها لما كان له من جزاء إلا الإحراق بالنار، ولما بقي له أثر من الآثار، ولا بأس بأن نعيد هنا عبارة جاءت في مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) من مجلد المنار الخامس وهي: يذكر علي بن يوسف القفطي أن صالح بن مرداس صاحب حلب خرج إلى المعرة وقد عصى أهلها عليه فنازلها، وشرع في حصارها ورماها بالمنجنيق، فلما أحس أهلها بالغلب سعوا إلى أبي العلاء بن سليمان وسألوه أن يخرج ويشفع فيهم فخرج ومعه قائد يقوده فأكرمه صالح واحترمه ثم قال: ألك حاجة؟ قال: الأمير أطال الله بقاءه كالسيف القاطع لان مسه وخشن حده، وكالنهار البالغ قاظ وسطه وطاب برده، {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) ، فقال له صالح: قد وهبتها لك. أما السبب في عدم طبع شعره إلا من زمن قريب في الهند ثم في سوريا ومصر فهو عين السبب في عدم طبع مثل كتابي أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز إلا في هاتين السنتين - هو موت العلم العربي من بضعة قرون. وقد أحسن المترجم في نقل ما اختاره إلى الشعر الإنكليزي، وخدم الأمة العربية بتعريف فضلاء الفرنج بفضلها ونبلها وسبقها إلى الحكمة والآراء السامية إلا أنه قد حكم عليه النَّظْم بأن يتصرف في بعض المعاني قليلاً، وله الشكر على هذه الأريحية. (عرفات) جريدة أسبوعية جديدة أصدرها في القاهرة باللغة الفرنسية صديقنا محمود بك سالم، والغرض منها إزالة شبهات الأوربيين، ومن أخذ العلم عنهم من المسلمين وغيرهم عن الدين الإسلامي، وإظهار محاسنه لهم، ومحمود بك من أعرف الناس بهذه الشبهات ومثاراتها؛ فإنه تعلم العلوم الابتدائية والعالية في أوربا وتخرج في أشهر مدارسها وهو بارع بالفرنسية ثم بالإنكليزية وله إلمام بالألمانية والإيطالية وبعد عودته من أوربا لم يشغله القضاء - إذ كان قاضيًا في المحاكم المختلطة - عن مدارسة العلوم الإسلامية والشغف بمثاقفة أهلها ومحاورتهم بها. وقد عرف باستقصاء ما يكتبه الفرنج عن الإسلام والمسلمين في لغات العلم الثلاث. وقد ساح في أوروبا وفي البلاد الإسلامية واختبر الناس. وله لسان صدق في قومه. فهو بهذه المزايا مضطلع بأعباء هذا العمل الذي تصبو إليه نفسه من زمن بعيد ويرجى أن تكون جريدته أنفع الجرائد للإسلام والمسلمين ولأوربا والأوربيين. (الإنسانية) مجلة علمية انتقادية دينية سياسية أدبية أسبوعية صاحبها، ومديرها محمد أفندي أبو النصر المحامي ومحررها الشيخ إبراهيم الدباغ يصدر العدد منها بست عشرة صفحة وقيمة الاشتراك فيها ستون قرشًا صحيحًا في السنة. (الباحث) مجلة علمية دينية تهذيبية لمنشئها الخوري جرجس فرح صفير وكيل بطركخانة الموارنة في الإسكندرية. تصدر في كل شهر مرة. وقد صدر الجزء الأول منها في أول يناير سنة 1940 مؤلفًا من 32 صفحة وقيمة الاشتراك فيها 30 قرشًا صحيحًا في السنة. ولم نقرأ من هذه المجلة وما قبلها ما نتبين به حقيقتهما لضيق الوقت وإنما نوهنا بهما عملاً بحقوق الصحافة. (الأمة الشرقية) مجلة علمية صناعية طبية أدبية فكاهية منشئها (ح. ص.) تصدر في كل شهر مرة في الإسكندرية. صدر الجزء الأول منها في أول يناير سنة 1904 مؤلفًا من 32 صفحة. وقيمة الاشتراك فيها 16 قرشًا صحيحًا في السنة وهي زهيدة (لا تتجاوز ثمن ورقة دخول في بعض الملاعب) كما هو مكتوب في مقدمتها ولضيق الوقت لم نتمكن من قراءتها فعسى أن تصادف نجاحًا وإقبالاً. (النافع) جريدة أسبوعية سياسية أدبية أصدرها في مدينة طنطا الشيخ مصطفى نافع وكيل المؤيد سابقًا وقيمة الاشتراك فيها مائة قرش في السنة وستون قرشًا عن نصف سنة. وإننا نتمنى لهذه الجريدة النجاح فقد سبق لصاحبها من الاشتغال بخدمة المؤيد ما عرفه ما لا يعرف غيره من شؤون هذا العمل ومن أقدم على شيء عن بصيرة يُرجى له ما لا يُرجى لغيره. (الواعظ) تقدم التنويه في هذا الجزء بجريدة سميت بالواعظ، ونقول هنا: إن منشئ هذه الجريدة هو محمود أفندي سلامة المشهور عند قراء الصحف في مصر بما سبق له من الاشتغال بالصحافة إنشاءً وتحريرًا، حتى إن بعض الجرائد اليومية قد وجدت من يقرؤها بما كان ينشره فيها من المقالات الضافية في الأخلاق وانتقاد العادات، لذلك نرجو لهذه الجريدة من النجاح والانتشار ما لا نرجو مثله لأكثر الجرائد التي تنبت في مصر عامًا بعد عام ويومًا بعد يوم وقيمة الاشتراك فيها ستون قرشًا.

المفتي والقاضي في الشرع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المفتي والقاضي في الشرع المفتي في الشرع هو الفقيه المجتهد الذي يرجع إليه الناس في معرفة ما يخفى عليهم من أحكام الدين. قال في (كشاف اصطلاحات الفنون) ما نصه (ص 1157 ج2) : (الفقه هو اسم علم من العلوم المدونة، وهو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، والفقيه هو مَن اتّصف بهذا العلم وهو المجتهد. قال المحقق التفتازاني في حاشية العضدي: ظاهر كلام القوم أنه لا يتصور فقيه غير مجتهد ولا مجتهد غير فقيه على الإطلاق. نعم لو اشترط في الفقه التهيؤ لجميع الأحكام، وجوّز في مسألة دون مسألة تحقق مجتهد ليس بفقيه. وجاء (في ص 1156) منه ما نصه: (الاستفتاء هو عند الأصوليين والفقهاء مقابل الاجتهاد والمستفتي خلاف المفتي. والمفتي هو الفقيه فإن لم نقل بتجزي الاجتهاد؛ وهو كونه مجتهدًا في بعض المسائل دون بعض فكل من ليس مجتهدًا في الكل فهو مستفتٍ في الكل. وإن قلنا بتجزي الاجتهاد فالأمر واضح أيضًا؛ فإنه مُستفت فيما ليس مجتهدًا فيه مُفْت فيما هو مجتهد. وبالجملة فالمفتي والمستفتي إنما يكونان متقابلين ممتنعي الاجتماع عند اتحاد متعلقهما، وأما إذا اعتبر كونه مفتيًا في حكم مستفتيًا في حكم آخر فلا) . ا. هـ وبيان هذا أن المفتي عندهم هو المجتهد المستعد للإفتاء بالدليل، فإن كان مستعدًا للإفتاء في عامة الأحكام فهو المجتهد المطلق، وإن كان لا يقدر على الإفتاء إلا في بعض الأحكام فهو مجتهد فيما هو مفتٍ به. وهذا التفصيل مبني على قول المحققين من الأصوليين بأن الاجتهاد يتجزأ؛ أي: يجوز أن يجتهد الإنسان في بعض المسائل فيقف على أدلتها ويعرف الحكم منها وإن عجز عن مثل ذلك في مسائل أخرى. وما تقدم من معنى الفقه هو اصطلاح علماء الأحكام العملية وأصولها (أي: علم أصول الفقه) وللفقه معنى آخر هو ما يفهم من الكتاب والسنة وآثار السلف وهو فهم أسرار الدين في إصلاح النفوس ومعرفة آفاتها وما يصلح أخلاقها. ولا مشاحة في الاصطلاح فإن الإمام الغزالي الذي بيَّن هذا المعنى كان يستعمل المعنى الاصطلاحي في كتبه الفقهية والأصولية، ويطلق الفقه عند المتأخرين على معرفة أقوال المؤلفين في الأحكام. وقد اشترطوا في القاضي أن يكون مجتهدًا؛ لأنه كالمفتي في الحاجة إلى معرفة الحق فيما يحكم به بل هو من جهة أحوج إلى تحري الحق؛ لأنه ملزم والمفتي مبين فقط ولكن الحنفية أجازوا أن يكون القاضي غير مجتهد عند الضرورة اعتمادًا على أنه يستفتي فعلم أن جواز نصب القاضي من غير أهل الاجتهاد مشروط بوجود مفت من أهله يبين له الحكم. وهذا نص متن الهداية وهو أشهر المتون المعتمدة في مذهب الحنفية قال: (ولا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة ويكون من أهل الاجتهاد) ، قال الكمال في (فتح القدير) شرح الهداية: الصحيح أن أهلية الاجتهاد شرط الأولوية فأما تقليد الجاهل فصحيح عندنا خلافًا للشافعي رحمه الله، وهو يقول: إن الأمر بالقضاء يستدعي القدرة عليه ولا قدرة دون العلم. ولنا أنه يمكنه أن يقضي بفتوى غيره ومقصود القضاء يحصل به، وهو إيصال الحق إلى مستحقه. وقال المرغيناني في تكملته للفتح: (قوله: خلافًا للشافعي ومالك وأحمد وقولهم رواية عن علمائنا: نص محمد في الأصل أن المقلد لا يجوز أن يكون قاضيًا؛ ولكن المختار خلافه) ثم قال: (والمراد بالعلم ليس ما يقطع بصوابه؛ بل ما يظنه المجتهد فإنه لا قطع في مسائل الفقه، وإذا قضى بقول مجتهد فيه فقد قضى بذلك العلم وهو المطلوب) . ثم قال: (واعلم أن ما ذكر في القاضي ذكر في المفتي، فلا يفتي إلا المجتهد وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو المجتهد، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ) . ثم ذكر أن نقل النصوص ليس بفتوى، وإنما هو إخبار على سبيل الحكاية، وأن هذه الحكاية لا تحل إلا إذا كان للحاكي سند إلى المجتهد الذي ينقل عنه يعتقد صحته أو كان يأخذه عن كتاب معروف، تداولته الأيدي نحو كتب محمد بن الحسن. فعلم من هذه النقول أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقة على ما قاله الأصوليون من كون المفتي هو المجتهد، وأن خلاف الحنفية في القضاء دون الإفتاء، وفيه عندهم قولان، اعتمد صاحب الهداية على وجوب كون القاضي مجتهدًا وفاقًا لنص الإمام محمد، واختار آخرون جواز كونه غير مجتهد اعتمادًا على وجود مفتٍ يفتيه، فكأنه في نظر هؤلاء منفّذ فقط. ثم قال الكمال: (وفي حديث الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه وحاصله أن يكون صاحب حديث له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار أو صاحب فقه له معرفة بالحديث، لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه. وقيل: أن يكون مع ذلك صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس؛ لأن من الأحكام ما يبنى عليها) . اهـ بحروفه. وقال المرغيناني عند قوله: وقيل: إن يكون مع ذلك صاحب قريحة ... إلخ ما نصه: (فهذا القيل لا بد منه في المجتهد، فمن أتقن معنى هذه الجمل فهو أهل للاجتهاد؛ فيجب عليه أن يعمل باجتهاده وهو أن يبذل جهده في طلب الظن بحكم شرعي عن هذه الأدلة ولا يقلد أحدًا) ا. هـ؛ أي: ويجب عليه أن يفتي كذلك بما ظهر له، ولا يجوز له أن يفتي بقول أحد؛ بل علمت من نصهم أن نقل قول الغير لا يسمى فتوى. هذا ما فسر به المفتي والمجتهد في كتب الشريعة وابتدأنا بالنقل عن كتب الحنفية خاصة؛ لأن الحكومة المصرية على مذهبهم، ومنها علم أن المذاهب الثلاثة موافقة لمذهب الحنفية في اعتبار كون المفتي هو المجتهد، ولكن الجَهِلَ الظاهرَ قام يحتج على العلم، فيحرم الاجتهاد على المفتي، ولو في بعض المسائل ويضع للمجتهد تعريفًا جديدًا وشروطًا جديدة؛ لأن حرية المطبوعات في مصر أباحت لكل أحد أن يخوض في كل شيء، فقد رأينا تقريرًا لبعض الجاهلين بالشرع يحتج فيه بزعمه على بعض ما أفتى به أشهر علماء الإسلام في هذا العصر وينفي عنه الاجتهاد في الدين بناءً على تعريف اخترعه للمجتهد لم يقل به قبله عالم ولا جاهل وهو كما في (37) من ذلك التقرير: (المجتهد هو الرجل الوجيه عند الله وعند الأمة البالغ مبلغ العلم ومعرفة مدارك التشريع وأسرار الشريعة بشرط أن يعترف له الناس بذلك) ، ثم قال بعد سطور في الاستدلال على كون الاجتهاد يكاد يكون ممنوعًا عقلاً: إن الثقة العامة ركن من أركان الاجتهاد (فإذا ادعى مُدَّعٍ أنه من المجتهدين واختلف الناس في أمره سقطت دعواه) . نقول: إن هذا الكلام لغو باطل؛ لأنه اختراع أصول جديدة للشرع لم يقل بها أحد من أهله، على أنه غير معقول وغير مفهوم. دع عنك تخصيص الاجتهاد بالرجال المقتضي أن أمهات المؤمنين - نسوة صاحب الشريعة عليه وعليهن السلام - كن مقلدات غير مجتهدات في دينهن، وانظر في اشتراطه كون المجتهد وجيهًا عند الله مع اشتراطه بعد ذلك أن تعترف له الأمة بذلك! ومن يقدر من الأمة أن يحكم على الله بما لا يعرف إلا بوحي من الله؟ فهذا من غير المعقول، ثم انظر في قوله: (البالغ مبلغ العلم) تجده من غير المفهوم، ثم انظر في اشتراط اعتراف الأمة - مقلديها وجهلائها - لرجل بأنه وجيه عند الله وأنه بلغ مبلغ العلم وفهم أسرار الشريعة تجده غير معقول وغير مفهوم؛ لأن الأمة لا يمكن أن تصل إلى معرفة هذه الأمور فتحكم بها وإذا فرضنا وصولها إليها تكون أمة مجتهدة؛ أي: يكون جميع أفرادها مجتهدين وكل واحد منهم عارف بقدر الآخر وشاهد له.. ولم يشهد فرد واحد لمجتهد من السابقين بمثل ذلك. * * * بيان ما جاء في كتاب الأحكام السلطانية من القول باجتهاد القاضي (فصل) ويجوز لمن اعتقد مذهب الشافعي رحمه الله أن يقلد القضاء من اعتقد مذهب أبي حنيفة؛ لأن للقاضي أن يجتهد برأيه في قضائه، ولا يلزمه أن يقلد في النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه، فإذا كان شافعيًّا لم يلزمه المصير في أحكامه إلى أقاويل الشافعي حتى يؤديه اجتهاده إليها، فإن أداه اجتهاده إلى الأخذ بقول أبي حنيفة عمل عليه وأخذ به، وقد منع بعض الفقهاء من اعتزى إلى مذهب أن يحكم بغيره، فمنع الشافعي أن يحكم بقول أبي حنيفة ومنع الحنفي أن يحكم بمذهب الشافعي إذا أداه اجتهاده إليه لما يتوجه إليه من التهمة والممايلة في القضايا والأحكام، وإذا حكم بمذهب لا يتعداه كان أنفى للتهمة وأرضى للخصوم. وهذا وإن كانت السياسة تقتضيه فأحكام الشرع لا توجبه؛ لأن التقليد فيها محظور والاجتهاد فيها مستحق، وإذا نفذ قضاؤه بحكم وتجدد مثله من بعد أعاد الاجتهاد فيه، وقضى بما أدّاه اجتهاده إليه، وإن خالف ما تقدّم من حكمه فإن عمر - رضي الله عنه - قضى في المشتركة بالتشريك في عامٍ، وترك التشريك في غيره، فقيل له: ما هكذا حكمت في العام الماضي؟ فقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. فلو شرط المُولِّي وهو حنفي أو شافعي على من ولاه القضاء أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة - فهذا على ضربين: أحدهما أن يشترط ذلك عمومًا في جميع الأحكام؛ فهذا شرط باطل سواء كان موافقًا لمذهب المُولِّي أو مخالفًا له، وأما صحة الولاية فإن لم يجعله شرطًا فيه وأخرجه مخرج الأمر أو مخرج النهي، وقال: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب الشافعي - رحمه الله - على وجه الأمر أو لا تحكم بمذهب أبي حنيفة على وجه النهي كانت الولاية صحيحة والشرط فاسدًا سواء تضمّن أمرًا أو نهيًا، ويجوز أن يحكم بما أدّاه اجتهاده إليه سواء وافق شرطه أو خالفه، ويكون اشتراط المولي لذلك قدحًا فيه إن علم أنه اشترط ما لا يجوز، ولا يكون قدحًا إن جهل؛ لكن لا يصح مع الجهل به أن يكون موليًا ولا واليًا. فإن أخرج ذلك مخرج الشرط في عقد الولاية؛ فقال: قد قلدتك القضاء على أن تحكم فيه بمذهب الشافعي أو بقول أبي حنيفة كانت الولاية باطلة؛ لأنه عقدها على شرط فاسد، وقال أهل العراق: تصح الولاية ويبطل الشرط. والضرب الثاني: أن يكون الشرط خاصًّا في حكم بعينه فلا يخلو الشرط من أن يكون أمرًا أو نهيًا، فإن كان أمرًا فقال له: أقد من العبد بالحر ومن المسلم بالكافر، واقتص في القتل بغير الحديد كان أمره بهذا الشرط فاسدًا ثم إن جعله شرطًا في عقد الولاية فسدت، وإن لم يجعله شرطًا فيها صحت وحكم في ذلك بما يؤديه اجتهاده إليه. وإن كان نهيًا فهو على ضربين: أحدهما أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، ولا يقضي فيه بوجوب قود ولا بإسقاطه فهذا جائز؛ لأنه اقتصر بولايته على ماعداه، فصار ذلك خارجًا عن نظره. والضرب الثاني أن لا ينهاه عن الحكم وينهاه عن القضاء في القصاص فقد اختلف أصحابنا في هذا النهي هل يوجب صرفه عن النظر فيه؟ على وجهين: أحدهما أن يكون صرفًا عن الحكم فيه وخارجًا عن ولايته، فلا يحكم فيه بإثبات قود ولا بإسقاطه. والثاني أن لا يقتضي الصرف عنه ويجري عليه حكم الأمر به، ويثبت صحة النظر إن لم يجعله شرطًا في التقليد ويحكم فيه بما يؤديه اجتهاده إليه اهـ. فعلم من هذا أن القاضي لا يعزل إذا خالف مذهب موليه أو شرطه عليه تقليد إمام معين؛ بل تجب عليه مخالفة مولّيه إذا ظهر له الدليل على أن مخالفته هي الصواب. والمفتي في ذلك كالقاضي كما تقدّم نقلاً عن شرح الهداية؛ بل القول بوجوب اجتهاد المفتي عند الحنفية أقوى من القول باجتهاد القاضي كما علمت، وبهذه النصوص تعلم أن ما كتب في تلك الجريدة المحدثة من كون المفتي يصير معزولاً إذا أفتى بخلاف مذهب موليه قول باطل، مبني على الجهل الظاهر. وقد

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (الوجه الثالث والأربعون) قولهم: إن الله سبحانه وتعالى أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وتقليدهم هو اتباعهم بإحسان. فما أصدق المقدمة الأولى وما أكذب الثانية؛ بل الآية من أعظم الأدلة ردًّا على فرقة التقليد؛ فإن اتباعهم هو سلوك سبيلهم ومنهاجهم، وقد نهوا عن التقليد وكون الرجل إمعة. وأخبروا أنه ليس من أهل البصيرة ولم يكن فيهم - ولله الحمد - رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين. وقد أعاذهم الله وعافاهم مما ابتلى به من يرد النصوص لآراء الرجال وتقليده لها فهذا ضد متابعتهم وهو نفس مخالفتهم؛ فالتابعون لهم بإحسان حقًّا هم أولو العلم والبصائر الذين لا يقدمون على كتاب الله وسنة رسوله رأيًا ولا قياسًا ولا معقولاً ولا قول أحد من العالمين. ولا يجعلون مذهب أحد عيارًا على القرآن والسنن فهؤلاء أتباعهم حقًّا. جعلنا الله منهم بفضله ورحمته. يوضحه: (الوجه الرابع والأربعون) أن أتباعهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مقرون على أنفسهم، وجميع أهل العلم أنهم ليسوا من أولي العلم لكان سادات العلماء الدائرون مع الحجة ليسوا من أتباعهم، والجهّال أسعد باتباعهم منهم، وهذا عين المحال؛ بل من خالف واحدًا منهم للحجة هو المتبع له دون من أخذ قوله بغير حجة، وهكذا القول في اتباع الأئمة - رضي الله عنهم - معاذ الله أن يكونوا هم المقلدين لهم الذين ينزلون آراءهم منزلة النصوص؛ بل يتركون لها النصوص فهؤلاء ليسوا من أتباعهم، وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى منهاجهم. ولقد أنكر بعض المقلدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناول منها على معرفتي بمذهب أحمد لا على تقليدي له. ومن المحال أن يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم. فأتبع الناس لمالكٍ ابنُ وهب وطبقته ممن يحكّم الحجة، وينقاد للدليل أين كان، وكذلك أبو يوسف ومحمد أتبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له وكذلك البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم، وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتبع له من المقلدين المحض المنتسبين إليه، وعلى هذا فالوقف على اتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من المقلدين في نفس الأمر. (الوجه الخامس والأربعون) قولهم: يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) . جوابه من وجوه: أحدها: أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر ولا يثبت شيء منها. قال ابن عبد البر: ثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد الله بن مفرح حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت، قال: قال لنا البزّار: وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فهذا الكلام لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الثاني: أن يقال لهؤلاء المقلدين فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي يُهتدَى بها وقلدتم مَن هو دونهم بمراتب كثيرة. فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. فما دل عليه الحديث خالفتموه صريحًا واستدللتم به على تقليد من لم يتعرض له بوجه. الثالث: أن هذا يوجب عليكم تقليد من ورث الجد مع الإخوة منهم، ومن أسقط الإخوة به معًا. وتقليد من قال: الحرام يمين، ومن قال: هو طلاق. وتقليد من حرم الجمع بين الأختين بملك اليمين، ومن أباحه. وتقليد من جوز للصائم أكل البرد، ومن منع منه. وتقليد من قال: تعتد المتوفى عنها بأقصى الأجلين، ومن قال بوضع الحمل. وتقليد من قال: يحرم على المحرم استدامة الطيب، وتقليد من أباحه. وتقليد من جوز بيع الدرهم بالدرهمين، وتقليد من حرمه. وتقليد من أوجب الغسل من الإكسال، وتقليد من أسقطه. وتقليد من ورث ذوي الأرحام، ومن أسقطهم. وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير، ومن لم يره. وتقليد من منع تيمم الجنب، ومن أوجبه. وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدًا، ومن رآه ثلاثًا. وتقليد من أوجب فسخ الحج إلى العمرة، ومن منع منه. وتقليد من أباح لحوم الحمر الأهلية، ومن منع منها. وتقليد من رأى النقض بمس الذكر، ومن لم يره. وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها، ومن لم يره. وتقليد من وقف المولى عند الأجل، ومن لم يقفه، وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن سوغتم هذا فلا تحتجوا لقول على قول، ومذهب على مذهب؛ بل اجعلوا الرجل مخير في الأخذ بأي قول شاء من أقوالهم. ولا تنكروا على من خالف مذهبكم واتبع قول أحدهم. وإن لم تسوغوه فأنتم أول مبطل لهذا الحديث ومخالف له وقائل بضد مقتضاه وهذا مما لا انفكاك لكم منه. الرابع: أن الاقتداء بهم هو اتباع القرآن والسنة والقول من كل مَن دعا إليهما منهم فالاقتداء بهم يحرم عليكم التقليد ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل كما كان عليه القوم رضي الله عنهم. وحينئذٍ فالحديث من أقوى الحجج عليكم وبالله التوفيق. (الوجه السادس والأربعون) قولكم: قال عبد الله بن مسعود: من كان مستنًّا منكم فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد. فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه: فإنه نهى عن الاستنان بالأحياء وأنتم تقلدون الأحياء والأموات. الثاني أنه عيَّن المستن بهم فإنهم خير الخلق، وأبر الأمة وأعلمهم رضي الله عنهم. وأنتم معاشر المقلدين لا ترون تقليدهم، ولا الاستنان بهم وإنما ترون تقليد فلان وفلان ممن هو دونهم بكثير. الثالث: أن الاستنان بهم هو الاقتداء بهم، وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما أتوْا به ويفعل كما فعلوا. وهذا يبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة (رضي الله عنهم) عليه. الرابع: أن ابن مسعود قد صح عنه النهي عن التقليد وأن لا يكون الرجل إمعة لا بصيرة له. فعلم أن الاستنان عنده غير التقليد. (الوجه السابع والأربعون) قولكم: قد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) وقال: (اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي) . فهذا من أكبر حججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد؛ فإنه خلاف سنتهم. ومن المعلوم بالضرورة أن أحدًا منهم لم يكن يدع السنة إذا ظهرت لقول غيره كائنًا من كان، ولم يكن له معها قول ألبتة وطريق فرقة التقليد خلاف ذلك. يوضحه: (الوجه الثامن والأربعون) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قرن سنتهم بسنته في وجوب الاتباع. والأخذ بسنتهم ليس تقليدًا لهم بل اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما أن الأخذ بالأذان لم يكن تقليدًا لمن رآه في المنام. والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدًا لمعاذ؛ بل اتباعًا لمن أمرنا بالأخذ بذلك فأين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟ يوضحه: (الوجه التاسع والأربعون) أنكم أول مخالف لهذين الحديثين؛ فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم، ولا بالاقتداء بهم واجبًا وليس قولهم عندكم حجة، وقد صرح بعض علمائكم بأنه لا يجوز تقليدهم ويجب تقليد الشافعي، فمن العجائب احتجاجكم بشيء أنتم أشد الناس خلافًا له وبالله التوفيق يوضحه: (الوجه الخمسون) أن الحديث بجملته حجة عليكم من كل وجه: فإنه أمر عند كثرة الاختلاف بسنته وسنة خلفائه وأمرتم أنتم برأي فلان ومذهب فلان. الثاني: أنه حذر من محدثات الأمور وأخبر أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. ومن المعلوم بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي ترك له كتاب الله وسنة رسوله، ويعرض القرآن والسنة عليه، ويجعل معيارًا عليهما من أعظم المحدثات له، والبدع التي برأ الله سبحانه القرون التي فضّلها وخيّرها على غيرها منه. وبالجملة فما سنَّه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدول عنها فأين هذا من قول فرقة التقليد: ليست سنتهم حجة ولا يجوز تقليدهم فيها، يوضحه: (الوجه الحادي والخمسون) أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في نفس هذا الحديث: (فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا) . وهذا ذم للمختلفين وتحذير من سلوك سبيلهم وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد، وأهله الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعًا كل فرقة تنصر متبوعها، وتدعو إليها، وتذم من خالفها، ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنهم ملة أخرى سواهم يدأبون ويكدحون في الرد عليهم ويقولون: كتبهم وكتبنا وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبي واحد، والقرآن واحد، والدين واحد، والرب واحد. فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم وأن لا يطيعوا إلا الرسول ولا يجعلوا معه من يكون أقواله كنصوصه ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا! فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى الله ورسوله وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يعدم من الأرض. ولهذا تجد أقل الناس اختلافًا أهل السنة والحديث. فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقًا، وأقل اختلافًا منهم لما بنوا على هذا الأصل، وكلما كانت الفرقة عن الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر، فإن من رد الحق مرج عليه أمره، واختلط عليه، والتبس عليه وجه الصواب، فلم يدرِ أين يذهب، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ} (ق: 5) . ((يتبع بمقال تالٍ))

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة الحكمة في كون الأنبياء لا يورَّثون (س1) أنجي أمبوغ بن أحمد في سنغافوره: ما الحكمة في كون الأنبياء عليهم السلام لا يورثون؟ (ج) الحكمة في ذلك دفع تهمة الكافرين والمرتابين الذين يظنون أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كالملوك والأمراء كانوا يريدون بدعوتهم الثروة والجاه والسيادة. والحجة على هؤلاء أن سيرة الأنبياء ترد هذا الزعم، وتبطله فقد كانوا معروفين بالزهد في الدنيا، وعدم المبالاة بزخرفها والعناية بمجدها. وقد يقول المنكر: إن المعهود في كثير من الناس أن يضيقوا ويقتروا على أنفسهم ليوفروا التراث لذرياتهم. وهؤلاء كذلك فكان من تمام الحجة أن يجعلوا ما يتركون صدقة لأمتهم؛ ليعلم أنه لم يكن لهم حظ في الدنيا لا لأنفسهم في حياتهم، ولا لذرياتهم بعد مماتهم، وإنما كانوا يقصدون بدعوتهم مرضاة الله تعالى بهداية خلقه وإرشادهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. * * * تكفير الحج الذنوب (س2) عوض أفندي محمد الكفراوي بزفتى: أفيدونا عن الحج المبرور هل يكفر جميع الذنوب الكبائر والصغائر حتى التبعات أم يكفر البعض ويبقى البعض؟ وعن أصح الأقاويل والنصوص فيه؛ لأن بيننا خلافًا في ذلك؟ (ج) الأصل في القول بالتكفير حديث أحمد والشيخين وأصحاب السنن ما عدا أبا داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) وحديث أحمد والشيخين وغيرهم عنه: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) وفي رواية للترمذي: (غفر له ما تقدم من ذنبه) قال الترمذي: هو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحق الله لا العباد ولا يسقط الحق نفسه؛ بل من عليه صلاة يسقط عنه إثم تأخيرها لا نفسها فلو أخَّرها بعد ذلك تجدد إثم آخر. وقال ابن عبد البر: إن الذي يكفَّر هو الذنوب الصغائر. وقال الطبري: هو محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها؛ أي: فمن كان عليه حق لأحد فإنه لا يكفره عنه إلا العجز عن أدائه مع نية الأداء عند القدرة. وقالوا: إن الحج المبرور هو المقبول والذي جاء على الوجه الأكمل باستيفاء الأعمال البدنية والقلبية ومن ذلك أن يكون المال الذي ينفقه حلالاً. وأنشدوا: إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجت العِير لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل مَن حج بيت الله مبرور وإذا بحثنا في معنى التكفير وسره يتيسر لنا أن نفهم أن قول هؤلاء الأئمة هو المعقول، وأن قول بعض المتأخرين: إن الحج يكفر التبعات والموبقات، ويسقط الحقوق. فاسد مخالف لأصول الدين وقواعد الشريعة؛ ذلك أن الكلام الإلهي والهدي النبوي يدلان على أن الذنوب تدنس الأرواح وتُدَسِّيها، وأن الأعمال الصالحة تطهرها وتزكيها. وأن تكرار السيئات يُحدث في النفوس ظلمات معنوية إذا كثرت ترين على القلوب؛ أي: تغطيها حتى لا تعود تتأثر بالذكرى والموعظة، وأن من أحاطت به سيئته بمثل هذا التكرار كان خالدًا في النار، وأن من تدارك الذنب بالتوبة والعمل الصالح الذي يكون أثره في النفس مضادًّا لأثر ذلك الذنب يغفر له ويكفر عنه: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) ، {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) . والحج المبرور الذي لا رفث فيه ولا فسوق؛ أي: الذي ليس فيه كلام فاحش ولا خروج عن آداب الشريعة وحدودها هو توبة نصوح وإيمان وعمل صالح له في النفس أكبر الآثار في إصلاحها لما فيه من الانقطاع عن الأهل والوطن والأعمال الدنيوية والإقبال على الله تعالى بزي الأموات، وإحياء شعائر أعظم المرشدين، والوقوف في مواقف أفضل المرسلين، والتذكر بتقلبهم في تلك المعاهد المقدسة تعبدًا لله تعالى، وتقربًا إليه وخضوعًا خالصًا لجلاله، لا حظّ للنفس فيه. فمن حج مثل هذا الحج المبرور، واستغرق قلبه بمثل هذا الإحساس والشعور - رُجي أن يُمْحَى ما كان عَلِقَ بنفسه من آثار الذنوب الماضية أو تغلب تلك الظلمة بهذا النور، وعند ذلك تنبعث النفس إلى حسن الطاعة، والاستقامة على طريق الهداية، فتعمد إلى أداء ما عليها من الحقوق لله وللناس بقدر الاستطاعة، فيصح أن يقال: إنها ولدت ولادة جديدة؛ لأنها دخلت في دور من الحياة جديد، وأن يقال: إن السيئات الماضية قد كفرت وغفرت؛ لأن الغفر والتكفير بمعنى تغطية الشيء وقد غطيت تلك الظلمة الماضية وسترت بهذا النور الحاضر. وأما مَن يتوهم أن التكفير والمغفرة عبارة عن أجرة الحركات البدنية في السفر إلى مكة والطواف والسعي والوقوف في تلك المعاهد، وأن مثالها مثال من أفسد في حرث غني ونسله فكلفه بعمل شاق في مقابلة ذلك الإفساد وجعل هذا في مقابلة ذاك، فهو الذي يجهل الدين ويرى أن الله ينظر إلى حركات الأبدان دون إصلاح النفوس والأرواح. ولو كان الأمر كذلك لكان كل من أدى أعمال الحج الظاهرة مقطوعًا له بالمغفرة ولكان للمغرور أن يترك الفرائض، وينتهك المحارم، ويتوغل في المظالم، ثم يسافر إلى تلك البلاد ويأتي بتلك الحركات، ويعتقد أن قد سقطت عنه جميع الحقوق والتبعات. وقد قالوا: إن للحج المبرور الذي يكفر السيئات علامات جِماعها الاستقامة بعده. قال الإمام الغزالي في آخر كتاب الحج من الإحياء بعد ذكر أعمال القلب فيه ما نصه: (فإذا فرغ منها فليلزم قلبه الحزن والهم والخوف، وأنه ليس يدري أقُبِلَ حجه وأُثبت في زمرة المحبوبين، أم رُد حجه وألحق بالمطرودين، وليتعرف ذلك من قلبه وأعماله؛ فإن صادف قلبه قد ازداد تجافيًا عن دار الغرور، وانصرافًا إلى دار الأنس بالله تعالى، ووجد أعماله قد اتزنت بميزان الشرع فليثق بالقبول فإن الله تعالى لا يقبل إلا من أحبه، ومن أحبه تولاه وأظهر عليه آثار محبته، وكف عنه سطوة عدوه إبليس لعنه الله. فإذا ظهر ذلك عليه دل على القبول، وإن كان الأمر بخلافه فيوشك أن يكون حظه من سفره العناء والتعب نعوذ بالله من ذلك) اهـ. * * * بعض حكم الحج (س3 و 4 و 5) سيد أفندي نصر بالجميزة: (1) ما الحكمة في الوقوف بعرفة؟ (2) ما الحكمة بجمع الجمرات من محل مخصوص؟ وما هي حقيقة الرجم؟ وأي شيء يرجمون؟ (3) هل بئر زمزم صناعية أم طبيعية وما علة تسميتها بهذا الاسم؟ (ج) الوقوف بعرفة في معنى الاجتماع لصلاة الجمعة إلا أن جماعته أكبر، وفائدة الاجتماع فيه أعم وأكمل، فإن المسلمين يجتمعون له من كل شعب وقبيل، ويقصدون إليه من كل رجا من أرجاء الأرض فيتعارفون في موقف يساوي بين الملوك والأمراء، والصعاليك والفقراء؛ إذ يجتمعون بزي واحد على عمل واحد، ويتلقون من إمام المسلمين أو نائبه تعليمًا واحدًا بالخطبة. وأما رمي الجمار فيقصد به التشبه بإبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ إذ كان في تلك المعاهد يبني بيت الله، وينقل الحجارة بنفسه، ويساعده ولده إسماعيل. فإن تذكر قيام الرجال العظام بخدمة الدين يحيي شعور الدين في النفوس، ويبعث الهمة للاقتداء بهم. وروح هذا التشبه وسره إظهار العبودية لله تعالى، والامتثال لأمره، واقتفاء أثر رسله في الأمور الدينية التي وضعت لإصلاح النفوس بإحياء شعور الإيمان والتعبد لله. وللرمي أذكار مخصوصة يقصد بها ما ذكره، فتكون الحصيات مع هذه الأذكار كالسبحة في إحصاء الأذكار المأثورة بالعدد المعين، وكانوا في الصدر الأول إذا عدّوا يعدون على نحو الحصا والنوى، والعمدة ما ذكرناه أولاً من معنى التأسي والتعبد. وأما بئر زمزم فهي كسائر الآبار ماء طبيعي وبناء صناعي وفي مائها معادن نافعة إن شاء الله تعالى. والماء الزمزم: الكثير، وروي أن هاجر أم إسماعيل عليهما السلام هي التي اهتدت إليه عند الحاجة، وأن المَلَك فجَّره لها، والملائكة موكلون بكل شيء، فهم أرواح النظام، ونواميس الأسباب والله أعلم. وقد كنّا عازمين على أن ننشر في الجزء الماضي أو في هذا الجزء مقالاً مسهبًا في أعمال الحج الظاهرة والباطنة، وفي حكمه وأسراره الروحية والاجتماعية؛ ولكن الكلام في مسألة الفتاوى العارضة شغلنا عن ذلك حتى سافر أكثر الحجاج الذين كنا نحب أن نزودهم بما نكتب، ولعلنا إن أمهل الزمان نكتب ذلك في العام القابل إن شاء الله تعالى. * * * الصور الشمسية (س6) عبد الكبير أفندي المصطفوي الخطيب والمدرس في (روسيا) : شاع في عصرنا هذا التصوير بآلة مخصوصة، ونحن مجبورون من حكومتنا الروسية على أن نصور بهذه الآلة في بعض الأحوال لإثبات أشخاصنا، ومن ذلك أن مَن يريد منا أن يكون إمامًا في مسجد يكلَّف بأن يقدم صورته إلى الجمعية الشرعية في أوفا عند حضوره إليها لتأدية الامتحان لإثبات أنه هو، فهل يجوز هذا شرعًا أم لا، وما معنى الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك؟ (ج) سبق لنا في المنار بيان السبب في النهي عن التصوير، واتخاذ الصور بهيئة تدل على التعظيم، وهو أن القوم كانوا قريبي عهد بالوثنية، وكانت الكعبة في الجاهلية مزينة بالصور المعتقدة، ومنها صور بعض الأنبياء، فأراد الشارع أن ينسيهم تلك العبادة الوثنية التي ألفوها القرون الطويلة، وأَنِسَتْ نفوسهم بها، فنهاهم عن التصوير وتعظيم الصور، كما نهاهم عن تشريف القبور واتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عندها؛ بل وعن زيارتها في أول الأمر، وعن اتخاذ قبره وثنًا أو عيدًا. ولقد شدّد في أمر القبور ما لم يشدد في أمر الصور، حتى كان يلعن من يتخذها مساجد، وهو في مرض الموت؛ ولكن المسلمين ظلّوا في الغالب يتجنبون التصوير واتخاذ الصور؛ حتى بعد زوال سبب النهي بالمرة؛ فإنه لا يخطر ببال مسلم الآن أن يعبد صورة أو تمثالاً، ونراهم قد استباحوا ما نُهوا عنه في شأن القبور، فاتخذوها مساجد، وأوقدوا عليها السرج والشموع، وأوقفوا لذلك الأوقاف، مع أن معنى النهي قائم متحقق؛ بل زاد المسلمون على غيرهم - فيما نهوا - أن يفعلوا فيه فعلهم، وهذا من عجائب انقلاب أوضاع الدين. اتخاذ الصورة وحملها لأجل أن يُعرف الشخص بها لمصلحة ألزمته حكومته بها - لا ضرر فيه، لا لأنه لا دخل لنزعات الوثنية، وتذكُّر عبادتها بهذه الصورة فقط؛ بل نزيد على انتفاء علة النهي عن التصوير، واتخاذ الصور - أن الفقهاء الذين يقلدهم المسلمون الآن قد صرّحوا بذلك، فمنهم من قال: إن اتخاذ الصور من غير تعظيم لها لا ضرر فيه، واستدلوا على ذلك بحديث عائشة في الصحيح، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرها بهتك القرام (الستار) ، الذي فيه الصور؛ إذ كان معلقًا كما تعلق الصور المعبودة، فهتكته، واتخذت منه وسادة كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعملها والصور فيها. ومنهم من قال: إنه لا بأس باتخاذ الصور التي لا يعيش مثلها، وأكثر الصور الشمسية التي تُتخذ لمعرفة أشخاص أصحابها لا حرمة فيه عليكم، لا اجتهادًا ولا تقليدًا؛ بل الأمر أوسع من ذلك. * * * تعليم النساء الكتابة (س7) ومنه: ذكرتم في المنار أن الحديث الوارد في النهي عن تعليم النساء الكتابة موضوع، وقلتم: إن تعليمهن الكتابة جائز؛ ولكن الكتاب الذي طبع في ديارنا المسمى (تفليس إبليس) أو (فصل الخطاب) يقول إن الحديث في النهي عن تعليم النساء الكتابة، وإسكانهن الغرف متواتر فمن أين أخذ صاحب هذا الكتاب القول بتواتر الحديث وتصحيحه؟ (ج) : إن مؤلف ذلك الكتاب جاهل بالحديث والشرع، فلا يعتد بقوله، وهو أخذ قوله عن

كيفية الاعتقاد بالوحي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كيفية الاعتقاد بالوحي كتب كاتب إلى الأستاذ الإمام يسأله أن يكتب في المنار كيفية الاعتقاد بالوحي، وتعريف الوحي التعريف الذي يسهل على الفهم تناوله، وعلى الأقل قبوله، ويقول: إنه اجتهد في فهم الوحي فلم يفهم المراد منه. فالأستاذ الإمام يحيله على رسالة التوحيد، فإذا قرأها وتدبّر ما كتب فيها، ولم يقتنع فليحضر بنفسه إلى محل الإفتاء في الأزهر وليسأل عما اشتبه عليه يُجَبْ عنه، وإذا لم يتيسر له الحضور فليكتب ما يشتبه عليه.

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع حب القوة.. رابطة الدين قد بينا هنا لكم أن رابطة القومية لا يعدو نفعها قدرًا طفيفًا كأن يعين الرجل رجلاً من عترته على رجل من عترة أخرى. وإن هذا القدر لو لبث عليه الإنسان لما تميز على الحيوانات التي ينهش بعضها بعضًا. وهنا نبين كيف حدثت لهذا النوع رابطة أخرى، وكيف أورثته قوة عظمى، وسارت به في الارتقاء مسافة كبرى. تأسيس إن من المحقق المحسوس أن الأقاليم والأعمال والأعمار تحدث في أهلها ثم في أعقابهم من الصفات الجسدية ما يجعل بينهم وبين الآخرين فروقًا تبتدئ صغيرة ثم تكبر. فهذه من جملة الأسباب التي أوجبت - على التمادي - الفروق التي بين أبدان البشر. وليس من صددنا الآن التصدي لذكر الأسباب الأخر؛ بل نكتفي بهذه لندعم بها مقدمة أردنا إثباتها هنا وهي أنه (كما تتفاوت الأبدان لأسباب تتفاوت الأفكار لأسباب) ، (ولم أر أمثال الرجال تفاوتًا) . ومن المحقق المحسوس والمعقول أن بين القوى الثلاثة التي في الإنسان ارتباطًا فالقوى الظاهرة مسخرة للنوعين الآخرين من قواه نعني بهما قوة الإدراك - التي نسميها الفكر أو العقل - وقوة الطلب والإرادة - التي نسميها القلب - وإننا نجد أن العقل والقلب يكونان على مبلغ البدن من الصحة والاعتدال والقوة. ثم نجد لصحة البدن أسبابًا منها صحة الإدراك واعتدال الإرادة، هذا الارتباط دقيق جدًّا وفيه شبه الدور الذي يمنعه علماء التصور والتصديق (المنطق) ولدقته خفي على أكثر الناس إنافة كل قوة على أختها في التأثير. فمن الناس من ظن أن صحة البدن هي التي تنتج صحة الفكر والإرادة. وقد نسوا أن أصح البهائم بدنًا لا تفوق بالفهم أضعفها. ونسوا أن الذين ليس لهم نصيب كبير من الحياة النوعية - كرعاء الإبل - أقرب إلى صحة الأبدان منهم إلى صحة الأفكار ونحن بهذا الاحتجاج لم نرد تفنيد ذلك الرأي من كل الوجوه بل من وجه الجمود على هذه الجهة وحدها. وآخرون ظنوا أن الأصل صحة العقل فهي التي تنتج صحة البدن والإرادة. وقد نسو أن أقوى الناس عقلاً لا يفوق بصحة البدن ضعاف الإدراك وبصحة الإرادة ضعاف الأبدان. كل هذه الظنون نشأت من الشعور بذلك الارتباط ولكن لم يرافقها التدقيق فسيمت بالارتباك. والظن السديد الموطود هو أن الارتباط موجود، والدور مفقود، والأمر دائر على فضل طفيف بينها. فهبة القلب للعقل والبدن تنيف إنافة قليلة على اتهابه منهما. وهبة العقل للبدن تنيف قليلاً على اتهابه منه. ثم وراء الكل للعقل والقلب جاذبان ضدان مستتران قد أوجدهما بارئ الكل محكًا للعقول؛ ليخلص الطيب كما يخلص النور من الغثاء الأحوى. ولا يسأل من خلق الأضداد عما خلق. سبحانه هو المنزه وحده عن الأضداد والأنداد. هذا ما ظهر لنا من كيفية الارتباط بين قوى الجسد الظاهرة والباطنة ثم علاقتها بالأمرين الغيبيين، وهو يعرفنا أنه مهما يكن للأمور الحسيّة من تأثير فإن وراءها أمورًا غيبية. وأنه مهما يكن للأمور الغيبية من تأثير فإن للأمور الحسية دخلاً وشركة. وتثمر هذه المعرفة احترام الأسباب الظاهرة أدبًا مع من لم يوجدها عبثًا، وتشوف النفوس إلى ما وراء المعارف الحاضرة، وبمثل هذا كان رقي النوع في المعارف. ويؤخذ من هذا أن أوائل علم البشر كلها إلهامية وحيية وأن إلهام كل فرد يكون بحسب قواه. ومعنى الإلهام أو الوحي في اللغة: الإلقاء في الروع؛ أي: الإخطار على البال. بيد أنه يكون على ثلاثة أنواع يختلف تعريفه اصطلاحًا بحسبها: النوع الأول: عام وهو ما تكون به هداية كل نوع لما يصلح له قوامه كالذي نراه في فطر آكلة العشب من اجتناب الأعشاب التي لا تلائمها من غير معلم ومن غير تجربة سابقة؛ كالخيل والبقر والأنعام. وكالذي نراه من اتخاذ كل نوع من الأنواع المتعادية أسباب الدفاع والهجوم من صياصي وخدائع. اعتبر بذلك من صغار الحشرات إلى كبار السباع. وكالذي نشاهده من استشفاء البعض منها ببعض الأعشاب كالسنانير والكلاب. وكالذي نراه من نظام الحيوانات المنقادة لرئيس منها كالنحل والنمل [*] . والنوع الثاني: خاص وهو ما تكون به هداية هذا النوع الإنساني في حياته النوعية وشؤونه الخصوصية. ومن هذا الباب الرجاء الفجائي وأوائل الاختراعات على اختلافها [**] . والنوع الثالث: أخص وهو ما تكون به هداية بعض الأفراد في معرفة شيء من عالم الغيب الذي من نحوه وردت نواميس عالم الحس فكان بها قوامه ونظامه [****] . ويقابل هذه الهدايات في النوعين الأخيرين الضلالات تأتي من جانب أحد الضدين المجتنَّين المتجاذبين لعقل الإنسان وقلبه. حتى يصعد ذو هدى من النوع الأخير إلى أعلى عالين، وينزل ذو ضلال يضاد إلى أسفل سافلين [****] . ومن ثمة لا يكون هذان النوعان الأخيران لأفراد أهليهما على وتيرة واحدة، وإلا لما كان التفاوت المكتوب؛ وإنما يكون أهلوهما متفاوتين على مقدار قابلياتهم في الاتهاب. فمن الناس من يتعلم من معلم صنعة ثم يوحى إليه أن يجرب تجربة لم يتعلمها ليزيد في تلك الصنعة شيئًا جديدًا، ومنهم من لا يوحى إليه ذلك أو يوحى إليه أن ينقص منها. ومنهم من يوحى إليه أن يبتدئ، ويخترع أمرًا لم يكن من قبل ولم يعلمه إياه معلم. ثم يوحى إليه أن يعلمه للغير أو أن لا يعلمه. ومنهم من يلهم علم أمر سيكون [1] ومنهم من يلقى في روعه أن ينفع غيره، ومنهم من يلقى إليه أن يضر الغير، ومنهم من ينشرح صدره لتصديق الملهم ومن لا ينشرح صدره وهكذا. هذا وربما طالبنا مطالب بتسمية ذينك المتجاذبين المجتنين فأقول: إنه قد سمي من قبل جاذب الخير والسعادة والفضيلة بالروح الطاهر (القدس) ، والأمين، وعون الله، وحبر الله، ونصر الله، وأمر الله، وروح الله، وبالنور، والشفاء، وكل جميل. وسمي جاذب الشر والشقاء والرذيلة بالروح النجس (الرجس) واللعين، ولعن الله، وغضب الله، وخزي الله، وبالظلام، والمرض، وكل قبيح. ولكني أحب الذين يدركون خواص المسمى أولاً ثم يلتفتون إلى الأسماء، فإن وافقت المطلوب كما هنا؛ وإلا التمسوا المطابق، وأكره الذين يلتفتون للأسماء أولاً ثم يتجافون عن الخواص التي ربما لا تظهر لهم من الأسماء. أو يتجافون عن أسماء لم يسمعوها لخواص كانوا قد سمعوا بها. بناء بناءً على هذا الأساس الذي مكناه نخال أو نقول: إن البشر لما تفاوتت أبدانهم وعقولهم وقلوبهم للأسباب الظاهرة والباطنة تفاوتت محبوباتهم ومشتهياتهم، وحرص كل منهم على مشتهاه، واتخذ إلهه هواه، وافق ذلك المشتهى لغيره أو لم يوافق، طابق ذلك التأليه للإنسانية أو لم يطابق، فتكونت بينهم العداوة والبغضاء، وأمسى القرباء بعداء، وزين للأقوياء منهم حطم الضعفاء، وماذا تكون عاقبة الأقوام إذا ألَّهوا الحكام، وتعبدوا بدم الحسام، ألا يستجير الضعاف ويجأرون، ألا يسرون بطلب المناص ويجهرون، فمن ذا الذي يجيب دعوة المضطرين، أفتسمعها الحجار، أفتستجيب لها الأشجار، أفتغيثها الحشرات، أفتلبيها العجماوات، أفترحم لها نفوس الذين من نارهم تضج، ومن غبارهم تعج، لمن يشكون، أتسمعهم الكواكب وتبصرهم. أتجبر كسرهم وتنصرهم، أتقدر ولا تريد، أم كل ذلك عنها بعيد؟ تجل يا عالم الغيب فليس إلا من لدنك يرسل الخالق هذا المدد الذي يحتاجه أكمل عوالم الأرض خاصة، وأشرفها مزية وأعظمها قوة، وأكرمها منزلة. ألم تسبق عناية الفاطر أن تعد لهذا المصنوع البديع ما لا تراه الأبصار، ولا تسمعه الآذان، ولا تبلغه الأذهان، فها هو ذا لم يجد حاجته هذه عند تلك المحسوسات، من الجمادات الأرضية فصاعدًا إلى نيرات السموات، فهل خُبِّئ له هذه الحاجة إلا في خزائنك يا عالم الغيب، تجل لنا بأنوارك، أشرق علينا بأسرارك، متعنا بجمالك، هبنا من كمالك. بل قد سبقت عناية الفاطر وهذا برهانها، وظهرت منحته وهذا سلطانها: إنه كان رجال مطهرون مصلحون يرشدون الأقوياء إلى العدل الذي ينفعهم أنفسهم وغيرهم يرشدون الضعاف إلى أسباب القوة التي يدفعون بها ظلم الظالمين وعلى هذا النحو أسسوا أول ميزان في الأرض لتوزن به ذات كل بالسوى، وتعرف به حدود القوى، فيكون الرجاء والتقوى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا} (النازعات: 37 - 38) وهي القريبة التي لها بعد {* فَإِنَّ الجَحِيمَ} (النازعات: 39) على أنواعها الحسية والمعنوية {هِيَ المَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} (النازعات: 39 - 40) الذي يربي غيره كما يربيه، ويقويه كما يقويه {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى * فَإِنَّ الجَنَّةَ} (النازعات: 40 -41) على أنواعها الحسية والمعنوية {هِيَ المَأْوَى} (النازعات: 41) . تالله الخدا. لم نُخلق سدى، وإن لَلَّحظة الدنيا غدا، إن هذا لقول من دعوا إلى الهدى، في كل الأمم واللغى، من أول الأزمان حتى المدى. هذا الذي أشرنا إليه هو مبدأ تاريخ الدين القويم ولزيادة التوضيح نقول: لما كان الفساد يكثر كان رجال ممن تغلب فيهم الروح الطاهرة يقومون للإصلاح، ويبرهنون للناس على أنه إذا لم توضع للمطالب والمحبوبات حدود يخضعون لها يفسد النظام، ويفني بعضهم بعضًا، من حيث لا يستفيد آخر من يفني الكل. وكان الناس منهم من يقبل، ومنهم من يُعرِض؛ إذ لو قبل الكل لمن أصلح لما كان اليوم من فساد قط. ولو قبل الكل لمن أفسد لما كان اليوم من نظام قط؛ بل قد كان اتباع المفسدين أكثر؛ لأن الفرق بين المصلح والمفسد كبير، هو فرق ما بين الضدين. وإذا كانت درجة المصلح عالية كان الأقربون منها أقل من الأبعدين. ولولا أن للإصلاحات قوة تؤيدها لتلاشى كل إصلاح قام به مصلح منذ الدور الأول حتى هذا الدور؛ ولكن تلك القوة المؤيدة هي التي تقوم للمصلح ومن يقاربه مقام الكثرة فقد تكون عظيمة ويطيف من الإصلاح بنفوس المفسدين خطرات موقظة مزعجة فتجذب فريقًا منهم وترجعهم عن غيرهم. وقد تكون ضعيفة ويطيف بنفوس المفسدين طائف من الروح الخبيث فيُهلك المفسدون دعاة الإصلاح ومتبعيهم؛ ولكن لا يلبثون بعدهم إلا قليلاً حتى تبيدهم طبيعة الفساد لتقوم الحجة فيما بعد. وهذه خلاصة هذا الأمر: (1) أنه في القديم فسدت العشائر. (2) فقام في كل قوم مصلح منهم. (3) فلم يؤمن للإصلاح إلا قليل. (4) وزاد المفسدون. (5) فأبادت طبيعة الفساد مَن أبادت منهم من الطاغين. (6) واعتبر آخرون. (7) ثم نسوا ما ذُكروا به فأصابهم ما أصاب الأولين. (8) لتكون آية في الآخرين. (9) وما برحوا حتى تواتر الهادون. (10) وعلا شأن الميزان والوازنون. (11) وخسر هنالك الطاغون والمطففون {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوَهُمْ أَو وَزَنُوَهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 2-3) . هذا هو تاريخ هذا الأمر فيما قبل التاريخ. وأما من بعد ذلك فلكل أمة كتب، منكم من يعلمها تقص عليهم أنباء مصلحين عرفوهم ولم تعرفهم أمة أخرى. والجدير بالذكر بعد كل ما تقدم أن الدعاة الهادين الذين قاموا في أقوامهم بألسنتهم قد أثمر عملهم من بعد حين ثمرة كبيرة جدًّا، وهي ربط أقوام كثيرين مختلفي الأنساب واللغات بمبادئ واحدة يدينون جميعًا بها؛ حتى يكون اسم إمامهم فيما بينهم جميعًا مقدسًا؛ بل حتى يكون خلف الشغاف من أفئدتهم، وعمدة الحلف والأقسام في ألسنتهم، فمثل هذه الحال من قوم أو أقوام، تقوى بينهم أواصر القلوب ووشائج الأفكار وهي أهم من أواصر الأبدان ووشائج الأرحام. هذه هي

بلرم ـ صقلية ـ 3

الكاتب: سائح بصير

_ بلرم - صقلية مسينا ومقبرتها نسيت أن أضع في جانب المقابر مقبرة مسينا وهي مقبرة في الجنوب الغربي من المدينة، وإنك إذا قلت لصقلي: إني ذاهب إلى مسينا. يقول لك في الحال: لا بد أن ترى المقبرة، وهي جزء من المدينة تحسب مدينة بنفسها فيها مدافن للأمراء والأعيان مبنية على أجمل نظام، وأقربه إلى السذاجة، وفيها مكان شامخ رفيع يدفن فيه أرباب الشهرة من المهندسين والشعراء ونحوهم. وطريقة الدفن في تلك الأماكن تختلف، فبعضها على الطريقة المعهودة من وضع صندوق الجثة تحت الأرض، وبعضها بوضعه في صندوق ضخم كبير لا تمكن سرقته على ظهر الأرض، وبعضها في بيوت تفرض في عرض الجدر العريضة وهكذا. والمقبرة مزينة بأغراس من شجر الصنوبر وضرب من فصيلة الصنوبر يشبه الأثل، وليس به ولا أعرف اسمه بالعربية سوى أنه شيء من كبار الطرفاء؛ لكنها نظمت بيد أوربية تعرف كيف تخضع النبات لإرادتها فتوجهه إلى الوجهة التي تريد. والطرق فيها على غاية ما يرام من النظافة والانتظام، وهي أنظف وأجمل من كثير من شوارع مدينة لأحياء (مسينا) ثم إنها تأخذ من أسفل الطريق إلى قمة جبل إذا صعدت عليه نظرت وأنت في المقبرة من البحر والساحل أجمل ما تنظر عيناك من اللألاء والنضرة في المواقع المختلفة، ومن الأشكال الطبيعية، وبدائع الأعمال الصناعية. يظهر أن المقبرة أعجبتني حتى انطلق قلمي في وصفها؛ كأنه قلم صاحب جريدة ينطلق في السياسة المصرية لبيان مناحيها، ووصف ضواحيها - أعوذ بالله - يوجد في هذه المقبرة مواضع مخصوصة للفقراء قد صُفت فيها قبورهم على نظام محكم تراها كأنها خطوط مزارع القطن في أرض غير معتدلة تقصر وتطول، وعلى رأس كل قبر صليب أسود يخيل للرائي من بعيد أنها أجنحة الغربان الجاثمة على بقايا الجثمان. لا أزال في وصف المقبرة كما يزال بعض الغافلين عن أنفسهم في بلادنا يشتغلون بالسياسة عن الأدب والكياسة. ماذا أقول في وصف هذه المقبرة؟ مدينة جميلة المناظر؛ بديعة المداخل، بعيدة المخارج، الداخل فيها أكثر من الخارج منها، قد اختير لها شجر الصنوبر زينة من بين الأشجار؛ لأنه في خضرة دائمة وحياة مستمرة؛ كأن أرواح من يموت تنتقل إليه بعد مفارقة الأجساد؛ فهو لا يزال دائم الحياة في الصيف وفي الشتاء والخريف والربيع، مدينة زينها الأحياء في حياتهم، ليعدوها لإقامتهم فيما يزعمون بعد مماتهم، وهكذا من كان على يقين من الرحيل إلى دار هيأ تلك الدار للسكنى، وأعد لنفسه فيها أنواع النعيم ليطيب له المقام، ولا يقلق به المكان؛ لكن هل يكفي أن تزين لنفسك مقرًّا لجثتك وأنت لا تدري هل تشعر هناك بما زينت، أو تؤخذ عنه إذا مت، فهل زينت دارًا لروحك بالطيبات، كما زينت دارًا لجثتك بالزهر والنبات؟ أخاطبك وأنت مصري من سكان القاهرة لا ترى في مقبرتك، ولا في الطريق الموصلة إليها إلا ما يخيفك من الموت، وينغصك فيه؛ غمر من الغبار، وتلول من التراب، تتذكر بها أنك من التراب وإلى التراب. إذا بنيت فيها مسكنًا فلست تبنيه لنفسك يوم تموت؛ ولكن تبنيه لتقيم فيه بجانب الأموات وتشاركهم في المسكن وأنت حي تقضي فيه الأيام من رجب ومن شعبان ومن شوال ومن ذي الحجة، وبعض أيام من بقية الشهور تأكل وتشرب وتنام ولا تشبه جيرانك من أهل المقابر إلا في النوم الثقيل ولا تستحي من معاشرتهم وأنت تأكل وهم لا يأكلون، وتضحك وهم ربما يبكون، وتلعب وهم لا يلعبون، تلهو بالقيل والقال، وملاعبة النساء والأطفال، وربما أقمت في المقبرة ما تسميه بالموالد وجلبت بذلك إليها من المغنين والمطربين والعازفين ونصبت فيها الخيام وصنعت من لذيذ الطعام، ما تدعو إلى تناوله العلماء الأعلام والأتقياء الكرام؛ فيلبّوا دعوتك زُرافات ووحدانًا، مشاة وركبانًا، ويخوضون في غمار اللاهين إلى أن يصلوا إلى حيث نصبت خيامك، وهيأت طعامك، على ظهور الأموات، وبجوار تلك الرفات، وتبيت ليلتك تلهو وتلعب، وتصيح وتصخب، كأن الموت قد فارق ديارك، وكره جوارك، وفر من بين يديك، مشمئزًّا مما يرى لديك، أما مقبرة مسينا فلا ترى فيها آكلاً ولا شاربًا وإنما ترى الزائرين في سكينة ووقار، لا يتكلمون إلا همسًا، تماشيهم ولا تكاد تسمع لهم جرسًا. صخب الصقليين وتسولهم وكسلهم أهل مسينا من أهالي سيسيليا، وسيسيليا هي جزيرة صقلية التي ملك فيها العرب نحو مائتي سنة، وكان منها كثير من العلماء والفقهاء والمؤرخين والفلاسفة والصوفية وبعض الزنادقة وكل صنف من صنوف أهل العلم والمنتسبين إليه كما كان في العراق والشام والأندلس. وقد ترك العرب آثارًا في البلاد منها ما تقدم ذكره وهو مما لا يُذكر، ومنها كلمات في لسانهم كثيرة كالشروق للريح الشرقية وكالقبة والطلعة والشر، ونحو ذلك من الكلمات التي ترشدك لأول وهلة إلى أصلها وإلى البلاد التي حملت منها. ولا أظن أن الصياح والصخب الذي اختص به أهالي سيسيليا يكون من ميراث العرب رحمهم الله؛ فإن أصوات السيسيليين أشد قرعًا، وآلم في الأذن وقعًا، وإني لا أشك في أن حناجرهم أشد تمرنًا على الصراخ بغير داعٍ من حناجر أهل كفر الجاموس [*] أو سكان عرب يسار، أما العرب فكانوا يصيحون في الحرب والجلاد، ويسكتون عند الرجوع إلى البلاد، ولعل هؤلاء استعملوا في السلم ما كان يستعمله أولئك في الحرب كما يفعل بَحريُّةُ يافا وبيروت من ثغور سوريا، أما الإهمال والكسل فلا أدري هل هو من طبيعة البلاد أو من ميراث تركه بعض السلف من الفاتحين؟ ويل لك إذا عُرِفْتَ بأنك غريب فإنه يتبعك السائلون الملحفون، والمكتدون المجدون، ويلزمونك حتى تعطي شيئًا من النقد، ولا فرق في حالك بين أن تجلس في قهوة، أو تكون في زيارة معبد، أو في تفقد مكتبة أو دار آثار، تجد من ذلك ما لا تجده عند المتبولي ولا عند ضريح الأستاذ البيومي (رضي الله عنه) ثم تجد الناس في الساحات وقوفًا أو جوالين لا يدرون ماذا يعملون، وإنما يتقرب إلى الغرباء من يظن القدرة في نفسه على أن يفترس منه فريسة؛ لكن يمكنك إن كان عندك صبر أيوب وسماجة بعض السبَّابين عندنا من المصريين أو السوريين أن لا تعطي شيئًا أو تهرب إذا أردت. لعلّك تفرست شيئًا من الكسل في حكاية ما وقع في فهرس الكتب العربية في المكتبة العمومية، ودفتر الأسماء في دار المحفوظات، وأزيدك أنك إذا ذهبت عند شركة المِلاَحة (بكسر الميم وتخفيف اللام لا المَلاَّحة بفتح الميم وتشديد اللام كما يقول بعض أكابرنا؛ فإن التشديد يجعل الكلمة موضعًا للمِلح الذي يوضع على الطعام ويُتناوَل أحيانًا للإسهال. أما التخفيف فهو اللازم في اسم الشركة لخفة مراكبها في السفر على البحر الملح، وأظن اللفظ يرجع أيضًا إلى رفيقه؛ فإن في البحر ملحًا أيضًا، لكنه ليس يكثر كالذي في تلك الكلمة المشددة) وجئت مكتب الشركة لتطلب تذكرة سفر مثلاً تجد العامل يحرك يده ببطء كأن بعض أجزائه ينازع بعضًا؛ فإذا فرغ من الكتابة على هذا الوجه القتَّال أسرع بمد يده إليك لطلب المبلغ فإذا دفعته إليه وكانت لك بقية من النقد يلزمه ردها إليك كادت يده تشل بجانبه، وأنت تنظر إليه وتنتظر أن تتناول مالك، وتنصرف وهو ينظر إليك كأنه يتمنى أن تنسى ما لك عنده أو تمل الانتظار ويأخذك الوقت فتتركه له، وهذا ضرب من الكسل في أداء الحق ونوع من البطء في العمل لا تجده حتى في مصر حرسها الله؛ فإن العمال عندنا حتى في زمن الصيف لا يسمحون لأعضائهم أن تتعود هذه العادة الرديئة! رثاثة الصقليين ووساختهم ومقابلتهم بالمصريين أما رثاثة الملبس عند الفقراء ودنس الثياب، وعدم العناية بالنظافة في كثير من الشؤون فذلك مما لا تجد له مثالاً في كثير من الأحياء عندنا، وإني أقص عليك فكاهتين وقعتا في النزل الكبير التي نزلت فيه - رفع الله عماده -: كنت أطالع في جريدة خطابًا ألقاه بعض أساتذة السوبون في باريس لمناسبة رفع تمثال للكاتب المؤرخ الفرنسي رنان ألقاه في بلدة رنان التي ولد فيها، وكنت مستغرقًا فيما يقول الخطيب عن القسيسين وتعاليمهم، وعن الأحرار أطال الله في ألسنتهم، وما يرونه في فلسفتهم، وإذا بخادم النزل دخل عليّ وتحت إبطه ولد صغير في الخامسة من سنه تقريبًا، وقد علا الوسخ وجه الصبي، وهجم القذر على عينيه يريد أكلهما. وأنفه وفمه يسيلان؛ ذاك بما تعرف، وهذا بما لا يخفى عليك وبيده عنقود عنب يتناول منه حبة بعد حبة، وماء كل حبة يسيل من شدقيه؛ إذا رأيته أمكنك أن تحلف بشيء من الطلاق أو العتاق إن أمكن أن هذا من ذرية الشيخ الدعكي رحمه الله أو أن روح الأستاذ ظهرت في مظهره اللطيف! وإذا كنت واحدًا من بعض الأعيان أو بعض من يزج بنفسه في العلماء الذين تعهدهم أقسمت في الحال أنه ولي من الأولياء مجذوب من المجاذيب. فإذا ذكرك مذكّر أنه إيطالي؛ قلت: لا يبعد على الله أن يكون قد ملأ قلبه جذبًا وولهًا ورزقه من ذلك في صغره، ما لم ينله الدعكي في كبره، وإلا فكيف تسيل سعابيبه إلى هذا الحد ويكون ليس بمجذوب؟ هذا خلف. وربما حملك حسن الاعتقاد على أن تذهب إلى المحمل الذي تعرفه، وتستخرج من بحر الأنساب، وأصل نسبه بمن لا يصح لأحد أن ينتسب إليه مادام على مثل هذا الاعتقاد. فانظر بعيشك إلى هذا الطباق والتقابل بين ما كنت مستغرقًا فيه وبين ما فاجأني من هذا المنظر الكريه، هل يمكنك أن تحدث نفسك بماذا دافعت عن نفسي في هذه الشدة؟ دفعت فرنكًا واحدًا رميته على الأرض فالتقطه الصبي كما يلتقط العصفور حبة الأرز وكرّ راجعًا لا يبالي بتأخر أبيه عنه ليشكرني على ذلك الإحسان كأن الصبي كان يخاف أن أتبعه لأخذ الفرنك منه. لا تظن أني أبالغ في كلمة مما قلت فما رأيك بهذه الوساخة؟ ! أما الفكاهة الثانية؛ فقد كنت على مائدة الطعام في محل نومي من ذلك النزل لقلة السياح وسعة قاعة الطعام بحيث تكبر عن أن يجلس فيها شخص واحد فلما جاء صنف من الطعام يحتاج إلى الملح تنبهت إلى المَلاَّحة (هذه المرة بتشديد اللام؛ لأن فيها مِلحًا) كما سترى. نظرت إلى الملح فإذا فيه النقط السوداء أكثر من نزغات الشيطان في قلوب أهل الفسق والعصيان، وأغزر من الخطيئات في بعض المزارات، فنظرت إلى الخادم وأخذت الملاحة، وأنشأت أنكث ما فيها من النقط السوداء نكتة نكتة وأصعّد نظري في وجه الخادم وأقطب وأظهر التقزز ولا زلت كذلك حتى فهم أن هذا شيء من الوسخ لا أستطيع تناوله فعند ذلك تناول مني الملاحة بغاية الكسل ثم ذهب وأطال الغيبة، وبعدما كدت أغضب مع سعة حلمي في السفر جاء بملاحة أخرى أوسع من الأولى، وأطهر منها ملحًا فكأنه يفهم أن الوساخة مما لا يليق؛ لكن لا يتم له هذا الفهم إلا إذا قال له شخص آخر: إن النظافة خير منها، وإن الوسخ شيء تتقزز منه النفس وينفر منه الحس. أما مثال هذه الواقعة الثانية فممّا يكثر في خدمنا؛ بل في بعض ساداتنا رفَّه الله حياتهم - فإنهم ينظرون بأعينهم إلى الخبيث والخبائث، وربّما حكموا فيه بوصفه؛ لكنهم لا ينزهون المكان عنه؛ بل ربما لا ينزهون أنفسهم عن التلوث به إلا إذا أمرهم بذلك آمر فعند ذلك يمتثلون الأمر بغيرة المختار، وعزيمة الجبار، ثم يحدثك أحدهم بحسن ما صنع مما أمر به كأنه هو الذي اندفع إليه من نفسه كأن الأمر الصادر إليه هو الذي أكسب الشيء حسنه وحلاه بوصفه. وأعوذ بالله أن يكون هذا هو مذهب الأشاعرة الذين يقو

الاحتفال لتذكار تأسيس الدولة العلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال لتذكار تأسيس الدولة العلية نرى الأوربيين في مصر يحتفلون في كل عام احتفالات عمومية لدولهم؛ أهمها الاحتفال للجمهورية الفرنسية، والاحتفال لاستقلال إيطاليا وإن لهم في بلادهم من العناية بذلك أضعاف ما نرى منهم في بلادنا حتى إنهم ليحتفلون للرجال العظماء الذين خدموا الأمة خدمة جليلة. وبلاد مصر عثمانية؛ ولكنها مستقلة عن الدولة في إدارتها وعامة شؤونها، وقد زال على عهد الاحتلال أكثر ما يذكِّر المصريين بها حتى لغتها؛ فقد كانت التركية إلزامية في مدارس الحكومة المصرية ثم صارت اختيارية ثم اضمحلت وتلاشت. وقد استحسن نفر من نجباء الترك المقيمين في القاهرة أن يحتفلوا في كل سنة بتذكار تأسيس الدولة العثمانية وتكونها في مثل الوقت الذي نودي فيه بعثمان الأول سلطانًا وكان ذلك في 4 جُمَادَى الأولى سنة 699 للهجرة الشريفة الموافق 17 يناير سنة 1300 ميلادية، وقد جعلوا هذا الاحتفال الأول على الحساب الميلادي، ولا أدري أكان ذلك عن اختيار للحساب الميلادي؛ لأنه بالأشهر الشمسية أم السبب فيه أن الفكر أو العزم على الاحتفال كان متأخرًا؟ والرأي الذي لا ينبغي التردد فيه أن يكون الاحتفال بعد هذا العام على الحساب الهجري. تألفت لجنة في إدارة جريدة (ترك) لأجل هذا الاحتفال فوضعت اللجنة قانونًا لتأسيس جمعية خيرية للعثمانيين الذين ليس لهم جمعيات خيرية في مصر؛ وهم المسلمون على اختلاف شعوبهم ولغاتهم فإن للنصارى العثمانيين جمعيات كثيرة منها عدة جمعيات للسوريين خاصة: واحدة للموارنة وواحدة للروم الأرثوذكس وواحدة للروم الكاثوليك. والسبب في ذلك أن المسلمين متأخرون عن جميع أبناء الملل في الأعمال الاجتماعية، حتى إن مسلمي مصر لم توجد لهم جمعية خيرية إلا من عهد قريب، وكان سبب إيجادها مشعوذ إفرنجي. ولكن قيض الله تعالى لها أفضل رجال مصر في هذا العصر خلقًا وهمةً فثبتت بثباتهم على شدة سعي المسلمين أنفسهم في إسقاطها، ولو لم يكن لها مورد إلا من اشتراك المشتركين فيها لسقطت من زمن طويل فإن الرجل الغني يشترك فيها، وتمر عليه السنون الطوال، ولا يدفع المبلغ الذي تبرع به وفرضه على نفسه. هذا وهم يرون كثرة الجمعيات المسيحية ويساعدونها. وقد قضت الصعوبات التي مارسها الذين نهضوا بهذه الجمعية والوشايات التي وجهت إليها من المسلمين - ومنها اتهامهم بأنهم يساعدون مهدي السودان في وقته - أن يجعلوها خاصة بمسلمي مصر فأصبح سائر المسلمين العثمانيين لا ملجأ لمن يصاب منهم أو ينكب في هذه البلاد التي لا تزال أوربا تعترف بأنها عثمانية. لهذا كان تأسيس جمعية خيرية لمسلمي العثمانيين من أفضل الأعمال الدالة على أن روح الحياة الاجتماعية دبّت في المسلمين؛ أي: في بعضهم، ولكن أعداء أنفسهم من المسلمين سيسعون في إبطال هذه الجمعية، ويتهمونها بمثل ما اتهموا بها أختها المصرية من قبلها، ونسأل الله أن يقيض لها من أهل الجد والثبات ما قيّض للتي قبلها، وأن يهيئ لها أسباب النجاح والفلاح. دعت اللجنة نحو ثمانين رجلاً من العثمانيين من جميع الأجناس إلى فندق الكونتيننتال، وأعدت لهم هناك مأدبة كأحسن ما يؤدب للأمراء والأقيال، وبعد الفراغ من الطعام، افتتح رئيس الحفلة الكلام (هو لطيف باشا سليم) فذكر أن الغرض من الدعوة قد عرف من الرقاع التي أرسلت إلى المدعوين؛ وقال: إنه دعي إلى رياسة الاحتفال الحاضر، ولا يدري السبب في ذلك ثم تكلم كلامًا وجيزًا في سبب ترك مثل هذا الاحتفال في الأحقاب الماضية، والسنين الخالية، أيام عز الدولة ومجدها، وبزوغ شمس سعدها، والقيام به في مثل هذه الأيام، وقد انحطت الدولة في نظر الأنام، فقال ما خلاصته: إن الذي يسبق إلى الأفهام أن الاحتفال باستقلال الدولة العلية الآن ينطبق على المثل (بعد خراب البصرة) فإن هذه الدولة التي أسسها قوم ساقهم حب المعالي إلى إذلال الأمم ودوس هام الدول بسنابك خيولهم فأقاموها بالقوة القاهرة والسيوف الباترة قد وصلت إلى درجة من المجد والفخر، لا تعلوها درجة ولم يحتفل في أيام عزها أحد بتذكار استقلالها. ثم طرأ عليها الترف والفساد فضعفت وانحطت وقامت دول الغرب تهددها بالمحو والانقراض - وذكر من مجد دول الغرب وتقدمها - وفي هذه الحالة التي نرى فيها الدولة في النزع نحتفل بتذكار استقلالها. ألا يصح أن يقال: إن هذا (بعد خراب البصرة) . (قال) ماذا نريد بهذا الاحتفال الآن؟ هل نريد أن نفتخر بمجد مضى وانقضى ونغش أنفسنا، ونخدعها بما لا يغني عن ضعفنا شيئًا؟ أم نريد أن نرثي الدولة ونؤبّنها، ونبكي على عزها ومجدها؟ ثم قال: إنه لا يريد أن يسيء الحاضرين، ويوقعهم في اليأس فإنه يوجد في العثمانيين الآن من الفصحاء وأصحاب الأقلام مَن يرجى فيهم الخير للدولة. وختم كلامه بقوله: إنه قد أسست في القاهرة جمعية خيرية وأشار إلى قانونها بين يديه وأن جمعية الاحتفال عهدت إليه بأن يكلف جلال الدين بك عارف بإلقاء خطبة تركية وصاحب المنار بخطبة عربية. فقام جلال الدين بك فتلا خطابًا مسهبًا مكتوبًا في ورقات صفق له القوم في أثنائه مرارًا. ثم قام هذا العاجز منشئ المنار وخطب خطبة عربية ارتجالية سَرَّ العثمانيين عامة، والمصريين منهم خاصة اعتدالُها واختتامُها بالدعاء للسلطان عبد الحميد أيد الله دولته ولم يذكر اسم الرئيس والخطيب التركي. وقد لخصت بعض الجرائد الخطبة فرأينا أن ننقل تلخيص جريدة الراوي؛ لأنه لم يكد يغادر من الأفكار الأٍساسية التي قلناها شيئًا مهمًا إلا قولنا: إن العثمانيين أنشؤوا يشتغلون بتحصيل العلم لما علموا أنه في هذا العصر قوام الدول وأساس القوة؛ لذلك ننقح كلمتين مما جاء في تلك الجريدة ولنا الحق في ذلك؛ لأنه كلامنا وهو: نحتفل اليوم بتذكار استقلال دولتنا العلية العثمانية وقد دعيت إلى الخطابة فرأيت أن أبني على ما قاله سعادة رئيس الاحتفال في فاتحة المقال وهو كلمتان - كلمة في معنى الاحتفال وكلمة في الدولة التي نحتفل لذكرى استقلالها وتكونها: إنما يراد بالاحتفال إحياء الشعور بمجد من يحتفل لأجله والتذكير بتاريخه المجيد، وهل نحن اليوم في حاجة إلى إحياء هذا الشعور وتجديد هذه الذكرى؟ وهل لدولتنا العلية تاريخ مجيد تستحق به أن يحتفل لتذكار تاريخها وتمثيل ماضيها؟ ولماذا لم يسبق للعثمانيين مثل هذا الاحتفال في الزمن الماضي. لا شك أننا اليوم أحوج إلى مثل هذا الاحتفال منا في الزمن الماضي أيام مجد الدولة الأكبر؛ فإن إحياء الشعور بمجد الدولة وتذكّر تاريخها يبعث فينا روح النهوض لتأييد استقلالها، وتدارك ما فرط من خطأ بعض رجالها، وأما سبب تأخيره إلى اليوم فهو أن مثل هذا العمل لم يكن يعهد في بلادنا؛ وإنما هو شيء استفدناه في هذا العصر من الأوروبيين؛ فإننا نرى القوم يحتفلون للتذكير بقيام دولهم وبأعمالهم العظيمة ويحتفلون مثل ذلك لرجالها العظام من الفاتحين وغيرهم. وللدولة العلية العثمانية اسم عظيم في الدول، ولها تاريخ مجيد يحق للعثماني أن يفتخر به، يعلم ذلك من النظر في كيفية تكوينها، ومن سيرتها الحميدة في نشأتها. يذهب الذين لا يعرفون من التاريخ إلا ظواهره إلى أن هذه الدولة قامت بالقوة والقهر، والصواب أنها قامت بالفضيلة؛ فإن تلك الفئة التي جاءت مع أسرة السلطان عثمان الأول من بلاد أرمينيا إلى بلاد الأناطول، ونصرت السلطان علاء الدين السلجوقي وأيدته ثم بنت دولة عظيمة على أطلال دولته بعد سقوطها لم تكن من القوة والكثرة بحيث تملك بلاد الفرس وبلاد الروم وجزءًا عظيمًا من بلاد أوربا. وإننا نعلم أن السلطان محمد الفاتح قد حاصر القسطنطينية العظمى بثلاثمائة رجل ونيف على عدد أهل بدر - رضي الله عنهم - تقريبًا ثم فتحها وهي أمنع مدينة في الأرض وأهلها كانوا أكثر من الترك عَددًا وأحسن عُددًا وأكثر اطلاعًا وعلماءً؛ ولكن العثمانيين كانوا متصفين بالفضائل التي أهمها الاتحاد الذي كان الروم محرومين منه يومئذٍ. فقد نقل أنهم كانوا يتنازعون في المسائل الدينية والفاتح على أسوار المدينة حتى إن بعض رجال الدين قال: لأن أرى تاج السلطان محمد في مذبح كنيسة أيا صوفيا أحبّ إليَّ من أن أرى فيه كمة (طاقية) على رأس كردينال من كرادلة الكنيسة الغربية! لا تعجبوا من القول بأن الدولة قامت بالفضيلة لا بمجرد القوة والقسوة؛ فإن القوم كانوا في حال بداوة فجاءهم الإسلام فجمع كلمتهم وهذّب نفوسهم حتى كان ملوكهم الأولون على مقربة من سيرة الخلفاء الراشدين؛ فقد نقل المؤرخون أن المؤسس لهذه الدولة السلطان عثمان الذي ترون صورته أمامكم الآن لم يترك لورثته إلا حلة وعمامة مضرجة بالدم، والمعهود في الفاتحين المؤسسين للممالك بالقهر والقسوة أن يتركوا القناطير المقنطرة من الذهب والجواهر والأثاث والماعون. أما سيرة هذه الدولة المجيدة فإنها تعلم من النظر في وجه حاجة الإنسانية إليها عند تكوينها، ومن سيرتها في بلادها. أما وجه الحاجة إلى دولة مثلها في زمنها فأنتم أيها السادة تعرفونه من الوقوف على تاريخ الأمم التي تأسست الدولة في بلادها. هذه الدولة مؤلفة من أمم وشعوب وقبائل لها لغات مختلفة، وأديان مختلفة؛ ولكن الدولة مسلمة وأكثر شعوبها إسلامية، وأهم عناصرها الأولى المسلمون والروم. فأما المسلمون فقد كان ملكهم تمزق كل ممزق؛ فأما الدولة العباسية فقد كان التتار قوضوا صرحها ثم زحف الصليبيون على بلادها من كل جانب، وأما الدولة الفاطمية فكانت أيضًا قد زلزلت زلزالها، وهددت من الصليبيين بزوالها، ولا أعد ملوك الطوائف والمماليك في عداد الدول فإنهم كانوا أشبه بالبيوت (العائلات) منهم بالدول - يقوم في البيت رجل عظيم فيجعل له ذكرًا ومجدًا ثم يسقط فيسقط البيت بسقوطه ولا يبقى فيه إلا أثره. فدول الإسلام قبل العثمانيين ثلاث: الأموية والعباسية والفاطمية وقد كانت هذه الدول اضمحلت وذهب الرجاء منها وبذلك كان المسلمون في حاجة إلى دولة جديدة تجمع كلمتهم وتحمي حوزتهم. أما الروم فقد كانوا في ذلك الوقت أسوأ حالاً من المسلمين، ولولا ذلك ما تيسر للترك تفريق شملهم والاستيلاء على بلادهم وفتح عاصمتهم بعدد قليل. ذلك أنهم لم يكونوا أقل من العثمانيين عددًا ولا علمًا بالحروب؛ وإنما كان ينقصهم ما كان عند العثمانيين من الفضيلة والوحدة؛ فإن فساد الأخلاق والتنازع في الدين لا يبقي للأمم بقية. سار العثمانيون في تأسيس دولتهم بما تقتضيه الفضيلة الإسلامية من العدل بالنسبة إلى غيرهم من الدول الفاتحة؛ فقد أقروا أهل الملل المخالفة لملتهم على أديانهم ولغاتهم وعاداتهم؛ بل جعلت لهم امتيازًا يتمتعون به إلى الآن؛ حتى إنهم يَفْضُلُون المسلمين في ذلك ببعض الأمور. وكان يسهل على هؤلاء الممتازين أن يرتقوا في ظل عدل هذه الدولة وفضلها وتحت حمايتها إلى أقصى ما في استعدادهم. فدولة لها مثل هذا التاريخ المجيد يصح لأبنائها أن يفتخروا بها على اختلاف مللهم ونحلهم وأن يحتفلوا لتذكار تأسيسها واستقلالها. ونعود إلى ذكر فائدة الاحتفال. قلنا: إن الفائدة في هذا الاحتفال هو إحياء الشعور بمجد الدولة والتذكير بتاريخها لأجل السعي في استحياء ما كان نافعًا واجتناب ما كان ضارًّا. وقد تكلم رئيس الاحتفال عن ضعف ا

المفتي والإفتاء في الشرع

الكاتب: محمد البشير ظافر الأزهري

_ المفتي والإفتاء في الشرع ختم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى كتابه (أعلام الموقعين) بفوائد كثيرة مطولة تتعلق بالفتوى، فرأينا أن نلخص منها ما يأتي؛ تنويرًا لبحثنا السابق، وليعلم قليل الاطلاع أن مفتي الديار المصرية جرى في فتواه للترنسفالي على سنة السلف الصالح، واقتدى فيها بأئمة الدين، لا بأوضاع جهلة المقلين: الفائدة الأولى: من تلك الفوائد في أنواع الأسئلة التي تعرض على المفتي. والثانية: في بيان أنه يجوز للمفتي أن يعدل في جواب المستفتي عمّا سأل عنه إلى ما هو أنفع منه واستدل على ذلك بالكتاب والسنة. والثالثة: في بيان أنه يجوز للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأله عنه، واستدل على ذلك بالسنة (وفي صحيح البخاري باب معقود لهذا) . والرابعة: في بيان أن من فقه المفتي ونصحه أن يدل المستفتي على ما هو خير مما منعه منه بالفتوى فيما سأل عنه واستدل عليه بالسنة. والخامسة: في أنه ينبغي للمفتي أن يحذر السائل مما يذهب إليه الوهم من خلاف الصواب في الفتوى واستدل عليه بأسلوب الكتاب والسنة. قال: (الفائدة السادسة) ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه ذلك ولا يلقيه إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه وقلة بضاعته من العلم. ومن تأمل من فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم - وقد أوردها المصنف في آخر الفوائد، الذي قوله حجة بنفسه - رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره، ووجه مشروعيته؛ وهذا كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: (أينقص الرطب إذا جف؟) قالوا: نعم. فزجر عنه، ومن المعلوم أنه كان يعلم نقصانه بالجفاف؛ ولكن نبههم على علة التحريم وسببه. ومن هذا قوله لعمر وقد سأله عن قبلة امرأته وهو صائم فقال: (أرأيت لو تمضمضت ثم مججته، أكان يضر شيئًا؟ قال: لا. فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون محظورة؛ فإن غاية القبلة أنها مقدمة الجماع، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته كما أن وضع الماء في الفم مقدمة شربه وليست المقدمة محرمة. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) فذكر لهم الحكم ونبههم على علة التحريم. ومن ذلك قوله لأبي النعمان بن بشير - وقد خصّ بعض ولده بغلام نحله إياه - فقال: (أتحب أن يكونوا لك في البر سواء) ؟ قال: نعم قال (فاتقو الله واعدلوا بين أولادكم) . وفي لفظ: (إن هذا لا يصلح) وفي لفظ: (إني لا أشهد على جور) ، وفي لفظ (أشهدْ على هذا غيري) تهديدًا لا إذنًا؛ فإنه لا يأذن في الجور قطعًا. وفي لفظ: (رده) والمقصود أنه نبهه على علة الحكم ... إلخ الشواهد. (الفائدة التاسعة) ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه؛ فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام؛ فهو حكم مضمون له الصواب متضمن للدليل على أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك. وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرّون ذلك غاية التحري حتى خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لأنفسهم ألفاظًا غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص؛ ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان؛ فتولد من هجر النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب. ولما كانت هي عصمة عمدة الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم مَن بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم. ثم إن التابعين بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، وهلم جرّا. ولمّا استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض. وقد كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا سئلوا عن مسألة يقولون: قال الله كذا، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كذا أو فعل كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلاً قط، فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاءً لما في الصدور، فلما طال العهد وبعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه: قال الله وقال رسول الله، أما أصول دينهم فصرّحوا في كتبهم أن قول الله، وقول رسول الله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين؛ وإنما يحتج بكلام الله ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة. وأما فروعهم فقنعوا فيها بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن الله ولا عن رسوله (صلى الله عليه وسلم) ، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه دينهم؛ بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به، وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنف، وأجلهم عند نفسه، وزعيمهم عند بني جنسه، من يستحضر لفظ الكتاب ويقول: هكذا قال وهكذا لفظه، والحلال ما أحله ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه، هذا وأنَّى لنا بهؤلاء في مثل هذه الأزمان، فقد دفعنا إلى أمر تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجها، وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها عجيجها، يبدل فيه الأحكام، ويقلب الحلال بالحرام، ويجعل المعروف فيه أعلى مراتب المنكرات، والمنكر الذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات، الحق فيه غريب وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه وينصح به نفسه والناس، قد فلق له فالق الإصباح صبحه عن غياهب الظلمات، وأبان له طريقه المستقيم من بين تلك الطرق الجائرات؛ وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مع ما عليه أكثر الخلق من البدع المضرات، رفع له علم الهداية فشمر إليه، ووضح له الصراط المستقيم فقام واستقام عليه، وطوبى له من وحيدٍ على كثرة السكان، غريبٍ على كثرة الجيران؛ بين أقوام رؤيتهم قذى العيون، وشجى الحلوق، وكرب النفوس، وحميّ الأرواح، وغم الصدور، ومرض القلوب، إن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف، وإن طلبته منهم فأين الثريا من يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني وابتلوا بالحظوظ وحصلوا على الحرمان؛ وخاضوا بحار العلم ولكن بالدعاوي الباطلة وشقاشق الهذيان، ولا والله ما ابتلت من وشله أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى والحق منه ربوة الدفاتر إذ بلت به أقلامهم، أنفقوا في غير شيء نفائس الأنفاس، وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول، فحُرموا الوصول؛ وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مهامة الحيرة وبيداء الضلالة والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير، ومن رام إدراك الهدى ودين الحق من غير مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير) اهـ. (المنار) إن ما ذكره هذا الإمام الجليل من وجوب إسناد الفتاوى إلى نصوص الكتاب والسنة هو الذي جرى عليه جميع أئمة المسلمين؛ ولكن الذين ذكرهم خرجوا عن هدي السنة وطريقة الأئمة فحتموا إسناد الفتوى إلى قول مؤلف من المقلدين الميتين ولم ينقل عن عالم من علماء الإسلام جواز تقليد المقلد، ولم يكتفوا بهذا حتى صاروا يعيبون من يفتي بالكتاب والسنة، ويزعمون أنهم بهذا ينصرون الإسلام، وما الإسلام إلا الكتاب والسنة اللذين تركوهما وعادوهما. وما ذكره من أوصاف العالم الذي يفتي بالنصوص ويراه الناس غريبًا ينطبق في زمنه على شيخي الإسلام (رحمهما الله تعالى) وفي هذا الزمن على الأستاذ الإمام (حفظه الله) فإنه لما استند في الفتوى بحل ذبائح أهل الكتاب على إطلاقها بإطلاق نص القرآن في حلها - قام بعض الجاهلين يعيب ذلك زاعمًا أن الإفتاء بنص القرآن غير جائز للمفتي، وإنما يجب عليه أن يذكر نص مؤلف من المؤلفين الميتين الذي ينتسبون إلى أبي حنيفة خاصة. ويا ليت هذا العيب والأفكار كان ممن يدعون الاشتغال بكتب الأحكام التي يسمونها فقهًا، كلا إنه صادر من أجهل أرباب الجرائد الأخبارية بالدين وأشدهم إيغالاً في الفسق وإسرافًا في الأمر، فلو كان ابن القيم في هذا الزمان فماذا عساه يقول ويكتب في هؤلاء؟ (الفائدة الحادية عشرة) : إذا نزلت بالحاكم أو المفتي النازلة فإما أن يكون عالمًا بالحق فيها أو غالبًا على ظنه، بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته أولاً فإن لم يكن عالمًا بالحق فيها ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بما لا يعلم، ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة الله ودخل تحت قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) ؛ فجعل القول عليه بلا علم أعظم المحرمات الأربع التي لا تباح بحال؛ ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر. ودخل تحت قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 168-169) ، ودخل في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من أفتى بغير علم فإنما إثمه على من أفتاه) ، وكان أحد القضاة الثلاثة الذين ثلثاهم في النار. وإن كان قد عرف الحق في المسألة علمًا أو ظنًا غالبًا لم يحل له أن يفتي ولا يقضي بغيره بالإجماع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وهو أحد القضاة الثلاثة والمفتين الثلاثة والشهود الثلاثة، وإذا كان من أفتى أو حكم أو شهد بغير علم مرتكبًا لأعظم الكبائر فكيف من أفتى أو حكم أو شهد بما يعلم خلافه! فالحاكم والمفتي والشاهد كل منهم مخبر عن حكم الله. فالحاكم مخبر منفذ، والمفتي مخبر غير منفذ والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم الديني الأمري فمن أخبر منهم عما يعلم خلافه فهو كاذب على الله عمدًا: {وَيَوْمَ القِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} (الزمر: 60) ، ولا أظلم ممن كذب على الله وعلى دينه. وإن أخبروا بما لم يعلموا فقد كذبوا على الله جهلاً، وإن أصابوا في الباطن وأخبروا بما لم يأذن الله لهم في الإخبار به وهم أسوأ حالاً من القاذف إذا رأى الفاحشة وحده فأخبر بها فإنه كاذب عند الله، وإن أخبر بالواقع فإن الله لم يأذن له في الإخبار بها إلا إذا كان رابع أربعة فإن كان كاذبًا عند الله في خبر مطابق لمخبره حيث لم يأذن له في الإخبار به فكيف من أخبر عن حكمه بما لم يعلم أن الله حكم به ولم يأذن له في الإخبار به قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 116-117) ، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} (الزمر: 32) . والكذب على الله يستلزم التكذي

الآثار المكذوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الآثار المكذوبة محمد البشير ظافر الأزهري اعتاد كثير ممن أراد الله بهم شرًا على الاختلاق والتدليس، وزيادة أشياء في الدين، ما أنزل الله بها من سلطان؛ ليجلبوا بها نفعًا ويكسبوا بها حطامًا، فكذبوا وزوروا آثارًا، ونسبوها للنبي صلى الله عليه وسلم وغَرُّوا بذلك العامة، ومَوَّهُوا عليهم حتى اعتقدوا صدق تلك الآثار، ورسخ في أذهانهم أنها من الحقائق، مع أنها مزورة بلا ريب، ويعرفها كذلك كل من له إلمام بالحديث الشريف، ووقوف على السنة النبوية، واطلاع على السيرة الشريفة والشمايل المنيفة، وخبرة بالتاريخ وتبحّر في المعارف، وبُعد عن الخرافات والأوهام. وكثيرًا ما تستر الأوهام أنوار الحقائق، وتحجب شموس المعارف، ثم لا تلبث أن تزول لذوي الاطلاع والنقد والاختبار، فلا تغرهم تلك الزخارف ولا ينخدعون بأعمال العامة والجهلة، ولا يقلدونهم في أعمالهم الفاسدة التي درجوا عليها، واطمأنوا بها، وركنوا إليها ركونًا عظيمًا. لبّس هؤلاء المزورون على المسلمين وأدخلوا في الديانة الإسلامية ما ليس منها، وحسنوا لهم أعمال أهل الوثنية كالتمسح بالأحجار والأخشاب والأشجار وتقبيل الأبواب والآثار المزورة؛ كأثر القدم المعزو للنبي صلى الله عليه وسلم كذبًا وزورًا في الجامع الأحمدي، وجامع قايتباي ومسجد سيدي عبد الرازق بالإسكندرية وحجر المرفق ومسجد البغلة والآثار التي بالرباط الكائن بقرب بركة الحبش على شاطئ النيل. قال المؤرخ المقريزي: وكان شيخنا السراج البلقيني يطعن في هذه الآثار ويذكر أن له فيها مصنفًا: فترى هناك العامة مزدحمين على التمسح بتلك الآثار والأحجار أي ازدحام معتقدين فيها اعتقادًا كبيرًا، ملتمسين منها البركات الموهومة، مستشهدين بالأحاديث الموضوعة على أن الاعتقاد بالأحجار ينفع، مع أن ذلك من شأن أهل الوثنية؛ فإنهم يحسنون ظنهم بالأحجار، وهؤلاء تشبهوا بهم، وساروا على طريقهم، ولم يكتفوا بتلك الأعمال حتى اعتقدوا أنها قربة تقربهم إلى الله تعالى زلفى؛ مع أنها مفسدة كبرى ودين الإسلام بريء من هذه الأفعال، ومن نسبتها إليه، ومنزه عن أفعال الوثنيين، وعقائدهم الباطلة التي لا يركن إليها مَن اطّلع على السنّة، وأُشرب قلبه بالتوحيد، وابتعد عن الشرك. وقد رأينا إتمامًا للفائدة أن نذكر ههنا نص الفتوى التي أفتى بها حافظ الأنام شيخ الإسلام الإمام أبو العباس أحمد ابن تيمية الحنبلي فيما نقله عنه تلميذه الحافظ ابن القيم وغيره وهي: (أن الجهال تخترع أحجارًا يزعمون أن فيها أثر قدم النبي صلى الله عليه وسلم فيتمسحون بها ويقبلونها كما يقول الجهال في الصخرة التي في بيت المقدس من أن فيها أثرًا من موطئ قدم النبي صلى الله عليه وسلم، وفي دمشق مسجد يسمى مسجد القدم يقال: إن ذلك أثر قدم موسى عليه السلام. وهو باطل لا أصل له، ولم يقدم موسى دمشق وما حولها، ومثله أحجار بمصر، وغيرها من البلدان افتراها الكاذبون، واستخفّوا بها عقول العامة؛ بل ما يروى من حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وطئ على الصخر أثَّر فيه قدمه، كل ذلك من الكذب المختلق، لم ينقله أحد من أهل العلم بأحواله صلى الله عليه وسلم؛ بل هو كذب عليه، فلا يغتر بنقل كثيرين متساهلين في ذلك ساكتين عن حكم الحديث. وقد اتفق العلماء على ما مضت به السنة من أنه لا يشرع الاستلام والتقبيل لمقام إبراهيم الذي ذكره الله في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) ، وذكر الأزرقي عن قتادة: أُمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفت به الأمم قبلها ذكر لنا من رأى أثره وأصابعه (كذا) فما زالت هذه الأمة تمسحه حتى اخلولق، وأيضًا فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه كالمدينة المنورة دائمًا لم يكن أحد من السلف يستلمه، ولا يقبله، فكيف بما لا تعلم صحته من آثاره عليه الصلاة والسلام، وبما يعلم أنه مكذوب كحجارة كثيرة يأخذها الكذابون، وينحتون فيها موضع قدم ويزعم غيرهم من الجهال أن هذا موضع قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان هذا غير مشروع في موضع قدميه وقدمي إبراهيم الخليل عليه السلام فكيف يقال: إنه موضع قدميه؟ كذبًا وافتراءً عليه؛ كالموضع الذي بصخرة بيت المقدس وغيره من المقامات. اهـ من كتاب تنزيه المصطفى المختار عما لم يثبت من الآثار، للعلامة المحقق الشيخ أحمد بن العجمي الوفائي الشافعي. جاء الإسلام بقطع شأفة الوثنية ورفع أعلام التوحيد، ومحو العقائد الباطلة الراسخة في الأذهان، ونفي كثير من الأباطيل التي كانت منتشرة، وحضّ على التمسك بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن سفاسف الأمور، وبين للناس ما يجب عليهم، وأظهر الحق من الباطل، وحذّر من الوقوع في المآثم. فعلى العاقل أن يتمسّك بأوامره ويبتعد عن تلك الآثار التي ابتدعها المزورون ليروّجوا بها سلعتهم، ويستفيدوا الفوائد الدنيوية الوقتية فجرَّؤا الناس على الأعمال الموجبة لغضب الله تعالى المنافية لدين الفطرة المفسدة للعقائد المزلزلة لركن التوحيد، وسنعود إلى هذا الموضوع في فرصة أخرى. ... ... ... ... ... محمد البشير ظافر الأزهري

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة التلفيق في التقليد (س1) مصطفى أفندي رشدي بنيابة الزقازيق: توضأت وقبل الصلاة نزل من فمي دم خالط الريق وغلبه فانتقض الوضوء؛ لأني على مذهب الإمام الأعظم، فأردت أن أصلي على مذهب الإمام الشافعي؛ لأن ذلك لا ينقض الوضوء عنده فهل تجوز الصلاة؟ وهل إذا اعتراني مثل ذلك وأنا داخل للمسجد للصلاة أو فيه والوقت ضيق لا يسع الوضوء أو كنت أنا لا أستطيع الوضوء إلا في منزلي لأسباب صحية فهل أصلي على مذهب الشافعي وإن مسست امرأة؟ ومثال ذلك في عبارة أخرى: أن القيء ينقض الوضوء عند الإمام الأعظم دون الإمام الشافعي فإذا قاء الإنسان وهو متهيئ للصلاة فهل يصلي على مذهب الشافعي (ولو مس امرأة) أم في حال لمس المرأة لا تجوز الصلاة؟ ومثال ذلك أيضًا: أن صلاة الظهر تصير قضاءً عندنا إذا دخل وقت العصر ولكن عند الإمام مالك تعد صلاتها أداءً إلى ما قبل الغروب، فإذا كنت مغتسلاً وتوضأت على مذهب؛ فهل تجوز لي الصلاة بعد العصر وأعتبرها أداءً على مذهب الإمام مالك؟ (ج) يعني السائل بالإمام الأعظم، أبا حنيفة؛ فإن مذهب الحنفية مؤلف في الحقيقة من عدة مذاهب: أشهرها مذهب أبي حنيفة ومذهب أبي يوسف ومذهب محمد بن الحسن؛ ولكن هذين الإماميين قد تلقيا عن الإمام أبي حنيفة وسارا في الاجتهاد على طريقه في الاستنباط، ولم تعرف أقواله وآراؤه إلا عنهما، وفي كتبهما لذلك جعل ما يؤثر عنهما من النقل عنه، وما خالفاه فيه مذهبًا واحدًا لثلاثة أئمة يقال كبيرهم ومرشدهم الإمام الأعظم. وقد جرى المؤلفون في هذا المذهب والمفتون فيه من المجتهدين فيه على ترجيح أقوال بعض الثلاثة على بعض؛ فكان كل عامل بما في كتبهم مقلدًا لعدة أشخاص في حقيقة واحدة، وهذا هو التلفيق الذي منعه الجمهور، وأجازه بعض المحققين، وعلى القول بالجواز تكون صلاة السائل صحيحة في المسائل التي ذكرها، وقد تقدم البحث في جواز التلفيق والاستدلال عليه في مقالات المصلح والمقلد فليراجعه السائل في مجلد المنار الرابع (ص 361) وما بعدها وفي مباحث جمعية أم القرى من المجلد الخامس (ص 676) ، وملخصه أن المسألة خلافية، وأن أكثر علماء التقليد منعوا التلفيق مع أنه لازم للتقليد، وأن دليل الذين أجازوه أقوى. وهذا الخلاف مرفوض في المقلد الذي له معرفة بمذهب إمامه، ونظر في أدلته، وأما مَن ليس كذلك فهو عامي لا مذهب له، وإنما مذهبه مذهب مفتيه فإذا أفتاه شافعي بشيء وحنفي بشيء فلا يجب عليه أن يتوقف عن الأخذ بقول مفتيه في المسألة إلى أن يعرف مذهبه في جميع المسائل التي تتعلق بموضوع الفتوى كالصلاة مثلاً. هذا، وإنه لا دليل في الكتاب ولا في السنة على نقض الوضوء بالقيء أو بخروج الدم فالخلاف فيهما بالرأي والاجتهاد. وأما وقت الأداء والقضاء فالحُكم فيه أن كل إمام ينهاك عن تأخير الصلاة إلى الوقت المختلف فيه عمدًا، وإذا أخرت بعذر فأحسن التوبة، وأقم الصلاة على وجهها في أول فرصة، وليس عليك تَعَدٍّ، أداء أم قضاء والله أعلم. * * * تعريف الزنا وتحريم الاستمتاع بما دونه (س2) إسماعيل أفندي. ل. بمصر: توجهت لزيارة صديق لي فوجدت عنده مجلسًا حافلاً بالإخوان، والكل مشتغلون بالبحث في أحكام الدين، وهذا الشعور لم يوجد إلا بهمة حضرتكم أثابكم الله، وجزاكم أحسن الجزاء، وكان من موضوع بحثهم تعريف (الزنا) : فقال فريق: هو كذا ... - وذكر معنى الفاحشة الكبرى - وما كان غير ذلك لا يعتبر زنا ولا تترتب عليه أحكام، وحينئذ يمكن للرجل أن يأتي المرأة في جزء من جسمها ولا عقاب عليه. والفريق الآخر قال: إن الإنزال بإحدى هذه الطرق يعتبر زنا. وأخيرًا اتفقوا على سؤال المنار والسير على ما يقرره طبقًا للشريعة الإسلامية الغراء. (ج) : إن أرادوا بالزنا ما يَحُدُّ الحاكمُ صاحبَه الحدَّ المعروف في الفقه فهو ما عرفه به الفريق الأول، وإن أرادوا ما حرمه أحكم الحاكمين على عباده وجعله من أسباب مقته وسخطه فهو أعم مما قال الفريق الثاني؛ فقد روى البخاري ومسلم وغيرهما من أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا مدرك ذلك لا محالة؛ فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْل زناها الخُطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه) وفي رواية لمسلم: (والفم يزني وزناه القُبل) ، وظاهر أن المراد بالنظر هو النظر إلى المرأة الأجنبية بشهوة والمراد بالبطش لمسها وفي معنى اليد غيرها فكل ملامسة محرمة. فاستمتاع الرجل بغير امرأته أو جاريته المملوكة له ملكًا صحيحًا شرعيًا محرم كيفما كان، سواء أنزل أم لم ينزل. ومقتضى الحديث الصحيح الذي تقدم أن هذا الاستمتاع يسمى زنا، وأن للزنا مراتب أدناها النظر بشهوة عمدًا وأقصاها الفاحشة الكبرى المعروفة، وإنما وضع الحد على من انتهى إلى الدرجة القصوى؛ لأن المضرات البدنية والمدنية والأدبية التي يعاقب الحكام مرتكبيها لا تظهر إلا في هذه الدرجة، فالنظر مما يكثر وقوعه ولا يعرف كونه بشهوة إلا من الناظر فترتيب الحد عليه حرج عظيم؛ لأنه من اللمم الذي ترجى مغفرته باجتناب ما وراءه؛ {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ} (النجم: 32) . وأما اللمس والتقبيل فمضراته في الإصرار؛ ومنها تجرئة مرتكبه على المحارم إذا لم يبادر إلى التوبة منه، وهي مضرة روحية لا أثر لها في الأمة - أو في الهيئة الاجتماعية كما يقولون - إلا إذا تعدى الرجل على المرأة أو فعل ذلك بحضور الناس، ولذلك درجات تختلف باختلاف الأشخاص والمكان والزمان ليس من العدل أن توضع لها عقوبة معينة لا تختلف كما هو معنى الحد؛ وإنما عقوبتها التعزير الذي يفوض إلى رأي الحاكم. فعلم من ذلك أن عدم وضع الحد على مثل هذه الأمور ليس دليلاً على إباحتها ولا على كونها هينة عند الله تعالى. ويتوهم بعض الناس أن ما أشرنا إليه من أنواع الاستمتاع بالنساء دون الوقاع لم يحرم إلا لأنه مقدمة للوقاع الذي تترتب عليه المفاسد الكثيرة، وإن من وثق بنفسه وقدر على منعها من الوقاع حل له أن يستمتع بالمرأة الأجنبية كما يشاء؛ إذ لا مفسدة في هذا (بزعمهم) ، ومن كان من هؤلاء مجاورًا في الأزهر بعض سنين، أو متلقيًا شيئًا من كتب الدين يستدل على ذلك بنص {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (النساء: 31) ، وبقول بعض الفقهاء: لا كبيرة بما دون الفاحشة الكبرى وهي الوقاع. وقد كان سألني مشافهة أحد تلامذة المدارس العالية في مصر عن ذلك، وقال: إن التلامذة وغيرهم من الشبان في مصر يعاشرون البنات العذارى، ويستمتعون منهن بما عدا الفاحشة المبينة فهل يحل ذلك أم يحرم؟ ! فأجبته بأنني أتعجب أشد التعجب من كون هذا مما يخفى تحريمه على مسلم ويرى أنه مما يستفتى فيه. نعم، إنه لم يحرم شيء في الشريعة الإسلامية إلا لأنه ضار بفاعله أو بالناس مباشرة أو مفضٍ إلى الضرر، وإن استباحة استمتاع الرجال بالنساء فيما دون الوقاع ضار بالمستمتعين والمستمتعات وبغيرهم. وبيان هذا بالتفصيل لا يذكر في جواب سؤال؛ ولكننا نذكر ما يخطر لنا من ذلك الآن بالإيجاز فنقول: إن لذلك مضرات كثيرة: (أحدها) : أن هذا الاستمتاع يغري صاحبه بالشهوة، ويولعه باللذة، حتى لا يكون له همّ سواها، فإن من طبيعة نفس الإنسان أنها إذا أخذت بمبادئ الأمر المستلذ بالطبع تتدرج فيه حتى تصل إلى غايته، وتكون قبل الوصول إلى الغاية في بلبال وهم، واشتغال فكر وقلب، وهذا ضرر في نفسه وهو أصل لمضرات أخرى تنشأ عنه كما يعلم مما يأتي. (ثانيها) : أنه يورث النفس الصغار والضعة؛ لأن الولوع بملاعبة النساء شر من الولوع بملاعبة الأطفال أو الحمام، فإن هذه على كونها اشتغالاً بالمحقرات والسفاسف التي تنافي كبر العقل وعزة النفس ليس فيها من الخنوثة ومهانة النفس ما في الولوع بملاعبة النساء. (ثالثها) : أنه يملك الهوى وحب اللذة زمام الإرادة، وقلما تجد عند صاحبه عزيمة ثابتة إلا ما عساه يكون في طلب لذته، ومن يستحل الزنا فيرتكبه عند شدة الداعية إليه في المواخير العامة لا يكون عرضة لهذه الغائلة وما قبلها كالمسترسل في ملاعبة النساء والاستمتاع بهن في غير المسيس، وإن كان للزنا مضرات أخرى شر منهما. (رابعها) : أنه لا بد أن ينتهي أمر هذا الاستمتاع بالفاحشة الكبرى لما فيه من الإلحاح بالإغراء، والتجرئة على العصيان، فإن كان الفاسق يستمتع بعذراء يحافظ على شرفها، ويخشى عاقبة فضيحتها، وقوي لذلك على ضبط نفسه معها، فإنه لا بد أن يجمح به سلطان الهوى المطاع إلى غيرها. (خامسها) : أن وازع الدين والحياء من الله تعالى يضعف ويضمحل في نفس هذا المستمتع، وفي ذلك من الضرر الروحاني ما لا محل لشرحه هنا، ومن قرأ ما كتبناه في معنى تكفير الحج للذنوب في الجزء الماضي؛ فإنه يستغني به عن طول الشرح. (سادسها) : أن هذا العاصي لسلطان الدين، الخاضع لسلطان الشهوة، لا يكتفي غالبًا بالاستمتاع بامرأة واحدة لا سيما إذا كانت الخلوة بها لا تتيسر له دائمًا فهو إذا جاء الوقت تهم به داعية الشهوة بدافع من التأثر والتأثير العصبي فيلتمس غير مَن عرفها أولاً حتى يضيع كثيرًا من وقته، ويُحرم بذلك من إتقان عمله في معيشته. (سابعها) : أن هذا العاصي يُفسد بإسلاس قياده للذة - كثيرًا من النساء وهذا شر في نفسه، وربما يتولد منه شرور أخرى كالتنازع بين الفاسقين أو بين الفاسق وأقارب المرأة. (ثامنها) : أن في هذا التنقل في الفسق من إتلاف المال ما يقل عنه كل إتلاف. (تاسعها) : أن من اعتاد على التنقل في راتع الفسق كثيرًا ما يرغب عن الزواج ويكتفي بالمسافحة أو اتخاذ الأخدان، وفي ذلك من المفاسد ما فيه وشرحه شرح لمضار الزنا، وإنما كلامنا في الاستمتاع بما دونه إلى أن يؤدي إليه. (عاشرها) : أن من اعتاد ذلك يُحرم في الغالب من السعادة البيتية التي ملاكها قناعة كل من الزوجين بالآخر، ومن تنقّل في راتع الفسق لا يكاد يرضى بمن يتزوج بها لا سيّما إذا اعتاد الاستمتاع بمن هي أجمل منها شكلاً، أو ألطف في ذوقه دلاً، وكذلك المرأة، وناهيك بما في فقد هذه القناعة من ضروب الشقاء، والجناية على النسل، فإنه مخرب للبيوت التي تتألف منها الأمة. وجملة القول أن الاستمتاع المسئول عنه ضار في ذاته ومؤدٍّ إلى الفاحشة حتمًا؛ ولكنه شر طريق إليها؛ لأن من وقع في الفاحشة ابتداءً يوشك أن يدرك قبحها ويتوب منها قبل الاسترسال فيها؛ ولكن من يقدم لها تلك المقدمة المهيجة فإنه ينغمس فيها حتى يغرق ويكون من الهالكين. أما مضرات الزنا في البدن والنفس والمال والأمة أو الاجتماع فسنشرحها في وقت آخر، فعلى المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا ينخدع لهواه ويتجرأ على الاستمتاع بغير حليلته الشرعية غشًّا لنفسه بأن هذا مقدمة للزنا ليس فيه كبير ضرر فإن هذا من وسواس الشياطين.

أسئلة رفعت إلى مفتي الديار المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة رُفعت إلى مفتي الديار المصرية كتب أحمد ابن الحاج مصطفى التركي الجزائري كتابًا للأستاذ الإمام يقترح عليه أن يؤلف كتابًا مختصرًا فيما تجب معرفته من العبادات على الجاهل، ويسأله هل يجوز الأخذ بقول أي مذهب من المذاهب الأربعة أم لا، وعن أخذ الأوراد من مشايخ الطرق، وعن التوسل بالأولياء مثل: اللهم يا رب بحق فلان ... إلخ، وعن التبرك بكتابة الفاتحة في صحن وشربها للعافية من المرض أو من العين والسحر، وعن اتخاذ حرز من الأدعية النبوية التي في صحيح البخاري لا غيرها مثل الزناتي وأبي معشر، (قال) : فهذا الحقير يعترف بأنه باطل. ثم قال: (لأن الحقير يميل بالطبع إلى الاقتداء بمذهب السلف الصالح، ولما كانت حضرتكم إمامنا في هذا الزمان الذي كثر فيه الخلط والتخبط خصوصًا في بلادنا، ولم نجد من يرشدنا؛ انزوى الفقير لبابكم فلا تردوه خائبًا، والله يحفظكم ويرعاكم، وإذا ظهر لكم نشر ما ذكرت لكم في المنار الأغر فذلك ما كنا نبغي والسلام) . وقد أعطانا الأستاذ هذه الأسئلة لنجيب عنها بما يأتي: أما الأول: فالعامي لا مذهب له؛ وإنما مذهبه مذهب مفتيه، فعليه أن يسأل أي عالم عن حكم الله في المسائل التي تعرض له، وأن يأخذ بما يرشده إليه، وليس عليه أن يسأله عن مذاهب العلماء وآرائهم. وأما مشايخ الطرق فمنهم العالم بالشرع والجاهل به، فإذا أرشد العالم تلميذه ومريده إلى التوبة والذكر والفكر والأدعية المأثورة في الكتاب والسنة الصحيحة فله أن يتخذه مرشدًا ومربيًا، وأن يهتدي بهديه السالم من البدع، ولا يجوز لأحد أن يأخذ شيئًا عن مشايخ الطرق الجاهلين بعلم الدين - وأهمه علم الأخلاق وآفات النفس - لأنهم مضلون لا مرشدون. وأما كتابة الآيات والأدعية في الأواني والأوراق لأجل دفع الأمراض والآفات فهو استعمال لها في غير ما أُنزلت لأجله من هداية الناس، وتوجيه قلوبهم إلى الله تعالى وحده حتى لا يعول على غيره في دفع الضر وجلب النفع بعد اتخاذ الأسباب المعروفة للناس. وما ورد من نحو إجازة بعض الرقى - وهي من هذا القبيل - فلا بد أن يكون له سبب خاص في واقعة حال خاصة، ولذلك ورد في حديث البخاري وغيره أن من علامات المؤمن الصادق الذي يدخل الجنة بغير حساب أن لا يرقي ولا يسترقي؛ بل يتوكل على الله تعالى في دفع ما لا يعرف سببًا عاديًّا لدفعه، وهذا ما جرى عليه السلف الصالح رضي الله عنهم. وإنما التوسل الصحيح؛ هو التقرب إلى الله تعالى بما شرعه من العلم والعمل الصالح، والتوسل بالصالحين من سلف الأمة باتباع طريقتهم في الورع والتقوى وتحري العمل بالكتاب والسنة مطلوب. وإننا نختم هذه الأجوبة بما جاء في آخر الصفحة 113 وعامة الصفحة 114 من كتاب إغاثة اللهفان للإمام ابن القيم، فقد ذكر بعد بيان الفتنة بالدعاء عند القبور وتوهم تأثيرها في الإجابة ما نصه بعد العنوان: الإقسام على الله تعالى ببعض عباده والمقصود أن الشيطان يلطف كيده بحسن الدعاء عند القبر، وأنه أرجح منه في بيته ومسجده وأوقات الأسحار؛ فإذا تقرر ذلك عنده نقله إلى درجة أخرى من الدعاء عنده إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، وهذا أعظم من الذي قبله؛ فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه، وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك؛ فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. قال: وأكره أن يقول: أسألك بمعقد العز من عرشك، وأكره أن يقول: بحق فلان وبحق أنبيائك ورسولك، وبحق البيت الحرام. قال أبو الحسن: أما المسألة في غير الله فمنكرة في قولهم؛ لأنه لا حق لغير الله عليه؛ وإنما الحق لله على خلقه. وأما قوله: بمعقد العز من عرشك؛ فكرهه أبو حنيفة ورخص فيه أبو يوسف قال: وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بذلك. قال: ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله بها العرش مع عظمته فكأنه سأل الله بأوصافه. وقال ابن بلدجي في شرح المختار: ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به فلا يقول: أسألك بفلان أو بملائكتك أو بأنبيائك ونحو ذلك؛ لأنه لا حق للمخلوق على خالقه. أو يقول في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك، وعن أبي يوسف جوازه، وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه (أكره كذا) هو عند محمد حرام وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب، وفي فتاوى أبي محمد بن عبد السلام: أنه لا يجوز سؤال الله سبحانه بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم، وتوقف في نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لاعتقاده أن ذلك جاء في حديث وأنه لم يعرف صحة الحديث. فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله به، والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنجع في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله، ثم نقله بعد ذلك درجة أخرى إلى أن يتخذ قبره وثنًا يعكف عليه، يوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه، والذبح عنده. ثم ينقله درجة أخرى إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيدًا ووثنًا، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم. قال شيخنا قدس الله روحه: وهذه الأمور المبتدعة عند القبور مراتب: أبعدها عن الشر أن يسأل الميت حاجته ويستغيث به فيها كما يفعله كثير من الناس. قال: وهؤلاء من جنس عباد الأصنام ولهذا قد يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت أو الغائب كما يتمثل لعباد الأصنام، وهذا يحصل للكفار من المشركين وأهل الكتاب؛ يدعو أحدهم من يعظمه فيتمثل له الشيطان أحيانًا، وقد يخاطبهم ببعض الأمور الغائبة، وكذلك السجود للقبر والتمسح به وتقبيله. المرتبة الثانية: أن يسأل الله عز وجل به وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو بدعة باتفاق المسلمين. الثالثة: أن يسأله نفسه. الرابعة: أن يظن أن الدعاء عند قبره مستجاب أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فيقصد زيارته والصلاة عنده لأجل طلب حوائجه، فهذا أيضًا من المنكرات المبتدعة باتفاق المسلمين، وهي محرمة وما علمت في ذلك نزاعًا بين أئمة الدين، وإن كان كثير من المتأخرين يفعل ذلك ويقول بعضهم: قبر فلان ترياق مجرب. والحكاية المنقولة عن الشافعي أنه كان يقصد الدعاء عند قبر أبي حنيفة من الكذب الظاهر اهـ.

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع بقية الكلام في رابطة الدين إن الذين ما أرادوا إلا الإصلاح ما استطاعوا، يتألف هداهم الذي يدعون إليه في كل جيل وكل قبيل من ركنين مشيدين على أساسين متينين: الأول: توجيه النفوس الإنسانية إلى عالم الغيب؛ لأن هنالك كمالها المعد لها بحسبها. وأساس هذا الركن أن النفس الإنسانية - هذه التحفة البدعية التي لم تزل من الأسرار الغامضة - لم تخلق عبثًا. والثاني: ترقيق عواطف الناس بعضهم على بعض ليخف بتواخي الكثيرين بعضٌ من التعادي القديم العمومي الوحشي. وأساس هذا الركن أن كمال كل نفس - في عالمي الشهادة والغيب بغيرها سواء فضلت إفادتها للغير أو فضلت استفادتها أو استوتا. ثم إن كل ركن من هذين الركنين مبني من أجزاء كثيرة. وهذه الأجزاء تكون بحسب الأدوار والأجيال. فلهذه العلة تختلف صور الأديان وجوهرها واحد. هذه الأجزاء نسميها وسائل. ولاختلافها بحسب الحال فيما يدعو إليه المتعددون تعددت الأديان باعتبار تعدد الدعاة وباعتبار تخالف الوسائل. فأما الراسخون في هذا العلم فما زالوا ولا يزالون يعظمون أمر ذلك الجوهر الذي يهدي سبل السلام ويخرج من الظلمات إلى النور. وأما البعيدون عن العلم فلا يستغنون عن قائد يقودهم في مناهج تلك الوسائل فالبشرى لهم إن كان قائدهم مصلحًا مخلص القلب، والويل لهم إن كان قائدهم مفسدًا، وبالجملة فشأن هؤلاء أن يظنوا أن الوسائل روح الدين، والتذابح في سبيلها نهاية عمل الطيبين الطاهرين، وغاية الزلف عند رب العالمين. ولتأييد ما ذكرناه آنفًا من وحدة الجوهر لزم أن نورد شهادات من كتب الأديان، ويجدر أن نقدم بين يدي ذلك قولنا: (إن هذا الذي علمناه بعد قراءة أسفار الأمم، وصحف أجيال الشعوب قد أوحي لنبي أمي لم يقرأ سفرًا، ولم يخطّ سطرًا) فما أعظم تلك المنحة (عليه الصلاة والسلام) . فمما أوحي إليه: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ (علم على اليهود والنصارى) تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ (هي) أَلاَّ نَعْبُدَ (أي: أن لا نرجو ولا نخاف شيئًا من الأشياء رجاءً يقارنه حب واحترام، وشوق وهيام، وخوفًا يقارنه هيبة وإعظام، وخنوع واهتمام) إِلاَّ اللَّهَ (الصانع المدبر مَن به قوام الكوائن وإليه يعود نظامها) وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً (أي: بمقام الأرباب من السلطة المطلقة) مِّن دُونِ اللَّهِ (بل لله وحده السلطة المطلقة والكمال المطلق والقدس المطلق) } (آل عمران: 64) ؛ أفلم تروا أن قوله: (سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) يفيد ما نحن بصدده من وحدة جوهر الدين. ومما أوحي إليه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا (علم على أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في زمانه) وَالَّذِينَ هَادُوا (علم على أتباع موسى) وَالنَّصَارَى (علم على أتباع عيسى) وَالصَّابِئِينَ (علم على طائفة كانوا ببابل) مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً (ما يصلح لسعادة النفس) فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ (كل على حسبه) وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ (من اختلاف النسبة) وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (على فوات أجر العمل) } (البقرة: 62) . ألم تروا أن ذكر الذين هادوا والنصارى والصابئين مع الذين آمنوا بمحمد، ثم الوعد بالجزاء الذي ينفي الخوف والحزن لدى الإيمان بالغيب والعمل الصالح يفيد أن هذا هو الدين المطلوب من كل لا الانتماء للأسماء. ومما أوحي إليه: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ (أي: التوراة والإنجيل) وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ (أي: شاهدًا) فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ (أي: ظنونهم بأن وسائلهم لا تنسخ) عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً (أي: في الوسائل) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً (أي: متفقة المناهج في السلوك لبلوغ الركنين المقصودين في الدين) وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ (أي: ليظهر استعداد كل منكم بحسب زمانه ومكانه) فِي مَا آتَاكُمْ (من آلات العلم والعمل) فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ (أي: استعملوا الآلات فيما خلقت من أجله لتكون لكم العلوم النافعة والأعمال الرافعة وهي الخيرات بحذافيرها. وهذا الخطاب حنان وتفضل على الفطرة ومنح لها السعة في القابلية) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً (أي: إلى الموقف الغيبي الذي تنال فيه نفوسكم ما أعتد لها بحسب ما قدمت في الموقف الحسي) فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (أي: ينكشف لكم هنالك ما حجبه الحس عنكم هنا) } (المائدة: 48) . وشواهد هذا المعنى من القرآن المجيد كثيرة. وللاختصار نكتفي بما قدمناه ونكتفي أيضًا بشاهد واحد مما في كتب العهدين (القديم والجديد) ، فإليكموه جامعًا هذا المعنى المجمع عليه في العهدين، سُئل المسيح: (يا معلم أي وصية هي العظمى في الناموس؟ فقال له يسوع: تحب الرب من كل قلبك ومن كل نفسك، ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء) (متّى، ص 22) أو لم تروا كمال المطابقة بين ما عبرنا عنه هنالك في وصف الركنين وبين ما عبر به هنا عنهما. وإننا قد كتبنا هذه الأدلة للمتدينين الذين قد يُعِيرون البال لأمثال هذا المعنى أما غيرهم فسوف يقولون: سواء علينا أصحت هذه الدعوى أم لم تصح فإننا قوم ننظر للواقع، فنأخذ منه نفس الأمر. ونحن نقابلهم فنقول: سواء علينا أذعنتم أم لم تذعنوا فإننا قوم ننظر للجوهر، ولا نعبأ بالصور. وها نحن أولاء نبين لكم كيف تغايرت الوسائل حتى تغايرت صور هذه الأديان: إن فروع كل قانون من قوانين العالم في الأخلاق وفي نظام الاجتماع تكون بحسب الجيل والقبيل وقد يحدث في فهم المخاطَبين بها تفاوت فيكون البون بين قانون وقانون. وهذه أمثلة ذلك: (1) في بعض الأجيال سُنَّ عمل شيء لتأليف القلوب. وفي أجيال أخرى كان ذلك العمل من مفرقاتها. (2) في بعض الأجيال شرع عمل لضرورة، وفي أخرى لم تكن الضرورة تلك. (3) خوطب قوم برموز فأخذها آخرون على ظاهرها، وخوطب قوم بصريح فقالوا: هذه رموز! ! ! (4) رغب قوم بسعادة الحس وأرهبوا من شقائه، وآخرون رغبوا بسعادة الغيب، وأرهبوا من شقائه، وشوق آخرون للأمرين فهام الأولون بوسائل الملك والغلبة على الأمم. وهام التالون برفض النعيم في هذا العالم وعدم المبالاة بجحيمه. واعتدل الآخرون فطلبوا نصيبًا من ههنا وههنا. واشتغلوا بكلتا الوسيلتين فكيف تتساوى الفروع ههنا؟ فأنتم ترون من هذه الأمثلة وما ستقيسون عليها أن الوسائل ضروري فيها التغيير وما كان تحت التغيير فهل يكون الروح واللب؟ وكثيرًا ما تتفق بعض الأجزاء بالمعنى ويفترق دوالها ما بين صريح أو رمز كالتعبير عن كون الخالق خلق الخلق أضدادًا بأن العالم نشأ من الظلمة والنور أو أن الظلمة نشأت من النور، وكالتعبير عن كون الفاطر فطر الإنسان فطرة بديعة وآتاه فضلاً من العناية (كأن سخر له الأرواح الساريات بطونًا، والأجسام الجاريات ظهورًا، والعادنات عدنًا) بأنه سواه بيده، ونفخ فيه من روحه، وخلقه على صورته، واستخلفه في أرضه، وعلى هذين المثالين قيسوا ما اختلافه بين صريح وكناية، وعبارة وإشارة، ولو شئنا لسردنا ههنا من الأمثلة مئات، تنتفع بها الفئات، فليستنبع مَن قرعت سمعهم هذه الإشارات، ينابيع ذكائهم الفائضات. والغرض من كل ذلك أن الذين يلهمون الحكمة الصافية لا يعدمون ما يبينون به للناس دينهم الذي أحبوه من فم شخص وكرهوه من فم آخر، وهو واحد. ذلك الدين الواحد هو ما أمر به المرسلون من إسلام النفوس إلى بارئها وتصحيح الإرادة وتوجيهها نحو الكمال الذي اعتد للفطرة أن تناله {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) ، {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19) ، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (النساء: 125) ؛ ولم تكن ملة إبراهيم إلا ملة الفطرة، فقد سمعتم أنه عاف تلك الأوضاع التي كانت في قومه (الصابئين) وهاجر من ديارهم ولم يكن في ملته تلك الوسائل والأجزاء التي اقتضاها من بعد ذلك زمان موسى ثم لم يقتضها زمان عيسى ولا زمان محمد (عليهم السلام) . فيالله كم من فضل ومنة علينا لهادينا الرؤوف الرحيم، ومرشدنا الرسول الكريم، الذي أنقذنا من الضلة؛ إذ دعانا إلى هذه الملة، ملة الأنبياء كلهم كما أوحي إليه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ؛ وفي آية أخرى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136) . أما البعيدون عن العلم فهم عن هذا معرضون، يظنون المشاحة في الكلم والأسماء والكز على الوسائل والأجزاء، لب الغرض وروح الدين، وغاية المطلوب من الطيبين الطاهرين، ونهاية الزلف عند رب العالمين، ولو كان كذلك لما غيَّر الأنبياء شيئًا من وسائل مَن قبلهم؛ إذ قد أمروا أن لا يتفرقوا في الدين، فهل هم يخالفون الوحي؟ كلا، أم أوحي لكل منهم دين على حدة؟ كلا، وإنما أوحي لكل منهم شرعة ومنهاج، ووضع لكل منهم في ترقية الناس معراج، وبين الدين والشرعة فرق لغوي واصطلاحي، فاسألوا أهل العلم إن لم تعلموا، وقد حررنا لكم آنفًا ما يفيدكم، هذا إن كنتم تذكرون. وإنا لسائلوهم: هل لب الدين تلك المسائل التاريخية التي وقعت كما وقعت ثم اختلف التعبير عن كيفية وقوعها؟ هل غاية ما يتوقف عليه رضا الباري وغضبه القول بأن زيدًا أهانه عمرو أو أنه لم يهنه عمرو، وإنما أهانته يد سرية، ورأى الناس يد عمرو فحكموا أنه هو الذي أهانه ولكنهم في الحقيقة واليقين لم يصيبوا في حكمهم؛ لأن الذي أهانه يد سرية لا يد عمرو هل هذا كل الدين؟ وسائلوهم: هل منتهى الدين أمور تتعلق بالعادات البشرية من قيام وقعود، وسهر وهجوع، وشبع وجوع، وذهاب ورجوع، وإقامة ورحيل، وإعلاء وتنزيل، وأمور أخرى تتعلق بالأديان، من لحم وشعر وظفر وأسنان، أو هذا هو الدين أو هذا كل الدين؟ وسائلوهم: هل مبلغ زلف المتدينين أن يفني بعضهم بعضًا إن استطاعوا أو يقبل المغلوب ما قبل الغالب. إذن أين حرية التفكر. إذن أين الفضيلة للمكره فيما يأتيه بظاهره وينكره بباطنه؟ هنالك أسئلة كثيرة يسألها من ظنوا تلك الظنون، وتربص بعضهم ببعض ريب المنون، أما نحن فسيسألنا سائل من أهل الملل قائلاً: هل أنت تنكر الوسائل مطلقًا؟ وهل الوصول إلى ذينك الركنين يكون بدون الوسائل؟ وهل أنت غير معتبر لوسائل دين من الأديان وبهذا الاعتبار ألا ترد غيرها؟ وحينئذ فما ثمرة تطويلك هذا الذي لا يغني

تفسير سورة العصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفسير سورة العصر قد جمعنا من المنار تفسير سورة العصر للأستاذ الإمام، وطبعناه وحده في كتاب صغير الحجم كبير الفائدة، وطبعنا معه ملخص درس الأستاذ أو خطابه في تونس، وموضوعه (العلوم الإسلامية والتعليم) ، ويعلم قراء المنار أن هذا الكتيب ركن من أركان الإصلاح والإرشاد، وقد كتب الشيخ محمد بن مصطفى أحد علماء الجزائر - المشهورين بتآليفهم المفيدة - كتابًا للأستاذ الإمام، يقول فيه ما نصه: ( ... وقد اطلعت في المنار الأنور على تفسير سورة العصر بقلمكم البديع، فراقني أسلوبه الفائق العجيب، وأخذ مني منزعه العجيب بالتلابيب، فلله أنتم ولله دركم، ما أبعد غور فكركم الصائب، وغوص ذهنكم الثاقب، في استنباط دقائق المسائل، وتقرير حقائق الفضائل، ولشدة شغفي به قرأته على ملأ عظيم من العلماء والطلبة والأعيان عشر مرات في مجالس متفرقة، فاستحسنوه جدًّا، واستجزلوا فوائده وأبدوا من السرور ما لا مزيد عليه، وأثنوا على جنابكم السامي بما أنتم أهله، ودعوا لكم من صميم الفؤاد بسعادة الدارين) اهـ. هذا، وإننا قد جعلنا ثمن هذا الكتاب في مصر قرشًا صحيحًا واحدًا تسهيلاً لاقتنائه على مجاوري الأزهر وتلامذة المدارس، الذين هم أجدر الناس بالاستفادة من حِكَمه العالية وأسلوبه الرفيع. ومَن طلبه في البريد فعليه أن يزيد أجرة إرساله.

قصيدة عالم جزائري في الأستاذ الإمام

الكاتب: عبد الحليم بن علي بن سماية

_ قصيدة عالم جزائري في الأستاذ الإمام للشيخ عبد الحليم بن علي بن سماية أُطْلِعْنَا على قصيدة تزيد على الخمسين بيتًا للشيخ عبد الحليم بن علي بن سماية أشهر علماء الجزائر، مدح بها الأستاذ الإمام وأرسلها إليه في القاهرة من عهد قريب، فسرَّنا منها أنها آية من آيات صلة علماء الإسلام بعضهم لبعض في الأقطار المتباعدة، وشعور أهل المغرب منهم بما يشعر به أهل الشرق من قدر الأستاذ الإمام، وإننا نقتطف منها هذه الأبيات: فأنت لنا شمس تنير على المدى ... أتى نورها من غير أن نتطلعا أدير بذكراك الذي منك قد مضى ... فأشرب كأسًا بالصفاء مشعشعا يذكرنيك المجد والعلم والتقى ... فأنظر من علياك عرشًا مرفعا وتلوي إلى تلك المجالس فكرتي ... فتترك قلبي بالخيار ممتعا محافل كان العلم فيها مُجالسي ... أسامر بدرًا بالجلال تقنعا فأسمع فصلاً من حكيم وحكمة ... إذا ما بدت خرت ذرى الزور رُكعا فما بال أقوام هدى الله عقلهم ... يمارون فيه والسحاب تقشعا ألم ينظروا الآثار تشهد بالعلى ... وأن نبيع الماء يوجب منبعا لسان متى يومًا تألق برقه ... يسبح رعد السامعين لما دعا أمن بعد إجماع عليه وأخذه ... نراه على أيدي الهوى قد تروعا فهل مرية من بعد حق مشاهد ... وما الحق إلا أن تراه وتسمعا يقول يشد الفعل متن بيانه ... وما القول لولا الفعل إلا مصدعا يطالب بالأعمال في العلم أهله ... وحق له من عامل قد تضلعا لعمرك ما تغني العلوم وحفظها ... إذا لم تكن فيها خطيبًا ومصقعا تحس بها كالماء يسري بعوده ... متى رامه فكر لأمر تجمعا أتى بكتاب في الكلام بيانه ... يغادر من صم الجنادل خشعا ويمسح ران القلب عمن له رنا ... يسكن جأش القلب مهما يردعا براهينه في النفس والكون والحجا ... وليست لرسطاليس أو مَن تصنعا تنزه عن دور وغل تسلسل ... وكم سلسلت آياته من تنطعا يقودك للبرهان غير مقيد ... يريك حدود العقل مهما تطلعا

مجلة بشائر السلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مجلة بشائر السلام يعلم قراء المنار أننا أنشأنا فصولاً كثيرة في الرد على هذه المجلة البروتستنتية المعتدية على الإسلام وكتابه القرآن الحكيم، ونبيه خاتم النبيين، وهذه الفصول منشورة في المجلد الرابع والخامس والسادس، ولمّا لم يزدها الرد الذي كشف النقاب عن أباطيلها وأظهر لها الحق إلا لجاجًا وعنادًا - حركت الغيرة بعض أعضاء مجلس شورى القوانين فخاطبوا الحكومة في شأنها وقبل أن يخاطبوها طلبوا منّا أعداد المجلة ليراجعوها، ويُطْلع بعضهم بعضًا على ما فيها من الطعن الممنوع قانونًا وأدبًا، وكنا سكتنا عن الرد في أجزاء قليلة لكثرة المسائل العارضة، فاضطررنا إلى الاستمرار على السكوت؛ لأن الأجزاء لم تعد إلينا، وقد توهم بعض القراء أننا سكتنا لأجل اعتراض ذلك المعترض من الإسكندرية الذي لم يستحسن الرد على المجلة، وزعم أن ذلك يزيد في نشر شبهاتها، فصار الناس يسألوننا عن ذلك، حتى كتب إلينا قاضي جزيرة البحرين - وهو من فضلاء أهل العلم والدين - من كتاب طويل ما نصه: (ولهفي على تقاريرك عن شبهات النصارى فما لي لا أرى لها ذكرًا، فوربك إن أجوبتك كالشهب المحرقة لشياطينهم، الممزقة لشبهاتهم، وفهمي من مدلول علمك وفور عقلك، فما أظنك تُصغي لغِرّ انتقدك في أجوبة شبهاتهم، وعِلَّته التي فاه بها أوهى من انتقاده، أو في حسبانه أن دوي أصوات شبهاتهم محصورة فيما بينهم؛ بل بعد ما أوحى بها شياطين جِنّهم، فاه بها شياطين إنسهم ... ) ... إلخ. فليعلم القاضي الفاضل وغيره من القراء أننا لم نترك الرد لذلك النقد الهراء، فإننا نعلم أن فينا مَن لا ترضيه منا الحسنات، ويود أن يحولها إلى سيئاتٍ، وكما انتقد ذلك الإسكندري علينا بالأمس الرد على المعتدي على الإسلام من الذين قالوا: إنا نصارى - انتقد علينا اليوم الرد على المعتدين على الإسلام من الذين قالوا: إنا مسلمون. وحرموا علينا طعام أهل الكتاب وهو حلال بنص الكتاب المبين، وحرموا علينا لباسهم وقد لبِسه الرسول الأمين، ومن أعجب فنون الجنون أن يشتمك شاتم سرًّا، ويكلفك أن تشتم نفسك جهرًا، على أن هذا الجاهل أراد أن يذم فمدح! فقال: إننا استبدلنا الطيب بالخبيث والحلو بالمر. ومعنى هذه العبارة في لغة القرآن أننا جعلنا الطيب بدلاً من الخبيث، والحلو بدلاً من المر، والمعنى بعكس ذلك في لغة الجاهلين وهو ما أراده السابّ. أما ما كان من أمر مجلس الشورى والحكومة؛ فإن الحكومة خاطبت وكيل إنكلترا السياسي في الأمر؛ لأن الذي يصدر تلك المجلة الخاطئة إنكليزي، فخيَّر اللورد كرومر الحكومة بين محاكمته واستتابته فرضيت بالثانية فوبخه اللورد واستتابه. ولما انبرى مجلس الشورى لهذا الأمر قام أحداث السياسة يفتجرون في جرائدهم ويفتخرون زاعمين أنهم أنصار الدين، وأصحاب الغيرة على الإسلام والمسلمين، وأنه لولاهم لم يتعرض مجلس الشورى لمخاطبة الحكومة في شأن تلك المجلة. ومن عجائب فوضى هؤلاء الأحداث أن واحدًا جديدًا منهم قام يعترض على أكبر المنتصرين للدين، ويرميه بالتقصير في مقاومة بشائر السلام، ويعلم أو لا يعلم أنه لولاه لَمَا قال أحد كلمة في هذا الانتصار فيما نظن، ولو كان هذا وغيره من أصحاب الدعوى العريضة يحبون الدين ويغارون عليه أو لو كانوا يعرفونه لعرفوا أنصاره، واتخذوهم أئمة لهم لا أعداءً وأضدادًا. وإننا نرجو أن تُرد إلينا الأجزاء تلك المجلة التي أخذها بعض أعضاء المجلس لنتم الرد على تلك الشبهات المموهة: {لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد: 29) .

الشيخ محمد الأشموني ـ وفاته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ محمد الأشموني - وفاته فاتنا أن نذكر في الجزء الماضي وفاة شيخ شيوخ أهل الأزهر الشيخ محمد الأشموني الذي قيل فيه: إنه لا يوجد عالم أزهري الآن إلا وقد أخذ عنه أو عن أحد تلامذته. وقد أبَّنته الجرائد بمثل: البخاري حديثًا والشافعي فقهًا وسيبويه نحوًا.. ولكنها لم تذكر له مزيَّة غير أنه عالم كبير. وقد بلغنا أنه كان يمقت هذه الحواشي فلا يقرؤها، وكان يحفل بما يحفل به الشيوخ من كساوى التشريف ولقاء الأمراء؛ بل يكره ذلك. وروي أن سائلاً سأله في الدرس عن حكم لبس البرطلة (البرنيطة) ، فأجابه: جئني بواحدة ألبَسها لك هنا؛ أي: في الأزهر. وكان صاحب انبساط ودعابة مع جلسائه. مات عن مائة سنة ونيّف رحمه الله تعالى. *** ثبت لدى قاضي مصر أن أول ذي الحجة كان يوم الأربعاء، فعيد الأضحى يكون الجمعة، جعله الله مباركًا على أهله.

تأييد علماء الآفاق للفتوى بحل طعام الكتابي على الإطلاق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأييد علماء الآفاق للفتوى بحل طعام الكتابي على الإطلاق نادت الجريدة المحدثة علماء الإسلام في الغرب والشرق للكتابة في موضوع فتوى مفتي الديار المصرية للترانسفالي بحل طعام أهل الكتاب أو ذبائحهم خاصة، وذكرنا في الجزء الماضي أن أحد علماء الديار التونسية أرسل إلينا رسالة في ذلك ثم رأينا رسالة أخرى لبعض علماء فاس الأعلام في ذلك أرسلها مع كتاب منه إلى الأستاذ الإمام، كما رأينا مقالات في بعض الجرائد الهندية، فرأينا أن ننشر الكتاب ثم الرسالتين لما في ذلك من تأييد الحق وصلة علماء الأقطار الإسلامية بعضهم ببعض في النوازل الفقهية ومن خذلان الباطل وأهله، وهذا نص كتاب العالم الفاسي: الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. سيدنا الإمام، الدراكة الهمام، المتبحر مفتي الأنام، القائم بشريعة الإسلام، الحائز قصب السبق، في الفضل والتقدم والمجد، الأستاذ مفتي الديار المصرية أبو عبد الله سيدي محمد عبده. سلام على سيادتكم ورحمة الله. أما بعد: فالمقصود الإعلام بأنا على محبتكم وودادكم وإن لم نَرَكم بالأبصار، لكن نرجو الله تعالى بفضله أن يجمعنا بكم في هذه الدار، وقد أخبرني عن سيرتكم ومحاسنكم صاحبنا وحبيبنا الفقيه الوزير العلامة الأسعد، البركة الفاضل الأمجد، أبو عبد الله سيدي محمد الغباص الفاسي وزير الحرب الآن الذي كان سفيرًا بالجزائر قبل هذا الوقت وإن كان لم يتلاقَ معكم أيضًا هناك وقد تأسف على ذلك. وجاءه خبركم؛ وهو بوجدة فرجع سريعًا إلى الجزائر بقصد ذلك فلم يلحقكم هناك، وإن كان تلاقى معكم نجله المبارك الميمون سيدي محمد؛ لكنه لم يكتفِ بذلك، ولا زلنا جميعًا نرجو الله تعالى أن يجمعنا بسيادتكم على أحسن حال، بجاه النبي والآل. ثُم إنه كان سألني بعد قدومه من الجزائر عن ذبيحة أهل الكتاب فأجبته بما قاله الإمام ابن العربي وغيره من حليتها، وقد كانت وقعت فيها بفاس مذاكرة قبل هذا الوقت فكتبت فيها جوابًا بذلك، فإذا به جاءتنا جريدة من محروسة مصر، فيها فتواكم عن ثلاث مسائل، فأعجبتني وسُررت بها غاية السرور وضمنتها كتابًا لي في النوازل لحسنها، ثم لما رأيت في تلك الجريدة نفسها كلامًا لبعض المارقين من الدين - اغتظت لذلك، وعزمت أن أوجه لكم بعض ما كنت قيدته فيها من كلام الأئمة المهتدين، فشاورت في ذلك الوزير المذكور، فحث عليَّ في تقديم إرساله على جميع الأمور، وأعجبه ذلك مُظهرًا به غاية الفرح والسرور، ومسلِّمًا عليكم أيضًا وطالبًا صالح أدعيتكم في خلواتكم وجلواتكم، والسلام. ... ... ... ... ... ... ... 14 ذي القعدة الحرام عام 21 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المهدي الوزاني بفاس ... وأما رسالة هذا العالم فهذا نصها وكتب أنه لم يرسل جميع ما كتبه لعدم الحاجة إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله. وبعد: فهذا جواب عما كثر فيه الخوض بين الناس في ذبيحة الكتابي، هل تؤكل أم لا؟ ، ففي نوازل العلامة أبي عبد الله سيدي محمد الورزابي أنه (سئل) عن ذبيحة الكتابي هل تحل المزكّى كيفما كانت سواء وافقت ذكاتنا أم لا، أو فيها تفصيل؟ (فأجاب) : قال الإمام ابن العربي: إذا سلّ النصراني عنق دجاجة حل للمسلم أن يأكلها؛ لأن الله أحل لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم، وكل ما يرونه في دينهم فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه ... إلخ (وقد تقدم في الصفحة 779 من المنار ثم قال الفاسي) قلت: ومعنى قوله: وقد قال علماؤنا ... إلخ أنه حيث أباح العلماء وطء نسائهم وبناتهم المقبوضة منهم في الصلح معهم مع أن ذلك أشد من طعامهم الذي يستحلونه في دينهم، فيجوز لنا أكل ذبيحتهم بالأحرى؛ لأنه يُحتاط في الفروج ما لا يحتاط في غيرها والله أعلم. (وقد أفتى الإمام الحفّار بمثل ما قاله ابن العربي وانتصر له كما في المعيار ووجهه، فقال: أفتى ابن العربي بجواز أكل دجاجة فك نصراني رقبتها، ولا إشكال فيه عند التأمل؛ لأنه تعالى أباح لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم على الوجه المباح لهم من ذكاته المشروعة لهم ولا يشترط موافقة ذكاتهم لذكاتنا ... ) ... إلخ قاله الحفار وقد تقدم في (779 و780) من المنار ثم قال الفاسي: (وقد سكت ابن عرفة عن فتوى ابن العربي وأقرها وقال: حاصله أن ما يرونه مذكى عندهم حلال لنا وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة. وكذا مؤلف المعيار والزياتي في فتوى الحفّار وسلماه أيضًا، قلت: وأنا تابع لهم أيضًا. الدليل على صحة ما قاله الإمام ابن العربي ما ذكره العلماء فيما ذبحه أهل الكتاب للصنم فإنه حرام مع المنخنقة وما عطف عليها وقيدوه بما لم يأكلوه، وإلا كان حلالاً لنا. قال الشيخ بناني على قول المختصر: (وذبح لصنم) - ما نصه: الظاهر أن المراد بالصنم كل ما عبدوه من دون الله سبحانه وتعالى بحيث يشمل الصنم والصليب وغيرهما؛ وإن شرط في أكل ذبيحة الكتابي كما في التتائي والزرقاني وهو الذي ذكره أبو الحسن رحمه الله في شرح المدونة وصرح به ابن رشد في سماع ابن القاسم من كتاب الذبائح ونصه: كره مالك رحمه الله ما ذبحه أهل الكتاب لكنائسهم وأعيادهم؛ لأنه رآه مضاهيًا لقوله عز وجل: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) ، ولم يحرمه؛ إذ لم يَرَ الآية متناولة له وإنما رآها مضاهية له؛ لأن الآية عنده إنما معناها فيما ذبحوا لآلهتهم مما لا يأكلون، قال: وقد مضى هذا المعنى في سماع عبد الملك اهـ. وقال في سماع عبد الملك عن أشهب: وسألته عما ذبح للكنائس قال: لا بأس بأكله. ابن رشد: كره مالك في المدونة أكل ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم ووجه قول أشهب أن ما ذبحوه لكنائسهم لما كانوا يأكلونه وجب أن تكون حلالاً لنا؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) ، وإنما تأول قول الله عز وجل: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) ، فيما ذبحوه لآلهتهم ممّا يتقرّبون به إليها، ولا يأكلونه فهذا حرام علينا بدليل الآيتين جميعًا اهـ. فتبين أن ذبح أهل الكتاب إذا قصدوا به التقرب لآلهتهم فلا يؤكل؛ لأنهم لا يأكلونه فهو ليس طعامهم ولم يقصدوا بالذكاة إباحته [*] وهذا هو المراد هنا، وأما ما يأتي من الكراهة في ذبح لصليب فالمراد به ما ذبحوه لأنفسهم؛ لكن سموا عليه اسم آلهتهم، فهذا يؤكل بكرهٍ؛ لأنه من طعامهم. هذا الغرض من كلام بناني وسلمه الرهوني بسكوته عنه، فهذا شاهد لابن العربي قطعًا؛ لأنه علق جواز الأكل على كونه من طعامهم والمنع منه على ضد ذلك. وأيضًا ليس كل ما يحرم في ذكاتنا يحرم أكله في ذكاتهم، كمتروك التذكية عمدًا؛ فإنها لا تؤكل بذبيحتنا [1] وتؤكل بذبيحتهم حسبما تقدم؛ فإذًا المدار على كوْنها من طعامهم لا غير. والله أعلم. فظهر أن ما قاله الإمام ابن العربي لم ينفرد به؛ بل تبعه عليه جماعة من المحققين؛ لكنه اعترضه عليه جماعة من المتأخرين، قال ابن ناجي في شرح الرسالة: وإذا كان النصراني يسل عنق الدجاجة فالمشهور أن لا تؤكل وأجاز ابن العربي أكلها ولو رأيناه يسل عنقها؛ لأنها من طعامهم. ابن عبد السلام وهو بعيد: وبالغ البساطي فقال: ليت قوله هذا لم يخرج للوجود ولا سطر في كتب الإسلام اهـ، ابن سراج: وهو هفوة؛ لأنا إذا لم نستبح الوحشي بعقرهم فأحرى الإنسي. وعلى استباحته فعلله اللخمي بأنه ذكاة عندنا وعقرهم الإنسي ليس بذكاة عندنا فلا يباح بذلك اهـ. قلت: وهؤلاء المعترضون عليه لم يأتوا بحجة ولا دليل، ولا بنص صريح أو رواية تشفي الغليل، وإنما أتوا بمجرد كلام خشن ليس فيه أدب مع القاضي، لاعتقادهم أنه خالف ما تقرر قبله في الزمان الماضي، ولا سيما الشيخ الرهوني رحمه الله. أيضًا المعترض عليه هو ابن عبد السلام وابن سراج والباسطي، والمؤيد لكلامه هو الحفار وصاحب المعيار والزياتي، فيتقابلان، ويتساقطان، ويبقى كلام ابن العربي سالمًا. وقول الشيخ الرهوني: ويكفي في كون ما لابن العربي شاذًّا اتفاق الأئمة على عزوه له وحده ... إلخ - فيه نظر ظاهر؛ لأن هذه المسألة إنما تكلم عليها ابن العربي فقط دون غيره من الأئمة، فلم يتعرضوا لها بنفي، ولا بإثبات، فلذلك نسبوها له وحده. وإنما يصح ما ذكره لو تعرضوا لها في كتبهم وأفتوا فيها بخلاف ما قاله هو، فهنا يصح له ما قاله، أما حيث سكتوا عنها - وهو الذي تكلم عليها بالخصوص - فلا. وأما اعتراضهم عليه فقدمنا أنهم لم يأتوا عليه بدليل فهو والعدم سواء، وقول ابن سراج: لأنا إذا لم نستبح الوحشي بعقرهم فأحرى الإنسي ... إلخ - لا حجة فيه؛ لأن الوحشي كما قاله الزرقاني، إنما لم يستبح بعقرهم؛ لأن فيه نوعًا من التعبد؛ أي: وليسوا هم من أهله فتأمله. وأيضًا ما قاله غير متفق عليه عندنا؛ بل معترض ولا يحتج بمختلف فيه كما هو معلوم. قال الزرقاني - على قول المختصر -: (وجرح مسلم) ... إلخ ما نصه: فلا يؤكل بصيد الكافر؛ لقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} (المائدة: 94) ؛ أي: والخطاب للمؤمنين وإنما افترق صيده من ذبحه؛ لأن في الصيد نوع تعبد ووقوفًا مع الإضافة إلى المؤمنين في الآية ولا يعارضه عموم {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) كما استدل به أشهب وابن وهب وجماعة على عدم اشتراط الإسلام؛ لتخصيصها بالآية الأخرى جمعًا بين الدليلين ... إلخ. وقال في التوضيح: الاستدلال بهذه الآية على منع صيد الكتابي هو الذي في المدونة وفيه نظر؛ لأنه اختلف في المراد بهذه الآية، فقيل: المراد بها إباحة الصيد. وقيل: منعه واختاره اللخمي وغيره، وأن المراد الامتناع في حال الإحرام، والابتلاء في {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ} (المائدة: 94) الاختبار، هل يصبر عنه؛ لقوله تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} (المائدة: 94) ، ولقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (البقرة: 178) ا. هـ نقله بناني وأقره وكذا سلمه الرهوني بسكوته عنه، فاستدلال ابن سراج بما قاله باطل لا يصح، وقال الرهوني على قول الزرقاني: كما استدل به أشهب وابن وهب ... إلخ، ما نصه: ما قاله هؤلاء هو الذي اختاره الباجي وابن يونس وابن العربي واللخمي. وقيل: إنه مكروه. قال ابن بشير: ويمكن أن تحمل المدونة على الكراهة ... إلخ، فأنت ترى بعضهم نظر في كلام المدونة وبعضهم تأوله، كما أن جماعة من أهل المذهب خالفوه، فكيف يستقيم الاستدلال به لابن سراج؟ والله أعلم. قاله وقيده عبد ربه تعالى محمد الوزاني) . اهـ الحسني العمراني. (المنار) جاء في كتاب الصيد من المدونة بعد ما تقدم في صيد اليهودي والنصراني ما نصه: قال سحنون: قال ابن وهب: لا بأس بأكل صيدهما. وقال علي بن زياد: فأنا لا أرى به بأسًا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (المائدة: 5) .ا. هـ وهذا هو المتعين والآية ليست في الموضوع؛ وإنما هي في المحرم بالحج. وجاء في كتاب الذبائح من المدونة ما نصه: قلت: أفتحل ذبائح نساء أهل الكتاب وصبيانهم؟ قال: ما سمعت من مالك فيه شيئًا؛ ولكن إذا حل ذبائح رجالهم فلا بأس بذبائح نسائهم وصبيانهم إذا أطاقوا الذبح. قلت: أرأيت ما ذبحوا لأعيادهم وكنائسهم أيؤكل؟ قال: قال مالك: أكرهه ولا أحرمه. وتأول مالك فيه: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ ا

سؤال عن فتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سؤال عن فتوى سأل سائل من طلاب العلم في الجامع الأعظم بتونس اسمه (أبو بكر العروسي) عن مستند مفتي الديار المصرية في الفتوى لشركة التأمين على الحياة التي نشرت في جريدة المغرب نقلاً عن جريدة الوطن، وأطال الكلام بأحكام فقهية مالكية ليست من موضوع الفتوى في شيء؛ وإنما هي من موضوع ما كتب في الجريدتين فعجبنا من ذلك. وكتب إلى المفتي عالم من (وجدة) في الجزائر كتابًا يقول فيه إنه اطلع على ما نشرته جريدة المغرب، وأنه رأى أن الفتوى منطبقة على السؤال، وأنها حق في نفسها؛ ولكنها لا تنطبق على موضوع شركة التأمين على الحياة وشروطها؛ أي: فما فائدة الشركة منها غير الإيهام ولما رأينا ما كتب في جريدة المغرب قد استتبع بحثًا وسؤالاً في بلاد المغرب على أن ما نشر في جريدة الوطن لم يستتبع مثل ذلك في المشرق أحببنا أن نبين الحقيقة فنذكر أولاً صورة السؤال والفتوى كما نشر في جريدة المغرب ثم نبين مثار وهم الطالب فنقول: أما صورة السؤال فهي: حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية ما قولكم دام فضلكم في شخص يريد أن يتعاقد مع جماعة [1] على أن يدفع لهم مالاً من ماله الخاص على أقساط معينة ليعلموا فيه بالتجارة، واشترط معهم أنه إذا قام بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك المال وكان حيًّا فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصم من الأرباح، وإذا مات في أثناء تلك المدة فيكون لورثته أو لمن له حق الولاية في ماله أن يأخذوا المبلغ تعلق مورثهم من الأرباح، فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيدًا لأربابه بما ينتجه لهم من الربح جائز شرعًا؟ نرجوكم التكرم بالإفادة أفندم. الجواب الحمد لله وحده ... لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة كان ذلك جائزًا شرعًا، ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل في المال وحصول الربح أن يأخذ لو كان حيًّا ما يكون له من المال مع ما خصه من الربح، وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح والله أعلم. (المنار) هذا هو نص السؤال ونص الجواب كما في الجريدتين إلا أننا ذكرنا الكلمة الزائدة وهي: (شركة الجريشام مثلاً) في الهامش. فأين منه التأمين على الحياة؟ ومن قال أو من يقول: إن المفتي يجيب عن نيات الناس دون أسئلتهم، ومن أمثال العامة: (إن الفتوى على قدر النص) ؛ أي: نص السؤال، نعم، إنه يجوز للمفتي أن يفيد السائل بأكثر مما يطلبه إن رآه محتاجًا إلى ذلك، ولكن ليس لمشتغل بالعلم وقد رأى فتوى استدل بها على ما لا تدل عليه في رأيه - أن يقول: ما مستند هذه الفتوى في تجويزها ذلك الأمر الذي استدل بها عليه!

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (الوجه الثاني والخمسون) قولكم: إن عمر كتب إلى شريح: أن اقضِ بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله فإن لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون. فهذا من أظهر الحجج عليكم على بطلان التقليد؛ فإنه أمره أن يقدم الحكم بالكتاب على كل ما سواه؛ فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها فإن لم يجده في السنة قضى بما قضى به الصحابة، ونحن نناشد الله فرقة التقليد هل هم كذلك أو قريبًا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلة حدث أحد منهم نفسه أن يأخذ حكمها من كتاب الله ثم ينفذه فإن لم يجدها في كتاب الله أخذها من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن لم يجدها في السنة أفتى فيها بما أفتى به الصحابة، والله يشهد عليهم وملائكته وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلّدوه وإن استبان لهم في الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة خلاف ذلك لم يلتفوا إليه ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه. فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرها لقولهم وهذا كان سير السلف المستقيم، وهديهم القويم، فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولاً: هل فيها اختلاف أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا في سنة؛ بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع؛ وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به وحكم به، وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ وكتاب عمر، وأقوال الصحابة. والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أوْلى فإنه مقدور مأمور فإنَّ عِلْم المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم، وهذا إن لم يكن متعذرًا فهو أصعب شيء، وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه، ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما ويسرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقًا سهلة التناول من قرب. ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم وليس عدم العلم بالنزاع علمًا يصدمه فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًّا فيه شكًّا متساويًا أو راجحًا؟ ثم كيف يستقيم هذا على رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع فما لم ينقرض عصرهم فلمن شاء في زمنهم أن يخالفهم. فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإجماع حتى يعلم أن العصر انقرض ولم ينشأ فيه مخالف لأهله. وهل أحال الله الأمة في الاقتناء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه، ولا اطّلاع لأفرادهم عليه؟ وترك إحالتهم على ما هو بين أظهرهم حجة عليهم باقية إلى آخر الدهر، وهم متمكنون من الاهتداء به، ومعرفة الحق منه وهذا من أمحل المحال؟ وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلاف الإجماع وهذا الذي أنكره أئمة الإسلام. وعابوا من كل ناحية على من ارتكبه وكذبوا من ادعاه، فقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: من ادّعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم؛ ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا أو لم يبلغه. وقال في رواية المروزي: كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا؟ ! إذا سمعتهم يقولون: أجمعوا فاتهمهم. لو قال: إني لم أعلم خلافًا. كان (أحسن) ، وقال في رواية أبي طالب: هذا كذب، ما علمه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: ما أعلم فيه اختلافًا فهو أحسن من قوله: إجماع الناس. وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع لعل الناس اختلفوا، ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة، والسنة على الإجماع، وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة. قال الشافعي: الحجة كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الأئمة، وقال في كتاب اختلافه مع مالك: والعلم طبقات: الأولى: الكتاب. والسنة. الثانية: ثم الإجماع فيما ليس كتابًا ولا سنة. الثالثة: أن يقول الصحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة. الرابعة: اختلاف الصحابة. الخامسة: القياس. فقدم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع، ثم أخبر أنه إنما يصير إلى الإجماع فيما لم يعلم فيه كتابًا ولا سنة وهذا هو الحق. وقال أبو حاتم الرازي: العلم عندنا ما كان عن الله تعالى من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ، وما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما لا معارض له، وما جاء عن الأولياء من الصحابة ما اتفقوا عليه فإذا اختلفوا لم يخرج من اختلافهم، فإذا خفي ذلك ولم يفهم، فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين فعن أئمة الهدى من أتباعهم مثل أيوب السختياني وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح. ثم ما لم يوجد عن أمثالهم فعن مثل عبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك وعبد الله بن إدريس ويحيى بن آدم وابن عيينة ووكيع بن الجراح، ومن بعدهم محمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون والحميدي وأحمد بن حنبل وإسحق بن إبراهيم الحنظلي وأبي عبيد القاسم.. انتهى. فهذه طريقة أهل العلم وأئمة الدين جعل أقوال هؤلاء بدلاً عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة بمنزلة التيمم إنما يصار إليه عند عدم الماء. فعدل هؤلاء المتأخرون المقلدون إلى التيمم والماء بين أظهرهم أسهل من التيمم بكثير. ثم حدثت بعد هؤلاء فرقة هم أعداء العلم وأهله فقالوا: إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة لم يجز أن ينظر فيها في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة؛ بل إلى ما قاله مقلده ومتبوعه، ومن جعله عيارًا على القرآن والسنة فما وافق قوله أفتى به وحكم به، وما خالفه لم يجز له أن يفتي به ولا يقضي به؛ وإن فعل ذلك تعرض لعزله عن منصب الفتوى والحكم. واستفتي له: ما تقول السادة والفقهاء فيمن ينتسب إلى مذهب إمام معين يقلده دون غيره ثم يفتي أو يحكم بخلاف مذهبه هل يجوز له ذلك أم لا؟ فينغض المقلدون رؤوسهم ويقولون: لا يجوز ذلك ويقدح فيه. ولعل القول الذي عدل إليه هو قول أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبي ابن كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم فيجيب هذا الذي انتصب للتوقيع عن الله ورسوله بأنه: لا يجوز له مخالفة قول متبوعه لأقوال من هو أعلم بالله ورسوله منه؛ وإن كان مع أقوالهم كتاب الله وسنة رسوله، وهذا من أعظم جنايات فرقة التقليد على الدين، ولو أنهم لزموا حدهم ومرتبتهم وأخبروا إخبارًا مجردًا عمّا وجدوه من السواد في البياض من أقوال لا علم لهم بصحيحها من باطلها لكان لهم عذرًا ما عند الله ولكن هذا مبلغهم من العلم وهو معاداتهم لأهله وللقائمين لله بحجته، وبالله التوفيق. (الوجه الثالث والخمسون) قولكم: منع عمر من بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة وألزم بالطلاق الثلاث وتبعوه أيضًا. جوابه من وجوه: (أحدها) : أنهم لم يتبعوه تقليدًا له بل أداهم اجتهادهم في ذلك إلى ما أداه إليه اجتهاده ولم يقل أحد منهم قط: إني رأيت ذلك تقليدًا لعمر. (الثاني) : أنهم لم يتبعوه كلهم فهذا ابن مسعود يخالفه في أمهات الأولاد وهذا ابن عباس يخالفه في الإلزام بالطلاق الثلاث وإذا اختلف الصحابة وغيرهم فالحاكم هو الحجة. (الثالث) : أنه ليس في اتباع قول عمر رضي الله عنه في هاتين المسألتين وتقليد الصحابة - لو فرض - له في ذلك ما يسوغ تقليد من هو دونه بكثير في كل ما يقوله وترك قول من هو مثله ومن هو فوقه وأعلم منه؛ فهذا من أبطل الاستدلال وهو تعلق ببيت العنكبوت فقلّدوا عمر، واتركوا تقليد فلان وفلان فأما وأنتم تصرحون بأن عمر لا يقلد وأبو حنيفة والشافعي ومالك يقلدون فلا يمكنكم الاستدلال بما أنتم مخالفون له فكيف يجوز للرجل أن يحتج بما لا يقول به؟ ! (الوجه الرابع والخمسون) قولكم: إن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم: خذ ثوبًا غير ثوبك. فقال: لو فعلت صارت سنة. فأين هذا من الإذن من عمر في تقليده، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله؟ وغاية هذا أنه تركه لئلاّ يقتدي به من يراه ويفعل ذلك ويقول: لولا أن هذا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما فعله عمر، فهذا هو الذي خشيه عمر والناس مقتدون بعلمائهم شاؤوا أو أبوا، فهذا هو الواقع، وإن كان الواجب فيه تفصيل. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (الحماسة السنية الكاملة المزية في الرحلة العلمية التركزية الشنقيطية) للشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي شهرة طائرة في جو علوم العربية كما نوهنا بذلك مرارًا، ويتمنّى محبو العلم من العارفين بمكانة هذا الرجل منه ومحبي الاستفادة منه لو يطبع له تأليف يزدادون به علمًا. ونبشرهم بأن رحلته العلمية تم طبعها من عهد قريب، ونشرت في هذه الأيام وفيها مجمل من سيرة الشيخ، وآثاره في النظم والنثر. فمن ذلك ابتداء تحصيله بالمغرب وابتداء رحلته إلى المشرق، وذكر ما استنبطه من العلم الذي أخطأ فيه من قبله، وذكر بعض مشهوري النحاة الذين أخطؤوا في عدم صرف عمر، وابتداء رثاثة نفسه، وذكر مشهورات قبائل العرب، وفيها مناظرات ومكاتبات بينه وبين بعض العلماء في المغرب والمشرق، وغير ذلك من الفوائد الكثيرة. وقد سلك المؤلف في رحلته هذه مسلك الحرية التامة في كتابة ما يعتقده في نفسه وفي غيره من الذين خالفوه في بعض المسائل، وأنحى على المخالفين له بشدة عظيمة. وإذا كانت هذه الطريقة منتقدة عند بعض القارئين فهو الذي عهدناه لا يخاف في حق اعتقده لومة لائم. ولعلّنا ننشر من الرحلة شيئًا في المنار، وإننا نحث أهل العلم والأدب على قراءة هذه الرحلة؛ فإنهم يجدون فيها من سيرة هذا الرجل الشهير، ومن علمه وأدبه ما لا مطمع في الوقوف عليه لولاها. *** (تحذير المسلمين من الأحاديث الموضوعة على سيد المرسلين) كتاب جديد ألّفه حديثًا الشيخ محمد البشير ظافر الأزهري جمع فيه فصولاً كثيرة في الحث على الاشتغال بالحديث، وفي وضع الحديث وأسبابه والمؤلفين فيه، وفي ذكر الكتب والرسائل التي تكثر فيها الأحاديث الموضوعة، وفي الخطباء المتهجمين على ذكر الأحاديث الموضوعة في خطبهم، وفي الخرافات الإسرائيلية التي دخلت في كتب المسلمين، وأشهر رواتها، وفي الحكم والأمثال التي رفعها الوضاعون وهي موضوعة، وفي طائفة من الأحاديث الموضوعة مرتبة على حروف المعجم. وقد طبع هذا الكتاب في مطبعة (الراوي) فنشكر لمؤلفه عنايته، وخدمته ونحث القرّاء على مطالعة كتابه، وهو يباع بمكتبة المنار وغيرها، وثمن النسخة منه ثلاثة قروش وأجرة البريد نصف قرش. *** (ديوان سبط ابن التعاويذي) سبط ابن التعاويذي هو أبو الفتح محمد بن عبد الله توفي سنة 853؛ وهو شاعر مشهور قال فيه ابن خَلِّكَان: (كان شاعر وقته لم يكن فيه مثله جمع بين جزالة الألفاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها، وهو في غاية الحسن والحلاوة، وفيما أعتقده لم يكن قبله بمائتي سنة من يضاهيه) ، وله ديوان كبير عُني بنسخه وطبعه حديثًا الدكتور مرجليوث الإنكليزي مدرس العلوم العربية في مدرسة أكسفُرد الجامعة في إنكلترا. وقال في مقدمته: إنه أخذه من نسختين في المكتبة البلدانية المشهورة إحداهما مبوبة على ما وصفه المصنف في خطبته، والأخرى على ترتيب القوافي.. إلخ ما ذكره. وهو يدل على ما بذل من العناية في جمع الديوان وترتيبه. وقد وصف الدكتور الديوان بعبارة رقيقة لا أثر للعُجْمة ولا للتكلف فيها على ما فيها من السجع والجناس فقال: (وكم في هذا الديوان من مدحة رافعة للقدر، وأرجوزة شارحة للصدر، ومن أهجية جارحة للأعراض وشكاية مصيبة للأعراض، ومرثية مبكية للعيون، وقطعة مختلفة الفنون، فإن القصائد كأنها مرايا تظهر فيها أسرار القلوب، وخفايا الخطوب، وتكاد أن تعيد الأموات، وتجعلهم ذوي حياة، وتُظهر مَنْ غَبَر وسلف، نصب عين من خلف، حتى يشترك فيما كان يداخلهم من المقة والمقت، عند قديم الوقت، ويشاهدهم في السراء والضراء عنه اختلاف الشؤون، ويسمع حديثهم ذا الشجون) . فأنت ترى هذا السجع الرقيق لا يأباه لنفسه أكتب كُتّاب العصر، فإن وجد من الكاتبين من يرى مثل قوله: (المقة والمقت، عند قديم الوقت) من التكلف في التجنيس والتسجيع فأنا ضامن بأن ابن الفارض يتمنّى مثله في شعره، ولا يأباه الحريري في نثره، وقلما تجد في الأزهر من يحسن مثله. وقد وضع للديوان فهرسين؛ أحدهما في إحصاء أسماء الممدوحين والمهجوين وغيرهم ممن ذكر في هذا الديوان مع بيان نوع الشعر الذي قيل فيهم. وثانيهما في أهم المعاني الجائلة في أبيات الديوان مرتبة على حروف المعجم كالأباء، وأخذ الممدوح الجائزة دون المادح، وإعادة الدعوة العباسية في مصر، والأتراك، والتشيع والعين، وعيوب الشعر، وقلاية الجاثليق، ونحو ذلك من المعاني التي يحتاج إلى مراجعتها الباحثون، وهذه الفهارس التي يلحقها الإفرنج بكتبهم وما يطبعونه من كتبنا مفيدة جدًّا لتسهيل المراجعة على الباحث والمؤلف، ومتى صرنا نعرف قيمة الوقت فإننا نحذو حذوهم فيها، وقد طبع الكتاب بالشكل الكامل في مطبعة المقتطف، وهو بفهارسه نحو 500 صفحة، وثمن النسخة منه غير مجلدة 36 قرشًا صحيحًا، وثمن المجلدة تجليدًا عاديًّا 40 قرشًا، والمجلدة تجليدًا متقنًا مرسومًا بالذهب 45 قرشًا. فنشكر للمؤلف عنايته وخدمته للغتنا، وننبّه قومنا للاعتبار بذلك، فإننا صرنا نأخذ لغتنا وآدابها عن الإفرنج. *** (أسرار النجاح) كتاب يشتمل على مقالات مفيدة جدًّا في الثروة والكسب؛ مؤلف من مقدمة وثلاثة أبواب. أما المقدمة ففي أنفع النصائح والاعتماد على النفس، والمحافظة على الوقت ومصادر الثروة، والثبات على العمل واختياره، وأهم الأعمال الصناعية، وأما الباب الأول ففي الزراعة، وفيه ثلاثة مباحث، وأما الثاني ففي الصناعة وفيه أربعة مباحث، وأما الثالث ففي التجارة وفيه سبعة مباحث. واضع الكتاب إبراهيم بك رمزي صاحب جريدة التمدن، ومن قرأ جريدته يعرف كُنه أفكاره المفيدة في أمثال هذه الموضوعات، وقد جعل الكتاب هدية إلى أبناء الوطن، فهو يوزع عليهم بغير ثمن، وهذا دليل على غيرة المؤلف وإخلاصه في حب الخير لبلاده؛ ولكن قومنا مغلولو الأيدي، ومقيدو الأرجل، فلا يستطيعون السعي، ولا يقدِرون على الكسب بالهمة التي يريدها أمثاله من النبهاء إلا بعد فك تلك الأغلال وكسر تلك القيود، ولا بد لذلك من جهاد في عالم العمائم ينتصر فيه من يدعو إلى الأصلح في عمارة البلاد، وترقية العباد. ولا شك عندنا في أن مثل هذا الكتاب من أنفع الكتب التي نشرت فإن الناس إذا علموا وجوه الفوائد يقوون على محاربة التقاليد والعوائد. *** (الزهرة) جريدة أسبوعية صدرت في تونس زمنًا، ثم احتجبت زمنًا، وقد برزت ثانية من كمها فنرجو أن يعبق عطرها، ويعم نشرها.

الحرب بين اليابان والروسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب بين اليابان والروسية الروسية دولة تشب شبابًا عجبًا، مساحة أرضها تناهز سدس الأرض؛ ولكن معظمها في أقصى الشمال حيث البحار جامدة من شدة البرد، لا يُنتفع بها، وسكانها مائة ألف ألف أو يزيدون عشرة آلاف ألف ونيفًا، ونحو ثمانين ألف ألف منهم خاضعون للكنيسة الشرقية، يتقلدون المذهب الأرثوذكسي مذهب الحكومة الرسمي. وجيشها في وقت السلم زهاء 1896 ألفًا، ويقال: إن في إمكانها تجنيد أربعة ملايين ونصف إذا وجدت المال الكافي لذلك. ونقول: إذا وجدت المال فإنها لا تجد الضباط والقواد الذين يديرون نظام هذا الجيش مجتمعًا؛ ولكن لها من العسكر مددًا لا ينفد في حرب أي دولة من الدول الكبرى. وقد ارتقت أساطيلها في السنين الأخيرة وكثرت حتى صارت قوتها البحرية في الدرجة الثالثة أي بعد إنكلترا وفرنسا. ويقال: إن عدد سفنها الحربية يزيد على مائتي سفينة متفرقة في البحر الأسود وبحر قزوين وبحر البلطيك وبحر الصين؛ ولكن السفن الجديدة القوية التي يعتمد عليها في الحرب لا تزيد على خمسين سفينة. ثم إن عسكر هذه الدولة في البر والبحر متمرن على القتال والنزال، مستعد له في كل حال، ومالية الروس في ارتقاء مستمر ولهم خزينة مخصوصة للحرب. نعم، إن الأمة الروسية في ظلمات من الجهل، ودولتها في غمرات من الاستبداد؛ ولكن كان من الحكمة أن بدأت بإصلاح العسكرية ثم المالية، وأما الإدارة والمعارف فلا يتأتى إصلاحهما في مثل تلك البلاد الواسعة والأمة العريقة في الجهل إلا بالتدريج البطيء، ولهذه الدولة رجال لا يبارون في السياسة؛ فهم في الدرجة الأولى؛ ولذلك نالت بين الدول مقامًا عليًّا، وقد قلت منذ سنين: إن روسيا كشاب في سن العشرين، وألمانيا كشاب في الثلاثين، وإنكلترا ككهل في الأربعين، وفرنسا قد أشرفت على الخمسين أو دخلت فيها. أصبحت هذه الدولة القاهرة مرهوبة الشذا من دول أوربا القوية، ولقد حالفتها دولة فرنسا فكان حديث الأمم أن فرنسا على عظمتها وغناها وقوتها وعلمها هي التابعة وروسيا هي المتبوعة. أليس من العجيب أن تتجرأ على هذه العظمة والجبروت دولة شرقية حديثة المدنية كدولة اليابان التي لا يكاد يزيد عدد رعيتها على ثلث عدد الروسيين إلا قليلاً؟ أليس من العجيب أن يغاضب هذا الطفل الصغير (كما يقول القيصر) ذلك الشاب الممتلئ قوةً وشبابًا، وزهوًا وإعجابًا، ثم يواثبه فيخيفه ولا يخاف منه؟ ! بلى، إن هذا من مواطن العجب، عند من لا يعرف السبب، عند هؤلاء الأفراد الذين لا يعرفون معنى حياة الأمم وعزة الدول، وإن كانوا من الكثرة بحيث يطلق عليهم لفظ (أمة) - عند الذين لهم هيئات حكومات يطلق عليها لفظ (الدولة) - عند الأفراد الذين لم يشعروا بأن في الكون سنة إلهية سمّاها الناس (تنازع البقاء) وهي تقضي بنمو الحي القوي بتغذيه بالضعيف والميت، وإنما لم يشعروا؛ لأنهم لم يذوقوا (ومَن ذاق عرف) ؛ أما الميت منهم فلم يذق لأنه ميت، وأما الضعيف فلم يشعر؛ لأن معدته لا تقبل الغذاء فإرادته لا تطلبه فهو في معنى الميت إلا أنه أشقى منه بما بقي له من الشعور بالألم عند تغذي الأصحاء به. أظن أن القارئ فهم المراد؛ لأنه يعرف أن أكثر الذين يعيش معهم لا يحسون ولا يشعرون بأنهم طعام للأمم الحية ومن عساه يحس منهم بذلك فإنه يتألم ولا يكاد يبدي حراكًا؛ لأنه إذا قوي على الحركة صاح به سائر الضعفاء واستعانوا عليه بالأموات وقالوا جميعًا: هلموا به فإنه يريد أن يغير ما ورثناه عن آبائنا وأجدادنا من جراثيم ما نحن فيه (أي: من الضعف والموت الزؤام فإنهم في ذلك دون سواه) فهذا يرميه بكسر القيود، وذلك ينبذه باعتداء الحدود، وفلان يقول: إنه أجاز لنا أن نأكل مع الآكلين. وفلان ينادي: بل أجاز لنا أن نلبس من لبوس السائدين، لقد أوقعنا في البلاء المبين، وسلب منا بإباحة الأكل واللباس الدنيا والدين. فإذا أجاز لهم مع الغذاء والكساء أن يكسبوا مع الكاسبين، فقد استحق عندهم أن يكون من المخرَجين. أمثال هؤلاء لهم أن يعجبوا من مواثبة دولة توصف بالشرقية مثلهم لأعظم دولة في الغرب والشرق؛ ولكن الذين يعرفون معنى الحياة لا يعجبون فإنهم يعلمون أن هذه الأمة قد ارتقت في معارج الحياة الاجتماعية فالتمست الغذاء، والحي الصحيح يتغذى دائمًا بغيره - فصادفت المقاومة فسلت الحسام ولجأت إلى القوة فحاربت دولة الصين التي يبلغ سكان بلادها زهاء ثلث البشر فقهرتها واستولت على طائفة من بلادها تسمى كوريا قريبة من اليابان، وهي تستمد منها غلاتها وتنفق فيها تجارتها وعليها كان النزاع، وتنازلت الصين لليابان بعد الحرب عن ميناء (بورت آرثر) وطاليانوان، وهما الثغران اللذان يرن ذكرهما كل يوم في الآذان؛ ولكن روسيا حسدتها على هذه النعمة وخافت مع غيرها من الدول الأوروبية عاقبة اليابان فاتفقت مع ألمانيا وفرنسا على حرمان الظافر من ثمرة ظفره وقضت هذه الدول الثلاث على اليابان بالخروج من منشوريا وكانوا تغلغلوا فيها وباستقلال كوريا (وذلك بعد الحرب سنة 1895 م) ، وفي أثناء ذلك احتلت الروسية منشوريا بحجة تسوية مسألة اليابان والمحافظة على استقلال الصين الذي عقدت المحالفة الثلاثية لأجله؛ ولكنها لم تخرج منها بعد خروج اليابان ولم تكتفِ بذلك حتى اتفقت مع الصين على إصلاح ثغر بورت أرثر وطاليانوان ثم طفقت تمد السكك الحديدية في منشوريا، وتقيم فيها الحصون والقلاع بحجة حماية السكة الحديدية، وقد خاطبتها اليابان في الجلاء عن منشوريا (حفظًا لاستقلال الصين) فماطلت وسوَّفت، ثم وعدت وعدًا إلى أجل مسمى فانقضى الأجل ولم تفِ بالوعد فعلمت اليابان أن السعي في إخراجها؛ إنما كان لأجل الحلول في محلها والاستئثار بغنيمتها فطفقت تستعد للكفاح، وتطالب الروسية بالوفاء بوعدها مع شروط أخرى بغاية الإلحاح، ولما أبطأت عليها بالجواب آذنتها بقطع الصلات السياسية، وابتدأتها بالحرب بحرية وبرية. أما قوة اليابان البرية فقد قالوا: إنها تستطيع أن تجهز في زمن السلم زهاء ثلاث مائة ألف مقاتل. وأما أساطيلها فهي أقل من مجموع الأساطيل الروسية سفنًا؛ ولكنها في الغالب أسرع منها سيرًا وأبعد رميًا وعدد السفن الحربية عندها على اختلاف أنواعها ثلاث وثلاثون يقابلها خمسون عند عودتها؛ ولكن هذه لا تستطيع إرسالها كلها إلى الشرق الأقصى فاليابان هناك أقوى أسطولاً والفحم الحجري عندهم أقرب تناولاً لكثرته في بعض جزائرهم، وعندهم حياض كثيرة لإصلاح السفن التي يعرض لها في الحرب التلف في آلاتها أو في ذاتها. وقوة اليابان البحرية سهلت عليها إنزال جنودها البرية حيث تشاء من مواني كوريا وإمدادها بما تحتاج إليه من المؤن والذخائر. وقد حصرت الأسطول الروسي في مرفأ ميناء بورت أرثر بعد أن دمرت بعض مدرعاته في مهاجماتها تدميرًا. لهذه الأسباب ولصعوبة إرسال الجنود مع ذخائرها ومؤنها من قلب البلاد الروسية إلى منشوريا يعد الناس الدولتين المتحاربتين متكافئتين فبعضهم يرجح النصر لهذه، وبعضهم يرجح لتلك ومنهم من يفصل في ترجيحه فيقول: إن الظفر يكون في أول الأمر لليابان في البر كما كان لها في البحر؛ ولكن العاقبة تكون لخصمها؛ لأن مدد الجنود الروسية لا ينفد وعندها المال الكثير الذي يمكنها من مواصلة الحرب مدة سنة كاملة من غير أن تحتاج إلى القرض ثم إن الاكتتاب من رعيتها للمعاونة على هذه الحرب قد بدأ بصفة مدهشة؛ أي: إنه بدأ بالملايين من الروابل (قيمة الروبل عشرة قروش مصرية) فبماذا ينتهي؟ أما ميل الأمم إلى المتحاربتين فمختلف؛ فالإنكليز والأمريكان يميلون إلى اليابان ويقال: إن الإنكليز حرضتها على الحرب، وفرنسا تميل إلى حليفتها روسيا. وأما ألمانيا فقد اختلفت الرواية عنها والراجح عندي أنها تودد إلى روسيا ظاهرًا وتود ضعفها باطنًا؛ لأنها جارتها وحليفة عدوتها (فرنسا) وقد ظهر ميل الإنكليز والأمريكان لليابان في جرائدهم كما ظهر ميل فرنسا لروسيا في جرائدها؛ بل إن شركة روتر البرقية الإنكليزية تعتني بنقل الأخبار التي تفيد خذلان الروسيين، وشركة هافاس الفرنسية بالعكس. وقد بالغت الجرائد الإنكليزية في الطعن والتنفير من روسيا حتى خافت حكومتها مغبة ذلك وطفق الملك يتودد إلى القيصر ويكثر مقابلة سفيره في لندن والإقبال عليه. وأما المسلمون عامة فإنهم يودون ضعف روسيا؛ لأنها أكبر خطر على دولهم المستقلة الثلاث - تركيا وإيران وأفغانستان -؛ ولكن السلطان عبد الحميد افترض ارتباك روسيا واشتغالها بأمر الحرب فبالغ في التودد إلى القيصر، وهي سياسة حكيمة بصرف النظر عمّا يقول كبراء الترك من وجود اتفاق سري بينهما فإن إظهار الميل عن روسيا إلى اليابان يحفظ قلب القيصر ورجال دولته على تركيا فيضمرون الانتقام منها في أول فرصة من حيث لا ينفع هذا الميل السلطان ولا الدولة من وجه آخر. وأما النصارى في البلاد العثمانية فهم أشد الناس ميلاً إلى روسيا لا سيّما الروم الأرثوذكس منهم؛ والسبب في ذلك النزعة الدينية؛ ولكنك تجد أفرادًا منهم يميلون إلى اليابان؛ لأنها دولة شرقية قد ارتقت في العلم والنظام والصناعة فهم يفتخرون بها؛ لأنهم يعدون الشرق كله وطنهم والرابطة الوطنية أعلى في نفوسهم من الرابطة الدينية؛ بل يرون أن الرابطة الدينية ضارة في الدنيا وغير نافعة في الآخرة! فإنها هي التي حالت دون مساواتهم بمن يعيشون معهم في بلاد واحدة من كل وجه. وهذا الاعتقاد فاشٍ في المتعلمين من النصارى؛ ولكن لم يغلب وجدان الأكثرين كما غلب أفكارهم - فهم يميلون إلى مشاركتهم في الدين - وإن كانوا غير معتقدين. ولو وجد في المسلمين عدد كثير يميل إلى هذه الوطنية، ولو مع المحافظة على دينهم لكثر عدد النصارى الوطنيين وتضاعف. وليس من موضوع بحثنا أن نطيل في حديث الوطنية، وإنما ذكرنا هذه المسائل؛ لأنها من العبر التي يصح أن نستفيدها من تأثير الحرب فذلك أنفع لنا من معرفة عدد الذين يخفرون سكة حديد منشوريا ومعرفة طول نهر (يالو) وعرضه. وأهم مباحث هذه الحرب مبحث عاقبتها وتعديها إلى الدول الأخرى، ويظن أن أوربا كلها يسيئها أن يكون في الشرق دولة قوية عالمة صناعية، ويسرها أن يتمزق شمل الجنس الأصفر كما تمزق شمل المسلمين؛ إذ لم يكن لها منازع في السيادة على الشرق غير المسلمين، وما أمنت جانبهم باستيلائها على أكثرهم وتعصبها على باقيهم إلا نجم لها في الشرق نجم آخر ينازعها في هذه السلطة؛ لذلك يظن أن لا يجني اليابان من انتصارهم - إن هم انتصروا - أكثر مما جنوا من انتصارهم على الصين، وأن أوربا لا تمكنهم من توسيع نطاق ملكهم في الشرق ولا من تمدين الصين وتعليمها إلا أن تشاء إنكلترا وأمريكا مقاومة روسيا بهما. وقد بحث السياسيون منهم في عاقبة ارتقاء اليابان وأنذروا أوربا الخطر من الجنس الأصفر إذا اجتمع شمله واتحدت كلمته. وأظن أن فرنسا لا تتورط في الحرب لأجل روسيا إذا هي انكسرت، وإذا هي تورطت فإنها تورط إنكلترا، وهنالك الخطر العظيم على أوربا كلها وعلى آسيا، وعقلاء الدول الأوربية يتقون هذا الخطر أشد التقوى ولذلك اتفقوا على حل (المسألة الشرقية) بالمطاولة لا بالمناجزة والأقرب إلى المعقول أن يحتل منشوريا وكوريا معًا أو الأولى فقط جيش مؤلف من دول أوربا الكبرى؛ لتبقى الس

دعوى الخلافة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعوى الخلافة تعريب مقالة نشرت في جريدة (ترك) الغراء إن دعوى الخلافة هي من أهم الأسباب الداعية لتشتت شمل المسلمين، والمانع الوحيد لوفاقهم ووئامهم وما هي بالشيء الجديد، وإنما بدأت منذ زمان سيدنا علي ومعاوية ونمت بعدئذ وتشعبت إلى شُعب كثيرة. واشرأبَّت نحوها أعناق الأمم الإسلامية بأسرها حتى إن كل أمة من هذه الأمم لا يروقها وجود الخلافة عند غيرها، ولا تراها صالحة إلا لها. فكم من دماء على هذه المسألة قد أريقت، وكم أرواح زهقت، وأطفال يُتمت، ونساء رملت، وكم أضرت هذه الدعوى بالإسلام من الأضرار البليغة المادية والأدبية. وأكثر الكل تبجحًا بدعوى الخلافة هم العرب؛ إذ يتخذون انتسابهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ونزول القرآن باللغة العربية، ومدنية العرب بعد الإسلام حجة على تأييد مدعاهم. ولا يروقهم كون الخلافة بيد الترك الذين تشرفوا بالدين الحنيف منذ سبعة قرون ولا يرونها لائقة بهم. ومع ذلك فإن الوفاق والوئام لا أثر لهما بين العرب. فترى مثلاً أن أهل الحجاز يريدون أن يكون شريف مكة هو الخليفة وأن الخلافة حقه، لا ينازعه فيها منازع. كما أن كل شيخ مشايخ عربان اليمن يريد الخلافة لنفسه. أما السوريون فإن أفكارهم تناقض هذه الأفكار كل المناقضة. ولو عطفنا النظر إلى المسلمين القاطنين في إفريقية لرأينا المراكشيين يدعون أن سلطانهم من نسل النبي وأنه أحق بالخلافة من غيره. أما سكان وادي النيل فإنهم يريدون أن تكون القاهرة مركزًا للخلافة كما كانت في العصور الغابرة فتراهم لا يألون جهدًا في تعميم هذا الفكر بين أفراد المصريين. وأما الإيرانيون فإنهم لا يعتقدون بصحة خلافة الذين تولوا الخلافة بعد أولاد الرسول، ولا يقبلون غيرهم أحدًا. فعلى ظني أن هذه الدعاوى جميعها مبنية على أسس واهية، وهذه الأفكار أوهام باطلة، وهذه الأقوال غير صحيحة. فأول شرط من شروط الخلافة هو أن تكون الأمة التي تبغي حمل تبعة هذا المنصب على عاتقها، هي أكثر الأمم الإسلامية جاهًا وأبعدهم في الحضارة شأوًا، وأقدرهم على درء العدو عن حوزة الخلافة المقدسة، وهو ما يقضي به العقل والشرع. فإذا نظرنا إليهم نظرة الناقد البصير، فهل نرى غير العثمانيين منهم أمة تحوز هذه الأوصاف جميعها؟ كلا؛ فالخلافة لا تقاس بباباوية الكاثوليك. ولم تكن وظيفة الخليفة محصورة في رفع الأكف والدعاء لحفظ الخلافة الإسلامية وصيانتها. بل إن من الواجب على الخليفة أن يريق الدماء ويبذل الأموال للذود عن حقوقها. فلا المراكشيون الذين لا يزالون على ما كانوا عليه من الهمجية منذ القرون الوسطى، ولا حملة الرمح ورماة السهام من قبائل أفريقيا، ولا شريف مكة الذي لا يهمه سوى سلب الحجاج أموالهم، ولا أصحاب الأوهام الباطلة من المصريين؛ بقادرين على القيام بحقوق هذا المنصب. ولا يمكن أن يقوم بأعبائه غير العثمانيين الذين تؤهلهم له حضارتهم وموقعهم الجغرافي وبسالة جنودهم وانتظامها. وما أتوه من الخدم الجزيلة، وما أراقوه من الدماء في سبيل هذه الغاية في العصور الخالية؛ لهو أقوى دليل على ما قدمناه؛ ولكن هل استفادوا مقابل ذلك شيئًا من الفائدة المادية؟ كلا ثم كلا. فلو لم يحملوا تبعة هذا المنصب على عاتقهم لاستراحوا من هذا العناء، ولأمضوا حياتهم السياسية بكل راحة وهناء! ولما تسلطت النصارى - حتى الأميركيون منهم- على الأتراك، ولما ترقبوا الفرص لإيقاع الأذى بهم. وكل ذلك لم يكن إلا لكون الأتراك هم عضد الإسلام الأقوى، وجميع السهام المصوبة نحو الإسلام لا تقع إلا على رؤوس الأتراك! أما ما يقال من أن الترك لم يقوموا بأعباء هذا المنصب حق القيام فهو صحيح. ولكن ليبرز من يقدر على القيام بأعبائه أكثر منهم على شرط أن يؤيد أقواله بالأفعال. وحينئذٍ يرى العثمانيين مستعدين لتسليم هذه الأمانة المقدسة والانزواء في زاوية الراحة. أما إذا قال قائل: إن الحكومة العثمانية لا تترك للسوريين واليمانيين والبغداديين مجالاً فنقول: مَن ذا الذي يا ترى غلّ أيدي المراكشيين والتونسيين والمصريين عن العمل؟ ولكن هيهات: (طبيب يداوي والطبيب عليل) ! اهـ. (المنار) قول الكاتب الأديب: إن دعوى الخلافة كانت بلاءً على المسلمين، وأنها أضرت بهم كثيرًا صحيح، وكان يجب عليه أن يبحث في تلافي هذا الضرر لا أن يهيجه بتعظيم قومه وتحقير سائر المسلمين على اختلاف أجناسهم وبلادهم. وكان يجب عليه أن يمثل لهم قوة الدولة العثمانية عزًّا لهم وشرفًا لا عارًا عليهم وهضمًا، إن الكاتب أخطأ في سيره بمقالته، وإننا نبين له خطأه ووجه الصواب الذي كان ينبغي له أن يعرفه، وأن يعرف الناس به وهو أنه لا يوجد في سوريا ولا في مصر من يفكر في جعل خليفة المسلمين سوريًّا أو مصريًّا أو بغداديًّا. وأما الكلام في المسألة فقد وجد في مصر وحدها من أفراد من أهل البطالة الذين يكسبون المال والجاه من الآستانة ومصر بكتابة التقارير للإيهام والتغرير، وقد كتبوا أوراقًا ونظموا أشعارًا يوهمون بها السلطان بأن خديو مصر يسعى للخلافة سعيها وأن الأمة المصرية تابعة له. ويريدون بهذا التقرب إلى السلطان تارة، وإلى الخديو أخرى على أنهم يخوفون السلطان منه؛ ليقضي له حاجاته عنده، وحال هؤلاء معلوم وهم يوقنون بأن الأمة المصرية لا تفكر في هذا المعنى، ولا ترجوه فضلاً عن كونها تسعى إليه. هذا ما نعلمه علم اختبار في القطرين ونعرف برواية الصادقين أن أهل مكة والمدينة لا يريدون أن يكون أميرها خليفة للمسلمين، وكذلك البلاد العربية كلها تود أن تكون دائمًا تحت رعاية الدولة العثمانية وسيادتها بشرط أن تقيم فيها العدل، وأما الذين يخرجون في اليمن فهم معدودون، يستفزهم ظلم أحكام الترك فيهيجون، ولو حكموا بالعدل لما كانوا يثورون. فهذا ما نقوله بناءً على اختبار من نثق بهم كصديقنا محمد باشا عبد الوهاب أمير دارين وصديقنا المرحوم الكواكبي الذي ساح في الجزيرة واختبرها حق الاختبار؛ ولكن العرب لا يصبرون على الضيم، فإذا ساءت معاملتهم ساءت أعمالهم. وأما أهل مراكش فلا علاقة لهم بالسلطة التركية. ودعوى سلطانهم الخلافة كدعوى سلطاننا لم تحمل أحدهما صاحبَها على منازعة الآخر، وأما كونها مانعة من اتحادهما فالملوم فيه أعلم السلطانين وأحكمهما؛ إذ يرضى أن يكون اللقب سبب التفريق بين رؤساء المسلمين بلا فائدة. وأما الإيرانيون فعذرهم أوضح الأعذار؛ لأن المسألة عندهم دينية محضة، فلا يمكن مطالبتهم بترك اعتقادهم إلا بالحجة الدينية. ومقالة جريدة (ترك) سياسية لا دينية. فعلم من هذا أن تصوير الكاتب الفاضل مسألة الخلافة غير صحيح من جهة الواقع؛ أي: إنه ليس في المسلمين من ينازع الترك بالفعل لأجل لقب الخلافة وهذا هو روح المسألة. وأما قوله: إن العرب يحتجون على كونهم أحق بالخلافة بكذا فغير صحيح أيضًا؛ وإنما يحتجون بالأحاديث الصحيحة المتفق عليها الناطقة بأن الخلافة في قريش، وهي حجة لم يخالفهم فيها أحد من علماء الترك فهذه كتبهم في العقائد والفقه والحديث متفقة مع كتب علماء العرب على اشتراط القرشية في الخلافة. ولا يقدر أن يقول: إن حديث الرسول من (الأوهام الباطلة والأسس الواهية) ؛ وإنما الباطل ما ذكره هو في شروط الخلافة من الجاه والحضارة والموقع الجغرافي، نعم، إن القوة هي المدار الحقيقي؛ ولكن يجب على المسلمين أن يجعلوا قوتهم مؤيدة للحق الذي جاءت به شريعتهم وحجة له، لا خاذلة له وحجة عليه. ولو كانت الحضارة شرطًا لما صحت خلافة الراشدين. وأما قوله: هاتوا لنا من يقدر على القيام بحقوق الخلافة من غير الترك لنسلمها إليهم، فجوابه أن الخلافة ليست حقًّا شائعًا منتشرًا بين أفراد الشعب التركي الممتاز على جميع الشعوب بحضارته فيقال ذلك؛ وإنما هي منصب تقلده الأمة لرجل واحد، وهذا الواحد يجب أن تقيده الأمة بشريعتها، فإذا كان ما يقوله الكاتب صحيحًا فليختر الترك أو ليربوا رجلاً قرشيًا من آل البيت على صفات الخلافة، ويجعلوه بقوتهم التي وصفها خليفة للمسلمين، ولا يتوقف هذا على ما يُعجِّز الكاتب به الشعوب الإسلامية من مطالبتها بالاستعداد لإزالة قوة الترك وإيجاد خلافة بقوة أخرى. وخلاصة القول: إن البحث في الخلافة والخليفة من اللّغو الذي يُخشى ضره، ولا يُرجى نفعه. وإن الذي يجب على كل مسلم في هذا العصر هو أن يؤلف بين المسلمين في حكومتهم وأفرادهم، وأن لا يجعل هذا اللقب سببًا للتفريق، ولا اختلاف اللغات سببًا للاختلاف. وأنه لا يضر الترك شيء مثل جعلهم التركية جامعة لهم يفتخرون بها على سائر المسلمين وتعمدهم إضعاف الشعوب الإسلامية؛ ليمتازوا بالقوة وحدهم، فإنهم إذا أمسوا وحدهم فلا بد أن تبتلعهم أوربا وقد رأوا العبرة بالممالك التي انفصلت منهم، والممالك التي تهدد بالانفصال. والكاتب الفاضل يعلم أن القوة التي افتخر بها ليست مؤلَّفة من الترك وحدهم؛ بل منهم ومن العرب والأكراد والأرناؤوط وغيرهم. فعليه أن يحث قومه على مساواة جميع الشعوب التي تتألف منها الدولة بأنفسهم في بلاد الدولة، وأن يتقربوا من سائر الشعوب الإسلامية بخدمة الإسلام نفسه؛ أي: بإحياء لغة كتابه المنزل من عند الله تعالى على رسوله العربي، وبإقامة شريعته العادلة، وبتأمين حرم الله وحرم رسوله، فإن عار سلب الشريف أموال الحجاج، إنما هو على الدولة التي تحكم الحجاز لا على الشريف الذي هو أحد عمالها الذين يوليهم سلطانها (خادم الحرمين الشريفين) فإذا فعلت الدولة ذلك - ووجهت قوتها إلى جمع الشعوب، وتأليف القلوب - رُجي لها الفوز بالمرغوب، وإلا كانت هي المقطعة لأوصال الإسلام محافظةً على سيادة العنصر التركي. وأما ما تبجح به من أعمال الترك وجهادهم في سبيل الخلافة المقدسة، فهو أغرب ما في المقالة، فإن الترك أيام حروبهم وفتوحاتهم لم يكونوا يذكرون لفظ الخلافة، ولا يتبجحون به كاليوم ولم تكن حروبهم دينية؛ إذ لم يكن يتقدمها دعوة إلى الإسلام، ولم تكن لحماية الدعوة وحرية الدين؛ وإنما كانت لسعة الملك، ولذلك لم ينتشر الإسلام في الممالك، التي افتتحوها بسعيهم وإقامتهم للدين، ولا ارتقت فيها الحضارة بمدنيتهم، ولا اتسعت دائرة المعارف بعلومهم، ولا قدروا على تحويلها إلى لغتهم وجنسهم بحسن سياستهم؛ بل أحفظوها عليهم، حتى أمكنتها الفرصة فتملصت من أيديهم، وهذا حق يسوءنا ذكره، ولا يسعنا إنكاره، فعلينا وعلى أخينا الكاتب الفاضل أن نرغب عن الفخر بالباطل إلى تأليف القلوب بالحق، وما هو إلا شدة حاجة بعضنا إلى بعض، وتناسي أننا شعوب مختلفة فحسبنا أن الإسلام جمع بيننا، وجعلنا بنعمة الله إخوانًا، وأن الخلافة الحقيقية لم تكن إلا للراشدين ثم صارت ملكًا عَضوضًا. ألم يكن أفضل مما كتبه في رمي العرب عامة والمصريين والسوريين منهم خاصة ببغض الترك، وتمني نزع لقب الخلافة منهم أن يذكّر الجميع بأن أوربا واقفة للمسلمين عامة بالمرصاد، وأن أعون شيء لها عليهم اختلافهم وتفرقهم، وأنه لا مصلحة لأحد منهم في هذا التفرق، وأن الدولة العلية هي أقوى دولهم فإذا أوقع الأعداء بها - وهي قائمة - فكيف يرجى أن تنهض بهم أمة نائمة؟ ! ألم يكن الأفضل لمن يعتقد أن التنازع على لقب الخليفة هو المانع من اتحاد المسلمين

دعاء شعبان ـ انتقاد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعاء شعبان انتقاد المنار تكرر منا الوعد بأننا نقبل الانتقاد علينا، ونذكر رأينا فيه فإما تسليمًا، وإما تفنيدًا. وقد كنَّا ذكرنا في الجزء السابع عشر من هذه السنة كلامًا في بدع ليلة النصف من شعبان، ذكرنا أن من ذلك الدعاء المشهور الذي لم ينزل الله به من سلطان. ثم تنبهنا إلى ما كنا قرأناه في كتاب (كنز العمال) من أن لبعض ألفاظ الدعاء أصلاً مرويًّا في الجملة كما سنذكره، وكتب إلينا عقيب ذلك الشيخ إبراهيم السمنودي المنصوري كتابًا يقول فيه: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع الله عليه في معيشته: يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول لا إله إلا أنت، ظهر اللاجين، وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًّا فامحُ عني اسم الشقاوة، وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محرومًا مقترًا عليَّ رزقي فامحُ حرماني ويسر رزقي وأثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير إنك تقول في كتابك الذي أنزلت: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) . وأخرج بعضه عبد بن حميد وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه. وكذا ابن جرير عن شقيق بن وائل ومعلوم أن ليس في ذلك للرأي مجال، فيكون في حكم المرفوع اهـ. (المنار) مصنف ابن أبي شيبة، ومسند عبد بن حميد لم تتداولها الأيدي، ولا نعرف في عصرنا مَن يرويهما متلقيًا نسخهما، بحيث يصح أن يعتمد على هذه النسخ والرجلان من متقدمي المحدثين، وكل ما رووه فهو في كتب الحديث المتداولة، صحيحه في الصحاح، وحسنه في الحسان وضعيفه في الضعاف. وهذا كتاب الجامع الكبير للسيوطي يقول: إنه أحصى فيه جميع هذه الكتب المعروفة، ولم نجد في كنز العمال - الذي هو الجامع الكبير وزيادة إلا أنه مختلف الترتيب - هذا الحديث عن هذين المحدثين. وإنما أخرج عن الحاكم - بسند ضعيف -عن الحسن بن أبي الحسن أظنه ذكر عن عبد الله بن مسعود قال: كان إدريس النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بدعوة، كان يأمر أن لا تعلِّموها السفهاء فيدعون بها (كذا) ، فكان يقول: يا ذا الجلال والإكرام ... وساق نحو ما تقدم مع تغيير في العبارة، ولم يذكر: (فإنك تقول في كتابك ... ) ... إلخ وعن اللالكائي عن أبي عثمان النهدي أنه سمع عمر يقول في طوافه: (اللهم إن كنت كتبتني عندك في السعادة فأثبتني فيها وإن كنت كتبتني في الشقاوة فامحُني منها، وأثبتني في السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب) ، ولو صح هذا وما قبله - وما هما بصحيحين - لم يكن فيهما حجة على هذا الشعار الديني المبتدع في ليلة النصف، والدعاء الملفق الذي يطلب فيه محو ما في أم الكتاب، على أن الرواية الأولى لم يجزم فيها بقول ابن مسعود، والثانية أبعد عن المقصود. ونرجو من الأستاذ السمنودي أن يكتب إلينا سند ما رآه، وإلا فلا معوَّل عليه أَنَّى كان.

خاتمة السنة السادسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة السادسة نحمد الله تعالى ونشكره أن أتم لنا ست سنين في خدمة الأمة والدين، وأن جعل هذا المنار حيًّا ناميًا يزيد الإقبال عليه والثقة به سنة بعد سنة، ويتجدد له في كل عام مئون من المشتركين. ثم بعد شكر الله تعالى نشكر أهل الفضل والغيرة الذي وازرونا في عملنا بالترغيب في المنار الهمام في تونس الذي تجدد لنا بسعيه وهمته عدد عظيم من المشتركين، ووعد - وهو خير مَن وفّى - بأنه لا يأتي شهر صفر، ولنا عند أحد في تلك البلاد قرش واحد من الاشتراك. ثم ذلك السري الشيعي الذي طلب منا خمسين نسخة تُرسل باسمه وهو يدفع قيمتها. وكذلك بعض كبراء المصريين الذي كان مشتركًا بعدة نسخ فزادها في السنة الماضية عشرًا، ومثله كبير فقيه بلاد العرب، زاد في اشتراكه عشر نسخ، فحيَّا الله هؤلاء الكرام، وأدامهم أنصارًا للعلم والإسلام، ثم نشكر لسائر المشتركين الذين يؤدون الحقوق في أوقاتها وفاءهم في زمن قل فيه الوفاء وعظم فيه الشح في طريق الحق والخير، من حيث عظم السرف والتبذير في سبيل الترف والشهوات. وندعو للمماطلين المسوفين بأداء قيمة الاشتراك - بعذر أو بغير عذر - بأن يوفقهم الله تعالى لما فيه خير أنفسهم وصلاحها من الوفاء والاهتمام بالأعمال العامة والتعاون على البر والتقوى. ونختم هذا المجلد بالصلاة والسلام على خاتم النبيين. والحمد لله رب العالمين. * * * شرط الاشتراك في المنار كل مَن يقبل الجزء الأول من السنة السابعة (1322) يعد مشتركًا إلى نهاية السنة ويجب عليه دفع قيمة الاشتراك كاملة، وإن رد المجلة بعد ذلك مَن لم يرضَ بهذا الشرط فليرد إلينا الجزء الأول. وعلى مَن لا يصل إليه بعض الأجزاء أن يطلبه في مدة 20 يومًا من موعد صدوره يرسل إليه، فإن طلبه بعد ذلك فعليه أن يرسل ثمنه قرشين ونصف قرش، والإدارة غير مكلفة بإعطاء بدل المفقود ولو بالثمن، والحكم في مراعاة ما تقدم للذمة والأمانة.

فاتحة السنة السابعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة السابعة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} (الحج: 66) أحيانا بتلك الروح التي نفخها في البلاد العربية، ثم أماتنا بالإعراض عن تلك الهداية السماوية، أحيانا بضع قرون وأماتنا بضع قرون، فنسأله إتمام وعده المشار إليه في الآية الكريمة بأن يؤيدنا بروح منه، وينزل علينا السكينة، ونصلي ونسلم على محمد عبده ورسوله رسول الرحمة، ومعلم الحكمة، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بتأييد دعوته، ونصرة حزبه. وبعد , فقد دخل المنار في العام السابع من حياته، وهو سن التمييز في الحياة الشخصية، ولعل حياته تكون في هذا الطور خيرًا منها فيما قبله إن شاء الله تعالى، فإذا كان في طفوليته قد نجا من الماكرين، وانتصر على المعارضين , وقابل ما صادفه من الوثبات بكل صبر وثبات. فالرجاء بفضل الله وعنايته أن يجعله في طور التمييز أحسن هداية ورشدًا، وأقوى ناصرًا، وأكثر مددًا، وما بلغ المسلمون من الضعف والتخاذل أن لا تعيش لهم صحيفة مفيدة , وأن حاجتهم إليها لا بد مع حاجتهم إلى الصحف السياسية، كيف وهم يرون الأمم التي هي دونهم في الاعتصام بالدين، وفوقهم في الاشتغال بالدنيا، وقد سبقتهم في إنشاء الصحف الدينية. ففي مصر وبيروت، كثير من هذه الصحف باللغة العربية فما بالك بسائر اللغات، وهي لغات القوم الأصلية. بل إن جميع الأمم والشعوب قد سبقوا المسلمين في جميع الأعمال الاجتماعية التي ملاكها التعاون لا في الصحف الملية فقط. والتعاون فرض في ديننا مأمور به في كتابنا، ولكن أين نحن من الكتاب وفرائضه. فيا ليت الذين لا يعاونون العاملين منا للأمة لا يخذلونهم، ولا يعارضونهم في أعمالهم ومشروعاتهم , كلا إننا نحن أعداء أنفسنا، وإننا نحن مرض أمتنا، وإننا نحن آفة نجاحنا، ولو غفل الذين يشكون من الأجانب لشكوا من قومهم، ولو شعر الذين يشكون من أخوتهم لشكوا من أنفسهم. أرأيت هذا المنار الذي أنشئ لخدمة الأمة، والدفاع عن الملة. إنه ليطالب الذين ينكرون فائدته، أو يدعون مضرته بأن يبينوا له وجه الضر ليتقيه، ووجه النفع لينتحيه، وأنه لا يطالب الذين يقولون: إنه نافع، ولا الذين يقولون: إنه أنفع ما يكتب للمسلمين في هذا العصر بأن يتبرعوا له بمال لتوسيع دائرته، أو لزيادة مادته، وإنما يرضى منهم أداء حقه، وحقه على جميع قرائه أداء قيمة الاشتراك التي هي قوام العمل، وأداته التي لا يوجد إلا بها، وحقه على الخواص منهم الدعوة إليه والترغيب فيه عندما تسنح لهم الفرص، ويخاطبون من يتوسمون فيه الاستشهاد. لست أعني بالخواص الأغنياء ولا كبار الموظفين، فإن منهم من يملك الألوف وعشرات الألوف من الفدادين أو الدنانير، وهو يماطل في دفع قيمة الاشتراك عدة سنين، وإنما أعني بهم كل من له عقل يتفكر به في مصلحة الأمة، وقلب يشعر بمعنى الشرف والفضيلة؛ أولئك هم خواص الأمم الذين لم تنجح أمة إلا بكثرتهم فيها. لا يكثر في الأمة العقلاء المفكرون إلا بالتعليم العالي، وأَنَّى لنا به، ولم ترتق هذه البلاد إلى أن يكون فيها، مدرسة كلية، ولا يكثر في الأمة أهل الشمور بالصرف حتى ترتقي التربية النفسية فيها وأَنَّى لنا بذلك ولم ترتق معارف الناس إلى أن يفصلوا بين التعليم وبين التربية، فترى كبراءنا وأذكياءنا يخصون بلقب التربية نفرًا من الناس تلقوا شيئًا من التعليم المصري الناقص، وأعلاهم تربية في عرفهم مَنْ دخل في مدارس أوربا، وإن كان أكثرهم كما يعرف العارفون في أخلاقهم وأعمالهم لا سيما الذين تعلموا في فرنسا منهم. إن ارتقاء الفكر والشعور لا يعرف إلا بأثره في العمل للأمة؛ فإذا قلنا: إن خواص الأمة هم العاملون لها المخلصون في خدمتها، الذين لا يشترون مصلحتهم بمصلحتها فكم رجلا نُعد من هؤلاء فينا؟ هل نُعد منهم من يَرَى منتهى الشرف أن يشتري رتبة يتزيا بحلتها، وأوسمة يتزين بحليتها؟ هل نعد منهم سماسرة الرتب والأوسمة الذين يأخذون عليها الأجور من أهل الدثور، ثم يطرونهم بالأماديح قائلين: إنهم ما وصلوا إلى هذه الحلي والحلل، إلا بإخلاصهم للبلاد ولسيد البلاد وممثل الأمة؟ هل نعد منهم الذين يقولون ويكتبون ما يراه غيرهم حسنًا، وإن رأوه قبيحًا، ويدعون إلى ما يشعر غيرهم بفائدته أو لذته، وإن كانوا يشعرون بغائلته ومرارته؟ هؤلاء هم الذين ورد في أمثالهم {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف: 179) وإنما يعقلون بقلوب من ينتفعون منهم {وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا} (الأعراف: 179) وإنما يسمعون بآذان من باعوهم حواسهم ومشاعرهم، كما باعوهم قلوبهم وأفكارهم {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ} (الأعراف: 179) لأنهم خرجوا عن قانون فطرتهم بما أوتوه من الدهاء والأنعام لم تخرج عن الفطرة؛ ولأن في الأنعام منافع للناس وهم ضارون للناس {أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) عما يحل بأمتهم وينزل بها من المصائب بإفسادهم لأخلاقها، ومحوهم لوجدان الفضيلة والشرف الحقيقي منها، ويا حسرة على أمة تعد هؤلاء من خواصها ومن مرشديها. الخواص: هم أصحاب الأخلاق والعزائم، وهم الذين ينهضون بالأمم في كل عمل نافع، فاللهم أكثر عددهم فينا، ووفقنا اللهم جميعًا للإحسان في العمل، والتعاون على البر والتقوى والإخلاص لك في السر والنجوى، عسى أن نكون من المفلحين. ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

كلمة ثانية في أهل الذمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة ثانية في أهل الذمة هذه المقالة منقولة عن الجزء الثالث من تاريخ (أشهر مشاهير الإسلام) لرفيق بك العظم، وهو تحت الطبع، وله كلمة أخرى في حسن معاملة الإسلام لأهل الذمة في الجزء الثاني من الكتاب، وقد أورد هذه الكلمة بمناسبة كتاب من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص يوصيه فيه بأهل العهد والذمة، ويذكره بوصية النبي بهم عامة، وبالقبط خاصة، ومن ذلك حديث (من ظلم معاهدًا، أو كلفه فوق طاقته فأنا خصمه يوم القيامة) . هذا الكتاب يمثل لنا سيرة عمر بن الخطاب مع أهل الذمة، ويبين شدته على العمال في منعهم عن إيذاء أهل الكتاب؛ اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعملاً بأمره، ومن تكون هذه سيرته مع أهل الذمة، أفيعقل أن يريد بهم أذى بقول أو فعل؟ كلا، إن العقل والبديهة يرفضان نسبة أي قول أو فعل إليه يَشْتَمُّ منه ولو رائحة الجفاء، فضلاً عن امتهان الذمي أو ظلمه. وإذ علم هذا فالذي يدعو إلى العجب هو غفلة نقلة الأخبار، ورواتها عن مقاصد عمر - رضي الله عنه - التي هي مقاصد الشرع الإسلامي الذي جاء للتأليف بين القلوب وعدم استحيائهم، وعدم جمع المتناقضات من الأخبار، ونقلهم الموضوعات منها بلا تمحيص لصحيحها من كاذبها، وبدون ترو في النافع والضار منها. كتبنا في الجزء الثاني فصلاً عن أهل الذمة نقلنا فيه رواية لابن الجوزي في أن عمر تقدم إلى أحد عماله بختم رقاب أهل الذمة بالرصاص [1] ، وأبنا ثمة وجه الضعف في هذا الخبر، وعجبنا من مثل ابن الجوزي كيف ينقل مثل ذلك الخبر، مع أنه ليس في الدرجة التي تؤلم النفس؛ إذ لو صح لحمل على قصد سياسي أو إداري على تعبير المتأخرين يراد به ضبط إحصاء أهل الجزية من الذميين لا امتهانهم اقتداء بالدول الفاتحة قبل الإسلام، كالرومان والفرس الذين ثبت أنهم كانوا يضربون على الرعية الجزية، وربما كانت هذه العادة متبعة عندهم في إحصاء أهل الجزية، وقد زاد عجبنا أضعافًا الآن؛ إذ رأينا هذا الخبر في الخطط نقله صاحبها المقريزي عن ابن عبد الحكم بزيادة أحر بها أن تكون محض افتراء على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإذ قلنا بوهن الرواية الأولى في جانب العقل، وهي لأحد حفاظ الحديث فما أحرانا بتكذيب الرواية الثانية. وإليكها بنصها مع الزيادة التي أوردها المقريزي قال: كان عمرو بن العاص يبعث إلى عمر بالجزية بعد حبس ما كان يحتاج إليه، وكانت فريضة مصر لحفر خلجها، وإقامة جسورها، وبناء قناطرها، وقطع جزائرها مائة ألف وعشرين ألفًا (أي: من العمال) معهم الطور، والمساحي والأداة يعتقبون ذلك لا يدعون ذلك صيفًا ولا شتًاء. ثم كتب إليه عمر أن تختم في رقاب أهل الذمة بالرصاص، ويظهروا مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا على الأكف - جمع أكاف وهو البردعة - عرضًا، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي، ولا يضربوا على النساء، ولا على الولدان ولا يتشبهوا بالمسلمين. فانظر أيها العاقل إلى هذا الكتاب، وقابله بكتاب عمر الذي يوصي فيه عمرو بن العاص بأهل الذمة، هل تجد بينهما التئامًا بالوجهة؟ أم بينهما من البون البعيد ما بين الحق والباطل، وقد أوضحنا في الجزء الثاني ضعف أمثال هذه الأخبار بما فيه الكفاية، وإنما عدنا إليها الآن لأمر ظهر لنا بعد البحث والروية، وهو: أن واضعي هذه الأخبار إنما ألجأهم لوضعها أمران: الأمر الأول: أن الشئون الإدارية - وأهمها دواوين الخراج - كانت تناط في أكثر الأوقات بأهل الذمة، بل استمرت تكتب بلغتهم أيضًا إلى عهد عبد الملك بن مروان فكانوا يستطليون أحيانًا على رجال الدولة، وأهل المكانة وربما تحرج منهم أحيانًا بعض الفقهاء، فوضعوا لهم أمثال تلك الأخبار تنقيصًا، لهم وحطًّا من مكانتهم عند الخلفاء والملوك، وإبعادًا لهم عن مناصب الدولة، وإنما ألجأهم إلى نسبة هذه الأخبار إلى عمر كونه كان - رضي الله عنه - قدوة فيما لم يرد بخصوصه شيء في الشرع. وهذا بلا ريب يعد من أولئك الوضاعين تناهيًا في ضعف الرأي، لا سيما إذا علموا بأحوال أهل التقى والعدل من الخلفاء، ومعاملتهم الجميلة لأهل الذمة كعمر ابن عبد العزيز، ومن حذا في ذلك حذوه من الخلفاء، وبالأخص الخلفاء من بني العباس الذين كان أكثرهم متفقهًا في الدين، واقفًا على أخبار السلف كالمنصور والمهدي والرشيد والمأمون وأمثالهم ممن أتى بعدهم؛ فكانوا يوسدون كثيرًا من شؤون الدولة إلى أهل الذمة، ويقربونهم منهم لا سيما الأطباء والكتاب؛ بلا أدنى تحرج في الدين، وأي حرج في الدين يمنع من محاسنة الذميين، وعدم إيذائهم بمثل ذلك الامتهان المشين من كلام الوضاعين، ومن وقف على أخبار ماسويه، وحنين بن إسحق وأضرابهما مع المأمون والمتوكل يعلم هذا. وكذلك كان حالهم مع خلفاء الفاطميين في مصر؛ فكان القبط أرباب الكلمة العليا عند الخلفاء، وكانوا - كما نقل المقريزي - يتولون دواوين الخراج، ويركبون البغال الفارهة، ويتصرفون بأموال الدولة، بل بلغ بالخلفاء أن كانوا يعطون ألقاب التشريف الخاصة بالعلماء والملوك - وهي الألقاب المضافة إلى الدين - للأطباء والكتبة من النصارى واليهود وما نذكره من هؤلاء الشيخ موفق الدين ابن البورى الكاتب النصراني، والحكيم موفق الدين بن المطران، وغيرهما ممن لم تحضرني أسماؤهم الآن. هذا هو السبب الأول , وأما السبب الثاني لوضع تلك الأخبار فمنشؤه نزوع بعض الأمراء إلى إجهاد الرعية من مسلمين وذميين بالضرائب، ونكث عهود هؤلاء القديمة، ولما لم يروا في الشريعة مخرجًا لهم يتوصلون به إلى الاستبداد بالرعية، وتحميل الذمي فوق ما حدده الشرع من الخراج والجزية كما حملوا المسلم - لا سيما والأخبار النبوية آمرة بالوفاء معهم بالعهد، والمحافظة على ما لهم من حقوق الذمة والجوار- وأنهم أهل ذمة الله وذمة رسوله - مهدوا لأغراضهم السبيل بالإيعاز إلى بعض مقربيهم بوضع مثل ذلك الخبر مقدمة لاستباحة امتهانهم، ثم إجهادهم بالضرائب يدلك عليه ما حدث في عهد المروانيين من الاجتراء على استزادة الخراج والجزية في مصر وغيرها من غير حقها، كما ستراه مبسوطًا في محله إن شاء الله. على أن سيرة الصحابة، ورجال الفتح في الصدر الأول مع أهل الذمة وحدها كافية لدحض أمثال تلك الأقوال الواهية، حتى إنهم افتتحوا بحسن السيرة وجميل المجاورة والمعاملة ما لا يقوى عليه الحسام، ويخرج عن طوق عددهم القليل بالنسبة لبقية الأقوام [2] ، وحسبك من أدبهم مع أهل الذمة من الكتابيين أن ما روي عنهم من أخبار الحروب مع الروم لم يستعملوا فيه لفظ الكافرين والمشركين ألبتة مع أنهم كانوا يعبرون عن مجوس الفرس ووثنيي العرب - قبل الإسلام - بالمشركين، ويقولون عن أولئك: الروم والقبط - مثلاً كانهزام الروم، وقاتل القبط ونحوه - يؤيد هذا كتب التاريخ التي نقلت إلينا أخبار الفتح بالرواية كالطبري وأشباهه، ولو فرض وجود شيء من تلك الألفاظ فيها فإنه نزر يسير، وهو من حشو النساخ، وأما كتب المتأخرين أو المقلدين فإن أصحابها لم يراعوا فيها ما راعاه السلف من الأدب، وحسن الأداء؛ لما وقر في نفوسهم من التعصب الذي حدث في القرون الوسطى، ولم يكن له أثر في النفوس في صدر الإسلام؛ لعلم أهل ذلك الصدر أن الإسلام جاء للتأليف والوئام، لا للتفريق بين الأقوام، وأن اختلاف الأديان لا يوجب الفرقة والخصام لقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) ولأن القرآن نطق بأن أهل الكتاب أقرب مودة للمؤمنين، وذلك في قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة: 82) ولهذا سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بانتصارهم على مجوس الفرس كما ذكرنا ذلك في الجزء الثاني في حكاية هرقل مع الفرس، وهي القصة التي جاءت في قوله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم : 1-2) الآية، فلتراجع في محلها. هذا ما أردنا بسطه ليكون فيه ذكرى للذاكرين، وإنما أطلنا الكلام في هذا الباب إظهارًا لبراءة عمر - رضي الله عنه - مما عزي إليه، وتنبيها لأوُلي النُهى من المسلمين إلى أن دينهم يأمر بمحاسنة الذميين، وينهى عن مخاشنة الكتابيين، وأن مرض التعصب الذميم إنما طرأت أعراضه على الأمة تدريجًا سيما على عقب الحروب الصليبية، وإن من آثار ذلك التعصب القبيح ما يلاقيه المسلمون لهذا العهد من ضروب الإهانة، والعسف من الدول المسيحية التي حكمت بعض الممالك الإسلامية، ولم تراع في حكم المسلمين حقوق الإنسانية ولا الدين بحجة الانتقام للمسيحية. والمسيحية والإسلام يبرآن إلى الله من ظلم البشر بعضهم لبعض , ولكن ما الحيلة والإنسان مهما ترقت مداركه، وسمى عقله فإنه لا يزال يتقاصر دون الوصول إلى مرتبة العلم الكامل الذي يجعل البشر كلهم بالإضافة إلى وجوب التعاون والاجتماع سواء، وإن اختلفوا في المذاهب والأهواء؛ إذ كل امرئ مسؤول عن اعتقاده عند الله. وإنه سبحانه يبين آياته للناس , فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فعليها، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. اهـ

سوريا والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات النصارى وحجج المسلمين سوريا والإسلام سوريا في حاجة شديدة إلى اتفاق عناصرها لا سيما المسلمون والنصارى , فإذا لم يتفقوا فلا عمران في سوريا ولا حياة. المسلم في سوريا محتاج إلى مسالمة النصراني , وربما كان هذا أحوج منه إلى هذه المسالمة، النصارى في سوريا أجدر من المسلمين بالسعي في الوفاق والمسالمة؛ لأنهم سبقوهم إلى العلم، فكان يجب أن يسبقوهم بإحساس حاجة بعضهم إلى بعض، ولأن الحاجة إذا لم تكن متساوية في الفريقين فالأضعف يكون هو الأحوج كما أشرنا إليه آنفًا، وهذا ما آنسته من أكثر فضلاء النصارى الذين ذاكرتهم في المسائل الاجتماعية. نرى عقلاء المسلمين وطلاب الإصلاح فيهم يكتبون في صحفهم ومؤلفاتهم ما يقنع المسلمين بأن دينهم يرشدهم إلى محاسنة أهل الكتاب ومسالمتهم , ويفرض عليهم مساواتهم في الحقوق , ويحرم عليهم إيذاءهم , ويخص النصارى بأنهم أقرب مودة إلى المسلمين من غيرهم , وبأن مصلحة البلاد تقضي مع ذلك باتفاقهم في الأعمال الدنيوية، وتعاونهم في الكسب إلى غير ذلك من الإرشاد , وبينا نحن نطبع تاريخ رفيق بك العظم - وفيه ما رأيت (في النبذة السابقة) من الكلام الحسن في أهل الذمة - إذا نحن بجريدة (المناظر) ترد علينا بمقالات غريبة عن موضوعها عنوانها (سوريا والإسلام) ينفث فيها صاحبها من سموم التعصب الأعمى، والقدح في الإسلام والمسلمين ما يحول دون التأليف والتوفيق , ويدفع في صدور طالبي الإصلاح فيردهم على أعقابهم. قلنا: إن هذه المقالات غريبة عن موضوع (المناظر) فإن هذه الجريدة قد سبقت جميع الجرائد العربية في العناية بالدعوة إلى الوطنية الصحيحة النافعة , وترك التعصب الذميم الذي يلقي الشقاق بين أهل البلاد حتى يحل بها الدمار وتكون طعمة للأغيار، وقد عجبنا من قبوله لهذه المقالات التي تخالف خطته الحسنة. ما راعى الكاتب المصلحة , ولا صدق التاريخ، ولكنه اقتبس جذوة من جذى دعاة الحروب الصليبية فألقاها في الأمة التي صوَّح التعصب نجمها وشجرها فصيره هشيمًا , وناهيك بما تفعل النار بالهشيم. * * * (1) كلمة جديدة جاء الكاتب بملخص من سيرة الإسلام وسريرته في (كلمة جديدة) له لا يعرفها الإسلام ولا المسلمون. لا يعرفها القرآن ولا السنة الصحيحة. لا يعرفها التاريخ ولا الفقه الإسلامي , ولكن يوشك أن يكون عرفها أو ادعاها أو مثلها بطرس الراهب، أو أعضاء محكمة التفتيش، أو قسوس أسبانيا في القرن السادس عشر , وقد أنصف الكاتب إذ اعترف بأن كلمته في الإسلام جديدة! نعم إنها جديدة لم يقل بها قبله أحد فيما نعرف , ولو أردنا أن نبرئ الإسلام مما رماه به الكاتب - وهو بريء منه - ونبرئ التاريخ مما أسنده إليه بغير رضاه ولا معرفته؛ لما بقي من تلك المقالات الطويلة إلا رأي الكاتب. فملخص تلك المقالات أن الكاتب يرى أو يحب أن يرى قومه أن الإسلام في طبيعته , والمسلمين خاصتهم وعامتهم منابع للتعصب كذلك كانوا في ماضيهم , وكذلك هم في حاضرهم , وكذلك يكونون في مستقبلهم فلا يطمعن المسيحيون في وفاقهم والاتحاد معهم على ترقية سوريا أو غيرها ولكن ماذا يعملون بالمسلمين؟ للكاتب أن يرى ولغيره أن يقبل أو يرفض , ونحن لا يهمنا إلا أن نبين الحق وندعوا إلى الخير والوفاق ما استطعنا, ولا نسمح بكثير من صحائف المنار للرد عليه، بل نكتفي بالإشارة فنقول: * * * (2) لماذا ظهر الدين الإسلامي؟ مهد لجواب هذا السؤال تمهيدًا من التاريخ خالف فيه مؤرخي الأمم كلها صور بتمهيده الأمم التي أظلها الإسلام بجناحيه في أول ظهوره بصور بهية سنيعة انتهت إليها الحضارة والمدنية في سوريا ومصر، ولكن جميع المؤرخين يصورونها بصورة شنيعة قبيحة , لا سنيعة ولا مليحة , ويقول المتعصبون منهم على الإسلام: إنه لولا ذلك الفساد في الأخلاق والعقائد والأعمال , ولولا ذلك الاستبداد في الأحكام والاستعباد للأقوام , ولولا تلاشي العلم والمدنية في مصر وفارس والشام لما نجحت في هذه الممالك دعوة الإسلام , ولما تيسر لتلك الأمة الأمية أن تسود في بضع سنين على جميع أمم القوة والمدنية. ونحن نقول لهؤلاء: نعم إن الإسلام لم ينتصر إلا لأنه الحق قذف به على الأباطيل، ونور الهدى المشرق في ظلمات الأضاليل. ونقول لكاتبنا ومؤرخنا الجديد: إذا كان المسلمون على بداوتهم وبعدهم عن العلوم والمعارف والحق والعدالة (بزعمك) قد انتصروا (على التمدن الفينيقي ينشئ المستعمرات على الشطوط الأفريقية، والتمدن المصري يفغر فاه ليبتلع سورية) واصطادوا (النسر الروماني يظلل بجناحيه القارة الأوربية والقسم الأعظم من الأسيوية) فلا شك أن انتصارهم هذا أعجوبة سماوية قد حدثت بمحض العناية الإلهية، ويقول الكاتب: إن انتشار النصرانية في بلاد العرب كان السبب الوحيد لتغير حالة البدو وطلبهم المحافظة على حريتهم واستقلالهم , فالإسلام لم يظهر إلا بسبب المبادئ النصرانية. ونقول له: إن حوادث الزمان التي أعدت العرب لظهور دين المدنية والعلم فيها - على أميتها - كثيرة , فإذا كان منها خوفهم من النصارى المعتدين على استقلالهم كما قال؛ فلا يصح أن تجعل النصرانية هي السبب الوحيد لظهور الإسلام , ولا يقول ذلك إلا الغالي في التعصب والتحمس الديني، وإن للحرية نشوة كنشوة الخمر، وطغيانًا كطغيان الغنى , وإنها لأعظم ثروة وأكبر لذة. فللمتمتع بها أن يقول ويكتب ما يلذ له ويطيب. * * * (3) النبي العربي ذكر الكاتب ههنا ملخصًا لتاريخ النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إنه (ولد بين سنة 570 و578 للمسيح) والصواب أنه ولد في نيسان (أبريل) سنة 571. وقال: إن أباه مات بعد ولادته بشهر. والصواب أنه مات قبل ولادته. وقال: إن عمه أبا طالب سافر به وهو ابن اثنتي عشرة سنة. والصواب أنه كان ابن تسع سنين. وقال: إنه بعد ذلك كان يسافر إلى الشام من وقت الى آخر. والصواب أنه ما سافر بعد ذلك إلا مرة واحدة مع ميسرة غلام خديجة. وقال: إنه تزوج خديجة (سنة 595) حين بلغ العشرين. والصواب أنه تزوج بها وله خمس وعشرون سنة وشهران وأيامًا قيل: عشرة , وقيل: خمسة عشر. وكل هذه الأغلاط في سطور لا تُكَوّن صفحة واحدة من المنار. ومن الاختصار الذي أشرنا إليه أن لا نستقصي أمثال هذه الأغلاط التاريخية , وإنما نعنى بالآراء والنتائج الجوهرية , ومنها في هذه النبذة إشارة الكاتب إلى أن ما جاء في القرآن من الكلام في المسيح، وإثبات أن مريم ولدت بشرًا لا إلهًا قد أخذه النبي من النساطرة إذ عرج به عمه على ديرهم في سفره به إلى الشام , وقد علم القارئ أنه كان يومئذ في التاسعة من عمره , فلا عجب عند كاتبنا أن يحفظ ابن تسع بعض كلام الرهبان، ويسره في نفسه زيادة عن ثلاثين سنة لا ينطق به في صباه ولا في شبابه، ثم يبني عليه دينًا عظيمًا!! إن هذا الاستدلال يشبه ما قاله بعض الظرفاء من كتاب المحاكم في قصيدة نظمها شاعر بليغ: إنه سرق قصيدته مني؛ لأنه جاء فيها: سليل بني الزهرا ولله نسخة ... لقد قوبلت بالأصل في اللفظ والفحوى قال: فإننا نكتب على ما نبيضه من الصحف أنه قوبل بالأصل! ! . أو يشبه قول بعض ملاحدة أوربا: إن مواعظ الإنجيل الحسنة مأخوذة من حكم كونفشيوس الصيني، وبعض فلاسفة اليونان، وأورد أمثلة في ذلك منها: الأمر بأن يعامل المرء الناس بما يحب أن يعاملوه به , فإنها مأثورة عن كونفشيوس , ومن الخطأ العظيم قول الكاتب: إن الإسلام ثبت في البادية بالسيف , وإن النبي أجبر اليهود والنصارى على الإسلام. كيف والله تعالى يقول فيه: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) ويقول: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) وأما الحرب فقد كانت بعد قوة الإسلام وانتشاره بالدعوة لمدافعة المعتدين على أهله، والمهددين لدعوته , وسنبين هذا بمقال مسهب في فرصة أخرى. * * * (4) أمؤسس شريعة أم مؤسس مملكة؟ قال الكاتب في جملته الرابعة التي رأيت عنوانها: (لقد صور لنا التاريخ محمدًا نبيًّا ومؤسس شريعة؛ أما العقل فيصوره سلطانًا ومؤسس مملكة؛ لأنه لا يرى فيه غير صورة مؤسسي الدول والممالك , وليس صورة بوذه وكونفشيوس والمسيح، التاريخ يرى وضع الإسلامية لأجل هداية قبائل العرب وردهم عن الوثنية، أما العقل فسيرى أنه أبقاها على ما كانت عليه في زمن الجاهلية) نعوذ بالله من مكابرة الحس. ثم استدل على أن الإسلامية ليست بملة جديدة ولا شريعة وبأن العقل - أي: عقله وحده - يحكم بأن التاريخ كاذب , وبأن محمدًا أخذ التوحيد عن النساطرة , وأضاف إليه كثيرًا من التقاليد والعوائد النصرانية واليهودية! وقال: إنه إذا تجرد عن كل غاية - أي: إلا غاية التعصب الذي يعمي ويصم - فإنه يحكم بأن تصوير العقل - أي: عقله - هو الحقيقي دون تصوير التاريخ. ولخص الإسلام كله بالتوحيد. وقال: إنه عن النساطرة , وكذلك إنكار ألوهية المسيح , وتعيين أوقات الصلوات الخمس! ! وبالختان والغسل قبل الصلاة , وقال: إنهما عن اليهود , وبتعدد الزوجات وقال: إنه عن العرب! ! أي: فلم يبق في الإسلام شيء من الإسلام! ! يا أرض اشهدي , ويا سماء شاهدي هذا الكاتب البريء من كل غاية الذي يعيب التعصب على المسلمين، فيسمي الضياء ظلامًا، والنهار ليلاً لأن الشمس طلعت عليهم فغمرهم ضياؤها. ثم قال: ولو أن غاية محمد دينية فقط - لو أنها سامية كغايات جميع مؤسسي الأديان لوضع التعاليم التي قام يبثها ويبشر بها بالسيف على أسس الإخاء والحب والحرية والمساواة , ولما كان عوَّل قبل وفاته على الزحف إلى سوريا. ثم زعم أن الغاية سياسية , وهي حب الرئاسة والسلطة , وتفيهق في ذلك بما أملاه عليه إحساس التساهل والبراءة من كل غاية! ! أظن أن الذين يكتبون الينا دائمًا بوجوب استقصاء شبهات النصارى المصوبة إلى الإسلام من كل صوب لا يسمحون لي بأن أبين خطأ كل كلمة من هذا الكلام؛ لأنه ليس من قبيل الشبهات وإنما هو على حد: الشمس مظلمة , والسماء تحتنا , والأرض فوقنا. لكنني أستأذنهم بأن أسأل الكاتب المنصف: لماذا لم يذكر في مؤسسي الشرائع موسى مع أن شريعته هي شريعة المسيح الذي يعبده , وفيها: قال المسيح كما تروى أناجيله: (ما جئت لأنقض الناموس) وهذا الناموس هو بعينه الذي يأمر بإفناء جميع الذكور من المحاربين , واغتنام النساء والأولاد من أهل المدن البعيدة , ويأمر بإبادة الشعوب القريبة كبارًا وصغارًا رجالاً ونساءً كما في سفر تثنية الاشتراع من توراتهم (20: 10 - 16) فهل ينكر التوراة وموسى لأجل الطعن بمحمد؟ وإذا هو فعل هذا فمن أين يأتي بشبهة على ألوهية المسيح أو على نبوته , والعقل الذي يحكمه لا يتصور أن يكون بشرًا إلهًا خالقًا لمن كانوا قبل ولادته ولمن يكونون بعد موته! ! فحجته إنما تقوم على صحة دين بوذه فقط. إن مسألة الطعن في الإسلام لمشروعية الجهاد فيه مسألة سياسية , وقد بينا في المنار غير مرة أن الجهاد في الإسلام ما شرع إلا للمدافعة عن الحق وأهله وتأمين الدعوة وحرية الاعتقاد. وقد نشرت جريدة المناظر الغراء في ذلك ما كتبه إمامنا الحكيم في مقالات (الإسلام والنصرانية) ولكن شره الكاتب على الطعن في الإسلام ينسيه ما يقرأ , أو يحمله على رفضه والاكتفاء بما يصوره له تعصبه فقط. ولولا السياسة لما أكثروا من ذم الإسلام بالجهاد , وكتابهم التوراة يحكم بما تقدم آنفًا, وتؤيد ذلك أناجيلهم بروايتها عن المسيح أنه قال: (لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، م

تأييد علماء الآفاق للفتوى بحل طعام الكتابي ولباسه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأييد علماء الآفاق للفتوى بحل طعام الكتابي ولباسه نشرنا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية مقالين في ذلك لعالمين من علماء المغرب الأدنى (تونس) ، والمغرب الأقصى (مراكش) ، وذكرنا في مقدمتها أننا رأينا في الجرائد الهندية مقالات في الموضوع، وعلمنا أن بعض القراء يودون لو يعرب شيء منها للمنار، ولكننا نعتذر لهم بأن الأكثرين قد اكتفوا بما كتبناه في المسألة وأهل المشرق الهند وغيرها كأهل المغرب مقتنعون بما قلناه، ومؤيدون له ولكننا نذكر المقدمة الوجيزة التي افتتحت الكلام بها في الموضوع جريدة المسلمين في (عليكده) منبع الحياة العلمية، وموطن النهضة الإسلامية في الهند , فقد جاء في العدد الصادر من تلك الجريدة في 8 فبراير سنة 1904م ما تعريبه: (هل ولد السيد أحمد خان ثانية في مصر، وظهرت جريدته (تهذيب الأخلاق) بشكل المنار؟) إن الله وهب للمرحوم السيد أحمد خان طبعًا سليمًا، ودماغًا عجيبًا فبينا العلماء الأعلام، والفقهاء الكرام يشتغلون عامة بوسائل التقليد، وطرقه، وينهمكون في البحث بعبارات أمثالهم كان السيد يبحث في أصول الدين، ومقاصده بحث المجتهد المحقق، وانبرى بهمة (أسدية) قوية لإظهار الإسلام بصورته الأصلية الأولى بنزع لباس التقليد عنه وإزالة شوائبه منه؛ إذ كان شيوخ الملة المقيدين بقيود التعصبات والأوهام قد جعلوا أحكام الحنيفية السمحة البريئة من الحرج في غاية الضيق والشدة، وحكموا فيها الرسوم والعادات فجعلوها مذهبًا، وشريعة. عنى السيد بتحقيق العقائد والأحكام، وبيان الحق، ولم يخف في مخالفة الجمهور لومة لائم ففصل بين العادة والعبادة، وبين الرسوم الموضوعة والأحكام المشروعة؛ ليخرج المسلمين من تلك الأوهام، ويعود بهم إلى أصل الإسلام، ولما أنشأ يطبع تحقيقاته، وينشرها علت الجلبة والضوضاء، وصاح مع العامة العلماء والفقهاء: قد كفر قد كفر. وطلبوا من الحرمين الشريفين الفتوى بتكفير السيد، والغالب أنه لم يكن في ذلك الوقت أحد من المسلمين في الهند إلا وهو ينظر إلى أفكار السيد وتصوراته بعين الحيرة والتعجب. لعل أكثر الناس يتذكرون ذلك الزمان الذي أجاز السيد فيه لباس الإنكليز، وأباح الأكل معهم، وقال: إن اللباس ليس من الأمور الدينية، بل من الرسوم والعادات، ولم يحكم الشرع بالتزام زي يختص به المسلمون، وأما الأكل فهو حل بنص الآية القرآنية , ويتذكرون كيف هب العلماء للرد عليه، واستدلوا بحديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وكفروا السيد، ولكن الأقوال التي قالها السيد منذ ثلاثين سنة يقولها الآن أشهر العلماء في الممالك الإسلامية، والأفكار التي أظهرها السيد في الماضي يظهرها في هذا الوقت مفتي الديار المصرية بالحرية التامة، و (النظافة) ، ونحن الآن نترجم الفتوى بحل طعام أهل الكتاب ولباسهم، ولكن لا ندري ماذا يقول الناس في هذا؟ - اتفاق الحاضر مع الماضي - فإن كان المسلمون قائلين بالتناسخ؛ فليقولوا ضرورة بأن السيد قد ولد (ثانية) في مصر، وظهرت جريدته (تهذيب الأخلاق) في شكل (المنار) اهـ المقدمة. (المنار) لتعتبر الجريدة المحدثة بأقوال علماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فإن كانت كتبت ما كتبته من الطعن في الفتوى عن جهل، وكانت تريد باستنجاد مسلمي الآفاق بيان الحق؛ فهاهم أولاء قد أيدوا الفتوى، فعليها أن تعترف بخطئها، وتتوب إلى ربها، ويا ليت أصحاب الجمود ودعاة التأخير يعلمون أن الأستاذ الإمام وحزبه هم الذين يخدمون الإسلام والمسلمين في هذه البلاد دون سواهم، وأن عقلاء المسلمين في جميع الأقطار معهم، ومؤيدون لدعوتهم، ومرتبطون معهم بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم، فلا يغتر حزب التأخير، بمال فلان الغني، وجاه فلان الأمير، فإن الحق يعلو ولا يُعْلى , وإن حزب الله هم الغالبون.

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى الزي والدين (س1) الزي والدين ر. ع: بالقاهرة إن بعض الكتابيين من أهل إنكلترا وأمريكا أسلموا، ولم يغيروا زيهم في اللباس (كالبرنيطة والبنطلون) ، فهل يصح إسلامهم أم لا؟ فإن قلتم: لا يصح؛ فهل من دليل نقلي على ذلك؛ إذ ما نعلمه من التاريخ أن الشعوب التي أسلم منها من أسلم في العصور الأولى ما كان يشترط في إسلامهم تغيير الزي، وما كانوا يلبسون لباسًا مخصوصًا بأهل الإسلام؟ وإن قلتم: يصح إسلامهم، ويقرون على لبس البرنيطة والبنطلون؛ فكيف جاز لبعض الناس لهذا العهد القول بحرمة لبس البرنيطة على المسلم، مع أن حرمتها - على ما أعتقد - يقتضي أن يكون الإسلام بالزي لا بالعمل أو بكليهما معا؟ وإذا كان ذلك كذلك فإسلام من أسلم من أهل أمريكا وإنكلترا غير صحيح ما لم يغيروا أزياءهم، وهذا من الإشكال في الدرجة القصوى، كما لا يخفى على بصير؛ إذ ربما كان ذلك مدعاة لعدم انتشار الإسلام بين الأقوام الذين تقضي عوائدهم بعدم التخلي عن لبس البرنيطة وما شابهها، وأمر آخر وهو أَنَّا نرى عشرات الملايين من المسلمين يلبسون لباس الإفرنج (بنطلون) فإذا صح قولهم بعدم جواز هذا اللبس، وأن الإسلام بالأزياء أو بالأزياء والأعمال فما حكم هؤلاء؟ هل يعتبرهم القائلون بهذا مرتدين مع أن المسلمين لم يكونوا يذكرون ذلك في دعوتهم إلى الإسلام؛ بل كانوا يكتفون بالشهادتين فيه , وورد في الحديث: (من قال: لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ودمه إلا بحقه وحسابه على الله) وهؤلاء المسلمون الذين يلبسون البنطلون يقولون: (لا إله الله. ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) ، فما رأيكم في هذا كله؟ نرجو الجواب ولكم الثواب. (ج) لا يوجد دليل في الكتاب، ولا في السنة، ولا في أقوال الأئمة على اشتراط زي مخصوص للمسلم، بل هناك أدلة على عدم الاشتراط كما رأيتم في المقالات التي نشرناها في الموضوع , والذين قالوا ما قالوا في منافاة لبس قلانس النصارى (البراطل أو البرانيط) للإسلام لا يعرفون من الإسلام إلا التقاليد العامة التي يعرفها الحوذي. قلتم: إن الذين أسلموا في الصدر الأول لم يشترط عليهم تغيير أزيائهم، ونزيدكم على هذا أن الصحابة كانوا يلبسون الثياب التي يغنمونها من المشركين والمجوس وأهل الكتاب، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس من لبوسهم أيضًا كما ذكرنا من قبل، ولو أراد الله أن يتعبدنا بزي مخصوص لاختار زيًّا وألزمنا به، فإن لم يكن الزي الإسلامي مخترعًا جديدًا من الشارع فموافقته لزي أهل الكتاب أولى من موافقته لأزياء المشركين؛ لأن الإسلام يفضل الكتابي الرومي أو الروسي على المشرك الهاشمي القرشي، هذا وإن المسلمين لم يلتزموا زيًّا واحدًا في عصر من الأعصار، فأي أزيائهم كان زي الدين، وأيها كان زي الكافرين أو المرتدين. وما ذكرتم من مفاسد جعل الزي داخلاً في مفهوم الإسلام صحيح، وأهمه امتناع من يصعب عليهم تغيير أزيائهم من قبوله، وأقول: إن كل أمة من الأمم التي تعقل تهزأ بدين يجعل الزي ركنًا من أركانه، أو عملاً من أعماله فلو قيل لأهل أوربا أو أمريكا: إن الإسلام يشترط أن يلبس الداخل فيه (فرجية) واسعة الأكمام، وجبة طويلة الأذيال، وحذاء أصفر يظهر منه معظم الرِّجْل لقالوا: إن هذا دين لا يليق إلا بالكسالى والبطالين من أهل البلاد الحارة، وما قاربها، ولا ينبغي لأهل العمل والنشاط، ولا يرضى به ذو عقل ولا ذوق. أما حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) فهو غير صحيح، ولو صح لما أفاد المشاغبين في مسألة، فإن معناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم؛ فإنه يلتحق بطبقتهم، فإن تشبه بالكرام في أخلاقهم وأعمالهم عُدَّ منهم، وإن كان متكلفًا والعكس بالعكس، ومثل هذا التشبه لا يحصل إلا بتكلف السجايا الخاصة بالقوم، فإن من يلبس لباس الشجعان أو الأسخياء لا يعد منهم، فالحديث إذن في معنى قول الشاعر الذي اقتبسه: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبه بالكرام فلاح * * * زيارة المسلم لغير المسلم (س2) ح. ح في الجبل الأسود معلوم عند جنابكم أننا تحت تصرف حكومة نصرانية، وأن النصارى يزوروننا يوم عيدنا للتهنئة بالعيد، ويطلبون منا مثل هذه الزيارة في أعيادهم، فهل نحن معذورون إذا زرناهم أم لا؟ (ج) ثبت في الحديث الصحيح عند أحمد والبخاري وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد غلامًا يهوديًّا كان يخدمه قبل مرضه وقد استكبر الغلام، وأبوه الفقير هذه العناية، ودعا النبي الغلام الى الإسلام فقال له أبوه: أطع أبا القاسم. فأسلم، والحديث يدل على مشروعية الابتداء بالزيارة. قال الماوردي: (عيادة الذمي جائزة والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة) - أي: إن العيادة في المرض ومثلها الزيارة جائزة، ولكنها لا تكون عبادة يتقرب بها إلى الله إلا إذا اقترن بها شيء مما هو مطلوب في الشرع كحرمة الجوار والقرابة - وحسبك أن تكون الزيارة في العيد وغيره مباحة. على أن القواعد الإسلامية ترشدنا إلى أن حسن النية في الأعمال المباحة تلحقها بالعبادات. هذا وأنت تعرف الفرق بين الذمي الداخل في حكمنا وبين من نحن داخلون في حكمهم , فإذا صح لنا أن نجامل من نحكمهم عملاً بمكارم الأخلاق التي هي أساس ديننا، أفلا يصح لنا أن نجامل من يحكموننا من غيرنا، ونحن أحوج إلى مجاملتهم؛ لأجل مصالحنا، كما أننا نرى أنفسنا أحق منهم بمكارم الأخلاق؟ وكأني بمتعصب يقول: قال ابن بطال: (إنما تشرع عيادة المشرك إذا رجي أن يجيب إلى الإسلام) . وأقول أولاً: إن كلامه في العيادة المشروعة؛ أي: المطلوبة شرعًا، ونحن نتكلم في العادات المباحة. وثانيًا: إن الحديث السابق لا يدل على الاشتراط، وقد أورد الحافظ ابن حجر كلامه في شرح البخاري ثم قال: (والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى) ، وظاهر أن مصالح أهل الوطن الواحد مرتبطة بمحاسنة أهل بعضهم بعضًا، وأن الذي يسيء معاملة الناس يمقته الناس فتفوته جميع المصالح، لا سيما إذا كان ضعيفًا وهم أقوياء، وإذا أسند سوء المعاملة إلى الدين، يكون ذلك أكبر مطعن في الدين؛ فلك أيها السائل ولغيرك من المسلمين أن تزوروا النصارى في أعيادهم، وتعاملوهم بمكارم الأخلاق أحسن مما يعاملونكم، ولا تعدوا هذا من باب الضرورة؛ فإنه مطلوب لذاته مع حسن النية واتقاء مشاركتهم في المحرمات كشرب الخمر مثلاً والله أعلم وأحكم. * * * صوم يوم عرفة (س3) ومنه: هل وردت أحاديث صحيحة في صوم يوم عرفة؟ ولماذا يصومه المؤمنون؟ (ج) ورد في حديث أبي قتادة عند البخاري وغيره ما يدل على استحباب صوم يوم عرفة، ووردت أحاديث أخرى في النهي عن صومه أصحها حديث عقبة بن عامر عند أحمد وأبي داود والترمذي وصححه وغيرهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب) . وورد النهي عنه للحاج بخصوصه وعللوه بأنه يضعفه عن الأذكار المشروعة في ذلك اليوم للواقف بعرفات , وحمل أكثر العلماء حديث أبي قتادة على هذا التخصيص , وقالوا: إنه يستحب صومه لغير الحاج، وقال بعضهم: يستحب إفطاره. فأما علة الإفطار فلكونه ملحقًا بأيام العيد، وأما علة الصوم عند القائل به فلعلها مشاركة الحجاج بالعناية بالعبادة الممكنة في ذلك اليوم، فيصوم غير الحاج ويكثر من التكبير؛ فيكون ذلك مذكرًا له بعبادة الحج ومشوقًا إليها حتى تتيسر له إن شاء الله تعالى. * * * صندوق التوفير في إدارة البريد وبيان حكمة تحريم الربا (س4) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة الزقازيق: ما هو رأي سيادتكم في صندوق التوفير بعد تعديله الأخير؟ وهل يجوز الادخار فيه وأخذ أرباحه شرعًا؟ ولا يخفى على حضرتكم فوائده سيما أنه يربي ملكة الاقتصاد في الإنسان وهو ما يؤيده الشرع في ذاته أفيدونا آجركم الله. (ج) : إن التعديل الذي تعنونه قد كان برأي لجنة من علماء الأزهر جمعها أمير البلاد لأجل تطبيق إيداع النقود في الصندوق على قواعد الفقه المعروفة، وقد كتبوا في ذلك ما ظهر لهم وأرسلته (المعية) إلى الحكومة فعرضته على المفتي، وبعد تصديقه عليه أمرت بالعمل به. هذا ما اشتهر ونحن لم نقف على ما كتبوه فنبدي رأينا فيه , ولكننا مع ذلك لا نرى بأسًا من العمل به؛ لأننا إنما ننتقد من الحيل على علماء الظاهر أو علماء الرسوم - كما يقول الغزالي - وينافي مقاصد الشرع الثابتة بالكتاب والسنة، كالحيلة في منع الزكاة والحيلة في الربا الحقيقي، الذي علل القرآن تحريمه بقوله تعالى: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) والذي فصل بينه وبين التجارة بقوله - عز وجل -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) فالتعاقد في عمل يفيد الآخذ والمعطي ببيع أو تجارة، والذي يفهم سبب تحريمه من قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) وذلك أنه: كان في المدينة وغيرها من اليهود والمشركين من يقرض المحتاج بالربا الفاحش كما نعهد من اليهود والخواجات في هذه البلاد، وفي ذلك من خراب البيوت ما فيه. فالحكمة في تحريم الربا إزالة نحو هذا الظلم , والمحافظة على فضيلة التراحم والتعاون أو فقل: أن لا يستغل الغني حاجة أخيه الفقير إليه - كما قال الأستاذ الإمام - وهذا هو المراد بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ولا يخفى أن المعاملة التي ينتفع ويرحم فيها الآخذ والمعطي والتي لولاها لفاتتهما المنفعة معًا لا تدخل في هذا التعليل {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ؛ لأنها ضده على أن المعاملة التي يقصدها البيع والإتجار لا القرض للحاجة هي من قسم البيع لا من قسم استغلال حاجة المحتاج، ولا يخفى أن إدارة البريد هي مصلحة غنية من مصالح الحكومة , وأنها تستغل المال الذي يودع في صندوق التوفير فينتفع المودع والعمال المستخدمون في المصلحة والحكومة فلا يظلم أحدهم الآخر؛ فالأرجح أن ما قالوه ليس من الحيل الشرعية وإنما هو من قبيل الشركة الصحيحة؛ من قوم المال ومن آخرين الاستغلال؛ فلا مانع إذن في رأينا من العمل بتعديلهم، على أن العبرة في نظر الفقه بالعقد؛ ولذلك يحتال بعض علماء الرسوم في الربا الحقيقي فيأكلونه بلا عقد، ويقولون: إن ذلك من قبيل البيوع الفاسدة، وهي صغيرة أو مكروهة، وهذا شيء لا يحل ولا نقول به، والحاصل أن المسألة قد أحلوها من طريق الفقه الظاهر، والباحث في الفقه الحقيقي، وهو حكمة الشرع وسره لا يرى ما ينافي حلها بناء على ما تقدم، والتضييق في التعامل يفقر الأمة، ويضعفها ويجعلها مسودة للأمم، والله أعلم وأحكم.

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع حب القوة.. رابطة المدنية (تمهيد) (ما اجتمع اثنان فأكثر اجتماعًا تراد به المصلحة إلا احتاجوا في انتظام شملهم وتحصيل مصلحتهم إلى ناموس، إما فطري بشيء من التعليم، وإما تعليمي مشوب بمقتضيات الفطرة) لتحفظ هذه الكلمة، فإننا نحسبها أصل الأصول في الأخلاق والشرائع. ولكن لا يحيط بها سريعًا إلا ذهن الذين سيروا تلك الأصول وسيجدونها عينًا صغيرة تتفجر منها مياه كثيرة أو عينًا صغيرة تنطبع فيها محسوسات كبيرة. أو مرآة صغيرة تقابلها أشكال متعددة فترى فيها صورها، وأما غيرهم فيناسبهم شرح هذه الكلمة. فافرضوا أن المجتمعين أربعة: امرآن وامرأتان , وافرضوا أن مصلحتهم الأولى من الاجتماع أن يحفروا لهم غارًا ليسكنوا فيه ويأمنوا العوادي من حر وبرد ووحش، ويجمعوا أقواتهم فيه. هذا القدر، افرضوا فقط فإنكم ستروننا نشرح لكم في هذا الاجتماع إجمال كثير مما يدعو علماء الأخلاق والشرائع أن يبحثوا فيه. وإليكم هذا النموذج من بيان ذلك: (الأول) مما يلزم لأولئكم قبل مباشرة حفر الغار محبة كل منهم ذاته إذ لو كانوا بحيث لا يحب كل منهم ذاته لما كانوا ليقدموا على هذا العمل الذي تحصل به لجميعهم مصلحة لكل منهم حصة من فوائدها. ولو كان واحد منهم لا يحب ذاته لنكف وحده عن العمل (امتنع أو عدل) فيكون الثلاثة قد خسروه وما خسروا إلا معينًا، ولو نكف اثنان لخسر الآخران معينين ولو نكف ثلاثة لعمت المصائب الأربعة. فأنتم ترون أن حب الإنسان ذاته هو أول ما يلزم للمجتمعين وهو أول ما يبحث فيه فلاسفة الأخلاق؛ إذ هو الأصل الأعظم في صلاح الأخلاق إن صلح، وفي فسادها إن فسد، وهو موجود في الفطرة ولكن لطروء المرض يحتاج لطب التعليم. (الثاني) مما يلزم لهؤلاء محبة كل منهم غيره؛ إذ محبة الغير هي الأصل في تحصيل مصالح الذات وهي الأصل الأعظم في اجتماع المتعددين , ولولاها لكان هؤلاء الأربعة متنافرين متناحرين، لا متضافرين متناصرين. (الثالث) مما يلزم لهؤلاء العدل، ومعناه إعطاء المرء لغيره عدل ما أعطاه أي شيئًا يعادله. فإذا عمل كل واحد من هؤلاء مثل ما يعمل صحبه كان ذلك من دواعي محبة بعضهم بعضًا ومما يطِد اجتماعهم. وأما إذا أراد أحد منهم أن يفضل نفسه عليهم فلا يعمل معهم كما يعملون ويريد أن ينتفع بما عملوا، أو أن ينتفع بنصيب هو أكبر من أنصبائهم، فربما أوجب أن ينقموا منه ذلك؛ لأن (بدل الأصل سبب الوصل، وبدل الفضل سبب الفصل) . (الرابع) مما يلزم لهؤلاء الإحسان، ومعناه: رضا النفس بإيجاد الحسن ولو من غير بدل أو ببدل أقل مما هو عدله. فإذا كان أحد هؤلاء أضعف من الباقين فيحسن بهم أن يحسنوا فيعملوا عمل الأقوياء، ويقبلوا من الضعيف عمل الضعفاء، على أنهم في النصيب سواء وفي الإحسان مباحثات ومحاورات ليس هذا محلها , وربما أتينا بها في محل آخر. والذي لا خلاف فيه بين المعتدلين هو أن الإحسان لا يجب وجوبًا كالعدل بل يحسن بالإنسان التحلي به وقد يشتد لزومه في المجتمعين القليلين. (الخامس) مما يلزم لهؤلاء المعرفة، إذ كل عمل لا يكون إلا بعلم فإن صلح العلم صلح العمل، وإن فسد العلم فسد العمل. ومعنى العلم وجدان الذهن: ما هو الشيء؟ أو كيف هو؟ أو أين هو؟ أو لم هو؟ أو متى هو؟ أو كم هو؟ أو بم هو؟ فيلزم هؤلاء أن يعرفوا أين يحفرون؟ وكيف يحفرون؟ وبم يحفرون؟ وكم يحفرون؟ (السادس) مما يلزم لهؤلاء التعريف. ومعناه: إحضار ما وجده العارف بقوة ذهنه بغير واسطة إلا الإلهام إلى ذهن من لم يجد ذلك بواسطة الدلالات على اختلافها. ومن البديهي أن الأذهان مختلفة في قبول الفائضات، ولا يتم العمل اللازم للكثيرين إلا بتعليم من علم لمن لم يعلم، ومن ثمة عندما تكثر اللوازم ويقل العالمون بها يعد تعليمها أو تعليم الوسائل المؤدية إليها عملاً عظيمًا يعادل أكبر عمل من أعمال الموجدين للوازم. هذا وبينما كان هَمُّ هؤلاء واحدًا ومصلحتهم واحدة أي تعاونهم في حفر الغار ليأووا إليه؛ إذ حدثت لهم بعد حفر الغار مصالح أخرى منها: حراسة المنزل خشية أن يطرقه طارق من وحش؛ إذا خرجوا جميعًا، ومنها: الاشتراك في تحصيل القوت رجاء أن يكونوا باجتماعهم أقوى إذا انفردوا، ومنها التراضي في أمر الوقاع؛ لأن في فطرة كل من المرء والمرأة اقتضاء الوقاع، وإن ترك هذا الأمر بلا قاعدة بينهم يتراضون بها يؤدي إلى تفرقهم أو تجادلهم أو تذابحهم، وهم أشد من في الأرض احتياجًا للاجتماع والتآلف والتناصر، فهم في هذه المصالح المتعددة (وهي من أولى المصالح) محتاجون الى تدبيرها. وفي تدبيرها محتاجون على الأقل إلى ثلاثة أشياء: (1) اقتسام الأعمال، و (2) نظام العائلة , و (3) نظام التساكن. فاقتسام الأعمال هو اللازم (السابع) وهو عبارة عن أن يعمل كل واحد عملاً يحتاجه الكل على أن يكون له نصيب في عمل الآخر. فمن قام في المنزل حارسًا فله حق بما يأتي به من سار للقوت محصلاً. ونظام العائلة هو اللازم الثامن (الثامن) وهو عبارة عن العهد الذي يقيمه المرء مع المرأة على أن يكون كل منهما للآخر زوجًا بشرط كذا وكذا.. على ما يظهر لهما من المعاهدة. ونظام التساكن هو اللازم (التاسع) وهو عبارة عن السبيل الحسن الذي يسير عليه جماعة أقامتهم الحاجة في منزل واحد، ثم بينما هم في حاجة لأفراد آخرين ليتم بهم تعاونهم على مشاق الأعباء التي لا يستطيعون وحدهم تحملها لما يصادفهم من الطوارئ الخارجية كغلبة الوحوش , والداخلية كالضعف بنحو مرض أو تغير قلوب متحدة، أو اختلال نظام عائلة أو نظام تساكن؛ إذ جبر نقصهم، وسدت حاجتهم بالأنسال التي أخذت تتزايد في كل عام. ولكن هل يوجد خير غير مشوب بما يقابله من ضد؟ كلا: إن هؤلاء لما أصابهم هذا الخير الذي هو توفير العدد لإتمام العدد أصابهم في مقابلته شر هو توسع الفرق والتفاوت بين أفراد المجتمعين، فأصبحوا كثيرين بينهم الضعفاء من صغار، ومرضى مثلاً، وأصبح الأقوياء فيهم منهم عارف بقيمة الحي (وإن كان صغيرًا، فإنه يكبر وإن كان مريضًا فإنه يصح) ، ومنهم غير عارف، ومنهم محسن، ومنهم غير محسن، ومنهم واف بالعهود، ومنهم غير وافٍ، وبالجملة أصبحت تلك الوحدة ممزقة، وهاتيك الأوضاع متغيرة، أو ضاق بهم ذلك الوطن الواحد فاضطروا إلى تعديد الوطن وبتعديده انقلب شكل تلك الوحدة فبينما كانوا أربعة يتفكرون بتدبير مصالح لهم مشتركة باتحاد القلوب وتعادل الأعمال إذ صاروا أربعين مثلاً، وبينما كان غار واحد إذ صارت غيران عشرة مثلا. وبينما كان العمال متعادلين صار العمال متفاوتين , وبينما كانوا يضربون في جهة واحدة لتحصيل القوت صاروا يضربون في جهات متعددة، وبينما كانوا يخافون من الوحوش فقط، صاروا يخاف بعضهم من بعض؛ لأنه وجد بينهم غير العادل وغير الوافي بالعهود، ولولا أن وجد هؤلاء لكان مليار من البشر المتناسلين من أولئك المفروضين أولاً على وتيرة واحدة في كل شيء، فلا أريد مليارًا على هذا النحو، ولا مليونًا، ولا مائة ألف، ولا عشرة آلاف، ولا ألفًا، ولا مائة أريد اثني عشر إنسانًا ليس فيهم مخادع. التفاوت بين البشر أمر طبيعي - أي: من جملة سنة الله في خلقه - ومن اقتضاء التفاوت أن يكون التضاد، ومن اقتضاء التضاد أن تكون المنازعات، ومن اقتضاء المنازعات أن يتعاون المتقاربون -في أكثر الأشياء المحسوسة والمنصورة- على المتباعدين عنهم - المتقاربين أيضًا في أكثر الأشياء - ومن اقتضاء الاجتماع تقارب المنازل. ومن اقتضاء تقارب المنازل اقتسام الأعمال , ومن اقتضاء العدل التراضي بتعيين الحدود والمقادير، ومن اقتضاء التراضي تكون نظام، ومن اقتضاء النظام وجوب حفظه، ومن اقتضاء حفظه إيجاد قوة حافظة له، ولا بد للقوة من مركز ومحور لحركتها، ولا بد من أن يكون هذا المركز حيًّا سميعًا بصيرًا عليمًا مريدًا قادرًا متكلمًا - أي: إنسانًا بالغًا سن الرشد والقوة سالمًا من نواقص الجسد والعقل. انظروا كم ترون في هذه الحالات من حاجات. كل هذه الحاجات مرت على الإنسان، وكل حلقة من هذه الحلق بقيت محفوظة في هذه السلسلة حتى هذا اليوم , وفي هذه الحاجات والمقتضيات كانت تحدث لهؤلاء المجتمعين القليلين صناعات يتبادلونها فيما بينهم , ويغلب في الظن أن صنع آلات الدفاع والهجوم له حظ من التقدم، ويظهر أن أول ما صنع الإنسان من هذا القبيل - بعد حفر الغيران التي هي معاقل - هو ترقيق شبا الصلد من الحجارة بواسطة حجارة أخرى، حتى يقطع بها ما شاء. ربما صنعت هذه المدى الصوانية لأمر، ثم تبين أن لها نفعًا في أمور أخرى كثيرة، ويظهر أنه بها نجر الشظايا من الأشجار على هيئات مختلفة لمقاصد متعددة، فكان لهم من تلك الشظايا مغزل يفتلون به أوبار الحيوانات التي يصطادونها، وكان لهم منها منسج يجمعون عليه الخيوط المفتولة، حتى تكون كسفًا، وكان لهم منها مخيط يضمون به بعض الكسف إلى بعض ليكون لهم من مجموع ذلك أكسية (يستبدلونها بما كانوا يكتسونه من جلود المصيدات من الحيوانات، أو المنسوج من الأعواد ولحاء الأشجار أو بعض الأوراق) وأخبية (يستبدلونها بما كانوا يختبئون فيه من الغيران الطبيعية أو الصناعية) ، ولا يخفى أن الحاجة كانت هي الدافعة بهم إلى استبدال الأكسية والأخبية المنسوجة من الأوبار بالجلود والغيران؛ إذ الجلود ثقيلة مثقلة للحركة، ولا تفي بستر البدن على الوجه الكافي , وهذه الأكسية الجديدة - التي شرح وصفها - يتكون منها لباس كاف واف بالحاجة. منه الرقيق والصفيق، ومنه الطويل والقصير , ومنه الصغير والكبير؛ وإذا تراكمت عليه الأوضار كانت تنحيتها متيسرة , وهذه الأخبية الجديدة يتكون منها مآوٍ كافية وافية بالحاجة للظعن والإقامة فإذا استوبلوا أرضًا تركوها ونزلوا فيما استطابوا لا يحتاجون الى حفر مآو جديدة. ومما يغلب في الظن أيضًا أنهم شعروا باحتياجهم لادخار زوائد من المكسوبات اللازمة للقوت والكساء والخباء والزينة، نعم، إن الادخار للمجتمعين لابد منه ليكون بالزوائد المحفوظة غناء يوم لا يغني سعيهم في الكسب شيئًا. وقد سمي الزائد المدخر - في لغتنا - مالاً كأن أهل هذا اللسان سموه بهذا الاسم المشتق؛ لأن النفوس تميل إليه بالفطرة أو بحسب التجربة والاحتياج , وهم يقولون لمن حوى مكسوبات زائدة تمول. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز) ((يتبع بمقال تالٍ))

بلرم ـ صقلية ـ 4

الكاتب: سائح بصير

_ بلرم صقلية (4) (دور الآثار وبساتين النبات) لا تبخس أهل سيسليا (صقلية) حقهم فإنهم فهموا مسألة لا بأس بفهمها , وأظنهم عرفوا ذلك من إخوانهم أهل شمالي إيطاليا وبقية الأوربيين، وهي المحافظة على الآثار القديمة والجديدة، أما القديمة فتحفظ بذواتها , وأما الجديدة فتحفظ ولو بنموذج منها. بنوا ملعبًا في بلرم فصنعوا له مثالاً من الخشب ووضعوه في دار الآثار. مدينة بلرم لها مثال مجسم رسمت فيه البساتين والجبال والكنائس مجسمة مصغرة بألوانها الطبيعية وألوان الأرض نفسها , وذلك المثال في دار الآثار. حفظوا لباس امرأة مسلمة من مسلمي صقلية وهو زي يشبه الأزياء الأوربية مع ساتر للوجه يدل على أن ستر الوجه كان عامًّا حتى في صقلية، وإن كان ذلك قد يغضب قاسم بك أمين فإنه يجد له أضدادًا في مسلمي أوربا فضلا عن مسلمي آسيا وأفريقيا. يحفظ القوم في متاحفهم هذه كل ما يوجد من آثار المتقدمين من مصنوعات، وأشجار، وأحجار، ولا يدخرون جهدًا في حفظ ذلك حتى إذا وجدت اسم شيء في كتاب تاريخ مثلاً أو عرض لك اسم في علم من العلوم كان يدل على معنى في الزمن السابق؛ أمكنك أن تعرف المدلول بالعيان والمشاهدة، وتتحقق صحة الوصف والتعريف فما استعمله الأقدمون من آلات وأدوات، وأنواع ثياب، وضروب مراكب، ونحو ذلك تجد شيئًا منه في متحف من المتاحف , أو في قصر من القصور، أو في كنيسة من الكنائس، أو في داهية من الدواهي التي هناك. وهذا مما يفيد في تحقيق المعاني التاريخية واللغوية فائدة لا يعرف مقدارها إلا من يسمع اسم اللأمة، والدلاص، والدرع والخوذة، والعمامة (عمامة الحرب) ونحو ذلك من الألفاظ العربية الكثيرة الاستعمال، ثم يراجعها في القاموس أو غيره من كتب المعجمات، وبعد ذلك لا تستقر في خياله صورة لمدلول من مدلولات هذه الألفاظ، وقد يتخيل صورة لا مناسبة بينها وبين الحقيقة، وهو جهل باللغة فاضح، وكثير منا يأكلون اللوز والجوز، وينطقون باسمه في البيت، وعند البائع؛ إذا طلبوا شراء شيء منه , وهم إذا رأوا شجرة الجوز أو اللوز لا يميزون بينها وبين شجرة الجميز أو الفلفل، أما الجماعة فعندهم في بساتين النبات جميع هذه الأنواع من الأشجار، وما لا تناسبه درجة الحرارة في الهواء يحدثون له جواء تناسبه بالتسخين أو التبريد حتى يعيش في جو مثل جوه ولكل من يريد معرفة شيء أن يذهب ويعرفه بعينه ذلك. وقد رسموا صور هذا كله فيما كتبوا من كتب اللغة ومعجمات العلوم , ويتيسر للحاذق أن يعرف هذه الأشياء بصورها المرسومة في تلك الكتب؛ أما إذا قال لك صاحب القاموس: الجوز شجرم؛ أي: معروف فماذا تستفيد من هذا وأنت في مصر وليس في قرب الأزهر شيء من شجر الجوز بل ولا في الأزبكية نفسها، فكيف يصير هذا عندك معروفًا؟ وكيف يمكنك أن تحدث عن هذا الشجر إذا كنت كاتبًا أو شاعرًا أو طبيبًا أو عالمًا أو أديبًا. * * * الصور والتماثيل وفوائدها وحكمها لهؤلاء القوم حرص غريب على حفظ الصور المرسومة على الورق والنسيج، ويوجد في دار الآثار عند الأمم الكبرى ما لا يوجد عند الأمم الصغرى كالصقليين مثلاً، يحققون تاريخ رسمها، واليد التي رسمتها، ولهم تنافس في اقتناء ذلك غريب حتى إن القطعة الواحدة من رسم روفائيل مثلاً ربما تساوي مائتين من الآلاف في بعض المتاحف، ولا يهمك معرفة القيمة بالتحقيق، وإنما المهم هو التنافس في اقتناء الأمم لهذه النقوش، وعد ما أتقن منها من أفضل ما ترك المتقدم للمتأخر، وكذلك الحال في التماثيل، وكلما قدم المتروك من ذلك كان أغلى قيمة، وكان القوم عليه أشد حرصًا، هل تدري لماذا؟ إذا كنت تدري السبب في حفظ سلفك للشعر، وضبطه في دواوينه، والمبالغة في تحريره خصوصًا شعر الجاهلية، وما عني الأوائل - رحمهم الله - بجمعه وترتيبه؛ أمكنك أن تعرف السبب في محافظة القوم على هذه المصنوعات من الرسوم والتماثيل؛ فإن الرسم ضرب من الشعر الذي يرى ولا يسمع , والشعر ضرب من الرسم الذي يسمع ولا يرى. إن هذه الرسوم والتماثيل قد حفظت من أحوال الأشخاص في الشئون المختلفة، ومن أحوال الجماعات في المواقع المتنوعة ما تستحق به أن تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية. يصورون الإنسان أو الحيوان في حال الفرح والرضى والطمأنينة والتسليم، وهذه المعاني المدرجة في هذه الألفاظ متقاربة لا يسهل عليك تمييز بعضها من بعض، ولكنك تنظر في رسوم مختلفة فتجد الفرق ظاهرًا باهرًا يصورونه مثلاً في حالة الجزع والفزع والخوف والخشية، والجزع والفزع مختلفان في المعنى، ولم أجمعهما ههنا طمعًا في جمع عينين في سطر واحد؛ بل لأنهما مختلفان حقيقة، ولكنك ربما تعتصر ذهنك لتحديد الفرق بينهما وبين الخوف والخشية , ولا يسهل عليك أن تعرف متى يكون الفزع ومتى يكون الجزع؟ وما الهيئة التي يكون عليها الشخص في هذه الحال أو تلك؟ أما إذا نظرت الى الرسم وهو ذلك الشعر الساكت؛ فإنك تجد الحقيقة بارزة لك تتمتع بها نفسك، كما يتلذذ بالنظر فيها حسك إذا نزعت نفسك إلى تحقيق الاستعارة المصرحة في قولك: رأيت أسدًا: تريد رجلاً شجاعًا فانظر إلى صورة أبي الهول بجانب الهرم الكبير؛ تجد الأسد رجلاً أو الرجل أسدًا، فحفظ هذه الآثار حفظ للعلم في الحقيقة، وشكر لصاحب الصنعة على الإبداع فيها إن كنت فهمت من هذا شيئًا فذلك بغيتي، أما إذا لم تفهم فليس عندي وقت لتفهيمك بأطول من هذا، وعليك بأحد اللغويين أو الرسامين أو الشعراء المفلقين ليوضح لك ما غمض عليك؛ إذا كان ذلك من ذرعه. ربما تعرض لك مسألة عند قراءة هذا الكلام، وهي: ما حكم هذه الصور في الشريعة الإسلامية؛ إذا كان القصد منها ما ذكر من تصوير هيئات البشر في انفعالاتهم النفسية أو أوضاعهم الجثمانية، هل هذا حرام أو جائز أو مكروه أو مندوب، أو واجب؟ فأقول لك: إن الراسم قد رسم، والفائدة محققة لا نزاع فيها، ومعنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان؛ فإما أن تفهم الحكم من نفسك بعد ظهور الواقعة، وإما أن ترفع سؤالاً إلى المفتي وهو يجيبك مشافهة؛ فإذا أوردت عليه حديث: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، أو ما في معناه مما ورد في الصحيح، فالذي يغلب على ظني أنه سيقول لك: إن الحديث جاء في أيام الوثنية، وكانت الصور تتخذ في ذلك العهد لسببين: الأول: اللهو، والثاني: التبرك بمثال من ترسم صورته من الصالحين، والأول مما يبغضه الدين، والثاني مما جاء الإسلام لمحوه. والمصور في الحالين شاغل عن الله، أو ممهد للإشراك به؛ فإذا زال هذان العارضان وقصدت الفائدة كان تصوير الأشخاص بمنزلة تصوير النبات والشجر في المصنوعات، وقد صنع ذلك في حواشي المصاحف وأوائل السور، ولم يمنعه أحد من العلماء مع أن الفائدة في نقش المصاحف موضع النزاع أما فائدة الصور فمما لا نزاع فيه على الوجه الذي ذكر [1] وأما إذا أردت أن ترتكب بعض السيئات في محل فيه صور طمعًا في أن الملكين الكاتبين، أو كاتب السيئات على الأقل لا يدخل محلاًّ فيه صور كما ورد فإياك أن تظن أن ذلك ينجيك من إحصاء ما تفعل؛ فإن الله رقيب عليك، وناظر إليك حتى في البيت الذي فيه صور، ولا أظن أن الملك يتأخر عن مرافقتك إذا تعمدت دخول البيت لأن فيه صورًا، ولا يمكنك أن تجيب المفتي بأن الصورة على كل حال مظنة بالعبادة فإني أظن أنه يقول لك: إن لسانك أيضًا مظنة الكذب، فهل يجب ربطه مع أنه يجوز أن يصدق كما يجوز أن يكذب. وبالجملة إنه يغلب على ظني أن الشريعة الإسلامية أبعد من أن تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم بعد تحقيق أنه لا خطر فيها على الدين لا من جهة العقيدة ولا من وجهة العمل. على أن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا أنفسهم منها وإلا فما بالهم لا يتساءلون عن زيارة قبور الأولياء، أو ما سماهم بعضهم بالأولياء، وهم ممن لا تعرف لهم سيرة ولم يطلع لهم أحد على سريرة، ولا يستفتون فيما يفعلون عندها من ضروب التوسل والضراعة وما يعرضون عليها من الأموال والمتاع، وهم يخشونها كخشية الله أو أشد , ويطلبون منها ما يخشون أن لا يجيبهم الله فيه، ويظنون أنها أسرع إلى إجابتهم من عنايته سبحانه وتعالى، لا شك أنه لا يمكنهم الجمع بين هذه العقائد، وعقيدة التوحيد، ولكن يمكنهم الجمع بين التوحيد، ورسم صور الإنسان والحيوان لتحقيق المعاني العلمية، وتمثيل الصور الذهنية. هل سمعت أننا حفظنا شيئًا حتى غير الصور والرسوم مع شدة حاجتنا إلى حفظ كثير مما كان عند أسلافنا؟ لو حفظنا الدراهم والدنانير التي كان يقدر بها نصاب الزكاة ولا يزال يقدر بها إلى اليوم أفما كان يسهل علينا تقدير النصاب بالجنيهات والفرنكات، ونحو ذلك ما دام المثال الأول موجودًا بين أيدينا؟ ولو حفظ الصاع والمد وغيرهما من المكاييل أفما كان ذلك مما ييسر لنا معرفة ما يصرف في زكاة الفطر وما تجب فيه الزكاة من غلات الزرع بعد تغيير المكاييل؟ وما كان علينا إلا أن نقيس مكيالنا بتلك المكاييل المحفوظة فنصل إلى حقيقة الأمر بدون خلاف؟ أظنك توافقني على أنه لو حفظ درهم كل زمان وديناره ومده وصاعه لما وجد ذلك الخلاف الذي استمر بين الفقهاء يتوارثونه سلفًا عن خلف كل منهم يقدر للمكيال والميزان بما لا يقدره به الآخر حتى جاء في آخر الزمان أحمد بك الحسيني يخطئ بعضهم ويوفق بين أقوال البعض الآخر بدون أن يكون بين يديه صاع ولا مد من تلك الآصع والأمداد، وما أصعب التخطئة والتوفيق؛ إذا لم يكن العيان هو المميز بين فريق وفريق. لو نظرت إلى ما كان يوجب الدين علينا أن نحافظ عليه لوجدته كثيرًا لا يحصى عده ولم نحفظ منه شيئًا فلنتركه كما تركه من كان قبلنا , ولكن ما نقول في الكتب وودائع العلم هل حفظناها كما كان ينبغي أن نحفظها أو أضعناها كما لا ينبغي أن نضيعها؟ ضاعت كتب العلم وفارقت ديارنا نفائسه؛ فإذا أردت أن تبحث عن كتاب نادر، أو مؤلف فاخر، أو مصنف جليل أو أثر مفيد فاذهب إلى خزائن بلاد أوربا تجد ذلك فيها. أما بلادنا فقلما تجد فيها إلا ما ترك الأوربيون ولم يحفلوا به من نفائس الكتب التاريخية والأدبية والعلمية , وقد تجد بعض النسخة من الكتاب في دار الكتب المصرية مثلاً وبعضها الآخر في دار الكتب بمدينة كمبردج من البلاد الإنكليزية، ولو أردت أن أسرد لك ما حفظوا وضيعنا من دفاتر العلم لكتبت لك في ذلك كتابًا يضيع كما ضاع غيره وتجده بعد مدة في يد أوربي في فرنسا أو غيرها من بلاد أوربا. نحن لا نعنى بحفظ شيء نستبقي نفعه لمن يأتي بعدنا, ولو خطر ببال أحد منا أن يترك لمن بعده شيئًا جاء ذلك الذي بعده أشد الناس كفرًا بتلك النعمة، وأخذ في إضاعة ما عني السابق بحفظه له , فليست ملكة الحفظ مما يتوارث عندنا وإنما الذي يتوارث هو ملكات الضغائن والأحقاد، تنتقل من الآباء إلى الأولاد حتى تفسد العباد وتخرب البلاد ويلتقي بها أربابها على شفير جهنم يوم المعاد. (للرحلة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الاشتراك في المنار) كل من قبل هذا الجزء من المنار يعد مشتركًا إلى سنة كاملة ويجب عليه دفع قيمة الاشتراك كاملة، وإن رد المجلة في أثناء السنة فمن لم يرض بهذا الشرط فليرجع إلينا الجزء. ونرجو أن لا يطلب أحد منا الاشتراك بدون القيمة المقررة. * * * (الأسطول العثماني) بشرتنا أنباء الآستانة بأن سيجهز أسطول عثماني مؤلف من السفن الجديدة التي ابتاعتها الدولة العلية من عهد قريب، ومن السفن القديمة التي أصلحتها في أوربا حقق الله الآمال. * * * (منشور شيخ الإسلام في تفليس) كتب شيخ الإسلام في تفليس عاصمة بلاد القوقاس الروسية منشورًا ينصح فيه للمسلمين بالطاعة والإخلاص لدولتهم، وبذل النفس والنفيس في مساعدتها على حرب دولة اليابان الوثنية، وقد أحسن فيما فعل , ونوافقه عليه في جملته، وكان في عزمنا أن ننشر في المنار الماضي نصيحة لمسلمي روسيا بأن يفترضوا الحرب لإقناع دولتهم بإخلاصهم لها؛ لأن هذا هو الذي ينفعهم، ولا يغتروا ببعض اليهود والأرمن الشامتين بدولتهم، فالغدر والخيانة يحرمهما الإسلام في كل حال، هذا وإن النصرانية أقرب إلى الإسلام من الوثنية، وما قلناه من ميل المسلمين إلى اليابان فسببه سياسي لا ديني. * * * (تغاير العلماء في روسيا) كتب إلينا فيض الرحمن أفندي أحمد القزاني المجاور رسالة ملخصها أن أحد علماء (خان كرمان) تلقى العلم في الآستانة، ولما رجع إلى وطنه سعى بإنشاء مدرسة خيرية وكان يعلم فيها حتى وشى عليه بعض المعممين إلى الحكومة بأنه يستميل التلامذة إلى تركيا بتعليمه على الطريقة التركية فأقفلت الحكومة المدرسة , ثم سعى فاستصدر أمرًا بفتحها فعاد أصحاب العمائم إلى الوشاية حتى أقفلوها، ولا شك أن أولئك السعاة الوشاة هم أكبر بلاء على أمتهم وملتهم، وقد خجلنا من ذكر صنيعهم مع كثرة ثنائنا على أخلاق مسلمي تلك البلاد، فعسى أن يتوبوا إلى ربهم، ويثوبوا إلى رشدهم. * * * (استعمار مصر ومراكش) إنكلترا وفرنسا تتباحثان في وسائل الوفاق في المسائل الاستعمارية بينهما، ومنها: مسألة مصر التي تستعمرها إنكلترا بدون نطق بكلمة حماية أو امتلاك إلا ما لونت به رسم مصر في خريطة أفريقية، وهو لون بلاد السودان وبلاد الترنسفال وبلاد الكاب أو رأس الرجاء الصالح، ومسألة مراكش التي تريد فرنسا أن تستعمرها هذا النوع من الاستعمار، ويوشك أن تتفق الدولتان على أن إحداهما لا تنازع الأخرى في مسألتها، ولكن ماذا يفعل سلطان مراكش وأمير مصر في هذه الأيام؟ أما أمير هذه البلاد فلا نبحث في أعماله، وأما سلطان مراكش فلم يكتف بما عنده من آلات اللهو الأوربية، وما اجتلبه من حور الآستانة وولدانها حتى أرسل يطلب من مصر جوقة من المطربين والمطربات، وشاع هنا أن محمد بن شعرون سافر بالجوقة، وهي تسعة رهط، وفيها بعض الراقصات المشهورات وتعهد لها بدفع 1500 جنيه في الشهر، وقيل أقل، ومعلوم أن السلطان يقترض المال من فرنسا، وأن الدين هو أوسع الأبواب لدخول أوربا في البلاد، وإننا ندعو الله تعالى أن يوفقه وسائر أمراء المسلمين إلى ما فيه الخير الحقيقي للأمة والبلاد كيفما جاء، ومن أيِّ طريق جاء. * * * (مسألة الرتب والأوسمة) قد وصل الإتجار بالرتب في الآستانة إلى حد التزوير فصار السماسرة مزورين، وقد حوكم من عهد قريب طاهر بك صاحب جريدة (معلومات) وغيرها متهمًا بتزويرها، وقد اقتدت مصر بالآستانة فصار المقربون من الأمير ومنهم بعض أصحاب الصحف يتوسلون إليه بهذه الرتب والأوسمة حتى علم الخاص والعام أن أكثر من نالها من غير الحكومة قد اشتراها بالمال، وقد انتهى الأمر بدخول اللورد كرومر في الأمر، وتقرر إلغاء بعض الرتب والأوسمة التي أنعم بها على المرتكبين والمزورين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين.

موعظة للمسلمين بآيات الكتاب المبين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ موعظة للمسلمين بآيات الكتاب المبين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (فاطر: 5) ، {مَن كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَلِلَّهِ العِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ المَصِيرُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ} (فاطر: 18-22) ، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر: 27-30) . لك الحمد اللهم أن أنزلت هذه الآيات البينات بلسان عربي مبين على عبدك ورسولك محمد خاتم النبيين، وإمام المصلحين، فأنرت بها وبأمثالها تلك الظلمات، وأحييت بها أولئك الأموات، فأقاموا ما أنزلت من الكتاب والميزان [1] وأدبوا بالحديد من أباهما من أهل الطغيان، حتى تزلزلت في الممالك تلك التقاليد، وألقت اليهم الأمم بالمقاليد فكانوا وهم الأميون أئمة أهل الكتاب والحكمة، وسادة أهل السلطان والقوة؛ فصل وسلم اللهم على ذلك النبي المرشد الحكيم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) . ثم خلف من بعد هذا السلف الصالح خلف كفروا بنعمة آياتك فاستبدلوا بها مذاهب وتقاليد هم بها عاملون {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وغرتهم الحياة الدنيا فطغوا بالميزان , وغرهم بالله الغرور فانحرفوا عن صراط القرآن، وطلبوا العزة بالكلم الخبيث دون العمل الصالح والسعي الحثيث؛ فكانت عزتهم ذلاًّ وكثرهم قلاً، ومكروا السيئات فقادوا العلماء والفقهاء بسلاسل سياسة السلاطين والأمراء، وأوهموا الوازرين والخاطئين بأن سيحمل أثقالهم عنهم نفر من صلحاء الميتين؛ ففسدت الأعمال والنيات، واتكل الأحياء على شفاعة الأموات، وتبع ذلك تفرق الكلمة بالباطل، وعدم الاجتماع على نصرة الحق؛ فخلا الجو للأمراء الظالمين والرؤساء الغارِّين، وفسد بذلك على الأمة أمر الدنيا والدين. طغوا في الكتاب ففضلوا الأعمى على البصير، وطغوا في الميزان، فاختاروا الظلمات على النور؛ وأخرجوا الأمة من الظل إلى الحرور , وفقدوا حياة العمل والتعاون فاستمدوا المعونة من أصحاب القبور. جهلوا آيات الله في الأكوان , وحكمه في اختلاف الأوضاع والألوان، ورغبوا عن معرفته تعالى بآياته في الآفاق وفي أنفسهم كما أرشدهم القرآن، وحاولوا معرفته بنظريات فلسفة اليونان فتماروا بالبيان، وقلدوا في الدليل والبرهان؛ فكانوا بلا علم ولا عرفان، ولا خشية ولا إذعان؛ وإنما هي دعاوي يلوكها اللسان، وأماني يسولها الشيطان. وجملة القول أنهم أضاعوا مقاصد القرآن كلها، وإن شئت قلت: أضاعوا دين الإسلام كله فإن الإسلام هو القرآن وما جاء في بيانه من سنة النبي - عليه الصلاة والسلام - قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ؛ وإذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن أنس، والأخير عن عائشة، وقال أيضًا: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم عن أنس وعائشة. وقد حرم علينا الخلف الطالح الاهتداء بالقرآن والسنة في أمر ديننا، ولم يعطونا حرية للعمل في أمر دنيانا، وزعموا أن الدين هو حكم بذلك التحريم، وبسلب هذه الحرية. فإذا احتجت عليهم بالكتاب والسنة على أن طريقتهم هي المخالفة للدين؛ قالوا: إنما نحن وإياك من المقلدين. وإذا استدلت عليهم بالعقل؛ قالوا: إنما أنت من الملحدين، ولا يرضيهم إلا اتباع آرائهم وآراء بعض المؤلفين الميتين. على هذا جرى علماء الرسوم مع الحكام والسلاطين فهدموا ذلك البناء المتين وما زالوا هادمين، وكذلك أهلك الله من أهلك من الأمم باستبداد الرؤساء المترفين. ليت هذه الأمة التي نكبت بهؤلاء الرؤساء في دينها ودنياها تعلم ما هي قوتهم التي يستعينون بها عليها. ليتها تعلم أنها هي قوتهم التي بها يعتزون، وأنها هي معاولهم التي بها يهدمون، وإنها هي قوتهم التي بها يحتجون، ذلك بأنهم إذا قالوا: إن وضع كتب الشريعة بصفة سهلة كوضع كتب القوانين بدعة منكرة، قالت العامة: بدعة منكرة. وإن أدى هذا القول إلى استبدال القانون الفرنسي بالشريعة. وإذا قالوا: إن العلوم الطبيعية والرياضية كفر أو طريق إلى الكفر قالت العامة: هي كفر وأي كفر، وإن حرمت الأمة بذلك من مجاراة الأمم الحية، وصارت تحت أقدام الأمم التي يسمونها كافرة فاجرة، فيا ليت هذه الأمة تعلم من أضاع شريعتها ودينها ومن أفسد عليها أمر دنياها، ويا ليتها تعلم أنهم ما قدروا عليها لولاها. طال زمن الهدم في هذه الأمة لاتفاق رؤساء الدين مع رؤساء الدنيا عليه، ولكن قد تباينت الرغائب في هذا العصر لا سيما في البلاد الهندية والعثمانية والمصرية؛ فقد دخلت في الأمم بعض العلوم العصرية، والأعمال المدنية؛ فانقسمت الأمم إلى قسمين عظيمين: قسم يريد المحافظة على التقاليد والعادات القديمة باسم الدين، وسلاحه موافقة العامة، وقسم يريد الانسلاخ منها، وأكثر أهله من الخاصة. وأهم ما استفاد هذا القسم من التعليم الجديد حرية الفكر؛ لذلك تولد من بين هذين الزوجين قسم ثالث يريد التوفيق بينهما وإقناع الجميع بأن الإسلام دين الفطرة والمدنية ودين العلم والعقل، والمنار إنما أنشئ لهذه الدعوة وتأييد هذا الحزب وتنميته، والرجاء بالله أن يكون هذا الحزب هو الفائز والعاقبة له {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) .

خطبة من خطب عمرو بن العاص

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة من خطب عمرو بن العاص منقولة من الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام رأينا في تاريخ ابن عساكر خطبة نفيسة لعمرو بن العاص من أحسن أقواله، يوصي بها الناس بالقصد، وعدم السرف، وحسن معاملة القبط، وصرف العناية إلى خيل الجند بالقيام على تربيتها وسمنها، وغير ذلك من الوصايا الجميلة النافعة رواها ابن عساكر عن بُحَير بن داخر المعافري قال: ركبت أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة، وذلك آخر الشتاء بعد حمم (كذا) النصارى بأيام يسيرة فأطلنا الركوع؛ إذ أقبل رجال بأيديهم السياط يؤخرون الناس فذعرت، فقلت: يا أبت من هؤلاء؟ قال: يا بني هؤلاء الشُّرَط. وأقام المؤذن الصلاة فقام عمرو بن العاص على المنبر فرأيت رجلاً قصير القامة أدعج أبلج [1] عليه ثياب موشية (أو موشاة) كأن بها العقيان [2] تتألق عليه وعمامة وجبة , فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ووعظ الناس فأمرهم، ونهاهم فسمعته يحض على الزكاة وصلة الرحم وينهى عن الفضول وكثرة العيال، وقال في ذلك: يا معشر الناس إياي وخلالاً أربعًا فإنها تدعو إلى النَّصَب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السعة وإلى الذلة بعد العز؛ إياي وكثرة العيال، وانخفاض الحال وتضييع المال، والقيل بعد القال في غير دَرَك ولا نوال، ثم إنه لا بد من فراغ يؤول المرء إليه في توديع جسمه والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، فمن صار إلى ذلك؛ فليأخذ بالقصد [3] والنصيب الأقل، ولا يضيع المرء في فراغه نصيب نفسه من العلم، فيكون من الخير عاطلاً، وعن حلال الله وحرامه عادلاً، يا معشر الناس قد تدلت الجوزاء وركبت الشعرى، وأقلعت [4] السماء وارتفع الوفاء وطاب المرعى، ووضعت الحوامل، ودرجت السمائم [5] وعلى الراعي حسن النظر. فحي بكم على بركة الله على ريفكم، فتناولوا من خيره ولبنه ومرافقه وصيده , وأربعوا بخيلكم وأسمنوها وصونوها وأكرموها فإنها جنتكم [6] من عدوكم وبها تنالون مغانمكم، وتحملون أثقالكم، واستوصوا بمن جاورتم من القبط خيرًا. وإياي والمومسات [7] المفسدات؛ فإنهن يفسدن الدين، ويقصرن الهمم، حدثني عمر أمير المؤمنين، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرًا فإن لكم منهم صهرًا وذمة) فكفوا أيديكم، وفروجكم وغضوا أبصاركم فلأعلمن ما أتاني رجل قد أسمن جسمه وأهزل فرسه [8] من غير علة حططته من فريضته قدر ذلك , واعلموا أنكم في رباط الى يوم القيامة؛ لكثرة الأعداء حولكم، ولإشراف قلوبهم إليكم وإلى داركم، معدن الزرع والمال والخير الواسع والبركة التامة. حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا فيها جندًا كثيفًَا فذلك الجند خير أجناد الأرض) فقال له أبو بكر: ولِمَ ذاك يا رسول الله؟ قال: (لأنهم في رباط إلى يوم القيامة) . فاحمدوا ربكم معشر الناس على ما أولاكم وأقيموا في ريفكم ما بدا لكم. فإذا يبس العود، وسحق العمود، وكثر الذباب، وحمض اللبن، وصوَّح [9] البقل، وانقطع الورد، فحي على فسطاطكم على بركة الله , ولا يقدمن أحد منكم على عياله إلا ومعه تحفة لعياله على ما أطلق من سعته أو عسرته) اهـ. (المنار) هكذا كانوا يخطبون الناس يعلمونهم ما به صلاح دينهم ودنياهم، ويرشدونهم إلى حسن العمل في المعايش، وحسن المعاملة مع الموافق والمخالف، فليعتبر بهذا خطباء التقليد في هذا العصر إن كانوا يفقهون. و (السمائم) نوع من الطير: و (السماسم) النمل و (الشعرى) الكوكب الذي يطلع في الجوزاء، وذلك عند إقبال الحر فهو يقول: ذهب الشتاء وجاء وقت العمل والحرث. والوصية من النبي وعمر وبالمرابطة في مصر تدل على أن هذه البلاد لا تحفظ من اعتداء الأجانب إلا بالقوة الجندية الدائمة، فإنها مقصودة من الفاتحين لخيرها وضعف أهلها، ولكن المسلمين المتأخرين والمتوسطين لم يفهموا ما يؤثر عن الأولين.

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى البعث الجثماني (س5) عبد الرحيم أفندي محمد القناوي الحسيني بمدرسة الحقوق بمصر تحادثت مرة مع صديق عن كيفية البعث والنشور , وهل الحشر والحساب يكونان بالأجسام التي نحن بها في عالم الدنيا كما جاء في أصول الشريعة، أم بغير ذلك، فأنكر عليَّ أن الحشر يكون بالأجساد , وعد ذلك من المستحيلات مستندًا في رأيه على ما درسه من علوم الطبيعة حيث تقرر بها أن العلم التجريبي أثبت أن المادة لا تزيد ولا تنقص ولا تنعدم مطلقًا، وأن جميع الكائنات من نبات وجماد وحيوان تتداخل وتتناسخ، فإذا مات الإنسان وصار رفاتًا تحلل جسمه إلى العناصر البسيطة الأولية التي يتركب منها كالكربون والأزوت، وقد ذهب بعض علماء الكيمياء إلى أن الجسم يتركب من سبعين عنصرًا مختلفة، فهذه العناصر التي يتركب منها الجسم حال وجوده لا تنعدم بعد فقده، وإنما تحلل تحليلاً كيماويًّا، وينفرد كل عنصر على حدته، ثم يمتزج بما يلائمه من المواد الأخرى، ومن ذلك تتكون الأسمدة والأسبخة التي تتغذى منها النباتات والأشجار، ومنها يأكل الإنسان؛ فيتغذى جسمه وينمو، وبهذه الواسطة تتكون الأجسام الحية من ثمرات البالية المندثرة , وهكذا تتقدم تلك الأجسام الحية وتتكون منها أجسام أخرى حتى يأذن الله؛ إذا تقرر ذلك نتج بلا شك أن جثمان أحد معاصرينا مثلاً مركب من عدة أجسام تحللت , وقد دخلت في تكوينه بواسطة الطريقة المتقدمة؛ فإذا سلمنا بأن الحشر سيكون بالأجساد التي نحن بها في الدنيا فكيف يمكن حشر هذه العناصر إذا جاء يوم الحساب؟ بل كيف يمكن حشر العالم بأجمعه منذ خلق الدنيا؛ لأن المادة الموجودة لا تكفي لذلك؟ فدعتني الحالة إلى تحرير ذلك إليكم؛ لتزيلوا بفضل علمكم كل شبهة تتعلق بهذا الموضوع، والسلام عليكم. (ج) إن علم الكيمياء قد قرب بارتقائه مسألة حشر الأجساد من العقل، وأدناها من التصور حتى صرنا نبحث في كيفيتها بحثًا علميًّا. على أن أمور الآخرة من عالم الغيب التي يكتفى فيها بالتسليم الإجمالي من غير بحث في الكيفية، وإنما يشترط فيها أن تكون من غير المحال عقلاً؛ فليس لنا أن نبحث عن كيفية البعث، ولا عن كيفية الحساب، ولا عن كيفية الجزاء في دار النعيم ودار العذاب متى علمنا أنها ممكنة. أما شبهة محادثك التي صورت له البعث بالروح والجسم معًا محالاً فهي واردة على أقوال بعض العلماء أو أكثرهم؛ إذ زعموا أن البعث إنما يكون بالجسم الذي عمل به الإنسان أعماله التي يجازى عليها. ولم يرد هذا القول في النصوص الإلهية؛ وإنما هو شيء استنبطوه بأقيستهم، وفلسفتهم النظرية؛ إذ قالوا: لا يجوز أن يقع الجزاء إلا على الجسم الذي تلبس بالعمل لئلا يكون الجزاء على غير العامل. ويا ليت شعري! ماذا يقول هؤلاء إذا اطلعوا على ما أثبته العلم حديثًا من تبدل مادة جسم الإنسان في كل بضع سنين مرة؟ ! بمعنى أن الأجسام التي نعيش بها اليوم ليست عين الأجسام التي كانت لنا قبل هذه المدة. أيقولون فيمن ارتكب ما يوجب الحد وغاب مدة يثبت العلم أنه قد تحلل فيها كل جسمه الذي زاول به ذلك العمل السيء أنه لا حد عليه، ولا جزاء؛ لأن الجسم الذي عمل قد ذهب وحل محله جسم آخر؟ إن الدين قد أثبت أن للناس حياة أخرى بعد هذه الحياة، وإنما الناس خلق مركب من جسد وروح؛ وسيكونون في الحياة الثانية ناسًا كما كانوا في الحياة الأولى؛ إلا أن تلك الحياة أرقى من هذه الحياة للراقين، وأسفل منها للمتسفلين. فمن عرف ما هو الإنسان بحسب العلم الحديث سهل عليه أن يقبل هذا الاعتقاد؛ لأنه يعلم أن الحياة صفة لازمة للروح وأن ظهور الأرواح في الصور المادية هو الذي يعطي المادة الحياة، وبهذه الحياة تأخذ من عناصر الطبيعة ما يكون ممدًّا للجسم الذي تظهر فيه , وعوضًا عما يتحلل منه ويندثر كل آن، وبها يكون الجديد كالقديم في وضعه، وصفاته الصورية والمعنوية بحيث لا يكون الإنسان المعين بتحلل جسمه الأول وحدوث جسم جديد له إنسانًا آخر. وإذا فهمنا هذا نفهم أنه لا يشترط في تحقق الحياة الثانية أن تكون مادة الجسم هناك عين مادته هنا مادة ثابتة مستقرة بذاتها وعينها، وإنما هي مواد معينة بالتعيين النوعي دون الشخصي؛ فالعناصر البسيطة لا تشخص في أجزائها ما يميز جزءًا عن جزء، وإنما هي كالثياب تتجدد على كل حي ويبق هو هو {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الواقعة: 61) . والقول بأن كل جزء من أجزاء العناصر دخل في بدن إنسان لا بد أن يعود بعينه في الآخرة إليه فلسفة باطلة، وهو محال كما قال محدث السائل؛ لأن هذه الأجزاء كما دخلت في بدن زيد دخلت في أبدان الألوف وألوف الألوف من الناس والحيوان والنبات؛ ولأن هذا القول يقتضي أن يكون كل شخص في الآخرة كبير الجرم جدًّا إلى درجة لم تخطر على بال أحد، حتى الذين قالوا: إن طول الإنسان في الجنة يكون ستين ذراعًا. ولا يقال: إن مادة الأرض لا تكفي لأجسام جميع من عاشوا عليها إذا عادوا كلهم أحياء في ذلك اليوم الآخر؛ لأن الحياة الأخرى ليست على هذه الأرض وإنما تكون {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَات} (إبراهيم: 48) وإنما يكون خراب العالم باصطدام الأرض بأحد الأجرام السماوية، ثم بانتثار الكواكب ورجوعها هباء (أو سديمًا) كما كانت قبل هذا التكوين {إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجاًّ * وَبُسَّتِ الجِبَالُ بَساّ} (الواقعة: 4-5) أي: تفتت {فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثاًّ} (الواقعة: 6) ، {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} (الانفطار: 1-2) وفي معنى هذه الآيات آيات كثيرة فالنشأة الآخرة تكون في كوكب أو عالم أكبر من هذا العالم، والأرواح الخالدة تأخذ منه مادتها؛ ويكون الناس هم هم كما يتبدل جسم الإنسان في الدنيا عدة مرات ويبقى هو هو في عقائده وأخلاقه وعاداته، والله أعلم وأحكم. * * * علم الغيب للأنبياء ومسألة كتابة عمر للنيل (س6 و7) الدكتور نصر أفندي فريد بالمنصورة: جمعنا مجلس علمي تناقشنا فيه مع أحد أفاضل الأزهريين إذ تنبأ أن المحكمة ستبرئ متهمين في قضية , فقلنا له: لا يعلم الغيب إلا الله. فقال: إن لي حجة في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 27) قلنا: لست برسول. فقال: يقصد برسول هنا في اللغة ما يعم، لا النبي المرسل المصطلح عليه فقط. فحاججناه فلم يقتنع , ثم دار بنا الحديث على مسألة كتابة عمر - رضي الله عنه - ورقة للنيل في مسألة الفيضان المعلومة. فقلنا له: إنها خرافة وثنية مخالفة للدين , وقد كنا قرأنا ذلك في مناركم الأغر لكننا لم نعثر عليه الآن فنرجو نشر ذلك مع الفتوى في مناركم الأغر إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل حتى لا تعم هذه الخرافات التي أضرت بالدين الحنيف. (ج) قوله تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) يراد بالرسول فيه: النبي المرسل المبلغ عن الله تعالى دينه بدليل قوله تعالى في الآية التي بعد هذه: {لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِم} (الجن: 28) فقول الأزهري: إن لفظ الرسول هنا عام يشمل النبي المرسل وغيره باطل لا وجه له ويا ليتكم سألتموه عن هذا العموم اللغوي أيدخل فيه كل رسول أرسله إنسان في حاجة له أم يشمل بعض رسل الناس دون بعض؟ وما معنى العموم حينئذ؟ وإننا لنعلم أن كثيرًا من الذين أخذوا بعض قشور العلم يحرفون كل كلام حتى كلام الله تعالى ليؤيدوا دعاويهم أمام الناس , وأن هذا من أكبر أبواب الفساد الذي طرأ على العلم والدين , ولكنهم كانوا يحرفون ويأولون ما يحتمل ذلك بحسب اللفظ في الجملة. وما رأينا أحدًا تجرأ مثل أزهريكم على تحريف القطعي تفسيرًا للقرآن برأيه وهواه نعوذ بالله , ولو صح أن يكون مثل هذا رسولاً لما كان ممن ارتضى الله. ثم إن المراد بالغيب الذي يظهر الله من ارتضى من رسله عليه هو: عالم الآخرة فقد أظهرهم على أمر الحساب والجزاء، وأعلمهم بأن هناك دارًا للنعيم، ودارًا للعذاب وأطلعهم على عالم الملائكة ... إلخ، ما أبلغوه من رسالات ربهم كما هو منصوص في الكتاب العزيز، وليس معناه أن الله تعالى يطلع الرسل على ما غاب من أمر العباد وما يجري لهم في الدنيا من رزق ونعيم وبلاء وغير ذلك، والدليل على أن هذا غير مراد ما أمر الله تعالى خاتم النبيين أن يبلغه للناس عن نفسه بقوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) وما حكاه أيضًا عن غيره من رسله، كقوله عن لسان نوح عليه السلام: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} (هود: 31) ... إلخ، وأمر نبينا بمثل هذا في سورة الأنعام. وأما مسألة النيل فقد كان من وثنية قدماء المصريين الاعتقاد بأن النيل مقدس أو إله، وأن عمر بن الخطاب عليه الرضوان أبطل خرافة إلقاء البنت العذراء فيه كما نقل، والقصة مبسوطه مع تأويلها في مجلد المنار الثاني فلتراجع في مبحث الكرامات المأثورة (ص 550) . * * * البدعة الدينية والبدعة الدنيوية (س 8) ا. ش. التتاري بروسيا: إيش معنى البدعة والمحدثة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) ومعنى السنة الحسنة في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) ؟ وقد قسم بعض العلماء البدعة إلى حسنة وسيئة وبعضهم يقول: إن كل بدعة سيئة، وضلالة كما في الحديث والمراد من السنة الحسنة الشيء الآخر فكيف العمل دام فضلكم؟ (ج) كل ما أحدثه الناس في أمر الدين ولم يأخذوه من كتاب الله أو سنة رسوله المبينة لكتابه فهو بدعة سيئة وضلالة يستحق متبعها العقوبة في النار، وإن لم يصح في الحديث زيادة: (وكل ضلالة في النار) فقد أتم الله الدين وأكمله فمن زاد فيه كمن نقص منه كلاهما جان عليه وغير راض بما شرعه الله، وأعني بالدين هنا: مسائل العقائد والعبادات والحلال والحرام دون الأحكام الدنيوية التي فوض الشرع أمرها إلى أولي الأمر ليقيسوها على الأصول العامة التي وضعها لها. ذلك أن الجزئيات لا تنحصر فيحددها الشرع؛ بل تختلف باختلاف العرف والزمان والمكان؛ فمن ابتدع طريقة لتسهيل التعامل أو التقاضي غير ما كان عليه السلف؛ وكانت نافعة غير منافية للأصول الشرعية العامة كبعض نظام المحاكم الجديد؛ كان له أجر ذلك. وأما ما يعتقد في الله واليوم الآخر , وما يتقرب إلى الله تعالى به من العبادة فهو لا يختلف ولذلك لا يقبل رأي أحد فيه , بل يؤخذ كما ورد عن الشارع من غير زيادة ولا نقصان، وإننا لنعجب من الذين زادوا في العبادات أحكامًا وأذكارًا، وأورادًا كيف غفلوا عن تقصير الناس في القيام بما ورد فقاموا يطالبونهم بأكثر منه , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأعرابي الذي حلف أنه لا يزيد على ما فرض الله عليه شيئًا , ولا ينقص منه شيئًا: (أفلح الأعرابي إن صدق) وهذه أذكار القرآن وأدعيته لا نكاد نرى مسلمًا من أهل الأوراد يدعو بها كلها، فهل كانت أدعية شيوخهم المخترعة خيرًا منها؟ على أن الدعاء بغير ما ورد لا يعد بدعة إلا إذا كان مخالفًا لما ورد، أو كان معه بدعة أخرى

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع حب القوة.. رابطة المدنية ويظهر أن أول مال تموله الإنسان هو ما أسره من الحيوانات الكثيرة التي سهل عليه أسرها وتأنيسها؛ أي: جعلها أنيسة غير نافرة ولا عادية. وبهذه الحيوانات التي طفقت تتناسل وتتزايد في ظل حمايته ورعايته وعنايته قد استغنى أولئك الأوائل بعض الاستغناء عن الكد في الصيد. فإن الفاطر أوحى إليهم أن يجربوا ألبان الحيوانات المأسورة فرأوا أن ألبان البعض منها غذاء طيب ساد عن كل شيء , ووجدوا بعد هذا أن اللحوم أمر زايد يجنحون إليها إذا ما وجدوا في أنفسهم سآمة من الألبان. ولا يبعد أنهم قبل أن يتمولوا هذا المال كانوا يجتزءون بالعشب والحبوب يوم لا يجدون مصيدًا؛ ولذلك بقوا يحنون إلى بعض الأعشاب التي استطابوها بعد أن جربوا هذا الغذاء الكافي. وربما كان تخصيص بعض الحبوب والنباتات بالأكل تطلبًا بوحي وإلهام، ثم اعتادوها دائمًا حتى صاروا يدخرونها؛ ولذلك يجوز لنا أن نظن أن المال الثاني الذي تموله النوع هو ما اعتاد أكله الإنسان مما تخرج الأرض من نباتها وحَبها؛ فكأن طفق فريق منهم يجمعونها ويدخرونها، ثم وجدوا حرجًا في جمعها حبة حبة مثلاً من كل بقعة فرأوا أن يبذروها في بقاع خاصة فحدثت لهم صناعة الحرث والزرع، ولا تنسوا تلك المدى الصوانية فهي التي نجرت لهم المحراث الذي يبحثون به في الأرض ليدفنوا به الحبوب , وهي التي نجرت المدق لاستخراج الحبوب. ولما كان المزروع يستدعي الحفظ من الحيوانات طواعم الأعشاب , وادخار الحبوب ليوم البذار؛ ليستدعي أماكن يؤمن فيها من البلل الضار بها؛ احتاج الذين عنوا بهذا المال الثاني إلى الإقامة بجوار الأرضين التي يبذرون فيها، واحتاجوا إلى اتخاذ بدل عن تلك الأخبية التي لا تقي الحبوب الكثيرة من البلل، فرأوا أن يقلدوا الغيران، ويتخذوا لهم ولحبوبهم أماكن ثخينة يؤلفونها من الحجر والتراب، أو من الأعواد والتراب، وليس ببعيد أن يكونوا تعلموا صنعة البناء من الحيوانات الصغيرة التي تدخر الحبوب كالنمل مثلاً كما تعلموا صنعة النسيج من الحيوانات التي تنسج كالعنكبوت مثلاً، ولكن الأقرب أن يكونوا تعلموا كل أوائل الأشياء بإلهام من الفاطر كما أن الحيوانات كلها تعلمت ما تحتاج إليه بحسب خلقتها بإلهام منه - جل وعلا - ثم عجز هؤلاء الزراع عن أن يتمولوا الكثير من الحيوانات المأسورة؛ لأن العناية بها تقتضي الرحيل الدائم لأجل تتبع الأرضين التي فيها الكثير من العشب الطبيعي , وعجز أولئك الرعاة عن أن يتمولوا الكثير من تلك الحبوب التي تقتضي الإقامة، والاشتغال بالحرث وتوابعه؛ فانقسم الذين كانوا مجتمعين إلى فريقين: فريق المتمولين من الحيوانات، وفريق المتمولين من الحبوب. واختار كل من الفريقين ما مالت إليه نفسه من المال، ودأب يسعى في تنميته والإثراء منه، وبحسب هذا الانقسام انقسم الوطن إلى قسمين، وطن الرحَّل، ووطن المقيمين. وأصبح كل من الرحل والمقيمين محتاجين في الحقوق والمعاملات التي بينهم أنفسهم إلى ناموس. ومحتاجين إلى ناموس آخر في الحقوق والمعاملات التي بينهم وبين الآخرين. ويمكننا أن نسمي الأول بالسياسة الداخلية، والثاني بالسياسة الخارجية. وههنا حان لنا أن نأتي القراء بالإشارة إلى أقسام النظامات التي تندرج تحت تينكم السياستين؛ لتعلموا أن الشرائع كتربية الأخلاق قديمة جدًّا ينتهي قدمها إلى أوائل المجتمعين من البشر، وذلك لا يعلمه إلا الذي خلق. وبذلك تعلمون قدم عهد المدنيات التي بسطنا هذا الكلام لتشريح شيء من بنيتها التي عظمت جدًّا. والخالق أعلم بما سيكون. فمن تلكم الأقسام نظام المبادلات والمعادلات , وبدون هذا النظام لا يتم اجتماع صالح للنمو والأمن والتميز على الحيوانات، وفيه أقسام: (1) شريعة البيوع، وهو اللازم العاشر. (2) شريعة الإجارات وهو اللازم الحادي عشر. (3) شريعة القسمة: وهو اللازم الثاني عشر. و (4) شريعة القروض والودائع والعواري، وهو اللازم الثالث عشر. و (5) شريعة الغصب والإتلاف، وهو اللازم الرابع عشر. ومنها نظام المواريث , وهو اللازم الخامس عشر، وهذا أيضًا من الضروري؛ لأنه إذا مات الواحد لابد من أن يأخذ ماله الأحياء فمن هو الأحق بأخذه. ومنها نظام الجزاء: وهو اللازم السادس عشر فبدون الجزاء يتمادى المعتدي وينتفي الأمن. ومنها نظام حماية الضعفاء: وهو اللازم السابع عشر فبدون تي الحماية يؤول الأمر إلى عدم تكاثر القليلين، وهم إلى ذلك محتاجون. ومنها نظام المعاهدات الخارجية: وهو اللازم الثامن عشر فبدونه لا يتسنى لسكان الأرض من البشر أن يستريحوا طرفة عين، ولولاه لما نما البشر , ولما أخذ النوع حظه من التميزات، والارتقاء البديع. ومنها نظام إحداث القوة وهو اللازم التاسع عشر. وفي هذا أقسام: (1) ركز القوة في مركز؛ أي: إقامة الرئيس ونصبه. (2) طاعة المرءوسين للرئيس. (3) تسليم القوة للرئيس. (4) شروط الرئيس والرئاسة والطاعة , واستلام القوة والتصرف بالقوة، وحدود كل من المذكورات ومقاديرها. ومنها نظام وضع النظامات. وهو اللازم العشرون. وما أخرناه في الذكر إلا لأنه يتأخر حدوثه في المجتمعين؛ لأنهم يضعون النظامات أولاً من غير نظام فيظهر فيها خلل ما قليل أو كثير؛ فيحتاجون لنظام النظامات، قانون القوانين ناموس النواميس، شريعة الشرائع. هذه الشرائع والنظامات، أو هذه اللوازم والمقتضيات هي جُل، أو كل الأصول التي يخوض في جداول فروعها علماء الأخلاق وعلماء الشرائع. وإن كنت قد نسيت شيئًا فليس على من قرأ هذا النموذج أن يحصي ما نسيت مع ما ذكرت. وكل ما أحصيناه يحتاج إليه الفريق الرحَّل كالفريق المقيمين غير أن الرحَّل الرعاة بما جمدوا على ذلك المال الواحد , وبما رضوا من الحياة البسيطة التي لا زينة فيها؛ بقوا في أمر هذه الشرائع على سذاجة الفطرة أو ما هو قريب منها، وأما المقيمون فإنهم ما زالوا يتقلبون في الحاجات التي يسوقهم إليها حب الزينة (الذي يألف المقيمين وينيخ لديهم) حتى توسعوا في الحياة؛ فاحتاجوا أن يتوسعوا في أمر الشرائع. ويظهر أن هؤلاء المقيمين بعد أن اختاروا الإقامة لأجل زرع الحبوب وحفظها، وما هو من بابها بدأوا يطلعون بواسطة البحث في الأرض للبذر فيها على ما في خزائن الأرض مما نسميه (المعدن) وهو المال الثالث , ثم أخذوا يصطنعون من المعدن، وبواسطة المعدن مصنوعات كثيرة زائدة وهي المال الرابع. ولا مجال للظن في معرفة أول معدن اطلع عليه البشر، وعرفوا خاصته ولكن يمكننا أن نظن أن الإنسان بقي في أبسط الحالات حتى اكتشف سر النار , وأنه لم ينفعه شيء من المعادن مثل ما نفعه الحديد؛ لأن الحديد أبو الآلات كلها , ففي اليوم الذي عرف الإنسان خاصة الحديد دخل في دور جديد؛ وذلك لأن اجتماع مائة إنسان مثلاً في أرض واحدة، وتجاورهم في المساكن يقضي عليهم أن لا يكونوا متحدين في الصنعة لوجوه كثيرة. منها: أن قواهم البدنية تختلف فمنهم من يستطيع الحرث، ومنهم من لا يستطيع، أفيترك من لا يستطيع الحرث سدى أم يعمل شيئًا آخر؟ وماذا يعمل؟ ومنها: أن قواهم العقلية تختلف فمنهم من يجد ذهنه أعمالاً غير الحرث، فهل يجبر على الحرث أم يعمل كما وجد ذهنه؟ وما هو؟ ومنها: أن قواهم القلبية تختلف فمنهم من يقنع بحالة واحدة , ولا يغرم بالزينة , ومنهم من لا يقنع ويكلف بها. أفيموت قهرًا؛ لأنه لم يجد ما يقنعه؟ أم يتفكر بإيجاد ما يقنعه؟ وما هو؟ ومنها: أن المال الواحد إذا عمل الكل على تنميته؛ نما جدًّا حتى يتعسر حفظه، أو يصير العمل بتنميته على الدوام مع كثرته الهائلة عبثًا، فهل يشتغلون بالعبث؟ أم يتفكرون بمال آخر؟ وما هو؟ هذه الوجوه المبينات هي الحاكمة على مائة مجتمعين معًا أن يتفكروا فيجدوا بأذهانهم ما هي تلك الأشياء المسئول عنها من الأعمال والصنائع اللازمة، وبعد أن يجدوا بأذهانهم يعمل كل واحد منهم في العمل الذي استعد له بحسب بدنه، بحسب عقله، بحسب قلبه؛ وإذا كان عشرة من المائة يكفونهم جميعهم الهم في تحصيل الحبوب اللازمة مع الزيادة، فماذا يصنع التسعون؟ ثم إذا وسعنا هذا المقياس نرى أن ألف ألف من البشر يكفيهم في الحرث مائة ألف مثلاً فماذا يصنع (900000) ؟ ليس شيء أسهل من أن يقول السامع: يشتغل هذا العدد بصناعات متعددة. نعم، ولكن بم يصنعون؟ أبأيديهم اللحمية؟ أم بآلاتهم الأولى الخشبية؟ أم بمداهم الأولى الصوانية؟ لا يسهل الجواب عن هذا إلا من بعد معرفة خاصة الحديد والاستفادة منه , فإنه في ذلك اليوم الذي عرف فيه الحديد تعددت المصانع، فاتسعت المزارع، فتوفرت المتاجر، فتعظمت الشرائع. وإننا لنعلم أنه ليس لأحد غير الخالق علم بكل ما تقلب فيه الإنسان من الأطوار لا سيما التي في بدء أمره، ولكن جرأنا على هذه الظنون اعتقادنا أن هذا النوع لم تخلق له كل العلوم والصنائع التي نراها اليوم مثلاً يوم خلق، وحملنا عليها اعتقادنا أن الاجتماعات العظيمة في النوع إنما كانت على التدرج , واعتقادنا أن لكل اجتماع خواص تقتضي ظهور أمور جديدة، فتتبعها تلك المقتضيات وتظهر بسرعة أو بطء على قدر الاقتضاء. على أننا إذا لم نجل الخاطر فيما جرى للأولين لا يكمل تفقهنا في أحوال الحاضرين، ولا نكون قد أخذنا لأنفسنا حظًّا من لذة النظر في مرائي الكون الإنساني التي تتجلى فيها الصور على أنحاء شتى بعضها في نظرنا أجمل من بعض، ولاحَظَّ من فائدة التفكر لوجدان أسباب معقولة لمسببات محسوسة، ووجدان حلق مجهولة تتصل بها الحلق المعلومة. نحن اليوم في قرى ومدن، وبين أيدينا ما لا يحصي من مزارع ومصانع ومعادن وحيوانات، ونحن اليوم جماعات كثيرة بعضنا لبعض عدو، وبعضنا لبعض ظهير، أفخلقنا هكذا؟ أم أوصَلَنَا إلى هذا الحاضر ماضٍ طويل؟ أجيِّد لنا هذا الحاضر؟ أيوجد أجود منه؟ هل الأجود في الحاضر؟ إن كان في الماضي فما محاه؟ إن كان في الآتي فكيف يأتي ومتى؟ يا إخوان القراءة ألا تخطر في بالكم هذه الأسئلة؟ ألا تهيئ شئون هذه الحياة الاجتماعية الملفقة من لبنات متعددة الألوان؟ وكيف يمكننا الجواب عنها إذا لم نجل الخاطر يمنة وشمالاً في التقلبات الماضية؟ من أجل ذلك تكلمنا في (رابطة القومية) على نبذة من ماضي الإنسان في تناسله وتقاربه وتباعده حتى بينا أن تلك الرابطة نافعة غير أن نفعها أبتر، وأنه قد ينقلب نفعها ضررًا؛ إذا قاومت بأحكامها ما هو أنفع منها , ثم تكلمنا في (رابطة الدين) على نبذة من ماضي الإنسان في احتياجاته للمصطفين الأخيار الذين يوحى إليهم أن يعلموا البشر أعظم أركان الحكمة، وأصل الأصول في مصلحة النفس في انفرادها واجتماعها , وبينا فوائدها في شئون نظام الاجتماع من حيث هو. وبالجملة قد بينا في الاثنتين الأسباب التي تدعو إليهما، والنتائج التي تنتج منهما , وبديهي لمن قرأ أنهما كلتيهما لم تنتج عنهما وحدهما هذه البزة الحاضرة للبنية الاجتماعية. أفلا يقال: ما أحدثتها؟ إن أقل: إنما أحدثها (حب الزينة) و (حب التميز) ؛ فما كان الصواب ليعدوني في هذه القولة، وقد قلتها من قبل في مناسبة أخرى، ولكن هل يكفي حب الشيء في تحصيله من غير آلات؟ إن ذلك لم يكن قط. فالآلات التي تحصل للنوع (أفرادًا ومجموعًا) ما به الزينة - على حسب اعتبار كل - وما به التميز (على حسب تصور كل) هي أعض

تقريظ المنار ورسالة التوحيد

الكاتب: أحد علماء الشيعة الأماجيد

_ تقريظ المنار ورسالة التوحيد لأحد علماء الشيعة الأماجيد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه، وسيد أنبيائه ورسله وعلى آله، وصحبه أجمعين. لَمْ أكن منذ تصديت لاكتساب المعارف، والنظر في علوم الدين أرغب في الاطلاع على جريدة، أو صرف مدة في إمعان النظر في مجلة لما انغرس في فكري من قلة الفائدة بذلك، وتضييع الوقت حتى ملأت مسمعي ضوضاء المجلات وتعرضها للدين. كل على حسب أغراضه ودواعيه فتاقت نفسي لمطالعة بعضها وتفريغ وقت لتسريح النظر فيها، وأولها وقع في يدي كراريس وصحف متفرقة من مجلة الإسلام في عصر العلم فأعجبني من منشئها الفاضل الحمية للإسلام، وعلو همته، وتعلقه بأمور عالية يعم نفعها، وتكثر حاجة الوقت إلى بسطها ونشرها، ونسأله تعالى أن يمده بسعة الباع، وكثرة الأعوان، وعوز الاطلاع، وقد رأيته يدور حول مركز لا يعدوه، ويقرع بابًا ربما يفتح له إن أدمن، وإلا فحسبه ثواب حسن النية، ولكل امرئ ما نوى، وقد انقطع صوته عني منذ برهة. وعسى أن تفتح له أبواب مقاصده، ويتسع عليه مجاله، وتزول العوائق عن سير مجلته، وينفع الخاصة والعامة بما يهتدي إليه ويهديه للأمة من دواء دائها العضال. ومنذ أيام أتحفت بالمجلد الخامس من مجلتكم الغراء حسنة هذه الأيام، ونتيجة سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل النور الساطع في كافة الأنام، والماحي بلألائه حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن طابت أرومته وزكت جرثومته , فهو الجدير بأن يحلو جناه، وتعرب عن طيب أصله أقواله وسجاياه. مما استعذبته - وكلها عذب سائغ - تأليفكم بين فرق الإسلام، ورفع الوحشة التي نشأت عليها أحداث الأمة في الأعصر الأواخر، وفشت بين العامة والخاصة حتى فتت في عضد الاجتماع، وحلت عرى الارتباط , وخيل للسواد أن لا جامع ولا رابط، وأن البون بعيد المسافة، والقرن مبتول ومنفصم، وجعلوا لكل فرقة نبزًا تمتاز به، ونسبة تنحاز إليها، وما هي إلا فتنة ألقحها من الماضين حب تشتت الرأي في ذوي الآراء، وإلجائهم للمناظرة واستحكام شبهة للبعض، حتى أصر كل على رأيه، ولم يكن في شيء من دعائم الدين، ولا في الضروريات من أصوله، ولا في أمهات فروعه، أترى فيهم حاشاهم من يشك في التوحيد، أو ينازع في النبوة أو يخالف في المعاد، أو يتأمل في وجوب الصلاة , أو ينتظر في افتراض الزكاة , أو يناقش في الحج، أو يثبط عن حفظ بيضة الإسلام وحوزته؟ كلا، وإنما ذاك في أمور، وربما يعذر المخطئ بها بل يؤجر بعد الاجتهاد، وبذل الوسع والطاقة في النظر بالمقدمات التي يتوقف عليها البرهان، وإتقانها وأحكامها حسب الجهد والإمكان {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) وما هو إلا كاختلاف الأئمة - رضوان الله عليهم - (الذي هو رحمة للأمة) في فروع لم تعلم من نص الكتاب ولا من السنة المتواترة، ولا من إجماع الأمة والأصحاب. على أن ذلك في الكثير يسير، وفي الباقي لفظي يئول إلى الوفاق في المقصد، والاتحاد في المراد، وإن اختلف التعبير. وحسبك في ذلك ما يقتبس من رسالة التوحيد لأستاذ الكل ووحيد هذا العصر أو من نظيره قل , عليم العلوم الذي عم مده، الشيخ محمد عبده كثر الله في الأمة أمثاله، وزاد بين الورى إعظامه وإجلاله، فكم له فيها من حز أصاب المفصل ورمية لم يخط بها الغرض، وإن خفي على المتأمل، وتحقيق كشف به الحُجَّاب لأولي البصائر والألباب، ولم يدع بعده عذرًا لمنكرٍ ولا مرتاب , وحاشا أن تخلو الأرض من عامل يعمل فيها بخير وهدى، وداع يدعو فيها إلى طريق نجاة ورشاد للورى، فكم دافع عن الإيمان بلسان أمضى من السنان، وعن الإسلام بأقلام أمض وقعًا في الكفر من مريشات السهام، وعن الحنيفية البيضاء بمسود مداد أقطع من البيض الحداد، أوضح مع الإيجاز أدلة التوحيد بعد إثبات الواجب بما لا يطلب المتأمل بعده من مزيد , وجال جولة في بيان ما يمكن الوصول إليه من الصفات - أغنى بها المنصف عن اللجاج والتعرض للهلكات - وأوجز في صفتي الكلام والبصر ما فيه البلاغ والعبر، وتكلم في أفعاله تعالى بما يسبق إلى القلوب اعتقاده، وألف بين الفريقين كما هو حري أن يتبع، وقرب ما توهم استبعاده، وسلك في الجبر والاختيار جادة الاعتدال، ومال في مبحث حسن الأفعال إلى أحسن الأقوال، وبسط القول في النبوة والرسالة حتى أوضح الحق وقمع الجهالة , وألف في مبحث الرؤية بين الفريقين، ورفع الوحشة، وأزال النزاع من البين , وذلك الفضل من الله يؤتيه من عبادة من يشاء , ويمنحه من سبقت له العناية فيه منذ فطر الأشياء؛ فجدير بمصر أن تفتخر بمن فيها من أفاضل العصر , وحقيق بحملة العلم في كل قطر أن ترفع أيدي الابتهال لعزة ذي الجلال بالدعاء لكم بدوام التأييد والمجد , والتوفيق لنصرة الدين، وإيضاح الحق، ودحض الباطل، وإرشاد الضال , وجمع الكلمة وإحكام الألفة بين المسلمين. إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير آمين آمين. (لها بقية) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ع. ز) ((يتبع بمقال تالٍ))

الفتاة اليابانية والحرب

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ الفتاة اليابانية والحرب لا تلم كفي إذا السيف نبا ... صح مني العزم والدهر أبى رب ساع مبصر في سعيه ... أخطأ التوفيق فيما طلبا مرحبا بالخطب يبلوني إذا ... كانت العلياء فيه السببا عقني الدهر ولولا أنني ... أوثر الحسنى عققت الأدبا إيه يا دنيا اعبسي أو فابسمي ... لا أدري برقك إلا خلبا أنا لولا أن لي من أمتي ... خاذلاً ما بت أشكو النوبا أمة قد فت ساعدها ... بغضها الأهل وحب الغربا وهي والأحداث تستهدفها ... تعشق اللهو وتهوى الطربا لا تبالي لعب القوم بها ... أم بها صرف الليالي لعبا ليتها تسمع مني قصة ... ذات شجو وحديثًا عجبا * * * كنت أهوى في زماني غادة ... وهب الله لها ما وهبا ذات وجه مزج الحسن به ... صفرة تنسي اليهود الذهبا حملت لي ذات يوم نبأ ... لا رعاك الله يا ذاك النبا وأتت تخطر والليل فتى ... وهلال الأفق في الأفق حبا ثم قالت لي بثغر باسم ... نظم الدر به والحببا نبأوني برحيل عاجل ... لا أرى لي بعده منقلبا ودعاني موطني أن أغتدي ... علني أقضي له ما وجبا نذبح الدب ونفري جلده ... أيظن الدب أن لا يغلبا قلت والآلام تفري مهجتي ... ويك ما تصنع في الحرب الظبا ما عهدناها لظبي مسرحا ... يبتغي ملهى به أو ملعبا ليست الحرب نفوسًا تشترى ... بالتمني أو عقولا تستبى أحسبت القد من عدتها ... أم ظننت اللحظ فيها كالشبا وتقحمت الردى في غارة ... أسدل النقع عليها هيدبا قطبت ما بين عينيها لنا ... فرأيت الموت فيها قطبا جال عزرائيل في أنحائها ... تحت ذاك النقع يمشي الهيدبى فدعيها للذي يعرفها ... والزمي يا ظبية البان الخبا فأجابتني بصوت راعني ... وأرتني الظبي ليثًا أغلبا إن قومي استعذبوا ورد الردى ... كيف تدعوني أن لا أشربا أنا يابانية لا أنثني ... عن مرادي أو أذوق العطبا أنا إن لم أحسن الرمي ولم ... تستطع كفاي تقليب الظبى أخدم الجرحى وأقضي حقهم ... وأواسي في الوغى من نكبا هكذا (الميكاد) قد علمنا ... أن نرى الأوطان أما وأبا ملك يكفيك منه أنه ... أنهض الشرق فهز المغربا وإذا مارسته ألفيته ... حوَّلا في كل أمر قلبا كان والتاج صغيرين معًا ... وجلال الملك في مهد الصبا فغدا هذا سماء للعلا ... وغدا ذلك فيها كوكبا بعث الأمة من مرقدها ... ودعاها للعلا أن تدأبا فسمت للمجد تبغي شأوه ... وقضت من كل شئ مأربا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حافظ إبراهيم

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الخلافة أو الترك والعرب) ما رأينا جريدة بينها وبين مشرب صاحبها من البون مثل ما نراه في جريدة الجوائب المصرية فإن صاحبها خليل أفندي المطران لا يرى منه جليسه إلا الأدب والذكاء، ونبذ التعصب والتحمس الديني , ولكنه يرى من جريدته أحيانًا ما يخالف هذه المزايا. ذلك أن هذه الجريدة كانت أيام فتنة بيروت نارًا تتلظى من التعصب على المسلمين , ولو كانت منتشرة في سوريا لما خمد لهيب الفتنة إلى اليوم، وإلى ما شاء الله تعالى. والشاهد المقصود لنا بالذات ما كتبه في مسألة (دعوى الخلافة) التي ناقشنا فيها جريدة ترك الغراء. إذ ادعت أن العرب في جميع البلاد وسائر الشعوب الإسلامية تحسد الترك على لقب الخلافة , ويدعي كل منها أنه أحق بالخلافة من الترك , وإذ قامت تفاخر هذه الشعوب بتفضيل الترك عليهم , ولمَّا كنا على علم يقيني بأن النداء باسم الجنسية والتفاخر بها والتعصب لها مما لا يبيحه دين الإسلام, ومما يفرق كلمة المسلمين ويجعل بأسهم بينهم شديدًا؛ أنكرنا على رصيفتنا هذه الخطة , وأكدنا لها القول بأنه لا يوجد إسلامي يفكر في منازعة الترك السلطة لأجل لقب الخلافة , وأن العرب في الحجاز ونجد والشام ومصر وغيرها من الأقطار يتمنون لو تدوم سلطة الدولة العثمانية مؤيدة بالقوة والعدل ما دامت الأرض والسماء , وأنه لا يضر هذه السلطة شيء مثل المفاخرة بالجنس التركي واحتقار سائر الشعوب الإسلامية لإثبات فضله عليها. وقد قلنا: إن جميع من لقيناهم من كبار رجال الترك الفضلاء قد وافقونا على اعتقادنا هذا. فتطفلت جريدة الجوائب المصرية على الجريدتين الإسلاميتين , وافتاتت علينا بالحكم , فكتبت في العدد الـ 354 الصادر في 12 المحرم نبذة افتتحتها بقولها: (تشغل الخلافة أفكار المسلمين في جميع الأقطار لكثرة ادعاء الملل الإسلامية بها فالعرب والترك يتزاحمون عليها) إلخ ما قاله مناقضًا لقولنا في الرد على جريدة (ترك) . وقد جعل ملة الإسلام الواحدة مللاً متعددة فكنا نداوي علة اختلاف الجنس بمرهم الاتحاد الملي , فحكمت علينا جريدة الجوائب المصرية الغراء بأنه ملل متعددة لا ملة واحدة , فما هذا الافتئات؟ وما هو الغرض منه يا ترى؟ ومن العجب أن هذه الجريدة على تحكمها قد تبرأت من التحكم , وزعمت أن كلامنا ومناقشتنا تنتج التفريق الضار بجميع الأمم الشرقية فانتحلت لنفسها القصد الذي دفعنا إلى الكلام , وكلامها ينتج نقيضه إذ أثبتت أن التنازع بين الترك والعرب واقع بالفعل , فإذا صدقها الشعبان فإن كلاًّ منهما يعتقد أن الآخر خصمه , وإنما نحاول نحن إقناع الفريقين بأن هذا التنازع وهمي أو خيالي لا وجود له إلا على ألسنة أفراد من المنافقين. ثم استدلت الجريدة على أن الترك أحق من العرب بالخلافة بدليل يثبت نقيض المدعى , وهي أبلغ المطاعن في السلطان عبد الحميد قالت: (لا بأس أن نذكر كلمة تنسب لجلالة السلطان الأعظم عبد الحميد فقد أوصل إليه بعض المقربين لجلالته صوت تشكي الحجاج عمومًا من عون الرفيق باشا شريف مكة، وظلمه واستبداده الفائقي التصور والحد طمعًا بأن يصدر جلالته إرادته السنية بعزله وتعيين خلف له , فدرى جلالته بالغرض من التشكي وقال: إنني لا أعزل عون الرفيق باشا ولن أعزله كل حياتي , بل أتركه عبرة ومثالاً للذين يستثقلون ظلم خليفة الترك لأريهم كيف يكون ظلم خليفة العرب) اهـ كلام الجوائب المصرية بحروفه. فهذه الجريدة تريد أن تقنع قراءها من العرب بأن ظلم الشريف الذي يشكون منه مع غيرهم إنما هو جزء من ظلم السلطان التركي؛ لأنه على قولها قد أقامه هناك ليظلم، ولن يردعه عن ظلمه في الحرم لغرضه السياسي في ذلك, وكل الناس يعلمون أن أمراء مكة يربون في الآستانة على ما تحب الدولة العثمانية وترضى , وأنهم عمال للحكومة العثمانية، فإن أساءوا وظلموا فالإساءة والظلم ينسبان إلى من ولاهم وأقرهم على ظلمهم ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل بلاء الناس من رابط الكلب هذا ما تنشره هذه الجريدة , وأصحاب جريدة ترك الفضلاء يطبعون جريدتهم في مطبعتها فيعلمون ما هنالك , ولا يردون عليها، ولا يدافعون عن جنسهم وسلطانهم إلا الأوهام التي يسندها الجواسيس ودعاة الفتنة إلى العرب فحسبنا الله ونعم الوكيل. كتبنا هذه الكلمات بمداد الثأثر مما كتبت جريدة الجوائب الغراء، ويغلب على ظننا أن هذه النبذة المردودة ليست من قلم صاحب الجريدة، ولا اطلع عليها قبل نشرها لما لنا من حسن الظن بقصده وأدبه , فعسى أن نرى فيها بعدما يحقق حسن ظننا. عرف قراء المنار أن من منهجه الدعوة إلى الوحدة , والنهي عن الفرقة، والتسليم لذوي السلطة , وقد كتبنا في السنة الأولى مقالات في الخلافة والخلفاء مثلنا فيها تاريخ الإسلام ومناشئ علله وأمراضه من هذه الجهة كما مثلناها في مقالات أخرى في العلماء والمرشدين , وقد قلنا في فاتحة المقالة الأولى ما نصه: (كما في العدد (33 ص 257) : (ليس من غرضنا في الكلام على الخلافة بيان شرطها وانطباقها على القائم في مقام الخلافة الآن أو عدم انطباقها , فإن هذه المباحث إنما يأتيها أرباب الأغراض الدنيوية، بل الأمراض الروحية الذين يثيرون رواكد الأوهام، ويسرون في دياجير الظلام , ونقول قبل الدخول في المبحث: إن كل من يحاول إشراب الأفهام وجوب نزع الإمامة من بني عثمان فهو عامل على الإجهاز على السلطة الإسلامية، ومحوها من لوح الوجود , وما لهؤلاء النوكى تكأة يتكئون عليها إلا قولهم: (الخلافة في قريش) وغفلوا أو أغفلوا الشروط المهمة التي لا تكاد توجد اليوم في قرشي , كالعدالة على شروطها الجامعة , والعلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل والأحكام , والرأي الصحيح المفضي إلى سياسة الرعية، وتدبير المصالح، وجمع الكلمة) . وكل الذين توسوس لهم أمانيهم بالخلافة , وتطريهم جرائدهم باستحقاقهم لها عراة من هذه الصفات التي هي أركان بناء الخلافة , وما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخلافة في قريش إلا لما كان لهم من المكانة في النفوس التي من أثرها اجتماع القلوب عليهم , والإذعان لسلطانهم عن رضى واختيار , وقد نال هذا المعنى آل عثمان فحصل المقصود الشرعي به) . هذا ما كتبناه من بضع سنين , ولم يكن قد مضى علينا في هذه البلاد الحول , فكنا نتوهم صدق بعض أقوال المرجفين , ونحاول إقفال هذا الباب وإيئاس الناس منه لما فيه من الضرر. وكتبنا في تقريظ جريدة اللواء كما في (ص702) من السنة الثانية ما نصه: (وقد انتقدنا عليها (أي: جريدة اللواء) أمرًا ذا بال وهو الإرجاف بأن بعض الناس في مصر يسعون في إقامة خلافة عربية , كأن الخلافة من الهنات الهينات تنال بسعي جماعة أو جماعات , ولا يمكن احتقار مقام الخلافة الأعلى بأكثر من هذا الإرجاف. مقام الخلافة أسمى من أن يتطاول إليه أحد , وقد سلم السواد الأعظم من المسلمين زمامه لبني عثمان تسليمًا. والرابطة بين الترك والعرب هي (كما قال المرحوم كمال بك الكاتب الشهير) موثقة بالأخوة الإسلامية والخلافة العثمانية , فإن كان أحد يقدر على حلها فهو الله وحده , وإن كان أحد يفكر في ذلك فهو الشيطان. ويعلم كل خبير بحال هذا الزمن أنه لا يرجف بالخلافة إلا رجلان: رجل اتخذ الإرجاف حرفة للتعيش وأكل السحت أو التحلي بالوسامات والألقاب الضخمة , ورجل اتخذه الأجانب آلة لخداع بسطاء المسلمين بإيهامهم أن منصب الخلافة ضعيف متزعزع يمكن لأي أمير أن يناله , ولأية جمعية أن تزحزحه عن مكانه ليزيلوا هيبته من القلوب , ويقنعوا نفوس العامة الأغرار بإمكان تحويله في وقت من الأوقات , وبأن المسلمين ليسوا راضين من الخلافة العثمانية جميعًا. (كان مصطفى كامل أفندي يوم ألف كتاب المسألة الشرقية ينسب هذا الطمع الأشعبي للإنكليز , واليوم نرى مصطفى كامل بك يلقي القول فيه على عواهنه في خطبته وجريدته , ويدع نفوس البسطاء تذهب فيه كل مذهب , وإذا سئل الإفصاح وبيان المجمل؛ يجمجم ويغمغم. فإن كان على رأيه الأول فليصرح به ليرجع العامة عن أوهامهم، والخاصة عن سوء الظن به , وأنه أحد الرجلين اللذين ذكرناهما آنفًا , ولا نظنه إلا على مذهبه الأول وعلى اللواء في البيان المعول) اهـ. فيرى القارئ أننا في عبارة السنة الأولى كنا مغترين بكلام بعض المرجفين , وأننا في السنة الثانية علمنا حق العلم أن مسألة الخلافة لا يلغط بها من أصحاب الأغراض كما قلنا في مقالة (دعوى الخلافة) ويرى أن لهجتنا قوية في الإنكار على كل من تكلم في هذه المسألة، لاعتقادنا بضرر الخوض فيها , فقد عادانا صاحب جريدة اللواء لتشديدنا في الإنكار على ما كتبه بذلك في أول ظهورها , وما قاله في خطبة له تلاها في ذلك العهد. وقد كنا في غنى عن إحراج مثله بعدما كان راضيًا عنا وعن المنار حتى إنه كان يهنئنا على بعض المقالات , ويقول: إن هذه الخطة أنفع ما يكتب للمسلمين. فليعذرنا أصحاب جريدة ترك , وصاحب جريدة الجوائب فإننا لا يمكننا السكوت عن الإنكار على كل من يذكر الناس بما يوجب التفرق والخلاف لأجل لقب الخلافة المشئوم , أو اختلاف الجنسية اللغوية , فحسبنا ما منينا به من المصائب والنوائب واستبداد الحكام وسلطة الأجانب. * * * (أخبار الحجاز والحجاج في هذا الموسم) كتب إلينا كاتب مرافق للمحمل المصري بمثل ما كتب إلينا آخر من سوريا عن فقد الأمن، وعموم المخاوف في بلاد الحجاز، وما حل بالحجاج في هذا الموسم من القتل والسلب والنهب، وكتب كاتب مصري مع المحمل من ينبع إلى صديق له في مصر كتابًا في تسع خلون من المحرم، قال فيه ما نصه: (الحج في هذا العام لم يطرأ عليه أي طارئ وبائي فضلاً عن كثرة الحجاج وازدحامهم وقذارة الطرق وإهمال موظفي الصحة العثمانية. الأمن مفقود في كل بلدة مر بها الحجاج , والعربان مسلحون بسلاح جيد، وأغلبه مكتوب عليه بالحروف الإفرنجية (س. إيتمنس) والأهالي مجردون من السلاح، والحكومة تمنع حمل السلاح بكل تدقيق إلا الأعراب، كما أنها لا تحرك ساكنًا؛ إذا وقع أمامها أيّ مقتلة , وقد حدث ليلة نزولنا عن عرفة قتال بالبنادق أمام مركز الحكومة الحميدية بمكة بقرب الحرم المكي الذي يقول الله فيه: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) وقتل في تلك الليلة بجهة خيام المحمل (ديده بان) من العسكر المصري أثناء تأدية وظيفته , ولابد أن تكونوا عرفتم تفصيل الحادثة؛ لأن أمير الحج بادر بإخبار الحكومة المصرية بذلك بالبرق وبالبريد، وإلى الآن لم نر من الحكومة العثمانية نتيجة. قتل وجرح وسلب عدد ليس بالقليل من الحجاج الذين لم يكونوا مرافقين للمحمل على الطريق بين جدة ومكة , ومن وصل من الجرحى لم تسعفهم الحكومة ولا بشربة ماء إلى أن وصل المحمل وأسعفهم بالقوت والعلاج. لجأ واحد منهم إلى بيت الشريف، فلم يسمع له قول، وحتم عليه أن يفصل واقعته على ورق تمغة وهو أمامهم مجروح مجرد , ولو كان معه ثمن ورقة تمغة لسد به رمقه، وستر به بدنه. تعدد خروج الحجاج المسافرين من مكة وكانت الجمالة تقتل بعض الركاب معهم , وتسلب أمتعة الجميع وتهرب بالأجرة وبما سلبت، ولما طالب أمير الحج الوالي ولو برد الأجرة (أي: الثابتة عند حكومة الحجاز رسميًّا) وعد بالنظر، ولم يكن لوعده أقل فائدة! أخذ المطوفون من الحجاج إعانة لسكة الحديد الحجازية، ومن تأخر عن الدفع كانوا يشيرون بحبسه، والذي

رزء الشام بالشيخ محمد علي أفندي مسلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رزء الشام بالشيخ محمد علي أفندي مسلم وافانا نبأ وفاة هذا النابغة قبيل طبع الصحيفة الأخيرة من هذا الجزء. عاجلته المنية بالأمس عن أربعين سنة أي: عندما بلغ أشده، واستوى، وصار يرجى منه في تحمل أعباء الدعوة إلى الإصلاح أكثر مما سبق له؛ فكان ألم المصاب به عامًّا، وأشد وقعة على أنصار العلم والإصلاح الذي فقدوا بفقده ركنًا ركينًا، وأخًا كريمًا. وقد قال صديقه رفيق بك العظم هذه الأبيات المؤثرة في رثائه رحمه الله وأحسن عزاءنا فيه: أيها الموت كم هززت نفوسًا ... طالما هزت الخطوب الجساما نحن كنا كالصلد إن مسه الخطـ ... ـب ورت ناره وأذكت ضراما فاصطلمت الجلادة اليوم منا ... فغدا القلب يشتكي الآلاما وتجاوزت غاية الصبر حتى ... قد فقدنا السكون والاحتشاما مذ صدعت القلوب بالنبأ الفا ... جع صدعًا لن يقبل الالتئاما ورميت الصديق منك بسهم ... دأبه أن يصيب منا الكراما قد كفانا بالأمس فقد همام ... فلم اليوم قد فقدنا هماما عمرك الله ما نطيق حياة ... بعد ذا الخطب أو نريد سلاما كلما أنعم الزمان بفرد ... ورجونا أن ينفع الإسلاما فجعتنا به المنون كأن الـ ... ـموت يفدي بالأكرمين الطغاما أم كأن المنون حاكم قوم ... مستبد يصادر الأحلاما يا عليا بت العلي وإنَّا ... لم نزل بالدنا نعاني السقاما ما رعينا فيك الذمام وإلا ... لتبعناك لو رعينا الذماما مذ رأيت الحياة في الشرق أضحت ... نكدًا يؤلم النفوس العظاما كبرت نفسك العظيمة حتى ... ما تطيق الدنيا ولا الأجساما فمضت للسماء تطلب فيها ... عالم الروح منزلاً ومقاما حبذا منزلا ولكن في عيـ ... ـشك للناس حاجة ومراما كنت للحق والفضيلة ركنًا ... فتداعى وللثبات قواما ولقيت الخطوب ممن يعادي الـ ... ـعقل والعلم أو يحب الخصاما فلك اليوم في النفوس مقام ... نلت فيه محبة واحتراما فعليك العيون تبكي دماء ... وعليك السلام يتلو السلاما

سوريا والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سوريا والإسلام (2) (5) سوريا قبل الفتح العربي أراد صاحب مقالات (سوريا والإسلام) أن يثبت أن التعصب لم يكن في سوريا قبل الفتح الإسلامي , فذكر أن تلك الشعوب العظيمة التي عاشت هناك منذ أول عهد التاريخ حتى انقراض الدولة الفينيقية كانت الحروب بينها وبين الفراعنة مستمرة، وكانت سجالاً , والغالبة تأخذ الجزية من المغلوبة، ولكن لم يكن ذلك لأجل الدين، بل لأجل السلطة والعظمة. ثم ذكر أن الإسرائيليين الذين هجموا على فلسطين هجوم العرب على سوريا (حاولوا) أن يلبسوا حروبهم صبغة دينية , لكن قبائل الكنعانيين والحيثيين والأموريين واليبوسيين وغيرها حاربهم دفاعًا عن الوطن، وعن الحرية والاستقلال. ثم ذكر أن (هذا التعصب والثوب الديني الذي (حاول) الإسرائيليون أن يلبسوه لحروبهم , وأن يضموا به جامعتهم وينهضوا مملكتهم) ما لبث أن تمزق بعد سليمان، ثم بلي. ما أعجب شأن هذا الكاتب، وما أشد تعصبه لما يعلم أو لما لا يعلم! كان بالأمس يمثل بديانة بوذه للدين الصحيح الذي لا حرب فيه، ويستدل على أنه شارع محق، ولا يذكر موسى ولا شريعته عند التمثيل للديانات الصحيحة، بل يعرض بأنها باطلة , وهو اليوم يفضل تلك القبائل الهمجية الوثنية التي كانت تقيم في سوريا قبل الفينقيين على شعب إسرائيل شعب الله كما يفضل عليهم فراعنة مصر وأهلها الوثنيين، ويفضل عليهم أيضًا تلك القبائل الوثنية التي كانت في بلاد فلسطين , وإن كان الله قد فضل شعب إسرائيل على هؤلاء أجمعين ونجاه من سلطة بعضهم , وجعل له السيادة على الآخرين. كل هذا يخالف دينه واعتقاده وهكذا يفعل الغلو في التعصب حتى يجني الغالي على ما يتعصب له! ! أي مزية لقبائل (نيفليم) و (أميم) و (رفايم) و (زوزيم) و (عناقيم) و (زمزوميم) تلك الحيوانات الوثنية على بني إسرائيل سلالة النبيين وحملة الكتاب والدين. إنه قد أثبت لليهود عين ما ينسبه إلى الإسلام، ولم يتلطف معهم إلا بكلمة (حاولوا) وهي لغو حيث وضعها فإن كان ينكر الديانة الموسوية لأجل الإنكار على الديانة المحمدية لشرهه وإسرافه في بعض هذه؛ أفلا يتذكر أنه يهدم بذلك الديانة المسيحية أيضًا؟ ؟ وإن كان لا يبالي بهدم الأديان السماوية بغضًا بالمسلمين فليجعل المفاضلة بين الديانة الوثنية وديانة التوحيد الإلهية. وإن كان يرى تحريم الحرب لأجل حرية الدين ونشره وهو ما لا يفعله الآن أحد إلا المسيحيون - وإن سبقهم به اليهود والمسلمون - هو الذي يفضل به دين دينًا فلا شك أن الوثنية أفضل من المسيحية وغيرها من الديانات السماوية فما باله يخص المسلمين بالذم والقدح؟ هذا الكاتب نصراني في الظاهر، ولكنه في الواقع إما وثني وإما معطل يحكم العقل فقط. فإن كان وثنيًّا؛ فلا كلام لنا معه إلا بعد المناظرة في أصل الوثنية , فإن أثبتها؛ فله الفلج فيما يتفرع عنها , وإلا فكلامه ساقط. وإن كان يحكم العقل فكيف ساغ له أن يعد الحرب السياسية لأجل (توسيع الحدود وبسط السلطة والعظمة) جائزة وخيرًا ونافعة , والحرب لأجل حرية الدين ونشر دعوة الحق التي يعتقد صاحبها أن فيها سعادة الدارين ممنوعة وشرًّا وضارة؟ وكيف ذكر بعبارة الرضى والاستحسان إغارة البابليين على الإسرائيليين، وسبيهم، وتخريب هيكلهم , وزحف الرومانيين إلى سوريا وإحراق الهيكل بعدما بني ثانية، وتدمير المدينة بفعل طيطس؟ أليس هذا اضطهادًا للدين لم يفعل مثله المسلمون؟ ثم ذكر أن الرومانيين قد قضوا على بقية تعصب اليهود في سوريا بما فعله طيطس الوثني الظالم , وأنه لم يظهر التعصب في سوريا بعد ذلك إلا بعد الفتح العربي، وطوى في هذه الدعوة تاريخ النصرانية، وما كان منها من التعصب الذي تقشعر منه الجلود، والذي جعل اليهود من أنصار المجوس على النصارى تشفيًا وانتقامًا، ثم انتصار المسلمين عليهم أيضًا ليستنشقوا في ظل هذا الدين نسيم الحرية الدينية الرطب اللطيف بعد النجاة من رمضاء التعصب النصراني وسمومه التي تلفح القلوب دون الجلود. وهذا الذي نومئ إليه مدون بالبسط في كتب أحرار الإفرنج المنصفين وغيرهم، الذين لهم الفضل على محبي الحقائق في كل زمان ومكان. قال الكاتب المؤرخ: إن التعصب الإسرائيلي زال من سوريا بعد تدمير طيطس مدينة أورشليم سنة 70 بعد المسيح. ولكن التاريخ يقول بغير ما قال هذا المؤرخ، يقول التاريخ: إن اليهود قد حقدوا زمنًا وكتموا تعصبهم عجزًا، ثم دفعهم الحقد إلى ثورة عظيمة ادعى زعيمها بعزة قوشير أنه هو المسيح فاجتمع عليه اليهود , واشتعلت نار الحرب بينهم وبين الرومانيين على عهد الإمبراطور هارديان ثلاث سنين حتى قتل الزعيم. ويقال: إنه قتل في هذه الحرب من الإسرائيليين خمس مائة ألف ونيف، وأمر هارديان بمحو خرائب أورشليم، وطمس أطلالها ورسومها وأن تبنى هناك مدينة جديدة تسمى عاصمة إيليا، فكان ذلك في سنة 132 للمسيح، وأباح للمسيحيين الوثنيين الإقامة في هذه المدينة، وأخرج اليهود منها , ثم لم يبح لهم الرومان الدخول فيها إلا في القرن الرابع وإنما أذن لهم أن يدخلوها مرة واحدة في السنة زائرين من شاء منهم فكانوا يدخلونها باكين نادبين. وقد اضطهد النصارى هؤلاء اليهود في وطنهم أشد الاضطهاد ومنعوهم من كثير من بلادهم لا من مدينتهم المقدسة فقط. ولما زحف الفرس في عهد خسرو على سوريا وفلسطين كان اليهود أنصارًا لهم حتى إذا ما فتحوا أورشليم ذبحوا سكانها النصارى، واصطلموهم اصطلامًا ولما انتصر هرقل على الفرس وأجلاهم عن سوريا ومصر انتقم من اليهود شر انتقام، وعاملهم بقانون هارديان، ومنه أنه يجب أن يكونوا على بعد ثلاثة أميال من أورشليم على الأقل , وكان الإسلام قد ظهر والمسلمون قد زحفوا على سوريا وفلسطين.. إذن إن التعصب الديني بين اليهود والنصارى كان على أشده في سوريا عند ظهور الإسلام ولم يكن قد زال قبل النصرانية كما زعم الكاتب الذي جنى تعصبه على التاريخ والدين؛ لأجل تمكين العداوة في سوريا بين النصارى والمسلمين. ولولا أن اشترطنا الاختصار لأطلنا في بيان هذا التعصب بين اليهود والنصارى في سوريا وبيَّنا أن الإسلام أضعفه، بل أضعف التعصب المطلق، بل أماته حتى أحيته الحروب الصليبية التي أضرمها تعصب النصارى. * * * (6) سوريا والفتح العربي يقول الكاتب: إن التعصب ظهر بعد فتح المسلمين أورشليم، وعقد المعاهدة بينهم وبين النصارى في البيت المقدس، وذكر نص المعاهدة نقلاً عن المؤرخ الإيطالي قيصر كنو وهي مزورة على نسق المعاهدات الأوربية مؤلفة من 15 مسألة (بند) ، ولا شك أن هذه المعاهدة مختلفة من الإيطالى أو غيره من غلاة التعصب، وكل من قرأها من العارفين باللغة العربية وأساليبها والعارفين بحال الناس في ذلك العصر يعرف أنها مكذوبة بالبداهة. وإننا نذكر نص المعاهدة التي أوردها إمام المؤرخين والمحدثين ابن جرير الطبري في تاريخه، ثم ما أورده هذا الكاتب المتعصب عن أساتذته متعصبي أوربا ليقارن صاحب جريدة المناظر الغراء وأمثاله من فضلاء النصارى المنصفين بين الروايتين، ويعلموا من أين جاءنا النزاع والخصام، أما نص ما في الطبري فهو: (عهد سيدنا عمر لأهل بيت المقدس) (بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها وسائر ملتها أن لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من حيزها، ولا من حليهم ولا من شيء من أموالهم , ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن , وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان (كذا ولعله تحريف) فمن شاء منهم قعد وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية , ومن شاء سار مع الروم , ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبى سفيان. وكتب وحضر سنة 15. اهـ وفيه دليل على ما نقلناه من التاريخ من منعهم اليهود من سكنى بيت المقدس، وأما المعاهدة المكذوبة التي أوردها الكاتب المتعصب في جريدة المناظر فهي: 1- يسمح للمسيحيين الذين سلموا للمسلمين أن يبقوا في مدينتهم المقدسة , وأن يقيموا فروض ديانتهم وطقوسهم كما يشاءون , ولكن لا يسمح لهم أن ينشئوا معابد، ولا كنائس جديدة لا في المدينة، ولا في نواحيها. 2- يجب على المسيحيين أن يتركوا أبواب كنائسهم مفتوحة أوان الصلاة واستعمال الطقوس، ويباح للمسلمين الدخول إليها عندئذ لمراقبة ما يصنعون خوفًا من أن يتآمروا سرًّا على المسلمين. 3- يجب أن تكون أبواب المسيحيين مفتوحة لجميع ضيوف المسلمين. 4- يجب على المسيحيين أن يقدموا للمسلمين الذين يأتون لزيارة المدينة المقدسة (أعني أورشليم) طعامًا ليوم واحد فقط بدون أن يأخذوا ثمنه , وإذا مرض أحد أولئك الضيوف التزموا بخدمته حتى يبرأ. 5- لا يجوز للنصارى أن يمنعوا أولادهم من تعلم القرآن، ولا يجوز لهم أن ينهوهم عن اعتناق المذهب الإسلامي إذا أرادوا. 6- يجب أن يعتبر المسيحيون المسلمين أسيادًا لهم، وأن يكون لهم فيه المقام الأول في كل شيء. 7- لا يجوز للمسيحيين أن يلبسوا لباس الاسلام، ولا أن يتسموا بأسمائهم , ولا أن يتصفوا بصفاتهم، بل يجب أن يكونوا على خلاف منهم في كل شيء. 8- يجب على المسيحيين إذا أرادوا أن يركبوا أن لا يركبوا خيلاً، ولا نوقًا، بل حميرًا وبغالاً، ولا يجوز لهم أن يقلوا سلاحًا، ولا أن يستعملوه في بيوتهم، وكذلك لا يجوز أن تكون منازلهم مزينة بمثل الزينة والتحف والأشياء التى يزين بها المسلمون منازلهم، حتى ولا براذع حميرهم يجوز أن تكون كبراذع حمير المسلمين. 9- لا يجوز للمسيحيين أن يبيعوا خمرًا، ولا كحولاً ألبتة، ولا أشربة روحية ما إلا بإذن الخليفة أو ممثليه فقط، ولا يجوز لهم أن يتركوا خنازيرهم ومواشيهم تسرح في الأسواق. 10- يجب على المسيحيين أن يلبسوا ثياب الحداد دائمًا، وأن يشدوا وسطهم بسيور من جلد سواء كانوا في المدينة أم في الخارج. 11- لا يجوز للمسيحيين أن يرفعوا صلبانًا فوق الكنائس، ولا أن يدقوا جرسًا، والأجراس والصلبان الموجودة حالاً متى وقعت لا يجوز أن يوضع غيرها في مكانها. 12- لا يجوز للمسيحيين أن يطلوا على المسلمين في معابدهم. 13- يجب أن يقدموا الجزية في أوانها، ولا يتأخروا عن جمع الضرائب التى يفرضها عليهم المسلمون. 14- يجب أن يحترموا الخلافة الاسلامية والمسلمين كسادة للبلاد وأصحابها، ولا يتآمروا عليهم ألبتة. 15- يلتزم الخليفة بتأمين النصارى الطائعين والخاضعين لجميع شروط ونصوص هذه المعاهدة. ومما ينتقد من هذه المعاهدة أن المسلمين لم يكونوا يقولون: (مدينتهم المقدسة) ولا كلمة (الطقوس) ولم يكونوا يرحلون لزيارة تلك البلدة، ولم يكن لهم لباس مخصوص، بل كانوا يلبسون ملابس الروم التى يغنمونها، ولم يكونوا يزينون بيوتهم، ولم يكن في زمانهم شيء يسمى (الكحول) ، ولا الأشربة الروحية، وإنما كانوا يسمون كل مسكر خمرًا إلا النبيذ

تنوير الأفهام في مصادر الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنوير الأفهام في مصادر الإسلام تفنيد الكتاب بكلمة نشرت الجمعية الإنكليزية المكلفة بالدعوة إلى النصرانية كتابًا سُمي بهذا الاسم خاضت في أمره الجرائد الإخبارية، ويا ليتها لم تخض، فإنها بتهويلها تشوق الناس إلى الاطلاع على هذا الهزء والتمويه الباطل من حيث لا تزيل تمويهه ولا تبين هزؤه، حتى إنه ربما علقت ببعض الأذهان الضعيفة بعض شبهه وإن كانت سخيفة، وقد رمينا بالبصر إلى جمل منه في مواضع متفرقة؛ فرأيناه قد سلك في الرد على الإسلام المسلك الذي جرى عليه بعض علماء أوربا في هدم الديانتين اليهودية والنصرانية؛ إذ ألفوا كتبًا بينوا فيها مصادر كتب العهد العتيق المُسَّمَى بالتوراة، وكتب العهد الجديد المُسَّمَى بالإنجيل أو الأناجيل، ورسائل الرسل. يعرف الناظرون في كتب العهد الجديد أن مؤلفيها لم يستدلوا على الدين المدون فيها بأدلة عقلية نظرية أو كونية وإنما يقيمون أساسه على كلمات انتزعوها من العهد العتيق على أنها بشارات أنبياء بني إسرائيل فهذا الدين الذي يسمونه مسيحيًّا ونسميه نحن وبعض فلاسفتهم وعلمائهم (كتولستوي الروسي (بولسيا) ؛ مبني على كتب العهد العتيق، وينهدم بهدمها، وتبطل الثقة به بظهور بطلان الثقة بها. وقد قال الحكيم الأفغاني ما مثاله: إن الناظر في كتب العهدين يتراءى له أن مؤلفي كتب العهد الجديد قد فصلوا ثوبًا من كتب العهد العتيق، وألبسوه للمسيح بما زعموا من انطباقه عليه. ماذا فعل هؤلاء العلماء في بيان مصادر اليهودية والنصرانية؟ بينوا بالدلائل التاريخية والأثرية واللغوية مصدر عقائد هذه الكتب، ومآخذ أحكامها من ديانات الأولين وتقاليدهم، وأثبتوا أن الأسفار المنسوبة إلى موسى قد كتبت بعده، وكذلك سائر الأسفار قد كتبت بعد من نسبت إليهم أو زيد فيها بعدهم، فهم يقولون مثلاً: إن السفر الفلاني فيه كلمة كذا وكذا من اللغة البابلية، وهي لم تدخل اللغة العبرانية إلا بعد السبي الأول أو الثاني، وفيه حكم كذا، وهو من تقاليد البابليين دون العبرانيين بدليل كذا وكذا. وقد وضع بعض علماء الألمان جدولاً للكلام الدخيل في الكتاب الذي يلقبونه بالمقدس، وبين ذلك بالتاريخ تحديدًا أو تقريبًا. فهذه المطاعن في الكتاب الذي ظهر بالبراهين أنه غير مقدس، لا معارض لها؛ لأن هذا الكتاب مؤلف من كتب كثيرة لم تعرف أزمنة تأليفها , ولم تنقل بالتواتر، وكانت عرضة للتغيير والتبديل والتحريف من الرؤساء الذين كانوا مستقلين بها في الأزمنة الماضية، إذ لم تكن مما يتناوله سائر الناس. ونحن معاشر المسلمين نعتقد أن منها ما هو وحي من الله في الأصل، وقد وفقنا في المجلد السادس للجمع بين شهادة القرآن لها وبين ما أثبته العلم من كونها وضعيه مقتبسة من أديان الأمم السابقة؛ فليراجع ذلك في مقالة (النبأ العظيم) التي شرحنا فيها اكتشاف شريعة حمورابي التي ظهر أن معظم التوارة الحاضرة مأخوذ منها. صدم القسيسون ودعاة النصرانية بهذا النحو من الطعن بدينهم وهو ما يسميه علماء أوربا - الانتقاد العالي أو الأعلى - فكانت صدمة صادعة حاروا فيها فأرادوا أن يحاربوا الإسلام بالسلاح الذي حوربوا به , وجهلوا الفرق بين الزجاج الملون والياقوت، والفرق بين بيت الحديد وبيت العنكبوت. فالإسلام أصلب من الياقوت، وأقوى من الحديد؛ لأن كتابه قد ظهر على لسان النبي الأمي الأمين , وحفظ من حوادث التاريخ وعبث العابثين. نشرت جمعية التبشير أو التنصير الإنكليزية الكتاب الذي تبحث فيه عن مصادر الإسلام فرأينا أن مؤلفيه قد أخذوا ألفاظًا وردت في الكتاب والسنة مما كان مستعملاً عند العرب أو غيرهم من الأمم، ودخلت في اللغة العربية قبل الإسلام، وألفاظًا قريبة في اللفظ من ألفاظ أعجمية أخرى، ولكن لم يعرف أن العرب نقلوها عنها وجعلوا هذه وتلك دلائل على أن دين الإسلام نفسه مأخوذ عن الأمم التي وجد في الكلم العربي ما هو معرب عنها، أو يشبه أن يكون معربًا، فهذا أصل من أصول مطاعنهم في ذلك الكتاب، وهناك أصل آخر وهو أن ما أقره الإسلام مما كانت عليه العرب وسواها قد عد دليلاً على أن الإسلام مأخوذ عن الجاهلية ومن هم على مقربة من الجاهلية في اصطباغ أديانهم بصبغة الشرك وإن كان لبعضها أصل صحيح. وإنني أذكر قبل الكلمة الموعودة مثالاً من الأمثلة التي وردت في الكتاب؛ ليعرف سخافته من لم يره من أولي الألباب؛ فمن ذلك زعمه أن الإسلام أخذ حكم توحيد الله تعالى عن العرب؛ لأنه ورد اسم (الله) واسم (الإله) في أشعارهم قبل البعثة، وأورد شواهد منها قول النابغة: لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الجود والأحساب غير موارب محلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب وقد جهل المؤلف المسكين أن كل الأمم تعتقد بالله تعالى، ولكنها تشرك به وتزعم أنه له أبناء أو أولياء يعمل بواسطتهم فهو غير مستقل بإرادته تمام الاستقلال، ولا يقدر أن يكفر خطيئة آدم مثلاً بدون خطيئة صلب المسيح! ! فما كل من عرف اسم الله موحدًا لله، وأنه هو يعرف هذا الاسم، ولكنه لا يعرف التوحيد، ولينظر قول النابغة: (محلتهم ذات الإله) وكان يغنيه عن التعب في استخراج الاسم الكريم من أشعار العرب استخراجه من القرآن في إثبات اعتقاد العرب وغيرها بالله مع الاحتجاج على نفي الشرك {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (المؤمنون: 84-92) ، وأمثال هذه الآيات التي تثبت لهم الإيمان بالله والشرك به جميعًا مع إقامة البراهين على التوحيد، والاعتقاد الصحيح كثيرة جدًّا فهل كان مثل هذا عند العرب أو عند النصارى؟ ! أراد مؤلف الكتاب أن يقلد علماء أوربا في هذه المسألة فأساء التقليد، فإن أولئك قد بينوا أن كلمة الإله والآلهة في التوراة مأخوذة من لغة أخرى، وأن العبرانيين استعملوها كما كانت مستعملة في الملة التي أخذوها منها , ولعلنا نفصل ذلك في فرصة أخرى بترجمة ما قالوه، ولكن صاحبنا أساء التقليد , وشبهته أن الإسلام وافق الجاهلية في تسمية خالق الكون، وهل ينطق النبي إلا بلسان قومه أم جاء نبي بلغة جديدة لا يعرفها أحد فأفاد الناس بها؟ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) . مثل هذا المؤلف في صنيعه هذا كمثل الذي قلد جوابًا فأساء التقليد، سمع جماعة رجلاً ينادي: يا عبد الله. فقال له أحدهم: كلنا عبيد الله فمن تعني؟ وكان فيهم رجل بليد سمع مرة أخرى رجلاً ينادي: يا حمزة. فأجابه: كلنا حماميز الله فمن تعني؟ ورأى أمير على غلام مخايل الذكاء والنجابة فامتحنه بأسئلة منها: ما أطيب الدجاج؟ قال: جلدها؛ فأجازه جائزة حسنة , وكان له أخ بليد فحسده وتعرض للأمير قائلاً: سلني كما سألت أخي، فقال له الأمير: ما أطيب شيء في الجاموسة؟ قال: جلدها؛ فأمر بجلده. أما الكلمة التي أهدم بها هذا الكتاب فهي أن محمدًا النبي الأمي بعث ليهدي الناس إلى صراط الفطرة السليمة بإصلاح ما أفسدوا من دين الأنبياء وإقامة الدين على أساس الاستدلال والعلم دون التقليد للرؤساء , وهذا الكتاب يثبت للنبي الأمي الاطلاع على جميع أديان الأمم وتقاليدها، وعاداتها، ولغاتها، وانتخاب قواعد الإسلام وأحكامه منها كأنه كان ناشئًا في مكتبة كمكاتب باريس وبرلين ولندره حيث الكتب في جميع اللغات والعلوم والفنون تأتي طالبها بآلات كهربائية كلمح البصر مع أنه لم يقرأ، ولم يكتب، ولا نشأ بين قوم قارئين كاتبين , وإنما كان أميًّا ناشئًا في أمة جاهلية لا كتب عندها ولا علوم. ثم إن هذا الكتاب لا يعتبر الدين صحيحًا إلا إذا كانت أحكامه كلها مخالفة لما عليه البشر، وإن كان حقًّا وخيرًا وفضيلة كأنه يشترط في الدين أن يكون مصادمًا للفطرة في كل شيء حتى إذا ما أقرَّ شيئًا من الخير الذي لا يخلو من الناس كان فاسدًا ومقتبسًا كله من الناس. فجميع طعن هذا الكتاب في الإسلام لا يعدو موافقة بعض أحكامه لما كان عند الناس وإن كان عندهم فاسدًا فأصلحه أو ناقصًا فأتمه , وقد رأيت مثالاً من طعنه , وسنريك غيره فيما يأتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

رأي في سلب الأمن من الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي في سلب الأمن من الحجاز تواترت الأخبار تواترًا حقيقيًّا أصوليًّا باختلال الأمن في بلاد الحجاز، وبأن حكومة الحجاز التي ألقي زمامها بيد أمير مكة ووالي الحجاز قد كانت من عوامل هذا الخلل. ظهر للناس كلهم من سبب ذلك الطمع في مال الحجاج الذي كانت الحكومة تسلبه منهم وتنهبه باسم إعانة سكة الحديد الحجازية، واسم زيادة أجرة الجمال، وبأسماء أخرى سمَّتها ما أنزل الله بها من سلطان، والسبب الخفي الذي يعتقده بعض الخواص دون بعض هو أن كل ما قد جرى، فإنما جرى بتمهيد وإيعاز من الآستانة، ولا نبحث في أدلتهم على ذلك الآن، وإنما نقول: إنه لا يبرئ الدولة العثمانية من هذه الجناية الكبرى إلا عزل أمير مكة وواليها، ومحاكمتهما، ومجازاتهما، وعزل وكيلهما أيضًا؛ فإن فعل السلطان ذلك فقد استبرأ لدينه ومنصبه، وإلا ثبت لجميع مسلمي الأرض ما يتهامس به بعضهم الآن من أن كل ما جرى مُوعز به من الآستانة، وأن الغرض منه منع الحج بالمرة , أو منع خواص المسلمين وعلمائهم من زيارة تلك البلاد لئلا يتآمروا هناك، وينصبوا لهم خليفة بالانتخاب الشرعي، وذلك أن الخواص وأهل العلم هم الذين يعلمون أن الفريضة تسقط عنهم عند عدم الأمن على الأرواح أو الأموال , وهم الذين يحافظون على حياتهم كما يجب, وهم الذين تخشى جانبهم سياسة التفريق التي يصعب عليها أن يجتمع اثنان أو ثلاثة من أهل العلم والرأي، ولو في بلد غمره الاستبداد وتغلغلت فيه العيون والجواسيس. فكيف يسهل عليها أن يجتمع العلماء والفضلاء من جميع الأقطار في موقف مقدس يتمتعون مع ذنب الاجتماع بالأمن على أرواحهم وأموالهم؟ وأكبر أمانينا أن يُكَذِّب سلطاننا - وفقه الله - هذه الظنون بما ذكرنا، ويعين للحجاز أميرًا وواليًا آخرين يجعل عليهما تبعة كل المصير في حفظ الأموال والأرواح في تلك البلاد المقدسة؛ لأجل لقب الخلافة هو الذي ينزع منه اللقب العظيم، وينفر من الدولة قلوب جميع المسلمين. ليس أمر العبث بالأمن في الحجاز كأمر العبث بالأمن في بلاد مكدونية وأرمينية , ولا الإلحاد في الحرم كالإلحاد في بلاد الروم وإن كانت باية إستانبول العلمية - أعلى في قانون الدولة من - باية الحرمين؛ فإن ملاك هذا الأمر الذي يسمونه الخلافة هو في اعتقاد أكثر المسلمين القائلين به حفظ الحرمين وتسهيل إقامة هذا الركن الديني , فإذا صار مهددًا بالهدم برضاء السلطان أو بعجزه فأي عمل من أعمال الخلافة يبقى له؟ وظيفة الخليفة إقامة الدين وحفظه فإذا كان المرتد لا يقتل، وإذا كان الألوف من المسلمين يكلفون بترك صلاة الجمعة للوقوف أمام الجامع الحميدي عند صلاتها؛ وإذا كان ركن الزكاة قد هدم , والسلطان العثماني لا يبالي بهدمه كما بالى الخليفة الأول؛ إذ حارب مانعي الزكاة بإقرار الصحابة , وإذا كان الصوم سرًّا بين العبد وربه؛ فهل بقي من ركن من الخمسة تطلب فيه عناية سلطان المسلمين غير الحج؟ وهل يطلب منه في ذلك شيء أقل من حفظ الأمن، ومنع تعدي العمال وأعوانهم من الأعراب على أنفس الحجاج وأموالهم؟ ألم ير السلطان كيف أقبل المسلمون على إعانة سكة الحديد الحجازية بالألوف وألوف الألوف مع إهمالهم فضيلة التعاون على الأعمال العمومية في هذا الزمان؟ ألم يعلم أن السبب في هذا هو اعتقادهم بأن هذه السكة تسهل لهم طريق الحجاز؟ فإذا رأوها آلة لسلب الأمن على المال والأنفس في الحال، فكيف يصدقون أن الغرض منها حفظ الأمن في الاستقبال؟ ألا يعلم السلطان أن كل مسلم يسائل نفسه اليوم: هل السلطان قادر على تأمين الحرمين الشريفين أم لا؟ وأنهم لا يجدون في أنفسهم إلا أحد جوابين: إما أنه قادر ولكنه يريد سلب الأمن، وإما أنه غير قادر. فأي الجوابين يرضيه إذا لم يبادر إلى معاقبة أمير مكة وواليها وعزلهما مع وكيلهما, ووضع آخرين مسؤولين عن الأمن في موضعهما وإعلام جميع الأقطار بذلك. أيظن أن المسلمين في مشارق الارض ومغاربها ينخدعون بقول جرائد الآستانة وجرائد بيروت: إن أمير الحجاز وواليه قد حفظا الأمن أتم حفظ، وأن الحجاج كانوا في غاية الرفاهة والراحة لا شغل لهما إلا تكرار الدعاء للخليفة الأعظم والسلطان الأفخم كما جاء في المنشور الرسمي الذي أرسلاه إلى الآستانة حسب العادة المتبعة في كل عام؟ كيف ينخدع من يرى هذه الجرائد - وقليل ما هم - بقولها وقد انبث في الأقطار مائتا ألف حاج، وكلهم يخبرون بكذبها؟ إذا حدث كل حاج عشرة من الناس بما رأى وسمع وقاسى وعانى يكون مجموع العارفين مليونين، وكم يخبر كل واحد من هذين المليونين؟ إن هذا أمر ليس كسائر الأمور فينفع فيه تضليل الجرائد التي ينخدع بها الجاهلون بسلطة السياسة عليها. على أن الجرائد الحرة في مصر وغيرها أكثر من تلك الجرائد انتشارًا وأصدق أخبارًا، وقد أجمعت على تمثيل فَقْد الأمن في الحجاز لا سيما بعدما ورد تقرير أمير الحج المصري على الحكومة ونشرته في الجريدة الرسمية، وفيه من تمثيل المخاوف والاعتداء على الأموال والأنفس ما يؤكد رسائل الحجاج الكثيرة. يسند بعض المنافقين من أصحاب الجرائد وغيرهم كل إلحاد في الحرم إلى شريف مكة، وجريدة (ترك) تملأ ماضغيها بذم العرب والأشراف مستدلة بسوء سيرة الشريف، ولكن العاقل والجاهل يعلم أن الشريف أحد عمال السلطان، ويذهب كثير من الناس إلى صحة ما قالته جريدة الجوائب المصرية، كما في الجزء الماضي أن السلطان قد أقامه هناك وأقره على الظلم؛ ليكون حجة على العرب والشرفاء أمام المسلمين، ولكن هذا غير معقول فإن الناس يعرفون أن السلطان قادر على عزله وعلى تأديبه في كل آن، ويعرف الكثيرون أن الشريف لم يكن له أمر ولا نهي على عهد عثمان باشا والي الحجاز السابق، بل كان ذلك الوالي قد ألجأه إلى تَرْكِ المقام في مكة، فأقام في المدينة المنورة حتى عزلت الدولة عثمان باشا عن الحجاز. وكان أول عمل كسر به شرته أن أمر فرقتين من العسكر بحمل مدفعين والإحاطة ببيت الشريف، وطلب جانٍ التجأ إليه منه وقال لهم: إن أبى تسليمه فضعوا الحديد في يد الشريف نفسه , وأحضروه إلى هنا بالقوة. وقد بادر البكباشي إلى إخبار الشريف بذلك فأرسل الجاني حالاً، وكان يهزأ قبل ذلك بالحكومة إذ تطلبه منه. لعل بعض القراء يمتعض من شدة إنكارنا لميله مع ريح السياسة أكثر من ميله إلى خدمة الدين، وربما يسبق إلى وهمه أن للنفس هوى في هذه الكتابة لما تعود عليه من كتابة أهل السياسة. ولي أن أقول لهذا الواهم: إنني - ورب الكعبة - أتمنى لو أحج , وإنني - ورب الكعبة - لا آمن على نفسي، بل أعتقد أن الحج حرام عليَّ ما دام هؤلاء الحكام على سيرتهم هذه في الحجاز , وإنني - والله - أتمنى لو تصلح حكومة الدولة العثمانية فتكون خير حكومة في الأرض، ولكنني أحب صلاح الدولة لأجل الإسلام , لا إنني أحب الإسلام لأجل الدولة. إن الله تعالى امتن علينا بجعل البلد الحرام والبيت الحرام أمنًا للناس كما نطق بذلك القرآن الكريم، وما نحن من تفسير بعض آياته في ذلك ببعيد , منها قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) ، وقوله - عز وجل - {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته بعرفة يوم النحر من حجة الوداع: (فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم. قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مُبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) رواه أحمد والبخاري فجعل حرمة الدماء والأموال مشبهًا , وحرمة البلد الحرام والشهر الحرام مشبهًا به كأنه أبلغ في التحريم، فكيف صارت الأموال والدماء تباح في البلد الحرام في الشهر الحرام، ولا يوجد من يسأل عنها؟ وكيف يحرم الله في ذلك المكان والزمان قتل القمل والحشرات، وقلع النبات، وتحلل الحكومة العثمانية قتل النفوس المنيبة إلى ربها اللاجئة إلى بيته الداخلة في ضيافته وسلب الأموال المحرمة كذلك , ثم ندهن لها ونكون من المؤمنين! إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم، ونحن قادرون على الإنكار بألسنتنا فكيف نسكت، والواجب على المسلمين أنَّى خرجوا عن طاعة هذه الحكومة إذا ثبت أنها تتهاون بأمر الأمن في الحجاز، ولا تمنع الظلم منه , فإن سكتوا ورضوا كانوا ملعونين في القرآن , ويوشك أن يسلط الله عليهم من ينزع منهم ما بقي بأيديهم يعيثون فيه فسادًا حتى الحجاز {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) . هذا وإننا إنما نشدد في الإنكار رجاء التأثير، ونسأل الله تعالى أن يوفق هذه الدولة إلى المبادرة إلى تلافي هذا الأمر بطريقة تقنع القريب والبعيد، والذكي والبليد، بأن الأمن قد عاد إلى تلك البلاد المقدسة، وإلا فإن العاقبة تنذر بخطر عظيم يشعر به المتفكرون، وإن عمي عنه الطامعون، وتغافل عنه المنافقون، وجهل مثاره الغافلون، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) .

بلرم ـ صقلية ـ 5

الكاتب: سائح بصير

_ بلرم صقلية (5) أمير وأميرة من الأسرة الخديوية البحر هادئ والهواء عليل. وقد قرب الغروب واليوم آخر أيام السفر، وأنا محبوس في هذا المكان الضيق لتحرير هذه الأحرف إجابة لطلب بعض الناس، وبودي لو أستنشق الهواء لكن بقيت عليَّ قصة أقصها ولو تركتها اليوم، لم يعد إليها القلم في يوم. صعدت إلى المركب من مسينا وجلست أنتظر مسيره، وبينا أنا كذلك وإذا بأمير من أعضاء العائلة الخديوية يصعد من السلم إلى السطح فنهضت للسلام عليه وتساءلنا عن مراحل أسفارنا، وفهمت منه أن معه حرمه، وهي من أعضاء العائلة الخديوية كذلك. فقلت: أمير جليل رُبِّي على الطريقة الأوربية، وتعود السفر إلى بلاد أوربا مع حَرَمِهِ وهي كذلك قد ربيت على العظمة والحرية فلا ريب أن نرى الأميرة مع الأمير، ولا يقدح ذلك في كرامة واحد منهما فإن الأميرات المصونات قد يرين الناس من حيث لا يراهن الناس لا لأنهن من عالم غير عالمهم، ولكن لأن الناس يغضون الطرف احترامًا لهن، ولا حظر عليهن في رؤية من لا يراهن. لكني مكثت مع الأمير إلى وقت العصر، ثم تركته وذهبت إلى محل الأكل لأتناول شيئًا مما يتناول في هذا الوقت فكان جلوسي مع بعض أرباب البيوت من الفرنسيين المقيمين في الإسكندرية. فبدؤوني بالكلام فتكلمت، وامتد بي وبهم الحديث إلى حالة المركب وازدحامه بالركاب وضيقه عنهم , فقال قائل أو قالت قائلة: ما أسوأ ما صنعت الشركة مع البرنسيس فإنها وضعتها في قُمْرَةٍ ضيقة لا شباك لها، وهي ملازمة لها ليلها ونهارها، ولو كانت ممن يخرجن ويستنشقن الهواء لسهل الأمر، ولكن الأميرة لا تخرج أبدًا؛ لأنها لم تخرج قط من يوم ركبت المركب، ومن القُمرات ما هو أفضل من قُمْرَتِها وأوسع. فسألت: هل بها شيء تألم له لو خرجت؟ فقيل لي: لا , الظاهر أنها في غاية الصحة، وكمال العافية غير أنها لا تحب أن تخرج، والقُمرة مقفلة في جميع الأوقات. أمكنني بعد ذلك أن أسأل حتى يتم سروري بما فرحت لأوله فعلمت أن الأميرة كانت في أوربا تسدل على وجهها نقابًا أزرق على نحو ما يسدل نساء الآستانة أو سوريا بحيث لا يميز الناظر شيئًا من وجهها، ومتى ركبت المركب لزمت قُمرتها , وأغلقتها عليها إلى أن تصل إلى غاية سفرها، وكل ذلك تفعله حرصًا منها على كرامتها، ومحافظة على المعروف من عوائدها من حيث هي أميرة مسلمة. فقلت: مَثَلٌ صالح لا بد من ذكره، والثناء عليه، حتى يتعلم أولئك المقلدون أن من أمرائهم وأميراتهم من هم أَوْلَى بتقليده، وأن خيرًا لهم أن يقلدوا أميرًا مصريًّا من العائلة الخديوية الكريمة من أن يقلدوا جماعة من الأوربيين غير معروفين لهم، ولا يحسون بتقليدهم، ولا يستفيدون من حذوهم إلا تجردهم مما يميزهم من حيث هم مصريون أو مسلمون، واختفاءهم في غمرة أولئك الأوربيين لا يتميزون عن عامتهم في شيء، وسريان ما يشكو منه القوم من الفساد إلى أنفسهم أو أنفس نسائهم فبارك الله في الأمير والأميرة، وأرشد الله شبابنا إلى التأسي بهما إن كان لا بد لنسائهم أن يذهبن إلى أوربا لمداواة علة، أو إيناس في غربة. لعلك تسأل: مَنْ هذا الأمير، ومَنْ هذه الأميرة؟ فإني أقول لك: الأمير هو: الأمير عباس باشا حليم والأميرة هي: الأميرة خديجة أخت أفندينا الخديوي عباس باشا حلمي ومما يسرك - إن كنت مثلي تحب العفة، ووضع الشيء موضعه - أن الأمير لا ينفق في سفره إن كان وحده أكثر من ثلاث مائة وخمسين جنيهًا، وإذا كان مع الأميرة فلا ينفق أكثر من ستمائة جنيه في مدة شهرين ونصف، وهو يعيش عيشة الأمراء. تقول: لعله يقتصد ليكتنز، ويوفر ليستكثر، فأقول لك: إني علمت أنه ينفق من ماله في تربية تلامذة في مصر، وفي الآستانة وفي إنكلترا يتعلمون العلوم العالية في المدارس الحربية أو مدارس الطب أو الزراعة. فما قولك في نفقة مثل هذه بدل النفقة في الشهوات وفوائت اللذات؟ ألست توافقني على أنه من أفضل الأمراء عملاً، ومن أنبلهم قصدًا فإنه يربي أناسًا يقومون بشئون بيوتهم أعرف بعضهم وأجهل بعضًا، ألا يكسب بهذا حسن الأحدوثه وتخليد الذكر خصوصًا إذا استزاد من هذا الخير فإنه بذلك يقوي عناصر العلم في البلاد , وهو الأصل الذي نحتاج إليه، لا سيما إذا انضم إليه حُسن التربية كما هو مقصد الأمير. ولو اقتدى به الأمراء لأصبحنا في ثروة من العلم، ولم تصب حضراتهم بالإفلاس من المال. بعد الإفلاس من الكمال، وفقه الله وأرشدهم , والسلام. اهـ (المنار) تمت ملاحظات السائح البصير في تعريجه على صقلية وقد كتبت النبذة الرابعة في الجزء الـ 24 من السنة الماضية ثالثة (3) ولعله يتكرم علينا بشيء من ملاحظاته النافعة في البلاد الأخرى التي ساح فيها ليعلم السائحين الكثيرين من أمته كيف ينتفع البصير بالسياحة، وكيف يأمن مضرتها ومن أجدر من سائحنا بهذا الإرشاد.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (تقريظ المنار لعالم غير مقلد) قال بعد رسوم الخطاب: منارك مرغوب المؤمن المحب لربه , ولما أبدع ربه من الوجود البديع الواقف عند حدود سنته , وجدير بمن أكرمه الله بالمرغوب أن يأخذ بحظ وافر من ذكره سبحانه الذكر المتعاقب الذي لا يلبث معه النسيان إلا خلسًا قليلة. ذلك ذكر الله الذي تطمئن به القلوب، ويتوحد به المحبوب، ولا يفوت معه مرغوب، اللهم أعنا على ذكرك. نشكرك وأنت العليم بذات الصدور- يا من أكرمتنا بكتاب (المنار) المنير. نشكرك أن أتممت على ظهوره السنة السادسة سائرًا سيرته التي نعتقد أنها ترضيك. نشكر لك الفضل، ولك الحمد، ولك المنة، ومنك العون، ومنك التوفيق. ويا صاحب المنار , لقد قمت فينا مقام المصلحين. فعليك منا الثناء نعلنه لك ليكون من آيات إثمار غرسكم النافع. ومن آيات حبنا إياك في الصراط المستقيم الذي نرجو أن نصل فيه إلى المجد الحقيقي والسعادة التي لا ينكرها أحد- ولا السوفسطائية. انتهت السنة السادسة , أما أشواق الملأ إلى بدائع ما تحيون من السنن؛ فلما تنته , ولما ينهها خاطر من الخواطر , بل هنالك حداة بها يزيدون في سيرها. تلك أشواق الذين ذاقوا كنه الأمور فأصبحوا يميزون بين الحقائق والأوهام، كالتمييز بين وقائع اليقظة والأحلام. وهذه السابعة أقبلت فعسى أن يكون مباركًا إقبالها , وعسى أن يزيد المنار فيها إشراقًا يستنير به المخلصون المنصفون، ويشرق به الحسدة والمعاندون. وإليك أرسلنا هذا الكتاب نصف فيه مسرتنا بأننا من محبي المنار المتمنين دوام سطوع أضوائه. وفي كل حرف حررناه نطق للفؤاد بأدعية خالصة بها تضرعنا للقوي سبحانه أن لا يخيب أملنا , وأن يخلص إليه عملنا، وأنت اللهم ولي المؤمنين. *** (الجزء الثالث من كتاب أشهر مشاهير الإسلام) قد صدر الجزء الثالث من هذا التاريخ الاسلامي الوحيد في بابه , وهو في سيرة أشهر قواد الخليفة الثاني وعماله - أبي عبيدة عامر بن الجراح فاتح الشام، وسعد بن أبي وقاص فاتح بلاد الفرس، وعمرو بن العاص فاتح مصر، وقد جرى مؤلفه (رفيق بك العظم الشهير) في تراجمهم على الطريق التي جرى على تراجم من سبقهم أعني طريق التمحيص والتحقيق , وبيان أسباب الحوادث ونتائجها , والإرشاد إلى وجوه العبر فيها , وبسط الكلام في موضوعات استطرادية نافعة يعبر عنها بالكلمات، فمنها كلمة في العمال وكلمة في القبور , وقد سبق لنا نشرها في المنار , وكلمة ثانية في أهل الذمة، وقد نشرناها أيضًا. ومعظم الكتاب في ترجمة عمرو بن العاص فإنه أعظم عمال عمر دهاءً وسياسةً وأعمالاً , وإن كان أبو عبيدة أعظمهم أمانة واستقامة وورعًا وديانة , ويليه في ذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقد اعتذر المؤلف عن عمرو أن زج نفسه في غمرة الفتنة بين أمير المؤمنين علي ومعاوية بأنه لم يسعه على حبه للرياسة والتقدم في الأمور ما وسع النفر المعتزلين من حب السلامة؛ بل رأى أن انتفاع فريق من أولئك المختلفين برأيه ربما كان فيه تعجيل بإطفاء شواظ الفتنة وحسم لمادة الاختلاف الذي أهريق فيه دم الأمة , وأنه في ذلك كغيره من الصحابة الذين دخلوا مدخله، وأنه أراد أن يجعل معاوية وسيلة يعمل به , ثم يعمل لنفسه إذ كان يطمع في الخلافة، وأنه في ذلك كعظماء الدين في هذا الزمان وفي كل زمان , فإن كثيرًا من الملوك قتلوا إخوتهم أو أولادهم لأجل الملك , ولم يطعن الناس في أصل دين أحد منهم وأكثر ما يقال فيهم: إنهم عصوا الله إذ رجحوا دنياهم على دينهم. وبين المؤلف أن عَمْرًا كان يعتقد أن معاوية على الخطأ , وقال بعد ذلك: (وهذا يدل على أن عليًّا رضي الله عنه لو تألف عَمْرًا واستدناه إليه لانتفع به ولصدقه الخدمة أكثر منها لمعاوية , ولكن إغراق علي في حب الفضيلة دعاه إلى ترك الحيلة بمثل عمرو كما دعاه إلى عدم قبول إشارة من أشار عليه بتأليف معاوية وتثبيته على ولاية الشام كما سترى بعد) اهـ. وهذا يؤكد أن تلك الأعذار عين الذنوب. أما الكتاب فهو في غنى عن التشويق إليه والترغيب فيه فإنه قد راج رواجًا عظيمًا حتى إنه ليوشك أن يعاد طبع الأجزاء السابقة , وطبع هذا الجزء في مطبعة المنار , وهو أحسن من سابقيه طبعًا وتصحيحًا. وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة , وأجرة البريد قرش ونصف , ويطلب من مؤلفه، ومن مكتبة المنار بشارع درب الجماميز وغيرها من المكاتب المشهورة. *** (الدولة العلية وماليتها) رسالة نافعة مفيدة لكاتب عثماني غيور رمز إلى اسمه بحرفي (م. ق) بَيَّنَ فيها النفقات الرسمية القانونية التي تنفقها الدولة في الوزارات والمصالح وغير الرسمية , وقد كان الكاتب أرسلها إلينا لننشرها تباعًا في المنار , فنشرنا منها نبذة، ثم رأينا بعد إشارة غير واحد من القراء عدم نشر الباقي , ولكن الكاتب لم يرد أن يحرم الأمة من الانتفاع بها فطبعها على حدتها. ومن هذه الرسالة يعلم أن كبار رجال الدولة يأخذون رواتبهم الشهرية مضاعفة ويزادون من المكارم السلطانية ما لا حصر له. وأما صغار العمال والجند فإنهم لا يصلون إلى رواتبهم القليلة إلا في كل أشهر مرة. وقد اقترح الكاتب في آخر رسالته عشرين أمرًا رأى أن إصلاح الدولة بدونها محال وهي: 1- تنقيح دوائر الحكومة , وتقليل المرتبات التي لا لزوم لأربابها، وإرجاعها لأصل القانون العثماني , والتخفيض من ذلك الجيش الجرار الموجود في تلك المجالس المشكلة في الآستانة كما تقدم ذكره إلى عدد لا يتجاوز ما نص عليه في القانون. 2- إحالة أغلب القواد الحائزين على رتبة المشيرية والفريق الذين لا ينتظر منهم خدمة حقيقية على المعاش , والإقلال من الإنعام بهذه الرتب السامية ذات المرتب , وجعل عدد كل من الرتبتين لا يتجاوز حدًّا معلومًا أسوة بباقي الدول. 3- إحالة قسم من الياوران على الجيش , وخصم راتب الكوردون , والاكتفاء براتب الرتبة كما هي الحالة المتبعة عند الدول الأجنبية. 4- قطع المرتبات عن الجرائد. 5- حل جيوش الجواسيس واقتصاد رواتبهم. 6- إلغاء الوظائف التي لا عمل لها , وإبطال إسدائها لغير مستحقها لانتمائه لبعض الكبار المعبر عنه بالمحسوبية. 7- زيادة رواتب صغار المستخدمين , ورواتب ضباط الجيش من رتبة الصاغ وما تحتها. 8- قطع دابر الرشوة من دواوين الحكومة. 9- ترتيب الترقي في الخدمات الأميرية على الخطة الجارية في أوربا. 10- عدم عزل الموظف إلا بعد محاكمته , وعدم استخدام من يعزل لثبوت جريمة عليه. 11- عدم إعطاء امتيازات ذات ضمان للأجانب؛ بل حصرها في أهل البلاد. 12- تنشيط التجارة والزراعة , وتأليف شركت تجارية وصناعية. 13- وضع رسم قليل على كل تلميذ يتعلم بالمدارس الأميرية للاستعانة بذلك على توسيع دائرة التعليم. 14- إعطاء الحرية للجرائد والمطبوعات. 15- إصلاح المكاتب العمومية (الكتبخانات) بالآستانة أو جمعها بمكتبة واحدة , وفتحها دائمًا للمطالعة , ويوضع رسم طفيف على كل داخل إليها. 16- قطع المرتبات التي تعطى من البلديات إلى المنفيين أو بعض (المحاسيب) . 17- إعطاء الوزارة الحرية بالعمل. 18- عمل ميزانية سنوية ونشرها في الجرائد. 19- تنفيذ أحكام القانون بالمساواة واستقلال القضاء عن الإدارة والسياسة وهو الأهم. وفي الرسالة فوائد كثيرة وكلام في مستقبل الدولة , وثمن النسخة منها قرش واحد، وتطلب من مكتبة المنار. *** (تقويم المؤيد لسنة 1322) أصبح هذا التقويم أشهر من نار على علم، وهو يزداد فائدة عامًا بعد عام حتى يقول الناظر فيه: ليت شعري! أي شيء جديد يكون فيه بعد هذا، وهو الآن مؤلف من خمسة عشر بابًا يدخل في كل باب من الفوائد ما هو سمير السامر، وأنيس المسافر، وفي باب التاريخ من هذه السنة تراجم سلاطين آل عثمان , وتاريخ أشهر الممالك الأوربية , وكلام في مستعمراتها , وجداول لتاريخ الملوك والرؤساء من كل أمة. وفي بابي أحوال مصر والسودان ما لا يستغنى عن معرفته، وفي باب القضاء معجم يشرح فيه الاصطلاحات القضائية. وفي باب المعاهدات والسياسة كلام طويل في المسألة المكدونية والمسألة المراكشية والمسألة اليابانية الروسية وغير ذلك. وفي باب تدبير المنزل ما يفيد كل منزل , وفي سائر الأبواب من الفوائد ما لا محل هنا للإشارة إليه. ولكننا نقول كلمة واحدة في تقريظ هذا التقويم وهي: (إنه مكتبة في الحبيب) وهو مجلد تجليدًا جميلاً , وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة فقط , ويطلب من مؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر بجريدة المؤيد. *** (تقويم العرب) يطبع في مصر كثير من التقاويم المختصرة التي يسمونها (النتائج) وهي لمعرفة تاريخ الشهور الهجري مع الإفرنجي والقبطي , ويزيد بعضها العبري. وقد جرت عادتهم بأن يكتبوا بإزاء الأيام ما يكون فيها، أو يحسن من احتفال ملي أو عمل زراعي وغير ذلك. ويسمون ذلك بالتوقيعات , والكثير من هذه التوقيعات يدخل في باب العادات المنتقدة والأوهام الضارة. وقد وضع محمد أفندي حسين مساعد سكرتير شركة طبع الكتب العربية تقويمًا جديدًا لهذه السنة بمساعدة خضر أفندي إبراهيم. رغب فيه عن توقيعات العادات العمومية المعتادة إلى ذكر أشهر الوقائع والحوادث التاريخية , ولم يهمل ذكر الأعمال النافعة في أوقاتها كابتداء زراعة القطن وغيره. فهذا التقويم على صغره تاريخ إسلامي وجيز فيه ذكر مواليد أعظم رجال الإسلام ووفياتهم وأشهر الوقائع. وقد طبعته شركة طبع الكتب على نفقتها , ونرجو أن يفوق سائر النتائج في الرواج والاشتهار ولو بعد حين. وثمن النسخة منه قرش واحد.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (خطر علينا وعلى الدين) نشر المقتطف مقالة بهذا العنوان لعبد القادر أفندي حمزة المحامي بالإسكندرية أعجبني منها نظم الكلام وأسلوبه وترتيبه , وتنسمت منه الغيْرَة، وحسن القصد، فخطر لي عند القراءة أن أكتب إلى صاحب المقالة مُبينًا له رأيي فيها، ثم رأيت أن أكتب ذلك في المنار بالإسهاب اللائق بالموضوع فلم تسمح لي الموضوعات العارضة مع ما لا بد منه في كل جزء كالتفسير من كتابة ما أردت في الجزءين السابقين، وقد كاد يتم هذا الجزء أيضًا، ولم يبق منه ما يسع كل ما أريد فأكتفي ببعضه. قال: إن الأمة إذا كانت متأخرة جاهلة لا تخطو إلى الإمام إلا بعد التقلب في أدوار طبيعية، أولها: أن يكثر فيها الناصحون والمرشدون. وحكم بأن الأمه المصرية في هذا الدور، والقاعدة صحيحة كما قال، ولكن المرشدين لم يكثروا إلا أن نقول: إن المراد بالمرشدين من يتصدى للنصح على أن كثرتهم مرجوة، فنحن في هذا الدور. ثم قال الكاتب: إن هذه الأمة - على كثرة الصائحين فيها من المرشدين - لا تفقه كلمة من عشر كلمات مما يلقون عليها، ولا تدري إلى أين تساق. وهذه جملة مسلمة أيضًا , فإنك كنت تجد المتعلمين يصدقون الأحداث إلى الأمس فيما يخبرون عن مستقبل مصر، وإخراج فرنسا الإنكليز منها , ويصدقون صاحب الخمارة في أن العالم الفُلاني أخطأ في بحث القضاء والقدر! ! ثم انتقل الكاتب إلى مسألة الدين فزعم أن جميع المرشدين المختلفين في كل شيء، متفقون على دعوة الأمة إلى الدين , وأن الأمة متفقة معهم في ذلك فإذا اختبرت الناس في كل بلد، وإذا راقبت معلمي المدارس، ومربي الأطفال، وإذا نظرت إلى المؤلفات الجديدة، وإذا همت في أودية الشعر مع أهله , وإذا تلوت الجرائد والمجلات؛ فإنك لا تجد في هذا كله إلا دعوة الدين وإقناع النفوس بأن النجاح والترقي لا يكون إلا به. وهذه دعوى غير مسلمة قد غلا الكاتب فيها غلوًّا كبيرًا، فلو درت في البلد واختبرت حال الناس؛ لقلت: إنهم لا دين لهم، ولا هَمَّ لهم في الدين , ولكنك تجد عند الفلاحين شيئًا من التقاليد المنسوبة إلى الدين , وأكثرها ليس منه في شيء، وهؤلاء لا ينظر إليهم في هذه المسألة؛ لأنهم لا رأي لهم وهم لم يأخذوا ذلك عن المرشدين في هذا الدور. ولو عرفت حالة معلمي المدارس لما رأيت فيهم عشرة في المائة، أو في المجموع يؤدي الواجب عليه في قانون الحكومة من تعليم الدين، بل إن منهم من يشغل وقت درس الدين بتعليم العربية، ويقول للتلامذة: هذا أنفع لكم؛ لأن درس الدين لا شأن له في (نمر الشهادة) وقد اقترح واحد من الذين عهدت إليهم نظارة المعارف بالنظر في قانونها (البروغرام) أن يضاف إليه درس ديني في القسم التجهيزي فرفض طلبه بأكثر الآراء! ! ولو علم الناس ما علل به الرافضون رفضهم لقضوا عجبًا! ! ولو التفت إلى الشعراء وطلاب الخيال لوجدتهم لا ينظمون شيئًا في ترقي الأمة، ولا يذكرون ذلك إلا أن يحثوا الأمة على الفناء في حب الأمير وتفويض الأمر كله إليه، والتعويل في السعادة عليه. أما المصنفات فالديني منها قليل جدًّا. وأما الجرائد والمجلات، فليس فيها ما هو ديني إصلاحي إلا (المنار) ولا أدري هل قلب صحائفه من قلب الدعوة الدينية على جميع وجوهها حولين كاملين أم لا؟ ولا أنكر أنه يوجد أحيانًا في الجرائد كلام أَوْكلم في الدين، ولكنه يوجد عرضًا يرمون به غرضًا لا أعرف جريدة لها دعوة دينية، أو رأي في الإصلاح الديني تحاول إقناع الناس به , فإن كان الكاتب يعرف فأرجو أن يدلني على هذه الجريدة لأستعين بها في عملي. من هذه الجرائد المعروفة ما هي للأمير خاصة تدور معه حيث دار، فإذا حضر الأمير احتفالات الموالد والمواسم المبتدعة في الإسلام قامت تنادي بإحياء هذه الأمور خدمة للإسلام، وإذا احتفل بمرقصه السنوي، وفيه ما فيه من شرب الخمور، وهصر الخصور؛ قامت تنوه بفضل هذا الاحتفال وتعده من أصول المدنية والعمران، ومرقيات الأمة، ومنهم ما لا هم لصاحبه إلا المال والفخفخة فهو يسلك لأجله كل مسلك، ويسير في كل فج، ناصبًا للمال والجاه كل فخ، ومن ذلك إظهار الغيرة على الدين عند سنوح الفرص وحدوث الحوادث، ويقل فيها ما يكتب لمجرد الغيرة على الدين، وإن خالف أهواء العامة والحاكمين، ثم إن وجد هذا أحيانا فإنه لا يلتزم دائمًا. وهذا الذي قلناه قد اعترف به الكاتب , وقال: إنهم يتاجرون بكلمة الدين، ويتخذونها مطية للتغرير والتضليل، ولكننا نذكره بأنه لا يوجد واحد منهم رسم لنفسه خطة، وفرض على نفسه الدعوة. إذًا لا يوجد فيهم من يشغل الأمة بالدين عن أي عمل من أعمال الترقي فلا خطر علينا ولا على الدين منهم. ثم انتقل إلى مسألة (ميراثنا الديني) فأحسن وأصاب في قوله: إن أهم أسباب ما نحن فيه من الخلل الديني التقليد، ولكنه غلا في تمثيل إرثنا بعض الشيء، ولا حاجة للبحث فيه , وإنما ننتقل معه إلى البحث في النتيجة. قال: (إن في الداء بالدين اليوم، وهو كما هو من الانحراف عن صورته الأصلية خطرًا عليه لا يبعد إذا لم تتداركه أن ينتهي بانحلاله وضياع أصله في قليل من السنين) . ثم استدل على ذلك بسوء حال طلاب المدارس، وعلماء الشرع وسائر طبقات المسلمين، وبَيَّن بُعْد الجميع عن الدين. وهذا صحيح، ولكنه لا ينتج ما قال أولاً؛ لأن هذا ليس أثرًا لنداء المرشدين أو المتصدين للإرشاد بالدين، وإنما هو أثر التقاليد المتبعة بالعمل قبل أن تدخل الأمة في هذا الطور أو الدور الذي قال أولاً: إنه أول أدوار ترقي الأمم , فليس الخطر علينا وعلى الدين إذًا من هذا النداء الجديد - إن كان - وإنما الخطر كل الخطر في بقائنا على التقاليد الموروثة بالتربية والعمل أو (بالبدع والخرافات والتقاليد والعادات) التي لها باب مخصوص في المنار، فإننا لا نقوى بها على معارضة المدنية الجديدة، ولا على مجاراتها، ولا نقدر أن نكون بها أمة عزيزة قوية. ثم ضرب لنا مثلاً ما كان من الانقلاب الديني في أوربا , وفي سياقه مجال للبحث، ولكنه غير جوهري فهو لا يشغلنا عن الحقيقة البيضاء النقية في قوله: (ألا فلنعرف جيدًا ولو ساءتنا هذه المعرفة أننا بجهلنا الأعمى وتشيعنا الكاذب أوصلنا الدين اليوم إلى حال إن استمرت ولم نقف في طريقها؛ أدت ولا محالة إلى زواله) ثم بين الكاتب طريق تلافي الخطر المتوقع بالإجمال فقال: (لا يقولن مندفع أني أريد بهذا أن يترك الدين جانبًا! ! فمعاذ الله، ثم معاذ الله أن أريد ذلك، أو أن يخطر على فكري شيء منه. إنما أريد أن يلبس الدين بيننا ثوبه الحقيقي، ذلك الثوب الأبيض الطاهر الذي تنظره الأبصار فيعجبها جماله، وتسرها حقيقته، أريد أن ترمى تلك التقاليد والعادات الموروثة التي تلبست بالدين بعيدًا ليعود خاليًا من الشوائب يتسع المجال فيه للفهم السليم، والنظر الصحيح، أريد أن تحفظ للدين كرامته، فلا يجعل هدفًا لكل متشدق مغرور يتجر بالمناداة به على جهل ولغير داع، أريد أن تمحى من بيننا آثار التغالي والتشيع؛ فنعلم أن القرآن لم ينزل إلا بقواعد عامة للناس جميعًا، فلنا ولكل أمة أن تتصرف في مدلولاتها بما يناسب الزمان والمكان دون تقييد، أو حجر على الأفهام، إلا ما يخرج عن الدين، أريد أن لا يؤتى بكلمة الدين أمام العلم ليقال: إن آية أو حديثًا يعارض معناهما شيئًا من العلم، فإن الدين لم ينزل ليعلم الناس العلم، أو لينافي العقل في شيء حتى يعارضهما، ولو في بعض الأحايين، أريد أخيرًا أن لا نكثر من الصياح باسم الدين؛ حتى لا تلتفت العقول الناشئة إليه قبل أن يظهر في ثوبه الحقيقي لئلا تنفر منه , ونكون قد جنينا من حيث طلبنا الفائدة) . اهـ نقول: هذا هو صفوة المقالة، وجوهرها، ونحن نسلم له بكل ما يريد مع بحث في الأمر الأخير المبني على المقدمات التي منعناها. وقلنا ونقول الآن: إن الذين ينادون باسم الدين على قلتهم فيما نعلم وكثرتهم فيما قال - لا يضرون الدين ولا أهله وإن كان الدين على غير وضعه؛ إذ لا نعرف بدعة جديدة حدثت بهذا النداء، بل منه ما زعزع كثيرًا من البدع والتقاليد التي يريد الكاتب محوها، ثم نقول له: كيف السبيل إلى الرغائب التي يريدها، ويريد أن لا يذكر الدين معلم، ولا مُرَبٍّ، ولا كاتب، ولا مؤلف قبل وجودها؟ هل يريد ذلك إرادة حقيقية أم هي خواطر سنحت عند الكتابة، أو عند تصور موضوعها؟ إن (المنار) يدعو منذ بضع سنين إلى مثل ما دعا إليه الآن، وكل ما ذكره فهو إشارة إلى موضوعات مجملة، نشرت في المنار مبينة مفصلة، منها ما هو لصاحب المنار، ومنها ما هو لأكبر المسلمين المعروفين عقلاً، وعلمًا كالأستاذ الإمام وصاحب سجل جمعية أم القرى. فهل نظر في ذلك أم لا؟ إن كان لم ينظر فيه فكيف يصح قوله: إنه لم يكتب في الموضوع إلا بعد أن قلبه، وعرف ظاهره وباطنه، وإن كان نظر فيه فما هو رأيه في هذه الدعوة؟ إن كان يقول بها؛ فكيف اقترح إسكات كل متكلم بالدين؟ وإن كان يراها كغيرها مع تضمنها لمراداته فما هي السبيل إلى هذه المرادات؟ أم هي أمانٍ ميئوس منها؟ عن هذه الأسئلة نطالبه بالجواب، ولم نخاطبه ونطالبه إلا لأننا رأيناه بحث في أصول دعوتنا بعقل نعترف به بالإجمال، ولذلك عنينا بكلامه على أننا قلما نتم قراءة شيء مما يكتبه أكثر الكاتبين في هذه المسألة لأننا نراه من اللغو. ولعلنا لا نعدم من هذا الكاتب الباحث رأيًا جديدًا، وإرشادًا مفيدًا. فإنه بذلك جدير، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) . * * * (الوفاق الفرنسي الإنكليزي) أصبحت الممالك الاسلامية بفضل ملوكها وأمرائها طعمة للأمم لا يصرفها عن ابتلاعها صارف إلا التنازع وكالأرض الموات، مَنْ سبق إلى شيء منها مَلَكَه وقد سبق الإنكليز إلى احتلال مصر بطلب من أميرها ليحمونه من أمته، وبرضى من السلطان ليكفوه شر الحكومة الخديوية التي طالما نازعته في سلطته، وقد كان لمصر من الأمل الوهمي أن حقوق الدول المالية في مصر تحول دون استئثار إنكلترا بالسلطة فيها. فما زال هذا الأمل يذوب ويضمحل بفضل السلوك الذي سلكه الأمير مع المحتلين، وهو مصادمة الضعيف للقوي أولاً، واستسلامه له ثانيًا حتى فني بالمرة بالمعاهدة الأخيرة. حقوق الدول في مصر مالية وبها يراقبون على مالية مصر؛ فلا تستطيع أن تقوم بمشروع مالي دون إذن من صندوق الدين الرقيب من قبل أوربا على المالية والمال المقصود من الاستعمار، وقد حمل مستشار المالية السابق دكريتو من الأمير، وسافر الى أوربا لا يدري أحد ماذا يريد إلا الأمير واللورد كرومر والنظار، وعلى هذا الدكريتو بني الاتفاق الجديد على مسألة مصر بين فرنسا وإنكلترا، وبمقتضى هذا الوفاق صارت إنكلترا حرة في جميع تصرفاتها في مصر، فهي تنفق باسم الحكومة الخديوية جميع الملايين المتوفرة، والتي تتوفر من مالية مصر في المشروعات التي تراها، وبمقتضى هذه المعاهدة صار الاحتلال الإنكليزي غير موقت، ولا يطلب توقيته. عاهدت فرنسا إنكلترا على هذا، وعلى مساعدتها في إرضاء الدول , وأعطتها إنكلترا مراكش بدلاً عن حقوقها في مصر! ! وفرنسا أكثر الدول حقوقًا، فروسيا حليفتها راضية تبعًا لرضاها وإيطاليا وديدة الإنكليز راضية، وكذلك النمسا راضية وألمانيا لا تشذ عن أوربا كلها فقد قضي أمر المسألة المصرية من جهة الدول والأريكة الخديوية

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (الوجه الخامس والخمسون) قولكم: قد قال أُبَيٌّ: (ما اشتبه عليك فكله إلى عالمه) ، فهذا حق وهو الواجب على من سوى الرسول؛ فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبه عليه بعض ما جاء به، وكل من اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكله إلى من هو أعلم منه فإن تبين له صار عالمًا مثله، وإلا وكله إليه، ولم يتكلف ما لا علم له به. فهذا هو الواجب علينا فى كتاب ربنا وسنة نبينا، وأقوال أصحابه، وقد جعل الله - سبحانه - فوق كل ذي علم عليمًا، فمن خفي له بعض الحق فوكله إلى من هو أعلم منه فقد أصاب , فأي شيء في هذا من الإعراض عن القرآن والسنن، وآثار الصحابة، واتخاذ رجل بعينه معيارًا على ذلك، وترك النصوص لقوله، وعرضها عليه، وقبول كل ما أفتى به، ورد كل ما خالفه، وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج على بطلان التقليد، وإن أوله: (ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه) ، ونحن نناشدكم الله إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قلدتموه لها وتعملون بها، وتفتون أو تقضون بموجبها، أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله , وتقولون: هو أعلم بها منا، فأَُبَيُّ رضي الله عنه مع سائر الصحابة على هذه الوصية، وهي مبطلة للتقليد قطعًا، وبالله التوفيق. ثم نقول: هلا وكلتم ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالمها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ هم أعلم الأمة، وأفضلها، ثم تركتم أقوالهم، وعدلتم عنها، فإن كان من قلدتموه ممن يوكل ذلك إليه، فالصحابة أحق أن يوكل ذلك إليهم. (الوجه السادس والخمسون) قولكم: كان الصحابة يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حي بين أظهرهم، وهذا تقليد للمستفتين لهم، فجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغًا عن الله ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط. لم يكن فتواهم تقليدًا لرأي فلان وفلان وإن خالفت النصوص، فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم، ولا يفتون بغير النصوص، ولم تكن المستفتين [1] لهم تعتمد إلا على ما يبلغونهم إياه عن نبيهم فيقولون: أمر بكذا، أو فعل كذا ونهى عن كذا. هكذا كانت فتواهم فهي حجة على المستفتين لهم فى ذلك، إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدمها. والله ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن مستفتيهم لم يُعَلِّمُوا إلا بما علموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه؛ هؤلاء بواسطة , وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حلله ويحرم ما حرمه، ويستبيح ما أباحه. وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم- على من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل وكذبه، وأنكر على من أفتى برجم الزاني البكر، وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات، وأنكر على من أفتى بغير علم كمن يفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر أن إثم المستفتي عليه. فإفتاء الصحابة فى حياته نوعان: أحدهما كان يبلغه ويقرهم عليه فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم. الثاني: ما كانوا يفتون به مبلغين له عن نبيهم فهم فيه رواة لا مقلَّدون ولا مقلِّدون. (الوجه السابع والخمسون) قولكم: وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122) فأوجب قبول نذارتهم، وذلك تقليد لهم؛ جوابه من وجوه: (أحدها) أن الله سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي الذي ينزل فى غيبتهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فى الجهاد فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي. (الثاني) أن الآية حجة عليهم ظاهرة؛ فإنه سبحانه نوع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين وهم: الأمراء والعلماء أهل الجهاد، وأهل العلم , فالنافرون يجاهدون عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين؛ فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهنا للناس فى الآية قولان أحدهما: إن المعنى: فهلا نفر من كل فرقة طائفة تتفقه وتنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم، وهذا قول الشافعي وجماعة من المفسرين , واحتجوا به على قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة لا يجب أن يكون عدد التواتر. والثاني: إن المعنى؛ فلولا نفر من كل فرقة طائفة تجاهد لتتفقه القاعدة، وتنذر النافرة للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم، بما نزل بعدهم من الوحي، وهذا قول الأكثرين وهو الصحيح؛ لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (وإذا استنفرتم فانفروا) وأيضًا فإن المؤمنين فى المقيمين مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والغائبين عنه والمقيمون مرادون، ولا بد فإنهم سادات المؤمنين، فكيف لا يتناولهم اللفظ؛ وعلى قول أولئك يكون المؤمنون خاصًّا بالغائبين عنه فقط. والمعنى: وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم؛ فلولا نفر إليه من كل فرقة منهم طائفة، وهذا خلاف ظاهر لفظ المؤمنين , وإخراج للفظ النفير عن مفهومه فى القرآن والسنة، وعلى كلا القولين فليس فى الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد المذموم، بل هى حجة على فساده، وبطلانه فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة؛ فمن لم تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر. كما أن النذير من أقام الحجة فمن لم يأت بحجة فليس بنذير , فإن سميتم ذلك تقليدًا؛ فليس الشأن في الأسماء، ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى فسموه ما شئتم، وإنما ننكر نصب رجل معين يجعل قوله عيارًا على القرآن والسنن , فما وافق قوله منها قبل، وما خالفه لم يقبل، ويقبل قوله بغير حجة، ويرد قول نظيره أو أعلم منه والحجة معه. فهذا الذي أنكرناه، وكل عالم على وجه الأرض يعلن بإنكاره وذمه وذم أهله. (الوجه الثامن والخمسون) قولكم: إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذته خليلاً) يريد: أبا بكر - رضي الله عنه - فإنه أنزله أبًا. فأي شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه، وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطمع في رفعها ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصح الأقوال على الإطلاق، وابن الزبير لم يخبر بذلك تقليدًا، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلالة قائله، وإنه ممن لا يقاس غيره به لا ليقبل قوله بغير حجة، ويترك الحجة من القرآن والسنة لقوله. فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى لله، وحجج الله وبيناته أحب إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال، ولقول أحد كائنًا من كان، وقول ابن الزبير: إن الصديق أنزله أبًا متضمن للحكم والدليل معًا. (الوجه التاسع والخمسون) قولكم: وقد أمر الله بقبول شهادة الشاهد وذلك تقليد له: فلو لم يكن فى آفات التقليد غير هذا الاستدلال لكفى به بطلانًا، وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب ربنا وسنة نبينا، وإجماع الأمة على قبول قوله، فإن الله سبحانه نصبه حجة يحكم الحاكم بها، كما يحكم بالإقرار، وكذلك قول المقر أيضًا، حجة شرعية، وقبوله تقليد له، كما سميتم قبول شهادة الشاهد تقليدًا فسموه ما شئتم , فإن الله سبحانه أمرنا بالحكم بذلك، وجعله دليلاً على الحكام , فالحاكم بالشهادة والإقرار منفذ لأمر الله ورسوله، ولو تركنا تقليد الشاهد لم يلزم به حكمًا، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقضي بالشاهد وبالإقرار، وذلك حكم بنفس ما أنزل الله لا بالتقليد فالاستدلال بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وتقديم آراء الرجال عليها، وتقديم قول الرجل على من هو أعلم منه، وإطراح قول من عداه جملة من باب قلب الحقائق، وانتكاس العقول والأفهام، وبالجملة فنحن: إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به؛ بل لأن الله سبحانه أمرنا بقبول قوله، فأنتم معشر المقلدين إذا قبلتم قول من قلدتموه قبلتموه لمجرد كونه قاله , أو لأن الله أمركم بقبول قوله، وطرح قول من سواه. (الوجه الستون) قولكم: وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف، والخارص، والقاسم، والمقوم، والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض، تعنون به أنه تقليد لبعض العلماء فى قبول أقوالهم، أو التقليد لهم فيما يخبرون به؟ فإن عنيتم الأول؛ فهو باطل؟ وإن عنيتم الثاني؛ فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذي قام الدليل على بطلانه! وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المخبر والشاهد لا من باب قبول الفتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الإخبار والشهادات والأقارير من التقليد في الفتوى؟ والمخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة، وقد أمر الله سبحانه بقبول خبر المخبر به إذا كان ظاهر الصدق والعدالة، وطرد هذا ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر عمن أخبر عنه بذلك، وهلم جرًّا. فهذا حق لا ينازع فيه أحد، وأما تقليد الرجل فيما يخبر به عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده. فتقليدنا له في ذلك بمنزلة تقليدنا له فيما يخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه، فأين في هذا ما يوجب علينا أو يسوغ لنا أن نفتي بذلك، أو نحكم به، وندين الله به، ونقول: هذا هو الحق، وما خالفه باطل ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة، وأقوال من عداه من جميع أهل العلم. ومن هذا الباب تقليد الأعمى فى القبلة، ودخول الوقت لغيره. وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يقلد غيره فى طلوع الفجر، ويقال له: أصبحت أصبحت، وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت، وتقليد مَنْ في المطمورة لمن يعلمه بأوقات الصلاة، والفطر، والصوم، وأمثال ذلك. ومن ذلك التقليد في قبول الترجمة، والرسالة، والتعريف، والتعديل، والجرح كل هذا من باب الأخبار التى أمر الله بقبول المخبر بها إذا كان عدلاً صادقًا. وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد فى الهدية، وإدخال الزوجة على زوجها، وقبول خبر المرأة ذمية كانت أو مسلمة فى انقطاع دم حيضها لوقته، وجواز وطئها وإنكاحها بذلك، وليس هذا تقليدًا فى الفتيا والحكم، وإذا كان تقليدًا لها فالله سبحانه شرع لنا أن نقبل قولها، ونقلدها فيه، ولم يشرع لنا أن نتلقى أحكامه عن غير رسوله؛ فضلاً عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم , ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة! ! ! لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

سوريا والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سوريا والإسلام (7) نهوض الدولة العربية وسقوطها ما ناقشنا أحدًا وكنا عند الرد على كل جملة من كلامه نلوم النفس على التصدي له إلا كاتب مقالات (سوريا والإسلام) فإن من كان يخلق ما يقول , ويفتحر له علله ونتائجه افتحارًا لا ينبغي إضاعة الوقت في الرد عليه , وإن ساء تأثير قوله، وقد خطر لنا الآن أن نترك الرد عليه لولا أننا لا نحب أن نشرع في شيء وندع إتمامه مختارين. قال: إن سبب تأسيس تلك المملكة العربية العظيمة هي: (1) كون جنات عدن لا يدخلها إلا المجاهدون. وهذا الحصر غير صحيح في الإسلام. (2) والغنائم والتحف التي كانت ترسل من سوريا إلى بلاد العرب. وهذا هذيان ظاهر , فإن كل فاتح يغنم، وما كل من غنم أسس مثل ذلك الملك العظيم، ثم إن إرسال الغنائم من الفاتحين بالفعل إلى المقيمين في بلاد العرب لا ينبغي أن يزيد في همتهم إنما يزيد فيها استئثارهم بما يغنمون. (3) وتولية كل قائد على البلاد التي يدوخها، وهذا غير صحيح , وإذا صح فهو لا يصلح سببًا؛ لأن القائد في العرب لم يكن حاكمًا مستبدًّا مستعبدًا لجيشه يسيرهم لمصلحته، ولأن أكثر أولئك القواد الكرام لم تكن لهم عناية بالولاية. والسبب الصحيح لتأسيس الدولة العربية هو أن الأمم التي فتحت العرب بلادها كانت كلها فاسدة الدين والأخلاق، مختلة النظام، معتلة الأحكام، فجاء الإسلام وجمع كلمة العرب المتفرقة على الاعتقاد الصحيح، والتهذيب الكامل، والعدل الشامل؛ فكانوا بذلك سادة لتلك الأمم التي سبقتهم بالمدنية، وبكل مقومات الأمم قبل انحطاطها وتقدمهم. وقد جاءت في كلامه كلمة فيها روح الحق لو فهم ما ترمي إليه لما كتبها؛ وهي أن العرب قنعوا أولاً بامتلاك سوريا، ولولا أن رأوا أنفسهم مهددين بالروم الذين يحيطون بهم من كل جانب؛ لما تصدوا لافتتاح غيرها. وروح الحق في هذه الجملة هو أن السبب الصحيح في زحف المسلمين إلى سوريا هو اعتداء أهلها من العرب المتنصرة وغيرهم على من يدخل في الإسلام , وقطع الطرق عليهم ومنعهم من التجارة، وإنما شرع الجهاد في الاسلام لأجل تأمين الدعوة؛ ليكون الإنسان على الدين الذي يختاره بلا إكراه ولا إجبار , ثم إنهم بعد ذلك صاروا محاربين للروم الحاكمين على سوريا ومصر وغيرهما من الأقطار، ومثل هذه الحرب لا تنتهي إلا بتدويخ إحدى الطائفتين الأخرى. ومثل هذا المقام يشتبه على الأكثرين، وسنبينه في المقال الموعود به في تاريخ الحرب وإصلاح الإسلام فيه. ثم أراد الكاتب أن يبين أسباب سقوط الدولة العربية فذكر أمورًا: (أحدها) أن ما بني على الظلم مهدوم , فإن الأمم التي خضعت للعرب كرهًا كانت كالماء المحصور بسد عظيم يطلب ثغرة ينفجر منها، ولو كان سقوط الدولة العربية بخروج السوريين والمصريين والفرس عليها، وإشعالهم نيران الثورات والفتن الأهلية في بلادهم لإسقاطها، أو إزالة ظلمها؛ لكان لقوله وجه، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن إذ لم ير أهل هذه الممالك أرحم ولا أعدل من دولة العرب فهذا السبب مخترع من مخيلة الكاتب المتعصب كما ترى. (ثانيها) أن اتساع المملكة، وعدم وجود رابطة بين أممها غير الدين كان يجزئها، ولهذا وجه يشرح بغير ما قرره. (ثالثها) عدم مهادنة دولة الروم، وهو كما ترى لا قيمة له. (رابعها) أن إطلاق الخلفاء لحكام المقاطعات والولايات الحرية التامة في تدبير شئون ولاياتهم؛ حمل هؤلاء على الاستبداد والاستقلال عند ضعف الدولة. وهذا سبب صحيح مسطور في الكتب لا ينازع فيه , ولكنه لا يبرد غليل تعصب الكاتب. (خامسها) وهو المهم عنده: أن التعصب الديني واضطهاد المسلمين لتلك العناصر المختلفة والتضييق عليهم في كل شيء بسبب الاختلاف الديني حمل هذه العناصر على كره الإسلام وخلفائهم وولاتهم، وحمل مسيحيي سوريا على الأخص على مد يد الاستغاثة إلى إخوانهم في أوربا حتى جروا على المسلمين الحروب الصليبية المشهورة. وهذا كما ترى مكرر مع الأول لا يزيد عليه إلا في ذكر نتيجة كراهة نصارى سوريا للمسلمين، وقد أنسى الكاتب تعصبه أن الحروب الصليبية ما حدثت إلا بعد انحطاط الدولة العربية، فكيف يكون الشيء سببًا لما وجد قبله؟ ! التاريخ الصحيح يشهد للعرب بأنهم كانوا أعدل الحاكمين، والحروب الصليبية لم تحدث بسوء معاملتهم، ولكن بتعصب نصارى أوربا. وذكر كُتَّابُ النصارى العارفون بالتاريخ أن الذين أساءوا معاملة زوار القدس هم السلجوقيون، وإن تعصب أوربا إنما ثار لذلك. جاء في دائرة المعارف أن زوار النصارى كانوا يفدون إلى بيت المقدس على عهد الدولة العربية ويذهبون (بأمان وطمأنينة، ولا سيما في زمن العباسيين، حتى قيل: إن هارون الرشيد الذي استحكمت الصداقة بينه وبين معاصره شرلمان بعث إليه بمفاتيح بيت المقدس تأمينًا لقلوب الزوار وتطييبًا لخواطرهم. فكان القبر المقدس وكنيسة القيامة في أيديهم يتمتعون بزيارتها بلا معارض , ولا يدفعون إلا اليسير من المال. ولما انتقلت الخلافة إلى الفاطميين، واستولوا على القدس سنة 972م ساروا على أثر العباسيين، وظلوا يحسنون إلى المسيحيين وزوارهم إلى أن قام الخليفة الحاكم بأمر الله فضيق على النصارى، وشوه الأمكنة المقدسة عندهم، وآذى الزوار، فقلقت أوربا لذلك، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى السكون؛ لأن خلفاء الحاكم رجعوا فأحسنوا السياسة. ولما استولى السلاجقة على بلاد فلسطين ظلموا النصارى، وضايقوا زوارهم؛ فهاجت الخواطر في أوربا..) إلخ، فقد رأيت ما اعترف به مؤلف الدائرة، وهو نصراني عالم بالتاريخ يقل نظيره في كتاب العربية. اعترف بأنه لم يظلم النصارى أحد من ملوك العرب إلا الحاكم العُبيدي، وقد كان مجنونًا يظلم النصارى يومًا، والمسلمين يومًا، ويحرم أكل الملوخية يومًا، ويحلها يومًا.. . ولا يسع هذا الموضع ذكر الشواهد التاريخية على حسن معاملة العرب للنصارى وسائر الملل بالعدل والمساواة، وكيف كان هؤلاء يفضلون سلطتهم على سلطة أبناء دينهم لا سيما في أول الإسلام؛ إذ كان العمل بالدين دون السياسة. ولا يسع أيضا ذكر الأكاذيب التي افتراها قسوس أوربا على الإسلام والمسلمين ليهيجوا شعوبهم على غزو البلاد السورية، وإبادة المسلمين منها. فقد خلقوا لنا من العقائد الوثنية والتقاليد الكفرية، والعيوب الدينية والخلقية ما تقشعر منه الجلود، ولا يخطر على بال أحد من البشر أن يخترعه إلا أمثال هؤلاء المتعصبين الذي خلفوا لنا من بعدهم (رفول سعادة) فورث تعصبهم وقرائحهم القادرة على الاختراع. ومن شاء أن يرى العجب العُجاب من ذلك؛ فليقرأ كتاب (الإسلام- خواطر وسوانح) لكونت كستري الفرنسي الذي عربه أحمد فتحي بك زغلول رئيس محكمة مصر. ولد التعصب الدينى الذميم في أوربا وتربى فيها، وساح إلى الشرق فأفسده على أهله، ولم يكن قبل حرب الصليب غلو في التعصب على المخالف في الدين يذكر بعدما علم العرب الناس التساهل بالعدل والمساواة بينهم وبين غيرهم؛ فسكن بذلك ما كان بين اليهود والنصارى من قبل. وكل ما كان يقع من النزاع والخلاف بين المختلفين في الدين فقد كان يقع مثله بين أهل الدين الواحد، والجنس الواحد ومن شاء زيادة البيان في هذا فليراجع مقالات (التعصب) التي نشرناها في السنة الأولى للمنار , فقد كانت موضع إعجاب النصارى والمسلمين. افتات رفول سعادة على العرب , وجردهم من مزية العدل والإنصاف التي شهد لهم بها العالم أجمع، ولم يكتف تعصبه بهذا، بل جردهم أيضًا من سائر المزايا العلمية فقال: (وهكذا سقطت الدولة العربية، ولا أسف عليها؛ لأنها لم تترك أثرًا صالحًا إلا نشرها اللغة العربية في أطراف المعمورة. ولو سأل مؤرخي الفرنجة وفلاسفتها وعلمائها عن آثارهم؛ لقالوا له: إن العرب أحيوا العلم بعد موته، والفلسفة بعد دفنها، والفنون بعد تلاشيها، وأنهم أساتذتنا في كل العلوم والمعارف فيا أسفى على دولتهم، ويا أسفى على أيامهم، ويا ليتها دامت أو طالت , وبلغت من السعي في الفضل ما أرادت؛ ليأخذ العالم عنها كل شيء كاملاً. ليقرأ تاريخ .... [*] المؤرخ , وكتاب الفيلسوف جيون , وغيرها من الكتب الإفرنجية، بدلاً من رسائل ذلك الراهب , وخطبه التحمسية التعصبية , فذلك خير له إن كان يريد أن يكتب كلامًا مقبولاً عند العقلاء، ويخدم سوريا العربية التي يملك معظمها المسلمون. إن الكاتب يفتخر بالسوريين الأصليين الذين انقرضوا وبادوا , وصارت سوريا بعدهم عربية خالصة فليخبرنا أي أًثَارَةٍ من علم تركها السوريون الأصليون؟ وهم قبائل نيفليم وأميم ورافاييم وزوزيم وعناقيم. وإن ذَكَرَ الفنيقيين؛ أَقُلْ له: إنهم جاءوا سوريا من جبال كردستان، وليسوا بسوريين أصليين، فهم فاتحون كالعرب , ولم يكن لهم من الآثار العلمية مثل ما للعرب، وإنما كانوا أصحاب ملاحة وتجارة. أعود في آخر هذه النبذة إلى معاتبة نفسي على تفنيد كلام مخترع ككلام هذا المتعصب الغالي الذي غرني بأوائله نشر جريدة المناظر محبة الإنصاف له , ولعلها تنشر الرد عليه؛ ليكون هذا كفارة لذلك، والله يتولى هدانا أجمعين. للرد بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى الدليل على وجود الله تعالى (س 11) أحمد أفندي الألفي في ميت سمنود: ما هو الدليل العقلي على وجود الله سبحانه وتعالى الذي لا يمكن لمشكك أن يشتبه فيه؟ (ج) إن الناس قد اشتبهوا في المشاهدات وغيرها من المحسوسات، وأنكر السوفسطائية منهم حقائق الأشياء، وطفقوا يشككون الناس في ذلك قائلين: كيف نثق بما نراه، وقد ظهر لنا الغلط في بعضه، ويجوز على بعض المتساويين ما جاز على الآخر. مثلاً إننا نرى العود مستقيمًا خارج الماء ونراه معوجًّا في الماء، ونرى النجم صغيرًا وكلنا يعلم أنه كبير، ويذوق من يسمونه الصفراوي العسل مرًّا ويذوقه غيره حلوًا، ويرى المحموم أو النائم أمامه أشياء كثيرة يقول من في حضرته: إنها لا وجود لها. فأمثال هؤلاء إذا كانوا يشكون أو يشككون في وجود الله تعالى لا ينفع معهم دليل ولا برهان. وأما طالب الحقيقة فهو الذي لا يشتبه في الحق إلا لعارض يصرفه عن الدليل؛ فإذا نبه إليه تنبه ورجع. ومن الناس من يسهل تنبيهم وهم أصحاب الأفكار المستقلة، ومنهم من يتعذر أو يتعسر تنبيهه على حسب بعده من التقليد وقربه من استقلال الفكر. وفي المشتغلين بالعلم والفلسفة من المقلدين نحو ما في المشتغلين بعلم الدين فإن أحدهم يسمع أو يقرأ أن فلانًا الفيلسوف، الذي يعجب به قال: إنه لم يثبت عندي دليل على وجود الله تعالى , فيقول هذا المقلد له: لو كان هناك دليل قطعي لما خفي على ذلك الفيلسوف. ويكلف نفسه بأن تشك، وترتاب أو تنكر وتفند كل دليل من هذا القبيل. ذهب بعض العلماء والحكماء إلى أن معرفة الله تعالى فطرية في البشر لا حاجة بهم إلى إقامة الدليل عليها لولا ما أحدثته الاصطلاحات العلمية من البحث في الضروريات والبديهيات كعلم الإنسان وشعوره ووجدانه. واستدلوا على ذلك بأن جميع أصناف البشر من أرقاهم كالأنبياء والحكماء إلى أدناهم كالقبائل الضاربين في معامي الأرض وأغفالها كلهم يعتقدون بقوة غيبية وراء الطبيعة سواء منهم من تعلم شيئًا من صفات ذي القوة , وما يجب له من العبادة ومن لم يتعلم، وبأن المعطلين نفر قليل يعدون من الشواذ، ويحال شذوذهم على مرض عرض على هذا الشعور الفطري كما يعرض للإحساس بالحلاوة مرض يمنع من إدراكها، وكما يعرض لبعض مراكز المخ شيء يحول دون إدراك بعض المعلومات مع سلامة سائر المدارك، فقد ثبت أن بعض الناس نسي بعض أرقام الحساب، فكان لا يحسن عملية حسابية هي فيها، ويحسن غيرها، ومثل هذا كثير فلا يقال: إن من المعطلين من لا يشك أحد بسلامة عقولهم , فإن من الناس من يضعف إدراكه لشيء واحد وإن كان قويًّا في غيره، ولم يعرف أحد قويت مداركه في كل فرع من أنواع الإدراك. وذهب بعضهم إلى أن المسألة نظرية، وأنه لا بد من إقامة البراهين على إثبات وجود البارئ تعالى؛ لأن الأنبياء والحكماء قد استدلوا وأقاموا الحجج على ذلك. ونقول جمعًا بين القولين: إن المسألة فطرية في الحقيقة، وإن إقامة الأنبياء والحكماء الحجج عليها هي لإصلاح فطرة من عرضت لهم الشبه فيها، كما تعرض في غيرها من الأمور الفطرية والضرورية، ولإزالة غلط المعتقدين بتلك القوة الغيبية، أو بالله تعالى في بعض صفاته، وفي نسبة المخلوقات إليه؛ إذ أشركوا به وجعلوا له وسطاء وشفعاء كالملوك الظالمين؛ لذلك قال الله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: 10) ... إلخ فأشار أولاً إلى أن الإيمان به أمر ثابت في الفطرة لا موضع للشك فيه، ثم ذكر بعض صنعه الدال على قدرته، وانفراده بالتأثير، والتدبير وهو كونه فطر السموات والأرض؛ أي: شق وفصل بعضها من بعض بعد أن كان الجميع مادة واحدة ... إلخ ما جاء في الآية. وإنني وجدت أقرب الدلائل تنبيهًا، وإقناعا لعقول المشتغلين بالعلوم العصرية كما ثبت لي بالتجربة والمناظرات معهم هو أن جميع ما نعرفه من الموجودات حادث عندهم، حتى إنهم ليقدرون للأرض والشمس والكواكب أعمارًا لقطعهم بحدوثها، ثم إنهم قاطعون بأن الموجود لا يصدر عن نفسه، ولا عن معدوم كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} (الطور: 35) فتعين أن يكون لهذه الموجودات كلها مصدر وجودي، ثم إنهم قاطعون بأن مصدر الكائنات والأصل الذي وجدت منه غير معروف في ذاته , وإنما يجب أن يكون موجودًا ذا قوة، فالمادي منهم يقول: المادة مع القوة هي أصل الموجودات كلها؛ فإذا سألته: ما هي المادة التي تعنيها؟ يقول: إن حقيقتها غير معروفة , فكأنه اختلف مع غيره في التسمية، واتفق الجميع على أن هذه الكائنات كلها قد صدرت عن موجود ذي قوة حقيقية غير معروفة الكنه , وهو ما عليه المسلمون؛ ولذلك قلنا في المنار: إن الفلاسفة الأوربين الذين أنكروا إلههم ما أنكروا إلا إله الكنيسة؛ أي: الإله الذي تصفه الكنيسة بصفات غير معقولة ككونه مركبًا من ثلاثة أقانيم وكون أحدها حل في أحشاء امرأة فأولدها إلهًا كاملاً، وإنسانًا كاملاً إلى غير ذلك من الصفات التي لا يقبلها عقل. هذا الاعتقاد هو الذي صرح به سسل رود الذي قالوا: إنه كان غير مؤمن بالله، وهو الذي كان يعتقده هكسلي وسبنسر وغيرهم من الفلاسفة الذين نقل عنهم التعطيل، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) . *** البيع في الذمة والسلم أو المضاربة العصرية (س 12) محمد أفندي حسن وبعض تجار البورصة بالإسكندرية: ما قولكم - دام فضلكم - في رجل من المسلمين اشترى من القطن ألف قنطار مثلاً موصوفة في ذمة البائع بثمن معلوم في شهر المحرم مثلاً، على أن يستلمها منه في أجل معلوم شهر ربيع الأول كذلك، ودفع بعض الثمن عند التعاقد وأجل باقيه إلى الاستلام. فهل للمشتري قبل قبض المبيع، وقبل حلول الميعاد أن يبيع ذلك القطن الموصوف في الذمة، ويكون تمكين البائع للمشتري من البيع في أي وقت من أوقات الميعاد قبضًا وتخلية، حتى يكون ذلك البيع صحيحًا؛ لأنه معرض للربح والخسران الذي هو قانون البيع، ويكون ما عليه المسلمون اليوم في تجاراتهم من المضاربة، وبيع الكنتراتات جائزًا في دين الله تعالى، أم يكون ذلك بيعًا فاسدًا وعملاً باطلاً مشابهًا للميسر كما يزعمه بعض الناس؟ وإذا كان باطلاً فأي فرق بين قبضه بنفسه، وبين إذن البائع له بالبيع في أي وقت؟ وما السر في ذلك؟ وأين اليسر في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) ، بل هو عين الحرج في البيع والشراء وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) أم كيف يحرم المسلمون من منفعة هذه التجارة العظيمة التي تعود على الكثير منهم؟ نطلب من حضرتكم الجواب الموافق لكتاب الله وسنة رسوله ودينه الصحيح من غير تقيد بمذهب من المذاهب مفصلاً مبنيًّا، فيه سند الجواز أو المنع على لسان مجلتكم الغراء التي أخذت على عاتقها خدمة الإسلام والمسلمين؛ لأن الإجابة على هذا السؤال بما يوافق الشرع أعظم شيء يستفيده التجار المسلمون من أمر دينهم، وكلهم بلسان واحد يطلب من حضرتكم الإجابة في أقرب وقت على صفحات المنار سواء كانوا بالإسكندرية أو غيرها وفيهم مشتركون في مجلة المنار الغراء، والكل مشتاق إليها اشتياق الظمآن للماء ليطمئن الجميع، نسأل الله تعالى أن يعلي شأنكم، ويعضد عملكم , ويجعلكم ملجأ للقاصدين. (ج) نهى الكتاب العزيز عن أكل أموال الناس بالباطل؛ أي: بغير حق يقابل ما يأخذه أحد المتعاوضين، وأحل التجارة، واشترط فيها التراضي فقط، ومن أكل أموال الناس بالباطل ما ورد في الأحاديث من النهي عن بيع الغرر، وعن الغش، وعن بيع ما لا يملك لعله لا يقدر عليه، وقد ورد في حديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما أنهم كانوا يتبايعون الطعام جزافًا بأعلى السوق، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يحولوه، وفي رواية: ينقلوه. وقال: (من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يقبضه) وفي رواية لأحمد: (من اشترى طعامًا بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه) . وروى أحمد ومسلم من حديث جابر: (إذا ابتعت طعامًا فلا تبعه حتى تستوفيه) وهذه الأحاديث خاصة بالطعام، وبالتجارة الحاضرة تدار بين التجار كما يدل عليه كونهم كانوا يفعلون ذلك في السوق، وأُمروا بالتحويل. وفي حديث حكيم بن حزام عند أحمد والطبراني قال: قلت: يا رسول الله إني أشتري بيوعًا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: (إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه) وهو عام ولكن في سنده العلاء بن خالد الواسطي ضعفه موسى بن إسماعيل. وهناك حديث زيد بن ثابت عند أبي داود وابن حبان والدارقطني والحاكم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تباع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. وقد خص بعض العلماء النهي بالطعام، واستدلوا على ذلك بأحاديث أخرى تدل على صحة التصرف بالمبيع قبل القبض، ومن هذه التصرفات ما هو مجمع عليه، كالوقف، والعتق قبل القبض. وقد علل ابن عباس النهي بأن الشيء الحاضر إذا تكرر بيعه ولم يقبض؛ كان ذلك بمنزلة بيع المال بالمال - أي: فإن المال ينتقل من يد إلى يد - والشيء حاضر لا يمس كأنه غير محتاج إليه ولا مراد. رواه الشيخان، قال مسلم: إنه قال لما سأله طاووس عن ذلك: ألا تراهم يبتاعون بالذهب والطعام مرجأ، وحاصل هذا التعليل أن النهي لمنع الاحتيال على الربا، ولا بد في التجارة أن تكون السلع هي المقصودة فيها لا سيما , فإذا كانت حاضرة فما معنى شراء فلان السلعة الحاضرة بعشر جنيهات وبيعها من آخر بخمس عشرة، وهي حاضرة وهم حاضرون إلا الحيلة على الربا؟ وأي فائدة للناس في حل مثل هذا اللعب بالتجارة، وإننا نعلم أن بيع البورصة ليس من هذا القبيل، ولكن أحببنا أن نورد أصل مآخذ العلماء في تحريم بيع الشيء قبل قبضه؛ ليميز المسلم بين البيوع التي تنطبق عليها الأحاديث وغيرها. ثم إن علماء المسلمين كافة يجيزون إرجاء الثمن أو إرجاء القبض، ولكن أكثرهم يمنع بيع الشيء قبل قبضه مطلقًا؛ فإن احتجوا بالأحاديث المذكورة آنفًا فقد علمت أنها لا تدل على هذا الإطلاق، وإن قالوا: إن بيع ما في الذمة لا يخلو من غرَر، وربما يتعذر تسليمه، نقول: إن هذا رجوع إلى القواعد العامة التي وضعها الدين للمعاملات، وكلها ترجع إلى حديث: (لا ضرر ولا ضرار) فكل ما ثبتت مضرته، ولم يكن في ارتكابه منع ضرر أكبر منه؛ فهو محرم، وإلا كان حلالاً، وهذا ينطبق على قاعدة بناء الشريعة على اليسر ودفع الحرج، ولا شك أن في مبايعات البورصة ما هو ضار وما هو نافع، وتحرير ذلك بعد العلم بأصول الأحكام التي ذكرناها متيسر للتاجر المتدين. وقد جاء في الصحيح النهي عن بيع المخاضرة، وهو بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحه، وذلك لما كثر تشاكيهم، ودعوى البائعين أن الآفات والجوائح أصابت الثمر قبل بدو صلاحه، وإنما هذا في ثمر شجر معين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ !) والحديث في البخاري. ولا يدخل في هذا بيع كذا قنطارًا من القطن قبل بدو صلاحه إذا لم يعين شجر القطن، ويدل على ذلك جواز السلم الذي يدخل في جميع شروطه وأحكامه المشروحة في كتب الفقه؛ فنذكر حقيقة ما جاء فيه في الأحاديث الصحيحة فيه إنارة للموضوع؛ فإننا غير واقفين على تفصيل ما يجري في البورصة من ا

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع حب القوة.. رابطة المدنية (تمهيد ثان) البر وطن البشر، يسبحون فيه كما تسبح الحيتان في البحر. يوجد في الأرض بران عظيمان: أحدهما عُرف قديمًا، والآخر عرف أخيرًا (سنة 898هـ - 1492م) البر القديم قطع ثلاث كبرى: أوربا في الغرب الشمالي، وأفريقية في الغرب الجنوبي، وآسيا في الشرق من الشمال إلى الجنوب: والبر الجديد قطعة لا شرقية ولا غربية. وفي البحار قطع متجاورات من الجزائر صغيرة وكبيرة تتبع في اصطلاح المقسمين لواحد من هذه البرور، إلا الجزائر التي تقع في الأوقيانوس الجنوبي فإنها تحسب قطعة وحدها. على أنه حيث كان البر مهما عظمت مساحته فهو جزيرة في البحر. وإذا كانت البرور كلها جزائر فأول بشر في أية جزيرة وجد؟ وكيف انتقل البشر من جزيرة إلى أخرى؟ وفي أي الجزائر حدثت له مراقي المدنية؟ فلبيان هذه المسائل حررت هذا التمهيد الثاني: يلهج كثيرون بقولهم: إن آسيا مهد البشر، ولكن لا دليل على ذلك، بل لا دليل على أن هذا النوع وجد بادىء بدء في البر القديم مطلقًا، كما لا دليل على أنه وجد بادىء بدء في البر الجديد. وإنما لهج الناس بهذه القولة؛ لأن ما حفظه التاريخ يدل على قدم سكان آسيا، ويدل على أن سكان أوربا أتوها مهاجرين من جهات آسيا. وفريق من الحكماء تقدست أفكارهم عن الجمود فراموا نبأ عن البشر قبل العهد الذي حدثت فيه صناعة الكتابة، ولم يعبأوا بكثير من أساطير الأولين. ومنهم من أوحى إليهم الروح الطاهر أن يستهدوا بطبقات الأرض فاهتدوا بها إلى معرفة أنواع من الحيوانات كانت فبادت. وهدوا إلى معرفة العهد الذي وجد فيه الإنسان. فمن هؤلاء يرجى أن نقتبس المعرفة في هذه المسألة. فسائلوهم إن حرصتهم على هذه المعرفة، ولكن أوصيكم لا تقنعوا منهم بجواب مجرد عن الدليل، واعلموا أنه لا يتم لهم دليل حتى يثبتوا أنهم نقبوا في كل جزيرة في كل طبقاتها. أما الآن فلتبق هذه المسألة مجهولة لدينا، والله بكل شيء عليم. ومن الناس من يزعمون أن البشر ينتهون إلى أصول متعددة وجدت في جزائر متعددة وهو وَهْمٌ نَاجم من عدم التدقيق، ومن جمود الفكر على بعض المحسوسات، وما أقبح جمودًا ينتهي بصاحبه إلى جهل يظنه علمًا. ويصرفه عن علم يخاله جهلاً. وإننا قدَّمنا إشارات نافعة إلى كيفية تحكم الحاجات على الإنسان مع مشاركة فطرته لها بالتحكم، ومنها علمتم كيف تحدث له الصنائع والأعمال، على قدر الحاجات والآمال. والآن نبني على ما قدمنا فنقول: إن من فطرة الإنسان، وجملة خواصه الحرص على ادخار الزوائد عن حاجته، وإن الحرص يحمله أن لا يقف موقفًا واحدًا في اجتلاب المكسوبات والمدخرات، ففريق الرُّحَّل يحتاجون في توفير الحيوانات المأسورة والاستكثار منها إلى التنقل الدائم في المراعي، ومتى كثروا وكثرت أموالهم تلك؛ يحتاج كل طائفة منهم إلى ديار واسعة يتنقلون فيها في الصيف والشتاء والاعتدالين، ولا يزالون يستولون على الديار ويتقاتلون من أجلها حتى تضيق بهم؛ ويحتاج الأضعفون منهم أن يرحلوا إلى ديار لا ديَّار فيها من الأقوين. وفريق المقيمين يحتاجون في توفير الحبوب، والمعادن، والمصنوع من المعادن إلى المبادلات الدائمة؛ فلا تزال طوائف منهم يضربون في الأرض يبتغون أن يبدل بعضهم من بعض ما صنعوا وملكوا، ومتى كثروا وكثرت أموالهم - كثرت؛ على هذه النسبة - مقراتهم، ثم اضطروا أن يتغالبوا على أحسن الديار وأوسعها ليتخذوا فيها أوطانهم. ولا يزالون يتغالبون حتى يضطر الأضعفون للرحيل إلى ديار أخرى يتخذونها وطنًا. وعلى هذا الوجه حدث ما نسميه القُرى أو البلاد , وتباعدت بينها المسافات، وصار السفر للمقيمين ضربًا من اللوازم يقوم به طوائف منهم على نسبة اقتسام الأعمال، وكثرة الأموال والآمال. فافرضوا على هذا الوجه أن طائفة من الأضعفين القريبين من البحار ضايقهم الأقوون من جيرانهم حتى اضطروهم إلى الرحيل، ولم يبق أمامهم إلا الموت أو تجربة الحياة على متن ما كانوا قد جربوه فرأوه يطفو في البحر (وهم جيرته) من ألواح الأخشاب، فأي الأمرين يختارون؟ أفلا يختارون أن يركبوا ما جربوه من الطوافي، ويجربوا على ظهره كيف يحيون، ويأملوا أن يتاح لهم من الغيب ما به يحيون؟ افرضوا أنهم سلموا أنفسهم للبحر على متن الألواح آملين ما هم آملون، وبينما هم كذلك؛ إذ أشرفوا على بر في بحر، ودنت بهم الألواح حتى نزلوا إلى ذلك البر، ووجدوا فيه ما كان يجده أوائل البشر من رزق، أفلا يصيرون أمة كما صار من الزوج الأول أمم لا تحصى. هكذا افرضوا إن أبيتم أن تقولوا: إن نفرًا من جيران البحر أولئكم جربوا السير في البحر على الألواح من غير ضرورة ألجأتهم؛ كالتي مثلناها، بل أوحي إليهم أن يجربوا تلك التجربة، وفي سيرهم وجدوا برًّا في بحر، ثم أحبوا أن يتخذوا لهم وطنًا لِمَا وجدوا فيه من رَغدِ زائد على ما في وطنهم الأول. على أي الوجهين بنى الباني يمكنه أن يقول: هكذا كان أول سير في البحر. وهكذا كان أول انتقال من جزيرة إلى أخرى. وهكذا عرف البشر أن في البحر برورًا؛ فصاروا يتنقلون حسب الحاجات أو حسب الآمال من جزيرة إلى أخرى، حتى ملئت الجزائر بشرًا وملئوا بها. أما الجزيرة الأولى التي حدثت فيها للنوع مراقي المَدَنية بادىء بدء؛ فلا يبعد أن تكون هي البر المعروف قديمًا، ثم لا يبعد أن تكون قطعة آسيا منه هي مهد المدنية وفرق بين قولنا: مهد البشر، وبين قولنا: مهد المدنية. (ثمة بقية) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ز ((يتبع بمقال تالٍ))

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (تاريخ التمدن الإسلامي) صدر الجزء الثاني من هذا التاريخ المفيد الذي يجب على الناطقين بالضاد الاعتراف لمؤلفه جرجي أفندي زيدان بفضل السبق إلى خدمتهم به، ويا ليتهم يتحدونه ويتلون تلوه فيه. صدر هذا الجزء من نحو تسعة أشهر، وقد أرجأنا الكلام عليه لنطالعه كله، وننتقده إجابة لطلب المؤلف , ولم نجد سعة في كل هذه المدة لمطالعته على شدة الشوق، وصدق الرغبة فرأينا أن لا بد من التنويه به شكرًا لمؤلفه ، وتوجيهًا للنفوس إليه، وإن لم نقرأ منه إلا قليلاً. الجزء في ثروة الدولة الإسلامية وأسباب تكونها وانحطاطها، وثروة المملكة مدنها وقُراها. وقد أحسن المؤلف أن أشار في أخريات صفحات الكتاب إلى عزو النقل إلى الكتب التي أَخَذَ عنها عملاً باقتراح بعض الفضلاء، ولكن الطريقة التي جرى عليها، وسبقه بها غيره لا تخلو من إيهام وإبهام؛ فإنه يذكر أمرًا، ويضع في آخره رقمًا يصنع مثله في أسفل الصفحة تحت خط أفقي، ويذكر عند الرقم اسم الكتاب أو المؤلف الذي أخذ عنه، فيتوهم القارئ أن ذلك الأمر كله من ذلك الكتاب، وربما كان المراد بعضه كما يظهر لك من أول عزو في الكتاب، وستراه قريبًا. قسم المؤلف ثروة الدولة الإسلامية إلى خمسة أدوار أو أعصار، عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وعصر الخلفاء الراشدين، وعصر الأمويين، وعصر العباسيين الأول، وعصرهم الثاني؛ فقال في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ما نصه: (إذا كان المراد بثروة الدولة ما يزيد من دخلها على خرجها، أو ما تختزنه بعد نفقاتها من الأموال ونحوها، فالدولة الإسلامية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عندها ثروة حقيقية؛ لأنهم لم يكونوا يختزنون مالاً، ولا كان عندهم بيت مال، بل كانوا إذا أصابوا غنيمة فرقوها فيما بينهم، وكذلك الصدقات؛ فإنها كانت تفرق في أولها؛ وإذا ظل منها شيء؛ استبقوه لحين الحاجة إليه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتولى ذلك بنفسه، وأكثر الصدقات من الماشية والإبل والخيل فكان يسمها بميسم خاص بها، تمتاز بها عن سواها. (فكانت ثروة الدولة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن بقايا الزكاة من إبل أو خيل أو ماشية، وتمتاز عن أموال سائر الناس بمراع خاصة كانت تحبس فيها بالبقيع قرب المدينة يعبرون عنها بالحمى [1] , وبميسم كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يسمها به [2] , وبلغت الأموال في أيام النبي صلى الله عليه وسلم نحو 40.000 بين إبل وخيل وغيرها [3] ومن هذه الأموال وما يلحق بها من مال الصدقة النقد كانوا ينفقون على غزواتهم، وعلى تحصيل الزكاة، وإعالة الفقراء ونحوهم) اهـ. فترى أنه أشار عند الرقم (1) إلى النقل عن الماوردي فتتوهم أن الجملة من قوله: (فكانت ثروة الدولة) إلى الرقم معزوة إلى الماوردي، والصواب أن المأخوذ عن الماوردي هو تسمية المراعي بالحمى، وأنها كانت بالبقيع وقد وقع في هذا السهو أيضًا كما تعرفه من عبارة الماوردي نفسها قال: (وحمى الموات - أي: الأرض التي لا ملك لها - هو المنع من إحيائه أملاكًا ليكون مستبقى الإباحة لنبت الكلأ، ورعي المواشي قد حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وصعد جبلاً بالبقيع، قال أبو عبيد: (هو النفيع بالنون) ، وقال: هذا حماي، وأشار بيده إلى القاع , وهو قدر ميل في ستة أميال حماه لخيل المسلمين من الأنصار والمهاجرين) : اهـ بنصه (ص 176) . وعبارة صاحب التاريخ تفيد أن الخيل من مال الزكاة , والصواب أنه لا زكاة فيها والمراد بالخيل في عبارة الماوردي: خيل المسلمين المملوكة لهم. ومثل هذا الغلط لا يسلم منه من يأخذ العلم عن الكتب من غير تلقي كل علم عن أهله. فالمصنف جعل الخيل من مال الزكاة، وجعل الحمى خاصًّا بإبل الزكاة وخيلها وماشيتها، وكلا الأمرين غلط كما رأيت. ثم قال في عصر الخلفاء ما نصه: (هذا هو عصر الإسلام الذهبي، عصر العدل والتقوى، كانت الحكومة جارية فيه على سنن العدل والاستقامة والغَيْرة الحقيقية على الدين، ونبذ الدنيا، وهو العصر الذي اتخذه المسلمون منوالاً ينسجون عليه، وكلما حادت دولة من دولهم عن جادة الحق، طلبوا إليها الرجوع إليه، والسير على خطوات الخلفاء الراشدين؛ لأن الحكومة انتقلت بعدهم إلى طور جديد، وانقلبت من الخلافة الدينية إلى الملك السياسي، ونشأت في الخلفاء والعمال المطامع، وأخذوا في حشد الأموال بأية وسيلة كانت) اهـ. فليتأمل قول هذا المؤرخ المنصف صاحب مقالات (سوريا والاسلام) ، وكم في أبناء ملته من حجة مثله عليه ثم قال: (فلما كثرت الأموال في أيام عمر، ووضع الديوان؛ فرض الرواتب للعمال، ومنع ادخار المال، وحرم على المسلمين اقتناء الضياع والزراعة أو المزارعة؛ لأن أرزاقهم وأرزاق عيالهم تدفع لهم من بيت المال، حتى إلى عبيدهم ومواليهم - أراد بذلك أن يبقوا جندًا على أهبة الرحيل، لا يمنعهم انتظار الزرع، ولا يقعدهم الترف والقصف؛ فإذا أسلم أحد من أهل الذمة سكان البلاد الأصليين صار ما كان في يده من الأرض وداره إلى أصحابه من أهل قريته تفرق بينهم، وهم يؤدون عنها ما كان يؤدي من خراجها، ويسلمون إليه ماله ورقيقه وحيوانه، ويفرضون له راتبًا في الديوان مثل سائر المسلمين) ... إلخ ما ذكره في هذا المقام نقلاً عن ابن عساكر، وهو موافق لما نقلناه في الجزء الماضي ردًّا على صاحب مقالات سوريا والإسلام. ثم ذكر أن الخلفاء الراشدين لم يتأثلوا مالاً، ولا عقارًا؛ لما كانوا عليه من الزهد، وشدة التمسك بالدين. وذكر أن أكثر عمالهم كانوا كذلك، فليعتبر بهذا ذلك المتعصب الذي ينسب إلى المسلمين في الصدر الأول ما هم براء منه بشهادة جميع العلماء من جميع الملل. ثم ذكر أن رأي عمر بعدم اختزان المال، ينافي المبدأ الأساسي الذي تقام عليه الدول، وتتأيد به السلطات، وأن سببه النزعة الدينية، وأن المسلمين عادوا بعد ذلكم إلى الأصل الطبيعي في الدول، فجمعوا الأموال في عهد بني أمية، حتى إنهم بدءوا في زمن عثمان لتساهله مع عماله منهم، وأن معاوية اقتنى الأرضين , واقتدى به الناس في الاقتناء والبيع. وبعد أن ختم الكلام بمثل ما بدأه من الثناء على الراشدين انتقل إلى عصر بني أمية، وذكر ما كان فيه من اقتدائهم بالروم والفرس في الترف، وبسطة العيش وما جرهم ذلك إليه من الظلم والجور، ولكن معظم ثروتهم كانت تنفق في الحروب وأنهم ابتدعوا ضرائب جديدة، وظلموا الرعية حتى جاء عمر بن عبد العزيز العادل فيهم فرد المظالم، وأنصف الناس مؤمنهم وكافرهم من أهله وولده وسائر الناس، وعزل الولاة الظالمين، ثم قال: (فترى مما تقدم أن القواعد الأساسية التي قام عليها الإسلام تدعو إلى الإنصاف والرفق، ولكنها تختلف مظاهرها باختلاف الذين يتولون شئونها. ولو أتيح لعمر بن عبد العزيز أن يعيدها إلى ما كانت عليه في عهد ابن الخطاب؛ لامَّحت مظالم بني أمية، ولكن جاء في غير أوانه فذهب سعيه هدرًا، ولما مات عادت الأمور إلى مجاريها ورافقها رد الفعل) ... إلخ. ونقول: إن السبب الصحيح في تمكن بني أمية من الظلم هو هدم قاعدة الشورى، وسيطرة الأمة على الحكام التي صرح به أبو بكر في خطبته يوم ولي الخلافة، ثم صرح بها عمر كذلك يوم ولي (راجع المنار ص 234م4) . وقالها عثمان يوم قام الناس عليه، قال على المنبر: (أمري لأمركم تبع) وقد تمكن بنو أمية من هدم هذا الركن الركين بعصبتهم المؤلفة من الموالي وغيرهم ممن لم يتمكن الإسلام من نفوسهم، واستعانوا على ذلك بالمال الذي يأخذوه من غير حقه، كما هو مفصل في الكتاب الذي نقرظه , ثم انتقل إلى الكلام على بني العباس، فأسهب وأفاد، ولعلنا نعود إلى مطالعة ما كتبه واقتباس بعض فوائده , وصفحات هذا الجزء 190 وثمنه 15 قرشًا، ويطلب من مكتبة الهلال. *** (السعادة العظمى) صدرت في تونس مجلة عربية جديدة بهذا الاسم، وهي مجلة علمية أدبية إسلامية تصدر في غُرة كل شهر عربي، وفي سادس عشرة لمنشئها عبده محمد الخضر بن الحسين المحصل على رتبة التطويع العلمية بجامع الزيتونة الأعظم , وقيمة الاشتراك فيها بالمملكة التونسية 8 فرنكات في السنة وبالجزائر وطرابلس الغرب عشرة فرنكات، وبالممالك الشرقية ومراكش 12 فرنكًا والعدد منها يتألف من كراستين، وهو مطبوع على ورق جيد بالحرف الإستانبولي. وقد سَرَّنَا من هذه المجلة أنها دلت على تساهل من دولة فرنسا مع المسلمين في نشر العلم كما توقعنا، وعلى توجه المشايخ المشتغلين بالعلوم الاسلامية إلى الصحافة؛ فنسأل الله تعالى أن يوفقنا، ويوفق صاحب هذه المجلة إلى خدمة الإسلام الخدمة النافعة، وأن يُنَجِّح عملنا وعمله آمين.

التعليم الإسلامي فى سيراليون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم الإسلامي في سيراليون جاء في مجلة سيراليون الأسبوعية الإنكليزية (عدد 29م 20) تحت هذا العنوان ما يأتي: يخضع سكان هذه المستعمرة منذ بدء استعمارها أتم الخضوع للحكومة الإنكليزية، وقد كان السير تشارلس ماك كارثي حاكم سيراليون - بين ثمانين وتسعين سنة مضت - أول من وجه أنظار الحكومة الإنكليزية إلى فائدة تسهيل المواصلات مع المسلمين القاطنين في البلاد الواقعة شرق سيراليون وسنغال , وكان يومئذ حاكم المقاطعتين إذ كانت سنغال من الأملاك الإنكليزية، وهو أول من حول تجارة مقاطعات البربر إلى الشاطئ الغربي، وذلك بما كان يبديه من الكرم والمجاملة لزعماء القبائل المحمدية الذين كانوا يأتون إلى الشاطئ تباعًا تلبية لدعوته. ولكن أعمال السير تشارلس ماك كارثي كانت تجارية بحتة؛ فإنه لم يحلم بأن سيصبح أولئك الأقوام جزءًا من الإمبراطورية الإنكليزية في وقت من الأوقات، وأنهم يحتاجون حينئذ إلى الدرية العلمية والسياسية ليكونوا عضوًا عاملاً في جسم المملكة. ولم يكن إلا في الثلاثين سنة الأخيرة أي منذ تولى السير أرثور كنيدي إدارة تلك البلاد، أن اعتنى بتوسيع دائرة التعليم في المستعمرة لكي تضم المسلمين إليها. وقد كان السير أرثورك كنيدي وخلفه السير جون بوب هنيسي ميالين أشد الميل إلى تعليم المسلمين العلوم الغربية؛ لأنهما رأيا فيهم نشاطًا يُمَكِّن الحكومة من الاعتماد عليهم في أعمالها الداخلية، وقد لحظا أن المسلمين هم الشعب الوحيد المستنير بنور المدنية، والذي يؤلف هيئة اجتماعية في تلك الأقطار المظلمة، وأنه يمكن بواسطتهم إخضاع جميع القبائل العظيمة في داخلية البلاد. وفي عهد هذين الرجلين تمهدت الطرق للإنكليز في جميع المقاطعات الواقعة بين سيراليون وسوكوتو، وكان في إمكانهم إنشاء مراكز سياسية، ودورًا علمية متصلة بعضها ببعض بين سيراليون وهوسالاندر , ولكن ذلك أصبح مستحيلاً الآن لدخول القوات الأجنبية , ومدها نفوذها في تلك الجهات. ومع ذلك فإن الساسة الإنكليز يرون أن انتشار التعليم بين المسلمين في سيراليون لا يخلو من التأثير فيما بقي من الأراضي الواقعة وراء المستعمرة في قبضة الإنكليز. ولا شك في أن إقامة مدرسة للمسلمين ينطبق تعليمها على معتقدهم تجذب إلى المستعمرة جميع أهل وطنهم والمتدينين بدينهم في قلب القارة. ولكن أهم ما حمل الحكومة على إنشاء مدارس إسلامية أساسية في سيراليون هو أن هذه المستعمرة التي هي المستعمرة الإنكليزية الوحيدة على الشاطئ، والتي يتكلم باللغة الإنكليزية في جميع أنحائها يجب أن تكون قاعدة لمدرسة جامعة يعلم فيها الشبان المسلمون العلوم العالية من علوم الإنكليز والغرب، وقد أشار الحاكم ناتان إلى شيء من هذا القبيل في خطابه الذي ألقاه في 7 أغسطس 1899؛ إذ افتتح المدرسة الإسلامية في مدينة فوله قال: إني أعتقد أن فتح هذه المدرسة سيكون فجر يوم باسم في التعليم الإسلامي , وأنه لا يمضي بضع سنين حتى يكون في سيراليون مدرسة جامعة تنبعث منها الحكمة والمعرفة، وتنبسطان فوق جميع أرجاء غربي أفريقيا. وهذا القول الذي فاه به الحاكم المذكور في ذاك الحين قد رددت صداه السياسة الإنكليزية في الوقت الحاضر، وذلك بالنظر إلى ما تراه من التبعة الملقاة عليها إزاء العدد العديد من الشعب الإسلامي الذي يقطن غربي أفريقيا وقلبها. وقد انتبه الرأي العام الإنكليزي إلى أهمية تعليم مسلمي أفريقيا العلوم الغربية على أثر قيام اللورد كتشنر ومناداته بطلب المال لتأسيس مدرسة جامعة في الخرطوم لتعليم النشء الإسلامي. وقد قال اللورد كتشنر في مخاطبته الشعب الإنكليزي: (إن علينا تبعة كبيرة ملقاة على عواتقنا؛ فإن على الفاتح أن يهذب ويمدن. والعمل الذي قامت العقبات في سبيله بعد موت غوردون يجب أن يجدد الآن؛ ولذلك أقترح أن تؤسس في الخرطوم مدرسة جامعة بمال الإنكليز تنسب إلى اسم غوردون لإحياء ذكره، ولتدل على أننا لا نزال نذكر هذا الرجل العظيم، ولنحقق أمانيه التي كان يسعى إلى الحصول عليها، ولا يلزمني أن أضيف إلى قولي هذا أنه لا يجب أن نتداخل بعملنا هذا في دين القوم، والمدرسة التي اقترحت إنشاءها ستوضع لها خطة تعليمية بحتة، ولا يجب أن يدخل عليها شيء من الدروس الدينية. وسنجلب إليها التلامذة من مسلمي السودان، وإني واثق بأن اتخاذ المدرسة للتعاليم الدينية يذهب بالفائدة المطلوبة منها) . وقد اقترح اللورد كتشنر هذا الاقتراح بعد ستة أشهر من إلقاء الماجور ناتان لخطابه عند افتتاح مدرسة فوله. فغربي أفريقيا في حاجة الآن إلى مدرسة جامعة كالمدرسة التي أسسها اللورد كتشنر. فالحكومة الإنكليزية أنشأت خمس كليات في الهند على طراز كلية لندره. وهذه الكليات أنشئت في كلكوتا ومِدْرَاس وبومباي والله أباد وبنجاب. ومن الأسف أن يقال: إنه رغم التسهيلات الكبيرة التي أوجدت للتعليم في تلك الجهات مدة جيلين على الأقل لم يكن للتلامذة حتى الذين حازوا قصب السبق منهم أدنى إلمام بالحياة العملية، والحالة هناك سائرة من سيئة إلى سوءى. والوطنيون الأذكياء قد شعروا بهذه الحالة السيئة منذ سنين عديدة. وجميع حكام المستعمرة انتقدوا الخطة التي تسير عليها المدارس، والسير أرثور كنيدي شعر بهذا الاحتلال بين عامي 1868 و1872. وفي عام 1872 تقدم بعض زعماء الوطنيين بقيادة المرحوم المستر ويليام غرانت من السير جون بوب هنيسي الذي كان حاكمًا على المستعمرة يومئذ، ورفعوا إليه عريضة يطلبون فيها من الحكومة إنشاء كلية لغربي أفريقيا في سيراليون، فأعجب الحاكم بشعورهم هذا، ووافق على مشروعهم، وأبدى آراء عديدة بهذا الشأن أدرجت في ذاك الحين في جريدة (النيجرو) ، ولم يفكر في إنشاء كلية للأشراف وذوي الثروة، بل كان من رأيه تأسيس كلية جامعة في غربي أفريقيا غير مختصة بأولاد الرؤساء وذوي اليسار، بل يدخلها أيضًا أبناء الفقراء الذين فيهم قابلية للعلم ليتغذوا بلبان العلوم أسوة بأبناء الكبار، كما كانت الحالة في كليات أيرلندا وفي كليات أوربا. وقد كتب الحاكم بهذا الشأن إلى اللورد كمبرلي الذي كان وزير المستعمرات في ذاك الحين؛ ولم يعارض الوزير في هذا الأمر، ولكن الحاكم كنيسي الذي كان مصممًا على إنفاذ هذا المشروع غادر المستعمرة في أثناء المناقشات التي كانت جارية بهذا الصدد فأهمل المشروع يومئذ , ولكن تأثير هذه المناقشات ظل سائرًا، وقد لوحظ أن إلحاق مدرسة خليج فوره العليا بكلية درهام كانت نتيجة ذلك المشروع. ولا يوجد بلاد في العالم أحوج إلى التعليم من هذه البلاد؛ لأن عليه وحده يتوقف الإصلاح. فالآراء التي تحكم العالم في هذه الأيام تتشعب جذورها ببطء، ولكن تشعب الجذور في هذه البلاد أبطأ منه في غيرها، فالرجل الذي يُرجى منه أن يكون معلمًا أو مُصْلِحًا في هذه البلاد يجب أن يعامل بمنتهى الصبر والأناة. ولكن النتيجة لابد أن تكون مرضية، ولو بعد حين، ولذلك لا يجب أن يهمل أي مشروع يكون من ورائه النجاح عاجلاً أو آجلاً. ففي الختام نزف التهاني إلى السير تشارلس كنج هارمان حاكم المستعمرة الذي قام بهذا المشروع العظيم، ولا شك أن مسلمي تلك البلاد يقدرون أعماله حق قدرها. اهـ وكتبت المجلة في هذا العدد أيضا ما يأتي: *** افتتاح مدرسة إسلامية جديدة أميرية في سيراليون بعد ظهر الاثنين في 14 مارس احتفل حاكم مستعمرة سيراليون السير تشارلس كنج هرمان بافتتاح مدرسة إسلامية أميرية بحضور جم غفير، وقبل الموعد المحدد اجتمع عدد كبير من المسلمين وغيرهم في الشوارع منتظرين قدوم الحاكم وأتباعه، وعند قدومه أحاط به القوم تتقدمهم (البالانجاي) وهي موسيقى وطنية فأخذ بعض مشاهير العازفين يعزفون عليها، وانتخب اثنتان من نساء (البللي) لتنشدا مديح الحاكم، واللاِّدي كنج هارمان اتباعًا لعادة بعض قبائل البلاد الداخلية، وهي أنه عند إقبال أحد الرجال العِظَام عليهم يَأْتُون ببعض النساء المغنيات ليعدوا مآثره بالنشيد. وقد أحدثت هاتان المغنيتان تهييجًا بعبارات الإطراء التي فاهتا بها. ولما دخل الحاكم غرفة المدرسة التي كانت الطريق المؤدية إليها مزدانة بالأعلام وبأغصان النخل، نهض الأولاد وأنشدوا نشيد الملك، ثم مشى الحاكم وجماعته وصعدوا إلى فسحة مرتفعة حيث كانت الكراسي معدة للزائرين. وقد كانت غرفة المدرسة قبلاً قذرة وغير منتظمة، ولكنها أُصْلِحت الآن، وأصبحت آية في النظام والرونق. وقد أنشئت هذه المدرسة بناءً على مشروع جديد أُريد به ضم مدرستي ماندينفو وفوله وجعلها مدرسة واحدة، وانتخب لها ناظر مدرب، ومعلمون ذوو كفاءة. وقد كان تحاسد القبيلتين حائلاً دون هذا الضم والوحدة في العمل، ولكن ما أُلقي على زعمائهما من الوعظ والإرشاد جعلهم يقدرون الاتحاد والتعاضد حق قدره فنبذوا التباغض والتحاسد وراء ظهورهم، وتوافقوا على المنفعة العامة لأولادهم. وبعد استقبال الحاكم بدأ الإمام عبد العزيز بالدعاء , ثم رتل التلامذة ترنيمة إسلامية باللغة العربية، ثم تلا الألفا إسكندر تقرير مدرسة الماندينغو، وعقبه الألفا الحسين بتقرير المدرسة الإسلامية، وقدم التقريران إلى الحاكم، ثم قام الحاكم لإبداء ملاحظاته , فقوبل بأصوات الابتهاج. وبدأ أولاً بشكر الجمع الحاضر من مسلمين ومسيحيين على حسن استقبالهم له وللاِّدي كنج هارمان، وأبدى لهم عظيم ارتياحهما إلى المهمة التي أتيا من أجلها، وهي ضم المدرستين، وجعلهما مدرسة واحدة. وقال: إن مدرسة الماندينغو أسسها الحاكم ناتان في عهد توليته إدارة المستعمرة، وأراد بتأسيسها تعليم أولاد القبائل الداخلية اللغتين العربية والإنكليزية، وقال: إنه لما زار المدرسة في أبريل العام الماضي وجد فيها ما لا يسر الخاطر، فبدلاً من أن تكون مدرسة إسلامية وجدها مدرسة مسيحية خلافًا لما كانت تنويه الحكومة من إنشائها. فرأى إذ ذاك أن يسحب من متولي المدرسة رخصة الحكومة؛ لأنهم لم يسيروا بموجبها، وسرَّ بأن عمله هذا أدى إلى نتيجة حسنة. وقد عاش بينهم مدة طويلة، وعرف الطرق التي تعود عليهم بالمنفعة من وراء التعليم , فبينما كانت الحكومة راغبة في تعليمهم ما ينطبق على دينهم كانت أيضًا راغبة في تعليمهم اللغة الإنكليزية التي تساعدهم على العمل والارتزاق. وإنه ليدهش حين يرى قسمًا منهم يعارض في تعليم اللغة الإنكليزية , فلا يبرحن أذهانهم أنهم مع كونهم مسلمين فهم أيضًا رعايا الحكومة الإنكليزية، وتعلم اللغة الانكليزية يوصلهم إلى معرفة ما هو جار من الأعمال العظيمة في العالم، وليس في نية الحكومة أن تبدل جنسيتهم فتجعلهم إنكليزًا، بل تريد أن يبقوا أفريقيين، ولكن تعلم اللغة الإنكليزية يساعدهم على حياتهم القومية، وعلى أعمالهم. ثم أبدى أسفه لوفاة ناظر المدرسة الأول سانا جاوارا فقد كان رجلاً طيب القلب، وصديقًا له، ولكنه سُرَّ بعد وفاته أن رأى الوسائل متخذة لإصلاح حالة التعليم في المدرستين، وأنهم عولوا على إزالة النفور من بينهم , وعلى العمل يدًا واحدة لمنفعة أولادهم. فلا يتمكن شعب من الشعوب من السعي في خير وطنه إلا بتكاتف أعضائه، والمباراة تعود بالربح في بعض الأحيان، ولكنها إذا أفضت إلى سفك الدماء؛ فلا تكون عاقبتها إلا الخراب

النساء المسلمات في الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النساء المسلمات في الهند قد سبقت الهند مصر وغيرها من بلاد المسلمين في المدنية الحديثة حتى صار النساء فيها يخطبن في الأندية العامة على الملأ من الرجال والنساء. وقد تُلي في مؤتمر التربية الإسلامية في هذا العام خطاب كتبته عَقيلة من فضليات نساء المسلمين، وتلته عقيلة أخرى بالنيابة عنها لغيبتها. أما الكاتبة فهي صبيحة زوج المير سلطان محيي الدين صاحب النائب السياسي في مِدْرَاس، وأما التي خطبت به فهي فاضلة تسمى كابراجي. والخطاب متضمن لتذكير الرجال بما منح الإسلام للنساء من الحقوق، وما حث عليه من تعليمهن وتربيتهن، وشكر أعضاء المؤتمر على (تجديد السنة الإسلامية) بقبول دخول النساء فيه , واشتراكهن مع الرجال في البحث والائتمار بوسائل ترقي المسلمين، وقالت عن هذه المزية: إنها كادت تجدد عندنا الإسلام لأول ظهوره، وما أعطيت المرأة فيه من الحرية التامة فلا يعزب عن أذهانكم هدي هذا الدين ووصاياه , بل مثلوا عظمته وارتفاع شأنه وسعة ممالكه في أذهانكم وأحيوا أحكامه، وانصروا برهانه فقد أمسى لهذا العهد على عظمته وقوته كالأسد المحتضر. ثم اقترحت أن ينشئ المؤتمر معرضًا في وسط البلاد تعرض فيه مصنوعات أيدي النساء ترغيبًا لهن في الصناعة، وتبرعت لذلك بخمسين روبية على أن تكون فاتحة اكتتاب للعمل إذا أمكن , وإلا فهي للمؤتمر. *** رأي فاضلة هندية في العرب والعربية وخطبت في احتفال المؤتمر فاضلة تسمى (نفديدا) خطبة ضافية عن حال الإسلام والمسلمين، ومن الأفكار العالية التي تكلمت فيها توسيع الإسلام دائرة الوفاق والتأليف بين البشر بإلغاء الجنسية النسبية والوطنية، وجعل المؤمنين إخوانًا حيث كانوا، وأين حلوا. وأطنبت في الكلام عن العرب وما قاموا به من خدمة العلم والمدنية، وإحيائهما بعد موتهما، وقالت ما معناه: إن الهند التي عاشت بالعلم بعد الدخول في الإسلام إنما حُييت بإرشاد العرب، بل بامتزاج دم العرب بدم الهنود، حتى قالت: إن الدم العربي لا يزال يجري حارًّا في عروقنا، وهو الذي يحركنا إلى الترقي الآن، ووصفت الإسلام بأنه دين الفطرة والاستقلال والعلم وأنه يمشي معه الترقي حيث مشى. وقالت: إن العلة في قلة انتشاره في الهند هو جهل الهنود باللغة العربية فإنها أقل في الهند انتشارًا منها في سائر البلاد الإسلامية. قالت: ومن البعيد أن نرجو تقدمًا في ديننا مع عدم التمكن من لغته، ولنا الرجاء في الوصول إلى مقصدنا قريبًا بمساعدة المسلمين من أهل البلاد العربية بالرأي والعمل خدمة للإسلام. فلله در هذه الفاضلة‍‍! ! التي يقل نظيرها في علمائنا المدرسين في مصر والهند، وقد سبق لنا من بيان فوائد ما دار عليه خطابها المفيد ما يمنع من العود إليه الآن. أكثر الله من أمثالها في رجالنا ونسائنا فإننا لا نحيا إلا بأمثال الذين على هذا المثال. *** الجمعية الخيرية الإسلامية دعا رئيس هذه الجمعية جميع المشتركين فيها للاجتماع في 29 المحرم الماضي لعرض أعمال مجلس الإدارة عليهم وإطلاعهم على مشروع أعمال سنة 1322هـ وميزانيتها، وانتخاب خمسة أعضاء لمجلس الإدارة؛ فلبى الطلب بعض واعتذر بعض، وتخلف الأكثرون. وقد بَيَّن الرئيس فائدة الحضور، ومضرة التخلف، ومنه أن إشراف الجمهور على أعمال البعض يَحمِل على الإتقان والنشاط , ويُعوِّد الناس على الأعمال المشتركة والتعاون , وبه قوام الأمم. ومن مشروعات الجمعية الجديدة إنشاء مدرسة في المحلة الكبرى، وسنتكلم عليها في الجزء القادم.

كتاب تنوير الأفهام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب تنوير الأفهام كلمة ثانية في هدم الكتاب ذكرنا في الجزء الثالث كلمة هادمة لذلك الكتاب الذي زعم أنه بيَّن مصادر الإسلام وليس للإسلام إلا مصدر واحد وهو الوحي، وذكرنا هنالك أننا لم نقرأ من الكتاب إلا جملة قليلة. ثم إننا عدنا إليه؛ فألفيناه يبتدىء الكلام في الإسلام ابتداء مَن يتوهم أنه عرفه، وأنه يتكلم في قواعده وأصوله، ولكن لم نلبث أن رأينا فيه من الجهل والافتئات على الإسلام ما أثبت لنا أن واضعه كغيره من الطاعنين لم يكتب ما يرى ويعتقد , ولم يعتقد ما عرفه وعَلِمَه، بل خبَّط خبط عشواء فظلم نفسه، وأتعب عقله وحسه، وكان بعد ذلك من الخاسرين. انظر تعلم أننا نَصفه لا نَشْتُمه - ذكر أن أساس الدين القرآن والسنة أو الحديث كما قال , وذكر أن الحديث مُبَيِّن للقرآن فإن خالفه لا يقبل؛ لأن القرآن هو الأصل، وذكر أن كُتب الحديث المعتمدة عند أهل السنة ستة، وعَدَّ منها المُوطأ وأهمل سُنن النَّسائي، ولا بأس بذلك، وذكر الكتب المعتمدة عند الشيعة كذلك، ثم بَنَى طَعْنَه في القرآن على ما فسره به من الحديث بزعمه , وههنا الخلط والاختراع وسُوء القَصْد كما ترى فيما نورد عنه من الشواهد. أول مثال أورده لبيان القرآن بالسنة آية {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} (الإسراء: 1) فزعم أن حديث المعراج مُبَيِّن لها فأَوْهَمَ القارئين أن ما ورد من عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء - بروحه فقط كما عليه قوم من المسلمين أو بروحه وجسده كما عليه آخرون - مُفَسِّر ومُبَيِّن لآية من القرآن، مع أن المسلمين مجمعون على أن المعراج مأخوذ من الحديث لا من القرآن، ولذلك لا يقولون بكفر منكره، بل نقلوا أن من الصحابة من أنكره بالمرة حتى السيدة عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وأردف هذا المثال بآخر فقال: (وكذلك لولا الحديث لما فهم أحد معنى: (ق) وهو اسم إحدى سور القرآن؛ فالأحاديث هي التي أوضحت أن المراد بالحرف (ق) اسم جبل قاف؛ ولهذا عزمنا بحوله تعالى طلبًا للاختصار أن لا نورد في هذا الكتاب شيئًا مختصًّا بمصادر الإسلام من عقيدة إسلامية، أو تعليم إلا ما كان له أصل وأساس في القرآن ذاته، ويكون ورد له تفسير وشرح في الأحاديث المشهورة المتواترة بين كل المسلمين سواء كانوا من أهل السنة أو الشيعة. انظر إلى ما اشترطه على نفسه في الاعتماد على الأحاديث المُبَيِّنَة والمُفَسِّرَة للقرآن؛ اشترط أن تكون الأحاديث مشهورة متواترة بين كل المسلمين، مع أن تفسير حرف (ق) بأنه اسم جبل لم يرد في حديث مرفوع لا متواتر، ولا مشهور ولا آحادي صحيح، ولا ضعيف، ولم يذكر في كتاب من الكتب الستة التي ذكر أن أهل السنة وهم القسم الأكبر من المسلمين يعتمدون عليها. فكيف يوثق بكلام مؤلف ويصدق بأنه التزم ما اشترطه على نفسه في هذا الكتاب. نعم، إن في كتب التفسير التي لا يكاد يخلو واحد منها من سرد الأقوال الإسرائيلية أثرًا في ذكر جبل قاف، وقد قال القرافي - من محققي الأمة -: إنه لا يعول عليه، ولا يصح، وإن هذا الجبل لا يوجد، ولا يهمنا أن بعض عشاق الروايات الكثيرة سلَّم به، وإنما نقول: إنه شيء لم يصح في الكتاب، ولا في السنة، ولم يوجد في الكتب المعتمدة الذي ذكرها، ولا في غيرها مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن للإسرائيليات منبعًا آخر في غير كتب التفسير - هو أغزر مادة أو أكثر رواية -: وهو كُتب القَصص الخُرافية التي أسندت إلى مؤلفين لا شأن لهم ككتاب (عرائس المجالس) وغيره في قَصص الأنبياء، و (خريدة العجائب) ، وأمثالها، وهي كتب طافحة بالمَوْضُوعات والأكاذيب، كما نَبَّه على ذلك حُفَّاظُ الحديث، حتى كان الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - يقول: (لا يصح في التفسير شيء) ، وعلى أمثال هذه الكتب يَعْتَمِدُ صاحب كتاب (تنوير الأفهام في تفسير القرآن) ، وبيانه مع ما علمت من شَرْطه الخادع. ومن ذلك ما أورده في الصفحة (42) وما بعدها من قصة إبراهيم - عليه السلام - أخذها من (عرائس المجالس) ينبوع الكذب، واستدل منها على أن القرآن يستمد أحكامه وأخباره من كتب اليهود، ثم اعترف بأن ما في القرآن، وعرائس المجالس غير مطابق لما في كتبهم، وسببه بزعمه أن محمدًا أخذها عن اليهود مشافهة، ولم يرها في كتبهم! ! على أن موافقة القرآن نفسه أو الحديث الصحيح لبعض ما في كتب اليهود دون بعض لا يدل على أنه أخذ عنهم، وإنما يدل على أن الله تعالى بيَّن له حق كلامهم من باطله، وصدقه من كذبه، فإن كتبهم كأقوالهم لا يعتمد عليها كلها لظهور الكذب والتناقض فيها إلى اليوم، ولظهور تلفيقها واقتباسها من الأمم الأخرى كما بيَّنَّا ذلك مرارًا فهي ككتب القصص عندنا فيها شيء من القرآن والسنة، ولكنه ممزوج بالأكاذيب والآراء المقتبسة من الأمم. ولا شيء يعول عليه في صحة بعض أقوال كتب اليهود دون بعض، بعدما طرأ عليها من الضياع والتحريف والخلط إلا الوحي، وقد ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالدلائل الساطعة، والآثار النافعة، وهم يقولون: إن المسيح فَرَّقَ بين الأنبياء الصادقين، والأنبياء الكذبة بآثارهم وثمارهم، فوجب الاعتماد على ما جاء به هذا النبي الكريم دون غيره. والبحث بأنه سمع أو اطلع من الهذيان. وأَنَّى يعول النبي الذي لا ينكر الكافرون رجحان عقله على قول أولئك اليهود الذين شرح للناس مكرهم وكذبهم , وتلطَّف في شأن ما يَعْزُونه إلى الوحي، فأمر أصحابه بأن لا يصدِّقوهم فيه ولا يكذِّبوهم!! كذلك تراه قد اعتمد على (عرائس المجالس) في قصة سليمان مع ملكة سبأ (كما في ص 61) ، وفي قصة (هاروت وماروت) (كما في ص64) وقد مرَّ تفسير القصة في المجلد السادس من المنار بما يكذب القَصاصين، كصاحب (عرائس المجالس) وغيره ومَنْ على رأيهم من المفسرين (راجع ص 443 من المجلد المذكور) ، وفي (سبع دركات الأرض) (كما في ص 85) واعتمد على كتاب (قَصص الأنبياء) في وصف اللوح المحفوظ بناء على أنه تفسير لقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21-22) ذكر ذلك في (ص 93) وعبر عنه بمعلومات المسلمين التي استفادوها من أحاديثهم. ثم رَجَّحَ في الصفحة الـ 99 أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتبس هذه الكلمة من اليهود حين سمعهم يقولون: إن الوصايا التي أعطاها الله لموسى كتبت في لوحين. كأنه يرى أن محمدًا - عليه أفضل الصلاة والسلام - ما كان يعرف هذا اللفظ (لوح محفوظ) لولا أنه سمعه من اليهود، وإن كان اللفظ عربيًّا، والسورة التي ورد فيها مكية أنزلت قبل أن يعرف النبي أحدًا من اليهود؛ إذ كانوا في المدينة لا في مكة. ثم رَجَّحَ بناءً على تحكمه هذا أن المسلمين لم يفهموا معنى قوله (لوح محفوظ) فكذَّبُوا له تلك الكذبة المذكورة في قَصص الأنبياء! ! وليت شعري! كيف لم يفهموا هذه الكلمة وهي من لسانهم، والكتابة في الألواح معهودة عندهم؟ وكيف اختص النبي بالسماع من اليهود دونهم؟ مع أنه كان يراهم ويحاجهم إذ يدعوهم إلى الإسلام والمسلمون حاضرون، ولم يُعْرَفْ أنه كان يخلو بهم! ! نعم إن ما ذكره صاحب قصص الأنبياء يجوز أن يكون بسوء فَهْم، وأن يكون بسوء قَصْد، ثم عاد إلى تفصيل القول في تفسير (ق) بجبل قاف ناقلاً عن (عرائس المجالس) ، وقصص الأنبياء، وذكر موافقة ما فيهما لما قاله أحد اليهود في كتابٍ لهم اسمه (حكيكاه) . ويا ليت مؤلف الكتاب كان سأل أحد علماء المسلمين عن كتاب (عرائس المجالس) ، وكتاب (قصص الأنبياء) قبل أن يطالعهما، ويستخرج منهما تفسير القرآن: هل هذان الكتابان معتمدان عندكم في التفسير وغيره؟ وهل تعدُّ روايتهما صادقة؟ إذن لأجابه بما كان يكفيه مؤنة التعب والعناء بمطالعة تلك الخُرافات والأكاذيب، وتلخيص الأخبار منها. إننا نشفق عليه من مطالعة كتب يحرم المسلمون قراءتها لما فيها من الكذب والكفر؛ إذا كان قد طالعها ظانًّا أنها معتمدة يحتج بها، ولكن الراجح أنه يعلم أنها كتب خرافية، بدليل أنه ذكر كتب الحديث المعتبرة عند المسلمين وإن كانوا لا يحتجون بجميع ما فيها، ولكنه مع وعده بأنْ سينقل منها المشهور والمتواتر؛ لم ينقل منها حتى ما لم يشتهر ولم يتواتر. لماذا؟ لأنه يريد أن يشكك عوامّ المسلمين في دينهم بإيهامهم أنه يعرف كتبهم المعتمدة، وينقل عنها وينتقدها، وعند ذلك يتسنى له أو لغيره من شيعته أن ينصر بعض هؤلاء العوام الجهال بعد تشكيكهم مرغبًا لهم بمنفعة دنيوية، كما عهد من المبشرين في دعوة المسلمين. ولم يعلم المسكين أن من عرف من الإسلام شيئًا يصعب أن يهين نفسه بالنصرانية ويعبد البشر (المسيح) من دون الله ويقول: إن الله مولود من أنثى. إن كتاب (عرائس المجالس) و (قصص الأنبياء) على شحنهما بما يخالف عقائد الإسلام وأخباره وأحكامه هما أمثل من كتب النصرانية , ولا يرضى لنفسه من لم يعرف من الدين والعلم شيئًا غير خرافاتهما أن يستبدل بها عقيدة النصارى الوحيدة التي هي مناط الخلاص عندهم، وهي أن الإله عجز عن التوفيق بين صفتَيْه المتناقضتين من الأزل وهما العدل والرحمة فلم يهتد وسيلة لذلك إلا منذ 1904؛ إذ رأى أن يحل في بطن امرأة ويولد منها فيكون إنسانًا , ثم يصلب كارهًا راضيًا ويجعل نفسه ملعونًا لأجل أن يخلِّص الناس؛ بحملهم على تصديق هذه القصة التي لا تعقل , ويجعل من يصدق بها من أهل الإباحة , له الملكوت وإن كان أفسق الفاسقين وأظلم الظالمين! ! ! هل يمكن لمَن له ذرة من العقل أن يفضل هذا الاعتقاد الخرافي على خرافات عرائس المجالس وقصص الأنبياء؟ لا، لا، لا. هذا نموذج من الشواهد التي زعم مؤلف الكتاب أن القرآن أخذها من كتب اليهود بناءً على تفسير الأحاديث المتواترة المشهورة في كتب المسلمين على زعمه وما هي إلا في كتب الخرافات كما علمت. وقد ذكرنا لك في الجزء الثالث شاهدًا مما طعن فيه بالقرآن من حيث اقتباسه من العرب، ونذكر لك الآن شاهدًا آخر على سبيل الفُكاهة لتعرف مبلغ علم هذا المؤلف بالعربية وأساليبها، كما عرفت مبلغ علمه بالأحاديث المتواترة، وهي عند المسلمين ما رواه جَمْع عظيم في كل زمن من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، وما أورده لم يروه جمع ولا واحد. جاء في الصفحة الرابعة والعشرين وما بعدها عقيب الكلام في التوحيد الذي مَرَّ الشاهد فيه، وفي الختان - الذي لم يذكر في القرآن - ما نصه: (قال المعترضون: وبصرف النظر عن كل هذا؛ فإن بعض آيات القرآن مقتبسة من القصائد التي كانت منتشرة ومتداولة بين قريش قبل بعثة محمد، وأوردوا بعض قصائد منسوبة إلى امرىء القيس مطبوعة في الكتب باسمه لتأييد قولهم هذا. ولا شك أنه ورد في هذه القصائد بعض أبيات تشبه بل هي عين آيات القرآن على حد سواء، أو تختلف عنها في لفظة أو لفظتين، ولكنها لا تختلف عنها في المعنى مطلقًا. وهاك الأبيات التي يوردها المعترضون وقد أشرنا على العبارات التي اقتبسها القرآن بوضع علامة تحتها كهذه ـ: دنت الساعة وانشق القمر ... عن غزال صاد قلبي ونفر أحور قد حرت في أوصافه ... ناعس الطرف بعينيه حور مر يوم العيد في زينته ... فرماني فتعاطى فعقر بسهام من لحاظ فاتك ... فتركني كهشيم المحتظر وإذا ما غاب عني ساعة ... كانت الساعة أدهى وأمر كتب الحسن على وجنته ... بسحيق المسك سطرًا مختصر عادة الأقمار تسري في الدجى ... فرأيت الليل يسري بالقمر بالضحى والليل

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى قصص القرآن (س 17) الشيخ محمد نجيب بالمدرسة الشمسية بتونتار (روسيا) : هل القَصص الواردة في القرآن أنزلت لأجل الاعتبار والاتعاظ؟ أم هي وقائع تاريخية؟ أم على التبعيض؟ أرجو بيان هذه المسألة المهمة في أحد أعداد المنار ولكم الأجر والمنة. (ج) تقدم الإلماع في التفسير غير مرة إلى أن قصص القرآن لا يراد بها سرد تاريخ الأمم أو الأشخاص وإنما هي عبرة للناس كما قال تعالى في سورة هود بعد ما ذكر موجزًا من سيرة الأنبياء عليهم مع أقوامهم: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (يوسف: 111) ولذلك لا تذكر الوقائع والحوادث بالترتيب، ولا تستقصى؛ فيذكر منها الطمّ والرمّ، ويؤتى فيها بالذرة، وأذن الجرة كما في بعض الكتب التي تسميها الملل الأخرى مقدَّسة. وللعبرة وجوه كثيرة، وفي تلك القصص فوائد عظيمة، أذكر أنني كتبت منها نحو ثلاثين؛ إذ وجهت نفسي للبحث عن فوائد التكرار فيها , وهذه الوجوه تذكر مفصلة في مواضعها من التفسير الذي ننشره في المنار. وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية، وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله: {ِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر: 13) , وقوله: {سُنَّتَ اللَّهِ الَتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: 85) يذكر أمثال هذا بعد بيان أحوال الأمم في غمط الحق والإعراض عنه والغرور بما أوتوا ونحو ذلك، فالآية الأولى جاءت في سياق الكلام عن المعرضين عن الحق لا يلوون عليه، ولا ينظرون في أدلته لانهماكهم في ترفهم وسرفهم وجمودهم على عاداتهم وتقاليدهم. والآية الثانية جاءت في سياق مُحَاجَّة الكافرين والتذكير بما كان من شأنهم مع الأنبياء، وبعد الأمر بالسير في الأرض والنظر في عاقبة الأمم القويّة ذات القوة والآثار في الأرض، وكيف هلكوا بعدما دعوا إلى الحق والتهذيب، فلم يستجيبوا لما صرفهم من الغرور , وبما كانوا فيه، ولم ينفعهم إيمانهم عندما نزل بهم بأس الله وحَلَّ بهم عذاب التفريط والاسترسال في الكفر وآثاره السوءى. وليس المراد بنفي كون قصص القرآن تاريخًا أن التاريخ شيء باطل ضار ينزه القرآن عنه. كلا , إن قصصه شذور من التاريخ تُعَلِّم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ، فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعي من أحوال الحيوان والنبات والجماد، ومثل ما فيه من الكلام في الفلك - يراد بذلك كله التوجيه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته، لا تفصيل مسائل العلوم الطبيعية والفلكية التي مكَّن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر والتجربة، وهداهم إلى ذلك بالفطرة وبالوحي معًا، ولذلك نقول: لو فرضنا أن المسائل التاريخية والطبيعية المذكورة في الكتاب ليست مطابقة إلا لما يرى، أو يعتقد الناس كلهم أو بعضهم في زمن التنزيل؛ لِمَا كان ذلك طعنًا فيه؛ لأن هذه المسائل لم تقصد بذاتها، بل المراد منها توجيه النفوس لطريق الاستفادة بما أشرنا إليه فتنبه. * * * المذاهب الاسلامية في الأصول وطريقة المنار (س 18) أحمد أفندي صبحي بأشمون: إننا نود , وغيرنا من إخوانكم المسلمين يودّون من حضرتكم أن تدرجوا في المجلة طريقة كل مذهب من المذاهب الأخرى مثل الشيعة والزيدية والوهَّابية والجبرية، وغيرهم لنطلع على ذلك، ولنعرف ما عليه هذه المذاهب؛ فإن البعض من إخوانكم المسلمين يعتقدون أنهم مسلمون، وعلى الكتاب الشريف، والبعض يقول غير ذلك. (ج) كل هؤلاء الذين ذكرتم مسلمون، وأصل الدين عندهم كتاب الله تعالى ويقرون بوحدانية الله، وبرسالة خاتم النبيين، وكون ما جاء به حقًّا ويقيمون الصلاة، ويُؤْتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجُّون البيت الحرام، ويصبرون على ظلم الحكومة العثمانية فيه. ولكنهم يختلفون في تأويل بعض الآيات وبيان المراد منها , وفي رواية الحديث وسيرة السلف اختلافًا قريبًا أو بعيدًا من الحقِّ، فللشيعة ومنهم الزيدية روايات غير معروفة، أو غير معتمدة عند أهل السنة، وبذلك اختلفوا في مسائل كثيرة أغلبها في فروع الأحكام، ولهم أيضًا طرق في الاستنباط يخالفون في بعضها طرق فقهاء المذاهب الأخرى، وأما الوهابية فليس لهم كتب تعتمد في الحديث غير كتب أهل السنة، وهم أقرب إلى العمل بالسنة من جميع المسلمين على غلوّ في بعضهم، وليس من موضوع المنار تفصيل مسائل الخلاف، وإنما هو مجلة المسلمين عامة يخاطبهم ويعظهم بالأصل المتفق عليه عند الجميع، وهو كتاب الله تعالى، والسنة العملية التي كان عليها السلف الصالح بلا خلاف، ويدع لهم كل ما اختلفوا فيه حتى يفيئوا إلى أصل الوفاق إن شاء الله تعالى. فالدين واحد، والكتاب واحد، والله يقول فيه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ويقول في قوم غير مرضيين عنده: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) , ولم يَسْلَم المسلمون مما جرى لمن قبلهم من الأمم باختلاف التأويل والروايات الآحادية وأهواء الرؤساء والتعصب للمرشدين، ونرجو أن يعودوا بتربية الزمان القاسية إلى الوفاق بالعود إلى الأصل المجمع عليه، وهو الكتاب والسنة العملية المتفق عليها، ويعذر بعضهم بعضًا في الروايات القولية الآحادية , مع البحث والمجادلة بالتي هي أحسن حتى يفيء المخطئ إلى أمر الله الذي لا خلاف فيه. هذه هي الطريقة المثلى في إرشاد المسلمين في رأينا، وقد أخطأها الوهابية فحاولوا بغرارة البداوة، وقسوتها أن يرجعوا المسلمين عن البدع بالقوة القاهرة فكانوا من الخائبين، وأساء الظن فيهم سائر المسلمين، ومن العجائب أن عند المسلمين إحساسا عامًّا بأنه لا يصلح حالهم، ويعود مجد دينهم إلا بإبطال المذاهب كلها، والرجوع إلى الأصل الأول، والإمام المبين، وهو القرآن إذ اتفق سنيهم وشيعيهم على أن المصلح المسمى بالمهدي سيبطل المذاهب كلها؛ أي: أن الإصلاح لا يكون إلا بذلك، ولكنهم جعلوا طريق ذلك غير معقول , وهو شخص مخصوص يظهر بالخوارق دون السنن كما تقدم في الجزء الماضي. *** إثبات الولاية بالرؤى والأحلام (س 19) أمين أفندي عبد الكريم بالزقازيق: ما هو رأي المنار فيما رواه مُكاتب إحدى جرائد العاصمة (اللواء) بمركز ميت غمر تحت عنوان (ميت يتكلم) وخلاصة روايته تنحصر في أنه رأى في منامه كأن شخصًا يخبره بأنه مدفون في جزيرة بقريتهم، ويسأله تكليف العمدة بنقله لقبر آخر , فقصّ الرجل على العمدة رؤياه، وهذا قال له: من أين لنا معرفة محله؟ وفي الليلة التالية رأى من أتاه أولاً في نومه، يقول له: أخبر عمدتكم أن اسمي (عمرو بن وهب) وسأجعل لكم علامة على قبري فانقلوني , فكان بعد ذلك أنهم وجدوا علامتين عرفوا بهما محل القبر ففتحوه ووجدوا فيه ميتًا نظيف الثياب أسود اللحية؛ فنقلوه إلى قبر في غير الجزيرة إلى آخر ما في رسالة المكاتب. هذا ملخص تلك الرواية المدهشة التي نطلب من المنار الزاهر أنه يفيض القول عليها من جهة مطابقتها للعلم، سواء كان شرعيًّا أو وضعيًّا، مع مراعاة الجواب على تصور وضع العلامتين، وعدم طروء التحليل على هيكل ذلك الجسم، ووجه الاتصال بين الروح والجسد، وسماع صوت من جانب الميت على ما ورد في رسالة أخرى بتلك الجريدة جاءت تصديقًا للرواية الأولى، وذلك أن ناقلي الميت عندما رأوا جثته ذعروا، وولوا مدبرين فسمعوا (أقبلوا أقبلوا فإن الجنة هي المأوى) ومن هو (عمرو بن وهب) في سير السابقين إن صح في رأي حضرتكم أن المسألة خوارق العادات، وتنطبق على الدين الحنيف من جهة إمكان وقوعها ولكم الفضل. (ج) أصابت الشمس جرة ماء فسخن جانبها الذي أصابته فجاء الفيلسوف فحول الجرة، وجعل الجانب الساخن إلى جهة الأرض والجانب البارد إلى الشمس , ثم نادى تلامذته وسألهم يمتحنهم عن العلة في كون الجانب المقابل للشمس باردًا والجانب الملاقي للأرض الباردة سخنًا؟ فطفقوا ينتحلون العلل، وهو يردها ويبيِّن فسادها حتى اعترفوا بالعجز، وسألوه بيان العلّة الصحيحة، فقال لهم: إن الواجب أن يتثبت في معرفة الشيء أولاً، ثم يبحث عن سببه، وعلّته، وما سألتكم عنه غير حقيقي، وإنما قلبت الجرة لأختبر فطنتكم. وهكذا نقول: أثبت لنا أن الأمر وقع حقيقة بلا حيلة، وسل بعد ذلك: هل يصح أن نعتقد بأن الميت الذي رأوه أولاً في المنام، ثم كلمهم في اليقظة، هو من الأولياء؟ وما هو تاريخه؟ أمثال هذه الحكايات تكثر في الأمم الجاهلة المستعبدة للخرافات، ولقد روي أمثالها عن أهل أوربا في القرون المظلمة، حتى كان في بعض بلاد فرنسا موضع يسمونه (الشهداء) كانت الأموات تظهر فيه جهارًا لا سيما في الليل، ولماعقل الناس لم تعد تظهر! ! فمن الناس من يكذب في هذه الحكايات المنقولة، ومنهم من يظهر غريبة من هذه الغرائب بالمواطأة مع أشخاص آخرين لمنفعة ما، ومنهم من تعرض له شبهات في ذلك نعرف كثيرًا منها، وليس هذا موضع شرحها، ولكننا سنذكر بعض الشواهد. أما حكم الرُؤى والأَحْلام في الشرع فهو أنه لا يُبْنَى عليها حُكم، ولا يثبت بها شيء من الأشياء، حتى صرّح العلماء بأن من يرى النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - في الرؤيا ويتلقى منه أمرًا أو نهيًا لا يجوز له في اليقظة أن يعتمد على ذلك؛ لعدم الثقة بضبطه لِمَا يرى وانتفاء اختلاط الأمر عليه فيه، ولأن الله تعالى لم يتوف نبيه إليه إلا بعد أن أتم الدين على يديه، ولم تبق حاجة إلى بيان آخر فيه (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن) كما ورد، ولكن عوامَّ المسلمين وجهالهم كجهال سائر الملل يرون أن الرؤى والأحلام من أَرْكان العلم والعِرْفَان، لا سيما إذا كان موضوعها الخرافات والأوهام. وأما القول ببقاء أجساد الأولياء بعد الموت فهو من القول بغير دليل مع تكذيب الحسِّ لذلك، ومخالفته لسنة الله تعالى في تحليل الأجساد {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) وورد في الأنبياء حديث عند أحمد وغيره , ولا يفيد القطع فيعارض الحس والنصّ؛ لأنه من الآحاد، وورد ما يخالفه في يوسف - عليه السلام - فقد أخرج الطبراني والحاكم من حديث أبي موسى والخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث عليّ أن موسى - عليه السلام - استخرج عظام يوسف من قبره بأمر من الله قبل خروجه من مصر، وصيغة الأمر هكذا: (إنك عند قبر يوسف فاحمل عظامه معك) , وفيه أنهم أخرجوا عظام يوسف والناس يزورون قبر يوسف في جامع الخليل بفلسطين مع العلم بأنه دُفِنَ في مصر اعتمادًا على هذا الحديث، وأن موسى أحضر عظامه ودفنها هناك؛ فإذا بحثوا في سند الحديث، أو قالوا: لا يعتمد عليه لأنه من الآحاد، نقول: نعم، ولكنه موافق لسنة الله والحديث الآخر على كونه من الآحاد معارض بسنة الله في الخلق التي قال في كتابه، وأثبت النظر في خليقته أنها لا تتبدَّل، ولا تتحوَّل؛ فإنْ لم تأخذ به فلنترك كل ما يقال في ذلك، ونهدم ذلك القبر، حتى لا نكون مزورين. وكذلك كلام الموتى مخالف لسنن الكون الثابتة بالعقل والنقل قطعًا، فلا نقول به إلا بدليل قطعيٍّ، كأنْ نشاهد بأعيننا ميتًا قد

نظام الحب والبغض

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام الحب والبغض تابع ويتبع المدنية وما هيه؟ للمدنيَّة تعريفان: أحدهما يُبَيِّن حقيقتها، والآخر يصف من مزاياها خواصَّها، وآثارها وثمراتها، وللقارىء هنا حظه من التعريفين: كلمة المدنيَّة من الكلمات المحدثة عند المتمدنين، والمقصود منها: (التعاون في العلوم والأعمال لاكتساب المطالب التي تقتضيها حياة الإنسان النوعية) ، هذا هو القول الشارح لحقيقتها. المطالب آلام في آمال، وهي طبيعية للحياة النوعية من جملة سنة الله في الإنسان، والمدنية طِبُّ هذه الآلام، وقد وهم مَنْ يزعمون أن المدنية هي مجلبة تلك الآلام، بل الآلام طبيعية من اقتضاء الآمال التي لا تقف عند حدٍّ، وهي من اقتضاء الفطرة. وما المدنيَّة إلا علاج تلك الآلام، وتسكين ما هنالكم من الانزعاجات التي يثيرها الطلب الحثيث لما فوق الحاجات. فلا تُقلدوا الواهمين، ولا يلفتنكم شعر أولئكم الذين يهجون الحياة النوعية - التي يمتاز بها الإنسان - ويمدحون الحياة الجنسية - التي للبهائم وغيرها - فإن الله ورسله والحكماء براء من الذين يحبون أن لا تظهر فطرة الإنسان بأبهى مظاهرها. المدنيَّة: هي التعاون في العلوم والأعمال. والإنسان مدني بالطبع، ولكن مدنيَّة كل إنسان على مبلغه من العلم والعزم، ومدنية كل أمة على مبلغ أفرادها النوابغ من النَّصَبِ في سبيل أمتهم. وكم من امرىء يعيش بين المتمدنين لا حظ له من الشعور بالمدنيَّة وأسبابها إلا تقليد القوم بمآتيهم، ومآخذهم وشعاراتهم في كل شيء، بل هذا حظ الجمهور الآن في كل المشرق. وكم من امرىء يعيش بين المتوحشين فلا يلبث إلا قليلاً حتى ينهض بهم في المدنية إلى الدرجات العُلى. علم أسباب المدنيّة يقال له: (طِبُّ الاجتماع) , والعالم بهذا العلم يقال له: (سياسي) ، وللسياسيين تأثير في العالم كل بقدر، وهم الذين يغيرون بإذن الله أطوار الأمم من هبوط إلى رِفْعَة، ومن رِفْعَة إلى هبوط؛ ولذلك كان مدار التاريخ في الغالب على أحبار السياسيين، فالذين أخلصوا لله في مصنوعاته وأحسنوا عملاً رَفَعُوا أُممهم، وأُممًا مع أُممِهم إلى منازل السعادة، وأوردوهم مناهل السيادة، أولئك تزدان بهم سور الحمد في كل سفر من أسفار الأمم، وكل عصر من أعصارهم، وكل مَصْرٍ من أَمْصَارِهم، يمجدهم الجمهور الأعداء كالأولياء، والوضعاء كالأعلياء، والذين حادُّوا الله وحَادُوا في مصنوعاته عن حدود الإخلاص والإصلاح هَووْا بأممهم وأمم مع أممهم إلى مهاوي البوار، وثَووْا معهم في مثاوي النار، لا تخفف عنهم الأحمال، ولا توزن لهم الأعمال، ولا يبلغون في شيء الآمال، ومن أخسر عملاً مِمَّنْ كفر بالنِّعَم فأضاعها، وأحاطت به خطيئته؟ المدنيَّة: جمال معقول مع جمال محسوس، عدل وإحسان، أدب وعرفان، صنائع وبدائع، أموال وبضائع، أفهام وأوهام، آمال وأعمال، جمال وتجمل، مجد وتمجد، ميزة وتميز. المدنيَّة: مواهب الإنسان تتجلى للعيان، يشكرها أولو الألباب السليمة، وينكرها أولو الأذهان السقيمة. المدنيَّة: رابطة يحشر السياسيون تحت لوائها أقوامًا كثيرين مختلفين بالأنساب، مختلفين بالأديان، فهي الرابطة التي يتجلّى نفوذها وتأثيرها في حفظ نظام الاجتماع. وللرابطتين المارتين - رابطة القومية ورابطة الدين - فضل في تعظيم شأنها وتكبير سلطانها، وفضل آخر في تهديدها إذا طغت في الميزان، وأسرفت بالإثم والعدوان، وهي الرابطة التي بواسطتها قامت هذه البنية الحاضرة للاجتماع البشري العظيم. فاذكروا أيها البشر إذ كنتم في الأوجار، تأكلون الأعشاب وتخصفون من ورق الأشجار، وإذ فَرَّق بَيْنَكُم شيطان الشهوات، وأوقعكم في البغضاء والعداوات، وإذ أنتم اليوم في المدن الزاهرة، والمظاهر الباهرة، ترجون ما فوق الزرقاء، ويرهبكم ما تحت الغبراء، قد ألفت بينكم قرابة الآمال والمعاملات، أكثر مما ألفت قرابة الأبدان واللغات، يرحم الكبير الصغير، والصحيح المريض، وابن البلد ابن السبيل، والآسر للأسير. واذكروا ما أنتم فيه من الوابور، والبالون، والشمندفر، والتليفون، والتلغراف، والفونوغراف، والفوطغراف، والليطوغراف، والتلسكوب، والمكرسكوب، وما هنالكم مما لم نحصه، لتعلموا ما فعلت لكم المدنيَّة من خير وما رفعت لكم من قَدْر على الأنعام. في أقصى المشرق تأخذون نبأً عن أقصى المغرب في لحظة من الزمن لا تتجاوز أن يطعم الواحد غداءه. من المسافات البعيدة يسمع أحدكم صوت صاحبه كأنه في حضرته. إلى حين من الدهر يُحفظ صوت أحدكم , ثم يؤديه المستحفظ كما استودعه. في الدقيقة الواحدة ينسخ لكم ألوف من الصحف السيارة التي تنقل إليكم أنباء المَسْكُونَة وسكانها. في البر تقطعون مسافة الأيام الكثيرة بساعات قليلة على مَتْن ذلول من الحديد لا يَكِل، يطوي بكم البيد طيًّا. في البحر على متن الوابور أَنَّى شِئْتُم تسيرون. في الجو في بطن البالون حَيْثُ رُمْتُم تطيرون. الأرض ألقت إليكم من أفلاذها ما لم تكونوا تعلمون، السماء عرفتم من أسرار كونها كثيرًا مما كنتم تجهلون. العُمْي في عَهْدِكُم يقرأون، والصُّم البكم يكتبون، ومن العجماوات عوارف لما تقولون، فواعل لما تَأْمُرون، توارك لما تنهون وتزجرون. هذه آثار المدنيَّة، وهذه ثمراتها، ولكن هل بلغ الإنسان فيها الكمال؟ كلا، فإن كثيرين مِنَ البشر لم تدخل المدنيَّة في عَهْدِنا هذا ديارهم، وفي ديار المدنيَّة يوجد كثيرون غير متمدنين حَق التمدن. والمتمدنون أنفسهم لا يزالون سائرين في طرق التكمل. فلا المدنية عَمَّتْ كل الأرض، ولا المتمدنون بلغوا الكمال. وقد عمر الأرض من قبلنا كثير من الأمم كان لهم نصيب من المدنيَّة، ثم أبادهم ومدنيّاتهم إفساد السياسيين، وأقام غيرهم مقامهم إصلاح السياسيين. ولَمْ توجد أُمة خلقها الخالق مُتَمدّنة، وإنما هو التَّدرج تراه في كل شيء. سنة الخالق في خلقه. فإذا رأيتم اليوم في إحدى الجزائر قومًا متوحشين (التوحش يقابل التمدن) وقد غُبّيَ عليكم تاريخهم؛ فلكم أن تظنوا أن التمدن لم يدخل جزيرتهم قط؛ لأن التوحش سابق دائمًا، ولكم أن تظنوا أنهم كانوا قد تمدنوا يومًا من الأيام، ثم أبادهم وتمدنهم فِسْقَهم عن الناموس والنظام، كذلك عاقبة الظالمين. يوجد الآن في الأرض أقوام كثيرة متوحشة، لا يزالون على ما هو قريب من الأطوار الأولى للبشرية؛ إذا شئتم أن تجدوا فرقًا بينهم وبين الحيوانات العليا يصعب عليكم أن تجدوا ذلك الفرق وذلك أعظم سيئات التوحش. يوجد أولئكم المتوحشون هذا التوحش في كثير من مجاهل أفريقيا التي لم تدخلها جيوش الفاتحة الإسلامية، ويوجدون في كثير من فدافد أمريكا التي لم تختلط بعد بالمكتشفة الأوربية، ويوجدون في مجاهل أوستراليا (الجزائر الأوقيانوسية) ، وفي جوار القطبين توجد هذه الضالة التي ينشدها محبو السذاجة. أما الأمم الآسياوية الحاضرة - وفي حكمهم أمم أفريقيا الشمالية - فأكثرهم وارثون لأسلاف متمدنين. ولكنهم أضاعوا ذلك التراث، ولم يرعوه حق رعايته فلولا التمدن المستعار الذي وجد بواسطة الأوربيين لصحّ لنا أن نقول: إن آسيا لا تفضل أفريقيا في التمدن إلا ببقية من تراث الأولين معرضة للزوال. فمن أخذته الحمية الآسياوية، وكان حريصًا على أن يدّعي للآسياويين مقامًا بين المتمدنين يجب عليه أن يرد العواري، ثم لينظر هل يجد ثمّة إلا العوار؟ إن يكن في آسيا تمدن غير مستعار؛ فإنه ناقص جدًّا. الأديان من التمدن وقد ضعفنا بها علمًا وعملاً. الحكومات من التمدن وقد خسرنا بها حسًّا ومعنًى. الزراعات من التمدن ونحن لا نتقنها. الصناعات من التمدن ولا خبرة لنا بأنواعها الكثيرة، التجارات من التمدن وإننا فيها متأخرون، الزينة من التمدن وإننا فيها مرضى الأذواق، العلوم من التمدن وهي عندنا كاسدة، الآداب من التمدن وهي لدينا فاسدة، القوانين من التمدن ونحن فيها جامدون، الأعمال العظيمة من التمدن ونحن فيها خامدون، الاختراعات من التمدن ولكننا فيها موتى، الاكتشافات من التمدن ولكن لا تسمعون لنا فيها صوتًا. فأعلموني يا رفاقي الآسياويين ما هو تمدننا المحلي الذي نقصه ليس بفاحش وأنتم بعد ذلك غير محاسبين على النقص القليل؟ ثم هلموا ننظر نظرة في مدنيَّة أوربا وما أوربا؟ - أوربا الزاهرة ذات المدن الباهرة، والصناعة الفاخرة الماهرة، مقر العلوم العالية، والأعمال الفائقة مهبط السياسة السامية، وملتقى الساسة الناميّة. هنالكم الاختراعات النافعة، والاكتشافات الهادية، على يدهم ظهرت الأرواح الباطنة، فأصبحت أسرارها سارية في الأجسام الجامدة والجارية , منهم ظهرت الآلات المنبئة، وبهم تأتيكم أنباء الأمم النائية في اللحظة الواحدة، صحفهم ناشرة للأنباء الجائبة، والأفكار الدائبة، أولئك هم السابقون في المدنية الرافعة. هذه أوربا وهذا مجدها , وأنا أريكموها من تلك الجهة الثانية جهة النواقص التي فيها: الاستبداد الذي حاربوه، وأهرقوا في سبيل محوه كثيرًا من دمائهم لا يزال له أثر كامن في صدور العلية منهم ومقلديهم من الدهماء. ومن آثاره أنواع التعصبات الباقية. الجهل الذي حاربوه بأنفسهم وأموالهم لا يزال بين كثير من طبقاتهم، ومن آثاره شيوع الفحشاء والرذائل المتنوعة. الفقر الذي يدأبون وراء إبعاده عن ديارهم لا يزال آخذًا بتلابيب أكثر الأفراد وليس أولو الثروات العظيمة إلا نفرًا قليلين في بعض المدن الكبيرة. ثم إذا صرفنا النظر عن مراقي الحياة النوعية فبم يمتاز الأوربيون؟ هل طالت أعمارهم؟ هل صرفت عنهم الأسواء من أسقام وآلام؟ هل خفت عنهم أعباء الحياة التي تقتضي الكد والكدح؟ هل تقدسوا عن البغضاء فيما بينهم؟ هل ترفعوا عن سفساف الأمور؟ هل استغنوا عن المشرق ألبتة؟ هل بلغوا بعلومهم أن يخرقوا نواميس الوجود؟ هل بلغوا بها أن يكون عيش أحدهم كله كما يتمنى؟ هل بلغوا بها أن يرتقوا لعيشة روحية محضة لا نصب فيها ولا لغوب؟ هل بلغوا بها أن يستغنوا عن الحروب التي هي أليق بالعجماوات منها ببني الإنسان؟ هل بلغوا بها أن يستخدموا بين الأرواح المدركة كهربائية للإنباء والاستنباء؟ إذا شئت أن أَعُدَّ كل ما هو من النواقص يطول بي العدّ والسرد. وفي الذي ذكرت إشارات كافية للمتبصر تنبهه إلى أمثلة نقصان المدنية الأوربية التي لا يوجد اليوم للبشر مثلها عند غيرهم من المشارقة والمغاربة الآخرين. نعم، هم لم يبلغوا الكمال، ولكنهم ساعون لا يألون جهدًا بالاكتشاف والاختراع والبحث والتفكر. ونحن مع نقصنا الفاحش غير ساعين، فهل يليق ذلك بنا ونحن أبناء الذين ابتدأوا التمدن؟ أليست هذه آسياكم التي ربّت في حضنها أشهر مشاهير الرجال؟ كلا، إن ذلك لا يجدر ولا يَحْسُن بأبناء تلك الأم التي أحسنت تربية كل المؤسسين الأولين. بل علينا اليوم أن نتفقه في (رابطة المدنية) كما تفقه أسلافنا من قبل، وكما يتفقه جيراننا ومعاملونا الأوربيون الذين نعدهم أجانب ومبغضين , ولا ينفعنا الجمود، ومعاداة كل أشياء الأجنبي باسم الوطن؛ فإن الوطن للبشر واحد هو دار الأعمال والتكاليف التي تطلب من الكل، وتوزع على الكل، ويتبادلها الكل. وليس حب الوطن هو الكزّ على عادات الأسلاف أو الحرص على اللبث في مساقط الرؤوس كما يفسره جمهور العوام، ولا ال

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (أخبار بلاد العرب) عقد النصر لواءه في نجد لآل سعود أمرائها الأولين , وغلب ابن الرشيد أميرها الحالي على أمره حتى خرج معظم البلاد والقبائل من يده، وأكثر الأهالي في جذل وفرح لَمَا قاسوا من ظلم ابن الرشيد، وما يعهدون من عدل آل سعود واستقامتهم. إذا تمت لهؤلاء النعمة، ودالت لهم الدولة، فإنهم يكونون للدولة العلية خيرًا مما كان ابن الرشيد في الولاء - إذا هي شاءت ذلك -، ولم تساعد عليهم عدوهم الآن، ولم ترهقهم من أمرهم عسرًا فيما بعد، فإن هؤلاء لا يرضون بالظلم، ولا يجارون عليه. وقد شاع أن الدولة العلية أمدت ابن الرشيد بالمال والرجال، وما نخال الخبر صحيحًا، ولئن صح ليكونن شرًّا على الدولة؛ إذ يخشى أن يستنجد آل سعود إذا غلبهم جند الدولة بإنكلترا التي تخطب ودّهم فتمدهم بالجنود الهندية، ويكون الخطب كبيرًا، وقد قيل: إن الأمير عبد الرحمن فيصل أنذر بذلك وَالي البصرة ليعرضه على السلطان، ففعل ووَعد السلطان بأنه لا يحارب آل سعود بالجنود العثمانية، والله أعلم بالمصير. سبق لنا نشر رسالة من عدن في (ص 758) من المجلد السادس وردت في رمضان الماضي فيها أن إنكلترا تحاول الاستيلاء على جهات جبل يافع المشهور وأنها أرسلت شرذمة من جندها بالضالع إلى جبل شيب ولم تلبث أن عادت أدراجها لشعورها بالخطر من العرب. وأن المناوشات بين الإنكليز والعرب على الحدود مستمرة ... إلخ. وقد كتب إلينا أخيرًا من عدن كتاب مؤرخ في 12 صفر الماضي يقول فيه مرسله: قد رجع أمير المكلا عن محاربة حجر بدون نتيجة، ووصل كثير من عساكره إلى عدن قافلين إلى جبل يافع، ومن أجل ما خسره في تجهيز هذه الحملة والتي قبلها قد ابتدع ضرائب، وضاعف المكوس، وستؤثر هذه السياسة الخرقاء بزيادة الهلاك، وربما عجلت تداخل الإنكليز في تلك النواحي. وقد أرجع الإنكليز كثيرًا من عسكرهم إلى الضالع لإتمامهم التحديد مع الترك حسب زعمهم، أو لترقب فرصة أحسن لهم حسب عادتهم ولهم عناية باستمالة صاحب نصاب والعوالق، ويتحدثون بمد سكة حديد من عدن تخترق جزيرة العرب إلى الكويت، ثم قال: وقد وصل إلى عدن بعض الجند الإنكليزي من السومال إذ انجلى الإنكليز عنها لتعسر هضمها الآن، وسيخلون بين الملا القائم وأرضه لعله يَبْطُر ويظلم؛ سكرًا بنشوة السلطة والسيادة كما فعل خليفة مُتَمَهِّدي السودان، ثم يكرون عليه إذا أبغضه قومه واختلفت القلوب. والله المسؤول أن يوفق المسلمين لانتهاز الفرص والعمل السديد، ثم قال: إن في عدن كثيرًا من دعاة النصرانية، أضجروا الأهالي، وملأوا آذانهم بالسب والشتم والحكومة معضدة لهم، ونقول: إن هذا من سوء السياسة والجهل بالأمم , فإن العرب لا يتنصرون، ودعاتهم للنصرانية لا ينتصرون. * * * (الجمعية الخيرية الاسلامية) صدر تقرير هذه الجمعية عن أعمالها وحسابها في سنة 1321هـ، ومشروع أعمالها وميزانيتها، ومحضر جلستها العمومية في سنة 1322هـ، وقد جاء فيه أن إيراد الجمعية من الاشتراكات والمساعدات السنوية قد بلغ 1162 جنيهًا وأربعين قرشًا، ومن ريع الأطيان (وهي 80 فدانًا وكسور) 1223 جنيهًا وتسعة وخمسون قرشًا ونصف، ومن الاحتفال السنوي 1634 جنيهًا وثلاثة وسبعون قرشًا , وهنالك إيرادات متفرقة نحو ما تقدم. والعبرة فيما ذكرنا أن الأصل في الجمعيات الخيرية هي الاشتراكات والمساعدات السنوية. ومن العار العظيم على أغنياء مصر ووجهائها من المسلمين , وهم الأكثرون عددًا ومددًا أن يكون اشتراك الجمعية الخيرية الوحيدة لهم بهذه الدرجة من القلّة. وأن تكون ليلة من ليالي اللهو خيرًا لفقرائهم ولجمعياتهم من كرم جميع كرمائهم فيما يتفضلون به مدة سنة عن روية وإخلاص لا لعب فيه ولا لهو. وإن كان معظم إيراد ليلة الاحتفال منهم أيضًا. وللقارىء أن يجعل الجميعة الخيرية ميزانًا لترقي مسلمي مصر في الحياة الاجتماعية، ومن البلية أنه يُرى كثيرين من المشتركين وهم خيار القوم لا يخرج الحق منهم إلا نكدًا، ويرى مجلس إدارة الجمعية يمحو في كل سنة أسماء كثير من المشتركين الأغنياء لمطلهم وليِّهم وتعذيب المحصل بالتردد عليهم المرة بعد المرة عدة سنين (فيا للخجل ويا للعار) . على أننا لا ننكر أن في مصر نسمة خفيفة من الحياة، ولكن ما أتعب الذين يحاولون نفخها في سائر الأجسام المنفوخة من قبل بحب الفخفخة الباطلة، واللذة القاتلة، ولعل التعب يفيد، ولو بعد أجل بعيد. وجاء في قسم النفقات أن ما أُنفق في السنة الماضية على التعليم بلغ 2459 جنيهًا وكسور، وعلى إعانة الفقراء نحو 373 جنيهًا. ولو بذل كل مصري قرشًا وحدًا لهذه الجمعية كل سنة، وتحمل الأغنياء ما يفرض من ذلك على الفقراء - على أنه لا يصعب على أحد بذل قرش في السنة -؛ لسهل على الجمعية أن تُعمِّم مدارسها حتى لا يخلو منها مركز من المراكز، ولكن أين الشعور الذي يدفع الناس لجمع المال والتعاون على البر والتقوى؟ ! أما المخصص للتعليم في الميزانية الجديدة فهو 3600 جنيه مصري، وأما المخصص لإعانة الفقراء فيها فهو نحو 655 جنيهًا. * * * (مدرسة الجمعية في المحلة الكبرى) أشرنا إلى هذه المدرسة في الجزء الماضي، وقد جاء في آخر التقرير عنها ما نصه: (بعد تحرير هذه الميزانية ورد مبلغ 1333 جنيهًا و810 مليمات من أعيان مدينة ومركز المحلة الكبرى جمعوه بالاكتتاب الذي عمل فيما بينهم على ذمة (كذا) إنشاء مدرسة بالمحلة الكبرى بمعرفة الجمعية مثل مدارسها , وقد لبت الجمعية طلبهم، وستباشر فتح المدرسة من أول السنة المكتبية المقبلة. وعليه يجب إضافة المبلغ المذكور على إيرادات التعليم على ذمة مدرسة المحلة الكبرى. ونزيد على ذلك أن وجوه المحلة قد دعوا رئيس الجمعية للاحتفال بتأسيس المدرسة فأجاب الدعوة هو وحسن باشا عاصم وكيل الجمعية ومدير مدارسها وحسن باشا عبد الرازق أحد أعضائها , فقوبلوا بالحفاوة اللائقة، وحضر الاحتفال الألوف من الناس، وكان ذلك لخمس بقين من المحرم سنة 1322هـ، وتليت الخطب، وأنشدت القصائد في مدح العلم والأستاذ الإمام ناشره وناصره. وقد أعجب الفضلاء من خطبة الشيخ محمد بسطويسي بركات التاجر بالمحلة قوله: (أيها الأستاذ الإمام قد جادلتنا فأحسنت جدالنا، حتى أجبنا دعوتك للعلم والدين، وجاهدتنا في الله حتى محوت آية الجهل بالدليل، وجعلت فينا آية العلم مبصرة باليقين، وها نحن (أولاء) الواقفون بباب علومك نرى أن قيامك بأمر الدين في وقت امتزجت العادات فيه بالعبادات كِبْر إلا على العارفين - كبر على من أشربوا حب التقليد وتعظيم من في القبور- كبر على من ورثوا حب الشرك الظاهر عن آبائهم، وإن حُجُّوا أو طولبوا بالدليل قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) ... ) إلخ. وإننا نثني أطيب الثناء على وجهاء المحلة الكبرى، ونخص بالذكر محمد أفندي البهلوان من أعيان الدواخلية؛ إذ تبرع ببيت من بيوته مدة خمس سنين لتنشأ فيه المدرسة إلى ما أنفق على إصلاحه زيادة على ما تبرع به مع المتبرعين، ونرجو أن يسري روح حب العلم في سائر المراكز فتتبارى سماحة الأغنياء وأهل الغيرة في إنشاء المدارس , وأن يعتمدوا في ذلك على الجمعية الخيرية الإسلامية التي تسلك بهم الطريقة المثلى بمعارف رئيسها الإمام، وأعضائها الأعلام. * * * (مراكش) ذكرنا في آخر صحيفة من الجزء الثالث نبذة عن الوفاق الفرنسي الإنكليزي وأنه قُضي فيه على مصر بسوء سياسة الأمراء والحاكمين الذين استبدوا في الأمة وأذلوها، حتى فقدت الاستقلال الشخصي والقومي، وهو قوة الأمم والدول وعدتها ثم سلطوا عليها أوربا , وأعطوها من الامتيازات ما شاركتهم فيه بالحكم، حتى صار لكل مصري في بلاده ألوف من المستعبِدِين. وأما مراكش فالذي قضى عليها هو الجهل الفاضح في حكامها ومحكوميها؛ فقد اختاروا أن يَبْقَوْا على البداوة والهمجية أمام أوربا التي تسير في المدنية والقوة مع البرق، ولا أقول مع البرق على سبيل التشبيه كما كان يقول الأولون، بل أقوله على سبيل الحقيقة، كما يعرف المتأخرون، فإن الإفرنج قد استخدموا أمَّ البرق هي وولدها , وما أمه إلا الكهربائية التي تنار بها الأسواق والبيوت والمساجد والحوانيت الكثيرة، حتى في بعض بلاد الشرق كمصر. نقول: إن الجهل قد قضى على مراكش، ولا نعني بها أن حالها بعد دخول فرنسا في شؤونها ستكون شرًّا من حالها قبله، كلا إننا صرحنا في مقالة نشرت في آخر الجزء الخامس عشر من السنة الماضية بأن كل حال تنتقل إليها البلاد فهي خير من حالها الحاضرة، ولكننا نعني بذلك فقد الاستقلال الذي هو موت الدول والأمم، على أن مراكش لم تكن حيّة فتموت، وإنما كانت مستعدة لحياة طيِّبة لو وجد لها حُكَّام عارفون بطرق ترقّي الأمم. لقد أنذرنا حكومة مراكش بسوء المصير كما أنذرها غيرنا، وأول نبذة كتبناها في ذلك مضى عليها ست سنين؛ إذ نشرت في العدد الخامس عشر من السنة الأولى للمنار الصادر في 9 خلون من صفر سنة 1316هـ، وقلنا هناك ردًّا على جريدة قالت: إن مراكش يصعب على الأوربيين الاستيلاء عليها: إن الأوربيين لا تقف أمامهم المصاعب، والأمم الهمجية لا تقدر على مقاومة الأمم المتمدنة. وإذا دام أهل مراكش على جهلهم بالفنون العصريّة التي عليها مدار العمران اليوم تقليدًا لآبائهم، وإبقاءً لِمَا كان على ما كان؛ فلا بد أن يغمرهم طوفان أوربا كما غمر جيرانهم، ثم نبهنا السلطان عبد العزيز إلى ترك التقليد، والاعتبار بما بين يديه وما خلفه، والاتعاظ بما عن يمينه وشماله، والاندفاع بهمته كلها إلى التربية والتعليم، وأن يستعين بالسلطان العثماني على التعليم العسكري والمدني والاقتصادي، وقلنا: إنه إذا فعل ذلك يرجى أن يندفع ذلك الطوفان الذي يتهدد بلاده، وما هو إلا النفوذ الأجنبي الذي غمر جيرانه. ومن البلاء أنه ترك التقليد لمن قبله بخير ما كانوا عليه، وقلد الأوربيين بشر ما يوجد عليه سفهاؤهم، وسفهاء غيرهم، وهو التفنن في الشهوات واللهو الباطل والزينة. وقد اجتمعنا بعد كتابتنا تلك بوجيه مراكشي يلقب بالدكتور - أي أنه عالم فكلمناه في الموضوع، فقال: إنكم لا تعرفون حال مراكش؛ ولذلك تكتبون ما تكتبون. إن تلك البلاد أمنع من جبهة الأسد، وعندها من القوة والمنعة ما تصادم به أوربا كلها؛ إذا زحفت عليها، فقلنا له: وأين السلاح الجديد والفنون العسكرية؟ فقال: إنها متوفرة، وتقدر الدولة على زيادة ما تشاء؛ فإن عندها من كنوز الأموال مددًا لا ينفد، وهي أغنى دولة على وجه الأرض، ثم إن لها قوة أعلى من كل القوى، وهي ما فيها من قبور الأولياء الحامين لها! ! ! . هذا نموذج من غرور القوم بدنياهم ودينهم، وجهلهم بالأمرَيْنِ، فهم لم يَعُدُّوا لأعدائهم ما استطاعوا من قوة المدافع والبنادق، والعلم والنظام كما أمر الله، ولم يعتمدوا فيما وراء الأسباب على الله القوي القدير، وإنما يعتمدون على أصحاب القبور الذين لا يملكون لهم ولا لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا. فهل يمكن أن تنزلهم فرنسا عن هذه الدركة، وتدفنهم في حفرة أعمق من هذه الحفرة، كلا إنها ستعلمهم رغم أنوفهم ما يرقيهم - لا بالمدارس تنشئها لهم، ولكن بالأعمال والسيرة التي تسلكها فيهم سواء كانت قاسية أو ليّنة - ولا ينبغي لعاقل أن يكره

علماء الأزهر والمحاكم الشرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ علماء الأزهر والمحاكم الشرعية {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) قعد أهل الأزهر عن إجابة طلب إسماعيل باشا الخديو تأليف كتاب في الحقوق والعقوبات موافق لحال العصر سهل العبارة مرتب المسائل على نحو ترتيب كتب القوانين الأوربية. وكان رفضهم هذا الطلب هو السبب في إنشاء المحاكم الأهلية واعتماد الحكومة فيها على قوانين فرنسا، وإلزام الحُكَّام بترك شريعتهم وحرمانهم من فوائدها، وفي توجيه عزائم الكثيرين من نابتة الأمة إلى درس تلك القوانين في مصر وأوربا وبذل النفقات العظيمة من الحكومة ومنهم لأجل تحصيلها. ولولا جمود أهل النفوذ من علماء الأزهر لكانت كل هذه المحاكم شرعية آهلة بالعمائم التي يتحاسد حملتها على الشيء اللقا ويتنافسون فيما يرغب عنه غيرهم لقلة ذات يدهم. ولكانت تلك العمائم موضع الاحترام والإجلال، كما يليق بها لا كما هي اليوم في نظر أكثر الناس، ثم إنك تجد بعض أصحاب هذه العمائم يتشدقون بتلاوة: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) يُعَرِّضون بأهل المحاكم الأهلية ثم إنهم يتحاكمون إليهم عند الحاجة ويتملقون لهم في المجامع. ليس إبطال هؤلاء العلماء للشريعة بعدم إجابة طلب إسماعيل باشا السابق بأعجب من اعتذارهم عنه وتعللهم فيه، إنهم تعللوا بل احتجوا بأنهم يحافظون بذلك على الشرع وطريقة سلفهم الأزهري في كيفية التأليف , وهو أن يكون الكتاب مؤلفًا من متن وشرح وحاشية وعند زيادة البيان والتحقيق تضاف إليه التقارير- فهذه هي سنة المشايخ المألوفة، وتأليف كتاب أو كتب يقتصر فيها على القول الصحيح ويجعل بعبارة سهلة مقسمًا إلى مسائل تسرد بالعدد على كيفية كتب القوانين من البدع الهادمة لتلك السنة التي جرى عليها الميتون من عدة قرون. حدثني علي باشا رفاعة قال: إن إسماعيل باشا لما ضاق بالمشايخ ذرعًا استحضر والده رفاعة بك , وعهد إليه بأن يجتهد في إقناع شيخ الأزهر وغيره من كبار الشيوخ بإجابة هذا الطلب , وقال له: إنك منهم ونشأت معهم فأنت أقدر على إقناعهم , فأخبرهم أن أوربا تضطرني إذا هم لم يجيبوا إلى الحكم بشريعة نابليون. فأجابه رفاعة: إنني يا مولاي قد شخت ولم يطعن أحد في ديني , فلا تعرضني لتكفير مشايخ الأزهر إياي في آخر حياتي , وأقلني من هذا الأمر؛ فأقاله. وكان إنشاء هذه المحاكم التي يرى المشايخ أنها مؤسسة على الكفر والظلم والفسق أثر المحافظة على الدين، وصونه من عبث الحاكمين، وما هذا الدين الذي حافظوا عليه إلا بدعة سيئة وهي كيفية التأليف التي ألفوها كما تقدم , ولم ينزل بها كتاب , ولا وردت بها سنة , ولا جاءت في أثر عن الصحابة والتابعين. والكيفية التي دعوا إليها فحسبوها خرقًا في الإسلام هي أفضل وأنفع مما حافظوا عليه , فالنتيجة أنهم أضاعوا الشريعة لأجل الجمود على هذه الكتب الحديثة الضارة المضيعة للعلم فكانوا من الخاطئين , وأعني بما أقول جمهورهم لا كلهم كما لا يخفى. حدثت المحاكم الأهلية فكانت قسيمة للمحاكم الشرعية , ولكن ظهر للناس بالاختبار أن المحاكم التي يحكم فيها بقانون فرنسا أضمن للحقوق وأقرب للإنصاف من المحاكم التي تسند شريعتها إلى الوحي السماوي حتى كان شيوخ الأزهر يتحاكمون إليها فالشيخ العباسي رفع إليها بعض القضايا , وكان شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية. وكذلك شيخ الأزهر السابق الشيخ سليم البشري تحاكم إليها في قضية تتعلق بأوقاف الأزهر وكان له مندوحة عن ذلك. فكانت جنايتهم على الشريعة أنهم كانوا السبب في إضاعة القسم الأكبر منها , وأنهم سلكوا في القسم الثاني الذي بقي للمحاكم الشرعية طريقة سوء ذهبت بثقتهم وثقة سائر الناس منها - وكل ذلك بحجة حماية الدين وحفظ الشريعة الذي هو فخرهم ولو بالباطل ينالون به الزلفى في نفوس عامة المسلمين المقلدين لهم الذين لا يعلمون بماذا يقلدون. تكاد حماية الدين والمحافظة على الشريعة عند هؤلاء تذهب برسومها كما ذهبت بروحهما , فإن السماء والأرض تستغيثان من خلل المحاكم الشرعية وتلجآن إلى الحكومة طلبًا لإصلاحها , ولكن الشيوخ عقبة في طريق كل إصلاح , وحجتهم الوهمية المحافظة على الدين الذي لا يعرفه سواهم , وقوتهم غرور العامة بهم وتصديق دعاواهم , والحكومات تحترم دائمًا عقائد العامة وعاداتها وتقاليدها حقًّا كانت أو باطلة؛ لئلا تهيج عليها الرأي العام , ولذلك كان صلاح حال العامة بالتربية الصحيحة والتعليم النافع مفضيًا إلى صلاح حال الحكومة بالطبع لأن رأي الأمة يكون حينئذ صحيحًا وقوة الأمة لا تقاوم لأن يد الله مع الجماعة. هذا بعض آثار التقليد الأعمى للميتين والجمود على العادات الموروثة , وليس كل علماء الأزهر على هذا الجمود بل السواد والدهماء منهم , وإنما العامة مع الأكثرين حتى يظهر خطأهم الزمان والذي لا يعلو حكمه حكم إنسان، هذا أحدهم الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية اليوم قد رأى منذ زمن طويل فساد هذه المحاكم التي كثر تألم الناس منها وشكواهم للحكومة , فأرشده الشيخ لذلك التقرير فطلبه من أحد حاشية الأمير واستفاد منه واضعو اللائحة الحديثة كثيرًا من الفوائد , ولكنها لم تكن كافية. وفي سنة 1899 م حاولت الحكومة المصرية عمل شيء في المحاكم الشرعية على أنه من الإصلاح , فقامت قيامة العلماء والجرائد , وتهيجت العامة لاعتقاد الجميع أن ما كان يحاول غير جائز شرعًا (وفي الحقيقة أنه لم يكن هو الإصلاح المطلوب للمحاكم) ولكنهم لم يطلبوا شيئًا غيره يجوز عندهم شرعًا. وكنا قبل هذه الفتنة قد كتبنا في المنار الصادر آخر سنة 1316هـ مقالة في (التعليم القضائي) بينَّا فيها أن إصلاح المحاكم الشرعية لا يكون إلا بقضاة صالحين للقيام بأعباء القضاء , وأن هذا لا يتم إلا بتعليم خاصٍّ بيَّنا طريقه , واقترحنا على شيخ الأزهر ومجلس إدارته تنفيذه , ولكن أنَّى ينفذ , وحماة الدين من مشايخ الأزهر أصحاب النفوذ لا يرضون بشيء جديد غير ما اتبعوا عليه آباءهم إلا الشيخ محمد عبده وهو صاحب هذا الرأي , لكن لا موافق له منهم عليه في مجلس الإدارة إلا الشيخ عبد الكريم سلمان وأكثر الآراء كانت على ضد ما يطلبان. انتهت فتنة المحاكم بسكوت الحكومة عن المشروع الذي أعدته , ولكن المتقاضين لم يسكتوا على حقوقهم تضيع. في أثرها عهد بمنصب إفتاء الديار المصرية للرجل الذي كان أول ساع في الإصلاح والمشهود له بأنه أعرف الناس بطرقه , فكلفته الحكومة تفتيش هذه المحاكم , ووصف خللها , وبيان ما يحتاجه من العلاج؛ ففعل ووضع في ذلك تقريره المشهور الذي أجمع الناس على استحسانه , حتى إن الذين يعادون الإصلاح باسم الدين لم يجهروا بنقده ولا بالاعتراض عليه. ثم ألفت الحكومة لجنة للنظر فيما يمكن العمل به من التقرير , رئيسها ناظر الحقانية وكان في أعضاء اللجنة مع المفتي قاضي مصر السابق , وشيخ الأزهر واخترمت المنية القاضي في تلك الأثناء فوقف سير اللجنة , واستمر على وقوفه وعذر الحكومة في ذلك العامة , وبلاء العامة العلماء , وهاك ما قاله اللورد كرومر عن هذه المحاكم في تقريره عن سنة 1902 وهو: المحاكم الشرعية (يقول المفتشون من العلماء التابعين لنظارة الحقانية: إن أحكام قضاة المحاكم الشرعية في الأحوال الشخصية وإنجازهم للقضايا قد تحسنت بعض التحسن ولا ريب أن زيادة إنفاق المال تقضي إلى إصلاح مهم في هذه المحاكم , ولكن لا ينتظر أن يجري حتى يلح الأهالي في طلب الإصلاح من أنفسهم وذلك يكون بتقدم العلم والمعرفة. والشكاوي الآن كثيرة , ولكن المعارضة شديدة في كل تغيير مهما كان لازمًا وخاليًا من الضرر. والغالب أن تلك المعارضة تنجح بدعوى أن الإصلاحات مخالفة للشريعة أو لعادة القوم) اهـ فانظر؛ تجد أن هذا السياسي الواقف على حالة البلاد أتم الوقوف يصرح بأن الإصلاح لا يمكن إلا بعد ان تتحول العامة عن اعتقاد ما يقوله المشايخ في مقاومة الإصلاح , وأوضح منه ما قاله في تقريره عن سنة 1903 الماضية. وإنك لتجد شيوخنا يطلعون عليه ويعرفون ما يقول الناس في جمودهم , ولا يرجعون عنه رحمة بالشريعة التي انتحلوا حملها وبأنفسهم , وهذا هو نصه: المحاكم الشرعية هذه ترجمة محضر مأخوذ عن الجريدة الرسمية وهو يتعلق بأعمال مجلس شورى القوانين في جلسة حديثة العهد، والحديث فيها بين أحمد بك يحيى من أعيان المصريين وحضرة الشيخ حسونة النواوي وهو عالم جليل من علمائهم تولى منصب الإفتاء فيما مضى. (حضرة أحمد بك يحيى: إن الطريقة المتبعة حتى الآن في المحاكم الشرعية في أمر المرافعات وتأجيل القضايا أوجبت شكاوي كثيرة , فلذا أقترح على مجلس شورى القوانين تأليف لجنة تدرس هذه الأمور وتضع فيها تقريرًا. (فضيلة الشيخ حسونة النواوي: إني لا أعلم أن المحاكم الشرعية تحتاج إلى الإصلاح في أمر من أمورها. (تقرير بالأغلبية التصديق على رأي الشيخ حسونة النواوي) انتهى. فهذه الأعمال مشددة للعزائم؛ لأنها تدل على أن في مجلس شورى القوانين نفسه بعضًا من الأعضاء الأذكياء الذين يشعرون بوجوب الإصلاح للمحاكم الشرعية. أما كون الإصلاح ضروريًّا تتشوق إليه النفوس، فذلك أمر ثابت لا شك فيه إذ ليس للناس أقل ثقة بهذه المحاكم الشرعية، وقد علا الضجيج من أعمالها، وكثرت شكاوي المتقاضين بين يديها , وحجتهم عليها ترجح يومًا عن يوم. والإصلاح يطلب من وجه معروف لا يختلف فيه , وهو بسيط سهل المنال , وذلك أن الشرع نفسه لا يمكن أن يطرأ عليه تغيير مطلقًا، فغاية ما يطلب إذًا هو أن يقضى به بين الناس بطريقة معقولة على يد قضاة جمعوا من العلم والاستقلال ما يمتنع معه تأثير كل مؤثر خارجي أيَّا كان مصدره. وكانت الحكومة قد شرعت منذ خمس سنوات تقريبًا في معالجة هذا الداء ولكنها عدلت عنه؛ لأن الغرض الذي كانت تقصده من الإصلاح إنما هو صيانة المصريين أنفسهم فلم تجد منهم التأييد الكافي فأغفلته. أما الحكومة البريطانية فلا تبدأ بالسير في هذا السبيل، ولكنها تنظر بعين الرضى إلى كل إصلاح يبدأ به ذوو الشأن أنفسهم الذين يعنيهم أمر المحاكم الشرعية أكثر من سواهم وتؤيدهم وتشدد عزائمهم. ورأيي الخصوصيِّ هو أن مجلس شورى القوانين يحسن صنعًا بالعودة إلى هذا الموضوع وإيفائه حقه من البحث لا سيما أن التعجيل في إصلاح هذه المحاكم خير من التأجيل , ففي مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أمور كثيرة، فيمكن أن تحدثه نفسه يومًا بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يدًا لا تعرف حرمة القديم، فتكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقًَا لإرشاد قوم لا شأن لهم في الأمر لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي. فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في الإصلاح ويتلافوا الأمر قبل حلوله، وعسى أن المصلحين من أبناء القطر لا تضعف عزيمتهم لأول فشل حل بهم , فإن الرأي العام لأبناء دينهم هو في جانبهم وهو ينمو ويزداد وإن كانوا لا يجاهرون به، فعليهم الثبات إذن لا سيما إذ لم يكن أحد ينتظر أن الناس تتغلب على أميالها , وتوافقهم على مرادهم بعد أول حملة. ويجدر

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (الوجه الحادي والستون) قولكم: وأجمعوا على جواز شراء اللحمان والأطعمة والثياب وغيرها من غير سؤال حلها، اكتفاءً بتقليد أربابها. جوابه: إن هذا ليس تقليدًا في حكم من أحكام الله ورسوله من غير دليل، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو اقتداء واتباع لأمر الله ورسوله، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديًّا أو نصرانيًّا أو فاجرًا؛ اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل، كما قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله , إن ناسًا يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لا؟ فقال: (سمّوا أنتم وكلوا) فهل يسوغ لكم تقليد الكفار والفُسَّاق في الدين كما تقلدونهم في الذبائح والأطعمة؟ ؟ فدعوا هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحقّ والباطل؛ لنعقد معكم عقد الصلح للأمّة على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله، والتحاكم إليهما، وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندور مع الحق حيث كان، ولا نتخير إلى شخص معين غير الرسول، ونرد قول من خالفه كله، وإلا فاشهدوا بأنَّا أول منكر لهذه الطريقة وراغب عنها، وداع إلى خلافها، والله المستعان. (الوجه الثاني والستون) قولكم: لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء، ضاعت مصالح العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا وقدرًا! ! فجوابه من وجوه: (أحدها) إن من رحمة الله - سبحانه - بنا ورأفته أنه لم يكلفنا بالتقليد , فلو كلفنا به؛ لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا؛ لأنَّا لم نكن ندري مَنْ نُقَلِّد من المُفْتِين والفقهاء، وهم عدد فوق المئين، ولا يدري عددهم في الحقيقة إلا الله , فإن المسلمين قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً، وانتشر الإسلام بحمد الله وفضله، وبلغ مبلغ الليل، فلو كلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العَنَت والفساد، ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه، وإيجاب الشيء وإسقاطه معًا؛ إن كلفنا بتقليد كل عالم. وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم؛ فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير كثير من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ فضلاً عن المقلد الذي هو كالأعمى. وإن كلفنا بتقليد البعض , وكان جعل ذلك إلى تشهينا واختيارنا؛ صار دين الله تبعًا لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا وهو عين المحال، فلا بد أن يكون ذلك راجعًا إلى أمر الله ورسوله باتباع قوله وتلقي الدين من يديه، وذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله وأمينه على وحيه، وحجته على خلقه. ولم يجعل الله هذا المنصب لسواه بعده أبدًا. (الثاني) إن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها , وبإهماله وتقليد من يخطىء ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به. (الثالث) إن كل واحد منا مأمور بأن يصدق الرسول فيما أخبر به ويطيعه فيما أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة أمره وخبره، ولم يوجب الله سبحانه من ذلك على الأمة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها، وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال ذلك تضيع مصالحها، وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته إلا بالعلم، وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قلّ الشرّ في أهلها، وإذا خفي العلم هناك؛ ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل الله له نورًا، قال الإمام أحمد: (لولا العلم كان الناس كالبهائم) . وقال: (الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا , والعلم يحتاج إليه في كل وقت) . (الرابع) إن الواجب على كل عبد أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة مصالح الخلق، ولا تعطيل لمعاشهم؛ فقد كان الصحابة - رضي الله - عنهم قائمين بمصالحهم ومعاشهم، وعمارة حروثهم، والقيام على مواشيهم، والضرب في الأرض لمتاجرهم، والصفق بالأسواق، وهم أهدى العلماء الذين لا يشق في العلم غبارهم. (الخامس) إن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد الله تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه، فإنه كتاب الله الذي يسره للذكر، كما قال - تعالى -: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) قال البخاري في صحيحه: قال مطر الوراق: (هل من طالب علم فيعان عليه؟) , ولم يقل: فتضيع عليه مصالحه، وتتعطل عليه معايشه، وسنة رسول الله وهي - بحمد الله - مضبوطة محفوظة، أصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمسمائة حديث. وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف. وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدرات الأذهان، وأغلوطات المسائل، والفروع والأصول التي ما أنزل الله بها من سلطان التي كل ما لها في نمو وزيادة وتوليد , والدين كل ما له في غربة ونقصان، والله المستعان. (الوجه الثالث والستون) قولكم: قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول، وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت، وعلى تقليد المؤذنين , وتقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة، وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها؛ فجوابه ما تقدم أن استدلالكم بهذا من باب المغاليط، وليس هذا من التقليد المذموم على لسان السلف والخلف في شيء، ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها، بل لأن الله ورسوله أمر بقبول قولهم، وجعله دليلاً على ترتيب الأحكام، فإخبارهم بمنزلة الشهادة والإقرار. فأين في هذا ما يسوغ التقليد في أحكام الدين. والإعراض عن القرآن والسنن، ونصب رجل بعينه ميزانًا على كتاب الله وسنة رسوله؟ ؟ (الوجه الرابع والستون) قولكم: أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عقبة بن الحرث أن يقلّد المرأة التي أخبرته بأنها أرضعته وزوجته. فيالله العجب! ! فأنتم لا تقلّدونها في ذلك، ولو كانت إحدى أمهات المؤمنين ولا تأخذون بهذا الحديث، وتتركونه تقليدًا لمن قلدتموه دينكم، وأي شيء في هذا مما يدل على التقليد في دين الله؟ وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر المخبر عن أمر حسي يخبر به , وبمنزلة قبول الشاهد؟ وهل كان مفارقة عقبة لها تقليدًا لتلك الأمة أو اتباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث أمره بفراقها؟ فمن بركة التقليد أنكم لا تأمرونه بفراقها، وتقولون: هي زوجتك حلال وطئها! ! ! وأما نحن فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعقبة بن عامر سواء، ولا نترك الحديث تقليدًا لأحد. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

سوريا والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سوريا والإسلام (8) مسيحو سوريا في أيام الدولة العربية زعم الكاتب المتحمس أن المسلمين لما استولوا على سوريا ابتدؤوا يسومون السوريين الذل والهوان، قال: (ولو أن المسلمين حكماء كباقي الفاتحين الذين اكتسحوا سوريا أو بالحري كالسلوقيين والرومانيين الذين لم يكونوا يتعرضون للسوريين بما يمس عوائدهم وعواطفهم دينيًّا وأدبيًّا، بل كانوا يكتفون بحفظ سيطرتهم السياسية عليهم؛ لو كانوا حكماء، ولم يصنعوا بهم ما صنعوه؛ لما كانوا لاقوا من السوريين إلا الملاطفة والطاعة. ثم طفق يسرد الألفاظ التي يعرفها من اللغة تدلّ على الظلم والاستعباد , والتي لا تدل أيضًا؛ ليعظم الأمر، ويهيج تعصب نصارى سوريا على مسلميها , وإن كان هذا التعصب يضرّ قومه أكثر مما يضر المسلمين، وهو لا يدري لسكره بخمرة حرية أمريكا التي سمحت له بأن يشتم الإسلام والمسلمين بما شاء قال: (ولا يظن القارئ أن تعصب المسلمين ضد المسيحين في أيام الدولة العربية كان بسيطًا كما نفهمه اليوم؛ كلا، بل كان استبدادًا مطلقًا واستعبادًا. تصور أيها القارئ حالة أمة يهجم عليها في منازلها وكنائسها , ويقتل بعضها ويسبي البعض الآخر. تصور حالة أمة يحكم عليها تارة بهدم معابدها وأخذ عشر بيوتها، وطورًا بأخذ أحسن دورها ومنازلها لتجعل جوامع أو بيوتًا للقضاء، تصور حال أمة يحكم عليها بأن تعلق على أبواب منازلها صور الشياطين تمييزًا لها عن بيوت المسلمين، تصور حال أمة يحكم عليها بأن تقفل مكاتبها ويمنع أولادها وصغارها من تعلم القراءة، تصور حال أمة لم يكن يقبل أحد من أفرادها في دواوين الحكومة المتسلطة عليها، تصور حال أمة لم يكن يسمح لها بأن تظهر صلبانها في الأسواق ولا بأن تدق جرسًا. تلك هي حالة المسيحيين في سوريا في أيام الدولة العربية. ولقد حدثت هذه وجرى هذا الضغط في أيام جميع الخلفاء الأمويين والعباسيين , وكان في الأكثر أيام جعفر المتوكل على الله في سنة 849 هـ أو بِالحَرِيّ عندما ابتدأت العربية أن تشعر بضعفها وانحطاطها. وجوابنا عن هذا كله كلمة فذة نضطر أن نصرح بها مع الأسف , وهي أن هذا اختراع محض , فلا هجوم على البيوت والكنائس ولا صور شياطين، ولا منع من تعليم، فإن العرب كانوا أرحم الدول الفاتحة وأعدلها , وكانت سيرتهم نقيض ما قال هذا المتعصب بشهادة عدول المؤرخين، حتى من الإفرنج الذين أوجدوا الغلوَّ في التعصب الديني في الأرض، ثم طفق بعضهم يذمّه في هذا الزمان. ومن شاهد ما تعامل به دولهم المسلمين وغيرهم في مثل بلاد جاوه؛ لشاهد ما تقشعر منه الأبدان، وهو فوق ما اخترعته مخيلة رفول سعادة، وألصقته بالعرب , وقد تقدم في رد النبذة السابعة السابقة ما يؤيد قولنا هذا في العرب وسنزيده بيانًا. أما السلوقيون فقد كانت أيامهم كلها حروبًا داخلية وخارجية من أول عهدها إلى آخره، وكان فيها من الفظائع ما فيها، ومن أقبحها ضغط الملك أنطوخيوس الثاني على اليهود، ونهب هيكلهم , وإسرافه في قتلهم، ونهب أموالهم في القرن الثاني قبل المسيح، وقد سَلَّم هذا الملك الفاجر الذي لقب نفسه باسم (الله) زمام حكومته لنسائه وندمائه؛ فأسرع الخراب والدمار بسوء سيرتهن وسيرتهم إلى سوريا، ولم تنطف من بعده نيران الثورات والفتن في سوريا. ولما ولي أنطيخوس الثالث المُلْك انبرى لإخماد ثورة مولو القائد السوري الذي استقل في جهة نهر الفرات فانتهز الفرصة أخيوس، وخرج عليه، وادعى الملك لنفسه وهو من بيت سلقوس مؤسس المملكة , فشغله ذلك عن محاربة مصر زمنًا ثم عاد إليها بعدما تولاها بطليموس الخامس وهو صغير السن، وكان استولى على فلسطين وفينيقية وسوريا السفلى. ثم زوج بطليموس ابنته , ووعده بأن يعطيه فلسطين وسوريا السفلى مهرًا لها، ولكنه لم يصدق. وبعد محاربة الرومانيين إياه وثورة أرمينيا عليه نهب هياكل آسيا ومعابدها فاحتوى جميع كنوزها وخزائنها، ثم طالبه ملك مصر بما وعد به أبوه من مهر ابنته وهو فلسطين وسوريا السفلى , فأغار على مصر حتى إذا كاد يظفر صده الرومانيون , فعاد ينتقم من اليهود بما جنى غيرهم؛ فهجم على بيت المقدس ونهب الهيكل , وعاث فيه فسادًا ولطخه بالنجاسة. ولم تكن حال من بعده بأمثل من حاله، فهذا نموذج من سيرة السلوقيين الذين فضلهم هذا المتعصب الغالي على العرب الذين كانوا أفضل الفاتحين في الأرض وأرفقهم وأعدلهم. إن سوريا لم يستقر لها في أيامها قرار، ولم تكنها مع الأمان دار، حتى إن السوريين سئموا الحياة في آخر عهدهم، ودعوا طغرانيس ملك أرمينية فولوه عليهم فأمنت البلاد، واطمأن العباد، فأين مثل هذه الثورات والفتن في أيام العرب؟ لقد استولى على سوريا كثير من الفاتحين الغرباء فلم يمتزج السوريون بأحد امتزاجهم بالعرب، وحسبك أنهم استعربوا فلم تعد تعرف لهم جنسية غير العربية. فاعتبر بتعصب هذا الكاتب الذي أراه بغض المسلمين النور ظلمة، والسعادة شقاءً، والخير شرًّا، والحق باطلاً، وانظر هل يتيسر لنا جمع كلمة السوريين , وفيهم مثل هذا يكتب وينشر ويفرق ويمزق، ويقنع المسلمين بأن سيرة سلفهم توجب عليهم عداوة النصارى، ولا يجد له من أبناء ملته مفندًا ولا رادعًا، حتى كأن الجميع معه في آرائه مع علمهم بخطأه واختلاقه. أما الرومانيون فتاريخهم معروف، وعتوهم وجورهم غير مجهول , ومؤرخو النصارى يعترفون بما قاسى السوريون منهم عامة، وما قاسى اليهود منهم خاصة، لا سيما بعد ما دخل الرومانيون في النصرانية. ولقد تنصر معظم أهل سوريا، ولكن لم يتجنسوا بالجنسية الرومانية، ولم يكن حكامهم يعاملونهم على اتفاقهم معهم في الدين معاملة المساواة؛ لذلك أدهشهم عدل الإسلام، ومساواته فكانوا عونًا للمسلمين على الروم في حربهم، ولولا ذلك لم يتم للعرب فتح سوريا في تلك المدة القصيرة. قال البلاذري في فتوح البلدان: حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردّوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: (قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم) فقال أهل حمص: (لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظُّلم والغَشَم، ولندفعنَّ جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حِمص إلا أن نغلب ونجهد؛ فأغلقوا الأبواب وحرسوها. وكذلك فعل أهل المدن التي صُولحت من النصارى واليهود وقالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنَّا عليه وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد. وقال في كتابه فتوح الشام يذكر إقبال الروم على المسلمين، ومسير أبي عبيدة من حمص: (فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة فقال: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنَّا أخذنا منهم فإنه لا ينبغي لنا إذ لا نمنعهم (أي نحميهم) أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن على ما كنَّا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح، ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا أموالكم لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم، ولا نمنع بلادكم (أي نحميها) , فلما أصبح أمر الناس بالمسير إلى دمشق، ودعا حبيب بن مَسْلَمَة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال؛ فأخذ يرده عليهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة , وأخذ أهل البلد يقولون: ردَّكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم , ولكن - والله - لو كانوا هنا ما ردوا إلينا، بل غصبونا، وأخذوا مع هذا ماقدروا عليه من أموالنا) اهـ، وقد أورد هذين الشاهدين الشيخ شبلي النعماني في رسالة الجِزْيَة والإسلام، واستدل بهما وبغيرهما على أن الجِزْية جزاء الحماية والدفاع (راجع ص 356 من السنة الأولى) . التعدي على الكنائس وجعلها مساجد لم يكن مما يستحله المسلمون كما يعلم من له أدنى اطلاع من مسألة عمرو بن العاص مع العجوز القبطية في مصر. وهؤلاء بنو أمية أظلم العرب قد اقترفوا هذا الإثم مرة، والقصة تدل على كونها من الظلم على عدل العرب، وبعدهم عن مثل هذا الاعتداء، قال البلاذري في فتوح البلدان ما نصه: قالوا: ولما ولي معاوية بن أبي سفيان أراد أن يزيد كنيسة يوحنا في المسجد بدمشق؛ فأبى النصارى ذلك فأمسكه، ثم طلبها عبد الملك بن مروان في أيامه للزيادة في المسجد , وبذل لهم مالاً فأبوا أن يسلموها إليه. ثم إن الوليد بن عبد الملك جمعهم في أيامه، وبذل لهم مالاً عظيمًا على أن يعطوه إياها فأبوا، فقال: لئن لم تفعلوا لأهدمنها، فقال بعضهم: يا أمير المؤمنين , إن من هدم كنيسة جُنَّ، أو أَصَابته عَاهة. فَأَحْفَظَهُ قَوْلُهُ ودعا بمعول، وجعل يهدم بعض حيطانها بيده، وعليه قباء خز أصفر , ثم جمع الفعلة والنقاضين فهدمها في المسجد. فلما استخلف عمر بن عبد العزيز شكا النصارى إليه ما فعل الوليد بهم في كنيستهم, فكتب إلى عامله يأمره برد ما زاده في المسجد عليهم , فكره أهل دمشق ذلك , وقالوا: نهدم مسجدنا بعد أن أَذنا فيه وصلينا , ويُرَدُّ بِيعَةً؟ وفيهم يومئذ سليمان بن حبيب المحاربي وغيره من الفقهاء، وأقبلوا على النصارى فسألوهم أن يُعْطَوْا جميع كنائس الغوطة التي أخذت عُنوة، وصارت في أيدي المسلمين على أن يصفحوا عن كنيسة يوحنا ويمسكوا عن المطالبة بها فرضوا بذلك وأعجبهم , فكتب به إلى عمر فسره وأمضاه. اهـ فهذه الحادثة على ما فيها من خروج الوليد عن نهج الشرع لفسقه المشهور، تدل على شدة محافظة العرب على الكنائس، وحقوق الذمّة فإن ملكهم اضطر إلى كنيسة ليوسع بها مسجدًا رأى أن يكون أثرًا من آثاره، وموضعًا لفخاره، بعدما عجز عنه سلفه حُرْمة للذمة، فجاء بنفسه يسترضي النصارى، ويبذل لهم المال الكثير، وهم يأبون عليه ويهددونه بالوقوع في العاهات، ويخاطبونه بكلمة (الجنون) , فهل يصح أن يكون هذا شأن رعية مظلومة مضطهدة مع الفاتحين القاهرين، أم هو إدلال من عوملوا بالعدل والمساواة، والحِلم والإناة، ولم يتعودوا أن يهضموا حقًّا، ولا أن يسلبوا رزقًا. قال البلاذري: حدثني هشام بن عمار أنه سمع المشايخ يذكرون أن عمر بن الخطاب عند مقدمه الجابية من أرض دمشق مر بقوم مجذومين من النصارى , فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يُجْرَى عليهم القوت. وقال هاشم: سمعت الوليد بن مسلم يذكر أن خالد بن الوليد شرط لأهل الدير الذي يعرف بدير خالد شرطًا في خراجهم بالتخفيف عنهم حين أعطوه سُلَّمًا صعد عليه , فأنفذه لهم أبو عبيدة. ولما فرغ أبو عبيدة من أمر مدينة دمشق سار إلى حمص فمر ببعلبك , فطلب أهلها الأمان والصلح فصالحهم على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وكتب لهم: (بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب أمان لفلان بن فلان وأهل بعلبك رومها وفرسها وعربها على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ودورهم داخل المدينة وخارجها وعلى أرحائهم , وللروم أن يرعوا سرحهم ما بينهم وبين خمسة عشر ميلاً، ولا ينزلوا قرية عامرة؛ فإذا مضى شهر ربيع وجمادى الأولى ساروا إلى حيث شاءوا، ومن أسلم منهم؛ فله ما لنا وعليه ما علينا. ولتجارهم أن يسافروا إلى حيث أرادوا من البلاد التي صالحنا عليها، وعلى من أقام منهم الجزية والخراج، شهد الله وكفى بالله شهيدًا) . أرأيت الفاتح الذي يصالح خصمه مثل هذا الصلح اللين يقال فيه: إنه قاس يهدم الكنائ

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى تعدد الزوجات (س20) نجيب أفندي قناوي أحد طلبة الطب في أمريكا: يسألني كثير من أطباء الأمريكانيين وغيرهم عن الآية الشريفة {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3) , ويقولوا: كيف يجمع المسلم بين أربع نسوة؟ فأجبتهم على مقدار ما فهمت من الآية مدافَعَةً عن ديني، وقلت: إن العدل بين اثنتين مستحيل؛ لأنه عندما يتزوج الجديدة لا بد أن يكره القديمة؛ فكيف يعدل بينهما؟ والله أمر بالعدل , فالأحسن واحدة. هذا ما قلته، وربما أقنعهم، ولكن أريد منكم التفسير وتوضيح هذه الآية، وما قولكم في الذين يتزوجون ثنتين وثلاثًا؟ (ج) إن الجماهير من الإفرنج يرون مسألة تعدد الزوجات أكبر قادح في الإسلام متأثرين بعاداتهم، وتقليدهم الديني، وغلوهم في تعظيم النساء بما يسمعون ويعملون عن حال كثير من المسلمين الذين يتزوجون بعدة زوجات لمجرد التمتع الحيواني من غير تقيد بما قيد القرآن به جواز ذلك، وبما يعطيه النظر من فساد البيوت التي تتكون من زوج واحد وزوجات لهن أولاد يتحاسدون ويتنازعون ويتباغضون. ولا يكفي مثل هذا النظر للحكم في مسألة اجتماعية كبرى كهذه المسألة بل لا بد قبل الحكم من النظر في طبيعة الرجل، وطبيعة المرأة والنسبة بينهما من حيث معنى الزوجية والغرض منها، وفي عدد الرجال والنساء في الأمم أيهما أكثر، وفي مسألة المعيشة المنزلية، وكفالة الرجال للنساء أو العكس أواستقلال كل من الزوجين بنفسه. وفي تاريخ النشوء البشري؛ ليعلم هل كان الناس في طور البداوة يكتفون بأن يختص كل رجل بامرأة واحدة. وبعد هذا كله ينظر هل جعل القرآن مسألة تعدد الزوجات أمرًا دينيًّا مطلوبًا، أم رخصة تباح للضرورة بشروط مضيق فيها؟ أنتم معشر المشتغلين بالعلوم الطبيعية أعرف الناس بالفرق بين طبيعة الرجل والمرأة، وأهم التباين بينهما. ومما نعلم بالإجمال أن الرجل بطبيعته أكثر طلبًا للأنثى منها له، وإنه قلما يوجد رجل عنين لا يطلب النساء بطبيعته، ولكن يوجد كثير من النساء اللاتي لا يطلبن الرجال بطبيعتهن، ولولا أن المرأة مغرمة بأن تكون محبوبة من الرجل، وكثيرة التفكير في الحظوة عنده؛ لوجد في النساء من الزاهدات في التزوج أضعاف ما يوجد الآن. وهذا الغرام في المرأة هو غير الميل المتولد من داعية التناسل في الطبيعية فيها وفي الرجل، وهو الذي يحمل العجوز والتي لا ترجو زواجًا على التزين بمثل ما تتزين به العذراء المُعْرِضة، والسبب عندي في هذا معظمه اجتماعي، وهو ما ثبت في طبيعة النساء واعتقادهن القرون الطويلة من الحاجة إلى حماية الرجال وكفالتهم، وكون عناية الرجل بالمرأة على قدر حظوتها عنده وميله إليها، أحس النساء بهذا في الأجيال الفطرية؛ فعملن له حتى صار ملكة موروثة فيهن، حتى إن المرأة لتبغض الرجل ويؤلمها مع ذلك أن يعرض عنها، ويمتهنها، وإنهن ليألمن أن يرين رجلاً، ولو شيخًا كبيرًا أو راهبًا متبتلاً، ولا يميل إلى النساء، ولا يخضع لسحرهن، ويستجيب لرقيتهن؛ ونتيجة هذا أن داعية النسل في الرجل أقوى منها في المرأة فهذه مقدمة أُولى. ثم إن الحكمة الإلهية في ميل كل من الزوجين الذكر والأنثى إلى الآخر الميل الذي يدعو إلى الزواج، هو التناسل الذي يحفظ به النوع , كما أن الحكمة في شهوة التغذي هي حفظ الشخص، والمرأة تكون مستعدة للنسل نصف العمر الطبيعي للإنسان وهو مائة سنة، وسبب ذلك أن قوة المرأة تَضْعُف عن الحمل بعد الخمسين في الغالب فينقطع دم حيضها , وبيوض التناسل من رحمها، والحكمة ظاهرة في ذلك والأطباء أعلم بتفصيلها، فإذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من امرأة واحدة كان نصف عمر الرجال الطبيعي في الأمة معطلاً من النسل الذي مقصود الزواج؛ إذا فُرِض أن الرجل يقترن بمن تساويه في السن، وقد يضيع على بعض الرجال أكثر من خمسين سنة إذا تزوج بمن هي أكبر منه، وعاشا العمر الطبيعي، كما يضيع على بعضهم أقل من ذلك إذا تزوج بمن هي أصغر منه، وعلى كل حال يضيع عليه شيء من عمره، حتى لو تزوج، وهو في سن الخمسين بمن هي في الخامسة عشرة يضيع عليه شيء من خمس عشرة سنة. وما عساه يطرأ على الرجال من مرض أو هِرَم عاجل أو مَوْت قبل بلوغ السن الطبيعي يطرأ مثله على النساء قبل سن اليأس. وقد لاحظ هذا الفرق بعض حكماء الإفرنج فقال: لو تركنا رجلاً واحدًا مع مائة امرأة سنة واحدة كاملة، فأكثر لجاز أن يكون لنا من نسله في السنة مائة إنسان، وأما إذا تركنا مائة رجل مع امرأة واحدة سنة كاملة فأكثر ما يمكن أن يكون لنا من نسلهم إنسان واحد، والأرجح أن هذه المرأة لا تنتج أحدًا لأن كل واحد من الرجال يفسد حرث الآخر. ومن لاحظ عظم شأن كثرة النسل في سنة الطبيعة وفي حال الأمم يظهر له عظم شأن هذا الفرق. فهذه مقدمة ثانية. ثم إن المواليد من الإناث أكثر من الذكور في أكثر بقاع الأرض. وترى الرجال على كونهم أقل من النساء يعرض لهم من الموت والاشتغال عن التزوج أكثر مما يعرض للنساء، ومعظم ذلك في الجندية والحروب، وفي العجز عن القيام بأعباء الزواج ونفقاته لأن ذلك يطلب منهم في أصل نظام الفطرة، وفيما جرت عليه سنة الشعوب، والأمم إلا ما شذ، فإذا لم يبح للرجل المستعد للزواج أن يتزوج بأكثر من واحدة؛ اضطرت الحال إلى تعطيل عدد كثير من النساء ومنعهن من النسل الذي تطلبه الطبيعة والأمة منهن، وإلى إلزامهن بمجاهدة داعية النسل في طبيعتهن وذلك يُحدث أمراضًا بدنية وعقلية كثيرة يمسي بها أولئك المسكينات عالة على الأمة وَبَلاءً فيها , بعد أن كُنَّ نعمة لها، أو إلى إباحة أعراضهن والرضى بالسفاح وفي ذلك من المصائب عليهن - لا سيما إذا كن فقيرات - ما لا يرضى به ذو إحساس بشري. وإنك لتجد هذه المصائب قد انتشرت في البلاد الإفرنجية، حتى أعيا الناس أمرها وطفق أهل البحث ينظرون في طريق علاجها فظهر لبعضهم أن العلاج الوحيد هو إباحة تعدد الزوجات. ومن العجائب أن ارتأى هذا الرأي غير واحدة من كاتبات الإنكليز، وقد نقلنا ذلك عنهن في مقالة نشرت في المجلد الرابع من المنار (تراجع في ص741) وإنما كان هذا عجيبًا؛ لأن النساء ينفرون من هذا الأمر طبعًا، وهنَّ يحكمن بمقتضى الشعور والوجدان، أكثر مما يحكمن بمقتضى المصلحة والبرهان، بل إن مسألة تعدد الزوجات صارت مسألة وجدانية عند الرجال الإفرنج تبعًا لنسائهم، حتى لنجد الفيلسوف منهم لا يقدر أن يبحث في فوائدها وفي وجه الحاجة إليها بحث بريء من الغرض طالبًا كشف الحقيقة - فهذه مقدمة ثالثة. وأنتقل بك من هذا إلى اكتناه حال المعيشة الزوجية، وأُشْرِفُ بِكَ على حكم العقل والفطرة فيها، وهو أن الرجل يجب أن يكون هو الكافل للمرأة، وسيد المنزل لقوة بدنه وعقله. وكونه أقدر على الكسب والدفاع، وهذا هو معنى قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم} (النساء: 34) وأن المرأة يجب أن تكون مُدَبِّرة المنزل ومربِّية الأولاد لرقتها وصبرها، وكونها كما قلنا من قبل واسطة في الإحساس والتعقل بين الرجل والطفل؛ فيحسن أن تكون واسطة لنقل الطفل الذكر بالتدريج إلى الاستعداد للرجوليَّة، ولجعل البنت كما يجب أن تكون من اللطف والدعة والاستعداد لعملها الطبيعي، وإن شئت فقل في بيان هذه المسألة أن البيت مملكة صغرى كما أن مجموع البيوت هو المملكة الكبرى , فللمرأة في هذه المملكة إدارة نظارة الداخلية والمعارف، وللرجل مع الرياسة العامة إدارة نظارات المالية والأشغال العمومية والحربية والخارجية، وإذا كان من نظام الفطرة أن تكون المرأة في البيت، وعملها محصورًا فيه لضعفها عن العمل الآخر بطبيعتها، وبما يعوقها من الحَبَل والولادة، ومداراة الأطفال، وكانت بذلك عالة على الرجل، كان من الشطط تكليفها بالمعيشة الاستقلالية، بله السيادة والقيام على الرجل. وإذا صح أن المرأة يجب أن تكون في كفالة الرجل , وأن الرجال قوَّامون على النساء كما هو ظاهر فماذا نعمل والنساء أكثر من الرجال عددًا؟ ألا ينبغي أن يكون في نظام الاجتماع البشري أن يباح للرجل الواحد كفالة عددة نساء عند الحاجة إلى ذلك لا سيما في أعقاب الحروب التي تجتاح الرجال، وتدع النساء لا كافل للكثير منهن ولا نصير؟ ويزيد بعضهم على هذا أن الرجل في خارج المنزل يتيسير له أن يستعين على أعماله بكثير من الناس، ولكن المنزل لا يشتمل على غير أهله، وقد تمس الحاجة إلى مساعد للمرأة على أعماله الكثيرة كما تقضي قواعد علم الاقتصاد في توزيع الأعمال، ولايمكن أن يكون من يساعدها في البيت من الرجال، لما في ذلك من المفاسد فمن المصلحة على هذا أن يكون في البيت عدة نساء مصلحتهن عمارته - كذا قال بعضهم - فهذه مقدمة رابعة. وإذا رجعت معي إلى البحث في تاريخ النشوء البشري في الزواج والبيوت (العائلات) أو في الازدواج والإنتاج، نجد أن الرجل لم يكن في أمة من الأمم يكتفي بامرأة واحدة كما هو شأن أكثر الحيوانات، وليس هذا بمحل لبيان السبب الطبيعي في ذلك، بل ثبت بالبحث أن القبائل المتوحشة كان فيها النساء حقًّا مشاعًا للرجال بحسب التراضي، وكانت الأمّ هي رئيسة البيت , إذ الأب غير متعين في الغالب، وكان كلما ارتقى الإنسان يشعر بضرر هذا الشيوع والاختلاط , ويميل إلى الاختصاص؛ فكان أول اختصاص في القبيلة أن يكون نساؤها لرجالها دون رجال قبيلة أخرى، وما زالوا يرتقون حتى وصلوا إلى اختصاص الرجل الواحد بعدة نساء من غير تقيد بعدد مُعين، بل حسب ما يتيسر له فانتقل بهذا تاريخ البيوت (العائلات) إلى دور جديد، صار فيه الأب عمود النسب وأساس البيت كما بَيَّنَ ذلك بعض علماء الألمان والإنكليز المتأخرين في كتب لهم في تاريخ البيوت (العائلات) , ومن هنا يزعم الإفرنج أن نهاية الارتقاء هو أن يختص الرجل الواحد بامرأة واحدة وهو مُسَلَّم، وينبغي أن يكون هذا هو الأصل في البيوت، ولكن ماذا يقولون في العوارض الطبيعية والاجتماعية التي تُلجئ إلى أن يكفل الرجل عدة من النساء لمصلحتهن، ومصلحة الأمة، ولاستعداده الطبيعي لذلك؟ وليخبرونا: هل رضي الرجال بهذا الاختصاص وقنعوا بالزواج الفردي في أمة من الأمم إلى اليوم؟ أيوجد في أوربا في كل مائة ألفٍ رجلٌ لا يزني؟ كلا، إن الرجل بمقتضى طبيعته وملكاته الوراثية لا يكتفي بامرأة واحدة؛ إذ المرأة لا تكون في كل وقت مستعدة لغشيان الرجل إياها، كما أنها لا تكون في كل وقت مستعدة لثمرة هذا الغشيان وفائدته، وهو النسل، فَدَاعية الغَشَيَان في الرجل لا تنحصر في وقت دون وقت، ولكن قبوله من المرأة محصور في أوقات، وممنوع في غيرها. فالداعية الطبيعية في المرأة لقبول الرجل إنما تكون مع اعتدال الفطرة عُقَيْب الطُّهر من الحيض، وأما في حال الحيض، وحال الحمل والأثقال فتأبى طبيعتها ذلك، وأظن أنه لولا توطين المرأة نفسها على إرضاء الرجل، والحظوة عنده، ولولا ما يحدثه التذكر والتخيل للذة وقعت في إبانها من التعمل لاستعادتها - لا سيما مع تأثير التربية والعادات العمومية - لكان النساء يأبَيْن الرجال في أكثر أيام الطُّهر التي يكن فيها مست

المنار فى تونس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (المنار في تونس) كُتبَ في إحدى الجرائد الفرنسية التونسية مقالة لكاتب تونسي، جاء فيها أن بعض المشايخ يخافون على نفوذهم أن يسقط إذا رسخت تعاليم المنار في نفوس طلاّب العلم، وأنهم رأوا لذلك أن يقاوموه بالمحل والسعاية، وقد أكدت الجرائد العربية أن هذا الخبر غير صحيح وهو المعقول؛ إذ لو أنكر أحد المشايخ شيئًا في المنار لكتبوا إلينا؛ فإن النهي عن المنكر فرض , ولا عذر لهم في السكوت عنه مع تصريحنا مرارًا بأن من أنكر علينا شيئًا فإننا ننشر إنكاره، وقد فعلنا ذلك تكرارًا، ولا يكفي في الإنكار على مجلة سيارة في الآفاق الانتقاد عليها أمام بعض الناس أو تنفيرهم عن قراءتها مع بقاء المنكر ثابتًا منتشرًا، بل لا بد من اطلاع جميع القرّاء على الانتقاد ودليله، فكل من ينتقد المنار في شيء خصوصًا أمر الدين وهو لم يكتب بذلك؛ فهو فاسق بسكوته عن نهينا وإرشادنا , والفاسق لا يقبل قوله المؤمنون. *** (المناظر والمنار) نحن نُجِلُّ المناظر ونعتقد إخلاصه في خدمة بلاده وبراءته من التعصب الذميم ونحمد منه إطلاق حرية البحث للكُتَّاب وإن خالفوا رأيه، وإنما لُمْنَاه على نشر مقالات (سوريا والإسلام) لأنها ضارة وهادمة لما يبني المناظر وغيره من بناء التأليف بين أهل الوطن من حيث لا تثبت حقيقة. ولم نَلُمْه لأنها طعن في الإسلام كما لم نلمه على نشر الرد على مقالات الإسلام والنصرانية مع علمنا بما فيها من الخطأ , فليتأمل الرصيف العادل في الفرق، ولانعهده إلا محبًّا للحق.

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (الوجه الخامس والستون) قولكم: قد صرّح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: (إذا رأيت الرجل يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تتهمه) ، وقال محمد بن الحسن: (يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه , ولا يجوز له تقليد مثله) ، وقال الشافعي في غير موضع: (قلته تقليدًا لعمر , وقلته تقليدًا لعثمان , وقلته تقليدًا لعطاء) . جوابه من وجوه (أحدها) أنكم إن ادّعيتم أن جميع العلماء صرّحوا بجواز التقليد، فدعوى باطلة فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذمّ التقليد وأهله والنهي عنه ما فيه كفاية، وكانوا يسمّون المقلد (الإمعة) ، و (محقب دينه) كما قال ابن مسعود: (الذي يحقب دينه الرجال) وكانوا يسمونه الأعمى الذي لا بصيرة له، ويسمون المقلدين: (أتباع كل ناعق، يميليون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق) ، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه في الجنة -، وكما سماه الشافعي (حاطب ليل) ، ونهى عن تقليده وتقليد غيره، فجزاه الله عن الإسلام خيرًا، لقد نصح لله ورسوله والمسلمين، ودعا إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأمر باتباعهما دون قوله، وأمر بأن تعرض أقواله عليهما فيقبل منها ما وافقهما، ويرد ما خالفهما، نحن نناشد المقلدين، هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عصوه وخالفوه؟ وإن ادعيتم أن من العلماء من جوز التقليد فكان ما رأى الثاني أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم جوّزوا التقليد لمن هو أعلم منهم من أعظم الناس رغبة عن التقليد، واتباعًا للحجة، ومخالفة لمن هو أعلم منهم، فأنتم مقرون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن، ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف، وقد صح عن أبي يوسف أنه قال: (لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا) . (الثاني) إنكم منكرون أن يكون من قلّدتموه من الأئمة مقلّدًا لغيره أشد الإنكار , وقمتم وتقدمتم في قول الشافعي: (قلته تقليدًا لعمر , وقلته تقليدًا لعثمان , وقلته تقليدًا لعطاء) ، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشد الاضطراب , وادعيتم أنه لم يقلد زيدًا في الفرائض، وإنما اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاده، ووقع الخاطر على الخاطر، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة، حتى في الأكدرية، وجاء الاجتهاد (حذو القذة بالقذة) فكيف نصبتموه مقلدًا ههنا؟ ولكن هذا التناقض جاء من بركة التقليد، ولو اتبعتم العلم من حيث هو، واقتديتم بالدليل وجعلتم الحجة إمامًا لما تناقضم هذا التناقض، وأعطيتم كل ذي حق حقه. (الثالث) إن هذا من أكبر الحجج عليكم فإن الشافعي قد صرّح بتقليد عمر وعثمان مع كونه من أئمة المجتهدين، وأنتم مع إقراركم بأنكم من المقلدين لا ترون تقليد واحد من هؤلاء، بل إذا قال الشافعي، وقال عمر وعثمان وابن مسعود فضلاً عن سعيد بن المسيب، وعطاء والحسن تركتم تقليد هؤلاء، وقلدتم الشافعي، وهذا عين التناقض فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلدتموه، فإن قلدتم الشافعي فقلدوا من قلده الشافعي، فإن قلتم: بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي، قيل: لم يكن ذلك تقليدًا منكم لهم، بل تقليدًا له، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا إلى أحد منهم. (الرابع) إن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم، ولا سوغوه ألبتة، بل غاية ما نُقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة، لم يظفروا فيها بنص عن الله ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلدوه، وهذا فعل أهل العلم وهو الواجب، فإن التقليد إنما يباح للمضطر، وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة , وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد؛ فهو كمن عَدَلَ إلى الميْتة مع قدرته على المُذَكَّى، فإن الأصل أن لا يقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة , فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم. (الوجه السادس والستون) قولكم: قال الشافعي: رأي الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا؛ جوابه من وجوه: أحدها: إنكم أول مخالف لقوله , ولا ترون رأيهم لكم خيرًا من رأي الأئمة لأنفسهم، بل تقولون: رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا؛ فإذا جاءت الفُتْيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة، وجاءت الفُتْيا عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة، وأخذتم ما أفتى به الأئمة، فهلا كان رأي الصحابة لكم خيرًا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم. الثاني: إن هذا لا يوجب صحة تقليد من سوى الصحابة؛ لِما خصهم الله به من العلم والفهم والفضل والفقه عن الله ورسوله، وشاهدوا الوحي والتلقي عن الرسول بلا واسطة، ونزول الوحي بلغتهم وهي عَضَّة محضة لم تُشب ومراجعتهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما أشكل عليهم من القرآن والسنة، حتى يجليه لهم، فمن له هذه المزية بعدهم؟ ومن شاركهم في هذه المنزلة حتى يقلد كما يقلدون؟ فضلاً عن وجوب تقليده، وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما صرح به غلاتهم , وتالله إن بَين علم الصحابة وعلم من قلدتموه من الفضل كما بيننا وبينهم، وفي ذلك قال الشافعي في الرسالة القديمة بعد أن ذكرهم، وذكر من تعظيمهم وفضلهم: (وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم، وآراءهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا , قال الشافعي: وقد أثنى الله على الصحابة في القرآن والتوراة والانجيل، وسبق لهم من الفضل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم. وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم (خير الناس قَرْنِي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمنيه شهادته) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (لا تسبّوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه) . وقال ابن مسعود: (إن الله نظر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، ثم نظر في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا فهو عند الله قبيح) . وقد أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باتباع سنة خلفائه الراشدين، وبالاقتداء بالخليفتين، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وشهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لابن مسعود بالعلم، ودعا لابن عباس بأن يفقهه الله في الدين، ويعلمه التأويل، وضمه إليه مرة وقال: (اللهم علمه الحكمة) وناول عمر في المنام القدح الذي شرب منه، حتى رأى الري يخرج من تحت أظفاره وأوله بالعلم، وأخبر أن القوم إن أطاعوا أبا بكر وعمر يرشدوا، وأخبر لو كان بعده نبي لكان عمر، وأخبر أن الله جعل الحق على لسانه وقلبه وقال: (رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد) يعني عبد الله بن مسعود وفضائلهم ومناقبهم، وما خصهم الله به من العلم والفضل أكثر من أن يذكر فهل يستوي تقليد هؤلاء , وتقليد من بعدهم ممن لا يُدانيهم ولا يقاربهم؟ الثالث: إنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قلّدتموه حجّة، وأكثر العلماء بل الذي نصّ عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة يجب اتباعها، ويحرم الخروج منها كما سيأتي حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك، وأبلغهم فيه الشافعي، ونُبَيِّن أنه لم يختلف مذهبه (أن قول الصحابي حجة) ونذكر نصوصه في الجديد على ذلك إن شاء الله، وأن مَنْ حكى عنه قولَيْنِ في ذلك؛ فإنما حكى ذلك بلازم قوله لا بصريحه وإذا كان قول الصحابي حجَّة فقبول قول حجة واجب مُتعيَّن، وقبول قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغًا، فقياس أحد القائلين على الآخر من أفسد القياس وأبطله. (الوجه السابع والستون) قولكم: وقد جعل الله - سبحانه - في فِطَر العباد تقليد المتعلمين للمعلمين والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم إلى آخره، فجوابه أن هذا حقٌّ لا ينكره عاقل، ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين الله، وقبول قول المتبوع بغير حجة توجب قبول قوله، وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه؟ وترك الحجة لقوله، وترك أقوال أهل العلم جميعًا من السلف والخلف لقوله , فهل جعل الله ذلك في فطرة أحد من العالمين؟ ثم يقال: بل الذي فطر الله عليه عباده طلب الحجة، والدليل المثبت لقول المدعي، فذكر الله سبحانه في فِطَر الناس أنهم لا يقبلون قول من لَمْ يُقم الدليل على صحة قوله، ولأجل ذلك أقام الله سبحانه البراهين القاطعة، والحجج الساطعة، والأدلَّة الظاهرة، والآيات الباهرة على صدق رسله إقامة للحجة وقطعًا للمعذرة، هذا وهم أصدق خلقه وأعلمهم وأبرهم وأكملهم، فأُتُوا بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس، فكيف يقبل قول من عداهم بغير حجة توجب قبول قوله؟ والله تعالى إنما أوجب قبول قولهم بعد قيام الحجة، وظهور الآيات المُسْتَلْزِمة لصحَّة دعواهم لِما جعل في فِطر عباده من الانقياد للحجة وقبول صاحبها، وهذا أمر مشترك بين جميع أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، الانقياد للحجة، وتعظيم صاحبها وإن خالفوه عنادًا وبغيًا، فلفوات أغراضهم بالانتقاد، ولقد أحسن القائل: أَبِن وجه قول الحق في قلب سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق سيؤنسه رشدا وينسى نفاره ... كما نسي التوثيق من هو مطلق ففطرة الله وشرعه من أكبر الحجج على فرقة التقليد. (الوجه الثامن والستون) قولكم: إن الله سبحانه فاوت بين ذوي الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان، فلا يليق بحكمته وعدله أن يعرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة إلى آخره , فنحن لا ننكر ذلك، ولا ندّعي أن الله فرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله في كل مسألة من مسائل الدِّين دِقَّه وجُلَّه، وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومن تقدمهم من الصحابة والتابعين، وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من نصب رجل واحد، وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل يقدمها عليه، ويقدم قوله على أقوال من بعد رسول الله - صلى الله عليه آله وسلم - من جميع أمته والاكتفاء بتقليده عن تلقي الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا مع تضمنه للشهادة بما لا يعلم الشاهد، والقول بلا علم والإخبار عمَّن خالفه، وإن كان أعلم منه أنه غير مصيب للكتاب والسنة، ومتبوعي هو المصيب، أو يقول: كلاهما مصيب للكتاب والسنة، وقد تعارضت أقوالهما , فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضة متناقضة , والله ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد، ودينه تبع لآراء الرجال، وليس له في نفس الأمر حكم مُعيَّن، فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو يخطِّئ من خالف متبوعه، ولا بد له من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد عليه. إذا عرف هذا فنحن إنما قلنا ونقول لك: إن الله تعالى أوجب على العباد أن يتقوه بحسب استطاعتهم، وأصل التقوى معرفة ما يتقى , ثم العمل به فالواجب على كل عبد أن يبذل جهده في معرفة ما يتقيه مما أمره الله به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعه الله ورسوله، وما خفي عليه فهو فيه أُسوة أمثاله ممن عدا الرسول، فكل أحدٍ سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل العلم، ولم يكلفه الله ما لا يطيق من معرفة الحق و

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى التوارث مع اختلاف الدين (س23) أحمد أفندي صبحي في (أشمون) : ما هو حكم شريعتنا الغرَّاء في شخص كان مسيحيًّا فأسلم ثم توفي والده فهل يرثه أم لا؟ (ج) إنه لا توراث مع اختلاف الدين ومن المسلمين من يمتعض لمثل حادثة السؤال , ولكنهم إذا تنبّهوا إلى أن هذه المسألة من المعاملات التي تحكم فيها الشريعة العادلة بالمساواة , ولاحظوا أنه لا يرضيهم أن يرث الولد إذا تنصّر أو تهود مثلاً من أبيه المسلم، يظهر لهم أيجب عليهم أن يرضوا بالعكس ويفتخروا بشريعة المساواة والعدل؟ * * * خلود الكافر في النار (س24) محمد أفندي حلمي كاتب سجون (حلفا) : هل حقيقة أن الكافر والنصراني يخلدون في النار أم كيف؟ اهـ بنصه (ج) نطق القرآن العزيز بأن الكافرين والمنافقين يخلدون في النار , وأكد هذا في آيات , وجاء في غيرها استثناء {إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: 107) فأولوه بعدة وجوه كما أولوا إطلاق الخلود في جزاء القتل في قوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} (النساء: 93) الآية , قالوا: إن المراد بالخلود طول المكث , واستقر رأي المتكلمين على أن من بلغته دعوة نبيّنا صلى الله عليه وسلم على وجه صحيح يحرك إلى النظر , فلم يؤمن عنادًا للحق أو جمودًا على تقليد آبائه وقومه، فهو خالد في الدار التي أعدها الله تعالى للكافرين والمجرمين , وأشهر أسمائها (النار) وإن لم تكن كلها نارًا , بل فيها برد وزمهرير كما ورد. واستثنوا من هذا الحكم من بلغته الدعوة فنظر فيها وبحث بجدٍّ وإخلاص فلم يظهر له الحق , ومات على ذلك غير مقصّر في النظر، فقالوا: إنه يعذر عند الله تعالى لأنه {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) . * * * إرم ذات العماد (س 25) ومنه: ماهو تفسير {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ} (الفجر: 7) (ج) إرم في الآية عطف بيان لقوله (عاد) أو بدل منه في وجه , والمعنى: عاد التي هي إرم؛ أي: عاد الأُولَى وهي قبيلة عربيّة وفيها بعث الله هودًا عليه السلام , ولهم في وصفها بذات العماد أقوال منها: عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بالعماد: القدود الطوال , وينقل أن طولهم كان يبلغ اثني عشر ذراعًا ولعله مبالغة، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المراد بذات العماد ذات الخيام التي تقام على الأعمدة , وكانوا أهل بادية وحلّ وترحال وهذا هو المتبادر. وقيل: ذات العماد ذات الرفعة على الاستعارة وهو بعيد. وما في كتب القصص وبعض كتب التفسير من أن إرم مدينة صفتها كيت وكيت فهو من خُرافات القَصَّاصين. * * * إحياء النبي للموتى (س26) ومنه: موضح في الجزء الخامس من مجلة المنار (ص189 س 17) أن سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام أحيا ابن جابر ولم أجد ما يثبت لي ذلك , فأرجو تفصيل هذه العبارة. (ج) يريد السائل الجزء الخامس من المجلد السادس , والعبارة هناك خطأ , والصواب (شاة جابر) والحديث أخرجه أبو نعيم وفيه أنه صلى الله عليه وسلم أحيا الشاة بعد ما طبخت وأكلت والحديث ضعيف , وإنما ذكرناه هناك على سبيل التمثيل , وأخرج البيهقي في (الدلائل) أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لا أومن بك حتى تحيي لي ابنتي , وفيه أنه جاء قبرها وسألها هل تحب الرجوع إلى الدنيا فأجابته ... إلخ، وهو كسابقه لا يصح له سند , على أن نقل هذه المعجزات هو أقوى مما ينقل أهل الكتاب وغيرهم عن أنبيائهم , إذ لا أسانيد لهم يعرف تاريخ رجالها، فيقال هذا سند صحيح أو ضعيف. * * * الحكمة في اختلاف الناس في الدين (27) حسين أفندي الجمل معاون البريد في (بورسعيد) : ما الحكمة في خلق العالم مؤمنين وكفَّارًا؟ ولِمَ لَمْ يكونوا كلهم مؤمنين. (ج) لم يخلق الله كافرًا قط , بل كلٌّ مولود يولد على الفطرة , فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما ورد في الحديث، خلق الله تعالى هذا الإنسان وأعطاه المشاعر والعقل، وجعله مستعدًّا لمعرفة الخير والشرّ، والحقّ والباطل بنظره واستدلاله؛ ليجازى على كسبه وعمله، ويكون هو سبب سعادة نفسه أو شقائها، ولو خلقه لا كسب له ولا إرادة ولا اختيار لكان إما ملكًا روحانيًّا أو حيوانًا أعجمًا لا مؤمنًا ولا كافرًا , فمن يريد أن يكون نوع الإنسان على غير ما هو عليه، فهو يريد في الحقيقه عدم هذا النوع بالمرَّة. * * * إثبات استدارة الأرض ودورانها من القرآن (س 28) ومنه: هل في القرآن الشريف ما يؤيد قول القائلين باستدارة الأرض ودورانها حول الشمس؟ (ج) نعم إنهم يؤيدون هذه الدعوى بمثل قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) فإن هذا يكون نصًّا صريحًا في كروية الأرض؛ إذ به يتصور التفاف النور والظلام عليها , وما أحسن هذا التعبير وألطفه. ومثله قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54) وهذا ظاهر في الدلالة على كرويّة الأرض أيضًا، ورأيت مختار باشا الغازي - وهو من تعرف في البراعة بالعلوم الفلكية - يقول: إن هذا دليل قطعي على الكروية وعلى دوران الأرض معًا، إذ لا يستقيم المعنى بدونهما , على أنه ليس من مقاصد الدين بيان حقائق المخلوقات وكيفيّاتها , وإنما يذكر ذلك في القرآن للعبرة والاستدلال على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته. أما كون حدوث الليل والنهار بسبب حركة الأرض فلا نعرف فيه نصًّا صريحًا في القرآن , ولكن يمكن أن يستنبط منه استنباطًا , وفي كتاب (صفوة الاعتبار) للشيخ محمد بيرم الخامس التونسي فصل في هذا الموضوع، تكلَّم فيه أولاً على إثبات كروية الأرض بكلام الحكماء والفقهاء والصوفية والاستدلال عليه ببعض الآيات القرآنية , ثم ذكر خلاف الحكماء في سبب الليل والنهار، هل هو حركة الأرض على محورها تحت الشمس , أم حركة الشمس بفلكها حول الأرض؟ وأن الثاني هو الذي كان مرجحًا عند المتقدمين ومنهم المسلمون , ثم قال ما نصه: (ثم أحيي المذهب الأول , وتأكد الآن عند علماء العصر بهذا الفن , وأنكره المنتسبون للعلم من المسلمين، ظنًّا أن المذهب الأول من عقائد الإسلام , وأن المذهب الآخر مصادم للنصوص , والحق أن ليس شيئًا من هذا ولا من ذلك هو مما يجب اعتقاده عندنا , وإنما المدار عندنا على الاعتبار بالآثار المشاهدة من الليل والنهار وأشباه ذلك , وإثبات جريان للشمس , وأما كيفيته فلا تعلق لها بالعقائد , وسير الشمس على كلا المذهبين؛ لأن المتأخرين يثبتون لها حركة رحوية على نفسها , وحركة ثانية على منطقة لها أيضًا , ثم حركة ثالثة لها مع جميع ما يتبعها من الكواكب حول شيء مجهول كما أن هذه الدورة مجهولة المستقر أيضًا , وكأنها المشار إليها بقوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) وذلك أن (المستقر) أتى بلفظه مُنْكَرًا للإبهام فيفيد أنه غير معلوم للخلق , ولهذا أُتِي به مضافًا إلى الشمس باللام فكان منكرًا , ولم يقل: مستقرها بالإضافة المفيدة للتعريف لأن ذلك المستقر غير معروف , وعلماء هذا الفن الآن من غير المسلمين مقرون بذلك , فهو حينئذ دليل إجماعي بيننا وبينهم. (ثم إن كون حدوث الليل والنهار هو من آثار دوران الأرض ربما كانت آيات عزيزة تشير إليه , فمنها الآية المتقدمة - يعنى قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأرض وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الرعد: 3) فإنه تعالى بعد أن ذكر الدلائل على وجوده من السماء؛ أي: بقوله قبل هذه الآية: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (الرعد: 2) إلخ - ذكر الدلائل الأرضية , وخرط فيها الليل والنهار، فيشير ذلك إلى أنها آثار الأرض؛ لأن وجودهما وإن كان يستلزم الشمس والأرض معًا , لكن تخصيصه بالانخراط في الدلائل الأرضية يدل على تعلق خاصٍّ , وهو كون دورانها هو السبب على أن منطوق الآية فيه تدعيم لهذا، حيث قال: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَار} (الرعد: 3) فجعل الليل الذي هو ظلمة الأرض يغشى به النهار الذي هو ضوء الشمس، ففيه تلميح إلى أن الأرض هي التي تحدث ذلك بفعل الله. ومن الآيات المشيرة إلى ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: 1-4) فجعل النهار الذي هو مقابلة وجه الأرض للشمس مجليًّا. والليل الذي هو الظلمة الأصلية للأرض مُغشيًا لها (كان ينبغي أن يقول: غاشيًا لها) فأسند فاعلية ذلك لغير الشمس , بل لفاعل آخر هو الليل والنهار الذي هو من آثار الأرض. وإذا كان هذا ثابتًا، فما يدل من الآيات على طلوع الشمس وغروبها وغير ذلك يمكن تأويله باعتبار الأبصار والعرف الجاري في اللسان) اهـ، وهوحسن وأنت ترى الذين يعتقدون بأن الأرض تدور على محورها فيكون الليل والنهار من ذلك يقولون: طلعت الشمس وغربت , ويقولون: غطست في البحر، وبينها وبين البحر مقدار كذا. * * * مطالعة كتب الملل غير الإسلامية (س 29) م. خ. في (تونس) : ما هو حكم الله فيمن يطالع الكتب السماوية الأخرى مثل التوراة بقصد الإحاطة خبرًا بما جاء في غير شريعتنا , وهل كان النهي عن قراءتها عامًّا. إذا سلمنا ذلك تكون الشعوب غير الإسلامية ممتازة على المسلمين بعدم منع أنفسهم إجالة النظر في القرآن الشريف، فيستفيدون مما جاء فيه من الآيات البينات , ويحتجّون به علينا به عند اللزوم , ونحن لا نقدر أن نقابلهم بالمثل؛ لأن كتبهم مغلقة في وجوهنا. أفيدونا بما علمكم الله من العلم ولكم أجران أجر المفيد وأجر المصيب. (ج) الأمور بمقاصدها , فمن يطالع كتب الملل بقصد الاستعانة على تأييد الحق وردّ شبهات المعترضين ونحوه وهو مستعد لذلك , فهو عابد لله تعالى بهذه المطالعة , وإذا احتيج إلى ذلك؛ كان فرضًا لازمًا , وما زال علماء الإسلام في القديم والحديث يطلعون على كتب الملل ومقالاتهم , ويردّون بما يستخرجونه منها من الدلائل الإلزاميه , وناهيك بمثل ابن حزم وابن تيمية في الغابرين وبرحمة الله الهندي صاحب إظهار الحق في المتأخرين. أرأيت لو لم يقرأ هذا الرجل كتب اليهود والنصارى، هل كان يقدر على ما قدر عليه من إلزامهم وقهرهم في المناظرة , ومن تأليف كتابه الذي أحبط دعاتَهُم في الهند وغير الهند، أرأيت لو لم يفعل ذلك هو ولا غيره أما كان يأثم هو وجميع أهل العلم , وهم يرون عوام المسلمين تأخذهم الشبهات من كل ناحية ولا يدفعونها عنهم؟ نعم إنه ينبغي منع التلامذة والعوام من قراءة هذه الكتب لئلا تشوش عليهم عقائدهم وأحكام دينهم، فيكونوا كالغراب الذي حاول أن يتعلم مشية الطاووس فنسي مشيته ولم يتعلم مشية الحجل. * * * إخبار الإنسان بعمره (س 30) ومنه: رأيت ببعض الكتب المعتمدة أن الشيخ محمد بن أبي بكر ابن الحاج قاضي غرناطة سئل عن عمره فلم يجب قائلاً: إنه ليس من المروءة أن يخبر الرجل بسنه كذا قال الإمام مالك اهـ، فلم أهتد لفائدة هذا الحظر الذي نسبه لإمام دار الهجرة؛ لأنه يظهر بادئ بدء أن هذا القول مخالف لما هو مسطر بكتب تراجم الر

هذا أوان العبر

الكاتب: رفيق بك العظم

_ هذا أوان العبر.. فهل نحن أحياء فنعتبر رفيق العظم إن كل ما يحيط بنا من أحوال الأمم، وأعمال البشر وآثار العقول، وثمار العلم والعدل، ونتائج الجهل، وفضائح الظلم آيات للعبر، وبينات لا تحتاج في الحكم إلى كثير نظر، يلمسها الأعمى بيده، ويراها البصير حتى في نفسه وبيته وبلده وجواره، فالمرء في هذا العصر حيثما كان وأنَّى التفت وأينما اتجه؛ يرى من آثار العبر ما يتعظ به العاقل، ويتنبه الغافل، أفليس من العجب أن يكون المسلمون فاقدي الشعور بهذا المحيط غافلين عن تلك العبر يتعسفون في أخريات الأمم، تعسف الخابط في ظلام الجهالة مع وضوح الطريق ووفور أسباب السلامة والاهتداء. ربما كان يقوم لهم العذر يوم؛ إذ كانت الأرض متنائية الأطراف متباعدة الأقطار، تنشأ في قطر منها دولة وتدول أخرى، فلا يسمع أهل قطر آخر بما كان فيه وما صار إليه إلا بما ينقله السفار بعد سنين عاريًا عن الحقيقة بعيدًا عن وجوه العبر، فما عذرهم في هذا العصر؟ وقد تضامت أطراف الأرض بقوة البخار، واتصلت أقطارها بعضها ببعض، بأسلاك البرق، وارتبط سكانها بروابط التعاون والاتجار؛ فاختلطوا اختلاط الأمة الواحدة على بسيط واحد، وتعرف أهل كل قطر أحوال القطر الآخر تعرف الجار بأمور جاره، فصار ما يحدث في أقصى الشرق في الصباح يعلمه أهل المغرب في المساء، فَغَدَا المسلمون يلمسون آثار الأمم الأخرى لمسًا، ويسمعون أخبارها يومًا فيومًا، وتساق إليهم العِبَر كل يوم سوقًا، ويرى كل فرد منهم نتائج ترقي الأمم بعينه، ويشاهد آثارها حتى في مَلْبسه ومَأْكله ومَسْكنه، ومع هذا فكأنما هم في واد والعالم في واد , يرتقي غيرهم وينزلون، ويصعد سواهم ويتدلون، فما علة هذا الخمود الشامل وإلى أية غاية هم صائرون. أخذت الأمم أسباب العلم النافع، وشيدت صروح المدنية الحاضرة؛ فعظم شأنُها، وتضاعفت قوتها، فانكفأت دولها على أرجاء الأرض تدوخ الممالك، وتستأثر بالسيادة على الأرض إلا هذا الفريق العظيم من البشر وهم المسلمون فإنهم أصبحوا طُعْمَة كل جائع، ومطمع كل طامع، تمزق ممالكهم الدول المسيحية، وتستعبدهم الأمم الغربية، فلا تأخذهم نعرة الوطن ولا الدين ولا الجنس، ولا تنهض بدولهم الغَيْرَة ولو على سيادتهم المطلقة في استعباد المسلمين، فالحاكم منهم والمحكوم شقي مهضوم، والأمة كالفرد موجود في حكم المعدوم. كل من أطلق عنان النظر على سكان الأرض يرى أن تنازع البقاء بين الأمم قائمة حربه الآن بين أقسامهم الثلاثة الكبرى الذين إليهم ينتهي السلطان على أرجاء الأرض وهم: المسلمون والمسيحيون والوثنيون - أتباع كونفوشيوس وبوذه -، وقد كانت الدول المسيحية منذ تسلحت بسلاح العلم الجديد، وآنست من نفسها القدرة على مكافحة دول الأرض، واندفعت للفتح والاستعمار لا ترى لها خصمًا قويًّا جبارًا ينازعها الملك في أفريقيا وآسيا منازعة القرن للقرن، إلا المسلمين ولم تكن تحفل بذلك القسم الآخر من الاثنين بل كانت تظنّ أن زلزال الساعة العظيم إنما يكون يوم تخوض جيوشها عُبَاب الممالك الإسلامية، وتخطو أول خطوة لمناوأة دول الإسلام فيصدها الإحجام تارة، ويسوقها الإقدام أخرى، حتى إذا مزقت حجاب الرهبة، ومضت في وجهتها الاستعمارية بالخُدْعة تارة، والحرب أخرى انكشف لها من حال المسلمين وضعف دولهم ما أزال ارتيابها من جهة ذلك الخصم الموهوم، ووطدت عزيمتها على إتمام الرغبة، وإنجاح الطلبة، فبثت جنود العلم والقوة في أنحاء آسيا وأفريقيا , ورفعتا أعلام الفتح على أكثر ممالك الإسلام. وصرفت تلك الدول عن الأذهان ذلك الوهم الذي كان سائدًا على ساستها من جهة قوة المسلمين الذين نازعتهم الملك في كل بقعة من آسيا وأفريقيا فغلبتهم عليه , وإنما منعهن عن الإجهاز على البقية الباقية منهم تنازعهن على كيفية اقتسامها. ولم يخطر لساسة تلك الدول يوم كانت ترهب جانب المسلمين أن الفريق الثالث الذي ينتهي إليه السلطان أيضًا على قسم عظيم من الأرض، وهم أتباع كونفوشيوس وبوذه أعظم خطرًا على الدول المسيحية من المسلمين وأشد لَدَادَة وخِصَامًا في موقف النضال عن الحوزة والتنازع على الملك والسلطان، حتى قامت في هذه الآونة دولة اليابان تناهض أعظم الدول المسيحية قوة وأضخمهن ملكًا وسطوة , وتدافعها عن حوزة الملك الموروث للجنس الأصفر منذ دحا الله الأرض، وجعل الصين على رأي البوذيين منبت الإنسان ومهبط آدم أبي البشر، فأدهش تلك الدول ما أدهشها من قوة العلم والمدنية التي تذرعت بها دولة اليابان لمزاحمة الدول المسيحية، وصد غاراتها المتوالية على الممالك الشرقية على حداثة عهدها في قبول المدنية الجديدة بجميع فنونها النافعة. إذا تقرر هذا؛ عَلِمْنَا أن المسلمين أصبحوا في معمعان هذا التنازع العام مغلوبين على أمرهم دون غيرهم , وأن الأمم المسيحية والوثنية كادت تنفرد بالسيادة على الأرض؛ لأن المدنية الحاضرة أصبحت بعلومها ومخترعاتها ملاك قوة الأمم، ومادة حياة الدول، وليس للمسلمين حظ منها، ولا لأمرائهم نزوع إلى الأخذ بأسبابها، ولا لدولهم رغبة ما في مجاراة أربابها. وحسبك شاهدًا لا يماري فيه العقل، ولا يكذبه الحس ما صارت إليه الممالك الإسلامية المحكومة بدول إسلامية من التقهقر في العمران، والتدلي في العلم والصناعة , والضعف في القوة، والجبن في السياسة. لها بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (رسائل أبي العلاء المعري وترجمته) قد ولع الناس في القرون المتوسطة بحفظ الرسائل التي كانت تدور بين الأدباء والكتاب , ومن أحسنها رسائل أبي العلاء على قلتها، حفظوها في الكتاب ونَسُوا مؤلفاته النافعة، حتى لا نكاد نجد منها غير دواوينه الشعرية , وسبب ذلك أن العلم كان قد أخذ في التدلي أو التولي فلا يُؤْثر منه إلا ما فيه لذة وفكاهة. وهذه الرسائل على كونها أقل ما كتب الفيلسوف كما هي العادة، هي كنوز آداب ولطائف لا يكاد يفهمها إلا من أوتي حظًّا من الاطلاع على اللغة العربية مفرداتها وأساليبها، وسهمًا من تاريخها وأمثالها، ولعل الله تعالى أذن بفضله لهذه اللغة أن تنشط من عقالها، وتستيقظ بعد طول سباتها، فأوحى لأنصار العلم أن يخدموها، وألهم رجال المدنية أن يتدارسوها، فراجت بضاعتها في أسواق العلم في بلاده , وأعني بها المدارس الأوربية الكبرى , وعمد القوم إخراج كنوزها، ونشرها بين الناس. ولا أجهل أن غرض الأوربيين السياسيين الاستعانة بهذه اللغة على استعمار البلاد العربية، ولكن العلم لا سياسة له ولا دين , فمتى أخذ رجاله بطرف منه أخذوه بجد، وخدموه بإصلاح ونصح، ولا يضرهم مع ذلك استفاد منه قومهم أم غير قومهم. ومن الكتب التي عُنِي الأوربيون بترجمتها ونشرها بلسانهم ولسانها رسائل أبي العلاء المعري، نقلها إلى الإنكليزية صاحبنا الدكتور مرجليوث الإنكليزي مدرس اللغات الشرقية بمدرسة أوكسفورد الجامعة، وقد أهدانا نسخة منها مطبوعة باللغتين , وفي آخرها ترجمة أبي العلاء وفهارس تشير إلى ما في الرسائل من أسماء الرجال والنساء والقبائل والحيوانات، وأسماء الأماكن والبلاد، والاصطلاحات العروضية، وأسماء النجوم، لكلٍّ فهرس مرتب على حروف المعجم، وما أحسن هذا الاصطلاح وأنفعه لو كنا نجري عليه في طبع كتبنا كما يجرون عليه فيها وفي كتبهم بالأَوْلَى. وأنت ترى أن نقل الكتاب من لغة إلى أخرى هو أصعب من تدريسه. وإنا لنعلم أنه يقل في قراء العربية من أهلها من يقدر على تدريس هذه الرسائل , فما تقول في فضل أعجمي ينقلها إلى لغته. فنهنئ صاحبنا على عمله , ونشكر له هديته أجمل شكر. أما ترجمة أبي العلاء فقد نقلها من تاريخ الذهبي , وفيها أنه أخذ العربية عن أهل بلده كبني كوثر وأصحاب ابن خالويه، ورحل إلى طرابلس فاستفاد من خزائن كتبها , وإنه كان قانعًا باليسير. له وقف يحصل له منه في العام نحو ثلاثين دينارًا قدَّر منها لمن يخدمه النصف، وكان أكله العدس , وحلاوته التين , ولباسه القطن , وفراشه لبد , وحصيره بورية. وكانت له نفس قوية لا يحمل منة أحد , وإلا لو تكسب بالشعر والمديح لكان ينال بذلك دنيا ورياسة، كذا قال الذهبي، ونحن نقول: إنه لو لم يكن كذلك لما وجدنا في شعره من الفلسفة العالية والمدارك الدقيقة في نقد العالم البشري ما نجد. ثم ذكر ما قيل في زندقته؛ لأنه التزم أن يذكر ما روي له وعليه، وأورد بعض شعره الدَّال على شكِّه في الدين , واعتراضه على الشرائع، ثم نقل عن الحافظ السلفي في ضد ذلك ما نصه: (ومما يدل على صحة عقيدته ما سمعت الخطيب حامد بن بختيار النميري بالسمسمانية - مدينة بالخابور - قال: سمعت القاضي أبا المهذب عبد المنعم بن أحمد السروجي يقول: سمعت أخي القاضي أبا الفتح يقول: دخلت على أبي العلاء التنوخي بالمعرة ذات يوم في وقت خلوة بغير علم منه وكنت أتردد إليه، وأقرأ عليه، فسمعته وهو ينشد من قبله: كم غودرت غادة كعاب ... وعمرت أمها العجوز أحرزها الوالدان حرزًا ... والقبر حرز لها حريز يجوز أن تبطئ المنايا ... والخلد في الدهر لا يجوز ثم تأوه مرات وتلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: 103-105) ثم صاح وبكا بكاءً شديدًا , وطرح وجهه على الأرض زمانًا , ثم رفع رأسه ومسح وجهه فقال: سبحان مَنْ تكلم بهذا في القدم، سبحان مَنْ هذا كلامه، فصبرت ساعة ثم سلمت عليه فرد , فقال: متى أتيت؟ فقلت: الساعة. ثم قلت: يا سيدي أرى في وجهك أثر غيظ. فقال: لا يا أبا الفتح، بل أنشدت شيئًا من كلام المخلوق وتلوت شيئًا من كلام الخالق , فلحقني ما ترى. فتحققت صحة دينه وقوة يقينه) اهـ ولعل تلك الخواطر الدالة على الإلحاد كانت في بداية أمره ثم رجع عنها على أن أكثرها يحتمل التأويل، وإن لم يلتفت إلى ذلك المتشدقون من المرتابين في هذا العصر. * * * (إلياذة هوميروس) هوميروس كبير شعراء اليونان أشهر من نار على عَلَم , وأشهر شعره ما سُمي بالإلياذة , وهو ما نظمه في وصف حرب قومه اليونان لطرواده، وقد عنيت أمم العلم والأدب في القديم والحديث بنقل الإلياذة إلى لغاتها، إلا الذين أَحْيَوْا جميع علوم اليونان بعد موتها , وهم العرب، حتى قام في هذه الأيام سليمان أفندي البستاني مؤلف دائرة المعارف العربية فعربها نظمًا. ثم إنه شرح النظم فكان كتابًا حافلاً بالتاريخ والأدب، ووضع له مقدمة طويلة جمع فيها فصولاً في تاريخ هوميروس مفصلاً، وفي الإلياذة ومكانتها في نفسها وعند الأمم , وتفصيل ما فيها من المعارف، وفي التعريب وأصوله، وفي النظم وبحوره وضروبه، وفي الشعر وتاريخه وطبقات أهله في العرب، وفي الشعر العصري والملاحم، وفي الشعر واللغة، وهي مقدمة مفيدة جدًّا تدل على غزارة علم المؤلف وحسن ذوقه وسعة اطلاعه. ثم إنه وضع للكتاب معجمًا خاصًّا فَسَّر فيه غريبه، ومعجمًا آخر للإلياذة جمع فيه ما فيها من الكلمات في الآلهة والمعاني والأعلام مشيرًا بالأرقام إلى مواضعها من الصحائف. فالكتاب في مجموعه خزانة علم وأدب , وصفحاته 1258 وطبعه جميل جدًّا , والشعر فيه مضبوط بالشكل الكامل. * * * (الاحتفال بمعرب الإلياذة) نشر هذا الكتاب فتقبله أهل العلم والأدب بقبول حسن، بل أكبروا أمره وبالغت الصحف في تقريظه، ثم تألفت لجنة من أدبائنا السوريين في القاهرة فأولموا بالأمس وليمة في فندق شبرد احتفالاً بمُعَرِّب الإلياذة اجتمع على مائدتها نحو مائة رجل من فضلاء القطرين المصري والسوري، وأُلقيت فيه الخطب العربية والفرنسية واليونانية، وتُلي فيه ثلاثة كتب ممّن اعتذر عن عدم حضور الاحتفال، أحدها من الأستاذ الإمام وكان آية الآيات , وثانيها من الدكتور شميل , وثالثها من الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد. ورأينا هؤلاء العلماء والأدباء حاضري الاحتفال متفقين على أن تعريب الإلياذة من أجلِّ الخدم للغة العربية , ومتعجبين من عدم سبق العرب إلى تعريبها في أيام دولتهم العلمية؛ إذ عربوا كتب اليونان في جميع العلوم. وكان الدكتور يعقوب أفندي صروف أول خطيب في الحفلة , فجال في هذا المعنى جولة المؤرخ العالم، وقال: إن السُّريان الذين كانوا يعربون الكتب اليونانية في أول الأمر للعرب قد نقلوا الإلياذة إلى لغتهم دون اللغة العربية، ثم أطنب في وصف التعريب الجديد، وما أضيف إليه من الفوائد، وانتقل إلى ذكر فضل المؤلف وفضل بيت البستاني في خدمة العلم فبدأ يذكر عموده، وكبيره بطرس البستاني مؤسس دائرة المعارف وصاحب الكتب والصحف الشهيرة فصفَّق له الحاضرون استحسانًا. وتلاه بالخطابة كاتب هذه السطور , فذكر معنى الاحتفال وفائدته ونسبة الإلياذة إلى الشعر العربي وسبب إغفال العرب لها، بينت في هذا أن الروح الأدبي يسبق في الأمم الروح العلمي والصناعي، فمتى سمت آداب الأمة ورق شعورها؛ تحس بحاجتها إلى العلم فتنبعث إليه وتبدأ بخدمة علم الأدب منه، فكان مقتضى هذه القاعدة أن يبدأ العرب بنقل آداب اليونان قبل علومهم، ولكن العرب كانوا في غنى عن هذه الإلياذة فما دونها من آداب اليونان؛ لأنه لا يكاد يوجد فيها شيء من المعاني الشعرية والأدبية إلا وقد سبقوا إلى مثله أو خير منه، وفي شرح الإلياذة العربية شواهد كثيرة على ذلك، والسبب فيه أن حال اليونان في حروبهم التي يصفها هوميروس شبيه بحال العرب في بداوتهم وحروبهم، ولكن وثنيتهم تخالف وثنية العرب. قلت: ويعلم السادة الحاضرون أن العرب لم يندفعوا إلى ترجمة الكتب إلا بعد الدخول في الإسلام فقد كانوا قبله أُميين لا يعرفون الكتاب، فالإسلام هو الذي ساقهم إلى طلب العلم والحكمة، فلما أرادوا ترجمة كتب اليونان للاستفادة منها رأوا في آدابهم وأشعارهم العربية مثل ما عند أولئك وزيادة إلا ما كان من الخرافات الدينية كأحوال الآلهة الكثيرين , وهذا ما جاء الإسلام لمحوه لا لإحيائه بعد موته، فكان إغفال العرب للإلياذة كإغفالهم لصناعة التصوير؛ لأن الصور كانت في أيامهم خاصة بالشعائر الوثنية، فلما تغيرت الأحوال وأراد الله لهذه اللغة أن تنهض نهضة جديدة أحس رجال الأدب بالحاجة إلى ماعند الأمم الأخرى من الآداب , وأقدمها وأشهرها الإلياذة , فكان صديقنا البستاني هو السابق إلى توفية هذه الحاجة؛ فقوبل بهذا الاستحسان العظيم. وأما الاحتفال فقد بينت أنه شكرٌ لصاحب الأثر وتربية حسنة للأمة، فإن أصحاب الاستعداد إذا رأوا أن خواص الأمة يقدرون الآثار العلمية والأدبية قدرها فإن استعدادهم يظهر بالفعل، وتنتفع الأمة بمباراتهم في ذلك , فقد قامت لجنة هذا الاحتفال بشكر عالم خدم الأدب، فكأنها احتفلت بكل عالم وأديب، إذ يحس كل منهم بأن له في هذا الاحتفال نصيبًا، والشكر مدعاة المزيد ومبعث الرغبة في العاملين، وتركه سبب الإهمال , فإن العالم الكامل وإن كان يتلذذ بالعلم ويحب الخير لذاته لا تنبعث همته إلى إظهار الآثار النافعة إذا علم أن قومه لا يعرفون قيمتها ولا يقدرونها قدرها؛ لأنه يرى ذلك من العبث. وما عساه يعمله تلذذًا به لا يجيء كاملاً كما إذا كان يرجو أن يعرض عمله على أهل البصيرة والفضل فيَزِنُوه بميزانه، ويكافئوه على قدر إحسانه، لهذا كان الشكر بطبيعته موجبًا للمزيد، بل إن الله تعالى وهو الغني عن العالمين وذو الكمال المطلق قد جعل شكره سببًا للمزيد فقال: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُم} (إبراهيم: 7) فلا غرو أن يزيد صديقنا البستاني في خدمته للعلم والأدب بسبب هذا الشكر الحسن الذي نقابله به. هذا زبدة ما بيَّنه هذا العاجز في خطابه، وهو ما خطر له عند الكلام من غير سابقة تفكر فيه. وقد أطنب بعض الخطباء في مدح الإلياذة نفسها وزعموا أنها ستكون ترجمتها مبدأ انقلاب في الآداب العربية وفاتحة ترقٍّ عظيم فيها , وهو مبالغة , والعربية أغنى من ذلك، ولو نظم الإلياذة غير البستاني فأحسن نظمها كما أحسن؛ لما لقي من الشكر بعض ما لقي. ذلك أن صاحبنا في علمه الواسع، وأدبه الرائع، وخدمته السابقة، وشجرته الباسقة، وما أضافه إلى النظم من الشرح والمقدمات التي هي أكثر فائدة للمطالع، وخير مرجع للمراجع، قد هز أريحية فضلا السوريين فكان منهم ما يجب أن يكون فيه أسوة حسنة لغيرهم ممن لا يقدرون لعامل قدرًا، ولا يؤدُّون لمحسن شكرًا، فحيا الله البستاني وحيَّا الله السوريين؛ هذا وإننا سنعود إلى الإلياذة فنختار منها مقاطيع نعرضها للقراء إن شاء الله تعالى. وثمن النسخة من الإلياذة جنيه إنكليزي. * * * (الفلسفة اللغوية) اتسع نطاق العلوم كلها لس

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (لائحة المساجد) جاء في (ع 7965) من جريدة الأهرام الصادر في 2 يونيو تحت هذا العنوان ما نصه: (أَبَنَّا في أعدادنا السالفة فائدة لائحة المساجد التي يعمر بها الأزهر، وتعمر بها الجوامع، ويقام عماد الدين والعلم والأدب، وقلنا: إن معاداة هذه اللائحة والقيام في وجهها هو عبارة عن معاداة صالح الأزهريين وتقدمهم والوقوف في وجههم. ولقد اتفق بعض رصفائنا أمس على أن إنفاذ هذه اللائحة قد أُجِّلََ إلى العام المقبل؛ أي: حتى عودة رجال الحكومة من الإجازة , فأخذنا نبحث عن سبب التأجيل فعرفنا أن فضيلة القاضي الأكبر قدم عريضة إلى سمو الجناب الخديوي فيها يشكو من بعض ما جاء في اللائحة، ويدعي أنه مخالف لشروط بعض الواقفين كأن يكون بالمسجد مبخر وسقاء وكناس , فاللائحة جمعت وظائف كثيرة في شخص واحد , فالمعية ترجمت شكوى فضيلة القاضي , وأُرْسِلت هذه الترجمة إلى الوكالة الإنكليزية، فأجابتها الوكالة أن الوقت قد انقضى وأن جناب اللورد لا يقدر على درس الشكوى واللائحة، وأنه ينعم نظره فيها بعد عودته من الاصطياف فلهذا أجل الإنفاذ. ولقد دُهِش العقلاء لهذا العمل؛ لأن المحتلين أعلنوا مرارًا وجهارًا أنهم لا يتعرضون لأمر من أمور الدين , فما الذي حمل المعية إذن على إرسال تلك اللائحة إلى الوكالة الإنكليزية؟ ألا توجد في البلاد سلطة دينية عاقلة عالية تقدر على درس اللائحة وتمحيصها؟ ولقد دار في جميع الأندية أن ذلك كله نتيجة التسابق لإرضاء المحتلين فكما أن دولتلو رياض باشا جعل جناب اللورد كرومر صاحب المقام الأرفع كذلك المعية أحالت على جنابه شكوى العلماء وشئون المساجد والجوامع، فما أكبر حظ دولة تجد مثل هذا من أمة تحكمها وبلاد تحتلها، وما أعظم الفرق الذي يجده الإنكليز بين كبار المصريين وكبار البوير فإذا كنا قد لمنا رياض باشا على كلامه فإنا نحن نلوم المعية على فعلها ويقيننا أن الإنكليز أنفسهم يوافقوننا على هذا اللوم. (المنار) حسب الناس من العبرة الكبرى بهذا الخبر الصادع أن يعرفوه , وأننا لو أردنا أن نبدي رأينا فيها لما استطعنا أن نقف عند الحد الذي تجيزه الرسوم المتبعة، وثم عبرة أخرى وهي سكوت الجرائد اليومية التي تلقب بالإسلامية عن هذا، وبيان الأهرام التي يصح أن نلقبها بجريدة الأمة له وسببه أنه جاء من قِبَل الأمير وحده، وهو الذي يرضيها منه كل شيء ولو كان للنظار فيه رأي لقامت قيامة هذه الجرائد وأكثرت الطعن واللعن، وحملت النظار وحدهم التبعة كما هي عادتها في كل أمر يقوي نفوذ المحتلين مع أنه لم ينفذ شيء من ذلك إلا بأمر الأمير وهو وحده كان القادر على معارضة الاحتلال بالحق وأوربا عضده , وأما النظار فلا عضد لهم إلا الأمير , وهو الذي يقدر على عزلهم إذا خالفوا، ولا يقدرون على إلزامه إذا وافقوا، فكل ما أخذه الإنكليز فمنه وعليه وعلى الأمة المسكينة التي أضاعها أمراءها في كل زمان. * * * (قول رياض باشا - أوعبيد الكلام) رُفِع العلم الإنكليزي بإذن الخديوي على السودان , وخطب الأمير تحته مذعنًا له فلم يؤثر في المصريين، وعقد الوفاق الإنكليزي الفرنسي بناء على دكريتو خديويٍّ , ومن لوازمه تأييد الاحتلال في مصر فلم يؤثر فيهم، ولونت خريطة مصر في مدارس حكومتها بلون المستعمرات الإنكليزية فلم يؤثر فيهم. واستشار الأميرُ اللورد في تعيين شيخ الأزهر فلم يؤثر فيهم، ووُكِّل إلى اللورد النظر في لائحة المساجد وأئمة الصلاة فلم يؤثر فيهم، ويقول اللورد كرومر جهرًا: إنه هو المسئول عن إدارة هذه البلاد فلا يؤثر فيهم، وقال رياض باشا بخطبته في احتفال تأسيس مدرسة محمد علي الصناعية: إن اللورد هو صاحب النفوذ الشامل والمقام الأرفع، ورغب إليه في معاهدة المدرسة حتى تبلغ أشدها فقام أحداث الوطنية يلغطون في ذلك , ويعدُّونه حادثًا جللاً فانظر على ما يسكتون، وبماذا يلغطون؟

دعوى الشعراني أنه أعطي أن يقول للشيء كن فيكون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعوى الشعراني أنه أعطي أن يقول للشيء كن فيكون أو دعوى الأولياء الألوهية (س34) الشيخ قاسم محمد غدير في (أسيوط) : ما تقولون في معنى قول الشعراني: مما منَّ الله به عليَّ أن أعطاني قول (كن) فلو قلت لجبل: كن ذهبًا لكان: إلخ. (ج) إن الإيجاد والتصرف في الأشياء بمقتضى الإرادة المعبر عنها بكلمة (كن) هو خاص بخالق العالم ومدبره يستحيل أن يكون لغيره , وما كان مستحيلاً فلا تتعلق قدرة الله به فيقال بجواز إعطائه لغيره كما هو مقرر في علم الكلام فلا يقال: إن الله تعالى قادر على أن يجعل معه إلهًا آخر , فإن القدرة لا تتعلق إلا بالممكنات وهذا مُحالٌ , ومن يعتقد أن أحدًا غير الله يفعل ما شاء , ويوجد ويعدم , ويقلب الأعيان بقول كن؛ فلا شك في كفره الصريح وشركه القبيح , واذا أحسنا الظن بالشيخ الشعراني؛ فإننا نقول: إن هذه الكلمة مدسوسة عليه , فقد صرح هو في بعض كتبه كاليواقيت بأنهم كانوا يدسون عليه في زمنه. على أن كتبه المشهورة المتداولة طافحة بالخرافات والدعاوى التي ينكرها الشرع والعقل , وهي أضر على المسلمين من غيرها من الكتب الضارة المنسوبة إلى المسلمين وإلى غير المسلمين. وقد كنت من أيام أجادل بعض البابيَّة وأبين لهم فساد دينهم الجديد فقال أحدهم: ما تقول في الشعراني؟ فعلمت أنه يريد أن يحتج بما في بعض كتبه من أن المهدي يأتي عكا وما يقوله في (مأدبة الله بمرج عكا) فإن البابية يحملون ذلك على البهاء الذي نشر دينه وهو في عكا ومات , فقلت له: إن كلام الشعراني - أي الذي انفرد به - عندي كالشيء اللقا لا قيمة له , والكتب المنسوبة إليه هي العمدة في الإضلال المنتشر بين المصريين في الأولياء لاسيما في السيد البدوي فإنها مرغبة في موالده التي هو قرارة المنكرات والمعاصي إلخ. وإنني لأعلم أنه لا يزال في قراء المنار على استنارتهم من يعظم عليه وقع الإنكار على كتب الشعراني , وإن كان الغرض منه تنزيه الله تعالى , فإن الذين أشربت قلوبهم عقائد الوثنية يعظمون المشهورين من الذين يسمونهم أولياء أكثر مما يعظمون الله تعالى , ويُسَرُّون أن يوصف أولياؤهم بصفات الألوهية , ويرون من الضلال أو الكفر أن يقال: إنهم بشر لا يمتازون على غيرهم بما هو فوق خصائص البشرية , وأن ما وفق له الصالحون من العمل الصالح فإنما هو عمل كسبي يقدر غيرهم على الإتيان بمثله بهداية الله وتوفيقه. وإن الفتنة في الدعوى المسئول عنها أكبر من الفتنة بكل كلام أهل الكفر والإضلال إذ لا يخشى من قول عابد الصنم: إن صنمي إله أن يفتتن به المسلم كما يخشى على عامة المسلمين , وكثير من المقلدين الذين يسمون علماء وخاصة من كلمة الشعراني؛ لأن هؤلاء يأخذون هذه الكلمة بالتسليم بناءً على أنها من باب الكرامات التي ليس لها حد عندهم , ومتى سلموا بها جزموا بأن مثل هذا الولي يفعل ما يشاء فيصرفون قلوبهم إليه ويطلبون حوائجهم منه؛ فيكونون قد اتخذوه إلهًا باعتقادهم أنه يقول للشيء كن فيكون , وقد عبدوه بدعائه والاعتماد عليه , وهم مع هذا كله يغشون أنفسهم بأنهم لا يسمونه إلهًا وإنما يسمونه وليًّا كأن الأسماء هي التي تميز الحقائق دون العقائد والأعمال القلبية والبدنية. وإنني أذكرهم بأن المشركين كانوا يسمون معبوداتهم أولياء ويعتقدون أنهم شفعاء , قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إلا َّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفى} (الزمر: 3) , وقال: إنهم يعبدونهم { وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) وقد بينا لهم الحق لم نخف فيه لومة لائم فليضربوا بكلام الشعراني عرض الحائط إن كان كل ما في كتبه كلامه أو ليحسنوا الظن به كما قلنا أولاً , ويحكموا بأن هذه الكتب مملوءة بالدسائس عليه , فلا يعتمد عليها ولا تتخذ حجة عليه , وهذا هو الأسلم فنبرئه ولا نبرئها , وندعو له بالرحمة ونطرحها مكتفين بهدي الكتاب والسنة فمن تمسك بهما نجا , وما تنكب عنهما هلك , واعْلَمْ أن أعظم ما يغش الناس بقبول كل ما ينسب للأولياء والصالحين أمران: أحدهما وقوع بعض الأمور الغريبة على أيديهم أو في إثر الالتجاء إليهم , وقد بينا طرق تأويل ذلك وكشف الحق فيه في مقالات الكرامات والخوارق من المجلد الماضي , وسنزيدها بيانًا. وثانيهما: تسليم بعض الشيوخ المعروفين بالعلم أو الصلاح بذلك. * * * واقعة غريبة في الموضوع رأى في هذه الأيام رجل موحد صديقًا له من القضاة الشرعيين في المسجد الحسيني يتضرع ويشكو لسيدنا الحسين عليه السلام , ويطلب منه قضاء حاجاته من غير أن يذكرها بالتفصيل اكتفاءً بأنه رضي الله عنه يعرفها لأنه مطلع على أحوال العالم كله , ولذلك كان يقول له في كلامه ما يقوله غيره من العامة: الشكوى لأهل البصيرة عيب. فقال له الموحد: إن هذا الذي أنت فيه شرك بالله تعالى , وإن أحكامك الشرعية غير صحيحة مع اعتقادك وعملك هذا , وبعد جدال اتفقا على أن يتحاكما إلى عالم في الأزهر هو من أشهر أهله في مصر بالعلم والصلاح فقصا عليه خبرهما , وشرح له الموحد عقيدته فسأله الشيخ عن أستاذه الذي يحضر عليه! ! فقال: ليس لي أستاذ وإنما الكلام في العقائد لا في الأشخاص. فسأل القاضي عن صحة ما نسبه إليه , فقال له: نعم هذا الذي لقينا عليه مشايخنا , ومنهم فلان الصالح الشهير. فقال الشيخ للموحد: إن عقيدتك يا بني هي الشرع إذ لا يوجد فيه شيء مما عليه الناس, فإذا لم تعتقد بأن أحدًا من الأولياء يضر أو ينفع فإن ذلك لا يضرك , ولكن لا تتغال فتطعن فيهم؛ إذ يخشى عليك حينئذ , ولا يضرك أيضًا أن تعتقد كما يعتقد القاضي فإن بعض علمائنا الشافعية الذين لا نستطيع أن ننكر عليهم أو نشك في فضلهم قد أثبتوا للأولياء تصرفًا! ! فقال الموحد: إن الأمر في اعتقادي القطعي الذي أَلْقَى اللهَ عليه هو دائر في هذه المسألة بين التوحيد والشرك , فأنا أعتقد أنه لا ضار ولا نافع إلا الله , وأن نبينا عليه الصلاة والسلام قد جاءنا بالهداية عن الله تعالى , ولم يكن له من الأمر شيء , وإنما عليه التبليغ وقد بلغ رسالة ربه (وانتهت مأموريته) فقبضه الله إليه , والقاضي يقول: إن للأولياء الميتين ديوانًا , وإنهم هم المتصرفون في الكون , فكل ما يجري فيه فإنما يجري بتصرفهم، وهذا نقيض اعتقادي. فقال له الشيخ: إنك قلت أولاً: إنك لقيت القاضي في المسجد الحسيني فماذا كنت تفعل هناك؟ قال: أزور سيدنا الحسين. قال: ولماذا؟ قال: لأن زيارة القبور مسنونة للاعتبار , ولأن سيدنا الحسين رجل عظيم من أولاد الرسول الذي جاءتنا الهداية على لسانه بذل دمه في سيبل نصرة الدين وإزالة الظلم , فأنا بزيارته أزداد اعتبارًا وأدعو له بالرحمة اعترافًا بفضله. قال الشيخ: قلت لك: إن اعتقادك شرعي , ولكن لا تنكر على القاضي وغيره , فإن شيخنا فلانًا كان يرسلني في أول حضوري عليه إلى سيدنا الحسين في حال شدته (أو قال: مرضه , لا أدري) ويأمرني أن أقول له: العادة ياسيدنا الحسين. فيحصل له خير (أو قال غير ذلك النسيان مني) فانظر أيها القارىء؛ تجد العالم يعترف بأن كذا هو الدين والشرع , ثم يقر على مخالفته اعتمادًا على أن بعض مشايخه المقلدين كانوا يقرون ذلك , وهو يحسن الظن بهم, وأعجب من هذا أن الناس الذين يسلمون بأن أمر الشعراني إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون لا ينافي الدين فلا يعترضون عليه , بل يعترضون على ابن تيمية إذ يقول: لا إله له التصرف إلا الله , ولا دين إلا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله. فهكذا يفعل التقليد لا يبقي عقيدة ولا دينًا ولا حجة فيه إلا الإذعان للأشخاص الذين لا عصمة لهم من الجهل ولا من الخطأ , وإلا حكايات ووقائع غريبة ينقل مثلها عن جميع الملل. وكثيرًا ما يكون هؤلاء المعتقدون بتصرف الأموات من أهل العبادة والزهد والإخلاص بحسب تقاليدهم , ولذلك يُغَشُّ الآخرون بهم {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} (النساء: 28) .

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى إدخالُ السعديةِ الدبابيسَ في أشداقهم (س35) ومنه: كنتم قلتم في تضارب السعدية بالسيوف: إن ذلك لعبة عادية , فما تقولون في إدخال الدبابيس في أشداقهم من غير ضرر؟ . (ج) إن هذا هزل ولا يدخل منه شيء في الدين , إذ الدين جدٌّ لا لهو فيه ولا لعب , ولا يُدْخِل هذه الأعمال في الدين إلا {ِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) أما التعود على هذه الأشياء والحيل فيها فلا يعرفها إلا من زاولها , ومن المشعوذين في أوربا وغيرها من يفعل أعظم من ذلك. * * * حروف الكتابة احترامها (س36) ومنه: هل كل مكتوب محترم لا يجوز إلقاؤه أم ذلك خاص بما احتوى على لفظ شريف؟ وهل غير العربي مثله في ذلك؟ (ج) ذهب الشافعية إلى أنه يجب احترام الأسماء المعظمة المكتوبة كأسماء الله وأنبيائه كاحترام كلام الله تعالى , فلا يجوز أن تلقى حيث تداس مثلاً أو أن يتعمد عدم الاكتراث بها , أو الإهانة لها كما يقال. وبالغ الحنفية فقالوا: إن كل الحروف والكتابة محترمة بهذا المعنى. فأما كتابة نحو القرآن والأسماء المعظمة فإن تعمُّد إهانتها يدل على عدم الإيمان كما ينقل عن بعض الملحدين المشهورين في مسلمي مصر من أنه أخذ ورقة من المصحف ولفها ووضعها في أذنه يخرج بها الوسخ منها فهذا لا شك في إلحاده وكفره. وأما إهانة كلام الناس المكتوب فلا يتصور حدوثه من عاقل إلا لسبب كاعتقاد أن الكلام ضار , أو كتب بسوء النية وقصد الإيذاء والدهان، مثلاً فمن قرأ جريدة ورأى فيها شيئًَا من مثل هذا فألقاها أو مزقها ورماها؛ هل يقال: إنه عاص لله تعالى مرتكب لما حرمه؟ كلا , إن التحليل والتحريم بغير نقل صحيح أو دليل رجيح هو المحرم , ولم نعرف دليلاً في الكتاب ولا في السنة على أن إلقاء ورقة مكتوبة على الأرض بقصد احتقار مبني على اعتقاد ضررها مثلاً أو بغير قصد ذلك كالاستغناء عنها , وعدم الحاجة إليها من المحرمات التي يعذب الله فاعلها. وما عساه يقال في استنباط اللوازم البعيدة من أن ذلك يستلزم احتقار الحروف , واحتقار الحروف يستلزم احتقار ما يكتب بها , وما يكتب بها عام يشمل كتاب الله وأسماءه؛ فغير مُسلَّم , ويمكن أن يستنبط مثله فيمن يلقي قشور البطيخ والباذنجان ونحوها , بأن يقال: إن هذه نعمة يمكن أن ينتفع بها الناس أو الدواب فيجب تعظيمها واحترامها , وعدم احترامها يستلزم الكفر بالمنعم بها , وما أشبه ذلك. وجملة القول في المسألة أن العاقل المكلف لا يقصد بإلقاء الورق المكتوب إهانته إلا لنحو السبب الذي ذكرناه , وهو لا شيء فيه , بل العاقل لا يحتقر شيئًا في الوجود لذاته , أو لأنه وسيلة لشيء نافع أو شريف , فما قاله الشافعية هو الظاهر , ولا ينبغي الغلو والتنطع فيه والله أعلم. * * * الطلاق اشتراط القصد فيه (س 37) ع. ص. بمصر (القاهرة) : كنت أتجاذب أطراف الحديث مع صديق لي في أمور دينية , فتدرجنا إلى موضوع الطلاق فاختلفنا فيه , وكان رأيه أن الطلاق يقع لمجرد النطق باللفظ , ولو لم يكن الطلاق مقصودًا , وأما أنا فرأيت أنه لا يقع الطلاق إلا بعد الإصرار عليه. فهل لكم أن تتفضلوا بنشر الحقيقة على صفحات مناركم الأغر فتنقذوا العالم الاسلامي من وهدة الاختلاف التي وقع فيها من كثرة التأويلات , ويكون لكم علينا الفضل ومنا الشكر ومن الله الأجر. (ج) الزواج عقدة محكمة توثق بين الزوجين بعقد مقصود مع العزم فمن المعقول أن لا تُحَلَّ إلا بعزم , وبذلك جاء الكتاب الحكيم. قال تعالى: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ} (البقرة: 235) أي لا تعزموا عقد هذه العقدة إلا في وقتها وهو انتهاء عدة المرأة والكلام في المعتدة. وقال تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاق} (البقرة: 227) إلخ أي إن صمموا عليه وقصدوه قصدًا صحيحًا. والقاعدة عند الفقهاء في العقود أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني , وظاهر أن أعظم العقود وأهمها العقد الذي موضوعه الإنسان من حيث يأتلف ويجتمع ويتوالد ويربي مثله , فمثل هذا العقد يجب الحرص التام عليه لأن في حله خراب اليوت وتشتيت الشمل المجتَمِع , وضياع تربية الأولاد وغير ذلك من المضار , ولكن أكثر فقهاء المذاهب المشهورة ذهبوا إلى أن عقدة النكاح تنعقد بالهزل وتنحل بالهزل , حتى كأنها أهون من العقد على أحقر الماعون الذي اشترطوا فيه مع التعاطي الإيجاب والقبول الدالين على القصد الصحيح , وحجتهم في حديث غريب كما قال الترمذي أخرجه أحمد وأصحاب السنن ما عدا النسائي من حديث أبي هريرة وهو: (ثلاث جدهن جد , وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة) وقد صححه الحاكم الذي كثيرًا ما صحح الضعاف والموضوعات , وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك قال النسائي فيه: منكر الحديث , ولذلك لم يخرج حديثه , ولقد عرف النسائي رحمه الله تعالى من ابن (أزدك) هذا ما خفي على كثيرين , ونحن نقدم جرح النسائي على توثيق غيره عملاً بقاعدة تقديم الجرح على التعديل مع كون موضوع الحديث منكرًا لمخالفته ما دل عليه الكتاب من وجوب العزم في هذا الأمر ومخالفته القياس في جميع العقود , وهو أن تكون بقصد وإرادة وإن جعله الحافظ حسنًا. ولهذا لم يأخذ به مالك ولا أحمد - وهو أحد رواته - على إطلاقه بل اشترطا النية في لفظ الطلاق الصريح , واشتراطه في الكناية أولى لاحتمالها معنيين. ومن العجائب أن بعض الفقهاء يقول: إن النكاح لا يقع من الهازل ولكن الطلاق يقع , فهو يأخذ ببعض الحديث ويترك بعضًا , وقد دعم بعضهم حديث ابن أزدك بحديث فضالة عند الطبراني: (ثلاث لا يجوز فيهن اللعب الطلاق والنكاح والعتق) وهو على ضعفه بابن لهيعة في سنده ينقض الأول لا يدعمه؛ لأن عدم الجواز يستلزم الفساد لا الصحة كما يعرف من الأصول , وجاء بلفظ آخر فيه انقطاع فلا يعول عليه ولا يبحث فيه. ثم إن مسائل العقود ومنها النكاح والطلاق كلها مشروعة لمصالح العباد ومنافعهم ومعقولة المعنى لهم , وليس من مصلحة المرأة ولا الرجل ولا الأمة أن يفرق بين الزوجين بكلمة تبدو من غير قصد ولا إرادة لحل العقدة بل فيها من المفاسد والمضار ما لا يخفى على عاقل , فلا يليق بمحاسن الملة الحنيفية السمحة أن يكون فيها هذا الحرج العظيم. هذا وقد ورد في الأحاديث الموافقة لأصول الدين وسماحته ما يدل على أن الخطأ والنسيان غير مؤاخذ به , ومثلهما الإكراه وقد قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيْمَانَ} (المائدة: 89) أي بتوثيقها بالقصد والنية الصحيحة والطلاق من قَبِيل الأيمان والله أعلم وأحكم. * * * رأي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه واحتياطه في أكله (س38) عبده أفندي ناطق في (الإسكندرية) نذكر هذا السؤال بمعناه وهو أن صاحب مجلة الهلال قال في ترجمة سيدنا علي كرم الله وجهه في المجلد السادس (ص202 و203) : إنه كان ضعيف الرأي ولذلك فشل في مسألة الخلافة (وإنه لم يكن يأكل طعامًا لا يعرف صانعه وحامله , فكان يختم على جراب الدقيق الذي يأكل منه , وسئل مرة عن سبب ذلك فقال: (لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم. والظاهر أنه كان يفعل ذلك مخافة أن يغدر به أعداؤه فيميتوه مسمومًا) اهـ هذه عبارة الهلال وقد استبشعها السائل , وكتب إلينا أولاً فأجبناه بكتاب خاص بأن ما ذكره في الهلال حكاية فهو منقول , فكتب يلح منفعلاً بوجوب الجواب في المنار فنقول فيه: (ج) إن الإمام عليًّا لم يكن يجهل من الرأي ما كان يشير به عليه بعض الذين ظنوا أنه ضعيف الرأي كما يعلم من خبر المغيرة معه , وإنما كانت السياسة تقضي في عهده بأن يقر بعض العمال ذوي العصبية كمعاوية على أعمالهم مع اعتقاده بأنهم كانوا ظالمين ولكن وجد أن الدين كان أقوى عنده من دهاء السياسة حتى لا يستطيع أن يعمل ولا أن يقر إلا ما يعتقده حقًّا وعدلاً , وهذا هو السبب الصحيح في فشله فقد كان الدين عنده أمرًا وجدانيًّا عقليًّا لا نظريًّا فقط , وسبب ذلك أنه تربى عليه عملاً في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال عبد الباقي: رَبيب طه حبيب الله أنت ومن ... كان المربي له طه فقد برعا وأما مسألة الأكل فقد كان سببها الورع , وما استظهره صاحب الهلال في غير محله , فإنه قياس على حال بعض الملوك الجبناء الظالمين الذين فتنوا بِحُبِّ طول البقاء والنعيم والخوف من الرعية وما أبعد الفرق! ! والمؤرخون كصاحب الهلال يأخذون الخبر على ظاهره ويستنبطون منه ما يسبق إلى خواطرهم بحسب معرفتهم وتأثير عصرهم. أما الأثر فقد رواه أبو نعيم في الحلية بسنده إلى عبد الملك بن عمير قال: حدثني رجل من ثقيف أن عليًّا استعمله على عكبرى. قال: ولم يكن السواد يسكنه المصلون , وقال لي: اذا كان الظهر فرح إليَّ , فرحت إليه فلم أجد عنده حاجبًا يحجبني دونه فوجدته جالسًا , وعنده قدح وكوز من ماء , فدعا بظبية [1] , فقلت في نفسي: لقد أمنني حين يُخْرِج إلي جوهرًا , ولا أدري ما فيها فإذا عليها خاتم , فكسر الخاتم فإذا فيها سويق , فأخرج منها فصبَّ في القدح , فصب عليها ماء , فشرب وسقاني , فلم أصبر فقلت: يا أمير المؤمنين أتصنع هذا بالعراق , وطعام العراق أكثر من ذلك؟ قال: (أما والله ما أختم عليه بخلاً عليه , , ولكن أبتاع قدر ما يكفيني , فأخاف أن يفنى فيوضع من غيره , وإنما حفظي لذلك , وأكره أن أدخل بطني إلا طيبًا) . وأخرج أبو نعيم أيضًا من طريق سفيان عن الأعمش قال: كان علي يغدي ويعشي (أي الناس) , ويأكل هو من شيء يجيئه من المدينة. وذكر الأثر الأول من غير حكاية الراوي صاحب القوت والغزالي في كتاب الحلال والحرام من (الإحياء) واتفقوا على أنه من الورع, والواقعة صريحة فيه. وهكذا كانت سيرة المتقين من الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة والتابعين. روى البخاري من حديث عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج , وكان أبو بكر يأكل من خراجه , فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر , فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ قال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية فأعطاني. فأدخل أصبعه في فيه , وجعل يقيء , حتى ظننت أن نفسه ستخرج , وقال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء. وروى أبو نعيم في الحلية بسنده إلى زيد بن أرقم قال: كان لأبي بكر مملوك يغل عليه فأتاه يومًا بطعام , فتناول منه لقمة , فقال له المملوك: ما لك كنت تسألني كل ليلة ولم تسألني الليلة؟ قال: (حملني على ذلك الجوع من أين جئت بهذا؟) قال: مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني؛ فلما كان اليوم مررت بهم فأعطوني. قال: (أَُفٍّ لك كدت أن تهلكني) فأدخل يده في حلقه فجعل يتقيأ , وجعل لا يخرج. فقيل له: إن هذه لا تخرج إلا بالماء , فدعا بعس من ماء فجعل يشرب ويتقيأ حتى رمى بها. فقيل له: رحمك الله كل هذا من أجل هذه اللقمة قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها , سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به) فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. ورواه غيره. وروى مالك من طريق زيد بن أسلم قال: شرب عمر لبنًا فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على ماء قد سماه؛ فإذا نَعمٌ من نَعَم الصدقة وهم يسقون , فحلبوا لي من ألبانها فجعلته في سقائي فهو هذا , فأدخل عمر يده فاستقاءه. - هذا بعض شأنهم في ال

هذا أوان العبر

الكاتب: رفيق بك العظم

_ هذا أوان العبر.. فهل نحن أحياء فنعتبر وبالجملة فقدها كل فنون المدنية النافعة التي سادت بها الدول المسيحية وسعدت الأمم الغربية , وإليك البيان: (نشر أحد كُتاب العثمانيين في العدد 32 من جريدة (ترك) المؤرخة 25 ربيع أول سنة 1322هـ الصادرة في مصر مقالة تستثير كوامن الشجون خلاصتها أنه رأى في جرائد الآستانة كلامًا طويلاً عن مرور منير باشا سفير الدولة العثمانية في باريس على صوفيا عاصمة البُلْغار؛ لأجل دعوة أميرها إلى زيارة الآستانة، وقال: إنما استوقف خاطره من ذلك الكلام الطويل جملة واحدة وهي قول تلك الجرائد: إن في جملة ما زاره السفير من المعاهد في تلك العاصمة - التي كانت تسمى في عهد استيلاء الترك عليها مركز ولاية الطونة - معرض النباتات والحيوانات والتحف، وهي العاصمة التي كانت منذ خمسة وعشرين سنة كبقية عواصم ولايات الدولة في أوربا مثل يانيا وأدرنة ومناستر قذرة الشوارع والطرقات ضيقتها محرومة من عناية المجالس البلدية، كل شيء فيها مهجور ما عدا الحبوس والمعابد والقشل (التكنات) فصارت تلك العاصمة في زمن قليل - أي منذ استقلت عن الدولة - في حالة من الترقي يكاد من رآها يجهل أنها مدينة صوفية القديمة لما صار فيها من الشوارع العريضة المنظمة، والميادين الفسيحة والملاعب (التياترات) والمنتزهات والترامواي الكهربائي والتلفون , وليست مدينة صوفيا وحدها التي ترقت إلى هذه المرتبة من المدنية الأوربية، بل كل حواضر البلاد التي دخلت تحت حكم البلغار كفلبه ووارنه وغيرهما , ولم ينحصر هذا الترقي بالبلغار بل شمل الصرب ورومانيا واليونان , وهي الممالك التي انفصلت عن الدولة العثمانية، واستفاض فيها نور التمدن استفاضته في البلغار وستتبعها كريد أيضًا التي انفصلت بالأمس عنا , وأما الممالك التابعة لنا فإنها فضلاً عن أن تترقى في فنون المدنية آخذة يومًا عن يوم بالتقهقر والخراب وإليك مدن أدرنة وبروسة وحلب والشام وبغداد اللائي كن عواصم كبرى للملك من أزمنة متفاوتة لم يستطعن المحافظة على عمرانهن المتخلف من ذلك الزمان. إلى أن قال: وبغض النظر عن حاجة ولاياتنا إلى أسباب العمران؛ فإنا إذا نظرنا إلى القسطنطينية تلك المدينة الكبرى التي يسكنها مليون من النفوس , والتي هي ذات استعداد وقابلية؛ لأن تكون عاصمة العالم أجمع نرى أن أبنيتها أدنى من أبنية قرية من قرى الممالك المتمدنة وطرقها وميادينها مملوءة بالأوحال شتاء، وهي قرارة الأقذار صيفًا، ثم استرسل الكاتب في هذا الباب بما يُدْمي القلوب، ويُشْجِي النفوس، وذكر من حال عاصمتنا الكبرى وتدنيها العظيم، وعدم مجاراتها حتى للبلدان التي انفصلت عنها بالأمس، وفقدانها كل وسائل الراحة وأسباب العمران ما لم نر لإيراده حاجة خشية التطويل. وأذكر أيضًا هذا الشاهد، وقد نشرته من بضع عشرة سنة جريدة الأهرام التي تطبع بمصر وخلاصته أن صاحب الجريدة اجتمع في مدينة صوفيا يومئذ مع أحد كتاب الجرائد الهندية الإسلامية، وجرت بينهما محادثة مما جاء فيها قول ذلك الكاتب: (إن من يرى إمارة البلغار يكذب التاريخ، وذلك لأنه لا يصدق انفصال هذه الإمارة عن الدولة العثمانية منذ عشرين سنة وسبقها لأمها عاصمة الدولة هذا السبق البعيد في كل دروب المدنية والترقي في ذلك الزمان القليل) . وأنت ترى من هذا الشاهد، ومما سبقه وهما من أقوال كتاب المسلمين أنفسهم كيف أن الشعوب الأخرى تسرع بالترقي والمسلمون يتخلفون، وكيف هو حال الممالك الإسلامية بالنسبة لحال الممالك المتمدنة على أن ما ذكرناه يختص بالمملكة العثمانية دون الممالك الأخرى مع أن هذه المملكة هي أرقى حالاً بكثير من بقية الممالك الإسلامية من حيث الترقي المدني في المعارف الضرورية لقيام الدولة العثمانية على أمر التعليم قيامًا وإن كان في نفسه غير موفٍ بالحاجة إلا أنه لا يخلو من شيء من الفائدة، وأخصها فائدة المدارس الحربية التي جعلت لهذه الدولة جيشًا منظمًا بلغ الغاية من الترقي لو لم يصحبه ضعف السياسة والمال، بل ضعف أساس الحكومة لأنها حكومة إسلامية. هذا حال هذه المملكة , وهي على ظننا أرقى من غيرها بكثير، فما بالك بمملكة الغرب الأقصى وفارس والأفغان، وحال الأولى من الفوضى والتردي في الجهالة والإمعان في طرق التدلي معلوم , فهذه المملكة التي ليس بينها وبين أوربا بلاد المدنية والترقي إلا مضيق سبتة لم تنتفع من هذا الجوار بشيء ألبتة، ولم ينفذ إليها على قربها من أوربا شعاع من نور المدنية الجديدة، والحياة السعيدة مع أن ذلك النور عمَّ أفق اليابان في الشرق الأقصى، وبينها وبين منبعثه آلاف من الأميال فليس في المغرب الأقصى الآن أثر للتعليم على الأصول الجديدة ولا اسم للحكومة المنظمة، ولا قوة للملك، ولا جند منظم للدولة، ولا معرفة لأهلها بأحوال العالم قط، وحسبك من إمعانهم في الجهالة أن المطابع التي كانت سببًا متينًا من أسباب انتشار العلم بين الأمم لم يبق بقعة من بقع الأرض حتى مجاهل أفريقيا إلا وجدت فيها , وأهالي المغرب الأقصى لم يعنوا بها ولم تنتشر في بلادهم إلى اليوم. جاء إلى مصر في هذه الآونة السيد المنبهي وزير الحربية السابق في المغرب الأقصى بقصد أداء فريضة الحج، فاستطلعته طلع الدول والبلاد، وبسطت لديه بعض أمانيَّ في إصلاح المملكة، فأخبرني أن المسلمين ثمة يأبون كل إصلاح، وليس عندهم استعداد لقبول أي ضرب من ضروب الترقي والمدنية، ولما أوضحت لديه أهون السبل للوصول إلى تقويم أود الأمة والدولة أظهر من خشونة المركب وشدة الأوّاه على إمكان العمل في بلاد ذلك مكانها من عدم الاستعداد للإصلاح في التعليم والإدارة والقضاء والجندية ما يظهر من كل كبير وأمير في المسلمين إذا شكوت إليه ضعف أمته وتقهقر أهل مِلْته، حتى كأن العجز عن النهوض أصبح من العاهات السائدة على قادة المسلمين، وخاصتهم كما هو آخذ بنواصي عامهتم مُتسلط على نفوس كافتهم. هذا إجمال حال مملكة المغرب الأقصى أما مملكة فارس فحسبك أن تقول: إن تلك الأمة على عراقتها في المجد، وقدم عهدها في الدولة , وأنها من الممالك القديمة التي كانت ذات مدنية راقية وملك عظيم أصبحت الآن في حالة من الضعف وسوء الإدارة والتدلي عن مرتبة العلم والمدنية بحيث لا ترى لها حركة تدل على شيء من الرقي المطلوب لمثلها هذا مع أن مليكها السابق والحالي جابا أطراف البلاد الأوربية ووقفا على كل فنون المدنية الحاضرة، وعلما بأنفسهما وجه ترقي الأمم المسيحية، ومع هذا فلم يغن ذلك عن تقهقر بلادهم وتدلي الأمة الإسلامية فيها شيئًا , فليس في البلاد الفارسية من المدارس إلا ما لا يتجاوز عدد الأنامل، وليس للدولة نظام للجندية ولو كنظام الجندية العثمانية، وليس لثغورها التي أضحت مطمح الدول الغربية ولا باخرة حربية، وبالجملة فسكون التناهي في الانحطاط سائد هناك كما هو سائد في بقية البلاد الإسلامية. وأما الأمة الأفغانية فهي إلى البداوة في كل أصول معيشتها ومعارفها أقرب منها إلى الحضارة، وليس فيها من دلائل الحياة إلا قيام أميرها المتوفىَّ وأميرها الحالي على ترتيب الجند وتدريبه على الحرب، وجمع كلمة القبائل والأحزاب على الذود عن حياض الملك. فهذا بوجه الإجمال حال المسلمين في هذا العصر، وحال دولهم المستقلة لهذا العهد أفليس مما يُكْلِم القلوب، ويُدْمِي الأحشاء أن لا يكون فيهم ولو دولة واحدة تضاهي أصغر الإمارات المسيحية في التقدم والارتقاء كإمارة البلغار أو الصِرب أو رومانيا اللائي انفصلن بالأمس عن الدولة الإسلامية الكبرى فسبقنها سبقًا بعيدًا، وصرن لها خصمًا عنيدًا؟ وما هي يا ترى علة هذا الخمود القاتل، والجمود الشامل، الذي تَعَبَّد المسلمين، وقطع نظامهم وجعلهم يتسكعون في أخريات الأمم، حتى سبقهم المسيحيون والوثنيون، واستعبدهم منازعوهم على الملك، وغلب على أمرهم مزاحموهم في مضمار الحياة في كل بقعة من بقاع الأرض؟ ألأنهم دون أولئك السابقين خلقًا؟ أو لأنهم أضعف منهم استعدادًا؟ كلا، إن الاستعداد والخلق في أبناء الطينة الواحدة لا يخلتفان إلا بالأعراض لا بالجواهر. أو لمطلق كونهم مسلمين وأن الإسلام مانع من المدنية كما يقول أعداؤه والمارقون منه. هذه هي العقدة التي أصبحت مُزْدَحَم الأفكار، ومَرْمى نظر الباحثين في طبائع الأمم في هذا العصر، وإنما قال بعضهم: إن الدين هو المانع من ترقي المسلمين؛ لأنهم لم يروا شعبًا واحدًا منهم نهض لمجاراة الأمم المُتَمَدِّنة واستحق أن يوضع في مصاف الشعوب الراقية حكومة ومدنية، بل كل المسلمين في هذا التأخر سواء، وإن تفاوتوا في المراتب بتفاوت الأرجاء، مع أن مجاوريهم من المسيحيين أصبحوا مذ انفصلوا عنهم في أسمى درجات الارتقاء، وكذلك أبناء طينتهم الشرقية من أتباع كونفيوشيوس وبوذه وهم اليابانيون صاروا في مصاف الأمم الراقية، ودولتهم تعد من دول المشرق العظمى مع أنهم لم يدخلوا في غمار هذا الترقي الجديد إلا منذ ثلاثين سنة. الذين قالوا: إن علة تدلي المسلمين هو الدين، بعضهم يقول: إن مصدر هذه العلة تعدد الزوجات؛ لأنه يهدم نظام البيوت، ويفقد أصول التربية، ويزج بالنفوذ في غمار الشهوات، وبعضهم يقول: إن مصدرها عقيدة القدر التي تقعد بالنفوس عن السعي، وتستأصل شأفة الاعتماد على النفس، وبعضهم يقول: إن مصدرها الاعتقاد بالأموات الذين يسمونهم بالأولياء والصالحين , ويعتمد عليهم عامة المسلمين في قضاء الحاجات دون الاعتماد على تعاطي الأسباب الموصلة للحاجات إلى غير ذلك من العلل التي إذا محصها العقل؛ يجدها بعيدة عن غرض الإسلام أدخلها في العقائد والأعمال سوء الفهم، وهي وإن صلحت؛ لأن تكون سببًا لتدلي المسلمين إلا أنها لا تصلح أن تكون برهانًا على أن الإسلام هو المانع من ترقي المسلمين، بل المانع في معتقدي أمر آخر أريد وضعه لدى البحثين في موضع النظر والنقد فأقول: الإسلام من حيث هو دين سماوي لا يراد به إلا سعادة البشر وخيرهم لا يسوغ لعاقل أن يقول: إنه يمنع المتدين به من مثل هذه السعادة التي أرادها الله لعباده بواسطة الأديان، وإنما هي الأفهام تخلتف في معرفة مغزى الدين باختلاف الأمم والعصور، وتتباين بتباين العقول. فالإسلام أول من تلقاه من الأمم كما هو معروف الأمة العربية التي كانت مُتَرَدِّية في الضلالة مُتَهَافِتة في البداوة ليس عندها شيء من قوانين الاجتماع ونظام الحكومات الراقية، والشعوب المتمدنة , فلما جاءها الإسلام بأحكامه ومواعظه وأوامره ونواهيه؛ رأى العرب فيه مقصدًا قريبًا وأمرًا جليلاً، وحكمة بالغة فانضموا إليه، وأقبلوا عليه وقالوا: هذا هو الشيء الذي هو كل شيء وغَلَوا في ذلك الاعتقاد غُلُوًّا أًذْهَلَهم عن أن الغرور في الدين إلى حد مزجه بكل شيء من أمور الحياة الدنيوية - وأَخَصها حياة الأمم السياسة خروج بالدين عن مقاصده الأصلية، وافتئات على صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - القائل: (إذا كان شيء من أمر دينكم فإليَّ، وإذا كان شيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم به [1] ) , وهو إرشاد صريح إلى أن للدنيا أمورًا مرجعها تحكيم المصلحة والعقل؛ فهي في جانب، والدين في جانب آخر. العرب كما قلنا كانوا عريقين في البداوة ,

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (تاريخ اللغة العربية) نوهنا في الجزء الماضي بكتاب فلسفة اللغة العربية تأليف جرجي أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال العربية , وأشرنا هناك إلى اشتغاله بتاريح هذه اللغة وأهلها، وقبل أن ينتشر الجزء جاءنا منه كتاب (تاريخ اللغة العربية) وهو كتاب ألفه جديدًا وطبعه , فبلغت صفحاته 64 صفحة، وقال: إنه يعد ما كتبه فيه خواطر سانحة فتح بها باب البحث لأئمة الإنشاء، وعلماء اللغة ليوفوا الموضوع حقه. أما الموضوع فهو (البحث فيما طرأ على ألفاظ اللغة العربية وتراكيبها من الدثور أو التجدد مع إيراد الأمثلة مما دثر منها , أو تولد فيها, أو اقتبسته من سواها , وبيان الأسباب التي دعت إلى دثور القديم وتولد الجديد) وقد جعل الكلام فيه ثمانية فصول: (1) العصر الجاهلي , و (2) العصر الإسلامي، و (3) الألفاظ الإدارية في الدولة العربية , و (4) الألفاظ العلمية فيها , و (5) الألفاظ العامة، و (6) الألفاظ النصرانية واليهودية , و (7) الألفاظ الدخيلة في الدولة الأعجمية , و (8) النهضة الحديثة وما تستلزمه. وقد أورد في كل فصل من الفصول أمثلة غفلاً من بيان التاريخ الذي أهمل فيه بعض الكلم، وتجدد بعض، ومنها ما لا يحتاج إلى ذلك، وفي بعضها نظر ظاهر أو خفي , والأمر سهل، وفي الكتاب فوائد كثيرة، وينابيع للبحث غزيرة، وهو في حاجة إلى النقد لجدته واختصاره , ومُصنِّفه مُصنِّف يحترم الانتقاد الصحيح ويعمل به فلعلنا نوفق لمشاركة زميلنا المؤلف وإسعاده على هذه الخدمة الجليلة , ونحث علماء اللغة على ذلك. وثمن النسخة من الكتاب خمسة قروش وأجرة البريد ثلاثة أرباع القرش ويطلب من مكتبة الهلال بمصر. * * * (رسالة في الشاي والقهوة والدخان) كتب هذه الرسالة الشيخ جمال الدين القاسمي أحد علماء دمشق الشام وأدبائها , وبحث فيها عن تاريخ هذه الأشياء وصفاتها النباتية وخواصها وكيفية استعمالها، وما قاله الأدباء والشعراء فيها , وذكر عند الكلام على الدخان اختلاف الفقهاء في حِلِّه وحُرمته، ومقال الأطباء في مضراته ومنفعته , وختم الرسالة بنبذة في الاعتناء باستنشاق جيد الهواء، فالرسالة علمية أدبية شرعية فكاهية، وقد طبعت في الشام , وثمن النسخة هناك ثلاثة قروش، وليته يرسل إلى مصر طائفة من نسخها. * * * (شرح قانون العقوبات الجديد) نقحت الحكومة المصرية قانون العقوبات القديم , فنسخت بعض أحكامه وغيرت وبدلت فيه بما رأته أصلح مما كان قبله , فوصف بعد ذلك بالقانون الجديد، وما العهد ببعيد، وقد شرحه فوزي بك جورجي المطيعي النائب لنيابة مديرية جرجا , وطبع مع الشرح طبعًا متقنًا على ورق جيد جدًّا في مطبعة العارف الشهيرة بإتقان عملها , فخير للراغبين في الاطلاع على هذا القانون أن يطالعوه مع شرحه الذي يعرفهم مقاصده ووجوه مواده، وهو يطلب من مكتبة المعارف بمصر، وثمن النسخة منه 15 قرشًا. * * * (قصص أو روايات) الفرسان الثلاثة قصة تستتبع قصصًا جُعلت أجزاء لها سمي الثاني: (رجع ما انقطع) , وليته قال: (وصل ما انقطع) والثالث والرابع: (عود على بدء) , والمؤلف هو إسكندر دوماس الفرنسي الشهير , وقد عربها الشيخ نجيب الحداد , وكان المؤلف في مقدمة القصاص في حسن التأليف , والمعرب في مقدمة المعربين والمنشئين العصريين في حسن الأداء وسلامة التركيب، قلما تَعْثُر في كلامه بغلط أو لحن، أما موضوع القصة أو القصص فهو بيان حال بعض الشجعان النبلاء في القرن السابع عشر، وتمثيل بعض الأخلاق والصفات العالية في أشخاصهم كالبسالة والشهامة والمروءة والوفاء والسخاء والدهاء، يتخلل ذلك نبذ من تاريخ فرنسا وإنكلترا في ذلك القرن - وما كانت عليه قصور الملك من الترف والأثرة والاستبداد وفساد الأخلاق، وما كانت عليه الأمة من ظلمات التفرق والعبودية، وما يلوح فيها آنًا بعد آن من نور يتعارف فيه طوائف وشيع من الأمة؛ فيجتمعون فَيُهَاجِمُون معاقل الظلم، ثم يختفي آنًا آخر فيئوبون إلى ما كانوا عليه، حتى يلمع لهم ضَوْؤُه ثانية، وينقدح من لهيب تلك الظلمة الحالكة ظلمة الظلم والاستبداد. فالقصص مفيدة بما تمثل لقارئها من الفضائل ومن عِبَر التاريخ، وبها يظهر للخبير الفرق بين الأمم في طور ضعف الجهل والاستبداد، فمنها ما ترى فيه جراثيم حياة كامنة؛ فتعلم درجة استعدادها للحياة السعيدة، ومنها ما لا ترى فيها ذلك. وما جراثيم الحياة إلا الأخلاق العالية التي أشرنا إلى بعضها، فإنك ترى أهل أوربا في القرون المظلمة كانوا على أخلاق وعادات هي التي نهضت بهم في ضوء العلم الذي أشرق فيهم، ولكن الأمة الفاسدة الأخلاق قد يزيدها العلم الطارئ فسادًا كما نرى أمامنا، أنبه على عادة لا تزال باقية في القوم من عهد جاهليتهم وهي المبارزة التي ينتقدها قومنا أشد الانتقاد , وما هي إلا بنت الشجاعة والإباء، وأين منها ما عليه أمراء المشرق وكبراؤهم من الجبن والخنوثة التي تسهل عليم خيانة بلادهم وأمتهم، وتسليم زمامها للأجنبي لأدنى تهديد يتهددهم به. كانت هذه القصة قد طبعت وجمعت في مجلد واحد فنفدت، وقد طبعها أخيرًا صاحب مطبعة ومكتبة المعارف كل جزء على حدته، وجعل قيمة الاشتراك فيها 16 قرشًا، وأما ثمن كل جزء على حدته فستة قروش وهي تطلب منه. الأبرياء قصة خيالية أدبية وضعها محمد أفندي محمد أحد كُتَّاب ديوان الأوقاف، وأحسن ما فيها التنبيه إلى خطأ الناس في تزويج أبنائهم وبناتهم بما يوافق أهواء أنفسهم دون رغباتهن ورغباتهم، وفيها كلام حسن في الغربة والكسب والاستقلال فيه وذم الخمر ومضرتها , فنحث القراء على مطالعتها. الفضيلة قصة غرامية خيالية أنشأها محمود طاهر أفندي حقي المُستخدِم في مصلحة الأوقاف بمصر، وفيها مما ينقض بناءَ الفضيلة ذِكْرُ الاسترسال في الشهوات، وفضيحة البنات، وخيانة الزوجات، واقتراف المنكرات، وإنما سميت القصة بالفضيلة؛ لأن فيها ذكر لفتاة اعتصمت بالعفة، واستمسكت بعرى الفضيلة، إذ أريد منها أن تسفه نفسها لا أن موضوعها الفضيلة. كيف تنهض بالأمم أو الأفراد فيحيون بها سعداء، من حيث يتردى الأرذلون في مهاوي الشقاء، فلعل المؤلف يصرف عنايته فيما عساه يكتبه من القصص بعد إلى مثل هذا، وثمن القصة خمسة قروش. الخرافة الحسناء أو هدية الحكماء للأغنياء قصة خيالية أخرى موضوعها: تمثيل سفه الأمراء وأولاد الأغنياء الوارثين في مصر، وتبديدهم المال في طرق الشهوات واللذات، وما لذلك من سوء العواقب واضعها إسماعيل أفندي شكري وفيها روح أدبي نافع نرجو أن يكثر في مكتوب الشبان , كما نرجو العناية من هؤلاء الكاتبين بتنقيح ما يكتبون , والعناية بتصحيح عبارته وطبعه. وثمن هذه القصة خمسة قروش أيضًا. * * * (رسائل) (البورصة) كراسة صغيرة كتبها نسيم أفندي إلعازار في بيان أهم أعمال البورصة التي هي ميزان التجارة ودولابها في هذه البلاد , ولعمري إن أكثر التجار والمزارعين وغيرهم في حاجة إلى معرفة حقيقة هذه البورصة واصطلاحاتها وأعمالها، فكم خرب هذا الجهل بيوتًا، وبنى بأنقاضها بيوتًا. وثمنها قرش واحد، وتطلب من مؤلفها بالإسكندرية. (التقرير السنوي لجمعية الشبيبة السورية) الجمعية في بيروت ومؤسسوها من خيرة فضلاء النصارى , ولم نر فيها اسم مسلم غير عبد الرحمن أفندي شهبندر فيا أسفي على المسلمين، ويا شكري وثنائي على العاملين، وقد رأينا في هذا التقرير أن مال الجمعية لا يزال قليلاً لا يذكر، وأرباب الأموال لا يزالون في الشرق أجهل الناس، وأبعدهم عن الإحساس، (حاشا اليابان) فنتمنى للجمعية الترقي والنجاح. * * * (كلمة ورد غطاها) رسالة تتضمن محاورة بين الشيخ محمد المليجي الكتبي بمصر وفرج بنيامين البروتستنتي في النبي والقرآن والمسيح كان فيها الفلج للشيخ، وأمثال هذه المناظرات والمجادلات والرسائل والكتب قد كثرت في مصر بتصدي مُبشِّري البروتستنت لمجادلة المسلمين ونشر الكتب في الرد عليهم، ونرى بعض المسلمين يتأففون من هذا ويرون أنه ضار، ورأينا أن ضرره محصور في التنفير وإلقاء العداوة بين المسلمين والنصارى، وأما من جهة الدين نفسه فهو نافع غالبًا إذ المسلمون لا يكونون نصارى بسبب هذا الجدل، ولكن يُرجى أن ينتبهوا به إلى العناية بما هو مهمل عندهم من البحث عن أدلة الدين والتحقق من مسائله وشدة الاستمساك بها مقاومة لهؤلاء المعتدين، ولذلك كثرت المؤلفات في الرد على النصارى فهم المغلوبون لأن كتابة هؤلاء المبشرين لا تزيد النصرانية قوة ولا النصارى تمسكًا بها، ولكنها تزيد المسلمين تمسكًا بالدين، وعلمًا به، والرسالة تباع عند مؤلفها بشارع الحلوجي. * * * (مجلات جديدة) (لسان الأمم) مجلة علمية أدبية مدرسية شهرية تصدر في مصر باللغتين العربية والإنكليزية لمديريها ومحرريها حسين روحى م. ع، وأبو الحادي الدراجي هكذا ورد اسمهما على المجلة , وهنا نصرح برأي لنا قديم وهو أن يكتب كل مؤلف أو صاحب جريدة أو مجلة لقبه الذي يخاطب به عادة مع اسمه كالشيخ أو السيد فلان , أو فلان أفندي أو بيك أو باشا ليعلم الناس كيف يخاطبونه، ومن أي صنف هو، والجزء من المجلة يدخل في 20 صفحة , وقيمة الاشتراك فيها 30 قرشًا في القطر المصري و 10 فرنكات في غيره. (الحكمة) مجلة علمية طبية تهذيبية تاريخية تصدر في منتصف كل شهر شمسي لمنشئها الدكتور عبد العزيز أفندي نظمي من كلية مونبلييه بفرنسا , وقيمة الاشتراك فيها 30 قرشًا في القطر المصري و 20 للأطباء والتلامذة و 10 فرنكات في غيره. وإننا لَنُسَرُّ بكثرة المجلات العلمية والطبية إذ لا يعيش منها إلا ما كان نافعًا , لكن الجرائد قد يعيش منها الضار، لما للجمهور فيها من سوء الاختيار.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (سبب ثناء رياض باشا على اللورد كرومر) أشرنا في الجزء الماضي إلى سخط أحداث الوطنية، من خطبة رياض باشا في احتفال المدرسة الصناعية، واهتمام عبيد الكلام بقول الوزير دون عمل الأمير، على أن عمل الأمير حكم نافذ فإذا أعطى عميد الاحتلال النفوذ الأرفع صار ذلك حقًّا رسميًّا، والوزير معذور في استنجاده اللورد كرومر لحضانة المدرسة من دون الأمير، وثنائه عليه لأنه يعتقد أن نجاح المدرسة متوقف على ذلك وإليك البيان بالإيجاز: المدرسة نسبت إلى اسم محمد علي لتكون تذكارًا لمرور مائة سنة على تأسيسه هذه الإمارة التي يتمتع المنتسبون إليه بسعادتها، وقد جعل المشروع تحت رعاية الأمير الجالس على كرسي (محمد علي) الآن فماذا كان منه ومن أهل بيته، ومن الأمة المصرية كلها؟ كان أن افتتح الأمير الاكتتاب بمائة جنيه , فلم يزد الذين اكتتبوا من الأمراء عن ذلك على أن أكثرهم لم يكتتبوا، وكان مجموع ما جمع من المال من الأمة أمرائها وأغنيائها لا يبلغ بضعة آلاف من الجنيهات، وقد تبرع الأجانب على قلتهم وعلى كون المدرسة مصرية إسلامية بنحو ذلك والكل قليل. ونستثني ما تبرع به أحمد منشاوي باشا فإنه صار أمة وحده، والسبب في هذه الخيبة الوطنية افتتاح الأمير الاكتتاب بمائة جنيه , ولو افتتحه بعشرة آلاف جنيه مثلاً , لوُجِدَ عدد كثير من الأمراء والأغنياء يستحي أن يدفع واحدهم أقل من ألف جنيه، وكان المال بذلك يكون كافيًا لتأسيس المدرسة بمال الوطنيين، ولو شاء الأمير أن ينجح المشروع بما له من النفوذ المعنوي لفعل. أرأيت لو كان لهج أمام الوجهاء، والأعيان الذين يقابلونه في الأيام التي يسمونها أيام التشريف بتقصير الأمة في هذا المشروع الصناعي الذي هو ركن من أركان الحياة في البلاد أما كانوا يتسابقون إلى البذل بسخاء عظيم؟ أرأيت لو منح بعض الذين تبرعوا بمبالغ عظيمة كآل محمود في الرحمانية - ولا نقول: منشاوي باشا - برتبة أو وسام عظيم أو بالثناء عليهم في محفله. أما كان يوجد كثيرون يقتدون بهم؟ بلى , ولكن الأمير لم يفعل فمن المحتم أن اكتتابه ومسلكه كان العلة الحقيقية في عدم نجاح الاكتتاب. وأما اللورد كرومر فهو على كونه قد تبرع من جيبه بمثل ما تبرع به الأمير من جيبه قد بذل نفوذه الذي يعلو كل نفوذ في هذا القطر لمساعدة المشروع بالثناء عليه قولاً وكتابة، وبحمل المالية بل أمرها بإعطاء الجمعية أرضًا لبناء المدرسة لا يقل ثمنها عن المال الذي جمع من الاكتتاب , وبدفع تعويض لأصحاب الأكواخ والخِصاص (العشش) التي احتاجت الجمعية إلى إزالتها من هناك , ثم بأمر أحد كبار المهندسين الإنكليز الذي أسس مدرسة الحكومة الصناعية على مساعدة الجمعية في تأسيس المدرسة بغير أجر ففعل، أفننكر مع هذا أن اللورد كرومر كان خيرًا لهذا المشروع من جميع أمراء الوطن المحبوب وأغنيائه ووجهائه وجرائده ومن حَدَثِ السياسة الوطنية، بل ومن جميع أحداثها الذين ينكرون فضله بزعمهم حب البلاد وأمير البلاد الرسمي. ألا نعذر رئيس الاكتتاب للمدرسة الذي بذل جهده لإنجاحه , فخاب أمله في قومه أن يعهد بالمشروع إلى من هو أرجى الناس لإبلاغه كماله. أمن الوطنية أن يترك الإنسان الطريق الموصل إلى نفع الوطن بالفعل، ويلغط بذكره في القول؟ فيقال: إن مثل رياض باشا العامل للوطن قد مرق من الوطنية لأنه شكر المحسن للوطن رجاء المزيد، وأومأ للمقصر بتقصيره رجاء الإقلاع والتشمير , أو أنه خرج عن الموضوع؟ ؟ قال المؤيد: إن أكثر الناس قد استاءوا من خطبة الوزير. ويعني أكثر أعضاء جمعية (العروة الوثقى) إذ لم يجتمع بأكثر الناس ولا بأكثر حاضري الاحتفال فيقال: إنه يعنيهم , ونحن نظن أن أكثر العقلاء على اعترافهم بفضل هذه الجمعية وهمة أعضائها مستاءون من تسمية مدارسها بأسماء أمراء مصر السابقين: إبراهيم وعباس وسعيد وإسماعيل الذين خربت في أيامهم البلاد، وهلكت العباد، وليس لهم أثر علمي يذكر فيشكر، وهذه ذرياتهم تتمتع بالأراضي الواسعة من البلاد، ولا تسمح لمدرسة ولا لجمعية خيرية بفدان واحد مهما صانعتها الجمعية، وما استياء بعض أعضاء الجمعية من خطبة رياض باشا إلا كنسبة مدارسها إلى أولئك الأمراء , أي أنه أثر العبودية وبقايا الاستبداد السابق، وما كلمة رياض بجارحة لاستقلال الأمة كما قيل بل هي أثر للإحساس باستقلالها إذ معنى استقلال الأمة هو شعورها التابع لاعتقادها بأن الأمراء أجراء للأمة لا آلهة لها , فلئن كان أكبر وزير في مصر قد أومأ إلى ما كان من إهمال الأمير لمشروع المدرسة الصناعية إيماء فلقد كان أقل الأعراب والنساء يصرحون بتخطئة عمر بن الخطاب وهو على منبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصريحًا فهذا هو الاستقلال الذي أزاله ملوكنا وأمراؤنا وجعلونا أذل الأمم. قال صاحب اللواء: إنه شتم رياض باشا اقتداء بالأعرابي الذي قال لسيدنا عمر: (لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا) وإنما يصح الاقتداء إذا قال الحدث مثل هذا لأمير البلاد أو للسلطان، لا لرجل اعتزل الحكومة والأحكام، وهو يمقته من قبل فاعتبروا يا أولي الأبصار. * * * (المتوسلون المتسولون ودعاة الوطنية) تَطَوَّفْ في أسواق القاهرة وشوارعها في أي وقت شئت من ليل أو نهار، وأَطِلّ من شرفات بيتك أو نوافذه مراقبًا الناس مستمعًا لأحاديثهم؛ فإنك لا تكاد تسمع ذكر الله، وذكر نبيه وأوليائه إلا من أهل التوسل للتسول، إلا أن يأتلي مؤتل (يحلف حالف) بسيدنا الحسين أو المتولي أو غيرهما ممن تقسم بهم العامة، وقد غاب عن ناظري رجل أشعث أغبر أشمط كنت أراه يطوف الشوارع ولسانه رطب يتلجلج بذكر السيدة لا يفتر طرفة عين عن ندائها: يا سيدة يا سيدة يا سيدة يا سيدة يا سيدة.... وأعرف رجلاً شيخًا أشيب أعمى أجش الصوت ينشد الأماديح المنظومة علي طريق المواويل بالاستغاثة بالسيدة: (يا بنت بنت النبي طلي وشوفينا، يابنت بنت النبي دخلك أنا عيان) وأعرف امرأة عمياء كانت تجلس في ظل دارنا وهي تحفظ أسجاعًا متناسقة في الدعاء هممت غير مرة بأن أنصت إليها وأكتبها عنها. وأما الذين يشتركون في عبارة خاصة فكثيرون كالطوافين بكلمة: مليم أجيب بو شأَّة، علي أُبُول سيدنا الحسين والسيدة زينب وجدهم الحبيب النبي. أي أطلب مليمًا (عُشْر القرش المصري) أشتري به كسرة من الخبز رجاء أن يقبله منكم سيدنا الحسين ... إلخ - يقول هؤلاء ما يقولون وقلوبهم تطوف في صدور الناس أيها يتأثر بذكر هؤلاء السادات المتصرفين في الأكوان فيرضخ لهم بشيء مما في يده تقربًا إليهم والتماسًا لبركاتهم، ولكنهم لو سئلوا شيئًا يبذلونه ابتغاء مرضاة السادات فإنهم يقبضون أيديهم؛ لأن حظهم من حب السادات أن يأخذوا من الناس على قبولهم لا أن يعطوا تقربًا إليهم، ولا غرض من مدحهم وذكرهم إلا التأثير في نفوس من يرجى رفدهم من محبيهم، مثل هؤلاء مثل دعاة الوطنية من أحداث السياسة المصرية تطوف البلاد وتحضر الأندية وتغشى السمار , وتقرأ الكتب والصحف المنتشرة فلا تجد للوطنية داعيًا، ولا بذكر جلاء الإنكليز عن مصر لاهجًا , إلا المتسول المتوسل إلى حظه باسم الوطنية لعلمه بأن التفرنج الحديث قد جعل لهذه الكلمة شرفًا كبيرًا وذكرًا مجيدًا فهي تؤثر في نفوس بعض الأغنياء والوجهاء ما لا يؤثر ذكر المتبولي والسيدة زينب في قلوب العامة والنساء، فكم بذل مجنون بالوطنية البدر من الدنانير، إذا كان محب الأولياء يبذل القرش والمليم، وحظ داعي الوطنية من اللهج بها كحظ مادح الأولياء، هو أن يقول لا أن يفعل، وأن يأخذ لا أن يعطي، فإذا كان له منفعة من الأمير فلان فهو يجعله عماد الوطنية وعتادها، وإن أمال عمادها، واقتلع أوتادها وأضاع لأجل شخصه طارفها وتلادها، واذا خالف هواه سير عالم كامل أو زعيم عامل، فهو يجعل حسناته سيئات، ويتتبع للطعن به العثرات، فأمثال هؤلاء الوطنيين يحصرون معنَى الوطن في أشخاصهم بدعوى الوطنية كما يحصر بعض كبار المتسولين الدين في شخصه بدعوى الصلاح والولاية، فمدعي الولاية يرمي من ينكر عليه هوسه ودعواه بالمروق من الدين، ودَعِيُّ الوطنية يتهم من ينكر عليه هوسه ودعواه بعداوة الوطن , وغرض كل من الفريقين المال والجاه بما يخادعون الناس (تغيير شكل، لأجل الأكل) وتوسل للتسول، وأكثر الناس غافلون , وهم في غفلاتهم يرزقون. * * * (انتقاد على مقالة العلماء والمحاكم) زارنا أحد كبار القضاة الشرعيين في المحكمة الكبرى بعد صدور الجزء السادس، وقال: إن ما حدثنا به المرحوم علي باشا رفاعة من اقتراح إسماعيل باشا الخديوي الأسبق على العلماء تأليف كتاب على نسق القوانين في السهولة ... إلخ، على غير وجهه، والصواب أن الخديوي طلب من العلماء تطبيق القانون على الشريعة، وإرجاع أحكامها إليه فأبى الأكثرون وتصدى بعضهم لوضع كتاب في الأحكام الشرعية يوافق القانون الفرنسي في الأكثر ومعظمه من فقه الإمام مالك. قال: ويقال: إن الشيخ محمد مخلوف المنياوي قد أتم هذا الكتاب , وقدمه للحكومة الخديوية أو لحاشية الأمير فلم يظهر له أثر، وحدثني بنحو هذا صديق آخر، وقال: كان من غرض إسماعيل باشا إرضاء أوربا بتقليدها في كل شيء حتى في إبطال بعض الأحكام الشرعية الإسلامية كإباحة تعدد الزوجات المنتقدة عندهم وتحويل الشريعة إلى قوانينهم، وأنه كان يقول: لا يمكن أن تعمل الأمة في هذا القرن بما وضع للعرب من نحو ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، ولهذا لم يكن للعلماء إجابة طلبه، ولا بُعد في هذه الأقوال عند العارفين بحال هؤلاء الأمراء وبعدهم عن الدين وكأن ذلك الأمير المستبد الجاهل كان يرى أن قانون الكرباج الذي وضعه محمد علي وأفسد به بأس الأمة , ونزع منها هو ومن بعده روح الشهامة والشجاعة أفضل من الشرع الإلهي الذي ارتقى بالأمة العربية إلى السيادة على جميع الأمم.

استغناء البشر عن دين جديد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استغناء البشر عن دين جديد ومعنى كون دين الفطرة آخر الأديان وافتجار البابية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) . لقد كان من عموم رحمة الله تعالى وسعتها أن جعل للحق السلطان على الباطل، وللخير الرجحان على الشر، فلله الشكر والحمد، ولله الأمر من قبل ومن بعد، خلق الإنسان في أحسن تقويم، وهداه إلى الحق وإلى طريق مستقيم، كَمَّله بالمشاعر البادية والكامنة، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وأعطاه العلم والإرادة، وأناط بعمله غوايته ورشاده، ولذلك خلقهُ ضعيفًا جهولاً، ليكون باكتسابه قويًّا عليمًا، وجعل حياة الأمة من نوعه، شبيهة بحياة الفرد في شخصه، تتربى بكسبها وتبلغ كمالها بالتدريج، وجعل عقل الأمة العام النبوة يظهرها في أكمل أعضائها، كما أن عقل الأفراد يكون في أشرف عضو فيها، وشذوذ بعض آحاد الأمة عن هدي نبيها شبيه بشذوذ بعض أعضاء الشخص عن حكم العقل، كاليد تبطش حيث يضر البطش، أو الرجل تسعى إلى ما يحكم العقل بوجوب القعود عنه، وسبب ذلك التقصير في التربية الدينية والعقلية. ومن آياته تعالى أن جعل شذوذ الأفراد عن الأصل، وميلهم عن الجادة، سببًا من أسباب التربية، وعلمًا من أعلام الهداية، كما جعل انتشار الباطل في الأمم معدًّا لها لقبول الحق. وتغشي الظلم والاستبداد، من مقدمات الحرية والاستقلال، فله سبحانه في أثر كل شدة رخاء، وفي تضاعيف كل نقمة نعماء، فما عَمَّ الضلال في أمة إلا وجاءها بعده الهدى، ولا تفاقم الباطل في قوم إلا وانجلى بعد ذلك بقوة الحق؛ كان يظهر لهم ذلك بتعليم الوحي المناسب لحالهم، حتى إذا ما استعد النوع لأن يكون أمة واحدة، منحه الله الهداية العامة، والرحمة الشاملة، منحه دين الإسلام، الذي هو كالعقل العام، والمرشد الحكيم لجميع الأنام. كان لضلال البشر قبل الإسلام علتان إحداهما ضعف قوى الخلقة، وثانيهما الانحراف عن سنن الفطرة، فكان من الضعف أن يعتقد الناس في كل مظهر من مظاهر الخليقة لا يعرفون علته أنه هو القوة الغيبية التي قامت بها جميع المظاهر وهي القوة الإلهية فيعبدوا ذلك المظهر. وكان من الانحراف عن قوانين الفطرة ما كان من الأوضاع والبدع والتقاليد الوضيعة الكثيرة، ومن عجيب أمرهم أن أسندوا معظم ذلك للدين حتى صار من المقرر عند أهل الدين وعند الحكماء الباحثين في طبائع الملل أن الدين أوضاع كلها وراء ما تدعو إليه الفطرة ويرضي العقل، كأنه وضع لمصادمة الخلقة ومناصبة الفطرة ومحاولة تبديل خلق الله بشرع الله حتى جاء القرآن ينادي الداعي إليه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) فعلم الناس أن الدين الحق إقامة الفطرة لا مقاومتها، والاستنارة بنور العقل لا إطفاؤه، وأن العمدة في معرفة الحق الدليل، والعمدة في العبادة الإخلاص لله تعالى وحده، والعمدة في معرفة الأحكام، والحلال والحرام، اجتناب المضار واجتلاب المنافع، فبهذا كان الإسلام هو الدين الأخير الذي أخرج البشر من حجر القصور وعبوديته، إلى فضاء الرشد وحريته، وكان ناسخًا لما قبله من الأديان، ولا يمكن أن ينسخ أو ينقضي الزمان. يبلغ في الشخص رشده فيؤذن له بالتصرف في حاله، والاستقلال في أعماله فيمضي فيها فتارة يخطئ وتارة يصيب، وينجح في عمل وفي آخر يخيب، وربما أضاع رأس ماله زمنًا، ثم استعاده في زمن آخر، والأمم أولى بالتخبط بعد بلوغ رشدها , إذ الرشد لا يظهر في جميع أفرادها دفعة واحدة وإنما يظهر في بعض دون بعض، فتارة يغلب إصلاح الراشدين فيها، وطورًا يُغْلَب، والمجموع يستفيد من كل فوز وكل خيبة , فلا يظهر الإفساد في موضع إلا ويلوح الإصلاح في موضع آخر تامًّا أو ناقصًا حتى يبلغ الكمال البشري أشده، ويصل إلى كماله العام باستقلاله في عمله بدون حاجة إلى مسيطر ديني جديد كما كان يقع في الأمم قبل ظهور دين الفطرة الأخير وهو الإسلام ولا يزال الإصلاح والإفساد يتنازعان كل أمة قبل الوصول إلى الكمال الأخير. كذلك كان شأن الناس في الإسلام نهض به الذين ظهر فيهم أولاً، ثم عميت عليهم سُبُلُه فوضعوا وابتعدوا، وأولوا واخترعوا، وتركوا الاستقلال بنور العقل في فضاء الفطرة وأقاموا لهم زعماء فنيت عقولهم وإرادتهم فيهم، وكان قد أخذ الاستقلال والاهتداء بسنن الفطرة عنهم قوم آخرون , فغلب خير هؤلاء على شرهم كما غلب شر أولئك على خيرهم، والسيادة والسعادة يتبعان الخير والاستقلال دائمًا وقد قُلَبَ أصحاب السيادة في الأرض المِجَنّ للخاسرين فقالوا: (إن خساركم قد جاءكم من دينكم فاتبعونا تفلحوا) ، وكان هؤلاء الخاسرون يقولون في أيام سيادتهم: إننا قد سُدْنا بديننا فاتبعوه أيها الناس تفلحوا، وإنما كانت السيادة لكل من السائدين بالاستقلال واتباع سنن الفطرة التي أرشدنا إليها الإسلام؛ ساد بها أولئك من حيث عرفوا موردها، وساد بها هؤلاء من حيث جهلوا مصدرها، وإنما يستظل أهل الزعامة الدينية منهم والسيطرة الروحانية فيهم بظل الذين تركوهما، ويخدعون أولئك بلقب الدين المشترك بينهما، فعلم بهذا أن المسلمين قد تركوا ما ساد وسعد به سلفهم الصالحون، والآخرين جهلوا منبعث هذا النور الذي هم في ضوئه يسيرون، وزعم بعضهم أن دينهم هو الذي هداهم إليه، ولكن لماذا لم يهتدوا إليه بدينهم عقيب دخولهم في ذلك الدين بل ظلوا يتسكعون في الظلمات بضعة عشر قرنًا حتى انتشر الإسلام فأطلق الأفكار من سيطرة الرؤساء، والإرادة من عبودية الزعماء , ووصل تعليمه وهديه إلى تلك الأرجاء. لا عجب في إنكار المخالفين مزية في الإسلام بالقول، بعد ما أنكرها أهله بالفعل، ولكن العجب العُجاب في صنيع قوم قاموا يداوون الداء بالداء، ويعودون بالنوع البشري إلى مضيق العبودية والاستخذاء. ذلك أن الأمة الإسلامية ضاقت ذرعًا بأوزار البدع والتقاليد التي وضعها الرؤساء وألزموا الناس بها تقليدًا أعمى فطفقت تَئِطّ وترمي عن عاتقها بعض ما حملت على غير بصيرة فيما ترميه وتستبقيه هل هو النافع أم الضار، وتنتظر زعيمًا قائمًا بالحق ينتاشها مما وقعت فيه من الجهل والفقر والذل والعبودية، وإذا بصائح يصيح: أنا القائم المنتظر , وكان ذلك مؤسس دين البابية. * * * البابية المسلمون متفقون على أن الدين قد ضعف في النفوس. يعترف بهذا عالمهم وجاهلهم في الجملة ويختلفون فيه بالتفصيل، ومتفقون على أنهم في حاجة إلى الإصلاح وإلى أن هذا الإصلاح إنما يكون بالرجوع إلى العمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ويعتقدون أن هذا الإصلاح إنما يكون على يد زعيم يدعى بالمهدي يبطل المذاهب ويقيم الناس على مثل ما كانوا عليه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الدين وأحسن مما كانوا عليه في الدنيا، وهذا الاعتقاد ظهر في الشيعة وامتد إلى غيرهم من المسلمين حتى لا يكاد ينكره إلا أفراد في كل زمان، وقد ظهر (الباب) في بلاد الفرس بهذه الدعوة في أثر ضيق شديد فتوهم الناس ومعظمهم هناك من الشيعة الذين ينتظرون المهدي في كل يوم أنه هو، وحمل الضيقُ والبلاءُ كثيرًا من الناس على اتباعه، وماذا كان منه؟ هل جاء على ما كانوا يعتقدون من الصفات والنعوت والأعمال؟ كلا، إنه جاء بنزعة وثنية مناقضة لما جاء به الإسلام من الهداية العليا التي أشرنا إلى مزاياها في مقدمة هذا المقال، مبنية على استئصال جراثيم حرية الفكر واستقلال العقل، وعلى الخضوع والعبودية لرجل مضطرب الفكر بعيد من نور العلم. لا مزية له إلا اللغو بما يخدع جهال الأعجمين. وضعفاء المقلدين. الذين اعتادوا على اعتقاد الولاية والعرفان. في أصحاب الدجل والهذيان فكان ظهور هذا الرجل واتباع كثير من الشيعة له وتصديقهم من بعده إلى تعميم دعوته ورفع كلمته أشد مضار الاعتقاد بالمهدي المنتظر، وأكبر العظات فيها والعبر. لم يحاول هذا الداعي المشترع إبطال دين الإسلام فيمن ينتظرون تأييده وإنقاذه من التقاليد التي ذهبت باستقلاله، بل حاول إفساد الفطرة وإطفاء نور العقل الذي أذكاه الإسلام وأطلقه من سجنه، وبنى دينه الجديد على تقاليد الشيعة الذين ظهر فيهم لأنه كان شبعان ريان بهذه التقاليد، ومحكوم الشعور والوجدان بها، ولولا هذا ما راجت دعوته في أولئك الغلاة الذين إذا سمعوا ذكر آل البيت عليهم السلام والرحمة ظلت أعناقهم له خاضعين، وكانوا لكل ما يقوله ذاكرهم بالخير متقبلين، ولو أن المسلمين لا مذاهب لهم، ولا كتب دينية غير القرآن وسيرة النبي وآله وصحبه في أعمالهم وأحوالهم وأقوالهم المنقولة بطرق متفق عليها بينهم، مطابقة للأعمال والأحوال غير مخالفة للقرآن ما سرت إليهم هذه الضلالات في الماضي ولا في الحاضر فهكذا فعل التقليد بالمسلمين جعلهم غرباء عنه فسهل على المضللين أن ينتزعوا بعضهم منه. القرآن بشر البشر بأن الله تعالى رفع عنهم سيطرة الرؤساء الروحانين حتى خاطب من أنزله عليه بقوله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وسماه عبدًا متبعًا ما أمر به , وإنما ذكرهم بما تعهده الفطرة السليمة , فإقامة هذا الدين هو الرجوع إلى الفطرة المعتدلة كما ترشدنا إليه الآية التي صدرنا بها المقال، وذلك تبشير برشد البشر واستقلالهم، والبابية يحاولون إرجاع السيطرة الدينية للأشخاص بأقبح ما كانت عليه من أشكال الوثنية فهم يعيدون البشر إلى حجر الطفولية التي تفتقر إلى القَيَّمِ المطاع طاعة عمياء. القرآن بشر البشر بأن محمدًا خاتم النبيين فلا حاجة بعده إلى تعليم سماوي، ولا وحي جديد؛ لأن تعليمه هو التعليم العالي الذي يرتقي به العقل ويستقل، فلا يقبل الشيء إلا ببرهانه، ولذلك استدل على العقائد، وبَيَّن منافع الآداب والأحكام وطالب بالدليل والبرهان، وجعله شرطًا للاعتراف بالصدق {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) والبابية يحاولون إرجاع أهل هذا التعليم العالي إلى تعليم الأطفال الابتدائي الذي يؤخذ فيه كل شيء بالتسليم والإذعان، بدون دليل ولا برهان. القرآن أبطل التقليد لأن فيه حجرًا على العقول أن تفهم الدين عن الله بنفسها وتفهم مصالحها في الدنيا بالتجربة والاختبار، فقال فيمن احتجوا بتقليد ما كان عليه آباؤهم: {أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 17.) فبين أن أحدًا لا يأخذ بقول أحد إلا إذا عَقَلَهُ وتبين له وجه الهداية فيه. والبابية يحاولون إقرار الذين ضلوا عن الاستقلال على ضلالهم وإلزامهم باتباع رؤسائهم في التأويلات التي لا تعقل والخضوع لهم فيما علموا وجهلوا، بل أوجبوا عليهم عبادتهم (يا للمصيبة والرز

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (بشائر الإصلاح في المملكة الفارسية) كتبنا في المنار السابق مقالة بعنوان (هذا أوان العبر) أَبَنَّا فيها عن فساد الحكم الاستبدادي , وأن الذي أودى بالمسلمين وأوهن قواهم وجعلهم دون غيرهم قوة ورقيًّا واستعدادًا دولهم , وعدم ملائمة طرز حكومتهم لأصول الترقي الجديدة لما أثبته التاريخ وأيده الحس في هذا العصر من أن كل الأمم التي سبقت المسلمين وآخر السابقين أمة اليابانيين، إنما سبقوهم بتغيير طرز الحكومة الاستبدادية إلى ما يوافق أصول ترقي الأمم ويلائم حالة العصر حيث أقاموا مقامها الحكومات النيابية التي هي أصل في سعادة الشعوب، وأساس متين لبقاء حياة الدول، وذكرنا قصور أمراء المسلمين ودولهم عن مجاراة الدول الأخرى استئثارًا بالسلطة، وحرصًا على بقاء القديم على قدمه، وطلبنا من الأمة أن تلتمس وجوه العِبَر بنفسها، وتنهض لمجاراة الأمم بغير اعتماد على حكامها، وكان هذا الشعور الذي يشعر به كل عقلاء الأمة يشعر به أمراء المسلمين أنفسهم أيضًا، ويعلمون أن حياة أممهم الطيبة ورقيهم السريع متوقفان على تغيير طرز الحكومة وإطلاق أعنة العقول من أسر الاستبداد القاهر، وإنما يمنعهم من العمل بما تشعر بالحاجة إليه الضمائر مغالبة النفس الميالة إلى الاستئثار بالسلطة، ويدلنا على هذا أننا في الوقت الذي كنا نرمي فيه أمراء المسلمين بالتقصير، ونبين حاجة الأمة إلى تغيير شكل الحكومة القديم، واستبدال ما يوافق حالة العصر به، ويسمو بدول المسلمين إلى مصاف الدول الأوربية كان مظفر الدين شاه إيران المعظم يفكر فيما وصل إليه المسلمون في مملكته، وفي حاجة دولته إلى تغيير صفة الحكومة حتى ترتقي بالأمة إلى مرتبة الكمال، كما ارتقى بها ميكادو اليابان منذ وضع في بلاده أساس الحكومة النيابية، وتنازل حبًّا بترقي قومه عن سلطته الاستبدادية. جاء في الجرائد الفارسية تفصيل ما كانت ألمعت إليه منذ مدة التلغرافات العمومية عن جمع شاه إيران لأعيان الأمة وكبار الوزراء وإلقائه عليهم خطابًا طويلاً في تقرير وجوه الإصلاح اللازم للمملكة الفارسية، ومحصل ما جاء في تلك الجرائد أنه جمع نحو أربعمائة شخص من الوزراء والأعيان، وقام فيهم خطيبًا يبين ما وصلت إليه البلاد وحاجة الدولة إلى الإصلاح في كلام طويل جامع. والذي حل منا محل الإعجاب من كلام ذلك الملك الكبير، وكان عليه المُعَوَّل وفيه المُؤَمَّل. أنه أعلن قبل كل شيء على رءوس الملأ تنازله عن كل شيء يسمى امتيازًا للملك أو الأسرة المالكة يمتازون به عن الرعية , وتخلى عن السلطة الاستبدادية بمحض الرغبة بخير الدولة والأمة، وأشار عليهم بعد ذلك بالنظر في طرق الإصلاح الواجب سلوكها على الأمة والدولة في عصر هو أحوج ما تكون فيه الأمة إلى مثل هذه الرغائب العالية التي يندر صدورها عن ملك عظيم بمحض الإرادة، وأنت ترى أن في قوله هذا من الصراحة في حاجة الدولة إلى حكومة نيابية ذات قوانين عصرية ما يؤيد رأينا في المقالة السابقة، ويدلك عليه أن الشاه المعظم أحال في ختام خطبته إيضاح الأمر، والنظر في أطراف المسألة ووضعها موضع المناقشة بين أهل هذه الشورى على الوزير الأعظم , فخطبهم الوزير خطبة في موضوع الإصلاح، وفيما رآه من ذلك أن وضع أمامهم أكثر قوانين الدول المتمدنة وطلب إليهم انتخاب ما يوافق منها حالة الأمة والدولة مع مراعاة تطبيقها على أصول الشريعة وحاجة العصر. رأى مظفر الدين شاه لزوم الحكومة النيابية إذا أراد أن ينهض بالأمة ولزوم الآستانة بقوانين الدول الراقية على تأسيس مثل هذه الحكومة، والأمة لم تستعد لمثل تلك المفاجأة , فأشار إلى أنه تنازل عن حقوقه في الحكم المطلق إشارة تغني عن كثير البيان تمهيدًا للعمل , ثم أشار بانتخاب ما يوافق مثل تلك الحكومة من القوانين بثًّا لروح الحاجة إليها في نفوس الشعب فاذا ثبت على عزمه ومضى في وجهته وجارى ميكادو اليابان في حسن إرادته وعلو همته وحبه لخير وطنه ورعيته بتأسيس حكومة نيابية في مملكته فقد - والله - حقق أماني العقلاء فيه، وجعل أفئدة من الأمة الإسلامية تهوي إليه، ونهض بقومه نهوضًا لا عِثار بعده إن شاء الله، وحسبه من ذلك فضيلة أن يكون قدوة الأمراء المستبدين , وعِبْرة حسنة في الآخرين، وذكرًا خالدًا في تاريخ نهضة المسلمين. هذا وإننا لنرجو من صاحب المنار الغيور أن يتتبع في الجرائد الفارسية خطبة الشاه المعظم ومشروع الإصلاح الذي وضعه الصدر الأعظم، ويُعَرِّب كل ذلك أو جُله، وينشره في المنار الأغر ليطلع عليه المسلمون في كل الأقطار التي يصل إليها المنار إفادة للمسلمين , وإعلانًا لهذه الحسنة الكبرى , والله ولي المرشدين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (رفيق) (المنار) إننا لما علمنا بخبر طلب الشاه للإصلاح اهتززنا طربًا وفاجأنا من السرور ما لا يمكن التعبير عنه، وعهدنا إلى صديق لنا من علماء الفرس هنا بأن يُعَرِّبَ لنا ما تنشره الجرائد الفارسية التي تجيئنا من ذلك لا سيما جريدة (حبل المتين) فأرجأنا التعريب انتظارًا لما ستقرره اللجنة التي عهد إليها الشاه العظيم النظر في طرق الإصلاح، وأرجأنا الكتابة في المسألة لنكتب عن بينة حتى جاء صديقنا رفيق بك يستعجلنا , وله الحق فإن هذا النبأ أعظم نبأ إسلامي طرق الآذان في هذا العصر , وإذا حل الإصلاح في تلك المملكة الإسلامية على وجهه؛ كان لنا أن نعد مظفر الدين أعظم ملوك المسلمين، لأنهم وضعوا أصول الاستبداد في القرن الأول وتمسكوا بها بعده حتى أزالها هو في القرن الرابع عشر. لا يكفي في الإصلاح تنظيم إدارة البلاد وإقامة العدل فيها، بل يجب أن يعتنى أشد الاعتناء بالفنون العسكرية والقوى الحربية , وأن تنشر المعارف العصرية في البلاد طولها وعرضها , وعندي أنه يجب أن يكون التعليم باللغة العربية ولغة أخرى أوربية فإذا عاشت العربية مع العلم في تلك البلاد كان لهذه الدولة شأن آخر في إفادة الأمة الإسلامية كلها لا سيما البلاد العربية المجاورة لها والله الموفق للسداد. * * * (استقلال الحكومة باستقلال الأمة) إن الأمم الجاهلة المحكومة بالاستبداد المُذَللة بالظلم والاضطهاد، لا يخطر على بال أفرادها معنى يعبر عنه باستقلال الأمة، ولا يعقلون أن للرعاية أثرًا في سيادة الحكومة إلا بما يؤدون من الإتاوات والضرائب، وما يسخرون به من الأعمال لترقية ساداتهم المستبدين، فإذا عبثت باستقلال حكومتهم حكومة أخرى أجنبية طفقوا يشعرون بمعنى الاستقلال بالتدريج، ويقوى فيهم هذا الشعور بنسيان ظلم حُكَّامهم السابقين لاسيما إذا كان الأجنبي العابث ظالمًا على أن النفرة من سلطة الأجنبي طبيعية في الأمم فإن هو عدل تمنوا لو يستبدلون بسلطته سلطة من جنسهم عادلة ليكونوا مستقلين، ولكنهم بعد هذا كله لا يفهمون من معنى الاستقلال إلا إعادة السلطة للأسرة الحاكمة فيهم بالاستبداد من قبل، ويبلغ فساد التصور من بعض الأفكار أن تتخيل إرشاد الأمة إلى ضرر الاستبداد والمستبدين من عوائق الاستقلال، وهذا من أعجب عجائب عالم الخيال. يا معشر المتخيلين والواهمين , إنكم لن تتنسموا للاستقلال ريحًا، ولن تستنشقوا له عرفًا، إلا بعد الاعتقاد القاطع بأن الاستقلال إنما هو استقلال الأمة وذلك بأن ينفخ فيها روح من التربية والتعليم يشعر جميع طبقاتها بمعنى الأمة وحقوقها، وأول هذه الحقوق أن تختار هي الحاكم الأعلى لها، وأن تقيد حكومته بشريعتها وقوانينها التي ترضاها، وتُلْزِمه بتنفيذها بمشاورتها وتحت مراقبتها وسيطرتها حتى يكون لها الحق بعزل من يشذ عن ذلك، أو إقامته عليه سواء الحاكم الأكبر وغيره. يا معشر المتخيلين والواهمين , إن أمة محرومة من هذه الروح لن تعرف للحياة الاستقلالية معنى، ولن تذوق للسيادة القومية طعمًا، بل تظل طُعْمَة للطامعين وألعوبة في أيدي المتغلبين، فيومًا يستعبدها من يشاركها حقيقة أو صورة في وصف من أوصافها كاللغة أو الجنس أو الدين، ويومًا يستذلها من لا يشاركها إلا في الصورة البشرية، فهي تتراوح دائمًا بين استعباد واستذلال، لأن طبيعتها قاضية بهذه الحال بفقدها تلك الروح التي تبعث بطبيعتها الاستقلال. يا معشر المتخيلين والواهمين , إن حنين الأمة التي عبث الأجانب بسلطان حكومتها إلى حكامها السابقين المستبدين ليس حنينًا إلى الاستقلال، بل إلى الاستبداد، وإن المحافظة على بقايا رسوم السلطة السابقة، لا يكون آلة لمقاومة السلطة الطارئة، وإنما الذي يمنع الأمة من كل جور، ويصد عنها كل ظلم، هو ما يهبها حقيقة الاستقلال في ذاتها، ثم في حكومتها بأن تكون الحكومة مستقلة باستقلال الأمة قوية بقوتها، وقد عرفتم معنى ذلك الاستقلال ومهب روحه من النداء الأول، فاعملوا له إن كنتم عاملين، أو موتوا بضعفكم إن كنتم متواكلين. * * * (اجتماع التلامذة وانتحارهم) للتعليم ثمار مختلفة، منها ما يكون مطلوبًا ومقصودًا من المعلمين، ومنها ما لا يكون مقصودًا لهم، وأعني بالمعلمين هنا مديري نظام التعليم ومؤسسي المدارس، ومعلمو المدارس في هذه البلاد الإفرنج، سواء مدارس الحكومة أو غيرها , ومن مقاصدهم الباطنة فيه زلزال التقاليد القديمة للأمة الذي ينتهي بإضعافها أو زوالها وتحويل وجهة المتعلمين إلى تقليد قوم المعلمين إذ بذلك تكون لهم السيادة الحقيقية عليهم بتحولهم عن مقومات أمتهم الذي يقطع الأمل باستقلالهم، وقد مضت سنة الأولين بأن الضعيف يقلد القوي في الأمور التي تضر غالبًا ولا تنفع. لهذا ترى المتفرنجين من المتعلمين ومقلدي المتعلمين قد أخذوا عن الأوربيين السُّكْر والقمار والفحش والأزياء، والزخرف في الأثاث والماعون بدون مراعاة للاقتصاد الذي تسمح به ثروتهم كما يفعل أولئك. وقد زالت من أكثر هؤلاء المتعلمين حرمة الدين وآدابه , واحتقروا أمتهم حتى صارت حالة الأمة بهم شرًّا من حالها في أُمِّيَّتها قبل انتشار هذا التعليم فيها بسياسة من يستعمر بلادها ويسخرها لسعادة قومه بأساليب مختلفة. ومن ثمار التعليم الذاتية: التأليف بين الأفكار التي تتلقى تعليمًا واحدًا , والجمع بين المتعلمين , والارتقاء أحيانًا إلى التقليد في بعض الأمور النافعة. وكنا نرى من الغرائب أن الوحدة والاجتماع قد ظهرا في تلامذة كل البلاد حتى اليونان وروسيا ولم يظهر لهما أثر في تلامذة مصر , وقد وجد في هؤلاء من سقط في الامتحان فلجأ إلى بخع نفسه تفضيلاً للانتحار على العار، وترجيحًا لمرارة الموت على مرارة الاصطبار، ولم توجد فيهم عاطفة الاتحاد والاجتماع لمقاومة منكر أو لعمل معروف يعود نفعه عليهم خاصة أو على قومهم عامة، حتى كان ما كان في هذه الأيام من اجتماع مئين ممن خابوا في امتحان الشهادة الابتدائية للاحتجاج على نظارة المعارف كما يقولون، ويريدون الإنكار عليها في جعل الامتحان مرة واحدة في السنة، اجتمعوا في حديقة الأزبكية، وخطب فيهم نفر منهم وأجمعوا على أن يطلبوا من النظارة جعل الامتحان مرتين في كل عام حتى لا يضطر من ينجح في كل علم إلا علمًا أو اثنين أن ينتظر سنة كاملة لإعادة امتحانه، وإننا نحمد منهم هذا الاجتماع لذاته بصرف النظر عن موضوعه , ونتمنى من صميم الفؤاد أن نرى دائمًا في تلامذتنا النجباء ع

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى الأسئلة الباريسية أرسل إلينا الكتاب الآتي من باريس صديقنا أحمد بك زكي الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار بمصر فأثبتناه برمته ليطلع القراء على ما يدل عليه من عناية علماء الفرنج بالمباحث الإسلامية الأساسية , وأهمها مسألة الاجتهاد والتقليد التي قلما يخلو جزء من المنار من الخوض فيها، وتنويهًا بفضل صديقنا الذي يصرف إجازته في أوربا مشتغلاً بمباحثة العلماء ومثافنة الفضلاء من حيث يشتغل أكثر المصريين هناك باللهو واللعب والانغماس في الملاذ، وهذا نص الكتاب: باريس في 8 يوليو سنة 1904 سيدي الأستاذ الفاضل أحمد إليك الله الذي وفقك لخدمة دينه الكريم، ورفع مناره بمنارك القويم، وبعد: فقد اجتمعت مع كثير من أفاضل المتشرعين وتباحثنا في النواميس الإلهية والوضعية، وإظهار مزايا كل منهما في الهيئة الاجتماعية، وانساق الحديث إلى ذكر الاجتهاد، وإقفال بابه في الشرع الإسلامي، فأجبت القوم بما في محفوظي وما كان عالقًا بذاكرتي على قدر الإمكان، ثم وعدتهم بتفصيل أوسع وبيان أوفى. ولَمَّا كنتم وقفتم أنفسكم على أمثال هذه المباحث السامية جئت راجيًا من بحر معارفكم أن تكتبوا خلاصة في مناركم الزاهر على الأسئلة الآتي بيانها، وأرجو أن لا تُحِيلوني على ما سبق لكم كتابته في هذا الموضوع في الأعداد القديمة والسنوات الماضية فإنما غرضي هو خلاصة وجيزة جامعة لأترجمها لأولئك الأفاضل ليعرفوا أن في السويداء رجالاً، وأن الشرق لا يزال عامرًا بأرباب العقول الكبار. وهذه خلاصة المسائل: (1) ما هو مدلول الاجتهاد بالتفصيل والتوسع المناسب للمقام؟ (2) ما معنى قولهم: أُقْفِل باب الاجتهاد؟ (3) ما معني هذه العبارة عند العامة وعند أهل التحقيق؟ (4) متي أقفل باب الاجتهاد، وماذا ترتب على هذا الإقفال من المنافع والمضار؟ (5 , 6) ما هو القانون بوجه التدقيق ومن الوجهة العلمية - ونعني بالقانون ذلك النظام الذي يضعه الحاكم في مقابلة الشرع - وما هي خواصه ومميزاته؟ (7) ما هو الفرق بين الشرع والقانون؟ (8) إلى أي حد تمتد سلطة الحاكم في وضع القوانين؟ (9) ما هي الكتب والمباحث (لعله أراد الرسائل فسبق القلم) التي خاض أصحابها في غمار هذا الموضوع (أي الأسئلة الثمانية المتقدمة) ؟ (10) ماهي المدارس الإسلامية التي يجوز مقارنتها بالأزهر ونعني بها تلك التي في غير أرض مصر (وذكر أشهر البلاد والأقطار) . هذه هي خلاصة الأسئلة التي أرجو المبادرة إلى الإجابة عنها مع التحقيق المعهود من علمكم الواسع والإشارة إلى مآخذ الأجوبة، وغاية الأمل الاهتمام بها والإسراع في كتابة الرد، وما ذلك على فضلكم بعزيز، والله يحفظكم لخدمة ملته ودينه والسلام من المخلص. ... ... ... ... ... ... ... ... (أحمد زكي) نشكر لصديقنا حسن ظنه بنا , ونذكر أسئلته ونجيب عنها واحدًا بعد واحد على النسق المتبع عندنا في العدد المسلسل من أول سنتنا هذه فنقول وبالله التوفيق: (س41) ماهو مدلول الاجتهاد ... إلخ (ج) قال في كشاف اصطلاحات الفنون: (الاجتهاد في اللغة استفراغ الوسع في تحصيل أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة.....، وفي اصطلاح الأصوليين: استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظن بحكم شرعي , والمستفرغ وسعه في ذلك التحصيل يسمى مجتهِدًا بكسر الهاء) ثم ذكر بعد بحث في التعريف والقول بتجَزِّي الاجتهاد - أي جواز كونه في بعض الأحكام دون بعض - شرط المجتهد فقال: (للمجتهد شرطان: (الأول) معرفة الباري تعالى , وصفاته، وتصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزاته وسائر ما يتوقف عليه علم الإيمان كل ذلك بأدلة إجمالية، وإن لم يقدر على التحقيق والتحصيل على ما هو دأب المتبحرين في علم الكلام. (والثاني) أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام وأقسامها وطرق إثباتها , ووجود دلالتها , وتفاصيل شرائطها , ومراتبها , وجهات ترجيحها عند تعارضها , والتفصي عن الاعتراضات الواردة عليها، فيحتاج إلى معرفة حال الرواة وطرق الجرح والتعديل وأقسام النصوص المتعلقة بالأحكام وأنواع العلوم الأدبية من اللغة والصرف والنحو وغير ذلك، هذا في حق المجتهد المطلق الذي يجتهد في الشرع. اهـ وتجد مثل هذا التعريف في عامة كتب الأصول، وقد توسع بعضهم في شروط المجتهد وأكثر منها، والبعض اكتفى حتى جعل الشاطبي في الموافقات العمدة فيها فهم العربية متنًا وأسلوبًا ومعرفة مقاصد الشريعة، وأجاز تقليد المجتهد لغيره في الفنون التي هي مبدأ الاجتهاد كأن يقلد المحدثين في كون هذا الحديث صحيحًا، وهذا ضعيفًا من غير أن يعرف هو حال الرواة وطرق الجرح والتعديل، وما قاله الشاطبي أقرب إلى الصواب فإن بعض ما اشترطوه في المجتهد لا ينطبق على بعض المتفق على إمامتهم فقد اشترط بعضهم أن يعرف المجتهد كذا ألفًا من الأحاديث , ولم يعرف عن أبي حنيفة حفظ ذلك القدر ولا ما يقاربه , إذ لم تكن الرواية قد كثرت في عهده لا سيما في العراق وهو لم يسافر لأجلها. وقال صاحب الهداية في فقه الحنفية: (وفي حديث الاجتهاد كلام عرف في أصول الفقه , وحاصله: أن يكون (المجتهد) صاحب حديث , له معرفة بالفقه ليعرف معاني الآثار , أو صاحب فقه له معرفة بالحديث لئلا يشتغل بالقياس في المنصوص عليه. وقيل أن يكون مع ذلك صاحب قريحة يعرف بها عادات الناس لأن من الأحكام ما يبنى عليها) اهـ، وقال صاحب فتح القدير في القيد الأخير: (فهذا القيد لا بد منه في المجتهد فمن أتقن معنى هذه الجملة؛ فهو أهل للاجتهاد فيجب عليه أن يعمل باجتهاده , وهو أن يبذل جهده في طلب الظن بحكم شرعي عن هذه الأدلة، ولا يقلد أحدًا) اهـ واعتماده معرفة أحوال الناس وعاداتهم لا مندوحة عنه، وأنت تعلم أن المجتهدين الأولين لم يكن عندهم علم يسمى الفقه ينظرون فيه قبل الاجتهاد لتحقيق الشرط، على أن النظر في الفقه بعد تدوينه يعين على الاجتهاد بلا شك، وإنما قالوا الظن بالحكم؛ لأن الأحكام القطعية المعلومة من الدين بالضرورة لا اجتهاد فيها؛ لأن طلب معرفتها تحصيل حاصل كتحريم الظلم والخمر وفرضية الصلاة والعدل. وجملة القول أن الاجتهاد عندهم هو النظر في الأدلة الشرعية التي هي: (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) ؛ لمعرفة أحكام الفروع التي لم تثبت بالأدلة القطعية المتواترة، والعمدة في شروطه فهم الكتاب والسنة، ومعرفة مقاصد الشرع والوقوف على أحوال الناس وعاداتهم؛ لأن أحكام الشريعة لا سيما المعاملات منها دائرة على مصالح الناس في معاشهم ومعادهم أي على قاعدة درء المفاسد وجلب المنافع. *** (س 42) ما معنى قولهم: أقفل باب الاجتهاد. (ج) معناه أنه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد، ولا يرجى أن يكون ذلك في المستقبل، وإنما قال هذا القول بعض المقلدين لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس، وزعمهم أن العقول دائمًا في تدلٍ وانحطاط وغلوها في تعظيم السابقين. وقد رأيت أن تلك الشروط ليست بالأمر الذي يعز مثاله , وتعلم أن سنة الله تعالى في الخلق الترقي إلا أن يعرض مانع كما يعرض لنمو الطفل مرض يوقفه أو يرجعه القهقرى , ولذلك كان آخر الأديان أكملها. *** (س43) ما معنى هذه العبارة عند العامة وعند أهل التحقيق؟ (ج) العامة يقلدون آباءهم ورؤساءهم في قولهم: إن أهل السنة ينتمون إلى أربعة مذاهب من شذ عنها فقد شذ عن الإسلام ولا يفهمون أكثر من هذا. وأما المشتغلون بالعلم أو السياسة فالضعفاء المقلدون منهم يفهمون من الكلمة ما فسرناها به في جواب السؤال السابق، ويحتجون على ذلك بأن الناس قد اجتمعت كلمتهم على هذه المذاهب فلو أجيز للعلماء الاجتهاد لجاءونا بمذاهب كثيرة تزيد الأمة تفريقًا , وتذهب بها في طريق الفوضى، والمحققون يعلمون أن منشأ هذا الحجر هو السياسة , فالسلاطين والأمراء المستبدون لا يخافون إلا من المعلم ولا علم إلا بالاجتهاد، فقد نقل الحافظ ابن عبد البر وغيره الإجماع على أن المقلد ليس بعالم، ونقله عنه ابن القيم في (أعلام الموقعين) وهو ظاهر , إذ العالم بالشيء هو من يعرفه بدليله , وإنما يعرف المقلد أن فلانًا قال كذا , فهو ناقل لا عالم، وربما كانت آلة الفونغراف خيرًا منه. *** (س 44) متى أقفل باب الاجتهاد؟ وماذا ترتب على هذا الإقفال من المنافع والمضار؟ (ج) زعموا أنه أقفل بعد القرن الخامس، ولكن كثيرًا من العلماء اجتهدوا بعد ذلك، فلم يكونوا يعملون إلا بما يقوم عندهم من الأدلة، ولا يخلو زمن من هؤلاء كما صرح بذلك علماء الشافعية (انظر الخطيب وغيره) ولولا خوفهم من حكومات الجهل لبينوا للناس مفاسد التقليد الذي حرمه الله، ودعوهم إلى العمل بالدليل كما أمر الله، وقد علمت الحكومة العثمانية منذ عهد قريب بأن بعض علماء الشام يحملون تلامذتهم على ترك التقليد والعمل بالدليل , فشددت عليهم النكير حتى سكتوا عن الجهر بذلك، ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثيرة , وكلها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استقلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كل علم بترك الاجتهاد فصاروا إلى ما نرى. *** (س45و46) ما هو القانون بوجه التدقيق ومن الوجهة العلمية ... إلخ قد فسر السائل الفاضل القانون وليس في كتب أصول الدين ولا فروعه شيء سمي بالقانون، ولكن الأحكام القضائية والسياسية منها ما تناوله علم الفقه، ومنها ما فوض النظر فيه إلى القضاة والأئمة (الأمراء) كالعقوبات التي وراء الحدود التي يطلقون عليها لفظ التعزير، وكطرق النظام للعمال والحكام وقواد الحروب. ولأولي الأمر أن يضعوا لأمثال هذه الأشياء قوانين موافقة لمصالح الأمة , وتعلم مميزات القانون من بيان الفرق بينه وبين الشرع في جواب السؤال الآتي. *** (س47) ما هو الفرق بين الشرع والقانون؟ (ج) الشرع والشريعة في اللغة مورد الشاربة، وفي اصطلاح الفقهاء: ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام الاعتقادية والعملية على يد نبي من الأنبياء عليهم السلام. ويعرف أيضًا بما عرف به الدين وهو قولهم: وضع إلهي يسوق ذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات , وهو ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم. وقد يُخَصُّ الشرع بالأحكام العملية الفرعية، وقد يطلق على القضاء أي حكم القاضي. ذكر ذلك كله في كشاف اصطلاحات الفنون وغيره، فالقانون يختص عندهم بما وراء ذلك فهو يتناول جميع ما يضعه أولو الأمر من الأحكام النظامية والسياسية، وتحديد عقوبات التعزير وغير ذلك مما يحتاج إليه بشرط أن لا يخالف ما ورد في الشرع، والفرق بينه وبين الشرع أن أحكام الشرع لا بد أن تستند إلى أحد الأدلة الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس) ، وأحكام القانون تكون بمحض الرأي، وأن أحكام الشرع يجب العمل بها دائمًا ما لم يعرض مانع يلجئ إلى ارتكاب أخف الضررين، وأحكام القانون يجوز تركها واستبدال غيرها بها لمجرد الاستحسان، مثال ذلك أنه لا يجوز للحكومة أن تزيد في نصيب أحد الوارثين لمصلحة من المصالح، أو سبب من الأسباب، ولكن يجوز أن تزيد في راتب العامل إذا ظهر لها مصلحة في ذلك لأن الأول حكم إلهي لا يتغير، والثاني حكم قانوني مفوض لأولي الأمر. *** (س48) إلى أي حد تمتد سلطة الحاكم في وضع القوانين؟ (ج) إن حدود هذه السلطة منها: سلبية , وهي عدم تعدي حدود الله تعالى فليس للحاكم أن يحل حرامًا أو يحرم حلالاً، أو يزيد في الدين عبادة، أو ينقص منه عبادة، أو

الأولياء والكفاءة في الأزواج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأولياء والكفاءة في الأزواج عن عبد الله بن بُرَيدة عن أبيه قال: (جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء) رواه أحمد والنسائي وابن ماجه وسنده صحيح , وهو يدل على اعتبار الكفاءة في صفات الرجل مع الاتفاق في النسب , ويدل على أن المرأة تتزوج برضاها، وفي هذا أحاديث كثيرة كما أن هناك أحاديث في اشتراط الولي وكونه هو الذي يزوج بإذنها. عن أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم-: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، قالوا: يا رسول الله، وإن كان فيه. قال: (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه) ثلاث مرات، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب , ولم يرو أبو حاتم غيره , وأرسل الحديث أبو داود وأعله ابن القطان بالإرسال وضعف راويه، وقد أخرجه الترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة بلفظ: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) ورواه الليث بن سعد عن أبي عجلان مرفوعًا، وقد خُولف عبد الحميد بن سليمان في رواية الترمذي، وقال البخاري: حديث الليث أشبه، ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظًا، ومعنى الحديث أنه يجب تزويج البنت إذا جاءها الخاطب الذي يُرجى أن يحسن عيشها معه؛ لأن دينه وخلقه مرضي لا يشكى منه، واستدلوا به على اعتبار الكفاءة في الدين والخلق , وخصها بذلك بعض الصحابة والتابعين، وبه قال مالك، ولم يعتبر هؤلاء الكفاءة في النسب، بل قالوا: (المسلمون بعضهم لبعض أَكْفَاء) . عن علي - كرم الله وجهه - أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال له: (ثلاث لا تؤخر: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤًا) رواه الترمذي، وهو حجة على تحريم عضل الأيامى - غير المتزوجات - بلا عذر. عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (العرب أَكْفَاء بعضهم لبعض قبيلة لقبيلة، وحيٌّ لحيٍّ، ورجل لرجل إلا حائك أو حجام) رواه الحاكم وله ألفاظ أخرى لا يصح منها شيء. وإن قال بعضهم: إن الحاكم صححه، وماذا عسى يغني تصحيح الحاكم، وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عنه , فقال: هذا كذب لا أصل له، وقال في موضع آخر: باطل، وقال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ولم يثبت في اعتبار الكفاءة في النسب حديث , وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه: (العرب بعضهم أكفاء بعض، والموالي بعضهم أكفاء بعض) فإسناده ضعيف. نعم وورد في الصحيح ما يدل على فضل العرب، وفضل قريش على العرب وفضل بني هاشم على قريش، ولكن لم يرد ذلك في أمر الكفاءة. عن عائشة وعمر: (لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء) رواه الدارقطني , والحسب المال , ولذلك اعتبر بعض العلماء الكفاءة باليسار والغنى , واستدلوا عليه بما رواه أحمد والنسائي وصححه , وابن حبان والحاكم من حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال) وما رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححاه من حديث سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (الحسب المال والكرم والتقوى) والفقهاء يفسرون الحسب بالمجد الموروث. عن عروة عن عائشة أن بريرة أُعْتِقَتْ وكان زوجها عبدًا فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان حرًّا لم يخيرها. رواه مسلم وأبو داود والترمذي، وهناك روايات أخرى وفيها أنها اختارت الفسخ، وهو حجة على اعتبار الكفاءة بالحرية، بل قال الشافعي: (أصل الكفاءة في النكاح حديث بريرة) . فعلم مما تقدم أن السنة مضت باعتبار الكفاءة بالدين والحرية والأخلاق واليسار، وبهذا أخذ الكثير من العلماء في صدر الإسلام , وزاد أكثر العلماء النسب والصناعة , واستدلوا عليهما بما لا يصح من الأحاديث وبما يصح من القياس، فإنهم قالوا: إن العلة في اعتبار الكفاءة رفع الضرر والعار، وقد كانوا يفاخرون بالأنساب ويرون من العار أن تزوج القرشية باهِلِيًّا، ولا يزالون يَتَعَيَّرون بدناءة الحرفة والصناعة، والعمدة في ذلك العرف , ونذكر على هذا شاهدًا من كتب الحنفية؛ إذ القضاء على مذهبهم في هذا البلاد. جاء في الهداية أن الكفاءة تعتبر بالصنائع، وعزى ذلك إلى الصاحبين، ثم قال ما نصه: (وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان , وعن أبي يوسف أنه لا تعتبر إلا أن تفحش كالحجام والحائك والدباغ. ووجه الاعتبار أن الناس يتفاخرون بشرف الحِرَف، ويتعيرون بدناءتها. ووجه القول الآخر أن الحرفة ليست بلازمة، ويمكن التحول عن الخسيسة إلى النفيسة منها) اهـ. وقال الكمال في الفتح قوله: (وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان) أظهرهما: ألا تعتبر في الصنائع حتي يكون البيطار كفؤًا للعطار. وهو رواية عن محمد. وعنه في أخرى: الموالي بعضهم أُكْفَاء لبعض إلا الحائك والحجام وكذا الدباغ، وهو الرواية التي ذكرها في الكتاب عن أبي يوسف، وأظهر الرواتين عن محمد , فصار عن كل واحد منهما روايتان؛ الظاهر عن أبي حنيفة: عدم الاعتبار، والظاهر عن محمد كذلك إلا أن تفحش , وهو الرواية عن أبي يوسف , وفيما قدمناه من حديثٍ بقية حيث قال فيه: (إلا حائكًا أو حجامًا) ما يفيد اعتبارها في الصنائع، لكن على الوجه الذي ذكره في شرح الطحاوي وهو: أن الصناعات المتقاربة أكفاء كالبزاز والعطار بخلاف المتباعدة , وعد الخياط مع الدباغ والحجام والكناس. قال: فهؤلاء بعضهم أكفاء لبعض ولا يكافئون سائر الحرف، ولم يذكر خلافًا فكان ظاهرًا في أن الظاهر من قول أبي حنيفة اعتبار الكفاءة , وإليه ذهب بعض الشارحين. قال وكذا قال الشيخ أبو نصر بعد أن أثبت اعتبارها، وعن أبي حنيفة: ألا تعتبر ونحوه في النافع وإنما قلنا: لكن على الوجه الذي ذكره في شرح الطحاوي، لأن حقيقة الكفاءة في الصنائع لا تتحقق إلا بكونهما من صناعة واحدة، وفي المحيط وغيره: وههنا خساسة هي أخس من الكل؛ وهو الذي يخدم الظلمة يدعى شاكرباه تابعًا وإن كان ذا مروءة ومال، قيل: هذا اختلاف عصر وزمان؛ في زمن أبي حنيفة لا تعد الدناءة في الحرفة منقصة فلم تعتبر , وفي زمنهما تعد فتعتبر. والحق اعتبار ذلك سواء كان هو المبني أَوْلا. فإن الموجب هو استنقاص أهل العرف فيدور معه , وعلى هذا ينبغي أن يكون الحائك كفؤًا للعطار بالإسكندرية لما هناك من حسن اعتبارها وعدم عَدِّها نقصًا ألبتة اللهم إلا أن يقترن بها خساسة غيرها) اهـ. (المنار) علم مما أوردناه أن الكفاءة ليست من أمور العبادات، وإنما هي من مسائل المعاملات التي يحكم فيها العرف ويستدل عليها بالقياس؛ لأنها تابعة لمصالح الناس ورفع الضرر عنهم , ومدارها على التعيير فكل رجل كفؤ لمن إذا تزوج منهم لا يلحقهم عار بتزويجه بين قومهم، ولذلك قالوا: إن العالم كفؤ لبنت الشريف والحسيب وإن كان نسبه وضيعًا أو مجهولاً؛ لأن العلم أشرف الأشياء فلا عار معه مطلقًا. وإن هذه الكفاءة تختلف باختلاف الزمان والمكان , فرُبَّ رجل يعد كفؤًا لقوم في بلد ولا يعد كفؤًا لأمثالهم في بلد آخر لاختلاف العرف. أما حكم هذه الكفاءة فهو: وجوب تزويج الخاطب مع تحققها واعتبار الولي عاضلاً للمخطوبة إذا امتنع من التزويج , ولها حينئذ أن تزوج نفسها من الكفؤ بدون رضاه عند الحنفية إن كانت رشيدة , وليس له اعتراض ولا طلب الفسخ، وعند غيرهم: ترفع الأمر إلى القاضي فيأذن الولي البعيد بالتزويج؛ إذا كان القريب هو العاضل أو يزوجها هو - في تفصيل معروف في الفقه - وإذا لم يكن الخاطب كفؤًا , وزوَّجها الولي بدون إذنها , أو زوجت نفسها هي بدون إذنه جاز لها على الوجه الأول، وله على الثاني رفع الأمر للقاضي وطلب الفسخ دفعًا لإيذاء التَّعْيِير إلا أن يسكت الولي حتى تلد فإنه يبطل حينئذ حق الفسخ مراعاة لمصلحة الولد. ومسألة الكفاءة الآن من النوازل في مصر، فقد زوجت صفية بنت السيد أحمد عبد الخالق السادات نفسها من الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ووكلت في العقد أجنبيًّا مع وجود أبيها في البلد , فطلب أبوها من القاضي فسخ العقد بدعوى عدم الكفاءة , وخاضت الجرائد في ذلك بأهوائها , وامتدت أعناق قراء المنار إليه يسألونه بيان حكم الشريعة في ذلك لعلمهم بأن الذين زعموا الدفاع عنها من الكتاب جاهلون بها فها هو الحكم، وعليهم تطبيقه على الواقعة فإنهم أهل العرف.

الفتوى لشركة جريشام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الفتوى لشركة جريشام ذكرنا في الجزء الرابع والعشرين من السنة الماضية أن بعض طلاب العلم في تونس أشكل عليه فهم مستند مفتي الديار المصرية في الفتوى لشركة جريشام التي أنشئت للتأمين على الحياة , وبيَّنَّا هناك أن الإشكال جاءه من تطبيق الفتوى على ما يسمع عن الشركة لا على السؤال الذي رفع إلى المفتي. وقد كتب ذلك الطالب وجه إشكاله في جريدة (الزهرة) التي ظهرت في تونس ثم ذوت وسقطت فكتب إلينا أحد علماء تونس ما يأتي ردًّا عليه: إفهام وتقويم قرأت في العدد السابع من جريدة (الزهرة) كلامًا مسهبًا رام به صاحبه أن يساهم في الانْتِضال لمسألة فتوى القراض (التي سموها فتوى التأمين) ,عرضه على أفكار أولي البصيرة وبعد أن طوينا ذيله وقطعنا نيله، رأينا أن صاحبه وإن نادى باسم النقد والاستبصار في مواضع كان بعيدًا منهما في الوصول إلى كُنْه ما قصدناه من مراجعة وطنيِّنا الفاضل في رده الأول على كلام محتاج إلى غمز قناته، وإيقاظ ذهن صاحبه من سباته. زاد: فما فهم استحسان تصدير الفتوى بلو حتى وَهِمَ أنَّا نوهنا بذلك لما فيها من الشرط , وكأني به بعد حائرًا في وجه هذا التنويه لولا أنه بين الشك واليقين في بركة تأثير الشرط في نحو هذا المقام! ولم يعلم أنَّا إنما ألفتنا الأنظار النقادة إلى ما في (لو) من الامتناع المقتضي غرابة الصورة وامتناع وقوعها. مدار بحثه في هاته الفتوى على محور واحد وهو انتقاد إجمال المفتي والملام عليه؛ إذ لم يفض في شرح المراد من الشركة مبينًا في خلال ذلك ما تبطنه في ضميرها، ولم تذكره في سؤالها ناسيًا قولهم: (جواب المفتي على قدر سؤال السائل) وما كرهه العلماء من إذالة العلم والفضول فيه، وقد نُقِل عن كثير من الأئمة أنهم كانوا يكرهون الزيادة على قدر الاستفتاء ويرونه من فضول المفتي. فاذا كان ذلك مطلوبًا فهو من باب الاحتياط , وربما لا يحتاج إليه في الأمور الظاهرة الواضحة الجارية على المتعارف والمحمولة على الصحة؛ لأن العالم لم يُؤْمَر بالتنقيب على القلوب، بل نُهِيَ عنه بنص الحديث الصحيح. ومع هذا فإن المفتي ما ترك الاحتياط اللازم فيما أعاده من الألفاظ في جوابه شرحًا للمراد حيث لم تكن عبارة السؤال من الإفصاح عن المقصود بالمكان البين لو وجد آذانًا سامعة أو عيونًا ناظرة إلى السؤال والجواب. لو سألته الشركة عن صحة قواعدها - من حيث حكم الشرع الإسلامي - لرأينا ماذا يجيب به المفتي بعد أن يستطلعها أحوال رسومها، ولكنها سألته عن صورة عقد بين رجل وجماعة كهاته الشركة , وجعلت نفسها مثالاً يجمعها بالممثل وصف الجماعة لينظر في صحتها من جانب الحكم الشرعي , وليس سؤالها عن فرع فقهي لتنظر ماذا عسى أن يطلبه الناس منها يومًا ما فتغير خطتها لأجله، ولا كانت هي محل السؤال ابتداءً بل كانت في موضع المثال. والسؤال عن هذا الحكم الشرعي إن وقع وهو حكم يرجع إلى ضرب من التجارة ربما تقصده هاته الشركة. نعم، ربما يكون محقًّا إذا وَجَّهَ الملام على الشركة كيف تسأل عن خلاف مرامها , وذلك عذل يتجه على ديانة السائل أو فصاحة عبارته في سؤاله! ! ومن الواجب أن يتذكر كاتبنا شيئًا لطيفًا ما غفل عنه الباحث الأول , وهو أن المفتي حنفي المذهب , وأنه يجب تخريج كلامه على نصوص مذهبه مادام كلامه غير محتاج ولا قاض بصرفه إلى اختيار بعض المذاهب على بعض في خطة النظر , ولا ينبغي التساهل والمسارعة إلى فساد صحيح من كلام الناس. واذ قد أتينا على ما يُفْهِمه خطة البحث في هذا الموضوع ويبعثه على تحقيق النظر قبل المجازفة؛ فنلمم بأطلال شروطه التي ذكرها مما لا يدخل في المؤاخذة بذنب الإجمال قال: (أول الشروط أن يكون المال نقدًا ... ) - إلى قوله - (سيما وأن أوراق الماليات معتبرة في المعاملات اعتبار الذهب والفضة) هذا موضع الزيادة على الإجمال لأنه رجع به إلى الغالب. وجوابه عن هذا أن كون رأس المال دَيْنًا على غير أحد المتعاقدين جائز ماض عند الحنفية , وما منعه مالك إلا للتهمة في القصد. لا لفساد أصل العقد، وإذا نظرنا إلى مذهب محمد بن الحسن من جواز القراض بالفلوس الرائجة , وعدم اشتراط خصوص الذهب والفضة , فكل ما راج رواج المال والنقدين فهو مثلها , وهذا هو التحقيق؛ لأن مناط اشتراط النقدين قصد قطع جرثومة الغرور، وضرر العامل في عمله أن يقدم على شيء يظنه يساوي مقدارًا فاذا هو قاصر عما قدر، وكل رائج معلوم القدر لا توجد فيه هاته العلة فهو كالذهب والفضة، ألا ترى أنهم ما اكتفوا بالذهب والفضة نضارًا حتى اشترطوا أن يكونا مسكوكين. وهذا هو عين الجواب عن الشرط الثاني إذ كان عين الأول لولا اختلاف العبارة. قال: (رابعها أن لا يشترط على العامل الضمان ... إلخ) بناء هذا البحث مؤسس على شفا الاشتباه في قضية الإجمال , ووهم أن الجواب وقع عن كراسة شروط الشركة لا عن سؤال مسطور , وربما كان كلامه يحول الاعتراف بأن ذكر هذا البحث لتكثير سوداه , وتعزيز فئته وأجناده. قال: (خامسها عدم تأجيل مدة القراض، ونص السؤال مقتضٍ للتأجيل) القراض في مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - من العقود التي لا يفسدها التوقيت، والغاية إنما محور الشرط فيها على مظنة حصول القصد مما سبق له العقد وهو معدود في ضمن ستة وعشرين عقدة لا يفسدها أي شرط فاسد. قال: (سادسها تعيين الجزء ... إلخ) وهذا ملحق بإخوته المسوقة للتعزيز، فلا يشتبه أمره على ذوي التمييز. ثم إن المذهب أن دخول المتقارضين في عقدة القراض على المساكتة في تعيين الربح لا يفسد القراض بل يكون الربح فيه على السواء في قول أبي يوسف رحمه الله , وبه الفتوى. أما لو ذكرا ما يدل على التسوية في الربح فلا خلاف بين أبي يوسف ومحمد في جوازه. نحو أن يقولا: على أن ما نتج من الربح بيننا. قال: (ثم مقتضى السؤال (إذا قام بما ذكر وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط) أنه إن لم يوف بدفع تلك الأقساط لا حق له.... إلخ) . وههنا الخطأ العظيم في الانتقال، والغفلة عن الحقيقة في الاستدلال؛ فأما الأول فليس الكلام بقاضٍ أنه لا حق له في المقارضة , ولا حق له إن لم يوف , إنما قضى أنه إن لم يوف لا حق له في المقارضة ولا في الربح. والشروط في المضاربة، إن كانت مما يخل بجانب رب المال جازت لا سيما إن كان ذلك من شرطه هو لا من شرط المضارب عليه , وذلك صريح صورة السؤال لأنه جاء قبل الكلام الذي ساقه كاتبنا كلمة حذفها حذفًا لم يصادف به كنه الفهم وهي: (واشترط معهم) ، ومن الفروع التي يذكرها الحنفية في هذا الموضع: لو شرط المضارب على رب المال أن يدفع له داره يسكنها أو أرضه يزرعها؛ لم تفسد المضاربة. أما لو شرط رب المال ذلك على المضارب لفسدت للجهالة في جانب رب المال. ويذكر المالكية فرعًا في كتبهم أنه يجوز القراض على أن جميع الربح للعامل. وضمان المال إن تلف من ربه إذا سمياه قراضًا، وقال سحنون: (هو سلف وضمانه من العامل) . وفي هذا ما يعلمنا الفرق بين هذا وبين القمار بأن هذا شيء من جانب رب المال , وهو محمول على الموجدة والمقدرة فلا يظن به اهتضام، ولا أن يؤكل ماله بالباطل أو يضام، خلافًا لحال العامل المظنون به العجز والافتقار، ولأن رب المال ينزل في نحو هاته الشروط منزلة المتبرع أنه لو شاء لأعطى وما أخذ. قال: (إن مشاركة المسلم لهاته الجمعية ممنوعة، وذلك لأنها لا تتحاشى في تجرها ومعاملتها الربا.... والنصوص متظاهرة على منع شركة من لا يتحفظ من تعاطي ما ذكر إلخ) قد علمت أن اسم الشركة ما وقع إلا مثالاً , ولو فرضنا صحته فذلك شيء ينظر فيه الرجل إلى حالة التجارة التي سموها في السؤال , وليس المفتي بصدد تبيان كل ما يجب على المرء في صورة الاستفتاء , وإلا لَشَرَع يبين لهم شروط البيوع كلها , وذلك لا يخص الشركة، بل كل من يظن به الجهالة باستقراء أحكام البيوع، ومن ذا الذي يرقبها اليوم من تجار المسلمين. على أن نسيان المفتي أن ينبه على هذا غير بعيد حيث لم يكن مما يرجع إلى شرط من شروط الباب التي يجب استحضارها عند الإفتاء , ولذلك يذكرها كاتبنا بعد تعداد الشروط! وتوكيل الذمي في المعاملات غير ممنوع، ولو نص له على معاملة يحرم على الوكيل فعلها , وقد نص الحنفية رحمهم الله على صحة توكيل المسلم ذميًّا على بيع خمر أو خنزير , ولو باشر ذلك بنفسه؛ لمنع باتفاق الناس، وقديمًا ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوكلون المشتركين حتى المحاربين. في صحيح البخاري (باب إذا وكل مسلم حربيًّا في دار الحرب أو دار الإسلام جاز) أخرج فيه توكيل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أمية بن خلف وما فيه من القصة. وها هي تلك النوبة قد أفضت إلى كاتبنا ليعيد علينا من تبيانه ثانيًا فإن دعته إلى ذلك الدواعي؛ فإن آذاننا مصغية إلى ما يقول. ... ... ... ... ... ... ... ... (ذلك التونسي)

المسائل الزنجبارية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسائل الزنجبارية جاءنا من أحد فضلاء القراء في زنجبار ما يأتي ويعقبه الجواب عنه قال: (إن لمناركم الإسلامي من المنة على المسلمين ما ظهر أثرها من تنبه الأفكار وتبادل الآراء فيما بينهم. لا يصل أحد أجزاء المنار حتى يسير ما فيه سير الأمثال، وتتحدث به الأندية , وإنهم لينظرون إلى ما يأتيهم من درره بفراغ الصبر غير أنه لما نشرتم في أعداد المنار - الجزء الثاني 16 المحرم الحرام صحيفة 57 (علم الغيب للأنبياء) الجزء الرابع 16 صفر صحيفة 144 (القرآن لقضاء الحوائج) وصحيفة 145 (المهدي المنتظر) - أنكر ما حررتموه كثير , وتوقف قراء المنار عن اتباعهم حتى أورد عليهم المنكرون أدلة تناقض ما حررتموه فالتمسوا أن أكتب إليكم في ذلك لتشرحوا الأدلة بنوع بسط، أما أدلة المنكرين فقد اعترضوا جواب: (س: القرآن لقضاء الحوائج بما رواه البخاري وغيره في حديث الرقية بالفاتحة وبغير ذلك مما ورد , واعترضوا كلامكم في المَهدي المنتظر بما أورده مفتي الشافعية بمكة السيد أحمد زيني دحلان بآخر كتابه (الفتوحات الإسلامية) حيث حكى أن الأحاديث الواردة في المهدي منها صحيح وحسن وضعيف وهو الأكثر , إلى أن قطع بعد ذلك بوجود المهدي وأنه قطعي، أما ابن خلدون فلا يعتبرونه , ووسموه بأنه مؤرخ لا مُحَدِّث , والمعتبر في مثل هذا أقوال المحدثين. وأما مسألة علم الغيب للأنبياء؛ فقد أوردوا على ما حررتموه ما قرره الصاوي في حاشيتة على الجلالين في تفسيره على آية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} (الأعراف: 187) الآية , وما بعدها {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْب} (الأعراف: 188) وإليكم ما ذكره الصاوي بنصه: (قوله تأكيد) أي لما قبله لبيان أنها (الساعة) من الأمر المكتوم الذي استأثر الله بعلمه فلم يطلع عليه أحد إلا من ارتضاه من الرسل، والذي يجب الإيمان به أن رسول الله لم ينتقل من الدنيا حتى أعلمه الله بجميع المغيبات الذي تحصل في الدنيا والآخرة فهو يعلمها كما هي عين اليقين لما ورد: (رفعت لي الدنيا فأنا أنظر فيها كما أنظر إلى كفي هنا) وورد أنه اطلع على الجنة وما فيها، والنار وما فيها وغير ذلك مما تواترت به الأخبار، ولكن أُمِرَ بكتمان البعض قوله: {لِنَفْسِي} (الأعراف: 188) معمول {لاَّ أَمْلِكُ} (الأعراف: 188) ، قوله: {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّه} (الأعراف: 188) أي تمليكه لي فأنا أملكه. قوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ} (الأعراف: 188) إلخ فإن قلت: إن هذا يشكل على ما تقدم أنه اطلع على مغيبات الدنيا والآخرة، والجواب: إنه قال ذلك تواضعًا , أو أن علمه بالغيب كلا علم من حيث إنه لا قدرة له على تغيير ما قدر الله وقوعه فيكون المعنى حينئذ: لو كان لي علم حقيقي بأن أقدر على ما أريد وقوعه لاستكثرت ... إلخ. إن قلت: إن دعاءه مستجاب لا يرد، أجيب بأنه لا يشاء إلا ما يشاء الله، فلو اطلع على أن الشيء مثلاً لا يكون كذا لا يوفق للدعاء له إذ لا يشفع ولا يدعو إلا بما فيه إذن من الله واطلاع منه على أنه يحصل ما دعا به وهو سر قوله تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وفي ذلك المعنى قال العارف: وخصك بالهدى في كل أمر ... فلست تشاء إلا ما يشاء وللخواص من أمته حظ من هذا المقام , ولذا قال العارف أبو الحسن الشاذلي: (إذا أراد الله أمرًا أمسك ألسنة أوليائه عن الدعاء سترًا عليهم لئلا يدعوا فلا يستجاب لهم فيفتضحوا) اهـ كلامه فالمرجو أن تبينوا ما هو الحق في المسائل الثلاث , فقد أخذت محلاًّ من الأفكار ولكم الأجر والثواب. * * * الرقى وقضاء الحوائج والاستشفاء بالقرآن ثبت في الأحاديث أن الله تعالى خلق لكل داء دواء عرفه من عرفه، وجهله من جهله، ومازال الناس ينتفعون بما علموا منها ويبحثون عما جهلوا فيزدادون علمًا، كذلك قد جعل الله تعالى لكل شيء سببًا يتوصل إليه به. وإنما يصح كون هذا سببًا لهذا إذا كان بينهما اتصال بالتأثير والتأثر مثلاً بحيث ينتفي وجود الثاني لانتفاء الأول , ويوجد بوجوده إذا انتفت الموانع. ولم يثبت بالتجارب الصحيحة المطردة أن تلاوة القرآن الكريم أو كتابته في الصحف تحمل أو الصحاف يؤكل منها ويشرب سبب للشفاء من الأمراض وقضاء الحوائج، ولو ثبت لاستغنى به الناس عامة أو المسلمون خاصة عن الطب والأطباء، وعن اتخاذ الأسباب والوسائل المعروفة لسائر الحاجات والمصالح. فهذا دليل عقلي في الموضوع , وقد قرر العلماء أن النصوص الشرعية إذا خالفت الأدلة العقلية ترد إليها بالتأويل إذ لا يمكن إبطال حكم العقل لأنه أصل الإيمان، ولا يصح بدونه برهان. ودليل ثان على ذلك وهو أنه لو أنزل القرآن لأجل المنافع الحسية الجسدية كما نزل لأجل الهداية لذكر فيه ذلك، وعُدَّ من المعجزات لأنه يكون خارقًا للعادة ولتحدى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بذلك، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن , ولم يذكر العلماء في وجوه إعجاز القرآن ما ذكر , ولم يعلم أن الصحابة أو الأئمة احتجوا على منكر بذلك. أما إجازة النبي - صلى الله تعالى وآله وسلم - الرقية فإنني أشرحه لك بما لا ينافي ما تقدم بالدليل، فأقول: إن الرقى والعوذ كانت من أعمال الجاهلية، وقد نهى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - عنها , وحدثت وقائع رقى فيها بعض الصحابة فأفاد فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في العين، وفي ذي الحَمَّة أي لدغ ذي الحمة كالعقرب والزنبور , وفي الصحيحين: (لا رقية إلا من عين أو حمة) , وفي رواية أخرى لأبي داود زيادة: (أو دم لا يَرْقَأ) وفي أخرى عنده وعند أحمد: (لا رقية إلا في نفس أو حمة أو لدغة) فضيق عليهم دائرة الرقى، لم يأذن لهم بغيرها من العوذ والتناجيس التي كانوا يعلقونها على الأطفال وغيرهم للوقاية من الأمراض والجن , ولا كتابة القرآن وغيره لذلك , وأرشدهم مع هذا كله إلى أن الرقى والاسترقاء ينافي التوكل الذي هو كمال التوحيد والإيمان، ولا ينافيه التداوي وغيره من الأسباب الصحيحة؛ لأن الانتفاع بالرقى أمر موهوم كما قال حجة الإسلام وغيره. روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما سئل عن صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب من حديث طويل: (هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون) : رواه غيرهما. وروى أحمد والترمذي وحسنه والنسائي في السنن الكبرى وابن ماجه والطبراني والحاكم والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من استرقى أو اكتوى فقد برئ من التوكل) وفي لفظ: (ما توكل من استرقى أو اكتوى) : قال الإمام الغزالي في كتاب التوكل من إحياء علوم الدين ما نصه: (اعلم أن الضرر قد يعرض للخوف في نفس أو مال , وليس من شروط التوكل ترك الأسباب الدافعة رأسًا , أما في النفس فكالنوم في الأرض المسبعة أو في مجاري السيل من الوادي , أو تحت الجدار المائل والسقف المنكسر؛ فكل ذلك منهي عنه، وصاحبه قد عرض نفسه للهلاك بغير فائدة. نعم تنقسم هذه الأسباب إلى مقطوع بها ومظنونة , وإلى موهومة. فترك الموهوم منها شرط التوكل وهي التي نسبتها إلى دفع الضرر نسبة الكي والرقية، فإن الكي والرقية قد يقدم بهما على المحذور دفعًا لما يتوقع , وقد يستعمل بعد نزول المحذور للإزالة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصف المتوكلين إلا بترك الكي والرقية والطيرة، ولم يصفهم بأنهم إذا خرجوا إلى موضع بارد لم يلبسوا جبة، والجبة تلبس دفعًا للبرد المتوقع، وكذلك كل ما في معناها من الأسباب) اهـ. فالقارئ يرى أن حجة الإسلام جعل علة منافاة الرقية للتوكل كونها من الأمور الوهمية التي لم ترتق إلى أن تكون سببًا للنفع ظنيًّا، ولكن الدجالين الذين اتخذوا الرقى والتمائم والتعاويذ والتناجيس حرفة يأكلون بها أموال الناس بالباطل يوهمونهم أن حرفتهم مبنية على تعظيم القرآن وقوة الإيمان , ويجعلون الحبة قبة. وإنما كان الأخذ بالأمور الوهمية منافيًا للتوكل لأن التوكل هو كمال التوحيد والثقة بالله تعالى، والمؤمن الكامل يجب أن يكون بعيدًا عن الأوهام لاستنارة عقله وقوة يقينه، فهو لا يأخذ إلا بالأسباب الصحيحة التي قضت حكمة الخالق ربط المسببات بها، وينبذ الأوهام وراء ظهره فلا يكون لها عليه سلطان، وأما سبب إجازة النبي صلى الله عليه وسلم الرقية من العين ولدغ نحو العقرب؛ فلعله الرحمة بالضعفاء الذين جرت العادة بأن يتأثروا أحيانًا بالأمور الوهمية وينتفعوا بها، وقد شرحنا ذلك في المقالتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من مقالات (الكرامات والخوارق) فلتراجع هناك. وأذكر هنا شاهدًا: وهو أنني أعرف عالمًا من أجلّ العلماء المتقين الذين يحاربون الأوهام أصيبت عنده امرأة بمرض عصبي تعاصى علاجه على الأطباء وكان منشؤه الوسواس - وهو وَهْم - فلم ير بُدًّا من الرضى بالتماس راق يرقيها لاعتقادها بذلك. وهذا التعليل يظهر تمام الظهور في الرقية من العين؛ فإن كثيرًا من العلل التي ينسبها الناس إلى تأثير العين وهمية , وما عساه يصح من تأثير العائن , فالمعقول أن يكون تأثير نفس في نفس، ولذلك عبر عن العين في حديث أحمد وأبي داود الماضي بالنفس , وذلك أن بعض النفوس تؤثر بانفعالها في نفس أخرى تتوجه إليها وتنظرها لاستعداد فيها لسرعة التأثر، وهذا من قبيل تأثير حال الحزين في نفس من يراه ولكنه أقوى منه. فلا غرو أن يزيله التأثر من الرقية , وما هي إلا تلاوة شيء يعتقده المرقيُّ ويتوهم نفعه , والأوهام انفعالات في النفس يغلب أقواها أضعفها، واللدغ له تأثير حقيقي في الجسم ولكنه ضعيف في الغالب يبرأ أحيانًا بدون سبب , وكانت العرب في الجاهلية تطب اللدغ بالرقية فاعتقادهم يغلب أحيانًا على ألم اللدغة فيسرع شفاؤها، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك , ثم علم أن بعض الناس ينتفعون به بحكم الوراثة وتأثير الوهم فأجازه , فقد روى أحمد وعبد بن حميد ومسلم وغيرهم من حديث جابر أن رجلاً قال: يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى. أنا أرقي العقرب، فقال صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه) فهي رخصة لمن علم من حاله أن للوهم سلطانًا عليه إذا احتيج إلى استعمال ذلك لنفعه , فضيق دائرة تلك الأوهام، وجعل المأذون به على قلته منافيًا للتوكل وكمال اليقين , واشترط في الرقية أن لا تكون فيها شرك كما في حديث عوف بن مالك عند مسلم وأبي داود. ومعنى ذلك أن لا يكون فيها استعانة بغير الله أو ما يوهم أن غير الله ينفع أو يضر. ومن الغرائب أن النبي صلى الله عليه وسلم لدغ مرة فغشي عليه فرقاه ناس فلما أفاق قال: (إن الله شفاني وليس برقيتكم) رواه البخاري في التاريخ وابن سعد والبغوي والبارودي وابن السكن وابن قانع وسمويه والطبراني والدارقطني في الأفراد عن جبلة بن الأزرق. وهو دليل على أن الرقية لا تأثير لها، وأن نفوس المتقين لا تؤثر فيها الأوهام. وما ورد من الرقى المأثورة فأدعية وثناء على الله تعالى. هذا صفوة ما يقال في تحرير المقام فأين منه ما عليه الدجالون من كتابة الآيات لغير ما أنزلت له واتخاذها تمائم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من علق تميمة فقد أشرك) رواه أحمد والحاكم عن عقبة بن عامر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتَّوَلَة

تأثير الجرائد وحالها في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأثير الجرائد وحالها في مصر لا نعرف في هذا العصر شيئا يؤثر في النفوس تأثير الجرائد فهي التي تقيم الأحزاب في بلاد المدنية وتقعدها وتقنعها بما تشاء من الأمور العامة والخاصة. لذلك يستعين بها الملوك والوزراء ورؤساء الأحزاب على الأعمال العامة كما يستعين بها الأفراد على مقاصدهم الخاصة كترويج السلع بإعلان منافعها فيها , وللجرائد في مصر من التأثير نحو ما لها في غيرها , ولكنها قاصرة في مصر كما أن الأمة قاصرة , فهي تشغل الجمهور في الغالب بما يضر ولا ينفع , وتشغل الناس بأهواء الناس وتعلق آمالهم بالأوهام، وترى الناس على كثرة ذمهم لها منقادين بزمامها , فما تكبره؛ يستكبرونه وإن كان صغيرًا، وما تصغره؛ يستصغرونه وإن كان كبيرًا. وما تهمل البحث فيه يهملونه كأن لم يكن شيئًا مذكورًا. تجد ما تتفق عليه الجرائد يتفق عليه الأكثرون , وما تختلف فيه فهم فيه مختلفون، كلٌّ يؤيد ناطقًا ويتبع ناعقًا، فلو أن لهذه الجرائد مذاهب نافعة، ومقاصد عالية ثابتة، لبلغت بها من ترقية الأمة ما شاءت. ولكنها في الأكثر قد أضرت الأمة بتجريء الصغير على الكبير , وتضيع زمن الجمهور بالاشتغال بسفساف الأمور , وصرف الوجوه عن تربية الأمة على الاستقلال، وتعليلها بكواذب الأماني الآمال، ولا غرض لها من ذلك إلا الجاه والمال. يكتب صاحب الجريدة بحسب هواه , ويضحك من الناس غاشًّا إياهم بأنه يخدمهم، ولا عجب إذا راجت على الغافلين دعواهم أن إطراء الأمراء والحاكمين من الخدمة الوطنية , ولكن العجب العجاب رواج دعواهم خدمة الدين الذي هم به جاهلون، وعن صراطه ناكبون، وقد ملأ الآفاق في هذه الأيام صياح بعض الجرائد التي تسمي نفسها إسلامية في الشكوى من زميلهم ومحسودهم صاحب المؤيد والنيل من عرضه , والطعن بنسبه , والتحريض على ترك جريدته انتصارًا للدين بزعمهم؛ لأنه عقد على بنت عقدًا شرعيًّا قابلاً للفسخ بطلب الولي على إثبات عدم كفاءته , وزعموا أنهم يريدون بذلك خدمة الدين والدفاع عنه، على أن إذا قُدِّرَ الأمر مرفوعًا إلى المحكمة الشرعية فهلا انتظروا ما تحكم به , فإن أجازت العقد وحكمت بالكفاءة , وإلا أطلقوا ألسنة أقلامهم على صاحب المؤيد لإنشائه عقدًا يحتمل الفسخ غرورًا أو جهلاً بعاقبته، أو اكتفوا بذم العمل من الوجهة الاجتماعية، وجعلوه كعادتهم قادحًا في الوطنية، وتركوا الكلام في الدين للعاملين به من العالمين. إذا كانوا يغارون على الدين كما زعموا، فلماذا لا يتعلمون عقائده وأحكامه فقد جاء في جريدة اللواء أنه لم ينفذ حكم المحكمة بالحيلولة بين صاحب المؤيد وزوجته تكون إرادة الله تعالى معطلة! ! ولو جاز أن تكون الإرادة معطلة؛ لجاز أن تكون القدرة كذلك لأن القدرة تتعلق بما تتعلق به الإرادة قطعًا، ولكن جريدة اللواء تجعل الإرادة الإلهية بمعنى الإرادة السلطانية يجوز أن تنفذ , ويجوز أن لا تنفذ، فهلا تعلم أصحابها عقيدتهم وغاروا عليها. وإذا كانوا يغارون علي أحكام الدين كما يزعمون فلماذا يمدحون ويطرون الأعمال المجمع على تحريمها وكفر مستحلها كالمرقص الذي يكون في قصر الأمير بين النساء والرجال مع الدعوة إلى شرب الخمر جهارًا، وإذا كانوا يغارون على كرامة البنات أن يفعلن ما لا يليق بشرفهن من التزوج بدون إذن آبائهن كما يزعمون، فلماذا قام زعيمهم صاحب جريدة اللواء يندد بعمل محافظ مصر السابق عندما أراد التشديد على النساء المتهتكات في الشوارع والأسواق؟ ! وتبعه في ذلك كثير من الجرائد حتى اضطروا الحكومة إلى منع المحافظة من ذلك , وعاد النساء إلى تبرجهن المحرم بعدما كدن يقلعن عنه؟ فآية الصدق في المدافعة على الدين أن يكون المدافع عالمًا عاملاً بالدين لا يحابي فيه كبيرًا ولا صغيرًا , ولا سلطانًا ولا أميرًا، وهؤلاء لا يتعلمون ولا يعملون، ولكنهم يحلون بأهوائهم ويحرمون، ويرتكبون سبعين منكرًا بدعوى إزالة منكر واحد ولا يبالون. فاعتبروا بمرشديكم أيها المسلمون.

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع لما في الجزء السابع (الوجه التاسع والستون) قولكم: إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام المتبوع مع التابع فالركب خلف الدليل؛ جوابه: إنَّا والله حولها ندندن، ولكن الشأن في الإمام والدليل والمتبوع الذي فرض الله على الخلائق أن تَأْتَمَّ به وتتبعه , وتسير خلفه، وأقسم الله سبحانه بعزته أن العباد لو أتوه من كل طريق واستفتحوا من كل باب لم يفتح لهم حتى يدخلوا خلفه. فهذا لعمر الله هو إمام الخلق ودليلهم وقائدهم حقًّا , ولم يجعل الله منصب الإمام بعده، إلا لمن دعا إليه ودل عليه وأمر الناس أن يقتدوا به ويأتموا به ويسيروا خلفه , وأن لا ينصبوا لنفوسهم متبوعًا ولا إمامًا ولا دليلاً غيره , بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة الصلاة مع المصلين كل واحد يصلي طاعة لله وامتثالاً لأمره وهم في الجماعة متعاونون متساعدون، وبمنزلة الوفد مع الدليل كل واحد يحج طاعة لله وامتثالاً لأمره , لا أن المأموم يصلي لأجل كون الإمام يصلي، بل هو يصلي؛ صلى إمامه أو لا. بخلاف المقلد فإنه إنما ذهب لقول متبوعه لأنه قاله لا لأن الرسول قاله، ولو كان كذلك؛ لدار مع الرسول أين كان ولم يكن مقلدًا. فاحتجاجهم بإمام الصلاة ودليل الحاج من أظهر الحجج عليهم، يوضحه. (الوجه السبعون) إن المأموم قد علم أن هذه الصلاة هي التي فرضها الله على عباده، وأنه وإمامه في وجوبها سواء، وأن هذا البيت هو الذي فرض الله حجه على كل من استطاع إليه سبيلاً، وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء فهو لم يحج تقليدًا للدليل, ولم يصل تقليدًا للإمام، وقد استأجر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دليلاً يدله على طريق المدينة لما هاجر الهجرة التي فرضها الله عليه , وصلى خلف عبد الرحمن بن عوف مأمومًا. والعالم يصلي خلف مثله ومن هو دونه , بل خلف من ليس بعالم , وليس ذلك من تقليده في شيء، يوضحه. (الوجه الحادي والسبعون) إن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء، والركب يأتون بمثل مايأتي به الدليل , ولو لم يفعلا ذلك لما كان هذا مُتَّبِعًا فالمتبع للأئمة هو الذي يأتي بمثل ما أتوا به سواء من معرفة الدليل وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت ومع من كانت فهذا يكون متبعًا لهم، وأما مع إعراضه عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم، ويسلك غير سبيلهم ثم يدعي أنه مؤتم بهم فتلك أمانيُّهم ويقال لهم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) . (الوجه الثاني والسبعون) قولكم: إن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فتحوا البلاد وكان الناس حديثي عهد بالإسلام , وكانوا يفتونهم ولم يقولوا لأحد منهم: (عليك أن تطلب الحق في معرفة هذه الفتوى بالدليل) ؛ جوابه: إنهم لم يفتوهم بآرائهم وإنما بلغوهم ما قاله نبيهم وأمر به فكان ما أفتوهم به هو الحكم وهو الحجة، وقالوا لهم: هذا عهد نبينا إلينا , وهو عهدنا إليكم فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحكم فإن كلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الحكم وهو دليل الحكم وكذلك القرآن، وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ما قاله نبيهم وفعله وأمر به , وإنما تبلغهم الصحابة ذلك فأين هذا من زمان إنما يحرص الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر , وكلما تأخر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرًا لكلامهم، وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بَعُد العهد ازداد كلام المتقدم هجرًا ورغبة عنه حتى إن كتبه لا تكاد تجد عندهم منها شيئًا بحسب تقدم زمانه [1] ، ولكن أين قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للتابعين: لينصب كل منكم لنفسه رجلاً يختاره ويقلده دينه، ولا يلتفت إلى غيره، ولا يتلقى الأحكام من الكتاب والسنة، بل من تقليد الرجال فإذا جاءكم عن الله ورسوله شيء وعن من نصبتموه إمامًا تقلدونه (قول يخالفه) فخذوا بقوله ودعوا ما بلغكم عن الله ورسوله؟ فوالله لو كشف الغطاء وحقت الحقائق لرأيتم نفوسكم وطريقكم مع الصحابة كما قال الأول: نزلوا بمكة في قبائل هاشم ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل وكما قال الثاني: سارت مُشَرِّقًة وسرت مُغَرِّبًا ... شتان بين مُشَرِّق ومُغَِّرب وكما قال الثالث: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني (الوجه الثالث والسبعون) قولكم: إن التقليد من لوازم الشرع والقدر , والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد , كما تقدم بيانه من الأحكام، جوابه: إن التقليد المنكر المذموم ليس من لوازم الشرع وإن كان من لوازم القدر , بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع كما عرف بهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها، وإنما الذي من لوازم الشرع المتابعة. وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع ليست تقليدًا، وإنما هي متابعة وامتثال فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدًا فالتقليد بهذا الاعتبار حق وهو من الشرع , ولا يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع ولا من لوازمه، وإنما بطلانه من لوازمه، يوضحه. (الوجه الرابع والسبعون) إن ما كان من لوازم الشرع فبطلان ضده من لوازم الشرع , فلو كان التقليد من لوازم الشرع لكان بطلان الاستدلال واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم الشرع , فإن ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر وصحة أحد الضدين توجب بطلان الآخر. ونحرره دليلاً، فنقول: لو كان التقليد من الدين لم يجز العدول عنه إلى الاجتهاد والاستدلال؛ لأنه يتضمن بطلانه. فإن قيل: كلاهما من الدين وأحدهما أكمل من الآخر فيجوز العدول من المفضول إلى الفاضل؛ قيل: إذا كان قد انسد باب الاجتهاد عندكم وقطعت طريقه وصار الفرض هو التقليد؛ فالعدول عنه إلى ما قد سد بابه وقطعت طريقه يكون عندكم معصية وفاعله آثم، وفي هذا من قطع طريق العلم وإبطال حجج الله وبيناته , وخلو الأرض من قائم لله بحججه ما يبطل هذا القول ويدحضه. وقد ضمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه لاتزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة، وهؤلاء هم أولو العلم والمعرفة بما بعث الله به رسوله فإنهم على بصيرة وبينة بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من أولي العلم والبصائر. والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع فالمتابعة والاقتداء وتقديم النصوص على آراء الرجال وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تنازع فيه العلماء. وأما الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها , والإنكار على من جعل كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة نصب عينيه , وعرض أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة فبطلانه من لوازم الشرع ولا يتم الدين إلا بإنكاره وإبطاله، فهذا لون والاتباع لون والله الموفق. (الوجه الخامس والسبعون) قولكم: كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد فأنتم مقلدون لحملتها، ورواتها ليس بيد العالم إلا تقليد الراوي ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، ولا بيد العامي إلا تقليد العالم إلى آخره. جوابه ما تقدم مرارًا من أن هذا الذي سميتموه تقليدًا هو اتباع أمر الله ورسوله، ولو كان هذا تقليدًا لكان كل عالم على وجه الأرض بعد الصحابة مقلدًا , بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم مقلدين، ومثل هذا الاستدلال لا يصدر إلا من مشاغب أو ملبس يقصد لبس الحق بالباطل. والمقلد لجهله أخذ نوعًا صحيحًا من أنواع التقليد، واستدل به على النوع الباطل منه لوجود القدر المشترك , وغفل عن القدر الفارق , وهذا هو القياس الباطل المتفق على ذمه وهو أخو هذا التقليد الباطل كلاهما في البطلان سواء. وإذا جعل الله سبحانه خبر الصادق حجة وشهادة العدل حجة لم يكن متبع الحجة مقلدًا. وإذا قيل: إنه مقلد للحجة فحيهلاً بهذا التقليد وأهله وهل ندندن إلا حوله، والله المستعان. ((يتبع بمقال تالٍ))

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى فناء الأجساد والحشر إشكال (س51) مصطفى أفندي رشدي المورلي بنيابة (الزقازيق) قلتم عند الرد في المنار على السائل هل الحشر بالأجساد أو الأرواح فقط: إنه بالروح؛ لأن الجسم يفنى كل عشرات من السنين كذلك الدم في كل شهور (كذا) فإذا قلنا: إن الجسم يتغير في حال الحياة كما أثبته الطب فلماذا نرى الوشم الأخضر ثابتًا على الأجسام طول العمر من الصغر إلى الكبر (ج) إننا لم نقل بأن الحشر يكون بالأرواح فقط كما يفهم من السؤال، بل صرحنا بأن الحشر يكون بالروح والجسد، ولكن لا يجب أن يكون الجسد الذي يعود هو الذي كانت الأعمال التكليفية به؛ لأن هذا الجسد لا ثبات له كما قلنا بل هو يتحلل في كل بضع سنين، ويبدل بغيره تدريجًا، ويبقى الإنسان كما هو , فإذا عاد في الآخرة بغير هذا الجسد لا يستلزم ذلك أن تكون الحقيقة قد تغيرت؛ لأن الحقيقة هي الروح، وما الجسم إلا ثوب لها كما أوضحناه هناك فليراجع , أما الإشكال الذي أورده السائل على ما تقرر في العلم من تبدل جسد الإنسان مرات كثيرة؛ فجوابه أنه كلما انحلت دقيقة من دقائق الجسم تخلفها دقيقة حية مثلها كمًّا وكيفًا، والوشم من الكيفيات التي تنتقل من الدقائق الميتة إلى الدقائق الحية عند التحليل والتركيب؛ لأنه ليس صبغًا على ظاهر الجلد، بل هو مما يتأثر به الدم والعصب، فيكون كاللون الطبيعي كذلك آثار الجروح في البدن تكون ثابتة فالخلايا الحية التي تخلف المنحلة في موضع الاندمال تأخذ شكلها الأول، وعلى ذلك فقس. *** الحيلة والتوهم في دعوى مشاهدة أشباح الشهداء (س52) م. غ، في (سوريا) قرأت في العدد الخامس من منار هذه السنة جوابكم على السؤال التاسع عشر؛ فذكرني واقعة جرت معي وأنا في السابعة أو الثامنة من العمر فأحببت أن أقصها على سيادتكم لأرى رأيكم فيها. كنت في مدرسة، وكان الطريق إليها قريبًا من مقبرة , فكان دأبي أن أمر على المقبرة كل يوم صباح مساء لأقرأ الفاتحة لشهيد فيها يسمونه زين العابدين، فيومًا أنا واقف في قبة هذا الشهيد رأيت يدًا مجردة عن الجسم تدور فوق الصندوق الموضوع على قبره , فحدقت ببصري برهة لأرى بقية الجسد فلم أر شيئًا فدهشت حينئذ , واستولى عليّ الجزع وفررت هاربًا إلى البيت وقصصت ما رأيته على والدتي، ولم أزل أتذكر ذلك كلما مررت بطريق ذلك الشهيد , فالمرجو من فضيلتكم كشف القناع عن هذا الأمر، على أنكم تعلمون حق العلم أنني من أشد الناس إنكارًا للبدع والخرافات والأوهام والضلالات لا أخاف في ذلك لومة لائم؛ لأني أعتقد أن المحاباة في دين الله غير جائزة، ولو لغرض صحيح كما أوضحتموه في المنار الزاهر غير مرة. (ج) يزعم الألوف من المصريين أنهم يرون أشباح الشهداء في البهنسا تطوف في أعلى قبة هناك، وقد أراد بعض علماء الأزهر اكتشاف هذا الأمر الذي يستند فيه العوام إلى المشاهدة؛ فذهب غير واحد إلى هناك غير مرة فتبين لهم أن هذه الكرامة مصنوعة للمرتزقين هناك من السدنة، وأن الذي يُرى في القبة إنما هو ظلال رجال يطوفون وقت الأصيل حول القبة في مكان يحاذي الكوى من أعلاها، فيوهم السدنة النساء والأطفال ومن في حكمهم من الرجال أنها شخوص الشهداء، حدثني بهذا الشيخ محمد بخيت العضو الأول في المحكمة الشرعية العليا , والشيخ أبو الفضل الجيزاوي من مدرسي الدرجة الأولى في الأزهر كل على حدته، زاد الأول اكتشاف حيلة أخرى , وهي أنهم يطلعون الناس في قبر هناك على رأس مكسو بشعر طويل يزعمون أنه رأس شهيد لم يتغير بمرور القرون عليه , ولكن الشيخ وصل إلى الرأس فإذا هو جمجمة قديمة بالية وإذا بالشعر قد ألصق عليها حديثا بنحو صمغ أو غراء، لأجل التغرير والإغراء، ولهولاء الدجالين حيل كثيرة في خداع الأغراء، وحسبك قصة أحمد المغربي السابقة في الاعتبار. وهناك تعليل آخر لما يتراءى لبعض الناس من نحو الذي ظهر لكم , وهو أن اشتغال الخيال بالشيء من هذا القبيل ينتهي أحيانًا بتمثل بعض الخيالات للمرء كأنها محسوسة كما شرحنا ذلك في مبحث رؤية الأرواح من مقالات الخوارق والكرامات؛ فراجعه في مجلد المنار السادس فالأرجح عندي أن ما ظهر لكم من هذا القبيل، ومنه ما نسب إلى الشيخ أحمد الرفاعي أو إلى الشيخ علي أبي شباك الرفاعي من رؤية كف النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقظة فهي رؤية خيالية لا حقيقية حسية. على أن رؤية الأرواح غير مستحيلة عقلاً، ولكن العاقل لا يسلم بخلاف مقتضى الظاهر إلا بدليل قطعي لا يحتمل التأويل , ودعوى رؤية أرواح الأولياء وأجساد الشهداء كانت شائعة في كثير من بلاد أوربا في القرون المتوسطة التي يسمونها المظلمة، فلما جاء عصر العلم والنور تلاشت تلك الدعاوي فلم يبق لها إلا أثر ضعيف في بعض عامة القرى، وكذلك يكون في غير تلك البلاد فإن سنته تعالى في جميع أصناف البشر واحدة، ثم إن المشتغلين بالعلم من الأوربيين يدعون أنهم وصلوا أخيرًا إلى اكتشاف طريقة صناعية لاستحضار الأرواح ورؤيتها , وأن بعض الناس أشد استعدادًا لها من بعض، فإن صح هذا كان طريقًا طبيعيًّا لتعليل بعض المشاهدات، ولكنها لا تعد من قبيل الكرمات. *** رائحة الأولياء ورؤيتهم وشفاء المرضى برؤيتهم (س53) أحمد زكي أفندي عبده (السويس) : قد اطلعت في الجزء الخامس على جواب سؤال عنوانه (إثبات الولاية بالرؤى والأحلام) حملني على سؤال حضرتكم عما يحصل في بعض البيوت التي فيها قبور تنسب إلى بعض أولياء الله تعالى من الرائحة الذكية التي تحدث في ليال معلومة من كل شهر تقريبًا , على أنّي شممت هذه الرائحة وما كان في البيت بخور ... وأذكر لحضرتكم أن وجيهًا حدثني بأنه مرض منذ سنين مرضًا حار في علاجه الأطباء فعز الشفاء، ولم ينجح الدواء، إلى أن رأى ذات ليلة وهو بين النائم واليقظان شخص ولي مدفون في البيت دخل عليه ووضع يده على خده مدة قليلة، ثم رجع من حيث أتى، وما جاء الصبح إلا وقد شفي من مرضه وعافاه الله، وأنه وصف اليد بأنها ليست يد آدمي وأنها كوسادة ناعمة لينة محشوة قطنًا وضعت على خده ثم رفعت، أرجو الإفادة عن هذه الحوادث وما يشاكلها من رؤية الولي المدفون في البيت يصلي أو يسبح أو يتوضأ مما هو شائع أمره، ولكم من الله الأجر. (ج) ما من مسألة من المسائل التي يتضمنها هذا السؤال إلا وقد تقدم في المنار ما يفهم منه تعليلها إلا الرائحة، ولكن أكثر الناس يحبون أن نكتب لكل جزئية تعليلاً؛ فأما الرائحة الذكية فسببها أن بعض الناس يضعون البخور أو الأعطار عند قبر الولي في الليالي المعهودة بلا شك، وهو أمر قد عرفناه واختبرناه، ولقد حدث لنا ما هو أبعد منه عن التأويل , وهو أننا كنا في أيام سلوك الطريقة النقشبندية نشم في وقت الذكر رائحة ذكية جدًّا تأتي نفحة بعد نفحة ثم تذهب، ولقد كنا نعللها أولاً إذا حدثت ونحن في حلقة الذكر الاجتماعي التي يسمونها الختم، بأن بعض الحاضرين فتح زجاجة عطرية ثم سدها ونحن لا نراه لأن أعيننا تكون مغمضة مدة الختم، ثم إن ذلك صار يحدث لنا ونحن نذكر الله تعالى ولو في خلوة بابها مغلق وليس معنا فيها أحد، وإننا مع عجزنا عن تعليل طبيعي لذلك نجزم بأن ما يشم عند القبور عادة له سبب طبيعي وهو ما ذكرناه آنفًا؛ لأنه لو كان أمرًا روحانيًّا أو وهميًّا لما كان عامًّا يشمه كل من حضر، بل الروحانيون أو الواهمون خاصة. وأما المريض الذي شفي عقيب الرؤيا فلك أن تعلل شفاءه بما تقدم شرحه في بحث (إبراء العلل) بالكرامة والوهم من المجلد السادس، على أن صاحبك قد طال عليه زمن المرض , ومن الأمراض ما يشفى بدون علاج إذا انتهى سيره، وأعرف رجلاً في طرابلس مرض مرضًا طويلاً لم ينجح فيه علاج , حتى إذا كان ذات ليلة شعر بأن في غرفته صينية من (الكبيبة) فزحف على استه إذ كان لا يقدر على القيام حتى وصل إليها فأكلها برمتها، ولم يكن في حال الصحة ليقدر على أكل نصفها أو ربعها فأصبح معافى، وأذكر أن المقتطف سئل مرة عن رجل مقعد معروف في لبنان رأى ذات ليلة بعض القديسين المُعْتَقَدين عندهم أو المسيح أو مريم عليهما السلام (الشك مني) فأصبح يمشي {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ} (القلم: 5-6) ومثل هذه الحكايات كثيرة , وتعليلها ما شرحناه من قبل ونبهنا عليه آنفًا , فإن كان السائل أو غيره يظن أن هذا خاص بالمسلمين؛ فلماذا لم يكن شائعًا فيهم أيام كانوا قائمين بحقوق الإسلام في الصدر الأول، ولماذا شاع فيهم بشيوع نزعات الوثنية، وضروب البدع والضلالة؟ ؟ وأما رؤية الأولياء فتقدم تعليلها كما نبهنا في جواب السؤال السابق. *** مسافة القصر في سكك الحديد (س 54) رشيد أفندي غازي في الشام: لا يخفى أن علماء الفروع قد حددوا سفرًا مخصوصًا للمسافر حتى يجوزوا قصر الصلاة به، وهذه المدة تنطبق على المسافر من مدينة بيروت إلى دمشق أو من حمص إلى طرابلس أو منها إلى دمشق أو من مصر إلى الإسكندرية فلو تزوج دمشقي مثلاً من بيروت، ثم سافر إلى بلده على القطار الحديدي ومعه أهله وأثاث بيته، وقطع المدة المعلومة في بضع ساعات فهل يجوز له قصر الصلاة أم لا؟ وإذا جاز له فهل من دليل على ذلك يثلج له الصدر، وتطمئن له النفس أم لا؟ ولو ادعى مدع أن القصر في هذه المدة القليلة غير جائز فما الدليل المصادم لدليله على طريقة الأصوليين، فلذلك أحببت نشر هذا السؤال على صفحات جريدتكم الغراء لتتلو الأجوبة، ولتكون معلومة لعموم المكلفين. إذ لو كان سؤالاً خاصًّا لعالم خاص لم تحصل الثمرة المطلوبة , وهو الهادي. (ج) إن الله تعالى أباح لنا قصر الصلاة والتيمم والفطر في السفر، ولم يحدد لنا طول المسافة , فكان مقتضى الظاهر أن تباح هذه الرخص في كل ما يطلق عليه اسم السفر لغة , ولكن العلماء حاولوا تحديد أقل مسافة لهذه الرخصة بما ورد فيها من قول الشارع أو عمله , فاختلفوا في ذلك على أقوال كثيرة وجعلوا التقدير بالأميال والفراسخ والمراحل , والعبرة عندهم بسير الأثقال المعتدلة، فمن قطع المسافة المقدرة بأقل من الزمن الذي تقطع فيه بسير الأثقال كان له أن يترخص بلا خلاف , فلا فرق إذن بين قطعها في السكة الحديدية بقوة البخار وقطعها على فرس سابق. فلك أن تحج من يعارضك من المقلدين بعدم تفرقة الفقهاء، وأما من يطالب بالحجة الحقيقية فلك أن تحجه بإطلاق السفر في الكتاب والسنة مع ما ورد في مسند أحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود من حديث شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: سألت أنسًا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. (الشك من شعبة) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وهو أصح حديث ورد في ذلك وأصرحه، وروى سعيد بن منصور من حديث أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة. وقد أقره الحافظ في التلخيص , وهو يؤيد رواية الثلاثة الأميال , وبه أخذ الظاهرية وأما حديث ابن عباس عند الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد من مكة إلى عسفان) ففي إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير وهو متروك , ونسبه النووي إلى الكذب , وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، فأكثر ما ورد في طول المسافة ثلاثة فراسخ إذا لم نعتبر رواية سعيد بن منصور مرجحة للشق الأول من حديث أنس وإلا فثلاثة أميال , و

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية جاءنا من سنغافورة ما يأتي فنشرناه لما فيه من النصيحة للمسلمين. (هذه أبيات خاطب بها أعضاء ندوة العلماء بالهند سنة 1321 (مولانا السيد أبو بكر بن شهاب الدين أمتع الله به) كلم يقدمها المسيء الجاني ... لذوي المعارف لا ذوي التيجان نفثات مصدور إلى من هم بها ... أدرى وأحرى منه بالتبيان وجميل شكر للذين تصدروا ... في ندوة العلما وللأركان لله دَرُّهم سوابق حلبة ... فيها العقول فوارس الميدان شربوا رحيق العزم والجد الذي ... لم يخش مدمنه من الحرمان هبوا وأمر الكل شورى بينهم ... والرأي قبل شجاعة الشجعان نهضوا لنفع المسلمين بنشر ما ... عنهم يصد طوارق الحدثان ودعوا إلى نشر العلوم على اختلا ... ف فنونها والعلم ذو أفنان وإلى اجتماع قلوب من أيمانهم ... بمحمد المحمود ذو اطمئنان ولنعم ما عقدت خناصرهم على ... إبرازه من حيز الكتمان فالعلم أشرف مقتنى وأَجَلّه ... وبه تفاضل نوعنا الإنساني فذووه في عز ومجد باذخ ... ورفيع منزلة وسعد قران العلم يطلب كي يزجَ بحامليه ... إلى التربع في ذرى كيوان من حيث كان وكيف كان لعيشة ... الدنيا وللأبدان والأديان هذا رسول الله نبهنا على ... عدل المجوس وحكمة اليونان والاجتماع أجل حض رادع ... عبث الخصوم وسورة العدوان والمؤمنون كما أتانا في حديث ... الصادق المصدوق كالبنيان ومتى تخاذلنا وأهمل بعضنا ... بعضًا خلعنا خلعة الإيمان وأصابنا الفشل الذي يقفوه ... ذل واضطهاد ليس بالحسبان إن افتراق المسلمين أذاقهم ... ضيم الهضيمة بعد عظم الشان وهنت عزائمنا وأصبح هازئًا ... بخمولنا الوثني والنصراني فَعَلامَ فُرْقتنا التي ألقت بنا ... في هوة الإهمال والخذلان ولِمَ التنافر والتباغض بيننا ... والحقد وهي مدارك النقصان ها كل طائفة من الإسلام مُذْ ... عِنَة بوحدة فاطر الأكوان وبأن سيدنا الحبيب محمدًا ... عبد الإله رسوله العدناني وإمام كل منهم في دينه ... أخذًا وردًّا محكم القرآن فإلهنا ونبينا وكتابنا ... لم يتصف بالخلف فيها اثنان والكعبة البيت الحرام يؤمها ... قاصي الحجيج لنسكه والداني وصلاة كل شطرها وزكاته ... حتم وصوم الفرض من رمضان أَفَبَعْدَ هذا الاتفاق يصيبنا ... نزغ ليفتننا من الشيطان وإن اختلفنا في الفروع فذاك عن ... خير البرية رحمة المنان وحديث تفترق النصارى واليهود ... وأمتي فرقًا روى الطبراني لكن زيادة كلها في النار ... إلا فرقة لم تخل عن طعان بل كلهم في جنة وعدوا بها ... بالنص في آي من القرآن وكذا أحاديث الرسول تضافرت ... أن المُوَحِّد في حمى الرحمن وإذا أردت بيان ما أوردته ... فانظر فتاوى الحافظ الشوكاني فلقد أتى فيها بما يشفي العليل ... من الدليل وساطع البرهان وأفاد فيها ما يلاشي بيننا ... إحن النفوس وشأفة الشنآن إيهًا رجال الندوة اجْتَهِدُوا ولا ... تهنوا فرب الخيبة المتواني وامضوا على غلوائكم قدمًا ولا ... تخشوا معرة فاسدي الأذهان فالحق قائدكم وأنتم تعلمون ... موارد الأرباح والخسران أو ما رويتم حين أقبل جيش أهل ... الشام قولاً عن أبي اليقظان والله لو بلغوا بنا طردًا إلى ... هجر لما عدنا إلى الإذعان ولتسمعن أذًى كثيرا فاصبروا ... واكسوا المسيء مطارف الإحسان ماذا على الحكماء من أضدادهم ... قدح السفيه ومدحه سيان والله شاكر سعيكم ورسوله ... وأولو الفضائل من ذوي الإيمان وقد غيرنا الشطر الأخير من آخر بيت ليكون إشارة إلى قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} (التوبة: 105) .

تقريظ المصنفات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المصنفات (إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترنسفالية) قد علم القراء ما كان في العام الماضي من لغط بعض الجاهلين بفتوى مفتي الديار المصرية لبعض أهل الترنسفال بحِل ذبيحة النصارى في تلك البلاد، وبحل لبس القلنسوة الإفرنجية لحاجة أو ضرورة، وبحل صلاة الشافعي خلف الحنفي، وكان السبب في اللغط أن بعض أصحاب الأهواء من الأمراء أوعز إلى بعض الجرائد المحدثة بالتنديد بالفتوى لغرض له في ذلك فطفقت الجريدة تخبط في ذلك محرفة السؤال والجواب عن موضعه، وقد جرت العادة بأن ما أكثرت الجرائد الخوض فيه يخوض فيه الناس لا سيما أهل الجهل والبطالة - وكثير ما هم -، وقد بينا يومئذ حكم الله تعالى في هذه المسائل. وأيدنا الفتوى بالبراهين الشرعية والدلائل، ولم يكن لصاحب الجريدة المحدثة من دليل غير القال والقيل، وكان منه الإيهام بأن بعض علماء الأزهر كتبوا لصاحب الجريدة ينكرون صحة الفتوى، فلما وصلت هذه الدعوى إلى علماء الأزهر الأعلام انتدب بعض فضلائهم إلى وضع رسالة يؤيدون فيها الفتوى بنصوص المذاهب الأربعة وسموها (إرشاد الأمة الإسلامية ... إلخ) ثم إن الشيخ عبد الحميد حمروش البحراوي أحد المدرسين في الأزهر لهذا العهد طبع الرسالة ونشرها تبرئة لعلماء الأزهر مما نسبته جريدة (الظاهر) إليهم، وقال في مقدمة الطبع بعد ذكر ما عزي إلى علماء الأزهر ما نصه: عند هذا نهض جماعة من أفاضل الأزهر الأعلام أئمة المذاهب الأربعة الذين يعول عليهم ويوثق بعلمهم في العلوم الشرعية، وراجعوا المذاهب الأربعة واستخرجوا منها النصوص التي تلائم موضوع المسألة، وعرضوا عليها فتوى فضيلة الأستاذ المومأ إليه فوجدوا لها من كل مذهب نصيرًا، ومن فقه كل إمام ظهيرًا) ، ثم قال: (إنه رأى أن يخدم الإسلام بطبع هذه الرسالة لفوائد منها: تبرئة الأفاضل علماء الأزهر من وصمة السكوت، ومما عزي إليهم من القول بخلاف ما أفتى به عالم الدنيا، وابن بجدة الفتيا صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ مفتي الديار المصرية , وأن الذين يشيعون مخالفة علماء الأزهر الكرام لأستاذنا أرادوا أن يذموا واحدًا فذموا الكل فوجب تبرئة الجميع) . والرسالة مؤلفة من مقدمة وأحد عشر فصلاً وخاتمة، وهي مطبوعة طبعًا حسنًا على ورق جيد , وثمن النسخة ثلاثة قروش صحيحة، ومما يدل على سوء قصد الجريدة التي كانت تلغط وتطالب علماء الأزهر ببيان الحق في الفتوى أنها لم تكتب عن الرسالة شيئًا مع أنها أهديت إليها كما بلغنا *** (الأمومة عند العرب) رسالة لأحد علماء هولندا. ج. ويلكن الأستاذ في كلية ليدن، وقد عربه أحد علماء العرب السوريين بندلي صليبا الجوزي المدرس في إحدى المدارس الروسية بقازان وطبعها هناك , وخصص دخلها للأعمال الخيرية، والبحث في الأمومة فرع من فروع البحث في (تاريخ العائلة) أو هو أصله الأول؛ لأن النسبة إلى الأم هي الثابتة العامة في كل جيل من أجيال البشر وفي كل طور من أطوارهم في بداوتهم وحضارتهم. وفي الرسالة مباحث طويلة دقيقة في الزواج عند العرب قبل الإسلام وعند غيرهم من الأمم , وهو أنواع أطلق المعرب عليها هذه الأسماء: نكاح الاشتراك أو المشاركة، النكاح الخارجي، النكاح الداخلي، النكاح الفردي، نكاح تعدد الزوجات، نكاح تعدد الأزواج , نكاح النفر. وفيها كلام طويل عن المتعة في الإسلام، وبحث في أنها كانت قبله أم لا، وهو غير محرر , والاستدلال على المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24) الذي ذكره هو ما ذهب إليه الشيعة وهو منقوض بقوله تعالى في نفس الآية: { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 24) أي يجب أن يكون قصد الرجل في هذا الاستمتاع إحصان نفسه وإحصان المرأة , لا مجرد المسافحة التي هي إراقة ماء الشهوة، ولا شك أن المتعة يقصد بها المسافحة لا الإحصان، وقد كانت العرب عليها فحرمها النبي , فشق ذلك عليهم فأذن لهم بها عند الضرورة وشدة الحاجة في السفر، ثم نهاهم عنها ليكون إبطالها تدريجيًّا , والشيعة لا تزال تحلها، ويميل بعض الناس إلى أنها رخصة للضرورة , والجماهير على أن الرخصة نسخت، ويؤكد نسخها اعتبار الكتاب العزيز قصد الإحصان شرطًا لكون الزواج شرعيًّا، وقوله تعالى بعد إباحة الزواج والتسري: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ} (المؤمنون: 7) وروي في الصحيح أنها بقيت إلى عهد عمر فكان هو الذي أبطلها بالمرة، والذين يقولون بالنسخ يحملون ذلك على عدم علم الجميع بالنسخ. وفي الرسالة مباحث تحتاج إلى الإيضاح والنقد , وفيها فوائد لا توجد في غيرها من كتب التاريخ , فنشكر للمعرب هذه الهدية الثمينة للغته الشريفة، ونحث الناس على قراءتها , وننتظر ورود طائفة من نسخها علينا للبيع في مكتبة المنار فمتى جاءت نعلن ذلك في غلاف المنار. *** (كتاب القواعد الألمانية) وضع هذا الكتاب الأستاذ مرتين هرتمن مدرس اللغة العربية في مدرسة الألسنة الشرقية ببرلين عاصمة بلاد ألمانيا لبيان قواعد لغته بالعربية إسعادًا لمن يرغب في تعلم هذه اللغة من العرب، وذكر في مقدمة الكتاب إقبال الأمم على دراسة هذه اللغة , وإننا نذكر من ذلك ما نرى فيه عبرة لنا , قال: (ولقد انبعثت رغبة قوية عند معظم الأمم في تعلمها، ولا يوجد أديب حقيقي في أمة من الأمم الأوربية إلا وله إلمام بهذه اللغة الشريفة وبأعظم أقسام أدبياتها. أما الأمم الشرقية فأول من سارع منها إلى اقتناء (كذا) لغتنا هي الأمة اليونانية حيث أرسلت ألوفًا من أبنائها إلى كليات ألمانيا لرضاع ألبان العلم من ثديها، وقلما تدخل بيتًا من بيوت الأدباء اليونانيين إلا وتجد من يتكلم بلغتنا ويعلم بأدبياتنا، ثم كثر عدد دارسيها في بلاد اليابان من الشرق الأقصى حيث اجتلبوا معلمين من الألمان إلى مدارسهم الكبرى , وكثيرًا ما زاروا بأنفسهم بلادنا لأجل تحصيل لغتنا، ومشاهدة أحوالنا وتنظيماتنا. ثم يوجد عدد من أفراد الأمة التركية يحسنون التأدية باللغة الألمانية وأكثرهم من الموظفين بالخدمة العسكرية بقوا مدرجين في سلك العسكرية الألماني مدة. (أما الأمة العظيمة التي سطت بعد إتيان نبيها بالشريعة الإسلامية على قسم يذكر من المسكونة , وتميزت لغتها بالمصنفات الغزيرة العالية - أعني الأمة الناطقة بالضاد التي مسقط رأسها جزيرة العرب المنتشرة كتبها من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب - فلم نر إلى الآن منها الإقدام على اقتناء الألمانية والاطلاع على أدبياتها، نعم قد اجتهد في أيام خديوي مصر المرحوم إسماعيل باشا الموسيو دور السويسري الموظف وقتئذ بالتفتيش على المكاتب المصرية في إدخال اللغة الألمانية في مواد التعليم (البروجرام) وحمل السادة إبراهيم زين الدين وأحمد نجيب على تأليف كتاب في القواعد الألمانية إلا أنه قد اندرس مسعاه عند ذهابه من الخدمة المصرية) .... إلخ. ثم انتقل من ذلك إلى ذكر انتدابه لتأليف هذا الكتاب تسهيلاً لمن يريد تعلم هذه اللغة من أبناء العربية، وهو مرتب أحسن ترتيب، ومقرب للغة أشد تقريب. يشرح الحروف والكلم، ويذكر كيفية النطق بها بالعربية بغاية الضبط، وقد جعله دروسًا يشرح في كل درس القاعدة بالعربية ويذكر بعدها الأمثلة المفردة والمركبة، ثم التمرينات الألمانية والعربية , وصفحات الكتاب 232 وثمن النسخة منه (3 ماركات أو 3 شلنات) وأجرة البريد (35 سنتيما) وهو يطلب بواسطة مكتبة المنار بمصر. *** (تاريخ البابية - أو - مفتاح باب الأبواب) قد صدر هذا التاريخ النفيس الذي نوهنا به من قبل في المنار، ونقلنا نبذة من خاتمته، وقد ذكر مؤلفه (ميرزا محمد مهدي خان) في فاتحته أنه في مدة إقامته في مصر وفي أثناء سياحاته الكثيرة رأى الناس مختلفين في أمر هؤلاء البابية لاختلاف ما يلقفونه من أخبارهم عنهم وعن أعدائهم، حتى إن أمرهم لا يزال غامضًا مبهمًا، وأنه هو مطلع على أحوالهم كما كان والده من قبله مختبرًا لرؤسائهم، وأن عندهم أمهات كتبهم، وقد اطلع مع ذلك على ما كتب الناس في تاريخهم وأكثر الناس خطأً فيه الإفرنج، لذلك ساقته الرغبة إلى وضع تاريخ كبير لهم سماه (باب الأبواب) أحصى فيه ما علم من أخبارهم وعقائدهم وشرائعهم كما هي من غير حكم عليها بمدح أو ذم، بل صور الحقائق تصويرًا، ومثلها للقارئ تمثيلاً، ثم اختصره بهذا الكتاب الذي جعله رسالة وفهرسًا له , وسماه (مفتاح باب الأبواب) على أن صفحات هذا المختصر قد بلغت 440، ويعني بقوله الأبواب الذين ادعوا بالمهدية سواء منهم من أطلق علية لقب الباب ومن لقب بالمهدي فقط. وقد بدأ الكتاب بالكلام على الديانات السبع الكبرى في الأرض - البوذية والبرهمية والفاشية والزردشتية والموسوية والنصرانية والإسلامية - ثم أورد ما نقل أهل السنة والشيعة في المهدي المنتظر، وانتقل من ذلك إلى الكلام فيمن ادعوا المهدوية أو العيسوية وذكر تراجم أشهرهم ومنهم ميرزا علي محمد الشيرازي الملقب بالباب الذي هو المقصود من تأليف الكتاب، وذكر نشأته وتاريخه، ودعوته وأسبابها وأسباب انتشارها في إيران ومناظرات العلماء للباب، وما كان من الفتن إلى أن قتل الباب، ثم ذكر مزاعم البابية فيه وذكر صفاته وتأليفه وشريعته وما جرى لأصحابه بعده من الفتن والتفرق والنفي إلى أن قام فيهم حسين علي الملقب بالبهاء، واستمال أكثرهم إليه ونَقَّحَ لهم دين الباب , وادعى أنه الأصل، بل أنه هو الله الذي أرسل الرسل من آدم إلى الباب، ثم ذكر شيئا كثيرًا من شريعة البهائية وكتب البهاء إلى الملوك وغيرهم , وختم الكتاب بذكر فرق البابية في هذا العهد وكيفية ظهورهم في بلاد أمريكا، ولعلنا ننقل في أجزاء أخرى بعض المباحث من هذا الكتاب النفيس الذي لا يستغني قارئ عنه لا سيما في البلاد التي انبث البابية فيها يدعون إلى دينهم كمصر وإيران، وقد ذكر المؤلف في آخر الكتاب أنه تبرع بما يحصل من ثمنه للمنكوبين من المسلمين، وثمن النسخة منه في مصر20 قرشًا وفي إيران (تومان واحد) وفي الهند ثلاث روبيات وفي روسيا روبلتان أو منان وفي سائر البلاد 5 فرنكات , وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر ومن مكتبتي هندية والهلال.

سياحة العلماء وهداية الحكماء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سياحة العلماء وهداية الحكماء يوم وليلة فى الريف حالة العامة: في أصيل يوم الإثنين (18ج1) سافر كاتب هذه السطور مع أستاذه الشيخ محمد عبده إلى جهة (فم البحر) بدعوة الشيخ عبد المؤمن موسى عبده بهاده وكان قد سبقنا في صباحه إلى هناك السيد علي الببلاوي شيخ الجامع الأزهر والشيخ أبو الفضل الجيزاوي والشيخ سليمان العبد من كبار المدرسين فى الأزهر. والشيخ عبد المؤمن هذا لم يقصد بدعوة العلماء إلى بلده التفاخر بهم فقط كما هو شأن أهل الدنيا لاسيما العمد، بل قصد استفادة أهل بلده من علمهم وإزالة الشبهات، ومقاومة الخرافات بإرشادهم؛ وذلك أن أكثر ما عليه عامة المصريين في القرى وغيرها من الخيالات والاعتقادات والتقاليد الدينية مأخوذة عن أهل الطريق الذين يطوفون البلاد والقرى لطلب الرزق بالدين والطريق فهم عميان يقودون عميانًا، ويجتهدون في جعل الدين كله محصورًا في التعلق بهم وبشيوخهم والاعتقاد بكراماتهم، والتوسل بهم إلى الله تعالى لقضاء الحاجات وتنفيس الكربات، وجلب الرزق ونيل الرغائب، وقرن التوسل بالنذور للأموات والعطايا للأحياء، هذا ما يقنعون به الدهماء، ومن أخذ عليهم أو أخذوا عليه العهد يلقنونه أحزابًا وأوردًا يذكرون لها من الخواص والمنافع الدنيوية ما يذكرون حتى ضاع أكثر معارف الدين وآدابه وأعماله إلا هذه الأمور وما يتصل بها من الأوهام والخرافات التي لا سند لها إلا ما اخترعوه من الحكايات، وما خفي عليهم أمره من مثار الشبهات. فمن سَيَّبَ عجلاً أو نذر شيئًا للسيد البدوي أو غيره ولم يقدمه , ومن اعتاد الذهاب إلى مولده ولم يذهب , فأصابه مرض أو مصاب فى نفسه أو أهله أو ماله فأولئك يعتقدون أن الذي أوقع بهم هو السيد , كأن السيد حاكم مستبد ظالم يفرض على الناس ما لم يفرضه الله عليهم وينتقم منهم أشد الانتقام إذا هم قصروا في أداء ذلك، ولا يغار على حق من حقوق الله تعالى فهو لا يتصرف بمن يترك الصلاة، أو يمنع الزكاة أو يؤذي جاره أو يسرق متاع أخيه أو يفسد عليه زرعه أو يسمم بعض ماشيته. كان الناس على هذا زمنا طويلاً لا يكادون يسمعون إنكار منكر ولا تنبيه منبه ولا إرشاد مرشد إلا ما قَلَّ وندر، حتى كان بعد انتشار المنار في هذه السنين الأخيرة أن قام كثيرون من قرائه ينكرون على الناس البدع والخرافات الفاشية فيهم, وكان الشيخ عبد المؤمن المذكور لسلامة فطرته من أشدهم غيرة وأكثرهم دعوة وأقواهم حجة، ولم يكن له مساعد في النهي عن هذه المنكرات في تلك الجهات إلا الشيخ عليًّا الجربي وبعض الأذكياء , ولكن كان لهما معارض شديد التأثير في العامة هناك بما له من سمت الصلاح والنسبة إلى الطريق والعلم وهو الشيخ محمد الدلاصي فكان الناس فى (بهاده) ونواحيها حزبين يختصمان حزبًا يقول ويوقن بأن لا نافع ولا ضار إلا الله تعالى، وأنه لا يتوسل إليه تعالى إلا بما شرعه لعباده في كتابه وعلى لسان رسوله من الفرائض والسنن، وأنه لا سبب لقضاء الحاجات وجلب المنافع والمضار إلا ما هدى الله الناس إليه من سننه المطردة في خلقه. وحزبًا يقول: إن الأولياء في قبورهم يضرون وينفعون , ويحيون ويميتون , ويعطون ويمنعون، وأنه يتوسل إلى الله تعالى بذواتهم ويدعى بواسطتهم لا وحده ... إلخ، ما هو معلوم مشهور من أمثالهم. وكان الشيخ عبد المؤمن يتمنى عَلَيَّ من زمن طويل أن أدعو الأستاذ الإمام لزيارة بلدهم ليتكلم على الناس بالقول الفصل الذي يرجى أن يمحو كل شبهة ويخرس لسان كل بدعة، حتى كان أن ذهبنا في ذلك اليوم الذي ذكرناه في صدر المقال فاجتمع في تلك القرية أشهر علماء العصر، وقد اجتمع علينا أكثر أهل البلد ليلاً متوقعين أن يسمعوا من الأستاذ الإمام ومن سائر الأساتذة الأعلام ما يقطع عرق النزاع والخصام، وكان تلامذة الشيخ محمد الدلاصي يتوقعون منه أن يدافع عما هم عليه، بل كان منهم من يظن أن حجته في ذلك ستعلو كل حجة , وافتتح الشيخ عَلِيّ الجربي الكلام بسؤال الأستاذ الإمام , فأجاب حفظه الله تعالى بتقرير عقيدة التوحيد الخالص وهي: أن لا فاعل إلا الله، وأنه لا يدعى معه أحد سواه وأن التوسل بالأولياء والصالحين إنما يصح بمعنى الاهتداء بهديهم البَيِّن، وبأن لله أن يكرم من عباده من شاء، ولكن لا يصح أن تكون الكرامات والخوارق كصنعة من الصنائع في أيدى الأولياء. والحق أنه ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لا يكلف مؤمن بأن يعتقد بولي مخصوص، ولا بكرامة ولي معين، وكان قد وضح ذلك بما وافقه وصدقه عليه العلماء الحاضرون. *** ديوان الأولياء والتصرف الباطن ثم قال منشىء هذه المجلة: يقولون: إن للأولياء ديوانًا يجتمع فيه الأحياء والميتون فما أقروا عليه فهو الذي يقع في الكون، وإننا نرى حوادث الكون في جملتها وتفصيلها منافية لمصلحة المسلمين حتى علت عليهم الملل كلها فاستولت على معظم بلادهم الدول المسيحية وسبقتهم في العزة والمكانة الشعوب الوثنية، فإذا كان أولياء المسلمين وأنصار الدين هم المتصرفون في الأكوان لا يجري فيها إلا ما يجرونه، ولا يستقر إلا ما يقرونه فما بالهم ينصرون الكافرين على المسلمين , وكيف اعتز الإسلام بطائفة من سلفهم ثم هو يخذل الآن باتفاق الأحياء منهم والميتين؟ فقال الأستاذ الإمام: قد يقال: إن الأولياء يرون أن المسلمين صاروا أبعد عن دينهم من سائر الأمم فهم ينتقمون منهم حتى يرجعوا إلى دينهم , والحق أن مسألة الديوان والتصرف الباطني عند الصوفية المتأخرين هي رمز إلى ما كان عليه سالفهم عندما كانت هذه الطائفة حية عاملة. ذلك أن الفقهاء كانوا يكفرون الصوفية وكان الحكام أنصارًا للفقهاء، فكان جميع أمر الصوفية مبنيًّا على الكتمان , فوضعوا الرموز لعقائدهم واصطلاحاتهم وأعمالهم، وبالغوا في التستر كما هو شأن الجمعيات السرية العاملة، وكان لهم اجتماع خفي يتباحثون فيه وينظرون في أمرهم وحمايتهم من أعدائهم، وكل ما يتفقون عليه في الباطن يسعون بتنفيذه بوسائله في الظاهر , فإذا اتفقوا على عزل حاكم أو قتل ظالم لا يكفون عن السعي حتى ينفذ ذلك. فهذا هو الديوان , ومعنى كون ما يجرى في الظاهر محكومًا به في الباطن، وكذلك كان شأن الباطنية (والصوفية فرقة منهم معتدلة) كما هو معلوم في التاريخ، ولما بَيَّن الأستاذ هذا استحسنه الشيوخ أشد الاستحسان. تلك إشارة إلى سمر الشيوخ، وما كان فيه من الفوائد لعامة حاضريه، ويظهر أن الشيخ الدلاصي سكت واجمًا لا راضيًا؛ لذلك عاد في النهار إلى المحفل وألقى على الأستاذ الإمام الأسئلة الآتية قائلاً: إنه سمع ما قرره ليلاً واستحسنه، ولكن لديه إشكالاً يحب كشفه بعرضه على الأستاذ المفتي وسماع الجواب منه، وقال ما مثاله: (س1) الناس إمام ومأموم، فالأول متبوع، والثانى تابع لا يعدو وحده فأنا اتخذت الشافعي إمامًا؛ فإذا وجدت في مذهبه شيئًا، ورأيت في كتاب الله شيئًا يناقضه أراني مرتاحًا للعمل بقول الشافعي دون قول الله تعالى مثلاً: إن الشافعي يقول بحل الذبيحة بدون تسمية، ولكن الله تعالى يقول: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 121) ألست معذورًا بذلك؟ (س2) إن الله فضل بعض الناس على بعض في الرزق وغيره؛ فإذا أعطى الله عبدًا جنيهًا ألا يجوز لي أن أقول له: أعطنى ريالاً من الجنيه الذي أعطاك الله؟ وقد علمنا من مشايخنا أن الله تعالى أعطى سيدي أبا الحسن الشاذلي وأبا العباس المرسي وفلانًا وفلانًا سرًّا لم يعطه لغيرهم , فأي مانع من أن يطلب الإنسان منهم شيئًا من هذا السر الذي أعطاهم الله كما يطلب الريال من صاحب الجنيه؟ قال الأستاذ الإمام: أما قولك الأول فهو خطأ كبير، وفيه خطر عظيم؛ فإن الذين أجازوا لك تقليد الإمام الشافعي أو غيره من الأئمة - رضي الله عنهم - يشترطون في ذلك أن لا تعرض لك شبهة في كتاب الله تعالى فترى أنك تعمل بنقيضه فإن عرضت لك الشبهة، وجب عليك حالاً السعي في كشفها وإزالتها وإلا زال الإيمان، فإن الشك في كتاب الله تعالى كفر صريح بإجماع المسلمين، وكذلك نبذه وراء الظهر، وتقديم غيره عليه. نعم، الناس إمام ومأموم، ولكن إمام هذه الأمة واحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم المعصوم , وإنما العلماء ناقلون ومبينون عنه , فمتى تعارض كلامهم مع ما جاء عنه رجعنا إليه كما أمرونا إلا أن يظهر لنا عدم التعارض والتناقض. قال الشيخ الدلاصى: إننى لا أشك في كتاب الله، ولكن أعلم أن إمامي قد اطلع على الآية، وفهمها أحسن مما أفهمها، ولذلك لا أراني مخالفًا لكتاب الله ولا شاكًّا فيه، قال الأستاذ الإمام: إن الله تعالى يحاسبك على ما تفهم وتعتقد لا على ما فهم الشافعي، وأنت قلت الآن: إنك ترى الآية مناقضة لقول الشافعي فترجيحك قول الشافعي حينئذ يقتضي أن يكون قول الله تعالى مرجوحًا فهو عندك دون المشكوك فيه حقيقة؛ لأن الشك استواء الطرفين، وترجيح إحدهما يقتضي بطلان الثاني، ولو ظنًّا؛ فإن كنت تقلد الشافعي، وترى الآية موافقة لقوله فلا إشكال ولا محل للسؤال. قال الشيخ الدلاصى: إن أبا حنيفة والشافعي يختلفان في الحكم (أو قال الآية المفيدة للحكم) ونتبع أحدهما، ولا نرى في ذلك مخالفة للقرآن. قال الأستاذ الإمام: إذا كان الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي، ولم يكن هناك قرآن تقرؤه وتفهم منه أنه مؤيد لقول أحدهما فلا حرج عليك في الأخذ بقول من شئت منهما لأنك لم تنحرف عن كتاب الله تعالى، ولم تلقه وراء ظهرك، وليس هذا من السؤال الأول في شيء؛ لأن الترجيح هناك بين قول الشافعي وقول الله عز وجل الذي تراه يناقضه. على أن المثال هناك غير صحيح , فإن الآية لا تناقض قول الشافعي إذ النهي فيها عن متروك التسمية مقيد بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} (الأنعام: 121) وقد فسروه بقوله تعالى في الآية الأخرى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) فاقتنع الدلاصي، ثم قال الأستاذ: وأما الجواب عن السؤال الثاني، فهو أننا نسلم أن الله تعالى فضل بعض الناس على بعض في الرزق، والمواهب الظاهرة والباطنة، ولكن فضل الله على عبده قسمان: قسم مكسوب يمكن بذله أو البذل منه، وقسم ليس في استطاعة البشر بذله أو البذل منه؛ كالإيمان والمعارف الوجدانية، ومنها ما يسمه الصوفية بالأسرار فإنهم قالوا: إنها أمور ذوقية لا يعرفها إلا من ذاقها، فلا يصح أن تطلب، ولا أن توهب. يقول الكاتب: إننى لا أجزم بأن الأستاذ ساق التقسيم على هذه الصورة من التمثيل، ولكنني أعلم أنه ذكر قسمين منها ما يدخل في الكسب ويعاون فيه الناس بعضهم بعضًا كالمال، ومنه ما ليس كذلك، وقال: إنه لا يصح قياس أحدهما على الآخر، فالمعنى واحد وإن اختلف التمثيل أو جاء بزيادة كلمة، أو نقص كلمة , ثم ذكر أن الناس يسألون الأموات الذين يعتقدون فيهم الولاية ما قطعه الله عنهم من رزق الدنيا ومصالحها، وما لا يبذل من ذلك بحسب الأسباب والسنن الإلهية، وما يبذل , فيطلبون منهم المال وزيادة الغلة ونماء الزرع وشفاء المرضى والانتقام من الأعداء وأمثال ذلك مما لو كان فى أيديهم، وصح لهم بذله كما يبذل صاحب الجنيه ريالاً منه لكان لهم في أمر الآخرة التي هم في شاغل عنه. قال الشيخ الدلاصي: إننا تلقينا عن مشايخنا كما تلقوا عن مشايخهم أن سيدي أبا الحسن الشاذلي، و

قضية السادات وصاحب المؤيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قضية السادات وصاحب المؤيد حكم الشيخ أحمد أبو خطوة القاضي الشرعي فى قضية السادات وصاحب المؤيد المشار إليها فى الجزء الماضي بأن عقد الشيخ علي يوسف على السيدة صفية بنت السيد عبد الخالق السادات باطل بناء على عدم الكفاءة إذ ثبت لدى المحكمة بشهادة أهل العرف في البلد وإخبارهم أن أبا الزوجة يلحقه العار بزواج صاحب المؤيد ببنته لأنه مشهور بالشرف، وصاحب المؤيد غير مشهور به، ولا هو شريف بالفعل. إذ ثبت أن نسبه مزور، ولأنه من أصحاب المجد الموروث , وصاحب المؤيد حديث عهد بنعمة الدنيا، وذكر في الحكم السابق، ولأن حرفة الصحافة لا تكون شريفة إلا إذا كان صاحبها على معارف وصفات فصلها القاضي في حيثيات الحكم , وذكر أن صاحب المؤيد عارٍ منها، بل متصف بضدها. هذا هو روح الحكم وقد أعجب به الأكثرون في القطر كله، وانتقده بعض الناس بأن في الحيثيات أمورًا خطابية غير شرعية وتضعيفًا للقوي من دفاع أحد الخصمين مع قبول مثله من الآخر.

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع ويتبع (الوجه السادس والسبعون) قولكم: إنكم منعتم من التقليد خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئا في فتواه ثم أوحيتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ولا ريب أن صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه كمن أراد شِرَى سلعة لا خبرة له بها فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه: جوابه من وجوه: (أحدها) أنا منعنا التقليد طاعة لله ورسوله، والله ورسوله منع منه وذم أهله في كتابه وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله ورد ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى رسوله، وأخبر أن الحكم له وحده، ونهى أن يتخذ من دونه ودون رسوله وليجة وأمر أن يعتصم بكتابه ونهى أن يتخذ من دونه أولياء وأربابا يحل من اتخذهم ما أَحَلّوه ويحرم ما حرموه وجعل من لا علم له بما أنزله على رسوله بمنزلة الأنعام وأمر بطاعة أولي الأمر؛ إذا كانت طاعتهم طاعة لرسوله بأن يكونوا متبعين لأمره مخبرين به، وأقسم بنفسه سبحانه أنا لا نؤمن حتى نحكم الرسول خاصة فيما شجر بيننا لا نحكم غيره ثم لا نجد في أنفسنا حرجًا مما حكم به كما يجده المقلدون إذا جاء حكمه خلاف قول من قلدوه وأن نسلم لحكمه تسليمًا كما يسلم المقلدون لأقوال من قلدوه بل تسليمًا أعظم من تسليمهم وأكمل والله المستعان وذم من حاكم إلى غير الرسول. وهذا كما أنه ثابت فى حياته فهو ثابت بعد مماته فلو كان حيًّا بين أظهرنا وتحاكمنا إلى غيره لكنا من أهل الذم والوعيد فسنته وما جاء به من الهدى ودين الحق لم يمت وإن فقد من بين الأمة شخصه الكريم فلم يفقد من بيننا سنته ودعوته وهديه. والعلم والإيمان بحمد الله مكانهما من ابتغاهما وجدهما. وقد ضمن الله سبحانه حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله فلا يزال محفوظًا بحفظ الله محميًّا بحمايته لتقوم حجة الله على عباده قرنًا بعد قرن إذ كان نبيهم آخر الأنبياء ولا نبي بعده فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مغنيًا عن رسول آخر بعد خاتم الرسل، والذي أوجبه الله سبحانه وفرضه على الصحابة من تلقي العلم والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما هو بعينه واجب على من بعدهم وهو محكم لم ينسخ ولم يتطرق إليه النسخ حتى ينسخ الله العالم أو يطوي الدنيا، وقد ذم الله تعالى من إذا دعي إلى ما أنزله وإلى رسوله صد وأعرض وحذره أن تصيبه مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه، وحذر من خالف عن أمره واتبع غيره أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم؛ فالفتنة في قلبه والعذاب الأليم في بدنه وروحه وهما متلازمان فمن فتن في قلبه بإعراضه عما جاء به ومخالفته له إلى غيره أصيب بالعذاب الأليم ولا بد، وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرًا على لسان رسوله لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غير ما قضاه فلا خيرة بعد قضائه لمؤمن ألبتة. ونحن نسأل المقلدين: هل يمكن أن يخفى قضاء الله ورسوله على مَنْ قلدتموه دينكم في كثير من المواضع أم لا؟ فإن قالوا: لا يمكن أن يخفى عليه ذلك: أنزلوه فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلهم فليس أحد منهم إلا وقد خفي عليه بعض ما قضى الله ورسوله به. فهذا الصديق أعلم الأمة به خفي عليه ميراث الجدة حتى أعلمه به محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة وخفي عليه أن الشهيد لا دية له حتى أعلمه به عمر فرجع إلى قوله. وخفي على عمر: (1) تيمم الجنب فقال: لو بقي شهرًا لم يصل حتى يغتسل. وخفي عليه (2) دية الأصابع فقضى بالإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن في كتاب عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم قضى فيها بعشر عشر فترك قوله ورجع إليه. وخفى عليه (3) شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري. وخفي عليه (4) توريث المرأة من دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي وهو أعرابي من أهل البادية أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها. وخفي عليه (5) حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة. وخفي عليه (6) أمر المجوس فى الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس هجر. وخفي عليه (7) سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن حتى يطهرن ثم يطفن حتى بلغه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خلاف ذلك فرجع عن قوله، وخفي عليه (8) التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل بينها حتى بلغته السنة فى التسوية فرجع اليها. وخفي عليه (9) شأن متعة الحج وكان ينهى عنها، حتى وقف على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بها فترك قوله وأمر بها. وخفي عليه (10) جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه حتى أخبره به طلحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم يتماد على النهي. هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة، ولكن لم يمر بباله رضي الله عنه أمر هو بين يديه حتى نهي عنه. وكما خفي عليه (11) قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: 30) وقوله {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) حتى قال: والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا. وكما خفي عليه (12) حكم الزيادة فى المهر على مهور أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبناته حتى ذكرته تلك المرأة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) فقال: كل أحد أفقه من عمر حتى النساء. وكما خفي عليه (13) أمر الجد والكلالة وبعض أبواب الربا فتمنى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان عهد إليهم فيها عهدًا. وكما خفي عليه يوم الحديبية (14) أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذلك العام حتى بينه له النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكما خفي عليه (15) جواز استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحت السنة بذلك. وكما خفي عليه (16) أمر القدوم على محل الطاعون والفرار منه حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارًا منه هذا وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق وهو كما قال ابن مسعود: لو وضع علم عمر في كفة ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر. قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم. وخفي على عثمان بن عفان أقل مدة الحمل حتى ذكره ابن عباس بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) مع قوله {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْن} (البقرة: 233) فرجع إلى ذلك. وخفي على أبي موسى الأشعري ميراث بنت الابن مع البنت السدس حتى ذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورثها ذلك. وخفي على ابن عباس تحريم لحوم الحمر الأهلية حتى ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرمها يوم خيبر. وخفي على ابن مسعود حكم المفوضة وترددوا فيها شهرًا فأفتاهم برأيه ثم بلغه النص بمثل ما أفتى به. وهذا باب لو تتبعناه لجاء سفرًا كبيرًا فنسأل حينئذ فرقة التقليد، هل يجوز أن يخفى على من قلدتموه بعض شأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يخفى ذلك على سادات الأمة أو لا؟ فإن قالوا: لا يخفى عليه وقد خفي على الصحابة مع قرب عهدهم بلغوا في الغلو مبلغ مدعي العصمة في الأئمة، وإن قالوا: بل يجوز أن يخفى عليهم وهو الواقع وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة. قلنا: فنحن نناشدكم الله الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه إذا قضى الله ورسوله أمرًا خفي على من قلدتموه هل تبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده أم تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه الله ورسوله عينا لا يجوز سواه؟ فأعدوا لهذا السؤال جوابًا، وللجواب صوابًا، فإن السؤال واقع والجواب لازم والمقصود أن هذا هو الذى منعنا من التقليد فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد. (الوجه الثاني) أن قولكم صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منها أقرب من صوابه في اجتهاده دعوى باطلة فإنه إذا قلد من قد خالفه غيره ممن هو نظيره أو أعلم منه لم يدر على صواب هو من تقليده أو على خطأ، بل هو كما قال الشافعي: حاطب ليلٍ إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه. وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين: إما أن يظفر به، فله أجران، وإما أن يخطئه فله أجر فهو مصيب للأجر ولا بد , بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يؤجر، وإن أخطأ لم يسلم من الإثم، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟ . (الوجه الثالث) أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلده دون غيره، وحينئذ فلا يكون مقلدًا له، بل متبعًا للحجة، وأما إذا لم يعرف ذلك ألبتة؛ فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذل جهده ومستفرغ وسعه في طلب الحق؟ . (الوجه الرابع) أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء من امتثل أمر الله فرد ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة، أما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب. (الوجه الخامس) أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم فإن من أراد شرى سلعة أو سلوك طريقة حين اختلف عليه اثنان أو أكثر وكل منهم يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر فإنه لا يقدم على تقليد واحد منهم، بل يبقى مترددًا طالبًا للصواب من أقوالهم فلو أقدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عُدَّ مخاطرًا مذمومًا، ولم يمدح إن أصاب وقد جعل الله في فطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقف أحدهم ويطلب ترجيح قول المختلفين عليه من خارج حتى يستبين له الصواب، ولم يجعل في فطرهم الهجم على قبول قول واحد واطراح قول من عداه. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الفداء والقداسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الفداء والقداسة قد اعتاد ذلك الشاب القبطي الذي كان يحرر مجلة (بشائر السلام) على الارتزاق والتعزز عند قومه بدعوة المسلمين إلى النصرانية، ولما خُذلت تلك المجلة، ولم يجد مجلة ولا جريدة غيرها تقبل أن تستخدمه لينشر بضاعته المزجاة رأى أن يطبع منشورات في الدعوة إلى النصرانية , ويطوف في البلاد موزعًا لها ويظهر أن له من قومه أعوانًا يرضخون له إسعادًا على هذا العمل الذي يرون أنه يغيظ المسلمين، وربما يعتقد الغافلون منهم أنه ربما يشككهم في دينهم. وقد أرسل إلينا الكاتب نسخة من منشوره وكتب عليها ما نصه: (بما أني قد لاحظت من جريدتكم الزاهية شديد الغيرة للدفاع عن حوزة الإسلام بعثت إليكم بهذا الخطاب للرد عليه بمعرفتكم، ونشر الرد على صحيفتكم , وإن لم تستطيعوا لقوة البراهين الموردة فيه أرجوكم إذًا أن تعيروه انتباهكم وتعملوا بما فيه ودمتم) . ومن البديهي أنه لم يرسل إلينا ذلك ويطالبنا بالرد عليه في المنار إلا لأجل إشهاره وإشهار نفسه , ولو كان قاصدًا إقناعنا بالأوهام التى سماها براهين لما طلب منا الرد عليها. ولعمري إن أمثال هذه الأوهام الصبيانية لا تستحق أن يرد عليها لأن العقل الذي يخشى أن يغتر بها يستحق بها أن لا يُبَالى به وأشرف للمسلمين أن لا يكون منهم. ولكننا مع هذا نذكر البرهان الذي قامت عليه هذه الدعوة أو هذه الديانة التي نسبت إلى المسيح عليه السلام بعد وفاته ورفعه إلى دار الكرامة عند ربه بقرون؛ ليحمد المسلمون ربهم على توفيقهم لهذا الدين القويم , ولتقوم حجته على المقلدين الغافلين. كان دعاة النصرانية يصورون مسألة الفداء بأنها الجامعة بين رحمة الله تعالى وعدله , فلا يتصور العقل (النصراني) أن يكون خالق السموات والأرض على أبدع نظام رحيمًا عادلاً إلا إذا حل في بطن امرأة من كرة صغيرة من مخلوقاته التي لا يعلمها غيره , ثم ولد منها فصار إنسانًا إلهًا ثم سلط عليه أعداءه فصلبوه. وقد بينا من قبل أن النصارى أخذوا هذه العقيدة عن الوثنيين (راجع المجلد الرابع من المنار أو الجزء الأول من كتاب شبهات النصارى وحجج الإسلام) وقد جاءنا المبشر القبطي في منشوره بتصوير آخر يشبه الأول , وهو أن الإيمان بواحدانية الله تعالى يعوزه الإيمان بأنه تعالى قدوس قال: (لأنه أهون عليه تعالى أن تشرك به آلهة كثيرة من أن تنفى عنه القداسة) ثم قال: (إنه لا يمكن أن يكون الله قدوسًا تلقاء معاملته لعالمنا الأثيم بهذه المعاملة إلا إذا اعتبرنا صحة الفداء) فانظر إلى هذه القداسة المتوقف عندهم إمكانها على اعتبارنا هذه العقيدة التي لا يستطيع العقل التصديق بها , وإن قال لسان المقلدين من النصارى: إن ذلك من عقائد قلوبهم. ما أضعف عقول المقلدين , يفسر لهم الشيء بضد معناه فيسلمون خاضعين , إن القداسة هي الطهارة والنزاهة، ومعنى كونه تعالى قدوسًا أنه جل جلاله منزه عن كل ما لا يليق بالألوهية من صفات المخلوقات وشئونهم كالتحول والانتقال والحلول في الأجسام والعجز وغير ذلك مما عبر عنه أحد أئمتنا بقوله: (كل ما خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك) ، ولكن القداسة الإلهية عند النصارى لا تتحقق لله، بل لا تمكن إلا باعتبار اعتقاد طائفة صغيرة من خلقه وهم البشر ولو بعضهم بشرط أن يكون هذا الاعتقاد ضد القداسة , ونقيضها وهو أن ينتقل الخالق ويحل في بطن امرأة.. إلخ فما أعجب هذه القداسة! ! ! وأعجب منها أن يدعو أهلها إليها المسلمين الذين يقولون: إن الله تعالى قدوس بذاته من الأزل قبل أن يخلق النصارى والمسيح وكل البشر , وأن هذا الوصف واجب له لا يمكن انتفاؤه ولو كفر جميع البشر به لأن ما كان بالذات لا يزول إلا بزوال الذات، وأنه لا يتوقف على فداء ولا غيره , وإلا كان أمرًا اعتباريًّا لا ذاتيًّا. تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. يقولون: إن الغرض من هذا التفسير تنزيه الباري تعالى عن الرضى بالمعاصي والشرور التي عملها ويعملها الناس من لدن آدم إلى أن ينقرضوا، وفي هذا من التناقض نحو ما في سابقه لأنهم يزعمون أن من يؤمن بهذا الفداء لا يؤاخذه الله بذنب , وهذا هو عين الرضى بالمعاصي والشرور لأنه إباحة لها. أليس من العجائب أن يتصدى من يقول: إن الله لا يكون قدوسًا كارهًا للمعاصي إلا إذا أباحها إلى دعوة المسلمين لعقيدته وهم الذين يعتقدون أن من تقديس الباري وتنزيهه وعدم رضاه بالمعاصي أن جعل لكل معصية جزاء وعقوبة ليعتبروا ويتربوا بالنظر في تأثير أعمالهم في أنفسهم وفى الكون لأنه تفضل عليهم بالإرادة والعقل والاختيار في أعمالهم! فهل بعد هذا التقديس والتنزيه من تقديس وتنزيه؟ وقال مجيبًا عن قول المسلمين: (إن الله غفور رحيم) إن الرحمة والمغفرة لا يمكن أن يكونا بغير الفداء؛ لأنهما حينئذ من الرضى بالمعصية , وضرب لذلك مثل الجاني يعفو عنه الحاكم الظالم حبًّا فى الظلم وارتياحًا له كأنه يقول: إن الحاكم إذا سمح لرعيته بأن يرتكبوا جميع الفواحش والمنكرات وقتل ابنه البريء فداءً عنهم يكون عادلاً رحيمًا حكيمًا نزيهًا؛ لأنه عاقب البريء وجعله فدية للأثيم! ! وأي ظلم وجور وقسوة وحب للآثام والجرائم أشد من هذا؟ ولكن التقليد يعمي البصر والبصيرة ويطفئ نور الفطرة حتى لا يكون بدعًا عند صاحبه قلب الحقائق وتفسير النقيض بالنقيض. ومن العجيب - وأي قولهم ليس بالعجيب - أن صاحب هذا السخف يدعو إليه المسلمين الذين يعتقدون أن رحمته تعالى قضت أن تكون عواقب المعاصي كلها سيئة؛ لتكون أعمال الناس عبرة لهم وسببًا لتربيتهم وترقيهم بعلمهم وعملهم، وأنه تعالى قرن وعد المغفرة بالتوبة، ووعد الرحمة بإحسان العمل فقال: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) وقال: {إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56) ونهى عن اليأس من رحمته مهما أذنب العبد لتدوم رغبته في فضل الله وقال: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ} (هود: 114) لأن آثار الحسنة في النفس ضد آثار السيئة، والمراد من الدين ترقية النفس ليرجع المؤمن عن ذنبه ويتوب عالمًا بفائدة التوبة، ومعنى المغفرة. ثم إن صاحب المنشور حاول أن يجيب عن الاعتراض الذي طالما وجهناه إليهم قولاً في مجتمعهم وكتابة في المنار , وهو أن كون الفداء هو الذي يحقق اتصاف الباري بالرحمة والعدل (وزد هنا القداسة) يقتضي أن يكون الله تعالى قَبْلَ صلبِ المسيح غير عادل ولا رحيم ولا قدوس فهذه الصفات إنما حدثت له على رأيهم وإيمانهم منذ ألف وتسعمائة سنة تقريبًا، ولكن العقل يدل على أن صفاته تعالى كلها قديمة بقدمه وكذلك كتبهم فإن إبراهيم وولده ومن قبلهم من الأنبياء كانوا يقدسون الله تعالى ويصفونه بالرحمة والعدل , فهذه العقيدة ينقضها العقل والنقل. فقال في جوابه: (إن الفداء وإن كان تم بعد خلق العالم بقرون فإن صاحبه وعد به من بدء العالم ورمز إليه بالقرابين فابتدأت أثماره تظهر من ذلك الحين) اهـ، ونقول في جواب الجواب: بخ بخ لهذه البراهين التي لا يقوى أحد على نقضها، بل يا أسفى على الفطرة البشرية التي يبلغ التقليد إلى هذه الغاية من إفسادها. إن القرابين وجدت في الملل الوثنية , فهل كان الوثنيون ناجين ومقربين إلى الله بها؟ وهل كان هذا القرب والرضوان الإلهي لأنهم وعدوا من كهنتهم بأن الله سيصلب نفسه بعد في جسم بشري يولد من فرج امرأة لأجلهم , وجعلت هذه القرابين رمزًا لذلك؟ إن الوثنيين قد سبقوا النصارى إلى خرافة الفداء؛ إذ قالوا: إن الإله أودين رمى نفسه في نار عظيمة فأحرقها فداءً عن عباده (راجع ص448م4 أو المقالة الخامسة من الجزء الأول من كتاب شبهات النصارى وحجج الإسلام) , ثم إنه لم ينقل عن إبراهيم خليل الرحمن ولا عن إدريس (أخنوخ) الذي رفعه الله إليه أنهما كانا يقولان بهذا الفداء أو يشيران إلى هذا الرمز الوثني فهل كان التوحيد ذنبًا لهما، ولغيرهما من الأنبياء وكان الوثنيون المتقدمون هم الناجين؟ وكذلك موسى لم يقل به، بل لم يقل به أحد إلا هؤلاء النصارى. هذه هي خرافة الفداء وهذه قيمة شبهة القرابين التي هي عندهم البرهان المبين , ومن العجائب أن أصحابها يدعون إليها المسلمين الذين بيَّن دينهم حكمة القرابين بما يليق بحكمة الباري ويتفق مع تقديسه وتنزيهه في قوله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} (الحج: 37) الله أكبر الله أكبر , لمع الحق وظهر، وتلاشت شبهة الذي كفر، وبطل قول صاحب المنشور لمنكر الصلب والفداء: (واحذر كل الحذر من إنكار ذلك , وإلا كنت منكرًا لقداسة الله، وليس على وجه الأرض كفر أعظم من هذا , فالمشرك والملحد وعابد الصنم يكون في يوم الدين ألطف حالاً من منكري الصلب الذي هو قداسة الله ورحمته وغفرانه) وعلم أن الحق نقيض قوله، وهي أن العقيدة تنافي ذلك , وحسبك أن صاحبها يفضل الملحد على المؤمن الذي ينكرها. فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين.

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى اشتراط الولي في النكاح (س58) أ. م. المدرس في (القاهرة) : لقد أنصفتم فيما كتبتموه في مقالة (الأولياء والكفاءة إلخ) إذ اقتصرتم فيها على ما ورد في الكفاءة من الأحاديث مع بيان مذهب الحنفية في ذلك , وتركتم الحكم للرأي العام , وإنما نود أن تبينوا لنا رأيكم فى وجوب اشتراط الولي أو عدمه مستدلين على ذلك بالكتاب والسنة كما هي طريقتكم مع بيان حكمة الشريعة فى ذلك بتفصيل كاف وبيان شاف , لا زال مناركم هاديًا وعلمكم نافعًا كافيًا. (ج) الذي يفهم من القرآن العزيز وكلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومضت به السنة , ونقل عن جماهير الصحابة ولم ينقل عنهم خلافه أن الولي هو الذى يزوج , وأنه لابد منه إن وجد , وأن الأنثى لا تزوج نفسها , ولكن ليس للولي أن يزوجها بدون رضاها , واكتفى الشرع بسكوت البكر لحيائها , واشترط أمر الثيب للولي , وبذلك أعطى النساء حقًّا لم يكن لهن فى غير هذه الشريعة العادلة , وجعل الرجال قوامين عليهن مع العدل والشفقة وعدم الإكراه حفظًا لنظام البيوت وجمعًا بين مصلحة الرجال والنساء , وإليك الدلائل: قال تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُم} (النور: 32) وهو خطاب للرجال الذين يتولون العقد. وقال تعالى مخاطبًا لعموم المكلفين: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} (البقرة: 232) فالآية صريحة في نهي الأولياء عن عضل الثيب , ولا يملك العضل إلا من بيده عقدة النكاح , ومن زعم أن الخطاب بالنهي للأزواج نرد عليه بالسياق وبما أخرجه البخاري وأصحاب السنن وغيرهم بأسانيد شتى من حديث معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عمي فأنكحتها إياه , فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة , فهويها وهويته , ثم خطبها مع الخطاب , فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها , والله لا ترجع إليك أبدًا , وكان رجلاً لا بأس به , وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله هذه الآية. قال: فَفِيَّ نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. وفى لفظ: فلما سمعها معقل قال: سمعًا لربي وطاعة , ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك. ولو كان لها أن تزوج نفسها لفعلت مع ما ذكر من رغبتها. ثم إن الآية إنما حرمت العضل على الولي ولو أراد الله أن لا يجعل للولي حقًّا على الثيب لنزلت الآية في بيان أن لهن أن يزوجن أنفسهن. ولا يقال: إنها خاصة بتحريم العضل عن الأزواج السابقين لأن العبرة بالعموم لا سيما مع اتحاد العلة المشار إليها في تتمة الآية , وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون} (البقرة: 232) فإنها تشير إلى مراعاة المصالح في هذه المعاملات , ولا تجعلها أمورًا تعبدية , ومصلحة المرأة فى العودة إلى زوجها الأول مع التراضي كما أن مصلحتها أن تتزوج مطلقًا فالعضل محرم على كل حال , وهو لا يتحقق إلا إذا كان الولي هو الذى له حق التزويج برضاها. وقال تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة: 237) الظاهر أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي , وهو مروي عن ابن عباس وعائشة وطاووس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري , ولكن روى ابن جرير وغيره فى المرفوع أنه الزوج وفي إسناده مقال وإن حسنوه , ولم يذكره السيوطي فى أسباب النزول , ولم نرجح الأول عليه لهذا ولكن للسياق , فإنه يقول للأزواج: إذا طلقتم قبل الدخول فعليكم أن تدفعوا نصف المهر المفروض إلا إذا سمحت المعقود عليها بذلك بنفسها أو سمح وليها به , وليس يظهر , أو سمح الزوج به لأن الزوج هو المكلف بالدفع , وإنما قال به قوم وأولوه لأن من قواعدهم أن الولي لا يملك التصرف بمال موليته , ولذلك خصه بعض من قال: إنه الولي بالمطلقة الصغيرة , وفاتهم أن المذاهب لا يصح أن تقيد القرآن ولا أن تخصصه. على أن الجمع بين الآية وبين قاعدتهم سهل , وهو أن يحمل على عفو وسماح يعلم به الولي رضاها أو يعوضها عنه مثله أو خيرًا منه إذا رأى أن اللائق به أن لا يأخذ من الزوج شيئًا لأنه لم يدخل بها , وقد رأيت أن الآية تحث على هذا العفو لأن المأخوذ فى هذه الحالة يثقل على النفوس من الجانبين؛ الزوج يراه كالغرامة والولي والزوجة يريانه كالصدقة. ومن نظر فى التعامل والآداب الإسلامية يرى أن ما جرى عليه المسلمون من إمضاء الولي أمثال هذه الأمور , وعدم حضور البنت المطلقة إلى مجلس الطلاق وتصريحها بعفو , أو مباشرتها لقبض. ومن اتفاق الناس على أن هذا لا يليق بها , ومن التسامح بين الأولياء والبنات لا سيما إذا كان الولي أبا أو جدًّا , كل ذلك من العمل بآداب القرآن وفضائل الإسلام. وهناك آيات أخرى كآية النساء: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (النساء: 19) وآية البقرة: {وَلاَ تُنكِحُوا المُشْرِكِينَ} (البقرة: 221) خاطب الرجال لأنهم هم الذين يزوجون ولم يخاطب النساء بذلك قط. وأما الحديث فقد روى أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن) . وهو يُفهِم أن حق مباشرة العقد للرجال , ولكنه أوجب أن يكون برضى النساء , فالثيب لابد من أمرها صريحًا , ويُكْتَفَى أن يستأذن البكر فتسكت , ولذلك قالوا: يا رسول الله , وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكت) وهذا أصح حديث فى الباب اتفق عليه أهل الصحيح , وهو يدل على أن من الآداب الاسلامية أن لا تصرح البكر بطلب الزواج لأنه لا يليق بالحياء الإسلامي الذى هو فخر لها وهي لا تعرف الرجال , فليعقل هذا من يقولون: إن الشريعة أعطت للبنت الحق في أن تزوج نفسها بدون رضاء أبيها أو غيره فلا يصح أن يقال: إن ذلك مخالف للآداب الدينية. وفى حديث عائشة المتفق عليه قالت: قلت: يا رسول الله تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم. قلت: إن البكر تستأمر فتستحي فتسكت. فقال: (سكاتها إذنها) وفى رواية (إذنها صماتها) , وهذا الاستفهام من عائشة يدل على أنه لم يكن يعهد فى ذلك العصر أن يزوج المرأة غير وليها , وكأنهم رأوا من الغريب أن تستأمر في ذلك. وقالوا: ينبغي أن تعلم البكر أن سكاتها إذن. ولا ينافي هذا حديث ابن عباس عند مسلم وأصحاب السنن (الثيب أحق بنفسها من وليها , والبكر تستأذن فى نفسها وإذنها صماتها) لأنه يحمل على أنه لا يزوجها إلا بأمر صريح منها جمعًا بين الأخبار الماضية والآتية وموافقة للكتاب , وأنه لا يصح العقد إلا بذلك , وأما البكر فيجب استئذانها , ولو زوجها بدون إذنها يكون العقد موقوفًا على إجازتها , ويدل على ذلك فى الموضعين ما تقدم في الجزء العاشر من حديث عبد الله بن بريدة , وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أمر الفتاة لها فأجازت عقد أبيها وتزويجه إياها. وحديث خنساء بنت خدام الأنصارية وهو أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك , فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن. وعن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي) رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي وكذلك ابن حبان والحاكم وصححاه , وذكر له الحاكم طرقًا , وقال: قد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش , ثم سرد تمام ثلاثين صحابيًّا فلا يضر مع هذا وما سيأتي الاختلاف فى وصله وإرساله. وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيما امرأة نكحت بدون إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل , فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها , فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) رواه الذين رووا ما قبله , وحسنه الترمذي منهم , وأخرجه أيضًا أبو عوانة وابن حبان والحاكم وأعلوه بإنكار الزهري له , وأي مانع من نسيانه إياه , وقد رواه عن ابن جريج عشرون رجلاً. ورواه أبو داود الطيالسي بلفظ (لا نكاح إلا بولي , وأيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل , فإن لم يكن لها ولي فالسلطان ولي من لا ولي له) . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزوج المرأة المرأة , ولا تزوج المرأة نفسها؛ فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) رواه ابن ماجه والبيهقي وقال الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات. وروى الشافعي والدارقطني عن عكرمة بن خالد قال: جمعت الطريق ركبًا , فجعلت امرأة ثيب أمرها بيد رجل غير ولي , فأنكحها , فبلغ ذلك عمر فجلد الناكح والمنكح ورد نكاحها. وقد نقل بطلان العقد بغير ولي عن علي وعمر وابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وعائشة , وهؤلاء أعلم الصحابة , وقال الحافظ ابن المنذر: إنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. فتبين أن الكتاب والسنة وعمل الصحابة وأقوالهم وإن شئت قلت كما يقول الفقهاء: إجماعهم على أن النكاح لا يصح بدون ولي , وجرى على هذا سلف الأمة وخلفها عملاً. حتى الحنفية الذين رووا عن أئمتهم في المسألة روايتين؛ ظاهر الرواية أن نكاح الحرة العاقلة البالغة ينعقد برضاها ولو بدون ولي قال فى الهداية: (وعن أبى يوسف أنه لا ينعقد بدون ولي , وعن محمد: ينعقد موقوفًا) وقولهما هو الموافق للأحاديث , فهل يصح أن يترك الحنفية هذ القول عندهم المؤيد بما رأيت من النصوص وعمل الصحابة لأجل تلك الرواية المخالفة لذلك؟ تأمل وأنصف. هذا هو شرع الله فى المسألة , وحكمته ظاهرة , وشرحها بالتفصيل يتوقف على إعادة ما كتبناه غير مرة في استقلال النساء وولاية الرجال عليهن , ونقول هنا بالإيجاز: إن النساء كن قبل الاسلام كالعبيد والماعون عند العرب وغيرهم , فرفعهن الله إلى مساواة الرجال فى الحقوق , والتصرف فى الأموال , ولكنه جعلهن تحت ولاية الرجال , ولم يعطهن تمام الاستقلال فأوحب أن يكون للمرأة قيم يسوسها ولكن ليس له أن يتصرف فى مالها ولا فى نفسها بدون إذنها ورضاها بالمعروف , وهذا القيم هو الأب ثم الأقرب فالأقرب من محارمها حتى تتزوج فيكون الزوج هو القيم والرئيس عليها , فليس لها أن تنفصل من البيت موقتًا بسفر بعيد بدون ذي محرم , وليس لها أن تنفصل منه بالمرة بالزواج بدون إذن الأقرب فالأقرب من قوام البيت , فلابد من اتفاقها مع وليها في إنفاذ هذا الأمر الذى يهمه ويهمها لأنها خلقت للقيام بأمر بيت , فإذا طلقها الزوج فإنها تعود إلى بيت الولي فلابد أن يكون للولي يد في اختيار الزوج لها لئلا يلحقه من سوء اختيارها أذى أو عار. ولأنه أعرف بأحوال الرجال منها , وأبعد عن الهوى فى الاختيار , ولأن من مقاصد المصاهرة التآلف بين البيوت (العائلات) والعشائر، وانفرادُ المرأة باختيار الزوج ينافي ذلك , ويكون سببًا للعداوة والبغضاء. ولأنه ليس في اتفاق الولي معها على انتقاء الزوج وتوليه العقد عنها أدنى هضم لحريتها بعدما علم من اشتراط رضاها - ولهذا المعنى و

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر التربية بركوب البحر الشذرة الرابعة عشرة من جريدة الدكتور أراسم [*] عن ميناء لوندرة في 3 مارس سنة 186 (في البحر) تقرر أن يقلع أصحاب السفينة التي تقلنا في يومين , وها نحن أولاء ننام فيها الآن. ذلك أني كنت قرأت في الصحف الإنكليزية منذ ستة أسابيع إعلانًا بأن سفينة تسمى المونيتور تسافر عما قليل إلى بلاد البيرو فلم ألبث عند وصولي إلى لوندرة أن سألت عنها ولاقيت ربانها في أحواض الميناء, وهو رجل في نحو الثانية والأربعين من عمره أسمر قصير بادن , تؤذن بدانته بأن ستنتهي بسمن مفرط مع ما هو فيه من معيشة الجد والنشاط. ويطري الناس خبرته ومتانة سفينته , وإني قلما صادفت وجهًا أطلق من وجهه , وأدل منه على الذكاء والاستقامة، وقد تبين لي أنه عَرَفَ في مواني إستراليا ربانًا جسورًا انقطع للملاحة لا يعرف غيرها, كنت سافرت معه فيما سبق واتخذته صديقًا , فلما علم أني صديق صديقه أقبل علي بصدر رحب وقلب سليم , وكان من نتيجة هذا التعارف أن اتفقنا على أن أكون طبيبًا للسفينة كما كنت لذلك الصديق , وأن يكون (أميل) تلميذًا بحريًّا في مدة السفر. لما سمعت والدته بهذا ارتاعت في أول الأمر لما توقعته له من سوء الطالع في ذلك العمل فاجتهدت فى تسكين روعها مبينًا مقاصدي منه. بلغ (أميل) الآن من السن أكثر من ثلاث عشرة سنة , وأصبح طويل القامة قوي الجسم يتمتع بصحة تامة من أسبابها فيما أرى نظام المعيشة الذي جرى عليه , وقد بدا لي أن اشتغاله بتعلم الملاحة فرصة مفيدة لتربية قوته البدنية وشد أعضائه وتذليل عضلاته بأعمال تقتضي من المهارة مثل ما تقتضيه من الشجاعة الحقيقية , فإني وهيلانة ما قصدنا قطعًا أن نجعله واحدًا من أجنة العلم الفاسد الذين لا حياة لهم إلا في رؤوسهم , فليعجب من شاء بأولئك المراهقين السقام المخدجين [1] الذين أعجزهم الدرس عن العمل , فليس هذا هو الكمال الذي نطلبه (لأميل) . رأيت الناس في مكان لا يحضرني اسمه الآن يجرحون باطن الصَّدَفَة في بعض الحيوانات الرخوة بطرف خنجر؛ ليحملوا هذه الحيوانات على توليد اللؤلؤ بالصناعة , فذلك يشبه أن يكون شأن المربين مع أحسن التلامذة فهم يتلفون بناهم , وينهكون أجسامهم ولا أدري أي قصد لهم فى ذلك سوى الحصول على مجموع من المعاني تتحجر فى أذهانهم تواضعوا على أن يسموها علمًا , وإني لفي شك من أن ما يحصله المتعلمون من المعاني يعوضهم شيئًا مما خسروه في سبيل تحصيله من قواهم وما أتلفوه من صحتهم. ولست أقصد بقولي هذا تثبيط المتعلمين عن العلم فإن الإنسان خلق ليعلم , وإنما أريد أن يفهموا أن العمل البدني والعمل العقلي متكافئان في لزومهما لتقوية العقل وإحصافه فعلينا أن نربي كل ما وهبه الله لنا ولا نستخف بشيء منه. استشرت (أميل) قبل اعتزامي على هذا الفكر فألفيته مملوء النفس به لأنه كجميع أترابه يحب الجديد، ويأنس من نفسه فخرًا بتعلمه حرفة , ويجب في هذا المقام أن أبين مرادي وهو أني لا أعتقد بحال أن من حقي أن أختار لولدي عملاً تقوم به معيشته , كما أني لا أدعي لنفسي حق إلزامه الإيمان بعقيدة دينية أو سياسية. على أنه لما يأت وقت التفكير في الحرفة التي ينبغي أن يشتغل بها ولا أدري هل يعرف بنفسه ما يلائمه من الحرف أم لا؛ فإن تربيته في غاية البعد عن نهايتها , بل هي في بدايتها ولكني أرى أنه مهما حذق المربي في التبكير بإنشاء الطفل على الميل إلى النفع والطمع فيه لم يكن ذلك منه عجلة مذمومة , ولقد عرف (أميل) مما تلقاه على والدته من الدروس شرف العمل وكرامته فتراه يتخيل الآن أنه سيكسب أجرة سفره بتسلقه شُرُع السفينة، وهو تخيل غير صحيح إلا في جزئه غير أني تحاميت كل التحامي إزالة هذا الوهم من نفسه، وتركت له أن يفخر بأنه يطعم خبزه الجاف بكده ونصبه، فإن أقل ما في هذا أنه مفخرة كنت جديرًا باللوم لو أني حرمته منها. ثم إن التعليم في سفينة تجارية مفيد ومقو للعقل خصوصًا إذا كانت مدته لا تتعدى بضعة شهور , فحرية الإنسان على ظهر البحار هي أن لا يخضع إلا إلى الواجب , فطاعة البحار في الحقيقة فيها شيء من الاختيار , وهذه هي الخاصة الفارقة بينه وبين الجندي , فالرجل الذي يرى من نفسه الجهل ببعض نواميس الكون فيبدي من قوتها ما يكفي لامتثال أمر الربان وهو يعلمه بقول موجز ما جهله من تلك النواميس يكون قد جمع في عمله هذا بين الاستقلال والحكمة. لست أبالغ لنفسي مطلقًا فيما لهذا التعلم من الآثار الحسنة والنتائج المفيدة، فإني أعلم أن (أميل) لن يكون بحارًا لمجرد ما يمارسه من ضروب التمرن في حبال السفينة بيد أن بلاءه في ذلك لا يمكن أن يتخلف عنه استفادته منه فإنه بواسطته يتعلم شيئًا من أحوال البحر، وبه يعرف أجزاء السفينة الأساسية وما يطلق عليها من الأسماء فكثير من أترابه لا يعرفون شيئًا من أمر هذه الدنيا السارحة. أخص ما أعني به في هذا الأمر أن يحصل في ذهنه بالاختبار والمشاهدة معنى من القوى الكونية العظمى، وما يلزم للإنسان في مقاومتها لو قهرها من ثبات الجأش وحضور الفكر، وسيكون هذا أعظم درس له في سفره. ومما لا يسعني إلا أن أضحك منه أنني أسمع بعض المعلمين يقولون لغلمانهم المتبطلين الذين ورموا من صغرهم كبرًا وغرورًا: إنهم ملوك الخلق فهلا وصفوهم أيضًا بأن أيديهم البيضاء الرقيقة لم تخلق إلا لتقود عجلة الشمس في أرجاء السماء؟ رويدًا أيها المعلمون , قفوا هؤلاء الملوك أمام البحر فانظروا ما يعتريهم من الرعب خشية أن تبصق أمواجه الكثيفة في وجوههم. وأما (أميل) فإنه لا بد أن يتعلم من الآن ما يجب أن يبذله الإنسان في سبيل سيادته على الفواعل الكونية , وكيف ينبغي أن يكون معها في كفاح مستمر ليحفظ سلطانه على عرش الماء. حادثت الربان وهو رجل شهم في شأن ولدي، وكاشفته بفكري في تربيته , ففهم حق الفهم الدرس الذي أردت تعليمه إياه وهو أن من المفروض على الشبان أن يعتبروا العمل العقلي جزاء للعمل البدني ومكافأة عليه. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

قصيدة في ندوة العلماء بالهند

الكاتب: عبد الله الجيتيكير

_ قصيدة في ندوة العلماء بالهند تفضل علينا صديقنا الشيخ عبد الله الجيتيكير من بمبي (الهند) بإرسال هذه القصيدة التي قدمها إلى ندوة العلماء التي اجتمعت في شهر شوال سنة 1321هـ، وكتب إلينا أن بعض المسلمين اشتدوا في السنة الماضية في مقاومة الاجتماع وإبطال الاحتفال وجاءوا بأمور لا تحمد عند عاقل , ولكن عزم رجال الندوة غلب حزب التفريق والتمزيق , وصديقنا يعرض بذلك. وبهذا فهمنا ما في قصيدة أبي بكر بن شهاب في الجزء الماضي من التعريض , والشيخ عبد الله هذا هو أخو فقيد العلم والأدب صديقنا المرحوم محمد الجيتيكير صاحب القصائد السابقة في المنار. وإننا ننشر القصيدة برمتها لما فيها من النصيحة والتذكير. قال حفظه الله: دع ذكر ربات الكلل ... وذر الصبابة والغزل القلب مشغول فما ... للعشق فيه من محل قد عمَّنا الداء العضا ... ل من البطالة والكسل داء أخل بعقلنا ... والجسم منه قد اضمحل داء به فسد المزا ... ج وفي الطباع بدا الخلل داء لقد سلب القوى ... منا وعوض بالشلل داء تعطل منه إحْ ... ساساتنا والخطب جل خطب أباد جموعنا ... حتى اتصفنا بالفشل خطب لهول وقوعه الـ ... ولدان رأسهم اشتعل خطب تزلزلت الأرا ... ضي منه واندكّ القلل خطب أقام قيامة ... قبل القيامة منذ حل وارحمتاه لحالنا ... إذ في انحطاط لم نزل ما زاد كثرتنا سوى الن ... قصان فينا والعطل قد زال شمس نهارنا ... فى غفلة وبدا الطفل فالآن إن لم تنتبه ... هل بعد فينا من أمل واخيبتاه لقد أظلتنا ... من الذل الظلل تترى أمام عيوننا الـ ... آفات تمطر كالهمل يا أيها الملأ انظروا ... ماذا بساحتكم نزل جلت لديكم نِقْمَة ... مذ نجم عزتكم أفل هل فيكم من نهضة ... تنجيكم مما حصل هل عدة مع عدة ... نرجو بها دفع الجلل ما عندكم غير اللسا ... ن وليس يتبعه عمل فَلَكَمْ وَكَمْ بتم تعدون ... المصائب بالجمل هل ما أفاد مقالكم ... بين الورى غير الخجل ليس الكلام بمنجد ... ما دام قائله وكل إن الكلام بغير فِعْ ... لٍ كالبكاء على الطلل كم ذا التراخي منكم ... كم ذا التكاسل والمهل كم ذا التعصب بينكم ... كم ذا التنازع والجدل كم ذا التجاهل والتغا ... فل والتساهل والمطل أودى تأخركم عن الـ ... أقران فى شر الغيل لن تفلحوا ما دمتم ... أسرى لأفكار أُوَل والدهر حيث شغلتمُ ... عنه بغيركم اشتغل لله يا قوم انهضوا ... وخذوا الحذار من الدغل وإلى المعالي سارعوا ... فالجد يعلي من سفل ها ندوة العلماء بَيْ ... نَكُمُ أقامت محتفل من كل غطريف ... سديد العزم مقدام بطل من كل نِحْرِير خَبِيـ ... رٍ عارف سمح أجل لله ناد قد حوى ... فضلاء قوم واشتمل لله درهم فكل ... منهم المسعى بذل لله جهدهم فكم ... قد أصلحوا منا خلل كم من مسائلَ فيهم ... تروي الأنام لدى النحل يا معشر الإسلام فَاتَّـ ... بِعُوهُمُ وذروا المذل فهم الأساة وعندهم ... لكم الشفاء من العلل وارعوا حقوق إخائكم ... ودعوا النزاع على الأقل ويكون همكمُ لإصْـ ... لاح الفساد وما أخل بتفرق منكم لقد ... ضاقت بنا حيل الحيل لن تستقيم شؤونكم ... والحبل منكم منفصل يا للحمية أسعدي ... فتشددي فينا الوصل حتى نثقف حال أحـ ... داث فأمرهمُ أجل إن الزمان لمُنْتَهٍ ... والعمر يمضي بالعجل لا ينفعن تأسف ... من بعد ما يقضى الأجل والله ليس نفوسنا ... تركت سدى مثل الهمل فغدا سيُسْأَل كلنا ... عما جناه وما فعل ماذا يكون جوابنا ... أفلا نجيب إذا نسل هذا وما غرضي سوى ... الذكرى ولا أبغي بدل ما الدين إلا النصح ... والهادي هو الله الأجل يا رب وفقنا لما ... ترضاه من حسن العمل واهد الصراط المستقيـ ... م جميعنا وقنا الفشل وانصر بلطفك ندوة الـ ... علما وبَلِّغْهَا الأمل وأَعِنْ عبادك في الذي ... شرعوا به واشف العلل واجعل لنا من أمرنا ... فرجًا وكن لمن اقتبل وافتح بفضلك بيننا ... بالحق واقبل من سأل وأدم صلاتك والسلا ... م على الذى نسخ الملل والآل والأصحاب ثم ... التابعين ومن كمل وسقى سحاب الفضل (مِدْ ... رَارًا) ومن فيها دخل

تقريظ المصنفات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المصنفات (كتاب روح الحياة) أهديت إلينا من بضعة أشهر رسالة بهذا الاسم مؤلفة من 32 صفحة , وقد كتب عليها بعد اسم الكتاب: (الدعوة الأولى) من قلم تحرير جمعية الدعوة الإسلامية , ثم كتب بعد ذلك: (تأليف محمد حافظ صاحب مدرسة نور الإسلام الأهلية) ففهمنا منها أن هناك جمعية للدعوة , ولكننا لم نسمع لهذه الجمعية قبل الرسالة ولا بعدها خبرًا، ولم نر لها أثرًا، وقد اعتدنا أن نرى كثيرًا من هذه المصنفات الحديثة الضخمة الألقاب، فنحوم عليها نبغي الورود فيتبين لنا أنها سراب، حتى صرنا نرغب عن قراءة أكثر المصنفات الحديثة التى لا نعرف لأصحابها شهرة في العلم لئلا نضيع وقتنا في غير المفيد. وقد كنا ظننا أن هذه الرسالة من هذا القبيل قبيل المتهجمين على التأليف , وطبع ما يكتبون وإن كان لغوًا إلا أننا أمسكناها لننظر فيها لأنها نسبت إلى جمعية موضوعها الدعوة الإسلامية , فلم يتح لنا ذلك إلا اليوم. تصفحنا بعض صفحاتها , وقرأنا جملاً من مسائلها فرأيناها كتبت بعقل واشتملت على حكم وعظات نافعة أكثر مما كنا ننتظر , ولكننا لم نر فيها دعوة إلى شيء معين محدود يدل على أن وراءه ما هو أرقى منه كما يتبادر الى الذهن من كلمة (الدعوة الأولى) إذ تفهم الكلمة أن هناك أمورًا مرتبة يتوقف بعضها على بعض قد شرعت الجمعية في بيانها لإقناع الناس بها. ومواعظ الرسالة في تقسيم الحياة إلى وجودية وشهوانية واجتماعية , وفي العوامل الحيوية في الشخص والعائلة والقوم والوطن , وفيها فصل في الدين وتأثيره وفضل الإسلام، وطريقتها في البحث فلسفية. وجملة القول أن الرسالة نافعة نود أن يطالعها الشبان المصريون الذين لا هم لهم في حياتهم إلا اللذة , ونشكر للمؤلف والجمعية هذا العمل ونتمنى أن يزيد نجاحًا ونباتًا. *** (الحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار) رسالة لشيخ الإسلام سعد الدين الخالدي المعروف بابن الديري نقلت من إحدى مكاتب الآستانة واعتنى بإيضاحها وطبعها محمد روحي أفندي الخالدي المقدسي باش شهبندر الدولة العلية في مدينة بردو الفرنسية , وفيها مباحث لا تكاد توجد مجموعةً في كتاب. بدأها بما ورد في الحبس من نصوص الكتاب والسنة , وخرج الأحاديث التى أوردها وذكر عللها وهو ما لم يعهد من فقهاء الحنفية إلا قليلاً , ثم ذكر أقوال الفقهاء في ذلك. ومن مسائلها بيان أصل اعتبار غلبة الظن , ومراعاة ظواهر الأحوال , والكلام في الحدود ودرئها والمعافاة منها قبل الوصول الى الحاكم وعدم العمل فيها بكل اعتراف. والكلام في حبس أرباب التهم وضربهم لأجل الإقرار، وفي تحكيم القلب في الأمور , وهو ما يعبرون عنه اليوم بالضمير. وفي آخرها ترجمة المؤلف وما قاله العلماء فيه ونقلوه عنه. وصفحات الرسالة تزيد على 80 فنشكر فضل من سعى بطبعها ونشرها. *** (علم قراءة اليد) كتاب حديث موضوعه ما يسميه الناس عندنا علم الكف , وذلك أننا نسمع منذ الصغر أن من العرافين من يعرف مستقبل الإنسان من النظر في كفه وقراءة ما فيها من الخطوط الدالة على معاني لا يعرفها إلا أهلها. والعقلاء يعدون هذا ضربًا من الدجل والاحتيال على الرزق كضرب الرمل والودع والحصى , ولا تكاد تجد من يعتقد بأن الكف يدل حقيقة على أحوال الإنسان إلا النساء والجهلة. وما كنا نظن أن الأوربيين عُنُوا بهذا الأمر ووضعوا فيه المصنفات الموضحة بالرسوم , وتصوير تقاطيع الكف وخطوطه حتى ظهر هذا الكتاب. نقل الكتاب وجمعه من اللغات الأجنبية نجيب أفندي كاتبه رئيس القلم الإفرنجي بالسكة الحديدية السودانية. واعتنى بضبط لغته الصاغ قولاسي محمد أفندي فاضل أركان حرب السكة الحديدية السودانية. وهو جزآن أحدهما في فراسة اليد , وثانيهما في أسرار الكف , وفيهما أبواب وفصول كثيرة وتسعة وعشرون شكلاً. وصفحات الكتاب تقرب من مائتين وثمن النسخة منه 20 قرشًا أو 5 فرنكات وأجرة البريد قرش أو 30 سنتيمًا ويطلب من المكاتب الشهيرة. *** (تاريخ اليهود) وضع هذا التاريخ حديثًا شاهين بك مكاريوس الواسع الاطلاع في التاريخ, وهو مؤلف من فصول في نسب اليهود وأصلهم , وفي انتشارهم وتاريخهم قبل الخروج من مصر وبعده , وفي تفرقهم في الأرض شرقها وغربها , وفي ديانتهم وشريعتهم وفرقهم وعوائدهم وأشهر متقدميهم ومتأخريهم وجمعياتهم ونوابغهم ووجهاء المعاصرين في العصر. وطريقة المؤلف وعادته في كلامه عن الطوائف والملل النظر إلى الحسن والتنويه به , وعدم الالتفات إلى ضده بالمرة , فهو لا يذكر أمرًا منتقدًا لا على طريقة الاستحسان والرضى ولا على سبيل الرد والنقض. وقد قرظ كتابه بعض فضلاء اليهود , واستحسنوا تدريسه في مدارسهم الابتدائية لاختصاره وسهولته. (تاريخ إيران) وقد أهدانا المؤلف مع كتابه الحديث المذكور تاريخه لإيران الذي ألفه من عدة سنين وقدمه للشاه مظفر الدين وهو أكبر من تاريخ اليهود وأكثر فائدة منه. *** (الحقائق الأصلية في تاريخ المسونية العملية) وأهدانا أيضًا هذا الكتاب من تأليفه , ويعني بالعملية ما ينسب إلى الجمعية من المباني والآثار الأدبية لا أعمالها السياسية السرية التي كانت من أعظم أسباب الانقلاب السياسي في أوربا. وفي الكتاب فوائد كثيرة عن هذه الجمعية لا يستغني الباحثون عن معرفتها , ولعلنا نتكلم عن شيء من مسائل هذا الكتاب بعد مطالعته. فنشكر للمؤلف هديته. وهذه الكتب تطلب كسائر مؤلفاته من إدارة المقطم بمصر. *** (عود على بدء) صدر الجزء الثاني من هذه القضية المتممة لقصة الفرسان الثلاثة , وفيها فوائد جمة عن أخلاق الملوك المستبدين وأحوالهم , وأهمها أنه لا يؤمن جانبهم ولا يرجى ودهم , وفيها من غرائب دسائس اليسوعيين وبراعتهم في السياسة ما يمثل لك عظمة هذه الجمعية السرية وهول مستقبلها. وأعظم العبر فيها ما كان من خبر بعض الحراس الثلاثة مع الملك لويس الرابع عشر في مواجهته ببيان فساد أخلاقه وسوء تصرفه مما يدل على أن أصحاب الأخلاق العالية في كل زمان ومكان هم الملوك الحقيقيون الذين يحتقر كل أحد نفسه أمامهم وإن كابر وتكبر. وعتا وتجبر، وثمن الجزء الواحد ستة قروش كما تقدم ويطلب من مكتبة المعارف بمصر. *** (شارل وعبد الرحمن) هي القصة الثامنة من القصص التى وضعها جرجي أفندي زيدان في تاريخ الإسلام وهي تتضمن فتوح العرب في بلاد فرنسا إلى ضفاف نهر لوار بجوار تورس وما كان من تكاتف الإفرنج هناك على دفعهم بقيادة شارل مارتل والأسباب التي دعت إلى فشل العرب ونجاة أوربا منهم , أما هذه الأسباب التي شرحها فهي ترجع إلى أمرين: أحدهما قلة العرب في الجيش وكثرة البربر وغيرهم من الشعوب التى دخلت في الإسلام , ولم يتمكن من قلوبهم الإيمان , ولا عرفوا حقيقة ما يأمر به هذا الدين من العدل وعدم الاعتداء في الحرب , وتحريم التعرض لمن لا يقاتل كالرهبان والنساء. فكان هؤلاء الدخلاء لا هم لهم إلا السلب والنهب , فتنكرت النفوس التي كانت مالت إلى المسلمين منهم , وساءت بذلك سيرتهم. وثانيهما اجتماع كلمة الأوربيين بعد تفرقهم , وهو أضعفهما. وثمن النسخة من القصة 10 قروش , وتطلب من مكتبة الهلال بمصر. *** (نبراس المشارقة والمغاربة) جريدة ظهرت في مصر مديرها السيد مصطفى بن إسماعيل وهي جريدة لا كالجرائد التى تظهر كل آن في مهاب الأهواء المتناوحة في مصر فتعلو وتسفل , وتيمن وتشأم , وتمين وتصدق , بل هي جريدة تحالف فيها القول مع الاعتقاد , وتآخى الاعتقاد مع الدين , وجرى الدين كعادته مع حسن النية فهي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في الأمور العامة بحسب ما يصل إليه علم من يكتبها وفهمه. وقد انتقدنا عليها إطالة الكلام في المسألة الواحدة كالكلام في العرب ومراكش ولو نوعت المباحث لكانت أحب , وهي تصدر في الشهر ثلاث مرات , وقيمة الاشتراك فيها 50 قرشًا في مصر و10 روبيات في الهند وزنجبار و16 فرنكًا في سائر البلاد. فنسأل الله أن يهديها طريق الرشاد، ويهبها الثبات والسداد، إن الله بصير بالعباد. *** (سيف العدالة) جريدة سياسية أدبية انتقادية إرشادية فكاهية أسبوعية موقتًا لصاحبها حسن أفندي لبيب البري ومحمد توفيق أفندي البحري , ولما كان أحد صاحبيها بريًّا والآخر بحريًّا , , وكان موضوعها الانتقاد , فيتوقع أن يبينا فيها ما ظهر من الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس , ويلبسا ذلك ثوب الانتقاد، ليكون ذلك من جزاء أولئك الأفراد. {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) , وقيمة الاشتراك في الجريدة 80 قرشًا عن سنة في مصر و35 عن 3 أشهر و30 فرنكًا في الخارج , فنتمنى لها التوفيق والنجاح.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مراكش والإصلاح وحال المسلمين) كتب إلينا من فاس أن أبا حمارة يكون سلطنة في تازه. وأنه ظهر خارجٌ آخر يدعى أبا عمامة (وهو معروف) ، وأنه ليس لدى الحكومة في فاس أكثر من ألف جندي , وأن الخزينة مفلسة فإن الدين الذي أخذه السلطان عبد العزيز من فرنسا قد اشترى به من باريس كثيرًا من الأثاث والرياش والماعون وأدوات الزينة والزخرف، وأن فرنسا قد استلمت إدارة المكس (الجمرك) بطنجة في مقابلة المال الذي أخذه السلطان منها , وقدره 62 مليون فرنك وابتدأت بالعمل. وأن بعض الوزراء ميال لسياستها كما كان المهدي المنبهي ميالاً إلى إنكلترا حتى إنه دخل في حمايتها رسميًّا، وهو وزير وإن كان لا حق له في ذلك، وإن جهل هذا الوزير الذي ذهب بما كان عند الدولة من السلاح الكثير، وأفسد عليها جيشها وأطمع الخارجين فيها، وأن السلطان قد صادره بعد عودته من الحج هو وكاتبه، وقد قبض على كاتبه , وامتنع هو في طنجة بحماية قنصل إنكلترا. ويظن الكاتب أن في تداخل فرنسا في شئون البلاد خطرًا عظيمًا لأن جميع القبائل مستعدة للمقاومة بالقوة وأنهم ما أبغضوا السلطان إلا لميله إلى الأجانب، ولولا ذلك لم تمتد دعوة الخارج وتقوى شوكته. هذا ملخص ما كتبه الكاتب من أخبار البلاد وهو يقول مع هذا ما يعلمه المختبرون من أن أكثر علماء تلك البلاد لا يزالون على ما كانوا لم تحدث لهم موعظة , ولا تجدد لهم اعتبار , ولا اقتنعوا بالحاجة إلى شيء من العلم والعمل غير فقه المالكية ومقدماته , وعامتهم لا تزال تعتقد مع أكثر خاصتهم أن أعظم واق للبلاد هو وجود قبور الأولياء فيها لا سيما سيدي إدريس الأكبر رضي الله عنه، ولو عرفوا مع كتب النحو والفقه شيئًا من تاريخ المسلمين؛ لكان لهم فيه عبرة , فإن معظم بلادهم خرجت من أيديهم واستولى عليها الإفرنج على بُعْد أكثرهم عنها , وكان أهلها يقولون بقول أهل مراكش ويعتقدون اعتقادهم. كان أهل بخارى قبل فتح الروسية لبلادهم يرون أن قراءة البخاري وسرِّ سيدي بهاء الدين شاه نقشبند إمام الطريقة المشهورة كافيان لحماية البلاد من كل سوء، وقد دخلت الجنود الروسية عاصمتهم , وهم مشغولون بقراءة البخاري , فلم تغن عنهم قراءة البخاري ولا البخاري نفسه ولا شاه نقشبند شيئًا من عذاب الله الذي تركوا سنته في خلقه وأمره فى كتابه {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) . يتوقف امتثال أمر الله في هذه الآية على معرفة الفنون العسكرية، ومنها الرياضية والطبيعية التي يُحرِّمها الغفل من الفقهاء باسم الدين؛ فيحرموا ما فرضه الله تعالى على الأمة اعتداء على الله وافتئاتًا على دينه , والعامة تغش بهم لأنها اعتادت على تقليدهم. ومن ينير الله تعالى بصيرته ويؤتيه فهمًا في كتابه فيحاول إقناع الناس بما أوجب الله تعالى عليهم من الاستعداد للأعداء بمثل ما يستعدون به لإزالة سلطة الإسلام - وهو العالم حقًّا - يهيجون عليها العامة بأنه يدعوهم إلى علوم الكافرين ليفسد عليهم دينهم , وأن ما يستدل به على دعاويه من كتاب الله تعالى غير جائز لأمثاله؛ لأنه مخصوص بالذين ماتوا من المجتهدين، ولكن كيف جاز لهم هم أن يجتهدوا بجهلهم فيحلوا ويحرموا بأهوائهم من غير بينة ولا دليل. هذا ما وصلت إليه الأمة الإسلامية بإرشاد علمائها، واستبداد سلاطينها وأمرائها حتى نزع الله منهم أكثر ممالكهم، ولا تزال الأمم الإفرنجية تستولي على بلادهم مملكة بعد مملكة، ولا يرجع المتأخر عما كان عليه المتقدم. فمن نعاتب ومن نخاطب. الخواص والزعماء هم الذين ينهضون بالأمم، ولكن طول عهد المسلمين باستبداد الأمراء قد أفسد النفوس، وطول عهدهم بالجهل والتقليد قد أفسد العقول، فأي زعامة ترجى مع فساد نفس المرء وعقله. تنحي جرائد هذه البلاد على السلطان عبد العزيز وتنعي عليه إسرافه في اللهو واللعب واللذات الحسية، وكل أمراء المسلمين كذلك، بل يعرفون من طرق الشهوات واللذات ما لا يخطر له على بال، وإنما يلام هذا السلطان على كونه لا يعرف شيئًا غير اللهو، وأنى له أن يعرف شيئًا و (العلم بالتعلم) , وهو لم يتعلم من علوم السياسة وإدارة الممالك شيئًا، ثم أنَّى له أن يعمل بما عساه يعلمه، و (الحلم بالتحلم) أي أن الأخلاق والأعمال الحسنة إنما تنشأ عن التربية والتعود عليها, وهو لم يترب إلا على اتباع ما يحب ويشتهي , وإننا نرى من تعلم مَنْ أمرائنا وعرف ما لم يعرفه غيره لا يتبع إلا هواه إلا أن يعجز عنه ويضطر إلى غير ما يهوى اضطرارًا. الواجب على الجاهل بما ينبغي له علمه وتتوقف عليه سعادته إن كان عاقلاً موفقًا أن يستعين بمن يعلم ذلك , ويقدر على العمل به بقدر الإمكان. ولكن طبيعة الاستبداد كالمخدر في الجسم لا يحس معه المرء بالحاجة إلى الدواء فيسعى بطلبه ولو أحس لوجد للمقتضي مانعًا , وهو لذة الاستبداد التي تعلو كل لذة في الكون فهو يختار أن تطوح أمته في هوة الهلاك على أن يُعارِض استبداده وحكمه المطلق معارض إصلاح. السلطان عبد العزيز لا يرى أمامه، ولا حوله داعيًا إلى إصلاح عسكري أو إداري أو علمي، ولا يشعر بأن الأمة تطالبه بشيء من ذلك، بل ربما كان يعلم أن أمته تكره كل شيء جديد وإن كان السعادة والسيادة، أفلا يكون معذورًا بالنسبة إلى سلطان يعلم أن في رعيته الألوف وعشرات الألوف، بل والملايين من العارفين بدرجة ضعف الدولة , الشاعرين بخطر الجهل في الأمة والاستبداد في السلطة , المطالبين بالإصلاح ثم هو يحاربها كلها، ويسعى في إطفاء كل شعلة للعلم، وجذوة للغيرة في كل زاوية من زوايا بلادها وقراها , حتى إنه ليعد من أكبر الجرائم السياسية الاطلاع على كتاب في فن التربية والتعليم، ويعاقب على ذلك بدون محاكمة عقابًا لا حد له ولا شرع ولا قانون؟ ساح شاه إيران فى بلاد أوربا , ورأى فيها من آيات القوة والرقي ما عرفه الفرق بين العلم والجهل، والعمران والخراب , والترقي والتدلي، والقوة والضعف؛ فاشتهى أن يصلح حال دولته، ولكنه لا يجد في بلاده من يقدر على القيام بالأعمال الإدارية ولا المالية ولا الحربية ولا التعليمية. فههنا شعب إسلامي يحب الإصلاح، ولكن سلطانه لا يحبه، وهناك شعب إسلامي لا يشعر بالحاجة إلى الإصلاح، ولكن سلطانه يشعر به. فلا شعب يقدر على تقييد سلطان , ولا سلطان يقدر على إصلاح شعب، وأما بلاد مراكش فلا سلطانها يشعر بما يجب ولا شعبها , فحالها شر الأحوال. ولكن قد بلغنا أخيرًا أن بعض الكبراء في فاس يشعرون بالخطر الذي ينذرهم , ويتمنون لو يقتنع السلطان بمثل ما هم مقتنعون به، ويتفق معهم على العمل لتلافي الخطر، ثم لا يجدون لذلك وسيلة، ولا يهتدون إليه سبيلاً. المسلمون مساكين , المسلمون فقراء، أَمَا إنهم ليسوا فقراء الأيدي , ولكنهم فقراء العقول والقلوب , فإنه لا يزال في أيديهم أفضل بقاع الأرض، ولكنهم قوم يجهلون. نعم قد رشد من المسلمين أفراد قليلون، ولكنهم في شعوبهم القاصرة ضائعون، ومع هذا فهم محل الرجاء في جميع الأرجاء، يعدون للإصلاح الأفراد، ويؤلفون ما استطاعوا بين الآحاد، وإن الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد , فنسأل الله أن يسدد أمرهم، ويشد أزرهم , ويكثر عددهم , ويقوي مددهم. * * * (الحجاج والسلطان والإنكليز) أرسل السلطان إلى الحجاز لجنة لتحقيق أمر ما كان من التعدي على الحجاج وسفك دمائهم، ونهب أموالهم، وهذا اعتراف رسمي بالتعدي إجمالاً , وتكذيب لما نشر في الجرائد العثمانية نقلاً عما كتبه أمير مكة وإليها بعد الحج من أن الحجاج كانوا في أمن وراحة واطمئنان. والذي نقل عن اللجنة أنها نفت طائفة من وجهاء المدينة المنورة إلى جهة الطائف. والمعروف أن هنالك حزبين يتنازعان , والحكام ينصرون من كان أكثر لهم نفعًا , والناس يعرفون أن علة مصاب الحجاج في مكة لا في المدينة، وهي الأمير والوالي , ولكن (المابين) راضٍ عنهما , فليغضب من شاء من الحجاج وغيرهم. وعسى أن تكون اللجنة اتفقت مع الوالي والأمير على حفظ الأرواح والرفق بسلب الأموال إذ لا يرجى المنع من السلب مطلقًا فيما نظن , فإن الاعتداء على الأرواح فضيحة كبرى , وإذا تبين استمراره يبطل الحج لأنه يصير محرمًا بعد أن كان واجبًا إلا إذا قدر المسلمون على حماية حرم الله، وحرم رسوله رغمًا عن الحكومة. هذا ما كان من أمر حكومة السلطان في ذلك، وقد أنبأنا البرق بأن مجلس النواب الإنكليزي بحث من عهد قريب في مسألة الحج المصري , وسأل حكومته عن الطريق التي تسلكها في المحافظة على الحجاج المصريين، وهو نبأ جديد لم يعهد من قبل، ولا غرو فإن الاحتلال الإنكليزي قد دخل في طور جديد بعد الوفاق بين إنكلترا وفرنسا، ورضاء الدول بالوفاق , ومنه عدم البحث في أمر الاحتلال والجلاء , وتفويض الأمر كله في مصر إلى بريطانيا العظمى بشرط أن تكون حقوق الدول ومصالحها فيها محفوظة، فهل تفطن الحكومة الحميدية إلى وجوب منع كل سبب يؤدي إلى تداخل الإنكليز في شأن الحجاز والحجاج؟ هذا ما يتمناه للدولة والسلطان كل مسلم , والله الموفق. * * * (الرابطة الدينية والحرب الحاضرة) لقد ظهر لنا من ميل النصارى إلى روسيا في هذه الحرب فوق ما كنا نعرف ونظن , فإننا رأينا العوام والخواص منهم يتألمون أشد التألم لكل انكسار وكل خسار يصيب الجنود الروسية فى الشرق الأقصى ويفرحون أو يتعزون إذا قيل: إنه قد قتل من العساكر اليابانية عدد كثير. ظهر ذلك لنا مما نشاهد في مصر، ومما ينقل لنا من أخبار سوريا والمهاجرين السوريين في أمريكا. وقد انتهى الغلو في حب روسيا عند السوريين إلى أن يترك بعضهم الضحك بل والأكل في المساء الذي يقرءون في برقياته أن روسيا قد انكسرت في واقعة كذا، وأخذ اليابانيون منها موقع كذا، أو أغرقوا لها كذا وكذا من السفن الحربية - وإلى أن يكابر بعض أصحاب الصحف منهم أنفسهم في الانكسار المتوالي من الروس فيصوروا الوقائع بغير الصور التي انتهى إليهم خبرها، حتى كان في هذه الصحف ما لو اكتفى به القارئ في تعرف أخبار هذه الحرب لاعتقد أن ليس لليابانيين مزية , وأن ما أخذوه من المواقع والحصون من الروس قد تركه الروس لهم لحكمة حربية , ولا يلبثون أن ينقضوا عليهم انقضاض الأسود على القرود فيمزقوهم تمزيقًا - هذا وأوربا بدعواها، وكبريائها وخيلائها واحتقارها للشرق وأهله قد أعجبت كلها حتى أنصار روسيا منها بأن اليابان قد بلغت من إتقان الحرب علمًا وعملاً غاية لا مطمع لأحد في تجاوزها , فنظامهم أكمل نظام، وسلاحهم أحسن سلاح , وشجاعتهم أتم شجاعة، وقد بلغوا الكمال الحربي في البر والبحر. والمعتدلون من أصحاب هذه الصحف الذين لا مندوحة لهم عن ذكر جميع الوقائع كما ينقل البرق والبريد يضيفون إلى أخبار ظفر اليابان ما لا مناسبة له من أعمال روسيا الماضية وانتصارها السابق في بعض الحروب , وما لها من الأعذار الحاضرة، وما يرجى لها من الأماني المستقبلة. يمثلون بذلك عظمة روسيا في أعظم تمثال وصل إليه الخيال قبل هذه الحرب التي ذهبت بالخيالات، وفتحت للناس باب الحقيقة في الحكم. ولسنا نريد بهذا القول تحقير روسيا أو التكهن بأنها لا تنتصر أو الرد على هذه الصحف , وإنما نريد بيان الواقع. في البرازيل جريدة سورية معتدلة حقًّا لا تتعصب لدين ولا لمذهب ولا لطائفة، وهى جريدة (

مناظرة بين مقلد وصاحب حجة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة بين مقلد وصاحب حجة تابع (الوجه السابع والسبعون) أن تقول لطائفة المقلدين: هل تسوغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوغتم تقليد الجميع كان تسويغكم لتقليد من انتميتم إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبًا لكم تفتون وتقضون بها , وقد سوغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر , فكيف صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا؟ وكيف استجزتم أن تردوا أقوال هذا وتقلدوا أقوال هذا , وكلاهما عالم يسوغ اتباعه فإن كانت أقواله من الدين فكيف ساغ لكم دفع الدين؟ وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده؟ وهذا لا جواب لكم عنه. يوضحه. (الوجه الثامن والسبعون) أن من قلدتموه إذا روي عنه قولان وروايتان سوغتم العمل بهما وقلتم: مجتهد له قولان فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا , وكان القولان جميعًا مذهبًا لكم فهلا جعلتم قول نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعًا مذهبًا لكم؟ وربما كان قول نظيره ومن هو أعلم منه أرجح من قوله الآخر وأقرب إلى الكتاب والسنة. يوضحه. (الوجه التاسع والسبعون) أنكم معاشر المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولاً خلاف قول المتبوع أو خرجه على قول جعلتموه وجهًا وقضيتم وأفتيتم به , وألزمتم بمقتضاه , فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولاً يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدوه شيئًا. ومعلوم أن واحدًا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أَجلّ من جميع أصحابه من أولهم إلى آخرهم فَقَدِّروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم , فيالله العجب! صار من أفتى أو حكم بقول واحد من مشايخ المذهب أحق بالقبول ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل وهذا من بركة التقليد عليكم. وتمام ذلك: (الوجه الثمانون) أنكم إن رمتم التخلص من هذه الخلطة وقلتم: بل يسوغ تقليد بعضهم دون بعض , وقال كل فرقة منكم: يسوغ أو يجب تقليد من قلدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه؛ كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض , ثم يقال: ما الذي جعل متبوعكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة الأخرى فبأي كتاب أو بأية سنة , وهل تقطعت الأمة أمرها بينها زبرًا وصار {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) إلا بهذا السبب. فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتنأى عن غيره وتنهى عنه , وذلك مفضٍ إلى التفريق بين الأمة وجعل دين الله تابعًا للتشهي والإعراض، وعرضة للاضطراب والاختلاف، وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند الله للاختلاف الكثير الذي فيه , ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة أقوالهم بعضها ببعض , ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرحوا به في كتبهم لكفى. (الوجه الحادي والثمانون) أن المقلدين حكموا على الله قدرًا وشرعًا بالحكم الباطل جهارًا المخالف لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين لله بحججه , وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدمة. فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبى حنيفة وأبي يوسف وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي , وهذا قول كثير من الحنفية , وقال بكر بن العلاء القشيري المالكي: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين من الهجرة وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح وعبد الله بن المبارك. وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي. واختلف المقلدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يفتي ويحكم به ممن ليس كذلك وجعلوهم ثلاث مراتب: (ا) طائفة أصحاب وجوه كابن شريح والقفال وأبي حامد. و (2) طائفة أصحاب احتمالات لا أصحاب وجوه كأبي المعالي. و (3) طائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد [*] وغيره. واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد على أقوال كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان , وعند هؤلاء أن الارض قد خلت من قائم لله بحججه , ولم يبق فيها من يتكلم بالعلم , ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب الله ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما ولا يقضي ويفتي بما فيهما حتى يعرضه على قول مقلده ومتبوعه , فإن وافقه حكم به وأفتى به وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما ترى قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم وإبطال حججه , والزهد في كتابه وسنة رسوله , وتلقي الأحكام منهما مبلغها , ويأبى الله إلا أن يتم نوره ويصدق قول رسوله أنه لا تخلو الأرض من قائم لله بحجته , ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به , وأنه لا يزال يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها , ويكفي في فساد هذه الأقوال أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد من ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم , وكيف حرمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب الله وسنة رسوله , وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلدتموه وأوجبتم على الأمة تقليده , وحرمتم تقليد من سواه , ورجحتموه على تقليد من سواه. فما الذي سوغ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب , وحرمتم اختيار ما عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة. ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا عند غيرك فمن أين يساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين , أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده. وموجب هذا القول أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأسبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل ومن في طبقتهم من الفقهاء كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مائتين , فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين , وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقًا لهم من الاختيار , ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين الله بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم , ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفاظ الإسلام وأعلم الأمة بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم كأحمد بن حنبل والشافعي وإسحق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ونظرائهم على سعة علمهم بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وتحريهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل. ومن قال منهم بالقياس فقياسه من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص مع شدة ورعهم وما منحهم الله من محبة المؤمنين لهم، وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لهم. فإن احتج كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح في تقدم زمان أو زهد أو ورع أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم من بعده أو كثرة أتباع لم يكونوا لغيره؛ أمكن الفريق الآخر أن يُبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو مثل هذا أو فوقه , وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعًا: نفوذ قولكم هذا - إن لم يأنفوا من التناقض- يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين وأعلم وأورع وأزهد وأكثر أتباعًا وأجل. فأين أتباع ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل بل أتباع عمر وعلي من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة , وهذا أبو هريرة قال البخاري: حمل العلم عنه ثمانمائة رجل ما بين صاحب وتابع. وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحاب عبد الله بن عباس. وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء وطاووس ومجاهد وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وجابر بن زيد؟ وأين في أتباعهم مثل السعيدين والشعبي ومسروق وعلقمة والأسود وشريح؟ وأين في أتباعهم مثل نافع وسالم والقاسم وعروة وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن؟ فما الذي جعل الأئمة بأتباعهم أسعد من هؤلاء بأتباعهم؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم , فعظمهم وجلالتهم وكبرهم منع المتأخرين من الاقتداء بهم , وقالوا بلسان قالهم وحالهم: هؤلاء كبار علينا لسنا من زبونهم. كما صرحوا وشهدوا على أنفسهم فإن أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة وقالوا: لسنا أهلاً لذلك لا لقصور الكتاب والسنة , ولكن لعجزنا نحن وقصورنا فاكتفينا بمن هو أعلم بهما منا!! فيقال لهم: فلِمَ تنكرون على من اقتدى بهما وحكمهما وتحاكم إليهما وعرض أقوال العلماء عليهما فما وافقهما قبله، وما خالفهما رده. فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود؛ فلِمَ تنكرون على من وصل إليه وذاق حلاوته؟ وكيف تحجرتم الواسع من فضل الله الذي ليس على قياس عقول العالمين ولا اقتراحاتهم , وهم وإن كانوا في عصركم , ونشؤوا معكم , وبينكم وبينهم نسب قريب فالله يمن على من يشاء من عباده. وقد أنكر الله سبحانه على من رد النبوة بأن الله صرفها عن عظماء القرى ومن رؤسائها وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيًا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف: 32) وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره) وقد أخبر الله سبحانه عن السابقين بأنهم {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14) وأخبر سبحانه أنه {بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجمعة: 3) ثم أخبر أن {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: 4) . وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد , وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما وما لهم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها , ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا وذلك بحول الله وقوته ومعونته وفتحه فله الحمد والمنة وما كان فيه من صواب فمن الله هو المانُّ به , وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان وليس الله ورسوله ودينه في شيء منه، وبالله التوفيق. (تمت المناظرة)

السؤال والفتوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السؤال والفتوى بلوغ الدعوة لكفار العصر (س 62) محمود أفندي ناصف الصراف بسكة الحديد السودانية في (حلفا) ذكرتم في الجزء السابع أن (كل من بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على وجه صحيح فلم يؤمن به عنادًا للحق فهو خالد في النار) , وهذا يستلزم أن تكون الدعوة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان يدعو المشركين للإسلام ويفرض عليهم الجزية أو الحرب في حالة إبائهم كما هو وارد في القرآن ومذكور في التاريخ، فما حكم من لم تبلغه الدعوة بلاغًا شرعيًّا من القوم المتأخرين، وكيف حالهم في الآخرة عند الله وهم لم يُدْعَوا للإسلام، ولم تبلغهم الدعوة على الوجه الشرعي الصحيح. (ج) إن دعوة خاتم النبيين عامة فحكمها واحد في زمنه وفي كل زمن بعده إلى يوم القيامة. فمن بلغته على وجه صحيح يحرك إلى النظر فلم ينظر فيها , أو نظر وظهر له الحق فأعرض عنه عنادًا واستكبارًا؛ فقد قامت عليه حجة الله البالغة ولا عذر له في يوم الجزاء إذا لم يُرَقِّ روحه ويزكِّ نفسه بها ليستحق رضوان الله تعالى , ومن لم تبلغه بشرطها أو بلغته ونظر فيها بإخلاص ولم يظهر له الحق ومات غير مقصر في ذلك فهو معذور عند الله تعالى , ويكون حاله في الآخرة بحسب ارتقاء روحه وزكائها بعمل الخير أو تسفلها ودنسها بعمل الشر. والخير والشر معروفان في الغالب لكل أحد لا يكاد يختلف الناس إلا في بعض دقائقهما. ويا سعادة من يتحرى عمل كل ما يعتقده خيرًا واجتناب كل ما يعتقده شرًّا. وما ذكر في السؤال من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يفرض على المشركين الجزية أو الحرب غير صحيح ولا هو في القرآن ولا في التاريخ، بل سهو من السائل , فإنه صلى الله عليه وسلم دعا مشركي العرب إلى الإسلام بالحجة فعاندوه وآذوه وأخرجوه من وطنه , ثم صاروا يؤذونه في مهاجره ويكرهون أتباعه على الشرك , ويصادرونهم في أموالهم حتى إذا أقدره الله تعالى على الدفاع أنشأ يجاهدهم حتى أظفره الله تعالى بهم , ولم تضرب الجزية على أحد من المشركين بل هي خاصة بأهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس لأن لهم أديانًا تعرفهم بالله وتأمرهم بالخير وتنهاهم عن الشر , وإن مازجتها نزغات الوثنية ونال منها التحريف والتأويل، حتى ضل أهلها عن سواء السبيل. *** إرادة الله وكسب الإنسان (س 63) أمين أفندي محمد الشباسي بسكة حديد (سواكن) كنت أتحدث مع بعض أصدقائي في أحوال المسلمين من حيث ميلهم إلى الشر أكثر من الخير, وتفننهم في المعاصي وعدم ميلهم إلى ما فيه خيرهم الدنيوي والأخروي. فقال بأن هذه إرادة الله بنا. فقلت له: إن هذا شر والله لا يريد الشر وكيف يريده لنا دون غيرنا؟ فقال: إننا نستحق ذلك في علمه أزلاً فهذه إرادته. فقلت: إن هذا باطل فقد بين الله لنا طريقي الخير والشر في القرآن وجعل لكل سلوك جزاء، ومنحنا العقل لأجل أن نميز بينهما , فاذا أسأنا استعمال ما وهبه لنا من القوى والهداية كنا أشقياء في الدنيا والآخرة , وإذا أحسنا استعمالها كنا سعداء فيهما , ولكننا أسأنا الاستعمال وصرفنا قوانا الحسية والعقلية إلى الشر. فقال: من الذي صرف قوانا العقلية نحو أحد الأمرين؟ فقلت له: الحواس وما عندنا من الجزء الاختياري. فقال: إن العقل أكبر شيء في الإنسان وباقي الحواس دونه , فلا يصح أن تتغلب عليه بل الله عز وجل هو الذي حول قواك نحو إرادته , فلا يقع في ملكه إلا ما أراده وأرضاه , ثم قرأ هذه الجملة وادعى أنها آية من القرآن وهي: (إنه لا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل ولا حركة ولا سكون إلا بقضائه وقدره) ولم أقف عليها في المصحف , فهل هي من القرآن؟ وفي أي سورة هي؟ وهل ما قاله صحيح؟ وإذا كان كذلك فكيف يكون العذاب؟ نرجو الفصل بيننا بما أطلعك الله ... إلخ اهـ بتصرف يسير. (ج) أما العبارة فليست من القرآن حتمًا , وعجبنا كيف خفي ذلك عليكم والمصحف في أيديكم. على أن نظمها مخالف لنظم القرآن , وأزيدك أن لفظ القضاء لم يرد في القرآن لا معرفًا ولا مضافًا ولا مجردًا , وأما المسألة المتنازع فيها؛ فكل منكما أخطأ في بعض قوله فيها وأصاب في بعض , وكلامك أقرب إلى الحقيقة , وكلامه أميل إلى التصورات النظرية، فقولك: إن الله لا يريد الشر مني على أن الإرادة بمعنى الرضى , وذلك غير صحيح. وإنما الإرادة هي ما يخصص الله به الممكنات ببعض ما يجوز عليها من الأمور المتقابلة. وقوله: إنه لا يقع في ملكه إلا ما أراده ورضيه غير صحيح في الرضى. فإن الكفر يجري في ملكه وقد قال في كتابه: {وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْر} (الزمر: 7) ومن هنا تعرف أن فرقًا بين الإرادة والرضى. وحقيقة القول في المسألة: أن الله تعالى خلق الإنسان وأعطاه القوى البدنية والنفسية والحواس الظاهرة والباطنة , وأقدره على الأعمال النافعة والضارة , وهداه إلى التمييز بينها بالمشاعر والعقل والدين فهو يربي نفسه وعقله بكسبه. وأعماله الاختيارية تابعة دائمًا لأفكاره العقلية وأخلاقه ووجداناته النفسية فهي كسبية تتبع كسبيًّا , فمهما فسد التعليم والتربية كانت الأعمال قبيحة ضارة , ومهما صلح التعليم والتربية كانت الأعمال صالحة نافعة حتمًا. هذا ما نشاهده من سير الإنسان منفردًا ومجتمعًا فهو قطعي لا يقبل النزاع. وقام الدليل العقلي على أن هذا النظام الكامل في الإنسان هو من مبدع الكائنات كلها , ولا تنافي بين الأمرين. والبحث عن كيفية تعلق قدرة الله وإرادته في إقامة الإنسان أو غيره من الكائنات على ما هو عليه سفه من العقل وبدعة في الدين. أما الأول فلأن العقل لا يقدر على اكتناء سر الإبداع والتكوين , وأما الثاني فلأن الشرع نهانا عن الخوض في القدر لأنه فتنة تثير الشكوك وتجر إلى الكفر وينتهي الأمر بصاحبها إلى أن يبرئ نفسه من ذنبه وتقصيره , ويرمي به ربه عز وجل بذلك {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) . وغدا يعتب القضاء ولا عذ ... ر لعاص فيما يسوق القضاء *** الشفاعة والأنداد (س 64) الشيخ أنور محمد يحيى شيخ عزب في (الترعة الجديدة من الشرقية) : يفهم من عبارة المنار في الجزء التاسع أن الأنداد على قسمين قسم يطلب منه العمل بالاستقلال , وقسم يطلب منه أن يشفع عند الله تعالى وصرحتم بأن الشفيع يكون ندًّا؛ لأنه يستنزل من يشفع عن رأيه ويحوله عن إرادته. فالذي يفهم من هذا التصريح أن الذي يجب اعتقاده عدم الشفاعة عند الله تعالى مع أن الله قال في كتابه العزيز: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وقال {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) وقال اللقاني في جوهرته: وواجب شفاعة المشفع ... محمد مقدمًا لا تمنع وغيره من مرتضى الأخيار ... يشفع كما قد جاء في الأخبار فهل يوجد نص في وجود الشفعاء؟ أرجو من حضرتكم بيان هذا الموضوع على لسان مناركم جعلكم الله ملجأ لكل قاصد، ونجح لكم المقاصد. (ج) قد سبق لنا في المنار بيان حقيقة الشفاعة , وأن من الآيات الكريمة ما ينفي الشفاعة قطعًا كقوله تعالى: {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} (البقرة: 254) وقوله: { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} (غافر: 18) ومنها ما هو ظاهر في جواز الشفاعة بإذن الله لمن ارتضاه وهي ليست نصوصًا قطعية في وقوعها , وأما الأحاديث فهي صريحة في ثبوت الشفاعة في الآخرة , وهي آحاد لا يؤخذ بها وحدها في العقائد , ويمكن حمل الآيات النافية للشفاعة والتي تحكيها عن عقائد المشركين في معرض الإنكار كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) على ما ينطبق على الآيات والأحاديث التي تجيزها وتنطق بوقوعها , فلا يكون هناك تناقض ولا تعارض , وذلك أن الشفاعة المنفية الممنوعة هي ما حكاه القرآن العزيز عن المشركين وهي التي بمعنى الشفاعة عند الحكام لقضاء المصالح عند العجز عنها من طرقها وأسبابها. والشفاعة الجائزة خاصة بالآخرة , وهي عبارة عن دعاء من الشافع المشفع يأذن له به الله يستجيبه إظهارًا لكرامة عبده الشفيع، وقد سبق في علمه القديم وتعلقت إرادته سبحانه بأن ما به الشفاعة كائن في وقته لا يتأخر ولا يتقدم , فالشافع لم يغير شيئًا من علمه تعالى ولم يؤثر في إرادته ولم يحمله على شيء لم يكن ليفعله لولاه. ومن هذا التقرير يفهم أن ما عليه أكثر العامة من الاستشفاع بالأولياء أصحاب القبور المعلومين والمجهولين لأجل دفع المكاره وجلب المنافع هو من النوع الأول الذي يمنعه الدين , ويخل بالاعتقاد الصحيح بالله تعالى. فإنهم كثيرًا ما يصرحون بتشبيه الشفاعة عند الباري تعالى بشفاعة المقربين من الملوك الظالمين لبعض المجرمين , وتأثير شفاعتهم لهم. وهذا محال على الله تعالى, بل إن الملوك العاديين الحكماء ما كانوا يقبلون شفاعة أحد , وإنما يعملون ما يعتقدون أنه الحق. فتأمل. *** المحرم بالرضاع (س65) أحمد أفندي المشد المحامي في (ملوي) : هل يحرم على مرتضعٍ زواجُ جميع بنات مرضعته أم التي رضع معها فقط. (ج) من رضع من امرأة صارت أمه وحرم عليه جميع بناتها , ولا يحرمن على إخوته الذين لم يرضعوا منها، وإذا رضعت بنت من امرأة حُرِّمَ على جميع أولاد المرأة التزوج بها دون سائر أخواتها اللائي لم يرضعن. *** الكشف ورؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة (س66) الشيخ حاتم إبراهيم مأذون ناحية تندة التابعة (ملوي) جرت بيني وبين بعض أهل العلم مناظرة في شأن أهل الكشف ورؤية النبي عليه السلام يقظة , فأنكرتهما مستدلاًّ على نفي الأول بقوله تعالى: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: 65) , وقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) وقوله: {عَالِمُ الغَيْبِ} (الجن : 26) ... إلخ وكثير من الآيات وحديث عائشة المشار إليه بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (لقمان: 34) الآية. وما نسمعه ممن عدوا الولاية - وهي حق كل تقي - حِرْفَةً؛ نوع من الكهانة كما أخبر عليه السلام حينما قيل له: إنهم يقولون في الشيء: كن فيكون. وكما وقع له مع ابن صياد. وعلى نفي الثاني بأنه عليه السلام مدفون بحيث لو استكشف لرؤي نائمًا , وحياته البرزخية لا نشعر بها , فلا كلام فيها , وبأن ذلك لو كان جائزًا لكانت عائشة التي قبره في بيتها أجدر بذلك , ولكان من اللازم إرشاد الصحابة حينما اشتعلت بلادهم فتنًا وتقاتلت أئمتهم وتفرقت جماعتهم. وبالجملة فلم يؤثر عن الصحابة والتابعين وتابعيهم أنهم رأوه يقظة وما يزعمه أهل الطرق من أن الرفاعي قبَّل اليد الشريفة فليس بأول أكذوبة لهم. وادعى هو إثباتهما مستدلاًّ بأن الكشف وقع من الصالحين الذين لا يظن فيهم الكهانة كعبد العزيز الدباغ والسيد البدوي والدسوقي وكثير من الأولياء وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نادى وهو على المنبر: يا سارية الجبل. وأنى يكون ذلك بدون كشف , وبأن الرؤية حصلت لكثير من الأولياء كما صرح بذلك (الإبريز) . ولا مانع من ذلك فإنها من الكرامات , وزعم أن الشيخ محمد عبده ادّعى ذلك , فنرجو من سيادتكم تثبيتنا على أمر موافق للعقل والنقل كما هو شأنكم في تربية المسلمين. (ج) إنك لست مكلفًا بأن تصدق بما ينقل من الكشف

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر ما يتعلم في السفينة الشذرة الخامسة عشرة من جريدة الدكتور أراسم في اليوم الخامس من شهر مارس بلغنا مينا جرافسند [1] حيث سلم مُعَرِّف التأميز [2] زمام سفينتنا إلى مُعِّرف البوغاز الذي أخذ الآن على نفسه إبلاغنا ما وراء مصب النهر. في نحو الساعة السادسة من المساء برز الربان على ظهر السفينة وتعهد بنفسه ما شحن فيها من المؤنات كالماء والبقسماط وبراميل اللحم المملح , واستوثق من سلامتها , ثم قضينا ليلتنا على المرساة. وقرب حد الظهيرة من الغد سارت بنا السفينة تجرها باخرة صغيرة الحجم شديدة القوة تسمى (نلسن) , وفي وقت مرورنا حيال منارة (نور) هبت علينا ريح طيبة , فأمكنتنا من مد بعض الشُرع , ثم تغير لون الماء فصار ذا خضرة كدراء. كانت تلك الساعة هي المعينة لنزولي إلى حجرات المسافرين لعيادتهم فيها , وليس القيام بشئون الصحة في سفينة إنكليزية كبرى من الأعمال (الوظائف) التي يؤجر صاحبها بلا كسب فإن (المونيتور) تحمل خمسة وثلاثين راكبًا من الدرجة الأولى , وقل منهم من يقوى على أول صدمة للبحر عدو الإنسان، ويكون آمنًا من العثار , فلم ينج من مرضه إلا هيلانة وامرأتان أخريان أو ثلاث. وفى اليوم الثامن من الشهر بلغنا حوالَي الكثبان , فألقى معرف البوغاز مقاليد السفينة إلى ربانها، ونزل بالساحل ثم رجعت الباخرة الجارة بعد إبلاغنا هذا المكان من حيث أتت، ووكلتنا إلى قوانا أي إلى شُرُع سفينتنا، ولما رأى المسافرون والملاحون أن هذه البقعة هي آخر موقف يؤذن لهم فيه بالاقتراب من البر حمل كثير منهم المعرف رسائل إلى أصدقائهم تتضمن بالبداهة آخر وداع لهم. جاء دور البحارة الآن في العمل , فمدوا أيديهم إليه بهمة وإقدام , واشتغل الضابط الأول والثاني للسفينة بترتيب الحرس , فعيَّنَا لكل حارس عمله، ثم تدلت من جميع السواري وهي في نصف ارتفاعها أنسجة طويلة نفختها الريح وصفقتها , فأنشأت السفينة تميد , وأحست باستقلالها من وقت أن ثابث إليها أجنحتها، وكانت قبيل هذا تبدو عليها علائم الكآبة والخجل أن ترى مقودة بغيرها. أديرت على الملاحين كأس من خمر عسل السكر استحقوها كل الاستحقاق بكدهم ونَصَبهم. مما عرفته من الأماكن في مسيرنا (بيشى هد) وهو رأس فى أميرية (قونتية) صاسقس , وجزيرة وايت , وستارت بوينت , وقد صار الماء الآن ذا خضرة بهيجة تطفو على سطحه أعشاب بحرية تشبه التبن الطويل. صادفتنا سفينة راجعة إلى إنكلترا فخاطبناها بأعلامنا الملونة، وسألناها بهذه اللغة السرية أن تبلغ سفر سفينتا مكتب الملاحة لشركة ليود. انتهينا من اجتياز البوغاز , فخرجنا منه وكان الجو صحوًا , فصعد المسافرون على ظهر السفينة لاستنشاق النسيم البارد. إني قلما رأيت اللج مرة لم يكن مرآه فيها مثارًا للعجب في نفسي , ولكن أخص ما شغل ذهني منه الآن هو جملة العلوم التي استفادها الإنسان من ممارسة البحر. انظر إلى النظام الكوني تجد علم الهيئة الذي يبحث فيه عنه إنما تولد من الملاحة , فإنه لولا أن حاجة الإنسان إلى الاهتداء في سيره على ظهر البحار دفعته إلى درس الفلك؛ لكان من المحتمل أن لا يخطر بباله أصلاً أن يتقصى سرًّا من أسراره , فاحتياجه إلى السعي في طلب الغنى هو الذي اضطره إلى قياس الزمان والأبعاد قياسًا مضبوطًا , فترى الملاح الساذج مع أنه لا يعرف القراءة دائمًا حائزًا بالتحقيق لكثير من العلوم العلمية. سله إن شئت , وليكن ذلك عن بعض الأمور الطبيعية؛ تجد كلامه فيها يرجع إلى ما قرره العالم الذي قضى سنين كاملة في دار من دور الكتب، وإذا كنا الآن قد أنشأنا نظن أن للرياح والزوابع قانونًا، فإنما كان ذلك بسبب ما جمع من ملاحظات البحارة المختلفين في السفن الموزعة على جميع البحار , فأصبح أشد الفواعل الكونية تعاصيًا عن الضبط منقادًا إلى قانون، ودخل أبعد الحوادث عن النظام في نظام العلم العام، وكشفت المسابير أغوار قعر المحيط وقفاره المفروشه بأسلاب فرائسه , وأضحى الآن من الميسور رسم خريطة لتيارات البحر السفلية، ثم إن الفضل فيما عرفناه من العلوم الصحيحة عن شكل العالم راجع إلى الملاحين. خلق البحر مثالاً للأزل لأنه مثال للحركة , فشهد تولد اليابسات المتعاقبة وانعدامها وارتفاع الجبال، وما وقع على مر الدهور من ضروب فعل الأرض وانفعالها مما لا يزال يرتجف منه فؤاده , وهو اليوم كما كان في مبدأ العالم لا يعتوره نصب في جهاده وجلاده، فتراه يعض بعض سواحله، ويقرض ما يقاومه من الصخور الصوانية , ويقتلع بعض أجزاء الأرض من أماكن مختلفة فينقلها من أحد نصفيها إلى النصف الآخر ليبني بها سواحل جديدة وجزرًا ورءوسًا لابد أن يهدمها بعد، وبِدَأْبِه على العمل يتحول من مكان إلى مكان على تعاقب العصور بالقوة الساكنة التي توجد فيما لا يموت من الأشياء، وكما أنه رحم للخلائق العضوية الأولى هو أيضًا أكبر مستودع للحياة. من المحقق الذي لا مرية فيه أن ممارسة البحر قد وسعت دائرة علومنا، ولكنا قد استفدنا منه ما هو أجل من العلم نفسه ألا وهو ما يتحلى به الرجال من الفضائل التي ينميها في النفس الجهاد مع المحيط المخوف , فلولا هذا الجهاد لما عرف الإنسان شيئًا يستحق المعرفة فما أمثل الملاحة طريقة للتربية! فذلك المربي القاسي العبوس وأعني به البحر يبث كل يوم في أذهان غلمانه الذين يتغذون بلبان معارفه أن النفوس متساوية , وأن الفلاح في الاعتماد عليها , ويعلمهم من البسالة ما لا تزعزعه الخطوب , ومن الصبر ما يقوون به على احتمال كل ضروب الحرمان واقتحام جميع المخاطر، ومن ذا الذي في وسعه أن يصف ما آتى الجنان من الثبات، وما ألبس النفس من درع القوة , وهو - وإن غلبه الملاحون بمثابرتهم على قهره وثباتهم في طلب الظفر به - يحق له في نفس هذا الغلب أن يفخر بغالبيه , فإنه هو الذي أنشأهم وهم تلامذته اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

الرجل والمرأة في دمشق

الكاتب: تلميذة من دمشق

_ الرجل والمرأة في دمشق رسالة من الفتاة الدمشقية المهذبة صاحبة التوقيع الرمزي حضرة الأستاذ العالم الفاضل الشيخ محمد رشيد أفندي رضا صاحب جريدة المنار الأغر لازال ملجأ لكل خير. الغرض من المناظرة التوصيل للحقيقة , ولجريدتكم الغراء السبق في هذا الميدان الذي أعرف نفسي بأني لست من فرسانه وأن دخولي فيه يعد تطفلاً مني على ذويه , لكن شدة غيرتي على بنات نوعي ذوات الخدر اضطرني للدفاع عنهن على قدر بضاعتي واستطاعتي، فأقول: طالعت مقالة للفاضل س. ع مدرجة في عدد 1485 من جريدة ثمرات الفنون الغراء , فرأيت حضرة الكاتب من جهة يعترف بأن الرجل في دمشق لم يكن أحسن أخلاقًا من أخته، وأنه هو الذي جعلها بالدرك الأسفل من الجهل، ومن جهه أخرى ينعطف ويوجه الملام عليها بتبذير ابنها بقوله: إن أمه هي السبب , فإنه لما شرع بالمشي وأخذ يخرج إلى السوق بدأت هي تعطيه نفقة (خرجية) وتعوده على الإسراف والتبذير ... إلخ. فأجيبه إنه لم ينصف أخته المسكينة التي كان الرجل هو الذي ضغط عليها أولاً حتى هوت بأولاده في هاوية الجهل كما ترى، فبأي عدل يحق لأخيها توجيه الملام إليها مهما أساءت التصرف سواء كان بسوء التربية أو بغيرها , وهو السبب فيما يشكو منه؛ إذ هو صاحب السيطرة عليها , وبيده إدارة التعليم وما بيد شريكته غير خدم المنزل , فما دامت الحالة على ما ذكر فمن المسئول والمطالب يا ترى، هل الرجل أم المرأة؟ هل المرأة هي التي قالت لابنها: إذا كبرت يا بني فأخرب ما بناه أسلافك من مدارس العلم والتعليم، واجعل البعض منها بيوتًا لسكناك , والبعض بيتًا لمركبتك , والبعض إسطبلاً للدواب، والبعض قاعًا صفصفًا يأوي إليه الغراب، وابتلع ما وقفه أسلافك على هذه المدارس، ولا تُبْقِ لها غير الاسم بكتاب المدارس؟ [*] هل المرأة هي التي علمت ابنها الخزعبلات، وقالت له: اترك طلب العلم وتزيَّ بشعار العلماء حتى تغش بأقوالك وأفعالك الظاهرة البسطاء من إخوانك وأخواتك , واترك التجارة والصناعة والزراعة , واتخذ لك مهنة خرافية فادَّع أنك مشارك للعفاريت والجان، وأنك قادر على إخراج الشياطين المردة ممن أصابتهم أمراض عصبية من بني جنسك، وأنك قادر على الإعلام بالمغيبات , وأنك تخرج الثعابين والحيات من أحجارها , وأن النار إذا دخلتها تكون عليك بردًا وسلامًا , وأن أمضى السلاح لا يؤثر بجسمك , وأنك قادر بطلاسمك على التفريق بين المرء وزوجته , وأنك قادر على صلاة المغرب في دمشق والعشاء في بغداد , وما شابه ذلك من الخرافات والدعاوى الكاذبة والخزعبلات اللاتي يندر صدور أمثالها عن النساء الجاهلات الللاتى ينحصر حديثهن في الأزياء (الموضة) والخياطة والرجال يقولون فيهن: طويلات الشعور قصيرات العقول. وأما نداء حضرته أبناء وطنه ودعوتهم إلى تهذيب بناتهم، وأن يبذلوا الدراهم على تعليمهن كما يصرفونها على تعليم أبنائهم , فإننا مع موافقته على وجوب التعليم نطلب منه طلب استفادة أن يدلنا رعاه الله على مدرسة وطنية في دمشق أو في نواحيها يمكن أن تجاب فيها الدعوة التي هي بالحقيقة ضالتنا المنشودة حتى أكون أول منادية مع حضرته , وأكون لحضرته من الشاكرين. فإن كان مراده التعليم بالمكاتب (الكتاتيب) الموجودة , فنعيد هنا ما قلناه في مقالة سابقة من أن هذه المكاتب ملأى من كلا النوعين الذكور والإناث , على أنها غير وافية بالمطلوب لأن التعليم فيها محدود. وإن كان مراد حضرته إرسال البنات إلى مدارس الأجانب كما يرسل البنون، فنحن وإياه على طرفي نقيض، وأظن أنه لا يوافقه على هذا إلا قليل من الآباء. قد تحقق عند كثير من الآباء والأمهات بدمشق ضرورة تعليم البنات اللائي سيصرن أمهات ما يُحْسِنَّ أهم أعمالهن؛ وهي تربية الأولاد الذين تتألف منهم العيال والطوائف والأمم , والذين سيكونون رجال ونساء المستقبل لأن الأطفال عندما يكونون في أحضان أمهاتهم يرضعون من ألبانهن ينتقل إليهم كثير من عاداتهن وصفاتهن ونطقهن , ويقتدي الولد بوالدته في كل ما يسمع منها ويرى. لذلك نرى أن من يريد تعليم بناته يجب عليه أن يصرف عليهن مثلما يصرف على تعليم بنيه، لكن المانع من ترقية التعليم عدم وجود مدرسة كما تقدم، ولا أنكر وجود أناس أيضًا لا يزالون يرون تعليم البنات من الأمور المنكرة لأن المرأة بحد ذاتها عندهم كمتاع البيت، وأن الواحد إذا صرف وقته بتعليم البقرة الحرث أفضل له من صرفه في تعليم بنته لاعتقاده أو خوفه من أن تصير ساحرة. وأما قوله: إنه عجز الآن عن تأسيس مدرسة بدمشق لأجل تهذيب إخوانه وأخواته ... إلخ، فأقول في جوابه: إنه لا يخفى على حضرته ما نقله إلينا التاريخ عما كان يعانيه ويقاسيه أعاظم الرجال الذين كانوا يتصدون لأي مشروع جديد سيما إذا كان مخالفًا لما ألفه الأكثرون، ولو كان مؤكدًا فيه النجاح من الإهانة والهزء بهم وبأعمالهم حتى كان السواد الأعظم يرى عمل أحدهم ضربًا من الجنون، ومع ذلك يثبتون ولا يرجعون عن عزمهم حتى خلد ذكرهم، ووضعوا لذاتهم ذكرًا حميدًا على صفحات التاريخ , فيجب علينا أن نقتدي بهؤلاء الرجال، ولا نهمل أي مشروع يكون من ورائه النجاح عاجلاً أو آجلاً , وأن نترك ما نحن عليه من التكاسل ومحبة التعظيم الكاذب والتبجيل الفارغ , وأن ننتبه من غفلتنا، ونصحو من رقدتنا، وننظر لحالتنا , ونقابلها على حالة جيراننا الذين سبقونا بكل شيء , ونشمر عن ساعد الجد والاجتهاد، ونتعاون كما أمرنا على البر والتقوى، وأن نؤلف جمعية من نخبة الشبان العلماء البعيدين عن الخرافات , ونباشر بمعرفتها جمع المال اللازم لتأسيس مدرسة وطنية لأجل تعليم البنين والبنات تكون على أحسن طراز إن شاء الله وبه المستعان وعليه الاتكال. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ف.ع) ... ... ... ... ... ... ... ... التلميذة في دمشق

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية وأدبية (تاريخ التمدن الإسلامي) صدر الجزء الثالث من هذا الكتاب لمؤلفه جرجي أفندى زيدان صاحب مجلة الهلال وهو يبحث (فى العلم والأدب، وما كان منهما عند العرب قبل الإسلام من التغيير في القرائح والعقول , وما نقل عن اللغات الأجنبية من العلوم , وما كان من تأثير التمدن الإسلامي في كل ذلك) فما كان قبل الإسلام هو النجوم والأنواء والميثولوجيا والكهانة، ويعني بالميثولوجيا: الخرافات المتعلقة بتأليه النجوم والأنواء، والميثولوجيا الخرافات وأما العلم الحقيقي الذي كان عندهم فهو التاريخ , والأنساب فرع منه والأدب , ومنه الشعر والخطابة , وما هو ممزوج من الحقيقة والوهم وهو الطب، وقد ذكر المؤلف هذه كلها سردًا على وجه التقسيم، وكانوا يعرفون علومًا أخرى لم يتكلم عنها كعلم الريافة (استنباط المياه من الأرض) والقيافة والعيافة والزجر وغير ذلك، ولم يكن شيء من هذه العلوم مدونًا في الصحف والكتب، بل كان مما يعملون به ويتناقلونه باللسان لأنهم أميون. وأما العلوم الإسلامية فهي لسانية ودينية وعقلية وكونية وفيها أكثر مباحث الكتاب. وذكر المؤلف في مقدمته أن من الإفرنج من هضم في كتبه المسلمين أو العرب، وغمص حقهم العلمي فلم يعترف بفضلهم، بل زعم أنهم أفسدوا ما نقلوه , ومنهم من أنصف واعترف بفضلهم، وهم المستشرقون الذين بحثوا وعرفوا، ولكن بعض هؤلاء أطنب في مدح العرب، وذكر لهم من المزايا ما لا يوجد له ذكر في كتبهم مع أن الكتب العربية هي منبع التاريخ والمعارف الإسلامية، وأنه هو توسط بين الطرفين، ولكن لا يخفى عليه أنه يصح أن نجعل ما بين أيدينا من الكتب هو الميزان لمعارف العرب , فإن معظم كتب سلفنا قد ضاع من أيدينا، ولم يُبْقِ لنا الجهل بقيمة تلك الآثار، وما يلزمه من سوء الاختيار إلا أدنى الكتب وأقلها فائدة ومكاتب الإفرنج مملوءة بتلك الذخائر المفقودة، والآثار الضائعة، ثم إن الأجنبي عن الأمة قلما ينصفها في فضلها تمام الإنصاف، وأقل من ذلك وأبعد عن المعقول أن يهبها ما ليس لها من المزايا والأوصاف إلا أن يكون الكاتب من أصحاب الأهواء المعروفة لا من أهل العلم والمعرفة، ومن الهوى حب الإغراب , والكذب في المبالغة والإطناب. وقد قرأنا نبذًا من الكتاب متفرقة فرأيناها شاهدة لما نعتقده في المؤلف من الإنصاف، ولكننا رأينا بعض المسلمين يرميه بالتعصب، ووصلت شكواهم منه إلى أكبر معاهد العلم الإسلامي في مصر، وهذه الشكوى لا تزيد على ما كتبه إلينا بعض أهل العلم في دمياط، وقد طلب منا كغيره الرد عليه , فرأينا من الظلم أن نجازي من يتعب في خدمتنا بذكر هفواته قبل التنويه بفائدة كتابه، ولذلك بادر إلى تقريظه قبل مطالعته، وهذا نص الكتاب الوارد من دمياط: (قرأت ما نشر صاحب الهلال في هذه الأيام الأخيرة من تاريخ التمدن الإسلامي؛ فوجدته وإن نوه بما للإسلام والمسلمين من الفضل إلا أن في طوايا الكتاب وزوايا الكثير من صحائفه ما يرمي المسلمين في العصر الأول بالجمود والتعصب الديني فإن لم يتيسر لك تصفح الكتاب فانظر الصحيفة التاسعة والثلاثين. ليس هذا كل ما أقصد من الكتابة لحضرة الفاضل صاحب المنار، وإنما أهم ما دعاني إلى الكتابة استلفات نظره إلى مسألة دينية أشار لها حضرة الكاتب تحت عنوان (المأمون والاعتزال) صحيفة 141 , وهي مسألة الخلاف في القرآن هل هو مخلوق أو غير مخلوق فإنه حرفها بظنه، وفسرها برأيه حيث قال بعد أن نوه بفطنة المأمون، وميله إلى البحث العقلي ما نصه: (فتمكن من مذهب الاعتزال , وأخذ يناصر أشياعه , وصرح بأقوال لم يكونوا يستطيعون التصريح بها خوفًا من غضب الفقهاء , ومن جملتها القول بخلق القرآن , أي أنه غير مُنْزَل) فنستلفت نظرك أيها الفاضل لقوله: أي أنه غير مُنْزَل بل إلى الكتاب كله والسلام) . (المنار) أما ما جاء في (ص 39) فهو منتقد، ولكنه معتقد المؤلف فيما أرى , ولم يقصد به إهانة الإسلام والنيل منه، قال: كان الإسلام في أول أمره نهضة عربية , والمسلمون هم العرب، وكان اللفظان مترادفين , فإذا قالوا: العرب؛ أرادوا المسلمين , وبالعكس. ولأجل هذه الغاية أمر عمر بن الخطاب بإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب. ونقول: إن هذا غلط سرى للمؤلف من استعمال الأجانب من عهد بعيد فأطلقه، والصواب أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا يطلقون كلمة العرب أحيانًا في مقابلة المسلمين فيعنون بهم المشركين، ولم يكن اللفظان مترادفين عند المسلمين في وقت ما على الإطلاق، بل كانوا يطلقون لفظ المسلم والمسلمين على كل من دخل في الإسلام، وإذا أطلق على العرب خاصة كان تجوزًا يعرف بالقرينة. ولم يخرج عمر غير المسلمين من الجزيرة اجتهادًا منه، بل عملاً بأمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد أوصى بذلك في مرض موته , ثم قال المؤلف: (وأما الإسلام وقوامه القرآن ففي تأييده تأييد الإسلام والعرب، وتمكن هذا الاعتقاد في الصحابة لما فازوا في فتوحهم، وتغلبوا على دولتي الروم والفرس فنشأ في اعتقادهم أنه لا ينبغي أن يسود غير العرب، ولا يتلى غيرالقرآن، وشاع هذا الاعتقاد خصوصًا في أيام بني أمية، وقد بالغوا فيه حتى آل ذلك فيهم إلى نقمة سائر الأمم عليهم) . ونقول: إن القرآن بلا شك أساس الإسلام، ولكن ليس فيه ما يدل على أن العرب يجب أن يكونوا ممتازين على غيرهم , بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) نعم، إن تأييد العرب له تأييد لهم إذ لولاه لم يخرجوا من ظلمة جاهليتهم , ولكن فتح بلاد الروم والفرس لم يزد الصحابة اعتقادًا بما ذكره , وإنما كانوا يعتقدون كما يعتقد كل مسلم إلى الآن وإلى ما شاء الله أنه لا يصح أن يعتقد بأن شيئًا من الدين إلا ما جاء في القرآن والسنة، أو أرشد إليه الكتاب أو السنة، وهذا الاعتقاد لا يمنع جواز قراءة كل كتاب نافع والانتفاع بكل علم في أمر الدينا، ولاسيما وقد قال لنا نبينا: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وأمرنا أن نطلب العلم ولو بالصين , وأن نأخذ الحكمة أينما وجدت. وما كان من أمر بني أمية؛ فهو من الأثرة والطمع ولم يميزوا أنفسهم على الأعاجم وحدهم، بل ميزوها قبل كل شيء على آل بيت النبي عليه وعليهم السلام ثم قال: (أما في الصدر الأول فقد كان الاعتقاد العام أن الإسلام يهدم ما قبله، فرسخ في الأذهان أنه لا ينبغي أن ينظر في كتاب غير القرآن؛ لأنه جاء ناسخًا لكل كتاب قبله) اهـ. ونقول: إن معنى هدم الإسلام لما هو قبله أن من دخل فيه لا يؤاخذ على الكفر والمعاصي التي كان عليها قبله كما يعلم من النصوص الصريحة، وليس معناه أنه أبطل العلوم والفنون الدينية والدنيوية معًا، كيف وأكثر المسلمين يقولون إلى اليوم بأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد عندنا ما ينسخه بخصوصه، وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النظر في كتب اليهود، وعن تصديقهم وتكذيبهم فسببه عدم الثقة بما ينقلونه عن كتبهم على أنها محرفة، وقد {نَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13) ومثلهم في هذا النصارى، وقد خالف هذا النهي بعض الرواة، فأدخلوا في كتب المسلمين من الإسرائيليات ما شوه كتب السير والتفسير والحديث بالأكاذيب والخرافات، ولولا نقد الحفاظ لاختلط علينا الأمر بسوء قصدهم , أو فهمهم كما اختلط على من قبلنا. وقد جعل المؤلف هذه النبذة مقدمة للنبذة التي يرجح فيها أن العرب هم الذين أحرقوا مكتبة الإسكندرية، وما كان أغناه عن ذلك. هذا ما أشار إليه الدمياطي عن (ص39) وأما تفسير المؤلف لخلق القرآن بما فسره به في (ص141) فهو من اجتهاده الغريب الذي انفرد به، ولم يخطر على بال أحد قبله من المعتزلة، ولا من أهل السنة , فإن هؤلاء لا يكفرون المعتزلة بالقول بخلق القرآن , والفريقان مع سائر الفرق الإسلامية على إجماع واتفاق على كفر من يقول: إن القرآن غير منزل؛ لأن هذا القول تكذيب صريح للقرآن وللنبي لا يحتمل التأويل ولا التعليل، والذي يقول به يستحيل أن يلتزم شيئًا من عقائد المسلمين وعباداتهم. وإنما يعنون بخلق القرآن ما كانوا يسمونه مسألة اللفظ، وهو أن ألفاظ القرآن التي يكيفها التالي بصوته مخلوقة، ومن فوائد إنكار أهل السنة والجماعة لهذا القول: أنه ربما يفضي إلى أن يقول بعض الناس إنه يلزم من حدوث ألفاظ القرآن أن لا يكون منزلاً من الله تعالى - كما قال المؤلف - فيخرجوا من الإسلام. وإنا لنعلم أن كثيرًا من المسلمين يظنون أن المؤلف يتعمد أمثال هذا القول طعنًا في الدين وتشكيكًا في الإسلام، وقد صرحنا من قبل باعتقادنا فيه، وأنه يقول ما وصل إليه علمه بحسن نية، وأنه ليس من متعصبي النصارى الذين يرضون تعصبهم بإفساد العلم كاليسوعيين الذين حرفوا كتب المسلمين لهذا الغرض، حتى لا ثقة بكتاب يطبع عندهم، وبينا سبب وقوع هذه الأغلاط في كتب جرجي أفندي زيدان، وهي أنه لم يدرس المسائل الإسلامية، ويأخذها عن أهلها من كتبها، وإنما يتناول نتفًا منها من كتب التاريخ والأدب وغيرها؛ فيجيء بيانه للمسألة أو حكمه عليها خطأ في بعض الأحيان مهما كانت ظاهرة جلية في مواضعها كما صرحنا بذلك في تقريظ الجزء الثاني من هذا الكتاب. وعذر الذين يسيئون الظن فيه أنه يقول في الإسلام بما لم يقل به أحد , ويعزو إلى أهله ما لم يخطر لأحد منهم ببال من غير دليل , كتفسيره مسألة خلق القرآن بأنه غير منزل من الله، والحقيقة ما قلناه , وليس لنا أن نعد ما هو بديهي عندنا بديهيًّا عند المخالفين لنا في الدين الذين لم يدرسوه دراستنا لعدم حاجتهم إلى ذلك. نعم، كان ينبغى لهذا المؤلف الذي نعهد فيه الإنصاف وحب الحقيقة أن يعرض المسائل الدينية الإسلامية المحضة على عالم مسلم قبل تدوينها , وهي قليلة لا تزيد في عنائه على مراجعة الكتب في المكتبة المصرية. وفي الكتاب مباحث أخرى تستحق النقد، ربما نعود إليها في وقت آخر , وفيه فوائد كثيرة لا تجدها مجموعة في كتاب عربي. وإننا مع هذا نشكر للمؤلف عنايته واجتهاده وسبقه إلى إدخال أساليب التأليف الحديثة في اللغة العربية، ونرجو أن يزيد في التحري مع الاعتراف بأنه لا عصمة لأحد في اجتهاده، ونحث أهل العلم والبحث على النظر في كتبه هذه، ومن كان ينتقدها على الإطلاق فليأتنا بخير منها؛ نكن له من السامعين الشاكرين. وصفحات هذا الجزء 314 , وثمن النسخة عشرون قرشًا. *** (ثلاثون عامًا في الإسلام) كتاب وضعه موسيو ليون روس السياسي الفرنسي الذي أقام في بلاد المسلمين 30 سنة، وتعلم في أثنائها اللغة العربية وفنونها، وقرأ العلوم الإسلامية، وعاشر المسلمين في الجزائر وتونس والآستانة ومصر والحجاز , وقد عربت جريدة اللواء المصرية عنه الجملة الآتية (فى عدد 1506 الصادر في 22 ج 2) فنشرناها نقلاً عنها لتكون حجة على متعصبي النصارى، وعلى أمثال صاحب جريدة اللواء الذي ينتصر للمشايخ الجامدين الذين وصفهم صاحب الكتاب، كما يتحامل على المصلحين الذين يبينون انطباق الإسلام على المدنية الفاضلة، ويدعون إلى أصوله الكاملة التي طمس التقليد معالمها , وعبرة لنابتة المسلمين أبناء التربية الحديثة الذين كفروا بهذا الدين تقليدًا للإفرنج الجاهلين به، أو ال

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار البيع بالنسيئة (س69) ح. ح. فى الجبل الأسود: ما قولكم دام فضلكم فى البيع بالنسيئة مضاعفة كأن يكون ثمن السلعة في السوق قرشًا واحدًا بالنقد, فيبيعها المالك بقرشين نسيئة، وهل يوجد فرق في هذا البيع بين أن يكون لمسلم أو لغير مسلم؟ (ج) إن ذلك جائز للمسلم وغيره ما لم يكن غش أو تغرير، ولا فرق في المعاملات بين المسلم وغيره لأن الشريعة الإسلامية ساوت بين الناس في الحقوق , وإن اختلفوا في الجنس والدين، وإنما الشرائع الأخرى لاسيما الأوربية منها هي التي تفاضل بين الأجناس والملل، فتميز كل شريعة أبناء جنسها في الحقوق على غيرهم، أما الشريعة الإسلامية فإنما تقدم المسلم على غيره في الأمور التي تتعلق بالدين، ولا يخفى أمر التراحم والتسامح مع المحتاج أو المضطر. *** شرب الغازوزة (س 70) ومنه: الماء الذي يقال له في اللغة التركية (غازوز) هل يجوز شربه أم لا؟ (ج) ما كنا نظن أن هذا مما يحتاج للسؤال عنه فإنه لا يسكر قليله ولا كثيره, وليس فيه شيء من مادة السكر، ومازال العلماء يشربون الكازوزة في الآستانة ومصر، وفى كل بلد توجد فيه. *** شرب الدخان في مجلس القرآن (س71) محمد أفندي حلمي من المشتغلين بالعلم في دمياط: قد سئلت عن حكم من يحضر لسماع أو تلاوة القرآن العزيز مستعملاً لشرب الدخان - المسمى بالتبغ - ولكوني أرى الحكم على غير رأي من ذهب فقال بالحرمة , أو من قال بالكراهة بدون استناد منهما لشيء مما يقطع بصحة الحكم؛ أمسكت عن الجواب، وانثنيت لأخذ رأي من آتاه الله بسطة في العلم ناظرًا بماذا يرجع إليه رأيه في ذلك، وإليك رأينا: نحن لانرى في حق من شرب الدخان وقت تلاوة أو سماع القرآن الشريف أنه ارتكب محظورًا يجعله الشارع في حقه مكروهًا أو محرومًا، وكيف يتسنى لنا ذلك ونحن على ما نعلم أنه لم يقم دليل من كتاب الله أو سنة على حرمة أو كراهة ذلك على من ذكرنا، فهو عندنا لم يخرج عن كونه نباتًا تحول بالحرق لمادة كربونية، ثم انتشر في الهواء مثل تحول الفحم النباتي وبقية المواد القابلة للاحتراق كذلك، ومتى كنا نعلم أنه لم يقل أحد بتحريم أو كراهة استعمال ما يتسبب عنه انتشار ما يتولد بالحرق من نحو الفحم النباتي في مجلس من ذكرنا , فلا يخول لنا القياس أن نخصص أحدهما بالحكم دون الآخر متى كان الكل متحولاً لما هو من نوع واحد , فما يحكم به على الواحد يحكم به على غيره، وإلا كان هناك ترجيح بلا مرجح، ولا يمكن مع هذا المتخيل أن يرى فيما ذكرنا انحطاطًا بكرامة الألفاظ المتلوة متى كانت الآداب مرعية من الجانبين، ولا يقال: إنه من الصوارف عما هو المقصود من المتلو مادامت الأسماع والقلوب ليست في أكنة، ولا يقال أيضًا: من شروط تلاوة المتلو طهارة محله، وحمض الكربون بانتشاره في محل المتلو يجعله قذرًا لأنه ليس مما عُدَّ في الشرع مستقذرًا، بل صار في زماننا هذا مستطابًا لنفوس الكثيرين، وانتشر في سائر أنحاء الكرة الأرضية وجنح إلى تعاطيه أكثر الناس حتى الأطفال والنساء لاسيما المخدرات , والشيء - كما قيل - يعطى حكم وقته. هذا ما يظهر للناظر من تلك الجهة - جهة الاستعمال - أما إن نظر لهذا الجوهر من جهة أنه يضر بصحة المتعاطي حيث يجلب لجسمه الخطر الجسيم، أو أنه يضر الحاضرين بالنظر لاتحاد حمض كربونه بالهواء المجاور فيجعله غير صالح للتنفس تمامًا، فذاك نظر من جهة أخرى له حكم آخر ولو لم يكن بمحضر القرآن، هذا وليعلم المطلع على ما كتبنا أن تصدينا له ليس من قبيل الميل لما نهوى فإننا - وربك - ما تعاطينا شرب هذا الدخان عمرنا فلا يحمله ذلك على أن يقول: هذا امرؤ يختار حكمًا لما يشتهي , وإنما مقصدنا بيان الحق في ذلك فجئ بجوابك الفصل أيها العالم الحكيم، وأنت الحكم الذي تُرْضَى حكومته والسلام. (ج) إن الذين يتأثمون من التدخين المعروف في مجلس القرآن لا يبنون ذلك على نجاسة مادة النبات، ولا على كونه أخس من غيره أو نجسًا، ولا على كون التدخين يقتضي لذاته الإعراض عن الفهم والتدبر، وإنما يرون ذلك ينافي الأدب لأن مجلس القرأن أفضل من مجالس العلم بغير القرآن، ولا شك أن من يدخن في مجلس درس العلم سواء كان في مدرسة نظامية أو مسجد يعد مخلاًّ بالآداب , فإذا كان عرف البلد يعد التدخين حال التلاوة أو سماعها مخلاًّ بالأدب، فالقول باجتنابه ظاهر , وإذا لم يكن ذلك عرفًا عامًّا فعلى كل امرىء أن يعمل بما يعتقده وتطمئن إليه نفسه , ومن كان أقرب إلى الأدب كان أبعد عن توجه الإنكار عليه. هذا ما ظهر لنا في المسألة بعرضها على قواعد الشريعة وآدابها , والله أعلم وأحكم. *** حكمة عدة الوفاة وعدة الطلاق (س 72) مصطفى أفندي صبري مأمور مركز (البداري) : أرجو التكرم بإفادتنا على مناركم الإسلامي عن الحكمة في تربص المتوفى زوجها أربعة أشهر وعشرًا، وتربص المطلقة ثلاثة قروء. أفادنا الله بكم وأثابكم على إرشادنا. (ج) الأصل في العدة بعد انفصال الزوجين بالطلاق أو بموت الرجل أن يعلم أن المرأة غير عالقة من الرجل لئلا يشتبه حال الولد , فلا يعلم أهو للزوج الأول أم الثاني؟ فإذا تكرر على المرأة الحيض أو الطهر ثلاث مرات؛ يعلم أنها غير حامل , ولهذا المعنى كانت عدة الحامل أن تضع حملها , فلو ولدت في اليوم الثاني جاز لها أن تتزوج، والمتوفى زوجها تعتد لتعرف براءة رحمها من الحمل، ولمعنى آخر وهو الحداد على زوجها، ولذلك كانت عدتها أطول من عدة ذوات القروء إذ لا يليق بها أن تظهر الرغبة في الزواج بعد شهرين أو ثلاثة من موت زوجها , بل ذلك ينتقد منها ويؤلم قرابة زوجها، ولذلك زادت عدتها على عدة غيرها ووجب عليها الحداد أربعة أشهر وعشر ليال لا تتزين فيها، ولا تمس طيبًا مع أن الحداد على غير سائر الأهل والأقربين لا يزيد على ثلاثة أيام , فإن زاد حرم , إلا قيل في الأب لحديث معلول ورد بسبعة أيام. وذهب أكثر المفسرين إلى أن الحكمة في تحديد عدة الوفاة بهذا القدر أنه هو الزمن الذي يتم فيه تكوين الجنين ونفخ الروح فيه، ولابد من مراجعة الأطباء في هذا القول قبل التسليم به , والظاهر لنا أن الزيادة لأجل الحداد , ولم يظهر لنا شيء قوي في تحديده، ولكن هناك احتمالات منها أنه ربما كان من عرف العرب أن لا ينتقد على المرأة إذا تعرضت للزواج بعد أربعة أشهر وعشر من موت زوجها , فأقرهم الإسلام على ذلك لأنه من مسائل العرف والآداب التي لا ضرر فيها. وقد كان من المعروف عندهم أن المرأة تصبرعن الزوج بلا تكلف أربعة أشهر , وتتوق إليه بعد ذلك، ويروى أن عمر أمر أن لا يغيب المجاهدون عن أزواجهم أكثر من أربعة أشهر، إذا صح أن هذا أصل في المسألة تكون الزيادة الاحتياطية عشرة أيام والله أعلم بالصواب.

أسباب ضعف المسلمين وعلاجه

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ أسباب ضعف المسلمين وعلاجه كتب رفيق بك العظم مقالة (هذا أوان العبر) في حال المسلمين , فكان لها من التأثير في نفوس نبهاء المسلمين أن انتدبت جريدة (تربيت) الفارسية الغراء التي تصدر في طهران إلى ترجمتها , ثم جاءنا في بريد الهند الماضي رسالة مطولة من أحد فضلاء حيدر أباد الدكن يثني فيها على (الرفيق) بما هو أهله من الغيرة والإخلاص والفعل، وينتقد رأيه في جعل مزج السياسة بالدين هو السبب في ضعف المسلمين , ويذكر ما عنده من الرأي في ذلك بغاية الأدب , ويعرضه على فضلاء المسلمين في مصر وفي سائر الأقطار ليؤيدوه أو ينتقدوه. ولما كان هذا البحث أهم المباحث التي أنشئ المنار لأجلها , وكان صاحب هذه الرسالة من أحسن الكاتبين فيه أدبًا وبيانًا نشرنا مقالته كما نشرنا مقالة الرفيق. وقد قسمنا مقالة الفاضل الهندي إلى قسمين أحدهما: في بيان الداء وأسبابه , والثاني في علاجه. قال حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونستعينه جناب سيدي محمد رشيد رضا مالك مجلة المنار الفاضل والعلامة العامل الذي أيد الله به الدين، وجعل وجوده نعمة ومِنَّة على المؤمنين , فنشكر الله على هذه المنحة، ونحمده على هذه النعمة. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني محبكم في الله حقًّا وصدقًا , وأسأل الله أن يزيدكم من فضله ويثيبكم على سعيكم في إحياء السنة وخدمة الأمة , وإني أرسلت إليكم هذه الرسالة فأرجو من فضلكم أن تدرجوها في المنار , وإن رأيتم تحسينًا فلكم الفضل , على أنه يمكن أن تكون عليكم مشقة. ولكن في نصح المسلمين ومحبة السنة والأمة لا أراكم تتوقفون، ولا تعوقكم أي مشقة , وإن أحببتم أن تجيبوا بجواب خطي فذلك يكون فضلاً وكرمًا من حضرتكم. والذي ساقني إلى كتابة هذه الرسالة أني رأيت في أثناء مطالعاتي الجزء الثامن من المجلد السابع من مجلة المنار التي هي مُنى الأبرار، وقرة أعين الأخيار، رسالة عنوانها (هذا أوان العبر) أنشأها الأخ الصالح الغيور رفيق بك العظم أفصح فيها عن حالة المسلمين بما يفتت الأكباد، ويصدع الجماد، وهو لَعْمرالله كلام من فؤاد مليء حمية وغَيْرة وطنية، ودل على حسن طوية، وإخلاص نية. وإني لا أقصر ثنائي عليه فقط، ولا أنسى الشكر لكثير من إخواننا المصريين الذين لا يزالون يحررون الرسائل، وينبهون الغافل. والأخ رفيق بك المعظم جعل موضوع رسالته البحث عن سبب ضعف المسلمين، وانحلال روابطهم وتدليهم إلى حضيض الجهل، ثم ما هو مانع للمسلمين عن الترقي ومجاراة الأمم المتمدنة ورأيته أبدى من رأيه على ما يعتقد أن سبب ما ذكر هو مزج العرب للدين بكل شيء من أمور الحياة الدنيوية وأخصها حياة الأمم السياسية , والأمة الإسلامية استسلمت وصارت خاضعة لأولئك الولاة بحكم الدين حتى تأصل فيهم روح الخضوع المطلق والطاعة العمياء لأولئك الأمراء المستبدين الذين يسومون الأمة الخسف , ولو أن العرب في بداية الأمر وضعوا الدين جانبًا، والسياسة الاجتماعية جانبًا، وقلدوا الأمم المتمدنة في ذلك العصر كالرومان لما سقطت الأمة الإسلامية هذا السقوط. وبالجملة فلا نجاة إلا أن يجتمع المسلمون ويضعوا الدين جانبًا وسياسة الملك جانبًا. فهذه خلاصة رسالته , ولا ريب في سقوط المسلمين عن عرش مجدهم وانتشارهم إلى حالة الهمجية عن معاقل الاتفاق، وشرههم فيما بينهم على الشقاق، حتى صدق فيهم قوله تعالى: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14) بل المسلمون قلوبهم شتى , ولا تحسبهم جميعًا لتجاهر بعض لبعضهم بالعداوة. أحرجهم الزمان، وأراهم العبر بالعيان، وهم لاهون، فيالله العجب ‍‍! ! إلى متى هذه الغفلة , والتردي في هذه الغواية , والتكاسل عن الجد. والرفيق أبدى رأيه بقصد إصلاح قومه ووضعه للنقد والاختيار فشكر الله سعيه و (إنما الأعمال بالنيات , وإنما لكل امرىء ما نوى) . والإنسان يبذل جهده ويصلح نيته، وليس عليه أن لا يخطئ. وحيث إني ظهر لى غير ما ظهر له، ودلني عقلي على عكس ما أبداه أحببت أن أبدي رأيي , وأضعه أيضًا للتمحيص والنقد والاختبار فإن رآه المسلمون حسنًا صحيحًا فذلك فضل الله فليشيعوه، وليبسطوه بالرسائل , وأرجو من أهل الجرائد أن ينشروه ليطلع عليه العام والخاص {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وإن كان غير ذلك فذلك شأني , وعسى أن يُظهر الله الصواب على يد من أراد فأقول: (إن من قرأ تواريخ المسلمين عرف ما انتاب هذه الأمة من النوائب والمصائب التي لا تكاد تثبت لها شوامخ الجبال , وهي كثيرة , وأعظمها تأثيرًا على جامعة الإسلام أمران ناشئان عن تركهم الدين وإهمالهم إياه؛ أحدهما في أمورهم الشخصية، والآخر يتعلق بحياتهم الاجتماعية السياسية. بيانه: أن أعظم سبب لسقوطهم، وتزعزع ملكهم بادئ بدء أن من لم يستحق الخلافة ولم يكن من أهلها، ولم تجتمع له شروطها، ولم ير أهل الحل والعقد انتخابه لها هاجم أهل الحق ونازع الحق أهله وأغار عليهم بإثارة الحروب وأعانه من رغب في جمع الحطام؛ باستمالة الطغام من العوام، وكان ما كان حتى انتهت تلك الحروب الهائلة التعيسة بانتصار هؤلاء الظلمة لأسباب لا حاجة بنا إلى بسطها، ولو كانت الغلبة لأهل الحق والعلم والدين والنُهى لما كانت حالة المسلمين ما نرى، ولكن لا ينفع (لو وعسى) في أمر مضى وانقضى. ولما رأى هؤلاء المغتصبون أنهم لم يظفروا بما ظفروا به إلا بالقهر , وخافوا أن يكر عليهم أهل الحق مرة أخرى مالوا عليهم ميلة ظافر غشوم فقتلوا أحلامهم، وانتهكوا حرمتهم، ووكلت بمن بقي منهم الرقباء والجواسيس , فتفرقوا في البلاد مختفين لا يبدون ولا يعيدون , يعاقب الواحد منهم أشد العقاب على كلمة يقولها. يوضح ذلك قول أبي هريرة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءَيْنِ من العلم أما أحدهما: فقد بثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم , أو كما قال) وهو في الصحيح , وهؤلاء المتغلبون الغاصبون جعلوا الخلافة ملكًا عضوضًا كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في معرض الذم , وعدلوا بها عن منهج دين الله وشرعه , واستأثروا ببيت مال المسلمين , واستبدوا بآرائهم معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه - رضي الله عنهم - وعصيانًا لأمر الله في كتابه، وآثروا الجهلة والفساق بالوزارة والإمارة بجامع التشابه، ولله در القائل: (إن الطيور على أشباهها تقع) . فهذه أول مخالفة للدين وقعت في تاريخ الإسلام، وهي سبب سقوط المسلمين وأعظم مانعٍ صَرَفَ المسلمين عن جميع القواعد والأصول وتفصيلها وترتيبها التي شرعها الله لهم , وندبهم إليها لتكميل حياتهم الاجتماعية السياسية فبقيت مفرقة كما أنزلت لا يحيط بها علمًا إلا العاملون الذين مر ذكرهم، وبيان حالهم , ومهملة لا يحتفل بها الأشرار، ولا يسمحون بنشرها للأبرار، لما أنها مخالفة لتلك الأنفس الشهوانية، والرغائب الحيوانية. خاف أولئك المستبدون أن تشتهر تلك الأصول وتعتقدها عامة الأمة فيطالبوهم بما تقتضيه جبرًا , فبقيت محجوبة في زوايا الإهمال , وبتركها شقي المسلمون، وسعد بها في دنياهم أهل الغرب، وكانت أكبر الغنائم التي آبوا بها , واستفادوها من حروبهم ومخالطتهم المسلمين، كما سعدوا أيضًا بفوائد العلوم الفلسفية الطبيعية من هناك , فكان نصيبهم من علومنا ما نسمع ونرى، ونصيبنا القيل والقال، وكثرة الجدال كالذي يحمل الأثقال، وكانوا كالمُبَلَّغ أوعى من السامع. والسبب الثاني جناية على الدين ومخالفة له أيضًا، وهو الذي أقعدهم على بساط الذل والهوان، وبه يرسفون حتى الآن في مهاوي الخذلان، لا يلوي أحد منهم على الآخر، وبه كانوا شيعًا متفرقين، وكان السبب الأول كالعدو القوي الهاجم، وتلاه السبب الثاني يجهز على الجرحى ويعاجل، وهو أعظم رزية، وأشد بلية، ألا وهو نبذهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم , ومع ذلك فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. جهل مُرَكَّب، وغواية عمياء , وفتنة دهماء، وإلى الله شكاة رسوله {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) إذ لم يمتثلوا وصيته - بأبي هو وأمي- فيما صح عنه: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي) ورد بروايات متقاربة المعنى. بل عدلوا عن سبيله , وأكبوا على تقليد الرجال إلى مذاهب مختلفة، وآراء غير مؤتلفة , والله يقول وهو أصدق القائلين: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) فنستغفر الله، وحسبنا الله , والعياذ بالله من هذه العاقبة الوخيمة، والتفرق المشئوم الذي يفسد الدارين , ويشقي النشأتين، في الآخرة براءة نبينا صلى الله عليه وسلم منا وهو الذي شفاعته أعظم ذخيرة، وفى العاجلة ذهاب الريح والنصر في حياة منغصة بالتهاجر، وبالجملة فالتقليد جلب علينا كل طامة لو لم يكن إلا فَصْمه عرى الوفاق، وتهييج الشقاق لكفى. ألا ترى كل فرقة من فرق التقليد تود أن لو سمح الزمان لها باستئصال الفرق الأخرى وإعدامها من الوجود، ولقد بلغ بهم هذا الشغف إلى أحقاد، وأثر هذا الاختلاف أشد تأثير على إحساس المسلمين كما هو مشاهد. وإن شئت تحقيق ذلك؛ فدونك ومذهبًا من تلك المذاهب استخرج منه مسألة مخالفة للكتاب والسنة فنبه عليها بخصوص كونها من المذهب الفلاني , ثم ادعهم إلى الحق والعدول عن تلك المسألة. لا ريب أنك إن فعلت ذلك ترى من جماعة ذلك المذهب العجائب والغرائب، والصياح والناح، والتأولات وسائر التمحلات، ويقاومونك أشد مقاومة، ويرمونك بكل حجر ومدر , وتعلم حينئذ صدق ما قلنا من أن هذه التمذهبات أذهبت من المسلمين الإحساس بكل طارق مؤثر , وصرفتهم عن الالتفات والتوجه إلى ما سواها , ولأجل ذلك لا تكاد ترى من علمائهم فضلاً عن عوامهم تألمًا أو إحساسًا بما يعانونه ويقاسونه من وطأة الأعداء , واعتصابهم على بلادنا، وركوبهم كواهلنا الضعيفة، وهؤلاء الأعداء لا يزالون في جد واجتهاد يسوموننا كل دنية , والمسلمون مع ذلك كله لاهون وغارقون في العماية المظلمة بتلك الأفكار. أقرب مثال لهم وأشبه حالة المجنون الذي يلعب به الأطفال ويسومونه النكال، وهو لاهٍ بما هو فيه، وجسمه في عناء يستوجب الرحمة من الأعداء، بل صرنا إلى حالة أحرج من حالة هذا المجنون، وتربص بنا كل ذي طمع ريب المنون، وطوقوا أعناقنا بآصار النكال، وحملوا كواهلنا أنواع الشقاء الثقال، ونحن لا ننبث باستغاثة، ولا نستطيع شكاية، فهل سمع السامعون أو رأى الراءون أن أحدًا يخاف أو يعجز أن يقول لمن ظلمه: (يا هذا ارحم ضعفي) ، أو (خف الله ولا تظلمني) ، أو (اعدل في حقي) لا لا لا , لم يبلغ أحد إلى هذا الحد إلا المسلمون في هذا الزمان، وذلك بسعي سلاطينهم وأمرائهم الذين يجب أن يخلد لهم التاريخ الثناء الجميل بذكر غيرتهم وشجاعتهم وحسن سياستهم وتمسكهم بأوثق عرى دينهم! ! فسحقًا لهم وبعدًا من أمراء، يا ليت لنا بأكثرهم رجلاً واحدا من سواس الغرب الذين لو أُعْطِيَ أحدهم الدنيا بحذافيرها ليحط من قدر قومه ولو بكلمة يفوه بها لم يطاوعه طبعه، فضلاً

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع شذرات من يومية الدكتور أراسم [*] في التربية بسفر البحر يوم 14 مارس سنة - 186 اضطرتنا الريح إلى أن نجتاز خليج بسكاي [1] وقد أكد لي الربان أنه وأمثاله يتحامون ما استطاعوا التورط في هذا المجاز الذي يهاب اسمه الملاحون أنفسهم، وهو على شدة تلاطم الأمواج فيه لم يعق السفينة عن المسير , وربما حدا بي ذلك إلى اعتقاد أن من البحار ما هو كبعض الناس في كونها أمثل مما اشتهرت به. منذ بضعة أيام أتيح لي فراغ من عملي فشغلته بدرس سفينتنا , فإذا هي دنيا صغرى تطفو على الماء جعلتها جميع العلوم والصنائع ميقاتًا لاجتماعها. ترى الملاح فيها يلجئه عوزه إلى استئناف التمدن كل يوم فكأنه روبنسن [2] في جزيرته يخترع معظم الفنون النافعة ليستفيد منها. ذلك أنه لخلوه من الصاحبة يتولى بنفسه غسل ثيابه وفرشه وإصلاحها، وتدلك نظافة حجرته دلالة كافية على ما سيكون عليه بيته الخلوي في مستقبله، فقد أوتي هذا الليث البحري من غرائز العناية بالبيت ما أوتيته النملة. من مزايا السفينة أيضًا أنها تؤدي إلى كل من ترتاح نفسه للعمل من ركابها عملاً يشغله فقد عاود (قوبيدون) الاشتغال بالطهاية التي سبق له أن شرف بإجادتها في أسفار سالفة وجعلت زوجته قهرمانة [3] واختصت (هيلانه) بمساعدتي في التمريض , وبالعزف على البيانو تسرية للسآمة عن المسافرين , وتقوية لقلوبهم وقلوب الملاحين أنفسهم الذين يجتمعون كل ليلة على السطح لاستماعه. جاز (أميل) التمرينات الأولى , وصارت قدمه قدم بحار, وأنشأ يتسلق سلالم الحبال التي على جانبي السفينة، وهو يؤدي الأعمال التي يعلمه الملاحون تأديتها بما يكفي من الحذق المنتظر من غرٍّ مثله. ومعيشة المتعلمين البحريين أمثاله في سفينة تجارية على ما فيها من النَّصَب والعناء معيشة صحية , فإن تعرضه لنسيم البحر يشهي إليه الطعام حتى إنه ليكاد يلتهم حوتًا من الحيتان المسماة بالكلاب البحرية لو قدم إليه , ولله خفته ونضارته في قميصه الأزرق ذي الطوق المنكسر الذى يبين نحره. جاءني غدوة اليوم إثر عمل شاق بالنسبة لطفل مثله، وألقى برأسه بين ركبتي وهو يتصبب عرقًا , فأحببت أن أشجعه لا أن أطريه؛ لأن الإطراء هو سم النفوس يفرط فيه الآباء لأبنائهم بما يبعثهم عليه من الرحمة العمياء , فهم بذلك يعودونهم على إرضاء غيرهم، وكان حقًّا عليهم في رأيي أن يعلموهم إرضاء وجدانهم. من أجل هذا اقتصرت على ضم ولدي إلى صدري وتقبيله غير أني أحسست حينئذ بالعبرة في عيني، وهو على كل حال قد اعتبر هذه الملاطفة مني مدحًا له لأنه انصرف من عندي للمضي على عمله مملوء القلب بالفرح، ولا أخال أحدًا ينكر استحقاقه لهذا المدح أي لتلك الملاطفة. ليس في السفينة أحد إلا وهو يهتم بأن يكون نافعًا من جهته حتى (لُولا) فقد فاجأتها بالأمس , وبيدها كتاب كانت تطلع عليه طفلة في الخامسة من عمرها اتخذتها صديقة وتعلمها فيه الهجاء اهـ. *** يوم 19 مارس سنة -186 نحن الآن تجاه جزيرة ماديرا تجري بنا السفينة بريح طيبة كانت من بداية سفرنا تهب من الشمال الشرقي، وقد أحدقت بنا في هذا المكان قطعان عديدة من الخنازير البحرية , وأنشأت تمرح في الماء وتلهو بالزبد المتخلف على غوارب الأمواج من انشقاقها بحَيْزُوم السفينة في مسيرها، فبادر جميع الركاب إلى السطح لمشاهدتها، وكان من (لولا) عندما رأتها أن قالت: ويكأن هذه الحيوانات مغتبطة بمعيشتها , وكأنها لم تصب بمرض البحر في حياتها. استعد ضباط السفينة لصيدها فوقف أحدهم عند الساري المقدم , ورمى خطافًا كان معه على واحد منها ظن أن إصابته أيسر , وحينئذ جر الملاحون الحبل المعلق به الخطاف , وهم في هذه الحالة يجب أن يكونوا خفاف الأيدي أشداء السواعد وإلا وجد الخنزير المصاب وسيلة للرجوع إلى الماء والانفلات من أيديهم، وقد نجحوا في الرمية الثانية فاصطادوا أحدها، ومما شاهدته فيه أن كبده يشبه كبد الخنزير البري , ولحمه أقل جودة من لحم الثور , على أنه يحضره في الذهن إن لم يكن بطعمه فبلونه لأنه أحمر ضارب إلى السواد، ويستخرج من لحمه زيت جيد للاستصباح يستعمل في السفينة. اهـ *** يوم 22 مارس سنة -186 نحن الآن مارون أمام الجزائر الخالدات، وإن كنا لم نرها وهي مرتسمة على سطح الماء المتسع إلا كرؤيا الحالم، وقد اضطرتنا الرياح المتعارضة إلى التوغل في المحيط. إننا منذ سفرنا نشعر بارتفاع الحرارة ارتفاعًا عظيمًا غير أن هذا اليوم هو أخص يوم أحسسنا فيه بدخولنا إقليمًا غير إقليمنا حتى إن (لولا) نفسها على ما بها من شدة التأثر بالبرد خلعت ثياب الشتاء وارتدت ثوبًا ورديًّا. كان غروب الشمس بالأمس من أجلّ المناظر وأبهاها، وكان الليل فخيمًا , والقبة السماوية المظلمة تزهو بلألاء النجوم التي هي كالرمل عدًّا. وما لي وذكر أسمائها , فلا فائدة في ذلك ويكفيني أن أسميها بالنور، ومما ميزناه منها الزهرة التي مع كفها عن دعوى الألوهية واقتناعها بأن تكون في مصف الكواكب لم يضل عنها ميلها إلى التغنج النسوي , فلا تزال تحب أن ترى نفسها في مرآة البحر. في نحو الساعة الرابعة أو الخامسة من الغداة انشق النطاق الأسود الذي كان مشدودًا حول الأفق يلأم السماء بالماء رويدًا رويدًا، ثم بدا من بين حافتيه ضوء مخضر يحاكي ماء البحر في لونه , فانتشر على الأمواج وهو ضوء الفجر، وساعة طلوع الفجر في العروض التي نحن فيها الآن من الساعات المشهورة على قصرها وقصر مدة الشفق أيضًا، فإنه يخيل للرائي فيها أن العالم بأسره مضاء بالكهرباء , وربما كان قصر مدة الشفقين سببًا في ذلك. مما حملناه معنا في السفينة ديك صغير وضعناه مع دواجن أخرى في أحد أقفاصها أسمعنا صياح التنبيه والإيقاظ ثلاث مرات، فكان لصوته الشبيه بصوت البوق في نفوسنا تأثير محزن قابض بسبب أحوال الغربة التي نحن فيها، وكان يسري إلى القلوب بلا عائق لأنه كان يذكر المسافرين بأورباهم القديمة وأراضيها ومعيشة المزارع، وما يعالجه المزارعون من الأعمال الشاقة. ثم تتابع انمحاء الكواكب من السماء فأخذت تنطوي في أعاليها وتصطبغ باللون الأزدرختي. ثم أشرقت الشمس فإذا الأمواج أنفسها وقد ملكها الإجلال وتولاها الإعظام يخيل أنها خشعت لهذا الينبوع الذي هو مصدر الضياء والحياة , وصارت السماء كلها جذوة نار، وترقرقت سبحات من النور الذهبي على صدر المحيط الذي برزت منه الأرض بالتدريج تتلألأ بهاء ونضرة. لم يقع بصري على (أميل) و (لُولا) معًا إلا في هذه الساعة وحدها من النهار , رأيتهما جاثيين جثية عبادة واستغراق في المشاهدة، فليت شعري هل اقترب كلاهما في تلك الساعة من إدراك معنى الألوهية بمراقبة جمال الكون وبهائه؟ اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ أرسل إلينا التقريظ الآتي للمنار أحد علماء الشيعة في بعض الأقطار فنشرناه اعترافًا بفضله، وشكرًا له على حسن ظنه، قال حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم عريضتي بحمد الله، والصلاة على مصطفاه , وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بهداه، هي أني صوبت الأنظار في مباني المنار، وإن يكن يعشي الأبصار، فخدمته بما قدمته , والمأمول القبول، إذ لم يكلف الإنسان بما فوق الإمكان. قل للأولى عميت جهلاً بصائرهم ... ولم يروا في سما العرفان أقمارا بحرمة الله هبوا من سباتكم ... هذا المنار على الدنيا لقد نارا لم يبق ما فيه من عذر لمشتبه ... ولم يدع في ديار الجهل دَيَّارا إن ينتصر لقويم الدين منشئه ... فالله قيض للأديان أنصارا كم أَطْلَعَت مصر في أوج العلى قمرا ... وكم تحدث وايم الله أقطارا من قبل موسى عصاه طالما التقفت ... إفكًا وكم أبرزت للناس أسرارا يراعه كعصى موسى ومقوله ... قد صاغه مبدع الأكوان بتارا هذا الرشيد بمصر طالما التقفت ... أقلامه من يد الأيام سحارا فلله أبوه من رجل أداخ البلغاء وأخاف العرفاء، وأجال مشاقص أقواله في المشارق والمغارب، وفتل ولله دره في الذروة والغارب فقاد الشرود والشاسة، واشتمل السياسة، وكان كالخميلة يطلع كل جميلة، وكالمندل الرطب، والمنهل العذب , يأتيه الناهل، ويروده القاحل، ألقت إليه المعارف أفلاذ كبدها، وأبرزت له مخباها، وشقت له معاها، وأمطرته بما أسال الشعاب، وسقى الوطاب، وتدَفَّع في الأودية وملأ حياض الأندية فخاض الغمر، ومشى على الضحضاح، وعب حتى امتلأ، لا تستطاع أحواله، ولا ينتحل مقاله. إذا ما قال قافية شرودا ... تنحلها ابن حمراء العجان فقل لمن جاراه، أو ساجل علاه، ابتعد عنها، لقد حن قدح ليس منها، ولا تكون أمته براعية ثلة. أليس هو الساعي في تكوين الأمة من طريق التربية , والتعليم النافع حيث لا تعمية، ألم يضرب بعصاه صفاة العرفان، في هذا الزمان، كما ضرب ابن عمران الحجر يوم كان، فانجبست منه تلك العيون، ولها شئون , ومن حجر الكليم مشارب , ولها مسارب، ولكل إعجاز جهة امتياز. ألم يزد على باني الهرم في القدم أقام للتذكار صخورًا وأحجارًا وهي أشباح بلا أرواح، وباني المنار أطلع الصباح، وصاح حي على الفلاح، وأثبت البناء على ما شاء , وأعمل المعيار، ومد المطمار , وأحكم القوالب والصور، وأفاض عليهما من الأرواح ما به حياة البشر، فهو إذن قلب العرفان يغذوه الحَيَوْة , ولولاه لمات، وينبوع غريزيته بلا اشتباه، وكبده القائم بغذاه، ولذلك سرت أرواح مناره في عالم الإنسان، وستسري مدى الزمان، واستقام ما بناه، واعتدل ما سواه، ولكم أتاح الله من علماء , للقلوب أطباء، والفخر لمصر على الأمصار، بما اختصها الله على الأقطار، من الأبدال وعرفاء الرجال , كباني المنار، أطال الله أيام مجده وشد عرى الدين بهديه ورشده. وبلغه المآرب يوم العرض على الواجب، جلت قدرته، وعلت كلمته. ... ... ... ... ... ... ... الداعي خادم العلم والعلماء ... ... ... ... ... ... مهدي بن علي المشتهر بشمس الدين (رفع اللبس والشبهات عن ثبوت الشرف من قبل الأمهات) اسم هذا الكتاب يدل على موضوعه وهو لمؤلفه السيد عابد بن أحمد بن سوده أحد الفقهاء والمحدثين في فاس وخطيب الحرم الإدريسي هناك , وقد طبع الكتاب على نفقته في مصر , وتفضل حفظه الله بإهدائنا نسخة منه منذ أشهر , ولم نوفق لمطالعته لكثرة الشواغل مع رغبتنا في الاطلاع على أثر رجل فاضل يحبنا ونحبه في الغيب , ولذلك رأينا أن نعلن شكره , ونكتفي بتنبيه الباحثين في الأنساب إلى مؤلفه , وصفحات الكتاب 144 صفحة. (كتاب الإملاء) كتاب جديد في فن الرسم؛ أي رسم الحروف والكلم المفرد الذي يمسونه فن الإملاء , وهو فرع من فن الصرف كما أن الصرف فرع من النحو , ولكنه فرع لم يستقل في موضوعه ومسائله دون أبيه كما استقل أبوه دون جده. وقد كان علماء اللغة يعنون بالرسم حتى لا يثقون بعلم من يخطئ فيه , ومن المأثور عنهم في ذلك أن أحدهم رحل للتلقي عن عالم اشتهر فضله فلما بلغ بلده رأى قبل أن يلقاه صحيفة بخطه , فقرأها فإذا فيها لفظ (بايع) مرسومة هكذا بالياء فقال: إن هذا لا يوثق بعلمه وعاد أدراجه أسفاً أن ضيع زمنه في الرحلة إليه. وقد انتهينا إلى زمان نرى فيه كتابة المنقطعين لدراسة العلوم العربية في مثل الأزهر ملأى بالغلط في الرسم كغيره , ولا تستثن من كبار مدرسيهم إلا نفرًا لا يعدون جمع القلة. وللمدارس النظامية عناية بفن الرسم لم يكن لها نظير في الأزهر وما على شاكلته، وهم يعلمونه بطريق الإملاء يملي الأستاذ على التلامذة جملاً من الكلام , ثم يصحح لهم ما يكتبون مع البيان. وقد نظر الأستاذ الإمام بعين الاهتمام إلى هذا النقص في الأزهر فاقترح في مجلس إدارته أن يعهد إلى الشيخ حسين والي أحد العلماء المدرسين فيه بأن يدرس الإملاء على طريقة المدارس النظامية، وكان ذلك , ولما شرع هذا في التدريس توجهت عزيمته إلى وضع كتاب مطول في فن الرسم يكون غاية الغاي في موضوعه ففعل، وهذا هو (كتاب الإملاء) . الشيخ حسين والي تعلم في مدارس الحكومة قبل المجاورة في الأزهر، فهو عالم بأساليب التعليم والتأليف الجديدة، وقد اشتغل في الأزهر بفنون الأدب بعناية لا تعرف من مجاوري هذا العهد , فهو واسع الاطلاع في اللغة وأدبياتها، لذلك جاء كتابه هذا أحسن كتاب وضع في هذا الفن أسلوبًا وأوسعه مادة , بدأه بمقدمة في تاريخ الخط والكتابة عند الأمم، تكلم فيها على أبي جاد والحروف المفردة وصفاتها والحركات والرقم والخط وأقسامه الثلاثة، وفيها فوائد كثيرة , ويلي المقدمة (الباب الأول في الحروف التي تبدل) وقد أفاض فيه القول في مباحث الهمزة والألف , وفيه قصيدة ابن مالك في الأفعال التي وردت بالواو والياء , وأبيات أخرى فيما زيد عليه من ذلك، وأرجوزة في الأفعال الواردة بالواو اطرادًا، وغالبًا وأخرى في الأفعال الواردة بالياء اطرادًا وغالبًا. ويليه (الباب الثاني في الحروف التي تزاد) يقفوه (الباب الثالث في الحروف التي تنقص) وفيه الكلام على رموز الكتب العلمية , ورموز القراء والمحدثين , وكتبة الدواوين , والكلام في التاريخ. وبعده (الباب الرابع في الكلمات الواجب فصلها والكلمات الواجب وصلها) وهو واسع , وفيه الكلام على الشكل العام والخاص , والقطعة والمدة , والعلامات التي هي في معنى الشكل كعلامة الإشمام والروم، فأنت ترى أن أحوج الناس إلى هذا الكتاب الأستاذة والكُتَّاب , وهو مما ينبغي أن يقتنيه كل أديب بل كل متعلم. وقد طبع في مطبعة المنار على ورق جيد جدًّا بكيفية من الإتقان وتسهيل المطالعة لم نر مثلها في كتاب آخر , وبلغت صفحاته 256 صفحة، وثمن النسخة منه عشرة قروش صحيحة , وهو يطلب من مطبعة المنار بشارع درب الجماميز بمصر. (الهدية السعيدية في الحكمة الطبيعية) ولع المسلمون بالفلسفة في أيام مدنيتهم ولوعًا عظيمًا , ومزجوها بعلم العقائد الدينية حتى صار فهم كتب الكلام متوقفًا على الوقوف على تلك الفلسفة خصوصًا الكتب الكبيرة الشهيرة التي يعدونها حصون العقائد الإسلامية كالمواقف والمقاصد بل الفلسفة أكثر ما في هذه الكتب، ومباحث العقائد أقل ما فيها، ولكن هذا الأقل هو المقصود بالذات , ولقد ضعف علم الكلام وضعفت معه الفلسفة والمنطق في جميع البلاد الإسلامية تبعًا لتدلي العمران والحضارة حتى كادت تندرس هذه العلوم في مصر لولا أن وفد السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى على هذه البلاد , فنفخ فيها روحًا علميًّا جديدًا , وما زال علماء الأعاجم لا سيما الهنديون منهم يدارسونها , ويطبعون كتبها القديمة , ويؤلفون فيها كتبًا جديدة فهي حية عندهم , وهم فيها أمثل من المصريين، إلا من شذ من هؤلاء فلم يكتف بالفلسفة القديمة، بل أضاف إليها الجديدة الأوربية فأخذها بلسان أهلها كالأستاذ الإمام. وإننا نرى في هذا العهد الأخير أذكياء المجاورين في الأزهر يكسرون مقاطر التقليد لشيوخهم المتأخرين , ويوجهون أفكارهم إلى تناول كثير من العلوم والفنون القديمة والحديثة التي أهملها أكثر شيوخ الأزهر حتى كادت تمحى منه. وقد انتدب بعض محبي الفلسفة منهم وهو الشيخ عبد الرحمن البرقوقي إلى طبع كتاب في الفلسفة القديمة والسعي في حمل أحد الشيوخ على تدريسه في الأزهر , فاختار كتاب (الهدية السعيدية) الذي ألفه في هذا العصر (ملا محمد فضل الحق) من علماء خير آباد في الهند (المتوفى سنة 1278) وأهداه إلى أمير بلاده محمد سعيد خان بهادر ونسبه إليه. ويقول الشيخ عبد الرحمن أنه رأى هذا الكتاب خير كتاب في الفلسفة القديمة وضعًا وسهولة. وقد طبع الكتاب في مطبعة المنار على ورق جيد كدلائل الإعجاز مع تتمة لولد المؤلف , فكانت صفحاته زهاء مائتين وثمانين صفحة، وقد جعل ثمنه مع ذلك ثمانية قروش صحيحة , وهو يطلب من مكتبة المنار ومن المكاتب الشهيرة في مصر , فنحث محبي الفلسفة والراغبين في دراسة الكتب الكبيرة في الكلام على مطالعته. (المنتخبات العربية) أقرب الطرق إلى تحصيل ملكة الكتابة في المنثور والمنظوم كثرة مطالعة كلام البلغاء وأشعارهم , ولو أن طالب البلاغة حفظ بعد قراءة النحو والصرف مختصر السعد ومطوله وحواشيهما , ولم يزاول كلام البلغاء لما ازداد إلا بعدًا عن البلاغة كما بين ذلك الحكيم العربي ابن خلدون رحمه الله تعالى، ومما دلنا على أن النهضة العربية الحديثة ستكون منتجة أحسن نتاج تصدي المشتغلين لإحياء آثار البلغاء، وإقبال الناس على هذه الآثار وتفضيلها على سواها والاعتماد عليها في تحصيل ملكة البلاغة، سواء كانت كتبًا فنية كأسرار البلاغة ودلائل الإعجاز أو كتب تمرين ككتب الأدب الشهيرة، ولكن أكثر المشتغلين بطلب الأدب تقصر همهم عن مطالعة الكتب الكبيرة المفيدة للبلاغة كالأغاني والبيان والتبيين والكامل والعقد الفريد. وقد فطن الناس لذلك فأنشأوا يختارون من هذه الكتب وما شابهها الفصول والنبذ المختصرة من المنثور والمقاطيع من الشعر , ويراعون فيها السهولة والاختصار، وقد سبق اليسوعيون إلى هذا العمل فراجت مختاراتهم العربية على ما فيها من الدسائس الدينية والتحريف المعنوي واللفظي. وقد عني محمد أفندي حسن محمود وأمين أفندي عمر الباجوري الكاتبان في نظارة المعارف باختيار نبذ من كلام المتقدمين والمتأخرين والمعاصرين ومقاطيع من أشعارهم فكان لهما من ذلك كتاب سمياه (المنتخبات العربية) وطبعاه طبعًا جميلاً يناسب ما فيه من حسن الاختيار فنحث محبي الأدب عامة , وطلاب العلم خاصة على مطالعته , وثمن النسخة منه سبعة قروش صحيحة وصفحاته 256 (الامتيازات الأجنبية) يعرف الخاصة والعامة أن للأجانب امتيازات في البلاد العثمانية ليس لهم مثلها في غيرها من الممالك , وأن هذه الامتيازات من أركان الجور والظلم واختلال النظام واضطراب القضاء وأن إسماعيل باشا خديوي مصر قد زاد للأجانب في هذه الامتيازات فأعطاهم منها ما ليس في البلاد العثمانية تزلفًا إليهم , وطمعًا في مساعدتهم له على ما كان يكيده في سياسته مع الدولة، حتى صار أحقر يوناني في مصر أعز من أمرائها وعلمائها وكبرائها. وقد بحث الأوربيون في أصل هذه الامتيازات وجاءوا فيها بالدث والرجم ولم نر أحدًا من الملسوعين بحمتها في مصر من كتب فيها شيئً

أسئلة هندية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة هندية وردت هذه الأسئلة الستة من الهند على الأستاذ الإمام مفتي الإسلام في مصر فأرسلها إلينا لنجيب عنها لكثرة الشواغل عنده، ولثقته بتحري تلميذه الصواب. * * * تلقيح للجدري والطاعون وغيرهما (س73) الطبيب المولوي نور الدين المفتي في بنجاب (الهند) : أيجوز التلقيح للجدري والطاعون والهواء الأصفر (أي الهيضة الوبائية) والإفرنجي مثلاً. (ج) لا وجه لتحريم التلقيح لهذه الأمراض ولغيرها، فإن التلقيح ضرب من ضروب الوقاية الثابتة بالتجربة الصحيحة المتواترة، وتوقي المضارّ واجب شرعًا بالإجماع، فما تعين سببًا للوقاية وجب الأخذ به عند ظن التعرض للضرر، وما جاز أن يكون سببًا تجوز تجربته إذا لم يكن في التجربة محظور آخر كضرر محقق أو مظنون , إذ لا يجوز ارتكاب الضرر لتوهم المنفعة. وهذه المسائل ترجع إلى قاعدة وجوب دفع المضار وجلب المنافع، وقاعدة تعارض المعلوم والموهوم، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين. وعلماء هذه الديار متفقون على جواز التلقيح لأجل الوقاية من الجدري، حتى إنه لا يقبل في الجامع الأزهر تلميذ إلا إذا لقح بلقاح الجدري. * * * التداوي بالأدوية الإفرنجية (س 74) ومنه: أيجوز التداوي بالأدوية الإفرنجية وفيها الكحول وأنواع من الرطوبات المحرمة؟ (ج) يجوز التداوي بكل ما ثبت للطبيب فائدته في إزالة المرض أو تخفيفه عملاً بعموم ما أجمعوا عليه من جواز التداوي، ولا يستثنى إلا ما حرم بالنص كالخمر ولحم الخنزير إذا كان غيره يقوم مقامه ويستغنى به في التداوي عنه , وأما إذا تعين دواء فإنه يصير مضطرًّا إليه {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173) وأما الكحول فليس محرمًا بالنص ولا وجه لتحريم كل ما كان جزءًبا طبيعيًّا أو كيماويًّا من الخمر، وإنما يحرم كل مسكر وكل ضار، والدواء نافع غير مسكر، فلا وجه للقول بتحريمه، إلا من يستحل التشريع بفلسفته فيحرم برأيه ما جعله الله سببًا لمنفعة الناس. وقد سئلنا من قبل عن طهارة هذا الكحول أو الغول ونجاسته فبينا بالدلائل الواضحة أنه طاهر، فليراجع ذلك في المجلد الرابع من المنار. * * * الشهادة بالتلغراف (س 75) ومنه: أتجوز الشهادة بالتلغراف وعليه المجوس والنصارى؟ (ج) خبر التلغراف لا يسمى شهادة عند الفقهاء فلا يعملون به فيما يتوقف إثباته على شهادة الشهود وإنما هو خبر كالكتابة، فينبغي أن يعمل به حيث يعمل بالكتابة بشرطها، وهو الأمن من التزوير؛ فإذا لم يكن هناك ثقة بأن هذا التلغراف من فلان فكيف يوثق بمضمونه؟ وأما إذا كان هناك ثقة بأن هذا التلغراف من فلان فحكمه حكم خبره , ولا يخفى أن خبر المجوسي والنصراني يعمل به في إقراره وفي شهادته على مثله اتفاقًا. هذا ما يظهر من نصوص الفقه وأقيسته. وإذا رجعنا إلى أصل الكتاب والسنة وحكم التشريع يتجلى لنا أن البينة في الشرع هي كل ما يتبين به الحق بحيث يثق الحاكم أو غير الحاكم بأن هذا الشيء صحيح أو غير صحيح , فمن التلغرافات ما ترسله الحكومة إلى عمالها فلا يشُكُّون في صحة مضمونه وكونه من الحكومة، ومنها ما يرسله تاجر إلى آخر فلا يشك في كونه منه، ومنها ما يشك في مرسله أو في مضمونه أو فيهما معًا. ولكل خبر حكمه. وما ذكرناه في معنى البينة قد أوضحه ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) واستدل عليه بالكتاب والسنة والعقل , فليراجع ذلك فيه أو في ص 170 من مجلد المنار الخامس. * * * الزكاة والضرائب على الأرض في دار الحرب (س75) ومنه: النصارى يأخذون من الأراضي في الهند قريبًا من النصف أو الربع (أي من ريعها) فهل يعد ذلك من أصل ما يجب إخراجه من العشر أو نصف العشر (وفي أصل السؤال ربع العشر وهو زكاة النقدين) (ج) إن ما يجب من العشر أو نصف العشر من غلات الأرض هو من مال الزكاة التي يجب صرفها في مصارفها الثمانية المنصوصة أو ما يوجد منها، فإذا أخذها عامل الإمام في دار الإسلام برئت منها ذمة صاحب الأرض ووجب على الإمام أو عامله صرفها لمستحقيها، وإذا لم يأخذها العامل وجب على المالك وضعها حيث أمر الله. وما يأخذه النصارى وغيرهم على الأرض التي تغلبوا عليها يعد من الضرائب ولا تسقط به الزكاة , فيجب على المسلم أن يخرجها مما بقي له من الغلة حتمًا بشرطها. * * * انتفاع المرتهن بالمرهون (س76) ومنه: هل يجوز انتفاع المرتهن بالمرهون؟ (ج) جمهور العلماء ومنهم أبو حنيفة ومالك والشافعي على أنه لا يجوز للمرتهن أن ينتفع بالرهن لأنهم يعدون ذلك من الربا. هذا هو دليلهم وما رووه في الاحتجاج له من حديث أبي هريرة عند الشافعي والدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حبان (لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه، له غنمه وعليه غرمه) لا يصح له سند موصول يحتج به، وهو معارض بما احتج به مجيزو الانتفاع , ومنهم أحمد وإسحق والليث والحسن وهو حديث أبي هريرة عند البخاري وأبي داود والترمذي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة) فهذا الحديث يدل على أن الانتفاع بالرهن مشروع في الجملة، وأنه ليس من الربا، فمن أراد الحق بدليله فهو جواز الانتفاع ما لم يكن هناك احتيال على الربا أو شرط عدم الانتفاع برضا المرتهن ثم غدر وخالف الشرط , والله أعلم. * * * الحكم بالقوانين الإنكليزية في الهند (س77) ومنه: أيجوز للمسلم المستخدّم عند الإنكليز الحكم بالقوانين الإنكليزية وفيها الحكم بغير ما أنزل الله؟ (ج) إن هذا السؤال يتضمن مسائل من أكبر مشكلات هذا العصر، كحكم المؤلفين للقوانين وواضعيها لحكوماتهم , وحكم الحاكمين بها والفرق بين دار الحرب ودار الإسلام فيها. وإننا نرى كثيرين من المسلمين المتدينين يعتقدون أن قضاة المحاكم الأهلية الذين يحكمون بالقانون كفار أخذًا بظاهر قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) ويستلزم الحكمُ بتكفير القاضي الحاكمِ بالقانون تكفيرَ الأمراء والسلاطين الواضعين للقوانين , فإنهم وإن لم يكونوا ألفوها بمعارفهم فإنها وضعت بإذنهم، وهم الذين يولون الحكام ليحكموا بها، ويقول الحاكم من هؤلاء: أحكم باسم الأمير فلان لأنني نائب عنه بإذنه , ويطلقون على الأمير لفظ (الشارع) . أما ظاهر الآية فلم يقل به أحد من أئمة الفقه المشهورين، بل لم يقل به أحد قط، فإن ظاهرها يتناول من لم يحكم بما أنزل الله مطلقًا، سواء حكم بغير ما أنزل الله تعالى أم لا، وهذا لا يكفره أحد من المسلمين حتى الخوارج الذين يكفرون الفساق بالمعاصي ومنها الحكم بغير ما أنزل الله. واختلف أهل السنة في الآية، فذهب بعضهم إلى أنها خاصة باليهود وهو ما رواه سعيد بن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال: (إنما أنزل الله {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) في اليهود خاصة) . وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: (الثلاث الآيات التي في المائدة {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} (المائدة: 44) ... إلخ، ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار) وذهب بعضهم إلى أن الآية الأولى التي فيها الحكم بالكفر للمسلمين , والثانية التي فيها الحكم بالظلم لليهود , والثالثة التي فيها الحكم بالفسق للنصارى , وهو ظاهر السياق. وذهب آخرون إلى العموم فيها كلها , ويؤيده قول حذيفة لمن قال: إنها كلها في بني إسرائيل: (نِعم الإخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة , كلا والله لتسلكن سبيلهم قدّ الشراك) . رواه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه , وأولَ هذا الفريق الآية بتأويلين: فذهب بعضهم إلى أن الكفر هنا ورد بمعناه اللغوي للتغليظ لا معناه الشرعي الذي هو الخروج من الملة، واستدلوا بما رواه ابن المنذر والحاكم وصححه , والبيهقي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكفر الواقع في إحدى الآيات الثلاث: (إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه , إنه ليس كفرًا ينقل عن المللة , كفر دون كفر) . وذهب بعضهم إلى أن الكفر مشروط بشرط معروف من القواعد العامة، وهو أن من لم يحكم بما أنزل الله منكرًا له أو راغبًا عنه لاعتقاده بأنه ظلم مع علمه بأنه حكم الله أو نحو ذلك مما لا يجامع الإيمان والإذعان. ولعمري إن الشبهة في الأمراء الواضعين للقوانين أشد , والجواب عنهم أعسر، وهذا التأويل في حقهم لا يظهر، وإن العقل ليعسر عليه أن يتصور أن مؤمنًا مذعنًا لدين الله يعتقد أن كتابه يفرض عليه حكمًا، ثم هو يغيره باختياره، ويستبدل به حكمًا آخر بإرادته إعراضًا عنه، وتفضيلاً لغيره عليه، ويعتد مع ذلك بإيمانه وإسلامه. والظاهر أن الواجب على المسلمين في مثل هذه الحال مع مثل هذا الحاكم أن يلزموه بإبطال ما وضعه مخالفًا لحكم الله، ولا يكتفوا بعدم مساعدته عليه ومشايعته فيه , فإن لم يقدروا فالدار لا تعتبر دار إسلام فيما يظهر، وللأحكام فيها حكم آخر، وهاهنا يجيء سؤال السائل، وقبل الجواب عنه لابد من ذكر مسألة يشتبه الصواب فيها على كثير من المسلمين وهي: إذا غلب العدوّ على بعض بلاد المسلمين وامتنعت عليهم الهجرة , فهل الصواب أن يتركوا له جميع الأحكام، ولا يتولوا له عملاً أم لا؟ يظن بعض الناس أن العمل للكافر لا يحل بحال، والظاهر لنا أن المسلم الذي يعتقد أنه لا ينبغي أن يحكم المسلم إلا المسلم، وأن جميع الأحكام يجب أن تكون موافقة لشريعته وقائمة على أصولها العادلة ينبغي له أن يسعى في كل مكان بإقامة ما يستطيع إقامته من هذه الأحكام وأن يحول دون تحكم غير المسلمين بقدر الإمكان. وبهذا القصد يجوز له أو يجب عليه أن يقبل العمل في دار الحرب إلا إذا علم أن عمله يضر المسلمين ولا ينفعهم، بل يكون نفعه محصورًا في غيرهم , ومعينًا للمتغلب على الإجهاز عليهم , وإذا هو تولى لهم العمل وكلف بالحكم بقوانينهم فماذا يفعل وهو مأمور بأن بحكم بما أنزل الله؟ أقول: إن الأحكام المنزلة من الله تعالى منها ما يتعلق بالدين نفسه كأحكام العبادات وما في معناها كالنكاح والطلاق، وهي لا تحل مخالفتها بحال، ومنها ما يتعلق بأمر الدنيا كالعقوبات والحدود والمعاملات المدنية. والمنزل من الله تعالى في هذه قليل , وأكثرها موكول إلى الاجتهاد , وأهم المنزل وآكده الحدود في العقوبات , وسائر العقوبات تعزير مفوض إلى اجتهاد الحاكم , والربا في الأحكام المدنية. وقد ورد في السنة النهي عن إقامة الحدود في أرض العدو، وأجاز بعض الأئمة الربا فيها بل مذهب أبي حنيفة أن جميع العقود الفاسدة جائزة في دار الحرب , واستدل له بمناحبة (مراهنة) أبي بكر رضي الله عنه لأبيّ بن خلف على أن الروم يغلبون الفرس في بضع سنين، وإجازة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك , وصرحوا بعدم إقامة الحدود فيها , روي ذلك عن عمر وأبي الدرداء وحذيفة وغيرهم. وبه قال أبو حنيفة , قال في أعلام الموقعين: (وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإسلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدوّ ,

أسباب ضعف المسلمين وعلاجه

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ أسباب ضعف المسلمين وعلاجه تتمة وحيث إنه وضح مما تقدم سبب سقوط المسلمين ثم خمولهم وتأخرهم في حلبة الترقي والسياسة , فمما لا يخفى على كل عاقل أنه إذا عرف المرض سهل الدواء إذا بقي من الاستعداد الطبيعي بقية يمكن معه الحياة، وغير خافٍ أيضًا أنه لا يمكن حياة الأمة الإسلامية إلا بعود المسلمين إلى دينهم الذي به سعادتهم في الدنيا والآخرة أما ما ذكره الأخ رفيق من دعوة المسلمين إلى ترك الدين جانبًا والسياسة جانبًا، فهو أبعد كل بعيد , ودونه خرط القتاد , ومن المحقق أن من دعا المسلمين إلى ذلك لا يجاب , ولو أقام على دعوته إلى يوم الحساب , كما أن دعوته في نفسها غير صواب. والحقيقة بخلاف ذلك , فإن دعوتهم إلى دينهم الخالص أنفع لمرضهم , ومن البَيِّن الذي حققته التجارب أن تأثر المسلمين ونشاطهم إلى إجابة دعوة دينهم أسهل كل سهل، وذلك كإجابتهم لدعوة فلان وفلان وفلان في كل مكان وزمان , فلا حاجة إلى الإطالة بالتفصيل والبيان. ودين الإسلام كما أنه أكمل الأديان وأعدلها , فسياسته أعدل كل سياسة يمكن البشر أن ينضموا إليها؛ ألا وهي وضع كل شيء في الموضع الذي يناسبه , والأخذ بالأصح، والسعي في أسهل الطرق وأقربها إلى نيل المراد , وأن ينتخب من كل شيء أزكاه لتكميل وجوده وبقاه، ويصطفى لكل شيء كفوه , وهذه هي سنة الله في أمره الشرعي والكوني , ومقتضى حكمته الكاملة، ودلت على حسنه ووجوبه الفطر والعقول أيضًا , وهو علامة الكمال والاستواء في الأمور الكونية الطبيعية والانتظام البشري. أما كونه سنة الله وحكمته في الخلق والتكوين فذلك بَيِّن لمن تفكر في نفسه وفي الآفاق، ودونك مثالاً واحدًا لنقيس عليه , وهو انتخاب موضع البصر في الرأس ثم وضعه في الوجه لا في القفا؛ لأن الإنسان ذو إرادة للفعل والترك , والأخير عدم , وفعله الطبيعي اتجاه وجهه، وتعيين مراده المحسوس موقوف على رؤيته، فكانت الحكمة انتخاب الباصرة في هذا الموضع , وهناك حكم وأسرار كثيرة للمتبصرين. وكذلك الإنسان والشجر عند كماله واستوائه ينتخب منه لبقاء نوعه خلاصته فيلد ويثمر، والله ينتخب ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس , وهو يعلم حيث يجعل رسالته ومن يصلح لها. وكلام الحكماء والعقلاء في الانتخاب للرأي والمشورة لا يمكن استقصاؤه، وقد فطر بنو آدم على التعاون في أفعالهم وأقوالهم , فالله جل شأنه كما اختار محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى الناس كافة , وختم به الرسالة , واختار أمته وجعلها خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر , ولا يقرون ظالمًا على ظلمه - أي ينبغي أن يكون هذا شأنهم - أمرهم أن يتخلقوا بأخلاقه تعالى التي يليق أن يتخلقوا بها كما يروى: تخلقوا بأخلاق الله , ومعنى هذا الحديث صحيح في الدين، ودلت الشريعة على أن ما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند الله حسن. فمن تلك السياسة الاجتماعية أن الله فوض إلى الأمة الإسلامية انتخاب الخليفة وتعيينه من عائلة الخلافة، وأعظم دليل على ذلك مفارقته صلى الله عليه وسلم هذه الدار ولم يعهد في أمر الخلافة بشيء , ولما كان بديهيًّا ومعلومًا لديهم ذلك من دينهم لم يوصهم صلى الله عليه وسلم بغير الكتاب والسنة كما تقدم , وأيضًا من الأدلة القطعية المعلومة من الدين بالضرورة أن الخلافة الشرعية لا تثبت لأحد إلا بعد البيعة الاختيارية من أهل الحل والعقد ثم عامة المسلمين في سائر البلاد بواسطة أمراء الإسلام , يدل على ذلك قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (إنها فلتة وقى الله شرها , فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه) وتأمل قوله: فاقتلوه. إلى من يعود الضمير ويدل على ذلك قوله تعالى الذي هو أصل كل دليل في ذلك وهو: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) أي شأنهم ذلك , أو كما تقول: المال بين فلان وفلان أي مشترك بينهما , والخبر يكون للأمر بل هو آكد من مجرد الأمر , كما ذكر ذلك في موضعه، وقد جاء الأمر في الآية الأخرى صريحًا إذ قال لنبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) ودخول الأمة من باب أولى؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم غني عن رأيهم بالوحي، وذلك ليس لهم. ومن أدلة ما ذكرناه ما قد تواترت به الأحاديث والآثار من تسمية أموال الملك بيت مال المسلمين , ولم يرد أنها مال السلطان أو خزينته. ومنها انتخاب سائر الأمراء والعمال , فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ولَّى على قوم أو جماعة أميرًا , وهو يرى فيهم أفضل منه فعليه لعنة الله) . ومنها وجوب العمل بالمشورة على الإمام غير النبي صلى الله عليه وسلم , وتعيين الصالحين والعقلاء لها للآيات المتقدمة التي عمل بمقتضاها الخلفاء الراشدون. ذُكر في كنز العمال أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كان إذا نزل به أمر دعا رجالاًَ من المهاجرين والأنصار ودعا عمر وعثمان وعليًّا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت. ثم ولي عمر - رضي الله عنه - فكان يدعو هؤلاء , وصح أن أهل مجلس شورى عمر - رضي الله عنه - أهل الصفة. وليس وجوب العمل بالمشورة مقصورة على الخليفة فقط، بل هي واجبة على سائر الأمراء والعمال , فقد صح أنهم كانوا يوصونهم بأخذ رأي من يحضرهم من عقلاء المسلمين , بل كانوا يعينون لهم أفرادًا للرأي والمشاورة ذكر في كنز العمال أن الصِدِّيق رضي الله عنه أوصى شرحبيل بن حسنة - وكان أحد الأمراء - إذا نزل بك الأمر يحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وإليك ثالثًا خالد بن سعيد , وإياك واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر، وكانوا يسألون الأمة عن سيرة أمرائهم، ويتفقدون رضاء الأمة عن أولئك الأمراء، وهذا هو الانتخاب اليوم عند أهل الغرب أو مثله , ولا اختلاف إلا في العبارات واللفظ. ومن تلك السياسة الاجتماعية الشرعية أن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم , ومن خفره في ذمته فعليه لعنة الله كما صح عنه ذلك صلى الله عليه وسلم. ومنها إيجاب الزكاة على أغنيائهم لترد على فقرائهم ومنافعهم الاجتماعية. ومنها إيجاب الاستعداد الجندي على كل فرد فرد , وحرّم القمار عليهم إلا في ذلك , وهل يجوز القمار مع غير أهل ملتنا؟ فيه خلاف يذكرونه في تفسير {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ} (الروم: 1-2) . ومنها وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى غير ذلك مما لا يتسع المقام لبسطه. فبتركنا ذلك وأضعاف أضعافه مما يدل عليه الشرع ويسلم به كل عقل سليم؛ صرنا إلى ما صرنا إليه , وقد أوصى عليه الصلاة والسلام أمته بأهل الذمة وأكد , وكان الخلفاء الراشدون إذا أقاموا أميرًا من المسلمين في ناحية يكون بها أحد من أهل الذمة أقاموا من تحته أميرًا من أهل الذمة على قومه , وشدد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوصية بالقبط وقال: (استوصوا بهم خيرًا فإن لهم رحمًا وقرابة) ولو أن المحل يحتمل الإطالة لأتينا بما لم يكن في حساب من تأكيده صلى الله عليه وسلم الوصية بجيراننا وإخواننا الوطنيين الذين تأكدت بيننا وبينهم عهود الله وذمته. وقد يعترض بأنه إذا لم تعزل السياسية جانبًا عن الدين فأي فائدة في الشورى , وأن تقدم أهل الغرب إنما ثبت واستقر لهم بمنعهم كل تداخل ديني في أمور السياسة والملك؟ وقد يقال أيضًا: إن كثيرًا من أحكام الدين وعقوباته غير مناسبة للزمان ومصلحته , والجواب عن الاعتراض الأول أن فائدة مجلس الشورى هي النظر في جميع المسائل الاجتهادية أعني غير المنصوصة في الكتاب والسنة؛ كالنظر في إصلاح البلاد والعباد بالعلوم والتجارة والصنائع المختلفة وحفظ الأمة عن الاختلافات , ووضع القوانين لذلك , وإصلاح أهل الذمة، إلى غير ذلك من الفوائد التي يصعب حصرها، ومن تلك الفوائد ما يأخذه السلاطين عشورًا من تجار المسلمين , وهو محرم في دين الإسلام، فيمكن إذا كان أركان مجلس الشورى منتخبين من سائر بلاد المسلمين برضاهم ووكلاء عنهم كلٌّ عن جهته وبلاده , فهو يتطوع عن أهل جهته بذلك المقدار أو أكثر منه، وحيث إنه وكيل عنهم في ذلك الشيء وغيره؛ فلا يبعد أن يحل ذلك لدى كل منصف من أهل العلم لا التقليد محل القبول. إلى غير ذلك من فوائد يا لها من فوائد. وكثيرمن المسائل الشرعية قد تتبدل تبدلاً وقتيًّا تبعًا لمصلحة الأزمنة والأمكنة، ولكنها تعود إلى أصلها بانتفاء المقتضي , وهذه أيضًا تفوض إلى رأي المسلمين ومشورتهم، وقد ذكر ذلك علماء الإسلام. أما الاعتراض الثاني، فيقال في جوابه: إنه لم يعرف في دين النصرانية ذكر للسياسة فضلاً عن أن يقال: إنهم تركوها جانبًا، أو يقال: لعل سياسة دينهم غير موافقة لمصلحة الزمان وعرفوا ذلك بعقولهم، كما هي منسوخة لدينا لتلك العلة. وإذا عرفت بهذا صلاح السياسة الدينية الإسلامية، وأن أهل الغرب لم يستطيعوا أن يأتوا بأحسن منها، ولا أنسب للزمان منها، بل سياستهم إنما هي مستفادة من الإسلام والمسلمين؛ أفلا نكون أولى منهم بها لدلالة العقل على حسنها، ولكونها حكمًا دينيًّا شرعه الله لنا نثاب عليه، ونسعد به في دنيانا وبعد موتنا. بقي الجواب على الاعتراض الثالث، وقد ذكر هذا الاعتراض صاحب المنار لبعض أمراء مصر وهو أنه كان يقول: لا يمكن أن تعمل الأمة في هذا القرن بما وضع للعرب من نحو ثلاثة عشر قرنًا تقريبًا، وقول بعضهم خلاف مصلحة الزمان - ونعوذ بالرحمن من الكفر والخذلان - وما مرادهم بمصلحة الزمان، وليس الزمان إلا تعاقب الليل والنهار، ولا تنسب إليه مصلحة ولا مفسدة، فيتعين أن يكون المراد أهل الزمان الذين منهم الكافر والمسلم , فإن كان مراد هذا المعترض المخذول أن شريعة الإسلام خلاف مصلحة المسلمين؛ فقد كذب وافترى , فإن مخالفة المصلحة لابد من بيانه. فإما أن يقول: إن شريعة الإسلام مانعة عن الترقي للمسلمين - وقد عرفت فيما مضى أن كل ترقٍّ ظهر على وجه الأرض بعدها أنه من بركة الإسلام وشعاع من مشكاته - وإما أن يقول: إن المسلمين يستثقلون الأحكام الشرعية , وينزعون إلى مخالفة سلطانهم إذا أجراها عليهم، وهذا أبعد كل بعيد , فإن جميع المسلمين في جميع أقطار الأرض لا يسرهم إلا إقامة شريعتهم , وكل سلطان يخالفها فهو ممقوت لديهم لا يمنحونه ودًا، ولا يرون له طاعة، وإذا كانت شريعة الإسلام بهذه المنزلة في اعتقاد أمة الإسلام؛ فما بال المتحذلقين يضعون قوانين على المسلمين لا يرضون بها , وترى الأمة أنها مخالفة لمصلحتها؟ ما لنا ولتلك القوانين إن كان أهل أوربا رضوا بها فلأنفسهم , على أنهم ما اختاروها إلا لأن قومهم رضوا بها. هذا ما يقال في سد النزاع من أصله، أما لو تشعبت المسائل الشرعية والقانونية مع بيان عللها وأسرارها وغاياتها ومصالحها ودفع المفاسد، ثم المعادلة بين الجرم وعقابه بعد تنزيل الجرم منزلته مع بيان ما ينتج عنه من المفاسد - فمن أمعن النظر لم يبق له شك ولا التباس في أن شريعة دين الإسلام هي الأوفق بمصلحة كل زمان، وأنها الموافقة للمعقول، وهي فطرة الله التي فطر الناس عليها, ومَن غيَّر الفطرة فإثمه عليه. اللهم أحينا مؤمنين وأمتنا مؤمنين. وفي الحقيقة مثل هؤلاء المعترضين لا يقولون عن معرفة وعقل، ولا يرمون لغاية وإصلاح، فقولهم هذر لا يعبأ به , إذ ليس اعتراضاتهم إلا عن دهشة وعجز وجبن،

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر شذرات من يومية الدكتور أراسم [*] يوم 28 و31 مارس سنة - 186 نحن الآن سائرون تحت خط السرطان، ويُرى على (لولا) أنها لغرارتها تقلب وجهها في السماء تفتيشًا عن ذلك الحيوان البشع الشبيه بالسرطان البحري في شكل أرجله كما هو مرسوم في التقاويم التي جعل فيها من علامات منطقة فلك البروج، وهي بذلك تستهدف لسخرية (أميل) وزرايته. تجري بنا السفينة بأقصى سرعة لها تُزجيها رياح شديدة، وقد مدت جميع شرعها فجعلت حبالها تصر صريرًا. ذلك أنا أردنا اغتنام هذه الرياح الانقلابية [1] التي يسميها الإنكليز رياح الشمال الشرقي التجارية. يتدرج النهار في النقص ويكاد الآن يساوي الليل. تنقذف من باطن المياه أسراب كالغيوم من السمك الطيار، وتسف سفيف الخطاف، فبينما كان أحد الملاحين البسلاء يوقد مدخنته (عود دخان التبغ) البارحة؛ إذ لطمه جناح بارد مندي على خدّه فتولاه من ذلك دهش عظيم. ثم التفت حوله فإذا هو بسمكة من ذلك الصنف تحت قدميه على ظهر السفينة، ويندر أن تصل أمثالها في انقذافها إلى هذا الارتفاع، وإنما جذبها إليه ضوء المدخنة. أخوف سكان البحر الأخرى التي لم يرها (أميل) حتى الآن وأهيبها بلا نزاع، كلاب البحر , وللملاحين في صيدها نوع من الحماسة والنخوة، وقد اصطادوا غدوة اليوم واحدًا من هذه العفاريت (كما يقولون لأنهم أطلقوا عليها أبشع الأسماء كلها) وذلك بواسطة هبرة من لحم الخنزير زنتها نحو خمسة أرطال ألقوها إليه وكان منظر صيده مؤثرًا؛ فاسترعى أبصار جميع المسافرين وبعثهم على الصعود إلى ظهر السفينة لمشاهدته، وكان أول عمل لهم بعد صيده أن بتروا ذنبه بفأس , وهو احتياط أراه ضروريًّا على ما فيه من القسوة؛ لأنه شوهد غير مرة أن إغفاله كان سببًا في أن يكسر بذلك الطرف المرن ساق بعض القريبين منه أثناء معالجته التفلت من أيدي صائديه، ويأكل الملاحون أحيانًا صغار كلاب البحر غير أنهم يقرون بألسنتهم أن لحمها غير جيد، وهم إذا قتلوا هذه الحيوانات فإنما يبعثهم على قتلها مجرد بغضهم لها، ولشد ما يؤذونها بسبب هذا البغض , وحجتهم فيه أن ما يصطادونه ويقتلونه منها التقم فلانًا أو فلانًا من أصحابهم، فإن لم يكن هو الذي التقمه كان أخوه أو أحد أقاربه، ولقد حاولت صدهم عن ممارسة هذه الألاعيب الوحشية مبينًا لهم أن الإنسان لا ينبغي له أن يعذب عدوه بعد غلبه , فذهب نصحي أدراج الرياح، ولكني آمل أن لا تفوت (أميل) هذه العبرة. تبقى لكلاب البحر بعد موتها في السفينة رائحة خبيثة لا تزول إلا بعد بضعة أيام , وهكذا الأشرار يؤذون حتى بعد موتهم من يسعون لخلاص الناس من شرهم. قلما يفهم الأطفال من القوانين شيئًا إلا قانون القصاص، ذلك أن الملاحين اصطادوا دلفينًا [2] عشية اليوم الذي اصطادوا فيه كلب البحر فما كان من (لولا) إلا أن قالت وهى تنظر إليه نظرًا يشفّ عن الرحمة: لقد استحق هذا، فإني رأيته التهم كثيرًا من الأسماك الطيارة الجميلة، ولقد صدقتْ فإن ما التهمه منها لم يكن إلا لقمة واحدة من لقمه، وإن سنة الله في خلقه أن من أَكَل أُكِل , وقد أثبتها الملاحون لها بجعله عشاء لهم , ولحم هذا الحيوان إذا غلي في الماء كان فيه شيء من الجودة إلا أنه يكون ناشفًا. في نحو الدرجة السادسة عشرة والدقيقة الثلاثين من العرض الشمالي أنشأنا نرى في السماء برجًا جديدًا يسميه الملاحون صليب الجنوب , وهو مؤلف من خمسة نجوم. وعجيبة أخرى أبصرناها في ذلك المكان؛ وهي أن المياه تضيء ليلاً , وقد راع منظرها (أميل) و (لولا) فلم يستطيعا أن يفيقا من التلذذ بجماله , وإن كان قد بعث فيهما شيئًا من الخوف , فإن كليهما سألاني من ذا الذي أوقد النار في البحر, ففسرت لهما بما في وسعي ما أعلمه من أسباب هذه الحادثة التي لم تعلم تمام العلم , وقد علل العلماء وجود هذا الضوء في الماء بوجود حيوانات مضيئة تشبه النباتات فيه. كان ذلك النور من شدة سطوعه بحيث أن (أميل) تناول كتابًا من جيبه وقرأ فيه على انعكاس ضوئه عن الأمواج الملتهبة هذا البيت من قصيدة لشكسبير وهو: خير جزء في روحي ... وهي بالتحقيق روحك نعم إن الله سبحانه لم يفض علينا جميع روحه , وما أقل ما أفيض علينا منه غير أن هذا القليل الذي يهبه لنا يتصل بروحنا اتصالاً حقيقيًّا [3] . الذي يدهشني من حادثة ظهور الضوء في البحار أنها تقع عادة في أحلك الليالي. اهـ *** يوم 3 أبريل سنة - 186 قد صرنا تجاه الرأس الأخضر، ولما رأى الملاحون سكون الريح في هذا المكان، أدلوا قواربهم وسبحوا لصيد السلاحف البحرية، وهذه السلاحف من عادتها أن تظهر قريبًا من سطح الماء فتكون كأنها نائمة فوقه , فتصطاد بنوع من السهام له أربعة أسنان يسميها ملاحو الإنكليز بالحبوب , وكل ما يصاب منها بتلك السهام يجذب بعد صيده إلى القوارب بواسطة حبال تكون في أيدي الرماة، وقد رأيتهم اصطادوا منها في ساعتين ثمانية زنة كل منها من خمسة عشر إلى خمسة وأربعين رطلاً إنكليزيًّا. اهـ *** يوم 4 أبريل سنة -186 أعوزتنا الرياح الانقلابية التي كانت مواتية لنا أحسن المواتاة على جرينا في فضاء المحيط، وعوضنا عنها الآن رياحًا خفيفة متناوحة تهب على التعاقب من جهات مختلفة للأفق , وانتقبت السماء في مواضع متفرقات منها بسحب بيضاء , وسفرت في مواضع أخرى بزرقة شاحبة جميلة، وللشمس في هذا المكان شروق يخطف الأبصار ضياؤه؛ فلا تقوى على احتماله , وأما غروبها ففخيم جليل. اهـ *** يوم 9 أبريل سنة -186 تمطرنا السماء شآبيب ووابلاً حارًّا. وكل ما نراه يؤذن باقترابنا من خط الاستواء , فترى الملاحين على ظهر مقدم السفينة مشتغلين بوضع لحى كاذبة لهم وتغطية رءوسهم بعوارٍ من الشعر , وارتداء ثياب بشعة، حتى إنه ليخيل للرائي أنهم في أمس عيد المرافع، ويشهد (أميل) هذه الضروب من الاستعداد شهادة الخائف؛ لعلمه حق العلم بما سيلاقيه، فإن كل تلميذ بحري لم يجتز خط الاستواء لابد أن يقتحم صنوف بلائه ومحنه كما هي العادة , فلا تزال شعائر الملاحين القديمة متبعة , وإن كانت قد فقدت كثيرًا من مظاهرها الصبيانية الوحشية التي كانت تجعلها مخوفة جدًّا في قلب المبتدئ في الملاحة، وعلى كل حال فالملاح طفل, ولولا ذلك لما لعب بالمخاطر ملاعبة الباسل المقدام. اهـ *** يوم 13 أبريل سنة - 186 اصطبغ (أميل) بالمعمودية البحرية فصار الآن من أولاد إله البحر. حالة الجو في اختلاف وتغير، فمن رياح شديدة إلى سكون عام , ومن مطر هتان إلى شمس محرقة ترمي رءوسنا بسهام أشعتها العمودية. لفتنا الربان إلى إعصار من الأعاصير المائية التي يخشاها الملاحون بحق , فرأيناه من مسافة بعيدة , وأكثر ما تثور هذه الأعاصير في جهة خط الاستواء. اهـ *** يوم 15 أبريل سنة - 186 صادفتنا سفينة قافلة من الهند أو من الصين إلى بريطانيا العظمى , وآذنتنا بإشاراتها أنها مستعدة لحمل ما نُحملها من الكتب , ولما كان تبادل صنائع المعروف مما تحفظ به المودة في البحر أرسلنا لها بعض صحف إنكليزية مضى على نشرها ستة أسابيع , ولكن أخبارها يكون لها من الجدة عند ركابها ما لصحف الصباح عند سكان لوندره , وقد كتبت وكتب (أميل) كلمتين لصديقنا الدكتور وارنجتون. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

إلى مصر

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ إلى مصر حطمت اليراع فلا تعجبي ... وعفت البيان فلا تعتبي فما أنت يا مصر دار الأديب ... ولا أنت بالبلد الطيب وكم فيك يا مصر من كاتب ... أقال اليراع ولم يكتب فلا تعذليني لهذا السكوت ... فقد ضاق بي منك ما ضاق بي أيعجبني منك يوم الوفاق ... سكوت الجماد ولعب الصبي وكم غضب الناس من قبلنا ... لسلب الحقوق ولم تغضب أنابتة العصر إن الغريب ... مجد بمصر فلا تلعبي يقولون في النشء خير لنا ... وللنشء شر من الأجنبي أفي الأزبكية مثوى البنين ... وبين المساجد مثوى الأب وكم ذا بمصر من المضحكات ... كما قال فيها أبو الطيب أمور تمر وعيش يمر ... ونحن من اللهو في ملعب وشعب يفر من الصالحات ... فرار السليم من الأجرب وصحف تطن طنين الذباب ... وأخرى تشن على الأقرب وهذا يلوذ بقصر الأمير ... ويدعو إلى ظله الأرحب وهذا يلوذ بقصر السفير ... ويطنب في وِرده الأعذب وهذا يصيح مع الصائحين ... على غير قصد ولا مأرب وقالوا دخيل عليه العفاء ... ونعم الدخيل على مذهبي رآنا نيامًا ولما نُفِق ... فشمر للسعي والمكسب وماذا عليه إذا فاتنا ... ونحن على العيش لم ندأب ألفنا الخمول ويا ليتنا ... ألفنا الخمول ولم نكذب وقالوا (المؤيد) في غمرة ... رماه بها الطمع الأشعبي دعاه الغرام بسن الكهول ... فجن جنونًا ببنت النبي فضجّ لها العرش والحاملوه ... وضج لها القبر في يثرب ونادى رجال بإسقاطه ... وقالوا تلوّن في المشرب وعدُّوا عليه من السيئات ... ألوفًا تدور مع الأحقب وقالوا لصيق ببيت الرسول ... أغار على النسب الأنجب وزكَّى أبو خطوة قولهم ... بحكم أحدٌ من المضرب فما للتهاني على داره ... تساقط كالمطر الصيب وما للوفود على بابه ... تزف البشائر في موكب وما للخليفة أسدى إليه ... وسامًا يليق بصدر الأبي فيا أمة ضاق عن وصفها ... جنان المفوه والأخطب تضيع الحقيقة ما بيننا ... ويصلى البريء مع المذنب ويُهضم فينا الإمام الحكيم ... ويُكرم فينا الجهول الغبي على الشرق مني سلام الودود ... وإن طأطأ الشرق للمغرب لقد كان خصبًا بجدب الزمان ... فأجدب في الزمن المخصب القصيدة لشاعر مصر حافظ أفندي إبراهيم , ويعني بقوله (يوم الوفاق) الوفاق الفرنسي الإنكليزي على مسألتي مصر ومراكش , وبقوله: السفير: اللورد كرومر عميد الدولة المحتلة في مصر. ويعني بقوله: (دخيل) ما يلغط به بعض الأحداث هنا إذ يسمون السوريين المقيمين في مصر (دخلاء) حتى من اعتبره القانون مصريًّا، ويعني بقوله: (فما للتهاني على داره) ... إلخ، ما ذكر في المؤيد من أن السلطان أنعم على الشيخ علي يوسف صاحبه بمداليا الامتياز الذهبية والفضية، وما نشر فيه من أسماء المهنئين بهذا الإنعام. وقوله: (وما للوفود على داره) البيت غير صحيح فلا وفود ولا وفد , ولكنه من باب المبالغة الشعرية، ثم إن خبرهذا الإنعام لما يتحقق , وقد كذبته جريدة الأهرام , وسكت لها المؤيد فلم يؤكد الخبر. والذي يقصده من الأبيات في حادثة زوجية صاحب المؤيد أن المصريين لا ثبات لهم ولا اتفاق على شيء، فقد قامت قيامتهم على الشيخ علي يوسف عندما شاع خبر عقده على بنت السادات في بيت البكري بدون حضور أبيها ولا إذنه , وسلقته بألسنة حداد في كل سامر وناد، ثم لم يلبثوا أن سمعوا إشاعة إنعام السلطان عليه حتى انبرى كثيرون لتهنئته، وقد كتبنا هذه الكلمات لنزيل اشتباه من اختلفوا في القصيدة أتتضمن الانتصار للمؤيد أم لخصومه، وليعتبر بما قال شاعر مصر في قصيدته , وما وصف به قومه وجرائدهم كاتب المقالة في ضعف المسلمين وأمثاله من البعداء عن هذه الديار.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (مقدمة ابن خلدون مع رحلته) مقدمة ابن خلدون غنية عن التعريف والتقريظ , لا ينكر عارف مكانتها في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، ولا فائدتها في ترقية العقل واللسان. وقد طبعت على حدتها مرات كثيرة، وطبعها أخيراً السيد عمر الخشاب الكتبي الشهير، وطبع على هامشها رحلة المؤلف، وجعل ثمنها مع ذلك خمسة قروش. ولو طبع الرحلة وحدها وباع النسخة منها بخمسة قروش؛ لما شككنا في رواجها لما فيها من الفوائد العلمية والأدبية والتاريخية، والقصائد والتراجم والحوادث المحررة بذلك القلم البليغ. وهذه الطبعة بحروف إستانبولية جميلة لا كطبعة العقد الفريد، وهي تطلب من مكتبة الطابع الشهيرة , ولا شك أن ستلاقي رواجًا عظيمًا. *** (كتاب تطبيق الإجراءات القانونية على مواد قوانين المحاكم الأهلية) لا يستغني من يقيم في بلاد عن معرفة قوانينها التي يعامل بها في الإجارة والقضاء , فإن الحاجة إليها لتعرض للإنسان في أوقات يعوزه فيها المحامي وغيره من العارفين؛ فيحار ولا يدري ما هو صانع. وقد أحس بهذه الحاجة أحمد أفندي حسن رئيس المحضرين في محكمة الاستئناف الأهلية , فألف كتابًا في ذلك , أرشد فيه محتاج معرفة القانون إلى ما ينبغي له عمله عند عروض الحاجة , فبين له حق إقامة الدعوى وكيفيتها، ورسومها ومواعيدها، وطرق استئنافها وتنفيذ الأحكام وغير ذلك. وأودع كتابه هذا مجموعة المواعيد القانونية، وقانون القرعة العسكرية والقانون النظامي، ولائحة التنظيم ولائحة المحاكم الشرعية، وغير ذلك من القوانين واللوائح والأوامر العالية الناسخة والمخصصة. وقد طبع الكتاب في مطبعة الشعب , فزادت صفحاته على الخمسمائة , وجعل ثمن النسخة منه عشرين قرشًا , وهو يطلب من مكتبة الشعب بمصر. *** (صحة المرأة في أدوار حياتها) (وهو مختصر في القواعد الصحية التي ينبغي أن تتبعها الفتاة حال البلوغ والزواج , والمرأة في الحمل والولادة والنفاس والرضاع ووظيفتها نحو أطفالها) تأليف الدكتور أحمد أفندي عيسى الذي كان طبيبًا في مستشفى المجاذيب. وقد قال المؤلف أنه اعتمد في تأليفه هذا على أشهر المؤلفات الفرنسية والإنكليزية الحديثة، والكتاب مؤلف من 19 بابًا في المرأة جسمها وعقلها وبلوغها, وفي الزواج سنه وموانعه، وفي العقم والحمل والوضع والإجهاض والرضاعة والأطفال، وما يعرض للنساء في جميع الأطوار من الأمراض , وما يعرض كذلك للأطفال، وكيفية المعالجة ومداواة الصحة، وكيفية التربية الجسدية بالتفصيل. وفي هذه الأبواب فصول كثيرة وفوائد غزيرة، لا يستغني أحد عن مطالعتها , ولا مطالع إلا ويستفيد منها على ما فيها من الاصطلاحات الطبية، وإننا نذكر للقارئ نموذجًا من الفصل الثالث من الباب الأول ليرى الفرق بين الإشارة إلى هذه الأبواب وبين ما يدخل فيها من الفوائد. وهذا الفصل قد عقده المؤلف لبيان الوقاية الصحية في الزواج قال: (للمدنية الحاضرة سيئات بقدر ما لها من الحسنات , فمن سيئاتها أنها سهلت انتشار كثير من الأدواء العفنة المعدية التي تنتقل بالوراثة من السلف للخلف , فلكل شيء آفة من جنسه. وهذه الأدواء تفعل بالأمم خفية ما كانت تفعله الأوبئة ظاهرًا في سالف الزمان , فتنخر في جسم الأمة نخر السوس في عيدان الخشب من تصرم حبالها وتقطع أوصالها , فتوردها موارد المهلكة والفناء. كل ذلك والأمة لاهية كأنها في حالة خدر عام , فلا تكاد تستقيظ إلا والبلاء محيط بها إحاطة السوار بالمعصم) . ثم بين أن اتقاء هذه الأدواء يكون باتقاء الأمراض التي تنتقل بالزواج والوراثة , وقال: (وبما أن الوراثة هي انتقال الطباع والصفات والحواس من الأسلاف للأعقاب؛ لزم قبل الزواج أن يلاحظ خلو الزوجين من الأمراض الوراثية أو المعدية أو المسببة لهلاك أحدهما إذا تزوج , وأهم ما يجب الالتفات إليه والتبصر فيه عند الزواج الأحوال الآتية وهي: (1) القرابة (2) السيلان الصديدي (3) الزهري (4) السل الرئوي (5) الإدمان على السكر (6) الأمراض العصبية (7) تشوه أعضاء التناسل (8) ضيق الحوض (9) التشوهات الخلقية (10) أمراض القلب والكبد والكلى (11) الأمراض الدياتيزية (أي المتعلقة بالبنية) (12) الأورام. وقد ذكر في الكلام على السيلان والزهري ما يجب أن ينعم النظر فيه الشبان المصريون الذين اعتادوا الفواحش غير مبالين بأرواحهم ولا بأجسادهم ولا ببلادهم وأمتهم، وقال في الإدمان على السكر الذي فشا فيهم ما نصه: (الإدمان على السكر أو التسمم الغولي هو نتيجة الاستمرار على شرب الخمور سواء كان متتابعًا أو متقاطعًا، وليس هو التأثير الوقتي الناتج عن شرب كمية عظيمة منها في آن واحد المعبر عنه بالسكر الذي تزول أعراضه بمجرد توزيع المشروب في البنية. وللإدمان على السكر تأثير واضح في الشخص وفي سلالته؛ فأما تأثيره على الشخص فمعلوم للمدمنين عليه وغيرهم , وأما تأثيره على النسل فإن الشخص المتسمم به ينتقل سمه وعلله إلى ذريته من بعده فهو خطر عليه وعلى عائلته وذريته معًا، وعلى الأمة والنوع الإنساني بالتالي. ولقد عرف بالبحث أن الغول (الكئول) يسكن في أعماق العناصر التشريحية للجسم , وعلى الخصوص في الخلايا العصبية التي تضطرب إذ ذاك تغذيتها ووظائفها، ويأخذ هذا الاضطراب والاستحالة في وظائف الخلايا في الانتشار بطريق التلقيح؛ وإذا كان الغول يندي أخلاط الجسم وأنسجته , وبينها الخصية والمبيضين , فلا غرابة بعد ذلك أن تكون الحيوانات المنوية والبويضات نفسها قد غشيها من الفساد ما غشيها، أو تكون ذرية المدمنين قد أصيبت بالسقوط العصبي الذي يدل عليه سرعة التهيج والتشنجات العصبية التي تحدث في سن الصغر والصرع والبله، وضعف القوى العصبية العضلية التي تحدث في سن الشيخوخة. ومما يزيد الإدمان على السكر خطرًا أنه بعد أن يقرع الشخص يتبعه في نسله وذريته , ومن يولد من أبوين مدمنين وليس هو بمدمن , فإنه يحمل آثار الضعف البنوي، ويكون عرضة للإصابات باضطرابات قد تنتهي بالعته أو الشلل أو العقم , وقد أثبت بالتجارب هذه الوراثة كل من توميف ومارسيه وكرونر ولازيج وديجيرين وجرنيه وفورنيه ولانسروه وفيريه وكثيرون غيرهم. وبما أن تأثير الخمور يكون بالأخص على المجموع العصبي، فأولاد المدمنين عليها يكونون في الغالب عصبيين، فيصابون إما بآفات كبيرة في المراكز العصبية، وإما باضطرابات في الوظائف العصبية فقط، وكذلك يصابون بعلل وراثية شاذة شبيهة بالعلل الوراثية الزهرية أو الدرنية العديمة القياس كالعلل الناشئة عن فساد التغذية (الديستروفيات) ووقوف النمو وغرابه الخلقة. وللوراثة هنا كذلك تأثير قاتل على الجنين وعلى الطفل بعد ولادته حتى إنه قد تلاشت بذلك عائلات بأجمعها في عقبين أو ثلاثة أعقاب. وزيادة على ما تقدم من العلل قد تصاب ذرية المدمنين بتشوهات مضاعفة كعدم تساوي وتماثل الجمجمة أو صغرها أو استسقاء الدماغ أو قصر القامة أو بتأخير أو انحراف في نمو القوى العقلية كضعف الذاكرة والعبط والبله , أو تحفظ الحالة الصبيانية , أو أن تكون سريعة التهيج والغضب , وكثيرًا ما تصاب كذلك بالهيستريا وما يتبعها من العلل الحاسية والنفسانية كخلل التوازن في القوى العقلية , وعدم الاكتراث وضعف الإرادة وشدة الانفعال , وتارة بحسن الأخلاق أو فسادها [1] . فيعلم من ذلك ومن كثرة التجارب التي عملت أن وراثة الإدمان على السكر هي حقيقية لاريب فيها، وعلى ذلك يجب منع زواج المدمنين على السكر في حالة الخوف من رجوع الداء إذا لم يمتنع صاحبه عن الاستمرار فيه , وكذلك متى كانت النتائج الناجمة عنه ذات خطر) اهـ وثمن الكتاب عشرون قرشًا فنحث كل قارئ على مطالعته. (قصة الأخ الغادر وما يتبعها) لقد أحسن صاحب (مسامرات الشعب) في اختيار قصصها هذه الكَرة ما لم يحسنه من قبل؛ إذ اهتدى إلى قصص متعددة في الصورة متحدة في الحقيقة , فيها روح من الأدب والفضيلة؛ أولها: قصة الأخ الغادر، والثانية: قصة (لو تعارفوا ما تآلفوا) والثالثة: قصة (الأمريكية الحسناء) والرابعة: قصة (برح الخفاء) ، وقد صدرت الثلاث الأول، وموضوعها: نبيل فاضل من الفرنسيس عشق فتاة مهذبة خياطة زكية الطينة، فتحبب إليها بالمجاملة وحسن المعاملة , فأحبته على تنكره وجهلها به، فخطبها إلى جدتها الكافلة لها فرضيتا به , فأودعها حملاً قبل تسجيل عقد الزوجة , فانقطع عنها , فظنت هي وجدتها أنه خانها وهجرها , فاشتد حزنها , وما كان هجره لهما بل للحياة الدنيا , فإنه كان يلاعب صديقًا له بالسيف , فسبقت إليه ضربة ففقأت عينه وفاضت روحه , وكان حدث صديقه القاتل بفاتحة حديثه مع الفتاة، وبما عهد إلى المسجل من تسجيل عقد الزوجية , وإرجائه الإفصاح باسم الفتاه له وللمسجل , فترك المسجل في ورقة العقد بياضًا ليكتب فيه الاسم. هذه فاتحة القصة أو القصص , وهى ليست بشيء , والحديث المفيد يبتدئ بعدها عندما أراد الصديق القاتل والمسجل البحث عن الزوجة المستودعة وإرث بيت ذلك النبيل ولقبه (مركيز) وكان له أخ خليع فاسد الأخلاق , وهو الأخ الغادر , وحال دون ذلك ليكون هو وارث أخيه , فاستولى على أوراقه وأحرق منها كل ما له تعلق بتلك المرأة، وعرف مكانها فخادعها حتى أخرجها من باريس إلى الريف ليخفيها عن الصديق والمسجل , وذلك مفصل في القصة الأولى. وترى في الثانية شابين التقيا وتحابا في حرب فرنسا لتونكين وهما ابن المركيز المقتول الذي لا يعرف له أبًا , وابن المركيز الوارث بالباطل تحت قيادة الضابط القاتل، وعودتهما إلى باريس معه وكانت والدة اليتيم قد أثرت، ووالد الآخر قد أعدم حتى أشرف على بيع دارهم القديمة للدائنين. تلك أثرت بالعمل مع الفضيلة والاستقامة، وذاك أملق بالمقامرة وسوء السيرة، ثم علم الأخ الغادر بأن صديق ابنه هو ابن عمه، فحاول الإيقاع بينهما بعدما أحب ابن أخيه ابنته وأحبته , ورجوا أن يكونا زوجين، فكلف أبوها الخاطب بأن يتعرف بنسبه تعجيزًا له. وكان الضابط بعد عودته عاود السعي في معرفة زوج صديقه المقتول , وكان وعد والدته بذلك , فظهرت له بوادر النجاح , وكل هذا من مباحث القصة الثانية. وأما الثالثة فموضوعها أن غانية أمريكية جاءت مع والدتها إلى باريس وبنت لها فيها قصرًا مشيدًا، وأظهرت من دلائل البذخ والترف ما ألفتَ إليها أعناق شبان باريس , وكانت من أصل وضيع، وقد جاءت تحتال بذلك على اصطياد زوج من النبلاء , فأتقنت الحيلة , وكاد ابن المركيز أن يقع في فخها. وفي القصص الثلاث من تقبيح الخلال الفاسدة والأخلاق القبيحة، والتنفير من القمار , والترغيب في الفضائل لاسيما الوفاء وحسن الإخاء والشجاعة وكرم الأصل - ما فيه عبرة للقارئ , ولذلك أطلنا من الكلام عليها , وستكون القصة الرابعة كاشفة للغطاء أو مبينة للانتهاء، ولذلك سميت (برح الخفاء)

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الناسخ والمنسوخ في القرآن (س 78) السيد أحمد منصور الباز في (طوخ القراموص) : ثبت أن في القرآن ناسخًَا ومنسوخًا , وأن من المنسوخ ما نسخ حكمه وبقي رسمه، ومنه العكس كقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة نكالاً من الله) قد ثبت في الصحيح أن هذا كان قرآنًا يتلى. ومما نسخ حكمه وبقي رسمه , ولا يعلم له ناسخ كما في الصحيح: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثا) إلخ، فهل من حكمة ترشدنا إليها بمناركم وضاح السبل في إبقاء رسم الناسخ مع بقاء حكمه، وفي نسخ لفظ مع بقاء حكمه , وعدم وجود ناسخ له. (ج) قد تقدم في التفسير المنشور في هذا الجزء أهم أحكام النسخ وحكمته , ومنها: الإشارة إلى أن حكمة بقاء الآية التي نسخ حكمها التذكير بنعمة النسخ , والتعبد بتلاوتها، أما نسخ لفظ الآية مع بقاء حكمها , أو نسخ لفظها وحكمها معًا فمما لا يجب علينا اعتقاده وإن قال به القائلون ورواه الراوون، وقد علله القائلون به والتمسوا له من الحكمة ما هو أضعف من القول به، وأبعد عن المعقول. واعلم أن القرآن كلام الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أصل الدين وأساسه، أحكمت آياته , فلا تفاوت فيها ولا اختلاف ولا تناقض ولا تعارض , وما ذكروه من الجمل التي قالوا: إنها كانت من القرآن ونسخ لفظها لا تضاهي أسلوب القرآن ولا تحاكيه في بلاغته , والتصديق بذلك مدعاة لتشكيك الملحدين في القرآن. وقد ثبت أن بعض الزنادقة كانوا في زمن الرواية وتلقي الحديث من الرجال يلبسون لباس الصالحين ويضعون الحديث، وكان يروج على الناس لاستيفائهم شروط الرواة الظاهرة من العدالة وحسن الحفظ وغير ذلك، حتى إن بعضهم تاب ورجع عما كان وضعه ولولا اعترافه به لم يعرف، فما يدرينا أن بعضهم مات ولم يتب ولم تعرف حقيقة حاله، وبقي ما وضعه رائجًا مقبولاً لم يطعن في سنده أهل النقد. لأجل هذا لا يعتمد على الحديث إلا إذا كان مع صحة سنده موافقًا لأصول الدين الثابتة بالقطع، ولغير ذلك من الحقائق القطعية ككون الشمس لا تغيب عن الأرض كلها عندما تغيب عنا كل يوم، وإنما تغيب عنا وتشرق على غيرنا، إلا إذا أمكن الجمع، ولا يؤخذ بأحاديث الآحاد الصحيحة السند في العقائد لأنها ظنية باتفاق العلماء والعقلاء والله تعالى يقول: {وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28) ومثلها آيات في التشنيع على الكافرين باتباع الظن. وإذا كان القرآن لا يثبت إلا بالتواتر المفيد للقطع، وكان كون الآية منسوخة فرع كونها آية، كان لنا بل علينا أن لا نصدق بأن كون هذا القول آية منسوخة إلا إذا روي ذلك بالتواتر من أول الإسلام كما روي القرآن. وليس فيما زعموا أنه قرآن نسخت تلاوته شيء متواتر. وهذا الذي رووه من حديث: (الشيخ والشيخة إذا زنيا) مروي عن أبيّ بن كعب وروي أيضًا من حديث أبي أمامة عن خالته العجماء وعن عمر رضي الله عنه , وليس هذا من التواتر في شيء، وكذلك الأثر الذي فيه: (لو كان لابن آدم واد لابتغى إليه ثانيًا) ... إلخ، وفي رواية: (لو كان لابن آدم واديان) ... إلخ، فهو موقوف على أبيّ، فإن سلمنا أن السند إليه صحيح فأين التواتر الذي لا يكون إلا برواية جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب؟ وجملة القول أنه لم يرو في هذا المقام حديث صحيح السند إلا قول عمر في الشيخ والشيخة إذا زنيا، وهو من رواية الآحاد، ولذلك خالف الخوارج وبعض المعتزلة في الرجم ولم يكفرهم أحد بذلك. وأنا لا أعتقد صحته، وإن روي في الصحيحين، فمن أنكر عليّ من المقلدين ذلك فليكتب إليّ لأسرد له عشرات من أحاديث الصحيحين لم يأخذ بها أئمته، وفقهاء مذهبه وسائر المذاهب الذين لا ينكر على أحد منهم شيئًا، وحجتي واضحة وهو أن المقام مقام إثبات القرآن , وطريق إثباته التواتر بالإجماع , فلو تواترت الرواية عن عمر أو غيره وأجمع عليها؛ لقلت بأن عمر قال ذلك، والأحاديث الصحيحة الصريحة المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم التي خالفها الفقهاء كثيرة وهي في الأعمال التي يجب أخذها من أحاديث الآحاد بالإجماع , وعدم اعتقاد صحة هذا الحديث لا يترتب عليه ترك مشروع , ولا إثبات خلافه , فلا ضرر فيه، وإنما الضر في ترك ما تركوه , ولعلك تقول: ما هو جواب مثبتي هذا الضرب من النسخ , فأقول: قال السيوطي في الإتقان ما نصه: (الضرب الثالث نسخ تلاوته دون حكمه , وقد أورد بعضهم فيه سؤالاً وهو: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وأجاب صاحب الفنون بأن ذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به , فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام , والمنام أدنى طريق الوحي) اهـ، وهو كما ترى لا قيمة له فإن الوحي للأنبياء كله قطعي، وبذل النفوس هنا لا معنى له. والأحكام التي رويت لنا عن الآحاد فأفادت الظن كانت يقينية عند الذين سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم , فإذا كانوا سمعوا الآية من النبي، ثم فرضنا أنه أمرهم بتركها وعدم قراءتها مع بقاء العمل بها، أفلا يقال ما هي حكمة ذلك بالنسبة إليهم وإلى من بعدهم. * * * مذهب العامي واتباعه الرخص (س79) ومنه: يقال: العامي لا مذهب له، فهل يجوز له أن يقلد كل مذهب في رخصه ولو بسبب عذر ضعيف. (ج) قولهم: العامي لا مذهب له، صحيح لا نزاع فيه , فإن ذا المذهب هو من له طريق في معرفة الأحكام بدلائلها، والواجب على العامي أن يسأل أهل الذكر أي العارفين بالكتاب والسنة عن كل مسألة تعرض له قائلاً: ما هو حكم الله تعالى في هذه المسألة , فما أخبروه به عن الله وعن رسوله وجب عليه الأخذ به، إذا اعتقد أن المسئول ثقة عارف , ولا يجوز له أن يتبع رأي أحد يخالف ذلك , فإذا بلغه عن الشارع في أمر عزيمة ورخصة فله أن يعمل بالرخصة عند الحاجة ويجعل العزيمة هي الأصل. ومن يسأل عن رخص المذاهب وآراء العلماء ويتبع أسهلها عليه وأقربها من هواه فهو متلاعب بدينه. * * * الوصية المنامية المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم (س 80) أرسل إلينا السيد صالح السرجاني بمصر صورة هذه الوصية وسألنا بيان رأينا لقراء المنار وهي: بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم , قال الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام في ليلة الجمعة وهو يقرأ القرآن العظيم , فقال لي: يا شيخ أحمد , المؤمنين حالهم تعبان من شدة معصيتهم , فإني سمعت الملائكة وهم يقولون: تركوا ذكر الله سبحانه وتعالى , فأراد ربك أن يغضب عليهم , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا رب ارحم أمتي فإنك أنت الغفور الرحيم، وأنا أعلمهم بذلك يتوبوا , وإن لم يتوبوا الأمر إليك , وهم قد ارتكبوا المعاصي والكبائر , وتركوا الدعاء , واتبعوا الزنا , ونقصوا الكيل , وشربوا الخمور , واشتغلوا بالغيبة والنميمة , واحتقروا الفقير والمسكين ولا يعطوا الفقير حقه , وتركوا الصلاة , ومنعوا الزكاة. فأخبرهم يا شيخ أحمد بذلك , وقول لهم: لا تتركون الصلاة , وأتوا الزكاة , وإذا مر عليكم تارك الصلاة لا تسلموا عليه , وإذا مات لا تمشوا في جنازته , وانتبهوا واستيقظوا , واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن , وقل لهم: الساعة قد قربت ولا يبقى من الدنيا إلا القليل , وتظهر الشمس من مغربها , فأرسلت إليهم وصية بعد وصية فلم يزدادوا إلا طغيانًا وكفرًا ونفاقًا، وهذه آخر وصية. فقال الشيخ أحمد: قد استيقظت من منامي فوجدت الوصية مكتوبة بجانب الحجرة النبوية بخط أخضر , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من قرأها ولم ينقلها كنت خصمه يوم القيامة , ومن قرأها ونقلها من بلد إلى بلد كنت شفيعه يوم القيامة. فقال الشيخ أحمد: والله العظيم قسمًا بالله ثلاثًا إن كنت كاذبًا فأخرج من الدنيا على غير الإسلام , {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 181) ومن شك في ذلك فقد كفر , وعليكم بتقوى الله تنجوا من المهالك , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. تمت بالتمام والكمال , والحمد لله على كل حال , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) اهـ بنصها المطبوع المنشور. (المنار) إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن مرارًا كثيرة , وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية. والوصية مكذوبة قطعًا لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها البلداء من العوام الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوام الذين لم يتعلموا اللغة العربية، ولذلك وضعها بعبارة عامية سخيفة لا حاجة إلى بيان أغلاطها بالتفصيل. فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء صلى الله عليه وآله وسلم , وزعم أنه وجده بجانب الحجرة النبوية مكتوبًا بخط أخضر , يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه , ثم يتجرأ بعد هذا على تكفير من أنكره. فهذه المعصية هي أعظم من جميع المعاصي التي يقول: (إنها فشت في الأمة) وهي الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام , وتكفير علماء أمته والعارفين بدينه , فإن كل واحد منهم يكذب واضع هذه الوصية بها، وقد قال المحدثون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) قد نقل بالتواتر , ولا شك أن واضع هذه الوصية متعمد لكذبها، ولا ندري أهناك رجل يسمى الشيخ أحمد أم لا؟ أما تهاون المسلمين في دينهم وتركهم الفرائض والسنن، وانهماكهم في المعاصي فهو مشاهَد , وآثار ذلك فيهم مشاهَدة , فقد صاروا وراء جميع الأمم بعد أن كانوا بدينهم فوق جميع الأمم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} (فصلت: 16) إلا أن يتوبوا , ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول , ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع. فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدنا وهما مملوآن بالعظات والعبر. والآيات والنذر. * * * كيفية فرض الصلاة والمراجعة فيه (س81) عوض أفندي محمد الكفراوي في (زفتى) : أحقيقة ما يقال أو يروى من أن الصلاة كانت أول ما فرضت خمسين صلاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم راجع فيها ربه بإرشاد موسى عليه السلام حتى جعلها الله خمسًا في الفعل وخمسين في الأجر؟ أفيدونا ولكم الأجر من الله ولا زال مناركم هاديًا للمسلمين. (ج) إن ما ذكر مروي في حديث المعراج، وقد اختلف فيه المسلمون على صحة سنده، المثبتون له وهم الجمهور قد اختلفوا في كونه وقع يقظة أم منامًا , واستدل القائلون بأنه منام برواية شُريك عند البخاري إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم في آخرها: (ثم استيقظت) وفي رواية له رأى ما رأى وهو بين النائم واليقظان. ومسألة المراجعة على كل حال من المتشابهات، أو من الشئون الغيبية الروحية، وقالوا: إن من حكمتها تكرار المناجاة وما يتبعها من منة التخفيف، والله أعلم. * * * صحة الرؤى والأحلام (س82) ومنه: هل من سند صحيح للاعتقاد بصحة الرؤى والأحلام؟ فقد فشت بين عامة المسلمين. (ج) إنما يُحتاج إلى صحة السند في إثبات

نابتة العصر ومستقبل مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نابتة العصر ومستقبل مصر أو التربية الحديثة إن للألفاظ دولاً كدول الأشخاص يعز بعضها في زمن ويذل في زمن آخر، إذ تدول العزة إلى غيره، وإن لفظ التربية الحديثة لهو في هذا العصر أقوى الألفاظ دولة وأعز نفرًا، حتى يوشك أن يكون له الظهور والاستعلاء على لفظ (بيك) ولفظ (باشا) الذي طفق يتدحرج من قنة عزه بابتذال الرتب التي يقرن بها؛ إذ صارت تباع بالدراهم والعروض، وصار سماسرة البيع يتباخسون ويتناجشون فيها، ويبيع بعضهم على بيع بعض بالوكس والثمن البخس، حتى تَرفَّعَ الوضيع وتبرم الرفيع، وأما لفظ التربية وما اشتق منه كالمربي والمتربي فلم يسحل مريره، ولم يهن نصيره، ولم يخرج عن نصابه، ولم يعدُ سن شبابه. فإذا كان لفظ (بيك) أو (باشا) قد احترم ولا يزال يحترم لأنه عنوان الجاه والثروة والقرب من رجال الدولة، فإن لفظ (المتربي) يحترم أشد الاحترام؛ لأنه عنوان العلم والأدب والسياسة والكياسة، وصاحبه موضع الأمل والرجاء بخدمة الأمة، والارتقاء بالوطن إلى القمة، والمستحق لأعمال الحكومة، والقادر على القيام بالمشروعات العظيمة، ويقولون: إن أكثر الذين تحلوا بالرتب التي تقرن بذلك اللقب، قد تدلوا بغرور ولبسوا ثوبي زور؛ أن رتبهم من المواضعات الرسمية التي تنحط بسوء حال الحكومة والمعية (المعية في العُرف حاشية الأمير الحاكم) ولقب المتربي من اصطلاح أهل العلم ومواضعة أهل الذكاء والفهم، فهم يطلقونه على صاحبه بحق، ويجرون فيه على عرق، وإني لا أنكر قولهم الأول، ولا أعترف بإطلاق القول الثاني، فإنه إن صح أنهم لا يطلقون كلمة متربٍّ على غير من أخذ بسهم من الفنون الحديثة على الطريقة الأوربية، واصطبغ بشيء من ألوان المعيشة الإفرنجية، فلن يصح أن من كان له هذا السهم، فهو مثال الفضيلة والعلم، والقادر على النهوض بالأمة والبلاد إلى ذرى السيادة والإسعاد، وإليك البيان: ترى جرائد الدهان تملأ ماضغيها فخرًا بأن محمد علي باشا وخلفه هم الذين أسعدوا البلاد المصرية بإدخال هذه التربية الحديثة فيها , فأحيوها بها بعد موتها، ولكن ما بال هذه الحياة التي نفخ روحها في الأمة منذ قرن كامل لم تصدر عنها آثار الإحياء في الأخلاق الفاضلة والأعمال النافعة، ونظام البيوت ووحدة الأمة، واستقلال الحكومة ومنعتها الواقية من التحيز إلى الأجنبي والاستنصار به والاستذلال له وتمكينه من ناصيتها، ألم ترتقِ أمة اليابان بعد الأخذ بعلوم أوربا بخمس وعشرين؟ فما بال الأمة المصرية لم ترتق بعد مائة من السنين. إذا كان ترقي الأمة هو استقلالها ونهوضها بأحكامها وأعمالها، وكان أمراء مصر قد نهضوا بأهلها وجذبوهم إلى الرقي والكمال، فما بال الأمير عند أول نبأة من الأمة في طلب الاستقلال ومشاركة الشراكسة في الأعمال، قد استغاث بدولة إنكلترا لتنقذه من الأمة، وتؤيد سلطته عليها، وتمكن له في أرضها، وقد كان من أمرها في تمكين هذه السلطة أن أخذت من الشراكسة والترك أكثر مما كان المصريون يطلبونه لأنفسهم، بل استولت على كل شيء، حتى لا يبرم بغير يديها شيء. احتلت إنكلترا أرض النيل فقيدت الحكومة وأطلقت الأهالي، وكان من هذا الإطلاق حرية للمطبوعات كثرت بها الجرائد، وكثر اللغط في السياسة، والسياسة هي الفتنة الكبرى للناس فتن بها المصريون حتى شغلهم عن الانتفاع بالحرية التي منحوها، واغتر بفتنتهم كثير من الناس , فظنوا أن وراء ثرثرة الجرائد المصرية وتبجحها بذم الإنكليز ومعارضتهم حياة طيبة واستقلالا كاملاً هاجمته القوة , فأنشأ يواثبها ويناصبها، ولا يلبث أن يغلبها. ولم تلبث الحرب أن فثأت وانجلى الغبار عن أفراد استنفرتهم المنفعة الشخصية فنفروا، واستفزهم طلب الجاه ففزوا وطفروا. وقد سكنت الآن الزعازع وسكت المنازع، وأقصى ما كان من تأثير هذه السياسة أن غرت الأمة بغيرها، ولم تحاول أن تغرها بنفسها، ودعتها إلى حياة سياسية ولم تدعها إلى حياة اجتماعية، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولا ينضح الإناء إلا بما فيه. نعم، إن المصرين لم يغتروا بأنفسهم , فإننا منذ جئنا هذه البلاد نسمع من شكوى خاصتهم وعامتهم ما يدل على عدم ثقتهم بأنفسهم، وعدم رضاهم عن حالهم في التعليم والتربية والعمل والاقتصاد وكل مقومات الحياة. ووجدنا الشعوب التي مازجتهم تشكو من أخلاقهم، وحالهم أشد مما يشكون، وكنا نظن أن الجميع مبالغون فيما يقولون، لأن رجائنا في مصر والمصريين كان عظيمًا، وقد ضعف الآن ولكنه لم يذهب بالمرة، وإنا لنعلم أن كل المسلمين البعداء عن مصر يرجون من المصريين ما لا يرجوه المصريون لأنفسهم من أنفسهم. ولا يغرنك ما يتشدق به ويتفيهق بعض الأحداث الذين اتخذوا المدح حرفة يكتسبون بها المال، وقليل ما هم. وانظر ما قالته جريدة المؤيد في هذا الشهر وفاقًا لجريدة الإجبشيان غازيت الإنكليزية المصرية في مستقبل المصري بعد الاشتغال بعلوم أوربا مائة سنة وبعد عشرين سنة في الحرية الحقيقية التي وهبها الاحتلال الإنكليزي لمصر. تقول الجريدة الإنكليزية في مقالة عنوانها (مستقبل المصري) : إن مستقبل مصر - أي حسنه - مضمون ولكن مستقبل المصري بين اليأس والرجاء، فإن ترقي هذه البلاد المستمر في التجارة والزراعة والصناعة وجميع مرافق الحياة إنما هو من الأجانب وبالأجانب، وإن المصري لم يشترك فيه على أنه استفاد منه قليلاً. وإن التاريخ يثبت بالبراهين الكثيرة أن المصري فطر على الدعة والسكون والقناعة بالوجود في العالم متى حظي بما يكفل له الحياة وحاجاتها الضرورية فلا مطمع له ولا أمل في تحسين أموره. وتقول: إن المصري لا عذر له الآن في هذا فإن هذا الزمان ليس كالزمان الذي كان فيه طلب التقدم والارتقاء خطرًا عظيمًا أي من الأمراء المستبدين. ثم جزمت بأن المصري ما استفاد ولا هو يستفيد من تقدم بلاده، ولا يسير مع الارتقاء ولا يأخذ نصيبه من نمو الثروة في بلاده، بل كل ذلك عائد على الأجانب الغرباء الذين ترتقي البلاد بعملهم. وقد ترجم المؤيد المقالة في (عدد 43893) الصادر في 6 شعبان ووصفها بقوله: (وكلها آيات بينات وحقائق ساطعات واضحات تدل على استقلال الغازيت وحريتها فيما تنشره من المقالات النافعة المفيدة!) . ثم نشر في تلك الجريدة مقالة أخرى لكاتب إنكليزي في معناها ينحي فيها على المصريين إنحاءً شديدًا فعربتها جريدة المؤيد مقرة لها، وبعد ذلك نشر في المؤيد مقالة لأحد المحررين فيها في موضوع مقالتي الجريدة الإنكليزية قال في فاتحها: (اطلع القراء على ما عربه المؤيد عن جريدة (الإجبشيان غازيت) تحت عنوان (مستقبل المصري) وما أظن أن أحدًا ممن وقع نظره على تينك الرسالتين لم يعترف في نفسه ولمن معه بصدق ما جاء فيها من الحقائق المرة؛ إذ كون المصري مخذولاً في بلده , مهملاً لشئونه الحيوية , مفصوم العروة القومية - إلى آخر ما يمكن أن يوصف به من الإهمال والخمول والتراخي وعدم النظر إلى المستقبل - قضية لا تحتاج إلى إقامة برهان أو بيان , ولكن الذي يجب أن يتساءل عنه هو أسباب هذا الخذلان , وهل ثمة واسطة لإصلاح الحال) . ثم ذكر من المقالة الثانية الإنكليزية التي نشر تعريبها في (9 ش) ما نصه: (إن الأخلاق الفطرية للأمة المصرية , بل وكل ماضي تاريخها تدل على أن الوصول إلى الرقي الأدبي والحياة الاجتماعية القومية يُعد من قبيل المستحيلات , فإنه منذ فجر التاريخ والفلاح المصري على ما هو عليه تاركًا أموره وحياته ووجوده في أيدي غيره , واكلاً إلى الأجانب عنه تأدية الواجب الذي كان من المحتم عليه القيام به) اهـ، ثم سأل محرر المؤيد نفسه وقراء الجريدة عن سبب ذلك على أنه أطال الفكر فيه فلم يهتد، قال: (إن قلنا: إن التعليم والتربية ناقصان , وإن الجهل سبب كل هذا؛ أجابونا: فما بال هؤلاء المصريين المتعلمين الذين حازوا من علوم أوربا أسماها وأغلاها , وعاشروا المتمدنين منها والعاملين المجدين فيها لا يعملون ولا يفكرون؟ وما بالك تراهم مثل أمثالهم من إخوانهم المصريين مشتغلين جل أوقاتهم بالسفاسف والصغائر؟ وأين هي الأخلاق القوية التي يوجدها التعليم والتربية في النفوس، وهم كما تراهم وتعرفهم) . ثم قال: إنه لا يصح أن يكون السبب جو البلاد، ولا كون الأمة عريقة بحكم الاستبداد , ولا دين الإسلام؛ لأن الأجانب يعملون في هذا الجو ويرتقون , ولأن غير المصريين حكموا بالاستبداد ثم نجحوا وارتقوا، ولأن الإسلام قد نهض بالأمة العربية أو نهضت به , وهؤلاء القبط في مصر كالمسلمين، ولأن اليابان وأوربا ما ارتقيا بالدين. وغرضنا من قول هذا المحرر شهادته في المصريين الذين تعلموا وتربوا (كما يقال) فإنها شهادة المؤيد أشهر جرائدهم , وقد كان قال من عهد قريب: إن الأمة المصرية لم ترتق إلى درجة تؤهلها لإنشاء مدرسة كلية. أما سبب هذه الحيرة في علة انحطاط المصريين فهو الجهل بمعنى التربية الصحيحة النافعة التي ترتقي بها الأمم , والتي لا يفيد التعليم بدونها الفائدة المطلوبة, وقد بينا الفرق بين التعليم والتربية غير مرة , وقلنا: إن في مصر شيئًا من التعليم الناقص , ولكن ليس فيها تربية قط , بل التربية فيها متعسرة أو متعذرة أو يحال بين الناشئين الذين يربون وبين الناس لئلا تفسد عمل المربي هذه البيئة الوبيئة بفساد الأخلاق والأعمال , ولكن أين المربي وأين يربي؟ ! وإذا هو وجد فمن يسمع له ومن يعينه على تربية ولده؟ وبينا أيضًا أن هذا التعليم الناقص قد زاد في إفساد أخلاق الأمة وفتح لها خروقًا من السرف والترف والإيغال في اللذة والاستمتاع، ما فُتحت في أمة قوية إلا وأضعفتها وجعلتها من الهالكين. وليعلم القارئ أن حياة الأمم الميتة تتوقف على الاستعداد في الأمة كما أوضحناه في مقالة (الإصلاح والإسعاد على قدر الاستعداد) فإذا لم تستعد الأمة , فبيان أمراضها وطرق علاجها لا ينفعها لأنها كالمريض الأحمق يأبى كل دواء لأنه دواء. بل لا يسهل على غير المستعد أن يفهم أسباب الضعف وكيفية معالجته. فإذا أقمت البراهين والحجج القيمة على أن رغبه الأمة المصرية في الرتب والنياشين من أسباب الفساد لا يفهم قولك إلا الأقلون , ومن فهمه يكابر فيه وينكره بلسانه، وإن اعتقده في قلبه , ومنهم أكثر أصحاب الجرائد. فما بالك إذا ذكرت لهم الأدواء الفاتكة التي يُعد حُب الرتب والنياشين من أعراضها؟ وسنذكر في الجزء الآتي طريقة تعلم النابتة المصرية والروح الذي به تحيا الأمم ولا ينفع مع فقده علم ولا تعليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر شذرات من يومية الدكتور أراسم [*] يوم 30 أبريل سنة - 186 تتناقص الحرارة ويتدرج الهواء في البرودة لأننا صرنا في خط الجدي. منذ يومين آلم نفوسنا فَقْد واحد من رجالنا. ذلك أن قطعة من قطع الأخشاب المنحرفة الوضع المستعملة في السفينة لشد حبالها لم يكن ربطها وثيقًا فأتت عليها نفحة من الريح , فهوت بها على السطح فصادمت في هويها رأس ذلك الملاح , وهو قائم على الحراسة , فلم آل جهدًا في تجريب جميع الوسائل الفنية لإيقاظه وتنبيهه , ولكني لم أفلح لأنه لم يبق فيه أدنى علامة على الإدراك، فسرى الوجوم في السفينة؛ لأن هذا الملاح الباسل كان محبوبًا عند رفقائه، وصاح الربان بصوت أجش , وقد بدت على وجهه آثار الحزن مع انتقابه بالتجلد بأن تنقل الجثة إلى غرفته. استولى سكون الحِداد على السفينة فما كنت ترى على ظهرها إلا أنظارًا شقت عن الأسى , ووجوهًا نكرتها الأشجان، وأسدل الليل على البحر بالتدريج حجب ظلماته كلها , وأرخى عليه سدول أحزانه، فما رأيته قبل تلك الليلة بهذا المقدار من العظم والكآبة , وكانت الأمواج باصطخابها تشكو شكوى الأحياء من مضص المصيبة؛ حتى خيل لي أنها نفوس تناجي نفوسنا. وارباه! ما كان أشأم هذا الصخب المتقطع الناشئ من ملاطمة الأمواج لألواح سفينة تقل ميتًا. أقبل النهار وأدبر الليل بيد أن أضواء الشمس في إشراقها لم تقو على قشع ما غشي النفوس من سحب الأكدار الليلية , فبقيت جميع القلوب مثلوجة متبلدة بضرب من الهول. ذلك أن وجود الميت في بيت يبث فيه على الدوام الحزن مشوبًا بالإجلال والرعب , والسفينة بيت مضطرب , فما يسهل انفصامه من عرى المودة بين من تطاوحت بهم النوى من العائشين في البر يتأكد بين العائشين في السفينة بسبب اشتراكهم في الحاجات والمخاطر. تخلف يعقوب في ذلك الصباح عن إجابة داعي الشمس المشرقة، وعهدنا به أنه كان على الدوام أول من يسمع ديّ صوته الشديد على ظهر السفينة , فأصبح وقد قضي عليه أن لا يكون هو الصائح بكلمة (تمام) . كان من أسباب اشتغال قلوب المسافرين والملاحين بالحزن أيضًا ارتقابهم لما كان قريب الوقوع من دفن الميت , ومع كون أعمال التجهيز كلها كانت تؤدى في سكون كأنها من وراء حجاب، كنا نخلس الملاحين في بعض الأماكن روحات وجيئات خفية. وقد أحدت السفينة بتنكيس الأعلام التي تزهو ذروتها عادة بارتفاعها فوقها فخرًا بالأمة المنتسبة إليها , وفي نحو الساعة العاشرة برز الربان على ظهرها, ثم أقبل على ملاحيه , وقال بصوت منخفض: قد حلت ساعة النحس , فعلي بالربان الثاني وأخبروه بأننا مستعدون. ويعلم الله مقدار ما يشق علي من تأدية هذا الفرض ولكن من الواجب القيام بالواجب. رتب الملاحون أكوام الحبال التي كانت تعيق السير بتبعثرها على سطح السفينة، ورفعوا أحد الأجزاء التي تتألف منها جدران السفينة فكان من ذلك نافذة شبيهة بالكوة كنا نرى منها البحر يتراوح بين الصعود والهبوط. كان ناقوس السفينة يطن فيحدث عند طنينه المؤلم إذا انتشر على وجه الأمواج أثر محزن يغادر جميع القلوب واجفة. لما كانت السفينة خلوًا من القسيسين كان من العادات المطَّردة في مثل هذه الحالة بإنكلترا أن يعهد بصلاة الجنازة إلى ربانيها. من أجل ذلك أخذ الربان مجلسه, وهو مكشوف الرأس، وبين يديه كتاب مفتوح , والتفت عليه حلقة من المسافرين والملاحين يحفهم الوقار والخشية على تشوش هيئاتهم وأوضاعهم ينتظرون البدء في الشعائر الدينية. أشار الربان إلى رجلين من الملاحين بأن يهبطا من أحد سلالم السفينة الضيقة فلم يلبثا أن صعدا يحملان الميت على نعش كبير مثقب , وقد لف في قطعة من نسيج الشراع خيطت عليه وكان من الميسور تقدير ثقله بما كانا يعانيانه من الجهد في حمله , ذلك أن العادة تقتضي في مثل هذا المقام أن يوضع في الكفن مع الجثة قذيفا مدفع (القذيفة الكرة التي تقذف من المدفع) إحداهما عند رجليها , والأخرى عند رأسها. ما برزت هذه الصورة المشئومة من سدفة السلالم (السدفة الظلمة المختطلة بالضوء) حيث كانت تبدو منها ببطء حتى اقشعرت لمرآها أبدان الحاضرين , وقد بسط على صدر المتوفى علم من أعلام السفينة عليه ألوان البحرية الإنكليزية. أنشأ الربان يتلو صلاة الجنازة بصوت شديد معتاد على الأمر والنهي غير أنه كان يعتوره اللين حينًا بعد حين، فتتخلله نغمات ضعيفة مهتزة كأنها تنبعث من القلب , وكان ما يحصل في نفسه من التنازع بين التمالك والسكينة التي يراها لازمة لكرامته من حيث هو رجل , وبين عاطفة الرحمة التي كان يكاد يبدي بها يكسو وجهه هيأة غريبة، جمعت بين القسوة والرحمة , وكان كاتب السفينة يتلو في ذلك الكتاب عينه الحِكم الإنجيلية , وما كان يسع أحدًا من السامعين أن لا يعترف بشيء من الجلال لهذا الضرب من التحاور في معنى الموت بين رجلين مستهدفين في كل يوم لآلاف من المعاطب قد شهد كلاهما كثيرًا من إخوانهما يتخرمون من حولهما , ويثوون في ظلمات البحر السرمدية. هذا الذي كانا يتناوبان تلاوته، لم يك يشبه الصلوات بحال (فالكنيسة الإنكليزية لا يصلى فيها قط على المتوفين) بل كان عبارة عن فكر مأخوذة من التوراة في معنى قصر الأجل، ومصوغة في قوالب تشبيهات شعرية كتشبيه الحياة بعشب البوادي يخضر في الصباح ويذبل في المساء، أو بالظل يسري علي الماء وتشبيه جمال الرجل والمرأة شوهته السنون بثوب أكلته الأرضة، وكان جميع الحاضرين يفهمون نص هذه العبارات العبرية؛ لأنه كان مترجمًا إلى الإنكليزية. على أن الساعة الأخيرة قد اقتربت فكف الربان عن التلاوة , وأخذ يرقب عظم اتساع السماء والماء، ثم صوب بصره آخر مرة إلى ذلك الشيء وهو مدرج في نسيج يعرف الناظر إليه من خلاله شكل آدمي معرفة مبهمة , وقد وضع على شفا الفوهة التي صنعت في جدار السفينة ليلقى منها في البحر , ولم تكن إلا إشارة من الربان أن سمع صوت غليظ رخو لسقوط رجل ميت في البحر , فشوهد للأمواج فوران شديد , فترجرج خفيف , فدوائر من الماء متداخل بعضها في بعض , فلا شيء. التأم الآذيّ على الجثة كما يلتئم بلاط اللحد. وقال الربان بصوت خنقته العبرة والانفعال: (أنت في وديعة البحر) . كنت في كل المدة التي استغرقها أداء هذه الشعائر أرقب (أميل) حينًا فحينًا , فأجده شديد التأثر , وأما (لولا) فكنت أراها باكية. يرجع تأثر هذين الغلامين إلى سببين؛ أولهما أن تجهيز الميت كان مقرونًا من الوقار والهيبة بما يهز القلوب , ثانيهما أنهما لم يكونا شهدا الدفن قبل هذه المرة لجهلهما الموت حتى هذه الساعة. نعم إنهما كانا يعرفان بالتحقيق أن كل شيء صائر إلى الفناء فقد شهدا حيوانات تزول , وإخوانًا يتخطفون من حولهم؛ غير أني في شك قوي من كثرة اشتغالهما بهذه الطوارئ الطبيعية ووقوفهما بالفكر عندها , والإنسان لا يعرف الأمور معرفة صحيحة إلا إذا فكر فيها بنفسه , ولا أعدم واهمًا يلقي عليَّ تبعة هذا الجهل لأني أعلم أنه كان ينبغي من أجل إنشاء (أميل) على الأصول القويمة التي يحبها ذلك الواهم أن أربيه على الخوف , وأن أحيط له الحياة في مواعظي بوعيد القبر ومخاوف الخلود , ولكن ما حيلتي إذا كنت لم أجد من نفسي إقدامًا على ذلك , فإني رأيته كثير الاغتباط بالحياة , فصرفت جل عنايتي في تحبيب الواجبات إلى نفسه لا في دناءة التخويف من عقوبات الآخرة أو التأميل في مثوباتها الغيبية. المواعظ المحزنة لا تربي الوجدان بل تكدر صفاءه وتزعجه , فواشوقاه إلى الساعة التي يتأثر فيها اليافع بمشهد الموت؛ فيأنس من نفسه الحاجة إلى سبر غور ما قدر له في أخراه. [1] اهـ *** يوم 6 مايو سنة - 186 الرياح باردة والسماء كدراء , وتزعم (لولا) أن سفرنا استغرق الربيع والصيف والخريف , وأننا داخلون في الشتاء , وحقيقة الأمر هي أن أقاليم البلاد فصول ثابتة كما أن فصول السنة أقاليم مرتحلة. صارت الأمواج من الثقل والضخامة بحيث أصبح مسير السفينة شاقًّا , وقد هبت علينا ريح خبيثة فهي ترفعنا إلى الشرق نحو جزائر فوقلند. [2] اهـ *** يوم 8 مايو سنة - 186 اقتحمنا مدخل بوغاز ماجلان [3] , وهو مجاز وعر خطر , ورأينا هناك طيورًا يسميها الملاحون: حمام الرأس , الواحدة منها في حجم البطة البرية , أحد نصفيها أبيض والثاني أسود , وكانت تحوم حولنا أسرابًا , وتصطاد بشباك تمد على كوثل السفينة (مؤخرها) , فتنشب فيها أجنحتها في غدوها ورواحها عليها , وتتورط فلا تستطيع انفكاكًا. وشاهدنا طيرًا آخر أثار العجب في نفس (أميل) بعلو قامته وارتفاع طيرانه وهو المسمى بالبطروس [4] اهـ *** يوم 10 مايو سنة -186 رأس القرن حقيق بأن يسمى رأس الزوابع , فقد هاجت علينا فيه هيجة خلنا فيها أن المحيط بأجمعه ينيخ بكلكله على سفينتنا الضئيلة , على أنها تقاوم وتجري مع ما يلاطمها من الأمواج ويتقاذفها من المهاوي , لا يقعدها عن ذلك زمجرة البحر , فهو بهيمة كبرى وجدت من يروضها. ((يتبع بمقال تالٍ))

خلاصة تاريخ حرب اليابان وروسيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خلاصة تاريخ حرب اليابان وروسيا في هذه الحرب عِبر كثيرة منها أن ما ظهر من ارتقاء اليابان العلمي والصناعي والأدبي قد أبطل ما كانوا يزعمون من تفاوت استعداد أجناس البشر. ككون الجنس الأصفر أضعف استعدادًا من الأبيض , فقد اعترف الأوربيون بأن ارتقاء اليابانيين لا يعلوه ارتقاء في أوربا , وهذه الأمة الشرقية الصفراء قد ارتقت في مدة ربع قرن , وأوربا لم ترتق إلا بعدة قرون وما كلها في الارتقاء سواء. ومنها أنه لا يوثق بأحد في نقل جزئيات التاريخ , ولا يوثق منه إلا بالأمور الكلية التي تستنبط من مجموع الحوادث بعد تمحيصها والاطلاع على اختلاف الروابط فيها , فإن نقل التاريخ لم يكن في عصر من الأعصار أيسر وأقرب إلى الضبط منه في هذا العصر؛ لأن كل واقعة من الوقائع العظيمة يشهدها عدد من أصحاب الشركات البرقية وأصحاب الصحف ومندوبو الدول , وكلهم مؤرخون. وإننا مع هذا نرى ما ينقلون من أخبار هذه الحرب تختلف جزئياته وتتناقض ويكذب بعضها بعضًا. ونرى مؤرخي العصر وهم أرباب الصحف يرجحون بأهوائهم. لذلك كان الموثوق به حقيقة هو النتائج التي اتفق عليها جميع الناقلين , وهي أن اليابانيين هم الظافرون في جميع المواقع البرية والبحرية , وأنهم أخف حركة وأعلم بالحرب وأحسن نظامًا مع الشجاعة الكاملة , وهاك ذكر أهم الحوادث والوقائع بتاريخها ملخصًا مما عربه بعض الرصفاء عن جريدة التيمس: في 5 فبراير أنذر المعتمد الياباني في بطرسبرج حكومة القيصر بقطع العلاقات السياسية بين الدولتين بأمر حكومته. وفي 7 منه نشر التلغراف الذي أرسله الكونت لمسدروف إلى سفراء روسيا ووكلائها السياسيين في أنحاء السلطنة الروسية. وفي 8 منه وصل أسطول ياباني يخفر نقالات يابانية بقيادة الأميرال أوريو إلى ميناء شملبو , وأطلقت البارجة كورينز الروسية القنبلة الأولى في هذه الحرب. وفي 8 منه أيضًا هاجم الأميرال توجو الأسطول الياباني الذي في بورت آرثر في منتصف الليل , ونسف ثلاث بوارج منه , وهي الدارعتان زارويتش ورتفيزان والطراد بوبيدا. وفي 9 منه أعاد توجو الكَرة على الأسطول الروسي في الصباح , فتعطلت الدارعة الروسية بولتافا وثلاثة طردات وهي نوفيك وإسكولدوديانا. وفيه أيضًا وقعت معركة بحرية في شملبو فدمر اليابانيون الطراد فارياج والمدفعية كوريتز. وفي 10 منه أعلنت اليابان الحرب رسميًّا , وأصدر القيصر منشورًا إلى الشعب الروسي أعلنه به بنشوب الحرب , وقال: إنه سينتقم من اليابان مائة ضعف ويقتل هذا الطفل قبل أن يشب. وفي 11 منه مست البارجة الروسية ينيسي لغمًا فنسفها في تاليان وان وأغرق أسطول فلاديفوستوك باخرة يابانية وأنقذ ركابها. وفي 12 منه أعلنت الصين الحياد وخرج المسيو بافلوف معتمد روسيا في كوريا من سيول. وفي 14 منه اغتنمت النسافات اليابانية حدوث عاصفة فهاجمت أسطول بورت آرثر ونسفت الطراد بويارين. وفي 17 منه تعين الأميرال مكاروف قائدًا لأسطول بورت آرثر محل الأميرال ستارك. وفي 21 منه صدرت إرادة قيصرية بتعين الجنرال كوروبتكين ناظر الحربية قائدًا عامًّا للجنود الروسية في منشوريا فسافر إلى منشوريا في 12 مارس. وفي 23 منه عقد اتفاق بين كوريا واليابان , ووقع في سيول. وفي 24 منه أيضًا حاول اليابانيون أن يسدوا مدخل بورت آرثر عند بزوغ الفجر. وفي 25 منه تجدد القتال في بورت آرثر بحرًا. وفي 29 منه احتل اليابانيون جزيرة هي بون تو من جزر إليوت شرقي بورت آرثر. وفي 2 مارس أنكرت اليابان التهم التي وجهتها روسيا إليها في البلاغات التي نشرت في 18 و20 الماضي. وفي 6 منه أطلق الأميرال كميمورا المدافع على فلادفستوك. وفي 9 منه نشرت اليابان ردها على المنشور الذي أصدره الكونت لمسدروف في 22 الماضي. وفي 10 منه هاجمت النسافات اليابانية أسطول بورت آرثر بعد منتصف الليل بقليل فغرقت نسافة روسية , وضرب الأسطول الياباني بورت آرثر في الصباح , فدمر مباني سان شان تاو. وفي 17 منه وصل المركيز إيتو إلى سيول موفدًا من عاهل اليابان إلى عاهل كوريا. وفي 21 و 22 منه أطلق الأسطول الياباني المدافع على بورت آرثر , وجعل الأسطول الروسي موقفه عند مدخل الميناء. وفي 6 منه احتل اليابانيون ويجو , وبدأ الروس يعبرون نهر يالو متقهقرين. وفي 8 و 9 منه حدثت مناوشات على نهر يالو. وفي 12 منه استعانت البارجة كوريو مارو اليابانية بالنسافات , ونصبت الألغام عند مدخل بورت آثر. وفي 13 منه قطعت المدمرات اليابانية الطريق على مدمرة روسية في جوار بورت آرثر , فأغرقتها , وفيه جرت الطرادات اليابانية أسطول الأميرال مكاروف خارج الميناء , فأصابت البارجة بترباولسك لغمًا عند رجوعها فغرقت وغرق الأميرال مكاروف. وفي 23 منه عبرت طلائع اليابانيين نهر يالو. وفي 25 منه نهض أسطول فلادفستوك إلى جنسان فجأة , وأغرق فيها الباخرة اليابانية جويومارو. وفي 26 منه أغرقت نسافتان روسيتان النقالة اليابانية كنشين مارو. وفي 27 منه حاول اليابانيون سد مدخل بورت آرثر فلم يفلحوا , وفيه بدأ القتال على نهر يالو. وفي 29 و 30 منه وأول مايو عبر الجنرال كوروكي نهر يالو بجوار ويجو وكسر الروس وكانوا بقيادة الجنرال ساسولتش وغنم منهم 38 مدفعًا , واستولى على كيوليان شنج وهي المعركة المعروفة باسم معركة يالو. في أول مايو حاول الأميرال توجو أن يسد مدخل بورت آرثر بتغريق البواخر والأخشاب فيه. وفي 3 منه سد اليابانيون المدخل على المدرعات والطرادات فقط. وفي 4 منه أبحر الجيش الياباني الثاني من شلمبو صباحًا. ووصل الأميرال (هوسايا) ومعه أسطول من النقالات إلى (بتزي هو) شرقي بورت آرثر في شبه جزيرة لياوتونج مساء. وفي 5 منه أنزل الأميرال هوسايا لواءً بحريًّا وفرقة من الجيش البري إلى بتزي هو. وفي 6 منه احتل الجنرال كوروكي فنج هوانج شنج. وفي 8 منه قطع الجنرال أوكو خط السكة الحديدية عند بولان تيان شمالي بورت آرثر. وفي 10 منه هاجم القوازق إنجو في كوريا على غير جدوى. وفي 12 منه أطلق الأميرال كاتاوكا القابل على تاليان وان , ومست نسافة يابانية لغمًا فغرقت في خليج كر. وفي 14منه غرقت نقالة يابانية في خليج كر أيضًا , واحتل اليابانيون بولان تيان. وفي 15منه اصطدم الطرادان اليابانيان يوشينو وكاسوجا فغرق الأول. وفيه مست الدراعة اليابانية هاتسوسي لغمًا بجوار بورت آرثر. وفي 17 منه تعين الجنرال كيلر قائدًا للفرقة السيبيرية الثانية بدلاً من الجنرال ساسوليتش. وفي 19 منه نزل الجيش الياباني الثالث إلى تاكوشان. وفي 20 منه قذفت العاصفة بالطراد الورسي بوغاتير على الصخور فتحطم بجوار فلاديفوستوك. وفي 27 منه ألقى الأميرال توجو نطاق الحصار على شبه جزيرة لياوتونج جنوبًا ,ى وفيه جرت معركة كنشاو , فأخذ اليابانيون تل تان شان عنوة وغنموا 78 مدفعًا من الروس. وفي 30 منه احتل اليابانيون دلني , وبدأ الاحتكاك بين اليابانيين وطلائع الجنرال ستكلبرج المنفذ لإنقاذ بورت آرثر في وافنج كاو. وفي 4 يونيو مست مدفعية روسية لغمًا فغرقت بجوار بورت آرثر. وفي 7 منه أخذ اليابانيون يطلقون المدافع على بورت آرثر , واستمروا على ذلك في الأيام التالية وفيه بدأ كوروكي بالزحف على جيش منشوريا. وفي 8 منه احتل اليابانيون سيوين وساي متسي. وفي 11منه وضع اليابانيون الحصار على نيوشوانج. وفي 14 منه خرجت المدمرات الروسية من بورت آرثر فردها الأميرال توجو على الأعقاب. وفي 14 و15 منه وقعت معركة وافنج كاو فخسر الروس فيها 7000 رجل و16 مدفعًا وارتدوا إلى كاي بنج , وكان الجنرال ستكلبرج يقودهم , وتعرف هذه المعركة عند الإنكليز بمعركة تليسوه , وفي 15 منه أغرق أسطول فلاديفستوك نقالتين بايانيتين , وهما هيتاشي مارو وسادو مارو. وفي 21 منه احتل الجنرال أوكو هسيونج باوشنج على بعد 30 ميلاً من تليسو شمالاً. وفي 23 منه خرج الأسطول الروسي في بورت آرثر , فرده الأميرال توجو إلى الميناء وفيه استلم الجنرال كوروبتكين قيادة الجنود المقاتلة بنفسه. وفي 26 منه تقابل الفريقان في جوار كاي بنج , وكان الروس نازلين في كاي بنج وتاشي كياو ولياوينج واليابانيون في جنوب كاي بنج وساي متسي وليان شان كوان. وفيه ضرب اليابانيون بورت آرثر برًّا واستولوا على استحكامات في الجهة الشرقية. وفي 27 منه استولى اليابانوين على مضيق فن شوي لينج ومضيق تالج ومضيق موتيان لنج وهذه المضايق تعد مفتاح وادي لياو. وفيه أغرق اليابانيون باخرتين في مدخل بورت آرثر لسدها. وفي 28 منه نزلت الفرقة السادسة اليابانية في خليج كر. وفي 30 منه أطلق أسطول فلادفستوك المدافع على ثغر جنسان. وفي أول يوليو وصل أسطول فلادفستوك إلى بوغاز كوريا فنمي خبره إلى الأميرال كميمورا فهب لمقاتلته ولكنه لم يدركه. وفي 3و4و5 منه دار قتال شديد في بورت آرثر برًّا وبحرًا , ومس الطراد كيمون الياباني لغمًا في تاليان وان فغرق. وفي 4 و6 منه اجتازت النقالتان بطرس برج وسمو لنسك من الأسطول الروسي المتطوع بوغاز الدردنيل رافعتين العلم التجاري. وفي 6 منه غادر المارشال أوياما توكيو قاصدًا ميدان القتال لاستلام القيادة العامة. وفيه استولى اليابانوين على الحصن نمرة 16 في بورت آرثر. وفي 9 منه احتل الجنرال أوكو (كاي بنج) . وفي 19 منه نسف الروس الباخرة هبسانج في خليج بتشيلي. وفي 20 منه اجتاز أسطول فلادفستوك بوغاز تسوغارو فدخل الأوقيانوس الباسفيكي وفي أثره نسافات يابانية. وفي 24 منه نسف اليابانيون ثلاث مدمرات روسية خارج بورت آرثر. وفي 25 منه كسر الجنرال أوكو الروس في (تاشي كياو) بعد قتال شديد , وفيه احتل اليابانيون (نيوشوانج) . وفي 26 منه بدأ قتال شديد حول بورت أرثر ودام حتى 30 منه , فاستولى اليابانوين في أثنائه على (ولفشل) أي تل الذئب، وفي 31 منه زحف اليابانيوين زحفًا عموميًّا على الروس , فأجلوهم عن مواقعهم على طول الخط إلى هاي شنج وبنشي لو وينج زولنج. في 1 أغسطس استولى اليابانيون على شان تاي كاو وهو حصن مهم بجوار بوت آرثر , وفي 3 منه احتل الجنرال أوكو هاي شنج ونيوشوانج , وفيه رد الروس إلى خط الدفاع الداخلي في بورت آرثر , وفيه خرج الأسطول الروسي من بورت آرثر ولكنه ردّ إليها، وفي 10 منه خرج الأسطول الروسي من بورت آرثر بقيادة الأميرال ويتهوفت بناءً على الأوامر التي وردت إليه فقابله الأميرال توجو , ودار القتال بين الأسطولين , فقتل الأميرال ويتهوفت وخلفه الأميرال أوخنمسكي وانهزم الأسطول الروسي , فرجع قسم منه إلى بورت آرثر ولجأت بوارج أخرى إلى المواني المحايدة في كياوشو وتسنج تاو وشنغاي. وفي 11 منه جنحت مدمرة روسية على بعد 20 ميلاً من واي هاي واي. وفي 12 منه ولد الغراندوق إلكسيس ولي العهد في روسيا , وفيه قبض اليابانيون على المدمرة الروسية ويسهتلني في ميناء شيفو وأخذوها إلى اليابان. وفي 13 منه قلد الأميرال روجستفنسكي قيادة أسطول البلطيق. وفي 14 منه قاتل الأميرال كميمورا أسطول فلاديفستوك على بعد أربعين ميلاً من تسوشيما شمالاً بشرق فأغرق الطراد روريك وفيه أطلق اليابانوين المدافع على بورت آرثر. وفي 16 حاول الأسطول الروسي الخروج من بورت آرثر ثانية , وفيه أرسل اليابانيون مندوبًا إلى الروس رافعًا الراية البيضاء يدعوهم إلى تسليم المدينة , وإخراج غير المقاتلين حقنًا للدماء فأبوا. وفي 18 منه حمل اليابانيون حملة

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار وعدنا بأن نذكر ما ينتقد به علينا ونبين رأينا فيه إما تسليمًا، وإما تفنيدًا. وقد أرسلت إلينا قصيدة من الكويت يزعم ناظمها أنه رد على المنار , وما هي إلا سب وشتم لا يليق بالمؤمن أن يرد على صاحبها إلا بكلمة (سلام) وكذلك تصدت بعض الجرائد الجديدة في تونس التي هي أدنى من جرائدنا الأسبوعية للخوض في موضوعات المنار، فلم نر فيها شبهة تستحق الرد , وقد نصحت لها أم الجرائد التونسية (الحاضرة) ، الغراء فقبل النصيحة حسن القصد , وكابر الكاتب فردت عليه بالنبذة الآتية: وإذا مروا باللغو مروا كرامًا نصحت الحاضرة لرصيفيها الفاضلين صاحبي جريدتي الصواب، وجريدة إظهار الحق إثر تحريرات شديدة اللهجة نشراها ضد بعضهما في صحيفتيهما , ودعتهما بلسان الصدق في خدمة المصلحة العامة أن يقلعا عن مثل تلك المطاعن سيما وأن بعضها المدرج في ثانيتهما به تعريض مذموم بأكبر وأشهر مجلة علمية أدبية إسلامية بالشرق، ونعني بها جريدة المنار الأغر التي يكتب بها فضيلة مفتي الإسلام مولانا الإمام الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية , وقلنا لهما برفق ولين: إن موضوع مجادلتهما من فصيلة المجلات العلمية لا من علقة الجرائد الإخبارية , وعليه فلا ينتج عنها في نظرنا القاصر بما لدينا من التجربة الصحافية ثمرة مثافنة نحو عشرين سنة إلا تضليل بسطاء العقول، والتلبيس على أهل النهى بسرد النصوص المتناقضة تارة، وبتعقيد عبارة المحررين أخرى , فتوفقت جريدة الصواب بسلامة ذوقها لسماع النصيحة، وتطاولت خصيمتها عن الاقتداء بصنيعها الممدوح فاستأنفت القول بعبارة أكثر قحة وأبلغ شدة مما كانت نشرته , وذلك بقلم محرر غير محرر ما سبق بها نشره أمضى مقالته باسمه (بو بكر العروسي) عرف بنفسه في آخرمقاله بعد تعريض ممقوت بجريدتنا , فقال: (أما الذين تعلموا نبذة من الكتابة بكثرة مزاولة الجرائد أو موضوع مخصوص يصعب عليهم فهم مدارك الكُتَّاب (يقصد المحرر بذلك نفسه لا محالة) الذين أخذوا فنهم من قواعد وآداب عظيمة كالمتخرجين من الجامع الأعظم ... إلخ) . هذه خلاصة ما كنا كتبناه في عدد 812 من جريدتنا , وزبدة ما كتبه الشاب المتخرج من الجامع الأعظم في عدد 22 من جريدة إظهار الحق. ونحن لا يجدر بنا أن نجاري هذا الشاب في تيار أهوائه، بل ننصح من جديد لرصفينا الفاضل مدير إظهار الحق أن ينزه جريدته عن الخوض في تلك المواضيع البعيدة عن خدمة المصلحة العامة , وينبه إلى أن مثل هاتة التحريرات التي لا تستفيد منها جريدته ولا قراؤها سيما إذا كان محررها صاحب طيش ويرى نفسه من كتاب (الصف الأول في التحرير) الذين لا يخشون ردود محرري الشرق لأنه من أولئك الذين قيل فيهم: (إن بني عمك فيهم رماح) كما صرح بذلك. وإذا قدر الله على جريدة إظهار الحق بعدم إدراك هاته الحقيقة , فإن صاحبها لا محالة يسلك بجريدته طريقًا عوجاء لا يسلم من عاقبتها، ويعلم بعد حين أن حجة مثل هذا المحرر ساقطة، وأن قلمه لا قبل له على رد سيل العرم الذي ربما يجرفه يومًا ما فلا يجد لنفسه وليًّا ولا نصيرًا، إذ لا يخفى على صاحب إظهار الحق أن خدمة الأمة الإسلامية عمومًا وخدمة الوطن خصوصًا لا تكون إلا بالتعاضد والتكاتف لا بالتشاتم والتنافر بين أفرادها وخصوصًا حملة أقلامها , ثم ما لنا وللجرائد الشرقية التي يحررها كتبة أقلامهم من البلاغة بمكان ولها قراء تقدمونا بمراحل في ميادين الترقيات الفكرية والعرفان , فسمحت لهم معارفهم بولوج باب المجادلات الدينية والفلسفية بصورة يقصر دونها فهم الطالب المشار إليه ومن جاء على شاكلته , فإن لأولئك العلماء والكتاب الشرقيين من المبادئ الراسخة والآراء الثاقبة ما لا تزحزحه عوارض طيش التخيل والغرور مثل التي شاهدناها من أحد متخرجي الجامع الأعظم نراه تارة يطعن بشيوخه وبنظام الجامع مما ننقمه عليه، وآونة يزعم أنهم مصدر الفضائل وركن البراعة مما سبقناه للإعلان به , ولكن لله في خلقه أسرار) اهـ كلام الحاضرة الذي يتدفق إخلاصًا وصوابًا , وعسى أن يفيد المخلصين.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (كمال العناية بتوجيه ما في] لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [[*] من الكناية، وبحث علم النبي بالغيب) مؤلف هذه الرسالة السيد أحمد رافع الطهطاوي أحد علماء الأزهر الأسبق , والسيد علي الببلاوي شيخ الأزهر لهذا العهد , والشيخ عبد الرحمن الشربيني أعلم علماء الشافعية بلا خلاف , وغيرهم من أكابر علماء الأزهر كالمرحوم الشيخ حسن الطويل والشيخ حمزة فتح الله مفتش العربية في نظارة المعارف والشيخ محمد بخيت وغيرهم , ولما نشرنا مسألة علم النبي الغيب في المسائل الزنجبارية كتب إلينا مؤلف هذه الرسالة كتابًا يؤيد فيه رأينا , ويقول إنه سبق له تفنيد زعم من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على علم الغيب كله، في رسالته هذه , وأهدانا نسخة منها فإذا هو يقول في أول هذا المبحث ما نصه: (تنبيه مهم) قد علمت أنه لا صفة لغيره تعالى تماثل صفة من صفاته جل وعلا , فليس لغيره علم محيط بجميع المعلومات كما قال تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) أي لا يعلم أحد كنه شيء من معلوماته تعالى إلا ما شاء الله أن يعلم وقال تعالى لأعلم الخلق: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) وقد ذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة والسلام بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم , وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم انفعني بما علمتني , وعلمني ما ينفعني , وزدني علمًا , والحمد لله على كل حال) . قال العلامة الملوي في شرحه الكبير على السلم: قلت: وهذا صريح في الرد على من ادعى أن علم النبي صلى الله عليه وسلم مساوٍ لعلم الله تعالى محيط بكل شيء من كل وجه إحاطة كإحاطة علم الله تعالى , وأنه ما توفي حتى أعلمه الله تعالى كل شيء علم إحاطة , وقد ألف شيخ شيخنا العلامة اليوسي تأليفًا في الرد على من زعم ذلك وتكفيره , واستدل على ذلك بأدلة عقلية ونقلية. كيف وهو مصادم لقوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) وقوله تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف: 188) الآية، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (لقمان: 34) وعلى القول بأنه تعالى أعلمه صلى الله عليه وسلم مفاتيح الغيب فليس علم إحاطة كعلمه تعالى , وهو مصادم أيضًا للإجماع. على أن سر القدر لم يعلمه ولا يعلمه نبي مرسل ولا ملك ولا غيرهما , بل هو من مواقف العقول , ويلزم أن يكون علمه صلى الله عليه وسلم مساويًا لعلم الله ومماثلاً له في الإحاطة والحقيقة , فيلزم حدوث علمه تعالى للمماثلة؛ لأنه يجب لأحد المثلين ما وجب للآخر , بل ويلزم سائر لوازم العلم الحادث من العرضية والافتقار وغيرهما , ولا يجاب بالاختلاف بالقدم والحدوث لأن القدم والحدوث خارجان عن حقيقة العلم , والحقيقة لا تختلف باختلاف العوارض. وأما مع عدم ادعاء المساواة لعلم الله تعالى كأن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم علم الأولين والآخرين , فلا يمتنع لأن ذلك ليس مستلزمًا لمساواته لعلم الله تعالى والإحاطة من كل وجه , ومن أقوى ما يرد على هذا ما ورد في الحديث من أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يلهم في الآخرة محامد يحمد بها الله عز وجل لم يكن ألهمها قبل , لكن شيخ شيخنا بالغ في القول بتكفيره , والذي يظهر عدم التكفير؛ لأن هذه اللوازم بعيدة لا يقول بها هذا القائل , ولازم المذهب ليس بمذهب خصوصًا إذا كان اللازم بعيدًا اهـ ببعض اختصار. وإنما كانت هذه اللوازم بعيدة لأنها مأخوذة من مقدمة أجنبية؛ وهي أنه يجب لأحد المثلين ما وجب للآخر فلا يلزم من تصور مساواة علم النبي صلى الله عليه وسلم لعلم الله تعالى في الإحاطة تصورها كما ذكرته في كتابي (الطراز المعلم) وقد عرَّفوا اللازم البعيد بأنه ما لا يلزم من تصور ملزومه تصوره , والقريب بأنه ما يلزم من تصور ملزومه تصوره. والتحقيق الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم لم يفارق الحياة الدنيا حتى أعلمه الله تعالى بالمغيبات التي يمكن البشر علمها , وعلمه بها لا كعلم الله كما سترى فلا يجوز القول بأنه مساوٍ له فاعرف ذلك , وفي كلام العلامة أبي محمد الأمير موافقة لكلام اليوسي حيث قال عند بيان أن علمه تعالى محيط بما هو غير متناهٍ كالأعداد ونعيم الجنان أي فإنه لا يتناهى بمعنى أنه لا ينقطع أبدًا ما نصه: (وكون العلم بالكمية يقتضي التناهي إنما هو في حق الحوادث لضيق دائرة العلم الحادث وقصر تعلقه، وأما العلم القديم فتعلقه عام لا يتناهى فيتعلق تفصيلاً بما لا يتناهى) اهـ. ووراء هذا مباحث طويلة في حقيقة علم الغيب ومفاتح الغيب، والخلاف فيما يجوز أن يعلمه غير الله تعالى، وأكثرها مبنية على ما اعتاده المتأخرون من التعليل والتأويل والتقييد والتخصيص والاحتمالات مما لا حاجة لأكثره , ولا يترتب على الخلاف فيه فائدة , أما وعندنا الأصل اليقيني المتفق عليه المنصوص في كتاب الله تعالى وهو أنه لا يعلم الغيب إلا الله , وأن الله تعالى يظهر من شاء على ما شاء , ولكن لا يجوز لنا أن نتحكم برأينا فنقول: إنه أطلع فلانًا على مفاتح الغيب أو على علم الساعة ونحو ذلك إلا بنص قطعي يخصص نص القرآن القطعي والله أعلم. *** (تأسيس النظر وأصول الكرخي) سبق لنا تقريظ هذا الكتاب ورسالة أصول الكرخي المطبوعة معه في المجلد الخامس , وإننا ننقل الآن ما ذكره الدبوسي مؤلف الكتاب في الفرق بين دار الإسلام ودار الحرب لتوضيح ما تقدم في بحث الحكم بالقوانين الذي سنزيده بيانًا بعد , قال: دار الإسلام ودار الحرب الأصل عندنا أن الدنيا كلها داران: دار الإسلام ودار الحرب، وعند الإمام الشافعي الدنيا كلها دار واحدة , وعلى هذا مسائل، منها: إذا خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام مسلمًا مهاجرًا أو ذميًّا , وتخلف الآخر في دار الحرب، وقعت الفرقة عندنا فيما بينهما، وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا تقع الفرقة بنفس الخروج. ومنها: إذا أخذوا أموالنا وأحرزوها بدار الحرب ثم أسلموا عليها وهي في أيديهم كانت لهم ملكا وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا يملكونها، وكان عليهم ردها إلى أربابها. ومنها ما قال أصحابنا: إن المسلمين إذا استنقذوا من أيدي المشركين ما أخذوا من أموالنا لا يأخذها أصحابها إلا بالقيمة إذا وجدوها بعد القسمة عندنا، وعند الإمام الشافعي يأخذونها بغير شيء، ومنها أن أهل الحرب لو أخذوا من أموالنا عبدًا ثم دخل إليهم مسلم بأمان فاشتراه منهم وأخرجه إلى دار الإسلام فإنه لا يأخذه صاحبه إلا بالثمن وإن وهب له منهم يأخذه بالقيمة , وعند الإمام الشافعي يأخذه بغير شيء. ومنها: أن الحربي إذا أسلم في دار الحرب ثم خرج إلينا وترك ماله , ثم ظهر المسلمون على دارهم؛ كان جميع ماله غنيمة عندنا لأنه وقع بينه وبين ماله مباينة الدارين , وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: لا يكون غنيمة، ولو أسلم ولم يخرج إلينا حتى ظهر المسلمون عليهم؛ كان عقاره غنيمة لنا , وعند الإمام الشافعي: لا يكون غنيمة. وعلى هذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الآبق إليهم: إنهم لا يملكونه بالأخذ لأنه لما أبق صار في يد نفسه في دار الحرب لأنهم لا يملكون قهره وعارض يد قهر مولاه قهر نفسه وعصيانه , وعند صاحبيه ملكوه , ومنها ما قال أصحابنا: إن دار الحرب تمنع وجوب ما يندرئ بالشبهة لأن أحكامنا لا تجري في دارهم وحكم دارهم مخالف لحكم دارنا وعند الإمام أبي عبد الله الشافعي: عليه القصاص , وعلى هذا قال أصحابنا: لو دخل مسلمان مستأمنان في دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه لا قصاص عليه، وعند الإمام أبي عبد الله: عليه القصاص، وكذلك قال أصحابنا في أسيرين مسلمين في دار الحرب قتل أحدهما صاحبه: لا قصاص على القاتل عندنا , وعند الإمام الشافعي: على القاتل القصاص , وعلى هذا قال أصحابنا: لو شرب المسلم الخمر أو زنا أو قذف في دار الحرب: لا حد عليه عندنا , ويجب عند الإمام الشافعي عليه الحد) اهـ وفيه التصريح بأن أحكامنا لا تجري في دارهم، فما بقي على المسلم الذي يرى من المصلحة للإسلام العمل في حكومة الحربي إلا أن يراعي مصلحة المسلمين إذا هو حكم بالقوانين.

ضعف المسلمين بمزج السياسة بالدين

الكاتب: رفيق بك العظم

_ ضعف المسلمين بمزج السياسة بالدين مراجعة رفيق بك العظم للشيخ صالح بن علي اليافعي كتبت في المنار الأغر فصلاً تحت عنوان (هذا أوان العبر) بحثت فيه عن تقهقر المسلمين وسببه , ورأيت بعد مقدمات سردتها أن استبداد الحكومة هو علة هذا الضعف الشامل الذي ألَمَّ بالمسلمين، وجعلهم في أخريات الأمم , وقلت: إنما أنامهم لاستبداد الأمراء وأضعف بحياتهم السياسية الرجاء، مزج السياسية بالدين مزجًا أدى إلى استئثار الخلفاء بالسلطة واستبدادهم بكل شئون الملك حتى أخذت الحكومة الإسلامية شكل الحكومات المطلقة التي هي نار تأكل الممالك وتذهب بحياة الشعوب. ولو تنبه العرب في بدء نشوء الدولة إلى أن الحياة السياسية غير الحياة الدينية، وأسسوا هذا الملك الكبير على أساس الحكومات الديموقراطية التي كانت عند مجاوريهم من الرومان لما استفحل داء الاستبداد المطلق في الدولة الإسلامية إلى آخر ما ورد في ذلك الفصل. وبما أن أكثر المقدمات كانت إجمالية أردت بها الإشارة إلى نتائج الحكم المطلق قد التبست على حضرة الفاضل الهندي صاحب مقالة (ضعف المسلمين وعلاجه) فحمل قولي على غير ما أردت , وكتب في المنار المنير مقالته المسهبة في الرد عليّ , فذهب فيها مذاهب من بيان الداء والدواء تدل على وقوف على أحوال المسلمين وعلم لا ينكر على مثله، إلا أنه آخذني على بعض المقدمات مؤاخذة من التبس عليه فهم المراد منها , فطفق يسرد الأدلة على فضائل الدين الإسلامي وأنه صالح لترقي المسلمين، كأنه ظن أني بقولي: إن السياسية غير الدين، أدعو المسلمين إلى ترك الدين أو أن الإسلام غير صالح لترقي الأمة، ومعاذ الله أن يقول بهذا مسلم عنده ذره من العلم بحقيقة الإسلام ووقوف على تاريخ المسلمين , ولكي أدفع ما ورد على ذهنه من الشُّبه , وما تبادر إلى فهمه من ظاهر كلامي أريد مع احترامي لغيرته العظيمة ونيته السليمة مناقشته في بعض المقدمات التي أوردها في مقالته (ضعف المسلمين وعلاجه) تمحيصًا للحق وبيانًا للحقيقة، فأقول: جاء في مقدمته الأولى عن أسباب تقهقر المسلمين أن أعظم تلك الأسباب وأولاها تغلب من لا يستحق الخلافة على من يستحقها، وجعلها ملكًا عضوضًا قائمًا بقوة السيف. وثانيهما: نبذ المسلمين للكتاب والسنة، وافتراقهم شيعًا في الدين. فأما السبب الثاني فلا مشاحة فيه، وقد بسطه حضرته بسطًا وافيًا أعرب فيه عما يخالج ضمائر العقلاء من الأمة، وهو سبب مهم من أسباب تدلي المسلمين لا ينكره إلا مكابر أو جاهل، فلا نناقشه فيه بل نوافقه عليه، ولي فيه كلام طويل وفصول كثيرة في كتبي (أشهر مشاهير الإسلام) و (تنبيه الأفهام) فليراجعهما إن أحب. وأما السبب الثاني فقد جعله أخونا الفاضل أساسًا، وهو في الحقيقة نتيجة مقدمات وأسباب لو تتبعها لما خالفني في رأيي. وبيانه أني بنيت قولي بتقهقر المسلمين على ثلاثة أمور: (الأول) الاستبداد , و (الثاني) طرز الحكومة , و (الثالث) مزج المسلمين الحياة الدينية بالحياة السياسية , وهذا الأخير ينقسم إلى قسمين وهما: طرز الحكومة , والاستبداد. فالاستبداد منشؤه الحكومة المطلقة، وهذه منشؤها استئثار الخلفاء بالسلطة العامة باسم الدين لجعلهم حياة الأمة السياسية حياة دينية، وأخونا الفاضل الهندي وافقني في بنائه للسبب الأول على الثاني، وهو الاستبداد. وإنما أنكر علي كونه ناشئًا عن مزج السياسة بالدين ورأى أن منشأ استبداد الأمراء تغلب النازعين إلى الملك ممن كانوا غير أهل للخلافة على من كانوا أهلاً لها، وتشريدهم لهم في كل صقع وواد، وأخذ الخلافة بالغلبة دون اختيار أهل الحل والعقد، وجعلها بعد أخذهم لها بقوة السيف ملكًا عضوضًا ذهبوا فيه مذاهب أهل الأثرة والكبرياء وحادوا به عن طريق الشرع وآثروا الجهلة والفساق ... إلخ ما قال. والذي يستنتج من رأيه هذا أن الخلافة لو بقيت باختيار أهل الحل والعقد ووسدت إلى أهلها ممن عناهم حضرته - لما حل بالأمة من مصائب الاستبداد ما حل , ولَمَا طرأ على الدول الإسلامية من الضعف ما طرأ، وما دام مُسَلِّمًا معنا بهذه المقدمة فقد كان يلزمه أن يبحث عن السبب الذي أفضى بالخلافة إلى غير أهلها , ويبين الوجه الذي يضمن بقاءها على ما تركها عليه الخلفاء الأولون سائرة على نهج الحق والعدل، لا سبيل لأولئك النازعين إلى الملك المتوثبين على الخلافة إلى خرق حرمتها، والتغلب على من كانوا أهلاً لها وأحق بها، ويرى ما الذي أدخل على مركز الخلافة الاضطراب من عهد الخليفة الثالث رضي الله عنه حتى زعزعته عواصف الفتن وغلب عليه المتغلبون، فكانت من ثم أول حلقة من سلسلة الانقسام والتغالب الذي جر على الأمة من البلاء وأذاقها من استبداد الأمراء ما انتهى بها إلى الغاية الشنعاء التي نشاهدها الآن بالعيان. لو نظر حضرته إلى السبب ودقق النظر في هذا البحث لعلم أني لم أخرج في بحثي عن هذه الوجهة، ولم أتعرض في كلامي لأصل الشريعة التي قال فيها: لو عمل بها الخلفاء لما أصاب الأمة ما أصابها من الجور؛ إذ هذا حق لا ريب فيه، ولم يكن كلامي دائرًا عليه بل على الأساس الذي ينبغي أن تقام عليه دعائم الدولة، ويتكفل بسير الأمراء على نهج العدل، وعملهم بأوامر الشريعة، ويقف بهم مرغمين عند حد القانون. وهذا الأساس هو الذي يعرف لهذا العهد بالنظام الأساسي الذي عليه تقدم الدول الشورية والحكومات النيابية، ولا بقاء للحكم النيابي بدونه قط. هذا النظام هو الذي يتكفل بتنفيذ القوانين الشرعية والوضعية، ويعطي الشعوب حق السيطرة على الحكومة والمشاركة لها في الرأي، ويحدد سلطة الأمراء والملوك تحديدًا يمنعهم من الذهاب في سياسة الأمم مذاهب الشهوات، وأن يكونوا أربابًا والرعية مربوبين. وهذا النظام هو الذي نهض بدول الغرب إلى أوج القوة والمجد والسيادة على الأرض، وخرج باليابان من وهدة الهوان إلى مقام الدول العظيمة ذات القوة والسلطان، وإلى هذا المعنى أشرت بحياة الأمم السياسية، وأنها غير الحياة الدينية , وقلت: إن العرب بجعلهم الحياة السياسية حياة دينية مهدوا للأمراء سبيل الاستئثار بالسلطة باسم الدين، والحكم بالهوى وبما تشتهيه نفوسهم لا بما ينطبق على مصلحة الأمة والشرع، فإذا توهم أخونا الفاضل أن هذه الحياة لا تكون حياة طيبة سعيدة إلا إذا انصبغت بصبغة الدين، فما رأيه في اليابانيين وهم من الوثنيين. استغرب الفاضل الهندي قولي أن العرب فاتهم أن يجاروا في وضع قواعد الدولة وتأسيس أصول الحكومات ذات الصبغة الدستورية كالجمهورية والقنصلية والحكومة المقيدة - أقرب الأمم جوارًا لهم وهم الرومان، واستعظم قولي بترك الدين جانبًا والسياسة جانبًا، وبالغ في الاستعظام، حتى خيل للقارئ أني أدعو إلى نحلة جديدة بعيدة عن الدين والصواب , لا أجاب إليها ولو ناديت قومي إلى يوم الحساب يؤيد هذا قوله بعد كلام طويل: فإن دعوتهم (يعني المسلمين) إلى دينهم الخالص أنفع لمرضهم ... إلخ الجملة التي تدل على مبلغ ظنه بي، وإني أرجو الله أن يغفر له ولي ما دامت وجهة كلينا إلى الحق، وغرضنا محض النصيحة، وإنما التبس على مناظري فهم المدار من كلامي فحمله على غير ما أردت، وعسى أن إيضاحي له الآن، وتصريحي بأنه إنما كان دائرًا على النظام الأساسي للدولة، يقنع حضرته بأني لم أرد بفصل السياسة عن الدين ترك أحكام الدين وتعاليمه، بل أريد أن النظامات الأساسية للدول تابعة للمصلحة منوطة بالاجتهاد , وليست هي جزءًا من الدين لا ينفصل عنه , وبيانًا للحقيقة التي يشهد بها الشرع والعقل ألخص هنا ما كتبته في صدر الجزء الأول من أشهر مشاهير الإسلام عند الكلام على خلافة أبي بكر رضى الله عنه, وأزيد عليه بعض الشيء إيضاحًا لما أبهم في هذه المسألة الكبرى فأقول: (إن وظيفة الرسل هي تبليغ الشرائع، ووضع أصول الدعوة وتقريرها على وجه يتكفل بسعادة الناس , ولما كان لابد بعد الرسول من بقاء هذه الشرائع في قومه للحكم بها بين الناس أنيط بالضرورة بمن يخلفه في قومه فكانت وظيفته دنيوية يتعلق بها تنفيذ أحكام الشريعة التي تتكفل بحفظ الأمن والراحة والحقوق , ووظيفة الرسول دينية يتعلق بها تبليغ الدين وتقرير أصول الشريعة؛ لهذا لم يعهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل مفارقته الدنيا إلى الملأ الأعلى بالخلافة إلى أحد سوى أنه استخلف أبا بكر رضي الله عنه بالصلاة التي هي ركن من أركان الدين فرضيه بعد ذلك الصحابة الكرام رئيسًا للدنيا بدليل قول علي رضى الله عنه: (قد ارتضاه رسول الله لديننا أفلا نرتضيه لدنيانا) وهذا صريح في أن الدولة غير الدين. ومعلوم بالبداهة أن الشرائع سواء كانت دينية أو وضعية تحتاج إلى منفذ ووهذا المنفذ هو الدولة فأول رئيس لهذه الدولة في الإسلام هو أبو بكر - رضي الله عنه - وإنما كان أبو بكر رئيسًا للدولة بالضرورة؛ لأن الإسلام له شرائع يقتضي تنفيذها , والرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة بل شرع شرعًا، وجمع الناس على دين فلهم أن يختاروا في حماية ذلك الشرع وتنفيذه الوجه الذي يتكفل بقيامه ويعزز جانب أهله، وليس هناك نص بعينه بَيَّن كيفية تأسيس الدولة، فهم إذا أحسنوا في الاختيار التأسيس فلأنفسهم، وإذا أخطؤوا فعليها، والشرع لا يطالبهم بحكومة جمهورية ولا مطلقة ولا مقيدة بل يطالبهم بالعمل بأحكامه وقصد العمل بتلك الأحكام وصونها عن العبث والضياع، وهو الذي يطالبهم باختيار طرز الحكومة التي تضمن بقاء العمل بالشرع، وأي حكومة أفضل للمسلمين، بل لكل البشر من الحكومة النيابية التي يتكافل بها الشعب برمته على سلامة القانون أو الشرع. هذه مقدمة، ومقدمة أخرى وهي أن الشرع ينقسم إلى قسمين، قسم يتعلق بالدين وهو قسم العبادات، وقسم يتعلق بالدنيا وهو قسم المعاملات، فالقسم المتعلق بالدين نصوصه قطعية لا اجتهاد فيها , ويتلقاه الناس من الكتاب والسنة فمخالفه يعاقب والعامل به يثاب. والقسم المتعلق بالدنيا هو قسم المعاملات ويشتمل على أحكام الحقوق والعقوبات، وفيها القصاص والحدود، فأحكام هذا القسم منها قطعي ومنها ما هو موكول للاجتهاد، وهو الأكثر، والاجتهاد كما هو معلوم بالبداهة معناه وضع الأحكام بإزاء الحوادث التي تتجدد بتجدد الزمان، وتتعدد بتعدد المصالح. فإذا أجاز الشارع الاجتهاد في هذا القسم لاعتبار أنه دنيوي تتعلق به مصالح الأمة الاجتماعية، فما معنى اعتبار حياة المسلمين السياسية التي تتعلق بها حاجات الدولة والملك الدنيوية في بدء نشوء الدولة وسذاجتها حياة دينية لا يجوز فيها الاجتهاد بتأسيس الدولة على أصول الدول العريقة في الملك. ومقدمة ثالثة وهي أنه قد ثبت عند الأصوليين أن الأنبياء - عليهم السلام - قد يخطئون في اجتهادهم , والعرب في صدر الإسلام لما لم يكن لديهم تاريخ في ترتيب الحكومات يرجعون إليه لم يحسنوا تأسيس الدولة على أصول الشورى الثابتة، فلو فرضنا أنهم اجتهدوا وأخطأوا فهل في هذا ما يدعو إلى استكبار ذكر هذا الخطأ، والحال أن لهم أسوة بالرسل - عليهم السلام - ولماذا استكبر حضرة المناظر الفاضل قولي: إن العرب لم يحسنوا تأسيس الدولة والملك. ومقدمة رابعة: إذا كانت حياة المسلمين السياسية حياة دينية , والسياسة لا تنفصل عن الدين , ومعلوم بالضرورة أن الدين لا

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر التربية بسفر البحر شذرات من يومية الدكتور أراسم [*] يوم 14 مايو سنة - 186 انتهينا من الطواف بالرأس , ولكن ما أعظم ما بذلنا في سبيل ذلك من الجهد, وما أشد ما عانينا من المشاق. فقد كانت الريح تزفزف ثلاثة أيام وثلاث ليال زفزفة بلغت من الشدة إلى حد أن ساري سفينتنا الأكبر كان فيها يتنوّد تنوّد القصدة من يبس الحشيش. لم يكن يؤلمنا على ظهر السفينة سوى أيدي البحارين في ممارسة أعمالهم , وما كان أشدني إعجابًا في نفسي بسيرتهم في تلك الساعات التي قضيناها في مكافحة البحر ومغالبة الخطر، فليست بسالة الملاح من قبيل بسالة الجندي، ولكنها تفضلها في رأيي لأن الملاح بما له من الجرأة على الموجودات والفواعل الكونية يكافح الموت مواجهة فلا يحول بينهما إلا سُمك لوح من الخشب , وليس غرضه من الكفاح إبادة نظرائه بل هو في مدافعة عن حياته يعمل لتنجيتهم من الهلاك وناهيك بالبحر عدوًّا أوتي من العدد ما هو أشدها رهبة في العالم بأسره، فإنك ترى السفينة على وهنها وكونها ليست إلا دولابًا من الخشب تطاردها الريح والبرد والبرق وجبال من الموج , فهي في الحقيقة تقاوم قوى كون من الأكوان برمتها. ولا مشابهة أيضًا بين قدر الملاح وبين ما يفاخر به السفسطي من اجترائه على معاندة القدر باستدلالاته الدقيقة اجتراءً باردًا خاليًا من العمل , هيهات فإن قدر الملاح هو ما يتجلى في عمله من قوة نفسه وهمتها فتراه مع استعانته بربه لاستمساكه بدينه لا يعتمد بعد ذلك إلا على نفسه أعني على صحة بصره، وضبط حركاته وقوة أعصابه فإن قهره عدوه سلم إليه , ولكن هذا لا يكون إلا بعد أن يرى آخر سلاح له قد تحطم. تلك البسالة تكتسب بالتعلم، وهذه الثقة بالنفس تسري بالمعاشرة، يدلك على ذلك أن (أميل) كان في أول عهده بالملاحة شديد الروع فما لبث أن ذهب عنه روعه بالتأسي برفقائه؛ لأنه كان يرى من العار أن يرتجف فؤاده وتتزلزل قدماه أمام هؤلاء الأبطال وهم ثابتون في مواطنهم. كانوا يشغلون حينًا بعد حين بإدارة الممصات (الطلمبات) ومعالجة الحبال , فلا شيء كالعمل البدني في تقوية القلب , فبطالة المسافرين هي التي عند أدنى هيعة تملأ قلوبهم بالمخاوف وأدمغتهم بالخيالات، وأما الملاح فليس للخوف متسع في وقته. من مزايا الملاحة أيضًا أن ما فيها من مكافحة الخطر ينمي في قلوب الملاحين حب الحياة , فمن ذا الذي كان يحسب أن الانتحار لا يكاد يكون معروفًا بينهم. الضجر من الحياة من مميزات العصور الحديثة، وهو أخوفها عندي على الشبان، وأشدها إيلامًا لنفسي؛ فإني أرى الأطفال يولدون غير مبالين بشيء سائمين من كل شيء خامدي الإحساس ميتي القلوب، فكم من فتاة إذا انكشف لها وهمها لأول مرة فيما كانت تعتقده واقعًا تمنت لو أنها ماتت قبل انكشافه. وكم من فتى كسول لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره ولم يعامله الجد إلا معاملة الغلام العارم يصيح قائلاً: (ما فائدة الحياة) وليس من غرضي هنا أن أبحث عن أسباب هذه المصيبة الملمة بالنفوس والأخلاق , وإنما غرضي أن أقول لكل هؤلاء المتبرمين: (انظروا إلى الملاح؛ تجدوا أنه هو الذي عرف قيمة الحياة لأنه في كل يوم يذود عنها أخطارًا حقيقية لغاية نافعة وبذلك صار أهلاً لأن يقدرها حق قدرها) . من أجل هذه الأسباب كلها أرى أن (أميل) الآن في ولاية معلمين حاذقين. وأما (لولا) فإنها - والحق يقال - لم تُبدِ من البسالة شيئًا يذكر لأنها لبثت مختبأة في إحدى زوايا حجرتها فكانت كالنعامة التي يؤكد العارفون بأخلاقها أنها تتوهم أن غمر رأسها في الظلام منجاة لها من الخطر الملم بها، وذلك ما اضطر هيلانة إلى أن تكون قدوة لها في الإقدام تسكينًا لروعها , وكان هذا موجبًا للإعجاب بها بحق شجاعة النساء المحمودة من الخطأ أن يتوهم متوهم أن لا فائدة في الشجاعة للنساء؛ فإنه إن كان يريد بها الشجاعة الحربية فإني قليل الاعتداد بها في الرجال فأكون أقل اعتدادًا بها في المرأة المترجلة، ولكن لا يعزب عن ذهنه أنه يوجد من ضروب الأقدار غير واحد فإن النساء مستهدفات للمخاطر التي نحن عرضة لها ومضطرات لمغالبة ما نغالبه من حوادث الكون الخارجي , وقد يوجد من الأحوال ما تتوقف حياتهن فيها بل وحياة أطفالهن على سكينتهن ورباطه جأشهن , فقوة العزيمة وثبات الجنان هما من الأخلاق اللازمة للمرأة لزومهما للرجل. من المصائب أن تسوء تربية الفتيات إلى حد أن يتوهمن أن تكلف ضروب الفزع القاتل عند كل مناسبة خصوصًا بحضرة الشبان مما يلفت الأنظار إليهن فيقول من يراهن في هذه الحالة: إنهن يقصدن أن يظهرن في شكل الحمائم المروعة، ويجمل أن يوعظن بأن الخوف لا حسن فيه مطلقًا، وأنه يجب عليهن لأنفسهن إذا أحدق بهن الخطر أن يجتهدن في استشعار الاطمئنان والسكينة إن كن يردن أن يصرن مثارًا للإعجاب والاستحسان. ولا صحة لما يعتقدنه على ما يظهر من أن ثبات جنان المرأة يسيء خلقها، بل إني أجد جمالاً وشرفًا فائقين في تلك الذات إذا كانت مع تجردها من القدرة على المهاجمة بل ومن قوة المدافعة، تقتحم الخطر بقوة جأش تكافئ قوة الرجل. أنا أعلم أن من الأوهام السخيفة اعتقاد أن جفاء الطبع من لوازم الشجاعة , ولكني أود لو أدري متى شوهد أن الشجاعة الحقيقية غيرت من رقة المرأة ورحمتها وغير ذلك من فضائلها , حاشاها من هذا، وأن الجبن والأثرة لهما اللذان يوجبان قسوة القلب وغلظه. سل أمًّا جبانًا أن تشهد عملاً جراحيًّا يعمل في جسم ولدها لتسليه وتسري من ألمه تجبك بأنها شديدة الإحساس كثيرة التأثر، وبئس العذر عذرها , فما مرادها إلا الاحتماء من كلفة التسخير. ثم لا يتخيلنَّ أحد أن قوة العزيمة والسلطان على النفس أو الشجاعة الحقيقية هي من الأخلاق التي لا ينتفع بها إلا في طائفتين من الأعمال هما الحرب والملاحة، فإني أرى أن منفعتها تتعدى إلى كثير من الأمور الأخرى لأن الرجل والمرأة مهددان كل يوم في القوم الذين يعيشان بينهم بآلاف من الأعداء والمعاطب , ولأن البحر لا يقصد إلا إزهاق أرواحنا وما أكثر ما يعرض لنا من الأحوال الخطرة التي يقصد فيها نقص أعراضنا والذهاب بحرماتنا. اهـ *** يوم 20 مايو سنة - 186 تشق سفينتنا (المونيتور) بجلالة خطرها عباب أمواج المحيط الهادي , وتتخذ لها فيه سبيلاً , وقد عادت (لولا) بعد زوال الخطر إلى ما كانت عليه من الابتهاج والسرور فهي تمرح وتعدو على ظهر السفينة مع ما لها من الحركات حافظة لتوازنها , وتبدو قدماها الصغيرتان في خببها من تحت حلتها كأنهما فأرتان. اهـ *** يوم 25 مايو سنة -186 رسونا غداة اليوم في جوان فرناندز لضبط مقياس الزمن (الكرونومتر) . وهذه البقعة مركبة في الحقيقة من ثلاث جزر يتألف منها مجموع متلاصق الأجزاء , وتسمى الأولى منها (ماساتيرا) والثانية (ماسافويرا) والثالثة (إسلادولوبوس) , وهي صخرة تكاد تكون جرداء أكثر الثلاثة تطوحًا نحو الجنوب , ويلقبها الملاحون بجزيرة القيطس (عجل البحر) لأن القياطس تأوي إليها طلبًا للراحة والدفء. الجزيرتان الأوليان ماستيرا ومسافويرا معشوشبتان شجراوان , ومع اجتهاد الحكومة التابعتان لها في تعميرهما لا تزال قفرًا لا يعمرهما إلا المعز الوحشية، وهي كثيرة فيهما , ويقال: إنها كانت تزيد عن ذلك لو لم تسلط عليها كلاب وحشية مثلها تقاتلها وتفترسها. وليت شعري إلى أي حالة تصير هذه الكلاب إذا أبادت جميع ما هنالك من المعز؟ لابد أن يأكل بعضها بعضًا. وجزيرة جوان فرناندز تذكر بواقعة عظيمة جرت فيها وهي: إنه في سنة 1704 رسا الملاح الإنكليزي دامبير على ماستيرا , فألقى فيها وكيله على القوارب المدعو إسكندر شالكرك إثر مشاجرة احتدمت بينهما ترك هذا التعيس في هذه الجزيرة القفر غير مزود إياه إلا بشيء يسير من الغذاء والعدد , فعاش هناك أربع سنين وأربعة أشهر من صيده وصناعته , وفي سنة 1709 اتفق لاثنين من صيادي الثيران الوحشية أن نزلا بالجزيرة , فعثرا على ذلك الرجل فرقَّا لحاله وحملاه معهما إلى أوربا. وكان شالكيرك قد قيد بعض مذكرات في طريقة عيشته على تلك الجزيرة البلقع , فاستعان بها دانيال روفويه فيما بعد على تأليف كتابه العجيب الذي عرفه الناس جميعًا , ولشد ما يبديه الآن (أميل) و (لولا) من الاهتمام بمطالعة وقائع روبنس كروزويه. اهـ *** يوم 5 يونية سنة - 186 يا بشرى هذه أرض هذه أرض. بعد أن سافرنا تسعين يومًا دخلنا خليج قلاَّ وهو من أبهى مناظر الدنيا. وأبصرنا جزيرة لورنز وترتفع حيالنا. أقول: ترتفع وأقل ما في هذا اللفظ أنه حقيقة في استعماله هنا , فقد نتج من حساب أحد العلماء أن سواحل سان لورنزو كسواحل الشاطئ المجاور لها ارتفعت عن سطح البحر خمسًا وثمانين قدمًا إنكليزية من عهد العصور التي يعرفها التاريخ. صخور هذه الجزيرة يغمرها آلاف مؤلفة من الطيور، أخص بالذكر منها طيرًا رأسه أسمر إلى السنجابية , وبطنه أبيض ناصع , وذنبه أسود. يقال: إنه هو الذي يحصل منه أهل الجزيرة على السماد المعروف بالغوانو , وهو ثروتهم الكبرى لأن الذهب والفضة كادا ينضبان من معادن بلاد البيرو فهي تتسلى عن الحرمان منها ببيع القذر , ولا غرو فالذهب مُذهب ومُفسد والقذر مُوجد ومُخصب. اهـ *** يوم 6 يونيه سنة - 186 رسونا في ميناء سيودال دولوس ريس. أخص ما أدهش (أميل) و (لولا) عند هبوطهما على البر كثرة العقبان التي تسكن سواحل هذه الجهة , فإنها تُرى عند كل خطوة في الشوارع، وعلى سطوح المساكن , وقد رأينا منها طائفة تبلغ الستين أو الثمانين نائمة وهى جاثمة على جدار ورءوسها مختبئة تحت أجنحتها. ذلك أنها ليس من خلقها الجفلان , ولا تخشى من السكان شيئًا لأنهم يجلونها. هذه الطيور في غاية الشره , وشرهها نفسه نعمة من نعم الله على أهل تلك البلاد لأنه يساعد على حفظ الصحة في المدن، وكان (لأميل) فيما أرى أخطاء غريبة في شأنها، فإنه لما سمع الزراية عليها ممن درسوا أخلاقها في الكتب كان يتخيلها سلابة تسكن الهواء , أكالة دنيئة للرمم , فلم يمض إلا ساعات قلائل حتى زال الوهم وتبين له خلاف ما كان يتوهمه أنها محتسبة , عيَّنها الخالق سبحانه في البلاد الحارة للقيام على تنظيف الطرق العامة , فهي تنقيها مما يلقى على الأبواب من القمام واللحوم الفاسدة، ومما يطرح فيها من الجيف، ويدل ما تبديه هذه الطيور من الاطمئنان إلى الإنسان والثقة به حق الدلالة على شعورها بنفعها له. المسافة بين قلاو وليما فرسخان أسبانوليان , وسنبلغها غدًا. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

مدرسة الجمعية الخيرية في المحلة الكبرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدرسة الجمعية الخيريةفي المحلة الكبرى الاحتفال بافتتاحها والغرض من تعليمها ذكرنا في الجزء الخامس من هذه السنة خبر الاحتفال بتأسيس هذه المدرسة , وقد تم ولله الحمد بناؤها , وأهلت بالتلامذة , وانتظمت عقود الدروس فيها , واحتفل بافتتاحها رسميًّا أول أمس بحضور رئيس الجمعية الأستاذ الإمام وإبراهيم بك الهلباوي من أعضاء مجلس إدارتها , ومنشئ هذه المجلة من أعضاء الجمعية، وحضور وجهاء المجلة وعمال الحكومة فيها. وبدئ الاحتفال بتلاوة أحد التلامذة لآيات من الكتاب العزيز، ثم وقف الرئيس فبسمل وحمد الله تعالى وصلى وسلم على رسوله , وشكر للحاضرين عنايتهم بحضور الاحتفال الدالة على رغبتهم في نشر العلم ومساعدة الجمعية الخيرية على عملها، وذكر الغرض من هذا التعليم الابتدائي فقال ما خلاصته: المدرسة تعلم المبتدئين القراءة والخط والحساب ومبادئ العربية , وتربيهم على الأعمال الدينية والأدبية تعدهم بذلك للعيشة الصالحة في أنفسهم ومع الناس الذين يعيشون معهم، وهذه المبادئ لا يستغني عنها إنسان فقيرًا كان أو غنيًّا , فالفلاح يحتاج إلى مكاتبة بعض الناس، فإذا كتب بيده أو قرأ ما يكتب إليه حسب ما يبيعه ويشتريه بنفسه فهو خير له من الاستعانة بغيره على ذلك، ولهذا التعليم فائدة أعلى من الاستعانة على المعيشة، وهى ارتقاء العقل واستعداده لفهم المصلحة وتمييزها عن المفسدة , فإننا نرى كثيرًا من الناس يقع التنازع بينهم فيعتدي بعضهم على بعض حتى تفنى ثروة الفريقين في التنازع، وإذا حاولت إقناعهم بأن هذا ضار، وأن الخير والصواب في خلافه لا يسهل عليك ذلك لأنهم لا يفهمون. وأهم ما تقصده الجمعية من التربية في مدارسها تنشئة المتعلمين على الفضائل كالصدق والأمانة للذين عليهما مدار السعادة، ما نجحت أمة إلا بهما ولا هلكت إلا بفقدهما، وقد حث الإسلام وجميع الأديان على هذين الخلقين , ونهى عن الكذب والخيانة أشد النهي، وإننا مع ذلك نرى الكذب والخيانة فاشيين في الناس إلى حد سلبت معه ثقة الناس بعضهم ببعض، وفقد الثقة مؤذن بالخراب والدمار. هذا التعليم سلم يرتقي عنه الغني إلى التعليم العالي، ويجعل الفقير على مقربة من الغني في الفكر والخلق، فإما أن يجد فيلحقه، وإما أن يحسن الاستفادة منه بخدمته ومساعدته في أعماله بالصدق والأمانة، فهذا التعليم لا يستغني عنه أحد حتى الحمّار والجمّال. وتعلم المدرسة أيضًا مبادئ العلوم ولغة أجنبية لإعداد من يريد خدمة الحكومة لها. وهذا ما لا ترغب فيه الجمعية نفسها، لكنه من حاجة الناس , وإنما رغبتها في الاستعانة به على تعلم الصناعة لمن يريدها، ولها الرجاء بهمة وجهاء المحلة، وأهل الغيرة في أغنيائها في تأسيس قسم صناعي في هذه المدرسة , فإن المحلة بلدة كانت معروفة بالصناعة، وقد وعد صاحب السعادة أحمد باشا المنشاوي بأنه مستعد لمساعدة الجمعية على إنشاء القسم الصناعي، فلم يبق إلا اهتمام الوجهاء الحاضرين بالاكتتاب في جميع المركز، وجمع المال الذي يُمكن من إتمام العمل. وقال: قد علمت بأن أهل المحلة الكبرى ثلاثون ألفًا أو يزيدون، وهي قاعدة مركز عدده كثير , وليس فيها إلا مدرسة للقبط , وأخرى للأمريكان , وإنني قد رأيت في بعض سياحاتي في البلاد الأجنبية مدينة عدد سكانها ستة عشر ألف نسمة , وقد أنشأ الأهالي فيها مدرسة كلية تعلم فيها جميع العلوم العالية بمساعدة أهل المركز الذي هي قاعدته أنفقوا عليها كذا من ملايين الفرنكات (نسيت العدد) على أن فيها عدة مدارس ابتدائية، وفي كل قرية من قرى ذلك المركز مدرسة ابتدائية , فنرجو أن نبلغ من مجاراة أمثال هؤلاء الأحياء أن ترتقي مدرستنا هذه ويكون فيها قسم صناعي , وأن يكون لنا في القاهرة مدرسة كلية فإن القطر المصري كله لم يبلغ من التقدم في العلم أن كانت فيه مدرسة كلية تعلم فيها العلوم العالية. ثم دعي كاتب هذه السطور إلى أن يخطب فيهم فلبى وقام فقال - بعد الافتتاح بذكر الله -: رغبتم إليّ في الكلام، بعدما سمعتم من حِكَم الأستاذ الأمام، وإن مثل الذي يعرض ما عنده من ذلك في حضرة الأستاذ إذا هو أحسن كمثل ذلك الوزير العجمي في الآستانة، إذ كانت له منطقة مرصعة بالجواهر يتمنطق بها فوق ثيابه يتراءى أمام الناس ويفتخر , فعلم السلطان بذلك فأمر بعض وزرائه , ويقال إنه مصطفى فاضل باشا المصري بأن يدعوه إلى داره , ويريه ما يصغر منطقته في عينه , فدعاه إلى العشاء والسمر فرأى من الآنية والماعون والأثاث المرصعة بالجواهر ما خطف بصره حتى قيل إنه رأى الشباشب (كلمة مصرية مفردها شبشب وهو الكوث أو القفش في العربية) وسيور القبقاب في المرحاض مرصعة بالجواهر , فصار بعد ذلك يخفي منطقته تحت كسائه، ولكننا نقول شيئًا تلبية للطلب: جرت العادة بأن يكون الكلام في مقام الاحتفال بافتتاح مدرسة محصورًا في مدح العلم والتعليم على أن العلم غني عن المدح باتفاق الناس على فضله، فلا يوجد جاهل ينكر شرف العلم وشدة الحاجة إليه، ولكن الناس في أمتنا كانوا يعتقدون أن العلم محصور في أمور مخصوصة يكفي أن يقوم بها بعض الناس فيسقط الطلب عن الآخرين، وكان يصعب إقناع الجمهور بوجوب تعميم العلم، وبأنه يحتاج إليه في كل شيء , ولكن قد تغيرت الآن الأحوال في هذه البلاد، وصرنا نرى جميع طبقات الناس حتى الطهاة (الطابخين) يقذفون أولادهم ذكرانًا وإناثًا في المدارس لإحساسهم بأن التعليم لابد منه , ولكن هذا الإحساس عند الأكثرين مبهم لا يعرفون حقيقته ولا سببه ولا فائدة التعليم الحقيقية. والسبب الحقيقي فيه التأثر بحال الأجانب الذين انتشروا في هذه البلاد , فهو سبب من الخارج لا من النفس , فهذه البلاد الآن في طور الانقلاب من حال إلى حال؛ إذ حدثت فيها مجارٍ جديدة للحياة، أو تيارات تجرف في طريقها الناس من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، ومنها تيار تعميم التعليم , فالناس يرغبون في تعليم أولادهم وهم لا يدرون ماذا يتعلمون، ولا ما هي فائدة التعلم، ولذلك لا يميزون بين مدرسة وأخرى. وقد سألت بعض المتعلمين التعليم الثاني في المدرسة الخديوية عن رأي التلامذة في فائدة التعليم مع العلم بأن أعمال الحكومة لا تفي بجميع المتعلمين , فقال أنهم يرون أن المتعلم يقدر على أعمال شريفة يستغني بها لا يقدر عليها غيره. فقلت له: إن الذي يتعلم ليعيش بعلمه لا غرض له إلا نفسه، فهو محترف كالصانع والزارع، وقد رأينا كثيرًا من العوام حصلوا من الثروة بالزراعة والتجارة ما لم يقاربهم فيه متعلم كزعزوع بك وفلان وفلان. والذين ارتقوا بالتعلم في مصر قليلون كفلان وفلان من القضاة وغيرهم , ولم نجد فيهم من حصل بعلمه ثروة كبيرة كأولئك العامة , فالتعليم في مصر لم يرتق إلى درجة يسهل معها تحصيل الثروة الواسعة , على أن نفقات المتعلمين تكون أكثر , فإذا طلبوا الثروة ولم يجدوها كانوا أشقى من غيرهم في المعيشة. فقال: هذا صحيح. ثم قلت له: ألا يوجد في إخوانك المتعلمين من يفكر في التوسل بالعلم إلى خدمة أمته وبلاده خدمة عامة , فيكون أفضل من النجار والحداد والفلاح الذين لا يعملون إلا لأجل بطونهم، وإن كان عملهم الجزئي نافعًا للناس؟ فقال: يوجد قليل منهم يفكر في إنشاء جريدة لخدمة الوطن. قلت: وماذا رأوا من خدمة الجرائد للناس؟ أي شيء ضار كانت عليه الأمة فتحولت عنه بإرشاد الجرائد , وأي شيء نافع كانت منصرفة عنه فتوجهت إليه بحثها وترغيبها؟ وهل تعرف أنت للجريدة الفلانية والجريدة الفلانية مذهبًا ورأيًا نافعًا تمتاز بالدعوة إليه لترقية البلاد؟ فقال: لا , وكان قصارى الحديث معه أنه ليس لأحد غاية مقصودة من التعلم وراء خدمة الحكومة (أقول: ويلحق بها الطب والمحاماة عند نفر قليل) . لهذا التعليم الناقص في مصر سيئات ومضار , فإن الفتن والمعاصي الضارة التي ألمت بالبلاد بواسطة الأجانب لم تنتشر فيها إلا بسعي هؤلاء المتعلمين، وقد قال الأستاذ الأمام: إن من مقاصد المدارس إفادة المتعلمين الصدق والأمانة , فسلوه وسلوا غيره من العقلاء المختبرين: ألهم ثقة بصدق أكثر المتعلمين وأمانتهم؟ يجيبوك: لا لا. والسبب في عدم إفادة التعليم أمثال هذه الصفات هو أن القائمين بأمر التعليم لا يقصدون ذلك , فإن الحكومة إنما تقصد بمدارسها إيجاد خدم لها يقدرون على أعمال مخصوصة , وليس لها عناية بتربية الأرواح وترقية الأمة , هذا وإن مدارس الحكومة خير المدارس وأرقاها تعليمًا ونظامًا. وأما المدارس الأهلية فالمقصود منها التجارة والكسب، وأكثر أصحابها لا يعرفون طريق الجمع بين الإفادة المطلوبة والاستفادة، وقد دخلت مرة إحدى هذه المدارس وسألت أحد المدرسين عن الكتب التي يقرأها في الدين - والدين كما لا يخفى أساس التهذيب - فقال: إنني كنت بدأت بقراءة شيء من السيرة النبوية , وبمناسبة ذكر المعراج ذكرت لهم فرضية الصلاة، وأردت أن أذكر شيئًا من أحكامها، فرأيت على وجوه التلامذة ما يدل على عدم الارتياح، فتركت درس الدين , يعني أن هؤلاء لا يعلمون إلا ما ترتاح إليه نفوس التلامذة وتتلذذ به , أي يريدون أن يكون التلامذة هم نظار المدارس. ولا نعرف في البلاد مدارس غرضها تهذيب النفوس غير مدارس الجمعية الخيرية، وذلك أن رئيس هذه الجمعية ومساعديه في إدارتها هم خيرة رجال هذه البلاد معرفة وغيْرةً، وأقدرهم على إيجاد التعليم النافع والتربية الصحيحة، ولا تنتج الأمم الضعيفة أمثالهم إلا بعد مخض الزمان لها في قرون طويلة، فيجب أن تُغتنم فرصة وجودهم بمساعدة الجمعية على نشر التعليم والتربية على الوجه الصحيح النافع، فإنه ما قصر بها إلا قلة المال. وقد أحسن وجهاء المحلة صنعًا بتفويض أمر مدرستهم إلى الجمعية , وإنني أدعو كل واحد من السامعين إلى مساعدة هذه الجمعية بنفسه، وبدعوة غيره إلى ذلك , فإن الأمور العامة لا تحيا وتبلغ كمالها إلا بالدعوة، فينبغي لكل واحد أن يدعو نفسه , وكل من يظن فيه الخير إلى مساعدتها على قدر الاستطاعة من غير تفرقة بين غني وفقير , فإن الله تعالى يقول: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا} (الطلاق: 7) أي من كان رزقه ضيقًا فلينفق بقدر حاله. والقليل من الكثير كثير، فلو أن كل واحد من أهالي القطر بذل للجمعية قرشًا واحدًا في السنة لكان لها من ذلك ملايين تمكنها من تعميم التعليم في القطر. وليعلم كل من يبذل شيئًا للجمعية ولو قليلاً أنه شريك في الأجر وفي الشرف لمن بذل الكثير من حيث أن كل واحد بذل ما في وسعه. ومن حيث أن العمل العام لم يقم ولا يقوم به واحد , وإنما بالتعاون والمساعدة , وباذل القليل ركن من أركان التعاون. ثم دعي إلى الخطابة إبراهيم بك الهلباوي فقام وذكر ملخص تاريخ هذه الجمعية، وبَيَّن أنها جمعية عمل لا جمعية قول، وأنه أحس من نفسه بالعجز عن الخطابة في احتفال مدرسة للجمعية على تمرنه على الخطابة. قال: إنني دخلت في هذه الجمعية في أول تأسيسها منذ اثنتي عشرة سنة، ولم أخطب فيها قط، وقد عرضت مناسبات للخطابة فكنت أستأذن مولانا الرئيس بالتلويح , ووكيل الجمعية وبعض أعضاء الإدارة بالتصريح , فكانوا يضعون أصابعهم على أفواههم إشارة إلى وج

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي) أبو حامد من أكبر أئمة الأشاعرة في الكلام، وكتبه أسهل عبارة وأحسن بسطًا وتقسيمًا وتحقيقًا من سائر الكتب، فكتابه الاقتصاد من أنفع كتب الكلام وأفيدها، وفيه مباحث كثيرة لا توجد في كل كتب هذا العلم المعتبرة , وينتقد عليه ما ينتقد على جميع كتب الأشاعرة من الفلسفة التي لا معنى لها في عقائد الدين , وإن كان هو أبعد من غيره عن الجمود على المذهب لأنه خالف أصحابه الأشاعرة في بعض المسائل , وذلك كالبحث في صفات الله تعالى من حيث أنها زائدة على الذات , فإن الذي ساقه وأمثاله إلى ذلك الجدلَ مع المعتزلة، وما أغنى المسلمين عن المذهبين والاكتفاء بالوقوف عند ما ورد به الشرع، وقطع به العقل من غير فلسفة فيه. مثال هذا أن العقل والشرع علمانا أن الله تعالى خالق العالمين عالم بما خلق لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فأي حاجة بنا مع هذا إلى أن نبحث عن هذا العلم الإلهي هل هو عين الذات الإلهية أم غيرها، أم لا عينها ولا غيرها , هل عرفنا حقيقة ذات الله وحقيقة علم الله فننسب هذا إلى تلك ونحكم بأن النسبة بينهما كذا؟ كلا، إنها فتنة ابتلي بها علماء المسلمين إلا من لزم طريقة السلف الصالح من الصحابة والتابعين إلى عهد الأئمة الأربعة وقد نجا منها الإمام الغزالي بعدما تصوف. وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغني عنه المشتغل بتحصيل علم الكلام لأنه من أوضح الكتب وأحسنها , وهو يطلب من الشيخ مصطفى القباني الدمشقي طابعه في مصر. *** (كتاب حكمة المخلوقات للغزالي) التفكر من أفضل العبادات بل هو عبادة النبيين والصديقين والعلماء الراسخين , والتفكر في حكم المخلوقات يرقي العقل بزيادة العلم والروح بقوة الإيمان. وهذا الكتاب يفتح لقارئه أبواب التفكر في الخلق بما ينبهه إلى حكمها؛ فمنها حكم الله في السموات والنيرات، ومنها حكمه في الأرض والبحار والماء والهواء والنار، ومنها حكمه في خلق الإنسان وأنواع الحيوان، وحكمه في خلق النبات، فرحم الله أبا حامد، ما أعرفه بطرق النفع وما أحسن بيانه. والكتاب يطلب من الشيخ مصطفى القباني الذي تولى طبعه وتصحيحه جزاه الله خيرًا. *** (كتاب أنباء نجباء الأبناء) مؤلف هذا الكتاب أبو هاشم محمد بن محمد ظفر الصقلي المتوفى سنة 565 , وهو مبتدأ بنبذة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم , ونبذ أخرى في أخبار بعض كبار الصحابة، ثم في أخبار بعض الملوك الكبراء وبعض الصالحين، وأخبار الكتاب كلها تربية مفيدة وفكاهات مستطابة، وإنني قد فتحته الآن لأنقل نبذة من غير اختيار فإذا أنا قد فتحته على هذه الحكاية قال: (درتازين، لقرتي عين) قال الشيخ رحمه الله ورضي عنه: بلغني أن محمد بن عبد الرحمن الهاشمي قال: كانت عنابة أم جعفر بن يحيى تزور أمي , وكانت لبيبة من النساء حازمة فصيحة برزة، يعجبني أن أجدها عند أمي فأستكثر من حديثها , فقلت لها يومًا: يا أم جعفر , إن بعض الناس يفضل جعفر على الفضل، وبعضهم يفضل الفضل على جعفر، فأخبريني. فقالت: ما زلنا نعرف الفضل للفضل. فقلت: إن أكثر الناس على خلاف هذا , فقالت: ها أنا أحدثك واقض أنت , وذلك الذي أردت منها. فقالت: كانا يومًا يلعبان في داري، فدخل أبوهما فدعا بالغذاء وأحضرهما , فطعما معه , ثم آنسهما بحديثه، ثم قال لهما: أتلعبان بالشطرنج؟ فقال جعفر - وكان أجرأهما -: نعم. قال: فهل لاعبت أخاك بها؟ قال جعفر: لا. قال: فالعبا بها بين يدي لأرى لمن الغلب , فقال جعفر: نعم. وكان الفضل أبصر منه بها , فجيء بالشطرنج فصفت بينهما , وأقبل عليها جعفر وأعرض عنها الفضل , فقال له أبوه: ما لك لا تلاعب أخاك؟ فقال: لا أحب ذلك , فقال جعفر: إنه يرى أنه أعلم بها فيأنف من ملاعبتي، وأنا ألاعبه مخاطرة، فقال الفضل: لا أفعل، فقال أبوه: لاعبه وأنا معك. فقال جعفر: رضيت , وأبى الفضل واستعفى أباه فأعفاه. ثم قالت لي: قد حدثتك فاقض. فقلت: قد قضيت للفضل بالفضل على أخيه، فقالت: لو علمت أنك لا تحسن القضاء لما حكمتك , أفلا ترى أن جعفرًا قد سقط أربع سقطات تنزه الفضل عنهن. فسقط حين اعترف على نفسه بأنه يلعب بالشطرنج، وكان أبوه صاحب جد. وسقط على التزام ملاعبة أخيه وإظهار الشهوة لغلبه والتعرض لغضبه. وسقط في طلب المقامرة وإظهار الحرص على مال أخيه. والرابعة قاصمة الظهر حين قال أبوه لأخيه: لاعبه وأنا معك، فقال أخوه: لا، وقال هو: نعم , فناصب صفًّا فيه أبوه وأخوه. فقلت: أحسنت والله، وإنك لأقضى من الشعبي، ثم قلت لها: عزمت عليك أخبريني هل خفي مثل هذا على جعفر وقد فطن له أخوه؟ فقالت: لولا العزمة لما أخبرتك. إن أباهما لما خرج قلت للفضل خالية به: ما منعك من إدخال السرور على أبيك بملاعبة أخيك؟ فقال: أمران؛ أحدهما لو أني لاعبته لغلبته فأخجلته، والثاني قول أبي: لاعبه وأنا معك. فما يسرني أن يكون أبي معي على أخي. ثم خلوت بجعفر فقلت له: يسأل أبوك عن اللعب بالشطرنج فيصمت أخوك وتعترف وأبوك صاحب جد. فقال: سمعت أبي يقول: نعم لهو البال المكدود , وقد علم ما نلقاه من كد التعلم والتأدب، ولم آمن أن يكون بلغه أنَّا نلعب بها ولا أن يبادر فينكر , فبادرت بالإقرار إشفاقًا على نفسي وعليه. وقلت: إن كان توبيخ فديته من المواجهة به , فقلت له: يا بني فلمَ تقول: ألاعبه مخاطرة كأنك تقامر أخاك وتستكثر ماله؟ فقال: كلا , ولكنه يستحسن الدواة التي وهبها لي أمير المؤمنين , فعرضتها عليه فأبى قبولها , وطمعت أن يلاعبني فأخاطره عليها وهو يغلبني فتطيب نفسه بأخذها. فقلت لها: يا أماه ما كانت هذه الدواة؟ فقالت: إن جعفرًا دخل على أمير المؤمنين فرأى بين يديه دواة من العقيق الأحمر محلاة بالياقوت الأزرق والأصفر , فرآه ينظر إليها فوهبها له. فقلت: إيه. فقالت: ثم قلت لجعفر: هبك اعتذرت بما سمعت، فما عذرك من الرضا بمناصبة أبيك حين قال: لاعبه وأنا معك، فقلت أنت: نعم، وقال هو: لا؟ قال: عرفت أنه غالبي ولو فتر لعبه لتغالبت له مع ما له من الشرف والسرور بتحيز أبيه إليه. قال محمد بن عبد الرحمن: فقلت: بخ بخ , هذه والله السيادة. ثم قلت لها: يا أماه أكان منهما من بلغ الحلم؟ ! فقالت: يا بني أين يذهب بك؟ أخبرك عن صبيين يلعبان فتقول: كان منهما من بلغ الحلم؟ لقد كنا ننهى الصبي إذا بلغ العشر وحضر من يستحي منه أن يتبسم. (المنار) فليتأمل هذه التربية العالية الذين يتبجحون بلفظ التربية اليوم , ويقولون: إن المسلمين في أيام مدنيتهم لم يكن لهم عناية بالتربية، إذ لم نجد في كتبهم لهجًا بها (أي بلفظها) فأين يوجد مثل هذه التربية عند معاصرينا اللاهجين بالكلمة الشريفة وما اشتق منها.

مواقيت العبادة من الصلاة والصيام والحج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مواقيت العبادة من الصلاة والصيام والحج بعث الله خاتم النبيين للناس كافة , ومنهم البدو والحضر والأميون والمتعلمون والمنفردون والمجتمعون، وقد ساوى سبحانه في هذا الدين الأخير بين الناس في التكليف، فلم يجعل فيه رؤساء ومرؤوسين يكلف بعضهم بما لا يكلف به الآخر، ولم يجعل عبادة أحد متعلقة بعبادة الآخر، حتى إن إمام الصلاة إذا عرض له ما أبطل صلاته كان للمأمومين أن يتموا صلاتهم فرادى , وإذا تقدم واحد منهم فأتم لهم الصلاة جماعة جاز، وكل من صحت صلاته صحت إمامته، فليس في الإسلام طوائف ولا بيوت ممتازة بالرياسة الدينية كما في الديانات الأخرى، حتى اليهودية والنصرانية. ولهذا جعل الله تعالى مواقيت العبادة في الإسلام متعلقة بالمشاهدة التي يستوي فيها العالم والجاهل والبدوي والحضري لا بحساب الحاسبين والفلكيين ولا بإرادة الرؤساء والحاكمين، فوقت صلاة الفجر يدخل بطلوع الفجر الصادق، ووقت الظهر بزوال الشمس الذي يعرف بالظل، ووقت العصر حين يكون ظل كل شيء مثله، ووقت المغرب بالغروب، ووقت العشاء بذهاب الشفق الأحمر، ويعرف شهر الصيام برؤية الهلال، فإن لم ير فبإتمام شعبان ثلاثين يومًا، وكذلك شهر الفطر وأشهر الحج، ولذلك قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ} (البقرة: 189) . وقد مضت السنة بأن يرقب المؤذن في البلد المواقيت للصلاة، ويؤذن بها في الناس أي يعلمهم بها فيعملون بإعلامه , ويصلون لكي لا يتكلف كل واحد من المجتمعين في البلد مراقبة الأوقات، وكذلك وقت الصيام، إذا رأى بعض المسلمين الهلال يذاع خبر رؤيته إياه في البلدة ويصوم الناس تصديقًا له كما يصدق الواحد في مواقيت الصلاة التي تكون مواقيت للصيام في أيامه ولياليه؛ إذ نعتمد على أذان الواحد في الإمساك صباحًا والفطر مساءً لا فرق بين ثبوت شهر الصيام وثبوت وقت الصوم ووقت الفطر في كل يوم من أيام الشهر. ولا عبرة باحتمال كذب المخبر عقلاً إذا لم يكن ثم شبهة أو دليل على كذبه كأن يؤذن للمغرب وأنت ترى شعاع الشمس على الجدران. ويدل على عدم الفرق بين ثبوت شهر الصيام وثبوت أوائل أيامه ولياليه لأجل الإمساك والفطر ما ذكرناه في جزء المنار الذي صدر في غرة رمضان من العام الماضي , ومنها حديث ابن عباس عند الشيخين وأصحاب السنن وهو: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال - يعني رمضان- فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله) قال: نعم. قال: (أتشهد أن محمدًا رسول الله) قال: نعم. قال: (يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً) وغير ذلك من أحاديث الرؤية أو إكمال العدة. * * * طريقة إثبات رمضان في أمصار المسلمين لو جرى المسلمون على السنة لاستهل بعض المعروفين بالعدالة منهم ليلة الثلاثين من شعبان كما يستهلون في البوادي؛ فإذا رأى المستهل الهلال أمر الإمام أو نائبه المؤذنين بإعلام الناس بذلك، وأن يصوموا، ولكنهم أبوا إلا أن يجعلوا إثبات رمضان بالرؤية منوطًا بالحكام , وأن يبتدعوا طريقة لم تعرف في السنة، وهي أن يزوِّروا دعوى ويحكم القاضي فيها بإثبات الشهر، ويبلغ الناس حكمه , ولا يرون العلم بأن الدعوى مزورة والرضا بها والحكم فيها طعنًا في عدالة القاضي والشهود، حتى لا يقبل قولهم في إثبات رمضان ولا في غيره. بل قضت قواعدهم الفقهية بأنه لا طريقة لإلزام الناس بالصيام إلا هذا لأن حكم القاضي يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية , فلا يجوز بعده لأحد أن يعمل باجتهاده في المسألة التي حكم فيها. ويرون أن شهادة الشهود أمام القاضي برؤية الهلال لا تكفي لإعلام الناس وأمرهم بالصوم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وأصحابه الهداة المهديون , وشبهتهم أن الإخبار برؤية الهلال لا إلزام فيها , وإنما يجب فيها الصوم على من صدق الخبر , وأما الحكم فيجب على كل أحد الخضوع له. وكشف هذه الشبهة أن السنة دلت على أن من سمع خبر رؤية الهلال؛ وجب عليه الصيام كما لو رآه , الإخبار بالرؤية كالإخبار بالحكم المبني عليها يجب العمل به على من صدق المخبر, ولا يجب على من لم يصدق. فإذا كان المؤذن أو المؤذنون أو الحكام هم المخبرون بأن بعض الناس رأوا الهلال؛ فإن كل الناس يصدقون الخبر بشهادتهم , وكل من لا دليل عنده على كون الشهادة كاذبة فهو يصدق الشهود أيضًا , ومن قام عنده الدليل على كذب الشهادة فإنه لا يصدقها , ولا يعتبر الحكم الذي بني عليها؛ لأن المبني على الفاسد فاسد. والحكم بوجوب الصوم لا إلزام فيه؛ لأن الصوم معاملة بين العبد وربه والعمدة فيها الاعتقاد؛ فإذا حكم كل قضاة الأرض بأن الشمس غربت , وأنا أراها أو أرى شعاعها , فلا يجوز لي أن أفطر ولا أن أصلي المغرب. وأنا أصلي كل يوم اعتمادًا على إخبار المؤذن , وأفطر في كل يوم من رمضان عند سماع مدفع المغرب أو أذان المؤذن , وكذلك يفعل جميع المسلمين في المدن والأمصار. فأي دليل في الشرع على التفرقة بين الإخبار بأول يوم من رمضان , والإخبار بمواقيت الإمساك والإفطار في سائر أيامه , ومواقيت الصلاة والحج، وما هو المسوغ لتزوير دعوى لإثبات العبادة. إذا قالوا: يجب العمل بما مضت به سنة الشارع؛ نقول: إن كتب السنة الصحيحة بين أيدينا ناطقة بأن رؤية الهلال كانت عندهم كرؤية الفجر: مَن رأى يخبر , والمؤذن يبلغ الناس دخول رمضان كما يبلغهم دخول وقت الصلاة بمعرفته أو بإخبار بعض المؤمنين له , وفي الحديث الصحيح: (إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم) وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت. وفي لفظ (ينادي) بدل (يؤذن) وهو متفق عليه من حديث ابن عمر مرفوعًا , وروى مسلم والترمذي - واللفظ له - وغيرهما من حديث سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل , ولكن الفجر المستطير في الأفق) . وإذا قالوا: إن إخبار المؤذن ليس بشرط , وفي معناه كل إعلام كالمدافع في هذا الزمان , وإنما الأذان سنة متبعة في الإعلام بمواقيت الصلاة فقط، وإن شارك الصوم الصلاة في بعضها فبالتبع؛ نقول: إن هذا كلام معقول مقبول , ولقد كان إخبار المؤذن بدخول رمضان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عن شهادة بعض المؤمنين برؤيته , فلتكن المدافع وما في معناها من طرق الإعلام عن شهادة الشهود أمام القاضي , ودعوا هذه البدعة التي جريتم عليها. وليعلم أن الشهادة عند القاضي لأجل الضبط والثقة بالأخبار , ولو شهد الشهود عند الوالي (كخديوي مصر) أو نائبه الإداري كناظر الداخلية أو المحافظ , وأمر بإعلام الناس حصل المقصود. * * * العمل بخبر التلغراف والتلفون وإذا جاز العمل بصوت المدفع أو بإيقاد القناديل في المآذن ونحوها وإطفائها إذا جرت العادة بجعل ذلك علامة على الصوم والفطر , فلا شك أنه يجوز العمل بخبر التلغراف والتلفون لا سيما إذا كانا من عمال الحكومة حيث يؤمن التزوير ويغلب على الظن الصدق؛ لأن الحكومة تعاقب عامل التلغراف إذا كذب أو زور عقوبة شديدة. فخبره يوجب العلم الراجح الذي يعمل به في الأحكام كخبر المؤذن وصوت المدفع ونحو ذلك، وقد تتعدد طرقه فيوجب العلم اليقين كالتواتر الحقيقي بل إن التلغرافات الرسمية لا يرتاب أحد في صدقها كما هي حتى في الأمور السياسية وإن جاز الخطأ فيها عقلاً كالكتابة وغيرها من ضروب الخبر والتبليغ. * * * إثبات رمضاننا هذا في مصر اجتمع في ليلة الثلاثين من شعبان وهي ليلة الثلاثاء قاضي مصر وأعضاء المحكمة الشرعية وبعض العلماء لسماع شهادة المستهلين حسب العادة , فلم يشهد أحد بأنه رأى الهلال على كثرة المستهلين، وانتظار الجائزة للشاهدين، وذلك أن رؤيته كانت مستحيلة كما عُلم من حساب الفلكي القطعي، ولقد كان جميع العارفين بتعذر رؤية الهلال يعتقدون اعتقادًا جازمًا بأن من يشهد برؤيته يكون كاذبًا في شهادته ومنهم بعض أعضاء المحكمة الشرعية. وفي نهار تلك الليلة ورد على قاضي مصر تلغراف من قاضي الفيوم الشرعي يقول فيه: إنه شهد عنده شاهدان برؤية الهلال ليلة الثلاثاء , وحكم بذلك , ويعهد إليه بأن يبلغ الحكومة ذلك لتبلغ الناس، فقال قاضي مصر: إن خبر التلغراف لا يعمل به شرعًا , وهو لا يشك في أن التلغراف الذي جاءه هو من قاضي الفيوم الشرعي , ولذلك خاطبه بالتلغراف , وهو لا يشك في وصوله إليه وتصديقه إياه بأن يرسل إليه الشهود الذين شهدوا هناك ليشهدوا أمامه هنا فحضروا وشهدوا , ولفقت الدعوى المعتادة , وحكم قاضي مصر , وبلغ الحكومة بأنه ثبت عنده أن هذا اليوم (الثلاثاء) أول رمضان، وعهد إليها أن تخبر الناس بذلك , فأمرت بإطلاق المدافع في القاهرة فأطلقت , وبلغت سائر البلاد بالتلغراف , فمن بلغه الخبر في النهاروصدق الشهادة والحكم؛ أمسك نهاره وقليل ما هم، وأصبح المسلمون يوم الأربعاء صائمين معتقدًا أكثرهم أنهم أفطروا يومًا يجب عليهم قضاؤه , وطفق أهل العلم والفهم من الخواص يتحدثون متعجبين مما حصل لاعتقادهم بأن رؤية الهلال كانت من المحال، وأن خبر قاضي الفيوم بثبوت الشهر هو كخبر قاضي مصر لا فرق بينهما شرعًا، فلماذا أعلن إثبات الشهر بالتلغراف والمدفع عندما شهد الشهود أمام قاضي مصر، ولم يعلن عندما شهدوا أمام قاضي الفيوم، كلاهما قاضٍ شرعي , وطريقة الإثبات واحدة , وطريقة إعلانه واحدة، فهل صارت العبادة الإسلامية متوقفة على رئيس مخصوص يصح على يده ما لا يصح على يد غيره؟ ونحن نعلم أنه لم ينطق الكتاب الإلهي , ولم تمض السنة النبوية، ولا عمل السلف الصالح , ولا قال الأئمة المجتهدون بأن عبادة الصيام أو غيرها تتوقف على حكم شرعي أو على أمر رئيس ولا حاكم؛ ولهذا لا يجوِّز القضاة لأنفسهم الحكم بإثبات شهر رمضان ابتداء، بل يجعلون إثباته تبعًا للحكم بقضية من المعاملات لعلمهم بأن العبادة لا تتوقف على حكم الحاكم إجماعًا، وإنما جرت العادة بأن يشهد المستهلون برؤية الهلال عند الحكام لأنهم هم الذين يتيسر لهم إعلام الناس بذلك حتى لا يكلف كل واحد بتأبي الرؤية كما يستغنون بأذان المؤذن عن تعرف الأوقات بأنفسهم , ولا فرق بين الإعلام بمواقيت الصلاة ووقت الصيام إلا من جهة واحدة وهي: أن الشرع تعبدنا بأن يكون الإعلام بمواقيت الصلاة بألفاظ مخصوصة، هي كلمات الأذان , أي أنه جعل هذه الكلمات عبادة، وشعارًا دينيًّا لا أنه جعلها شرطًا للصلاة أو للعلم بوقتها. * * * العمل بحساب الحاسبين في العبادة اختلف الفقهاء في العمل بحساب الحاسب في إثبات رمضان , فقال بعضهم: لا عبرة به مطلقًا، وقال آخرون: إن الحاسب يعمل هو بما ثبت عنده ولا يعمل غيره بخبره، وقال بعضهم: يعمل به من صدقه. حجة المانعين أن الشرع ورد بحصر إثبات دخول شهر الصيام برؤية الهلال وإلا فبإكمال عدة شعبان، ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي مرفوعًا: (إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا) يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين. والحكمة في ذلك ظاهرة وهي: أن تكون طريقة إثبات العبادة واحدة تسهل على كل مكف وأن لا يكون لبعض الناس من الرؤساء أو العلماء أو الحكام سلطة دينية تتوقف عليها العبادة، على أن حسابهم يخطئ أحيانًا بدليل اختلافهم فيه. وحجة المجوزين

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حقيقة الجن والشياطين (س 87) من أحد فضلاء القراء في (تونس) : من رجال العلم والتقوى في بلادنا العلامة المقدس الشيخ محمد بن علي قويسم المتوفى سنة 1114 وله فضائل مأثورة وتآليف مشهورة أحسنها وأكملها الكتاب المسمى (سمط اللآل في معرفة الرجال) في أحد عشر جزءًا في القالب النصفي الكبير ترجم فيه لنخبة أهل الإسلام , وخصوصًا لرجال الشفا للقاضي عياض , وقد جاء فيه بالجزء الرابع عند تعرضه للكلام على الجن والشياطين ما يستفاد منه اختلاف علماء الإسلام في ماهية هاته العناصر التي نسمع بها ولا نراها , فمن قائل: إنها أجسام هوائية قابلة للتشكل , ومن قائل: إنها أجسام غير متحيزة ولا حالَّة في متحيز , ومن قائل: إن الشيطان هو عبارة عن القوة الغضبية التي في الإنسان. وإلى هذا الرأي ذهب جماعة من الفضلاء منهم حجة الإسلام الغزالي , وقد نقل الشيخ قويسم المذكور آنفًا في جملة أخذه ورده في هذا الموضوع حديثًا عزاه للنصير الطوسي نقله في شرح كتاب الإشارات هذه عبارته: (ما من مولود ولد في بني آدم إلا ولد معه قرينه من الشيطان) فهل لكم معرفة بصحة هذا الحديث؟ وعلى تقدير صحته نطلب الإفادة بتأويله لأنه إذا أخذ على ظاهر عبارته يبقى الفكر معه متحيرًا؛ إذ تعلمون أن علماء الإحصاء يقدرون سكان المعمورة بألف وخمسمائة مليون من الأنفس , فإذا كان لكل واحد منهم قرين من الشياطين؛ فلا مشاحة في أن إحصاء الجغرافيين كاذب لأنهم أغفلوا منه النصف , ثم إنه على فرض صحة وجود شيطان لكل إنسان فهل إذا مات الإنسان تبعه شيطانه للقبر , أو بقي عالة على إخوانه الشياطين؟ وفي هذه الحال يمكن الجزم بأن أكثر بلاد الله شياطينًا في هذا اليوم هي بلاد الشرق الأقصى حيث نيران الحرب محتدمة بين الروسيا واليابان لأنه في كل يوم تزهق أرواح الألوف من البشر , ولم نسمع بموت شيطان واحد من الشياطين المولودة مع العساكر التي اقتطفتها يد الفناء من شجرة الشباب - أفيدونا يما عندكم من العلم عن ماهية الشياطين , وخصوصًا عن القول الذي توفق لفهمه الإمام الغزالي ولكم الشكر سابقًا ولاحقًا اهـ. (ج) الجن والجان والجنة بالكسر مأخوذة من مادة ج ن ن , وهذه المادة تدل على الستر والخفاء. قال في القاموس: (وكل ما ستر عنك فقد جُنّ عنك) بضم الجيم , ويقال أيضًا: أجن عنه واستجن , ومنه الجنين: الولد مادام في البطن. وأطلق لفظ الجان على ضرب من الحيات قالوا: هي الحية البيضاء إلى صفرة التي توجد في الدور. والشيطان في اللغة كل عاتٍ متمرد حتى من الدواب والشاطن: الخبيث. والشيطان: الحية الخبيثة، قال جرير: أيام يدعونني الشيطان من غزل ... وهن يهوينني إذ كنت شيطانا وقال الراغب: كل قوة ذميمة للإنسان شيطان. أقول: ومنه قولهم: ركب شيطانه: إذا غضب , ونزع شيطانه أي كبره. ومادة شطن تدل على البعد والإيغال في الشيء , ومنها شطن البئر وهو الحبل الذي يُسقى به. وبئر شطون بعيدة القعر , وشطن في الأرض شطونًا دخل إما راسخا وإما واغلا، وتدل على المخالفة والمواربة، يقال: شطن صاحبته: إذا خالفه عن نيته ووجهه , وكذلك يفعل العتاة الخبث. وقيل: إن الشيطان مشتق من شاط يشيط أي احترق غضبًا، فهذه اللغة تدل على أن اللفظين (جن وشيطان) وضعا لأشياء معروفة. وكانت العرب تعتقد كسائر الأمم أن في الكون عالمًا خفيًّا عاقلاً سموه الجن، وقالوا: إن منه الخيار الصالحين والشرار الشياطين , وجاء الوحي يخاطبهم بما يعتقدون في الجملة لا في التفصيل. قال تعالى في سورة الأنعام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورا} (الأنعام: 112) . وقد ورد لفظ الشيطان والشياطين كثيرًا في القرآن , ومنه ما فسروه بالأِشرار الخبثاء كقوله تعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} (البقرة: 14) وكانوا يعتقدون أن من هذا العالم ما يلابس النفوس فيلقي فيها الخواطر , ومنه الهاجس الذي يلقن الشعراء الشعر. إن هذا الاعتقاد قديم في البشر لا يُعرف تاريخه , وفي أناجيل النصارى أن الشياطين كانت تدخل في الناس فتؤذيهم , وأن المسيح عليه السلام كان يخرجها منهم , وكانت اليونان تعد الجن والشياطين من عالم الأرواح , وكذلك الروم (الرومانيون) وجعلوهم على ثلاث طبقات: طبقة الآلهة ورئيسهم الخالق الأكبر , وطبقة توابع الأمم والشعوب والمماليك والبلاد , وكان لجني رومية تمثال من الذهب, والطبقة الثالثة توابع الأشخاص. وكان الهنود القدماء يقسمونهم إلى جن أخيار وجن أشرار. ولبقية الأمم والشعوب عقائد متقاربة فيهم. وكان الناس يأخذون كل ما يسمعونه من ذلك بالتسليم إلا بعض الفلاسفة الذين حكَّموا الدليل والتعليل في ذلك, فأنكر بعضهم الجن , وبعضهم سلم بأن الجن من العالم الروحاني أو الهوائي حتى إذا ما انتشرت العلوم المادية في أوربا صار يضعف هذا الاعتقاد في الناس المشتغلين بهذه العلوم والمقلدين لهم والمتأثرين بحالهم. على أن أخبار رؤية الجن أو سماع أصواتهم والإحساس بهم كثيرة في كل أمة , ولكن أكثرها باطل وزور , وبعضها صحيح رواية , ولكن لا يعسر على المنكر أن يحمله على ضروب من التأويل ترجع في الغالب إلى أن الوهم يُري صاحبه التخيل حقيقة محسوسة , ولا يزال الكثيرون من علماء أوربا وعقلائها يعتقدون بالجن وعلاقتهم بالإنس. وقد حدثني واحد من كبار عمال الحكومة منهم هنا بأن رجلاً كان يستحضر الشياطين في لوندره , وقد حضر مجلسه هناك بعض الكبراء والعلماء فأحضر لهم شيطانًا سمعوا كلامه , ولكن لم يفهموه فقالوا له: ما هذه اللغة التي ينطق بها؟ قال: إنها الأفغانية. أما إنكار شيء ونفيه لعدم الإحساس به فمما يمنعه العقل , ولو أنكرنا كل ما لم نطِّلع عليه وندركه بالحواس لما توجهت نفوسنا إلى اكتشاف هذه المجهولات الكثيرة كالكهربائية وغيرها مما نرى آثاره أعجب مما يعزى إلى الجن. والقاعدة العقلية أن عدم وجدان الشيء لا يقتضي عدم وجوده , فتكذيب جميع أصناف البشر في الاعتقاد بوجود عالم خفي لا تظهر آثاره إلا نادرًا لبعض الناس بناءً على أن المكذب لم يدرك ذلك بحواسه غير سديد , ويعجبني قول الدكتور فانديك في كلامه على الحواس الخمس: لو كانت لنا حواس أخرى فوق الخمس التي لنا لربما توصلنا بها إلى معرفة أشياء كثيرة لا نقدر على إدراكها بالحواس الخمس التي نملكها , ولو كانت حواسنا الموجودة أحدَّ مما هي لربما أفادتنا أكثر مما تفيدنا وهي على حالتها الحاضرة. ومما ذكره من الأمثلة لهذا قوله: ولو كان سمعنا أحدَّ لربما سمعنا أصواتًا تأتينا من عالم غير العالم الذي نحن فيه إلخ. ولم يقل هذا وحده بل قاله غيره , ويقوله كل عاقل , وقد أعجبنا منه أنه جعله في المسألة الأولى من الجزء الأول من كتابه (النقش في الحجر) الذي ألفه للمبتدئين. فإن قيل: نسلم أن العاقل لا ينكر وجود شيء لعدم علمه أو إحساسه به , ولكنه أيضًا لا يثبته بغير دليل , وما يذكر من أخبار الجن عند جميع الأمم لم يقم عليه دليل , بل يجزم العقل في بعضه أنه كذب وزور؛ نقول: هذا قول حق , والدليل منه عقلي , ومنه حسي, ومنه الخبر الصادق الذي عرفنا به تاريخ الأولين والآخرين , وما في العالم من الأمور التي شاهدها غيرنا وأخبر فصدقنا , وإن علم أكثر الناس بالخبر أكثر من علمهم بالاختبار. فإذا كان أكثر ما ينقل عن الناس من أخبار الجن ظاهر البطلان فإن بعضه ليس كذلك , وعندنا الخبر اليقين فيه , وهو خبر الوحي الذي دلت الآيات البينات على صدق من جاء به وهو لم يخبر بشيء محال في نظر العقل أو مجريات العلم وأعني بالوحي هنا القرآن , وأما أخبار الأناجيل في إخراج الشياطين من الناس فإنه ليس لها سند متصل وإنما وجدت بعد المسيح بزمن طويل , وهي منقطعة الإسناد إليه , وإن اشتهرت بعد ذلك. وكذلك الأحاديث النبوية عند من صحت عنده فصدق الرواية. وجملة ما في القرآن أن في الكون عالمًا عاقلاً خفيًّا يقال له الجن , وأن منه المؤمن والكافر والصالح والقاسط , وأنه يرى الناس ولا يرونه , وأن شياطين الجن مثارات للوساوس الضارة التي تسول للإنسان الشر وتزين له الشهوات القبيحة , ولم يرد فيه شيء ينبئ بعدد الجن ولا بحقيقتهم , وقوله تعالى: {وَخَلَقَ الجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} (الرحمن: 15) لا يدل على الحقيقة كما أن خلق الإنسان من تراب ومن حمأ مسنون لا يدل على حقيقته. ويحتمل أن يكون ذلك على حد قوله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَل} (الأنبياء: 37) . وإذا كان هذا العالم لا يُرى فلا يرد علينا إهمال الإحصائيين له , ولا سكوتهم عمن يموت ويولد من أفراده. أما حديث القرين فقد أخرجه أحمد ومسلم عن ابن مسعود بلفظ: (ما منكم أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة) قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: (وإياي، إلا أن الله أعانني فأسلم) . ومسلم من حديث عائشة بلفظ: (ما منكم أحد إلا ومعه شيطان) قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: (وأنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم) ضبط الجمهور (فأسلم) بالفتح على أنه فعل ماضٍ من الإسلام , وقيل: هو مضارع للمتكلم من السلامة أي فأسلم من وسوسته. ورواه الطبراني من حديث المغيرة وابن حبان والبغوي وابن قانع والطبراني عن شريك بن طارق , وليس له غيره نحو حديث عائشة , ولم أجد أحدًا من المحدثين رواه باللفظ الذي نقله صاحب سمط اللآل عن شرح الإشارات , وفي حديث ابن مسعود عند الترمذي والنسائي وابن حبان (إن للشياطين لمة بابن آدم , وللملك لمة , فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق , وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق , فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله , ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان) واللمة بالفتح الإلمام بالشيء. وللغزالي في كتاب شرح عجائب القلب من الإحياء كلام فيها يعبر فيه عن المَلَك بسبب إلهام الخير , وعن الشيطان بسبب خاطر الشر. ولو سمي الشيطان هنا قوة الشر وداعيته؛ لكان له من اللغة شاهد ودليل كما علمت مما ذكرناه في أول الجواب عن الراغب , ولكن لا يمكن أن ينطبق هذا القول على كل ما ورد في الجن. على أن القوى العامة أمور مجهولة لم يصل البشر إلى اكتناه أمرها وكشف سرها. ولا فرق بين أن يكون معنى الحديث: إن لكل امرئ في نفسه داعية إلى الشر تسمى الشيطان , وهي قوة من القوى المدبرة للنفس , وبين أن يكون معناه أن بعض العوالم الخفية التي لا تحس تتصل بالنفوس المتوجهة إلى الشر فتزين لها خواطره ودواعيه , فإن داعية الشر نجدها في أنفسنا لا ننكرها , ولكننا لا نعرف حقيقة سببها هل هو قوة أم هو شيء خارجي يتصل بالنفس المستعدة له فيؤثر فيها كما تؤثر العوالم الخفية المسماة بلسان الطب (ميكروبات) بالمستعدين للمرض فتحدثه فيهم ولا تحدثه في غير المستعدين , وإن ألمت بهم. ولو قيل لنا قبل اكتشاف هذه الأحياء (الميكروبات) : إن السل والطاعون وغيرهما من الأمراض والأوبئة يحدث بسبب عوالم مادية صغيرة سريعة النمو في بدن المستعد للمرض لعددناه من الخرافات أو الخيالات. وقد تقدم لنا في المنار أن هذه الميكروبات من الجن. أما كون التأثير في النفوس كالتأثير في الأجسام بحسب الاستعداد فيدل عليه قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ ل

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر شذرات من يومية الدكتور أراسم [*] التربية بالمعاينة يوم 12 يونية سنة - 186 مدينة ليما في نظري كثيرة الشبه جدًّا بإحدى مدن أوربا. وإن الأوربي الذي يسافر من بلده إلى الجانب الآخر من الدنيا فيقطع في ذلك خمسة آلاف وخمسمائة وتسعة وثمانين ميلاً إنكليزيًّا ليستحق أن يلاقي بعد هذا السفر مَن تركهم هناك من اليسوعيين والمحتالين والبغايا والراهبات ومعاهد الفجور. في تلك المدينة شوارع لها من الرونق ما يناسبها، وفيها ميدان أنيق يدعى (بالبلازاماير) في وسطه بركة فخيمة من البرنز ينبثق منها الماء في ثلاثة أحواض على أن هناك جدولاً يخترق المدينة أُفضله كثيرًا على ذلك العمل الفني , وهذا الجدول المسمى (بالريماق) يأخذ مياهه من مثالج جبال القورديير وبعد أن يجري ثلاثين فرسخًا يصل إلى ليما فيقسهما إلى قسمين متساويين تقريبًا , ولست أدري أضلال أم حق أن أحس ببرودة مياهه إذا غمست إصبعي فيها كأن ماء الثلوج لم يمهله اندفاعه أن يسخن بحرارة الشمس. ليست الحرارة في تلك الجهة من الشدة بالمقدار الذي قد يتوهم مع كونها لا تبعد عن خط الاستواء إلا عشر درجات، وتعلل هذه الحالة بعلل مختلفة غير أن أخصها وضع المدينة؛ فإن المحيط الهادي يكنفها من أحد جانبيها ويكنفها من الجانب الآخر جبال القورديير القائمة شرقيها مكللة بالثلوج الدائمة وفي ذلك ما يساعد بلا ريب على ترطيب الجو، وبينها وبين البحر والجبال منطقة مزدوجة تمنطق بها الساحل لتقيه شدة الحرارة. الذي يدهش (أميل) و (لولا) كثيرًا هو أننا بحسب منزلة الشمس الآن في فصل الشتاء مع أننا في شهر يونية على أن الحق أن لا شتاء في بلاد البيرو، فإن السنة فيها تنقسم إلى فصلين: فصل الرطوبة وفصل الجفاف، ففصل الرطوبة يبتدئ من شهر أبريل ويستمر إلى أكتوبر، وفيه يغشى المدينة ضباب ثقيل فاتر يسميه أهل البلاد بالغروي وقد يبلغ أحيانًا من الكثافة والإسفاف (الدنو من الأرض) خصوصًا في الغداة حدًّا لا نكاد نرى فيه ما هو شديد القرب منا من الأشياء , ويقال: إن هذا الحجاب يتمزق في شهر أكتوبر أو نوفمبر فترتفع فيه السماء سنجابية اللون ولا يلبث الطل أن يتلاشى بحرارة أشعة الشمس النفاذة وحينئذ يبتدئ فصل الجفاف أي الصيف. لا ينبغي أن يفهم من قولنا فصل الرطوبة، الفصل الممطر , فإنه قد يمضي قرن ولا تسقط على طول هذا الساحل كله قطرة من مطر. عرفت ذلك لأني منذ بضعة أيام كنت أسأل شيخًا من هذه البلاد هل تذكر أنك شهدت مطرًا في حياتك؟ فكان جوابه لي (قط) . فسألته عن عمره , فقال: إنه ثمانون سنة. الضباب ندى يحيل التراب إلى وحل ويكفي لإخصاب الأرض هنا إخصابًا متوسطًا على أنه يوجد في أماكن أخرى من بلاد البيرو وديان ورُبى قريبة من الجبال ينزل فيها من السماء سيول حقيقية؛ إذا أصابت الرمال القحلة أصبحت عما قليل حافلة بالنبات , فالأرض لا تسأل السماء إلا أن تتصدق عليها بالماء. فصل الجفاف بالضرورة أشد الفصلين حرارة على أن الناس هنا يؤكدون لي أنهم يجدون مبردًا بما يهب من نسيمي البر والبحر , فكأن هذين النسيمين يقتسمان اليوم بينهما فيهب نسيم البحر في الجملة حوالي الساعة العاشرة من الغداة , ويستمر على هبوبه متراوحًا بين الشدة واللين إلى غروب الشمس , ثم يركد ويستتب الكون فإذا كانت الساعة الثامنة أو التاسعة من العشي جاء دور نسيم البر الذي يهب من الجبال فيبقى على هبوبه إلى الغداة. سكان ليما في رأيي أشد ما فيها غرابة وأدعاه إلى المراقبة، فلا أظن أنه يوجد في سكان بقعة أخرى من بقاع الأرض ما يوجد في ملامح وجوههم من الاختلاف العظيم وفي ألوان جلودهم من الفروق الدقيقة الواضحة؛ ذلك بأنهم أخلاط من سلالة المستعمرين (وأعني بهم الأشخاص المولودين في أمريكا ممن هاجروا إليها من الدنيا القديمة خصوصًا أعقاب البيوت الأسبانيولية العتيقة) ومن الهنود والزنوج والخلاسيين [1] وغيرهم من الأصناف فترى من ألوان وجوههم كلما ثقفتهم الأبيض الشاحب والأصفر النحاسي والأسود الكهوفي وما يتخللهما من ضروب الاختلاف الصغيرة المتولدة من اشتباك الأرحام واختلاط الأنساب , وإني إذا اعتبرت في الحكم عليهم ما قام بنفسي من آثار الانفعال برؤيتهم لأول مرة؛ حكمت بأنهم متشابكون بالأرواح كما تشابكوا بالأشباح. تمتاز النساء البيض والخلاسيات عن غيرهن بعينين نجلاوين سوداوين تتوقدان ذكاءً، وشعور طويلة غدائرها الثقيلة مرسلة , ولون تقاوم وضاحته الفطرية حدة الشمس , وأنف مع خلوه من شبه الأنوف اليونانية لا يعوزه شيء من القنا [2] , وفم مزدان بالثنايا الجميلة على ما قد يكون فيه من السعة أحيانًا , وقامة وسيطة معتدلة , وقدمان بلغا من الصغر حدًّا يدعو إلى العجب , ويدين صيغتا صياغة دقيقة , وجملة القول في وصفهن أن صورتهن هي صورة (لولا) إذا كبرت. أنا لا أعلم إلى الآن شيئًا من أخلاقهن اللهم إلا ما ظهر لي من أنهن (أعني الغنيات منهن) يقضين أوقاتهن بين الزهور والعطور والأقراص العطرية والمربيات والحلاوى , ولئن اعتمدت في الحكم عليهن على ما أسمعه عنهن ممن يحتفُّون بي لقلت: إنهن يقسمن وقتهن بين دسائس العشق وشعائر العبادة , ولا إخال أحدًا لا يدهش إذا علم أن الأديار والكنائس تشغل من المدينة ربعها. مما أكده لي أهل ليما أن الرجال منهم شديدو الغيرة على نسائهم , ولكني لا أعتقد في شيء مما يقولون فإنهم لو كانوا كذلك حقيقة لما أباحوا لهن الذهاب للاعتراف في أغلب الأوقات. اهـ يوم 30 يونيه سنة - 186 ما لبثت مذ وصلنا الي ليما أن التزمت الاشتغال بمصالح (دولوريس) وأول شيء رأيت من الواجب البداءة به في السبيل أن أجمع تفاصيل ما يعلمه الناس من الأخبار الموثوق بها في شأن مولدها ووالديها ودونك بالإيجاز نتيجة ما هدتني إليه أبحاثي: أما والدها فهو من بيت أسبانيولي , كان رحل إلى بلاد البيرو واستوطنها بعد الفتح بزمن يسير , وأما والدتها فكانت من النساء ذوات اللون ويعني بهن الخلاسيات بحسب اصطلاح الناس هنا , وكانت مع احتواء عروقها علي شيء من الدم الهندي لا يتأتى لعين غير عين المستعمر الخالص الغيور أن تكتشف فيها بقايا سمات صنفها التي انمحى أكثر من ثلاثة أرباعها , فإنه لا قدرة لغير المستعمرين علي أن يميزوا في الذات الجميلة لأول نظرة إليها ما يسميه الإنكليز بأثر ظلف الشيطان المشقوق فهم يلتمسون هذا الأثر حتى في شكل الأظافر. ويحق أن تعلم أنه مع خضوع هذه البلاد للحكومة الجمهورية , ومع تشابك الأجيال فيها لا يزال بعض البيوتات الأسبانيولية يرون من الامتياز أن يثبتوا صراحة أنسابهم ونقاوتها من الاختلاط , وأن يحرصوا علي بقائها كذلك فإن هذا في رأيهم شارة من شارات الشرف وفي رأى غيرهم والحق يقال نعمة يحسدونهم عليها يدلك عليه أن الخلاسيين في الطبقة الخامسة بل وفي الطبقة السادسة يدعوهم عجبهم إلى التألم من أن يعرفهم الناس بهذه الصفة حتى إنهم ليبذلون كل ما يملكون لو ضمن لهم الانفكاك من أماراتها التي مع نهايتها في الخفاء وقرب تلاشيها تنم على خسة أصلهم كما تقرر في الآراء والأفكار. ذلك ما حدا بي إلى أن أحدث نفسي غالبًا بأن معيشة الناس مجتمعين ربما كانت في بدايتها مؤسسة علي حاجتهم إلى احتقار بعضهم بعضًا. ومهما يكن من الأمر فقد كان زواج ذلك الأسبانيولي الحر بتلك الخلاسية معتبرًا عند كل أهل بيته من سوء الحظ لأنهم كان قد علق بأذهانهم خزعبلات متعلقة بالجيل الأحمر , ورسخت فيها شديد الرسوخ , وكانوا يرفعون عقيرتهم افتخارًا بأنهم لا ينفكون عن تخير الأمهات. ولا أدري إن كان هذا من أسباب الفرقة التي حصلت بين الزوجين فيما بعد. غير أنه قد عرف أن اقترانهما لم يقرن بالهناء والغبطة فقد ماتت الفتاة الخلاسية في السابعة عشرة من عمرها بعد أن وضعت بنتًا. لم يطوح والد (لولا) بنفسه في الأعمال البحرية تطويحًا كليًّا إلا من بعد تأيمه , وكانت السفينة التي غرقت به حيال سواحل ينزانس ملكًا له , وقد أجمع الناس على أنه كان كثير الفخر ببنته , وأنه لعزمه على تربيتها تربية أعلى من التربية التي ينشأ عليها أغلب النساء في ليما حملها معه ليضعها في إحدى مدارس لوندره الداخلية. كان يحب هذه الطفلة , وفي هذا أقوى موجب للظن بأنه هو الذي علقها بمزيد الاحتراس والعناية في أدوات السفينة قبل أن تغتاله الأمواج. بلغ خبر الغرق ما وراء البحار , غير أنه شاع أيضًا في ليما أن هذه المصيبة شملت الرجل وبنته , فلا شك أن ما أرسلته أنا وهيلانة من الرسائل إعلامًا بنجدة (لولا) ومطالبة بحقوقها قد حجزها مَن لهم مصلحة في إعدامها. ما نجا من الغرق إلا ملاح واحد لم يرجع بعده إلى ليما قط لسبب لا أعلمه , فلم يتيسر له أن يكذِّب ما أذيع هناك عمدًا من الروايات الموضوعة. لما وصلنا إلى ليما عرفت (لولا) بلادها إن لم أكن واهمًا من خلال ما حفظته ذا كرتها من آثارها في الصغر , غير أن هذه البلاد لم تعرفها قط فقد كان من عرفتهم بها من آل بيتها يتظاهرون بالريبة فيها , فيقولون: نعم إنهم كانوا سمعوا بسفان غرق في البحر وبأنه عمهم أو ابن عمهم , ولكن ما الدليل علي أن تلك الفتاة التي عرفتهم بها بنته فإنهم كانوا محقين كل الحق أن يعتقدوا موتها , وأما ما قدمته لهم من الأوراق الدالة علي ثبوت نسبها له فكانوا يتعللون عليها بأنها مكتوبة بالإنكليزية وهم لا يفهمونها , بل إنهم ما كانوا يريدون أن يتكلفوا قراءتها. ذلك ما اضطرني إلى أن أقصد العارفين بالقانون فكان رأيهم في القضية أنها من القضايا المعضلة المرتبكة وأنها تقتضي فراغًا وإتلاف تقود وعبثًا كثيرًا من عبث المحاماة , وأنت تعلم حالة القضاء في بلادنا , وهو في بلاد البيرو أدنى منه إلى الطفولية. عمال الحكومة الذين سألتهم في هذا الموضوع - وإن كان أغلبهم ينتمي إلى بيت والد الفتاة - متفقون على أنه ترك بعض المال غير أنهم يقولون - وفي قولهم أمارات الريبة -: إن جل هذا المال ضاع في سداد ديون المتوفى. والذي ظهر لي أشد الظهور أن المضي في هذه القضية يجر إلي تشويش كثير من المصالح الخاصة التي لا شك في أنها اتسعت بمصيبة السفان. تلك هي حالة الأمور. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

مكافأة امتحان التلامذة في الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مكافأة امتحان التلامذة في الأزهر لقد كان فيما حدث من الإصلاح في الأزهر بسعي الشيخ محمد عبده تعيين ست مائة جنيه من الأوقاف مكافأة للطلاب الذين ينجحون في الامتحان السنوي الذي جعل اختياريًّا؛ لأن الشيوخ المدرسين أبوا أن يمتحن طلاب العلم في الأزهر إلزامًا لتعرف درجات تحصيلهم. وقد كان الأمير مساعدًا للشيخ على هذا التمهيد للامتحان الإلزامي بالرضا والتنشيط للمجاورين الذين يغلب عليهم الفقر على الجد والتحصيل , ولكن الشيوخ الذين يبغضون النظام كانوا كارهين لهذا العمل وطامعين في جعل مكافأة الطلاب زيادة في رواتبهم وسعوا في هذا الأمر سعيه عند الأمير فلم يفلحوا؛ لأنه على علم واختبار بفوائد الامتحان وفوائد المكافأة. وقد انبرى بعض هؤلاء للطعن في العمل قولاً وكتابة , فزعموا أولاً أن هذه المكافأة ترغب المجاورين في العلوم الحديثة أي التي قضى الإصلاح بإحيائها في الأزهر حديثًا كالحساب والهندسة وتقويم البلدان والتاريخ والأخلاق الدينية والإنشاء , وتضعف همتهم عن تحصيل العلوم الدينية , فكذبتهم جداول الامتحان وطريقته إذ ظهر أن المكافأة على العلوم القديمة أكثر مقدارًا وأن الناجحين في العلوم الحديثة أنجح في العلوم القديمة من سواهم. ثم انبرى بعضهم للطعن في نفس هذه العلوم الحديثة لا سيما الحساب العملي وتقويم البلدان , فزعموا أنها ضارة مفسدة للعقول , ومن ذلك ما نشره المؤيد بإمضاء الشيخ محمد راضي البحراوي الصغير وثابت بن منصور الذي يقال أنه الشيخ محمد بخيت فرددنا عليهم نحن وغيرنا , ولم يفد سعي الشيوخ شيئًا حتى قضت حوادث الزمان بأن يتقرب منذ عامين بعضهم من الأمير ويحملوه على تحويل المكافأة على الامتحان إلى بعض الأشياخ، وكذلك كان , وحرم الأزهر من هذا الضرب من الإصلاح وظهر لكثير من شيوخه المنصفين ضرر هذا الحرمان وتحدثوا به؛ فتحركت أريحية الشيخ عبد الرحيم الدمرداش إلى إعادة الامتحان، وكتب لمشيخة الأزهر ما يأتي بعد رسم الخطاب: (بلغني من طرق متعددة , ومن مشايخ وطلبة لا أحصي عددهم أن الامتحان الذي كان يجري في الأزهر لنيل المكافأة في كل سنة كان قد أفاد الطلبة , وبعث في كثير منهم روح النشاط والاجتهاد في طلب العلوم التي تقرأ في الأزهر من قديم الزمان نفسها فضلاً عن اكتساب فنون أخرى لم تكن من الدروس المقررة فيه من زمن طويل، وأن جمهورًا عظيمًا من الطلبة خمدت نفوسهم بعد إلغاء ذلك الامتحان، وأنه قد ضاع على الأزهر شيء كثير بذلك الإلغاء كما أكد لي ذلك من لا أحصي عده من أهله , ولما تأكدت ذلك وأيقنت أن إعادة مثل هذا الامتحان أصبح مما لا بد منه في زمن كثرت فيه حاجات الطلبة , وأنه يسوقهم إلى الطلب أمثال المكافآت التي كانوا ينالونها عقب الامتحان، وكنت ممن يحب العلم أهله ويسعى إلى ترقيته؛ رأيت أن أقدم من مالي الخاص مبلغ مائتي جنيه إنكليزي يصرف مكافآت سنوية لمن يمتحن وتقرر لجنة الامتحان أنه من الناجحين المبرزين على من سواهم في العلوم الآتية: (1) علم التوحيد على شرط أن يقيم الطالب الأدلة على العقائد التي يسأل عنها من نفسه لا أن يسرد ما يحفظه من عبارات المؤلفين بلا تعقل , وبذلك تعرف درجته قي علم المنطق بالضرورة. (2) علم الأخلاق الدينية الباحث عن الفضائل والرذائل من جهة ما يسعد ويشقى بها في المعاش والمعاد. (3) تفسير القرآن الكريم من حيث هو كتاب سماوي أنزل ليحيي النفوس بمكارم الأخلاق , ويثير فيها العبر بمن مضى ومن حضر , وكذلك الحديث الشريف. (4) علوم البلاغة قواعدَ وعملاً بحيث يدخل فيها الإنشاء وفن الكتابة , ويندمج في ذلك النحو بالطبع. (5) الفقه وأصوله معًا بحيث يمتحن الطالب في مسألة فقهية يردها إلى أصلها المعروف في أصول الفقه. (6) الحساب. (7) الجبر. (8) تقويم البلدان. (9) التاريخ. وأعرض على مولانا أني أحب أن لا يدخل في هذا الامتحان من مضى عليه أقل من ثماني سنين في الجامع الأزهر علي حسب سجلاته. أما بقية ما يلزم لضبط الامتحان ليكون كافلاً بإعطاء المكافأة لمن يستحقها فذلك موكول إلى رأي مولانا الأستاذ ورأيه الموفق إن شاء الله تعالى. وأرجو أن تتفضلوا علي بالجواب هل قبل طلبي، والله يتولاكم برعايته) اهـ. فكتب إليه شيخ الأزهر كتابًا رسميًّا بقبول طلبه مع الشكر علي أريحيته وغيرته , ونحن نشكر له أيضًا هذه المبرة , ونرجو أن يقتدي غيره من الأغنياء به في إحياء العلم والدين.

قصيدة في الحرب

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ قصيدة في الحرب لحافظ أفندي إبراهيم أساحة للحرب أم محشر ... ومورد الموت أم الكوثر وهذه جند أطاعوا هوى ... أربابهم أم نعم تنحر لله ما أقسى قلوب الأولى ... قاموا بأمر الملك واستأثروا غرهم في الدهر سلطانهم ... فأمعنوا في الأرض واستعمروا قد أقسم البيض بصلبانهم ... لا يهجرون الموت أو ينصروا وأقسم الصفر بأوثانهم ... لا يغمدون السيف أو يظفروا فمادت الأرض بأوتادها ... حين التقى الأبيض والأصفر وأثملتها خمرة من دم ... يلهو بها (الميكادو) والقيصر وأشبهت يوم الوغى أختها ... إذ لاح فيها الشفق الأحمر (وأصبحت تشتاق طوفانها ... لعلها من رجسها تطهر) أشبعت يا حرب ذئاب الفلا ... وغصت العقبان والأنسر وميرت الحيتان في بحرها ... ومطمع الإنسان لا يقدر إن كان هذا الدب لا ينثني ... وذلك الرئبال لا يقهر والبيض لا ترضى بخذلانها ... والصفر بعد اليوم لا تكسر فما لتلك الحرب قد شمرت ... عن ساقها حتى قضى العسكر سالت نفوس القوم فوق الظبا ... فسالت البطحاء والأنهر وأصبحت (مكدن) ياقوتة ... يغادر منها الدر والجوهر ياقوتة قد قومت بينهم ... بأنفس كالقطر لا تحصر أضحى رسول الموت ما بينهما ... حيران لا يدري بما يؤمر (عزريل) هل أبصرت فيما مضى ... وأنت ذاك الكيس الأمهر كذلك المدفع في بطشه ... إذا تعالى صوته المنكر تراه إن أوفى على مهجة ... لا الدرع يثنيه ولا المغفر * * * أمسى (كروباتكين) في غمرة ... وبات (أوياما) له ينظر وطلت الروس على جمرة ... والمجد يدعوهم ألا فاصبروا وذلك الأسطول ما خطبه ... حتى عراه الفزع الأكبر أكلما لاح له سابح ... تحت الدجى أو قارب يمخر ظن به (توجو) فأهدى له ... تحية (توجو) بها أخبر تحية من واجد شبق ... أنفاسه من حرها تزفر فهل درى القيصر في قصره ... ما تعلن الحرب وما تضمر فكم قتيل بات فوق الثرى ... ينتابه الأظفور والمنسر وكم جريح باسط كفه ... يدعو أخاه وهو لا يبصر وكم غريق راح في لجة ... يهوي بها الطود فلا يظهر وكم أسير بات في أسره ... ونفسه من حسرة تقطر إن لم تروا في الصلح خيرًا لكم ... فالدهر من أطماعكم أقصر تسوءنا الحرب وإن أصبحت ... تدعو رجال الشرق أن يفخروا أتى على الشرقي حين إذا ... ما ذكر الأحياء لا يذكر ومر بالشرق زمان وما ... يمر بالبال وما يخطر حتى أعاد الصفر أيامه ... فانتصف الأسود والأسمر فرحمة الله على أمة ... يروى لها التاريخ ما يؤثر

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم ما يؤرخ من الأنباء في باب الأخبار والآراء (الدولة العلية والإنكليز. الخلاف والوفاق والأسطول والمالية) نقرأ في الجرائد آنًا بعد آن اهتمام الدولة بإنشاء أسطول عظيم، وقد علمنا أن إنكلترا هي التي تحث الدولة وتدعُّها إليه، ولما زار أميرال أسطول البحر المتوسط الإنكليزي سلطاننا بالغ السلطان في إكرامه كأنه من بيت الملك وتكلما في ذلك وأكد الأميرال للسلطان الوعد بأن إنكلترا تساعده على تقوية البحرية حتى بالمال بشرط أن يهتم بإصلاح المالية فيعزل ناظرها الذي كان يومئذ يولي مكانه الناظر الحاضر ويؤلف لجنة الإصلاح المالي. وبعد أن سمعنا هذا رأينا السلطان فعل ذلك. ومع هذا نرى الدولتين مختلفتين على حدود عدن ونرى إنكلترا لا تنفك تسعى في تقوية نفوذها في الكويت وبلاد العرب والسبب في هذا وذاك الخوف على زقاق البوسفور من روسيا وعلى الخليج الفارسي منها ومن ألمانيا وتتمنى لو تقدر الدولة بقوتها على حفظ الخليجين. * * * (ألمانيا في شرقي أفريقية وتنصيرها المسلمين) كتب إلينا أن ألمانيا تلزم الناس في مستعمرتها هناك بالتعلم وبالتنصر إلزامًا وتعني بالإيقاع بين العرب المقيمين في المستعمرة وبين الأهالي الأصليين لأن العرب أنور وأشد تمسكًا بالإسلام وجذبًا إليه وإن كانوا جاهلين. والإكراه على الدين لم يعرف في تاريخ البشر إلا عن الأوربيين، ومن العجب أن تجترحه دولة كألمانيا في علمها ومدنيتها اتباعًا للأثرة والإفراط في حب الذات اللذين رباها بسمرك عليهما. وهذه الجريمة السوءى ترشد الشرق والإسلام إلى تفضيل الإنكليز على جميع الشعوب الأوربية في كل صلة من صلاتهم بأوروبا الظالمة المتعصبة. * * * (الدولة العلية وفتنة نجد) تواترت الأخبار بانتصار ابن سعود الذي اجتمعت عليه كلمة القبائل على ابن الرشيد وقد علمنا من الأخبار الخصوصية التي جاءتنا من بلاد العرب أن ابن سعود يتمنى الخضوع للدولة، وأنه حاول أو يحاول إرسال الوفود لمخاطبتها بذلك، ولكن دسائس ابن الرشيد وأعوانه لدى الحكام في الحجاز والشام والعراق تحول دون وصول هذه الوفود، وعسى أن تظهر الحقيقة للدولة لتعلم أن استمرار انتصارها لابن الرشيد خطر عظيم وأن السياسة المثلى في إعادة نجد إلى آل سعود كما كانت فهم أقدر على حفظها تحت رايتها وحمايتها وبذلك تأمن على الكويت أيضا ولعلها تفعل إن شاء الله تعالى. * * * (إحياء جزيرة العراق) دعت الدولة العلية السرويلكوكس المهندس الإنكليزي الشهير صاحب مشروع خزان النيل لاختبار جزيرة العراق ووضع تقرير لكيفية إحيائها بمياه الدجلة والفرات فلبى الدعوة وزار قبل سفره من هنا مختار باشا الغازي فأرشده هذا إلى الوديان التي يمكن أن توضع فيها السدود وتنشأ الخزانات لأجل الري الصيفي فإن المياه تقل هناك في الصيف حيث الحاجة إليها شديدة بعكس مياه النيل في مصر فسُر المهندس بهذا الإرشاد وعند السفر كتب إلى الغازي كتابًا يشكر له فيه ذلك. * * * (القضاء الشرعي والحكومة المصرية) أنذر قاضي مصر الحكومة بتوقيف الأحكام الشرعية إذا لم ينفذ القرار الذي صدر من المحكمة الكبرى بالحيلولة بين الشيخ علي يوسف وصفية السادات في القضية المعلومة فلم تنفذه ولكن جاملت القاضي ووقعت الحيلولة بالرضا. ثم إن القاضي نشر إعلانًا في الجريدة الرسمية يطلب فيه محاسبة نظار الأوقاف الخيرية لأن ذلك من حقوقه الشرعية فاتفق النظار مع الأمير بعد استشارة عميد الاحتلال على منع القاضي من هذا الحق وجعله للأمير وكان صدر أمر عال لديوان الأوقاف على أنه حق للخديوي. وقد تم هذا بكل سكون ولو لم يكن الأمير راضيا لقامت قيامة الجرائد والعلماء بدعوى الغيرة على الشرع وحقوق السلطان.... وقد عزل الشيخ بخيت من المحكمة العليا تمهيدًا للإصلاح.

صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة جرت عادة الشافعية في الأمصار التي تتعدد مساجدها بأن يصلوا الظهر جماعة بعد أداء صلاة الجمعة، وقد نشأ صاحب هذه المجلة شافعيًّا وقلد دينه من تربى بينهم من المنتسبين إلى هذا المذهب زمنًا فكان يعيد الظهر معهم كما يعيدون معتقدًا أن هذا هو مذهب الشافعي , ولما قرأت فقه الشافعية علمت أن الإعادة مبنية على قول الإمام بوجوب التجميع (إقامة الجمعة) في مسجد واحد وعدم جواز التعدد في الاختيار، وأن التعدد إذا كان لحاجة بأن عسر اجتماع الناس في مسجد واحد جاز. وأنه في حال عدم جواز التعدد تكون الجمعة الصحيحة للسابق , وعلى غيره إعادة الظهر. وقد ظهر لي بالاختبار أن التجميع في مسجد واحد يتعذر في مثل مصر لأن أكبر مسجد فيها مسجد عمرو، وإنك لتراه في آخر جمعة من رمضان مزدحمًا بالمصلين، والجمعة تصلى في سائر المساجد , ومنها ما يكون مزدحمًا مثله على أن كثيرًا من المكلفين بالجمعة لا يصلون , ومع هذا ترى الشافعية يعيدون صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة في الأزهر وغيره , فدلنا هذا على أن إعادة الظهر صار عادة للشافعية، وأنهم ليسوا فيها على بينة ولا علم صحيح، وقد وصلت إلينا في أواخر رمضان رسالة مطبوعة في بيروت منسوبة إلى الشيخ نور الدين الشبراملسي الشافعي المتوفى سنة 1087 يقول مؤلفها في أولها: إنه قد ذكر بعضهم لحسين باشا حاكم الديار المصرية أن صلاة الشافعية الظهر جماعة يوم الجمعة لا أصل لها قال: (فمنع أهل أزهرنا منها ظنًّا منه صدق القائل، وفضيلة الناقل) والحال أنه إما كاذب أو جاهل، وتحرير المسألة عندنا أن فيها أربعة أوجه: الأول: وهو الصحيح أنه لا يجوز تعدد الجمعة ما لم يشق الاجتماع بمحل واحد - ولو غير مسجد - مشقة لا تحتمل عادة، أي يقينًا، كما قيد به الشهاب بن حجر إلخ. ثم ذكر أن العبرة فيمن يعسر اجتماعهم بالذين تلزمهم على المعتمد لا من يصلون بالفعل أو من تصح منهم أو من يغلب حضورهم. والوجه الثاني: لا يجوز التعدد مطلقًا، وذكر أن السبكي انتصر له نقلاً ودليلاً وصنف فيه أربعة مصنفات، وقال: إنه لا يحفظ عن صحابي ولا تابعي جواز تعددها. ولكنه لم يذكر هل يحفظ عنهم القول بمنع التعدد مطلقاً؟ كلا إنه لم يقل به أحد منهم. والثالث: إنْ حالَ نهر عظيم بين شقي البلد كانا كبلدين يقام في كل منهما جمعة. والرابع: إن كانت قرى واتصلت تعددت الجمعة بعددها، ثم ذكر أن سبب الخلاف عدم إنكار الإمام الشافعي على أهل بغداد تعدد الجمعة، وكانوا حين دخلها يجمعون بمحلين أو ثلاثة (قال) أجاب عنه جمهور أصحابه بأنه لمشقة الاجتماع لكثرة أهلها. وتبعهم الشيخان إلى أن نقل عن بعضهم أن مذهب الشافعي لا يحتمل تغيره وأننا ننظر في المسألة من جهة مذهب الإمام الشافعي ومنه تعلم أنه حجة على مؤلف الرسالة في زعمه وجوب الظهر على أهل مصر وعلى من يحتج بها مثل احتجاجه من جهة الدليل فقط، ومنه تعلم أن سائر المذاهب الإسلامية أرجح من مذهب الشافعية ومن وافقهم في هذه المسألة. أما النص عن الشافعي فقد جاء في مختصر المزني ما نصه: (ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثر مساجدها إلا في مسجد واحد منها وأيها جمع فيه فبدأها بعد الزوال فهي الجمعة وما بعدها فإنما هي ظهر يصلونها أربعًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده صلوا في مسجده وحول المدينة مساجد لا نعلم أحدًا منهم جمع إلا فيه، ولو جاز في مسجدين لجاز في مسجد العشائر) وجاء في (كتاب الأم) نحو ما تقدم ما نصه: (وإن جُمع فيه أولاً بعد الزوال فهي الجمعة وإن جمع في آخر ساعة بعد الجمعة كان عليهم أن يعيدوا ظهرًا أربعًا) . ثم قال: (وهكذا إن جمع من المصر الواحد في مواضع، الجمعة الأولى وما سواها لا تجزئ إلا ظهرًا. (قال الشافعي) ولو أشكل ذلك عليهم فعادوا فجمعت منهم طائفة ثانية في وقت الجمعة أجزأهم ذلك لأن جمعتهم الأولى لم تجزئ عنهم , وهم أولاً حين جمعوا أفسدوا، ثم عادوا فجمعوا في وقت الجمعة، قال الربيع وفيه قول آخر أن يصلوا ظهرًا) اهـ فهذا نص كتب المذهب الأصلية. فأما قول المختصر: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده صلوا في مسجده ... إلخ. فهو لا يأتي في مسألتنا لأن ما حول المدينة ليس منها، وإذا صح الاستدلال بوقائع الأعيان أمكن أن يحتج بهذا على اشتراط التجميع في المصر وجماهير الأصوليين لا يستدلون بها. وما في المختصر مفروض في قوم أرادوا صلاة الجمعة فعلموا بأن غيرهم قد سبقهم فيجب عليهم الظهر عنده , ولا نعرف الآن في البلاد الإسلامية أن قومًا يجمعون بعد العلم بأن غيرهم سبقهم بالجمعة ولو في مسجد آخر وإنما يقيمون الصلاة عند الآذان في عدة مساجد أنشئت للحاجة إليها في الأغلب , ولا نص لهذه المسألة في المختصر، وعبارة الأم على بسطها لا تخرج عن معنى ما اختصرها به المزني فإن قوله الجمعة الأولى وما سواها لا تجزئ إلا ظهرًا، لا يستقيم إلا في صورة العلم بأن الجمعة أقيمت فيشرع في الظهر ويوضحها قوله قبلها: وإن جمعوا في آخر ساعة بعد الجمعة كان عليهم أن يعيدوا ظهرًا أربعًا. فقوله في آخر ساعة بعد الجمعة تصوير لإقامة الجمعة بعد العلم بأنها أقيمت. وأما مسألة الإشكال فهي تظهر إذا اجتمعوا وتحدثوا فظهر لكل فريق منهم ما شككه في صحة صلاته، ولذلك قال: إنهم يصلون الظهر وأنهم إذا صلوا الجمعة ثانية أجزأتهم لظهور فساد الأولى. فإذا لم نفرض أن كل فريق من المجمعين اجتمع بالآخر واتفقوا على فساد صلاتهم كلهم. لا يمكن أن نجيز التجميع لطائفة بعد العلم اليقين بأن الجمعة أقيمت؛ إذ لو أجزنا هذا لكان المذهب أن الجمعة تصح لأهل المسجد الذين علموا أن جميع المساجد قد جمعت قبلهم فتكون الجمعة للمتأخرين لا للمتقدمين فيتناقض هذا مع قوله: الجمعة الأولى. فتحرر معنا أن الإمام الشافعي يمنع تعدد الجمعة في البلد الواحد، فيجب على من أخذوا بقوله أن يجتمعوا في محل واحد إذا أمكن، ومن علم منهم بأن الجمعة أقيمت ليس له أن يجمع بل يصلي الظهر وإذا اجتمعوا أُشْكِل عليهم الأمر جمعوا ثانية وصلوا الظهر. ولم يرد نص في حال عدم العلم بالتأخر وعدم الإشكال بأن صلى كل فريق ظانًّا أنه السابق لأن الأصل عدم صلاة غيره قبله ولم تطرأ له شبهة تعارض الأصل والظاهر أنه لا يجب عليه إعادة الظهر ولا الجمعة. وربما يستبعد بعض الشافعية قولنا هذا لأنه مخالف لما عليه العمل عندهم إذ يصلون الجمعة وهم يعتقدون عدم إجزائها وينوون إعادة الظهر بعدها ولا يوجد نص عن الشافعي ولا عن أصحابه المجتهدين يجيز لأحد أن يشرع في صلاة وهو يعتقد أنها لا تجزئه وكلام المصنفين المقلدين في إجازة ذلك لا يعتد به، بل ظاهر منع الشافعي لتعدد الجمعة يؤذن بأن الشروع فيها لا يجوز على مذهبه إلا لمن يعلم أو يظن أنه السابق الذي له الجمع، فإن شك بطل إحرامه بصلاتها كما هو ظاهر، فمن كان مقلدًا للشافعي فليتأمل هذا بإنصاف ولا يغرنه كلام المصنفين (الشبراملسي) ومن فوقه أو تحته، فإن أكثرهم ينقلون من كتب أمثالهم المقلدين ولم يطلعوا على نص الشافعي وهو ما ذكرناه لك عن (المختصر) و (الأم) اللذين هما أصل المذهب، ثم إن ما تقدم من نص المذهب صريح في تعدد الجمعة بالاختيار، ولم يقل الشافعي شيئًا في حال الاضطرار، وهى ما إذا اتسع المصر وتعذر أو تعسر اجتماع الناس في مكان واحد منه، ولكن الأصول العامة عنده وعند سائر الأئمة من دفع الحرج والعسر، وإجازته تعدد الجمعة في بغداد؛ إذ أقام فيها سنتين، ولم ينقل أنه أنكر على أهلها التعدد، ولا أنه كان يصلي الجمعة ثم يصلى عقيبها الظهر - تدل على أنه يجيز التعدد لحاجة وقد علمنا من مختصر صاحبه (المزني) أن دليله على وجوب التجميع في مكان واحد هو فعل النبي وأصحابه وهو على القول بنهوض الوقائع العينية الإجمالية دليلاً، محمول على عدم الحاجة للتعدد فقد كان مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسع الناس، ومن حِكم التجميع اجتناب التفرق، فأي مسلم يرغب عن الصلاة معه - عليه السلام - وعن سماع خطبته ويجمع بالناس في مسجد غير مسجده؟ فالتجميع في مسجد واحد على عهده صلى الله تعالى عليه وسلم كان للحرص على الصلاة معه والتلقي عنه، ولموافقة حكمة مشروعية الجمعة وهو الاجتماع وتلقي المواعظ على طريقة واحدة؛ فإنه مما يزيد في الوحدة الإسلامية، فهو الأصل، ولم يعرض من الضرورة والحرج فيه ما يقضي بالتحول عنه. وقد عُلِمَ مما تقدم أنه لا دليل من نص الشافعي ولا من فعله على أنه يجب على من صلى الجمعة في أمصار المسلمين التي تعددت فيها المساجد للحاجة أن يعيد الظهر بعد صلاة الجمعة فيوطن نفسه على أداء فريضتين في وقت واحد، وأن ما قاله في الإعادة هو من قبيل مَن تبين له بعد الصلاة أنه لم يستكمل شروطها فوجبت عليه إعادتها. وأما ما في كتب الشافعية ومنها رسالة الشبراملسي مما يخالف ذلك أو يزيد عليه فهو من فلسفة أولئك المصنفين الذين لا يجوِّز أحد تقليدهم. وأما النظر في المسألة من جهة الدليل فقد علم بالجملة مما تقدم وإيضاحه أن كلام الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - يؤذن بأن الاجتماع في مكان واحد شرط لصحة صلاة الجمعة، والظاهر أنه حكمة من حكمها التي تراعى بقدر الإمكان، ولا دليل على الشرطية فيما نص عليه في المختصر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة. ولو كان فعلهم يدل على الشرطية لوجب القول بأن صلاة العيد في الصحراء خارج البلد شرط لصحتها، إذ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج بأصحابه نساء ورجالاً فيصليها فيها. وكذلك كان أصحابه بعده يفعلون، والأصل أن تقام الصلوات في المساجد فالعدول عن المسجد في العيد يدل على أنه مقصود لذاته، فلماذا لم يقل الشافعية باشتراط الخروج إلى الصحراء لصحة صلاة العيد؟ ومثل ما ذكر من الاستدلال علي وحدة المكان استدلالهم على عدد من تنعقد بهم الجمعة، فالشافعية والحنابلة على أن أقل عدد تنعقد به الجمعة أربعون، واستدلوا بأن المسلمين كانوا في أول جمعة جمعوها أربعين، ولم ينقل أنهم جمعوا بأقل من هذا، ويرد عليهم حديث الذين انفضوا إلى التجارة وتركوا النبي قائمًا يخطب، وقد صلاها بمن بقي وهم اثناعشر والحديث في الصحيح عند البخاري ومسلم وغيرهما. وفي الواقعة نزلت آية {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: 11) وما رواه الطبراني من أنهم انفضوا إلا أربعين رجلاً، ضعيف تفرد به علي بن عاصم من الضعفاء، فهذه الواقعة علمتنا أن العدد الكثير إنما كان لكثرة الناس. وما يدرينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بتعدد الجمعة لو رأى أمصارًا كبيرة يتعذر أو يتعسر على الناس الاجتماع فيها على إمام واحد في مسجد واحد كمصر والأستانة وبيروت. أو ليس سكوت أئمة القرن الثاني ومنهم الإمام الشافعي على تعدد الجمعة في بغداد دليلاً على أنهم ما كانوا يرون بذلك بأسًا عند الحاجة. على أن بغداد كانت عند تعدد الجمعة فيها على عهد المنصور حديثة النشأة ولم تكن كمصر على عهد الشبراملسي في الاتساع وكثرة الناس ولا (كبيروت) الآن. وهى قد تم بناؤها سنة 149 أي قبل ولادة الشافعي، ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، وأن موافقة سائر المذاهب فيها هو المتعين لمن يحب الوحدة الإسلامية , والله الموفق.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار عرض أعمال الأمة على النبي صلى الله عليه وسلم (س 91) عبد الحميد أفندي السوسي بالإسكندرية: أرفع لفضيلتكم هذا السؤال وهو أني سمعت فقيهًا يقول: إن أعمال الأمة المحمدية تعرض على الحضرة المصطفوية كل أسبوع، وبالسؤال منه عن الكيفية أجابني بأنها تعرض عليه مقيدة في كشف , فلم أرتح لجوابه وطالبته بزيادة الإيضاح بكل احترام فما كان منه إلا أن رماني بالكفر ونهرني (وأنا السائل) وشتمني وصاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام يقول: (ما بعثت سبابًا , ولكن بعثت رحمة للعالمين) حصل بيني وبينه ما حصل ولم أستفد منه شيئًا غير ما تقدم. ولما كنتم فضيلتكم من الذين يجب علينا أن نأخذ الدين عنهم لا عن سواهم عولت على أن أستفهم من سيادتكم عن صحة ما سمعته من الفقيه راجيًا إجابتي بجواب مؤيد بالدليل كما هي عادتكم مع بسط الكلام عن حكمة العرض وكيفيته ولكم من الله الأجر ومن المؤمنين الشكر (ج) إن هذا الذي قاله لك من سميته فقيهًا غير صحيح، على أنه من أمور الآخرة أي من عالم الغيب الذي لا يبيح الدين لأحد أنك يقول فيه برأيه واجتهاده، وإنما يجب الوقوف فيه عند النصوص الثابتة عن الشارع فإذا كانت هذه النصوص قطعية كآيات القرآن العظيم كان الإيمان بما ورد فيها حكاية عن عالم الغيب واجبًا وتكذيبها كفرًا، وإذا لم تكن قطعية كأحاديث الآحاد ولو صحيحة السند لا يكون التسليم بها وجبًا بأن تعد من أركان الإيمان التي يكفر منكرها، فكيف يكفر من يسأل عن كيفيتها وبيانها؟ نعم، إن من ثبت عنده حديث في ذلك لابد أن يصدقه ويسلم بمضمونه إذا كان ممكنًا شرعًا وعقلاً أو بحمله على وجه ممكن. ثم إن ما ثبت من النصوص عن عالم الغيب يجب أن تؤخذ على ظاهرها أي من غير اجتهاد فيها ولا بحث عن كيفية ما لم يرد في النصوص ولا بيان كيفيته، فإذا فرضنا أن عندنا آية على أن الأعمال تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، لم يكن لنا أن نسأل عن كيفية العرض؛ لأنه من عالم الغيب الذي لا نعرفه وإنما نؤمن بما جاء فيه عن الله تعالى لأنه جاء عن الله تعالى، وهذا لا يمنعنا عن البحث في فائدة إخبار الله تعالى به إذ ليس في الدين شيء إلا وهو لمنفعة الناس وإصلاح حالهم. ولو كانت مسألة عرض الأعمال على النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته من قواعد الإيمان التي يكفر منكرها لما خلت كتب العقائد من ذكرها، ولكن هؤلاء الشيوخ قد تعودوا على تكفير كل من يعارضهم في مسألة دينية كأن الدين من مقتنياتهم يهبونه لمن شاؤوا ويمنعونه من أرادوا، وقد يكون بعضهم أجدر بالكفر لكذبه على الله وتكفير المؤمنين. هذه المسألة لم ترد في كتاب الله تعالى ولا في أحاديث الصحيحين أو السنن أو المسانيد، وإنما ورد فيها خبر آحادي مرسل عن بكر بن عبد الله المزني عند ابن سعد وهو (حياتي خير لكم ووفاتي خير لكم تحدثون فيحدث لكم، فإذا أنا مت عرضت علي أعمالكم فإن رأيت خيرًا حمدت الله تعالى، وإن رأيت شرًّا استغفرت الله لكم) وورد بلفظ آخر، وقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث المرسل في الأحكام العملية فذهب بعضهم كالشافعية إلى أنه لا يحتج به فكيف يجعل حجة في العقائد وأصول الإيمان؟ على أن هذا معارَض بمثل حديث عائشة عند البخاري إذ قالت: وارأساه! فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ذاك لو كان وأنا حي فأستغفر لك وأدعو لك) .. الحديث , وهو أصح سنداً ومسند لا خلاف في الاحتجاج به. ثم إن الرواية المرسلة ليس فيها بيان للكيفية التي ذكرها فقيه السؤال ولا للتوقيت بالأسبوع فهو مفتات على الدين وعلى عالم الغيب. أما حكمة الإخبار بعرض الأعمال على تقدير سلامته من المعارضة وما يمنع الاحتجاج به فهي أن المؤمن بذلك إذا تذكره يكون من أسباب إحجامه عن السيئات حياء من الرسول مع الحياء من الله تعالى. * * * حكم حلق اللحية (س 92) أحد القراء في (الجزائر) ما قولكم خلدت إفادتكم في حكم حلق اللحية. (ج) هو مكروه والأصل فيه التخنث بالتشبه بالنساء. * * * حكم تعليق الوسامات في الصدور (س93) ومنه: وما قولكم في حكم تعليق النياشين والوسامات في الصدور خصوصًا المهداة من الدول الأوربية؟ (ج) ينظر في التحلي بهذه الأوسمة المعروفة بالنياشين من وجهين: أحدهما: مادتها، فإذا كانت ذهبًا أو فضة فالمذاهب الأربعة متفقة على تحريم تعليقها على الرجال، وقد تقدم في جواب السؤال السابع والخمسين من الجزء الحادي عشر من هذا ما ورد في ذلك وحكمته. وثانيهما: معناها وطريق الوصول إليها وما أنشئت لأجله وتأثير ذلك في حاملها وفي الناس، وهذا لم يرد فيه شيء في السنة لأنه من المحدثات بعد التشريع فالحكم فيه راجع إلى قاعدة تحريم كل ضار وإباحة كل نافع، ونعني بالمباح هنا ما يقابل المحرم والمكروه. وإننا نعلم أن هذه الأوسمة قد وضعت في الأصل لتكون سمة وعلامة تميز من يخدم دولته وأمته خدمة جليلة ليرغب غيره في مثل تلك الخدمة حبًّا بالامتياز الذي هو ركن للشرف ركين، وهذا شيء يختلف باختلاف البلاد والأشخاص، وإننا نرى أن نيل هذه الأوسمة وكذلك رتب التشريف التي تقارنها غالبًا قد خرجت في هذه البلاد وفي الدولة العثمانية عن وضعها وصار الناس يتوسلون إلى نيلها بالمال وبسيئات الأعمال، حتى عرف الخاص والعام أن لها سماسرة في مصر والأستانة وأن لها أثمانًا معينة تختلف باختلاف درجاتها وأسمائها، وأن بعض الأعمال السيئة كالتجسس والسعاية قد تغني عن المال في ذلك. ولا شك أن ابتغاء هذه الوسائل الخسيسة إلى مثل هذا الشرف الوهمي، من الأعمال المحرمة في الدين القبيحة في نظر العقل. وللحكومة المصرية اصطلاح في إعطاء الرتب والأوسمة للمستخدمين فيها وهي أنهم يعطون على حسب درجات وظائفهم وأنواعها ويطلبها لهم رؤساؤهم فلا يبذلون في ذلك مالاً، ولا يقدمون للقصور أعمالاً، ثم إننا نشاهد لها في هذه البلاد مضرات أخرى في الأخلاق والاقتصاد، فإن بعض محبي الفخفخة يبيع ما يملك ليشتري رتبة أو وسامًا حتى افتقر بعضهم، ونرى من ينال منها شيئًا يدخل غالبًا في طور جديد من السرف والخيلاء ومنافسة القرناء بالباطل حتى يحملهم على السعي في مساواته أو مساماته. وكثيرًا ما يقع التنازع والتعادي في النسب والصهر للتفاوت العارض بينهم بأخذ بعضهم رتبة أو وسامًا دون عشيرته، وكل هذه مفاسد محرمة، وقد بلغتنا وقائع منها لا سيما بين نساء العشيرة، فإن المرأة التي ينال أبوها أو أخوها وسامًا أو رتبة أو لقب (بك) يسرع إليها الصلف والتكبر على زوجها ويتلوه الشقاق فالفراق أو يسعى الزوج في مساواة أبيها في ذلك. ومن هذه المضرات تعالي الوضيع برتبته أو وسامه على الرفيع بفضله وعلمه أو مجده وشرفه حتى تبرم الفضلاء، وتبظرم السفهاء، وصرنا نرى في الناس من يلهج بذم هذه الزينة الباطلة وذم باعتها ومشتريها وسماسرتها. وعندي أنه لم يبق لهذه الرتب والأوسمة من الشرف في الشرق الأدنى إلا بقية في رؤساء الجند وما كان من جمعيات أوربا العلمية. أما حكم هذه الأوسمة من الدول الأوربية فهو تابع لسبب إعطائها فإن كان من يعطاها قد خدم الدولة الأجنبية خدمة جائزة شرعًا بأن كانت نافعة غير ضارة بأمته ولا بلاده فلا يحظر حمله الوسام من هذا الوجه إلا إذا كان مرغبًا في خدمة الأجنبي ولو بغير حق وسببًا للاعتزاز به من دون الحق. وإن كانت الخدمة غير جائزة شرعًا فلا شك أن حمل الوسام يكون آية على الإصرار ودوام الرضا بالذنب وأن المعصية الصغيرة لتكون بالإصرار عليها كبيرة. * * * اللباس الرسمي وكساوي التشريف (س 94) ومنه: وما قولكم في اتخاذ الولاة والحكام لباسًا رسميًّا خصوصيًّا (كالبرنس الأحمر عندنا) وتحلي العلماء والوجهاء بالكساوي التشريفية؟ أفيدونا مأجورين. (ج) إن الإسلام لم يشرع للناس لباسًا خاصًّا ولم يحظر عليهم زيًّا من الأزياء، فلكل فرد ولكل صنف أن يلبس ما أحب واختار إلا ما ورد في لبس الحرير والذهب والفضة، وقد تقدم شرحه في الجزء الحادي عشر، وما ورد من النهي عن لباس الشهرة وتقدم أيضًا. وأنت تعلم أن هذا اللباس تابع للرتب بل هو مظهرها ومجلاها، وقد علمت ما فيها. ونزيد هنا التذكير بما ألمعنا به من قبل من أن الدولة العثمانية قد أخذت ملابسها الرسمية عن الروم، وأقدمها ملابس العلماء وهي مرتبة على نحو ترتيب الروم في أزياء البطارقة والقسيسين وهو ما يسمونه ملابس الكهنوت المطرزة أو الموشاة بالذهب والفضة وأعلاها الحلة البيضاء التي يلبسها بطريق القسطنطينية في المواسم والأعياد وهي في الدولة لشيخ الإسلام وقد أشرك السلطان معه الشيخ أبا الهدى في السنة الماضية. ومن مفاسد السياسة أن العلماء صاروا يتنافسون في هذه الملابس مع اتفاق مذاهبهم على تحريم التحلي بالذهب والفضة في اللباس وغيره وتحريم التشبه بغير المسلمين في الشعائر الدينية ونحوها، وهم مع ذلك يحرمون لبس القلنسوة المعروفة بالبرنيطة مطلقًا على أنها ليست لبوسًا دينيًّا! وقصارى ما قال فقهاؤهم في قصد التشبه بالكافر في غير أمور الدين أنه مكروه، ولم يقولوا إنه محرم، فليحظروا على أنفسهم ما يسمونه كساوي التشريف (الكسوة بالضم ويكسر اللباس ج كسى) أولاً ليُسمع قولهم فيما هو دونها، والبرنس الأحمر المعروف عندكم خير من الجبب المفضضة والمذهبة عندنا إذا لم يكن مثلها أو من الحرير المصمت والله أعلم.

فرنسا والأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فرنسا والأزهر نشرت جريدة الإجيبت الفرنسية التي تصدر في القاهرة مقالة عنوانها (فرنسا والأزهر) في العدد الصادر في 24 نوفمبر الماضي، فأحببنا نشر ترجمتها في المنار ليعرف أهل الأزهر ما يقول فيهم كتاب الإفرنج ويعتبر بما فيها سائر المسلمين، وهي: حدث في الأزهر أخيرًا أن رجلاً معتوهًا أطلق الرصاص على شيخ رواق المغاربة، فتنبهت لهذا الحادث صحف فرنسا واهتمت بالبحث في شؤون ذلك الفريق المخصوص الذي يعيش وراء الجدران الصامتة في تلك الكلية الإسلامية الجامعة. ونحن نغار على كل ما يمس جاه فرنسا ونفوذها في تصديها لإدخال الحضارة في ربوع المشرق، ونهتم بكل ما له علاقة بالوظيفة التي أخذت على عاتقها القيام بها في تلك الأقطار، فلذلك لم يكن يسوغ لنا أن نترك هذا الحادث المحزن من غير أن نخوض في موضوعه ونتكلم في عواقبه فإنه مرتبط بعلائق فرنسا بالمشرق أشد الارتباط. لا يصح لمن يعيشون بقرب هذه المدرسة أن لا يعبأوا بأي أمر يتعلق بها فإن في وسعهم أن يعرفوا مقدار تأثيرها في العالم الإسلامي. هذه المدرسة في نظر الباحث المدقق كسياج للأفكار الإسلامية؛ لكونها في القاهرة أعظم عواصم الإسلام مدنية وحضارة، وبالقرب من ضريح الإمام محمد بن إدريس الشافعي أحد أصحاب المذاهب الأربعة. بل نقول تقريبًا للحقيقة من أفهام الغربيين أن للأزهر في بلاد المشرق تلك المكانة التي أحرزتها في الزمن الغابر مدرسة بولونيا الكلية حينما ورث عواهل ألمانيا صولجان قياصرة الرومان، وسيف الإمبراطور شارلمان، بل هي كمدرسة السوربون في فرنسا أيام رفع أفاضل العلماء فيها نبراس الأفكار، فأضاء تلك الأقطار، بما جددوا من معارف اللاتينيين ومحوا من تلك الظلمات المتراكمة التي أحدثتها غارات البرابرة. إذا كان جميع المسلمين يولون وجوههم شطر المسجد الحرام فكذلك الغيورون على مصلحة المسلمين في الاستقبال قد جعلوا الأزهر قبلة للأماني وكعبة للآمال، نعم إن الذي يمر بالأزهر اليوم ولم يكن قد أوتي شيئًا من العلم والفطانة، أو البصيرة والرزانة، لا يرى في هذا البناء الذي علته الشرفات العربية، وازدان بالحجرات المغربية. إلا آثار مدنية قديمة غادرها الزمان في سبات عميق، فليست في الأموات ولا في الأحياء، كما كانت بزنطية عاصمة الدولة الرومانية الشرقية حين ضرب عليها التصوف رداءه وأحاط بها التقشف من كل مكان. فإن ما يدور فيها من المجادلات العتيقة العقيمة في العلوم التي يسمونها الوسائل، والعلوم التي يسمونها المقاصد، لا تسفر عن وجه يشعر يتجدد الحياة. ولكن من يسبر الأشياء بمسبار الرويَّة، وينظر إلى الأمور بعين البصيرة، يرى في هذا الجمع المتكاثف وبين أولئك الطلبة الذين يدرسون ويشتغلون كأمثالهم في كليات أمريكا اهتزازات تدل على حياة جديدة، ويجد في نفسه انتعاشًا يشعر بنشأة أخرى ولكن هذه الاهتزازات الحيوية مستورة بالسكينة والوقار، مغشاة بما امتاز به الشرق من التجرد وعدم المبالاة. ذلك أن بعض سروات المسلمين الذين لابسوا أهل أوربا وعلموا أن مدنيتهم قائمة على أساس العلم والتربية تبرعوا بأموال طائلة ونصبوا لأولئك الطلاب المنقطعين للرياضات وأنوار التجلي أساتذة من الذين نبغوا في مدارس أوربا ليبثوا بينهم علومنا العصرية ومعارفنا الحديثة بحيث قد جنحت المدينة الإسلامية جنوحًا ظاهرًا للاستقاء من معارفنا، والامتزاج بنا بدلاً من أخذ الأهبة وحمل السلاح لمكافحة المدنية النصرانية، فهي لنا بمثابة الأخت الصغرى، ونهضتها هذه تشابه نهضة تجدد المعارف اللاتينية في أوربا مشابهة تامة تدعو إلى العجب والدهشة، ولكنها متأخرة عنا بستة قرون هي المدة بين نهضة المسلمين (الأولى) ونهضتنا وليس يخشى عليها غير خطر واحد: هو أن تتبلور عقول أهلها تبلورًا صوفيًّا تجريديًّا، والدافع لهذا الخطر والواقي منه هو الأزهر، فإن حركته الذاتية تسير ببطء في طريق كافل نيل المرام ولن يتخلف الأزهر عن الوفاء بما نيط به ما دام المهيمن عليه من أولئك الذين انفتقت أذهانهم بالأفكار العصرية. أسهبنا في شرح مقدمة الموضوع الذي نتوخى الخوض فيه، وما ذلك إلا لأنه كان من الضروري بيان درجة الأزهر ومكانته العليا في عالم الإسلام وما له من الشأن الكبير في مزج المدنيتين، وهو أمر واقع بلا شك في يوم من الأيام على سواحل البحر الأبيض المتوسط. ومن المعلوم أن فرنسا وإنكلترا هما الدولتان العظيمتان اللتان لهما السيطرة على كثير من بلاد الإسلام، ولذلك أوجبت هذه المكانة على تينك الأمتين الكريمتين فرضًا لا يمكن سقوطه بكرور الزمان ألا وهو السعي المتواصل في دوام تحسين العلاقات الفكرية والعلمية التي وصلت بنفسها عالم الشرق بعالم الغرب، وأخص فرنسا التي قد اكتسبت من عهد قريب مكانة راجحة في مراكش فإنها لا يتسنى لها بإزاء الأمم الإسلامية ترك ما هو محتم عليها بمقتضى الروح الساري في جثمانها، وما هو مدون في تاريخها أعني وظيفتها التي هي حماية الأمم المستضعفة ونشر ألوية الحرية والإخاء في ربوعها. فإذا نظرنا إلى فرنسا وجدناها على رأس مملكة إسلامية فسيحة لها شأن عظيم وقيمة غالية، وهذه المملكة تمتد من تونس إلى سنغامبيا على سواحل البحر الأبيض والمحيط الأطلنطي، وقد ازدادت هذه المملكة بدخول مراكش في دائرتها، فليس لفرنسا إذن أن تحتقر أية وسيلة لرفع شأن الحضارة الإسلامية في مملكتها الشاسعة الأكتاف، البعيدة الأطراف، بل عليها أن تبذل كل ما في وسعها لتجعل لها على العالم الإسلامي نفوذًا عقليًّا يكون لها من ورائه فوائد يا لها من فوائد لا تذكر بجانبها مزايا ما تراه من التودد لها في بطانة صاحبي تونس وفاس فيعود ذلك عليها بالنفع أمام ذلك المجتمع العظيم الممتد على سواحل أفريقية المتألف من قبائل متغيرة وشعوب متنافرة، وليس الأزهر بأقل ضمانة أو أقل فعلاً من غيره من الوسائل التي يجب على فرنسا استخدامها لزيادة نشر نفوذها الأدبي التمديني في العالم الإسلامي المستقر في مملكتها الأفريقية. فحينئذ نرى أن فرنسا قد نيطت بها بطبيعة الحال وظيفة يجب عليها أن لا تتخلى عنها وذلك أنها بصفتها وارثة لملوك تونس فليس لحكومتها الجمهورية أن تنسى أن الباي محمد صاحب تونس هو الذي أسس في حدود سنة 800 للهجرة رواق المغاربة الذين يرحلون من بلادهم لطلب العلم بالأزهر مجذوبين إلى هذه المدرسة التي هي كنبراس للعلوم الإسلامية قد أرسل أشعته وأنواره على الأقطار والأصقاع كافة. ثم جاء عبد الرحمن باي تونس (يقول المترجم هذا خلط مع المرحوم عبد الرحمن بك كتخدا إذ ليس في بايات تونس عبد الرحمن المذكور) وجم غفير من أبناء المغرب مثله زادوا على توالي الزمان في الأوقاف المخصصة لرواق المغاربة بالأزهر فلما انحلت عرى الجامعة، وتضعضعت أركان الدولة الإسلامية وانمحت الآثار، وضاعت الرسوم وانسدل على أمور الأزهر حجاب من النسيان فأغار أبناء طرابلس على رواق المغاربة وجعلوا أنفسهم أصحاب الاستحقاق حتى ارتفع بعد أن لم يكن شيئاً مذكورًا عدد الطلبة منهم في أيامنا هذه إلى 50 مجاورًا من 118 مغربيًّا، وربما كان السبب في زيادة نسبتهم كون بلادهم ملاصقة لديار مصر أو زيادة لعناية من المشايخ الطرابلسيين فإذا كان هذا الأمر مضرًّا بمصالح الرعايا المستظلين باللواء الفرنسي من المراكشيين والجزائريين والتونسيين الذين يجاورون بالأزهر أو يترشحون لذلك، فلا ريب في أنه مضر أيضًا ضررًا بليغًا بمصالح فرنسا إذ يحرمها من وسيل فعالة في نشر نفوذها الأدبي والتهذيبي بين الأمم الأسلامية العائشة في مملكتها الأفريقية، ولا يصح لنا أن نغفل عن كون السلطان عبد العزيز سلطان مراكش بصفته مالكي المذهب يعتبر في قسم عظيم من أفريقية الشمالية أنه هو النائب الشرعي الأكبر للجماعة أي جماعة أهل السنة من المسلمين، وليس لنا أن ننسى أيضًا من جهة أخرى أننا إذا صرفنا النظر عن الشافعية وهم السواد الأعظم من المجاورين ولكنهم كلهم من أهل هذه الديار نجد أن الحنفية المتبعين للمذهب السائد في المشرق والمالكية - أي المنتميين لمذهب إمام دار الهجرة - وهو الشائع في المغرب يبلغ عددهم 77.72 (في المائة) وفي ذلك دليل على أن أواصر القرابة الروحية بين الأزهر والأمة الإسلامية بأفريقية الفرنسية هي كثيرة الالتئام متينة الإحكام بحيث لا يجوز التغاضي عنها لمن أراد أن يقوم بسياسة الدخول والامتزاج في أفريقية الشمالية الغربية، وجعل المهارة قائده والاحتراس رائده ليفوز من عمله بالقسط الأوفر، ويتكلل مسعاه بالنجاح الأوفى. ليس من نيتنا أن نتداخل بأي وجه كان في أمور الأزهر الداخلية، فإننا نعلم مقدار تعلقه بما له من الاستقلال ومحافظته على كيانه مع خراب سائر النظامات الأهلية الأخرى، ولذلك نعلم أنه ينظر شزرًا وغضبًا إلى كل تداخل أجنبي في شؤونه الخصوصية، نحن نظن أن الأستاذ الأكبر في الأزهر لا يخطئنا في زعمنا الذي نراه، وفي دعوانا التي ندعيها، وذلك أنه طالما جاهر الناس ونادوا على رؤوس الأشهاد أن فرنسا لها وظيفة مقدسة في المشرق وهى حماية طائفة الكاثوليك وهم لا يتجاوزون بضعة الآلاف عدًّا، فمن باب أولى يجوز لنا أن نقول: إن على الجمهورية في البلاد الإسلامية واجبًا أقدس، وفرضًا ألزم، ألا وهو حماية المسلمين أيضًا، وعددهم يتجاوز الملايين. إن حكومة الجمهورية الفرنسية تنفق الأموال الطائلة لاستمرار المدارس النصرانية في بلاد المشرق، فهل تكون مخطئة إذا طلبت من الأستاذ الأكبر ومفتي الديار المصرية الإذن في الجري على سنة الملوك والأغنياء المغاربة الذين آلت إليها ممالكهم وأملاكهم وذلك بأن تجعل في ميزانيتها إعانة سنوية لتكون بمثابة وقف على رواق المغاربة في الأزهر؟ لا ريب أن مشايخ الأزهر لا يرفضون الوسائل التي يكون من ورائها إقبال الطلاب على دروسهم وزيادة من يتلقى العلم عنهم فتنتشر تعاليمهم بفضل عناية الجمهورية الحرة الكريمة الشيم فتزيد نفوذ فرنسا الأدبي في شمال أفريقية الغربي وبذلك ينتهي أيضا الخلاف القائم الآن بين طلبة الرواق وشيخهم الحالي الذي يتهمونه بتوزيع النصيب الأعظم من الإيراد على أبناء وطنه ومن أخص المزايا التي تنتج عن هذا العمل تسهيل الامتزاج بين مسلمي سواحل بحر الروم الجنوبية وبين المدنية الغربية، وبذلك الامتزاج يمكن تحقيق تلك الأماني الجسام وتجديد ما رآه التاريخ في سالف الأيام من مآثر المفاخر وآثار الفخار التي تولدت في العالم بأسره، وأضاءت الكون كله حينما انقادت أزمة الأحكام بأيدي العرب الأمجاد في أسبانيا وصقلية فأدهشوا الدنيا بما ابتكرته قرائحهم الصافية من عجائب الغرائب وروائع البدائع) . اهـ (المنار) لقد بالغ الكاتب في بعض ما كتب، وكان دقيق النظر في بعضه، والروح الذي كان مستحوذًا عليه هو روح الغيرة على دولته ودلالتها على طريق لما تحاوله من استقرار السلطان في الممالك الإسلامية المغربية. وقد تجاوز كتاب الفرنسيس في هذا الصدد حدّ الكثرة في الآراء والأفكار، ولا نكاد نرى فيهم من يحز في المفصل ولو اهتدوا إلى استشارة أهل الرأي الصحيح من المسلمين المخلصين للإسلام دون تحيز إلى أمرائه وسلاطينه واطمأنوا ل

انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير ابن جرير الطبري

الكاتب: محمد الخضري

_ انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير ابن جرير الطبري إلى السيد المحترم منشئ مجلة المنار الغراء السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد، فقد كاد يركز في الطباع أن نقد المطبوعات من دلائل الحياة في الأمم، وشعر كل من أقدم على نشر كتاب أن إظهار أغلاطه من دلائل العناية به بعد أن كان ذلك ثقيلاً على النفوس والأسماع شأن الحق عند من لا يريده، ولما كنت ممن يرون وجوب النقد وإصلاح الخطأ ليحترس كل طابع فيما ينشر وكل مؤلف فيما يكتب. جئتك راجيًا نشر كلمتي هذه: ظهر في عالم المطبوعات كتاب جليل لإمام عظيم، ذلك تفسير محمد بن جرير الطبري، كتاب طالما استشرفت الأنفس إلى قراءته واقتباس فوائده، اقتنيت هذا الكتاب، وشغفت بمطالعته، فوجدت له كثيرًا من الامتياز على غيره من كتب التأويل، ومن ذلك أنه جمع فيه ما يقرب من ألف وتسعمائة شاهد من منظوم العرب الذين يحتج بهم في اللغة العربية فزادني ذلك فيه حبًّا. ولكن كانت تداخلني الريبة في كثير من الشواهد لاستغلاق معانيها واعوجاج مبانيها، فعنيت بجمعها وترتيبها على حروف المعجم ثم شرعت أقابلها على أصولها في كتب اللغة ودواوين العرب، فهالني أن وجدت ما يقارب النصف محرفًا عن أصله في ذلك تحريفاً يخل باللفظ والمعنى ومنه ما يخل بالوزن، وكنت رأيت على أول صفحة من الكتاب أن الكتاب صحح بعناية جمع من أفاضل العلماء وروجعت شواهده على مظانها، ولكن كذب الخبرَ الخُبْرُ فعمدت إلى نسختي فصححتها ثم رأيت من الواجب على أن أعلن ذلك على صفحات مجلتكم الغراء لأمرين: أولهما أن يصحح مقتنو الكتاب ما عندهم من نسخه، ثانيهما: أن يعرف الطابعون أن وراءهم من ينقب عن أغلاطهم لعلهم يهتمون بالتصحيح فعلاً لا قولاً، وها أنا ذا أبدأ اليوم بأربعة وثلاثين شاهدًا، وسأوافيك بما يتبقى إن شاء الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضري * * * الشواهد من معلقة طرفة (1) تبارى عتاقا ناجيات وأتبعت ... وظيفًا وظيفًا فوق مور معبد جاء في الجزء الأول (ص52) وكتب هكذا: تباري عنان الناجيات ... إلخ (2) كأن كناسى ضالة يكنفانها ... وأطر قسي تحت صلب مؤيد ورد في الجزء الثلاثين (ص42) وكتب الشطر الثاني هكذا: وأظرف شيء.. إلخ (3) ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي ورد في ثلاثة مواضع آخرها في الجزء الثلاثين وكتب بدل الزاجري: الراجزي. (4) أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد ورد في الجزء الثلاثين (ص154) وكتب بدل يعتام: يغتام، بالغين المعجمة. والمتشدد كتب بدلها: المتشدذ بالذال المعجمة آخر الحروف، ووضع كلمة النفوس بدل الكرام في الشطر الأول. (5) لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه باليد في الجزء الأول (ص360) ووضع بدل كلمة وثنياه: وتنساه. ولذلك استعصى المعنى على المصحح فأحال على عدد (7) وياليته أحال على المعلقة فيعرف ما خفي عليه. من دالية النابغة (6) وقفت فيها أصيلاًلا أسائلها ... عيت جوابًا وما بالربع من أحد إلا أواري لأيًا ما أبينها ... والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد جاء البيتان في خمسة مواضع إلا أنهما جاء في بعضها تامين وفي بعضهما مقتصرًا فيهما على ما إليه الحاجة ففي الجزء الأول (ص60) كتب الشطر الأول من البيت الثاني هكذا: ألا أواري لأياما 7 أبينها * وكتبوا أسفل الصفحة: هكذا البيت بالأصل وهو كما لا يخفى لا معنى له فلينظر. وفي الجزء الأول (ص180) كتب هذا الشطر بعينه: * ألا أواري لأيام أبينها* ولم يعقب عليه هنا ولعله فهمه. وفي الجزء الخامس (ص164) وضع الشطر ولكن المصحح لم يفهمه فوضع وسطه عدد (7) . وفي الجزء الحادي عشر (ص109) وضع بدل كلمة لأيا: لأبا، بموحدة ولعله فهم هنا المعنى فترك البيت من غير تعقيب وفي الجزء الثلاثين (ص126) كتب الشطر الثاني من البيت الأول والأول من الثاني هكذا: وما بالربع من أحد إلا ... أوارويّ لأباما أتيتها (فنعوذ بالله) (7) من وحش وجرة موشى أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد ورد في الجزء السابع (ص169) والشطر الأول هكذا: *من وحس وجوه موسى أكارعه * ولا ندري كيف فهمه المصحح وأين غاب عنه عدد (7) ؟ (8) إلا سليمان إذ قال المليك له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وخيس الجن أنى قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد البيت الأول ورد في الجزء الأول (ص221) وكتب في آخره: على الفند: وهو خطأ وجاء الثاني في الجزء الثالث عشر (ص 54) وكتب الشطر الثاني هكذا: يبنون تدمي ... إلخ، واشتبه المعنى على المصحح فأحال على عدد (7) . (9) لا تقذفني بركن لا كفاء له ... وإن تأثفك الأعداء بالرفد ورد في الجزء الثلاثين (ص198) وكتب الشطر الثاني هكذا: ولو تؤثفك ... إلخ وهو غلط في الرسم يحرف المعنى. (10) أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد في الجزء السابع والعشرين (ص43) وكتب أول الشطر الثاني هكذا (لما يزل) (11) غنيت بذلك إذ هم لي جيرة ... منها بعطف رسالة وتودد في الحادي عشر (ص65) وورد الشطر الثاني هكذا: منها تعطف وتناله وتودد، وأحيل على عدد 7. (12) والبطن ذو عكن خميص لين ... والنحر تنفجه بثدي مقعد في السادس (ص 48) وكتب الشطر الثاني هكذا: والبحر منفحة بيدي مقعد (نعوذ بالله) . (13) نجلو بقادمتى حمامة أيكة ... بردا أسف لثانه بالإثمد في التاسع عشر (ص60) وكتب هكذا: نحلو بقادمتي جماعة أيكة ... بردا أسف لثانه بالإثمد (14) تخب إلى النعمان حتى تناله ... فدى لك من رب طريفي وتالدي في الأول (ص47) وقد كتب الشطر الثاني * فدى لك من رب تليدي وطارفي* وهو تحريف لأن القصيدة دالية وقبل البيت فلا بد من عوجاء تهوي براكب ... إلى ابن الجلاح سيرها ليل قاصد (15) أريني جوادًا مات هزلاً لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلاً مخلدا في الأول (ص413) وهو من كلمة لحاتم، وقد وضع في آخر الشطر الأول كلمة: لأنني: بدل: لعلنى، وهو تحريف. (16) تمسي إذا العيس أدركنا نكائثها ... خرقاء يعتادها الطوفان والزود في التاسع (ص20) وهو للراعي يصف ناقته وتأمل كيف حرفوه! يضحي إذا العيش أدركنا ... حرفا يعتادها الطوفان والرود (17) فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسيّ المسردّ من كلمة لدُرَيْد بن الصِّمَة يرثي بها أخاه وقد جاء في موضعين في الثالث عشر (ص51) وكتب الشطر الأول هكذا: فطنوا بألفي فارس مثلث. وجاء في الخامس والعشرين (ص76) وكتب الشطر الأول فيه هكذا: * فقلت لهم ظنوا بألفي مذحج * (18) صاديًا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود لأبي زبيد الطائي وورد في الثاني عشر (ص129) ووضع فيه كلمة: عصره، بها بدل عصرة بتاء. (19) أتيت حُريثا زائرًا عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جامدا للأعشى يذكر أن الحارث بن وعلة وهوذة بن علي وكان قصد الأول فلم يحمده وعرج عنه إلى الثاني وورد البيت في موضعين أولهما في الخامس (ص48) أبيت حزينًا زائرًا عن جنابة ... فكان حريب في عطائي جاهدا الثاني في العشرين (ص24) هكذا: أبيت حزينا زائرًا عن جنابة ... فكان حريث عن عطائي جاحدا (20) تضيفته يومًا فقرب مجلسي ... واصفدنى على الزمانة قائدا من الكلمة السابقة يشير إلى هوذة بن علي وكتبت الكلمة الأخيرة هكذا: فائدًا، بفاء وصوابها بقاف. (21) فبات يعد النجم في مستجيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها في السابع والعشرين (ص22) هكذا: فباتت بعد النجم في سحيرة (نعوذ بالله) . (22) فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً عرت من بعد بؤس وأسعد لعدي بن زيد وورد في السادس والعشرين (ص4) ووضع فيه كلمة: موس، بدل بؤس. (23) شاقتك ظعن الحي حين تحملوا ... فتكنسوا قطنًا يصر خيامها من معلقة لبيد ورد في الجزء السابع والعشرين (ص83) وكتب هكذا ساقيك ظعن الحى يوم تحملوا ... فتكسبوا قطبا بصر خيامها (24) من كل محفوف يظل عصية ... زوج عليه كلة وقرامها من معلقة لبيد ورد في الجزء الثامن (ص45) وكتب هكذا: من كل محفوف نطيل غصية ... زوج عليه كلة وقوامها وفزع المصحح إلى عدد 7 ولو فزع إلى نسخة من المعلقات لأمكنه تصحيح البيت. (25) فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عرّدت إقدامها من معقة لبيد ورد في الجزء السابع (ص98) وكتب فيه بدل عردت: عرب، ولا معنى لها. (26) فتوسطا عرض السري وصدعا ... مسجورة متجاورًا قلامها من معلقة لبيد، ورد في ثلاثة مواضع (1) في الجزء السادس عشر (ص 47) زهنا استبدلت مسحورة بمسجورة، ومتجاوزا بـ (متجاورًا) (2) في السابع والعشرين (ص11) وهنا صححت الغلطة الأولى لأن فيها الشاهد وبقيت الثانية على حالها (3) في الثلاثين (ص38) وهنا أنشد البيت صحيحًا. (27) لمعفر قهد تنازع شلوه ... غبس كواسب لا يمنّ طعامها من معلقة لبيد في الأول (ص288) وقد حرف أقبح تحريف فكتب هكذا: لمعقر فهد تنازع سلوة ... عبس كواسب لا تميز طعامها (28) حتى إذا يئس الرماة أرسلوا ... غضفًا دواجن قافلاً أعصامها في الثالث عشر (ص91) وكتب بدل الشطر الثاني: * عصفاً دواجن ناقلاً أعصامها * (29) تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها في الخامس والعشرين (ص55) وكتب بدل تراك: أنزال، ويعتلق بالتاء وهو غلط. (30) بها العين والآرام يمشين خلفة ... وإطلاؤها ينهضن من كل مجثم من معلقة زهير، في الثاني (ص37) ووضع فيه بدل خلفة خلفه وبدل مجثم: محثم، وجاء أيضاً في التاسع عشر (ص19) وأنشد صحيحًا. (31) أثافيّ سفعًا في معرّس مرجل ... ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم ورد في الأول (ص285) وفيه شفعًا بدل سفعا، وكجرم بدل كجذم. (32) فلما وردن الماء زرقاً جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم في الثلاثين (ص101) وفيه درقًا بدل زرقًا. (33) وقد قلتما أن ندرك السلم واسعًا ... بمال ومعروف من الأمر نسلم في الثاني (ص181) وفيه جعل ندرك ونسلم، بتاء التكلم وهو غلط، وإنما هما بالنون. (34) فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم في الثاني (ص 56) وفيه جعل الأفعال الثلاثة: تنتج وترضع وتفطم بالياء، وإنما هي بالتاء لأن الحديث عن الحرب المذكورة في قوله: وما الحرب إلا ماعلمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم (المنار) قد تركنا طريقتنا هنا في نقط الياء المتطرفة لأن الطبعة المنتقدة لا نقط للياء فيها وهو ما عليه كاتب النقد وتساهلنا في مثل لفظ (الثاني وفي) . ((يتبع بمقال تالٍ))

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (تفسير جزء عم يتساءلون) تلامذة المدارس الأميرية وكثير من المدارس الأهلية يحفظون الجزأين الأخيرين من القرآن، ولكنهم لا يفهمون معاني سورهما التي تتلى عادة في الصلاة وقد توجهت عزيمة الأستاذ الإمام رئيس الجمعية الخيرية إلى تفسيرهما لأجل قراءة تفسيرهما في مدارس الجمعية إلزامًا ولينتفع بهما من شاء من المسلمين في المدارس وغيرها، وقد تم تفسيره لجزء عم يتساءلون وقال في مقدمته أنه كتب (ليكون مرجعًا للأساتذة لمدارس الجمعية في تفهيم التلامذة معاني ما يحفظون من الجزأين لينشأوا متعودين على فهم ما يحفظون وتدبر ما يقرؤون، وليكون ما في تلك السور من دلائل التوحيد والعظات والعبر، مشرقًا للعقائد السليمة في نفوسهم، وعاملاً للإصلاح في أعمالهم وأخلاقهم) وقد تبرع حفظه الله بالتفسير للجمعية فطبع على نفقتها. أما الجزء فإن أكثر سوره مكية وهى من أول القرآن نزولاً لذلك تراها تقرر أساس الدين وأصوله الكلية بالإجمال وهي توحيد الله تعالى والحياة الآخرة وعمل الخير وترك الشر وهذا ما يحتاج كل ناشئ من البشر إلى الاهتداء به ولو من غير المسلمين. وأما التفسير فحسبنا أن نقول أنه للشيخ محمد عبده، وإن كان لا بد من التنبيه على بعض المسائل التي انفرد بتحريرها فيه دون من أعرف من المفسرين فليكن ذلك ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، وأن سورة الفلق نزلت في ذلك. ولا تغفل فيه عن الدقة في تجلية المعاني بما يطابق العلم الحديث مع المحافظة على مذهب السلف كقوله في معنى بناء السماء: (والبناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يكون عنها بنية واحدة وهكذا صنع الله بالكواكب، وضع كلاًّ منها على نسبة من الآخر مع ما يمسك كلاًّ في مداره حتى كان عنها عالم واحد في النظر، سُمي باسم واحد وهو السماء التي تعلونا ... ) إلخ. ثمن النسخة من الجزء خمسة قروش صحيحة فهي على قلتها في مقابلة الكتاب إعانة للجمعية الخيرية، وأجرة البريد قرش واحد وهو يطلب من مكتبة الجمعية ومن إدارة مجلة المنار بمصر. * * * (كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر) سبق أهل القرون الثلاثة الأولى للإسلام ببلاغة القول وفصاحة المنطق. وحس الأسلوب، وكمال البيان، وكان ما طرأ على اللغة من العجمة، وما اختاره الضعفاء من الصنعة والكلفة، مغلوبًا صاحبه على أمره، مغمولا في أهل عصره. ثم قوي في القرن الرابع والخامس سلطان المتكلفين، وكثر عدد الكتاب الأعجميين، فانبرى أهل الذوق السليم والنقد الصحيح من فرسان الآداب وأئمة الكتاب إلى كشف عوارهم وهتك أستارهم، وكان من السابقين في هذا المضمار أبو هلال الحسين بن عبد الله بن سهل العسكري المتوفى سنة 395 وأشهر ما كتبه في البلاغة كتاب (الصناعتين) وقد بين سبب تأليفه في المقدمة فأورد أمثلة من الكلام الفج الغليظ، والوخم الثقيل، مما قاله الأعراب واختاره محبو الغريب والإغراب من علماء الإعراب، ثم قال: (فلما رأيت تخليط هؤلاء الأعلام فيما راموا من اختيار الكلام، ووقفت على موقع هذا العلم من الفضل ومكانه من الشرف والنبل، ووجدت الحاجة إليه ماسة، والكتب المصنفة فيه قليلة. وذكر أن أكبرها وأحسنها كتاب (البيان والتبيين) وقال بعد وصفه وعدم كفايته: فرأيت أن أعمل كتابي هذا مشتملاً على جميع ما يُحتاج إليه في صنعة الكلام: نثره ونظمه، ويستعمل في محلوله ومعقوده؛ من تقصير وإخلال وإسهاب وإهذار. ثم ذكر أبوابه وما فيها من المسائل كموضوع البلاغة وحدودها ووجوهها وتمييز جيد الكلام من رديئه , ومعرفة الصنعة فيه وبيان حسن السبك وجودة الوصف، وذكر الإيجاز والإطناب وحسن الأخذ والتضمين وقبحه والقول في التشبيه والسجع والازدواج وأنواع البديع ومقاطع الكلام ومباديه. وفي كل باب وفصل منه من الأمثلة المختارة ما يطبع ملكة البلاغة في النفوس المستعدة. وقد طبع الكتاب طبعًا جميلاً في الآستانة على نفقة أحمد أفندي ناجي الجمالي ومحمد أمين أفندي الخانجي الكتبي ويطلب منهما ومن إدارة مجلة المنار وثمن النسخة منه غير مجلدة عشرة قروش صحيحة والمجلدة تجليدًا أفرنجيًّا 15 وأجرة البريد قرشان. * * * (تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوكو) وهو كما قال ناشره: يشتمل على مقدمات تاريخية واجتماعية في علم الأدب عند الإفرنج وما يقابله من ذلك عند العرب من إبان تمدنهم إلى عصورهم الوسطى وما اقتبسه الإفرنج عنهم من الأدب والشعر في نهضتهم الأخيرة وخصوصًا على يد فيكتور هوكو. ويلحق بذلك ترجمة هذا الشاعر الفيلسوف ووصف مناقبه ومواهبه ومؤلفاته ومنظوماته وغير ذلك. طبع الكتاب في في مطبعة الهلال بنفقتها وكان نشر في الهلال وقد عزي إلى المقدسي (ونظن أنه محمد روحي أفندي الخالدي الشهير) والكتاب مما يقرأ ويشكر لمؤلفه العناية بتصنيفه لما فيه من الفوائد التي تذكر أبناء هذه اللغة بما يجب عليهم لإحياء لغتهم وما يفتح لمتأدبها من الأبواب الجديدة للفكر والشعر. ولولا ضيق في الوقت وكثرة في الكتب المهداة الجديرة بالنظر فيها لوفيته حقه من النقد، وقد فتحته عند كتابة هذه الكلمات فوقع نظري في الصفحة (51) على ذكر أشهر الشعراء المولدين فإذا هو يقول في أبي تمام: هو ميال للتصنع والتكلف والتعويص في المعاني. ولم يصفه ولا شعره بأكثر من هذا، وقد ظلمه فهو - ولا ننكر الصنعة والتفاوت في كلامه - في مقدمة الطبقة العليا وله من المحاسن ما لم يدرك فيه شأوه أحد ممن حاول مجاراته. وذكر أبا نواس فقال: وله سبك جيد وحلاوة ورقة، وهو ما وصفه به المتقدمون، ولكن كان يجب أن يوفيه حقه فهو أشعر المولدين على الإطلاق حاشا بشار بن برد. والكتاب يطلب من مكتبة الهلال وثمنه عشرة قروش. * * * (إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد) رسالة نفيسة للشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن ساعد الأنصاري السنجاري من علماء القرن الثامن (توفي سنة 749) ذكر فيها أنواع العلوم وأصنافها وموضوعاتها ومنافعها ومراتبها، فذكر ستين علمًا وأرشد في كل علم إلى كتب من أحسن ما صنف فيه، ومنها علم النواميس وعلم البيطرة والبيزرة وعلم المرايا المحرقة وعلم عقود الأبنية وعلم مراكز الأثقال وعلم جر الأثقال وعلم أنباط المياه وعلم البنكامات وعلم الآلات الحربية. ومن هذه الرسالة يتبين لمن لم يطلع حق الاطلاع على تاريخ المسلمين أن سلفنا رحمهم الله لم يتركوا علمًا من علوم العمران وغيرها إلا واشتغلوا به وحصلوه وألفوا فيه وقد اخترنا ذكر بعض العلوم التي صارت غريبة عندنا حتى إن علماء الأزهر لا يدرون موضوعاتها ولا أن سلفهم الصالح اشتغل بها، فما بالك بما ذكره من سائر العلوم الرياضية والطبيعية والاجتماعية كعلم السياسة وعلم تسطيح الكرة وعلم الآلات الظلية وعلم حساب التخت والميل، ولو اقتُرح على علماء الأزهر إدخال شيء من هذه العلوم فيه لصاحوا صيحة منكرة وقالوا: إن هذا إلا إزهاق لروح الدين وإبطال لعلومه من المسلمين، فهل نصدق أنهم أعرق في الدين من آبائهم الأولين وسلفهم الصالحين؟ وقد أحيا هذه الرسالة بعد ما قُبرت في المكاتب القديمة الشيخ طاهر المغربي الشهير بغيرته وعلمه، وأصلح بالمقابلة على ما عثر عليه من نسخها ما أفسد النساخ فيها، وطبعت على نفقة أسعد بك حيدر أحد وجهاء قضاء بعلبك، وصححها سليم أفندي البخاري من علماء دمشق، فجزى الله الأستاذين والبيك الجزاء الحسن على ما أحسنا إلينا بهذه النصيحة والموعظة الحسنة. * * * (الزهرة السوداء) قصة لإسكندر دوماس الكبير، الكاتب الفرنسي الشهير، نقلها إلى اللغة العربية سامي أفندي نوار وموضوعها أن أحد علماء النبات كان مشغولاً باتخاذ الوسائل الصناعية لإيجاد زهرة سوداء من (الطوليب) وأن حاسدًا كسولاً من جيرانه كان يراقبه ليسرق الزهرة إذا هي وجدت ليفوز بشرف الاختراع وبالجائزة التي عينتها لجنة معرض الزهور لمن يجيء بالزهرة وهي مائة ألف جنيه. ثم سجن العالم بذنب سياسي اتهم به، فعشق ابنة السجان وعشقته وساعدته على تربية الزهرة بعد ما وجد بصلة نباتها، وهيأه بالصناعة لإنباتها، حتى إذا ما ظهرت سرقها المراقِب وقدمها للجنة الزراعة وكاد يفوز بالجائزة لولا أن تأثرته البنت وأثبتت سرقته إياها بوجه كان مبرئًا لعاشقها من الذنب السياسي وانتهت القصة بتزوجه بها. هذا الموضوع كله ولكنه مبسوط في 240 صفحة بسطاً يروق ويفيد بما فيه من تصوير سلامة القلب وكرم الأخلاق والتوله في حب العلم والعشق المُجمَّل بالعفة والنزاهة، كما يفيد الكتاب بأسلوب الإسهاب؛ وقد أودعها المترجم من التنبيه على مواضع الاستفادة بما وضعه في خلال الكلام بين الأقواس ما يزيد في فائدتها الأدبية. وقد طبع القصة صاحب مكتبة الشعب في مطبعته وهي تطلب منها وثمنها خمسة قروش صحيحة. * * * (برح الخفاء) سبق ذكر هذه القصة في تقريظ سوابقها وقد صدرت بعد صدورهن وفيها من الفوائد تصوير الصدق والوفاء في الصحبة وتمثيل الروابط الطبيعية بين الأهل والأقربين وكيف تبلغ كمالها في بيوت المجد، وبيان سوء عاقبة فاسدي الأخلاق في أنفسهم وأهليهم ولا تنس ما مهدت له القصة التي قبلها من بيان طريق اختيار الأزواج وما للإفرنج من الحيل في ذلك، فعسى أن يتنبه قراء هذه القصص لهذه العِبر ولا يكون حظهم منها محض التفكه، كالجاهلين الذين يرون العبر بأعينهم في الخليقة كل يوم ولا يفقهون. * * * (الأرجوزة العصرية) نظم أخنوخ أفندي فانوس المحامي المشهور بمصر أرجوزة سماها بهذا الاسم (تبحث في تاريخ اليابان وأسباب تقدمها وفي أن كثيرًا من الشرائع الدينية جاءت بحسب الظروف والمكان، ونصائح للأمة المصرية، وتحرير المرأة، وأضرار تعدد الزوجات، وأضرار الطلاق والتسري، وغير ذلك من المباحث الهامة) بهذا عرفها وقدمها إلى الأمة المصرية سلالة أولئك الفراعنة ورعاياهم الذين تنطق آثارهم بمدنيتهم، وإلى الإنسانية. وإننا نورد منها أمثلة، قال في فاتحتها: ما لليباني عن خباه مالا ... فزلزل السهول والجبالا وذكره صبح في الآذان ... يشجي نفوس القوم كالألحان وبطشه قد سار في الركبان ... أحدوثة الفرسان والشجعان وحبه للموت والجهاد ... في خدمة الأوطان والبلاد أضحى نشيد القوم في (النوادي) ... لم تخلُ منه بقعة أو وادي قد حير الألباب والعقولا ... إذ خالف المعقول والمنقولا فيله شبلاً نراه أسدًا ... في لحظة معفراً مرعداً قد اذبأر الشبل والناب بدا ... فاذعر الدب فولّى وعدا وكل يوم يكشف الستار ... عن آية فيها النهى تحار لكن هذي آية بالزمان ... هادية الشيوخ والشبان ثم ذكر أن لكل شيء سببًا وأن سبب ارتقاء اليابان ما وهبه الميكادو الحاضر من الحرية في الرأي والدين والرواية، وانتقل من هنا إلى ذم التعصب الذميم الذي يخرب البلاد ويهلك الأمم ومنه إلى اختلاف الشرائع والأديان باختلاف الزمان والمكان، وذكر الأمثلة من لدن آدم حتى انتهى إلى كلمة المسيح: (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) فنظمها هكذا: أما ترى المسيح ابن مريم ... إذ قال قولا صائبًا ومحكما لمّا به احتاطوا وقالوا مكرًا ... العشر يعطى قيصراً أم نمرى قال لهم وقوله حكم سرى ... لله أعطوا ما له وقيصرا ثم زعم أن اليابان أدركوا هذه الحكمة فانطلقوا من بؤسهم للنعمة وذلك أن كُتاب النصارى يأخذون من هذه ا

كتاب حافظ إبراهيم إلى الشيخ محمد عبده

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ كتاب حافظ إبراهيم إلى الشيخ محمد عبده لما قدم حافظ أفندي إبراهيم الجزء الأول من ترجمة البؤساء إلى الأستاذ الإمام كتب إليه الأستاذ كتاب شكر نشرناه في الجزء السابع من المجلد السادس (ص (278) وقد جاء فيه: (فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه (أي مؤلف الكتاب) بتلك الحكمة، تم كان سببًا في امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة (الترجمة) سألت الله أن يزيد وفرك من هذا البؤس حتى يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ) إلخ , وقد كتب حافظ في هذه الأيام بهذا الكتاب إلى الأستاذ يذكره بتلك الدعوة ويذكر من تأثيرها، قال: مولاي الأستاذ الإمام، دار الفلك دورته، وضرب الدهر ضربته، فشابت ناصية الأمل، ونبت عذار الملل وجاشت إليَّ النفس أول مرة ... فردت على مكروهها فاستقرت ولولا يقين أخذته عنك، وخوف الله لبسته منك، لنعاني الأدب في ناديك وخرجت منها وأنا أناديك: أيها المحب لأعدائه، الرحيم البر بأوليائه: إني رجوتك للدنيا وعاجلها ... كما رجوتك يوم الدين للدين فلئن فاتني ذلك منك في دار الفناء، فلن يفوتني إن شاء الله في دار البقاء، ولكني ذكرت عزمك فشدّ مني، ونظرت في مأثور قولك فرَّفه عني، فبِت أستغزر ما كنت أستنزر، وجعلت أتمزّز من تلك الصبابة الباقية، وآتدم بالصبر على تكاليف هذه الفانية، نضبت الأولى، وعزني الصبر على الثانية، فعمدت إلى التماس ما فوق الصبر إن كان فوقه فوق. فما زلت أنظر إلى الدنيا من بعيد، وأتمثل فيها بقول مسلم بن الوليد: دلت على نفسها الدنيا وصدقها ... ما استرجع الدهر مما كان أعطاني حتى ذكرت تلك الدعوة التي دعوت عليّ في ذلك الكتاب الذي تقدمت به إليّ فيها أيها الحكيم الذي لا يفاجأ في دهره، ولا يبادر في شيء من أمره، لم يكن فتاك من فلاسفة الهنود [1] فيتجمل بالصبر عن لمس النقود، ولا بالساكن في عين شمس [2] فيصرع الأماني بقوة النفس، ولكنه ذلك المخلوق الذي عق نفسه، وتولت الكواكب نحسه ونكسه، كلما وقت لأمر وقتًا ضحك منه المقدار. أو حسب لشيء حسابًا أفسده عليه الليل والنهار، فهو في خفض إلا من العيش، وفي عزلة إلا عن الدهش والطيش، فأنفحه أيها الإمام بنفحة من نفحاتك، وأدركه أيها المخلص بدعوة من دعواتك. فإني رأيتها إلى السماء أقرب منها إلى فيك. وإلى استجابة الله أسرع منك إلى من يناديك، ولا تنزل أمري على الجرأة عليك، إذا نفضت في هذا الكتاب جملة حالي إليك، فأنت صاحب الدعوة الأولى ولك في محوها اليد الطولى، فكن صاحب الثانية، وإلا فهي القاضية. اهـ

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (حسن باشا عاصم) ليس من شأن المنار أن يذكر من الأخبار , إلا ما هو محل العظة والاعتبار , وليس من الاتعاظ بالحوادث أبلغ من حوادث رجال الاستقلال والاستقامة، وقد شهد كل من عرف حسن باشا عاصم من وطني وأجنبي أنه في مقدمة رجال العلم والعمل والاستقلال والاستقامة والإدارة والنظام، عرفوا ذلك منه بالمشاهدة والاختبار إذ كان رئيسًا للنيابة ثم قاضيًا أهليًا ثم رئيسًا للتشريفات الخديوية ثم رئيسًا للديوان الخديوي وقد أخذه الأمير من كرسي القضاء إلى قصر الإمارة لما عرف عنه من الجد والنظام وكانت دائرة التشريفات قبله مختلة فأقامها على نظام ثابت خضع له حتى الأجانب ثم رقاه إلى أكبر وظيفة في القصر وهي رياسة الديوان الخديوي فكان صاحب المؤيد يومئذ يفتخر بحسن اختيار الأمير للرجال تفضيلاً له على اختيار الحكومة التي تخرج مثل حشمت باشا من المديرين وتقر فيها مثل فلان وفلان. وقد حدث في أواخر رمضان أن أحال الأمير هذا الرجل على المعاش من غير سبب ذكر في أمر الإحالة فدهش الناس لذلك وما فتئوا يلهجون به. وقد اتفقت الجرائد المنتشرة التي لها رأي على الثناء على حسن باشا والاعتراف بفضله واستقامته، ومن أصحابها من اكتفى بالشهادة له بالاستقامة والصدق في خدمة الأمة وخدمة الأمير كصاحب المؤيد والأهرام ومنها ما ذكر مع الثناء تعليلاً للإحالة على المعاش كالمقطم، فإنه ذكر أن حسن باشا في عدله واستقامته قد خلق لأن يكون قاضيًا لا لأن يكون في بلاط الأمراء.. . وأما (اللواء) فإنه رجح أن سبب الإحالة غضب الأمير على رئيس ديوانه منذ حدثت مسألة استبدال مزرعة الأمير المعروفة بمشتهر بأرض لديوان الأوقاف في الجيزة، والمسألة مشهورة وملخصها أن طالب الاستبدال كان طلب من ديوان الأوقاف ثلاثين ألف جنيه زيادة فما رضي الديوان حتى أخذ منه عشرين ألف جنيه فكانت الخسارة بالنسبة إلى طلبة الأول خمسين ألف جنيه وكان ذلك بموافقة حسن باشا إذ كان عضوًا نائبًا عن الأمير في مجلس ديوان الأوقاف الأعلى الذي تجري أمثال هذه الأعمال بموافقته. والتفصيل معروف للناس فلا نطيل به ومهما كان من السبب في ذلك فإن أهل العقل والفضل آسفون لحرمان حكومة البلاد من خدمة هذا الرجل النابغة وجازمون بأن هذا من دلائل الانحطاط. ونحن جازمون مع هذا بأن حرمان الحكومة من خدمته ربما يكون سببًا لزيادة حظ الأمة منها فقد كان على اشتغاله بأعمال الحكومة يخدم الجمعية الخيرية أجل خدمة وكذلك جمعية إحياء العلوم العربية، فكيف به وقد صار وقته أوسع وقد عرفناه لا يضيع شيئًا من الوقت سُدى باختياره؟ وإنما كتبنا هذه الكلمات التي هي عند المصريين من قبيل: السماء فوقنا، لنرغب من يقرأ المنار في سائر البلاد في التأسي برجال الجد والاجتهاد. *** (استعراض الأمير لجيش الاحتلال احتفالاً بجلوس ملك الإنكليز) جرت عادة المحتلين بأن يستعرض عميدهم جيش الاحتلال في ميدان قصر عابدين لِما لا يخفى، وقد سبق من توفيق باشا الخديوي السابق التراءي للجيش من شرفة القصر ولكن عباس باشا الخديوي الحالي أعرض عن ذلك حتى كان في احتفال هذا العام وكان في أول أيام الصيام أن خرج بملابسة العسكرية وحضر الاستعراض مع اللورد كرومر تحت العلم الإنكليزي فكان لذلك تأثير عظيم في النفوس ومحي بهذا مع ما سبقه من قبيله ما كان يتوهمه الدهماء من أن الأمير هو المعارض للمحتلين، وأن النظار هم المشايعون لهم، وعلموا أنه أشد من نظاره وفاقًا معهم؛ لأن أولئك يوافقونهم لمكان القوة فيما يريدون؛ وهو يمنحهم أكثر مما يطمعون، ولا نقول إلا أن ما ظهر وتبين نافع وأن خفاء الحقيقة قبله كان ضارًّا لما فيه من غش الأمة والقذف بها في معامي الغرور والوهم، فللأمير وفقه الله تعالى لكل ما يريضيه الشكر أن كذب بعمله المغرّرين المخادعين الذين شغلوا قلوب الناس بمسألة وهمية وهي مقاومة المحتلين، ونسأل الله تعالى أن يوفق أهل هذه البلاد إلى الاستفادة من هذه الحالة بالمحافظة على أرضهم وتثميرها وعمارتها وبالعناية بتربية أولادهم وتعليمهم العلم النافع ليحيوا حياة اجتماعية شريفة يرتقون بها إلى أن يكونوا أمة عزيزة، فإن الحرية الهادئة لا يرتقي فيها إلا المهذب المقتصد ومن اتبع فيها هواه خسر دينه وديناه. * * * (إمارة نجد) علم الواقفون على أخبار البلاد العربية أن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل وارث إمارة نجد قد انتصر على ابن الرشيد في ملحمة فاصلة في 17رجب فانهزم إلى طرف الإمارة تاركًا كل ما معه من السلاح والذخائر والمال الناطق والصامت حتى قدروا خسارته بمبلغ 220 ألف ليرة عثمانية على الأقل وقتل ممن معه 485 رجلاً ولم يقتل من جماعة ابن سعود إلا خمسة عشر رجلاً: 2 من عنيزة و4 من الرس و3 من بريدة والباقي من أهل الجنوب. ولو شئنا لذكرنا عدد ما ترك ابن الرشيد من الإبل والغنم والخيل والمدافع ولكن لا فائدة في التفصيل وإنما الفائدة في بيان خطأ اشتهر بواسطة الجرائد الكاذبة التي تكتب ما يمليه الدينار أو الهوى، فإن بعض أغنياء العرب من أنصار ابن الرشيد يوهمون الدولة بواسطة الجرائد وحكام العراق والحجاز والشام أن ابن سعود يريد أن يؤسس دولة مستقلة بضم الحجاز إلى نجد بحماية الإنكليز وأنه لا وسيلة إلى منع ذلك إلا بنصر ابن الرشيد عليه وقد انخدعت الدولة أولاً فأمدّت ابن الرشيد بالمال والسلاح والرجال ولكن لم يغن المدد شيئًا ثم أشاعت الجرائد الكاذبة زعمها انتصار ابن الرشيد أن الدولة جهزت جيشًا آخر من الشام لمساعدته، وظهر كذبها، والحقيقة التي علمناها من مصادر متعددة بريئة من السياسة وخداعها وأهوائها أن ابن مسعود يريد أن يكون تحت سيادة الدولة العثمانية، وأن يجعل لها من الحقوق والسلطة في نجد أكثر مما كان لها بشرط واحد وهو أن لا تُدخل القوانين في تلك البلاد؛ فإن أهلها لايقبلون إلا حكم الكتاب والسنة. وقد اجتهد ابن سعود في عرض رغبته هذه على الدولة وايصالها إلى السلطان ولكن أعوان ابن الرشيد في العراق والحجاز حالوا دون ذلك حتى تكفل به نقيب الأشراف في البصرة ويظن أنه أوصله إلى السلطان ولكن لا ندري أظهر كل الحقيقة أم قضت سياسته بإظهار بعضها وإخفاء بعض ولا حاجة لإيهام الدولة بأن ابن سعود يلجأ إلى الحماية الإنكليزية إذا هي أصرت على إمداد ابن الرشيد وإسعاده فإننا نعلم أنه وقومه في تعصبهم الديني الشديد يفضلون الفناء على الالتجاء إلى الإنكليز ونعلم أن أكثر البلاد العربية تخضع له وتبغض ابن الرشيد لظلمه ولو شاء أن يستنجد أهل اليمن لأنجدوه فإن بلاده متصلة ببلادهم وإن الخير للدولة أن تعيد هذه الإمارة إلى نصابها، وإن كانت في ريب من أمره فلترسل إليه من أهل العلم والدين من يثق بهم ليقفوا على صحة ما قلنا، والله الموفق.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أوقاف الزوايا والحرمين والأشراف صرف ريعها في التعليم (س95) م. ب. في (تونس) : ما قولكم أطال الله بقاءكم في الأوقاف الموقوفة على الزوايا والحرمين الشريفين والأشراف وغيرها مما لا يعود نفعه على مصلحة عامة شرعية، هل يجوز جمعها وصرف ريعها في إقامة مدرسة أو مدارس كلية خاصة بالمسلمين تزاول بها العلوم العصرية؟ (ج) الأصل في الأوقاف أن يصرف ريع الأعيان الموقوفة على ما وقفت لأجله من البر والخير وأن لا يحول إلى جهة بر أخرى إلا إذا تعذر وضعه في موضعه، وقد قال أكثر علمائنا: إن شرط الواقف كنص الشارع؛ أي لا يغير، ولكن بعضهم أبطل هذا القول بالأدلة القوية وجوز صرف ريع الموقوف على شيء غير محمود شرعًا إلى ما هو خير منه فراجع تفصيل ذلك في (ص 210) من مجلد المنار الخامس ومنه تعلم حكم الموقوف على الزوايا والحرمين. وأما الموقوف على الأشراف فلا وجه لحرمانهم منه بدعوى أنه ليس من المصالح الشرعية العامة إذ لم يقل أحد من المسلمين بأن الوقف لا يجوز إلا على المصالح العامة. أما ما يجول في فكر السائل من وجوب انتفاع المسلمين من الأوقاف القديمة التي قصد بها الخير والنفع وهي الآن لا تكاد تفيد بل منها ما هو ضار ومعين على الإفساد - فإنه يجول في أفكار عقلاء الأمة في كل مكان لا سيما الذين أحسوا بالحاجة إلى العلم وهم يرون أن بعض التكايا والزوايا قد أمست مأوى الفساق والكسالى الذين ينقطعون عن أعمال الدين والدنيا ويلجأون إلى هذه التكايا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام ويشربون الخمور ولا يقصرون في سائر ضروب الفجور، فلا شك أن إعانة أمثال هؤلاء على بطالتهم وجهالتهم وفسقهم من أكبر المعاصي، والإنفاق عليهم من ريع الأوقاف الخيرية مما يعلم بالضرورة أنه غير مقصود للواقفين رحمهم الله تعالى. ثم إن هذه الأوقاف الخيرية على قسمين: منها ما أوقف على جهة بر مخصوصة بشروط معروفة كالموقوف على زوايا وتكايا عامرة فيمكن للنظار أن يشترطوا لقبول الناس في هذه التكايا أن يتعلموا ما ينفعهم وينفع الناس بهم مع المحافظة على شروط الواقفين الموافقة للشرع. ومنها ما جهلت شروطه أو تعذرت إقامتها كأن يندرس المكان أو يزول المكين، فهذه هي التي ينبغي لعقلاء الأمة أن يسعوا في الاستعانة بها على إنشاء المدارس العالية التي تتعلم فيها الأمة ما تعتز به في دينها ودنياها معًا وهي في كل قطر إسلامي كافية لذلك لولا أهواء الرؤساء الغاوين من الأمراء والفقهاء الذين أذلوا هذه الأمة وأفسدوا عليها أمر دينها ودنياها كما أذل أمثالهم كل أمة ذلت , وأفسدوا كل ملة فسدت , وأن أمثال هذه الأماني لا تتم لعقلاء المسلمين إلا إذا كثروا وصار لهم من النفوذ والتأثر في نفوس العامة ما يمكنهم من الأمور العامة , فإن الرؤساء الغاوين لا يقهرون العقلاء المصلحين إلا بقوة الرأي العام الذي أخضعته لهم التقاليد والأوهام , ولذلك تراهم يحاربون المصلحين بتبغيضهم إلى العوام , إن لم يتمكنوا من الانتقام منهم بالنفي أو الإعدام. * * * حكم اللواط وعقوبة اللذين يأتيانه (س 96) من عبد الفتاح أفندي هنو (بالإسكندرية) : ما يقول حضرة الأستاذ الإمام (أدام الله بقاه) في ما يجب على اللوطية من الأحكام الشرعية: هل هو قتل الفاعل والمفعول مطلقًا، كما ذهب إليه جماعة من العلماء أم حكم الفاعل حكم الزاني بخلاف المفعول، كما ذهب إلى ذلك جمع آخر؟ أم لا حدَّ على الفاعل والمفعول، كما هو المشهور عن أبي حنيفة رضي الله عنه؟ وإذا كان الواجب قتل الفاعل والمفعول، فهل في ذلك نص قاطع من الكتاب أو من السنة المتواترة أم لا؟ وهل في ذلك خبر آحاد أم لا؟ وهل على تقدير ورود خبر آحاد فيه يجب العمل بمقتضاه أم لا؟ ومن قال إن حكم الفاعل حكم الزاني، هل له دليل من الكتاب أو من السنة أو دليله القياس؟ وإذا كان دليله القياس فما العلة، وعلة تحريم الزنا معلومة ومفقودة في اللواط؟ وهل ادعاء أن المشهور عن أبي حنيفة ما ذكره أعلاه صحيح أم لا؟ وإذا رأيتم أن لا حدَّ على الفاعل والمفعول فهل ترون حرمة ذلك؟ وإذا رأيتموها فهل هي من الكبائر؟ وإذا كانت منها فهل هي أكبر من الزنا؟ وهل إذا أنكر منكر تحريم ذلك مطلقًا يحكم بكفره أم لا؟ أفيدوا لا زلتم مهديين. (ج) ورد هذا السؤال على مفتي الديار المصرية فأرسله إلينا لنجيب عنه وقد كنا سئلنا في السنة الماضية عن حد اللواط فأجبنا عن السؤال في الجزء الثالث عشر منها وملخص الجواب أن الله تعالى أمر بحبس النساء اللائي يأتين الفاحشة وبإيذاء اللذين يأتيانها وذكر هذا باسم الموصول للمثنى المذكر والمتبادر أنه أراد الزاني واللائط وهو المروي عن مجاهد وأبي مسلم وبه أخذ الشافعي، وقيل إن المراد بهما فاعلا اللواط أي الفاعل والمفعول، والإيذاء في الآية مجمل وقد ورد في بيانه من الحديث المار بقتل الفاعل والمفعول كما في حديث أحمد وأصحاب السنن وغيرهم. وورد حديث آخر في الأمر برجمهما، وروى الطبراني أن عثمان بن عفان أُتي برجل قد فجر بصبي فسأل عن إحصانه فقيل له أنه تزوج بامرأة ولم يدخل بها، فقال علي لعثمان: لو دخل بها لحل عليه الرجم، فأما إذا لم يدخل بها فاجلده الحد. فقال أبو أيوب: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الذي ذكر أبو الحسن. ونقل ابن حجر في (الزواجر) عن بعض الصحابة الأمر بإحراق اللوطي ولم يصح، ونقل عن بعض أئمة التابعين القول بأن حد اللواط هو حد الزنا، قال: وبه قال الثوري والأوزاعي وهو أظهر قولي الشافعي، ويحكى عن أبي يوسف ومحمد. وذكر مذاهب وأقوالاً أخرى تراجع في الجزء المذكور من منار السنة الماضية. وصفوة القول: إن الله قد أمر بعقوبة اللذين بأتيان الفاحشة وهي تشمل اللواط قطعًا بدليل التعبير عنها بلفظ الفاحشة في الكلام على قوم لوط فإنكار ذلك إنكار لنص القرآن، وكذلك إنكار كونه معصية إذ لا عقوبة في غير معصية ومما يدل على كونها معصية كبيرة مع الإجماع تلك الآيات التي تقبح عمل قوم لوط أشد التقبيح مع قوله {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} (الأعراف: 33) فليس لمؤمن أن يتردد في كون هذا العمل محرمًا يجب عقاب مقترفه، أما كون العقوبة تسمى حدًّا وكونها عين عقوبة الزنا فهو مما علم برواية الآحاد فلا حرج على من أنكره إذا لم يثبت عنده، كما روي عن أبي حنيفة، ولا مندوحة لمنكرها عن القول بوجوب العقاب على مرتكب هذه الفاحشة بما يظن الحاكم أنه يردعه عنها ويردع أمثاله. والعمل بأخبار الآحاد الصحيحة المبينة لإجمال الكتاب في الأحكام العملية مما لا خلاف فيه بين علماء الأصول، والمراد بالصحيح هنا ما يقابل الضعيف والمعلول. وأما الرواية عن أبي حنيفة فهي في متون المذهب، قال في البداية: ومن أتى امرأة في الموضع المكروه أو عمِل عَمَل قوم لوط فلا حد عليه عند أبي حنيفة ويُعزر، وزاد في الجامع الصغير: ويودع في السجن وقالا: (هو كالزنا فيحد) قال في الهداية بعد هذا: وهو أحد قولي الشافعي، وقال في قول: يقتلان في كل حال؛ لقوله عليه السلام: (اقتلوا الفاعل والمفعول) ويروى: فارجموا الأعلى والأسفل. ولهما أنه في معنى الزنا؛ لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حرامًا لقصد سفح الماء. اهـ المراد. ثم إننا نقول بأن القياس يتفق مع النص في تحريم هذه الفاحشة والعقاب عليها بعقاب الزنا أو نحوه فإن ضررها كبير وإفسادها عظيم، فمنه إضاعة النسل بالمرة وهي أشد ضررًا من وضعه في غير موضعه، فالأمة التي يفشو فيها اللواط يقل فيها النسل ما لا يقل في نشوء الزنا، وإن كان الزنا أيضًا من أسباب قلة النسل وذلك أن في فشو اللواط إهمالاً للنساء بقدره، ولا حاجة إلى زيادة التفصيل في بيان هذه المفسدة وحسبك ما تسمع كل يوم عن فرنسا من اهتمام ساستها وعلمائها بما علم من قلة النسل فيها. ومنه إفساد البيوت؛ فإن الذي يرتكب صاحبه هذه الفاحشة الدنيئة يسري فيه الفحش سريان السم في الجسم فلا تبقى فيه امرأة ولا ولد إلا ويتسمم بفساده. ومن بحث في سيرة الفساق بحث مستفيد معتبر يعرف صحة هذا القول. ومنه أن مرتكبي هذه الجريمة يغلب عليهم المهانة وفقد إحساس الشرف والغيرة وغير ذلك من الأخلاق الذميمة حتى إنهم يكونون محقرين مستذلين عند الأحداث والسفهاء. ومنه أن المفعول به يصاب بداء الأبنة ولا داء يذل صاحبه ويشينه ويحقره مثل هذا الداء الذميم الذي يتعذر كتمانه لا سيما في الكبرُ وإنك لتسمع في هذه المدنية الفاسقة بذكر رجال من بيوتات الجاه الرفيع يوصمون بهذه الوصمة، فيقترن ذكرهم باللعنة، ولم تبق لهم في نفوس الناس قيمة، ولولا دهان غلب على الناس لبصقوا في وجوههم في حضرتهم كما يمضغون لحومهم في غيبتهم. * * * الانتقام من الأبناء بذنوب الآباء (س97) أحمد أفندي المشد المحامي في (ملوي) : هل المولى عز وجل ينتقم من الابن بسبب الأب؟ وما هو الدليل القرآني أو الحديث على صحة أي القولين. (ج) يقول الله تعالى في سورة فاطر: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (فاطر: 18) أي لا تحمل نفس وازرة (مذنبة) وزر نفس أخرى، وإنما تحمل كل نفس وزر نفسها وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب والأوزار نفسًا أخرى إلى حمل شيء من ذنوبها لا تجاب دعوتها ولا يحمل من تدعوه عنها شيئًا ولو كان من الأقربين كالآباء والأبناء، وهذا المعنى مكرر في القرآن {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49) وأما قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِم} (العنكبوت: 13) فهو في المضلين الذين يحملون إثم الضلال الذي وقع من الناس بإغوائهم، ويوضحه قوله تعالى {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْم} (النحل: 25) . * * * تربية اللقطاء (س98) ومنه: هل يجوز شرعًا تربية الأطفال اللقطاء؟ وهذا السؤال مفرع على ما قبله. (ج) التربية الصالحة من أفضل الأعمال ولا شيء منها غير جائز، ولو فرضنا أن الأبناء يؤاخَذون بذنوب الآباء لما كان ذلك مانعًا من جواز تربيتهم، فإن إهمال التربية الصالحة سبب لكثرة الشر والفساد في الأرض. * * * عقيدة الدروز (س99) سعيد أفندي قاسم حمود في كنتون أوهايو من (أمريكا الشمالية) دار بين جماعة منا معشر المسلمين وجماعة من الدروز اللبنانيين حديث أفضى إلى ذكر الحشر والنشر والموقف العظيم، فقال أحد الدروز: هل تعتقدون أيها المسلمون بيوم القيامة وبالجنة والنار؟ فقلت: نعم، قال: فأنتم إذن كالعيسويين. فاستوقفته حينئذ عن هذه المحاجة التي أدت به إلى الكفر وجئتكم أنا وإخواني المسلمين سائلين عن هذه الشيعة الدرزية هل تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيوم البعث؟ أم ماذا يعبدون وبماذا يؤمنون؟ عرفونا لنكون على حذر ونؤدبهم بمناركم المؤيد إلى أبد الآبدين آمين (ج) لا يضرنا معشر المسلمين أن نوافق النصارى في بعض عقائدهم، فالأصل موافقة جميع الأديان في العقائد، ولولا تحريف الأمم وإضاعتهم لَما خالفت عقيدة نبي عقيدة من قبله من الأنبياء. وأما الدروز فإنهم فرقة من فرق الباطنية الذين انشقوا من المسلمين وهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن ولكنهم يحرفون القر

كتاب المصالحة المنتظمة بين سلطان مراكش ولويز الخامس عشر ملك فرنسا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب المصالحة المنتظمة بين سلطان مراكش ولويز الخامس عشر ملك فرنسا الحمد لله وحده هذا ما صالح عليه مولانا الإمام المظفر الهمام السلطان الأعظم الأمجد المعظم سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن إسماعيل - الله وليه ومولاه - ابن إسماعيل قدس الله سره، سلطان مراكش وفاس ومكناسة وسوس وتافلالت وغيرهم - طاغيه جنس الفرنسيس ومن في حكمه لويز الخامس عشر من اسمه بواسطة الباشا دور المفوض إليه من قِبله وهو كونط دبرنيون، على شروط تذكر وتفصل بعد هذا , وتم هذا الصلح وانبرم في آخر ذي الحجة الحرام عام ثمانين ومائة وألف الموافق لتاريخ الروم لثمانية وعشرين من شهر مايه عام سبع وستين وسبع مائة وألف. (الشرط الأول) يؤسس هذا الصلح وينبرم على ما انبرمت عليه المصالحة بين السلطان الأعظم سيدنا ومولانا إسماعيل قدس الله سره وبين طاغية الفرنسيس في ذلك الوقت لويز الرابع عشر من اسمه والشروط المشار إليها هي هذه. (الشرط الثاني) إن لرعيتي الدولتين أن يذهبوا بتجاراتهم ومراكبهم حيث شاءوا برًّا وبحرًا في أمن وأمان بحيث لا يتعدى أحدهما على الآخر ولا يمنعهم أحد من ذلك. (الشرط الثالث) إذا التقت سفن سيدنا - نَصَرَهُ الله - الجهادية أو غيرها بقراصين الفرنسيس أو غيرها من سفنهم البازركانية حاملة لسنجق الفرنسيس , وعندهم بصابرط من قِبل طاغيتهم على الوجه المصطلح عليه كما هو مرسوم آخر هذه الشروط فلا يتعرض لهم ولا يفتش فيهم , ولا يطالبون بغير إحضارها , وإن احتاجوا لما يقضونه لبعضهم على وجه الخير؛ قضوه من الجانبين , وكذلك السفن الفرنسيسية يفعلون مع سفن سيدنا - أيده الله - ما ذكر أعلاه إذا التقوا معهم , ولا يطالبونهم بشيء إلا بإظهار خط يد القونصوا الفرنسيسي المستوطن بإيالة سيدنا - نصره الله - على الوجه المصطلح عله أيضًا كما هو مرسوم بآخر هذه الشروط. ولا تطالب القراصين الفرنيسيسة الكبيرة بإحضار الباصابرط إذا التقت بهم سفن سيدنا - أيده الله - إذ ليس من عادتهم حملها , ويؤخر البحث عن الصغار لمضي ستة أشهر تأتي من تاريخه أولها يونية وآخرها نوفمبر الآتي. وفي هذه المدة يعطي طاغيتهم أمارة بالكتابة للسفن الصغار , وتأتي نسخة منها على يد القنصوا لتصاحب قراصين سيدنا في سفرهم بحيث إذا التقوا بهم يستظهر كل واحد بما عنده من ذلك العمل في نزول الفلوكة على ما وقع الشرط فيه بينهم وبين الجزيريين. (الشرط الرابع) إذا دخلت سفينة من سفن سيدنا الجهادية أو غيرها لمرسى من مراسي الفرنسيس أو بالعكس، فلا يُمنعون من حمل ما يحتاجون إليه من مأكول أو مشروب لهم ولمن معهم في سفنهم من الجانبين , وكذلك إن احتاجوا إلى آلة من آلات سفنهم فلا يمنعون من ذلك بالثمن الجاري بين الناس من غير أن يزاد عليهم شيء في جميع ذلك مراعاة للصلح الذي بين الرعيتين. (الشرط الخامس) لرعيتي الدولتين الدخول لأي مرسى شاءوا من مراسي سيدنا - أيده الله - أو من مراسي بلاد الفرنسيس والخروج منها سالمن آمنين , وأن يبيعوا ويشتروا ما شاءوا على حسب إرادتهم , وإن باعوا من سلعهم بعضًا وأرادوا ردّ الباقي لمراكبهم فلا يطالبون بوظيف آخر , وإنما يطالبون بتعشير السلع أولاً عند نزولها فقط , ولا يدفعون في التعشير زيادة على غيرهم من الأجناس، ولتجار الفرنسيس التصرف في البيع والشراء في جميع إيالة سيدنا - نصره الله - كغيرهم , وإن تفضل سيدنا - أيده الله - على جنس من أجناس النصارى بنقص شيء من القُمرق أو من الصاكة وغيرها فهم من جملتهم. (الشرط السادس) إذا انتقض الصلح بين أهل تونس والجزائر وأهل طرابلس وغيرهم وبين الفرنسيس ودخلت سفينة من سفن الفرنسيس أيًّا كانت لمرسى من مراسي سيدنا - نصره الله - وتبعتها سفينة حربية من سفن عدوّهم لتأخذها، فعلى أهل تلك المرسى منع سفينة الفرنسيس المذكورة من عدوّهم المذكور , ولو برميه بالمدفع ليبعد عدوّهم عنها , ويحبس المركب الطالب لها بالمرسى مدة حتى تبعد السفينة المطرودة عنها لئلا يتبعها في الحال حسبما هي العادة , وإذا التقت مراكب سيدنا الجهادية بعدوِّهم بكوشطة الفرنسيس فلا يأخذونهم إلا بعد تجاوز ثلاثين ميلاً. (الشرط السابع) إذا دخلت سفينة من عدو الفرنسيس لمرسى من مراسي سيدنا - أيده الله - وبها أسارى من الفرنسيس، فإن كانوا باقين بالمركب لم ينزل أحد منهم للبرّ فلا كلام معهم فيهم , وإن نزلوا للبر فهم مسرحون وينتزعون من يد الذي هم تحت أسره , وكذلك إذا دخلت سفينة من عدو سيدنا - نصره الله - لمراسي الفرنسيس وفيها أسارى من الإيالة المولوية يفعل بهم مثل ذلك , وإن دخل عدو للفرنسيس أيًّا كان لإيالة سيدنا بغنيمة أو دخل عدو سيدنا -أعزه الله - بغنيمة لمراسي الفرنسيس - فإن الجميع يُمنعون من بيع الغنيمتين بالإيالتين. وإذا وجد عدو إحدى الدولتين تحت سنجق الأخرى فلا يتعرض له ولا لماله من الجهتين , وإذا أخذت سفينة سيدنا - أيده الله - غنيمة ووجد فيها بعض الفرنسيس ركابًا فإنهم يسرحون بأموالهم وأثاثهم كله , وكذلك إذا غنم الفرنسيس سفينة لعدوه أيًّا كان ووجد فيها ركابًا من الإيالة المولوية فإنهم يفعل بهم مثل ذلك، وأما إن كانوا بحرية فلا يسرحون من الجانبين. (الشرط الثامن) لا يلزم رؤساء المراكب البازركانية بحمل ما لم يريدوه في سفنهم ولا أن يتوجهوا لمحل من غير إرادتهم. (الشرط التاسع) إذا انتقض الصلح بين وجاقات الجزائر ووجاقات تونس وطرابلس وبين الفرنسيس فلا يأمر سيدنا - نصره الله - بإعانة الوجاقات المذكورين بشيء أصلاً , ولا يترك أحدًا من رعيته يتسلح ويركب تحت سنجق أحد الوجاقات ليقاتل الفرنسيس ولا يترك أحدًا يخرج من مراسيه ليقاتلهم , وإن فعل أحد من رعيته ذلك عاقبه وضمن ما أفسده , وكذلك يفعلون مع من عادى الجناب المولوي -أسماه الله- لا يعينونه ولا يتركون من يعينونه من رعيتهم. (الشرط العاشر) لا يكلف جنس الفرنسيس بدفع آله الحرب من بارود ومدافع وغير ذلك مما يقاتل به. (الشرط الحادي عشر) لطاغية الفرنسيس أن يجعل بإيالة - سيدنا - نصره الله - من القونصوات ما أراد , وفي أي بلد شاء ليكونوا وكلاء له في مراسي سيدنا أيده الله - ليعينوا التجار ورؤساء البحر والبحرية في جميع ما احتاجوا إليه , ويسمع دعاويهم , ويفصل بينهم فيما يقع بينهم من النزاع لئلا يتعرض لهم أحد من حكام البلد غيرهم. وللقونصوات المذكورين أن يتخذوا بدورهم موضعًا لصلاتهم وقراءتهم , ولا يُمنعون من ذلك , ومن أراد إتيان دار القونصوا للصلاة أو للقراءة من أجناس النصارى أيًّا كانوا فلا يتعرض لهم أحد ولا يمنعون من ذلك , وكذلك رعية سيدنا - أيده الله - إذا دخلوا بلاد الفرنسيس لا يمنعهم أحد من اتخاذ مسجد لصلاتهم وقراءتهم بأي مدينة كانوا. ومن استخدمه القونصوات المذكورون من كتاب وترجمان وسماسير وغيرهم فإنه لا يتعرض لمن استخدموه بوجه , ولا يكلفون بشيء من التكاليف أيًّا كانت في نفوسهم وبيوتهم , ولا يمنعون من قضاء حاجة القونصوات والتجار في أي مكان كانوا , ولا يدفع القونصوات ملزومًا ولا وظيفًا عما اشتروه لأنفسهم من مأكول ومشروب وملبوس , ولا يأخذ منهم العشر عما جاءهم من بلادهم من الحوائج المعدة للباسهم ومأكولهم ومشروبهم كيفما كانت، ولقونصوات الفرنسيس التقدم والتصدر على غيرهم من قونصوات الأجناس الآخرين , ولهم أيضًا أن يذهبوا حيث شاءوا من إيالة سيدنا - أيده الله - برًّا وبحرًا من غير مانع لهم من ذلك , ويذهبون أيضًا لسفن جنسهم إن أرادوا من غير مانع أيضًا, ودورهم موقرة لا يتعدى فيها أحد على آخر. (الشرط الثاني عشر) إذا وقع نزاع بين مسلم وفرنسيسيّ فإن أمرهما يرفع للسلطان - نصره الله - أو لنائبه حاكم البلاد , ولا يحكم بينهما القاضي في نازلتهما. (الشرط الثالث عشر) إذا ضرب فرنسيسي مسلمًا فلا يحكم فيه إلا بعد إحضار القونصوا ليجيب ويدافع عنه , وبعد ذلك ينفذ فيه الحكم بالشرع , وإن هرب النصراني الضارب فلا يطالب به القونصوا لأنه ليس بضامن له , وكذلك إذا ضرب المسلم الفرنسيس وهرب فلا يطالب بإحضاره. (الشرط الرابع عشر) إذا كان لأحد من التجار دين على أحد من رعية الفرنسيس فلا يكلف القونصوا بخلاصه إلا إذا ضمن المال وكتب في ذمته فحينئذ يكون الخلاص عليه , وإن توفي أحد من النصارى الفرنسيس في جميع إيالة سيدنا نصره الله - فتسلم أرزاقه وأمتعته ليد القونصوا ليزممها ويختم عليها أو يتصرف فيها بما شاء , ولا يمنعه أحد من ذلك , ولا يتعرض له أحد من القاسمين ولا من أهل بيت المال. (الشرط الخامس عشر) إذا رمى الريح مركبًا من المراكب الفرنسيسية على سواحل إيالة سيدنا - نصره الله - أو جاء هاربًا من سفن أعدائه فليعط سيدنا أمره لجميع أهل سواحله أن من وقع عنده مثل ذلك يعينونهم على قدر طاقتهم إما بإخراج المركب للبحر إن أمكن , وإن حرّث أعانوهم على تخليص الأمتعة التي به وجميع آلاته وكل ما خرج من المركب يتصرف به القونصوا القريب من ذلك المكان أو نائبه بما شاء ليخلص تلك السفينة بعد أن يعطي لمعينه أجرته , ولا يؤخذ عن تلك السلع حال التحريث عُشر إلا ما بيع منها فيؤخذ عُشره. (الشرط السادس عشر) إذا دخلت مراكب الفرنسيس القرصانية لمرسى من مراسي سيدنا - نصره الله - فليلتقوا بالبشر والبشاشة مراعاة للصلح الحاصل , ورؤساء هذه المراكب إن اشتروا بدرهمهم شيئًا من مأكول أو مشروب لا يطالبون بصاكة ولا بغيرها وكذلك يفعل بمن دخل لمراسي الفرنسيس من سفن سيدنا - أيده الله - وهذا المأكول والمشروب المذكوران لأنفسهم ولأهل مراكبهم. (الشرط السابع عشر) إذا دخل قرصان من قراصين الفرنسيس لمرسى من مراسي الإيالة المولوية فإن القونصوا الحاضر في الوقت بالبلد يخبر حاكمها بذلك ليتحفظ على الأسارى الذين بالبلاد لئلا يهربوا للسفينة المذكورة , فإن هرب أسير وحصل المركب فلا يفتش عليه , ولا يطالب به القونصوا ولا غيره لأنه دخل تحت سنجق الفرنسيس ولاذ به , وكذلك من فعل من أسارى المسلمين أيًّا كانوا ذلك بمراسي الفرنسيس لا يفتش عليه لأن السنجق حرم. (الشرط الثامن عشر) ما نسي من الشروط يفسر ويشرح على وجه مفيد معتبر لكي يحصل منها خير كثير ونفع عام لرعيتي الدولتين ولأن بواسطتهما تشد عقود الموالاة والمصافاة. (الشرط التاسع عشر) إذا حصل خلل في الشروط التي انعقد عليها الصلح فلا يفسد الصلح بسبب ذلك , وإنما يبحث في المسألة ويرجع فيها للحق من أي إيالة كانت , ولا يتعرض لرعايا الدولتين الذين لا مدخل لهم في شيء من الأشياء ولا يباشر أحد من الرعيتين الخصومة والجدال إلا بعد مخالفة الشريعة والحق إعلانًا. (الشرط الموفي العشرين) إن قدر الله بنقض الصلح المنبرم فجميع من بإيالة سيدنا - نصره الله - من جنس الفرنسيس يؤذن لهم في الذهاب لبلادهم بأموالهم وأمتعتهم لمضي ستة أشهر. *** ذكر الباصابرط المصطلح عليها لكل مركب من المراكب الفرنسيسية البازركانية من عند أمير البحر بكل مرسى من مراسي الفرنسيس لويس جان مري دبربون دك دبنطيور أمير البحر بإيالة الفرنسيس السلام على كل من ينظر هذه الأسطر , نعلمه أنا دفعنا ونفذنا إجازة بالباصابرط هذه لفلان رئيس المركب المسمى فلانًا فيه من الوسق كذا , وأنه ذاهب إلى بلد كذا موسق بكذا مكاحلة ومدافعة كذا , رجاله كذا , وهذا بعد ما صار النظر والاطلاع ا

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مصاب مصر بحسانها ومحسنها) رزئت الديار المصرية في هذا الشهر برجلين عظيمين لا خلف لهما فيما امتازا به وهما: حسان الشعر وأديب القطر محمود سامي البارودي، ومحسن مصر الكبير أحمد المنشاوي. فخسرت الأمة بفقدهما خسارة عظيمة لا عوض لها إلا فيما نرجوه من فضل الله تعالى بتوفيقه من شاء أن يكون مثل (محمود) في بلاغة اللسان وثبات الجنان وعلو الهمة ومكارم الأخلاق وحب الإصلاح , ومثل (أحمد) في بسطة اليد وسخاء النفس وحب الخير للبشر والإعانة على الإصلاح. أما المصاب بالأول فقد كان موجعًا لأهل الأدب لأنهم هم الذين يعرفون قيمة الفقيد، ولمعارفه من الوجهاء والفضلاء , وقد نُسي مقامه السياسي عند من كان على رأيه ومن كان مخالفًا له لأن علو المناصب عرض يطرأ فيكون له حكمه، ويزول فيمحى رسمه، ولا يذكَر الإنسان إلا بصفاته وأعماله. وأما المصاب بالثاني فقد أحست به جميع الطبقات في الأمة فتألم له العالم والجاهل والمسلم والإسرائيلي والنصراني , بل تألم له كل عنصر يقيم في مصر حتى الأجانب؛ لأن إحسانه - رحمه الله - كان شاملاً عامًّا , وقد كان لتشييع جنازته مشهد ما رأينا مثله لأمير ولا لعالم أو وزير. وإننا نذكر مجملاً من سيرة الرجلين ليكون درسًا في التاريخ يستفيد به المستبصرون. * * * (محمود سامي البارودي) (ترجمته عن صحيفة كانت عنده يقال بأن الشيخ محمد عبده كتبها معه سنة 1298) هو محمود سامي بن حسن حسني بك البارودي ينتهي نسبه إلى نوروز الأتابكي المالكي الأشرفي [1] . والبارودي نسبة إلى إيتاي البارود بلدة من مديرية البحيرة بمصر , كان أحد أجداده ملتزمًا لها فنسب إليها على عادة تلك الأيام. ولد المترجَم لثلاث بقين من رجب سنة 1255 , وبعد أن تلقى المبادي التعليمية دخل المدارس الحربية في سنة 1267 في مبادي حكومة عباس باشا الأول وخرج منها في أواخر سنة 1271 في أوائل حكومة سعيد باشا. كان في طبعه ميل غريزي إلى الآداب العربية وفنون الإنشاء والنظم، فاشتعل بها حتى بلغ درجة عالية في النظم والنثر , وفي شعره من السلاسة والمتانة وحسن التخيل ولطف الأداء وبهجة الديباجة ما لا نرى نظيره إلا في شعر فحول المخضرمين. ثم جنحت نفسه إلى تحصيل فنون الآداب التركية فرحل إلى القسطنطينية وأقام هناك بقلم كتابة السر بنظارة الخارجية في الباب العالي فأتقن اللغة التركية قراءة وكتابة , وله فيها من الأشعار والرسائل ما يعترف أدباء الترك ببلاغته، وتعلَّم هناك أيضًا اللغة الفارسية ولما انتهت إمارة مصر إلى إسماعيل باشا وسافر إلى الأستانة لأجل القيام بالشكر للحضرة السلطانية على ولاية مصر عاد بصاحب الترجمة في حاشيته وكان ذلك في رمضان سنة 1279هـ. ورقي إلى رتبة البكباشي العسكرية في سبع بَقِين من المحرم سنة 1280هـ , وفيها سافر مع جماعة من ضباط العسكر المصري إلى فرنسا لمشاهدة التمرينات العسكرية التي تكون هناك كل عام في المعسكر المعروف باسم (قان دوسالون) وسافر بعد أن قضى لبانته من ذلك إلى لندره عاصمة إنكلترا لاختبار الأعمال العسكرية والآلات الحربية فيها ثم عاد إلى مصر فارتقى إلى رتبة القائمقام في الألاي الثالث من الفرسان المعروف بلقب (الغارديا) وكان ذلك في 11 جمادى سنة 1381. وفي غاية ذي القعدة من هذه السنة ارتقى إلى رتبة أمير ألاي فكان على الألاي الرابع من عسكر الحرس المعروف بالفارديا. ولما خرج أهل جزيرة كريد عن طاعة الدولة في ربيع الأول سنة 1283 وأرسلت الإمارة المصرية جيشًا لإسعاد الدولة على تأديبهم أرسِل المترجَم مع الجيش المصري بوظيفة رئيس الياورية وبعد إخماد نار الفتنة في 3 جمادى الثانية سنة 1284 أنعم السلطان عبد العزيز عليه بالوسام العثماني من الدرجة الرابعة , وعاد إلى مصر فكان من حجاب الخديوي ( ياور) ولما صدر الفرمان السلطاني بحصر الخديوية المصرية في ذرية إسماعيل باشا في 13 ربيع الأول سنة 1290 وصار محمد توفيق باشا ولي العهد جعل صاحب الترجمة رئيس الحجاب (الياوران) . وبعد ثلاث سنين جعله الخديوي كاتب السر الخاص له (مكتوبي أو سكرتير) وبعد سنتين عاد إلى العسكرية. ولما خرجت بلاد الصرب على الدولة عقيب فتنة الهرسك وأرسلت الحكومة المصرية جيشًا لمساعدة الدولة على تدويخها أرسل هو إلى الأستانة برسالة خاصة بذلك , فأقام فيها ثلاثة أشهر وعاد إلى مصر ثم أرسل إليها برسالة أخرى تختص بفتنة البلغار وخروج الجبل الأسود على الدولة. ولما اشتعلت نار الحرب بين الدولة وروسيا سافر بعسكره مع الجيش المصري الذي أرسل لمساعدة الدولة إلى وارنة ولم يعد إلا بعد عقد الهدنة الأخيرة وفي خلال ذلك رقي إلى رتبة أمير لواء ومنح الوسام المجيدي الثالث والمداليا. وفي شهر ربيع الآخر سنة 1295 عين مديرًا للشرقية ثم عين رئيسا للشحنة (الضبطية) في مصر مدة سنة كاملة اهتم فيها بحفظ الأمن , وكانت المخاوف تتناوش الناس من كل مكان لما كان فيها من الأصابع الخفية التي تتلاعب بإثارة الخواطر في ذلك الوقت أي أواخر حكم إسماعيل باشا بما كان من المنافسة بين الأمراء والكبراء , ومن توجه كثير من الأفكار لإثارة الشرور وإيقاف حركة الإدارة حتى إذا ما تم أمر الله بعزل إسماعيل باشا وأقيم وليّ عهده توفيق باشا أميرًا لمصر جُعل صاحب الترجمة عضوًا في مجلس الوزارة وقلده نظارة عموم الأوقاف المصرية وكانت مختلة معتلة فأصلح خللها وداوى عللها بما وضعه لها من القواعد والترتيب (وسمع منه صاحب هذه المجلة أنه اجتهد يومئذ في جمع الكتب الموقوفة المتفرقة في المساجد وإنشاء دار للكتب (كتبخانه) تجمع فيها , وكان ذلك مبدأ الفكر في إنشاء المكتبة المصرية المعروفة بالكتبخانة الخديوية) ولما تم أمر التصفية المصرية على ما يرام رقي المترجَم إلى رتبة فريق , وأعطي الوسام المجيدي من الدرجة الثانية وذلك في 9 شعبان سنة 1397. الفتنة العرابية في غرة شهر ربيع الأول من سنة 1298هـ كانت واقعة تألب الضباط المصريين على ناظر الجهادية لأسباب أحفظتهم عليه , فاجتمعوا على طلب عزله من النظارة فأجيب طلبهم , وعيَّن الخديوي صاحبَ الترجمة ناظرًا للجهادية جامعًا بينها وبين نظارة الأوقاف , فاجتهد في إثلاج صدور الضباط واتخاذ الوسائل التي تكفل حفظ الأمن فتم له ذلك , ولكن ظهر له أن إدارة العسكرية أشد اختلالاً من نظارة الأوقاف وأنها في حاجة إلى إصلاح عظيم لابد فيه من الروية وطلبه من أسبابه بالتدريج , فوجه عنايته لذلك واثقًا بحسن نيته ومضاء عزيمته وثقة الأمير والأمة به - قال كاتب الصحيفة التي نقلنا عنها ما تقدم بتصرف في العبارة دون المعنى: وفي هذه المدة القصيرة تيسر له إصلاح كثير من شئونها , وتحويل بعض أحوالها إلى ما هو أحسن , ومن المأمول أن يساعده التوفيق الإلهي على إتمام مقاصده فيها إن شاء الله تعالى اهـ. وإننا نتم ترجمته بحسب ما نعلمه من أصح الروايات , وقد علم مما مر وهو ما كان يحفظه المرحوم مما كتب في أوائل أيام الفتنة أنه لم يكن للمترجَم سابقة تقتضي استياءه من الأمير , فإنه نشأ في حجر الإمارة عزيزًا كريمًا فبينه وبين رؤساء العسكرية الذين أثاروا الفتنة فرق , وهم أحمد عرابي وعلى فهمي وعبد العال وأحمد عبد الغفار، فإنهم كانوا كأكثر المصريين في العسكرية وغيرها مهضومي الحقوق , والمهضوم يندفع عند الفرصة إلى إزالة الهضم وطلب الحقوق بشعور قوي من نفسه بالحاجة إلى ذلك , وكثيرًا ما يقوى سلطان الشعور على الفكر , فقد كان فكر زعماء الفتنة تابعًا لشعورهم بالألم والخطر المتوقع من جراءتهم على ما فعلوا لا سيما بعد الظهور بمظهر القوة أمام قصر الإمارة وإلزام الأمير باطنًا بما أجابهم إليه بالرضا ظاهرًا. أما محمود باشا سامي فإنه كان يعمل بالفكر لمصلحة أميره وأمته معًا ولا يبعد أن يكون شعوره بوجوب تأييد سلطة الأمير المطلقة وقتئذ أقوى من فكره بوجوب تأييد مطالب أهل البلاد , وعدم تمييز الترك والجراكسة عليهم لأن الشعور دائمًا يتبع المنفعة الخاصة , والفكر يؤيد المصلحة العامة، والذي نظنه أنه كان معتدلاً جامعًا بين مقتضى الشعور ومقتضى الفكر. كان الرجل على ما بينَّا، ولكنه في رمضان من السنة التي جعله الأمير فيها ناظرًا للجهادية (سنة 1298) أحس بسوء ظنه فيه واتهامه إياه بالاتفاق والاشتراك مع الضباط فيما كان يصدر عنهم من الأعمال المخالفة للنظام فاستعفى فأعفاه الأمير, وعين داود باشا يكن ناظرًا للجهادية. ولكن استعفاءه زاد الفتنة احتدامًا , ففي منتصف شوال حصلت المظاهرة المشهورة في ميدان قصر عابدين بعد ما اجتهد الأمير في تسكين جأش الرؤساء المضطربين , وكان ما كان في القصر من الكلام بين رئيس الفتنة أحمد عرابي وبين الأمير أولاً وقنصل الإنكليز ثانيًا وطلب عرابي إسقاط وزارة رياض باشا , والتصديق على قانون العسكرية الجديد الذي ألّفوه , وعزل شيخ الأزهر , وبعد المراجعة رضي بإسقاط الوزارة قبل نزوله من القصر إلى جيشه المحدق به وتأجيل ما عداه، فأجيب إلى ذلك. ولما بلغ محمود سامي باشا خبر سقوط وزارة رياض باشا أسف أسفًا شديدًا لاعتقاده أن الخلل سيزيد والفوضى ستنتشر بعده , وقد سئل عن رأيه في تأليف وزارة تحت رياسة شريف باشا وهل يجيب الدعوة ليكون فيها ناظرًا للجهادية كما كان؟ فأجاب بأنه عقد النية على أن لا يدخل في خدمة الحكومة ما دام لرجال العسكرية سلطان يعلو سلطان النظام , وصمم على ذلك مع الإخلاص وصدق العزيمة , ولما قبل شريف باشا تأليف الوزارة دعاه ليكون ناظر الجهادية فأبى , ولكن الأمير توفيق باشا نفسه دعاه وأكد له القول بأنه لم يسئ به ظنًّا قط، بل كان يعتقد إخلاصه في جميع أعماله , وأن الذي أساء به الظن هو رياض باشا وذكر له أمورًا أثرت في نفسه تأثيرًا حمله على قبول نظارة الجهادية لا رغبة فيها ولكن خضوعًا للأمير وتشفيًا ممن كان سببًا في تسوئة سيرته وتشويه سمعته , ووقع بحسن نيته في الشَّرَك الذي كان يتحامى الوقوع فيه. وفي أثناء هذه الوزارة تألف مجلس النواب المصري وعارض وكيلا دولتي فرنسا وإنكلترا في نظر النواب وتقريرهم لميزانية الحكومة لما للدولتين من الديون عند الحكومة التي تسمح لهم بمراقبة ماليتها. ولما أصر النواب على وجوب النظر في الميزانية كغيرها , وعدم قبول تداخل الأجانب في ذلك , ولم يقبلوا ما نقحت الوزارة به لائحة مجلس النواب , بل أرسلوا وفدًا إلى الأمير يطلبون تنفيذ ما قرروه أو إسقاط الوزارة , فاختار الأميرُ صاحبَ الترجمة لتأليف وزارة تحت رياسته ففعل , وكان ذلك في منتصف ربيع الأول من سنة 1299 وسارت الأعمال بعد ذلك سيرًا مرضيًّا. ثم كانت المسألة التي سموها مسألة الجراكسة وهي كيد ضباطهم لعرابي باشا وعزمهم على قتله , وكان ناظر الجهادية فأمر بالقبض عليهم ومحاكمتهم في مجلس حربي , والمشهور أنهم قبضوا على أربعين منهم عثمان رفقي باشا الذي كان ناظر الجهادية من قبل , وأن رئيس المجلس الحربي الذي حكم عليهم كان راشد باشا الجركسي فحكم عليهم بالنفي إلى أقاصي السودان , ولكن مجلس النظار طلب من الأمير تخفيف العقوبة فأصدر أمره بذلك ولكن خاطب به نظارة الداخلية لا نظارة الجهادية خلافًا للمتبع يومئذ , فوقع الخلاف يومئذ بين الأمير ومجلس النظار , ومن ثم وقع الخطر وما كان أغناه عنه. اجتهد النظار

توضيح وكشف إبهام

الكاتب: محمد عبده

_ توضيح وكشف إبهام في بيان معنى ] وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ [[1] من تفسير جزء عمَّ لمؤلفه قال أيده الله: كنت أمس ضائق الصدر لمرض صديق أفقد بفقده معينًا على العلم يذكرني إذا نسيت , يلومني لوم المحب إن أخطأت وأصررت. جاءني وأنا على تلك الحال صادق في مودتي , وذكر ما يقول قائل في كلام جاء في تفسير سورة الضحى مما وضعته على جزء عم وهو: (والسائل هو المستفهم عما لا يعلم , وليس هو طالب الصدقة , فإن هذا اللفظ لم يرد في كتاب الله عنوانًا للفقير والمسكين , بل جرت سنة الكتاب المبين على ذكرهما بوصفهما) يقول القائل: كيف هذا وقد جاء (السائل) عنوانًا للفقير أو المسكين في سورتي الذاريات والمعارج - في الأولى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 19) وفي الثانية {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (المعارج: 24-25) ذكر الصادق ذلك من قول القائل فكأني ذكرت به ما كنت ناسيًا , وبادرت إلى نسخة الكتاب فأصلحت الخطأ , وعولت على أن أعلن ذلك في الجرائد حتى لا يضل ضال ولا يتطاول جاهل، وماذا عليَّ في ذلك ولست أعلى كعبًا في استحضار الكتاب من الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، حين هم بعقاب من يقول: إن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد مات , حتى ذكره الصديق رضي الله عنه بقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: 30) فقال: كأني لم أسمعها من قبل أو كما قال - وحين شدد في أمر المغالاة في المهور وهو على المنبر , فقالت له امرأة: كيف ذلك والله يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارا فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} (النساء: 20) فتنبه رضي الله عنه للصواب وقال: رجل أخطأ وامرأة أصابت. ومن أنا من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العلم بكتاب الله والإحاطة بما فيه. لكني رجعت إليَّ بعد ذلك نفسي , فراجعت الأصول التي كانت بين يدي يوم كتبت ما كتبت , فذكرت أنني قصدت من العنوان ما يدل على المعنى بنفسه بدون قرينة تبينه منه , وكنت حققت معنى السائل خصوصًا في آية الذاريات , وهو المستجدي الذي يطلب من مال غيره ولا يلزم أن يكون فقيرًا ومسكينًا , وغاية أمره أن يظن فيه الفقر إذا أحسن الظن فيه ولم يعلم أنه طلب لحاجة عارضة , ولم يفهم منه معنى الفقر في الآيتين إلا بقرينة المال واقترانه بالمحروم , وقد أفادت القرينة مع ذلك أنه يملك شيئًا , ولولا هذا ما عطف عليه (المحروم) الذي لا شيء عنده، وكذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} (البقرة: 177) فإن قرينة إعطاء المال هي التي دلتنا على أن السائلين هنا هم طلابه , والعطف على المساكين دليل على أن السائل لا يلزم أن يكون مسكينًا. وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم عنه المسكنة فيما روي من قوله: (ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان واللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان) . قالوا: فما هو؟ قال: (الذي لا يجد ولا يُتَصَدق عليه) . وقد رووا عنه أنه قال: (للسائل حق وإن جاء على فرس) وقالوا: إن السائل هو الطالب , وقد يسمى في عرف الناس الفقير بالسائل , ولكنه في الكتاب العزيز ليس عنوانًا للفقير والمسكين، بل يفهمان منه بالنص كما تفهم المعاني الحقيقية من دوالها الوضعية أو الغالبة فيها , فإذا أُطلق السؤال مفردًا عن القرائن المعينة لمعناه المراد منه لم يفهم منه الفقير على ما جرت به سنة الكتاب العزيز في التعبير. فإن سنته جارية باستعمال السؤال في معني الطلب , لا في معنى الفقر الذي هو من اللوازم البعيدة لضرب منه , وهو طالب المال , كما هي جارية بأنه إذا أراد الحث على معاونة الفقراء والمساكين جاء في التعبير عنهم بما يحقق أوصافهم ويعين المراد منهم , ولهذا يبعد أن يراد من كلمة السائل في هذه السورة الفقير؛ لأنها ليست عنوانًا له كما ذكرنا , ولا يفهم هذا المعنى منها إلا بقرينة كما سبق. وأبعد من هذا أن يراد منها طالب المال مطلقًا؛ فإن السياق يأباه أشد الإباء لأن لفظ السائل لابد أن يكون في الآية دالاًّ على معنى يلاقي شيئًا مما ذكر في الآيات التي قبل {فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} (الضحى: 9) إلخ لأن هذا التفصيل مفرع على ما قبله , فلو أريد منه طالب الصدقة لم يتوهم أن يكون ملاقيًا إلا لمعنى العائل وهو الفقير , والسائل ليس عنوانًا له , وقد بينا أن الذي يقابل العائل فيها هو التحديث بالنعمة. وإذا لم يصح ملاقيًا لشيء مما سبق إلا بحمله على المستفهم طالب البيان الذي هو عنوان له، يتبادر منه إلى الذهن عند الإطلاق تعين حمله عليه , ويكون على ذلك ملاقيًا لمعنى {وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} (الضحى: 7) ويؤيد هذا المعنى ما ورد في أحوال الذين كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام بيان ما يشتبه عليهم في أهل الكتاب الممارون , ومنهم الأعراب الجفاة , ومنهم من كان يسأل عما لا يُسأل عنه الأنبياء , فلا غرو أن يأمره الله تعالى بالرفق بهم وينهاه عن نهرهم كما عاتبه على التولي عن الأعمى السائل في سورة (عبس) . وعبارة التفسير فيها إجمال جر إلي تأليف حاشية كهذه فأستغفر الله مما صنعت فيها , وأرجو أن لا أعود إلى مثلها. في 22 شوال سنة 1322 ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار التعارض والترجيح في أدلة الأحكام الخروج بالزوجة من بلدها (س100و101) رشيد أفندي غازي مدير ناحية بيرة الأجرد سابقًا (بالشام) من المعلوم الذي لا يختلف فيه اثنان أن مراجعة الكتب الفقهية لا يستغني عنها أحد , ولذلك أصبحت قريبة المنال شأن الأشياء المحتاج إليها، إلا أن المطالع بها يقف عند وجود الاختلاف في المسألة الواحدة - ولا سيما عند وجود ترجيح أحد القولين على الآخر بلا دليل - متحيرًا تتوق نفسه إلى الدليل , ولم يكن ممن يتجلى له خصوصًا إذا كانت القضية من الواقعات ولم يسعه حينئذ إلا مراجعة جهابذة الفن؛ فلذلك أقدمت بعرض سؤالي هذا على العلماء الأعلام طالبًا منهم ترجيح أحد هذين القولين على الآخر مع بسط دليل كل منهما , وترجيح أحد الدليلين على الآخر ليكون السؤال والجواب عامين تتميمًا للفائدة , وهذه صورة المسألة: المرأة إذا أراد زوجها أن يخرجها إلى بلدة أخرى وقد أوفى مهرها ليس له ذلك، كذا اختاره الفقيه أبو الليث رحمه الله , قال الإمام ظهير الدين رحمه الله: الأخذ بقول الله تعالى أولى من الأخذ بقول الفقيه قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} (الطلاق: 6) خلاصة. بزازية. ثم المرجو أيضًا بيان ما هو المقصود من أفعل التفضيل , وهو قوله: أولى , هل هو على بابه أم لا. وأولى بالفضل والصواب من أجاب. (ج) التعارض والترجيح من أدق مباحث علم أصول الفقه , ولكن قلما تجد الفقهاء يطبقون الأحكام في كتبهم على قواعده إلا للجدل في المذاهب ومحاولة كل ترجيح مذهبه. وأما الخلاف في روايات المذهب الواحد ووجوهه فللحنفية قواعد أخرى فيه مبنية على تقديم بعض الكتب على بعض , وبعض الفقهاء على بعض ويسمون هذا رسم المفتي. فمن عرف ما كتبوه في ذلك يسهل عليه أن يعرف القول الراجح بذكر قائله أو بعزوه على الكتاب المنقول عنه وإن لم يذكر الدليل إذ المرجح المعتمد هو العزو إلى شخص أو كتاب , دون نصوص السنة والكتاب، لأن النظر في النصوص لا يفعله إلا المجتهدون، وقد أقفل الباب دونهم منذ قرون، هذا ما عليه الناس , ولكن يوجد في كل عصر علماء نجباء أتقياء إذا ظهر لهم النص لا يقدمون عليه قول أحد من المجتهدين في المذهب ولا على الإطلاق. ومنهم من يحتج بالنص إذا وافق قولاً في مذهبه ولا يحتج به إذا وافق مذهبًا آخر بل يؤوّله أو يَكِل فهمه إلى المجتهدين الأولين في المذهب. وخير العلماء في كل زمان ومكان من لا يقدم على النص الثابت عن الله ورسوله كلام أحد. أما مسألة السكنى فالآية تدل على أنه يجب على الزوج أن يسكن امرأته في مكان يسكن هو فيه , وورودها في المعتدة إنما هو من حيث كونها زوجًا , فإن لم تكن غير المطلقة مثلها في ذلك فهي أولى منها. وهذا مما لا نزاع فيه. وما فهمه ظهير الدين من دلالتها على أن للزوج أن يسافر بامرأته ظاهر , وأما اسم التفضيل فهو على غير بابه إذا قلنا أن ظهير الدين لا يجيز الأخذ بقول أحد إذا ظهر له في الكتاب أو السنة ما يخالفه , وهو أفضل الظن به. وحجة القول الذي اختاره أبو الليث أن السفر مضارة , والله يقول بعد الأمر بالسكنى: {وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} (الطلاق: 6) وهما قولان في المذهب , قال في فتح القدير: وإذا أوفاها مهرها نقلها إلى حيث شاء لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} (الطلاق: 6) وقيل: لا يخرجها إلى بلد غير بلدها؛ لأن الغريب يؤذى، وفي قرى المصر القريبة لا تتحقق الغربة. فأنت ترى أنه أورد القول بالمنع بصيغة التمريض , ولكنه المرجح في المذهب لأن كثيرًا من المشايخ أفتى باختيار أبي الليث. ولا شك أن دليل الجواز أقوى بشرط أن لا يعلم أن الزوج لا يقصد بالسفر مضارتها لأجل التضييق عليها، ففي هذه الحالة يمنع من السفر بها دون سائر الأحوال، والله أعلم. * * * نجاسة الكلب واتخاذه (س 102) محمد أفندي صدقي في (زفتى) : نرجوكم أن تبسطوا لنا رأيكم في نجاسة الكلبُ فغير خافٍ على حضرتكم أن في بعض المذاهب من قال بنجاسته بين لعابه وجسمه إذا كان مبتلاًّ , وأنه إذا ولغ في إناء وجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب , وبعضهم قال بعدم نجاسة جسمه ولا لعابه. فأي الفريقين أقوى حجة؟ وهل يجوز للمسلم اقتناؤه والاختلاط به أم لا؟ ولا يخفى على حضرتكم ما هو مشهور به هذا الحيوان من الأمانة وحرصه على صاحبه. ننتظر من حضرتكم القول الفصل والله المسئول أن يبقيكم خير هاد إلى سبيله القويم. (ج) ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص للناس في اتخاذ الكلاب للصيد والزرع والماشية كما في صحيح مسلم وغيره لما له من المنفعة , وأذن بأكل الصيد إذا جاء به الكلب ميتًا ولم يأكل منه. وأما الخلاف في طهارة الكلب ونجاسته فالأصل فيه أحاديث في الصحيح تأمر بغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات , وفي بعض هذه الروايات الاكتفاء بذلك , وفي بعضها: إحداهن بالتراب , في رواية عند أحمد ومسلم: وعفروه الثامنة بالتراب، وأحاديث الإذن باتخاذه مع العلم بتعذر الاحتراز من ملابسته عادة. ولا ترى مذهبًا من الأربعة أخذ بأحاديث الولوغ كلها , فالشافعية والحنابلة على وجوب الغسل من نجاسته سبع مرات إحداهن بالتراب , وعلماؤهم يعلمون أن الحديث صح بتعفيره الثامنة بالتراب , ومن أصولهم أن زيادة الثقة في رواية مقبولة تخصص العام وتقيد المطلق. وصرحوا بأنه نجس العين , وقالت المالكية بطهارة عينه , وأوجبوا غسل الإناء الذي يلغ فيه سبع مرات من غير تتريب. وقالت الحنفية بنجاسة لعابه لا عينه , ويغسل عندهم منها مرة واحدة , ومن قال بطهارته قال أن الأمر بغسل ما يلغ فيه للتعبد , وقيل غير ذلك مما ذكرناه في المنار من قبل. ولعل العلة الحقيقية في ذلك الاحتياط لأنه يأكل النجاسات والجيف وأثرها ضار أو الحذر من الدودة الوحيدة , وقد فصل هذا المعنى بعض المشتغلين بالطب في مقالة نشرت في المجلد السادس من المنار. وقد ورد في حديث أبي هريرة عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن (من اتخذ كلبًا لا كلب صيد أو زرع أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط) فاستدلوا بهذا على كراهة الاتخاذ لغير حاجة مع الجواز. إذ لو كان محرمًا لامتنع ولو لم يكن فيه نقص الثواب , وقد اختلفوا في سبب الكراهة؛ فقيل: لأنها تروع الناس الزائرين والسائلين والمارين , وقيل: لأن الملائكة لا تدخل البيوت التي فيها الكلاب , وقيل: لأن بعضها شياطين أي ضارة , وقيل لأن الاحتراز عن ولوغها في الأواني متعسر فيترتب على ذلك عدم امتثال الأمر أحيانًا. نقول: أو ينشأ عن ولوغها الضرر من غير أن يشعر به المتخذ , وقيل لنجاستها , وقيل لعدم الامتثال. قال الحافظ ابن عبد البر: وجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الإناء سبعًا لا يكاد يقوم بها ولا يتحفظ منها , فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك. وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرفه , فقال له المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروع السائل. وتجد تفصيل ذلك في فتح الباري وفي نيل الأوطار. والمختار عندنا أن الكلب طاهر العين , وأنه ينبغي لمن يتخذه لحاجته إليه أن يحترز من ولوغه في الأواني بقدر الإمكان. فإن علم أنه ولغ في إناء فليغسله كما ورد , وإذا غسله بمحلول السليماني، فذلك توقٍّ من الدودة الوحيدة. * * * الحكمة في حرمان الأخ الشقيق في المسألة المشتركة (س103) ومنه: قص علينا من لا نرتاب بصدقه إشكالاً ميراثيًّا حصل في إحدى العائلات الكبيرةُ نقصُّه على حضرتكم , وهو أنه مات عميد العائلة المذكورة عن تركة عظيمة وله من الورثة زوجة وولدان ذكر وأنثى , وقد أخذ كل فريق ما خصه من الفريضة الشرعية ثم تزوجت البنت بعد وفاة أبيها ومكثت مع زوجها مدة وتوفيت ولم ترزق منه بأولاد , وكانت أمها تزوجت بعد وفاة أبيها أيضًا برجل آخر رزقت منه أولادًا بين ذكور وإناث , ولما أراد شقيقها (من الأب والأم) أخذ نصيبه من تركة أخته المتوفاة منع بحكم شرعي حيث قيل له: إن ورثتها هي أمها وزوجها وأخواتها من أمها فقط , وذلك على مذهب أبى حنيفة، فما هي الحكمة الشرعية في منع أخيها الشقيق من أمها وأبيها من الميراث، ألا يكون له أسوة بإخوتها الذين من أمها فقط؟ نرجوكم أن تبينوا لنا (إن كان ذلك جائزًا) ما هي الحكمة الشرعية في ذلك لا زلتم مصدر الفضائل وعميد التربية الدينية والله المسئول أن يبقيكم خير ناصر للدين والسلام. (ج) لم ترد هذه المسألة بنصها في الكتاب والسنة وإنما هي من فروع قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} (النساء: 12) فقد قالوا: إن الكلالة من لا ولد له ولا والد , وأن المراد بالأخ والأخت هنا الإخوة لأم فقط؛ لأن الكلام في ميراثها , وذلك مأثور , فهم من أصحاب الفرائض , وأنتم تعلمون أن الوارثين على قسمين: أصحاب فرض وهم الذين لهم حصص معينة بالنص , وعصبات وهم الذين لهم ما يبقى بعد تلك الحصص , وفي الغالب يكون حظهم أوفر. فالسؤال ههنا ينبغي أن يكون عن حكمة كون الإخوة لأم أصحاب فرض إذا ورثوا دون الإخوة الأشقاء والإخوة لأب , وهي أنهم لبعدهم جعل لهم حصة معينة هي السدس للواحد والثلث للجمع مهما كثروا , ولو كانوا عصبة لأخذوا التركة كلها أو جلها في بعض الأحوال كما يأخذها الأخ الشقيق. فإذا اجتمع جمع كثير من الإخوة لأم مع أخ شقيق واحد كان لهم الثلث وله الثلثان , وكذلك الأخ لأب عند عدم الشقيق. فأنت ترى أن العصبة أفضل , ولذلك كان الأولاد عصبات وهم أقوى الوارثين , ولما كانت القاعدة في الإرث أن يأخذ أصحاب الفرائض فروضهم ويأخذ العصبات الباقي؛ اتفق في هذه الصورة أن لا يبقى لهم شيء , والمسائل النادرة لا تبطل القواعد المطردة هذا ما جرى عليه أصحاب هذا القول. وهناك قول آخر وهو التشريك بين الأخ الشقيق والإخوة لأم , وروي أن المسألة وقعت على عهد عمر رضي الله عنه فقال: لم يزدهم الأب إلا قربًا , وورث الجميع. وعليه ابن مسعود وزيد أعلم الصحابة بالفرائض وشريح القاضي والشافعية وهو أقرب إلى العدل على أنه اجتهادي، والله أعلم.

تاريخ السودان القديم والحديث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ السودان القديم والحديث كتاب ظهر حديثًا في هذه البلاد، مؤلفه نعوم بك شقير رئيس قلم وكالة حكومة السودان في مصر. كتاب كبير يدخل في ثلاثة أجزاء تزيد صفحاتها على مائة وألف بقطع المنار وحروفه هذه , وفيه كثير من الصور والرسوم. كتاب لم ينقله مؤلفه نقلاً من الكتب ولم يسلك فيه طريق القصص والفكاهة , بل سلك فيه مسلك المؤرخ المطلع المختبر الراوي الممحص , ووضعه على طريقة التواريخ الأوربية الحديثة , فهو حسن الترتيب والتبويب حسن النقل والاختيار حسن التأليف والاستدلال حسن الاستنباط والاستنتاج كأحسن ما ألف الإفرنج في التاريخ. اعتمد في التاريخ القديم على ما كتب أشهر مؤرخي العرب وغيرهم من الأمم مع مراجعة معاجم العلم الأوربية , وفي الجديد على الكتب الحديثة للإفرنج والمصريين والسودانيين والسوريين , وعلى الروايات القولية عن الرجال الذين لقيهم في مصر والسودان من العلماء والحكام , وعلى المشاهدة والاختبار والكتابات الرسمية. وقد سهل له ذلك استخدام الإنكليز إياه في قلم المخابرات , ومرافقته حملة اللورد ولسلي في السودان , وتقلبه في هذه الأعمال , ولابد أن تكون هذه الصفة الرسمية التي مكنته من معرفة أخبار فتنة السودان الأخيرة , وحقائق أخبار الفتح المصري الإنجليزي له بعد الحكم بانفصاله من المملكة المصرية - قد حكمت عليه بأن يكتم بعض الحقائق ويكتفي منها بالرسمي , وهذا كل ما نظنه أو نتوهمه من النقص في هذا الكتاب , والكمال لكتاب الله وحده. بدأ الجزء الأول وهو في جغرافية السودان بجغرافيته الطبيعية , وفيها الكلام على حدوده ونيله وأراضيه ومعادنه وهوائه ونباته وحيوانه وسكانه. وثنى بالجغرافية الإدارية , وجعل الباب الثالث في حضارة السودان: لغات أهله وأديانهم ومعارفهم وزراعتهم وصنائعهم وتجارتهم وحكومتهم، والباب الرابع في عاداتهم وخرافاتهم وأخلاقهم. والجزء الثاني في تاريخ السودان القديم وفيه خمسة أبواب. وأما الجزء الثالث فهو في تاريخه الحديث وصفحاته سبع مائة ونيف , وفيه خمسة أبواب: الأول في تاريخ الفتح المصري وفيه 4 فصول، الثاني في تاريخ الثورة المهدية وفيه 23 فصلاً، الثالث في خلافة التعايشي وفيه 10 فصول، الرابع في استرجاع السودان وفيه 8 فصول، الخامس في السودان المصري الإنكليزي , وله ملحق في تاريخ السودان وجغرافيته، تتبعه خريطة السودان والحبشة ومصر وسوريا وجنوب آسيا الصغرى وبلاد العرب. وقد جعل للكتاب كله فهرسًا عامًّا مرتبًا على حروف المعجم على الطريقة الحديثة يذكر فيها البلاد والمواقع والأشخاص وغير ذلك. وعبارة الكتاب في غاية السلاسة والانسجام ويقل فيها الخطأ جدًّا لا كما تراه في أكثر ما يكتب المعاصرن. وثمن الكتاب ستون قرشًا صحيحًا , وأجرة البريد خمسة قروش. فنحث القارئين على قراءته والكاتبين على احتذاء مثاله. * * * تنوير الأذهان في علم حياة الحيوان والإنسان وتفاوت الأمم في المدنية والعمران يؤلف هذا الكتاب الذي يدل اسمه على فضله الدكتور بشاره زلزل ويصدره بالطبع أجزاء صغيرة , وقد صدر الجزء الأول منه في 64 صفحة , وفيه من المباحث المفيدة ما يدل على قيمة ما وراءه , وقد صدره بجملة يقدمه فيها إلى السلطان عبد الحميد نصر الله دولته , ويتلو ذلك صورة اللورد كرومر - فهو كالجامع بين الضب والنون - ففاتحته فمقدمته التي يبين فيها أقسام العلم الطبيعي , ومعنى تسمية علم المولدات الطبيعية بالتاريخ الطبيعي , ومنشأ هذا العلم وترقيه , وقصور الشرقيين فيه , وفيها بحث في الترجمة والنقل أنحى فيه على مترجمي هذا العصر , ووصف من قصورهم , وعاب عليهم نقل الألفاظ الإفرنجية التي لها مرادف في العربية , وذكر أن منها ما هو عربي الأصل كالصندل يكتبونه سانتال , والقلقطار الذي يكتبونه كوالتار , قال: وبعضهم لا يفهمون للحرَّاقة معنى إلا إذا كتبت كراكة , وإنما هي عربية الأصل أخذها الإفرنج عن العرب ولكنهم أبدلوا الحاء كافًا لأن لفظ الحاء غير مألوف عندهم؛ أي: ليس في لغتهم. ثم عاب على فريق من المتأدبين إيثار نقل الألفاظ المصطلح عليها عند الإفرنج على علاتها , وزعمهم أن تعريبها يخرجها عن الدلالة العلمية الموضوعة لها , وذكر تخبطهم في طريقتهم هذه مع بعض الأمثلة فيها. ومن رأيه أن التعريب ينبغي أن يخص بالكلمات التي لا يوجد في الألفاظ العربية ما يدل عليها بوجه كأسماء العلماء , وبعض الحيوانات الغريبة التي اكتشفت حديثًا ووضعت لها أسماء جديدة , ووعد بأنه سيجري في كتابه هذا على أسلوب جديد , وهو البحث عن الكلمات العربية للتعبير عن المصطلحات العلمية وتحاشي النقل (إلا حيث اقتضى التعريب) قال: (وأزيد على ذلك أنني أهملت بعض الكلمات المترجمة مما درج عليه الجمهور بتحديه بعض الذين استعملوها جزافًا لخروجها عن حقيقة المعنى الموضوعة له كالزلال يريدون به بياض البيض , وإنما الزلال الماء البارد. والأح في لغة العرب بياض البيض الذي يؤكل فهو أصح دلالة على ما يسميه الإفرنج بالألبومن. وقد سمى القدماء إحدى رطوبات العين بالبيضية بالنسبة إلى بياض البيض , والمحدثون يسمونها بالزجاجية، كما سموا الرطوبة الثانية من رطوبات العين بالجلدية بالنسبة إلى الجلد وهو الجمد، ويسمونها أيضًا بردة , أما المحدثون فإنهم ترجموا اللفظ الإفرنجي فقالوا: (البلورية) إلخ ما أورده. فأنت ترى أن هذا المؤلف يخدم العلم واللغة معًا. وسيكون الكتاب مجلدين كل مجلد اثنا عشر جزءًا كل جزء كهذا الجزء , وهو يطبع في مطبعة الجامعة طبعًا نظيفًا على ورق جيد , والمباحث العلمية توضح بالرسوم والصور , فنثني على همة المؤلف وفضله , ونحث محبي العلم على الاشتراك في الكتاب وعلى من أراده أن يكتب إليه في الإسكندرية. * * * تولستوي والحرب الروسية اليابانية هي مقالات للفيلسوف المتدين تولستوي الروسي شنع فيها على الحرب الحاضرة أقبح تشنيع , وأيد رأيه بالحجج العقلية والدينية , ووصف غش الحكومات لرعاياها وسوقها إياهم إلى ذبح بعضهم بعضًا بغير سبب صحيح ولا فائدة توازي خسائر الحروب , وذم رجال الدين والكتاب والعلماء الذين يشايعون الحكومة الظالمة بنفوذهم المعنوي ويكونون عونًا لها على ذلك. وقد انتشرت هذه المقالات في العالم وهزئ بكاتبها المفتونون بالسياسة , ومنهم من رد عليه ردًّا علميًّا بزعمه محتجين بأن الحرب سُنة طبيعية في الاجتماع البشري وأن فوائدها كثيرة , ولكننا نقول: إن هذه الآراء والأفكار صحيحة في ذاتها , وإذا كان البشر لم يستعدوا لها إلى الآن فالواجب على محبي السلام وخير البشر من حملة الأقلام أن يؤيدوها ليعدوا الناس لها , ولعله لولا الفلاسفة والكتاب الفرنسيون وغيرهم ممن سبقوا في بيان مضار الحروب؛ لما خطر لهذا الكاتب أن يكتب ما كتبه بل لما كان الملوك ورؤساء الأمم يتحدثون بوجوب فصل النزاع بين الدول بالتحكيم , فحبذا ما كتب الفيلسوف. وقد ترجم هذه المقالات العربية سيد أفندي كامل أحد طلبة الحقوق في مصر بعبارة وأسلوب كنحو عبارة جريدة المؤيد وأسلوبها وطبعها على ورق جيد فنشكر له هذه الهمة. * * * سهل القريض هو ديوان شعر لمحمود أفندي شكري سكرتير مديرية المنيا وكله مدائح في الاحتفال بموالد الصالحين وفي السلطان والخديوي والحكام وغيرهم , وتهانٍ ومراثٍ للوجهاء وكل هذه الضروب من المديح مما لا نحبه , ولذلك لم نقرأ منها غير أبيات متفرقة فعسى أن نرى بعد للناظم من الشعر في الموضوعات المفيدة ما هو خير من هذا.

محمود سامي باشا البارودي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محمود سامي باشا البارودي ذكرنا في الجزء الماضي تاريخ نشأة هذا الرجل وترجمته السياسية , وهذا ما وعدنا به من سيرته الأدبية ننشرها في باب الآثار فهو أولى بها. يقولون: إن التربية هي التي تُكَوِّنُ الرجال النابغين , وليس وراء التربية إلا الوراثة. ونقول مع الإذعان لهذا القول: إن الإنسان ابن استعداده لا ابن أبيه وعشيرته التي يتربى فيها ويتكيف بصفاتها وعاداتها , فإن كان العامل في الاستعداد هو الوراثة لأحد الآباء والجدود فذاك , وإلا فإن الاستعداد الذي يولد في بعض الناس بغير سعي منهم ولا ممن يربونهم هو الأصل في تكوّن الرجال النابغين في كل زمان ومكان. والتربية تساعد الاستعداد في تكميل الشخص أو تقاومه فيبقى ناقصًا , وحوادث الزمان تساعد صاحبه فيظهر أثره أو تعانده فلا يظهر له أثر. وقد ولد محمود سامي معتدل المزاج مستعدًّا للبلاغة والتأثير في القول وللإتقان مع الاعتدال في العمل , وقد كان الزمن الذي نشأ فيه غير مساعد على تكوين ملكة البلاغة وسجية الشاعر المفلق , ولم يعرف في آبائه وعشرائه شاعر مطبوع ولا كاتب بليغ , وكان المتأدبون لا يتنافسون إلا في مثل شعر البهاء زهير وابن الفارض فمن دونهما من المتأخرين المتكلفين , ولكن استعداده غلب وراثته الأعجمية وتربيته القومية فنشأ في المدرسة الحربية شاعرًا ساحرًا جامعًا بين السلاسة والمتانة , وقد قال الشعر في شبابه فكان في بدايته خيرًا من جميع شعراء عصره في نهايتهم. ولكن له أبياتًا زعم فيها أنه جرى في الشعر على عرق إذ ورث النظم عن خال له , والمعالي عن جده , وهي مما يوحي معاني الشعر قال: أنا في الشعر عريق ... لم أرثه عن كلاله كان إبراهيم خالي ... فيه مشهور المقاله وسما جدي علي ... يطلب النجم فناله فهو لي إرث كريم ... سوف يبقى في السلاله ولم يكن يحفظ لخاله ما يصح له به الحكم , ولكنه سمع أنه كان ينظم وأن نظمه ضاع , فإن صح أنه كان بليغًا فالاستعداد مؤيد بالوراثة من جهة أمه أو هو هي. ومن نظم المترجَم في شبابه قوله في الحرب الروسية العثمانية: أدور بعيني لا أرى غير أمة ... من الروس بالبلقان يخطئها العد جواثٍ على هام الجبال لغارة ... يطير بها ضوء الصباح إذا يبدو إذا نحن سرنا صرّح الشر باسمه ... وصاح القنا بالموت واستقتل الجند وقال معارضًا قصيدة أبي فراس (أراك عصي الدمع) : طربت وعادتني المخيلة والسكر ... وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر كأني مخمور سرت بلسانه ... معتقة مما يضن بها التجر ومنها في الفخر: من النفر الغرّ الذين سيوفهم ... لها في حواشي كل داجية فجر إذا استلّ منهم سيدٌ غربَ سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر ويا لله أرق حاشية قوله: (لها في حواشي كل داجية فجر) وما أدق غزل خياله فيه. وأما البيت الثاني فإنه ليكاد يروع ببلاغته السامع حتى يخيل إليه أن الأفلاك تصدعت مما تفزعت فيلمس رأسه مخافة أن يصيبه كسف منها, ويتمثل له الدهر رجلاً فجأه العجب فالتفت إلى السبب، وليكاد يلفته ما يتخيل من التفات الدهر، ويلم به الدهش والذعر، أو يذهب به الوهم إلى أن التفات الدهر هو التفات أهله فيحسب كل فرد من الناس قد ألوى عنقه وشخص ببصره مقطبًا ينظر ما يكون من فعل ذلك السيف المستل في يد ذلك البهمة الأمثل، وجملة ما يقال في البيتين: إنهما من السحر الذي يأخذ المرء عن نفسه ويحكم سلطان الخيال في عقله وحسه، ولكني لا أعرف صيغة (تفزّع) في هذه المادة لغيره , ولو كان لي أن أجيز مثلها لأجزتها وقلت: إنها مما يشتق قياسًا , فإني لا أرى لغيرها مثل روعتها. وله من قصيدة أخرى نحو هذا الفخر: وأصبحت محسود الجلال كأنني ... على كل نفس في الزمان أمير إذا صُلت كفّ الدهر من غُلوائه ... وإن قلت غصت بالقلوب صدور وله قصيدة يعارض بها دالية النابغة الذبياني , ومنها في وصف الحرب والفرس: ولقد شهدت الحرب في إبانها ... ولبئس راعي الحي إن لم أشهد تتقصف المران في حجراتها ... ويعود فيها السيف مثل الأدرد عصفت بها ريح الردى فتدفقت ... بدم الفوارس كالأتيّ المزبد مازلت أطعن بينها حتى انثنت ... عن مثل حاشية الرداء المجسد ولقد هبطت الغيث يلمع نوره ... في كل وضاح الأسرة أغيد تجري به الآرام بين مناهل ... طابت مشاربها وظل أبرد بمضمر أرِنٍ كأن سراته ... بعد الحميم سبيكة من عسجد خلصت له اليُمنى وعم ثلاثة ... منه البياض إلى وظيف أجرد فكأنما انتزع الأصيل رداءه ... سلبًا وخاض من الضحى في مورد زجل يردد في اللهات صهيله ... دفعًا كزمزمة الحبي المرعد متلفتًا عن جانبيه يهزه ... مرح الصبا كالشارب المتغرد فإذا ثنيت له العنان رأيته ... يطوي المعاهد فدفدًا في فدفد يكفيك منه إذا استحس بنبأة ... شدًّا كألهوب الإباء الموقد صلب السنابك لا يمر بجلمد ... في الشد إلا رضّ فيه بجلمد نهم العتاد إذا الشفاة تقلصت ... يوم الكريهة في العجاج الأربد وقال عندما كان يصطلي بنار الحرب في جزيرة كريد يصفها: أخذ الكرى بمعاهد الأجفان ... وهفا السرى بأعنة الفرسان والليل منشور الذوائب ضارب ... فوق المتالع والربى بجران لا تستبين العين في أرجائه ... إلا اشتعال أسنة المران نسري به ما بين لجة فتنة ... تسمو غواربها على الطوفان إلى أن قال: فالبدر أكدر والسماء مريضة ... والبحر أشكل والرماح دوان والخيل واقفة على أرسانها ... لطراد يوم كريهة ورهان وضعوا السلاح إلى الصباح وأقبلوا ... يتكلمون بألسن النيران حتى إذا ما الصبح أسفر وارتمت ... عيناي بين ربى وبين محان فإذا الجبال أسنة وإذا الوها ... د أعنة والماء أحمر قان ونظم في عهد الصبا قصيدة في العلم قال في مطلعها: بقوة العلم تقوى شوكة الأمم ... فالحكم في الدهر منسوب إلى القلم كم بين ما تلفظ الأسياف من علق ... وبين ما تلفظ الأقلام من حكم وهذا الذي قاله وهو من رجال الحرب يدل على مبلغ استعداده للعلم. ومنها: شيدوا المدارس فهي الغرس إن بسقت ... أفنانه أثمرت غضًّا من النعم مغنى علوم ترى الأبناء عاكفة ... على الدروس به كالطير في الحرم من كل كهل الحجا في سن عاشرة ... يكاد منطقه ينهلّ بالحكم كأنها فلك لاحت به شهب ... تغني برونقها عن أنجم الظلم يجنون من كل علم زهرة عبقت ... بنفحة تبعث الأموات في الرمم ثم وصف الشاعر منهم والكاتب والحاسب والمهندس والطبيب والخطيب والسياسي والقانوني , وذكر التهذيب والفضيلة , وقال: أنّى يفوز لنا قدح بفائدة ... ونحن في زاخر بالجهل ملتطم لا تجعلوا اليأس عذرًا فهو داعية ... إلى المذلة بعد العز والشمم لو كان يعلم حيّ أن خيبته ... من زلة الرأي لم يعتب على القسم وقال بعد النفي يصف النوى، ويذكر الهوى، ويمثل أخلاقه، ويشكو رفاقه، وقد سمعناها من إنشاده بعد عودته: محا البين ما أبقت عيون المهى مني ... فشِبتُ ولم أقض اللبانة من سني عناء ويأس واشتياق وغربة ... ألا شدّ ما ألقاه في الدهر من غبن فإن أك فارقت الديار فلي بها ... فؤاد أضلته عيون المهى عني بعثت به يوم النوى إثر لحظة ... فأوقعه المقدار في شَرَك الحسن فهل من فتى في الدهر يجمع بيننا ... فليس كلانا عن أخيه بمستغني ولما وقفنا للوداع وأسبلت ... مدامعنا فوق الترائب كالمزن أهبت بصبري أن يعود فعزني ... وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن وما هي إلا خطرة ثم أقلعت ... بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن فكم مهجة من زفرة الوجد في لظى ... وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن وما كنت جرّبت النوى قبل هذه ... فلما دهتني كدت أقضي من الحزن ولكني راجعت حلمي وردني ... إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن ولولا بنيات وشيب عواطل ... لما قرعت نفسي على فائت سني فيا قلب صبرًا إن جزعت فربما ... جرت سنحًا طير الحوادث باليمن فقد تورق الأغصان بعد ذبولها ... ويبدو ضياء البدر في ظلمة الوهن وأي حسام لم تصبه كهامة ... ولهذم رمح لا يفلّ من الطعن ومن شاغب الأيام لان مريره ... وأسلمه طول المراس إلى الوهن وما المرء في دنياه إلا كسالك ... مناهج لا تخلو من السهل والحزن فإن تكن الدنيا تولت بخيرها ... فأهون بدنيا لا تدوم على فن تحملت خوف المن كل رزيئة ... وحمل رزايا الدهر أحلى من المنّ وعاشرت أخدانًا فلما بلوتهم ... تمنيت أن أبقى وحيدًا بلا خدن إذا عرف المرء القلوب وما انطوت ... عليه من البغضاء عاش على ضغن يرى بصري من لا أودّ لقاءه ... وتسمع أذني ما تعاف من اللحن وقد نظم في منفاه بجزيرة سيلان قصيدة طويلة في السيرة النبوية على رويّ البردة قال في فاتحتها: يا رائد البرق يمم دارة العلم ... واحْدُ الغمام إلى حيّ بذي سلم وإن مررت على الروحاء فأمر لها ... أخلاف سارية هتانة الديم من الغزار اللواتي في حوالبها ... ري النواهل من زرع ومن نعم إذا استهلت بأرض نمنمت يدها ... بردًا من النور يكسو عاري الأكم ترى النبات بها خضرًا سنابله ... يختال في حلة موشية العلم أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ ... أحق بالريّ لكني أخو كرم منازل لهواها بين جانحتي ... وديعة سِرها لم يتصل بفمي إذا تنسمت منها نفحة لعبت بي ... الصبابة لعب الريح بالعلم أدِر على السمع ذكرها فإن لها ... في القلب منزلة مرعية الذمم عهد تولى وأبقى في الفؤاد له ... شوقًا يفل شباة الرأي والهمم إذا تذكرته لاحت مخايله ... للعين حتى كأني منه في حلم فما على الدهر لو رقت شمائله ... فعاد بالوصل أو ألقى يد السلم تكاءدتني خطوب لو رميت بها ... مناكب الأرض لم تثبت على قدم في بلدة مثل جوف العير لست أرى ... فيها سوى أمم تحنو على صنم لا أستقرّ بها إلا على قلق ... ولا ألذ بها إلا على ألم إذا تلفتّ حوالي لم أجد أثرًا ... إلا خيالي ولم أسمع سوى كلمي فمن يرد على نفسي لبانتها ... أو من يجير فؤادي من يد السقم ليت القطا حين سارت غدوة حملت ... عني رسائل أشواقي إلى إضم مرت علينا خماصًا وهي قاربة ... مر العواصف لا تلوي على أرم لا تدرك العين منها حين تلمحها ... إلا مثالاً كلمح البرق في الظلم كأنها أحرف برقية نبضت ... بالسلك فانتشرت في السهل والعلم لا شيء يسبقها إلا إذا اعتقلت ... بنانتي في مديح المصطفى قلمي محمد خاتم الرسل الذي خضعت ... له البرية من عرب ومن عجم سمير وحي ومجنى حكمة وندى ... سماحة وقِرى عافٍ وريّ ظم قد أبلغ الوحي عنه قبل بعثته ... مسامع الرسل قولاً غير منكتم قوله: قاربة، مؤنث قارب وهو طالب الماء ليلاً. وأرم بالتحريك ككتف بمعنى أحد، لا يستعمل إلا في النفي. ومر بقصر الجزيرة بعد عودته من سيلان فتذكر أيام إسماعيل , ونظم معتبرًا ومذكرًا: هل بالحمى عن سرير الملك من يزع ... هيهات قد ذهب المتبوع والتبع هذي الجزيرة فانظر هل ترى أحدًا ... ينأى به الخوف أو يدنو به الطمع أضحت خلاء وكانت قبل منزلة ... للملك منها لوفد العز مرتبع فلا مجيب يرد القول عن نبأ ... ولا سميع إذا ناديت يستمع كانت منازل أملاك إذا صدعوا ... بالأمر كادت قلوب الناس تنصدع عانوا بها حقبة حتى إذا نهضت ... طير الحوادث من أوكارها وقعوا لو أنهم علموا مقدار ما فغرت ... به الحوادث ما شادوا ولا رفعوا دارت عليم رحا الأيام فانشعبوا ... أيدي سبا وتخلت عنهم الشيع كانت لهم عصب يستدفعون بها ... كيد العدوّ فما ضروا ولا نفعوا أين المعاقل بل أين الجحافل بل ... أين المناصل والخطية الشرع لا شيء يدفع كيد الدهر إن عصفت ... أحداثه أو يقي من شر ما يقع زلوا فما بكت الدنيا لفرقتهم ... ولا تعطلت الأعياد والجمع والدهر كالبحر لا ينفك ذا كدر ... وإنما صفوه بين الورى لمع لو كان للمرء فكر في عواق

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (ترجمة أحمد باشا المنشاوي) هو ابن أحمد آغا المنشاوي بن الجوهري المنشاوي نسبة إلى قرية المنشاة في مركز زفتى من مديرية الغربية بمصر , ولد سنة 1250 وقيل 1256 ومات والداه عن ثمانية أولاد هو أصغرهم , وترك لهم مائتي فدان فرباه أخوه الأكبر محمد بك المنشاوي وعلمه مبادي القراءة والكتابة بالعربية والتركية , وفي الثامنة عشرة من عمره عين معاونًا في عمال المزارع التي تسمى الدائرة السنية فعرف كيفية إدارة الزراعة وتثمير الأرض بالطرق المنتظمة التي كان يجري عليها أمراء مصر. وقد خلقه الله كبير النفس فحدثته نفسه بالمعالي , ولم تك المعالي يومئذ إلا في قرب الحكام ووفرة المال فوجه نفسه إلى جمع الثروة , وكان مبدأ أمره فيها أنْ اشترى تبنًا كثيرًا من الدائرة السنية بثمن بخس فارتفع ثمنه جدًّا حتى بلغ ثمن الحمل جنيهًا؛ فربح ربحًا عظيمًا , ثم اشترى مقدارًا عظيمًا من بذر البرسيم الأردب بجنيه فعلا ثمنه حتى بلغ ثمن الأردب اثني عشر جنيهًا , ثم اشتغل بأعمال زراعية أخرى فنجح فيها نجاحًا عظيمًا بكده وجده حتى وثق به إسماعيل باشا المفتش العام الذي كان يدير دفة الحكومة المصرية في عهد الخديو إسماعيل باشا , ورقاه في عمله , ومن أقدر على جمع الثروة ممن كان يثق به هذا ويوليه الأعمال الزراعية؟ نعم ما كل من تسنح له الفرص يحسن استخدامها كما استخدمها المترجَم بمهارته وحذقه الفطري وشجاعته , وقد كانت قيمة الأرض قليلة في ذلك العهد لكثرة الضرائب والمظالم من الحكومة حتى كأن الفلاحين كلهم عبيد للأمير لا ينالون من تعبهم في استغلال الأرض له إلا ما يسد الرمق ويحفظ الدماء ولولا الحاجة إليهم للخدمة والاستعباد لبخلوا عليهم بذلك اللماج، الذي كان بمثابة الدواء والعلاج، ولكن أصحاب الجراءة والإقدام، والزلفى عند أولئك الحكام، كان يسهل عليهم من جمع الثروة ما يعز على غيرهم , وبلغنا أن المترجَم لم يملك على عهد إسماعيل باشا أكثر من ألف فدان، فإن صح هذا كان دليلاً على أنه لم يستعن على تحصيل ثروته الواسعة باستبداد الحكام كما زعم بعض الناس , بل حصلها بجده واجتهاده تدريجًا. وليرجع القارئ هنا إلى ما قلناه في مقدمة ترجمة محمود سامي باشا الأدبية من هذا الجزء ليتذكر أن نجاح الإنسان في أعماله هو أثر استعداده وثمرة خلائقه , وقد جرى المترجَم بحسب ميله واستعداده في طرق الإثراء , وكانت براعته في عمارة الأرض واستغلالها أشد من براعته في امتلاكها، فقد ملك عشرة آلاف فدان كانت غلتها نحو مائة ألف جنيه في السنة , ومن الناس من يملك في مصر أكثر من ذلك أرضًا ولا ينال منه نصف ما كان ينال المنشاوي ريعًا , وأهل هذه الديار يعرفون كثيرًا من معاصريهم الذين ترك لهم آباؤهم عشرات الألوف من الفدادين فأضاعوها وانقلبوا مساكين , فلا يحسبن الجاهل أن الثروة تنال بما يسمونه البخت أو بمساعدة أصحاب السلطة والجاه أو سنوح الفرص، بل يجب أن يعلم أن الوسيلة الأولى في الاستعداد الفطري والأخلاق ثم العمل والجد عن علم بالميل الناشئ عن ذلك , فالبخت اسم لمسمى وهمي , والفرص تسنح لكثير من الناس وقليل منهم المستفيد منها، والعلم بطرق الكسب لا يغني وحده، فكم من عالم خائب؟ والجد والكد بغير مساعدة الأخلاق قليل الغناء , فأكثر الناس كادح ناصب في تحصيل الرزق والناجح قليل من كثير. ومن يقول أن الحريص كالمهمل المفرط، والمقتصد كالمسرف المضيع، والجريء كالجبان الهلوع، والسخي كالبخيل المنوع، والعزيز الكريم كالمهين اللئيم، ومن دلائل حذق المنشاوي ومهارته في تدبير أمر الثروة أن دائرته الواسعة لم يكن فيها من العمال والكتاب عشر ما في أمثالها من دوائر أمراء مصر وأغنيائها الذين هم فوقه علمًا ودونه مهارة وعملاً , وكان ينظر كل شيء بنفسه ولا يتم في الدائرة عمل إلا بإذنه وتوقيعه. كان عزيز النفس أبيًّا ولوعًا بالشهرة بالمعالي، مغرمًا بحب المدح والثناء , وصاحب هذه الخلال وإن لم يقف بها عند الحدود المشروعة والموضوعة خير من المهين المغمول المستولغ الذي لا يبالي أعده الناس مسيئًا فذموه أو محسنًا فمدحوه كما عليه كثير من أمرائنا وأغنيائنا الذين لا همّ لهم إلا التمتع باللذات البهيمية. ولذلك كان يدخل في المآزق ويركب الصعب لإحراز المكانة في نفوس الناس. ومن ذلك توسطه بين عربان القطر المصري وعرابي باشا حين أراد هذا إلزامهم بقبول ضرب القرعة العسكرية في أبناءهم فأبوا وتألبوا يبغون الفتنة، ولما أغرى شيطان السياسة المصريين بقتل الإفرنج ومن على شاكلتهم من اليهود والنصارى الغرباء في الإسكندرية سرى سم الاعتداء منها إلى طنطا , وطفق الرعاع يقتلون ويضربون فانبرى الفقيد يومئذ إلى إغاثتهم فنفر عنهم طائر الفتنة , وحمل المئين منهم على قطارين إلى بلدته القرشية فوضع كبارهم في قصره العظيم والباقين في مزارعه هناك , فكانت لهم حرمًا آمنًا يلجأ إليه الخائف، ويفرخ روع الواجف، وكان ينفق عليهم من سعته وجهز كثيرين منهم فسافروا بحمايته ونفقته إلى بورسعيد فأوربا. وزعم بعض المنتقدين أنه لم يفعل ذلك إلا لما كان يتوقعه من ظفر الإنكليز وإثابتهم إياه على صنيعته , وما كان الرجل بعيد النظر في الأمور الاجتماعية والسياسية فيدرك ما لم يكن يخطر على بال أكثر المتعلمين والحاكمين , بل كان على غاية البساطة في غير الأمور الزراعية والاقتصادية , وما أرى السائق له إلا الأريحية الفطرية وحب معالي الأمور مع الإحساس بالقدرة على ذلك لما له من الأعوان والعصبية , وقد آوى غيره من الوجهاء بعض الناس على جبنهم وخوفهم , ولكن لم يشتهر أمرهم , وأما عمل المنشاوي فلعظمه قد طار ذكره في الآفاق فأهديت إليه أوسمة الشرف من دول أوربا وجمعياتها. ولكن الذين تتوجه نفوسهم إلى الشر دائمًا لا يصدقون بأنه يوجد في الدنيا من يعمل الخير لوجه الله تعالى أو لحب الخير. على أن الذي يطلب الحظوة عند الدول أو عظماء الناس بفعل الخير قليل في الناس , وما كثر هذا الفريق في أمة إلا ارتقت وعظم شأنها فالمنشاوي كان خيرًا من منتقديه وإن صدق سوء ظنهم فيه، وقد فعل مثل فعله في مصر الأمير عبد القادر وغيره من علماء وعظماء المسلمين في الشام في إبان الفتنة التي حدثت سنة 1860 م فهل كانوا يتوقعون أن يأخذ الفرنسيس الشام فيكافئوهم ويرفعوا شأنهم؟ كلا ثم كلا, إنهم كانوا بباعث الدين والمروءة ينبعثون، وقد كان من المتهمين في الفتنة العرابية وحوكم فلم يثبت عليه بما يحكم به عليه , ولكنه في أعقاب الفتنة سافر إلى بلاد الشام وأقام مدة في بيروت كان فيها عونًا للمنفيين المحتاجين من المصريين , ولكنه لم يسلم من شرهم فسعوا فيه إلى السلطان عندما سافر إلى الآستانة سنة 1301 فكتبوا إلى المابين أنه متفق مع إسماعيل باشا على تأسيس دولة عربية فلم تضره سعايتهم , وأقام في الأستانة زمنًا ثم سافر إلى تونس فأكرم الباي ورجاله مثواه , وأنعم عليه برتبة أمير الأمراء ووسام الافتخار , ثم سافر إلى نابولي فلقي من رجال بعض الجمعيات حفاوة وإكرامًا , ثم عاد إلى مصر سنة 1305 وأقام في قصره بالقرشية , وكان حب الكرامة والعلاء قد نما في نفسه فلم يكن يسعه ذلك القصر الفخيم والجنة التي أنشأها له , وفيها من كل فاكهة وكل زهر وريحان، ما لا يكاد يوجد في مكان، ولذلك كان كثير الشئون مع الأمير والحكومة , ولا موضع في المنار لذكر شيء من ذلك وإنما نشير إلى الهضم الذي ناله من جراء ذلك فهب بباعث ردّ الفعل إلى العلاء والكرامة من الطريق الحقيقي فنال لقب (محسن مصر الكبير) وهو أفضل من لقب باشا وأمير. بُعد المترجَم عن أمير البلاد لهذا العهد زمنًا ثم قرب منه , وقيل أنه قدم هدية لولي العهد يومئذ مزرعة تبلغ ألف فدان. واتفق في زمن هذا القرب أن سرق من مزارع الأمير ثور لم يهتد رجال الحكومة إلى سارقه فتصدى لمساعدتهم إرضاء للأمير , وكان من أقدر الناس على ذلك لما اعتاده بواسطة خدمه وأعوانه من التنكيل باللصوص من أيام الاستبداد , فضرب بعض المتهمين الذين أحضرهم , وكان عنده مأمور مركز طنطا يبغي التحقيق , فقامت لذلك قيامة الحكومة؛ لأن المحتلين يشتدون في إزالة السلطة الشخصية من مصر , ويعاقبون أشد العقوبة كل من يعمل عملاً لا يجيزه له القانون لأجل إرضاء الأمير أو بوحي من قصره , فحوكم المترجَم وحُكم عليه بالحبس ثلاثة أشهر , وعزل المأمور تأديبًا , وعزل مدير الغربية سعد الدين باشا بالإحالة على المعاش. فعظم الأمر على الفقيد , وذهب بعد خروجه من السجن إلى أوربا لينتقم من اللورد كرومر بما يكتب في الجرائد الأوربية، سول له ذلك بعض الطامعين في ماله فقبله لبساطته , ثم رجع يائسًا , وقد أراد بعد عودته أن يغيظ المحتلين بزيادة القرب من الأمير وتعظيم شأنه , فلما أراد الأمير أن يسافر للاحتفال لقناطر زفتى التمس منه أن يمر على محطة القرشية فقبل , فأعد هناك زينة واحتفالاً لم يعرف لمثلهما نظير في القطر المصري , وقبيل السفر كُتِب إليه من حاشية الأمير بأن العزم قد تحوّل عن المرور من هناك فعظم عليه الأمر جدًّا , وانكمشت نفسه حينًا لتندفع إلى العمل العظيم الذي لا خيبة فيه ولا إضاعة بل هو الشرف الرفيع الذي يمحو كل غضاضة , وما عتم أن أنشأ تلك الوقفية العظيمة التي نوهنا بها في السنة الماضية (المجلد السادس) فعمَّ إحسانه العلماء والفقراء من جميع الملل. ولما توجهت نفسه للخير والبر بالسخاء الحاتمي صار يكثر معاشرة أهل الخير والعلم , فوثق عرى وداده بالشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية , وصار يكثر زيارته ويستشيره في شئونه , وقد عرفناه في أثناء ذلك. وكنت كثيرًا ما أحدث الشيخ فيما تتوق إليه نفسه من السعي في إنشاء مدرسة جامعة في مصر تكون في ضواحي القاهرة , فكان يشكو من بخل الأغنياء وجهلهم بفائدة هذا العمل الذي لا يتم إلا بمبلغ عظيم , فلما اتصل المنشاوي به رغبه في هذا العمل الذي يكبر على غير نفسه الكبيرة ويده المبسوطة فوعد بأنه سيفعل , ولما وقف تلك الأرض التي قيل أن ريعها يناهز أربعين ألف جنيه في السنة , وهو في الحقيقة لا يقل عن 25 ألف جنيه - خفنا أن يكون رجع عن رأيه فإذا هو لم يرجع , وكنت كلما لقيته أحدثه في أمر المدرسة وأعظم من شأنها حتى إنني رأيته في غرة رمضان من السنة الماضية فأقسم لي بالله أنه سيكلم في ذلك النهار أحد الأمراء في شراء قصر له (بشبرا) لينشئ المدرسة فيه مؤقتًا إلى أن يبني لها البناء الذي يليق بها , ثم علمت أنه كلمه ولم يتفق معه على الثمن. وبلغ الخبر أرباب الجرائد فطفقوا يذكرون المدرسة الكلية الجامعة بما يزيد في تشويقه رحمه الله حتى إذا كان يوم السبت (10 شوال الماضي) كتب إلى مجلس النظار كتابًا يطلب فيه أن تبيعه الحكومة عشرة آلاف فدان معينة (كانت باعتها من رجل أجنبي بثمن وشروط لم يستطع القيام بها ففسخت البيع) ليجعلها وقفًا على مدرسة كلية يريد إنشائها في مصر بالقرب من القاهرة , ومن عادة الحكومة أن تبيع الأرض للمدارس والأعمال الخيرية بثمن بخس , والفقيد طلب هذه الأرض بمثل الثمن الذي كانت باعتها به , وكتب إليها أنه يوقع على حجة الوقفية في الوقت الذي توقع له المالية على عقد البيع. ثم توسل بالمفتي إلى نظارة المعارف بأن توصي الحكومة بالتعجيل بعقد البيع منه , ووعد

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أخذ الأجرة على القرآن (س104) أ. ف. في الإسكندرية: قرأنا في مناركم نقلاً عن الأستاذ الإمام عند تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188) إلخ الوجوه التي يعتبر أخذ المال فيها محرمًا , وفيها ما يؤخذ على العدد المعلوم من سورة يس - وأن القراءة لا تحقق إلا إذا أريد بها وجه الله خالصة , فإذا شابت هذه النية شائبة فقد أشرك بالله غيره في عبادته بالتلاوة - وكذا من يقرأ القرآن لأخذ الأجرة لا غير فإذا لم تكن لا يقرأ , وعلم من ذلك أن الحرمة على المعطي والآخذ , فإذا كان الأول يعطي بمحض إرادته , وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) فكيف تكون الحرمة؟ وكيف الجمع بين القولين؟ والحديث كما لا يخفى رواه البخاري عن ابن عباس في (كتاب الطب) وهو حجة الشافعي (كما سمعنا) على جواز أخذ الأجرة على القراءة , وحجة أبي حنيفة على جواز أخذها على الرقى. أسعفونا بالجواب فأنا كالظمآن ينتظر ورود الماء , ولكم الفضل أولاً وآخرًا. (ج) حمل بعض العلماء الأجر في الحديث على الثواب لأجل الجمع , وخصه بعضهم بالرقية , وينبغي أن تكون صلحًا على شفاء لديغ , فإن شفي استحق الراقي الأجرة كما كانت واقعة الحال لأن ما جاء على خلاف القياس لا يقاس عليه , وقد تقدم الكلام على الرقية بالقرآن ونفعه في شفاء المرضى أو عدم نفعه في الكلام على المسائل الزنجبارية. ومنها يعرف أنه على خلاف القياس. ومن الأحاديث المعارضة له ما رواه أحمد والبزار من حديث عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه , ولا تجفوا عنه , ولا تستكثروا به) . ورجاله ثقات , وما رواه أحمد والترمذي وحسنه من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن واسألوا الله به فإن من بعدكم قومًا يقرءون القرآن يسألون به الناس) وما رواه أبو داود من حديث سهل بن سعد وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقرءوا القرآن قبل أن يقرأه قوم يقيمونه كما يقام السهم يتعجل أجره ولا يتأجل) , وما رواه أيضًا من حديث جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن , وفينا الأعرابي والعجمي فقال: (اقرءوا فكل حسن , وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) فهذا وما ذكر في التفسير كافٍ في بيان الحق , وجعل حديث الرقية خاصًّا بتلك الواقعة وما كان في معناها , وهي تدل على أن الأجرة كانت محرمة، فإن الراقي لما أخذ الشاء أنكر عليه رفاقه من الصحابة حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأذن لهم بأكلها , وكانوا استضافوا أولئك العرب من المشركين فلم يضيفوهم , فرقى أحدهم لهم سيدهم وكان لديغًا على أن يعطوه القطيع إذا شفي. فأنت ترى أنهم كانوا مضطرين ومحتاجين , ولا يقال أن المعطي يعطي برضاه فإن العقد فاسد , وهذه شبهة مستحل الربا. والشافعي لم يقل ما ذكر , وإنما هو بحث للشافعية في صحة الإجارة وعدمها. *** حياة البرزخ وحياة الآخرة (س105) يوسف أفندي هندي في بريد (بور سعيد) : أكد لي أحد طلبة العلم بالأزهر الشريف أن الميت يشعر ويحس ويتألم ويسمع كل ما قيل أمامه حتى وطء النعال على قبره , واستشهد بحديث عمر: (ما أنت بأسمع منهم) . وإني شاك في ذلك لبعده عن التصور , وعدم تسليم العقل به مباشرة لأسباب، منها: عدم تألم المرء بما يفعل بجسمه إذا خدر بدنه بالمادة المغيبة (البنج) والروح فيه , فما باله بعد مفارقتها بدنه , ومنها أن الميت في بورسعيد يوضع في صندوق ويلقى في حفرة رملية ويهال عليه التراب , ولا شك أن الأرض تغور به لأنها رملية فهل يسلم العقل بأن الميت يشعر بهذا كله ونحوه , أرجو التكرم بشرح الحقيقة مأجورين. (ج) ولع كثير من الذين يشتغلون بعلم الدين بالكلام في الغرائب , ولا أغرب من أمور عالم الغيب , واحتجوا عليه بالروايات حتى الضعيفة والموضوعة وأدخلوا فيه القياس على ما رووا , بل منهم من احتج فيه بالرؤى والأحلام حتى قالوا وكتبوا ما يحمل كثيرًا من الضعفاء على الشك في أصل الدين. ومن ذلك أن الأموات يأكلون في قبورهم ويشربون ويغشون النساء. والحق المجمع عليه أن حياة الآخرة من أمور عالم الغيب , فما ورد فيها من النصوص القطعية عن الله ورسوله نؤمن به من غير بحث في كيفيته , ونؤمن مع ذلك أن عالم الغيب ليس كعالم الشهادة فلا نقيس حياة الآخرة على الحياة الدنيا في شيء. والعقل لا ينافي هذا لأنه يدلنا على أن الذي وهبنا هذه الحياة قادر على أن يهبنا بعد الموت حياة أخرى أرقى منها أو أدنى , وقد اختلف المسلمون في حياة البرزخ فقال الأكثرون: إن الميت يحيا بعد الدفن لأجل السؤال , وأنه يعذب بعد الموت قبل البعث يوم القيامة , وعليه جمهور أهل السنة لأحاديث وردت في ذلك , ولكن هذه الحياة عندهم غيبية لا يقاس عليها. ونقل صاحب (لوائح الأنوار البهية في شرح عقيدة الفرقة المرضية) عن الإمام ابن حزم في كتاب الملل والنحل أن من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فقد أخطأ لأن الآيات تمنع من ذلك يعني قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} (غافر: 11) , وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} (البقرة: 28) قال: ولو كان الميت يحيا في قبره لكان الله تعالى قد أماتنا ثلاثًا وأحيانا ثلاثًا , وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله آية لنبي من الأنبياء - ثم ذكر قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها - أي أن الآيات تجيء على خلاف الأصل , والأصل هنا أنه لا حياة بعد الحياة الدنيا إلا حياة الآخرة , وذكر في الاحتجاج قوله تعالى: {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى} (الزمر: 42) أي يرسل روح الذي يموت إلى يوم القيامة فلا حياة له قبلها , ثم قال ابن حزم: ولم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة , ولو صح ذلك لقلنا به , وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح إلى القبور المنهال بن عمرو وليس بالقوي , تركه سعيد وغيره وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة في الإسلام على ما قد نقل , وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك. (قال) وهذا الذي قلناه هو الذي صح عن الصحابة , وذكر آثارًا عنهم تؤيد ما قال. وقد أورد صاحب اللوائح ردًّا عليه لابن القيم قال: إن أراد ابن حزم بقوله: (من ظن أن الميت يحيا في قبره فقد أخطأ) الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتصرفه وتدبره ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال , والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص. وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بأن تعاد الروح إليه إعادة غير المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ , وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله: (فتعاد روحه في جسده) في حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما وساق الحديث , وهو عند أحمد وأبي داود , ثم ذكر أن قوله فيه: (ثم تعاد روحه في جسده) لا يدل على حياة مستقرة , ثم ذكر أن تعلق الروح بالبدن من أول التكوين إلى يوم القيامة خمسة أنواع ذكرها المؤلف وهذا نوع منها. أي وهو غيبي لا نعرف حقيقته. ثم ذكر أن جرح المنهال خطأ وذكر من وثقه , وأن أعظم ما قيل فيه أنه سُمع صوت غناء من بيته. وأما حديث أهل القليب وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما أنتم بأسمع لما أقول منهم) فهو يدخل في الآيات , فقد قال قتادة رضي الله عنه: أحياهم الله تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم , قال الحلبي في سيرته: أقول: المراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا للغرض المذكور , ولا يعد أن يريد أن أرواحهم هي التي سمعت؛ فإنها هي التي تدرك وتعقل، فلا تتوقف صحة الحديث على رجوعها إلى الأجساد , ولكن هل يقاس على النبي غيره في مخاطبة الأرواح، والقائس لا يعرف حقيقة ما به القياس؟ أم يعطي الله لكل أحد يكلم الموتى من الآية في أسماعهم ما أعطى نبيه عليه الصلاة والسلام؟ كلا فعلم مما تقدم أن ما سمعتموه من أن الأموات أحياء غير صحيح، بل هو تناقض صريح، والله أعلم. *** دعوى الولاية والتصرف في الكون (س106) الشيخ أنور محمد يحيى في (الإبراهيمية) : ظهر في بلدة الإبراهيمية رجل يسمى الشيخ.... . بالتصوف ومشيخة الطريق فأخذ عليه العهد نحو ثمانين شخصًا لما له من الشهرة بالصلاح , فراودت نفسي أن آخذ عليه العهد وأتخذه مرشدًا , فلما اجتمعت مع أحد تلامذته وسألته عن أحوال هذا الأستاذ؛ أقسموا لي بالله ثلاثًا أنه يوجد في تلامذته من تفوق رتبته رتبة سيدي أحمد البدوي وأن له التصرف في الكون , فأنكرت ذلك عليه فسألني ثانيًا: أتنكر ذلك؟ فقلت له: نعم. فأجابني بأنه لا بد من أن يصيبك مرض شديد لأنك مصر على إنكار التصرف , فصرت منتظرًا حدوث المرض كما أوعدني فلم يحصل , فهل يجوز لنا أن ننكر على هذا شرعًا أم لا؟ بينوا لنا.... (ج) جاء في كتب العقائد أنه لا يجب على أحد أن يصدق بأن فلانًا بعينه من أولياء الله تعالى وإن ظهرت الخوارق على يده. وإننا نذكر لك ما جاء في اللوائح عند شرح قوله: وكل خارق أتى عن صالح ... من تابع لشرعنا وناصح فإنها من الكرامات التي ... بها نقول فاقف للأدلة قال في تفسير الصالح: وهو الولي العارف بالله وصفاته حسب ما يمكن، المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات من ذكر وأنثى إلخ , وقال في تفسير ناصح: لله ولرسوله ولكتابه ولشريعة النبي صلى الله عليه وسلم التي أتى بها عن الله , وناصح لأئمة المسلمين وخاصتهم وعامتهم فإن الدين النصيحة إلخ , ثم قال في سياق النقل عن ابن حمدان حقيقة الكرامة: ولا تدل على صدق من ظهرت على يده فيما يخبر به عن الله تعالى أو عن نفسه ولا على ولايته لجواز سلبها وأن تكون استدراجًا له. يعني أن مجرد الخارق لا يدل على ذلك , ولذلك قال: ولا يساكنها ولا يقطع هو بكرامته بها , ولا يدعيها , وتظهر بلا طلبه تشريفًا له ظاهرًا , ولا يعلم من ظهرت منه هو أو غيره أنه ولي لله تعالى غالبًا بذلك وقيل: بلى. ولا يلزم من صحة الكرامات ووجودها صدق من يدعيها بدون بينة أو قرائن خالية تفيد الجزم بذلك وإن مشى على الماء أو في الهواء أو سخرت له الجن والسباع حتى تنظر خاتمته وموافقته للشرع في الأمر والنهي. فإن وجد الخارق من نحو جاهل فهو مخرفة ومكر من إبليس وإغواء وإضلال. فهذا نص عالم من أشد الناس انتصارًا للكرامات وإنكارًا على منكريها من المسلمين كالأستاذ أبي اسحق الإسفرايني والشيخ عبد الله الحليمي من أئمة الأشاعرة وغيرهم من الفرق. وتفسيره للولي يؤخذ من لفظه فإن معناه الناصر والموالي , ولا يكون ناصرًا لدين الله ومواليًا له إلا بالعلم والعمل بالكتاب والسنة والنصيحة لله ورسوله بإقامتهما , والنصيحة لأئمة المسلمين وهم السلاطين والأمراء الذين يحرم منافقو هذا الزمان نصيحتهم ويلعنون الناصح لهم , ولعامتهم. ثم إنه يذكر أن الولي لا يدعي الكرامة ولا هي تكون باختياره وتصرفه , ولكن إذا وقع له أمر خارق للعادة

انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير ابن جرير الطبري

الكاتب: محمد الخضري

_ انتقاد شواهد تفسير ابن جرير الطبري تابع لما قبله (35) أقوى وأقفر من نعم وغيرها ... هوج الرياح بهابي الترب موّار ورد في الجزء 27 ص 104 وكتب بدل بهابي الترب: بها في الترب. والبيت من قصيدة النابغة التي أولها: عوجوا فحيوا لنعم دمنة الدار ... ماذا تحيون من نؤى وأحجار (36) ونركب خيلاً لا هوادة بينها ... ونعصي الرماح بالضياطرة الحمر نعصى بالرمح أي نضرب به ونطعن , ويروى بدلها: ونسقي. وجاء البيت شاهدًا في موضعين (1) في الجزء 17 ص 18 وأنشد هنا صحيحًا (2) في الجزء 20 ص64 وكتب هكذا: وتركت خيلاً لا هوادة بينها ... تسقي الرماح بالدياضرة الحمر والبيت لخداش بن زهير العامري. (37) كأنها برج روميّ يشيده ... بانٍ بجصّ وآجر وأحجار ورد في موضعين (1) في الجزء 19 ص 18 وكتب هنا صحيحًا (2) في الجزء 29 ص 129 وكتب بإسقاط كلمة (بانٍ) حتى انكسر البيت. (38) بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجَّدًا للحوافر من أبيات لزيد الخيل وجاء في موضعين: (1) في الجزء الأول ص 229 وكتب هكذا: تجمع فضل البلق في حجراته ... ترى أولاؤكم فيه سجدًا للحوافر (2) في الجزء الأول ص 277 وكتب هكذا: تجمع ظل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيها سجدًا للحوافر ويظهر أن هناك رواية بجمع بدل بجيش، ولكن المبرد روى في كامله الأبيات الأربعة هكذا: بني عامر هل تعرفون إذا غدا ... أبو مِكنَف قد شد عقد الدوابر بجيش تضل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدًا للحوافر وجمع كمثل الليل مرتجس الوغى ... كثير تواليه سريع البوادر أبت عادة للورد أن يكره الوغى ... وحاجة رمحي في نمير وعامر (39) لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم ... طفحت عليك بناتق مذكار من كلمة للنابغة الذبياني يهجو زرعة بن عمرو بن خويلد، وجاء شاهدًا في الجزء 9 ص69 وكتب الشطر الثاني هكذا: دحقت عليك نتائق مذكار (40) كأن رماحهم أشطان بئر ... بعيد بين جاليها جرور من أبيات لمهلهل بن ربيعة، وجاء شاهدًا في الجزء السابع ص170، كتب الشطر الثاني هكذا: بعيد بين حالبها حرور ... جال البئر وجولها جانبها (41) غلام رماه الله بالحسن يافعًا ... له سيمياء لا تشق على البصر ورد في موضعين (1) الجزء 3 ص60 وكتب في الشطر الثاني سيماء بدون ياء قبل الألف , وهذا تحريف به ينكسر البيت و (2) في الجزء 8 ص 130 وكتب هنا صحيحًا إلا أنه ترك همز سيميا. (42) قعودًا لدى الأبواب طلاب حاجة ... عوان من الحاجات أو حاجة بكرا للفرزدق، وورد في موضعين (1) في الأول ص260 (2) في السابع ص172 وهنا استبدل طالب بطلاب وهو تحريف يختل معه قوام البيت. (43) أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بأمر نكر لأنكح أيمهم منذرًا ... وهل ينكح العبدَ حر لحر ورد في الخامس ص105 وكتبا هكذا، وأحيلا على عدد 7: أتوني فلم أرض ما بيتوا ... وكانوا أتوني بشيء منكر لا ينكح إليهم منذر فهل ... ينكح العبد حر بحر (44) وأشهد من عوف حلولاً كثيرة ... يمجون سب الزبرقان المزعفرا ورد في الثاني ص26 وكتب بدل حلولاً حؤلاً، وهو غلط , والحلول جمع حالّ مثل شاهد وشهود , وكتب بدل سبّ: بيت، وهو خطأ أيضًا , والسب بالكسرالثوب الرقيق. هكذا رواه اللسان في مادة س ب ب ولكن رواه في مادة ح ج ج بيت ولكنه خطأ. (45) ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والطيبان أبو بكر ولا عمر لجرير، وورد في موضعين (1) في الأول ص62 (2) في الثاني ص 30 ووضعت كلمة فعلهما بدل فعلهم، وذلك خطأ لأن قبله: وما لتغلب إن عدوا مساعيهم ... نجم يضيء ولا شمس ولا قمر (46) ... جاء الشتا واجثأل القنبر ... وطلعت شمس عليها مغفر وجعلت غير الحرور تسكر هكذا روي الأساس , وقال: اجثأل الطائر: نفش ريشه من البرد , ووردت في الحادي عشر ص 9 وكتبت هكذا: جاء الشتاء واحتال القير ... واستحفت الأمعاء وكادت تطير وجعلت عين الحرور تسير (47) فنكرنه فنفرن وامترست ... به عوجاء هادية وهاد جرشع من مرثية أبي ذؤيب , ورد في الثاني عشر ص41 , وكتب هكذا: فنكرنه فنفرن وامترست ... به هوجاء هادية وهاد جرشع (48) تأبى بدرتها إذا ما استصعبت ... إلا الحميم فإنه يتبضع ورد في السابع ص140 وكتب الشطر الأول هكذا: نأنى بدريها إذا ما استصعبت (49) وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع ورد في ثلاثة مواضع (1) في الأول ص383 وكتب صحيحًا (2) في الحادي عشر ص 58 وهنا استبدلت (إذ) بأو، في الشطر الثاني (3) في الثاني والعشرين ص41 وكتب صحيحًا. (50) وكنا كندماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن نتصدعا ورد في الثلاثين ص 7 وكتب أول البيت: عشنا، بدل وكنا، فانكسر البيت وأحال المصحح هنا على نمرة 7. (51) وما وجد أظآر ثلاث روائم ... وأين مجرًا من حوار ومصرعا ورد في التاسع والعشرين ص 118 وكتب هكذا: فما وجد أطار ثلاث روائم ... وأين مجرى من جوار ومصرعا (52) على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع ورد في ثلاثة مواضع (1) في السابع ص85 (2) في التاسع عشر ص 80 (3) في الثلاثين ص49 وفيهما كتب يصح بدل أصح. (53) ومنا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودًا إذا هب الرياح الزعازع ورد في التاسع ص48 وكتب بدل اختير: اختار، وهو خطأ يضيع معه الشاهد. (54) ... ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا خلفة حتى إذا ارتبعت ... سكنت من جلق بيعا ليزيد بن معاوية، وردا في التاسع عشر ص19 , وكتب آخر الثاني منهما تبعًا وصوابه بيعًا , والماطرون قرية بالشام، والخلفة ثمر يخرج بعد الثمر الكثير. (55) حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن ... للغدر خائنة مُغلّ الأصبع ورد في السادس ص9 وكتب بدل مغل: معل، وذلك خطأ. (56) بذات لوث عفرناه إذا عثرت ... فالتعس أدنى لها من أن أقول لعّا للأعشى ورد في السابع ص68 كتب الشطر الأول هكذا: بذت لوث عفرنا إذا أعثرت (57) وإن شفائي عبرة مهراقة ... فهل عند رسم دارس من معوّل من معلقة امرئ القيس، ورد في الثالث ص118 وكتب هكذا: وإن شفاي عبرة مهراقة فهل ... عند رسم دارس من معول (58) وكأن الخمر العتيق من ... الإسفنط ممزوجة بماء زلال باكرتها الأعراب في سنة النوم ... فتجري خلال شوك السيال للأعشى وجاء الأول في الثالث ص9 وكتب فيه الأسفط بدل الأسفنط. وجاء الثاني في الثالث ص5 وكتب هكذا: باكرتها الأعراب في سنة النوم ... فيجري خلال سؤل السيال (59) من كل نضاخة الذفري إذا عرقت ... عرضتها طامس الأعلام مجهول من: بانت سعاد , ورد في أربعة مواضع (1) في الثاني ص 227 وكتب صحيحًا. (2) في الخامس ص74 وكتب الشطر الأول هكذا: * من أجل نصاحة الذفري إذا عرقت * وذكر في الكتاب عراسقها بدل عرضتها، وهي تخل قوام البيت، وفسرها الطبري بما بين الجفنين ولم أعثر على الكلمة ولا على معناها، وهي محرفة (3) في الحادي عشر ص100 وكتب صحيحًا (4) في السابع والعشرين ص56 وكتب هكذا: من كل نضاجة الدفري إذا عرفت ... عرصتها طامس الأعلام مجهول (60) في مهمه قلقت به هاماتها ... قلق الفئوس إذا أردن نصولا ورد في الخامس ص172 , وكتب فيه قلقت وقلق بالفاء وصوابه بالقاف. (61) فآب مضلوه بعين جلية ... وغود بالخذلان حزم ونائل ورد في الثالث ص199 وكتب هكذا: فاب مضلوه بعين حليه وعود بالخذلان حزم ونائل (62) وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل ورد في موضعين (1) في الثاني ص42 (2) في الثلاثين ص125 , ووضع في المرتين كلمة غافل آخر البيت وصوابه عاقل , ومعناه الممتنع في صعوده. (63) طرقا فتلك هما همي أقريهما ... قلصا لواقح كالقسي وحولا ورد في السادس ص94 وكتب طرفًا وأفريهما بفائين وصوابهما بقافين. (64) اغزوا بني ثعل والغزو جدكم عدوا الروابي ولا تبكوا لمن قتلا ورد في التاسع والعشرين ص57 وكتب فيه الورايا بدل الروابي، والروابي: الأشراف. (65) رب ابن عم لسليمى مشمعل ... أروع في السفر وفي المن غزل طباخ ساعات الكرى زاد العسل ورد في الثالث عشر ص248 وكتب آخر الأبيات دار الكسل بدل زاد. (66) أعطى فلم يبخل ولم يبخل ... كُوم الذرى من خول المخوول ورد في السابع ص 169 وكتب البيت الثاني هكذا: كرام الذرى خؤل المخول. وورد ثانيًا في الثالث والعشرين ص 116 وكتب صحيحًا. (67) خرقوا جيب فتاتهم ... لو يبالوا سوءة الرّجُلة ورد في الثامن ص99 وكتب هكذا: خرقوا جيب قبابهم ... لم يبالوا سوءة الرحلة (68) إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريث وعجل ورد في التاسع ص108 وكتب هكذا: إن يفون بنا خير نفل ... ويأذن الله ربي وعجل (69) وإن الذي يسعى يحرّش زوجتي ... كساعٍ إلى أسد الشرى يستبيلها ورد في الأول ص349 وكتب في آخر البيت يستقيلها بدل يستبيلها. (70) أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... ريهنة ورمس ذي تراب وجندل ورد في السادس عشر ص 153 وكتب فيه نعف كراكب بدل نعف كويكب. (71) ما روضة من رياض الحزن معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل يومًا بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل البيت الأول ورد في الثالث ص 44 وكتب صحيحًا. والثلاثة في الحادي والعشرين ص17 , وكتب في البيت الأول من رياض الحسن بدل من رياض الحزن. وكتب الشطر الثاني من البيت الثاني هكذا: * مورد بصميم النبت مكتمل * وذلك غلط كله. (72) إذا لسعته النحل لم يَرج لسعها ... وحالفها في بيت نُوب عواسل ورد في أربعة مواضع (1) في الخامس ص156 , وكتب الشطر الثاني هكذا: * وخالفها في بيت ثوب عوامل * (2) في الحادي عشر ص 56 , وكذلك كتب (3) في الخامس والعشرين ص76 وكتب هكذا: إذا لسعته الدبر لم يرج لسها ... وخالفها في نيت نوب 7 عوامل لما صحت الكلمة جهل معناها , وأحيل على عدد 7. (4) في التاسع والعشرين ص 52 وكتب كالأول والثاني. قال في اللسان: النوب: النحل، جمع نائب لأنها ترعى وتنوب إلى مكانها. قال الأصمعي: هو من النوبة التي تنوب الناس لوقت معروف. قال أبو عبيدة: سميت نوبًا لأنها تضرب إلى السواد. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

رثاء محمود سامي باشا البارودي

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ رثاء محمود سامي باشا البارودي اجتمع جمهور من الشعراء والأدباء عند قبر أمير الشعر والأدب في اليوم الموعود فرثوه وأبنوه بالشعر والخطب , وإننا ننشر مرثية حافظ أفندى إبراهيم، لأنها واسطة ذلك العقد النظيم. وهى: ردوا علي بياني بعد محمود ... إني عييت وأعيى الشعر مجهودي ما للبلاغة غضبى لا تطاوعني ... وما لحبل القوافي غير ممدود ظنت سكوتي صفحًا عن مودته ... فأسلمتني إلى هم وتسهيد ولو درت أن هذا الخطب أفحمني ... لأطلقت من لساني كل معقود لبيك يا مؤنس الموتى وموحشنا ... يا فارس الشعر والهيجاء والجود ملك القلوب وأنت المستقل به ... أبقى على الدهر من ملك (ابن داود) لقد نزحت عن الدنيا كما نزحت ... عنها لياليك من بيض ومن سود أغمضت عينيك عنها وازدريت بها ... قبل الممات ولم تحفل بموجود لبيك يا شاعرًا ضنّ الزمان به ... على النهى والقوافي والأناشيد تجري السلاسة في أثناء منطقه ... تحت الفصاحة جري الماء في العود في كل بيت له ماء يرف به ... يغار من ذكره ماء العناقيد لو حنطوك بشعر أنت قائله ... غنيت عن نفحات المسك والعود جليته بعد أن هذبته بسنا ... عقد بمدح رسول الله منضود كفاك زادًا وزينًا أن تسير إلى ... يوم الحساب وذاك العقد في الجيد لبيك يا خير من هزّ اليراع ومن ... هز الحسام ومن لبى ومن نودي إن هد ركنك منكوبًا فقد رفعتْ ... لك الفضيلة ركنًا غير مهدود إن المناصب في عزلٍ وتولية ... غير المواهب في ذكرٍ وتخليد أكرم بها زلة في العمر واحدة ... إن صح أنك فيها غير محمود سلوا الحجى هل قضت أربابه وطرا ... دون المقادير أو فازت بمقصود كنت الوزير وكنت المستعان به ... وكان همك هم القادة الصيد كم وقفة لك والأبطال طائرة ... والحرب تضرب صنديدًا بصنديد تقول للنفس إن جاشت إليك بها: هذا مجالك سودي فيه أو بيدي نسخت يوم (كريد) كل ما نقلوا ... في يوم (ذي قار) عن (هاني بن مسعود) نظمت أعداك في سلك الفناء ... على رويٍّ ولكن غير معهود كأنهم كلم والموت قافية ... يرمي بها عربي غير رعديد أودى (المعري) تقي الشعر مؤمنه ... فكاد صرح المعالي بعده يودي وأوحش الشرق من فضل ومن أدب ... وأقفر الروض من شدو وتغريد وأصبح الشعر والأسماع تنبذه ... كأنه دسم في جوف ممعود لوى به الضعف واسترخت أعنته ... فراح يعثر في حشو وتعقيد وأنكرت نسمات الشوق مربعه ... تثيرها خطرات الخرّد الغيد لو أنصفوا أودعوه جوف لؤلؤة ... من كنز حكمته لا جوف أخدود وكفنوه بدرج من صحيفته ... أو واضح من قيمص الصبح مقدود وأنزلوه بأفق من مطالعه ... فوق الكواكب لا تحت الجلاميد وناشدوا الشمس أن تنعي محاسنه ... للشرق والغرب والأمصار والبيد أقول للملأ الغادي بموكبه ... والناس ما بين مكبود ومفئود غضوا العيون فإنَّ الروح يصحبكم ... مع الملائك تكريمًا لمحمود يا ويح للقبر قد أخفى سنا قمر ... مقسم الوجه محسود التجاليد يا ويحه حل فيه ذو قريحته ... لها بخدر المعاني ألف مولود فرائد خرّد لو شاء أودعها ... محصي الجديد سجلات المواليد كأنها وهى بالألفاظ كاسية ... وحسنها بين مشهود ومحسود لآلئ خلف بلور قد اتسقت ... في بيت دهقان تستهوي نهى الغيد محمود إني لأستحييك في كلمي ... حيًّا وميتًا وإن جوَّدت تقصيدي فاعذر قريضي واعذر فيك قائله ... كلاهما بين مضعوف ومحدود

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الفتنة في نجد وحقيقة الحال) كتبنا في آخر الجزء التاسع عشر نبذة في إمارة نجد وانتصار ابن سعود على ابن الرشيد , وكذبنا بعض الجرائد المصرية التي تتجر بالأمة والملة في زعمها أن ابن سعود خارج على الدولة العلية , وقلنا: إنه أطوع لها وأشد خضوعًا من ابن الرشيد الذي نفَّر منها أهل نجد بظلمه. وقد جاءتنا بعد ذلك رسائل متعددة من بلاد العرب فيها بيان الطرق التي أرسلت منها الدنانير إلى بعض أصحاب الجرائد المصرية التي تسمى إسلامية لتشنع على ابن سعود وتكذب عن لسانه الرسائل إلى رؤساء الجند العثماني ينكر فيها ولاية السلطان وخلافته بزعمهم. وجاءتنا أيضًا صور البرقيات التي أرسلها الأمير ابن سعود والأمير قاسم بن ثاني قائمقام قطر والولي الحميم للدولة العلية ومؤيد نفوذها في البلاد العربية إلى السلطان , وهي الحجة القاطعة على أن هذه الجرائد كانت ساعية بتفريق كلمة المسلمين وغش الدولة بإغرائها بحرب ابن سعود وعدم قبول طاعته وإن انضم إليه أكثر القبائل. وقد اتضح للدولة العلية من هذه الرسائل التي يظهر أنها وصلت بعدما حالت العمال المرتشون دون وصولها زمنًا - أن ابن سعود صادق في ولائه , وأكد ذلك عندها حالة (الحسا) فإنها على عهد ابن الرشيد كانت تتناوبها المخاوف , ويتخطف الناس من حولها حتى يعسر الوصول إليها , وكان الحجاج الذين يخرجون منها يتسلحون ويخرجون بقوة , ثم لا تمنعهم قوتهم من المشقة العظيمة والخسائر الكثيرة، ولما استولى ابن سعود وغلب أمره صار الناس يخرجون منها مثنى وفرادى لا يصيبهم أذى , وحكومة البصرة وبغداد عالمة بذلك. ولذلك كفت الدولة العلية عن إنجاد ابن الرشيد , وأمرت والي البصرة بأن يطلب الاجتماع بعبد الرحمن الفيصل بالمحل الذي يريد لأجل المذاكرة والمشاورة في الأمر , وكانت الدولة قد قطعت مرتب عبد الرحمن الشهري فأعادته إليه. هذا ما كتب إلينا (بتاريخ 21 شوّال الماضي) ثم علمنا من مكاتبات من بغداد وردت على بعض العربان التجار في مصر بأن الدولة جهزت أربعة توابير (التابور بالتاء عربي وبالطاء تحريف) وقد وجل لذلك أنصار ابن الرشيد , وارتاب أنصار ابن سعود الذي رُوي أنه زحف بخيله ورجله على حايل عاصمة ابن الرشيد، وسبب الريب أن الدولة العلية كانت تريد أن تجعل القصيم معسكرًا لأجل حفظ الأمن في بلاد نجد برضا ابن سعود. أخذت في بوادر هذا الأمر ثم سكتت عنه , ولعلها عادت إليه الآن ولا بد أن يأتينا الخبر اليقين بعد حين. وإننا نبدأ الآن بنشر رسالة وردت علينا في الموضوع , ثم نذكر بعدها الرسائل البرقية التي أشرنا إليها , وننصح الدولة العلية أن ترفق بعملها في بلاد العرب وتحذر كل ما يريب ويشكك الناس بحسن قصدها. قال المكاتب الخبير: (حقيقة الحال في الحادثة النجدية) لما كانت مجلتكم الغراء هي الوحيدة في خدمة الجامعة الإسلامية، المرشدة لجمع الكلمة مع بيان أقرب الطرق وأقومها مسلكًا وأنجحها مسعًى حتى قدرها الرأي العمومي الإسلامي في سائر أقطار المعمورة حق قدرها , وأحلوها من القبول محلها فصار صداها يخترق حجب المسامع، وهي نعمة جليلة توفقت لها لحسن قصدها دون من سواها - أتيت أتلو على سمعكم ما عنَّ لنا بشأن الحادثة النجدية ذات البال في الجامعة الإسلامية. إن الفتنة التي حدثت في هذه السنين الأخيرة في القطعة النجدية قد نظر إليها الرأي العام من عقلاء المسلمين وحكمائهم نظر الاهتمام كأنها الداء العضال العادي الذي يهدد صحة الأعضاء الرئيسة من الجسد الإسلامي , حيث إنهم قد أدركوا بثاقب أفهامهم المنورة بنور الإيمان أنها إذا لم تتداركها حكمة جلالة خليفة المسلمين بالحل السلمي السديد لا تنتهي إلا بمداخلة يد الأغيار المشتت لجموعنا أولاً وآخرًا , وهذا ما عنينا به من قولنا: كأنها الداء العضال العادي إلخ. وحقيقة إذا نظرنا نظرهم هذا أخذت بنا الدهشة كل مأخذ , واستولت علينا الحيرة من كل جانب حتى إذا ما تثبتنا بعد الدهشة واهتدينا غب الحيرة , ورجعنا لتلافي الأمر وليس لنا من الأمر شيء سوى استلفات واستعطاف أصحاب أهل الحل والعقد من أمراء الدولة العلية الذين هم لا يهمهم سوى الإصلاح لتلافي هذا الأمر وإخماد ثورة هذه الحادثة , وإطفاء نار هاته الفتنة بالإصلاح والتوفيق السديد لا ببرق السيوف ورعد المدافع وتحشيد العساكر والضغط الموجب للانفجار وتخريب الدار وتدمير الديار وتداخل يد الأغيار ولو بدون أهلية واستحقاق كما نعلم وتعلمون. نعم قد ولي عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود بلاد أبيه وجده بقاعدة الرياسة المعروفة بالمشيخة في البلاد العربية متغلبًا على الأمير عبد العزيز بن رشيد وكما تدين تدان {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) لكن نظرًا لما جبل عليه الأمير ابن رشيد من إباية الغبن ولما هو متصف به من العناد , ولما له من نفوذ الكلمة وقبول القول لدى أمراء الدولة العلية اغترارًا بما يرون منه من بهارج القول , وطمعًا بما ينالونه من ثمين الهدايا - استمالهم لمساعدته فساعدوه غير ناظرين لما يئول إليه أمر مساعدته من. ومن. ومن. وإذا لم يفكروا إلا في أن في نفس مساعدته وتقويته إذهاب قسم عظيم من ملك الدولة العلية لعثمانية فضلاً عما يكلف الدولة العلية من المشاق والخسائر وإضعاف النفوذ وتلف مئات ألوف من المسلمين والتداخل الأجنبي إلى غير ذلك من أنواع المضرات التي لا ثمرة لها غير التفريق والتشتيت - لوجب أن يكون ذلك حاجزًا قويًّا بين أرباب الحل والعقد وبين الميل لمساعدة أحد الفريقين على الآخر فضلاً عن المساعدة فعلاً؛ بل لوجب جمع فكرهم على اتخاذ الأسباب والوسائل لإصلاح ذات بين الفريقين وجمع كلمتهم تحت الراية المقدسة العثمانية. على أن الأمل الوطيد والحق الحقيق هو أن عبد العزيز بن سعود هو أطوع من غيره لإرادة جلالة متبوعه مع إنه لم ينظر اليه بعين الرضا كغيره , ولو نظر إليه بعين الرضا ورأى المساواة بينه وبين غيره لرأت الدولة العلية من خدماته الصادقة النافعة ما يجعله أقرب قريب لديها , ولا نظن إلا أن الذي أغمض عنه هذه العين الجليلة هو مداخل الأوهام من خرافات المموهين بأن الخطر على الحرمين الشريفين وأطرافهما من عبد العزيز بن سعود محقق لأنه وهابي , والحال أن التوهب الذي يرمون به ابن سعود وعشائره أهل نجد هو اعتقاد السلف الصحيح في توحيد الذات الإلهية وتقديس صفات الربوبية , وهذا شيء لا دخل له بالملك والسياسة , لكن المقاصد تغلب الحقائق. وأما محافظة ابن سعود على الحرمين وطريقهما وقُصَّادهما وفود الحجاج وكسر شوكة الذين كانوا يتعرضونهم من ثوار العشائر البادية - فهذا محسوس ومشاهد بالعيان , حتى رأى الحجاج منذ عامين في طريقهم كل تسهيل موفرين ومقتصدين لما كانوا يعطون من الرسوم المقررة لرؤساء العشائر عن يد وهم صاغرون , فكفت أيدي البادية , ورأى الحجاج من العزة والاحترام ما لم يروه قبل , وهذه قضية مسلّمة يقر ويعترف بها حتى الخصم نفسه , فنسأل الله جل جلاله أن ينصر دولتنا العلية ورجالها الصادقين ويلهمهم السلوك في طريق الرشاد فيصلحوا ذات بين الفريقين , وتحفظ الدولة العلية لنفسها حقوق سيادتها المقدسة في الجانبين كذي قبل , وإذا اختلف أحد منهم عن إرادتها وخالف رضاءها العالي إذ ذاك، فلها أن تؤنب وتعنف وتؤدب بما شاءت وكيفما شاءت , وهي ذات السيادة المطلقة في جميع ممالكها المحروسة. لما حدثت الحوادث في بلاد نجد وانتصر ابن سعود على ابن الرشيد وخيف من سوء العاقبة؛ انبرى لتلافيها أرباب الحمية الدينية وهو الشهم الغيور ذو الصداقة والعبودية والإخلاص لحضرة متبوعة ملجأ الخلافة الكبرى الإسلامية قائمقام قضاء قطر ورئيس العشائر وشيخ القبائل فيه (الشيخ جاسم الثاني) الذي ما فتئ عند حدوث كل حادثة في القطعة العربية يعرض ثمين النصائح لجلالة متبوعه الأعظم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة) فإنه حفظه الله لما نظر لهذه الحادثة نظر المندهش المتخوف من وخامة عاقبتها؛ اهتم بها اهتمام الحكيم المتدين العاقل , فقدم النصيحة إلى عبد العزيز بن سعود بأن لا يتخذ له يدًا مع الأغيار مهما آل إليه الأمر , وأن لا يخرج عن رسم الطاعة لجلالة المتبوع الأعظم ملجأ الخلافة العظمى الإسلامية , وأراه وخامة العاقبة إذا لم يسلك طريق السمع والطاعة والخضوع لإرادة سلطان الحرمين الشريفين , وبين له من التبيان وأوضح له من الدلائل بتنويع القول وتكرار النصائح ما أقنعه بأن الدولة العلية تتلقى خضوعه لها بالقبول , وقد رأيت ثمرتها بقبوله لها وامتثاله إياها , فأخذ عبد العزيز بن سعود يسلك طريق الاسترحام من جلالة متبوعه الأعظم بكمال خضوع وتذلل وطاعة واستعطاف ودخالة بعدم الأمر بسوق العسكر عليه , وأن لا يطلق عليه ولا على عشائره عنوان العصيان لأنه متعقد بكل المطالب , سامع ومطيع لجميع الأوامر , وإليك ما وصلنا من نصوص تلغرافاته التي قدمها إلى الأعتاب الملوكانية بواسطة وبلا واسطة كما تلقيناها من مصدر موثوق به (انظروا لمنصوص تلغرافات عبد العزيز) وهي واصلة طيًّا , وأما حضرة الفاضل الشيخ جاسم الثاني فإنه ما اكتفى ببث النصيحة لعبد العزيز حتى أشفعها كذلك بعريضة خطية لحضرة والي ولاية البصرة , وأخرى تلغرافية إلى الأعتاب السلطانية بواسطة الوالي وبواسطة مجلس الوكلاء الخاص وواسطة الكاتب الأول في المابين , وواسطة سماحة أبي الهدى أفندي , وهذا نصهما كما تلقيناهما من مصدر موثوق. (انظروا عريضتي الشيخ جاسم الثاني) . فأملنا ورجانا من حضرتكم نشر جميع التلغرافات والعرائض مع ما يتعلق بخصوص حضرة الشيخ جاسم الثاني ونصائحه في مجلتكم الغراء مع ما يبدو لفكركم السامي من الشرح والتعليق , وإنني أكرر الدعاء لفاطر الأرض والسماء أن يوفق أمراء دولتنا العلية لحل هذه المشكلة حلاًّ سلميًّا لا دخل فيه لعامل أجنبي , وفي الختام أرجو قبولكم فائق احترامي. (التلغراف الأول من ابن سعود) إلى أعتاب سيدي وولي نعمتي سلطان البرين وخاقان البحرين خليفة رسول الله السلطان المعظم السلطان عبد الحميد خان الثاني أدام الله عرش سلطنته إلى آخر الدوران، آمين. أقدم عبوديتي وطاعتي وداخلتي إلى الأعتاب السامية المقدسة ممتثلاً كل إرادة وفرمان لست بعاصٍ ولا خارج عن دائرة الأمر , بل أنا العبد الصادق في خدمة دولتي وجلالة متبوعي الأعظم أريد الإصلاح ما استطعت. قد ابتلاني سبحانه وتعالى بشرذمة يحسدون ويفسدون ولا يصلحون. قاموا يشوشون أفكار دولة جلالة ولي النعم ويدخلون على فكره الشريف الأوهام الواهية يريدون تفريق الكلمة الإسلامية , وتقسيم الجامعة المقدسة العثمانية , وإلجائي إلى الاحتماء بالدول الأجانب فحاشا ثم حاشا , عبد جلالتكم عثماني صرف أفدي السدة العثمانية بعزيز روحي. أجمع كلمة بادية الخطة النجدية بما آتاني الله ومنحتني دولتي العلية من النفوذ تحت راية مولانا أمير المؤمنين سلطان المسلمين السلطان عبد الحميد , نصره الله , لكن هؤلاء الذين يريدون تفريق الجامعة العثمانية لا يألون جهدًا في إلقاء الدسائس حتى تمكنوا من جعل الأمر في غير قالبه , واستجلبوا لي انحراف الرضاء العالي فساقوا عليّ العساكر الشاهانية

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الحيلة في الطلاق الثلاث (س107) محمود أفندي أبو المكارم بطنطا , من علماء الجامع الأحمدي رجل يناهز السبعين من العمر قضى نحو أربعين سنة في وظيفة التدريس وللعامة ثقة بفتواه , وقد اعتاد أن يرجع المطلقة من زوجها ثلاثًا أو أكثر إليه بفتوى لا أظن أن الكتاب والسنة يبيحانها ولا السلف الصالح سبقه إليها. ذلك أن الرجل إذا أتاه فأخبره بأنه طلق زوجته ثلاثًا , ولم يجد من هذا الرجل شبهة أو تحريفًا في كيفية الحلف كالتنفس في أثناء اليمين القاطع للكلام أو غير ذلك من الحيل؛ يقول له: من الذي وكل لزوجتك عند العقد عليها أهو وليها أم غيره؟ فإن قال له الثانية؛ حكم بفسخ العقد الأول وعقد له عليها ثانية , ولو كان رزق منها بأولاد. وقد حدثت منه هذه الفتوى لأقرب الناس إلي من عدّة سنين , وملخص هذه الواقعة أن لي قريبًا تزوج بفتاة بالغة عاقلة رشيدة وكلت رجلاً أجنبيًّا لأنها لا أقارب لها إلا ابن خالة كان في هذا الوقت على ما أظن لم يبلغ الحلم , ومكث هذا القريب مع زوجته هذه عدة سنين رزق منها فيها بعدة أولاد , وحدث أنه طلقها طلقة وراجعها ثم بعد مدة طلقها ثلاثًا , وسأل عدة من العلماء فأفتوه بأن لا مسوغ شرعًا لإرجاعها إليه حتى تنكح زوجًا غيره , فأتى إليه هذا العالم وأفتاه بما تعود عليه من الفتوى , وعقد له عليها جديدًا , والمستفتي في الحقيقة معذور لجهله بالشريعة وثقته بما يتحلى به هذا العالم من العمامة والجبة ذات الأكمام الواسعة , وقد عمت هذه البلوى فأرجو إفادتي على صفحات مجلتكم الغراء عن ما ترونه في هذه الفتوى هل هي موافقة للكتاب والسنة أو أتى بمثلها السلف الصالح أم لا؟ فإن كانت الأولى فما النصوص؟ وإن كانت الأخرى فما قولكم في النظام الواقع بعد العقد الجديد؟ وما حكم الشريعة فيما أعقباه من الأولاد بعد هذا العقد؟ فهذان سؤالان أرجو الإجابة عليهما بعد إثباتهما على صفحات المجلة حيث لا ثقة لنا إلا بإرشاداتكم، جعلكم الله هادين لهذه الأمة التي أصبحت عديمة النصير حتى يرتجع أصحاب الغايات المضلين إلى أصل الشريعة الغراء. (ج) إن ما ذكر في السؤال من كيفية إرجاع المطلقة ثلاثًا إلى المطلق لم يعرف عن أحد من السلف الصالح , ولا يدل عليه كتاب , ولم تمض به سنة , وإنما هو من احتيال المتفقهة المبني على اختلاف المذاهب , وهو من مفاسد التقليد للعبارات من غير مراعاة نصوص الشرع وحكمه , والكتاب والسنة لا اختلاف فيهما {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) فمن عمل بهما لا يمكن أن يفتي في المسألة الواحدة (كالطلاق الثلاث) بفتاوى مختلفة , وما أظن الرجل يدعي ذلك فيبين خطؤه بذكر الآيات والأحاديث , وإنما يدعي أنه يفتي بمذاهب الأئمة عليهم الرضوان فنقول في بيان خطئه: إنه لم يقل أحد منهم بجواز إقامة الرجل مع المرأة زمنًا بعقد على مذهب ثم اعتباره فاسدًا وتجديد عقد آخر على مذهب آخر , واعتبار الأولاد الذين ولدوا لهما في زمن كل من العقدين أولادًا شرعيين. وقد صرحوا بأنه (إذا عمل العامي بقول المجتهد في حكم مسألة فليس له الرجوع منه إلى غيره اتفاقًا , وأما في حكم مسألة أخرى فيجوز له أن يقلد غيره، على المختار) وذلك أن التزام أحد أقوال المجتهدين بالعمل به يرفع الاختلاف بالنسبة إلى العامل كحكم الحاكم. ربما يقول هذا الملفق: إن عمله من التلفيق الذي أجازه بعض العلماء. ونحن نعترف بأن بعض العلماء أجاز التلفيق خلافًا لما جاء في كتاب الدر المختار من كتب الحنفية من حكاية الإجماع على بطلان الحكم الملفق , ولكن الذي يجيزه يشترط أن يكون في مسألة واحدة بحيث يأتي بحكم لم يقل به أحد من المسلمين , وأن لا يكون فيه رجوع عما عمل به أو عن لازمه إجماعًا كما هنا، ذكر هذا ابن نجيم في رسالته في بيع الوقف بغبن فاحش وقال: إنه مأخوذ من إطلاقهم جواز تقليد من قلده في غير ما عمل به. وإذا كان العاميّ الغافل عرضة للمتجرين بالدين يصدق كل ما يقولون، فكيف يتجرأ العالم المدرس على الفتوى بأقوال متناقضة كالقول بأن الولي شرط في صحة النكاح والقول بأنه غير شرط مع علمه بأن الحق واحد واجتماع النقيضين محال. أيعمل بقول من قال: نحن مع الدراهم قلة وكثرة؟ وهل يستحل أولئك الذين أجازوا لأنفسهم الفتوى بالقولين المتضادين لكثرة الدراهم أن يفتوا بهما الرجل الواحد في الموضوع الواحد؟ أم يخففون وطأة جميع الأحكام الدينية فيفتون كل مستفتٍ بقول ليكون هذا مقلدًا لفلان والآخر مقلدًا لعلان؟ إذ لا معنى لتقليد شخص واحد لعالمين مختلفين في مسألة واحدة لها لوازم مختلفة كواقعة السؤال. أما ما كان عليه السلف في مسألة الطلاق الثلاث فالإجماع على أن من طلق امرأته ثلاث مرات فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجًا آخر نكاحًا صحيحًا مقصودًا , وهذا ظاهر نص القرآن , وجرت به السنة , وعليه العمل. واختلفت الروايات والأحاديث في الطلاق مرة واحدة بلفظ الثلاث، فالمذاهب الأربعة على اعتبارها ثلاثًا إلا بعض الحنابلة كابن تيمية وابن القيم ولهم سلف وحديث صحيح يحتجون به , وتقدم تفصيله في المنار فلا نعيده , وإنما نقول: إن عمل العالم المذكور في السؤال ليس عليه إلا أن يكون بعد العدة , وعليه إذا طلق الزوج مرة أخرى كانت ثالثة لها حكم الثلاث. *** توبة الآيس (س 10) ن. ب الطالب بمدرسة خانقاه في (سراي بوسنة) : ما تقولون في توبة الآيس هل تصح أم لا؟ صرح كثير من العلماء بصحة توبته وقبولها عند الله استدلالاً ببعض الأحاديث مع أنهم قائلون بعدم صحة الإيمان وقت اليأس , وفرقوا بينهما بأن التوبة تجديد عهد والإيمان إنشاء عهد لم يكن، وبوجوه أخرى سوى هذه. وآية {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} (النساء: 18) بظاهرها تنادي على خلاف ذلك. نحن نطلب رأيكم في ذلك، عمَّركم الله سبحانه وتعالى. (ج) إن الله تعالى ما ذكر في هذه الآية الذين لا توبة لهم عنده إلا بعد أن ذكر الذين تقبل توبتهم في الآية التي قبلها بصيغة الحصر وهي: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء: 17) والمعنى ظاهر فصيح لا تعارضه تلك الأقيسة. وما ورد في بعض الأخبار من أن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر فهي واردة في معرض الزجر عن اليأس من رحمة الله والترغيب في التوبة ما دام الإنسان حيًّا. وهو الواجب على المسلم إذ هو قبل الغرغرة مكلف بجميع الأحكام الشرعية بشروطها , ومنها وجوب التوبة إذا كان عاصيًا. ولكن افرض أن الكتاب العزيز لم يبين هذه المسألة بهذا الإيضاح الذي نراه في الآيتين، بل وَكَلَها إلى أفهام الناس وعقولهم , فهل يتصور عقلك أن التوبة تتحقق ممن حضره الموت وأيقن بمفارقة الدنيا؟ أليس معنى التوبة الرجوع عن المعصية إلى الطاعة مع التأسف على ما مضى , والعزم على الاهتداء والاستقامة فيما يأتي طوعًا واختيارًا لطاعة الله على معصيته؟ وهل هذا معقول ممن حضره الموت؟ ثم إن الحكمة من بعثة الرسل وإنزال الشرائع هي إصلاح الأرواح وترقيتها بالإيمان الصحيح والعمل النافع ليصلح حال الناس في الدنيا ويكونوا أهلاً لجوار الله تعالى في الآخرة مع أصحاب الأرواح العالية من الملائكة والنبيين , والتوبة من الكفر أو من المعاصي عند حضور الموت لا تفيد صاحبها شيئًا من هذه الحكمة , فهي ندم عند استقبال الآخرة كالندم في الآخرة لا يفيد لأن وقت العمل قد فات، ولكن من يتوب قبل حضور الموت أي قبل الشعور بنزوله به ويأسه من الحياة فلا بد أن تكون نفسه قد أعرضت عن باطلها الأول وأذعنت بقبحه وتوجهت إلى الحق والخير وهي ترجو العمل به لأملها بالحياة , وهذا صفاء في النفس وارتقاء عظيم تستفيد به لأنها قد ارتقت عن طبقة الأشرار وإن عاجلها الموت عقيبه فلم تتمكن من العمل الصالح الذي توجهت إليه , ولكنها لا تكون في مرتبة الذين عملوا وأصلحوا {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون} (الجاثية: 21) . وهنا بحث أدق من هذا وهو: هل يصرّ الإنسان على عمل السيئات والمعاصي ثم يتوب قبيل الموت توبة صحيحة ترتقي بها روحه عن أرواح الأشرار؟ وبعبارة أخرى: هل جرت سنة الله تعلى بأن النفس التي تكيفت بأفعال الشر والخبث تدريجًا حتى صارت أخلاقها وصفاتها سيئة وملكتها رديئة تنقلب فجأة إلى ضد ما تكيفت به؟ المعروف في علم النفس هو ما يستفاد من آيتي التوبة المشار إليهما في السؤال والجواب فإن قوله: {يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء: 17) يفيد أن الحكمة بالقرب عدم تأثر النفس بالإصرار , ويفيده أيضًا قوله: {يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} (النساء: 17) أي بسفه عارض كسورة غضب أو ثورة شهوة أي لا بالميل الغريزي إلى الشر والخلق المطبوع , ولذلك لم يأت بهذا القيد في آية من يقبل توبتهم. ومن قوله تعالى: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81) وقوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين: 14 - 15) ومن حديث النكتة السوداء. ومن قول السلف: المعاصي بريد الكفر , وعلم النفس والأخلاق يفيدنا أن الملكات التي تنطبع في النفس بالعمل هي صفة للنفس كصفات الجسد، وأن مقاومة الأخلاق السيئة إنما تكون بترك العمل الذي هو أثر الخلق الذميم , والمواظبة على عمل يضاده زمنًا طويلاً مع التكلف ليحدث في النفس وصف يضعف ذلك الوصف ويغلب عليه , ومن عني بتهذيب نفسه أو غيره في الكبر ولو بمقاومة بعض العادات والأخلاق يعرف صعوبة هذا الأمر وتعسره. نعم إن من خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا فتزاحمت في نفسه آثار الخير وآثار الشر يرجى أن يغلب في آخر عمره أثر الخير بتوفيق الله تعالى كما قال تعالى في بعض المتخلفين عن الجهاد من المؤمنين في واقعة تبوك: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم} (التوبة: 102) وربما كانت توبة الكافر من الكفر قبيل الموت أقرب إلى المعقول لأن الإيمان مسألة عقلية، إذا زالت الشبهة وقامت الحجة يزول الكفر ويستقر الإيمان حالاً. وإذا طلبت زيادة النور في هذا المقام فعليك بمطالعة كتاب التوبة للإمام الغزالي وما كتبه في معنى (سوء الخاتمة) نعوذ بالله منها في باب الخوف من الجزء الرابع من الإحياء. ولا تأخذ بظواهر أقوال بعض الفقهاء وتعليلاتهم اللفظية كقولهم عهد جديد وعهد قديم وغير ذلك. والله أعلم. وسنجيب عن سؤالك الآخر في جزء آخر إن شاء الله تعالى.

شكل حكومة الإسلام وضعف المسلمين باستبداد الحكام

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ شكل حكومة الإسلام وضعف المسلمين باستبداد الحكام مراجعة الشيخ صالح بن علي اليافعي من (حيدر أباد الدكن) ورده الثاني على رفيق بك العظم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ثم أهدي السلام ورحمة الله وبركاته إلى حضرة العلامة الفاضل خادم السنة وقامع البدعة مولانا السيد محمد رشيد رضا مدير المنار الأغر المنير، سلك الله بنا وبه منهج الرشد والرضاء، آمين. وبعد، فإني وقفت على المراجعة التي كتبها حضرة العلامة الفاضل كبير النفس وشديد الغيرة ورفيع الهمة، ذو المكارم الجمة، أخونا رفيق بك العظم ونشرت في الجزء 17 من المجلد السابع من المنار تحت عنوان (ضعف المسلمين بمزج السياسة بالدين) وافتنا هذه الرسالة في آخر رمضان شهر الرحمة والغفران , ورأيتكم وعدتم بكتابة شيء في الموضوع فأخرت الجواب لعلمي بأنكم إن فعلتم تأتوا بالحق الصراح وفصل الخطاب إن شاء الله. وفي رمضان المعظم شاغل عما هو أهم من هذا , ووراء ذلك كله سبب آخر وهو أن محبكم الحقير أصيب بالحمى , وحين حصلت الإفاقة ورأيت حضرتكم أرجأ البحث كتبت إلى جنابكم هذه الكلمات لتنظروها أولاً ثم تصلحوا ما يلزم , ثم تنشروها في مناركم الأغر. عسى بتكرار نشر هذه الأبحاث أن يجلي الله الصدأ عن متخيلات الأمة، ويكشف عنهم الغمة والظلمة. وأقول أولاً: ليعلم القراء الكرام أن هذه الأبحاث والمكاتبات والمراجعات الصادرة مني ومن الأخ الفاضل رفيق - حفَّنا الله وإياه بالتوفيق - ليست من مباراة المتنطعين، ولا من مغالبة المتعصبين، إنما مقصد كل منا ظهور الحق وبيان الحقيقة التي هي ضالة كل مؤمن ومنصف , وغاية كل منا تنبيه أهل ملتنا على حالتهم الواهنة وموقفهم الحرج المهين بإزاء الأمم المتراهنة في حلبة السبق إلى مواقف الكمال وحلول منازل الشرف والسيادة. فيا عون الله ويا غارة الله ما لنا وماذا حل بنا؟ أين الأنفة والغيرة التي يتحقق بها من يؤمن بقوله تعالى: {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْن} (الأنفال: 66) الآية؟ أعدم وثوق بوعده تعالى شأنه إيانا النصر؟ إنه لعار علينا أن نكون من سلالة أولئك الأبطال الشجعان , ليوث المعامع والطعان الذين أجابوا بالتلبية داعي الإيمان , ثم نحن نخضع ونرضى بخطة الذل وموقف الهوان، فوا عجباه ووا أسفاه! أفهذا الجبن والجمود والعبودية لغير الله محبة في هذه الحياة المنغصة التي يزهد فيها كل ذي شهامة؟ أم انقلب الأمر وعكست القضية حتى صدق علينا قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (البقرة: 96) وقوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} (البقرة: 96) أما نتلوها كما كان يتلوها أسلافنا في أناس أهانهم الله وسلطنا عليهم ثم أهانونا وتسلطوا علينا؟ أم كذبنا بما وعد الله عباده المؤمنين تكذيبًا؟ وليت شعري كيف يتصور أن عقلاً يزهد في الدنيا وفيما عند الله معًا؟ نعوذ بالله من الحور بعد الكور {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ويا ترى من أي صوب رمينا، ومن أي وجهة بلينا، وما سبب هذا الداء العضال الذي حير ألباب الرجال؟ وأخونا الفاضل شريكنا في الألم والحزن والتوجع على القوم , وقد أبان في ذلك من رأيه ما قد اطلع عليه القراء الكرام وأظهرت من رأيي ما ترجح لديَّ , وكان من رأيه أن هذا السقوط الذي يكاد أن يقضي على حياة الأمة باليأس والقنوط سببه مزج السياسة بالدين منذ بدء الخلافة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت المرذول , وشرحت من رأيي أن هذا المرض لم تصب به هذه الأمة إلا بعد الخلافة النبوية , وسببه ترك الدين , وكلما امتد الزمان وبعد العهد زاد بُعدهم عن الدين , وبذلك يزداد مرضهم وضعفهم الذي هم الآن يأنُّون من وطئته بلسان حالهم لا بلسان مقالهم. وقلت: إنهم لو مزجوا السياسة بالدين كما أمرهم الله لما نزل بهم ما نزل. الأخ الفاضل يدعوهم إلى تدارك ما فات العرب في بدء الإسلام من إقامة سلطة شورية نيابية , وأنا ما أنكرت عليه ما استحسنه من هذه السلطة بل وافقته عليها كما أني وإياه ككل ذي لب وغيرة مشتركون في الكآبة والنوح على ما أصاب أهل ملتنا، وإنما أنكرت إطلاق أن سبب هذا الضعف هو مزج السياسة بالدين وتمنيه أن لو تركوا الدين جانبًا والسياسة جانبًا، وتمنيه أيضًا أن لو سلك العرب في إقامة الحكومة مسلك الرومان، وقوله في العرب: لعراقتهم في البداوة. والحال أنه يعلم أن من العرب بدوًا وحضرًا , ومنهم تبابعة وسلاطين وأمراء وأقيالاً , ولو كانوا كلهم أهل بداوة لما صح نهيه صلى الله عليه وسلم من تحضر أن يعود إلى البداوة. والصحابة رضي الله عنهم هم سادات الحضر , وظني أن الأخ الفاضل إنما أطلق هذا اللفظ على ما هو المتعارف في هذا الزمان من أن البداوة ليست نقصًا , أو لعل مراده العرب غير الصحابة لأن صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم أنالتهم كل فضيلة. فهم سادات الحاضرة ولكن لم يوجد لديهم تاريخ أساسي ولا سياسي للدولة لكون أسلافهم متأصلين في البداوة وهذا الاحتمال هو اللائق بعلمه وفضله. وأنا ذكرت أن الله تعالى أغنانا بما شرع لنا ولم يحوجنا إلى الرومان ولا إلى غيرهم على أن الوقوف على معرفة أحوالهم وتواريخهم كان يومئذ متعذرًا وفي غاية الاستبعاد , فطريقتهم مجهولة مهجورة , والحكومات التي كانت بذلك العهد شخصية استبدادية , ولو قلنا: إن العرب بل وأكثر طوائف ذلك العهد لم يداخل متخيلاتهم ولم يطرق أسماعهم شورى الرومان النيابية - لم يبعد قولنا , فاقتراح ذلك على العرب أو غيرهم ليس في محله. ورأيت أقرب من هذا الاقتراح لو أن المسلمين توجهوا إلى الآيات والأحاديث التي تتعلق بالإمامة العامة والحكومة فجمعوها وفرعوا عليها كما توجهوا إلى ما ورد في غيرها من سائر الفرعيات من عبادات ومعاملات وغيرها مما دونوه في كتب الفقه وشروح الحديث وغير ذلك , وذكرت أنه لم يمنعهم ويصدهم عما ذكر إلا ظلم ظلمة المستبدين , وقلت: إن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم لم تكن إماراتهم شخصية استبدادية بل خلافة شورية أمرهم الله بها ووصفهم بها ومدحهم عليها , وأنه لم يكن في استطاعتهم رضي الله عنهم نصب مجلس شورى انتخابي كالمعهود في هذا الزمان عند النصارى أو يكاد أن يكون مستحيلاً لأن أكثر كبارهم وقرائهم وعلمائهم الذين لو وقع انتخاب لم يتعدهم كانوا متفرقين في الغزو والجهاد في سائر البلاد مشتغلين بقيادة المجاهدين ونشر الدين , ولو أقيم مجلس شورى انتخابي منهم لفاتهم الغرض الذي لأجله بعث الله أنبياءه وأنزل كتبه وهو نشر الدين , والبعض القليل بقي في جوار الخلفاء فمن ينتخب ومن يترك؟ ومن هي الرعية التي تنتخب؟ فلم يبق في استطاعة الخلفاء في إقامة هذا الواجب شرعًا وعقلاً إلا ما عملوا به وهو أنهم كانوا إذا نابهم الأمر ينادون: الصلاة جامعة، فيجتمع مَن ثَم مِن المسلمين , ويعرض الأمر المستشار فيه , فهذا عذرهم فاحفظه. وأما من سواهم ممن جاء بعدهم من الظلمة فقل فيهم ما شئت. بقي أن الصحابة رضي الله عنهم لم يدونوا لمن يأتي بعدهم الطريقة لتأسيس السلطة العامة؛ فجوابه أنهم لم يجمعوا غير القرآن حذرًا من تدوين كتاب مع كتاب الله، وقد ثبت ذلك في الرسالة السابقة. أما قول الأخ الفاضل: إنه قد ثبت عند الأصوليين أن الأنبياء قد يخطئون في اجتهادهم , والعرب في صدر الإسلام لو فرضنا أنهم اجتهدوا وأخطأوا فهل في ذلك ما يدعو إلى استكبار ذكر هذا الخطأ؟ فأقول في جوابه: ما ذكره من جواز اجتهاد الأنبياء ثم جواز وقوع الخطأ فيه الذي لا يُقرون عليه ذكره الأصوليون واضطربوا فيه , وما جزم به هو الحق الذي عليه أهل الأثر إنما بقي أمر وهو إن كان الصحابة وسائر العرب اجتهدوا وأقاموا الحكومة , وفرض أنهم أقاموها شخصية مطلقة فأخطأوا كما ذكر، أفليس يلزم حينئذ تجويز الخطأ على إجماعهم وعملهم المستمر؟ وأنا وهو لا نقول به , أما إذا لم يكن إجماع فإني لا أستكبر ذكر هذا الخطأ إنما يستكبره الجامدون على التقليد الذين يحيلون الخطأ من أئمتهم ويستثنونهم ممن يجوز عليه الخطأ من أفراد الأمة. قال الأخ الفاضل: والرسول صلى الله عليه وسلم لم يؤسس دولة بل شرع شرعًا. إلى أن قال: وليس هناك نص بعينه يبين كيفية تأسيس الدولة. كذا قال وليس بصحيح على إطلاقه من وجوه: (الوجه الأول) إن من أبعد كل بعيد أن يكون الشارع مع كمال حكمته وعدله وعلمه الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات والأرض يدلنا على كل أبواب الخير وطرقه , ورسوله صلى الله عليه وسلم يعلمنا أكمل الأخلاق حتى آداب العشرة وآداب قضاء الحاجة , ثم يهمل الإرشاد إلى هذا الأمر العظيم الذي به قوام شرعه وصلاح حزبه. (الوجه الثاني) ما هو الجواب إذا قالت الطواغيت المستبدة وحزبهم أعوان الشياطين وبطانات السوء: إنكم إذا سلمتم أن الشرع لم يبين تأسيس الحكومة وإنما تركها إلى اجتهادنا، فأي قباحة إذا اخترناها شخصية مطلقة؟ وإذا كانت إمارة الخلفاء الراشدين مطلقة فلنا بهم أسوة فنحن مثابون على كلا التقديرين ومتبعون , وأما ما ترونه من سلاطيننا ظلمًا فإنما هو باجتهاد منهم وهم مثابون على ذلك الاجتهاد أيضًا لأن الأمور العامة منوطة بهم واجتهادهم كافٍ , ثم يقولون: إن الاستشارة الواردة في الكتاب إذا لم تكن تأسيسًا للدولة ولا بيانًا لطرزها فإيجابها على أي أمير باطل، وغايته أن تكون مندوبًا إليها استحبابًا. (الوجه الثالث) إن السلطة العامة إما أن تكون جمهورية نيابية أو شخصية مقيدة أو شخصية مطلقة لا سبيل إلى الأخير لأن تعيين الخليفة الشرعي مشروط برضاء المسلمين واختيارهم له وبيعتهم , والأصل أن تبقى لهم هذه الحقوق بعد نصبه وإلا فاتت فائدة منحهم إياها ابتداءً وأيضًا فلا تعقل حكمة لهذا الانتخاب والبيعة إلا إذا استمرت للأمة هذه الحقوق في كل شئون الدولة؛ يؤيد ذلك حجية الإجماع , وأن الأمة لا تجتمع على ضلالة , وأنهم كالجسد الواحد إلى غير ذلك من وصفهم بالاتحاد والاشتراك وتعميمهم بالخطاب ووصفهم بالتعاون على ما ورد من أصول المدنية وتكميل كل خير عمومي , وفي القرآن والحديث من ذلك الكثير الطيب , وكله منافٍ لتعيين أشخاص تستبد. فأقل حالات المستبد أن يكون عاصيًا بتركه ما أمره الله وأوجبه عليه من استشارة المسلمين. وهذا الواجب لا يسقط بمجرد اختياره أناسًا من خاصته الذين يتلونون بلونه ويتكيفون كيف شاء؛ إذ لا يكون باستشارة هؤلاء مستشيرًا للمسلمين لا شرعًا ولا عرفًا , أما المستبد الظالم فتهديدات الشارع وزواجره وإيعاده بغل يديه تارة وبالنار أخرى إلى غير ذلك من القوارع، لا يبقى معها شك أن إقامة هذا القسم من الحكومات لا يأتي بها الشرع المتين، ولا يرضاها الله ولا رسوله ولا المؤمنون، وتجويز أن الله شرع وأرشد إلى حكومة مطلقة إنما يقوله البغاث والغثاء الذين لا يعبأ الله بهم المتزلفون بالمصانعة والنفاق إلى طواغيتهم الظلمة , فقولهم هذا عار وخزي على المسلمين كما أنه كذب صريح على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , فهو تنقيص لإكمال الأديان يقتضي نسبة ال

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (كتاب العلم والعلماء ونظام التعليم) كتاب صدر من عهد قريب وكتب عليه أنه السِّفر الأول من أسفار (التعاليم الإسلامية) مؤلفه الشيخ محمد بن إبراهيم الأحمدي الظواهري أحد علماء الدرجة الأولى بالأزهر والمدرس فعلاً في الجامع الأحمدي بطنطا وهو من النابتة الجديدة الأزهرية التي فطنت لسيئات النظام القديم (أي عدم النظام) في الأزهر , وفساد طريقة التعليم فيه، وشعرت بحاجة المسلمين إلى إصلاح ذلك وإلى العناية بوضع طريقة جديدة للتعليم الإسلامي ولتربية المسلمين، وإلا كانوا حرضًا أو كانوا من الهالكين. وهذا الكتاب مؤلف من تسعة أبواب أولها في العلماء وفيه بيان وظائف العلماء وأقسام التعليم وأبحاث في الأخلاق والإرشاد والعبادة والنفوذ والتأثير (والتنَوُّر) العام والجرائد والمجلات، وبيان حال العلماء اليوم وما يجب عليهم , وطريقة نيل العالمية ومرتبات العلماء. وثانيها في المدارس الدينية ونظامها ومعارف طلابها ومعيشتهم وآدابهم وعقائدهم ونتيجة تعلمهم ومدة دراستهم والإصلاح وطرقه فيهم. وثالثها في العلوم وفيه الكلام في الفقه والتفسير وسبب التهاون فيه والحديث وثمرات علمه وكيفية الاشتغال به، والتوحيد والبلاغة والدعوة الإسلامية إلخ ورابعها في طرق التعليم ونظامه وفيه بيان إهمال العلماء في أمر التعليم وإهمال المشيخة في التعليم وعيوب طريقة الأزهر وطرق إصلاح التعليم. وخامسها في تعليم الجمهور وهو تعليم المدارس الأميرية والأهلية وتعليم العامة والبعثات العلمية. وسادسها في التعليم الابتدائي وبيان تقصيرنا فيه. وسابعها في الإرشاد وطرقه والوعظ والخطبة. وثامنها في طرق تنفيذ الإصلاح وفيه الكلام على المكافآت وعلى كساوي التشريف. وتاسعها في الإدارة الدينية وفيه الكلام على الإدارة الدينية ومشيخة الجامع الأزهر واقتراح مؤتمر إسلامي ومجتمع عام للعلماء، وخاتمة الكتاب في بيان مبدأ مؤلفه أي رأيه ومشربه. تلك أبواب الكتاب وجل مسائله ويسرنا جدًّا أن نرى من أثر النهضة الجديدة مدرسًا أزهريًّا يتكلم في المسائل العامة ويبحث معنا في حال المسلمين ويشعر مع عقلاء الأمة بموقف الأمة المحفوف بالأخطار وبوجوب السعي في تلافي ذلك ويعلن رأيه بكتاب ينشره بين الناس، فقد بحّ صوت الأستاذ الإمام من نداء الإيقاظ والتنبيه فرأينا عيون بعض تلامذته في الأزهر قد فتحت، وأعناقهم قد التفتت، ولكن ما زالت الألسنة ساكتة، والأقلام ساكنة، حتى سمع هذا الصوت الشديد، ورؤيت هذه الحركة العنيفة، أعني هذا الكتاب الذي أغلظ في الإنكار على ما يراه من المنكرات وأبرزها في أشنع صورة وأقبح منظر مما كنا نتحامى مثله في انتقادنا ولم نعدم مع ذلك من عدنا مشددين أو متحاملين. وقد دعا إلى انتقاد مسائل الكتاب شأن المخلص الباحث عن الحقيقة , ولكنه نهى عن انتقاد عبارته وهو يدعو إلى إصلاح القول كما يدعو إلى إصلاح العمل ويعلم أن العلم الإسلامي لا يرتقي إلا إذا ارتقت اللغة العربية وانتقاد العبارة وسيلة لارتقائها. وما ينبغي أن تكون عبارة مدرس من الدرجة الأولى وداع من دعاة إصلاح العلوم العربية إلا بمكانة يقل فيها الخطأ في الكلم والجمل والأسلوب والرسم وإننا لنهتم أولاً بالبحث في مسائل الكتاب , ثم نذكر ما نراه في عبارته بعد ذلك ونكتفي في هذا الجزء بذكر رأي المؤلف الذي جاء في خاتمة كتابه تنويهًا به. قال ما نصه بحروفه: (أرى على الإجمال أننا معشر العلماء في نقص كثير وتقصير كبير وإهمال زائد في أداء ما توجبه علينا للأمة وظيفتنا الدينية من التعليم والإرشاد وغرس المبادئ الشريفة وتأسيس الملكات الكمالية والتفنن في سبيل إعلاء كلمة الدين وترقية الشعوب الإسلامية إلخ إلخ , وإننا قد بلغنا في هذا النقص والتقصير حدًّا لم يبق للعلماء معه رفعة ولا احترام ولا للأمة الإسلامية شائبة قوة ولا تقدم ولا ارتقاء في حال من الأحوال. وإن من الواجب التنبيه إلى هذا الأمر الخطير والمبادرة إلى الخروج من هذا النقص والتقصير والنهوض بالأمة الإسلامية وتخليصها من هذا الخطر الذي أحدق بها بالإرشادات العالية والتربية المفيدة. أرى أن الأمة قد فاقت العلماء الحاضرين في كثير من مراتب الاستكمال والترقي العقلي وأنه قد فُقدت صفة التناسب بينهما حتى لم يعدوا مؤثرين عليها (كذا) وكان الواجب أن يكونوا دائمًا هم الفائقين ليكون له سلطان على القلوب وتأثير في العقائد والأميال والأعمال. أرى وجوب البحث والتدقيق والتدبير في معرفة ما هو كمالنا لنسارع إلى التحقق به ومعرفة ما هي وظيفتنا وما هي واجباتها حتى نوصل الليل بالنهار في طريق القيام بها وإتقانها. أرى وجوب البحث في معرفة ما هي الغاية التي يدعو إليها الإسلام وما هي المبادئ والأحوال التي ينبغي أن يكون عليها المسلم في العصر الحاضر لكي نرشد الناس إليها. أرى وجوب استئصال ما هو متفشٍّ بين الأمة والعلماء من العقائد الفاسدة والآراء السخيفة. أرى وجوب التفاني في عتق الأمة من رق الأوهام وتخليصها من النقائص التي لا تكاد تتناهى. أرى أن أجزاء الكمال الإسلامي قد تفرقت وتشتتت فكان منها شيء عند الصوفية وشيء عند العلماء وشيء عند (المتنورين) من طبقات الأمة {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) وكان منها ما فر من أيدي الأمم الإسلامية وحل عند الأمم الغربية وما لا يكاد يوجد من يتصف به. وأرى أن العالم الكامل هو من يأخذ بأطراف هذا الكمال أو بتعبير مشهور من يمزج الحقيقة بالشريعة , ثم يمزج هذا المجموع بخلاصة التقدم الغربي والتمدن الحديث ويجمع صفات الكمال المتفرقة في الأمم والأفراد. (يستمد في علمه من العقل المفكر والنقل الصحيح والوجدان العالي الحاصل من التقرب إلى الجناب الأقدس. لا يقدس العادة ولا يثق بفكره، يبشر وينذر ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ويتفنن في أساليب الدعوة وطرق الإرشاد، يبحث عن اللب ولا يقف مع القشور، يلاحظ مقاصد الشريعة وأسرار التشريع، يقدم الأصول على الفروع والحاجيات على التحسينيات. يقرب المعقول من المنقول. يصفح ويسامح ويصافي سائر الطوائف والفرق الإسلامية ولا يجادلهم إلا بالتي هي أحسن (كأهل الكتاب) ويبذل الجهد في إحياء الجامعة الدينية وإماتة المميزات الخلافية وترقية الأمة الإسلامية , ويبث في العالم مبدأ إسلاميًّا عاليًا هو المبدأ الذي جاء سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم ليعطيه لسائر الأمم. يسعى في سبيل سعادة الدارين وعمارة النشأتين. يجتهد في سبيل تربية أبناء المسلمين وتقويمهم وإرشادهم , ويسلك في التربية والتعليم والإرشاد الطرق الصحيحة والأساليب العالية. لا تفتر له همة ولا يتراخى له عزم في سبيل الوصول إلى تلك الغاية السامية والمطالب العالية والدعوة إلى هذه المبادئ ونشر تعاليمها بين الناس سرًّا وعلانية. أكبر همه أن يعلي قدر المسلمين ويرفع من شأنهم ويرشدهم إلى ضروب لسعادات الدنيوية والأخروية وأن يظهر في الكون مبدأً إسلاميًّا عاليًا وأمة مسلمة جديدة وطبقة أخرى كاملة تضع غاية التصوف في فؤادها , ونهاية العلوم في رأسها , وتحمل لواء الدين الإسلامي باليد اليمنى ولواء التقدم المدني باليد اليسرى وتسير بسم الله في حرب الأهواء السخيفة والآراء الضعيفة والأخلاق الناقصة والفرق المبتدعة والمارقة من الدين، مؤيدة بالنصر معززة بجنود الحق {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 126) . هذا رأيي ومذهبي أبنته ليكون إما مبدأً عامًّا وإما مشروع مبدأ عام يُعدِّله أهل العقول الكاملة والأفكار الصحيحة. ولو أن كلاًّ يبدي ما يكنُّ خاليًا من كل تعصب ملتزمًا للآداب طالبًا للحق قابلاً له ولو من أصغر صغير؛ لأمكن للناس أن يبلغوا من غايات الكمال ما لا يكاد يخطر بالبال.) اهـ * * * (الخواطر العراب في النحو والإعراب) نوهنا في الجزء السابع بهذا الكتاب قبل تمام طبعه، فالقراء قد عرفوا أنه تأليف جبر أفندي ضومط م. ع أستاذ العربية في الكلية الأمريكانية ببيروت , وعرفوا أن أسلوبه جديد يسهِّل علم النحو على طلابه، ويدخلهم إليه من أقرب أبوابه، وقد سألَنا عنه غير واحد من المشتغلين فنبشرهم بأنه قد تم طبعه ونشره فكانت صفحاته 334 , وهو أمثل كتب التعليم التي رأيناها، يفيد قارئه نحوًا وإعرابًا، ومعاني وآدابًا، بما فيه من الأمثلة المختارة والشرح والتمرين. وعبارة الكتاب كعبائر كتاب العصر سهولة وأسلوبًا لذلك لا تخلو مما عساه ينتقد على المعاصرين , ولعل بعض ذلك على قلته مبني على أن المؤلف يرى صحته , فقد صحح في كتابه بعض ما ينتقده العلماء بحسب القواعد أو السمع كما فعله في باب العدد. ولا يعرف فضل الكتاب إلا بالاطلاع عليه أو بإيراد نموذج منه ولعلنا نورده في جزء آخر. * * * (النوادر المُطربة) كتاب لطيف الحجم جمعه من كتب الأدب إبراهيم أفندي زيدان وجعله خمسة أقسام: النوادر المطربة، محاسن المحبوب، وصف الشعر، الغزل، منظومات لجامعه. وأتبع هذه الأقسام بملحق في الشجاعة والتهديد والأسلحة وطلب الثار والتحذير من الحرب والهزيمة والفرار، وكلها نوادر وحكم وأفاكيه وملح نثرية وشعرية، وإليك ثلاثة أمثلة وجيزة من ذلك: (1) قال مقاتل بن مسمع لعباد بن الحصين: لولا شيء لأخذت رأسك. قال: نعم، ذلك الشيء سيفي. وقال: تواعداني لتقلتني نمير ... متى قتلت نمير من هجاها (2) نظر فيلسوف إلى رامٍ تذهب سهامه يمينًا وشمالاً فقعد في موضع الهدف وقال: لم أر موضعًا أسلم من هذا. (3) قيل للكاتب: إلام تدل بهذه القصبة؟ فقال: هو قصب، ولكنه يقطع العصب، إن القلم يقطع قضاء السيف، ويفسخ حكم الحيف، ويؤمن مسالك الخوف. والكتاب يطلب من مؤلفه من مكتبة الهلال بالفجالة. * * * (لا يعنيني) خطاب ألقاه في حفلة أدبية في بيروت جرجي أفندي نقولا من بضعة أشهر , ونشرته جريدة المناظر المفيدة لما حواه من تشنيع أمور الإهمال الفاشي في بلادنا وإهمال الأمور العامة , ثم طبعته على حدته لتعميم فائدته , وأهدتنا نسخة منه فنشكر لها ذلك كما نشكر لها إهداءها كتاب الفيلسوف تولستوي في الدين , وقد أخذه منا صديق قبل مطالعته فأضاعه ولذلك لم نتمكن من تقريظه.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (خطبة اللورد كرومر بالفيوم، أو المدنية والخمر والميسر) سرى سم الفسق من القاهرة وسائر المدن الكبيرة في القطر إلى القرى والمزارع في الأرياف , فكثر هنالك الخمر والميسر والزنا وغير ذلك من آفات الترف التي تدمر القرى وتهلك الأمم إذا هي فشت فيها، ويتوهم كثيرون من العمد وأغنياء الفلاحين أن شرب الخمر والدعوة إليه والمضاربة ونحوها من أنواع القمار من أمارات المدنية العصرية , ولذلك سبق إليها الأمراء والوجهاء في المدن , والصواب أن جميع فضلاء أوربا وعقلائها لا سيما الأطباء والفلاسفة ينكرون أشد الإنكار على السكر والقمار , والذين يأتون هاتين الرذيلتين يعدون عندهم من السفهاء. على أن آداب ديننا أعلى من مدنيتهم، وفضائله أسمى من فضائلهم لو كنا نعلم ونعمل. وقد زار في هذه الأيام اللورد كرومر مدينة الفيوم فاجتمع لاستقباله والاحتفاء به المئون من وجهاء المديرية وعمد قراها فخطب فيهم خطبة ظهرت منها مكانته في الفضيلة مضارِعة لمكانته في السياسة. فنصح للناس بأن يتركوا الخمر والميسر لما فيهما من إفساد الأخلاق التي يمتاز بها عادة سكان القرى والمزارع على سكان الحواضر والمدائن , وألمع إلى انتقال هذين الوبائين من المدن إلى القرى , وأرشد العمد إلى العناية بمنع انتشارهما. فإذا كان يوجد من سفهاء الأحلام من يعتقد أن من دلائل مدنيته وجود الخمر في بيته وتقديمها لمن عساه يلم به من الإنكليز أو غيرهم من الأجانب - فهذا كلام اللورد حجة عليه , فهو أعلى القوم مكانًَا وأوسعهم عرفانًا وهو يعد معاقرة الخمر منافية للفضيلة وذاهبة بها من الأرياف بعد أن كانت تمتاز بها على القرى وهذا هو ركن المدنية الصحيحة , وإنما تبيح أوربا الفسق لما فيه من الكسب ولتكون الفضيلة اختيارية. وقد حثهم على الاقتصاد وحفظ العفو من أموالهم في صناديق التوفير كما حثهم على ترك المقامرات التي تخرب البيوت العامرة , وتجعل الأغنياء فقراء والأعزاء أذلاء، وقلما ربح منها أحد فكان من الموسرين. قوله في الكتاتيب المنتظمة وأفصح عن رغبته في ازدياد عدد الكتاتيب حتى يعم تعليمها الابتدائي القطر بلغته العربية. ولعمري إن عناية المعارف بالكتاتيب عظيمة , وإن فائدة البلاد منها فوق ما يظن الذين لا ينظرون لشيء تفعله الحكومة في مصر إلى من وجه السياسة , وحسبك أنها تجعل الطبقة الدنيا من الأهالي متصلة بالطبقة التي فوقها فيسهل انتقال الأفكار والشعور بحاجات الأمة من أعلاها معرفة وشعورًا إلى أدناها رتبة في الوجود , وذلك تمهيد لابد منه لتكوين الأمة إذا وجد من يسعى له سعيه. وكلمة اللورد الوجيزة تؤثر في نفوس الوجهاء والعمد وفي المساعدة على تكثير الكتاتيب وإنجاحها تأثيرًا عظيمًا؛ إذ لا يوجد في الأرض من يحترم مقام أصحاب السلطة كأهل هذه البلاد. ولا أظن أن لتنظيم الكتاتيب كما تفعل المعارف غائلة ما إلا إذا صح ما نسمعه من قلة العناية بحفظ القرآن، واتقاء هذه الغائلة فرض حتم على مفتشي هذه الكتاتيب وهو في استطاعتهم إذا أرادوا. وقد تكلم اللورد في مسائل أخرى في مصلحة الأهالي ليست من موضوعنا , وزار جميع معاهد الحكومة والمدرسة الأهلية فتعجب الناس للفرق بين هؤلاء الأجانب عنهم وبين أمرائهم وحكامهم في القرون الأخيرة. * * * (نشرة إفساد أو حبالة صياد) علمنا أن قد ورد من باريس إلى مصر صحيفتان أو نشرتان سريتان إحداهما فرنسية والأخرى عربية يزعم كاتبهما وناشرهما أنهما من لجنة عليا لجمعية عربية غرضها فصل البلاد العربية من الخليج الفارسي إلى البحر الأحمر من سلطنة الترك وجعلها مملكة مستقلة بمساعدة بعض الدول. وقد اطلعنا على العربية التي كتب عليها أنها تعريب الفرنسية فإذا هي طعن في إدارة الترك وسيرتهم بل وإسلامهم وتحريض عليهم وترغيب للعرب في الانسلاخ عنهم. ويزعم الكاتب أنه مستعد بجمعيته لعمله من غير إهراق قطرة دم! وأن لجمعيته هذه أعضاء في جميع البلاد العربية! وفي رأينا أن هذه النشرة لا تعدو أمرين: أحدهما إثارة الهواجس في (يلدز) تمهيدًا لأمر تريده بعض الدول وهو المرجوح. وثانيهما أنه وسيلة من رجل أو نفر من المحتالين بأمثال هذه الوساوس لنيل الرتب والرواتب المالية من السلطان وهو الأرجح , ولا يبالي هؤلاء المفسدون بما عساه يكون وراء إفسادهم من فتح أبواب الإيذاء للجواسيس في الولايات العربية لا سيما لمن أرسلت إليهم النشرة إذا وجدت عندهم وإن كانوا لا يعرفون مصدرها. وقد كنا نصحنا لسلطاننا في المجلد الثاني من المنار بأن لا يبالي بشيء مما يكتب في الجرائد الطعانة على اختلافها ونحوها هذه النشرات , وأن لا يحسن إلى صاحب جريدة على مدح، ولا يلتفت لما تكتبه في بلاد الحرية من قدح إلا للعظة أو معرفة الحقيقة من المنصفين، فعدم المبالاة بأصحاب الدسائس والأغراض السافلة هو أكبر عقوبة لهم وأحسن إصلاح لغيرهم. إذا نطق السفيه فلا تجبه ... فإن جوابه أن لا يجابا وما من سلطان أو أمير أو كبير يهتم بأمثال هذا الكلام إلا ويسلط على نفسه السفهاء حتى لا يدعون له راحة كما هو مشاهد. ولقد كان أبو الهدى أفندي الشهير مغرمًا بمدح الجرائد ونحوها فسلطها بذلك عليه حتى ذمته أضعاف ما مدحته فلما ترك مكافأة المادح ومكافحة القادح، صان عرضه وحفظ غمره وبرضه، وقد تحرشت الجرائد بمختار باشا فلم يأبه بها فتركته وشأنه. ومن كان الطمع فيهم أكبر. كان هذا المسلك في حقهم أوجب. أما الموعظة التي تؤخذ من أمثال هذه النشرة فهي أنه يجب على إخواننا الترك أن يتناسوا مسألة الجنسية والنداء بها , ويجعلوا العثمانية مناط الارتباط بسائر شعوب المملكة فإنما يمزق الأعداءُ الدولةَ باختلاف الجنسية. وإذا عنوا باللغة العربية حتى جعلوها لسان الدولة فإنهم يجددون لهم قوة وحياة لا تغالب إن شاء الله وهو الموفق. * * * (نَقَلة أخبار الحرب والثقة بالتاريخ) نود أن نلفت الناس المرة بعد المرة إلى تهافت نقلة أخبار الحرب وتناقضهم، ومِن ذلك أنهم ذكروا بعد استيلاء اليابانيين على ميناء (بور) آرثر أن حاميتها سلمت الحصون والقلاع لنفاد المؤن والذخائر الحربية وهلاك معظم الجند , وقالوا: إن التسليم كان شريفًا , ثم كروا على هذا الخبر بالنقض وأثبتوا أن ذلك التسليم عار عظيم على الروس , وأنه كان في استطاعتهم الدفاع عدة أشهر أخرى. وكانوا قالوا: إن الأسطول الروسي الذي تعطل وأغرق في الميناء لا ينتفع به , ثم عادوا فقالوا: إنه يسهل استخراج سفنه ما عدا اثنتين منها ويمكن إصلاحها بنفقة قليلة. وكذلك اختلفوا في الذخائر التي غنمها اليابانيون فحقر شأنها بعضهم وعظمه آخرون، وكانوا قد اتفقوا على إطراء ستوسل قائد حامية الروس ثم انقلبوا يسلقونه بألسنة حداد. والجرائد هي ينابيع هذه الأخبار مع الشركات البرقية. وقد أخذنا من ذلك قاعدة عامة وهي أنه لا يوثق بالأخبار الحربية المختلف فيها وأما ما يتفقون عليه فيوثق به ظنًّا بعد زمن يمر على الاتفاق وإنما الثقة الحقيقية بالنتائج المتفق عليها ككون اليابانيين لهم الظفر في كل الوقائع. والتاريخ القديم أجدر بهذه القاعدة وجرائد بلادنا في الجملة أجدر بعدم الثقة.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار السواك بعد الصلاة أو عندها (س 109) عبد الرحمن أفندي رحمي (بالخرطوم) : رأيت أحد أساتذة العلم يستاك بعد كل صلاة ركعتين فسألته عن ذلك فقال لي: ورد في الحديث الصحيح (كل من يصلي ركعتين بسواك أفضل ممن يصلي ستين ركعة بلا سواك) . فقلت له: إني لا أعلم ذلك إلا أن استعمال المسواك محمود بعد اليقظة من النوم لإزالة قذارة الأسنان ومنع الرائحة الكريهة من الفم فجئت بهذا ملتمسًا إرشادنا إلخ. (ج) السواك سنة مؤكدة ووردت أحاديث متعددة باستحبابه عند القيام من النوم وعند الوضوء وعند الصلاة , ومن أصحها حديث أبي هريرة عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) قال النووي: (السواك مستحب في جميع الأوقات لكن في خمسة أوقات أشد استحبابًا: عند الصلاة , وعند الوضوء , وعند قراءة القرآن , وعند الاستيقاظ من النوم , وعند تغير الفم. وتغيره يكون بأشياء منها: ترك الأكل والشرب , ومنها أكل ما له رائحة كريهة , ومنها طول السكوت وكثرة الكلام) . والحديث الذي ذكرتموه رواه الدارقطني في الأفراد عن أم الدرداء بلفظ: (ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك) وابن زنجويه عن عائشة مثله لكنه بلفظ صلاة بدل كعتين, وهو ضعيف وله طرق تقويه , وليس منها ما ذكرتم. والغرض من سنة السواك تنظيف الأسنان وتطييب الفم كما في حديث: (ما لكم تدخلون عليّ قلحًا؟ استاكوا) إلخ. والقلح جمع أقلح وهو أصفر الأسنان. ومن اطلع على كثرة الأحاديث في السواك يكاد يعجب لشدة تأكيدها ويتوهم إذا كان جاهلاً بطبائع البشر وعادات الناس أنها مبالغة ربما كانت غير صحيحة إذ لا حاجة إلى ذلك في هذا الأمر الصغير الواضح , ولكنه إذا فطن مع هذا إلى تقصير الناس في تنظيف أسنانهم وأفواههم حتى المسلمين الذين هم أحق الناس بهذه النظافة وعلم ما لهذا التقصير من الضرر في الصحة لأنه من أسباب تآكل الأسنان وسرعة سقوطها , وأن هذا سبب لعدم إجادة مضغ الطعام وقلة التلذذ به , وبذلك تقل تغذيته وفائدته، ثم فطن إلى أن مجرد إقناع الناس بأن هذا الشيء نافع لا يحملهم على المواظبة عليه والعناية به حتى يلزموا به بأمر ديني أو يتربوا عليه من الصغر بالإلزام والتعويد - فإنه يفهم سر ذلك الحث والتأكيد. * * * الاستعانة بأصحاب القبور أو حديث (إذا ضاقت بكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور) (س110) ن. ب. في (سراي بوسنة) : إنكم تنكرون الاستعانة بأصحاب القبور فضلاً عن الاستعانة منهم (كذا) وأوردتم الحجج والدلائل على ذلك إلا أنكم لم تقولوا شيئًا في حديث: (إذا تحيرتم في الأمور فعليكم بأصحاب القبور) الذي اشتهر بين الناس وأورده ابن كمال باشا الوزير - الذي هو من مشاهير العلماء وثقاتهم - في رسالته الأحاديث الأربعين. وشرحه على وجه يقنع كل أحد ممن لم يتعمق في العلم مثلكم بصحة الحديث المذكور، ومضمونه الاستعانة من أصحاب القبور (كذا) نرجوكم أن تتفضلوا علينا بحل إشكالنا هذا , والإجابة عن الحديث المذكور ولكم الفضل ومنا الشكر، ومن الله الأجر. (ج) الحديث لا أصل له ولم يروه المحدثون ولكن ورد في حديث أنس عند البيهقي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه قسوة القلب فقال: (اطلع في القبور واعتبر في النشور) وقال البيهقي: متن هذا الحديث منكر , وراويه مكي بن نمير مجهول , ولو صح الحديث الذي أورده ابن كمال باشا لكان بمعناه لأن من تحير في أمره وضاق له صدره فتفكر في أصحاب القبور وكيف تركوا كل شيء كان يهمهم ولقوا ربهم - هان عليه الأمر واتسع منه الصدر، ولا تهولنك شهرة ابن كمال باشا بالعلم فتعجب لإيراده حديثًا لا أصل له , فهو إنما اشتهر بفقه الحنفية , وأكثر هؤلاء الفقهاء لا يعنون بالحديث ولا يعرفون صحيحه وضعيفه وموضوعه ومعروفه ومنكره، بل منهم من يزعم أنه لا حاجة إليه مع الفقه إلا أن يقرأ للتبرك به ويصرحون بأنه لا يجوز العمل به لأن ذلك من الاجتهاد الذي حرموه باجتهادهم , وإنك لترى كتب الفقهاء الذين هم أعظم منه شهرة بهذا الفقه من غير استعانة بالوزارة والإمارة قد حشوا كتبهم بالأحاديث الموضوعة كالأحاديث التي أوردها صاحب الدر المختار في مدح الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى وغيرها. وقد صرح علماء هذا الشأن بأنه لا يجوز لأحد أن يسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثًا إلا إذا كان هو قد رواه رواية يثق بها , أو يذكر درجتها أو أخذه عن كتب الحفاظ الذين يذكرون ذلك , وليس ابن كمال الوزير منهم. ثم إن عبارة الحديث تدل على وضعه لمن ذاق طعم الأساليب العربية الفصيحة فلعل واضعه من المتأخرين، وناهيك بنكارة متنه ومخالفته لظاهر أصول الدين لا سيما إذا حمل على ما ذكرتم. وإذا فرضنا أن الحديث صح وكان معناه ما ذكرتم دون ما أولناه به فإننا نرجح عليه ما يعارضه مما هو أقوى منه كحديث الطبراني مرفوعًا: (إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى) وحديث ابن عباس مرفوعًا: (وإذا استعنت فاستعن بالله) بل عندنا القطعي كقوله تعالى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فإنها نص في عدم جواز الاستعانة بغير الله تعالى كما أن قوله عز وجل: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) نص في عدم جواز عبادة غيره لمكان الحصر في تقديم المفعول. ومن عجائب تحريف المسلمين الجغرافيين لنصوص القرآن القطعية ما أطلعنا عليه بعض الناس في الجريدة المحدثة التي تسمي الظاهر من تأويل {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) . إذ قال المحرف: إن الاستعانة على ضربين: حقيقية، وهي الممنوعة بنص الآية، ومجازية كالاستعانة بالموتى الصالحين , وهي جائزة لا تمنعها الآية , ولا يتناولها الحصر فيها. ولو صح هذا لصح أن يقال مثله في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) ويقال: إن العبادة حقيقية ومجازية؛ فالأولى لله والثانية لغيره فيعبد هؤلاء المحرفون غير الله ويسمون عبادتهم مجازية لا يخرجون بها من دائرة الإسلام وحظيرة الإيمان، ونعوذ بالله من الخذلان، فإن هذا الضرب من التحريف للنصوص القاطعة لم يسمع عن أمة من الأمم أقبح منه ولا يمكن أن يثبت معه دين!! أتظن أن صاحب هذه الجريدة أضاف هذا التحريف إلى نفسه حتى لا يخشى انخداع العامة به لعدم ثقتهم بهذه الجرائد في أمر الدين وعلمهم بجهل أصحابها؟ كلا , بل زعم أنها جاءته من عالم أزهري، ولا تدري العامة أن رواية الثقة عن المجهول غير معتبرة فكيف برواية غير الثقة. فبمثل هذه الكتب والصحف فسدت الأديان , واختل نظام العلم , ولذلك نقول تبعًا للأئمة المجتهدين: إنه لا يجوز لأحد أن يأخذ في الدين بكلام عالم ما لم يعرف دليله، فإن كان الدليل حديثًا شريفًا فلا تصح الثقة به إلا إذا نقل عن المحدثين الثقاة الذين رووه لتعرف درجته وتمكن مراجعته، وعلى هذا جرينا، في المنار والله المستعان، دون فلان وفلان. * * * تعدد الجمعة عند الشافعية وإعادة الظهر (س111) مستفيد في (سنغافورا) . حصلت مباحثة أحببنا رفعها إليكم لاستجلاء الحقيقة والاستهداء فنرجوكم الإجابة على صفحات المنار. تفضلتم في الجزء التاسع عشر من المنار الهادي بنقل نصوص الإمام الشافعي في تعدد التجميع مما لم تكتحل به عيوننا قبل , وجزمتم آخر الجواب بأنه لا محل لصلاة الظهر عقب الجمعة في نحو مصر، فبعد التأمل وقع لدينا ما جزمتم به موقع الاستحسان وعليه عملنا منذ تيقظنا. ولكن ظهر لبعض طلبة العلم من الشافعية بطرفنا أن مقتضى تلك العبارات ونتيجتها هو أن الذمة لا تبرأ يقينًا إلا بصلاة الظهر بعد الجمعة في نحو سيقافورة [*] وأن من أراد الاقتصار مثلاً على الجمعة فقط أو الظهر فقط فالأولى له أن يصلي الظهر ويترك الجمعة لأنه بالظهر يبرأ يقينًا ولا تبرأ ذمته بالجمعة وحدها يقينًا. وقال: إن ما نقلتم عن الشافعي لا يفيد سوى ما فهمه لا ما ذكرتم. فهل ما قاله هذا البعض صحيح أم محتمل أم لا؟ ولتكونوا على بصيرة من سيقافورة نفيدكم أنها بلد مستطيل يبلغ طوله نحو ستة أميال إنكليزية لكن عرضه لا يبلغ نحو نصف طوله , وتُصلى الجمعة فيه في نحو خمسة عشر مسجدًا بعضها مزدحم , وباليقين إن المحتاج إليه منها للجمعة هو بعضها , وربما كان أقل من النصف لا لقلة المسلمين ولا لكثرة تاركي الصلاة منهم بالكلية بل لتهاونهم في حضور الجمعة , وقد يظن أن اعتقادهم عدم إجزاء الجمعة منهم يثبط بعضهم، فأفيدونا بالحكم على رأي الشافعي , ثم اشرحوا لنا على طريقة المنار ما هي شروط الجمعة التي لا تصح إلا بجميعها وتبطل بفقد واحد منها؟ وما هي أدلتها الشرعية الواضحة وبينوها بالعزو إلى مخرجيها لتتم الفائدة لمستجديكم وأهل هذه القاصية، لا زلتم هداة للرشاد نافعين للعباد. (ج) عبارة مختصر المزني ليس فيها ذكر إعادة الظهر على من صلى الجمعة وعلم أنها صليت في مسجد آخر , بل هي نص في وجوب التجميع في مسجد واحد وإن كان لا يسع الناس , وأنه لا يصلى بعد إقامتها في أحد المساجد إلا الظهر أي بعد العلم بأنها صليت. وزادتها إيضاحًا عبارة الأم وهي: (وأيها جمع فيه أولاً بعد الزوال فهي الجمعة , وإن جمع في آخر ساعة بعد الجمعة كان عليهم أن يعيدوا ظهرًا أربعًا) فقوله: في آخر ساعة بعد الجمعة؛ يشعر بأنهم جمعوا مع العلم بأن الجمعة صليت , ويؤيده مسألة الإشكال التي أوردها بعد فإنها تفيد أن المسألة قبلها مفروضة في صورة العلم. وإنما تتأتى مسألة الإشكال التي قالها الإمام في صورة الاجتماع والشك في السبق بعد التجميع بأن صلوا في مساجد متعددة معتقدًا أهل كل مسجد أنهم السابقون أو غير عالمين بتجميع غيرهم بالمرة , ثم علموا وطرأ عليهم ما أوقعهم في الشك والإشكال , ولذلك أوجب عليهم إعادة الجمعة في قول. فقال: (ولو أشكل عليهم فعادوا فجمعت منهم طائفة ثانية في وقت الجمعة أجزأهم ذلك) وصلاة الظهر في قول آخر وهو الذي ذكرناه هناك عنه أولاً وعن الربيع آخرًا. وهل المراد من القولين التخيير أم يريد الإمام أن الظهر حتم على من لم يتمكن من إعادة الجمعة أم رجع بأحد القولين عن الآخر؟ كل محتمل ولا محل هنا للبحث في الترجيح، وإنما المراد أن الإمام لم ينص على ما إذا جمعوا في مساجد متعددة , ولم يطرأ عليهم إشكال في السبق بأن أحرم أهل كل مسجد بها بناء على أن الأصل عدم سبق غيرهم لهم بجمعة في بلدهم , ولو أحرموا غير معتقدين بأحد هذه الشروط وهم يعتقدون أنها شروط (لأنهم شافعية) لكانوا عصاة متلاعبين بالدين كمن يصلي بغير وضوء وحاشاهم من ذلك. وجملة القول أن الإمام منع تعدد التجميع اختيارًا مع العلم , وصرح بعدم إجزاء جمعة ثانية بعد الأولى , فجعل الاعتقاد بأن هذه الجمعة هي الأولى أو عدم العلم بأنها مسبوقة بجمعة صليت قبلها شرطًا لصحة الجمعة , فمن لم يتحقق عندهم الشرط لا يجوز لهم التجميع عنده. فإذا كان أهل الأمصار التي تتعدد مساجدها لا يتحقق عندهم هذا الشرط فلا يجوز لهم التجميع إذ لا تنعقد صلاتهم بالجمعة مع فقد شرطها، وإن كان يتحقق لأن الأصل عدم السبق كما قلنا كانت جمعتهم صحيحة , ولا يجوز لأحد أن يصلي عقبها ظهرًا. وأما الإقدام على صلاة فريضتين في وقت واحد مع اعتقاد أن كلاًّ منهما واجب كما يفعل أكثر الشافعية في الأمصار فمما لا دليل عليه في قول الإمام رحمه الله تعالى بل مقتضى المذهب حرمته. وقد زارنا بعد كتابة ما كتبناه في الجزء التاسع عشر أحد علماء الشافع

رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة

الكاتب: مصطفى الغلاييني

_ رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة للشيخ مصطفي الغلابيني بسم الله الرحمن الرحيم اللهم يا ملهم الصواب، ومانح السداد، ومنزل الكتاب لهدي العباد، نسألك الإعانة والتيسير، والهداية والرشاد، إنك على كل شيء قدير، فاهدنا قويم النجاد، أما بعد فإني كاتب في هذه الأوراق اليسيرة ما يتعلق بصلاة الظهر بعد الجمعة كتابة يرتفع بها ستار الأوهام، وتنقشع عن وجه الحقيقة سحب الظلام، مقيمًا على ذلك البراهين القاطعة والحجج الواضحة الساطعة، حتى ينجلي الصبح لذي عينين، ويزول الغطاء والرين، فتبدو الشمس من برجها مشرقة الوجه، زاهرة الطلعة، فلا يبقى حينئذ مقول لقائل ولا مجال لمعترض، فالحق أحق أن يتبع، وما الحقيقة إلا بنت البحث، وما القصد من هذه السطور إلا إظهار الحق وتبيان الصدق، ولا بد للحقيقة أن يعلو منارها ويشرق سناؤها، فتغل كتائب الباطل وتزهق، وتفشل أنصاره وتمحق؛ وقد قال بعض أساتذتنا الأعلام: (إنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه) آخذًا هذا المعنى من قول الله سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) وقوله جل ثناؤه: {إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) . والداعي لتحرير هذه الرسالة أن بعض خطباء المساجد في مدينتنا بيروت منع من صلاة الظهر بعد الجمعة في مسجده , فاعترض عليه بعض الفقهاء الشافعية , وحصل في المسألة أخذ ورد , وانقسم طلاب العلم على قسمين , فمنهم من يقول بمنعها , ومنهم من يقول بوجوبها أو سنيتها , ومضى على ذلك أشهر , والمسألة في ميدان البحث والانتقاد إلى أن ظهرت في هذه الأيام رسالة في الموضوع للشيخ المرحوم علي نور الدين الشبراملسي الشافعي حكى فها أقوال الشافعية في المسألة، وحكم بأن صلاة الظهر بعد الجمعة مع التعدد إما واجبة مع التعدد لغير حاجة وإما سنة مع التعدد للحاجة، وقد سعى في هذه الرسالة بعض المنتسبين للعلم وأغرى بعض المثرين بطبعها وتوزيعها على العوام مجانًا. وقد جاء في مقدمة الساعي بطبعها من الانتقاد على الخطيب ما لا يحمد ذكره، فقد وصفه بأنه فرق كلمة الخاصة , وشوش أذهان العامة , ثم أتبع ذلك بقوله: (ولا يخفى ما في ذلك من الضرر المبين حيث يؤدي إلى شق عصا المسلمين) إلى آخر ما قال. على حين أن العامة لم تشوش أفكارهم ولم تفرق كلمتهم، وإنما تحزُّب بعض الفقهاء من أمثاله هو الذي نبه أفكار الخاصة وشتت أذهان العامة، على أن هذه المسألة خاصة بالشافعية ومن وافقهم دون غيرهم من المسلمين، فكيف يقال أنه شق بعمله هذا عصا المسلمين وفرق كلمتهم. وإني متكلم في هذه المسألة على ثلاثة أبحاث: البحث الأول في الكلام على تعدد الجمعة. الثاني في الكلام على الظهر بعد الجمعة. الثالث في عرض المسألة على الكتاب والسنة. * * * البحث الأول في الكلام على تعدد الجمعة اعلم أن الفقهاء اختلفوا في تعدد الجمعة على قسمين فمنهم من منع التعدد مطلقًا سواء كان لحاجة أم لا، وهو غير معتمد في المذهب كما صرحوا به. ومنهم من أجاز التعدد بشرط الحاجة وهو الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الفقهاء. ثم اختلف أصحاب هذا القول في تفسير الحاجة على أقوال؛ فمنهم من قال: الحاجة باعتبار من يصليها بالفعل، ومنهم من قال: الحاجة باعتبار من يغلب حضوره. فعلى هذين القولين يكون التعدد في بيروت ونحوها زائدًا عن الحاجة؛ لأن الذين يحضرونها تكفيهم مساجد أقل من المُعدة لها. ومنهم من قال: إن الحاجة باعتبار من تلزمه الجمعة وهو المعتمد عندهم. فعلى هذا القول المعتمد وما قبله يكون التعدد في بيروت ونحوها حتى مصر ودمشق لحاجة، بل هو أقل من الحاجة. (ولُباب القول) أنه إن اعتبرتم أن الجمعة في بيروت ونحوها متعددة لغير حاجة فيجب الاقتصار على ما يكفي الناس لا أن نوجب عليهم صلاة الظهر بعدها لأنها عبادة لم يأمر الله ولا رسوله بها؛ وإن اعتبرتم أنها متعددة لحاجة بناء على القول المعتمد فلا لزوم لصلاة الظهر بعدها لأن الإمام حينما دخل بغداد صلى فيها الجمعة مع تعددها ولم يصل بعدها الظهر. واعلم أن منشأ هذه الأقاويل ما تعارض من قول الإمام الشافعي وفعله، فظاهر كلامه أنه لا يجوز التعدد، وأما دخوله إلى بغداد ووجوده أهلها يصلونها بمحلين أو ثلاثة، وعدم إنكاره عليهم وصلاته معهم سنتين - فهو دليل على إقراره التعدد إن كان لحاجة. وأما من قال: إن سكوته من باب أن المجتهد لا يرد على مجتهد، فمنقوض لأنه إن كان لا يجيز التعدد لحاجة بدليل يُعدُّ سكوته على ذلك من باب رؤية المنكر وعدم إزالته، ونُجِلُّ الإمام عن ذلك. وإن كان يجيز التعدد لحاجة فقد قضي الأمر , ومن قال: يحتمل أن الشافعي صلى الظهر لا الجمعة , أو أنه كان يعيد الظهر بعد الجمعة؛ نقول له: إن الدين لا يثبت بالاحتمال , وإن المنقول خلاف ما تحتمل وغير ما تدعي، ولهذا أجاب عنه جمهور أصحابه بأن تعدد الجمعة في بغداد إذ ذاك لمشقة الاجتماع لكثرة أهلها , وتبعهم الشيخان كالروياني، قال في الحلية: (ولا نص فيه للشافعي , ولا يحتمل مذهبه غيره) اهـ أي لم ينص الشافعي على مسألة التعدد في حالة الاضطرار , ومذهبه يقتضي جوازه لأن المشقة تجلب التيسير، وأما قول المزني في المختصر: (ولا يجمع في مصر وإن عظم وكثرت مساجده إلا في مسجد واحد) فليس فيه ما يدل على عدم جواز التعدد لحاجة , فينبغي حمله على حالة السعة والاختيار دون المشقة والاضطرار، وهي فيما إذا وجد مسجد يجمعهم جميعًا لأن مسألة الإمام في بغداد دليل على ذلك وصريحة في جواز التعدد عند الافتقار، فسقط قول من قال: لا يجوز تعددها ولو في حالة الاضطرار. وشُبهة من قال بعدم جواز تعدد الجمعة هو أنها لم تفعل في زمنه صلى الله عليه وسلم إلا كذلك أي في مكان واحد , فلو جاز تعددها لحصل ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام. ونقول في الجواب من وجوه: الأول: أنه لم يكن من حاجة إلى التعدد لأن مسجد الرسول كان يكفيهم جميعًا , فلا معنى حينئذ للكثرة لما هو معلوم من أن المسلمين لم يكونوا يبلغون من العدد ما بلغوه بعد زمان النبي والخلفاء الراشدين , لكن لما اتسعت دائرة الإسلام وكثرت فتوحاته ودخل الناس فيه أفواجًا أفواجًا في مشارق الأرض ومغاربها - تعسر عليهم الاجتماع لإقامة الجمعة في مسجد واحد فدعتهم الحاجة إلى تعددها عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: (يسروا ولا تعسروا) وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ولأنه إن كان القصد من عدم التعدد شعار الجمعة فالشعار حاصل أيضًا مع التعدد لحاجة. الثاني: الحرص على الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم , وسماع خطبه ومواعظه وأوامره ونواهيه , وأي مسلم يرغب عن الصلاة مع النبي إلى غيره. الثالث: الحرص على اجتماع الكلمة وعدم التفرق بقدر الإمكان؛ لأن هذا من حِكم صلاة الجمعة لا يعدل عنه إلا لضرورة كضيق المصلى الواحد مثلاً. وقد تفلسف بعضهم , فقال: يجب إقامة الجمعة في مصلى واحد ولو غير مسجد , وإن حصل بذلك مشقة من حر أو برد أو مطر إلخ. وقد قاس تلك المشقة على مسألة الجهاد والحج وإن لم يكن بين المقيس والمقيس عليه جامع، قال بعض الفقهاء عندنا: وذلك كرمل بيروت ونحوه، بخ بخ. والجواب عن ذلك أن هذا القول عارٍ عن الدليل , ومخالف لعمل الإمام الشافعي لأنه لم يأمر أهل بغداد بالاجتماع في غير المساجد بل أقرهم على التعدد للحاجة إليه. إني لأعجب من تجويزهم أو إيجابهم الاجتماع للجمعة في غير المسجد إن لم يمكن فيه لأنهم منعوا التعدد بحجة أنها لم تعدد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم , فكيف يقولون بصحتها في غير المسجد مع أنها لم تفعل في زمن الرسول إلا في المسجد [1] . فلعمري إن هذا ترجيح بلا مرجح , فتجويزكم للمسألة الأولى يقتضي تجويز الثانية وهو التعدد للضرورة , وهو ما أقر عليه الإمام الشافعي ولم ينكره، فعدولكم بلا دليل عن عمل الإمام ضرب من التعنت والأوهام. على أنه لم ينقل عن المعصوم ولا عن الصحابة ما يدل على عدم جواز التعدد , وأما من قال: إن عدم التعدد في زمنهم دليل على عدم جوازه؛ فنقول له: قد أخطأت المرمى، فإن كثيرًا من الأمور لم تكن في عهد الرسول ثم دعت الحاجة والوقت إلى إيجادها؛ منها أن القرآن لم يكن مجموعًا في عهده صلى الله عليه وسلم , ثم رأت الصحابة رضوان الله عليهم أن من اللازم جمعه خشية ضياعه، وهكذا الأحاديث الشريفة كانت العلماء تتناقلها في الصدور , ثم رأوا من المصلحة كتبها في الدفاتر , وهكذا أكثر العلوم الدينية والعربية إلخ، فهل يقال لا يجوز فعل ما تقدم؟ نعم لا يجوز أن نخترع أمرًا دينيًّا لم يكن على عهد النبي إذا لم تحوج الضرورة إلى فعله كصلاة الظهر بعد الجمعة مثلاً. ثم إن عدم التعدد في زمانه عليه الصلاة والسلام ليس دليلاً على عدم جواز التعدد لأنه لم يرد قول يمنعه، ومن المعلوم المسلَّم المقرَّر أن الأصل في الشيء أن يكون مباحًا إلا إذا ورد دليل على تحريمه أو كراهته , وأي دليل ورد في ذلك؟ فالحق الحق عباد الله , فالحق أحق أن يتبع. إن شريعتكم سهلة سمحة لا تكلف فيها فلا تضيقوا على أنفسكم , فنبيكم يقول: (الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه) وقال أيضًا في حديث آخر: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها , وحدّ حدودًا فلا تنتهكوها , وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها) . فعلمت مما تقدم أن الحق من مذهب الشافعي رحمه الله تعالى هو جواز تعدد الجمعة متى دعت الحاجة إلى ذلك , وهو ما تقتضيه قواعد الشريعة المطهرة , وأن المعتمد في تفسير الحاجة أن العبرة بمن تجب عليهم الجمعة صلوا أم لا , فإن كانوا لا يكفيهم مصلى واحد صلوا في عدد يكفيهم من المساجد، وعليه فالمساجد التي تقام فيها الجمعة في بيروت ومصر وما ضارعهما من المدن متعددة للحاجة , بل هي أقل من الحاجة إذ لو صلى كل من تلزمهم الجمعة لضاقت عليهم المساجد , وبقي منهم جمّ بلا صلاة كما هو المشاهد في رمضان والأعياد. * * * البحث الثاني في الكلام على الظهر بعد الجمعة علمت في البحث السابق الكلام على التعدد وأن الحق جوازه. وإنا ذاكرون لك في هذا الفصل الكلام على صلاة الظهر بعد الجمعة إذا تعددت، فنقول: إن ذلك واقع فيما إذا كان تعددها لغير حاجة , فإن الظهر تلزم بعدها في صور نذكرها لك قريبًا، وأما إذا تعددت لحاجة فلا ظهر بعدها مطلقًا بل هي باطلة قطعًا إن صُليت، ولا يقال: تُسن الظهر إذا تعددت لحاجة خروجًا من خلاف من أوجبها؛ لأنا نقول: بل السنة , بل الواجب تركها مراعاة لمن لم يقل بها لأنها لم يدل عليها دليل , بل هي مخالفة لعمل الإمام الشافعي رضي الله عنه لأنه لم يصلها في بغداد ولم يؤثر عنه قول في سنيتها مع التعدد لحاجة , فكيف نترك عمل الإمام ونعمل بغير قوله , إن هذا لمن العجب، على أن التقليد للشافعي لا لهم حتى يخترعوا أقوالاً لم يقلها أو يخالفوه أو يقولوا بغير قوله , ومع ذلك يقولون: هذا مذهب الشافعي , وما هو بمذهبه , وقد ذكرت لبعضهم أن كتاب (الأم) للإمام الشافعي يطبع في هذه الأيام , فقال: لا حاجة لنا به لأنه لا يجوز أن نعمل إلا بكلام المتأخرين، يعني لا يجوز له تقليد الشافعي! ! ! فاسمع هذا واعجب.... نعم لو ظهر أن كلام الإمام مخالف للدليل وكلام أتباعه موافق له يجب أن نترك قول الشافعي ونتبع أتباعه؛ لأن الشافع

كتاب الإمامة والسياسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب الإمامة والسياسة كنا نسمع بهذا الكتاب ونرى اسمه في الكتب فنتمنى لو نراه لمكان مؤلفه أبي عبد الله بن قتيبة في العلم وتقدمه في الزمن , فهو من أهل القرن الثالث ومن أصحاب الرواية حتى أتاح الله لطبعه في هذه السنة محمد أفندي محمود الرافعي وهو تاريخ للخلفاء الراشدين ومَن بعدهم من ملوك المسلمين إلى عهد المأمون. والكتاب في انسجام عبارته وتحري مؤلفه في روايته مما لا يستغني المسلم عن قراءته، ومن قرأه معتبرًا يعرف شيئًا من قوة روح الإسلام , وكيف أحيا الله به هذه الأمة حتى صار يؤثر عنهم من العدل والحكمة وهم لم يدارسوا السياسة ولا تربوا في حجورها - مالا يؤثر مثله عن ملوك أوربا وحكامها على رقيهم المشهود في العلوم الاجتماعية والسياسية , وأخذ أممهم على أيديهم. ومما نحب توجيه النظر إليه المقارنة بين ملوك المسلمين وأمرائهم حتى بعد أن صارت الخلافة ملكًا عضوضًا مخالفًا لكثير من أصول الإسلام , وبين ملوكهم وأمرائهم في هذا الزمان الذي انحطت فيه الأمة إلى حضيض الهوان. فما أورده في ذلك: (دخول سفيان الثوري وسليمان الخواص على أبي جعفر المنصور) ومما ذكره عن سفيان أنه أجاب أبا جعفر عندما قال له: إلىّ إليّ ادن مني؛ بقوله: إني لا أطأ ما لا أملك ولا تملك. فقال أبو جعفر: يا غلام أدرج البساط وارفع الوطاء فتقدم سفيان فصار بين يديه , وقعد ليس بينه وبين الأرض شيء وهو يقول: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه: 55) فدمعت عينا أبي جعفر , ثم تكلم سفيان دون أن يستأذن فوعظ وأمر ونهى وذكََّر وأغلظ في قوله , فقال له الحاجب: أيها الرجل أنت مقتول. فقال سفيان: وإن كنت مقتولاً فالساعة. فسأله أبو جعفر مسألة فأجابه. ثم قال سفيان: فما تقول أنت يا أمير المؤمنين فيما أنفقت من مال الله ومال أمة محمد بغير إذنهم، وقد قال عمر في حجة حجها , وقد أنفق ستة عشر دينارًا هو ومن معه: (ما أرانا إلا وقد أجحفنا ببيت المال) وقد علمت ما حدثنا به منصور بن عمار - وأنت حاضر ذلك , وأول كاتب كتبه في المجلس - عن إبراهيم بن الأسود عن علقمة عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رب متخوض في مال الله ومال رسول الله فيما شاءت نفسه له النار غدًا) فقال أبو عبيد الكاتب: أمير المؤمنين يُستقبَل بمثل هذا؟ فقال له سفيان: اسكت فإنما أهلك فرعونَ هامانُ وهامانَ فرعونُ. ثم خرج سفيان , فقال أبو عبيد الكاتب: ألا تأمر بقتل هذا الرجل؟ فوالله ما أعلم أحدًا أحق بالقتل منه. فقال أبو جعفر: اسكت يا أنوك (أي يا أحمق) فوالله ما بقي على الأرض أحد اليوم يُستحيا منه غير هذا ومالك بن أنس. اهـ. ومثل هذه الرواية كثير في الكتاب وغيره. هذا وقد كان الإمام مالك الذي قال فيه المنصور ما قال يرى عدم صحة بيعته على علمه وفضله؛ لأن الحكومة كانت دخلت في طور الإطلاق المخالف للشرع , وإن لم يكن ثَم قانون غير الشرع. فانظر ما أبعد الفرق بين المنصور وأمثاله على علاتهم وبين ملوكنا وأمرائنا المتأخرين , وهل يطيق أحد منهم أن يسمع من عالم كلمة حق. على أنهم قد شرعوا لأنفسهم من الحقوق ما لم يأذن به الله كتعطيل الأحكام الشرعية واستبدال القوانين بها , ومنع الجند والعمال أرزاقهم , وهبة ما شاءوا من بيت المال بغير الحق. وهذه الأخيرة قديمة عهد. ونوجه أنظار القراء إلى ما في الكتاب من دلائل الحياة الأدبية كخطب موسى بن نصير , والمقارنة بينها وبين حياتنا اليوم. والكتاب جزءان في مجلد واحد , وثمنه عشرة قروش صحيحة , وأجرة البريد قرش ونصف , وهو يطلب من إدارة مجلة المنار , ومن المكتبة الأزهرية.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (نموذج من خطب السيد عبد الحق الأعظمي) نشرنا في الجزء ال 17 من المجلد السادس خطبة من خطب صاحبنا الشيخ عبد الحق البغدادي إمام وخطيب المسجد ذي المنارات في بمبي (الهند) فعلم منهاجه في الخطب وأنه ينشئ الخطب إنشاء بحسب حال العصر وما ابتدع المسلمون فيه وما عوقبوا به من البلاء وسوء الحال. وقد كان أرسل إلينا طائفة من هذه الخطب ابتغاء نشرها في المنار فلم نتمكن من ذلك, ثم انتدب بعد ذلك صاحبنا الشيخ عبد الله الجيتيكر الكتبي في بمبي لطبع هذه الخطب ونشرها - وهي اثنتا عشرة خطبة - ابتغاء تعميم نفعها وحث الخطباء على احتذاء مثالها، فله مع الخطيب الشكر والثناء. وقد أرسل الخطيب نسخًا من هذا النموذج المطبوع إلى أصحاب الجرائد التي سمع بها وإلى بعض العلماء المشهورين في الأقطار , وطلب منهم انتقادها، وذلك من دلائل إخلاصه وتوجهه لإحسان عمله. ونقول في هذه الخطب: إنها أنفع ما رأيناه مطبوعًا وفي مصر من يخطب على هذه الطريقة كالشيخ خالد النقشبندي في (جامع الست الشامية) والشيخ محمد المهدي في جامع عزبان. ولو كان هؤلاء كلهم لا يلتزمون السجع المقفى بل يكتفون بجعل الجمل وجيزة على نحو جمل السجع لكان أولى. ثم إن معظم هذه الخطب في الوعظ العام الإجمالي فلو فصل فيها ما انتشر من البدع والمعاصي وبين فيها المعروف والخير المطلوب لتحسين حال المسلمين كمساعدة الجمعيات الخيرية وكيفية التعليم والتربية ومعاملة النساء ونحو ذلك - يكون نفعها أتم , فإن أكثر الذين يسمعون الكلام العام المجمل من العامة لا يعرفون الغرض منه ولا يدرون ماذا يراد منهم. وقد أعجبني من صاحب النموذج انتقاده ما يأتيه المسلمون من الشيعة وأهل السنة في عاشوراء، وانتقدت عليه الشدة في التعبير في بعض المواضع مما له مندوحة عنه، والتعريض في قوله: فساء مبارك صباح المسلمين. فهو غير محكم، والتكلف في السجع وتطويله أحيانًا لا سيما الاقتباس كقوله في النبي صلى الله عليه وسلم: (ويدعوهم إلى توحيد الخالق وتفريده بالعبادة وينقذهم من ضلال عبادة الأصنام التي كانوا عليها عاكفين. وقال له: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) خلقي أجمعين) . ولو أتم الآية لكان خيرًا من وصله بها ما لا يلائمها من الحشو. وأحب له أن يعنى بتصحيح ما يطبع بعد، فإن في هذا المطبوع شيئًا من الأغلاط الفاشية في الجرائد وكلام المعاصرين كقوله: تعينت إمامًا. ها أنتم قد استقبلتم. والصواب: ها أنتم أولاء. والفواحش المخفية. والصواب: المخفاة. تحصلتم على كذا , والصواب: حصلتم. وقد أرسل إلينا طائفة من هذه النسخ للبيع فنحث الخطباء الذين يخطبون من الدواوين المتداولة المملولة المثبطة للهمم أن يحفظوا هذه الخطب ويفضلوها فإنها خير من تلك وأنفع. وثمن النسخة أربعة قروش وهي قليلة بالنسبة إلى الفائدة لكنها غير قليلة بالنسبة إلى الورق والطبع، وأجرة البريد عُشرا القرش (مليمان) . * * * (الزهرة في نظام العالم والأمم) رسالة لطيفة في الزهرة للشيخ طنطاوي جوهري كتبها بأسلوبه المعروف , وهو مزج الكلام في الطبيعة ونظام الكون بآيات القرآن الحكيم, ولو أَلِف التلامذة وغيرهم من قراء العربية في عصرنا هذا الأسلوب؛ لانتفعوا بما في هذه الكتب واستلذوه. وفي هذه الرسالة مقارنة بين رأي للإمام الغزالي ورأي لجون لبك العالم الطبيعي العصري , وبحث في القرآن والمسلمين ومتأخري الإفرنج , وبحث في جمال النبات ونظام الأزهار، والكلام على الزهر ذي الأقفال والمفاتيح , والزهر ذي الحراس , والزهر ذي الجند, والزهر ذي السياسة الحقيقية والوهمية , والزهر المنظم , ونور الزهر. والمؤلف يعتمد في الكلام العلمي على مؤلفات الإفرنج الحديثة , ويزيد على ذلك إسناد هذا النظام إلى فاعله الحقيقي والتنبيه على سر صنعته وبديع حكمته، فنحث الناس على قراءة كتبه. * * * (دليل مصر والسودان) يؤلف الإفرنج كتبًا للممالك يصفونها ويبينون ما فيها من المعاهد والمشاهد والمطابع والجرائد ويذكرون الكبراء والمشهورين وغير ذلك. ويسمى هذا النوع من الكتب بالدليل , ويمتاز أفراده بالإضافة (فيقال: دليل فرنسا دليل إنكلترا) وبهذه الكتب يعرف أهل الوطن من وطنهم ما لم يكونوا يعرفوه بأنفسهم، وبها يستعين الغرباء على اختبار البلاد إذا جاءوها سائحين , وقد ألف غير واحد من الإفرنج دليلاً لمصر والسودان ولم يُعنَ أحد من أبناء العربية بذلك حتى قام به في هذه السنة (ثابت وإنطاكي) فألفا للقطرين دليلاً جعلاه جزءين أحدهما تبلغ صفحاته زهاء ثلاث مائة , وثانيهما 176 صفحة , وقد ألحقا به كتاب طبائع الاستبداد برمته، فكان الكتاب سفرًا كبيرًا ومجلدًا ضخمًا لا تستغني عنه خزائن الكتب العربية؛ إذ عار علينا أن لا نعرف بلادنا إلا من كتب الأجانب. وثمن النسخة من الكتاب أربعون قرشًا صحيحًا ويطلب من أصحابه بمصر. * * * (فتح الملك العلام في بشائر دين الإسلام) كتاب جديد في بشائر كتب الأنبياء عليهم السلام بدين الإسلام، جمعه أحمد أفندي ترجمان. وقد سلك فيه مسلك التدقيق مع النصارى في تحريف كتب العهد القديم لصرفها بشائرها بالإسلام عنه إلى غيره, وجادلهم بالتي هي أحسن كإقامة الحجة عليهم من كتبهم راجعًا عند الخلاف في التفسير إلى العبارات العبرانية. مثال ذلك قول النبي أشعيا: (3: 40 صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب قوموا في القفر سبيلاً لإلهنا) إلخ فالنصارى حملوا هذا النص على السيد المسيح عليه السلام , وهو لم يأت من القفر بل المراد بالقفر البلاد العربية لأن النص العبراني (بعربه) فترجموه بالمعنى حتى لا يظهر التحريف. وفي أشعيا أيضًا مما يؤيده (21: 13 وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الدرانيين) . ومما يؤيده في المزامير (4: 68 غنوا لله رنموا لاسمه , أعدوا طريقًا للراكب في القفار باسمه) والنص العبراني (بعربوت) بدل في القفار، وهي بلاد العرب. وعلى ذلك فقس. وصفحات الكتاب تقرب من ثلاث مائة , وعبارته في غاية النزاهة، فنحث القراء على مطالعته. ونطلب من الذين ينشرون الجرائد والمجلات للدعوة إلى النصرانية والطعن في الإسلام أن يجيبوا عما أورده هذا الكتاب عليهم إن كانوا يعتقدون ما يقولون. * * * (شهادة إسرائيل لإسماعيل) جواهر التوراة والإنجيل، لمحمد بن إبراهيم الخليل ألف محمد أفندي حبيب رسالة سماها بهذا الاسم ذكر، في أولها أن الكتب المقدسة القديمة تكثر فيها الرموز والكنايات , ومن هذه الرموز استنبطت البشارات والنذر في كتب الأنبياء بالحوادث العظيمة التي جاءت بعدهم وأعظمها ظهور الأنبياء والشرائع. والنصارى يسمون بشارات الأنبياء ونذرهم بالنبوات , وتوسعوا في ذلك حتى حولوا كثيرًا من أخبارهم المعروفة حوادثها إلى حوادث جاءت بعدهم , وتحكموا في ذلك كما تحكموا في تحويل بعض الأنبياء عن المستقبل إلى ما لا ينطبق عليه. وقد بين محمد أفندي حبيب في رسالته هذه أمثلة من ذلك , وأظهر خطأ القسوس فيها على نحو ما أشرنا إليه في تقريظ الكتاب السابق وهو قد كان مساعدًا لصاحبه على تأليفة لمعرفته اللغة العبرانية. من ذلك ما جاء في الفصل الخامس من (النشيد 16 حلقه حلاوة وكله مشتهيات هذا حبيبي) قال المؤلف: فلفظ مشتهيات في الأصل العبراني (محمديم) والقواميس العبرانية تقول: إن هذه اللفظة لا تفيد مشتهيات , ولكن تفيد أنه محمود أو محمد. ونقول: إن هذه صريحة في نبينا عليه السلام , وليس عندهم بشارة صريحة مثلها في المسيح عليه السلام وقوله قبلها: حلقه حلاوة، كناية عن فصاحة كلامه , ولم يأت نبي بكلام أحلى مما جاء به خاتم الأنبياء. وقوله بعدها: وهذا حبيبي، نص في لقب النبي عليه الصلاة والسلام فإنه حبيب الله عز وجل. وقد عزا المؤلف العبارة إلى التوارة فيتوهم القارئ أنها في الأسفار المنسوبة إلى موسى عليه السلام، وهي من النشيد كما قلنا. ومنه ما جاء في الفصل الثاني من النشيد: (أسمعيني صوتك لأن صوتك لطيف ووجهك جميل) وفي الأصل العبراني (عيرب) بدل جميل؛ أي عربي. ومنه ما في الفصل الثاني من نبوة حجي (7 وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهى كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدًا. قال رب الجنود) وكلمة مشتهى هذه أصلها العبراني (حمدوت) ومعناه محمد أو محمود، وهي من الفعل العبراني (حمد) ومنه قول المزمور الرابع والثمانين: (طوبى لأناس عزهم بك. طرق بيتك في قلوبهم 6 عابرين في وادي البكاء) والأصل العبراني وادي بكة (وذكر العدد في الرسالة غلطًا) فأبدل لفظ بكاء بلفظ (بكة) وهي مكة في نص القرآن. وغير ذلك. والرسالة تطلب من مؤلفها في دكانه (المعرض العام وبرج بابل بمصر) وثمنها نصف قرش. فنطلب من أصحاب الجرائد والمجلات النصرانية الجواب عنها أو السكوت عنا، وإلا فإنهم مشاغبون يقولون ما لا يعتقدون.

خاتمة السنة السابعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة السابعة بسم الله وحمده نختم الجزء الرابع والعشرين من هذه السنة كما افتتحنا أول جزء منها باسمه - جل ثناؤه - وحمده وشكره عظمت نعماؤه , فله الحمد أولاً وآخرًا , وباطنًا وظاهرًا {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (المؤمنون: 88) . قلنا في فاتحة هذه السنة أن المنار دخل في سن التمييز بالنسبة إلى الأشخاص. ذاك أن للأعمال أطوارًا كأطوار الناس: طفولية ومراهقة وشبابًا وكهولة وشيخوخة, وإن العامل ليتقلب في أطوار عمله فيكون في أوله كالطفل أو الغلام الصغير , وإن كان في علمه أو سنه كالشيخ الكبير , لأن حياة التجربة والخبر , غير حياة النظر والفكر , وإننا لم نقل إن المنار دخل في سن التمييز تواضعًا - كما يقال - ولا عنينا به الخروج عن حدود الخطة التي اختططناها , أو السبيل التي أشرعناها له وذكرناها بالإيجاز في فاتحة العدد الأول من سنته الأولى، فإن من راجع تلك الفاتحة يعلم أن كل ما كتب في السنوات السبع تفصيل لإجمالها، ومن سنة الله تعالى في هذا النوع أن كتابة العلم آلة لإخراجه من حيز الإجمال والإبهام , إلى حيز التفصلة والإيضاح وأن من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم , كما ورد في الحديث الذي ذكرناه في تلك الفاتحة؛ وإنما عنينا بالدخول في سن التمييز أن العمل نما نموًّا طبيعيًّا، وأننا أنشأنا نعرف في هذه المعاملة بيننا وبين الناس ما لم نكن نعلم من أمر الاستعداد للإصلاح الديني والاجتماعي، ودرجات ارتقاء الأخلاق والأفكار، ومبلغ التعاون والتساند والاختلاف في ذلك بين أصناف الناس في قطر واحد والتفاوت بين أهل الأقطار المتعددة. (طفولة المنار وتمييزه) دخلنا في هذا العمل ونحن على غرارة الأطفال في معرفة الناس؛ إذا أظهر لنا أحد استحسانًا اعتقدنا أنه مستحسن , وكنا مسرورين , وإذا بلغنا عن آخر استهجان اعتقدنا أنه مستهجن , وكنا آسفين عاذرين , ومتى رأينا من أحد ميلاً إلى نشر المنار أو الدعوة معه إلي ما يدعو إليه , وثقنا به وعولنا عليه , ولم يكن في الفكر ولا في القلب شيء إلا أن الأمة في حاجة إلى الإصلاح، وأن حوادث الزمان أعدتها له في الجملة، وأن الكلام في ذلك والدعوة إلى ما يجب يزيدان الأمة استعدادًا لما به تكون أمة عزيزة، ويكون عونًا للساعين في سبيل نهضتها والعاملين لتكوينها وعزتها. بدا لنا من فضل الله تعالى ما كنا نرجو ونحتسب، وفوق ما كنا نرجو ونحتسب , فقد انتشر المنار في جميع الأقطار ولا يزال انتشاره في نمو مستمر من غير سعي ولا دعوة تذكر، وبدا لنا من الناس ما علمنا به علم تجربة واختبار أنه لا ينبغي أن يوثق بكلام أحد في أمور الجد والأعمال العامة التي لا حظ فيها لأهواء الأفراد، إلا من شهدت له الأعمال والأخلاق بالاختبار الصحيح - وقليل ما هم ثم قليل ما هم ثم قليل ما هم - وأنه لا ينبغي لمن لا يتبع أهواء الأمراء والرؤساء والأغنياء أن يرجو من أحد مساعدة علي خدمة الملة والأمة، بل يجب أن يخشى ويحذر من إيذائهم وفتنتهم. بدا لنا أن من يريد أن يخدم دين الله وعيال الله - دون العظماء المترفين- يجب عليه أن لا يعتمد في نجاح عمله إلا على تحري الحق والخير، والعلم بحاجة الأمة إلى خدمته، وبأن الإحساس والشعور بهذه الحاجة قد دب في نفوس كثير من أفرادها، وأن حركته فيها حركة حية، ولا علامة للحياة إلا النمو والزيادة. هذا هو الأساس المتين الذي يجب البناء عليه ولا يشترط معه للنجاح إلا حرية العامل وثباته، فمتى صادف الداعي إلى الحق حرية وثبت على عمله، فإن فضل الله تعالى كافل له بالنجاح رغمًا عن أنوف المبطلين الذين يتعقبونه يضعون في طريقه العقاب ويبغونه العواثير {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) . (الدعوة إلى المنار) بدا لنا أن الدعوة إلى العمل الذي يعمل للأمة لا يرجى نفعها إلا ممن يعتقد نفع ذلك العمل، ويشعر بدافع الغيرة يدفعه إلى الدعوة , ولقد كنا نعرف هذا نظرًا واستدلالاً , ولكن ذلك لم يصدف بنا قبل الاختبار عن الاغترار بأناس مدحوا على هدى , ثم عادوا فذموا عن هوى , وأناس أقبلوا على علم , ثم أعرضوا بغير عذر. وعن الرجاء بمن عهد إلينا إرسال المنار إلى أشخاص على أنه كفيل بالتحصيل منهم، ومرت السنوات ولم يأت شيء من الكافل ولا من المكفول , وقد وقع لنا هذا من غير واحد، ولم يكن ذلك مخادعة بل كان سعيًا في النفع، ولكنه غير مستوفٍ للشرط فكان ضارًّا من حيث ينوى به النفع، فلأصحابه الشكر على نيتهم الأولى والعذر على إهمالهم الأخير، ولولا أن كتبنا في المجلدات السابقة كلمات ظهر لنا أنها كتبت بمداد الغرة لما نبهنا على اغترارنا في آخر هذا المجلد , ونصرح الآن بأن العبرة في مساعدة المنار على ما نقول بعد دون ما قلنا قبل تصريحًا أو تلميحًا، وإنما استفاد المنار من دعوة من رغبوا فيه عن اعتقاد، ودافع من شعور الغيرة ودافعوا عنه بمدافعتهم عن اعتقادهم لا حبًّا في شخص منشئه، ولا إرضاء لبعض محبيه , دعاة المنار وأنصاره هم أسلم الناس من الظنة , وأبرأهم من التهمة , وأبعدهم عن الهوى , وأقربهم بفضل الله من الهدى , إذ لا مجال لنوال , ولا مطمع في جاه أو مال , ولا وسيلة إلى رتبة أو وسام , ولا رجاء في مدح ولا خوف من ذام. (مقاومة المنار) للمنار خصماء ينفرون عنه ويذمونه، فمنهم من يطعن فيه وينفرعنه بغضًا ببعض محبيه، ومنهم من يتجرم عليه تزلفًا إلى بعض مبغضيه، ومنهم من يكرهه حسدًا وموجدة؛ ولا يكاد يخفى أمر هذه الأصناف على أحد إلا من كان خالي الذهن غير مطلع على حقيقة أمرهم وحقيقة ما يطعنون فيه. وإن مقاومة أمثال هؤلاء الناس - وإن ضخمت ألقابهم - لا تضر الحق إلا حيث يحرم الحق من الحرية كبلاد الاستبداد والظلم , أما في بلاد الحرية فإنها تكون أكبر نفعًا له وأعون على نشره وإعلاء شأنه، من المدح والإطراء لأن النفوس لا تتوجه إلى ما يمدح ويدعى إليه إلا بعض توجهها إلى ما يذم ويصد عنه، وإنما يعرف الحق بالتوجه إليه، والاطلاع عليه، ولذلك تجد أهله لا يجزعون من المناصبة، ولا يحفلون بالقيل والقال، ولا يبالون بمحل أهل الكيد والمحال وإن تفننوا في الاعتداء وبالغوا في الافتراء، وتجد أهل الباطل يجزعون من ذكر أعمالهم. ويضطربون من معرفة الناس لأحوالهم، فيبذلون المال لكذبة المؤرخين وللشعراء الغاوين، ليلبسوا الحق بالأباطيل ويشغلوا الأذهان بالخلابة والتخييل، وسيكون التاريخ حكمًا بيننا وبين من تصدى للمنار من هؤلاء في الدنيا والله خير الحاكمين. ومن الناس من يمقت المنار؛ لأن مباحثه ومسائله تبين للناس ما هم عليه من الأباطيل التي اتخذوها وسيلة للرزق وجمع المال، وسلمًا للصعود في مراقي الشرف والجاه، كبعض الدجالين الذين يدعون الولاية والقرب من الله والوساطة بينه وبين عباده يقربونهم إليه زلفى، ويدفعون عنهم البلاء، ويستنزلون لهم النعماء، وكسدنة القبور , وأكلة النذور , وكبعض أصحاب الجرائد الذين يخادعون الناس بما يوهمونهم من الدفاع عن بلادهم والذود عن حقيقتهم، والدعوة إلى حفظ شريعتهم، وهم لا شأن لهم في أمور البلاد، ولا قيمة لكلامهم عند أصحاب السلطة والنفوذ، ولا معرفة لهم بأمر الدين فيقرروا عقائده، أو يدفعوا الشبه عنه، أو يبينوا حكمه للجاهلين، ويذكروا بهدايته الجاهلين، وهؤلاء يعذرون بعداوتهم لنا في دنياهم، ولا يبالون بأمر أخراهم، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. ومن الناس من يفر من المنار ويصد عنه لأنه يخالف رأيه ومذهبه في بعض المسائل، وما آفة الأولين والآخرين إلا العداء بالخلاف {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 118-119) فللخروج من الخلاف خالفنا رأيهم أو مذاهبهم، ولكننا لم نبغضهم ولم نعادهم بل نحبهم من حيث يكرهوننا، ونحترمهم وإن كانوا لا يحترموننا، ونعذرهم وهم لا يعذروننا، ولعلنا بهذا نفضلهم ونود لو يساووننا أو يفضلوننا، وهذا الصنف على قسمين: مقلد جامد لا يقرأ ولا يبحث ولا يطالب بدليل بل يذم ويعيب لأنه سمع من يفعل ذلك فصدقه وتبعه، وذي رأي ونظر يقرأ ويبحث ولكنه رأى ما يخالف اعتقاده فظنه ضارًّا فكرهه وصد عنه، وهذا الفريق يكاد يكون نادرًا في أمتنا لهذا العهد الذي قال في أهله الشاعر: غوينا فلا الداعي إلى الخير بيننا ... يعان ولا الداعي إلى الشر يخذل بل كثيرًا ما نرى أُناسًا يخذلون داعي الخير لأقل شبهة، ويعينون داعي الشر والفتنة، ولنا مع من يكره المنار لمخالفة رأيه كلمات ثلاث نقولها في خاتمة هذه السنة: (الأولى) من البديهي أن الخلاف في البشر طبيعي ولا يكاد يوجد اثنان يتفقان في كل شيء حتى في الأمور العامة الظاهرة، فمن الجهل أن نجعل أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه سببًا للتعادي والتباغض؛ لأن ذلك يجعل هذا التعادي دائمًا مستمرًّا في الأمة. وما استمر التعادي في أمة إلا وكانت من الهالكين. (الثانية) إن الذي يخالفك في أمر من الأمور العامة بأن كنت تخشى ضرره إذا نشر وهو يرجو نفعه، يجب عليك أن تتروى في أمره، فلا تقدم على عداوته والصد عن عمله لئلا تكون صادًّا عن الحق والخير من حيث لا تعلم، بل عليك أن تنظر في رأيه بإمعان وإنصاف فإن ظهر لك خطأه فاكتب إليه وكلمه بما ظهر لك لينشره حيث ينشر رأيه، فإما أن تقنعه وترجعه وإما أن يقنعك ويرجعك، وإما أن يعرض الرأيان على الناس فيكونوا هم الحاكمين، وأي ذلك كان فهو خير من التنازع والخصام، ولا ينبغي لك أن تخاف على حقك من باطله إذا هما تصارعا معًا فإنه ما تصارع شيئان إلا وغلب أقواهما أضعفهما، والحق أقوى من الباطل فإذا قذف به عليه دمغه فإذا هو زاهق. (الثالثة) أولى الناس بأن يعامل هذه المعاملة من تدل حاله على أنه يعتقد ما يقول , وأنه يرجو النفع والإفادة للأمة، ويخلص لها الخدمة، ومن آية ذلك ترك الدهان والتقرب إلى الذين ينال المال والجاه بالتقرب إليهم واتباع أهوائهم والعدول عن ذلك إلى ما يسيء المبطلين من الخاصة، ولا يوافق أهواء العامة. وآية أخرى أكبر من أختها وهي أنه ينادي دائمًا بأنه يقبل كل اعتراض وانتقاد وينشره كما ننادي في كل عام. (ضروب الانتقاد على المنار) الانتقاد على المنار على ضربين: انتقاد خطة وانتقاد مسائل. فأما الأول: فمن الناس من يرى أنه لا ينبغي للمنار الخوض في السياسة , وأول من صرح لنا بهذا الرأي الشيخ محمد عبده عند اطلاعه على أول عدد صدر من السنة الأولى، ثم إننا رأينا رياض باشا على هذا الرأي أيضًا، وذلك أن هذين الشيخين الكبيرين يعتقدان أن خوض الجرائد في السياسة قد أضر بهذه البلاد، ويودان لو يكون المنار الذي يعتقدان نفعه بعيدًا عنها , وقد ذكر لنا كل واحد منهما رأيه غير مرة، ولكن السياسة فتنة العالمين، وإنه ليصعب على الإنسان أن يرى الأهواء تعبث بالأمور العامة، ويرى أهلها يخفون الحقائق ويموهون على الناس ويغشونهم وهو ساكت لا يحير قولاً ولايكشف لبسًا. على أننا قلما نقصد إلى السياسة ونبحث فيها، وإنما نذكر في باب الأخبار والآراء أحيانًا بعض المسائل التاريخية والجوانب الطارئة، ونذكر وجه العبرة فيها والعبر التاريخية كلها سياسية على أنهما يعنيان السياسة المصرية، و

فاتحة السنة الثامنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة الثامنة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور، والصلاة والسلام على روح الإصلاح وإمام المصلحين، الذي أرسله الله رحمة للعالمين {لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} (يس: 70) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ * وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 24-26) . تلك آيات من الكتاب المبين، يذكِّر بها المنار قراءه على رأس ثمانِي سنين ليذكروا أن في الكون ظلمةً ونورًا، وكَلِمًا خبيثًا وكلمًا مأثورًا، وعملاً سيئًا وعملاً مبرورًا، وأن للأمم حياةً وموتًا، وأن في الناس مكرًا وفتنًا، وأن للحياة دَعوةً يخاطب بها الأحياء، وأن لها فتنة من قِبَل الكبراء والرؤساء، وأن العاقبة للمتقين، وإن كانوا مستضعفين {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 122-123) . ليتذكروا أن من يدعو إلى الحياة فهو يدعو إلى الاستقلال والمساواة، ومن يدعو إلى الحق فهو مقاوم للباطل، وأن أبغض الأشياء إلى الرؤساء المستبدين استقلال الفكر، والتساوي بين الناس في الحقوق، وأبغض الناس إلى الكبراء المترفين مَن يدعو إلى نصرة الحق ومقاومة الباطل، وإلى جعل التفاضل بين الناس بالأعمال والفضائل، فالسادات العالون والكبراء المستكبرون أعداء المصلحين في كل زمان، وخصماء الحق والفضيلة في كل مكان، غرورًا بالقوة وطغيانًا بالغنى و {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً * أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} (فاطر: 43-44) . ليتذكروا بهذه الآيات كلها أن الله تعالى بيَّن للناس أن له سُننًا في حياة الأمم وموتها، لا بد لمعرفتها بالتفصيل من الرجوع إلى التاريخ الذي يبين مصداق آياته في الغابرين، ومن السير في الأرض لمعرفة تأويلها في الأولين والآخرين، وقد نطقت سير البشر بتصديق قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وأنه ما وقع تغيير إلا بدعوة، وأن دعاة الخير والإصلاح في كل أمة كانوا ممقوتين من أصحاب السلطة، ومضطهَدين من رؤساء الأمة، أولئك الذين حُبس خيارهم مثل الإمام أبي حنيفة حتى مات في السجن، وجلدوا الإمام مالكًا، وألزموه بيته حتى ترك الجمعة والجماعة، واضطروا الإمام الشافعي إلى الفرار من بغداد خوفًا على دينه أو نفسه، ووطئوا الإمام أحمد بالنعال، وما زالوا من تلك العصور يفتنون أهل العلم والتقوى، حتى تم لهم - بطول الزمان- إفساد الدين والدنيا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) . وإذا تذكروا أن انتقال الأمم من حال إلى حال لا يكون من الرؤساء المترفين، ولا يأتي باختيار الأمراء والسلاطين، وإنما يكون بتغيير أفراد الأمة ما بأنفسهم من الأفكار والعقائد والأخلاق والسجايا، وتذكروا أن المسلمين غيروا ما كان بأنفسهم في أول نشأتهم بالتدريج؛ فغيَّر الله ما كان بهم من عزة العلم والقوة، وسيادة العدل والفضيلة، ولن يغير ما هم الآن فيه إلا بعد الرجوع إلى ما كانوا عليه، وشرطه قلع جراثيم التقليد، واجتثات شجرة التعصب للمذاهب، وأساسه جمع كلمة الأمة، وتحقيق معنى الوحدة، فأنا أدعوهم إلى الإصلاح الديني قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف عليه كل شيء؛ فإنه " لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها " كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، صلح أول هذه الأمة بهدي كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - وهداهم ذلك إلى كل إصلاح صوري ومعنوي {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) . أدعوهم إلى هذا الإصلاح بهذه المجلة وأدعوهم إلى الدعوة إليها وإلى ما تدعو إليه ما أصابت، وإلى بيان خطئها فيها إذا رأوها أخطأت، أدعوهم إلى قطع الآمال من السياسة والسياسيين، وإلى ترك الغرور بالرؤساء والحاكمين، وعدم السماع لأتباعهم، والانخداع لأنصارهم وأشياعهم؛ لئلا يصرفوكم عن الجد بإصلاح النفس، إلى الهزل بإرضاء الحس؛ فإنهم طلاب مال وجاه، طلاب رتبة ووسام أصحاب أوهام، وشقشقة ألسنة وأقلام، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 30) . أدعوهم إلى الدعوة معي إلى حقيقة الإسلام والتأليف بين المسلمين، في بلاد أبيح فيها القول للقائلين، وسهل فيها النشر على الكاتبين، وأطلقت فيها حرية العلم والدين، فصرح فيها الملحد بإلحاده، وجاهر فيها الفاسق بفسقه، ودعا فيها الكافر إلى كفره، ونشرت فيها الكتب والجرائد تطعن في القرآن، وتشنع على شريعة الإسلام، ولم توجد فيها صحيفة إسلامية ترد شبهات الطاعنين، وتؤيد العقائد بالحجج والبراهين، وتبين حكم الأحكام، وانطباقها على مصالح البشر في كل زمان ومكان، وتأمر بالعُرف والبر، وتنهى عن البدعة والمنكر، حتى إذا أنشئ المنار وقام بهذه الفرائض نقم منه بعض المسلمين في بلاد الحرية، وانتقم بعضهم من عشيرته في بلاد العبودية، نقم منه المتَّجرون بالدين، ومقلِّدة المبتدعين و (الذين يخلطون الدين بغيره، ويظنون أو يزعمون أنهم أئمة أهله) [*] هاج عليه أهل المذاهب المتعصبون؛ لأنه يقول: إن الوهابية السلفية والأشاعرة والماتريدية والشيعة والإباضية كلهم مسلمون، وإنه يجب عليهم تحكيم الكتاب والسنة فيما هم فيه يختلفون، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159) . دعوت إلى هذا منذ بضع سنين، وسأدعو إليه - إن شاء الله - حتى يأتيني اليقين، وقد عارض الدعوةَ قومٌ، أكثرهم معذور بالجهل، ثم استهدفت بعد التمكن والانتشار لنضال قوم أضلهم الله على علم، يخذلون الحق؛ لأنهم على باطل، وينفرون من الهداية؛ لأنهم على ضلالة، وإنك لتراهم من وراء الجدار، وتستشفهم من خلل السُّجُوف والأستار، يكيدون ويأتمرون، ويوسوسون ويهمسون، ويستفتون ويفتون، والله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، على أنهم هم الذين يفشون أسرارهم، ويكشفون عوارهم، فهم كمن نزل فيهم {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الحشر: 14-15) ، {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) . لماذا لا يعارضون المعترضين على دينهم؟ لماذا لا يناهضون الطاعنين في كتابهم؟ لماذا لا يعادون العادين على حقيقتهم؟ لماذا لا يخرجون الخارجين على أمتهم؟ لماذا لا يفتنون الفاتنين لعامتهم؟ لماذا لا يهاجمون المتهجمين على خاصتهم؟ لماذا خفَّت عليهم دعوة كل ملة؟ وثَقُلَت عليهم الدعوة إلى الكتاب والسنة؟ ما ذاك إلا أن قوة الحق ترهب المبطلين، ونور الرشاد يعشي أبصار الغاوين، وأما الباطل فإنه يمد بعضه بعضًا، وإن اختلفت ألوانه، وتشعبت أفنانه {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) . إنما يغرّ هؤلاء وأمثالهم تلك الكلمة المشهورة (القوة تغلب الحق) وهي كلمة لا تصْدُق على الإطلاق وليس هذا موضع بيان ما فيها من الإجمال، وإنما نقول: ليست القوة محصورة في المال والجاه، ولا في السلطة والحكم، ولا بكثرة الأعوان والأنصار؛ فإن في العالم قوى حسية وقوى معنوية، كقوة الاعتقاد وقوة الشعور وقوة العلم وقوة الاتحاد وقوة العدل وقوة الفضيلة وقوة الحاجة وقوة الحق. فكم من ملك كبير يتضاءل أمام صعلوك فقير؛ لأنه يشعر بضعف الرذيلة أمام الفضيلة وبِذُلِّ الباطل تجاه الحق. وهذا قيصر روسيا الملك المستبد القاهر قد أصبح كالمسجون في قصره على ما له من السلطة السياسية والدينية، وقد مزق عمه كل ممزَّق، ثم مُزقت صورته هو إشارة إلى نية الإيقاع به، أَنسوا التاريخ وما فيه من السير، التي هي منابع العبر؟ ! كلا، إن الباطل لا يقف أمام الحق إذا وجد الحق ناصرًا وصادف الناصر حرية {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) . إن للحقائق رجالاً كما أن للأوهام رجالاً، إن للدين أنصارًا، كما أن للدنيا أنصارًا، إن الدين من حاجات البشر الطبيعية، وقوة من أعظم قواتهم المعنوية إن الضعيف في الدين لا يستطيع الزعامة فيه، وفاقد الشيء لا يعطيه، إن الأحرار يميلون للشيء بقدر إحساسهم بالحاجة إليه، وعلى حسب اعتقادهم بالفائدة منه، إن الاعتقاد في الأمة قوة لا تُغالَب، والإحساس الوجداني فيها ثروة لا تنفد، إن لوم المحبين مدعاة الإغراء، ومقاومة المعتقدين داعية التمكن والثبات، إن المخل

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار فطرة الإسلام وحديث الولادة عليها (س1) سليمان عبد الله في (السويس) وهو رجل غريب كتب إلينا بأن عنده شبهات في الدين يحب كشفها، وأنه يبدأ بالسؤال تمهيدًا لها وهو: الحديث المشهور: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة الإسلامية أو فطرة الإسلام وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أصحيح هو؟ وما هي الفطرة الإسلامية؟ أمسلمًا يولد المولود؟ أيعرف الأركان الإسلامية بالطبع والفطرة، أم يعرف الله والنبي محمدًا فقط حاشا الأركان الأخرى! فبالإجمال ما معنى هذا الحديث الشريف؟ (ج) أما الحديث فصحيح أخرجه البخاري من حديث ابن شهاب عن أبي هريرة، وهو لم يدرك أبا هريرة؛ فالحديث عنده منقطع بلفظ: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تُنْتَجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) ورواه مسلم والترمذي وصححه، وفيه: (يشرِّكانه) بدل (يمجسانه) والمراد بالفطرة في الحديث ما جاء في قوله تعالى {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) وقد قرأ أبو هريرة الآية بعد الحديث، وأشار البخاري إلى أنه أدرجها للبيان، وتقدم لنا تفسير الآية في المنار، ونقول هنا ما لا بد منه؛ لأن السائل لم يطلع على المنار إلا قليلاً: إننا نرى جميع أهل الملل - حتى الكتابيين - يعتقدون أن الدين شُرع لمقاومة مقتضى الخلقة، وأن أصوله فوق قضايا العقول، وأحكامه وراء مدى الأفهام، وأن الغرض منه تعذيب النفس وحرمانها من نعيم الحياة، وأنه لا حق لصاحب الدين في طلب الدليل على عقائده، ولا في السؤال عن حكمة عباداته، ولا في تطبيق أحكامه على مصالح الأمة وخير البشر، بل عليه أن يسلّم بكل ما يرويه له الرؤساء ويقلدهم تقليدًا أعمى. ثم إنهم يعتقدون أن الدين رابطة جنسية لأهله عند الله تعالى من الحقوق مثل ما لأهل الأجناس في عُرف السياسة وقوانينها؛ أي أن اليهودي مثلاً يعتقد أن الله اصطفى كل يهودي، وميّزه على العالمين؛ لأنه يهودي، فهو إذا أذنب يعفو الله عنه بفضله أو بشفاعة أحد سلفه الصالحين؛ وإذا عذبه فإنما يعذبه أيامًا معدودات! وأن غير اليهودي لا قيمة له عند الله - تعالى- إذا أحسن لا يقبل إحسانه، وإذا أساء يتضاعف عذابه. كما أن أهل السياسة يميزون الأمة التي تضمها جنسية الدولة ويخصها قانونها بحقوق لا تكون لغيرها؛ فلا يجيزون محاربة طائفة منها ولا تدمير بلد من بلادها، وإن كانوا أجهل الناس وأعرقهم في الرذائل، ويستبيحون محاربة قوم آمنين مهذبين، وإذلال كبرائهم، وإهانة عظمائهم، واستعباد دهمائهم، وإن أفضى ذلك إلى التخريب والتدمير، وسرت عدوى هذه العقيدة وما قبلها إلى المسلمين، فلا يكاد يسلم منها إلا الواقف على أسرار القرآن ودقائق السنة. أما القرآن فقد أتى على أمثال هذه القواعد التقليدية؛ فنسفها نسفًا، وبيَّن للناس أن الدين مع الفطرة في قرنٍ، ارتقاؤه هو ارتقاء الفطرة، وضعفه هو ضعف الفطرة، وفساده هو فساد الفطرة؛ فعقائده وُضعت لترقية العقل، وآدابه وعباداته لترقية النفس، وأحكامه وشرائعه لترقية حال الاجتماع، والتعامل بين الناس؛ ولذلك جعل العلم بالعالم علويه وسفليه، والبحث عن حكمه، ونظامه، وأسراره وفوائده هو الأساس الذي يقوم عليه بناء التوحيد ومعرفة الله، وذكر عند طلب كل عبادة بيان فائدتها في تقوى الله تعالى وتهذيب النفس، وتحليتها بالأخلاق العالية، كما بيَّن عند ذكر كل خلق وأدب وحكم فائدته ومنفعته. وبَيَّن أن العقوبة على الكفر، والرذائل والأعمال القبيحة هي علة تأثيرها الأثر السيئ في النفس، كما أن المثوبة الحسنة أثر المعارف الصحيحة، والأعمال الصالحة في النفس. والآيات المؤيدة لجميع ما قلناه كثيرة جدًّا، وقد فسرنا في مجلدات المنار الماضية العشرات منها في الأصول العامة، والفروع الجزئية، وإعادته هنا تطويل لا محل له، فإذا اشتبه السائل أو خلا فليسألْ عن الشواهد يُجب. وفي باب التفسير من هذا الجزء شيء من ذلك. ولم يجعل اسم الإسلام اسم جنس لطائفة من الطوائف، بل سمّى أهل الحق مسلمين كما سماهم مؤمنين وحنفاء ومخلصين؛ لأن معاني هذه الألفاظ قائمة بهم وجعل مدار السعادة على ما يتحقق به معنى الاسم. لا على قبول التسمي والرضى باللفظ والمعيشة مع أصحابه؛ ولذلك قال في بعض المسلمين: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا} (الحجرات: 14) ، وقال: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: 123) الآيات، وقال: ما رأيت تفسيره في هذا الجزء. فعُلم مما تقدم أن معنى كَوْن دين الإسلام دين الفطرة هو أنه: موافق لسنن الله تعالى في الخلقة الإنسانية؛ لأنه يعطي القوى الجسدية حقوقها والقوى الروحانية حقوقها، ويسير مع هذه القوى على طريق الاعتدال حتى تبلغ كمالها. ومعنى ولادة كل مولود على هذه الفطرة؛ هو أنه يولد مستعدًّا للارتقاء بالإسلام الذي يسير به على سنن فطرته التي خلقه الله عليها بما يبين له أن كل عمل نفسي أو بدني يصدر عنه يكون له أثر في نفسه، وأن ما ينطبع في نفسه من ذلك يكون علة سعادته أو شقائه في الدنيا والآخرة، فإذا فهم هذا وأدركه يظهر له أنه سُنة الفطرة وناموس الطبيعة،وإذا كان له أبوان - وفي معناهما مَن يقوم مقامهما في تربيته وتعليمه - على غير الإسلام يطبعان في نفسه التقاليد التي تحيد به عن صراط الفطرة، فالنصرانيان يُنشِّئان ولدهما على التسليم بأن البشر خلقوا كلهم أشرارًا فُجَّارًا بمقتضى الفطرة، وأن نجاتهم وسعادتهم إنما تكون بالاعتراف بشيء واحد يجب القول به، والاعتماد عليه، وإن لم يعقل، وهو أن واجب الوجود الذي كان منه كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، قد اعتنى بأمرهم، وأعياه خلاص أرواحهم بغير ما أنفذه منذ زمن قريب لا يبلغ ألفي سنة، وهو أنْ حلَّ في بطن امرأة منهم واتحد فيه بجنين، فصار إلهًا وإنسانًا، ثم خرج من حيث يخرج الطفل ونشأ فيهم يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، ويألم مما يألمون له، ويتعب مما يتعبون، ثم مكَّن شرارهم من صلبه، فصلبوه، وهو يصيح ويستغيث فلا يُغاث، ثم قُبِرَ ولُعِنَ ودخل الجحيم، وخرج منها لأجل الرحمة بهم وإنجائهم، ومع ذلك كله لم تكن طريقته هذه كافلة بعموم رحمته بهم، وإنما كانت خاصة بطائفة منهم، وهم الذين استطاعوا أن يبدلوا فطرتهم، ويسلموا بهذا القول تسليمًا. فهذا - يا سيدي - معنى كوْن دين الإسلام دين الفطرة، وهذا هو الفرق بينه وبين أديان التقليد، وليس معناه أن المولود يولد عالمًا بالشريعة؛ فإن هذا ليس من الفطرة في شيء، وفسر كثير من العلماء الفطرة بالاستعداد للخير والشر والحق والباطل ورواية مسلم هكذا: (كل مولود تلده أمه على الفطرة، فأبواه بعدُ يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، فإن كانا مسلمين فمسلم) وهو الذي جرينا عليه في كتابنا (الحكمة الشرعية) ولا تنافي إلا أننا ههنا شرحنا موافقة الإسلام للفطرة، والله أعلم. *** اختلاف المذاهب في الأحكام وشهادة أوربي للإسلام (س2) ح. ح. في الجبل الأسود: فقيركم هذا مشغول بالتجارة، وقبل عيد الأضحى خرجت في أوربا لأجل التجارة؛ فاجتمعت يومًا بأحد الأوربيين؛ فقال: إن أكمل الأديان وأجملها دين الإسلام، لكن الذي كان عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - فقلت: ونحن - والحمد لله - على دينهم وعلى سبيلهم. فقال: نعم، ولكن منكم الحنفية، ومنكم الشافعية، وغير ذلك، فكل واحد من هؤلاء مخالف لصاحبه في الأعمال والأحكام الدينية، فعند الحنفية إذا جرى دم أحدهم ينقض وضوءه، وعند الشافعية: لا، وإذا مس امرأة أحد الشافعية ينقض وضوءه، وعند الحنفية: لا. فهل كان النبي يفعل كما يفعل الحنفية أم كما يفعل الشافعية؟ . فبقيت لا أقدر على رد جوابه فإن أحسنتم بالجواب فلكم من الله الثواب. (ج) إنه لا خلاف بين أئمة الأحكام في شيء من أصول الدين وأحكامه التي لا يتحقق الإسلام بدونها وإنما اختلفوا في مسائل فرعية للاجتهاد والرأي فيها مجال؛ إذ لم يصح فيها شيء قطعي في الكتاب العزيز والسنة المتواترة المجمع عليها؛ ولذلك كان يعذر بعضهم بعضًا في اختلاف الرأي فيها، ويعد كلٌّ عبادة المخالف له صحيحةً، ويصلي وراءه كما بيناه غير مرة؛ ولذلك قلنا في مقالات المصلح والمقلد: إن الطريق إلى الوحدة الإسلامية هي أن يُجعل ما أجمعت عليه جميع المذاهب هو الأصل الذي يؤاخي به بعضنا بعضًا ونقلنا عن كتاب (القسطاس المستقيم) لحجة الإسلام الغزالي أن رأيه ترك المسائل الخلافية والعمل بما اتفقوا عليه. وإنك لتجد المتعصبين لمسائل الخلاف لا يعملون بجميع مسائل الاجتماع والاتفاق، ولو عملوا بها لأدوا جميع الفرائض وتأدبوا بأكمل الآداب، وتركوا جميع الرذائل والمحرمات الضارة بأفرادهم وأمتهم ولكنهم قد أهملوا وتهاونوا في كل شيء، إلا في تعصب كل فريق على الآخر فيما تفرقوا فيه، وإذا دَعَوتَهُم إلى الوفاق الذي دعا إليه الغزالي في آخر عمره قالوا: (يا للغيرة! إنه يريد هدم المذاهب وإفساد الدين) . أما طريقة الوفاق بين مَن يحبون البحث في هذه الفروع الخلافية ولا يرضون بالبراءة الأصلية التي قال بها الغزالي - فالتوفيق بينهم لا يكون إلا بالرجوع إلى السنة الآحادية والروايات القولية، ولم يثبت حديث يحتج به على وجوب الوضوء من خروج الدم، بل ورد خلافه على أن الوضوء منه احتياطًا لا يضر، بل الأولى أن يتوضأ الإنسان لكل صلاة إذا لم يجد مشقة في ذلك، وأما مسألة لمس المرأة ففيها آية: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} (النساء: 43) ، والأرجح أن الملامسة فيها كناية عن الوقاع، وأما الروايات فهي متعارضة، ولكن ما ورد في عدم النقض هو الذي يصح، كحديث وضع عائشة يدها على بطن قدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يصلي رواه مسلم والترمذي، وحديث مسها برجله هو عندما اعترضت أمامه وهو يصلي رواه النسائي وصححه الحافظ ابن حجر، والاحتياط لا يخفى، لا سيما إذا كان اللمس بشهوة، والله أعلم. *** نتف ريش الطائر (س3) الشيخ محمد خطاب بالأزهر: نرى قومًا من صادة السمان في شواطئ البحر الأبيض المتوسط ينتفون ريشه قبل ذبحه؛ لأنه لا جلد له، بل الريش مغروس في اللحم، وفي هذا من تعذيب الحيوان ما لا يخفى، ولو نتف ريشه بعد ذبحه خرج ما فيه من الدسم مع ريشه لانتفاء حرارته بالذبح، وقد عمت هذه البلوى كل أهالي بلادنا، فهل يجوز أكله وهل يسوغ استعمال هذه الطريقة في تنظيفه؟ (ج) لا خلاف في أن تعذيب الحيوان محرم ولكن تحريم نتف الطائر حيًّا لا يقتضي تحريم أكل المنتوف المذكَّى تذكية شرعية، ولعلهم لو نتفوا السماني عقب الذبح قبل أن تبرد حرارته لتيسر لهم وإلا فلهم أن يصبوا على ريشه ماءً سخنًا من غير مبالغة تؤثر في بطنه، وما يفعلونه من وضع الطيور في الماء المغلي زمنًا يؤثر تأثيرًا تمازج به رطوبة النجاسة اللحم - غير ضروري لتسهيل النتف وهو جهل، فينبغي تنبيههم له. *** الصيد بالبندق والرَّصَاص (س4) ومنه: كثيرًا ما يصطاد الصيادون الطيور بالرصاص ويسمون و

رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة البدعة في صلاة الظهر بعد الجمعة البحث الثالث في عرض المسألة على كتاب الله وسنة رسوله اعلم أن الله عز وجل قد أمر بفهم كتابه الكريم، والعمل بسنة رسوله الرؤوف الرحيم، قال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه ترك لنا شيئين لا نَضل إذا تمسكنا بهما أبدًا وهما: كتاب الله وسنة رسوله، وقد أمرنا الله بأن نعرض ما تنازع فيه الناس واختلفوا على الله ورسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) وقال أيضًا: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} (النور: 1) وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) فهذه الآيات ونحوها تدل أبلغ دلالة على أن المرجع مع الاختلاف إنما هو إلى حكم الله ورسوله، وحكم الله كتابه، وحكم رسوله بعد أن قبضه الله هو ما صح عنه من الأحاديث، ولا يقال: إن ما استشهدت به وارد في أمر مخصوص فلا يصلح دليلاً؛ لأنا نقول: (إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وهو مطلق حكم في مطلق اختلاف ومشاجرة، ولا ريب أن الأمر هنا للوجوب؛ إذ إن الله قد تعبدنا بكلامه وكلام رسوله دون سواهما من الخلق؛ لأنهما هما عليهما المعول وكلام غيرهما قد يخطئ وقد يصيب؛ فلذا قال إمام أهل المدينة مالك بن أنس - رضي الله عنه -: (ما منا إلا من رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) وأشار إلى قبر الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - وقد نقل عن الأئمة الأربعة وغيرهم - رضوان الله عليهم - جمل كثيرة كلها دالة على أن الإنسان لا بد أن يعرض الأحكام كلها على الكتاب والسنة، فما وافقهما عمل به، وما خالفهما نبذه وراء ظهره. ولما كانت مسألتنا هذه مما اختلفت المذاهب فيها ليس بين الشافعية وغيرهم فقط؛ بل بين الشافعية أنفسهم - أمواتهم وأحيائهم - وجب علينا أن نعرضها على كتاب الله وسنة رسوله، وقد بينا مسألة التعدد بيانًا شافيًا، وعرفنا أنه لم يرد نص يمنعه من القرآن ولا الأحاديث، وأن مذهب الشافعي يقتضي التعدد عند الحاجة إليه. وقد بقي علينا عرض مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة مع تعددها فنقول: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الجمعة: 9) ، ثم قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الجمعة: 10) فأنت ترى أنه قد أمرنا بأن ننتشر في الأرض بعد انقضاء الصلاة ونطلب من فضل الله ولم يأمرنا أن نصلي الظهر بعد الجمعة ولم يقل إن تعددت فصلوها، فمن أين استنبطنا هذه الصلاة ومن أين أتينا بها حتى إنه قد ورد أن النبي ما كان يصلي سنة الجمعة البعدية في المسجد، بل كان يذهب ويصليها في البيت عملاً بهذه الآية؛ لأنه تعالى أمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة يدل على ذلك ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة، وعنه (أنه إذا كان بمكة فصلى الجمعة تقدم فصلى ركعتين ثم تقدم فصلى أربعًا، وإذا كان بالمدينة صلى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلى ركعتين ولم يصل في المسجد) رواه أبو داود، قال الآلوسي عند تفسير هذه الآية: (وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بر الحراني، قال: رأيت عبد الله ابن بر المازني صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي فقيل له لأي شىء تصنع هذا، قال: إني رأيت سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - هكذا صنع وتلا هذه الآية (فإذا قضيت الصلاة) إلخ، فعلم من هذا أن الكتاب لا ينطق بلزوم الظهر بعد الجمعة مع التعدد بل يفهم منه خلاف ذلك لأن الأمر بالانتشار مطلق غير مقيد. وأما السنة السَّنية، والأحايث النبوية، فهي طافحة بما يدل على خلاف ذلك ويناقضه كل التناقض، إذ معلوم من الدين بالضرورة أنه لم يثبت عن النبي القول بصلاتها مع تعدد الجمعة وأنت تعلم أن الدين قد كمل في عهده - صلى الله عليه وسلم - بحكم قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} (المائدة: 3) فلا حاجة لنا إذن بعبادة لم نُؤمر بها. هذا ولو أردنا أن نبحث لوجدنا التعدد لحاجة الغير حاجة ليس شرطًا في صحة الجمعة تفسد بفقده لما علمت في البحث الأول من أنه لم يرد نصّ عن المعصوم ولا عن الصحابة ناطق أو مقتض لعدم جواز التعدد ولو لغير ضرورة، وأما كونها لم تفعل إلا في مصلى واحد فليس بدليل لما أوضحناه لك سابقًا إيضاحًا شافيًا، ولما هو مقرر من أنه لا ينسب لساكت قول، على أن إيجابكم عدم التعدد؛ لأنها لم تعدد في زمن الرسول يلزمكم أن توجبوا الخروج لصلاة العيد خارج البلد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج لصلاتها مع الصحابة إلى الصحراء ولا قائل منكم بذلك والمسألتان سواء [*] . فالحق الذي لا محيد عنه أن المصلى الواحد ليس شرطًا في صحة الجمعة وإنما هو حكمة من حِكَمِها، ولو تعددت الجمعة فهي صحيحة، ولا ظُهر بعدها سواء أكان تعددها لضرورة أم لا لأنه لم يرد ما يحظر ذلك، بل الوراد خلافه فقد روي عن ابن عباس أنه يجيز للرجل أن يصلي الجمعة منفردًا في بستانه. قال ذلك الشعراني في (كشف الغمة) . وإني ذاكر لك الأحاديث الدالة على عدم مشروعية الظهر بعد الجمعة بحال من الأحوال حتى لو لم تصل الجمعة [1] : عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا يوم الجمعة فجاءت عير من الشام، فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية التي في الجمعة، {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهُواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} (الجمعة: 11) الآية، رواه أحمد، ومسلم، والترمذي، وفي رواية أقبلت عير ونحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فانفض الناس إلا اثنا عشر رجلاً فنزلت هذه الآية (وإذا رأوا ... إلخ) رواه أحمد والبخاري، فنسألكم معشر الفقهاء الذين توجبون لصحة الجمعة أربعين رجلاً أحرارًا مقيمين لا يظعنون صيفًا ولا شتاءً يستمعون أركان الخطبة كلها ويقيمون الجمعة، كيف أن النبي -عليه الصلاة والسلام - لم يُعِد الجمعة أو لم يصل الظهر؟ لأن جمعته غير صحيحة إذ لم يبق وهو يخطب إلا اثنا عشر رجلاً، ولا شك أنه لا يسعكم إلا التسليم بأن الجمعة لا يشترط فيها العدد المخصوص وهو غير مذهبكم، أو أن تقولوا يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر أو أعاد الجمعة، والحال أنه لم يثبت ذلك قطعًا والدين لا يثبت بالاحتمال أو تقولوا: حقًّا إن صلاة الظهر بعد الجمعة بدعة لا تجوز؛ لأن النبي لم يفعلها ولو لزمت لفعلها يوم العير [**] . ومن الأدلة على عدم طلب الظهر بعد الجمعة، بل على عدم مشروعيتها يوم الجمعة مطلقًا، صليت الجمعة أم لم تصل، ما ورد من اجتماع عيد وجمعة في عهد الرسول الأكرم فصلى العيد ورخص في الجمعة، ولم يرد أنه أمرهم بالظهر لأنه لم يثبت ذلك وهاك النصوص: عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وسأله معاوية هل شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيدين اجتمعا؟ قال: (نعم صلى العيد أول النهار ثم رخص في الجمعة؛ فقال من شاء أن يجمع فليجمع) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (اجتمع في يومكم هذا عيدان فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون) رواه أبو داود وابن ماجه وعن وهب بن كيسان، قال (اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب ثم نزل فصلى ولم يصل للناس يوم الجمعة فذكرت ذلك لابن عباس؛ فقال: (أصحاب السنة) رواه النسائي وأبو داود بنحوه لكن من رواية عطاء ولأبي داود عن عطاء قال: (اجتمع يوم الجمعة ويوم الفطر على عهد ابن الزبير في يوم واحد فجعلهما جميعًا فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر) . فهذه الأحاديث ناطقة بلسان فصيح على منبر الحق بأنه لا ظُهر بعد الجمعة بل إن الظهر لم تشرع ذلك اليوم أقيمت الجمعة أم لم تقم، وفيما روي عن ابن عباس، وقد سئل عن رجل صلى الجمعة منفردًا في بستانه فقال: (لا بأس إذا قام شعار الجمعة بغيره) ، دليل على ما نقول لأن صلاته على ما أشترطه الفقهاء فاسدة، وإن كنا لا نقول بصحة الجمعة في غير جماعة لما روى أبو داود من حديث طارق بن شهاب: (الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي أو مريض) وفي حديث أبي هريرة، وحديث جابر (ذكر المسافر) . وقد قال في نيل الأوطار بعد ما أورد حديث أبي داود السابق، وحديث النسائي وظاهره أنه لم يصل الظهر وفيه: أن الجمعة إذا سقطت بوجه من الوجوه المسوغة لم يجب على من سقطت عنه أن يصلي الظهر، وإليه ذهب عطاء حكى ذلك عنه في البحر، والظاهر أنه يقول بذلك القائلون بأن الجمعة أصل، وأنت خبير بأن الذي افترضه الله تعالى على عباده في يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإيجاب صلاة الظهر على من تركها لعذر أو لغير عذر محتاج إلى دليل، ولا دليل يصلح للتمسك به على ذلك فيما أعلم) . اهـ وأنت تعلم أن مؤلفه الإمام الشوكاني من مشاهير حفاظ الحديث وفقهائه المعول عليهم وربما يثقل هذا القول على فقهاء العصر، في كل قرية ومصر، اللهم إلا من كان محبًا للحقيقة منهم. قال في كشف الغمة: وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (من ترك صلاة الجمعة لغير عذر فليتصدق بدينار فإن لم يجد فبنصف دينار فإن لم يجد فبدرهم أو نصف درهم أو صاع حنطة أو نصف صاع أو مُدّ) فأنت ترى أنه لم يأمره بصلاة الظهر بل أمره بالصدقة، ولا يقال أمره بالظهر والصدقة لأنه لم يثبت ذلك والخير في الاتباع والشر في الابتداع. (الخلاصة) اعلم أن صفوة الكلام أن تعدد الجمعة للحاجة جائز عند الإمام الشافعي، وأن الجمع في بلدتنا ونحوها متعددة للحاجة، وعليه فصلاة الظهر بعدها غير واجبة ولا مسنونة بل هي بدعة غير جائزة وعلمت أن القول بصلاتها بعد الجمعة مبني على التعدد لغير حاجة في بعض الصور وقد وفينا الكلام حقه في الأبحاث السابقة فراجعه بدقة وإنصاف، والله أعلم. هذا ما أردت إنشاءه وإيراده في هذه الرسالة فعسى أن تكون فصل الخطاب، فقد جمعت من الكلام ما هو أضوأ من الشمس، وأنور من البدر، ومن الأدلة الس

انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير ابن جرير الطبري

الكاتب: محمد الخضري

_ انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير ابن جرير الطبري تابع لما قبله (73) تغمد حقي ظالمًا ولوى يدي ... لوى يده الله الذي هو غالبه ورد شطره الثاني في الثالث ص 211 وكله في الخامس عشر ص 149 وأنشد الشطر الأول هكذا (يظلمني ما لي كدا ولوى يدي) ، والصواب ما ذكرنا والبيت في الصفحة العاشرة من الجزء الرابع حماسة. (74) وإن مهاجرين تكنفاه ... لعمر الله قد خطيا وحابا ورد في الأول ص 231 وهنا أنشد صحيحًا. وفي الرابع ص 143 وكتب هكذا: وإن مهاجرين تكنفا غدا ... بيد لقد خطئا وخابا وفي الثالث عشر ص 32 وكتب هكذا: وإن مهاجرين تكيفاه غدا ... بيد لقد خطئا وخابا (75) رمى فأخطأ والأقدار غالبة ... فانصعن والويل هجيراه والحرب في الخامس ص 40 وقد كتب في أول الشطر الثاني (فالضغن) والصواب فانصعن. (76) فلم أر معشرًا أسروا هديا ... ولم أر جار بيت بستباء في الثاني ص 124 ووردت الكلمة الأخيرة هكذا (يستيبا 7) . (77) أسيئي بنا أو أحسني لا ملولة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت ورد في الأول ص 295 وكتب الكلمة الأولى هكذا أسيئن وفي العاشر ص 93 وكتب هكذا: أسيئي بنا أو أحسني ... لاملولة ولا معلنة أن تعلني (78) وليلة ذات ندى سريت ... ولم يلتني عن سراها ليت ورد في موضعين: في الثالث ص 15 وكتب هكذا: وليلة ذات دجى سريت ... ولم يردني عن سراها ليت وفي السادس والعشرين ص 83 وكتب صحيحًا. (79) كأن لها في الأرض نسيًا تقصه ... على أمها وإن تحدثك تَبْلَتِ في السادس عشر ص 44 وكتب الشطر الثاني هكذا: ... .................. ... إذا ما غدت وإن تحدث تبلت ... والبيت للشنفرى، والبلت:الانقطاع، وتبلت الكلام: لما يعتريها من البهر (80) سلام الإله وريحانه ... ورحمته وسماء دِرَر في السابع والعشرين ص 65 وكتب هكذا: سلام الله وريحانه ... وجته وسمادرته 7 وبعد البيت: غمام ينزل رزق العباد ... فأحيا البلاد وطاب الشجر (81) يا حبذا القمراء والليل الساج ... وطرق مثل ملاء النساج في الثلاثين ص 127 وكتب هكذا: ياحبذا القمر والليل ساج ... وطرق مثل ملا النساج (82) وليست بسنهاء ولا رُجَّبِيَّة ... ولكن عرايا في السنين الجوائح في الثالث ص 24 وكتب بدل بسنهاء في الشطر الأول سنهاء. وبدل عرايا في الشطر الثاني غزانا. (83) فهممت أن أغشى إليها محجرا ... فلمثلها يغشى إليه المحجر في التاسع عشر ص 2 وكتب بدل أغشى (ويغشى) ألقى (ويلقى) وقبل هذا البيت: ذهبت بعقلك ريطة مطوية ... وهي التي يهدى بها لو تنشر (84) رهبان مدين لو رأوك تنزلوا ... والعصم من شعف العقول القادر ورد في موضعين: (1) في السابع ص4 وكتب الشطر الثاني هكذا: ................ ... والعصم من سعف العقول الفادر ... (2) في العشرين ص32 وكتب هكذا إلا أنه أحاله على عدد 7 يقال: وعل عاقل صعد الجبل، والفادر بالفاء المسن من الوعول. (85) هنالك لا أرجو حياة تسرني ... سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر في السابع ص 139 وكتب بدل سجيس (سمير) وهو غلط. (86) وإن كلابًا هذه عشر أبطن ... وأنت بريء من قبائلها العشر في التاسع ص 56 وكتب بدل كلابًا (كلانا) وبدل بريء (ترى) فاختل المعنى والوزن. (87) وظلت بأعراف تعالت كأنها ... رماح نحاها وجهة الريح راكز في الثامن ص 128 وكتب الشطر الثاني هكذا (وجهه راكز 7) وأنشد الأساس البيت هكذا: مسبِّبة قُب البطون كأنها ... رماح نحاها وجهة الريح راكز وفيه: يقال خيل مسببة: يقال لها: قاتلها الله وأخزاها، إذا استجيدت وفي الجمهرة كتب البيت هكذا: وأضحت تغالي بالستار كأنها ... رماح نحاها وجهة الريح راكز وتغالي: تسابق، تدخل رأسها بين أخواتها. والبيت الذي فيه الأعراف بيت آخر في أول قصيدة الشماخ وهو: وظلت بأعراف كأن عيونها ... إلى الشمس هل تدنو رِكِيّ نواكز (88) لقد مريتكم لو أن ردتكم ... يومًا يجيء بها مسحى وأبساسي في الخامس ص 72 وكتب هكذا: وقد نظرتكم لو إن درتكم ... يومًا بحي به مسحي وأساسي (89) حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام إلا تلك الدهاريس ورد الشطر الثاني في الثامن ص31 وكتب بدل إلا تلك (الأثم) وورد البيت كله في التاسع عشر ص 2، وكتب بدل حنت (جئت) وبدل إلا تلك (إلا ملك) . (90) مالك ترغين ولا ترغوا الخلف ... وتضجرين والمطي معترف في الثاني ص 355 وكتب الشطر الأول، وهو الذي أنشد هكذا: مالك ترعين ولا ترعوا الخلف ... (91) ناجٍ طواه الأين مما وجفا ... طيّ الليالي زلفًا فزلفا ... ... سماوة الهلال حتى أحقوقفا والأولان في الثاني عشر ص 73 والأخيران في التاسع عشر ص 46 وكتب بدل سماوة (سماؤه) . (92) إن سميرًا أرى عشيرته ... قد حدبوا دونه وقد أنفوا إن يكن الظن صادقًا ببني النجار لا يطعموا الذي علفوا في الرابع ص23 وكتبا هكذا: إن سميرًا أرى عشيرته قد ... حدثوا دونه وقد أبقوا إن يكن الظن صادقي ببني ... النجار لم يطعمو الذي علقوا والبيتان من كلمة مالك بن العجلان فائية الروي. (93) تخوف السير منها تامكًا قردًا ... كما تخوف عود النبعة السفن ورد في الرابع عشر صفحة 70، وكتب بدل قردًا قودًا، وبدل النيعة البيعة وكلاهما غلط. (94) تنشطته كل مغلاة الوهق ... مضبورة قرواء هرجاب فُنُق ورد الأول في الثلاثين ص 17 وكتب بدل مغلاة معلات، المغلاة: الناقة التي تبعد الخطو والوهق بالتحريك: المباراة والمسايرة، مضبورة: مجتمعة الخلق. القرواء: الطويلة القرا بالفتح وهو الظهر، وقالوا في تثنيته: قروان وقريان. الهرجاب كمفتاح الطويلة أو السريعة وقيل: هو كل عظيم البطن، الفنق بضمتين الناقة الفتية الضخمة. والهاء عائدة على ما وصف قبل في قوله: وقائم الأعماق خاوي المخترق ... (95) حسبت بغام راحلتي عناقًا ... وما هي ويب غيرك بالعناق فلو أني رميتك من قريب ... لعاقك عن دعاء الذئب عاق ورد الأول في الأول ص 419 وكتب بدل بغام ثغام وبدل ويب ويل وفي الثاني ص 53 وفيه كتب ويل بدل ويب. وفي الرابع ص 56 وكتب فيه بدل بغام راحلتي: نعام راحل. وفي الخامس عشر ص13 وكتب فيه بدل ويب غيرك: وثب عيرك، وورد الثاني في الخامس عشر ص 58 وكتب الشطر الأول هكذا: ولو أني رميتك من بعيد ... (96) لئن حللت بجوّ في بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك ورد في العاشر ص 68 وكتب بدل بجو بحد. (97) أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافًا إنني أناذلكا ورد في الأول في موضعين أولهما ص 299 وكتب بدل: يأطر: ناظر وبدل تأمل: تبين. الثاني ص 416 وكتب صحيحًا، إلا أنه ترك همز يأطر فصارت هكذا ياطر. (98) طمحت بنظرة فرأيت منها ... تحيت الخدر واضعة القرام ورد في الأول ص 125 وكتب الشطر الثاني هكذا: تحينت الحذر ناصعة القوام ... وروى الطبري: سمت لي نظرة بدل: طمحت بنظرة. (99) وحليل غانية تركت مجدلاً ... تمكو فريصته كشدق الأعلم من معلقة عنترة ورد في التاسع ص 137 وكتب بدل وحليل غانية وخليل غائبة. (100) عرفت المنتأى وعرفت منها ... مطايا القدر كالحدا الجثوم ورد في الثامن ص 153 وكتب هكذا: عرفت الصبا وعرفت منها ... مطايا العذر كالحدا الجثوم (101) عهدي به شد النهار كأنما ... خضب البنان ورأسه بالعظلم من معلقة عنترة ورد في الثامن ص 57 وكتب الشطر الثاني هكذا: خضب اللبان رأسه بالعظلم ... (102) رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم لأبي خراش ورد في السابع ص 151 وكتب الشطر الأول هكذا: رقوني وقالوا يا خويلد لم ترع ... ومعنى رفوني بالفاء سكنوني وقيل أراد رفؤني فألقى الهمزة والهمزة لا تلقى إلا في الشعر وقد ألقاها في هذا البيت ومعناه أني فزعت فطار قلبي فضموا بعضي إلى بعض. (103) مأويّ ياربتما غارة ... شعواء كاللذعة بالميسم ورد في الثامن عشر ص 14 وكتب هكذا: ياربتما غارة شعواء ... كاللذاعة بالميسم (104) حواء قرحاء أشراطية وكفت ... فيها الذهاب وحفتها البراعيم ورد في الثلاثين ص 84 وكتب هكذا: حوى فرحًا سراطيه وكفت ... فيها الذّهاب وحفتها البراعيم (105) تقول إذ درأت لها وضبني ... أهذا دينه أبدًا وديني ورد في الأول ص 385 وكتب صحيحًا وورد في الرابع ص 105 وكتب هكذا أقول وقد درأت لها وضني ... وهذا دينه أبدا وديني (106) مهلاً بني عمنا مهلا موالينا ... لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا ورد في الخامس ص 31 وكتب الشطر الثاني هكذا لا تظهرون لنا ما كان مدفونا. (107) إن شرخ لشاب والشعر ... الأسود لم يعاصَ كان جنونا ورد في العاشر ص 76 وكتب بدل الشباب الشاب وبدل يعاص يقاص وهو غلط لا معنى له. (108) إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوّه آهة الرجل الحزين ورد في الحادي عشر ص 33 وكتب بدل إذا ما قمت: إذا قضت، فاختل المعنى والوزن. (109) عجبت من دهماء إذ تشكونا ... ومن أبي دهماء إذ يوصينا ... ... ... ... ... خيرًا بها كأننا جافونا وردت في الخامس عشر ص 44 وكتبت صحيحة إلا أن تشكونا كتبت بياء مثناة من تحت وهو غلط، ووردت في العشرين ص 77 وكتب الأخيران هكذا: ومن أي دهماء إذ توصينا 7 ... خيرًا بها كأنهم خافونا ولو أنه أحال على ما تقدم لكان خيرًا

التقريظ والانتقاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ والانتقاد (خواطر الخواطر) مقالات أدبية حكمية وعظية لمحمود أفندي سلامة صاحب جريدة الواعظ، كان يكتبها في جريدة اللواء أيام كان محررًا لها، وكانت خير ما ينشر في تلك الجريدة وأعذبه في ذوق القراء على ما فيها من السجع ومرارة الوعظ؛ لأنها كانت محاورات بين تلميذ وأستاذه الدهر، ثم عاد الكاتب إلى هذا في جريدته الواعظ لأنها أجدر بمثله، وقد اقترح عليه ما وافق رغبته من جمع ذلك في كتاب يجعل أجزاء فجمع معظم ما كتب في جريدة اللواء وطبعه الواعظ فجاء جزءًا لطيفًا ومن مباحثه مقالات في الخمر والميسر، والقتل والانتحار، وطلب الدنيا، وآداب الصيام، وآثار الغرب في الشرق، وغير ذلك فنحث القراء على مطالعته وثمنه خمسة قروش صحيحة. *** (طولة العمر في حديث أبو يوسف ونمر) كتاب ألفه شكري أفندي الخوري السوري المقيم في البرازيل باللغة العامية السورية، وأودعه من الفوائد والنصائح الصحية والأدبية ما لا يستغني عنه أحد من العامة، على أنه لا يقصر عن إفادة الخاصة. جَعَلَه محاورة بين رجلين من عامة اللبنانيين، وقد رأينا فيه من قدرته على تصوير أفكار العوام، ما يناسب قدرته على ضبط عبارتهم في الكتاب، وكلا الأمرين عسير على الناشئين في دور العلم والمشتغلين بالكتابة والتأليف باللغة العربية الصحيحة، وإننا لنعرف من أنفسنا العجز عن المضي في ذلك بل إننا نجهل كثيرًا من كلام عامتنا، وأتذكر الآن أنني كنت أحتاج إلى تصوير بعض المسائل الفقهية في الدرس باللغة العامية فلا أدري ماذا أقول وإنني لأجهل كثيرًا من مفرداتهم، ولكنني رأيت فيما قرأته من الكتاب لحنًا وغلطًا، أعني خروجًا عن العامية الملتزمة فيه كاستعمال الذال والعطف بالفاء وغير ذلك. ولا يخلو من غلط في الرسم، كاستعمال الهاء في مواضع الواو في مثل قوله: (الواحد يبيع استقلاله الشخصي وحريته بوظيفة حقيرة ويكون موش عاوز الوظيفة وبيخون بلاده وأهله وعشيرته لأجل كم قرش يقبضها آخر كل شهر) فالمعروف في الكلام العامي أن يقال (استقلالو) عند الناطقين بالقاف، وقليل ما هم ولكن الكتاب جرى على طريقتهم ومثلها (بلادو ووظيفتو) وفي هذا المثال أيضًا قوله: (يقبضها من غير إلحاق الباء بالفعل، ولعلها تقال قليلاً) . ومن نصائح الكتاب النهي عن الخوض في الأمور الدينية والسياسية الآن (والقيد بالآن للأخيرة) وجعل ذلك من أسباب الراحة التي تطيل العمر وبهذه المناسبة تكلم في حال النصارى في سوريا وآمالهم ومستقبلهم بالاختصار وقد انتقدنا عليه في هذا السياق ما قاله عن المسلمين من مقتهم للولاة والحكام العادلين لأنهم يحولون بينهم وبين إيذاء النصارى؛ فهذا شيء لا يصح إلا أن يكون بالنسبة إلى بعض أهل بيروت ولهم من النصارى أكفاؤهم في حب الاعتداء، وأما سائر مسلمي بيروت وسوريا فإن حالهم مع الحكام الظالمين شر من حال النصارى، لأن الضرائب والمظالم عليهم أكثر. الجرائد والجامعة الإسلامية: وانتقدنا عليه قوله: (إن جرائد الإسلام في كل الدنيا تدعو إلى جامعة دينية إسلامية وكلها تُسقى من ينبوع واحد بخلاف جرائدهم التي بحت لكثرة النداء بالجامعة العثمانية لا سيما جرائد المهجر المشتعلة بنار الغيرة على الوطن) . أقول: ليعلم هذا الوطني الغيور أن أكثر جرائد المسلمين لم تفكر في مسألة الجامعة الإسلامية الدينية، وأن منها ما يدعو إلى جامعة وطنية غريبة يبغض فيها المسلم إلى المسلم الموافق له في لغته وجنسيته السياسية؛ إذا كان من بلد آخر ولو مجاورًا له. وإن أكثر أصحابها لا يعرفون حقيقة الإسلام، وأنه ليس فيها جرائد دينية، ويا ليت للعالم الإسلامي كله من الجرائد الدينية بعدد ما للنصارى في بيروت أو القاهرة. وهذه مجلة المنار الإسلامية وجد في مسلمي مصر من يحرض عليها جميع جرائد المسلمين وغيرهم في مصر وإن كان الأكثر لم يسمع ولم يجب، بل إن بعض الجرائد اليومية للمسلمين تنشر أحيانًا ما هو طعن صريح في الشريعة والدين. وجملة القول أنها لم تتفق على دعوة واحدة، ثم إن الجامعة الإسلامية التي تكلم بها بعض فضلاء المسلمين لا تنافي الجامعة العثمانية في بلاد الدولة العلية بل تجتمع معها. سوريا والحجاز والسياسة: وانتقدنا عليه أيضًا ما قاله في سكة الحديد الحجازية: (اللي بدها تقلب وجه السياسة قلبة ملعونة) إذ تخيل أن غرض السلطان أو الدولة تنحية النصارى عن سوريا وجعلها مع الحجاز بلادًا إسلامية محضة ومحط رحال المسلمين من كل الدنيا. ليعلم أن هذا الخاطر لم يطف في دماغ تركي قط؛ لأنه فرع الرضا بالتنازل عن الجنسية التركية وعدم تمييز التركي على العربي، وأنى ذلك وجريدة (ترك) المعتدلة التي تصدر في مصر تعبر عن الترك (بالملة المالكة) وإنما الغرض الأول من هذه السكة أن يسهل على الدولة سوق العساكر إلى الحجاز عند الحاجة لاسيما إذا حدثت فيه انقلابات سياسية بدسائس الإنكليز إذ لا يمكنها حينئذ أن ترسل إليه الجيش في البحر. وقد عنينا بنقد الكتاب لفائدته ولأنه نشر في جريدة الهدى الغراء وجمع منها وطبع وانتشر، ولا نحب أن نسكت على ما يحدث نفورًا ويقوي فتورًا بين أهل الوطن فعسى أن تنبه جريدة الهدى على ذلك كما تفعل جريدة المناظر في مثله. *** (كمال بلاغة العربية) في مدح الفرد الكامل والأستاذ المطلق الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، أهديت إلينا رسالة بهذا الاسم أنشأها الشيخ كمال الدين العراقي وطبعها على نفقته، وذكر في آخرها قصيدة له سماها: (لسان الحق في بيان الحقيقة والأخلاء والمحبوب) . والرسالة ساجعة بالنثر، مزينة بالشعر، مرصعة بالتوجيه والتصريع مصنوعة من طينة أنواع البديع، على طريق أهل القرون المتوسطة وهي مناظرة بين منشئها وأحد الشيوخ في الأزهر وتباع عند جميع الكتبية. *** (الرياض) صحيفة تهذيبية علمية، صناعية، اجتماعية تصدر في أول كل شهر إفرنجي في حجم المنار لصاحبها حسن أفندي صديق في بني سويف وقيمة الاشتراك فيها خمسون قرشًا، وقد صدر العدد الثاني منها في أول فبراير الماضي، ولم نر عدد شهر مارس وفيما صدر فوائد كثيرة أنفعها الكلام في مصار الخمر فعسى أن يكون احتجابها عنا لا لاحتجابها في نفسها. *** (التربية) مجلة مدرسة شهرية لمديرها محمود أفندي عمر الباجوري يتألف العدد منها من 8 صفحات كبيرة وقيمة الاشتراك فيها عشرة قروش في القطر المصري وأربعة فرنكات في غيره وقد أرسل إلينا العدد الثاني منها (دون الأول) وفيه نبذ علمية وأدبية، وفكاهات وجيزة بلغة الولدان العرفية وفوائد منزلية منها ما ما نصه: البيض يلزم غمسه في ماء مغلي عشر ثوان - لتنظيف الزجاج تضاف قطعة من زهرة. لحفظ الغسيل إلى الماء الذي يغسل به - لكي يكون ضوء اللمبة لامعًا ينقع الشريط في الخل قبل استعماله. ولعلنا نجد عبارتها في الأعداد الآتية خيرًا من هذه العبارة وأصح؛ فقد جاء في صدر العدد أن الغرض مما ينشر فيها من المقالات التمرين على الإنشاء واختيار الأساليب المفيدة. والتلميذ في حاجة إلى ذلك في كل ما يكتبه. *** (جريدة العجائب) أرسلت إدارة جريدة العجائب رقاعًا إلى الجرائد ترغب إليهم فيها بالتنويه بدخولها في السنة الرابعة فنهنئها بذلك ونرجو لها العمر الطويل بما رأيناه من ثباتها على خطة واحدة في الاستحسان والمدح والاستهجان والنقد على حين نرى كثيرًا من الجرائد تذم اليوم من مدحت أمس وتستحسن غدًا ما استهجنت اليوم. *** (ديوان أبي تمام الطائي) لا يجهل أحد من الأدباء مكان شعر أبي تمام من البلاغة وقد طبع ديوانه غير مرة؛ فنفدت نسخه، حتى لا تكاد منها نسخة عند كتبي في مصر وقد علمنا أن محمد أفندي جمال من أدباء بيروت شرع بطبعه على ورق جيد بإذن من نظارة المعارف في الآستانة وكلف الشيخ محيي الدين الخياط أحد محرري جريدتي بيروت والإقبال بضبطه وتفسير غريبه، وسيتم طبعه في أواخر صفر الآتي، ويصدر في 500 صفحة وهو يقبل الاشتراك فيه إلى أن يتم طبعه بثمانية قروش مصرية صحيحة، وسيكون ثمنه بعد ذلك اثني عشر قرشًا؛ فمن أحب الاشتراك من أهل هذا الديار فليرسل القيمة إلى مكتبة المنار بمصر، أو لملتزم الطبع في بيروت، وله بعد حضور الكتاب أن يستلمه من هذه المكتبة.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (سنتنا الجديدة) نهنئ قراء المنار بالعام الهجري الجديد، ونسأل الله تعالى أن يجعله عامًا مباركًا عليهم وعلى جميع الأمم وقد صدَّرْنا هذا الجزء بفاتحة أطول من فواتح السنين السابقة ولكنها على طولها مختصرة تشير إلى قواعد وحوادث في تاريخ الإصلاح يوشك أن تشرح يومًا ما في سفر كبير. *** (شرط الاشتراك في المنار) المنار يتألف من 24 جزء تبلغ صفحاتها 960 ما عدا الفهرس، فالذي يشترك فيه يطلب شيئًا معلومًا بثمن معين، وهو ما يكتب على غلافه وهذا البيع من قبيل الاستصناع وشرطه أن من يقبل الجزء الأول من السنة يكون ملزمًا بدفع ثمن أجزاء السنة، وليس له أن يردّ شيئًا منها؛ لأن في هذا ضررًا علينا وفقد جزء من المنار كفقد مجموعة السنة كلها ومن لا يصل إليه بعض الأجزاء فله أن يطلبه إلى ما بعد موعد صدروه بشهر فإن طلبه بعد ذلك لم نكن مكلفين بإرساله إليه. ومن فقد بعض الأجزاء فإدارة المجلة غير مكلفة بإعطائه بدلاً منها، ولكنها تعد بأن تبيع الجزء إن وجد فيها زائدًا عن المجموعات الكاملة بخمسة وعشرين مليمًا لأهل مصر وبخمسة وسبعين سنتيمًا لسائر الناس. فمن قبل بهذا فقد وجب عليه دفع قيمة أجزاء السنة كلها بقبول الجزء الأول وحسبنا رضاهم حجة وذمتهم وكيلاً، وإنما ذكرنا هذا مع العلم بأنه قد يُنتقد لما نقاسي كل عام من طلب الكثيرين للأجزاء المفقودة ومنهم أصدقاؤنا الذين يؤلمنا العجز عن إجابة طلبهم. *** (فهرس المنار أو فهارسه) جمع فهرس المنار العادي المرتب على حروف المعجم وكان في العزم توزيعه مع هذا الجزء، ولكن تراءى لنا أن نضم إليه فهرسين آخرين، أو أكثر، وقد بدأنا بجمع فهرس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وربما نضيف إليهما فهرسًا لأسماء الأشخاص؛ فليُنتظَر من يريد تجليد أجزاء السنة السابعة صدوره مع الجزئين الثاني والثالث فإنهما سيصدران معًا في أوائل صَفَر إن شاء الله تعالى.

تقريظ المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المنار جاءنا ما يأتي من أحد علماء سوريا الفضلاء المخلصين فنشرناه مع الحياء والخجل امتثالاً لأمره وطلبًا لرضاه، قال حفظه الله: لقد منَّ الله على المسلمين إذ أقام لهم منارًا يهديهم سبل الحكمة، ووقاهم وعث السبيل، ولو فتح الذين أعرضوا عنه بصائرهم لرأوا أنهم في مكان وبيل، أفسكرت بصيرتهم بل هم مسحورون بما هويت آباؤهم من المناهج، وكم ضل جيل بما ضل من قبل به القبيل، هاهم أولاء تنزفهم أيدي الزمن بما ضلوا عن الحقائق وبما كانوا يتوهمون، أفلم يأنِ لهم أن يفيقوا من سكرتهم وينظروا ما قدمت أيديهم وسعت إليه أرجلهم من الحال الهون، أو لم يأنِ لهم أن ينظروا ما منَّ الله عليهم إذ هيَّأ رشيدًا منهم لرفع (المنار) لعلهم يرشدون. سلام أيها الرشيد بما رفعت (المنار) طوبى ونِعْمَ عُقبى الرشداء الأبرار بشرى، وإن لك مدحًا في الأمصار والأعمار، نُعمى تدوم لك العمر، يُسرى تبقى لك الدهر، حسنى تخلد لك الذكر، فوقى لك في الملأ الغر، مرحى لإصلاحك، أكرم بعملك، لقد جلوت الديجور بالسنا؛ وأرشدت القاصي كمن دنا، وقد عنيت بمن عنى، ولم تعن بمن حسد وشنا، كذلك حزب الهدى، لا يعنيهم السدى، ولا يثنيهم الهوى، ولا يروعهم من جفا، حسبك الحق وكفى، لم يخب من إليه انتمى، إن لديه الآخرة والأولى، إن هذا رجاء أُولي النهى، فاستفتح هذه الثامنة بمثل ذلك الهدى، وتوكل على الذي برأ الحِجى، وأرسل محمدًا بالهدى للورى، ليكونوا إخوانًا في الطريقة المثلى، عليه الصلاة الحسنى، والسلام الأسنى. وسلام عليكم قُراء (المنار) بما طبتم في الملة، إن لكم فيه لَمَا ينفعكم في الدين، وإن لكم فيه لَمَا يرفعكم بين العالمين، وإن لكم فيه لما تعارفون، وإن لكم فيه لما تعاطفون، وإنه لهناء لكم وتبصرة للمستمعين، ولقد من الله علينا ببلوغه (الثامنة) يفيض بالنور المبين. وهذه كلمات لأخ لكم ليهديكم التحيات الطيبات، ويعلن اشتراكه معكم بالمسرات، وتذكرة لعلنا نكون من العرفاء بالفضل، وعسى أن نكون من الشاكرين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (سوري شمالي)

حياة الأمم وموتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حياة الأمم وموتها إن للأجسام حياة وللنفوس حياة غير حياة الأجسام، ولكن بعضهما يرتبط ببعض، وإن للأفراد حياة، وللأمم حياة غير حياة الأفراد، ولكن إحداهما تتوقف على الأخرى. يُعرف الجسم الحي بطلب الغذاء الذي يحفظ حياته من الخارج ويدفع العوارض الضارة عنه؛ وإفراز المواد الميتة من بنيته، ويستوي في هذه الحياة النبات والحيوان، وتعرف النفس الحية بالحرص على الكرامة وارتفاع المنزلة بالحق وبدفع أسباب المهانة، وتوقِّي طرقها، وبالنضال عن الشرف أن تصل إليه أيدي العابثين، أو يصيبه وهم الواهمين، وأما حياة الأمة فهي أثر روح يسري في أفرادها فيشعرهم بأن مكان كل واحد منهم من مجموع الأمة مكان أحد أعضائه من جسده؛ فهو يلاحظ في كل عمل منفعة نفسه، ومنفعة أمته معًا، كما أن عمل كل عضو في البدن يكون سببًا في حفظ حياته من حيث هو سبب لحفظ حياة البدن كله. الجسم الحي أشرف من الجسم الميت وأبقى، بل الأجسام الميتة تكون غذاء للأجسام الحية ومتاعًا تتناول منه ما تحتاج إليه لتجعله عوضًا عما يندثر منها وينفصل عنها، كذلك الأمم الحية تتغذى من الأمم الميتة، وتنتزع منها ما تحتاج إليه في حفظ حياتها، وطول بقائها ودوام عزتها وشرفها. فالأمة الحية أشرف من الأمة الميتة وأرقى في مرتبة الوجود. قد يشتبه على الجاهلين التفاضل بين الناس في الحياة والموت بهذا المعنى؛ فيذهب الجهل ببعضهم إلى أن زيدًا الميت أفضل من عمرو الحي بما هو أكثر مالاً وعشيرة وأحسن أثاثًا ورِئْيًا. ولو رجعوا إلى العلم الصحيح والاختبار الدقيق لرأوا أنفسهم يفضلون معاملة فلان التاجر الذي يملك ألف دينارٍ على فلان الوارث الذي يملك مئة ألف، ويرون من الثقة والرجاء في الأول ما لا يرون في الثاني لأن الأول يجمع ويشيد، والثاني يبيد ويبدد، فالألف تنمو في كل عام، ومائة الألف تنقص في كل يوم من الأيام، حتى إن حديد البصر يرى الأول غنيًّا مثريًا، والثاني فقيرًا مستجديًا، ذلك أنه ينظر إلى المستقبل الذي يسيران إليه، فيمتثل له في الحاضر الذي يراهما فيه معروفة شؤون الأمم والشعوب، أخفى على الأكثرين من معرفة حال الأفراد والبيوت، فكم من جاهل يفضل أمة على أخرى؛ لأنها أصح دينًا وأعدل شريعة، أو لأنها أشرف أرومة، وأعرق في المجد جرثومة، أو لأن تراثها من سلفها أكثر. ومزاياها الجنسية أشهر، أو لأنها أكثر عددًا ومددًا، وأعز عشيرة ونفرًا؛ وإذا صح أن يكون هذا كله أو بعضه للأمة الميتة زمنًا من الأزمان؛ فإنه لا يبقي إلا ريثما تتصل بها أمة حية، فترى هذه تمتص جميع مزايا تلك ومقوماتها الحيوية، وتلك تتحمل آفات هذه وعللها البشرية، حتى تكون إحداهما في عليين، والأخرى في أسفل سافلين. يسهل على القارئ في الشرق القريب، أن ينظر فيما بين يديه من الشعوب التي تضمها جنسية سياسية أو لغوية، وتفصل بينها روابط نسبية أو ملية، فإنه يرى شعبين يمتاز أحدهما بكثرة العدد، وكثرة المال، وقوة الحكم، وقوة العلم ثم يجد نفسه تفضل قليل المزايا منهما على كثيرها؛ لأنه يرى الشعب الكثير المزايا يتمزق ويتفرق؛ فتذهب مزاياه بذهاب الأعوام، والشعب القليل المزايا ينمو ويسمو ويجتمع ويتألف؛ فيعتز ويشرف بإقبال الأيام، يرى الشعب الكبير يتخاذل فيتضاءل، والشعب الصغير يتلاءم ويتعاظم، وما ذلك إلا أن في أحدهما نسمة حياة تدفع عنه الأعراض الضارة بالشعوب فيقوى ويزكو، وتغذيه كل يوم بغذاء جديد فينمو ويسمو، وليس في الآخر شيء من هذه الحياة فهو كجسم العاشق يذوب ويضمحل، ويحقر ويذل. ويسهل على القارئ في الشرق البعيد (كالهند) أن يرى مثل هذين الشعبين المتقابلين في الحياة والموت ولكنه يرى أكبرهما هو الذي يعز ويترقى، وأصغرهما هو الذي يذل ويتدلى، فلا تغره حينئذ دعوة بعض المتطفلين على علم الاجتماع وسنن الخليقة أن علة الحياة في الشعب الصغير القريب هي صغره وقلة عدده؛ لأن اجتماع العدد القليل للتعاون والتناصر وتوحيد المصلحة العامة أسهل من اجتماع العدد الكثير. ويشبه هذه الوهم تعليل بعضهم لنجاح صاحب الألف ونمو ثروته، وخيبة صاحب المئة الألف والعقار الواسع وتبدد تراثه، بأن تثمير المال القليل أسهل من تثمير الكثير! كذلك يقول من لا يعرف معنى الحياة في الأمم والأفراد، ولسنا بصدد بيان علة حياة أمة معينة وموت أخرى؛ فنفيض في كشف وهم الواهمين وجهل الجاهلين، وإنما غرضنا بيان معنى الحياة المعنوية، ومميزات واجديها ومخازي فاقديها. التمييز بين أمة في أعلى مراقي الحياة وأوج العزة والقوة، وأمة في الحضيض الأوهد، والشقاء المؤصد - مما يتناوله كل نظر، ويحكم به كل عقل، ولكن التمييز بين أمتين أو شعبين أحدهما يموت بعد حياة، وثانيهما يحيا بعد موت هو الذي يخفى على غير علماء الاجتماع المدققين؛ لأن الذي اعتاد على الحكم بادي الرأي، ينخذع بما يرى في الأول من علامات الحياة الموروثة؛ كأثارة من علم وبقية من حكم لا يجد مثلهما عند الثاني؛ فهو كمن يفضل وارث مئة ألف على كاسب الألف جاهلاً بما وراء ذلك من مصير ثروة الوارث إلى الزوال، ومسير ثروة الكاسب إلى الكمال. لا يغرنك ما ترى من آيات الحياة في أمة تقطعت روابطها، وانفصمت عروة الثقة بين أفرادها، وبغض إليها النظام، وفقدت التلاحم والالتئام، وإن كان ما تراه أخلاقًا كريمة، ومعارف صحيحة، وثروة واسعة، وسلطة نافذة، مع العلم بأن هذه الأشياء كلها هي آثار الحياة توجد بوجودها وتذهب لذهابها، فقد يكون ذلك من بقايا إرث قديم، يعبث به الفساد الحديث، إلا أن ترى العلم والأخلاق تقرب البعيد، وتجمع الشتيت، وتزيد في الثقة بين الناس، وتدعو إلى التعاون على البر والإحسان، وترى الثروة تجمع مع ملاحظة مصلحة الأمة، وينفق جزء منها على المنافع العامة، وترى السلطة موجهة لدفع الأذى عن البلاد، وإقامة العدل في العباد وإسعاد الأفراد على الاستقلال، وإعدادهم لمشاركة الحاكمين في الأعمال. روح الحياة في الأمة تحول الشر إلى خير، وفقدها يحول الفضائل إلى رذائل، فما يكون فيها من عزة وإباء يصير كبرًا وعجبًا، وما يبقى من كرم وسماح يصير إسرافًا وتبذيرًا، وتكون الشجاعة فيها سببًا للاعتداء والإيذاء، وجودة الرأي وسيلة للمكر والاحتيال، ويتحول فيها حب الشرف والكمال، إلى حب الفخفخة بالألقاب، وينقلب التنافس تحاسدًا، والإيثار أثرة وطمعًا وقس على هذا سائر الأخلاق التي تفسد. كذلك يكون العلم آلة لأهله يكيدون بها للناس ويوقعون بينهم ليستفيد الكائد من النزاع والشقاق، أما السلطة فإنها تكون الآلة المحللة لكل التئام، والممزقة لكل شمل، والمفرقة لكل اجتماع، إلا الاجتماع لتأييدها والخنوع لأصحابها، حتى إن الملك أو الأمير ليتَّجر بالأمة اتِّجارًا، بل يكون هو الغاصب والناهب ما استطاع، حتى إذا لم يبق للأمة قوة حافظة يبيعها للأجانب بالمحافظة على رياسته الصورية، وتمكينه من شهواته الحيوانية والشيطانية. تسري الأمراض الاجتماعية في الأمم فتذهب منها بمقومات الحياة من حيث لا تشعر ولا تدري ولذلك يبقى لها الغرور والدعوى بأنها أشرف الأمم وأفضلها ويعسر على من يكون على علم بأمراض الأمم أن يقنعها بأن أمة وضيعة مهينة وإن كانت أصوات الإهانة تصيح بها في كل يوم، وأسواط العذاب تقع عليها في كل آن، وإذا كانت متكئة في غرورها على عصا الدين كان إقناعها أعسر وإشعارها أبعد، وإن نخرت أَرَضَة البدع تلك المنسأة فانكسرت وخرت الأمة في مهواة الضلال فهلكت. إذا أهاب الداعي بالأمة المغرورة بالدين، وحاول إقناعها بالبراهين، وإيقاظ الشعور فيها بما تذوق من العذاب المهين، وَاثَبَه حماة البدع الجديد، وحمل عليه أنصار التقليد، واستعانوا عليه بالأمراء المستبدين، وحالوا بينه وبين العامة المساكين، بل العامة هي قوة رؤساء الدنيا والدين، بها يصولون على المصلحين، ولو كانوا يقارعون الدليل بالدليل، ويصارعون البرهان بالبرهان، لظهر للعامة سوء حالهم، وفساد أقوالهم وأفعالهم، ولكان للمصلح على انفراده، وضعف أنصاره وأعوانه، ما يغلبهم به على عزة سلطانهم، وعظم شأنهم؛ لأن الحق نصيره، والفطرة البشرية عونُه، لولا أنهم يفسدونها بتقاليدهم، ويحولون بينها وبين نور الإصلاح بغيوم سلطانهم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) أظهر دلائل الحياة في الأمة التولد والنمو في أسباب الارتقاء من العلوم والفضائل والأعمال العمومية فلا يموت فها شيء بموت القائم به، وأظهر دلائل الموت العقم والتحلل في ذلك؛ فلا يكاد يذهب منها شيء من الخير ويخلفه مثله؛ وإنما يموت العلم بموت العلماء، والفضل بموت الفضلاء؛ حتى تبقي حثالة بهم تبسل الأمة. لا تنزع روح الحياة من الأمة بما يعرض عليها من الأمراض؛ إلا إذا فتكت هذه بمزاج الأمة الجامع لأفرادها؛ وإذا كان مزاج الجسم يتألف من أمشاج متعددة كالدم والعصب واللمفا؛ فمزاج الأمة الاجتماعي يتألف مثله من أصول متعددة كالنسب والجنسية والدين والحكومة، لذلك ترى الباحثين في إصلاح الأمم الفاسدة المزاج يتخلفون؛ فيقول بعضهم: إن الأمة لا تحيا إلا بتربية النساء التي هي الأصل في صلاح البيوت، ويقول آخرون إنها لا تحيا إلا بتقوية الرابطة الجنسية التي تكون باللغة أو الوطن، ويقول غيرهما: إن الأصل في الحياة هو الإصلاح الديني، على أن الدين عند المسلمين حاكم في كل شيء فإصلاحهم من جهته إصلاح لكل شيء ويخالفهم مخالفون قائلين: بل الإصلاح إنما يكون بصلاح حال الحكومة؛ لأن السياسة هو المدبرة لكل شيء، والصواب أن معاجلة كل ما فسد من الأصول التي يتألف منها المزاج مما لابد منه لشفاء الأمة وجعلها في عداد الأمم الحية. ولكن يقال: إن هذه الأصول ترجع إلى أصلين الأمة والحكومة، أيهما صلح يسهل عليه إصلاح الآخر ولكن ما يجيء من جانب الحكومة يكون أسرع وما يأتي من الأمة يكون أدوم وأثبت، وقد بينا ذلك في السنة الأولى من سني المنار، وسننشر في الأجزاء الآتية مقالات في أنواع الحياة النسبية أو الزوجية، والملية والجنسية، والسياسية، ونبين كيف يكون الإصلاح فيها، والله الملهم للسداد.

رأي عالم أزهري في العلماء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي عالم أزهري في العلماء وحالهم في مصر وصف مؤلف كتاب (العلم والعلماء) العالم الديني المسلم بأنه المرشد إلى مصالح الدنيا وطريق الآخرة، ومما قاله في ذلك (ص8) : (بينما تجده في درسه يقرر خَفِيَّات المسائل في العلوم المختلفة تجده قد خرج يخالط الناس على اختلاف طبقاتهم كأنه واحد منهم، يرشد هذا بالعبارة وذاك بالإشارة، وهذا بالأحاديث وهذا بالآيات، هذا بالحجج العقلية وهذا بالمشاهدات والمكتشفات، طورًا يستشهد بحال الصحابة والتابعين، وطورًا بحال فلاسفة اليونان وحكماء الأوربيين) ... إلخ. وقال في (ص 9) : (العلماء لا تحصر وظيفتهم في تعليم الطلاب فنون العلم في المدارس الدينية بالكيفية الجارية الآن؛ بل هي على الحقيقة أعم من ذلك وأشمل وأنفع. وظيفة لها دخل في سائر الأعمال والأحوال، وترتبط بسائر الأمور الدنيوية والأخروية؛ لأن العالم يعتبر مؤسس المبدأ الذي يسير عليه الإنسان ويبني عليه سائر أفعاله المتعلقة بالمعاش والمعاد؛ وواضع الخطة التي تجري عليها الأمة في سائر شؤونها المادية والأدبية وغيرها. ثم ذكر أن للتعليم ثلاث مراتب: أولها تعليم صغار المسلمين في المدارس الابتدائية المسماة بالمكاتب، وثانيها: تعليم جمهور الناس، وثالثها: التعليم العالي في نحو الأزهر والجامع الأحمدي، ثم قال في علماء مصر (ص 11) ما نصه: (ولكن من موجب الأسف أن علماءنا أعرضوا عن المرتبتين الأوليين ولم يعيروهما أقل التفات مع أنهما من أهم الضروريات اللازمة التي يتوقف عليها تقدم الأمة، وحسن نشأتها في أمري الدين والدنيا، فهما اللذان ينبغي أن يكونا ثمرة هذا التعليم العالي الذي يشتغلون به في المدارس الدينية ويضيعون فيه الأعمار من غير أن يعود على الأمة منه فائدة تذكر) . (على أنه في الحين الذي يأنف فيه العلماء من القيام بهذين الواجبين أرى أنهم لا يمكنهم أن يقوموا بهما حق القيام) ... إلخ. ثم ألمَّ بفائدة الإرشاد وتعليم العامة وقال (ص 12) : ومما يوجب الأسف أن هذه الوظيفة السامية لا يقوم بها العلماء الآن أيضًا، وقد بُني على إهمالها ما نراه من النقص العظيم وعلى قواعد هذا الإهمال ثبتت جدرانه القوية التي قد (لا) تهدمها إلا معاول القدرة القاهرة والروح الإلهي إن شاء الله تعالى. اهـ. ثم قال في (ص 17) : (ولكن من أعجب العجب أنهم أهملوا الآن هذا الواجب، وأعرضوا عنه؛ فكان من نتائج ذلك ضعف الشعور الديني وانتهاك حرمات الشرع حتى فيما يرجع إلى مصالح هذه الحياة الدنيا، بل كان من نتائج ذلك ضياع حرمة العلماء وانحياز أمر الدين، حتى كاد يعد من الأحوال الشخصية والأمور الاستحسانية التي تختلف باختلاف المشارب والأذواق) . ثم قال في ذلك، بعد كلمات في أهل الطريق: (فوا أسفا على هذه الوظيفة السامية، والصفة العالية التي ضاعت بين رجال العلم ورجال الطريق. واأسفا على تركة الإسلام التي تفرقت أيدي سبأ في أيدي من لم يعرفوا حقها ولم يقوموا بواجبها، بل ونسوها وشوَّهوها حتى صارت في ظاهر الأمر من المعاني السافلة والأمور الدنيئة) ... إلخ. وقال في الكلام على الكمال في الملكات والوجدان (ص32) : (وإننا نرى بأعيننا من العلماء المشهورين الذين أحرزوا التقدم، وشغلوا الوظائف العالية وعُدُّوا من الرؤساء من ينقصهم هذا المعنى، وأن ملكاتهم ووجداناتهم النفسية دنيئة ناقصة، تباين مراكزهم الرسمية وتضادّ منازلهم بين الناس وأنهم لا يزال لهم من الصفات الناقصة ما يحطهم عن أكثر الناس، وإن كان ذلك لا يتراءى إلا لمن يعاشرهم ويعاملهم ويخترق حجاب المظاهر الكاذبة، وقد ينبني على ذلك صدور أعمال منهم تعد من الأعمال التي تورث النقص العام، وتوجب العار الفاضح للأمة والدين والشواهد على ذلك كثيرة) . إننا وإن كنا نريد بيان رأي هذا العالم الأزهري، ابن العالم الأزهري في وصف العلماء دون انتقاد أو استحسان، لا يسعنا إلا أن نستدرك عليه ونقول: إن في هؤلاء العلماء من يعد فخرًا للعلم والدين بعلوِّ الهمة، وشهامة النفس، وعزة الدين، ووقار العلم، كما يشهد العدو والصديق، والقريب والغريب، وكان ينبغي أن يصرح بذلك هنا. ثم قال في فصل الكمال في التنور والتأثير، وشدة حاجة العالم إليهما (ص 33) : (أصبح علماؤنا اليوم فاقدين كل شيء من معنى النفوذ والتأثير، عارين عن سائر موادهما، ولا شك أن هذا نقص شديد يجب تداركه. لا أقول فقدوا النفوذ والتأثير فقط، بل واكتسبوا صبغة الاستثقال والاحتقار من أكثر الطبقات العليا، حتى كاد يكون الحق منهم باطلاً والصدق منهم كذبًا، والنصح منهم غشًّا؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. لو نظرنا بعين الاستبصار إلى سائر المرشدين إلى الحقائق، وهداة العالم وأولهم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - رأيناهم أولاً كانوا موضع الازدراء والتحقير من الناس (ليته استبدل بهذين اللفظين ما هو أنزه منهما) وأن من يتبعهم كان أقل القليل؛ فإذا ما اكتسبوا قوة النفوذ والتأثير انعكس الأمر، وأقبل الناس عليهم، ودخلوا في دين الله أفواجا، ورأوهم بعين غير الأولى؛ كأنهم ليس هم أولئك الأولون (كذا) ذلك لأن الناس دائمًا أسراء العادة، عُبَّاد المظاهر إيمانهم في عيونهم، كما قال بعض العارفين. فهم دائمًا لا يستمعون إلا لمقال من يكتسب صفات الاحترام العام، ولا يرضخون إلا لمن يحرز قوة النفوذ [1] ؛ وإذا كان الأمر هكذا فلِمَ لا نكتسب هذه القوة لنتمكن من نشر الحقائق الإسلامية ونتوصل إلى إعلاء كلمة الله، ثم لِمَ لا نكتسبها وهي التي ترفع الإنسان من الطبقات السافلة إلى أعلى المراتب، وتجعله سلطان القلوب وقائد الأفكار. ها هو فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده واحد منا، انظر لماذا علا دون أمثاله ولم وصل إلى أن صار صاحب الرأي الأعلى في سائر الشئون الأزهرية وصاحب الاحترام والمكانة والكلمة المسموعة عند أكثر أهل الطبقة العالية، حتى أمكنه أن يسود أكثر الذين يبغضونه، وقد كان في أول قدومه للأزهر عند الناس كآحاد الطلاب. أشيء جاء بالصدفة أم هذا نتيجة العلم والاجتهاد؟ لا جرم أن هذا كان أولاً نتيجة النفوذ المكتسب من قوة العقل، وحسن البيان، وإتقان العمل، وذلك جعل له مكانة عند الطبقة العليا، وتلك المكانة أكسبته نفوذًا آخر، وجعلت تأثيره أقوى، وقد تمكن بهذا وذاك أن يرأس العلماء، وتكون له كلمة التصرف حتى على شيوخه ومن يبغضونه، وأن ينشر مبادئه ويدعو الناس إليها ويلبي دعوته كثير من الناس، وهو لو عاد إليها في بدء نشأته ما اجتمع إليه أكبر المجتمعين حوله الآن. اهـ. ثم أطال في وصف الشيخ، ونفوذه مما لا حاجة إلى ذكره، وقد ذكرناه ليعلم القارئ أن المؤلف لم يكتب إلا ما يعتقد، ولذلك لم يعمم إلا واستثنى. ثم إنه انتقل إلى الكلام على (الكمال في الفعل) فانتقد عادات العلماء، وذكر من مخالفتهم لِما عدَّه كمالاً، ذلك لا سيما حالهم في حفلات التشريفات وتشييع الجنائز والمجامع، وفي مجالسهم الخاصة الحافلة، وفضَّل عليهم سائر الفرق. وقفى ذلك بذكر (التنوُّر العام) أي المشاركة في فنون العصر وحال البشر في عامة شؤونهم وقال في (ص42) : (لكن هناك من العلماء من يرى تنورهم قاصرًا على مناقشات الفنون والكتب التي يدرسونها حتى لا يمكنه أن يخوض مع إنسان في حديث ما فيتقنه، وإن جلس في مجلس عام لم يحسن التكلم فيه بل إما سكوت وإما كلام تمجه الأسماع ويأباه الطبع السليم) اهـ. ثم تكلم في مطالعة الجرائد والمجلات وقال ص 43: (هناك من العلماء مَن يرى أن كلام الجرائد كذب، لا تجوز قراءته، وهو رأي واضح الفساد؛ فإن عدم قراءة الجرائد تجعل الإنسان في انحياز تام عن العالم، وبعيدًا عنهم كأنه ليس على ظهر البسيطة؛ وتجعله أيضًا مُسْتَثْقَلاً مُحْتَقَرًا في أعين المتنورين، كما يحتقر الجاهل أبسط الأشياء، حتى إنهم ليعدون مخاطبتهم له تنزلاً، ومجاراتهم واحترامهم له تفضلاً؛ لأنه في أعينهم رجل بسيط لا يعرف إلا أحكام الدين ولا يدري ما عليه الناس) ثم قال في المجلات خاصة: (ومن أهم ما يجب الاطلاع عليه أيضًا المجلات العلمية كالمقتطف والهلال والمنار فإنها تطلع الإنسان على معلومات لا يستغني عنها العالم؛ وحبذا لو امتلأت صفحات المجلات الدينية بمقالاتهم الضافية وإرشاداتهم المفيدة) اهـ وللنقل بقية. ((يتبع بمقال تالٍ))

تقويم المؤيد لعام 1323

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقويم المؤيد لعام 1323 هذه هي السنة السابعة لهذا التقويم المفيد الذي يؤلفه محمد أفندي مسعود المحرر بجريدة المؤيد، وقد صدر في أول المحرم مطبوعًا بمطبعة الجمهور، وهو فيما صار إليه من الشهرة، وما صادفه من الإقبال والرغبة غني عن التقريظ له، والترغيب فيه، إلا أن يذكر ذاكر بعض ما يمتاز به في كل سنة عما قبلها، وقد يستغني قراؤه ومقتنوه عن ذلك بما عرفوا من ذوق مؤلفة في حسن الاختيار، ومنه أن فتح في هذه السنة بابًا للحرب الروسية اليابانية واسعًا، ذكر فيه ملخص تاريخها، وأكبر ملاحمها، وأشهر مواقعها وصور قوادها في البر والبحر. وفي غير هذا الباب من التطويل في المسائل السياسية ما لا يُستغنى عن معرفته، وفي باب التاريخ فصل طويل في تاريخ تونس ودولها مزين بصورة الباي السابق - رحمه الله - والباي الحاضر، وفقه الله. وثمن النسخة منه خمسة قروش ما عدا أجرة البريد ويطلب من المكاتب المشهورة.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الأزهر: مشيخته وإدارته) ما كانت مشيخة الأزهر في زمن من الأزمان عرضة للتغيير والتبديل من الحكام كما نراها في هذه السنين؛ فقد تناول العزل والإبدال شيوخ هذا الجامع عدة مرات في بضع سنين: عُزل الشيخ حسُّونة باتفاق الحكومة مع الأمير وولَّى بعده الشيخ سليم البشري، ثم عزله بمحض إرادته ووَلَّى مكانه السيد علي الببلاوي بالاتفاق مع الحكومة، أو مع أولي الأمر - كما يقال - وفي هذا الشهر استقال هذا الشيخ ونُصِّبَ بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني باتفاق الحكومة وتلا الشيخ الببلاوي في الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية والشيخ عبد الكريم سلمان أحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا والسيد أحمد الحنبلي شيخ رواق الحنابلة، وكان سبق الشيخ وهؤلاء الأعضاء في الاستقالة من إدارة الأزهر الشيخ أبو الفضل الجيزاوي عضو المالكية والشيخ سليمان العبد عضو الشافعية، والعلة في استقالة الجميع واحدة في الحقيقة لا يسمح لنا هذا الوقت بشرحها، والتاريخ لا ينسى شيئًا. أما الشيخ حسونة فكان من علماء الأزهر الذين عملوا في مدارس الحكومة ووقفوا على شيء من نظامها، وكان الغرض من جعله شيخًا للأزهر، وجعل الشيخ محمد عبده معه في الإدارة تغيير نظام التعليم وترقيته فيه. وأما الشيخ (سليم البشري) فهو من علماء الدرجة الأولى، وقد ولي في وقت تألب المشايخ على الحكومة في مسألة المحاكم الشرعية المعروفة. وأما السيد (علي الببلاوي) فقد ولي لشهرته بالصلاح بعدما استشار الأمير الحكومة في نَفَرٍ من أشهر الشيوخ فلم ترض أحدًا منهم، وقد كان أقدر ممن سبقه على الإدارة، حتى إن أولي الأمر، وأهل الفهم قالوا: (ما كنا نظن أنه يوجد في هؤلاء المشايخ الذين لم يزاولوا الأعمال الإدارية ولم يعنوا بالاطلاع على أمور العالم مثل هذا الرجل) . وأما الشيخ (عبد الرحمن الشربيني) فهو مشهور بالعلم والصلاح والزهد، وقد عرضت عليه مشيخة الأزهر من قبل غير مرة فلم يقبلها؛ على أنها منتهى ما يطمح إليه علماء هذا الجامع من الرياسة، وقد عجب الناس من قبوله في هذه المرة! ويقال: إن الناس الذين كانوا عالمين باستقالة السيد (الببلاوي) قبل وقوعها وقبل ظهورها كانوا يُرَغِّبونه في ذلك، ويقال: إنه لم يرض إلا بعد صدور الأمر بتوليته - والله أعلم - أي ذلك قد كان وقد كثر القال والقيل وتباينت الآراء في خطته، والصواب أنه لا يؤخذ بشيء مما قيل ولا مما يقال، حتى يُعرف السير وتُشاهد الأعمال. ونسأل الله تعالى أن يوفقه لما فيه مصلحة هذا الجامع ومصلحة الإسلام وأن يشد أزره بقرناء الخير والله على كل شيء قدير. *** (غرض الحكومة الخديوية من الأزهر) قد شاع وذاع أن سمو الأمير اتفق مع حكومته على أن كل ما يهم الحكومة من الأزهر شيئان: الأول أن يكون أهله في أمان، والثاني تخريج القضاة الشرعيين. ولما كان التعليم في الأزهر غير كاف لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال المحاكم، وينفذ حكم الشريعة عزمت الحكومة الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة لتخريج القضاة الذين تصلح بهم حال المحاكم وينفذ حكم الشريعة، عزمت الحكومة الخديوية على إنشاء مدرسة خاصة لتخريج القضاة يكون تلاميذتها من طلبة الجامع الأزهر ولم يكن أحد يصدق هذه الإشاعة لولا أن المؤيد ذكر أن الأمير قال ذلك في كلامه الذي خاطب به مشايخ الأزهر في حفلة إلباس الخلعة للشيخ الشربيني ووافقه المقطم في معناه، وأسنده إلى أولياء الأمور. وقد كثر التساؤل بين الناس عن سبب استقالة الشيخ محمد عبده من إدارة الأزهر على عنايته العظيمة بخدمة الأزهر، وحرصه على تخريج رجال فيه يقدرون على خدمة الشرع، وتأييد الدين، وكان ينبغي أن يكون أول سبب يخطر في البال بعد الاطلاع على تلك الأقوال، وهو بلوغ الشغب في هذه المدرسة غايته، ومثله من رجال الجد لم يخلق للعب بالشغب، بدون فائدة تكافئ إنفاق الوقت في التعب، ثم اكتفاؤه بعناية أولياء الأمور بتربية جماعة من طلبة الأزهر في مدرسة خاصة ليتخرج منهم أساتذة وقضاة، وهو شيء مما كان يميل إليه قد تيسر الوصول إليه، ويقول (المقطم) : إن الحكومة ستنيط بالشيخ محمد عبده (مفتي الديار المصرية) أمر هذه المدرسة؛ فإن صح ذلك فحسبه تربية البعض من الكل، على أن تركه لإدارة الأزهر ليس للأزهر كله فإنه شيخ رواق الحنفية وهو أكثر الأروقة طلابًا؛ فهو يبث فيهم النظام ويرشدهم إلى روح العلم والدين وهذا بعض آخر من كل و (كل ميسر لما خلق له) . *** (مقام الإفتاء) جرت العادة في هذه البلاد، وفي سائر بلاد الدولة العلية، أن المفتي يجعل داره معهدًا للإفتاء، وقد كان الشيخ العباسي مفتيًا وشيخًا للأزهر، وكان مع هذا يفتي في داره ولكن الشيخ حسونة النواوي لما صار شيخًا للأزهر ومفتيًا جعل محل الإفتاء في الأزهر لأنه محل عمله وكذلك فعل الشيخ محمد عبده فإنه لكثرة شغله في إدارة الأزهر ولكون داره في خارج القاهرة أبقى محل الإفتاء حيث وضعه الشيخ حسونة من الأزهر، ولما استقال في هذه الأيام من إدارة الأزهر رأى أنه لا معنى لبقاء محل الإفتاء في الأزهر فعزم على اتخاذ محل آخر له، ويقال: إن الحكومة ستبني له مكانًا في نظارة الحقانية. *** (المعرض الزراعي) ما ارتقى الناس في عمل من الأعمال إلا بمحاولة المتأخر أن يفوق من قبله في عمله، ولن يحاول أحد أن يفوق أحداً في شيء إلا بعد اطلاعه على منتهى ما وصل إليه وبحثه عن أسباب ارتقائه فيه. والمعارض أكبر معين على إطلاع الناس على غاية ما وصل إليه الناس؛ لذلك عنيت الأمم الحية بهذه المعارض فجعلت في بلادها معارض عامة، ومعارض خاصة بالزراعة وبالصناعة؛ وببعض فروع العلوم والأعمال، وقلدتها الحكومة المصرية في المعرض الزراعي؛ إذ كانت هذه البلاد زراعية قوام معيشتها الزراعة، وإنك لترى هذا المعرض يتقدم وتكثر المعروضات فيه ويستفيد الزراع منه عامًا بعد عام. وقد كانت المعروضات في هذه السنة أكثر منها في غيرها لاسيما الآلات الزراعية للحرث والعزق والسقي والنقل، حتى إن محل أورنستن كوبل مد في ميدان المعرض - سكة زراعية سير عليها القطارات بهيئة وجهت إليها الأنظار. تعرض في هذا المعرض كل سنة الآلات والأدوات، وكذلك الأسمدة ونتائج الغلات. وتعرض الأنعام والخيل والحمير والبغال، وقد عرض محمد أفندي صالح سليمان فيه أيضًا آلات الخياطة والتطريز، وعرضت فيه في هذه السنة الآلة الكاتبة بالعربية وهذا وما قبله ليس من الأمور الزراعية.

الشيخ عبد الباقي الأفغاني ـ وفاته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ عبد الباقي الأفغاني (وفاته) نعت إلينا أخبار سوريا هذا السائح العالم العامل التقي الذي عرفناه ونحن في صبيان المكتب؛ إذ كان يزور بلدنا في سياحته ويقيم فيها أيامًا، ومرت السنين عليه ولم نر تغييرًا في سيرته المحمودة، وكان له حسن ظن في منشئ هذه المجلة حتى كان يقول: (إنَّ علم رشيد لدُنِّيّ) وقد كتب إلينا بعض من عرفه وأخذ عنه ما يأتي نعيًا وترجمة: فضل الحياة لا ينكره إلا حلفاء أوهام وسفسطة؛ قد عمي عليهم فيها سبل النظام الكوني البديع الذي تدور السعادة الإنسانية على محور العلم والعمل به من غير هوس بالتنقيب عن غير النافع والضار؛ لكن العقلاء في فلسفة الحياة مجمعون على أمر، ومختلفون في أمر، والوهميون السوفسطائية لا من هؤلاء، ولا من هؤلاء. يُجمع العقلاء على أن الحي يجب عليه إيفاء شكر لواهب الحياة، ويختلفون في طرق إيفاء هذا الشكر؛ وكل مذاهبهم المختلفة تؤدي إلى نقطتين متقاربتين، ولكن بينهما سد ثخين من الاصطلاحات والأوهام، وبئست هي من سد بين البشر القرباء؛ فإن الأكثرين لم يتمكنوا من هدم هذا السد إما لعدم مساعدة علمهم، وإما لعدم مساعدة ظروف حياتهم. (النقطة الأولي) شكر الله بقبول دعوته إلى المائدة التي وضعها للأنام، والرضا عن كل خادم بهذه المائدة. (النقطة الثانية) شكر الله باللسان؛ بتكرير الثناء عليه مع عدم الالتفات للمائدة لمن يهيئها ألبتة فلا يتناولون منها إلا التافة، وكثير منهم يرون أن يسبوا المائدة، والذين يتناولون منها. أما تقارب النقطتين: فلأن كلا من السائرين يرون هذه المائدة حاضرة فيها من كل الأنواع، ويعرفون الذي أعدها، ويعلمون أنه لابد من التناول منها، وأنه لابد من شكر هذا الكريم العظيم. وأما السد الذي بينهم فهو أن الشكر هل هو بقول المرء: أمدحك يا واهب، أمدحكم يا واهب، أمدحك يا واهب، ملايين من المرات! أو بتتميم المرء مقصود الواهب من تلك الهبة فتعريف الشكر بأحد التعريفين هو من الاصطلاح، وهو ذلك السد، ومن وراء هؤلاء كلهم مَنْ ليس لهم إلا صورة بشرية لها من الحياة ما لسائر أنواع الحيوان منها؛ فليسوا ممن نتكلم عنهم. ونحن لم نرد في هذا الموقف الآن أن ندل على مسلكنا بهذا الشأن، ولكن قدمنا هذه الكلمات لنقول: إننا نحترم العقلاء مهما اختلفوا، أو كيفما كانوا، ولهذا يؤسفنا انقضاء حياة كبرائهم، ويجدر بنا أن نعلن أسفنا لهم، وأن نذكر محاسنهم بعد ما يودعوننا، ويسبقوننا بذلك الرحيل الأبدي. وكل ذلك نقدمه أمام نعينا الأستاذ العالم الزاهد الورع الشيخ عبد الباقي الأفغاني الذي يعرفه أكثر قراء المنار في سوريا. كان الأستاذ من الزاهدين الصادقين في زهدهم، لا يماري في ذلك من عرفه، فمن كان ممن ينتقد الزهد نطالبه أن لا ينتقد هذا الزاهد الذي كان كبير العقل؛ فإن زهده قد أعانه على رحلة طويلة بث فيها العقليات بقدر الإمكان؛ فأكرم بزهد يثمر مثل هذه الثمرة في مثل هذه البلاد. نشأ هذا الفقيد - الذي عز على عارفيه فقده - في بشاور (ثم رحل في غضاضة شبابه إلى رانفور) وهناك أكمل تحصيله على المفتي سعد الله، وأخذ يدرس هناك نحوًا من خمس وعشرين سنة، من بعدها قصد الحجاز وفي عودته رأى في البلاد الشامية نقص العلوم العقلية فبعد تردد طويل رجح لديه أن يُدَرِّس في بعض البلاد من غير أن يقيم في بلدة واحدة، فطفق يسيح في البلاد من شمالي ولاية حلب إلى الولاية الحجازية، وكانت جلَّ سياحاته مشيًا على أقدامه، كان يقيم في البلدة أو القرية شهرين ثلاثة - أقل أو أكثر- ثم يرحل عنها لغيرها وحيث وجد شبابًا مستعدين للعلم يرشدهم إلى سبله بقدر معارفه. مكث على ذلك أكثر من عشرين سنة ثم انقطع عن التدريس ألبتة، وكان يحب أن ينتشر علم أصول الفقه ولخص فيه أوراقًا على الطريقة المألوفة، وفي أخريات هذه الحياة التي مرت بالعلم والتعليم بمبلغ العلم أقام في حمص ثلاث سنين وهناك أتاه اليقين ورحل الرحلة الأبدية يوم الجمعة رابع المحرم 1323 وكان لجنازته احتفال يفوق الوصف،عليه الرحمة،ولعارفيه جزاء أسفهم على فضله.

الحياة الزوجية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحياة الزوجية (1) {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} (الروم: 21) . {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة:28) . الأزواج تلد الأفراد، ومن الأفراد والأزواج تتألف الأمم والشعوب، يجتمع فردان فيكونان زوجًا، ولفظ الزوج يطلق على كل واحد منهما؛ لأن الزوجية تحققت به للآخر كما تحققت بالآخر له؛ فالزوجان كونا حقيقة الزوجية؛ فهما حقيقة واحدة ظهرت في صورتين، وروح واحدة انبثت في جسدين، وبناء واحد أقيم بركنين، بل هما حقيقة الإنسانية الكاملة، وكل واحد منهما جزء لها، لو وجد وحده لما وجدت الإنسانية، ولو هدم بناء وحدتهما بعد وجوده لما بقيت لها بقية {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) . هؤلاء الرجال والنساء الكثيرون هم الأمة؛ فالأمة أثر الزوجية وحياتها العزيزة تابعة للحياة الزوجية؛ فإذا كانت البيوت التي يعمرها الأزواج ويبثون منها الأفراد في عيشة راضية وحياة طيبة خرج منها أولئك الأفراد أحياء، وكونوا بيوتًا يكون مجموعها بلادًا، ومدائن، وقرى، ومزارع يطلق على عمارها لفظ الأمة والمكوَّن من الأجزاء الحية يكون حيًّا بحياتها، فالحياة الزوجية الطيبة هي الأصل في حياة الأمة، والنظر في الأصل مقدم على النظر في الفرع. الفطرة البشرية هادية إلى الزوجية بكمال معناها، وإلى أثرها في نفس الزوجين؛ وفي آلهما، وفيما يرزقان من الولد، فهي تسوق كل رجل إلى طلب الازدواج بامرأة، وكل امرأة إلى قبول الاتحاد مع رجل، وهي التي تربط قلبيهما وتمزج نفسيهما وتوحد مصلحتيهما، وتجعل الصلة بينهما أقوى من كل صلة بين اثنين في هذا العالم، حتى يسكن كل منهما إلى الآخر عند كل اضطراب، ويأنس به ما لا يأنس بالأهل والأصحاب، وهي التي تنقل المودة منهما إلى أهل كل منهما حتى تكون كل عشيرة عونًا للأخرى على دفع مضار الحياة، وجلب منافعها، وهي التي تربي عاطفة الرحمة فيها بالتعاون على تربية الولد فتنمو هذه الرحمة فيهما حتى ينتفع بها من يعجز منهما عن مساعدة الآخر في الشؤون المشتركة لضعف أو عجز؛ فيرى عاطفة الرحمة قد نابت عن عاطفة سكون النفس إلى الإنتاج، وعن الإحساس بالحاجة إلى التعاون. لكن الإنسان قد أُعطي من القوى ما يمكِّنه من التصرف في الميل الفطري، فيحوله عن جادته، ويسلك به المجاهل والشعاب؛ فيضل ويردى؛ لذلك بغى الرجال على النساء في عصور لا يعرف التاريخ أولها، واعتزوا عليهن بالقوة حتى ألزموهن بالكيد والمكر، والكذب والخلابة، والتصنع والدهان؛ فأشقوهن وشقوا معهن في أنفسهم وفي أولادهم؛ فساءت حالة البيوت؛ وساءت بها حالة الأمم والشعوب؛ فجاء الدين مرشدًا إلى الرجوع بالفطرة إلى جادتها، بل العناية بتكميلها وترقيتها، ثم بغى الناس في الدين، كما بغوا في الفطرة حتى عميت علينا تعاليم أكثر الأديان، وحسبنا ما حفظناه من هداية القرآن. يندفع الرجل لهضم حقوق المرأة بدافع الإحساس والشعور بقوته عليها وحاجتها إليه؛ ودافع الاعتقاد بأنه سيدها وهي خادمته المسخرة، أو متاعه المملوك، فأما الشعور بالقوة فهو آلة البغي في البشر، ولولا أن للرجل شعورًا آخر بحاجته إلى المرأة، وميله إليها يعارض ذلك الشعور الدافع إلى البغي عليها فيكسر من سورته- لكان البلاء أعظم والشقاء أشد. وكان يجب عليه أن يجعل عقله مؤدبًا للشعور الدافع إلى الشر، ومؤيدًا للشعور السائق إلى الحسنى، لولا ما يعرض للعقل من الخطأ في الاعتقاد فيخرج به عن الصواب؛ إذ يعتقد أن له الحق في أن يعامل المرأة بما يسوقه إليه طبعه الفاسد، ورأيه الباطل، ولا سعادة في الزوجية ولا للأمة إلا إذا صح اعتقاد الرجال؛ فعلموا أن المرأة هي شطر الحقيقة الإنسانية والرجل هو الشطر الآخر، وأنه يجب أن يكون كل منهما متممًا لعمل الآخر في الوجود فيما يشتركان فيه، وعونًا له على ما تختلف فيه وظيفتهما مع ملاحظة جهة الوحدة، كما تساعد إحدى اليدين أختها، وتتم كل من الرجلين سعي صاحبتها، وكما يؤدي العقل وظيفة الفكر، والقلب وظيفة الشعور والوجد، وكما تسمع الأذن، وتبصر العين. والغرض من عمل كل عضو واحد وهو مصلحة الشخص؛ فإذا قام بناء الزوجية على هذا الأساس كان بناء الأمة الذي يتألف من الأزواج، والأفراد التي ينسلها الأزواج لتكون أزواجًا في البيوت متفرقة، وأمة في البيوت مجتمعة بناء محكمًا رصينًا. إذا فسد الشعور القلبي، والاعتقاد العقلي في الأمة؛ فنقضت ما أبرمته الفطرة من ميثاق الزوجية حتى صارت المعاملة بين الأزواج كالمعاملة بين التجار والصناع والأُجراء؛ يؤدي كل واحد من حقوق الآخر ما يمكنه من استخدامه مع ظلم القوي للضعيف، ومكر الضعيف وخداعه للقوي - فالواجب المبادرة إلى معالجة هذا المرض، فإن انتشاره في الأمة وباء مجتاح، وخسران لا يرجى معه نجاح؛ لأن من يضيع حقوق أشد الناس صلة به، بل من كان متممًا لمعناه وحقيقته ومسوقًا هو إلى حبه بمقتضى غريزته - فكيف يرجى أن يقوم بحقوق من لا يتصل به إلا بصلة بعيدة هي فرع تلك الصلة القريبة؟ وإذا لم يقُم كل فرد من الأفراد بما عليه من الحقوق الخاصة والعامة فكيف تتكون الأمة وتتحد على دفع الأذى، وتتعاون على المصالح حتى تبلغ المدى؟ معالجة النفوس أعسر من معالجة الأبدان، ومعرفتها أغمض وأدق، والإحساس بالأمراض الروحية أخفى من الإحساس بالأمراض الجسدية، لذلك كانت الأمراض الروحية في الأفراد والجمعيات أكثر من الأمراض البدنية. لا يتم علاج النفس المريضة إلا بإصلاح العقل والقلب معًا، وذلك بإقناع العقل بما تقدم الإلماع إليه من معنى الزوجية، ومكانة كل واحد من الزوجين من الآخر وبتربية شعور القلب ووجدانه تربية صحيحة مبنية على احترام ذلك المعنى وإكباره، ليكون الوجدان مؤيدًا للفكر والاعتقاد بأن تحقق معنى الزوجية، وقيام كل من الزوجين بحقوقها من أركان السعادة التي لا تُبنى إلا عليها. فأما تربية الكبير على ذلك فهي متعذرة أو متعسرة، وأما إقناعه بذلك فهو سهل على العارف به ولكن فائدة العلم بغير إذعان النفس وشعور القلب قليلة الجدوى. إذا كان الناشئ على فساد الأخلاق وسوء الفعال لا يستطيع أن يقوِّم من نفسه عوجها فيعامل زوجه بالحسنى التي هي أثر سكون النفس وحب القلب، فهذا لا يدل على أن العلم بمعنى الزوجية والاقتناع بحقوقها لا يكون نافعًا بدون التربية على هذا العلم حتى يصير وجدانًا وشعورًا؛ فإن العلم الصحيح ينازل الوجدان الفاسد، ويبعث صاحبه على مقاومته بالتكلف حتى يزول؛ إذا لم يكن راسخًا وإلا ضعف أثره، وحسنت الحال في الجملة؛ ولذلك ترى حياة الزوجين العالمين الفاسدي الأخلاق أهنأ من حياة الجاهلين الفاسدين أو أقل شقاءً ونغصًا، ذلك بأن العالمين يتحبب كل منهما إلى الآخر حتى يصير التكلف حبًّا، أو تكون له أكثر ثمرات الحب وكذلك يتقي كل منهما ما يسيء قرينه بمقاومة طبعه ومغالبة ميله؛ فتكون لهما صورة الحياة الطيبة وكثير من معناها، ثم إن الزوجين العارفين بمكان الزوجية ووجوب مساواة الزوجين فيما عدا رياسة المنزل وزعامة العشيرة يربيان من يرزقان من الولد على ذلك عسى أن يتم لهما في ولدهما ما فاتهما من السعادة في نفسهما. ولولا أن العلم يكون وسيلة للتربية النفسية التي يتحد بها القلب مع العقل لما رأيت مصلحًا يظهر في الأمة الفاسدة الأخلاق يدعوها إلى التربية كما ترى في أمتنا الآن؛ إذن نحن في حاجة إلى العلم بمعنى الزوجية وحقوقها والشروط التي تتم بها حقيقتها. حسبنا في بيان معنى الزوجية وسرها تلك الآية التي صدَّرنا بها هذا المقال وفي حقوقها بعض الآية التي تليها. تفيد الآية أن أركان هذه الحياة ثلاثة: أولها سكون كل من الزوجين إلى الآخر؛ فإن المراد بالأنفس في الآية الجنس، والمراد بالزوج ما يعم الرجال والنساء، فالحكمة الأولى للزوجية أن يكون لكل من الزوجين وجود آخر من جنسه يسكن إليه من اضطرابه، ومثارات الاضطراب في هذه الحياة كثيرة، وأنواع المتاعب فيها غير معدودة، وما اخترع الناس أنواع الملاهي واللعب إلا ليقوِّموها، على أن اللعب شأن الأطفال لا شأن الرجال، وأن سكون الزوج إلى زوجه وأنس الإنسان بشقيق نفسه وروحه وشريكه في جميع شؤون حياته- لمما يذهب بكل اضطراب ويزيل كل وحشة؛ إذا تحققت الزوجية بكمال معناها. يقول المفسرون: إن العلة في أنس كل من الزوجين بالآخر، الجنسية كما يعطيه ظاهر اللفظ في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) وهو صحيح عقلاً وطبعًا؛ فقد خلق الله في كل من الزوجين الذكر والأنثى جاذبًا يجذبه إلى الأخر؛ لأجل أن يتحد به، وقد يكون هذا الجذب والانجذاب في بعض أطوار العمر مبهمًا؛ لا يتصور صاحبه الغاية الفطرية من ذلك الاتحاد؛ وهو أن ينشأ عنه وحدة أو وحدات أخرى من الجنس، بل ولا مقدمة هذه الغاية أيضًا، ولكن هذا التعليل لا يصدق على إطلاقه في الوجود الخارجي، كما يعقل في الوجود الذهني؛ لا مع كل زوجين ولا مع أكثر الأزواج - كما قيل - فإن الباحثين في حياة البيوت يقولون: إنه قلما يوجد زوجان سعيدان كل واحد منهما مغبوط بالآخر، راضٍ به، يسكن إليه من اضطرابه، ويصفيه حبه ووده ظاهرًا وباطنًا، على أن هذا هو غاية الكمال في سعادة الحياة الزوجية، وأنَّى للأكثرين أو الأقلين بالكمال في هذه الحياة. والصواب أن أكثر الأزواج في البشر يسكن بعضهم إلى بعض، ويوده مهما كانت حالهم من فساد الفطرة، وسوء الأخلاق، والجهل بقيمة الطمأنينة والسكينة في الحياة، ولكن لهؤلاء الأكثرين منغصات في حياتهم، هذه لها أسباب تختلف باختلاف البلاد والأمم، وباختلاف الأفراد في التربية والعلم، والأخلاق والأفكار، واستقصاء هذا لا يكون إلا في كتاب مستقل؛ يكون فيه باب للأزواج في القبائل البدوية، وفي البلاد التي تقرب حال أهلها من حال البدو في السذاجة وقلة الحاجة، وتقارب النساء والرجال في الأدب والمعرفة، وباب لأهل الحضارة العالية؛ التي عمَّ التعليم والتربية جميع أفرادها أو أكثرهم. وباب أوسع للبلاد المذبذبة التي بعدت عن سذاجة الفطرة، ولم تصل إلى شيء من كمال العلم والصنعة، كالبلاد الشرقية التي طاف بها طائف المدنية الغربية؛ فزلزل أخلاقها وعاداتها، وعقائدها وأفكارها الأولى عن سعادة الحياة الزوجية وما يتبعها، فإنك تجد أكثر الذين أصابهم هذا الزلزال في حيرة من أمر الزواج قبل الإقدام عليه وبعد الوقوع فيه، ونحن إلى الدخول في هذه الباب أحوج؛ لأننا في بلاد الزلزال عائشون، ولأهله في الأكثر مخاطبون وكاتبون، ونكتفي منها في هذا المقال ببيان طرق اختيار الزوج وما يكون من ورائه. *** اختيار الزوج: جرى العرف بأن يكون الرجل هو الذي يتخير المرأة ويطلبها، والأصل في الاختيار أن يكون للمصلحة، وهي لا تتحقق إلا بصحة الجسم والتناسب مع الرجل في الأخلاق والعادات والميل والرغبة الاتحاد أو التقارب في الصنف والطبقة؛ لأن

التحكيم بين الزوجين في الشقاق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التحكيم بين الزوجين في الشقاق (س6) الشيخ محمد نجيب التونتاري المدرس بالمدرسة التونتارية (روسيا) : أعرض على حضرتكم مسألة كثرت البلوى بها في ديارنا، مستفتيًا من شريف علمكم مترقبًا البيان الوافي بالمقصود في أحد أعداد المنار؛ ليعم نفعه ويكثر أجره وهي: هل يوجد طريق شرعي من الكتاب والسنة للتفريق بين الزوجين عند طلب الزوجة له وامتناع الزوج عنه مع وقوع الشقاق بينهما؟ وإني راجعت كتب الحنفية الموجودة في أيدينا فوجدت أن قول إمامنا أبي حنيفة -رضي الله عنه - عدم التفريق وقول الإمام محمد -رضي الله عنه- التفريق إذا وجد في الزوج عيب غير متحمل، وتقع الفرقة بمجرد اختيار الزوجة كما ذكره في كتاب الآثار، وأما الإمام مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه - رضي الله عنهم - فمذهبهم التفريق بسبب عيب الزوج إذا كانت الزوجة تطلبه كما هو المنقول في كتبنا فاتفاق الأئمة سوى الإمام أبي حنيفة يقوي القول بالتفريق فيكون العمل به أولى وأحوط. ثم إني بعدما نظرت في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} (النساء: 35) الآية ظهر لي بإعانة التفاسير أنه عند وقوع الشقاق - الشقاق هو الخلاف والعداوة على ما ذكروه - بين الزوجين ينصب القاضي الحكمين العدلين ويوليهما أمر الجمع والتفريق كما هو المروي عن علي - رضي الله عنه - فهذان الحكمان بعد ما يطلعان على أحوال الزوجين يجتهدان في الإصلاح بينهما وإعادتهما إلى المعاشرة بالمعروف إن أمكن؛ وإن لم يمكن ذلك؛ فإن كان النشوز من طرف الزوج فحَكَم الزوج يفرق الزوجة نيابة عنه على سبيل التطليق، وإن كان النشوز من طرف الزوجة؛ فحَكَم الزوجة يفرقها على سبيل (الخُلع) فكلا الأمرين - أي الجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف - ينبغي أن يكون مرادًا من الإصلاح المذكور في الآية؛ وأما الإبقاء على حال الشقاق فليس هو من الإصلاح في شيء بل هو داخل في ضمن قوله تعالى: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} (النساء: 129) الآية ومناف لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19) الآية وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا} (البقرة: 231) الآية. والحاصل أن الإصلاح إنما هو لدفع الشقاق، ولا يتصور ذلك إلا بأحد الأمرين: أي بالجمع بالمعروف أو التفريق بالمعروف، ففي الآية دلالة على كلا الأمرين أي على ثبوت حق الجمع والتفريق للحكمين؛ لتضمن معنى الإصلاح ذلك. هذا ما ظهر لي من تأمل الآية الكريمة ولا أدري أصواب أم خطأ والمأمول من الأستاذ إيضاح هذه المسألة وتطبيقها على الكتاب والسنة خدمة للدين والملة حتى يظهر الصواب في هذه المسألة ولكم الأجر والمنة. (ج) إن الآية الكريمة صريحة في وجوب التحكيم بين الزوجين إن خيف شقاق بينهما؛ لأنه يجب أن يكونا شقيقين لا متشاقين ينضوي كل منهما إلى شق (جانب) غير الشق الذي فيه الآخر. ولا يجيز الإسلام للمسلمين أن يدَعوهما يستبد أقواهما بأضعفهما، والخطاب في الآية للحكام في قول وللمؤمنين في قول، والقرآن يخاطب المؤمنين عامة في الأمور العامة؛ لأنهم المسيطرون على الحكم أو لأن الحكم شورى بينهم؛ فإذا قصَّر أميرهم في تنفيذ الشرع ألزموه به أو عزلوه، وولوا غيره فالقولان متلازمان. ويجب على كل من الزوجين قبول ما يحكم به الحكمان فمن أبى الخضوع ألزمه الحاكم المؤيَّد بجماعة المسلمين بقبول تنفيذ الشرع. وقد أخرج الشافعي في (الأم) والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني قال: جاء رجل وامرأة إلى علي - كرم الله تعالى وجهه - ومع كل واحد منهما فئام من الناس، فأمرهم أن يبعثوا حكَمًا من أهله وحكمًا من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله - تعالى- بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال علي - رضي الله عنه -: كذبت والله حتى تقرَّ بمثل الذي أقرت به. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس -رضي الله عنهما - أنه قال في هذه الآية: هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما، أمر الله - تعالى - أن يبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل، ورجلاً مثله من أهل المرأة؛ فينظران أيهما المسيء؛ فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته، وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة، فإن اجتمع أمرهما على أن يفرِّقَا أو يجمِّعَا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين، وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما، فإن الذي رضي يرث الذي كره، ولا يرث الكاره الراضي، وليس في قول ابن عباس - رضي الله عنهما - شيء لا يفهم من الآية إلا مسألة الإرث بعد التفريق، ويقول الأصوليون والمحدثون في مثل ذلك: إنه شيء لا مجال للرأي فيه؛ فله حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما قاله بعض الحنفية من أن نفوذ حكمهما يتوقف على رضى الزوجين بالتحكيم أخذًا من قول (علي) للرجل: كذبت ... إلخ - غير وجيه؛ لأن معناه الإلزام بالإقرار وكونه لا يصدق في الاتباع حتى يخضع له، وهذا لا ينافي إلزامه به كرهًا، إن لم يرض طوعًا، قال في (فتح البيان في مقاصد القرآن) عند تفسير {إِن يُرِيدَا إِصْلاحًا} (النساء: 35) أي على الحَكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما؛ فإن قدرا على ذلك عَمِلا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالها ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد، ولا توكيل بالفرقة من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعلي، وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا: لأن الله تعالى قال: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا} (النساء: 35) وهذا نص من الله سبحانه أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان. وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحكم وهو أحد قولي الشافعي: إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهم الإمام أو الحاكم؛ لأنهما رسولان شاهدان فليس إليهما التفريق: ويرشد إلى هذا قوله {إِن يُرِيدَا} (النساء: 35) ، أي الحكمان {إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35) لاقتصاره على ذكر الإصلاح دون التفريق. اهـ وأنت ترى أن القول الأول هو المتبادر، ويزيده قوة أنه مروي عن أعلم الصحابة، ولم يُرْوَ أن غيرهم منهم خالفهم فيه، وأما الاكتفاء في الآية بذكر الإصلاح فلأنه هو المطلوب الذي ينبغي الحرص عليه وعدم المصير إلى غيره، إلا للضرورة، والتفريق يؤخذ من المفهوم ولولا ذلك لم يقل به الصحابة والتابعون. على أن الساعي في الإصلاح لا حكم له فيسمى حكمًا، وقد كان المسلمون في الصدر الأول يعملون بهذه الآية على أحد الوجهين في تفسيرها وقد تركوها في هذه الأزمنة التي انفصمت فيها عروة الدين، ونسخ الحكام المستبدون أكثر أحكام الكتاب المبين، وأهمل الناس العناية بأمر إخوانهم المسلمين، ومن قدر على إحياء هذه السنة كان له أجر المصلحين.

الأرض ـ دليل حركتها من القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (الأرض) دليل حركتها من القرآن (س 7) ومنه: ثم أيها الأستاذ قد أوردتم في بعض أعداد المنار قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثا} (الأعراف: 54) دليلاً على دوران الأرض، ولكن لم يظهر لي وجه الاستدلال في ذلك، وراجعت التفاسير ولم أجد ما يشفي العلة؛ فأرجو من فضلكم إيضاح ذلك أيضًا في أحد الأجزاء، وقد أورد الأستاذ العلامة المرحوم شهاب الدين المرجاني القزاني - رحمه الله - دليلاً على حركة الأرض قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً} (النمل: 88) الآية وفصَّل ذلك وبسطه حتى لو نظر المتأمل في ذلك يظهر له أن الآية واضحة الدلالة على المدعى، ذكر ذلك في كتابه (وفية الأسلاف) والحاصل أنه حمل المرور المذكور في الآية على المرور في الحال، ولكن سائر المفسرين حملوه على المرور الأخروي على ما هو الظاهر من سوق الآية، وفي آيات أخرى أيضًا سيران الجبال سيق لبيان السير الأخروي، والمرجو من الأستاذ إفادة ما هو الصواب فيه أيضًا. وقد أرسلت لكم مع هذا مقالة المرجاني في ذلك نقلاً عن كتابه (وفية الأسلاف وتحية الأخلاف) وهو كتاب كبير في التاريخ - ثمان مجلدات ضخام - لم يطبع منها إلا مقدمته، وله تصانيف أخرى نافعة معمول بها في بلادنا. وكان - رحمه الله - سنيًّا خالصًا على مذهب السلف يتمسك بالكتاب والسنة في الأصول والفروع وهذه عبارته: (ويدل على حركة الأرض قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} (النمل: 88) فإنه خطاب لجناب الرسالة وإيذان الأمر له بالأصالة مع اشتراك غيره في هذه الرؤية، وحسبان جمود الجبال وثباتها على مكانها، مع كونها متحركة في الواقع بحركة الأرض، ودوام مرورها مر السحاب في سرعة السير والحركة، وقوله: {صُنْعَ اللَّه} (النمل: 88) من المصادرالمؤكدة لنفسها، وهو مضمون الجملة السابقة، يعني أن هذا المرور هو صنع الله كقوله تعالى: (وعد الله) و (صبغة الله) ، ثم الصنع هو عمل الإنسان بعد تدرب فيه وتروٍّ وتحري إجادة، ولا يسمى كل عمل صناعة، ولا كل عامل صانعًا، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه، وقوله: {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) كالبرهان على إتقانه والدليل على إحكام خلقته وتسوية مروره على ما ينبغي لأن إتقان كل شيء يتناول إتقانه فهو تثنية للمراد وتكرير له كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) ، وقد اشتملت هذه الآية على وجوه من التأكيد وأنحاء المبالغة، ومن ذلك تعبيره بالصنع الذي هو الفعل الجميل المتقن المشتمل على الحكمة، وإضافته إليه تعالى تعظيمًا له وتحقيقًا لإتقانه وحسن أعماله، ثم توصيفه سبحانه بإتقان كل شيء، ومن جملته هذا المرور ثم إيراده بالجملة الكلامية الدالة على دوام هذه الحالة واستمرارها مدى الدهور، ثم التقييد بالحال لتدل على أنها لا تنفك عنها دائمًا؛ فإنه قوله تعالى {وَهِيَ تَمُرّ} (النمل: 88) حال عن المفعول به وهو الجبال ومعمول لفعله الذي هو رؤيتها على تلك الحال، وعن هذا استدلوا على قصر عدد الحل الزائد على أصل الحل بوقوع قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) حالاً من الفعل، وعلى اشتراط إذن الإمام في الجمعة؛ لقوله عليه السلام: (من تركها ولها إمام عادل أو جائر فلا جمع الله شمله) وغير ذلك فهذه الآية صريحة في دلالتها على حركة الأرض ومرور الجبال معها في هذه النشأة، وليس يمكن حملها على أن ذلك يقع في النشأة الآخرة، أو عند قيام الساعة وفساد العالم وخروجه عن متعاهد النظام، وأن حسبانها جامدة إحساسها العدم تبين حركة كبار الأجرام إذا كانت في سمت واحد؛ فإن ذلك لا يلائم المقصود من التهويل على ذلك التقدير على أن ذلك نقض وإهدام، وليس من صنع وإحكام، والعجب من حذاق العلماء المفسرين عدم تعرضهم لهذا المعنى مع ظهوره واشتمال الكتب الحكمية على قول بعض القدماء به مع أنه أولى وأحق من تنزيل محتملات كتاب الله على القصص الواهية الإسرائيلية على ما شحنوا بها كتبهم، وليس هذا بخارج عن قدرة الله تعالى ولا بعيد عن حكمته، ولا القول به بمصادم للشريعة والعقيدة الحقة بعد أن تعتقد أن كل ذلك حادث بقدرة الله تعالى وإرادته، وخلقه بالاختيار كائنًا ما كان، وهو العلي الكبير وعلى ما يشاء قدير. واعلم أن هذه الآية وما قبلها من قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النمل: 86) ، اعتراض في تضاعيف ما ساقه من الآيات الدالة على أحوال الحشر وأهوال القيامة، كاعتراض توصية الإنسان بوالديه في تضاعيف قصة لقمان، ومثل ذلك ليس بعزيز في القرآن، وفائدته هنا التنبيه على سرعة تقضي الآجال وقصر الآماد والتهويل من هجوم ساعة الموت وقرب ورود الوقت المعتاد فإن انقضاء الأزمان وتقضِّي الأوان إنما هو بالحركة اليومية المارة على هذه السرعة المنطبقة على أحوال الإنسان وهذا المرور وإن لم يكن مبصرًا محسوسًا، لكن ما ينبعث منه من تبدل الأحوال بها بما يطروه من تعاقب الليل والنهار وغيره بمنزلة المحسوس المبصر {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) فيكون هذا معجزة النبي مخصوصة به؛ إذ لم يخبر به قبله غيره من الأنبياء، وليس بممكن حمل الآية على تسيير الجبال الواقع عند قيام الساعة، ووفاء النشأة الآخرة؛ إذ هو ليس من الصنع في شيء، بل إفساد أحوال الكائنات، وإخلال نظام العالم وإهلاك بني آدم) اهـ وذكرناه بنصه ولعله لا يسلم من تحريف. (ج) قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} (الأعراف: 54) ليس نصًّا قطعيًّا في حركة الأرض ولكنه يدل على أن الليل الذي هو ظل الأرض يسير مسرعًا وراء النهار الذي هو نور الشمس الواقع على الأرض؛ حتى كأنه يطلبه بإرادة واختيار، ولا يخفى أن النظر إلى تعاقب الليل والنهار يُجِيز لنا أن نقول: إن كل واحد منهما يغشى الآخر ويتبعه أو يطلبه، ولكن جعل الليل هو الغاشي كما يؤيده قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (الليل: 1) يشعر بأن هذه الحركة التي يدور فيها الليل وراء النهار، والنهار وراء الليل هي للأرض، وذلك أن العقل جازم بأن ذلك لابد أن يكون بسبب دوران الأرض تحت الشمس أو دوران الشمس وما يتبعها من الكواكب حول الأرض في هذا المدار الواسع الذي يبلغ نصف قطره بالنسبة إلى الشمس إذا اعتبرنا الأرض مركزًا نحو 52 مليونًا من الأميال.وذكرنا أن مختار باشا الغازي وهو من أكبر علماء الفلك، يقول إن الآية تدل على دوران الأرض قطعًا؛ وذلك أنه يجب حملها على أحد الوجهين المشار إليهما، وأحدهما ممنوع بالأدلة الرياضية وهو كون الشمس التي تدور في هذا الفلك الواسع حول الأرض، ويتبع ذلك أن كواكبها كذلك تدور حول الأرض، ومنها ما هو أبعد منها عن الأرض كثيرًا فيتعين الوجه الثاني وهو الذي قامت عليه الدلائل الرياضية على أنه أقرب إلى العقل والتصور. وأما قوله تعالى: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) الآية، فقد استدل بها المعاصرون على حركة الأرض، وقد قرع هذا الاستدلال سمعي في المدرسة أيام التحصيل، ولم يحسن أحد في توجيهه إحسان عالمكم القزاني - رحمه الله تعالى - فإن جوابه عن ورود الآية في سياق الكلام عن قيام الساعة وأهوال الآخرة بأنه يصح أن يكون مرادًا به البرهان بقياس النظير في العمران على النظير في الخراب - جواب وجيه وما دعم قوله به من بيان معنى الصنع والإتقان قد أحسن فيه الصنع كل الإحسان، لولا أنهم أجابوا عنه بأن الله تعالى أحسن الصنع وأتقنه في تخريب العالم وتبديله، كما أحسنه في إنشائه وتكوينه فلكلٍ وجه، وليست الآية نصًّا في أحدهما ويؤيد قول الجمهور آيات ذكر فيها تسيير الجبال في معرض الكلام على الساعة، ولسنا في حاجة إلى نصوص قاطعة تصف الأكوان بكل أوصافها، وتبين حقائقها وماهيتها، فحسبنا أن الله تعالى أرشدنا إلى البحث وأمرنا بالنظر لنصل إلى ما يمكن الوصول إليه مستدلين به على علمه وحكمته , وشمول قدرته سبحانه فالكتاب مرشد، والبحث موصل، وقد تركنا هذا النظر وصار فينا من يحرمه باسم الدين، وإن ترك الدين بمخالفة كتابه المبين.

شهادة غير المسلم وخبره

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شهادة غير المسلم وخبره (س8) ومنه: هل تقبل شهادة غير المسلم كالنصراني أو اليهودي في بعض الأمور، أم لا تقبل أصلاً، وشهد طبيب نصراني بأن الزوج ضرب زوجته ضربًا شديدًا والمرض حصل بسبب ذلك هكذا كتب الطبيب، فهل يقبل قول هذا الطبيب؟ وهل هذا القول شهادة أم خبر؟ وما الفرق بين الشهادة والخبر؟ أم هذا القول في حكم الكتاب فيعمل به من حيث هو كتاب؟ هذا ما كنا نرجو شرحه من حضرتكم دام فضلكم وعم نفعكم وعلى الله أجركم. (ج) تقبل شهادة غير المسلم في بعض الأمور، وفي ذلك نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُم} (المائدة: 106) وهي في سورة المائدة التي لا نسخ فيها فقد أخرج أحمد من حديث جبير بن نفير عن عائشة قال: دخلت على عائشة فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت: نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرِّموه، وروى البخاري في التاريخ وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء [1] فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا [2] بذهب فأحلفهما رسول الله، ثم وجد الجام بمكة، فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهما، وقال: ففيهم نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (المائدة: 106) وروى أبو داود والدارقطني بسند قال الحافظ ابن حجر رجاله ثقات عن الشعبي، أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا [3] ولم يجد أحدا من المسلمين يُشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته ووصيته، فقال: الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدَّلا، ولا كتما، ولا غيَّرا، وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما. ظاهر الآية والأحاديث مشروعية إشهاد غير المسلم، وخصَّه من قال به من العلماء بالسفر وعدم وجود مسلمين، ولا نعلم أن أحدًا قال بالإطلاق أو بقياس غير السفر عليه عند الحاجة. وعظُم على بعضهم جواز إشهاد غير المسلم، وحاولوا التفصي منه فزعم بعضهم أن الآية يحتمل أن تكون منسوخة، ورُدَّ بأن سورتها آخر القرآن نزولاً، وورد أنه لا منسوخ فيها على أن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وزعم بعضهم أن قوله تعالى {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} (المائدة: 106) معناه من غير أقاربكم ورُدَّ بأن الخطاب في الآية للمؤمنين فغيرهم من ليس على دينهم. وقال بعض العلماء: إن هذه الآية في غاية الإشكال. واحتج من لم يُجز إشهاد غير المسلم، ولم يقبل شهادته عليه بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) ، قالوا: والكافر لا يكون عدلا وقال: الرازي في تفسيره: (أجاب الأولون عنه لم لا يجوز أن يكون المراد بالعدل من كان عدلا في الاحتراز عن الكذب، لا من كان عدلاً في الدين والاعتقاد، والدليل عليه أنا أجمعنا على قبول شهادة أهل الأهواء والبدع مع أنه ليسوا عدولاً في مذاهبهم، ولكنهم لما كانوا عدولا في الاحترازعن الكذب قبلنا شهادتهم؛ فكذا هنا. سلمنا أن الكافر ليس بعدل إلا أن قوله {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} (الطلاق: 2) عام وقوله في هذه الآية: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض} (المائدة: 106) خاص؛ فإنه أوجب شهادة العدل الذي يكون منا في الحضر واكتفى بشهادة من لا يكون منا في السفر؛ فهذه الآية خاصة، والآية التي ذكرتموها عامة، والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متأخرًا في النزول، ولا شك أن سورة المائدة متأخرة فكان تقديم هذه الآية الخاصة على الآية العامة التي ذكرتموها واجبًا بالاتفاق، والله أعلم) اهـ. ولا شك أن المراد بعدل الشهود ما ذكره أولاً، ومن عجيب أمر الجمود على المذهب، والتعصب للتقليد؛ أنه يُجَرِّئ صاحبه على سوء الأدب مع الله تعالى، ومن ذلك قول بعضهم: إن الآية تخالف القياس والأصول، وأي أصل لدين الإسلام غير القرآن؛ فيحتمل عليه أو يرجع إليه. قال في (نيل الأوطار) : (وأما اعتلال من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياس والأصول لما فيها من قبول شهادة الكافر .. و.. و..، فقد أجاب عنها من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره، وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب ... ) إلخ. أما قبول قول الطبيب الكافر؛ فقد قال به بعضهم على إطلاقه، وقيده بعض الفقهاء في المرض المبيح للتيمم أو الفطر في رمضان بما إذا صدقه المريض أي يُعمل بقوله إذا لم تقم قرينة أو شبهة على أنه كاذب وكذلك الطبيب المسلم إذا قامت القرينة على كذبه لا يعمل بقوله. ثم إن من العلماء من يقول إن البينة هي كل ما يتبين به المطلوب حتى يعلم الحاكم مثلاً أن الذي حصل هو كذا، وقد أطال ابن القيم ببيان هذا في كتابه (إعلام الموقعين) واحتج عليه بالكتاب والسنة. وعليه يقال: إذا كان بعض الكافرين المعروفين بالصدق شهدوا في قضية شهادة تؤيدها القرائن، بحيث يطمئن قلب القاضي وغيره بصحتها، وافرض أن من جملة هذه القرائن أنها ربما مَسَّتهم بضرر وأن كتمانها ربما جر إليهم منفعة؛ فإن هذه الشهادة تعتبر على ما ذهب إليه ابن القيم (بينة شرعية) ، على أن مذهب أصحاب الحنابلة تخصيص شهادة الكافر بمسألة الوصية كما ورد، وبكون الشاهدين من أهل الكتاب ولو غير ذميين. وأما الفرق بين الشهادة والخبر؛ فالأصل في الشهادة أن تكون إخبارًا عن مشاهدة ورؤية؛ ثم إنها تطلق على التحمل وعلى الأداء، قال في كشاف اصطلاحات الفنون: الشهادة بالفتح والهاء المخففة لغة خبر قاطع، كما في القاموس، وشرعًا إخبار بحق للغير على آخر عن يقين، وذلك المخبر يسمى شاهدًا: وقال في الكلام على هذه القيود: وقولنا عن يقين يخرج الإخبار الذي هو عن حسبان وتخمين: وكان ينبغي أن يقول الذي قد يكون عن حسبان وتخمين، ثم زاد قيدًا آخر عن فتح القدير وهو (في مجلس الحكم) .

رأي عالم أزهري في العلماء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي عالم أزهري في العلماء تابع لما قبله وقال في فصل عنوانه (حال العلماء اليوم) ما نصه بحرفه ورسمه: ماذا أقول في هذا الباب؟ وماذا ينبغي أن أقول فيه؟ والمقام حرج والحاجة إلى الإبانة شديدة، أأخشى سطوة الرؤساء، وقيامة العلماء، فأكتب من صحائف الإطراء ما تمزقه يد الشهود أم تأخذني العزة بالإثم فلا أرضى أن أنسب لنفسي ولا لأبناء جنسي ما حطَّنا وحقرنا في هذا الوجود أم أسكت وأغالط شعوري وأقول: إني واحد من كثير، أو أعلل نفسي بالقضاء والتقدير. ربي أنت أعلم بحيرتي ودهشتي فانتشلني من أحوال هذا الترديد، وألهمني القول الرشيد، ووفقني لما فيه الخير لي ولأهل ملتي يا رب العالمين. تالله إن من أهم ما يستلفت الأنظار حال علماءنا اليوم، وفائدة الأمة منهم فهم بحسب أصل الوضع المرجع الأعلى في إصلاح شؤون الأمم الإسلامية وغرس الملكات الدينية في قلوب المسلمين، ونشر العلم بينهم ودلالتهم على ما ينبغي أن يكونوا عليه في أمري الدنيا والآخرة وإيقافهم على قبح القبيح وحسن الحسن من الأخلاق والعادات والقول والأفعال؛ إذ هذا هو المقصد من إفراد طائفة بالاشتغال بالعلم وتشييد دور واسعة لهم. ولكن المطَّلع على حالنا اليوم لا يدري هل المقصود من الاشتغال بالعلم الديني هو هذا. أو المقصود أن يحوز الإنسان مُرَتَّبًا يقوم بضروريات معاشه، فيكون العلم الديني من الحِرَف يُقْصَد للتعيش أو المقصود أن يحوز شرفًا وجاهًا وصفة بين الناس لا يحوزها إلا من يؤدي الامتحان، فيقال زكي، نجيب، حاز قصب السبق إلى غير ذلك من العبارات، أو المقصود تكميل الفرق وتتميم الطوائف حتى لا يكون المجتمع الإسلامي خاليًا من فرقة تسمى (العلماء) تتميمًا للنظام، وإن لم تنفع هذا المجتمع بشيء يذكره أو المقصود المحافظة على التقاليد الأولى والأحوال القديمة، ولو بغير معنى، أو المقصود وجوده فرقة تمثل تلك الفرقة العالية التي أقامت هيكل العلم الإسلامي وشيدت له بيتًا من العز في العصور الأولى كما يكون في تشخيص رواية مثلا. ولا يعرف أيضًا هل المقصود من العلم أن يعرفه الإنسان، وإن كان لا يلاحظه في خلقه عاداته وعمله، أو لا بد أن يظهر أثر علمه في شخصه قبل غيره، وهل الغرض أن ينحصر العلم بين جدران المدارس الدينية، أو الغرض أن تكون المدارس كالشمس تنبعث منها الأنوار، في جميع أرجاء العالم ويكون لها أثر في ترقي الأمم الإسلامية مثل تأثير الشمس في إنماء الزروع وإنضاج الثمار وإصلاح هذا الكون. على أني لا أريد أن أفيض في بيان حال علمائنا وما هم عليه فذلك شيء مؤلم، وحسبي منه ما يعلمه الناس، وما مست الحاجة لإبانته في سابق هذا الكتاب ولاحقه ولكني أذكر من ذلك أمرًا واحدًا مهمًا هو علة العلل في كل الأحول، ألا وإنه مبدأ العلماء اليوم ومشربهم، فأقول: ينقسم علماؤنا في مبادئهم إلى قسمين - آخذين بالعادة، وآخذين بالفكر، فأما الآخذون بالعادة فهم جمهور العلماء لا يميلون إلا لما وجدوا عليه من قبلهم معتقدين أن الكمال فيه سواء في ذلك علومهم ومعتقداتهم والكتب التي يدرسونها وطريقة التدريس والأمور الشخصية وسائر الأحوال، والأكابر منهم أهل الكمال، هم الممتازون بالصلاح والتقوى والنظر إلى الآخرة أو بالتدقيق في المباحث اللفظية، والمعاني الخيالية ولكن مع الجهل بالشئون العامة وأكثر العلوم الضرورية والأحوال العمومية، ومع التلبُّس بكثير من المعتقدات الخرافية والأوهام العامية ومع الجمود والوقوف عند حد من الفكر والتعقل أدنى مما ينبغي ومع الاقتصار من العلم على ما لا يكفي ومع عدم النظر إلى نشر العلم أو تقريبه من الفهم وعدم السعي فيما يصلح العامة وما يعود على الأمة بالتقريب في أمري الدنيا والآخرة، ومع عدم الجراءة في شيء مما تنبغي الجراءة فيه ومع عدم الاهتمام بحال المسلمين ولا بما يطرأ اليوم على الإسلام من أوجه الطعن وعدم الاكتراث بإقناع المعترضين ورد المجادلين، بل يكتفون من العلم بتدقيق في الألفاظ وتحقيق لبعض المعاني على ضرب خاص لا يفيد إلا بعد زمن مديد وجهد شديد. وأما الآخذون بالفكر فهم حديثو العهد، ولم يزالوا قليلين جدًّا، وهؤلاء يرون أن ما عليه الأولون غير صواب وينتقدون عليهم في علومهم وأخلاقهم وصلاحهم وسائر أحوالهم، ويرون الكمال في أن يكون الإنسان قوي الفكر شديد العارضة صحيح النظر في الشئون العامة ويعلم من علوم الكون ما يمكِّنه أن يرقِّي به الأمة، ويوقفها في صفوف الأمم الحية ويخرجها من الأوهام وأسر الجهالة ويتغالون في ذلك إلا أنهم مع هذا يثقون بأفكارهم ويستبدون بها ويحكمونها فيما لا ينبغي أن تحكم ويكرهون كل قديم مما عليه الجمهور مع عدم إعطاء تربية الملكة الدينية وما يتعلق بأمر الآخرة من العناية مثل الذي أعطوه للأمور المتقدمة بل مع إغفال ما يقرب الإنسان من الملأ الأعلى ويظهر عليه آثار العبودية. والذي أراه نقص المبدأين وعدم كمال الفريقين، وأن كلاًّ منهما يبتعد عن الغاية التي ينبغي أن يصل إليها أهل العلم بقدر ما يقترب الآخر منها، وأن أجزاء الكمال الواجب للعلماء موزعة عليهم لا مجموعة، وأن كلاًّ مصيب في شيء مخطئ في آخر؛ فإن التمسك بالعادة قبيح كما أن الثقة بالفكر توقع الإنسان في الخطأ من حيث لا يشعر، بل المبدأ الصحيح الذي ينبغي أن يسلكه أهل العقول الراجحة هو كما أقول: (لا تقدس العادة ولا تثق بفكرك) بل تأمل وتدبر فعسى أن يكون ما عليه الناس حقًّا خَفِيَ عليك، وعسى أن يكون ما رأيته صوابًا غفل عنه الناس، وما يتمسك به الأولون من الصلاح والتقوى والانكسار، والإقبال على أمر الآخرة والتحقق بالعبودية حسن، ولكن في موضعه وعلى وجه لا يؤدي إلى الاقتصار عليه وعدم القيام بالشئون الواجبة على العالم من حيث هو عالم يلزمه أن يكون ذا نظر وسعة اطلاع، وإلمام بأخلاق الناس وأحوالهم، وحسن بيان، وعلم بما يلزم من علوم الأكوان ليمكنه أن يقوم بالواجب عليه للناس حق القيام، ويكون لقومه شمسًا مضيئة، ولإعلاء كلمة الحق، وقيام الناس على طريق الهدى؛ سيفًا ماضيًا ومنارًا عاليًا؛ فهذا واجب وهذا لازم، ولهذا وقت ولذاك وقت آخر، فالعالم إذا جَنَّ عليه الليل ذل، وخشع، وانكمش، وانخلع عن هذا الكون الناقص وأقبل على الحق واقترب من ملكوت الله يسجد ويركع، ويسبح، ويقدس، ويمجد الحق، ويناجيه بما شاء حتى تتورم قدماه وينحل جسمه؛ وإذا أصبح أصبح شهمًا جريئًا في موضع الجرأة والشهامة يعظ، ويُرشد، ويُعلِّم، ويقول الحق، ويهدي إلى سواء السبيل، يساير هذا، ويجلس إلى ذلك. إن استعمل الشدة في موضعها فمن غير عنف، وإن استعمل اللين فبغير ضعف، لا تفوته شاردة ولا ورادة مما يرى فيه صلاح الأمة في أمر دنياها وآخرتها؛ فلقد قال الحق في أصحاب رسول الله {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، وقد كانوا إذا رآهم راءٍ في النهار ظنهم من قُطَّاع الطريق يشنون الغارة هنا، ويعارضون عير قريش هنا وهكذا لا تأخذهم رأفة في دين الله؛ فإذا أقبل الليل كان لهم أزيز كأزيز النحل [*] يذكرون الله تعالى، ويسبحونه آناء الليل، وأطرف النهار لا يفترون. وما يغلب على القسم الثاني من القيام بإصلاح الأمة وإرشادها إلى طريق سدادها، وعدم إغفال الفكر مع الميل إلى الترقي في العلوم والمعارف والأخلاق..إلخ حسن. ولكن على وجه لا يعقل معه قوام الدين وأساسه، وهو إيجاد الروح الدينية العالية، والتقرب من الملأ الأعلى، وتعمير القلوب بالأنوار الإلهية والمعارف الوجدانية التي هي غاية الكمال لمرتبة الإنسان، والتي تقرِّب من الحق جل وعلا. وأنت تجد أكثر القرآن إنما جاء ليدعو الناس إلى سعادة وراء هذه السعادة الدنيوية وكمال فوق هذا الكمال الظاهر. هذا ولا بأس أن أستعين بالمقارنة والتمثيل بالأئمة الحائزين لخصال الكمال والمشهورين بأنواعها وأقول: إن العالم لا بد أن يكون في جراءة وعقل وفكر وحسن بيان مثل فضيلة الأستاذ الشيخ محمد عبده وذل وتواضع وخشوع وصلاح فضيلة الأستاذ الشيخ الشربيني. بل أقول: إن العالم الكامل لا بد أن يكون في إقدام عمرو وحلم الأحنف وذكاء إياس وتقوى ووجدان الجُنيد وبلاغة سَحْبَان وعبد القاهر، ونحو سيبويه وفلسفة ابن سينا وفقه أبي حنيفة ... إلخ، وأقول ثالثًا: إن العالم الكامل هو من يجمع من الكمال ما جمع الغزالي أو يفوقه أو يقرب منه، وأسال الله الكريم أن يوجد بيننا علماء أقوياء كاملين يكون هذا حالهم وهكذا شأنهم إنه سميع قريب مجيب) اهـ بحروفه وغلطه وتحريفه. (المنار) هذا هو اعتقاد أحد المدرسين في الأزهر بعلماء الأزهر الذين يقول بعض الناس: إن حفظ الدين يتوقف على بقائهم على حالهم، وإن حديث الناس في مثل ما كتب هذا الشيخ الأزهري كثير، ولكن لم يتجرأ أحد على كتابة ما يعتقد أو يسمع، وطبعه ونشره بين الناس، ولهذا كان لكتابه تأثير عظيم عند خواص الناس ورجا المخلصون في حب الخير لملتهم أن يكون هذا المؤلف عضدًا عظيمًا للإصلاح ولكنه ما عتم أن زلزل رجاءهم بنبذة نشرها في بعض الجرائد اليومية عنوانها (كتاب مفتوح لأمير البلاد) خالف فيها بعض رأيه في كتاب العلم والعلماء،كُتب في بعض الجرائد ردٌّ عليه يشعر بأنه ما كتب هذا الكتاب المفتوح إلا بتأثير لا يقوى مثله على دفعه.وقد بلغنا أن من طلب منه كتابة الكتاب المفتوح هدده بمحو اسمه من ديوان العلماء والمدرسين إذا هو لم يكتب، فصدق القول؛ لأن للمهدد اتصالاً بمن يظن فيهم القدرة على المحو والإثبات، ولو ثبت على رأيه لكان خيرًا له ولو محي اسمه من المدرسين. على أن محوه لم يكن ميسورًا لأولئك المهددين. وإننا نذكر أخانا المؤلف بأن المعتقدين مثله بحاجة الأمة إلى الإصلاح الديني والعلمي كثيرون، ومنهم من هم أوسع نظرًا، وأبعد رأيًا في طريق الإصلاح، وإنما يعوزهم العزم والثبات، وعدم المبالاة بما يلاقون من المعارضة والصعوبات، فإن استطاع أن يكون كذلك؛ فليقدم ولا يخف في الحق لومة لائم، وإلا فليسكت ويسكن خيرًا له من أن يكون كبعض أصحاب الجرائد يسير يومًا على صراط المصلحين، ويومًا على طرق المعارضين.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (كليلة ودِمنة) لهذا الكتاب من الشهرة ما يُغني عن التعريف به، والتنويه بما فيه من الحِكَم الرائعة، والآداب العالية؛ في العبارة البليغة والأسلوب الرفيع. قلما يوجد كاتب مجيد في هذه اللغة لم يكن كتاب كليلة ودمنة من مادته، وهو من الكتب التي عُنيت نظارة المعارف في مصر بطبعها وأوجبت على تلامذة مدارسها مطالعته؛ ليكون عونًا لهم على تحصيل مَلَكَة الإنشاء والتحرير، وليستفيدوا من آدابه وحكمه ما يفيدهم في أنفسهم، كما يفيدهم بعبارته في أقلامهم وألسنتهم. وقد طبع غير مرة في مصر وبيروت وأوربا، ولكن كل طباعته عاطلة من حلي الصور التي وضعت في أصله لتمثيل ما فيه من الحوادث والأمثال، أو لأجل (زيادة الأنس للقلوب، وشدة الحرص عن المكتوب) كما قال ابن المقفع مترجم الكتاب حتى عثر الشيخ أحمد طباره محرر جريدة (ثمرات الفنون) في بيروت على نسخة خطية من الكتاب مزينة بالصور في مكتبة الشيخ جمال الدين القاسمي من علماء دمشق الشام كتب عليها (إن نسخها قد تم في العاشر جمادى الأولى - سنة ست وثمانين بعد الألف على يد أبي المنا بن نسيم النقاش) ، وعدد الصور فيها 86 فأخذ نسخه وكلف بعضه مهرة الصناع الأوربيين بنقلها إلى الزنك ليطبع عنها فجاءت كأصلها وطبع الكتاب بالصور واضعًا كل صورة في مكانها من الأصل وقد عني بمقابلة هذه النسخة على النسخة المطبوعة في باريس سنة 1816 م والنسخة المطبوعة في مصر سنة 1297 هـ والنسخ المطبوعة في بيروت. قال: (اخترت منها ما كان أقربها من الأصل وأبعدها عن التحريف والتبديل وأسلمها من الزياد والنقصان) ولهذه الصور فائدة تاريخية؛ لأنها تمثل لنا أزياء تلك العصور الذي وضع فيها الفيلسوف الهندي كتابه، وشيئًا من عاداتهم، وفائدة صناعية من حيث فن الرسم والتصوير، والقارئ يرى أن هذه النسخة أحسن نسخ الكتاب، وهي مشكولة ومضبوطة، ثم النسخة منها عشرة قروش صحيحة وأجرة البريد قرشان وتطب من إدارة المنار بمصر. *** (جواب أهل الإيمان في تفاضل آي القرآن) سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد تقي الدين بن تيمية الشهير عما ورد في الحديث من أن سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) تعدل ثلث القرآن وعما ورد في سور أخرى من التفضيل. فأجاب بجواب مطول فيه فوائد كثيرة لا توجد في غيره، وطبع في هذه الأيام فكان كتابًا مؤلفًا من 132 صفحة، ومن مباحث الكتاب بيان معنى المعادلة والتفاضل في القرآن، وما ورد في الفاتحة وأحكام المذاهب في قراءتها في الصلاة، وبيان كون قصة موسى أعظم قصص الأنبياء في القرآن، وبيان سبب عدم تكرير قصة يوسف، وغير ذلك من الكلام في قصص الأنبياء ومنها مباحث في القرآن، وكونه غير مخلوق، وفي النسخ مباحث في التوحيد والاعتقاد والتفسير. وقد طبع على نفقه الشيخ عبد الرحمن زين الدار الحلبي فجزاه الله خيرًا. *** (خطب الأعظمي) قرَّظنا في الجزء الرابع والعشرين من المجلد السابع ما طبع من هذه الخطب، وانتقدنا على الخطيب الشدة في التعبير في بعض المواضع؛ لعلمنا بأنها تهيج عليه بعض الجامدين على ما هم عليه الزاعمين أن كتمان عيوب الأمة والسكوت على ما وصلت من الانحطاط واجب لئلا يطلع الأجانب على نقصنا فيحقرونا أو لأنه لا يصح أن نبين أن المسلمين الآن منحطون عن الكافرين، ولغير ذلك من الشبه الواهية، وقد وقع ذلك من بعض أهل الجمود في الهند وأما الذين اطلعوا على نموذج الخطب في مصر فلم نسمع عنهم انتقادًا؛ لأنهم تعودوا على سماع وقراءة أمثال هذه الزواجر، وإنني لا أدري أي القطرين أشد جمودًا على الحال السيئة التي وصل إليها المسلمون: القطر المصري أم القطر الهندي، ولكنني أعلم أن في كل منهما أنصارًا كثيرين لمن ينادي بالإصلاح ويندد بالتقاليد والعادات الضارة في أمر الدين وأمر الدنيا، مهما غلظ وشدد، ومن يقل منهم بوجوب إلانة القول فإنما يريد الرفق بأهل الجمود لعلهم ينجذبون إلى الحق بسهولة ولا يريد أن الشدة في غير محلها أو غير نافعة. وأحسن القول عند طلاب الإصلاح ما كان تأليفًا بين المسلمين، وهو أقبحه عند الجامدين، كما ترى فيما يلي. *** (أهل السنة والشيعة) إن العلماء الراسخين من هاتين الطائفتين لا يقولون بأن مخالفهم في المذاهب كافر خارج من الملة، وأهل السنة يذكرون في كتب العقائد أنهم لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة، وإن أتى بشيء مما يعدونه كفرًا متأولاً فيه، ولا شك أن الشيعة يؤمنون بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، ويشهدون (أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) وأن كل ما جاء به من أمر الدين حق ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان، ويحجون البيت من استطاع منهم إليه سبيلاً، ومع هذا كله تجد من المتعصبين الذين يسمون أنفسهم (أهل السنة والجماعة) من يحكم بكفرهم، وأهل السنة والجماعة أحرص على الجمع بين أهل القبلة منهم على التفريق، ومن القواعد عند بعض فقهائهم - وحبذا هذه القاعدة - أنه إذا وجد مئة قول صحيح في تكفير مسلم بقول أو عمل أو اعتقاد وقول واحد ضعيف بعدم تكفيره فالواجب أن يفتى بالقول الضعيف. لهذا نتعجب أشد التعجب ما بلغنا عن بعض المشايخ المتفقهين في الهند أنهم كفروا الشيخ عبد الحق الأعظمي؛ لأنه عبر في خطبة له عن الشيعة بقوله: (إخواننا) وقد يوجد في مصر من يطلق هذه الكلمة على النصارى أو اليهود، ولا يكفره أحد؛ للعلم بأنه يعني بلفظ الإخوان أخوة الإنسانية، لا أخوة الدين، ولا وجه لتكفيره، إلا إذا علم أنه يعتقد أن عقائد النصارى وعباداتهم هي عين عقائد الإسلام، وأنها حق ومرضية عند الله تعالى مثلها؛ لأنه بذلك يكون مكذبًا للقرآن، وخارجًا خروجًا حقيقيًّا عما جاء به النبي من أصول الإيمان، وأما إذا أراد مجرد المجاملة كما يجاملوننا بمثل هذا اللفظ، ولا يعنون به أننا على الحق من غير ملاحظة أمر الدين، ولا أمر أخوة الإنسانية فإنه لا يحكم بكفره مادام يعتقد أن دينه هو الحق ولا ينكر شيئًا من أصوله المجمع عليها المعلوم بالضرورة أنها منه. يظن هؤلاء الشيوخ الغافلون المغرورون بخضوع العوام لأقوالهم من غير دليل ولا برهان أن الإغلاظ على المخالف لمذهبهم، والغلو في عداوته من أسباب تأييد الإسلام وأهله وخذلان الكفر وحزبه، والبدعة وفرقها، والحق الذي لا مِرْية فيه هو أن الغلو في الخلاف والعنف في المقاومة هو الذي يغري كل ذي رأي أو مذهب أو دين بالتعصب فيه، والجمود عليه والدفاع عنه من غير تأمل في كونه حقًّا أو باطلاً بل لمجرد مقاومة المخالفين، وبذلك تكون الخسارة على صاحب الحق من المختلفين لأنه لولا الغلظة والتعصب لنظر كل فريق فيما عند المخالف له نظر إنصاف، والإنصاف أقوى أعوان الحق وأنصاره، ولو جرت القرون الأولى بالإسلام على طريق الغلظة والشدة في مقاومة المخالف ومجادلته لما انتشر في الخافقين ذلك الانتشار السريع. هؤلاء الشيوخ الغالون في التعصب على كل من يخالف آراءهم أو آراء شيوخهم في مذاهبهم أعدى أعداء الجماعة والسنة؛ لأنهم أقدر من غيرهم على تفريق الكلمة، فهم يهدمون بناء الوحدة الإسلامية في حزب المحافظين على القديم بشبهة تأييد المذهب ومن ورائهم المتفرنجون يهدمونه بشبهة تأييد الوطنية؛ فالهدم واقع على بناء الإسلام من داخله ومن خارجه، ولا نصير له إلا فئة تحاول الجمع والتأليف بحمل أهل المذاهب المختلفة على تحكيم الكتاب العزيز والسنة المتواترة فيما شجر بينهم وأن يعذر كل فريق منهم الآخر فيما وراء ذلك من الأمور التي فيها للنظر والاجتهاد مجال، وبإقناع المتعصبين للوطنية بأن الاتحاد على عمارة الأوطان لا يقطع الأخوة بين أهل الإسلام والإيمان، فنسأل الله أن ينصر هذا الحزب ويؤيده على أعداء أنفسهم وأعداء ملتهم بأن يوفقهم للدخول في السلم كافة واجتناب خطوات الشيطان الرجيم. *** (مناظرة مَتَّى بن يونس وابن سعيد السيرافي) كان بين متى بن يونس المنطقي وأبي سعيد السيرافي النحوي مناظرة في المفاضلة بين المنطق والنحو وكان الفلج فيها لأبي سعيد في محفل حافل بالعلماء والفضلاء؛ فأدلى بحجة على أن النحو قد يغني عن المنطق، وأن المنطق لا يغني عن النحو، ولا شك أن (مَتَّى) قد عجز عن بيان فائدة المنطق، وأن بعض ما قاله (أبو سعيد) في حجاجه لا يخلو من المغالطة ولكنه في بلاغته وقوة عارضته قد اختلب خصمه الذي كان عييًّا حصرًا، لا يقدر أن يبين ما يعلم حق البيان. والمناظرة من رواية أبي حيان التوحيدي وهي بعبارة انتهت إليها البلاغة، وبراعة الأسلوب، وقد عني بطبعها صاحبنا الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق الأستاذ بمدرسة أكسفورد الجامعة، وطبع معها ترجمتها بالإنكليزية له، والطبعة العربية لا تخلو من تحريف قليل يعرف أكثره مما وضع في الهامش من اختلاف النسخ فنثني على همة الدكتور لعنايته بخدمة لغتنا ثناء حسنًا. *** (الهدى) مجلة إسلامية علمية أدبية عمرانية إصلاحية تصدر في غرة كل شهر عربي لمديرها سيد أفندي محمد ناظر المدرسة التحضيرية ومدير المجلة المدرسية وقد صدر الجزء الأول منها في غرة المحرم الماضي في 28 صفحة كبيرة، وفيها بعد فاتحة المجلة وبيان منهاجها (دعوة شريفة يخاطب بها الكاتب علماء هذه الأمة بوجوب مقاومة البدع الغاشية، وجمع كلمة الأمة المتفرقة، ومقالة في آراء حكماء العرب في المعدن والنبات والحيوان والإنسان، ومقالة في العلوم الاجتماعية لأحد طلبة مدرسة الحقوق ونبذة عن مسلمي القزان، وخطرات في الإصلاح، وقصائد لبعض شعراء العصر. وقيمة الاشتراك فيها للمصريين 40 ولغيرهم 12 فرنكًا، فنتمنى لهذا المجلة التوفيق والثبات. *** (الصحافة) جريدة أسبوعية تصدر في القاهرة لصاحبها ومحررها مصطفى أفندي توفيق الجراحي مؤلفة من ثمان صفحات بشكل الجريدة الرسمية، وتطبع على ورق جيد، وهي من أحسن الجرائد الأسبوعية بمصر نزاهة واعتدلاً، وقيمة الاشتراك فيها 70 قرشًا في مصر و22 فرنكًا في غيرها،فنتمنى لها التوفيق والنجاح. *** (الهجرة) جريدة أسبوعية تصدر في طنطا لصاحبها ومدير سياستها عبد الرحمن أفندي الذهبي وهي كسابقتها في مقدمة الجرائد الأسبوعية موضوعًا على حداثة عهدهما وقد قرأنا فيها مقالات مفيدة ولكننا نحب أن يُعنى بتصحيحها فيما يأتي أكثر من العناية به فيما مضى. وقيمة الاشتراك فيها مئة قرش في القطر المصري و30 فرنكًا في سائر الأقطار فنتمنى لها الثبات والانتشار.

البدع والخرافات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البدع والخرافات والتقاليد والعادات كتب أحد المهندسين في القاهرة إلى مفتي الديار المصرية كتابًا قال فيه بعد رسم الخطاب: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فإني شاب مسلم مصري الجنس تعلمت في مدارس الحكومة وحصلت على الشهادات النهائية التي أهلتني أن أشتغل بوظيفة مهندس الآن، وطالما ألهاني الشباب عن تأدية الفرائض الدينية حينًا من الدهر لأمر يعلمه الله، ولما أن مَنَّ الله - سبحانه وتعالى - عليَّ بالهداية وهداني إلى الصراط المستقيم؛ قدمت لحضرتكم هذا الخطاب بصفتكم أول عالم عامل بمصر، كما أعلمه ويعلمه إخواني جميعًا، تحبون إزالة النقائص التي يقوم بها إخواننا في الإسلام سواء في القرى أو البنادر التابعة لحكومتنا المصرية التي لم تزل للآن ممتعة بحرية الإسلام، وتلك النقائص كثيرة جدًّا أهمها: زيارة الأضرحة - الخطابة يوم الجمعة بالمساجد - النذور - الأذكار. (1) زيارة الأضرحة: تعلمون فضيلتكم أن تسعة وتسعين في المائة من مسلمي القطر يعتقدون أن ساكن الضريح له اليد الطُّولى في شفاء الأمراض وتسهيل الأرزاق، بل قد أشركوه مع الله - سبحانه وتعالى - في العمل مع أنه بريء من ذلك وأنه لم يكن إلا مخلوقًا مثلنا أطاع الله وعمل بشرائعه في دنياه فأكرمه الله في أخراه، وأني واثق أن فضيلتكم تعلمون ذلك، وسمعتم بالطلبات التي تقدم لساكن الضريح، بل قد تطرفوا فانتقلوا من زيارة صاحب الضريح إلى التبرك بالمقصورة أو التابوت أو عتبة مدخل الضريح، الأمر الذي يقضي فيما بعد بتغير العقائد الدينية. (2) الخطبة يوم الجمعة: قد رأيت أغلب خطباء المساجد ليست عندهم مقدرة تامة على أداء وظيفة الخطابة بدرجة تؤهلهم أن يبثوا في أفكار المصلين ما يلزم اتباعه وما لا يلزم شأن كل خطيب في الزمن السابق، بل إنهم جعلوا الخطبة محفوظة حفظوها حفظًا، وربما لا توافق الزمن الذي نحن فيه؛ لأن فائدة الخطابة حض المصلين على ترك ما لا يوافق الشريعة، ويأتي الخطيب بأحاديث تزجر المصلين عن ذلك، بل إن بعض الخطباء يعلو المنبر ويبتدئ بالخطبة وينتهي منها ولا يسمع له صوت إلا في الصف الأول، وربما لا يتعدى الصف الثاني. فإذا رأيتم عمل تعديل في مشايخ المساجد، وترك مسألة الوراثة واستحضار خطباء من المتخرجين من مدرسة دار العلوم - يكون أليق بالإسلام والمسلمين وتكونوا قد وفيتم الدين حقه، وجاهدتم الجهاد المفروض على كل مسلم. (3) أرى لكل ضريح صندوقًا مخصوصًا للنذور، وما يُجمع في هذا الصندوق من فقير أو غني جاهل أو عاقل يوزع في آخر السنة على خدَمة الضريح، وترون فضيلتكم أن أغلب خدَمة الأضرحة هم أناس ذوو ميسرة عن غيرهم خصوصًا في هذا الوقت الذي عم فيه جهل الزائرين؛ فإذا وافقتم على أن يعطى ما يجمع في تلك الصناديق لديوان الأوقاف كي يصرفه في أعماله الخيرية التي يعم نفعها أو يسلم للجمعية الخيرية الإسلامية كي تستعين به على إنشاء المدارس وتربية الأيتام وعلى أن تنظروا في حالة الخدمة المستحقين الذين ليس عندهم عقارات أو أطيان وتزيدوا مرتباتهم حتى يمكنهم التعيش منها، وعلى وضع مبشرين من المتخرجين من مدرسة دار العلوم بالأضرحة كي يرشدوا الزائرين إلى حقيقة الزيارة وفوائدها - فبهذا تثابون من الله ثواب الدنيا والآخرة. (4) الأذكار التي تقام في البلدان أرى أنها مخالفة للشريعة؛ فإذا رأيتم وضع عقاب صارم لكل شخص يحدث منه تهكم أو نقص فيها يكون أوفق، والله يهديكم ويوفقكم لفعل الخير لإخواننا المسلمين جميعًا، وفي الختام أقدم لجنابكم احترامي لمقامكم العلمي. اهـ *** (المنار) اطلعنا على هذا الكتاب فنشرناه؛ لعلمنا أنه كما قال كاتبه صدى رأي كثيرين من المهندسين وغيرهم، والشكوى من هذه البدع والتقاليد قد كثرت في هذه البلاد بكثرة المتعلمين المميزين. وأما المخاطب به وهو الشيخ محمد عبده فقد بذل جهده في مقاومة البدع بالإرشاد في دروسه العامة ومجالسه الخاصة حيث كان، وقد سعى لإصلاح حال المساجد وما يتبعها من الأضرحة بالفعل فوضع لذلك تقريره المشهور الذي اقترح فيه على ديوان الأوقاف أن يجعل خطباء المساجد، وأئمتها من العلماء المدرسين، وأن يكون التفاضل بينهم بالامتحان وغير ذلك من الاقتراحات الإصلاحية التي تحيي العلم والدين، وبعد أن أقره المجلس الأعلى، وكاد يشرع في تنفيذه عرض ما أوقف التنفيذ كما ذكرت ذلك بعض الجرائد من نحو سنة وذكرناه أيضًا. ولما كان هذا الرجل هو الذي انبرى لمثل هذه الخدم دون غيره من العلماء الذين وجد فيهم من يسعى لإبطال خدمته للإسلام، فالواجب على هذا الكاتب وعلى من على رأيه من إخوانه المسلمين أن يكتبوا بمثل هذه الكتابة إلى شيخ الجامع الأزهر طالبين منه أن يكلف طائفة من العلماء بأن يسعوا معه في المطالبة بتنفيذ لائحة المساجد والأضرحة؛ وبإبطال هذه البدع الفاشية في معاهد الدين وأعماله؛ وما كان له وجه شرعي من هذه الأعمال التي يستنكرها الكاتب وأمثاله فليبينوه لهم بدليله من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة دون أقوال المقلدين؛ ليكونوا على بصيرة من دينهم، ومتى قام بالدعوة جماعة من العلماء رُجي من النجاح ما لا يرجى من الواحد، ولهذا قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُنَ إِلَى الْخَيْرِ وَيضأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوَلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) .

الحياة الزوجية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحياة الزوجية (2) اختيار المرأة لِمَالِها: إن من يختار المرأة زوجًا له لحسنها وجمالها، يختارها لصفات فيها، وإنما كان مخطئًا لأنه عني بصفات الجسد التي يسرع إليها التغيير، ولا تكفي للقيام بحقوق الزوجية، وما تراد له الزوجة، ولم يحفل بصفات النفس الثابتة التي هي مناط السعادة والهناء، أو مَجْلَبَة التعاسة والشقاء، وأما من يختار المرأة لأنها ذات مال وثروة؛ فهو إنما يختارها لأمر خارج عن ذاتها؛ فهي غير مطلوبة له، ولا مرغوب له فيها؛ وإنما مطلوبه المال يتمتع به، وهي عنده وسيلة له؛ فإذا نزلت بالمال جائحة أو اغتالته غائلة؛ صارت المرأة عنده كالشيء اللقا لا قيمة لها؛ ولا حاجة إليها، وما عساها تصادفه مع وجود المال من الحظوة والكرامة؛ فأجدر به أن يكون مصانعة ورياء، وحسب الزوجين شقاء أن يرائي بعضهما بعضًا، ويدهن أحدهما للآخر. وهذا شأن من يطلب المال عفوًا بغير عمل لا يكون إلا مرائيًا مداهنًا. يعيش المنافق مع الناس الذين يدهن لهم في اضطراب دائم؛ لأنه يشعر في نفسه بأنه يعيش مع خصماء وأعداء؛ فإذا لم يكن له من يخلص هو لهم ويخلصون له كان شقاؤه دائمًا، واضطرابه مستمرًّا، ومن أحق بهذا الإخلاص من الزوجين اللذين خلقا ليسكن كل منهما إلى الآخر؛ ويلابسه في جميع شؤونه لباسًا يتحد به معه، حتى يكونا كشخص واحد؟! أرأيت إذا انعكس الأمر فكانت الزوجية التي هي علة السكون والارتياح ومبعث الحب والإخلاص وسبب المودة والرحمة -علة للاضطراب والانكماش، ومثارًا للرياء والدهان؟ أرأيت إذا صارت الغاية التي يقصد لأجلها الكسب، وسيلة للرزق وطريقة للربح، يلجأ إليها الكسالى المترفون، ويرغب فيها أهل الشره الطامعون؟ أرأيت إذا وصل الناس إلى الحد في فساد الفطرة والخروج عن محيط الشرعة؟ ! أيكون المال الذي يعبدون كافيًا لتحقيق سعادتهم، وحفظ شرف بيوتهم وأمتهم؟! كلا، إن هؤلاء لا حظ لهم في الحياة إلا التوغل في اللذات الجسدية، والزينة الظاهرة؛ فلا يبالي واحدهم بشرف البيت ولا بعزة الأمة، يُخْرِبون بيوتهم بأيديهم. ويبسلون أمتهم بسوء مساعيهم، بل هم آلات التفريق والتحليل؛ لأن كل واحد منهم يهتم بلذة نفسه، ويجتهد في أن لا يتصل بغيره، وكيف يمكن أن يتحد بمجموع قومه من انكمشت نفسه دون الاتحاد بزوجه، على ما لاتحاد الزوجين من العلل والجواذب النفسية والطبيعية والشرعية والاجتماعية؟ يكثر طلب المرأة الغنية لهذا العهد في الطبقة المتعلمة على الطريقة العصرية فلا تكاد ترى بين شبان هذه الطبقة إلا الباحثين عن البنات الوارثات؛ أو اللواتي ينتظر أن يرثن مالاً كثيرًا، وأرضًا واسعة، ودورًا عامرة، ولا تكاد تسمع منهم عند ذكر الزواج إلا قولهم: (إنني أطلب فتاة تملك دارًا، وكذا فدانًا من الطين) وهذا دليل على أن التعليم الذي تعلموه ما كان إلا ضارًّا بهم، بما أفسد من فطرتهم، وياشقاء من تتزوج بواحد منهم، فإنما يكون حظها منه أن يستعين بمالها على التمتع بشهواته الفاسدة خارج بيتها، وويل لها إن سكتت موافقة، وألف ويل لها إن نطقت مخالفة. لو ذهبنا نعد مفاسد هؤلاء المخذولين في اختيارهم هذا وآثاره؛ خرج بنا القول عن حد المقالة المنبهة، ودخل في أبواب الكتب المطولة، وكفى بما ذكرناه منبهًا للغافل وسائقًا للنظر العقلي في ذلك وللبحث في حال هؤلاء الناس، وفيها عبر وآيات للمتفكرين. وقد يشتبه على بعض الباحثين ما يراه من الحب، وسكون النفس، والوفاق وحسن المعيشة بين زوجين اختار الرجل منهما المرأة لغناها، أو استحسان صورتها؛ فيظن أن ما قلناه غير صحيح، ونحن لا نجهل أن مثل هذا قد يقع فيكون على حد المثل (رمية من غير رام) والسبب في مثله أن يكون بين هذين الزوجين مشاكلة في الطباع، وتناسب في الأخلاق، وتقارب في العادات من حيث لا يدري بذلك أحد منهما قبل الاقتران. ولكن هذا قليل لا سيما في طلاب المال وعُبَّاده الذين يرضون أن تكون الزوجية وسيلة له؛ لأن من بلغ منه فساد الفطرة هذا المبلغ قلما يهنأ لأحد معه عيش كما قلنا آنفًا. الطريقة المثلى في الاختيار: يجب أن يُلاحظ في المرأة الصفات التي يُرجى أن يتحقق بها مضمون قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) وقوله -عز وجل -: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} (الفرقان: 74) ، وقوله - جل ثناؤه -: {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} (النساء: 24) وهذه الصفات بعضها بدنية، وبعضها نفسية، وبعضها قومية، ومنها ما لا بد منه في كل امرأة، ومنها ما يختلف باختلاف أحوال الناس؛ فيشترط عند بعض دون بعض. أما الصفات الجسدية: فمما لا خلاف في اشتراطه منها: الصحة، وسلامة البدن من التشويه والعاهات المنفرة، ولا حاجة لتعليل هذا الشرط ولا لبيان سوء حال الحياة الزوجية عند عدمه؛ فإنه من المعلوم بالبداهة أن النفس لا تسكن إلى ذوي العاهات والأدواء، بل تضطرب وتنزعج منهم، وأن المرأة المريضة لا تحصن الرجل؛ ولا تكون قرة عين له؛ بل تكون بلاء عليه، وأما ما تختلف فيه الأذواق فهو ما وراء ذلك مما يسمون الكمال فيه حسنًا بارعًا، وجمالاً رائعًا. والميل إلى الحسن والجمال غريزي في البشر؛ وهو مما تختلف فيه الأذواق والمشارب، (وللناس فيما يعشقون مذاهب) ولا نعرف شعبًا من الناس يشترط رجاله الجمال البارع في الزوج؛ وإنما يعُدونه من الأوصاف الكمالية إلا من ذكرنا في النبذة الأولى من هذا المقال وهم الذواقون الذين يتزوجون ميلاً مع الهوى لا اتباعًا للمصلحة، ولا إقامة لسنة الفطرة. قد يكون من المصلحة للأكثرين تجنب الجمال البارع لمن يتزوج؛ لما ذكرنا من منافع الزواج وحكمه، ولكن يعذر من يمقت في المرأة صفة من الصفات؛ إذا لم يرض الاقتران بالمتصفة بها؛ كمن يمقت البحترة، أو البهصلة، أو الرسحاء، أو النقواء. وقد تكون هذه الأوصاف من المنفرات لبعض الناس، على أن لكل ساقطة لاقطة، وإنما يتخير الجمال البارع أو ما دون البارع من يكون موضعًا لتسابق رغبات النساء وأهليهن إليه؛ لمكانته وجاهه، أو لثروته وماله؛ فإن من طبيعة التفاضل أن يكون فيما تصل اليد إليه، ويسهل الاستيلاء عليه. وأما الصفات النفسية فهي الأخلاق، والملكات، والعلم، أو العلوم، فأما الأخلاق: فإنها علة لسعادة الحياة أو شقائها في جميع طبقات الناس على الجملة. وأفضل أخلاق النساء: (العفة والصيانة) لأن معنى الزوجية لا يتحقق بالاختصاص، وإنما تكون المرأة مختصة ببعلها إذا كانت عفيفة. ثم إن الحكمة في الزوجية هي: (الإنتاج والنسل) الذي يحفظ به النوع ويكثر به سواد الأمة وتعظم قوتها، واختلاف الرجال على امرأة واحدة من أسباب قلة النسل؛ فما هتك النساء حجاب العفة في أمة؛ إلا وقل نسلها بمقدار شيوع الفاحشة فيها، وناهيك بما في اختلاط الأنساب من المفاسد. لا يوجد عيب من العيوب في الخلقة أو في الأخلاق يذهب بهناء الزوجية وغبطتها، ويمحو آيات منافعها وحكمتها - كخيانة المرأة للرجل في نفسها، ويغنينا عن الإسهاب في بيان ذلك ما هو ثابت في الغرائز ومعروف بالاختبار. وقد مَنَّ الشاعر العربي على أولاده بِتَخَيُّر والدتهم من ذوات العفة، قال: فأول إحساني إليكم تخيري ... لماجدة الأعراق باد عفافها ومن غريب إكبار الرجال لعفة نسائهم أنك تجد الفاسقين من أشد الناس غَيرة؛ لأن علمهم بفساد النساء يزيد في حذرهم على نسائهم أن يكن كمن يعرفون من غيرهن؛ وهذا من أسباب قلة الزواج في البلاد التي يكثر فيها الزنا؛ لأن أكثر الرجال يخافون إن يبتلوا بمن لا عفة لهن. وأغرب منه ما اشتهر عن الفساق من محاولة بعضهم الاختصاص ببعض البغايا، يحب الرجل بَغِيًّا تُوهمه أن له عندها من الحظوة ما ليس لغيره؛ فيبذل لها المال الجم الكثير ليغنيها به عما تكسب من سواه، وتكون خاصة به دون من عَداه. ومتى كانت البغي ترعى العهد، وتصفي الود؟ ولكنه جنون الرجال بالاختصاص والغيرة؛ يخرج بهم عن محيط العقل والتجارب، وكم أدى ذلك إلى دماء تُسفك، وأرواح تُزهق. ومن الأخلاق التي لا يتم لأحد هناء العيش مع فقدها: (الأمانة والحرص والاقتصاد) فإذا لم تكن المرأة أمينة على ما يعهد إليها حفظه، حريصة على ما بين يديها من مال الرجل وكسبه، مقتصدة فيما تنفق - تسوء حال البيت ويقع فيه الشقاق ويحيط به الشقاء. وأما الصفات والملكات التي تختلف الرغبة فيها باختلاف الأشخاص والطبقات، فأهمها عند الطبقات المرتقية بالعلم والتربية: (النظام وتدبير شؤون البيت) وإذا كانت بيوت الشَّعْر في الصحاري، وشعاف الجبال، وأكواخ الفقراء وبيوت الفلاحين في المزارع والقرى، ليس فيها من الأثاث والرياش والماعون، ولا من المرافق والأعمال ما تعوز في إدارته وتدبيره ملكة النظام المكتسبة بالعلم والعادة والقدوة؛ فإن في دور الطبقات العالية والمتوسطة من المتعلمين وكذا غير المتعلمين ما لا يتم نظامه إلا إذا كانت ربة الدار مدربة على النظام والتدبير. نعم، إن غير المتعلمين لا يؤلمهم من فقد النظام في بيوتهم، ما يؤلم الذين عرفوا قيمة النظام وفوائده وتربوا عليه؛ أو حملهم العلم بفائدته على طلبه والاستقامة على طريقته. يبلغ حب النظام ببعض العارفين مبلغًا لا يهنأ له عيش؛ ما دام يرى في داره شيئًا من الخلل الذي لا يشعر غير العارفين بمعرفته بكونه خللاً يطلب إصلاحه ككون حجرة النوم قليلة الأثاث، تَعَرُّض فرشها وحشايا سريرها للشمس والهواء كل يوم، وككون كل من حجرة الجلوس، وحجرة الطعام، وحجرة المكتب وغيرهن على طريقة كذا وكذا. ومن المتعلمين من يرى من ضروريات الحياة أن تكون نفقات البيت كلها في يد ربته، وأن يكون العمل فيها بمقتضى ميزانية سنوية فإذا لم تكن امرأته قادرة على ذلك؛ فإن نفسه لا تسكن إليها، ولا تكون هي قُرة عين له. ولا تقل إن هذا يدخل في صفة العلم الذي ينبغي أن تكون عليه المرأة؛ فإن العلم لا يكفي فيه، ولكنه شرط له؛ فما كل من يتعلم علمًا يقدر على العمل به، وإنما يقدر عليه من يقرن العلم بالعمل والمزاولة. كَثُرَ في الترك عدد الرجال الذين يريدون أن تكون المرأة قهرمانة وريحانة معًا وفي نسائهم - لاسيما في الآستانة - عدد غير قليل قد ربين على ما يحب الرجال. وجميع المتعلمين من النصارى، وكثير من المسلمين في سوريا ومصر على هذا الرأي أيضًا، ولكن عدد المسلمات المتعلمات المتربيات على هذه الطريقة قليل جدًّا في القطرين، ولذلك صار الزواج يقل في المتعلمين رويدًا، وإذا ارتقى التعليم والتهذيب عما هو عليه الآن في الرجال؛ فإن هذه القلة تزيد زيادة فاحشة، ولكن أكثر المتعلمين لم ترتقِ نفوسهم عن اتخاذ المرأة ريحانة يتمتع بها ما صلحت للتمتع؛ كالزهرة تشم ويعتنى بها ما دامت غضة ذكية؛ فإذا ذبلت أُلقيت. ولا رغبة لهم فيما وراء هذا إلا بأن تكون ذات مال يتمتع به الزوج كما يتمتع بصاحبته؛ فهي عندهم من جملة المتاع لا فرق بينها وبين ما يحصل معها إلى دار الزوج من الأثاث والماعون، إلا كما يفضل إناءٌ إناءً آخر من جنسه أو نوعه، ولو كثر عدد الفتيان المهذبين لتبعه كثرة الفتيات المهذبات؛ لأنه متى عرف واشتهر أن ج

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حقوق الذميين ومعاملة الأجانب (س 9) أ. م. في سراي بوسنة: كتب محمد فريد وجدي في كتابه (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) في بحث واجبات المسلمين بالنسبة للذميين، أي أهل الكتاب الذين هم في ذمة المسلمين في صحيفة 86 (وقد ترك لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أعظم أُسوة يجب أن نأتسي بها في معاملة الأجانب عن ديننا ومخالفي معتقداتنا؛ فإنه عليه أشرف التحية والسلام كان يحضر ولائمهم ويغشى مجالسهم، ويشيع جنائزهم، ويعزيهم على مصائبهم) . ونحن لم نطلع على ذلك في كتاب غير كتابه المذكور ولا ندري: أيجوز ذلك أم لا؟ وخصوصًا تشييع جنائزهم، فإنه صلي الله عليه وسلم على ما نعلم نُهِيَ عن ذلك بقوله عز وجل: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وهذا وإن نزل في حق الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم؛ إلا أنه يدخل فيهم سائر الكفار قياسًا بدليل قوله عز وجل عقيب ذلك: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (التوبة: 84) فجئنا إلى حضرتكم سائلين أن تبينوا لنا: هل صح أنه صلى الله عليه وسلم فعل ما نقلنا آنفًا من الكتاب المذكور، وهل جاز لنا أن نفعل ذلك اقتداء بأثر نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن صح ذلك وجاز لنا أن نفعل؛ فما هو الجواب عن الآية الكريمة المذكورة؟ أفيدونا بذلك آجركم الله تعالى. (ج) ما ذكره فريد أفندي في كتابه غير صحيح على إطلاقه، وقد بيَّنا غير مرة أنه لا يجوز الاعتماد على ما يُذكر في الكتب من الأحاديث والسنة إلا إذا كانت مَعْزُوَّة إلى مخرِّجيها من المحدثين؛ ليعرف صحيحها من غيره، وعبارة فريد أفندي تدل على أن ما ذكره كان سنة متبعة، ولو كان كذلك لاتفق الفقهاء أو أهل الأثر منهم على القول بوجوبها أو سنيتها. نعم ورد في العيادة حديث صحيح ذكرناه في المجلد السابع وفيه حديث ضعيف عند البيهقي عن أنس (كان إذا عاد رجلاً على غير الإسلام لم يجلس عنده، وقال: كيف أنت يا يهودي كيف أنت يا نصراني) ولا يُحتج به. وأي حجة لنا على حسن معاملة المخالفين لنا في الدين أقوى من قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8) ... إلخ، ومن إباحة طعام أهل الكتاب والتزوج منهم، ومن وجوب حماية الذمي والمعاهد وغير ذلك مما هو معلوم فلا حاجة إلى أن نعزو إلى السنة ما ليس منها، ونوجب على المسلمين ما لم يوجبه الله تعالى عليهم مما ذكر في السؤال. أما قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّات} (التوبة: 84) الآية، فهو نهي عن جعل المنافقين كالمسلمين في أحكام الدين الظاهرة والاستدلال به على تحريم تشييع جنازة الكافر أو زيارة قبره غير ظاهر، ولم أر أحدًا من علماء السلف وأئمة الدين استنبط ذلك منها. ولكن بعض المفسرين المتأخرين رأى أن من الاحتياط عدم زيارة قبر الكافر؛ لأنه يشبه أن يكون من القيام المذكور في قوله {وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (التوبة: 84) وإن أجاز الزيارة كثير من العلماء بل نقل بعضهم جوازها عن أكثر العلماء؛ لأنها للعبرة، والصواب أن القيام المنهي عنه هو ما كان معهودًا من القيام على القبر بعد الدفن للدعاء والاستغفار. ولا شك أنه يحرم على المسلم أن يشارك غير المسلمين في كل عمل من أعمال دينهم، وأنه يباح له أن يجاملهم فيما لا ليس من أعمال دينهم ولا مخالفًا لديننا. وقد ذكرنا في المجلد الماضي وغيره كثيرًا من أحكام معاملات المسلمين لغيرهم وفيها من التساهل ما نفتخر به على جميع الملل، فلتراجع. *** العدالة العامة وحكمة الله في الناس (س10) ومنه: ربما يقع البحث عن (الواجب الوجود تعالى وتقدس) وأوصافه الشريفة وخصوصًا كمال عدله ورحمته تعالى، فيوجد من الشاكين المشككين من يقول: لو كان الله موصوفًا بكمال العدل لما جعل بعض الناس مؤمنين وبعضهم كافرين وجعل مأوى الطائفة الأولى الجنة والآخرة جهنم، فإذا أجيب له عن ذلك بما أجبتم في واحد من أعداد المنار وهو أن الله تعالى لم يخلق كافراً قط إلى آخر ما قلتم وأقنع بذلك أورد اعتراضًا آخر يقول فيه: نعم سلمنا أنه لم يخلق كافرًا قط كما قلتم، لكن ليس من العدل أن يجعل بعض الناس مولودًا من الأبوين المؤمنين اللذين يكونان سبب إيمانه وفي ديار الإسلام التي أكثر أهاليها أهل الإسلام والناشئ بينهم في العادة يتخذ دينًا ومذهبًا مثل دينهم ومذهبهم، وأن يجعل البعض الآخر مولودًا عن الأبوين الكافرين اللذين يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، وفي دار أهل الكفر الذين بمجاورتهم والنشوء بينهم يكون هو في العادة مثلهم فرب رجل مؤمن لو ولد من الأبوين الكافرين وخصوصًا في دار أهل الكفر لم يكن مؤمنًا بل قلما يتصور ذلك وبالعكس؛ رُبَّ رجل كافر لو ولده أبوان مؤمنان، وخصوصًا لو نشأ بين أهل الإسلام كان مسلمًا ولم يكن كافرًا. فسهّل لبعضهم الدخول إلى الإسلام ووعده الجنة وصعب ذلك للبعض الآخر وأوعده بجهنم. وإذا جيء إلى البحث عن كمال رحمته تعالى يقول: إما أنه تعالى ليس متصفًا بكمال الرحمة، وإما أنه لا يدخل أو لا يخلد أحدًا في النار؛ فإن تخليد التعذيب لا سيما بالنار التي هي أشد التعذيب الذي إذا ذكر اقشعر جلد الرجل المدني لا يليق بإنسان، بل يخرجه عن أن يكون رحيمًا وبالطريق الأولى عن أن يكون متصفًا بكمال الرحمة؛ فكيف يليق ذلك بالبارئ تعالى الذي نقول في حقه: إن أعمالنا لا تضره ولا تنفعه؟ فنحن أتينا مسرعين إلى باب جنابكم راجين أن تشفوا غليل صدورنا بحديد الرد على الاعتراضات المذكورة للشاكين المشككين وتروونا بزلال أجوبتكم الشافية الوافية التي تكون حججًا ساطعة للموحدين، دامغة للذين امتلأت قلوبهم بشبهات الطبيعيين والدهريين، وخلت عن اليقين المخصوص بالمؤمنين، لا زلتم ملجأ وملاذًا للمحتاجين، إلى الاستنارة بنور علم الدين المبين، وموردًا للذين صدورهم ظمأى، وطبيبًا للذين قلوبهم مرضى، قاهرًا للذين أفئدتهم هواء. (ج) ترى في كتب الصوفية كلمة جليلة يرونها حديثًا عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - ويقول المحدثون إنها لم ترو حديثًا وإنما هي ليحيى بن معاذ الرازي رحمه الله تعالى، وهي (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ولا يعرف علو قدر هذه الكلمة إلا من عرف نفسه وعرف ربه فإن كانت ليحيى فلله در يحيى. من عرف نفسه بعرفان معنى الإنسان وما خص به من المزايا والمقومات لا يصدر عنه مثل ذلك الاعتراض الذي يهذي به جهلاء الماديين أو المقلدين الذين قال في مثلهم الشاعر: عمي القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدا لا ينكر هؤلاء المعترضون أن الإنسان أرقى المخلوقات المعروفة في هذا العالم ثم إنهم على اعترافهم بفضل الإنسان، وسموّ الحكمة في خلقه وتقويمه ينبذون من الأقوال ما يستلزم الاعتراض على خلق الإنسان والاعتراف بأن عدمه خير من وجوده. ثم إن لاعتراضهم سببًا آخر وهو الجهل بمعنى ما ورد من إثابة المحسنين وعقاب المجرمين إذا ظنوا أنه من قبيل عقاب الحكام لمن يخالف أوامرهم وقوانينهم انتقامًا منهم، والحق أن ما ورد في القرآن من ذلك هو كالشرح لما أودعه الله تعالى في خلق الإنسان من المزايا {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ} (الروم: 30) . والنتيجة أن ذلك الاعتراض جهل بالحقيقة وجهل بالشريعة. بيان ذلك أن الإنسان خلق مستعدًّا لارتقاء وكمال في عقله وروحه غير محددين، على أن يكون ارتقاؤه بسعيه وعمله الاختياري كما خلق مستعدًّا لأن يهبط بسعيه واختياره إلى أخس دركة من الشر والرذيلة. هكذا خلق الإنسان كما هو معروف لنا في أنفسنا وفيما نراه في أفراد جنسنا وجمعياته، ولم يخلق حيوانًا محضًا كسائر أنواع الحيوان محدود الإدراك والقوى ملهما طلب ما تقوم به حياته الحيوانية واجتناب ما لا حاجة له به في تقويمها، ولا ملكًا روحانيًّا كامل الخلقة محدود القوى لا أثر لعلمه في ارتقائه ولا في تدليه، فالإنسان نوع من أنواع الحقائق الممكنة تعلقت قدرة الله تعالى بإيجاده فوجد على ما نعلم من الاستعداد غير المتناهي الذي تظهر آثاره جيلاً بعد جيل، ولو لم يوجد الله تعالى هذه الحقيقة لكان العالم ناقصًا، ولم يكن فيه شيء من هذه الآثار البديعة التي ظهر وسيظهر بها من سنن الله تعالى وحكمه في خلقه ما لم يكن يظهر لولا هذا النوع المكرم؛ لأن الحكمة الأزلية قضت بأن تكون آثار مخلوق مختار في عمله غير محدود في قواه وتصرّفه. لم يخلق الإنسان عبثًا، ولم تخلق قوة من قواه البدنية والروحية عبثًا فكل قوة منها آلة لاكتساب الخير والسعي في أسباب الرقي؛ إذا لم يُفْرِط ولم يُفَرِّط في استعمالها. وقد جعل الله له ميزانين يعرف بهما القسط في الوزن من التفريط وهو الخسران والإفراط وهو الطغيان وهما العقل والدين. فمن كان له اعتراض على قوة من قوى الإنسان أو مزية من مزاياه يزعم أنها تنافي العدل الإلهي أو الرحمة العامة فإننا مستعدون لكشف الشبهة له في اعتراضه وإثبات أن تلك القوة آية من آيات العدل والحكمة وأثر من آثار الفضل والرحمة. بعد التسليم بأن الإنسان أثر من آثار الحكمة والرحمة ننظر في تأثير عمله في نفسه التي هي حقيقتة وجوهره، كما أن البدن صورته ومظهره فنجد أن من تلك الأعمال ما ترتقي به النفس في معارفها وصفاتها وهو ما تكتسبه من العقائد الصحيحة والمعارف الحقيقية ومن عمل الخير والبر، ومنها ما هو بضد ذلك والمرتقون هم الأبرار، والآخرون هم الفجار، وإذ انتهينا إلى هذا الحد من بيان حقيقة الإنسان. فإننا نذكر مسألة الكفر والإيمان، ونذكر بعدها مسألة الرحمة والعذاب متجنبين التطويل والإطناب، لما سبق لنا من تكرير الدخول في هذا الباب فنقول: بينا غير مرة أن عقائد الإسلام هي مرقاة للعقل وآدابه وعباداته مرقاة للنفس وأحكامه مرقاة للاجتماع وقد ذكرنا هذا المعنى في تفسير: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217) من هذا الجزء. فمن دُعِيَ إلى هذه الأصول دعوة صحيحة، فلم ينظر فيها أو نظر فظهر له الحق فعانده ولم يتبعه يكن في غاية الانحطاط العقلي والنفسي ونهاية البعد عن الحق والخير والتوغل في الباطل والشر وهو ما يعبر عنه بالكفر والجحود وهو الجاني على نفسه بمعاندة الحق والخير ورفض سلم الترقي، وأما من لم تبلغه هذه الدعوة على وجهها الصحيح الذي يحرك إلى النظر ومن بلغته فنظر فيها بالإخلاص ولم تظهر له حقيقتها فهو غير معاند للحق ولا كاره بسوء اختيار للخير. وعلامة مثله أن يتبع ما يظهر له أنه الحق ويعمل بما يراه من الخير بحسب فهمه واجتهاده، ولكنه مع هذا لا بد أن يكون منحط العقل والإدراك؛ إذ عُرض عليه أرقى العقائد وأسمى الفضائل وأعدل الشرائع فلم يهتد إلى فهم مكانة هذه الأصول فلا يكون ارتقاؤه من فهم هذه الأصول وتقبلها وكمل نفسه بها. فا

فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالد وغيرها من البدع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتوى ابن حجر في تحريم الاجتماع للموالد وغيرها من البدع كتبنا غير مرة في بيان مفاسد هذه الاجتماعات التي يسمونها الموالد. وقد سمعنا وقرأنا في الجرائد أن مولد السيد البدوي (رحمه الله تعالى) الذي احتفل به في هذه الأيام قد حشر له من الخلائق أكثر من ألف ألف؛ أي أكثر من ضعفي حجاج بيت الله الحرام، وأن أسواق الفحش والفجور في رواج لم يُعهد له نظير؛ لأن ثروة المصريين كل عام في مزيد، وتمسكهم بالدين كل يوم في نقص. وقد أحببنا أن ننشر لهم فتوى في الموالد لأشهر فقهاء الشافعية في عصره - وأكثر المصريين شافعية - وهي موافقة لسائر المذاهب؛ لأن الدليل الذي ذكره متفق عليه ولأنه لو كانت المسألة خلافية لما أطلق القول بحكمها، ليعرف من لم يكن يعرف أن حضور بعض العلماء العصر في هذه الموالد لا يدل على حِلِّها، وإنما يدل على عصيانهم لله تعالى وعدم الاعتداد بعملهم ولا بعلمهم. وهي بحروفها كما في ص 112 من الفتاوى الحديثية: وسئل -نفع الله به- عن حكم الموالد والأذكار التي يفعلها كثير من الناس في هذا الزمان، هل هي سنة أم فضيلة أم بدعة؟ فإن قلتم إنها فضيلة؛ فهل ورد في فضلها أثر عن السلف أو شيء من الأخبار؟ ، وهل الاجتماع للبدعة المباح جائز أم لا؟ وهل إذا كان يحصل بسببها أو بسبب صلاة التراويح اختلاط واجتماع بين النساء والرجال، ويحصل مع ذلك مؤانسة، ومحادثة، ومعاطاة غير مرضية شرعًا (تحل) وقاعدة الشرع: (مهما رجحت المفسدة حرمت المصلحة) وصلاة التراويح سنة ويحصل بسببها هذه الأسباب المذكورة فهل يمنع الناس من فعلها أم لا يضر ذلك؟ فأجاب بقوله: الموالد والأذكار التي تفعل عندنا أكثرها مشتمل على خير كصدقة، وذكر وصلاة وسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ومدحه، وعلى شر، بل شرور لو لم يكن منهما إلا رؤية النساء للرجال الأجانب (لكفى) وبعضها ليس فيها شر لكنه قليل نادر ولا شك أن القسم الأول ممنوع للقاعدة المشهورة المقررة: (إن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) فمن علم وقوع شيء من الشر فيما يفعله من ذلك فهو عاص آثم، وبفرض أنه عمل في ذلك خيرًا فربما خيره لا يساوي شره ألا ترى أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - اكتفى في الخير بما تيسر وفطم عن جميع أنواع الشر حيث قال: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه) فتأمله تعلم ما قررته من أن الشر وإن قل لا يرخص في شئ منه والخير يُكتفى منه بما تيسر. والقسم الثاني سنة تشمله الأحاديث الواردة في الأذكار المخصوصة والعامة كقوله: (لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده) رواه مسلم وروى أيضًا أنه قال لقوم يذكرون الله ويحمدونه على أن هداهم للإسلام: (أتاني جبريل -عليه الصلاة والسلام - فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة) . وفي الحديث أوضح دليل على فضل الاجتماع على الخير والجلوس له، وأن الجالسين على خير كذلك يباهي الله بهم الملائكة وتنزل عليهم السكينة وتغشاهم الرحمة ويذكرهم الله تعالى بالثناء عليهم بين الملائكة، فأي فضل أَجَلُّ من هذه. وقول السائل - نفع الله به - وهل الاجتماع للبدع المباحة جائز؟ جوابه: نعم، هو جائز قال العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: البدعة فعل ما لهم يعهد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنقسم إلى خمسة أحكام: يعني الوجوب والندب ... إلخ. وطريق معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرع، فأي حكم دخلت فيه فهي منه، فمن البدع الواجبة تعلم النحو الذي يُفهم به القرآن والسنة، ومن البدع المحرمة مذهب نحو القدرية، ومن البدع المندوبة إحداث نحو المدارس والاجتماع لصلاة التراويح، ومن البدع المباحة المصافحة بعد الصلاة، ومن البدع المكروهة زخرفة المساجد والمصاحف أي بغير الذهب وإلا فهي محرمة، وفي الحديث (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) وهو محمول على الحرمة لا غير، وحيث حصل في ذلك الاجتماع لذكر أو صلاة التراويح أو نحوها محرم وجب على كل ذي قدرة النهي عن ذلك وعلى غيره الامتناع من حضور ذلك وإلا صار شريكًا لهم، ومن ثم صرح الشيخان بأن من المعاصي الجلوس مع الفساق إيناسًا لهم) اهـ. وعبارته تشعر أنه لم يكن في هذه الموالد على عهده من المنكرات عشر معشار ما فيها اليوم؛ إذ لم يكن الفسق مباحًا في عصر من العصور كما هو اليوم مع عموم الجهل بالدين وكثرة الدراهم والدنانير، فكيف لو رأى زماننا هذا. وإذا كان الاجتماع للذكر أو صلاة التراويح يحرم إذا هو اشتمل على محرم، ويجب النهي عنه لمن قدر فيكف لا يجب على شيخ الأزهر النهي عن مثل المولد الأحمدي الذي صار موسمًا للفحش والفجور وكبائر الذنوب، والذي يمتنع لأجله طلب العلم في الجامع الأحمدي ليكون مأوى للنساء ينامون مع الرجال ليلاً ونهارًا وللأطفال يبولون فيه ويغوطون وللمجانين يصيحون فيه ويصخبون. وإنما خصصنا شيخ الأزهر بالذكر؛ لأنه أقدر رجل في مصر على إبطال هذه البدع والفواحش والله الموفق.

أحوال المغرب الأقصى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحوال المغرب الأقصى كتب إلينا من فاس عاصمة المملكة المراكشية ما يأتي: أحوال المغرب الأقصى الحالية في غاية الارتباك والتشوش، وأضحت أعقد من ذنب الضب، وبيان ذلك: أن سفير فرنسا طلب من السلطان باسم حكومته تقرير مطالبه الآتية: (1) ترتيب وتنظيم جيش يؤلف من 100 أورطة. (2) أن يكون هذا الجيش تحت إمرة أحد قواد فرنسا ويعطى هذا القائد صفة وعنوان مستشار لناظر الحربية الفرنسوية. (3) أن يكون ضباط الجيش ما فوق اليوزباشي من الفرنسويين. (4) مد الأسلاك البرقية بواسطة الفرنسويين. (5) تعيين مستشارين فرنسويين للمالية. ولما أُبلغ السلطان طلبات السفير ألف في الحال لجنة من خمسين واحدًا من أعيان البلاد، وكلفهم أن يقرروا ما يجب وأن يكتبوا الجواب اللازم ليبلغ السفير الفرنسوي، واجتمعت اللجنة قبل تاريخه بثلاثة أيام وقررت باتفاق الآراء رفض طلبات السفير. ولما أرسل الجواب إليه قال: (إنكم يا قوم لا تبغون الإصلاح لوطنكم، ولكن اعلموا أن الحكومة الفرنسوية تصرف كل سنة ما يزيد عن ستة ملايين في سبيل إعادة الأمن العام على الحدود الجزائرية الذي طالما اختل بسبب ثوراث القبائل الناشئة من فساد أحكامكم وسوء أحوالكم؛ لذا ترى حكومتي أن ترسل جنودًا لمقاومة كل ثورة تقوم على الحدود في المستقبل، وتضرب القبائل الثائرة وتؤدبها وتضبط بلادها وتعين عليها الحكام والقضاة من قِبَلها (أي فرنسا) والآن أريد من حضرة السلطان أن يصدق على طلبي هذا ويأذن أن نعمل بموجبه. هذا ما قاله السفير الفرنسوي، وهذا ما طلبه بعد رفض طلباته الأولى على أن الفتن والقلاقل والمشاكل، والثورات الناشئة عما يُلقيه أصحاب الدسائس مثل أبي حمارة وأبي عمامة امتدت على طول الحدود الجزائرية حتى إن نار الثورة سرت من الحدود إلى القبائل النازلة قرب العاصمة التي لا تبعد عن أبوابها إلا ساعتين فقط، والحكومة متحيرة في أمرها لا تعلم كيف ترد عنها هذه النازلة، والمنتظر أن تصير الثورة عامة في البلاد المراكشية فتقضي على المملكة ويوجد الآن جيش مؤلف من (50000) جندي من مسلمي الجزائر في (وجده) على مقربة من الحدود ينتظرون الأمر من الحكومة الفرنسوية لتخطي الحدود والدخول في الأرضي المراكشية، على أن حكومة المخزن ليس لها حتى في عاصمتها أكثر من خمسمائة جندي. كل ذلك والمسلمون قضاتهم، وحكامهم، وعلماؤهم، وعامتهم ينتظرون المدد والفرج من قبر مولاي إدريس، والسلطان يستأجر مائتين من طلبة العلوم ويأتي بهم كل ليلة للنداء بكلمة (يا لطيف) مائة ألف مرة فيجلسون عند قبر مولاي إدريس ويرسلون أصواتهم إلى السماء قائلين (يا لطيف يا لطيف ……) والناس ينتظرون من تأثير ذلك أن يمرض السفير الفرنسوي فيموت أو أن ألمانيا تعلن الحرب على الحكومة الجمهورية. ومن المصادفات الغريبة أن وردت الأخبار بقرب وصول إمبراطور ألمانيا إلى طنجة فابتهجت القلوب وابتسمت الثغور، ولا تسل عما دخل من السرور بل من الغرور في قلوب هؤلاء الطلبة قراء (يا لطيف) من فوزهم الأكبر هذا ونجاحهم باستجلاب إمبراطور الألمان إلى بلادهم ليدرأ عنه العلة الفرنسوية نسأل الله أن يكون في عون هذه الأمة المسكينة المستسلمة إلى يد الجهل والغرور. أما السلطان فإنه أرسل عمه مولاي عبد الملك والصدر الأعظم ومستشار ناظر الخارجية لاستقبال عاهل الألمان ومعهم كثير من الهدايا النفسية. ومما يصح أن يذكر أن السفير الفرنسوي لم يذكر شيئًا عن نشر المعارف وفتح المدارس في مذكرته، بل يظهر أنه يقاوم المعارف، فقد علمنا أن بعض الأعيان والأغنياء هنا عزموا على فتح مدرسة حربية وأخرى طبية بشرط أن يكون التدريس فيهما باللغة العربية، ولما استأذنوا أولي الشأن في المسألة وبلغت مسامع السفير الفرنسوي استشاط غضبًا، وأقام النكير واعترض اعتراضًا شديدًا على فتح المدارس ولا إصلاح بدونها! ! رأينا في المنار أنكم عازمون على الرد على رسالة المهدي الوزاني ولا حاجة إلى ذلك؛ فإنها ملآنة بقال فلان وحكى فلان، كأن الرجل مسدود الأذنين عن الآية القائلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ولا يخفى أن هذا الرجل ومن ماثله يحصلون على قوتهم من وراء قبور (الأولياء) وأنتم باجتهاداتكم الدينية المفيدة أقمتم سدًّا منيعًا بينهم وبين مطامعهم؛ فلو استطاع لنسفكم بقنبلة مدفع ولم يكتف بالرد عليكم. هنا ربيعة (الربيعة صندوق النذور) عبد السلام الوزاني وربيعة مولاي إدريس يعملان ما لا يعمل معمل (فابريقة) مدافع كروب؛ إذ إن العوام ينثرون نصف ما يكسبونه على ربيعه مولاي إدريس قائلين (يا قطب المغرب يا مولاي إدريس) ويضعون النصف الآخر في جيب الوزاني صائحين (يا دار الضمان) . اهـ. (المنار) إذا صحت راوية الكاتب، ولا نخالها إلا صحيحة فالسفير الفرنسي لم يترك لعاقل منفذًا لتحسين الظن بفرنسا؛ لأن مقاومة العلم والاكتفاء من الإصلاح بالأخذ بقوف رقبة الحربية، وبحجزه خزينة المالية وبمعاقد المواصلات العمومية - مما يثير سوء الظن بأنه لا غرض لفرنسا إلا الاستيلاء على البلاد لأجل استغلالها، لا لأجل تمدينها، أما غرور المراكشيين بزيارة عاهل ألمانيا لطنجة توهمًا أن ذلك كرامة لمولاي إدريس - رحمه الله - فهو لجهلهم بالسبب واعتيادهم على جعل الأمور العادية من خوارق العادات. السبب الصحيح لمعارضة ألمانيا لفرنسا في استعمار مراكش الآن هو المناظرة والمنافسة المعروفة، وسنوح الفرصة بانكسار روسيا في حربها مع اليابان واشتعال نيران الثورة والفتنة في بلادها، ولولا واقعة مكدن التي خسر بها الروس نحو150رجلاً بين قتيل وجريح وأسير وتلك الثورات - لم تندفع ألمانيا إلى ما اندفعت إليه. وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من فرنسا في مستعمراتها، بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما بالعقل والحكمة دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا وبالاً عليهم.

الحياة الزوجية ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحياة الزوجية (3) وأما العلم فلا يشترطه في المرأة أحد في بلادنا إلا ثلة من المتعلمين والمتأدبين على الطريقة الإفرنجية، وقليل من العارفين بكُنه مدنية الإفرنج الذين يقدرون محاسنها قدرها، وإن لم يتعلموا على طريقتهم. ولا يزال أكثر المسلمين لا يعقلون لتعليم المرأة فائدة، بل يرونه ضارًّا من جهة واحدة هي عندهم لا تُوازَن ولا تُقابَل بشيء إلا وتكون أربى منه وأكبر، وهي أن البنت المتعلمة تجرَأ على الرجال، وتقدم على مكاتبة من تميل إليه من الشبان، وإنه ليوجد في المتعلمات لهذا العهد من يُحكى عنهن ذلك، ومثل هذه الحكايات تسري، وتذيع بسرعة البرق وتؤخذ بالتسليم، ويجري فيها القياس للقطع بأن علتها التعلم، وأنه حيث وجدت العلة لزمها المعلول لا محالة. ولا يمكن إقناع العامة بأن العلم ليس علة لمكاتبة البنات للشبان يلزم من وجودها الوجود، وإنما هو شرط يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم؛ لأن العامة لا تفهم مثل هذه الحجج وخاصة النساء، فالعمدة في إقناعهم بمزايا تعليم النبات هو ظهور أثره الحسن في المتعلمات بمصر وتونس وسوريا وغيرها من الأقطار،ولم يظهر. على أن التقليد يفعل في الأمم ما لا يفعل الإقناع؛ وأشد الناس استعدادًا وقبولاً له الشعب المصري، وإذا وُجد في أمرائه وكبرائه عناية بتعليم البنات تقليدًا للإفرنج الذين يُعاشرون ويُمازجون، فلا بد أن يَعُمَّ التقليد جميع الطبقات، وقد ظهرت بوادر ذلك منذ أعوام، وهي تنمو مع السنين والأيام، فالآباء والأمهات صاروا ينبذون بناتهم إلى المدارس، وهم لا يدرون ماذا يتعلمن ولا يعرفون ما المصلحة في ذلك إلا أن البنت المتعلمة يرغب فيها الخاطبون الأغنياء ما لا يرغبون في غيرها، ثم إنهم بهذا الاندفاع لا يميزون بين مدرسة إسلامية أو غيرها، ولا يفكرون في خطر إفساد عقيدة البنت وتحويلها عن دينها أو عادات قومها وخلائقهم المميزة لهم، ولا في كونها تطرح الحياء وتتجرأ على مكاتبة الرجال - كما يعتقدون - لأن تيار التقليد الجارف لا تقف في طريقه هذه الخواطر إن هي طافت بهذه العقول الضعيفة، والقلوب الميتة التي أعوزتها البصيرة والعزيمة، فلم تجدهما في وراثة ولا تربية. وفي هذا الاندفاع خطر عظيم على الأمة، كنا ولا نزال نحدث الناس به؛ فيقبله المعتدلون وينبذه الغلاة في التفرنج، وقد أتيح لنا في هذه الأيام ما يقنعهم وهو ما قاله اللورد كرومر في تقريره عن مصر لسنة 1904، وإننا نذكره هنا لأن بحثنا في الحياة الزوجية إنما هو من حيث هي ركن لحياة الأمة وسعادتها أو عكس ذلك. قال: تعليم البنات (كثيرًا ما أسمع الناس يقيمون الحجج والأقيسة على حمل بعض المسائل السياسية والإدارية في بَر مصر ويبنونها على فرض أن المصريين لا يزالون متصفين اليوم بصفات أجدادهم وخصائصهم. وعندي أن هذه الحجج والأقيسة لا تخلو من سفسطة. فالتغير حاصل ولست أقصد أن أعظمه أو أبالغ فيه، وإنما أقول: إنه لا يمكن أن كل خلق وصفة من الأخلاق والصفات القومية يتغير تغيرًا تامًّا في ربع قرن، ولو أمكن ذلك لما كان مستحسنًا؛ لأنه يخشى في مثل هذا التغير السريع أن يذهب الحَسَنُ من الأمة بجَرِيرَةِ الرديء. ولكن ليكن معلومًا عند الحكام المصريين وعند كل من له اتصال بأمور مصر أن هناك قوات عاملة قد أثرت في أخلاق المصريين القومية فغيرتها بعض التغير، وستغيرها أكثر من ذلك على مر الأيام. وهذه القوات العاملة معظمها يعمل تَدْرِيجًا ويغير رويدًا رويدًا حتى لقد يخفى عمله عن عيون المراقبين في بعض الأحوال، ولكن بعضها يعمل سريعًا، حتى لقد غيَّر تغييرًا ظاهرًا محسوسًا. ومن الشواهد على ذلك تعليم البنات؛ فإن الرأي العام المصري تغير في هذه الأعوام الأخيرة تغيرًا كليًّا في هذه المسألة الجوهرية العظيمة الشأن. ومما يزيدنا استعظامًا لهذا التغير في الرأي العام أنه آخر ما كان الناس - حتى الذين يراقبون منهم أخلاق أهل الشرق أدق مراقبة - يتوقعون حدوثه بمثل ما حدث من السرعة؛ نظرًا إلى الآراء المعهودة عن مقام المرأة في بلاد مصر. ولكن مصر بلاد العجائب والغرائب، فلا عجب إذا كَذَّبَ أهلها نبوءات المصلحين الاجتماعيين بتحولهم عن حال إلى حال؛ تحولاً لم يكن يخطر على بال، فقد كانوا منذ عشر سنوات لا يُبالون بتعليم البنات، بل ربما استخفُّوا به واستنكفوا منه، ولذلك كانت كتاتيبهم خالية من بناتهم سنة 1900 ما عدا 271 كُتَّابًا من جملتها الكتاتيب التي تحت مراقبة الحكومة. وكان عدد كل البنات اللواتي يتعلمن فيها 2050 بنتًا، أما في سنة 1904 فبلغ عدد الكتاتيب التي يتعلمن فيها 1748 كُتابًا، وبلغ عددهن فيها 10462 بنتًا. وأبلغ من ذلك أن 100 بنت طلبن دخول المدارس الابتدائية العالية ومدارس تعليم المعلمات بالقاهرة في السنة الماضية؛ فلم يُجَبن إلى طلبهن لعدم وجود محل لهن فيها. فأحسن خدمة يخدم بها المصريون المعارف والتعليم في بلادهم تقوم بإنشاء مدارس ابتدائية منظمة للبنات في بنادر القطر. هذا وإن قلة المعلمات المدربات على التعليم أفضت إلى تأخير تعليم البنات في جميع فروعه، ولكن العقبات في هذا السبيل أسهل من العقبات التي في سبيل وجود المعلمين المدربين على التعليم؛ فإن عند نظارة المعارف في المدارس الابتدائية العالية والكتاتيب عددًا قليلاً من البنات المسلمات الممرنات على التعليم. وعليه يتسع نطاق تعليم البنات شيئًا فشيئًا وفي مدرسة المعلمات الآن 15 تلميذة ينتهي معظمهن منها في الثلاث سنوات القادمة، وينتظمن في سلك المعلمات. وقد أخبرت أنهن متى انتهين من المدرسة لم يعسر وجود غيرهن من اللواتي يدرسن مكانهن. أما مقدار ما تؤثره هذه النهضة لتعليم البنات في أفكار الجيل المقبل من بنات مصر وفي أخلاقهن ومقامهن فستُظهره لنا الأيام على مر الأعوام. على أنه إذا تأتَّى عنها تغيير في مقامهن فالمأمول أن هذا التغيير يكون تدريجًا، وعسى أن المصلحين الاجتماعيين - من أبناء مصر- يحفظون في أذهانهم قول مَثلهم العربي (العجلة من الشيطان والتأني من الله) وعلى الأخص في هذه المسألة أكثر مما في غيرها؛ لأن العجلة فيها يمكن أن تؤدي إلى طامة أدبية عظيمة، على أنه إذا لم يتغير مقام المرأة المصرية تغيرًا تدريجيًّا فمهما قلد المصريون أهل التمدن الأوربي ظاهرًا فهيهات أن يتشربوا روح التمدن الأوربي الصحيح بأحسن مظاهره حقيقة) اهـ كلام اللورد. فلينظر وليتأمل القارئ البصير كيف عَدَّ هذا السياسي الحكيم تحويل أهل مصر بسرعة من حال إلى حال في هذه المسألة من العجائب والغرائب، التي لم تكن تخطر في بال أحد من علماء الاجتماع وكيف أشار إلى أن هذه العجلة شيطانية ونقول: إن نصيحته هذه للمصلحين من أبناء مصر سيحفظها له التاريخ ويذكرها له في المستقبل مقرونة بإجلال الفضيلة والإخلاص لا سيما إذا كان إثم الانقلاب المنتظر أكبر من نفعه كما يتوقع. كانت حال النساء في أوربا على أسوء ما يخطر في بال البشر من المهانة والاحتقار ولذلك كان ما يسمونه (رد الفعل) في التحول والانقلاب عظيمًا؛ فبعد أن كانوا يعتقدون أن المرأة ليست من البشر، وإنما هي حيوان دون الإنسان وفوق سائر الحيوانات، وبعد أن كانوا يَسُومُونها الخسف، حتى حرموا عليها أكل اللحم، ومنعوها الكلام والضحك في حضرة الرجال، وأوجبوا عليها السمع والطاعة لزوجها في كل شيء، ولو كان ضارًّا أو خسيسًا أو شاقًّا لا يطاق؛ أطلقوا لها العنان تتعلم ما تشاء، وتعمل ما تشاء، وتتهتك كما تشاء وتحكم كما تشاء، حتى صارت تشارك الرجال في أعمالهم الخاصة خارج البيوت فأهمل من أمر نظام البيوت بقدر ذلك ولا غنى للبيوت عن النساء، وكل عمل خارجها فهو مستغن بالرجال عنهن، وانتهى الأمر بكثيرات منهن إلى اختيار التبتل فرارًا من أثقال الزوجية، وناهيك بانتشار البغاء، وشيوع الفاحشة وما في ذلك من المفاسد والمضرات. وقد أنشأ العلماء والحكماء يشعرون بخطر هذا الإطلاق لصنف لا همَّ لأفراده غير الزينة والراحة، واتباع هوى النفس؛ لأن وجدانهن أقوى من عقلهن، ولكن كل ما يتعلق بصفات الأمم وشؤونها لا يظهر نفعه أو ضرره، ولا يمكن إيجاده أو منعه إلا في زمن طويل. ليس من غرضنا في هذا المقال أن نبحث عن أحوال الأمم في انتقالها وتحول أحوالها، ولا عن حال النساء في أوربا، ومنافع تعليمهن ومضاره، وإنما غرضنا أن نبين أن العلم الذي ينبغي أن تعرفه المرأة هو ما لا يخرج بها عن كونها امرأة وهو ما تكون به قرة عين وخير سكن للرجل المتعلم يحسن معها به عيشه ويكون عونًا لها على تهذيب ولده وإدارة شئون بيته لا ما تكون به فيلسوفة ولا سياسية ولا صانعة، وهذا ما اختارته أرقى دول أوربا في العلوم والمعارف، وهي دولة ألمانيا التي ينسب إليها بعض دول أوربا التقصير في تعليم النساء وستضطر كل الدول إلى سلوك سبيلها في يوم من الأيام. ليس البيت مملكة فيتوقف عمرانه على العلوم العالية والفنون الصناعية والزراعية والتجارة، وتتوقف إدارته على معرفة الشرائع والقوانين، وليست العلاقة بين البيوت كالعلاقة بين الدول فتضطر ربَّة البيت في حفظ حقوقه إلى التوغل في السياسة والفنون العسكرية، حسب المرأة أن تتقن لغة أمتها وتعرف آدابها وأن تعرف الحساب وعلم تدبير المنزل، وعلم حفظ الصحة، وعلم الأخلاق وعلم التربية، وأن يكون هذان العلمان قائمين على أساس الدين مقرونين بمعرفة عقائده وآدابه وأحكامه والتاريخ العام بالإجمال، وتاريخ أمتها وبلادها بالتفصيل وعلم تقويم البلدان وعلم الاقتصاد. ثم مبادئ وموضوعات سائر العلوم وفوائدها بقوة الإجمال، وأن تعرف الطبخ والخياطة والتطريز وما يتصل بذلك، ولا يصدنها عن هذا أنها من بيوت الأغنياء الذين لا يطبخون طعامهم ولا يخيطون ثيابهم بأيديهم؛ فإن علمها بذلك وتمرنها عليه نافع بل ضروري، وقد بلغنا أن قيصرة روسيا تحسن الطبخ والخياطة وكانت فيكتوريا ملكة إنكلترا وإمبراطورة الهند تنسج وتخيط وتطرز، فهذا كمال للنساء إن لم يعملن به فعليهن أن يعلمن كيف يعملن في بيوتهن ويعرفن نفقته ودرجة جودته، ويحسنّ المراقبة والرياسة على الخدم التي تقوم به. أما معرفة موضوعات وغايات العلوم والفنون المتداولة في الأمم الحية فلها فوائد، منها: أن لا تكون عدوة أو كارهة لشيء نافع لقومها فإن من جهل شيئًا عاداه وكرهه، وأن الإنسان يكون ناقصًا بمقدار ما يجهل من المضار والمنافع. ومنها أن تعرف قيمة زوجها إذا هي تزوجت بمن يشتغل بعلم أو فن مما يجهل النساء تفصيله، فإذا رأته يشتغل بتجارب زراعية أو كيماوية مثلاً عرفت فضله في ذلك ورجت له من الفائدة ما تكون عونًا له على عمله. فإن المرأة التي تجهل قيمة زوجها المعنوية ومعارفه التي يمتاز بها لا يهنأ لها معه عيش؛ لأنها لا ترى عمله إلا شاغلاً له عنها؛ كأنه ضرَّة لها وهو لا يهنأ له معها عيش؛ لأنه يراها جاهلة بقدره، بعيدة عنه في نفسه وعقله. وإن شئت قلت: إنهما يكونان شخصين متباعدين بالروح والعقل لا يمكن أن تتكون منهما حقيقة الزوجية التي بيَّنّا معناها في النبذة الأولى. ومن تلك الفوائد أن يكون لها رأي فيما تنصرف وجهة أولادها لإتقانه من العلوم والفنون بعد التعليم الابتدائي والثاني. وكثيراً ما يموت

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (أسئلة من السيد محمد بن يحيى الصقلي الحسيني من بلاد الجزائر) قال بعد رسوم الخطاب: لما نظرنا إلى إرشاداتكم العديدة غير المتناهية وبحثكم وتضلعكم في العلوم الدينية الإسلامية وتحققنا بعلو مكانتكم في ذلك جزمنا بأن فيكم الكفاية لمن يريد الحصول على استفادة بأكمل بيان وأبلغ عبارة فتعلقت آمالنا بحضرتكم وكتبنا هذا لفضيلتكم، والرجاء من الله ثم منكم أن تفيدونا ومن نفعكم لا تحرمونا. تقبيل أيدي العلماء (س9) ما قولكم دام نفعكم في تقبيل العامة كبيرهم وصغيرهم غنيهم وفقيرهم لأيدي العلماء، وتذللهم لهم حتى جعلوا ذلك من أهم الواجبات الدينية أفيدونا هل ذلك من آداب ديننا الإسلامي الحنيف أم لا؟ (ج) إذا اعتقد العوام أن تقبيل أيدي العلماء من الواجبات الدينية كان تقبيلها معصية يجب نهيهم عنها، ويحرم على العلماء تمكينهم منها؛ لأنهم زادوا في الدين ما ليس منه، وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله، ولقد كان النبي- صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - يتحامى المواظبة على بعض العبادات المندوبة كصلاة التراويح؛ لئلا تعتقد العامة أنها واجبة. وفي حديث ابن عمر عند أبي داود (فدنونا من النبي فقبلنا يده) ولكن لم تمض السنة عنه ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين بتقبيل أيدي العلماء، فهي عادة من العادات المباحة ما لم تُعتقد مشروعيتها، وكونها من الدين.ولا حاجة لإطالة البحث في هذا؛ فإنه مما لا يختلف فيه عالم بدين الإسلام. وإننا نشكر للسائل حسن ظنه على ضعفنا وعجزنا. *** نذر الذبائح على أضرحة الأولياء والتوسل بهم (س10) ومنه: وما قولكم في الذبائح على أضرحة الأولياء لسبب نذر، أو لرجاء دفع مضرة أو غيرها؟ وكذلك التوسل ببابهم والرجاء منهم نحو قول أهل فاس عند معاينة مكروه نازل بهم: ما دام ضريح مولاي إدريس في وسط بلدنا فلا نخاف؛ لأنه يذود عن بلدة فاس خصوصًا وعن قطره المغربي عمومًا، وهو ورجال المغرب (صالحو الموتى) يحفظوننا من غائلة العدو ونفوذه، وأقوالهم من هذا القبيل كثيرة، أفيدونا بما يشفي الغليل عن هذا القبيل؛ ليعم إرشادكم كافة الموحدين الحنفيين؟ ودمتم كعبة للقصاد، مأجورين من رب العباد. (ج) الذبح على القبور بدعة أخذها بعض المسلمين عن أهل الكتاب وهؤلاء أخذوها عن الوثنيين؛ إذ كانت الذبائح لأوثانهم وأصنامهم من أركان دينهم وأعظم عباداتهم، نعم كانت القرابين عبادة في شريعة موسى -عليه السلام - وما هي إلا للتقرب إلى الله وحده لا إلى شيء، ولا إلى شخص عظيم كما هي عند الوثنيين في الأصل، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز الذبح لغير الله تعالى تقربًا إليه، أو تعظيمًا له، أو رجاء فيه؛ لأن هذا من الوثنية، وقد صرح الفقهاء بأن من فعل ذلك على سبيل العبادة يكون مرتدًا عن الإسلام، والعبادة هي الخضوع والتعظيم لمن تعتقد فيه السلطة الغيبية التي وراء الأسباب؛ فإن وجد هذا المعنى كان الذبح للولي أو عنده كفرًا، وإن لم يوجد كان معصية؛ لأنه يدخل في قوله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (الأنعام: 145) ويستحق صاحبه اللعن من رسول الله في حديث علي - كرم الله وجهه - عند أحمد ومسلم والنسائي (لعن الله من ذبح لغير الله) . وقال في الإقناع وشرحه ما نصه: (ويكره الذبح عند القبر والأكل منه) لخبر أنس: (لا عقر في الإسلام) ، رواه أحمد بإسناد صحيح قال في الفروع: رواه أحمد وأبو داود وقال عبد الرزاق: وكانوا (أي في الجاهلية) يعقرون عند القبر بقرة أو شاة. وقال أحمد في رواية المروذي: (كانوا إذا مات الميت نحروا جزورًا فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك وفسره غير واحد بغير هذا (قال الشيخ) يحرم الذبح والتضحية (عند القبر) ولو نذر ذلك ناذر لم يكن له أن يوفي به كما يأتي في نذر المكروه والمحرم (فلو شرطه واقف لكان شرطًا فاسدًا) اهـ. نقول: وأنت ترى من الأدلة أن القول بالتحريم هو الراجح، وإن أريد بالكراهية ما كان للتحريم، ومما ورد في النذر حديث عائشة عند أحمد والبخاري وأصحاب السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) وحديث ثابت بن الضحاك عند أبي داود والطبراني (وقد صحح الحافظ ابن حجر إسناده) ، قال: إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة (بضم الموحدة: موضع) فقال: كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) وقد يتوهم بعض الجاهلين من العامة أن النهي عن الذبح لتعظيم معاهد الجاهلية لا يقتضي تحريم الذبح لتعظيم أولياء المسلمين. ونقول: (أولاً) إن الفقهاء أجمعوا على أنه لا يجوز الذبح لغير الله كالأنبياء والكعبة. (ثانيا) إن حكمة ذلك تطهير القلوب من التوجه إلى غير الله تعالى في مثل هذا العمل الذي أراد به الخير والبر؛ لأن ذلك من الإشراك ولا يقبل الله تعالى من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، ومما ورد في ذلك بخصوص النذر حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وأورده الحافظ في التلخيص، وسكت عنه وفي معناه روايات أخرى. و (ثالثاً) إن كثيرًا من أئمة السلف الفقهاء، صرحوا بأن ما يذبحه النصراني لكنيسة، أو مكان، أو رجل مُعَظَّم عندهم يحل لنا، ولكن لم يقل أحد بأن ما يذبحه المسلم لمُعَظّم عنده يؤكل، بل أجمعوا على تحريمه وإثم فاعله. وإن قام في نفسه معنى العبادة كطلب ما لا يُطلب إلا من الله تعالى كان مرتدًّا كما تقدم. وأما ما يسمونه التوسل فقد بسطنا القول فيه مرات كثيرة في كل مجلد من مجلدات المنار فليراجع ذلك السائل في مواضعه من المجلد السابع وغيره، مسترشدًا في الفهرس بكلمة التوسل من حرف التاء، وبكلمة قبور من حرف القاف ويجد في العدد السابق كلامًا عن اعتقاد أهل فاس بمولاي إدريس، وغرورهم في ذلك. ولكن هذه الاعتقادات المبنية على وعث البدع والتقاليد لا تثبت أمام سيول الحقائق، فهذا سلطان مراكش قد اضطرب وخاف سقوط ملكه فلم يكتف باللجأ إلى إدريس، بل أشرك معه ملكًا نصرانيًّا يعتز به ويستعين به على فرنسا وهو عاهل ألمانيا، وقد أرسل إليه عند زيارته طنجة هدية تساوي مئتي ألف جنيه، ولو كان موقنًا بحماية قبر إدريس للمملكة؛ لكان غنيًّا عن ذلك، ولماذا لم يَحْمِ إدريس البلاد من الفتن التي أنهكتها وكانت حجة فرنسا في التصدي لها؟ *** قصة المولد للشيخ إبراهيم الرياحي التونسي (س11) أحد القراء (بتونس) : اشتبه على بعض الناس طعنكم في بعض أعداد المنار بروايات قصص المولد النبوي، وقد وجهت لكم في البريد نسخة من مولد الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي المتوفى سنة 1266هـ، وهي الرواية المُعتمدة رسميًّا في تونس، فهل لكم أن تنظروا فيها وتنبهوا على ما فيها من الغلط؟ (ج) إن هذه القصة كغيرها من حيث وجود الموضوعات والواهيات فيها، ولكنها في اختصارها وعزوِ بعض الروايات فيها أمثل من غيرها، ولعلنا نذكر تخريج هذه الروايات في جزء آخر. وهذا قوله في أول القصة (ص 4) (إن أول ما خلق الله نور هذا النبي الأواه) لم تصح به رواية وأقوى الروايات وأكثرها في بدء الخلق أن أول شيء خلقه الله القلم. وكذلك ما ذكره في خلق آدم غير صحيح ومثله ما في (ص5) من نطق الدواب وبشارة أهل البحار وانقلاب الأصنام وما ذكر عن آمنة وغير ذلك. وكان يجب الاستغناء عن هذه الروايات بالمناقب والآثار التي هي أوضح من النهار.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (هداية أستاذ للإسلام) (نقلها عبد الرحمن أفندي شهبندر من مجلة الملل الصادرة في مارس (آذار) سنة 1905 إلى العربية) . لدينا الآن رسالتان بقلم الأستاذ نشكنتايا دهيايا الرئيس الماضي لكلية حيدر أباد (وأستاذ التاريخ في كلية مهراجا في ميسوري) والأولى منهما موضوعها لماذا انتحلتُ الإسلام والثانية محمد نبي الإسلام وقد أصبح اسم المؤلف بعد إسلامه محمد عزيز الدين وهو من العلماء والأفاضل الذين ساحوا في البلاد زمنًا طويلاً، ودرسوا الأديان المختلفة وفي الرسالة الأولى ذكر أسباب هدايته واتخاذه الإسلام دينًا لا يبارى في الصحة والسلامة. كان المؤلف في أول أمره كثير الإعجاب بمذهب العقليين لكنه لم يلبث أن تحول؛ لأن هذا المذهب لم يرو له غليلاً، فأخذ في درس الدين البوذي وأعجب بظاهر رفعته الأخلاقية؛ لكنه وجده أخيرًا على عكس طبيعة البشر؛ فمَلَّه وكان ذلك أثناء وجوده في البلاد الألمانية حيث ألقى خطابين موضوعهما البوذية بلغة تلك البلاد، ومن ثم ذهب إلى باريس وبطرسبرج وبعدما تعلم الإفرنسية أعجب بـ (رنان) وكان من تأثير ذلك أنه أخذ في درس لغات الساميين وأديانهم وكرس قسمًا عظيمًا من حياته لدرس المقابلة بين الأديان العظيمة يعني اليهودية والزردشتية والبرهمية من الجهة الواحدة والبوذية والنصرانية والإسلام من الجهة الأخرى ووقف في سبيله إلى التنصر مسألة الفداء، ومسألة الهلاك الأبدي وما يضاف إليهما في الكاثولوكية من اعتقاد العصمة البابوية، والتحول في العشاء الرباني ثم رجع إلى البلاد الهندية على هذه الحال من تبلبل الفكر وهنالك فرغ نفسه مدة لدرس الرياضة (التصوف) لكنه عاد منها أيضًا غير مقتنع، ولم يعط البوذية والإسلام حقهما في الدرس حتى ذلك الحين فدرس الأولى منهما، ثم جاء إلى الإسلام الذي استماله أخيرًا، وأثر في نفسه أثرًا باقيًا، وكان قد شعر بصحته منذ مدة طويلة لكن الظروف الخارجية منعته من التصريح بذلك، حتى الثامن والعشرين من شهر آب (أغسطس) حين صرح في محفل بدخوله في الإسلام برسالته (لماذا انتحلتُ الإسلام) . وبنى رضاه بالإسلام على ثلاثة أسباب رئيسة: (1) صحة أخبار الإسلام وأنه الدين التاريخي الوحيد. (2) موافقته للعقل. (3) أنه عملي (لا خيالي) ويقول في رسالته: إن ميدانه التاريخي قد أثر حتى في أعداء محمد وأتباعه واستشهد بكلام للأستاذ (بسورث سمث) ذكر في خطبه وهو: (إننا في الحقيقة نعرف بعض نتف من تاريخ المسيح، ولكن أنى لنا من يكشف الحجاب عن السنين الثلاثين التي أعدت الطريق إلى الثلاث....... .، وفي الإسلام كل شيء على خلاف ذلك. هنا يقوم التاريخ بدلا من الغامض المظلم....... . وهنا لا تضل المرء نفسه أو غيره من الناس لأن نور النهار يسطع على كل ما يمكن أن يصل إليه) . والنقطة الثانية في بحثه: جَرْي الإسلام على قواعد العقل، وقد ذكر القاعدتين الأساسيتين في الدين (توحيد الله ورسالة النبي محمد) وقال: يجب على كل صحيح عاقل أن ينقاد لهذه الحقيقة البسيطة الجليلة، وهي توحيد الله الخالص (لا كتوحيد اليهود الذين جعلوه إلهًا خاصًّا بهم) ، ولا يوجد في الإسلام تعاليم مثل (ثلاثة في واحد) أو ثلاثين مليونًا من الآلهة. ولا يرد قاعدة الرسالة النبوية باحث لأنه (متى نُسِيَتْ الحقائق الأساسية التي تبنى عليها الحياة الأخلاقية الدينية أو أُبهمت، ومتى أصبح الإنسان مفرطًا في حب دنياه طامعًا سيئ الأخلاق؛ ماديًّا بحتًا يظهر في تاريخ الأمم أناس أخلاقيون أحيتهم الروح الخالصة في مولدهم ونشأتهم حتى يصبحوا أنبياء ورسلاً لله، ووظيفتهم تذكير الناس ما كانوا نسوه وإحياء ما كانوا فقدوه) ، ويضاف إلى ذلك كله أن الإسلام على طبق حياة الإنسان العملية. وربما توهم الناس في بعض الأحيان أن تعاليم بوذا والمسيح على أحسن الكمال، لكن هذا خطأ، وهذه التعاليم أشبه بالكمالات الباردة الواردة في القصص والروايات، وربما كان فيها (جمال شعري) إلا أنه لا يعد طريقة لحكم الإنسان المدني الصناعي على صحة التعاليم والمبادئ، فمن الواجب علينا أن ننظر إلى حاجات البشر أولاً، ثم نحكم على كمال التعاليم بالنسبة لفائدتها. وعلى هذا المبدأ تمامًا (يعني النظر إلى حاجات البشر) أباح الإسلام تعدد الزوجات. وسنن الزواج في هذا الدين أقرب للعمل وأشد موافقة لحاجات الجمعية البشرية، وأجلب لترقيها من الجهة الأخلاقية الروحية (يعرض بانتشار الفحش في البلاد الغربية إلى حد لا يوصف) ولمبادئ الإسلام الأخرى هذا الحظ من الرفعة والمكانة. وذكر في رسالته الثانية: (محمد نبي الإسلام) مختصرات من حياة النبي - صلى الله عليه وسلم- ونبذًا من التحويل المدهش الذي أجراه في العالم، وفي الختام يجيب الكاتب عن اعتراضات المتقدمين المتعصبين. (قالت المجلة) ونحن نلفت أنظار المسلمين إلى هاتين الرسالتين، وكذلك كل طلاب الحقائق وتطلبان من محل (لوزاك وشركاه) في لندن أو من (شوز رثمات) في حيدر أباد الدكن. *** (الدولة العلية في نجد وخوف الفتنة) جاءنا من بلاد العرب رسالة كتبها رجل كبير من أهل نجد في (غرة صَفَر) يخبرنا فيها بمعنى ما وصل إلينا قبل من طرق ضعيفة ويزيدنا خبرًا ورأيًا، قال -حفظه الله - ما ملخصه: أرسلت الدولة إلى الشيخ عبد الرحمن الفيصل بأن يواجه والي البصرة مع (الشيخ مبارك) فتوجه الشيخ عبد الرحمن من نجد إلى أطراف الزبير وطلع الشيخ مبارك والتقوا مع الوالي على مسافة ساعتين من بلد سيدنا الزبير وقدّم الشيخ عبد الرحمن الطاعة لمولانا أمير المؤمنين وكذّب جميع ما نسب إليه، وأنه خاضع لأوامر مولانا أمير المؤمنين؛ إلا أن ابن رشيد ليس له يد على أهل نجد وبعد ذلك توجه الوالي إلى البصرة وبلغ الآستانة ما كان، وليلة 9 ذي الحجة وصل تلغراف من أمير المؤمنين بتولية الشيخ عبد الرحمن على نجد، ورفع يد ابن رشيد وبأن يكون في القصيم عسكر (رسم طاعة) وأمرهم راجع إلى الشيخ عبد الرحمن وابنه عبد العزيز آل سعود وبلغ الوالي عبد الرحمن وبعد ذلك مشى العسكر الذي كان بأطراف النجف إلى نجد وهو ستة توابير، وفي نجد عند ابن رشيد ثلاثة توابير وبهذا السبب صار عند أهل نجد شك في ممشى العسكر زيادة على ما في نجد (والجميع حدر نظر ان رشيد) والمشير بنفسه طلع ومعه ابن هذال الشيخ عنزه وشوشوا أهل نجد واستعدوا للفتنة إن كان العسكر جاء محاربًا، وإن كان مصلحًا فلا حاجة إلى هذه الكثرة. والظاهر أن الفتنة لا تسكن على هذه الحال. وعبد الرحمن ما توجه إلى نجد بل تربص بالكويت ينتظر نتيجة وصول العسكر إلى أهل القصيم، وابنه عبد العزيز الظاهر أنه جهز غزوانه (أي غزاته) ونحر القصيم (قصده) وأهل القصيم مستعدون. نسأل الله أن يطفئ الفتن ويصلح أحوال المسلمين وحسبنا الله على من أيقظ الفتن بينهم، وإلا فأي شيء للدولة من المصالح في نجد ولكن يغرهم المفسدون بالدسائس الفاسدة حتى يلجئوا أهل نجد إليها إذا لم يكن لها علاج وننتظر الحوادث ونرجو الله يصلح الأحوال ويبصر الدولة بما فيه صلاح المسلمين. (المنار) لم يذكر الكاتب ماذا كان بين الوالي والشيخ مبارك صاحب الكويت وقد بلغنا من مصدر آخر دون هذا المصدر أن الشيخ قال للوالي إنه خاضع للدولة ونادم على تورطه مع الإنكليز. ولكن الدولة قد أعوزتها السياسة الحكيمة في هذا الزمان ولذلك غلبتها سياسة الأجانب في البلاد التي لا يوجد فيها أحد يميل إليهم أو يعبأ بمدنيتهم كاليمن وحضرموت والكويت. وإننا كما بدأنا النصيحة لها نعيدها ونؤكدها بأن تتحامى مثار سوء ظن أهل نجد بها، وأن لا تحدث نفسها بمعاملتهم بالقوة وتحكيم رجالها وقوانينها فيهم، وأن لا تخادعهم كما يخادع الأعداء، بل يجب أن تقبل الطاعة من آل سعود وتعتقد صدقهم وتمضي الأمر بولاية الشيخ عبد الرحمن على نجد ظاهرًا وباطنًا وتتفق معه على عدد العسكر الذي تحب أن تجعله في القصيم وإلا كان عملها هو المنذر بالخطر الذي تريد تلافيه به. وقد جاء أمس في برقيات روتر أن الباب العالي سأل ناظر خارجية إنكلترا عن البوارج الإنكليزية الراسية في ميناء الكويت فأجاب بأنه لم يأته نبأ عنها، وأنه لا يقبل البحث معه فيها، على أن البوارج أنزلت العسكر فاحتلت الكويت. وننصح للشيخ عبد الرحمن أن لا يبني على سوء الظن وأن يخابر الدولة في مسألة كثرة العسكر ويقنعها بعدم الحاجة إليه ويتوقى الفتنة لئلا يؤل الأمر إلى ما يندم هو والدولة عليه، وتلحق نجد بغيرها ولات حين مندم. *** (المسلمون في روسيا) ثار الشعب الروسي القح الأرثوذكسي العريق على حكومة القيصر الذي يسمى في التقاليد الروسية الأب الصغير - أي الرب - صاحب السلطة الدينية الإلهية، وثارت أيضًا سائر الشعوب كالأرمن واليهود والفيلنديين، وأما المسلمون فكانوا أشد العناصر الروسية مسالمة للحكومة ولكنهم طالبوا بحقوقهم ومنحتهم الحكومة ما اختلفت فيه الروايات ففي جرائد أوربا أن مفتي القزان الذي يدعى شيخ الإسلام (وهو محمد يار سلطانوف) دعي من أورنبورج إلى بطرسبرج وأمرته نظارة الداخلية بأن يرفع تقريرًا يبين فيه مطالب المسلمين فطلب ما يأتي ملخصًا بناء على منشور القيصر الصادر في 12 ديسمبر سنة 1904 الناطق بأنه عزم على منح الرعايا غير الأرثوذكس جميع الحقوق التي يتمتع بها الروسيون وهو: (1) أن يعطى المسلمون الذين ينالون الشهادات من المدارس الروسية حق التدريس بالمدارس غير الإسلامية كمدارس الحكومة. (2) أن يعطى من يُتِمّ منهم الدارسة في المدارس الثانية حق التعلم في المدارس الروسية العالية. (3) تعيين أئمة لتوابير العسكر المسلمين لأجل أن يؤدوا الفرائض الدينية في موتاهم وأحيائهم، وقال: إن القرعة العسكرية تتناول في السنة نحو 40 ألفاً من المسلمين، وأن القيصر كان أمر بتعيين أئمة لهم ولم ينفذ ذلك! . (4) إلغاء ما توجبه المادتان 154و 157 من القانون المدني (المجلد الثاني) من عدم السماح للمسلمين بإنشاء مسجد إلا بإذن الأسقف الأرثوذكسي في الجهة التي يراد إنشاؤه بها. (5) منع اضطهاد الولاة والحكام لرجال الدين كعزل والي أوفا لإمامي مسجدين من مساجد المدينة في حادثة 16 أغسطس سنة 1904 بدون ذنب ولا محاكمة بل افتئاتًا عليهما بأنهما ليسا أهلاً لوظيفتها على أنه أعادهما بعد ثلاثة أشهر. (6) إعادة إدارة المدارس والمكاتب (الكتاتيب) الإسلامية أنإلى رجال الدين المسلمين وكذلك ملجأ الصبيان والبنات في أوفا وقال: إن هذا ما كان متبعًا إلى سنة 1870 وبعدها أخذت نظارة المعارف على نفسها حق مراقبة التعليم فتأخر التعليم الإسلامي وقل التبرع له بقلة الثقة به. (7) جعل النظامات والقوانين الموضوعة للمسلمين متحدة موافقة للزمان، وقال: إن النظام لمسلمي أورنبورغ باق علي ما وضع عليه في أوائل القرن الماضي مع أن الحكومة سنَّت أخيرا لمسلمي القوقاس قانونًا أمثل منه. (8) إعفاء رجال الدين من الخدمة العسكرية ما داموا يؤدون وظائفهم وفقاً للمادة 1231 من القانون العسكري الذي وضع سنة 1857 التي استبدلت في القانون الجديد بمادة خصت فائدتها برجال الدين المسيحي ومعلمي المدارس منهم وإن كان لفظها عامًّا؛ ذلك أن هذا القانون يطلب الشبان للقرعة في الحادية والعشرين والقانون المدني لا يبيح تعيين إمام لمسجد إلا إذا كان بالغا الخامسة والعشرين ونت

الحياة الزوجية ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحياة الزوجية (4) اختيار المرأة للرجل: إن الشروط التي تعتبر ضرورية في اختيار المرأة زوجًا يجب أن تعتبر ضرورية أيضًا في اختيار الرجل زوجًا وهي: صحة الجسم، وصحة النفس أعني حسن الخلق والاستقامة وصحة العقل وهذه لازمة لما قبلها. ويزاد القدرة على النفقة اللائقة -كما يقول الفقهاء- أو القدرة على الاستقلال بإنشاء عشيرة أو أسرة -كما يقول الحكماء - وهو ما يريده العوامّ بقولهم: (فلان قادر على فتح بيت) والقدرة على النفقة اللائقة بحال المرأة تختلف بحسب طبقتها، فزيد يستطيع كفاية من نشأت في بيت النّعمة والترف، وعمرو يستطيع أن يمون من نبتت في أرض الفاقة والشظف، والناس أصناف وطبقات، والله فضل بعضهم على بعض درجات، وهذا الشرط هو ركن الكفاءة الركين في نظر أكثر النساء وعُرف أكثر الأولياء؛ وإن شئت قلت في عرف جميع الناس؛ لأن رضاء امرأة بزوج غير قادر على كفايتها مما تعودت من طعام وكسوة وخدمة نادر لا يُعتد به. والمراد الغنية أحرص من الفقيرة على التزوج بالغني؛ لأنها وأهلها يحتقرون الفقير وما زال الأغنياء يتعايرون بمصاهرة من ينزل عن درجاتهم في الثروة إلا أن يعلوهم بمجد أثيل، أو جاه عريض، فيمت إليهم بشرف صاعد أو جد مساعد، ومن رفعه المال لا يلبث أن يمد عنقه إلى الجاه، ويحاول أن يصيبه بتنصي أهل السؤدد [*] وتذري ذوي المجد المؤثل، لا سيما من قل من هؤلاء مالهم، وساءت في الثروة حالهم، فالمال والشرف إذا انفردا كان كل منها شفيعًا للآخر، ومن جمع بينهما لا يكاد يرضى بمصاهرة من فاته أحدهما، إلا إذا لم يجد له صهرًا مثله. وإنك لتجد من العوانس في بيوتات المجد والغنى ما لا تجد في بيوت المتوسطين وأكواخ الفقراء والمعوزين، وذلك خِطْء كبير. وعتو عظيم. تعذر المرأة ويعذر وليها وذوو قرابتها إذا لم يرضوا بصهر يعجز عن كفايتها لأن المرأة ضعيفة الاستقلال قليلة الاحتمال، إذا مسها العوز والإقلال، لا تستقر من القلق على حال، ثم إنها ولوع بالحلية فخور بالزينة هلوع عند الحاجة، ضجور من الشدة، فهي أحوج من الرجل إلى الكفاية، وأشد تطلعًا إلى السعة والزيادة، وإن قومها ليألمون لإعوازها ما لا يألمون لعوز الرجل منهم وهو وارث مجدهم، وحافظ نسبهم، ونصيرهم عند الشدة، وغوثهم عند الحاجة - لما انطوت عليه نفوسهم من الثقة باستقلاله، وجدارته بإصابة المخرج من إقلاله، وما أودعته قلوبهم من الشعور برقة حاشيتها دون التحمل وضيق مذاهبها عن التحول، وإن حظ الولدان والأقربين وغيرهم من الرحمة والحنان، والخوف، والإشفاق، والحزن والامتعاض والغضاضة والنعرة، وغير ذلك من ضروب الشعور والوجدان إنما يكون على مقدار الداعية الطبيعية لذلك فيهم. قيل لبعضهم أي ولدك أحب إليك؟ فقال صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، وسقيمهم حتى يبرأ. يشبه أن يكون الناس عندنا ماديين فإنهم يعنون بالبحث عن ثروة من يخطب إليهم ظانين أن سعادة بنتهم وهناء عيشها مقرونان بمال من يتزوج بها، وقلما يبحثون عن دينه وأخلاقه وآدابه. ذلك بأنهم يجهلون (أن السعادة في النفس لا في اليد أو الجيب) يغفلون عن حال الجم الغفير من أصحاب الجيوب الملأى والقلوب المرضى الذين شقيت بهم نساؤهم، فهن يتمنين لو كانوا فقراء الجيوب أغنياء القلوب بالعفة والوفاء والحب والإخلاص، إذًا لكنَّ أنعم بالاً وأقر عينًا وأهنأ عيشًا، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، إلا من هذب نفسَه الإيمان والتقوى؛ وإن من طغيان الغنى، إذا لم يقترن بالأدب والتقى، أن يغير صاحبه زوجه وسكنه ويتغير عليها يغيرها باتخاذ الأخدان، واتباع خطوات الشيطان، ويتغير عليها إذا زارت أو زارها الأهل والجيران، فيعذبها بالغيرة عذاب الضعف، أو يضارّها ليضيق عليها من غير ذنب، وإنما هو ملل الذوَّاقين، وتنقل المسرفين، ومن وراء ذلك أن إرشاده عسير، والانتصاف منه عزيز، لا سيما في بلاد فسدت حكوماتها، وأكل السحت قضائها، فأين السعادة والهناء في مصاهرة أمثال هؤلاء؟ يسهل على الرجل المسلم أن يتخير من ربات الخدور من ترضيه فيعرف عنها من وراء الحجاب كل ما يحب أن يعرفه ويعسر على الفتيات أن يعرفن ما تجب معرفته لصحة تخير الزوج وإن فارقن الحجال وعاشرن الرجال؛ لأن المرأة سريعة التصور سريعة التأثر، سريعة الحكم، سريعة الانخداع، فهي لهذا قليلة الروية كثيرة الخطأ لا سيما إذا كانت عذراء، خاضعة لسلطان الحياء، تخدعها النظرة، وتتجاذبها الغرة، ولذلك حظرت الشريعة الإسلامية على المرأة أن تزوج نفسها، وجعلت أمرها في ذلك إلى وليها وإليها؛ لا بد من رضاهما معًا؛ على أنها منحتها من حقوق التصرف في أموالها ما لم تمنحه لها شريعة سواها، بل تجد معظم البشر من جميع الشعوب والقبائل المختلفة في الملل والنحل متفقون على استقباح استقلال المرأة بتزويج نفسها، وعلى وجوب تفويض أمرها في ذلك إلى أوليائها وعصبتها، ومنهم من لا يتقيد باستئذانها، واستئمارها - كما أمر الإسلام - بل كثرت هذه العادة في المسلمين على ما ورد عن الشارع من الأوامر باستئذان البنت في أمر زواجها واستئذان أمها أيضًا فليس للولي أن يستبد بذلك؛ فيزوجها بمن تكره ولو كان أبًا أو جدًّا. يحسب أكثر الرجال أن للحسن والجمال سلطانًا على قلوب النساء لا يدع فيه لغيره أمرًا ولا نهيًا، وإن شغف النساء بالحسن يعلو شغف الرجال به؛ فلو أطلقت لهن الحرية في تخير الأزواج لما اخترن إلا ذا الوجه الجميل والطرف الكحيل، وإن كان خسيس الأبوين صفر اليدين عادم الفضيلتين: فضيلة العلم والأدب، هذا هو الوجه في الحجر عليهن أن يتخيرن لأنفسهن، فإنهن يتبعن الهوى دون المصلحة فيصبحن على ما فعلن نادمات بعد أن يقاسين من استبداد سلطان الجمال، ما لا طاقة لهن به ولا احتمال، وهذا الحسبان خطأ سببه قياس أحد الصنفين على الآخر. وهو السبب في تصدي حسان الوجوه من الشبان لتصبي النساء وإغوائهن، وقد يعد نجاحهم في التصبي دليلاً على صحة القياس وما هو بدليل إلا عند من يجهل التعليل. إن الفتنة بالجمال أولع بالرجال منها بالنساء فيقل في النساء من فتنت بجمال الرجال كامرأة عزيز مصر وصواحبها ولا يتناول الإحصاء عدد الرجال الذين فتنوا بجمال النساء كبني عذرة وأمثال بني عذرة من جميع القبائل والشعوب، هذا هو السبب عندي في شكوى الرجال من قلة الوفاء في النساء. إنما يفتن المرأة من الرجال تحببه إليها فهي مجنونة في حب الحب أي حب أن يحبها الرجل كما قالت علية بنت المهدي حكاية عن نحيزة صنفها * تحبب فإن الحب داعية الحب * فهن يفتن بالرجال على قدر تصبِّيهم لهن وتحببهم إليهن إذا هن صدقن، وأمن الخلابة والحيلة، وما أسرع تصديق الفتاة الغر لوحي العيون، وانخداعها بقول الزور للود الممذوق، والحب المصنوع، بل هي فتنة لا تكاد تسلم منها العوان، التي مارست الرجال وعرفت الزمان. قرأت قصة (رواية) في امرأة كانت تدعى (فاتنة باريس) وكانت تهوي إليها أفئدة الرجال، وتمطرها سحائب الأموال، فتفوز لديها آمال وتخيب آمال، حتى إذا ما عرض لها مرض حال له لونها، وحال بين طلاب التمتع وبينها، انفض من حولها الناس إلا رجلاً واحدًا كان الحب قد أخذه عن نفسه، وران على عقله وحسه، ثم اختطفه من طبيعة الرجال، وطار به في فضاء الخيال، ولم تلبث المرأة أن أفاقت من غشية المرض فلم تر من تلك الجموع إلا ذلك الرجل فاعتقدت أنه محب لها مخلص في حبه فاصطنعته لنفسها، وثابت على يديه إلى رشدها، وهجرت الرجال وهاجرت معه من باريس إلى أريافها وهناك تزوجت به ومكنته من جميع ما تملك. هذا الذي ذكرته من افتتان النساء بالتحبب والتصبي هو العلة الأولى فيما هو معروف بين الناس من ميل نساء المدن إلى المتورّنين والمتطرّسين، وزهدهن في أهل العلم والدين، فهن يعتقدن أن هؤلاء في شغل عنهن، وأن أولئك لم يبالغن في التطيب والتزين إلا لأجلهن، ثم صار ذلك عادة موروثة فيهن، وقد فشت هذه العادة السوء في بيوت المترفين من أهل مصر وغيرها حتى إن العذارى ليقترحن أن يغير الخاطب لهن زيه العلمي إن كان عالمًا، وقد يكون هذا التغيير وَبَالاً عليهن بعد الزواج؛ لأنه يسهل على صاحبه الدخول في بيوت الفسق التي تخرب بيتهما وتوقع بينهما. أما أهل البادية ومن في حكمهم فإن نساءهم لا يملن إلا لمن اشتهر بالشجاعة، والشهامة، والرجولية، والكرم، وبهذه الصفات يتقرب الرجال إلى النساء عندهم، ولو وجد في المدن شبان يعرفن بهذه الصفات لما فضل النساء عليهن أحدا؛ فإن من صفات الفطرة أن تحب المرأة من الرجل ما هو من شأن الرجولية والعكس بالعكس، وهذا الذي يحكى عن نساء الأمصار من ولعهن بالمخنثين ومن يقرب منهم هو من فساد الفطرة. وقد كان من حسن تربية النساء في بلاد الإنكليز أنهن قربن من الفطرة السليمة، فقد اقترح عليهن في بعض الجرائد أن يذكرن أحب صفات الرجال إليهن فكان الجواب من أكثر من أجبن ناطقًا بحب صفات الرجولية من الشجاعة والاستقلال والسلطة عليهن. يقول أناس: إن الحب بين الزوجين هو الأساس الذي تقوم عليه جميع أركان سعادة الحياة الزوجية؛ فإذا كان قويًّا راسخًا فلا يضر هذه الحياة ضعف الأركان، وإذا كان غير قوي فإن الأركان لا تلبث أن تسقط، فيجب أن يؤذن للعذارى والأيامى بمعاشرة العزاب على أعين أهليهن، ومراقبتهم ليتخيرن منهم من يبيعهن قلبه، ويصفيهن حبه، وقد سبق القول في بحث تخير الرجل للمرأة بأن هذه المعاشرة ليست سبيلاً موصلة إلى الأمنية التي يتمنون. وإذا كان يعسر على الرجل أن يعرف قلب المرأة بمثل هذه المعاشرة التي يقصد بها الخطبة، أفلا يكون وصول المرأة إلى قلب الرجل أعسر لا سيما إذا كانت فتاة غرًّا؟ ونزيد هنا أن كثرة معاشرة أفراد كل من الصنفين للآخر يحبب إليهم التنقل في هذه الرياض ويزينه في قلوبهم حتى إذا ما ازدوج اثنان منهم عن حب ثم فتر الحب للملل؛ أو لما عساه يبدو لأحدهما أو كليهما مما لم يكن في الحسبان تحن القلوب إلى من كانت عرفت بالمعاشرة وتجنح إلى التنقل ولا يعسر ذلك على من سبق له التمرن عليه والأنس به. الحب هو الركن الأول أو الأساس للسعادة الزوجية، وهو السكون المذكور في الآية الحكيمة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم: 21) أو هو علته وقد تقدم شرح ذلك فلا نعيده، ولكننا نزيد على ما قلنا هناك أن دوام الحب وسكون القلب إنما يرجى بين زوجين لم يتعود الرجل منهما معاشرة النساء ولا المرأة معاشرة الرجال؛ إذا كان اختيار كل منهما للآخر على الوجه الذي بينا؛ فإن علة سكون كل منهما إلى الآخر ثابتة في أصل الفطرة، وإنما يجب التخير للحذر من الصفات العارضة التي تشارك الفطرة في الاستحسان أو الاستهجان ولا شيء أقطع لرابطة الزوجية وأذهب بسعادتها من ميل أحد الزوجين أو كل منهما إلى غير زوجه ميلاً للمعنى الخاص بالزوجية. إن الحب الذي يكون للزوجين برابطة الزوجية نفسها هو الحب الذي يُرجى دوامه إذا رُوعي في عقد الرابطة صحة الجسم والنفس والتقارب في العادات والتأدب بأدب الدين، وأهم هذه الآداب عفة الزوجين ورضى كل منها بالآخر نصيبًا له لا يفضي إلى سواه، ذلك بأن النزعة الطبيعية في كل من الصنفين إلى الآخر مبهمة مضطربة في أصل الفط

تزويج الشريفة بغير كفء وسب العلماء وإهانة كتب العلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تزويج الشريفة بغير كفء وسبّ العلماء، وإهانة كتب العلم (س 14 ,15) ض. ع أحد المشتركين بالمنار في (سنغافورة) : قاضٍ زَوَّجَ شريفة علوية صحيحة النسب شهيرته، برجل هندي مجهول النسب، شهد له اثنان عند القاضي قالا: في بلدنا يقولون سيد. وبعد الفحص عارض ذلك القاضي العلماء العارفون حتى اتضح بطلان العقد وفساده عند الجميع وعند القاضي أيضًا؛ فأبى الرجوع إلى الحق والاعتراف بفساد العقد وساعده رجل آخر جهلاً، وهوًى وتعنتًا، حتى أن المساعد لما روجع بما يقوله الشرع والعلماء وأحضرت له الكتب طفق يسب العلماء، وقال لمن عارضه اطرح هذه الكتب في إستك (قالها بالعبارة العامية المبتذلة) فالمؤمل من فضلكم الجواب مبسوطًا على قوله اطرح هذه الكتب في.. ..؛ فالمسألة واقعة حال والرجل والمرأة مقترنان حتى الآن سفاحًا، وعندنا بسنغافورة اختلفت الأجوبة فمن قائل بكفر المساعد وغيره، ولا يرضى الجميع إلا بجوابكم فانشروا جواب سؤالنا على صفحات مجلتكم المنار لا زلتم ذخرًا للخاص والعام وناصرين لشريعة أفضل الأنام عليه الصلاة والسلام. (ج) نشرنا في الجزء العاشر من المجلد السابع مقالة في الكفاءة بينا فيها أن الكفاءة في النسب من المسائل الاجتهادية، وأن العبرة فيها بالتعيير وعدمه، ولذلك صرح بعض الفقهاء بأن الشريف غير المشهور بالشرف ليس كفؤًا للشهيرة بالشرف، والظاهر من السؤال أن الواقعة لو ثبت فيها شرف الهندي لكانت من هذا القبيل ولا حاجة لبسط القول في هذا المقام بعد العلم بأن العلماء العارفين حاجوا القاضي حتى حجوه واقتنع ببطلان العقد ولكنه لم يرجع إليه. ثم إنكم لم تذكروا في السؤال هل كان لهذه الشريفة ولي أم لا؛ فإن لم يكن لها ولي وكانت هي راضية بهذا الزوج فالعقد صحيح؛ لأنها أسقطت حق الكفاءة وليس لها أولياء يلحقهم العار بزواجها من غير الكفؤ فيعارضوا فيه. وإن كان لها ولي فكيف زوجها القاضي بدون إذن وليها، وهل عارض الولي أم لا؟ كان ينبغي بيان ذلك. وأما سب ذلك الجاهل للعلماء وإهانته للكتب الدينية فهو من أكبر المعاصي لأنه يسقط احترام العلم والدين وأهلهما من نفوس الجاهلين، ويجرئ السفهاء على الفضلاء، حتى تكون الأمة فوضى ليس فيها كبير يحترم لفضله، ولا صغير يؤمن بجهله، ولا يتجه كون ذلك من الكفر إلا إذا احتفت به القرائن والدلائل على أنه قال ما قال في كتب الدين وحملتها هزؤًا بالدين نفسه؛ لأن غير معتقد به. وقد أفتى بعض فقهاء الحنفية بِرِدَّة من يحقر علماء الدين أو كتبه ونصوصه، حتى قالوا: إن من يعطى الفتوى فيلقيها في الأرض ازدراء واحتقارًا يكفر. ولما ذكر ابن حجر من الشافعية قاعدة: (أن من الردة كل فعل أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلا من كافر عدّ من ذلك قوله: أو يلقي ورقة فيها شيء من قرآن أو علم شرعي أو فيها اسم الله تعالى بل أو اسم نبي أو ملك في نجاسة، قال بعضهم أو قذر ظاهر) ... إلخ ثم، قال فيما سرده من أعمال الردة: أو تشبه بالعلماء أو الوعاظ أو المعلمين على هيئة مزرية بحضرة جماعة حتى يضحكوا، أو يلعب استخفافًا، أو قال: (قصعة ثريد خير من العلم) استخفافًا أيضًا، ويشترطون في كون هذه الأعمال كفرًا أن لا تدل قرينة على عذر صاحبها، أو تأوله لا خلاف بينهم في هذا. والتحقيق أن الكفر هو إنكار شيء مما علم من الدين بالضرورة، وكان مجمعًا عليه، ومثله تكذيب شيء من الدين يعتقد المكذب له أنه مما جاء به الشارع، أو اعتقاد قبحه وبطلانه؛ لأن كل ذلك تخطئة للرسول فيما جاء به عن الله تعالى. وما ذكر الفقهاء من المكفرات غير ذلك؛ فهو في رأيهم يرجع إليه؛ لأنه دليل عليه، أو لازم له أو ملزوم، ولذلك رد بعضهم منه ما قاله بعض لا سيما ما كان كفرا باللزوم وقد قالوا (إن لازم المذهب ليس بمذهب) واتفقوا على أن التأول يمنع التكفير فإذا أتى إنسان بشيء عدوه كفرًا وردة، فذكر أن له تأويلاً يتفق مع اعتقاده بأن جميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الدين حق امتنع الحكم بردته، وقالوا: إذا وجد مئة دليل أو قول على كفر أحد وقام دليل أو قول واحد على عدم كفره يعمل بالواحد لأنه يجب درء الحدود بالشبهات والتباعد عن التكفير ما أمكن. ولكن هذا لا يمنع من تشديد التعزيز على من كانت الشبهة على كفره أقوى لا سيما إذا كانت أقواله وأفعاله المشتبه في كونها كفرًا مما يفتن العامة ويضر بالناس، والله أعلم.

مصرف الهدايا والنذور لأضرحة الأولياء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصرف الهدايا والنذور لأضرحة الأولياء (س16) السيد عوض جمعان سعيدان في (سنغافورة) : أرجو من سيادتكم الإفادة عما يأتي ولكم من الله الفضل. سيدي من المشهور أن عند قبور بعض الأولياء صناديق حديد يضع فيهن من يريد قضاء حاجته شيئًا من الدراهم، وعندنا كثير من هذه القبور خصوصًا في جهة (جاوا) ، وتوجد تلك الصناديق عند نهاية الشهر ملآنة بالدراهم ينفق منها القائمون بحراستها ما يقوم بنفقة المقام والباقي يصرف على ورثة الولي إن كان له قرابة، وقد التمس مني أحد الإخوان بإلحاح أن أعرض على سيادتكم هذا السؤال راجيًا نشره في أحد أعداد المنار والجواب عليه بما يمكن العمل به، وهو هل يجوز للورثة أخذ تلك الدراهم مع العلم بأن طالب الحاجة لا يقصد تقديم تلك الدراهم للورثة أو غيرهم بل يقصد بها أن تكون لذلك الولي فقط، أفيدونا لا زلتم مؤيَّدين وبعين العناية ملحوظين. (ج) الميت لا يملك فيكون ملكه لورثته؛ فإذا كانت الحال كما ذكرتم في السؤال فلا يجوز لقرابة صاحب الضريح أكل ما يُلقى في الصندوق من المال لا بعد الإنفاق على القبر ولا قبله، وكذلك لا يجوز الإنفاق منه فيما جرت به العادة من إيقاد السرج والشموع على قبر الولي والمسجد الذي يبنى عليه؛ لأن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم - قد نهى عن ذلك ولعن فاعله، وقد عد العلماء اللعنة علامة على أن الذنب من الكبائر، ومنها حديث ابن عباس قال: (لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وفي إسناده أبو صالح بازام أو باذان تُكلم فيه. وما قاله ابن عباس تشهد له الأحاديث الصحيحة سواء سمع منه أبو صالح أم لا، ففي حديث الصحيحين (قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وفي رواية: (لعن) بدل (قاتل) وقد فسرت هذه بتلك، وفي حديث مسلم أن النبي قال ذلك في مرض موته وزاد (فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) وفي رواية في الصحيحين (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا) ... إلخ ومنها حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي وصححه والنسائي قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُجَصَّص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه) وفي رواية أخرى: (وأن يكتب عليه) وقد ذكرنا من قبل هذه الأحاديث، وغيرها فمن شاء فليراجعه، أو ليراجع ما كتبه ابن حجر في بيان الكبيرة الثالثة و4 و5 و6 و8 والتسعين من الزواجر فإنه بحث في كفر الذين يعظمون قبور الصالحين تعظيمًا يشبه العبادة كما هو المعروف في زماننا. أما الأموال التي يلقيها الجاهلون في تلك الصناديق توهمًا أنهم يستميلون بها أصحاب القبور لتُقضى حاجاتهم بواسطتهم فهي لا تخرج عن ملكهم، وكان يجب على من حضرهم أن ينهاهم عن وضعها، ويُبَيِّن لهم حكم الله في ذلك، ولكن من يحضرونها هم الذين يأكلونها بالباطل، ويشركون فيها من يشركون. وقاعدة الفقهاء في الأموال التي لا يعرف لها مالك أن ترصد لمصالح المسلمين العامة، ومن للمسلمين بمن يقوم بمصالحهم العامة وليس لهم حكومة إسلامية تلتزم الشرع وتقيمه في كل أعمالها وأحكامها، وليس لهم زعماء وسراة يرجعون إلى رأيهم وإرشادهم، فحسبنا الله وإياه نسأل أن يهيئ لنا من يقوم بأمر ديننا قبل أن نكون من الهالكين الميئوس منهم.

تلقين الميت وأين يجلس الملقن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تلقين الميت وأين يجلس الملقِّن (س 17) الحاج وان أحمد في (سنغافورة) : ما قول أئمتنا الشافعية فيما يأتي: هل يسن للملقن أن يجلس قدام وجه الميت، أو فوق رأسه، أو وراءه، أو يفرق بين كون الميت رجلاً أو امرأة. (ج) هذه المسألة مما يؤخذ فيه بالاتباع ويبعد فيها القياس، والأخبار والآثار الواردة فيها ضعيفة، ولكن قد استحب أصحاب الشافعي الأخذ بها. والوارد أن يقف الملقن عند الرأس. أخرج الطبراني في الكبير وعبد العزيز الحنبلي في الشافي وابن منده في كتاب الروح وابن عساكر والديلمي عن سعيد بن عبد الله الأزدي عن أبي إمامة قال (وفي رواية شهدت أبا إمامة وهو في النزع فقال يا سعيد) : إذا أنا مت فاصنعوا بي كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلام - أن نصنع بموتانا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره فليقم أحدكم على رأس قبره فليقل يا فلان بن فلانة فإنه يستوي قاعدًا ثم ليقل يا فلان بن فلانة؛ فإنه يسمع ولا يجيب، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثانية، فإنه يستوي قاعدًا، ثم ليقل يا فلان بن فلانة الثالثة فإنه يقول: أرشدنا يرحمك الله ولكن لا تشعرون فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا وبالقرآن إمامًا؛ فإن منكرًا ونكيرًا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول: انطلق بنا ما يقعدنا عند من لقن حجته) وفي لفظ: ويكون الله حجيجه دونهما. فقال رجل يا رسول الله؛ فإن لم يعرف اسم أمه قال: (فلينسبه إلى حواء) قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: وإسناده صالح وقد قوَّاه الضياء في أحكامه، ولكنهم تكلموا في سعيد راويه، وفي إسناده عاصم بن عبد الله وهو ضعيف وقال الهيثمي: في إسناده جماعة لم أعرفهم. وأخرجه ابن منده بلفظ آخر ورووا آثارًا بمعناه لا محل لذكرها هنا وإنما المقصود بيان أن الرواية صريحة في أن الملقِّن يقوم عند رأس القبر. وقد ورد في أحاديث القيام عند القبر للدعاء بالتثبيت أنه يستحب أن يقف مستقبلاً وجه الميت. ولا وجه لقياس الوقوف للتلقين أو الدعاء؛ على الوقوف للصلاة قبل الدفن إذا فرقوا فيه بين الذكر والأنثى؛ لمكان النص ولوجود الفرق، والله أعلم.

رش القبر بالماء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رش القبر بالماء (س18) ومنه: رش القبر بالماء مستحب، هل هو عام لكل وقت أم خاص بعد الدفن؟ (ج) ذكروا رش القبر بالماء في أحكام الدفن، وعللوه بما عللوا به وضع الحصباء عليه وهو لا تذهب الرياح بالتراب وهو دليل على أن المراد رشه بعد الدفن وعليه العمل، والأصل فيه ما رواه الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رشَّ على قبر ابنه إبراهيم ماء ووضع عليه حصباء، وروى البيهقي أن بلال بن رباح رش قبر النبي صلى الله عليه وسلم بالماء، وفي إسناده الواقدي، تكلموا فيه.

شعر الرأس ـ حلقه أو تركه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شعر الرأس حلقة أو تركه (س19) ومنه: تبقية الشعر في الرأس سنة ومنكرها مع علمه يجب تأديبه كما في المواهب اللدنية بالمنح المحمدية، فهل لها كيفية مخصوصة أم لا؟ (ج) إن إرسال الشعر وحلقه من العادات لا من العبادات، إلا ما يكون في النسك من الحلق أو التقصير، نعم إنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلق في غير النسك وكذلك الصحابة كانوا يرسلون شعورهم، وكان ذلك من عادتهم ولم يكونوا يعدونه دينًا، ويعجبني قول الغزالي في الإحياء (ولا بأس بحلقة لمن أراد التنظيف، ولا بأس بتركه لمن يدهنه ويرَجِّله إلا إذا تركه قزعًا أي قِطَعًا، وهو دأب أهل الشطارة، أو أرسل الذوائب على هيئة أهل الشرف حيث صار ذلك شعارًا لهم؛ فإنه إذا لم يكن شريفًا كان ذلك تلبيسًا) اهـ. وهو يريد بأن المؤدَّب بآداب الدين لا ينبغي أن يتشبه بالسفهاء؛ كأهل الشطارة ولا بمن يلزم من تشبهه بهم تلبيس على الناس وغش لهم، وإنما صرح العلماء بكراهة حلق الرأس وكونه مخالفًا للسنة؛ لأنه كان في الصدر الأول شعار الخوارج؛ فإذا أخذنا بإطلاقهم كان اللوم في ترك هذه السنة موجِّهًا في هذا العصر إلى علماء الدين فإنهم يحلقون بل ينكرون على من لم يحلق وهم مخطئون. نعم، إن من أرسل شعره بنية الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم - في عاداته الشريفة كان ذلك مزيد كمال في دينه؛ إذا كان مقتديًا بسننه الدينية، ومتحرِّيًا التخلق بأخلاقه الكريمة، وقد ورد في أحاديث الشمائل بأن شعره كان إلى أنصاف أذنيه، وكان لا يتجاوز شحمة أذنيه غالبًا، وقد يصل إلى منكبيه، وقد سدل ثم فرق فأما السَّدْل فهو أن يرسل الشخص شعره من ورائه وعلى جبينه أي يتركه على طبيعته، وأما الفَرق فهو أن يجعله إلى جانيه وزعم بعض العلماء أن السدل نسخ بالفرق ولا تقوم له حجة. وقد جرى أكثر الإفرنج وبعض المتفرنجين في هذا العصر على سنة إرسال الشعر وفرقه، أريت إذا فعل ذلك شيخ الأزهر أو بعض شيوخه المشهورين. ألا يعد هذا عند العامة وبعض من يعدونهم من الخاصة خرقًا لسياج الدين؟ بلى، إن حكم العادات نافذ في العلماء والجهلاء، وهو كثيرًا ما يزيد في الدين ما ليس منه في شيء وينقص منه ما هو من سننه التي لا خلاف فيها، ولا تبعد في طلب المثال فهو بين يديك، وفي أسئلتك وما قبلها. فمشايخ الأزهر يقرءون في شمائل نبيهم أنه كان يسدل شعره الشريف ويفرقه وهم ينكرون على من يفعل ذلك من أهل العلم والدين، وقد أمرني بذلك بعضهم وكان شيخًا للأزهر قائلاً: إنك من أهل العلم لا يليق بك أن ترسل شعرك فاحلقه، فحججته بالسنة فحاجني بأن ذلك شعار العلماء الآن.

صلاة الظهر بعد الجمعة والخلاف في الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صلاة الظهر بعد الجمعة والخلاف في الدين (س20) ومنه: هل يجوز لأحد أن ينهى أهل بلدتنا (سنغافورة) وأشباهها كما حدث الآن عن إعادة الظهر بعد الجمعة أم لا يجوز؟ لأنهم يعتقدون أنها سنة متمسكين بقول العلامة ابن حجر الهيتمي في الجمعة من الإيعاب بعد كلام قرره فيه: وعلى كل فالاحتياط لمن صلى جمعة ببلد تعددت فيه لحاجة ولم يعلم سبق جمعته للكل أن يعيدوها ظهرًا خروجًا من هذا الخلاف ... إلخ، ولأنه أي النهي يوقعهم في محظورات منها وقوعهم في أعراض أهل العلم الذين أمروهم بإعادتها وأعادوها بأنفسهم في تلك البلدة وغِيبتهم كبيرة بالإجماع، ومنها مفاسد آخر كالنزاع والشقاق المتولد بين أهل تلك البلدة بسبب الطعن في علمائهم المتقدمين وغير ذلك فيكون هذا الرجل سببًا لذلك، نعوذ بالله من غضبه. (ج) تعلمون أن الخلاف واقع بين علماء الشافعية بعضهم مع بعض وبين علماء سائر المذاهب، كما وقع بين الأئمة ومن فوق الأئمة من علماء الصحابة - رضي الله عن الجميع - ولا شك أن كل من ذهب إلى شيء فهو يرى مخالفه فيه مخطئًا، ومن كان غير معصوم فهو عرضة للخطأ، وقد نقل عن الصحابة والأئمة أنهم أخطأوا في مسائل ثم ظهر لهم الصواب فرجعوا إليه، ومنها ما هو أهم في الدين من إعادة الظهر بعد الجمعة احتياطًا أو غير احتياط فإذا كان هذا سببًا للوقوع في أعراضهم فمن يسلم لنا. قالوا: إن ابن عباس رجع في آخر حياته عن القول بجواز المتعة فهل كان هذا سببًا للوقوع في عرضه ممن كانوا سمعوا منه الفتوى بالجواز وعملوا بها؟ هل كان أهل العراق يقعون في عرض الإمام الشافعي؛ لأنه يرجع عن مذهبه القديم بعدما عاد إلى مصر. كلا إن هذا من عمل السفهاء، وما كان لأهل العلم أن يحفلوا بقدح هؤلاء السفهاء، ولا بمدحهم فيتركوا بيان العلم والدين لأجلهم، وهذه سنة الله تعالى في أهل البغي والشقاق. يظهر تفرقهم وخلافهم بعد ظهور الحق {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: 4) {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 213) فعلى المؤمن بل من خواص المؤمن أن يأخذ بالحق متى ظهر له ويرشد إليه متى عرفه لا يخاف فيه لوم لائم ولا خوض آثم وإذا كان قد سبق له عمل بخلافه عن خطأ في الاجتهاد فهو مثاب على نيته وإن كان قد أمره بذلك عالم فذلك العالم أيضًا مثاب إن كان قد تحرى الحق بقدر طاقته وهو يستحق الدعاء والثناء لا السب والطعن. وإذا حاسب السائل نفسه ورجع إلى وجدانه يتبين له أن الذي أكبر هذه المسألة في نفسه وفي نفوس الكثيرين من أهل سنغافورة وجاوه هو تعودهم صلاة الظهر بعد الجمعة، فالأمر من قبيل حكم سلطان العادة الذي ذكرناه في جواب السؤال السابق، وإلا فلو كان المسلمون يهتمون كل هذا الاهتمام بكل مسألة حتى ما قاله بعض الفقهاء المتأخرين: إنها من الاحتياط؛ لكان اهتمامهم بما أجمعت عليه الأمة من المحرمات، والمكروهات والواجبات والمندوبات أعظم وأشد وأين هم من ذلك؟ فو الذي أحيا سلفهم بإتباع الحق حيث كان، والاعتصام به بقدر الإمكان، وأماتهم بابتداع البدع، والتفرق في الدين إلى شِيَع، لو أنهم كانوا يعلمون بما أجمعت عليه الأمة؛ لكانوا في هذا العالم هم السادة الأئمة، ولكانت الأمم التي أزالت ملكهم وورثت عزهم، تابعة لهم خاضعة لأمرهم {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) الآية. هذا هو رأينا في الخلاف في هذه المسألة الاحتياطية التي كبرت عند بعض أهل سنغافورة وجاوه، حتى عدها بعض أهل الهوى والجهل منهم فتنة من فتن المنار الذي بيَّن حكم الله فيها؛ إذ كتب واحد أو اثنان منهم لأمثالهم من أصحاب الجرائد الذين لا يصلون ظهرًا ولا عصرًا، ولا يفهمون كتابًا وسنة، يستفتحون بهم على المنار ويطلبون منهم الرد عليه أو تحريض العلماء على ذلك، والمنار يطلب في كل عام غير مرة من كل عالم يرى فيه شيئًا مخالفًا للكتاب والسنة أن يكتب به إليه. وقد زعم الكاتبان أن المنار هو الذي فرَّق بين الناس في الدين وجرَّأهم على سب الأئمة والسلف، والمنار هو الداعي لإزالة الخلاف بالاعتصام بالكتاب والسنة والاقتداء بالسلف ولا نعرف داعيًا إلى ذلك بالقول والكتابة والنشر غيره ففي أي جزء وفي آية صحيفة منه تكلم في السلف والأئمة؟ {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} (ص: 7) يُعرف منه أن المشاغبين في مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة لا يتبعون إلا الهوى؛ فإن الكذب والبهتان والغيبة لا سيما لخدمة الدين وأهل البيت النبوي من أكبر المحرمات بإجماع المسلمين، وأما صلاة الظهر بعد الجمعة فهي مسألة خلافية بينَّا الحق فيها من قبل. فهل من الاحتياط الذي قاله ابن حجر أن يكذبوا ويغتابوا ويخوضوا في أعراض العلماء ويلصقوا ذلك بغيرهم. قد أطلت القول في هذه المسألة؛ لأن الناس قد اهتموا بها عندكم أكثر مما تستحق، وهؤلاء أهل مصر أكثرهم شافعية ولم يهتموا لها بعض الاهتمام وهذه سنة الله في الخلق يهتم الناس على قدر جهلهم بالأمور التي لا يترتب عليها نفع ولا ضرر ويتركون عظائم الأمور ولا يبالون بها أرأيت أيها الأخ السائل أيهتم قومك بالإنكار على تارك الصلاة أو مانع الزكاة كما يهتمون بمن يصلي الظهر بعد الجمعة احتياطًا ويتركها لاعتقاد أنه لم يكلف بها وفاقًا لأكثر المسلمين؟ إذا كان هؤلاء قد تركوا كل ما حرَّمه وكرهه الدين وقاموا بكل ما قدروا عليه من أحكام الدين فرائضه وسننه وآدابه لأنفسهم ولأمتهم فلهم الحق في الاهتمام بهذه المسألة، وإنني أعتقد حينئذ أنهم يكونون سعداء مرضيين عند الله صلوا الظهر بعد الجمعة، أم لم يصلوها، وإن كانوا قد قصروا في شيء من الفرائض والسنن المتفق عليها أو يرتكبون شيئًا من المحرمات التي لا خلاف فيها فزعمهم الاهتمام والعناية بالدين؛ لأجل مسألة خلافية لم يقل بها إلا الأقلون من المسلمين زعم باطل لا سبب له إلا التمسك بالعادة والتعصب على المخالف بغيًا وانتصارًا للنفس. والخلاصة: أن من اعتقد أن شيئًا غير مشروع فعليه أو فله أن يبينه للناس غير مُبَالٍ بِلَغَط اللاغطين، واختلاف الجاهلين، والله ولي المتقين. أما سؤالكم في سماع الدعوى في بيع الرهن؛ فليس من موضوع المنار البحث في الأحكام القضائية غير الدينية، وظاهر أن الدعوى لا تسمع ممن سكت عنها المدة التي حددها الإمام أو نائبه.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية) رسالة لعلي بك أبي الفتوح من علماء القوانين العاملين بها في نيابة محكمة الاستئناف بمصر ابتدأها بقوله: (لا يظن كثير من الناس حتى من المسلمين أنفسهم أن المبادئ المقررة في الشريعة الغراء لا توافق هذا الزمان الذي بلغ فيه الإنسان من التمدن والترقي درجة رفيعة، ويتوهمون أن الأحكام والروابط الموجودة في القوانين الحديثة الوضعية لا مقابل لها في الأصول الإسلامية، وإنما هي بمثابة الاختراعات المادية الجديدة التي أنتجها فكر علماء الغرب لم يسبقهم بها أحد، ولكن الباحث في الفقه الإسلامي ولو قليلاً لا يلبث أن يغيّر هذا الظن، ويتحقق من أن أسلافنا وصلوا في الرفاهية وتقرير المبادئ العمرانية والاجتماعية والقضائية شأوًا قلَّما يجاريهم فيه أحد إلا أن صعوبة كتب المتأخرين وكيفية تأليفها، وما هي عليه من التعقيد قد أوصدت الباب في وجه من يريد الوقوف على حقيقة الشريعة الغراء غير المنقطعين لدراستها، ولذلك فإني أشير على من يسلك هذا الطريق أن يقصد التآليف لقديمة؛ لأنها أسهل موردًا وأغزر مادة مع خلوها من التعقيد وبعدها عن المشاغبات اللفظية، وليترك هذه الكتب الحديثة للمنقطعين لفهمها بدون ملل ولا حساب للوقت. (أذكر هذا على إثر مطالعتي لكتاب الخراج للإمام أبي يوسف المتوفى سنة 182 هجرية وقد ألف هذا السفر الجليل برسم أمير المؤمنين هارون الرشيد، وفيه من النصائح والأحكام ما يجدر بأمراء المسلمين اتباعه والعمل به. عثرت في هذا المؤلف الصغير الحجم على دُرَر كثيرة لا أبخل بنظمها في هذه المقالة حتى يرى المسلمون وخصوصًا المشتغلون منهم بالقوانين الإفرنجية أن المتقدم لم يترك شيئًا للمتأخر، ولعلهم ينكبُّون على دراسة الشريعة والآداب؛ لأنهما لا ينافيان العصر الحاضر ولا المدنية الحديثة إذا فُهِمَا حق الفهم ودُرِسَا بعقل وتمييز. وما أجدر الحكومات الإسلامية باستنباط قوانينها وأحكامها من الشريعة مع اختيار القول الأكثر مناسبة للزمان والمكان؛ لتكون هذه القوانين والأحكام أكبر احترامًا في النفوس وأكثر موافقة لأخلاق وعوائد من وضعت لهم) اهـ. ثم ذكر مسائل من كتاب الخراج وذكر ما ورد بمعناها في القوانين الحديثة واستخرج العبر منها، وقال: إن أهل القوانين يظنون أن هذه المسائل من أوضاع علماء أوربا المتأخرين؛ فهذه الرسالة مفيدة للمتعلمين في المدارس النظامية بمصر وأوربا الذين لم يتلقوا شيئًا من علوم الشريعة فهم يغمطونها للجهل، وهذا الذي ذكره قليل من كثير، ونقطة من بحر كبير، ومفيدة لعلماء الأزهر، وأمثالهم من المتعلمين على طريقتهم إن كانوا يقرءون ويعتبرون بما تبين لهم من سوء أثر هذه الكتب المتأخرة التي اختاروها للتدريس، وأثر طريقة التعليم المتمعجة التي يتعسفون فيها فإن ذلك أقوى أسباب بُعد المسلمين عن دينهم وشريعتهم. أما تعجب الكاتب من جدارة الحكومات الإسلامية بأخذ قوانينها وأحكامها من الشريعة الغراء، فيقال فيه: إنه لو كان في الدنيا حكومات إسلامية لما كان لهم معدل عن الشريعة، وهل من معنى لكون الحكومة إسلامية إلا كون تشكيلها وأحكامها على حسب الشريعة. وهل توصف بالإسلامية الحكومة الاستبدادية الشخصية التي يُنْشئها أو يرثها رجل يفعل فيها ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يتقيد من شريعة الإسلام بشيء إلا ما لا يرى بدًا منه في إخضاع العامة لسلطته أو ما يراه موافقا لمصلحته؟ هذه مجلة الأحكام العدلية التي ألفتها لجنة من علماء المسلمين هي أحسن من القانون المدني الفرنسي، وقد أمر السلطان العثماني بالعمل بها عندما أسس نظام العدلية، وأبطل به الامتيازات الأجنبية، فلماذا لم تتبعه الحكومة الخديوية، بل اختارت على أحكام الشريعة الإسلامية قانون الحكومة الفرنسوية. كلنا يعرف السبب في ذلك وهو طمع إسماعيل باشا بالاستقلال والانفصال عن الدولة بمساعدة أوربا التي يتزلف إليه باتباع مدنيتها فانظر ماذا حل به وباستقلاله. والرسالة قد طبعت فنحث القراء على طلبها ومطالعتها. *** (شرح التلخيص وطريق البلاغة وكتبها) ساءت طرق التعليم في المدارس الإسلامية بعد ضعف العلم بضعف الأمة، وساء اختيار المعلمين للكتب؛ فصارت العلوم في المسلمين رسومًا منها الدارس ومنها المائل. ثم تلاشى من العلوم ما لا يقوم بالرسم؛ لأنه أشبه بالروح منه بالجسم. كعلم البلاغة الذي هو ذوق معنوي، وشعور روحاني، تطبع بملكته النفس؛ ثم يظهر أثره في الحس، وهذه الكتب التي اختارها المتأخرون هي شروح لمتون جعلت مذكرة لأصول المسائل، ومهمات القواعد؛ فكانت مناقشات في ألفاظها، واستنباطات في عباراتها، تقطع على من ابتلي بها طريق التحصيل. وتضله عن سواء السبيل، وأشهر هذه المتون متن التلخيص للشيخ جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني الخطيب بدمشق الذي اختصر به كتاب المفتاح لأبي يعقوب يوسف السكاكي. وقد كان البلغاء المتقدمون الذين انتهت إليهم البلاغة والقدرة على البيان يأتون البلاغة من بابها بما يزاولون من قراءة الكلام البليغ وتفهم معانيه، والتفطن لأساليبه ومناحيه، حتى إذا ما أحس الإمام عبد القاهر بضعف عناية الناس بفهم الكلام البليغ ورأى النفوس منصرفة إلى العناية بزخرف اللفظ، وإن عجز عن أداء المعنى المراد، وقصر عن التأثير المطلوب فوضع كتابيه في (أسرار البلاغة) في البيان، و (دلائل الإعجاز) في المعاني؛ ليصرف الناس عن المجاهل التي تعسفوا فيها، ويهديهم إلى الطريق التي ضلوها؛ ولكن جاء بعده السكاكي فاقتبس من كتابه القواعد والأحكام التي وضعها لإقناع الجاهلين، وتسهيل الغوص على الدرر للغواصين، فجعل الفن رسمًا محدودًا، واصطلاحات نظرية حظ الذهن منها بالتصور والتصوير، أكبر من حظ النفس بالتأثر والتأثير، ثم اختصر الخطيب بتلخيصه ما كتبه السكاكي فكان كتابه أوغل في الرسم والاصطلاح؛ وأبعد عن النفوذ إلى مواقع التأثر والتأثير من الأوراح، وجاء بعد ذلك سعد الدين التفتازاني الذي صرف كل ذكائه في ممارسة العلوم النظرية من المنطق والجدل والمناظرة والفلسفة والكلام؛ فشرح (التلخيص) على طريقته في العلوم النظرية، فخرج بذلك علم البلاغة عن موضوعه بالكلية، وابتليت كتب السعد بأناس وضعوا عليها حواشي للبحث في ألفاظها وأساليبها دون البحث في أساليب الكلام البليغ المأثور فصارت هذه الكتب عقبات أو عواثير في طريق البلاغة بل صرفت الناس عنها؛ وحالت بينهم وبينها. مرت قرون على المسلمين وهم يتسكعون في ليل من الجهل بهيم حتى إذا الليل عسعس، وكاد الصبح أن يتنفس، هدى الله أناسًا إلى أن يقبسوا اللغة من مقبسها، ويجنوا البلاغة من مغرسها. وما عتم أن استبان للأزهريين المقصد، وظهر فيهم الإمام المرشد، ثم طبع الكتابان الجليلان، (أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز) وقرأهما في الأزهر الأستاذ الإمام، فحاول تلامذته الجمع بين العلم والعمل، وظهر فيهم من فاتوا شيوخهم الآخرين في بلاغة اللسان والقلم، فكتبوا المقالات والرسائل الأدبية، وتعلقت آمال بعضهم بتأليف الكتب العلمية، وهذا كتاب شرح التلخيص لواحد منهم وهو الشيخ عبد الرحمن البرقوقي. جرى هذا الشارح في شرحه على أن يبين المراد من الجملة ويدعمها بشيء مما ينصر جند المعاني على جند المباحث اللفظية التي اعتادها أهل الأزهر مستمدًا ذلك من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز الذين هما عمدته وعتاده، وفي هذا من جذب طلاب الأزهر الذين لم يحضروا الكتابين على الأستاذ الإمام إلى جانب البلاغة الحقيقية ما يرجى معها أن يكون الشرح سلمًا لهم يرتقون به إلى مطالعة الكتابين، ويهتدون به إلى خير النجدين، وهو ما يطبع البلاغة في النفس، ويظهر أثرها في عالم الحس، على أنه يكون عونًا لهم على فهم شرح السعد الذي قضي عليهم بتلقيه، وأداء الامتحان فيه. ومما ينتقد على الشارح أن يأخذ الكلام من أحد الكتابين (أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز) فيسنده إلى نفسه وإن كان طويلاً لا تصرف له فيه وتارة يتصرف فيه تصرفًا يسيرًا لا يكون عذرًا له أن يترك عَزْوه إلى أبي عذرة كما فعل بالفصل الذي عقده عبد القاهر في أسرار البلاغة لبيان مواقع التمثيل، وتأثيره في النفوس؛ فإنه أخذ صفحات من صدور الفصل ووضعها في أول باب التشبيه متصرفًا في جمل من أولها نقلها من صيغة الماضي إلى صيغة المضارع، كأن حق المصنف فيها مضى وانقضى وصارت في مستقبلها إلى مالك آخر. قال في ص 227: (اعلم أن التشبيه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وأن تعقيب المعاني به لاسيما قسم التمثيل منه يكسبها [1] أبهة ويكسبها مَنقبة ويرفع من أقدارها، ويشب من نارها، ويضاعف من قواها في تحريك النفوس لها ويدعو القلوب إليها، ويستثير لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، ويقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا، فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم) ... إلخ، ما لا تصرف فيه وعبارة أسرار البلاغة هكذا (ص86) : (واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل في أعقاب المعاني أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته كساها أبهة؛ وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا؛ وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا؛ فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم) ... إلخ وما لا تصرف فيه. وبعد أن نقل بالحرف مواقع التمثيل وتأثيره في كل موقع، وأنشأ ينقل الأمثلة تصرف فيها وفي الكلام عليها بعض التصرف، وكان غنيًّا عن ذلك كله. وقد وضع للشرح مقدمة تكلم فيها عن الفصاحة والبلاغة، وعن المؤلفين في فن البيان، وألم بما يشترط له من علم العربية، ولكن هذه المقدمة كلها أو جُلَّها مأخوذة من كلام عبد القاهر وغيره، وما كان ينبغي للمؤلف أن يتجاوز في مقدمة كتاب له أخذ الجملة والجملتين على سبيل التضمين. وأكثر ما أخذه قد سلخه بلفظه ومعناه فإنك تجد قوله (في ص 7) : (أما النحو فهو معيار) إلى جمل بعده كله من (ص 23 و 24) من (دلائل الإعجاز) ، ولا نذكر ما قاله في ص 8 من التمثيل بالآية، وكونه من ص 26 من دلائل الإعجاز أيضًا؛ فإنه ليس من روائع الكلام التي تملك لقائلها. ولكن قوله في ص13 في عبد القاهر (وأرهف عليهم لسانًا أخرس الشقاشق، وأعدم نطق الناطق , وأسال الوادي عليهم عجزًا، وأخذ منافذ القول عليهم أخذًا) مأخوذ من قول عبد القاهر في ص 7 من المدخل الذي هو مقدمة دلائل الإعجاز ولكن فيه شبهة عزو؛ لأنه يحكي عن رأي عبد القاهر. وقوله في آخر ص 15 ونحو ثلثي ص 16 من دلائل الإعجاز وقوله عقبها: (وزبدة القول: إلى نحو ثلث ص 17 مأخوذ من ص 34 و 35 من دلائل الإعجاز وما بعدها مأخوذ من ص 37 منه. والكلام على الآية في ص 18 مأخوذ من ص 36 من دلائل الإعجاز. والكلام على بيت ابن المعتز في ص 19 مأخوذ من 47 منه) . وقوله في ص 7: (لكن لا بد للمرء قبل ذلك أن يحظى برس من اللغة ويصيب ذروا من النحو) فهو مأخوذ من فاتحة أساس البلاغة للزمخشري بتصرف وقوله في ص 3 (لا يقوم بفصاحته لسان ولا يطلع فجه إنسان) هو من كلام الشريف الرضي في وصف كلام لأمير المؤمنين لما بويع بالمدينة. ومثله قوله في الصفحة أيضًا (وقبع في كسر بيته لا يرى إلا نفسه، ولا يسمع إلا حسه)

رأي رجل عظيم في المسلمين والمنار وترك الأستاذ الإمام للأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي رجل عظيم في المسلمين والمنار وترك الأستاذ الإمام للأزهر كتب إلينا الكتاب الآتي أحد أعلام الأمة الإسلامية وأركان نهضتها العصرية. ناظم مدرسة العلوم (الكلية) ومدير جريدتها (على كده انستيوت) الشهيرة وصاحب المصنفات الكثيرة محسن الملك بهادر سيد مهدي علي خان. فنشرناه ووصلناه برأينا فيه. قال حفظه الله: (بسم الله الرحمن الرحيم) غب إهداء سلام ألذ من تغاريد الحمام، وأصفى من قطر الغمام، وأحلى من صفو المدام، وأشهى من أنفاس الرياض؛ إذ هطل عليها الغمام، وأعبق من روايح المسك الختام، وأبرق من البدر التمام، وأشرق من الشمس إذ ينقشع عنها الظلام، أخص به حضرة المولى العلامة النحرير، والعلامة القرم الكبير، مولانا الشيخ رشيد رضا لم تزل الأقدار تعضده في كل حال. وتصعده للظفر بالأماني والآمال، ما لمع آل وتكررت الغدو والآصال. (وبعد) فقد عرفت يا سيدي ما قد أصاب المسلمين من الشرور والفتن، والدواهي والمحن، وأن الإسلام قد أدبر وآذن بوداع، وأن النفاق قد أقبل وأشرف باطلاع، وأن الدين قد استتر وتنكر بوجهه، وتولى بركنه، ونأى بجانبه، وتطرقت البدع المحدثة، وتسربت الأحداث المستحدثة، ورفعت الأمانة من المسلمين، وكنست الديانة عن المؤمنين، وبدت الخيانة في حزب سيد المرسلين. قد أعتم بنا عاتم الفتن وجللتنا حنادس المحن، وغشيتنا غياهب الإحن وتسربلنا بسرابيل العدم والإملاق، وتقمصنا بقمص الجهل والنفاق، وطحنتنا الجهالة بكلكلة البلى، وعركنا الجهل فسوانا بتخوم الثرى، لا ننكر من الشر نكرًا، ولا نعرف من الخير أمرًا، سُلب منا الإخاء، وبدت فينا العداوة والبغضاء، وسرت فينا الجهالة العمياء، فضربت بذلك علينا المتربة، وحاقت بنا المسغبة، وجللتنا المعطبة، لا نكترث بما صارت إليه حالنا، ولا نحفل بما تحولت إليه أحوالنا. ولا نبالي بما خابت منه آمالنا، قوضت عنا خيام المجد والاعتلاء، وأسرجت لنا رواحل الذل والبلاء؛ وتحولنا عباديد بعد الألفة، وتباديد بعد اجتماع الكلمة، وتركزت فينا أصول الفرقة، وتشتت اللم وتفرق، وتمزقنا كل ممزق، يزري بنا العيون، ويزدرينا ريب المنون؛ رحل الإسلام عن عقر داره، وتربع النفاق في محله وقراره، ومن ثم ترى الاجتماع قد تهدمت مبانيه، وتبصر الائتلاف قد خوت مرابعه ومغانيه، وتدكدكت من الاتفاق القنان، وانهدمت منه المصدان [1] وتصرمت أيامه ولياليه، واستبدلت بالانخفاض معالمه وعواليه، وبالذل والصغار قصوره ومعاليه، خمدت منه كل نار، وانفل منه كل غرار وعفت منه كل دار، وطمست منه الآثار، وعطل كل فلكه عن المدار، وكورت شمس علائه، وخسف منه بدر سمائه، وأرجفت منها أرضه العريضة، واغبرت صفحتها فأضحت مريضة ولم يبق من الإسلام إلا رسم خلق في المقام، ضمنه كما ضمن الوحي السلام [2] . يسومنا الأقوام خسفًا من كل جانب، ويستصغرنا الرجال عسفًا على ظهر كل لاحب، لم يستبق الدهر لنا قوة ولا دولة، ولم يرض لنا إمرة ولا صولة. وقد كان يعجبني منكم بين تلك الأحوال المزعجة، ويروقني من جنابكم في تلك الحالات الموجعة المفجعة، ما حباكم الله سبحانه بفضله، واصطفاكم ببره، لاستفراغ الوسع في إصلاح المسلمين، والاجتهاد البالغ التام في حضهم على النهضة لأمور الدنيا والدين، وذلك بما كنتم تنشرون من إمضاءات بليغة، وتنشئون من رسالات بديعة أنيقة، ومكاتبات بهية شهية رشيقة تحضون بها المسلمين على النهضة، وتحثونهم على الأوبة، إلى ما كانوا عليه من سالف المجد والاعتلاء، وماضي الكرم والعلياء، وسابق السبق في مضمار العز والعلا، والاقتحام في مفاوز الكرب والبلاء، والاهتمام في استجلاب المجد من كبد السماء، فيا لها ما قد تضمنت جريدتكم الباهرة الغراء، من عبارات مهذبة، واستعارات مستعذبة، وأساليب موشحة، وأساجيع مستملحة، فقد وشيتم إذا أنشأتم، وحبرتم حينما عبرتم، وأعجزتم حينما أوجزتم، وأذهبتم متى أسهبتم، وخرعتم متى اخترعتم، وأنتم بعون الله قارع هذه الصفاة، وقريع تلك الصفات، وقرن ذاك المجال، وقرين هذا النضال، وما برحنا ننقل تلك الإمضاءات الأنيقة من مجلتكم الرشيقة، إلى اللغة الهندوستانية، من العربية العقيانية، وننشرها في مجلتنا الشهيرة (بعلى كده انستيوت) يستفيد منها إخواننا الجاهلون، ويستضيء بها المستضيئون ويستعين بها من أضر به ريب المنون، لدفع كل ملمة ملكية، وكشف كل مهمة سياسية. وقد كان قبل ذلك بمدة تنيف على ثلاثين سنين، قد نشأ في تلك الآفاق والأرضيين، رجل من أفاخم الأعيان، اسمه السيد أحمد خان، كان رجلاً همته في إصلاح المسلمين، والغور التام في دفع الصغار والنكبة عن إخوانه في الدين، وكان رجلاً متنطعًا مِنْطِيقًا ذا لسان، ومنطق وبيان، يعد في مصاقع الخطباء، وينخرط في سلك بهاليل الأدباء، يبهر الناس بأساليب خطابه، ويستجلب الخلق ببديع هضابه، ونادر سحه وتسكابه، فبادره العلماء الأعلام، بالسب والشتام، ورشقوه بنبال العذل والملام ولعنوه على المنابر في جوامع الإسلام على مر الدهور وكر الأعوام، وأعلنوا بكفره، وأذنوا بالخروج عن ملته، وأفتوا بإباحة دمه، وهو بعدُ كان لا يكترث بما كان يقع عليه، وما يبالي بما كانوا ينضون له من سيوف العداوة معه، وكان لا يفتر عن جده واجتهاده والضرب بعصا التسيار في ميادين بلاده، ولما صبر على كل ذاك الأذى، وتجلد كالبطل الكميّ في ميادين الوغى، لم يبرح من وطنه، أن تمثل له الظفر وخذا بين يديه وسار من مكامن عطنه. ولكن قد قل منكم نشر تلك الإمضاءات البديعة في إصلاح المسلمين واجتهادكم في تحسين أمورهم من الدنيا والدين، منذ حين، وأراكم قد اقتصرتم على اقتباس جزء يسير من تفسير العَلَم العيلم الرزين، حكيم الإسلام والمسلمين، وفخار الملة والدين، وسناد العلماء السادة الأساطين، حضرة مولانا الفاضل العلامة الشيخ محمد بن عبده مفتي الديار المصرية متعنا الله ببقائه ولعمري هو اليوم فارس رجالنا، ورأس أمانينا وآمالنا، نأمل به الفوز في السعادة القصوى، ونرجو منه الظفر بما هو غاية إربنا في الحياة الدنيا، من حصول النهضة الأخرى غب النهضة الأولى، ولا نجد لذلك مثله في جديد تلك الخلقاء الهابطة السفلى [3] . * * * وقد أدهشنا خبر هائل وصل إلينا من الجامع الأزهر وأوحشنا وأقلق جل أصحابنا والأمة وأراق الدماء من الجفون والمقل، وكادت القلوب لها أن تتهبل [4] وقد انصدعت له الصدور، وتصدعت لها المهج في شلو كل مصدور، وذلك ما شاع عن هذا الفيلسوف السرسور [5] ، والحلاحل الوقور، والنبراس في ظلمات الديجور، من رفض ما كان إليه من نظارة الجامع المذكور، أسفًا على ما تجرب من جفاء أهل عصره، لا سيما علماء مصره، ومساعدة الحضرة الخديوية للعلماء، وقضائها بخلاف ما كان يرجى من تلك الحضرة الغراء، لما كان أيده الله تعالى يريد من إشاعة العلوم الحديثة، وإذاعة المعارف والحكم الجديدة، زيادة على ما كان يجري فيه من دروس العلوم الشرعية، والمسائل الفرعية، ولما لم يصغ أحد إلى رأيه ومقالته، ولم يكترث رجل إلى ما كان فيه من محض نصاحته، تمثل لنا عند ذاك اليأس، وتجسد لنا شبح القنوط والإبلاس [6] ، لخمود هذا النبراس، فقد كنا نظن قبل ذلك أن سوف يحفل به عنا ليل المحن، ويقلع عنا دامس الفتن، وتقوض عنا خيام البلاء، وتعطف عنا سهام الضراء، ويتنفس علينا صبح الإقبال، ويطلع على وجهنا فجر الآمال، من أجل ذاك البارع الحكيم المفضال، وكنا نظن أنه قد توقد في الإسلام مصباح يستوقد منه آلاف ألوف من المصابيح، ومفتاح ينفتح به مغالق أبواب الفرج والتراويح، ولكن قد تبين الآن أنَّا لم نبرح عرضة للبلاء، ودرية لرماح الضراء، وجزرًا لسيوف البأساء، مازالت هذه الخضراء تدور على الغبراء، وما أشبه حال هذا الحكيم الرزين في المصريين، بحال السيد أحمد الذي أعثرناك على حاله في الهنديين، فقد عظمت الرزية، وجلت المصيبة، فإنا لله وإ نا إليه راجعون {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقبون} (الشعراء: 227) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي كده ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الهند) (محسن الملك) *** جواب المنار يريد السيد المحسن حفظه الله بالإمضاءات التي كانت تنشر في المنار، ثم تركت - تلك المقالات الخطابية التي تمثل للمسلمين ضعفهم الحاضر وتذكرهم بمجدهم الغابر، وتحثهم على إصلاح شأنهم في الدنيا والدين، والاعتبار بترقي المعاصرين، وهذا ما كنا نكثر منه في أول نشأة المنار؛ ليكون تمهيدًا يعد النفوس لقبول ما نعرضه من الرأي في الإصلاح الديني والاجتماعي ولإعمال الفكرة وتوجيه الهمة إلى السعي والعمل لخدمة الأمة، ولكننا رأينا الناس قد استحسنوه، وكثيرًا من أصحاب الصحف قد احتذوه وتقلدوه، حتى صار كأنه مقصود لذاته، لا لأجل عمل من ورائه، ولذلك صرت ترى في الصحف المصرية التي تسمى إسلامية كلامًا كثيرًا في حال المسلمين حتى من الذين لم يعرفوا من الإسلام إلا ما يعرف أجهل السوقة والعوام، وإن ما عنينا به في المدة الأخيرة يشبه أن يكون مقصدًا أو غرضًا لتلك المقدمات أو الممهدات. ولا يحسبن الأخ الكريم أننا تركناها يأسًا من صلاح حال المسلمين. أو فرقًا من مناصبة المشاغبين، التي لا بد أن يكون عرفها من تصدي جريدة المؤيد للوقوع بنا، بعد ما كانت تشيد وتنوِّه بعملنا، كلا إن هذا لا يزيدنا إلا قوة في الأمل، وهمة في العمل؛ لأن اللوم بطبعه إغراء، والمقاومة من بواعث الاعتناء، كما رأيتم في فاتحة المنار لهذه السنة. على أن ما ننشره من الحكم والمواعظ في التفسير، وما نودعه في مطاوي سائر المباحث من التنبيه والتذكير، هو في معنى تلك المقالات التي تنشدون ولا تخلو من الخطابيات التي تخطبون، وقد طالبنا غير واحد صريحًا، بمثل ما أمر السيد به تلويحًا، ولذلك وعدنا في خاتمة السنة السابعة بالعود إلى تلك المقالات في سنتنا الحاضرة، وقد نشرنا في الجزء الثاني منها مقالة (حياة الأمم وموتها) مقدمة للكتابة في أنواع الحياة وحالنا فيها، وسيتلو الكتابة في الحياة الزوجية مقالات في الحياة الملية والوطنية والسياسية. ونرجو من فضل الله وكرمه أن لا نزداد إلا ثباتًا واعتناء ما دمنا آمنين في سربنا معافين في بدننا قادرين على النفقة على نفسنا وصحيفتنا. وأما ترك الأستاذ الإمام للأزهر فهو لم يكن من يأس ألمَّ بنفسه الكبيرة، ولا عن ضعف في همته العلية، ولا لمقاومة علماء الأزهر لما يريده من إصلاح التعليم أو إضافة علوم جديدة على ما يقرأ في الأزهر من العلوم، وإنما هو ما تنسمتموه من الجرائد المصرية، ونزيدكم فيه بيانًا بمكاتبة شخصية، وقد ظلم العقلاء عندنا وعندكم علماء الأزهر فأنزلوهم من درجتهم في العلم والفهم، كما أعطوهم أكثر من سهمهم من الشعور والأخلاق. أما ظلمهم إياهم فهو اعتقادهم وقولهم فيهم أنهم يعتقدون بأن العلوم الدنيوية تقوض بناء الدين، وتفسد العقائد في قلوب المسلمين، وأن إصلاح طريقة التعليم خروج عن صراط السلف المستقيم، وكل هذه الظنون فيهم باطلة؛ فإن من أصحاب الدرجة العلمية الأولى فيهم من يعلمون أولادهم العلوم الدنيوية في المدارس الأميرية وغيرها فكيف لا يخافون الكفر والضلال على أفلاذ أكبادهم مع عدم تمكنهم من العلوم الدينية ويخافون ذلك على طلاب الأزهر

صدى الحادثة في أوربا أو مقاومة النفوذين الفرنسي والإنكليزي للأستاذ الإمام في الإصلاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صدى الحادثة في أوربا أو مقاومة النفوذين الفرنسي والإنكليزي للأستاذ الإمام في الإصلاح نشرت جريدة اللواء في عدد يوم الخميس (13 ربيع الأول) خبرًا، قالت: إنه مترجم عن جريدة (الغلوب) الإنكليزية بغير تصرف وهذا نصه بغير تصرف. (اختلف العلماء من عهد قريب بشأن التعليم في الأزهر وسبب ذلك أن رئيسهم الشيخ محمد عبده حاول إدخال نظام للتعليم أوسع من النظام الحاضر الذي وضع من قرون مضت والذي لا يتضمن غير محض تعليم مواد الأجرومية، وقليل من بعض العلوم الأخرى بقصد تكوين قوة جديدة في الإسلام، ويريد الشيخ محمد عبده السالف الذكر إدخال العلوم الحديثة في بروغرامه الجديد؛ ليستعين بها العلماء على اكتساب أرزاقهم من طرق العمل والجد لا الكسل والتواكل. وقد قاومه العلماء في مشروعه هذا مقاومة شديدة واتصل بنا أنه قال في حديث له: إن السبب في عدم نجاحه وفشله النهائي راجع إلى محاربة النفوذين الفرنساوي والإنكليزي السياسيين له، واستشهد بعبارة نشرت في الكتب السياسية الفرنساوية مؤداها أن سواس فرنسا من الحزب الاستعماري لا يقبلون بوجه من الوجوه تَنَوُّر المغاربة بنور العلم) اهـ. ملاحظة المنار أو انتقاده على ذلك يعجب المصريون أن يروا في الجرائد الإنكليزية من يخبط في المسائل المصرية على غير هدى مع وقوف الإنكليز هنا على حقائق الأمور، وذكرنا وذكر غيرنا ممن قرأ تلك النبذة في جريدة اللواء ما كان أشيع هنا بعد ترك الشيخ محمد عبده لمجلس إدارة الأزهر من أن بعض المصريين الذين لهم حظ فيما حدث في الأزهر كلفوا أحد مكاتبي الجرائد الإنكليزية أن يكتب لجريدته التي يكاتبها شيئًا يفيد معنى ما كتب في بعض الجرائد المصرية التي لها هوى في الحادثة من أن جميع علماء الأزهر مضادون للشيخ محمد عبده فيما يريد من إصلاح التعليم وزيادة العلوم في الأزهر، ويتضمن شيئا آخر يفيد سخط الإنكليز على الشيخ، وأتذكر أن بعض الجرائد الأسبوعية في مصر كتبت شيئًا عن هذه الإشاعة وقالت: إن ذلك سيكتب ثم ينقل في بعض الجرائد المصرية اليومية. ما لنا ولما أشيع في سبب الكتابة ولما قيل في مصدرها إنما نحن أمام قول يتضمن خبرين: أحدهما: أن علماء الأزهر كارهون ومقاومون لما يريد الشيخ محمد عبده من النظام وتوسيع دائرة العلم في الأزهر، وقد بينا في كلامنا على رسالة (محسن الملك) أن هذا غير صحيح، وأن علماء الأزهر برآء مما يُرمون به من الغلو في بغض العلم والنظام، والجهل بما يُعلي شأن الإسلام. وثانيهما: أن الشيخ يقول: إنه لم يخفق فيما حاول من إصلاح الأزهر إلا بمقاومة النفوذين الفرنسي والإنكليزي له؛ لأن ترقية المسلمين تناقض مصلحتهما في استعمار بلادهم. ونقول: إن هذا النقل عن الشيخ غير صحيح وإن كان أكثر المسلمين يعتقد بصحة علته المذكورة. ولا يعقل أن يقول الشيخ ذلك؛ لأن فرنسا لا نفوذ لها في الأزهر ولا في مصر فتقاوم، ولأن الإنكليز لم يقاوموه لما هم عليه من الحرية وعدم التعرض للمصالح الدينية على أن المصريين الذين لم يقدروا حرية الإنكليز حق قدرها. ولم يعلموا أنها تمثلت مع الفضيلة في اللورد كرومر في أبهج صورها، يتعجبون من عدم مقاومة الإنكليز لإصلاح الأزهر في السنين الماضية ويظنون أن لهم يدًا في المقاومة الآن. أما الشيخ محمد عبده فقد سمعناه غير مرة يقول: إنه ما قصد إلى خدمة المسلمين في شيء ولقي مقاومة فيه من غيرهم لا من إنكليزي، ولا من إفرنسي، ولا من قبطي، ولا من شامي. ولا غرو فإن جهل المسلمين وتخاذلهم في هذا العصر كافيان لإحباط كل سعي لترقية شأنهم لا يحتاجون إلى مساعد في ذلك، ومن يسعى بعقل لا يقاومه العقلاء. هذه فرنسا التي كان منهجها في مقاومة تعلم المسلمين في الجزائر أمرًا معروفًا قد أنشأت ترجع إلى منهج الإنكليز في التساهل، وقد تكلم الشيخ محمد عبده مع رجالها في تونس والجزائر في مساعدة المسلمين على التعليم فوجد منهم ارتياحًا إلى ذلك وقد نشرت جريدة (الطان) من عهد قريب مقالة في الاحتفال بمدرسة الجمعية الخلدونية ذكرت فيها أن مصدر هذه الحركة العلمية في تونس هو الشيخ محمد عبده وبعض المجلات العلمية المصرية التي تحث المسلمين على الجمع بين علوم الدنيا والدين، وترد فيها رأي الذي يظنون أن تعليم المسلمين يضر بفرنسا؛ لأن هؤلاء المتعلمين يكونون دعاة لاستقلال البلاد وقيامهم على المستعمرين لها وترجمت الأهرام مقالة (الطان) فسُرّ بها المسلمون هنا.

الاحتفال بالعيد المئوي لمحمد علي والإيماء لانفصال مصر عن تركيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بالعيد المئوي لمحمد علي والإيماء لانفصال مصر عن تركيا احتفل جماعة من المصريين بتذكار تولية محمد علي باشا على مصر منذ مائة سنة ميلادية. وقد اعتبروا ابتداء ولايته اختيار المصريين له دون فرمان السلطان بتوليته الذي كان بعد مثل يوم الاحتفال بشهر وأيام كأنهم يريدون أن هذه الحكومات استقلت بذاتها من طريق الانتخاب لا بالتبعية للدولة ذات السيادة عليها، وكنا نعهد بأمثال هؤلاء المحتفلين الحرص على إظهار ربط مصر بالأستانة فما عدا مما بدا؟

ذبائح أهل الكتاب في عصر التنزيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذبائح أهل الكتاب في عصر التنزيل (س20) السيد محمد بن عقيل في سنغافورة: اطلعت على جميع ما كتبتم في ذبائح أهل الكتاب ثم وصل إليَّ من أحد أهل مصر كتاب يسمى التعاديل الإسلامية في الرد على شيخ الإسلام (يعني الأستاذ الإمام) وكنت قد رأيت منذ نحو 14 عامًا فتوى لشيخنا العلامة السيد سالم بن أحمد العطاس العلوي الحضرمي مفتي جهور تضارع فتوى شيخ الإسلام، ولكن يختلج في صدري شيء لم يذكره شيخ الإسلام، ولا غيره فيما أعلم، وهو هل لأهل الإسلام نقل صحيح في التاريخ يفيدنا بكيفية ذبح أهل الكتاب، أو قتلهم لما يريدون أكله في عصر المصطفى - صلى الله عليه وعلى آله -؟ فإن وجد فهل يجب قصر حكم الحِلّ على ما كان؛ لأنه المفهوم ويكون ما توسعوا به بعد ذلك من بدعهم فلا يفيد الحِلّ؟ فلو صح النقل بأنهم كانوا يعصرون عنق نحو الدجاج ويوقذون نحو البقر لم يبق للمشاغب كلام، والمظنون أن لأهل الكتاب كيفيات في الذبح في ذلك العصر كما نقل أن لهم في التسمية عند الذبح عادات، وما صح به النقل لا نزاع فيه؛ فهل ظفرتم بنقل عن شيء من تلك الكيفيات التي أحل الله لنا طعامهم وهو يعلمها ينجلي به غبار كل إشكال، أفيدونا بما تعلمون لا زلتم مرشدين. (ج) بيّنا فيما كتبناه في المجلد السادس في مسألة طعام أهل الكتاب أن المسألة ليست من المسائل التعبدية، وأنه لا شيء من فروعها وجزئياتها يتعلق بروح الدين وجوهره إلا تحريم الإهلال بالذبيحة لغير الله تعالى؛ لأن هذا من عبادات الوثنيين وشعائر المشركين فحرم علينا أن نشايعهم عليه أو نشاركهم فيه، ولما كان أهل الكتاب قد ابتدعوا وسرت إليهم عادات كثيرة من الوثنيين الذين دخلوا في دينهم لا سيما النصرانية، وأراد تعالى أن نجاملهم ولا نعاملهم معاملة المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد كما أباح لنا التزوج منهم مع علمه بما هم عليه من نزغات الشرك التي صرح فيها بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} (يونس: 18) على أنه حرم علينا التزوج من المشركات بالنص الصريح ولم يحرم علينا طعام المشركين بالنص الصريح بل حرم ما أُهلّ به لغير الله. فأمر الزواج أهم من أمر الطعام في نفسه، والنص فيه عام قطعي في المشركين وهو لم يمنع من التزوج بالكتابية، ولأجل كون حِل طعام أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة صرح بعض أئمة السلف بأن النصراني إذا ذبح لكنيسته فإن ذبيحته تؤكل مع الإجماع على أن المسلم إذا ذبح وذكر اسم النبي أو الكعبة فإن ذبيحته لا تؤكل، وترى هذا في تفسير الإمام ابن جرير الطبري وما نقلناه في المنار عنه وعن غيره كاف في هذا الباب، وقد رأيت في التفسير من هذا الجزء النسبة بيننا وبين أهل الكتاب، وما ورد فيهم وما أرشدنا إليه سبحانه من مجاملتهم ومحاسنتهم فهذه هي الحكمة في حِل طعامهم لا كونهم يذبحون على وجه مخصوص أو يطبخون بكيفية مخصوصة. ولو كان يجوز لنا أن نقيد نصوص الكتاب المطلقة بمثل هذا التقييد لكان يجب علينا أن ننظر في كل حكم فنقول: إن إحلاله أو تحريمه مقيد بما إذا كان على الكيفية التي كانت في ذلك العصر فنتقيد بما كان عليه أهل العصر الأول في جميع عاداتهم وأحوالهم؛ لأنهم خوطبوا بالأحكام وهم على ذلك وهذا حرج عظيم وتحكُّم لم يقلْ به أحد، بل قال أهل الأصول: حكم المطلق أن يجري على إطلاقه، ومن ثم نقول: إنه لا وَجْه للبحث عن عدد الذين أقيمت بهم الجمعة أو صلاة العيد ولا عن كيفية المسجد أو المصلى الذي صليا فيه عند التشريع والحكم بأن ذلك شرط لصحة الصلاة. ثم إن المشاغبين الممارين لا يقنعهم شيء فأنت ترى أن فتوى الأستاذ الإمام لم تكن في حِل الموقوذة من أهل الكتاب، ولا كان السؤال عن ذلك وقد سموا الذبيحة موقوذة وأكثروا من اللغو، ولا غرض لهم من ذلك إلا إيهام العامة بأن فلانًا قال قولاً مخالفًا للشرع لعلمهم أن العوام لا يفهمون الدلائل ولا يميزون بين الحق والباطل، وإنما يفهمون بالإجمال أن فلانًا أخطأ فيخوضون في عرضه وهذه هي لذة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا. ولذلك لم يورد الذين كتبوا في هذه المسألة شيئًا من كلامنا المؤيَّد بالكتاب والسنة وفقه الشريعة وأسرارها والمأثورعن سلفها لا بالتسليم ولا بالإنكار، فذرهم في خوضهم واشتغالهم بالسفاسف وصرفهم قلوب المسلمين عن كل نابغ فيهم ساع في إقالتهم عثرتهم أو إنجائهم من هلكتهم حتى يبلغ انتقام الله تعالى بهم منهم حده، وخذ بما صفا ودع ما كدر، وادع إلى الحق من تراه مستعدًّا له، والله الموفق.

عذاب القبر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عذاب القبر (س21) الشيخ منصور نصار من مجاوري الأزهر: قد سألني بعض الناس ببلدتنا عما يحصل للميت في قبره من النعيم أو العذاب هل المنعَّم أو المعذَّب هو الروح فقط أم الروح مع الجسم، فأجبته بما أعلم من نص أثر ابن عمر والغزالي الموصوف بحجة الإسلام من أن المعذب هو الروح فقط. وقد وقع اضطراب بيني وبين أهل بلدتي في هذه المسألة، فأرجو من حضرتكم توضيح الحقيقة على صفحات مناركم الأغر حيث إن الله تعالى نصبكم لخدمة الدين والدفاع عن شبهات الضالين لا زلتم هادين مهديين. (ج) قد سبق لنا الإجابة عن مثل هذا السؤال في المجلد الخامس وبينا أصل الخلاف في عذاب القبر وأن مذهب السلف عدم البحث في كيفية ما يرد في الكتاب والسنة من أحوال الآخرة؛ لأنها مما يجب الإيمان به كما ورد من غير فلسفة فيه ولا تحكم على الغيب؛ إذ لا يقاس عالم الغيب على عالم الشهادة، ولو أنكم دعوتم أهل البلد إلى هذا التسليم لأقفلتم باب الجدل في وجوههم، ولا أقبح من الجدل في أمر الآخرة الذي لا مجال للعقل ولا للحس فيه، والذين فتحوا هذا الباب هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فقامت المعتزلة تقول: إن من الناس من تأكلهم السباع والحيتان في البحر وتصير أجسامهم أجزاء من أجسام هذه الحيوانات، ومنهم من يحرق ويذرى رماده، فكيف تقولون يا معشر الأشاعرة: إن في القبر عذابًا على الروح والجسد؟ والصواب أنه لا عذاب إلا عذاب الآخرة بعد البعث. وقامت طائفة أخرى تقول: إن الجسم لا إحساس فيه؛ فالحديث الوارد في عذاب القبر يراد به تعذيب الروح مجردة. ويقول آخرون: الروح لم تعمل السيئات إلا بواسطة الجسد؛ فلا بد أن يكون العذاب مشتركًا ويصدق ذلك بأن تتصل الروح بجزء أو أجزاء من البدن ولو كان رميمًا أو داخلاً في بنية حيوان، ويقع العذاب عليهما معا وهو قول أكثر المسلمين. ثم إن الاشاعرة يقولون: بأن الإعادة في الآخرة تكون عن عدم بأن ينعدم الجسم من الوجود، ثم يخلقه الله تعالى بذاته ومع أعراضه في قول، وهذا القول لا يتفق مع القول بأن عذاب القبر على الروح والجسد معًا، إلا أن يقال: إنهم استثنوا عَجْب الذَّنَب؛ فقالوا: إنه لا يفنى، فلعلهم يقولون: إن عذاب القبر يكون على الروح مع اتصالها بعجب الذنب، ولكن قال المزني من الشافعية: إن عجب الذنب يفنى أيضًا. فأنت ترى أن الباحثين بعقولهم فيما ورد من أحاديث عذاب القبر في خلاف لا يكاد يسلِّم واحد منهم للآخر، ونحمد الله تعالى أنهم لم يجعلوا هذه المسألة من أصول العقائد التي يكفر منكرها، ولا شك أن مذهب السلف هو الحق الذي يجب الأخذ به وهو أن نقول: إن كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من أمر البرزخ والآخرة حق نؤمن به ونفوِّض الأمر في حقيقته وكيفيته إلى الله تعالى، مع العلم بأن الأرواح هي التي تشعر باللذة والألم، وأن الأجساد لباس وآلات لتوصيل بعض اللذات والآلام، وأي قول قلت فيه هذه المسألة لا يخرجك من الدين، فعلام التنازع بين المسلمين.

الحكمة في إنزال القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحكمة في إنزال القرآن (س22) عبد الحميد أفندي السوسي في (الإسكندرية) : ما هي الحكمة في إنزال القرآن الحكيم؟ هل الحكمة بذلك التعبد بتلاوته كما يقول العلماء؟ وهل من نص قطعي يؤيد قولهم؟ أو لنجعله حانوتًا نبيع منه (عدية يس) ونقرأه على الموتى ونكتب آياته في آنية ونمحوها بالماء ونتعاطاها لنشفى من داء كذا أو لنقرأه للتبرك وما هو التبرك؟ ألم يكن هو فهم آياته حق الفهم، والتأدب بآدابه الكريمة، واتباع أوامره واجتناب نواهيه {ليَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29) كما قال جل ثناؤه. أرجو الجواب على صفحات مناركم، ولكم الأجر من ربي وربكم. (ج) الحكمة من إنزال القرآن مبينة في القرآن ليس فيها شبهة لمن جعلوه حرفة، بل فيه الحجة واللعنة على من يشترون به ثمنًا قليلاً. وليس فيها نص قطعي يؤيد قولهم بالتعبد بتلاوته على إطلاقهم الذي يتناقلونه، ولكنهم يستدلون عليه بأحاديث هم يتفقون على أنها ليست نصوصًا قطعية كالأحاديث التي وردت في كون تالي القرآن يعطى بكل حرف عشر حسنات ونحو ذلك من الثواب وهناك أحاديث أخرى في وعيد من يتلو القرآن وهو غافل عن هدايته لا بد من الجمع بينها وبينها، وإننا نذكر المؤمنين بشيء من الآيات والأحاديث في الحكمة والفائدة التي أنزل الله لها القرآن؛ لأن أهل الأهواء السياسية والشخصية في مصر قد جعلوا القرآن في هذه الأيام موضعًا لأهوائهم، فكل يزعم نصره ونصر حفاظه، والله أعلم بالصادقين، ولا تخفى على الناس آيات المنافقين. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وهاك طائفة من الآيات الكريمة في حكمة تنزيل القرآن: (1) {الم * ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 1-2) (2) {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2) (3) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ} (إبراهيم: 1) . (4) {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجاً * قَيِّماً لِّيُنذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} (الكهف: 1-3) . (5) {طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} (طه: 1-3) . (6) {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان:1) . (7) {طس تِلْكَ آيَاتُ القُرآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل: 1-3) . (8) {الم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (لقمان: 1-7) [*] . (9) {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} (فصلت: 1-5) . (10) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) . (11) {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِين} (المؤمنون: 68) . (12) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) . (13) {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب} (ص: 29) . (14) {هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 203) . (15) {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57) . (16) {كُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120) . (17) {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111) . (18) {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} (الرعد: 37) . (19) {هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (إبراهيم: 52) . (20) {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) . (21) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} (النحل: 102) . (22) {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) (وفي هذه السورة آيات أخرى فيها عبر كبرى) . (23) {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّداًّ} (مريم: 97) . (24) {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21) . والآيات في هذه المعنى كثيرة، وكلها ناطقة بأن القرآن أنزل هداية للناس وبشيرًا للمحسنين في أعمالهم ونذيرًا للمسيئين، وأنه عبرة وتذكرة وموعظة وشفاء لما في الصدور أي القلوب من أمراض الجهل بالله، وبما له على عباده من الحقوق وما لبعضهم من ذلك على بعض، وأمراض الأخلاق السيئة والعادات الضارة. وهناك آيات كثيرة في وعيد المعرضين عن هدايته الغافلين عن تدبره والذين يشترون بآيات الله ثمنًا قليلا، وكون هذا من صفات الكافرين، ومن أشد ما نزل في المؤمنين الأولين على علو كعبهم، وقوة يقينهم، من قوله تعالى في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ذكر الله (وما نَزَلَ من الحق) هو القرآن. قال في الجلالين: إن الآية نزلت في الصحابة لما أكثروا المزاح، وقال السيوطي في أسباب النزول: إنها نزلت فيهم بعد أن قدموا المدنية فأصابوا من عيشها بعد ما كان بهم من الجهد وكأنهم فتروا في العمل. فهذا هو القرآن وهذا وعظه وتربيته للمؤمنين فانظر إلى حفاظه اليوم وإلى الذين يزعمون أن من تعظيمه وتكريمه أن يكون حافظه أميًّا لا يكلف قراءة ولا كتابة ولا فهمًا ولا عقلاً ولا تدبرًا ولا تذكرًا ولا تفكرًا بل يكلف أن يتلوه ولو بغير تجويد، وأن يأكل به أوقاف الأموات ومال الأحياء، أين هم من هدايته وأين هم مما جاء به؟ وأما الأحاديث الواردة في القرآن فمنها ما ورد في حفظه وتعلّمه وتعليمه، وهذا مطلوب لأمرين: أحدهما: فرض عيني، وهو معرفة العقائد الصحيحة والآداب الكاملة، وفقه الأعمال التعبدية والدنيوية التي فصلت السنة كيفياتها أو بينت صورها. والثاني: فرض كفاية، وهو تبليغه وحفظه لأجل تبليغه بلفظه على الوجه الذي أدى إليه وبمعناه في الدعوة إلى ما دعا إليه من العقائد والأحكام والفضائل ليكون الدين بذلك محفوظًا، ولا ينسى أن الترغيب في قراءته وحفظه يستلزم الترغيب في فهمه والاهتداء به؛ لأنهم كانوا يفهمونه، بل ذلك مما يتضمنه الترغيب بلفظه. ومنها ما ورد في وعد العاملين به ووعيد المعرضين عنه والواجب فهم مراد الشارع من مجموع كلامه؛ فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وهذه طائفة من الأحاديث في ذلك. (1) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - قال (لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل. ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل) رواه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والمراد بالعمل مثل ما يعمل فلان في الأولى هو العمل بالقرآن كما تدل عليه المقابلة، ورواية ابن عمر في الحديث نفسه (فقام به آناء الليل) إلخ. قالوا: والمراد قام به تلاوة وطاعة. وفي الحديث رواية أخرى أَبين في المراد، وهي عند البخاري ومسلم وغيره، وفيها بدل أوتي القرآن (رجل آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها للناس) والمراد بالحكمة القرآن جمعًا بين الروايات. (2) عن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) رواه البخاري وغيره وفي رواية عنه (إن أفضلكم) إلخ. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدي؛ ولهذا كان أفضل، وهو ممن عنى الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) والدعاء إلى الله يقع بأمور: جملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع، وعكسه الكافر المانع لغيره من الإسلام كما قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} (الأنعام: 157) فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه، قلت: لا؛ لأن المخاطبين بذلك كانوا فقهاء النفوس؛ لأنهم كانوا أهل اللسان فكانوا يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدردها مَن بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجية، فمن كان في مثل شأنهم شاركهم في ذلك لا من كان قارئًا محضًا لا يفهم شيئًا من معاني ما

استطراد في حفاظ القرآن بمصر وحادثة جديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استطراد في حفاظ القرآن بمصر وحادثة جديدة جرت الحكومة المصرية على إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية؛ فكثر حافظوه لذلك، وهؤلاء الذين يحفظونه لهذا الغرض ولا يريدون به وجه الله تعالى كما ورد، ولا يلبث الكثيرون منهم بعد سن القرعة العسكرية أن ينسوه إلا من اتخذه حرفة يكتسب به. ولما أنشأت نظارة المعارف تنظم المكاتب أو الكتاتيب التي يعلم فيها القرآن أوفدت إليه المفتشين من أهل العلم المتخرجين في الأزهر ثم في دار العلوم، وقد تبين لهؤلاء أن الكثيرين من الحفاظ الذين انقطعوا لإقراء القرآن لا يحسنون تلاوته بالتجويد المطلوب شرعًا، وأنهم على جهل ومهانة لا تليق بعملهم. وقد أقرت الحكومة في مجلس النظار الذي اجتمع في هذا العام برياسة الأمير أن لا يعفى حافظ القرآن من الخدمة العسكرية من بعد إلا من يمتحن فيظهر أنه حافظ للقرآن ومحسن لتلاوته بالتجويد الواجب شرعًا، ومتعلم مبادئ القراءة والكتابة التي يتعلمها الصبيان؛ أي لا يشترط أن يكون الخط جميلاً والإملاء صحيحًا، ولا أن تكون القراءة بدون لحن، وعارف بالقواعد الأربع الصحاح في الحساب. وغرض الحكومة من ذلك فيما يظهر أن تكثر عدد الحفاظ الذين يصلحون لإنشاء الكتاتيب وأن يكونوا محترمين في الجملة بالارتقاء عن الأمية المحضة فينتفع الناس بهم. ومن عجائب مصر أم العجائب أن قام بعض الناس يكتب المقالات الطويلة في جريدة المؤيد معزوة إلى أزهري مجهول يحاول إقناع الناس بأن هذا الذي قررته الحكومة إهانة للقرآن ولحملة القرآن، وحجته أن الذي يحفظ ألفاظ القرآن يجب أن يستغني بها عن كل شيء حتى ما يعده لتجويد تلاوتها وفهم عبارتها. وكتب مجهول آخر في المؤيد في تقبيح ما تريده الحكومة. وجريدة المؤيد مؤيدة لهم، ولها معهم حجة أخرى، وهو أن من تكريم حفاظ القرآن أن يعاملوا كبعض خدمة الكنائس والأديار الذين يعفون من خدمة العسكرية وهم غير متعلمين! ! وطفقوا يصورون للعامة أن هذا إهانة للقرآن وأن بعض العظماء في الأمة يذرون الدموع أسفًا وحزنًا على مصاب الإسلام بإخراج حفاظ القرآن من الأمية والجهل بالقراءة والكتابة إلى أدنى مرقاة من سلم العلم والمعرفة. وقد نشرت في المقطم مقالة معزوة إلى أحد العلماء جاء فيها أن تعلم الفنون العسكرية من فروض الكفاية فلا ينبغي أن يُعَدَّ إهانة لأهل القرآن، وإذا كان الناس لا يستغنون عن الحفاظ في البلاد والقرى ليرجعوا إليهم في ضبط القرآن أو أحكامه فالجنود يحتاجون أيضًا إلى الحفاظ في سفرهم وإقامتهم لمثل ما يحتاج إليهم غيرهم، فقام الأزهري المجهول يهزأ بهذا القول الحق ويزعم أن الفنون العسكرية ليست مفروضة في مثل هذه البلاد، يشير إلى أن هذا الغرض سقط عن المسلمين في مصر لاحتلال الإنكليز فيها. وقد نسي هذا الأزهري -إن كان هنالك أزهري- حكم مذهبه الذي يتلقاه هو وأمثاله في الأزهر في دخول الأجانب في بلاد المسلمين فاتحين ويعتقدون أنه محكم يعمل به في كل زمان وهو أن الجهاد عنده يكون حينئذ من الفرائض العينية التي تجب على كل مكلف حتى مشايخ الأزهر ومجاوريه وكذا النساء في قول، فإن كان يعتقد أن الإنكليز فتحوا هذه البلاد وملكوها وصارت في عرفه دار حرب فكيف كتب ما عزاه المؤيد إليه، وإن كان يعتبر الظاهر الرسمي وهو أن هذه البلاد لا تزال إسلامية وأن حاكمها هو الأمير عباس باشا حلمي الذي ولاه عليها السلطان عبد الحميد وأن البلاد دار إسلام وأن الإنكليز فيها معلمون ومصلحون لفساد حكامها حبًّا في الإنسانية فكيف يزعم أنه طرأ عليها ما أسقط الفرض عن مجموع أهلها حتى انتقد الاستعداد له؟ لعله عرَّض بذلك التعريض لاعتقاده أن ذلك العالم الذي كتب في المقطم لا يقدر أن يبين رأي فقهاء الأزهر في هذه المسألة وينشره في المقطم أو في غيره خوفًا من الإنكليز، وإن كان الإنكليز فوق ما يظن من احترام الحرية الدينية وغير الدينية؛ لأن نفوذهم لم يكن يمنع الناس من إظهار ما يريدون إظهاره، وإنما هو بالسماح لهم بذلك؛ لأنهم لا يخافون عاقبة ذلك ما داموا واثقين بأن سيرتهم هي العون لهم على إرضاء الناس وتفضيلهم إياهم على الظالمين الذين غلُّوا أيديهم عن الظلم. ما لنا وللبحث مع المجهولين في أمر الدين، ونحن نعلم مبلغ علمهم وغاية مرماهم في كتابتهم، وهذا مما نحب الإعراض عن الخوض فيه، ولكن هناك أمرًا آخر جديرًا بالاعتبار وعرضه على ما تقدم من النصوص، وهو أن الشيخ عبد الرحمن الشربيني شيخ الجامع الأزهر كتب إلى نائب أمير البلاد (قائمقام خديوي) رئيس مجلس النظار كتابًا رسميًّا عن قرار من مجلس إدارة الأزهر يطلب فيه أن تعدل الحكومة عن مشروع امتحان الحفاظ بما تقدم ذكره، وهذه عبارة الكتاب بعد حذف رسم الخطاب، منقولة عن المؤيد: (قد علمنا أن نظارة الحربية وضعت مشروعًا جديدًا لتعديل بعض مواد قانون القرعة العسكرية وأنه معروض الآن على مجلس شورى القوانين وأنه يقضي بأن من يحفظ القرآن الشريف ويحسن تلاوته وليس له حرفة سواه لا يعفى من القرعة العسكرية إلا إذا كانت له دراية بفن الحساب ونحوه. وحيث إن كتاب الله تعالى (القرآن) هو أفضل الكتب السماوية وهو أساس دين الإسلام، قد انعقد الإجماع على أن حفظه والتعبد بتلاوته هو من أهم أمور الدين وأن حَمَلته من أشرف الناس وأولاهم بالاحترام والتكريم، وأن حفظه من فروض الكفاية، وأن القائمين به كالمجاهدين في سبيل الله تعالى، وأنه أصل الأصول فكل شيء يرجع إليه ويتبعه، فهو بمفرده كافٍ لاحترام أهله وتوقيرهم بدون ضم شيء آخر إليه. فلذلك وما رأيناه من ميل علماء الأزهر وغيرهم من التحرير لجانب الحكومة السنية بالتماس العدول عن المشروع الجديد وإبقاء الحال على ما كان عليه قد جرت المذاكرة في هذا الشأن بمجلس إدارة الأزهر بجلسته المنعقدة يوم الأحد 28 مايو الجاري فتقرر أن يرفع الأمر إلى عطوفتكم وإلى هيئة الحكومة رجاء العدول عن هذا المشروع وإبقاء الحال على ما كان؛ احترامًا لكتاب الله تعالى وإجابة لنداء علماء الأمة، وأن لا يكون الامتحان في نظارة المعارف كما يقتضيه المشروع. فلهذا اقتضى تحريره ومع الموافقة يرسل من هذا المحرر صورة إلى مجلس شورى القوانين للعمل بما فيه، أفندم) اهـ. وهذا الكتاب منتقد من وجوه: (منها) أن عبارته كعبارة بعض الجرائد فيها ما ينتقد لغة ولا نطيل في هذا. (ومنها) أن الحكومة لم تشترط في إعفاء الحفاظ من القرعة العسكرية (الدراية بفن الحساب ونحوه) وإنما اشترطت معرفةً ما بقواعد الحساب الأربع في الصحاح دون الكسور وهو ما يمكن تحصيله في أسبوع وإتقانه في شهر، ومعرفته كمعرفة الاسم والفعل والحرف في النحو بتمييز بعضها من بعض بالإجمال، فإن كان العارف بهذه يعد ذا دراية بفن النحو فالعارف بالقواعد الأربع الصحيحة يعد ذا دراية بفن الحساب. والدراية هي العلم، وقيل: هي أخص من العلم. ثم إن المفهوم من كلمة (ونحوه) سائر الفنون الرياضية كالجبر والمقابلة والهندسة وليس شيء من هذا مشروطًا. (ومنها) قوله: انعقد الإجماع على أن حفظه والتعبد بتلاوته من أهم أمور الدين، وقد علم مما تقدم أن كلاًّ من الحفظ والتعبد إنما يكونان من مهمات الدين بالشروط والآداب التي فهمت من الآيات، والأحاديث السابقة وذلك لا يتحقق إلا في الحفاظ وأهل القرآن الذين ينطبق عليهم معاني الآيات والأحاديث وأقوال العلماء التي تقدمت وهي لا تنطبق على الحفاظ الأميين الذين لا حظ لهم من القرآن إلا تحريك اللسان بها للكسب أو للعبادة، فأما تحريكها للكسب فقد علمت ما فيه على أن بعض العلماء أجاز أخذ الأجرة على تعليمه بعقد صحيح وقلما يصلح للتعليم الأمي المحض الذي لا يعرف ما اشترطته الحكومة في إعفاء الحفاظ. وأما المتعبد بالقراءة فلا مزية له على القارئ بالمصحف، بل صرح العلماء بأن القراءة في المصحف أفضل، وروي الحديث في ذلك، وهذا التعبد عندهم سنة لا فرض كفاية فهو من قبيل الذكر والتسبيح. فكأن شيخ الأزهر لا يريد إلا إعفاء الحفاظ القائمين بحقوق القرآن وقليل ما هم وهو خلاف المتبادر من غرض كتابه. (ومنها) قوله: إن القائمين به أي بالحفظ كالمجاهدين في سبيل الله تعالى والظاهر أن هذا من المجمع عليه في رأي الشيخ وقد رأيت كلام الحافظ ابن حجر فيه وأنه لا ينطبق على هؤلاء الحفاظ الجاهلين بمعاني القرآن وإفادتها. (ومنها) قوله: وإنه أصل الأصول فكل شيء يرجع إليه ويتبعه. وليس حفظ القرآن من غير فهم أصلاً لأصول الدين يرجع إليه كل شيء، وإنما ذلك القرآن نفسه من حيث فهمه واستنباط الأحكام منه والاهتداء والإرشاد به، وهؤلاء الحفظة المطلوب امتحانهم بالقراءة من غير اشتراط الصواب وعدم اللحن ليسوا على شيء من ذلك، فعلم أن دعوى الإجماع على ما فهم من الكتاب غير صحيحة بل لم يقل أحد من الأئمة بأن أمثال حفاظ الألفاظ الذين يًدعى واحدهم في مصر بالفقيه لهم تلك المزايا والحقوق والاحترام الديني؛ فالنتيجة المرادة من كتاب الشيخ المبنية وهي العدول عن المشروع احترامًا لكتاب الله تعالى لا تترتب على تلك المقدمات، بل تنفيذ المشروع أقرب إلى احترام القرآن وأهله من العدول عنه؛ لأن اللائق بحَمَلة القرآن أن يكونوا من أهل العلم باللغة والقراءة والكتابة وبل أن يكونوا أعلى من ذلك كما علم مما تقدم ومما انتقد به الكتاب كونه بقرار مجلس إدارة الأزهر الذي يعد من مجالس الحكومة وهو مقيد بقانون ليس أن له يتعداه رسميًّا فكان اللائق أن يكون نصيحة دينية غير رسمية إن كان هناك وجه للنصيحة. أرسل الكتاب إلى رئيس النظار وبعد إرساله بيوم نشر المؤيد بتاريخه (وهو 24 ربيع الأول) وعدده الرسمي (وهو نمرة 667) وفي اليوم لنشره اجتمع شيخ الأزهر ببعض أعضاء مجلس الشورى فسألوه هل في مشروع الحكومة شيء مخالف للدين فقال: لا، وتذاكروا في كتابه إلى رئيس النظار فقال لهم على ما نقل إلينا أن الكتاب الذي نشر وكتب لم يكن مطابقًا لم أمر هو به، وأنه رأى فيه بعد النشر ما لم يكن يعلم واقتنع بأن إرساله كان في غير محله، وبادر إلى ملاقاة رئيس النظار واعتذر له عن إرسال الكتاب ورغب إليه في (سحبه) وإهماله وحسبانه كأن لم يكن فقبل الرئيس منه ذلك. وكان هذا من دلائل سلامة قلب الأستاذ شيخ الجامع وحسن نيته، على أن سحب الكتاب قد ساء الذين سعوا فيه وحملوا الشيخ عليه كما ساء إرساله جميع العقلاء الذين علموا أن عاقبته لا تكون حسنة، وهو الآن حديث العامة والخاصة وجميع المسلمين ممتعضون لما صار إليه مجلس إدارة الأزهر من التأثر بكلام أهل الأهواء الذين يذمون الحسن ويمدحون القبيح ومجاراتهم التي تفضي إلى ما لا تحمد عقباه.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (كتاب الشعر والشعراء) هذا الكتاب مشهور عند أهل الأدب المتقدمين والمتأخرين بفائدته وبشهرة مؤلفه أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري أحد أئمة اللغة والأدب وصاحب (أدب الكاتب) وغيره من التآليف المفيدة، المتوفى سنة 276هـ، وموضوع الكتاب ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- بقوله في أوله: (وهذا كتاب ألفته في الشعر أخبرت فيه عن الشعراء، وأزمانهم، وأقدارهم وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم، وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو الكنية منهم، وعما يُستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره، وما أخذته العلماء عليهم من الغلط والخطأ في ألفاظهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون. وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها ويستحسن لها إلى غير ذلك مما قدمته في هذا الجزء الأول، وكان قصدي للمشهور من الشعراء للذين يعرفهم جُلّ أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب والنحو في كتاب الله -عز وجل - وحديث الرسول، صلى الله عليه وسلم. فأما من خفي اسمه، وقلّ ذكره، وكسد شعره، فما أقل من هذه الطبقة (كذا) إذ كنت لا أعرف منهم إلا القليل ولا أعرف لذلك القليل أخبارًا، وإن كنت أعلم أنه لا حاجة بك إلى أن أسمي أسماء لا أدل عليها بخبر، أو زمان أو نسب، أو نادرة، أو بيت يستجاد أو يستغرب) ... إلخ ما قاله. وهذا كاف في التعريف بفضل الكتاب فهو من الكتب التي تطبع ملاكة البلاغة في النفس، وتعدها للإجادة في الشعر والكتابة. ومن مختار الشعر الذي أورده وهو يحكي عن أخلاق العرب وشهامتهم قول سعد بن ناشب: سأغسل عني العار بالسيف جالبًا ... عليَّ قضاء الله ما كان جالبا ويصغر في عيني تلاوي إذا انثنت ... يميني بإدراك الذي كنت طالبا فيا لرزام رشحوا بي مقدمًا ... إلى الموت خواضًا إليه الكتائبا إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكَّب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في رأيه غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا وقول محمد بن عمير المعروف بالمقنع الكندي: ولا أحمل الحقد القديم عليهم ... وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وليسوا إلى نصري سراعًا وإن هم ... دعوني إلى نصر أتيتهم شدا إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم ... وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا يعيرني بالدَّيْن قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمدا وقد طبع الكتاب على نفقة محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي الشهير، وهو يطلب منه ومن إدارة المنار، وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة ما عدا أجرة البريد. *** (ديوان الحماسة) هو مجموع ما اختاره من شعر العرب أبو تمام حبيب بن أوس الطائي الشاعر الشهير، وهو أشهر من نار على علم، وكان الأدباء يتنافسون في استظهاره، واقتباس جذى البلاغة من ناره، وقلما نبغ شاعر أو أديب، ولم يكن حفظ ديوان الحماسة أو كثرة مطالعته من أسباب نبوغه. ولما فترت همم المتأخرين عن تلقي مثله عن كلام العرب فتر الشعر وبرد حتى صار يقف لسماعه شعر صاحب الذوق وتغثى نفسه عند إنشاده، وإننا نرى في زماننا هذا نهضة في إحياء اللغة نشكر للوراقين إسعادنا بما يطبعون من الكتب النافعة كهذا الكتاب والكتاب الذي قبله وما سيذكر بعده، فقد طبع الشيخ محمد سعيد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية ديوان الحماسة طبعًا مضبوطًا بالشكل، وفسر في أدنى كل صفحة جميع الأبيات فيها مختصرًا ذلك من شرح التبريزي المشهور وجعله في مجلد واحد بحجم أصغر من حجم المنار؛ ليسهل تناوله على الطلاب ويخف حمله على المتأدبين، وجعل ثمنه اثني عشر قرشًا فقط، فقد اجتمع لمريده المرغِّبان في اقتنائه كثرة الفوائد وقلة الثمن وهو يطلب من طابعه بِالسكة الجديدة بمصر. *** (ديوان أبي تمام) أبو تمام من شعراء الطبقة الأولى من المولدين وجيده أعلى من جيد البحتري والمتنبي اللذين يقرنان به، ولكن من رديئه ما هو دون رديئهما، ولعله لولا حبّ الجناس لما ارتكب التكلف، ولما وقع في التعسف؛ فأكثر رديئه في ذلك، وهو عند أكثر المتأخرين لا يعد رديئًا بل ربما فضَّله عشاق المحسنات اللفظية على سائر شعره. وهو على كل حال من أهل الرعيل الأول، والذين على بلاغتهم المعول، وقد احتذاه وأخذ عنه مَنْ بعده حتى المتنبي. وكنت ترى من العجب أن الشعر ترتقي صناعته في هذه السنين وديوان أبي تمام لا يطبع المرة بعد المرة، وقد أحس بهذه الحاجة محمد أفندي جمال البيروتي فانتدب لطبعه ورغب إلى الشيخ محيي الدين الخياط أن يفسر غريبه ويضبطه بالشكل ويصحح طبعه، فأجابه إلى ذلك، ووضع للديوان مقدمة تكلم فيها عن الشعر بكلام شعري أي بالتخيلات والتشبيهات، وعلى البلاغة والشعر العصري وعلى وجوب التوسع في اللغة وقبول الدخيل فيها وتعريبه، وختمها بترجمة أبي تمام. وقد بلغت صفحات الديوان خمسمائة ونيّف، وثمنه في مصر اثنا عشر قرشًا وأجرة البريد قرشان وفي سائر البلاد 3 فرنكات ونصف، ويطلب من طابعه ببيروت ومن إدارة مجلة المنار بمصر. *** (ديوان ابن نباتة المصري) جمال الدين محمد بن نباتة المصري من شعراء القرن الثامن كان من أهل العلم والأدب ومدح الملوك والكبراء والعلماء وهو مشهور بالرقة والسلاسة في شعره على ما يحب المتأخرون وخاصة المصريين، فإن كلامه أحلى في ذوقهم وأدنى من استحسانهم ومن ذلك قوله في المقاطيع: يا مولعًا بملامي حسبك الله ... كم ذا تهيج مغرى القلب مضناه هذا الحبيب وذا فكري وذا جلدي ... في راحتيه فقل لي كيف أنساه إني لأعلم أن الرشد أجمعه ... في تركه غير أن النفس تهواه ساجي اللواحظ خمري مقبله ... داجي الذوائب بدري محياه إن كان للحب شخص فهو مهجته ... أو كان للحسن لفظ فهو معناه أفديه بدرًا بقلب الصب غزوته ... وفي السماء برغم الصب لقياه لو لم يكن ريقه خمرًا ومرشفه ... ما عربدت عينه واهتز عطفاه وله في شعره نكت وكنايات مما يعرف الآن (بالنكت البلدية) لا تسلم من المجون وابن حجة يطريه في الثناء. وقد طبعه في هذه الأيام الشيخ محمد القلقيلي وكتب له مقدمة ذكر فيها أن الذي أسعده على ما همت به رغبته وقصرت دونه يده إبراهيم بك رمزي صاحب مطبعة ومسبك التمدن، ولعمري إنه قد طبع طبعًا جميلاً على ورق جيد يليق بإتقان رمزي بك، وبلغت صفحات الديوان 596 صفحة، وقد جعل ثمنه 20 قرشًا، ولمبتاعه كفلان من الفائدة: أحدهما: الأنس بالديوان والتمتع بمطالعته. وثانيهما: إعانة طابعه على أعماله الأدبية التي انصرفت همته اليها وأراد رمزي بك إسعاده عليها، وهو يطلب منه ومن مطبعة التمدن بجوار عابدين. *** (مجلس سركيس) سليم أفندي سركيس نشأ في حجر الصحافة حتى ترعرع وشب واكتمل فذاق حلوها ومرها، وعرف وصلها وهجرها، وفارق فيها الدار والوطن، وهاجر بالأهل والسكن، فاشتغل بالكتابة في الجرائد ببيروت ومصر وأمريكا ثم عاد إلى مصر واختار أن ينشئ مجلة يقصر مباحثها على الأفاكِيه والمُلح الأدبية ففعل فجاءت (مجلة سركيس) وحيدة في موضعها لا يستغنى عنها في هذه البلاد بصحيفة من نوعها. وإذا كانت المسائل العلمية والسياسية والاجتماعية والدينية وغيرها من حاجات أصناف من الناس فالفكاهة من حاجات جميع الناس يرغب فيها العالم والفقيه والفيلسوف والأديب والعامي والخاصي، ومن ثَمَّ كان الرجاء بنجاح مجلة (سركيس) قويًّا لا سيما إذا أصاب في مُلَحه ونوادره مواقع الإعجاب من نفوس أبناء هذه البلاد وهو جدير بذلك لسعة اختباره. والمجلة تصدر في الشهر مرتين وقيمة الاشتراك فيها 60 قرشًا في مصر و20 فرنكًا في سائر البلاد.

حضرموت واليمن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حضرموت واليمن نلخص ما يأتي من رسالة صديق لنا في حضرموت قال: كان خروجي إلى حضرموت من عدن؛ لأني لم أجد مركبًا بحريًّا إذا ذاك، فازددت بذلك علمًا عن تلك الفيافي والقفار، والبدو، والحضر، والعرب بتلك الجهات ووقفت على أحوالهم وعاداتهم وحالة الدين واندراسه، ودسائس الإنكليز هناك وما يُنتظر للدولة العلية في اليمن. قطعت في سيري أرض الفضلي وهي أول دولة من دول العرب هناك تلي إنكلترا وتواليها، ولها سواحل بالقرب من عدن أشهرها يسمى (شقره) ودولتها بدوية استبدادية، وعسكرها هم عصبة الملك وقبيلته وهم بدو حربيون، ولها سياسة، واسم ملكها أحمد بن حسين الفضلي وهو باسط بساط العدل والأمان، ومن عاداته أنه من سُرق له شيء أو نُهب من بلده يجيئه فيعطيه من خزينته عوض ما سُرق أو نُهب منه ويذكي هو العيون على المعتدي حتى يظفر به ويسترد منه ما أخذه، وله راتب سنوي من إنكلترا نحو 12000 روبية ويسمونه (مشاهرة) وقد وقع بينه وبين الإنكليز تنافر من مدة؛ لأنه طلب سلاحًا مدافع لم تسمح له بذلك. يليه (يافع) ويقدرون ساكنيه بنحو 75000 ألفا ويجلب منه (يصدر) الجلود والبن والورس والزعفران والذرة والقمح وغيرهما من الحبوب. وهم بدو قبائل متفرقة يتحاربون ويتصالحون، ولهم من الإنكليز مرتب، وقد أريدوا على الدخول في الحماية البريطانية فأبوْا، ولما قاتلوا الإنكليز منذ عامين عاتبهم الباشا صاحب قحطبة من ولاية الدولة العلية. يليهم الجبال البيضاء وهي أرض ذات أنهار وخصب، أهلها بدو وهم موالون لإنكلترا ولهم راتب منها، والعواذل وهم دولة وقصبتهم تسمى (دثينة) وهي خصبة ذات تربة طيبة، ولم يطاوعوا إنكلترا ولذلك أجلت المهاجرين منهم من عدن بالسعط لما عارضوا جنوده التي وجهها الإنكليز إلى بلاد العوالق. يليهم بلاد العوالق وأهلها قبائل لهم دولة من غيرهم ولا نفوذ له (يريد بالدولة الحاكم) وعاصمتهم أنصاب وهي ذات آثار وبقربها أحجار عليها كتابات حميرية ولملكهم ورؤساء القبائل مرتبات ولعالمهم (عاتق باكر) الذي له نفوذ هناك حتى إنه ليجمع الزكاة من البادية راتب شهري من الإنكليز قدره 500 روبية على أنه يأخذ راتبًا من الدولة العلية، فهو منافق وميله القلبي إلى بريطانيا ولذلك يوسع نفوذها هناك. أما العوالق فيقدرون عسكرهم الذي يمكنه القتال بنحو 4000 ألف (كذا في الأصل فإن كان مراده أربعة آلاف كما هو الظاهر فلا حاجة إلى كلمة (ألف) بعد الرقم ويقرب أن يكون عددهم أربعون بألفا ويبعد أن يكون أربع مائة ألف فما كتب خطأ نرجو من الكاتب إصلاحه بعد وصول المنار إليه) حدثني بذلك رئيسهم أخذًا من عددهم في الوقائع (الغزوات) القومية التي حشدهم فيها. يلي العوالق إلى ناحية الشرق والبحر دولة الواحدي عاصمة حبان وهي بلدة قديمة أسس جامعها سنة 266 للهجرة وكان بها من العلماء جهابذة فصحاء وقفت على بعض قصائدهم الفصيحة التي تكاد تسيل انسجامًا، وحالتها اليوم جاهلية وهي تحت حماية الإنكليز، وقد عقدوا عهدًا على خروجه إليهم (كذا) وساحلهم بالحاف وقد أخذ نصفه أمير المكلا القعيطي من أخي ملكها شراء، فقامت إنكلترا تعارض فيه والله يعلم هل يسلم له أم تأخذه إنكلترا. (وههنا رسم الكاتب صورة تلك البلاد من عدن إلى الشحر وأنصاب العوالق وكتب عند ذكر (الحج) أن ملكها أحمد فضل العبدي قد باع أرضه من إنكلترا وله راتب منها. وعند (قحطبة) أنها أول ولاية للدولة العثمانية. وعند ذكر (الشحر) أنه عند أمير المكلا القعيطي وهو داخل تحت حماية إنكلترا. وعند ذكر (سبأ) و (مأرب) ملكهما من الأشراف وهو محالف لإنكلترا وله راتب وبينهم عهود، وقد أوفدت إنكلترا إلى تلك البلاد وفدًا علميًّا فنقلوا رسوم الآثار والكتابات الحميرية التي على الصخور، والأسطوانات الرخامية الحميرية ... إلخ. وقال: إن من يشاهد نفوذ الإنكليز هناك يعتقد أن الدولة العلية سيتقلص ملكها عن قريب بسعي أولئك الرجال. ونزيد قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين} (الزخرف: 76) فإن عادوا للعدل، عاد الله عليهم بالفضل، ثم قال: على أنني لم أخبركم ببعض الجبال والمراكز والقبائل فانظروا تروا أنه إذا نشبت الحرب بين إنكلترا والدولة فإن إنكلترا تأتيها من فوقها ومن أسفل منها. وهذه المراكز الداخلة تحت حماية إنكلترا أو في محالفتها تسمى باليمن الأسفل إلا الضالع فإنها من اليمن الأعلى، ونفوذ إنكلترا في اليمن الأسفل يمتد مسافة شهر تقريبا وستمد سكة حديدية تقطع هذا البر إلى (أنصاب) عاصمة العوالق ثم تمر بعد ذلك في الوادي التي تحلها كندة ونهد والكرب إلى الكويت. ولم تدع إنكلترا رأسًا من رءوس القبائل إلا وأعطته مرتبًا جاريًا، وكان تداخلها في هذه البلاد بواسطة واحد من أبنائها دخل البادية ونشأ فيها فهو يتكلم بلغتها وإذا دخل فيها يلبس لها لباسها الذي هو من السن إلى الركبة (كذا) ورداء وعمامة وتسميه البادية (عبد الله بن منصور) وأهل البادية يتحدثون بعدل إنكلترا وبديانتها التي تمليها عليهم القسوس بعدن، ولقد حرت من تقريرهم لها إذ لا يعرفون معنى الدين الإسلامي ما هو، وسيكون لذلك الأثر السيئ في تلك الأقطار إذا خالط أهلها الإنكليز، فالمعارف الدينية معدومة بالكلية حتى إن هناك العوالق السفلى والمقاتلة منهم يقدرون بنحو 200 لا يعرفون شيئًا من الدين ونكاحهم إنما هو نهب ينهب الواحد بنت الآخر ويتزوج بها، فإذا ولدت ذهب أولادها يأتون بالعقد عند أبويها وإنها لتفتخر على من تزوجت بالتراضي وينكح أحدهم أخته وخالته وزوجة أبيه بعد موته ولا يعرفون النبي، صلى الله عليه وسلم. والبادية كلها متسلحة بالسلاح الحديث المكتوب عليه (كارديف) و (مارتين) و (سن إيتمنس) وإنكلترا مشددة على الخرطوش فلا يصل إليهم إلا بعد الجهد وهم يشرونه بأثمان باهظة. وإنك لترى أهل البوادي يتسابقون إلى عدن تسابق الجياع إلى الصقاع والمال ينهال عليهم حتى أن البدوي الذي يقنع بالروبية يعطى من المائة إلى المائتين بلصه أو بخشيش ويسمونه (فشح) وسأخبركم بأخبار تلك الجهة على التحقيق وبما للسادة (الشرفاء) من النفوذ هنا ككون كل قبيلة لها (منصب) منهم أي رئيس روحي يعقد الصلح ويأخذ النذور ويستغاث بجده المعروف بالولاية. مكثت في تلك الجهات شهرين في حل وترحال إلى أن وافيت حضرموت أهلها في الجملة (قبورية) وسأخبركم بحالها وبسياسة أمير المكلا فيما يأتي. أما واردات المكلا خاصة فهي 350000 جنيه يأخذ عليها الأمير مكسًا باهظًا. وأما الصادر وهو التنباك والسمك وغيره فنحو 100000 جنيه ولا تزال أساطيل إنكلترا ومدرعاتها تطوف بهذه السواحل تتنسم الأخبار وعسى أن نوفق هنا للدعوة، فإنا وجدنا حزبًا يوافق ما نحن عليه وأناسًا يعرفون المنار أكثرهم ممن يتاجرون إلى جاوه ودولة المكلا (أي أميرها) غائب بالهند وسأوافيكم بما يتجدد. اهـ المراد منه.

تنازع الدول في جزيرة العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنازع الدول في جزيرة العرب كثرت أقوال الجرائد المصرية وغيرها في عناية الإنكليز بتقوية نفوذها في بلاد العرب، وقد علمنا أنه جاء مصر في هذه الأيام وفد من فرنسا وآخر من ألمانيا وكل منهما يريد الذهاب من هنا إلى بلاد العرب مستعينًا بالمصريين، فأما الوفد الفرنسي فإن من أعضائه علي أفندي زكي المصري وكيل المؤيد في باريس وصاحب المقالات الكثيرة التي تزيد نفوذ فرنسا في بلاد المغرب، وقد سعى صاحب المؤيد نفسه هنا في مساعدة هذا الوفد الذي سيذهب إلى الخليج الفارسي ويكون وكيل المؤيد في البصرة مساعدًا له. وأما البعث الألماني فقد استأجر من العربان هنا خمسين ذلولاً واتخذ له مترجمًا من شبان المصريين بأجرة كبيرة، واشترى كثيرًا من المصاحف المذهبة والكتب الدينية ووجهته الأمير ابن الرشيد في نجد والعبرة في هذا ظاهرة لكل عاقل وسيرة الدولة العلية في بلاد العرب معروفة لا حاجة إلى شرحها، والأمر لله العلي الكبير.

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار وعدنا في آخر المجلد السابع بأن نجيب على بعض الانتقادات التي وردت علينا في العام الماضي ولم نتمكن من ذكرها والجواب عنها؛ لأن كثرة المسائل العارضة اضطرتنا إلى الإرجاء، ولكننا نعجل الآن بذكر انتقاد جديد جاءنا من أحد القراء الفضلاء الواقفين على كُنْه الحال في الجزائر وغيرها من مستعمرات فرنسا قال بعد الثناء والتحية: (قد اطلعت في العدد الرابع من المجلد الثامن من مجلة المنار الإسلامية الغراء ما يأتي: وليت المراكشيين يعلمون أن ألمانيا ليست خيرًا من فرنسا في مستعمراتها بل هي شر منها وأنهم إذا لم يستفيدوا من المناظرة بينهما بالعقل والحكمة دون الاتكال على الكرامات فلا يكون دخول الألمان في بلادهم إلا وبالاًعليهم. وبعد أن نظرت في هذا المقال أنا وأصحابي، وتأملنا فيه من جميع أركانه لم نجده إلا غلطًا عظيمًا، ولم نظن قبل اليوم أن أهل الفضل مثل سيادتكم يقولون كلامًا مساعدًا لإهلاك خمسة عشر مليونا من المسلمين معاونًا لسياسة الفرنسويين التعساء) . ثم طفق يعدد سيئات لفرنسا في الجزائر كهدم المساجد وغصب الأرزاق ومناهضة العرب ونصر اليهود ويبرئ ألمانيا من مثل ذلك ويذكرها بالثناء. وقال: لا تغتر بكلام الموسيو لوسياني وغيره مع الأستاذ الإمام ولا بتجديد مدرسة لأربعة ملايين، عدد تلامذتها عشرون، فإنه في عهد الحاكم الجديد جنار كثر الكذب والتغرير واشتريت بعض الجرائد المصرية.. . بمائتي ألف فرنك لتكون عونًا له في سياسته ضد الإسلام حول المغرب وتوليته عليه ... إلى ما آخر ما قال. ونحن نخشى أن يكون فهمه لسياسة فرنسا كفهمه لعبارة المنار التي انتقدها فإنه ليس الغرض منها إلا نصيحة المراكشيين بترك الغرور بالقبور وتوجيه العناية إلى الاستفادة من تنازع ألمانيا وفرنسا على البلاد على حد قول الشاعر العربي: تفرقت غنمي يومًا فقلت لها ... يا رب سلط عليها الذئب والضبعا فإن كان يرى الفائدة في استيلاء ألمانيا على مراكش بغضًا بفرنسا فإنه يريد يشفي غيظه بما يضر المسلمين ويذهب باستقلالهم كما كان بعض المصريين يفعلون بالسعي لدى فرنسا لإخراج إنكلترا من مصر ولو أخرجتها لحلت محلها. فالذي نوده نحن أن تبقى البلاد مستقلة ولكن مع سعي حكومتها وزعمائها في عمرانها وإلا كنا طالبين للخراب والجهل الدائمين وهو طلب لا قيمة له عند الله ولا عند الناس فالأرض يرثها من هو أصلح لعمارتها شئنا أم أبينا، سخطنا أم رضينا، وأما قولي: إن ألمانيا شر من فرنسا فهو مبني على ما كان كُتِبَ إليَّ من مستعمرتها في شرقي أفريقية كما بينت ذلك في الجزء الخامس (ص200) فكيف غفل عنه. أما رأينا في سياسة فرنسا مع المسلمين في مستعمراتها فقد بيناه غير مرة وقلنا: إنه يستحيل أن يطمئن المسلمون لحكمها ما لم تمنحهم الحرية التامة في الدين والعلم، وتساعدهم على التعليم والعمران بالفعل لا بالقول ولا بإيهام الجرائد، وإن سميت إسلامية، وقد سمعنا وقرأنا ما دلَّنا على أنها قد اهتدت إلى هذا الرأي، فإن كان ذلك حقًّا فسترى حُسن عاقبته وإن كان تمويهًا كما يقول المنتقد فلا يلبث أن ينكشف، ولكن من يغلو في الانتقاد قلما يؤخذ كلامه بالقبول؛ فليفهم هذا.

استدراك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استدراك نقلنا في الجزء الماضي ما ترجمته جريدة اللواء عن جريدة الغلوب الإنكليزية في حادثة ترك الشيخ محمد عبده للأزهر، وقد سقط مما حَكَته الجريدة من كلام الشيخ لمحدثه هذه الجملة: ثم قال - أي الشيخ - فهل يُسر الإنكليز بتخريجي لهم رجالاً مستعدين يفهمون حقوقهم ويعرفون كيف يدافعون عنها بقوة مستمدة من العلم والمعرفة؟ اهـ.

الاتصال بين الآيات والسور وجمع القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاتصال بين الآيات والسور وجمع القرآن (س23) أ. ت بقزان (روسيا) أعرض عليكم أيها الأستاذ ما اعترض به عليَّ أحد الروسيين -بعدما ترجمت له تفسير القرآن من مجلتكم المنار الأغر - على قول الأستاذ بالاتصال بين الآيات والسور، قال: إن المتفق عليه عند علماء المسلمين أن القرآن نزل إلى الرسول عليه السلام مفرقًا في ثلاث وعشرين سنة وأول سورة نزلت {اقْرأْ بِاسْمِ} (العلق: 1) على قول الأكثرين، وهذا المصحف الذي أوله سورة الفاتحة ليس على ترتيب النزول بل جمع ورتب بهذا الترتيب في عهد أبي بكر -رضي الله عنه - فكيف تكون الآيات والسور متصلة مع ما يليها، على أن بعض الآيات من السورة الواحدة أنزلت بمكة وما يليها بالمدينة وبين نزولهما عدة سنين؟ وأيضًا كيف جمعوا السور والآيات على الترتيب هل كان بتعيين من النبي عليه السلام أم لا؟ وهل في هذا خبر متواتر أو مشهور؟ وأنا الحقير أجبت الروسي بقدر وسعي والآن أرفع المسألة إلى حضرتكم راجيًا منكم الجواب ولكم من الله الأجر والثواب. (ج) لا خلاف بين المسلمين في أن بعض السور نزل جملة واحدة وبعضها نزل متفرقًا على حسب الوقائع والأحوال، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي كان يجمع كل سورة عند اكتمالها ويمليها على كتبة الوحي ويقرِئها القارئين، ولكن جمع السور كلها في مصحف واحد هو الذي كان على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه وكتبت النسخ ووزعت على الأمصار في خلافة عثمان فعملهم هذا كان عملاً إجماعيًّا ونقلاً متواترًا، لم يختلفوا في ترتيب السور فضلاً عن ترتيب الآيات، وإنما تردد عمر أولاً في جمع القرآن في مصحف واحد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك ثم وافق منشرح الصدر وكأنه تذكر أن زمنه - عليه السلام - كان كله ظرفًا للوحي، وإنما يكون الجمع بعد التمام، وقد روى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة: 281) الآية، وعاش النبي- صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات، فأنت ترى أن تسع ليال في المرض لا تتسع لجمع القرآن في مصحف واحد، وأنه لم يكن ذلك ضروريًّا فإنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر عند نزول كل آية بأن تلحق بسورة كذا ويعين موضعها ويقرِئهم السورة بعد تمامها، وكان عالمًا بأن كل ذلك محفوظ في الصدور وفي الطروس ونحوها مما يكتب عليه، ولو لم يكن هذا الترتيب متفقًا عليه؛ لأنه مأخوذ عنه - صلى الله عليه وسلم - بالتواتر لاختلفوا فيه اختلافًا عظيمًا فلا حاجة إلى الإطالة بذكر الروايات مع هذه الحجة. وأما الاتصال بين السور وما فيه من التناسب والتناسق ونكت البلاغة، فهو تابع للترتيب، وقد علمت أن الترتيب كان مقصودًا بتوقيف من الشارع، وما كان بالقصد يراعى فيه مثل ذلك، ولو رتبت الآيات كلها على حسب النزول لكان اتصال بعضها ببعض والتناسب بين المتقدم منها والمتأخر من مثارات العجب التي يسأل فيها عن السبب، أما وقد رتبت بالقصد وبالتوقيف من الوحي فهي كأنها نزلت مرة واحدة بهذا الترتيب، فاعتراض الروسي على ما نذكر من وجوه الاتصال والتناسب بين الآيات مبني على الجهل بأن ترتيب الآيات كان توقيفيًّا، على أنه لو كان من عمل الصحابة لما كان ذلك فيه غريبًا إلا إذا ثبت أن هذا التناسب قد انتهى في البلاغة إلى حد الإعجاز فكان بنفسه معجزًا، وليس هذا ببعيد فوجوه الإعجاز في القرآن كثيرة ومنها هذا الوجه الوجيه. هذا وإن التناسب في اتصال الآيات بعضها ببعض بيِّن ظاهر لا تكلف فيه ولا تعسف، وليس هو قبيل الدعاوى النظرية فيورد عليه ما أورد بل هو من الأمور الوجودية الحقيقية، فليفرض ما شاء في جمع القرآن وترتيبه فهو شيء قد مضى وهذا شيء حاضر لا يمارينَّ فيه إلا مكابر، وإننا إن شاء الله تعالى سنجرد تفسير المنار ونطبعه على حدته ونضع له مقدمة نشرح فيها هذه المسائل وأمثالها شرحًا كافيًا، والله الموفق والمعين.

بلاد روسيا دار حرب أو إسلام والروسيون كتابيون أم وثنيون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بلاد روسيا دار حرب أو إسلام والروسيون كتابيون أم وثنيون (س24) ومنه: قد اختلف علماؤنا في الروسيا في دارنا هل هي دار حرب أم دار إسلام، وهل الروسيون كتابيون أم وثنيون؟ نرجو من جنابكم الإفادة بلسان مجلتكم المنار. عزَّز الله بها المسلمين وأنار. (ج) قد اختلفت عبارات الفقهاء والمحدثين في تعريف دار الحرب ودار الإسلام، فلا جرم أن الذين يأخذون العلم من الألفاظ يختلفون في تطبيق تلك الأقوال على كل دار وكل مملكة، فيمكن أن يقال: إن بعض البلاد التي لا يوجد فيها مسلم أصلي، ولا حكم فيها للإسلام أنها دار إسلام بناء على قول بعضهم: إن دار الإسلام هي ما يمكن للمسلم إظهار دينه فيها ولا يخاف فتنة في دينه، فأكثر بلاد أوربا وأمريكا كذلك ولكنها ليست دار إسلام. وإن كثيرًا من البلاد التي حكامها مسلمون يفتن المرء فيها عن دينه فلا يقدر على إظهار جميع ما يعتقد ولا أن يعمل بكل ما يجب عليه، لا سيما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانتقاد الأحكام المخالفة للشرع؛ فهي على قول بعضهم دار حرب. والذي يؤخذ من مجموع الأقوال التي يعتد بها أن العبرة هنا بظهور الكلمة ونفوذ الحكم، فإذا كانت الأحكام لأهل الإسلام لا معارض لهم في تنفيذ شريعتهم وإظهار دينهم، وكان غيرهم آمنًا في سربه بتأمينهم، حرًّا في دينه بسلطتهم وحمايتهم، فالدار التي هذا شأنها دار إسلام وإلا فهي دار كفر وحرب. ولعلنا نشرح هذه المسألة وما يتعلق بها من حكم الهجرة وغيره في مقالة مستقلة. وأما الروسيون فهم أهل كتاب وإن شابت عقائدهم الوثنية وأعمال الشرك؛ لأنهم يؤمنون بالله وبالوحي والأنبياء واليوم الآخر، وتجد تفصيل هذا البحث في التفسير من الجزء السابع (الماضي) .

عمل الفقهاء بأقوال مذاهبهم وإن خالفت الحديث الصحيح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عمل الفقهاء بأقوال مذاهبهم وإن خالفت الحديث الصحيح (س25) الشيخ صحيح أحمد المصري إمام المسجد الكبير بكلكته الهند: قد وقف بعض من ينتمي لطلبة العلم الشريف بالهند على قول الأستاذ الإمام في صفحة 336 الجزء (9) من المجلد السابع من مجلتكم الغراء في خلال بيانه ترك الاهتداء بالكتاب والسنة واستبدال أقوال الناس بهما، ولكننا إذا نظرنا في أقوال الفقهاء وتشعبها وخلافاتهم وعللها، فإننا نحار في ترجيح بعضها على بعض؛ إذ نجد بعضها يُحتج عليه بحديث صحيح وهو ظاهر الحكمة معقول المعنى ولكنه غير معتمد عندهم بل يقولون فيه المدرك قوي ولكنه لا يفتى به، ولماذا؟ لأن فلانًا قال إلخ فأنكر ذلك واستكبره، وقال: لا ينبغي لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول مثل ذلك، نعم قد يترك الفقهاء العمل بظاهر الحديث لسبب من الأسباب لكن من بعد تبين السبب الموجب للعدول عن ظاهره أو عنه بالكلية كمعارضته بحديث آخر مثله في الصحة أو أصح أو أقل منه في الصحة ولكنه مؤيد بأدلة أخرى، أو بأن الإجماع أو عمل الصحابة على خلافه، ونحو ذلك، كما أن مالكا روى أحاديث القبض ورفع اليدين عند الركوع والرفع منه في موطأه وترك العمل بها؛ لأنه أدرك عمل أهل المدينة على خلافها، وأما ترك الحديث الصحيح بعلة أن فلانا قال فما وقفنا عليه في شيء من الكتب التي بأيدنا، وتبعه على ذلك جميع المقلدين بكلكته، فلما رأيت القوم في شك من صحة قول الأستاذ الإمام وكانت غيرة الجنسية والوطنية باعثًا قويًّا على الانتصار لفضيلته ولم يكن لدي ما أنتصر به لجهلي وعدم وجود الكتب اللازمة بطرفنا فلم أجد لي ملجأ إلا إرشادكم لا زلتم ملجأ للسائلين فحررت إليكم هذا السؤال. والغرض من سعادتكم أن تبينوا لنا من القائلون في مثل هذا: المدرك قوي ولكنه لا يفتى به؛ لأن فلانا قال. من غير بيان وجه العدول عن الحديث، وفي أي كتاب ذكرت هذه المسألة وأشباهها؟ أدركونا سيدي بالجواب وإلا أصبح علماء الهند في شك مما ينقل عن الأستاذ الإمام. (ج) إن ما قاله في تعارض الحديثين هو المذكور في كتب الأصول التي يرون العمل بأحكامها خاصًّا بالمجتهدين، وقد صرحوا بأنه يجب على المقلد أن يعمل بقول علماء مذهبه، وإن خالفت الأحاديث الصحيحة التي لا يشك في صحتها ولا يعرف لها معارضًا، ثم حكموا بأن الاجتهاد ممنوع فيجب على جميع المسلمين أن يكونوا عالة على ما دوّنه الفقهاء، وإن رأوا فيه ما يخالف السنة الصحيحة فإن كان المعترض ينكر هذا جئناه بنصوصهم التي لا يجهلها إلا إذا كان لم يقرأ الفقه لا سيما فقه الحنفية. بل الأمر أعظم من ذلك، فإنهم قبل منع الاجتهاد والأخْذ من الكتاب والسنة قد اتخذوا لهم أحكامًا عامة جعلوها أصولاً للشريعة، وقالوا: (إن ما يخالفها من الكتاب والسنة يحمل على النسخ أو على الترجيح أو التأويل) فهم قد جعلوا الكتاب والسنة فرعًا يُحمل على غيره لا أصلاً يُحمل غيره عليه كما ترى في أصول الكرخي المتوفى سنة 340 هـ، وقد ذكرنا قوله وبينا رأينا فيه في المجلد الخامس وأذكر بعض ما قاله، ويراجعه هناك من يريد التفصيل قال: (الأصل) (أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق) وذكر مسائل يمكن أن تجعل الآيات فيها أصلاً ويستغني عن قاعدته مع بقاء الحكم كما قال أصحابهم، ثم قال: (الأصل) (أن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا فإنه يحمل على النسخ أو على أنه معارض بمثله؛ ثم صار إلى دليل آخر أو ترجيح فيه بما يحتج به أصحابنا من وجوه الترجيح، أو يحمل على التوفيق وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل، فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليه، وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه) ، ثم ذكر أمثلة تحكم فيها بالنسخ مع عدم العلم بالتاريخ وبالمعارضة والتجريح. وكان يجب أن يجعل الكتاب والسنة هما الأصل ويعرض قول الأصحاب وأدلتهم عليهما، فإن وافقت وإلا تركت وعمل بالكتاب والسنة. ومن فروع هذا الأصل عند المقلدين أنهم يحتجون ببعض الحديث على ما يوافق قول أصحابهم ويتركون الاحتجاج ببعضه الآخر إذا خالف قولهم، وفي المجلد السادس من المنار 66 شاهدًا على ذلك فتراجع في الأجزاء 14 و 15 و 16 منه ومن راجع كتب الحديث يجد كثيرًا من ذلك. وقد استقر رأي أهل التقليد المتأخرين على أن العلماء طبقات أعلاها المجتهد المطلق: وهو الذي يأخذ الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، زاد الحنفية والاستحسان، وأدناها طبقة الناقلين عن أهل التصحيح والترجيح في الأحكام المروية في المذهب، وهؤلاء يجب عليهم الأخذ بأقوال من فوقهم من غير تقيد بمعرفة دليلهم، ويحرم عليهم ترك رواية المذهب لما يفهمونه من الكتاب العزيز أو السنة الصحيحة، وقد صرح بذلك ابن عابدين وغيره من المؤلفين، فإن كان المعترِض ينكر ذلك ذكرنا له العبارات بنصها وإن كان يعترف فليخبرنا، هل دلت عبارة التفسير على ما هو أكبر منه؟ ثم بعد هذا كله إن كان يلتمس لهؤلاء القوم عذرًا في هذا، فلماذا لا يلتمس العذر لمن يجعل الكتاب والسنة هما الأصل؟ وهو الموافق لما كان عليه السلف الصالح والأئمة المجتهدون رضوان الله عليهم أجمعين، فقد نقل عن الأربعة وعن غيرهم التصريح بتحريم تقليدهم وتقليد غيرهم.

إيراد على ترك التقليد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إيراد على ترك التقليد (26) (ومنه) : قال ذلك البعض عند قول الأستاذ في الصفحة المذكورة في السؤال الأول: بل نحن نقول: إنه يجب على ذي الدين أن ينظر دائمًا إلى كتابه حتى لا يختلط ولا يشتبه عليه شيء من أحكامه ولا يجوز لأحد ... إلخ. يظهر من هذا الصنيع أن مراده ترك التقليد بالكلية والرجوع إلى الكتاب والسنة وعدم التعويل على قول أحد من الفقهاء والأئمة المجتهدين، ونحن نقول: الداعي إلى ذلك لا يخلو عن مقصد حسن يعود نفعه على الأمة أولاً، فإن كان الأول بأن كان مراده ترك المشاغبات بين المسلمين المؤدية إلى تأخرهم في أمر دينهم ودنياهم؛ فنقول له: هل أنت بعد هذا تُطلق الحرية للأفكار والآراء في الأخذ من الكتاب والسنة أم تحمل جميع الآراء على اتباع رأي تراه مطابقًا للكتاب والسنة؟ فإن قلت بالأول وهو الظاهر من صنيعك فإننا نخشى أن تتعدد المذاهب بتعدد الآراء، فإن اتفاق جميع الآراء على قول واحد غير معقول، وإن قلت بالثاني فقد دعوت إلى ما انتدبت لإبطاله، وإن كان الثاني فقد دعا إلى ذلك محمد بن عبد الوهاب النجدي من نحو مائة وخمسين سنة ولم يفد ذلك شيئًا في عقائدنا مع أننا نعلم قطعًا أن أتباع الأئمة الأربعة كانوا على هدًى من ربهم متبعين لكتاب الله وسنة رسوله إلا ما شذ عنهما؛ فطريقه إما القياس وإما الإجماع قبل ظهور هذه الدعوى وقبلها دعوة الوهابي، والحاصل يا سيد أنه لا يخفى على فضيلتكم بما ذكرنا أن الناس بطرفنا قد اتهموا الأستاذ ومن نقل عنه بأنهم داعون إلى اتباع مذهب النجدي، وترك المذاهب الأربعة، فالمرجو من سيادتكم أن تبينوا لنا مراد الأستاذ بأن تجيبوا عن الاعتراضات المتقدمة في قول ذلك البعض لينكشف لنا الغطاء عن خرافات هؤلاء الأعاجم جزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا. (ج) أما زعم المعترض أنه يلزم من تلك العبارات الرجوع إلى الكتاب والسنة فهو صحيح، وأما قوله: وعدم التعويل على قول أحد من الفقهاء والأئمة. فهو غير صحيح على إطلاقه، وإنما المراد عدم تقديم قول فقيه على قول الله ورسوله، ويمكن الجمع بين الاهتداء بالكتاب والسنة والانتفاع في ذلك بكلام الأئمة بأن ننظر في أقوالهم ونعرضها على الكتاب والسنة كما أمروا ونستعين بها على فهمهما، فما وافق أخذنا به وما خالف ضربنا به عُرْضَ الحائط كما قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه - ولا نجعل كلامهم أصلاً نعرض عليه الكتاب والسنة؛ فإن وافقاه وإلا أوّلناهما أو تركناهما تعللاً باحتمال النسخ، والأصل عدمه باتفاقهم. وأما سؤال المعترض، هل نطلق الحرية للآراء والأفكار في الأخذ من الكتاب والسنة، أم نحملهم على رأي واحد وإيراده على كل واحد من طرفي الترديد ما أورده، فإننا نجيبه عنه بما ليس في حسبانه فنقول: لا شك أن الكلام في المسائل الخلافية، وقد كان السلف من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين يطلقون الحرية في المسائل الاجتهادية لكل أحد في المسائل المتعلقة بالشخص لا بالحكومة وكانوا لا يرون ذلك موجبًا للخلاف والتفريق ولا للتنازع والتقاطع كما حدث بعد التزام المذاهب والتعصب لها بل كان كل يعذر الآخر فيما خالفه فيه. وأما المسائل المتعلقة بالسياسة والقضاء لا بالأعمال الشخصية كالعبادة؛ فكانوا يدعونها إلى الحكام الفقهاء القادرين على استنباط الأحكام، وكان هؤلاء يتشاورون في الأمر ويردون ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله بعرضه على الكتاب والسنة، ثم تطبيقه على مصلحة الأمة حتى صار أئمة الجور ثم سلاطين الجهل والبغي هم الحاكمين. والواجب الآن أن نجمع كلمة المسلمين على المسائل الاجتماعية ونحيي روح الدين فيهم بهدي الكتاب والسنة ونطلق الحرية لكل مسلم أن يهتدي بالكتاب والسنة بحسب فهمه، إن كان من أهل الفهم الذين أعدوا له عدته وأولها معرفة العربية وأساليبها، وما قاله علماء السلف وأئمة الخلف ممحصًا تمحيصًا وكل ذلك مدون في كتب التفسير والحديث. وإن لم يكن من أهل الفهم وعرض له أمر كان عليه أن يسأل من يثق بدينه وعلمه عن قول الله ورسوله في ذلك فيرويه له ويبين له معناه كما يسأل الجاهلون الآن عن فهم علماء عصرهم في كتب مذاهبهم. وأما الأحكام المتعلقة بالسياسة والقضاء وسائر الأمور العامة فالواجب على الأمة أن تعرف الحق الواجب اتباعه فيها لتلزم به الحكام عند القدرة على ذلك، وإنما القدرة بالعلم والاعتقاد. وليس الحق الذي تنهض بها الأمة أن تفوِّض به أمرها لرجل واحد عالمًا كان أو جاهلاً يدَّعي أنه ينتمي إلى مذهب عالم معين يحكم به إن شاء فيسمى عادلاً أو يتركه فيعد ظالمًا، بل الحق أن يكون إمام المسلمين عالمًا بالكتاب والسنة مقيدًا باستشارة أولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد الذين كان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يستشيرهم ويعمل برأيهم ولو فيما خالف رأيه، كما فعل في غزوة أحد، وكما كان الخلفاء الراشدون يستشيرون. ولا محل للتوسع في هذا المقام، وقد فصلنا هذه المسائل من قبل تفصيلا ولعل المعترض لو اطلع على ما كتبناه من قبل في هذه المسائل؛ لما ضاق صدره بتلك الجملة الوجيزة وطفق يستنبط منها ويعترض على ما يستنبط وسنطلعك على مقالات (محاورات المصلح والمقلد) فقد طبعت على حدتها، وهي من التفصيل الذي نشرناه في المنار وصادف استحسان العلماء والفضلاء. وأما قوله: إنه يعلم قطعًا أن أتباع الأئمة الأربعة كانوا كذا وكذا فنقول فيه: إن المنقول عن الأئمة وأصحابهم تحريم التقليد ومنعه ووجوب الأخذ بالكتاب والسنة وستجد طائفة من هذه النقول عنهم في كتاب (محاورات المصلح والمقلد) ولكن لم يتبعهم في هذا كل ما انتمى إليهم لا سيما في هذه الأزمنة المتأخرة؛ فإن كلام الأئمة الأولين صار مجهولا حتى للمنقطعين إلى العلم، والأستاذ الإمام يسعى في إحياء كتبهم وهو رئيس جمعية ألفت لهذا الغرض، وأما العوام فأكثرهم لا يعرف الآن من الدين إلا بعض المسائل الخلافية بين المذهب الذي يدعيه والمذهب المنتشر في بلده كانتشار مذهبه المدعى، ثم إن أكثرهم لا يعملون إلا بقليل مما يعلمون من مسائل الوفاق والخلاف، والمعترض وأمثاله لا يخافون من هذا الضياع للدين ولكنهم يخافون من الدعوة إلى الكتاب والسنة والاهتداء بهما بحجة الخوف على المذاهب التي لم يبق منها إلا الجدل فيما بقي من دروس المقلدين الدَّارِسة. وأما اتهام الأستاذ وغيره بالدعوة إلى مذهب الوهابي؛ فهو من ضيق العطن وقلة العلم فقد اتخذ المتعصبون اسم الوهابي وصاروا يهددون به الناس، والأستاذ الإمام لا يدعو إلا إلى الكتاب والسنة فمن اتبعهما فهو المهتدي عنده وعندنا وإن سمي وهابيًّا، ومن أعرض عنهما فهو الضال وإن سمي نفسه سنيًّا أو أشعريًّا أو حنفيًّا أو شافعيًّا، وإنما يخاف من النبذ بالألقاب من لا يعرف الله ولا يرجوه بعمله، وإنما يرجو مرضاة العوام الذين يشتمون كل مخالف لتقاليدهم التي ليس بها من علم إن هم إلا يخرصون. وجملة القول: إن من يرغب عن الكتاب والسنة فقد سَفِهَ نفسه وكان بريئًا من الأئمة، وإن ادعى اتِّباعهم فإنهم حرموا التقليد الأعمى كما ستعرفه تفصيلاً من الرسالة التي نرسلها إليك، ونرجو أن تكتب إلينا بما يشتبه على المعترض أو عليك.

خرافة في سبب تحريم الخمر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خرافة في سبب تحريم الخمر (س27) سعيد أفندي قاسم حمود في كنتون أوهايو (أمريكا) دار بيني وبين جماعة من النصارى حديث أفضى إلى تحريم الخمر فقال أحدهم: لماذا حرمت الخمر عليكم طائفة المحمدية؟ فأجبته على حسب معرفتي وما كنت أسمعه شائعًا على ألسنة العامة في سورية قبل هجرتي إلى الولايات المتحدة: حرم لأجل ذبح الراهب بحيرا قال: ومن ذبحه؟ قلت: أحد الصحابة الكرام، قال: وهل تعرف اسمه؟ قلت: كلا، قال: ألم يعرف النبي من نحره؟ قلت: نعم (لعله يريد لا) فقال الملحد في الدين: لماذا لم يقتله وكيف يسكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويؤخذ سيفه من جنبه ولا ينبأ بذلك؟ فضاق ذَرْعي، ولما كان للإسلام في مشارق الأرض ومغاربها صوى ومنار كمنار الطريق أتيتكم في عريضتي هذه كي تفيدونا، ما سبب تحريم الخمر؟ من قتل الراهب بحيرا ولكم الأجر والثواب من العزيز الوهاب. (ج) بعد أن أرسلتم هذا السؤال وصل إليكم الجزء الخامس من المنار الذي فيه تفسير {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219) فعلمتم سبب تحريم الخمر وأنه كان بالتدريج، فلم يكن تأخير الجواب عن هذه الخرافة النصرانية ضائر بعد ما علمتم الحق، ومن لوازمه زهوق الباطل. أما حكاية قتل الراهب بحيرا فهي من أكاذيب الرهبان، وقد سمعتها لأول مرة من أحد رهبان دير قزحيا في لبنان، طَرَقَنَا في ليلة شاتية وكنا في سامرنا (حجرة السهر) بالقلمون فأكرمنا مثواه واجتمع عليه الصبية وكنت منهم، فقص علينا قصة الراهب بحيرا ووصف من حب النبي - صلى الله عليه وسلم - له واصطحابه إياه وتحريمه الخمر لأجله، والقصة في ذلك أن بعض الصحابة ائتمروا بالراهب وخافوا غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - على قاتله إذا هو عرفه فكادوا له حتى سكروا مع النبي - صلى الله عليه وسلم (حاشاه من ذلك فإنه لم يشرب الخمر قط) ذات ليلة فأخذ أحد المؤتمرين سيف النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم مستغرق وقتل به الراهب وأعاده إلى غمده، فلما استيقظوا غضب النبي - صلى الله عليه وسلم - غضبًا شديدًا أن رأى حبيبه الراهب مقتولاً وسأل من قتله؟ قالوا: من كان سيفه ملطخًا بالدم فهو قاتله فاستلوا سيوفهم فاعتقد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هو القاتل في حال السكر (حاشا لله) فحرم الخمر لأجل ذلك. وكان غرض الراهب من ذلك أن يبين لنا أن نبينا -عليه الصلاة والسلام - كان يحب الرهبان ويصطفيهم، وقد كان منا من أجاب الراهب بأن القصة كاذبة لا أصل لها، وما كنا نظن أنها شائعة، وأن من عامة المسلمين من يصدقها. ولهم أكاذيب أخرى في هذا الراهب المغمول لا يعرف لها أصل غير اختراع مخيلاتهم حتى زعم بعضهم أنه هو الذي علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الدين والشريعة. والحق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير الراهب بحيرا غير مرة واحدة في الشام، وكان عليه السلام ابن تسع سنين، وبيان ذلك مفصل في المجلد السادس من المنار (راجع ص 394منه) وحكى بعض المؤرخين من النصارى أن بحيرا قتلته اليهود، والصحيح أنه لا يعرف له تاريخ ولم يكن له شأن، وإنما اهتم النصارى بالكلام عنه بعد أن رأوا في كتب المسلمين أنه بشر بنبوة محمد عليه السلام عند ما رآه مع عمه بالشام فحولوا الأمر إلى ما علمت.

ترجمة النبي (ص) في أوراق البردي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة النبي (صلى الله عليه وسلم) في أوراق البردي (س28) محمد أفندي كامل الكاتب بمحكمة (أسيوط) الأهلية: اطلعت بجريدة مصر في العدد 3804 الصادر يوم الأربعاء 7 يونيه سنة 1905 ضمن الحوادث المحلية على الفقرة الآتي نصها بالحرف الواحد: (تفيد أنباء ألمانيا أن رئيس غرفة التجارة في مدينة هدلبرج أعطى مكتبة المدرسة الجامعة هناك مجموعة من أوراق البردي مكتوبة باللغة العربية وتحتوي هذه المجموعة على ألف ورقة خطيرة جدًّا يرجع بعضها إلى السنين الأولى من الهجرة، وكثير من هذه الأوراق يُسفر عن أمور جديرة في تاريخ سيادة الإسلام على مصر، ولكن الأهم من كل ذلك هو العثور على ترجمة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقال: إنها ترجمة غريبة جدًّا، وإن فيها سرًّا جديدًّا يجلو شيئًا من أسرار التاريخ الغامضة) . اهـ ولما كان ذلك يهم العالم الإسلامي معرفته والمطلع على هذه الفقرة يستنتج أمرين: (أولهما) : أن وجود مثل هذه الكتابة باللغة العربية على ورق البردي الذي لم يكن معروفًا إلا في زمن الفراعنة - إن صح - كان مما يدعو إلى الظن بأن ذلك من عمل المدلسين. (ثانيا) : أن جريدة مصر قالت: إنه وجد بين هذه الأوراق ورقة فيها ترجمة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقال: إنها ترجمة غريبة جدًّا، وأن فيها سرًّا جديدًا يجلو شيئًا من أسرار التاريخ الغامضة. على أن مثل هذه الترجمة إن لم تكن موافقة لما أتى به القرآن والمتواتر بالدليل القطعي عن صاحب الترجمة - صلى الله عليه وسلم - فلا بد وأن يكون عدم ذكر هذا السر سرًّا آخر تقصد به جريدة مصر الإيهام بأن هناك شيئًا يناقض ما عليه المسلمون من العقائد. فهل للأستاذ علم بتلك الأوراق يرفع النقاب عن ذلك السر الذي أشغل الألباب؟ هذا ما نرجو الجواب عنه على صفحات المنار، زادكم الله بسطة في العلم والرزق. (ج) قد كتب إلينا غير واحد فيما نشرته جريدة مصر، وكان منشأ الاهتمام بذلك توهّم أن كل ما كتب وقدم عهده يصير مسلَّمًا به مقطوعًا بصحته، والصواب أن ما كتبه الناس في الزمان الماضي هو كالذي يكتبونه الآن، والذي سوف يكتبونه في الزمن الآتي: منه الحق والباطل، والخطأ والصواب، والصدق والكذب، ومنه ما يكتب عن علم وما يكتب عن ظن وعن جهل. والقاعدة المقررة: (أن المكتوب كالمسموع لا يوثق به إلا إذا روي بسند متواتر أو سند متصل يُحتج برواته ويُوثق بهم للعلم بعدالتهم) ، فما عساه يوجد في أوراق البردي المسئول عنها من سيرة النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يعرض على المعلوم من الدين بالضرورة أو الرواية الموثوق بها، فإن وافقه كان له حكمه وإلا ضربنا به عُرْضَ الحائط، ولا نراه شبهة على المعروف عندنا بل ما عندنا يكون حجة قاطعة على أن ما في تلك الأوراق كذب لا قيمة له في التاريخ. أما أوراق البردي فقد استعملت في الإسلام وفي دار الكتب المصرية أوراق منه أقدم ما عرف تاريخه منها قد كتب في الربع الأخير من القرن الأول للهجرة، وأحدثه كتب في أوائل القرن الرابع.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (معونة الرحمن في مذهب أبي حنيفة النعمان) أرجوزة في مذهب الحنفية من نظم الشيخ إسماعيل أحمد الإسلامبولي أصلاً المصري وطنًا، وقد كتب إلينا صاحبها (بحثت في الكتبخانة مدة على منظومة في المذهب الحنفي كالألفية في النحو؛ فوجدت منظومات كثيرة منها ما هو أربعة آلاف بيت ومنها ما هو سبعة آلاف بيت وما بين ذلك، فاستعنت الله ولخصت المذهب في ألفي بيت، وسميتها كذا، وقد طبعتها بعد أن قرَّظها الشيخ محمد راضي والشيخ محمد بخيت والشيخ محمد عشري، وتباع النسخة بقرشين في مصر بمكتبة الشيخ أحمد المليجي قريبًا من الأزهر، وبمكتبة درويش سليمان بالسيدة زينب) إلخ، وهاك نموذجًا من الأرجوزة من أول كتاب الصلاة. فرض على مكلف وتطلب ... من ابن سبع وابن عشر يضرب تاركها تكاسلاً يعزر ... بحبسه وجحدها مكفر والصلوات فرضت في خمس ... فصل ركعتين قبل الشمس وأربع العشا وظهر عصر ... ثم ثلاثًا مغربًا كالوتر فالظهر من زوالها حتى ترى ... ظلك مثليك بمثل قدرا والفيء لا يحسب عند القيس ... ظل يرى عند وقوف الشمس والعصر منها للغروب في الأفق ... ومغرب منه إلى غيب الشفق ثم العشا فالوتر لانفلاق ... والصبح بين الفجر والإشراق ولم تجز صلاة فرض أو وجوب ... عند شروق واستواء وغروب وقد وصف الشيخ محمد راضي نظمها بالسهولة في العبارة، والرقة في الإشارة، ووصفه الشيخ بخيت برقة العبارة ودقة الإشارة. *** (العقل والدين) قصة أدبية تاريخية موضوعها حياة موسى المشترع الإسرائيلي العظيم وتحرير العبرانيين من عبودية المصريين وتأسيس المملكة الإسرائيلية والشريعة الموسوية ومصادرها، مؤلفها رفول أفندي سعادة صاحب مقالات سوريا والإسلام التي لم ينس القراء ردنا عليها في السنة الماضية. حاول المؤلف في هذه القصة إقناع القارئين بأن موسى -عليه السلام- قد اخترع الشريعة التي جاء بها اختراعًا اعتمد فيه على ما اقتبسه من الشريعة والديانة المصرية التي تلقاها من أعظم الكهنة المصريين وأعلمهم. وإننا نقول: إذا جاز للإنسان أن يخترع قصة يعزو فيها أقوالاً وأعمالاً إلى أناس مجهولين لأجل العبرة والموعظة أو الفكاهة والتسلية -أفلا يجوز أن يعزو مثل هذا إلى الأنبياء وأهل الشرائع والأديان؛ لأجل زلزلة الاعتقاد بهم أو إزالته. وقد كنا تنسمنا مما كتبه واضع القصة في الإسلام أنه لا يؤمن بدين من الأديان فحققت لنا هذه القصة ما كنا قد استنبطناه من كلامه المخترع في الإسلام. ولست أعرف ما يقصد إليه المؤلف بكلامه في إبطال الأديان ومحاولة إقناع الناس بأنها وضعية مختلقة، أيظن أن ترك الدين يرقي البشر في آدابهم وأخلاقهم التي هي منبع سعادتهم وهناء معيشتهم، أم يبتغي بما يكتب الشهرة والانتظام في سلك ملاحدة الفلسفة؟ أكثر البشر يؤمنون بالدين ومنهم العلماء والفلاسفة وقد ارتاب كثيرون في دينهم؛ لأنهم وجدوا فيه ما لا يمكن التصديق به سواء كان منه أو مما ألصق به الرؤساء المتبعون حتى تعذر الفصل بين الأصل والدخيل، ولكن أغلب هؤلاء المرتابين لم ينكروا فائدة الدين الذي أنكروه ولم يستحلوا تشكيك العامة فيه. وقد قال أحد الفلاسفة الأوربيين المتأخرين قبل موته: إن هذا الشيء الذي يسمونه دينًا نافع للبشر وليس عندي من الدلائل العلمية ما يثبته ولا ما ينفيه، والأولى للناس أن يثبتوا عليه. إذا أمكن أن يتربى أفراد من الأمة على الفضائل بالعمل وحسن القدوة ومن غير تلقين للدين، بحيث ينشئون على حب الخير واجتناب الشر، فلا يمكن أن تتربى الأمة كلها أو أكثرها على ذلك، وأما الدين فيصح أن يكون وازعًا عن الشر وباعثًا على الخير لجميع الناس؛ إذا عرفوه بروحه وجوهره وأزاحوا عنه غواشي التقاليد التي غشيته وعلموا أنه سار على سنة الارتقاء كسائر الشئون البشرية فاتبعوا فيه الهداية الأخيرة التي جاء بها خاتم النبيين، وإلا كان نافعًا للعامة دون الخاصة فهو على كل حال نافع للناس، فالجهاد لإبطاله بالمرة جناية عظيمة لا تأتي إلا عن هوى ضار. يقول رفول أفندي سعادة وأمثاله ممن مرقوا من الدين ثم انبروا لمناضلته: إن للدين مضرات مشهورة في إفساد عقول الناس بالخرافات وحملهم على عداوة العقل والعلم النافع، وتقول: عليكم بمحاربة الخرافات والأوهام ومناهضة أهلها من الأحبار والقسيسين وتربية الأولاد على الاستقلال ودعوا الأنبياء وأصول تعاليمهم النافعة إن كنتم تحبون أن تفيدوا الناس وإلا فأنتم للشهرة الضارة تطلبون. *** (كلم القرآن) وضع العلماء كتبًا كثيرة في تفسير ألفاظ القرآن الغريبة منها المطول والمختصر ومنها المنظوم، وقد انبرى في هذه الأيام محمود أفندي شكري كاتب السر في مديرية المِنيا لوضع كتاب في ذلك، امتاز على غيره بوضع كلم القرآن على حدتها مفصولا بينها وبين تفسيرها بخط عمودي، وربته على ترتيب السور واعتمد في تفسير الألفاظ على كتب اللغة غالبًا، وقد طبع الكتاب في مطبعة المنار طبعًا جميلا فبلغت صفحاته 192 وهو يطلب من مؤلفه في المنيا. *** (الفصول البديعة في أصول الشريعة) كتاب جديد وضعه محمود أفندي عمر الباجوري لخص فيه كتاب جمع الجوامع المشهور، وضم إلى ذلك فوائد أخرى فالفصل الأول: في العقيدة، وهي جمل وجيزة على الطريقة النظرية التي جرى عليها المتكلمون، والفصل الثاني: في مقدمات أصول الفقه، وسائر الفصول إلى التاسع في مباحث الأصول، والفصل العاشر في أصول ومسائل أدبية وفلسفية. وصفحات الكتاب تناهز المائة وثمنه أربعة قروش، ولعله يكون مُرّغبًا للمتخرجين بالمدارس العصرية في النظر في علوم الأصول الإسلامية لأجل الوقوف على تفصيل ما أجمله هذا المتن الوجيز. *** (الدروس الابتدائية في المبادئ الجغرافية) كتاب يدل اسمه على مسماه أودعه مؤلفه سيد أفندي محمد ناظر المدرسة التحضيرية ما يتعلمه تلاميذ المدارس الابتدائية في السنة الأولى حسب قانون المعارف. وقد راج هذا الكتاب في المدارس الأهلية لسهولته وحسن وضعه فأعاد المؤلف طبعه في هذا العام، وزينه بالرسوم التي تشوِّق التلميذ وتعين الأستاذ على التعليم. *** (هداية الطلاب إلى حل مسائل الحساب) عني بوضع هذا الكتاب عبد العزيز أفندي وعلي أفندي صبحي المستخدم في دار الكتب المصرية (الكتبخانة الخديوية) وقد طبع الجزء التحضيري منه، وهو يشتمل على (مسائل محلولة وغيرها، وقوانين عمومية لتلامذة السنة الأولى والثانية من المدارس الابتدائية حسب آخر بروجرام قررته نظارة المعارف العمومية) ، وسيتلوه الجزء الثاني لتلاميذ السنتين الثالثة والرابعة، ولا شك أن هذا الكتاب يعين التلاميذ على إتقان الحساب بالسهولة، فنحثهم على مطالعته وهو ويطلب من مؤلفيه وثمن النسخة منه 15 مليمًا.

انطفاء فتنة نجد واستقرار الأمر في آل سعود

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انطفاء فتنة نجد واستقرار الأمر في آل سعود قد علم القراء مما قصصنا عليهم من قبل أن ابن رشيد الذي كان متغلبا على بلاد نجد جار وظلم معتمدًا على أن الدولة تؤيده وتنصره بما كان يوهمها من أن آل سعود الوهابية يريدون محو سلطتها من بلاد العرب، وهو الذي يؤيد نفوذها، وكان هو وأنصاره يستعينون على ذلك ببعض رجال الحكومة في البصرة والشام والحجاز وبعض الجرائد المصرية التي توصف (بإسلامية) فقد حاول هؤلاء الأنصار إقناع الآستانة أو يلدز بأن آل سعود متفقون مع الأجانب على تمليكهم بلاد نجد وما كانوا ينطقون ولا يكتبون إلا بأجرة عظيمة يأخذونها من بعض كبار التجار الأغنياء المشايعين لابن رشيد، فكانوا يوقعون الفتنة بين المسلمين ويغشون دولتهم وسلطانهم حبًّا في منفعة أنفسهم. ولما تمكن أهل الغيرة والنجدة من أمراء العرب وغيرهم من إقناع الدولة العلية بخضوع آل سعود لها وبعدهم عن الفتن والاستظهار بالأجانب لشدة تمسكهم بدينهم، عمدت الدولة إلى التحقيق، فأرسلت المشير أحمد فيضي باشا إلى نجد ليدعو أهل البلاد النجدية ورؤساء القبائل إلى الطاعة، ويتبين هل هناك جنود أجنبية كما زعم الواشون فأجيبت دعوته، وعلم أن آل سعود هم المخلصون الصادقون، وأن ابن رشيد وأنصاره هم الغاشون المخادعون. فحصر سلطة ابن رشيد في بلده وعشيرته وجعل عبد الرحمن الفيصل أمير سائر بلاد نجد وقبائلها فاستراحت الدولة بذلك من الدسائس والمفاسد التي كانت تسري إلى بلاد نجد من مصر وغيرها، فالشيخ عبد الرحمن الفيصل وولده عبد العزيز آل سعود لا يعرفان غير بلادهم وسلطانهم ولا علاقة لهم بمصر ولا بغيرها ولا يبالون بعبث العابثين ولا بدسائس المفسدين. وإننا ننشر هنا ما جاءنا من بلاد العرب من صور الرسائل التي أرسلها المشير أحمد فيضي باشا إلى أهل نجد المتهمين وإلى الآستانة وولاية البصرة؛ لأن هذه رسائل رسمية قاطعة لألسنة الفسدة من أصحاب الجرائد الكاذبة في مصر وغيرهم. كتاب المشير أحمد فيضي باشا إلى عُنيزة (بسم الله الرحمن الرحيم) نحمد الله الواحد مستوجب الشكر والحمد، مالك الأمر من قبل ومن بعد، والصلاة والسلام على نبينا الذي أرسله بالهدى ودين الحق، وعلى آله وأصحابه أولياء الخلق. وبعد، فإن خليفة الله في الآفاق، الثابت البيعة في الأعناق، مصباح مشكاة الخلافة، مفتاح باب الرحمة والرأفة، ولي الأمر، المنصوص على طاعته بلسان الذكر المحكم، سلطان البرين والبحرين عنوان الشرف والإقدام، أمير المؤمنين، حامي حوزة الدين، إمام الإسلام والمسلمين، مظهر العدل والإحسان، مصدر اللطف والامتنان؛ حضرة السلطان ابن السلطان، والخاقان ابن الخاقان، مولانا الغازي عبد الحميد خان، قوّى الله شوكته، وفسح كما تهوى الشريعة مملكته، أمرنا بالسير إليكم مع جنوده الشاهانية المنصورة لإصلاح أحوالكم وبلادكم فامتثلنا أمره، وعملنا إرادته العالية (كذا) فارتحلنا وجئناكم كما أمر دامت ذاته المقدسة سعيًا نسير فيكم بسيرته الحسنة صوناً لكم ورعيًا ونبث الإنصاف حسبما يريد فيكم، ونغضي عما تلف من وقائعكم ومغازيكم، ونعفو كما من شأنه العفو عن الكثير ونرفع أعلام الإصلاح بين شعوبكم وقبائلكم، ونوصل وسائلكم لباب النجاح على حسب منازلكم، ولا تحسبوا عدتنا لإراقة دم، ومؤاخذة بما مضى وتقدم، فارقدوا أمنا، وأطيعوا أولي الأمر منا، وتدبروا {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء: 7) وسابقوا لمرضاته، وتقربوا من ألطافه، أيها المسلمون {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ المُقَرَّبُونَ} (الواقعة: 10-11) إنا لا نقضي فيكم بسوى الكتاب والسنة، ولا نولي أعمالكم من تشب به نار الفتنة، بل نولي عليكم من تحمدون ولايته، وتقبلون بأحكام روايته، فادخلوا تحت رواق صفح الملك، فعفوه ممدود السرادق، وولوا ركنه الشديد واستظلوا بطود حلمه الشاهق، واستقبلوا إنعامه والمنى، واعتصموا بعروته الوثقى {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} (الأنعام: 120) ولا تتبعوا المجرمين ليمكروا فيكم {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام: 123) عجلوا بالجواب الصواب، وأرسلوا من تعتمدون عليهم لأجل المواجهة والاستقبال، ولهم منا الرأي وأمان الله فلا يحصل عليهم سوء ولا مكروه، فاعتمدوا وبالله الاعتماد، والسلام على من سبح في كفه الجماد، والسلام. وكتب المشير مثل هذا الكتاب لبريدة، وذلك بعد أن فتش المعاهد التي زعم ابن رشيد أن فيها عسكرًا من الأجانب وكان مقامه حينئذ في (القوارة) على مسافة يوم ونصف من عنيزة ويوم بل بعض يوم من بريدة وكتب إمضاءه (مأمور إصلاحات القصيم مشير) وقد جاءه الجواب ناطقًا بأنهم لم يكونوا عاصين للدولة فيطيعوا الآن بل هم طائعون من قبل ومن بعد، ولكن الدولة ألبستهم ثوب العصيان بتزوير ابن رشيد. وأرسل كل أمير معتمدًا من قبله لمواجهة الوالي وكشف الحقائق فأكرمهم وخلع عليهم، ولما رأى ما يحملون من خطوط الأمراء شد رحله ونزل بريدة فواجهه أمير البلد صالح بن حسن المهنا فكساه وعاهده وأَمَّرَه على بلاده وترك عنده خمسين جنديا ولواء عثمانيًّا ثم رحل إلى عنيزة فواجهه الأمير عبد العزيز العبد الله السليم فلقي منه ما لقي ابن مهنا من اللطف والإكرام وكان كتب إلى عنيزة الكتاب الآتي جوابًا عن كتابهم إليه. (الكتاب الثاني من المشير إلى أهل عنيزة) إلى كافة أكابر وأصاغر أهل عنيزة: الحمد لله ولي الإحسان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي بعثه الله رحمة للأكوان. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فقد وصل إلينا معتمدكم عبد الله بن محمد القاضي وصحبته المضبطة المحررة من طرفكم، وعرض طاعتكم وانقيادكم لأوامر حضرة أمير المؤمنين فصرنا ممنونين لذلك، وحمدنا الله على ما هنالك، ثم نحن بينا له مقصودنا، وعرفناه كما كتبنا لكم سابقًا مطلوبنا، وهو سيصل إليكم، ويكشف الحال لديكم، وطلب منا معتمدكم المشار إليه لكم الأمان والعفو عما سلف وعدم تولية ابن رشيد عليكم، فلكم أمان الله وقد عفونا عما سلف ولا نولي ابن رشيد عليكم ولا نحكم بغير أحكام الشريعة ليصير معلومكم والسلام، 4 صفر سنة 1323 (الإمضاء) وقد أطلع المشير أمراء نجد على ترجمة ما أرسله إلى الأستانة وإلى ولاية البصرة في ذلك وهو كما جاءنا من البلاد العربية. (ترجمة الرسالة البرقية التي أرسلها المشير إلى باشكاتب المابين الهمايوني) بمقتضى تعليمات حضرة خليفة رسول من خصوص أهالي القصيم، قد عفا الله عما سلف منهم وقد أطاعوا وانقادوا لأوامر الدولة العلية، والجميع لازموا الدعوات بزيادة ودوام عمر وشوكة سلطاننا المعظم، فبناء على هذا فالذين كانوا بالبصرة وعزموا إلى إستانبول محمد الشبيلي ومحمد وعبد الله الشعبي قد استرحم أقرباؤهم الذين ساكنين في عنيزة المستظهرين للعفو العمومي أن يشملهم هذا العفو فاعفوا عن الموصى إليهم وأعيدوهم إلى البصرة وبشَّروهم بالعفو كي يوجب المسرورية، وهذا المسترحم منكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الإمضاء) وقد كتب رسائل أخرى إلى والي البصرة وقومندان موقعها العسكري بالعفو عن أهالي القصيم والأمر بإطلاق المحبوسين ومساعدة المتجرين وهذه ترجمتهم لها: ترجمة الرسالة الأولى إلى قومندان البصرة صاحب السعادة حضرة الأفندي من جملة أهالي القصيم آل الشبيلي وسائرهم حيث استفادوا من العفو العمومي فليداوموا على أمور تجارتهم وقضاء مصالحهم، ومن سكنة ولاية البصرة سليمان الشبيلي وأولاده وأعوانه فلا يتعرض لهم بسوء ومن طرفكم أيضًا ابذلوا لهم التأمين ولا تخلون أحدا (أي لا تدعوا أحدا) من أتباع ووكلاء ابن رشيد يتعرضهم بسوء من سبب المادة السابقة ولأجل البيان حرر هذا الأمر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع) ترجمة الرسالة الثانية الشبيلي محمد السليمان بحسب وصول العساكر الشاهانية إلى القصيم أبرز من حسن الخدامة في طرفنا، والده الذي في البصرة ووكلاؤه في دائرة الأصول أجروا في حقهم رعاية مخصوصة وأشغالهم الذي تقع في الحكومة تأمرون بعنايتكم بعنايتكم بترويجها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع) (المنار) هذا ما كتب إلينا من البلاد العربية بنصه وقد سرّنا أن الدولة وفّقها الله أرسلت إلى نجد هذا الرجل الذي سلك مسلك الحكمة وحفظ كرامة الدولة وحقن دماء المسلمين وأنام الفتنة التي كان أيقظها ابن رشيد، وهذا ما كنا أشرنا به وتمنيناه وليتها وفقت لمثل ذلك في اليمن قبل استفحال الفتنة واشتغال نيران الثورة، ولكنها لم ترسل إلى اليمن إلا أهل السلب والنهب المغرورين بقوة الدولة على رعيتها وإن الولد الذي يُربى بالقسوة والعنف لا ينشأ إلا عاقًّا ينتظر الفرصة للانتقام من مربيه، فليت عمال الدولة القساة في سوريا وغيرهم يفهمون هذه القاعدة الطبيعية.

لائحة المساجد وما أنفذ منها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لائحة المساجد وما أنفذ منها واضع هذه اللائحة ومقترح إصلاح المساجد معروف، وهو الأستاذ الإمام، فإنه بعد أن صار عضوًا في مجلس الأوقاف الأعلى، وأشرف على أحوال هذه المصلحة الإسلامية العظيمة رأى أن غلات الأوقاف تزيد عامًا بعد عام وأن مرتبات المستخدمين في هذه المصلحة عظيمة تضاهي نفقات مصالح الحكومة، ورأى من ناحية ثانية أن المساجد التي أوقفت عليها الأوقاف العظيمة مهملة والمستخدمين فيها من الأئمة والخطباء فمَنْ دونهم لا يرضخ لهم إلا بالقليل جزاء على خدمتهم، فمنهم من راتبه خمسون قرشًا في الشهر، ومنهم من يعطى أقل من ذلك والإمام أو الخطيب الذي يرتقي راتبه إلى مئة قرش أو يزيد قليلاً يعد من ذوي الطبقة العليا، ورأى هذا المصلح - أيده الله بروح منه - أن أكثر المستخدمين في المساجد لا يقدرون على أداء وظائفهم على وجهها، وأن استبدال القادرين بالعاجزين متعذر مع قلة الرواتب إذ ينبغي أن يكون الإمام والخطيب من أهل العلم والخادم منقطعًا للخدمة، قادرًا عليها، ولا يكون هذا مع قلة المرتبات. أجال هذا المصلح الغيور قداح الفكر في هذه المسألة فرأى أن السعي في إصلاح حال المساجد يستتبع إصلاحًا آخر وهو خدمة العلم والإعانة عليه بإيجاد مورد جديد لرزق أهل الأزهر يرغِّب الناس في طلب العلم، ذلك أن أول ما يهم الإنسان في هذه الحياة الدنيا أمر رزقه، ويرى الناظر في تقلب الزمان أن الأقوات تغلو في هذا البلد، حتى إن ثمن أكثر الأشياء قد تضاعف في زمن قليل فإذا استمرت هذه الحال في مصر كان المقام فيها عسيرًا على غير الموسرين وقلت الرغبة في طلب العلم بالأزهر، هذا ما بعث المصلح على البحث عن أحوال المساجد والمستخدمين فيها ووضع تلك اللائحة التي اشتهر أمرها، وإنني أثبت ههنا نص لائحته التي وافق المجلس الأعلى على تنفيذها بعد البحث والتعديل ثم أوقفت بأمر الأمير في العام الماضي، ونتبعها بما أخذ منها وصدر الأمر في هذا العام بتنفيذه، وهو: اللائحة الأولى المادة الأولى: إن هذا الترتيب لا يترتب عليه (رفت) أحد من وظيفته إلا بوفاته، أو وقوع أمر يستوجب رفتًا حسب الجاري، كما أنه لا يقتضي الإخلال بشىء من اختصاصاته الحالية. الباب الأول في ترتيب الخدمة: (المادة الثانية) توحد الإمامة في جميع المساجد ما عدا الجامع الأزهر والمساجد التي فيها عدة أماكن يمكن اعتبار كل منها مسجدًا مستقلاًّ، ويجب في هذه الحالة أن يؤدي الصلاة أحد الأئمة بعد الآخر، ولا يجتمع إمامان للصلاة في آن واحد إلا إذا اختلفت الأماكن، بحيث لا يشوش أحدهما على الآخر، ومع ذلك فتعدد الأمكنة لا يستلزم تعدد الأئمة، بل لا يكون ذلك إلا للضرورة. الإمام: هو رئيس المسجد في جميع شؤونه ما عدا المساجد التي فيها دروس منتظمة مثل الأزهر وما يلحق به مما يكون له شيخ خاص يديره من حيث هو مدرسة. (المادة الثالثة) يقوم الإمام بوظيفة الخطبة والمساجد التي تعدد فيها الأئمة، وهي المذكورة في المادة الثانية يقوم بالخطبة أوفر الأئمة راتبًا، فإن تساووا في الراتب قدُم أقدمهم في وظيفة الإمامة. (المادة الرابعة) توحد وظيفة المؤذنين في كل مسجد إلا عند تعدد المآذن فيكون لكل مأذنة مؤذن واحد لجميع الأوقات. (المادة الخامسة) يعين ملاحظ في المساجد التي يُرى لزوم وجود ملاحظ فيها، وهذا الملاحظ يكون رئيس الخدمة وعليه القيام بمراقبتهم في جميع أعمالهم تحت رئاسة إمام المسجد. (المادة السادسة) أعمال الميقاتية تضاف إلى المؤذنين. (المادة السابعة) يضاف عمل المبلغين إلى المؤذنين وفي مساجد القسم الرابع التي لا منارة فيها تكون قراءة السورة على المؤذن. (المادة الثامنة) العمل الذي يؤديه الآن المرقي والمستقبل يعوض بما يعبر عنه شرعًا بالأذان الثاني ويحول على المؤذنين. (المادة التاسعة) تالي القرآن في المسجد يعطى ما يرتب له على سبيل الصلة. (المادة العاشرة) ملاحظو المساجد هم أمنة عهدتها ويستثنى من ذلك بعض المساجد التي لها خَزَنَة مخصوصون في جدول الترتيب، ويدخل في وظائف الملاحظين ما كان للنقيب. (المادة الحادية عشرة) يدخل تحت لفظ الخدمة أرباب الوظائف الآتية ولا يقيدون بتسمية: الفراشون، والوقادون، والملاءون، والسقاءون، البوابون، والسعَاة، وخَدَمَة الأسْبِلة في المساجد وما أشبه ذلك. (المادة الثانية عشرة) الوظائف الآتية لا علاقة لها بترتيب الخدمة وليس النظر فيها من عمل المجلس الآن: خدمة الأسبلة المستقلة عن المساجد والفقهاء والدلايلية، والساعاتية، ومتعهدو السواقي، وخفراء القبور، والترَبِيَّة، والخدمة المختصون بالأضرحة من جهة كونها أضرحة بأنواعهم، وشيخ الليثية، وقراء الربعة، وكتبة النذور. (المادة الثالثة عشر) وظيفة المبخر (البخورجي) تكون من أعمال أحد الخدمة والمبالغ المرتبة لها تكون من ضمن مرتبه. (المادة الرابعة عشر) وظيفة الداعي (الدعجي) لا تكون مستقلة وإنما تضاف إلى عمل أحد موظفي المسجد ومرتبها يحسب من مرتبه. الباب الثاني في المرتبات: (المادة الخامسة عشرة) أئمة الجوامع بجميع أنحاء القطر يجعلون أربع درجات:الأولى بثمانية جنيهات، الثانية بخمسة، الثالثة بأربعة، والرابعة بثلاثة. الملاحظون يكونون بجنيهين، الخزنة يكونون بجنيهين. المؤذنون ينقسمون إلى أربع درجات: الأولى: 150قرشًا لمصر والإسكندرية، والثانية 125قرشًا لعواصم المديريات ومحافظات بورسعيد ودمياط والسويس، والثالثة 100 قرش لعواصم المراكز والبلاد التي عدد سكانها عشرة آلاف نسمة فما فوق، وإن لم تكن عواصم مراكز، والرابعة 75 قرشًا لبقية القرى. سائر الخدمة يكونون كالمؤذنين ما عدا المستثنين مثل خدمة الجامع الأزهر ونحوه. قراء القرآن في الجوامع يكونون أربع درجات: الأولى 50 قرشًا، والثانية 40 قرشًا، والثالثة 30 قرشًا، والرابعة 20 قرشًا على حسب درجات الجوامع. الباب الثالث في شروط التوظيف: (المادة السادسة عشرة) الإمام يشترط فيه أن يكون عالمًا حائزًا لشهادة العالمية فإن لم يوجد مرشح حائز لشهادة العالمية يكتفي بشهادة الأهليلة فإن لم يوجد أيضًا مرشح حائز لشهادة الأهلية ينتخب اللائق بالامتحان على حسب القواعد المتبعة الآن. (المادة السابعة عشرة) الملاحظون يشترط فيهم أن يكونوا أقوياء البنية ويفضل أولاً من يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن ثم من يقرأ ويكتب فقط. (المادة الثامنة عشرة) الخازن يشترط فيه أن يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب. (المادة التاسعة عشرة) المؤذنون يشترط فيهم مثل الملاحظين، ولا يمنع فَقْد البصر من التوظيف بوظيفة المؤذنين. (المادة العشرون) يشترط في الخَدَمة أن يكونوا سليمي البنية وأوجه التفصيل تسري عليهم، وهي المذكورة في الملاحظين. أحكام عمومية: (المادة الحادية والعشرون) عدد الموظفين ومرتباتهم في كل مسجد يكون على حسب الجدول الذي قرره المجلس وأرفق بهذا. (المادة الثانية والعشرون) إذا وجد في شروط الواقفين زيادة في عدد الموظفين عما هو وارد في الجدول فيعطى للزائد ما هو مقرر له بشرط الواقف فقط، كذلك إذا وجد في شروط الواقفين زيادة في مرتب أية وظيفة عما هو وارد في الجدول فتعطى الزيادة بحسب شرط الواقف. باب توزيع العلاوات: (المادة الثالثة والعشرون) يلاحظ في إعطاء العلاوات على حسب الترتيب الجديد في كل مسجد أن لا يتجاوز مجموعها مع ما هو جار صرفه الآن مجموع ما يخصه على حسب هذا الترتيب: يبدأ في التوزيع لكل وظيفة على الوجه الآتي: أولاً: الأئمة الحائزون لدرجة العالمية أو الشهادة الأهلية أو الذين يحصلون على إحدى هاتين الشهادتين بعد الآن. ثانيًا: من يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن من الملاحظين والمؤذنين والخدمة ثم من يقرأ ويكتب فقط منهم. ثالثًا: الخازن الذي يعرف القراءة والكتابة ومبادئ الحساب. وحيث إن مبلغ الأحد عشر ألف جنيه لم يكن مقررًا فقط لمساجد القاهرة، بل لمساجد عموم القطر فيشترط أن لا يزيد مجموع هذه العلاوات هذه السنة في مدينة القاهرة عن سبعة آلاف جنيه فإن زاد يقطع من كل وظيفة بنسبة الناقص. إذا بقي شيء من مبلغ سبعة الآلاف جنيه بعد التوزيع على الوجه المشروع فيما سبق فهذا الباقي يوزع على من يتلوهم ممن هم حائزون لشروط هذا الترتيب. ومع ذلك إذا خلت في مسجد وظيفة زائدة عن المقرر في هذا الترتيب يوزع مرتبها لتكملة مرتبات موظفي ذلك المسجد الذي تنطبق عليهم قواعد هذا الترتيب من جهة العدد المرتب وشروط التوظف. (المنار) قد تركنا الجدول الملحق بهذه اللائحة لبيان المستخدمين والمرتبات لهم على حسب الترتيب الجديد؛ لأنه لم يعمل به، وإنما العمل بالجدول الملحق بالمذكرة الآتية المبنية على اللائحة الأولى، ولكنها دونها في الفائدة والإصلاح، وهي: مذكرة مرفوعة إلى مجلس الأوقاف الأعلى يعلم حضرات أعضاء المجلس حالة خدمة المساجد وفقرهم وقلة المرتبات المقررة لهم مقابل خدمة هذه المحلات الطاهرة، وقد ترتب على اهتمام الديوان بشدة المراقبة في نظافة المساجد، وترتيب إنارتها وأدواتها أن صار أولئك الخدمة مسئولين عن أعمال كثيرة ربما كانت سببًا للتضيق عليهم في السعي في الكسب والارتزاق من الخارج، وقد كثرت شكاويهم لجانب المعية السنية وللديوان وعلى لسان الجرائد المحلية من عدم كفاية مرتباتهم خصوصًا مع غلاء الأسعار في الوقت الحاضر والتمسوا زيادتها لمساعدتهم في معايشهم وبالبحث في مرتبات هؤلاء الخدمة تبين أنه عددهم في مساجد مصر وبولاق بلغ 1627 منهم 1360 رواتبهم تنحصر بين الخمسين والخمسة وسبعين قرشًا فأقل، وهذه (مَاهِيَّة) لا تنفع فردًا واحدًا في أمور معيشته، فكيف بهم وهم ذوو عائلات. وحيث إن ميزانية الديوان وارد فيها مبلغ إحدى عشر ألف جنيه لزيادة ماهيات خدمة المساجد ومخصص منه مبلغ سبة آلاف جنيه لتوزيعه على مساجد مصر على الطريقة المذكورة في قرار المجلس الصادر بتاريخ 8 فبراير سنة 1904م عن ترتيب المساجد. وحيث إن هذا الترتيب صدر لنا أمر عال بتاريه 31 مايو 1904 بإيقاف تنفيذه لحينما ينظر فيه بطرف جناب ولي النعم الأفخم. وحيث إن ترك هؤلاء الخدمة بتلك المرتبات القليلة وهم يصيحون ويستغيثون مما لا يليق بمصلحة خيرية تجود بالكثير من أموالها في وجوه البر والخير وعلى الفقراء والمساكين وأجدر بها أن تفيض بشيء على من يقيمون شعائر الدين ويقومون بخدمة تلك المحالّ الطاهرة. فبناء على ذلك رأينا أن نضع مشروعًا لعلاوة تلك المرتبات، حتى إذا وافق عليه المجلس أنفذ وارتفع الضرر نوعًا عن أولئك المساكين وها هو: الأئمة والخطباء: حيث إن الأئمة والخطباء بالمساجد تختلف حالتهم بعضهم عن بعض فقد رؤي تقييم مرتباتهم إلى ثلاث درجات: الأولى: الأئمة والخطباء الحائزون لدرجة العالمية وماهية كل منهم أقل من جنيهين ونصف شهريًّا تكمل إلى هذا القدر بشرط أن الموجود منهم ولم يكن مكلفًا بإعطاء دروس لتعليم العوام يكلف به مثل غيره لانتفاع العامة بالأمور الدينية. الثانية: الأئمة والخطباء الحائزون لشهادة الأهلية وماهية كل منهم أقل من جنيه وخمسمائة مليم شهريًّا تكمل إلى هذا القدر بالشرط المتقدم ذكره. الثالثة: الأئمة والخطباء الغير الحائزين لدرجة العالمية ولا لشهادة الأهلية وماهية كل منهم أقل من جنيه واحد ش

محاربة الوهم للعلم أو تأثير السعاية في الدولة العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاربة الوهم للعلم أو تأثير السعاية في الدولة العثمانية زار القطر المصري في ربيع هذا العام الحاج محيي الدين بك حمادة فنزل ضيفًا عند صهره الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، ثم عند ابن أخيه خليل باشا حمادة في الإسكندرية، وكان الغرض من هذه الزيارة صلة الرحم والاستراحة من عناء العمل، ولما علم بقرب عودته إلى بيروت السعاة المحّالون الذين يطلق عليهم لفظ (الجواسيس) في عرف هذا العصر كتبوا إلى (المابين الهمايوني) يَشُون به، وقد شاع أن مما كتبوه أن هذا الرجل الجليل البعيد عن السياسة بجميع معانيها يحمل فتوى من صهره بوجوب خلع السلطان، ويحمل كتبًا ضارة يريد توزيعها في سوريا وقد بلغنا أنه كتب من (المابين) إلى أمير مصر سؤال عن الحاج محيي الدين وأين نزل وماذا يفعل؟ وأن الأمير ذكر ذلك لخليل باشا حمادة وأخبره بأنه أجاب (المابين) أحسن جواب وأثنى على الحاج محي الدين ولكن ذلك لم يغن شيئًا. ولما عاد الحاج محيي الدين إلى بيروت، وكان ذلك بعد سفر الأمير إلى الآستانة قبض عليه عند نزوله إلى البلد وأخذ إلى دار الحكومة وفتشت أمتعته وجميع ما يحمله فلم يروا فيها شيئًا يثير عليه شبه السياسة إلا تفسير جزء (عم يتساءلون) وأسماء جماعة من فقراء بيروت بإزائها أرقام. فأما التفسير فقد أرسل إلى لجنة التفتيش بديوان المعارف فقرئ فقيل: إن فيه عبارة ضارة وهي تفسير لفظ الزبانية في سورة (العلق) بالشرط وأعوان الولاة، على أن هذا التفسير يوجد في جميع كتب اللغة وكتب التفسير، فلا يبعد أن يمنع دخولها إلى الممالك المحروسة إذا دامت الحال على ما هي عليه الآن، وأما أسماء الفقراء وما جمع باسمهم من الصدقات فلعل الحكومة المظفرة المنصورة ظنت أن الغرض منها تأليف حزب للقيام بعمل سياسي ثم علمت أن الحاج محيي الدين رجل معروف بالبر وعمل الخير يصمد إليه الفقراء والمعوزون المتعففون وأن ثروته لا تفي بإسعاف كل من يقصد إليه فاغتنم فرصة وجوده في قطر إسلامي غني للاستعانة بكرام أهله على ما يطلب منه لا سيما لعيال بعض العساكر الذين يخشى أن يلجئهم العوز إلى الثورة فعمله هذا خدمة جليلة لدولته ولوطنه. على أنه لولا تداخل سفارة إنكلترا في الآستانة في أمر هذا الرجل لظل ضيف الحكومة العادلة ولكنه أفرج عنه بأمر السلطان. الحاج محيي الدين حمادة رجل وجيه عند جميع طبقات الناس من جميع الملل في بيروت وغيرها، ومحترم عند الحكومة ومشهور بالاستقامة والتقوى والإخلاص للدولة وقد ناهز الثمانين أو زاد عليها ولم يزن بريبة سياسية ولا غير سياسية، فسماع حكومة الآستانة لقول مفسد دنيء فيه، ومعاملتها إياه بمثل تلك المعاملة قد نفخ الرعب في قلوب أهل ولاية بيروت من الرجا إلى الرجا؛ لأن سماع الوشاية في مثل هذا الرجل ممن لا قيمة لهم يقتضي أن يسمع مثلها في كل أحد وما من أحد إلا وله عدو أو أعداء لا يأمن أن ينتقموا منه بورقة يكتبونها. وإذا كان القبض على الحاج محي الدين حمادة قد أظهر فضله وشرفه باهتمام الناس بأمره وإقبال وجهاء جميع الطوائف على زيارته وتداخل سفارة إنكلترا بطلب الإفراج عنه فغيره لا يرجو مثل هذه العناية والحفاوة، وما كل الناس كأهل بيروت في الجرأة والإقدام. حمل هذا الرعب بعض أهل الحذر في بيروت وطرابلس وصيدا وغيرها من البلاد على إخفاء كتبهم أو على إحراقها بالنار وما عتم أن ظهر أن الحذر كان غيدرًا (الغيدار هو من يظن سواءً فيصيب) فإن الوشايات كثرت وأنشأت الحكومة تدمرعلى بيوت الناس (دمر دخل بدون استئذان) وتأخذ جميع ما فيها من الكتب والأوراق إلى دار العدل والإنصاف وتقبض على من وقعت عليه الشبهة من أهلها وتحبسه؛ لترى ما يستحق من العقوبة على اقتناء الكتب التي تسميها ضارة أو ممنوعة، ومن يعرف ما يسمونه ضارًّا أو ممنوعًا ومعرفته متوقفة على تعريفهم به، وإعلانه للناس وهم يسرونه ويكتمونه إلا عند العقوبة. بدءوا في طرابلس الشام ببيت الشيخ عبد الرحمن الكمالي فدمروا عليه في داره وأخذوا كتبه وأوراقه وقبضوا على ولد له من طلاب العلم وحبسوه في دار الحكومة وفعلوا هذا بآخرين. وكان من مثار الريب بل دلائل سوء القصد عند هذه الحكومة أن وجدت في الكتب نسختين من صحيح البخاري فاستنبط من ذلك أن صاحب الكتب قد أخذ على نفسه أن يوزع نسخ البخاري على الناس وذلك لا يكون إلا بقصد سيئ يضر بالسياسة ويخشى منه الخطر على حكومة العدل والعلم والدين. ووجدوا قصيدة في مدح رجل يسمى منصورًا فسئل من عنده القصيدة عن منصور الممدوح أين هو؟ فقال: في جبل لبنان، قيل: كذبت، بل أنت تعني أميرًا في مصر. وقد أرسلت حكومة طرابلس وكيل المدعي العمومي (رئيس النيابة) والمستنطق وبعض شرطتها إلى القلمون فدخلوا دارنا وأخذوا ما فيها من الكتب والأوراق وقبضوا على شقيقنا السيد إبراهيم أدهم فأودعوه مع الكتب في دار الحكومة مهد العدل والأمن، وإننا ننتظر ما يكون بعد ذلك من حسن معاملتها لآل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ودخلوا دار علي كسن من القلمون؛ لأن له ولدًا مجاورًا في الأزهر، ولا أدري ماذا وجدوا فيها ولعلهم لم يجدوا شيئًا، وقد وقع مثل ذلك في بيروت حتى أن حكومتها فتشت مطبعة الإقبال ومكتبة الإنسي وأخذت ما فيهما من الكتب للبحث فيها. لعل من يعتقد أن آفة السلطة المطلقة العلم، يظن أن خوف الناس ورعبهم من الكتب وتوقعهم العقاب الشديد على اقتنائها آية نجاح هذه السلطة، وقد يكون هذا الظن ضد الحقيقة فإن مقاومة العلم وإهانة أهله ربما كانتا سببًا في إيقاظ الأذهان النائمة وإشهاد الأبصار المغضية ما لم تكن تشاهده من مضرات هذه الحكومة بل قد تكون سببًا لإحفاظ قلوب جميع طبقات الأمة على هذه الحكومة، ومتى حقدت الأمة فلا يلبث مرجل حقدها أن ينفجر بحوادث الزمان مهما كانت صاغرة مستسلمة وجاهلة بطرق تغيير الحكومات وقلب الدول. فإن لم تكن لدى حكومتنا عبرة بالأمة الروسية التي يكاد تعظيمها للقيصر يكون عبادة حقيقية فلتعتبر بالأمة المصرية -التي هي أشد الأمم استسلامًا للحكام- كيف ثارت في وجه توفيق باشا الذي كان ألين أمراء هذا البيت عريكة وأبعدهم عن القسوة والطغيان. إننا نعلم علم اليقين أن أهل سوريا لا يتفكرون في مسألة الجنسية المشئومة ولا يخطر على بالهم أن يسعوا للاستقلال ويجعلوا حكامهم منهم وأبعد من هذا عن أذهانهم التفكر في الاتصال بسائر البلاد العربية على أن يكونوا جزءًا من مملكة عربية مستقلة وإنما أقصى أمانيهم أن تكون حكومتهم العثمانية عادلة معينة لهم على العلم والترقي، ولكن لا يوجد أحد من البشر يضطهد على فكره واعتقاده ويسلب الأمن فلا يدري متى يهجم عليه في بيته ويروع به أهله وعياله، ثم يكون راضيًا من المضطهِدين لا يحب زلزالهم ولا يتمنى زوالهم ولا يسعى في ذلك متى وجد طريقًا للسعي. إن هذا الهجوم على البيوت ومؤاخذة الناس على ذنوب لم تكن ذنوبًا إلا باختراع مخيلات الظالمين ككون الرجل يملك من الكتاب الفلاني نسختين وكونه يقتني الكتاب الفلاني، وأن سماع الحكام لأقوال الجواسيس والسعاة في مثل ذلك، كل ذلك يعد من سوالب الأمن، فكل أحد يتوقع في كل ساعة من ليل أو نهار أن يفاجأ بما فوجئ به سواه. ارفقوا أيها الحكام المسلطون بهؤلاء الضعفاء الذين مكنكم من ظلمهم تفرّقهم وما فرقهم إلا عدم وجود ألم شديد عام يجمعهم، فربما كان ظلمكم إياهم هو الجامع لكلمتهم عليكم. ارحموا فإن الرحمة خير لكم على كل حال، وقد تكون القسوة نافعة لهم ضارة بكم ولو بعد حين. لا تعلموا الناس ما لم يكونوا يعلمون ولا تذكروهم بما لم يكونوا يذكرون، واتقوا الله إن كنتم به تؤمنون.

حذر حكومة مدينة حلب من الثورة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حذر حكومة مدينة حلب من الثورة من أخبار حلب أن الحكومة السَّنية أرسلت شرذمة من زبانيتها ليلاً إلى سوق الباذستان، وهي التي تباع فيها العاديات والأمتعة المستعملة، وفيه كثير من الأسلحة العتيقة، فأحاط الزبانية بمائة دكان، وأرسلوا إلى أصحابها فحضر بعضهم وفتحوا لهم دكاكينهم فأخذوا ما فيها من السلاح، ومن لم يحضر كسروا دكانه وأخذوا ما فيها فاعتقد الناس أن الحكومة خائفة وجلة من رعيتها تحذر أن يقتدوا بالروسيين فيقوموا عليها طالبين تغيير شكل الحكومة المطلقة وإقامة العدل وإباحة العلم وإطلاق الحرية للناس، ولولا هذا العمل لم يكن يخطر ببال أحد شيء من ذلك. ونحن نعتقد أن هذه الأعمال سيندم عليها فاعلوها؛ إذ تأتي بضد ما أرادوا منها وسيظهر لهم ذلك إذا استمروا عليها، وإننا نود من صميم قلوبنا أن تترك دولتنا محاربة رعيتها وتنزع من ذهنها وساوس الجرائد الإفرنجية التي تخدعها بإيهامها أن البلاد مستعدة للخروج عليها لتصرفها بذلك عن اغتنام فرصة انكسار روسيا واشتغال أوربا بالمنازعات لإصلاح بلادها. وقد نصحنا للدولة مثل هذه النصيحة في فتنة نجد فظهر صدق قولنا، وتبين بعد الحرب والخصام أن اللين في المعاملة هو الذي يأتي بالخير ويجمع الكلمة والله الموفق.

الجمعية الخيرية الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجمعية الخيرية الإسلامية تنشر هذه الجمعية في كل عام تقريرًا تلخص فيه أعمال مجلس إدارتها في السنة الماضية، وتذكر فيه ميزانيتها ومشروعاتها للسنة القابلة بعد أن تعرض ذلك على الجمعية العمومية التي تجتمع في شهر المحرم، وقد حضرنا الاجتماع في هذا العام ثم أرسل إلينا التقرير بعد طبعه فأرجأنا الكلام فيه إلى الآن. علم من التقرير أن عدد تلامذة مدارس الجمعية في مصر والإسكندرية وطنطا وبني مزار وأسيوط والمحلة وبور سعيد 766 تلميذًا منهم 469 يتعلمون على نفقة الجمعية و 297 تلميذًا يتعلمون على نفقة أنفسهم. وقد بلغ ما أنفقته الجمعية على مدارسها في السنة الماضية 4639 جنيهًا وكسور الجنيه، وبلغ ما أخذته من الأجرة على التعليم فيها 842 جنيها ونصف تقريبًا. وقد بلغ ما حَصَّلته الجمعية من الاشتراكات السنوية في السنة الماضية 1353 جنيهًا؛ لأن المشتركين قد زادوا 80 عضوًا والمساعدين زادوا 20 عضوًا فصار عدد الأعضاء 518 شخصًا والمساعدين 100 وقيمة اشتراكهم السنوي يبلغ 1836، ولكن منهم من يشترك ويمطل في الدفع، ومنهم من لا يدفع ما يفرضه على نفسه حتى تيأس الجمعية منه ويأمر الرئيس بمحو اسمه، ولو اتكلت هذه الجمعية على كرم أغنياء البلاد ومروءتهم لسقطت منذ سنين كما سقط غيرها من الجمعيات الأدبية والخيرية التي أُسست في هذه البلاد قبلها وبعد تأسيسها، ولكن مؤسسيها الحكماء قد عرفوا أخلاق أهل بلادهم ودرجة سخاء أغنياهم وثبات أهل بلادهم فوضعوا في قانون الجمعية مادة لولاها لم تقم للجمعية قائمة وهي أن نصف الإيراد يجعل للاستغلال والنصف الآخر يصرف على التعليم وإعانة الفقراء، فانظر كيف صارت على قلة المشتركين فيها تنفق على التعليم وحده أضعاف ما يأتي من الاشتراك ببركة تلك المادة. وقد يتعجب الغريب إذا علم أن الجمعية الخيرية الإسلامية الوحيدة في أغنى الأقطار الإسلامية لم يشترك فيها من نحو عشرة آلاف ألف مسلم إلا 518 وأن أعظم مبلغ دخل في خزينتها من هؤلاء المشتركين في السنة الماضية لم يزد عن ربع نفقات الجمعية على التعليم إلا قليلاً، ولكن المصريين الفضلاء العقلاء يرون أن هذه خطوة كبيرة بالنسبة لضعف الأخلاق في بلادهم وأنه لولا عناية الشيخ محمد عبده ونفوذه الديني والأدبي ومساعدة أعضاء الجمعية الوجهاء له لما وصلت الجمعية إلى عشر هذا القدر بأريحية أغنياء القطر وشعورهم الملي والاجتماعي. فأهل مصر لا يعوزهم إلا الأخلاق كالكرم الحقيقي والثبات والعزيمة، فإذا كثر فيهم أصحاب هذه الأخلاق فانهم ينهضون بذكائهم وثروتهم في زمن قريب. أما ما أنفقته الجمعية في سنة 1322هـ على الفقراء فنحو 430 جنيهًا، والناتج لقسم إعانة الفقراء من صافي الإيرادات العمومية بلغ خمس مائة جنيه وثلاثة جنيهات تقريبًا. ومعظم إيراد الجمعية من أطيانها ومن الاحتفال السنوي في حديقة الأزبكية، وقد بلغ ما وصل إلى الصندوق من هذا الاحتفال في العام الماضي 1557 جنيهًا. ولو كان أصحاب الجرائد وأهل الغيرة على الأمة والبلاد يقومون بالدعوة إلى هذه الجمعية على وجهها لكثر المشتركون والمساعدون والمتبرعون، ولقدرت الجمعية بذلك على أن تخدم البلاد خدمة لا ترجى من سواها بمال أكثر من مالها؛ لأن رئيسها ووكيلها والعاملين من أعضاء إدارتها هم خيرة من أنبتت أرض مصر في هذا العصر وهم يخدمون الجمعية بقدرة وهمة وإخلاص بأموالهم وأنفسهم، فعسى أن يوفق الله من أراد به الخير إلى هذه الدعوة الصالحة.

الوفدان الفرنسي والألماني في بلاد العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوفدان الفرنسي والألماني في بلاد العرب ذكرنا في الجزء الماضي خبر هذين الوفدين كما أخبرنا بعض العربان النجديين في مصر، ثم إن المخبر أحفى واستقصى فعلم أنه لا وفد إلا الوفد الفرنسي، وأن أعوانه كانوا يشترون المصاحف والكتب باسم وفد ألماني تورية أو تعمية، وأن وجهة الوفد نجد من طريق العقبة، وأنه قد سمع أن الحكومة العثمانية قد علمت بالوفد فانتظرت ريثما دخل في حدود بلادها فردته على أعقابه، وإننا ننتظر التفصيل في ذلك ولعلنا نقف عليه بعد أيام.

جمعية العروة الوثقى الخيرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية العروة الوثقى الخيرية أسست هذه الجمعية لأجل نشر التعليم في الإسكندرية فنجحت بهمة أعضائها الكرام من وجهاء الثغر الإسكندري حتى صار لها خمس عشرة مدرسة: تسع منها للذكور عدد تلاميذها 1578، وست للبنات عدد تلميذاتها 549، وكان عدد المجموع في السنة الدراسية الماضية 1575 منهم 911 يتعلمون بأجرة و 664 بغير أجرة، والمجموع في هذه السنة 2127 منهم 1126 بأجرة و 1001 بلا أجرة، فنرجو لهذه الجمعية مزيد من النجاح ولعلنا نعود إلى ذكرها في فرصة أخرى.

المسلمون والقبط أو آية الموت وآية الحياة

الكاتب: مسلم غيور

_ المسلمون والقبط [*] أو آية الموت وآية الحياة قرأنا في جريدة الوطن القبطية مقالة عنوانها (التعليم الديني والحكومة) بحث فيها كاتبها في مشروع الحكومة الجديد من إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية بحثًا قال فيه: إن الحكومة المصرية رأت أن هؤلاء الحفاظ كثروا في هذه الديار كما كثر الرهبان والشمامسة والقسيسون في كل بلاد نصرانية تعامل خَدَمة الدين معاملة الحكومة المصرية لهم فأرادت حكومة مصر أن تخص هذا الإعفاء بمن يستحقه، أي وهو من يتعلم من مبادئ القراءة والكتابة ما يمكنه من خدمة الدين بتعليم القرآن الكريم وغيره مما يتعلمه الأولاد في المكاتب لا من يدعون أنهم يخدمون الدين والعلم وهم أبعد الناس عن ذلك. قال الكاتب: (وظاهر من هذا أن الحكومة المصرية أرادت أن تعلي قدر الدين الإسلامي بما نوت من الإصلاح؛ لأنها رأت أن الإعفاء بلا تدقيق ولا حساب يجعل الدين سلاحًا يتسلح به كل طالب للتخلص من الخدمة المفروضة على كل وطني فالذين يتذرعون بهذه الذريعة ويجعلون أنفسهم من الفقهاء حبًّا في الخداع والتخلص من خدمة الوطن وليس حبًّا بالعلم والدين، إنما يؤدي فعلهم إلى إسقاط حرمة الدين بين الناس) إلى أن قال: (فحكومة مصر قصدت خدمة الدين بتنقية صفوفه من الذين لا يصلحون لخدمته والاشتهار بين الناس باسمه وبإعادته إلى مجده الأول حين كان العلماء والفقهاء (هم) الذين توفرت فيهم شروط العلم والفقه، وليس الذين هربوا من واجب وطني وجعلوا الدين حيلة وواسطة للفرار منه) . جعل الكاتب القبطي الغيور على ملته وقومه هذا الكلام مقدمة وتمهيدًا لمطالبة الحكومة بأن تعامل خَدمة الدين من القبط كما تريد أن تعامل خَدمة الدين من المسلمين بأن تشترط في إعفاء الشمامسة والعرفاء وغيرهم من خَدمة الكنيسة، أو الدير من القرعة العسكرية أن يكونوا متعلمين من مبادئ القراءة والكتابة ما يجعلهم محترمين في أعين المتعلمين، ويمكنهم من إحسان خدمة الدين. وقال: (إذا كانت الحكومة تشترط عليهم مثل الذي تريد أن تشترطه على الفقهاء (أي: الحفاظ) فإنها تحسن إلى الأمة القبطية أكبر إحسان وترقي في درجة الذين يخدمون دين النصرانية بين رعاياها وهي تخطو خطوة كبرى في سبيل الإصلاح المطلوب للبطركخانات) ثم أطال في بيان أعمال هؤلاء في خدمة ملتهم، وقال: (إن الأمة القبطية كلها ألسنة صارخة بمطالبة الحكومة بهذا الإصلاح) . قرأت هذه المقالة فكان يتمثل لي عند كل جملة منها ما كتب في (المؤيد) من المقالات الطويلة العريضة والنبذ الموجزة في أخباره المحلية الصارخة بالتألم والشكوى من مشروع الحكومة: إنه إهانة للدين والقرآن، وتحقير لخَدمة الإسلام، وإنزال لهم عن مرتبة خَدمة النصرانية في الاحترام، إذ لا تشترط الحكومة في إعفاء القساوس والرهبان والشمامسة ونحوهم معرفة بالقراءة والكتابة ولا بمبادئ الحساب ولا بإتقان ما يقرءون من كتب الدين، وتمثل لي بالمقابلة بين ما تشكو منه الجريدتان الفرق بين آيات الموت وآيات الحياة، الجريدة الإسلامية تشكو من العلم وتعده إهانة لدينها وهضمًا لحقوق حملة كتابه، وذلك أظهر آيات موت الأمم إن كانت الأمة على رأي المؤيد أو راضية بقوله وقول من شايعوه على ذلك. والجريدة القبطية تشكو من الجهد وتعد إقرار خدمة دينها عليه إهانة لهم وتقصيرًا من الحكومة في مساواتهم بالمسلمين في العناية بدينهم وإعانتهم على إصلاح قومهم وذلك أظهر آيات الحياة والطائفة القبطية على رأيها لا محالة. عجبًا للمؤيد يذكر كل سنة في الكلام على نتيجة الامتحان في المدارس سبق القبط للمسلمين في التعلم؛ إذ المشتغلون والناجحون من الأولين أكثر منهم في الآخرين ويظهر التبرم والشكوى من ذلك فما باله قام يحارب العلم والتعليم في مشروع حفظ القرآن ومشروع الكتاتيب؟ إن كان لا يعرف فضيلة العلم لذاته قل أو كثر، بل يعرفه بميل القائمين بأمر البلاد أو عدمه فيذم ما رغبوا فيه ويمدح ما رغبوا عنه فليسكت عن الشكوى من قلة المتعلمين من المسلمين؛ لأن جناب اللورد كرومر الذي بيده أزمّة البلاد يشكو من ذلك في تقاريره كل عام. إن رغبة القبط فيما يزعم المؤيد أن المسلمين يرغبون عنه، وبكاء الجريدة القبطية على ما تبكي منه الجريدة الإسلامية هو أدل على الفرق البعيد بين الفريقين من كثرة عدد المتعلمين في أحدهما وقلته في الآخر؛ لأن الرغبة عن العلم والبكاء منه أدل على موت الأمة من ترك الكثيرين له؛ إذ يجوز أن يكون الترك لعذر غير الكراهة والتنوُّر [1] . كذلك الرغبة في العلم وطلبه والبكاء من فقده أدل على الحياة من مجرد القيام به من أفراد كثيرة) ... إلخ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مسلم غيور) (المنار) إننا لم نقرأ كل ما نشره المؤيد في هذه المسألة ولكننا قرأنا بعضه فلم نره صوابًا، وفي هذه المقالة حدة في الإنحاء عليه قد استثقلناها فحذفناها ومقصودنا بالذات المقابلة بين المسلمين والقبط في هذا الأمر لا سيما بعد أن مضى زمن على ما نشرته جريدة الوطن القبطية؛ فلم نر من القبط من انتقده وما حذفناه ليس منه، وقد بينا رأينا في المسألة معززًا بالدلائل والبراهين.

الدين في نظر العقل الصحيح - 1

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الدين في نظر العقل الصحيح محمد توفيق صدقي (1) قرأت في إحدى المجلات العربية مقالة بقلم أحد طلبة المدارس العالية، ذكر فيها شيئًا من المذهب المادي في مصير الإنسان وأصله، وتبجح بأن هذا هو معتقده وأن لا حق بعد ذلك، ولما كانت هذه الأفكار وأمثالها مما يخالج قلوب شبابنا اليوم؛ حتى صار جمهورهم لا يعبأ بعقائد الدين، ويظن أنها ضرب من أساطير الأولين لا حاجة لعصرنا الحاضر بها تحركت نفسي لكتابة شيء في هذا الموضوع بعد عمل الفكر وإحالة النظر في أطرافه، وجعلت اعتمادي فيما أقول على البراهين العقلية الصحيحة التي تنتهي إلى البديهيات بحيث لا تجد فرقًا بينها وبين البراهين الرياضية؛ لتكون أعظم مؤثر في قلوبهم، وليعلموا أن الدين في حججه يفوق المادية في نظرياتها وأوهامها. ولإيفاء المقام حقه رأيت أن أبدأ بذكر حكم العقل في المادة من جهة تركيبها، وتحليلها، وأصلها من حيث الحدوث والقدم، ثم أنتقل إلى براهين وجود الخالق وما يليق به من الصفات، ثم أتكلم عن الروح والبعث، وأختم كلامي بأدلة النبوة عمومًا، والمحمدية خصوصًا، وبذلك يتم الاعتقاد الإسلامي، ويكون الإنسان مؤمنًا بالله واليوم الآخر والنبوة وما أتت به. المادة وتركيبها: الأجسام التي نراها شاغلة حيزًا من الفراغ تقبل القسمة إلى أجزاء أصغر منها وكل جزء يقبل القسمة إلى ما هو أصغر منه، وهكذا فإذا استرسل العقل في القسمة، فإما أن يقف عند حد أو لا يقف، فإن لم يقف كان ذلك قولاً بأن كل جسم أخذناه بيدنا وحصرناه بين أصابعنا مركب من أجزاء لا نهاية لها وهذه الأجزاء مهما صغرت فلا يمكن أن تحصر لعدم تناهيها. لكن هي محصورة بالحس؛ إذًا هذا الفرض باطل. بقي القول بأن العقل لا بد أن يقف عند حد في القسمة، فهذا الحد إما أن يكون له امتداد أو ليس له امتداد، فإن كان له امتداد فالعقل يتصور قبوله للقسمة ونرجع إلى ما قلناه في الشق الأول: إذا لم يبق إلا القول بأنه لا امتداد له. وإذا ثبت هذا علمت أن جميع الأجسام مركبة من أجزاء لا امتداد لها مطلقًا ولكن لها وضع معين فهي مثل النقط الهندسية، وإنما تمتاز عنها في أنها أشياء وجودية لا وهمية. هذه الأجزاء هي ما نسميه بالجواهر الفردة ويسمي حملتها الماديون (بالمادة) أو (الأثير) وقالوا: إن اجتماع بعضها ببعض على أوضاع مختلفة وبأعداد مختلفة قد نشأت عنه العناصر الأصلية، فيجوز أن تكون كل ذرة من الأوكسيجين مركبة من جوهرين مثلا والذرة من عنصر آخر مركبة من ثلاثة أو أربعة وباتحاد العناصر المختلفة بعضها ببعض تكونت المركبات، وسواء صحت هذه النظريات أو لم تصح فالشيء الذي لا شك فيه هو وجود الجوهر الفرد وأنه الجزء الذي لا يتجزأ ومنه تركبت الموجودات. حدوث المادة: قلنا: إن الجوهر الفرد هو ما ليس له امتداد، وله وضع معين وهو شيء وُجودي كل ما كان له وضع معين فالعقل يتصور جواز انتقاله من موضع إلى آخر وهذا الانتقال هو الحركة، فلو فرضنا أن الجوهر الفرد قديم لتصور العقل إمكان تحركه من مكان إلى آخر، ولو أمكن ذلك لأمكن وجود حركات في الأزل لا أول لها وهذا محال؛ لأنه يستلزم جواز تحرك الجوهر حركات لا عدد لها قبل كل حركة، وكونها لا عدد لها يستلزم أنها لا تحصر، ولا تدخل تحت عد وإتيان الجوهر الفرد بها يدل على أنه يمكن عدها وعد ما لا يعد تناقض بديهي البطلان؛ إذا ثبت أن الجوهر لا يجوز أن يتحرك في الأزل، لكن جواز تحركه من لوازم ذاته بحيث لا يتصور وجوده بدون ذلك الجواز، وحيث إن فرض وجوده في الأزل يؤدينا إلى المحال، وما يؤدي إلى المحال محال ثبت أنه لا يمكن أن يكون موجودًا في الأزل، أي إنه حدث بعد أن لم يكن. وجود الواجب: يقسّمون المعلوم إلى قسمين: واجب لذاته، وغير واجب لها، فالواجب لذاته هو ما كان وجوده من لوازم ذاته بحيث لا يمكن أن ينفك عنها. وغير الواجب قسمان: موجود بالفعل، وغير موجود. وغير الموجود قسمان: جائز وجوده، ومستحيل. والمستحيل: هو ما لا يمكن وجوده، فكل موجود إما أن يكون واجبًا أو جائزًا ولا ثالث لهما، أما الواجب فسبق تعريفه وأما الجائز فهو ما جاز عليه الوجود والعدم ولا يرجح أحدهما إلا بمرجح، إذا عرفت هذا فنقول: الجوهر الفرد موجود فإما أن يكون واجبًا أو جائزا لا يمكن أن يكون واجبًا؛ لأنه قد ثبت أنه كان معدومًا في الأزل، والواجب لا يمكن أن ينفك عنه الوجود لا أزلا ولا أبداً، إذًا هو جائز والجائز لا يمكن أن يرجح وجوده على عدمه إلا بمرجح والمرجح لا يمكن أن يكون سوى الواجب إذ لم يبق سواه غير المستحيل، إذًا الواجب موجود قطعًا. أحكام الواجب: قد سبق أن الوجود لا ينفك عنه أي: إنه قديم باقٍ، فلا أول لوجوده ولا آخر له وهذا بمقتضى التعريف السابق. ومن أحكامه أنه ليس له وضع معين ولا جهة يشار إليه فيه وإلا لتصور العقل جواز تحركه ولو جازت عليه الحركة لكان حادثًا، ولو كان حادثًا لما كان واجبًا، وحيث ثبت أنه لا وضع ولا جهة له ثبت أنه لا امتداد له وإلا لشغل حيزًا من الفراغ وتعين له الموضع والجهة. إذا عرفت هذا علمت أنه لا يجوز عليه الحلول ولا الاتحاد ولا التجسد؛ لأنه لو حلّ أو اتحد بجسم المسيح على مذهب أو تجسد وظهر بصورة المسيح على المذهب الآخر كما يقول النصارى لوجبت له الحركة وإلا لما كان للحلول والاتحاد والتجسد معنى حقيقيًّا تعالى الله عن أن يظهر في مخلوق أو يتصور بصورته. ومن أحكامه التفرد بالوجود؛ لأنه لو كان هناك واجبان فأكثر وخلق أحدهما جائزًا من الجائزات فإما أن يبقى الآخر قادرًا على خلق هذا الشيء بعينه أو غير قادر، فإن بقي قادرًا أمكنه تحصيل الحاصل وهو محال؛ لأنه يستلزم أن يكون للشيء الواحد وجودات متعددة، وإن لم يبق قادرًا زالت قدرته القديمة عن بعض الأشياء، والقديم لا يزول؛ لأن قدمه إما أن يكون لذاته أو لشيء آخر قد اقتضى وجوده، فإن كان قدمه لذاته فلا يمكن أن يزول من الذات ما هو لها وإن كان لغير ذاته فما دام المقتضي موجودًا فلا يمكن أن يزول المقتضى. هذا واعلم أن قول النصارى: إنه واحد في الذات،ثلاثة في الأقانيم - مُحال لأنهم يعتقدون أن كل أقنوم يمتاز عن الآخر بخواص كثيرة، فالأول يمتاز بخاصية الأبوة، والثاني بالبنوة وبالحلول أو التجسد، والثالث بالانبثاق، وأن الامتياز بينهم حقيقي بحيث إن ما يثبتونه لأحدهم لا يمكن أن يثبتوه للآخر. إذا عرفت هذا أقول الشيء الذي به الامتياز إذا ثبت لأحد الأقانيم فهو ثابت لذاته، وإذا ثبت لذاته فهو ثابت لذات الله تعالى، وبما أنه علة للامتياز فلا يمكن أن يثبت للأقنوم الآخر وإذا لم يثبت له لم يثبت لذاته، وإذا لم يثبت لذاته لم يثبت لذات الله وعليه يكون الشيء الواحد ثابتًا للذات وغير ثابت لها، فمثلاً: إذا قلنا: إن الابن حلّ أو تجسد أي إن ذاته حلت أو تجسدت كانت ذات الله حالة أو متجسدة، ولكن الآب لم يحلّ ولم يتجسد فذات الله لم تحل ولم تتجسد، وعليه تكون ذات الله حالة أو متجسدة وغير حالة ولا متجسدة وهذا تناقض ظاهر البطلان. بقي عليّ أن أذكر كلمة صغيرة في القدرة قبل ترك هذا الموضوع وهي أنها لا تتعلق بالمستحيل. وخلق حوادث في الأزل مستحيل؛ لأنه يستلزم وجود حوادث لا أول لها وهو باطل وعليه فالقدرة الأزلية لا توجد الحوادث إلا في غير الأزل، والأزل لا يمكن العقل تصوره فهو ليس مركبًا من لحظات لا أول لها؛ لأن ذلك أيضًا باطل فلم يكن ثَمَّ دهر ولا زمان بخلاف ما إذا فرضنا أن الجوهر الفرد قديم فإنه يستلزم جواز وجود الحركات في الأزل وذلك يستلزم تعاقبها وتعاقبها يستلزم وجود الزمان، أما خلق الحوادث في غير الأزل فلا يستلزم وجود لحظات متعاقبة ولا وجود متجددات في الأزل. والخلاصة: أن الواجب قديم باق قدير متفرد بالوجود ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. الروح والبعث: عناصر الجسم الكيماوية معروفة ومشهورة وعناصره (الهستولوجية) هي ما يسمونه بالخليات، وكل خلية حية بذاتها بحيث يمكن بقاؤها حية بعد انفصالها عن الجسم مدة من الزمن، وتأتي من الأعمال مثل ما تأتيه في الجسم؛ فمثلاً كرات الدم البيضاء إذا فصلت عن الجسم ووضعت في وسط مناسب لحياتها تبقى حية مدة فتتحرك وتتغذى وتنقسم، وليس الأمر قاصرًا على الخليات، بل ما تركب منها من الأعضاء والعضلات وغيرها؛ وإذا فصل من الجسم يبقى حيًّا مدةً؛ فمثلاً: قلب الضفدعة يستمر على ضرباته بضع دقائق، وكذا العضلات الأخرى من الجسم تنقبض وتنبسط إذا نبهت، ثم إن جميع وظائف الجسم وحواسه ومدركاته لها مراكز مخصوصة في المخ والنخاع الشوكي؛ بحيث إذا أتلف هذا المركز بطلت الوظيفة، وبين المراكز والأعضاء اتصال بالأعصاب الحساسة والمحركة؛ ولهذه الحقائق المحسوسة ظن الماديون أن لا معنى للقول بالروح؛ إذ لا أثر لها في الحياة ولا في غيرها ولو كان هناك شيء يليق أن يسمى روحًا، فالمخ أولى الأشياء بهذه التسمية ثم إنهم شاهدوا أن الجسم دائم في التغير والانحلال والتركيب بحيث إن جسم الإنسان في بضع سنين يكون قد تغير كله وأتى بدله جسم آخر. وفسروا شعور الإنسان بشخصه أنه لم يتغير طول حياته بأن الانطباعات والتأثرات المخصوصة في جوهر المخ تتجدد في كل مادة. وبعد أن أنكروا ما يسميه علماء الأديان روحًا وأنه شيء يقوم بذاته، ولا يتغير، وأنه ليس من مادة عالمنا هذا إلى آخره بعد أن أنكروا ذلك ووجدوا أن جسم الإنسان بعد الموت ينحل ويدخل في تراكيب النباتات والحيوانات الأخرى، ومن بينها الإنسان قالوا: إذًا البعث مستحيل؛ لأن الإنسان ليس له روح مخصوصة تممتاز عن جسمه وليس جسمه ثابتًا له بل ربما دخل في جسم إنسان آخر وعليه فالحشر روحيًّا كان أو جسديًّا ضرب من المحال. هذا هو ملخص مذهبهم. والناقد البصير يرى أنه مبني على المحسوس والمعقول إلا في نقطة واحدة هي محور غلطه ومركز شططه وهي قولهم: إن شعور الإنسان بشخصه من أول العمر إلى آخره ناشئ عن الانطباعات المخصوصة وتجدّدها في كل مادة تدخل في تركيب مخّه لا لشيء ثابت من أول الحياة إلى آخرها؛ إذًا لا علاقة بيني الآن وبين شخصي بعد بضع سنين سوى الانطباعات المخصوصة المتماثلة في المادتين. أقول: المتماثلة؛ لأنها لا يمكن أن تكون هي بعينها؛ لأنها أعراض لا قيام لها بذاتها ولا تنتقل من مادة إلى أخرى فكأنه بعد مرور بضع سنين على الإنسان يعدم من الوجود ويوجد شخص آخر غيره ومع ذلك يشعر كل بأنه هو الآخر بعينه لتماثل الانطباعات فيهما ولو سلمنا ذلك فلماذا لا يكون البعث من هذا القبيل؟ وإذا وجد شخص آخر فيه مثل ما فيَّ من الانطباعات فهل أشعر بأني أنا هو وهو يشعر بأنه أنا؟ وما الفرق بين هذه وتلك؟ وهل إذا عدم أحدنا يشعر الآخر بإنه هو الأول بعينه؟ كلا، ثم كلا، إذاً لا بد أن يكون هناك شيء ثابت في الإنسان من أول الحياة إلى آخرها وبه تتحقق شخصيته ويمتاز وجوده وسواء كان هذا الشيء من عالمنا هذا أو من عالم آخر فلا يهمنا، وهذا الشيء هو روح الإنسان وجوهره وحقيقته وحيث إننا لا ندري مكانه ولا كنهه فلا يمكننا الحكم بأن يدخل في تركيب إنسان آخر، ولم لا يجوز أن يبقى محفوظًا إلى يوم القيامة ثم يعاد في جسم جديد. ولا عبرة بالجسم الأول المتبدل المتغير الداخل في تركيب غيرنا بعد انحلاله؛ فإن شخصية الإنسان لا تتحقق به ولا تتوقف عليه. إذا

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر شذرات من يومية الدكتور أراسم [*] يوم 15 يولية - سنة - 186: (فوائد الشدائد - بذل النفس للمحبوب أول الحب) كان منا خرق وطيش كادت عواقبه تكون علينا خسارًا مبينًا ذلك أني و (أميل) و (لولا) خرجنا عشية أمس نتنزه والساحل ممتطين أفراسًا فأوغلنا في مسيرنا معتسفين، ولا يلبث الإنسان بأدنى بحث في شكل هذه السواحل الظاهري أن يدرك أن البلاد نشأت من الزلازل الأرضية. من أسمى الأفهام التي انتهت إليها حكمة العلوم الحديثة على ما أرى [1] إدراك أن للناس فوائد فيما يُبتلون به من المصائب، فإن لها دخلاً عظيمًا في تكون العالم المادي. وما أدراك ما هذه المصائب؟ إذا رُجَّت الأرض رجًّا، وتولاها الاضطراب عمَّ الفزع كل من على ظهرها ممن يشهدون زلزالها، ورأيت الحيوانات جافلة حيرى لا تدري ماذا يراد بها. وإن لمن شهد الزلازل من سكان هذه البلاد قصصًا عنها يروونها للأجانب تحاكي قصص التوراة، فكأي من قرية كانت بالأمس عامرة سعيدة أصبحت خاوية على عروشها، فلا يجد الباحث عنها في عرصاتها إلا أطلالاً بالية، ورسومًا دارسة، وإذا انقضت الزلازل لم يكن للناس حديث مدة الشهر التالي لوقوعها إلا قصصها المحزنة فمن رجال ذهبت عقولهم من الفزع، وأموال لعبت بها أيدي الضياع، ونساء وأطفال وشيوخ خرت عليهم بيوتهم فخنقهم ردمها. لا يسلم تاريخ هذه الرزايا من اختلاط القصص به، فمما يحكيه الناس هنا أنهم شاهدوا في زلزلة ليلية على وميض البروق المشئوم أن الأرض قد انشقت وبرزت هياكل قدماء الأنقين [2] من قبورها ثم عادت فغيبت في هذه المهاوي التي ما لبثت أن التأمت عليها. سكان شطوط المحيط في هذه البلاد أشد تعرضًا للمعاطب، فإن البحر في بدء الزلزال يتقهقر عن الأرض كأن قد ملكه الذعر، ثم يعاود الكرة وقد هاج غضبه واشتد صخبه ولجبه، وهنالك تنكسر أناجر السفن، وتنقطع سلاسلها، وتأخذها أعاصير الماء فتدور بها دورانًا، وأما جسور المياه فإنها تستسلم لضغط الأمواج فتفتح أبوابها للخراب والهلاك. وللبيرويين من المعرفة الصحيحة بما لأرضهم التي استودعوها حياتهم وعيالهم وآمالهم من ضروب الختل ما يجعلهم في عامة أوقاتهم على حذر منها، فتراهم لا يذوقون النوم إلا غرارًا مستعدين على الدوام للهبوب من بيوتهم لأقل لغط أو أدنى رجة سائلين ما الخطب؛ فإذا قيل زلزلة برزوا جميعًا. على أن لهم بهذا القطر الذي تميد بهم أرضه كلف العاشقين لجماله وخصبه، فإنك تجد في البقاع المزروعة منه حقول الذرة، وقصب السكر والقطن والفواكه الأسبانيولية كالبرتقال، والليمون، والرمان، والتين، والزيتون قد ازدوجت بجميع فواكه المنطقة الحارة كالموز والأناناس؛ فتلك الأرض المتزلزلة حبلى بالحياة فهي تنمو وتعلو وتتنفس، ولا ينبغي أن ينقم منها أنها في عملها هذا تشوش نظام عمل الإنسان أحيانا بما لها من صنوف التدمير وضروب التخريب. الآثار والمدن المجهولة في البيرو والموازنة بين القوى والأعمال يوم 28 يوليه سنة - 186 كثيرًا ما نلاقي هنا هنودًا أصليين يشتغل بعضهم بالتماس الثلج من رءوس الجبال ونقله على ظهور البغال إلى (ليما) حيث يعتبر من أوائل مشتهيات المائدة، وبعضهم ينقل الملح إليها من سواحل البحر على قطعان اللاما [3] . ياله من بَوْن بعيد بين ما عليه هؤلاء الهنود الآن من الذل والشقاء وما كانوا فيه من العظمة والرخاء. معابد الأنقين التي يرشد أهلها السائح إلى زيارتها، وطريقهم الحربي المشهور الذي اختطوه لمقاتلتهم، ونظام رَيّهم العجيب الذي كانوا يبلغون به مياه الجداول الصغيرة إلى الحقول بما كانوا يحتفرونه من الخنادق ليخصبوا به من الأرضين ما صار بعدهم محلاًّ، كل ذلك مما يحمل على الاعتقاد بأن الأجيال الأصلية التي كانت متوطنة وسط أمريكا أوقفت في سبيل تقدمها بحلول الجيل الأبيض الذي انقضّ عليها في بلادها انقضاض العقاب؛ فعاقها عن رقيها، فإنها كانت تسعى إليه، ومن ذا الذي في استطاعته أن يخبرنا بما كان يحصل لو أنهم أمهلوا حتى بلغوا مثال تمدنهم الصحيح ربما كان انعكس الأمر، فذهب مثل خريستوف كلومب من حمر الجلود فاكتشف الدنيا القديمة. قبائل الهنود التي لم تخضع إلى اليوم للحكومة الأمريكية تحذر ما يقدم لها من الهدايا وما تدعو به من المزايا على حد قول القائل: (الروم أخشى) [4] ولم تفلح الحكومة في إرسال الدعاة إليهم لدعوتهم إلى النصرانية، فإنهم يعلمون أن لفظ إنجيل في فم الأبيض معناه الاستعباد لجيلهم ومصادرتهم في أرضهم لم يسلم الساحل الذي كنا نتنزه عليه من فعل الزلازل الأرضية التي لا شك في أنها تبتدئ من سلسلة جبال الإندز [5] ؛ فإن الإنسان فيما يلاقيه هنالك من الشقوق والأنجاد والأغوار التي لا تلبث بعد انخسافها أن ترتفع، لا يزال يعرف ميدان تكافح الفواعل النارية. كانت (لولا) تسير على الساحل وكلها زهو وعجب باستقبالها (أميل) في بلادها ومرحبتها إياه غير مفكرة في شيء عسى أن يكون من الحبائل تحت هذا الساحل المتباين الذي دعثرته العواصف والأعاصير، فهمزت جوادها بحدة مفطرة، وأخذت به شط البحر، وكنا نحن نتبعها ولكن من بُعد لبلادة فَرَسَيْنا على أن (أميل) لم يلبث أن خف إليه خفة المستيئس لما نبهته هيعاتي إلى الخطر الذي كانت ملاقية له، فلما بلغ تلك الفارسة المرحة لم تكن إلا على نحو مائة متر من هوة بين صخرتين؛ كان لا محيص لها من التردي فيها بجوادها مرسلة الشعر في الهواء مشرعة السوط، فأخذ بعنان فرسها وقسره على التحول يسرة، فرفع يديه قائمًا على رجليه وحرن، ثم ما لبث أن وقف كأنه أُلهم الوقوف فجأة. فأما (لولا) فقد اُمتقعت (تغير لون وجهها) وارتعدت فرائصها؛ لأنها كانت أبصرت الهوة وشكرت (لأميل) همته بأن قبلته تقبيلاً يشف عن الوداعة وسلامة القلب كالذي يقع من أخت لأخيها. وفي يقيني أن هذه الحادثة لم تزد شيئًا على ما يضمره كل منهما للآخر من المحبة والوداد، ولكني أحسب أني لاحظت من عهد حصولها فرقًا دقيقًا في رعايات (أميل) لها بزيادة تحدبه عليها، فكان بذل النفس للمحبوب أول الحب. ذلك أمر لا بد أن تكشفه لنا الأيام؛ لأني وهيلانة قد عودنا هذين الغلامين على أن نصدقهما لمجرد قولهما فلا إخالهما يجسران على غشنا. اهـ يعتقد بعض أهل (ليما) أن من المدن البيروية أو المكسيكية القديمة ما لا تزال موجودة لم يبلغها الفاتحون من أسبانيا، وإذا سألتهم أين هذه القرى لا تجد منهم أحدًا يستطيع أن يجيبك عن هذا السؤال، ثم إذا قلت: كيف أن أحدا من سائحي اليوم لم يعثر عليها؟ أجابوك: إن هؤلاء الأقوام القدماء سكان تلك المدن مكنوفون من كل ناحية بالصحاري، والآجام، والمستنقعات، وسلاسل الجبال وغيرها من العقبات الكثيرة وبذلك حفظوا استقلالهم على أن الوصول إليهم يقتضي وطء قبائل متوحشة تمنع الأجانب من دخول أرضها؛ وتجزي عليه بالقتل واسمهم الهنود البسلاء (انديوس براقوس) وهم جيل حربي يسكن الهضاب الواقعة شرقي البيرو والقونشوس ويقال: إنهم من أكلة لحوم البشر. ولقد ذهب فريق آخر من البيرويين في دعاويهم إلى ما هو أبعد من ذلك فلم يقتصروا على القول بوجود المدن المذكورة بل قالوا: إن بعض ركاب التعاسيف الخاملي الذكر والمترفقين من التجار وطلاب المهن زاروها المرة بعد المرة، ومن هؤلاء الزوار من انقطع ذكرهم فلم يسمع عنهم شيء، ومنهم من حكوا ما عاينوه منها، فهم مصدر ما عرف عنها، غير أنهم لبعدهم عن الحضارة بل وعن العلم لم يخبروا بما اكتشفوه إلا بعض التجار الرحل أو الصيادين، ولم يستطع هؤلاء عن حكايتهم لما وعوه أن يؤدوا لمن سمعوا منهم إلا أخبارًا مبهمة جدًّا. والذي ينبغي أن يعتقد في مثل هذه الأحاديث هو أن يحسن قبل نَبْذِها واعتبارها من الأساطير؛ أن يفكر فيها مرتين؛ لأنها على كل حال ليست بعيدة عن الحقيقة بعد أن اكتشف استفنس [6] وغيره من السائحين الذين جابوا وسط أمريكا ما اكتشفوا من الآثار الحقيقية، وبعد الأبحاث التي حصلت وسط الغابات الكثيفة ولم يشهدها إلا الببغاءات والقردة وخصوصًا بعد أن ثبتت للعالم صحة بعض الآثار المروية عن الهنود ثبوتًا واضحًا من أطلال القرى المكتشفة مثل قوبان وقيشي وأوقوزينجو وبالانقا وغيرها من القرى الكثيرة المدفونة تحت جذور الأشجار من قرون طويلة. نعم إن موضوع البحث والنظر هاهنا ليس مدنًا بائدة بل هو مدن حية قد يعثر فيها أن وجدت على تاريخ جيل من أجيال البشر برمته ومعابدهم وآلهتهم وقسيسيهم وشرائعهم وعوائدهم. ربما مال (أميل) و (لولا) إذا سمعا مثل هذه الحكايات فاتقدت بها مخيلتهما إلى أن يباشر البحث عن تلك المدن المجهولة، فإن من هو مثلهما في سن المراهقة لا يفكر في العقبات ولا يحسب لها حسابًا فهما من هذه الجهة شبيهان بعامة الناس ولو أني ثبطت عزم هذين القرنين الصغيرين وأخمدت توقد ذهنهما للُمْتُ نفسي على ذلك، ولكني انتهزت هذه الفرصة فقلت لهما لا يزال في بلاد البيرو كما في غيرها كثير من الأشياء التي يلزم اكتشافها غير أنه يجب على الإنسان قبل كل شيء أن يعرف كيف يزن قواه بطبيعة ما يريد مباشرته من الأعمال. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

أعمال مجلس إدارة الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أعمال مجلس إدارة الأزهر يرى كثير من الناس أن الجرائد في هذا العصر هي بمثابة كتب التاريخ؛ لأنها تتصدى لذكر جميع الحوادث، وتبحث في عللها وأسبابها ونتائجها ومسبباتها فإذا أراد مؤرخ تأليف تاريخ الأمة، أو بلاد تنشر فيها الجرائد فما عليه إلا أن يراجعها ويستمد منها إذا كانت حرة لم يستعبدها الحكام المستبدون وعلى هذا الرأي يمكن لمن يريد كتابة تاريخ حديث للأزهر أن يراجع الجرائد المصرية في دار الكتب المصرية، ويأخذ عنها ما كتبته عن هذا المكان. ولعله لا يوجد عاقل عارف بحال هذا القطر يثق بحرية جرائده في نفسها، وتحريها الصواب والحقيقة في الحوادث المهمة التي لها شأن في تاريخها، وسردها بأسبابها ونتائجها الحقيقية خدمة للتاريخ، فإن هؤلاء العقلاء يعلمون أن لهذه الجرائد مذاهب شتى وأهواء مختلفة ولا يعني أصحابها بيان كل شيء له شأن في التاريخ وقلما يوجد فيها من يتحرى الحق في أكثر ما يكتب بل يكتبون ما يبلغهم على غرة إذا لم يكن مخالفًا لمذاهبهم وإلا تصرفوا فيه أو سكتوا عنه. هذه مسألة الأزهر قد خاضت فيها الجرائد واختلفت فيها أقوالها بعضها مع بعض بل اختلفت فيها أقوال الجريدة الواحدة هذه تستحسن مرة ما كانت تستقبح وتلك تذم اليوم ما كانت تمدح بالأمس، ولو قرأ قارئ جميع ما كتب عن الأزهر منذ عشر سنين أي منذ تأسيس مجلس الإدارة له ودخوله في طور النظام - وإن لم يعمل بذلك النظام كله - لرأى أقوالاً مضطربة لا تتجلى منها حقيقة. والسبب في ذلك أن العامل الحقيقي في هذا النظام هو الشيخ محمد عبده وله حزب على رأيه يضاده حزب آخر يود أن يبقى كل خلل على ما كان، وقد اختلفت الأهواء لذلك فاختلفت الأقوال وضاعت الحقيقة حتى أن أكثر المصريين القارئين الكاتبين لا يعرفون حقيقة ما كان عليه الأزهر ولا حقيقة الإصلاح والنظام الذي سعى إليه الشيخ محمد عبده، فتم له شيء منه بإسعاد الأمير العباس -وفقه الله تعالى- لمرضاته، بل هم يهيمون في أودية الظنون في هذه المسألة ككثير من أمثالها، ومنهم الذي يصدقون بعض الجرائد في قولها: إن هذا الإصلاح كان إفسادًا لعقائد أهل الأزهر. ظهر في هذه الأيام كتاب جديد اسمه (أعمال مجلس إدارة الأزهر بمصر من ابتداء تأسيسه سنة 1312 إلى غاية 1322) أي إلى أن استقال من إدارته ذلك المصلح العظيم والعامل الذي كان يُنسب إليه كل عمل في هذا الجامع مدة وجوده فيه. إن مؤلف الكتاب لم يذكر اسمه عليه، ولكن كل قارئ له يثق بكل ما كتب فيه، وإن لم يعرف كاتبه؛ لأنه يرى أنه تاريخ رسمي أو شبه رسمي، فهو قد جرى على طريقة الجبرتي في البحث عن كل شيء في وقته، وقد تم له ما لم يتم للجبرتي من التدقيق، فهو يذكر كل مسألة مبينًا تاريخها، وما دار بين الأزهر ومعية الأمير والحكومة فيها وما وضعه أو قرره مجلس الإدارة إما بالنص وإما بالمعنى الذي لا يخرج عن مفهوم النص في البيان والتاريخ وعدد الخطاب (النمره) وغير ذلك من احتياطه وتحريه إن سكت عن بيان ما لم يقف عليه باليقين، وهو قليل كعدد الطلاب الذين امتحنوا في سنة 1314 فإنه لم يبينه بالجدول الذي وضعه لذلك. ومن إنصاف المؤلف أن نسب الأعمال المتفق عليها إلى مجلس الإدارة لا إلى شيخ الأزهر الذي هو رئيسه ولا إلى بعض الأعضاء بالتعيين، وما كان فيه خلاف ذكره، وما انفرد به بعض شيوخ الأزهر من سعي أو عمل ذكره كما هو، وقد خص الأمير بالثناء وبين أنه كان المؤيد والمعضد لكل ما جرى في الأزهر في هذه المدة ولولاه لم يكن شيء مما كان. وإننا نذكر عناوين فصول الكتاب ليكون قارئ هذا التقريظ على بينة منه وهي: (1) تشكيل مجلس إدارة الأزهر وأسبابه (2) قانون المرتبات (3) حال الأزهر ومرتبات الشيوخ قبل النظام الجديد (4) إلحاق التعليم في الجامع الأحمدي بالأزهر (5) إلحاق التعليم في المسجد الدسوقي ودمياط بالأزهر (6) كساوي التشريف (7) نظام التدريس والامتحان (8) المسامحة أو عطلة الدراسة (9) مساعدة الجناب العالي على تنفيذ القانون بالملل من الأوقاف (10) نظام التدريس والامتحان (11) مكافأة امتحان الطلبة (12) مشايخ الأروقة والحارات والملاحظون (13) فائدة الامتحان والعلوم الحديثة (14) دار الكتب (الكتبخاتة) في الأزهر (15) إصلاح التعليم (16) نظام الجرايات (17) امتحان التدريس وشهادة العالمية (18) العلوم والكتب ونظام التدريس (19) مسألة زاوية العميان (20) الشيخ حسونة النواوي (21) الشيخ عبد الرحمن القطب (22) الشيخ سليم مطر البشري (23) جدول مواد التعليم في الأزهر (24) إحصاء أصحاب الكساوي المظهرية في عشر سنين (25) السيد علي الببلاوي (26) تأخر العلوم الشرعية بالأزهر (27) تأخر اللغة العربية بالأزهر (28) إلحاق الإسكندرية في النظام والتعليم بالأزهر (29) الشيخ محمود باشا والشيخ أحمد باشا (30) الشيخ محمد شاكر (31) مرتبات أولاد العلماء وما تنفقه الحكومة على الأزهر (32) حالة الأزهر الصحية وتعيين طبيب له (33) إعانة ديون الأوقاف لمعاهد العلم بالمال (34) محافظة المجلس على حقوق الأزهر وشرفه (35) الشغب الذي انتهى باستقالة الببلاوي والعضوين العاملين بالمجلس. وقد فسر طابع الكتاب عبارات مجملة أو مبهمة منه لعل المؤلف ما كان يحب أن تفسر. يدل اسم الكتاب وعناوين فصوله على أنه تاريخ لهذا الطور الذي دخل فيه الأزهر منذ عشر سنين وفيه ما هو أهم من ذلك وأكثر فائدة للمسلمين وهو بيان أخلاق علماء الأزهر وأفكارهم وشئونهم في هذا العصر، فإن لحال هذا الصِنف من الناس شأنًا عظيمًا في حال الإسلام والمسلمين فهم منها بمنزلة القلب من الجسد إذا صلح صلحت وإذا فسد فسدت، وهذا هو السبب في شدة عناية الشيخ محمد عبده بأمر الأزهر وسعيه في إصلاحه واحتمال الشدائد في هذه السبيل على أنه في بلاد لا تعرف قيمة سعيه حق المعرفة، وإن كان لا يفوق احترامه فيها احترام أحد. الكتاب مطبوع طبعًا نظيفًا، وثمن النسخة منه أربعة قروش، وأجرة البريد قرش واحد وهو يطلب من إدارة المجلة (المنار) ومن مكتبة هندية والمعارف والهلال وغيرها، وقد أبيح لإدارة المنار أن تبيعه من الأزهريين خاصة بثلاثة قروش صحيحة ولا شك في أنه سيصادف رواجًا عظيمًا لما فيه من الفوائد العظيمة.

تاريخ دول العرب والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ دول العرب والإسلام سبق لنا تقريظ الجزء الأول من هذا الكتاب في المجلد الأول من المنار ويسرنا أن مؤلفه محمد طلعت بك حرب قد أعاد طبعه في هذا العام؛ لأن نسخه الأولى قد نفدت، وأنه قد شمر عن ساعد الهمة لإتمام تأليف الكتاب وطبعه. ونعيد التذكير بمباحث الجزء الأول وهو مؤلف من تمهيد وثلاثة أبواب في كل باب منها فصول. فالتمهيد في حدود بلاد العرب ومواطنها وحاصلاتها، ومناخها، ومساحة الجزيرة، وتشوف الإفرنج إليها، والباب الأول فيما كانت عليه العرب قبل الإسلام، وفيه مباحث في طبائع العرب، وأحوالها، وصفاتها، وأقضيتها، وحكوماتها، وأحكامها، وحروبها، وفي الزواج، والطلاق، والاعتقادات، والخرافات، واللغة، والشعر والشعراء، والأسواق، والمعارف، والكتابة، والصناعة، والتجارة، والنقود، والمسكوكات، والموازين. والفصل الثاني في العرب البائدة، والثالث والرابع في العرب الباقية. والباب الثاني في العرب بعد الإسلام، وفيه فصلان، الأول: في الوحي والدعوة والهجرة وملخص السيرة النبوية، والثاني: في القرآن والإسلام، وهو مختتم بفصل نفيس من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام. والكتاب يُطلب من مؤلفه ومن إدارة مجلة المنار وثمنه ثمانية قروش صاغ.

كتاب زهر الربيع في المعاني والبيان والبديع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب زهر الربيع في المعاني والبيان والبديع كان الشيخ أحمد الحملاوي مدرسًا في مدرسة دارالعلوم فطلب منه ناظرها أن يؤلف كتابًا في البلاغة خاليًا من الحشو والتعقيد جامعًا للقواعد والمسائل المهمة في الفنون الثلاثة، فبدأ بوضع هذا الكتاب، وحال دون إتمامه نقله إلى مدرسة المنصورة، ثم أتم تأليفه في سنة 1320 هـ، وكان عُين ناظرًا لمدرسة عثمان باشا ماهر، وقد طبعه في هذا العام بالمطبعة الأميرية فكانت صفحاته 237. وإننا لكثرة الشواغل في هذا الصيف لا نرجو أن نجد وقتًا نُطالع فيه بعض أبواب الكتاب لنُبين مكانته من سائر كتب البلاغة التي هي على نسقه في سرد المسائل مع أمثلتها، ولكن مزاولة المؤلف للتعليم في المدارس الأميرية بعد تعلمه فيها وفي الأزهر مما يرجح كون الكتاب مختصرًا مفيدًا سهلاً نافعًا إن شاء الله تعالى.

الروزنامة التونسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الروزنامة التونسية محمد ابن الخوجه رئيس قلم المحاسبة بوزارة تونس من سروات التونسيين وفضلائهم، وهو يضع تقويمًا سنويًّا يسميه الروزنامة التونسية وسنة 1323 هي السنة الخامسة لهذا التقويم، وقد زادت صفحاته فيها على خمسمائة صفحة من القطع المتوسط، والكلام فيه على خمسة أقسام: فلكي، وأدبي، وسياسي، وإداري، وتجاري. وقد ذكر في القسم الأدبي من هذه السنة زيارة رئيس جمهورية فرنسا لتونس سنة 1321 وزيارة باي تونس لباريس 1322 وما لقيه كل واحد من الاحتفال والحفاوة، وتاريخ نشأة العلائق بين فرنسا وتونس، وذكر من القسم السياسي نظام الحماية في تونس والقواعد النظامية فيها، ودوائر الحكومة وكبار علمائها ورجالها. وتكلم في القسم الإداري على الوزارة، والكتابة العامة، والإدارة والمجالس الشرعية وجامع الزيتونة الأعظم، والجمعية الخلدونية وغيرها من الجمعيات والمدارس والمستشفيات، والمجالس، والمصالح الكثيرة، والمعارف، وجيش الاحتلال والبحرية الفرنسية، والمذاهب والملل، وغير ذلك. فهذه الروزنامة تاريخ رسمي أو شبه رسمي لتلك المملكة لا يستغني عنه محب التاريخ وثمنها في تونس خمسة فرنكات وأجرة البريد فرنك واحد.

تذكار المهاجر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تذكار المهاجر ديوان شعر لقيصر أفندي إبراهيم معلوف اللبناني نظمه في مهاجره بالبرازيل أيام كان مشتغلاً بجريدة (البرازيل) العربية كتابة وإدارة وكان ينشر ما ينظمه في جريدته، وبعد أن ترك الجريدة وانصرف إلى الاشتغال بالتجارة جمع تلك القصائد والمقاطيع وطبعها في ديوان سماه (تذكار المهاجر) وقد تفضل علينا بإهداء نسخة منه كتب عليها بخطه هذين البيتين بعد ذكر الإهداء إلى المجلة: لما رأيتك للمعارف ناشرًا ... وبكرمة الآداب أفضل عامل أهديت ديواني لفضلك راجيًا ... منك التشرف بانتقاد عادل وقد كان هذان البيتان سببًا في إرجاء تقريظ الديوان إلى هذا اليوم؛ لأننا كنا ننتظر فرصة نقرأه فيها بإمعان، وننظر فيه نظر الناقد حتى سنحت لنا الفرصة في الأسبوع الماضي إذ سافرنا إلى الإسكندرية فجعلنا الديوان رفيق الطريق فقرأنا مقدمته وكثيرًا من قصائده ومقاطيعه فتجلت علينا روح الناظم في جلباب من الظرف واللطف والإخلاص يعز على من تجلت عليه فيه أن ينظر إلى أثرها بعين الانتقاد، دون عيني الحب والوداد. فأنا أخطب وداده على البعد، وأرغب إليه أن يعفيني من نظرة النقد، وإن كان لا يقبل من المجلة التي وصفها بالحُرة هذا العذر فليأذن لي بأن أفرض لها النقد وأفرض على نفسي العذر، تقول المجلة: إن هذا الشعر لم يجر على أساليب فحول شعراء العرب الجاهليين، أو المخضرمين، أو المولدين وأقول: لو عني الناظم باحتذاء مثال أولئك الفحول لَعَلا قوله على أفهام أكثر قراء جريدته؛ لأنهم من المهاجرين إلى أمريكا لأجل التجارة والكسب، وأكثر القارئين منهم لم يتعلموا غير مبادئ القراءة والكتابة فهم لا يفهمون شعر بشار بن برد وأبي نواس، ولا شعر البحتري وأبي تمام، وإنما عني الناظم بما نظم لأجلهم لا لأجل أولئك المعاصرين لمثل من ذكرنا من المقرمين، وتقول المجلة: إن في الديوان كثيرًا من الألفاظ والأساليب العامية كان للناظم مندوحة عنها، وأقول: إن أكثر الكتاب والشعراء المعاصرين يستعمل مثل ذلك لا سيما كتاب الجرائد وأكثرهم يخطئ وهو يظن أنه مصيب، وصاحبنا يمتاز بأنه عالم أن شعره لم يسلم من ذلك الخطأ، وقد اعتذر عنه في الصفحة الثالثة عشرة من المقدمة بأنه نظم ما نظم بعيدًا في بلاد بعيدة عن بلاغة اللغة العربية وأساليبها الشعرية وكتبها اللغوية ... إلخ، ما قاله. ثم إن هذا الديوان يمتاز على الدواوين التي وضعت لجمهور أهل هذا العصر بأنه لا يختص بالمدح، والنسيب، والرثاء، والهجو، بل جال فيه الناظم في المسائل الاجتماعية، والموضوعات الأدبية، وهو بداية نظمه؛ فعسى أن نرى في الجزء الثاني من ديوانه ما هو أرقى معنى وأسلوبًا.

أنباء سوريا المزعجة الدولة والرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء سوريا المزعجة - الدولة والرعية قد تبين أن حكومة (المابين الهمايوني) في خوف ووجل من سوريا أن تخرج عليها كاليمن أو مع اليمن، وسوريا أبعد بلادها عن هذا العمل وعن التفكر فيه، ولكن (المابين) قد صدق فيها تقارير الجواسيس والمفسدين، وأقوال المشاغبين المحتالين الذين يخوفون (المابين) بما يكتبون من الرسائل والكتب في الدعوة إلى الاستقلال، وزاد الطين بلة ما تكتبه الجرائد الأوربية في هذه الأيام عن ثورة اليمن مدعية أنها ثورة مدبرة لها أنصار ودعاة في الحجاز وسوريا وسائر البلاد العربية وكل ذلك أكاذيب يبغون بها الفتنة وإغراء الحكومة العثمانية برعيتها ليفني المسلمون أنفسهم بأيديهم. صدق المابين كل ذلك فأمر الولاة والمتصرفين بالإغارة على بيوت من يظن أن عندهم كتبًا، أو جرائد، أو رسائل من مصر، وأخذ كل ما يوجد في تلك البيوت وقراءته كلمة كلمة ومحاسبة أصحابه على كل ما يُشتمّ منه رائحة الشبهة، وقد ذكرنا في الجزء الماضي بعض هذه الحوادث ثم جاءتنا الجوائب بعده بإنه قد جاء إلى بيروت لجنة عسكرية ملكية أرسلها السلطان من الآستانة لتتولى التحقيق في هذه الأمور المهمة ولا تدع بيتًا من بيوت الكبراء إلا وتفتشه، وقد كان من أوائل عملها الإحاطة بدار عباس أفندي رئيس ملة البابية في عكا ودار الفريق رمزي باشا وغيرهما وأخذ ما فيها من الأوراق والكتب المشتبه فيها. وقد فعل متصرف طرابلس مثل ذلك ببيت عبد اللطيف أفندي الغلاييني وبيوت أخرى. وفتشوا في حمص بيت (قائمقام) نقيب الأشراف، ولا يزال الهجوم على البيوت مستمرًّا في كل مكان. وقد بلغنا أن الكتب التي أخذت في بيروت من المكتبة الأنسية ومن طبعة الإقبال قد اعتبرت من النوع الذي يسمى غير لائق وأنها حولت إلى العدلية وأنه ورد نبأ برقي من الأستانة إلى بيروت بوجوب العناية والتشديد في شأن ضبط كتب أبي الهدى أفندي التي وجدت في مطبعة الإقبال. وإن للحكومة في الكتب والأوراق والجرائد تقسيمًا غريبًا فمنه ما يسمونه الأوراق المضرة والعقوبة عليه شديدة جدًّا، ومنه ما يسمونه الأوراق الممنوعة وهو أعم من المضرة إذا أطلق يراد بالعام ما وراء الخاص والعقوبة عليه أخف، ومنه ما يسمونه غير لائق وهو أهون عندهم، ومن البلاء أن الرعية لا تعرف شيئاً من حدود هذه الأقسام ورسومها فقد صار ما لم يكن ممنوعًا من قبل من الممنوع أو الضار والناس لا يشعرون. نوقش عبد اللطيف أفندي الغلاييني الحساب أن وجد عنده نسخ من مجلة نور الإسلام الدينية التي كانت تنشر في الزقازيق وكان عبد اللطيف أفندي وكيلاً لها في طرابلس لم يتحرج من ذلك؛ لأنها كانت ترد إليه في البريد العثماني وعمال البريد هم العالمون بالممنوع من الكتب؛ لأنهم يؤمرون بإمساكه وعدم إيصاله إلى أربابه. ولو كانت سوريا مستعدة للخروج على الدولة لا ينقصها إلا الحوادث التي تؤلم الجمهور وتجمع الكلمة - لخشى أن تكون هذه الأعمال هي السبب في الثورة والخروج، ولكننا نعلم علم اليقين أن سوريا غير مستعدة لذلك وستعلم ذلك الدولة بعد هذا التحقيق والتدقيق فتندم أنها آلمت الناس وظلمتهم وذكرتهم بما لم يكن يخطر على بال أحد منهم. وأما الذين يكتبون في ذلك ما يكتبون من المنشورات والمقالات في جرائد البلاد الحرة فلا غرض لهم إلا ابتزاز المال أو الرتب والأوسمة من الدولة كما بينّا ذلك مرارًا. وإنه ليؤلم العثماني الغيور أن يرى الإنكليز آمنين على سلطتهم في مصر لا يبالون بما يقال، ولا بما يكتب، حتى إنهم يعتقدون أنه لم يبق لهم حاجة بجيش الاحتلال القليل الباقي في البلاد، ويرى دولته في وَجَل شديد من رعيتها فتداوي هذا الوجل بالتشديد والقوة وهو دواء غريب في بابه فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ومن أعجب ما يتناقله الناس، مما يوسوس به في هذا الباب الخناس، خوف (المابين) من مصر والمصريين عامة، والأستاذ الإمام خاصة، والمصريون أشد من الترك حبًّا فيه، إلا أفراد تعلموا السعاية والتجسس من الآستانة، وكل المصريين يمقتونهم، والأستاذ الإمام مشغول عن هذه السخافات بخدمة مصر والإسلام، وهو يعتقد أن السعي من جهة السياسة، لا يأتي إلا بالخيبة والتعاسة، فهو يرى الكلام في السلطة والخلافة، من قبيل اللغو والسخافة، ومن المضحكات المبكيات أن حكومة بيروت ظلت ثمانية أيام تفتش في الساحل وتتجسس في البيوت لعلها تعثر على الشيخ محمد عبده لاعتقادها أنه جاء بيروت مستخفيًا، وأنزلته الباخرة الخديوية في جهة رأس بيروت وأنه سيتولى زعامة قلب السلطة في سوريا بنفسه، والرجل مريض لا يقدر على مفارقة سريره الذي ترفرف عليه قلوب العقلاء والفضلاء مشفقة أن يخترمه حكم القضاء، فتحبط أعمال، وتنقطع آمال، ويخشى من سوء المآل، هذه حال الرجل هنا وتلك حال الحكومة العثمانية هناك، ولم يشفق عليها رئيس الجواسيس الذين شغلوها فيكاشفها بالحقيقة التي تسكن روعها، وترأب صدعها. قلنا: إن ذلك الخوف من أعجب ما ينقل وما هو بالعجيب ولا بالأعجب، فإن الدول في مثل هذا الطور الذي وصلت إليه دولتنا -أصلحها الله تعالى- تبني أكبر من هذا البناء على أساس أوهن من هذا الأساس، بل يفعل الحكم المطلق في طور الحياة والقوة مثل هذه الفعال، ويفتك بحكم الوشاية بأعظم الرجال، ألم يأتك نبأ موسى بن نصير في الأندلس وكيف فتح البلاد؟ وكيف ساسه ابنه عبد العزيز أحسن سياسة؟ ثم كيف كافأه سليمان بن عبد الملك بانتزاعه وولده عبد الله من السلطة، وقتل ولده عبد العزيز غيلة، سمع وشاية المفسدين فيه؛ فأوعز إلى من قتله وهو يصلي بالناس صلاة الفجر كما قتل الإمام العادل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإنا نقص على القراء ما دار بين سليمان وموسى ليعلموا كيف ظهر لسليمان خطأه ويعتبروا بذلك؟ قال ابن قتيبة في كتاب الإمامة والسياسة: قدوم رأس عبد العزيز بن موسى على سليمان وذكروا أن سلميان لما ظن أن القوم قد دخلوا الأندلس وفعلوا ما كتب به إليهم عزل عبد الله بن موسى عن أفريقية وطنجة والسوس في آخر سنة ثمان وتسعين في ذي الحجة وأقبل هؤلاء حتى قدموا على سليمان وموسى بن نصير لا يشعر بقتل عبد العزيز ابنه، فلما دخلوا على سليمان ووضع الرأس بين يديه بعث إلى موسى فأتاه فلما جلس وراء القوم قال له سليمان: أتعرف هذا الرأس يا موسى؟ قال: نعم، هذا رأس عبد العزيز بن موسى. فقام الوفد فتكلموا بما تكلموا به. ثم إن موسى قام فحمد الله، ثم قال: وهذا رأس عبد العزيز بين يديك يا أمير المؤمنين؛ فرحمة الله عليه؛ فلَعَمْرُ الله ما علمته نهاره إلا صَوَّامًا، وليله إلا قَوَّامًا، شديد الحب لله ولرسوله، بعيد الأثر في سبيله، حسن الطاعة لأمير المؤمنين، شديد الرأفة بمن وليه من المسلمين، فإن عبد العزيز قضى نحبه، فغفر الله له ذنبه، فوالله ما كان بالحياة شحيحًا، ولا من الموت هائبًا، وليعز على عبد الملك وعبد العزيز والوليد أن يصرعوه هذا المصرع، ويفعلوا به ما أراك تفعل، ولهو كان أعظم رغبة فيه، وأعلم بنصيحة أبيه، أن يسمعوا فيه كاذبات الأقاويل، ويفعلوا به هذه الأفاعيل، فرد سليمان عليه قال: بل ابنك المارق من الدين، والشاق عصا المسلمين، المنابذ لأمير المؤمنين، فمهلاً أيها الشيخ الخَرِف، فقال موسى: والله ما بي من خرف، ولا أنا عن الحق بذي جَنَف، ولن ترد محاورة الكلام مواضع الحِمَام، أنا أقول كما قال العبد الصالح {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18) فتأذن في رأسه يا أمير المؤمنين. واغرورقت عيناه؛ فقال له سليمان: نعم، فخذه. فقام موسى فأخذه وجعله في طرف قميصه الذي كان عليه، ثم أدبر في السماطين فوقع الطرف الآخر عن منكبيه وهو يجره لا يحفل به ولا يرفعه، فقال له خالد بن الريان: ارفع ثوبك يا ابن نصير، فالتفت موسى وقال: ما أنت وذاك يا خالد. قال سليمان: دعه حسبه ما فعلنا به، فلما توارى موسى، قال سليمان: إن في الشيخ لبقية بعد، ثم إن موسى التفت إلى حبيب بن أبي عبيدة (قاتل ابنه) فكلمه بكلام غليظ حتى ذكر أمرًا خفيًّا من نسبه فأفحمه. ثم إن سليمان كشف عن أمر عبد العزيز فألفى ذلك باطلاً، وإن عبد العزيز لم يزل صحيح الطاعة مستقيم الطريقة، فلما تحقق عند سليمان باطل ما رفع إليه عن عبد العزيز ندم، وأمر بالوفد فأخرجوا ولم ينظر في شيء من حوائجهم وأهدر موسى بقية القضية التي كان قاضاه عليها، وكان سليمان قد آلى قبل خلافته لئن ظفر بالحجاج بن يوسف وموسى بن نصير ليعزلنهما ثم لا يليان معه من أمور الناس شيئًا، فلما رضي عن موسى جعل يقول: ما ندمت على شيء ندامتي أن لا كنت خلوًا من اليمين على موسى في أن لا أوليه شيئًا، ما مثل موسى أستغنى عنه. اهـ. ثم ذكر شيئًا من خبر موسى مع سليمان. وانظر الفرق العظيم بين عصرنا وعصر بني أمية الذي ما زلنا نشكو منه؛ إذ هم الذين حولوا الحكومة الإسلامية إلى ما يسمى في عرف السياسيين اليوم بالسلطة المطلقة، فقد بيّن موسى للملك خطأه، ولما ظهر ذلك لسليمان بن عبد الملك ندم على ما فعل بالرجل وولديه، ولم يكافئ الذين امتثلوا أمره بالظلم إلا بالإعراض عنهم، فيا ليت حكامنا في هذا العصر يرجعون عن خطئهم إذا ظهر لهم ويعرضون عمن شايعهم على الظلم ولا يشركونه معهم في رأي ولا حكم. وفي القصة عبرة بصبر موسى بن نصير عندما فوجئ برأس ولده بين يديه، وولده من يحزن على مثله الغريب لفضله وشجاعته وحسن إدارته وسياسته، وإننا في هذا المقام نذكر شيئًا من خبر موسى إتمامًا للعبرة، وليتذكر نابتة عصرنا شيئًا من تاريخ سلفهم الذين فتحوا البلاد وأحسنوا فيها السياسة وأقاموا العدل على أنهم لم يعرفوا من علوم السياسة، والقضاء، والإدارة بعض ما يعرف اليوم بعض المحامين المحتالين على سلب الأموال وإضاعة الحقوق ونصر الأباطيل، أو الموظفين الذين تشكو منهم السماء والأرض أو بعض الذين يسمونهم (متربين) لأنهم تعلموا في أوربا وهم الذين أفسدوا أخلاق أمتهم وأغروها بالخمور والفجور والقمار وغير ذلك من أسباب الدمار حتى فسد بأسها وذهبت سيادتها وإنما الفرق بيننا وبين أولئك السلف الحياة الملية، والاعتقاد الصحيح، والأخلاق العالية. خطبة موسى بن نصير في ذات الجماجم: لما وَلّي عبد العزيز بن مروان موسى بن نصير أفريقية وعزل حسان بن النعمان الذي ولاه عليها عبد الملك رحل إليها ووافته الجيوش في ذات الجماجم؛ فقام فيهم خطيبًا؛ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (أيها الناس، إن أمير المؤمنين أصلحه الله رأى رأيًا في حسان بن النعمان فولاه ثغركم ووجهه أميرًا عليكم، وإنما الرجل في الناس بما أظهر، والرأي فيما أقبل وليس فيما أدبر، فلما قدم حسان بن النعمان على عبد العزيز - أكرمه الله - كفر النعمة، وضيع الشكر ونازع الأمر أهله فغير الله ما به. وإنما الأمير أصلحه الله صنو أمير المؤمنين وشريكه ومن لا يتهم في عزمه ورأيه، وقد عزل حسان عنكم وولاني مكانه عليكم ولم يَألُ أن أجهد نفسه في اختياره لكم، وإنما أنا رجل كأحدكم فمن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحض على مثلها، ومن رأى مني سيئة فلينكرها؛ فإني أخطئ كما تخطئون وأصيب كما تصيبون، وقد أمر الأمير - أكرمه الله - لكم بعطاياكم وتضعيفها ثلاثًا فخذوها هنيئًا مريئًا، ومن كان له حاج

نظرة في المبارزة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظرة في المبارزة رسالة وجيزة في المبارزة التي اعتادها الإفرنج ومن يقتدي بهم من الشرقيين كتبها سليم أفندي عواد بين فيها أنواع المبارزة وتاريخها، وحكمها في قوانين الدول الأوربية واليابان والولايات المتحدة وهي تطلب من مكاتب الإسكندرية، وثمنها قرش صحيح.

إصلاح الطرق الصوفية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح الطرق الصوفية (مقالة أرسلها شيخ مشايخ الطرق إلى جريدة المؤيد ونقلناها عنها) من أهم الأشياء التي كان العقلاء يطلبون المبادرة بإصلاحها في الطرق الصوفية الأمور التي لها مظاهر عمومية والتي لا تحصل بين طائفة من الصوفية أو بين الرجل منهم ونفسه بل يشترك في رؤيتها والتأثر منها الصوفي وغيره والوطني والأجنبي معًا، وهذه الأمور أهمها: 1- المواكب التي كان يراها الناس كل يوم في أزقة المدن، وطرقات القرى وبلدان الأرياف، وما يتخلل الكثير منها من المنكرات كالموكب الأحمدي وغيره، وكانت في الأصل موعدًا سنويًّا لاجتماع رجال الطريقة، أو الطرق ثم صارت إلى هذه الحالة السيئة. 2- اجتراء البعض على تقليد احتفالات دينية في مكان عمومي أو مجتمع عمومي بقصد أن يتفرج عليه الحضور كما وقع كثيرًا أمام السياح وفي بعض منازل الإفرنج في مصر. 3- الموالد التي تقام وما يصاحبها ويتخللها من الأمور التي تخالف الآداب الشرعية، وينعكس به الغرض الخيري الموضوع له المولد بالمرة. 4- والثالث الأذكار التي يقيمها الصوفية في كل محل وناد وكثير منها مُباين بالمرة للذكر الشرعي المندوب إليه في الكتاب والسنة، وهو توجه المرء إلى الله تعالى سواء نطق باسمه الكريم أو لم ينطق، قائمًا كان أو قاعدًا، قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الغَافِلِينَ} (الأعراف: 205) ، وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (النساء: 103) . فعن الأمر الأول كتبت لعطوفة رئيس الداخلية، وقد تفضل حبًّا منه بالنافع من الأمر وعمل منشورًا هذا نصه: (نظارة الداخلية منشور نمرة 80 بتاريخ 11مايو سنة 1905 بعدم عمل مواكب صوفية إلا بإذن من مشيخة الطرق) . طلب سماحة شيخ مشايخ الطرق الصوفية بمكتوبه لها رقم 27 إبريل سنة 1905 نمرة 99 إنفاذ ما قرره المجلس الصوفي من منع عمل المواكب باسم الصوفية في القاهرة والأقاليم إلا بإذن من المشيخة؛ لأجل مراقبة ومنع ما يتخللها من الأمور المغايرة للآداب، وحيث إننا نرى موافقة ذلك فأكدوا بإجراء إيجابه بأنحاء جهتكم ومرسل بهذا عدد () من نسخ هذا المنشور لتوزيعها على الفروع التابعة إليكم. سماحتلو حضرة شيخ مشايخ الطرق الصوفية: هذه صورة ما كتب للمديريات والمحافظات بناء على طلب سماحتكم بشأن المواكب التي باسم الصوفية، ونأمل أن لا يعطى الإذن بعملها إلا لمن يتحقق أنه ممن يحافظون على الآداب تمام المحافظة، ولا يقدم على شيء يخل بها، أفندم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ناظر الداخلية ... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى فهمي تحريرًا في 11 مايو سنة 1905 ومتى نفذ هذا تمامًا امتنعت كل هذه الموبقات المرذولة وأبطلت المواكب إلا ما كان لضرورة كالمواكب التي تحصل في المولد النبوي وغيره مع مراعاة الآداب التامة. وعن الأمر الثاني، عند تعديل قانون العقوبات المصري في سنة 1904 تكلمت مع اللجنة المكلفة بدرسه في مجلس الشورى في وضع مادة لمنع ذلك، فوضعتها في ضمن المادة 139 وجعلت العقوبة المجعولة عليها هي الحبس مدة لا تزيد عن سنة، أو غرامة لا تتجاوز الخمسين جنيهًا مصريًّا. والسبب في وضع ذلك في قانون العقوبات أن من يفعل ذلك قد لا يكون من رجال الصوفية فلا يمكن إجراء العقوبات الصوفية عليه. فإذا أنفذ رجال البوليس هذه المادة والمنشور السابق ذكره حق تنفيذهما امتنع حصول هذه المنكرات من الآن تمامًا. وعن الأمر الثالث، وجد أنه لو قيد عدم عمل أي مولد إلا برخصة من المشيخة العمومية كان في ذلك تضييق وصعوبة على الناس. ولكن وضعت مادة خصوصية لذلك في لائحة الصوفية الداخلية وهي المادة السادسة من الباب الخامس قيل فيها (ويشترط أن لا يجاور مكان المولد شيء مما ينافي الآداب الشرعية كالألعاب والسخريات ونحوها) وكان المولد النبوي في مصر في هذا العام والعام الماضي مثالاً لذلك. وتنفيذ هذا الأمر منوط بوكلاء المشيخة في الجهات وبالرأي العام، فحيثما وجد شيء مغايرًا لذلك فله أن يحيط المشيخة العمومية علمًا به، وهي تجري ما يلزم حِياله. وعن الأمر الرابع، اشترط في المادة الثانية من الباب الخامس من اللائحة الداخلية الصوفية أن يبعد عن الطرق كل من أقام الذكر بهيئة مخلة للآداب الشرعية كالتمايل المشبه للرقص والتخبط ونحوه، وتنفيذ ذلك يكون بمثل تنفيذ الأمر المتقدم تماماً. اهـ (المنار) يعلم القراء أننا أنشأنا نطالب بإصلاح أهل الطرق منذ أنشأنا المنار، وقبل إنشائه كنا نطالب شيخ مشايخ الطرق في مصر بذلك، وقد ذكرنا في المنار منذ سنين أنه وعدنا بذلك مرارًا، وهذا الإصلاح الذي كتب عنه الآن لا يغني فتيلاً، فأما جعل الاحتفالات بإذن شيخ المشايخ في القاهرة ووكلائه في سائر بلاد القطر فليس بالأمر المهم، بل خاض الناس وبعض الجرائد في ذلك، وقالوا: إن الإذن لا يعطى إلا لمن يدفع مبلغًا من المال، وأما وضع القانون العقوبة على الأمر الثاني فهو يجعله كسائر ما يعاقب عليه لا يأتيه إلا من أمن العقوبة، وما هو من جوهر الطريق، وإنما هو من إهانته، والأمر المهم ما قال شيخ المشايخ أنه منعه في اللائحة التي وضعها لمشيخة الطرق، ويظهر من عبارته أنه في ريب من تنفيذها، بل هو معتقد أنها لا تنفذ؛ لأنه ناطها برأي وكلائه والجماهير، على أن الجماهير كوكلائه جاهلون يرغبون في هذه البدع. نعم، إن سُرادق الرقص وأكواخ الزنا قد منعت من المولد النبوي، كما منعت قبله من مولد الدمرداش، ولكن لا يزال الذكر في المَولِد على ما ينكر شيخ المشايخ، وهو بين يديه وخلفه وعن يمينه وشماله وفي داره أيضًا، وقد كان الفحش والزنا وغيرهما من المنكرات في مولد السيد البدوي أعم وأكثر في هذا العام منها في الأعوام السابقة، وكتب في ذلك كثير من الجرائد فلم تبال مشيخة الطرق بذلك، ولم تعمد إلى منعه ولا إلى النهي عنه، فلعلنا نجد من شيخ المشايخ همة عملية في إزالة هذه البدع من بعد تكون بدايتها إبطال الأغاني الغرامية والرقص والتمايل بالذكر من داره في رمضان، ويا ليته بيّن لنا وجه الضرورة في المواكب التي تعرض أمامه في المولد النبوي لنعذره على إبقائها.

مرض الأستاذ الإمام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مرض الأستاذ الإمام لقد مرض أستاذنا منذ أشهر مرضًا كنا نظن أنه من الأمراض الهينة التي كانت تعتاده، ولكن طال الزمان ورأينا كل من عُرِضَ عليه من الأطباء ينهاه عن الأعمال العقلية وإجهاد الفكر، ويأمره بالحمية والراحة التامة وهو لا يزداد إلا إجهادًا لنفسه وجهادًا لأمته، وكان موضع المرض المعدة والأمعاء، فانتقل إلى الكبد فاختلف الأطباء حينئذ بين قائل: إن المعدة هي الأصل والكبد تأثرت منها وقائل: إن الكبد بتمددها تضغط على المعدة فتمنعها من وظيفتها وأجمعوا على اختلافهم في أي العضوين هو الأصل على وجوب ترك العمل بتاتًا والتعجيل بالسفر إلى أوربا، وكل منهم أشار بترجيح بلاد واختيار أطبائها فرضي الأستاذ بالسفر، ولكن لم يرض القدر إذ كانت السفن الدورية التي تنقل الناس إلى أوربا لا تقبل زيادة على من سبق إلى أخذ جوازاتها من السائحين والمصطافين إلى 14 من الشهر الإفرنجي الماضي (يونيو) فأخذ جوازًا وصبر عن السفر، ولكنه لم يصبر عن العمل كدأبه وعادته، فكان يبيت على فراش الآلام ويغدو إلى محل عمله؛ فينظر في الفتاوى وفي أعمال مجلس الشورى، ومجلس الأوقاف الأعلى وأعمال الجمعية الخيرية الإسلامية وأوقاف الحنفية، ويشتغل مع اللجنة التي يرأسها لوضع نظام لمدرسة القضاء الشرعي، ويحضر امتحان مدرسة دار العلوم وينظر في حاجات العفاة وطلاب المساعدة، والشفاعة عند الحكام فيقضي حاجاتهم حتى ثقلت عليه وطأة المرض وعجز عن الخروج واشتدت عليه الآلام حتى كان - والذي خلقه حجة على هذه الأمة التي زرئت بالكسل والخمول - يشتغل على فراشه عند سكون نوبة الألم ولم يكن شيء من ذلك الشغل لنفسه ولا لأهله وولده ولكنه للناس، وهل كان الناس يشفقون عليه ادخارًا له أو تأدبا معه أو عملاً بالذوق الذي به أهل هذا البلد؟ كلا إنهم كانوا يكلفونه النهوض بأثقالهم وقوفًا على سريره وهو مضطجع أو مستلقٍ عليه، وكان يعمل ما قدر ويعتذر عما يعجز طالبًا الإنظار والإمهال إلى أن تحسن الحال. جرى على هذه الحال يعمل للناس والمرض يعمل فيه عمله، وينهك قواه وينحل جسده، حتى إذا ما دنا موعد سفره رآه بعض الأطباء فقال: إن المرض ينذر بالخطر ولا يجيز له الإقدام على السفر، فجيء بطبيب آخر؛ فقال قولة الأول، فكتم هذا القول من عرفه من الأصدقاء وذي القربى، وساروا به في اليوم التالي إلى الإسكندرية (10 ربيع الآخر) ورآه من ليلته بعض أطبائها؛ فقالوا مثل ما قال الأولان، وهو لم يعلم بهذا القول بل قيل له: إن الأطباء قالوا: إن جسمك لا يقوى على مشقة سفر البحر؛ فيجب أن تتربص في الإسكندرية لعلك بتغيير الهواء تجد قوة تمكنك من السفر، وعند ذلك هيأ له الصديق الوفي محمد بك راسم دار أخيه في رمل الإسكندرية ونقله إليها. كانت الجرائد اليومية أذاعت خبر سفر الأستاذ إلى أوربا، ثم ذكرت أنه أرجأ السفر بأمر الأطباء فعلم القاصي والداني من أهل هذا القطر بمرضه، وظهر من آيات مكانته في نفوس الناس ما لم يكن يعلم كله، فكان شُغلاً شاغلاً للعقلاء والفضلاء من جميع الأصناف والطبقات، فكان أمراء البيت الخديوي ومن حضر من نظار الحكومة لا سيما رئيسهم (القائم مقام الخديوي) وغيرهم من كبراء الأمة يترددون على الدار التي يقيم فيها المرة بعد المرة، وكان بعض الأمراء يرسلون إليه أطباءهم وكانت الرسائل ترد كل يوم في البرق والبريد من جميع أنحاء القطرين - مصر والسودان - تسأل عن صحته، وكلما وجد يومًا راحة تبشر الجرائد بها الأمة فيصبح الناس مطمئنين فإذا سكتت الجرائد يومًا عن البشارة لجّوا في السؤال مستخبرين. أما نحن - معشر أهليه وأقرب أصدقائه ومريديه - فإننا نتراوح بين اليأس والرجاء إذا رأيناه في راحة من الألم يرجح أملنا حتى إذا ما تألم عظم خوفنا ووجلنا، فمثلنا في ذلك مثل مقياس الحرارة كل يوم في صعود وهبوط بحسب ما نرى من حاله، ولا غرو فهو كالهواء لحياتنا المعنوية وكالشمس لأمتنا المسكينة، ونسأل الله تعالى دفع البلاء واللطف في القضاء، وتعجيل الشفاء، إنه سميع الدعاء.

اعتذار للقراء الكرام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اعتذار للقراء الكرام لا يجهل أحد من قراء (المنار) صلتنا بالأستاذ الإمام، ولا حاجة لأنْ نقول: إن مرضه قد شغلنا عن كل شيء؛ فقد كنا نزوره في مصر كل يوم ونمكث عنده ما شاء الله أن نمكث، ولما سافر إلى الإسكندرية سافرنا معه وأقمنا أيامًا رأينا فيها حاله حسنت بعض الحسن، فعدنا إلى القاهرة وكتبنا بعض الجزء الثامن، ثم جئنا الإسكندرية فأقمنا عنده أيامًا كان آخرها خيرًا من أولها، فعدنا إلى القاهرة وأتممنا الثامن، وكتبنا بعض التاسع، ثم جئنا الإسكندرية وعدنا مرة بعد مرة ولم نصدر الجزء الثامن؛ لأنه لم يتم إلا وقد جاء موعد التاسع فعزمنا على إصدارهما معًا، وقد مر على الموعد أيام والعذر ظاهر، ولا شك أن تأخير هذين الجزئين يستتبع تأخير ما بعدهما أيضًا وهو تأخير لا يضر؛ لأن ما يُكتب في (المنار) لا يخلقه تأخر الزمان؛ لأنه ليس من الأخبار الطارئة التي تسبقنا الجرائد إليها فتغني القراء عما نكتبه، وبهذا قد ظهر عذرنا للذين كتبوا إلينا من بلاد كثيرة فلم نجبهم، ولعله لا يضيع عندنا شيء إن شاء الله تعالى.

إعذار بعد اعتذار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعذار بعد اعتذار أخبرنا محصل (المنار) في القاهرة بأن كثيرًا من المشتركين يقولون له: إنهم يريدون زيارتنا ودفع قيمة الاشتراك في الإدارة. فنحن نشكر لهؤلاء المحبين رغبتهم في زيارتنا، ونحن أشد رغبة في التشرف بزيارتهم، ونرجوهم مع ذلك أن يدفعوا الاشتراك للمحصل؛ لتكون الزيارة بيننا ودية أدبية فقط، ولكي لا يحرم المحصل من أجرة التحصيل منهم؛ إذ ليس له شيء إلا على ما يحصله بيده، فالدفع إليه أحب إلينا وأنفع له، فلعل إخواننا الكرام يرضوننا جميعًا. ثم إنا نذكر السادة المشتركين في القطر المصري والسودان بأن يتفضل أهل الفضل منهم بإرسال قيمة الاشتراك إلينا بالتحويل على البريد ولا يلجئونا إلى الكتابة إليهم أو التحويل عليهم، ولا شك أن من يرجع إلى وجدانه ويفكر فيما نحن فيه من الشواغل يلبي مسرعًا، ويجعلنا له من الشاكرين.

رأي غريب في عاقبة السكر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي غريب في عاقبة السُّكر جاء في بعض الجرائد أن بعض حكماء أمريكا يرى أن الناس بعد كذا ألفًا من السنين يصيرون كلهم مجانين؛ بتوارث تأثير السُّكر في دمائهم وأعصابهم؛ فأولاد السكارى دائمًا مستعدون للجنون فإذا هم اعتادوا مثله على السُّكر جاء أولادهم أشد استعدادًا له منهم، وهكذا يتسلسل نمو الاستعداد للجنون حتى يصير جنونًا في بعض طبقات النسل؛ ولذلك يكثر الجنون في الناس عامًا بعد عام، وأكثر ما يصيب السكورين، فإذا دام انتشار السُّكر، وإقبال الناس على هذه الخمور الكثيرة الأنواع فإنها يوشك أن تعم البشر بعد ألوف من السنين فيكون كل واحد منهم مستعدًّا للجنون فيظهر فيهم بالتدريج حتى يغتالهم غول السُّكر أجمعين. يعد أكثر الناس هذا القول غُلُوًّا في المبالغة، ولكن لا يوجد عاقل عالم ينكر أن السُّكر يعد النسل للجنون، فهل يتعظ بذلك الفساق وعبيد اللذة، ويخافون على نسلهم إذا لم يخافوا على أنفسهم من سائر عواقب السكر في الدنيا والآخرة؟ كلا، إن الإنسان خلق ضعيفًا لا يقوى على مقاومة الشهوة إلا إذا أُدِّبَ تأديبًا دينيًّا من الصغر، فإنه حينئذ يرجى له أن يقوى على جند الشهوة المحرمة في الغالب، فإن غلبته نفسه على الإلمام بشيء تذكر الله فلاذ بالتوبة والإنابة. لقد ران حب اللذة على العقول فأضعف الفكر وختم على القلوب، فأمات شعور الحق والخير، وصرف الحواس عن الاعتبار بما ترى وتسمع، فكأن هؤلاء المدمنين لا يظنون أن في السُّكر شيئًا من الضرر، ولذلك يوجد فيهم من يلزم به أهله وولده ويجمعهم عليه. رأيت في بعض الجرائد أن رجلاً من الأغنياء أخذ ولده ليلاً إلى بعض ملاهي الأزبكية حيث المقامرة والسكر فطفق الوالد يقامر حتى رأى ولده يهوم طلبًا للنوم؛ فطلب له كأسًا من الجعة (البيرة) فأنكره الولد وعافه؛ فألحَّ عليه والده ومربيه حتى شربه بالتدريج وكان ذلك مفتاح الشرور فلم يلبث الولد أن عاد إلى ذلك حتى اعتاد وانغمس في الفساد وانقطع عن الدرس والمدرسة فيا لله ولهذه التربية. آفة هؤلاء الجاهلين الذين سفهوا أنفسهم فساد الدين، ومن العجائب أن منهم من يتوهم أن عقله وفكره أرقى من أن يقبل الدين، وأن المتدينين لا يكونون إلا منحطين في مراتب البشرية، كأن أعلا مراتب البشرية عند هؤلاء السفهاء أن ينصرف الإنسان إلى اللذات البهيمية فلا يكون بينه وبين الثور والخنزير والقرد فرق في غير الصورة الجسدية إلا بخروجه هو في طاعة شهواته عن مقتضى الفطرة والإسراف في كل شيء حتى يكون حرضًا أو يكون من الهالكين، ولو صح هذا الرأي لكانت البهائم أفضل من الناس كما هو ظاهر.

افتخار جريدتي اللواء والعالم الإسلامي بالكذب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ افتخار جريدتي اللواء والعالم الإسلامي بالكذب من القواعد المعروفة أن الإنسان يتكبر إذا كان يشعر في نفسه بأنه وضيع بين كبراء لا يجاريهم؛ إلا إذا تكلف الظهور بمظهرهم؛ لأن صيغة التكبر تدل على التكلف. ومن لوازم التكبر الكذب في القول ليتم به التكبر بالفعل، وكأن صاحب جريدتي اللواء والعالم الإسلامي على غروره بنفسه يشعر بأن جريدته لا قيمة لها فهو يخترع الرسائل ويدعي أنها جاءته من الهند وجاوه والآستانة، وغيرها من البلاد، ثم يتبجح ويفتخر بذلك ويدعي أن جريدتيه موضع ثقة الأمم والشعوب الإسلامية في العالم الإسلامي، ولعلك لا تجد شيئًا من هذا التبجح والتنفج في جريدة يومية أخرى ولا في جريدة أسبوعية؛ إلا أن يكون بعض ما يسمونه في مصر بالجرائد الساقطة فالتيمس والتان ونيويورك هرالد وأمثالها تستحي أن تفخر ولو بكلمة حق؛ لأنها ترى الكمال في أن يفخر بها الناس، لا في أن تفخر هي بنفسها. وإذا أحببت أن ترى شاهدًا من شواهد رسائل اللواء المكذوبة فراجع العدد 1754 والعدد 1762 تجد في الأول منهما مقالة، وفي الآخر مقالة أخرى زعم أنها جاءته من جاوه تؤيد ما كتبه في العدد 1754 من جهة، وتستدرك عليه من جهة أخرى وأنت ترى أن مدة ما بين العددين سبعة أيام، ففي هذا الأسبوع طار عفريت من الجن بعدد اللواء من القاهرة فقطع البحر الأحمر والمحيط الهندي إلى جاوه ثم حمل رسالة من أحد المسلمين هناك وعاد بها إلى إدارة اللواء الأغر، ولولا هذا العفريت لما وصل اللواء إلى جاوه، وكتب ذلك الكاتب ووصلت رسالته إلى مصر إلا في زهاء شهرين من الزمان. يقول الناس في أمثالهم: (إذا كنت كذوبًا فكن ذكورًا) أي لئلا تفتضح عند الناس فتحتقر، ولكن صاحب الجريدتين قد أَمِنَ من أهل وطنه المحبوب أن يحتقروه مهما قال وفعل فهو مستغن عن تكلف عناء التذكر والتوفيق بين الكذب السابق واللاحق. يسهل على اللواء الأغر أن يكذب في يومه على أمسه، فكيف يطالَب بأن لا يكذب في أسبوع على ما قبله؟ رأيت بالمصادفة ما نقله عن جريدة الأهرام في استرجاع شيخ الجامع الأزهر لكتابه الذي أرسله إلى رئيس النظار (القائم مقام الخديوي) في مسألة إعفاء حفاظ القرآن من الخدمة العسكرية. جريدة الأهرام قالت يوم الجمعة: إن شيخ الجامع اقتنع بأن إرسال ذلك الكتاب لم يكن من الصواب فاسترجعه رسميًّا وأبطل عدده (نمرته) الرسمي، وجريدة اللواء زعمت في يوم السبت التالي لتلك الجمعة أن جريدة الأهرام قالت: إن الحكومة كلفت شيخ الجامع بسحب كتابه. ولم يكن أحد من الناس نسي ما في جريدة الأهرام؛ لأنه لم يمر عليه سوى ليلة واحدة. وكأننا ببعض الذين يعرفون كنه اللواء وصاحبه، يعذلوننا على إضاعة نحو صفحتين من المنار في بيان كذبه، ولعلهم يرجعون عن عذلهم؛ إذا علموا أننا لا نقصد بهذا إلا الرد على الذين أخبرونا بأن اللواء نشر مقالة من جاوه وأخرى من كلكته في ذم المنار وطلبوا منا الرد عليهما ليعلموا أننا لا نثق بما يكتب في هذه الجريدة ولا نقرأه على أنه لم يكن في تلك المقالتين إلا السب والشتم، فلو أنهما تضمنتا نقل شيء من المنار والرد عليه لبينا للناس الحق في ذلك.

مصاب الإسلام بموت الأستاذ الإمام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب الإسلام بموت الأستاذ الإمام مات الأستاذ الإمام، ولو كان كِبَر النفوس، وطهارة الأرواح، وعلو الهمم مما يحول دون الموت؛ لما مات أبدا، ولكن كل حي يموت إلا الحي القيوم {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) . مات الأستاذ الإمام؛ فمات ذلك العلم الواسع، والحكمة البالغة، والحجة الناطقة، والمعارف الكونية والإلهية، والعلوم الكسبية واللدنية، مع البيان الساحر والأدب الباهر، والبلاغة التي تمتلك العقول والقلوب، والفصاحة التي تستهوي الأسماع والنفوس. مات الأستاذ الإمام، فماتت تلك الأخلاق القدسية، والشمائل المحمدية، والصدق في القول والفعل، والإخلاص في السر والجهر، والوفاء في القرب والبعد، والسخاء في العسر واليسر، والعفة في الشباب والكهولة، والحلم عند الغيظ والمغاضبة، والعفو مع القدرة على المؤاخذة، والتواضع وخفض الجناح للمخلصين، والشهامة والترفع على المنافقين والمستكبرين، واللين للحق وأهله، والشدة على الباطل، وجند الشجاعة التي تهابها الأمراء والعظماء، والقناعة التي رفعت رأسه فوق الرؤساء. مات الأستاذ الإمام؛ فماتت تلك الأعمال النافعة، والمشروعات الرافعة، والمساعي الجديدة، والوسائل المفيدة، والاجتهاد في ترقية الأمة، والدفاع عن الملة، والدعوة إلى التوحيد والتأليف، والاشتغال بأفضل التعليم والتأديب، والتربية الصحيحة للمريدين، والجمع بين علوم الدنيا والدين، ومواساة البائسين والمعوزين، وكفالة أولاد الفقراء والمساكين. مات الأستاذ الإمام فماتت تلك الآمال البعيدة، والمقاصد الحميدة، التي كانت مطوية في ذلك الجرم الصغير، الذي انطوى فيه العالم الكبير، تلك الآمال التي تتضاءل دونها همم الملوك والأمراء، وتتصاغر أمامها نفوس الزعماء والأغنياء الذين هم عن استعمال مواهبهم مصروفون، وعن الثقة بربهم محجوبون، وعن سنته في خلقه غافلون. مات الأستاذ الإمام فراع موته الناس، من جميع الطوائف والأجناس، فعلم علماء الدين، أنهم فقدوا ركنهم الركين، الذي تحمل عنهم رد الشبهات، وغير ذلك من فروض الكفايات، وعلماء الدنيا، أنهم خسروا ركنهم الأقوى، الذي يدفع عنهم مطاعن المتعصبين، وتكفير الجامدين، ويثبت أن الإسلام جمع بين المصلحتين، ولا يتم ذلك إلا بالجمع بين العلمين، وشعر طلاب الإصلاح بأنهم فقدوا إمامهم العظيم، الذي كملت فيه صفات الزعيم، وأحسَّ الفقراء والمساكين بأنهم رزءوا بكافل اليتامى وغوث العاجزين، ولم يجهل القائمون بالشؤون العامة شدة وقع هذه الطامة، وأنهم نكبوا بصاحب الرأي الثاقب، والعمل النافع، مربي الرأي العام في الشورى والجمعية العمومية، صاحب اليد البيضاء في الأوقاف الإسلامية، المضطلع بإصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية، الناهض بأعباء الجمعية الخيرية، الموفق بين الحكومة والرعية، واعترف أهل الملل بأن مصابه مصاب الإنسانية، والخسارة الكبرى على العلم والمدنية. مرض هذا البر الرحيم؛ فكان على فراش الموت يسأل عن بعض الضعفاء، ويبحث عن مساكن القواعد من النساء، ليواسيهم بالبر من وراء الستر، وقال لي: إن فلانًا الغريب قد انقطع عن السفر بدَيْن عليه، وإنني مستغن الآن عن مائة جنيه فإن كانت كافية أرسلتها إليه، ولكنه غاب عن الوجود، قبل أن يقضي لبانته من البر والجود. مرض هذا المصلح العظيم فاضطربت الأمة المصرية لمرضه فكانت الدار التي يمرَّض فيها كعبة العائدين من العلماء والأمراء، والوزراء، والأدباء والفضلاء، والفقراء، والأغنياء وكان البرق يناجيها كل يوم مع البريد، بالنيابة عن العاجز والبعيد، سائلين عن صحته، أو مهنئين بما يقال عن راحته، فكان يحمد الله أن جعل الدهماء من أمته يعرفون لخادمها خدمته، ويشكرون للعامل لها عمله، ويقول لئن شفيت لأجهدن النفس في خدمتهم أجمعين؛ حتى أكون حرضًا أو أكون من الهالكين. مرض الأستاذ الإمام، فلم يعقه المرض عن خدمة المسلمين والإسلام، واحتضر الأستاذ الإمام، وهو يلتهب غيرة على المسلمين والإسلام. نقول: مات الأستاذ الإمام؛ فنبدئ القول ونعيده ننصر الحس، ونكابر النفس فقد كادت تحسب أن موته رؤيا منام، وأضغاث أحلام، وما هو إلا الحق اليقين ومصير الأولين والآخرين، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ} (الأنبياء: 34) ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35) . مات أستاذنا وإمامنا، ولك اللهم البقاء فلا تفتنَّا بعده، ولا تحرمنا أجره، واغفر اللهم لنا وله. نعم، إنه قد مات ولكن لم تمت علومه ومعارفه، ومآثره وعوارفه، فلقد ربى أرواحًا، وأصلح إصلاحًا، وألف كتبًا، وترك علماء وأدبًا، وأمات سننًا سيئة له أجْرُ إماتتها، وأحيا سننًا حسنة له أجرها وأجر من يعمل بها، وعلمنا كيف نفهم القرآن، ونقيم شرائع الإسلام، مع توخي نفع الناس أجمعين، والإخلاص لله رب العالمين. مات أستاذنا وإمامنا فكبر علينا موته، ولكنه ربانا على الصبر وعلمنا كيف نتعزى عنه حتى في مرض موته، فقد كان هجيراه في تلك الكربات والسكرات، كلمة الله التي أمرنا بتكرارها في الصلوات. (الله أكبر) فلئن كان بفضل الله كبيرًا فينا فالله أكبر، ولئن كان مرضه وموته كبيرًا علينا فالله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101) . لبى دعوة ربه برمل الإسكندرية في الساعة الخامسة بعد الزوال من يوم الثلاثاء ثامن جمادى الأولى؛ فنعاه البرق بآلاته الناطقة والكاتبة إلى العاصمة وغيرها من مدن القطر؛ فاضطربت لنعيه القلوب، وذرفت العيون، واسترجعت الألسنة وحوقلت، وطفق الناس يعزي بعضهم بعضًا متفقين على أن المصاب به عام، وأشد وقعه على المسلمين والإسلام، وما كنت تسمع من القريب والغريب، والبغيض والحبيب، والوطني والأجنبي، والرشيد والغوي، والعالم والجاهل، والمفضول والفاضل إلا كلمة (خسارة لا تعوض) أو كلمة (عوض الله الأمة به خيرًا) أو قول الشاعر: وما كان قيسًا رزءه رزء واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما أو قول الآخر: ولكن الرزية فَقْد حُرٍّ ... يموت لموته خَلق كثير وقد اجتمع مجلس النظار فقرر أن تحتفل الحكومة رسميًّا بتشييع جنازته في الإسكندرية ومصر، وأن تنقل جثته على قطار خاص إلى العاصمة، ففعلت، وشاركتها الأمة ونزلاؤها والمحتلون بهذا التشييع الذي لم يسبق مثله لغيره حتى كان يخيل للمشيع أنه لم يبق أحد من سكان الإسكندرية ولا من سكان القاهرة إلا وقد حضر ليودع هذا الإمام الوداع الأخير، وقد صُلي عليه في الجامع الأزهر، ودفن في قرافة المجاورين تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته. ولما كان المنار هو الداعي إلى الانتفاع بهذا الإمام المصلح في حياته، فجدير به أن يرشد إلى الاستفادة بسيرته بعد مماته، فلا نطيل في الرثاء والتأبين وإن كان بالحق، ولكننا نقص على القراء مخلص سيرته مع التزام الصدق؛ ليظهر لهم كيف تعلم وتربي حتى صار إمامًا حكيمًا، وماذا عمل حتى صار مصلحًا عظيمًا، وسنضع له تاريخًا مطولاً نفصل فيه ما أجملنا، ونشرح فيه ما لخصنا، ونودعه كثيرًا من رسائله ومكاتباته، وخطبه ومقالاته، وما كتب به إليه بعض العلماء والعظماء، وما قاله فيه نوابغ الكتاب والشعراء، وما أبَّنَتْه به الجرائد، وما رثي به من غُرَر القصائد، ونسأل الله تعالى أن يحسن عزاءنا وعزاء الأمة فيه، ويوفقنا في مصابنا لما يحبه سبحانه ويرضيه. ((يتبع بمقال تالٍ))

ملخص سيرة الأستاذ الإمام ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ملخص سيرة الأستاذ الإمام (1) أصله ونسبه ومولده هو محمد بن عبده بن حسن خير الله من مديرية البحيرة في القطر المصري. وبيت خير الله تركماني الأصل كما أخبرنا الفقيد رحمه الله تعالى ولا أذكر عنه شيئًا من تاريخ قدوم عشيرتهم إلى القطر المصري إلا أنهم كانوا يقيمون في الخيام وأن علي باشا مبارك أخبره أن عبد اللطيف البغدادي المؤرخ الشهير ذكر في الرحلة الكبرى أنه جاء (محلة نصر) ونزل ضيفًا في بيت التركماني، وأمه من عشيرة كبيرة في مديرية الغربية تعرف بعائلة عثمان وتنسب إلى بني عدي قبيلة سيدنا عمر بن الخطاب ويقال: إنها من ذريته. وكان والده شهمًا شجاعًا وقورًا سخي النفس وكانت والدته برة رحيمة بالمساكين ذكية الفؤاد شديدة الحياء ولا أبعد إذا قلت: إن والديه كانا من أسلم الناس فطرة وأحسنهم خلقًا. وكانت هذه الأخلاق فيهما موروثة ومكتسبة بالمعاشرة والقدوة لا بتعليم المدارس ولا بتأديب المعلمين. وهذا أصل عظيم في استعداد الرجل لما وصل إليه من الكمال الذي لم نر ولم نسمع بمثله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه البخاري ومسلم. ولد قدس الله تعالى روحه في أواخر سنة خمس وستين أو ست وستين ومائتين وألف من الهجرة الشريفة (روايتان من كتابته) في قرية من قرى مديرية الغربية كان والده هاجر إليها هو وأخوه بهنس فرارًا من ظلم حكام مديرية البحيرة في أواخر حكم محمد علي باشا الكبير وكان له قرابة في تلك القرية، وفي أثناء إقامته فيها كان يتردد إلى بعض القرى القريبة فيها ويتعارف هو وأهلها؛ فأدى ذلك التعارف إلى المصاهرة إذ تزوج بوالدة الفقيد وهي من قرية تسمى (حصة شبشير) قريبة من مدينة طنطا وأقام معها في قرية تسمى (شتر) إلى أواخر مدة عباس باشا الأول والي مصر ثم ألجأته الحوادث بعد ذلك إلى الرجوع إلى بلده وهي قرية تسمى (محلة نصر) في البحيرة وفيها نشأ وترعرع. *** تعليمه وتربيته نشأ كما ينشأ أمثاله من أبناء البيوت المعروفة في القرى ولم يدخل المكتب لتعلم القراءة والكتابة إلا بعد أن جاوز العاشرة من سنه وقد كتب هو عن مبدأ تعلمه وتأدبه ما نصه: (تعلمت القراءة والكتابة في منزل والدي ثم انتقلت إلى دار حافظ قرآن قرأت عليه وحدي جميع القرآن أول مرة ثم أعدت القراءة حتى أتممت حفظه جميعه في مدة سنتين أدركني في ثانيتهما صبيان من أهل القرية جاءوا من مكتب آخر ليقرأوا القرآن عند هذا الحافظ ظنًّا منهم أن نجاحي في حفظ القرآن كان من أثر اهتمام الحافظ. بعد ذلك حملني والدي إلى طنطا حيث كان أخي لأمي الشيخ مجاهد رحمه الله لأُجَوِّد القرآن في المسجد الأحمدي لشهرة قرائه بفنون التجويد وكان ذلك في سنة 1279 هجرية) . (ثم في سنة إحدى وثمانين جلست في دروس العلم وبدأت بتلقي شرح الكفراوي على الأجرُّومية في المسجد الأحمدي بطنطا وقضيت سنة ونصفًا لا أفهم شيئًا لرداءة طريقة التعليم فإن المدرسين كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها ولا عناية لهم بتفهيم معانيها لمن لم يعرفها فأدركني اليأس من النجاح وهربت من الدرس واختفيت عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر عليَّ أخي فأخذني إلى المسجد الأحمدي وأراد إكراهي على طلب العلم فأبيت وقلت له: قد أيقنت أن لا نجاح لي في طلب العلم ولم يبق عليّ إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثير من أقاربي. وانتهى الجدال بتغلبي عليه فأخذت ما كان لي من ثياب ومتاع، ورجعت إلى محلة نصر على نية أن لا أعود إلى طلب العلم وتزوجت في سنة 1282 على هذه النية. فهذا أول أثر وجدت في نفسي من طريقة التعليم في طنطا وهي بعينها طريقته في الأزهر وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم القدر بصحبة من لا يلتزمون هذه السبيل في التعليم - سبيل إلقاء المعلم ما يعرفه أو ما لا يعرفه بدون أن يراعي المتعلم ودرجة استعداده للفهم غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون تغشهم أنفسهم فيظنون أنهم فهموا شيئًا فيستمرون على الطلب إلى أن يبلغوا سن الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يبتلى بهم الناس وتصاب بهم العامة فتعظم بهم الرزية؛ لأنهم يزيدون الجاهل جهالة، ويضللون من توجد عنده داعية الاسترشاد ويؤذون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم ويحولون بينه وبين نفع الناس بعلمه. بعد أن تزوجت بأربعين يومًا جاءني والدي ضحوة نهار وألزمني بالذهاب إلى طنطا لطلب العلم وبعد احتجاج وتمنع وإباء لم أجد مندوحة عن إطاعة الأمر ووجدت فرسًا أُحضر فركبته، وأصحبني والدي بأحد أقاربي وكان قوي البنية شديد البأس ليشيعني إلى محطة (إيتاي البارود) التي أركب منها قطار السكة الحديدية إلى طنطا. كان اليوم شديد الحر والريح عاصفة ملتهبة سافياء، تحصب الوجه بشبه الرمضاء، فلم أستطع الاستمرار في السير فقلت لصاحبي: أما مداومة المسير فلا طاقة لي بها مع هذه الحرارة ولا بد من التعريج على قرية أنتظر فيها أن يخف الحر، فأبى علي ذلك فتركته وأجريت الفرس هاربًا من مشادته وقلت: إني ذاهب إلى (كنيسة أدرين) - بلدة غالب سكانها من خؤولة أبي - وقد فرح بي شبان القرية [*] لأنني كنت معروفًا بالفروسية واللعب بالسلاح وأملوا أن أقيم معهم مدة يلهو فيها كل منا بصاحبه. أدركني صاحبي وبقي معي إلى العصر وأرادني على السفر فقلت له خذ الفرس وارجع وسأذهب صباح الغد وإن شئت قلت لوالدي: إنني سافرت إلى طنطا فانصرف وأخبر بما أخبر وبقيت في هذه القرية خمسة عشر يومًا تحولت فيها حالتي، وبدلت فيها رغبة غير رغبتي. ذلك أن أحد أخوال أبي واسمه الشيخ درويش سبقت له أسفار إلى صحراء ليبيا، ووصل في أسفاره إلى طرابلس الغرب وجلس إلى السيد محمد المدني والد الشيخ ظافر المشهور الذي كان قد سكن الأستانة وتوفي بها وتعلم عنده شيئًا من العلم وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ الموطأ وبعض كتب الحديث ويجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته هذه واشتغل بما يشتغل به الناس من فلح الأرض وكسب الرزق بالزراعة. وإن هذا الشيخ جاءني صبيحة الليلة التي بتها في الكنيسة وبيده كتاب يحتوي على رسائل كتبها السيد محمد المدني إلى بعض مريديه بالأطراف بخط مغربي دقيق، وسألني أن أقرأ له فيها شيئًا لضعف بصره فدفعت طلبه بشدة ولعنت القراءة ومن يشتغل بها ونفرت منه أشد النفور، ولما وضع الكتاب بين يدي رميته إلى بعيد لكن الشيخ تبسم وتجلى في ألطف مظاهر الحلم، ولم يزل بي حتى أخذت الكتاب، وقرأت منه بضعة أسطر فاندفع يفسر لي معاني ما قرأت بعبارة واضحة تغالب إعراضي فتغلبه وتسبق إلى نفسي. وبعد قليل جاء الشبان يدعونني إلى ركوب الخيل واللعب بالسلاح والسباحة في نهر قريب من القرية فرميت الكتاب وانصرفت إليهم. بعد العصر جاءني الشيخ بكتابه وألح علي في قراءة شيء منه فقرأت وفسر، ثم تركته إلى اللعب وفعل في اليوم الثاني كما فعل في الأول أما اليوم الثالث فقد بقيت أقرأ له فيه وهو يشرح لي معاني ما أقرأ نحو ثلاث ساعات لم أملّ فيها فقال لي: إني في حاجة إلى الذهاب إلى المزرعة ليعمل بعض العمل فيها فطلبت منه إبقاء الكتاب معي فتركه، ومضيت أقرأه وكلما مررت بعبارة لم أفهمها وضعت عليها علامة لأسأله عنها إلى أن جاء وقت الظهر وعصيت في ذلك اليوم كل رغبة في اللعب وهوى ينازعني إلى البطالة، وعصر ذلك اليوم سألته عما لم أفهمه فأبان معناه على عادته، وظهر عليه الفرح بما تجدد عندي من الرغبة في المطالعة والميل إلى الفهم. كانت هذه الرسائل تحتوي على شيء من معارف الصوفية وكثير من كلامهم في آداب النفس وترويضها على مكارم الأخلاق وتطهيرها من دنس الرذائل وتزهيدها في الباطل من مظاهر هذه الحياة الدنيا. لم يأت عليَّ اليوم الخامس إلا وقد صار أبغض شيء إلى ما كنت أحبه من لعب ولهو، وفخفخة وزهو، وعاد أحب شيء إلى ما كنت أبغضه من مطالعة وفهم وكرهت صور أولئك الشبان الذين كانوا يدعونني إلى ما كنت أحب ويزهدونني في عِشْرة الشيخ رحمه الله فكنت لا أحتمل أن أرى واحدًا منهم بل أفر من لقائهم جميعًا كما يفر السليم من الأجرب. في اليوم السابع سألت الشيخ ما هي طريقتكم فقال: طريقتنا الإسلام فقلت أو ليس كل هؤلاء الناس بمسلمين؟ قال لو كانوا مسلمين لما رأيتهم يتنازعون على التافه من الأمر ولما سمعتهم يحلفون بالله كاذبين بسبب وبغير سبب. هذه الكلمات كانت كأنها نار أحرقت جميع ما كان عندي من المتاع القديم - متاع تلك الدعاوى الباطلة والمزاعم الفاسدة، متاع الغرور بأننا مسلمون ناجون، وإن كنا في غمرة ساهين، سألته: ما وردكم الذي يتلى في الخلوات أو عقب الصلوات؟ فقال: لا ورد لنا سوى القرآن تقرأ بعد كل صلاة أربعة أرباع مع الفهم والتدبر. قلت: أنى لي أن أفهم القرآن ولم أتعلم شيئًا؟ قال: أقرأ معك ويكفيك أن تفهم الجملة وببركتها يفيض الله عليك التفصيل وإذا خلوت فاذكر الله على طريقة بينها. وأخذت أعمل على ما قال من اليوم الثامن فلم تمض عليَّ بضعة أيام إلا وقد رأيتني أطير بنفسي في عالم آخر غير الذي كنت أعهد [1] واتسع لي ما كان ضيقًا، وصغر عندي من الدنيا ما كان كبيرًا، وعظم عندي من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرًا، وتفرقت عني جميع الهموم ولم يبق لي إلا هم واحد وهو أن أكون كامل المعرفة كامل أدب النفس ولم أجد إمامًا يرشدني إلى ما وجهت إليه نفسي إلا ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد، - هذا هو الأثر الذي وجدته في نفسي من صحبة أحد أقاربي وهو الشيخ درويش خضر من أهالي (كنيسة أدرين) من مديرية البحيرة. وهو مفتاح سعادتي إن كانت لي سعادة في هذه الحياة الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان غاب عن غريزتي، وكشف لي ما كان خفي عني مما أودع في فطرتي. وفي اليوم الخامس عشر مر بي أحد سكان بلدتنا (محلة نصر) فأخبرني أن والدتي ذهبت إلى طنطا لتراني فعلمت أن سيقول لوالدي أنني لا أزال في الكنيسة فأصبحت مبكرًا إلى طنطا خوف عتاب الوالد واشتداده في اللوم؛ لأنني لو كنت أقمت له ألف دليل على أنني وجدت في مهربي مطلبه ومطلبي لَمَا اقتنع. ذهبت إلى طنطا وكان ذلك قرب آخر السنة الدراسية في شهر جمادي الآخرة من سنة 1282 هجرية لكن اتفق أن بعض المشايخ كانت ماتت بنته فعاقه الحزن عليها عن إتمام شرح الزرقاني على العزية وآخر عرض له عارض منعه عن إتمام شرح الشيخ خالد على الأجرومية فأدركت كلاًّ منهما في أوائل الكتاب الذي كان يدرسه وجلست في الدرسين فوجدت نفسي أفهم ما أقرأ وما أسمع والحمد لله. وعرف ذلك مني بعض الطلبة فكانوا يلتفون حولي؛ لأطالع معهم قبل الدرس ما سنتلقاه. وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة كنت أطالع بين الطلبة وأقرر لهم معاني شرح الزرقاني فرأيت أمامي شخصًا يشبه أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلوى مصر البيضاء: فقلت له وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله من جد وجد. ثم انصرف فعددت ذلك القول منه إلهامًا ساقه الله إليَّ ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا. وفي منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الأزهر وداومت على طلب العلم على شيوخه مع مح

ملخص سيرة الأستاذ الإمام ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة ملخص سيرة الأستاذ الإمام (2) دخوله في الماسونية - من التمهيد كان السيد جمال الدين قد أخذ على نفسه العهود والمواثيق أن يعمل عملاً عظيمًا ينهض بدولة إسلامية نهوضًا يعيد للإسلام مجده وكان مضطلعًا بذلك، إلا أنه كان مستعجلاً يريد أن يعمل هذا العمل العظيم ويرى أثر نجاحه وثمرة غراسه في حياته؛ لذلك جاءه من طريق الحكومة والسلطة وتوسل إليه بالعلم فاتخذ له في مصر تلاميذ بدأ يقرأ لهم كتب أصول الدين والفلسفة حتى إذا ما وثق بهم مزج لهم السياسة بالعلم وخاف استبداد إسماعيل باشا أن يحول بينهم وبين ما يشتهون، فانتظم مع مريديه في سمط الجمعية الماسونية وكان باتحادهم رئيس محفل مرّن فيه تلامذته على الخطابة والبحث في حياة الأمم وموتها، ونهوض الدول وسقوطها، وقد دخل في هذا المحفل شريف باشا وبطرس باشا غالي وكثيرون من الكبراء والأذكياء. وكان توفيق باشا ولي عهد الخديوية مشايعًا للسيد ومحفله، ومكان صاحب الترجمة من السيد مكانه المعلوم فكان دخوله في الماسونية متممًا لتربيته وتعليمه، وصلة بينه وبين توفيق باشا وكثير من رجال مصر وسببًا لبحثه في أحوال الحكومة المصرية، ووقوفه على نقائصها ومساويها وتوجهه إلى السعي في إصلاحها وممهدًا له الطريق للعمل الذي قام به قبل الثورة وبعدها على ما نقصده هنا بالإيجاز، وفي التاريخ الذي سنؤلفه للفقيد بالتفصيل. وقبل أن ننتقل من هذا التمهيد نقول: إن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- ترك الماسونية من زمن طويل، وقد أكثر أبناؤها من دعوته إلى محافلها بعد رجوعه من النفي إلى مصر فلم يجب، وأهدوا إليه وسامًا فلم يقبله. وقد سألته عن حقيقتها مرة فقال بأن عملها في البلاد التي وجدت فيها للعمل قد انتهى وهو مقاومة سلطة الملوك والباباوات الذين كانوا يحاربون العلم والحرية وهو عمل عظيم كان ركنًا من أركان ارتقاء أوربا، وإنما يحافظون عليها الآن كما يحافظون على الآثار القديمة، ويرونها جمعية أدبية تفيد التعارف بين الناس. وأخبرني بأن دخوله مع السيد فيها كان لغرض سياسي اجتماعي، وأنه قد تركها من سنين ولن يعود إليها، وأنها ابتذلت في مصر ابتذالاً لم يكن من قبل. وأخبرني أنه أرشد مرة أحد ولاة بيروت إلى إبطال محفل ماسوني علم أنه يكيد للدولة العلية بإيعاز بعض الدول الأوربية فهاب ذلك الوالي وظن أنه فوق قدرته، ولكن الفقيد -رحمه الله تعالى- هداه السبيل إلى ذلك وشد من عزيمته ففعل، بل كان مبدأ انسحابه مع السيد جمال الدين من الماسونية عندما جاء إلى مصر رئيس الشرق الأعظم الإنكليزي، وهو يومئذ ولي العهد للدولة الإنكليزية فاجتمعت المحافل الماسونية حفاوة به، وذكر أحد رؤسائها ولي العهد بهذا اللقب فاعترض السيد جمال الدين، وقال: إنه لا يسمح بأن يحتفل بأحد على أنه ولي العهد لدولة من الدول لا سيما الدولة الإنكليزية التي من وصفها كيت وكيت، وليس لها فضل على الجمعية ... إلخ ما قاله. ولا أذكر منه إلا مثل هذا الإجمال فرد عليه بعض رؤساء المحافل، وبعد مناقشة انسحب من الماسونية هو وخواص مريديه ولما رأى بعض علماء الأزهر بعد ذلك ترقي الأستاذ الإمام ونفوذه في الحكومة توهموا أن ذلك بمساعدة الجمعية له، فدخل كثيرون منهم فيها ومنهم من دخل بدعوة بعض أصحابه من أهلها، ولم يدخل أحد منهم لأجل عمل يفيد الأمة والبلاد إلا جماعة السيد جمال الدين. إصلاحه في مدارس الحكومة والأزهر إذا تمهد هذا فنقول: قد عين الفقيد في أواخر سنة 1295 مدرسًا للتاريخ في مدرسة دار العلوم، وللعلوم العربية في مدرسة الألسن الخديوية، فكان يدرس فيهما مع الاستمرار على التدريس في الجامع الأزهر؛ فبدأ في دار العلوم بقراءة مقدمة ابن خلدون؛ لأنه مقدمة للتاريخ، وإنما غرضه بث أفكاره السياسية والاجتماعية في أذهان التلاميذ فكان يطبق ما فيها من الكلام عن نهوض الدول وسقوطها وشؤون العمران وأصوله على أمته ويبين أسباب ضعفها والوسائل التي تذهب به وتعيد إليها ما فقدت من عزها ومجدها، وكان يكلف التلاميذ كتابة المقالات والفصول في ذلك؛ فكان كل واحد يشعر بروح جديد يدب في هيكله ويرى نفسه مخلوقًا لخدمة بلاده وإعلاء شأن أمته. وقد كتب رحمه تعالى في ذلك العهد كتابًا حافلاً في علم الاجتماع، وفلسفة التاريخ انتقد فيه بعض ما قاله ابن خلدون، واستدرك عليه وبين ما نسخته طبيعة الاجتماع في هذا العصر من أحكام العمران في العصور الغابرة، وكان في مدرسة الألسن آية البيان في إحياء اللغة العربية، وإشراع الطريق اللاحب في التعليم، والخروج بالطلاب من مآزق العهد القديم، ثم إن دروسه في الأزهر كانت بناءً جديدًا للعقائد على أسس البراهين القطعية، وتجديدًا لما بلي من سائر العلوم العقلية، وكانت حلقة درسه في الأزهر واسعة جدًّا تحيط بأعمدة كثيرة، وكان يقرأ في بيته درسًا في الأخلاق أو السياسة لطائفة من المجاورين قرأ في ذلك كتاب تهذيب الأخلاق لابن مسكويه فكان ذلك سبب طبعه المرة الأولى وقرأ كتاب (كيزو) في السياسة ولا أدري أتمه أم لا. كان القصد من هذه الدروس تكوين نابتة جديدة من السكان في مصر تحيي اللغة العربية والعلوم الإسلامية، وتقوِّم عِوج الحكومة المصرية، فقد كانت هذه الحكومة لذلك العهد قد رثت ووهت، ووقعت في النزع أو أوشكت، عظم فيها سلطان الأجانب، وأحاطت بها سيول الفتن من كل جانب، ومنيت الأمة التي تمدها بالمتربة والمسغبة، وضربت عليها الذلة والمسكنة، ذلك بما أسرف إسماعيل باشا في الضرائب والمكوس، وتعذيب الأجساد والنفوس، فأما آثار إسماعيل باشا في البلاد فلا يزال الكهول والأشياخ يحدثون بها الشبان والغلمان، وأما ما فعله السيد جمال الدين ومريده الشيخ محمد عبده من السعي في إصلاح الحكومة في الحال، وتربية الرجال لأجل الاستقبال، فلا يعرفه إلا من كان يعمل معهما، ويتلقى عنهما، ومن شاء من أهل هذه الديار، أن يروي شيئًا من تلك الأخبار، فليراجع من بقي من تلامذتهما الأخيار، كالشيخ عبد الكريم سلمان وسعد بك زغلول وإبراهيم بك اللقاني وحفني بك ناصف ومحمد بك صالح وسلطان أفندي محمد وغيرهم. ولو طال العهد على عملهما لتم لهما المراد، ولما حدثت الثورة العُرابية، ولكن خانهما الزمان، وما قدر كان. كان من عمل السيد جمال الدين ومريديه أن اتصلوا بولي العهد توفيق باشا الخديو السابق، واتفقوا معه على تغيير شكل الحكومة وإصلاح شئونها؛ فكان يعدّ السيد والشيخ من أقوى أنصاره وأوليائه، ولما انتهى الحيف والجور والخلل بخلع إسماعيل باشا، ونصب توفيق باشا أميرًا على مصر في رجب سنة 1296 طفق السيد جمال الدين يطالبه بإنجاز وعوده، وأولها إنشاء مجلس نواب للحكومة وجعل الوزارة مسئولة، وظهرت طلائع الإصلاح على يده، ولكن وجد من الواشين من غَيَّرَ قلبه على السيد والشيخ، وأوهمه أنهما يسعيان في تقييد سلطته أو إزالتها، فأمر بنفي السيد، فأُخِذَ من داره ليلاً في عربة مقفلة وليس عليه غير قميص واحد وأرسل في قطار خاص إلى السويس، ومن هناك ذهب إلى الهند وأمر بعزل الشيخ من مدرسة دار العلوم، ومدرسة الألسن، وبأن يقيم في قريته (محلة نصر) لا يفارقها إلى بلدة أخرى، وخاصة عاصمة البلاد والمدن الكبيرة كالإسكندرية وغيرها. وكان ذلك في رمضان سنة 1296. عمله في المطبوعات والحكومة وفي أواسط سنة 1297 توجهت عناية رياض باشا إلى تحسين كتابة الجريدة الرسمية وجعلها مفيدة مرغوبًا فيها من الناس، فاستشار الشيخ حسين المرصفي ومحمود باشا سامي البارودي كُلاًّ علي حدته فأشارا برأي واحد كأنهما تواصيا به وهو جعل الشيخ محمد عبده محرِّرًا فيها ففعل بعد أن استرضى توفيق باشا؛ فصدر الأمر العالي بتعيينه محررًا ثالثًا، وانتظر رياض باشا مدة من الزمن فلم يرَ تغييرًا يُحمد. ثم إنه كتب من الإسكندرية يأمر قلم المطبوعات في مصر بأن تكتب مقالة في مالية مصر تلم بشيء من تاريخها الماضي، وحالها الحاضر الذي وضع له قانون التصفية، وأن تنشر هذه المقالة في أول عدد يصدر من الجريدة الرسمية وكان قد بقي له يوم واحد، فحاص كُتَّاب الجريدة وحاروا وأرسلوا إلى صاحب الترجمة من أحضره من الأزهر وكلفوه كتابة المقالة فكتبها في مجلسه ونشرت فلما قرأها رياض باشا أعجب بها أشد الإعجاب وسأل عن كاتبها فقيل له هو فلان فزاد عجبه أن وجد في الأزهر شاب واقف على تاريخ المالية في مصر، عارف بجميع شئونها، قادر على بيان ذلك والإفصاح عنه. وفي أواخر هذه السنة طلبه رياض باشا وسأله عن رأيه في إصلاح الجريدة؛ فبين له رأيه في تقرير ضاف، فأمر بأن تؤلف لجنة للنظر في التقرير من وكيل الداخلية، ومدير المطبوعات، وكاتب التقرير، وأن تضع لائحة لقلم المطبوعات، وتحرير الجريدة فكان ذلك، وعُين الفقيد رئيسًا لقلم تحرير الجريدة الرسمية العربية، فاختار لها من المحررين المهرة الشيخ عبد الكريم سلمان والشيخ سعد زغلول (هو سعد بك زغلول المستشار بمحكمة الاستئناف لهذا العهد) والشيخ سيد وفا (رحمه الله) وهم ممن كانوا يحضرون دروسه ودروس السيد جمال الدين وبرعوا في الكتابة معه على يد السيد ثم ماذا كان من شأنه؟ كان ما لم يكن يخطر على قلب بشر وهو أن رئيس التحرير للجريدة الرسمية صار مهيمنا على الحكومة والأمة ينتقد الأعمال والأقوال، وينتقل بالناس من حال إلى حال. وضع لائحة أو قانونًا لقلم المطبوعات أجازه، وأنفذه رياض باشا؛ فكان من أحكامه أن جميع إدارات الحكومة ومصالحها ومجالسها في العاصمة وغيرها ملزمة بأن تكتب إلى إدارة المطبوعات مخبرة بما عملت فأتمت، وما شرعت فيه، وكذلك المحاكم ترسل إليها نتائج أحكامها، وأن لإدارة المطبوعات الحق في انتقاد كل ما تراه منتقدًا من الأعمال، وأن لها حق المراقبة على الجرائد الوطنية والأجنبية التي تصدر في القطر المصري، وأن تبحث عن حقيقة ما تقوله في رجال الحكومة وأعمالها، وعلى الحكومة مساعدتها على ذلك بمعنى أنه إذا نشر في بعض الجرائد ما ترتاب إدارة المطبوعات فيه؛ فإن لها أن تسأل المصلحة أو الإدارة التي يسند إليها ذلك عن الحقيقة بواسطة نظارة الداخلية إن لم يكن ما نشر مسندًا إلى النظارة، وإلا سألتها هي مباشرة؛ فإن كان حقًّا ما نشر في الجريدة، وجب على الحكومة مؤاخذة من نسب إليه الذنب؛ وذكر ذلك في الجريدة الرسمية، وإن كان كذبًا طولب مدير الجريدة بإثباته، وإلا أنذر، وإذا تكرر إنذار جريدة ثلاث مرات يمنع إصدارها ألبتة أو إلى الأجل الذي تراه الإدارة. وأن من حق رئيس تحرير الجريدة الرسمية أن يجعل فيها قسمًا غير رسميّ ينشر فيه لنفسه ولغيره ما يراه نافعًا من المقالات الأدبية ويدخل في الأدبية الاجتماعية والاقتصادية ما أشبه ذلك- وقد أجاز هذا القانون وأنفذه رياض باشا لما له من العناية بالإصلاح ولثقته بكفاءة صاحب الترجمة، وغَيْرَتِهِ وإخلاصه في الخدمة العامة، وإن في هذا لعبرة لأولي الألباب، صاحب عمامة أزهرية يدخل في حكومة مطلقة بعيدة في أعمالها عن رجال العلم والدين فيشرف من نافذة غرفة تحرير الجريدة على نظارات الحكومة ومجالسها، ومحاكمها، ومصالحها؛ فيصلح لهم ما يكتبون، ويرشدهم إلى إصلاح العمل فيما يعملون، ثم يشرف من نافذة أخرى على الأمة؛ فيقوم من أخلاقها. ويصل

الدين في نظر العقل الصحيح - 2

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الدين في نظر العقل الصحيح لصاحب الإمضاء محمد توفيق صدقي (المقالة الثانية) النبوة النبوة إصلاح في الأرض من قِبل الله تعالى على يد شخص يصطفيه من بين خلقه. معنى أنها من قِبل الله أنها ليست مستمدة من معلومات من جاور هؤلاء المصطفين الأخيار من الأقوام. بل هي أرقى بكثير مما عليه الناس وما وصلوا إليه. وفائدتها تقدم العالم بسرعة إلى الإمام وإصلاح ضمائر الخلق وما تكنه صدورهم بسبب ما توجبه من الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من عقاب أو ثواب؛ وبذلك تستقيم أمورهم في السر والعلن، ذكرنا الإيمان باليوم الآخر وحده ولم نذكر الإيمان بالله مع أنهما مرتبطان أتم الارتباط؛ لأن الأول لا سبيل للعقل أن يجزم به بدون النبوة بخلاف الثاني فالعقل وحده كاف لمعرفته ومعرفة صفاته كما بيناه آنفًا. إذ الغرض الأكبر من النبوة حمل الناس على الإيمان بذلك اليوم وإصلاح حالهم الدينية والدنيوية إصلاحًا لا يصِلون إليه بأنفسهم، ولو بعد مئات من السنين إن لم نقل آلاف منها. هذا ولما كان محمد -عليه السلام- المثال الأكبر للأنبياء وتاريخه أقرب عهدًا وأصح سندًا رأيت أن أتكلم على حياته بما يقتضيه المقام؛ إيضاحًا لما أجملته فيما مر من الكلام، وهذا يستلزم ذكر أحوال العالم في ذلك الوقت، ثم أحواله -عليه السلام- وما أتى به من الإصلاح في الأرض، ولذا أبدأ الآن بوصف حالة العالم في عصره فأقول: كثرت المشاغبات في الدين، وطمس نور الحق بين العالمين. تشعبت الآراء وتعددت الأهواء، وعبد كٌّل ما شاء الشيطان من الأباطيل. عَمَّ السجود للأوثان، وعبدت الصور والصلبان، واعتقد الناس الألوهية في التماثيل. خلط الخلق في شأن اللاهوت، وتوهموا ظهوره في الناسوت، فاتخذ البشر آلهة من دون واجب الوجود. سهل على الناس اعتقاد السلطة في بعض الأفراد، وظنوا أن بيدهم الإشقاء والإسعاد، فهابوا مقامهم وأعلوا شأنهم، فطغى أولئك وبغوا، وافتروا ما شاءوا من الأحكام، وقالوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام. أصبح الناس عبيدًا أذلاء، في جهالة عمياء، اشتغل الرؤساء بالمطامع الشخصية، وتفانوا في الحصول على لذاتهم البهيمية، وأخذوا العويص من المسائل الدينية ذريعة للمشاجرات والمماحكات. فتعددت البدع وكثرت الفرق وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين، أثار كل رئيس من تحت يده من المرؤوسين، وأشهروا الحرب على الآخرين فأريقت دماء العالمين. هذا كان حال الأمم في كل بقعة من الأرض، وفي بلاد العرب أدهى وأمرّ. عم الفساد وزاد العناد، وزال العلم، وحل الجهل، وفسدت الأخلاق في سائر الآفاق. ليس ما ذكر تخيلات شعرية، ولا أفكار وهمية، بل هي حقائق تاريخية اتفق عليها أهل العلم، ولم يشذ عنهم ذو فهم. ظهر في هذا الوسط الجاهل والظلام الحالك، الذي يضل فيه كل سالك، محمد العربي والنبي الأمي. ونشأ يتيمًا فقيرًا لا أب له يهذبه ويربيه ولا معلم يرشده ويهديه. قد يزعم بعض المجادلين أنه تعلم القراءة والكتابة ليدفع بذلك ما سيُلقى على سمعه من قوة البرهان ولكنه وهمٌ نُزيله بما يأتي من الدلائل الواضحة: (1) أن الجمهور الأعظم من أمته كان أميًّا إلا نفرًا قليلاً؛ فإذا أضفنا إلى ذلك يُتمه وفقره وأميته فلا نجد أي حامل يحمله على تعلم القراءة والكتابة؛ إذ أولى له أن يسعى على عيشه من أن يصرف وقته في الحصول على شيء لا يعرفه إلا القليل ممن جاوره. (2) تعلم القراءة والكتابة يحتاج إلى زمن ليس بقصير، وخصوصًا في بلاد ليس فيها دور للعلم ولا كتب ولا مدرسون؛ فلو سعى في تعلمهما لوجد مشقة عظيمة ولما أمكنه إخفاء أمره إذ لا بد أن يشاهده الناس ولو مرة واحدة مع أنه كان يجاهر بأميته على رءوس الأشهاد، ولم يوجد من يعارضه {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) . (3) لم يعهد عنه أنه كان يماشي أحدًا ممن اشتهر بمعرفة القراءة والكتابة قبل نبوَّته. (4) لو كان أحد من الناس يعلمه لاضطر النبي إلى تقديمه على أصحابه ولأظهر له احترامًا زائدًا، ولفاه المعلم بذلك لبعض الناس مع أنه لم يحصل شيء من ذلك مطلقًا. (5) لم يشاهد أنه في منزله أو خارجه قبل النبوة أو بعدها كان يستعمل قرطاسًا أو قلمًا في تأليف شيء ما، أو تدوينه. فلو فرضنا أنه لم يشاهد وهو يتعلم فيبعد جدًّا أن لا يشاهد وهو يستعمل القراءة والكتابة في شئونه الخاصة. (6) لو كان ابتدأ بتعلم القراءة والكتابة لا لقصد دعوى النبوة لأظهر افتخاره بذلك وجاهر به ولو كان لقصد دعوى النبوة فمن البعيد جدًّا أن يدبر حيلة كهذه وخصوصًا إذا أضفناها إلى غيرها مما يسميه أعداؤه حيلاً؛ فإنها تغيب عن أذهان الفلاسفة والسياسيين؛ لأنهم إذا دبروا عدة حيل يظهر أمرهم، ولو في إحداها على ممر الأزمان، فكيف يتأتى لواحد مثل محمد في أول نشأته أن يدبر كل ذلك بنفسه ويكتمه حتى يصير كهلاً، ولا يفتضح أمره مرة واحدة؟ إن ذلك لبهتان عظيم. والخلاصة: أن حاله ووسطه الذي تربى فيه كان اليتم والفقر، والجهل والأمية؛ والأوهام، والضلال، والوثنية، وقد أحاط به فساد الأخلاق من جميع الجهات، والتف حوله عشيرته الغارقة في بحر من الخرافات والترهات، فكيف كان تأثير ذلك في نفسه؟ لم يكن له ذاك التأثير المعهود بل نشأ منشأ يخالف ما عليه أهله وقومه: بغضت إليه الوثنية في مبدأ عمره. فلم يعرف عنه أنه سجد لصنم قط، أو احتفل بمعبود مع أهله. كانوا يشربون حوله الخمور، وينغمسون في الشهوات والفجور، وهو بعيد عنهم منكر عليهم، كانوا يشتغلون بالتافه من الأمور ويثيرون الحروب لمسائل واهية، ولم يكن هو منهم، كانوا يقومون ويقعدون، ويتفانون ويقتتلون لقصيدة أو بيت شعر وهو لا يحفل بذلك ولا يجاريهم عليه. ماذا كانت حاله إذًا؟ الجد والاستقامة دأبه، والصدق والأمانة طبعه حتى عرف بين أهل مكة بالأمين وهو في ريعان شبابه. ينهمك الشبان عادة في الشهوات ولو كانوا معلمين مهذبين، ولكنه هو يتزوج العوان ويبقى معها إلى ما بعد الأربعين حتى حين وفاتها ولا ينظر إلى سواها ويعيش معها بكل طهارة وعفة فلم يسمع عنه أنه ارتكب منكرًا في زمن شبابه، أو علق بحب فتاة أو مَالَ إلى عشقها مع أن قومه كانوا غارقين في هذه البحار، وقصائدهم تشهد بذلك. ماذا كان شغله إذًا؟ كان شغله رعي الأغنام، ثم التجارة، ثم التعبد في الخلاء والتحنث بمناجاة الله تعالى. قام عند بلوغه الأربعين بدعوة الخلق إلى عبادة الحق وقرر أن للعالم إلهًا واحدًا بريئًا من كل ما ينسبونه إليه مما لا يليق به وأثبت ذلك بالحجج البينات، أمر الناس باستعمال الفكر والعقل في كل شيء ونهى عن التقليد وحض على النظر في الموجودات. أطلق للناس الحرية الصحيحة وحرم عليهم الخضوع لرئيس في الدين أو لأي أحد سوى رب العالمين، ومنعهم من الالتجاء إلا إليه مباشرة وأمرهم بالاستعانة به وحده. أعطى الروح والبدن ما يطلبانه بشرط أن لا يضر بهما ولم يحث على المبالغة في الزهد ولا الرهبانية، بل أمر بالسعي والعمل وتصريف الأعضاء فيما خلقت لأجله مع مراعاة أن لا يضر ذلك بالمرء أو بغيره. أباح الطيبات وحرم الخبائث. وأمر بالعدل والمساواة ومسالمة المخالفين في الدين ومعاملتهم بالتي هي أحسن والتوفيق بيننا وبينهم ونهى عن الإكراه في الدين وأوجب تأمين الراغبين في النظر فيه ولو وقت الحرب {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6) إلى غير ذلك مما لم تهتد إليه الناس في الغرب إلا بعد أن وصل إليهم شعاع من نور الإسلام في الشرق. فارجع البصر إلى تاريخ أوروبا قبل الإصلاح الديني بلوثر وقبل الإصلاح السياسي بالثورة الفرنساوية لتعرف ما كانوا عليه. أتى مع ذلك بجميع الأخلاق الفاضلة المعتدلة والعبادات الصالحة والمعاملات الكاملة والمبادئ السليمة والسياسات القويمة وغيرها مما كان السبب في إصلاح أمر الإنسان وتحريره من العبودية، وإنقاذ العقل من الأسر، ورده إلى مملكته؛ ليحكم فيها بالقسط فنهض الشرق نهضة سريعة عالية لم يعهد لها مثيل في التاريخ، ثم امتدت إلى الغرب. فهذه هي آثار ذلك الأمي وهذه هي أعماله فماذا يجيب الضالّون؟ زعم بعضهم بعد أن سلم بأميته أنه لابد أن يكون تلقى ما أتى به من أحد الناس بالمشافهة؛ فيجيب بأن ذلك التلقي الموهوم إما أن يكون حصل قبل النبوة أو بعدها. فإن كان قبل النبوة، فإما أن يكون حصل ذلك في بلاده، أو في غيرها، أما في غيرها فهو لم يسافر إلا إلى بلاد الشام، وذلك مرتين الأولى مع عمه أبي طالب قبل بلوغه رشده، والثانية في سن الخامسة والعشرين مع غلام خديجة وفي كلتيهما لم يكن منفردًا ولم يشاهده أحد من التجار المسافرين معه يتلقى العلم عن أحد ولم يغب عن قومه إلا مدة التجارة وإلا لو غاب عنهم بضع سنين لقالوا له: لعلك تعلمت هذا مدة غيابك عنا. وهم لم يفوهوا بمثل هذا مع أنهم كانوا يحاولون أن يلصقوا به هذه الشبهة وهي التعلم من الناس وأيضًا فأي حامل يحمل هذا الفقير الذي نشأ هذا المنشأ الذي بيناه ولم يوجد من ينبهه ويرشد فكره لفضيلة العلم حتى يترك ما يقتات به وهو في تلك البلاد الأجنبية وما به إرضاء خديجة التي بعثته إليها ويجهد نفسه في البحث عن عالم ليس من أمته، ولم يكن على عقائدهم ويرضخ له حتى يبعث في قلبه كل هذه التعليمات ويسلم له فيما خالف معتقد آبائه وأجداده؟. وإن زعم أنه حصل ذلك في بلاده فهو غير ممكن لأسباب: (1) أنه كان يُشاهَد يفعل ذلك، ولو مرة واحدة. (2) أن المعلم له إما أنه كان من الوثنيين، وهذا لا يمكن أن يعلِّمه ما في التوراة والإنجيل وغيرهما من عقائد الموحدين، وإما أنه كان من اليهود، وهذا لا يمكن أن يعلمه أخبار المسيح وأمه والإقرار لهما بالفضل والنزاهة، وإما أنه كان من النصارى، وهذا لا يعلمه أن ينكر لاهوت المسيح، ولا التثليث، ولا الصلب ولا أن يرمي النصارى بالتحريف في كتبهم، ولا غير ذلك مما يوجد في القرآن من الإنكار عليهم، وإما أنه كان من المبتدعين، ومثل هذا أولى أن يشتهر بين الناس بنفسه أو تعرف له علاقة في التاريخ بمحمد عليه السلام تؤهله أن يتعلم منه. (3) أي حامل يحمل هذا المعلم على إجهاد نفسه، وصرف وقته في تعليم هذا الغريب الأمي، ولِمَ لَمْ يدعُ الناس إلى هذه الأشياء بنفسه، أو يختار أحدًا ممن اشتهر بشعر أو بخطابة أو شيء من العلم، أو كان له جاه أو أعوان أو مال أو غير ذلك مما يكسب المهابة في قلوب الناس. (4) أنه من الصعب جدًّا أن يقدر أحد من الناس أن يهذب هذا الأميّ كل هذا التهذيب، وأن يخرجه من عقائد آبائه وأجداده ويدخل في ذهنه مسائل النبوة والوحي، والتنزيه، والتوحيد ويجعله يعتقد ذلك اعتقادًا يقينيًّا إلا إذا كان هذا المعلم مقتدرًا عالمًا حكيمًا، ومثل هذا لم يعرف له ذكر في بلاد العرب، ولا فيما جاورها فكيف لم يشتهر بالعلم والفضل، وأي مؤرخ لذلك العهد ذكر كلمة عن أحد مثل هذا متمسكًا بما يوجد في القرآن من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق والمبادئ وغيرها. (5) لِمَ لَمْ يُسِرّ هذا المعلم إلى أحد بأنه يعلم محمدًا ويهذبه وما الذي

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر شذرات من يومية الدكتور أراسم [*] التربية بالتأثيرات الطبيعية يوم 14 أغسطس سنة -186 صادفنا غداة اليوم على مقربة من ليما زنجيًّا آتيًا إليها يلتمس رزقه من عرض حيوان يسمى البوما، وهو الممثل للأسد في أمريكا كانت قبلية من المتوحشين اصطادته حيًّا، وكان ربه وهو شبه مشعوذ يؤمل أن ينال بعض النقود من عرضه على النظار. كان هذا الرجل على شدة فاقته، وعجزه عن القيام بنفقة نفسه مصحوبًا بصبية زنجية عليها طمر أزرق، رأيت في مشيتها قزلاً؛ فسألتها بالإسبانيولية التي لا أحسنها عما أصابها فجعلها تعرج كما رأيت؛ فكان جوابها أن أرتني إحدى ساقيها فإذا فيها جرح دامٍ، ورأيت قدميها قد ورِمتا ورمًا مفرطًا، ولما أمعنت النظر في ساقها المجروحة عثرت على طرف شوكة غليظة في سمك لحمها، وهي التي تسبب عنها الجرح قطعًا، ثم خبث بما اعتوره من المشي والوصب ولدغ الحشرات؛ فإن هذين المسافرين كانا آيبين من مسافة بعيدة جدًّا. ما زلت بهذه الشوكة حتى نجحت في سلها، ثم ضممت أجزاء الجرح بعضها إلى بعض، ولما لم أجد خرقة أعصبه بها ناولتني (لولا) منديلها، ولم تقتصر على ذلك بل دعتها رحمتها بهذه الفتاة إلى خلع نعليها ووضع قدميها المرضوضتين فيهما فلائمتاهما أشد الملائمة كأنما صنعتا لهذه المسكنية فأعربت (للولا) عن شكرها، ثم غادرناهما ومضينا في سبيلنا. انبعثت (لولا) إلى عملها هذا بباعث من بواعث الخير القلبية، إلا أنها ما لبثت أن أدركت صعوبة الاحتفاء في أرض صلبة خشنة كأرض البيرو، فإن طرقها لا مشابهة بينها وبين مخارف البساتين الكبرى في إنكلترا. أنشأ (أميل) أولاً يسخر من حيرة صديقته في مسيرها حافية، ولكنه لتأثره من صنيعها دبت فيه النخوة فاحتملها على ظهره فقبلت ذلك مبتسمة. إن الباقي من طريقنا لم يكن طويلاً جدًّا ومع ذلك وقف (أميل) في أثنائه للاستراحة مرتين أو ثلاثًا متبعًا في ذلك نصيحتي، وفي آخر وقفة منها بصرنا من بعيد بالمشعوذ يقود البوما، وعرفت (لولا) الصبية الزنجية وقد خلعت النعلين وحملتهما في يدها، فما كان أشد غمها لهذا المرأى، انظر كيف بخستها منحتها وكيف استعملتها. فسرّيت عنها ما خامر قلبها من الكدر بأن قلت لها: إن العادة طبع ثانٍ، وإنَّ هذه الصبية لا بد أن تكون تعبت من الانتعال لاعتيادها الاحتفاء على أن نية إسداء المعروف محمودة على كل حال، ولو أخطأ صاحبها فيما يتخذه من الوسائل لإيصال النفع. والذي رأيته خيرًا من هذه العظة كلها هو أن ما وجده قلبها الطاهر من السرور باحتمال (أميل) إياها قدر لها فيما أرى على أن الإنسان لا يخسر شيئًا مما يسديه من المعروف. اهـ يوم 28 أغسطس سنة -186 زرنا بعض أجزاء من جبال الفورديير ولم يكن سبق (لأميل) أن شاهد مثل هذه الجبال التي يصح أن تسمى بالألب [1] الأمريكية؛ فراعه كل الروع ما لهذا الخلق الهائل من مظاهر الفخامة والعِظَم مع أننا لم نبلغ منها إلا أدنى شعافها. لا بد لي أن ألاحظ هنا أن القدماء كانوا قليلي التأثر بما للجبال الشامخة من المحاسن الرائعة؛ فإنا لم نر لشعراء اللاتين من الكلام فيها إلا النذر اليسير، ومعظم ما قالوه استهجان واستقباح، وقد يحدو بي ذلك إلى القول بأنه كان يلزم أن يدهمهم من الكوارث المحزنة ما تهتز له نفوسهم، وأن تستضيء بصائرهم بنور العلم، ويتمكن منها الاستعداد للبحث والتنقيب الذي هو من مزايا العصور الحديثة، ولو تم لهم هذا لأدركوا أن في سيارنا الذي نعيش على ظهره من المظاهر الهائلة البديعة ما يدعو إلى الإعجاب الحقيقي اهـ. يوم 2 سبتمبر سنة - 186 كسبت (لولا) دعواها وإن شئت قلت خسرتها فكلا القولين صحيح باعتبار جهة النظر. اضطررنا للمصالحة في هذه القضية الكثيرة الارتباك لما يقتضيه الفصل فيها من الانتظار أشهرًا بل سنين، فعرض على الخصم أن يعطوا لبنت السفان مقدارًا زهيدًا من النقود وبعض ما كان لوالدها من الأرضين. والأرض هاهنا لا قيمة لها اليوم أصلاً ما لم يستغلها صاحبها بنفسه أو بواسطة وكيل له يقيم في هذه البلاد. فأما أنا وهيلانة فما جئنا لنقيم في (ليما) بل قد انتهت مهمتنا ولم يبق إلا السفر لا سيما أني تلقيت مكتوبًا من الدكتور وارنجتون يدعوني إلى لوندره لامور نافعة لي بينها فيه، وأما قوبيدون وجورجيا فإنهما خبيران بفن الزراعة خصوصًا زراعة الأقطار الحارة، وليسا من ذوي العقول الضعيفة وأمانتهما تقوم بكل ما في بلاد البيرو من الذهب ولا أرى ما يمنع من العهد إليهما بزراعة أطيان (لولا) . وإنه ليشق علي مفارقة هذين الشهمين، غير أني أرى أن إقليم إنكلترا لم يخلق لمثلهما من الزنوج، وأما إقليم جنوب أمريكا فإنه يؤذن بأن سيكون لهما فيه بتوالي الأيام مناخ جميل ووطن سعيد. اهـ رجعت السفينة التي كانت حملتنا من لوندره إلى قلاو منذ ثلاثة أسابيع ويعلم الله متى يكون مجيئها ولهذا رأينا بدلاً من اجتياز رأس القرن أن نركب هذه المرة في سفينة تجارية على نهير الأمازون [2] تسير بنا والشاطئ حتى نبلغ سواحل البرازيل حيث نجد سفينة تكون مسافرة إلى إنكلترا فإن هذه الطريق أقصر من الأولى بمسير عشرين يومًا. تنوي (لولا) أن تعود معنا؛ لأن بلادها لقلة ما عرفته منها لم تبعث في نفسها شيئًا من الرغبة في توطنها، ولأنها تعلم فوق ذلك أننا نحبها. ما ندمت على هذا السفر بحال (فأميل) قد مضى وقته هنا في الالتفات إلى العلم والإمعان في مسائله؛ فهو يعود إلى بلاده الآن ناقلاً إليها مجاميع في علم التاريخ الطبيعي، بل حاملاً ما هو خير له منها: ضروب الانفعال الكثيرة بما رأى وصنوف الذكر لما وعى، وقد تربى طبعه في مدرسة الاختبار والحياة التي لا يربي الرجال غيرها. نعم، إني لا أعني بهذا القول أن ألزم جميع من هم في سنه من المراهقين أن يبتعدوا عن أوطانهم بقدر ابتعاده، ولكن رأيي الذي لا أحول عنه هو أنهم لو خرجوا قليلاً من أصدافهم ورأوا الكون في الكون قبل أن يروه في الكتب؛ لغنموا من ذلك أكثر مما يتوهم. اهـ. الكتاب الرابع في تربية الشباب المكتوب الأول من (أميل) إلى والده وصف معيشته - نادي الطلبة الألمانيين ومحاوراتهم - تهافتهم على خدمة الحكومة تفكر (أميل) في أمره - تألمه من عدم فهمه اللغة الألمانية - ذكره (لولا) - استيحاشة من غربته. برلين في 8 يناير سنة -186 انتظمت في سلك المدرسة الجامعة بعد امتحان كان لا بد من تأديته وصرت ادعى منذ أسبوع بالسيد الشاب. من المفروض علي أن أكاشفك بشيء من تفاصيل معيشتي وأنا طالب: أما نهاري فأصرفه في تلقي دروس الحكمة والتاريخ والقوانين وعلم تركيب الحيوان والنبات ومنافع أعضائهما والمقارنة بين اللغات وغير ذلك وأما ليلي فأقضيه في مسكن استأجرته ستة أشهر بنحو مائة وخمسين فرنكًا، وأما طعامي فأتناوله في مطعم على مائدةٍ جامعة في مقابل أربعة وعشرين صولديًّا [3] وبعد العشاء تارة آوي إلى حجرتي، وطورًا أتنزه في المدينة، ولكوني أجنبيًّا لما أطلع على أسرار طائفة الشبان كلها على أن أحدهم قد أخذني معه ذات ليلة إلى مدخن (مكان لتدخين التبغ) يجتمع فيه بعض الطلبة الألمانيين؛ فما فتح بابه حتى رأيتني تائهًا مغمورًا بسحاب مركوم من الدخان، حال بيني وبين رؤية جدران المكان وسقفه، بل رؤية المكان برمته، وكان يخيل إلي أنه يمتد إلى غير نهاية، وكنت أسمع أصواتًا وأغاني وقهقهات ولا أبصر شيئًا من الصور الحية، وأرى أضواء حمراء تبدو في بعض جهات هذا المكان يغشاها ذلك السحاب كأنما تسبح منه في بحر لجي وكنت أمشي كخابط ليل وراء الدليل، وعلى مقربة منه بين صفين من الموائد خيل إليّ أنها تعوم في الضباب، ورأيت عليها رؤية غير مستبينة آنية من القصدير كان لمعانها المعدني يجهد في صدع حجاب الظلام الدخاني المنسدل على القاعة كلها، ثم لمحت من خلال هذه الآنية وجوهًا آدمية؛ لأن بصري كان يتدرج في اعتياد هذا الجو الغريب والأنس به، ولم يكشف عني الحجاب كشفًا تامًّا إلا عندما بلغت نهاية القاعة حيث أقيم مصطلى عظيم؛ فرأيتني في جمع حافل من الشبان على رءوسهم القلنسوات وفي أيديهم أكواب الجعة، وبين هذا التشويش واللغط عثرت على حلاق من الطلبة قامت بينهم مناظرات في مسائل مهمة، ولم تعقهم عن مداومة الشرب والتدخين. إن أذني لم تعتَدْ سماع الأصوات الألمانية اعتيادًا يكفي لمتابعة مجرى الحديث وفهمه، ومع ذلك قد فهمت من فحوى ما سمعته أنهم يتناظرون في مقاصد ووسائل بعضها أسمى من بعض تتعلق بإصلاح أحوال البشر، وكانت البراهين والنكت والمعاني تنبعث من أفواهم كأنها سهام نارية تنقذف بين أنفاس الدخان، ولما انتصف الليل غادر القاعة جميع الطلبة؛ ورأيت بعض من لاحظت فيهم الحمية والغيرة على مصالح الإنسان منصرفين إلى بيوتهم، وقد جعلوا يغنون جهارًا في وسط الشارع أغاني مبتذلة؛ ولم يبد عليهم حينئذ ما يدل على أنهم ذاكرون لما تعاهدوا عليه من اصطلاح شؤون الكون. أخص غاية للطلبة من اختلافهم إلى المدارس الجامعة هنا بحسب ما سمعت هي أن يلوا عملاً من أعمال الحكومة فكلهم يؤمل أن يكون خادمًا لها على تفاوت بينهم في ذلك، فإذا حصل أحدهم على لقب دكتور مثلاً؛ رأيته يتقدم إليها حاملاً شهادته راجيًا أن توليه أحد الأعمال الخالية في إدارتها ومعظم هذه الأعمال لا يولَّى إلا بالامتحان، ولا يناله إلا من يظهر أنهم أعلم من غيرهم، وحينئذ يعول الذين يخيبون فيه على الاشتغال بالأعمال المستقلة، ولا أدري أهذه الحالة وهي فرط الرغبة في تقلد المناصب العامة هي التي ينبغي أن ينسب إليها التغير الذي يحصل في عقول شبان الدكاترة عند خروجهم من الجامعة أم له سبب آخر. فالواقع هو أنه ليس بين أخلاق الطلبة وأخلاق غيرهم من الألمانيين أدنى مشابهة. الطلبة يتظاهرون بالتنفج [4] والشذوذ والعربدة، ويخيل إلى من يرى غيرهم من الألمانيين أنهم ممتلئون سكينة بل جمودًا وبلادة، والأولون مشهورون بالميل إلى الثورة وبحب الحكومة الجمهورية، وبعدم المبالاة بالخوض في أي بحث نظري، وبالهجوم على جميع المسائل سياسية كانت أو دينية أو قومية بما يدهش من جرأة الجنان، وبقية الأمة يظهر عليها التشدد في الاستمساك بالعوائد القديمة وبالحكومة الملكية. وترى الطلبة يتباهون باحتقارهم جميع المميزات التي لا منشأ لها إلا اتفاق النسب على حين أن أواسط الناس يجلون ألقاب الشرف إجلالاً لا حدَّ له، فترى الفريقين كلمتين متمايزتين، وليس للطلبة في الحقيقة ارتباط بباقي الأمة إلا رغبتهم العظمى في أن يلوا لهم بعد مبارحة الجامعة أعمال رسمية، على أن هذا الارتباط كاف في عدم اكتراث الحكومة كثيرًا بما يبدونه من حدة أفكارهم الحرة. دعتني سيرة هؤلاء الشبان إلى التفكر في سيرتي؛ فإني قد بلغت التاسعة عشرة من عمري، ولا مقام لي بين الناس، بل لم يقف بي الاختيار حتى الآن على صناعة نافعة أشتغل بها، وإذا أردتني على الإقرار لك بما أجده قلت إني أحيانًا آنس من نفسي فتورًا في الهمة، وضعفًا في العزيمة، وأسائلها عما أصلح له من الأعمال، وأنا ضائق بذلك صدرًا، نعم إنك قد رأيت مني تقدمًا سريعًا مناسبًا لحالي في العلوم، ودرس كتب المتقدمين في أربع سنين أو خمس مضت، وما ذلك ولا شك إلا من الطريقة التي أهلتني بها أنت ووالدتي للعمل العقلي، وهي مراقبة ا

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (تاريخ الأستاذ الإمام) إن التربية بناء يوضع على أساس القدوة، ويرفع على قواعد الأسوة، فسِير عظماء الرجال، أنفع ما يذخر للأجيال، وإن العبرة بسِير المعاصرين أقوى من العبرة بسِير الغابرين؛ لأن عامة الناس عندنا تعتقد أن الأولين من عنصر أزكى، واستعداد أقوى، فلا يضرب معهم المتأخر بسهم، ولا يدانيهم في فضل أو علم لذلك رأينا أن من أنفع ما نخدم به الأمة وضع تاريخ مطول للأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- وقد نوهنا بذلك فيما نشرناه من سيرته. ونريد أن نقول هنا: إن ورثة الفقيد وأصدقاءه ومريديه الذين نعرفهم هنا عون لنا على هذه الخدمة، ونرجو من إخوانهم في الصداقة والوفاء من سائر الأقطار أن يتفضلوا علينا بما يرون من النصائح، وما يعرفون عن الفقيد من الأعمال والمآثر مما يخفى مثله علينا، ويُظن أن لا يكون وصل إلينا، كبعض الكتب والرسائل، وما رأوا من الأعمال أو سمعوا من المسائل. ومن أرسل إلينا شيئًا من خط الفقيد فإننا نعيده إليه على عهد الله ورسوله. ثم إن ما يرسل إلينا منه إن كان أثارة من علم أو أدب؛ فإننا ننشرها حتمًا ونكافئ مرسلها بنسخة من التاريخ نهديها إليه، وإن كان كتابًا خاصًّا بمن كان أرسل إليه فإننا لا ننشره إلا إذا كان فيه فائدة عامة من حكمة تُؤثَر، أو بلاغة تؤثِّر، على أنه قلما يخلو كلام له من كلتا المزيتين مهما كان الموضوع الذي كتب فيه. ولا شك أن الذين توجد عندهم هذه الآثار والأخبار، يحرصون مثلنا على تدوينها واستفادة الناس منها في الأغلب فلا يبخلون علينا بما ينفع الأمة ويحفظ أثر الإمام، فهذا الاستجداء سيصادف بذلاً وسماحًا إن شاء الله تعالى. وإننا نقدر أن التاريخ لا يقل عن ألف صفحة وقد يزيد عليها، وأن تجزئته إلى جزئين أو ثلاثة أولى، وربما نجعل له اشتراكًا. وليعلم الشعراء الذين نظموا المراثي ونشروها في بعض الجرائد أننا لا ننشر منها إلا ما نختار مما أرسلوه إلينا أو إلى الشيخ عبد الكريم سلمان أو حمودة بك عبده؛ لأننا لم نتتبع الجرائد ونحفظ ما فيها من القصائد، وليس المانع من إثبات المرثية في التاريخ هو سبق نشرها في بعض الجرائد وإنما هو ما ذكرنا من عدم التتبع والحفظ، فمن شاء أن يرسل إلينا شيئًا مما نشر فليفعل. وكنا نود لو بين لنا كل من أرسل أو يرسل إلينا شيئًا من كاتب وشاعر لقبه الذي يخاطب به ووظيفته التي يذكر بها؛ لنذكره بما هو معروف به؛ إن لم يكن متنكرًا؛ فذلك خير من نشر القصيدة أو المقالة بالتوقيع الذي يذكر فيه الاسم غفلاً لا يعرف مسماه إلا المتصلون به، وقد يشتبه بغيره لكثرة المشاركة في الأسماء والألقاب هنا (أي في البلاد المصرية) . *** (كتاب الهدية العصرية إلى الجامعة الوطنية) كتب سليمان أفندي مصوبع المحامي السوري مقالات في الاجتماع البشري والعمران، ونشرها في جريدة ثمرات الفنون وغيرها من جرائد بيروت، ثم اقترح عليه أن يجمع شملها في كتب، فجاء الكتاب يناهز مائتي صفحة في عشرة أبواب: (1) في العمران أساسه وتحديده وسره. (2) في الحاجة تأثيرها والوقاية منها. (3) في المحاماة. (4) في الانتقاد. (5) في مسئولية الإنسان. (6) في أدوار الحياة ونحو ذلك. وفي هذه المباحث آراء صحيحة وفيها مسائل غامضة ولعل أكثر الغموض من ضعف التأليف، وإعواز البيان؛ حتى كان الكلام كترجمة باصطلاحات جديدة، وأسلوب لم يخلص دائمًا إلى الأسلوب العربي الصحيح من حيث: تعدية الأفعال، وربط الكلام بعضه ببعض، ووضع الكلم موضعه، على أن فيه جملاً رائعة وتجوزًا حسنًا في بعض المواضع. وقد كان أعجب الكتاب إليّ، وأحسنه عندي كلامه في الدين، وبذلك تبين أن دين الأنبياء واحد، وأن الأخير مكمل لما قبله، وعليه المعول في الخلاف، ولولا التطويل لنقلت كلامه هذا، على أنه قد سبق لنا اقتباس ما كتبه الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- في ذلك من رسالة التوحيد وهو الكلام الذي ليس فوقه مطلع ولا وراءه غاية. وإننا نثني على سليمان أفندي لعنايته بما تقلّ العناية به في تلك البلاد، ونرجو له زيادة التحرير والاجتهاد. *** (كتاب آراء أهل المدينة الفاضلة) لهذا الكتاب ذِكر في دواوين المتقدمين لشهرة مؤلفه أبي نصر الفارابي فيلسوف المسلمين في القرن الرابع، وقد كان من كنوز الكتب المخفية فظهر في هذه الأيام وطبعه الشيخ فرج الكردي والشيخ مصطفى القافي الدمشقي يطلب من المكتبة الملوكية بمصر. مسائل الكتاب تدور على أقطاب الفلسفة اليونانية في الوجود الأول، وما يجب له من الصفات وفي أقسام الموجودات الأخرى ومنها النفس ومن هنا ينتقل إلى الكلام في الوحي والنبوة، ثم إلى حاجة الإنسان إلى الاجتماع والتعاون، وإنما يكملان بالمدينة لذلك بَيَّن معنى المدينة، وقسمها إلى أقسام المدينة الفاضلة وما يضادها من المدينة الجاهلية، والمدنية الفاسقة، والمدينة المتبدلة، والمدينة الضالة ثم ذكر في التفصيل أقسامًا أخرى منها مدينة الخسة والشقوة، قال: (وهي التي قصد أهلها التمتع بالملذة من المأكول، والمشروب، والمنكوح وبالجملة اللذة من المحسوس، والتخيل وإيثار الهزل واللعب بكل وجه، ومن كل نحو) وهذه المدينة قسم من أقسام المدينة الجاهلية. أما المدينة الفاسقة فهي أرقى من المدينة الجاهلية، وقد عرفها بقوله: (وهي التي آراؤها الآراء الفاضلة، وهي التي تعلم السعادة، والله -عز وجل - والثواني، والعقل الفعال، وكل شيء سبيله أن يعرفه أهل المدينة الفاضلة، ويعتقدونه، ولكن تكون أفعال أهل المدن الجاهلية، وجميع مباحث الكتاب تجري على طريق الفلسفة اليونانية. ولعل من اطلع أو يطلع على هذا الكتاب يتذكر أننا كنا عبرنا عن هذه المدينة بالفاسقة، فقام بعض الذين لم يرتقوا عن أهل المدينة الجاهلية يسلقوننا بألسنة حداد؛ زاعمين أن ذلك يتضمن الطعن بعِرض كل من يقيم في هذه المدينة (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) على أنهم هم الطاعنون ولكن لا يخجلون. *** (مرور في أرض الهناء، ونبأ من عالم البقاء) كتاب جديد الوضع والأسلوب والتخيل ألفه شكري أفندي الخوري اللبناني المقيم في البرازيل. فأما أرض الهناء فهي المدينة الفاضلة أو الكاملة في رأي فلاسفة هذا العصر وعلمائه، وهي سعادة الحياة التي يتمنون أن يصل إليها البشر بالعلم والعمل والاتفاق والتواد بين جميع الناس، وبلوغهم العمر الطبيعي - مائة سنة أو أكثر- مع التمتع بالصحة والعافية لما يتربون عليه من الرياضة البدنية والعقلية، وتجنب الإفراط والتفريط في الأمور كلها، لا سيما السرف في الطعام والشراب. مرَّ بهذه الأرض روح بشري فارق جسده، وذهب إلى الدار الآخرة؛ فكانت في طريقه إليها وقد كتب إلى صديق له في الدنيا ينبئه بوصفها على ما خيله مؤلف الكتاب. وأما عالم البقاء فهو معروف، والمؤلف يصور فيه موقف الحساب والجزاء يحضره ملك شرقي ظالم وأحد المتصرفين في جبل لبنان وراهب، وشيخ مسلم، وبخيل، ولص، وكاهن (قسيس) ، وصحافي، وطبيب، وسكير، ومحام، يحاسب كل منهم ويعاقب على ما أفسد في الأرض، تذكر ذنوبه وتشرح عيوبه، ويعتذر ويتنصل، فلا يعذر ولا يقبل، وأما أسلوب الكتاب فهو فكه سلس يقرب من أسلوب العوام ويتخلله كثير من عباراتهم وأمثالهم وتشبيهاتهم، ومن قرأ طائفة منه يندفع إلى إتمامه بسائق الرغبة وحادي اللذة، وقلما ترى بين الكتب التي تؤلف وتنشر بيننا ما جمع بين اللذة والفائدة لا سيما في شؤون المعيشة والاجتماع والسياسة. نعم، إن الفكاهة لا تليق في مقام الرهبة والجبروت، وفي مواقف الحساب والجزاء، ولكن غرض المؤلف من ذلك تمثيل سيئات هذه الأصناف من الناس التي تشتغل بالمصالح العامة؛ فتفسدها وهم الملوك المستبدون وأعوانهم والأطباء، والصحافيون، والمحامون، والقسوس، وغيرهم من رجال الدين وقرنهم باللصوص، والبخلاء. وليس الغرض الأول تمثيل أهوال الحساب والجزاء، وإرهاب الناس منه بل هذا وسيلة، وذاك هو المقصد. ومما ينتقد عليه أن ما ذكره من حال الملائكة التي تذهب بالأرواح، والتي تتولى الحساب والجزاء، لا يتفق مع عقائد الناس، أو تخيلاتهم فيهم ولا هو في نفسه مؤثر يصادف من النفس موقعًا يليق به وأكثره لا فكاهة فيه إلا ما ذكره من فتنة المحامي وتهييجه الشعب في ذلك العالم؛ لأجل أن ينجو من العقاب فلا يستطيع أحد أن يملك ضحكه عند قراءة هذا. وقد انتقد عليه زميلنا نعوم أفندي لبكي صاحب جريدة المناظر الحرة في مقدمة وضعها له اكتفاءه بذكر الراهبات من الأجواق التي رآها صاعدة إلى السماء، حيث تلقى أحسن الجزاء، ففي الناس من يستحق ذلك غيرهن وأنتقد عليه أنا بقوة زعمه أن النصارى تتقرب من المسلمين في جرائدهم ومدارسهم، والمسلمون لا يزدادون إلا تباعدًا، والصواب أن في عقلاء الفريقين من يسعى للتساهل والتقرب سعيهما، وإن جرائد المسلمين أبعد عن إثارة التعادي من جرائد النصارى؛ فإننا لا نرى فيها جريدة منتشرة تتعرض للنصارى فيما يختص بدينهم ورؤسائه، كما نرى في جرائد النصارى بمصر من ذلك حتى إن بعض الجرائد اليومية كانت من عهد قريب تطعن وتحامي عن العقائد الإسلامية في الأزهر وتُعرض ببعض كبار العلماء والأئمة، وتحاول إشراب الأفهام أنهم يبثون في الأزهر الإلحاد ويفسدون الدين، ومثل هذا كثير، فما كل الجرائد كالمناظر، وأما المدارس النصرانية فأكثرها أو جميعها تلزم التلاميذ المسلمين بالعبادات النصرانية، ولا نعرف مدرسة إسلامية في الدنيا تعامل التلاميذ النصارى بمثل هذه المعاملة. ثم إنه ليس لمشايخ المسلمين من العناية بعامتهم وتلقينهم التعاليم والتقاليد الدينية مثل ما للقسوس، وأكثر حديث المشايخ مع غيرهم في الأمور العادية ويا ليتهم كانوا يعنون بنشر مسائل الدين؛ إذًا لقلّ التنافر، فإن رأي الإسلام في النصرانية ليس كرأي النصرانية في الإسلام؛ الإسلام يثبت أن كتاب النصرانية حق ويوجب الإيمان بمن جاء به، وإنما يثبت أن أهلها حرفوا وانحرفوا عن صراطها وأن إيذاءهم حرام والبر إليهم مشروع. والنصرانية تعد الإسلام كفرًا في أصوله وفروعه، وقد ألف القسوس في ذمه كتبًا حشوها بأكاذيب لم تخطر على قلب مسلم في الأرض، ثم إنه لم يعقد أحد من المشايخ مجالس وسمَّارًا لأجل الطعن في النصرانية، ولم يعينوا أحدًا منهم لدعوة النصارى إلى الإسلام كما يفعل القسوس بالمسلمين، (فأي الفريقين هو المفرق بين العالمين) . لهذا أرى أن أقرب طريق إلى التأليف بين الفريقين نشر تعاليم الإسلام الصحيحة في المسلمين، وإقلاع قسوس النصارى الذين لهم السلطان الأعلى على قلوب عامتهم عن تنفيرها من المسلمين، وكفهم عن الطعن في الإسلام، ولا أبرئ بعض المشايخ من كلام ضار يقولونه في المجالس عندما يذكر تعصب النصارى، ولكن مثل هذا الكلام لا يكاد يجيء في درس ديني، ولا كتاب تعليمي. وقد أقنعت من لا أحصي من المسلمين بأن التساهل والاتفاق على المصالح الدنيوية خير يأمر به الدين فلم أجد مقاومة تذكر، ولا ردًّا يُؤثَر، وقد كتبت من قبل بأن الصواب في التأليف أن يحمل الأحرار من كل طائفة على المتحمسين المفرقين منها وأما حمل كل طائفة على الأخرى فهو الداء الذي لا يرجى معه شفاء. *** (تهذيب الأخلاق) يولد في كل أمة ألوف من الأولاد على استعداد عظيم للعلوم والفضائل، فيضيع استع

شكر واعتذار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شكر واعتذار نشكر للذين عزَّوْنا ببرقياتهم وكتبهم على مصابنا بمولانا الأستاذ الإمام، عالمين أن مكاننا منه مكان الولد البارّ من الوالد الرحيم، والمريد الصادق من المرشد الحكيم، على أنه تغمده الله برحمته كان أبا الأمة ومربيها، ومرشدها وهاديها، فما من معزٍّ لنا إلا وكان يعزي نفسه ثم يذكر الأمة والإسلام، ويعترف بأن المصاب عامّ، وكذلك رأينا التعازي التي خوطب بها أخونا حمودة بك عبده والشيخ عبد الكريم سلمان، بل رأينا مثل هذه التعازي في أيدي بعض المريدين وسننشر نموذجًا من ذلك في كتاب التاريخ إن شاء الله تعالى. وأما الاعتذار فهو عن عدم مجاوبة المعزين ويدخل فيه الاعتذار لمن كاتبونا منذ أشهر في مسائل أخرى ونخص بالذكر البحرين وزنجبار والمغرب الأقصى، ولعلنا نكتب إليهم عن قريب. (تنبيه) لا نسمح للجرائد المصرية بنقل ترجمة الأستاذ الإمام عن المنار ولا يضر اقتباس قليل من العبارة مع العزو وكثير من المعنى ولو بدونه، والعلم أمانة بين أهله.

ملخص سيرة الأستاذ الإمام ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة سيرة الأستاذ الإمام (3) حياته في المنفى لا تكمل تربية الرجال، إلا بمكافحة الأهوال، فمعادن النفوس لا تصفو من شوائب الضعف في الحق، وتتمكن من مقعد الصدق إلا بعد أن تعرض على نيران الفتن، وتذاب في بوادق المحن {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) ولذلك يبتلي الله سبحانه وتعالى عباده المصلحين بفتن المفسدين، ليعلم الصابرين والصادقين {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ} (آل عمران: 141) فالفتن والكوارث تمحص نفوس المؤمنين بالله السائرين على سننه فتزكيها وتعليها، وتمحق الكافرين بنعمه، والمنحرفين عن سننه؛ فتدسيها وتفنيها، وقد اتهم فقيدنا في الثورة بما هو بريء منه، وتفنن المنافقون يومئذ بأخبار السوء عنه، حتى أنذر بالإعدام، ثم استبدل ذلك بالنفي ثلاثة أعوام، فما حقد على واش ولا محتال، بل كتب من السجن إلى صاحب له يعجب من كيدهم ثم قال: (ولئن عشت لأفعلن المعروف، ولأغيثن الملهوف، ولأنقذن الهاوي في حفرة الغدر، ولآخذن بيد المتضرع من ضغط الظلم، ولأتجاوزن عن السيئات، ولأتناسين جميع المضرات، ولأبينن لقومي أنهم كانوا في ظلمات يعمهون، ولأظهرن الصديق في أجمل صوره، ولأجلونه للناس في أبهج حلله، ولأثبتن لهم ببرهان العمل أنه فكرك الثاني في روحك الواحدة، وجسمك الآخر في حياتك المتحدة، وأنه صاحبك إذا طال ليل الكدر، ومصباحك إذا غسق دجى الهموم، تستضيء به في حل ما انعقد، وتستعين بقوته في تيسير ما عسر، وتذهب به إلى أوج المعالي، والناس من معجزات الصديق يتعجبون. إلى أن قال: لكني أقول لكم: إن هذه الحوادث المريعة سوف تنسى، وإن هذا الشرف سوف يرد، ولئن أبت طبيعة هذه الأرض بخسَّتها أن يكون لها من عوده نصيب فليعودن في بلاد خير منها، ولأجذبن إلى المجد أحبتي ومن إلى المجد ينجذبون، كل ذلك إن عشت وساعدتني صحة الجسم، ولا أطلب شيئًا فوق هذين سوى معونة الله الذي عرفه بعض الناس وبعضهم له منكرون) . والكتاب طويل وسننشره برمته في تاريخ الفقيد. وله قصيدة في الثورة نظمها في ظلمة السجن أيضا تزيد على مئة بيت، وقد عرض في آخرها بما أبانه في آخر كتابه هذا من صدق العزيمة والثقة بنفسه والاعتماد عليها في مغالبة الزمان بعد الاتكال على الله تعالى وكونه لا يخاف شيئًا يقطع عليه طريقه في عمله لوطنه وأمته إلا الموت قال: وأحفظ الدهر أني لا أشاكله ... فيما تبطن من غش وتمويه أحارب الدهر وحدي ليس ينفعني ... إلا الثبات وحسبي من أصافيه تعلم الدهر مني كيف يطعنني ... فخاب ظنًّا وخانته مزاكيه وليس يعجزني عن كسر فيْلَقه ... إلا المنايا تفاجيني فتحميه إن المنايا سهام الله سددها ... وليس يخطئ سهم الله مرميه أريت من كانت له هذه النفس العالية، والعزيمة الماضية، أيحط من قدره أن يتهم بالسياسة فيلقى في غيابة السجن، أم يطفئ نور استعداده الإخراج والنفي؟ كلا. عمله في أوربا لمصر والإسلام سافر رحمه الله تعالى إلى سوريا فأقام فيها نحو سنة، ثم سافر إلى أوربا على اتفاق بينه وبين أستاذه وصديقه السيد جمال الدين لأجل الاشتغال بما كان يسمى (المسألة المصرية) فأقام فيها عشرة أشهر معظمها في باريس حيث أصدرا جريدة العروة الوثقى، وكانا أسسا لها جمعية من مسلمي الهند ومصر والغرب وسوريا؛ غرضها السعي في جمع كلمة المسلمين، وإيقاظهم من رقادهم وإعلامهم بالأخطار المحدقة بهم، وإرشادهم إلى طريق مقاومتها. كان السيد جمال الدين مدير سياسة الجريدة والشيخ محمد عبده المحرر الأول لها؛ على أنه لم يكن لها محرر سواه إلا من كان يترجم بعض الأخبار من الجرائد الأوربية، ويلقيها إلى الشيخ يصححها وينفخ فيها من روح العبرة ما ينفخ. كان السيد منبع الأفكار والآراء السياسية التي تنشر في الجريدة لا سيما ما هو من سيئات الإنكليز في الهند وغيرها، وكان الشيخ يبرز هذه المسائل في صورة تروع الأبصار، وتحرك الأفكار ويتصرف فيها ما شاء. أما المقالات التي كان يكتبها في الاجتماع والوعظ، والأخلاق السياسة الإسلامية فقد كانت من الآيات البينات التي لا يكاد يوجد في كلام البشر ما يساهمها في البلاغة والتأثير حتى كان علماء المسلمين وعقلاؤهم في كل قطر يتوقعون أن تحدث تلك الجريدة انقلابًا عامًّا في المسلمين، حدثني الثقة عن السيد سلمان أفندي الكيلاني نقيب بغداد أنه كان يقول كلما قرأ عددًا من جريدة (العروة الوثقى) يوشك أن يحدث انقلاب في بعض بلاد الإسلام قبل أن يصدر العدد الذي بعد هذا. والسيد (سلمان) هذا كان من بقايا زعماء المسلمين يخضع له مئات الألوف من العرب والعجم. وسمعت شيخنا الشيخ حسين الجسر العالم الطرابلسي الشهير يقول: لو طال الزمان على جريدة العروة الوثقى لأحدثت نهضة جديدة للمسلمين، وانقلابًا عظيمًا. أقول: وهي هي التي نقلتني من طور إلى طور، وحَبَّبت إليّ صاحبيها حتى جذبني الحب إلى مصر، ووصل حبل ودي بالأستاذ الإمام، وحملني على نشر حكمته، وإعلان دعوته، فقد كنت مرة أبحث في أوراق والدي العتيقة وأتصفح ما فيها من الجرائد المطوية، فعثرت على أعداد من العروة الوثقى، فطفقت أقرأها المرة بعد المرة، وهي تفعل في نفسي فعلها، تهدم وتبني، وتعد وتمني، وما كان وعدها إلا حقًّا، ولا تمنيها إلا رجاء وأملاً، أحدث إصلاحًا وعملاً، فكانت هي أستاذي الثاني الذي أثر في نفسي، وأقيم عليه بناء عملي وأملي، وأما الأستاذ الأول فهو كتاب إحياء العلوم للإمام الغزالي الذي كان أول كتاب ملك عقلي وقلبي. أنشأت بعد أن ظفرت بتلك الأعداد أبحث عن أخواتها في طرابلس، فكنت أجد عند الرجل العدد، وعند الآخر العددين فأنسخ ما أجد، ثم علمت أن الشيخ (حسينًا الجسر) احتواها كلها ومن عنده أتممت استنساخها، وأكبر أثرها عندي أنها هي التي وجهت نفسي للسعي في الإصلاح الإسلامي العامّ بعد أن كنت لا أفكر إلا فيمن بين يدي، وأرى كل الواجب عليَّ أن أظهر في دروسي العقيدة الصحيحة والأخلاق الفاضلة وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأنفر عن المعاصي، وأنا لا أعلم سبب الفساد الذي فعل في العقائد والأخلاق ما فعل، ودفع المسلمين إلى مزالق الزلل، حتى هدتني العروة الوثقى إلى المناشئ والعلل. لم تكن خدمة الشيخين للإسلام في أوربا قاصرة على الوعظ والإرشاد، بل كان لهما سعي لدى فرنسا وإنكلترا نفسها في المسألة المصرية ومسألة السودان، وكان سعيًا - لو ظهر - غريبًا، وكان منه إقناع ناظر خارجية إنكلترا بعد فصل السودان عن مصر وحضر الأستاذ الإمام إلى بلاد كثيرة لتوثيق العروة والتهميد للعمل أن يترك السودان لأهله ويعدلوا عن محاولة فتحه، وكان لهما في ذلك آمال ومقاصد ذات بال، وقد كان تقرر هذا، وما حال دون إمضائه رسميًا إلا موت محمد أحمد مَهْدِيِّ السودان، ولو شرحنا الوسائل التي اتخذها الشيخان لذلك لحار في براعتهما الثقلان، لا أنكر أن هذا الأعمال السياسية كان السيد جمال الدين هو المفترع لها، ولكن كان فقيدنا عضده، وساعده، ولسانه، وقلمه ولولاه لما استطاع المضي فيها؛ على أن فقيدنا كان بما جرى له ولشيخه مع توفيق باشا في مصر قد ضعف أمله في الإصلاح السياسي، ووجه همه إلى الإصلاح القومي في التربية والتعليم. حدثني أنه قال للسيد في أوربا: إن هذه السياسة لا يأتي منها خير؛ لأن تأسيس حكومة إسلامية عادلة مُصْلِحة لا يتوقف على إزالة الموانع الأجنبية فقط فخير لنا أن نذهب معًا إلى مجهل من مجاهيل الأرض لا سلطان للسياسة فيه ونحاول تربية أفراد على ما نحب؛ فإذا تيسر لنا تربية عَشْرة رجال يبذلون أنفسهم لخدمة الأمة لا يصدهم عن ذلك الجثوم في وطن، ولا الإخلاد إلى الأهل والسكن، بل يكون همهم الأكبر الضرب في الأرض لتربية مثلهم على ما ربوا عليه، فلا يبعد أن يربي الواحد منهم عشرة فيكون لنا في زمن قريب مائة رجل يعملون للإسلام والرجال هم الذين يعملون كل شيء، فقال له السيد: إنما أنت مثبط قد شرعنا في عمل فلا بد من المضي فيه حتى يتم أو نعجز. كان لذلك السعي في إنقاذ مصر والسودان، أو السودان فقط طريق في ذلك الوقت لأن الاحتلال الإنكليزي كان في نظر أوربا كلها مؤقتًا، ولم تكن قدم إنكلترا راسخة في مصر. وبعد أن رسخت القدم وتمكنت السلطة من البلاد قام بعض الأحداث يكتبون، ويخطبون، ويقولون ما يعد أمام ما قاله وكتبه الشيخ في وقته لغوًا، وكانوا يعدون أنفسهم بذلك خدمة مصر ومنقذيها، ويرمون مثل الفقيد بالتقصير في خدمة الأمة والوطن على أنه هو المصري الوحيد الذي قدر على استخدام السلطة الإنكليزية في مصر لخدمة مصر والإسلام، بعد أن صارت الخدمة بمقاومتها من المحال، ولو كانت الخدمة النافعة هي مقاومة القوة بالكلام والكتابة لكانت العروة الوثقى أخرجت الإنكليز من مصر قبل أن يتمكنوا منها. مناظرة الفقيد لوزراء الإنكليز في المسألة المصرية ذهب الفقيد إلى لندن في تلك الأثناء وتكلم مع وزراء الإنكليز في المسألة المصرية ومسألة السودان وفي المالية المصرية وغير ذلك ونشرت الجرائد الأوربية بعض محادثاته معهم. نذكر هنا محادثة نشرت في العدد الرابع من العروة الوثقى الذي صدر في 22 شوال سنة 1301-14 أغسطس سنة 1884 تحت عنوان (هؤلاء رجال الإنكليز وهذه أفكارهم) . والكلام بلسان السيد قال: (تأخر صدور الجريدة أيامًا لضرورة ما مسنا من ضعف في المزاج مع مصادفة رداءة الهواء في البلاد الفرنساوية هذه الأيام، والحمد لله على زوال المانع، إلا أننا مع ذلك لم نقصر في أداء الواجب من العمل الذي قمنا به في المدافعة عن حقوق المسلمين، فقد خلقنا والشكر لله لهذا العمل، وطبعنا عليه ونرجو ديان السماوات والأرض أن نموت في هذه السبيل، وأن نبعث في زمرة السالكين فيها. رأينا أن يذهب الشيخ محمد عبده (المحرر الأول لهذه الجريدة) إلى لوندرا إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل فيهم صدق النية في رعاية مصالح المسلمين من رجال السياسة الإنكليزية، وليستكشف مناصب الفخاخ السياسية التي ما مرت عليها قدم شرقي إلا سقطت منها فيما يعسر الخلاص منه، وليسبر أغوار المطامع الإنكليزية التي لا يدرك منتهاها، تلك المطامع التي بعدما التهمت ثلث المسكونة، وطوقت كرة الأرض بالفتح والاستملاك لم تزل في مد لا جزر معه، ولا يزال رجال حكومة بريطانيا في قرم شديد لابتلاع ممالك العالم، وكلما أساغوا قطرًا طلبوا إليه آخر، وليستطلع خفايا المقاصد من أثناء الأفكار، وغضون الأقوال، وليقف على الطرق المألوفة بين أولئك السياسيين في التلوين ويتبين كيف يتمكنون من إبراز محاسن الأعمال في صفات رديئة يستنكرها كل ناظر إليها، وإظهار السيئات في ألوان بهجة تسعد الناظرين حتى يمكن بعد ذلك وضع ميزان قسط يتميز به الزيف من النضار الخالص كي لا يغتر الجاهل، ولا يزل العالم) . لاقى (محرر الجريدة) كثيرًا من رجال السياسة الإنكليزية وأنفذ الناس رأيًا فيها، وقد جرت بينه وبينهم محادثات طويلة في الأحوال المصرية، ومن محادثاته الابتدائية ما نشر في بعض الجرائد الإنكليزية كجريدة (البال مال كازيت) وجريدة (التروت) التي يحررها النائب الشهير مستر لابوشير وجريدة (التيمس) وسيذكر شيئًا مما جرى

مرثية محمد حافظ أفندي إبراهيم في الأستاذ الإمام رضي الله عنه

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ مرثية محمد حافظ أفندي إبراهيم في الأستاذ الإمام رضي الله عنه سلام على الإسلام بعد محمد ... سلام على أيامه النضرات على الدين والدنيا على العلم والحجى ... على البر والتقوى على الحسنات لقد كنت أخشى عادي الموت قبله ... فأصبحت أخشى أن تطول حياتي فوا لهفي والقبر بيني وبينه ... على نظرة من تلكم النظرات وقفت عليه حاسر الرأس خاشعًا ... كأني حيال القبر في عرفات لقد جهلوا قدر الإمام فأنزلوا ... تجاليده في موحش بفلاة [1] ولو أضرحوا بالمسجدين لأنزلوا ... بخير بقاع الأرض خير رفات تباركت هذا الدين دين محمد ... أيترك في الدنيا بغير حماة تباركت هذا عالم الشرق قد قضى ... ولانت قناة الدين للغمزات *** زرعت لنا زرعًا فأخرج شطأه ... وبنت ولما نجتن الثمرات فواهًا له ألا يصيب موفقًا ... يشارفه والأرض غير موات مددنا إلى (الأعلام) بعدك راحنا ... فردّت إلى أعطافنا صفرات وجالت بنا تبغي سواك عيوننا ... فعدن وآثرن العمى شرقات وآذوك في ذات الإله وأنكروا ... مكانك حتى سودوا الصفحات رأيت الأذى في جانب الله لذة ... ورحت ولم تهمهم له بشكاة لقد كنت فيهم كوكبًا في غياهب ... ومعرفة في أنفس نكرات أبنت لنا التنزيل حكمًا وحكمة ... وفرقت بين النور والظلمات ووفقت بين الدين والعلم والحجى ... فاطلعت نورًا من ثلاث جهات وقفت لها (نوتو ورينان) وقفة ... أمدك فيها الروح بالنفحات وخفت مقام الله في كل موقف ... فخافك أهل الشك والنزغات وكم لك في إغفاءة الفجر يقظة ... نفضت عليها لذة الهجعات ووليت شطر البيت وجهك خاليًا ... تناجي إله البيت في الخلوات وكم ليلة عاندت في جوفها الكرى ... ونبهت فيها صادق العزمات وأرصدت للباغي على دين أحمد ... شباة يراع ساحر النفثات إذا مس حد الطرس فاض جبينه ... بأسطار نور باهر اللمعات كأن قرار الكهرباء بشقه ... يريك سناه أيسرُ اللمسات *** فيا سنة مرت بأعواد نعشه ... لأنت علينا أشأم السنوات حطمت لنا سيفًا وعطلت منبرًا ... وأذويت روضًا ناضر الزهرات أطفأت نبراسًا وأشعلت أنفسًا ... على جمرات الحزن منطويات رأى في لياليك المنجم ما رأى ... فأنذر بالويل والعثرات ونبأه علم النجوم بحادث ... تبيت له الأبراج مضطربات رمى السرطان الليث والليث خادر ... وربَّ ضعيف نافذ الرميات فأودى به ختلاً فمال إلى الثرى ... ومالت له الأجرام منحرفات وشاعت تعازى الشهب باللمح بينها ... ويخطر بين اللمس والقبلات تكاد الدموع الجاريات تقله ... وتدفعه الأنفاس مستعرات بكى الشرق فارتجت له الأرض رجة ... وضاقت عيون الكون بالعبرات ففي الهند محزون وفي الصين جازع ... وفي مصر باك دائم الحسرات وفي الشام مفجوع وفي الفرس نادب ... وفي تونس ما شئت من زفرات بكى عالم الإسلام عالم عصره ... سراج الدياجي هادم الشبهات ملاذ عياييل ثمال أرامل ... غياث ذوي عدم إمام هداة فلا تنصبوا للناس تمثال عبده ... وإن كان ذكرى حكمة وثبات فإني لأخشى أن يضلوا فيومئوا ... إلى نور هذا الوجه بالسجدات فيا ويح للشورى إذا جد جدها ... وطاشت بها الأراء مشتجرات ويا ويح للفتيا إذا قيل من لها ... ويا ويح للخيرات والصدقات بكينا على فرد وإن بكاءنا ... على أنفس لله منقطعات تعهدها فضل الإمام وحاطها ... إحسانه والدهر غير موات فيا منزلاً في (عين شمس) أظلني ... وأرغم حسادي وغم عداتي دعائمه التقوى وأساسه الهدى ... فيه الأيادي موضع اللبنات عليك سلام الله ما لك موحشاً ... عبوس المغاني مقفر العرصات لقد كنت مقصود الجوانب آهلاً ... تطوف بك الآمال مبتهلات مثابة أرزاق ومهبط حكمة ... ومطلع أنوار وكنز عظات

المنار الإسلامي واللواء الوطني

الكاتب: شيخ بن أحمد الهادي

_ المنار الإسلامي واللواء الوطني بين المنار الإسلامي، وجريدة اللواء الوطنية تضاد فيما يسمونه (المبدأ) فالمنار يدعو إلى الإصلاح الإسلامي، وثبت أن المسلمين لا يرتقون إلا بترك البدع ورجوعهم في الدين إلى ما كان عليه السلف، وبأخذهم بوسائل القوة والمدنية العصرية في أمر الدنيا. ويدخل في الأول أن كل مسلم أخ لكل مسلم، وفي الثاني أن أهل كل قطر من الأقطار ينبغي لهم التعاون على عمرانه لا يفرق بينهم في ذلك دين ولا مذهب. وجريدة اللواء لا رأي لها في الدين والإصلاح يسقطها، ولكن لها وطنية عمياء من معناها أنه يجب على كل مصري مسلم أن لا يتعصب على كل من يقيم في مصر من غير أهلها الأقدمين وإن كان مسلمًا، وعلى كل مصري مسلم أن يتعصب على كل مصري ليس بمسلم، وهذا مما ينقضه المنار، ولذلك ترى جريدة اللواء تقدح في المنار، وقلما نطلع على شيء من طعنها، وقد صارت في هذه السنة تسند الطعن إلى بعض الأقطار إما اختلاقًا، وإما لأن مثل أحمد المنوفي كتب إليها بذلك - هذا الرجل من باعة الكتب كالذين يطوفون بالأزبكية، وسافر إلى كلكته فصار إمام مسجد بها - فتسمي ذلك صوت اللواء في الهند! ! وقد يجيئها ما يفند مطاعنها فلا تنشره، كما ترى في الرسالة الآتية التي كتب إلينا مرسلها من سنغافورة صورتها، وكلفنا نشرها إن لم تنشر في اللواء، وهي: عن سنغافورة في 27 جماد أول سنة 1323 إلى مصر القاهرة. حضرة الفاضل سعادتلو أفندم صاحب اللواء دام علاه بعد السلام قد اطلعت على ما كتبه في جريدتكم الغراء في العدد 175 حضرة الفاضل الهندي المولوي عبد المجيد المراد آبادي أحد مدرسي العلم الشريف بكلكتا فتأسفت كثيرًا؛ لأني لم أكن طالعت شيئًا من أفكار علماء الهند قبل في هذا الموضوع، وظننت حينئذ أنهم في جمود وخمود لا كما كنت أظن وأسمع؛ حتى رأيت ما كتبتموه من كلام حضرة المِفضال النواب محسن الملك كثر الله أمثاله وحفظه، فسرى عني ذلك الأسف وحل محله الرجاء، وقد أعجبني كثيرًا مما كتبتم على كتابه الأخير. فجزى الله أحسن الجزاء كل داع إلى الهدى نابذ للتعصب الأعمى. اللهم إلا أنه وقع عندى موقع الاستغراب جهل المولوى انتشار المنار بالهند وخصوصًا في كلكته؛ إذ حضر لدي وقت قراءتي تلك الرسالة أحد أهل كلكته ممن يقرأ المنار منذ سنين من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ويعرفون الرجال بالحق لا بالعكس، وقد أفادني أن للمنار هناك سمعة حسنة ولكثير من الجرائد والمجلات العربية والمصرية. أما حصر المولوي ما وجد في المنار في نبذ المذاهب الأربعة فشيء اختص هو به، فليعد النظر إن لم يعمه تعصبه؛ ليعلم أن المنار يدعو إلى نبذ نحو قولهم: (إذا زنى الرجل بأمه أو بنته بعد أن يعقد عليها صارت له فراشاً ولا حد عليهما) وأمثال ذلك، وصاحب المنار ومن على شاكلته هم المتبعون للأئمة عليهم الرضوان؛ لأن الأئمة لم يكونوا مقلدين جامدين، بل أفنوا أعمارهم في اقتباس العلم من الكتاب والسنة. وتنظيره بالخوارج مما دلنا على كمال عقله وعلمه بالدين والتاريخ؛ فلا نطيل الكلام مع من كان أعمى أو يتعامى، لكننا ننصح لذوي الشأن في المدارس بأن لا يثقوا بمن هذا علمه وعقله، وغالب الظن أن ذلك الكاتب لا عالم ولا متعلم بل متعصب متخبط أراد التضليل فنسب نفسه إلى العلم والتدريس وإلا فليكتب لنا العبارة المنتقدة بنصها ثم ليرد عليها بالدليل لا بقال وقيل. وأنى له ولأمثاله ذلك فيقال له: (ليس بعشك فادرجي) ولسنا ممن يعتقد العصمة للمنار، ولكنا نعلم أن المتعصبين لا ينكرون الأمر الحق. وأما تربصه الدوائر لمن ينفي تحريف المبطلين وانتحال الغالين عن هذا الدين؛ فنقول له ولشيعته: تربصوا فإنا معكم متربصون، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، أفندم. ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ بن أحمد الهادي

مشروع بناء مسجد في باريس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع بناء مسجد في باريس خطر هذا المشروع للخواجه (ليون لامبير) المقاول في مصر من عدة شهور وكاشف به بعض وجهاء مصر، فعلم منهم أنه لا يرجى نجاحه، إلا إذا كان تحت رئاسة فقيد الإسلام والشرق الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - فأرسل أحد أولاده (فنيكسي لامبير) بكتاب منه إلى الإمام عندما ذهب إلى رمل الإسكندرية مريضًا، فمنعناه من مقابلته؛ لأن صحته لا تسمح له بالكلام ولا الفكر في الأعمال، فعاد إلى مصر وأرسل إليّ بعد ذلك كتابًا في 21 يوليو يرجوني فيه رجاء مؤكدًا أن أعرض المشروع على الإمام في الوقت المناسب، وأرسل معه قائمة كتب في أعلاها (أسماء المتحدين على مشروع بناء جامع في مدينة باريس تحت رياسة فلان) ... إلخ ورغب إليَّ أن أكلف الإمام بإمضاء القائمة، ثم أعرضها على بعض وجهاء الإسكندرية، ثم أرسلها إليه لكي يتيسر له إمضاؤها من وجهاء مصر، وإنني لم أرَ فرصة مناسبة لمذاكرة فقيدنا في هذا المشروع لأعرف رأيه فيه، وبعد أن توفاه الله تعالى بلغني أن الرجل رغب إلى شيخ الأزهر أن يجعل المشروع تحت رياسته؛ فقبل فعسى أن ينجح المشروع ويبنى المسجد في مكان يسهل على المسلمين في باريس القصد إليه والصلاة فيه ولا يكون كجامع لوندن (لوندره) الذي حدثنا عنه الأستاذ الإمام - رضي الله عنه - بما يأتي، قال: خطر لرجل يهودي كان مستخدمًا في الهند ان يجمع من المسلمين مالاً يبني به مسجدًا في لوندرة فجمع خمسين ألف جنيه، ثم جاء لوندرة فبنى مسجدًا في خارجها على مسافة ساعة في السكة الحديدية، وهو مكان لا يصل إليه أحد من المسلمين في لوندره؛ فهو مغلق دائمًا لا يصلي فيه أحد. وقد اشترى الرجل أرضًا لنفسه عند الجامع، وبني فيها بيتًا لنزهته؛ إذا علم بأن بعض أمراء المسلمين أو أغنيائهم زار لوندرة يبحث عنه ويدعوه إلي داره وإلى رؤية المسجد، ولما زار أمير الأفغان لهذا العهد لوندره - وكان يومئذ ولي العهد للإمارة -أجاب دعوة هذا اليهودي، وبعد الطعام أعطاه خمس مئة جنيه. ولا يخالن أحد أن الأمير كان مبسوط الكف لكل أحد يتصل به، أو يخدمه فقد كان خالد أفندي أستاذًا للغة التركية في مدرسة كمبردج (مهمندارا) للأمير في لندن لزم خدمته وأعد له كل وسائل الراحة وهو لم ينعم عليه إلا بجنيه واحد لم يقبله. العبرة في هذا المقام أن المسلمين قد فتنوا بهؤلاء الأجانب فتونًا، فالخواجه المجهول منهم يحظى عند كبيرهم وصغيرهم ويسهل عليه أن يبلغ منهم ما لا يبلغه أوسعهم علمًا، وأبعدهم فهمًا، وأشدهم غَيْرَة، وأطهرهم سريرة؛ فلو أن مسلمًا حاول جمع المال من الهند أو مصر لبناء مسجد في لندن أو باريس- لعجز، ولكن الأجنبي لا يعجز عن استخدام نفوذ كل كبير فيهم حتى رجال الدين، وما أحوجنا إلى رجال يسبرون غور الأجانب يستفيدون من خيارهم ما ينفع الأمة، ويتوقون شر شرارهم، ويدفعونه عنها كما كان يفعل الأستاذ الإمام، رحمه الله تعالى، وجزاه عن هذه الأمة أفضل الجزاء.

ملخص سيرة الأستاذ الإمام ـ تتمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة سيرة الأستاذ الإمام إفتاء الديار المصرية وخدمة الأوقاف والمحاكم الشريعة في ست بقين من المحرم سنة1317هـ 3 يونيو سنة 1899م صدر الأمر العالي بناء على قرار مجلس النظار بتعيين الفقيد مفتيًا للديار المصرية وكان الأمير أيده الله بتوفيقه، هو الذي اختاره لذلك أولاً، وقد رأيته في أول الأمر غير مرتاح إلى هذا المنصب وإن كان شريفًا؛ لأنه ليس فيه أعمال عمومية، ولكن الرجل الذي قدر على أن يجعل التحرير في الجريدة الرسمية وسيلة للإصلاح في الحكومة والإرشاد للأمة لا يعجز عن التوسل بأكبر منصب شرعي إلى الخدمة الملية العامة وكذلك كان، فإنه به خدم القضاء الشرعي والأوقاف الإسلامية أَجَلّ خدمة، وزادت في أيام هذا المنصب شهرته وكثر عدد العارفين بفضله حتى كاد يكون المرجع في الفتوى لجميع مسلمي الأرض وناهيك باستفتاء مثل مفتي بنجاب إياه. كان أول عمل جليل له بعد أن صار مفتيًا تفتيش المحاكم الشرعية في القطر كله وإظهار جميع ما فيها من الخلل وبيان مناشئه، فمنها ما كان من تقصير الحكومة ومنها ما هو من تقصير القضاة والكُتاب، وقد كتب في ذلك تقريره المشهور فكان مدهشًا للأفكار في دقة بحثه وتشخيصه داء هذه المحاكم، ووصفه للعلاج الذي لا شفاء بدونه، وقد عجب الجبناء من شجاعته إذ خاطب الحكومة رسميًّا ببيان تقصيرها وطالبها بإزالته، وقد أحلت الحكومة هذا التقرير محل الاعتبار وألفت لجنة في نظارة الحقانية للبحث في تنفيذ ما يتيسر تنفيذه منه بالتدريج. وكان رحمه الله صاحب الرأي في مجلس الأوقاف الأعلى بما كان يطبق الأعمال على الشرع والمصلحة، وأهم خدمة له فيه مشروع المساجد الذي وضعه لعمارة بيوت الله تعالى وإحياء الدين وعلومه، وترقية الخطابة، وبث الإرشاد في الأمة، وقد نوهنا به في المنار من قبل ونشرنا في الجزء الثامن من هذا المجلد ما أقره المجلس من ذلك المشروع ثم صدر الأمر العالي بتوقيف تنفيذه ثم صدر أمر آخر بتنفيذ شيء منه، ومن هذا المشروع تعلم أنه رحمه الله تعالى كان يتوسل بكل عمل يدخل فيه إلى إحياء العلم وهداية الدين وتربية المسلمين. *** عمله في مجلس الشورى في سنة 1317 - 1899 عين عضوًا دائمًا في مجلس الشورى فانتقل المجلس به من حال إلى حال. كانت الحكومة قلما تحفل برأي المجلس وكان المجلس في نظر الأمة وفي نظر أعضائه الوكلاء عنها غير مضطلع بما أُوجِد لأجله، حتى إن جلساته كانت قلما تلتئم على أصول نظامه بحضور جميع أعضائه أو معظمهم، فلما دخله نفخت فيه روح جديدة زال بها سوء التفاهم بينه وبين الحكومة فصارت تحفل برأيه وتحله من الاعتبار ما لم تكن تحله فتأخذ برأيه فيما يمكن الأخذ به وتبين له سبب ما لم تأخذ به وقوي رجاء أعضائه في خدمتهم وانتظم عقد اجتماعهم وعظمت ثقة الأمة بهم، وكان أكثر ما ترسله الحكومة إلى المجلس لينظر فيه يؤلف له لجنة تحت رياسة الفقيد لتدقق النظر فيه وتعرض رأيها على المجلس، وكان له رحمه الله الرأي العالي والصوت المسموع في كل مسألة وكل مشروع فكنت تراه في المسائل المالية حاسبًا اقتصاديًّا، وفي المسائل الإدراية إداريًّا ماهرًا وفي اللوائح والقوانين قانونيًّا خبيرًا، وفي الأمور الشرعية إمامًا فقيهًا، وكان المجلس يعهد إليه مذاكرة الحكومة في الشؤون العظيمة ليكون الحد الأوسط في شكل القياس لتخرج النتيجة في خدمة البلاد صحيحة. وقد كادت أعمال المجلس تغتال معظم وقته فكنت أتألم من ذلك لاعتقادي أن وقته أثمن من أن يُنْفَق في خدمة المجلس فلا أكاد أجد فرصة إلا وأرغب إليه فيها بالتخفيف والإقلال من الاشتغال بعمل المجلس حتى قلت له مرة: إن الحكومة المصرية يشبه أن تكون أعمالها وقوانينها مؤقتة، ترى أنه أنفع للبلاد ولا تلبث هي بعد أن تقره أن ترجع عنه بعد زمن قصير أو طويل ويوشك أن تنفق في تحقيق بعض الأمور أيامًا كثيرة، ثم لا يتيسر إقناع هذه الأوقات في الكتابة والتأليف لكان ما تكتب هداية لهذه الأمة باقية ما بقيت الأمة، فقال: إن الغرض الأول من العمل في المجلس هو التعاون مع الأعضاء على الجد والاهتمام بالبحث في الأمور العامة ومصالح البلاد وتربية الرأي العام في الأمة ليكون ذلك إعدادًا لنفوس طائفة منا لفصل الأحكام بالشورى، فإذا ارتقت هذه الملكة في الهيأة الحاضرة للمجلس فإنها تنتقل منها إلى الهيئة التي تخلفها ويكون ذلك جرثومة من جراثيم الإصلاح في البلاد فعلمت من هذا الجواب أنه لا يترك مذهبه في الإصلاح من طريقة التربية العملية في عمل من أعماله وسيأتي ذكر مذهبه هذا في محله. عمله في الجمعية الخيرية الإسلامية يوجد في كل قطر من بلاد المسلمين أفراد تفرقت فيهم الفضائل الكثيرة التي هي مناط حياة الأمم، ولكن يعوزهم شيء للحياة الاجتماعية في هذا العصر هو أهم شيء وعليه يتوقف كل شيء، وهو التعاون على الخدمة العامة والأعمال المشتركة، وإنك لا تكاد ترى في قطر إسلامي جمعيات ولا شركات ناجحة يرجى خيرها للأمة إلا ما بدأ به مسلمو الهند ومصر في ظل الحرية الإنكليزية، ولا يزال كثيره في مهد الطفولية، ولم تنجح في مصر جمعية من الجمعيات الكثيرة التي ألفت فيها بأسماء مختلفة لمقاصد مختلفة مثل نجاح الجمعية الخيرية الإسلامية ولم تصادف جميعة منها ما صادفته هذه الجمعية من الصدمات، التي يعز فيها الصبر والثبات، وكان الفضل الأول في ثباتها ونجاحها للأستاذ الإمام أحسن الله جزاءه. أنشئت الجمعية للتعاون على تربية أولاد الفقراء والمساكين من المسلمين وإعانة العاجزين منهم عن الكسب على شقاء الحياة فاتهمها أعداء البشر بالسياسة وسعوا بها إلى ذوي النفوذ والسلطة ولولا سعيه في الدفاع عنها وإقناع أهل الحل والعقد بأنها خيرية محضة ليس من موضوعها ولا مما تقصد إليه شىء سياسي أو سري لعفت رسومها، ثم إنه خدمها بنفسه وبالتعاون مع أصفيائه المؤسسين لها معه كوكيلها وأعضاء إدارتها لهذا العهد خدمة جليلة حتى ارتقت عن طور الطفولة وصار ثباتها مضمونًا بحول الله وقوته، ومما انفرد به في خدمتها دعوة الأمراء والوجهاء والأغنياء إلى الاشتراك فيها ومساعدتها وتحصيله منهم قيم الاشتراك إذا قضت الحال بذلك. أسست الجمعية سنة 1310هـ، وفي سنة 1318هـ انتخب رئيسًا لها فزاد اجتهاده في خدمتها وكان من ارتقائها في زمن رياسته أن صار إيرادها في السنة الماضية 10395 جنيهًا، وكان في سنة 1317هـ 4430جنيهًا، وصارت أطيانها 533 فدانًا، وكان قبيل ذلك 280فدانًا، وصارت مدارسها سبعًا وكانت أربعًا، على أنه كان يرى أن الفائدة الأولى المقصودة بالذات من الجمعية هي تعويد المسلمين الاجتماع للخير والتعاون على البر والخدمة العامة وإشعار قلوب الأغنياء عاطفة الرحمة والإحسان بالفقراء، كما كان يصرح بذلك في الاجتماع العام السنوي كل عام فهو فيها عامل بمذهبه في تربية الأمة كما كان شأنه في غيرها جزاه الله عن هذه الأمة أفضل الجزاء. *** طبع الكتب النافعة وجمعية إحياء العلوم العربية كان رضي الله عنه يرى أن حياة الأمة بدون حياة لغتها من المحال، وأن حياة العلوم العربية بمثل هذه الكتب الأزهرية محال وأن لا بد للإصلاح من إحياء كتب أئمتها وكبار علمائنا التي ألفت أيام كان العلم حيًّا في الأمة، فكان يسعى لذلك سعيه وبهديه وإسعاده طبعنا ذينك الكتابين الجليلين اللذين هما روح علم البلاغة (أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز) للشيخ عبد القاهر الجرجاني مؤسس علوم البلاغة، ولولا تصحيح الفقيد لهما واستحضاره لنسخهما من الأقطار النائية لما تيسر طبعهما، وفي سنة 1318هـ أسست في مصر جميعة خاصة لهذه الخدمة تحت رئاسته سُميت (جميعة إحياء العلوم العربية) كانت فاتحة أعمالها طبع كتاب (المخصص) لابن سيده في اللغة وهو كتاب لا نظير له في بابه، ولا غناء عنه في إحياء اللغة في هذا العصر، وقد شرعت بعده في إحياء مدونة الإمام مالك وعني الفقيد رحمه الله تعالى باستحضار نسخها من تونس وفاس وغيرهما من البلاد لولاه لما تيسر جمعها كلها ولنا رجاء عظيم في بقائها وحسن خدمتها بهمة من كان وكيلها وليس لرئاستها بعد الفقيد سواه ألا وهو حسن باشا عاصم. *** مؤلفاته بحسب تاريخ تأليفها بالتقريب 1- الواردات: رسالة في الكلام أو التوحيد على طريقة الصوفية وأسلوبهم وهي أول تآليفه، ولعلنا ننشرها برمتها في سيرته المطولة فقد كان أعطانا نسخة منها. 2- رسالة في وحدة الوجود: وهي رسالة نفيسة لم أطلع عليها ولكنه هو الذي أخبرني بها وقال: إنها ليست بمعنى ما كتب عبد الكريم الجيلي وأمثاله، مما هو أقرب إلى مذاهب الحلول كالنصرانية منه إلى توحيد الإسلام ولكنها بأسلوب آخر وأراه يبين فيها مراتب الوجود وتعددها من وجه، ونظامها العام ووحدتها من وجه آخر ولعلنا نظفر بها ونطبعها. 3- تاريخ إسماعيل باشا: أخبرني بهذا الكتاب أحد تلامذته الأولين، وقال: إن عبد الله النديم كان أخذ من الفقيد نسخته في أثناء الثورة العُرابية ونشر منه فصولاً في جريدة الطائف بتصرف أو بغير تصرف ولم أسمع منه رحمه الله تعالى ذكرًا لهذا الكتاب، وكنت أظن أنه لم يصنف شيئًا إلا وقد أخبرني به لأنه قص عليّ تاريخه بالتفصيل وكتب إليّ شيئا مجملاً منه كما علم القراء. 4- فلسفة الاجتماع والتاريخ: هو الكتاب الذي ألفه أيام كان يُدَّرِس مقدمة ابن خلدون في مدرسة دار العلوم كما ذكرنا في هذه السيرة وقد نقد هذا الكتاب عندما عزله توفيق باشا من المدرسة ونفى السيد جمال وأخذت أوراقه، وكان -طيب الله ثراه- يقول: أتمنى لو يحفظ هذا الكتاب من وقع في يده ويدعيه لنفسه ولو بعد موتي لينتفع به الناس. 5- حاشية عقائد الجلال الدواني: وهي غاية الغايات في علم الكلام، وتحقيق مسائله وتحرير الخلاف بين المتكلمين وبيان ما هو لفظي منه، وما هو حقيقي وقد كان السيد عمر الخشاب شرع في طبعها ولعلها تتم عن قريب. 6- شرح نهج البلاغة: وهو شهير جدًّا وقد طبع في بيروت مرتين وفي طرابلس مرة وفي مصر مرة. 7- شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني: وهو مطبوع في بيروت ولم يعرف لغيره شرح لهذه المقامات وقد فرغ منه في 16رمضان سنة 1306. 8-شرح البصائر النصيرية: في المنطق وهو شرح وجيز أطلق عليه لفظ التعليقات، والكتاب عالي الأسلوب وهو من أحسن ما كتب المسلمون في المنطق، ولم يسبق لأحد قبله كتابة عليه فيما نعلم وقد قرأه درسًا في الجامع الأزهر وحضرناه عليه ولعله لا يتسامى أحد إلى تدريسه بعده، وإن كان من الكتب التي قرر مجلس إدارة الأزهر تدريسها فيه رسميًّا إلا أن يكون بعض من تلقاه عنه. 9- نظام التربية بمصر: رسالة في الطريقة المُثلى لتربية المصريين وتعليمهم وهي على إيجازها من أحسن ما كتب وأنفعه وستنشر في تاريخه. 10- رسالة التوحيد: وما أدراك ما رسالة التوحيد هي التي يصدق عليها القول المشهور (لم ينسج ناسج على منوالها ولم تسمح قريحة بمثالها) هي التي يصح أن تُعدّ معجزة من معجزات النبي - عليه السلام - وآية من آيات الإسلام، هي التي ينبغي أن تجعل أصل الدعوة إلى هذا الدين، ويعم تلقينها جميع المسلمين، وقد قلت للأستاذ الإمام - رضي الله عنه - إنه لولا اسم هذه الرسالة وما في أولها من الاصطلاحات الكلامية الوجيزة لكان انتشارها أضعاف ما هو الآن، ولعم الانتفاع بها كل مكان، ولكن البعيد إذا سمع باسم رس

الدين في نظر العقل الصحيح - 3

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الدين في نظر العقل الصحيح لصاحب الإمضاء محمد توفيق صدقي (3) المقالة الثانية بقية الكلام في النبوة أليست العقائد الإسلامية أنزه العقائد وأبعدها عن مخالفة المعقول والوحيدة في قوة الحجة ومتانة البرهان (انظر ما تقدم في المقالة الأولى) أليس في القرآن أصول الدلائل العقلية على صحة هذه العقائد مع الرد على من خالفها بأجلى بيان؟ أليس في العبادات والأوامر والنواهي القرآنية ما يطهر القلب، ويصلح النفس والجسم معًا وأحوال الدين والدنيا؟ أليس في القرآن من المسائل العلمية الطبيعية ما لم يخطر على قلب بشر في ذلك الزمن وفي تلك البلاد؟ ماذا يكون قول العامي إذا ذكر شيئًا عن البرق والرعد والصواعق؟ وماذا يقع في كلامه من الأوهام ونحن في القرن العشرين للمسيح؟ فما بالك إذا كان في القرن السادس، فيكف لم يدخل ما يذكره العامة من الخرافات في القرآن، ولِمَ لَمْ يذكرها محمد - صلى الله عليه وسلم- فيه اعتقادًا منه لها، وجريًا على ما كان عليه معاصروه؟ فكم ذُكرت هذه الأشياء في القرآن وغيرها من عجائب الكون، ومع ذلك لم يرد عنها إلا كل قول صحيح سالم من طعن الطاعنين، فكيف تحاشى محمد الوقوع فيما يقع فيه مثله من العامة عند ذكر هذه المسائل؟ هل يعرف العامي الأمي من العرب في ذلك الزمن أن كل الثمرات لها حياة كحياة الحيوان، وأنها جميعها لها ذكر وأنثى، وهو الأمر الذي لم تقل به العلماء إلا في الزمن الأخير {وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} (الرعد: 3) مع أن العرب لم تكن تعرف ذلك إلا في النخيل! هل يعرف العامي أن القمر ليس مضيئًا بذاته، ويدرك أن الشمس وحدها هي مصباح عالمنا هذا فيقول {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (الإسراء: 12) ولا يصف القمر بما يستفاد منه أنه مصدر للنور ويصف الشمس وحدها دائمًا بذلك، كقوله: إنها سراج منير ونحو ذلك؟ هل كان أحد في ذلك الزمن يعتقد دوران الأرض حتى يرد في القرآن: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) ؟ ! وليس ذلك في يوم القيامة على الأصح إذ قوله (تحسبها جامدة) لا يناسب مقام التهويل والتخويف، وقوله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) لا يناسب مقام الإهلاك والإبادة، هل كان أحد يدرك الفرق بين جعل النهار الذي هو من حركة الأرض مجليًا للشمس، والليل غاشيًا لها، وبَيَّن العكس حتى يأتي بهذا التعبير {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} (الشمس: 3-4) والذي أتعب المفسرين زمنًا، ولا يقول إن الشمس هي المجلية للنهار بتحركها، كما كان ينتظر من مثل هذا العربي الأمي. مَنْ مِنَ العامة يدرك أن صغر القمر وكبره حسب ما نشاهده ليس إلا لاختلاف منازله بالنسبة إلى الشمس، لا لأن حجمه الحقيقي يصغر ثم يكبر شيئًا فشيئًا حتى يقول: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} (يونس: 5) . يظن العامة أن المطر آتٍ من الجنة، أو من الملكوت الأعلى أو من عالم غير عالمنا هذا، ولا يتصورون أن أصله من ماء بحار أرضنا هذه، ولكن القرآن يقول: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) أي إن المياه بأنواعها التي نستعملها خارجة من الأرض، ولم يستثن منها ماء المطر كما يتوهمون، فهل يكون في كلام الأمي العامي في ذلك الزمن هذه الدقة في التعبير، والصدق في العبارة، والإشارة الواضحة إلى مسائل علمية لم تكن معروفة من قبل أو معمولاً عليها في زمنه؟ هل تدرك العامة بل وكثير من الخاصة أن التغيرات في العالم أعظم برهان على وجود الخالق تعالى؛ حتى يستشهد القرآن على ذلك باختلاف الليل والنهار وحركات الكواكب، وشروقها وأفولها. أليس ذلك مما لم تنته إليه عظماء الفلاسفة إلا بعد الجهد والعناء الكبير؟ ! هذا وإن القرآن قد أتى بالحِكَم الكثيرة والأمثال الصحيحة على وجه وتعبير ينهك الفيلسوف الحكيم بدنه دون أن يأتي على تعبير مثله؛ فما بالك بهذا الأمي؟ . فهل نقول بعد ذلك كله أن سماع النبي لخلط من جاوره من الناس الجهلاء وهوَسهم هو المصدر لهذا الكتاب الحكيم؟ فوالله لو كلف أحد الفلاسفة أن يمحص المسائل كما محصها القرآن، وأن يأتي بأصح الآراء وأقومها في المعتقدات وغيرها، ويؤسس مثل هذا الدين الكامل ما فيه، ويتبع السياسة الرشيدة، والحكمة البالغة في إرشاد الناس إليه كما فعل محمد - عليه السلام- وأن يحترس من الوقوع في زلة واحدة، وأن يخبر عن بعض أشياء في المستقبل بفكره وقريحته بحيث لا يخطئ فيها، وأن يأتي ببعض مسائل علمية لا يعرفها معاصروه، وكلف بأن يجعل كل كلامه هذا بأسلوب غريب لم تعهده الناس من قبل، ويكون في درجة من البلاغة لا يحاكيها أحد، وأن يقلب كيان أمة عظيمة كالأمة العربية؛ فبعد أن كانوا أعداء صاروا إخوانًا، وبعد أن كانوا عابدين للأوهام صاروا علماء، وبعد أن كانوا أضعف الأمم صاروا أقواها وسادتها في مدة قليلة؛ لو كلف بهذا كله لأقرَّ في الحال بالعجز، واعترف بالضعف، فما بالك إذًا بالنبي العربي الذي نشأ يتيمًا، فقيرًا، أميًّا في وسط الجهل والوثنية في زمن العمى والظلام تحتاط به الخرافات من كل جانب والأباطيل من كل مكان امتزج حوله الحق بالباطل، واختلط الصدق بالكذب يسمع قولاً حقًّا مرة، وأكاذيب بجانبه مرات؛ فلا يمكنه أن يميز أحدهما عن الآخر لعدم علمه، تشعبت في فكره الآراء، وتضاربت في نفسه الأقوال، فوقف وقفة الحائر ينتظر الإرشاد الإلهي حتى جاءه الوحي الرباني؛ فمحص الحق ورفض الأباطيل، وقرر الصدق وأزهق الأكاذيب. واعتمد في دعواه على الحجج البينات؛ لا على الألاعيب، فأعظم به من نبي ختم الله به الأنبياء، وأكرم به من رسول طار ذكره في السماء، صلى الله عليه وسلم. بقي عليّ أن أذكر شيئًا عن أخلاقه؛ بعد أن خضعت له الملوك وهابته الجبابرة، وانتشر اسمه في سائر الآفاق. هل طغى وبغى وانهمك في الملاذ؟ كلا ثم كلا. ملك مُلكًا واسعًا، ولكنه ما فارقه الزهد والتقشف طول حياته، مات ولم يترك إلا شيئًا زهيدًا، وأوصى أن يكون صدقة لأمته، لم يتغير حلمه وعفوه ورأفته ورحمته بالناس، بل زادت. اقتصر على زوجته العجوز إلى ما بعد الأربعين -كما قلنا سابقًا - حتى توفيت، ومن تزوجهن بعد ذلك لم يكن فيهن بكر سوى عائشة، وتزوجها وهي في سن تكاد أن لا تُشتهى فيه لتوثيق ما بينه وبين والدها من المحبة والمودة، وكان غرضه من تعددهن القيام بكفالتهن لفقرهن أو عدم وجود من يقوم بشؤونهن؛ كمن فقدت بعلها في حرب أو غضب عليها أهلها لإسلامها، أو لم يرغب فيها أحد من أصحابه لكبر سنها، وليس للنبي أن يشير على أحد بتزوج بعضهن؛ لئلا يأخذها مضطرًّا في زواجها فلا يحصل بينهما وفاق وكان الغرض في زواج بعضهن إيجاد الرابطة بينه وبين أهليهن، أو تعزية بعضهن على فقد زوج كانت تتفانى في حبه، أو إبطال عادة من عادات الجاهلية إلى غير ذلك من الأغراض الشريفة كما يتضح للمدقق في أخبارهن؛ فشفقة بهن ورحمة لهن كان يتزوجهن، ولا يمكنه أن يبقيهن في منزله من غير زواج لئلا يرميه الناس باستخدامهن من غير حق، أو بإرادة الفحشاء بهن (تنزه عن ذلك وجل مقامه عنه) ولو كان غرضه الشهوة لكُنَّ من حسان الأبكار لا الثيبات المسنات؛ فمن كان هذا شأنه لا يتصور أنه كان يطلب بدعواه النبوة الحصول على شيء من لذات هذه الدنيا، وإلا لوجدته بعد نجاحه متكبرًا، جبارًا، منتقمًا، فظًّا غليظ القلب، متعاليًا في نفسه، محتقرًا لغيره، فأين هذا كله ممن كان متواضعًا متقشفًا، يخصف نعله بيده، ويرقع ثوبه ويطوي على الجوع ليالي راضيًا بالقليل رحيمًا بالناس، لطيفًا يحترم كل أحد حسب منزلته، حليمًا لا يغضبه جهل الجاهل ولا قلة أدب الوقيح، يعفو ويصفح عمن أساء إليه. إذا احتاج يقترض المال حتى من اليهود وكثيرًا ما أوذي بسبب ذلك، فالله أكبر ما أجلّ شأن النبوة وأرفعها عما يرميه به الجهلة من الناس هداهم الله. هذا الذي ذكرناه من الدلائل هو المعول عليه في هذا الباب والسند الأقوى للنبي في دعواه، وأما ما ظهر على يديه من خوارق العادات، فلم يكن عليه السلام يعتمد عليها كثيرًا؛ فلذا ضربنا صفحًا عن إطالة البحث فيها وغاية ما نقول: إن هذه المعجزات ليست من المستحيلات، بل هي مما يدخل تحت قدرة الله تعالى، وقد نقلها الثقات نقلاً متصلاً صحيحًا، وتواتر بعضها بحيث إن الإنسان إن شك في بعض أفرادها لا يمكنه أن يشك في مجموعها. وأمثال هذه المعجزات كانت الحجة الكبرى والدليل الوحيد للأنبياء السابقين مع أممهم. ذلك لأن الإنسان في تلك العصور ما كان يدرك قوة الدليل العقلي، فكان كالطفل لا تنفعل نفسه إلا بما وقع تحت حسه ولا يتأثر إلا بما كان تحت لمسه، ولما بلغ رشده وارتقى ارتقت أدلة النبوة كذلك وآتاه الله من الدلائل بما يناسب حالة رقيه العقلي، وجعل المعجزة الكبرى في إتيان الأمي بما أتى به مما فصلناه، وعجز البشر جميعًا عن الإتيان بمثله، وأما المعجزات الأخرى فلم يكن يراد بها إلا تثبيت الذين آمنوا بالحس بعد أن اقتنعوا بالعقل وإلزام المعاندين الذي علقوا إيمانهم على رؤية هذه الخوارق، ولما لم يؤمنوا عند ظهورها ما كان يجيبهم إلى طلب غيرها؛ لأن من لم يقتنع بهذه لا يقتنع بتلك إذ الدلالة على الصدق في جميعها واحدة. وهذا الذي قلناه هو ما يستفاد من مجموع آي القرآن الواردة في هذا الشأن فليراجعها من شاء. والخلاصة: إن الدليل قسمان حسي وعقلي، أما الحسي فإنه أشد تأثيرًا على النفس وأفعل في القلب، وأما العقلي فإنه أصح وأعم فائدة، وذلك لأنه متى أحكمت مقدماته ونتائجه؛ فلا سبيل لتطرق الشك إليه، وكل من تصوره صدق به بخلاف الحسي فلا يؤثر إلا على من نظره بعينه ويتطرق إليه شبهات كثيرة كالشعوذة والتدليس والحيل، وكلما كان الإنسان بسيطًا كان فعله في نفسه أشد. ولما كان محمد -عليه السلام - خاتم الأنبياء ومرسلاً إلى الإنسان بعد بلوغه رشده، ودعوته ليست قاصرة على زمن أو مكان كان الأنسب أن تكون حجته عقلية من أن تكون حسية. وقد كان ذاك، وقد ظهرت حكمة الله -جل شأنه - في هذا النوع فآتاه في زمن طفوليته بما يناسب بساطته، وفي زمن كهولته بما يوافق رقيه ودرجة عقله كالأب الحكيم يحمل أبناءه في صغرهم على الدرس بإعطائهم المكافأت كالحلوى، والصور، وفي كبرهم بتبيين فوائد الدراسة ومنافعها وتأثيرها في مستقبلهم، فالإنسان بالبعثة المحمدية أدرك قيمة عقله، وخلص من سائر القيود ولم يبق لمشعوذ عليه سلطان أو لمحتال عليه حيلة، وقام ينفض ما على جسمه من غبار التقليد، ونظر بعقله إلى ما حوله من الموجودات واستخدامها، وهكذا سار في طريق الإصلاح إلى أن يبلغ الكمال إن شاء الله تعالى. ولنختم هذه المقالة باختصارها في كلمات معدودة فنقول: كل من أتى بإصلاح في الأرض من قِبل الله تعالى فهو نبي، ومحمد قد أتى بالإصلاح من قِبله تعالى فهو نبي، والدليل على أن إصلاحه من عند الله أنه ليس مستمدًّا من معلومات من جاوره من الناس كما بيناه آنفًا، وأن ما أتى به لا يقدر البشر على الإتيان بمثل جزء منه، إذ لو كان مقتبسًا من علمهم لكانوا

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر شذرات من يومية الدكتور أراسم [*] (3) (المكتوب الثاني) من أراسم إلى (أميل) : فراق الولد لوالديه سُنة فطرية- العلم في ألمانيا- نقد التلميذ ما يقرأه من أفكار غيره- القصد في علوم المعقولات نفع الأمة بالقيام بالواجب على قدر الطاقة- اختيار الولد العمل الذي يشتغل به بعد- بيان أنه لا حرية لأمة يتكالب شبانها على تولي أعمال الحكومة- التحذير من الملحدين- بيان أن الرأي العام لا قيمة له إلا إذا كانت الحكومة شورى- خدمة الأمة لذاتها لا للجزاء. لوندره في 13 فبراير سنة -186. إذا كنت يا عزيزي (أميل) تألم من استيحاشك؛ فنحن نألم من فراقك ولكن يجب علينا التسليم والرضا بما لا بد منه، واعلم أنه لو كان في وُسعي أن أبرح لوندره وأخلف من أقوم عليهم من المرضى لمرافقتك إلى حيث أنت الآن لكنت فيه مترددًا، فقد آن لك أن تعلم كيف تسير سيرة الرجال، إن الطيور لتحب أفراخها، ولكنها متى أنست فيها من القوة ما يكفي لاستقلالها بنفسها في الطيران شجعتها على تجريب أجنحتها فيه، سنة الله الذي أراد أن يهب الحرية لجميع البرايا. أنت تعلم حق العلم أني لم أرسلك إلى (بُن) إلا لأسهل عليك درس لغة الألمانيين، وأخلاقهم وأفكارهم، وأنا أعلم أنك إلى الآن قد استقللت بنفسك في تعلمك، فكنت في باطن الأمر وحقيقته أستاذًا لنفسك، ومرشدًا وليس ما أخذته عني من الدروس شيئًا يذكر، ولكن قد اقتضت أحوال هذا العالم أن توجد مذاهب وطرق لا بد في تعلمها أن تلتمس من ينابيعها، وألمانيا في يومنا هذا هي مقتبس نور العرفان، وهي البلاد التي يجب أن يعرف لها الفضل في الحكمة والعلم والنقد وآداب اللغة، ومدارسها الجامعة محط رحال الكثيرين من أفاضل الأساتذة وجهابذة العلماء، ولتسمع ذلك أدعوك إلى قبول تعليمهم على غير بصيرة وتلقي أقوالهم وآرائهم قضايا مسلمة؛ إذن أكون قد تخليت عن جميع الأصول التي أسير عليها. إن للإنسان شيء لا ينبغي أن يسمح به لأحد؛ ألا وهو حرية الفكر، فالعلوم التي تتلقاها في الجامعة لا يمكن أن يتسع بها نطاق عقلك، ويقوى بها إدراكك، ما لم تراقب ما فيها من أفكار غيرك مراقبة ذاتية، وإياك ثم إياك أن تنهك قواك التي أنت محتاج إليها في العمل بفرط الانكباب على دراسة المعقولات بَالِغَة ما بلغت من الطلاوة، وبعد الغور؛ فإن البحث في المنقولات لا قيمة له إلا إذا أدى الباحث إلى وسيلة ينفع بها نظراءه، والمحب لنفسه من يَقْصُر ثمرة فكره ودرسه عليها؛ لا مراء في أن الاتصاف بالعلم من الأمور الحسنة، ولكن أجلّ منه وأحسن أن يكون الإنسان محبًّا لوطنه نافعًا لأهله ولا يغرب عن ذهنك أن ألمانيا ليست بلادك، وأن آثار سلفك هي حكمة القرن الثامن عشر، وأن أمك هي الثورة الفرنسية. آلمتني عبارة من مكتوبك وهي قولك: (إني أحيانًا آنس من نفسي فتورًا في الهمة، وضعفًا في العزيمة، وأسألها عما أصلح له من الأعمال، وأنا ضائق بذلك صدرًا) فاعلم أنه ليس من الضروري تحقيق النفع في الإنسان أن يكون من كبار الرجال، فأيُّما رجل صدقت نيته في فعل الخير، وصح قصده للنفع؛ فإنه يغير من حالة القوم الذين يعيش فيهم بقدر ما من التغيير، وعلى كل حال ليست الحياة إلا نتيجة القيام بفروض صغيرة؛ فمن أداها كلها بما في وُسعه من الوسائل كان في الغالب أفضل ممن يسعى في الاشتهار بعمل خطير، وليس شيء من أفكارنا ولا من أعمالنا بضائع علينا؛ فإن آثارها تظهر في من حولنا من الناس، أو في من يخلفوننا، ومن ذا الذي يستطيع أن يقول إن الحركات الكبرى التي غيرت أحوال العالم من جهة السياسة والعمران لم يكن فيه المستضعفين الخاملين من الخدمة والعمل ما للرؤساء المسيطرين، كلا، بل ربما لم يكن ظهور هؤلاء واشتهارهم إلا صورة منعكسة لفضائل أولئك ومساعيهم المحمودة. اقنع بأن تكون كما أنت مع مواصلة السعي في تنمية غرائزك، وتوسيع نطاق مواهبك بالدأب في العمال والمدارسة؛ إذا احتجت في بعض أوقاتك إلى تكبير دائرة، وجودك فتصفَّح دواوين الشعراء الحقيقيين، وكتب أئمة النظار المشهورين، وتمتع بما تجده في نفسك عند مطالعتها من عظم القدر، وسمو المكانة الذي يسري إليك منهم؛ فإن في ذلك غبطة لا يحيط بها الوصف؛ فإذا هبطت من هذه المقامات العلى لم تعدم حولك من النفوس الصغيرة المحتاجة للاستضاءة بنور العلم من يغنيك الاشتغال بهم عن الاهتمام بغيرهم، ومن صنائع البر ما فيه تسلية لك عما يعوزك من الخصائص، واعلم أنه لا يتألم مما في عقله من مواضع الضعف والقصور إلا محب لنفسه، أو خبيث، وأما من يستسلم ويرضى بقسمته ويتعلم ليعمل؛ فإنه لا يطلب فوق ما قسم له من العقل شيئًا، بل يكون مغتبطًا به غير حاسد. أراك أيضًا تغلو في الاهتمام باختيار ما تمارسه من الأعمال؛ فإنه وإن كان مما لا مرية فيه أن كل فرد من الناس يجب عليه أن يعيش من كسبه وكده، وإني أغتمّ لو رأيتك مفرطًا في هذا الأمر الذي هو أول فرض على الإنسان ينبغي أن تعلم أن جملة الدروس التي تتلقاها الآن، مع كونها تؤدي إلى جميع الحرف لا تفتح لك باب واحدة منها، ولا أرى في ذلك ما يدعو إلى كدرك؛ لأن كل علم تحصله هو ذخيرة لعقلك؛ فإن لم يفدك في نفسك؛ فقد تجد فيه وسيلة لنفع غيرك على أن ما في الكون من طوائف الأمور المختلفة، وطبقات الحوادث المتباينة مرتبط بعضه ببعض؛ فلا بد في معرفة أمر منها معرفة صحيحة من معرفة أمور كثيرة لها، بهذا الأمر تعلق بعيد، ولست بهذا القول ألزمك السعي في تحصيل ما يسمى بالعلم العام الذي هو ضرب من الخيالات والأوهام، وإنما أريد به تفهيمك أن للعلوم قضايا عامة لا بد لك من تصور حدودها الأصلية قبل تفرغك لتحصيل علم منها على حياله. أنت ولي أمرك في الحكم على ما يلائمك من الأعمال، وليس عليّ إلا أن أسألك عدم التأسي في ذلك بإخوانك من الطلبة، فكن كما يرشدك إليه خلقك وميلك إما طبيبًا، أو محاميًا، أو مهندسًا، أو صانعًا، أو آليًّا، أو غير ذلك ولكني أسألك بالله أن لا تكون عاملاً للحكومة. أي حرية تُرجى لقوم يتطلع المتعلمون من شبانها إلى الانتظام في سلك عمال حكومتهم؛ قد كان فن ظلم الحكام للناس في الأيام الخالية من الفنون الصعبة الكثيرة المشكلات، التي يلزم لتعلمها استعداد خاص، ونفس كنفس ميكافيل [1] وأما الآن فيظهر من أحوال الرعية أنهم يعنون أشد العناية بكفاية حاكمهم مؤنة استعبادهم بالحيلة، أو القهر؛ لأنهم يتهافتون على احتمال نير عبوديته، فأي ملك أو عاهل يجد حول أريكته رؤوسًا خاضعة، وأطماعًا سافلة نهمة كأطماع الكلاب، التي لا هم لها إلا قضم العظام ما دام بين يديه من الأموال الوافرة ما ينفقه كيف يشاء ومن المناصب وألقاب الشرف والرتب الكثيرة ما يوزعه على من يريد. ليس الإلحاد والوقاحة مقصورين على أحداث ألمانيا، حيثما حللت تجد من الشبان من لا يعتقدون بشيء، ولا يوقرون شيئًا، فكن منهم على حذر؛ لأن هذا الفسوق العقلي يساعد قطعًا على تثبيت الأوضاع القديمة، ذلك أن هؤلاء الذين يدعون لأنفسهم حرية الفكر لم يخلصوا من قيد الأَثَرَةِ، ومن هذه الجهة تأخذ الحكومة منهم بالنواصي والأقدام؛ أعني أن عبادتهم لنجح مساعيهم وطمعهم في الوصول إلى ما يبتغون، وظمأهم إلى المناصب، والتمتع بالمرتبات الجسيمة لا تلبث أن تدعوهم إلى توقير النظام الذي سنته الحكومة وإجلاله، وإني لا أعتد بجراءة العقل ما لم تصحبها بسالة النفس؛ وتنزهها عن الأغراض، ثم إنه مهما كان بلوغ كل أمنية في الدنيا ممكنًا بمحض هوى الغير ورضاء لم يعدم المستبدون عبيدًا متحمسين؛ في خدمتهم يعملون لهم ما يشاءون، وتجد من كانوا من الشبان بالأمس منطقيين متحذلقين يصبحون، وهم أكثر الناس سجودًا للقوة واستكانة للسلطان. ولاية أعمال الحكومة هي بلاء الأمم في هذه الأيام فالبلاد التي رئيس حكومته هو الذي يوزع مناصبها لا يمكن أن تكون آراء الناس فيها إلا نتيجة عمل حسابي لما يربح منها فإذا وقع خطأ سياسي أو ديني من الحاكم، وكان ينتج للموافقين عليه بعد الحساب عشرة آلاف فرنك مثلاً، فإنه يصير حينئذ صوابًا، وإذا أتى أمرًا خسيسًا، ودفع ضعف هذا المقدار، قيل إنه قام هذه المرة بما تدعو إليه الهمة والبسالة فيجب الإخلاص له. يلهج الناس كثيرًا بذكر الرأي العام، ويقولون: إنه أقوى كفالة للحق والحرية وهو صحيح؛ إذا كان أمر الأمة بيدها، وكانت هي التي تلي شئون إدارتها، وأما إذا كان حالها غير هذا فالرأي العام نفسه قد يكون فيها آلة للاستبداد؛ فإن أكفل وسيلة لظلم الأمة هي إعدام شرف النفس من أفرادها، وإزهاق روح الاستقلال بينهم بتحبيب الحكومة القائمة إليهم، وحملهم على رجاء بقائها. ورب قائل يقول: إن عدد العمال في الحكومة لا يذكر في جانب السواد الأعظم من الأمة، فأجيبه: إن هذا الاعتراض عبث؛ لأنه قد نسي أن بإزاء كل عامل نال منصبًا ألفًا من الناس يطلبونه، ويرجون رجاء قويًّا أن ينالوه يومًا من الأيام، فعالم العمال يكافئه عالم آخر من السائلين، ومن ورائهم جميع طلاب الأموال، وإذا كان تحرير الناس من الاستعباد لا يتأتى إلا متى أعانوا عليه بإرادتهم، فأي وسيلة تبعثهم على إرادة التفصي من ربقته؛ إذا كان فريق منهم -وهم الذين تقوم لهم الحكومة بنفقات مطعمهم، وملبسهم، ومسكنهم - قد بلغت بهم الحال إلى أن يكون استعبادهم قوام معيشتهم والفريق الآخر يغبطونهم على هذه النعمة، ولا يأسفون إلا على عجزهم عن مشاركتهم فيها. ولست أقصد بهذا القول أن من لوازم المناصب العامة تصغير نفوس القائمين بها، أو الساعين في تقلدها - حاش لله - فإنها في الحكومات الحرة كحكومة أمريكا مثلاً من شأنها أن تنمي فيهم قوة العزيمة، ومكارم الأخلاق؛ لأن الحكم في اختيارهم راجع إلى انتخاب الأمة، ولأنهم إنما يمرون بالأعمال مرورًا؛ ولأن جميع الولايات لا تلبث أن يعود أمرها إلى الأمة، فتقلدها من تشاء، ومن هنا يعلم أني لا أتكلم عن الأمة التي حكوماتها مؤسسة على الشورى، وإنما أتكلم عن الحكومة التي تولى الأعمال فيها بالمحاباة والهوى؛ فشبانها يتدلون ويصغرون بسعيهم في تقلد تلك الأعمال؛ لأن حكوماتها لا تبغي في الحقيقة إلا نفوسًا سلسة القياد تلصق بما جرى عليه العمل من التقاليد الإدارية - وطباعًا لينة - عطفت على كل ناحية فلم تبق لها وجهة ذاتية وعقولاً مثقفة، ولو لم تسم عن عقول العامة تستعمل زخرف القول في تصوير ما وضع من النظام بصورة معقولة. وإني لتمر بي ساعات أحدث فيها نفسي بأن من ظلم الشعوب أن يلوموا حكامهم على استعبادهم فأي معنى للوهم إذا كانوا قد جعلوا مقادتهم بأيديهم، وكان الآباء لا يتمنون لأبنائهم إلا تقلد المناصب ذات الرواتب العظيمة التي لا عمل فيه بدلاً من صرفهم إلى وجوه الكسب الأخرى، بل إذا كان الناس يؤلمون أن يكون عالة على المصلحة العامة ويودون لو أن للحكومة من العقل والوداعة ما يكفي لمنعها من الانتفاع بما يقدمونه لها من الفوائد، فما أسخف عقولهم إذ جعلوا أنفسهم ترابًا ثم هم يدهشون من وطء الحكام إياهم. أنا لا أنكر أن نيل الشاب منصبًا من المناصب الكثيرة المقررة في الحكومة أسهل عليه كثيرًا من أن يفتح لنفسه بابًا للكسب في قومه بجدارته وأهليته الذاتية، ولهذا لا يلبث الإنسان أن يعرف الأمم التي اعتادت الارتزاق م

المجلد الأول من كتاب أشهر مشاهير الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المجلد الأول من كتاب أشهر مشاهير الإسلام قد صدر الجزء الرابع من هذا المجلد، وهو في سيرة الخليفة الثالث عثمان بن عفان ومَنْ اشتهر من رجال دولته، وصفحاته 220 وقد كان مصنفه (رفيق بك العظم) وعد بأن سيوجز القول في خلافة عثمان وعلي - رضي الله عنهما - تحاميًا للخوض في مسألة الخلافة ومثار الفتن في الأمة، فما زال به محبو التاريخ، وطلاب الحقائق من قراء كتابه حتى أرجعوه عن رأيه، وأقنعوه بوجوب بيان تلك الحوادث بعللها، وأسبابها، ونتائجها، ومعلولاتها؛ فأقدم على البحث بما نعهد فيه من الأدب، والإخلاص، والبعد عن التشيع والاعتساف، فجاء بمصاص الأخبار، واستخرج منها آيات العظة والاعتبار، ولم يأل جهدًا في حسن الاختيار، واستنباط الحكم والأعذار لعظماء الصحابة الأخيار. تصفحت جل ما كتبه في الفتنة التي أدت إلى قتل عثمان - رضي الله عنه- فرأيته قد حصر ما نقمه الناس من عثمان بحق في غلبة بني أمية على أمره حتى استبدوا بالأمر دونه، وافتاتوا عليه، وحملوه على الرجوع بما عاهد عليه المسلمين وتاب عنه في محفل كبراء المهاجرين، وبَيَّن أن أهل الرأي ورجال الشورى من الصحابة خافوا أن يجعلوا الخلافة أموية تقوم بالعصبية لا قرشية تقوم بالانتخاب والشورى الشرعية، وكشف الحجاب عما كان هناك من الجمعيات السرية التي تحرض الناس على التألب على الخليفة، وإلزامه بإبعاد دهاة بني أمية عنه، أو اعتزاله وخلع نفسه. وبَيَّن أنه لم يكن أحد من كبراء الصحابة وزعمائهم يعتقد أن الأمر يصل إلى ما وصل إليه، وأنهم يقتلون الخليفة ظلمًا، ولم يفعل فعلاً يبيح دمه، وانتحل لعثمان أحد عذرين في الاعتصام بقومه. أحدهما: أنه علم أن رجال الشورى الستة كل منهم يريد الخلافة لنفسه وله أنصار، فخاف أن يترك أنصاره الأقربين من بني أمية فيختلف القوم دونه ويتوثب عمال الأمصار عليه؛ فلا يجد له عاصمًا؛ لذلك ولاَّهم الأمصار وزاد استمساكه بهم حين سئل التخلي عنهم، وثانيهما: أن قومه استلانوا جانبه واستضعفوه فغلبوا على رأيه فيهم. أقول: إن الثاني هو الصواب ويدل عليه تعويله على تنحية مروان وذويه، وتصريحه في خطبته التي بكى فيها وأبكى الناس (وهي في ص 797 من الكتاب) وفيها أن بني أمية قد استحوذوا على عثمان بعد ذلك، وملكوا جَنانه لكبر سنه وضعفه، فعذلوه واستذلوه وافتات عليه مروان بما افتات. يعلم كل من قرأ تاريخ المسلمين أن تألب الناس على عثمان لم يكن يرجى له صد إلا باعتزاله الخلافة، وخلع نفسه منها، أو بعزل مروان وغيره من دهاة بني أمية الذين غلبوا على أمره، وتقلدوا معظم أعماله، وقد علمت رأي المصنف في الأمر الثاني، وأما الأمر الأول، فقد ذكر أن لامتناع عثمان عنه أحد أسباب ثلاثة: 1- ضعف الإرادة الذي هو أثر كبر السن. 2- الخوف أن يسجلوا عليه ما اتهموه به من الأحداث، وهو يعتقد أنه لم يستحل فيها محرم. 3- العمل برأي مروان وأضرابه الذين كانوا يعلمون أن أمر الملك لا يتم لهم إلا بإراقة الدم. والثالث هو الصواب، وربما كان غيره داعمًا له، ولولاه لكان يمكن أن يقال إن امتناعه من اعتزال الخلافة مع تألب الناس عليه وحصرهم إياه، هو من قوة الإرادة لا من ضعفها. ومن فصول الكتاب التي تستحق أن ينبه عليها ويلفت إليها، فصل عقده لإثبات عدم تحامل رجال الشورى على علي - كرم الله وجهه - وبيان أن خلافة كل واحد من الراشدين جاءت في وقتها اللائق بها. ورأيت صديقي المؤلف قد أكثر القول بهذا الجزء في تقرير رأيه في الخلافة والحكومة الإسلامية، وبيان ضرر ما ينكره منها ويعده أصل البلاء، وعلة الضعف والشقاء، وهو أمر أن عدم توفر شروط الشورى والاختيار في البيعة بحيث كان شكل الخلافة وسطًا بين الشورى والاستبداد، أو بين الحكم المطلق والحكم المقيد إذ أناطوا بالخليفة جميع الأعمال، وثانيهما اصطباغ المسلمين في حياتهم السياسية بصبغة الدين وعدهم الخليفة رئيسًا دينيًّا. قراء المنار يعرفون رأيه في هذه المسألة، ولم ينسوا المناظرة التي كانت بينه وبين أحد علماء الهند في هذه المجلة. وأقول: إن هذه المسألة الكبيرة لم تنحل فيما كتبه فلا تزال في حاجة إلى تحرير، وكنا وعدنا بكتابة رأينا فيها بالتفصيل، ولما تسمح لنا الفرص بذلك. نقول هنا: إن ما جاء به الإسلام في ذلك، وما كان من انتخاب الخلفاء الراشدين، وسيرتهم يصدق عليه قول الإمام الغزالي في نظام الوجود العام (ليس في الإمكان أبدع مما كان) إلا ما كان من إصرار عثمان على إمساك مروان، وغيره من ذوي قرابته الذي نقم منهم المسلمون، ولقد يظهر للمؤرخ الذي وقف على نظام الحكومات النيابية في هذا العصر أنه كان ينبغي للراشدين أن يضعوا نظامًا مثله، وإذ لم يفعلوا فلنا أن نحكم بأن عملهم كان ناقصًا. ومثال هذا مثال من ينكر بعض مظاهر الوجود التي رأى من جنسها ما هو أحسن منها غافلاً عن إمكان ذلك وعدم إمكانه بحسب سنن الكون العامة. الحكومة النيابية المنتظمة القائمة على أساس الشورى، والاختيار لا تصل إليها الأمم إلا بعد أن تربى وتتعلم في مدرسة الحكومة الاستبدادية زمنًا طويلاً، فلم توضع حكومة نيابية منتظمة على وجه الأرض بمجرد الرأي والاستحسان من أفراد أسسوها وأقنعوا الأمة بأن فيها مصلحتها، فقامت بها وثبتت عليها اقتناعًا بقولهم وعملاً برأيهم. وإنما كان تأسيس الحكومات النيابية والجمهورية بما نعلم ويعلم صديقنا مؤلف أشهر مشاهير الإسلام، ثم كان تقدمها وثباتها بالتدريج بعد ارتقاء الأمم في العلوم والأعمال الاجتماعية بالتدريج أيضًا. كان يقول كما يقول بعض الناس: إنه كان ينبغي للمسلمين أن يتعلموا كيفية تأسيس الحكومة النيابية من جيرانهم الرومانيين، ثم هو يعتذر الآن عن الخلفاء الراشدين بأن الحكومات النيابية كانت بعيدة العهد يومئذ من مجاوريهم الرومانيين فلجأوا إلى إناطة كل شؤون الدولة السياسية والدينية بالخليفة (ص 679) فيالله وللرومانيين هل كانت قوانينهم ومجالس شيوخهم ونوابهم عاصمة لهم من السقوط في هوة الاستبداد، ثم من تحويل الجمهورية إلى إمبراطورية. ألم يكن الأشراف هم أصحاب المجالس والحقوق، والعوام لا حقوق لهم؟ ألم يكن الدافع للملك (سرفيوس) المصلح إلى منح العوام جميع الحقوق الرومانية هو التخلص من أثرة الأشراف وظلمهم وشدة فرقه منهم؟ ألم يأت بعده الملك الطاغية (تاركان) بأشد ضروب الاستبداد تشويهًا، فأفسد كل ما كان أصلحه (سرفيوس) وكان يقتل كل من يتوسم فيه عدم الإخلاص له من أعضاء مجلس الشيوخ والأعيان، ويسخر الأهالي لأعماله الخاصة حتى كانت مظالمه العامة هي السبب في تأسيس الجمهورية سنة (510 ق م) ألم يحول (أغسطس قيصر) الجمهورية بعد استقرارها إلى إمبراطورية سنة (28 ق م) أولم يحول نابليون الجمهورية الفرنسية إلى ملكية؟ ويفعل فعلته بمجلس النواب على أن شعب فرنسا كان أرقى من شعب رومية يومئذ؟ هل تأسست الجمهورية الرومانية كاملة؟ ألم يكن ضباط الجيش هم الذين ينتخبون النواب في الحكومة الجمهورية؟ ألم يكن هؤلاء الضباط وعسكرهم آلة في أيدي الأشراف المستبدين؟ ألم يقاوم الأشراف اقتراح (فوليرو) أن يكون الشعب هو الذي ينتخب نوابه حتى ثار الشعب ونال هذا الحق بالثورة سنة 471؟ هل نال الشعب بعد هذا حقوق المساواة إلا بالتدريج؛ إذ نال المساواة في الحقوق المدنية سنة 450 ق م، والمساواة في الحقوق السياسية سنة 397 والمساواة في الحقوق القضائية سنة 329، ثم لم يتم له حق المساواة في الأعمال القضائية إلا بعد سنين، والمساواة في الدين سنة 302 ق م؟ أولم تكن المساواة في جميع هذه الحقوق عامة في الحكومة الإسلامية من أول يوم لاصطباغها بصبغة الدين الذي يخضع المتدين لأحكامه عندما يسمعها؟ نعم، كل هذا مما لا ينكره عارف، ولولا أن كانت أركان الحكومة الإسلامية قائمة على أساس الدين لما استقام للمسلمين حكم ولما وجد ذلك العدل العام الذي لم تكتحل عين الزمان بمثله حتى اليوم؛ فإن الدولة الإنكليزية، التي هي أرقى الأمم الأوربية في حكوماتها وأقربها من العدل في مستعمراتها لا تساوي بين أبناء جلدتها في الحقوق، وبين الهنود بحيث تقتص من مثل اللورد كتشنر لرجل هندي كما أراد عمر أن يفعل بجبلة بن الأيهم ملك غسان، وكما ساوى بين علي ورجل من آحاد يهود، وكما أعد الصحابة من أحداث عثمان التي توجب خلعه عدم قتل عبيد الله بن عمر أمير المؤمنين بالهرمزان الفارسي الذي قتله لقيام القرينة عنده على إغرائه بقتل أبيه أمير المؤمنين، وإن استرضى عثمان ولي الدم بماله ... إلخ إلخ. وسنبين في مقال خاص بهذه المسألة كيف كان ما عمله الراشدون هو المتعين الذي لا يمكن أن يكون خير منه يومئذ، وكيف كان الفساد الذي طرأ على الحكومة الإسلامية فأضعف الأمة وزعزع الملة، محصورًا في هدم بني أمية للقواعد التي وضعها القرآن للحكومة الإسلامية، وأيدتها السنة، وهي إبطال العصبية الجنسية وجعل أمر المسلمين شورى بينهم، والإذن لأولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد باستنباط الأحكام مجتمعين، وإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقول والفعل. وجملة القول في هذا الجزء من كتاب أشهر مشاهير الإسلام أنه من أنفع الأجزاء، وأشدها عظة وتذكيرًا بحال سلفنا {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) وهو مطبوع طبعًا حسنًا على ورق أجود من ورق الأجزاء الأولى، وثمن النسخة منه ثمانية قروش صحيحة، وأجرة البريد قرش ونصف ويطلب من مكتبة المنار وغيرها.

تاريخ التمدن الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ التمدن الإسلامي قد صدر الجزء الرابع من هذا الكتاب لمؤلفه جرجي أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال، وهو خاص بالبحث في سياسة الدول العربية في الشرق والغرب، وقد جعل الكتاب أبوابًا عبر عنها بالعصور: فأولها: العصر العربي الأول وفيه الكلام عن حال العرب، وعصبيتهم قبل الإسلام، وعن الأرقاء والموالي والأجانب والسياسة في الجاهلية، ثم عن سياسة الخلفاء الراشدين، وسياسة الأمويين، وأحداثهم في الدولة والإسلام. وثانيها: العصر الفارسي الأول، يعني به زمن نفوذ الفرس واستبدادهم في الدولة العباسية من خلافة السفاح سنة 132هـ إلى خلافة المتوكل 233هـ، وفيه الكلام عن سياسة العباسيين، وحريتهم والعصبية العربية في زمنهم. وثالثها: العصر التركي الأول، وفيه الكلام عن الجند التركي في الدولة العباسية، وعن الخدم ونفوذهم، وتأثير النساء في سياسة الدولة، وفي هذا العصر كان مبدأ فسادها وسقوطها، ثم الكلام في تشعب المملكة العباسية، وانقسامها إلى دول فارسية وتركية وكردية. ورابعها: العصر العربي الثاني في الأندلس ومصر. وخامسها: العصر المغولي أو التتري، وفيه الكلام عن انحلال المملكة الإسلامية بقيادة الترك، وتنكيلهم بالمسلمين إلى أن نهض العثمانيون بتكوين دولة جديدة قوية. هذا موضوع الكتاب، وهو من الفائدة بالمكان الذي يستغني فيه عن التنويه به والحث على مطالعته. وإنا لنرجو أن يأذن لنا الزمان بفرصة نطالع فيها هذا الجزء وما سبقه بالتدقيق؛ لنعطيها حقها من النقد والتقريظ، فنكون من الشاكرين لمؤلفه على اجتهاده في هذه الخدمة لتاريخنا المبعثر في كتب الأخبار والآثار.

مرشد الهدايات إلى واجبات الحلاقين والدايات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مرشد الهدايات إلى واجبات الحلاقين والدايات كتاب جديد للدكتور أحمد أفندي الدرندلي مفتش صحة الفيوم ويعني بالحلاقين الأطباء الذين خصتهم الحكومة بالكشف على الموتى لتحقيق موتهم، ولمعرفة سببه، وبالتبليغ عن الأمراض الوبائية، والتلقيح لمنع الجدري. ويعني بالدايات القوابل، والكتاب يشرح الأمراض التي يتعلق بها عمل الفريقين وبَيَّن ما يجب عليهما فعله، ومباحثه نافعة ينبغي اطلاع كل قارئ وقارئة عليها ليكون الناس على بصيرة من الأمراض التي تعرض لهم، ولمن يعيشون معهم؛ فلمؤلف الكتاب الشكر أن طبع هذا الكتاب ومن الشكر الإقبال عليه.

ديوان الرافعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ديوان الرافعي قد طبع مصطفى صادق أفندي الرافعي الجزء الثاني من ديوانه، وشعره فيه يدخل في ستة أبواب، أولها - باب التهذيب والحكمة، وثانيها - باب النسائيات، وثالثها - باب الوصف، ورابعها - المديح، وخامسها - الغزل والنسيب، وسادسها - الأغراض، والمقاطيع، وصفحات هذا الجزء تبلغ 120. ومما يذكر له أنه أكرم ديوانه عن مدح زيد وعمرو وخالد وبكر فلم يمدح من عظماء الدنيا غير السلطان وأمير مصر، ومن عظماء الدين ورجال العلم غير الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - ومن الأغنياء غير أحمد باشا المنشاوي أيام وفق للإحسان بماله ولهج الناس بوقفيته. ومن باب النسائيات قوله في المرأة المصرية: أتى عليك وإن لم تشعري الأمد ... وأنت أنت مضى أمس وحل غد فهبك عينًا فما من الناس ذو نظر ... إلا ويؤلمه في عينه الرمد وهبك قلبًا فما في الخلق من رجل ... إلا ويوجعه في قلبه الكمد وهبك من كبد في جنب صاحبها ... أليس يحمل ما تغلي به الكبد عجبت لامرأة هانت وما اعتبرت ... ومن رجال أهانوها وما رشدوا كلاهما رجل في الناس وامرأة ... ولا مميز إلا ذلك الجسد وكل ما حولهم في الذل مثلهم ... يستعبد الكل حتى النهر والبلد يا بنت مصر ولا قوم نعزيهم ... ولا بلاد ولا أهل ولا ولد زاغت عيون بني مصر وضل بها ... غيّ النفوس وهذا الجهل والفند فأنت في نظر الراقين سائمة ... وفي نواظر فلاحيهم وتد وأنت بينهم في كل منزلة ... صفر اليسار يستكمل العدد أقام في رأسك الجهل الذي سلفت ... به الليالي وفي أضلاعك الحسد وما يحلان بيتًا كان في رغد ... إلا وهاجر منه ذلك الرغد (فالسحر والزار والأسياد) جملتها ... لأهلها نكد ما مثله نكد ما أنت في الصين والأوثان قائمة ... وللشياطين في كل الأمور يد تالله لو كان من علم وتربية ... شيء يمازجه ذا الصبر والجلد إذًا لما سخرت من بنت جمعتها ... من يومها السبت أو من يومها الأحد فهل أرى رجلاً فينا أو امرأة ... بعد الخمود وطول الذل ينتقد يا قوم لو نام ليث الغاب نومكم ... لاستنكف الفار إن قاولوا له أسد فهذه القصيدة تشعر بأن الشاعر يرى وجوب تعليم النساء ليسلمن من الأوهام والخرافات، ولكن له ما يدل على خلاف ذلك، كقوله في المقاطيع: يا قوم لم تخلق بنات الورى ... للدرس والطرس وقال قيل لنا علوم ولها غيرها ... فعلموها كيف (نشر الغسيل) والثوب والإبرة في كفها ... طرس عليه كل شيء جميل وأحسن ما قرأت في هذا الديوان قوله في فنون من الوصف وذكر الليل: تقاصر عمر الزمان الطويل ... ولا بد من أجل للعليل وضاق به الأفق ضيق القبور ... فزم الكواكب يبغي الرحيل وراح فخفت هموم القلوب ... كما سار بعد المقام النقيل لقد كدت أبغض لون الظلام ... لولا شفاعة طرف كحيل طوى الشمس فاختبأت أختها ... نفور الغزالة من وجه فيل وكانت إذا احتجبت قبله ... تجاذبها نسمات الأصيل ترى البدر غار فأغرى بها ... وكل جميل يعادي الجميل أم الحظ أرسل لي ذا الدجى ... فكان الرسالة وجه الرسول أم الليل قد قام في مأتم ... فمنه الحِداد ومني العويل ولم أنس ساعة أبصرتها ... وجسم النهار كجسمي نحيل وقد خرجت لتعزي السماء ... عن بنتها إذ طواها الأفول على مركب أشبهته البروج ... تمر به كالبروق الخيول إذا قابلته لحاظ العيون ... سمعت لأسيافهن صليل وإن قاربته ظنون النفوس ... رأيت النفوس عليه تسيل وقد أخرجت نفحات الرياض ... زكاة الرياحين لابن السبيل وقد عبث الدل بالغانيات ... فذي تتهادى وهذي تميل كأن الحواجب قوس فما ... تحرك إلا جلت عن قتيل كأن القلوب أضلت قلوبًا ... فكانت لحاظ العيون الدليل حمائم في حرم آمن ... بهذا الضلوع بناه الخليل وما راعها غير لون الدجى ... يصدئ لوح السماء الصقيل فيا قبح الليل من قادم ... بوجه الكذوب ومرأى العذول بغيض إلينا على ذله ... وشر من الذل بغض الذليل وكم عزني بالأماني التي ... أرتني أن زماني بخيل ومن أمل الناس ما لا ينال ... كما أن في الناس ما لا ينيل وثمن النسخة خمسة قروش وأجرة البريد قرش ويطلب من المكتبة الأزهرية بمصر.

حقوق المرأة في الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حقوق المرأة في الإسلام أيقظت المدنية الأوربية العالم كله، ووجهته إلى حياة جديدة من العزة والقوة فمن الشعوب الشرقية من سار إلى هذه الحياة من طريقها فأدركها، و (كل من سار على الدرب وصل) وكل قارئ يعلم أن هذا هو الشعب الياباني، وهناك قوم آخرون من الوثنيين في الهند يسيرون على هذه الطريق، ولو كان لهم استقلال في الحكم لصاروا دولة عظيمة. وأما الشعوب الإسلامية فقد وقفت أمام هذه المدنية موقف الحائر لا تدري كيف تستفيد منه وأول شعب إسلامي ولَّى شَطرها هو الشعب المصري، فإن حكامه حاولوا اقتباس هذه المدنية منذ مائة سنة ولكنهم لم يسيروا إليها من طريقها؛ فكانت العاقبة أن احتلت بلادهم دولة أوربية في الربع الأخير من القرن. لم يوجد للمسلمين حكومة تقودهم في الطريق الموصلة إلى النافع من هذه المدنية مع الترقي من مضارها، ولم يكن لهم زعماء في الدين والعلم؛ إذا قالوا يسمعون؛ وإذا هدوا يتبعون، بل ظهر في شعوبهم المتمتعة بشيء من وشل الحرية أو غمرها (كمسلمي روسيا والهند ومصر) كتاب ومؤلفون يدعون إلى شيء من الإصلاح الاجتماعي الذي حولت العالم إليه مدنية أوربا، ولكن صوت العارف الناصح من هؤلاء الكتاب يكاد يخفى بين ضوضاء الغوغاء من المتطفلين والمقلدين والمتَّجرين بالكتابة والصحافة، ولا غرض لهم منها إلا إرضاء عامة الدهماء، أو التزلف إلى بعض الحكومات أو الرؤساء، ولو من الأجانب والغرباء، والدهماء في جهل مبين، لا تميز بين الغث والسمين. لا يكاد يوجد أصل من أصول الإصلاح الذي يحتاج إليه المسلمون إلا وله في دينهم دليل يرشد إليه، أو سبق عمل يعول عليه، وقد حكموا التقاليد والعادات في أعمالهم فلا إلى هدي الدين يرجعون، ولا بما تقضي به حال العصر يعتبرون، وإنما تتدافعهم التقاليد القديمة والحديثة فيندفعون، ولا يدرون في أي طريق يسيرون ولا إلى أي غاية يصيرون. أمامك مسألة تربية النساء وتعليمهن وهي من أعظم مسائل الاجتماع في هذا العصر والمسلمون في حيرة لا يدرون الصواب فيها، وقد كثر اختلاف الكتاب والمصنفين فيها، حتى كأنهم في مجموعهم خيال ذلك الشاعر الذي أوردنا كلامه المتناقض في النساء آنفًا. صاح بعض الكتاب في الهند ومصر أن علموا النساء وربوهن، فلا ارتقاء لكم مع جهلهن، فصاح بهم آخرون إنكم مخطئون، تفسدون في الأرض ولا تصلحون، وقد سمعنا في هذه الأيام صيحة جديدة من مسلمي روسيا فإن أحمد بك آجايف أحد كتابهم المشهورين ألف كتابًا باللغة الروسية سماه حقوق المرأة في الإسلام، ونقله إلى اللغة العربية سليم أفندي قبعين وطبعه وقدمه إلى قاسم بك أمين الذي فتح بمصر باب الفتح في (مسألة النساء) بكتابه (تحرير المرأة) ثم كتابه (المرأة الجديدة) . ليتني كنت أدري ماذا كان لكتابه من التأثير في بلاده، ولعله كان أقرب إلى قلوب الجمهور هناك من كتاب تحرير المرأة إلى قلوب الجمهور هنا؛ لأن الناس هناك أكثر اعتدالاً، وأشد استعدادًا فيما أظن، ولأن أسلوب الكتاب يوافق المسلمين عامة إذ برز في صورة الدفاع عن الإسلام والرد على الأجانب الذين يسيئون به الظن، ويكثرون فيه الطعن، فقد ذكر الكاتب شيئًا من إفك الإفرنج واختلاقهم في الإسلام، وطعنهم في النبي، عليه الصلاة والسلام. ثم ذكر إنصاف أفراد منهم عرفوا شيئًا من الحق؛ فنطقوا ببعض ما عرفوا. ومن هنا انتقل إلى الكلام في حقوق النساء في الإسلام؛ لأن الإفرنج يبالغون في الطعن بأحكام الإسلام في النساء، ويعدونها من أكبر علل الشقاء: ذكر ما كان عليه النساء في الأمة العربية وغيرها قبل الإصلاح الإسلامي ثم إنه ذكر الأحكام التي انفرد بها الإسلام في ذلك مستشهدًا بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأحكام الفقهية على بعض المذاهب وقد انتقل بعد ذلك إلى التاريخ فتناول منه شيئًا من سيرة المسلمات اللواتي اشتهرن بالعلم والأدب. ويقول المؤلف في الحجاب: إنه ليس من الإسلام في شيء. وجملة القول أن الكتاب نافع لا يخلو من أفكار جديدة ويقل فيه ما يتناوله النقد، فنشره مما يزيد المسلمين بصيرة في هذه المسألة إن كانوا يطلبون البصيرة ليعملوا بها، وأنى لنا العمل ومن ذا الذي يعمل، وهذه مصر التي يذكرها المؤلف ويظن أنها عاملة قد كثرت فيها الكتب المؤلفة في تربية المرأة وتعليمها لم تتغير الحال بها، بل لا تزال الأمة تتدحرج في التيار الذي قذفتها فيه الحرية الشخصية والتقليد الصوري فيزداد النساء تبرجًا وتهتكًا، وزمام تعليم البنات في أيدي الأوربيين، واللورد كرومر ينادي في تقريره الأخير بما علمه القراء في مقالات (الحياة الزوجية) فنحن في حاجة شديدة إلى مدرسة إسلامية للبنات كالمدرسة التي كان الأستاذ الإمام عازمًا على إنشائها للجمعية الخيرية وسترى ذكرها في ترجمته رحمه الله تعالى.

كتاب الرسائل الزينبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب الرسائل الزينبية زينب فواز أشهر النساء المتعلمات الكاتبات بالعربية لما لها من الرسائل في الصحف المنشرة، والكتب والقصص المنتشرة، وقد جمعت رسائلها المتفرقة في الجرائد، وطبعتها في ديوان واحد، فإذا هي سبعون أو تزيد، وكم فيها من بحث طريف وموضوع جديد، كالكلام في بدعة الزار، وما فيها من الأوزار، وكوصف حفلات الأعراس، في بيوت كبراء الناس، وما للنساء من التقاليد والعادات، في تلك البيوتات، ومن هذه الرسائل مناظرات بينها وبين بعض الكاتبين والكاتبات، ومنها ما هو في وجوب تعليم البنات. وثمن النسخة خمسة قروش صحيحة يضاف إليها قرش أجرة البريد، وهو يطلب من مؤلفته المقيمة في سوق السلاح بمصر.

تبرج النساء في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تبرج النساء في مصر للكلام في مصر دولة ذات صولة، بل له دول متعددة يصول بعضها على بعض والحرب بينها سجال، وأكثرها يقع في عالم من الوهم والخيال، هو بمعزل عن عالم الحقيقة والأعمال. قال قوم: إن النساء أسيرات الحجاب في سجون الحجال، قد استضعفهن فاستعبدهن معشر الرجال، فيجب تحريرهن من هذا الرق، والمن عليهن بنعم العتق، فقام آخرون يقولون: إن هذا الحجاب حكم أنزله الله في الكتاب، فالتهاون فيه إهمال للديانة، وجناية على العفة والصيانة، وقد أكثر هؤلاء القول وسودوا صفحات الصحف في التألم والشكوى من الدعوة إلى تخفيف الحجاب، ونبز من يراه بالألقاب. ليس من غرضنا أن نقول: إن هؤلاء أو أولئك مخطئون، وإنما الغرض أن نبين أن مسألة الحجاب مسألة كلام ومراء، لا مسألة إرشاد وإصلاح، وأن الغيرة فيها ليست غيرة على الصيانة وآداب الإسلام، وإنما هي تغاير في ذرابة اللسان وخلابة الأقلام. نحن نعلم أن نساء المدن الذين يطلق عليهن لفظ المخدرات والمحجبات، لا يبلغن عشر نساء المسلمات، ثم إن مظهر هذا الحجاب، وعنوانه هو البرقع والملحفة التي تعرف (بالملاءة) أو (الحبرة) وإن خَلَت صاحبتها بالرجال، وشاركتهم في بعض المعاملات والأعمال، وكان الأصل في هذا البرقع أن يستر الوجه حتى لا يظهر منه إلا العينان، والأصل في هذه الملاءة أن تستر الرأس وجميع البدن فلا يبدو منها شيء. فما زال هذا البرقع يرق حتى صار يشف ما وراءه فيبدوا مستورًا أجمل منه مكشوفًا، وما زال يدق من جانبيه ويتدلى من أعلاه، والملاءة تنحسر من حوله فتظهر الجبهة وقصبة الأنف والأذنان والليتان (صفحتا العنق) والوجنتان، ثم خرجت الملحفة التي تعرف بالملاءة وبالحبرة عن كونها ملحفة تستر البدن والثياب والزينة؛ فصار نساء الأغنياء والمتوسطين ومن قلدهن من دونهن يستبدلن بالملحفة الساترة عمارة قصيرة تتدلى من الرأس إلى المرفقين، وكساء من نسيج العمارة يشددنه على خصورهن ويزررن العمارة به من أقفائهن، ويخرجن وهن كذلك إلى الأسواق والشوارع حاسرات عن معاصمهن المحلاة بالأسورة وسواعدهن إلى المرافق، وإذا رفعت إحداهن يدها ظهر ما وراء المرفق من العضد لأن أردان جلبابها واسعة جدًّا تشبه أردان (فرجيات) شيوخ الأزهر. هذا ما تراه من صيانة مخدراتنا المسجونات وراء الحجاب، في زعم أنصاره باللسان والكتاب: يتبرجن في الأسواق والشوارع تبرج الجاهلية الأولى مظهرات جميع زينتهن لجميع الناظرين فلا قرط ولا خاتم ولا سوار ولا خلخال، إلا وهو معروض في الطريق لأنظار الرجال، والرأس نصفه مكشوف وكذاك الوجه إلا ما على الفم وأرنبة الأنف من تلك الحريرة البيضاء التي تسمى البرقع، وما هو إلا من نوع الشفوف المعروف بالسابريّ (الذي يكون المكتسي به كالعريان) أو النهنه الذي هو أرق من السابريّ. أين أصحاب الغيرة الإسلامية الذين حملوا على قاسم بك أمين تلك الحملة، أن قال: إنه يجب على المرأة أن تستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها، وأن لا تخلو بأجنبي ولا تزيد؛ لأن هذا هو الحجاب المشروع؟ ألا يحملون على اللواتي أظهرن الشعور، والنحور، والمعاصم، والسواعد، والمرافق والأعضاء، وطفقن يتبرجن بزينتهن هذه في كل مكان؟ ألا يحملون على أزواجهن وآبائهن وأخواتهن وسائر أهليهن فيسفهون أحلامهم، ويحركون غيرتهم، ويأمرونهم بإمساك أموالهم أن تنفق في إعانة نسائهم على هذا المنكر العظيم؟ لماذا ثارت حميتهم على القائل، ولم تثر على الفاعلين والفاعلات. فإن زعموا أن القول لا يفيد؛ فلماذا خافوا من ذلك القائل، ولماذا قالوا في حقه ما قالوا؟. النساء في مدن مصر لسن مسترَّقات فيُدعى إلى تحريرهن، ولسن مظلومات فيُدعى إلى الرفق بهن، وإنما هنَّ مسترِّقات للرجال، ظالمات لهم في الأنفس والأموال، والسبب الغالب في هذا هو جهل الرجال، وضعف إرادتهم، وسوء إدارتهم، فهم غير رؤساء في بيوتهم، فإذا كان تعليم البنات وتربيتهن على ما يحب دعاة المدنية سببًا لنهوض الأمة من كبوتها وارتفاع شأنها؛ لأنهن يربين الرجال فيكونون أصحاب عزائم، ويعلمنهم فيعرفون حقائق المصالح، كما أنهن يربين صنفهن على التوفير والاقتصاد، والعمل الموافق لمصلحة البيوت ومصلحة البلاد، فمن المطالِب الآن بتربية النساء؟ لا جرم أنهن هن المطالبات بتربية أنفسهن؛ لأنهن متصرفات بإرادتهن لا بإرادة أوليائهن، ولكن هل يسمعن النداء، ويميزن بين ما يدعو إليه الجهلاء والعقلاء؟ الحق أنه لا يرجى أن نقوم بتربية حسنة للبنات يرجى منها مقاومة تيار الفساد الجارف إلا بتحقيق أمنية الأستاذ -الإمام رحمه الله - وهي إنشاء الجمعية الخيرية مدرسة لهن على الوضع الذي كان عازمًا على تنفيذه في العام القابل بعد القيام بجمع الإعانة له في هذا الشتاء كما نذكر ذلك في موضعه؛ فإذا كان عدد أهل الغيرة على الدين والشرف، وعلى الآداب والمدنية كثيرًا؛ فليبذلوا المال للجمعية وهي زعيمة بهذه الخدمة كما كان يريد ويحاول، رحمه الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

خنوثة الرجال وفسوقهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خنوثة الرجال وفسوقهم بينا في النبذة الماضية أن النساء قد استضعفن الرجال فاتبعن الهوى، وضللن طريق الهدى. وصار التبرج في الأسواق، وإبداء الزينة للصالحين والفساق، سنة في العمل متبعة، وإن كان في الشرع بدعة محرمة، ولذلك يوشك أن تعم جميع النساء؛ لأنهن خلقن مولعات بالتقليد في الأزياء، والذنب في ذلك كله على الرجال، فهم الرعاة وعليهم تبعة الاختلال. يرخي الرجل لامرأته الطوَل بعد أن يبذل لها ثمن ما تشتهي من الحلي والحلل، ويخرج إلى الطرق والمتنزهات، يستشرف للظباء السانحات، فلا تمر به عذراء إلا ويلقي إليها قولاً، ولا تلمحه عوان إلا ويطلب منها نيلاً، وقد حملني على هذا الذي كتبت الآن أنني رأيت رجلين في سن الكهولة عليهما أثر النعمة يتمشيان في شارع من أعظم شوارع القاهرة فمر بهما فتاتان صبيحتا الوجه فكرَّا على عقبيهما يقتفيان أثر البنتين، وينبذان بكلمات التصبي التي تَغْثَى لسماعها نفس الحرّ حتى تكاد تقيء. صادف هذا المنظر من نفسي أشد الاستهجان؛ على أنني لا أكاد أمر في شارع ولا أطل من كوّ إلا وأرى ما يحاكيه، أو يزيد قبحًا وشناعة، وكأن السبب في ذلك أنني توهمت الأدب والكمال في الكهلين. رأيت منذ أيام شابًا يَتَأَثَّر فتاة في جَادَةٍ واسعة في أحد جانبيها قمامة وأقذار فكان كلما دنا منها بعدت عنه حتى اضطرها إلى المشي في ذلك الجانب القذر فرارًا من قذارة نفسه، ونتن أخلاقه، وما كان امتعاضي من هذا المنظر إلا دون امتعاضي من منظر ذينك الكهلين اللذين كانا يتكلمان بما يعد في العرف البلدي ظرفًا وذوقًا. ما كل متبرجة بغي أو ملتمسة خدن، بل فيهن المقلدة في الزي كيلا تعاب بين النساء بالعجز عن مجاراة صنفها، أو بالتأخر فيما يسمونه (المودة) ولكن هذا التبرج مطمع للفساق- وما أكثرهم لا أكثر الله من أمثالهم- ولهم العذر فقد ورد في الحديث (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية) رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما. ودخلت امرأة مِن مُزَيْنَة المسجد تَرفُل في زِينة لها؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا أيها الناس انهوا نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد؛ فإن بني إسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبخترن في المساجد) رواه ابن ماجه، والتبختر في الشوارع والمَنَازه أَدْعى إلى الفتنة منه في المساجد، فهل من ذي نفس أبية وغيرة إسلامية، يسعى في إبطال هذه الأزياء الفاضحة، والمعاصي القادحة، وهل للكتاب أن يحملوا على هذه العادات الشائنة حملة منكرة في الجرائد، لعلهم يفيدون؟.

الحداد والمآتم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحداد والمآتم وقفت على عادة من عادات البيوت في الحداد، لم أكن أعلم بها من قبل هي أن النساء يفرشن البسط والطنافس في البيوت مقلوبة، ويجعلن على الأرائك والحشايا التي يُجلس عليها نسيجًا أسود، ويغيرون سائر ما في البيت من الأثاث والمتاع بعضه بالقلب، وبعضه بالنزع، وبعضه بتغشيته بالسواد؛ ليكون كل شيء مذكرًا بالمصاب باعثًا على تجديد الحزن، وإثارة الشجن. وهذه العادات عامة لا يكاد يخلو منها بيت عالم، ولا جاهل، ولا رفيع، ولا وضيع إذا مات أحد من أهله لا سيما كبير البيت. وإننا نحمد الله أن لم يبتل من رُبِّينا بينهم من الأهل والمعاشرين بهذا البعد الشديد عن هدي الدين، والسخط لقضاء الله، تعالى. ونسأله تعالى أن يوفق علماء هذه البلاد وكتابها إلى الاجتهاد في تغيير منكرات الحداد والمآتم، وإزالة ما اعتيد فيها من البدع والمآتم.

ملخص سيرة الأستاذ الإمام ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ملخص سيرة الأستاذ الإمام (4) (نموذج من كتبه وترسله) كتب من بيروت سنة 1302هـ إلى صديق عالم في بعض البلاد، وفيه من الحث على إحياء دين الله، والاهتداء بكتاب الله، ما لا تجد مثله في كلام، إلا أن يكون لمثل علي،عليه السلام. قال رضي الله عنه: السلام عليكم، تحية أخ يهزه التشوق إليكم، وبعد، فقد تلقيت اليوم كتابك وتشممت منه الحمية والنعرة الدينية وأرجو أن تصل بك بدايتك إلى ما يختار الله لك من حسن النهاية، ولم يكن ظني في همتك، دون ما تبينت في عبارتك، فليكن سرورك بنفسك، على قدر شفقتك على دينك، وحركة ميلك للأخذ بيده، وتقويم أوده، فإنما هو الدين المتين الذي أطلق العقل من قيده، وأخذ على الوهم في كيده، وهز النفوس إلى نيل الفضائل، ونكب بها عن مشايعة الرذائل، حتى ساد به الضعفاء، وذلت لسلطانه الأقوياء، وسبق وعد الله بأن يظهره على الدين كله، والله منجز وعده لأهله، وإنما خلقنا الله، وكلفنا صرف همومنا إليه، وتعويلنا في شؤوننا عليه، وليس لنا من الحق في أنفسنا وأموالنا، إلا ما نبذله في تأييد ديننا، ولا حاجة لله فيمن لم يكن له من نفسه وماله نصيب. داوم قراءة القرآن، وتفهم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره، كما كان يتلى على المؤمنين والكافرين أيام الوحي وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو ارتباط مفرد بآخر خفي عليك مُتَّصَلُه، ثم اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل بنفسك على ما يُحمل عليه، وضم إلى ذلك مطالعة السيرة النبوية واقفًا عند الصحيح المعقول، حاجزًا عينيك عن الضعيف والمبذول [*] ، واعتبر بما قاسى النبي وأصحابه من الجهد والعناء لنصر دين الله، وما ركبوا من المتاعب، وما احتملوا من المصاعب، على ما تعلم من درجة قربهم إلى الله وغفرانه لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، واجعل عيشك للآخرة واستعد لما وعد؛ فإن سعادة أبدية لا تنال إلا بسيرة محمدية، ولن تنال بنوم موسد، على فراش ممهد، واعلم أنك محاسب على الدقيقة من أوقاتك، لإعزاز دينك كانت لك وإلا كانت عليك، وأرجو أن يكون كل سعيك خيرًا يجعله الله نورًا يسعى بين يديك إن شاء الله. أما ما ذكرت من مسألة الشيخ ... فبودي لو توجه إلى الله كل مسلم، واعتصم بحبله كل مؤمن، فما بالك بشيخ من جمال الوصف على ما ذكرت ومن علوّ المنزلة على ما بينت، فإن تيسر لك السبيل، فتقدم لدعوته (أي إلى الاعتصام) وادخل إليه ابتداء من طريق لا يعرفه وتلطف له في القول، وإن شئت أطلعته على شيء من مقالات العروة الوثقى، فإذا انتهيت به إلى ما يعرف وآنست منه الميل والرضاء فإما أن يكتب إليّ، وإما أن يستعد لتلقي كتاب مني ثم سراع إليّ بالخبر ... إلخ. وكتب منها إلى عالم كبير في بعض البلاد في 7 جمادى الأولى في سنة 1302هـ: (أشد ما أجد من فراقك، حرماني من محاضرة آدابك، والاقتباس من نوادر فضلك، وتعرّف الصواب من صائب رأيك، وإنما يخفف ألم البعد عنك أن أكون بمكان من فكرك، وأصيب حظًّا من مراسلتك، وجدير بكرمك أن تصل واصلاً، وتجيب سائلاً، وسلامي عليك وعلى أنجالك الصالحين، والله ينفع المسلمين بسعيك وخالص نيتك والسلام) اهـ. فانظر كيف كان إحياء الدين وهمّ المسلمين والسعي في إصلاحهم مما يدخل في كل أقواله، كما كان مسيرًا له في جميع أحواله، فهل تزن بمثله من ليس لهم حظ من الدين، إلا الأكل به من السوقة والفلاحين، لا يهمهم إلا التحلق حول الموائد، والتطواف لجمع النذور (والعوايد) . قوة عقله وسعة علمه يصف الناس كل نابغ بالذكاء الفطري ويعنون به سرعة الفهم وسهولة الحفظ ولذلك كنت تجد الناس مجمعين على وصف الأستاذ الإمام بالذكاء النادر، لا يختلف في هذا منصف ولا مكابر، أما هو فكان يقول عن نفسه إنه متوسط في الذكاء وإنه يوجد في كل مئة رجل 75 رجلاً مثله في ذهنه، وعلى هذا كان يجب أن يكون ثلاثة أرباع الناس أو طلاب العلم منهم خاصة مثله ولكن الناس لم يروا في الملايين الكثيرة مثله وإنك لتسمع كثيرًا من أهل الفضل يقولون: (إن الدنيا إنما تلد مثل هذا الرجل في كل عدة قرون مرة) وقالوا بعد موته: (إن الفراغ الذي حدث بفقده لا يملأه أحد في هذا العصر) وقد راجعناه في قوله إن ثلاثة أرباع الناس يساوونه في ذهنه، وقلنا له: كيف تحصل في الزمن القصير من العلم ما لا يحصلونه في الزمن الطويل، فقال: (إن الفرق بين الناس في هذا لا يأتي من الاختلاف في الذهن فقط، وإنما يأتي معظمه من الاختلاف في توجيه الإرادة إلى الشيء ومعرفة طريقه وغايته قبل طلبه) وهذه حقيقة لا مرية فيها ولكنها لم تذهب بامترائنا في أن قوله ذلك من المبالغة بمكان وإن كان قاله اعتقادًا لا تواضعًا وهضمًا لنفسه، على أننا نعرف من أصحاب الذكاء المدهش من كان ذكاؤهم وبالاً عليهم خاصة، أو عليهم وعلى كثير من الناس الذين يعرفون. فالعبرة بما قال وهو أن إدراك المقاصد إنما يكون بصحة توجيه الإرادة إليها وطلبها من طرقها الطبيعية. بلغ هذا الرجل من قوة العقل أن عجزت الأمراض الشديدة عن منعه المطالعة فكان يقرأ في أيام مرضه أكثر مما يقرأ في صحته التي تشغله فيها الأعمال، أتظن أنه كان يقرأ كتب القصص والفكاهات؟ كلا، إنما كان يقرأ العلوم العقلية والفلسفة وكتب التربية والتاريخ، وقد رابه من مرضه الأخير ملله فيه من المطالعة، وقال: إنه لم يعهد ذلك في مرض قط، فقلت له هكذا شأن أمراض المعدة على أن كثرة الأعمال العقلية هي السبب الفعال في مرضك هذا - كما يقول الأطباء - ولم يكن المرض يومئذ قد اشتدت وطأته. وقد أصيب بحُمى التيفوس مرة في بيروت فبلغت نهاية شدتها وأعلى حرارتها ولم يغب عقله ولم يهذ لسانه، حتى قال الطبيب الذي كان يعالجه: إنني لم أر مثل دماغ هذا الرجل، ولو حدثت عن مثل ما رأيت منه لما صدقت. وكذلك قال بعض الأطباء الذين زاروه قبل موته بأيام قليلة، فقد دب التسمم في جسمه وعقله حاضر وذاكرته تملي على لسانه الأجوبة السديدة في وصف مرضه لمن يسأل عنه، وقد اتفقنا نحن الذين كنا نلازمه على أن لا نحدثه في الجد ولا مسائل العلم والاجتماع وأن نمنع عائديه من الحديث في ذلك لا سيما بعد اشتداد المرض عليه ولكنه كان ينتقل بنا من الفكاهة إلى الجد فإذا ساقت شجون الحديث مسألة عويصة أو عبارة احتجب معناها، أسرع ذهنه إلى كشف الحجاب عن الخفايا فجلاها، ونفث في عقدة العويص من عراها، أذن لنا بذكر الشعر والأدب في يوم تواترت فيه نوبات الألم فكان مما أنشده حافظ إبراهيم من مختار محفوظه قول بشار: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما وقال: إنني أنشد هذا البيت منذ سنين وأنا لم أفهمه وسألت عنه غير واحد من الأدباء، فلم يأت أحد بتفسير ترتاح إليه النفس فلم يلبث الإمام أن قال - والألم ينال من كبده ما ينال -: إن معناه ظاهر فإنه يريد أنهم إذا غضبوا سلُّوا سيوفهم وأشرعوا رماحهم فكان بريقها ولمعانها هتكًا لحجاب الشمس إلى أن يمكنوها من طلي أعدائهم وصدروهم فتخرج وهي تقطر دماء وتسيل مهجًا، هنالك يخفى ذلك البريق واللمعان بستر الدم له ورينه عليه، فالضمير في قوله (قطرت دمًا) عائد إلى السيوف أو الرماح، وإن لم تذكر بالقول، فهي معلومة بالقرينة، أي على حد قوله تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} (ص: 2) على التفسير المشهور. ناهيك بمن كان يقتل عامة نهاره وزلفًا من ليله يحل المشكلات وإمضاء الأعمال في معاهد كثيرة ولا يشكو تعبًا، ولا يخاف مللاً، كان يصبح فيغدو إلى مجلس الشورى مثلاً فيجلي المسائل الموضوعة للبحث سواء كانت قضائية، أو إدارية أو مالية، ويؤلف بينها وبين مصلحة البلاد ويؤيدها بالحجج القانونية والعقلية التي تقنع الحكومة بعد اقتناع الأعضاء، ثم يخرج من هذا المجلس فيأكل طعام الغداء ويذهب إلى الأزهر فإن كان اليوم يوم جلسة الإدارة جلسها وعمل فيها عمله، ثم ينتقل إلى مكتب الإفتاء حيث كان ينتظره أصحاب الحاجات المختلفة في جميع مصالح الحكومة وغيرها والمستفتون والزائرون وكتاب الجمعية الخيرية والأزهريون من علماء ومجاورين فينظر في هذه الأمور إلى ما بعد العصر ثم يخرج إلى ديوان الأوقاف إن كان اليوم يوم جلسة المجلس الأعلى أو مجلس إدارة الجمعية الخيرية إن كان اليوم يوم جلسته، ثم يعود عند الغروب إلى الأزهر فيقرأ الدرس فيخرج بعد العشاء قاصدًا داره فيجد العفاة وأصحاب الحاجات ينتظرونه في المحطة وفي البيت يعرضون عليه حاجاتهم، وبعد هذا كله لم تكن تخلو داره ليلة من السامرين، يتكلمون في العلم والأدب والمصالح العامة والخاصة، ولا تنس أن الأيام التي لم تكن موعدًا لجلسة في تلك المجالس الرسمية هي التي تقرأ فيه أوراق تلك المجالس، ولكنه كان على ذلك العقل الكبير والعرفان الغزير كثير النسيان للأمور الجزئية لا سيما أسماء الأعلام حتى إنه نسي اسم نفسه، مرة ذهب لزيارة صديق له فلم يجده فسأله البواب عن اسمه ليخبر مخدومه به فتوقف الأستاذ في الجواب ذهولاً عن اسمه فقال الخادم أقول الشيخ (محمد عبده) ؟ قال: نعم، فأنت أعرف باسمي مني. أتقن جميع العلوم الإسلامية وضرب بسهم في العلوم والفنون العصرية قبل تعلم اللغة الفرنسية وقد أتقن هذه اللغة في سن الكهولة وتوسع بها في العلوم على طريقة الإفرنج، وكان يُعنى بالعلم على قدر الحاجة إليه في العلم والإصلاح، فأما علوم اللغة العربية فقد بلغ منها أن كان أدق الناس فهمًا للقرآن ولغيره من فصيح الكلام، وأبلغ الكتاب بلا منازع، وأخطب الخطباء بلا مدافع، وأما العلوم العقلية فقد ارتقى فيها إلى أن كان فيلسوفًا حكيمًا، اعترف له بذلك من يعتد بمعرفتهم، ونذكر هنا تفسيره لكلمة فيلسوف: حدثنا في طرابلس الشام قال: كنا في مجلس بعض الوجهاء بمصر، وكان في المجلس بعض أهل العلم وحملة الأقلام من السوريين، فقال ما معناه: إن الناس قد ابتذلوا لقب فيلسوف فصاروا يطلقونه على غير أهله، وكان أطلق هذا اللقب في جريدة على بعض الحاضرين فجرى ههنا كلام في معنى كلمة فيلسوف، قيل: الفيلسوف هو الذي يتقن جميع العلوم، قال الأستاذ: إذًا لم يوجد فيلسوف في الأرض، قيل: هو الذي أتقن بعض الفنون وله إلمام بسائرها قال: إن جميع الذين يتعلمون على الطريقة الحديثة يخرجون على إلمام بجميع العلوم العصرية ويتقنون بعضها، فما أكثر الفلاسفة المهندسين والأطباء وفي التلامذة أيضًا، ثم قال بعد كل ما قال: الفيلسوف: هو الذي له رأي ومذهب في العقليات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه. وأما العلوم الشرعية فقد كان فيها إمامًا مجتهدًا، وإن كبرت هذه الكلمة عند الذين سجلوا على أنفسهم الحرمان من فضل الله على المتأخرين وإيتائهم من العلم والفهم ما آتاه المتقدمين، وناهيك بفهمه في القرآن ووقوفه على أصول الشريعة وحكمها وأسرارها وقوة حجته في إثبات عقائدها ودفع الشبهات عنها وتطبيق أحكامها على مصالح البشر، ولست أعني بكونه إمامًا مجتهدًا في الشريعة أنه صاحب مذهب دوَّنه أو كان يريد أن يدونه، وإنما أعني ما ذكرت آنفًا من فهمه الدين أصوله وفروعه بالدلائل والبراهين والفقه فيه والوقوف على حكمه والقدرة على بيانه بدون تقليد عالم معين من العلماء السابقين والأئمة المهديين الذين اتبع آثا

المصاب العظيم بوالدنا البر الرحيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المصاب العظيم بوالدنا البر الرحيم ] إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [[*] في يوم الأحد رابع رجب الحرام، فُجعنا بوفاة والدنا، ومربينا، ومربي اليتامى، وكافل الأرامل، الشيخ الجليل، السيد النبيل، علي رضا الحسيني الحسني أحد سادات الديار الشامية المشهورين وأجواد الأمة المحسنين، وله من السن ستون سنة، أو ثلاث وستون سنة في الأكثر - وليس عندي هنا قيد لسنة ولادته - فصبرنا واحتسبنا رجاء صلوات ربنا ورحمته وهدايته ومثوبته؛ فلم نقل ولم نفعل ما لا يُرضي ربنا -جل جلاله- فله ما أعطى وله ما أخذ وإليه المصير. وُلِدَ تغمده الله - تعالى - برحمته ورضوانه في قرية القلمون بسفح لبنان من الجهة الشمالية بجوار طرابلس الشام، وفيها تعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم اشتغل بطلب العلم في طرابلس على المرحوم الشيخ محمود نشابة أشهر علماء الديار السورية، وشيخ الشيوخ في طرابلس عدة سنين، وأدى امتحان العسكرية فيها غير مرة، ثم انقطع عن الطلب قبل أن يتم حضور الكتب، ويصل إلى مقام التدريس لشدة حاجة والده إليه في إدارة أملاكه، والنظر في أعماله مع الحكومة والناس؛ إذ لم يكن يومئذ له ولد رشيد سواه، ولكنه لم ينقطع عن المطالعة في كتب الدين والأدب والتاريخ، بل كان يتراوح بين هذه الكتب ما سمح له الوقت، وكان قوي الذاكرة طلق اللسان جريء الجنان، يذكر ما يحفظ من الأشعار، وأخبار الأوائل، ووقائع الأواخر كلما عرض ما يذكر بشيء منها، ولكنه كان يعيد الشيء المحفوظ كما قرأه أول مرة؛ فإن اتفق أن كان محرفًا أو ملحونًا أعاده كذلك عند الاستشهاد به غالبًا، وإن عرف بعد حفظه ما فيه من خطأ أو تحريف، كأنما ينطبع في ذهنه لا يقبل المحو، وكأن ما يعرض بعد ذلك من التصحيح ينطبع في مركز آخر من مراكز الدماغ فلا يلقيه إلى اللسان إلا إذا أورد المحفوظ لأجل بيان صحته. ومن قوة ذاكرته أنه كان يحفظ كل ما مر به في سفره وحضره، وكل ما له عند الناس، أو لهم عنده من الحقوق المالية وإن طال عليها الزمان. وكان مهيبًا وقورًا حتى في طور الشباب؛ يجله كل من جالسه وإن كان أكبر منه سنًّا أو فضلاً وجاهًا كمشايخه وكبار الحكام. وأعرف ما عرف به، وغلب على سائر أخلاقه الجود والسخاء؛ فقد كان مِضْيافًا متلافًا، مَبْذُول القِرى لكل طارق من غني وفقير، وقريب وغريب، ومسلم وغير مسلم، كل من نزل به يلقى ما يليق به من الإكرام والحفاوة، وكان في أول العهد يتكلف لأهل الوجاهة والثروة؛ إذا استضافوه زيادة عما جرت به العادة في المنزل، ويقدم لغيرهم ما راج حتى كنا ننكر عليه، ثم رجع عن هذا إلى قاعدة الصوفية (لا نبخل بموجود، ولا نتكلف لمفقود) حتى ربما أنكرنا ذلك أحيانًا، ولا حاجة لاستثناء ما لأهل الخصوصية الذين يدعوهم إليه من الاختصاص، وإنما الكلام في العادة اليومية مع الضيوف، وقد بلغت عنايته بأبناء السبيل أنه كان يحمل الطعام إليهم بنفسه أحيانًا. وقد جاع الناس في سنة من السنوات؛ فكان يرسل الدقيق والأرز إلى بيوت القانعين الذين يفضلون الموت على السؤال في حنادس الظلام، والناس نيام، وله في إخفاء الصدقة حذق غريب. أنعم السلاطين العظام على جدنا الثالث بسبعة قراريط من مال عشر القلمون وما يتبعها من المزارع؛ لينفق منها على مسجده الذي جدده في القرية، وعلى نفسه فلما وصل هذا إلى والدنا -رحمه الله تعالى- كان في الغالب يأخذ من الحكومة حصتها بما يسمونها (الالتزام) ثم يسمح لأكثر الأهالي بعشر كثير مما يزرعون من البقول وغيرها، وما يجنون من الثمار، لا يعنى إلا بعشر حب الحصيد والزيتون، وكان كثيرًا ما يفوض إليهم أمر ما يجب عليه من غير أن يخرص ويقدر: يجيئه الرجل بشيء من النقد يزعم أنه عشر ما استفاده من أرضه فيقبل. وكنا نقول له يجب أن تضبط جميع ما لك عند الناس ثم تأخذ ما شئت وتسمح بما شئت - فلا يعجبه. وكان كريمًا بجاهه أيضًا، إذا قصد بحاجة أو قدر على دفع مكروه أوجب منفعة للناس فإنه يبذل جهده. وكان حسن المجاملة عظيم التساهل في معاشرة المخالفين في الدين مع الغيرة الشديدة على الإسلام، والمناضلة عنه بما يحج المناظر ولا يؤذيه، وإنني منذ دخلت في سن التمييز أرى في دارنا وجهاء النصارى من طرابلس ولبنان، بل أرى فيها القسوس والرهبان، لا سيما أيام الأعياد، وأرى الوالد -رحمه الله تعالى- يجاملهم كما يجامل من يزوره من الحكام ووجهاء المسلمين، ويذكر ما يعرف من محاسنهم في غيبتهم بكل إنصاف، وقد كان هذا من أسباب دعوتي إلى التساهل والوفاق وتعاون جميع أهالي البلاد على ما يرقي البلاد مع القسط والبر المشروعين فإن الإنسان إذا تربى على شيء، ورأى ثمرته في نفسه وفي من يعاشر، كان أعرف بفائدته لاتفاق فكره ووجدانه فيه. وكان شديد الغيرة على الدولة العلية، وقد عرف كثيرين من وزرائها وعظمائها كالمرحومين شرواني باشا وحمدي باشا اللذين وليا الصدارة وولاية سورية وكامل باشا والي أزمير اليوم، والصدر الأعظم من قبل، وجميع متصرفي لبنان السابقين وغيرهم، فكان لإجلاله لهؤلاء، واعتقاده بحسن سياسة أكثرهم كبير الأمل في الدولة. ولا أعلم أنه صدر منه قول، ولا فعل ينافي الإخلاص للدولة، والسلطان المعظم، وكان يعزّ على الجواسيس المفسدين أن يأخذوا من أقواله ما يشون به عليه، إلا أن يكون حسن ذكره لمصر، وثنائه على أميرها الماضي وأميرها الحاضر، وقد زارها في أيامهما على أنني عرضت عليه عندما زار مصر في سنة 1317 أن أستأذن له في زيارة الأمير فلم يرض، ومع هذا كان يملأ الأندية ثناء على سموه، وعلى أستاذنا الإمام، وكذا على صاحب المؤيد الذي عرفه هنا، وأما اتهامه بالسياسة في هذا العام، وجعله تحت المراقبة إلى أن وافاه الحمام، فسببه وشاية من مصر فيه إلى السلطان بأنه من أعوان مريدي إقامة الخلافة العربية (الموهومة) على أنه منذ سنين لم يفارق القرية؛ فهل تقلب الدول وتؤسس الممالك من شيخ مريض في قرية لا زعماء فيها ولا ثروة، ولا سياسة، ولا حكومة، ولا مدارس؟ وإن تعجب فعجب عُجاب أن تهتم الدولة بأمر الشيخين- الشيخ محمد عبده والسيد علي رضا - وتأخذ الحذر منهما بعد أن نزل بهما مرض الموت، وأعجب من هذا أن يبقى هذا الحذر على أشده بعد موتهما؛ فإن كانا قضيا عمرهما، ولم يحفظ عنهما قول، ولم يعرف لهما فعل يؤذي الدولة؛ فهل يخشى من رفاتهما في القبر أن يقلب دولة ويؤسس دولة؟ يا للخجل من تلاعب سفهاء الجواسيس بالدول، الحق أقول: إنني كنت شديد الميل إلى البحث في خلل الدولة، وبيان طرق إصلاحها، وما منعني من الاسترسال في ذلك إلا الشيخان، أعلم أن والدي يستاء إن كتبت ما لا يُرضي الدولة وأستاذي كان ينهاني عن الكتابة في السياسة مطلقًا. وكان الوالد تغمده الله برحمته معتصمًا بكمال الصبر في المصائب: ابتلي بمرض الصدر المعروف بالربو وهو في شبابه؛ فكانت النوبة تشتد عليه أحيانًا حتى يمنعه الزفير من النوم والكلام المتصل، فلا تراه إلا حامدًا شاكرًا. وكان فخورًا بنسبه إلى البيت النبوي خلافًا لما عليه أسرتنا من البعد عن الفخر. وكان سنيًّا شافعي المذهب، ويميل إلى الشيعة إلا أنه يعظم الشيخين والسيدة عائشة ويقول في معاوية (لا نسبه ولا نحبه) وينحي على غير الصحابة وعمر بن عبد العزيز من بني أمية إنحاء شديدًا. وقد كان يقرأ في كتاب أمام أستاذه الشيخ محمود نشابة فجاء ذكر معاوية، فقال له الشيخ: لِمَ لَمْ تقل (سيدنا معاوية) قال الوالد (سيدكم معاوية) قال الشيخ: ألا تعترف بالسيادة لصاحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكاتب الوحي؟ قال إنني لم أنكر صحبته، ولا كتابته للوحي، ولكن أقول: إنه لا سيادة لأموي على هاشمي؛ فسكت الشيخ -رحمه الله تعالى- وكان الشيخ يحترمه حتى كان يخاطب جميع تلامذته ويذكرهم بأسمائهم، ولا يذكره إلا بلقب السيد. وكان - طيب الله ثراه - سليم القلب، بريئًا من الحقد والحسد، بعيدًا من الإيذاء والانتقام، إلا أنه كان يحتقر من عاداه بقدر ما يتودد لمن والاه، فلا يعرف الدهان والتملق، وكان باطنه خيرًا من ظاهره لأعدائه وأحبائه؛ فمهما أعرض عن عدوه وازدرى به في الظاهر لا يستحل أن يؤذيه في الباطن، وإنني لأستحي أن أصف ما امتاز به في معاملة الأصدقاء لئلا يشتم منها رائحة المنة على أحد منهم، مع أنه كان يرى لهم المنة إذا حكموا في ملكه حكمه فيه. وجملة القول: إن مزاياه كثيرة، وفضائله عظيمة، ولا بدع؛ فإن البيت الذي نشأ فيه يندر أن يوجد مثله في هذه الأمة الآن؛ في سلامة الفطرة، وطهارة الأخلاق وحسن الفعال؛ وإنني والله لم أحكم إلا بعد الأسفار وطول الاختبار، بل أقول إن قريتنا تمتاز على القرى والمدن التي نعرفها بالخُبر والخَبر بالعفة والشجاعة، والتقوى، والأخذ بالسنن، والبعد عن البدع، وإنما كانت كذلك بوجود بيتنا فيها؛ إذ لا يخلو مسجدنا من واحد منا يقرأ علوم الدين والتهذيب للعامة واستعداد أهلها للعلم عظيم، وكلهم في الأصل شرفاء النسب، مشهورون بالسيادة وقد كتب في سجل الإحصاء العام للدولة المودع في الباب العالي المعبر عنه بالدركنار (القلمون سيدة القرى والمزارع) نعم، صار فيها دخلاء كثيرون، أكثرهم من مسلمي لبنان، وأكثر ما يقع فيها من المخالفات الضرب، وسرقة الثمار. وفق الله أهلها وتاب عليهم، إنه هو التواب الرحيم. ومما كنت أنكره على الوالد -عفا الله عنه - بعد ما عرفت طرق التربية الحديثة، وقرأت علم الأخلاق، اختيار الشدة والترهيب في التربية؛ فقد بلغنا مبلغ الرجال ونحن نهاب مؤاكلته ومكالمته والاتكاء أمامه. وكان يعاقبنا على الذنب بالإعراض والهجران حتى نتوسل إليه بأن يرضى. وقد صار في أخريات سنيه يمازح أولاده الصغار، ويجمعهم على الطعام ذكرانًا وإناثًا؛ إذا اتفق خلو البيت من الضيوف، وكان يوصينا دائمًا بالخوف من الله -تعالى- دون سواه. عفا الله عنه وأحسن إليه ورحمه رحمة واسعة بمنه وكرمه، وأحسن عزاءنا عنه وثوابنا فيه.

نعيه إلينا وتعزيتنا عنه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نعيه إلينا وتعزيتنا عنه توفاه الله عن ستة ذكور، أكبرهم صاحب هذه المجلة (المنار) ومنهم ثلاثة يشتغلون بالعلم في الأزهر، وواحد في السجن متهم بالسياسة، وهو منها بريء، وبها جاهل، ولها غير مستعد، وواحد في القرية لا غناء به. وقد كتب إلينا أحد علماء سوريا الأعلام في التعزية ما نصه: إنا لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، مصاب بعد مصاب، وخطوب تذهل الألباب، لقد جلت الرزية، وفدحت المصيبة، وتضاعف الأسف، وتجددت الأحزان، بوفاة السيد السند الكريم، الوالد البر الرحيم، الذي فجع به الفضل والكرم ورُزئ به المجد والشرف، وإنما غار الله له، فاختار له ما عنده، فنقله من دار المحن والشجن، إلى دار الكرامة والمنن، وأنقذه ممن أرادوا به كيدًا، وأمهلهم رويدًا، ولسوف يأخذهم عذاب يوم شديد، إن ربك فعال لما يريد، وإن من أنجب مثلك أيها السيد الكريم؛ فهو حي باق أمد الدهر، لا يموت له ذكر، ولا ينقطع له أجر، بل طوبى له، وقرة عين، لا سيما بجوار سيد الكونين، تغمده الله برضوانه وعظيم رحمته، وأسكنه بحبوحة جنته، وأحسن عزاءكم عنه جميعًا، وأنزل عليكم السكينة والرحمة، وأسبغ عليكم النعمة والمنة، وضاعف لكم الأجر، وأفرغ عليكم جميل الصبر، إنا إلى الله راغبون، ولمثل هذا المصير صائرون، أساله تعالى أن يعوضك وأشقاءك عنه خيرًا، ويعوضنا حياتكم ... إلخ. وكتب آخر من أهل العلم والأدب هناك معزيًا عن الأستاذ الإمام والسيد الوالد: أعزي السيد أطال الله حياته عن رزأيه بأبويه، ومصيبته في والديه، وما أجلهما من رزئين عظيمين، وخطبين جسيمين، فقد أصيب به الإسلام كله، وبكى له العالم بأسره، وانطمس لأجله نور العرفان، وغيضت ينابيع الفضل، وهيضت أجنحة النهضة، وانقطع به ما اتصل من الآمال، واختل ما انتظم من الأعمال، وأما رزء فقد ذبل له روض الكرم، وهوى نجم الشرف، وسقط عمود المجد القديم والحسب الصميم، فأحسن الله عزاء السيد عنهما، بما يرثه منهما، من المجد الذي لا يضاهى، والعلم الذي لا يتناهى، إن شاء الله تعالى ... إلخ. وكتب غيرهما من أهل الفضل والوجاهة في تلك البلاد، والكلام كله في سياق واحد؛ فنشكر لكل واحد فضله، ونكتم خوف الظلم اسمه وبلده، أما الجرائد السورية فلم تكتب شيئًا عن وفاة الشيخين؛ لأنها لا حرية لها فهي تخاف أن تكتب ثم إن هي سلمت من الضر، فلا يؤذن لها في الشر. ولما بلغ هذه البلاد كتبت الجرائد اليومية الشهيرة ما كتبت، وألقى إلينا البرق والبريد من رسائل المحبين في التعزية ما ألقى. قالت جريدة الأهرام في العدد 8352: ورد من طرابلس الشام نعي الشيخ الجليل السيد علي رضا والد حضرة العلامة المفضال السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية. توفي إلى رحمة الله في يوم الأحد الماضي وهو في نحو الستين من عمره تاركًا في دنياه أحسن ذكر مقدمًا للآخرة أعمالاً طيبات؛ فعز المصاب به على آله وعارفي فضله ونبله؛ إذ كان الرجل وجيهًا في قومه، رحب الصدر، طيب الخلق مِضْيَافًا كريمًا ما زار القلمون زائر إلا وكان في منزل الفقيد كأنه في منزله، ولا يذكر لهذا البيت الكريم من قديم الزمان حتى اليوم إلا كل مأثرة طيبة وفضل ونبل. وقد شيعت جنازته في بلدته القلمون بمشهد كبير يليق بمقام هذه الأسرة الحسيبة الشريفة؛ فنحن نعزي حضرات أنجاله الكرام وآله الأفاضل على فقده سائلين له الرحمة والرضوان، ولهم العزاء والصبر الجميل. وقالت جريدة الظاهر في العدد 548: بلغنا بمزيد الأسف انتقال فضيلة الحسيب النسيب، والعالم الفاضل السيد علي رضا الحسيني -من أعيان طرابلس الشام وأشرافها- إلى رحمة الله - تعالى- ورضوانه نهار الأحد 4 رجب عن عمر يناهز الستين قضاه في البر والإفادة وعمل الخير إثر مرض حارت فيه الأطباء في بلدته القلمون فكان لنعيه رنة أسف عظيمة في البلاد السورية لما له من سمو المكانة، وعلو القدر وشرف الأصل، وعميم الإحسان تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته. وقالت جريدة المقطم في العدد 5002: ورد على حضرة العالم الفاضل الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار نعي المرحوم والده الجليل الشيخ (علي رضا) إمام القلمون وشيخ جامعها توفاه الله يوم الأحد الماضي (4 رجب) في القلمون عن ستين عامًا قضاها في عمل الخير والصالحات، وهو من بيت مجد موصوف بالكرم وحسن الضيافة، ومعروف في لبنان وولاية بيروت. وقد خلف ستة أولاد كلهم من النجباء وأكبرهم حضرة الشيخ رشيد المشار إليه آنفًا. وقد لقي الفقيد رحمه الله من اضطهاد الحكومة الحميدية، وظلم عمالها وقسوتهم ما أضناه وعجل عليه بالوفاة؛ فقد كان يحتضر، والعساكر العثمانية ملازمة باب داره ليلاً ونهارًا خوفًا من أن ينهض عن فراش الموت ويخلع السلطان أو يثل عرش آل عثمان في حكم عقلاء هذا الزمان، وابنه المدبر أمور بيته في غياب إخوته مطروح في سجن طرابلس الشام؛ حيث يتقلب على جمر العذاب ريثما تمتثل المحكمة أمر الظالمين، وتحكم عليه بالعقاب. وكل هذا الجور والظلم بناء على وشايات قوم يبغضون صاحب المنار، ويحقدون على فقيد الوطن المرحوم الشيخ محمد عبده. فاجتمع الشيخان الجليلان الآن أمام عرش العادل الديان يدعوان إلى قاهر العتاة ومؤدب البغاة أن يجبر الضعفاء المظلومين ويكشف شر الطغاة الظالمين. وقالت جريدة الإخلاص في العدد 1100: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) ننعي إلى حضرة رصيفنا المحبوب العالم الكامل المهذب الشيخ رشيد رضا أفندي - صاحب مجلة المنار الغراء- والده الجليل سليل بيت المجد الأثيل الشيخ علي رضا إمام القلمون، وشيخ جامعها في طرابلس الشام؛ فكان لنعيه رنة أسف وحزن لا مزيد عليهما لدى كل من عرفه؛ لأنه -فضلاً عن حسبه ونسبه - كان رحمه الله من ذوي الغيرة على الفقراء والبائسين مشهورًا بالجود والكرم ومحبًّا للخير، والأعمال الصالحة قضى ستين عامًا من عمره، وهو في مقدمة الغيورين على دولته ووطنه، ولكن في المدة الأخيرة وشى الواشون بحقه على إِثْر وفاة - المغفور له فقيد الإسلام - الشيخ محمد عبده - مفتي الديار المصرية - فأهين من رجال حكومة الدولة على ما بلغنا فكانت هذه الإهانة سببًا كبيرًا لفقد حياته العزيزة. ولقد ساءنا ويسوءنا، وايم الله كلما سمعنا خبرًا كهذا؛ عن رجال دولتنا العلية ومعاملتهم هذه المعاملة لرجال اشتهروا بالغيرة والإخلاص نحو سلطانهم ودولتهم كهذا الفقيد الجليل. وهذه هي الفرص التي ينتهزها الأغيار منا فيحفظونها لنا في سجلاتهم إلى أن يجيء اليوم الذي يحاسبوننا فيه عليها. فيا أيها الرجال الأمناء والمخلصون للدولة وللجالس على كرسي الخلافة العظمى اتقوا الله وفكروا في ما هو أهم لصوالح الدولة والأمة. اخدموا جلالة السلطان بإخلاص اللسان والفؤاد، وانبذوا الوشايات واتركوا هذه الخطة الذميمة لأنها لا تنيلكم المرام، وهب أنكم نلتموه؛ فسوف تجازون عن عملكم هذا؛ لأنه قيل: (بالكيل الذي تكيلون به يكال لكم وأزود) تقربوا إلى جلالة المتبوع بطريقة غير هذه الطريقة، حتى إن الله تعالى يبارك لكم في أموالكم وعيالكم، وينقذكم، وينقذهم من شرورالزمان وغدراته، وقد كفى ما حل بنا وبدولتنا العلية، والأمة والوطن من سوء أعمال بعض رجال الدولة الخائنين الذين يتظاهرون بصدق الخدمة نحو المتبوع الأعظم ولكنهم أولى المنافقين. والآن بما أن المجال ليس مجال وعظ وإرشاد بل نعي فقيد تأثر لموته الكثيرون، فموعدنا بنشر شيء من هذا القيل في أعداد قادمة إن شاء الله. هذا وفي ختام نقدم واجبات التعزية لجناب زميلنا الفاضل المهذب الغيور الشيخ رشيد أفندي، وجميع إخوته أنجال الفقيد، والله نسأل أن يفرغ في قلوبهم جميل الصبر والسلوان، ويتغمد فقيدهم الجليل بواسع الرحمة والرضوان. اهـ

الحياة الزوجية ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحياة الزوجية (5) ] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون [[*] . (الركن الثاني من أركان هذه الحياة: المودة) تكلمنا في المقالات الأربع السابقة من هذا البحث عن الركن الأول من أركان الحياة الزوجية، وهو سكون كل من الزوجين إلى الآخر، وبَيَّنا أنه يتوقف على حسن اختيار كل منهما للآخر، وهذا الركن الخاص بالزوجين عليه تبنى سعادتهما وهناء معيشتهما، وتَحققه شرط لتَحقق الركنين الآخرين، أو كمالهما، وهما المودة والرحمة، وبتحقق الأركان الثلاثة تكمل فائدة هذه الحياة الفائدة التي أرشدنا الله تعالى إلى طلبها منه بقوله في صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) . أما الركن الثاني، وهو المودة فليس خاصًّا بالزوجين؛ لأن المودة تصل بين عشيرتيهما بما تصل به بينهما ولذلك لم يقل (لتسكنوا إليها وتودوها) بل قال {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً} (الروم: 21) والخطاب للناس لا للأزواج خاصة؛ أي أنه جعل من مقتضى الفطرة البشرية التواد بينكم بسبب الزوجية بين الزوجين، ومن يتصل بهما بلحمة القرابة والنسب كما هو معروف بالاختبار فيمن سلمت فطرتهم من الفساد، وعرفوا قيمة الحياة الاجتماعية فعاشوا عيشة الاجتماع لا عيشة الأفراد، وما زال البشر يعدون المصاهرة من أسباب العصبية بين البيوت والعشائر والقبائل، بل نرى الأمراء والملوك يحاولون بمصاهرة بعضهم بعضًا التواد والتناصر بين دولهم، أو تخفيف العداء والتنافر بين أممهم، حتى إنهم ينبذون لذلك مذاهبهم الدينية كما فعلت الأميرة الجرمانية التي تزوج بها قيصر روسيا؛ فهذه سنة من سنن الفطرة عرفها البدو والحضر، وجرى عليها أدنى القبائل همجية، وأعلى الشعوب مدنية، وتنكبها أناس مذبذبون كاد يخرج بهم فساد الفطرة عن البشرية. نرى ونسمع في هؤلاء الذين خلقوا على صورة الإنسان من التخاصم والتنازع مع أصهارهم وأختانهم - ما لا نرى نظيره، ولا نسمع بمثله في أهل الأضغان الموروثة والأحقاد المتسلسلة، يرى أحدهم نعمة الآخر قذى في عينيه وحرجًا في صدره، ويعد شرفه إذا ارتفع خافضًا لقدره، فهو أنكى حاسديه، وأنكأ جارحيه، وأول المتربصين للوثبة عليه. لم يقف تأثير اعتلال الفطرة في نفوس هؤلاء عند تنكيث المفتول، وتشتيت الملموم وتقطيع الموصول، بل أوغل في النفس إلى مواضع الشعور بالحاجة إلى الاعتصام، والإحساس برزايا الانفصام، فتخدرت الأعصاب، وانطمست البصائر والألباب، وانتكس الطبع، وانعكس الوضع، فصارت أسباب المودة والالتئام، عللاً للتباغض والانقسام، وانقلبت معارج الشرف والرفعة مدارج للتسفل والضعة وأمسى ما يكتسب لأجله يكتسب به، وما يتعزز به يعتز عليه، ولا يعتد بشيء من هذا خروجًا عن سنن الفطرة، ولا اعتداء لحدود الشريعة، وإنما يحسب من أمور الحزم، وطرق القيام بالمصالح. لو أحب الأزواج أنفسهم حبًّا صادقًا وسكن بعضهم إلى بعض ذلك السكون الطبيعي لوادَّ كل منهما الآخر ووادَّ لأجله أهلَه وعشيرته بلا تكلُّف ولا تعمل، وأحس بأن قوتهم قوة له، وشرفهم مزيد في شرفه، وكثرة مالهم زيادة في نعم الله تعالى عليه. لو عرف الأزواج معنى الزوجية وقيمتها، واتفق أن كان كل منهما على غير ما يحب الآخر ويهوى؛ فلم تسكن إليه نفسه ذلك السكون المطلوب - لتودد كل منهما للآخر توددًا لعله يصيب بالتكلف والصنعة بعض ما فاته بالسجية والفطرة؛ فإن التودد مودة متكلفة أو صورة للود الحقيقي؛ فله جميع فوائد المودة الصورية وإنما ينقصه روحها، وهو ما فيها أريحية النفس وأنسها بالفضيلة ولذتها واغتباطها بها، وقد ينتهي التودد بشيء من هذا ومن فاته كمال المنفعة بشيء فليس من الرأي ولا الكياسة أن يفوته كل جزء من أجزائه، وكل أثر من أثاره، وهو قادر على إدراكه؛ فإن بلغ النفور في قلبي الزوجين مبلغًا يعز معه التودد ويتعذر التجمل؛ فالواجب أن يتفرقا بالمعروف والإحسان كما اجتمعا بهذا القصد؛ لأنهما تحققا حينئذ أنهما لا يقيمان حدود الله تعالى {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} (النساء: 130) . من المودة: أن يحب كل من الزوجين من يحب الآخر من أهله وعشيرته وأصدقائه؛ فيسر لسرورهم، ويستاء لاستيائهم، ويتمنى لهم الخير والنعمة، ويقوم بأداء حقوقهم كما جرى من العرف بين أمثالهم في ذلك، والتودد هو عبارة عن هذا الأمر الأخير الذي هو عمل اختياري دون ما قبله؛ لأنه من عمل القلب، وهو شعور اضطراري دون ما قبله؛ لأنه من عمل القلب وهو شعور اضطراري يملك النفوس المستعدة له؛ إذا هي آنست من هو أهله. النفوس المستعدة للود الصحيح، والحب الخالص: هي النفوس الزكية التي آوى حسن التربية بينها إلى سلامة الفطرة، والنفوس المستأهلة لذلك هي النفوس المستعدة له؛ فالمحبة والمودة من ثمرات المشاكلة في السجايا، والصفات النفسية الفاضلة وأما المشاركة في الصفات الرديئة، والسجايا الخسيسة؛ فهي لا تثمر حبًّا خالصًا، وودادًا صادقًا، ولكنها تثمر توددًا يقصد به كل من المتشاكلين الاستفادة من الآخر، والتعاون معه على المقصد الذي وجههما إليه فساد الطبع؛ فإذا أحسَّ بالاستغناء عنه أو يظفر بمن يقوم مقامه فيما توادَّا لأجله، ويكون الربح منه أكثر أو المكافأة له أقل؛ فلا يلبث أن يتبدله به جذلاً مسرورًا. فأصحاب الأخلاق الفاسدة محرومون من ملكة المودة الصحيحة، وهم في توددهم تجار مُمَاكِسُون حتى إن فساد الفطرة يبلغ منهم أن يتَّجروا بعقد الزوجية، ويعتدوا أزواجهم من سلع التجارة كما قدمنا في مبحث اختيار الأزواج. من التودد ما هو رذيلة وهو تودد الشطار العيارين الذي كشفنا عن حقيقة أمرهم آنفًا، ومنه ما هو فضيلة، وهو ما يقصد به أداء الحقوق المعروفة للخلطاء والعشراء، وتكلف القيام بآثار المودة كراهة الحرمان من خيرها الظاهر والباطن معًا، ورجاء أن يصير التودد ودًّا، والتحبب حبًّا؛ فقد علم بالتجربة أن تكرار العمل بأثر خلق من الأخلاق تكلفًا قد ينتهي بأن يصير ملكة، كما ورد في الحديث (والحلم بالتحلم) ، قالت علية بنت المهدي: تحبب فإن الحب داعية الحب ... وكم من بعيد الدار مستوجب القرب وهذا النوع من التودد: هو الذي نأمر به من تزوجا في أنفسهما سكونًا يبعث كلاً منهما على مودة الآخر ظاهرًا وباطنًا، وهو ضرب من ضروب التربية القويمة إلا أولو العزم؛ لأن الجاهل بعلم النفس وأخلاقها، والشريعة وآدابها، يقوده شعوره على غير هدى، حتى يهوي به في مهاوي الردى، فإن كان زكي الطبع، سليم القلب، صبر على تجرع الغصص، وتحمل المضض، من تحمل زوج لا يأنس به، وقرين لا تسكن نفسه إليه، حتى يقتله الصبر، أو يخرج به إلى الفساد والنكر وإن كان شرسًا شكسًا؛ كانت حياته مع الزوج الآخر في تشاكس وتعاسر، وتنافس وتنافر، وأما العالم فإذا ابتلي بزوج لا تسكن إليه النفس، ولا يخلص له الود، فكان العدو الذي ما من صداقته بُدّ، فإنه يتكلف إظهار صداقته، وإخفاء مقته وكراهته، ليسلم من سوء المعاشرة، ويستظهر على آفات المنافرة، وإذا كان واسع العلم في تربية النفوس، وأثر المعاملة في تقلب القلوب، صادق الإرادة في تربية نفسه، قوي العزيمة في تأديب وجدانه وحسه، فإنه يطمع في أن يكون التودد ودًّا، والطبع طبعًا، ويعطي ما يطمع، وينال ما يريد، ومصداق هذا واضح في أهل العلم، ومصداق ما قبله ظاهر في أهل الجهل. لك أن تقول: إننا رأينا من المتعلمين والمتعلمات في هذه البلاد أزواجًا كان يرجى أن يكونوا حجة للعلم على الجهل بالعيشة الراضية، وقصر كل من الزوجين طرفه على الآخر وقناعته بالاختصاص به لكمال سكون نفسه إليه، وإخلاصه في مودته ومحبته، أو التودد إليه ومجاملته، فبدا للناس منهم ما لم يكونوا يحتسبون، فلم تكد تنتهي أيام أعراسهم وليالي أفراحهم؛ إلا وقد نجمت بينهم قرون الفتنة، ووقع عليهم طائر الشقاق، وصاح بهم غراب الافتراق، وياليته كان شقاقًا بكتمان، وتسريحًا بإحسان، وإنما هداهم إلى أن يكيد أحدهم للآخر في المحاكم الشرعية، ومنهم من قذف بهم التخاصم إلى المحاكم الأهلية. ولي أن أجيب بأنك قد نسيت أنني أعني بالعلم علم النفس وأخلاقها، وعلم الشريعة وآدابها، ومن تحدث عنهم لا يعرفون من ذلك شيئًا إلا قليلاً من الألفاظ المحفوظة، والكلمات المتداولة، التي يمليها الخيال، ويلوكها اللسان، وليس لها في النفس منشأ يعرف، ولا في الأعمال أثر يوصف، كما هو شأن الأمة في إبان موتها توجد عندها صور من العلوم لا تطلب بها غايتها، وبقايا من الرسوم لا تجني منها فائدتها. سكون الزوج إلى الزوج سبب من أسباب سعادة الزوجين، وهناء معيشتهما خاص بهما لا يشاركهما فيه أحد من الأقربين والمحبين، وأما المودة بينهما فهي من أسباب سعادة عشيرتهما أيضًا؛ لأنها متعدية؛ فهي مبعث التناصر، والتوازرد والتعاضد والتساند وبهذا تكون سببًا من أسباب سعادة الأمة المؤلفة من العشائر المؤلفة من الأزواج فهذا التأليف هو الذي يتكون من مزاج الأمة فما يكون عليه من اعتدال وكما يكون كمالاً في بنية الأمة وقرة عين لمجموعها وما يطرأ عليه من فساد واعتلال يكون مرضًا للأمة يوردها موارد الهلكة. إن الإنسان ليشعر بحاجته في كماله إلى الأمة وبحاجتها إليه في ذلك على قدر قوة معنى الإنسانية فيه؛ فأدنى أفراد الإنسان حظًّا من الإنسانية لا يشعر بحاجته إلى أحد ولا بحاجة أحد إليه إلا من تقوم بهم شؤون حياته الشخصية، فهو ينظر إلى زوجة في البيت بالعين التي ينظر بها إلى شريكه في السوق أو معامله في الحقل، وهي عين المبادلة في المنفعة وطلب الربح؛ فإذا قدرعلى استبدال زوج مكان زوج يكون به حظه من التمتع أوفر، أو مكافأته له بالنفقة وغيرها أقل، فهو يقدم على ذلك فرحًا راضيًا، كما يستبدل عاملاً بعامل، وشريكًا بشريك، وأجيرًا بأجير إذا رأى أن الجديد أنفع له من القديم. فمثل هذا لا يمتد وجوده إلى ما وراء محيط جسمه، فلا يتحقق فيه معنى الزوجية الذي هو عبارة عن حقيقة مؤلفة، فردين يعيشان بروح واحدة، وإذا لم يصل في سعة الوجود إلى أن يكون زوجًا أعلى من حياته الفردية، ووجودًا أوسع من وجوده الشخصي، وإذا صغر عن هذا فإنه يكون أصغر وأحقر من أن يشعر بمعنى الوجود القومي والحياة الملية؛ التي ترفع صاحبها إلى الشعور بأن كل عمل من أعمال يجب أن يكون نافعًا لأمة عظيمة وأن مجموع أعمال العاملين في هذه الأمة يلحقه شرفه إذا كان شريفًا، وتصيبه خسته إذا كان خسيسًا، وهذا هو شأن الإنسان الكامل فمودة الأهل هي أول مجالي الإنسانية الكاملة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) رواه الترمذي من حديث عائشة وصححه ورواه أيضًا مصححًا من حديث أبي هريرة بلفظ: (خياركم خياركم لنسائهم) وروى أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله) . ومن المودة بين الزوجين: الم

تزويج الشريفة بغير شريف وفضل أهل البيت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تزويج الشريفة بغير شريف وفضل أهل البيت (س 29) مستفيد في (سنغافورة) سيدي هل هذه الفتوى (المذكورة أدناه) صحيحة ويجوز العمل بما فيها، أم الأصح خلافها أفيدونا لا زلتم خير خلف لخير سلف عن جوهر الإسلامية، وأرجو من حضرتكم الكلام عنها في المنار وهي: ما قولكم في من يستحل تزويج الشرائف بمن ليسوا بأشراف، بل لو كان بعضهم يزعم أنه هاشمي أو مطلبي، أو من بقية قريش فهل يصح تزويجهم بالشرائف أو لا؟ (الجواب والله أعلم بالصواب) اعلم أن مراعاة الكفاءة في النكاح واجبة، وهي في النسب على أربعة درجات (كذا) الأولى: العرب لا يكافئهم غيرهم من العجم، الثانية: قريش لا يكافئهم غيرهم من بقية العرب، الثالثة: بنو هاشم وبنو عبد المطلب لا يكافئهم غيرهم من بقية قريش، الرابعة: أولاد فاطمة الزهراء بنو الحسن والحسين -رضي الله عنهم- لا يكافئهم غيرهم من بني هاشم، والدليل عليه كما في التحفة والنهاية وغيرهما خبر مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اصطفى من العرب كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم) والأحاديث الواردة في فضل العرب وفي فضل قريش وفي فضل بني هاشم كثيرة جدًّا. وقال ابن حجر في التحفة والرملي في النهاية: أولاد فاطمة لا يكافئهم غيرهم من بقية بني هاشم؛ لأن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن أولاد بناته ينتسبون إليه في الكفاءة وغيرها كالوقف والوصية كما صرحوا به (انتهى) لأنهم أبناؤه كما ثبت في قصة المباهلة في قوله تعالى {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} (آل عمران: 61) فإنه ورد أنه خرج ومعه الحسن والحسين وعلي وفاطمة، وروى الحاكم قال صلى الله عليه وسلم: (لكل بني أم عصبة إلا أبناء فاطمة فأنا وليهم وعصبتهم) وأخرج الترمذي عن أسامة أنه صلى الله عليه وسلم أجلس الحسن والحسين يومًا على فخذيه وقال: (هذان ابناي وابنا بنتي اللهم إني أحبهما فأحبهما) وأخرج الطبراني وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: (كل بني أم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم) (انتهى) . فقول الشارع نص، ويترتب عليه أحكام البنوة في الأشباح والأرواح كالحسن والحسين وأولادهما، والتشريف ببعض خصائصه صلى الله عليه وسلم فوجوب الصلاة عليهم ودخولهم في آية التطهير وتحريم الزكاة عليهم وافتراض محبتهم على الأمة وغير ذلك، ثم اعلم أن الشرف قسمان ذاتي، وصفاتي وقد اصطلح العلماء على أن الشرف الذاتي للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنه بالنسبة لذريته فكما كانت ذات النبوة مختارة الله من الوجود فجعلها الله معدنًا لكل نعت محمود، ولم يزل يسري منها في شعبها مظهرها في المعدن، ومع ذلك فقد بلغ الجليل الكبير في كمال التطهير لها كما قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) لا بعمل عملوه، ولا بصالح قدموه، بل بسابق عناية من الله لهم فتأثير البَضْعة النبوية لا يدركه أكابر الأولياء من غيرهم، ولو جاهدوا أبد الآباد، ولهذا السر قال الله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) إذا عرفت ذلك واتضح لك أن مقام ذات النبوة وقدرها لا يدرك، وعرفت أن الكفاءة عند العرب بل وغيرهم أمر مرعي وقد جاء الشرع في ذلك على موافقة عادتهم وعرفت أن تزويج الأدنى بمن ليس كفوءًا لها ملحق عارًا على عصبتها كما صرح به الفقهاء الواصل ذلك العار عند تزويج الشرائف بغير الأشراف إلى مقامه صلى الله عليه وسلم فحقق لديك أن الجراءة على ذلك إيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم ولذريته، وأي إيذاء أعظم من إلحاق العار فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من آذى أهل بيتي فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله) وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تؤذوني في أهل بيتي) ... إلخ، وقال عليه الصلاة والسلام: (احفظوني في أهل بيتي) فإيذاؤهم من أكبر الكبائر ومن استحله كفر فلا يجوز تزويج غير السيد بالسيدة، ولو رضيت وأسقطت الكفاءة أو رضي وليها؛ لأن الحق ليس لهما؛ لأنه شرف ذاتي ليس من كسبهما حتى يسقطاه بل له- صلى الله عليه وسلم - ولكافة أبناء الحسنين، ولو يتصور رضاهم، وقد ثبت أنهم مَوَالٍ على ما سواهم من كافة الخلق بنص حديث: (من كنت مولاه فعلي مولاه) وهل يجوز تزويج العبد مولاته، لا قائل به، بل قد منع خليفة الزمان السلطان عبد الحميد خان أيده الله تبعًا لسلفه تزويج السيدات بغير السادة، وأمر الخليفة يجب العمل به في المباحات فضلاً عن الموافق للحكم الشرعي. وأما ما نسب إلى الإمام مالك عالم دار الهجرة - رضي الله عنه - أن المسلمين أكفاء فلا يبعد أنه مقول عليه؛ لأنه ثبت عنه أنه امتنع من لبس النعال في المدينة؛ فقال: أستحي أن أطأ بنعلي أرضًا وطئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدمه فمن استعظم، واستشرف أرضًا وطئها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقدمه يبيح ويستحل افتراش ووطء بضعته صلى الله عليه وسلم؟ يجل قدره عن ما نسب إليه - رضي الله عنه - وفي هذا القدر كفاية لمن منَّ الله عليه بالهداية، ومن قال بخلاف ما ذكر؛ فإما عدم اطلاع، وإما جهل بقدره - صلى الله عليه وسلم - وقدر أهل بيته، بل من تجرأ وارتكب ذلك بعد اطلاعه على ما ذكر؛ فهو ضعيف إيمان، بل مسلوبه لمراغمته، ومعاندته للشرع يخشى عليه من سوء العاقبة و {مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} (الأعراف: 186) حفظنا الله من ارتكاب الموبقات، وعصمنا من الهجوم على الخطيئات، وعرفنا قدر نبيه وأهل بيته السادات إنه ولي التوفيق غير أنه معلوم لدي كل ذي عقل أنه للضرورات تباح المحظورات وارتكاب أخف الضررين لدفع الأشد متعين فلا يلزمك العناد ارتكاب الفساد والعدول عن سبيل الرشاد. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: قاله بفمه وكتبه بقلمه أضعف الناس عمر بن سالم العطاس عفى الله عنه آمين، وذلك في شهر محرم سنة 1323 هـ. (ج) سبق لنا أن نشرنا في هذه المسألة سؤالاً لأحد القراء في سنغافوره في واقعة حال هناك ثم جاءنا من سنغافوره رسالة بتوقيع أحد الحضارمة رغب إلينا مرسلها أن نرمز له بحرفي ع. ب قال فيها بعد الثناء والإطراء: إن ما نشرناه في الواقعة (في ج 6 م 8) لم يكن السؤال فيه مطابقًا للواقع، وإن الشريفة التي تزوجت بالسيد الهندي قد زوجها وليها الشرعي برضاه ورضاها مع علمها بأن الزوج مطعون في نسبه على أنه قد شهد 12 شاهدًا من أهالي بلده وغيره بالسيادة له وإن ما ذكره السائل أيضًا عن طعن ذلك الرجل بكتب الشرع غير صحيح، وطلب منا هذا الكاتب أن نذكر الحكم في الواقعة على ما قرره هو من تزويج ولي الشريفة لها برضاه ورضاها على أنه لا حاجة إلى ذلك؛ فإن الجواب الأول ناطق بصحة العقد في هذه الحالة. وقد فهمنا من الرسالة ومن مجموع ما كتب إلينا في معناها من تلك الجزيرة أن سبب الاهتمام بهذه المسألة هو أن بعض السادات الحضرميين الذين يوجد منهم طائفة هناك غالون في التفاخر بأنسابهم، والإدلال بأحسابهم، ولذلك ذهبوا في الغلو إلى ما تراه في فتوى الشيخ عمر بن سالم العطاس التي سألنا عنها أحد القراء في سنغافوره، وقد أرسلا إليها صورتها مطبوعة فعلمنا أنهم طبعوها ووزعوها لإثبات اعتقادهم في أنفسهم. أما الحق في مسألة الكفاءة؛ فهو ما بيناه في الجزء العاشر من المجلد السابع أيام حادثة الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، وقد نقل المؤيد ما كتبناه يومئذ فاطلع عليه الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية -رحمه الله تعالى -وكان في مصيف رأس البر فكتب إلي: (اطلعت في المؤيد على ما كتبت في الكفاءة والأولياء واستحسنته) وإنما اطلع عليه في المؤيد؛ لأنه نشر فيه ما كتبت قبل أن أرسل المنار، ولذلك كتب إليّ الإمام في ذلك الرقيم (كنت أنتظر أن يصل إلي المنار هنا؛ ليكون مما ألقي عليه نظري إذا أرجعته عن أمواج البحر الأبيض، ولم أطلقه إلى بساط النيل الأحمر فإني جالس طول يومي بين البحرين) والمقصود أن الأستاذ الإمام قد أجاز ما كتبته في الكفاءة فكأنه أفتى به. أما المنزع الذي رمى عنه الشيخ سالم العطاس فهو غريب، وأوغله في الغربة والغرابة جعل الكفاءة في الشرفاء حقًّا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولجميع أبناء الحسنين بحيث لا يصح تزويج الشريفة بغير شريف ولو رضيت ورضي وليها؛ إذًا لا يتصور أن يرضى - النبي صلى الله عليه وسلم - وسائر الشرفاء في مشارق الأرض ومغاربها، واستدلاله على ذلك بكونه إيذاء للنبي بإيذاء أهل بيته، قال: وإيذاؤهم من أكبر الكبائر يكفر مستحله ثم استدلاله أيضًا بحديث (من كنت مولاه فعلي مولاه) على كون ذراري علي موال على من سواهم من جميع الخلق بالنص وخروجه من ذلك إلى أن جميع الناس عبيد لهم، وأنه لا قائل بجواز تزويج العبد لمولاته! نعوذ بالله من هذا الغلو والغرور. يستدل الشيعة بحديث (من كنت مولاه فعلي مولاه) على أن عليًّا أحق بالخلافة ممن سبقه فيها، ولا أعرف عنهم أنهم بعدوا في الاستدلال إلى جعل جميع الناس عبيدًا له ولذريته، بل لم يقل مسلم بأن الناس عبيد للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل الإسلام يمنع هذا فمن أين جاء به العطاس يرحمه الله ويصلح باله. وكيف يتفق استنباطه هذا مع ذكره السلطان عبد الحميد بلقب الخلافة، وإذا كان غير الشريف العلوي الفاطمي لا يجوز أن يكون زوجًا للشريفة؛ لأنه عبدها فكيف يكون العبد خليفة على ساداته ومواليه الذين لا يحصى عددهم، والخليفة مولى لرعيته يجب عليهم طاعته في كل معروف، وأما الزوج فليس مولى لامرأته بهذا المعنى، بل يقول جماهير الفقهاء: (إنه لا تجب عليها طاعته إلا في المكث في البيت والتمكين من الاستمتاع) . والحق أن لفظ المولى في الحديث معناه الناصر، كما قال الجوهري في الصحاح، ويطلق في اللغة على الصاحب، والقريب، والجار، والحليف والنزيل والشريك، والعبد، والمعتق، فكيف يسمح لنا الدين أن نتخطى هذه المعاني ونقول: إن الحديث نص في أن الناس عبيد لذرية علي؟ هل كان أبو بكر وعمر والعباس وغيرهم من الصحابة وسائر المسلمين عبيدًا لعلي في حياته، وهل ملك أولاده من بعده الناس بالإرث أم نص الحديث دال على أنهم يملكونهم بالاستقلال في كل زمان؟ ظاهر قول العطاس الثاني، وكل مسلم يبرأ إلى الله من الأول والثاني. كان الشرفاء ومازالوا يزوجون بناتهم من غيرهم، وجميع العلماء يستحلون هذا مع التراضي، وسائر الناس تبع لهم؛ فهل يقول العطاس: إن جميع من استحل ذلك كافر حتى المزوجون والمتزوجات بالرضا والاختيار، فيكفر الشرفاء مبالغة في تعظيمهم؟ . ليس هذا المنزع الذي رأيت بأغرب من منزعه الآخر في جعل النسبة إلى الحسن والحسين في معنى نبوة النبي - عليه الصلاة والسلام - من حيث إن شرفها ذاتي غير مدرك، وأنها من اختيار الله تعالى، وأنها منبع لكل نعت محمود وأن أكابر الأولياء لو جاهدوا أبد الآباد لا يلحقون لشريف أثرًا؛ لأن الله تعالى بالغ في كمال تطهير آل البيت إذ قال: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) لا بعمل عملوه، ولا بصالح قدموه، بل سابق عناية من الله لهم، ثم قال: ولهذا السر قال الله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) . فانظروا أيها المنصفون كيف يلعب بكتاب الله ويحرف كلامه عن معناه، بدعوى الاهتداء بهديه، والعمل بأمره ونهيه، وإنما هو اتباع الهوى، شرد بال

ضمان البضاعة وسلع التجارة والسيكارتو

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ضمان البضاعة وسلع التجارة والسيكارتو (س 29) سألنا كثيرون من أهل هذا القطر وغيره من الأقطار عما جرى عليه عرف التجارة من إرسال البضائع للبلاد مضمونة من شركة تسمى شركة الضمان، وقد أرجأنا الجواب عن ذلك لأجل أن نبحث عن كيفية هذا التعامل بنفسنا؛ فنجيب عن بصيرة، ولم يتيسر لنا ذلك، وقد جاءنا من عهد قريب صورة فتوى في ذلك من سنغافورة يسألنا مرسلها عن رأينا فيها فلم نجد بدًّا من التعجيل بنشره أو بيان رأينا فيها وهذه هي: بسم الرحمن الرحيم (ربِّ زدني علمًا، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على رسول الله وآله، أما بعد فقد ورد عليّ سؤال من بعض التجار القاطنين بعدن فيما كثر تعاطيه في الناس ليكونوا على بصيرة من أمره ونص سؤاله هو: ما قولكم دام فضلكم في معاطاة التجار مع الإفرنج الجارية في هذا الزمان بغير صيغة شرعية أصلاً، وهو أن التاجر إذا أراد إرسال مال له إلى بلد آخر على طريق البحر يطلع ماله في إحدى البوابير الذاهبة إلى تلك البلاد المطلوب إرسال المال إليها؛ فإذا أطلع التاجر ماله وسلم نولاً على المال، وأخذ ورقة من قبطان الوابور بوصول المال إليه في الوابور، ومقداره، وثمنه، ثم إذا كان موجود أحد الإفرنج وعرض التاجر عليه ورقة صاحب الوابور، وسلم له على المال المقدر فيها على كل مائة (ربية) خمس (ربيات) يقدر المال الذي طلعه، ثم يسلم له الإفرنجي ورقة بعلامته متضمنة بكلام الإفرنج ضمانة المال عليه إذا غرق في البحر، فهو يعطيه ثمنه بقدر ما هو محرر في ورقة قبطان الوابور، وسموا هذه المعاملة (بيمه) . ثم إنه يوجد إفرنجي آخر إذا احتاج التاجر المذكور ثمن ماله الذي أرسله مقدمًا فيعرض عليه ورقة الإفرنجي المتضمنة الضمان للمال؛ فعندما يراها يقدم للتاجر ثمن ماله، ويحوله التاجر على وكيله الذي يستلمه بتلك البلدة الأخرى إن سلم المال من الغرق، وإلا فيستلم ذلك الإفرنجي الأخير من الإفرنجي الأول الذي سلم الورقة المتضمنة لضمان المال بلغتهم، فهل - والحال هذا - إذا جرت هذه المعاملة منا مع أهل حرب أو مؤمنين من غير ألفاظ شرعية أصلاً، تكون من قبيل ما لو أعطونا شيئًا من حقهم مجانًا برضاهم؟ ويجوز أخذهما أم لا يجوز ذلك أصلاً؟ أفتونا مأجورين نفع الله بكم المسلمين. اهـ. (الجواب) فقلت وبه القوة والحول: إن هذه المسألة هي من حوادث الزمن الأخير، لم أر من تكلم عليها من أئمتنا الشافعية في كتبهم المتأخرة فيما اطلعت من حيث إن الباع قصير والمقام خطير، تكأكأت مدة عن الجواب، وصاحب السؤال يلح عليَّ في الخطاب، ويطلب مني بيان حكم الله - تعالى - فيها فلم أجد بُدًّا من إسعافه؛ فاقتحمت ذلك متحريًا فيما هنالك، مجتهدًا في استخراجها من كلام الأئمة تصريحًا، أو تلويحًا، فأول ما وقفت على كلام في ذلك لخاتمة محققي السادة الحنفية الإمام العلامة ابن عابدين في حاشيته على الدر حيث قال في فصل في استئمان الكافر بعد كلام في ذلك ما نصه: (وبما قررناه يظهر جواب ما كثر السؤال عنه في زماننا، وهو أنه جرت العادة أن التجار إذا استأجروا مركبًا من حربي فيدفعون له أجرته، ويدفعون أيضًا معلومًا لرجل حربي مقيم في بلاده ويسمى ذلك المال (سوكره) على أنه مهما هلك من المال الذي في المركب بحرق أو غرق أو نهب أو غيره فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذه منهم، وله وكيل عنه مستأمن في دارنا مقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان يقبض من التاجر مال السوكره، وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتاجر بدله تمامًا، والذي يظهر لي أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله؛ لأن هذا التزام ما لا يلزم ا. هـ. أي فلا يحل أخذ ماله بعقد فاسد. أي هذا الحكم مع المستأمن في دارنا، قال بخلاف المستأمن في دار الحرب، فإن له أخذ مالهم برضاهم، ولو بربا أو قمار لأن ماله مباح لنا إلا أن الغدر حرام وما أخذ برضاهم ليس غدرًا من المستأمن منهم في دارنا؛ لأن دارنا محل إجراء الأحكام الشرعية؛ فلا يحل لمسلم في دارنا أن يعقد مع المستأمن إلا ما يحل من العقود مع المسلمين، ولا يجوز أن يؤخذ منه شيء لا يلزمه شرعًا، وإن جرت به العادة كالذي يؤخذ من زوار بيت المقدس. اهـ نقلته عن حاشية الدر لابن عابدين. نرجع إلى الحكم على عدن هل هي الآن دار حرب لاستيلائهم عليها، أو باقية دار إسلام على أصلها؟ نص في شرح الدر أن دار الإسلام تصير دار حرب بثلاثة أمور: بإجراء أحكام الشرك، وباتصالها بدار الحرب ولا يعد البحر فاصلاً بل قال تقدم أن بحر الملح ملحق بدار الحرب، والشرط الثالث أن لا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمنًا بالأمان الأول على نفسه، أي الأمان الذي كان ثابتًا قبل استيلاء الكفار للمسلم بإسلامه، وللذمي بعقد الذمة اهـ. بتوضيح في حاشيتها لابن عابدين. ولا شك أن هذه الشروط قد وجدت في عدن، فهي دار حرب عند السادة الحنفية، ويجوز للمسلم فيها أخذ مالهم برضاهم ولو (بربا) وقمار كما تقدم آنفًا عن العلامة ابن عابدين، أما عند الإمام الشافعي فلا تعتبر دار الإسلام دار حرب مطلقًا، أي سواء غلب عليها الكفار أم لا منعوا المسلمين، أم لا كما في باب الجهاد، من شرح المنهاج للإمام ابن حجر رحمه الله تعالى. هذا ما عند السادة الحنفية، أما حكم السؤال على مذهب السادة الشافعية؛ فالذي ظهر لي من كلام فقهائنا أنه إذا لم تجر هذه الالتزامات بمعاطاة أو صيغ فاسدة في الشرع، ولا يتلفظ بشيء منها، بل يعطيه ذلك المال بمجرد أوراق تتضمن ذلك الالتزام على وجه إرضاء واختيار فلا بأس بقبوله من كافر أو مسلم وما أظن أحدًا يخالف في جواز قبوله، كيف وقد نبه العلامة ابن حجر في الإيعاب في باب البيع عند القول بجواز المعاطاة حيث قال: (ولك أن تقول الكلام جميعه مفروض فيمن لم يعلم أو يظن رضا المأخوذ منه، ولو بلا بدل أما من علم أو ظن رضاه فلا يتأتى فيه خلاف المعاطاة؛ لأنهم إذا جوزوا لهم الأخذ من ماله مجانًا مع علم الرضا أو ظنه فلأن يجوز الأخذ عند بدل الشيء أولى؛ لأن المدار ليس على عوض ولا على عدمه، بل على ظن الرضا، وحيث وجد عمل به وحينئذ لا يكون أخذًا من باب البيع لتعذره، بل من باب ظن الرضا بما وصل إليه وعجيب من الأئمة كيف أغفلوا التنبيه على ما ذكرت، وكأنهم وكلوه إلى كونه معلومًا) اهـ كلام الإيعاب، وكذلك ما يؤخذ في صورة السؤال لا يكون من باب الضمان ولا عدمه، بل من أخذه بالرضا والاختيار، هذا ما ظهر لي في المذهبين، وفوق كل ذي علم عليم والله سبحانه وتعالى أعلم. (الختم) ... ... ... ... ... ... الواثق بخفي الألطاف ... ... ... ... ... ... ... ... علوي بن أحمد السقاف ... ... ... ... ... ... ... ... كان الله لهما آمين. ثم كتب عند قوله (بل من باب أخذه بالرضا والاختيار) ولك أن تقول هذا الكافر الملتزم للغرم عند التلف فيما كتبه للمسلم مترددًا بين غنم وغرم؛ فيحتمل أن يكون من أنواع القمار الممنوع إقراره عليه، فنقول: على فرض تسليمه أنه نوع منه، فلا نمنعه منه إلا إن كان من الملتزمين لأحكامنا، أما كالذي في عدن كما هو في صورة السؤال فليس من الملتزمين لأحكامنا، بل ربما قهرونا على مجاراة بعض أحكامهم كما هو مشاهد فلا مانع من أخذ ماله برضاه، هذا ما تبادر إلى فهمي الفاتر وعلمي الناقص فإن أصبت فمن الله، وإن وجد نص يعتمد بخلافه فالمرجع إليه والله ولي التوفيق. (المنار) إن ما يسمونه (سوكرة البضائع) عقد تأمين وضمان يقوم بين التاجر صاحب البضاعة، وبين رجل آخر هو وكيل شركة كبيرة والورقة التي ذكرها السائل العدني في استفتائه هي صك بعقد تأمين والضمان فهي متضمنة للإيجاب والقبول والفقهاء يعدون هذا العقد فاسدًا؛ لأن الضامن يلتزم فيه ما يلزمه شرعًا وكان يظن أنه يأخذ ما يأخذه بدون مقابل ولكننا علمنا من بعض التجار أن لهذه الشركة التي تؤمن التجار على بضائعهم وتضمن لهم ما يهلك منها أعمالاً في حفظ البضائع تتفق به مع شركات النقل في المراكب وغيرها وهي إذن من قبيل الإجارة كأن التاجر يستأجر صاحب الباخرة للنقل وصاحب التأمين للحفظ فما يأخذانه من المال على ذلك يعد أجرة عملهما فعلى هذا يجوز للتاجر أن يسوكر بضاعته ثم إذا هي تلفت بتقصير في الحفظ؛ جاز له أخذ ضمان عنها، وأما إذا تلفت بدون تقصير في حفظها فلا يجوز عند الفقهاء أخذ الضمان؛ لأنه لا يلزم الأجير وإن التزمه، وقد خرَّج السقاف الجواز في الواقعة المسئول عنهاعلى مذهب الحنفية بأنه أخذ لمال الحربي بعقد فاسد بغير عذر ولا خيانة، وهو جائز وعلى مذهب الشافعية بأنه مال أخذ برضاء صاحبه وسكت عن إعطاء الأجرة. ويجب التنبيه ها هنا إلى مسألة مهمة وهي أن ما يشترطه الفقهاء باجتهادهم من شروط صحة العقود وفسادها ولزوم ما يلتزم فيها وعدمه ونفوذ الحكم بها وعدم نفوذه ليس من الأمور التعبدية التي يتقرب بها إلى الله تعالى بحيث يكون العقد الفاسد معصية من المتعاقدين؛ وإن كان برضاهما واختيارهما بلا غش ولا تغرير، كلا إن هذه مسائل وضعت لأجل ضبط الأحكام وحفظ الحقوق وتسهيل الحكم بالعدل على القضاة فهي لا تسلب الناس حرية التصرف في أموالهم بما يرونه نافعًا لهم في حفظها، أو تنميتها مع التزام حدود الله الثابتة في كتابه العزيز وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ كتحريم الغش، والتغرير، والخداع، والغصب، ونحو ذلك وهذا هو مراد ابن حجر الفقيه؛ إذ جوز الأخذ والعطاء بالتراضي فيما كان مخالفًا لشروط صحة عقد البيع (ومثل البيع غيره من العقود) فكأنه قال: إن هذه الأركان والشروط التي ذكروها لصحة العقود هي التي يلزم الحاكم الناس بها إذا تنازعوا فإذا تراضوا فيما بينهم على خلافها فلا حرج عليهم، وعد هذا من الأمور التي سكت عنها الأئمة لكونها معلومة بالبداهة فتبين من هذا أن العاقل الرشيد له أن يتصرف في ماله ما لم يرتكب محرمًا، والمحرم فيه ضرر بالفاعل أو بغيره؛ فإذا ثبت بالاختيار أن هذه (السوكرة) نافعة غير ضارة فهي جائزة إذ لم يرد نص من الشارع في تحريمها ومدار الاجتهاد في أحكام المعاملات على دفع الضر وجلب المنفعة وحفظ المصالح، وإذا ثبت بالاختبار أنها ضارة، ومضيعة للمال بغير فائدة كانت محرمة والله تعالى أعلم.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر المكتوب الثالث من أميل إلى أمه [*] إفضاؤه إليها بحبه لقينة من الممثلات - كيف تعلق قلبه بها - ستعلامه سيرتها- تمنيه إنقاذها مما هي فيه- طلبه المغفرة من أمه بعد اعترافه لها بالحب. تحريرًا في 12 مايو سنة 186. إني منذ عرفت نفسي ابنك أبثك جميع ما يسوءني وما يسرني، وما أكره وما أحب، وأكاشفك بالخير والشر، ولا أكتم عنك شيئًا حتى إني لما كنت بحضرتك ما كنت في حاجة إلى البيان؛ لأنك كنت تطالعين أفكاري في عيني وتبصرينها تجول على جبيني، وهذه أول مرة لي في حياتي أسررت فيها سرًّا ... وليت شعري أأبوح به إلى قصب نهر الرين؟ إذًا لتضاحك مني كما تضاحك من أذني الملك ميداس [1] أم أبثه إلى القمر؟ كلا فقد سمع كثيرًا من أمثاله أم أكنه في قلبي؟ إذن لأنَّبتني عليه سريرتي. ما أنا بفاعل شيئًا من ذلك بل أريد أن أودعه صدر أمي. على أن الإفضاء به ليس من السهولة بالمقدار الذي كنت أتوهمه فإني ما أنشأت أخط هذه السطور الأولى من مكتوبي حتى ارتعشت يدي، وخفق قلبي ولست إخالك إلا ساخرة مني، ولكن أقل ما أنا واثق به منك أنك لن تجدي علي أن صدقتك الخبر؛ وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من إفشائه، وهو أني أحب. الآن أراك تسألينني من هي التي تحبها، وأين رأيتها، وكيف عرفتها، وفي هذه الأسئلة ما يزيدني حيرة وارتباكًا. في مدينة (بُن) ملعب من الطبقة الثانية غير أنه مشهور بحسن اختيار القصص التمثيلية؛ فمما يمثل به قصة مريم استوارت [2] ، وقصص شيلار [3] وقصة غويت عن فوست ومرغريتة [4] وغيرها من القصص الشهيرة. وللموسيقى والأغاني الموقعة عليه في هذا الملعب يومان أو ثلاثة تحل فيها محل الأدبيات والوقائع التمثيلية، وأنا أذهب إليه في بعض الأحيان لسببين أولهما ترويح نفسي من عناء الدرس، وثانيهما إيلافها أصوات اللغة الألمانية؛ فمن نحو شهر ابتدأت قينة بافييرية [5] فتية تغني على الموسيقى هناك، وكان أول ما غنته (قصة النبي) من توقيع مايربير فبلغت من الإجادة في تغنيتها إلى حد أن جميع طلبة الجامعة كانوا يلهجون بذكرها كأنها آية من الآيات؛ فجريت معهم في مصاف الإعجاب بها ولما انطلقت إلى الملعب؛ ورأيتها في باحة التمثيل كان كلي عيونًا تبصر، وآذانًا تسمع، وليس صوتها هو الذي اشتد إعجابي به مع كونه من أندى الأصوات وأندرها، بل الذي ملأني إعجابًا هو ما في تغنيتها من الروح، بل ما في خلقها من الحسن والإتقان فبتُّ ليلي كله أحلم بها، ولا يفارقني طيفها، وكنت أراها بين الأفلاك السماوية، وأسمع أنغام الكواكب الموسيقية؛ فكأن فيثاغورس [6] كان يحب قينة عندما كان يحدث تلاميذه عن حسن ألحان النجوم. ولخوفي من انقضاء إعجابي بها فيما يلي من التمثيل عاهدت نفسي على أن لا أتخلف إلى الملعب ليالي تغنيتها، ولكني ما استطعت أن أوفي بعهدي وقد انتفى عني كثيرًا خوف إقلالي من التحمس في حبها بما اكتشفته فيها على توالي الأيام من الخصائص الجمة التي لم أكن لاحظتها من قبل، ولا بد من الاعتراف لَكِي بأني كنت أجلس من الصف المواجه لباحة التمثيل بحيث أكون مرئيًّا لها، وقد حسب لحظي مرة أو مرتين أنه لاقى لحظها ... ولكن ربما كان هذا ضلالاً، ومع أن التمثيل كان يمكث أكثر من أربع ساعات كنت دائمًا أجده في غاية القصر، وأغادر مقعدي في ختامه وقلبي مفعم بما لا يوصف من الاضطراب. خطر في ذهني أن أخاطبها بأبيات من الشعر أنظمها وأرسلها إليها غير ممضاة مني على يد بواب (الملعب) الهَرِم؛ ففعلت؛ وكنت أقول في نفسي وقت نظمها أن أقل فائدة لي منها أن تعلم أن واحدًا من الناس يحبها، ولكنها كانت أبياتًا رديئة وأقر بأنها ما كانت تؤدي نصف ما كنت أضمره لها من عواطف الميل وهذا ما دعاني إلى عدم الاعتقاد بصحة ما قيل من أن الشعر من لوازم الحب كما قرأته ذات مرة في بعض الكتب، وليس في قدرة أحد ممن عدا المصطفين من الخلق أن يعبر عن كل ما يجده في نفسه، ويا ليتني كنت واحدًا من هؤلاء النوابغ الممتازين. كنت من مساعي في القرب من هذه الفتاة واقفًا عند الحد الذي بينته لك فبينما أنا في يوم من أيام الآحاد أجوب المنتزه الذي تجتمع فيه نساء المدينة في نحو الساعة الثانية بعد الظهر؛ إذا بها أقبلت آخذة نحوي في مخرف؛ فخطر ببالي أولاً أن أتنكب هذا المخرف لسلوك إحدى السبل المقاطعة له؛ لأنه كان يخيل لي أن سأصفق مما قام بنفسي من ضروب الانفعال والاضطراب غير أني تثبت ومشيت مشيت الجندي الباسل الذاهب إلى حومة الوغى فرأيتها في بزة بالغة من الرونق غايته على بساطتها. وارباه! كم وددت لو كنت في تلك الساعة قفازها أو زهرة قلنسوتها أو مظلتها التي تقيها حر الشمس؟ أقول ذلك وإني لأعلم أنه كان مني قبيحًا ولكن لا ينبغي أن أكتم عنك شيئًا من مواضع ضعفي. إن في اللحظ خاصة الجذب فإني كنت آنس من لحظي إذا رنوت إليها أن كله إقرار، وتصريح بالحب، ولما مر كل منا حذاء صاحبه جرى على وجهي لألاء حسنها كما يجري لمعان البرق، ولم أجسر على الالتفات خلفي إلا بعد أن جاوزتها بثلاثين خطوة فرأيتها قد بعدت عني مهرولة غير أني بصرت في المسافة التي بيني وبينها بشيء أبيض يخفق خفوق جناح الحمامة من صفق الريح إياه فما تريثت في التقاطه فإذا هو منديلها قد سقط منها ... أو تعمدت إسقاطه فعدوت خلفها ودفعته إليها فأظهرت الدهش من ضياعه، وتلطفت في إسدائي الشكر على رده وراقني أن سمعتها تحسن التكلم بالفرنسية فلاح في ذهني أن أعرفها أني صاحب الشعر الذي أرسل إليها، ولكني كنت من شدة الاضطراب الذي استولى على نفسي بحيث لم أستطع تحريك شفتي بكلمة ما، ولا بد أن تكون حسبتني أبله. يزعم العارفون بتركيب الحيوان، ومنافع أعضائه، أن الذاكرة لا تحفظ الروائح وعذرهم في ذلك أنهم لم يحبوا في حياتهم؛ فإن منديلها وهو قطعة من النسيج الباتستي [7] الرقيق كان يتضوع عن عطر لطيف لن أنساه ما دمت حيًّا. وفي اليوم التالي لهذا اللقاء انطلقت إلى ما حول المدينة من الربى الزاهرة فجنيت باقة من ألطف ما وجدته من الزهور البرية وأدلها على العفاف، ولما حان وقت التمثيل خبأتها في قلنسوتي المدرسية وأخذت مجلسي في الملعب فغنت كعادتها بصوت يسمو بسامعيه إلى السحاب؛ ولكن كان يخيل إلي أن هذه المرأة التي لاقيتها في الطريق أمس ذلك اليوم أكمل من قينة، وإن كان استعدادها للتغنية مثارًا للإعجاب وبعد أن انتهت من غنائها وانصرفت استعادها جميع السامعين فهطلت حولها باقات الزهر من غرف الملعب والكراسي المقابلة لباحته، وآن لي أن ألقي إليها باقتي فاهتمت غاية الاهتمام بأن تبصرني عند إلقائها مع تظاهري بالاختفاء خلف جيراني وما أدراك ما فعلته حينئذ؟ لقد أهملت كل ما ألقاه غيري من الأزهار النادرة مثل زهرة الكامللية [8] وزهر التين الهندي، والورد ذي الأسنة، وعمدت إلى باقتي الحقيرة المؤلفة من أزهار برية فتناولتها وضمتها إلى قلبها، أفلا ترين في ذلك برهانًا على حبها لي؟ ستقولين لي أنت لا تعرفها، وقد تكون مخالفة تمام المخالفة لما تخيلته منها وأنه كان ينبغي لك قبل أن تعلل نفسك بالأماني والأوهام أن تكون على بينة من أخلاقها وكيفية معيشتها فأجيبك إن هذا أيضًا لم يفتني، وأقر بأني لم أقف من تحري سيرتها إلا على أخبار لا يزال فيها شيء من الغموض، ولم يجتمع لدي في هذا الصدد إلا أقوال في غاية التعارض والتناقض، فأنت تعلمين مقدار ما للشبان فيما بينهم من القسوة على النساء، ولا سيما الممثلات فقد بلغ الحسد من إفساد خلق الإنسان إلى حد أن جعل من لذَّاته تمزيق أعراضهن مع ما لهن من الملكات التي هي مناط الاستحسان العام ولست بمخفٍ عنك شيئًا مما يقولون؛ فبعضهم ينسب لها من هنات الشباب ما يغير دمي، ويثير غضبي، وبعضهم يقول: إنها تعيش مع أمها في حي منعزل عن المدينة، وقد أراني الطلبة هذه الأم تصحبها ليلاً عند خروجها من الملعب من عامة النساء قد ذر شاربها، وإني لمتألم من تصور أن مثل تلك الزهرة قد نبتت من هذه المدرة، ومهما يكن من وضاعة أصل تلك الجارية فمن الأفضل أن تعامل بجميع ما يجب لفتاة مخلصة مثلها من صنوف الرعاية والتكريم. على أننا إذا سلمنا حصول أسوأ ما يتأتى حصوله منها، وفرضنا أن سيرتها لم تكن دائمًا، أفلا يكون الذنب في ذلك على مهنتها، وعلى من يعاشرونها من الناس؟ إني أراها بالغة من الظرف والكياسة مبلغًا أستبعد معه أن لا تكون لها نفس زكية، وربما لم يتفق لها في حياتها أن تمثل لها الحب الصحيح المطهر للنفس بشرًا فاضلاً كريمًا. وارباه أي فخر أناله لو أبيح لي أن أمد يدي إلى تلك الروح الملكية فأنتشلها من درك الانحطاط الذي هبطت فيه لتعود إلى نور الهدى والفضيلة. ها أنا ذا قد كشفت لك مكنون سري ونجوت بهذا الاعتراف من شديد زجر سريرتي والآن أقع بين يديك راجيًا منك غفران خطيئتي. اهـ ((يتبع بمقال تالٍ))

تأبين الأستاذ الإمام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأبين الأستاذ الإمام في يوم الجمعة (17 جمادى الثانية 18 أغسطس) اجتمع خواص الناس من العلماء والأدباء والوجهاء من المسلمين وغيرهم عند قبر الأستاذ الإمام حكيم الشرق وحجة الإسلام الشيخ محمد عبده لتأبينه ورثائه وكان عدد المجتمعين عظيمًا، كما كان ينتظر أو أكثر مما كان ينتظر فقد غص بهم المكان المعروف بالحوش والبطحاء التي أمامه ورجع خلائق أمّوا المكان فلم يجدوا مقعدًا ولا موقفًا. قام حسن باشا عاصم الذي كان رئيس الديوان الخديوي من قبل بعد تلاوة أحد القراء آيات من الكتاب العزيز فألقى على الحاضرين سيرة الإمام، بالاختصار اللائق بالمقام، وتلاه الشيخ أحمد أبو خطوة القاضي في المحكمة الشرعية الكبرى، وأحد أكابر المدرسين في الجامع الأزهر وطفق يسرد ما كان للفقيد - عليه الرضوان - من خدمة العلم والدين والإصلاح الصوري والمعنوي في الأزهر والمحاكم الشرعية، وما له من الأيادي البيضاء على العلم والعلماء، وقد ضعف صوته أن يصل إلى آذان الحاضرين جليًّا فامتدت الأعناق، وكاد يضطرب الجمع فاستناب عنه محمد أفندي سعودي أحد كتاب المحكمة بعد الاعتذار. ثم قام حسن باشا عبد الرازق أحد أعضاء مجلس الشورى فذكر من فضائل الفقيد وفواضله، وآثاره ومآثره ما شاء الله أن يذكر، وتوسع بعض التوسع في أثره -رحمه الله تعالى - في مجلس الشورى، وكيف كان صاحب الرأي الأعلى حتى ارتقى به المجلس، وزال ما كان عنه وبين الحكومة من سوء التفاهم. وتقفاه قاسم بك أمين القاضي في محكمة الاستئناف الأهلية فذكر مكانة الفقيد في الأمة، وما امتاز به من المزايا الجمة، وكيف وقف نفسه على إصلاح أمته، وكان قدوة صالحة في علمه وسيرته، وكيف ارتقى بجده وعلمه وعقله وقوة إرادته إلى مقام مكنه من الأخذ بزمام أمة بأسرها، وسوقها إلى المستقبل الذي هيأه لها، وهو مقام الأمة بأوسع معناها. تلا هؤلاء الخطباء أشعر الشعراء في هذا العصر حفني بك ناصف القاضي بمحكمة مصر الأهلية وحافظ أفندي إبراهيم فأنشد كل منهما مرثية أبكت السامعين بعد ما كدنا نظن أن تلك الخطب المؤثرة قد استنزفت الشؤون من العيون. فأما مرثية (حافظ) فقد نشرناها في جزء سابق وأمّا مرثية (حفني) فسننشرها مع سائر المراثي والتأبين من تاريخ الأستاذ الإمام رحمه الله - تعالى - رحمة واسعة. ثم ختم الاحتفال كما بدئ بتلاوة آيات القرآن الحكيم، وانفض الجمع وهم يستمطرون الرحمة لفقيد الشرق والإسلام، ويسألون الله أن ينفع بسيرته الأنام، وقد رأوا أن هؤلاء المؤمنين الذين يمثلون الطبقات العليا في الأمة على ما لهم من الصفة الرسمية قد سجلوا مناقب الفقيد على رؤوس الأشهاد وأقرهم الألوف على ذلك. سبق للأدباء والوجهاء في مصر أن اجتمعوا لتأبين ثلاثة رجال: شفيق بك منصور يكن الذي كان قاضيًا في محكمة الاستئناف ثم رئيسًا للنيابة فيها ووكيلاً للنائب العمومي (المتوفى سنة 1308) وعلي باشا مبارك ناظر المعارف الذي خدمها في مصر بهمة واجتهاد وإخلاص بقدر ما سمحت له قدرته وحال البلاد (المتوفى سنة1311) ومحمود سامي باشا البارودي وما العهد به ببعيد. كل أولئك في قومه انفرد بالسبق في بعض المزايا، حتى لم يكن في عصره من يزاحمه في مزيته فيدعي مساواته فيها، وكأنك بهذه الأمة التي زادتها الحرية الشخصية فوضى وتهجمًا من الوضيع على محاكاة الرفيع فيما تسهل المحاكاة فيه ممّا كان عن الرفعة دون ما كانت به الرفعة قد صارت تجتمع لتأبين من ليس لهم فيها أثر يذكر، ولا ذكر يرفع إجابة لدعوة أهليهم وأصدقائهم حتى لا يبقى لمثل هذا الاجتماع مزية يحفظها التاريخ أو يحفل بها المؤرخ. قد بلغ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى من المكانة العالية والشهرة الواسعة أن صارت الأبصار تشخص، والقلوب من ورائها تتلفت إلى كل ما كان يكون منه أو يصدر عنه أو يعمل أو يقال فيه وهذا ما أحسب أن يجعل تأبينه سببًا لإجلال التأبين وحمل المقلدين على الرغبة فيه وهذا هو الذي يجعل التأبين بعد اليوم محاكاة لإجلال الأمة لمن يؤبن لا حكاية عنه إذ يعز أن تنجذب قلوب جميع الطبقات في الأمة لمجتمع يشاد فيه بذكر رجل يُعدّ خادمها الأمين، وإمامها في العلم والعمل والدين، أو ينبغ فيها من يساهم الرجل في فضائله، ويكون له في الأمة ولو بعض فواضله، فتأبين الأستاذ الإمام هو الذي جعل للتأبين شرفًا يرغب فيه ويحمل على محاكاته وهو الذي يسلبه هذا الشرف إذا كان لغير مستحقه وإذا فهم المقلدون هذه الحقيقة فإنهم يكرمون من يفقدون من ذوي القربى أو الصداقة بترك الدعوة إلى تأبينهم ويتركون هذا الأمر إلى الأمة نفسها يقترحه فضلاؤها وكتابها لمن يرونه أهلاً له في المستقبل فيكون كما ينبغي أن يكون، ولله في خلقه شؤون.

كتاب تعزية من عالم إنكليزي

الكاتب: إدوارد برون

_ كتاب تعزية من عالم إنكليزي كتب مستر إدوارد برون أحد علماء الإنكليز الأعلام - المدرس في مدرسة كمبردج الجامعة - الكتاب الآتي بالعربية إلى حمودة بك عبده يعزيه به عن أخيه الأستاذ الإمام؛ فنشرناه هنا تنويهًا بإنصاف كاتبه وفضله وتنبيهًا للأذهان على ما كان لإمام الشرق في نفوس علماء الغرب ليعلم من لم يكن يعلم أن تعارف إمامنا بالإفرنج؛ قد كان حجة للإسلام وشرفًا للمسلمين. قال الكاتب: سيدي الفاضل المكرم: لا أعلم بأي لسان أعزيكم وكل المصريين - بل كل العالمين - على هذه المصيبة التي عمّت الناس كلهم أجمعين، وخصت المصريين، ومنذ ورود هذا الخبر الهائل رُب يوم أردت أن آخذ القلم بأصابعي لكي أعرب عما في القلب من الحزن والغم الشديد ووضعته يأسًا وعجزًا لأن هذه المصيبة وراء الكلام: خبر ما نابنا مصمئل ... جل حتى دق فيه الأجل يا سيدي في مدة عمري رأيت كثيرًا من البلاد والعباد، وما رأيت مثل الفقيد المرحوم قط لا في الشرق ولا في الغرب؛ فوالله كان وحيدًا في العلم، وحيدًا في التقوى والورع، وحيدًا في البصيرة والاطلاع على ظواهر الأمور وبواطنها، وحيدًا في البلاغة والفصاحة، عالمًا عاملاً، محسنًا ورعًا، مجاهدًا في سبيل الله محبًّا للعلم ملجأ للفقراء والمساكين. شامسًا في القر حتى إذا ما ... زكت الشعرى فبرد وظل كيف أصف بهذا اللسان العاجز هذا الرجل الوحيد الفقيد الذي كنت أفتخر بأن أحسب من أقل تلامذته إنما أرجو من سيدي أن يقبل مني تعزية من قلب حزين غير قابل للتسلي على هذا الفقدان العظيم. أريد إن شاء الله أن أكتب شيئًا باللغة الإنكليزية في ترجمة حال الفقيد، وقد جمعت كل ما وجد في الجرائد العربية في هذا الباب وأرجو من حضرتك أن تعينوني في ذلك بإرسال الترجمة الموعودة في المؤيد إذا طبع على حدة لكي أستفيد بما فيه من المعلومات. فتقبل يا سيدي المكرم في الختام أخلص تعزيتي وأزكى السلام. المخلص ... إدواربرون

مذهب السلف وطريقة الحنابلة في التأليف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مذهب السلف وطريقة الحنابلة في التأليف نموذج من مقدمات شرح عقيدة السفاريني الذي نطبعه في هذه الأيام المسمى (لوائح الأنوار البهية، وسواطح الأسرار الأثرية، لشرح الدرة المضية، في عقيدة الفرقة المرضية) قال: السابع المراد بمذهب السلف ما كان عليه الصحابة الكرام - رضوان الله عليهم - وأعيان التابعين لهم بإحسان، وأئمة الدين ممن شُهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف دون من رُمي ببدعة أو شُهر بلقب غير مرضي مثل الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، والجهمية، والمعتزلة، والكرامية، ونحو هؤلاء مما يأتي ذكرهم عند تعداد الفرق لكن لما كان فشو البدع وظهورها كان بعد المائتين لما عُرِبَت الكتب العجمية كما تقدم وزاد البلاء، وأظهر المأمون القول بخلق القرآن، وظهر مذهب الاعتزال ظهورًا لا مزيد عليه بسبب انحراف الخلفاء عن مذهب الحق، وكان الذي قام في نحورهم ورد مقالاتهم، وإبطال مذهبهم، وتزييفه، وذم من ذهب إليه أو عول عليه أو انتمى إلى ذويه أو ناضل عنه أو مال إليه - سيدنا وقدوتنا الإمام المبجل والحبر البحر المفضل أبا عبد الله الإمام أحمد بن محمد بن حنبل، نسب مذهب السلف إليه وعول أهل عصره من أهل الحق فمن بعدهم عليه وإلا فهو المذهب المأثور، والحق الثابت المشهور لسائر أئمة الدين، وأعيان الأمة المقدمين. قال حرب بن إسماعيل الكرماني في كتابه المصنف في مسائل الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه مع ما ذكر فيها من الآثار عن النبي المختار، والصحابة الأبرار، والتابعين الأطهار، ومن بعدهم. قال: هذا مذهب أئمة العلم، وأصحاب الأثر المعروفين بالسنة المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء العراق والحجاز والشام عليها، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن سبيل السنة ومنهج الحق، قال: وهو مذهب الإمام أحمد وإسحاق وبقي بن مَخْلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فذكر الكلام في الإيمان، والقدر، والوعيد، والإمام ... إلخ كلامه، كما سننبه عليه في محالِّه. وممن ألف في عقائد السلف، وذكر معتقدهم في كتب التفسير المنقولة عن السلف مثل تفسير عبد الرزاق وتفسير الإمام أحمد وإسحاق وبقي بن مخلد وعبد الرحمن بن إبراهيم دُحيم وعبد بن حميد وعبد الرحمن بن أبي حاتم ومحمد بن جرير الطبري وأبي بكر بن المنذر وأبي بكر عبد العزيز وأبي الشيخ الأصفهاني وأبي بكر بن مردويه وغيرهم، وكل الكتب المصنفة في السنة، والرد على الجهمية، وأصول الدين المنقولة عن السلف مثل كتاب الرد على الجهمية لمحمد بن عبد الله الجعفي شيخ البخاري وكتاب (خلق الأفعال) للبخاري، وكتاب السنة لأبي داود ولأبي بكر الأثرم ولعبد الله بن الإمام أحمد ولحنبل بن إسحاق ولأبي بكر الخلال ولأبي الشيخ الأصفهاني ولأبي القاسم الطبراني ولأبي عبد الله ابن منده وأمثالهم، وكتاب الشريعة لأبي بكر الآجري والإبانة لأبي عبد الله بن بطة وكتاب الأصول لأبي عبد الله الطلمنكي وكتاب رد عثمان بن سعيد الدارمي وكتاب الرد على الجهمية له وغير ذلك فالأئمة الأربعة والسفيانان والحمادان وابن أبي شيبة والليث بن سعد وابن أبي ذئب وربيعة بن عبد الرحمن والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن ماجه وابن حبان وأبو ثور وابن جريج والأوزاعي وابن الماجشون وابن أبي ليلى وأبو عبيد بن سلام ومسعر بن كدام الإمام ومحمد بن يحيى الذهلي إمام أهل خراسان بعد إسحاق بلا مدافعة وأبو حاتم الرازي ومحمد بن نصر المروزي، وغير هؤلاء كلهم عقيدة واحدة سلفية أثرية، وإن كان الاشتهار للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه للعلة التي ذكرناها حتى أن الشيخ أبا الحسن الأشعري قال في كتابه -الإبانة في أصول الديانة- ما نصه بحروفه: (فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون- قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله، وسنة نبيه- صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث؛ فنحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه - قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به المبتدعين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين) انتهى. فنسب المذهب إليه لاشتهاره بذلك مع أن سائر أئمة الدين سلكوا تلك المسالك، وبالله التوفيق. *** الثامن قال الجلال السيوطي في الأوائل: أول من تفوه بكلمة خبيثة في الاعتقاد الجعد بن درهم، مؤدب مروان الحمار آخر ملوك بني أمية فقال بأن الله تعالى لا يتكلم، قال شيخ الإسلام في الرسالة الحموية الكبرى: أصل فشو البدع بعد القرون الثلاثة، وإن كان قد نبع أصلها في أواخر عصر التابعين، قال: ثم أصل مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين، وضلال الصابئين؛ فإن أول من حُفظ عنه قال هذه المقالة في الإسلام هو (الجعد بن درهم) وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت إليه، وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان الجعد هذا فيما قيل من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين النمرود الكنعانيين الذين صنف بعض الساحرين في سحرهم، والنمرود هو ملك الصابئة، كما أن كسرى ملك الفرس، والمجوس فهم اسم جنس لا اسم علم قال وكانت الصابئة إذ ذاك إلا قليلاً منهم على الشرك وعلماؤهم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركًا بل مؤمنًا بالله واليوم الآخر كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) لكن كثيرًا منهم أو أكثرهم كانوا كفارًا ومشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل، ومذهبهم مذهب النفاة الذين يقولون ليس له صفات إلا سلبية أو إضافية أو مركبة منها، وهم الذين بعث سيدنا إبراهيم خليل الرحمن إليهم؛ فيكون الجعد أخذ عقيدته عن الصابئة الفلاسفة وأخذها الجهم أيضًا- في ما ذكره الإمام أحمد -رضي الله عنه - عنه، وعن غيره وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران وأخذ عن فلاسفة الصابئة تمام فلسفته لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات، فرجعت أسانيد الجهم إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة الضالين، إما من الصابئين وإما من المشركين، فلما عربت الكتب الرومية؛ زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب أهل الضلال ابتداء من جنس ما ألقاه في قلوب أشباههم. ولما كان بعد المائة الثانية انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية بسبب بشر بن غياث المريسي وذويه. وكلام الأئمة مالك، وسفيان بن عيينة، وابن المبارك، وأبي يوسف، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، والفضيل بن عياض، وبشر الحافي، وغيرهم في هؤلاء في ذمهم وتضليلهم - معروف، وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب (التأويلات) وأبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) ويوجد كثير منها في كلام خلق غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي، وعبد الجبار بن أحمد الهمداني، وأبي الحسين البصري وغيرهم هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه كما يعلم ذلك من كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري وسمى كتابه (رد عثمان بن سعيد، على الكاذب العنيد، فيما افترى من التوحيد) فإنه حكى هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي، ثم ردها بكلام؛ إذا طالعه العاقل الذكي يسلم حقيقة ما كان عليه السلف، ويتبين له ظهور الحجة لطريقهم، وضعف حجة من خالفهم، وقد أجمع أئمة الهدى على ذم المريسية، بل أكثرهم كفرهم وضللهم، ويعلم بمطالعة كتاب ابن سعيد الدارمي أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين الذين تسموا بالخلف هو مذهب المريسية؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ فمذهب السلف حق بين باطلين وهدى بين ضلالين، قال سيدنا الإمام أحمد -رضي الله عنه-: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا نتجاوز القرآن والحديث. قال شيخ الإسلام ابن تيمية روَّح الله روحه: مذهب السلف أنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فالمعطل يعبد عدمًا، والممثل يعبد صنمًا، والمسلم يعبد إله الأرض والسماء، والله أعلم. *** التاسع مذهب السلف هو المذهب المنصور والحق الثابت المأثور، وأهله هم الفرقة الناجية والطائفة المرحومة التي هي بكل خير فائزة، ولكل مكرمة راجية من الشفاعة والورود على الحوض ورؤية الحق وغير ذلك من سلامة الصدر والإيمان بالقدر والتسليم بما جاءت به النصوص؛ فمن المحال أن يكون الخالفون أعلم من السالفين كما يقوله بعض من لا تحقيق لديه - ممن لا يقدر قدر السلف، ولا عرف الله تعالى ولا رسوله ولا المؤمنين به حق المعرفة المأمور بها - من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهؤلاء إنما أوتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك بمنزلة الأميين وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهور، وقد كذبوا وأفكوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين باطلين: الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، والجهل والضلال بتصويب طريقة غيرهم. قال الحافظ ابن رجب في كتابه (بيان فضل علم السلف على علم الخلف) ما نصه: ومن محدثات الأمور ما أحدثه المعتزلة ومن حذا حذوهم من الكلام في ذات الله تعالى وصفاته بأدلة العقول وهي أشد خطرًا من الكلام في القدر؛ لأن الكلام في القدر كلام في أفعاله، وهذا كلام في ذاته وصفاته وينقسم هؤلاء إلى قسمين: أحدهما من نفى كثيرًا مما ورد به الكتاب والسنة لاستلزامه عنده التشبيه؛ كنفي الرؤية والاستواء، وهذا طريق المعتزلة، والجهمية، وقد اتفق السلف على تبديعهم وتضليلهم، وقد سلك سبيلهم في بعض الأمور كثير ممن ينتسب إلى السنة والحديث من المتأخرين، والثاني: من رام إثبات ذلك بأدلة العقول التي لم يرد بها الأثر ورد على أولئك مقالتهم، كالكرامية ومن وافقهم حتى إن منهم من أثبت الجسم إما لفظًا، وإما معنى، ومنهم من أثبت له تعالى صفات لم يأت بها الكتاب والسنة كالحركة، وقد أنكر السل

إعطاء الزكاة والصدقة للشرفاء ومعاملتهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعطاء الزكاة والصدقة للشرفاء ومعاملتهم (س 30) عوض بن جمعان سعيدان في (سنغافوره) ما قولكم سيدي في إعطاء الزكوات لمن صح انتسابهم إلى الإمام الحسين بن علي عليهما السلام صحة لا مرية فيها يعتقدها المُعْطَى والمُعْطِي اعتقادًا جازمًا مع علمهما بالنهي الوارد فيه، وتعليل الشارع عليه الصلاة والسلام عدم حلها لآل بيته بكونها أوساخ الناس ... إلخ. لما ذكر من غنائهم بما لهم من خمس الخمس، وللحاجة تقليدًا لقليل من متأخري أئمة الشافعية في تحليلهم الإعطاء والأخذ (كذا كتبت العبارة والظاهر أنه يريد بيان علة من قال بالجواز بالحاجة مع عدم استغنائهم الآن بما لهم من خمس الخمس) فهل ما جنح إليه أولئك القليل مما يسقط به الحرج عن الآخذ، وتبرأ به ذمة المُعْطِي أم هو اجتهاد مع وجود النص، ونسخ لما صرح الشارع بعدم حله معللاً له بأمر ذاتي وهو مع ذلك حظ قوم لا يتعداهم، فإعطاؤه غيرهم ظلم لهم فلا يجوز. *** (س 31) ومنه معطوفًا على ما سبق: وفي الأموال حقوق على أهلها غير الزكاة فما هي؟ ولما كان القصد بيان الحكم المفهوم من النصوص الشرعية بعد ذكرها وذكر ما فهمه سلف الأمة منها وذلك مما يتعذر على أهل هذه الديار، رفعنا هذه السطور مستمدين من المنار تحقيق المسألة خدمة للشرع كما هو ديدنه وله الشكر منا سلفًا والأجر من الله. (ج) روى أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة أنه قال: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فِيهِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- (كِخٍ كِخٍ، ارم بها أما علمت أنَّا لا نأكل الصدقة) . وروى أحمد، وأبو داود والترمذي، وصححه والنسائي وابنا خزيمة وحبان وصححاه من حديث أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع اصحبني كيما تصيب منها فقال: لا حتى آتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله وانطلق فسأله فقال (إن الصدقة لا تحل لنا وإن موالي القوم من أنفسهم) . وجاء في شرح الحديث الأول من (نيل الأوطار) ما نصه: قال ابن قدامة (لا نعلم خلافًا في أن بني هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة) وكذا قال أبو طالب من أهل البيت حكى ذلك عنه في البحر، وكذا حكى الإجماع ابن رسلان، وقد نقل الطبري الجواز عن أبي حنيفة، وقيل عنه: تجوز لهم إذا حُرموا سهم ذوي القربى، حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم. قال في الفتح وهو وجه لبعض الشافعية، وحكى فيه أيضًا عن أبي يوسف أنها تحل من بعضهم لبعض لا من غيرهم، وحكاه في البحر عن زيد بن علي والمرتضى وأبي العباس والإمامية وحكاه في الشفاء عن ابني الهادي والقاسم العياني قال الحافظ: وعند المالكية في ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه، والأحاديث الدالة على التحريم على العموم ترد على الجميع، وقد قيل أنها متواترة تواترًا معنويًّا، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) وقوله: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} (الفرقان: 57) ولو أحلها لآله أوشك أن يطعنوا فيه، ولقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن الصدقة أوساخ الناس) كما رواه مسلم، وأما ما استدل به القائلون بحلها للهاشمي من الهاشمي من حديث العباس الذي أخرجه الحاكم في النوع السابع والثلاثين من علوم الحديث بإسناد كله من بني هاشم أن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله إنك حرمت علينا صدقات الناس، هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض؟ قال: (نعم) فهذا الحديث قد اتُّهم بعض رواته، وقد أطال صاحب الميزان الكلام على ذلك فليس بصالح لتخصيص تلك العمومات الصحيحة. وأما قول العلامة محمد بن إبراهيم الوزير بعد أن ساق الحديث ما لفظه: وأحسب له متابعًا لشهرة القول به (قال) والقول به قول جماعة وافرة من أئمة العترة وأولادهم وأتباعهم، بل ادعى بعضهم أنه إجماعهم، ولعل توارث هذا عنهم يقوي الحديث. (انتهى) فكلام ليس على قانون الاستدلال؛ لأن مجرد الحسبان أن له متابعًا وذهاب جماعة من أهل البيت إليه لا يدل على صحته، وأما دعوى أنهم أجمعوا عليه فباطل باطل، ومطولات من مؤلفاتهم ومختصراتها شاهدة لذلك، وأما قول الأمير في المنحة أنها سكنت نفسه إلى هذا الحديث بعد وجدان سنده ومعضده من دعوى الإجماع فقد عرفت بطلان دعوى الإجماع، وكيف يصح إجماع لأهل البيت والقاسم، والهادي، والناصر، والمؤيد بالله وجماعة من أكابرهم، بل جمهورهم خارجون عنهم، وأما مجرد وجدان السند للحديث بدون كشف عنه فليس مما يوجد سكون النفس. والحاصل أن تحريم الزكاة على بني هاشم معلوم من غير الفرق بين أن يكون المزكي هاشميًّا أو غيره؛ فلا ينفق من المعاذير عن هذا المحرم المعلوم إلا ما صح عن الشارع لا ما لفقه الواقعون في هذه الورطة من الأعذار الواهية التي لا تخلص، ولا ما لم يصح من الأحاديث المروية في التخصيص. ولكثرة أكلة الزكاة من آل هاشم في بلاد اليمن خصوصًا أرباب الرياسة قام بعض العلماء منهم في الذب عنهم، وتحليل ما حرم الله عليهم مقامًا لا يرضاه الله ولا نقاد العلماء، فألف في ذلك رسالة هي كالسراب الذي {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} (النور: 39) وصار يتسلى بها أرباب النباهة منهم، وقد يتعلل بعضهم بما قاله البعض منهم أن أرض اليمن خرابية، وهو لا يشعر أن هذه المقالة مع كونها من أبطل الباطلات ليست مما يجوز التقليد فيه على مقتضى أصولهم، فالله المستعان ما أسرع الناس إلى متابعة الهوى، وإن خالف ما هو معلوم من الشريعة المطهرة. واعلم أن ظاهر قوله (لا تحل لنا الصدقة) عدم حل صدقة الفرض، والتطوع وقد نقل جماعة منهم الخطابي الإجماع على تحريمها عليه صلى الله عليه وآله وسلم وتعقب بأنه قد حكى غير واحد عن الشافعي في التطوع قولاً، وكذا في رواية عن أحمد وقال ابن قدامة: ليس ما نقل عنه من ذلك بواضح الدلالة، وأما آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال أكثر الحنفية، وهو المصحح عن الشافعية والحنابلة وكثير من الزيدية: إنها تجوز لهم صدقة التطوع دون الفرض، قالوا: لأن المحرم عليهم إنما هو أوساخ الناس، وذلك هو الزكاة لا صدقة التطوع، وقال في (البحر) : إنه خصص صدقة التطوع القياس على الهبة والهدية والوقف. وقال أبو يوسف وأبو العباس تحرم عليهم كصدقة الفرض، لأن الدليل لم يفصل. اهـ ما في (نيل الأوطار) . فأنت ترى أن الحديث في تحريم الصدقة على الآل صحيح، وأن الخلاف في حكمه ضعيف، ويزيد الخلاف ضعفًا عمل الناس بالحديث من الصدر الأول حتى صار الحكم معلومًا من الدين بالضرورة. وأن علته تنزه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن شبهة أخذ الأجر على النبوة، وكونها طريقًا له أو لآله إلى حطام الدنيا، ثم حمل آله على التنزه عن أوساخ الناس ليتربوا على كرامة النفس وعزتها، ويكونوا قدوة للناس في الترفع عن الدنايا والخسائس، وأي خسة أبلغ من رضا الإنسان بأن يكون عالة على الناس يده السفلى وأيديهم هي العليا؟ ولو جاز في أصل الشرع بذل الصدقات لآل البيت لقدمهم الناس فيها على غيرهم حتى لا يوشك أن يعطوا منهم غير مستحق ويحرم المستحق من غيرهم؛ رجاء أن يكون ذلك أكثر قبولاً عند الله تعالى، وذلك مما يحمله على ترك الكسب اتكالاً على ما يبذل الناس له من صدقاتهم. على أنهم لم يسلموا من هذا في كثير من البلاد مع تحريم الصدقة عليهم؛ فإن الناس يبذلون لفقرائهم من صدقة التطوع ما يبذلون، ويقدمون لوجهائهم من الهدايا ما يقدمون، حتى صارت معايشهم فائضة من أنامل الناس يوطنون أنفسهم عليها بطنًا بعد بطن، فانصرفت همتهم عن الكسب حتى ضعف استعدادهم له فنزل بهم الناس في سلم الحياة الاجتماعية، وهم يحسبون أنهم صاعدون فهؤلاء الذين يحتالون لتجويز إعطائهم الزكاة يحسبون أنهم يحسنون صنعًا بالقيام بمصلحتهم، وسد خلتهم وفاتهم أن الشارع أعلم بهذه المصلحة وأحكم، حيث حرم عليهم ما حرم، ومن الجهل أن يقال أن التحريم خاص بذلك الزمان، وأن لنا أن نقول بنسخه الآن. كذلك أضر المحبون بنا معشر الشرفاء بالغلوّ في التعظيم لمكان النسب؛ لأن هذا كان سببًا لاقتناع الجماهير منا بهذه المكانة دون مكانة العلم والاستقلال الذاتي فإن صغيرنا يرى الكهول والشيوخ يهوون إلى يده بالتقبيل؛ فلا يشعر بحاجته إلى كمال آخر يرتفع به ذكره ويَعلو قدره فيكون سيدًا في الناس لجده في العلم والفضل، لا بعمل أبيه وجده من قبل، والرأي عندي للأغنياء المحبين لآل البيت أن يساعدوهم على الاستقلال بأنفسهم حتى يكون الناس بحاجة إلى علمهم ورفدهم ولا يكونوا هم عالة على الناس، لا أن يلصقوا بهم أوساخهم فيجعلوهم كالقمل الذي لا يعيش إلا في الوساخة والدرن. وأن يؤاخذوا الشريف الذي يخرج عما يليق بشرفه من قوامه النفس، والاعتصام بأدب الشرع، ما لا يؤاخذون سواه وأن يعظموا فضائله، ويجلو فواضله بأبلغ مما يكون لمن عداه، كما توعد الله نساء النبي بمضاعفة عذابهن على الذنب ضعفين، ووعدهن بإيتائهن أجرهن على العمل الصالح مرتين، وهو تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين. وأما الحقوق التي على الإنسان في ماله غير الزكاة، فمنها الواجب كالنفقة على من تلزمه نفقته، وكإزالة ضرورة المضطر؛ فإن من رأى معصومًا مشرفًا على الهلاك من الجوع يجب عليه إطعامه، كما يجب عليه إنقاذ الغريق عند القدرة على ذلك، والمراد بالمعصوم: (ما لا يباح دمه شرعًا كالمحارب) ولا يفهم من ذلك أن غير المعصوم يحرم إغاثته مطلقًا؛ فرب إنقاذ محارب يأتي بمصلحة أو يسوق إلى هداية. ومنها ما هو مندوب كبذل المال في وجوه الخير أيًّا كانت كالضيافة وأنفعها في هذا الزمان إنشاء المدارس للتعليم النافع والتربية الصحيحة والجمعيات الخيرية التي تقوم بتربية اليتامى وكفالة العاجزين ونحو ذلك من الوجوه التي يعم نفعها حتى ترتقي بالسبق فيها أم على أمة، وتستعلي بآثارها دولة على دولة، وناهيك بالجمعيات التي تبث الدعاة في الأقطار لهداية الخلق إلى الحق في زمن لا يحفل ملوك المسلمين وأمراؤهم فيه بالدعوة ولا يهمهم أمر الدين. وإنك لتجد في باب التفسير في أجزاء المنار بيانًا للآيات الكريمة التي تحض على بذل المال في سبيل الله غير فريضة الزكاة، فلا حاجة إلى كتابة شيء من الآيات هنا وهي كثيرة جدًّا. وكذلك الأحاديث في هذا المقام كثيرة، فإن كان يرى السائل حاجة إلى سرد شيء منها فليكتب إلينا.

لعن معاوية والترضي عنه وفيه حكم اللعن مطلقا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لعن معاوية والترضي عنه وفيه حكم اللعن مطلقًا (س 32) ومنه: سيدي، قال لي أحد العلماء: إن من يلعن معاوية أقل خطرًا ممن يترضى عنه، ولقصور علمي لم أحر جوابًا فهل هو مصيب فيما قال أم مخطئ؟ أفيدونا على صفحات المنار لا زلتم مؤيدين وبعين العناية ملحوظين. (ج) هو مخطئ بلا شبهة، فالدعاء بالخير- ومنه الترضي- من البر إلا من قام عنده دليل قطعي على أن فلانًا مات كافرًا بالله، وأن الله غضبان عليه، وهذا لا يُعرف إلا بوحي من الله تعالى؛ لأن المعاصي والكفر في الحياة لا يدلان دلالة قطعية على أن صاحبيهما ماتا عليهما؛ لأن الخاتمة مجهولة بلا خلاف بين العلماء، ولا العقلاء، وأما اللعن فهو من السفه الذي لا ينبغي للمؤمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس المؤمن بالسباب ولا بالطعان ولا اللعان) قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: رواه الترمذي بإسناد صحيح من حديث ابن مسعود وقال: حسن غريب والحاكم وصححه، ورواه غيرهم من حديثه ومن حديث أبي هريرة مرفوعًا. وروى الترمذي من حديث ابن عمر وحسنه (المؤمن لا يكون لعانًا) وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي الدرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) وورد في حظر اللعن وذمه غير ذلك من الأحاديث، وقد جعل حجة الإسلام الغزالي اللعن على ثلاث مراتب بحسب الصفات المقتضية للعن الأولى أن يلعن الكافرين أو المبتدعين أو الفاسقين جملة، الثانية: أن يخص طائفة منهم كآكلي الربا من الفاسقين مثلاً، الثالثة: لعن شخص معين من هذه الأصناف. ونذكر عبارته فيها، قال رحمه الله تعالى: الثالثة: اللعن للشخص المعين، وهذا فيه خطر كقولك زيد لعنه الله، وهو كافر أو فاسق أو مبتدع والتفصيل فيه أن كل شخص ثبت لعنته شرعًا؛ فتجوز لعنته كقولك فرعون لعنه الله وأبو جهل لعنه الله؛ لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر، وعرف ذلك شرعًا، أما شخص بعينه في زماننا كقولك زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلاً؛ فهذا فيه خطر؛ فإنه ربما يسلم فيموت مقربًا عند الله تعالى فكيف يحكم بكونه ملعونًا. فإن قلت يلعن لكونه كافرًا في الحال كما يقال للمسلم: رحمه الله، لكونه مسلمًا في الحال، وإن كان يتصور فيه أن يرتد فاعلم أن معنى قولنا رحمه الله أي ثبته على الإسلام الذي هو سبب الرحمة وعلى الطاعة، ولا يمكن أن يقال: ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة؛ فإن هذا سؤال للكفر، وهو في نفسه كفر، بل الجائز أن يقال: لعنه الله إن مات على الكفر ولا لعنه الله إن مات على الإسلام، وذلك غيب لا يدرى والمطلق متردد بين الجهتين ففيه خطر، وليس في ترك اللعن خطر. وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق، أو زيد المبتدع أولى؛ فلعن الأعيان فيه خطر؛ لأن الأعيان تتقلب في الأحوال إلا من أعلم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر، ولذلك عين قومًا باللعن فكان يقول في دعائه على قريش: (اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة) وذكر جماعة قتلوا على الكفر ببدر حتى إن من لم تعلم عاقبته كان يلعنه، فنهي عنه إذ روي أنه كان يلعن الذين قتلوا أصحاب بئر معونة في قنوته شهرًا فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 128) يعني أنهم ربما يسلمون، فمن أين تعلم أنهم ملعونون؟ وكذلك من بان لنا موته على الكفر جاز لعنه، وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى على مسلم؛ فإن كان لم يجز، كما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل أبا بكر - رضي الله عنه - عن قبر مر به وهو يريد الطائف فقال: هذا قبر رجل كان عاتيًا على الله ورسوله وهو سعيد بن العاص فغضب ابنه عمرو بن سعيد وقال: يا رسول الله هذا قبر رجل كان أطعم للطعام وأضرب للهام من أبي قحافة. فقال أبو بكر يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام، فقال صلى الله عليه وسلم (اكفف عن أبي بكر) فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال: (يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء) [1] فكف الناس عن ذلك. وشرب نعيمان الخمر فحُدَّ مرات في مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال بعض الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تكن عونًا للشيطان على أخيك) وفي رواية (لا تقل هذا فإنه يحب الله ورسوله) [2] فنهاه عن ذلك وهذا يدل على أن لعنة فاسق بعينه غير جائزة، ففي الأشخاص خطر، فليجتنب ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن غيره. فإن قيل هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو أمر به، قلنا: هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال: إنه قتل أو أمر به ما لم يثبت فضلاً عن اللعنة؛ لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق. نعم يجوز أن يقال قتل ابن ملجم عليًّا - رضي الله عنه - وقتل أبو لؤلؤة عمر - رضي الله عنه - فإن ذلك ثبت متواترًا، فلا يجوز أن يرمى مسلم بفسق وكفر من غير تحقيق. قال صلى الله عليه وسلم: (لا يرمي رجل رجلاً بالكفر ولا يرميه بالفسق إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك) [3] وقال صلى الله عليه وسلم (ما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء به أحدهما إن كان كافرًا فهو كما قال، وإن لم يكن كافرًا فقد كفر بتكفيره إياه) وهذا معناه أن يكفره وهو يعلم أنه مسلم، فإن ظن أنه كافر ببدعة أو بغيرها كان مخطئًا لا كافرًا. وقال معاذ قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنهاك أن تشتم مسلمًا أو تعصي إمامًا عادلاً) [4] والتعرض للأموات أشد، قال مسروق: دخلت على عائشة - رضي الله عنها - فقالت: ما فعل فلان لعنه الله؟ قلت توفي قالت رحمه الله: قلت وكيف هذا، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) [3] وقال عليه السلام (لا تسبوا الأموات فتؤذوا به الأحياء) [5] وقال عليه السلام (أيها الناس احفظوني في أصحابي، وإخواني وأصهاري ولا تسبوهم أيها الناس إذا مات الميت فاذكروا منه خيرًا) [6] . فإن قيل: فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله، أو الآمر بقتله لعنه الله؟ قلنا: الصواب أن قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله؛ لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة، فإن وحشيًّا قاتل حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر، والقتل جميعًا، ولا يجوز أن يلعن، والقتل كبيرة، ولا يجوز أن تنتهي إلى رتبة الكفر؛ فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق كان فيه خطر. وإنما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة، إطلاق اللسان بها، والمؤمن ليس بلعان، فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين، فالاشتغال بذكر الله أولى فإن لم يكن ففي السكوت سلامة. وقال مكي بن إبراهيم كنا عند ابن عون فذكروا بلال بن أبي بردة فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه، وابن عون ساكت، فقالوا: يا ابن عون إنما نذكره لما ارتكبه منك [7] فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة لا إله إلا الله، ولعن الله فلانًا، فلأن يخرج من صحيفتي (لا إله إلا الله) أحب إلي من أن يخرج منها (لعن الله فلانًا) وقال رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصني فقال: (أوصيك أن لا تكون لعانًا) [8] وقال ابن عمر: إن أبغض الناس إلى الله كل طعَّانٍ لعان. وقال بعضهم: (لعن المؤمن كعدل قتله) قال حماد بن زيد: لو قلت إنه مرفوع لم أبال [9] وعن أبي قتادة قال: (كان يقال من لعن مؤمنًا فهو مثل أن يقتله) وقد نقل ذلك مرفوعًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم [10]- ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر، حتى الدعاء على الظالم كقول الإنسان مثلاً: لا صحح الله جسمه، ولا سلمه الله، وما يجري مجراه فإن ذلك مذموم. وفي الخبر (إن المظلوم ليدعو على الظالم حتى يكافئه ثم يبقى للظالم عنده فضلة يوم القيامة) .ا. هـ ما كتبه الغزالي. (المنار) قد أوردت كل هذا؛ ليعلم القارئ أن السنة الرجيحة، والأحاديث الصحيحة وسيرة السلف الصالحين، وفقه أئمة الدين، كل ذلك ينهي المؤمن عن اللعن الذي يتساهل فيه أهل الأهواء من السفهاء، وما أحسن قول حجة الإسلام: (في لعن الأشخاص خطر، ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن غيره) أي فإن الله تعالى - وإن لعنه- لم يكلفنا لعنه، وأكبر العبر للمؤمن فيما تقدم تأديب الله تعالى نبيه؛ إذ أنزل عليه حين طفق يلعن الذين قتلوا أصحاب بئر معونة {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 128) وأصحاب بئر معونة سبعون رجلاً من القراء، بعثهم النبي ليعلموا الناس القرآن، فقتلهم عامر بن الطفيل وأصحابه. وروى أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن جرير وغيرهم من حديث أنس أن الآية نزلت يوم أُحد حين كسر المشركون رباعية النبي - صلى الله عليه وسلم - وشجوا وجهه، وفي حديث ابن عمر عند أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن جرير أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أُحد (اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية) فنزلت الآية وهي على هذا أكبر عبرة وأعلى تهذيبًا. هذا وإن السواد الأعظم من المسلمين يعدون سب معاوية ولعنه من الكبائر، ويرمون سابه بالرفض والابتداع، وإن السني من المسلمين ليعادي الشيعي على سب معاوية وأبي سفيان بل الخلفاء الثلاثة ويعادي الخارجي على سب عثمان وعليّ ما لا يعادي غيرهما على ترك فريضة من الفرائض، أو ارتكاب فاحشة من الفواحش، فهذا الطعن في عظماء الصحابة وحملة الدين الأولين لو كان جائزًا في نفسه لكفى في تحريمه ما يترتب عليه من زيادة التفريق بين أهل القبلة، وتمكين العداوة والبغضاء في قلوبهم حتى يكفر بعضهم بعضًا. لهذا لا أبالي أن أقول لو اطلع مطلع على الغيب فعلم أن معاوية مات على غير الإسلام لما جاز له أن يلعنه. فما قاله ذلك الرجل للسائل مردود لا قيمة له وهو دالّ على أنه جاهل يفتي بغير علم بل بمحض الهوى. (استدراك) علم مما تقدم عن الغزالي أنه لا يجوز لعن كافر، ولا فاسق حي، وأن هذا خطر لما يتضمن من الرضا بموته على كفره أو فسوقه، ولا لعن ميت؛ لأن الخاتمة مجهولة لا تعرف إلا بوحي من الله، وأن لعن الفساق والكفار عامة أو لعن صِنْف معين منهم في الجملة جائز، ولكنه غير محمود شرعًا، والأولى أن يستبدل الإنسان بذلك اللعن ذكر الله، أو الكلام في الخير. وأقول إن جواز لعن الصنف أو النوع بمعنى عدم تحريمه مقيد بما إذا لم يكن سبًّا لهم في وجوههم؛ لأن السب محرم في ذاته؛ لأنه بذاء مذموم وسبب للشحناء والعدوان، وقد نهى الله تعالى عن سب معبودات المشركين، لئلا يسبوا معبود المؤمنين، فقال في سورة الأنعام: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) ولا يخفى أن حرمة الكتابي أعظم من حرمة المشرك واتقاء تنفيره أهم، وأن إيذاءه إذا كان ذميًّا أو معاهدًا أو مستأمنًا محرم بالإجماع، وأنه لا يصح أن يجعل لعن الفاسقين ذريعة إلى تنفيرهم عن فسقهم، كأن يحضر مجلس السكارى ويلعن شاربي الخمر على مسمع منهم؛ لأن الإرشاد يجب أن يكون بالمعروف وال

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر المكتوب الرابع من هيلانة إلى ولدها [*] الحب الحقيقي ومعاملة الوالدين للشاب العاشق لقد راقني منك يا بني العزيز صراحتك، وموافقة سرك لعلانيتك وإني مجتنبة كل الاجتناب ممازحتك في غانيتك التي نطت بها أمانيك، ومع اعترافي بأن ما قصصته عليَّ في شأنها لا يخلو من أمور تدعوني إلى التفكير، وتبيح لي أن أنبهك في أمرها إلى تفاصيل أخالها مريبة، أتحامي أن أجرد تلك الأماني من زهوها، وأُعريها من روائها، فليس عليك إلا أن تذكر أنك شاب غر، لما تختبر شيئًا من أمور الدنيا، وإنك - وآسفي - لسرعان ما تتعلم أن لا تغتر بالظواهر، وعسى الله أن لا يجعل في ذلك خسارًا عليك. قد تعاهدت أنا وأبوك على عدم التداخل في محباتك بحال من الأحوال؛ فأنت حينئذ آمن من ضروب عذلي وتأنيبي، ولكنك بما صرت ولي نفسك مسئول عن جميع ما يقترفه قلبك في سبيل الحب من الآثام، واعلم أن من هو في مثل سنك يكون شديد الارتياح إلى الاغترار والانخداع، فكم شاب يحسب من الحب ما ليس هو إلا اضطرابًا في مشاعره، وسرابًا يبدو لحواسه؛ لأن الحب الصحيح هو الاستيلاء على نفس المحبوب، ولا يبلغه إلا من كان حقيقًا به وأهلاً له. لم يعلق بنفسي أدنى أثر مما للناس في الممثلات من الأوهام، وإنهم لظالمون في حكمهم على كثير منهن، وحاشا أن أحكم على تلك القينة التي فتنتك بمحاسنها وأنا لا أعرفها، وإنما أنبهك إلى أنك ليس لك حتى الآن أدنى وجه صحيح في أن تستنتج من بعض أحوالها معك أنها تفضلك على غيرك من عُبَّادِها؛ فمن غرور الشبان أن يعتقدوا أنهم محبوبون؛ لأنهم محبون، على أني أسلم لك أن قلبها ملبٍ لعواطفك، فالذي تعرفه منها، والذي تتلمسه من وراء حبها ليس من الخصائص المقومة للمرأة في شيء؛ لأنك إنما تعشق منها تغنيها وحسنها ودعابتها وهي مزايا تستفيد العامة منها أكثر مما يستفيده الرجل الذي قد تصير صاحبة له، فهل تدري ما يبقي لتمثال حبك الذي تعبده من المحاسن إذا زال عنه زخرف الملعب ورونقه وغرور العشق وخدعه؟ أنت بنفسك فيما يظهر لي مرتاب من ماضي سيرتها؛ لأنك تتمنى لو أتيح لك إنقاذها من الدرك الذي هي فيه، وهي فكرة كريمة جعلها أدباء العصر بدعة من البدع، ومعاذ الله - صيانة لشرف المرأة نفسه - أن أعتقد أن ذنوبها لا تكفر، بل إني أسلم ما قلته من أن الحب قد يمحو بعض الأدناس، ولكنا لا نعلم كثيرًا من أمثال النساء اللاتي أُبْنَ إلى الرشد بعد الغَيّ، ثم إني لا أظنك فكرت فيما يعترض مقصدك الدال على البسالة من الصعوبات والعوائق، فإن إنقاذ الخاطئات الذي يحسِّن الطيش لبعض الشبان الأغرار أن يدَّعوه لأنفسهم يلابسه في معظم الأحيان من الكبر والعجب أكثر مما يصاحبه من الإخلاص الحقيقي فكأنهم بهذا يعتقدون أن ملائكة العشق اللاتي أهبطن إلى حضيض الرذيلة ليس لهن من الصَّلف والإباء مثل ما لهم. إن من يحاول ذلك العمل يجب أن يكون بالغًا من قوة النفس ولطف الذوق مبلغًا عظيمًا يسمو به عن الغض من المرأة الخاطئة وإذلالها، ثم هل أنت في سنك هذا تأنس من نفسك قوة وإقدامًا على كتمان الغيرة؟! فإنها تبكيت ومؤاخذة للمرأة التي لم تكن طول حياتها عفيفة، وهل لك من السلطان على نفسك ما يكفي لإخفاء ما يكون في معظم الأحيان مثارًا للريبة منك؟ وهو ندمك على إجلالك لمثل تلك المرأة مع أنه لا يُسمح به عادة إلا للزكية الطاهرة؛ فإذا كنت لم تستكمل هذه الصفات فخل الجهاد عنك؛ لأنه لا يكون من ورائه إلا زيادة من تزعم إنقاذها خسرًا. من الأمهات من يكتبن لأبنائهن في مثل هذا الموضوع على أسلوب مغاير لهذا تمام المغايرة فقد يؤنبنهم ويجتهدن في تخويفهم من عواقب طيشهم، وغير الأمهات قد لا يرين في كل هذا إلا مقدمة لواقعة من الوقائع الشائع حصولها بين الشبان، وهفوة عادية من هفوات الطلبة، وربما قلن فوق ذلك، وهن مبتسمات (تهوينًا تهوينًا فمن الواجب إقالة عثرات الشباب) وأما أنا فأعلم أنك جاد فيما كتبت، وإلا لما أفضيت إلى بسِرِّك، ولهذا أجبتك بالجد ولست أخاف عليك إلا أن تكون خدعة لما في خيالك من التوقد الذي هو من لوازم سنك، ومن العبث القول بالتسامح في أمر الحب فليس أحد يسلم منه بالاستخفاف به؛ لأنه إذا لم يرفع النفس ويزكيها فإنه يسفلها ويدسيها. وحسبي ما قلته في هذا الموضوع فلا أزيدك عليه شيئًا. جاءتنا أخبار من البيرو فقد كتب إلينا قوبيدون وجورجيا بأنهما يذكرانك و (لولا) ذكرًا كثيرًا. ومما ينبغي أن تعلمه أيضًا أن (لولا) تفكر في اختيار مهنة لها؛ فقد قالت لي من أيام مضت (إني أريد أن أتعلم حرفة من أجل أن ... ) وما عتمت أن فرت إلى حجرتها قبل أن تتم كلامها وقد احمر وجهها خجلاً. وأراني أدركت مرادها، وهو أن المرأة التي لا مال لها ولا حرفة ليست حرة؛ فإذا تزوجت فإنما تتزوج في الغالب مقام زوجها ومكانته و (لولا) لعزة نفسها، وإباءها تتذمر من هذا الاحتياج، ولا ترضى الاستكانة له فهي تريد أن تقول يومًا ما لمن يروقها من الناس: إن في استطاعتي أن أعيش بعملي، وإني إذا أخلصت في تحصيل الاغتباط والسعادة لك فذلك لأني أحبك. أستودعك الله يا بني العزيز، وأوسع صدري على الدوام لتلقي أسرارك ومشاركتك في آلامك، وأبعث لك في هذا قبلة الحب الذي لا يتغير ألا وهو الحب الذي لك في قلب أمك. اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (مبادئ التعليم في الدين القويم) كتب الشيخ مصطفى بكري الأسيوطي مدرس اللغة العربية بمدرسة مغاغة الخيرية رسالة وجيزة في أركان الإسلام الخمسة؛ لأجل تعليم المبتدئين جعلها أسئلة وأجوبة، وهي منتزعة من الكتب المتداولة مع التساهل والتوسع في بعض المسائل، فالرسالة سهلة من أحسن ما كُتب للمبتدئين، وكنا نود من معلمي المدارس الخروج. عن تقليد عبارات بعض المتأخرين إلى ما هو أسهل منها وأقرب إلى الأذهان فإنه ليحزنني أن يلقن الولدان أن الواجب اعتقاده في الله تعالى عشرون صفة واجبة وعشرون صفة مستحيلة وصفة واحدة جائزة؛ فإن هذا الإصلاح الذي جرى عليه السنوسي في عقيدته دقيق لا يمكن أن يفهمه المبتدئ، وحفظ الألفاظ ليس من الاعتقاد في شيء. ما هي الصفة التي تشمل الوجودي والعدمي، والواسطة بينهما على القول بالواسطة وما فيه من الفلسفة الغريبة؟ كيف كان الوجود الذي هو الجنس العالي لجميع الموجودات على التحقيق صفة؟ وكيف كانت القدرة صفة وكونه قادرًا صفة أخرى؟ وكيف جعل فعل الشيء أو تركه صفة من الصفات؟ هل وردت هذه الاصطلاحات في الكتاب والسنة فنلتزم فهم العقيدة منها؟ هل كلفنا الله تعالى اعتقاد كون الملائكة أجسامًا نورانية قادرة على التشكل بالصور الجميلة مسكنهم السموات دون الأرض، وأن نعرف أربعة منهم فقط؟ هل يذكر في العقائد الوجيزة ما ورد أو استنبط من أحاديث الآحاد عن عالم الغيب؟ لعل مؤلف هذه الرسالة وأمثاله ممن يكتبون للتعليم يسلكون مسلكًا آخر يفهمه تلاميذهم كأن يقولوا في تنزيه الله - تعالى -: إن خالق هذه الكائنات لا يشبهها ولا تشبهه (فليس كمثله شيء) مما نعرفه بحواسنا، وتتصوره عقولنا؛ فهو قديم ليس قبله شيء، وهي حادثة؛ لأنه هو الخالق وهي المخلوقة، وهو باق أبدي لا يفنى ولا يتغير، وهي تتغير وتفنى. ويقولوا في الصفات الثبوتية: إن الله تعالى عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض؛ لأنه خالق كل شيء والصانع الضعيف من الآدميين يعرف دقائق صنعته أفلا يعلم الخالق من خلق؟ ويقولون في عالم الغيب: إن الله تعالى خلق خلائق كثيرة منها ما أعطانا حواسًّا ومشاعر لإدراكه، ومنها ما هو مغيب عنا. وعالم الغيب عظيم لا يحيط به إلا الله تعالى، وقد جاءنا الوحي بذكر بعض ما فيه كالملائكة وحقيقتهم مجهولة عندنا، لكن الله تعالى وصفهم بأوصاف العقلاء، وأسند إليهم العبادة، وتلقين الوحي للأنبياء وغير ذلك، فنؤمن بما جاء به الوحي من ذلك لا نزيد عليه ولا ننقص منه ولا نقيس عليه، ولا نشبهه بما نعلم من عالم الشهادة. ولا غرابة في هذا فإننا إلى الآن لم نعرف حقائق ما نشاهده، ومازال يظهر لنا في هذا العالم أشياء كانت مغيبة لا نرى لها نظيرًا فيما كنا نعرف من قبلها كالكهرباء مثلاً. مثل هذا يقال ويكتب للمبتدئين. *** (جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع) كتاب جديد ألفه الشيخ أحمد الهاشمي وجعل له خاتمة في القوافي وفنون الشعر وهو يمتاز على الكتب القديمة التي استمد منها بشيء يرغب القارئ في القراءة وينبه نشاطه ويحفز ذهنه وهو أنه جعل الكتاب على الطريقة العصرية في الوضع والطبع أي جعل فيه بياضًا كثيرًا وعناوين كثيرة وجعل كل مبحث تمرينًا، أما البياض فهو ما يترك غفلاً في صحائف الكتاب بين أبوابه وفصوله ومباحثه، وكذا في أعجاز السطور إذا تمت المسألة في أثناء السطر، وقد أكثر صاحب جواهر البلاغة من هذا البياض حتى أنه ليذكر الأقسام للشىء المقسم على هذا النحو. (فصاحة المركب سلامته بعد فصاحة مفرداته من ستة أشياء) 1- تنافر الكلمات مجتمعة 2- ضعف التأليف. 3- التعقيد اللفظي 4- التعقيد المعنوي 5- كثرة التكرار 6- تتابع الإضافات ومثل هذا كثير، وجعل للكلام في الفصاحة عنوانًا بحروف كبيرة ولفصاحة المفرد عنوانًا مثله ولفصاحة المركب عنوانًا آخر وعلى ذلك فقس، وقد بلغت كراريس الكتاب (ملازمه) 21 ولو طبع على الطريقة القديمة لما زادت على 15 إلا قليلاً وإن هذا الوضع الذي يزينه حسن الطبع هو سبب من الرغبة في القراءة كما قلنا، والرغبة في القراءة هي السبب الأول في الرواج ومن ثم ترى هذه الكتب التي توضع وتطبع على الطريقة العصرية أكثر رواجًا ولا يغتر بهذا الذين لا يزالون يلتزمون الطريقة العتيقة في جعل الكتاب كله كتلة واحدة سوداء يرمي إليها الناظر بطرفه فلا يكاد يميز مبحثًا من آخر ويرون هذا الصنيع اقتصادًا في الورق ولا يدرون أنهم لو لم يقتصدوا هذا الاقتصاد لكان خيرًا لهم وللناس، على أن السابقين ما وضعوا الفصول في الكتب إلا ليكون بين المبحث وما يليه بياض يهدي الطرف إلى بداية هذا وغاية ما قبله، ولكن المتأخرين جعلوا لفظ (فصل) كالمتعبد به فصاروا يضعونه في أثناء السطر يتصل به ما قبله وما بعده، فيكون وصلاً لا فصلاً. وضع في آخر الكتاب تقاريظ منها تقريظ عزي إلى الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - نبهنا إليه من رأى الكتاب من الأدباء فرابهم عزوه لأن عبارته دون ما عهد من عبارات إمام البلاغة وقد رابنا ما رابهم ووددنا لو يطلعنا المؤلف على الأصل الذي عنده بخط الأستاذ الإمام، وهذه عبارة التقريظ (اطلعت على كتاب جواهر البلاغة في علوم المعاني والبديع والعروض والقوافي، وفنون الشعر والسرقات، والمحاضرات الشعرية؛ فوجدته كتابًا عظيمًا، وأسلوبًا حكيمًا، يشهد لحضرة مؤلفه بملاك الذوق السليم، والعقل الحكيم، هداه الله إلى {الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) آمين اهـ. ولا شك أن كل ذي ذوق سليم يعرف كلام الأستاذ الإمام يرتاب في كون هذا التقريظ له؛ وإذا ظهر أنه له وأنه لا غلط فيه ولا تحريف التمسنا له عذرًا وأزلنا ارتياب المرتابين. *** (الألزم من لزوم ما لا يلزم) (لزوم ما لا يلزم) أو اللزوميات: هو مجموع ما يؤثر عن الفيلسوف العربي أبي العلاء المعري من الشعر في الفلسفة الإلهية والاجتماعية والكونية، وانتقاد سيئات الإنسان في الكون وغير ذلك من ضروب التخيل والحقيقة. وهو ديوان طويل شهير يدخل في سفرين كبيرين، وقد عمد أحمد أفندي نسيم الشاعر المصري، وعبد الله أفندي المغيرة الأديب النجدي إلى الكتاب فاختاروا منه أَرَقَّه وأعذبه في مذاقهما وطبعاه في ديوان لطيف سمياه (الألزم) ... إلخ، وكتبا في أوله ترجمة وجيزة للناظم ذكرا في آخرها ما كنا أوردناه في ص 273 من المجلد السابع دليلاً على صحة عقيدته، وقوة دينه. وقد نقلنا هناك الأبيات التي كان أنشدها في خلوته كما كتبت في ترجمته وهكذا أورد صاحبا الألزم والبيت الأول منها محرف وهو: كم غودرت غادة كعاب ... وعمرت أمها العجوز فإن السياق يدل على أنه يريد كم ماتت فتاة ناعمة الشباب كاعبة الثديين، وعمرت بعدها أمها العجوز، ولفظ (غودرت) لا يدل على الموت؛ لأن معناه تُركت، وكنا بعد نشر الجزء الذي كتبنا فيه الأبيات اهتدينا إلى أن غودرت محرفة عن (غوضرت) ، ولم يتح لنا التنبيه إلى ذلك؛ إذ كنا لا نذكره عند كتابة المنار حتى تذكرناه الآن. وإذا صح هذا ولا نخاله إلا صحيحًا فهو قد استعمل (غوضرت) بمعنى ماتت في غضارتها ونضرة شبابها، ولكن الصيغة التي جاءت من هذه المادة بهذا المعنى (اغتضر) ففي كتب اللغة التي في أيدينا اغتُضر فلان بالبناء للمفعول مات شابًّا صحيحًا أي في غضارة شبابه وريعانه ومثله اختضر وهو مأخوذ من (اختضر الكلأ) إذا أخذه أو رعاه طريًّا غضًّا في ريعان خضرته، ويقال: اختضر الفاكهة إذا أكلها قبل إدراكها؛ إذ تكون خضراء ولا يبعد أن يكون المعري قد روى غوضر بمعنى اغتضر أو يكون ممن يستجيز مثل هذا البناء ويراه قياسًا. وتذكرت أيضًا- والشيء بالشيء يذكر- ما كنت كتبته في ترجمة محمود سامي البارودي (ص 826 م 7) من نفي المعرفة بكون صيغة (تفزع) عربية مسموعة؛ لأنها لم تذكر في مادة (ف ز ع) من القاموس وشرحه ولسان العرب وغيرها من الكتب ثم رأيتها في القاموس نفسه في آخر مادة روع قال (وتروع: تفزع) وعزمت على ذكرها في المنار وكنت أنساها عند الكتاب مع أن جريدة الصاعقة انتقدتها علي منذ أشهر فذكرتني بها ولكن في غير وقت كتابة المنار ولكل شيء أجل. هذا وقد طال الكلام في الاستطراد وشعر المعري غني عن التقريظ وقد طبع المختار من اللزوميات طبعًا جميلاً وهو يطلب من طابعيه. *** (أبو مسلم الخراساني) قصة تاريخية غرامية هي الحلقة التاسعة من سلسلة القصص التي يؤلفها جرجي أفندي زيدان ويطبعها في مجلته (الهلال) واسم هذه القصة يدل على أن ما فيها من تاريخ المسلمين هو قيام أبي مسلم بالدعوة إلى الخلافة العباسية حتى سقطت بسعيه الدولة الأموية. وقد صارت طريقة صاحب الهلال في تأليف القصص معروفة للجماهير فقصصه غنية بهذه الشهرة عن التفريظ والتنويه ببيان فائدتها التاريخية وفكاهتها الأدبية، فحسب المقرظ أن يعلم الناس بأن القصة طبعت على حدتها وأنها تطلب من مكتبة الهلال بالفجالة. *** (السلاح الخفي - اليد الأثيمة) قصتان إفرنجيتان ترجمهما صالح أفندي جودت ونظمتا في سلك قصص (مسامرات الشعب) والمراد بالسلاح الخفي السم، وباليد الأثيمة يد امرأة شريرة فاجرة كانت تنتقم بالسم من أعدائها، وفي القصتين غرائب تلذ للقارئ، ولكني أنصح لصاحب هذه المسامرات أن يختار القصص التي تمثل الفضيلة وتشرح محاسن آثارها على القصص التي تمثل الرذيلة وإن ساءت عاقبة أنصارها، إلا أن تذكر الرذيلة من غير شرح لكيفيتها، وتطويل بذكرها ويكون الإسهاب في بيان سوء مغبتها وشقاء أربابها. *** (ألف نادرة ونادرة) كتاب لمحمد أفندي مسعود أحد كتاب جريدة المؤيد (محرريها) جمعه من الكتب الإفرنجية وطبعة في مطبعته المعروفة بمطبعة الجمهور وصفحاته 255 وفي هذه النوادر ما هو فُكاهة وحكمة، وما هو فُكاهة فقط أو حكمة فقط، ومنها ما ليس بشيء، وجملة القول فيها: إنها من المسليات التي يرغب فيها عند السآمة من العمل والكتاب يطلب من صاحبه في (المؤيد) بمصر.

تاريخ الأستاذ الإمام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ الأستاذ الإمام يوزع هذا الجزء من المنار ونحن شارعون في طبع قسم التأبين والمراثي والتعازي من تاريخ الأستاذ الإمام، وهو وحده يدخل في مجلد ضخم، وفيه مما لم يطلع عليه القراء في هذه البلاد، أقوال بعض الجرائد المعتبرة في الأقطار الغربية والشرقية ومراثي وتعازي بعض العلماء والأدباء التي لم تنشر في الجرائد المصرية ويتلوه طبع جزء منشآت الفقيد من المقالات العلمية والاجتماعية، والرسائل الدينية والأدبية وغير ذلك مما هو غير منشور ولا متداول، ومنه مقالات (العروة الوثقى) برمتها، ونؤخر طبع جزء سيرته وترجمة حياته المطولة إلى ما بعد تمام طبع هذين الجزئين لزيادة التروي والإتقان لأنها تكتب بحرية كاملة، وتفصل فيها ما لقيه في سبيل الإصلاح من العناء وما قيل وما كيد له. ومتى تم طبع هذا الجزء الذي شرعنا فيه نعلن عنه في الجرائد، ونجعل لكل مشترك في المنار الحق في أخذ نسخة منه مجانًا؛ إذا كان قد أدى قيمة الاشتراك تامة. وإننا في هذا المقام نعيد استجداء أصدقاء الإمام ومريديه بأن يتفضلوا علينا بل على التاريخ بما عساه يوجد عندهم من آثاره القلمية، وما يعرفون من مناقبه الشخصية لنضع كل شيء في موضعه من التاريخ؛ فإن الطبع فيه سيكون متصلاً إن شاء الله تعالى. هذا وان للفقيد تغمده الله برحمته صورة شمسية قد أخذت عنه وهو يصلي في معهد عام في لندره عند زيارته الأولى لها، وذلك أنه أدركه وقت الصلاة في ذلك المكان الذي هو كحديقة الأزبكية بمصر، ورأى أنه إذا عاد إلى المكان الذي يقيم فيه فإن الصلاة تخرج عن وقتها فصلى على الأرض حيث كان فأسرع حاملو الآلات الفوتوغرافية إلى أخذ صورة عالم شرقي في هيئة عبادة لم يسبق لهم رؤية مثلها، ثم وصلت تلك الصورة إلى هذه البلاد وإلى سوريا وتونس، فمن كان عنده صورة منها فليتكرم علينا بها لنأخذ مثلها ونعيدها له وله الفضل والشكر.

شكر بعد شكر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شكر بعد شكر كنا كلفنا بعض أصحاب الجرائد اليومية المعتبرة في هذا القطر بأن يعبروا عن شكر منشئ هذه المجلة وأشقائه للذين عزَّوْنا عن فقد والدنا الجليل (تغمده الله برحمته) ثم جاءتنا تعازٍ أخرى في البرق والبريد من أنحاء القطر ومن السودان ثم من بلاد الهند ومن بلاد المغرب فوجب علينا نُبدئ الشكر ونعيده لجميع الذين تفضلوا بتعزيتنا أولاً وآخرًا، ونسأل الله تعالى أن يقيهم الأرزاء، ويديم عليهم النعماء.

نموذج آخر من شرح عقيدة السفاريني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج آخر من شرح عقيدة السفاريني (تنبيهات) (الأول) لا خلاف بين العقلاء أن الله - سبحانه وتعالى - متصف بجميع صفات الكمال، منزه عن جميع صفات النقص؛ لكنهم مع اتفاقهم على ذلك اختلفوا في الكمال والنقص، فتراهم يثبت أحدهم لله ما يظنه كمالاً، وينفي الآخر عين ما أثبته هذا لظنه نقصًا، وسبب ذلك أنهم سلطوا الأفكار على ما لا سبيل إليه من طريق الفكر؛ فإن الله تعالى خلق العقول، وأعطاها قوة الفكر، وجعل لها حدًّا تقف عنده من حيث ما هي مفكرة لا من حيث ما هي قابلة للوهب الإلهي. فإذا استعملت العقول أفكارها فيما هو في طورها وحدِّها، ووفت النظر حقه أصابت بإذن الله تعالى وإذا سلطت الأفكار على ما هو خارج عن طورها ووراء حدها الذي حده الله لها ركبت متن عمياء، وخبطت خبط عشواء فلم يثبت لها قدم، ولم ترتكن على أمر تطمئن إليه فإن معرفة الله التي وراء طورها مما لا تستقل العقول بإدراكها من طريق الفكر، وترتيب المقدمات، وإنما تدرك ذلك بنور النبوة، وولاية المتابعة فهو اختصاص إلهي يختص به الأنبياء وأهل وراثتهم مع حسن المتابعة وتصفية القلب من وضر البدع والفكر من نزعات الفلسفة {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: 105) . ومما يوضح ذلك أن العقول لو كانت مستقلة بمعرفة الحق وأحكامه لكانت الحجة قائمة على الناس قبل بعث الرسل وإنزال الكتب، واللازم باطل بالنص قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) وقال تعالى {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى} (طه: 134) فكذا الملزوم، فلما بعث الله الرسل وأنزل الكتب وجبت لله على الخلق الحجة البالغة وانقطعت علقة الاعتذار {ً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: 213) . {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) ولما عجزت العقول من طريق الفكر عن المعرفة الحق التي هي وراء طورها ومنحها القبول، وقد أنزل الكتاب، وأنزل فيه ما حارت في إدراكه العقول من الآيات المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله أمرنا الشارع بالإيمان بها ونهانا عن التفكر في ذات الله رحمة منه بنا ولطفًا لعجزنا عن إدراكه فإن تسليط الفكر على ما هو خارج عن حده تعب بلا فائدة ونصب من غير عائدة وطمع في غير مطمع وكدّ من غير منجع، وقد أمرنا بالإيمان بالمتشابه وفي الحديث (تعلموا القرآن والتمسوا غرائبه) يعني فرائضه أي حدوده وهي حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال (فأحلوا حلاله وحرموا حرامه واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه واعتبروا بأمثاله) رواه الديلمي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وأخرجه الحاكم وصححه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - ولفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف، زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا) وروى نحوه البيهقي في شعب الإيمان من حديث أبي هريرة، وروى ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب) ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس موقوفًا بنحوه وروى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس -رضي الله عنهما - قال: نؤمن بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند الله كله وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسوخهم في العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه. ولما قدم ابن صبيغ المدينة المنورة وجعل يسأل عن متشابه القرآن أرسل إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد أعد له عراجين النخل فقال من أنت قال عبد الله بن صبيغ فأخذ عمر عرجونًا من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه وفي رواية فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دَبَرَةً ثم تركه حتى برئ ثم أعاد عليه الضرب، ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعيده عليه، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، أو ردني إلى أرضي فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين. وفي فروع ابن مفلح من علمائنا أن عمر - رضي الله عنه - أمر بهجر ابن صبيغ لسؤاله عن الذاريات، والمرسلات، والنازعات. انتهى. وهذا من سيدنا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لسد باب الذريعة، والآية الشريفة دلت على ذم متبع المتشابه، ووصفهم بالزيغ، وابتغاء الفتنة، وعلى مدح الذين فوضوا العلم إلى الله وسلموا إليه، كما مدح الله تعالى المؤمنين بالغيب؛ فعلى العاقل الناصح لدينه ونفسه أن يسلك مسلك السلف الصالح، وأن يرقى على سلم التسليم؛ فإنه من أنجح المصالح، وأن يؤمن بالمتشابهات من آيات الأسماء والصفات كما فعل الصحابة والتابعون، ويمتثل من نبيه خاتم النبيين وإمام المرسلين في قوله: وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: (آمنا به كل من عند ربنا) فلقد بالغ في النصيحة بأدلة صحيحة، وكلمات فصيحة؛ فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن قومه ورسولاً عن أمته، ورضي الله - تعالى- عن آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وذوي الحق وحزبه. (الثاني) اعلم أن مذهب الحنابلة هو مذهب السلف، فيصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل فلله تعالى ذات لا تشبه الذوات متصفة بصفات الكمال التي لا تشبه الصفات من المحدثات؛ فإذا ورد القرآن العظيم، وصحيح سنة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم بوصف للباري - جل شأنه - تلقيناه بالقبول والتسليم، ووجب إثباته له على الوجه الذي ورد ونكِل معناه للعزيز الحكيم، ولا نعدل به عن حقيقة وصفه ولا نلحد في كلامه، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا نزيد على ما ورد، ولا نلتفت لمن طعن في ذلك ورد فهذا اعتقاد سائر الحنابلة كجميع السلف؛ فمن عدل عن هذا المنهج القويم زاغ عن الصراط المستقيم، وانحرف فدع عنك فلانًا عن فلان وعليك بسنة سيد ولد عدنان؛ فهي العروة التي لا انفصام لها والجُنة الواقية التي لا انحلال لها، والله تعالى الموفق. (الثالث) قد ذم السلف الصالح الخوض في علم الكلام، والتقصي والتدقيق فيما زعموا أنه قضايا برهانية، وحجج قطعية يقينية، وقد شحنوا ذلك بالقضايا المنطقية والمدارك الفلسفية، والتخيلات الكشفية، والمباحث القرمطية، وكان أئمة الدين مثل مالك وسفيان وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي يبالغون في ذم الكلام، وفي ذم بشر المريسي وتضليله حتى إن هارون الرشيد خامس خلفاء بني العباس قال يومًا: بلغني أن بشر المريسي يقول: إن القرآن مخلوق، ولله علي إن أظفرني به الله لأقتلنه قتلة ما قتلتها أحدًا، فأقام بشر متواريًا أيام الرشيد نحوًا من عشرين سنة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهذه التأويلات التي ذكرها ابن فورك ويذكرها الرازي في (تأسيس التقديس) ويوجد منها كلام غالب المتكلمة من الجبائي وعبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي ورد عليه الإمام الدارمي وعثمان بن سعيد أحد مشاهير أئمة السنة من علماء السلف في زمان البخاري في المائة الثالثة في كتابه الذي سماه (رد عثمان بن سعيد، على الكاذب العنيد، فيما افترى على الله من التوحيد) فحكى هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها، وأعلم بالمعقول والمنقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته وقد أجمع أئمة الهدى على ذم أئمة المريسية وأكثرهم كفروهم وضللوهم وذموا الكلام وأهله بعبارات رادعة وكلمات جامعة. قال أبو الفتوح نصر المقدسي في كتابه (الحجة على تارك المحجة) بإسناده عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الإمام الشافعي يقول: (ما رأيت أحدًا ارتدى بالكلام فأفلح) ولما كلمه حفص الفرد من أهل الكلام قال: (لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه خلا الشرك بالله - عز وجل - خير له من أن يبتلى بالكلام) وقال: حكمي في أصحاب الكلام أن يصفعوا، وينادى بهم في العشائر والقبائل هذا جزاء من ترك السنة، وأخذ في الكلام، وقال سيدنا الإمام أحمد: (عليكم بالسنة والحديث وما ينفعكم، وإياكم والخوض والمراء فإنه لا يفلح من أحب الكلام) ، وقال في علماء أهل البدع من المتكلمة: (لا أحب لأحد أن يجالسهم ولا يخالطهم ولا يأنس بهم؛ فكل من أحب الكلام لم يكن آخر أمره إلا إلى البدعة؛ فإن الكلام لا يدعوهم إلى خير، فلا أحب الكلام، ولا الخوض، ولا الجدال عليكم بالسنن والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال، وكلام أهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس وما يعرفون هذا، ويجانبون أهل الكلام) وقال - رضي الله عنه -: من أحب الكلام لم يفلح، عاقبة الكلام لا تأول إلى خير، أعاذنا الله وإياكم من الفتن وسلمنا وإياكم من كل هلكة، وقد نقل عن هذين الإمامين من ذم الكلام وأهله كلام كثير مذكور في كتب علماء السلف. وعن عبد الرحمن بن مهدي قال دخلت على الإمام مالك بن أنس وعنده رجل يسأله عن القرآن والقدر، فقال الإمام مالك - رضي الله عنه - للرجل لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرًا؛ فإنه ابتدع هذه البدعة من الكلام، ولو كان الكلام علمًا لتكلم به الصحابة والتابعون - رضي الله عنهم - كما تكلموا في الأحكام والشرائع، ولكنه باطل يدل على باطل، فهل يكون أشد من هذا الإنكار من هؤلاء الأئمة الكبار وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة سمعت أبا حنيفة يقول: (لعن الله عمرو بن عبيد فإنه مبتدع) والنصوص عن أئمة الهدى في ذلك كثيرة جدًّا، وروى الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي في كتابه (العرش) بسنده إلى أبي الحسن القيرواني قال سمعت الأستاذ أبا المعالي الجويني يقول: (يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به) وقال الفقيه أبو عبد الله الدسمي قال: حكى لنا الإمام أبو الفتح محمد بن علي الفقيه قال: دخلنا على الإمام أبي المعالي الجويني نعوده في مرض موته فاقعد فقال لنا: (اشهدوا على أني قد رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها السلف الصالح وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور) قال: الحافظ الذهبي قلت: (هذا معنى قول بعض الأئمة عليكم بدين العجائز يعني أنهن مؤمنات بالله على فطرة الإسلام لم يدرين ما علم الكلام) قال الحافظ الذهبي: وقد كان شيخنا أبو الفتح القشيري رحمه الله تعالى يقول: تجاوزت حد الأكثرين إلى العلى ... وسافرت واستبقيتهم في المفاوز وخضت بحارًا ليس يدرك قعرها ... وسيرت نفسي في قسيم المفاوز ولججت في الأفكار ثم تراجع اختيار

الحياة الزوجية ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحياة الزوجية (6) ] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون [[*] (الركن الثالث من أركان هذه الحياة الرحمة) تقدم أن الطور الأول من أطوار هذه الحياة خاص بالزوجين، وهو سكون نفس كل منهما إلى الآخر ذلك السكون الذي لا نظير له بين سائر المتحابين لغير اتحاد الزوجية، وهو وجدان من وجدانات النفس لا يعرف كنهه إلا الزوجان اللذان أحسنا الاختيار فتعارف الروحان، وتمازج النفسان، فكانا حقيقة واحدة لها صورتان، وأن الطور الثاني يشاركهما فيه غيرهما، وهو الود الذي تحدثه المصاهرة بين عشيرتي الزوجين الوديدين، ونبين في هذه المقالة أن الطور الثالث مشترك بين الزوجين وما يرزقان من الولد. الرحمة ضرب من ضروب وجدان النفس، له مثار في النفس غير مثار السكون إلى المحبوب والأنس به، وغير مثار مودة المشارك في المعيشة، والمشابك في المصلحة، ذلك الذي يثير وجدان الرحمة، ويهز عاطفة الرأفة والشفقة، هو ما ترى في غيرك من ضعف أو سقم، أو حاجة يصحبها ألم، وهذا هو ملاك الحياة الزوجية عند حدوث الأمراض والأدواء، وعندما تذوي غصن الشبيبة هاتيك الأهواء، ولو لم يودع الله تعالى الفطرة إلا سكون الزوج لملامسة الزوج، ومودة كل منهما للآخر للتعاون على المصالح والمنافع التي هو قوام معيشتهما؛ لكانت الحياة الزوجية نعيمًا في الشباب بؤسًا في الشيخوخة، سعادة في السراء، شقاوة في الضراء، يتمتع كل من الزوجين بصحة الآخر ونشاطه، وبسطته واغتباطه، حتى إذا لسعت أحدها حمة الضر، أو عضته ناب الفقر، أو نالت السن من فتائه وجدته ما لم تنل الناب من ثرائه وجِدَته، استحال سكون الآخر إليه اضطرابًا منه، وانقلبت مودته إياه مقاطعة له، ويالذاك لو كان من نقص عظيم ينافي خلق الإنسان في أحسن تقويم. لا تحسبن هؤلاء الذين يملون أزواجهم عند السقم أو الهرم فلا يرحمون لهن ضعفًا، واللواتي يمللن أزواجهن في الكبر أو الفقر فلا يحفظن لهم عهدًا - قد سلمت لهم فطرة هذا النوع الكريم الذي خلقه الله في أحسن تقويم، كلا، بل أفسدت الشهوات فطرتهم، ونكست الأهواء خلقتهم، فلهم من الإنسان صورته وشكله، لا روحه ولا عقله، ولا كرمه ولا فضله، بل صاروا أعدى للإنسان من الشيطان وأضرى بمضرته من سباع الحيوان، وأيّ خير يرجوه الإنسان من نوعه، أو الأمة في خاصتها، ممن لا خير فيه لمن انفصل لأجله عن أمه وأبيه، وأخته وأخيه وعشيرته التي تؤويه، واتصل به على عهد الله وميثاقه في الفطرة البشرية، والشريعة السماوية، فكان معه روحًا حلت في جسمين، وهيولي تجلت في صورتين، ثم لم يلبث بعد فراغ حظه منه، أن انفصل عنه، لا يرحم له ضعفه، ولا يعطف عليه عطفه، أليس المشارك له في النوع والصنف، أولى بهذه القسوة وهذا العنف؟ بلى، إن هؤلاء الذين استعبدتهم الأثرة، واسترقتهم (الأنانية) أعداء الأهل والأقربين بل أعداء البشر كلهم أجمعين. هذا الضرب من فساد الفطرة هو في الرجال أكثر منه في النساء والعدوى فيه تفعل فعلها في البيوت تسير سير البريد من بيت إلى آخر ولا آسٍ يأسو هذا المرض الذي كاد يكون وباء، وأنى يوجد الأساة أو تنتفع الأمة بمن عساه يوجد منهم وطب القلوب مهجور، وأهله كأهل طب الأبدان، منهم العالم العامل، ومنهم الدجال المحتال، وقد مضت سنة الكون بأن الأمة في طور ضعفها وضعتها تدين للدجالين المحتالين، وتنفر من العارفين الناصحين، لذا ترى مدعي طب الأرواح عندنا من أكبر الأعوان على تخريب البيوت فمنهم الذين جعلوا طب القلوب الظاهر وسيلة لإعانة كل زوج على قهر الآخر بالتقاضي كبعض القضاة والمحامين، ومنهم الذين جعلوا طبها الباطن ذريعة إلى استحلال المحرمات بالفعل اعتمادًا على شفاعة الشافعين، والانتساب بالقول إلى المشايخ الميتين. فطر الله - تعالى- قلوب البشر على الرحمة ليتراحموا فلا يهلك فيهم العاجز والضعيف، وكل أحد عرضة لاستحقاق الرحمة في يوم من الأيام، وجعل سبحانه حظ الوالدين والزوجين من الرحمة أرجح ليعنى بكل فرد من الناس أقرب الناس منه عند شدة الحاجة إلى العناية والكفالة؛ فالزوج لزوجه عند الضعف في المرض أو الكبر، كالوالدين لولدهما عند ضعفه في الصغر، بل تجد المرأة أرحم ببعلها في مرضه أو كبره من أمه لو وجدت، وتجد الرجل أرحم بسكنه في مرضها أو كبرها من أبيها لو وجد إذا كانت الفطرة سليمة، فإن لم يكن كل من الزوجين أرحم بالآخر في كبره من والديه فإنه يقوم مقامهما إذ لا يضعف كل من الزوجين ويحتاج إلى الرحمة إلا بعد موت الوالدين في الغالب، فإن مرض وهما في صحتهما فإنهما يكونان بعيدين عنه لا يسهل عليهما ترك بيتهما ومن عساه يكون فيه من محتاج إلى رحمتهما؛ لأجل لزام ولدهما الكبير المتزوج. فظهر أن كلاًّ من الزوجين في حاجة إلى رحمة الآخر به عند ضعفه لا يقوم بها سواه من الأقربين أو المستأجرين مقامه فيها. ليست الأريحية في سكون الزوج إلى زوجه عند داعية المسيس، ولا أريحية مودته ومودة أههله في المعاشرة والمعاملة بأكبر من الأريحية التي يجدها لرحمته به وحنوه عليه في حال الضعف، فإن الإنسان يشعر بالارتياح من عناية غيره به عند الحاجة ما لا يشعر بها عند الاستغناء، فالضعفاء والمرضى والمملقون يكبرون من أمر الوفاء والاعتناء، ما لا يكاد يشعر به الأقوياء والأصحاء والأغنياء {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وإن من طغيانه أن يعتقد أن كل من يحفل به ويعني بشأنه فإنما يفعل ذلك لأجل نفسه، لا لأجله هو؛ لأن الناس في حاجة إليه، وهو ليس في حاجة إليهم، وقد يبلغ به الطغيان إلى إدخال زوجه وولده في هذا الحكم، فإذا تحول مدّ طغيانه إلى جزر بالمرض أو الحاجة؛ رق قلبه ولطف شعوره، وكان أعدل في الحكم وأقرب إلى عرفان قدر النعمة والشكر عليها. يسمون مسألة الزواج مسألة (مستقبل الإنسان) وإن كنت تجد في الأَغْرَار من لا يفكر عند إرادة التزوج بمستقبله مع من يختاره زوجًا له؛ فإنك لا تكاد تجد من لا يعبأ بهذا المستقبل إذا ذكر به فأعمل فكره فيه إلا ما يكون من بعض المترفين إذا فتن أحدهم بجمال امرأة يود أن يقضي منها وطرًا، ثم لا يبالي ما يكون بعد ذلك، ومثل هذا إذا ملّ طلق، ولا تكاد تجد امرأة ترضى بالتزوج بمثله على أن هذا النوع من الازدواج هو أشبه بالاستئجار أو البغاء منه بالزواج، وإنما الزواج الشرعي الطبيعي ما كان عن إرادة الاشتراك في الحياة مدة الحياة، وإلا كان متعة بالغش والمخادعة، ولا أرى الشيعة يدينون بجواز هذا الضرب من المتعة؛ لأن الغش محرم بالإجماع لا خلاف في ذلك بين سني وشيعي. وإذا كانت مسألة الزواج هي أعظم مسائل مستقبل الإنسان الخاصة أفلا يكون من أعظم الشقاء أن يبدأ أمر الزوجين بالسكون والود في السراء، وينتهي بالاضطراب والتخاذل في الضراء؟ يشكر أحد الزوجين للآخر عند إمكان استبداله أو الاستغناء عنه ويكفره أحوج ما كان إليه، أي عاقل يرضى بهذه الخاتمة السؤى إذا علم بها أو ظن أن ستكون؟ لا شيء يخفف أثقال الفقر وأوزاره عن كاهل الرجل يتحمله مثل المرأة التي ترحمه في فقره فتظهر له الرضا والقناعة ولا تكلفه ما تعلم أن يده لا تنبسط له، فما بالك إذا كانت ذات فضل تواسيه به، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل والرجل للمرأة إذا ظهرت عاطفة الرحمة في أكمل مظاهرها فشعر المصاب بأن له نفسًا أخرى تمده في القوة على مدافعة هذه العوارض التي لا يسلم منها البشر، واعكس الحكم في القضيتين، يتجلَّى لك وجه الصواب في الصورتين. إذا كان لركن الزوجية الأول وهو السكون المعهود تأثير في الثاني، وهو المودة فلا ريب أن الركن الثالث، وهو الرحمة يكون أثرًا للركنين قبله أو فرعًا لهما فعلى قدر السكون والمودة بين الزوجين في النعماء، تكون الرحمة بينهما في البلاء؛ لأن مصاب الوديد المحبوب يعيد للنفس ذكرى جميع حسناته، وطيب أيامه وأوقاته، ويمثلها في أبهى حللها، ويعرضها على النفس في أجمل معارضها (المعرض هو الثوب الذي تجلى فيه العروس) يخيل إلى المحب أن تلك الحسنات واللذات قد اجتمعت، وأن المصاب يحاول أن يشتت شملها ويقطع حبلها، فهو يواثب لذاته المجتمعة في شخص محبوبه، ويحاول سلب منافعه باغتيال نفس وديده، فمن أراد أن يحسن مستقبله في هذه الحياة فليجتهد أولاً في حسن اختيار الزوج، ثم ليخلص له المودة ثانيًا ليتمتع بوفائه أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا. ما أجهل الرجل يسيء معاشرة امرأته، وما أحمق المرأة تسيء معاشرة بعلها يسيء أحدهما إلى نفسه من حيث يسيء إلى الآخر فهو مغبون غالبًا ومغلوبًا، وما رأيت ذنبًا عقوبته فيه كذنب إساءة الزوج إلى الزوج بل أرى العذاب يضاعف في الدنيا على ذنب الزوجية فيكون زوجًا لا فردًا وكل ذنب له عقوبة في النفس أو فيما يتعلق بالنفس تكون أثرًا طبيعيًّا له إلا ذنب أحد الزوجين في مغاضبة الآخر فإنه هو نفسه عقوبة لنفس مقترفه يؤلمها ويمضها ثم إنه يلد لها عقوبة أو عقوبات أخرى تكون أثرًا له كسائر الذنوب. ولكن أثر ذنب الزوجية ليس كآثار غيره؛ لأنه هو ليس كغيره فكبر الآثار وصغرها تابع لحال المؤثرات. أنهاك أيها المعزابة أن تسارع إلى الزواج مهما تمادت بك العزوبة إلا بعد حسن الاختيار، وأنهاك أيتها الأيم وأولياءك أن تجيبوا خاطبًا إلا بعد التروي في الاختيار، وأعظكما إذا أنتما تزوجتما فلم تجدا ذلك السكون النفسي كاملاً، وذلك الودّ الطبيعي مواصلاً، أن يتحبب كل منكما ويتودد إلى الآخر ما استطاع ويجعل أكبر همه في هبته واستيهابه قلبه لتحسن الحال، ويرجى حسن العاقبة في المآل، فإن عجزا عن ذلك بعد الإخلاص في طلبه والجد في إدراكه، فليتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته، وكان الله عليمًا حكيمًا. إذا رزق الله الزوجين الولد تنمو به بينهما المودة والرحمة، ويكون هو منبعًا لرحمتها فاشتراكهما في هذه الرحمة الوالدية التي لها مصدر واحد ومورد واحد يؤكد الصلة بينهما فبينا هما معتصمان بحبل الزوجية الذي هو من أقوى الروابط الحيوية إذا هما معتصمان بحبل الوالدية الذي هو أقواها على الإطلاق، وكيف لا يكون كذلك ورابطة الزوجية هي طاقة من طاقات حبل الوالدية إذ الوالدان هما الزوجان قد أنتجا فكملت حيويتهما وجاءت بثمرتها. كل واحد من الوالدين يشعر من حيث هو والد بما يشعر به الآخر ويملكه الوجدان الذي يملك الآخر وتتولد فيه الآمال التي تتولد في الآخر، ويكون جده وسعيه لمثل ما يجد ويسعى له الآخر ويرى سعادته عين سعادة الآخر، أرأيت هذا الاتحاد في هذه الشؤون كلها إذا صافح اتحاد الزوجية وعانقه كيف يكون حال المتحدين في تراحمهما وتعاطفهما؟ بل في تمازجهما وفناء كل منهما في الآخر؟ لو كانت المسألة نظرية محضة لحكم الناظر فيها مع سلامة الفطرة بأن الحياة الوالدية هي كمال الحياة الزوجية وأن هذا الكمال هو الذي ليس بعده كمال، فالوالدان هما أسعد الناس بنفسهما وولدهما لا يتصور أن يقوى الزمان على شت شملها، أو نكث فتلهما، وإن اتحادهما هذا لأكبر عون لهما على أحداث الزمان، وأفعال الطبيعة في الإنسان. ما ك

أسئلة من سنغافورة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من سنغافوره (س 33-35) السيد سالم بن أحمد عبد الفتاح في سنغافوره: إني رأيت جريدتكم (المنار) الأغر في أبهى الكمال لإرشاد أهل الضلال والبدع، وإني سائلكم أن تفتونا عن الأسئلة الآتية: (1) ما قولكم فيمن اعتادوا تلطيخ قبلة المسجد بالسواد وغيره من أصناف الألوان وتقطيع أطراف أثوابهم وإلصاقها بالبصاق على حيطان المساجد من داخلها. (ج 1) عن تلطيخ جدران المساجد وإلصاق الخرق عليها: تلطيخ قبلة المسجد وجدرانه بالسواد وغيره من الألوان ينظر فيه من وجهين: القصد منه وأثره في شغل المصلين به عن الصلاة، فإن كان القصد منه تلويث المسجد وتقذيره كما تشعر به كلمة (تلطيخ) فهو معصية، وقد ذكر بعض الفقهاء أن من يلطخ المسجد بنجس أو قذر يكون مرتدًّا يعنون أنه لا يعقل أن يهين أحد بيتًا ينسب إلى الله تعالى بتخصيصه لعبادته فيه وهو يؤمن بأن هذه العبادة حق شرعه الله تعالى، وكأنهم لم يلتفتوا إلى احتمال أن يقع تقذير المسجد من غافل عن الكفر بالله وعن حقية العبادة التي تؤدي في هذا المكان، ولكن القرائن قد تكون دالة دلالة قطعية على أن ملوث المسجد غير كافر بالله ولا منكر لشيء من شريعة أهل المسجد ولا قاصد إلى إهانة المسجد فلا وجه للحكم بالردة حينئذ والتلويث محظور على كل حال ولا وجه لإباحته. وإن كان القصد منه تزيينه بالألوان فحكمه على كونه خلاف السنة يختلف باختلاف حال المصلين فإن كانوا قد اعتادوا الصلاة في المساجد المزوقة بالألوان فصارت لا تشغل قلوبهم عن معنى الصلاة من التوجه إلى الله تعالى وتدبر ذكره وكلامه فيها فالأمر في التزيين أهون إذ ليس فيه إلا مخالفة السنة التي جرى عليها سلف الأمة في الأمور الظاهرة من غير إخلال بأمور الدين الباطنة كالتوجه إلى الله تعالى والخشوع لذكره وتدبر كلامه، وإن كان المصلون في هذا المسجد غالبًا لم يعتادوا ذلك فالأمر أشد؛ لأن هذا العمل يكون مخالفًا لآداب الدين الظاهرة والباطنة كما علمت. هذا ما يقال في فقه المسألة وأما المروي في المساجد مما يتعلق بها فكثير ومنه ما رواه أحمد ومسلم من حديث أنس مرفوعًا (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء، وإنما هي لقراءة القرآن وذكر الله والصلاة) ومنها حديثه عند أحمد والشيخين (النخاعة في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) وفي رواية أخرى البصاق بدل النخاعة، وقد كانت أرض المسجد ترابًا لا فرش عليها وكفارتها في مساجدنا أن تمسح وينظف المحل، وقد ورد في الحديث النهي عن البصاق في المسجد ومن تنخم فليبصق في ثوبه أي كمنديله وورد في البصاق فيه وعيد شديد. وجاء ذكر زخرفة المساجد في بعض الأحاديث التي وردت في علامات الساعة وفي افتراق الأمة مقرونة إلى بدع وضلالات يقتضي السياق إنها مثلها كحديث عوف بن مالك عند الطبراني: (كيف أنت يا عوف إذا افترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة واحدة منها في الجنة وسائرهن في النار؟ قال وكيف ذلك، قال: إذا كثرت الشرط، وملكت الإماء، وقعدت الجهلاء على المنابر، واتخذوا القرآن مزامير، وزخرفت المساجد ورفعت المنابر، واتخذ الفيء دولاً والزكاة مغرمًا والأمانة مغنمًا وتُفُقه في دين الله لغير الله وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأقصى أباه ولعن آخر هذه الأمة أولها وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم وأُكرم الرجل اتقاء شره فيومئذ يكون ذلك) الحديث،وهو ضعيف وله شواهد في زخرفة المساجد وغيرها كحديث أبي الدرداء عند ابن أبي الدنيا في المصاحف (إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فعليكم الدمار) وأقوى من ذلك حديث ابن عباس عند أبي داود (ما أمرت بتشييد المساجد) وفسره ابن عباس بزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى، وفي فقه المسألة حديث عثمان بن طلحة عند أحمد وأبي داود وفيه (فإنه لا ينبغي أن يكون في قبلة البيت شيء يلهي المصلي) . ومنها في أشراط الساعة حديث ابن مسعود الطويل عند الطبراني ومنه (يا ابن مسعود إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تزخرف المحاريب، وأن تخرب القلوب، يا ابن مسعود إن من أعلام الساعة وأشراطها أن تكنف المساجد وتعلو المنابر) الحديث. وله حديث آخر فيه هذا اللفظ وهو عند البيهقي في البعث وابن النجار قال البيهقي: إسناده فيه ضعف إلا أن أكثر ألفاظه قد روي بأسانيد متفرقة أقول: منها حديث أنس عند أحمد وأصحاب السنن ما عدا الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد) وقد صححه ابن خزيمة وأورده البخاري تعليقًا بلفظ (يتباهون) بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً) . وأما إلصاق قطع من أطراف ثيابهم بجدر المسجد فالذي تبادر إلى فهمي أنهم يقصدون به دفع ضرر أو جلب منفعة قياسًا على ما نراه في هذه البلاد وغيرها من ربط بعض الجاهلين قطعًا من أثوابهم ببعض الأشجار المعتقدة أو أضرحة الموتى المشهورين بالصلاح أو أبواب الحجرات التي دفنوا فيها وكل هذه الأعمال مما تبع فيه المسلمون الجغرافيون سنن من قبلهم من الوثنيين بعد انتقال هذه الأعمال الوثنية إلى أهل الكتاب فلا حاجة إلى إطالة القول فيها ولا شبهة على هذه البدع لأعداء السنة وأنصار البدعة إلا جعلها من أذيال ما يسمونه زيارة القبور وأين زيارة القبور المأذون فيها للاعتبار بالموت من هذه الأعمال الوثنية؟ *** (س 2) ما قولكم في تقبيل شواهد الأموات والتوسل بها، والدعاء بهذه الدعوات: عباد الله جئناكم طلبناكم، أغيثونا أعينونا بهمتكم وجدواكم؟ (ج 2) عن تقبيل أحجار القبور ودعاء الموتى والتوسل: يريد السائل بشواهد الموتى الأحجار الكبيرة التي توضع تجاه رءوس الموتى من قبورهم وتقبيل هذه الأحجار من سنن الوثنية، وأقبح البدع في الإسلام، وأما دعاء الموتى فهو عبادة حقيقية لهم وإن غير المبتدعون اسمها وأطلقوا عليها لفظ التوسل، وقد كان هذا النوع من العبادة، وهو دعاء غير الله، أي نداؤه لطلب المنفعة منه أو دفع الضرر، أو التقرب به إلى الله واتخاذه شفيعًا هو جل ما يعرف من عبادة المشركين لغير الله ولذلك فسر الدعاء بالعبادة حيث ورد في هذا المقام من القرآن. قال تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الأعراف: 194) وقال تعالى في سورة فاطر {إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) وقال في سورة الجن {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) والآيات في هذا لا تحصى، وقال تعالى في سورة يونس: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) الآية وقال تعالى في سورة الزمر {أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) الآية. وقد فصلنا القول في هذه المسألة في المجلدات السابقة مرارًا كثيرة وفندنا فيها مزاعم أهل التحريف والتأويل فليراجع ذلك في محالِّه مع الاستعانة بالفهرس. يطلب منه لفظ التوسل ولفظ الشفاعة ولفظ قبور الصالحين أو القبور مطلقًا. *** (س 3) في ليلة نصف شعبان من كل سنة يفككون الصناديق والحواصيل (كذا) ويزعمون أن في تلك الليلة تقسيم وتوسيع الأرزاق. وفي أول ليلة من السنة الجديدة يجمعون شيئًا من النقود وغيرها كالحلي وشيئًا من حشيش الأرض يسمونه (السعدى) وعودًا من نخل المدينة، ويجعلون الجميع فوق غطاء قدر ويزعمون أن تلك السنة تدخل عليهم بهذه الأشياء التي فعلوها؟ أفتونا في ذلك ودمتم مأجورين. (ج 3) عن بدع ليلة نصف شعبان وأول السنة: قد كتبنا في بدع ليلة نصف شعبان غير مرة فمنها ما كتبناه في الجزئين السابع عشر والرابع والعشرين من المجلد السادس ومنها ما كتبناه في الجزء الذي صدر في 16 شعبان من المجلد الثالث وغير ذلك. ولم نذكر فيما أوردناه من بدع الناس في هذه الليلة مسألة تفكيك الصناديق والحواصيل للاستعانة على سعة الرزق، وكأن هذا من الخرافات المعروفة ببلاد السائل دون البلاد التي عرفناها وهي خرافة يتبرأ منها الإسلام ومن ينتسب إليه بحق. ومثله ما ذكره من خرافاتهم في أول السنة ويشبه أن يكون هذا من خرافات بعض العجائز الجاهلات، ويطلق المصريون على أمثال هذه السخافات اسم (علم الركة) يعنون به تقاليد النساء وخرافاتهن ومزاعمهن وهن قلما يسندن شيئًا من هذا الجهل الذي يسمينه علمًا إلى الدين، ولولا أن علم الركة في سنغافورة وأمثالها من البلاد التي يغلب فيها الجهل يستند في بعض مسائله إلى الدين لما احتاج السائل إلى جواب عن هذه المسألة يحتج به على الجاهلين.

دعوى الرقيقة بعد موت السيد أنها أم ولد له

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعوى الرقيقة بعد موت السيد أنها أم ولد له (س 36) عوض بن جميعان سعيدان (بسنغافورة) [*] ما هو الحكم في جارية رجل تسكن معه في بيت وتتولى خدمته، ثم مات عنها وزعمت أنه يطؤها فهل قولها كافٍ في إثبات نسب الابن وما يترتب عليه؟ أم لا بد من عدم معارضة ورثة سيدها إن كان له ورثة، أو لا يكفي إلا استلحاق الحائز للتركة للابن؟ أم لا بد من إرقاق الجارية وولدها إلا بإقرار السيد لا غير وإقامة الحد عليها؟ أفيدونا بما تعتقدون أنه الحق والمسألة واقعة والخبط والخلط كثير لا زلتم هداة للحق دعاة للصدق. (ج) سكنى الجارية في بيت سيدها لا يجعلها فراشًا إلا إذا أقر أنه جعلها كذلك إقرارًا صريحًا؛ فإن جاءت بولد في حياته وادعاه كان ولده بلا خلاف وكانت هي أم ولد لها حكمها المعروف، وإن لم يدعه فكذلك عند مالك والشافعي وأحمد؛ لأنه يكفي عندهم اعترافه بوطئها وهو الذي أعتقد ولا حاجة لذكر دعواه الاستبراء أو نفيه الولد لأنه ليس مما نحن فيه، وما نحن فيه دعواها أنه اتخذها فراشًا، ولا بد في إثبات ذلك من بينة. وحاصل الخلاف في المسألة أن الحنفية يقولون: لا يثبت كون ولد أمته ابنًا له إلا باستلحاقه، كأن يعترف به إن ولد وهو حي، أو يقول: إن جاءت بولد هو ابني أو مني ثم يموت فتلد بعد موته. وعند الأئمة الآخرين يكفي في ذلك أن يعترف بوطئها فأما مجرد دعواها بعده فلا يثبت بها شيء. وإن كان هناك ورثة واعترفوا بأن الولد لمورثهم من جاريته فلا نزاع ولا إشكال وإلا فالجارية على رقها ما لم تأت ببينة على إقرار سيدها بافتراشها، وأما إقامة الحد عليها فالشبهة تدرؤه فيما نعتقد.

تفسير (فإذا هما اجتمعا لنفس مرة)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفسير.. (فإذا هما اجتمعا لنفس مرة) (س 37) ومنه: ما الذي ترونه صوابًا في قول الشاعر: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... إلى قوله: فإذا هما اجتمعا لنفس مرة ... بلغت من العلياء كل مكان أنشد البيت أحد الأدباء (مِرّة) على أنه مصدر بمعنى القوة صفة لنفس فاعترضه شاعر بأن الشاعر لم يقل إلا (مَرَّةً) أي اجتمعا معًا فاحتج الأديب بما قاله بعض الشراح كالعكبري وبجواز الوصف بالمصدر كما في ألفية ابن مالك فأجاب الشاعر أن شرط جواز المصدر لم يتحقق فتأوّل الأديب واحتج بأن (مرة) لم تذكر في القاموس ولا كتاب لسان العرب بمعنى (معًا) كأن يقولوا جاء الزيدان مرة: أي معًا كما يستعملونها للعدد سواء. فما هو الحق فيما ذكر أفيدونا؟ (ج) الأصل الذي يبنى عليه الترجيح بين الأقوال في مثل هذه المسألة هو الرواية فالشاعر الذي ضبط (مرة) في البيت بفتح الميم يحتاج في إثبات قوله إلى رواية معروفة عن أبي الطيب المتنبي أنه قال (مرة) بالفتح، وإلى رواية أخرى عن كندة بأن هذه الكلمة تستعمل في لسانهم ظرفًا بمعنى (معًا) فإن لم يستطع إثبات الرواية فما عليه إلا أن يعتمد الرواية التي سنذكرها، أو يتابع الأديب في قراءة (مرة) بالكسر كما ضبطها شراح ديوان المتنبي. قال الواحدي في شرحه: (فإذا هما اجتمعا لنفس مرة) أي آبية للذل والضيم، ولا تستلينها الأعداء، وقال العكبري: النفس المِرة هي القوية الشديدة من مر الحبل والمرة الشدة، ومنه قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} (النجم: 6) والنفس المرة هي التي لا تقبل الضيم، وظاهر كلامهم أن (مرة) صفة وهو غير معروف، وإنما فسروه بالمعنى، والأصل ذات مرة فحذف المضاف. وما قاله الشاعر في الوصف بالمصدر كان يستغنى عنه بقولهم: إن الوصف به على كثرته سماعي، وإن ما ذكر من شروطه إنما ذكر لضبط المسموع لا لأجل القياس. ومن الروايات المتداولة في البيت ولم يذكرها الشارحان (فإذا هما اجتمعا لنفس حرة) بالحاء المهملة وصف من الحرية وهي أظهر معنى وأصح مبنى ولا يبعد أن تكون مرة محرفة عن (حرة) والله تعالى أعلم.

أسئلة من الجزائر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من الجزائر جاءتنا الأسئلة الآتية من الجزائر وأحب مرسلها أن يرمز إلى اسمه بكلمة (غويشم) قال بعد الثناء والسلام: الفتن بين الصحابة رضي الله عنهم (س 38) إنني أحببت أن أشرب من بحر علومكم فهم مسألة الفتن الواقعة بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين مع علمهم لا شك بأفضلية بعضهم على بعض وسبب قتل سيدنا عثمان - رضي الله عنه- وكيف نسلك طريق الاعتقاد في ذلك تفصيلاً وتحقيقًا وتعميقًا وتدقيقًا؟ ومرادنا من استمداد هذا المرغوب من حضرتكم الفخيمة لكونها نتيجة حضرة المغفور له مولانا الأستاذ الإمام الشيخ سيدنا محمد عبده رضي الله عنه فنحصل على بعض أفكاره في المسألة رحمه الله وأعزكم من بعده. (ج) لا يمكن التفصيل والتحقيق المطلوب في هذه المسألة في جواب سؤال وإنما يكون ذلك في مصنف خاص بها، ولو ذكر ذاكر خلاصة وجيزة لمصنف وضعه أو هيأه لصعب التسليم بها على من لم يطلع اطلاعه ولم يقتنع بمآخذه لتلك الخلاصة وأحب لكم أن تقرءوا ما كتبه رفيق بك العظم في كتابه (أشهر مشاهير الإسلام) وتعملوا رأيكم في ذلك وتراجعوا فيه كتب التاريخ حيث تجدون حاجة للمراجعة وما يشتبه عليكم بعد ذلك فراجعونا لنبين لكم رأينا فيه. على أننا نذكر هنا شيئًا وجيزًا ينير لكم طريق البحث. أما علم الصحابة عليهم الرضوان بفضل بعضهم على بعض فهو على كونه ضروريًّا في الجملة وكونه على غير ما يظن الجمهور في التفصيل لا يستلزم عدم وقوع الخلاف فإن معاوية إذا كان يعلم أن عليًّا يفضله في العلم والتقوى فقد يعتقد أنه هو يفضل عليًّا في السياسة والإدارة وقول العلماء (يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل) معقول لا سبيل إلى إنكاره وهو مما لا يخفى على عاقل ويؤيده استدراك التلميذ على الأستاذ والمبتدئ على المنتهي في مسائل يكون هو المصيب فيها؛ ولأجل ذلك نبحث في كل ما قاله العلماء الراسخون وأئمة الفنون الواضعون رجاء أن نعلم ما لم يعلموا أو نصيب بعض الأغراض التي أخطئوا كما قال الإمام مالك رضي الله عنه: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر: يشير إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويريد بعموم كلامه الصحابة فمن دونهم من علماء التابعين وهو يعلم أن فيهم من لا يُعد ممن يفضله في فهم الشريعة والوقوف على أحكامها. إذا فهمت هذا فلا تعجب لاختلاف الصحابة يوم السقيفة ولا يوم اختيار أحد الستة الذين جعل عمر الأمر فيهم ولا لاختلاف علي ومعاوية فإن الصحابة لم يكونوا كالأشاعرة والماتريدية لهذا العهد مقلدين لشيوخهم بأن أفضلهم فلان ففلان إلخ ولا ممن يقول إن الأفضل يجب أن يكون هو الخليفة. على أن الأشاعرة وغيرهم يجوزون إمامة رجل مع وجود أفضل منه إذا كان المولَّى حائزًا الشروط التي لابد منها للإمامة. ثم اعلم أن كبار الصحابة كانوا يعلمون من مجموع ما جاء في الكتاب العزيز عن الشورى ومن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياسته وأحكامه ومن جعله الخلافة في قريش أن شكل الحكومة الإسلامية يجب أن يكون وسطًا بين ما يسمى اليوم حكومة جمهورية وحكومة ملكية ووسطًا بين ما يسمى اليوم حكومة الأشراف وحكومة الأفراد، أعني أن الذي فهموه كان وسطًا حقيقيًا بين ما ذكرت من غير ملاحظة هذه الأطراف وكونه وسطًا بينها. فلهذا لم يجعلوها في آل البيت خاصة بم إذ لو فعلوا ذلك لكانت من نوع حكومات الأشراف التي استعبدت الناس وجعلت الملك إلهًا معبودًا ولا نستبعد أنهم كانوا يفطنون لهذا الأمر لا سيما مع علمك بما أوتوه من نور البصيرة الذي أعشى شعاعه بصائر الفلاسفة والحكماء حتى هذا العهد، وقد رأيت أن هذا الأمر وقع بالفعل من الفاطميين عندما جعلوا الخلافة تراثًا فيهم لمكان نسبهم. ومن هنا تعرف سبب تألب الناس على عثمان بعد أن قويت عصبية بني أمية باستكثاره من استعمالهم حتى خيف أن يتحول وضع الخلافة عن الشرع ويصير حكم أشراف يقوم بالعصبية. وعثمان لم يكن يقصد هذا ولكن الحوادث مهدت له بما كان من لينه وحيائه وشره قومه وطمعهم فيه حتى أحس المسلمون بالخطر قبله وهو لا يرى قومه في جواز استعمالهم إلا كسائر الناس. فارجع بعد هذا إلى ما قلناه في تقريظ كتاب (أشهر مشاهير الإسلام) في الجزء الثالث عشر من منار هذه السنة. وحسبك الآن هذه التنبيهات، وعليك بعد كثرة القراءة بمراجعتنا في المشكلات. *** ثبوت رمضان بقول المنجم (س 39) ومنه: ثم أستفتيكم في مسألة ثبوت شهر رمضان بقول المنجم ولماذا قال خليل (لا بمنجم) . (ج) راجع ص 694 وما بعدها في المجلد السابع تجد القول في ذلك مفصلاً تفصيلاً. *** صلاة النساء في المساجد (س 40) ومنه: هل يجوز للمرأة أن تصلي في المسجد أم لا؟ لأن في بلادنا رجالاً طغاة بمالهم وجاههم حرموا المساجد على النساء وأحلوا لهم العفرات ... (كذا) . (ج) كان النساء على عهد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - يصلين مع الرجال في المسجد يقفن وراءهم،فصلاتهن في المسجد سنة متبعة ثابتة لم يختلف في صحتها أحد من المسلمين، فتحريم ذلك على الإطلاق جهل فاضح. والأحاديث القولية في ذلك كثيرة أشهرها حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، ولكن ورد أن يخرجن غير متبرجات بزينة فقد روى أحمد وأبو داود من حديث أبي هريرة مرفوعًا (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات) أي غير متطيبات قالوا: ويلحق بالطيب ما في معناه من المحركات لداعي الشهوة كالحلي والحلل وجميع ضروب الزينة. وروى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي في سننهما من حديثه أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة) وأعم منه حديث زينب امرأة ابن مسعود في صحيح مسلم (إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبًا) . نعم، ورد أيضًا أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل من صلاتهن في المسجد فقد روى أحمد وأبو داود من حديث ابن عمر (لا تمنعوا النساء أن يخرجن إلى المساجد وبيوتهن خير لهن) وله شواهد. وروى أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير من حديث أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (خير مساجد النساء قعر بيوتهن) وفي إسناد الحديث ابن لهيعة وهو ممن طُعن في روايتهم ويجوز حمله على غير صلاة الجماعة. وفي الباب رأي عائشة - رضي الله عنها - قالت: (لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها) رواه الشيخان، وعلى هذا الرأي بنى المتأخرون منع النساء من المساجد، فهو اجتهاد لا يصح أن ينسخ النص القطعي الصريح، ويحرم ما أحل الله ورسوله، نعم، إن علم أن خروجهن إلى المسجد يكون سببًا للفتنة جاز- أو وجب - منع من يعلم أو يظن الافتنان بهن فقط مع إزالة سبب الفتنة ولكن لا يصح أن يقال أن خروجهن إلى المسجد وصلاتهن فيه محرمة عليهن ولا أن يجعل حكمًا عامًّا مطلقًا. *** ذنوب الخطيب الذي يحث على الكسل والخرافات (س 41) ومنه: كم هي ذنوب الخطيب الذي لا يأمر الناس إلا بالعجز والكسل والموت والخرافات والتقليد وسيئ العادات؟ لا زلت بحرًا يستجلب دره، ومزنًا يستوكف دره، والسلام. (ج) هذا الخطيب شر خطباء الفتنة وذنوبه لا تحصى إلا إذا أمكن إحصاء تأثيرها الضار في الأمة وأنى يحصى وهو من الأمور المعنوية التي لا تعرف بالعد والحساب؟ فمن سيئات هؤلاء الخطباء وآفاتهم في الأمة أن كانوا علة من علل فقرها وضعفها في دينها ودنياها وضياع ممالكها من أيديها، فهم أضر على المسلمين، من الأعداء المحاربين، ومن دعاة الضلال الكافرين، ومثلهم كمثل الطبيب الجاهل يقتل العليل، وليس هذا محل شرح سيئاتهم بالتفصيل، ولكن لا بد من التنبيه على سيئة منها حادثة لم تكن من قبل وهي أن أبناء المسلمين الذين تعلموا العلوم العصرية وعرفوا أحوال الأمم وسياستها، وتأثير آدابها في مدنيتها، وعزتها ولم يقفوا على حقيقة الآداب الإسلامية، ولا غير ذلك من الأصول الدينية، يتوهمون أن هؤلاء الخطباء ينطقون بلسان القرآن، ويبينون للناس لباب ما جاء به الدين من الحكم والأحكام، ويستدلون على ذلك بإجازة العلماء ما يقولون وما يوردون في كلامهم من الأحاديث وإن كانت موضوعة أو واهية، وما يرصعونه به من الآيات وإن كانت لما ينهون عنه آمرة وعما يأمرون به ناهية، ولكن أنَّى للسامع المسكين، أن يميز الغث من السمين، إذا كان لم يطلع على تفسير الكلام القديم، ولم يقرأ علم الحديث الشريف، فلا جرم ينفر من الدين نفور الكاره له، المعتقد أن معارف البشر أهدى منه، وإذا كان عارفًا بدينه فإنه ينفر من صلاة الجمعة وأعرف من المصلين من يتحرى أن يدخل المسجد بعد فراغ الخطيب من خطبته، وحدثني الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أن رجلاً من النابغين في العلوم العصرية كان كثير الخوض في الدين والإنكار لبعض أصوله وفروعه فما زال به الأستاذ حتى أزال شبهاته وأقنعه بأن يصلي فبدأ بصلاة الجمعة في الجامع الأزهر فسمع خطبة من الخطب المسئول عنها فنفر، وقال: إن هذا شيء لا يصلح به أمر البشر، وما أنا بعائد إلى سماع هذه الخطابة، انخداعًا بما للشيخ محمد عبده من الخلابة. هذا وإن مقام الخطابة هو مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقام خلفائه ونوابهم، وقد أهين هذا المقام في هذا العصر لاسيما في مصر فصار يعهد به كثيرًا إلى أجهل الناس وأقلهم احترامًا في النفوس لأن الخطابة في نظر ديوان الأوقاف هنا وظيفة رسمية تؤدى بعبارة تحفظ من ورقة فتلقى على المنبر أو تقرأ في الصحيفة ككنس المسجد يقوم بها أي رجل، وفي نظر طلابها حرفة ينال بها الرزق. فهمّ الديوان في الخطيب أن يكون قليل الأجرة لتتوفر أموال الأوقاف فيوضع ما يزيد منها عن النفقات التي لا تفيد المسلمين في خزائنه أو خزائن البنك وقد اجتهد الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - في إحياء هذا الركن الإسلامي يجعل الخطابة خاصة بالعلماء الأعلام، فوقفت السياسة في طريق مشروعه مدة حياته ولعلها تتنحى فينفذ بعد موته.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر المكتوب الخامس في المدرسة الجامعة كتب في 10 يوليه سنة -186 من (أميل) إلى أبيه: كلفتني بأن أجعلك على علم بدروسي فموافاة لرغبتك أقول: الجامعة التي أختلف إليها بناء في غاية الجدة، وتفتح قاعاتها للتدريس في فصل الصيف من الساعة السابعة صباحًا إلى الساعة الأولى بعد الظهر، ومن الساعة الثالثة بعده إلى الساعة السادسة، وتنقسم دروس الأساتذة فيها إلى عامة وخاصة فالأولى تلقى بالضرورة مجانًا ويدفع الطلبة في مقابل تلقي الثانية (فريدريكين) ذهبًا (50 فرنكًا) كل ستة أشهر وتنقسم جامعة (بُن) مثل كل الجامعات في ألمانيا إلى أربع مدارس اختيارية إحداها للقوانين، والثانية للحكمة، والثالثة للطب، والرابعة للإلهيات ويتعلق بكل من هذه المدارس الأربع فروع مختلفة يدرسها فيها رجال مخصصون بها. الجامعة تخلي بيننا وبين حرية التصرف في وقتنا، إما بإضاعته أو بالانتفاع به؛ لأني لا أرى لأحد منها أدنى تفتيش، ولا أقل هيمنة علينا في سيرتنا على أني أعتقد ما قلته لي كثيرًا من أن النظام التأديبي الناجع هو ما يفرضه الإنسان على نفسه ويلتزم اتباعه. لا مراء في أن أساتذة جامعتنا متضلعون من العلوم غير أني كثيرًا ما يشق علي أن أتتبع سلسلة أفكارهم في الدروس لسببين: أولهما أن هذه الأفكار ليست في ذاتها واضحة، وثانيهما: أني لقلة تعودي على تصوير فكري بالألمانية حتى الآن أجد من الصعوبة في فهم تلك الأفكار أكثر مما يجده غيري من المتعودين، ويدهشني من أمر هؤلاء العلماء أنهم على سمو مكانتهم في العلم وبُعد صيتهم مغبونون في أجر عملهم؛ إذ استدللت على هذا بما يبدو عليهم من رقة الحال وبقناعتهم باليسير من العيش ورثاثة ملبسهم الذي يكاد يكون وسخًا وفقرهم هذا يؤلمني ويزيدهم في نفسي إجلالاً على إجلالهم الذي تدعوني إليه معارفهم، فأولئك رجال يحبون العلم لا لكسب المال ولا للتمتع بالحطام وإنما يحبونه لما يحصله للعقل من لذاته وضروب اغتباطه. ثم إن بعض المدرسين يرتجلون الدروس مطنبين فيها، وبعضهم وهم الأكثرون يأتون بها مكتوبة فيلقونها على الطلبة، وهؤلاء يصغون لما يلقى عليهم ويكتبون ما يعلقونه منه، وقد وضعت لنفسي نمطًا في اختزال الكتابة؛ وهو وإن كنت لا أشك في قصوره لأوليَّته يمكنني من إثبات الحدود الأساسية لما أسمعه من الجمل. ينقسم الطلبة باعتبار مذاهبهم إلى كاثوليكيين وبروتستانتيين متشددين يعد بعضهم نفسه للأعمال الخطابية، وحكماء يجتهدون في تأويل المذاهب تأويلاً مطابقًا للعقل، وماديين وهم قليل يصرحون بأن زمن الديانات قد انقضى، وأنه لا ينبغي إضاعة الوقت في العكوف على ما لا حقيقة له من هواجس القرون الوسطى وأحلامها. رأيتك دائمًا تجتنب الخوض معي في المذاهب والأسرار الدينية واستنتجت من سكوتك عنها أنك قصدت مني الاستقلال بنفسي في الاعتقاد، ولقد حملتني عظيمًا؛ فإني حتى هذا اليوم في غاية البعد عن معرفة ما يستقر عليه فكري في كثير من المسائل التي ترجفني محاولة سبر غورها على أنه لا بد من الإقرار لك بأني لست مطرحًا هذه الطائفة من الأفكار ولا مغفلاً لها، فكم مرة نظرت إلى السماء في سكون الليل، وحاولت على حداثة سني وجهلي أن أقرأ في نجومها حلاً للغز هذا العالم، وأني منذ اليوم الذي شهدت فيه إلقاء جثة الملاح في البحر -وإخالك تذكره- لا ينفك عني التفكير في سر الموت حتى في أحلامي، وقد سألت القبور أن تكشفه لي فلم تحر جوابًا! فعمدت من عهد دخولي الجامعة إلى مطالعة ترجمة الفيدا [1] الألمانية والزنداويستا [2] ، والتوراة فأثرت قراءتها في نفسي تأثيرًا بليغًا، وكان يتراءى لي منها عالم جديد، ولكن من خلال ظلمات لا يسعني إلا الإقرار بأنها لم تنقشع ولست أدري، أأعكف على دراسة هذه الكتب؟ أم أعدل عن إماطة الظلمات عما لا يتناهى؟ فلا أشتغل إلا بما هو ثابت محقق من نتائج العلم. أنا الآن أحوج مني فيما مضى إلى إرشادك والاستضاءة بنور علمك، ومن ذا الذي استرشده وأستهديه سواك؟ جميع الطلبة يتعلمون المجالدة والمناضلة، وأنا مقتدٍ بهم في ذلك فلي كل يوم ساعة أو ساعتان أقضيهما في ممارستها؛ لأن في هذه الممارسة تمرينًا مفيدًا في تقوية الأعضاء وتنميتها، ويؤكد لي العارفون من الطلبة أن أمهر المجالدين من يندر التحرش به. ومع أني لا أرجو مطلقًا أن أبلغ في المجالدة والمناضلة مبلغ الفارس سان جورج [3] أود لو أثبت في قاعة الممارسة ثبوتًا كافيًا أني على علم باستعمال السلاح حتى يحسب الطلبة حسابي فلا يستخفون بإغضابي فإن المبارزة كثيرة الوقوع بينهم وهم يجرحون فيها أحيانًا، ولكن يندر والحمد لله أن يقتلوا ومن يجرح منهم لا يبالي بخدش وجهه، بل يعتبر ندب الجروح على ما فيها من التشويه لخلقه من موجبات إجلال النساء له. ثم إني أختم مكتوبي راجيًا أن تثق مني بدوام محبتي لك وتعلق قلبي بك. ((يتبع بمقال تالٍ))

البداوة من باب الآثار الأدبية

الكاتب: حسين أفندي عبد الفتاح

_ البداوة من باب الآثار الأدبية قصيدة من نظم حسين أفندي عبد الفتاح الجمل ويعني بالبداوة تلك المعيشة العربية الخالية من ترف المدنية، لا سُكنى البادية فقط. ليت البداوة لي مهد ولي وطن ففي الحضارة لي شغل عن الجذل أعني بداوة عرب طاب مولدهم ... وطاب محتدهم في الأعصر الأول فالأريحية فيها والندى خلق ... ملازم لهم في الخصب والمحل ترى العفاف لديهم مد أروقة ... محفوفة بالتقى في كل محتفل أما الوفاء فقد حازوا الفخار به ... فلا ضريب لهم في كل مرتحل لا يغدرون ولو كانت منيتهم ... رهن الوفاء ولا يمسون في وجل [1] نال السموأل فيه غاية وقفت ... عنها الملوك وقوف العاجز الخمل ضحى ابنه خوف غدر لو تحمله ... لكان للعذر فيه واضح السبل [2] وعامر كان في حفظ الجوار له ... بيت من المجد مرفوع اللواء علي يحمي المجار به من كل غائلة ... مِ الإنس والجن بل من سطوة الأجل [3] وفي التقى كان عبد الله ذا ورع ... لا يعرف الشر في شيء من العمل [4] ولابن عباس في حفظ العلوم مدى ... ما فيه من مطمع يومًا إلى رجل [5] ماذا يقال وقد سارت مناقبهم ... كالشمس فينا بنور غير منتقل وكيف للشعراني يأتي على صفة ... الصديق أو عمر الفاروق ثم عليّ محامد طبعت فيهم وغيرهم ... تكلفوها وليس الكحل كالكَحَل كأنما نبتت هذي الفضائل في ... أرجائها فنمت في السهل والجبل فهم كأنهم يغذون من كرم ... أو أنه فطرة فيهم من الأزل

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الثورة في روسيا) العلم نور لا ينتشر في بلاد إلا وينجاب عنها من ظلمات الظلم بقدر ما يفيض عليها منه؛ فإذا تمكن في النفوس وملكها وصار صفة من صفات عدد كثير من أهلها فبشر أهلها بالسعادة بعد زمن طويل أو قصير؛ لأن العلم مع الجهل وآثاره من الظلم والاستبداد لا يتجاوران على وفاق وسلام، بل يفتآن يتنازعان ويتصارعان حتى يصرع أقواهما أضعفهما وينزعه من الأرض. مقارعة العلم ومنافعه للجهل ومصارعه هي مقارعة طائفة من جند الحق لطائفة من جيوش الباطل، والحق هو القوي المنصور، والباطل معه هو الضعيف المخذول، اللهم إذا هما وجدا فتجاولا وتصاولا ولكن قد يحول دون ظهور جند الحق مانع فيظهر الباطل ويظن الظانون أنه قد غلب الحق على أمره وكيف يسمى غير الموجود مغلوبًا. فاض شعاع من العلم بمصالح الأمم، وسنن العدل في الدول على البلاد الروسية؛ فما زال يزيح من تلك الظلمات المتراكمة في النفوس حتى انزاحت فأشرقت العقول، واستنارت القلوب؛ فعرفت حق الراعي على الرعية وحقوق الرعية على الراعي، وتمكن هذا العرفان في نفوس كثير من المتعلمين فكان وميضه يلوح لأبصار المستبدين من أفق المدارس الكلية فينذرهم بالصواعق المحرقة فتهلع قلوبهم، ثم لا تلبث أن تعود إلى طمأنينتها اغترارًا برسوخ السلطة المطلقة القائمة على صخرة تقاليد الدين، وجهالة الأكثرين حتى إذا ما انكشف للعالم كله ضعف دولة الاستبداد والظلم، وانهزامها من وجه دولة العدل والعلم، في الحرب الروسية اليابانية، إذ نكلت الثانية بالأولى في جميع الوقائع البحرية والبرية ظهر أهل العلم من الروسيين، وقاموا بالدعوة إلى الخروج على الحكام المستبدين، فنفخوا في البلاد روح الثورة؛ فاشتعلت نارها، وكثر أنصارها، ولم يثنهم عن عزمهم أن وضعت الحرب أوزارها، وفرغت الحكومة للثورة تبلو أخبارها، وتضرب وجوهها وأدبارها. بعد كفاح طويل عريض، وأخذ للثائرين أليم شديد، وثبات من طلاب الحرية أمام أرباب العبودية، وإصرار من طلاب العدل على مقاومة الظلم والجهل، خضع القيصر العظيم لأولئك الشراذم من شعبه الحقير، وأمر بتحويل شكل الحكومة الروسية، من إطلاق الاستبداد إلى قيود الشورى القانونية، فقالوا: إنه خضع اضطرارًا لا اختيارًا، فلا تغتروا بما أمر اغترارًا، بل أصروا أيها الثائرون والمتعصبون، يكن لكم كل ما تطلبون، فهم لا يزالون يقترحون، فهل يعتبر حالهم جيرانهم الأقربون؟ *** (تعزيتنا عن والدنا) لا تزال ترد علينا التعازي من محبينا في المشرق والمغرب كالهند، وسنغافوره وجاوه وتونس والجزائر وفاس فنشكر لمن كتب ولمن سيكتب إلينا في ذلك عودًا على بدء، ونخص بالذكر أهل الوفاء في الديار التونسية من العلماء والأدباء، وأصحاب الصحف الفضلاء. وإننا ننشر بعض ما تفضلوا به ليكون تعزية للبعيد من الأقربين. كتب أحد العلماء المدرسين بعد الثناء الذي هو أهله والدعاء: (العزاء بعد ثلاث، وإن كان تذكارًا بالمصيبة، فإن تركه ثلمة في وجوه الود، وشبهة في صحته مريبة، اليوم وصلت إليّ مجلة المنار فقرأت الخبر الأليم بوفاة والدكم البر الرحيم، ذلك الخبر الذي ملأ فؤادي أسفًا مشاركة لكم على ما يجده ابن بار على فقد والد شفيق. وفوق مشاركتك أيها الأخ في الحزن كيف لا آسف على فقد صاحب تلك الشمائل الزكية؟ لولا أن فيما بذرته من كمالك الفطريّ مسلاة ومتعزى عنه فإنك تخلِّد له ذكرًا أحرى مما كانت تخلد له صفاته الطيبة، وأنتم بحمد الله كما قال الشاعر: نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه ثم عظيم أن يلم بك أيها السيد مصابان في زمن متقارب بمربي نفسك الشاعرة وبأصل فطرتك الطاهرة، فتعزَّ بأن الله جعلك لهما لسان صدق في الآخرين، وعليك صلوات الله ورحمته بالصابرين) . وكتب عالم آخر من المدرسين: حياك الله سيدي الأخ، وعظم أجرك كما عظم رزءك، ومنحك من صلواته ورحمته وهدايته ما أنت أهله، فلقد أبديت صبرًا جميلاً وثباتًا عظيمًا أمام مصابين عظيمين تتدكدك لهما الجبال الرواسخ، وفاة والدك الجسماني، قبل أن يجف القلم من تأبين والدك الروحاني، فرحمهما الله من أبوين صالحين تركا للإسلام فاضلاً نحريرًا مثل جنابكم الكريم فهما بذاك لم يموتا، وإنما غابا عن هذا الوجود الكدر وخلفا عملاً كبيرًا، وسراجًا منيرًا نسأل الله تعالى أن يطيل بقاءه، ويديم إشراقه وارتقاءه ... إلخ. وكتبت جريدة (الترقي) الغراء التي تصدر في تونس ما يأتي تحت عنوان (الشام) ننعي لقراء الترقي شيخًا جليلاً، وسيدًا كريمًا نبيلاً من نسل السلالة المطهرة ألا وهو سيد سادات الديار الشامية، وفرع الدوحة الحسينية المرحوم الشيخ علي رضا أفندي الحسيني الحسني والد رصيفنا العلامة الفيلسوف الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنير. قضى هذا الفاضل عمره المديد في إسداء المبرات، وأعمال الخيرات؛ فكان كفيل الأرامل، ومربي اليتامى والمحسن للقريب والبعيد، وقد قرأ العلم بطرابلس الشام وارتقى في مراتب الدولة العلية التي كان مخلصًا في خدمتها للحد الذي جعله ممتازًا على بقية الأشراف بوراثة أعشار بلد القلمون التي كان أنعم بها السلاطين العظام على أسلافه الأكرمين، وكان رحمه الله كما جاء في المنار (حسن المجاملة عظيم التساهل في معاشرة المخالفين في الدين مع الغيرة الشديدة على الإسلام والمناضلة عنه بما يحج المناظر ولا يؤذيه) كعلماء السلف برد الله مضاجعهم. اتهمه مصادروه (أعداء الدولة) في الأوقات الأخيرة بالجاسوسية، وبأنه يسعى مع المرحوم فقيد الإسلام الشيخ محمد عبده لتقويض أركان الخلافة العثمانية (لا سمح الله) فدسوا بفراشه عقارب سعايتهم الممقوتة وأوغروا عليه صدور رجال الدولة؛ فجعلته تحت مراقبة الجواسيس الحقيقيين بما تحرجت له النفوس الطاهرة والقلوب الرحيمة؛ فكان يقابل تحرشهم بالصبر واللين، ويدعو الله مع أبنائه بتوفيق دولة الإسلام، وبتطهير ساحة سراية يلدز من أهل السوء والعدوان هذا، وقد تسابقت الجرائد الشرقية لتمجيده وتأبينه بأجمل عبارة تليق بمنزلته حيًّا وميتًا، ونحن نضم لتلك التعازي عبارات تعزيتنا ونسأل الله أن يفسح له في صعيد الجنة، وأن يجمل عزاء بنيه خصوصًا رصيفنا العلامة المفضال محرر المنار الأغر اهـ. (المنار) نخص هذا الرصيف الفاضل بمزيد الشكر والثناء أن أحسن الظن بنا وبالغ في مجاملتنا. ونذكر هنا أن كثيرًا من كتب التعزية قد شنعت على الحكومة العثمانية سوء معاملتها لوالدنا وشقيقنا، بل جاء شيء من ذلك أيضًا في بعض البرقيات (التلغرافات) فلم ننشر شيئًا منها لئلا يتوهم أننا ننتقم بذلك لنفسنا، ونستدرك على الترقي أن السيد الوالد - رحمه الله تعالى - لم يدخل في أعمال الحكومة الرسمية على تعارفه بكثير من وزراء الدولة وكبرائها. هذا وقلما عزانا أحد عن والدنا إلا وأعاد تعزيتنا عن أستاذنا تغمدهما الله تعالى برحمته، ومتعهما بدار كرامته.

الدين في نظر العقل الصحيح - 4

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الدين في نظر العقل الصحيح (4) المقالة الثالثة (الإسلام هو الإصلاح الأكبر) مقال آخر آتي به اليوم تتميمًا لمقالي السابق (الدين في نظر العقل الصحيح) وإيضاحًا لما أجملته هناك في مسألة الإصلاح الإسلامي في الأرض. ولا أريد أن أذكر المسائل التي شارك الإسلام فيها غيره من الأديان الأخرى، ولكني ذاكر ما امتاز به عنها ليتضح للأهل الإنصاف، أنه هو الإصلاح الأكبر بلا خلاف. *** التوحيد والتنزيه: أتى القرآن بالتوحيد الخالص والتنزيه المطلق فقال {قُلْ هُوَ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} (الأنعام: 103) {َليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وتحاشى ما يوهم التشبيه والتجسيم إلا ما اقتضته ضرورة التعبير اللغوي حتى أنه أزال في مثل قوله {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (الروم: 27) ما يتبادر منه من التمثيل بالمخلوقين بقوله بعده {وَلَهُ المَثَلُ لأَعْلَى} (الروم: 27) ففاق بذلك جميع الكتب الأخرى الممتلئة بالتشبيهات والتمثيلات حتى الساقطة الباردة منها. وأبان بمثل قوله {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} (الإسراء: 44) وقوله {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (مريم: 93) أن لا شجر، ولا حجر، ولا بشر تجوز عبادته من دون الله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فعرف الإنسان حقيقة حاله، وأن لا يليق به أن يخاف أحدًا سوى الخالق - تعالى - فخلص بذلك من الأوهام المحيطة به من كل جانب. هدأ الله بعد ذلك روعه منه، وأعلمه أنه به رؤوف رحيم، بل أشفق عليه من الأم على ولدها، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. فأحبه المسلم لإحسانه إليه وقربه منه مع جلاله وخاف من عقابه إذا هو عصاه. فمن غمره الملك بنعمه كان له محبًّا ولكنه يخاف أن يقع منه ما يغضبه. ومع ذلك إذا عصاه الإنسان ثم رجع إليه وجد بابه مفتوحًا وغفرانه واسعًا {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم} (الزمر: 53) اللهُ أكبر. أين هذا الاعتدال في العقيدة من إفراط قوم يظنون أن الله لا يحب الإنسان إلا إذا قتل نفسه لتكفير ذنبه فأوقعهم ذلك في الإشراك الحقيقي وإن أنكروه وفي التشبيه والتجسيم وما خالف المعقول والمنقول. وأين ذاك الاعتدال من تفريط آخرين يعتقدون أن الله بعيد عنهم ولا يبالي بهم ولا يريد بهم خيرا. يزعم بعض من يدعي العلم من قسيسي المسيحيين أنه لم يرد في كتاب المسلمين ما يدل على حب الله لهم وحبهم له بل كل ما فيه الخوف والانزعاج منه فلذا أورد هنا ما ورد في القرآن الشريف في ذلك المعنى {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: 165) {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ} (البقرة: 177) {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّه} (الإِنسان: 8) وفيه من ذكر الرضى والرأفة والرحمة والغفران ما لا يوجد في كتب المسيحيين أنفسهم ويكفيك أن كل سورة مبتدأه بالرحمن الرحيم. فهل إله المسلمين قاس كما يهذون؟ إلا أن التعصب يعمي ويصم. والخلاصة: أنه بهذه العقيدة الصحيحة اجتثت جذور الوثنية من الأرض وكذا كل عقيدة اتفقت معها في الحقيقة وإن اختلفت عنها في الشكل وتبع ذلك طهارة العقول من الوساوس والخرافات التي أحاطت بالأمم الأخرى، فأي إصلاح أكبر من هذا؟ *** المساواة: قرر الإسلام أن أفراد البشر عند الله سواء وأنه لا ينظر إلى صورهم وأزيائهم بل إلى قلوبهم. وأن رحمته تعالى لمن أطاعه ولو كان عبدًا حبشيًّا وعذابه لمن عصاه ولو كان شريفًا قرشيًّا فلا فرق بين الغني والفقير، والصعلوك والأمير، والحر والعبد إلا بالتقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فرفع بذلك كل امتياز موهوم بين الأفراد، ولم يجعل لأحد على الآخر سلطانًا إلا ما اقتضته حدود الشريعة؛ لدفع الأذى وحفظ الأمن وفيما عدا ذلك لا مسيطر على الإنسان إلا الله وحده، وليس بيننا وبينه تعالى حجاب أو واسطة {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) فلا كاهن ولا رئيس في الدين ليقرب الناس من رب العالمين. زال بذلك كل ما كان وضعه رؤساء الأديان الأخرى من الحجْر على العقول وعلى ما منحه الله لنا من الحرية كدعوى التوسط بين الله والناس في غفران الذنوب وإباحة ارتكاب بعض المحرمات في مقابلة دريهمات يأخذونها ومنع الناس من قراءة كتبهم الدينية إلى غير ذلك من المفاسد التي وقع فيها الأمم الأخرى بسبب عبارات وردت في كتبهم فهموها بهذا المعنى بحق أو بغير حق واستمروا على العمل بها إلى ما بعد مجيء الإسلام بعدة قرون ثم أخذ بعض الطوائف في الإصلاح بمثل ما أتى به ديننا القويم من قبل. أمكن المسلم بسبب ذلك أن يقف بين يدي الله تعالى وحده ويقرأ كتابه بنفسه ويفهم منه ما شاء أن يفهم فلا توسط ولا مراقبة ولا حجر. والناس غيره في عبودية وذل وغباوة وجهل. ذم الإسلام بعد ذلك التقليد ونهى عن متابعة الأهل في شيء إلا بدليل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) وأمر المسلم أن ينظر في القول ليميز صدقه من باطله. بدون نظر إلى قائله {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) فأي دين أتى بمثل هذا كله؟ . *** العقل والعلم بالحقائق رائد الإيمان الصادق: امتاز القرآن الشريف عن غيره من الكتب الدينية بمخاطبة العقل في جميع العقائد والتحاكم إليه عند التخالف والتعاند، فلم يقرر عقيدة أو يرد أخرى إلا بالدليل العقلي. أي كتاب غيره أقام الدليل على حدوث العالم بحركات الأجرام السماوية؟ تذكر حجة إبراهيم على قومه في سورة الأنعام مثلا تأمل قوله في الرد على مَنْ عَبَدَ مريم والمسيح {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَام} (المائدة: 75) وقوله {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 59) ردًّا على من اتخذ ولادته بدون أب دليلاً على ألوهيته. وقوله في إثبات النبوة: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ} (الطور: 33-34) وقوله {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: 16) وقوله {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} (العنكبوت: 48) وقوله في عدم استحالة البعث {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ} (يس: 81) إلى غير ذلك من الآيات التي هي أساس علم الكلام كما بينا ذلك في المقال السابق. ولم يكتف بإقامة الحجة على العقائد فقط، بل لا تجد في الغالب أمرًا أو نهيًا إلا أتبعه بالدليل ولم يرض بالاستسلام والرضوخ بدون معرفة السبب فقال مثلاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) أي أن الصيام الذي يقوي الإرادة، ويربي النفس على مراقبة الله تعالى ويعرفها مقدار النعم عند فقدها أعظم معد للتقوى. وقال في الحدود {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179) وقال في الأخلاق: {وَلاَ تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) وغير ذلك كثير مما لم يأت في كتاب سواه فلا تجد صحيفة منه خالية من قوله: (لعلكم تعقلون. تتفكرون. يا أولي الألباب. لأولى النهي. لذي حجر ... إلخ إلخ) ثم ما ورد فيه بشأن العلم والعلماء كثير {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) {َمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ} (آل عمران: 7) {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} (الزمر: 9) وبذلك كله صار المسلم لا يبالي بعقيدة خالفت العلم الصحيح أو ناقضت حكم العقل فبينما تجد غيره يرضخ لعقيدة لا يفهمها ولا يمكنه أن يعبر عنها بما يجعله يفقهها بل يذعن ويسلم ثم يقيم الصلوات والأدعية لترسخ بالقوة في ذهنه؛ بينما تجد ذلك في غيره تجده هو يشق الحجب بفكره ويرقي إلى الملكوت الأعلى بعقله عملاً بقول كتابه {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101) لا يطالب القرآن أحدًا بالإيمان لمجرد سرد قصص عن المعجزات وخوارق العادات بل أمر بالتدبر والنظر فيه {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) وخالف بذلك سائر الكتب الأخرى وفتح للعقل بابًا واسعًا للبحث فيما أتى به حتى يجزم بأن صدوره من مثل محمد العربي الأمي صلى الله عليه وسلم ضرب من المحال. ولم يرد أن يغلق دونه الباب بتعداد حكايات لم تخل أمة من نسبة أمثالها إلى مؤسسي دينهم بل قد ورد في كلام بعضهم كالمسيح مثلاً ما يدل على إنكاره لها إن صحت الرواية عنه. وذلك قوله: (جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي) يريد بذلك أنه كما آمنت أهل نينوى بيونس لمجرد الوعظ فتؤمن الناس بي أيضًا؛ لهذا السبب بعينه بدون معجزة، وما ورد بعدها من قوله: (لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال) قال فيه المحققون من المسيحيين أنفسهم: إنه تفسير من جانب كاتب الإنجيل، وهو غلط لوجهين (الأول) : أن المسيح لم يمكث في بطن الأرض - على قولهم - إلا يومًا وليلتين كما هو صريح جميع الأناجيل و (الثاني) : أنه بعد قيامته لم يظهر لأحد من هؤلاء الطالبين، ولم يشاهده سوى بعض النساء وبعض المعتقدين فيه. فكيف يكون ذلك آية مقنعة للمخالفين؟ وخلاصة القول: إن هذه العبارة تنفي جميع المعجزات، ومع التساهل لا تبقي واحدة، وقد بينا لك حالها، فهذا هو شأن جميع الأديان التي لا حجة لها إلا أمثال هذه الأقاصيص والأعجوبات؛ فهل تقارن هذه بالدين الذي لا عقيدة ولا أمر ولا نهي ولا حكم في

دعوة اليابان إلى الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (دعوة اليابان إلى الإسلام) خواطر وآراء كان أُشِيعَ منذ سنين أن أولي الأمر في اليابان قد عرفوا بارتقائهم في العلم والسياسة أن دينهم الوثني باطل، وأنهم يبحثون في غيره من الأديان؛ ليختاروا لهم منها ما يظهر لهم أنه أهداها سبيلاً وأقومها قيلاً وأقواها دليلاً، وأقربها من صداقة المدنية وأبعدها عن عداوة العلوم الكونية، وأنهم لاحت لهم بوارق، فراجعت حكومتهم في ذلك سلطان العثمانيين، لأنه أكبر سلاطين المسلمين، شاع ذلك أيام أرسل السلطان عبد الحميد تلك السفينة الحربية (أرطغول) إلى بلاد اليابان لتزور حكومتها وأرسل معها وفدًا دينيًّا ليبين لها حقيقة الإسلام كما قيل، ولكن السفينة غرقت قبل أن تصل إلى حيث تقصد، ثم سكت الناس عن الكلام في إسلام تلك الأمة ونسوه، ولم يكن قد ظهر لهم حقيقة أمرها في القوة والمدنية. ولما ظهر من أمرها في الحرب الأخيرة في هاتين السنتين ما ظهر، وغلب نور فضلها - وهي دولة الشمس - على نور القمر، عاد المسلمون إلى حديثهم الأول في إسلامها فتحدث به المصري، والسوري، والهندي، والروسي والجزائري، والتونسي، والأفغاني، والصيني، من غير مواطأة بين مسلمي هذه الأقطار، ولا تقليد أحد منهم للآخر في الأفكار، وإنما هو شعور بعثه في نفوس هذه الشعوب القصية ما يعلمونه من الخطر على بقايا السلطة الإسلامية بما جلب عليهم حكامهم من الجهل والاستبداد مع وقوف دول أوروبا لهم بالمرصاد، وبما اعتادوا عليه - أعني المسلمين - من الاتكال على الحكام في الأعمال، والاستعاذة بهم من خواطر التكافل والاستقلال والنهوض بجلائل الأعمال. إسلام هذه الأمة العزيزة ذات الدولة القوية قد صار من الأماني التي يتخيلها كثير من المسلمين المتفكرين الذين يألمون من سلطة المخالف لهم في الدين، فمنهم من يلهو بتخيلها في خلوته، ويتمثل بما قال ذلك الشاعر في معشوقته: أماني من سُعدى عذاب كأنما ... سقتنا بها سُعدى على ظمأ بردا مُنى إن تكن حقًّا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا ومنهم من يتحدث بها في الأندية والسمار، ويشرح ما يكون لها من الفوائد والآثار، ويقول: إن أسلم (الميكادو) فأنا أول المبايعين، وأضمن له ذلك في جميع شعوب المسلمين، ومنهم من ارتقى عن الأماني ووهم أحلام المستيقظين، وعن لغو الحديث وهو فاكهة الكسالى والعاجزين إلى حث من يظن فيهم كمال العلم بحقيقة الإسلام على تأليف رسالة أو كتاب لدعوة أولئك الأقوام، ومنهم من يقترح أن يجمع شيء من المال يجهز به دعاة من فضلاء الرجال ليأتوا البيوت من الأبواب وينشر الدعوة بالقول والكتاب ومنهم من ارتقى إلى الاستعداد للدعوة بالفعل ويقال: إنه قد انتدب إلى ذلك أفراد من الشيعة في الهند. رأينا بعض أولئك المتمنين، وتحدثنا مع بعض المقترحين فرأينا أن السياسة هي ولدت في نفوسهم هذه الرغبة، وقلما تجد فيهم من يود إسلام تلك الأمة لباعث ديني خالص من شوائب السياسة، وإني ليحزنني أن لا أرى في قومي كثيرًا ممن بهتم بنشر الإسلام لذاته رغبة في سعادة من يدخل فيه وفوزه برضوان الله تعالى ويعزيني عن حزني أن أرى الاهتمام بحفظ السلطة الإسلامية عظيمًا في نفوس كثير من المسلمين، فإن للإسلام ركنين أحدهما للآخرة، وثانيها للدنيا وإن ضعف أحدهما أهون من ضعفها كليهما وإن كان القوي لا يغني عن الضعيف إلا أن يستند إليه المصلحون في إقامة الآخر وإرجاعه إلى أصله. قلت لبعض المتكلمين معي في هذه الأمنية: إن اليابانيين مستعدون لقبول دين يتفق مع العلم، والمدنية، والقوة، وإنا نحن وإياكم لعلى اعتقاد بأن الإسلام الذي عليه المسلمون ليس كذلك وإلا لما حرموا من العلم والمدنية والقوة ما اعتز به غيرهم، وأن الإسلام الذي جاء به القرآن الكريم وبينته السنة السنية، وكان عليه أهل الصدر الأول هو كذلك، ثم إن ما تطلبونه بدعوة هذه الأمة إلى الإسلام هو الاعتزاز السياسي بهم والتمتع العاجل بحمايتهم، وإنما يرجى هذا إذا وجهت الدعوة أولاً إلى ملكهم ورجال حكومته، هؤلاء قوم سياسيون يوشك أن لا يعتدُّوا بقول أمثالنا في بيان دين له ملوك وأمراء بدون استفتائهم فيه، فإذا نحن كتبنا رسالة الدعوة وبينا فيها أصول العقائد والأحكام في الإسلام وأهمها عند هؤلاء شكل الحكومة وهو كونها وسطًا بين الديمقراطية والدسقراطية المتطرفتين، مشروطًا فيها مشاورة أولي الأمر في الشؤون السياسية واستنباط الأحكام، وهم أهل الحل والعقد وأصحاب المكانة والرأي. فما يشعركم أنهم يراجعون في ذلك السلطان الذي يرون المسلمين يلقبونه بخليفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعترفون له بالرياسة الدينية، وإذا هم فعلوا فماذا تتوقعون من جواب السلطان، ومن مفتي الدولة الأكبر الملقب بشيخ الإسلام؟ قيل: ننتظر أن يكون الجواب تكذيب الرسالة، ولكننا نقول: إن هؤلاء العقلاء لا يستفتون حكومة شخصية مطلقة في شأن حكومة شورية مقيدة، بل يعتمدون على الدليل والبرهان، والاستشهاد على ما يدعون إليه بما مضت به السنة ونطق به القرآن، قلت: المسألة فيها نظر، تجب فيه إجالة الفكر. وهنا خاطر آخر، إذا قلنا لهؤلاء القوم: إن هذا الدين هو الدين الوحيد الذي حفظ أصله، وضبط تاريخه؛ فكتابه المنزل نقل بالتواتر الصحيح فهو يقرأ في مشارق الأرض ومغاربها كما كان يقرأه النبي وأصحابه، ويكتب في بلاد العرب والعجم كما كتبه حفظة الوحي وكتَّابه، وأن ما فسره وبينه من السنة العملية قد تواتر كذلك تواترًا حقيقيًّا لم تنقطع سلسلته في يوم من الأيام، وما يؤثر عن النبي وأصحابه من الأقوال، قد ضبط ضبطًا لم يعهد مثله في جيل من الأجيال، ومع هذا كله نفرض عليكم ما رضيه جماهيرنا لأنفسهم وهو أن تتبعوا في الدين رأي عالم من المجتهدين الذين أفتوا وعلموا بعد النبي وأصحابه بعشرات أو مئات السنين، ولا نبيح لكم أن تأخذوا الدين من كتابه المنزل وسنة نبيه المرسل، وتردوا الشريعة من ينبوعها الأول، فإن رضيتم بذلك عددناكم من المسلمين، وإلا كنتم في نظرنا من الضالين المضلين، إذا فصلنا لهم هذا القول أفتراهم يرضون بأن نكون لهم هداة مرشدين على رضانا بحرمان أنفسنا من الاستقلال بفهم الدين؟ أتراهم يتركون لنا ونحن دونهم في العلم ما نجحوا به من الاجتهاد والاستقلال، والاعتماد في قبول أي شيء أو رفضه على قواعد الاستدلال؟ أتراهم يرون من الخير لدولتهم وأمتهم، ولمسابقة الأوروبيين في ثروتهم وقوتهم، أن يتعبدوا في أعمالهم السياسية والمالية والمدنية، بأقوال التتارخانية والشرنبلالية والولوالجية، أو أمثالهم من كتب المالكية والشافعية، كلا إن البداهة لتقضي بأن أمثال هؤلاء المستقلين في كل شيء لا يقبلون إلا دينًا معقولاً مساعدًا على مسابقتهم للأمم الراقية في كل شيء فيستحيل أن يقيدوا أنفسهم بفهم رجال غير معصومين وجدوا في زمان كانت سياسته وحروبه ومدنيته ومعاملاته التجارية وغيرها مباينة لما عليه أهل هذا العصر مباينة تقضي باختلاف الأحكام، أو أن يدينوا باعتقاد العصمة لأئمة آل البيت عليهم السلام، ويأخذون ما يرويه عنهم الشيعة بالاستسلام؟ نحن نجزم بأن الإسلام دين الارتقاء الذي يناسب كل عصر فليس في كتابه العزيز ولا في سنته الثابتة التي لا خلاف فيها بين المسلمين ما يبطئ، بسير أمة مستقلة ومسابقتها لسائر الأمم ولكن في الأحكام الخلافية التي هي محل الاجتهاد بين الفقهاء ما لا يوافق مصالح الناس في كل عصر فالتزام أقوال بعض المجتهدين وأتباعهم في أحكام المعاملات والسياسات والأخذ بكتب أي طائفة من الفقهاء هو عائق لأمة تلتزمه عن مجاراة أمم لا تلتزم إلا ما ترى فيه في مصلحتها التي تختلف باختلاف ما يستحدث الناس آنًا بعد آن من ضروب التفنن في الكسب واستعمار الأرض. فمن يدعو اليابانيين إلى الإسلام يجب أن يكون عالمًا بالكتاب والسنة وما في هذا العصر من طرق مدنية الأمم والدول، وأن لا يلتزم الدعوة إلى مذهب معين وإلا كان من الخائبين، والويل لهذه الدعوة إذا جاءت من قبل شيوخ الرسوم المقلدين، وأين نجد هؤلاء الدعاة الهداة المهديين؟ ومن المسائل التي يجب إجالة الفكر فيها عند البحث في هذه الدعوة (مسألة الوطنية) التي يدعو إليها بعض الأحداث المتسممين بغواية أوروبا، أو إغوائها للمسلمين، ومن مقتضاها على ما يعرف القراء أن المسلم الياباني إذا جاء بلادًا إسلامية غير بلاده، وأراد الإقامة فيها يجب أن يُعَدَّ دخيلاً، وأن يسعى الوطنيون في مقاومته وعرقلة أعماله؛ لئلا يربح من بلادهم ما هم أحق به في شريعة الوطنية، وإن كانت أعماله خدمة لهم حتى في دينهم أو ترقية بلادهم، وإن كان لا يوجد في البلاد من يغني عنه فيها. إذا سرى سم هذا الضرب من الوطنية في كل قطر من الأقطار الإسلامية ألا يكون مانعًا من استفادة بعضهم بما يفضلهم به الآخرون من علم وعمل؟ إذا كان اليابانيون أنفسهم على هذه الطريقة فهل يهمهم من أمر المصري والسوري والمغربي ما يحملهم على إفادة إخوانهم في هذه البلاد بما أُوتوه من عزة وقوة وعلم وصناعة؟ ماذا ينتظر أهل مذهب الوطنية الكاذبة من دخول اليابانيين في الإسلام، ومن أصول مذهبهم أن الرابطة الجامعة بين الناس هي عصبية البقعة لا الدين ولا اللغة!! بل ولا السياسة فإن أحداث الوطنية في مصر لا يعدون العثماني السوري شريكًا لهم في وطنيتهم، ولكن الشعور بميل المسلمين في مصر إلى إسلام اليابانيين وباستفادتهم منه يدلنا على أن الرابطة الإسلامية لا تزال أقوى من الرابطة الوطنية التي يدعو إليها الأحداث الجاهلون. ولا ينسين المتمني لو يسلم اليابانيون، والباحث في دعوتهم ليعتز بإسلامهم في بلاده، وإن بعدت عنهم أنهم إذا قصدوا إلى الدخول في سياسة بلاد غير بلادهم فإن حكومتها إذا كانت إسلامية تناهضهم باسم الدين وعلماء الرسوم المقلدون يؤيدون حكوماتهم في أمثال هذه الأمور، بل هم عضد الحكام وأنصارهم في كل شيء فهم يفتون لهم بكفر اليابانيين لا سيما إذا كانوا لا يلتزمون في إسلامهم إتباع مذهب من المذاهب الأربعة في الأحكام واتباع الأشاعرة أو الماتريدية في تقرير العقائد، هذا إذا كانت الحكومة التي تقاومهم تنتسب إلى أهل السنة كالدولة العثمانية أو إتباع مذهب الشيعة إذا أرادوا الدخول في سياسة الدولة الإيرانية. وبذلك يكون دخولهم في الإسلام لأجل السياسة فتنة للمسلمين لا يستهان بها، ولا يسهل الحكم بنتيجتها. وقد يقال: لو لم تستفد البلاد الإسلامية البعيدة عن اليابان من إسلامهم إلا الاستفادة المعنوية لكفى وأدنى هذه الفائدة أن تخفف أوروبا وطأتها عن المسلمين في مستعمراتها بل وفي الممالك الإسلامية المستقلة التي يعبث الدول باستقلالها كل يوم حتى صار مهددًا بالزوال والعياذ بالله تعالى، ولا يبعد أن يلهم الله ملوك المسلمين رشدهم فيخالفون هذه الدولة العزيزة إذا قضت حكمته بأن لا تنازعها على لقب (الخلافة) الذي كان بركان كل بلاء وعلة كل شقاء أصاب هؤلاء المسلمين ماضيهم وحاضرهم. أقول: وإن أمام هذه المخالفات ووراءها من مقاومة أوربا ما لا ينكره بصير، ولا فائدة لنا في الخوض فيه وإنما نودع هذا المبحث الجديد (تمني إسلام اليابانيين) من المسائل والخواطر ما يذكر الناسي وينبه الغافل

نصائح صحية للبنات من مجلة أبقراط

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نصائح صحية للبنات من مجلة أبقراط صحة الغنية وصحة الفقيرة. منفعة العمل في الدار. مضرة قراءة الروايات. مضرة الخلوة. مضرة حكايات الخوادم والعجائز. مضرة تلوين الوجه. مضار الزار وأمراضه وحقيقته. جاء في باب صحة العائلات من مجلة أبقراط الطبية ما يأتي بنصه: (أيتها الفتاة الصغيرة إن عمرك الآن لا يتجاوز الثلاثة عشر، ولكن ألا تدرين أن هذه الثلاثة عشر ستكون عشرين، ثم ثلاثين، ثم أربعين، ثم ما شاء الله؟ إني لا أظنك إلا عارفة بذلك. وها أنت متمتعة بالصحة خالية البال مالكة لأنواع السعادة تمرحين في بحبوحة من ثروة والديك فهل تستطيعين الصبر على ضياع شيء من ذلك؟ إني أعيذك بالله فإن الصحة والهناء لا يعوضان غير أني أرى شيئًا أريد أن أحدثك به لعلك تكونين على بينة منه. أرى أن الفتاة الفقيرة تقضي عمرها في عافية لا مزيد عليها، والفتاة الغنية كل يوم عندها طبيب يعالجها، فلماذا؟ إذا كنت لا تعرفين فأنا عارف ويمكنني أن أعرفك أن الفتاة الفقيرة خادمة أبيها وأمها وإخوتها، وربما كانت خادمة لغيرهم أيضًا، والفتاة المتوسطة هي خادمة نفسها وزوجها إن كانت متزوجة، أو خادمة نفسها فقط، أما الفتاة الغنية بنت (البك أو الباشا) فليست بخادمة بل يخدمها الناس، ولا عمل لها لأنها ترى كل عمل إهانة لنفسها وتعبًا لذاتها. تأملي أيتها الفتاة قليلاً يظهر لك سر المسألة. العمل لا بد منه للفتاة مهما كانت مترفهة، وهو قرين الصحة. والبطالة نذير المرض عند الفتيات فعليك بالعمل ولو بسيطًا، وأحذرك من مطالعة الروايات فإنها تضر بالصحة ولست مكلفًا أن أبين لك السبب، ولديك في منزل والدك ألف عمل وعمل ولا أحسن من الخياطة والتطريز. مما يجب أن أحذرك منه أيتها الفتاة هو الجلوس وحدك لأنه مضر من جملة أوجه متعب للفكر، ومتعب للمعدة؛ لأن الفتاة التي تجلس وحدها تكون ساكنة ساكتة لا تتحرك وهذا موجب للإمساك وغيره. ولا أريد أن أقول لك لا تسمعي حكايات الخدامات والعجائز؛ لأنها تضر بالصحة إذ ربما تظنينني أمزح، مع أني لا أقول إلا حقًّا، والأسباب غير مجهولة غير أن الوقت لا يسمح لي بشرحها لك. ومتى صرت شابة في سن السابعة عشر مثلاً فإياك وتلك الألوان التي تستعملها بعض الفتيات، فإنها فضلاً عن خروجها عن حد الأدب تضر أيضًا بالصحة؛ لأنها مركبة من مواد سامة تضيع نضرة الوجه، وتجعل للجلد ثنيات كتلك التي تظهر على وجوه العجائز. ولا تشدي خصرك بهذه (الكورسيه) المعروف (بالبوسطو) لأنها تؤذي الظهر، وتسبب أمراض المعدة والأمعاء، وتعطل حركة التنفس، وحركة الهضم وكذلك لا تستعملي الأساور الزجاجية التي تدخلين يديك فيها بالعنف؛ فإنها فضلاً عن ضررها أصبحت من زينة النساء الباغيات، وليس فيها من البهجة شيء. ولا يخفاكِ أن لبعض الأخلاق تأثيرًا كبيرًا على الصحة؛ فالكبرياء لا تصحب إنسانًا إلا وكانت له علة لدوام انقباض صدره، والاستبداد يجعله في كدر دائم لكثرة المعارضين، والعوائد مثل الأخلاق أيضًا؛ فإياك والتدخين لأن الفتاة التي تشرب الدخان يصفر وجهها وتضعف ضعفًا شديدًا، ومتى صارت كذلك تحتاج للألوان التي تستعمل لإخفاء صفرة الوجه، وهذه الألوان قلنا: إنها تضر أيضًا. وعندي مسألة أريد أن أتحفكِ بها أيتها الفتاة، ولكنها تحتاج إلى إمعان النظر وعدم التعصب، وتحكيم العقل وهذه المسألة هي: هل الزار حقيقي؟ وهل هو مفيد للصحة؟ وهل له اسم عند الأطباء؟ وهل يمكنهم أن يعالجوه كباقي الأمراض؟ ولماذا يهيج بالطبل والبخور؟ وما السر في تكلم العفريت على لسان المصابة إذا كان هناك عفريت ... إلخ؟ وأنا الآن أبين لك هذه المسائل واحدة فواحدة. الاعتقاد يجر إلى النفس انفعالاً والانفعال له تأثير على الجسم، ومتى عرفنا هذه المقدمة الصغيرة تمكنا أن نبحث في تلك التفصيلات الطويلة العريضة. أما كون الزار حقيقيًّا فهذا مما لا شك فيه وهو موجود في سائر أقطار المسكونة غير أن حقيقته غير الحالة الظاهرة في القطر المصري لأن الشائع هنا هو أن المصاب به مس من الجن أو الأولياء مع أن هذا الاعتقاد فاسد، ومن العجب أن كثيرًا من الناس إذا قال لهم أحد: إن الجن أو الأولياء ليس لهم دخل في الزار، يقولون: إنه لا يصدق الشرع. حالة كون جميع الشرائع تخدم الاعتقاد بذلك وأكبر دليل على فساد هذا الزعم أن لهذا المرض أطباء يعالجونه وينجحون في معالجته نجاحًا بينًا ولو كان من الجن أو الأولياء لما أمكن الطبيب مداواته وليست مجلتنا شرعية حتى نتكلم فيها على الأولياء أو مجلة عمومية فلسفية فنتكلم على الجن. تسمع المرأة أو الفتاة أن في بيت إحدى قريباتها أو خليلاتها ليلة زار فلا يهدأ بالها إلا إذا كانت ذات نصيب من تلك الليلة خصوصًا إذا كانت مدعوة إلى الحضور فتروح سليمة متعافية أو مريضة منهوكة ولكنها لا تشعر بشيء، ومتى حضرت مجلس الزار، وسمعت الطبل واستنشقت رائحة البخور جاءها العفريت أو الشيخ كما يُقال، وتعود إلى منزلها في أشد التعب ثم تشعر بنشاط لا يمكث إلا قليلاً ثم تزداد الآلام فيما بعد فيقولون: إن الشيخ قد غضب، وهكذا وهي لا تعلم بحقيقة الحال، ولا يزال هذا دأبها حتى تكون من الهالكين مع أنها لو عرفت أن هذا من الأمراض العصبية ويسميه الطبيب تشنجًا، ويمكنه مداواته لتخلصت من تلك المصائب. لعلك أيتها الفتاة تقولين: إنك قد قلت أن المصابة تشعر بنشاط بعد الزار فكيف ذلك إن كان الأمر غير حقيقي؟ فأضرب لكِ مثلا: إذا جئت بعصا رفيعة وضربت بها ضربات خفيفات متواليات على خاصرة القدم (بطن الرجل) فإنك تجدين لذلك لذة كما لو وضعت قطعة صغيرة من الثلج بين كتفيك، وهذه ليست لذة ولكنها ألم في الحقيقة كاللذة التي توجد في الزار، وأما النشاط الذي يحدث بعد ذلك فلا يحتاج لبحث؛ لأن كل مضرة تزول يحدث بعدها نشاط ثم يعقبه رد فعل أو (نكبة) وهذا معنى ذلك. أما النساء اللواتي يُرى عليهن هذا العارض فعلى قسمين: الأول النساء اللاتي يصرعن عند استنشاق الروائح سواء كانت كريهة أو عطرية، أو عند الغضب أو سماع الأصوات المزعجة كدق الطبل ورنة الموسيقى أو عند الفزع من أمر فجائي، أو التأثر من أي شيء، مهما كانت واسطته، وهذا الفريق من المصابات، أو المصابين عندهم مرض عصبي يمكن الطبيب أن يعالجه فعلى من شعر به أن يبادر إلى التعالج قبل أن يستفحل الأمر. والقسم الثاني: هو النساء اللاتي يرقصن على رنة الآلات المستعملة لهذه الغاية رقصًا منتظمًا، ويتكلمن كلامًا يوهمن به أنهن مختلطات بالجن أو الأولياء ويطلبن أشياء من أزواجهن، ويمسسن بأيديهن على رؤوس الأطفال لتحصل لهم بركة الولي، أو رعاية العفريت، وهذا القسم من النساء خليعات لا دواء لهن غير الزجر والإهانة والتكذيب؛ فإنهن مدعيات، وكلهن ذوات الثروة أو الأزواج الأغنياء، ومن يلاحظ أن المرأة الغنية التي تحضر مجالس الزار إذا افتقرت يفارقها الزار، وهي تعرف حقيقة الأمر) . اهـ.

تاريخ الإصلاح في الأزهر أو أعمال مجلس إدارة الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ الإصلاح في الأزهر أو أعمال مجلس إدارة الأزهر من أراد أن يعرف حقيقة الأزهر وما كان عليه قبل أن ينتدب الأستاذ الإمام عليه الرحمة لإصلاحه، وما كان من هذا الإصلاح فيه مدة اشتغال ذلك المصلح في إدارته فليقرأ كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر) فإنه تاريخ رسمي للإصلاح ولحال المكان والمكلين وثمن النسخة منه أربعة قروش، ويسمح لمن كان أزهريًّا بربعها وهو يطلب من مكتبة المنار وغيرها.

تفسير الفاتحة ومشكلات القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفسير الفاتحة ومُشْكِلات القرآن كنا جردنا تفسير الفاتحة من المنار، وضممنا إليه ما كتبه الأستاذ الإمام -رحمه الله تعالى - في المسائل التي ينتقدها أعداء الإسلام على النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن كمسألة الغرانيق، ومسألة زيد وزينب ومسألة القدر وطبع ذلك كله في كتاب نفدت نسخه سريعًا وألحَّ علينا الكثيرون بطبعه ثانيةً فطبعناه مع زيادة بيان وفوائد وضممنا إليه ما كتبه الأستاذ الإمام في رواية سحر اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام فجاء كتابًا جامعًا لأهم ما يؤثر عن فقيدنا في الإرشاد القويم. وقد كان الكتاب يباع أخيرًا بخمسة قروش صحيحة فرأينا أن نعيد ثمنه إلى قرشين ونصف قرش (25 مليمًا) على ما زدنا فيه وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر. ومن طلب أن يرسل إليه في البريد فليرسل ثلاثة قروش صحيحة.

إحصاء رسمي لخسائر الدولتين في الحرب الأخيرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إحصاء رسمي لخسائر الدولتين في الحرب الأخيرة رأينا في جرائد مصر وسوريا والهند عدة إحصاءات لخسائر الحرب بين روسيا واليابان فاخترنا منها الإحصاء الآتي الذي نشر في جريدة (ثمرات الفنون) وهو: اهتم الإحصائيون السياسيون اهتمامًا شديدًا لوضع الإحصاءات الدقيقة لخسائر الحرب الروسية واليابانية، وقد نقلت إحدى الجرائد الروسية إحصاء رسميًّا قالت أنه أدق وأضبط إحصاء يوثق به وإليك بيانه: الخسائر الروسية البرية اسم الموقعة ... ... قتلى وجرحى ... ... أسرى ... ... مدافع تيورنتشان ... ... 2500 ... ... 350 ... ... 28 كينتشاو ... ... 2500 ... ... 400 ... ... 52 وافنغو ... ... 5000 ... ... 300 ... ... 15 لياوان ... ... 30000 شاهو ... ... 70000 ... ... ... 16 ... هيواتياي ... ... 10000 موكدن ... ... ... 110000 ... ... 40000 ... ... 40 بورارثور ... ... 20000 ... ... 30000 ... 456 ... ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإجمالي ... ... 250000 ... 71050 ... 607 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *** ... الخسائر اليابانية البرية اسم الموقعة ... ... جرحى وقتلى ... ... أسرى ... ... مدفع تيورنتشان ... ... ... 900 ... ... ... كينتشاو ... ... ... 5000 وافنغو ... ... 1500 لياوان ... ... 50000 شاهو ... ... ... 30000 ... ... ... ... ... ... 12 ... ... هايواتياي ... ... 9000 ... ... 300 ... ... ... موكدن ... ... ... 60000 ... ... ... ... ... ... 3 يورارثور ... ... 70000 إلى مائة ألف ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإجمالي ... ... 226400 ... ... 300 ... ... 15 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ *** خسائر الروس البحرية اسم الطراد ... ... ... ثمنه بملايين فرنك بورودينو ... ... ... (أغرق) 35 إسكندر الثالث ... ... (أغرق) 35 سوفوروف ... ... ... (أغرق) 35 أريول ... ... ... (أسر) 35 رتفيزان ... ... (أخرج من البحر) 35 سيسوي ... ... ... (أغرق) 35 نافارين ... ... ... (أغرق) 15 بتروباولسك ... ... ... (أغرق) 25 بولتافا ... ... ... (أخرج) 25 سباسطبول ... ... ... (أغرق) 35 أوسلايبا ... ... ... (أغرق) 30 يبرسفيت ... ... ... (أخرج) 30 يوبيدا ... ... ... (أغرق) 30 نقولا الأول ... ... ... (أسر) 30 *** مدرعات لحماية الشطوط أوشوكوف ... ... ... (أغرق) ... 10 ... ... أبركسين ... ... ... (أسر) ... 10 سينيافين ... ... ... ... (أسر) ... 10 ديريك ... ... (أغرق) ... 15 ابايان ... ... (أخرج) ... 20 ... ناخيموف ... ... ... (أغرق) ... 15 فلادمير مونوماخ ... ... ... (أغرق) 15 بالادا ... ... (أخرج) ... 13 فارياج ... ... (أخرج) ... 15 نوفيك ... ... (أغرق) ... 10 بوريارين ... ... ... ... (أغرق) 10 جيتمشوج ... ... ... ... (أغرق) 10 أزمرود ... ... (أغرق) 10 ومجموع ذلك كله 28 دارعة بين طرادات وحراقات وغواصات، وينبغي أن نضيف إلى هذا العدد عددًا من سفن الشحن التي أغرقت أو أسرت، ولا يقل عددها عن 20 وبضعة من الغواصات، ومثلها من الزوارق، وقد بلغ ثمن مجموع الأسطول الذي خسرته روسيا سبعمائة مليون فرنك، والأنكى من كل ذلك أن معظم سفن أسطولها وقع في قبضة اليابان. أما اليابانيون فقد خسروا في البحر طرادين وحراقتين فقط وقد بلغت خسارة الروس الحربية بوجه عام نحو 5 أو 6 مليارات فرنك، أما خسائر اليابان فبلغت من 3 إلى 4 مليارات فرنك. وبلغ ما اقترضته روسيا أثناء الحرب مليارًا و574 مليون فرنك، وبلغ ما اقترضته اليابان مليارين من الفرنكات. وهذا ما ترجمته الثمرات، وقد أصلحنا فيه غلطًا في الأرقام. ورأينا نحوه في جريدة (حبل المتين) الفارسية ومجموع خسائر اليابان البرية فيها 216400.

تبرج النساء وأنصار الحجاب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تبرج النساء وأنصار الحجاب كتبنا في الجزء الثالث نبذة في الشكوى من تبرج النساء بمصر حثثنا فيها أنصار الحجاب على إعمال أقلامهم في الانتقاد على هذا التبرج القبيح الذي يتبرأ منه الدين والأدب، ولا ترضاه المدنية الأوربية التي أسرفت في إطلاق العنان للنساء إسرافها المعروف؛ إذ صارت حال نسائنا المسلمات في الأسواق والشوارع أبعد عن الصيانة والأدب من حال نساء الإفرنج، كانت حملتنا شديدة على حملة الأقلام الذين أنكروا على الأقوال في المسألة، وسكتوا عن الأفعال التي يشاهدونها حيثما توجهوا، وغرضنا بذلك حفز الهمم لانتقاد التبرج في الصحف المنشرة، وإزعاجها إلى تسفيه الرجال الذين يسمحون لنسائهم بهذا التهتك. ندبنا أولئك الكاتبين فلم ينتدب منهم أحد للكتابة في انتقاد الفعل، ولكن وجد ممن كان أَلَّفَ في المسألة من انتقد علينا القول، وله وجه من حيث إن عبارتنا توهم أننا لا نعتقد بإخلاص أحد ممن كتب وألف ولا غيرته، وإننا نرفع هذا الوهم بالتصريح كما رفعناه آنفًا بالتلميح؛ إذ قلنا: إن الغرض من القول: الحفز والإزعاج إلى الانتقاد فنقول: إننا نعتقد إخلاص بعض الكاتبين حتى المختلفين فيما كتبوا ولكن المخلص في تفنيد قول يراه خطأ لا يسلم من تبعة التقصير في انتقاد الأفعال الخاطئة إذا كان غيورًا مخلصًا، وإننا لم يتمثل لنا عند كتابة تلك النبذة إلا الذين ذكرنا أنهم سودوا وجوه الصحف في الإنكار على طالب تخفيف الحجاب وعنينا بالصحف الجرائد اتباعًا للعرف ولم نقصد واحدًا معينًا منهم. وإننا لا نزال نبدئ القول ونعيده في المسألة معتقدين أن حملة الجرائد على هذا التبرج وتشنيعها على الرجال الذين يمكنون نساءهم منه ويرضون لهن به يفيد فائدة عظيمة، وأن سكوت الكتَّاب عنه ينافي الغيرة، وأن أولى الكتَّاب بهذا الانتقاد المرة بعد المرة هم الذين فاضت بكلامهم أنهار الجرائد ردًّا على كتاب تحرير المرأة وكتاب المرأة الجديدة، وأنهم إذا استمروا على سكوتهم كان قولنا الذي قصدنا به المبالغة في حثهم غير مبالغ فيه، وإذا كان لبعضهم مانع من الكتابة اليوم فلا يصح أن تغلبهم الموانع في سائر الأيام.

موعظة وعبرة في وفاة حرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ موعظة وعبرة في وفاة حرة في منتصف شهر شعبان الماضي، توفيت إلى رحمة - الله تعالى - فاطمة بنت الأستاذ الإمام الكبرى، زوج محمد بك يوسف بمرض مفاجئ قضى عليها بعد أسبوع من نزوله بها، وكانت قد رأت نفسها في النوم مع والدها في روضة، فَعُبْرت الرؤيا في المرض بأنه مرض الموت، فأوصت بأن لا تُنعى، وأن تشيع جنازتها على السُّنة، فلا يمشي أمامها قراء ولا منشدون، ولا حملة الرياحين ونحوهم، وأن لا تكفن بحرير، وأوصت بأن يوقف عشرة فدادين من أطيانها على الأعمال الخيرية، وخصت بعض ذوي القربى ومن كان يواسيهم والدها بشىء من الريع، وقد شُيعت جنازتها كما أوصت. ولعلها أول امرأة في مصر أوصت بمثل هذا في عصر يحكم النساء فيه على الرجال حتى العلماء بالمحافظة على هذه البدع الذميمة! فهكذا تكون بنات العلماء العاملين. هذه هي العبرة التي لأجلها ذكر المنار وفاة امرأة فضلت الرجال باتباع الدين حية وميتة، وأذكر من فضلها - رحمها الله - أنها لم تخرج في جنازة والدها ولم تكن تتردد لزيارة قبره، ولكنها قبيل أسبوع المرض زارت القبر، وعادت تقول: إن في جانب قبر والدي مكانًا آخر لا بد أن أدفن فيه، وقد كان ذلك. كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أول رجل معروف ترك بدع الجنائز والمآتم جهرًا عندما مات والداه وبعض ولده، حتى إنه لم يكن يحتفل الاحتفال الذين يسمونه (الميتم) تحريفًا عن المأتم، ويتوهم الجاهلون من قول الجرائد: إن مأتم فلان سيكون ثلاثة أيام عملاً بالسنة - أن الاحتفال المعتاد هنا مسنون، وأن النبي والصحابة كانوا يجتمعون كل ليلة من الثلاث في دار الميت أو عند بيته حيث تعد لهم المقاعد ويهيأ لهم الخدم فيخوضون في شجون الحديث والقرآن يتلى. حاش لله، ما جاءت السنة بمثل هذا، وإنما مضت السنة بأن المصاب لا يعزى بعد ثلاث؛ لأن التعزية بعدها تذكير بالمصيبة، ثم إن كثيرًا من الكبراء أصحاب العزائم قد تركوا بدع الجنائز، وناهيك برياض باشا؛ فإنه عندما توفيت زوجه لم يشيع جنازتها بالأناشيد أمامها ولا بالفراشين المؤتزرين بالحرير الحاملين للرياحين في شبه المباخر من الفضة كما يفعل الأغنياء تقليدًا لمباخر النصارى، وفعل مثل ذلك كثيرون من العلماء والوجهاء، فلا عذر بعد هذا لمن يعتذر عن عدم ترك هذه البدع بالمحافظة على التقاليد والعادات.

الدين في نظر العقل الصحيح - 5

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الدين في نظر العقل الصحيح لصاحب التوقيع محمد توفيق صدقي تتمة المقالة الثالثة الرقيق وإصلاح حاله وتحريره قُضي على البشر أن يستعبد بعضهم بعضًا من قديم الأزمان، فلم تخل أمة من الاسترقاق واختطاف الناس للتجارة فيها، عومل الرقيق بضروب من القسوة في سائر الشعوب بما يجعل وجه الإنسانية يحمرّ خجلاً وقلب المؤمن ينفطر من الله وجلاً، ولكن هكذا كان وهكذا حصل. أتى الإسلام فرقّ لحالهم كما كان شأنه لجميع الضعفاء، منع الاسترقاق بتاتًا إلا أن يكون في حرب شرعية مع قوم لم يؤمَن أذاهم من غير المسلمين، وبهذه القاعدة سد أكثر ينابيعه وغلق أبواب الظلم والعدوان، أمر بالإحسان إلى الأرقاء ومعاملتهم بالرفق واللين، فقال: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى} (النساء: 36) إلى أن قال: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 36) ونهى عن لطم المملوك وضربه وجعل كفارة ذلك العتق، فقال عليه الصلاة والسلام (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه) وليس هذا فقط، بل قال: (إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم) وقال: (لا يقل أحدكم عبدي أمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي) وحث على تهذيبهم وتعليمهم في مثل قوله: (من كانت له جارية فعلمها وأحسن إليها وتزوجها كان له أجران) هذا، وقد أمر الله تعالى بتزويجهم، فقال في القرآن الشريف: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ} (النور: 32) . وإذا افترش السيد أمته فولدت له كان الأولاد أحرارًا ويرثون في أبيهم إلى غير ذلك من القواعد العادلة التي لم تأت بها شريعة قط، وليس هذا كل ما فعله الإسلام بأولئك الضعفاء، بل جعل تحرير الرقاب كفارة لكثير مما يقع من الإنسان مخالفًا للدين، حتى في أبسط المسائل كالحنث في الأيمان، فقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} (المائدة: 89) إلى أن قال: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (المائدة: 89) وليس هذا فقط، بل أمر بجمع الأموال (الزكاة) من الأغنياء وصرف جزء منها في تحرير الرقاب {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} (التوبة: 60) إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} (التوبة: 60) الآية، وكرر حث ذوي اليسار على ذلك المرة بعد المرة: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (البقرة: 177) إلى أن قال: {وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى} (البقرة: 177) إلى قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} (البقرة: 177) وقال أيضُا: {فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ} (البلد: 11-13) إلى غير ذلك مما يطول شرحه، أليس ما أتى به القرآن منذ قرون هو ما تفتخر به المدنية الحديثة وتتيه إعجابًا به؟ يزعم دعاة المسيحية أن ما قام به الأوربيون في الزمن الأخير هو من آثار دينهم فيهم، ولكن الحقيقة أن ذلك نتيجة الرقي العقلي والعلمي الذي وصلوا إليه عن قريب ولا دخل للدين فيه، وإلا فلماذا قضوا القرون العديدة في استعباد الناس على أشنع الأحوال! ! وهل ورد في المسيحية كلمة واحدة عن تحرير الرقيق؟ الذي ورد فيها هو أمر الأرقاء أن يطيعوا مواليهم مع الخوف والرعب كما يطيعون المسيح - عليه السلام - وأن يبالغوا في حسن القيام بخدمتهم تمجيدًا لتعاليمه عليه السلام، كما يقول بولس في رسائله، وقد وافق على ذلك بطرس الحواري في رسالته الأولى حيث أوصى العبيد بأن يخضعوا لساداتهم ويخشوهم فأين هذا من ذاك؟ وأين الثرى من الثريا. ولِمَ لَمْ يهتم المسيح بشأن العبيد! ويرق لحالتهم كما رق الإسلام وَيَنْهَ عن الاسترقاق متبعيه، أو يأمر باستعمال الرفق بهم واللين ولو بجملة واحدة؟ يقولون: إنه لم يأت ليسن شرائع أو ينسخ ما كان موجودًا منها، ونقول ردًّا عليهم: لمَ حرَّم الطلاق والتزوج بالمطلقة والتعدد في الزوجات، أما كان يمكنه أن ينهى الناس عن استعمال القسوة على الأقل مع أولئك الضعفاء؟ وإذا قدر على الأول فكيف لم يقدر على الثاني مع أن الأول أشق على النفوس من الثاني [1] . هذا والحق يقال: إن ما أتى به الإسلام لم يأت بمثله دين على وجه البسيطة ولو كان المسلمون في درجة الأوربيين مدنية وعلمًا لكانوا أولى الناس بذلك العمل العظيم وهو تحرير الأرقاء الذي لم يعرفه غير دينهم، ولكن قضى الله أن يكون المسلمون حجة على دينهم كما كان يقول حكيمنا الأستاذ الإمام قدس الله روحه. *** أصناف آخرون رعاهم الإسلام بعين رعايته (الفقراء والمساكين) قضت الحكمة الإلهية أن يكون الناس مختلفين في الدرجات ما بين غني وفقير أو صعلوك وأمير إلى غير ذلك من أنواع الاختلافات التي قامت بسببها الأعمال في الأرض ودارت حركة الاشتغال وكثرت المنافسات في الحصول على العيش والارتقاء، جاء الإسلام فقرر هذه القاعدة العمرانية {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً} (الزخرف: 32) وخالف بذلك من أراد أن يجعل المعيشة اشتراكية لأن ذلك هدم للنظام ومدعاة للكسل وترك الأعمال وإيقاع للبشر في مهواة الفقر والفاقة والتقهقر، ولذلك لم ينجح ولن ينجح من حاول تبديل خلق الله ولكن من الاختلاف نشأ مرض التباغض في جسم الهيئة الاجتماعية فحقد الفقير على الغني وأراد به السوء، فأفهم الإسلام هؤلاء البائسين حكمة الله في ذلك وأمرهم بالتزام الصبر والرضا بقضائه ووعدهم خيرًا في الآخرة، ثم عطف على الأغنياء وألزمهم أن يعطوهم شيئًا من أموالهم مساعدة لهم في معاشهم، وكرر ذلك المرة بعد المرة، حتى إنك قلما ترى سورة من القرآن خالية من ذلك (وآتوا الزكاة) فاستلَّ بذلك ضغائن أهل الفاقة، ومحص صدورهم من الغل، فأي دواء أنجع من هذا؟ وأي دين أوجب ذلك كما أوجب القرآن وميز بين الصدقة والزكاة؟ (الأيتام) لم يهمل الإسلام شأنهم، بل حافظ على حقوقهم وحرم اغتيال شىء من مالهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء: 10) ونهى عن إغضابهم وإذلالهم فقال: {فَأَمَّا اليَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ} (الضحى: 9) وحث على إطعامهم في نحو قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} (البلد: 14-15) . (ابن السبيل) عندي أن اللقيط أجدر بهذا اللقب من المسافر وغيره، فإن لم يكن هو المراد بهذه التسمية وحده فليكن مما يدخل في عمومها، وإن كان اللقطاء في بلاد الإسلام قليلين وعليه يكون القرآن قد أمر بصرف جزء من الزكاة في تربيتهم وإعدادهم لأن يكونوا نافعين للمجتمع الإنساني، فأي شىء يفتخر به الغربيون لم يوجد في ديننا؟ وأي دين وجد فيه ما يمكن أن يفهم منه هذا المعنى بصراحة مثل ذلك؟ [*] . *** الخمر والميسر ولحم الخنزير نهى القرآن نهيًا صريحًا عن هذه الأشياء الثلاثة بما لا يقبل تأويلاً، ولم يرد عن نبيه أنه حول الماء خمرُا معجزة له ليشربه الناس، ولم يأت في عبادات الإسلام ما يشرب فيه الخمر على أنه دم الإله تعالى وحكمة تحريم الخمر والميسر لا تخفى على أحد، وأما لحم الخنزير فقد سبق أننا كتبنا في المنار في إحدى السنين الماضية ما فيه من المضرات التي هي علة تحريمه ونجاسته. *** مصالح الدنيا أباح القرآن بعد ذلك الطيبات أكلاً وشربًا وزينة ولباسًا - اقرأ أوائل سورة الأعراف - وأمر بالسعي والعمل وتصريف الأعضاء فيما خلقت لأجله {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15) {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) فلم يحث على زهد أو رهبانية أو إخصاء أو نحو ذلك مما هو عقبة في سبيل الرقي والتقدم (انظر مثلاً إنجيل متى إصحاح 19: عدد 10-12) . وجملة القول: إن الإسلام لم يدع أصلاً من أصول الإصلاح إلا أتى به، ولكن العمل بما قال به الفقهاء المقلدون لا بما دل عليه اللفظ والأسلوب في الكتاب ولا فضيلة إلا قررها فهو وحدة الدين الكامل بلا شك ولا مراء، ولا يراد بالدين والأنبياء إلا أن يكونوا كالطب والأطباء لأمراض الاجتماع، ولا يعرف قدر الدين إلا بقدر شفائه للأدواء، فهل هناك دواء شافٍ لمن تعاطاه غير الإسلام، لهذا أخذت الأمم تقرب منه يومًا بعد يوم إلى أن يتحقق نبأ الغيب {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) . *** المقالة الرابعة وهي الخاتمة (في رد بعض شبهات) إذا قامت في نفس الإنسان شبهة ولم يمكنه أو لم يرغب إزالتها أعمته عن قوة البراهين، ولو كانت تلمس باليد وصارت عقبة في سبيل فهمه لها، وكلما ناداه منادي العقل والإنصاف أن أذعن، صاح به شيطان الشبهة أن لا تغتر، وإلى غير اعتقادك لا تركن، ولذلك تجده يقرأ من البراهين، ما هو آيات للمستيقنين، ولا يزداد إلا جمودًا وللحق جحودًا، فلهذا رأيت أن أختم مقالاتي السابقة برد ما أعلم أنه العقبة الكبرى أمام اقتناع الكثيرين ممن يقرأونها وهم غالبًا صنفان، إما أن يكونوا ممن أثرت في عقولهم نظريات الماديين، وإما أن يكونوا من المسيحيين. شبهتان للماديين في القرآن أما الأولون فأعظم ما يشتبه عليهم ذكر قصة آدم في القرآن، وخلق العالم في ستة أيام؛ لأن ما عندهم من نظريات (داروين) وغيرها يحول دون التسليم بما ورد في الكتاب، ولي كلمتان أقولهما لهذا الصنف من الناس (الأولى) أني أقر وأعتقد أن مذهب (داروين) هو أسمى ما وصل إليه الفكر البشري لحل معميات هذه المسائل (الآثار الجيولوجية) الأعضاء الأثرية، التشابه العظيم بين الحيوانات وخصوصًا بين أجنتها وغير ذلك من المسائل العلمية في عالمي الحيوانات والنباتات التي لا يمكن تعليلها الآن بأحسن من هذا المذهب؛ ولكن لا ينتج من ذلك أنه هو الحق الذي لا يصل البشر إلى تعليل آخر غيره، فكم من نظريات عمل بها العالم أجيالاً وقرونًا في تفسير كثير من المسائل وقد اعتقدنا الآن خلافها، أما كنا في الزمن الأول نعتقد أن العناصر أربعة فقط (الهواء، والنار، والماء، والتراب) أما كنا نعتقد أن الأرض هي مركز العالم وأن الشمس والسيارات تدور حولها؟ أما كنا نعتقد صحة خبطهم وخلطهم في أمزجة الإنسان وأسباب الأمراض ومعالجتها؟ أما كنا نعتقد بكل هذه المسائل وغيرها ونظن أنها الحق الذي ما بعده إلا الباطل؟ فما هو اعتقادنا اليوم؟ أترك القارئ ليتفكر في هذه المسألة وليستحضر في ذهنه تلك الدهور الغابرة. (الكلمة الثانية) لم يرد في القرآن الشريف نص قطعي على أن آدم أول بشر خلق على وجه الأرض ولا على أنه أبو جميع الناس ولا على أنه خلق مباشرة من التراب بل وجد فيه ما يشير إلى خلاف هذه المسائل ومثل ذلك قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ ف

تقرير مشيخة علماء الإسكندرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير مشيخة علماء الإسكندرية سنة 1322 الدراسية (تمهيد) جاء في كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر) ما نصه: في 29 المحرم سنة 1321 و27 أبريل سنة 1903 صدرت الإرادة السنية بإلحاق التدريس والامتحان في ثغر الإسكندرية بالجامع الأزهر، ومضمون الإرادة: (إن الجناب العالي وافق إرادته العلية أن تكون الإسكندرية ملحقة بالأزهر في التدريس والعلوم والامتحان وأن مجلس إدارته يضع لها القوانين والنظامات، ويرتب درجات العلماء الموجودين فيها وقت صدور هذه الإرادة ويحصر الأماكن التي تدرس فيها العلوم هناك وأن يكون ترتيب درجات علمائها بحضور ثلاثة من مشهوريهم الأقدمين) . ثم ذكر بعد هذا أن شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية - يعني الأستاذ الإمام رحمه الله - سافرا إلى الإسكندرية للابتداء بتنفيذ هذا الأمر - الذي كان من رغائب الثاني وأثر سعيه - فرتبا درجات العلماء، وأحصيا عددهم، واختارا الشيخ محمود باشا شيخًا لعلماء الإسكندرية، وبعد أن عادا اشتغلا مع مجلس إدارة الأزهر بوضع قانون لسير التدريس والامتحان في الإسكندرية فوُضع، ثم إن الشيخ محمود باشا أَبَى أن يكون شيخًا لعلماء الإسكندرية تابعًا للأزهر، فوقف العمل، واتفق أن جاء الشيخ محمد شاكر قاضي قضاة السودان في ذلك العهد إلى مصر بالإجازة فأراده أحد أعضاء المجلس (يعني الأستاذ الإمام) على أن يكون شيخًا لعلماء الإسكندرية فصادف منه ارتياحًا فأشار عليه أن يعمل ليصل إلى هذه الغاية فقام بالأمر خير قيام، ومهد لذلك باسترضاء الجهتين: جهة السودان لتوافق على نقله وجهة مصر لترضى بتعيينه شيخًا لعلماء الإسكندرية، وكلل سعيه فيهما بالنجاح فقرر مجلس الإدارة في 16 أبريل سنة 1904 انتخابه لهذه الوظيفة الجليلة، وأن يكتب إلى نظارة الداخلية لتستصدر الأمر العالي بذلك فكان ما طلبه المجلس وصدر الأمر العالي بتعيينه شيخًا لعلماء الإسكندرية في 10 صفر سنة 1322 و26 أبريل 1904 وانحل ذلك المشكل العظيم. اهـ ما أردت نقله من كتاب أعمال الأزهر. وأقول: إن الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - كان يتوسم في الشيخ محمد شاكر الهمة والنشاط في العمل ويعرف فيه حب النظام فلذلك اختاره قاضيًا للسودان أولاً، ثم شيخًا لعلماء الإسكندرية آخرًا، وهو الذي أقنع الحكومة السودانية بأن ترضى بنقله وأقنع مجلس إدارة الأزهر بطلب تعيينه وتسهيل السبيل له وانظر ما جاء عن مبادئ عمله في كتاب (أعمال مجلس الأزهر) قال مؤلفه: (قام شيخ علماء الإسكندرية الجديد بعمله أحسن قيام لما فيه من الفطنة وشدة الذكاء ولعلمه بما يجب لهذا الزمان الحاضر وعضده مجلس الإدارة الأزهرية وشيخ الأزهر أكبر التعضيد وسهل له الطريق في استعمال فكرته ولم يقيده بنظام سوى نظام الأزهر نفسه ونسخ له صور القوانين والقرارات التي يجري عليها العمل المستمر وقرر له كل ما طلبه في سير الأعمال وضبط نظامها وتكليف العمال بما يطلبه منهم فأمضى بقية سنته في ترتيب وتنظيم وفي تعويد العلماء على العمل وضبط المواعيد والمواظبة على إلقاء الدروس واستصدر أخيرًا من مجلس الإدارة قرارًا بحصر المساجد التي يكون فيها التدريس في ثمانية مساجد) ... إلخ. ثم ذكر أنه في آخر السنة الدراسية قدم تقريرًا إلى مشيخة الجامع الأزهر فصَّل فيه أعماله في تلك المدة وما يريده في السنة الجديدة. ونقول: قد تمت هذه السنة ووضع لها تقريرًا رفعه (للأعتاب الخديوية) لا لمشيخة الأزهر وهو موضع ما نكتب هنا بعد هذا التمهيد فنبدي رأينا في مسائله التي فيها مجال للرأي ثم في عبارته. مبحث التعليم الديني رأيه ورأينا في مقدمة التقرير كلام في فائدة عرض الأعمال على أصحاب الأفكار والآراء قال بعده: (وهذه خلاصة الأعمال في مشيخة العلماء بمدينة الإسكندرية وإن المشيخة ليسرها أن ترى ذلك اليوم الذي يتناول فيه كبار الكتاب أقلامهم لإفاضة البحث في ترقية التعليم الديني وإعلاء شأن معاهد العلوم الدينية استنهاضًا للهمم وترغيبًا في تربية الشبيبة المصرية من كل الطبقات التي تتكون منها الأمة تربية إسلامية مؤسسة على اتباع شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعلى العمل بما جاء به من عند ربه بحيث تكون دعائم التعليم لكل أبناء المسلمين هي تلك الدعائم التي بني عليها الإسلام، وهي الإقرار لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام حتى لا نرى في الشبيبة المصرية (وهم رجال الغد) من يجترئ على ترك فريضة أو سُنة أو يستطيع الصبر على مسلم يتركها وهو على فعلها قدير، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . *** (المنار) قد أحسن الأستاذ في عرض تقريره على محك النقد بما كتبه في هذه المقدمة وبما كتب به إلينا وإلى غيرنا من أصحاب الصحف. وإننا نبدأ بإبداء رأينا في هذه الجملة فنقول: إنه يعني بالشبيبة -وهي مصدر- الشبان، بل من دونهم من المميزين المرشحين، وما ذكره بشأن تربيتهم تربية إسلامية غير كافٍ على ما في العبارة من الإطناب الذي أفضى إلى التكرار إيضاحًا للواضح في قوله (على اتباع شريعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعلى العمل بما جاء به) وقوله بعد هذا (بحيث تكون دعائم التعليم) ... إلخ، لا يصلح تصويرًا وبيانًا للاتباع والعمل فإن التعليم غير التربية العملية، ثم إن الذي يجب أن يتعلمه كل مسلم من الإسلام ليس هو الإقرار لله بالوحدانية ... إلخ ما ذكره؛ لأن كل مسلم يقر هذا الإقرار ويسهل عليه أن يتعلم كيفية إقامة الصلاة في مجلس واحد وكذلك أحكام الصوم ولا يجب على مسلم تعلم أحكام الزكاة والحج إلا إذا كانا مفروضين عليه لغناه، ثم إن تعليم هذا الإقرار وهذه الأعمال لا يترتب عليه ما ذكره غاية له بقوله (حتى لا نرى في الشبيبة المصرية من يجترئ على ترك سنة أو فريضة) ... إلخ، فإن الأستاذ الكاتب يعلم كما نعلم أن عدد المسلمين الذين تعلموا هذه الأمور وعملوا بها لا يتناوله الإحصاء ولا يكاد يوجد فيهم من لا يجترئ ولا يصبر على ما ذكر. إن الأحاديث التي اكتفت في إجراء أحكام الإسلام على المرء بالشهادتين والعمل بالأركان الأربعة الأخرى؛ إنما هي في شأن الكافرين الذين يدخلون في الإسلام، فهذه هي الأمور الظاهرة التي يعدون بها مسلمين وقد كان ممن قام بالأركان الخمسة في الظاهر المنافقون الذين نزل فيهم من الآيات ما نزل، وقال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال، والمبتدئون من جهلة الأعراب الذين سلموا بظاهر الدين، ولم يفهموا عقائده بالبرهان المفيد اليقين إلا بعد حين وفيهم نزل {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} (الحجرات: 14) الآية. الغاية التي ذكرها إنما ترجى للكملة من الذين تربوا على الأصول الثلاثة في حديث جبريل المتفق عليه من رواية عمر وأبي هريرة وهي الإسلام المفسر بالأركان الخمسة التي ذكرها صاحب التقرير، وهي عبارة عن القسم العملي من عبادات الدين والإيمان وهو عبارة عن القسم الاعتقادي منه والإحسان وهو الأدب الكامل الذي هو أثر الاعتقاد الصحيح والعبادة القويمة والتهذيب المعتدل. ونعني بتربيتهم على هذه الأصول الثلاثة تعويدهم العمل بالعملي منها من أول النشأة بحسن القدوة لا بمجرد الطلب باللسان وتلقينهم العلمي منها بالدلائل التي يخضع لها العقل ويطمئن بها القلب. وجملة القول: إن عبارة التقرير في هذا المقام مضطربة وغير مبينة لما يجب من التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي ولا للضروري منه وهو: (1) العقائد الدينية على طريقة القرآن مع كشف الشبهات التي فشت في هذا العصر بين المسلمين من غير خلط بفلسفة اليونان وشبهات المبتدعة الذين انقرضوا ودرست مذاهبهم. (2) والآداب الدينية مع بيان فوائدها للمتأدب بها في نفسه وفيمن يعيش معهم بحيث يقتنع بتعلمها أن فيها سعادة الدنيا قبل الآخرة، ويتضح له ذلك بالتأدب بها فعلاً. (3) والأحكام العملية مع بيان أسرارها وفوائدها في نفس العامل وفي صلته بالناس الذين يعيش معهم على ما بينا آنفًا. هذا ما يذكر في دعائم التعليم الديني بالإجمال ونحث الكتاب على الترغيب في إقامة هذه الدعائم بتعليمها لأولاد المسلمين وتنشئتهم على العمل بها في البيوت وفي المدارس حتى يصير العلم بها مؤيدًا بالوجدان. وإنا لنعلم أن كاتب التقرير يقر هذا في نفسه، وإن لم تتناوله عبارته وله أن يقول: إن سيرته التي سيشرحها تتفق معه في الجملة، وإن كان اللاحق لا يدفع الإيراد السابق. ونحن لا نرتاب في حسن قصده وما قلناه بيان جاء في وقته. التعليم الإسلامي في الأغنياء والأعلياء ثم قال الأستاذ صاحب التقرير بعد ما تقدم: (ومما يجب أن يتنبه له عقلاء الإسلام وعظماء الأمة أن التعليم الديني قد كاد يكون منحصرًا في طبقات الفقراء وبعض الطبقات الوسطى من الأمة الإسلامية دون الطبقات العليا منها وذلك خطر غير قليل على الجامعة الإسلامية بمرور الدهور والأعوام إذا قدر أن ينتهي الأمر بانحصار التعليم الديني في تلك الطبقات فتكون الرئاسة الدينية منحصرة فيهم لا يتولاها سواهم من الطبقات الأخرى وبالتالي تكون كل الوظائف الدينية في أيدي أولئك الأقوام ومن خصائصهم وبعبارة أصرح تكون الفضائل والمزايا الدينية مجردة عن القوة المالية، والقوة المالية بعيدة عن المزايا الدينية، وبين أيدينا من نتائج هذا التفريق في القوى الفعالة وهذا التدلي في التربية الدينية ما يصلح عبرة لكرام القوم وخاصة المسلمين وعقلاء الأمة. (فلينظر العقلاء وسادات الإسلام إلى موقفهم هذا فلعلهم إذا فكروا فيه كثيرًا يترجح عندهم أن يتربى أبناؤهم تربية دينية إسلامية محضة تحت كفالة خيرة العلماء العاملين المرشدين حتى إذا تخرجوا على هذا المبدأ القويم كانوا أقدر على خدمة دينهم وأمتهم الخدمة التي ترجى من أمثالهم مع الترفع عن الدناءة وعن السقوط في مهاوي الخسران، وإذا شاء عظماء الأمة أن يتربى أبناؤهم هذه التربية فإنهم يساعدون على ترقية التعليم الديني ويجعلون له المكانة العليا في أفئدة الناس أجمع، وما ذلك على الله بعزيز، نسأله الهداية والتوفيق لأقوم طريق) . اهـ *** (المنار) هذه تتمة مقدمة التقرير، وجملة ما يقال فيها أنها من الخواطر الحميدة التي تسنح للأذكياء، وغرض الكاتب منها فيما يظهر دعوة أغنياء المسلمين في هذه البلاد إلى نظم أولادهم في سلك طلبة العلم الديني في الإسكندرية، والعناية بالإسعاد على هذا التعليم. وما من مسلم متفكر إلا وهو يتمنى أن يقبل الأغنياء مع الفقراء على تلقي العلوم الدينية والتأدب بأدب الإسلام، وإنها لأمنية لا تنال بالتعبير عنها في تقرير ولا بالدعوة إليها والترغيب فيها بالكلام المبهم. بل بترقية المدارس الدينية ترقية تجذب الغني إليها باعتقاد أن فيها سعادته في الدنيا قبل الآخرة بجمعها بين علومها مع الاقتصاد في الوقت على ما سنبينه بالإيجاز الذي تقتضيه الحال. لا يقدم الناس على شيء إلا إذا علموا علم إذعان بأنه خير لهم وأكفل لمصالحهم ودعوة الأغنياء إلى التعليم الديني لم تبن على بيان يودع نفوسهم من العلم بذلك ما يحملهم على إجابة الدعوة؛ فإن عبارة التقرير

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مسألة مكدونية) (أوربا وتركيا - أو الدين والسياسة) اشتد ضغط دول أوربا على دولتنا في هذه الأيام، يعرضن عليها أن يكون لهن مراقبون لمالية الولايات المكدونية، ويحملنها على إجابتهن إلى ما طلبن بالتهديد والوعيد. وما هذه المراقبة التي يطلبن إلا جعل إدارة تلك البلاد - وهي سياج عاصمة الدولة - أوربية محضة. وقد كنا حين نجم ناجم الثورة في مكدونية من نحو ثلاث سنين لا نخشى إلا من روسيا لأنها كانت تستعد للحرب فإذا هي تستعد لليابان التي جعلت استعدادها في البر والبحر هباء منثورًا. كتبنا في الجزء الأول لسنة المنار السادسة (سنة 1321هـ) الصادر في 30 مارس سنة 1903م نبذة في ثورة مكدونية قلنا فيها ما نصه: (ولقد كان الإنكليز عون الدولة العثمانية على روسيا فحال لون السياسة الجامعة بينهما، وتغير شكلها، وتبدل السلطان عاهل الألمان بالإنكليز، وهو ملك يَطْعَمُ ولا يُطْعِمُ، شديد الجشع، قوي الطمع، إذا رأى روسيا وقد جَدَّ جَدُّها يكتفي منها بلقمة كبيرة يلتهمها ويتركها بعد ذلك وشأنها، ولا يطوف في خاطر عاقل أنه يسمح بجندي ألماني واحد لصديقه السلطان، إذا نزل مع الروس في ميدان الطعان) اهـ وإذ ظهر لنا أن اليابان كفتنا الخوف من روسيا بما نكلت بها وبما أعقبت حربها إياها من الثورة التي كادت تدمر البلاد الروسية وتذهب بسلطانها المطلق وتقبض ظله عن الأرض فلنذكر ما كتبناه في تلك النبذة عما نخشاه من أوربا على تلك البلاد إذا أمنَّا روسيا، وعن اضطراب المسلمين لذلك ثم نقفي عليه بما حدث في هذه الأيام. قلنا هناك: كانت قلوب المسلمين في العيدين (أي عيدي سنة 1320هـ) محوّمة فوق بلاد مراكش تؤلمها فتنة الخارج كما تسوءها سيرة المالك، وقد دخلت عليها السنة الجديدة فاستقبلها همّ أكبر من هم مراكش - هم الدولة المسلمة الكبرى (وقاها الله تعالى) ولا خوف عليها إلا من روسيا فإذا كانت لا تريد سوءًا فدع البلقان يضطرم بنيران الثورة اضطرامًا ولا تخش مغبته فالدولة قادرة على تأديبه. وأسوأ عاقبة تنتظر حينئذ استقلال مكدونية أو وضعها تحت حماية الدول الكبرى على المذهب الجديد في سير أوروبا بالمسألة الشرقية -مذهب التفكيك وتحليل العناصر- وهذا المذهب خير لدول أوربا، وأسهل طريقًا من حرب الدولة لأجل الفتح والتغلب؛ لأن هذا يعوز الاتفاق على ما يتعسر الاتفاق عليه ويقتضي بذل أموال غزيرة وسفك دماء عزيزة. وهو خير للشرقيين أو المسلمين، وأسهل عليهم أيضًا؛ لأن كل عنصر ينحل من عناصر بلادهم وكل قطعة تنتقص من أرضهم تفيدهم عبرة كبرى وتعلمهم كيف يحفظ الباقي. فإذا لم يتعلموا بتكرار النذر وأنواع العبر، وكانوا يفتنون كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، فهم أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون. (مسألة مكدونية: مسألة عشواء، والحكم فيها غامض لما تقدم، ولأن النصارى فيها وفي جميع ما بقي تحت حكم العثمانيين من بلاد أوروبا وما يدانيها كبلاد الأرمن قد توجهت نفوسهم إلى الاستقلال واعتقدوا أن أوروبا نصيرة لهم وأن الذريعة الوحيدة لإثارة نعرتها عليهم وتصديها لفصلهم من جسم الدولة الثورات التي تضطر الأتراك إلى سفك قطرات من دمائهم تأديبًا لهم) اهـ. المراد منه. ثم كتبنا مقالة في الجزء الحادي عشر الصادر في (غُرة جمادى الثانية) من تلك السنة (1321هـ) رجحنا فيه أن استعداد روسيا الحربي، إنما كان لأجل توقع الحرب مع اليابان، وأن الخوف على دولتنا يومئذ إنما هو من الجانب الذي كانت ترجوه من قبل وهو إنكلترا وأوضحنا بعض الإيضاح ما عليه أوروبا من التحامل علينا ولا بأس بذكر شيء من ذلك هنا. قلنا بعد الكلام في عدوان البلغار وأخذها بمحضاة الثورة في مكدونية تعويلاً على مساعدة بعض الدول: (أيعقل أن تتحرش بلغاريا الضغيفة بالأسد التركي إلا إذا كانت واثقة بأن وراءها أسدًا أو أسودًا؟ إذا لم يكن الأسد الروسي الذي أعطى هذه البلاد استقلالها هو الذي يحميها من قرنه التركي فعلى أي الأسود تعتمد؟ الأقرب عندي أن يكون الخوف اليوم في موضع الرجاء بالأمس، فإننا لما كنا نسيء الظن بروسيا أحسنا الظن بالإنكليز حتى توقعنا أن يكون الغرض من زيارة ملكهم لفرنسا الاتفاق معها على عدم الرضى من روسيا بمحاربة تركيا لكيلا تساعدها فرنسا على ذلك، ولما ترجح عندنا الآن أن روسيا لا تريد حربًا ولا تضمر غدرًا (أي لنا) انعكس الرأي الأول وظننا السوء بإنكلترا وتوقعنا أنها قد اتفقت مع فرنسا على النفخ في نار الثورة.. إلى أن قلنا: إن سلوك أوروبا الجديد في حل المسألة التي يسمونها الشرقية ويعنون بها الإسلامية سلوك عجيب وأعجب صوره وأغرب أشكاله ما كان من نتيجة محاربة الدولة العلية لليونان فقد جعلت أوربا الدولة البادئة بالعدوان المغلوبة في ميدان الطعان، هي الفائزة بالنتيجة إذ جعلت ولي عهدها حاكمًا على ولاية عظيمة من ولايات الدولة المنتصرة (وهي جزيرة كريت) على أن تكون هي الحافظة والحامية لتلك الولاية، وما يدرينا لعلهم يريدون الآن سلخ ولايات مكدونية من الدولة بمثل تلك الطريقة، وهكذا يقطعون في كل مرة عضوًا من جسم الدولة يغذون به من يرونه أولى به حتى لا يبقى إلا الرأس والقلب فيسهل على الرءوس الاتفاق على الإيقاع به. إننا نرى دول أوروبا عابثة في كل حين باستقلال الدولة، ففي كل حادثة لهم أوامر تطاع ومناهي تجتنب، والدولة راضية، وكل ما تجنيه في بعض الأحيان لا يخرج عن مراوغة في تنفيذ بعض الأوامر أو إرجائها، وكلما تم للدولة ضرب من ضروب هذا الظفر الوهمي هتف المغرورون مع الغارّين. نحن أصحاب السياسة المثلى، والكلمة العليا. فإذا انتهى أجل الإرجاء، وحل اليأس محل الرجاء، سكتوا واجمين، أو خدعوا أنفسهم معتذرين. يقول الأوروبيون: إن الذي أذل تركيا وذللها لهم هو ظلمها لمن ليس على دينها من رعيتها لا سيما النصارى. ولنا أن نقول إن وجدنا سامعًا: إذا كانت هذه الدولة تظلم المخالفين لها في الدين فلماذا يهرب اليهود من مشرق أوروبا (روسيا) ومغربها (أسبانيا) إلى بلادها؟ أمن المعقول أن يهرب الناس من ظل العدل إلى هاجرة الظلم؟ وإذا زعمتم أنها تظلم النصارى خاصة فكيف يعقل أن تظلم المخالف الذي يجد أنصارًا أقوياء ينتقمون له وتدع من لا ولي له ولا نصير؟ وإذا كانت أوربا تعبث باستقلال الدولة وتفتات عليها في سياستها الداخلية حبًّا في العدل بالمظلومين فما بال هذه الرحمة لا تحرك لهم عاطفة على اليهود الذين يستحرّ فيهم القتل بأيدي النصارى لأنهم يهود؟ ؟ ليس موقفنا مع أوروبا موقف جدال وحجاج ولكنه موقف قوة وضعف فالقوة تفعل والضعف ينفعل. اهـ المراد منه. هذا شيء مما كتبناه في المسألة والعهد قريب بظهورها وقد كرت السنين فما زادت هذه الآراء إلا بيانًا ورجحانًا. وضعت أوربا ضباطًا من جندها يحفظون الأمن في الولايات المكدونية مع رجال الضبط العثمانيين؛ ليكونوا مطلعين على كل ما يقع في البلاد ثم أرادت القبض على أزمَّة المالية والإدارة فاقترحت على الدولة تعيين مندوبين ماليين من الدول العظام يضعون الميزانية للبلاد وينظرون في أمر العمال والمستخدمين من تولية وعزل ويتصرفون في الجباية والصرف ويكونون تابعين في أعمالهم لسفراء دولهم. فخلاصة هذا الاقتراح: أن تكون مالية تلك الولايات وإدارتها في أيدي دول أوروبا كما أن أمر الأمن في أيديهم وللدولة اسم السلطة والسيادة لا ينازعها فيه منازع الآن لما عليه أمراء الشرق وملوكه من التفاني في عشق الألقاب. رفض السلطان قبول هذا الاقتراح الجائر الذي يقلص ظل سلطته عن تلك الولايات التي هي حظيرة لعاصمة ملكه، فألحت الدول عليه وهددته باحتلال بعض الجزائر العثمانية التي تقرب من باب الآستانة (الدردنيل) فأصر على الإباء وله الحق في ذلك، ولكنهم قوم يطمعون في ضعفه. ما ودع المسلمون رمضان واستقبلوا عيد الفطر إلا وقلوبهم تكاد تنفطر أسى وحزنًا، وحقدًا، وضغنًا، الأسف والحزن على ما وصلت إليه الدولة الإسلامية الكبرى من الضعف بإهمال إصلاح بلادها، والحقد والضغن على أوربا المتعصبة التي تريد محو سلطة المسلمين من أوروبا ثم من الأرض كلها. وقد رأيت من مسلمي هذا القطر المبارك فوق ما كنت أعتقد فيهم من الغيرة والتألم على الدولة العلية أعزها الله بالعدل والعلم والإصلاح، ومن البغض لأعدائها خذلهم الله بالتفرق والتعادي والانقسام. والرأي عندي وعند كل من تكلمت معهم في هذا الأمر من ذوي الرأي والفكر، أن إصرار الدولة العلية على رفض ما يطلب الدول منها هو الصواب وأن شر عاقبة تتوقع له لهي خير منه أو أضعف شرًّا وأقل ضرًّا. إن استيلاء الدول على تلك الولايات بالقوة بعد مقاومة الدولة لهن لهو خير من تسليمهن إدارة ماليتها بالتهديد والإنذار والوعيد فإن كلا الأمرين خسران مبين للبلاد وفي الخنوع والاستسلام للوعيد خسران معنوي أعظم وهو خسران الشرف والاستقلال يقابله في المقاومة مع حفظ هذا الشرف فوز معنوي عظيم وهو إيقاظ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وإشعارهم بالخطر الذي يتهدد سلطتهم من حيث هم مسلمون ولا شيء أنفع لهم في هذا العصر من هذه اليقظة والشعور وقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - يقول: إن الحرب العثمانية الروسية الأخيرة قد كانت هي المبدأ لهذه الحركة الفكرية العامة في المسلمين، وإن كان البلاء لينزل من قبل هذه الحرب في القطر الإسلامي فلا يهتز له القطر الذي يجاوره دع البعيد عنه الذي انقطعت دونه أخباره، وقد صرنا نرى المسلمين في كل قطر يتألمون لما يصيب إخوانهم في سائر الأقطار لا سيما إذا كان المصاب من اعتداء الأجانب عليهم. إن ساسة أوربا يقدرون هذه الحركة التي أشار إليها حكيمنا قدرها، ويحيطون بما لم نحط به من خبرها، لذلك أجمعوا كيدهم على ذبح العفريت بسيفه الخشبي [*] إذ يتعذر قتله بسواه أعني أن يزيلوا السلطة الإسلامية من الأرض بنفوذ رؤسائها من السلاطين والأمراء، يدخلون في أمر الواحد منهم ويدعونه إلى ما يريدون، فينالون به نيلهم والمسلمون وادعون ساكنون، يحسبون أن أولي أمرهم منهم وأنهم لأمرهم يخضعون، فمثل أوربا في سياستها هذه وفي انتقاصها الممالك الإسلامية من أطرافها كمثل الطبيب يخدر العضو ويقطعه حتى لا يشعر صاحبه بشدة الألم، ولكن الطبيب يعمل هذا لمصلحة الجسم وهم يعملونه لمصلحة أنفسهم بإعدامه بل التهامه. يقول قوم: إن الدافع لأوربا على هذا هو التعصب على الإسلام ولذلك لا نرى الدول النصرانية تتفق على العبث باستقلال دولة نصرانية فيجب أن يقابل المسلمون ذلك بالتعصب على النصارى كافة. ويقول آخرون: إن أوربا بريئة من التعصب الديني الذي لا يعرف في غير الشرق وإنما هي المصالح السياسية لا مذهب لها ولا دين ولذلك ينتصر الإمبراطور غليوم النصراني للخليفة المسلم العثماني وتطارد حكومة فرنسا الرهبان وتتبرأ من الكنيسة. والصواب في المسألة أن أوربا لا تتعصب على المسلمين من حيث هم مسلمون يقرون لله بالوحدانية ولمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة ويصلون إلى الكعبة ويعبدون الله تعالى على غير الطريقة التي يعبده بها سواهم، وإنما تتعصب عليهم؛ لأن لهم سلطة ودولاً فالذين سموا تعصبها سياسيًّا قد صدقوا، والذين سموه دينيًّا

الدين في نظر العقل الصحيح - 6

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الدين في نظر العقل الصحيح (6) الشبهة الثالثة: مريم أخت هارون قال تعالى حكاية عن قوم مريم عليها السلام في خطابهم لها {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ} (مريم: 28) قال المسيحيون (ولا تجد كتابًا لهم في الطعن في الإسلام خاليًا من ذلك) : إن القرآن هنا نص على أن مريم هي أخت لشخص يسمى هارون فتكون هي مريم أخت هارون وموسى النبيين - عليهم السلام - وعليه يكون القرآن قد دل على أن عيسى عليه السلام ابن أخت موسى، فيكونان معاصرين. فانظر إلى هذه البراهين المفحمة، والأقيسة المنطقية المدهشة! ! هل يلزم من كون مريم أم المسيح لها أخ يسمى هارون أن تكون هي مريم أخت موسى؟ أما رأيتم أنه قد يوجد في بيتٍ أبٌ وابن وأخت له، وتكون أسماؤهم كأسماء أشخاص من بيت آخر؟ قد رأينا ذلك كثيرًا ولكننا ما رأينا أحدًا يقول: (إن هذا البيت هو البيت الآخر بعينه) . فما بالكم خرجتم عن العقل في مسائل الدين! ! هل ورد في القرآن أن هارون هذا هو هارون النبي أخو موسى أم ورد فيه أن مريم العذراء هي أخت موسى الذي جاء بالتوراة؟ ألم يقل القرآن الشريف بعد ذكره التوراة وأنبياء بني إسرائيل التابعين لها في سورة المائدة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} (المائدة: 46) فإذا كان هنا ينص على أن عيسى - عليه السلام - أتى بعد جميع أنبياء بني إسرائيل التابعين لموسى فكيف تستنتجون منه أن عيسى معاصر لموسى! وقلما يذكر المسيح في القرآن إلا بعد ذكر موسى أو أنبياء بني إسرائيل فليتق الله المنصفون. هذا وإذا علمنا أنهم لا يعرفون اسم أبي مريم -عليها السلام - بالجزم حتى سماه بعض الأناجيل القديمة التي رفضوها بيهوياقيم علمنا كيف أنهم يجهلون نسبها فلا غرابة إذا جهلوا أخًا لها يسمى هارون. بل اختلاف أناجيلهم في نسب المسيح اختلافًا أتعبهم منذ وجودها في التوفيق بينها يجعلنا لا نعبأ بما يعرفونه عنه وعن أهله عليه السلام. ولا حاجة لنا بتأويل بعض مفسرينا الذين قالوا: إن هارون كان رجلاً صالحًا؛ فجعلت أخته في الصلاح والتقوى، أي أنها مثله في ذلك، أو كما يقال أخو العرب وأخو الحرب. *** الشبهة الرابعة: السامري قال تعالى في حكاية عجل بني إسرائيل: {وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ} (طه: 85) فقال المسيحيون: إن السامري هذا الذي ذكره القرآن هو من السامريين، وهؤلاء لم يوجدوا إلا بعد موسى بعدة سنين. ولكنا نطالبهم بالدليل على هذا الزعم الفاسد وكيفية استنباطهم له. وهل إذا جهلنا أصل هذا اللفظ يحملنا الجهل على أخذه من لفظ السامريين فنقول: إنه واحد من تلك الفرقة، وبعد ذلك نبني عليه ما نبني من الأوهام، فكم في الكتب المقدسة من ألفاظ لا يدرك اشتقاقها، ولا نعرف أصولها، ولم لا يكون ما ورد في القرآن منسوبًا لبلد غير ما عرفنا من البلدان؟ وهل يمكنكم الجزم بأنه لم يسم بلفظ سامرة غير سامرة فلسطين مع علمنا بخلاف ذلك. وفي البلاد القديمة أيضًا ما يسمى (سام راه) أو (سمرا) [1] ويجوز أن يكون (السامري) نسبة لبيت رجل من بني إسرائيل يسمى (شامر) مثلاً [2] ، وهذا الاسم وما يشابهه له وجد في أسفار العهد القديم انظر (1 أخبار الأيام 34: 7 و12: 8) وإذا تذكرنا أن الأسماء المعربة تتغير بالتعريب تغيرًا يبعد بها عن أصلها أحيانًا [3] كما في عيسى بالنسبة ليشوع (بالشين) ويحيى بالنسبة ليوحنا ويونس بالنسبة ليونان وغير ذلك فإننا لا نستغرب نسبة (السامري) إلى شامر، بل لا نرى من الغرابة أن نجهل الأصل المعرب منه هذا اللفظ بالمرة، فانظر الفرق بين لفظ عيسى ويشوع مثلاً، وما قيل في هذه الآية والتي قبلها يمكننا أن نرد بمثله اشتباههم في لفظ هامان الوارد في القرآن في قصة فرعون. ويجوز أيضًا أن يكون السامري لقبًا لشخص من بني إسرائيل، ومعناه الحافظ وأصله من لفظ شمر العبري الذي معناه حفظ. فإذا كانت كل هذه الاحتمالات جائزة قريبة فكيف يجزمون بخطأ القرآن في ذلك؟ *** الشبهة الخامسة: غروب الشمس في العين قال تعالى في قصة ذي القرنين {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) أي الشمس فقالوا: إن القرآن يدل على أن الشمس تغرب في نفس الأرض، وتجاهلوا أن في مثل هذا المقام يقول القائل في كل لغة (رأيت الشمس تغرب في البحر) مثلاً، مع أن القائل قد يكون أعلم الجغرافيين والفلكيين، وإنما يعبر هذا التعبير بحسب ما يبدو لنظر الواقف على ساحل البحر. والقرآن الشريف إنما نسب الأمر إلى ذي القرنين فقال: (وجدها) إشعارًا بأن ذلك هو ما تخيله بصره، فما أحسن هذا اللفظ في مثل هذا المقام. ولو كان الكلام في مقام التكوين والخلق ونص القرآن على أن الشمس تغرب في جزء من الأرض؛ لكان لهم الحق في هذا الانتقاد. على أنه تعبير معروف عند كل الناس حتى المنتقدين. ويناسب هذا الموضوع أن نشير إلى ما قاله العلماء في مسألة جريان الشمس بما يؤيد ما ورد في الكتاب {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) قد اتفقت كلمتهم على أن الشمس وجميع ما حولها من السيارات تجري في الفضاء إلى حيث لا يعلم أحد، وهذا يوافق كل الموافقة ما قاله القرآن الشريف من غير زيادة ولا نقصان. الشبهة السادسة: آزر أبو إبراهيم قال تعالى في إبراهيم عليه السلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} (الأنعام: 74) فاعترض على ذلك دعاة المسيحية قائلين: إن ما ورد في التوراة هو أن أبا إبراهيم يسمى (تارح) فمن أين أتى القرآن بآزر؟ قلنا: إننا قد تكلمنا على ما يسمونه بالتوراة بما لا يمكنهم الرد عليه. ثم إن القرآن لم ينكر هذه التسمية وورود اسم آخر فيه قد يكون بسبب أن الرجل مسمى باسمين، أو أحدهما لقب كما يقولون هم أنفسهم لرفع التناقض المالئ كتبهم في أسماء كثير من الأشخاص. ولكننا لا نكتفي بذلك، بل نبين لهم أصل هذه التسمية الواردة في القرآن؛ ليعلموا أنه لو كان أخذ ما أتى به من كتبهم كما يهذون لما خالفها في مثل هذه الأشياء البسيطة خوفًا من أن يقع في تخطئة منهم لا حاجة إليه بها، وكان في أمن منها لو وافق على ما ورد فيها. آزر لفظ قديم معناه (النار) وأطلقه قدماء الفرس والكلدانيين والآشوريين على كوكب المريخ لظنهم أنه من نار ثم عبدوه في صورة عمود وصاروا يلقبون الأشراف منهم بهذا اللفظ (آزر) تبركًا به، وقد وجد كثيرًا في كتابات البابليين أيضًا وعليه قال العلماء: (إن آزر هو اللقب الوثني لأبي إبراهيم) ويوافق ذلك ما ورد في تفسير البيضاوي وغيره من أن آزر اسم للإله الذي كان يعبده، فهل فيما أتى به القرآن بعد ذلك أدنى شهبة. بل أليس فيه حجة على صدق النبي الأمي وخصوصًا إذا لاحظنا أن التوراة لم يرد فيها هذا اللقب، ولا في التلمود الذي سماه (زاراح) فمن أين أتى القرآن بذلك لولا وحي الله؟ *** الشبهة السابعة: جبل الجودي قال تعالى في سفينة هود عليه السلام: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِي} (هود: 44) فقال بعضهم: المذكور في التوراة أن اسمه (أراراط) ولم يرد لفظ (جودي) فيها فمن أين أتى به القرآن؟ ونجيب عن ذلك بأننا لا نعبأ بكتبهم لما ذكرناه سابقًا، ثم نبين أصل ما ذكره كتاب الله. هذا الجبل يسكن بجواره الكرد (الأكراد) ولذلك سموه بلغتهم كاردو أو: جاردو، وحرفها اليونانيون: جوردي ومنه عرب لفظ القرآن: جودي [*] *** الشبهة الثامنة: الناسخ والمنسوخ ذهب جمهور المسلمين إلى أن القرآن قد وقع فيه نسخ كثير واستدلوا على ذلك بأحاديث آحادية، وببعض آيات وردت فيه، وغالوا في المسألة حتى أنهم جعلوا جزءًا عظيمًا من القرآن منسوخًا. ولم يقفوا عند هذا الحد، بل (زادوا الطين بلة) بأن ادعوا نسخ بعضه بالسنة، حتى جرأوا الخصوم على الطعن في الكتاب العزيز، ولكن قيض الله لهم في كل زمن من رد عليهم في أكثر هذه الدعاوي أو في جميعها من علماء الإسلام المحققين. فقد ظهر بينهم من أفهمهم معنى أكثر هذه الآيات، وأبان لهم أن لا ناسخ ولا منسوخ فيها بالدليل الذي لا يقبل الرد مثل الإمام الشوكاني وغيره، وقام الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وأبطل دعوى نسخ الكتاب بالحديث. وذهب أبو مسلم الأصفهاني المفسر الشهير إلى أنه ليس في القرآن آية منسوخة وخرّج كل ما قالوا أنه منسوخ على وجه صحيح بضرب من التخصيص، أو التأويل ونقل عنه الفخر الرازي آراءه في ذلك في تفسيره المشهور. ومن العلماء المتأخرين الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - فقد كان يدحض كل دعوى بالنسخ في أي آية فسرها بالحجة الواضحة والبراهين الظاهرة وقال في أحاديث الآحاد: (إنها ظنية يحتمل أن تكون مكذوبة من بعض رجال السند المتظاهرين بالإصلاح لخداع الناس، حتى إن بعضهم تاب ورجع عما كان وضعه، ولولا اعترافه به لم يعرف، فما يدرينا أن بعضهم مات ولم يتب ولم تعرف حقيقة حالة، وبقي ما وضعه رائجًا مقبولاً لم يطعن في سنده أهل النقد) . وتبعه في كل آرائه هذه الأستاذ الرشيد، حفظه الله. ولولا خوف التطويل لنقلت عنهم آراءهم في جميع هذه الآيات. فليراجعها في كتبهم وليتدبر القرآن بنفسه من أراد أن يهتدي إلى الحق. والخلاصة: إن مذهب النسخ في القرآن ليس من العقائد الإسلامية في شيء. بمعنى أن المسلم يمكنه أن يفهم كتاب الله، ويكون مؤمنًا به حقًّا بدون أن يحتاج إلى القول بشيء مما زعموه ألبتة. ومن أراد أن يحاججني في ذلك فعليه بالقرآن وحده. *** الشبهة التاسعة: هاروت وماروت - السحر - هل سحر النبي؟ {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (البقرة: 101-102) ذهب كثير من المحققين سلفًا وخلفًا إلى أن هاروت وماروت كانا رجلين متظاهرين بالصلاح والتقوى في بابل وكانا يعلمان الناس السحر، وبلغ حسن اعتقاد الناس بهما أن ظنوا أنهما ملكان من السماء، وما يعلمانه للناس هو بوحي من الله وبلغ مكر هذين الرجلين ومحافظتهما على اعتقاد الناس الحسن فيهما وفي علمهما أنهما صارا يقولان لكل من أراد أن يتعلم منهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} (البقرة: 102) أي إنما نحن أولو فتنة نبلوك ونختبرك، أتشكر أم تكفر وننصح لك بأن لا تكفر. يقولان ذلك ليوهما الناس أن علومهما إلهية، وصناعتهما روحانية، وأنهما لا يقصدان إلا الخير، كما يفعل ذلك دجاجلة هذا الزمان قائلين لمن يعلمونهم الكتابة للمحبة والبغض على

روابط الجنسية والحياة الملية وفلسفة الاجتماع البشري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ روابط الجنسية والحياة الملية وفلسفة الاجتماع البشري وعدنا في خاتمة المجلد السابع بأن نعود في هذا المجلد إلى نشر المقالات الاجتماعية والفلسفية، وذكرنا هناك بعض الموضوعات التي سبقت إلى الذهن عند كتابة تلك الخاتمة ومنها الحياة الزوجية والحياة الملية وكذا الوطنية. وقد حالت الحوادث دون الإكثار من المقالات وسبح القلم سبحًا طويلاً في بحث الحياة الزوجية فكان ست مقالات، ورأينا أن نقفي عليه بالكلام في الحياة الملية وكذا الوطنية بعد تمهيد في فلسفة الاجتماع البشري بالإيجاز، فنقول: خلق الإنسان ليعيش مجتمعًا يتعاون أفراده على الأعمال التي هي قوام حياتهم الشخصية والنوعية وإظهار استعدادهم الإنساني في استعمار الأرض وإظهار أسرار الكون فأعني بالاجتماع ما هو أوسع من اجتماع الزوجين الذي يشاركهم فيه سائر أنواع الحيوان، ومن اجتماع النحل والنمل وتعاون أفرادهما على ما به حفظ حياة نوعيهما، فالحياة الزوجية ليست خاصة بالإنسان، ولا الحياة الأهلية (العائلية) فمن كان لا يشعر بفائدة لنفسه إلا أنه يعمل ليأكل ويطعم من يعول من أهل وولد فحياته إن كانت أوسع من حياة الطير، فهي لا تصل إلى مرتبة بعض الذباب والحشرات (النحل والنمل) فإن لهذين النوعين من التعاون على الأعمال المشتركة ما تقصر عنه همة كثير من الناس، فما أحقر من يرى وجوده أضيق من وجود الذباب والحشرات. لا تفاوت بين أفراد نوع من أنواع المخلوقات نعلمه كالتفاوت بين أفراد البشر يتسع وجود زيد منهم فيملأ الآفاق، ويضيق وجود عمرو حتى يضيق به قفص جسمه، يشعر ذاك بروحه الكبيرة أنه خلق لينهض بأمة كبيرة أو ليفيد جميع الأمم، ويَحار هذا في خدمة جسده، ويرى نفسه عاجزة عن تغذيته وتوفير لذته، فإذا ازدوج فصارت له بيت كان همه أكبر؛ لأنه أعجز عن سياسته وأصغر، وبين هذين الطرفين سواد عظيم لكل منهم سهم من سعة الوجود على قدر قوة الإنسانية فيه وضعفها، فإذا كثر أصحاب السهام العظيمة في أمة من الأمم اتسع وجودها ببسط سلطانها على الأمم التي قلت سهامها وخف بها ميزانها فينقبض وجود هذه بمقدار اتساع وجود تلك فإما أن تعتبر فيخرج أفرادها من مضيق الحياة الشخصية الجسدية إلى بحبوحة الحياة الاجتماعية حتى يتقلص ظل غيرهم عنهم، وإما أن يكونوا غذاء للغالب لا بقاء لهم إلا باستبقائه إياهم لحاجته وقد ينكمش وجودهم ويتقلص حتى يضمحل ويفنى كأن لم يكن شيئًا مذكورًا. أين المصريون الأقدمون؟ أين الكلدانيون والآشوريون والبابليون؟ أين الرومان والفرس الأولون، أين هنود أمريكا العريقون؟ منهم من اندغم وجوده في وجود آخر أوسع منه وأقوى، ومنهم من انقرض وجوده فلا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزًا، سنة الله في التكوين والتمكين {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) الذين يتقون أسباب الفساد والزوال، ويصلحون في الأرض بالأحكام والأعمال {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) . قلنا: إن وجود الشخص الواحد يتسع ويضيق بمقدار معنى الإنسانية في روحه قوة وضعفًا، وإن وجود الأمة ينبسط وينقبض بحسب كثرة أصحاب السهام العظيمة من سعة الوجود فيها، فهذا هو معنى الحياة العزيزة في الأفراد، وفي الأمم فكمال الشخص إنما هو في كونه يعمل للأمة التي يعتز بعزتها، ويهون بهوانها وضعتها، وكمال الأمة إنما هو في حفظ ما به كانت أمة وبسطه يجعل وجود غيرها تابعًا لوجودها. ما به تكون الأمة أمة معنى يوجد في كل فرد من أفرادها يربط بعضهم ببعض حتى يكون الجمع الكثير به واحدًا، وقد يعبر عنه بالجنسية: وهو النسب، والبيئة أو الوطن، واللغة، والدين، والحكومة، وأنت ترى أن بعض هذه المعاني أوسع من بعض، فأول اجتماع كان بين البشر يتعاون به أفراد كثيرون على مصلحة الجميع هو اجتماع القبائل البدوية التي تنسب إلى أب واحد، ثم كانت دائرة الاجتماع تتسع في البشر فتكبر الهمم وتعلو النفوس لشعورها بسعة وجودها وما هي مطالبة به من العمل لحفظ كون كبير واسع. وكلما اتسعت دائرة الاجتماع تتسع منها فائدة البشر فبعد أن كان امتياز القبائل والشعوب لأجل التناكر والتغابن، صار باتساع ذلك المعنى لأجل التعارف والتعاون، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13) . إذا كانت الجنسية في الأمة هي النسب كانت بسطتها في الوجود بطيئة. كذلك الوطن إذا كان بلادًا محدودة كمصر أو الشام أو العراق. وليس نشر اللغة وجعلها جنسية بالأمر السهل ومثلها الدين إذا كان خاصًّا كاليهودية. وأما الحكومة فهي أوسع من جميع ما ذكر وبها تكونت الأمم الكبرى كإمبراطورية الإسكندر والإمبراطورية الرومانية في الزمن الماضي وكالسلطة العثمانية والحكومات الاستعمارية في هذا الزمان. ولكن الجنسية في الحكومة لا تعد جنسية حقيقية إلا إذا كانت الشريعة أو القوانين التي يحكم بها الرعايا المختلفون في النسب والوطن واللغة والدين مبنية على قواعد العدل والمساواة بينهم، وكان القائمون بها من لفيفهم لا من طائفة معينة منهم. على أن هذا الشرط الأخير إنما تشترطه الطوائف والشعوب الراقية في معارج الاجتماع دون سواها وأن من الشعوب ما يغلب فيها الشعور بأنها خلقت لتكون محكومة من الغرباء وأن جنسها لا يصلح للأحكام. يكون اتساع محيط الجنسية نافعًا للبشر ما قصد بها تكثير سواد أهلها ومشاركة كل من يدخل فيهم لهم في جملة مزاياهم. ومتى قصد الشعب الاستئثار بالمنافع دون من يمتد وجودهم إليهم وينبسط نفوذه فيهم كان آفة على سائر الشعوب لا يعدل فيهم ولا يمكنهم من الارتقاء في معارج الكمال الإنساني، فسنة الله في كمال الشعوب والأمم ونقصها كسنته في الأفراد، نقص كل منهما بالأثرة والغلو في حب الذات حتى لا يتحرك حركة إلا لمنفعة ذاته وكمال كل منهما بالقصد إلى نفع غيره وإيصال الخير إليه وجعل المنفعة الذاتية تابعة للمنفعة العامة. فالنتيجة لما تقدم من القواعد أن أكمل الجنسيات وأنفعها للبشر ما كانت أعم وأشمل للطوائف والجمعيات المختلفة في النسب والوطن واللغة والدين والحكومة بأن يقصد بها الخير للجميع والمساواة بينهم في الحقوق وتمكينهم من الرقي إلى ما أعدتهم له الفطرة البشرية من الكمال الاجتماعي وإنها لجنسية يتحسر عليها نوابغ الحكماء وهي موجودة في الملة الإسلامية، وإن كان المسلمون من أبعد الناس عنها فهذه الملة هي التي عرفها كتابها العزيز بقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) . الملة الإسلامية تساوي بين المختلفين في الأنساب والأوطان والأديان وتسمح لمن يدخل في حكمها وهو على دينه أن ينشئ في بلادها محاكم لأهل ملته وأبناء جلدته فلا تلزمه بأحكامها إلزامًا، فإن هو اختار حكمها بنفسه ساوت بينه وبين أقرب الناس من بنيها وأعلى أفرادها مكانة فيها. فهي تدعو جميع البشر إلى التعارف والتآلف في ظل حمايتها وإنه لظل ظليل يباح للمستظل به كل شيء إلا محاولة إزالته أو إزالة فائدته للناس وهي دفع الشر والأذى عنهم وتقريب الخير منهم مع حفظ حريتهم في أديانهم وأعمالهم التي لا تضر سواهم. هذا ما تبذله لكل من قبل حمايتها، واستظل برايتها، ثم إنها تختص من قبل هدايتها في الدين بأخوة روحية، أخص من هذه الأخوة الإنسانية، لأنه يشارك أهلها فيما يؤهلهم لسعادة الحياة الأخرى، فهو أقرب إليهم بالروح ممن لا يشاركهم إلا في سعاة الحياة الدنيا. هذه الجنسية هي نهاية ما يمكن وضعه لسعادة البشر كلهم في هذه الحياة ولكن الناس لمّا يستعدوا لها تمام الاستعداد؛ لذلك لم يرعوها حق رعايتها ونعتقد أن سيعودون إليها في يوم من الأيام. نقول: يعودون إليها عودًا، دون يقصدون إليها قصدًا؛ لأنها قد وجدت في الجملة مدة قليلة على عهد الخلفاء الراشدين فرقص لها العالم الإنساني وأقبلت عليها شعوبه أيما إقبال ثم طفق نورها يخبو بما أفسد فيها الأمويون ومن بعدهم ولكنه كان على ضعفه أفضل عند جميع الأمم من كل ما عداه لذلك كان يخرجهم باختيارهم من جنسياتهم إخراجًا، فيدينون لها شعوبًا ويدخلون فيها أفواجًا. كانت حكومة الخلفاء الراشدين حكومة عسكرية؛ لأن الدعوة لم تكن أمنت، والسلطة لم تكن استقرت، وكانت على ذلك حكومة عادلة رحيمة فضلها كل من ذاق حلاوتها على ما عهد من قومه. وكانت حكومة الأمويين في الشرق والغرب وحكومة العباسيين في الشرق إسلامية في أكثر الفروع دون الأصول، وأعني بالأصول قواعد الحكومة الأساسية كانتخاب الحاكم العام وإلزام الأمة له بالشورى واتباع الشريعة وكانت على ذلك أفضل من جميع الحكومات التي عرفها الناس قبل الراشدين. لو وجدت الحكومة الإسلامية على حقيقتها في دولة آمنة مطمئنة لاختارها كل من عرفها من الراقين، حتى تكون ملاذ البشر أجمعين. سيقول الجاهلون بحقيقة الإسلام إن هذا من غلو المسلم المذعن ويأتون على ذلك ببعض الأعمال والتقاليد التي انتقدت على المسلمين وإنني لعلى علم بشبهاتهم لكثرة ما بلوت من أمثالهم وما كشف تلك الشبهات عليّ بعسير ولكن القول قلما يقنع الجاهل لا سيما إذا كان متعصبًا لرأيه، غير محيط بتفصيل ما عند خصمه. لست أعجب ممن نشأ في دين يعادي الإسلام إذا هو أنكر مزايا الإسلام الظاهرة، وأصوله الواضحة؛ بله المزايا التي فقدت من المسلمين، فلا أثر لها إلا في ثنايا آيات الكتاب المبين، إنما عجبي ممن نشأ في المسلمين وهو منهم ثم يجهل مكان الجنسية الإسلامية الواسعة العامة لجميع الشعوب والطوائف الشاملة لجميع الخيرات والعوارف، فيدعو إلى جنسية الوطن كبعض أحداث المصريين أو جنسية اللغة والنسب كبعض جهلة الترك. فمثل هؤلاء كمثل من يهدم مصرًا ويبني قصرًا، بل هم أضيق وجودًا وأضعف فكرًا. يعذر في مثل هذه الدعوة القبطي في مصر والأرمني في بلاد الترك والإسرائيلي في فلسطين لأن السلطة في أيدي غيرهم فلهم الحق في أن يطلبوا مساواتهم بسائر أبناء بلادهم. على أن وجود هذه الطوائف القليلة العدد أوسع من وجود دعاة الوطنية والجنسية فإنهم يطمعون في الاستقلال ببلاد أكثرها لغيرهم فهم يطلبون سعة وامتدادًا، ودعاة الوطنية والجنسية منا يبغون ضيقًا وتقلصًا. لولا جنسية النسب لما تمزقت السلطة الإسلامية في ريعان شبابها فكانت عباسية في الشرق أموية في الغرب فاطمية في الوسط والشريعة واحدة والملة واحدة ولما كان بين ذلك من ملوك الطوائف ما كان. لولا جنسية اللغة والوطن لما تفرق المسلمون بعد ذلك إلى دول وممالك كالتركية والفارسية والأفغانية وما كان قبلها في الهند من السلطة التيمورية وغيرها في المشرق وكالعربية في شمال أفريقية الغربي وغير ذلك مما كان في قلب هذه القارة الإسلامية التي استولت عليها أوروبا إلا قليلاً ولو عقل المسلمون معنى الحياة الملية لكان

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الدعوة إلى الإسلام) الدعوة حياة الأديان والمذاهب والجمعيات وغيرها من الأمور العامة التي يراد تكثير سواد أهلها فبالدعوة ينتشر الباطل ويظهر، وبترك الدعوى ينطوي الحق ويخفى، وأشد أهل الأديان عناية بالدعوة إلى دينهم النصارى فما من مذهب من مذاهبهم المشهورة إلا وله دعاة في جميع الأقطار تنفق عليها الجمعيات الدينية مما تجمعه من أغنيائها، ودول أوربا تحميهم أينما كانوا، ويتبعهم سلطانها أينما تمكنوا ولم أر كالمسلمين إهمالاً للدعوة. ولولا أن الإسلام هو دين الفطرة الموافق للمصالح المطابق للعقول لارتدَّ عنه في هذا الزمان أكثر المنتسبين إليه من العوام الجاهلين الذين لا يسمعون كلمة هداية، ولا يجدون في كثير من الأقطار عزة حماية، ولو أن المسلمين يعنون بالدعوة إليه لدخل الناس فيه كل يوم أفواجًا كما كان في أول نشأته، أيام نشر دعوته، ومن أعجب أمر هذا الدين المتين أنه ينمو بنفسه، ويجذب الناس إليه بطبعه، (هذا وما كيف لو) . وإنه ليسرنا أن نرى نفوس المسلمين الذين أيقظتهم حوادث الزمان قد توجهت إلى إحياء الدعوة الإسلامية وكثر الحديث فيه بينهم، حيث يجدون حرية في دينهم، كبلاد مصر وبلاد الهند. أما هذه البلاد فقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - عازمًا على إعداد فرقة من طلاب الأزهر للدعوة يتعلمون ما ينبغي لها في هذا العصر من العلوم والفنون التي يتمكنون بها من إقناع أصناف المدعوين، وكشف شبهات المنكرين، ولكن ما أحدثه أعداء الإصلاح من الشغب والمقاومة حالت دون ما كان يريد، ولعل مريده الشيخ شاكر يوفق إلى ذلك في الإسكندرية إذا استقام على ما عهد به إليه، وإن كان يعوزه ما كان المرحوم أقدر عليه، وأما مسلمو الهند فقد انتقل الأمر فيهم من طور الفكر أو التمني إلى طور العمل والدعوة، وهاك ما جاء في العدد الأخير من جريدة الرياض الهندية التي تصدر بالعربية والأوربية المؤرخ في 25 رمضان الماضي قال: *** (دعوة الإسلام في السند) مضت بضعة أشهر على إعلان الجرائد الآريوية (فرقة حديثة من هنود الوثنيين) أنه دخل في دين الوثنية عائلة إسلامية تحتوي 56 نسمة تسكن بلدة لركانة (بُليدة في السند) وأظهروا عليه فرحًا شديدًا وحسبوا أن هذا هو الخسران المبين للإسلام والمسلمين، والفوز العظيم لهم، وشاع هذا الخبر أسرع من البرق في جميع أقطار الهند، وأثر تأثيرًا سيئًا في المسلمين وحزنوا حزنًا شديدًا فمنهم من يكذب هذا الخبر، ومنهم من يتعجب منه غاية العجب، ويقول: من ذا الذي يعبد الله الواحد الأحد الصمد القدير الذي خلق الأرض والسماء ثم يتبع من اتخذ إلهه هواه؟ وكيف يعبد أصنامًا حجرية لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له؟ إن هذا لشيء عجاب؟ ومنهم من يشدد النكير على علمائنا الكرام بأنهم لا يسعون في تسكين قلوب ضعفاء العقول من المسلمين، ولا ينفعون بنصائحهم جميع الأنام بل يقصرون مواعظهم ونصائحهم على الذين يتبعونهم ويحسنون الظن بهم ولا يقدمون على إظهار الشك في أقوالهم ويحبون أن لا يسمعوا غير (سمعنا وأطعنا) قولاً آخر - بل ينبزون الذي يعترض عليهم بالألقاب وبئس الخطاب. فمن الذين أنكروا هذا الخبر وكذبوه أصحاب الجرائد وأعضاء اللجنات الإسلامية؛ فأصحاب الجرائد التمسوا في جرائدهم من المسلمين الذين يسكنون في لركانة وحواليها أن يكاتبوهم أحوالهم. وأعضاء اللجنات عزموا إلى إرسال الواعظين إلى لركانة ليصدقوا هذا الخبر ويعظوا المسلمين المترددين الذين يشكون في الإسلام؛ فوصل المولوي محمد إبراهيم ومولوي نبيي بخش مندوبين من بعض اللجنات إلى لركانة وكتبًا، وكتب بعض المسلمين منها أنه كانت في لركانة عائلة صغيرة من الهنود وكانوا وأباؤهم وأجدادهم هنديين يعبدون الأوثان ويحرقون أمواتهم ويعتقدون بالعقائد التي يعتقدها سائر الهنود الوثنيين إلا أن جدهم بدلداس صار موظفًا في ديوان السادات أمراء لركانة واختار مراسم المسلمين كما يختار أكثر الهنود مراسم العزاء بسيدنا الإمام الحسين بن علي - رضي الله عنه - ويبنون في المحرم تماثيل مقابرهم ويلبسون الثياب الخضراء، ويجمعون الاشتراكات لهذه التماثيل، ويقولون إنهم فقراء الإمام وينذرون لها نذورًا كما يفعل المسلمون الجاهلون في شهر المحرم ومن الهنود من لقب بالألقاب الإسلامية كمرزا ثفته وغير ذلك، فهكذا هذه العائلة قد اختارت رسوم جهال المسلمين استرضاء لمواليهم المسلمين واشتهروا بالشيوخ واستمروا عليه حينًا من الدهر إلا أنهم لم يؤمنوا ولم يدخلوا في حوزة الإسلام قط، وكانوا يعبدون الأوثان ويحرقون أمواتهم ويرسلون نبذًا من الشعور على رؤوسهم ويستعملون الزنانير ويسمون أبناءهم وبناتهم بأسماء المشركين ويتبعون أهل الشرك في عقائدهم وتفردوا لهذا أو بسبب آخر من أقوامهم فسعت الآرية في انضمامهم إلى فئتهم ففازوا بذلك وأظهروا في جرائدهم أنهم كانوا من المسلمين. أما العالمان العاملان المذكوران فصمما عزمهما على دعوة الإسلام وتبليغه إلى الذين لا يعرفون محاسن الإسلام وإحياء سنة من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي تركها العلماء منذ قرون عديدة فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان يذهب تارة إلى عكاظ، وتارة إلى الطائف وتارة يضع مأدبة لقريش ويبلغهم آيات الله ويحثهم على طاعة الله ويهديهم إلى سواء السبيل ويعظهم في المجامع العامة التي تشتمل على طوائف الناس من المؤمنين والمشركين. وعلماء هذا الزمان ما رعوا هذه السنة حق رعايتها بل حصروا مواعظهم ونصائحهم في المساجد حيث لا يحضر إلا من يصلي ولا يصل وعظهم إلى المسلمين الذين غرقوا في بحار المناهي والمناكر ولا يصل نداء وعظهم إلى من لا يؤمن بالله واليوم الآخر إلا أن هذين العالمين قد أحييا هذه السنة وعملا عليها عملاً حسنًا فعمما مواعظهما وجددا عزمهما إلى هداية الذين لا يدينون دين الحق وشرعًا في الذهاب إلى القرى والبلاد وأنتجت مساعيهما نتائج حسنة فاعتنق الدين الإسلامي في أسبوع واحد أربع مائة من الرجال والنساء والصبيان، وما زال عدد التاركين الوثنية الداخلين في الإسلام يزداد يومًا في هذه الأقطاع إلى أن بلغ عدد من أسلم 857 نسمة، والعالمان المتورعان يجتهدان في دعوة الإسلام وكل يوم ننتظر أن تصل إلينا بشارة جديدة يفرح بها المسلمون فرحًا. يا معشر المسلمين أفلا تنظرون بعين البصيرة إلى أعمال علمائكم كيف نجحت مساعيهم في برهة من الزمان؟ فما هذا إلا نتيجة إحيائهم سنة من سنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن اختار علماؤنا الكرام هذه الخطة التي عمل بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة عمره الشريف، رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا. فعليكم أيها المؤمنون أن تحسبوها تجربة حسنة وتبنوا عليها بناء جيدًا فإن ارتقاء القوم لما كان يتوقف على تعليم العلوم والصنائع والتجارة وكثرة العدد والعدد عقدتم لتعليم العلوم والصنائع جمعيات عديدة، فالأجدر أن تقيموا لدعوة الإسلام جمعية أيضًا يشترك فيها المسلمون كلهم واجتهدوا في نشر الإسلام حق الاجتهاد، وانظروا إلى معاصريكم من المسيحيين كيف يجتهدون في إشاعة المسيحية وكيف يصرفون عليها قناطير الذهب والفضة كل سنة كما يظهر من رسالة مكاتبنا المكرم التي أدرجناها. وانظروا إلى إخوانكم الآرية كيف يجتهد كل واحد منهم في إشاعة مذهبهم لتكثير حزبهم مع أن معتقداتهم مخالفة للعقل السليم ولا تقاوم الأدلة الفلسفية كتعدد الآلهة ومسألة التناسخ وعبادة آلات التناسل وغير ذلك من العقائد الباطلة والشائنة ولكنهم يجتهدون في تكثير أفراد هذه المذاهب ويفوزون فوزًا تامًّا حتى إنه لم يبق قرية أو بلدة من الهند إلا وجد فيه عدد من هذه الفرقة الحديثة التي بدت منذ خمس وعشرين سنة. أما دينكم فمطابق لفطرة الله التي فطر الناس عليها وأصوله موافقة للعقل والحكمة والفلسفة فوجهوا وجهتكم إلى هذا الأمر الجليل والتفتوا إليه أجلّ التفات واعقدوا له جمعية جديدة أو حثوا إحدى الجمعيات الموجودة عليه لتعمل فيه بالنظام المتين والتدبير المستقيم المستقل وتديم الجهد عليه، فالفوز والنجاح بين أيديكم لا ريب فيهما. إن العالمين المذكورين قد قرعا هذا الباب وفتحاه لكم وقدما نتائج مساعيهما الحسنة إليكم ليكون لكم درسًا مفيدًا؛ فعليكم أن تنصروهما وتدبروا تدابير حسنة لاستمرار الأعمال التي شرعوا فيها. يا معشر المسلمين انتبهوا من هذه الغفلة وجددوا عزائمكم وقووا قلوبكم وصمموا نياتكم وقوموا لإحياء قومكم وإشاعة دينكم وتكثير حزبكم لتكونوا من المسلمين الصادقين الذين يفاخر بكم نبيكم الأمم لكثرة عددكم وقوة عددكم وجهادكم بأموالكم وأنفسكم وأقلامكم وأقدامكم واسعوا بالإخلاص في إعلاء كلمة الله ونشر شعائر الله وإفشاء أحكام الله واتفقوا واجتمعوا ولا تفرقوا فإن يد الله مع الجماعة. اهـ بنصه مع تصحيح بعض الكلمات. *** (الدعوة إلى الإسلام في اليابان) كانت الجرائد رددت صدى ما نشر في مجلة (شوكيما) اليابانية عن تصدي حسان المسلم الصيني لدعوة قومها إلى الإسلام بتأليف كتاب نشره في تلك البلاد، ثم نقل بعضًا عن الجزء الصادر من تلك المجلة في أول سبتمبر الماضي شيئًا عن بحث لجنة الأديان اليابانية في ذلك الكتاب وملخصه أن رئيسها كلف المستر كوريما دراسة قسم العبادات من الكتاب والمستر جورافوش دراسة قسم المعاملات والمستر ايوا داوا دراسة قسم العقوبات مع اشتراك الجميع في المسائل العويصة من كل قسم. وكتب إلى المستر حسان يدعوه إلى اليابان لمذكراته في مسائل كتابه فلبى وتلقته اللجنة بالحفاوة والإكرام وكان يحضر اجتماعهم. ولما دارت المناقشة في كلمة (لا إله إلا الله) قاعدة التوحيد أورد المستر كوريما كل ما في خياله من الأدلة النظرية لإثبات تعدد الآلهة ولكن رفيقيه مالا إلى رأي المستر حسان. ومن رأي اللجنة أن تنشر كل ما تراه صحيحًا من المسائل الإسلامية بعد الاتفاق عليه في الجرائد في صحف خاصة توزع على العامة. وإننا نخشى أن يعجز أخونا حسان عن إقناع القوم ببعض المسائل لتمسكه فيها بمذهب معين فإن الذي نعرفه عن مسلمي الصين أنهم قلما يعرفون من الإسلام غير مذهب الحنفية. ونود أن يستحضر لنا بعض أهل الغيرة هذه المجلة وما عساه يطبع في المناظرة ويترجمه ليتسنى لنا مشاركتهم في بحثهم نحن ومن يهمه ذلك من العلماء ونكتب إليهم ما نراه مقنعًا لهم إن شاء الله تعالى. *** (مسألة مكدونية وتأثيرها في المسلمين) اتفقت النمسا وروسيا وإنكلترا وفرنسا وإيطاليا على إرسال أسطول مؤلف من سفنهن لتهديد الدولة العلية وإلزام السلطان بإجابة ما يطلبن من المراقبة المالية الأوربية في تلك الولايات، وقد احتل الأسطول المتحد جزيرة مدللي وأصر السلطان على رفض طلبهن كما قلنا في الجزء الماضي. وكان من بعض أجوبته لسفرائهن أنه لا يقدر على احتمال سخط المسلمين في هذه الحادثة أو ما هذا معناه ففسرت شركة روتر في برقياتها هذه الكلمة بأن السلطان يهدد أوربا أو النصارى بالحرب الدينية وقيام المسلمين عامة على النصارى وأن السفراء فهموا هذا منه وأن سفير الإنكليز قال: إنه هو المسئول عن كل ما ينجم من الاعتداء على رعية دولته. والسلطان لم يقصد شيئًا

الحياة الملية بالتربية الاجتماعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحياة المِليَّة بالتربية الاجتماعية (هذا ما وعدنا به في مقالة روابط الجنسية والحياة الملية في الجزء السابق) ذهب كثيرون من نابتة الترك والمصريين مذاهب الخيال الذي انعكس إلى أفكارهم مما شهدوا من ظواهر مدنية أوربا، فحسبوا أن فلاح كل شعب وكل قطر معلول لعلة واحدة هي تقليد أوربا بنشر العلوم الرياضية والطبيعية ونظام الحكومة والأخذ بعادات أهلها، ويستدلون على رأيهم هذا بما كان من ارتقاء اليابان في نحو ربع قرن بهذا التقليد، ويحسبون هذا برهانًا قاطعًا لا سبيل إلى المكابرة فيه إلا ممن كان أعمى البصيرة جاهلاً بحال هذا العصر مغرورًا بحال قومه في حاضرهم أو ماضيهم وكأني بمن تعود منهم قراءة الكلام المعقول في المنار وقد أنكر فاتحة هذا القول وساء ظنه بمن سمى هذه القضية البديهية اليقين عنده تخيلاً وحسبانًا. لا تعجلوا بالإنكار عليّ فلست بمنكر فائدة تلك العلوم، ولا أقول: إن أمة تعز وتقوى في هذا العصر مع الجهل بها وبطرق الاستفادة منها وارجعوا إلى أنفسكم فأنتم أعلم بها منكم بأوربا واليابان. إنكم قد سبقتم اليابانيين إلى هذا التقليد فالمصريون منكم قد مرّ على أخذهم بهذا التقليد قرن كامل والترك قد ناهزوا ثلاثة أرباع القرن، ولم يدرك أحد من الفريقين غبار اليابانيين الذين لا يزيد سنهم في المدنية على ربع القرن إلا قليلاً. فدولة اليابان قد دوخت في بضع سنين أكبر دولة شرقية، وأكبر دولة غربية وطفقت ترث الأرض وتستعمر البلاد، وبلادكم تنقص من أطرافها، ويقتات عليكم فيما بقيت لكم رسومه منها، فأيُّ أثر لتقليد أوروبا تحمدون، وأيُّ فائدة له في أنفسكم تعرفون. هل يستطيع المصري أن يقول: إن حكومتنا لم تتشكل بشكل الحكومات الأوربية فلم يتم لنا التقليد الذي هو علة النجاح؟ أنى؟ وكل ما عرفته هذه البلاد من نظام أوربا ومدنيتها فهو من حكومتها لا من الأهالي، ولا تزال الحكومة أرقى من الرعية تسوقها في كل طريق وتقودها بكل زمام. منح الشعب المصري حرية القول والعمل والاجتماع منذ ربع قرن ولم توجد له جريدة ذات مذهب مليّ نافع ورأي اجتماعي ثابت، ولا مدرسة كلية، بل ولا جزئية يعتد بتعليمها وتربيتها تنظر البلاد إلى المتخرجين فيها نظر الرجاء بما ترى من امتيازهم على المتخرجين في مدارس الحكومة، فمدارس الحكومة وهي في أيدي الأجانب ترجح على جميع المدارس الأهلية رجحانًا مبينًا، ولم تؤسس فيها شركات كبيرة للزراعة أو للتجارة أو للصناعة نجحت في عملها، فكانت موضعًا للثقة بها، ولم يوجد فيها للمسلمين وهم السواد الأعظم غير جمعية خيرية واحدة لا تزال فقيرة بالنسبة إلى الجمعيات الخيرية في أوربا واليابان على ما قاسى مؤسسها من العناء والبلاء في سبيلها ولا يزال مجلس إدارتها يمحو من دفاترها في كل سنة أسماء كثير من الأغنياء الذين يشتركون فيها وتمر عليهم السنون ولا يؤدون إليها ما فرضوه على أنفسهم لإعانة فقرائهم وأكثرهم من المتعلمين علوم أوربا في باقي بلادهم أو في أوروبا نفسها. وأما الأتراك فقد ملأ طلاب المدنية الآفاق أنينًا وشكوى من حكومتهم وطعنًا في سلطاتهم وإنني على اعترافي لهم بأنهم في مجموعهم أرقى من المصريين علمًا وأخلاقًا وأقوى عزيمة واستقلالاً أقول ما قاله كبير من كبرائهم: إننا بطعننا في السلطان وصراخنا بالشكوى من حكومة (المابين) نعترف للعالم علنًا بأننا لسنة أمة إذ لو كنا أمة لما قدر رجل واحد على أن يفعل فينا ما يشاء ويحكم ما يريد، ولما عجزنا عن وضع بناء حكومتنا على أساس الشورى الشرعية التي فرضها ديننا ورأينا نجاح الأمم بها، فهؤلاء الخائضون منا في السلطان إنما يبصقون على ذقونهم. يريد هذا التركي الكبير أن الشعب لم يرتق إلى المستوى الذي يقدر فيه على تغيير شكل الحكومة فهو إذًا لم يستفد من تقليد أوربا ما اعتزت به أمته وارتقت به دولته بل كان كل خذلان أصيبت به الدولة أثرًا من آثار خيانة هؤلاء المقلدين أوروبا المعبر عنهم بالمتفرنجين، فهم الذين اقترفوا جريمة الخيانة في حربها الأخيرة مع روسيا وهم هم الذين أفسدوا البلاد بظلمهم وبيعهم الدماء أو الحقوق بالرشوة لأجل إرضاء شهواتهم التي استفادوا التفنن بها من مدنية أوربا. لا ريب أن معظم ما أخذناه عن أوربا كان سببًا في زيادة نفوذها فينا واستيلائها على كثير من بلادنا وامتصاصها لثروتنا وقد ضعفنا وما قوينا وبعدنا عن الاستقلال ولم نقرب منه، فلماذا كان هذا منتهى حظنا منها وكان حظ اليابان ما نعلم من القوة والمنعة والعزة والثروة؟ وكيف السبيل إلى استخراج لبن هذه المدنية من بين فرثها ودمها؟ أم كيف السبيل إلى نجاح أمتنا؟ فهذه الصين قد أنشأت تقتدي باليابان في إصلاح شأنها وتنظيم حكومتها، وهذه روسيا قد وضعت الثورة حكومتها في البوتقة لتذيبها وتنقيها من أوضارها، فإذا صلحت حال هاتين الحكومتين فإن فساد الأرض ينحصر فينا وحدنا، وإذا جعلنا الكلام في الشعوب والملل، لا في الحكومات والدول، فإننا لا نجهل أننا قد دفعنا من صدرها إلى عجزها، وصرنا إلى ساقتها بعد أن كنا في مقدمتها، فماذا يجب علينا من العمل، قبل أن ينقطع منا الأمل؟ أقول في الجواب: يجب أن نكون أمة واحدة تربطنا رابطة واحدة تصل بعضنا ببعض حتى يشعر كل صنف وقبيل منا بل كل فرد بأنه عضو من جسم كبير له حياة واحدة عامة منبثة في جميع الأعضاء ما دامت الأعضاء متصلة فإذا ما انفصل عضو منها فارقته الحياة؛ إذ لا حياة له في نفسه. وإننا لا نشعر الآن بهذه الحياة وإنما يشعر كل واحد منا بنفسه وحدها فهو يعمل لها وحدها: فالمهندس والطبيب والفقيه والقانوني والمدرس، وسائر أهل المعارف هم كالحداد والنجار والزارع والصانع والأجير والخفير، وغيرهم من أهل الحرف والصنائع كل واحد منهم يتعلم ليتوسل إلى رزقه وما يمتع به نفسه وأهله لا يلاحظ مصلحة عامة ولا رابطة جامعة فوجوده لا ينبسط إلى أكثر مما ينبسط له وجود بعض الذباب والحشرات على ما شرحناه في مقالة روابط الجنسية، فالعلوم الرياضية والطبيعية والشرعية وغيرها لا حظ فيها عندنا لما يسمونه الهيئة الاجتماعية وهي الأمة في مجموعها لا أجزائها فلو صار كل فرد منا عالمًا بفن من الفنون التي ارتقت بها أوربا ونحن على هذه الحال لما كان ذلك كافيًا لجعلنا أمة عزيزة كاملة الاستقلال قصارى هذا العلم أن ينقل هؤلاء الأفراد من مرتبة الخزف والودع إلى مرتبة الخرز زجاجًا كان أو جوهرًا مع بقاء كل خرزة منفردة عن الأخرى إذ لا سلك هناك تنتظم فيه ولا ناظم يؤلف بينها في السلك فيجعلها عقدًا، وأعني بالسلك هنا رابطة الجنسية، وبناظم العقد المربي الاجتماعي لا المربي الصناعي. حدثني محمد توفيق البكري قال: سمعت السيد جمال الدين في الآستانة يقول: إن المسلمين لا ينتفعون بشيء من هذه العلوم التي يتعلمونها لأن السلك عندهم منقطع ولا فائدة بدونه؟ أو ما هذا معناه قال لي البكري: وقد فاتني أن أسأله عن مراده بهذا السلك فما رأيك فيه. مثل المعلم الفني والمربي الصناعي كمثل من ينظف قطع المعدن أو الجوهر لينتفع بها في الجملة ولا يبالي أكانت حبة في عقد أو فصًّا لخاتم أو كمثل من ينحت الحجارة النحت الأول لتباع لمريدها فهو لا يبني ولا يعنيه أمر الباني أكان يريد مسجد صلاة أم هيكل أوثان. وأما المربي الملي والمعلم الاجتماعي فهو الذي يقيم بناء الأمة أو ينظم عقدها فيجب أن يكون هو الرئيس على معلمي الفنون والعلوم المدير لمدارسهم؛ لأنهم هم الذين يمهدون العمل ويهيئون له الحجارة التي يقيم بها البناء فإذا خلت مدارس الأمة من هؤلاء المربين والمعلمين فبشرها بأنها تهيئ أفرادها للدخول في بناء غير بنائها، وهكذا نرى الذين تعلموا العلوم والفنون منا هم الذين مكنوا الأجانب منا بنصحهم لهم في خدمتهم، وإن لم يصلوا في التشرف بهم إلى أن يجعلوا من بنيتهم، وهكذا تتبدل أحوال الأمم وتتغير أشكالها كما صارت كنائس القسطنطينية مساجد ومساجد قرطبة كنائس. إلا أن حياتنا المِليَّة التي هي سلك اجتماعنا وينبوع سعادتنا لا تنفخ روحها فينا إلا بالتربية الدينية الدنيوية، فيجب أن يكون جل اهتمام طلاب الإصلاح منا في الدعوة إلى هذه التربية والسعي لها وإزالة العقبتين اللتين ذكرناهما في مقالة الجزء الماضي من طريقها أعني عقبة السياسة وعقبة الجهل وكيف يكون ذلك؟ كتبت ما تقدم فلم يقف القلم دقيقة ولا لحظة انتظارًا لما يُمْليه عليه الفكر حتى إذا انتهى إلى هذه النقطة وقف ساعة من الزمان، وكان هذا شأنه في المقالة الأولى جرى فلم يقف إلا عند نقطة بيان العمل الواجب علينا فكانت وقفته خاتمة المقالة. وقف القلم لوقوف الفكر، ووقف الفكر لأن تصور العاملين حال بينه وبين تصوير العمل، انتقل من إملاء الواجبات التي يعلمها إلى البحث عن العاملين الذين يجهلهم كأن صائحًا أهاب به: قف لا تخاطب من لا يسمع، ولا تطالب من لا يعمل، فوقف هنيهة ثم أنشأ يجوب البلاد ويتصفح الوجوه فرأى أن أكثر الذين يعقلون ما يقال ويقدرون على الأعمال، أحلاس بيوت وأحلاف خمول، ومن قد ظهر بما نصح للأمة، قد استفاد بنصحه الظنة، فلا يثق به الجمهور، ولا يكلون إليه تدبير الأمور، ثم عاد إلى قبر الأستاذ الإمام، فبكاه بالدموع السجام، وتذكر أن الأمة ما فقدت رأيه ونصيحته، وإنما فقدت زعامته وإمامته، فإنها لم تكد تشعر بأنه رب السلك، وربان الفلك، فتستعد لقبول ما يأتيه من النظام، إلا وقد اختطفه منها الحمام. فإن لم يأتنا ندب بسلك ... فلا عمل هناك ولا نظام وإن لم يأتنا نوح بفلك ... على الإسلام والشرق السلام هذا ما كان من الفكر في سكوته عن الإملاء قد أملاه، ثم عاد إلى ما كان وعد القلم به فوفاه. يجب على العامل في مصر والهند ما لا يجب على العامل في الأستانة والشام ويطلب من المصلح في تونس والجزائر ما لا يطلب من المصلح في فارس أو قزان، ولا أذكر مراكش إذ ليس فيها -على ما أظن- رجال، ولا الصين لأن المسلمين فيها لا يهمهم غير جمع المال، وجملة القول: إن الشعوب الإسلامية متمزقة ، في بلاد متفرقة، وليس لشعب منها من الحرية في العلم والعمل للدنيا والدين مثل ما لمسلمي مصر والهند وهم في مقدمة المسلمين ذكاء وفطنة ولولا ما يعوزهم من العزيمة والثبات والاستقلال الشخصي الذي تفضلهم به الشعوب العثمانية لكانوا هم الرجاء لسائر المسلمين، ولا أعد دعوة أحداث الوطنية في مصر مانعًا لانتفاع المسلمين بالمصريين، فإن دعوتهم لا تزال ضعيفة لا يخشى أن تفصل هذا العضو من جسم الملة. إنما يكون العاملون لخير الإسلام في مصر والهند بمأمن من غائلة السياسة إذا هم اتقوا الاصطدام بالسياسة والافتتان بها، فيجب أن يكون عملهم للإسلام نفسه لا لهوى أمير أو مليك، ولو اتكالاً على دولة أو حكومة، ولا لأجل مقاومة السلطة، أو معاندة القوة، ولولا افتتان المصريين بالسياسة وتعلق نفوسهم بمناهضة إنكلترا اتكالاً على فرنسا لنجحوا في ظل حرية الاحتلال الإنكليزي نهضة كانوا بها أئمة المسلمين ولكنهم لم يكادوا يشفوا من داء الغرور بفرنسا حتى قام من خطباء الفتنة من يغرهم بألمانيا ويغريهم بمناصبة القوة المحتلة الحقيقية اتكالاً على قوة ألمانيا الوهمية. يخدع بعض المصريين أنفسهم ويخادعون قومهم

تقرير مشيخة علماء الإسكندرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير مشيخة علماء الإسكندرية الإحصاء العام كتبنا في الجزء التاسع عشر رأينا في مقدمة هذا التقرير ونكتب الآن شيئًا عن فصوله ومسائله المقصودة منه بنفسها وأولها فصل الإحصاء العام، وفيه أن الإقبال على طلب العلم في الإسكندرية كان في هذا العام عظيمًا حتى بلغ عدد الطلاب في هذا العام 721 طالبًا، وكانوا في نهاية السنة الماضية (وهي الأولى للمشيخة) 341 فالزيادة 380، ولكن لم يثبت من هؤلاء وهؤلاء إلا 440 وهو العدد الموجود والمسجل الآن. وقد قال الأستاذ واضع التقرير (إن جميع مديريات القطر المصري قد اشتركت في طلب العلم الشريف بهذه المدينة) وجعل ذلك دليلاً على الشعور العام، والميل الخاص إلى الترقي في طلب العلوم الدينية وأحال في بيان هذا على الجداول التي وضعها لإحصاء الطلاب فراجعناها فلم نر فيها ذكرًا لمديرية القليوبية، ولا لمديرية الجيزة ولا لمديرية بني سويف. ورأينا أكثر من جاء الإسكندرية من مديرية البحيرة وسببه ظاهر وهو قربها منها وبعدها عن مصر ثم من الغربية ولعله لهذه العلة، وأما الشرقية والفيوم فلكل منهما طالب واحد في الإسكندرية ولمديرية جرجا اثنان، ولكل من قنا وأسيوط والمنيا ثلاثة، وللمنوفية أربعة، وللدقهلية خمسة، ولأسوان ستة ولا يعرف السبب في وجود هؤلاء في الإسكندرية. وما ذكر في التقرير من كون هذا أثر الشعور العام والميل الخاص إلى الرقي في العلوم الدينية فهو غير ظاهر؛ لأن هذا العدد قليل وأسباب الاختيار مجهولة ولأن التعليم في الإسكندرية هو دون التعليم في مصر وطنطا من وجهين: أحدهما أن المدرسين في المصرين أرقى في العلوم الدينية ووسائلها من المدرسين في الإسكندرية، وثانيهما - أن الدروس نفسها أرقى والعلوم أكثر: في الإسكندرية يقرءون الجلالين في التفسير، وفي الأزهر يقرءون البيضاوي والكشاف، وتفسير الجلالين أصغر كتب التفسير وأقلها فائدة، والبيضاوي والكشاف أعلاها، ولا يخفى أن روح الدين كله في القرآن، فمن لم يرتق فيه فلا رقي له. وليس في الإسكندرية شيء من علم الأصول، ولا المعاني ولا البيان، وفهم الفقه والتفسير والحديث لا يتم لمن لا حظ له من هذه العلوم. والعذر في عدم قراءة هذه العلوم أنه ليس في الإسكندرية من الطلاب إلا خمس فرق ابتدائية أو خمس سنين على إصلاحهم، وليس من غرضنا هنا الانتقاد على اختيار ما اختارت المشيخة لهذه السنين من الدروس، وإنما الغرض بيان أن العلوم في مصر وطنطا أرقى منها في الإسكندرية، فطالب الرقي في هذه العلوم لا يختار الأدنى وهو الإسكندرية على الأعلى كالأزهر. فالتنبيه على هذه الدقائق مما لابد منه للباحث في الأمور العامة، وسنن الاجتماع؛ لأن أكثر الناس قد اعتادوا ترك التدقيق في أمثال هذه الأقوال، وأمثال هذه الطرق من الاستدلال التي جرى عليها بعض أصحاب الجرائد في هذه البلاد، واعتاد السكوت عن التمحيص أهل الفهم والتدقيق من الكتاب، حتى صارت دهماء الأمة تعتقد في الأمور العامة غير الصواب، فالمعقول في مسألة إقبال الناس على التعلم في الإسكندرية هو ما ذكرنا من أن أهل البحيرة والغربية يرجحونها لقربها وما جاء من غير هاتين المديريتين لا يعتد به ولا ينهض دليلاً على ما يرمي إليه التقرير من شعور الأمة بأن العلوم الدينية في الإسكندرية أرقى، فطالب الرقي يفضلها ويختارها. ويوضح ما يريد صاحب التقرير من تفضيل مشيخته على مشيخة الأزهر في التعليم ما ذكره في الفصل الآتي قال: *** طرق التعليم (كان الأزهريون ولا يزالون يعتمدون في تعليمهم لطلاب العلم الشريف العناية بتنمية القوة العاقلة، وإعدادها للبحث واستنتاج النتائج من المقدمات، ولذلك كانت عنايتهم بالجدل وطرق الإقناع أكثر من عنايتهم بالتماس النتائج الحقة (كذا) من مقدماتها الصحيحة. وقد كنا نرجو الخير لطلاب العلوم من هذه الطريقة لولا أن بعض المتأخرين استعملوها بإفراط حتى مع صغار الطلبة والمبتدئين في العلوم فيقضي الطالب الأعوام العديدة من بداية طلبه بين تشكيكات ومناقشات واعتراضات وأجوبة قلما يحسن معها العلم بمسائل الفنون التي يتلقاها. ولقد أدركنا الطرف الأخير من ذلك الزمن الذي كانت عناية أكابر العلماء فيه - الأزهريين وغيرهم - متجهة في بداية الطلب إلى تكليف الطلاب بحفظ متون العلوم (كذا) وهي مسائلها التي تسرد سردًا، ثم التدريج معهم في إدراك تلك المسائل تدرجًا يناسب مداركهم، وقواهم العقلية حتى يبلغوا الحد الذي يقتدرون فيه على الاشتغال بإقامة الأدلة والبراهين على الذين كانوا يعلمون (كذا) ولكن الولع بالشغب والمحدثات قد كاد يطفئ هذا المصباح الذي استضاء به العالم الإسلامي دهرًا طويلاً. وهذا التدرج في التعليم كان طريقة للمتقدمين يحسن بالمتأخرين أن يسلكوها اتباعًا لسلفهم الصالح) . ثم نقل من مقدمة ابن خلدون نبذة في التعليم ملخصها أن التعليم إنما يكون مفيدًا؛ إذا كان على التدريج مراعي فيه استعداد الطالب بأن يقرأ له الفن ثلاثًا يلقي عليه في الأولى أصول المسائل، وتشرح بالإجمال ويخرج بالثانية إلى التفصيل وذكر الخلاف ووجوهه، ويستقصي في الثالثة كل عويص ويوضح كل مقفل، ثم ذكر ابن خلدون أنه شاهد كثيرًا من المعلمين يجهلون طرق التعليم، فيلقون على المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة ويطالبونه بحلها ويخلطون عليه غايات العلوم في مبادئها، ويكلفونه وعيها وهو لم يستعد لها في كل ذهنه، ويكسل ويهجر العلم ظنًّا منه أنه صعب في نفسه وإنما هو سوء التعليم. ثم ذكر صاحب التقرير مفسدًا آخر من مفسدات التعليم في مثل الأزهر فقال: وإذا أضممنا إلى هذا الذي قاله المحقق ابن خلدون مُفْسِدًا آخر لطرق التعليم وهو إطلاق السراح للطلاب، وتركهم يحضرون ما يشاءون، ويتركون ما يشاءون ويتدرجون في تلقي العلوم كما يشتهون بدون مراقبة على المواظبة في الطلب ولا ملاحظة لاستعداد الطالب فيما يريد تلقيه، كانت المصيبة أعظم والفساد أعم وأشمل فلم يكن من العجب أن يقضي الطالب العشرات من السنين في دور العلم ومعاهد التعليم ثم لا يكون حظه من تلك السنين الطوال إلا إضاعة العمر في الاختلاف إلى الدروس بلا فائدة يستفيدها ولا علم يحصله ولا يقتصر ضرره على نفسه ولكنه يتعدى إلى العلماء المتصدرين للتدريس فيكون حجة للذين يسبون التدريس في الأزهر الشريف وملحقاته وبرهانًا تنقطع دونه ألسنة الذين يدافعون عن التعليم في دور العلم الإسلامية) ثم ذكر أن مشيخة الإسكندرية تداركت هذا الفساد في طرق التعليم بشيئين: (1) تكليف بعض العلماء مراقبة الطلبة في شؤونهم الدراسية وتعويدهم على الأخلاق المُرضية (كذا) . (2) تقرير الامتحان السنوي على كل طالب حتى لا ينتقل من علوم سنته إلى أرقى منها إلا إذا أظهر الامتحانُ استعداده لعلوم تلك السنة، قال: أما العيب الذي أشار إليه ابن خلدون، فقد تلافته المشيخة بشيئين أيضًا: الأول تنبيه حضرات العلماء والمدرسين إلى ملاحظة قوى الطلبة والاقتصار على تفهيمهم مسائل الكتب المكلفين بتدريسها (كذا) بدون تعرض لكلام الحواشي والشروح الطوال خصوصًا مع المبتدئين في الطلب، والثاني عناية المشيخة بانتخاب الكتب التي تناسب كل سنة من سِنِي الدراسة. إن الذي يمكن أن يلخص به كلامه في عيوب التعليم في الأزهر وما على شاكلته من المدارس الدينية على ما فيه من الاضطراب والإيهام هو أن العيوب ثلاثة: (1) أن بعض المتأخرين قد استعملوا طريقة الأزهر القديمة في التعليم التي كان يرجى خيرها بإفراط حتى مع الصغار والمبتدئين فصار الطالب يقضي السنين بين التشكيكات والمناقشات، فقلما يحسن العلم بمسائل الفنون التي يتلقاها. (2) الولع بالشغب والمحدثات الذي كاد يطفئ مصباح الإسلام وهو ما كان عليه أهل الأزهر من الابتداء بحفظ المتون والتدرج في إدراك مسائلها. وقال: إن هذا ما كان عليه سلف الأمة الصالح واستدل على ذلك بعبارة ابن خلدون. (3) إطلاق السراح للطلاب يتدرجون كما يشتهون ويُحضرون من الكتب ما يختارون بدون مراقبة. وذكر من ضرر هذا العيب أن الطالب يقضي العشرات من السنين في معاهد العلم بلا فائدة، وأن ذلك برهان للذين يسبون التدريس في الأزهر وملحقاته لا يرد وحجة لا تدحض. ثم ذكر أن مشيخة الإسكندرية قد تداركت هذه العيوب - أي فبرئت من استحقاق السب - وبقيت هذه العيوب في الأزهر وسائر ملحقاته في التعليم. وإننا نبحث في هذه المسائل شاكرين لله تعالى أن وفق عالمًا من علمائنا الرسميين للكتابة في طرق التعليم، وعرض آرائه على الباحثين والمنتقدين ولا غرو أن نثنِّي بالشكر للشيخ شاكر. أبدأ ببيان ما أشرت إليه من الاضطراب والإبهام، بل والإيهام في العبارة فأقول: إن عبارة التقرير في هذا الموضوع عبارة من قضت عليه الحال بأن يداري ويواري فيوهم بعض القارئين بما يبهم على الآخرين، ويرضي المختلفين في الرأي بالذم في معرض المدح والمدح في معرض الذم، ويأتي بقياس مؤلف من مقدمات تؤخذ بالتسليم وإن كانت نظريات، وتكون النتيجة أن التعليم في الأزهر له كذا وكذا من العيوب والمفاسد، وأن التعليم في الإسكندرية له كذا وكذا من المحاسن والفوائد، ولكن العبارة لم تواته على ما يكيد، (أي يحاول) فلم تأت إلا ببعض ما يريد، هذا ما تومئ إليه العبارة من غرض الكاتب، وما كان مستوليًا عليه من الفكر ومتأثرًا به من الشعور عند الكتابة ذكرناها على الطريقة الغربية في النقد وهي عندنا أفضل ما يعتذر به عن الكاتب عند من يرى الاضطراب في القول فيحمله على مركب آخر. ماذا يفهم القارئ من قوله: إن طريقة الأزهريين التي درجوا عليها كانت تقضي بالعناية بالجدل وطرق الإقناع أكثر من العناية بطلب النتائج الحقيقية من مقدماتها الصحيحة، وقوله: إنه كان يرجو الخير لطلاب العلوم من هذه الطريقة لولا أن أفرط فيها بعض المتأخرين فسلك فيها مع الصغار العاجزين عن الاستفادة بها. هذه الطريقة شر طريقة جرى عليها الناس لا يصل سالكها إلا إلى إفساد العلم والدين كما بين ذلك حجة الإسلام الغزالي في كتاب العلم من الإحياء. ماذا يفهم القارئ من قوله بعد ذلك أنه أدرك الطرف الأخير من ذلك الزمن الذي كانت عناية أكابر العلماء فيه متجهة إلى تكليف الطلاب حفظ المتون والتدرج معهم في فهمها؟ أهذه هي الطريقة الأولى أم غيرها؟ ظاهر السياق أن هذا إيضاح لما قبله وهو ما كان عليه المتقدمون لا بعض المتأخرين الذين قال: إنهم أفرطوا في استعمال تلك الطريقة، ولا ينافي ذلك قطعًا ما ذكره من أنهم ينتهون إلى الاقتدار على الاشتغال بإقامة الأدلة والبراهين على الذين كانوا يعلمونهم؛ لأنه إنما جعل غايتهم الاستعداد لإقامة الأدلة والبراهين على معلميهم لا الاقتدار على إقامة البراهين بالفعل على المطالب الصحيحة فلا يقال: إن قوله هذا مناقض لقوله السابق؛ لأن العناية بالجدل لأجل الإقناع والإلزام لا تفضي إلى القدرة على تأليف البرهان لإفادة العلم. وتشبيهه هذه الطريقة بالمصباح، وقوله: إن العالم الإسلامي استضاء بها دهرًا طويلاً كرجائه الانتفاع بها في النبذة الأولى. وأما قوله: (ولكن الولع بالشغب والمحدثات قد كاد يطفئ هذا المصباح) فهو على إبهامه وإيهامه لا يمكن أن يحمل إلا على إفراط أولئك المتأخرين في است

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (المقتبس) أنشأ صديقنا محمد أفندي كرد علي الدمشقي في القاهرة مجلة أدبية علمية اجتماعية شهرية سماها (المقتبس) وقد أصدر الجزء الأول منها في شوال وهو لشهر المحرم من العام القابل أصدره قبل وقته تعجيلاً للفائدة. اعتاد المصريون على كثرة رؤية الصحف الجديدة وعلى سرعة فقدها فقلَّت ثقتهم بالجديد وإن كان مفيدًا لعدم ثقتهم به وبدوامه، ولسبب آخر هو عدم ثقتهم بثبات صاحب الصحيفة على الخطة التي يختطها لنفسه في ابتداء عمله. فمن النصيحة لقراء المنار أن نعرف إليهم المقتبس (الكاتب) أولاً والمقتبس (المجلة) ثانيًا ليشترك من يشترك عن بينة. محمد أفندي كرد علي من شبان دمشق الذين حسنت تربيتهم، وعني بتعليمهم، وقد اشتغل زمنًا بتحرير جريدة (الشام) وله مقالات كثيرة في مجلة المقتطف، ويعرف التركية والفرنسية معرفة جيدة ويحسن الترجمة عنهما وعبارته من أحسن عبارات كتاب هذا العصر وأسلمها من الخطأ والعسلطة والمعاظلة. وهو حسن الاختيار فيما يقتبس من الكتب العربية والأوربية وحسن القصد فيه. وما حمله على إنشاء هذه المجلة إلا ولوعه بنشر العلم والأدب الذي يراه نافعًا فالكتابة إنشاء، وترجمة هي منتهى لذته لا يكره فيها إلا الخوض في السياسة، وكل ما يختلف الناس فيه من المذاهب والمشارب، فأنشأ مجلة المقتبس ليمتع عقله بلذته. ويفيد قراء العربية بحسب استطاعته، ودعوة أصدقائه من الكتاب إلى مساعدته، وهو غني عن الكسب بقلمه وقد وطن نفسه على الخسارة المالية سنتين أو ثلاثًا ولكن محبي العلم والأدب في مصر وغيرها لا يرضون له الخسارة في خدمتهم إن شاء الله تعالى. مباحث المجلة تدخل في عشرة أبواب: (1) صدور المشارقة والمغاربة -وهو لتراجم الرجال الذين ينتفع بسيرتهم. (2) المقالات. (3) التربية والتعليم. (4) الصحف المنسية -ينشر فيه ما طوي ذكره من منثور العربية ومنظومها في الجد والهزل. (5) تدبير الصحة. (6) تدبير المنزل. (7) المطبوعات والمخطوطات، ويدخل فيه تقريظ الكتب المنشورة بالطبع والتعريف بالكتب المخزونة في المكاتب. (8) مقالات المجلات، يذكر فيه أهم ما في المجلات العربية والإفرنجية من المقالات والآراء. (9) سير العلم يدخل فيه ما يقتبس من المجلات الغربية. (10) نفاضة الجراب، وهو في الشجون والأفاكيه. جاء في الجزء الأول ترجمة وجيزة لابن حزم ومقالة في الأمية والكتاتيب وأخرى في سيئات القرن الماضي ملخصة من مجلة فرنسية، ومقالة في تعليم اللغات وهي مترجمة أيضًا وبعض مقاطيع من شعر حافظ وعبد الرحمن شهبندر والرافعي متفرقة ونبذة في التمثيل في الإسلام، ونبذة في التناسل الغريب يريد كثرة النسل ونبذة في العمل والعملة، وشيء من نصائح ابن حزم وشيء من نكات الوهراني وشيء في وصف الجرائد لعبد الله باشا فكري، ونبذة في أوقات الطعام ونبذة في استعمال السكر وأخرى في حياة الفقير ورابعة في دواء الأرق، وكلام من كتاب مداواة النفوس لابن حزم وعن منشآت الوهراني وعن كتاب فرنسي اسمه نصائح للعملة وعن قصة (في وادي الهموم) ، كل شيء مما تقدم في الباب اللائق به عند الكاتب وفي باب سير العلم نحو 20 نبذة وجيزة. وغير ذلك وقد انتقدنا عليه أمورًا لا يسلم من مثلها المبتدئ بالعمل منها أنه كتب عن ابن حزم في ثلاثة أبواب وتكلم عن الوهراني في غير ما وضع. ترجم ابن حزم في الباب الأول ثم ذكر شيئًا من نصائحه في باب الصحف المنسية ثم ذكر الكتاب الذي اقتبس منه النصائح في باب المطبوعات وكان يحسن أن يذكر في باب واحد من هذا الجزء وكذلك يقال في تكرار ذكر الوهراني والكلام في العملة. ومنها أن ما ذكره من النصائح لم يعد من الصحف المنسية وقد طبع الكتاب قبل وجود المجلة. فإن أراد بالصحف المنسية ما أهمل الناس العمل به فالباب واسع يدخل فيه كثير من المجلدات العظيمة في التفسير والحديث والرقائق وغير ذلك فالانتقاد على الباب نفسه أولى. ومنها أنه لم يحسن ذكر منشآت الوهراني والتشويق إليها والتصريح بتعمد كتمان مكانها لأن هذا يغري أهل الولوع بأمثال هذه المسائل إلى البحث عنها ومن بحث عن الموجود ظفر به غالبًا. ومنه أن بعض المباحث لم توضع في الأبواب التي هي أليق بها فقد أدخل في باب التربية والتعليم الكلام في العملة والصناع وأخرج منه بحث تعليم اللغات. وذكر شيئًا من مقاطيع الشعر في باب المقالات دون باب الصحف المنسية. ومنها أن المنقول في بعض المواضع لم يتميز بنسبته إلى الكتب والعلماء تميزًا ظاهرًا يعرف أوله وآخره بلا اشتباه كما يرى المدقق في ترجمة ابن حزم وما نقل منها عن الذخيرة لابن بسام. ومنها الاختصار المخل في بعض المباحث كمبحث (الأمية والكتاتيب) فالظاهر أنه يريد الكلام على الأمية في الإسلام وكيف انتقلت العرب بعده منها إلى التعلم حتى إنشاء الكتاتيب قديمًا وحديثًا ولكنه جعل نحو ربع ما كتبه في معنى لفظ الأمي وفي تفسير ما ورد في أهل الكتاب من قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِي} (البقرة: 78) (وقد ذكر في المقتبس لفظ يقرءون بدل يعلمون سهوًا فليصحح) وكان المناسب أن يذكر تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (الجمعة: 2) فقد فسر الكتاب هنا بالكتابة وهما مصدران لكتب. ثم ذكر شأن الكتابة في الجاهلية وذكر أممًا أخرى بالإيجاز ولم يذكر عن الإسلام بعد ذلك إلا سطرًا ونصف سطر وقال بعد ذلك (هذه زبدة ما يقال في معنى الأمية في الإسلام) إلخ والسبب في هذا الاختصار المخل رغبة الكاتب في إيداع الجزء مباحث كثيرة، وأمثال هذه الأمور التي انتقدناها مما يسهل تلافيها لا سيما بعد التنبيه إليها ومنها ما تبع فيه اصطلاح مجلات أوربا وإن لم يكن عندنا مألوفًا. وجملة القول: إن (المقتبس) مجلة نافعة حسنة العبارة وصاحبها كما قيل له في كل جو متنفس، ومن كل نار مقتبس، وهي مرجوة الثبات والدوام، مرجو لها التقدم إلى الأمام، وصفحات الجزء منها 56 وقيمة الاشتراك فيها خمسون قرشًا صحيحًا في مصر وثلاثة عشر فرنكًا في سائر الأقطار. *** (كشف الخبايا - والمسلمون والقبط) ظهرت جريدة أسبوعية بهذا الاسم لعبد الحميد أفندي فريد الذي كان قبطيًّا فأسلم تاركًا خدمة الكنيسة القبطية التي كان واعظًا فيها وخدمة مدرسة القبط في ملوي وكان ناظرًا لها تاركًا هذا وهو مورد معاشه لأنه اعتقد بعد طول البحث بحقية الدين الإسلامي فلقي من القبط مناهضة شديدة ومناصبة قوية كما هي عادتهم، حتى أنهم هددوه واتهموه بما يحكم فيه القضاء حكمه المهين لو ثبت فلم تثبت التهمة، ولكنه هو ثبت في الفتنة، وأنشأ هذه الجريدة يبين فيها الآيات والدلائل التي أخرجته من دين وهدته إلى آخر، ويذكر فيها بعض ما لقي من القوم الذين فارقهم، وما هم عليه مما نفره منهم، فينتقد جميع ما يراه منتقدًا من هذه الطائفة، وقد صدر العدد الأول من الجريدة في 14 شوال الماضي وفيه شيء كثير من ذلك. لو أن القوم عذروا الرجل فيما ظهر له أنه الحق ولم يفتنوه ليكتم اعتقاده وينافق بإظهار خلافه لما تصدى للاشتغال (بكشف الخبايا) وقد يقرأ قارئوهم هذه الكلمات التي كتبتها فيفهم منها أنني أنتصر له وأحمد عمله؛ لأنه صار مسلمًا، فأنا أتعصب له تعصبًا جنسيًّا كما يعهد منهم وممن اتخذ الدين جنسية من المسلمين وغير المسلمين. ولكن من يقرأ المنار يعلم أنني أدعو دائمًا؛ لأن يكون الدين كله لله لا للعصبية الجنسية. وقد قال نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - " ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية " رواه أبو داود عن جبير بن مطعم أدعو إلى هذا لاعتقادي أن الناس إذا تركوا العصبية الجنسية فإنهم يعذرون كل معتقد في اعتقاده ولا يفتنونه فيه، وإنما يدعو الداعي إلى اعتقاده بالبرهان الذي يستند إليه فيه كما أمر الله تعالى بقوله {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) ومن كان على بينة من اعتقاده فهو يعتمد في نشره على بيانه للناس كما قال تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيّ} (البقرة: 256) وسنة الله في الخلق تقضي باختيار الأمثل، وترجيح الأفضل، متى وجدت الحرية، وزال الاضطهاد والفتنة. رأيت في جريدة (كشف الخبايا) كلمة لعلي لو لم أرها لم أكتب ما كتبت، رأيت فيها الرجل يقول القوم فيما حكاه أن أحدهم قال له - وهو أقرب الناس إليه وأعز الأصدقاء له -: (يا ليتك كفرت بالله وصرت وثنيًّا أو طبيعيًّا، فكان ذلك أولى وأحسن من دين محمد..) ويا ليته حذف ما حذفت من قوله فلم يكتبه كله. ولا شك عندي بأن قائل هذه الكلمة لا حظ له من الدين إلا العصبية الجنسية السوءى، وبغض المسلمين؛ لأن كل متدين، بل كل إنسان يرى أن أقرب الناس إليه فيما هو عليه من كان مشاركًا له فيه على نسبة ما به الاشتراك فأقرب الناس من الكتابي من كان يؤمن بالله وبالرسل والكتب، ثم من كان يؤمن بالله دون الرسل، ثم من كان له دين ما ولو وثنيًّا وأبعدهم عنه من لا يشاركه في شيء من ذلك فكيف يكون قائل تلك الكلمة مسيحيًّا يدين بما أمر المسيح من محبة الأعداء ثم يقول ما قال في دين ونبي جاء في كتابه {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (المائدة: 82) . ليس الذنب في هذه العصبية الجنسية الجاهلية خاصًّا بالقبط، بل هي عامة بعموم الجهل في البلاد فغوغاء المسلمين وكثير ممن يعدون من نبهائهم يأتون بالأعمال المتكررة في الحفاوة بمن يسلم من النصارى فيحفظون قلوبهم ويحركون أضغانهم وذلك ضار بمصالحهم الدنيوية التي تتوقف على البر والمجاملة، وحسن المعاملة لا على ترك الإيذاء فقط وليست من الدين في شيء، بل هم مخالفة له؛ لأنه ينهى عن الإيذاء ويأمر بالعدل والإحسان {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) ومن الدلائل على أن عمل هؤلاء الذين يفرحون ويطربون بمن يسلم من النصارى من عصبية الجاهلية لا من الغيرة الإسلامية أن أكثرهم يجهلون عقائد الدين، وآدابه وأحكامه ولا يكادون يعملون بما يعلمون منها. المسلمون والنصارى في هذه العصبية الجاهلية سواء، والعارفون بمضارها من الفريقين قلما ينهون عنها، وقد علمت مما قص علي من الوقائع في ذلك أن الفرق بين المسلمين والقبط فيها من وجه واحد، وهو أن علماء المسلمين وكبراءهم من الحكام وغيرهم قلما يوجد فيهم من يميل إلى ما تفعله العامة، أو يساعدهم عليه وأن القبط يعملون ما يعملون بتواطئ بين كبرائهم من رجال الدين، ورجال الحكومة وغيرهم، والسبب الطبيعي في ذلك أن ما يفعله المسلمون لا يحتاج إلى رأي، ولا تدبير، ولا مساعد، ولا نصير؛ لأنه عبارة عما يسميه فاعلوه من العامة

شيخ الأزهر وزينة الكسوة والمحمل حكم الفرجة عليهما

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شيخ الأزهر وزينة الكسوة والمحمل، حكم الفرجة عليهما الشيخ عبد الرحمن الشربيني شيخ الجامع الأزهر مشهور بالتقشف والزهد والعزلة والإعراض عن أهل الدنيا، ولما ذهب إلى الإسكندرية لوداع الأمير قبل سفره إلى أوروبا في الصيف الماضي ذكرت جريدة المؤيد من خصائصه أنه لم ير الإسكندرية قبل هذه المرة، ولم يحضر الاحتفال بمحمل الحج أي ولا الاحتفال بنقل كسوة الكعبة، وقد لهج الناس يومئذ بما كتب المؤيد فمنهم من قال: إن هذا ذم لا مدح ومنهم من توقف في الحكم، ذلك أن من الناس من يظن أن الاحتفال بالكسوة والمحمل من شعائر دين الإسلام، ويظن أن حضور العلماء فيه هو من آيات ذلك وإلا لأبوا وأنكروا. والحق أن امتناع الشيخ الشربيني لم يكن إلا لاعتقاده بأن حضور ذلك الاحتفال حرام، وإننا نورد هنا بعض نصوص فقهاء مذهبه في ذلك. قال البجيرمي على الخطيب: والكسوة المعروفة حرام لاشتمالها على الفضة (قال) والحرمة هنا عدها البلقيني من الكبائر وقال الأذرعي: إنها من الصغائر وهو المعتمد، وقال: ويحرم زركشة أستار الكعبة من الفضة، ومثلها في حرمة الزركشة بما ذكر ستور قبور الأنبياء والمرسلين على المعتمد خلافًا للبلقيني. وإذا قلنا بحرمة ذلك فتحرم الفرجة عليه أيضًا كالفرجة على الزينة المحرمة، لكونها بنحو الحرير بخلاف المرور عليها لحاجة، وامتناع ابن الرفعة من المرور أيام الزينة كان ورعًا كما قاله الرملي. ولو أُكره الناس على الزينة المحرمة لم يحرم عليهم، وهل يجوز التفرج عليها حينئذ، الذي يتجه المنع؛ لأن ستر الجدران بالحرير حرام في نفسه، وعدم حرمة وضعه لعذر الإكراه لا يخرجه عن الحرمة في نفسه وما هو حرام في نفسه يحرم التفرج عليه؛ لأنه رضاء به كما قاله ابن قاسم على المنهج اهـ كلام البجيرمي. ومثل ذلك في حواشي الشبراملسي على الرملي. وقال البجيرمي على الخطيب أيضًا: تنبيه يعلم من هنا، أي من الكلام على الحرير، وما يأتي في زكاة النقد أن المحمل المشهور غير جائز، ولا تحل الفرجة عليه، ولا يصح الوقف عليه، ومثله كسوة مقام إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وكذا الذهب الذي على الكسوة، والبرقع ... إلخ اهـ. ق ل على المحلى. اهـ وقال الباجوري في حواشيه على ابن قاسم الغزي: ويحرم التفرج على المحمل المعروف، وكسوة مقام إبراهيم ونحوه ونقل عن البلقيني جواز ذلك لما فيه من التعظيم لشعائر الإسلام وإغاظة الكفار وهكذا كسوة تابوت الولي وعساكره اهـ وقال الجمل في حواشيه على المنهج: ويحرم ستر الجدران ونحوها بالحرير كستر ضرائح الأولياء إلا الكعبة وقبور الأنبياء، نعم، لا يحرم ستر الجدران به في أيام الزينة بقدر ما يدفع الضرر، ويحرم المرور والفرجة عليها لغير حاجة خلافًا للعلامة ابن حجر. وعلم من هذا ومما يأتي في باب زكاة النقد أن المحمل المشهور غير جائز، ولا تحل الفرجة عليه ولا يصح الوقف عليه، ومثله كسوة مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكذا الذهب الذي على الكسوة والبرقع اهـ البرماوي اهـ. الجمل. وقال الشيخ عوض على الخطيب: وكذا يحرم تمويه كسوة الكعبة والمحمل الشريف، والتفرج عليها حرام، وكذا الزينة التي تفعل بمصر. اهـ. هذا هو المعتمد وما نقلوه عن البلقيني، ولم يحفلوا به هو رأي له مبني على شبهة واهية، وهي إغاظة الكفار، ولو جاز أن نكلف إغاظة الذميين والمعاهدين لما جاز أن ترتكب المعصية لذلك، وتعظيم شعائر الحج إنما تكون في إقامتها على وجهها في مواضعها. وقد ذكرت الجرائد في هذه الأيام أن شيخ الجامع حضر الاحتفال بنقل الكسوة فيا ليتنا نعرف هل ظهر له بعد أن صار شيخًا للأزهر خطأ فقهاء المذهب وصحة رأي البلقيني فاتبعه ليعظم الشعائر ويغيظ الكفار أم ظهر له دليل آخر على الحِل؟

تجارة الرقيق وأحكامه في الإسلام

الكاتب: عبد الرحمن الكواكبي

_ تجارة الرقيق وأحكامه في الإسلام من آثار المرحوم السيد عبد الرحمن أفندي الكواكبي الشهير، كتبها بعد سياحته الأخيرة قبل موته. من كان مطلعًا على أحوال سواحل شرقي إفريقيا وسواحل جزيرة العرب ويطلع على ما كتبه المستر..... بخصوص مسألة الرقيق وما نسبه فيها من القصور للمؤتمر الدولي في زنجبار يستغرب جدًّا من تسرع وتهجم الكاتب المذكور على مؤاخذة مصلحة الرقيق بدون تثبت في الأمر، ولو أن جنابه اعتنى بتحقيق مسألة الرقيق لظهرت له الحقائق الآتية: (أولاً) أن هذه التجارة بهمة المؤتمر المشار إليه وحراسة أوربا الدائمة لم يبق منها إلا اسمها تقريبًا. (ثانيًا) هذه البقية مقصورة على شمال شرقي إفريقيا حيث نخَّاسة الجنس السواكني والجنس الدنقلي يجلبون من السودان بعض الرقيق إلى الثغور المهملة الإفريقية المقابلة من جزيرة العرب لثغور الوجه وينبع وجدة ورابغ وميلت وقونفذة وجران. (ثالثًا) تهريب الرقيق كاد ينحصر بسفائن جدة المشهور أصحابها بالمهارة البحرية، وبالإقدام على المخاطرات، فهذه السفائن تنقل الرقيق من شرقي إفريقيا إلى غربي جزيرة العرب يعني أن الثغور المذكورة التي تفصل بين السواحل الغربية فيها وما بينهما من الثغور المهملة، تلك الثغور الباقية وحيدة في تجارة الرقيق بل ومنذ سنين إلى الآن يتشكى أهل الحجاز من وجود قرصان في تلك المياه تحت رياسة ابن غيبش والحكومة العثمانية لا تصغي لتلك الشكايات ألبتة. (رابعًا) هذه السفائن ليست حرة في نقل الرقيق، إنما هي تخاف من بواخر حراسة الرقيق، ولذلك تترصد أواخر الشهر القمري لتغتنم السرى ليلاً تحت ستار الظلام فتقلع من الساحل الإفريقي إذا صادفت الريح موافقة عند غروب الشمس وتصبح في شاطئ جزيرة العرب. (خامسًا) إذا تعمق جنابه في التحقيق كما يفعله المغرمون بالحرية غرامًا أصوليًّا يعرف أن البقية اليسيرة للرقيق هي تصدر من الحجاز مع قوافل الحجاج فتدخل بالأكثر إلى نجد وأقل منها إلى اليمن وأقل من الجميع إلى بلاد سوريا وهذه الأخيرة ما عاد يدخلها رقيق الذكور مطلقًا. ثم لا بد أنه كتب ملاحظته في التدابير التي يراها تفيد في حسم هذا الأمر الذي يشتكى منه، ونحن لأجل أن لا نترك عين هذا الاعتراض يتوجه علينا نقول: إن أفعل التدابير في هذا الخصوص هي هذه: (أولاً) أخذ سفائن جدة وينبع وسفائن سواكن وما في جوارها أيضًا التي أصحابها من أهالي جدة تحت مراقبة قوية من قبل قناصل الدول المجتمعين في جدة (ثانيًا) إبرام السفارات في الآستانة على الباب العالي أن تلزم حكومة الحجاز بمنع بيع الرقيق علنًا حتى في سوقه المخصوص في مكة المسمى (الدكة) كما هو الآن. (ثالثًا) أن يصير تهديد الباب العالي تهديدًا مشتركًا دوليًّا بأن إذا بقيت تجارة الرقيق مباحة في الحجاز فالدول (تسحب تنازلها عن إقامة وكلاء سياسيين لها في ولاية الحجاز في غير جدة وذلك لأجل مراقبة تحرير الرقيق مع حماية الحجاج المسلمين من رعايا الدول أو الذين في حمايتها) [1] . لي صديق من علماء العرب المسلمين ومن مشاهير الأحرار والكتاب السياسيين [2] فذاكرته في شأن خصوص الرقيق، والديانة الإسلامية، وما هو نظر علماء الإسلام في هذه الخدمة للإنسانية القائمة بها الدول الغربية فقال: إن الدين الإسلامي جوز الرق كسائر الأديان ولكن هذا الدين المترقي في الحكمة التشريعية بالنسبة إلى كل الشرائع القديمة لم يمنع الأحكام القاسية المألوفة منع مصادمة إنما شدد في ثبوتها وجعل للمبتلين بها كثيرة منقذة من العقوبات الشديدة باسم الدين [3] ومن جملة ذلك أنه ضيق دائرة الرق جدًا بحيث يظهر بكل وضوح أن قصد الشريعة الإسلامية إبطال الرق أساسًا بالتدريج كما يعلم من الأحكام الآتية: (1) الشريعة حصرت الرق في المتولدين من أبوين رقيقين وفي أسرى الحرب القانونية مع غير المسلمين، وغير العرب، وغير الأقارب؛ فإن هذه الأصناف لا تسترق. (2) جعلت الاسترقاق غير الشرعي من أعظم المحرمات فيأتي في المحرمات تالي النفس (وفي نسخة: ومبلغه منها أن يأتي بعد قتل النفس) . (3) جعلت العتق هو الكفارة الوحيدة لجملة خطايا دينية إذا وجد الرقيق مهما بلغت قيمته. (4) جعلت العتق هو الكفارة العظمى لجميع أنواع الخطايا التعبدية. (5) جعلت العتق من أهم النذور. (6) جعلت العتق محللاً للحنث باليمين التي لا يتعلق بها حق من حقوق الناس. (7) جعلت العتق أتم وفاء لحق شكر الله على النعمة، أو على السلامة من خطر. (8) جعلت العتق أهم ما يوصي به المسلم بعد موته ليكافئه الله بعتقه من عذاب الآخرة. والحاصل أن الإسلام كاد أن يلزم أهله بأن كل فرد منهم يعتق ما يمكنه إعتاقه من الرقيق، ولهذا لا يستمر الرقيق عند المسلم مدة طويلة قط بل مدة مؤقتة. وكذلك الشريعة المدنية الإسلامية هم أعظم شريعة جاءت محامية عن الحرية وذلك أنها: (1) جعلت الرق يسقط بمجرد أن يدعي الإنسان أنه حر إذا اعتبرت لزوم تصديقه، لأنه يدعي حقًّا طبيعيًّا وألزمت مدعي ملكه بإثبات أصل رقيته. (2) جعلت إقرار الإنسان على نفسه بالرق ولو ألف مرة لا يسلب حريته ولا يمنعه من ادعاء الحرية بعد. (3) جعلت الرق يسقط بورود لفظ العتق على لسان المالك ولو هازلاً أو سكرانًا أو بلغة لا يفهمها أو مكرهًا على النطق بها. (4) جعلت رق الأنثى شبه ساقط بمجرد أن تلد ولدًا من مالكها فلا تنقل إلى ملك آخر وبموته تصير حرة مطلقة. (5) جعلت القول قولها في أن حملها هو من مالكها، وإذا أنكر فقولها يؤثر في عتقها، وإن لم يؤثر في ثبوت نسب الولد منه. (6) جعلت مالك جزء من رقيق ولو واحدًا من ألف إذا أعتق جزءًا عتق الكل رغمًا عن باقي شركائه، وحق لهم تضمين المعتق خسارتهم فقط. (7) جعلت حكم القاضي بالعتق ينفذ مطلقًا ولو كان ظالمًا في حكمه. (8) جعلت خليفة المسلمين إذا رأى في اجتهاده (ولا بد أن يكون الخليفة مجتهدًا شرعًا) أن كافة الأرقاء المملوكين للمسلمين رقيتهم غير صحيحة فحكم بحريتهم جميعهم نفذ حكمه وصار العبيد أحرارًا دفعة واحدة، ولو خالف في حكمه آراء بعض المذاهب الإسلامية القديمة إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التي تقاوم عادة الاسترقاق القديمة في البشر مقاومة شديدة. فشريعة الإسلام هي أول شريعة دينية سياسية دافعت عن الحرية ونادت بإبطال الرق بتلك الوسائل وليست معاداة الشريعة الإسلامية للرق من الغريب لأنها ظهرت في العرب الذين هم أحرص الأمم على الحرية ونزلت في أرضهم التي نزلت فيها أيضًا صحف الحكمة على أبي الأنبياء عليهم السلام وتحررت بلغتهم التي كتب بها أول قانون للحرية والإخاء والمساواة، ولكن كما جرفت سيول برابرة الشمال رياض الرومان واليونان فأوقعتهم في القرون الوسطى المظلمة، كذلك جرفت سيول المغول وإخوتهم رياض العرب فأوقعتهم في مثل تلك القرون التي يسعون للخروج منها. ومن ثم فالعلة الحقيقة لاستمرار الرق هي الأمراء المستبدون الذين لا يتقادون للدين الإسلامي إلا لأجل تطبيقه على أهوائهم، فهم يتخذون الدين في الظاهر حجة للتمتع بالرقيق لا سيما بعد أن قامت الأمم الغربية ودولها بتحريره، فهؤلاء الأمراء يظهرون الآن أمام أوربا أنهم يودون منع الرقيق ولكن يخافون رعاياهم المسلمين لأن الرقيق جائز شرعًا ولضرورة المحافظة على الآداب والعادات الإسلامية لا يمكنهم إبطاله دفعة بل تدريجًا مع أن مسامير الرق في الحقيقة هي كبرياء الأمراء والمقلدين لهم وليست هي الإسلام نفسه كما يفترونه عليه ولا بد أن يستغرب الأوربيون إذا قلنا: إن علماء الدين الإسلامي ليس فيهم من يجوز الرقيق مطلقًا منذ عدة قرون أي منذ لم تبق حرب قانونية إسلامية يراد بها حماية الدعوة الإسلامية ونشرها أو يراد بها المدافعة عن الجمعية الإسلامية وكذلك لم يبق في الأمة أُسَراء متسلسلين، وإنما العلماء الأحرار يسكتون ويتجاهلون خوفًا من الأمراء أو محاباة لهم لأنهم يرون أن أعظم بيت في الأمراء المسلمين لم يزل منذ أربعة قرون تقريبًا متبعًا قانونًا عائليًّا من مقتضاه عدم زواج ذكورهم بنساء غير رقيقات فأمهاتهم وزوجاتهم جمعيهن رقيقات من الكرج أو الجركس. مع أن الرق لا ينطبق شرعًا على الكرج منذ قرن ونصف؛ إذ انقطع دخول جيوش الإسلام إلى بلاد الكرج وكذلك لا ينطبق على الجركس، لأنهم مسلمون ولما هو معروف أيضًا من أن الجركس يبيعون أولادهم بيعًا أو يسترقون من المدينين لهم أولادهم في مقابلة ديونهم. العلماء المسلمون إذا لم يسكتوا عن بيان هذا الخلل في الكرج والجركس يلزمهم أن يحكموا ويصرخوا أيضًا بأن جميع أولئك الأمراء ليسوا بأولاد شرعيين، وهؤلاء الأمراء يمكنهم بلا صعوبة أن يبطلوا هذا القانون العائلي كما أبطلوا أخيرًا منذ أربعين سنة قانون قتل جميع أولاد الأميرات السلطانيات اللائي كن يزوجن لأزواجهن بشرط أن لا يعقبن أولاد أبدًا وذلك للحرص على عظمة بيتهم الملوكي من أن يكثر الانتساب إليه. أما ما يقال عن حاجة المسلمين للرقيقات لأجل الخدمة فليس هناك حاجة ضرورية، إنما هي كبرياء وعظمة وتقليد لأرباب البيوتات من الأمراء فقط كما أن الخصيان لا ضرورة لوجودهم، والشريعة الإسلامية لا تجوز خصاء الحيوان فضلاً عن الإنسان، وإذا وجد رجل مخصي بفعل الغير، فأكثر المذاهب الإسلامية ومن جملتها المذهب الحنفي السلطاني تعتبره كسائر الرجال بلا فرق ولا تجوز استخدامه في القصور بين النساء، ولا يخالف هذه المذاهب في ذلك غير المذهب الشافعي فقط. الشريعة الإسلامية وعلماؤها الأحرار يشكرون أوربا على منعها الرقيق وهم مسرورون من نجاح سعيها لتحقيقه ويتمنون لو أن أوربا تهتدي إلى وسيلة تكون قاطعة مانعة بها يسد باب الرقيق بالكلية. يقول صديقي المذكور أنه يلوح لفكرة من التدابير المؤثرة في هذا الشأن ما يأتي: (أولا) أن تستعمل أوربا نفوذها الأدبي في استقباح وجود الجنس الأسود ذكورًا وإناثًا في قصور الأمراء بحجة قبح خلقتهم وأخلاقهم، وكذلك استقباح وجود إناث بيض في تلك القصور أسيرات ذليلات بدون جناية ولا اختيار. (ثانيًا) أن تحمل أوروبا الأمراء الشرقيين على اتباع عادات أمراء الغرب بإعلان زواجهم الشرعي وتكرههم بالتدريج أن يطلبوا من دول أوربا أن لا تعتبر رسمًا من ورثائهم الشرعيين في الإمارة كل مولود لهم من زوجة غير شرعية، وهذا التحديد لأجل أن يعلن زواجها قبل الولادة بسبعة أشهر على الأقل ومنع إعلان الزواج بعد ظهور الحمل. (ثالثًا) أن تكلف الدول سفراءها في القسطنطينية وطنجة وطهران وكابول وقناصلها في تونس ومصر وجدة (عوضًا عن مكة) بأن يستفتوا بواسطة حكومات العواصم الإسلامية من المفتين الرسميين التابعين لمذاهب مختلفة عن الحكم الشرعي في مسألة نصها كما يأتي: ما قول علماء الشرع الإسلامي المحترمين في الإنسان هل يصح اعتباره رقيقًا بشرائه من أوليائه أو بالسرقة أو بصورة الأسر، ولكن في حرب قامت بها فئة صغيرة مسلمة خارجة عن الجامعة الإسلامية ومخالفة في ذلك الأسر عهد أكثر سلاطين المسلمين عهدًا عامًّا دوليًّا بإبطال الأسر الحربي مقابل عدم وقوع الأسر على كافة المسلمين [4] . إن هذا الاستفتاء ينتج أن القسطنطينية تحاول في الجواب وتمنع علماء مكة عن الجواب أما باقي العواصم فكلها تجيب بعدم جواز الرق، وهذا الجو

أسئلة من دمياط تتعلق بقصة المولد النبوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من دمياط تتعلق بقصة المولد النبوي من الشيخ محمد عبد الفتاح المدرس ببعض مدارس دمياط قال بعد الثناء والتحية: جاء إلى مدينة دمياط ليلة النصف من شعبان رجل (من الأشراف) المنتسبين للعلم، وقصد أشهر مسجد ومدرسة دينية بها (جامع البحر) حيث اجتمع خلق كثير لرؤية ما أعده أرباب الطرق به من الاحتفال بهذه الليلة، وبعد صلاة العشاء أخذ القوم مجالسهم فقام هذا الرجل وجلس على كرسي مرتفع أعد لتدريس شيخ العلماء (وقد قرأ علينا هنا درسين فقيد الإسلام والشرق المرحوم الشيخ محمد عبده حينما كان بمصيف رأس البر في السنة الماضية) وابتدأ يسرد فوائد جمة لسماع قصة المولد النبوي ثم سرد ما لا أذكر منه على كثرته غير ما يأتي: (1) أن أول ما خلق الله نور نبينا - صلى الله عليه وسلم - ومنه استمد جميع مخلوقاته. (2) أن الله تعالى حينما زوج آدم بحواء قام في الملائكة خطيبًا معلنًا بذلك ثم فرض عليه صداقًا صلاته على النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة مرة وقد صدع بالأمر غير أنه لم يستطع إكمال العدد بل انقطع نفَسه عند إتمام السبعين فأقاله الله من الباقي وجعل ذلك سببًا في جعل الصداق قسمين مقدم ومؤخر. (3) أن جميع الوحوش البرية والبحرية بشَّر بعضها بعضًا ليلة الحمل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ونطقت بذلك بلسان عربي مبين. (4) أن مريم حضرت ليلة ولادة النبي مع سارة وآسية لأنهم زوجاته في الجنة. (5) أن العلماء اختلفوا في أمر آسية فقيل: إنها لم تكن ماتت إلى هذا الحين لأنها رفعت إلى الجنة حيث استغاثت بالله من فرعون وعمله وقيل: إن الله أحياها لهذا الغرض والأول أصح. (6) أن من يعتقد أن أحد الأنبياء ولد من الفرج يكون كافرًا لأنهم جميعًا ولدوا من ثقب في الجنب الأيسر. (7) أن النبي وجميع الأنبياء أحياء في قبورهم حياة كحياتنا هذه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (أنا في قبري حي طري) وقوله: (نحن معاشر الأنبياء أحياء في قبورنا) . ومن الأدلة المحسوسة (تأمل) على ذلك أن عليًّا - رضي الله عنه - حمل زوجته فاطمة بعد موتها على يديه وأتى بها إلى القبر الشريف، وقال: يا رسول الله هذه فاطمة الزهراء بضعتك الطاهرة قد جادت بروحها إلى الله في هذا اليوم، وقد جئت بها إليك لتزورك فانفتح القبر (سبحانك هذا بهتان عظيم) ومد النبي يديه فتلقاها من علي وأضجعها بجانبه، وقيل: إنه ردها إليه فدفنها بالبقيع، ولذلك ترى الناس يزورونها بالمكانين عملاً بالروايتين. وأن سيدي أحمد الرفاعي حين زار القبر الشريف أنشد هذين البيتين. ... ... في حالة البعد روحي كنت أرسلها ... تقبل الأرض عني وهي نائبتي وهذه دولة الأشباح قد حضرت ... فامدد يمينك كي تحظى بها شفتي فمدّ النبي يده الشريفة إليه أمام الحاضرين فقبَّلها. (8) أن عدد الأنبياء ونجوم السماء كعدد شعر لحية النبي - صلى الله عليه وسلم - 124000. هذا يا مولاي قليل من كثيرة مما قصه هذا الرجل في تلك الليلة أمام المئات من المسلمين عامتهم وخاصتهم، وفضيلة شيخ العلماء ساكت لا يبدي أقل اعتراض على هذا الكلام مع ما عرف عنه من الغيرة على الدين ومحاربته لمثل هذه العقائد التي حشرها القاصون في الدين فشوهوا بها وجهه الجميل. لو كان هذا الرجل من العامة لسكتنا ولكنه معدود ضمن العلماء في قرية المنزلة، وقد خطب أمام أمير البلاد هناك وصلى خلفه فريضة الجمعة سمعت ذلك من بعض أهل المنزلة. وقد رفع حضرة الفاضل مكاتب المقطم أمر الرجل إلى فضيلة شيخ الأزهر وطلب منه إعلان رأيه في جميع ذلك وما نظنه إلا مبرئًا للدين من هذه الأضاليل وسيكتب جواب فضيلته بجريدة المقطم. وكتب حضرة الفاضل مكاتب البصير بجميع ذلك إلى جريدته أما مكاتبي الجرائد الإسلامية فلم يكتبوا شيئًا من ذلك. لهذا نرجوكم توضيح رأيكم في ذلك خدمة للدين وأهله، والسلام. *** جواب المنار لو أن مدرسًا عالمًا مفسرًا محدثًا على صراط السلف الصالح قعد مقعد ذلك الرجل المختلق على الله، ورسوله، ودينه، ونهى الناس عن بعض البدع الفاشية والظلمات الغاشية، وفسر لهم النصوص التي تنهى عن جعل الصالحين لله أندادًا، وجعل قبورهم أعيادًا، والأحاديث التي تلعن الذين اتخذوا القبور مساجدًا، وشرَّفوها وأوقدوا عليها السرج، وهداهم إلى رفض البدع، والوقوف عند حدود السنن - لزلزلت به الأرض زلزالها، ووجهت إليه العامة أنكالها، ولوجد ممن يُعرفون بالخاصة من ينصر الجهلة عليه، ومن أصحاب الجرائد التي تُدعى إسلامية من يفوق السهام إليه، ولكادت له السياسة وناصبته منصات الرياسة، أما أمثال هذا المدرس فكثيرون لا سيما من المسجد الحسيني في العاصمة حيث يكثر تردد العلماء، والمحافظين على الرسوم الدينية من الكبراء، لا سيما في شهر رمضان، ومن هؤلاء المدرسين من يبيع البطائق للنجاة من النار، ويعلم الناس مكفرات الأوزار، ومنهم من يبيع النشرة والحجاب لقضاء الحاجات وشفاء الأوصاب، ومنهم من يدلي الناس بغرور، ويحوّلهم عن النور إلى الديجور، ولا منع ولا استنكار، ولا تعجب ولا استكبار، وقد صاح من سنين صائح بهذه البدع ففرقها بتفريق الناس عنها، ودعا إلى السنة الصحيحة فجذب إليها وأدنى منها، فاضطرب لصيحته سدنة القبور، وأكلة ما يقدم إليها من الهدايا والنذور، ووسوسوا في شأنه لبعض المتحمسين من العوام، وقالوا: إنه ينكر نفع عمود الرخام، هو عموم من أعمدة المسجد الحسيني ينسب إلى السيد البدوي ويستشفي الناس بالتمسح به، وينكر صحة حديث (لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه) ويقول بجهالة من اختلقه بزعمه ووضعه، فتألب الناس على داعي السنة، كاد يبتلى بما ابتلي به الأئمة من المحنة، فلا تعجبوا لما سمعتم فمثله كثير، والأمر لله العلي الكبير. أما المسائل التي لخصتم بها قول ذلك المدرس فبعضها باطل بإجماع المسلمين لم يقل به أحد منهم يعتد بقوله ومنها ما جاءت فيه روايات كاذبة أو واهية أو لا يحتج بها في أمر اعتقاد يشترط الإذعان له في صحة الإيمان أو يعد إنكاره كفرًا ولا في الأحكام التي يكتفي فيها بالظن، وإنما تساهل الجماهير بمثله في باب الفضائل والمناقب. وما اختيار الناس أمثال هذه الروايات في قصة المولد إلا لجهلهم بما أعطى الله خاتم الرسل والنبيين من المزايا التي فضل بها الأولين والآخرين، جهلوا الفضائل الواضحة اليقينية، فاستبدلوا بها تلك الأقاويل الواهية والوضعية، وقلما تجد في هؤلاء الغالين في الإطراء عالمًا بالحديث يعرف ما صح منه وما لم يصح أو عالمًا بأصول العقائد يقيم البرهان عليها ويقدر على الدفاع عنها، أو عاملاً متبعًا لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم معتصمًا بالإخلاص والتقوى. إن هم إلا أصحاب أوهام، وشقاشق يتقربون بها من العوام، وإننا نشير إلى أجوبة تلك الأسئلة بالتفصيل الذي يتسع له الباب. *** 1- مسألة خلق كل شيء من نور النبي صلى الله عليه وسلم وأول من خلق الله (ج24) قولهم: إن أول ما خلق الله نور نبينا - صلى الله عليه وسلم - لا تكاد تجده في غير هذه القصص التي يسمونها الموالد إلا قليلاً يروونه عن عبد الرزاق وليس في الأيدي نسخة من جامعه أو مصنفه ولا هو مما يتلقاه أهل العصر بالرواية فيعتد بنسبته إليه، فالعمدة في قبول ما خرجه رواية الحفاظ بعده عنه وأجمعهم للأحاديث الحافظ السيوطي ولم يذكر هذه الرواية في الخصائص الكبرى التي جمع فيها كل ما ورد في خصائصه عليه الصلاة والسلام من صحيح وغير صحيح ولا في الجامع الكبير أو جمع الجوامع وهو الذي قال أنه لم يترك حديثًا مرويًّا إلا أودعه فيه وإنما أورد الرواية في كونه صلى الله عليه وسلم كان نبيًّا بين خلق آدم ونفخ الروح فيه، ولا شيء منها في الصحيحين ولا في السنن الأربع وأقواها حديث ميسرة الفجر عند أحمد والبخاري في تاريخه (لا في صحيحه) والطبراني والحاكم والبيهقي وأبي نعيم قال متى كنت نبيًّا؟ قال صلى الله عليه وسلم (وآدم بين الروح والجسد) . وحديث العرباض بن سارية عند أحمد والحاكم والبيهقي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته) . قال في المواهب: وأما ما اشتهر على الألسنة بلفظ: كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين: فقال شيخنا العلامة الحافظ أبو الخير السخاوي في كتابه (المقاصد الحسنة) لم نقف عليه بهذا اللفظ , انتهى. قال الزرقاني في شرحه: أي انتهى ما نقله من كلام شيخه وبقيته (فضلاً عن زيادة: وكنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين) قال شيخنا، يعني الحافظ ابن حجر في بعض الأجوبة عن الزيادة: إنها ضعيفة، والذي قبلها قوي، ولعله أراد بالمعنى وإلا فقد صرح السيوطي في الدرر بأنه لا أصل لهما، والثاني من زيادة العوام وسبقه لذلك الحافظ ابن تيمية فأفتى ببطلان اللفظين وأنهما كذب وأقره في النور والسخاوي نفسه في فتاويه أجاب باعتماد كلام ابن تيمية في وضع اللفظين قائلاً وناهيك به اطلاعًا وحفظًا أقر له بذلك المخالف والموافق. قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا، وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه ولسانه بعبارة رشيقة وعين مفتوحة، انتهى. وقد فسر بعض العلماء المتقدمين أمثال هذه الأحاديث بأنها أخبار عما في علم الله تعالى ولم يرضه التقي السبكي. قال السيوطي في الخصائص: فإن قلت: أريد أن أفهم هذا القدر الزائد فإن النبوة وصف لا بد أن يكون الموصوف به موجودًا، وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة فكيف يوصف به قبل وجوده وقبل إرساله؟ وإن صلح ذلك فغيره كذلك؟ (قلت) قد جاء أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد فقد تكون الإِشارة بقوله: (كنت نبيًّا) إلى روحه الشريفة أو إلى حقيقته والحقائق تقصر عقولنا عن معرفتها وإنما يعلمها خالقها ومن أمده بنور إلهي ثم إن تلك الحقائق يؤتي الله كل حقيقة منها ما يشاء في الوقت الذي يشاء فحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم قد تكون من قبل خلق آدم آتاه الله ذلك الوصف بأن يكون خلقها متهيئة لذلك وأفاضه عليها من ذلك الوقت فصار نبيًّا. اهـ المراد منه ثم أورد بعد هذا التأويل بأنه كان نبيًّا في العلم الإلهي وهو ظاهر في حديث العرباض الذي يؤيده حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم: (إن الله عز وجل كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ومن جملة ما كتبه في الذكر وهو أم الكتاب أن محمدًا خاتم النبيين) والشاهد قوله أن حقيقة نبينا قد تكون مخلوقة قبل خلق آدم ولو كان هناك حديث يثبت أن نور النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - خلق قبل كل شيء لاحتج به ولم يدع أن حقيقة الإنسان هي شيء غير روحه وجسده ويبني جوابه الثاني على احتمال أن تكون حقيقة النبي صلى الله عليه وسلم خلقت قبل حقيقة آدم. وهذا الحافظ أبو نعيم وهو قبل السيوطي لم يذكر ذلك الحديث في كتابه (دلائل النبوة) الذي جمع فيه كل ما رووه في هذا الشأن. وإذا رجعت إلى استقصاء ما رووه في خلق العالم تراهم أهملوا ذلك الحديث ورووا ما يخالفه كحديث عبادة بن الصامت عند أبي داود والترمذي (إن أول ما خلق الله القلم) الحديث وهو عند ابن أبي شيبة وأبي نعيم في الحلية والبيهقي عن ابن عباس (إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء يكون) وعند البيهقي في الصفات عن ابن عمر، وحديث أبي هريرة عن أحمد والحاكم (كل شي

تعليم اللغات

الكاتب: مجلة المقتبس

_ تعليم اللغات نكتفي في هذا الباب من هذا الجزء باقتباس المقالة الآتية من مجلة (المقتبس) تنويهًا بحسن اختيارها للمفيد وإيذانًا بما للغربيين من الرقي في فن التعليم، قالت: إن تعليم اللغات على الطريقة التي جرى عليها الغربيون واقتبسها المشارقة قد تكون نظرية أكثر مما هي عملية فيطول أمرها ويصعب تناولها. ولطالما رأينا مَنْ يترجم أشعار شكسبير الإنكليزي أو بوالو الإفرنسي، وإذا رمته الأقدار في شوارع لندن أو باريز لا يطاوعه لسانه أن يلفظ كلمات يهتدي به لوجه طريقه. ذلك؛ لأن الطريقة في تعلمه تلك اللغة الأجنبية هي عين الطريقة التي يستخدمها الأوربيون في تعليم الصم البكم، بل عين النهج الذي ينهجه المغاربة في تعليم إحدى اللغات الميتة من لاتينية ويونانية أو إحدى اللغات الحية من إنكليزية وفرنسية وإيطالية وغيرها. إذ يكون تدريس النحو والصرف والترجمة من الكتب هو العُدة في إتقان اللغات ويسهل على المعلم أن يدرس تلميذه على هذا النحو وربما أخذ في تعليمه لغة وهو لا يحسن أن يؤلف بين جملتين صحيحتين في تلك اللغة التي عهد إليه تدريسها ولم يجوِّد التلفظ بها فكان شغله الشاغل تعليم تلامذته أصول التصريف والإعراب والترجمة على حين قد ثبت أن الدارس قد يستظهر قواعد لغة وقوانينها ولا يبرع في اللغة نفسها. وأسقم المذاهب في تعلم لغة أن يتكلم المرء بلغته في خلال تعلمه لغة غيرها. من أجل هذا قضت الحال أن تكون دراسة قواعد الإعراب والتصريف بعد معرفة اللغة معرفة عملية لا نظرية ولا تفيد الترجمة والنقل إلا إذا توفرت للطالب بادئ بدء معرفة الأساليب في اللغة الغريبة. فعلى من رام أن يتكلم لغة ويكتب فيها أن يفكر في تلك اللغة ويكون شعوره شعور أهلها فيها لا أن يصيغ تراجم وينقل جملاً. فتستدعي الأفكار والانفعالات للحال ما يحتاج إليه الطالب من الألفاظ التي يعبر بها عنها فتصير اللغة التي يتعلمها لغة ثانية له ولا تكون الترجمة من لغته أو إليها إذا دعت الحال حرفًا يحرف بل على طريقة تنقل بها الصورة إلى التعبير عنها. وقلما يسمع المتعلم في معظم المدارس اليوم صدى اللغة التي يتعلمها ويقتضي له أن يُربي عليها أذنه وذاكرته ما أمكن. وما أشبه المُدرس وهو يشرح للدارس دروسه بلغته الأصلية إلا بأمًّ تود أن تعلم طفلها وهو ألكن تمتام قواعد الفعل الماضي وتصريف الأفعال الشاذة بدلاً من أن تعنى بتعليمه أن يحسن تلفظ الكلمات الأولى التي يحاول لفظها. وما فتئ تعلم اللغات يختلف باختلاف الاجتهاد في كل قوم ومعظمه دائر في الغرب منذ ثلاثين سنة على طريقتين وهما: إما أن يقيم المتعلم زمنًا في بلد اللغة التي يريد تعلمها، أو أن يكون أهل الطفل في سعة من العيش فيتخذون له مؤدبًا أو مؤدبة يعلمه اللغة بالعمل بين ظهراني أهله وأسرته. وقد ابتدع الأستاذ برليتز الأميركاني طريقة سهلة لتعليم اللغات جرى عليها بعضهم في أميركا وأوربا، فأسفرت عن نجاح أكيد. وطريقته عبارة عن نظر عقلي وعلم عملي وبلفظ آخر: نظرٌ في المحسوسات لا المجردات؛ إذ اللغة عبارة عن أصوات محكية لا عن إشارات مكتوبة. والتعليم سماعي أولاً ثم نظري. ولا يعمد في طريقته إلى الترجمة ولا إلى النقل ولا يستخدم فيها الطالب معجمًا ولا يستصحب كتاب قواعد بل يتعلم الإنسان القوانين بعد إكمال المعرفة العملية على نحو ما يتعلم الطفل لغة أبيه وأمه. وليس في تعلم القواعد نفع حقيقي إلا متى عرف المرء اللغة، فالقواعد تشرح اللغة شرحًا علميًّا فتبحث عن علل يتأتى الاستغناء عنها بادئ بدء، وقلما تنفع في تلقين اللغة شأن مصور لا يحتاج إلى إتقان العلوم الطبيعية والكيماوية ليصنع صورًا شمسية بديعة. ما اللغة في الحقيقة إلا صورة محكية من الحياة فاقتضى في تعلمها أن يسير الإنسان من نفس الحياة لا أن يعمد إلى أشكال من التعبير لا تحس ولا تتحرك وقلما تتلاءم الألفاظ وصور الأفكار بين لغة وأخرى كل التلاؤم فالبداءة بالترجمة الحرفية من لغة إلى لغة يراد تعلمها إضاعة للوقت وإتعاب للذهن على غير طائل. ومن العسر المتعذر أن يرسم المرء صورتين رسمًا خفيفًا على حين لا يضع إحداهما على الأخرى وكذلك الحال في اللغات، فقد امتنع أن يحكم وضع لغتين بعضهما على بعض. واللغة بموجب هذه الأصول الجديدة عبارة عن محادثة دائمة باللغة الغريبة فكل ما يقع نظر التلميذ عليه مباشرة يكون له منه مادة درس وموضوع تعلم، وذلك بتربية الأذن والحواس الصوتية. فيُلَقِّن الأستاذ تلميذه حُسْن اللفظ وسرعة التركيب، فيُدَرِّس الأفعال الأولى بالأعمال والحركات يقوم ويذهب إلى اللوح الأسود فيكتب ويفتح الباب ويرفع الكتاب ويضعه ثم تعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة يتزايد كل يوم عددها بسرعة. فيكون للتلميذ بهذه الطريقة في تأليف الجملة ما يلزمه من أوليات القواعد والروابط. والأمم بأسرها تتعلم لغاتها بالعمل أولاً ثم بالنظر، فيتعلم المُتعلم ما تمس حاجته إليه إلى أن يكتب بدون غلط ويتعلم التلميذ أولاً معاني الكلمات الغريبة ثم يُلَقن التمرينات العديدة بعد معرفة اللغة معرفة فطرية فمعرفة عقلية، ومن اللازم اللازب الاعتياد على الصور قبل القواعد، ثم يبدأ المعلم بالسؤال فيجيبه المتعلم ولا يزالان ينتقلان من البسيط إلى المركب ومن شرح المفردات إلى تفسير العبارات ويكون كل ذلك باللغة التي يراد إتقانها. وللّفظ في هذه الطريقة المقام الأعلى. ولم يكن يُعْنى بتقويمه من قبل، والأساتذة الذين يحسنون التلفظ بلغة ما هم ممن تعلموها على الأسلوب الطبيعي في طفوليتهم أو أتقنوها بمقامهم في البلاد التي تتكلم فيها تلك اللغة، وجودة التلفظ هو روح اللغة على التحقيق، ولا تعد العبارة شيئًا مهما بلغت من الضبط متى قبح اللفظ وتجلت اللهجة الأعجمية فيه عيانًا، ومن الهجنة أن التلفظ لا يكاد يصلح إذا فسد لأول أمره، وصعب على الإنسان ما لم يعوده. فالطريقة المشار إليها مغايرة لطريقة الترجمة المألوفة في الأغلب إذ كل معرفة يرشد إليها المتعلم على هذه الصورة لا تحسب ناقصة الجهاز مشوشة الأسلوب، وقلما تجد الألفاظ في لغة ما يقابلها في لغة ثانية، ولكل لغة اصطلاحاتها الخاصة بها ليس للترجمة مهما أتقنت أن تنقلها على أصلها إذ التصورات التي تمثلها لغة لا تتحد مع تصورات تمثلها ألفاظ لغة أخرى اتحادًا ذاتيًّا معنى ومبنى. كتب أحد الغرباء إلى فنيلون العالم الفرنسوي المشهور (أن لي منك يا مولاي أمعاء والد) يريد أن يقول (قلب والد) وقال ألفونس الثاني عشر ملك أسبانيا وقد جاء قصره في يوم احتفال: (أتود أن تتعب معي نحو النافذة) يعني بذلك أن تقترب نحو النافذة. ولو تعلم ذاك الكاتب وهذا الملك أن يتكلما الفرنسية على طريقة الأستاذ برليتز إذًا لنجيا من هذا الغلط الشائن وكان شأنهما في سهولة التعبير وجودة التصوير شأن أولئك التجار والسوقة ممن ينزلون بلادًا لا يحسنون لغتها فما هو إلا قليل حتى يمرنوا على تكلمها زمنًا فيحسنونها ولا إحسان من تعلموها على دكات المدارس وهم يقلبون المعاجم ويتأبطون كتب نحوها وصرفها وبيانها ناقلين ناسخين مستظهرين ناسين. وطريقة برليتز هذه أن يستعمل أولاً اللغة المُتعلمة، خاصة وأن يتابع التصور في اللغة الغريبة مباشرة بدون وساطة اللغة الأصلية وأن تعلم أسماء الأعيان بقوة الحس وتعلم أسماء المعاني بتتابع التصور ويدرس النحو بالأمثلة والشواهد. هذا مذهب الأستاذ برليتز في إتقان ملكة اللغات وقد انتقل من نيويورك إلى باريز عام 1889م فأسست في هذه العاصمة أول مدرسة على تلك الطريقة وانتقل هذا المذهب في تلك السنة إلى إنكلترا وألمانيا فأسست في كل من لندن وبرلين مدارس لهذا الغرض. وما برحت مدارسها تتكاثر في الأصقاع الأوربية حتى كانت في بدء هذه السنة 242 مدرسة في أوربا وحدها وكلها أسفرت عن ارتقاء واقتصاد في الوقت والمال، وطريقة القائمين بهذا الأمر أن يكون لكل تلميذ أستاذه الخاص به فيأخذ هذا يعلم تلميذه ما يقع نظره عليه في قاعة الدرس من منضدة وكرسي وكتاب وباب ونافذة يلفظها بلغتها ولا يزال يكررها المتعلم حتى يتقن اللفظ؛ فإذا نفدت المسميات لدى الأستاذ في الغرفة يعمد إلى صور سهلة واضحة رسمت على صفحات مجموعة رسوم فما هو إلا أن يتعلم التلميذ أسماء الأشياء الواقعة تحت حسه مع الألوان التي يمتاز بها كل منها، ثم ينتقل إلى صفات الحجم وأفعال الحركات والأعداد. فإذا أنجز درس الأشياء يشرع المعلم في اختيار جمل يكون التلميذ قد عرف أكثر مفرداتها، فلا يمضي ثلاثون درسًا إلا وقد عرف التلميذ الأفعال الشائعة في الاستعمال والمفردات التي تدخل غالبًا في الأحاديث العامة ويتمكن في ستين درسًا من بيان فكره أصح بيان في كل ما له علاقة بمجرى الحياة الاجتماعية العادي. ويحسن في اختيار المعلمين أن يكونوا ممن لا يعلمون لغة المتعلم. ومما يُضْحِك ما وقع لولد أحد كبار المنشئين الفرنسويين وكان يدرس الألمانية على طريقة برليتز قيل إنه لما بلغ به المعلم إلى تمييز الفعل المتعدي من اللازم لم يفهم التلميذ المراد من المتعدي واللازم، وأخذ معلمه يشرحهما له بالإشارة تارة والتشبيه طورًا فلم يفلح وكان تلميذه معه كأعجم طمطم لا يَفْهَم ولا يُفَهّم. وأبى الأستاذ على تلميذه أن يفسر له شيئًا بلغته مع إلحاحه عليه في ذلك وراح الطفل إلى دار أبيه وقد بلغ منه الغيظ وأنشأ يقلب كتاب نحوه يفتش عن الإشكال فاهتدى بنفسه إلى حله وشكا أمره إلى والده، فقال له: أي بني لقد أحسن الأستاذ أن أبى عليك شرح ما يريد تعليمك بلغتك ولو قاله لك لغرب عن ذهنك وأصبح لديك بعد زمن نسيًا منسيًّا. أما الآن فإني على ثقة من أنك لا تنسى التفرقة بين الفعل اللازم والمتعدي ولو بعد مئة سنة. قال الكاتب الذي عربنا عنه هذا المبحث: وقد كاد أرباب الأفكار والحصافة يجمعون على أن اللغات الحية لا تعلم كاللغات الميتة، بل إنه لا بد في الأولى من المران على التكلم بها من أول وهلة، وأنه ما من لغة مهما تراءى من صعوبتها على المتعلمين بادئ بدء سواء كانت اللغة الروسية أو الهندية أو العربية أو الصينية إلا ويتيسر إتقانها على طريقة برليتز في مدة تختلف باختلاف ذكاء المتعلم وصعوبة اللغة والله أعلم.

مسلمو الصين والإسلام في اليابان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسلمو الصين والإسلام في اليابان في الصين عشرات من الملايين المسلمين هم أكثر أهل تلك المملكة الكبرى مالاً وأعز نفرًا، هم أكثر مالاً؛ لأنهم أبرع في التجارة، وأكثر اشتغالاً بالصرف والدين بالربا الفاحش ويستحلون الربا على تشددهم بما يعرفون من دينهم لأن كتب الفقه الحنفي (كتب مذهبهم) تبيحه في دار الحرب. وهم أعز نفرًا لشجاعتهم وإتقانهم للفنون العسكرية، فهم أقوى جيش الدولة وأمنع حماة الأمة، وقد أنشأوا يهاجرون إلى اليابان بأموالهم وسلعهم لأجل الصرف والدين والتجارة بعد ما كانوا محجمين عنها لأنهم علموا أن اليابان تغيرت حالها بعد الحرب فصارت تحترم الغرباء وكانت تحتقرهم. وإننا نتوقع أن يستفيد المسلمون من معاشرة اليابانيين، الميل إلى الأعمال الاجتماعية والعلوم العصرية فإننا نعرف عنهم أنهم لا يتعلمون إلا قدر الحاجة من القراءة والكتابة والأحكام الفقهية ثم ينصرفون إلى الأعمال المالية إن لم يدخلوا في أعمال الدولة العسكرية والإدارية. ومن الغريب أن تظهر الدعوة إلى الإسلام في اليابان من بعض مسلمي الصين دون مسلمي الهند أو الآستانة أو مصر. ولو كان مسلمو الصين على علم واسع بالإسلام لكانوا أحق بهذه الدعوة لأنهم أول من يستفيد منها، وفائدة اليابان من الاتحاد معهم أعظم فإنها بهم تستعمر مملكة ابن السماء (الصين) كلها وناهيك بمملكة تضم بين جوانحها أكثر من ربع البشر وما أرى أن مسلمي الصين يلاحظون هذه الفائدة إذ بلغني أنهم لا يحفلون بالسياسة بل لا يفكرون فيها وما أظن أن دعوة الشيخ حسان لهم إلى الإسلام إلا بباعث ديني وذلك - إن صح - خير من أن يكون بباعث سياسي فإن من يدعو إلى الدين لأجل السياسة لا يكون جديرًا بالنجاح كمن يخلص في دعوته لله رب العالمين. المعروف عن الأمة اليابانية أن العلم قد هدى فضلاءها وزعماءها إلى بطلان الوثنية التي درجوا عليها وأنهم يطلبون باستعدادهم الجديد دينًا معقولاً يتفق مع المدنية والعلم والعمران فهم يطلبون الإسلام ولا يجدون من يمثله لهم ونخشى أن يعجز الشيخ حسان الصيني عن إقناعهم فيظنون أن مبلغ علمه بالإسلام هو الإسلام فينصرفوا إلى غيره. فهل نجد في مسلمي هذه الديار رجلين أو ثلاثة قد استعدوا للدعوة إلى الإسلام بفهم الكتاب والسنة وحكم التشريع ومواضع الشبهات على الدين ومسالك كشفها والقدرة على تمثيل الإسلام جامعًا بين مصالح الدنيا والآخرة موافقًا لحال الناس في عصر العلم والحضارة والصناعة عصر الكهرباء والبخار، يتركون وطنهم المحبوب ويسافرون إلى اليابان لمساعدة أخيهم الشيح حسان الصيني على الدعوة؟ وهل نجد في أغنيائنا من يتبرع بشيء من فضل ماله لمساعدة هؤلاء الدعاة إن وجدوا أو لأجل إيجاد دعاة للإسلام يعلمون تعليمًا خاصًّا يساعدهم على ذلك؟ يوجد في المسلمين من يثق بدينه ولا يرتاب فيه أكثر ما يوجد في اليهود والنصارى، ولكن الشاك في دينه من اليهود والنصارى يبذل في نشره ونصره ما لا يبذل المسلم الموقن؛ لأن المسلمين قد ضعفت فيهم الحياة الاجتماعية، وغلبت عليهم الأثرة بعد ذلك الإيثار الذي مدح الله سلفهم عليه بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} (الحشر: 9) وإننا لا نطمع بأن نرى من مساعدة جميع أغنيائنا على نشر دعوة الإسلام مثل ما تبذله جمعية غسالات ليون للمبشرين بالنصرانية وهي جمعية ألفتها غسالة في تلك البلدة الفرنسية من بنات حرفتها ورأس مالها الآن يبلغ ألوف الألوف. نعم، إن كثرة تعرض دعاة النصرانية في مصر للطعن في الإسلام قد وجه قلوب كثير من أهل الغيرة إلى مسألة الدعوة فهم قد نفعوا المسلمين ولم يضروهم وإن لم تفهم هذا جرائدنا التي طفقت تدعو الحكومة إلى منعهم من الدعوة ونشر الكتب، ولو كانت هذه الجرائد تحسن الإسلام لردت عليهم بما يدفع الشبه ويقوي استعداد المسلمين لمثل عملهم، وأَنَّى لها بذلك؟ وإنَّا لنرجو من المسلمين نهضة جديدة لدعوة دينهم الحق بالاستعداد والإمداد، والله الهادي إلى سبيل الرشاد.

ملخص سيرة الأستاذ الإمام ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ملخص سيرة الأستاذ الإمام (5) تابع لما في الجزء الرابع عشر مذهبه وطريقته في الإصلاح كان تغمده الله برحمته قد شرع في كتابة تاريخ لنفسه كتب في فاتحته مذهبه في الإصلاح مجملاً وشرع بعدها في الفصل الأول وهو في أهله الذين نبت فيهم وتربى التربية الأولى معهم ولم يتمه (وقد جعلنا جميع ما كتبه من ذلك في الجزء الأول من تاريخه الذي يطبع الآن) فكلمته في تلك الفاتحة هي خير ما نورده في بيان مذهبه بالإجمال. قال بعد البدء بالبسملة والحمدلة والصلاة والتسليم على خاتم المرسلين: (وبعد فما أنا ممن تكتب سيرته، ولا ممن تترك للأجيال طريقته، فإني لم آتِ لأمتي عملاً يذكر، ولم يكن لي فيها إلى اليوم أثر يؤثر، حتى أكون لأحد منها قدوة، أو يكون لأحد في أسوة، وهذا الذي أجد من استصغار أمري وخفاء أثري [*] ، وظهورعجزي عن بلوغ ما يرمي إليه فكري ويطمح إليه نظري، كان يمنعني من أن أكتب شيئًا يتعلق بحياتي، تعرض فيه بداياتي وشيء من أعمالي بعدها وصفاتي، حتى أكون به باقيًا عند من يطالعه بعد مماتي، وكنت أقول: وقت أصرفه في حكمة أستفيدها، خير من زمن أنفقه في قصة أستعيدها، وما الذي عساه يبقى مني، وأنا في قومي لم أترك ما يؤثر عني) . ذكر بعد هذا أن بعض معارفه من الغربيين وغيرهم طالبوه بأن يكتب تاريخًا لنفسه وألحوا في ذلك، ثم قال: لما تكرر الطلب في هذه الصور المختلفة رأيت أن الإضراب عن الإجابة إغراق في الخمول، وتقصير في احترام رأي لم يشُبه رياء، ولم يحمل عليه إلا قوة الظن بالفائدة في المطلوب ثم نظرت في نفسي وما كانت بدايتي، وما نزعت إليه أثناء الطريق في سيري، وما انتهيت إليه فيما تأخر من أيام عمري، وقست جميع ذلك إلى ما عليه الناس حولي، فوجدت اختلافًا قد يسهو عنه الغافل، ولكن ربما ينتفع بملاحظته العاقل. وجدت أنني نشأت كما نشأ كل واحد من الجمهور الأعظم من الطبقة الوسطى من سكان مصر ودخلت فيما فيه يدخلون، ثم لم ألبث بعد قطعة من الزمن أن سئمت الاستمرار على ما يألفون، واندفعت إلى طلب شيء مما لا يعرفون فعثرت على ما لم يكونوا يعثرون عليه، وناديت بأحسن ما وجدت ودعوت إليه، وارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين (الأول) تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقه سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خلطه وخبطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه على هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عليها في آداب النفس وإصلاح العمل، وكل هذا أعده أمرًا واحدًا. وقد خالفت في الدعوة إليه رأى الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منهما جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم. أما الأمر الثاني فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره الجرائد على الكافة منشأ أو مترجمًا من لغات أخرى أو في المراسلات بين الناس. وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة العرب ... إلخ. ثم قال: (وهناك أمر آخر كنت من دعاته والناس جميعًا في عمى عنه وبعد عن تعقله ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلوِّ مجتمعهم منه، وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرنًا. دعونا إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطأه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمة له بالقول وبالفعل. جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد. نعم إنني في كل ذلك لم أكن الإمام المتبع، ولا الرئيس المطاع، غير أني كنت روح الدعوة، وهي لا تزال بي في كثير مما ذكرت قائمة ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب، أما أمر الحكومة والمحكوم فتركته للقدر يقدره، وليد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمم من غراس تغرسه وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يُعنى به الآن، والله المستعان اهـ المراد، وذكر بعده إصابته ونجاحه في بعض الأمور وإخفاقه في بعضها. عُلم من عبارته أن الإصلاح الذي دعا إليه ديني وأدبي وسياسي، وأنه ترك الأخير بعد طول الاختيار ويؤيد ذلك ما يُؤثر عنه من القول في ذم السياسة كقوله: (ما دخلت السياسة في عمل إلا أفسدته) وقوله في مقالات الإسلام والنصرانية: (فإن شئت أن تقول إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فإنا معك من الشاهدين. أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يُجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس وسائس ومسوس) . ترك السياسة التي هي مقاومة الاستبداد والحكم المطلق ومحاولة تغيير شكل حكومة بقوة رعية. وأما السعي في إصلاح حكومة بلاده بإقناع حُكَّامها وأُولي الأمر فيها بما فيه خيرها ومصلحتها وإرشاد رجال الشورى من الأمة إلى طرق السداد في قوانين الحكومة ومسالك الإقناع لما يظهر بالمشاورة أنه الصواب فهو لم يتركه، بل كان يصرف فيه أكثر أيام حياته، وهو ليس من السياسة التي حكم بإفسادها للأعمال، وإبطالها للأماني والآمال. ترك السياسة خيرها وشرها، ولكنها - قاتلها الله - لم تتركه من ضرها، فقد كان يناجي ربه على فراش الموت برمل الإسكندرية والسياسة تنقب في سواحل بيروت باحثة عنه معتقدة بما أوحى إليها شياطين الجواسيس أنه جاء بيروت متنكرًا ليزيل سلطة ابن عثمان ويديل منها سلطة جديدة لأحد أبناء عليّ، وتعدت بشرها إلى بعض من قيل لها أنهم من محبيه في تلك البلاد فاتهمتهم بالجرائم بل وبالجنايات السياسية وعاقبت بعضهم ولا تزال تعاقب بعضًا وكان أشدهم عقوبة أقواهم براءة، وإن أقواهم تهمة لأظهر براءة من الإمام نفسه إذا اتهم بأنه متنكر في بيروت أيام كان يُعَالج الموت في رمل الإسكندرية، أفلا يكون رضي الله عنه جديرًا بالاستعاذة من شيطان السياسة الذي هو شر من شيطان الوسوسة وأشد ضررًا؟ بلى، ولولا معارضة السياسة لعمل الرجل للإسلام في هذه البلاد ما يتمناه الإسلام في جميع البلاد، على أن السياسة ما قويت عليه نفسه بل كان الله ناصره لنصرة دينه فكلما كادت له تلك الماكرة كيدًا رد الله كيدها في نحرها فتنثني وقد زادت شهرة الرجل بما كانت تحاول من إخفاء ذكره، وعرف الناس بعض ما كانوا يجهلون من فضله، فما أضرته ولكنها أضرت الأمة بتأخير الإصلاح ولا أقول بمنعه؛ فإن البذور التي ألقاها قد نبتت فكانت زرعًا أخرج شطأه ولا يلبث أن يستوي على سوقه ويجود بثمره فيغيظ المفسدين في الأرض، ويطلق ألسنة التاريخ بلعن محاولة قلعه إلى يوم العرض. هذا ما يتسع له المنار من ذكر مذهبه في الإصلاح مجملاً وموعدنا بالتفصيل التاريخ الذي نشتغل بطبعه الآن. *** (آماله وأمانيه) كان أمله في الإصلاح محصورًا في الأزهر فكان عازمًا على توسيع دائرة العلوم والعرفان فيه وعلى إيجاد طوائف من الأخصائيين الذين يتقنون علمًا واحدًا يكونون فيه مرجعًا. وكان يودّ أن يبدأ بإيجاد طائفة للقضاء الشرعي وطائفة تستعد للدعوة إلى الإسلام، وأخرى للخطابة ووعظ العوام، وأهل الأزهر لا يزالون بمعزل عن العالم فهم لا يشعرون بشيء مما وراء جدران الأزهر ويا ليتهم كانوا يعرفون حقيقة جميع ما يرون في ذلك المحيط، فالاستعداد فيهم لقبول الإصلاح ضعيف ولمقاومته قوي إلا أن يكون من جانب السلطة لذلك لجأ الرجل إلى الأمير وطلب إسعاده على إصلاح الأزهر وكان نجاح الإصلاح بقدر ذلك الإسعاد. *** (مدرسة كلية) ولما ضعف أمله في الأزهر منذ ثلاث سنين فكر في إنشاء مدرسة كلية في القاهرة تغني عنه في تخريج رجال يخدمون الملة والأمة، فاستمال أحمد باشا المنشاوي ونفخ فيه من روحه حتى عزم الرجل على تأسيس المدرسة بماله وإيقاف أرض واسعة عليها تكفي لنفقاتها ولكن المنية اخترمته عند الشروع في الاستعداد بإرشاد الأستاذ الإمام. وقد قضت الحوادث بعد موت المنشاوي أن يستقيل من مجلس إدارة الأزهر ويتركه إلى أن يفعل الزمان فيه فعله، ويعده لما خبئ في الغيب له، وعند ذلك قويت العزيمة على إنشاء المدرسة الكلية، وبعد التروي وطول التشاور مع أهل الغيرة والإخلاص وضع المشروع للاشتغال بإنشاء الكلية في هذا الشتاء كما قلنا في جزء سابق وأن ما خسرنا بموت هذا الرجل العامل لم يدع في نفوسنا مكانًا للحسرة على الحرمان من هذا العمل. *** (جريدة يومية) وكان في عزمه السعي في إنشاء شركة تنشئ جريدة يومية في القاهرة تختار لها طائفة من الكتاب الأخصائيين ينفرد بعضهم في بيان ما عليه المصريون في المدن والقرى والمزارع من العادات والتقاليد والاعتقادات، وبعضهم في المسائل الاقتصادية والزراعية، وبعضهم في الموضوعات العلمية والأدبية. ويوضع لهم قانون لا يتعدونه، من أحكامه الاقتصار في المسائل السياسية والأخبار الصادقة على ما فيه العبرة والفائدة لأهل البلاد، وعدم المدح والذم الشعري، وقبول الانتقاد على ما ينشر فيها من كل كاتب أديب، ومنها أن يرجع في بيان جميع المصالح ذات البال إلى ما يقرره مجلس إدارة الجريدة بالمشاورة فلا يكون ما ينشر فيها عبارة عن رأى رجل واحد ومثالاً يتذبذب مع ميله وهواه، ومنها أن لا تكون الجريدة خصمًا لجريدة أخرى. كنت ممن يلح عليه بهذا السعي منذ سنتين، واخترت لهذا العمل من الكتاب المجيدين المعتدلين مَنْ رَضِي بهم وكاشفنا كثيرين من الكبراء والفضلاء في ذلك واخترنا منهم أعضاء لمجلس الإدارة ووضعت تقديرًا تمهيديًّا لإنشاء المطبعة ونفقات العمل. ولو بقي الإمام حيًّا لرجونا أن يبرز هذا العمل في هذا الشتاء وإن خسارتنا بفقده لأعظم من كل خسارة. *** (السياحة في الشرق) كان من نيته الحسنة - أحسن الله مثوبته - أن يسيح في بلاد الهند وبلاد الفرس وبلاد روسيا الإسلامية ليختبر حال المسلمين بالفعل في الشرق كما اختبرها في الغرب والوسط فيعرف ما يصلح لجميع شعوب المسلمين من التربية والعمل وما يصلح الآن لبعض دون بعض ولا حاجة إلى شرح ما وراء هذا الاختبار لو كان. *** (تفسير القرآن وتاريخ الإسلام) كان صاحب هذه المجلة قد اقترح على الأستاذ الإمام أن يكتب تفسيرًا للقرآن في رمضان سنة 1315هـ، أي قبل الشروع في إنشاء المنار وذلك بعد أن اقترحت عليه قراءة دروس في التفسير تردد فيه، ثم لم يفعل إلا بعد سنتين وشهور. زرته في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من الشهر فقرأ لي عبارة من كتاب فرنسي يطعن في الإسلام وطفق يرد عليها واحتاج في الرد إلى الكلام في تفسير {ر

تتمة أجوبة الأسئلة الدمياطية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة أجوبة الأسئلة الدمياطية (4 و 5) (حضور مريم وسارة وآسية مولده صلى الله عليه وسلم) (ج45) أورد في المواهب الأثر الذي فيه بيان أن أولئك النسوة الطوال اللواتي جئن آمنة عند ولادتها هن آسيا امرأة فرعون ومريم بنت عمران وبعض الحور العين وقال: (وهو مما تُكُلِّم فيه) أي طعنوا في سنده، وكم من حديث ضعيف يورده صاحب (المواهب) ولا ينبه إلى طعن المحدثين فيه فلولا أن هذه الرواية من أوهى الروايات لما قال أنهم تكلموا فيها، وحسبك أن السيوطي لم يذكرها في الخصائص ولا أبو نعيم في الدلائل، فلا حاجة إلى ذكر سند من رواها وتفصيل القول في جرح رجاله. (ج 46) وأما ما قاله ذلك الرجل في اختلاف العلماء في أمر آسية فهو من الخرافات التي لا قيمة لها عند أهل النقل، وهي مما ينبذه العقل، نعم ذكر في بعض كتب التفسير التي نعني بنقل القصص أن الله تعالى رفع امرأة فرعون إلى الجنة وعزوا هذا القول إلى الحسن البصري، وهو كما قال الألوسي لا يصح بل هو كذب من القصاصين علي الحسن. *** (6- ولادة الأنبياء) (ج 47) ما ذكره في ولادة الأنبياء جهل قبيح لا شبهة عليه من كتاب ولا سنة، ولا قول صحابي، ولا تابعي، ولا فقيه مجتهد، ولا عالم، ولا محدث، ولا مؤرخ يعتد به. وقد روى المحدثون كل ما قيل في ولادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من صحيح وضعيف، ومنكر وموضوع، ولم تخطر هذه الفرية على بال أحد منهم، فهي خرافة من مفتريات الجاهلين الذين يتوهمون أن الأنبياء منزهون عن الأمور البشرية، وأن الولادة كما يولد الناس نقيصة لا تليق بهم. وليت شعري كيف تكون الولادة المعتادة نقيصة لمن أودع في هذا الرحم نطفة ثم كان علقة ثم كان مضغة ثم نما في بطن أمه بدم الحيض؟ أم يقول هؤلاء الجاهلون: إنهم لم يحمل بهم كما حمل بغيرهم فلم يكونوا من نطف آبائهم ولا من بيوض ودماء أمهاتهم؟ إن كانوا يقولون: إن هذه السُّنة الإلهية في الحمل والولادة نقيصة فقد أنكروا ما ذكر الله من خلق الإنسان في أحسن تقويم. ولم يحسن في نظرهم قوله تعالى بعد ذكر أطوار الحمل {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) ومن العجائب أن يمكَّن ذلك الجاهل من الكلام على الناس في المسجد فيكفِّر المسلمين سلفهم وخلفهم؛ إذ لم تخطر هذه الخرافة على بال أحد منهم ويجعل الإسلام والإيمان من خصائص من افترى هذه الخرافة ومن صدق بها من الجاهلين. *** (6 - حياة الأنبياء في قبورهم) (ج 47) لهذه المسألة أصل في الروايات المنقولة ولكن ما أورده لا يصح منه شيء لا سيما الخبر الأول، وأنا أذكر هنا أشهر ما ورد في هذا الباب من الأحاديث: (الحديث الأول) عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ومن أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة عليّ، قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت - يعني بليت - قال: إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) رواه أحمد في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان وحياة الأنبياء، وغيرهما من كتبه وأبو داود والنسائي والطبراني في معجمه وابن حبان وابن خزيمة والحاكم في صحاحهم، فصححه بعضهم وتبعهم النووي في الأذكار وحسنه آخرون منهم المنذري. لكن قال الحافظ السخاوي بعد ما أورد تصحيحهم وتحسينهم (قلت: ولهذا الحديث علة خفية وهي أن حسين الجعفي راويه أخطأ في اسم جد شيخه عبد الرحمن بن بديد حيث سماه جابرًا وإنما هو تميم كما جزم به أبو حاتم وغيره وعلى هذا فابن تميم منكر الحديث ولهذا قال أبو حاتم إن الحديث منكر. وقال ابن العربي إنه لم يثبت: لكن رد هذه العلة الدارقطني وقال إن سماع حسين من ابن جابر ثابت وإلى هذا جنح الخطيب والعلم عند الله تعالى. ثم نبه على أن ابن ماجه سمى الصحابي في كتاب الصلاة من سننه شداد بن أوس وذلك وَهْم نَبَّه عليه المزيّ وغيره، ووقع عنده في الجنائز على الصواب) . (الحديث الثاني) عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أكثروا من الصلاة عليّ يوم الجمعة فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإن أحدًا لن يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حين يفرغ منها، قلت: وبعد الموت؟ قال: وبعد الموت، إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق) رواه ابن ماجه لكن بسند منقطع. والطبراني في الكبير بلفظ قريب من لفظ ابن ماجه وليس فيه (ونبي الله حي يرزق) وكذلك النميري بلفظ آخر. قال الحافظ العراقي: إن إسناده لا يصح. (الحديث الثالث) عن أنس - رضي الله عنه - رفعه (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون) أخرجه البيهقي في حياة الأنبياء من طريق يحيى بن أبي بكر عن المستلم بن سعيد عن الحجاج بن الأسود وهو ابن أبي زياد البصري عن ثابت البناني عنه، ومن طريق الحسن بن قتيبة عن المستلم. وأخرجه أبو يعلى والبزار من الوجه الأول والبزار وابن عدي من الثاني والحسن ضعيف. قال السخاوي: وأخرجه البيهقي أيضًا من رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت بلفظ آخر قال: (إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى يُنفخ في الصور) قال: ومحمد سيئ الحفظ. اهـ. أقول: حديث أنس هذا رواه ابن حبان، وقال: باطل، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقواه في اللآلئ بشواهده. وهذه الأحاديث الثلاثة هي عمدة القائلين بحياة الأجساد ولم يصرح بها الثالث. وهناك روايات أخرى في أن الصلاة والسلام عليه يبلغها ملك أو ترد روحه فيعرض عليها ذلك ونذكر أشهرها. (الحديث الرابع) عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن لله ملكًا أعطاه الله أسماع الخلائق فهو قائم على قبري إذا مت فليس أحد يصلي عليّ صلاة إلا قال: يا محمد صلى عليك فلان ابن فلان) الحديث رواه أبو الشيخ ابن حبان وأبو القاسم في الترغيب والحارث في مسنده وابن أبي عاصم والطبراني في الكبير والبزار في مسنده وغيرهم وفي سند الجميع نعيم بن ضمضم وفيه خلاف عن عمران. قال المنذري: لا يعرف، قال السخاوي: بل هو معروف لَيَّنَه البخاري (أي قال: في حديثه لين أي ضعف ما) وقال: لا يتابع عليه وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال صاحب الميزان أيضًا: لا يعرف. هذا كلامهم في عمران وحسبك قول البخاري بلينه وعدم متابعته وأما نعيم بن ضمضم فقد قال الذهبي في الميزان: ضعفه بعضهم وقال الحافظ ابن حجر: إنه لا يعرف لأحد فيه قول غير قول الذهبي هذا. (الحديث الخامس) عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه بها عشرًا بها ملك موكل حتى يلقيها) رواه الطبراني في الكبير من رواية مكحول عنه وقد قيل: إنه لم يسمع منه، وروى له عن مكحول عن موسى بن عمير، وهو الجعدي الضرير، كذبه أبو حاتم. (الحديث السادس) عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: من صلى عليّ صلاة جاءني بها ملك فأقول: أبلغه عني عشرًا وقل له: لو كانت من هذه العشر واحدة لدخلت معي الجنة كالسبابة والوسطى وحلت لك شفاعتي ثم يصعد الملك ينتهي إلى الرب إلخ. ولا حاجة إلى ذكره كله وهو مكذوب أخرجه أبو موسى المديني قال السخاوي: وهو موضوع بلا ريب. ومثله حديث معاذ الذي فيه: (ووكل بقبري ملكًا يقال له منطروس رأسه تحت العرش) قال السخاوي: أخرجه ابن بشكوال وهو غريب منكر بل لوائح الوضع لائحة عليه. وإنما ذكرت أمثال هذا الحديث لئلا يغتر بها من يراها في الكتب التي لا يعرف مؤلفوها الحديث. (الحديث السابع) عن ابن مسعود رضي الله عنه رفعه (إن لله ملائكة سياحين يبلغونني عن أمتي السلام) رواه أحمد والنسائي والدارمي وأبو نعيم والبيهقي والخلعي وابن حبان وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولعل هذا أقوى ما في الباب وإن كان الحاكم يتساهل في التصحيح حتى إنه صحح بعض الأحاديث المنكرة والموضوعة استدركها على الصحيحين. وقد حسنه غيره وعضدوه بما له من كثرة الشواهد. (الحديث الثامن) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تجعلوا بيوتكم قبورًا ولا تجعلوا قبري عيدًا وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم) أخرجه أحمد وأبو داود وصححه النووي وهو معضد وليس صحيحًا في نفسه ولكن له شواهد مراسيل من وجوه مختلفة. وفي الجملة إن ما ورد في إبلاغ الملائكة إياه عليه الصلاة والسلام هو أقوى ما في الباب، وأما ما ورد في رد روحه وسماعها فهاك أقوى ما ورد فيه. (الحديث التاسع) عن أبي هريرة (رضى الله عنه) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله تعالى إليّ روحي حتى أرد عليه السلام) رواه أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي وحسنه وصححه النووي في الأذكار، بل قال الحافظ ابن حجر: رواته ثقات واستدرك عليه تلميذه الحافظ السخاوي قال: لكن قد انفرد به يزيد بن عبد الله بن قسيط برواية له عن أبي هريرة وهو يمنع الجزم بصحته؛ لأن فيه مقالاً وتوقف فيه مالك فقال في حديث خارج الموطأ: ليس بذاك وذكر التقي ابن تيمية ما معناه أن رواية أبي داود فيها يزيد بن عبد الله، وكأنه لم يدرك أبا هريرة وهو ضعيف وفي سماعه منه نظر. انتهى على أن طريق الطبراني وغيره سالمة من ذلك لكن فيها من لم يعرف. اهـ ما كتبه السخاوي. وقال ابن القيم: إن هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه أحمد وأبو داود وغيرهما من الأئمة في مسألة الزيارة وهو أجود ما استدل به في هذا الباب ومع هذا فإنه لا يسلم من مقال في إسناده ونزاع في دلالته. أما المقال في إسناده فمن جهة تفرد أبي صخر به عن ابن قسيط عن أبي هريرة ولم يتابع ابن قسيط في روايته عن أبي هريرة أحد ولا يتابع أبا صخر أحد في روايته عن ابن قسيط. وأبو صخر هو حميد بن زياد وهو ابن أبي المحارق المدني الخراط صاحب العباء سكن مصر، ويقال حميد بن صخر، وبعد أن ذكر الاشتباه في كون هذا الاسم لاثنين وحقق أنه واحد، ذكر أن يحيى بن معين وإسحاق بن منصور ضعفاه وذكر عن أحمد روايتين: إحداهما أنه قال: ليس به بأس، والثانية قال: إنه ضعيف. ثم أطال في ذكر الخلاف في عدالته وحقق أن ما تفرد به لا يستشهد به ولا يصح. ثم ذكر الخلاف في عدالة ابن قسيط شيخ أبي صخر، ومنه قول مالك فيه: ليس هناك عندنا - أي لا يعتد بروايته - على أنه روى عنه وقول ابن أبي حاتم: ليس بقوي. وقول ابن حبان: إنه رديء الحفظ. فإن قيل: روى له الشيخان قلنا: نعم، لكن من غير حديث أبي هريرة فروايته عن أبي هريرة هي محل النزاع. (الحديث العاشر) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليّ عند قبري سمعته ومن صلى عليّ بعيدًا علمته) أخرجه أبو الشيخ في الثواب له من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عنه ومن طريقه الديلمي كذا قال السخاوي. قال: وقال ابن القيم: إنه غريب. وذكر عن شيخه أن سنده جيد. ثم ذكر اللفظ الآخر للحديث وهو (من صلى عليّ عند قبري سمعته ومن صلى عليّ نائيًا وَكَّلَ الله به ملكًا يبلغني) إلخ. وقال: أخرجه العشاري وفي سنده محمد بن موسى وهو الكديمي متروك الحديث وهو عند ابن أبي شيبة والتيمي في ترغيبه والبيهقي في حياة الأنبياء باختصار: من صلى عليّ عند قبري سمعته ومن صلى عليّ نائيًا أُبلغته، ثم قال: وأورده ابن الجوزي من طريق الخطيب. واتهم به محمد بن مروان السدي ونقل عن العقيلي أن

قصة المولد لدبيع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قصة المولد لدبيع (س. 5) من أحد أهالي (جوهر) في جنوب ميلاي. أنكر أحد طلبة العلم وهو رجل غريب قراءة قصة المولد النبوية للدبيعي ولعله غير المحدث بدعوى أن فيها كذبًا وخرافات، والقصة المذكورة مما يداوم على قراءتها للعوام عدد وافر من الذين تعتقد فيهم الولاية يقولون للعوام: إن روحانية المصطفى صلى الله عليه وسلم تحضره من أوله إلى آخره وتحضر في غيره عند القيام فقط فترى هِجِّيرَى أهل هذه البلاد قصة المولد المذكورة، فهي قد مرت على سمع الجم الغفير من العلماء ولم ينكرها غير الرجل المذكور، فهل هو مصيب أم لا؟ أفيدوا والله يبقيكم للأمة. (ج) الصواب ما قال ذلك الطالب الغريب، ولعله من الغرباء الذين ذكروا في حديث مسلم (بدأ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء) وقد قرأت طائفة من هذه القصة فإذا بصاحبها يقول في فاتحتها: فسبحانه تعالى من ملك أوجد نور نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من نوره قبل أن يخلق آدم من الطين اللازب، وعرض فخره على الأشياء، وقال: هذا سيد الأنبياء وأجل الأصفياء، وأكرم الحبائب، قيل: هو آدم، قال: آدم أنيله به أعلى المراتب، ثم ذكر إبراهيم وموسى وعيسى بمثل هذه الأسجاع الركيكة، فهذا كذب صريح على الله تعالى لم يروه المحدثون. ثم رأيته يذكر (في ص6 و7) حديثين أحدهما عن ابن عباس رفعه أن قريشًا كانت نورًا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألفي عام يسبح الله ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه إلخ. وهذا كذب ظاهر أيضًا وقريش كانت قبل الإسلام مشركة وعند ظهور الإسلام كان منها أشد الناس كفرًا وإيذاء للنبي صلى الله عليه وسلم وصدًّا عن سبيل الله، فما معنى ذلك الأصل النوارني الذي يناقضه هذا الفرع الظلماني. والثاني أثر عن كعب الأحبار لا يصح وقد سماه مؤلف القصة حديثًا لجهله. أما قول قراء هذه القصة من المحتالين على الرزق بدعوى الولاية أن روحانية المصطفى تحضر مجالسهم التي يكذبون فيها عليه فمثله كثير من أولئك الدجالين ولا علاج لهذا الجهل إلا كثرة العلماء بالسنة والدعاة إليها بين المسلمين وذلك بساط قد طُوي وإن كثيرًا من المسلمين ليعادوننا ولا ذنب لنا عندهم إلا الانتصار للسنة السنية والدعوة إلى الله ورسوله بالحق لا بالأهواء. وأما قولكم: ولعله غير المحدث فلا حاجة إليه لأن هذه القصة منسوبة إلى رجل مجهول يسمى دبيعًا بدال مهملة فموحدة فمثناة تحتية فعين مهملة ولا يوجد محدث بهذا الاسم، ولعلكم ظننتم أنهم يعنون به عبد الرحمن بن علي بن محمد بن عمر بن عليّ الملقب (أي عليّ هذا) بديبع كحيدر بتقديم المثناة التحتية على الموحدة ولو كان هو لصرحوا بنسبته إليه.

فائدة عظيمة في بحث العمل بالحديث الضعيف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فائدة عظيمة في بحث العمل بالحديث الضعيف إذا رأى من لم يشتغل بعلوم الحديث ما ذكرناه في تخريج الأحاديث التي ذكرناها في هذا الجزء وما قبله ونحوها يظهر له فضل المحدثين بعض الظهور ويعلم منه غير المسلم أنه لم تعن أمة بضبط دينها كما عنيت الأمة الإسلامية. هذا وإن ما ذكرناه لم نقصد به الاستقصاء ولم نراجع فيه جميع الكتب التي هجرت هذه الأحاديث؛ إذ لا توجد كلها عندنا ولم نر حاجة إلى البحث عنها مع حصول المقصود فيما ذكرناه. هذا وإن كثيرًا من المحدثين قد تساهلوا في تخريج الأحاديث التي وردت في الفضائل والترغيب والترهيب لاعتقادهم جواز العمل بالضعيف منها ما لم يكن شديد الضعف، قال النووي: بل قال بعضهم: يستحب العمل به لأنه من الاحتياط وجعلوا المناقب من هذا القبيل. قال السخاوي: وقد سمعت شيخنا (يعني الحافظ ابن حجر) يقول وكتبه لي بخطه: إن شرائط العمل بالضعيف ثلاثة: (الأول) متفق عليه أن يكون الضعف غير شديد فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه. (الثاني) أن يكون مندرجًا تحت أصل عام، فيخرج ما يخترع بحيث لا يكون له أصل أصلاً. (الثالث) أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته لئلا ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. (قال) والأخير عن ابن عبد السلام وعن صاحبه ابن دقيق العيد والأول نقل العلائي الاتفاق عليه. ونقل عن الإمام أحمد أنه يعمل بالضعيف إذا لم يوجد غيره ولم يكن ما يعارضه. ونقل ابن منده عن أبي داود أن الإمام أحمد يخرج الإسناد الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وأنه عنده أقوى من رأي الرجال. فالمذاهب في الحديث الضعيف ثلاثة، ما نقل عن أحمد بشرطه المذكور آنفًا ومذهب الجمهور الذين يشترطون فيه الشروط الثلاثة المتقدمة. والثالث: أنه لا يجوز العمل به مطلقًا وهو ما صرح به أبو بكر ابن العربي المالكي. قالوا: وأما الموضوع فلا يجوز العمل به مطلقًا ولا روايته إلا مع بيان وضعه واستدلوا على ذلك بحديث سمرة رضي الله عنه عند مسلم في الصحيح (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين) ويروى (يرى) بضم الياء أي يظن وفي (الكاذبين) روايتان: التثنية والجمع. وأنت ترى أن بعض الأحاديث التي لا تصل إلى درجة الوضع في اصطلاحهم قد يظن الظان أنها كذب بل قد يعتقد ذلك بقرائن قوية ككون أسلوب الحديث وعبارته كعبارات المولدين، وكون معناه مخالفًا لما هو ثابت في الكتاب أو السنة الصحيحة أو نظام الخليقة المعبر عنه بسنن الله تعالى أو لغير ذلك من الأسباب. ومن فهم القرآن المجيد وعرف السنة الصحيحة لا يطمئن قلبه لشيء من تلك الروايات الغريبة في المناقب وإن وجد لها متابعات من الضعاف. وهاهنا مزلة قدم زل فيها كثيرون فصححوا أو حسنوا أحاديث من المناكير والضعاف الشديدة الضعف بحجة أن لها شواهد من جنسها وما كل شاهد يصلح مقويًا وإن فاقد الشيء لا يعطيه. ثم إن باب المناقب الذي ألحقوه بفضائل الأعمال في جواز رواية الحديث الضعيف فيه قد يدخل فيه الإخبار عن عالم الغيب وهو من العقائد التي يطلب فيها اليقين فيروون فيه حديثًا منكرًا أو ضعيفًا واهيًا ويسكتون عليه لأنه من باب المناقب فيشيع ويشتهر فيتخذ عقيدة تحكم العامة بكفر منكره وهو أقرب من مثبته إلى حقيقة الإيمان، وقد يكون هذا النوع من الروايات شبهة على الدين وسببًا في الطعن فيه أو صادًّا لكثير من الناس عن قبوله. إنك إذا أردت أن تدعو أهل أوربا أو اليابان إلى الإسلام وتشترط عليهم التصديق بأن أجساد الأنبياء لا تبلى، وأنهم لم يولدوا كما يولد البشر ونحو ذلك فإن مثل هذا الشرط كاف لرفضهم الدعوة، وقد علمت أنه لم يرد في هذا حديث صحيح فضلاً عن متواتر فضلاً عن آية قرآنية، وهو مخالف لسنة الله في الخلق الثابتة بالمشاهدة وبقوله تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) فإذا اطمأن قلبك لحديث ضعيف أو حسن في مثل ذلك وصدقت به أيها المسلم فلا ينبغي لك أن تجعله عقيدة دينية وتجعل عدم النص من الصحابة وأئمة السلف على نفيه إجماعًا؛ إذ يجوز أن يكون لم يخطر لهم على بال. واعلم أنه ليس من تعظيم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تنزيههم عن الصفات البشرية فإن هذه نزعة كفر سبق إليها المشركون الذين احتجوا عليهم بمثل ما أخبر الله عنهم بقوله: {مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} (المؤمنون: 33) وقوله عنهم: {مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} (الفرقان: 7) وقوله عن فرعون وقومه: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ} (المؤمنون: 47) وقد ثبت في العقائد أن الأنبياء تجوز عليهم جميع الأعراض البشرية التي لا تنافي تبليغ رسالة ربهم، والقرآن ناطق بذلك وهو الحق الذي {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) .

إزالة وهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إزالة وهم يرى كثير من أهل العلم والمعرفة أن من الصواب إقرار العوام على ما يعتقدون من الخرافات والأوهام في الدين وكتمان ما قاله الأئمة من حفاظ الحديث من بيان ضعف بعض الروايات في ذلك أو وضعه. ورأيت منهم من يحتج على ذلك بأن لا حجة للعوام تثبِّت دينهم إلا هذه الخرافات؛ فإذا بطل اعتقادهم بها مرقوا من الدين. وهي حجة داحضة، فكتمان العلم من الكبائر والباطل لا يؤيد الحق وإقرار الخرافات ينفر العقلاء والمتعلمين من الدين، والعوام تبع لهم ولو بعد حين. ولولا إقرار العلماء للخرافات لما ظن أكثر العقلاء أنها منه فصاروا يمرقون منه فبيان الحق ينفع العوام والخواص ويحفظ الدين، وكتمانه يضيعه {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

تقرير مشيخة علماء الإسكندرية ـ بقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بقية الكلام على تقرير مشيخة العلماء في الإسكندرية (المراقبة العامة على الطلاب) ذكر في هذا الفصل أنه عهد إلى تسعة نفر من العلماء في مراقبة الطلاب في مسجد أبي العباس المرسي يتناوبونها فيفصلون في المنازعة أو الإساءة العادية التي يكفي التأديب عليها والزجر والنصيحة والموعظة الحسنة ويرفعون الأمر فيما يستحق فاعله العقوبة إلى المشيخة ويأمرون بالصلاة مع الجماعة، ويكونون مرجعًا للطلاب في تصحيح المتون التي يحفظونها وحل المشكلات التي تعرض لهم. وقد كان من عقوبة بعض فاسدي الأخلاق من الطلاب طردهم من معاهد العلم، وعهد إلى فريق من العلماء في زيارة الطلاب في مساكنهم يراقبون شؤونهم في معيشتهم ويسألون الجيران عن أحوالهم، ووعد بأن سيُعنى بهذه المراقبة في القابل بأكثر مما عني بها في هذا العام. وهذا مما يمتاز به التعليم في الإسكندرية على التعليم في الأزهر، فنثني على الشيخ محمد شاكر الثناء الحسن، ونرجو له زيادة التوفيق. *** (الامتحان ونتائجه) ذكر في هذا الفصل أن مشيخة الإسكندرية رأت أن تمتحن جميع طلاب العلم الخاضعين لنظامها في كل عام. وأن تستعين في عملها هذا ببعض المتخرجين في مدرسة دار العلوم. وكذلك فعلت وتم الامتحان قولاً وكتابة فكان أن تقدم للامتحان من طلاب السنة الأولى 303 من مجموعهم وهو 312 نجح منهم 191 نقلوا إلى دروس السنة الثانية. وتقدم من طلاب الثانية 50 من 54، فنجح 48 نقلوا إلى دروس الثالثة. وتقدم من الثالثة 38 من 42 نجح منهم 35 وتقدم من طلاب الرابعة 21 من 24 نجح منهم 18 قال: (وقد ألحقنا بناجحي هذه السنة من نجح من طلاب السنة الخامسة ورغب في الاستمرار على طلب العلم الشريف والانقطاع له، وهم ثمانية أشخاص مختلفو المذاهب لا يمكن أن تنشئ المشيخة لأجلهم سنة مخصوصة) . ثم قال: كان الامتحان الشفهي وسطًا في الشدة واللين والتحريري غاية في النظام والترتيب، وهذه أول مرة يجلس فيها طلاب العلوم الدينية مجلس الامتحان المهيب أمام الأساتذة بين يدي المحبرة والقرطاس يستعملون قواهم العقلية للإجابة عما سئلوا عنه، ولكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه عن النظر إلى ما يفعله غيره. اهـ وهو من دواعي السرور والثناء على مشيخة الإسكندرية. *** (مكافأة الناجحين) ذكر في هذا الفصل أن الأمير وضع مائة جنيه مصري (تحت تصرف المشيخة من مخصصاتها في الميزانية لمكافأة جميع الناجحين في هذا الامتحان) وهذه الجنيهات من مال الأوقاف. ثم ذكر أن الذين استحقوا الجائزة 300 طالب ونقول: إن الناس هنا لم ينسوا أنه قد كان قد خصص للمكافأة في الأزهر 400 جنيه من مال الأوقاف، فما زال الشيوخ الجامدون يتوسلون إلى الأمير حتى ألغاها، وهذا ما تفضل به مشيخة الإسكندرية مشيخة الأزهر. *** النظام الدراسي ذكر في أول هذا الفصل أن نظام التدريس في هذه السنة (التي وضع التقرير لها) كان تجربة واختبارًا وأن المهم الآن هو النظام للسنين المقبلة. ثم وضع لكل سنة جدولاً ذكر فيه الكتب التي تقرأ فيها وأوقاتها. والبحث في ذلك وفي الكتب التي اختارها يطول. ومن قرأ كلامه فيها علم أنه في حيرة من فقد الكتب التي تصلح لتعليم المبتدئين، وله العذر في ذلك فإن الكتب الأزهرية لا يوجد فيها ما يصلح للمبتدئ والاستغناء عنها بمثل كتب نظارة المعارف في الفنون العربية وبعض المصنفات الجديدة في غيرها كسر لقيود التقليد، وهو مما يتعذر أو يتعسر لا سيما على المبتدئ في العمل، ولكن الإصلاح يتوقف على تدريس بعض الكتب الجديدة كما توقف الامتحان والنظام على مساعدة بعض من عرف الطرق الحديثة في التعليم. إذا كان ثمَّ ما يمنع من تدريس كتب المعارف في النحو والصرف والبلاغة، فما أظن أن شيئًا يمنع من تدريس كتاب (نور اليقين في سيرة سيد المرسلين) الذي ألفه الشيخ محمد الخضري الأزهري الداري؛ إذ لا يوجد في الأيدي مختصر للسيرة النبوية يصلح للتدريس سواه، وله كتاب آخر في تاريخ الخلفاء الراشدين لم أره وأظن أنه يصلح للتدريس أيضًا. فهذا جواب ما طلبه في الكلام على دروس السنة الأولى من الإرشاد إلى مختصر وجيز في السيرة النبوية وتاريخ الراشدين. وإذا أراد التوسع في تاريخ الإسلام في غير هذه السنة فلا أراه يستغني عن كتاب أشهر مشاهير الإسلام. ثم إن الاكتفاء بمختصر البخاري يقرأ في عدة سنين تقصير في الحديث، فهذا المختصر يقرأ في سنة واحدة، ثم لا بد من قراءة غيره ومن العناية بعلم المصطلح ونقد الرجال. ونكتفي بالتنبيه إلى هذين الأمرين في هذا المقام، ونحن نعلم عذر المشيخة في كل تقصير، ونسأل الله تعالى أن يسهل لها كل عسير. وفي التقرير فصول أخرى في المدرسين وفي المساجد المعدة للتدريس فيها وفي مساكن طلاب العلم، وفي كل فصل منها دلائل واضحة على همة شيخ العلماء وعنايته بإتقان عمله. *** (عبارة التقرير) نكتفي بما تقدم من القول الوجيز في موضوع التقرير، ونختم التقريظ والانتقاد ببعض الشواهد على ما لاح لنا من التساهل في عبارته؛ لأن في تساهل العلماء بإيراد المفردات والأساليب العامية ووضع الكلم في غير مواضعه جناية على اللغة؛ لأن الناس يقلدونهم فيما يكتبون. وإنني أورد هنا ما يقبل التأويل بتكلف، وما لا يقبله ولو مع التعسف. وأرى أن صاحب التقرير لو شاء أن ينقحه حتى يسلم من الخطأ إلا ما لا يسلم منه المولدون لفعل، وعسى أن يفعل في تقرير آخر وهو أهل لذلك. (1) قال في الصفحة الثانية: ولا شية في الخطأ إذا صحبه حسن النية، والشية: هي اللون في الشيء يخالف لونه الأصلي، ومنه قوله تعالى في وصف البقرة {لاَّ شِيَةَ فِيهَا} (البقرة: 71) أي لا لون آخر في جلدها. وقد استعمل الشية هنا بمعنى العار والعيب، بدليل قوله بعد ذلك: بل العيب كل العيب أن يخطئ المرء ثم يصر على خطأه وقد نبه إلى موضعه من عمله عنادًا واستكبارًا. (2) وقال فيها: وترغيبًا في تربية الشبيبة المصرية.. إلخ. الشبيبة مصدر وقد جعلها هنا وفي مواضع أخرى جمع شاب. وقد سرى إليه هذا من الجرائد. (3) قال (في ص 3) : وبالتالي تكون كل الوظائف الدينية: كذا ولفظ التالي لا معنى له هنا والمقام مقام الإضراب. (4) وجمع النظام في أول الصفحة الرابعة بالنظامات، وكرر هذا الجمع في مواضع أخرى، وهو جمع مؤنث للمصدر غير صحيح إذا أريد به النوع. (5، 6) وقال فيها: وأيدينا مبسوطة بالدعاء لسموه على هذه النعم المتتابعة التي أحسن بها على الأمة الإسلامية: علل الدعاء بعلى وعدى به الإحسان، وهو غير معروف، وهذه الصفحة لا تزيد على أربعة أسطر. (7) قال في (ص5) أقبل الطلاب إقبالاً كليًّا: وهذا الوصف من استعمال الدواوين والجرائد ولا يظهر له وجه عربي وجيه. (8) وقال فيها: ولكن هذا الظن لم يثبت زمنًا طويلاً حتى تبدد: يريد لم يلبث أن زال، ولا تفيد هذا المعنى كلمة تبدد؛ إذ معناها تفرق فكان بددًا أي حصصًا وقالوا: تبدد الحلي على صدر الجارية أي أخذه كله. (9) وقال فيها: أسلفنا إن عدد الطلاب ... إلخ. أي بينا ذلك فيما سلف ومضى ولم ترد في اللغة بهذا المعنى. وقد يقال إنه: كقوله تعالى: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ} (الحاقة: 24) والصواب أن الأسلاف في الآية، وإن فسروه بما قدمتم من الأعمال الصالحة هو بمعنى السلم ودين السلف، فقد سمى الله تعالى الإنفاق في سبيله (قرضًا حسنًا) في عدة آيات وسماه عند ما ذكر الجزاء عليه إسلافًا، وهذا هو معنى تفسيرهم له بتقديم الأعمال، أي جعلها قدامهم وأمامهم ولا يسمى الكلام الماضي إسلافًا، ولا كل شيء فعل في الماضي إسلافًا. هذا ما أجزم به، فمن لم يقبله فأنا أترك له هذا الانتقاد جدلاً إلا أن يأتي بشاهد عربي، فإنني أتبعه فيه اتباعًا. (10) وقال فيها: ومن مطالعة الجدول المرفق بهذا يتضح كذا. أقول: إن لفظ المرفق بكذا يستعمل في عرف الدواوين بمعنى المرسل مع الشيء، يقولون: ورقة الحساب مرفقة بورقة الخطاب (مثلاً) وهذا خطأ، فإن أرفق في اللغة لم يرد بهذا المعنى، ولكنه ورد بمعنى رفق به ونفعه. على أن استعمال التقرير ليس بمعنى ما تقدم بيانه من استعمال الدواوين، وإنما يعني بقوله (الجدول المرفق بهذا) الجدول المسطور في هذا الفصل من التقرير كما قال بعد ذلك (جداول الإحصاء المرفقة بهذا الفصل) وما كان أغناه عن لفظ المرفق. ولعله يجعل بعد لهذه الجداول عددًا يشير إليه بالأرقام أو بأسماء العدد فيقول: ويعلم من الجدول الأول كذا ومن الجدول الثاني كذا. (11) وقال فيها: ولكنه على العموم يبشر بكذا. وكتاب الجرائد تستعمل هذه العبارة بمعنى قولهم (في الجملة) والعموم مصدر عمَّ ومعناه الشمول ويستعمل في اصطلاح الأصوليين بمعنى استغراق اللفظ لأفراد غير محصورين وعند أهل المنطق بنحو هذا ويقابل بالخصوص ولا محل لشرح ذلك هنا وعبارة التقرير ليست من هذا في شيء. (12) قال (في ص6) وقد يستلفت أنظار الباحث ... إلخ. وصيغة الاستلفات لم ترد في اللغة، وقد سبق لنا ولكثير من الكتاب المدققين استعمالها تبعًا للجرائد، وكان أول من نبهنا إليها المرحوم الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فذكرنا ذلك في المنار يومئذ. وقد ورد لفته وألفته. (13) واستعمل فيها وفي غيرها لفظ (الأحناف) جمعًا لحنفي وهو غير صحيح. (14، 15) وقال فيها: وقد يلاحظ المطلع على إحصائية العام المقبل، يعني بالإحصائية الجدول الذي أحصى فيه عدد التلاميذ، ولا يظهر لي وجه وجيه لتسميته إحصائية. ولاحظ لا يتعدى بعلى، وهو يكثر من قول لاحظ عليه فهو خطأ. والعرب تستعمل لفظ (عام قابل) للعام الذي بعد عام المتكلم، وورد في الحديث فلا أدري لماذا يستبدل به صاحب التقرير لفظ المقبل، ولم أعده عليه؟ ومعنى أقبل في اللغة جاء من قبل، أي من جهة الأمام فلفظ مقبل ليس نصًّا في العام الذي بعد عامك كلفظ (قابل) وليس في الصفحة السابعة واللتين بعدها إلا الجداول. (16) كتب فوق الجدول الذي في (ص 9) ما نصه: (إحصائية طلاب العلم الشريف بثغر الإسكندرية والجهات التابعين لها) فوصف الجهات بوصف المذكر العاقل، ولعل هذا سبق قلم أو تحريف من المطبعة. (17) وفي هذا الجدول كلمة (أصوان) والصواب أسوان بالسين المهملة ولكن هذا من الخطأ الرسمي الذي عليه الحكومة، وبلغنا أن نظارة المعارف صححته لها. (18) وفي (ص10) وصف النتائج بالحقة وهي تأنيث للحق وهو لا يؤنث وقد أكثرت الجرائد استعمال الحقة، فترى فيها الوطنية الحقة، الشريعة الحقة، الديانة الحقة، وهو خطأ. (19) وقال فيها استعملوها بإفراط: يعني الطريقة والطريقة لا تستعمل استعمالا وكان يحسن أن يقول أفرطوا فيها. (20) وقال فيها: تكليف الطلاب بحفظ ... إلخ. ولم يرد كلف متعديًا بالباء، بل ورد كلفه الأمر، ولكن الفقهاء قد عدوا كلف بالباء فلِمُزاول كلامهم العذر بتعديته بها، ولا نكاد نسلم منه على علمنا به. (21) وقال فيها: (حتى يبلغوا الحد الذي يقتدرون فيه على الاشتغال بإقامة الأدلة والبراهين على الذين كانوا يعلمون) وحسب القارئ لهذه الجملة قراءتها فلا حاجة إلى بيان ضعفها. عبارة هذا التقرير الذي يبلغ زهاء 90 صفحة وهذه الأغلاط مستخرجة من أربع صفحات منه قد عدت عشرًا؛ لأن منها الأولى وليس فيها إلا عنوان التقرير والثانية نصف صفحة. والرابعة أربعة أسطر، والسابعة والثامنة والتاسعة ليس فيها غير الجداول. وفي هذه الصفحات غير ما ذكرنا ولكنه يحتمل التأويل فتركناه. هذا وإننا نعتقد أن ا

أبونا آدم ومذهب دارون من باب الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أبونا آدم ومذهب دارون من باب الانتقاد على المنار كتب إلينا بعض القراء وكلمنا بعضهم في إنكار ما كتبه الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي في مقالات (الدين في نظر العقل) عن خلق آدم ومذهب دارون. وأنكر بعضهم سكوتنا له على ما كتب فنجيبهم: (أولاً) بأنه ليس من شأن أصحاب الصحف أن يقرنوا رأيهم بكل ما ينشرونه لغيرهم، و (ثانيًا) إن الكاتب قد ذكر ما ذكره في المسألة على تقدير ثبوت مذهب دارون ثبوتًا قطعيًّا، وهو غير ثابت عنده الآن؛ فهو يقول: إن مذهب دارون في المسألة ظني لا يقيني، وهو إن ثبت بالبرهان اليقيني فإنه لا ينقض القرآن، بل يمكن أن يؤخذ من القرآن ما يوافقه. واعلم أن ما ورد في القرآن من خلق آدم من تراب ومن طين قد ورد نظيره في خلق الناس كلهم، قال تعالى في سورة الأنعام: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِين} (الأنعام: 2) وقال في سورة الصافات: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} (الصافات: 11) فهل هذه الآيات نصوص قاطعة على أن المخاطبين بها خلقوا من الطين مباشرة؟ وإذا جاز تأويلها جاز تأويل ما ورد في آدم وذلك بمثل قوله تعالى في سورة المؤمنين {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} (المؤمنون: 12) ومعلوم أن مادة النسل من الطعام وأصله مواد الأرض النباتية. وما ورد في خلق الناس من نفس واحدة ليس نصًّا قطعيًّا في أن المراد بالناس جميع البشر؛ إذ لو كان ذلك نصًّا لما قالوا في تفسير قوله تعالى في سورة الأعراف: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) وهو أن الخطاب لقريش والمراد بالنفس الواحدة أبوهم قصيّ، وذلك أن الله تعالى أخبر عن هذه النفس الواحدة وعن زوجها أنهما جعلا له شركاء، وآدم لم يكن مشركًا. وقد سبق لنا بيان آخر لمعنى الآية، والمراد هنا أن اختلاف المفسرين في معنى الآية دليل على أنها ليست نصًّا قطعيًّا في أن النفس الواحدة آدم. وليت شعري ماذا يضر المسلمين بيان المخرج من اعتراض الكفار على القرآن، فمن لم يعجبه هذا الجواب فليأت بأحسن منه وليعتقد غير هذا وذاك، فإنما غرضنا بيان أن كلام الله تعالى حق لا سبيل إلى نقضه بحال.

اشتراط الولي في النكاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اشتراط الولي في النكاح قد تكرر القول منا بأننا ننشر في المنار كل ما ينتقده أهل العلم علينا ونبدي رأينا فيه ونترك الترجيح للقراء، والحق أبلج لا يخفى على ذي البصيرة. وإننا نحب أن ننشر ذلك في آخر جزء من السنة؛ إلا أن يكون الانتقاد يتعلق بشبهة على الاعتقاد أو نحو ذلك مما يضر تأخير نشره. وقد ورد علينا في ذي الحجة من السنة الماضية انتقاد من أحد فقهاء الحنفية في الهند على ما كتبناه في مسألة اشتراط الولي في النكاح، وكان الجزء الرابع والعشرين قد كتبت أصوله فأخرت الانتقاد ونسيته زمنًا، ولما راجعت الآن ما لدي مما انتقد به عَلَيّ رأيته مع آخر فجعلته في أول الباب فأنا أنشره ثم أجيب عنه بما يتسع له الباب. قال المعترض بعد البسملة والحمد والاستعانة ما نصه: (أما بعد فما أغرب المنار ما أتى به في مجلته (كذا) (الجزء الثاني عشر من المجلد السابع) بأن الولي لا بد منه للنساء (كذا) في عقد النكاح سواء كن بالغات أم لا، وإنه لا يجوز نكاح المرأة بغير الولي، وزعم أن قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله بعدم اشترط الولي في نكاح المرأة المكلفة مخالف للكتاب والسنة وقول الصحابة، واستدل على دعواه بحجج ليست بنص على ما ادعى، واستدلالات غير مثبته لما نطق وقضى، فأردنا في هذه المقالة كشف الستر عن وجه هذه المسألة ورفع الحجاب عن ساحة تلك القضية، فأقول وبالله التوفيق: إن قول الإمام في هذا الباب هو الموافق للكتاب المبين وسنة رسول رب العالمين وآثار الصحابة والتابعين. أما كتاب الله تعالى فقد قال جل وعلا: {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} (البقرة: 230) فإنه سبحانه نسب النكاح إلى النساء وإن كان لا يجوز بدون الرجال ما نسبه إليهن (كذا) بل إلى الأولياء. وأما قوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} (النور: 32) فهو وإن كان فيه خطاب مع الرجال الذين يتولون العقد لكن لا يفهم منه اشتراط الولي، وأنه لا بد منه كذلك قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} (البقرة: 232) لا يفهم منه أيضًا اشتراط الولي، بل ليس فيه ذكر الولي حتى يستدل به على الاشتراط أو عدمه، فإن الخطاب في (لا تعضلوهن) للأزواج لا للأولياء كما فهمه (صاحب المنار) كيف؟ وينتشر منه الكلام ويتفكك به النظام فإن الخطاب في إذا طلقتم مع الأزواج قطعًا، وإذا كان الخطاب في {فَلاَ تَعْضُلُوهُن} (البقرة: 232) مع الأولياء لا مع الأزواج ينتشر الكلام ويتعذر فهم المرام وكلام الله تعالى عما يصفون كما حققه الرازي في تفسيره حيث قال اختلف المفسرون في أن قوله فلا تعضلوهن خطاب لمن؟ فقال الأكثرون أنه خطاب للأولياء وقال بعضهم أنه خطاب للأزواج وهذا هو المختار الذي يدل عليه أن قوله تعالى {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنّ} (البقرة: 232) جملة واحدة واحد مركبة من شرط وجزاء، فالشرط قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنّ} (البقرة: 232) والجزاء قوله: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} (البقرة: 232) ولا شك أن الشرط وهو قوله: (إذا طلقتم النساء) خطاب مع الأزواج فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله فلا تعضلوهن خطابًا معهم أيضًا؛ إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء وحينئذ لا يكون بين الشرط والجزاء مناسبة أصلاً وذلك توجب تفكك نظم الكلام وتنزيه كلام الله عن مثله واجب. وأما حديث معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب، فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدًا وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله هذه الآية، قال ففيّ نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. فهو أيضًا لا يدل على أن الخطاب مع الأولياء، أما تعلم ما تقرر في الأصول من أن العبرة بعموم المعنى لا لخصوص المورد، فهذه الآية وإن كانت مورده (كذا) الخاص الأزواج، ولكن لما كانت العبرة لعموم الفحوى دخل فيه عضل معقل بن يسار الذي هو ولي هذه المرأة، ففهم أن الآية فيَّ نزلت (كذا) . أما قول القائل: (ولو كان لها أن تزوج نفسها لفعلت مع ما ذكر من رغبتها) فمدفوغ إذ يجوز أن تكون امتناعها (كذا) عن التزوج بعدم تمكنها مخالفة أخيها (كذا) الذي حلف بأن لا يزوجها به مع رغبتها إليه (كذا) لأن الغالب في النساء أن يكن تحت تدبير الأولياء وآرائهم ولا يقدرن على المخالفة في باب النكاح، وإن كان الإذن الشرعي لهن في ذلك (كذا) كما حققه الرازي في تفسيره حيث قال: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: (فلا تعضلوهن) أن يخليها ورأيها في ذلك، وذلك؛ لأن الغالب في النساء الأيامى أن يتركن إلى رأي الأولياء في باب النكاح. وإن كان الاستئذان الشرعي لهن وإن يكن تحت تدبيرهم ورأيهم وحينئذ يكونون متمكنين من منعهن كتمكنهم من تزويجهن؛ فيكون النهي محمولاً على هذا الوجه وهو منقول عن ابن عباس في تفسير الآية. وكذلك قوله {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاح} (البقرة: 237) الآية لا يفيد لدعواكم (كذا) سلمنا أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح هو الولي لكن يحمل على الصغيرة كما أن (أن يعفون) على الكبيرة (كذا) غاية ما في الباب أنه يلزم منه أن نكاح الصغيرة لا ينعقد بدون الولي، وأنه لابد منه، وهذا عين ما ذهبنا إليه. وأما سنة رسول الله فمنها ما رواه الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَصَعَّد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئًا جلست؛ فقام رجل من أصحابه فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: وهل عندك من شيء؟ قال: لا والله يا رسول الله، فقال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا؟ فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انظر ولو خاتمًا من حديد؛ فذهب ثم رجع فقال: والله يا رسول الله ولا خاتمًا من حديد ولكن هذا إزاري، فقال سهل: ما له رداء فلها نصفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تصنع بإزارك؟ إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم موليًا فأمر به فدُعِي فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال معي سورة كذا وسورة كذا، عددها فقال: تقرأهن عن ظهر قلبك؟ قال: نعم قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) فقد أنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير إذن وليها ومع عدم التفتيش والتنقيح بحال وليها (كذا) ودعوى الخصوصية لا تسمع بغير دليل (رواية الأكثرين زوجتكها بدل ملكتكها) . ومنها ما رواه الطحاوي في معاني الآثار عن أم سلمة قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي سلمة فخطبني إلى نفسي، فقلت: يا رسول الله: إنه ليس أحد من أوليائي شاهدًا. فقال: إنه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره ذلك. قالت: قم يا عمر فزوج النبي صلى الله عليه وسلم فتزوج. ومنها ما رواه سعيد بن منصور في سننه، حدثنا أبو الأحوص عن عبد العزيز بن ربيع عن أبي سلمة: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي أنكحني رجلاً وأنا كارهة. فقال لأبيها: لا نكاح لك، اذهبي فانكحي من شئت. فهذه الأحاديث كما ترى دالة على عدم اشتراط الولي وأن النساء البالغات لهن أن يباشرن العقد بنفسهن من غير احتياج إلى الرجال. وأما ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن وغيرهم: لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا البكر حتى تستأذن، فلا يفهم منه أن حق التزوج (كذا) للرجال دون النساء كيف ومفاد الحديث أن نكاح الأيم وكذا البكر لا تنعقدان (كذا) بدون إجازتهما صريحًا أو كناية، وأما أن حقيقة مباشرة العقد للرجال والنساء فهو بمعزل عن هذا كيف لا، وقد روى هذا الحديث ابن عباس بلفظ الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها والتأويل بأن المراد أن لا يزوجها إلا بأمر صريح تحريف باطل لا يقبله العقل السليم والفهم المستقيم. وأما حديث أبي موسى لا نكاح إلا بولي فقد أعله ابن حبان بالإرسال كما ذكره الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام وتصحيح الحاكم كتحسين الترمذي لا يعتدان بشيء (كذا) وكذلك حديث أيما امرأة أنكحت بدون إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له. أيضًا ضعيف فإن الزهري الراوي أنكر منه (كذا) وقال: أخشى أن يكون سليمان وهم كما نقله الحافظ ابن حجر في الدراية على أن عائشة التي روت هذا الحديث زوجت حفصة بنت أخيها عبد الرحمن وهو غائب بالشام كما أخرجه مالك في الموطأ، فنسبة النسيان إلى الزهري كما فعله صاحب المنار كما ترى. والحاصل أن حديث (لا نكاح إلا بولي) وإن كان ينجبر ضعفه بكثرة الطرق لكن لا يساوي درجة الكتاب والصحاح من الأحاديث التي ذكرت فضلاً عن أن يكون فاضلاً فافهم وأنصف. وكذلك حديث أبي هريرة: لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها. رفعه غير محفوظ كيف وأكثر أصحاب هشام بن حسان أحد رواة هذا الحديث كنضر بن شميل وسفيان بن عيينة وغيرهما يرويانه موقوفًا وكذا الإمام الأوزاعي الذي هو المتابع للهشام (كذا) أيضًا يرويه موقوفًا قال الشوكاني في نيل الأوطار: الصحيح وقفه على أبي هريرة. وقد نقل في عدم (كذا) اشتراط الولي في النكاح عن عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة وموسى بن عبد الله والزهري والشعبي وغيرهم من التابعين كما نقله ابن أبي شيبة في مصنفه فتبين بهذا بطلان قول الحافظ ابن المنذر: إنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك. فتنور بهذا جله أن كتاب الله وسنة رسول الله وأقوال الصاحبة والتابعين كلها تدل على أن نكاح المرأة الحرة البالغة العاقلة نفسها (كذا) بغير ولي جائز. هذا حكم الله في دينه وحكمته ظاهرة، فإن النكاح تصرف في خالص حقها وهي من أهله لكونها عاقلة بالغة، ولهذا جاز لها التصرف في الأموال واختيار الأزواج فلا معنى لاشتراط الولي لصحته، غاية ما في الباب أن يكون للولي اعتراض إذا قصرت في أمر بأن تزوجت بغير كفء أو بأقل من مهر المثل، والله أعلم وعلمه أتم. ... ... ... ... ... ... ... ... (عبد الرؤوف البهاري) هذا ما كتبه بحروفه المعترض، لم نصحح منه إلا عبارة الرازي وبعض أغلاط الإملاء وهي قليلة وأشرنا إلى بعض ما في عبارته من الغلط والضعف بكلمة (كذا) وقد أرسل إلينا مقالته بعض قراء المنار الأخيار، وكتب إلينا في آخرها ما يأتي: حضرة الفاضل العلامة والماجد

طعام أهل الكتاب ومجاملتهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طعام أهل الكتاب ومجاملتهم كتب إلينا بعض القراء الفضلاء من مسلمي (بوسنه) ما يأتي: إلى حضرة العالم الكامل الأفخم! أيها النحرير الشهم الفاضل. ما مرادكم بالعبارة الآتية في الجزء السابع من المجلد الثامن من المنار الغراء في صحيفة 255، ألا وهي: (وأراد تعالى أن نجاملهم ولا نعاملهم معاملة المشركين استثنى طعامهم فأباحه لنا بلا شرط ولا قيد) . وهذا لا يصح نظرًا إلى الظاهر لأنه لا بد أن يكون مقيدًا بأمور ولا أقل من التقييد بالوجوه التي تبيح أكل مال الغير لنا. وقد وقعت بعد العبارة السابقة في السطر الخامس في تلك الصحيفة أيضًا هذه العبارة: (ولأجل كون حل طعام أهل الكتاب ورد مورد الاستثناء من المحرمات المذكورة بالتفصيل في سورة المائدة) فإن الظاهر من تينك العبارتين أن النص الوارد في تحليل طعام أهل الكتاب مطلق لا يتقيد بقيد ما أصلاً، وأنه مستثنى من جميع المحرمات الواردة في آية {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} (المائدة: 3) إلى آخره، فيلزم من هذا أن يكون طعام أهل الكتاب حلالاً لنا ولو كان مطبوخًا من الميتة أو لحم الخنزير أو الدم المسفوح أو الخمر أو غير ذلك. وأما تعليلكم بالمجاملة فلا نسلم أنَّّا محرضون عليها من الشارع إلا إذا كانت في حدود الشرع. والقول الواقع في الآية بمقابلة هذا يدل صريحًا على أن المراد بحل طعامهم المجاملة معهم في المعاشرة كالإجابة إلى دعوتهم ودعوتنا إياهم إلى موائدنا وكالمساهلة في البيع والشراء معهم، وإلا فلا معنى لحل طعامنا بالنسبة إليهم؛ لأن الحلّين عائد لنا. وأول الآية وآخرها ينفي صراحة الحل المطلق ويدل على الحِلّ المقيد بالحدود الشرعية، فينتج من هذا أن مجاملتنا إياهم، وإن وسعت في الشريعة بالنسبة للوثنيين لكنها أيضًا محدودة بالأحكام الشرعية. وإلا فالمجاملة الكلية لا تقع إلا باتباعهم في الجميع {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} (البقرة: 120) ولسنا مأمورين بل نحن منهيون عن تجاور حدود الله في مجاملة أخ ديني ولو كان أشرف من في الأرض فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ألتمس من فضلكم التفصيل الشافي على هذه الاستفسارات لتزيلوا تحيري في هذا الشأن، ولكم من الله الأجر الجزيل ومني المنة العظيمة، وإن لم يمكن لجنابكم تعريف المراد بالكتابة القصيرة فأرجو من مروءتكم أن تكرموني بإرسال الأجزاء الباحثة في هذه المسئلة. وإن كان عليكم بأس بفصل بعض الأجزاء من المجلد الواحد فأرسلوا المجلد المطلوب بتمامه وأنا أرسل لكم على الفور قيمته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. ق. م *** (المنار) المراد بطعام أهل الكتاب الذي أحله الله لنا هو ما كان حلالاً في دينهم والميتة والدم ولحم الخنزير من المحرمات في التوراة، ولم ينسخ المسيح تحريمها وإنما أكله النصارى بقول بولس: الذي يدخل الفم لا ينجس الفم وإنما ينجسه ما يخرج منه وهذا مبالغة منه في ذم الكلام القبيح. ونحن لا نقول بأن الخنزير يدخل في عموم طعامهم فإذا خالفوا دينهم وأكلوه فأكلهم إياه لا يبيحه لنا. ولا ينافي هذا قولنا أن الله تعالى أباح لنا طعامهم بلا شرط ولا قيد لأن هذا بيان للآية ولا شرط فيها ولا قيد. وقد صرح بعض علماء السلف من الصحابة وغيرهم أن المراد بطعام أهل الكتاب في الآية ذبائحهم؛ لأنها مظنة التحريم وغيرها حل بمقتضى الأصل في الأشياء وهو الإباحة إلا ما حرم بالنص علينا وعليهم، وهو الميتة المحرمة لعارض ولحم الخنزير المحرم لذاته. وهذا لا ينافي الإطلاق في العبارة ولا في بيانها كما قلنا؛ إذ لم يعهد في أساليب لغة من اللغات عند بيان مسألة علمية أو حكم شرعي أن يذكر معها أو معه جميع ما تقرر في بيان مسألة أو حكم آخر يمكن أن يكون له علاقة بالمبين بتقييد أو تخصيص. مثال ذلك إذا قلنا: إن العسل نافع، فإن هذا الإطلاق صحيح ولا حاجة لتقييده بقولنا: بشرط أن لا يكون آكله أو شاربه محرورًا وأن لا يسرف في الإكثار منه. وإذا قلنا: إن الشرب في آنية الزجاج، فلا حاجة في صحة القول إلى تقييده بقولنا: إذا كان الإناء طاهرًا وغير مغصوب: إذا تدبرتم هذا علمتم أنه إذا قال قائل: تستحب مجاملة أهل الكتاب أو برهم: فلا يجب عليه أن يقيد ذلك بقوله: بشرط أن لا يشاركهم في عبادتهم وتقاليدهم الدينية ولا يرتكب معهم محرمًا كشرب الخمر، فإن هذا لا يدخل في إطلاق القول فيحتاج إلى إخراجه بالقيود، ولا أقول: إنه يدخل فيها وتعتبر في إخراجه القرائن المعلومة بالضرورة كما يتوهم الضعيف في اللغة. هذا وإننا قد فصلنا القول في مسألة الذبائح وطعام أهل الكتاب في المجلد السادس وإننا نرسله إليكم فطالعوه، وإن لاحت لكم شبهة فاكتبوا إلينا بها.

مسألة خلق أبينا آدم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة خلق أبينا آدم أجبنا في الجزء الماضي عما انتقد به على رأي الدكتور محمد أفندي صدقي في مسألة خلق آدم ومذهب دارون التي جاءت في مقالات (الدين في نظر العقل الصحيح) ثم راجعنا ما كتب إلينا في ذلك، فإذا بالشيخ قاسم محمد أبي غدير يذكر آية من الكتاب لم نذكرها في جوابنا وهي قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59) الآية وهي أقرب إلى تأويله من غيرها؛ لأنها تشبه خلق عيسى بخلق آدم، وعيسى لم يخلق من التراب مباشرة. والضمير في قوله: خلقه يحتمل عوده إليه. ثم سأل عن الأحاديث التي تفيد خلق آدم من التراب مباشرة، والجواب أن تلك الأحاديث رواية آحاد لا تفيد اليقين، فإن فرضنا أنه ثبت ما يناقض شيئًا منها؛ فإننا لا نعده ناقضًا للدين، ولا تنس أننا نؤمن بأن آدم خلق من التراب كما ورد بلا تأويل، وإنما التأويل لإلزام المعترض على الدين.

انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير ابن جرير الطبري

الكاتب: محمد الخضري

_ انتقاد شواهد الطبعة الأولى من تفسير ابن جرير الطبري (تابع ص 30 من الجزء الأول) (110) متبذّلاً تبدو محاسنه ... يضع الهِناءَ مواضع النقب ورد في الرابع ص 151 وهو لدريد بن الصمة وكتب هكذا: متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهنا مواضع النقب (111) أذاع به الناس حتى كأنه ... بعلياء نار أوقدت بثقوب في الخامس ص 106 وكتب الشطر الثاني هكذا (يعلنا 7 نار أوقدت بثقوب) . (112) قريب قراه ما ينال عدوه ... له نبطًا عند الهوان قطوب في الخامس ص 117 وكتب الشطر الثاني هكذا: ... ... ... ... (له نبط أبى الهوان قطوب) . (113) وكنت لزاز خصمك لم أعرّد ... وقد سلكوك في أمر عصيب ورد في الثاني عشر ص47 وفي الرابع عشر ص7 وكتب في كليهما بدل أعرد أعود بواو وبدل أمر يوم. وورد في الثامن عشر ص12 وكتب صحيحًا إلا في استبدال يوم بأمر. (114) تريك سنة وجه غير مقرفة ... ملساء ليس بها خال ولا ندب في الثالث عشر ص 116 وقد كتب بدل خال حال بحاء مهملة وصوابه بخاء معجمة. (115) وقفت على ربع لمية ناقتي ... فما زلت أبكي نحوه وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه في الرابع عشر ص 14 وكتب الشطر الأول من البيت الثاني هكذا: وأسقيته حتى كاد مما أتيته (116) صداع وتوصيم العظام وفترة وغم مع الإشراق في الجوف لاتب في الثالث والعشرين ص 25 وكتب الشطر الثاني هكذا: وعي مع الأشواق في الجوف لاتب وقبل البيت: ... فإن يك هذا من نبيذ شربته ... فإني من شرب النبيذ لتائب (117) قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم ... شدو العِنَاج وشدوا فوقه الكَرَبا في السادس ص 28 وكتب بدل العناج القناح والعناج للدلاء ما تعنج به من حبل يجعل تحتها مشدودًا إلى العراقي يكون عونًا للوذم والكرب حبل يشد على العراقي ثم يثنى ثم يثلث. (118) لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب في الثامن ص 92 وكتب بدل بهز: بهن وبدل فيه فيها. (119) أمرتك الخيرة فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب في التاسع ص 48 وكتب بدل نشب نسب بسين مهملة وصوابه بمعجمة (120) ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... كاليوم طالي أنيق جرب في السادس والعشرين ص 113 وكتب هكذا: ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طال أنيق حرب (121) وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب في السابع والعشرين ص 8 وكتب الشطر الأول هكذا: وفي كل يوم قد حبطت بنعمة (122) كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت ... سلاءها في أديم غير مربوب في الأول ص 47 وكتب بدل كسالئة: كسائلة، وبدل مربوب: مزبوب مع أن فيها الشاهد. (123) فلست لإنسي ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب في موضعين في الأول ص 113 وكتب هكذا: فلست بإنسي ولكن ملائكًا ... تنزل من جو السماء بصوب وفي الأول ص 152 وكتب الشطر الأول هكذا: فلست بجني ولكن ملأكا وكتب في الثاني تحدر بدل تنزل ولعله رواية. (124) حتى إذا سلكوهم في قتائدة ... شلاًّ كما تطرد الجمالة الشردا في أربعة مواضع: (1) في الأول ص 150 وكتب فيه فيافدة بدل قتائدة، ويطرد بدل تطرد. (2) في الرابع عشر ص 7 وكتب هكذا. حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا ... كما تطرد الجمالة الشردا (3) في الثامن عشر ص 21 وكتب هكذا: حتى إذا أسلكوه في قنابذة ... سلا كما تطرد الحمالة الشردا (4) في الرابع والعشرين ص22 وكتب كالثالث إلا أنه بدل أسلكوهم سلكوهم. (125) أسود شرى لاقت أسود خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود في التاسع والعشرين ص 18 وكتب كرى بدل شرى. وفساقوا بدل ساقوا. وبدل خفية حنية. (126) لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغَّص الموت ذا الغنى والفقيرا في الرابع عشر ص27 وكتب هكذا: لا أرى الموت إن الموت شيء ... يعض الموت الغني والفقيرا (127) كأن عذيرهم بجُنوب سِلّى ... نعام قاق في بلد قفار في الرابع ص56 وكتب الشطر الأول هكذا: كأن غديرهم بجنوب سلى والعذير بالعين المهملة والذال المعجمة الصوت وهو يصف قومًا منهزمين (128) وشر المنايا ميت وسط أهله ... كذلك الفتى قد أسلم الحي حاضره في الأول ص 107 وكتب الشطر الثاني هكذا: كهلك القناة استسلم الحي حاضره (129) سألتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر وَيْ كأن من يكن له نشب يُحبب ... ومن يفتقر يعش عيش مر في العشرين ص 71 وفيه رأياني بدل رأتاني وكتب في الثاني يحب بدل يُحْبب وكلها في الشطر الأول والصواب ما كتبنا. (130) قد شربَتْ الأدُهَيْدِ هينا ... قُلَيِّصات وأبيكرينا ورد في الثلاثين ص56 وكتب هكذا: ... قد رويت الألدهيد ... هينًا فليصاب وأبكرينا الدَّهداه ماشية الإبل صغره وجمعه جمع سلامة وقليصات جمع سلامة لمصغر قلوص وأبيكرينا صغر أبكرا جمع بكر ثم جمعه جمع سلامة. (131) لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ... إلا فرّ عني مالك بن أبي كعب ورد في الصفحة 66 من الجزء السابع عشر وكتب هكذا: لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ... إلا ترعني مالك بن أبي كعب (132) ألا لحا الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار النات ليسوا أعِفَّاءَ ولا أكيات هكذا أنشدها صاحب اللسان في مادة (ن وت) وقال: إنه يريد الناس وأكياس وورد هذا الرجز في الجزء الثامن ص 146 هكذا: ألا لحا الله بني السعلاب عمرو بن يربوع لئام الباب ليسوا بأعقاب ولا أكثاب (133) ... ... وصاليات للصِّلى صُليّ ورد في الرابع ص 170 وكتب بدل وصاليات والصاليات وهو غلط كما كتب الصلا بالألف للصلى والبيت من أرجوزة عجاجية ويريد بالصاليات: الأثافيّ وبالصلى الوقود. (134) ... ... ... يحوذها وهو لها حوذي من الأرجوزة السابقة وورد في الخامس ص 197 وكتب هكذا: يحوذهن وله حوذي ثم ذكر الطبري أن فيه رواية أخرى وقد كتبت بالشكل السابق تمامًا من غير فرق. (135) وحاصن من حاصنات ملس ... من الأذى ومن قراف الوقس ورد في الخامس ص5 وكتب فيه بدل مُلس ملمس وبدل قراف فراق وهما من أرجوزة للعجاج يمدح الوليد بن عبد الملك والقراف: المداناة والوقس: الجرب. (136) أخاف زيادًا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودًا أومحد درجة سمرا في الرابع ص 83 وكتب بدل أداهم دراهم وهو غلط، والأداهم: القيود. (137) الله يعلم أنا في تلفتنا ... يوم الفراق إلى أحبابنا صور في الثالث ص 33 وقد كتب بدل تلفتنا تلقينا وهو تحريف يخل بقوام البيت وبدل أحبابنا جيراننا، ولعلها رواية وما ذكرناه رواية اللسان في مادة صور. (138) صرت نظرة لو صادفت جَوزَ دارع غدا والعواصي من دم الجوف تَنعر في الثالث ص 34 وكتب بدل جوز جون وبدل الجوف الجون وكلاهما تحريف. (139) ولم يستريثوك حتى رميت من ... فوق الرجال خصالاً عُشارًا في الرابع ص 147 وكتب بدل ولم يستريثوك فلم يسترثبوك: وهو تحريف. (140) فما ألوم البيض إلا تسخرا ... لما رأين الشَّمَط القَفَندرا في الأول ص 16 وكتب بدل رأين رأينا وهو تحريف ولحن. (141) ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما جاءت إلينا تهاديا ورد في موضعين: الأول: في الأول ص 35 وكتب بدل الكنى اتكنى. الثاني: في الأول ص 152 وكتب صحيحًا. (142) يا ابن أمي ولو شهدتك إذ تد ... عو تميمًا وأنت غير مجاب في التاسع ص43 وكتب بدل تدعو تميمًا تدعوهما وهو تحريف يخل بالوزن والمعنى. (143) أنت المصفى المهذب المحض في ... النسبة أن نصَّ قومك النسب ورد في الأول ص 364 من أبيات الكميت الأسدي وقد كتب هكذا: المصطفى المحض المهذب في ... النسبة أن نص قومك النسب والشطر الأول مختل وصحته ما ذكرنا. (144) قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبًا شواته في التاسع والعشرين ص 42 وكتب هكذا: قالت نبيثه ما له قد ... حالت شيبًا شواته (145) إني ومن أين آبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب في الثاني ص 224 وكتب بدل آبك يأتيك والبيت مطلع كلمة الكميت التي منها البيت المذكور في الشاهد 3 (146) ترى أرماحهم متقلديها ... إذا صدئ الحديد على الكماة ورد في موضعين الأول في الأول ص 58 وكتب بدل أرماحهم أرياقهم والثاني في التاسع عشر ص 35 وكتب بدل الكماة الكتاب وبدل صدئ صدأ (147) إذا القُنبُضات السود طوفن بالضحى رقدن عليهن الحجال المسجف ورد في التاسع عشر ص 35 وكتب بدل القنبضات القسمات وبدل رقدن وفدن وأعقب بعدد 7، والقُنبُضة: المرأة الدميمة أو القصيرة. والبيت للفرزدق من كلمته التي أولها: عزفت بأعشاش وما كدت تعزف ... وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف ويصف ببيت الشاهد وما قبله وما يليه نساءه المترفات اللاتي يتغزل بهن. (148) يقذفن كل معجل نشاج ... لم يكن جلدًا في دم أمشاج في التاسع والعشرين ص 109 وكتب هكذا: يطرحن كل معجل نشاج ... لم يك خلدًا في دم أمشاج والبيت من أرجوزة لرؤبة ويصف النوق أنهن أجهدن حتى قذفن بما في بطونهن والمعجل الذي لم تكمل مدة حمله والنشاج: الذي ينشج، والنشيج: الشهيق. (149) كأن بقايا الأثر فوق متونه ... مدب الدبى فوق النقا وهو سارح ورد في موضعين: الأول في الرابع عشر ص 51 وكتب هكذا: كأن بقايا الأتن فوق متونه ... مدب الذي فوق النقا وهو سارح والثاني في التاسع والعشرين ص98 وكتب صحيحًا، إلا أنه وضع البنا موضع النقاء وكتب الدبى بالألف. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضري (لها بقية)

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (تاريخ القرآن والمصاحف) عني المسلمون بالقرآن المجيد عناية لم تعن بمثله أمة بكتابها فحفظوه في الصدور والسطور في زمن تنزيله إلى هذا اليوم وألفوا الكتب الكثيرة في ضبط كتابته وتلاوته، فبينوا بالرسم مهمله ومعجمه وغفله ومنقوطه وكيفية الأداء والتجويد والوقف والابتداء وعدد الآيات والكلمات والحروف، كما بينوا المعنى والإعراب ونكت البلاغة وطرق الاستنباط. ولما كان المصحف المعظم قد وصل إلى المتأخرين في أحسن خط وأجمل شكل، حتى بيّن فيه مواضع الوقف المطلق والجائز والصالح والممتنع اكتفوا بذلك عن الرواية والمدارسة في رسم الحروف وتاريخ المصاحف ولم يعنوا في ألفاظه إلا بتجويدها علمًا وعملاً في الأكثر؛ فأتقنوا مخارج الحروف وصفاتها من: الإظهار، والإخفاء، والجهر، والهمس، والقلقلة والمد، والقصر، وغير ذلك. ثم قضت حاجة هذه الأيام بمراجعة ما كتب في تاريخ المصاحف فانتدب صاحبنا موسى أفندي جار الله روستو فدوني الروسي إلى تأليف كتاب في تاريخ المصاحف يصدره أجزاء صغيرة كلما أتم جزءًا طبع ونشر. وقد طبع الجزء الأول في بطرسبرج في أوائل ربيع الأول من هذه السنة، وأرسل إلينا نسخة منه وطلب منا انتقادها، واتفق أن رأى النسخة في يدنا الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - قبل أن نقرأها فأحب أن يطلع عليها فأخذها، وكان المرض قد أشتد عليه وشغلنا بمرضه ثم بموته عن البحث عنها في أوراقه وكتبه، ثم أرسل إلينا نسخة أخرى سنقرظها في جزء آخر إن شاء الله تعالى. *** (كتاب الخدمة المدرسية في تسهيل قواعد العربية) كتاب في مبادئ النحو والصرف لجرجس أفندي الخوري المقدسي مدرس العربية في المدرسة الأمريكية بطرابلس الشام قال في مقدمته أنه أطال الفكر في كيفية التأليف المفيد للتعليم، وكتب في مذكرته كل ما كان يخطر له في أثناء التدريس للتلاميذ والتلميذات من الأحداث موافقًا لأذواقهم وجعل ذلك دعامة كتابه هذا ثم قال: (فجمعت فيه من الصرف والنحو ما يسهل فهمه على التلميذ ويتمكن به من ضبط ألفاظه وكتابته ونسقته حسب أفكاري تنسيقًا يرتاح إليه المتعلم مفضلاً القليل المفهوم على الكثير المعقد اتباعًا لرأي فلاسفة هذا العصر بشأن التعليم. وافتتحت الفصول ببيانات وذيلتها بتمارين موافقة لمقتضى الحال، وأدخلت إلى اللغة نوعًا جديدًا من الإعراب سميته (الإعراب التصويري) اقتبسه من الإنكليزية) ... إلخ. ثم طلب من الأساتذة والكتبة انتقاد الكتاب ليعمل بما يرشدونه إليه في الطبعة الثانية. وقد أخرنا تقريظ الكتاب لعلنا نجد وقتًا لمطالعته وانتقاده فأعوزنا الوقت فلم نجد بدًّا من ذكره والتنويه بما توخاه مؤلفه فيه توجيهًا للأنظار إليه. *** (مجلة الشتاء) مجلة أدبية علمية تاريخية فكاهية شعرية أنشأها في مصر سليم بك العنجوري الشاعر الدمشقي العصري الشهير، وهي تصدر في فصل الشتاء وتحتجب في الصيف وقيمة الاشتراك فيها أربعون قرشًا مصريًّا في السنة التي هي الشتاء تدفع مقدمًا. وقد صدر الجزء الأول منها في شهر يناير والثاني فيما يليه. وإنك لتقرأ بعض ما جاء في الجزء الأول فإذا هو يمزج الفكاهة والدعابة بالجد فتتجلى لك روح هذا الشيخ الكبير، بخفة الحزوّر الطرير، حتى لا أكاد أفرق بين ما قرأته له اليوم وما كنت قرأته له وأنا تلميذ مبتدئ كان الأدب قد طبع روح هذا الرجل بطابع لم تقو عليه السنون ولم تؤثر فيه عواصف السياسة التي تغير الأوضاع، وتبدل الطباع، وإنني أكتفي الآن بهذا التشويق إلى مجلة الشتاء بالإشارة إلى ما فيها من حرارة الشباب ولعلي أجد وقتًا آخر أنتقد فيه ما لعلي أجده فيها من برد الشتاء، ولا أقول برد الشيخوخة لئلا أجمع بين الضدين وإن كان الجمع بينهما من محسنات البديع عند الشعراء فيشفع لي عند الرصيف القديم الجديد الذي اشتغل بالصحافة وأنا وليد، على أن السوري لا ينتقد برد الشتاء، فما علي إلا أن أعهد بذلك إلى أحد المصريين الأدباء.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مسألة تزوج الهندي بالشريفة في سنغافوره) اختلف علينا القول في هذه المسألة التي استفتينا فيها من قبل. وقد كتب إلينا السيد حسن بن علوي بن شهاب أحد شرفاء الحضارمة المقيمين في سنغافورة حقيقة الواقعة فنحن ننشرها هنا (إذ فاتنا نشرها في باب الانتقاد على المنار) لئلا نكون مصرين على الخطأ بعد ظهور الصواب قال بعد رسوم الخطاب: تكرر في المنار المنير ذكر مسألة تزوج هندي بشريفة بسنغافوره، ولكن لم تكن المسألة كما قالوا بل كستها الأغراض أثواب اللبس والتدليس، فأحببت أن أفيدكم بالواقع وما راء كمن سمع، وإني أعتقد أن المنار طالب للحق ولا تهمه الشخصيات ولذلك لم أكتب له فيما سبق حرفًا ولسيدي الرأي في نشر ما كتبته وإغفاله. الهندي رجل نفي من الهند مؤبدًا إلى سنغافوره وليس له نسب يعرف ولكن يقال: إن أباه معلم صبيان والشهود الذي قيل عنهم: إنهم شهدوا له بالشرف لا صحة لما قيل في كثرتهم، بل قال اثنان نسمع أنه سيد ولا يعرفون له ثلاثة آباء في الإسلام هذه هي حال الزوج المشهود له بالشرف. وأما المرأة فبنت لم تتجاوز خمس عشرة سنة من السادة العلويين الحضارمة المشهور نسبهم المدون في الأسفار بالتواتر عند أهله وفي آبائها العدد الجم من العلماء والمصنفين وأهل الفضل والزهد والتقوى لا يمتري في ذلك أحد من الحضارمة. عجز الهندي عن استمالة الشريفة فقصد رجلاً من بني العطاس جعله العرب عريفًا لتسجيل العقود في المحكمة الإنكليزية فتوسل به الهندي فتردد إلى أم الشريفة حتى أقنعها وكان للشريفة أخوان أحدهما غائب، والثاني حاضر إلا أنه جاهل فراوده العطاس في تزويجها بالهندي فتأبى وامتنع، وقد تم أمر العطاس مع الأم، فلما لم يجد الأخ بدًّا من تزويجها طلب من العطاس أن يتحقق من العلماء الموجودين من العرب عن نسب ذلك الرجل فأكد له وأقسم بأنه قد تحقق الأمر ولم تبق لديه شبهة ولا ريبة فدلاهما بغرور ولقن العطاس أخا المرأة العقد في الساعة الحادية عشرة ليلاً فعير الجميع أخاها ووبخوه حتى إنه بعد ذلك هرب مما أصابه من التعيير ثم إن أخا المرأة الغائب شكا من ذلك وتذمر فبما ذكر يتضح فساد النكاح على مذهب الشافعي كما لا يخفى على من له إلمام بالفقه، والله على ما نقول شهيد وحسبنا الله، وما شرحته ثبت بالتحقيق الذي أجرته الجمعية العربية وبشهادة الشهود وإقرار أهل القصة فلا مرية في شيء منه ألبتة. أما ما قيل من إهانة بعض من حضر العلم الشريف وكتبه فأمر مبالغ فيه والواقع أن اثنين من طلبة العلم وجها كلامًا قارصًا إلى رجل له شرف وسن وجاه لدى الجميع أراد المناضلة عن العطاس؛ لأنه بكى إليه واستنصره ولبَّس عليه وكان ذلك الرجل ساذجًا ويرى ذينك الطالبين مثل أولاده فقصد ردعهما عن تعنيفه لا استخفافًا بالعلم وأهله. وأما ما جاء في فتيا السيد عمر بن سالم العطاس في بيان خطأ ابن عمه من أن إسقاط الكفاءة من الشريعة غير ممكن لأن شرفها ذاتي فذلك مذهب لكثيرين من علماء حضرموت واليمن والحجاز وعدد منهم مجتهدون فلا غرو إذا خالفوا الشافعي أو هو وبقية الثلاثة، ولا يلزم من المخالفة التحقير أو عدم الاتباع ويطول الشرح والقصد إيضاح الحق وتحقيقه جعلنا الله وإياكم من الطالبين له المنقادين آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... حسن علوي بن شهاب (المنار) قد كتب إلينا غير هذا السيد أيضًا ممن نثق به أن الواقعة كما قال. أما الحق في الكفاءة بالنسب فهو ما بيناه من قبل من أنها مسألة اجتهادية مدارها على التعيير فحيث كانت المرأة تعير هي وأولياؤها بالرجل فهو غير كفؤ لها، وما قاله العطاس في الشرف الذاتي لا يصلح دليلاً شرعيًّا. نعم، إن مخالفته للشافعي أو لغيره لا يعد تحقيرًا، ومن قال: إن الخلاف يستلزم التحقير فقد زعم أن السلف وغيرهم من الأئمة والعلماء في كل زمان يحقر بعضهم بعضًا؛ إذ لم يتفق اثنان منهم في كل مسألة والله أعلم. *** (السيد علي الببلاوي - وفاته) السيد علي الببلاوي من شرفاء مصر وكبار علماء المالكية في الأزهر، ولما جئنا مصر كان نقيب الأشراف وشيخ المسجد الحسيني وكان يلازم هذا المسجد، وقد عرفناه فيه وكلمناه في إبطال البدع التي يأتيها العوام عند القبر الحسيني وعمود الرخام الذي أمام مقصورته، وهو كما سبق لنا القول يُتَمَسَّحُ به للتبرك والاستشفاء؛ لأنه يسمى عمود السيد، فقال: إن هذه البدع قد استحكمت في نفوس العامة وصارت أرسخ العقائد فيها فلا يمكن نزعها إلا بالتدريج البطيء، وإذا فاجأناهم بقولنا أن هذا ليس من الدين خشينا عليهم أن يشكوا في أصل الدين ويمرقوا منه. وقد ناقشناه يومئذ في رأيه بل ظننا أنه لا يود إطال شيء من تلك البدع، وإنما قال ما قال جدلاً، ثم تبين لنا ظننا هذا كان على إطلاقه خطأ، ولم نعرف حقيقة فضل الرجل بل لم يعرفه جمهور أهالي البلاد إلا بعد أن صار شيخًا للأزهر. عين شيخًا للأزهر بعد عزل الشيخ سليم البشري في 2 ذي الحجة سنة 1320 وكانت إدارته قد وقفت حركتها فكان خير عون للإصلاح؛ إذ اتفق مع الأستاذ الإمام في كل رأي ولم يخالفه إلا فيما كان يسميه التدريج في التنفيذ وإن كان بطيئًا، وكان الأستاذ الإمام يفضل التعجيل بالتنفيذ اغتنامًا للفرصة، وخوفًا أن تفوت قبل إتمام العمل وكذلك كان. وقد قلنا في كلام عن الأزهر في أجزاء هذه السنة أنه قد ظهر للحكام وغيرهم من حسن إدارة هذا الرجل فوق ما كانوا يظنون. ومن أراد أن يعرف ما كان على عهده من حسن الإدارة والنظام فليرجع إلى كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر) . وجملة القول: إن الرجل كان في عقله وفضله وإدارته وأخلاقه وآدابه من خيرة علماء المسلمين في هذه الديار، بل لا نفضل عليه ممن عرفناهم بعد الأستاذ الإمام أحدًا منهم. توفاه الله تعالى في مصر وقد ترك من الولد الصالح من يُحْيي ذكره في العلم ومكارم الأخلاق اللائقة بالشرفاء فنعزي عنه ولديه النحيبين السيد محمد المدرس في الأزهر وأمين دار الكتب المصرية (الكتبخانة) والسيد محمود شيخ المسجد الحسيني وسائر الأهل والأقربين والعلماء والشرفاء، ونسأل الله تعالى له الرحمة والرضوان.

خاتمة السنة الثامنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الثامنة باسم الله وحمده نختتم الجزء الأخير من هذه السنة كما بدأنا أول جزء منها باسمه وحمده فهو الذي يذكر ويحمد في السراء والضراء، وعلى الزعزع والرخاء، فإن السراء من نعمه الظاهرة والضراء من نعمه الباطنة، يربي بها عباده فيبتلي ما في قلوبهم، ويمحص ما في صدورهم، والله عليم بذات الصدور. منينا في هذه السنة بشيء من المصائب والنوائب نرجو أن نكون وفقنا معه للصبر، وادخر لنا عند الله فيه الأجر، زيادة عما آتانا به من الثقة بوعده، والتوكل عليه والرضى بقضائه وقدره، والعبرة بشؤونه في خلقه والاعتماد بعد ذلك كله على ما وهب من القوى، والتحقق بمقام {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) فله الحمد على ما استأثر به وعلى ما أبقى، ولله الحمد على ما أخذ وعلى ما أعطى، ولله الشكر والثناء الحسن في الآخرة والأولى. قلنا في فاتحة السنة الماضية وخاتمتها: إن المنار قد دخل في سن التمييز. نعم وقد ميزنا في هذه السِّنّ بين كثير المتشابهات كالخِل الصادق، والخِب المماذق، والمتودد يبتغي العرض والوديد لا لعلة ولا لغرض، والموافق في الاعتقاد والشعور، والمنافق اللابس ثوب الزور، فنسأل الله كمال الصبر وتمام صفاء السريرة. أما قراء المنار فهم ينمون بنموّه، يزيدون بزيادة سنيّه ولم ينقص من عددهم انتقاص أهل الأهواء، ولا خوض أهل الدهان والرياء، ولا نشكو إلا من تقصير بعضهم في أداء قيمة الاشتراك، ومعظم التقصير في هذا منا فإننا قلما نتقاضى مشتركًا أو نذكره بكتاب يرسل، أو وكيل يسأل، بل تركناهم إلى أريحيتهم، ووكلنا بهم غيرتهم ومروءتهم، ومنهم من ينسى فيحتاج إلى التذكير، ومن يكسل عن إرسال المبلغ في البريد فيغريه التسويف بالتأخير، ومنهم السابقون إلى الأداء، والمقتصدون في الوفاء، وإنما تنهض الأعمال بأمثال أولئك وهؤلاء، ويندر أن يكون في قراء المنار من يهضم حقه عمدًا، ويقصد إلى أكل قيمة الاشتراك قصدًا. نعم، إن أهل مصر قد اعتادوا أن يدفعوا قيمة الاشتراك في الصحف للوكلاء الذين يتقاضونهم ولعل أهل تونس مثلهم؛ إذ لا يرسل القيمة إلينا بغير طلب أكثر من عشرهم وجميع المشتركين في الشرق والغرب يرسلون إلينا قيمة الاشتراك من غير طلب لا يمطل منهم إلا بعض أهل الهند وأفراد من أهل الجزائر وأهل المغرب الأقصى وقد كنا عهدنا بوكالة المنار في تونس إلى رجل اسمه علي زنين فحصل ما شاء أن يحصل وأكله مع ثمن كتب كنا أرسلناها إليه. ثم وكلنا رجلاً من الأدباء فتضاعف المشتركون في القطر التونسي بدعوته ولكنه كان يشكو من صعوبة التحصيل، وقد كانت وكالته في السنة الخامسة ولم يرسل إلينا بيانًا بأسماء بعض من دفع القيمة إلى محصله (أحمد أبي خطيوة) إلا في أول هذه السنة، كتب إلينا أسماء من دفعوا الاشتراك في السنة الخامسة ومن مطلوا، وعشرين مشتركًا دفعوا في السادسة ووعد بإرسال بيان أسماء بقية المشتركين الذين دفعوا فيها وفيما بعدها والذين مطلوا وقد انسلخت السنة ولم يرسل إلينا شيئًا. وقد كتبنا إليه منذ شهر ونصف كتابًا أرسلناه في البريد مضمونًا فلم يحر جوابًا ولم يرجع إلينا قولاً، ولعل له عذرًا ونحن نلوم، فمثله في أدبه وفضله لا يقصر في حقوق الأدب عمدًا، وإننا نعتبر وكالته موقوفة حتى يأتينا منه ما نعرف به سبب ترك المكاتبة والمحاسبة، ونرجو من المشتركين في القطر التونسي أن يرسلوا إلينا قيمة الاشتراك بعد وصول هذا الجزء إليهم حوالة على البريد في القاهرة وسواء عاد الوكيل في تونس إلى التحصيل للمنار أو وكلنا غيره لا يجوز لمشترك أن يدفع إلى أحد قيمة الاشتراك بمقتضى وصل من الوصولات القديمة، فإننا سنطبع وصولات خاصة بتونس والبلاد التي حكمها كحكمها في الاشتراك يذكر فيها المطلوب بالأرقام والحروف هكذا: 18 فقط ثمانية عشر فرنكًا لا غير وتختم بختم إدارة المجلة، وتذيل بتوقيعنا المعروف.

شرط الاشتراك في السنة التاسعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شرط الاشتراك في السنة التاسعة يرسل المنار في القابل إلى من كان يرسل إليهم عملاً بالاستصحاب فكل من قبل الجزء الأول من السنة التاسعة نعتبره مع علمه بشرطنا مشتركًا إلى آخر السنة فإن لم يرض فليردّ إلينا الجزء الأول؛ لأن فقد جزء من أجزاء السنة كفقد جميع أجزائها فهذا عقد بيننا وبين جميع المشتركين آية قبوله منهم ورضاهم به قبول الجزء الأول من السنة التاسعة فمن قبله وجبت لنا عليه قيمة الاشتراك كاملة وإن ردَّ بقية الأجزاء فإن لم يرسل القيمة فهو غير موف بما عاقد عليه. ثم إن إدارة المجلة لا تمسك جزءًا ما عن أحد من المشتركين فمن طلب منها جزءًا لم يصل إليه بعد موعد صدوره بمدة لا تزيد على شهر يرسل إليه حتمًا وإذا طلبه بعد شهر من موعد وصوله إليه وجب عليه إرسال ثمنه وهو خمسة قروش مصرية إذا كان الطالب من القطر المصري، وفرنك و75 سنتيمًا إذا كان الطالب من قطر آخر وعند ذلك يرسل إليه إن وجد وإلا ردَّ إليه ما أرسله. وسيصدر المنار في السنة التاسعة في كل شهر عربي مرة عملاً باقتراح كثير من القراء ولا ينقص من أوراقه شيء فسيكون الجزء 80 صفحة وبذلك يتيسر لنا أن نكثر في كل جزء من مواده في التفسير والمقالات والفتاوى والمسائل العلمية والأدبية والأخبار والآراء؛ فهو زيادة إتقان وإكثار في مسائله ومباحثه، وقد رأى القراء أننا جددنا حروفه. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا في المستقبل لخير ما وفقنا له في الماضي فهو الموفق والمعين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

كلمة مع تحية المنار لقرائه المصطفين الأخيار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة مع تحية المنار لقرائه المصطفين الأخيار السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هنأكم الله بالعام المودع وجدد عليكم نعمه في العام القابل. وبعد فإن العارف بهذه الخدمة التي تستغرق أوقات منشئ المجلة لا سيما في تمحيص الدلائل وتخريج الأحاديث لا ينسى أن أقل ما يجب من مساعدتها أداء قيمة الاشتراك القليلة في أوقاتها وأكثره الدعوة إلى المنار والسعي في تكثير عدد قارئيه. فنشكر للأفاضل الذين يدعون إليه والذين سبقوا فدفعوا قيمة الاشتراك عن السنة التاسعة قبل دخولها وللفضلاء الذين يدفعون ما عليهم في أثناء السنة فلا تختم وفي ذمتهم شيء، ونذكِّر منهم من أنستهم كثرة أعمالهم إرسال قيمة الاشتراك أن يتفضلوا بإرسالها على رأس السنة ولهم الشكر والثناء الحسن وقد زادت النفقات علينا بسعة انتشار المجلة حتى إنها تبلغ في الشهر الواحد بضعة آلاف فإذا كان الأكثرون لا يدفعون القيمة إلا بعد انتهاء السنة فمن أين نأتي بهذه النفقات لنا وللعمال طول السنة وليس لنا عمل آخر. ستزيد النفقات في العام الجديد بزيادة عدد المستخدمين الذي دفعنا إليه شكوى كثير من المشتركين في هذه السنة من عدم المبادرة إلى إجابة مطالبهم حتى في إرسال وصولات الاشتراك ولعل هذه الشكوى تزول في العام الجديد إذ جعلنا للإدارة وكيلاً وللمكتبة وكيلاً. ونرجو من مشتركي المنار الكرام في القطر التونسي أن يرسلوا لنا قيمة الاشتراك حوالة على البريد أو أحد التجار في القاهرة ويعرفونا بما دفعوه عن السنين السابقة للوكيل نؤكد الرجاء بذلك، وأن يصححوا لنا عناوينهم لنطبعها. سيصدر الجزء الأول من السنة التاسعة (وصفحاته 80) في منتصف شهر المحرم والثاني في أوائل صفر، وذلك لما علينا من كثرة الأعمال في خاتمة هذه السنة وبعد هذا يصدر كل جزء في غرة الشهر إن شاء الله تعالى.

فاتحة السنة التاسعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة التاسعة بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نحمدك على ما آتيت من المواهب والقوى، وأنزلت من البينات والهدى، ونصلي على نبيك المصطفى، الذي بعثته لإصلاح جميع الورى ونستمطر رحمتك ورضوانك على مَن صلح باتباعه واهتدى، ثم أصلح بحاله وقاله وهدى {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدا} (الكهف: 10) ولا تهلكنا بما فعل أهل السرف منا والهوى، واكفنا اللهم شر من ظلم من رؤسائنا وبغى، وفتنة من ضل من مرشدينا وغوى، وخُسْر من عصى من دهمائنا واعتدى، واجعل اللهم لنا على نيران هذه الحوادث هُدى، ويسِّرنا بفضلك لليسرى، وانفعنا بما أنزلت من الذكرى، وآتنا ما وعدتنا في الآخرة والأولى. هذا ما يفتتح به المنار سنته التاسعة: تذكير ودعاء، يبعثهما أمل ورجاء، على حين سحلت مرائر الآمال، وخويت من الرجاء قلوب الرجال، وأحاط الخطر بالمسلمين من كل جانب، وتنازع إرث ما بقي من أرضهم الأجانب، بين سلطان يحارب العلم وسلطان يحاربه الجهل، وأمير مفتون بالدَّثر، وأمير مغبون بالفقر، وعالم ينافس بكسوة التشريف، وعالم يحسد على الرغيف، ومرشد يؤيد حكومة يستغل سلطتها، ومرشد يخادع أمة يستدر غفلتها في بلاد أمات الاستبداد قلوب كبرائها، وبلاد أفسدت الشهوات أخلاق أغنيائها، دع ذكر البلاد التي نزغ بين زعمائها شيطان السياسة فأغراهم بالتنازع على الرياسة، والأمة من وراء هؤلاء الكبراء تذل كل يوم وتخزى، سنة الله في القرون الأولى {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} (طه: 128) . نعم، إن المسلمين أمسوا كالريش في مهب رياح الحوادث، وكالغثاء في مجرى سيول الكوارث لا رأي لخواصهم فيما يراد منهم، ولا شعور لعوامهم فيما يراد بهم، وللأجانب يد في تصرف حكامنا في سياستنا ويد في تصريف أموالنا في مصلحتهم دون مصلحتنا، ويد تطبع الأرواح بأخلاق وعادات تنافي آداب ملتنا، وتودع في العقول عقائد وأفكارًا تقوَّض بناء وحدتنا، فأي شيء بقي في أيدينا من شئون أمتنا، اللهم إنه يقل فينا من بقي له أذن تسمع وعين تبصر، وقلب يشعر وعقل يفكر ويقل في هؤلاء القليلين مَن له إرادة تتوجه إلى عمل للأمة، وثبات فيما يحاول من كشف الغمة، والرجاء بفضل الله تعالى محصور في هؤلاء الأقلين، فمن يتصل بحزبهم حينًا بعد حين، والعاقبة للمتقين {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) ، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132) ، {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: 133) . بلى قد جاءتنا صحف الأولين، فكانت مثالاًَ لما رأينا في صحف الآخرين، إنه لم تستيقظ أمة من نومتها، ولم تبعث دولة بعد موتتها، إلا بصيحة نفر من أولي الألباب، ومثقفي العقول والآداب، الذين يغير الله ما في نفوس أقوامهم بما يلقيه من الحكمة في ذلاقة ألسنتهم ونفثات أقلامهم، فيستبدلون الاعتصام بالانفصام، والاتفاق بالشقاق، والوحدة بالفرقة، والمقة والحب، بالبغضاء والمقت، ولذلك يشعر الأفراد بمعنى الأمة، ويعملون بالتعاون فيكونون أمة، {سُنَّتَ اللَّهِ الََّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَافِرُونَ} (غافر: 85) ، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31) . ما المنار إلا صحيفة أو صحف أنشئت لتأييد دعاة العلم للأمة والعمل لها سواء منهم من دعا إلى الإصلاح قبلها ومن يدعو إليه معها , ولتكثير سواد الدعاة الذين يتعلمون للأمة، ويعملون للأمة، ويحيون للأمة، ويموتون في سبيل الأمة، بذلك صرحنا في فاتحة السنة الأولى وبذلك نصرح في كل سنة من السنين، مهتدين بهدي كتاب الله المبين، وسنة خاتم النبيين والمرسلين، اللذين هما ينبوع الهداية، واتباعهما ينبوع السعادة، من تمسك بهما نجا، ومن تركهما ضل وغوى، وخزي في الآخرة والأولى، {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: 124-127) . هذه نُذُر الكتاب المبين، لمن ترك الاعتصام بحبله المتين، يجازى بالضيق والضنك في معيشته الأولى، وبالعذاب في الدار الأخرى، وقد قال تعالى وهو أقوم قيلاً: {وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} (الإسراء: 72) ؛ فالدنيا مزرعة الآخرة، وسنة الله تعالى فيهما واحدة فإذا سلكنا سبل الظلم والإفساد، حتى زال عزنا وسلطاننا من البلاد، فلا ينجينا في الآخرة لقب الإسلام، ولا الانتساب إلى أولئك السلف الكرام، أَمَا سمع المغرور حديث الصحيحين: (يا فاطمة بنت محمد سَلِيني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئًا) {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفى} (النجم: 36-41) . القرآن حجة على شعوب المسلمين في هذا العصر، بما أصابهم وأصاب دولهم من الخُسْر، الذي جنبه الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وبأخذ الأمم والدول إياهم أخذًا وبيلاً {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) . نعم، إن المؤمن يبتلى ويفتن، ولكنه لا يهن ولا يحزن، بل يصبر حتى تكون العاقبة للمتقين {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ} (الحج: 11) فما انتفع المغرورون بهذه الذكرى، ولا اتبعوا هذه الهداية العليا {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى * أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى} (النجم: 23-25) . نعق به ناعق أئمة الجور، ونصير الاستبداد والظلم أن لا نجاة لكم من البلاء الذي أصابكم، ولا أمن لكم من الخطر الذي يوشك أن ينزل بكم، إلا بفناء إرادتكم في إرادة حكامكم، لا بتغيير ما في أنفسكم من أوهام وخرافات، وأخلاق ذميمة وعادات، ولا بتربية العقل والإرادة على الاستقلال، والتعاون على البر والتقوى والاشتراك في الأعمال، ولا بجعل الشورى قاعدة الأحكام، وإقامة الشريعة في الحلال والحرام، ولا التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصاح بهم خطيب فتنة الوطنية أن لا حياة لكم بالرابطة الملّية، لأنها ممقوتة في نظر أهل المدنية الغربية، الذين سادوا بترك العصبية الدينية، فعلى أهل كل قطر إسلامي أن يعتزوا بسكان بلادهم الأولين، ولا يحبوا من هاجر إليهم من المؤمنين، فضلاً عن إيثارهم كما فعل الأنصار مع المهاجرين، فما اعتز به المسلمون الأولون من آداب القرآن قد نسخته مدنية أوربا في هذا الزمان، فالوطنيةَ الوطنيةَ , الزموها تكونوا من الفائزين، والدخلاءَ الدخلاءَ , احذروهم وإن خدموا الأمة والدين، إن يبغون بدعوة الوطنية إلا العصبية الجاهلية والهوى، وكثرة العرض والغنى، والزلفى عند أهل المراتب العليا، {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ العِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} (النجم: 29-30) . اختلفت عليكم الدعوة أيها المسلمون، وكل حزب بما لديهم فرحون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) فله وحده دعوة الحق، وما خالفها فهو باطل أو فسق {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 150-152) . ها نحن أولاء قد خرجنا عن استقلالنا الاجتماعي زمنًا طويلاً، أطعنا فيه ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، وأخذنا الأجانب من ناحية سلطتهم أخذًا وبيلاً، فما أغنت عنا ذلة العبودية لهم فتيلاً، {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً} (الإِنسان: 29) ولا سبيل إليه إلا باتباع هدايته، والسير على سنته في خليقته {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) ] وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى* إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [ (الليل:1-10) . فعليكم أيها المسلمون وقد أعوزت النجاة واختلفت دعوة الدعاة، أن تجيبوا داعي الله، وتكونوا من حزب من أعطى العفو من ماله لإعلاء كلمة الله ومواساة عياله، واتقى أسباب الفتن والمحن، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، وصدق بالشريعة الحسنى، والخليقة الفضلى، تصديق إذعان، يتبعه العمل بالجَنان والأركان، والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان، فإذا فعلتم ذلك يسر الله لكم خط النجاح لليُسرى، وأقامكم على طريق الفطرة المثلى، وأعزكم في هذه الدنيا، ولكم في الآخرة الجزاء الأوفى، ولا تكونوا ممن بخل بفضل نعمته، واستغنى بالتعزز بماله عن الاعتزاز بأمته وملته، وكذب في نفسه بأن الشرعة الحسنى، والخليقة الفضلى هي طريق السعادة الكبرى، فإن الله تعالى لا ييسر له بمقتضى سنته إلا عُسرى الخطتين، وسوءَى الطريقتين، فيكون شقيًّا بماله، مضطربًا في حاله، مبغضًا إلى قومه وآله، لا فرق في هذه السنة بين الشخص والأمة، والأمر في الشعوب أظهر لمن يرى، فما رزئ شعب بهذه الثلاثة إلا وقع في مهاوي الردى {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} (الليل: 11-13) . هذا ضرب من ضروب هداية القرآن، الذي دعا إلى جميع الأصول التي فيها سعادة ال

مباحث المنار الدينية ودعوته إلى الانتقاد عليه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مباحث المنار الدينية ودعوته إلى الانتقاد عليه إن الغرض من مباحث المنار الدينية هو بيان أن الإسلام هو الحق الهادي إلى سعادة الدنيا والآخرة , ودفع شُبه أعدائه عنه في عقائده وآدابه وأحكامه والدعوة إلى الاهتداء به. وإنما تتوجه الشبهات إلى الكتاب والسنة لا إلى أقوال العلماء والفقهاء. فمن ثم كانت عمدة المدافع عن الإسلام والمحتج على حقيته إنما هي نصوص الكتاب والسنة. فنرغب إلى من يسألوننا عن حكم الإسلام وأحكامه أن لا يقيدونا بمذاهبهم , ومن أراد الانتقاد على المنار في أمر ديني فليؤيد انتقاده بالدليل كآية كريمة أو حديث يحتج به لا بقيل وقال. إلا إذا أخطأنا في نقل عن أئمة العلم الذين نستضيء بأنوار أفهامهم في الكتاب والسنة أو الفهم أو في الأداء فللمنتقد أن يبين لنا ذلك. وإننا نعيد القول كما بدأناه أول مرة بأننا ننشر كل ما ينتقده علينا العلماء والأدباء، وما يشكل على عامة القراء، فإن كان المنتقد مصيبًا اعترفنا وشكرنا، وإن كان مخطئًا بيَّنا وأعذرنا، ولا عذر لعالم يرى منا الخطأ فيسكت عليه بعد علمه بهذا وبأن الحق يدفع الباطل وبأن الله أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن يذم المنار بعد هذا أو يقدح في صاحبه ولم يبين له خطأه فهو فاسق مغتاب، كاتم للعلم مذموم بنص الكتاب.

مسائل الاختيار والعلة والحكمة والحسن والقبح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسائل الاختيار والعلة والحكمة والحسن والقبح نذكر ما أورد السفاريني فى هذه المسائل ليعلم قراء كتب الأشعرية ما في غيرها من الحقائق التي قد تخالفها إلى صواب، وأن الاقتصار على كتب طائفة معينة هو من قيود التقليد. قال في شرح قوله: وربنا يخلق باختيار ... من غير حاجة ولا اضطرار لكنه لا يخلق الخلق سدى ... كما أتى في النص فاتبع الهدى (وربنا) تبارك وتعالى (يخلق) ما شاء أن يخلقه من سائر مخلوقاته (باختيار) منه، فمذهب سلف الأمة وأئمتها أن الله تعالى لم يزل فاعلاً لما يشاء وأنه تقوم بذاته الأمور الاختيارية وأنه تعالى لم يزل متصفًا بصفاته الذاتية والفعلية فلم يحدث له أسماء من أسمائه ولا صفة من صفاته، فيخلق سبحانه المخلوقات ويحدث الحوادث بعد أن لم تكن سواء كان ذلك على مثال سابق أو لا. والإبداع إحداث الشيء بعد أن لم يكن على غير مثال سابق (من غير حاجة) منه تعالى إليه أي يخلق الخلق لا لحاجة إليه ولا (اضطرار) عليه، فالحاجة: المصلحة والمنفعة , والاضطرار: الإلجاء والإحواج والإلزام والإكراه، فلا حاجة باعثة له سبحانه على خلقه للخلق، ولا مكره له عليه بل خلق المخلوقات وأمر بالمأمورات لمحض المشيئة وصرف الإرادة. وهذا قول جمهور من يثبت القدر وينتسب الى السنة من أهل الكلام والفقه وغيرهم، وقال به طوائف من الحنبلية والمالكية والشافعية وغيرهم، وهو قول أبي الحسن الأشعري وأصحابه، وهو قول كثير من نفاة القياس في الفقه من الظاهرية كابن حزم وأمثاله، وحجة هذا أنه لو خلق الخلق لعلة لكان ناقصًا بدونها مستكملاً بها؛ فإنه إما أن يكون وجود تلك العلة وعدمها بالنسبة إليه سواء، أو يكون وجودها أولى به؛ فإن كان الأول امتنع أن يفعل لأجلها، وإن كان الثاني ثبت أن وجودها أولى به فيكون مستكملاً بها فيكون قبلها ناقصًا، وأيضًا فالعلة إن كانت قديمة وجب قدم المعلول؛ لأن العلة الغائية، وإن كانت متقدمة على المعلول في العلم والقصد فهي متأخرة في الوجود عن المعلول كما يقال: أول الفكرة آخر العمل. وأول البغية آخر المدرك. ويقال: إن العلة الغائية بها صار الفاعل فاعلاً فمن فعل فعلاً لمطلوب يطلبه بذلك الفعل كان حصول المطلوب بعد الفعل فإذا قدر أن ذلك المطلوب الذي هو العلة قديمًا؛ كان الفعل قديمًا بطريق الأولى، فلو قيل: إنه يفعل لعلة قديمة لزم أن لا يحدث شيء من الحوادث وهو خلاف المشاهدة، وإن قيل: إنه فعل لعلة حادثة لزم محذوران: (أحدهما) أن يكون محلاًّ للحوادث فإن العلة إن كانت منفصلة عنه فإن لم يعد إليه منها حكم امتنع أن يكون وجودها أولى به من عدمها، وإن قدر أنه عاد إليه منها حكم كان ذلك حادثًا فتقوم به الحوادث , والمحذور الثاني أن ذلك يستلزم التسلسل من وجهين: (أحدهما) أن تلك العلة الحادثة المطلوبة بالفعل هي أيضًا مما يحدثه الله تعالى بقدرته ومشيئته فإن كانت لغير علة لزم العبث كما تقدم، وإن كان لعلة عاد التقسيم فيها فإذا كان كل ما يحدثه أحدثه لعلة , والعلة ما أحدثه لزم تسلسل الحوادث. (الثاني) أن تلك العلة إما أن تكون مرادة لنفسها أو لعلة أخرى فإن كان الأول امتنع حدوثها لأن ما أراده الله تعالى لذاته وهو قادر عليه لا يؤخر إحداثه وإن كان الثاني فالقول في ذلك الغير كالقول فيها ويلزم التسلسل، فهذه الحجج من حجج من ينفي تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه. (التقدير الثاني) قول من يجعل العلة الغائية قديمة كما يجعل العلة الفاعلية قديمة كما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم وأصل قول هؤلاء أن المبدع للعالم علة تامة تستلزم معلولها فلا يجوز أن يتأخر عنها معلولها وأعظم حججهم قولهم: إن جميع الأمور المعتبرة في كونه فاعلاً إن كانت موجودة في الأزل لزم وجود المفعول في الأزل لأن العلة التامة لا يتأخر عنها معلولها فإنه لو تأخر لم تكن جميع شروط الفعل وجدت في الأزل فإنا لا نعني بالعلة التامة إلا ما تستلزم المعلول فإذا قدر أنه تخلف عنها المعلول لم تكن تامة وإن لم تكن العلة التامة التي هي جميع الأمور المعتبرة في الفعل وهي المقتضي التام لوجود الفعل وهي جميع شروط الفعل التي يلزم من وجودها وجود الفعل وإن لم تكن جميعها فى الأزل فلا بد إذا وجد المفعول بعد ذلك من تجدد سبب حادث وإلا لزم تجريح أحد طرفي الممكن بلا مرجح وإذا كان هناك سبب حادث فالقول في حدوثه كالقول في الحادث الأول ويلزم التسلسل، قالوا: فالقول بانتفاء العلة التامة المستلزمة للمفعول يوجب إما التسلسل وإما الترجيح بلا مرجح. ثم أكثر هؤلاء يثبتون علة غائية للفعل وهي بعينها الفاعلة لكنهم متناقضون فإنهم يثبتون له العلة الغائية ويثبتون لفعله العلة الغائية ويقولون مع هذا: ليس له إرادة بل هو موجب بالذات لا فاعل بالاختيار وقولهم باطل من وجوه كثيرة مذكورة في محالها منها ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية روّح الله روحه في كتابه (حسن الإرادة) . هذا القول يستلزم أن لا يحدث شيء وإن كل ما حدث حدث بغير إحداث محدث ومعلوم أن بطلان هذا بيّن وأطال في رد ذلك , ومما ذكر: أن يقال لهم: حدوث حادث بعد حادث بلا نهاية إما أن يكون ممكنًا في العقل أو ممتنعًا فإن كان ممتنعًا لزم أن الحوادث جميعها لها أول كما يقوله أهل الحق وبطل قولهم بقدم حركات الأفلاك وإن كان ممكنًا أمكن أن يكون حدوث ما أحدثه الله تعالى كالسماوات والأرض موقوف على حوادث قبل ذلك كما تقولون أنتم فيما يحدث في هذا العالم من الحيوان والنبات والمعادن والمطر والسحاب وغير ذلك فيلزم فساد حجتكم على التقديرين ثم يقال: إما أن تثبتوا لمبدع العالم حكمة وغاية مطلوبة أو لا، فإن لم تثبتوا بطل قولكم بإثبات العلة الغائية وبطل ما تذكرونه من حكمة الباري تعالى في خلق الحيوان وغير ذلك من المخلوقات وأيضًا فالوجود يبطل هذا القول فإن الحكمة الموجودة في الوجود أمر يفوت العد والإحصاء كإحداثه سبحانه لما يحدثه من نعمته ورحمته وقت حاجة الخلق إليه كإحداث المطر وقت الشتاء بقدر الحاجة وإحداثه للإنسان الآلات التي يحتاج إليها بقدر حاجته وأمثال ذلك مما هو كثير جدًا وإن أثبتم له تعالى حكمة مطلوبة وهي باصطلاحكم العلة الغائية - لزم أن تثبتوا له المشيئة والإرادة بالضرورة فإن القول بأن الفاعل فعل كذا لحكمة كذا بدون كونه مريدًا لتلك الحكمة المطلوبة جمْع بين النقيضين وهؤلاء المتفلسفة من أكثر الناس تناقضًا ولهذا يجعلون العلم هو العالم والعلم هو الإرادة والإرادة هى القدرة وأمثال ذلك. (التقدير الثالث) وهو أنه سبحانه فعل المفعولات وأمر بالمأمورات لحكمة محمودة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا قول أكثر الناس من المسلمين وغيرهم وقول طوائف من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم وقول طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والكرَّامية والمرجئة وغيرهم وقول أكثر أهل الحديث والتصوف وأهل التفسير وأكثر قدماء الفلاسفة وكثير من متأخريهم كأبي البركات وأمثاله لكن هؤلاء على أقوال، منهم من قال: إن الحكمة المطلوبة مخلوقة ومنفصلة عنه تعالى وهم المعتزلة والشيعة ومن وافقهم قالوا: الحكمة في ذلك إحسانه للخلق والحكمة في الأمر تعريض المكلفين للثواب قالوا: فعل الإحسان إلى الغير حسن محمود في العقل فخلق الخلق لهذه الحكمة من غير أن يعود إليه من ذلك حكم ولا قام به نعت ولا فعل فقال لهم الناس: أنتم تناقضون في هذا القول لأن الإحسان إلى الغير محمود لكونه يعود منه إلى فاعله حكم يحمد لأجله إما لتكميل نفسه بذلك وإما لقصده الحمد والثواب بذلك وإما لرقة وألم يجده في نفسه يدفع بالإحسان ذلك الألم وإما لالتذاذه وسروره وفرحه بالإحسان فإن النفس الكريمة تفرح وتسر وتلتذ بالخير الذي يحصل منها إلى غيرها فالإحسان إلى الغير محمود لكون المحسن يعود إليه من فعله هذه الأمور أما إذا قدر أن وجود الإحسان وعدمه بالنسبة إلى الفاعل سواء لم يعلم أن مثل هذا الفعل يحسن منه بل مثل هذا يعد عبثًا في عقول العقلاء وكل من فعل فعلاً ليس فيه لنفسه لذة ولا مصلحة ولا منفعة بوجه من الوجوه لا عاجلة ولا آجلة - كان عبثًا ولم يكن محمودًا على هذا , وأنتم عللتم أفعاله تعالى فرارًا من العبث فوقعتم فيه , فإن العبث هو الفعل الذي لا مصلحة ولا منفعة ولا فائدة تعود على الفاعل ولهذا لم يأمر الله تعالى ولا رسوله ولا أحد من العقلاء أحدًا بالإحسان إلى غيره ونفعه ونحو ذلك إلا لما له في ذلك من المنفعة والمصلحة فأمر الفاعل بفعل لا يعود عليه منه لذة ولا سرور ولا منفعة ولا فرح بوجه من الوجوه لا في العاجل ولا في الآجل- لا يستحسن من الآمر ومن ثم قال: (لكنه) تعالى وتقدس، هذا استدراك من مفهوم قوله: إنه يخلق بالاختيار أي لا بالذات خلافًا للمعتزلة ومن وافقهم من غير حاجة إليه ولا اضطرار عليه غير أنه جل وعلا: (لا يخلق الخلق سدى) أي هَملاً بلا أمر ولا نهي ولا حكمة ومعنى السدى المهمل وإبل سدى إذا كانت ترعى حيث شاءت بلا راعٍ (كما أتى في النص) القرآني والسنة النبوية والآثار مما هو كثير جدًا أن الله تبارك وتعالى لا يفعل إلا لحكمة وعلم وهو العليم الحكيم فما خلق شيئًا ولا قضاه ولا شرعه إلا بحكمة بالغة وإن تقاصرت عنها عقول البشر (فاتبع الهدى) باقتفاء المأثور واتباع السلف الصالح ولا تجحد حكمته كما لا تجحد قدرته فهو الحكيم القدير، قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: ونشأ من هذا الاختلاف نزاع بين المعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في مسألة التحسين والتقبيح العقلي فأثبت ذلك المعتزلة والكرَّامية وغيرهم ومن وافقهم من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعى وأحمد وأهل الحديث وغيرهم رضي الله عنهم وحكوا ذلك عن الإمام أبي حنيفة نفسه رضي الله عنه , ونفى ذلك الأشعرية ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم واتفق الفريقان على أن الحسن والقبح إذا فسر بكون الفعل نافعًا للفاعل ملائمًا له وكونه ضارًّا للفاعل منافرًا له أنه تمكن معرفته بالعقل كما يعرف بالشرع وظن من ظن من هؤلاء وهؤلاء أن الحسن والقبح المعلوم بالشرع خارج عن هذا وليس كذلك بل جميع الأفعال التي أوجبها الله تعالى وندب إليها هي نافعة لفاعليها ومصلحة لهم وجميع الأفعال التي نهى الله عنها هي ضارة لفاعليها ومفسدة في حقهم والحمد والثواب المترتب على طاعة الشارع نافع للفاعل ومصلحة له والذم والعقاب المترتب على معصيته ضار للفاعل مفسدة له والمعتزلة أثبتت الحسن فى أفعال الله تعالى لا بمعنى حكم يعود إليه من أفعاله تعالى قال الشيخ: ومنازعوهم لما اعتقدوا أن لا حسن ولا قبح في الفعل إلا ما عاد إلى الفاعل منه حكم نفوا ذلك وقالوا: القبيح في حق الله تعالى هو الممتنع لذاته وكل ما يقدر ممكنًا من الأفعال فهو حسن إذ لا فرق بالنسبة إليه عندهم بين مفعول ومفعول وأولئك - يعني المعتزلة - أثبتوا حسنًا وقبحًا لا يعود إلى الفاعل منه حكم يقوم بذاته وعندهم لا يقوم بذاته لا وصف ولا فعل ولا غير ذلك وإن كانوا قد يتناقضون ثم أخذوا يقيسون على ما يحسن من العبد ويقبح فجعلوا يوجبون على الله سبحانه من جنس ما يوجبون على العبد ويحرمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته فلا يثبتون له مشيئة عامة ولا قد

الأسئلة الجاوية فى سماع آلات اللهو

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة الجاوية في سماع آلات اللهو جاءتنا الأسئلة الآتية من جاوه فأرجأنا الجواب عنها حتى نسيناها بسقوط صحيفتها بين الرسائل المهملة , ثم رأيناها الآن فنذكرها سردًا , ثم نجيب عنها , والظاهر أنها عُرضت على غيرنا ولكن لم نسمع لها صدى وهي: (السؤال الأول) ما قولكم متع الله بحياتكم وأحيا بكم معالم الدين وشريعة سيد المرسلين في تصريح الأئمة المشهورين الذين هم من حملة الشريعة المطهرة بتحريم سماع الأوتار التى هي من آلة الملاهي المحرمة كالعود المعبر عنه بالقنبوس , وتصريحهم بأنها شعار شربة الخمر وبفسق مستمعها وتأثيمه وبرد شهادته (وذلك) كقول حجة الإسلام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ما معناه: فحرم ما هو شعار أهل الشرب وهي الأوتار والمزامير إلى قوله: فيحرم التشبه بهم لأن (مَن تشبه بقوم فهو منهم) . انتهى (وقوله) فيه أيضًا ومنها - أي المنكرات - سماع الأوتار أو سماع القينات إلى أن قال: فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره , ومن عجز عن تغييره لزمه الخروج ولم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة المنكرات. انتهى (وقوله) : أيضًا يحرم السماع بخمسة عوارض إلى قوله: والثاني الآلة بأن تكون من شعار الشربة والمخنثين وهى المزامير والأوتار. انتهى. (وكقول) الشيخ ابن حجر في التحفة ما ملخصه: ويحرم استعمال آلة من شعار الشربة كطنبور وعود ورباب ومزمار وسائر أنواع الأوتار لأن اللذة الحاصلة منها تدعو إلى فساد ولأنها شعار الفسقة والتشبه بهم حرام. انتهى (ومثله) في النهاية للشيخ الرملي. (وقول) الشيخ ابن حجر في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر ما معناه: من استمع إلى شيء من هذه المحرمات فسق ورُدت شهادته. انتهى. (وقوله) فيه أيضًا: أما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم استماعها وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج للشهوات والفساد والمجون , وما كان كذلك لم يشك في تحريمه ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه. انتهى ملخصًا. وقد أورد الحبيب عبد الله بن علوي الحداد في كتابه النصائح الدينية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، وذكر من جملتها اتخاذ القَينات والمعازف يعني الملاهي من الأوتار والمزامير (وقول) الحبيب عبد الله بن حسين في كتابه سلم التوفيق في عد كبائر الذنوب ما لفظه: واللعب بآلات اللهو المحرمة كالطنبور والرباب والمزمار والأوتار، وكتصريح هؤلاء الأئمة تصريح غيرهم من حملة الشريعة المحمدية بالتحريم واتفاقهم عليه حيث اتفقوا على تحريم العود وهو القنبوس وما ذكر معه وعلى تفسيق فاعله وسماعه وعلى رد شهادتهم (فهل) قول هؤلاء الأئمة وتصريحهم بما ذكر معتمد في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو اجتناب هذا المحرم المتفق عليه وعلى تفسيق فاعله أم لا؟ . (السؤال الثاني) وما قولكم متَّّع الله بحياتكم وحفظ بكم الشريعة المطهرة في تصريح هؤلاء الأئمة وغيرهم من المحققين موافقة للمذاهب الأربعة في الرد الشنيع على من أباح تلك الآلة المحرمة كتصريح الشيخ ابن حجر في التحفة بقوله: إني رأيت تهافت كثيرين على كتاب لبعض مَن أدركناهم من صوفية الوقت تبع فيه خراف ابن حزم وأباطيل ابن طاهر وكذبه الشنيع في تحليل الأوتار وغيرها , ولم ينظر لكونه مذموم السيرة مردود القول عند الأئمة ووقع بعض ذلك للإدفوي في تأليف له في السماع ولغيره وكل ذلك يجب الكف عنه واتباع ما عليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم. انتهى بالاختصار (ومثله) في النهاية للشيخ الرملي وغيرها (وكتصريح) الشيخ ابن حجر في الزواجر بقوله: وأما حكاية ابن طاهر عن صاحب التنبيه أنه كان يبيح سماع العود ويسمعه وأنه مشهور عنه ولم يكن من علماء عصره من ينكر عليه وإن حله ما أجمع عليه أهل المدينة فقد ردوه على ابن طاهر لأنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها فمن ثم قال الأذرعي عقب كلامه هذا: وهذه مجازفة , وإنما فعل ذلك بالمدينة أهل المجانة والبطالة ونسبة ذلك إلى صاحب التنبيه كما رأيته في كتاب له في السماع نسبة باطلة قطعًا وقد صرح في مهذبه بتحريم العود وهو قضية ما في تنبيهه ومن عرف حاله وشدة ورعه ومتين تقواه جزم ببعده عنه وطهارة ساحته منه. انتهى. (وكتصريح) الشيخ الباجوري في حاشيته على ابن قاسم بقوله: فاجزم على التحريم أي جزم ... والرأي أن لا تتبع ابن حزم فقد أبيحت عنده الأوتار ... والعود والطنبور والمزمار (وتصريح) الشيخ ابن حجر أيضًا في الزواجر بقوله: ومن عجيب تساهل ابن حزم واتِّباعه لهواه أنه بلغ من التعصب الى أن حكم على هذا الحديث وكل ما ورد في الباب بالوضع وهو كذب صُراح منه فلا يحل لأحد التعويل عليه في شيء من ذلك. انتهى (وقوله) أيضًا في موضع آخر: فقد حكيت آراء باطلة منها قول ابن حزم: وقد سمعه - أي العود - ابن عمر وابن جعفر رضي الله عنهما وهو من جموده على ظاهريته الشنيعة القبيحة وما زعمه من هذين الإمامين ممنوع ولا يثبت ذلك عنهما وحاشاهما من ذلك لشدة ورعهما وبُعدهما من اللهو. انتهى ملخصًا، وقول الشيخ الرملي في النهاية: وما حُكي عن ابن عبد السلام وابن دقيق العيد أنهما كانا يسمعان ذلك - فكذب. انتهى (فهل) تصريح هؤلاء الأئمة الذين هم حملة الشريعة المطهرة بهذا الرد الشنيع على من أحل الأوتار وبتكذيب نُقُُولهم معتمد في المذهب ومعول عليه يجب العمل بمقتضاه وهو عدم جواز التعويل ولا الالتفات إلى من أحل الأوتار وعدم جواز نسبة سماعها إلى العلماء أو الصلحاء أم لا؟ (السؤال الثالث) وما قولكم متع الله بكم وشيد بكم أركان الدين في شأن سيرة السلف الصالحين من العلويين وغيرهم رضي الله عنهم ونفعنا بهم في شدة مجاهدتهم واجتهادهم واستغراق أوقاتهم في تحصيل العلوم بشرائطها وآدابها ثم اجتهادهم في العبادة من دوام القيام وسرد الصيام بكمال المتابعة وشدة المجاهدة للنفس ومكابدتها والورع والزهد كما لا يخفى على من اطلع على كتب تراجمهم ومناقبهم رضي الله عنهم كالمشرع الروي والجوهر الشفاف والبرقة المشيقة وغير ذلك أن كثيرًا منهم من يصلي الصبح بوضوء العشاء في عدة سنين كثيرة , وختم القرآن بعدد كثير من زمن يسير وغير ذلك من الأعمال الصالحات مع غاية الزهد والورع وترك ملاذ الدنيا المباحة فضلاً عن المحرمات وغير ذلك من أوصافهم الحميدة وشدة مجاهدتهم ما يحير عقل من وقف على سيرتهم ومن مخالفتهم للنفس والهوى ما يقطع يقينًا على بعد ساحتهم عن الملاهي ونظافة ساحتهم من المناهي (فهل) يسوغ للمؤمن بالله أن ينسب إلى أحد منهم سماع العود الذى اتفق أئمة الشريعة على تحريمه وتفسيق فاعله حتى يعتقد الغوغاء بسبب هذه النسبة والافتراء حل سماع العود وأنه من شعار الصالحين أم لا يسوغ ذلك؟ (السؤال الرابع) وما قولكم متع الله بكم وصان بكم شريعة سيد المرسلين فيما إذا سمع هذا القنبوس أناس من المترسمين بالعلم أو من أهل البيت النبوي بحيث يقتدي بهم الغوغاء , ويحتجون بسماعهم له على جواز سماع القنبوس (فهلا) يعظم وزر المقتدى بهم ويدخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) أم لا؟ (السؤال الخامس) وما قولكم متع الله بكم وذب بكم عن شريعة سيد المرسلين من دعاوى الكاذبين فيما نص به العلامة السيد مصطفى العروسي في كتابه نتائج الأفكار وهو قوله: (تنبيه) إن قال قائل: نحن لا نسمع بالطبع بل بالحق فنسمع بالله وفي الله لا بحظوظ البشرية قلنا له: كذبتَ على طبعك وكذبت على الله في تركيبك وما وصفك من حب الشهوات، وقد قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (مَن فارق إلفه وادعى العصمة فاجلدوه فإنه مفترٍ كذابٌ) . انتهى وفيما نص به الشيخ البجيرمي على الإقناع وهو قوله: وما قيل عن بعض الصوفية من جواز استماع الآلات المطربة لما فيها من النشاط على الذكر وغير ذلك فهو من تهورهم وضلالهم فلا يعول عليه. انتهى (فهل) هذه النصوص صحيحة يجب العمل بمقتضاها وهو عدم الاغترار بخرافات الأغيار أم لا؟ أفتونا في هذه الأسئلة فإن البلية الباعثة عليها قد عمت مصيبتها وطارت شررها لعل الله بنور علمكم يطفيها، لا زلتم ناصرين لشريعة سيد المرسلين وللمعاونة على البر والتقوى معاونين أحيا الله بكم الإسلام. آمين. اهـ بنصه. (جواب المنار) قد اختلف العلماء في سماع الغناء وآلات اللهو قديمًا وحديثًا، وأكثروا القول فيه بل كتبوا فيه المصنفات واستقصوا الروايات، ونحن نذكر أقوى ما ورد من الأحاديث في هذا الباب ثم ملخص اختلاف العلماء وأدلتهم، ثم ما هو الحق الجدير بالاتباع، ثم نتكلم على أسئلة السائل. أحاديث الحظر 1- عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحِر والحرير والخمر والمعازف) أخرجه البخاري بهذا الشك بصورة التعليق وابن ماجه من طريق ابن محيريز عن أبي مالك بالجزم ولفظه: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير) وأخرجه أبو داود وابن حبان وصححه. 2- عن نافع أن ابن عمر سمع صوت زمارة راعٍ فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع فأقول: نعم فيمضي حتى قلت: لا , فرفع يده وعدل راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، قال أبو علي اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر. 3- عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام) رواه أحمد وأبو داود، وفي لفظ لأحمد أنه قال بعد الميسر: (والمزر والكوبة والقنين) وفي إسناد الحديث الوليد ابن عبدة راويه عن ابن عمر، قال أبو حاتم الرازي: هو مجهول، وقال ابن يونس في تاريخ المصريين: إنه روى عنه يزيد بن أبي حبيب. وقال المنذري: إن الحديث معلول ولكنه يشهد له حديث ابن عباس بنحوه وهو (عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام) . وقد فسر بعضهم الكوبة بالطبل قال سفيان: عن علي بن بذيمة , وقال ابن الأعرابى: الكوبة: النرد وقد اختلف في الغبيراء (بالضم) قال الحافظ في التلخيص: فقيل: الطنبور، وقيل: العود، وقيل: البربط، وقيل: مزر يصنع من الذرة أو من القمح، وبذلك فسره في النهاية. والمزر بالكسر نبيذ الشعير، والمعتمد في الغبيراء ما قاله في النهاية من أنها من الأشربة , والقنين قيل لعبة للروم يقامرون بها، وقيل: الطنبور بالحبشية فظهر بهذا أن الحديثين ليسا في موضوع المعازف وآلات السماع اتفاقًا. 4- عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: (إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور) رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب، أقول: وقد أخرجه من طريق عبّاد بن يعقوب وكان من غلاة الروافض ورؤوس البدع إلا أنه صادق الحديث، وقد روى له البخاري حديثًا واحدًا مقرونًا بغيره، وقال ابن عدي: أنكروا عليه أحاديث وهو رواه عن عبد الله بن عبد القدوس وهو رافضي مثله قال: قال يحي

الحق والباطل والقوة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحق والباطل والقوة {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ: 49) ، {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء:18) . مضت السنة في المغلوبين على أمرهم، المقهورين في أرضهم أن يعتذروا عن أنفسهم بدعوى أن القوة هي التي غلبتهم على حقهم، وأنهم غير مذنبين ولا مقصرين، ولا مسرفين ولا مضيعين، وجرت عادة الغالبين على أمرهم، والقاهرين في حكمهم أن يحتجوا لأنفسهم بأنهم أصحاب الحق الذى يعلو ولا يُعلى وأن الحق هو الذى جعل كلمته العليا وكلمة أعدائهم السفلى، وقد يعتور الأمة الواحدة القوة والضعف والعز والذل فتدعي في طور قوتها وعزها أنها اعتزت بالحق وغلبت، وفي طور الضعف والذل أنها أُخذت بالقوة فقهرت، وأنها حليفة الحق في الطورين، لم تتعدَّ حدوده في حال من الحالين، وتلك سنة الله تعالى في الأفراد أيضًا يدعي الرجل الحق لنفسه ما ظفر، ويعتذر عنها بالقوة إذا هو غلب وقهر، وهذا الغرور من الإنسان قد أضله عن طريق الحق حتى لا يكاد يفهم معنى كلمة (الحق) ومدلولها الصحيح. وما نقل إلينا قول عن غالب يتعزز فيه بالقوة على الحق إلا تلك الكلمة المأثورة عن بِسْمَرْك: (القوة تغلب الحق) وقد أرسلها مثلاً، وهي لا تصح إلا تأويلاً وجدلاً، ولو غُلب الحق لما كان حقًّا. والحق أن الحق قد يخفى، وقد يُترك ويُنسى، ولكن ما صارع الباطلَ إلا صرعه، ولا قارعه إلا وقرعه، (وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه) ، والقوة إنما تظفر إذا كانت شعبة منه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. الحق عبارة عن الشيء أو الأمر الثابت المتحقق في الواقع , والباطل هو ما لا ثبوت أو لا تحقق له في نفسه , وما لا ثبوت له ولا تحقق لا يَمْحَق ما كان ثابتًا متحققًا كما هو الشأن في الموجود والمعلوم والموهوم، وهذا مما لا مجال فيه لاختلاف العقلاء. إنْ يختلفون إلا في الحقوق العرفية والوضعية، والدينية والشرعية، وما تحكم فيه الشرائع من الأمور الاجتماعية، وفي كل ذلك حق وباطل لا يتنازعان إلا ويكون الحق هو الغالب والباطل هو المغلوب , وإننا نبين ذلك , ونذكر مواضع غلط الناس فيه ومناشئ شبهاتهم، فنقول: إن الحق والباطل يتنازعان في خمسة أمور كلية وهي: (1) الفلسفة والنظريات العقلية. (2) الوجود والسنن الكونية. (3) السنن الاجتماعية. (4) القوانين والمواضعات العرفية. (5) الدين والشريعة الإلهية. الفلسفة والنظريات العقلية: اختلف الناس في الفلسفة والمسائل النظرية في القديم والحديث، ومنهم المحق والمبطل , فيقول من يظن أن الباطل يغلب الحق: إن كثيرًا من الآراء الباطلة في ذلك كانت رائجة لا ينازع فيها أحد، وكثير منها كان موضوع النزاع , وكان أكثر الباحثين فيه على الباطل، ولا يزال يظهر للعلماء في كل زمان وكل جيل خطأ كثير من السابقين والمعاصرين، فيظهر بذلك أن الباطل كان هو الغالب فإن كنت تقول: لا عبرة إلا بغلب دائم فإنك لا تقدر أن تثبت الدوام لحق ولا لباطل، فيكفي في إثبات قوة الباطل وظهوره على الحق أن يظهر عليه زمنًا طويلاً، ودفع هذا الظن سهل، وإن كنا نعترف بأن الحق والباطل في الآراء النظرية والفلسفية من أخفى الأمور وأوغلها في الإبهام؛ ذلك أن التنازع بين الحق والباطل لا يتحقق هنا ما دام كل من المتناظرين في المسألة يجادل بالنظريات ولم ينتهِ بدلائله إلى إحدى اليقينيات التي لا نزاع فيها. وبيان ذلك أن المسألة ما دامت نظرية من الجانبين فالتنازع إنما يكون من بين الدليلين لا بين المدلولين، والحق في الدليل هو إفادة اليقين فما دام نظريًّا فهو غير حق إنما هو موقوف أو باطل يعارض مثله، فإذا انتهى أحد المتناظرين إلى اليقين البديهي في المسألة فهو صاحب الحق وهو الغالب سواء أذعن له مناظره أو كابره. وما كان الغَلَب والسلطان لتلك المسائل النظرية الباطلة في الفلسفة العليا وغير العليا ذلك الزمن الطويل إلا لأن الحق فيها كان خفيًا أو غير معروف لأهلها. بل نقول: إن في طرق الاستدلال نفسها حقًا وباطلاً فالحق هو ما وافق شروط القياس المنطقي وأعني بكونه حقًّا أن النفس فطرت على الانتقال من المقدمات المترتبة على ذلك النحو من الترتيب المعروف في أشكال القياس إلى المطالب التي هي النتائج فإذا كانت المقدمات مسلّمة فلا مندوحة للنفس عن التسليم بالنتيجة. وقد يكون صاحب الدعوى الحق غير قادر على نظم الدليل الحق مع كون الدعوى نفسها غير بديهية فإذا غلب مناظره المبطل في الدعوى حينئذ فلا بد أن يكون أقرب منه إلى الحق من طريق الاستدلال وأن يكون قد أقنعه ببعض المقدمات الباطلة وفي هذه الحال يكون مبطلاً ومن ناحية الباطل قد أخذ - وهو ما سلمه من المقدمات - لا من ناحية الحق وهو أصل الدعوى التي نطق بها على غير بينة وبغير بينة. ولو شئت لجئت في هذا الأصل بالأمثلة والشواهد التي تجليه أكمل التجلي ولكن القصد بهذا المقال إلى غيره مما نرى الناس مصرين على الخطأ فيه وفي خطأهم الضلال البعيد والخسران العظيم. الوجود وسنن الكون: كلُّ وجودٍ حق، والعدم باطل لا حقيقة له، وكل نظام في الطبيعة والخليقة فهو حق، والخلل فيها باطل لا تحقق له، والخلل الصوري الذى يعبر عنه علماء الكون بفلتات الطبيعة له سنن خفية أي نواميس لم يطلعوا عليها وهم يتوقعون اكتشافها ويرجونه {مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُت} (الملك: 3) ، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} (السجدة: 7) ولا تنازع بين الوجود والعدم ولا بين النظام والخلل، وإنما يقع التنازع بين الناس في فهم ذلك والعلم به، فمن كان أعلم بالوجود والنظام كان أعلم بالحق وأقرب إلى الحق وكانت له الغلبة بالحق. وهذا ظاهر في نفسه، وسيادةُ العَالِمِينَ بحقائق الوجود وسنن الله في الكائنات على الجاهلين بها مشاهَدةٌ لا ينكرها المسودون المغلوبون بجهلهم وباطلهم، وإن كانوا يجهلون أن علم من سادوهم هو الحق وأنه سبب لسيادتهم، وأنهم هم بجهلهم على باطل وبه كانوا مغلوبين على أمرهم، ومقهورين في أرضهم وديارهم، وأن منهم المسلمين الذين يقول كتابهم: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (يونس: 5) ويقول: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الجاثية: 22) ، وفي معناهما آيات، ولا ترى شعبًا إسلاميًّا يعتقد بأن سعة العلم بالسموات والأرض من الحق الذي تعتز به الأمم، وإن جهلت الأمة وهلكت فقد جزيت بما كسبت، وظَلمت نفسها وما ظُلمت. السنن الاجتماعية: للكون سنن في تكوّن الأحجار الكريمة وغير الكريمة كالصخور وفي نمو النبات وحياة الحيوان وفي اجتماع الأجسام وافتراقها وتحللها وتركبها، وهي ما عنيناه بالأصل الثاني. وللبشر سنن خاصة بهم في حياتهم الاجتماعية عليها يسيرون وفيها يتقلبون فقوتهم وضعفهم وغناهم وفقرهم وعزهم وذلهم وسيادتهم وعبوديتهم وحياتهم وموتهم كل ذلك غاية لاتباع سنن الله في السير على أحد الطريقين المشار إليهما بقوله تعالى في الإنسان: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) فهذه السنن حق وتجنبها خروج عنه إلى الباطل. وما زال العارفون بسنن الله تعالى في الأمم هم الآخذين بأطراف السعادة من أمم ينتصرون على الجاهلين بها من المبطلين من حيث هم مبطلون وهو ما به الاختلاف وإن كان الغالب القاهر مبطلاً في شيء آخر والمغلوب محق في مخالفته له فيه. لم يعرف كتاب قبل القرآن نطق بأن للأمم في قوتها وضعفها وحياتها وموتها سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول كقوله في سورة الأنفال: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} (الأنفال: 38) أي فإنه يحل بهم ما حل بمن قبلهم ممن عاند الحق وقاومه. وقوله في سياق الكلام على الأنبياء وأحوال الأمم في سورة الحجر: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ} (الحجر : 13) وقوله في سياق الكلام في بذل المال والحرب {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) ، وفي الآية الثالثة بعدها: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ... } (آل عمران: 140) الآيات. فهذه الآيات البينات حق، وما ترشد إليه من سنن الاجتماع حق، فالجهل بسنن الاجتماع باطل، وترك الاعتبار بها في شؤون الأمم باطل، فهل وُجِدَتْ أمة على سطح هذه الأرض عرفت هذه السنن وسارت عليها ثم قاومتها أمة أخرى تجهلها أو لا تعتبر ولا تهتدي بما عساها تعرف منها ثم كانت الجاهلة الضالة هى الغالبة فيقال: إن الباطل قد يغلب الحق؟ كلا، ما كان ذلك ولن يكون ومن العجائب والعجائب جمة أن يكون المسلمون في هذا العصر أجهل الأمم كلها بسنن الله تعالى في البشر حتى إن من يدعوهم إلى تعلمها وتعلم مصادرها وهي تواريخ الأمم يعده رجال الدين منهم جانيًا على الدين صادًّا عنه لا سيما إذا كانت دعوته موجهة إلى طلاب علوم الدين في مثل مدرسة الأزهر!! ، فأين هذا الدين الذي يعد العرفان بسنن الاجتماع صدًّا عنه وجناية عليه من القرآن الذي هو أول كتاب أرشد إلى هذه السنن؟! وإذا غلبت كل أمة مهدية بهذه السنن في كسبها وعملها وسياستها وحروبها على الأمة الجاهلة بها الضالة عنها وسادت عليها فهل يصح أن يقال: إن الباطل قد غلب الحق؛ لأن دين المسلمين هو الحق وأديان الغالبين عليهم هي الباطلة؟ كلا إن كل مغلوب فهو بسبب الباطل قد غُلِبَ، وكل غالب فهو بسنن الحق قد غلب، أينصرون ويسودون , وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون , وحكامهم يظلمون ولا يعدلون؟! , والله تعالى يقول في بيان سننه الحق: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116-117) فسروا الظلم ههنا بالشرك، والمعنى أن الله تعالى لا يهلك الأمم بسبب الشرك إذا كانت مُصلحة في الأعمال ولكن يهلك المفسدين الذين لا ينهون عن الفساد لا سيما إذا كان منبعه أمراؤهم وملوكهم، أو المعنى ما كان ليهلكها بظلم منه؛ لأنه منزه عن الظلم وهي لا تستحق الإهلاك؛ لأنها مُصلحة في العدل والعمران. القوانين والمواضعات العرفية: لكل أمة من أمم الحضارة قوانين تسوس بها بلادها، ولكل قبيلة من القبائل البدوية عُرف ومواضعات ترجع إليها في شؤونها الاجتماعية، وللدول قوانين في الحقوق العامة والمصالح الخاصة، فهذه القوانين والمواضعات

نقد شرح ديوان أبي تمام

الكاتب: أديب متنكر

_ إجابة سُؤْل أو نقد شرح ديوان أبي تَمَّام لأديب متنكِّر (تأخرت عدة أشهر) للنقد على العلم فضل يُذكر، ومِنَّة لا تُنكر، فهو الذي يجلو حقائقه، ويميط عنه شوائبه، بل هو روحه التي تنميه، وتدني قطوفه من يد مجتنيه، وإذا أبيح النقد في أمة واستحبه أبناؤها، وعُرضت عليه آثار كُتَّابها، كان ذلك قائدًا لها إلى بحابح المدنية , وآية على حياة العلم فيها، الحياة الطيبة التي تتبعها حياة الاجتماع وسائر مقومات الحضارة والعمران. وقد بدأ مؤلفو العربية وكتابها يشعرون بفوائد النقد وما يعود عليهم من ثمراته الشهية فأخذوا يعرضون آثارهم على النقّاد ويطلبون منهم تمحيصها وبيان صحيحها من فاسدها. وبالأمس اطَّلعت على ديوان أبي تمام المطبوع حديثًا في بيروت فوجدت شارحه الفاضل قد اقترح على المشتغلين باللغة نقد ما علَّقه عليه من تفسير غريبه وحل رموزه , وأبدى من الرغبة في ذلك بحيث عين جائزة لمن عثر فيه على عشرة أغلاط فأكثر. فأكبرت صنيعه، واستدللت منه على كِبَرِ نفسه، وعلو همته، وشدة شغفه بخدمة العلم وتقرير الحقيقة، وها أنذا قد أجبت سُؤْله , ووافيت رغبته في الإشراف على ذلك الشرح ثم نقد ما تبين لي أنه رمى في تفسيره إلى غير معناه، وحمله على غير ما أراده قائله منه، قال: (ص2) : قد كان خطب عاثر فأقاله ... رأي الخليفة كوكب الخلفاء (العاثر: الساقط , والإقالة: الأخذ باليد) . حقيقة العثار أن يعثر الرجل بحجر أو بذيله مثلاً فيسقط , وإذا عثر قيل له: لعًا لك , أي انتعاشًا ونهوضًا. قال في الأساس: ومن المجاز عثر في كلامه وعثر الزمان به وجدّ عثور اهـ , وعثار زمان المرء وعثار جدّه: كناية عن تحول حاله ومفاجأة النوائب له. وحقيقة الإقالة فسخ البيع وإبطاله , قال في الأساس: ومن المجاز أقلته العثرة صفحت عنه. ومجاز الإقالة يستعمل مع مجاز العثار. فقول شاعرنا: خطب عاثر فأقاله.. إلخ هو من المجاز في الكلمتين , وكما يقال: زمان عاثر أي سيء يقال: خطب عاثر أي سيء فظيع منكر. ثم قال: إن رأي الخليفة أقال ذلك الخطب العاثر أي أبطله وفلّ غربه وأزال ضرره عن الناس , فالعاثر في البيت ليس المراد منه حقيقته وهي الساقط كما قال الشارح , وإنما المراد مجازه , كما أن المراد بالإقالة مجازها وتفسير الشارح لها بالأخذ باليد ليس من حقيقتها ولا مجازها، على أن ذلك التفسير يأتي على البيت من قواعده لأن الخطب إذا عثر وأخذ الخليفة بيده فقد أنعشه ونشطه , والشاعر يرمي إلى غير هذا. وقد فسر الشارح الإقالة أيضًا في الصفحة 19 برفع العاثر من سقوطه وهو غير وجيه لما سمعت. (ص32) فسيحوا بأطراف البلاد وارتعوا ... فنا خالد من غير درب لكم درب (الفناء: عتبة الدار) الفناء: الفسحة تكون أمام الدار أو حواليها أما العتبة فهي أسكفة الباب السفلى أو العليا. والوصيد: الفناء والعتبة , فإذا قيل: الفناء هو الوصيد؛ أريد من الوصيد أحد معنييه وهو فسحة الدار لا المعنى الآخر وهو عتبة بابها. (ص 59) نسائلها أي المواطن حلت ... وأيّ بلاد أوطنتها وأيَّت (أيَّت: أقامت) أيَّت: تأنيث أي الاستفهامية كأنه يقول: وأية بقعة تبوَّأتها وتكرارها هنا كتكرارها في قول الشاعر * بأي كتاب أم بأية سنة * وورود تأيَّا بمعنى توقف وتمكث , لا يجيز لنا استعمال أي بمعنى أقام كما لا يجوز لنا أن نقول: باء بالمكان بمعنى تبوأه , وإنما رسمت تاء أيت هنا مفتوحة مع أن الأصل كتابتها مربوطة ابتغاء مشاكلة القوافي في مثل (النجات) في قوله: (وآله وصحبه الثقات ... السالكين سبل النجات) (ص61) وأحيا سبيل العدل بعدد ثوره ... وأنهج سبل الجود حين تعفت (أنهج: قوَّم) أنهج السبيل: أوضحها وأظهرها بعد عفائها واضمحلالها. وقوَّمها: عدلها بعد اعوجاجها والتوائها. (ص 61) به انكشفت عنا الغيابة وانفرت ... جلابيب جور عمَّنا واضمحلت (انفرت: انقطعت) الفري: القطع , يقال: فريت الأديم أي قطعته , وانفرى الأديم: انشق , وإذا أسند إلى مثل الجلابيب فسر بالانكشاف والانحسار مثلاً. ومثله تفرَّى الليل عن بياض النهار أي انكشف , ومن هذا القبيل جاب ومعناه قطع كقوله تعالى: {جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} (الفجر: 9) فإذا قيل: انجابت الظلمة , أو انجاب الظل فُسّرا بانكشفت وتقلص مثلاً. (ص 64) إن الهموم الطارقات موهنًا ... منعت جفونك أن تذوق حثاثا (موهنًا: ضعيفًا) الوهن له معنيان: (1) الضعف (2) بعد ساعة من الليل أو نحو نصفه , أما الموهن فمعناه الثاني منهما. فإذا قالوا: الموهن الوهن عنوا بعد ساعة من الليل أو نحو نصفه لا الضعف. والطارقات الملمات ليلاً , فالموهن في البيت بالمعنى الثاني. (ص 66) من كل رعبوبة تردَّى ... بثوب فينانها الأثيث (فينانها: المتفنن في نسجه) يطلق الفينان على الرجل الكثير الشعر , ويطلق أيضًا على نفس الشعر الكثير الكثيف تشبيهًا له بأفنان الشجرة إذا التفت وتكاثفت , فالفينان من الفنن وهو الغصن , والشاعر يقول: إن تلك الرعبوبة لبِست ثوبًا من شعرها الكثيف. (ص72) أشلى الزمان عليها كل حادثة ... وفرقة تظلم الدنيا لنازحها (أشلى: دعا) أشلى إذا عدي إلى مفعول واحد كان بمعنى دعا , وإذا عُدي إلى مفعولين ثانيهما بحرف الجر (على) كان بمعنى أغرى , فإذا قلت: أشليت الناقة والكلب أردت دعوتهما , وإذا قلت: أشليت الكلب على الصيد؛ أردت أغريته عليه. فأشلى في البيت بمعنى أغرى. (ص100) في كل يوم فتوح منك واردة ... تكاد تفهمها من حسنها البرد (البرد: المتبادر أنه جمع بريد وهو ما بين المنزلين) قال في شفاء الغليل نقلاً عن الفائق: البريد في الأصل البغل , وهي كلمة فارسية وأصلها (بريده دم) أي محذوف الذنب؛ لأنه يقال: إن دابة البريد كانت كذلك اهـ فعرّبوا (بريده دم) وخففوها إلى بريد فالبريد كلمة معربة معناها في الأصل: البغل الذي يحمل الرسائل بين البلاد , وكانوا يقطعون ذنبه ليكون ذلك كالعلامة له , ثم سمي الرسول الذي يركب البريد بريدًا , ومنه قول بعض العرب: الحُمى بريد الموت والحديث: (إذا أبردتم إليَّ بريدًا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم) وسميت أيضًا المسافة التي يقطعها البريد بالبريد ومنه قولهم * إن البريد من الفراسخ أربع *.. الأبيات , وقد أراد الشاعر أن الدواب التي تحمل أخبار انتصار الممدوح في غزواته تكاد تفهم ما حملته وتشعر بحسن وقْعه في النفوس. (ص101) حلفت برب البيض تدمى متونها ... ورب القنا المنآد والمتقصّد (المنآد: المتحرك) أَوِد العود: اعوجَّ , وآوَّده وأوده: حناه وعطفه فتأود , وانآد: انحنى وانعطف , والمنآد المنحني والمعوج , فالشاعر يحلف بالرماح التي بوشر الطعن بها فمنها ما تكسر ومنها ما اعوج وانحنى من شدة الطعن. (ص101) إذا ما دعوناه بأجلح أيمن ... دعاه ولم يظلم بأجلح أنكد (أجلح: شديد مقدام) يقولون: يوم أجلح وأصلع أي شديد , وقالوا: جلّح على الشيء من باب فرّح أي أقدم عليه إقدامًا شديدًا , وهو ليس بالثلاثي فلا يأتي منه التفضيل على أفعل. وعليه فأجلح في البيت وصف من الجلح وهو انحسار الشعر عن مقدم الرأس كالصلع أو أخف منه , يريد الشاعر أن الممدوح الذي فتك ببابك إن كانت جلحته مباركة علينا ودعوناه لأجل ذلك بأجلح أيمن؛ فهي مشئومة على بابك , وهو جدير أن يدعوه بأجلح أنكد. ونسبة اليمن والنكد إلى الصلعة معهود كنسبتهما إلى الوجه والطلعة. (له بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (الحصون الحميدية لمحافظة العقائد الإسلامية) طبع في هذه السنة كتاب مسمى بهذا الاسم من تأليف الشيخ حسين الجسر الشهير صاحب الرسالة الحميدية. وطريقة المؤلف في باب الإلهيات هي طريقة السنوسي التي جرى عليها المتأخرون الذين كتبوا على عقيدة السنوسي الصغرى وعلى الجوهرة وآخرهم الباجوري فهو يذكر من صفات الله تعالى ما هو سلبي كالقِدَم والبقاء ومخالفة الحوادث , وما هو وجودي , وما هو في عرفهم واسطة بين الموجود والمعدوم وهو الوجود. ويعرف الصفات بما عرفوها به , ويذكر لصفات المعاني من التعلق ما ذكروا حتى قولهم: إن السمع والبصر يتعلقان بجميع الموجودات. ولكنه أطال في باب النبوات أكثر مما أطالوا , فذكر أشهر معجزات الأنبياء واستدل على كل واحدة منها بالدليل المعروف , وهو أنها جائزة عقلاً إذ لا يترتب على فرض وجودها محال , وكل جائز في العقل فقدرة الله صالحة للتعلق بإيجاده , وقد أخبر الصادق أن ذلك وقع فوجب التصديق به , وزاد عليه إيضاحًا وردًا لشُبه أهل العصر. ثم إنه يذكر من هذه المعجزات ما جاء به القرآن , وما روي في أحاديث الآحاد حتى ما لا يرتقي منها إلى درجة الصحة كحديث حبس الشمس أو ردّها بدعوة نبينا صلى الله عليه وسلم وبدعوة يوشع بن نون عليه السلام. قال: إن الإيمان بذلك هو الموافق لشأن المسلمين والأسلم لهم في دينهم فنحن نؤمن به ونصدق. أقول: إن مسألة رد الشمس له صلى الله عليه وسلم قد ورد في رواية ضعيفة من أحاديث المعراج , وورد في رواية أقوى منها في مناقب علي كرم الله وجهه , وهذه الرواية وثقها الطحاوي في مشكل الآثار , وتبعه القاضي عِيَاض في الشفاء , وقد تكلم فيها بعض الحفاظ بل أوردها ابن الجوزي في الموضوعات , وتعقبه في اللآلئ , وهذا نص الرواية من حديث أسماء بنت عميس: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوحى إليه , ورأسه في حجر علي فلم يصلِّ علي العصر حتى غربت الشمس , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: صليت؟ قال: لا،قال: (اللهم إن كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس) قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت، رواه الجوزقاني عنها وقال: إنه حديث مضطرب منكر , وقال ابن الجوزي: موضوع وفضيل بن مرزوق المذكور في إسناده قال ابن حبان: يروي الموضوعات , ورواه ابن شاهين من غير طريقه , وفى إسناده أحمد بن محمد بن عقدة رافضي رمي بالكذب، ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعًا وفي إسناده داود بن فراهيج مختلف فيه وقد وثقه قوم. أقول: وما ورد في حبس الشمس ليوشع ضعيف أيضًا , وهو معارض لهذا , فإنه ورد بصيغة الحصر , ولعل غرض شيخنا صاحب الحصون الحميدية من اختيار التسليم بكل ما ورد من الخوارق للأنبياء وغيرهم وإن لم يتواتر بل وإن لم يصح سنده في الآحاد عدم فتح باب إنكار الجزئيات لئلا يفضي بقوم إلى إنكار أصل الخوارق من المعجزات والكرامات. فهو يقول: ما دمنا نؤمن بقدرة الله تعالى على كل شيء فلا ينبغي لنا أن ننكر شيئًا يُؤْثر عن أصفياء الله تعالى , وإن كان مخالفًا لسننه فهو واضعها وهو الذي يغيرها إن شاء الله متى شاء على يد من شاء. هذا رأيه , وإننا نورد عبارته في بيان دفع ما يرد على هذه الخارقة بعد التصريح بإمكانها قال (ص97) : (وإن قيل: على فرض تسليم القول بالهيئة الجديدة , وأن الأرض هي التي تدور؛ لو وقفت الأرض عن حركتها أو انعكست حركتها يلزم أن يبقى ماء البحر آخذًا بحركة الاستمرار فكان يفيض على اليابسة ويغرق أهلها - قلنا: إن القادر على إيقاف الأرض أو عكس حركتها هو قادر على سلب حركة الاستمرار من ماء البحر وجعله تابعًا للأرض في وقوفها وعكس حركتها فلا يفيض حينئذ على اليابسة , ولا يلتفت إلى قول بعض الملحدين: إنه ليس من حكمة الخالق تعالى أن يوقف ذلك الجسم الكبير المبني حركته على ناموس عظيم في الكون وهو ناموس الجاذبية كما يقول أهل الهيئة الجديدة لأجل غرض واحد من البشر (وهو محمد أو يوشع) عليهما السلام؛ لأنا نقول: لم يكن ذلك الصنع منه تعالى لأجل مجرد غرض واحد من البشر، وإنما هو لحكمة بالغة وهي إظهار المعجزة الخارقة للعادة التي ينشأ عنها اهتداء ألوف من الخلق , ويرجعون بذلك من الكفر الذي يهلك نفوسهم إلى الإيمان الذي يحييها الحياة الأبدية , وينشأ عنها تثبيت ألوف وتمكينهم بالإيمان ممن آمنوا قبل ذلك , ويبقى ذكرها ونقلها بين الخلق يتحدث بها الجيل بعد الجيل , وينتفع بنقلها من أراد الله تعالى هداه ويتصور بها عظمة قدرته تعالى وعجيب أعماله. فهذه الحكمة العظيمة توازي في العظمة حصول تلك الخارقة وتفوقها , ويليق بها أن تحصل تلك الخارقة لأجلها. على أن ذلك الملحد نظر إلى مجرد عظمة تلك الخارقة , ولو قابلها بعظمة قدرة الله تعالى لما وجدها شيئًا يُذكر , وهذه الخارقة وغرض واحد من البشر عند الباري تعالى على حد سواء في أن كلاً منهما تحت تصرفه ومشيئته , ولا يعظم شيء منهما لدى عظمته , وإن كان في نظرنا القاصر أننا نجد الفرق بينهما عظيمًا وهما عند الله سيان في الجواز والإمكان. ثم إنه في بعض الروايات التي نقلت تلك المعجزة ما يفيد أن الرسول طلب وقوف الشمس أو إعادتها فلا يقال: على فرض تسليم رأي الهيئة الجديدة بدوران الأرض أنه كان الصواب في حق ذلك الرسول أن يطلب وقوف الأرض أو عكس حركتها عوضًا عن طلب ذلك في الشمس؛ لأنا نقول على فرض تسليم ذلك فلا مانع من أن يكون الرسول يعلم حقيقة الأمر , ولكنه طلب ذلك في الشمس بناءً على الظاهر والجاري في رأي الشعب والمألوف بينهم في الاستعمال والله سبحانه يعلم المقصود من طلبه , ولا يكون ذلك غلطًا من الرسول , وهكذا نرى أهل الهيئة الجديدة يجرون في كلامهم على ظاهر ما يبدو لأهل لغتهم ويجري في استعمالهم فيقولون: طلعت الشمس وغربت وهم يعتقدون وقوفها وحركة الأرض , ولم نسمعهم يقولون: طلعت الأرض أو وصلت الأرض لمقابلة نور الشمس أو فارقته , وكل ذلك منهم على حسب الشائع في الاستعمال , وظاهر ما تعطيه المشاهدة إذا علمت ما قررناه , واندفعت عنك تلك الشبه بما حررناه , فاعلم أننا معشر المسلمين آمنا بهذه المعجزة إذ لا مانع يمنع من وقوعها والله قادر على إيجادها معجزة مؤيدة لرسله الكرام يهدي ويثبت بها الألوف من الأنام) اهـ بحروفه. ولا يحسبن القارئ أن الأستاذ المؤلف يحكم بأن من أنكر هذه المعجزة كأولئك الحفاظ الأعلام يعد ملحدًا لتعبيره عن المعترض بلفظ الملحد , فإنه لم يقل أحد من المسلمين بكفر من ينكر أي حديث من أحاديث الآحاد وإن صح سنده , فكيف يكفرون من ينكر حديثًا ضعيفًا أو منكرًا باعتراف حفاظ الحديث أنفسهم. وإنما يكون المنكر ملحدًا إذا كان ينكر قدرة الله تعالى على فعل تلك الخارقة أو أي ممكن من الممكنات. والمؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يعتقد بشيء ثبت عنه عنده ثم ينكره لعظمته , وإنما أنكر الأئمة كثيرًا من الأحاديث لعلة في رواتها أو روايتها أو متنها ككونه لا يتفق مع الثابت القطعي فمن أنكر حبس الشمس أو رجوعها لعلة من ذلك لا يعد ملحدًا ولا مبتدعًا ولا عاصيًا ولا منحرفًا عن سبيل المسلمين لا سيما إذا لاحظ مع ضعف الرواية أن مثلها مما يشتهر وتتوفر الدواعي على نقله , فلما لم يروها أهل النقد من المحدثين كالشيخين وأصحاب السنن ومثل مالك وأحمد ترجح عنده أن من جرح رواتها ولم يقبلها من المحدثين هو المصيب دون من قبِلها. ثم إن ما ذكره الأستاذ مؤلف الحصون الحميدية من الحكمة في وقوع هذه الخارقة لم تؤيده رواية الحديث فيها إذ لم يرد أن كافرًا آمن لأجلها أو ضعيف إيمان ثبت برؤيتها. ولا شك أن هذه الخارقة هي أعظم الخوارق الكونية التي نُقلت لأنها إبطال لسنة الله في نظام العالم العلوي والسفلي فهي أعظم من إحياء الميت ومن انقلاب العصا حية ونحو ذلك، فلو تحدى بها لرجي أن يظهر ما قاله من الحكمة ولكن لم ينقل راوتها أنه وقع بها التحدي، نعم إن واضع السنن لنظام الكون باختياره قادر على تبديلها أو تحويلها أو إزالتها إذا وافق ذلك حكمته، ولكن النظام الثابت بالمشاهدة اليقينية وبالنقل اليقيني الناطق بأن سنن الله لا تتبدل ولا تتحول وأن الشمس والقمر بحسبان، وأن لا تفاوت في خلق الرحمن، لا يصدق في دعوى تغييره وتبديله قول فلان عن فلان، في رواية مطعون فيها من المحدثين، فهي لا تفيد الظن فضلاً عن اليقين. وإننا نعيد القول بأن مؤلف الحصون الحميدية لم يقصد بفتح باب التوجيه لكل ما ورد من الخوارق ومن أمور الغيب التي ذكرها في باب السمعيات - وإن لم يرتقِ الوارد فيها إلى درجة الصحة بل وإن كان قولاً مشهورًا لبعض العلماء لم يرد فيه شيء عن المعصوم - إلا لأجل حماية القطعي الثابت من آيات الله ومن خبر الوحي الثابت عن عالم الغيب؛ لئلا ينتقل العاصي ومن أمثاله ممن لا علم لهم بحقائق الدين من إنكار ما لم يثبت باليقين إلى إنكار ما ثبت به وصار معلومًا من الدين بالضرورة فيكفر؛ إذ الذي قطع به علماء العقائد أن المؤمن لا يحكم بكفره إلا إذا جحد شيئًا مجمعًا عليه معلومًا من الدين بالضرورة. والدليل على هذا الجحد إما القول وإما الفعل الذي ينافيه كالسجود للصنم اختيارًا. والكتاب يُطلب من المكتبة الأزهرية وثمن النسخة منه أربعة قروش صحيحة. * * * (البائنة أو بحث في الدوطة) الدوطة كلمة إفرنجية مشهورة معروفة المعنى وهي ما يأخذه الرجل من المرأة التي يتزوجها كما هي عادة الإفرنج ومقلديهم! وقد وضع سليم أفندي عواد رسالة في هذه المسألة بيَّن فيها أن لفظ (البائنة) العربي يؤدي معنى الكلمة عند الإفرنج، ثم عرف الدوطة وبين سببها وذكر تاريخها عند اليونان والروم وأحكامها في قوانين الإفرنج وكيف تملك وتورث، والرسالة تطلب من المؤلف في الإسكندرية. * * * (الروايات الشهرية) هذا اسم لقصص يصدرها يعقوب أفندي الجمال كالمجلات الشهرية، وقيمة الاشتراك السنوى فيها 50 قرشًا في القطر المصري و20 فرنكًا في غيره. والقصة تناهز مائة صفحة من الشكل الثالث ونعني بالشكل الثالث ما كان دون المنار وهو الشكل الثاني. وثمن النسخة الواحدة منها ستة غروش. وهي تطلب من صاحبها في عزبة الزيتون بضواحي مصر. * * * (رواية الملك كورش الفارسي) قصة أدبية غرامية تاريخية للكاتبة العربية المشهورة (زينب فواز) طبعت على نفقة أمين أفندي هندية وتطلب منه. * * * (الطبيب المصري) قصة أدبية أخلاقية تاريخية ألفها محمد أفندي الهراوي من عمال نظارة المعارف، ولم نتمكن من قراءتها ولا قراءة سابقتيها لنبدي فيها رأيًا فاكتفينا بالتعريف بفضل الكاتبين والمؤلفين والناشرين. وثمن النسخة من هذه القصة ثلاثة قروش. * * * (مجلة المجلات) عادت مجلة المجلات الشهيرة إلى السفور بعد احتجاب طويل شق على عاشقي فوائدها، وقد صدر العدد الأول من سنتها الحاضرة (وهي السادسة) في أول يناير من هذا العام الميلادي مفتتحة برسم الأستاذ الإمام وبترجمة له بعد خطبة السنة، وفيه كثير من الفوائد العلمية والأدبية والصور فنرجو لها العمر الطويل، ونثني على صاحبها (محمود بك حسيب) الثناء الجميل والمجلة شهرية يتألف العدد منها من 64 صفحة وقيمة الاشتراك فيها 80 قرشًا في مصر و25 فرنكًا في غيرها. * * * (الإخاء) مجلة عمومية أدبية لصاحبها محمود أفندي الكاشف وكانت من قبل جريدة، وهي مؤلفة من 16 صفحة

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (دعوة الإسلام في اليابان) كان لما كتبناه في مسألة دعوة اليابان إلى الإسلام تأثير في جميع الأقطار الإسلامية فقد نقلت ما كتبناه الجرائد الهندية وأضافت إليه ما أضافت. وكتب إلينا بعض أهل الغيرة من مسلمي الآفاق بالاستحسان والاستعداد لإسعاد الدعوة إن وجدت، ومن ذلك ما كتب إلينا بعض الفضلاء من سنغافورة وهو: (قد أسرني ما رأيت بالمنار من ذكر الدعوة إلى الله بالجابان وباطلاعنا على ما ذكرتم كتبنا لأحد المسلمين في شنغاي (بالصين) ليفيدنا عن الشيخ حسان , وأحببنا أن نكاتبه ونمن بما نقدر عليه، فوصلنا منه ما ترونه ضمن هذا بعد الاطلاع عليه أرجعوه إلينا إن شئتم، وقد أجبناه عسى أن يؤلف لجنة لجمع إعانة لهذه الغاية فعسى ولعل. ويقال: إن أهل الهند جهزوا عالمًا بخمسة آلاف روبية ليذهب إلى جابان للدعوة. وقد أطربنا ما ذكرتم في المنار بالعدد الأخير (يعني ج 22) من دعوتكم العلماء للذهاب والأغنياء للمعاونة بالمال، وقبلنا تلك السطور نيابة عن أنامل سطرتها ولكنا لا نوافقكم في أن (سروات) مصر لا يكتتبون بالمبالغ الكبيرة، ودليلنا أن القوم يكتتبون سنويًّا لعيد الجلوس ونحوه من الأعياد الفارغة بمبالغ غير حقيرة مع أن الأمير لا يقرأ تلك القوائم ولو قرأها لم تعلق بذهنه فضلاً عن أن يثيب على ذلك فمن لا يبخل بالترهات كيف لا يبذل المال في نصرة الدين، وإقراض أحكم الحاكمين؟ ! فلا نزيدكم توصية بالتكرار. وهنا قد أحب بعض قراء المنار المشاركة وسيقدمون ما يجتمع وهو وإن كان زهيدًا فأول الغيث قطر) اهـ. بنصه. وهذا ما كتب إليه من شنغاي بعبارته، قال الكاتب بعد رسوم الخطاب: (إحاطة علمكم ما هو محرر بمجلة المنار الإسلامي عن أن رجلاً من الصين اسمه حسان قد قام بكتابة بعض عبارات في مجلة شوكيما الجبانية يدعو القوم إلى الديانة الإسلامية (وتطلبوا) الإفادة عن (أدريسه) فلآخر شرحكم فهمناه كما اطلعنا عليه بالمجلة المذكورة ونشكر غيرتكم الحمية عليه. غير أنه قد تعجبنا من ذلك لعلمنا بعدم وجود (هكذا) شخص بالصين أهلاً لذلك، ونأسف كما يأسف كل مسلم غيور بأن تكون أهالي الصين المسلمين محرومين من هكذا رجل وهو أحوج الناس إليه، ولدى الاستعلام عن الشخص المذكور فهمنا بأنه قد حضر من بضعة أشهر من بلدة (دلهي) بالهند رجل عالم اسمه بالإنكليزي (سفراي حسين) ولعله هذا الشخص الذي يعني عنه المنار (حسان) من طرف جمعية إسلامية بالهند لهذه الغاية إلى الجبان من بعد أن أقام كام يوم هنا طرف أحد الإخوان. وقد فهمنا أنه توجه إلى الجبان إلى أوزاكا ومنها إلى ناكازاكي حيث أقام بتحرير جملة مقالات في بعض جرائد الجبان وإلقاء بعض خطب بهذا المعنى، والآن نجهل محل إقامته كما نجهل (أدريسه) إلا أنه يمكن يحرر له بالاسم المشروح أعلاه بالإنكليزي إلى يوكاهاما أم ناكازاكي، وغدًا إن شاء الله سنحرر إلى أحد الأصحاب بتلك الأطراف للاستعلام عن ذلك وإليكم الحقيقة بعد هذا. أما حالة الجبان الدينية فهي كما كتب محرر المجلة المذكورة ولم يزالوا تائهين حائرين على دين يعتقدوه (وإن يكن منهم صار الحظ الأوفر مسيحية) ونعرف منهم اثنين قد اعتنقوا الدين الإسلامي ولا قدروا يفهموا منه إلا أسماءهم حيث قد صاروا بأسماء جديدة أحدهم إبراهيم والثاني إسماعيل. ونعهد أن منهم جملة قد صاروا يهودًا. والحقيقة الآن فرصة ثمينة جدًّا وثواب عظيم. ولكن يحتاج هذا لرجل عظيم فيلسوف غيور مستعد ليس بعلم الفقه فقط.. على مذهب الشافعي.. وحضرتكم أعلم. أما حالة الصين فلا ننكر وجود جملة إسلام يعد بالملايين ومنهم العلماء الأعلام، ويوجد عندهم المدارس العالية الداخلية حيث يوجد بهم ألوف من طلبة العلم أخصه في البلاد الداخلية حيث أعلم الإسلام بهم نظير كيانسو شانسي. وهونان ولكن من الصعب وجود شخص بالاستعداد الكافي والغيرة لما ذكر. ربنا اهدنا ووفق وألِّف بين قلوبنا إنك سميع مجيب.. اهـ. بحروفه ونقطه إلا اسم العالم الهندي فقد رسمناه بحروف عربية وظاهر أنه يريد بالجبان اليابان وبالأدريس (العنوان) . وكنا قبل هذا قرأنا في جريدة (وكيل) الهندية الغراء ما ترجمته: (حضر من أعيان الهند وعلمائها الأعلام (سرفواز حسين) إلى مدينة نجاساكي اليابانية في 11 ديسمبر 1905 وفي 18 منه دخل إلى أحد معابدها المسمى (جوسوجي) وألقى خطبة شائقة باللغة الإنكليزية موضوعها (التوحيد الإسلامي ونبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم) ، وكان عدد الحاضرين يبلغ زهاء أربع مائة من يابانيين وأوربيين، ودام في خطبته ساعتين، وكان من الحاضرين اللادي مس ريندلف كود الأمريكانية، وكانوا يسمعون بكل انتباه وإصغاء. وفي اليوم التالي ليوم إلقاء الخطبة كتبت عنها الجرائد الإنكليزية واليابانية مقرظة إياها أحسن تقريظ وقد جاء كثيرون ليسألوا العالم الهندي بارتياح ومسرة عن التوحيد والنبوة وبعد عشرة أيام برحها إلى مدينة كوبي ومنها إلى طوكيو) اهـ. (المنار) نقول: إن مصدر خبر الشيخ حسان الصيني هو الجرائد العثمانية ولا ندري من أين أخذته. ولا فرق عندنا بين أن يكون الداعي للإسلام هنالك صينيًّا أو هنديًّا لأن الملة واحدة، ولكن نرجو أن يكون هنديًّا لأن أهل الهند أعلم بها من أهل الصين ومَن لنا بمَن يترجم لنا خطبة أخينا سرفواز حسين لعلنا نجد فيها ما يطمئن له القلب من ناحية هذا الداعي الأول للإسلام في تلك البلاد. ولا يشك عاقل في أن هذا العمل الجليل لا يكفي للقيام به عالم واحد مهما اتسعت دائرة علمه، ونفذت أشعة عقله وفهمه، فلا بد للمسلمين من جمعية للدعاة يكون لها مدرسة لتربيتهم وتعليمهم وصندوق غني للنفقة عليهم. ولكن هل بلغ استعداد المسلمين الديني والاجتماعي في جميع الممالك إلى أن ينهضوا بجمعية واحدة كأصغر جمعية من جمعيات المبشرين عند النصارى؟ ! . يظن صاحبنا الذي كتب إلينا من سنغافورة أن المصريين وحدهم يضطلعون بهذا العمل وهو قليل على كرمهم، ولكنه أيد ظنه بقياس الجد على الهزل ولا أزيد على هذا شيئًا في الكلام على قياسه وأقول له: إن لي في المصريين لأملاً ما، ولكني أعتقد أن هذا العمل لا يتم إلا إذا تضافر المسلمون في كل الأقطار عليه. ويرجى بعد أن تبدو ثمراته بسعي أصحاب الهمم العالية والغيرة الصادقة أن تصير الثقة به عامة وأن توقف عليه الأوقاف العظيمة فإن حب الخير وبذل المال في سبيل الله لم يُمْحَ من نفوس المسلمين، ولكن الأغنياء منهم صاروا طبقات فمنهم مَن عبد المال من دون الله لا يسمح بقليل منه ولا كثير وهؤلاء قد فسدت فطرتهم فلا رجاء فيهم! ، ومنهم من لا هَم له إلا الإسراف والتبذير في سبل الشهوات واللذات والفخفخة والزهو والخيلاء وأكثر هؤلاء من عبيد الشهوات الذين لم يبقَ للدين بصيص من النور في قلوبهم. وقد يوجد فيهم من تُرجى أوبته، وتحسن خاتمته، ومنهم من يحب عمل الخير ولكن يضعه في غير موضعه لجهله بما يُرضي الله وينفع الناس فيبني مسجدًا حيث تكثر المساجد فيزيد المسلمين تفريقًا أو يوقف وقفًا على ضريح بعض المشهورين بالصلاح، ومنهم من يميز بين الضار والنافع ولكنه ضعيف لا يقدر على العمل بنفسه ولا يثق بالعاملين وإن كانوا قادرين، وإنما الرجاء بمثل هذا بعد ظهور ثمرة العمل. وأما الغني السخي العاقل الشجاع الذي يرجى للشروع في الأعمال العظيمة فقليل، وهو المرجو لهذا المشروع الجليل. * * * (منار السنة التاسعة - تنبيهات) (1) إننا سنزيد مادة التفسير في الأجزاء الآتية , ويرى القراء أننا نراعي في كتابة الآيات الكريمة المشكولة رسم المصحف العثماني اتباعًا لسلفنا وحفظًا لما كانوا عليه في صدر الإسلام. ولكننا عندما نذكر هذه الآيات في أثناء التفسير نوافق جميع كتب التفسير المطبوعة في جعْلها على قواعد الرسم المتبعة لأنها تكتب غير مشكولة فيخشى أن يحرف قراءتها غير الماهر في التلاوة , وقد نبهنا في هامش الصفحة الأولى من التفسير على اكتفائنا بعدّ المصحف المطبوع في الأستانة للآيات الكريمة. وقد تحرينا في هذه السنة الإشارة إلى السور وعدد الآيات في جميع ما يذكر في المنار من القرآن المجيد , ونفصل بين عدد السور وعدد الآية بنقطتين هكذا (9: 25) والمراد بهذا المثال السورة التاسعة والآية الخامسة والعشرون منها ومن كان عنده المصحف الذي طبعه فلوجل الألماني وراجع عدد الآية فرأى غيرها فلينظر قبلها أو بعدها بآيات قليلة يجدها لأن الفرق في مواضع الاختلاف قليل. (2) قد جعلنا باب المقالات في هذا الجزء بعد باب الفتاوى , ولكننا سنجعله في الأجزاء الآتية بعده. (3) لا يقبل الاشتراك في المنار إلا من أول السنة الهجرية أو من أول رجب منها , ومَن قبِل الجزء الأول عُد مشتركًا إلى آخر السنة ولزمه أداء قيمتها كاملة. وهذا الشرط يلتزمه من يفي بالعقود والشروط التي رضي بها وإن كان لا يبالي بها من لا قيمة لنفسه عنده , وحسبنا أننا نعامل أهل الفضل والشرف ومن شذ فأخلف ظننا فحسبه أن يكون حسن الظن فيه كاذبًا. (4) نرجو من أهل الوفاء والفضل الذين لم يوفوا إلى الآن أن يرسلوا إلينا القيمة المتأخرة عندهم حوالة على مكتب البريد في مصر القاهرة أو على بعض التجار أو المصارف (البنوك) ونُعلم مشتركي سنغافوره وجاوه والهند أن قيمة الروبية الورق (بنك نوط) في مصر ستة قروش مصرية , فالعشر الروبيات تنقص عن قيمة الاشتراك زيادة عن فرنكين , فلعلهم يكفون عن إرسال هذه الأوراق. (5) إننا نريد أن نطبع عنوانات المشتركين في القطر التونسي وسائر الأقطار , فمن كان في عنوانه غلط فليصححه لنا لنطبعه على الصواب , ونرجو المبادرة إلى ذلك. وقد حظرنا على التونسيين في الجزء الماضي أن يدفعوا شيئًا من قيمة الاشتراك بعد وصوله إليهم إلى المحصِّل الذي أقامه وكيل المنار في تونس واسم هذا المحصل (أحمد أبو خطيوه) فقد كتبنا إليه نسأله عن التحصيل وعن الوكيل الفاضل النبيل فلم يحر جوابًا ولعل له عذراً يظهر عن قريب. فنرجو من فضلهم إرسال القيمة حوالة على البريد بمصر. (6) عزمنا على أن ننشر في الأجزاء الآتية نبذًا من المباحث الأدبية منظومها ومنثورها , ونذكر في الجزء الآتي كلامًا في المغرب الأقصى ومسألة العقبة وما شاع من سلطان الجن والشياطين على بعض علماء الأزهر وغير ذلك من العبر. (7) كنا نرسل المنار إلى كل طالب ونحسن الظن فيه فخاب ظننا بكثير حتى من أصحاب الألقاب الضخمة , وقد بدا لنا في ذلك فلا نرسل المنار في هذا العام إلا لمن يرسل قيمة الاشتراك مع الطلب إلا أن يكون الطالب لنفسه أو لغيره من أصدقائنا الموثوق بهم. * * * (عمال المطابع وأخلاق العامة) أفادنا علم الأخلاق أن العمدة في ردع الناس عن الشر وتوجيههم إلى الخير هو الوازع النفسي , ويقول فلاسفة هذا العلم: إن هذا الوازع يتمكن في النفس بالاعتقاد الديني وبتربية وجدان الشرف في النفس في أمة تعرف الشرف الحقيقي وتحتقر من يتلوث بالخسة والدناءة. وأما عقوبة الأحكام فقد وضعت لأهل الشذوذ لا لتربية العامة. فمن عرف هذا وعرف حال التربية في مثل هذه البلاد لم يتعجب من تألم الناس هنا من الصناع والخدم وتجاوبهم بالشكوى منهم فإنهم محرومون من آداب الدين ومن شعور الشرف إلا من شذ , وإن أكبر خدمة تقوم بها الجمعية الخيرية الإسلامية لهذه البلاد هي تربية أولاد الفقراء تر

مسألة القدر وفعل العبد بقدرته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة القدر وفعل العبد بقدرته جاء في شرح عقيدة السفاريني بعد إبطال مذهب القدرية والجبرية وهم الضالون في الإفراط والتفريط ما نصه: وأما المتوسطون فهم أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا تفريط القدرية النفاة، ولم يفرطوا إفراط الجبرية المحتجين بالقدر على معاصي الله، وهؤلاء على مذهبين: مذهب الأشعري ومن وافقه من الخلف، ومذهب سلف الأمة وأئمة السنة فمذهب أهل السنة كافة أن جميع أنواع الطاعات والمعاصي , والكفر والفساد واقعة بقضاء الله وقدره لا خالق سواه فأفعال العباد مخلوقة لله تعالى خيرها وشرها وحسنها وقبيحها والعبد غير مجبور على أفعاله بل هو قادر عليها , هذا القدر باتفاق أهل السنة , ثم إن الأشعري ومن وافقه منهم أثبت للعبد كسبًا ومعناه أنه قادر على فعله , وإن كانت قدرته لا تأثير لها في ذلك كما مر. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه -: هذا قول الأشعري ومن وافقه من المثبتة للقدر من الفقهاء وطوائف من أهل السنة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد حيث لا يثبتون في المخلوقات قوى ولا طبائع , ويقولون: إن الله تعالى فعل عندها لا بها , ويقولون: إن قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل , ويقول الأشعري: إن الله فاعل فعل العبد , وإن عمل العبد ليس فعلاً للعبد بل كسبًا له؛ قال شيخ الإسلام: وهذا قول من ينكر الأسباب والقوى التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي للعبد التي يكون بها الفعل ويقول: إنه لا أثر لقدرة العبد أصلاً في فعله , لكن الأشعري يثبت للعبد قدرة محدثة واختيارًا , ويقول: إن الفعل كسب للعبد , لكنه يقول: لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور , وهو مقام دقيق حتى قال بعضهم: إن هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول - قال -: حتى قال جمهور العقلاء: ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طفرة النَّظَّام وأحوال أبي هاشم وكسب الأشعري وذلك أنه يلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز؛ إذ مجرد الاقتران لا اختصاص له بالقدرة , فإن فعل العبد يقارن حياته وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلا مجرد الاقتران فلا فرق بين القدرة وغيرها , ومن هذه الطائفة من يقول: إن قدرة العبد مؤثرة في صفة الفعل لا في أصله كما يقوله القاضي أبو بكر الباقلاني من أئمة متكلمة الأشعرية ومن وافقه فإنه أثبت تأثيرًا بدون خلق الرب أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه الله , وإن جعل ذلك معلقًا بخلق الرب فلا فرق بين الأصل والصفة , قيل: ومذهب الأشعري يقرب في هذه المسألة من مذهب الجبرية الجهمية فإنه يُحكى عن الجهم بن صفوان وغلاة أتباعه أنهم سلبوا العبد قدرته واختياره حتى قال بعضهم: إن حركته كحركة الأشجار بالرياح كما تقدم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الجَهْم كان يقول: لا أثر لحركة العبد أصلاً في فعله، وكان يثبت مشيئة الله تعالى وينكر أن يكون له حكمة ورحمة، وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثرة! ! ! قال: وقد حكي عنه أنه كان يخرج إلى الجذمى ويقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟ ! إنكارًا لأن يكون له تعالى رحمة يتصف بها سبحانه زعمًا منه أنه ليس إلا مشيئة محضة لا اختصاص لها بحكمة بل يرجح أحد المتماثلين بلا مرجح. ومذهب سلف الأمة وأئمتها وجمهور أهل السنة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون: إن العبد فاعل لفعله حقيقة، وإن له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة ولا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعية بل يقرون بما دل عليه الشرع والعقل من أن الله تعالى يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء، ولا يقولون: القوى والطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها بل يقرون بأن لها أثرًا لفظًا ومعنًى لكن يقولون: هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خالق السبب والمسبب، ومع أنه خالق السبب فلا بد للسبب من سبب آخر يشاركه، ولا بد له من معارض يمانعه فلا يتم أثره إلا مع خلق الله له بأن يخلق الله السبب الآخر ويزيل الموانع، وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: الأعمال والأقوال والطاعات والمعاصي هي من العبد بمعنى أنها قائمة به وحاصلة بمشيئته وقدرته، وهو المتصف بها والمتحرك بها الذي يعود حكمها عليه وهي من الله بمعنى أنه خلقها قائمة بالعبد وجعلها عملاً له وكسبًا كما يخلق المسببات بأسبابها، فهي من الله مخلوقه له ومن العبد صفة قائمة به واقعة بقدرته وكسبه كما إذا قلنا: هذه الثمرة من الشجرة وهذا الزرع من الأرض بمعنى أنه حدث منها ومن الله بمعنى أنه خلقه منها لم يكن بينهما تناقض قال: فالحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار وإلى أسبابها باعتبار كما قال تعالى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان} (القصص: 15) وقال: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ} (الكهف: 63) مع قوله: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} (النساء: 78) وأخبر أن العباد يفعلون ويصنعون ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويفسقون ويتقون ويصدقون ويكذبون، وقال في موضع آخر: إن أئمة أهل السنة يقولون: إن الله خالق أفعال العباد كما أن الله خالق كل شيء، وأنه تعالى خالق الأشياء بالأسباب، وأنه تعالى خلق للعبد قدرة بها يكون فعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة فقولهم في خلق العبد بإرداته وقدرته كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها، وقد دلت الدلائل اليقينية على أن كل حادث فالله خالقه، وفعل العبد من جملة الحوادث وكل ممكن يقبل الوجود والعدم فإن شاء الله كان وإن لم يشأ لم يكن، وفعل العبد من جملة الممكنات قال: وجمهور المسلمين وجمهور طوائفهم على هذا القول الوسط الذي ليس هو قول المعتزلة ولا قول جهم بن صفوان وأتباعه الجبرية، فمن قال: إن شيئًا من الحوادث أفعال الملائكة والجن والإنس لم يخلقها الله تعالى فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع السلف والأدلة العقلية، ولهذا قال بعض السلف: من قال: إن كلام الآدميين وأفعال العباد غير مخلوقة فهو بمنزلة من يقول: إن سماء الله وأرضه غير مخلوقة، والحاصل أن مذهب السلف ومحققي أهل السنة أن الله تعالى خلق قدرة العبد وإرادته وفعله، وأن العبد فاعل لفعله حقيقة ومحدث لفعله والله سبحانه جعله فاعلاً له محدثًا له قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: 30) فأثبت مشيئة العبد وأخبر أنها لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى، وهذا صريح قول أهل السنة في إثبات مشيئة العبد وأنها لا تكون إلا بمشيئة الرب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه: وهذا قول جمهور أهل السنة من جميع الطوائف وهو قول كثير من أصحاب الأشعري كأبي إسحاق الإسفرايني وإمام الحرمين وغيرهما فيقولون: العبد فاعل لفعله حقيقة وله قدرة واختيار وقدرته مؤثرة في مقدورها كما تؤثر القوى والطبائع والأسباب كما دل على ذلك الشرع والعقل قال تعالى: {فَأَنزَلْنَا بِهِ المَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} (الأعراف: 57) وقال: {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (البقرة: 164) وقال: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة: 26) وهذا كثير في الكتاب والسنة، يخبر تعالى أنه يحدث الحوادث بالأسباب، وكذلك دل الكتاب والسنة على إثبات القوى والطبائع للحيوان وغيره كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) وقال: {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فصلت: 15) وقال في الجمادات: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} (الزلزلة: 2) وقال: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5) وقال: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} (الأحقاف: 25) وقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِح} (الحجر: 22) ، {وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة: 74) ، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيّ} (هود: 44) وقال تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِه} (الفتح: 29) وهذا في القرآن كثير جدًا. وقال السعد التفتازاني في شرح المقاصد بعد ما نقل الخلاف ملخصًا ما نصه: ثم المشهور فيما بين القوم المذكور في كتبهم أن مذهب إمام الحرمين أن فعل العبد واقع بقدرته وإرادته إيجابًا كما هو رأي الحكماء مع قول الإمام في الإرشاد: اتفق أئمة السلف قبل ظهور البدع والأهواء على أن الخالق هو الله ولا خالق سواه، وأن الحوادث كلها حدثت بقدرة الله من غير فرق بين ما يتعلق قدرة العبد به وبين ما لا يتعلق، قال العلامة إبراهيم الكوراني في شرح منظومة شيخه الشيخ محمد المقدسي القشاشي ما نصه: مذهب الشيخ إمام الحرمين الذي تفرد به فيما قيل عن الأصحاب يعني الأشعرية من أن أصل فعل العبد واقع منه بتأثير قدرته بإذن الله قال: وهو مذكور في غير الإرشاد وهو آخر قوليه كما نقله عنه البقي فلا يقدح مخالفته ما في الإرشاد وبقية كتبه التي وصلت إلى التفتازاني وغيره لما هو المنقول عنه في غير الإرشاد وبقية كتبه في هذا الفن المرجوع عنها في هذه المسألة. قال الكوراني: وهذا الكتاب الذي ذكر فيه آخر قوليه هو كتابه المترجم بالنظامية فيما وقفت على كلامه منقولاً عنه بلفظه في كتاب (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) للعلامة شمس الدين ابن القيم في الباب السابع عشر منه ولفظه: اضطربت آراء أتباع الأشعري في الكسب اضطرابًا عظيمًا، واختلفت عباراتهم فيه اختلافًا كثيرًا، وقد ذكر ذلك كله أبو القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري في شرح الإرشاد، ثم ساق عن تلميذ إمام الحرمين شارح الإرشاد هذا الأنصاري كلامًا فيه أن إمام الحرمين ذكر لنفسه مذهبًا ذكره في الكتاب المترجم بالنظامية وانفرد به عن الأصحاب، ثم قال صاحب كتاب شفاء العليل في آخر كلام شارح كتاب الإرشاد المذكور. قلت: الذي قاله الإمام في النظامية أقرب إلى الحق مما قاله الأشعري وابن الباقلاني ومن تابعهما ونحن نذكر كلامه بلفظه قال - يعني إمام الحرمين -: قد تقرر عند كل حاظ بعقله مترقّ عن مراتب التقليد في قواعد التوحيد أن الرب سبحانه وتعالى مطالِب عبادَه بأعمالهم وداعيهم إليها ومثيبهم ومعاقبهم عليها، وتبين بالنصوص التي لا تتعرض بالتأويلات أنه أقدرهم على الوفاء بما طالبهم، ومكنهم من التوصل إلى امتثال الأمر والانكفاف عن مواقع الزجر، ولو ذهبت أتلو الآي المتضمنة لهذه المعاني لطال المرام ولا حاجة إلى ذلك مع قطع اللبيب المنصف به، ومن نظر في كليات الشرائع وما فيها من الاستحثاث والزواجر عن المعاصي الموبقات، وما نِيط ببعضها من الحدود والعقوبات، ثم تلفت على الوعد والوعيد وما يجب عقده من تصديق المرسلين في الأنباء وقول الله لهم: لِمَ تعديتم وعصيتم وأبيتم وقد أرخيت لكم الطول وفسحت لكم المهل وأرسلت الرسل وأوضحت المحجة لئلا يكون للناس على الله حجة، وأحاط بذلك كله ثم استراب في أن أفعال العباد واقعة على حسب إيثارهم واختيارهم واقتدارهم فهو مصاب في عقله أو مستقر على تقليده مصمم على جهله ففي المصير إلى أنه لا أثر لقدرة العبد في فعله؛ قطع طلبات الشرائع والتكذيب بما جاء ب

الناسخ والمنسوخ

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الناسخ والمنسوخ للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب بسجن طره أجملت الكلام في هذا الموضوع حينما كتبت مقالات (الدين في نظر العقل الصحيح) لضيق الوقت وكثرة الأشغال، وقد رأيت الآن أن أعود إليه بإيضاح يزيل ما هذر به السفهاء من الناس الطاعنين في الإسلام. الذين يعدون النسخ في القرآن دليلاً على كونه من عند غير الله وكونه لم يحفظ كاملاً كما نعتقد، وليعلم هؤلاء المساكين أن ما يقذفونه به ليس إلا حصى لا تزحزح طودًا من مكانه. ولولا غفلة المنتمين إلى هذا الدين لما وجد القوم حصاة واحدة يرمونه بها ظنًّا منهم أنها تؤلمه. القول بالنسخ في القرآن ليس من عقائد الإسلام ألبتة، وإنما هو مذهب في التفسير نشأ غالبًا في العصر الأول إن صحت الروايات الآحادية الواردة في هذا الباب. والذين قالوا به منهم إنما أخذوه من ظاهر قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) الآية، فكان إذا عرض لواحد منهم اشتباه في فهم بعض آيات القرآن التى بينها شبه خلاف تمسك بهذا القول لرفْع ما عرض له. وليس فهم بعض الصحابة حجة في التفسير، وإلا لما خالف جمهور المفسرين ابن عباس - وهو أعلمهم بالتفسير - في كثير من المسائل ولما خالف بعضهم بعضًا في نفس هذه المسألة حتى كان بعضهم كأُبَيّ مثلاً يقول: إنى لا أدَع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد بذلك أنه لا يترك حكمًا ما بدعوى أنه منسوخ، وكان عمر ينكر عليه ذلك كما ورد في صحيح البخاري عن ابن عباس أن عمر قال: أقرؤنا أُبي , وأقضانا علي وإنَّا لندع من قول أبي وذاك أن أبيًا يقول: لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) . ولو كانت هذه المسألة من العقائد الإسلامية الواجبة لما أنكرها بعض أئمة المسلمين المتقدمين والمتأخرين كأبي مسلم الأصفهاني وغيره. على أن المتمسكين بها ليس عندهم دليل يعتد به على صحة مذهبهم , وسنفسر إن شاء الله الآيات التي توهموا أنها تفيدهم في تأييد رأيهم , وحسبنا أن القرآن لم يقل في موضع ما إن هذه الآية ناسخة أو منسوخة بأخرى. ولا يحل لنا أن نترك العمل بشيء من كتاب الله تعالى لفهم فاهم أو لوهم واهم , وأيضًا فليس عندهم دليل قطعي على تقدم المنسوخ وتأخر الناسخ في كثير من المواضع , بل إن بعض الآيات التى ادعوا أنها منسوخة تجدها في القرآن متأخرة عن الناسخة كآية العدة في سورة البقرة مثلاً , ولما وجدوا ذلك زعموا ولا دليل لهم أن الآية المشار إليها نزلت أولاً ولم يبالوا بأن ذلك ينافي حسن ترتيب الآيات في سورها وإن كان هذا الترتيب توقيفيًا بالإجماع. إننا لا ندري لِمَ كانت بعض الآيات منسوخة عندهم ولم تكن ناسخة أي كيف يمكنهم تمييز ما يجب العمل به وما يجب تركه مع أنه لم يرد في الكتاب ما يرشدهم إلى ذلك. وهل يعقل أن الله يترك عباده يتخبطون في أمور دينهم مع أنه يقول في شأن القرآن: {جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) فإذا كان مذهب النسخ صحيحًا أفليس من الإبهام وعدم البيان أن يكون القرآن خاليًا من التنبيه على ما نُسخ وعلى ما لم يُنسخ؟ أو ليس من أعجب العجب أن لا يوجد عند القائلين به حديث واحد متفق عليه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر نصًّا صريحًا على أن الآية أو الآيات الفلانية نُسخت بالآيات الفلانية؟ ! وما بالهم لم يتفقوا على عدد مخصوص من الآيات؟ ولِمَ يتركون دعواهم النسخ في آية إذا تحققوا أن لا تعارض بينها وبين غيرها؟ ! . غلا الناس في هذه المسألة غُلُوًّا حتى إنهم أرادوا أن يجعلوها فنًّا من الفنون التى تؤلف فيها الكتب , ولأجل أن يجعلوا أبواب هذا الفن كاملة زعموا أن النسخ على ثلاثة أضرب: (1) ما نُسخ لفظه وحكمه معًا. (2) ما نسخ لفظه فقط. (3) ما نسخ حكمه فقط. ثم التمسوا لكل ضرب شواهد ولو بالتمحُّل البعيد والخروج عن أساليب البلاغة بل اللغة حتى لَيخيَّل للناظر إليها أن القرآن ضاع منه شيء ففتح باب واسع لكل شيطان يريد أن يؤيد دعوى باطلة له لا يوافقه عليها القرآن فيختلق ما شاء أن يختلق ويزعم أنه كان قرآنًا ونسخ , ثم يلبَس لباس الصالحين والرواة الثقاة ليقبل المحدثون روايته. وقد اعترف بعض من تاب بذلك ولولا اعترافه ما عرف. فما يدرينا أن بعض الملحدين أو بعض الفرق الغلاة ظهر بالمظهر الذي غر الناس حتى صدقوه في دعاويه. فهل بعد ذلك نثق بأي رواية لم تتواتر في مثل هذه المسائل حتى يجرنا ذلك إلى الطعن في المتواتر نفسه. فالخطة المثلى في تحقيق الحق وإزهاق الباطل عند العقلاء أن لا يعتمدوا إلا على ما تواتر , ويرفضوا كل ما خالفه , وإلا لفقدوا التمييز , ولما أمكنهم التصديق بشيء ما إلا إذا أدركوه بحواسهم مع أننا مضطرون للتصديق بأشياء كثيرة لم نحسها. اضطرب مبدأ القائلين بالنسخ كثيرًا. فبعد أن قالوا: لا نسخ إلا في الأمر والنهي تجدهم يسلمون بالروايات الدالة على نسخ اللفظ مع أن جُلها ليس إلا أخبارًا كما في رواية: (لو كان لابن آدم واديًا لأحَبّ أن يكون له الثاني) .. إلى آخره. ولو عقل هؤلاء القوم لوجدوا أن لا مناسبة بين أسلوبها وأسلوب القرآن مطلقًا بحيث لو عرضت والقرآن على ذي ذوق وهو أجنبي عن المسلمين - لَحَكَمَ أن قائلهما لا يمكن أن يكون واحدًا بدون تردد اللهم إلا فيما كان مسروقًا منه كرواية (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون) على أنها لا تخلو من تكلف وتنافر بين الجملتين يدل على أن التأليف مصنوع. لهذا كله ذهب جميع المحققين من أئمة المسلمين إلى أن أمثال هذه الروايات الآحادية لا يثبت بها قرآن ولا ينفى بها , ولذلك لا يعتد أحد بالروايات الدالة على أن الفاتحة والمعوذتين ليست من كتاب الله , ولو سلمنا جدلاً أن أحد الصحابة أنكرها فلا يعتد بشذوذه ومخالفته جميع من عداه منهم. نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فبلغه للناس وحفظوه عنه , وأمر بكتابته دون سواه فكتبه له كتبة الوحي , وكتبه غيرهم لأنفسهم على ما تيسر لهم في ذلك الوقت من جلد أو ورق أو عظم أو جريد أو خشب إلى غير ذلك مما أمكنهم الحصول عليه. ولم يمُت عليه السلام إلا بعد أن كانت جميع السور مرتبة الآيات محفوظة في صدور الجماهير مكتوبة في السطور وبعد أن سمعوها منه مرات عديدة في الصلوات والخطب وغيرها وسمعها هو أيضًا منهم , وارتقت الأحوال بعد وفاته وتيسر لهم كتابة جميعه على الورق ففعلوا ذلك ونسخوا منه مصاحف بلهجات العرب المختلفة. ولما ولي عثمان الخلافة أمر بالاقتصار على لغة قريش خوفًا من وقوع الاختلاف في القرآن فكتبت المصاحف بهذه اللغة الواحدة بعد التحري والتدقيق فيما كتب قبل ذلك وبعد السماع من الحفاظ , وكان ذلك بعد وفاة النبي بسنين قليلة , ثم أرسلت المصاحف إلى الآفاق التي استعمرتها الصحابة رضوان الله عليهم وفيهم الحافظون للقرآن في صدورهم وفي صحفهم فوافقوا جميعًا على استعمال هذه المصاحف. هذا، ومَن عرف طباع العرب وشدتها تحقق أنه لو وجد في مصاحف عثمان عيب لرفضوها ولأُثِيرَتْ حروب وأُهرقت دماء ولقُتل عثمان لهذا السبب , ولوجدت مصاحف مختلفة بين المسلمين اليوم ولكن لم يحصل شيء من ذلك مطلقًا. فدل ذلك على أن هذه المصاحف هي عين ما تلقَّوْهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخذت طرق كتابتها تتحسن شيئًا فشيئًا حتى وصلت إلى الحالة الحاضرة من النقط والشكل , ولا يوجد بينهما اختلاف مطلقًا قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها إلا ما كان خطأً مطبعيًا أو سهو ناسخ. ويهيمن على هذه المصاحف آلاف الألوف من الحفظة في جميع الأقطار وفي جميع الأزمنة. هذا هو تاريخ القرآن كما تواترت به الأخبار , وما خالف ذلك من الأخبار الآحادية يجب رفضه ولا يُعبأ به. وهذا هو الكتاب الذي نؤمن به ونعتقد أنه لا ناسخ فيه ولا منسوخ بل جميع آياته محكمة يجب العمل بها جميعًا، ومن شاء أن يعارض في ذلك فعليه بالدليل. فليس هو ككتب الأديان الأخرى حرمت قراءتها على العامة ولم يحفظها الخاصة في صدورهم فلعبت بها الأهواء، وتعددت في شأنها الآراء. لو كان الاسلام دين عجائب وغرائب كغيره مما بني على حكايات رويت بالروايات اللسانية ولم تكتب إلا بعد زمن وقوعها بمدة تكفي لضياعها أو الخلط فيها أو إدخال الدخلاء فيها ما ليس منها , ولما كتبت لم يكن عند أهلها فن تحقيق الأسانيد وتحريها الذى لم يعرف إلا عند المسلمين - لو كان الإسلام كهذه الأديان لحقَّ لأهله الخوف من الطعن في أمثال هذه الروايات. ولكن الإسلام - ولله الحمد - دين عقل وعلم أُسس على كتاب كتب في عهد نبيه وحفظ في الصدور. فما بال أهله قلدوا غيرهم وخافوا من رفض أمثال هذه الأحاديث الآحادية مع أنه لو رُفضت جميعها بما فيها الأحاديث الدالة على صحة الإسلام كأحاديث المعجزات الكثيرة وغيرها لا الموجبة للطعن فيه فقط لما ضرنا ذلك شيئًا؟ ! . فما بالنا اليوم أخذنا نسبّ كل مَن فتح هذا الباب ونكفره مع أنه لم ينكر أصلاً من أصول الدين! . فليتق الله عقلاء المسلمين. كم من دخيل دخل في رواة أحاديث جميع الأديان والملل؟ كم من حق ضاع بين باطل؟ كم من موضوعات رفضها المحققون؟ ألم يخرج البخاري رضي الله عنه أحاديثه وهي أربعة آلاف من ستمائة ألف حديث؟ وهو شخص واحد يجوز عليه الخطأ لأنه ليس معصومًا. فما هذا الجمود يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ودينكم أرقى من ذلك؟ ! . ولولا أنتم لما وَجد سفيه قشًّا يضربنا به. فلنرجع إلى تتميم موضوعنا فنقول: أما ما تمسك به هؤلاء الجامدون من القرآن الشريف على صحة مذهبهم فهو لا يفيدهم شيئًا , ولذلك أذكر هنا أشهر الآيات التى تمسكوا بها وأتكلم عنها واحدة فواحدة بما يشفي العليل ويروي الغليل: (الآية الأولى) آية السيف: وهى في سورة التوبة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة: 5) الآية، فقالوا: إنها نسخت جميع الآيات الآمرة بالعفو والصبر والصفح , ولو تأملوا قليلاً لوجدوا أن أكثر هذه الآيات مشعرًا بالتوقيت والغاية إلى أجل كقوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة: 109) . {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} (الصافات: 174) . {وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ} (يونس: 109) . {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (الزخرف: 89) ... إلى غير ذلك من الآيات التى تشعر بأن ترك المدافعة والمقاتلة كان مؤقتًا. ومن القواعد الأصولية المعروفة أنه إذا ورد حكم مطلق وآخر مقيد في موضوع واحد حُمل المطلق على المقيد. وعليه فالآيات المطلقة الواردة في هذا الموضوع يجب أن تقيد بالتوقيت مثلاً قوله تعالى: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} (الحجر: 85) . وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر: 94) كل منهما مؤقت أي أن الأمر بالصفح والإعراض لا إلى غير أجل ولم يكن دائمًا , فلما تحقق المسلمون بعد طول الاختبار أن الصفح والإحسان لا يجدي مع العدو نفعًا ولا يزيده إلا طغيانًا واسترسالاً في الأذى إلى درجة أن يسفك دماءهم ويغتصب أموالهم وأعراضهم ولا يخرجهم من ديارهم ولا يرا

تطور الأمم وانتقالها من حال إلى حال

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تطور الأمم وانتقالها من حال إلى حال إن للأجسام الحية خلايا تتغذى وتزدوج وتلد وتموت فيخلفها نسلها فيكون بها الجسم حافظًا لحياته فإذا ضعفت الحياة في الجسم قل توالد الخلايا وكثر فيها الموت حتى يهلك الجسم فتتصل أجزاؤه بجسم آخر قوي الحياة فتكون غذاءً له كما ترى في النبات والحيوان. إن الحياة مصدر النظام فهي بعمل خلايا الجسم الجزئية تكون خلقًا كليًّا منتظمًا، وإن كان لا شعور لكل خلية في ازدواجها بمثله وإنتاجها بأن عملها ينضم إلى عمل أمثالها فيكون خلقًا كبيرًا له في الوجود مظهر عظيم وعمل حيوي منتظم. إن مدار حياة الأحياء الصغرى كالخلايا والكبرى كالشجر والبقر على الخليقة وما فيها من سنن النظام , وقلما يحتاج شيء منها إلى عناية مدبر مختار من جنسها إلا الإنسان فإنه في أفراده وجمعياته لا يستغني بالطبيعة عن تعاهد بعض أفراده لبعض بالعناية والتربية الشخصية والاجتماعية. إن لهذه الأحياء الصغرى التى تتكون منها العوالم الكبرى أمراضها , ولهذه العوالم نفسها أمراضًا وإن لكل مرض علاجًا ودواءً , وإن العلاج إذا صح يحول دون إنهاكه لقوة الحياة أو الذهاب بها ما دام الجسم الحي مستعدًا للحياة أي ما بقي من عمره الطبيعي بقية. إن معالجة مرضٍ ما تتوقف على العلم بحال ما عرض له المرض من حيث هو حي له مزاج يصح باعتداله الفطري ويمرض بأعراض تخرجه عن الاعتدال والعلم بما سبق عروضه له قبل المرض الأخير الذي يحاول علاجه وبحقيقة هذا المرض وأسبابه والعلم بالدواء وبالطريقة المثلى في المعالجة. إن الإنسان أغرب الأحياء على هذه الأرض والعوارض التي تعرض لحياة أفراده فتمرضهم أو تقتلهم هي أخفى مما يعرض لغيره من الأحياء النباتية والحيوانية على كثرة بحثه عنها وعنايته بمعالجتها , ولذلك يقل في الناس من يصل إلى نهاية العمر الطبيعي , ويقل فيهم من يعيش سليمًا من الأمراض والأسقام كالشجر والحيوان الأعجم. إن لحياة الإنسان الاجتماعية أمراضًا وإن معالجة الأمراض الاجتماعية أعسر، والتحقق بشروطها أندر، ففي كل جيل من الأجيال ينبغ في الأمم المشتغلة بالعلوم والفنون كثير من العلماء الأخصائيين، والصناع الماهرين، وقد تمر قرون وتنطوي أجيال، تخلق فيها أحوال وتتجدد أحوال، ولا يبعث طبيب اجتماعي في الأمة، يرفعها من الحضيض إلى القمة. إن حياة الأمة التي ليس فيها أطباء اجتماعيون، وهداة روحانيون تكون دون حياة الخلايا في الروح، وحياة النجم والشجر في الروض؛ لأن حياة النبات قلما يعوزها شيء وراء الطبيعة وسننها في بلوغها غاية ما أعدتها حكمة التكوين له من النظام والكمال الشخصي والنوعي , وحياة الإنسان لا بد فيها من المربي لتصل إلى كماليها فإذا فقد المربي؛ كان الناس فوضى لا يصلح لهم شأن ولا يستقيم لهم أمر. وأفراده حينئذ يشبهون خلايا الأجسام من حيث جهل كل واحد منهم بنسبة حياته إلى حياة غيره وتأثيرها في الاجتماع وغايتها في الوجود على أن أفراد الإنسان تشعر بعملها الجزئي , ولكن يقل فيهم من يشعر بتأثير عمله في الأمة فيتحرى فيها مصلحته ويعرف اندماج مصلحته فيها. إذا تمهد هذا فاسمع ما ألقيه عليك بشأن الأمة الإسلامية في حياتهم الاجتماعية. إشارة إلى بدايتها وعبارة عما صارت عليه في هذا العصر يكون مثالاً لانتقال الأمم من طور إلى طور من غير تصور ولا شعور. أطوار الأمة الإسلامية: كانت هذه الأمة في نشأتها الأولى تُنْفذ الرجل من أبناءها إلى المملكة فاتحًا فيكون خير قائد في إبان الحرب، وخير حاكم في زمان السلم، يقيم العدل، ويعمر الأرض، ويؤمِّن الرعية، ويستبدل الحرية بالعبودية، فيرى أقل رعيته ولو من غير أهل دينه وجنسه أنه مساوٍ له في الحقوق والحرية بحيث لو نال منه نيلاً فشكاه إلى الخليفة الذي أنفذه لأقاده منه كما حاول عمر أن يقيد ذلك الصعلوك من جبلة بن الأيهم ملك غسان لولا أنه فر هاربًا. بهذا اتسع ملك الأمة وانبثت حياتها العالية في أمم كثيرة فأحيتها، وجددت للناس مدنية لم يسبق لهم عهد بمثلها بل لم يكتحل ناظر الزمان بنظيرها حتى هذا اليوم الذي نرى فيه من آثار العلم والاجتماع ما لم نرَ من قبل فإن إنكلترا وهي أعدل دول أوربا لا تساوي بين آحاد أبنائها وبين أمراء الهند، فضلاً عن أن تساوي بين لورداتها وسلائل ملوكها وبين صعاليك مستعمراتها، وإن الخلفاء الراشدين ما كانوا يجيزون لأبنائهم أن ينفقوا ألوف الألوف من بيت المال في سياحتهم لأجل أن ينفخوا في الرعية روح عظمتهم ويشعروا سكان مستعمراتهم بمكان بأسهم وقهرهم كما أجازت بريطانيا العظمى للبرنس أوف ويلس وليّ عهدها في سياحته الأخيرة، فمثل هذا العمل تقرير لاستعلاء المالكين واستذلال المحكومين، فهو جناية على البشر الذين لا يصلون إلى الكمال الاجتماعي إلا بكمال المساواة التي لا يفضل فيها أحد أحدًا إلا بفضائله وأعماله كما قرر الإسلام. هذا الروح الذي نفخه الإسلام في المعتصمين به حتى كان الرجل الأمي أو شبه الأمي منهم يعمل في سياسة الممالك ما يعجز عنه الفلاسفة والحكماء قد كان من شأنه أن يستولي على العالم كله فيصلحه لولا أن الملوك الظالمين وأعوانهم من الفقهاء الجامدين قد أفسدوا جسم هذه الأمة فلم يعد مستعدًّا لحمل هذا الروح والحياة به. فإذا كان عمرو بن العاص قد فتح مصر بجيش صغير فأحياها بالعدل وحسن الإدارة حتى وصل النيل بالبحر الأحمر وآخى بين هذا القطر وبين الحجاز (وهو ممن لم يدخل المدرسة الحربية ولا مدرسة الحقوق ولا مدرسة المهندسخانه) فقد صار القطر الإسلامي العظيم يستعبده عدد قليل من الأجانب وصار المسلم المتعلم الحامل للشهادات العالية التي يظن أنه يفضل بها عظماء سلفه كعمرو وعمر ينفذ إلى قطر إسلامي كاليمن اليوم وكالسودان بالأمس فيبغي في الأرض، ويجني على العَرَض والعِرض، فيترك الأرض موظوبة، والأموال مسلوبة، والدماء مسفوكة، والأعراض مهتوكة، حتى أنّت الأرض من حكم كل مسلم عليها، واستغاثت السماء من سلطة كل مسلم تحتها، وسمع رب العزة أنين المظلومين وبكاء الباكين، {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13) بما جاءهم على لسان النبيين. عم الظلم فأفسد الأخلاق وأضعف النفوس وطبع على قلوب الأمة بطابع القهر والعبودية حتى لا أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا تعاون على بر ولا تناصر على رفع ضر، فذهبت ريح الدولة وقوة الأمة، واستعد الفريقان بعملهم لنقمة الله تعالى بدلاً من سابق نعمته، فكان تقلص ظل الحاكمين الظالمين على رءوس المظلومين الخاضعين بأيدي الأجانب لا بأيدي الأمة وبهذا كان الانتقام عامًّا، ولو كانت الأمة هي التي هبت لإزالة الظلم بأيديها وأخذ صولجان الحكم بيدها لكان الانتقام خاصًّا بالظالمين، ولبقي للأمة عزها ومجدها. دب الفساد الاجتماعي في جسم الأمة فلم تشعر به فتعالجه، فكان أفرادها بفقدهم الشعور بما يحل بهم وبما يكون من عاقبته في مجموعهم كخلايا الشجرة أو الثمرة يعرض الفساد بجانب منها ولا تدري حتى تفسد جميعها؛ ذلك أن الظالمين بدأوا بإزهاق روح التكافل الذي يربط بعض الأفراد ببعض فيكون سببًا لسريان شعور المجموع بما يطرأ على الأفراد وانفعال المزاج الكلي بذلك، واندفاعه إلى دفع العرض الطارئ قبل سريانه واستشرائه؛ فإن من طبيعة الجسم الحي أن ينفعل مزاجه بما يعرض لأي عضو من أعضائه فيوجه قوته لدفع العرض بإعانة ذلك العضو عليه، ألا ترى أن الدم يكثر وروده على الدماغ عند انهماكه في الفكر وإلى المعدة عند اشتغالها بالهضم وإلى نحو اليد يصيبها برد أو ضرب. والأمة الحية كالجسم الحي توجه قوتها إلى إعانة كل فرد من أفرادها يصيبه ضرر أو يرهقه ظلم حتى تدفعه عنه أو تعجز فتكون من الهالكين كما إذا عجز المزاج الصحيح في جسم الحيوان عن دفع عوارض الفساد بنفسه أو بمساعدة الطبيب فإن الفساد يغلب حينئذ على الجسم فيفسده. كيف أزهق الرؤساء المفسدون روح التكافل في جسم هذه الأمة؟ حولوا السلطة من الشورى الشرعية إلى الأثرة الاستبدادية، وفرقوا بين المسلمين في الجنسية، فقالوا: عربي وعجمي، وفارسي وتركي، وفي اللغة، فقالوا: لغة رسمية ولغة دينية، وفي المذاهب فقالوا: سني وشيعي، وحنفي وشافعي، وفي الوطن فقالوا: مصري وشامي، ومغربي وحجازي، وإذا كنت تظن أن هذا الضرب الأخير من التفريق أهون ضروبه شرًّا؛ فأنا أذكر لك كلمتين لرئيس ديني ورئيس دنيوي تعرف بهما مبلغ تسمم جسم الأمة الإسلامية بسم الوطنية. رأى عالم من علماء الدرجة الأولى بل شيخ من مشايخ الأزهر السابقين يلقب بشيخ الإسلام خطيبًا شاميًّا في جامع بمصر فقال: إن هذا الجامع حسن وموقعه عظيم، ولكن من الأسف حشوه بالشوام! وقال رئيس كبير من رؤساء الدنيا في معهد من معاهد العلم الديني - وقد رأى فيه حجرات كثيرة للطلاب من قطر غير قطره -: ماذا فعل لنا هؤلاء.. حتى نعطيهم كل هذه الحجرات وأهل البلد أحق بها منهم؟ ! ، أو ما هذا معناه على أنه لم يكن هو الذي أعطاهم وإنما تلك أماكن وقفها عليهم أناس آخرون من غير قوم القائل ومن غير وطنه. هنالك إفساد آخر هو أشد من كل إفساد وهو الحيلولة بين المسلمين وبين هداية القرآن الذي جعل أمر المسلمين شورى بينهم لا في أيدي أفراد يستبدون فيهم وفرض عليهم مقاومة الظلم والإفساد في الأرض بقوة الأمة وغير ذلك مما يحفظ حياة الأمم بل ينميها حتى تبلغ كمالها ولولا هذا الإفساد لما تم لظالم ولا لمفسد ما أراد. سرت كل هذه الأمراض في جسم الأمة الإسلامية من حيث لا يدري الأفراد ولا يشعرون كما علمت من التمثيل السابق، وكان من عواقبها أن أكثر الممالك الإسلامية خرجت من أيدي المسلمين وما بقي لهم فهو في طور النزع ولكن هذا العصر يمتاز على ما قبله بشعور كثير من أفراده بأن الأمة في مرض، ودولها في حرب، فإذا لم تبادر بالعلاج تم فساد المزاج، وأجهز عليها الظالم، فهلك المحكوم في أثر الحاكم، بهؤلاء الأفراد على قلتهم وضعفهم أنشأ المسلمون يستعدون لاستعادة ما فقدوا من مزايا الإنسانية ولكن المسلمين لم يغفلوا عن مراقبتهم، فهم يجتهدون في إماتة شعورهم بالضغط والاضطهاد تارة وبالرتب والرواتب تارة أخرى، ومن ثبت على نار الفتنتين اضطر إلى الفرار من ديارهم إلى ديار أخرى يأمن فيها على نفسه أن تغتال، ويجد فيها لحرية فكره ولو بعض المجال، وإلا نفوه إلى بلد قفر، أو جزيرة في البحر، حتى لا ينتشر له فكر، ولا يسمع له ذكر. وجملة القول: إن المسلمين كانوا أحياءً بالإسلام نفسه على بصيرة وبينة، ولما عرض لهم حلم الفساد اضطرب مزاجهم؛ فتداعوا إلى إزالته فحال دون ذلك تحول السلطة الإسلامية عن صراطها، ثم ضعف الشعور بفعل هذا الحلم بجسم الأمة لقوة مزاجها وضعف سائر الأمم دونها ثم خدر المرض أعصابها فكان الحلم يفعل فعله وهي لا تشعر حتى عم الفساد كل عضو من أعضائها، ونعني بالأعضاء الشعوب والفرق التي انقسمت إليها وحدة الأمة، فلا يوجد شعب إسلامي حي ولا حكومة إسلامية إلا وهي تعفو ما بقي من رسوم الإسلام وتجد في إبسال أهله إلا ما يقال عن حكومة الأفغان من عنايتها بحفظ استقلالها بالقوة العسكرية الحديثة، وهذا ضروري ولكنه غير كافٍ كما نرى في تركيا، فلا بد من نشر علم الكون ف

أسئلة من سنغافورة ورأي عالم في المنار والمسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من سنغافوره ورأي عالم في المنار والمسلمين (س 6-9) من خ. م. س. في سنغافوره تشرفت بلقاء بعض الفضلاء من علماء المسلمين فانجر بنا الحديث إلى ذكر الأحوال الحاضرة فيما للإسلام والمسلمين فيه وعليه , فجرى ذكر المنار المنير فأثنى عليه بما هو أهله ثم شافهني بقوله: تنبه كثير من المسلمين بدعاء المنار إلى الله تعالى وتمحيصه للحقائق , وإني أرفع إليك هذا لترفعه إلى المنار الأغر لينشره على صفحاته مؤملاً منه أن يبسط لنا في الجواب على ما سألناه وما ضالتنا المنشودة إلا الإرشاد إلى الحق (وهذا ما قاله ذلك الحكيم) : ضرب الجهل أطناب خيامه في بعض البلاد الإسلامية التي كان لسلفها القدح المعلى في العلوم والمعارف والأعمال حتى صارت الآن خلوًا من كل ما يطلق عليه اسم (مجد) بل لا يبعد إن قلنا: إن من فيها من الخلف ضد لسلفهم , وقد أهملوا كل شيء من المجد اتكالاً على مجد من سلف حتى إذا ما عرا حادث اتكلوا في دفعه على سكان الأضرحة فتراهم يعتقدون في صالحي أمواتهم أنهم مطلعون على أي حادث عرا وأنهم إن شاءوا دفعه عنهم دفعوه , وإن رأوا في إبقائه صالحًا أبقوه وتراهم يقدسون تلك البقاع التي لم يرد في الشرع تقديسها , ويرون في مطلق الإقامة بها شرفًا وفضلاً وإن كان المقيم بها خلوًا عن كل فضل وشرف. فهل أنزل الله بهذا من سلطان؟ وهل فيما يعتقدونه شيء ورد به الكتاب والسنة؟ وهل فيما إذا ورد عن سلفهم شيء ولم نجد له دليلاً من الكتاب والسنة فعلى ماذا يكون حمله؟ وهل يجب على أحد التصديق بالولاية لشخص معين؟ وماذا يكون حكم من رد شيئًا من كلامهم في نحو ما ذكر أعلاه ولم يعترف بولاية أحد معين؟ وقد جاء من نحو هذا في بعض أعداد المنار السالفة ما جاء , والأمل في حضرة الأستاذ الرشيد المرشد أن لا يحيلنا على ما سبق ويبسط لنا في جوابه على ما ذكرناه فضلاً , وليكن في معلومكم سيدي أن هذا الداء قد أزمن في كثير من بلدان المسلمين فيحتاج إلى معالجته بدواء فيه قوة لاستئصاله - فلعل أن يكون دعاء المنار إلى الحق بالحق مقبولاً عند أولئك , كما أنه قبل دعاء المنار كثير ممن ضلوا فأضلوا ثم اهتدوا فهدوا -. (المنار) ترجع هذه الأسئلة إلى أربع مسائل: (1) الدليل على دعاء الموتى أي التماس دفع الشر وجلب الخير منهم. (2) ما يرد عن العلماء ولا يعلم له دليل. (3) حكم من رد كلام العلماء الذي لا دليل عليه. (4) الاعتقاد بولاية شخص معين من الناس أي أن له مكانة عند الله خاصة به في الدنيا والآخرة. وإن كثيرًا من قراء المنار قد سئموا كثرة الكلام في مسألة التوسل بالموتى إلى قضاء الحاجات , ولكن فتنة الناس بها وتجدد قراء كثيرين للمنار في كل عام لم يطلعوا على ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم إليه يوجب علينا مع تجدد السؤال عنها أن نبين الحق فيها فنقول: مسألة دعاء الموتى والتوسل بهم (ج 6) لو كان الكلام مع أناس من أهل العلم والبصيرة لكان يكفينا في بيان بدعتهم في ذلك أن نقول: إن ما تأتونه لم يأذن به الله في كتابه ولا على لسان رسوله , ولم يأتِ بمثله صالح المؤمنين من الصحابة والتابعين وهو أمر ديني محض لا مجال للرأي فيه فمن يقول به يكون منازعًا لله تعالى في شرع الدين كما قال تعالى في سورة الشورى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) .. الآية. فإن ادعوا أن أحدًا من السلف دعا ميتًا أو طلب منه حاجة أو صلى عند قبره أو تمسح به أو قصده للدعاء أو قال: إن الدعاء عنده أرجى للإجابة- طالبناه بالنقل ولن يجده وإنما قصارى احتجاجهم أن بعض مشايخ التصوف الذين اشتهروا بالصلاح كانوا يتبركون بالقبور. والجواب عنه سهل لمن يعرف ما هو الإسلام، فإن علماء أصول الدين حصروا الحجج الشرعية في الكتاب والسنة والإجماع والقياس. ولا ينهض شيء من ذلك هنا، أما الكتاب والسنة والإجماع فإن طريقها النقل ولم ينقل ذلك أحد؛ وأما القياس فإنه لا يأتي في الأمور التعبدية ولا فيما يتعلق بشأن عالم الغيب , والمسألة من هذا القبيل لأن المفتونين بها فريقان: غلاة يزعمون أن الموتى يقضون حاجاتهم بأنفسهم لأن أرواحهم مأذونة بذلك , وقال بعضهم: بل هي تعود إلى أجسادها التي لا تفنى وتقضي الحاجة كما كان شأنها في الحياة الدنيا، وأنت ترى أن هذا نبأ عن عالَم الغيب وهو لا يعرف إلا بالوحي كما قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) .. الآيات وفيها أن الرسول يطلعه الله تعالى على ما يريد أن يبلغه عنه من أمر عالم الغيب كالجنة والنار والملائكة والجن. وأما الآخرون فيقولون: إن الله تعالى يقضي حاجة من يدعوهم كرامة لهم. وهذا حكم على الله تعالى وهو أعلى أحكام عالم الغيب , ولا قياس فيه فهو يتوقف على نص من الوحي وإلا كان من القول على الله بدون علم وهو من كبائر الإثم المقرونة بالكفر وهي أصول المحرمات في كل دين شرعه الله كما بينه تعالى في قوله في سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) . على أن هذه المسألة - مسألة التماس دفع الضر أو جلب النفع من غير الله استقلالاً أو بالوساطة والشفاعة - لم تكن لتترك فلا يبين حكمها في القرآن وهي أصل الوثنية وأساسها في جميع الأمم , ولذلك فتن بها أهل الكتاب فاتخذوا وسطاء وشفعاء بينهم وبين الله تعالى غير وسطاء أجدادهم أو خلطائهم من الوثنيين فهم لا يخالفون الوثنيين في أصل هذه العقيدة وحقيقتها، وإنما خالفوهم في مظهرها وصورتها، إذ اعتقدوا الوساطة والشفاعة مثلهم وجعلوا لهم شفعاء ووسطاء من أنفسهم غير وسطاء أولئك وشفعائهم. أفرأيت دين التوحيد الخالص يسكت عن هذه المسألة ويدعها للفقهاء يحكمون فيها بقياسهم وهي تتعلق بأساس الدين وركنه الركين وهو التوحيد؟ ! . قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) أي أنهم باتخاذ الشفعاء يعبدون غير الله لأن هذا عين العبادة , ولكنهم يقولون: إن هذه شفاعة عنده فهي لا تخل بتعظيمه بل هي تعظيم لهم كما تعظم الملوك إذ لا يتجرأ الحقير على دعائهم إلا بواسطة المقربين عنده. وقد نفى سبحانه هذه الشفاعة في آيات كثيرة قال تعالى في سورة البقرة: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة} (البقرة: 48) ، {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} (البقرة: 123) ، {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَة} (البقرة: 254) وقال في سورة المدثر: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} (المدثر: 48) وقال في سورة الأنعام: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الأنعام: 51) ، {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} (الأنعام: 70) .. الآية ومعنى (تبسل) تسلم إلى الهلاك أي أن الذين تدفعهم أعمالهم إلى الهلاك لا تنجيهم من عاقبتها شفاعة أحد , والآيات في هذا كثيرة وارجع إلى التفسير من هذا الجزء تجد الكلام في معناها مفصلاً. وكانوا يطلقون على هؤلاء الشفعاء لقب الأولياء كما تلوت في آيتي الأنعام آنفًا ومثلهما آية (الم) السجدة: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة: 4) وقال تعالى في سورة الزمر: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ * لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ} (الزمر: 3-4) فدلت الآية الثانية على أن من جملة هؤلاء الأولياء المسيح عليه الصلاة والسلام والملائكة أي أن الناس يتقربون بأشخاصهم وذواتهم إلى الله تعالى زلفى , وهذا باطل إذ لا يتقرب أحد إلى الله تعالى بأحد إنما يُتقرب إليه تعالى بالعمل الصالح وإخلاص القلب مع الإيمان الصحيح. وأنت تعلم أن كل ما يعتقده المبتدعون في أصحاب القبور الصالحين هو من هذا القبيل أي أن التوسل بأشخاصهم يقرب من الله تعالى ويكون وسيلة لقضائه سبحانه وتعالى حاجة من يدعوهم ويتقرب بهم. ولذلك قال تعالى في سورة الإسراء: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 56-57) أي أن أولئك الأولياء الذين يدعونهم لكشف الضر عنهم أو تحويله توسلاً بهم كالمسيح - هم أنفسهم يطلبون الوسيلة إلى الله تعالى بعبادته ويرجون رحمته باتباع سنته والعمل بشريعته ويخافون عذابه إذا قصروا، حتى إن أقربهم من مرضاته هو أخوفهم منه وأرجاهم له. ذلك بأن عذاب الله في الدنيا والآخرة مخوف ومحذور في نفسه لأن لله فيه سننًا لا تتبدل يوشك أن يخالفها المرء من حيث يدري أو من حيث لا يدري وأن القلوب تتقلب وأنه لا يجب لأحد من خلقه عليه شيء ولذلك قال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: 17) فبمثل هذه الآية يهدينا سبحانه إلى أن ملائكته وأنبياءه وأولياءه ما كانوا ليرجون رحمته إلا بفضله عليهم إذ جعلهم محلاً لطاعته وإرشاد عباده فلا نغلو في تعظيمهم حتى ننسى كونهم عبيدًا له إن شاء أن يهلكهم فعل؛ لئلا نطلب منهم نفعًا أو ضرًا. ومن ثم قرن الله خشيته بالعلم وجعله من أسبابها كما قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) وفي حديث الصحيحين عن عائشة قالت: (صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا فرخص فيه , فتنزه عنه قوم فبلغه ذلك , فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يتنزهون من الشيء أصنعه فوالله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) . ثم إن ما يطلب من أصحاب القبور وغيرهم يعبر عنه بالدعاء كما قال في الآية السابقة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ..} (الإسراء: 57) .. إلخ , وقد احتج القرآن على بطلان هذا الدعاء بقوله: {وَال

تتمة أجوبة الأسئلة الجاوية في السماع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة أجوبة الأسئلة الجاوية في السماع (تنبيه) رأى بعض فضلاء المصريين أننا أطلنا في هذه المسألة أكثر مما تستحق وذلك أنه يندر أن يوجد في مصر من يتحامى السماع ولكن الجمود في كثير من البلاد على تقليد المعسِّرين لا يلين إلا بأكثر من هذا , والمنار ليس خاصًّا بالمصريين. البحث في السماع من جهة القياس الفكري يرى القارئ المنصف أن ما قاله الشوكاني (ونشرناه في الجزء الماضي هو صفوة التحقيق إلا أن في إدخاله السماع على الإطلاق باب الشبهات نظرًا؛ فإن ما ثبت في الصحيح من سماع النبي صلى الله عليه وسلم وأكابر أصحابه يدفعه , فإنهم أبعد الناس عن الشبهات , وقد سمعوا مع تسميتهم ذلك بمزمار الشيطان وباللهو. والذي يظهر من أحاديث الإباحة التي تقدمت أن قول من قال باستحباب السماع أو ندبه ينبغي أن يحمل على ما يكون في الأوقات والحالات التي يستحب فيها تحري السرور كالعرس والعيد وقدوم الغائب. فإن السماع فيما عدا هذه الأوقات والحالات مباح لذاته بشرط عدم الإسراف فيه , فإن الإسراف ضار بالأخلاق مسقط للمروءة , وهذا هو مراد الإمام الشافعي رضي الله عنه بقوله في الأم: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته , وقوله: إن صاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته، وقد يقال: إنه يقرب أن يكون ديوثًا لأنه إذ لم يغَرْ على جاريته أن تطرب الناس بصوتها فربما كان لا يغار عليها مطلقًا. وقولنا: مباح لذاته، يتفق مع قول الغزالي ومن وافقه بمنع ما كان فيه تشبه بأهل الفسق في شعارهم الخاص بهم قال في الإحياء: (ولهذه العلة نقول: لو اجتمع جماعة وزينوا مجلسًا , وأحضروا آلات الشرب وأقداحه وصبوا فيها السكنجبين , ونصبوا ساقيًا يدور عليهم ويسقيهم فيأخذون من الساقي ويشربون ويحيي بعضهم بعضًا بكلماتهم المعتادة بينهم؛ حرم ذلك عليهم وإن كان المشروب مباحًا في نفسه لأن في هذا تشبهًا بأهل الفساد , بل لهذا ينهى عن لبس القباء وعن ترك الشعر قزعًا على الرأس في بلاد صار القباء فيها من لباس أهل الفساد ولا ينهى عن ذلك فيما وراء أهل النهر لاعتياد أهل الصلاح ذلك فيهم. فلهذه المعاني حرم المزمار العراقي والأوتار كلها كالعود والصنج والرباب والبربط وغيرها وما عدا ذلك فليس في معناها كشاهين الرعاة والحجيج وشاهين الطبالين وكالطبل والقضيب وكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون سوى ما يعتاده أهل الشرب؛ لأن كل ذلك لا يتعلق بالخمر ولا يذكر بها ولا يشوق إليها ولا يوجب التشبه بأربابها فلم يكن في معناها فبقي على أصل الإباحة قياسًا على أصوات الطيور وغيرها. بل أقول: سماع الأوتار ممن يضربها على غير وزن متناسب مستلذ حرام أيضًا. وبهذا تبين أنه ليست العلة في تحريمها مجرد اللذة الطيبة , بل القياس تحليل الطيبات كلها إلا ما في تحليله فساد قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) فهذه الأصوات لا تحرم من حيث هي أصوات موزونة وإنما تحرم بعارض آخر. اهـ كلام الغزالي وتكلم في مكان آخر عن العوارض. فهذا القول هو أحسن ما قيل في القياس كما أن القول السابق هو أحسن ما قيل في السنة وأجمعه. وأنت تعلم أن التشبه بأهل السكر والخلاعة إنما حرم لما فيه من مهانة المؤمن وضعته , فإذا سمع المؤمن الأوتار في مجلس لا يعد فيه متشبهًا بأهل السكر والفسق كأن يسمعه في بيته أو بيت آخر بصفة لا تشبه فيها فلا مجال للقول بالتحريم , فالأمر في الأوتار كالأمر في لبس القباء (هو القفطان في عرف المصريين والغنباز في عرف الشاميين) فقد حرمه الغزالي في بلاد وأباحه في أخرى لعلة التشبه وعدمها , وما قاله في إباحة سائر الآلات يدخل فيه آلات الموسيقى العسكرية وأمثالها فتبين بهذا أنه لا وجه في القياس الصحيح لتحريم سماع المعازف على الإطلاق كما أنه لا وجه لها في كتاب ولا سنة بل الوجه ما تقدم. ومن العوارض التي لا بد من التنبيه إليها كون السماع يهيج السامع فيدفعه إلى المعاصي؛ فمن علم من نفسه ذلك حرم عليه، هذا ما يليق بدين الفطرة الذي جمع لمتبعيه بين سعادة الدنيا والآخرة والله أعلم وأحكم. الكلام على عبارات الأسئلة أما قول السائل في السؤال الأول: إن الغزالي حرم ما هو شعار أهل الشرب إلخ فيقال فيه: إن ما صرح به الغزالي هو أن الأصل في سماع الغناء والمعازف الحل كما تقدم , وتحريم سماع الأوتار لعلة التشبه بالفساق يزول بزوال هذه العلة كما قال في لبس القباء. وما ذكره فيه عن ابن حجر من العلة الأخرى وهي كون اللذة بالسماع تدعو إلى الفساد فهو محل نظر , إذ السماع - كما قال بعض العلماء - إنما يحرك الساكن ويستخرج الكامن فمن لم يكن من أهل الفساد لا يدعوه إلى الفساد , وأشد السماع تأثيرًا في النفس سماع ألحان النساء وقد سمعها الشارع وكبار أصحابه , وقد أطال الغزالي في بيان اختلاف الحكم باختلاف أحوال الأشخاص وأن ذلك لا يمنع أن الأصل فيه وفي جميع اللذات الإباحة. والحديث الذي أورده فيه عن كتاب النصائح وهو (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء..) وذكر منها اتخاذ القينات والمعازف وفسرها بالملاهي من الأوتار والمزامير لم نذكره في أحاديث الحظر لشدة ضعفه ولأجل الكلام عليه هنا. فنقول: قد رواه الترمذي عن صالح بن عبد الله عن الفرج بن فضالة الشامي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب مرفوعًا: (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء) قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: (إذا كان المغنم دولاً , والأمانة مغنمًا , والزكاة مغرمًا , وأطاع الرجل زوجته وعق أمه , وبر صديقه وجفا أباه , وارتفعت الأصوات في المساجد , وكان زعيم القوم أرذلهم , وأُكرِمَ الرجل مخافة شره , وشُربت الخمور , ولُبس الحرير , واتُّخِذَتْ القيان والمعازف , ولعن آخر هذه الامة أولها؛ فارتقبوا حين ذلك ريحًا حمراء وخسفًا أو مسخًا) والفرج بن فضالة قد تكلم فيه، سئل الدارقطني عنه فقال: ضعيف فقيل له: نكتب عنه حديثه عن يحيى بن سعيد (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة..) .. إلخ؟ فقال: هذا باطل، فقيل من جهة الفرج قال: نعم. وقال أبو داود: سمعت أحمد يقول: إذا حدث عن الشاميين فليس به بأس ولكنه عن يحيى بن سعيد عنده مناكير، وقال أبو حاتم: لا يحل الاحتجاج به , وقال مسلم: إنه منكر الحديث، ثم إن الحديث لا يدل على تحريم سماع الأوتار؛ لأن الخصال التي ذكرت فيه منها ما هو فضيلة كبرِّ الصديق ولكن مجموعها سبب للهلاك , وإن لم يصح الحديث لأنها من السرف في الترف وفساد الأخلاق وإضاعة المصالح العامة والخاصة. ابن حزم وابن طاهر الحافظان وأما ما ذكر في السؤال الثاني عن ابن حجر الهيتمي من الطعن في ابن حزم وفي ابن طاهر فهو مما اعتاد ابن حجر مثله , وهو معدود عليه من غلوه في التعصب لأقوال علماء مذهبه , وابن حجر ليس من طبقة ابن حزم الحافظ الإمام المجتهد ولا من طبقة ابن طاهر , وإنما يعرف قدر ابن حزم الحافظ ابن حجر العسقلاني إمام المحدثين في زمنه وبعد زمنه. وقد ذكر له ترجمة طويلة في طبقات الحفاظ قال فيها: وكان إليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم , وكان شافعيًّا ثم انتقل إلى القول بالظاهر , ونفى القول بالقياس وتمسك بالعموم والبراءة الأصلية , وكان صاحب فنون فيه دين وتورع وتزهد وتحرٍّ للصدق , ثم قال: وقال صاعد بن أحمد: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة مع توسعه في علم اللسان ووفور حظه من البلاغة والشعر ومعرفته بالسنن والآثار. أخبرني ولده الفضل أنه اجتمع عنده بخط أبيه أبي محمد من تواليفه أربع مائة مجلد تحتوي على نحو من ثمانين ألف ورقة. قال الحميدي: كان أبو محمد حافظًا للحديث وفقهه مستنبطًا للأحكام من الكتاب والسنة متقنًا في علوم جمة عاملاً بعلمه ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتدين، وكان له في الأدب والشعر نفس واسع وباع طويل ما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه.. إلخ، ثم نقل الحافظ ابن حجر عن شيخ الإسلام العز بن عبد السلام إمام الشافعية في عصره أنه قال: ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المُحَلَّى لابن حزم والمُغني للشيخ الموفق، ثم قال الحافظ في أواخر ترجمته: قلت: ابن حزم رجل من العلماء الكبار فيه أدوات الاجتهاد كاملة.. إلخ. وأما ابن طاهر فقد ذكره في طبقات الحفاظ أيضًا وبيَّن أصل هذه الكلمة (إباحي) التي قالها فيه ابن حجر الهيتمي الفقيه مع ألفاظ أخرى تعد من السباب لم يقل بمثلها أحد. قال الحافظ في ترجمته: وقد ذكره الدقاق في رسالة فحط عليه وقال: كان صوفيًا ملامتيًا سكن الري ثم همذان , له كتاب صفوة التصوف وله أدنى معرفة بالحديث، قلت: هو أحفظ منك بكثير يا هذا! . ثم قال: ذكر عنه الإباحة قلت: بل الرجل مسلم معظم للآثار وإنما كان يرى إباحة السماع لا الإباحة المطلقة التي هي ضرب من الزندقة. اهـ. فهل يُسَلِّم مسلم بعد قول الحافظ ابن حجر العسقلاني صاحب القول الفصل والحكم العدل في الرجال ما قاله ابن حجر الفقيه الهيتمي من أنه مجازف إباحي كذاب رجس العقيدة نجسها؟ اللهم ألهم هؤلاء الأئمة الذين يسبهم ابن حجر الهيتمي المتعصب لتقليده العفو عنه يوم الدين. وأما حكاية الحافظ ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي إباحته العود فإذا لم تصح عنه فقد صحت عمن هم أعظم منه. قال الزبيدي في شرح الإحياء بعد نقل تحريمه عن المذاهب الأربعة: وذهبت طائفة إلى جوازه وحكي سماعه عن عبد الله بن جعفر وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وحسان بن ثابت رضي الله عنهم وعن عبد الرحمن بن حسان وخارجة بن زيد ونقله الأستاذ أبو منصور عن الزهري وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والشعبي وعبد الله بن أبي عبيد وأكثر فقهاء المدينة. وحكاه الخليلي عن عبد العزيز بن الماجشون وقدمنا ذلك عن إبراهيم وابنه سعد وحكاه الأستاذ أبو منصور أيضًا عن مالك وكذلك حكاه الفوراني في كتابه الغمد. وحكى الروياني عن القفال أنه حُكيَ عن مالك أنه يبيح الغناء على المعازف، وحكاه الماوردي في الحاوي عن بعض الشافعية ومال إليه الأستاذ أبو منصور. ونقل الحافظ ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه وأنه كان مشهورًا عنه وأنه لم ينكره عليه أحد من علماء عصره. وابن طاهر عاصر الشيخ واجتمع به وهو ثقه وحكاه عن أهل المدينة وادعى أنه لا خلاف فيه بينهم وإليه ذهب الظاهرية حكاه ابن حزم وغيره. قال صاحب الإمتاع: ولم أَرَ من تعرض لكراهة ولا لغيرها إلا ما أطلقه الشافعي في الأم حيث قال: وأكره اللعب بالنرد للخبر أكثر ما أكره اللعب بشيء من الملاهي، فإطلاقه يشمل الملاهي كلها ويندرج فيه العود وغيره , وقد تمسك بهذا النص من أتباعه من جعل النرد مكروهًا غير محرم، وما حكاه المازري في شرح التلقين عن ابن عبد الحكم أنه قال: إنه مكروه، ونقل عن العز بن عبد السلام أنه سئل عنه فقال: إنه مباح , وهذا هو الذي يقتضيه سياق المصنف هنا (يعني الغزالي في الإحياء) اهـ. كلام الزبيدي ومنه ومما سبق عن نيل الأوطار يعلم أن النقل عن الصحابة والتابعين وغيرهم من العلماء لم ينفرد به ابن حزم وابن طاهر , ولو ان

نقد شرح ديوان أبي تمام

الكاتب: أديب متنكر

_ نقد شرح ديوان أبي تمام تابع لما في الجزء الأول (ص104) أظن دموعها سنن الفريد ... وهي سلكاه من نحر وجِيد (سنن الفريد: وجه العقد) يقال: امضِ على سننك أي على وجهك , وتنحَّ عن سنن الجبل أي وجهه , ولا يقصد الشاعر إلى هذا هنا , وإنما قصد إلى تشبيه قطرات الدموع بحبات العقد الفريد التي عبر عنها بالسنن وهي جمع سنة كحبر جمع حبرة. والسنة: الحبة من رأس الثوم وهي بيضاء مدملكة ملساء فيحسن تشبيه حبات العقد بها وإطلاق اسمها عليها. ولا يضر التشبيه خبث رائحة السنن لأنه لا يلاحظ فيه جميع عوارض المشبه به , وهذا طلع النخل تشبه به الثنايا ورائحته رائحته. (ص104) رآنا مشعري أرق وحزن ... وبغيته لدى الركب الهجود. (الهجود: من هجد إذا أناخ) : هجد: نام، والركب الهجود النائم , وهو ما أراده الشاعر فهو يقول: إن الطيف تحامى زيارته لكونه حليف أرق وحزن والطيف إنما يأوي إلى الركب النائم. وقد ينيخ الركب ولا ينام. (ص109) أخو الحرب العوان اذا أدارت ... رحاها بالجنود على الجنود (العوان: التي قوتل فيها مرة) صوابه: مرتين أي مرة بعد أخرى , وفسر الشارح العوان أيضًا في ص143 كما فسرها به هنا. (ص 105) بنصر ابن منصور بن بسام انفرى ... لنا شظف الأيام في عيشة رغد (انفرى: انصلح) انفرى هنا بمعنى انكشف وتقلص واضمحل وزال. راجع ما قلناه عن هذه الكلمة في قول الشاعر: به انكشف عنا الغيابة.. إلخ. (ص138) فعلوت هامته فطار فراشها ... بشهاب موت في اليدين مجرد (الفراش: موقع اللسان في قعر الفم) أراد الشارح أن الفِراش مفرد على وزان كتاب وأن معناه ما ذكره , وليس كذلك فإن شاعرنا أراد بقوله ما يريده أهل اللغة في قولهم: أطار فَراش رأسه , وفَراش الرأس بفتح الفاء جمع فراشة بفتحها أيضًا عظام رقيقة تبلغ القحف ويقال لها: فراش الدماغ , والفراش أيضًا كل رقيق من عظم أو حديد. (ص 139) نفسوك فالتمسوا مداك فحاولوا ... جبلاً يزل صفيحه بالمصعد (بالمصعد: أي وقت الطلوع) لا معنى لكون وجه الجبل وسطحه يزلق بوقت الطلوع , وإنما المعنى أن من أراد بلوغ المنزلة التي بلغها الممدوح كان كمن يحاول الرُّقِيّ في جبل يزلق سطحه بالمصعد فيه فهو لا يزال في عناء وخيبة فالمصعد اسم فاعل من أصعد إذا استقبل أرضًا أرفع من الأخرى , ونظير قول شاعرنا قول الآخر: (كما زالت الصفواء بالمتنزه) أي كما يزل النازل على الصخرة الملساء. (ص145) حتى التوى من نقع قسطلها على ... حيطان قسطنطينة إعصار (النقع: رفع الصوت) القسطل ليس له صوت مرتفع , وإنما المراد بالنقع هنا الغبار وتكون إضافة النقع إلى القسطل الذي معناه الغبار أيضًا من قبيل الإضافة البيانية. (ص 148) وإذا القسي العوج طارت نبلها ... سوم الجراد يشيح حين يطار (السوم: العلامة) السوم هنا مصدر سامت الطير على الشيء سومًا: حامت , وهو مفعول مطلق لطارت من غير لفظه يقول: إذا انتثرت النبال وأشبه انتثارها حومان رجل الجراد الذي هيج فجد في الطيران. وجواب الشطر البيت بعده. ... (ص 151) لولا أحاديث أبقتها أوائلنا ... من السدى والندى لم يعرف السمر (السدى: ندى الليل) كما يطلق كل من السدى والندى على ما يسقط في الليل يطلق أيضًا على المعروف والجود , ومنه: أسدى إليه أحسن إليه , والمراد منهما هنا المعنيان الآخران قطعًا ولا يمكن أن يراد بالسدى ندى الليل. (ص158) مصفرة محمرة فكأنها ... عصب تيمن في الوغى وتمضر (العصب: صبغ ينبت في اليمن) العصب: ضرب من برود اليمن ذو وشي ونقوش , وقد أراد الشاعر أن الربيع أفرغ على الأرض من أزاهيره حللاً ملونة تحاكي تلك البرود اليمنية المسماة بالعصب لا أنها تحاكي الصبغ نفسه. (ص 158) بالثامن المتخلف اتسق الهدى ... حتى تخير رشده المتحير (اتسق: سار على طريقة نظام عام) اتسق واستوسق الأمر أو الهدى مثلاً اجتمع وانتظم واستوى , واتساق القمر اكتماله واستواؤه. وقولهم: وسق البعير أي ساقه لا يقتضي جواز مجيء اتسق بمعنى سار مطاوعًا له. (ص168) للمجد مستشرف وللأدب المجفوّ ... ترب وللندى حلس (الحلس: الكبير من الناس) نعم هو من جملة معانيه لكن أريد به هنا معنى آخر. أصل الحلس مسح يبسط في البيت وتجلل به الدابة أو يكون تحت رحلها ثم استعير لمن يلازم الشيء ويعود نفسه عليه وفي الحديث: كن حلس بيتك أي ملازمًا له وهم من أحلاس خيل أي من أصحابها الآلِفِين لركوبها وفلان ليس من أحلاسها، فاستعملت استعمال حلف وترب في مثل قولهم زيد حلف فقر وعمرو ترب أدب , وقرنها بترب يؤيد كون المراد بها ما ذكرناه. (ص 169) قالت وعيُّ النساء كالخرس ... وقد يصبن الفصوص في الخلس (الفصوص: أحداق العيون) نعم، لكن ليس المراد بها هنا هذا المعنى. أصل الفص حجر الخاتم وتجوزوا فيه فقالوا: أنا آتيك بالأمر من فصه أي أصله وحقيقته ومخرجه الذي خرج منه , وقالوا أيضًا: فلان حزاز الفصوص إذا كان مصيبًا في رأيه وجوابه. وهذا المعنى هو الذي قصد إليه الشاعر. يقول: إن النساء على عيهن قد يقعن على الصواب ويصبن الرأي عرضًا ثم استشهد على قوله بما قالته المرأة له. فالفصوص في البيت بالنصب مفعول به. (ص181) وأقاح منور في بطاح ... هذه في الصباح روض أريض (البطاح: الصحاري) البطاح جمع بطحاء وهي مسيل واسع فيه دقاق الحصى كالأبطح والبطحية , والبطاح غير الصحاري فإن الصحراء الأرض المستوية الواسعة وزاد بعضهم: لا نبات فيها. (ص183) لا تكن لي ولن تكون كقوم ... عودهم حين يعجمون رضيض (يعجمون: يعصرون) العجم أن تعض العود بسنك لتعرف صلابته , ثم قالوا: عجمت عود فلان أي بلوت أمره وخبرت حاله , وفلان عوده صليب لا تحيك فيه العواجم أي لا تؤثر فيه الأسنان , وقالوا في ضده: فلان عوده رضيض فالعجم في البيت متجوز فيه عن الامتحان والاختبار. (ص214) يئوب إلى شمائل منه ميث ... قليلات الأماعز والبراق (الأماعز: الغزلان , والبراق: الحملان من الضأن) فاعل يئوب يرجع إلى السلام الذي أرسله الشاعر إلى الممدوح يعني أن سلامه يرجع الى شمائل ممدوحه التي وصفها بقوله: ميث أي لينة , وأصل الميث وصف للأرض يقال: أرض ميثاء وأراضٍ ميث. ولما وصف الشاعر شمائل ممدوحه بصفة الأرض الحسنة ناسب أن ينفي عنها صفة الأرض الرديئة فقال: قليلات الأماعز والبراق. الأول جمع أمعز وهي الأرض الصلبة الكثيرة الحصى , والثاني جمع برقة وهي الأرض الغليظة ذات الحجارة والطين والرمل ومعنى القلة هنا العدم كما لا يخفى فهو يقول: إن شمائل الممدوح وطباعه لينة وليست بخشنة ولا جافية. (ص214) وتخط بزته فربت خلة ... في درج ثوب اللابس المتنوق (الخلة: الشق) الخلة هنا الحاجة والفقر والخصاصة أي يتنوق المرء في لباسه ويبالغ في تزيينها ويكون تحتها حاجة وعدم ولا كذلك الممدوح. (ص228) ضنك إذا خرست أبطاله نطقت ... فيه الصوارم والخطية الذبُل (الذبل: الصلبة) مادة الذبول تفيد معنى الدقة والضمور كقولهم: ذبل الفرس: ضمر وهزل بل ربما كان من معناها أيضًا اللين والفتور كقولهم: ذبل النبات ذوى ولان , وتذبل في مشيه تفتر فيه , ثم أجروا المادة على الرماح تجوزًا فقالوا: قَنًا ذابل: أي دقيق لاصق بالليط , والليط جمع ليطة القشرة التي تكون على القصب , وربما كان اللين مرادًا أيضًا في ذلك الاستعمال المجازي لأن الرمح إذا لم يكن لينًا لدنًا تقصف ولم يصلح للطعن فالدقة واللين هما المفهومان من تلك المادة والمقصودان من ذبول الرماح. وإذا أريد وصف الرماح بالصلابة قيل كما قال الحماسي: ولنا قناة من ردينة صدقة ... زوراء حاملها كذلك أزور فقوله: صدقة أي صلبة مستوية لا خائرة هشة. ((يتبع بمقال تالٍ))

سماع لبعض كبار التابعين من باب الأدبيات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سماع لبعض كبار التابعين من باب الأدبيات قال شارح الإحياء عند نقل الغَزالي السماع عن جماعة من الصحابة والتابعين: وحسبك منهم سعيد بن المسيب وبه يضرب المثل فى الورع وهو أفضل التابعين بعد أويس وأحد الفقهاء السبعة وقد سمع الغناء واستلذ سماعه! ثم ذكر عن ابن عبد البر بسنده أن سعيدًا مر ببعض أزقة مكة فسمع الأخضر يغني فى دار العاص بن وائل وهو يقول: تضوع مسكًا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب فى نسوة خفرات فضرب سعيد برجله الأرض فقال: هذا والله مما يلذ استماعه ثم قال سعيد: وليست كأخرى أوسعت جيب درعها ... وأبدت بنان الكف فى الجمرات وعلت بنان المسك وصفًا مرجلاً ... على مثل بدر لاح فى ظلمات وفاضت تراءى يوم جمع فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات وأثبت الحافظ ابن عبد البر أن هذه الأبيات لسعيد لا للنميرى. أقول: وقابلْ ما عاب سعيد من توسيع جيوب النساء وإبداء بنانهن بحال نسائنا اليوم، ويوم جمع: يوم عرفة ثم ذكر شارح الإحياء عن الحافظ ابن طاهر بسنده أن عبد العزيز بن عبد المطلب قاضي المدينة كان يتغنى بهذه الابيات فى مسجد الأحزاب: فما روضة بالحزن طيبة الثرى ... يمج الندى جثجاثها وعرارها [1] بأطيب من أردان عزة موهنا ... وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها [2] من الخفرات البيض لم تلقَ شقرة ... بالحسب المكنون صاف نجارها فإن برزت كانت لعينك قرة ... وإن غبت عنها لم يغمك عارها فقيل له: أصلحك الله أتغني بهذه الأبيات فى جلالك وشرفك؟ ! أما والله لأحدثن بها ركبان نجد. قال الراوي: فوالله ما اكترث بي , وعاد يتغنى بهذه الأبيات: فما ظبية أدماء حفافة الحشا ... تجوب بظلفيها بطون الخمائل [3] بأحسن منها إذ تقول تدللاً ... وأدمعها تذرين حشوا لمكاحل تمتع بذا اليوم القصير فإنه ... رهين بأيام الشهور الأطاول قال: فندمت على قولي له وقلت أصلحك الله أتحدثني في هذا بشيء؟ فقال: نعم حدثني أبي قال دخلت على سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم وأشعب يغنيه بهذا الشعر: مغيرية كالبدر سنة وجهها ... مطهر الأثواب والعرض وافر لها حسب ذاكٍ وعرض مهذب ... وعن كل مكروه من الأمر زاجر من الخفرات البيض لم تلقَ ريبة ... ولم يستملها عن تقى الله شاعر فقال له سالم زدني، فقال: ألمت بنا والليل داج كأنه ... جناح غراب عنه قد نفض القطرا فقلت أعطار ثوى فى رحالنا ... وما احتملت ليلى سوى ريحها عطرا فقلت سالم أما والله لولا أن تداوله الرواة لأجزلت جائزتك فلك من هذا الأمر مكان. اهـ.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقاريظ (رسالتان في قراءة الفونغراف والسكورتاه) اطلعنا على هاتين الرسالتين اللتين كتبهما وطبعهما في هذه الأيام الشيخ محمد بخيت الأزهري المشهور بمصر وقال: إنه استنبطهما استنباطًا , وقد رأينا فيهما الغريب من العلم في الكلام والطبيعة وتقويم البلدان والحديث والفقه. ذكر في الكلام من أمشاج المسائل ما لا محل لذكره ووصف الفونغراف وصف من لم يره ولم يعرف شيئًا من علم مخترعيه. وقال في أول الرسالة الثانية ما نصه: (وقد ورد علينا خطاب من بعض العلماء بالأناضول بالروملي الشرقي بولاية سلانيك يتضمن السؤال عما يأتي ويطلب الإجابة عنه , فأجبناه لطلبه , وقلت وبالله التوفيق) اهـ. ويا ليت الأستاذ أطلع أحد أولاده الذين يتعلمون في المدارس على استنباطه قبل الطبع لعله ينبهه إلى أن استنباط سائل مقيم في الأناضول وهو عدة ولايات في آسيا - في الروملي الشرقية من ولايات أوربا التي دخلت في إمارة بلغاريا - في ولاية سلانيك من مقدونيا - استنباط يرده كل من يعلم أن إقامة الرجل في ولايات مختلفة في قارتين مختلفتين ضرب من المحال , ويتهم الشيخ المستنبط بأنه أراد استنباط حيلة تدل على أنه مشهور في البلاد بالعلم مقصود بالاستفتاء فلم ينجح لعدم إلمامه بالجغرافيا التي ما برح يذمها وينفر عنها حتى انتقمت منه لنفسها , وعلمته أن الاجتهاد لا يتم اليوم بدونها. ومن غريب العلم بالحديث والفقه في الرسالة الثانية قول المستنبط: إن الإمامة الكبرى يجوز أن يكون فيها الإمام كافرًا أي يجوز أن يكون خليفة المسلمين الذى يقلد القضاء ويؤذن بصلاة الجمعة كافرًا , واستدل على ذلك بحديث جابر بن عبد الله عند ابن ماجه: (ألا لا يؤمنَّ امرأة رجلاً ولا يؤم أعرابي مهاجرًا ولا يؤم فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه) تقول الرواية هكذا: (لا تؤمّنَّ امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجرًا ولا يؤمن فاجر مؤمنًا إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه أو سوطه) والحديث منكر أو موضوع فإن في إسناده عبد الله بن محمد التميمي , قال البخاري: منكر الحديث , وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به , وقال وكيع: يضع الحديث , وقد تابعه عبد الملك بن حبيب في الواضحة وهو متهم بسرقة الحديث وتخليط الأسانيد , وقال الحافظ ابن عبد البر: إنه أفسد إسناد هذا الحديث. وفيه أيضًا علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وكما لا يصح الاحتجاج به والاستنباط منه لفساد سنده لا يصح من جهة معناه؛ فإنه وارد في إمامة الصلاة لا في الإمامة الكبرى وهي الخلافة كما زعم المستنبط الجديد , فإن المرأة والأعرابي المقيم في البادية وراء أنعامه ليسا مظنة لتقلد الإمامة الكبرى فينهى عن تقليدهما , والمراد بالفاجر العاصي الفاسق لا الكافر , ولذلك تكلم السلف في الصلاة وراء الظالمين كالحجاج وغيره ولا محل لبسط ذلك الآن. وقد سرنا أن الشيخ سمى رأيه استنباطًا , وقال في أول الرسالة الثانية: (الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لاستنباط الأحكام من صحيح الأدلة، ولم يخص ذلك بزمان دون زمان بل جعل ذلك دائمًا مستمرًّا باستمرار الأهلة) فقد أثبت أن الاجتهاد جائز في هذا الزمان خلافًا لما في كتب مذهبه من القول بإقفال بابه، وانقراض أربابه. وظاهر أنه لا يعني الاجتهاد في المذهب والاستنباط منه , فقد استنبط هو ما علمت من الحديث ولكنه أخطأ إذ لم يبذل شيئًا من جهده في معرفة سنده ولا في فهمه , وقد علمت أنه منكر أو موضوع وأنه لا يدل على ما قال , فعسى أن يتروى في مثل ذلك عند محاولة استنباط آخر. وربما عدنا إلى انتقاد الرسالتين. *** (مجلة جمعية الملاجئ العباسية ومكارم الأخلاق الإسلامية) كان لمجلة مكارم الأخلاق الإسلامية عند ابتداء ظهورها رواج عظيم وشهرة أكبر منها حتى كان يطبع منها في السنة الأولى والثانية بضعة آلاف , ثم لم يلبث الناس أن انفضوا من حولها وأعرضوا عن قراءتها حتى خفت صوتها وكاد يخفى ذكرها لولا أن بادرت جمعية المكارم في الإسكندرية إلى كفالتها , ولكن عنايتها بها كانت ضعيفة حتى اتحدت بجمعية الملاجئ العباسية. ففي فاتحة هذا العام صدرت المجلة بالاسم الذي رأيت في العنوان مطبوعة طبعًا متقنًا على ورق جيد , وقد تنوعت مباحثها ومسائلها المفيدة بعد أن كان أكثر ما ينشر فيها منقولاً من الكتب والجرائد , وجعلت هدية للمشتركين في جمعية الملاجئ العباسية , وأما قيمة الاشتراك السنوي لغيرهم فثلاثون قرشًا في مصر و10 فرنكات في سائر الأقطار. ويقبل من طلاب العلم نصف القيمة. وكل ما يأتي من ربح المجلة - إن وجد بأريحية محبي الخير - فهو لمساعدة الأيتام والفقراء والعجزة في تلك الملاجئ , فعسى أن تصادف من الإقبال في حياتها الجديدة ما يبشر أعضاء الجمعية الفضلاء بأن داعية الخير والبر في المسلمين تقوى وتنمو عامًا بعد عام بل يومًا بعد يوم. ومكتبات المجلة والجمعية تكون مع صاحب السعادة خليل حمدي باشا حمادة رئيس الجمعية في الإسكندرية. *** (مجلة الشتاء) صدر الجزء الرابع من هذه المجلة قبل صدور هذا الجزء من المنار , وبه تمت سنتها الأولى مؤلفة صفحاتها من 240 صفحة. وفي هذا الجزء من المقالات والمباحث الأدبية والمقاطيع الشعرية والنكات الفكاهية ما يكون لقراء المجلة في هجير الصيف الذي تحتجب فيه كبرد الشتاء في مصر بردًا وسلامًا يتنعمون به فلا ينسون لذته حتى تسفر عليهم حين تحتجب الشمس في أول الشتاء الآتي , أطال الله خدمة منشئها لفنون الآداب ولقي ما هو أهله من تعضيد أولي الألباب. *** (لفظ الملاحظة وانتقاد المنار تقرير الشيخ شاكر) ذكرنا في انتقادنا عبارة تقرير مشيخة الإسكندرية أن لفظ (لاحظ) لا يتعدى بعلى , وصاحب التقرير يكثر من قول (لاحظ عليه) فهو خطأ، كذا قلنا , ففهم بعض الأدباء أن انتقادنا هذا خاص بقوله: (وقد يلاحظ المطلع على إحصائية العام المقبل) لأن هذه العبارة هي التي ذكرت في المنار عند الانتقاد فقال هذا الأديب: إن (على) في هذه العبارة متعلق بلفظ المطلع وهو صحيح. وأقول: إن عبارة المنار المشار إليها كانت موجهة بالمناسبة إلى ما قلنا إنه يكثر في كلامه ولكن سقط من الأصل شيء عند الطبع وأصل العبارة هكذا: (ولاحظ مفاعلة من لحظ للمشاركة وهو النظر بمؤخر العين. وتستعمل الملاحظة مجازًا بمعنى المراعاة ولا يظهر هنا المعنى الحقيقي ولا المجازي. ولاحظ لا يتعدى بعلى ... ) إلخ فسقط ما بين لاحظ الأولى والثانية , ومنه يعلم أن الانتقاد على تعدية لاحظ بعلى ذكر في السياق , ولم يكن هو المقصود بالذات فينبغي تصحيح العبارة وموضعها: س 21، ص 918، م9.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مملكة مراكش ومؤتمر الجزيرة) كتبنا في العدد الخامس عشر من سنة المنار الأولى الذي صدر في 9 صفر سنة 1316 أي منذ ثمان سنين كاملة إنذارًا لسلطان مراكش بأن طوفان أوربا لا بد أن يفيض على بلاده فيغمرها إذا هو لم يبادر إلى إصلاح شأنها بالتربية والتعليم اللذين تقتضيهما حالة العصر لا سيما تعليم الفنون العسكرية والمدنية والاقتصادية , ونصحنا له بأن يستعين على ذلك بسلطان الدولة العثمانية. ثم أعدنا النُّذُر والنصائح ولكن القوم في غمرة ساهون، لا يتوبون ولا هم يذَّكَّرون، وإنما يعتمدون على أهل القبور في دفع الضر أو تحويله عنهم. كما علمت من التجائهم إلى قبر سيدي إدريس عندما أرادت فرنسا الافتيات عليهم وجؤارهم عنده بكلمة: (يا لطيف) مائة ألف مرة! . وقد كان من أسباب استدراجهم في اعتقادهم ما كان من عاهل الألمان يومئذ وإيعازه إلى السلطان عبد العزيز بطلب عرض إصلاح مراكش على مؤتمر أوربي فانعقد المؤتمر في الجزيرة من حواضر أسبانيا فاتفق أعضاؤه على وجوب إنشاء مصرف (بنك) لتلك المملكة وإنشاء شرطة (بوليس) يدير أمرها ضباط أوربيون. أما المصرف فلابتلاع أموال الحكومة وأما الشرطة فلتأمين تجارة أوربا التي يبتلعون بها أموال الأهالي ويتمكنون بها من إدارة البلاد ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون. وقد طال التنازع بين فرنسا وألمانيا في شأن حصص كل دولة في المصرف وفي كون ضباط الشرطة من الفرنسيس والأسبانيين أم من سائر الدول وفي رئيس هؤلاء الضباط ونحو ذلك مما لا غرض لنا في بيان جزئياته لأننا لا نكتب لأجل إحصاء وقائع التاريخ ولا لأجل تفكيه القراء , إن نكتب إلا لأجل بيان طرق العبرة للمسلمين. مهما اختلف القوم وتنازعوا فهم أقرب إلى الاتفاق على التوفيق بين مصالحهم المتعارضة منا على مصالحنا المتحدة. وكل ما يتفقون عليه فهو إضعاف لسلطتنا بل تقليص لظلها عن بلادنا ولو بالتدريج الذي هو خير لهم إذ لا يحتاجون فيه إلى بذل دمائهم وأموالهم. ومن غريب جهلنا أن نعد أنفسنا ظافرين كما طلبوا منا تجديد نفوذ لهم في بلادنا وإزالة نفوذ لنا منها فنالوا بعضه كما جرى لنا في مسألتي كريت ومكدونية , وكما سيجري في مراكش بعد هذا المؤتمر الذي يجعل لهم حقًا رسميًا في القبض على إدارة البلاد وأموالها. إذا أرجعت المسببات إلى أسبابها تبين أن الذي حال بين أهل مراكش وبين الانتفاع بما ذكرناهم وذكرهم به غيرنا هو الجمود على التقاليد والاتكال على أصحاب القبور فهاتان العلتان هما المانعتان من فهم الحق ومن كل تغيير يدعى إليه المقلد للآباء، المفوض أموره إلى من اتخذهم أولياء. *** (مسألة العقبة) كان أهل الرأي في الدولة وأصحاب النفوذ في المابين يرون منذ شرع في سكة الحجاز الحديدية أن من الضروري إحداث ناشط لها ينتهي بفرضة العقبة في البحر الأحمر وقال بعضهم: إذا عجزنا عن إيصال السكة إلى الحرمين فإن ربحنا من السكة لا يكون قليلاً إذا استعضنا على ذلك بإيصالها إلى العقبة. وقد اجتهد الصدر الأعظم ومختار باشا الغازي وعزت باشا العابد وصادق باشا العظم اجتهادًا عظيمًا في إقناع السلطان بوجوب إنشاء هذا الناشط منذ سنين فكان يأبى ذلك ويحتج بأن هذا يكون وسيلة لتداخل الإنكليز في بلاد العرب , فلما أعياه أمر ثورة اليمن اقتنع بأن إخضاع تلك الولاية وتمكين السلطة فيها من بعض فوائد ناشط العقبة من سكة الحديد فأمر به وأرسلت الجنود العثمانية إلى العقبة لتمهيد العمل. فلما رأت إنكلترا ذلك خافت من الدولة على مصر أضعاف ما كان يخاف منها السلطان على بلاد العرب. واعتقدت أنه ما دفع السلطان على هذا العمل إلا ألمانيا الدائبة في مناهضة إنكلترا وأنه لا يبعد أن يتفق السلطان مع عاهل الألمان على الزحف على مصر بعد وصول الناشط إلى العقبة فأرادت بناء معاقل عسكرية هناك باسم مصر فكانت الدولة بالمرصاد , فمنعت الجنود المصرية من البناء بالتهديد , فأنشأت إنكلترا تعارض الدولة بأن جنودها احتلت نقطة مما كانت سمحت به لمصر من أرض سيناء واشتدت في ذلك بلسانها وبلسان الحكومة الخديوية التي تنطق بوحيها. على أن إنكلترا قد غيرت حدود مصر في شبه جزيرة سيناء في الخرائط الجغرافية التي جددتها للمدارس المصرية منذ بضع سنين.

سلطان الشياطين على عالم أزهري ومخادعة دجال غوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سلطان الشياطين على عالم أزهري ومخادعة دجال غوي نشر في مصر (إعلان) مطبوع عنوانه (أشهر الحوادث وأعظم الرجال.. حادثة في الأزهر) يريد ناشره أن يشهر به نفسه بالولاية والقدرة على إخراج الشياطين من الأجسام والبيوت , ورأى أن إعلانه لا يُقرأ إلا إذا افتتحه بذكر الأستاذ الإمام رضي الله عنه ولو بالكذب عليه لعلمه بأن الأمة تقرأ كل ما يكتب عنه , ومن العجائب أن بعض الجرائد نشرت هذا الإعلان الضار وأقرته. وإننا ننشره وننكره وهو باختصار: (لا ريب أن الجامعة المصرية قد حضرت دروس حكيم الشرق وفيلسوف الإسلام الشيخ محمد عبده إذ كان يتخذ (أدحية) في الأزهر ويقرأ فيها جهارًا والناس من حوله من ترك وعرب وعجم فضلاً عما يخالط ذلك من دانٍ وشاسع , وكان إذ ذاك يصيح بأعلى صوته بأن لا وجود للجن , وكثيرًا ما جاهر بهذا الإنكار على رءوس الأشهاد والعلماء يحاجونه بالكتب المنزلة فما استطاعوا له ردًّا , وكان ينسب ذلك إلى الخيال والتصورات والأوهام وضرب لذلك جملة أمثال , ولكن لكلٍّ شِرْب وله شرب معلوم , وكثير ما كان صاحب المؤيد واللواء والظاهر خاضوا معه في هذا الموضوع , وأكثر الناس وافقه على هذا الأمر على أنه يوجد أكبر شاهد على وجود الجن وهو من خيرة العلماء الأفاضل وعضو في إدارة الأزهر ومن رجال التشريفة وأمين الكتبخانة وهو الشيخ محمد حسنين , وتحرير الخبر أن هذا الشيخ اشترى من منذ سنتين منزلاً بأم الغلام بجوار سيدنا الحسين فأعجبه , ولكن رأى فيه في هذه الأيام رجم أحجار فظن أنه من الجيران فصنع صورًا من خشب على السطوح فزاد الحال وعظم حتى ظهرت الجن في شكل قردة وخنازير وكلاب وقطط , وصاروا ينقلون الكتب والملابس والفرش والمفاتيح من جيبه ويلقونها في الشارع. على أن هذا الشيخ ترك أشغاله واشتغل بهذا الحادث حتى كان لا ينام من الليل دقيقة فشاع الخبر وذاع في مصر وضواحيها , وأرسلت إليه جميع الإخوان جوابات بفوائد ووصفات، وكثير من أعاظم مصر أرسل عدة رجال مهمين يدعون المعرفة فاجتهد الشيخ إبراهيم الطوبي الكتبي واستحضر جملة المغاربة والسودانية فلم تحصل فائدة , وكذلك حضر الشيخ محمد الرفاعي وقرأ وكتب ولكن ما أفادوا كذلك المغربي الذي في الخرنفش؛ فلم تحصل فائدة حتى يئس حضرة الأستاذ وصمم على بيع المنزل أو هجره حتى يحكم الله. وأخيرًا حضر بعض الأعيان وأخبر الأستاذ بأنه يوجد رجل.. ساح في الأرض وفي بلاد الهند والسودان وصاحب علوم وأسرار بل هو الولي في هذا الزمان , واسم هذا الشخص ... فتقابل معه الشيخ وقص عليه ما وقع , فتوجه إلى منزل الشيخ , وطلب سجادة وكان موجودًا وقت ذلك 300 نفر , وفرشها وسط المنزل وطلب طشت نحاس وكتب عليه وقرأ وقال: احضر يا من هو موكل بالأذى , وبعد ساعة رفعت الناس الطشت فخرج من تحته طيرة تشبه النسر سوداء وصوتت بصوت رفيع , وتكلم معها وأشار إليها فطارت , والناس تنظر إليها وكل ذلك العمل كان بعد العصر , ولما جاء الليل أحضر جماعة من الجن وكل من حضر سمع كلامهم بالحرف الواحد وأخيرًا همَّ … بصرف الأذى عن المنزل فانصرف , وكانت فقدت أشياء من المنزل ذات قيمة فردتها الجن كما كانت , وأخيرًا سئل.. عن هذا الأذى فقال معناه أن هذا الأمر يجب عليَّ أن أضع له سور من حديد على أنه لا يمكنني أن أطلع أحدًا عليه مهما كان ميله إليَّ وقربه من فؤادي) . اهـ المراد منه وليس بعدما ذكرنا إلا الغلو في شهرة صاحب الاسم المراد إشهاره بالكذب لمخادعة النساء والعوام بدعوى أن بيته مكتظ بالأمراء والإفرنج.. قد ادعى هذا الدجال عدة دعاوي باطلة يعلم بها أنه يتعمد الكذب: (أولاها) أن الأستاذ الإمام اتخذ لنفسه أدحية في الأزهر كان يقرأ فيها دروسه يعني مكانًا صغيرًا كأفحوص القطاة , والناس يعلمون أنه كان يقرأ في أعظم رواق في الأزهر. (ثانيها) أنه أنكر وجود الجن في دروسه جهرًا. وهذا كذب وبهتان بل اعترف في دروسه وكتبه بوجود الجن كما يعلم من حضر دروسه معنا ومن قرأ تفسير جزء عم من تأليفه أو تفسير المنار الذي نقتبس فيه دروسه التي كان يلقيها في الأزهر. (ثالثها) أن العلماء حاجوه في ذلك. (رابعها) أن المؤيد واللواء والظاهر خاضت معه في هذا الموضوع وكل ذلك كذب مبني على كذب. (خامسها) أن أكثر الناس وافقوه على إنكار الجن وهذا طعن بأكثر المسلمين وقذف لهم بالكفر والردة. وقد بلغنا عن الشيخ محمد حسنين أنه يقول: إن للحكاية أصلاً , ولكن ما نشر في الإعلان كله كذب وبهتان. صرح الأستاذ الإمام في تفسير سورة الناس بأن الجن خلق خفي , وقد قال الله تعالى في أبيهم إبليس: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُم} (الأعراف: 27) وما ورد من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن كما في حديث ابن مسعود في استماعهم القرآن قالوا: إنه لا يعارض الآية؛ لأنه من الخوارق وهي تأتي على خلاف سنة الله تعالى فهي من قبيل ما يسميه الحكام بالاستثناء. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لم يَرَ الجن عندما استمعوا القرآن لأنه تعالى يقول له في أول سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) ، فقد علم ذلك بالوحي لا بالرؤية. ولكن ما اختلف فيه عالمان من أعلم الصحابة - ابن مسعود وابن عباس - هل كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم أم لا، قد صار عند أولياء الشيطان من الأمور المعتادة بزعمهم , فهم يرون الجن ويتصرفون فيهم كما شاءوا متى شاءوا، وما كانوا إلا خادعين وما كان الأستاذ الإمام إلا منكرًا دجلهم تأييدًا للقرآن ونصحًا للعوام. استدل الجاهل ناشر (الإعلان) على وجود الجن بحكاية الشيخ محمد حسنين , وما هذه الحكاية إلا كأمثالها من الحكايات التي لا تحصى عند أهل الخرافات وعبدة الأوهام , فكم من بيت كاد له شياطين الإنس من أهله أو من غير أهله فعبثوا وعاثوا في حنادس الظلمات أو من وراء الحجب والأستار , فتوهم السخفاء أن عيثهم من عمل الجن. وبلغوا من الكيد لمن أرادوا ما أرادوا. وقد اكتشف بعض أصحاب الذكاء والدهاء كثيرًا من هذه الحيل الشيطانية فعلم أن منها ما كان من الجيران لسبب غرامي أو لسبب مالي وهو الطمع في شراء البيت رخيصًا إذا خاف الناس من عفاريته , ومنها ما كان من بعض نساء الدار وخوادمها ابتغاء تركها وسكنى غيرها أو احتيالاً على الرجل الشرود ليأوي إليها. وقد كان من علماء الأزهر من يُحكى عنهم إخضاع الجن أو جعلهم تلاميذ لهم فهل صار للعفاريت والشياطين من السلطان على علماء الأزهر أن يسلبوا راحتهم في بيوتهم في زمن قل فيه ظهور العفاريت لتحوت العوام، إذ قلت الخرافات والأوهام؟

العقل والقلب والدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العقل والقلب والدين كانت العرب تطلق لفظ القلب على قوة الشعور ووجدان اللذة والألم وقوة الفكر والعقل الذي يميز المرء به بين النافع والضار؛ لأن قلب الشيء عندها لبه ومحضه وخالصه , ومن الأول قوله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ} (آل عمران: 159) ومن الثاني: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37) وقوله: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (الحج: 46) وقد جرى عرف بعض الأمم على إطلاق لفظ القلب على المعنى الأول خاصة , وجعلوا سلطانه على الأمور الأدبية , واكتفوا بالتعبير عن الثاني بلفظ العقل وجعلوا سلطانه في الأمور العلمية , وهو اصطلاح لا تأباه لغتنا التي تجيز تخصيص اللفظ بأحد معانيه وهو ما نجري عليه في هذه المقالة. ثم إن أهل هذا الاصطلاح جعلوا الدين من قبيل الأول حتى صاروا يقابلون العلم بالدين كما يقابلون بين العقل والقلب , وذهب الكثيرون إلى أن هذه المقابلة مقابلة تضاد فجعلوا العقل خصيمًا للقلب والعلم عدوًّا للدين! ورأى آخرون منهم أنها مقابلة تباين فجعلوا للقلب حكمه وللعقل حكمه ومنعوا أن يعدو أحدهما طوره ويحكم غيره. حجة القائلين بالتضاد أن القلب موضع الشعور الوهمي الذي لا حقيقة له فهو يخاف مما لا يُخَاف أو لا يخيف , ويرجو ما لا يُرجَى , ويتقحم به الوجدان مواقع الهلكة فيبذل النفس والنفيس فيما لا فائدة فيه فهو سلطان أخرق جائر لا يدين له إلا النساء والأطفال ومن ضعف عقله من الرجال، وأعوانه رجال الدين الذين عرفوا في كل زمان ومكان بإقامة هياكل الوهم، ومعاداة العقل والعلم، وجعل وجدان الدين آلة القهر في أيدي الرؤساء المستبدين، فإذا كان الشعور بأن في الكون سلطة غيبية يجب لها الخضوع والعبودية - هو أعلى وجدان للقلب وأنفذه حكمًا على الجوارح، وإذا كان سائر أنواع شعوره ووجدانه كالخوف والرجاء والبغض والحب والقسوة والرحمة تخدم هذا الوجدان وتؤيده، وإذا كانت تلك السلطة العليا قد تمثلت للوهم الإنساني في الجماد وقوى الطبيعة وفي الحيوان فعبدها الإنسان , ثم تمثلت له في أفراد منه فعبدهم وعدّ نفسه قد ارتقى بذلك ارتقاءً مبينًا، وإذا كان العقل قد كشف لقوم بطلان الوهم في أكثر تلك المظاهر للسلطة الغيبية ولآخرين بطلانه في جميعها حتى صار المرتقون من البشر فريقين: فريقًا لا يزال ينقاد لذلك الوجدان ولكنه ينزهه عن التقيد بأي مظهر من مظاهر الطبيعة ويفند أكثر ما وصفته الأديان به , وفريقًا يحكم بأن ذلك الوجدان وهم لا حقيقة له، وإذا كان هؤلاء المرتقون أقرب الناس من السعادة في معيشتهم ومن النفع للناس وأبعدهم عن الشقاء الذي تثيره الأوهام التعبدية، وتمده سائر الوجدانات الدينية، وإذا كان الحس الظاهر الذي هو أقوى من وجدان القلب وفكر العقل يخذل الأول بما ظهر من مخالفة كثير من النصوص الدينية للأمور المحسوسة وينصر الثاني ويؤيده؛ أفلا يكون القلب والعقل ضدين في ذاتهما وفي أثرهما في الناس , ويكون من الصواب أن نجعل العقل هو الحاكم والقلب هو المحكوم وأن نؤدب الوجدان بسوط الفكر والبرهان، وندع لحكم العقل والحس جميع أحكام الأديان؟ وأما حجة الذاهبين إلى أن لكل من القلب والعقل سلطانًا مستقلاًّ يباين الآخر ولا يناقضه , وأنه يجب أن لا يعدو واحد منهما طوره ويخرج عن حدوده فهي أنه لا ينكر عاقل أن الوجدان أمر وجودي ثابت متحقق في نفسه كما أن الفكر أمر وجودي ثابت متحقق في نفسه وأن لكل واحد منهما أثرًا منه الضار والنافع , وأحكامًا منها الخطأ ومنها الصواب وأن الإنسان في حاجة إلى كل واحد منهما فلم يخلق له أحدهما عبثًا , وأنه لا بد لكل منهما من قانون تعليمي تكون الغاية جعل أحكامه وآثاره نافعة للإنسان , وأن قانون القلب هو الدين الذي يوجه جميع عوامل شعوره ووجدانه إلى الخير والفضيلة , ويصرفها عن الشر والرذيلة. وقانون العقل هو العلم بالأكوان الذي يجلي للإنسان حقائقها ويمكنه من الانتفاع بها فإذا كان خطأ العقل في بعض المسائل لا يقضي ببطلان الثقة به ولا يقتضي إزالة سلطانه وعدم الثقة بسائر أحكامه فكذلك نقول في خطأ القلب , وإذا بحثنا في تاريخ الإنسان نرى أن علماء القلوب الذين جاءوا بقوانين الأديان كانوا أنفع للبشر من علماء الكون الذين وضعوا قوانين العلوم المادية والنظرية , فلو فرضنا أن الإنسان يستغني بأحد الفريقين عن الآخر لكان يجب أن يستغني عن الفلاسفة وعلماء المادة دون النبيين والمرسلين لأنه قد يكتفي في حياته المادية بتجاربه التي يسوقه إليها الإحساس الفطري عن توسيع دائرة البحث في الجماد والنبات والحيوان وتكثير الصنائع التي يشقى بها الملايين من الناس ليسعد المئات والألوف بشقائهم , ولكنه لا يكتفي قط بترك حبل شعوره ووجدانه على غاربه , فإن حكم وجدان اللذة والألم أقوى على النفس من كل حكم وهو عرضة للبغي والعدوان إذا لم يكن له مؤدب من جنسه يضع له حدودًا لا يتعداها. وهذا المؤدب هو وجدان الدين. لا ينكر علينا علماء المادة أنه لا يوجد في الخليقة شيء من العبث وأن كل شيء خلق كاملاً أو كمل بعمل الطبيعة فيه إلا الإنسان فإنه خلق أشد الكائنات المعروفة نقصًا وأشدها استعدادًا للكمال , وأن كماله يكون بعلمه وكسبه وأن كل قوة من قواه الحسية والمعنوية والنفسية والجسدية التي فطر عليها هي آلة من آلات استعداده للكمال بكسبه التدريجي , فقوة العقل التي أودعت في الإنسان لأجل التمييز بين المعقولات الصحيحة والباطلة ووجدان الدين العام وهو الشعور بالسلطة الغيبية الذي أودع في الفطرة لأجل تأديب سائر الوجدانات بما يزعها عن الشر ويصرفها إلى الخير، كل منهما قد وجد لحكمة ظهر أثرها في ارتقاء البشر بالتدريج كما هي السنة في جميع قواهم وآثارها. فقول الماديين بالنشوء والارتقاء ظاهر في شئونهم الدينية والمدنية أو القلبية والعقلية؛ فلماذا نعد خطأ البشر في استعمال الوجدان الديني في أطوار الانحطاط موجبًا للقول ببطلان هذا الوجدان وضرره , والحكم بإعفاء أثره , ولا نعد خطأ العقل في تلك الأطوار موجبًا للحكم ببطلان أحكامه وإزالة سلطانه؟ ! . تقولون: إن رجال الدين قد عاثوا بسلطتهم الدينية فسادًا في الدين , وخادعوا الناس بالأوهام حتى استعبدوهم , ونقول: إننا نرى في كل من رجال الدين ورجال العلم المفسد والمصلح فكم من عالم ببعض خواص الأشياء الطبيعية قد غش الناس بعلمه , وكم من مدعٍ للعلم بها قد أضرهم بجهله , وهذه العلوم المادية في هذا العصر الذي هو أرقى عصورها قد اتخذت آلات لإهلاك العباد وتدمير البلاد , وما السحر الذي تعترفون بأنه من أشد الأمور إفسادًا لعقول البشر وضررًا في مجتمعهم إلا من خداع العلم فإن كان قد استفاد منه كهنة الوثنية فقد أبطله جميع الأنبياء , وكان أقوى الشُّبَه للضعفاء على نبوتهم فهو ضد الدين. ويقول أهل هذا المذهب لخصمهم من الماديين: إننا نعلم أن أقوى شُبهكم على الدين أمران: (أحدهما) ما جاء في كتب الوحي مما قام الدليل الحسي أو العقلي على خلافه كإثبات التوراة أن الله حكم على الحية بأن تأكل التراب كل أيام حياتها وإثبات العهد الجديد للتثليث. (وثانيهما) ما فيه من الأخبار الغيبية التي لا دليل عليها كوجود الملائكة والشياطين. والمخرج منهما سهل. أما الأول فإذا لم تسلموا بتأويل علماء الدين لهذه المشكلات وجزمهم بأن الخطأ واقع؛ فلنا أن نقول: إن بعض ما في تلك الكتب مدرج من النساخ , وأن ما قاله الأنبياء في أمور الدنيا لم يقصدوا به بيان حقائق الموجودات , وإنما قصدوا استخراج العبرة والموعظة وتمثيلها للناس بحسب ما عرفوا من الكون , وإن كانت معرفتهم ناقصة أو مخالفة للحقيقة , ولو أرادوا أن يبينوا حقائق الأكوان مع إصلاح النفوس بقضايا الأديان لما تيسر لهم ذلك , ولكان تصديهم له خروجًا عن حدود وظيفتهم المتعلقة بالقلوب والأرواح وإثارة للشبه والشكوك فيها , فإن المسائل الحسية والوجودية تعرف بالنظر والتجربة والاختبار لا بالتبليغ عن الخالق. ذلك أن الإنسان مستعد بفطرته للارتقاء الحسي والعقلي بدون تأييده بالوحي وأما الارتقاء القلبي أو الوجداني فهو محتاج فيه إلى الوحي لأن منه ما يتعلق بالسلطة العليا المدبرة لجميع الكائنات وما يتعلق بحياة بعد هذه الحياة , وهذان الشعوران لم يودعا في نفس الإنسان سدى كما تقدم بل هما المبدأ لغاية كماله الروحاني والوسيلة لتهذيب جميع أنواع وجدانه وشعوره , وبذلك تحسن أعماله وتصلح أحواله فيكون سعيدًا بقدر تمسكه به. وخلاصة هذا الجواب أن وظيفة الوحي إصلاح القلوب والأخلاق فما يذكر فيه من أمور العالم يراعى فيه معارف المخاطَبين ولا يقصد لذاته فلا يضر الخطأ فيه عندهم. وأما الثاني وهو إخبار الوحي بما لا دليل عليه من الحس ولا من العقل فالمخرج منه أن هذا لا يقال إلا إذا كان علم الأنبياء الخاص بهم مستمدًّا من الحس والعقل ولكنه وحي من الله , فإذا كان لكم طريق إلى الحكم في كلامهم المتعلق بالمادة المحسوسة فلا طريق لكم إلى الحكم في كلامهم المتعلق بالإيمان بالله وبعالم الغيب لأنه ليس من المادة ولا مما يجري على سننها، ولا المتعلق بالعبادة والحث على الفضائل وبالتنفير عن المعاصي والرذائل لأنه من باب الإنشاء الذي لا يتأتَّى فيه الصدق والكذب , وإنما يعرف حسن مثله وقبيحه بأثره , وقد ثبت بالتجربة أن البشر يكونون على خير وصلاح بقدر تمسكهم به وعلى شر وفساد بقدر إعراضهم عنه. ومما يدل على أنهم يستمدون هذه الأنواع من العرفان من خالق الكون ومدبره أن علماء الحس والعقل يعجزون على استمداد بعضهم من بعض عن إصلاح نفوس البشر وصرف شعورهم ووجدانهم إلى الخير من غير استعانة بشيء مما جاء به الأنبياء الذين لا يمكن إقامة برهان على أنهم استمدوا عرفانهم من الناس. وهب أنهم استفادوا شيئًا من عرفانهم بالكسب والنظر , فما تقول في تلك الآيات وذلك السلطان الذي أعطوه على الأرواح؟ يقول كثير من علماء المادة وأدباء الملاحدة: إننا نقدر على كتابة في الآداب والوعظ لا تعد هذه الأناجيل في جانبها شيئًا مذكورًا وفاتهم أن في مواعظ الإنجيل من السلطان على الأرواح ما يعجز أكبر الفلاسفة عن عشر معشار تأثيره في حكمه وفلسفته. هذا ملخص ما يذهب إليه كثير من علماء الإفرنج وفلاسفتهم في وظائف العقل والقلب , فهم يوجبون صرف العقل والحواس التي هي آلاته إلى العلوم الكونية وصرف القلب وشعوره إلى الأمور الدينية , ولا يجيزون لأحدها أن يتحكم في الآخر. فإذا ظهر لهما أن في العلم والتاريخ ما يخالف بعض مسائل ذكرت في كتب الدين , أو في الدين مسائل تعارض شيئًا من العلم أو التاريخ فإنهم لا يرون ذلك مجوزًا لإبطال أحدهما للآخر أو مسوغًا لتركه؛ لأن صلاح البشر متوقف على صرف كل من العقل والقلب إلى ما هو مستعد له لم يوجد واحد منهما عبثًا ولا يترك سدى. وبهذا الرأي كان كثير من أساطينهم متدينًا كبسمارك أشهر زعماء السياسة وعلماء الاجتماع وباستور من كبار علماء المادة والحياة وتولستوي من عظماء الفلاسفة في العقليات والأدبيات. ويعترف هؤلاء العلماء أن في دينهم كثيرًا من المسائل التي تخالف العقل والعلم والتاريخ , وأن في كتبها ما هو بشري غير موحى به من الله , ويقولون: إن

الإيمان يزيد وينقص

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإيمان يزيد وينقص جاء في شرح عقيدة السفاريني أن سلف الأمة على القول بأن الإيمان يزيد وينقص , ونقل بعض الروايات والآيات في ذلك ثم أورد عن شيخ الإسلام تفصيلاً لوجوه الزيادة ولأصل الخلاف في المسألة , وإننا نورد من ذلك ماعدا الروايات عن السلف في المسألة , ثم نبين وجه العبرة في ذلك لطلاب علوم الدين قال - والظاهر أنه من كلام شيخ الإسلام -: (والزيادة قد نطق بها القرآن في عدة آيات كقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) قال شيخ الإسلام: وهذا أمر يجده المؤمن إذا تليت عليه الآيات ازداد قلبه بفهم القرآن ومعرفة معانيه من علم الإيمان ما لم يكن حتى كأنه لم يسمع الآية إلا حينئذ , ويحصل في قلبه من الرغبة في الخير والرهبة من الشر ما لم يكن فيزداد علمه بالله ومحبته لطاعته , وهذا زيادة الإيمان وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173) ، فهذه الزيادة عند تخويفهم بالعدو لم يكن عند آية نزلت فازدادوا يقينًا وتوكلاً على الله وثباتًا على الجهاد وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانا} (التوبة: 124) , وهذه الزيادة ليست مجرد التصديق بأن الله أنزلها بل زادتهم بحسب مقتضاها , فإن كانت أمرًا بالجهاد أو غيره ازدادوا رغبة فيه , وإن كانت نهيًا عن شيء انتهوا عنه فكرهوه؛ ولهذا قال: { ... وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة: 124) والاستبشار غير مجرد التصديق وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا} (المدثر: 31) وهذه نزلت لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وأصحابه فجعل السكينة موجبة لزيادة الإيمان , والسكينة هي طمأنينة في القلب وقوله تعالى: {يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11) هداه لقلبه زيادة في إيمانه كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} (محمد: 17) , وقال: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} (الكهف: 13) . قال شيخ الإسلام قدس الله روحه: زيادة الإيمان الذي أمر الله به والذي يكون من عباده المؤمنين من وجوه: (أحدها) الإجمال والتفصيل فيما أُمروا به فإنه وإن وجب على جميع الخلق الإيمان بالله ورسوله , ووجب على كل أمة التزام ما يأمر به رسولهم مجملاً؛ فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله , ولا يجب على كل عبد من الإيمان المفصل بما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره , فمن عرف القرآن والسنن ومعانيها لزمه من الإيمان المفصل بذلك ما لم يلزم غيره ولو آمن الرجل بالله وبالرسول باطنًا وظاهرًا ثم مات قبل أن يعرف شرائع الدين مات مؤمنًا بما وجب عليه من الإيمان , وليس ما وجب عليه ولا ما وقع منه مثل إيمان من عرف الشرائع فآمن بها وعمل بها بل إيمان هذا أكمل وجوبًا ووقوعًا , فإن ما وجب عليه من الإيمان أكمل وما وقع منه أكمل , وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ... } (المائدة: 3) أي في التشريع بالأمر والنهي؛ لأن كل واحد من الأمة وجب عليه ما يجب على سائر الأمة , وأنه فعل ذلك بل الناس متفاضلون في الإيمان أعظم تفاضل! . (الثاني) الإجمال والتفصيل في ما وقع منهم فمن طلب علم التفصيل وعمل به فإيمانه أكمل ممن عرف ما يجب عليه والتزمه وأقر به ولم يعمل بذلك كله , وهذا المقر المقصر في العمل إن اعترف بذنبه وكان خائفًا من عقوبة ربه على ترك العمل أكمل إيمانًا ممن لم يطلب معرفة ما أمر به الرسول ولا عمل بذلك ولا هو خائف أن يعاقب بل هو في غفلة عن تفصيل ما جاء به الرسول مع أنه مقر بنبوته باطنًا وظاهرًا فكلما عمل القلب بما أخبر به الرسول فصدقه وما أمر به فالتزمه؛ كان ذلك زيادة في إيمانه على من لم يحصل له ذلك وإن كان معه إقرار عام وإلزام , وكذلك من عرف أسماء الله ومعانيها فآمن بها كان إيمانه أكمل ممن لم يعرف تلك الأسماء بل آمن بها إيمانًا مجملاً أو عرف بعضها , وكلما ازداد الإنسان معرفة بأسماء الله تعالى وصفاته وآياته كان إيمانه أكمل. (الثالث) أن العلم والتصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت وأبعد عن الشك والريب , وهذا أمر يشهده كل واحد من نفسه كما أن الحس الظاهر بالشيء الواحد مثل رؤية الناس الهلال وإن اشتركوا فيها فبعضهم تكون رؤيته أتم من بعض , وكذلك سماع الصوت وشم الرائحة الواحدة وذوق النوع الواحد من الطعام. فكذلك معرفة القلب وتصديقه يتفاضل أعظم من ذلك من وجوه متعددة للمعاني التي يؤمن بها من معاني أسماء الله تعالى وكلامه يتفاضل الناس في معرفتها أعظم من تفاضلهم في معرفة غيرها. (الرابع) أن التصديق المستلزم لعمل القلب أكمل من التصديق الذي لا يستلزم عمله فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به , وإذا كان شخصان يعلمان أن الله حق والرسول حق والجنة حق والنار حق وهذا علمه أوجب له محبة الله وخشيته والرغبة في الجنة والهرب من النار والآخر علمه لم يوجب له ذلك؛ فعلم الأول أكمل , فإن قوة المسبب تدل على قوة السبب , وقد نشأت هذه الأمور عن العلم فالعلم بالمحبوب يستلزم طلبه , والعلم بالمخوف يستلزم الهرب منه , فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم , ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الخبر كالمعاينة) فإن موسى عليه السلام لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل لم يلقِ الألواح , فلما رآهم قد عبدوه ألقاها , وليس ذلك لشك موسى في خبر الله لكن المخبَر وإن جزم بصدق المخبِر فقد لا يتصور المخبَر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه , بل قد يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به وإن كان مصدقًا به , ومعلوم أنه عند المعاينة يحصل له من تصور المخبر ما لم يكن عند الخبر فهذا التصديق أكمل من ذلك التصديق. (الخامس) أن أعمال القلوب مثل محبة الله ورسوله وخشية الله تعالى ورجائه ونحو ذلك هي كلها من الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفاق السلف , وهذه يتفاضل الناس فيها تفاضلاً ظاهرًا. (السادس) الأعمال الظاهرة مع الباطنة هي أيضًا من الإيمان والناس يتفاضلون فيها. (السابع) ذكر الإنسان بقلبه ما أُمر به واستحضاره بحيث لا يكون غافلاً عنه أكمل ممن صدق به وغفل عنه فإن الغفلة تنقصه , وكمال العلم والتصديق والذكر والاستحضار يكمل العلم واليقين , ولهذا قال عمير بن حبيب رضي الله عنه: (إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه فتلك زيادته , وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فتلك نقصانه) . (الثامن) قد يكون الإنسان مكذبًا ومنكرًا لأمور لا يعلم أن الرسول أخبر بها ولو علم ذلك لم يكذب ولم ينكر , بل قلبه جازم بأنه لا يخبر إلا بصدق ولا يأمر إلا بحق ثم يسمع الآية والحديث أو يتدبر ذلك أو يفسر له معناه أو يظهر له ذلك بوجه من الوجوه فيصدق بما كان مكذبًا به ويعرف ما كان منكرًا له , وهذا تصديق جديد وإيمان جديد ازداد به إيمانه ولم يكن قبل ذلك كافرًا بل جاهلاً وهذا وإن أشبه المجمل والمفصل لكن صاحب المجمل قد يكون قلبه سليمًا عن تكذيب وتصديق شيء من التفاصيل وعن معرفة وإنكار شيء من ذلك فيأتيه التفصيل بعد الإجمال على قلب ساذج , وأما كثير من الناس بل من أهل العلم والعبادة فيقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول وهم لا يعرفون أنها تخالف , فإذا عرفوا رجعوا , وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول أو عمل عملاً أخطأ فيه وهو مؤمن بالرسول أو عرف ما قاله وآمن به لم يعدل عنه هو من هذا الباب , وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب , فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به أكمل ممن أخطأ ذلك , ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به فهو أكمل ممن لم يكن كذلك. إذا علمت هذا فاعلم أن مذهب سلف الأمة وجُل الأئمة أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية , قال الإمام ابن عبد البر في التمهيد: أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية , قال: والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية والطاعات كلها عندهم إيمان إلا ما ذكر عن أبي حنيفة وأصحابه فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيمانًا قالوا: إنما الإيمان التصديق والإقرار , ومنهم من زاد المعرفة وذكروا من احتجوا به إلى أن قال: وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر منهم مالك بن أنس والليث بن سعد وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو عبيد القاسم بن سلاَّم وداود بن علي والطبري ومن سلك سبيلهم قالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار , واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة , وقالوا: كل ما يطاع الله به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان , والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي قال: وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم , وإنما صاروا ناقصي الإيمان بارتكابهم الكبائر ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث يريد مستكمل الإيمان , ولم يُرد به نفي جميع الإيمان عن فاعل ذلك بدليل الإجماع على توريث الزاني والسارق وشارب الخمر إذا صلوا إلى القبلة , وانتحلوا دعوة المسلمين من قراباتهم المؤمنين الذين ليسوا بتلك الأحوال، ثم قال: وعلى أن الإيمان يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية - جماعة أهل الآثار والفقهاء أهل الفتيا في الأمصار , وهذا مذهب الجماعة من أهل الحديث والحمد لله. ثم رد على المرجئة وعلى الخوارج والمعتزلة بالموارثة , وبحديث عبادة بن الصامت: (من أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة) وقال: الإيمان مراتب بعضها فوق بعض فليس ناقص الإيمان ككامله قال الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) إلى قوله: {.. حَقًّا..} (الأنفال: 4) أي هم المؤمنون حقًّا , ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث: (أكمل المؤمنين إيمانًا..) , ومعلوم أن هذا لا يكون أكمل حتى يكون غيره أنقص , وقوله: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله) وقوله: (لا إيمان لمَن لا أمانة له) يدل على أن بعض الإيمان أوثق وأكمل من بعض , وكذلك ذكر أبو عمر الطلمنكي إجماع أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل ونية. قال الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: لما صنف الفخر الرازي مناقب الإمام الشافعي رضي الله عنه ذكر قوله في الإيمان: إنه قول باللسان وعقد بالجَنَان وعمل بالأركان كقول الصحابة والتابعين , وقد ذكر الإمام الشافعي أنه إجماع من الصحابة والتابعين ومن لقيه. استشكل الرازي قول ا

الأسئلة والأجوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة والأجوبة الإنفاق على التعليم الإسلامي من مال الحكومة الروسية (س 10) من الشيخ أبي علي محمد نجيب بن شمس الدين التونتاري المدرس بتونتار (روسيا) : حدثت واقعة بين علمائنا جديرة بالاستفتاء من علمكم وهي أن جمعًا من العلماء المتبصرين ذوي الحمية الدينية هموا بتأسيس المكاتب الابتدائية في القرى بمال محفوظ في الخزانة الملكية التي يسمونها بالروسية (زيمسكي صوما) ذلك أنه يجمع في كل سنة نقود مقدرة من أهل الزراعة من مسلم وغير مسلم , وتوضع في هذه الخزانة مختلطة إلا أن مقدار ما يجمع من كل جنس معلوم ومضبوط في الدفاتر , ويصرف من هذه النقود ما يصرف من وظائف المأمورين الملكيين وسائر مصالح الأمة الروسية كتأسيس المكاتب والمستشفيات ودور العجزة ونحوها , ويحفظ الباقي في الخزانة. وقد كان المسلمون محرومين من الانتفاع بهذه النقود - لا لمنع الحكومة بل لعدم سؤالهم ذلك للأوهام التي يطول شرحها - على اشتراكهم في دفع ما عليهم منها وشدة حاجتهم إليها , فإن كثيرًا من القرى الإسلامية ليس فيها مكاتب دينية لفقر الأهالي وفقد التعاون العمومي وعدم كفاية الإعانة الخصوصية للجميع فعم الجهل بالدين أكثر الطبقة السفلى. فهذه الحالة المؤسفة أزعجت القلوب المملوءة بالحمية وألجأت إلى التشاور في هذه المصلحة المهمة فتشاوروا وتفكروا في الوسائل اللازمة لتعميم التعليم الديني بين السواد الأعظم من الأمة , فما وجدوا سبيلاً إلى هذه السبيل (أي الاستعانة بمالهم في تلك الخزانة) فسعوا فيها وكتبوا عرائض إلى أولي الأمر يقولون فيها ما محصله: إن من مقتضى العدالة تأسيس المكاتب الملكية الابتدائية في القرى الإسلامية التي لا توجد فيها مكاتب كما هو الشأن في القرى الروسية , ويتوقف ذلك على تخصيص مبلغ من حصة المسلمين في النقود الأميرية يكفي لتأسيسها والنفقة عليها. إذ الغرض من وضع تلك الخزانة هو انتفاع المشتركين فيها على السواء , وليس من العدالة تخصيص جنس دون جنس بالانتفاع بها مع المساواة في الدفع.. إلخ , وسمعت أن المحكمة الملكية (زيمسكي أوبرافا) أجابت على تلك العرائض بالقبول , وعند ذلك قامت الفرقة المتعصبة تنازع في هذا الخير وتصد عنه صدًّا يشوش أذهان العوام قائلين: إن أخذ تلك النقود وصرفها في تلك الوجوه غير جائز في الشرع متعللين تارة بأنها مال الفقراء!! ولا أدري أي فقير يرضى بصرف ماله المتروك في الخزانة في حوائج غير جنسه ولا يرضى بصرفه في مصالح جنسه ونفسه؟ وتارة بأنها مخلوطة بنقود غير المسلمين! وظني أنه لا ضرر فيه بعدما كان مقدار كل واحد منهم معلومًا , وما يؤخذ منها لمصالحنا إنما هو من نقود المسلمين المتعينة نوعيًّا , وبعضهم يتعلل بأن فيها مال الأيتام , وهم لا ينظرون إلى الشرع هل يرخص بترك هذا المال في الإدارة الملكية تتصرف فيه كيف تشاء مع عدم التمكن من استرداده أم يسوغ أخذه وبذله في مصالحنا؟ فإن هذا المال على كل حال لا يرد إلى صاحبه والله أعلم. هذا ما دار في فكري الفاتر فأرجوكم أيها الأستاذ بيان حكم هذه المسألة شرعًا في المنار والله لا يضيع أجر المحسنين. (ج) إن هذه الواقعة هي أظهر مثال لقول أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: إن المسلمين لَبِسوا الدين كما يُلبَس الفرو مقلوبًا , بل هي أوضح حجة على أن المسلمين قد جُنوا بدينهم جنونًا مفردًا لم يشاركهم فيه أحد على أنهم قد شاركوا من قبلهم من جميع فنون جنونهم في الدين , وكأني بكل مسلم غيور قد استعبر لسماع هذه المسألة وبكى، وبكل عدو للمسلمين قد أغرب لسماعها ضحكًا. حقيقة المسألة أخذ مال من حاكم غير مسلم برضاه لصرفه في مصلحة المسلمين فهل يشترط لجواز انتفاع المسلمين به أن يكون ذلك الحاكم قد أخذه من رعيته المسلمين وغيرهم بوجه شرعي بحيث يحكم الشرع بأنه ليس له مالك غير هذا الحاكم أو يحكم بأن له صرفه في المصالح العامة؟ لا محل لهذا السؤال ولا لهذا الاشتراط لأن الحاكم غير المسلم لا يكلف العمل بفروع الشريعة قبل الإسلام , فهذا المال الذي أخذه من رعيته ماله لأنه صاحب اليد عليه والتصرف فيه بلا منازع وإرجاعه إلى من أخذه منه متعذر , فإذا أعطانا شيئًا منه لننفقه في مصالحنا جاز لنا أخذه حتمًا , بل قالوا: إن جميع أموال غير المسلمين في غير دارهم مباحة لهم إذا أخذوها برضى أصحابها من غير غدر ولا خيانة لا يشترط فيه غير هذا , ولو كان وجود بعض أموال اليتامى فيه غير متميز مانعًا من الانتفاع به لكان وضع درهم ليتيم في ألف ألف درهم بغيره مانعًا لهذا من التصرف في ماله كما قال الغزالي في شبه هذه المسألة وذلك بديهي البطلان. على أنه لا سبيل إلى العلم بأن عين المال الذي أخذناه من الحاكم لا يخلو مما أخذه من اليتامى إلا إذا كان ما يؤخذ منهم كثيرًا جدًا بحيث يعلم أو يظن أنه لا تخلو طائفة من ماله من ذلك وليس الأمر كذلك. وهنالك وجه آخر لجواز الأخذ وهو أن المال الحرام الذي لا يعرف له مالك معين يجب صرفه في الصدقات أو المصالح والمنافع العامة , ويرجح جانب المصالح في بلاد ليس لها فيها مصرف غيره كبلادكم. وما عارضتم به شبههم في محله إلا تعليل عدم الضرر بكون ما يؤخذ من مال المسلمين فإن ما يؤخذ من مالهم برضاهم جائز أيضًا لا وجه لمنعه , والله أعلم. *** الوصية النبوية المنامية (س11) م. ر. بالسويس. (ج) راجعوا ص 614 من مجلد المنار السابع ترون الكلام على هذه الوصية التي تنشر في كل بضع سنين مرة عن لسان رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية. ومنه تعلمون الحق في ذلك , وتعذروننا إذ لم ننشر نسخة الوصية التي أرسلتموها مع سؤالكم عنها. *** اللذات الحسية في الجنة وجنة آدم (س12) محمد أفندي السيد قاسم في منشاة حلفه (الفيوم) : تقابلت مع أحد المتخرجين من دار العلوم فذكرت الجنة وما فيها من النعيم الدائم والتلذذ بالمأكل والمشرب والمنكح , وأن تلك هي التي أُهبط منها آدم وحواء حين أكلا من الشجرة , فأخبرني أن الجنة ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح كالدنيا وإنما تحصل لأهل الجنة لذة الأكل والشرب والجماع عند اشتهاء أنفسهم ذلك بدون فعل كالنائم يرى أنه أكل كذا فيتلذذ بذلك والحال أنه لم يفعل ذلك حقيقيًّا، فقلت له: إن في القرآن الحكيم ما يدل على ذلك نحو قوله تعالى: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ} (الزخرف: 72-73) وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور: 19) وقوله تعالى: {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} (الطور: 20) وغير ذلك من الآيات فقال: إن الله تعالى وعد المؤمنين بالتنعم في الجنة بالأكل والشرب والنكاح المعلومة لذته لهم تقريبًا لأفهامهم وتشبيهًا إذ لو وصف لهم التنعم بغير ما هو معلوم لهم لما كان له موقع في أنفسهم ولما فهموا معنى التنعم! . وتلك الجنة ليست هي التي أهبط منها آدم وحواء، ولقصوري عن إقناعه حررت هذا لسيادتكم راجيًا الإجابة عن ذلك على صفحات المنار بما يشفي الغليل ملتمسًا الإعادة إذا كان سبق توضيح ذلك في مجلد مضى من المنار؛ لأن ابتداء اشتراكي في المجلد الثامن , ولا زلتم في عز وجاه، والسلام عليكم ورحمة الله. (ج) لا خلاف بين المسلمين في أن الإنسان يبعث في الآخرة كما كان في الدنيا أي أن حقيقته لا تتبدل فتخرج عن الإنسانية إلى حقيقة أخرى , بيد أنه يكون في الجنة أرقى مما كان في الدنيا فتكون حياته دائمة سليمة من العلل , ومتى كان الإنسان إنسانًا فلا وجه لاستنكار أكله وشربه وغشيان أحد زوجيه للآخر حقيقة , وقد جاءت الآيات صريحة في ذلك فلا وجه لإخراجها عن ظاهرها وتحريفها عن معانيها اتباعًا للهوى والرأي. نعم، قد دلت النصوص المأثورة من الآيات والأخبار والآثار أن جميع ما في الجنة من النعيم هو أرقى مما في الدنيا وأن حقيقته غيبية، ما رأت مثلها عين ولا سمعت بمثلها أذن ولا خطرت على قلب بشر , ولكن ذلك لا يمنع أن تكون حقيقة جامعة بين اللذة البدنية واللذة الروحية؛ لأن الإنسان بدن وروح. وإنني لا أعرف سببًا لسريان شبهة فلاسفة اليونان والنصارى إلى نفوس بعض المسلمين في هذه المسألة إلا توهمهم أن اللذة الحسية نقص في الخلقة لا يليق بالعالم الآخر! . ولو عقلوا وحققوا لعلموا أنه ليس في الفطرة نقص , فداعية اللذة والتمتع بها من كمال الخلقة , ولكن لما كان الإنسان قد يسرف في تمتعه وقد يسوقه كسبه واختياره إلى الاعتداء على حق غيره ليتمتع به وكان ذلك ضارًا بنفسه وبمن يعيش معهم؛ كان الإسراف والاعتداء مما نهت عنه الشرائع تأديبًا للإنسان وإيقافًا لقواه عند حدود الاعتدال حتى لا يبغي بعضها على بعض ولا يبغي بعض أصحابها على بعض , وعدّ الإسراف والعدوان من النقص لأنه يعوق الإنسان في أفراده ومجتمعه عن بلوغ الكمال الذي خلق مستعدًا له , وإنما يناله إذا اعتدل في استعمال جميع قواه مع مراعاة كل فرد لحقوق سواه. أما قولكم: إن الجنة التي وُعد المتقون في الآخرة هي الجنة التي سكنها آدم في أول نشأته فلا دليل عليه , والراجح المختار من القولين في ذلك أنها بستان من بساتين الدنيا إذا لم تكن القصة تمثيلاً لأطوار الإنسان في هذه الحياة. وإذا أردت مزيد البيان فراجع تفسير الآيات في ذلك ولو في غير المنار. *** حكم أواني الفضة وزكاتها (س12و14) علي أفندي مهيب بتفتيش التلغرافات بمصر: أرجو التفضل ببيان حكم الأواني الفضية في الشرع من حيث استعمالها هل هو محظور أو مباح؟ وهل تجب الزكاة عنها؟ وما هو نصابها الكامل؟ وما مقدار الواجب عنه؟ . (ج) أما الاستعمال فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة النهي عن الأكل والشرب في آنيتها , فحمل ذلك بعض العلماء على الكراهة وجماهيرهم على التحريم , وخصه أهل الظاهر بمورد النهي , وقاس عليه غيرهم سائر أنواع الاستعمال (راجع ص 421 و422، م7) والذي أعتقده الوقوف عند النص. وأما الزكاة عن آنية الفضة ومثلها الذهب فقد قال بها الجماهير , وإن كانت الزكاة المعهودة فيما يزكو وينمو بالعمل كالنقدين والأنعام السائمة وغلة الأرض , ولعل الأصل في ذلك ما رووه في الحلي وأخذ به الحنفية مطلقًا , وقال الشافعية: إنما الزكاة فيما حرم استعماله من الحلي وأعل البيهقي ما روي في زكاة الحلي بما لا محل لذكره ولا لما قيل في الجواب عنه , والمعتمد عندي ما قاله الترمذي من أنه لم يصح في هذا الباب شيء. وفي نص القرآن أن الزكاة فيما يكنز من الذهب والفضة , وهو ما يجمع بعضه فوق بعض , زاد بعضهم: وكان مخزونًا , هذا معناه في اللغة وهو بمعنى الفاضل عن النفقة , واصطلح أكثر الفقهاء على جعله بمعنى ما وجبت فيه الزكاة فلم تؤدَّ. والمتبادر أن المراد به النقود المضروبة لأنها هي التي تكنز وتنفق دون الحلي والأواني. وفي حديث علي مرفوعًا: (قد عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهمًا وليس في تسعين ومائه شيء , فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم) رواه أحمد وأبو داود والترمذي , وذكر الترمذي أنه روي من طريق عاصم بن ضمرة وطريق الحارث الأعور عنه وقال: سألت محمدًا - يعني البخاري - عن هذا الحديث فقال: كلاهما عندي صحيح. والرقة: هي الدراهم المضروبة. وقد أيد القائلون: ليس في الحلي المباح زكاة قولهم بالقياس، قال في حاش

وصف الأسد

الكاتب: أبو زبيد الطائي

_ وصف الأسد لأبي زبيد الطائي دخل أبو زبيد الطائي على عثمان بن عفان رضي الله عنه في خلافته فقال له (أي عثمان) : بلغني أنك تجيد وصف الأسد , فقال له: لقد رأيت منه منظرًا، وشهدت منه مخبرًا لا يزال ذكره يتجدد على قلبي. قال: هاتِ ما مر على رأسك منه. قال: خرجت يا أمير المؤمنين في صيَّابة من أفناء قبائل العرب [1] ذوي شارة حسنة ترتمي بنا المهاري بأكسائها القزوانيات [2] , ومعنا البغال عليها العبيد يقودون عتاق الخيل نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام , فاخروَّط [3] بنا المسير في حمارة القيظ [4] حتى إذا عصبت [5] الأفواه، وذبلت الشفاه، وشالت [6] المياه، وأذكت الجوزاء المعزاء [7] وذاب الصيخد [8] وصرَّ الجِنْدَب [9] وضايقت العصفور الضب في وجاره [10] قال قائلنا: أيها الركب غوروا بنا في ضوح [11] هذا الوادي؛ فإذا وادٍ كثير الدغل [12] دائم الغلل [13] شجراؤه مغنة وأطياره مرنة، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات [14] فأصبنا من فضلات المزاود [15] وأتبعناها بالماء البارد، فإنا لنصف حر يومنا ومماطلته ومطاولته إذ صرّ [16] أقصى الخيل أذنيه، وفحص الأرض بيديه، ثم ما لبث أن جال فحمحم [17] وبال فهمهم [18] ثم فعل فعله الذي يليه واحد بعد واحد فتضعضعت الخيل، وتكعكعت [19] الإبل، وتقهقرت البغال. فمِن نافرٍ بشكاله [20] وناهضٍ بعقاله [21] فعلمنا أن قد أُتينا وأنه السبع لا شك فيه، ففزع كل امرئ منا إلى سيفه واستله من جربانه [22] ثم وقفنا له زردقًا [23] , فأقبل يتظالع [24] في مشيته كأنه مجنوب أو في هجار [25] لصدره نحيط [26] ولبلاعيمه [27] غطيط، ولطرفه وميض [28] ولأرساغه نقيض [29] كأنما يخبط هشيمًا [30] أو يطأ صريمًا [31] وإذا هامة كالمجن، وخدّ كالمسن، وعينان سجراوان [32] كأنهما سراجان يقدان [33] , وقصرة ربلة [34] ولهزمة رهلة [35] وكتد مغبط [36] وزور مفرط [37] وساعد مجدول وعضد مفتول وكف شثنة البراثن [38] إلى مخالب كالمحاجن [39] , ثم ضرب بذنبه فأرهج [40] وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول [41] ، مصقولة، غير مفلولة، [42] وفم أشدق، [43] كالغار الأخرق، ثم تمطَّى [44] فأسرع بيديه، وحفز [45] وركيه برجليه، حتى صار ظله مثليه، ثم أقعى فاقشعرّ [46] ثم مثل فاكفهرّ [47] ثم تجهم فازبأر [48] . فلا والذي بيته في السماء ما اتقيناه بأول من أخ لنا من بني فزارة، كان ضخم الجزارة [49] فوهصه [50] ثم أقعصه [51] فقضقض متنه [52] وبقر بطنه، فجعل يالغ [53] في دمه. فذمرت [54] أصحابى فبعد لأي [55] ما استقدموا , فكر مقشعر الزبرة [56] كأن به شيهمًا حوليا [57] فاختلج [58] من دوني رجلاً أعجر ذا حوايا [59] فنفضه نفضة فتزايلت أوصاله [60] وانقطعت أوداجه [61] , ثم نهم [62] فقرقر، ثم زفر فبربر [63] ثم زأر فجرجر [64] ثم لحظ، فواللهِ لخِلت البرق يتطاير من تحت جفونه، عن شماله ويمينه، فارتعشت الأيدي واصطكَّت [65] الأرجل وأطَّت [66] الأضلاع، وارتجت الأسماع، وحمجت [67] العيون وانخزلت المتون [68] ولحقت الظهور بالبطون ثم ساءت الظنون: عَبوس شموس مصلخدّ خنابس [69] ... جريء على الأرواح للقرن قاهر منيع ويحمي كل وادٍ يريده ... شديد أصول الماضغين مكابر براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضا في وجهه الشر ظاهر يدل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر [70] فقال عثمان رضي الله عنه: اكفف لا أُمَّ لك؛ فلقد أرعبت قلوب المسلمين ولقد وصفته حتى كأني أنظر إليه يريد يواثبني! .

نقد شرح ديوان أبي تمام

الكاتب: أديب متنكر

_ نقد شرح ديوان أبي تمام تابع لما في الجزء الثاني (ص233) شاكي الجوانح من خلائق ظالم ... شاكي السلاح على المحب الأعزل (شاكي السلاح: تام السلاح) قولهم: شاكي السلاح إما أن يكون من الشوكة فيكون أصله شائك ومعناه حديد السلاح ماضيه , وإما أن يكون من الشك ويكون أصله شاكك ومعناه حامل السلاح. فالتمام ليس من معنى شاكي كما هو ظاهر. (ص254) رأيتك للسفْر المطرَّد غاية ... يؤمونها حتى كأنك منهل (السفْر: السفَر سكنت الفاء ضرورة والمطرد: الطويل) السفر هنا ليس أصله مفتوح الفاء فسكنه وإن مصدر، كما يفهم من قول الشارح وإنما هو بسكون الفاء من الأصل؛ لأنه جمع سافر كصحْب جمع صاحب يقال: نحن قوم سفْر أي مسافرون، والمطرد اسم مفعول لطرده عن البلد بمعنى أبعد يقال: فلان مشرد مطرد وهو نعت لسفر باعتبار لفظه كما أن يؤمون عاد إليه باعتبار معناه. والمطرد إنما يكون بمعنى الطويل إذا أجري على اليوم نعتًا يقال: يوم مطرد أي طويل كامل تام يقول الشاعر: إن المسافرين الذين شردهم عن أوطانهم البؤس والشقاء يؤمونك كما يؤم العطاش المناهل. (ص254) وإلا تكن تلك الأماني غضة ... ترفّ فحسبي أن تصادف ذبلا (ذبلاً: يابسة) يقول الشاعر: إذا لم أصادف أماني غضة طرية فإني راضٍ أن تكون ذابلة لا غضة ولا يابسة , وقد بينا معنى الذبول في الكلام على بيت صحيفة 228 وتفسير الذبول هنا باليبس فضلاً عن كونه لا يصح لغة لا ينطبق على قصد الشاعر ولا يلائم غرضه، فإن ما يريد الإنسان ويتطلبه لا يسميه أمنية ما لم يكن فيها شيء من الفائدة والنفع ولو قليلاً , وتلك القلة كنَّى عنها الشاعر بالذبول فلو أراد بالذبول اليبس كان كناية عن خيبته وعدم نيله لأمانيه وقوله (حسبي) ينافي هذا كما لا يخفى. (ص269) قُدعتم فمشيتم مشية أممًا ... كذاك يحسن مشي الخيل باللجم (قدعتم: لجمتم) لعل صوابه: ألجمتم لأنه يقال: ألجمت الفرس لا لجمته. ثم إن تفسير القدع بالإلجام لا أراه صحيحًا , وإرادة معناه الموضوع له نهاية في الحسن. القدع: الكف قدعه فانقدع وقدعت الفرس إذا كففته بلجامه لتنهنه من حدة جريه فالشاعر يقول: ردعتم عن مرامكم وكففتم عن غيكم كما تكف الخيل بلجمها فتمشي مشيتها المعهودة. (ص271) أرض مصرّدة وأخرى تثجم ... تلك التي رزقت وأخرى تحرم (مصردة: لا شجر بها) الأرض التي لا شجر بها يقال لها: مِصراد كمفتاح لا مصردة , أما المصردة هنا فمن التصريد ومعناه التقليل , وصرد له العطاء قلله , وصرد السقي قطعه دون الري وشراب مصرد مقلل. قال النابغة: وتسقي إذا ما شئت غير مصرد ... بصهباء في حافاتها المسك كارع وقرن الإثجام بالتصريد هنا مثل قرن الوابل بالطل في الآية الكريمة. (ص294) وبالخدلة الساق المخدّمة الشوى ... قلائص يتبعن العبنَّى المخدّما (المخدمة: المستديرة التحجيل فوق الأشاعر) ما ذكره لا يصلح هنا لا في تفسير الكلمة الأولى (المخدمة) ولا في تفسير كلمة القافية (المخدما) لأن ما ذكره من صفات التحجيل وهو للخيل. وكلمة القافية جارية على العبنى وهو العظيم من الجِمال كما قال الشارح وهي من الخَدَمَة (محركة) سير غليظ يشد في رسغ البعير , أما المخدمة الواقعة في الشطر الأول , وفسرها الشارح بما فسر فهي وصف للغادة التي وصفها بامتلاء الساق ثم قال: إن شواها أي يديها ورجليها مخدمة أي مخلخلة؛ لأن الخدمة أيضًا تأتي بمعنى الخلخال كما تأتي بمعنى السير المذكور , ومعنى البيت أن المنزل تبدل قطينه فبعد أن كانت تمرح فيه الغواني ذات الخلاخيل صارت ترتع فيه النياق اللائذة بفحلها المشدود الرسغ بالسير. (ص303) قد قلصت شفتاه من حفيظته ... فخيل من شدة التعنيس مبتسما (قلصت: كمدت) الكمد والكمدة تغير اللون وذهاب صفائه , وليس هذا المعنى من التقليص في شيء. والتقليص له معان وإذا أسند إلى الشَّفَة فقيل: تقلصت شفته أو قلصت - كان بمعنى انزوت وتشمرت علوًا , وهذا ما أراده الشاعر. (ص323) ويوم المصدفية حين ساموا ... أنو شروان خطبًا غير هين (ساموا: أذاقوا) سام فلانًا الأمر كلفه إياه وسامه خسفًا أولاه إياه وأراده عليه , وهذا المعنى في السوم مجاز كما في الأساس , وأصله أن يحاول صاحب السلعة بيعها بثمن ويريده مشتريها على أقل منه. فقول شاعرنا هنا من قبيل السوم المجازي أي أرادوا أنو شروان على التوسط في خطب اعتدوه له , وهو يحاول التفصي منه لأنهم أذاقوه إياه , وإذا فسرنا الكلمة هنا بالإذاقة نكون حمَّلناها ما لا طاقة لها به لا حقيقةً ولا مجازًا. (ص324) تآمرت نكبات الدهر ترشقني ... بكل صائبة عن قوس غضبان (تآمرت: اتفقت) تآمروا تشاوروا كأتمروا , وإسناد التآمر إلى النكبات إسناد مجازي لطيف. وتفسير التآمر بالاتفاق عدول بالكلمة عن معناها المستعملة فيه واللائق بها هنا. وإذا قيل: إن التشاور على الرشق لا يقتضي الرشق بالفعل قلنا: والاتفاق عليه لا يقتضيه أيضًا وإنما هو شيء يفهم من المقام. (ص344) أميلوا العِيس تنفخ في بُراها ... إلى قمر الندامى والنديّ (البُرى: التراب) البرى بضم الباء جمع برة وهي حلقة تجعل في أنف البعير تكون من صفر ونحوه ومنه قول المقصورة (يرعفن بالأمشاج من جذب البرى) , والعيس إذا أوضعت في السير تجعل تنفخ ونفخها يمر على تلك الحلقات المعلقة في أنوفها لا التراب الذي على الأرض على أنه لا معنى لإضافة التراب إلى العيس. (ص413) كالليل أو كاللوب أو كالنوب ... منقادة لقادر غربيب (اللوب: الإبل السود) اللابة: الإبل المجتمعة السود على أنه لا يمكن أن تراد الإبل السود هنا قط لئلا يكون من قبيل تشبيه الشيء بنفسه؛ لأن الشاعر إنما يصف الإبل ويظهر من تشبيهه لها بالليل والزنج أنها كانت سوداء فكيف يشبهها وهي سود بالإبل السود. وإنما اللوب هنا جمع لوبة وهي الحَرة , والحرة بفتح الفاء أرض ذات حجارة سوداء ومنه قولهم: أسود لوبي نسبة إليها وتسمى الحرة أيضًا لابة ومنه لابتا المدينة. هذا ما أردت محادثة الشارح فيه أو مؤاخذته عليه مما سبق من الخاطر الكليل لأول وهلة , ويخيل لي أنه لو بالغ منتقد في انتقاده لعثر على أكثر مما عددته عليه وقد أضربت عن كثير مما غلب على ظني تحريفه أو تصحيفه كقول الشاعر (ص 27) : فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته قودًا ركوبًا فقال الشارح: (القود: البعير المسن) والصحيح أن القود بالقاف: الخيل، أما البعير المسن فيقال له: العود بالعين المهملة. وأظهر من ذلك قول الشاعر في (ص449) : قضيب من الريحان في غير لونه ... وأم رشا في غير أكراعها الخمش فقال الشارح: (الخمش: المخدشة) والصواب أن الكلمة في البيت مصحفة عن الحمش بالحاء المهملة وهي جمع أحمش الدقيق الساقين أي ضئيلهما , وقد حمشت ساقه وهو حمش الساقين , ومنه قول الحماسي يهجو امرأة: وساق مخلخلها حمشة ... كساق الجرادة أو أحمش ومثله ما في (ص35) : كالأجدل الغطريف لاح لعينه ... خزر وأنت عليه مثل الأجدل فقال الشارح: (الخزر: الحساء الدسم) مع أن الأجدل - الذي هو الصقر - لا يأكل الأطعمة الدسمة ولا ينقض عليها وإنما الكلمة خزر كصرد ولامها زاي لا راء ومعناها ذكر الأرانب , وهو من طعام الأجادل يقول: إن الشاعر على صهوة فرسه كالصقر يعلو صقرًا رأى أرنبًا فجدَّ في أثره. ونظيره أيضًا ما في (ص256) : أبا جعفر إن الجهالة أمها ... ولودٌ وأم العلم جذاء حائل فقال الشارح: (جذاء: بلا ثدي) فسرها على كونها من الجذ بالذال المعجمة وهو القطع , وإنما هي جداء بالدال المهملة وهي المرأة الصغيرة الثدي والذاهبة اللبن لعيب خلقي في ثديها وقوله (حائل) يؤيد هذا المعنى. على أن الشارح حفظه الله تساهل في تفسير كثير من الكلمات تساهلاً ربما لم يرضِ نقاد اللغة ولم يستجيزوه من مثله مثل قوله (منى) جمع أمنية، (جيش أزب) متجمع، (السنان) الرمح، (الأيكة) الشجرة، (أحرج) أجبر، (الحديث سرار) سر، (الصبر) الدواء المر، (الفرند) السيف، (الصفاة) الصوانة، (تهفو خلائقه) تضطرب، (يجم) يترك، (الطوَل) الحبل الطويل، (سيديل) سينتقم، (المعرس) المنزل، (الاصطلاء) الالتهاب، (الوابل) المطر، (البنان) الأصابع، (لاحب) طريق مُزجاة كاسدة، (النكال) المصيبة، (الهنات) الأمور، (شكائم) انتصارات، (اقتضى) طلب القرض، (يخترمن) يخترقن - في نظائر ذلك مما كان من باب التفسير بالأعم أو بالأخص أو باللازم , وهو ما يأباه المدققون في اللغة ويرون التسامح فيه غلطًا فاحشًا وجريمة لا تُغتفر. بقي لي كلمة لا أحب أن أبلغ بالكلام آخره ما لم أحدث بها حضرة الشارح وهي أني عددت عليه كلمات هي من قبيل المشترك وقد فسرها بمعناها غير المراد للشاعر كتفسيره للبرى بأحد معنييه وهو التراب مع أن المراد معناه الآخر كما مر آنفًا , فإن ذهب حضرة الشارح إلى أن تفسيره للمشترك بغير المراد منه غير موضع للانتقاد لكونه لم يخالف فيه أصل وضع اللغة وأنه في ذلك لم يخرج عن كونه شارحًا لديوان أبي تمام وعدَّ مؤاخذتي له على تلك الكلمات مؤاخذة في غير محلها وعلى غير الوجه الذي أعلنه في طلب الانتقاد - إن زعم ذلك كان من يفسر قوله تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} (الغاشية: 12) بقوله: العين: الباصرة، والجارية: الفتاة! - يصح أن يسمى مفسرًا للقرآن وشارحًا لكلام الله تعالى، وكنت إذ ذاك جديرًا بسحب الكلام وطلب العفو والسلام. اهـ.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (كتاب الجواب الصحيح لمَن بدَّل دين المسيح) طُبع منذ سنة أو أكثر هذا الكتاب النفيس لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى وهو أربعة أجزاء , وقد كتبه ردًّا على كتاب أذاعه النصارى في عصره؛ فعلمنا أن القوم هم الذين كانوا يعتدون في الماضي كما يعتدون في هذا العصر وما كانوا إلا محجوجين في كل زمان. ذكر المؤلف في مقدمة كتابه أن ذلك الكتاب ورد عليهم من قبرص وأنه مؤلف من ستة فصول: (1) في أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يُبعث إليهم بل إلى الجاهلية من العرب. (2) أنه أثنى في القرآن على دينهم بما أوجب أن يثبُتوا عليه. (3) أن نبوات الأنبياء المتقدمين تشهد لدينهم الذي هم عليه فوجب ثباتهم عليه. (4) أن ما هم عليه من التثليث ثابت بالعقل والنقل. (5) أنهم موحدون! (6) أن المسيح جاء بعد موسى بغاية الكمال فلا حاجة بعده إلى شرع. وقد أورد كلامهم في كل فصل وردّ عليه بالعقل والنقل من كتبهم فدل على أنه كان مطّلعًا عليها أتم الاطلاع , وأيد بيان الحق في جميع المسائل بآيات الكتاب العزيز والأحاديث النبوية بما يعهد في كلامه من البسط والإيضاح. وفي هذا الكتاب من الفوائد النادرة في العلم والتاريخ وإيضاح المشكلات الغامضة في الدين وغيره ما لا يوجد في كتاب سواه , ومن أعظم مواضع العبر في الكتاب ذلك الفصل الذي عقده في الجزء الرابع لبيان وجوه العدل ومقصود العبادات وتفضيل هذه في الأمة على أهل الكتاب بالعلم والعمل. قال: (فأما العلوم فهم - يعني المسلمين - أحذق في جميع العلوم من جميع الأمم حتى العلوم التي ليست بنبوية ولا أخروية كعلم الطب مثلاً والحساب ونحو ذلك (أي من العلوم الكونية، طبيعية ورياضية) هم أحذق فيها من الأمتين ومصنفاتهم فيها أكمل بل هم أحسن علمًا وبيانًا لها من الأوائل الذين كانت غاية علمهم. وقد يكون الحاذق فيها مَن هو عند المسلمين منبوذ بنفاق وإلحاد ولا قدر له عندهم , لكن يحصل له بما يعلمه من المسلمين من العقل والبيان ما أعانه على الحذق في تلك العلوم فصار حثالة المسلمين أحسن معرفة وبيانًا لهذه العلوم من المتقدمين) ! . ثم ذكر براعة المسلمين في العلوم الإلهية والأخلاق والسياسة الملكية والمدنية وانتقل من هنا إلى بيان المقصود من العبادة عند المتفلسفة وغيرهم، ولا شك أن المسلمين كانوا إلى عهده أكمل الأمم في علوم الدين والدنيا. فماذا عساه يقول لو خرج من قبره ورأى حالة المسلمين اليوم في العلم وكيف وصلوا إلى درجة صاروا يحاربون فيها العلوم باسم الدين وصارت حثالة أهل الكتاب أعلم من أشهر علمائهم في هذه العلوم التي كانت حثالة المسلمين أعلم بها وأحسن بيانًا من علمائهم؟ ! . هل انقلبت الحال واستحالت طبيعة الإسلام أم المسلمون اليوم أوسع علمًا وأشد اعتصامًا بالدين من سلفهم منذ اشتغلوا بعلوم الدين في القرون الأولى إلى زمن ابن تيمية المتوفى سنة 728 ولذلك ظهر لهم ما لم يظهر لسلفهم من منافاة الاشتغال بالعلوم الدينية لتحصيل العلوم الكونية؟ ! . لا يتجرّأ أحد منهم على هذه الدعوى فليعتبر المسلمون بماضيهم وحاضرهم وبمخالفة خلفهم الطالح لسلفهم الصالح. هذا وإن الكتاب يباع عند أحد طابعيه الشيخ مصطفى القباني بخان الخليلي وفي مكتبة المنار , وثمن النسخة منه مجلدة اثنان وعشرون قرشًا صحيحًا. *** (ضوء الصبح المسفر) أَحَسِبَ الناس أن المسلمين لم يصنفوا فيما يسمى عند أهل الغرب بعلم أدب اللغة وتاريخ اللغة؟ ! ولو اطَّلعوا على ما أبقت عليه حوادث الزمان من كتب سلفنا في دارنا وما جذبته مغناطيسية العلم والعمران منها إلى ديار أوربا؛ لعلموا أن القوم ما غادروا متردّما فقد أوفوا على الكمال في بعض العلوم والفنون أو قاربوا , ووضعوا لبعضها الأسس لنبني أو بنوا لنُتم ونكمل فنقصنا ما كملوا وهدمنا ما بنوا وعفونا تلك الأسس حتى جهلنا مكانها! هذا كتاب (صبح الأعشى في كتابة الإنشا) من أنفس الكتب المطولة في أدب اللغة وتاريخها وضعه الشيخ أحمد بن علي القلقشندي المصري المتوفى سنة 821 , وهو يدخل في سبعة أسفار عظيمة عني ناظر دار الكتب المصرية (الكتبخانة الخديوية) بطبعها على نفقتها ولكنه لا يطبع منه إلا نسخًا قليلة يريد حفظ بعضها في دار الكتب وتوزيع باقيها على دور الكتب في أوربا. وللكتاب مختصر للمؤلف سماه (ضوء الصبح المسفر) أودعه صفوة مسائله وخلاصة مباحثه فكان سفرين عظيمين نشده محمود أفندي سلامة فوجد جزءًا منه فطبعه طبعًا حسنًا بحرف مثل حرف المنار على ورق أنظف من ورقه , وقد ناهزت صفحاته نصف الألف وهو مشتمل على مقدمة وعشرة أبواب وخاتمة. وفي الأبواب فصول. أما المقدمة ففي مبادئ يجب تقديمها على الخوض في كتابة الإنشاء. وفيها خمسة أبواب أربعة منها في التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في الإسلام واستقراره بدار الخلافة وتفرقه بعد ذلك في الممالك وفيه فصلان , والخامس في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله ورتبة صاحب الديوان وصفاته الواجبة فيه وآدابه وأرباب وظائفه من الكُتاب وغيرهم في القديم والحديث وفيه أربعة فصول. وأما المقالة الأولى ففي ما يحتاج إليه الكاتب وتدعو إليه ضروراته وفيها بابان. وأما الثانية ففي ما يحتاج إليه من معرفة أحوال الأرض وجهاتها ورياحها وفيه ثلاثة أبواب. ولو أردت أن أسرد للقارئ ملخص فهرس هذا الجزء على هذا النحو لقال: إنه لم يترك شيئًا يشتاقه طالب الأدب والتاريخ في هذا الموضوع إلا وخاض فيه لا سيما الأمور الرسمية كالأسماء والكُنَى والألقاب والنعوت ورقاع كاتب السر وقوائم الوزارة ومربعات الجيش والمناشير والإقطاعات والمستندات والبيعة والعهود والتقاليد والتعاويض والمراسيم والتواقيع وما يتعلق بالحرب والهدن والصلح والأمان من الاصطلاحات وغير ذلك من الأمور الرسمية وغير الرسمية كمكاتبات الإخوان والتهاني والتعازي والبشارات والشفاعات وكالأدوات الفنية ومنها: آلات الدواة وهي خمس عشرة , ومنها الكلام في الورق وأشكاله. وجملة القول إنه لا يستغني أديب ولا مؤرخ عن هذا الكتاب. وهو يطلب من ناشره في مطبعة الواعظ بدرب الجماميز , وثمن النسخة منه ثلاثون قرشًا صحيحًا وانتقدنا على ناشره أن نشره بغير جدول للفهرس فوعد بجمع الفهرس وطبعه. *** (تربية المرأة والحجاب) قد صادف هذا الكتاب من الرواج ما أنفد نسخ الطبعة الأولى منه فأعاد مؤلفه (محمد طلعت بك حرب) طبعه على نفقته إجابة لكثرة الطالبين له , وقد افتتح الطبعة الثانية بمقدمة أودعها ما كتبناه في المنار تفسيرًا لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) مقتبسًا من دروس الأستاذ رحمه الله تعالى وختمها بعلاوة هي عدة مقالات من مقالاتنا التي نشرناها في المنار تحت عنوان (الحياة الزوجية) فكانت زيادة هذه الطبعة على الأول بنحو ربع الكتاب فصارت صفحات الكتاب مائتي صفحة كصفحات المنار ولم يزد مع ذلك في ثمنه شيئًا , فثمن النسخة من الطبعة الجديدة ستة قروش صحيحة , وأجرة البريد قرش ونصف ويباع بمكتبة المنار. هذا وإننا نذكر ما قاله في أول مقدمة هذه الطبعة تعريفًا بالغرض من هذا الكتاب. قال - بعد البسملة والحمد والتصلية -: (وبعد: فقد كان من فضل الله علينا وعلى الناس أن وفقنا لجمع هذا الكتاب، الذي تلقاه بالقبول أولو الألباب لدعوته إلى تربية المرأة على أصول الديانة الإسلامية، مع مراعاة حال العصر والتوقي من شرور المدنية الغربية، تلك المدنية التي أصلحت في الأقطار الغربية وأفسدت، ولكنها أفسدت في البلاد الشرقية وما أصلحت؛ إذ فُتن الناس بشر ما جاءت به، وطفقوا يتركون لأجلها خير ما كانوا عليه! .. لما رأينا كتابنا هذا (تربية المرأة) قد انتشر في الأمصار، وتنقل في الأقطار، حتى نفدت نسخ طبعته الأولى، وتوجهت الرغبة إلى طبعه مرة أخرى، رأيت أن أزيد في فوائده ومسائله، وأضم إليه شيئًا من أحاسن الكلام وعقائله، وكنت قرأت في مجلة (المنار) الإسلامية مقالات في (الحياة الزوجية) ، لمنشئها الذي نعترف - مع حضرة قاسم بك أمين - بأن جميع الناس يعرفون مكانه من العلم والدين فاخترت أن أجعلها خاتمة للكتاب؛ لأنها في الموضوع لب اللباب. ثم قرأت في باب التفسير من المنار كلامًا عاليًّا، وهديًا سماويًّا ساميًّا، في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ... } (البقرة: 228) الآية. وهو مما كان اقتبسه صاحب (المنار) من دروس الأستاذ الإمام، حكيم الشرق وحجة الإسلام، الشيخ محمد عبده عليه الرحمة والسلام , فاخترت أن أقتبسه في فاتحة هذه الطبعة , وهاكه نقلاً عن الجزء العاشر من مجلد المنار الثامن (الصادر في 16 جمادى الأولى سنة 1323) . اهـ) وذكره. فغرض المؤلف أن تُربَّى البنات تربية دينية ويعلمن ما تحتاج إليه البيوت مع الاحتراس من غوائل المدنية الغربية، ويا نعم الغرض! *** (بحر الآداب) هو كتاب في الآداب العربية لأحد جمعية الإخوة (الفرير) المعروف (بالأخ بلاج) مفتش اللغة العربية في مدارس الجمعية , وقد أهدى إلينا القسم الأول من الجزء الخامس مطبوعًا فإذا هو مفتتح بتمهيد يليه فصول في طريقة تعليم الإنشاء وتعلمه وأركانه وآدابه , ويلي ذلك أبواب ومباحث في المادة التي تعين على ذلك كالكلام في العلم والعقل ومختارات من نثر الأولين وشعرهم في الجاهلية والإسلام , وإذا هو مختتم بمباحث في حال اللغة على عهد الدولة الأموية والعباسية. ويدل الكتاب على أن المؤلف ذو ذوق في حسن الاختيار وحذق في كيفية التأليف فكتابه هذا نافع لطالبي آداب هذه اللغة إن شاء الله تعالى. *** (تحرير مصر) كتاب إنكليزي لا يُعرف مؤلفه , ترجمه بالعربية وطبعه في هذا العام محمد لطفي أفندي جمعة المحرر بجريدة الظاهر , وهو مؤلَّف من مقدمة يبين المؤلف فيها حال مصر في القرن التاسع عشر وسياسة فرنسا وإنكلترا فيها , ومن أربعة فصول اثنان منهما في علاقة الدول بمصر والثالث في سياسة بريطانيا الاستعمارية في مصر وغيرها والرابع في (المركز الكاذب لبريطانيا العظمى في مصر) وفيه مبحث استقلال مصر لأنها مملكة حية وبلوغها سن الرشد ومنحها الحرية والاستقلال. ويليه الخاتمة في بيان أن أنفع حل للمسألة المصرية هو منح مصر الحرية؛ لأن مستقبل أفريقية متعلق بتحريرها ورأي جريدة الطان في ذلك. هذا ملخص التعريف بالكتاب , ومنه يعلم أنه لا غنى لقارئ مصري عن الاطلاع عليه ليعرفوا رأي القوم فيهم , ولعل مؤلف هذا الكتاب هو أحسن الأوربيين انتصارًا لهم , وقد كتم اسمه لتعرف قيمة كتابه لذاته فكان أقرب إلى الإخلاص من بعض أحداث المصريين الذين لا يقولون ولا يكتبون كلمة في ذلك إلا ويقولون ألوفًا من الكلم والافتخار والتبجح بها! . افتتح المؤلف مقدمة كتابه بقوله: لقد صدق اللورد ملنر في قوله: (إن مصر بلد التناقض والتخالف , فإنه لا يوجد في العالم بلد فيه ما في مصر من الحقائق والأفكار المتناقضة المتباينة , وقد يصل هذا التناقض إلى حد مدهش فيصير مضحكًا!) فيليق إذن بمن يرقب أمور هذه البلاد ويشاهد أحوالها أن يكون متنبهًا أبدًا متوقّيًا لئلا يلقيه حسن الظن والإسراع في الحكم في الخطأ والندم. اهـ المراد منه. وما أظن أن المؤلف على حذره وتوقيه قد سلم في الخطأ في بعض أحكامه. وقد أحسن مترجم الكتاب؛ إذ قال في

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مسألة العقبة) بينا في الجزء الماضي أن حقيقة المسألة عسكرية لا إدارية تتعلق بالحدود فهي أول وليد ولدته لنا سكة حديد الحجاز فالدولة العلية ترى أن إنكلترا تخاف عاقبة هذه السكة على مصر فهي تريد اتقاء الخطر بإقامة المعاقل الحربية في شبه جزيرة سيناء لأن محاربتها في مصر إذا هي دخلت فيها غير معقول وهي تخاف من إنكلترا على سوريا والحجاز إذا هي جعلتها بقعة عسكرية باسم مصر ولذلك كان السلطان غير راضٍ بإنشاء ناشط من السكة إلى العقبة ولما اضطر إلى ذلك باستفحال الثورة في اليمن رأى أن إنكلترا أنفذت الجنود المصرية إلى العقبة للبناء كما قيل ورأت الجنود المصرية ومن يقودها من الإنكليز أن العساكر العثمانية بالمرصاد فظهر الأمر وبدأ الخلاف بالشكل الذي عرفه الناس وهو أن الترك قد اعتدوا الحدود المصرية ولعل الذي نبه الترك إلى أخذ الحذر من الإنكليز هو تعيين خمسة آلاف جنيه مصري في ميزانية مالية مصر باسم شبه جزيرة سيناء. فهم الإنكليز من جعل العقبة تابعة لولاية الحجاز أن الدولة العثمانية تريد بذلك أن تمنعها منهم بسياج ديني وهو إثارة سخط المسلمين في مستعمراتهم وغيرها عليهم إذا مدوا أيديهم إليها وما كانت الدولة لتحسن استخدام هذه القوى المعنوية ولو كانت تريد ذلك لما حال دونه جعل العقبة تابعة لسوريا؛ لأنها على كل حال من جزيرة العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى فيها دينان، وأن يخرج منها يهود يثرب ونصارى نجران، وقد قاوم الإنكليز ما توهموه من الدولة بإيهام من جنسه فأنشأوا يوهمون شعبهم وسائر الشعوب الأوربية بأن السلطان يريد تهييج التعصب الإسلامي على المدنية الأوربية وربما وجدوا لإيهامهم شبهة في ثرثرة أحداث السياسة في مصر الذين جعلوا اسم الإسلام والخلافة ضيعة يستغلونها وإن أضاعوا الإسلام الذي لا يعرفون منه إلا اسمه! . لولا أن الدولة العثمانية حذرة من عمل عسكري في سيناء باب سوريا والحجاز لما بالت أن تزيد في مساحة ما سمحت به لمصر منها، ولولا أن إنكلترا حذرة من تركيا على مصر لما عظمت من أمر الحدود المصرية ما عظمت، ولولا أنها تتوقع هيجان مسلمي مصر أو ثورتهم إذا استحكمت حلقات الخلاف بينها وبين تركيا لما أمرت بزيادة جيش الاحتلال. فإذا كان سبب النزاع هو ما يعبرون عنه بسوء التفاهم فما أسهل سبيل الاتفاق مع حفظ شرف الدولتين وهو أن تعترف تركيا بحدود مصر التي ذكرت في فرمانات تعيين الخديويين وفي تلغراف الصدر الأعظم الملحق بفرمان عباس حلمي باشا الثاني وتتعهد إنكلترا بأن لا تعمل في شبه جزيرة سيناء عملاً عسكريًّا، وقد أساءت الدولة المدخل فعسى أن تحسن المخرج. نحن نعتقد أن الدولة العثمانية لا يخطر لها على بال - وهي في هذه الحال - أن تزحف على مصر أما إنكلترا فلا يبعد أن تقصد إقامة المعاقل الحربية في شبه جزيرة سيناء باسم مصر باعتبار مصر حكومة إسلامية لا تعد إقامتها على أبواب الحجاز أو امتلاكها لجزء من الجزيرة مخالفة لوصية النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان يكون ذلك بكل هدوء وسلام لو لم تعارضه الدولة العثمانية وتقاومها فيه إنكلترا بعد عجز الحكومة المصرية وإنما نعني بالهدوء والسلام هدوء نفوس المسلمين وسلامة قلوبهم. وأن تظفر إنكلترا بتركيا ظفرًا مبينًا وتلزمها بالاعتراف بالحدود كما تريد وتجعل بعد أرض سيناء معسكرًا ولو مصريًّا فإن كل مسلم في الدنيا يتألم ويضطرب قلبه ويظن بالدولة الإنكليزية ظن السوء ويتوقع الاعتداء على الأرض المقدسة كل يوم وقد عرفنا من حكمة هذه الدولة في السياسة البعد عن جرح الشعوب في قلوبها، وإن هي جرحتها في أبدانها ورؤوسها (مصالحها وحكامها) . إن جميع عقلاء المسلمين يفضلون دولة إنكلترا على جميع الدول! ، وإذا أيقنوا بأن قطرًا من أقطارهم واقع تحت سلطان أجنبي وكان لهم اختيار في الترجيح فإنهم يرجحون بريطانيا العظمى على غيرها! . ويعتقد رجال الإصلاح منهم أنه لا يمكن الإتيان بعمل يحيي الإسلام وينفع المسلمين في بلاد إسلامية غير مصر والهند بل لا حرية للمسلمين في الدعوة إلى كتاب ربهم المنزل وسنة نبيه المرسل إلا في هذين القطرين. لبريطانيا العظمى أن تعتد هذا الاعتقاد عونًا لها على كل دولة تناوئها في الشرق وعليها أن تحافظ عليه وتتحامى مواقف الظنة فيه فإن امتلاك القلوب بالحكمة خير من امتلاك الرقاب بالقوة، ولتكن آمنة جانب المسلمين واثقة بتفضيلهم إياها على غيرها مادام دينهم محفوظًا ومعاهده المقدسة آمنة اعتداء الأجنبي عليها، أو تداخل غير المسلم فيها، ولا يصدنَّها عن هذا الاعتقاد تشدُّق المغررين بالغوغاء، فالزبد يذهب جفاءً، وإنما الناس بالعقلاء والفضلاء. *** (الأمير الخادم للفقراء) (صاحب الدولة البرنس حسين كامل باشا رئيس الجمعية الخيرية الإسلامية) استدار الزمان وتغيرت أحوال العمران، وتبدلت الأوضاع، وارتقت شئون الاجتماع، فصارت عظمة الأمراء والرؤساء محصورة في خدمة الدهماء، بعد أن كانت قائمة باستعباد الفقراء، وامتصاص دماء الضعفاء، وما فتئ أمراء المسلمين يرون أنهم من جنس أعلى من جنس الأمة، وأن شرفهم ذاتي لطينتهم لا لشرف الملة، فهم يترفعون عن مشاركة الجمهور في المصالح العامة، ولو اعترف لهم في ذلك بالمزايا الخاصة، حتى في مثل هذه البلاد التي زال منها الاستبداد، ووهن الفخر بمجد الآباء والأجداد، وصارت المعارف والأعمال هي الميزان لأقدار الرجال - حتى قام الأمير حسين كامل باشا عم عزيز مصر بإبطال تلك التقاليد العتيقة، وسن للأمراء سنة حسنة جديدة. أطمع أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية في اختيار هذا الأمير رئيسًا لها بعد الأستاذ الإمام (رحمه الله تعالى) ما يعلمونه من بره للفقراء وعنايته بالمساكين والضعفاء، وما سبق له من قبول رياسة الجمعية الزراعية، فعرضوا عليه رجاءهم فيه فما تأبَّى، فدعوه لرياسة الجمعية فلبى، فاستبشرت نفوس العاملين واطمأنت قلوب الفقراء والمساكين وشكرت له ذلك ألسنة المسلمين بل ألسنة الناس أجمعين! . *** (تنصُّر المسلمين في قبرص!) كتب إلى جريدة (ترك) من قبرص أن عددًا كثيرًا من مسلمي قرى الجزيرة وضياعها قد تنصروا على أيدي الدعاة (المبشرين أو المرسلين) الذين يجيئون من بلاد اليونان لدعوة المسلمين إلى النصرانية. وقد يعجب قراء المنار لمثل هذا الخبر؛ إذ يعتقدون أن الإسلام في قوة حقه وجلاء تعاليمه وموافقتها للعقل والفطرة لا يمكن أن يختار عليها غيرها ويعهدون أن دعاة النصرانية يقضون في دعوة المسلمين السنين، وينفقون في سبيلها الألوف والملايين، ولا يكاد يجيب دعوتهم في كل بضع سنين، إلا واحد أو اثنان ممن أضناهم الفقر، ولم يبق لهم من الإسلام إلا الاسم، وقد يزول هذا العجب إذا علموا أن أولئك المتنصرين كانوا نصارى فأسلموا ولم يوجد فيهم من المعلمين والمرشدين من يحفظ عليهم دينهم فتمادى الجهل بخلفهم حتى جاءهم من أهل جنسهم ولغتهم من يدعو إلى دين آخر لا يرون في اتباعه عارًا؛ إذ ليس للمسلمين هناك شأن يربي في أفرادهم إحساس الشرف الملي والنعرة الجنسية. الدعوة الى الإسلام: ليس للمسلمين أن يتأسفوا لمثل هذا الخبر تأسف العجائز والزمنَى أو يشفوا غيظهم بذم الحكومة التي تبيح الدعوة إلى دينها إلا إذا كانت لا تبيحها لدينهم أيضًا بل عليهم أن يعتبروا ويفكروا في حفظ الإسلام وصيانة شرفه. وليعلموا أن أكبر عار عليهم وأقوى شبهة على دينهم أن تكون حرية الأديان خطرًا وهم مشتركون في هذه الحرية مع غيرهم والحق يعلو ولا يعلى. وإن يتفكروا يظهر لهم أن من الواجب المحتم عليهم إنشاء جمعية للدعاة والمرشدين تجمع المال وتربي الرجال وتبثّهم في بلاد المسلمين التي غلب عليها الجهل كقبرص وإفريقية للإرشاد وفي بلاد غير المسلمين للدعوة إلى الإسلام نفسه. والدليل على وجوب هذا قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) . *** (نهضة مسلمي روسيا وجرائدهم) كتب إلينا صديقنا الشيخ محمد نجيب التونتاري في 16 ذي الحجة سنة 1323 ما نصه (وتأخر نشرها لتأخر دور السؤال الذي ورد معها) : (إن حضرة الإمبراطور نيقولا الثاني منح الأهالي كثيرًا من الحقوق كالحرية الدينية والوجدانية والشخصية والكلامية والاجتماعية وكثيرًا من المكرهين (على النصرانية) عادوا إلى الإسلام رسميًّا بسبب ذلك وبمساعدة حرية الاجتماع، حصل بين المسلمين اجتماعات عديدة في المحال المتعددة ذكروا في المسائل السياسية الحاضرة بين الأهالي وغيرها. ويتصورون تأسيس جمعية عمومية إسلامية في الروسية فيعد هذا دورًا جديدًا للمسلمين يؤمن منه الانقلاب الحسن في مستقبل قريب إن شاء الله تعالى. وإنه بمساعدة الحرية الكلامية ظهرت بيننا جرائد كثيرة في الأماكن المختلفة وبلدة قزان مع كثرة المسلمين فيها لم تكن فيها جريدة واحدة والآن تصدر فيها خمس جرائد: (1) قزان مخبري: جريدة سياسية علمية مالية تصدر في كل أسبوع ثلاث مرات. (2) طان (صباح) كذلك. (3) يلدز (كوكب) وهي أيضًا جريدة واسعة البروغرام. (4) آزاد كذلك. (5) العلم والأدب مجلة علمية تصدر قريبًا. وفي باغجه سراي جريدتان جديدتان: (6) عالم نسوان مخصوصة بالإناث تصدر في إدارة جريدة ترجمان أسبوعيًا. (7) (خاخاخا) جريدة فكاهية. وفي باد كوبه ظهرت جريدتان، إحداهما: (8) حيات يومية بلغة آذَرْبِيجَان. والأخرى: (9) إرشاد هي أيضًا كذلك. وفي تفليس أيضًا ثلاث جرائد لم أتخطر أساميها. وفي جايق (أروالسكي) : (13) فكر: جريدة. (14) العصر الجديد: مجلة، كلتاهما أسبوعية. وفي بطرس بورج جريدتان: (15) نور. (16) ألفت. في أورن بورغ جريدة: (17) وقت. فهذا مما يعد فألاً حسنًا لخيرية الاستقلال؛ فإن الجرائد أول الوسائل في الإصلاحات، يمكن أن يستدل بها على أن مسلمي الروس تيقظوا بعد الرقدة الدائمة، أصلحنا الله تعالى. اهـ. *** (إصلاح التعليم والمدارس الإسلامية في روسيا) كتب إلينا أحد طلاب العلم في قزان يقول: (إننا قد دخلنا في حياة جديدة منذ كنا تلاميذ لحضرتكم، فصرنا نستفيد من كتاب الله بعد ما ظننا الاستفادة منه خاصة بأهل القرون الماضية، ولا نقبل قول أحد بلا دليل، وأعلم يقينًا أن هذه الحياة من الروح التي نفختموها بواسطة مجلتكم، جزاكم الله عنا خير الجزاء. وقد ناهضت الطلبة بطلب إصلاح المدارس الإسلامية، وكلفوا مديري المدرسة وأساتذتهم عدة مواد استصوبوها بالشورى بينهم؛ لأن طريق التعليم في مدارس قزان وخيم جدًا! ، لا يدرس فيها إلا ما بقي من خيالات اليونان والنسفي مع شرحه التفتازاني والنحو والصرف بكتبه المعروفة، بشرط أن يضيع من العمر خمس سنين من غير فهم، ولا يدرس غير ما ذُكر، لا من التفسير ولا من الحديث وغيره، ولكن المدرسين رِيعوا من هذه التكاليف واستثقلوها لاعتيادهم أكل (بلش المحلة) - طعام من الأرز خاص بالإمام - فطردوا من التلاميذ مَن يريد الإصلاح فأُخرج من مدرسة عالم جان البارودي اثنان وثمانون طالبًا من ذوي النهى وأبقوا من لا يهتم بشيء من الإصلاح , وسموا الذين أُخرجوا بغير حق (بالروس الجديد) ، ولكن الظالمين في

السلام على آل البيت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السلام على آل البيت الانتقاد على المنار كتب إلينا ح. ح. أحد المشتركين في الجبل الأسود: إلى حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا: لقد كنت سعيدًا لما وفقني الله إلى الاشتراك في المنار، وإن كنت قليل العلم قصير الفهم لكن نفعني كثيرًا ونبهني عن كثير، ففي هذه السنين ما أتيتم بالخطأ إلا جئتم بعده بالتصحيح إلا في ثلاثة مواضع على ما أظن فأتعجب كثيرًا و (أجتسر) أن أكتب لفضيلتكم؛ لما أعلم أنكم ناطقون بالحق والصواب، وهى: قلتم في (ص 295) في المجلد السابع: (ويشكو لسيدنا الحسين عليه السلام) وقلتم في (ص 446) من المجلد الثامن: (ورواية عن علي عليه السلام) ، وفى (ص 908) منه أيضًا: (من أثر علي وفاطمة عليهما السلام) ، فأظن الفقير أن لا يقال بعد ذكر أحد: (عليه السلام) دون الأنبياء صلوات الله على نبينا وعليهم أجمعين. فإن قلتم بجواز ذلك فلِمَ خصصتم في هذه المواضع خاصة عليًّا وآله دون غيره من الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فأرجو من حضرتكم التصحيح أو الجواب الشافي من غير مؤاخذتي؛ لأن كلامي هذا يدل على عدم علمي. كما لا يخفى عليكم والسلام عليكم. اهـ. (المنار) اختلف العلماء في الصلاة على غير الأنبياء فأجازها قوم مطلقًا ومنعها آخرون مطلقًا وقال بعضهم تجوز تبعًا لا استقلالاً. وممن قال بالجواز مطلقًا البخاري واستدل كغيره بالآيات والأحاديث كحديث: (اللهم صلِّ على آل أبي أوفى) وأجيب بأن ما ورد خاصًّا بالله ورسوله وبالدعاء ابتداءً وقال ابن القيم: إن كانت الصلاة على آل النبي وأزواجه وذريته فهي مشروعة مع الصلاة عليه وجائزة على الانفراد وإن كانت على شخص معين أو طائفة معينة كُرهت.. إلخ ما قاله. وأما السلام المسئول عنه فقيل إنه كالصلاة وقيل لا. قال الحافظ السخاوى: وقد اختلفوا في السلام هل هو في معنى الصلاة فيكره أن يقال (عن علي عليه السلام) وما أشبه ذلك؟ فكرهه طائفة منهم أبو محمد الجويني ومنع أن يقال عن علي عليه السلام وفرق آخرون بينه وبين الصلاة بأن السلام يشرع في حق كل مؤمن من حي وميت وحاضر وغائب وهو تحية أهل الإسلام بخلاف الصلاة؛ فإنها من حقوق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا يقول المصلي: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولا يقول الصلاة علينا، فعُلم الفرق ولله الحمد. اهـ. أقول: وقد جرى بعض أئمة المحدثين كالبخارى وبعض كبار الصوفية كابن عربي وبعض العلماء من غيرهم على تخصيص السلام بآل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين هم أصحاب العباء: علي وفاطمة والحسن والحسين وممن تبعهم فى ذلك من المتأخرين الإمام الشوكاني، والشيعة يلتزمون ذلك لسائر أئمتهم. والشاهد الثاني من الشواهد التي ذُكرت في الانتقاد على المنار منقولة عن نيل الأوطار لا من كلامنا. قصة المولد لدبيع كتب إلينا من سنغافوره أن بعض الناس استاءوا مما كتبناه في المنار بشأن هذه القصة وما قاله المتهجمون في شأن المجلس الذي تُقرأ فيه رجمًا بالغيب وجراءة على الله ورسوله، أما غوغاء العوام فلا كلام لنا معهم، وأما مَن يرى أنه أُوتي نصيبًا من العلم فالعلم حكم بيننا وبينه، فليكتب إلينا رأيه مؤيدًا بحجته ونحن ننشره مذعنين له إن ظهر لنا أنه الحق أو مبينين ما لدينا من الرد عليه مع الأدب والاحترام لصاحبه. المنار والشيخ محمد بخيت بلغنا أن الشيخ بخيتًا يريد الرد على المنار دفاعًا وهجومًا وأنه استعار بعض أجزاء منه لذلك. وإنه ليسرنا ذلك ونتمنى لو يتفضل علينا بما يكتبه ونحن ننشره مذعنين لما نراه صوابًا باحثين فيما نراه خطأً. وكيف لا نسر بإجابتنا إلى ما ندعو إليه العلماء في كل سنة وندعّهم إليه بالانتقاد على ما نراه منتقدًا منهم؛ ليضطروا إلى الانتقاد علينا ولو انتصارًا لأنفسهم ودفاعًا عنها. وقد وعدتْ بالدفاع عنه جريدة أسبوعية من الجرائد التي يعبرون عنها بالساقطة وهي مما لا يُنظر في قولها ولا يرد عليها! .

مقالتان للأستاذ الإمام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقالتان للأستاذ الإمام [1] (مقتبستان من دروس السيد جمال الدين وقد نشرهما في العدد 49 من جريدة مصر التي كانت تصدر بالإسكندرية في 15 جماد الأولى سنة 1296) . المقالة الأولى التربية في ليلة الأحد الماضي انعقد درس الأستاذ جمال الدين الأفغاني وانتظم في سلكه جم غفير من نبهاء طلبة العلم وفضلائهم وكثير من الأفندية مستخدمي الدواوين، وبمحضر هؤلاء وأولئك شنف المسامع بمقال جليل في شأن تربية الأمة وما يلزم أن يسلك من سبلها ولما فيه من عظم الفائدة رغبت في نشره في الجرائد الوطنية؛ تعميمًا للفوائد وبيانًا لما انطوى عليه من حسن المقاصد، قال ما معناه: إذا وجه العقل نظر الاعتبار إلى الأجسام الحية بالحياة النباتية أو الحيوانية أو الإنسانية علم أن قوام حياتها بتفاعل العناصر الداخلة في قوامها تفاعلاً متناسبًا بحيث لا يتميز أحد تلك العناصر بالغلبة على باقيها غلبةً تقتضي بظهور خواصه وتسلطها على خصائص البقية، فبذلك التناسب يتم للبدن الحي ما يسمى بالمزاج المعتدل الحاصل لروح الحياة، فإن غلب أحد العناصر على سائرها واضمحلت خواص بقيتها فيه انحرف المزاج وخرج عن حد الاعتدال واستولى المرض على الجسم، وكما يكون الاختلال وفساد البنية بتغلب بعض العناصر على ما سواه منها كذلك يكون بمغالبة المزاج للحوادث الخارجية وغلبتها عليه كالبرد الشديد المذهب لروح الحرارة الغريزية والحر الشديد الموجب للاحتراق وتحلل الرطوبة الضرورية المنتهي إلى اليبس نذير الموت والفناء. ومن ثم وضعوا علوم النباتات والحيوانات والطب البشري والبيطري ليبحث في تلك العلوم عما به يحفظ التوازن بين البسائط التي يتركب منها الجسم ويحترز من تسلط الحوادث الخارجية عليه، ويعاد به المزاج إلى حالة الاعتدال إن خرج عنها؛ لتتم حكمة الله تعالى في بقاء الأنواع إلى آجالها المحددة بحكم الحكمة الأزلية فالنباتيون يعينون الأراضي القابلة للزراعة والغراسة لكل نبات، ويحددون الفصول الملائم هواؤها لنموه، ويوضحون مواد التسميد وغير ذلك مما لا بد منه في تربية النباتات، وكذلك الأطباء يبحثون عن مواد الأغذية، وماذا يجب أن يتخذ منها لكل مزاج ومضار الأهوية ومنافعها، ويقفون بتجاربهم الصادقة على الأدوية النافعة لرد البدن إلى حالة الصحة وآلات العلاج المفيدة حتى تحفظ بذلك على البدن صحته، ويرجع إليها إن انحرف عنها، ولن يكون الطبيب طبيبًا يترتب عليه غايته حتى يكون على علم بالتاريخ الطبيعي وعلوم النباتات؛ ليعلم خواصها، ويميز نافعها من ضارها، وعلى بصيرة من اختلاف الأمزجة ومقتضياتها وما يلائم كل واحد على حسبه، وخبيرًا بعلل الأمراض وأسبابها وكيفياتها من شدة وضعف وتاريخها من قدم وحدوث حتى يعالج كلاًّ بما يليق به، فإن جهل من ذلك شيئًا كان فقده خيرًا من وجوده. فإن الطبيب الجاهل رسول ملك الموت؛ إذ بجهله يستعمل من الأدوية ما عساه يهيج المرض ويعين من الأغذية ما يساعده على قسوته فيفضي ذلك إلى هلاك المريض، وقد كان بدونه محتمل الشفاء بمقاومة الطبيعة لولا مساعدة الجاهل وعونه. وكما يلزم للطبيب أن يكون عالمًا بجميع ما قدمنا يجب أن يكون شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا لا يكون قصارى عمله ما يناله من جُعْل المعالجة، فإنه إن كان قَسِيًّا عديم الرأفة أو كان خائنًا فلربما صار آلةً في أيدي أعداء المريض يستعملونه لهلاكه بإلقائه السم في الأدوية مثلاً أو إهماله في العلاج بما يقدمونه إليه من العَرَضِ الفاني، وكذلك إن قصر همه على ما ينال من الدينار والدرهم فإنه إن كان على تلك الصفة لم يكترث بحال المريض ما دام يوفَّى أجر عمله، فإن هلك فقد نال ما يزيد عن مكافأته، وإن امتد المرض زاد الإيراد بتوارد الأوقات، فعدمه أيضًا خير من وجوده. وكما أن روح الحياة البدني إنما يستقر حيث تجتمع أصول متضاربة ينشأ من تغالبها مزاج معتدل كامل، وبغلبة أحدها يفسد التركيب ويذهب الروح الحيوي من حيث أتى، كذلك روح الكمال الإنساني إنما يكون حيث تجتمع أخلاق متضادة وملكات متخالفة يقوم من تضادها وتخالفها حقيقة الفضيلة المعتدلة التي هي ركن لبيت سعادة الإنسان، وعليها مدار حياته الفاضلة، فإن تغلب أحد الخلقين على الآخر فسد نظام الفضيلة واستحكمت الرذيلة وبات شقيًّا سيء الحال، وسقط في مهواة التعب والعناء المفضيين إلى الحَيْن والهلاك. ألا ترى أن النفس الإنسانية لا بد لها من خلق الجرأة وخلق المخافة، وهما متضادان ومن مقاومتهما على وجه معتدل بحيث يستعمل كُلاًّ فيما يليق به من المواقع. تتحقق فضيلة الشجاعة التي لو فقدت بتغلب المخافة لكان فاقدها عرضةً لتعدي جميع الحيوانات عليه، ولم يستطع عن نفسه دفاعًا، وكانت حياته تحت خطر يتهدده في جميع أوقاته، ولو أن الجرأة تغلبت على المخافة حتى ذهب أثرها كانت تهورًا وعدم اكتراث بالمهالك لحق ولغير حق بدون تبصر ولا مراعاة حكمة، فيلقي بروحه في مهاوي الهلكة بلا طائل يعود على نفسه أو وطنه. وكذلك لا بد من خُلُق الإمساك والبذل، وهما متخالفات متعارضان يتقوم من تغالبهما في النفس فضيلة السخاء، وهي البذل في موضع الاستحقاق إذا اعتدلا، ولو أن الإمساك تغلب على ضده حتى اضمحل فيه لأمسك عن قضاء لوازمه الضرورية فلا يأتي باللائق من الأغذية والألبسة مثلاً، فيضر ببدنه ولم يوف بحقوق مشاركيه في المعيشة كزوجته وولده، أو في التعامل كجيرانه وأهل بلده فيقع الشقاق بينهم ويتأدى به إلى شقاء دائم، وغير ذلك من مفاسد البخل التي لا تنحصر، ولو تغلب البذل لأنفق جميع ما بيده في المفيد وغير المفيد حتى يصبح فقيرًا لا يجد ما ينفقه في ألزم لوازمه فيهلك. وهكذا جميع الملكات الفاضلة الإنسانية إنما هي واسطة لطرفين متضادين لا بد من ظهور أثر كل منهما على نسبة معتدلة، وبغلبة أحدهما على الآخر يختل نظام الفضيلة ولا محالة ينهدم بيت السعادة دنيويةً كانت أو أخرويةً، ولا يسعنا المقام لتفصيل ذلك، وكما يقع العناد بتغلب أحد الضدين على الآخر في النفس يقع أيضًا بتغلب أمر خارج على مزاج الفضيلة كغلبة التربية الفاسدة المغذية للعنصر الفاسد بمخالطة ذوي الملكات الرذيلة والغرائز الناقصة وانفعال النفس بحركاتهم وسكناتهم وتقليدها لأعمالهم وتقلدها بعاداتهم أو باستماع إغواء ذوي الأهواء وتمويهات أرباب الأغراض الفاسدة الدنيئة، المذيعين للأفكار الرديئة، المؤيدين للعقائد الباطلة التي ينبعث منها سوء الأخلاق المؤدي إلى فساد المعيشة، فللنفوس علل وأمراض كما للأبدان ذلك. ومِنْ ثَمَّ قد وضعت علوم التربية والتهذيب لتحفظ على النفس فضائلها، وتردها عليها إن اعتلت وانحرفت عنها إلى جانب النقص والاعوجاج، كما وضع الطب ولوازمه لحفظ صحة البدن، كما بينا، فالحكماء العمليون القائمون بأمر التربية والإرشاد، وبيان مفاسد الأخلاق ومنافعها، وتحويل النفوس من حالة النقص إلى حالة الكمال بمنزلة الأطباء، وكما لزم للطبيب أن يكون عالمًا بالتاريخ الطبيعي والنباتات والحيوانات وعلل الأمراض وأسبابها ودرجاتها من شدة وضعف، كذلك يلزم للحكيم الروحاني طبيب النفوس والأرواح إذا رقي منبر الإرشاد أن يكون عالمًا بتاريخ الأمة التي قام بإرشاد أبنائها وتاريخ غيرها من الأمم أيضًا، وأن يكون مطلعًا على درجات ترقيها ودركات تدنيها في جميع الأزمان، وأن يسبر أخلاقها بمسبار الحكمة ليعلم أسباب أمراضها النفسية، ويقف على درجات الداء وتمكنه فيهم، وأنه - حديث أو قديم - قوي في النفوس أو ضعيف، وما هو العلاج اللائق بكل صنف، وكما أنه يجب على الطبيب البدني أن يكون على علم تام بمنافع الأعضاء وغاياتها كذلك على الطبيب الروحاني أن يكون عالمًا بمنافع الأخلاق ومضارها على طبق ما في نفس الأمر والواقع، وكما يلزم أن يكون الطبيب شفيقًا رحيمًا صادقًا أمينًا لا ينظر إلى الدنايا ولا ينحط إلى المقاصد السافلة كذلك على النصحاء والمرشدين أن يكونوا من ذوي الاستقامة والفضيلة مرتفعي الهمم أولي مقاصد عالية لا يبيعون الفضيلة بحطام الدنيا ولا بالقرب والتزلف إلى الأمراء والكبراء. أولئك هم المرشدون الحقيقيون فإن رزقت الأمة بمثلهم فبشرها بالسعادة، وإن رُزِئَتْ بمطببين لا أطباء، بأن صعد على منابر النصح فيها الجهلة والأغبياء والسفلة والأدنياء، فأنذرها بالعناء والشقاء، فإن المرشد الضال والنصوح الجاهل يودع النفوس رذائل الأخلاق باسم أنها فضائل، ويغرس فيها جراثيم الشر باسم أنها أصول الخير، ولربما كان مقصده حسنًا لا يريد إلا خيرًا، ولكن جهله يعميه في سلوك طريقه، ويبعده عن اتخاذ وسائله فتقع الأرواح في الجهل المركب، وهو شر من الجهل البسيط، فإن ذا الثاني على باب الفضيلة لا يلبث إن فتح له أن يلجه , وصاحب الأول قد بعد عن المقصد بمراحل واستتر تحت نقع الرذيلة، واعتقد ذلك ظلاًّ ظليلاً فلا يمكن العدول عما وقع فيه إلا بعد مكابدة شديدة وعناء طويل فلا ريب كان عدم هؤلاء المرشدين خيرًا من وجودهم، وكذلك إن كان خائنًا أو دنيئًا ينحط إلى سفاسف الأمور أو عدم الشفقة والإنسانية فإنه يتخذ النصيحة سلمًا للوصول إلى أغراضه الفاسدة ومطالبه الذاتية فلا يبالي أوقع الأفراد في خير أو شر، صفت النفوس أو تكدرت، ارتفعت الآداب أو انحطت، صحت الأرواح أو اعتلت، فيكون آلةً بيد الأشرار وأولي الأهواء يستعملونه في فساد الأمة والعشيرة لقضاء أوطارهم. ألا وأن القائمين بأمر الإرشاد يحصرون في قَبِيلَيْنِ: قَبيِل الخطباء والوعاظ، وقَبِيل الكتبة والمصنفين، ومنهم أرباب الجرائد، فإن كانوا على نحو الأوصاف الكاملة اللازمة لمقامهم هذا كما تقدم فقد استحقوا التعظيم والاحترام، والتبجيل والإجلال، واستوجبوا الشكر والثناء من كل قلب مخلص وقاموا بخدمة أوطانهم وأبناء بلدتهم، وإلا استحقوا الرفض والطرد والإبعاد، ووجب على من يهمهم أمر الإصلاح أن يقذفوا بهم من البلاد كي لا يفسدوها بمرضهم الوبائي الذي لا يقتصر ضرره على المبتلى به، بل يتعداه بالسراية إلى كل ما سواه. المقالة الثانية الصناعة قد عاد حضرة الأستاذ الفاضل والفيلسوف الكامل السيد جمال الدين الأفغاني إلى التدريس بعد فترة تزيد مدتها عن سنة، فابتدأ - حفظه الله - يقرأ شرح إشارات الرئيس ابن سينا في الحكمة العقلية، وهو كتاب جليل يحتوي من هذا العلم أصولاً جليلةً غرست أصولها في بلاد المشرق من مدة تقرب من ألف سنة إلا أنها نبتت فروعها في الغرب، وَاجْتُنِيَتْ ثمارها لغير غارسيها ولم تزل في بلادنا على كليتها وإجمالها لم تخرج نتائجها العقلية من حد القوة إلى الفعل إلا أن هذا السيد الفاضل قد جمع في تدريسه بين تدقيق الشرقيين وبسط الغربيين يجمع إلى الأصول فروعها، وإلى المقدمات نتائجها، وإلى المجملات تفاصيلها بانيًا جميع أقواله على البراهين الثابتة والحجج القويمة، ولما كانت دروسه العالية عظيمة الفوائد، جمة الثمرات للعموم رأيت من الواجب قيامًا بالخدمة الإنسانية أن أودع بعضها قوالب العبارات اللائقة بها، وأنشر طيب وفدها في صحف الجرنالات لتعم الفائدة، والله يتولى التوفيق. بين حفظه الله وأثبت أن الإنسان نوع من أنواع الحيوانات الأرضية (لا كما يزع

الشيخ محمد عبده

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ محمد عبده (هذا هو عنوان الفصل السابع من تقرير اللورد كرومر عن مصر والسودان لسنة 1905) قال: (اختطفت المنية في السنة الماضية رجلاً مشهورًا في الهيئة السياسية والاجتماعية بمصر أريد به الشيخ محمد عبده فأحببت أن أسطر هنا رأيي الراسخ في ذهني، وهو أن مصر خسرت بموته قبل وقته خسارة عظيمة! لما أتيت مصر القاهرة سنة 1883 كان الشيخ محمد عبده من المغضوب عليهم؛ لأنه كان من كبار الزعماء في الحركة العرابية. غير أن المغفور له الخديوي السابق صفح عنه طبقاً لما اتصف به من الحلم وكرم الخلق، فعين الشيخ بعد ذلك قاضيًا في المحاكم الأهلية حيث قام بحق وظيفة القضاء مع الصدق والاستقامة وفى سنة 1899 رقي إلى منصب الإفتاء الخطير الشأن فأصبحت مشورته ومعاونته في هذا المنصب ذات قيمة عظيمة ثمينة؛ لتضلعه من علوم الشرع الإسلامي مع ما به من سعة العقل واستنارة الذهن وأذكر مثالاً على نفع عمله، الفتوى التي أفتاها في ما إذا كان يحل للمسلمين تثمير أموالهم في صناديق التوفير فقد وجد لهم بابًا به يحل لهم تثمير أموالهم فيها من غير أن يخالفوا الشرع الإسلامي في شيء [1] . أما الفئة التي ينتمي الشيخ محمد عبده إليها من رجال الإصلاح في الإسلام فمعروفة في الهند أكثر مما هى معروفة في مصر ومنها قام الشيخ الجليل السيد أحمد الشهير الذي أنشأ مدرسة كلية في (عليكره) بالهند منذ ثلاثين عامًا، والغاية العظمى التي يقصدها رجال هذه الفئة هي إصلاح عادات المسلمين القديمة من غير أن يزعزعوا أركان الدين الإسلامي أو يتركوا الشعائر التي لا تخلو من أساس ديني. فعملهم شاق وقضاؤه عسير؛ لأنهم يُستهدَفون دائماً لسهام نقد الناقدين وطعن الطاعنين من الذين يخلص بعضهم النية في النقد، ويقصد آخرون قضاء أغراضهم وحك حزازات في صدورهم فيتهمونهم بمخالفة الشرع وانتهاك حرمة الدين! . أما مريدو الشيخ محمد عبده وأتباعه الصادقون فموصوفون بالذكاء والنجابة! ولكنهم قليلون وهم بالنظر إلى النهضة الملية بمنزلة الجيروندست في الثورة الفرنسوية، فالمسلمون المتنطعون المحافظون على كل أمر قديم يرمونهم بالضلال والخروج عن الصراط المستقيم فلا يكاد يؤمل أنهم يستميلون هؤلاء المحافظين إليهم ويسيرون بهم في سبيلهم. والمسلمون الذين تفرنجوا ولم يبقَ فيهم من الإسلام غير الاسم مفصولون عنهم بهوة عظيمة، فهم وسط بين طرفين وغرض انتقاد الفريقين عن الجانبين كما هي حال كل حزب سياسي متوسط بين حزبين آخرين غير أن معارضة المحافظين لهم أشد وأهم من معارضة المصريين المتفرنجين؛ إذ هؤلاء لا يكاد يُسمع لهم صوت. (ولا يدري) إلا الله ما يكون من أمر هذه الفئة التي كان الشيخ محمد عبده شيخها وكبيرها فالزمان هو الذى يظهر ما إذا كانت آراؤها تتخلل الهيئة الاجتماعية المصرية أو لا. وعسى الهيئة الاجتماعية أن تقبل آراءها على توالي الأيام؛ إذ لا ريب عندي في أن السبيل القويم الذي أرشد إليه المرحوم الشيخ محمد عبده هو السبيل الذي يؤمل رجال الإصلاح من المسلمين الخير منه لبني ملتهم إذا ساروا فيه! , فأتباع الشيخ حقيقون بكل ميل وعطف وتنشيط من الأوربيين! ولعلهم يجدون بعض التنشيط من نقلي قولاً لرجل من أهل دينهم وصف به المعارضة التي لقيتها مدرسة عليكره الكلية المذكورة آنفاً والطريقة التي تغلَّبوا بها على تلك المعارضة. بعد ما وصف السيد محمود قلة اهتمام المسلمين في الهند بتعلم العلوم منذ أربعين أو خمسين سنة قال: (وكان هؤلاء السادة المسلمون مستاءين من قلة تقدم المسلمين في تعلم العلوم العالية غير أنهم كانوا مستاءين من أنفسهم أيضاً ومتحسرين على العلوم التي أهملوا تعلمها. ولكنهم لم يكونوا ممن يكتفي بالتشكي والتذمر ويقتصر على اللوم والتعنيف؛ بل إنهم لما علموا علة الشر وأصل البلوى عقدوا النية على اكتشاف علاجها أيضًا فأنشأوا جمعية شيخها السيد أحمد خان الذي قضى العمر مجاهدًا في سبيل تهذيب العقول بالعلوم والمعارف وجعلوا غايتها العظمى البحث عن وجوه الاعتراض التي يعترض بها المسلمون على التعليم الذي تعلمه حكومة الهند في مدارسها ومعرفة التعليم الذي يرجون استبداله به. فاتضح لهم أن الرجوع إلى أساليب التعليم التي كانت متبعة في الشرق قديمًا أضحى ضربًا من المُحال، ورأوا - على ما بهم من الإكرام والاحترام لتقاليد السلف والاستعظام لكنوز العلوم والآداب التي توارثوها عن آبائهم - أن التعليم الذي يرقي قومهم إلى درجة تلائم التمدن المحيط بهم ويردهم إلى مقام يشعر فيه بنفوذهم وتأثيرهم إنما هو التعليم المبني على الاعتراف بتقدم العلوم الواسع الأبواب، الدقيق الدروس، المحبب إلى المتعلم كل أمر بديع عجيب في علوم البلدان الأخرى وآدابها وفلسفتها فكانت هذه السعة منهم في العقل والأصالة في الرأي أعظم خطر على مشروعهم في بادئ الأمر لأنهم لو دعوا جموع المسلمين إلى قبول رأيهم المبني على مبادئ لا تخالف الدين الإسلامي بالذات بل تخالف التفاسير التي يفسرها بها أكثر المتدينين به لاستفزت الدعوة جموع المسلمين إلى المعارضة وأقامت على الجمعية القيامة. وكانت الجمعية تعلم ذلك وتصبر عليه لانتظارها الفوز في النهاية فبقيت مدة وليس من يؤديها عن طيب نفس حتى ضعفت المعارضة شيئاً فشيئاً أمام شجاعة المصلحين وثباتهم. ثم أيدهم رجال خطيرو الشأن مثل المرحوم (السِّر) سلارجنك تأييدًا ماديًّا من جهة ومعنويًّا من أخرى في اعتبار الذين يعدون الاسم العظيم ضمانًا عظيمًا. وكان أعضاء هذه الجمعية متخلِّقين بأخلاق تجلّهم وتنزههم عن كل غاية شخصية فزالت الأوهام بعد إدراك حقيقة بدعتهم الرهيبة وانقلب بعض الذين كانوا ألد خصومهم إلى أشد الأنصار غيرة عليهم. وقد مضى ثلاثة عشر عاماً [2] على اجتماع الجمعية لوضع مشروعها، وظني أن الذين كانوا أقوى أعضائها آمالاً في نجاح مسعاها لم يكونوا يتصورون أنها تنجح النجاح السريع الذي عاشوا حتى شاهدوه) انتهى. أقول: في تلك المدرسة الآن 700 طالب ولو كانت تسع غيرهم لكان فيها أكثر منهم ومعظم الذين فيها من الهند ومنهم طلبة من بلاد الصومال وفارس وبلوخستان وبلاد العرب وأوغندة ومويتيوس ومستعمرة الرأس، ويقيني أنه لو قصدها الطلاب من مصر لاستُقبلوا فيها بالسرور والبشاشة وأنزلوا على الرحب والسعة! . (وقال في أواخر الفصل الذي تكلم فيه على المحاكم الشرعية (ص132) ما نصه: (هذا، وإني أوافق (السر) ملكولم مكلريث على ما قاله عن الضربة الثقيلة التي أصابت الإصلاح من هذا القبيل بموت الشيخ المرحوم محمد عبده فقد أشرت إلى خدمات ذلك الرجل الجليل في فصل آخر من هذا التقرير وأعود فأبسط الرجاء أيضاً أن الذين كانوا يشاركونه في آرائه لا تخور عزائمهم بفقده بل يظهرون احترامهم لذكراه أحسن إظهار بترقية المقاصد التي كان يرمي إليها في حياته) . اهـ. أما ما أشار إليه من كلام السر ملكوم مكلريث المستشار القضائي في تقريره عن المحاكم فها هو بنصه: (ولا يسعنى ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير أن أتكلم عن مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر يوليو الفائت، وأن أبدي شديد أسفي على الخسارة العظيمة التي أصابت هذه النظارة بفقده! فقد كان خير مرشد لنا في كل ما يتعلق بالشريعة الإسلامية والمحاكم الشرعية، وكنا نرجع إليه كثيرًا للتزود من صائب آرائه والاستعانة بمساعدته الثمينة وكانت آراؤه على الدوام في المسائل الدينية أو الشبيهة بالدينية سديدة صادرة عن سعة في الفكر، كثيرًا ما كانت خير معوان لهذه النظارة في عملها! وفوق ذلك فقد قام لنا بخدم جزيلة لا تقدَّر في مجلس شورى القوانين في معظم ما أحدثناه أخيرًا من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية؛ إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها ويناضل عنها ويبحث عن حل يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك، وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته؛ نظرًا لسمو مداركه وسعة اطلاعه وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظُّفه في محكمة الاستئناف وسياحاته إلى مدن أوربا ومعاهد العلم، وكانت النظارة تريد أن تكل إليه أمر تنظيم مدرسة القضاة الشرعيين المُزْمَع إنشاؤها ومراقبتها مراقبة فعلية. أما الآن فإنه يتعذر وجود أحد غيره حائز للصفات اللازمة للقيام بهذه المهمة ولو بدرجة تقرب من درجته، فلكل هذه الأسباب أشعر أن نظارة الحقانية ستظل زمناً طويلاً تشعر بخسارتها بفقده) اهـ. كلام المستشار. العبرة في كلام اللورد كرومر مَن تأمل كلام اللورد فى هذا الفصل وتلك الشذرة استفاد منه ضروبًا من العبر والحكم تدل على أن هذا الرجل الاجتماعي الكبير قد علم من شئون المسلمين - وهو أجنبي - ما لم يعلمه الرؤساء من علمائهم وأمرائهم، فضلاً عن أوساطهم ودهمائهم: فرأينا أن نبين ذلك مع شيء من الشرح والرأي: (العبرة الأولى: بيانه لحال المسلمين) ذلك أنه قسم المسلمين إلى ثلاثة أقسام: (الأول) المتنطعون المحافظون على كل قديم جروا عليه وهم السواد الأعظم. ونقول: إنه قد بلغ من تنطعهم في جمودهم على ما ألفوا أن كان من أشد الصعوبات التي لاقتها الدولة العلية في سبيل التعليم العسكري في طرابلس الغرب محافظة الأهالي على زيهم المعروف، وحسبانه من أمور الدين. وإن أهل مراكش لأشد تنطعاً وجموداً على ذلك، ولا يخفى على من شاهدوا حركات العساكر في الحرب أو في التعليم أن لبس البرنس والرداء المعروف بالحِرام من عوائق خفة الحركة وموانع إتقان كثير من الأعمال التى تتوقف عليها البراعة العسكرية ولا يختلف عاقلان في كون البراعة في الأعمال العسكرية، ومن أهمها خفة الحركات والنظام في النقل والانتقال - هي أعظم أسباب الفوز والظفر. فهذه عادة ليست مما توجبها عقائد الدين ولا عباداته ولا فضائله وآدابه فقد صارت عقبة كؤدًا في طريق رقي المسلمين، وعزة الإسلام وحماية الدين، فما بالك بغيرها من العادات التي تقوم على إلحاقها بالدين بعض الشبهات؟ ! وهذا القسم من المسلمين تابع في صلاحه وفساده لشيوخ العلم الديني وشيوخ الطريق الذين ينتمون إلى الصوفية فهو لا يصلح إلا إذا صلحوا وأصلحوا أو زال اعتقاده بزعامتهم الدينية وقيض له بعد ذلك مصلحون آخرون. (القسم الثاني) المتفرنجون الذين ليس لهم من الإسلام إلا اسمه. ولله دَرّه ما أدق فكره إذ عرف أنهم مارقون من الدين ساقطون من نظر الاعتبار لا قيمة لهم في أنفسهم، ولا صوت لهم في أمتهم، وسنعود إلى ذكر ذلك. (القسم الثالث) المصلحون الذين يريدون إصلاح حال المسلمين الاجتماعية مع المحافظة على الدين؛ لعلمهم أن كان فساد طرأ عليهم فمنعهم عن مجاراة الأمم في أسباب العزة والقوة إنما هو من العادات والبدع لا من جوهر الدين. وقد أدرك اللورد بصائب فكره أن هذا القسم هو الوسط الذى يرجى خيره بين المتنطعين في جمودهم والمتهتكين في تفرنجهم. قال: إن هذا الحزب معروف في الهند أكثر مما هو معروف في مصر، وإن منه السيد أحمد خان مؤسس مدرسة عليكره الكلية منذ ثلاثين عامًا. ونقول: إن الزمن الذي قام فيه أحمد خان بعمله هذا هو الزمن الذي كان السيد جمال الدين الأفغاني يبذر فيه بذور الإصلاح في مصر بمساع

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار طريقة إبراهيم الرشيدي (س20) من أحد المشتركين في سنغافوره: نبعث بهذه الأسطر لحضرة فذلكة العلوم والمعارف، صاحب المنار الأغر لا زال منار الدين به مشيدًا، وهو: إنه نَجَمَ في هذه الأطراف طائفة تزعم أنها على طريقة الشيخ إبراهيم الرشيدي , ويقيمون في المساجد أذكارًا بلفظ الجلالة برفع صوت جدًّا , ويشوشون على من هناك من المصلين , ويلقبون أنفسهم بمجاذيب , وينشدون خلال ذلك أشعارًا من كلام الصوفية لا يعرفون معناها. وفي يوم الجمعة في أثناء صلاتها تحصل منهم زعقات هائلة بلفظ (الله الله) ويجيب بعضهم بعضًا بذلك بحيث إذا زعق أحدهم؛ تلاه الباقون بهذه الزعقات الشديدة المزعجة لمن في المسجد في وقت صلاتهم الجمعة, ويحصل للمصلين تشوش منهم , وإذا نُهوا عن ذلك أجابوا أن الناهي لهم من فريق {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} (التوبة: 32) ! وبأنهم إنما يزعقون في حالة الغيبة مستندين إلى ما في كتب الصوفية من أن المريد إذا غلب على قلبه ذكر الباطن وضاقت أنفاسه منه بما خرج على ظاهره فيزعق بلفظ (الله) , وإذا قاموا للذكر ليلاً وارتفعت أصواتهم بذلك ربما سقط بعضهم مغشيًا عليه ذكرًا كان أم أنثى , وذلك بعد أن يشير الخليفة عليهم بخرقة في يديه ويقول لهم: (أشّ) ثم يخر أحدهم مغشيًا عليه فيفيق بعد ذلك ويقول: شاهدت في غيبتي أحمد بن إدريس وشاهدت ... إلى ما لا نطيل بذِكره. فهل هذا مما عُهِدَ في أحد القرون الثلاثة الممدوحة أو هو مما أمر به الشارع أو السلف الصالح؟ وهل يجب على ولاة الأمور المنع من مثل هذا؛ إذ ولي الأمر هنا لم يُقْدِمْ على منعهم ظنًّا منه أنه مطلوب شرعًا؟ ! وإذا نُشر في المنار حكم ذلك شرعًا فولي الأمر لا يتأخر عن حملهم على ما يحكم به الأستاذ في المنار من المنع أو الإمرار , فأدركونا بما فيه حياة الدين والدنيا، لا زلتم عمدة لنفع المسلمين والله يحفظكم لنا أفندم. (ج) في هذا السؤال مسائل: (أحدها) الذكر بأسماء الله تعالى مفردة كما عليه أهل الطريق في هذا العصر كقولهم: الله الله.. حي حي.. أو بالضمير كقولهم: هو هو.. وهذا من البدع التي حدثت بعد الصدر الأول. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة العبودية ما نصه، بعد أن أورد ما ورد في الحديث من أن (أفضل الذكر لا إله إلا الله) كما رواه الترمذي وغيره أو (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) كما رواه مالك في الموطأ: (ومن زعم أن هذا ذكر العامة، وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد وذكر خاصة الخاصة المضمر فهم ضالون غالطون , واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله: {.. قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91) من أبين غلط هؤلاء؛ فإن الاسم هو مذكور في الأمر بجواب الاستفهام , وهو قوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى..} (الأنعام: 91) فالاسم مبتدأ وخبره قد دل عليه الاستفهام كما في نظائر ذلك يقال: مَن جاء؟ فتقول: زيد. وأما الاسم المفرد مظهرًا أو مضمرًا فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي , ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة ولا حالا نافعًا وإنما يعطيه قصورًا مطلقًا لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات، فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة , والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره. وقد وقع من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد، وأنواع من الاتحاد، كما قد بسط في غير هذا الموضع. وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال: (أخاف أن أموت بين النفي والإثبات) - حال لا يُقتدى فيها بصاحبها فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء فيه، إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه؛ إذ الأعمال بالنيات، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت (يعني المحتضر) لا إله إلا الله وقال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) ولو كان ما ذكره محذورًا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتًا غير محمود بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد. والذكر بالاسم المفرد المضمر أبعد عن السنة وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان , فإن من قال: يا هو يا هو أو هو هو ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدًا إلا إلى ما يصوره قلبه , والقلب قد يهتدي وقد يضل. وقد صنف صاحب الفصوص كتابًا سماه (الهو) ! وزعم بعضهم أن قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} (آل عمران: 7) معناه: وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو (الهو) إلا الله , وقيل هذا وإن كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على أنه من أبين الباطل , فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء (صوابًا) حتى قلت مرة لبعض من قال بشيء من ذلك: لو كان هذا كما قلته لكُتبت: (وما يعلم تأويل هو) منفصلة. ثم كثيرًا ما يذكره بعض الشيوخ أنه يحتج على قول القائل (الله) بقوله سبحانه: {.. قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} (الأنعام: 91) ، ويظن أن الله أمر نبيه بأن يقول الاسم المفرد , وهذا غلط باتفاق أهل العلم؛ فإن قوله: {قُلِ اللَّهُ..} (الأنعام: 91) معناه: الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وهذا جواب لقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ..} (الأنعام: 91) : أي الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد بذلك قول من قال: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ..} (الأنعام: 91) [*] فقال: مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى؟ ثم قال: قل: الله أنزله , ثم ذر هؤلاء المكذبين في خوضهم يلعبون. ومما يبين ما تقدم ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلامًا ولا يحكون به ما كان قولاً ,فالقول لا يحكى به إلا كلام تام جملة اسمية أو فعلية؛ ولهذا يكسرون (إن) إذا جاءت بعد القول؛ فالقول لا يحكى به اسم , والله تعالى لم يأمر أحدًا بذكر اسم مفرد , ولا شرع للمسلمين اسمًا مفردًا مجردًا , والاسم المفرد المجرد لا يفيد الإيمان باتفاق أهل الإسلام ولا يؤمر به في شيء من العبادات، ولا في شيء من المخاطبات. ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول: أشهد أن محمدًا (رسولَ) الله بالنصب فقال: ماذا يقول هذا؟ ! ، هذا الاسم، فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟ ! . وما في القرآن من قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} (المزمل: 8) وقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (الأعلى: 14-15) وقوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} (الواقعة: 74) .. ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفردًا , بل في السنن أنه لما نزل قول: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ} (الواقعة: 74) قال: (اجعلوها في ركوعكم) ، ولما نزل قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) قال: (اجعلوها في سجودكم) [1] فشرع لهم أن يقولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم , وفي السجود: سبحان ربي الأعلى , وفي الصحيح [2] أنه كان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى , وهذا معنى: اجعلوها في ركوعكم وسجودكم باتفاق المسلمين..) إلخ ما أطال به رحمه الله تعالى. (المسألة الثانية) التشويش على المصلين محظور عند جميع العلماء؛ سواء كان بذكر أو تلاوة قرآن، أو قراءة علم أو بغير ذلك؛ فإن المساجد إنما تُبنَى للصلاة فهي المقصودة بالذات , فيجب منع التشويش على المصلين، وإن كان بمشروع، فكيف إذا كان بأمر غير مشروع مما يطلب منعه لذاته وإن لم يشوش على مصلٍّ؟ ولا أراني محتاجًا في هذه المسألة إلى نقل؛ لأنه لا ينازع فيه أحد , ومن أراد النقول فليرجع إلى الجزء الأول من المجلد السادس، ومنه حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود وأقوال الفقهاء في تقريظ كتاب إصابة السهام (34: 6) . (المسألة الثالثة: المجاذيب) اعلم أن ما يسميه الصوفية بالجذب هو من الأحوال التي لا يعرف منها أهل الطريق في هذا العصر إلا أنه ضرب من البله أو التباله والخروج عن الآداب الشرعية والعرفية. الجذب في الحقيقة حال تطرأ على الإنسان وهو متوجه إلى الله بالذكر والفكر فتأخذه عن نفسه وتبطل ميزان العقل في الأقوال والأفعال , فهو فن من فنون الجنون يحدث في حالة مخصوصة وقد يحدث من غير سبق الأعمال الاختيارية التي تؤدي إليه غالبًا إذا ما كان مَنْ يأتيها مستعدًا له , وهي الخلوة وكثرة الذكر فيه مع الجوع وقلة النوم لا سيما إذا كان الذكر بالأسماء المفردة. وهذا الفن من الجنون كغيره يكون متقطعًا يجيء نوبة بعد نوبة , ويكون مطبقًا , ويكون قويًّا وضعيفًا، وصاحبه غير مكلف ما دام مأخوذًا عن عقله فإذا كان يأتي بأقوال أو أفعال تشوش على المصلين وجب أن يمنع من دخول المسجد , وقد جاء في الحديث: (جَنِّبُوا مساجدنا - وفي رواية: مساجدكم - صبيانكم ومجانينكم) .. إلخ رواه ابن ماجه من حديث واثلة، وكذلك ابن عدي والطبراني والبيهقي وابن عساكر عنه وعن غيره. وإذا كان التشويش على المصلين بنحو رفع الصوت كان مما يمنع منه العاقل فكيف يباح لغيره ممن يشوش بقاله وحاله؟ ! (المسألة الرابعة: الزعقات) هذه الزعقات والصيحات عند الذكر أو التلاوة ليست من الدين في شيء لم يأذن بها الله ولا رسوله ولم تعرف عن الصحابة لكن من الناس من يكون رقيق الوجدان شديد التأثر بما يهم نفسه , فإذا كان عابدًا وسمع آية إنذار أو موعظة مأثورة أو عبرة يغلبه وجدانه ويظهر عليه أثر الانفعال في وجهه وربما صرخ وبكى! وإذا كان عاشقًا وسمع غناءً أو شعرًا يظهر عليه مثل ذلك التأثر , وقد حكي عن بعض الصوفية الصادقين شيء من ذلك , فلما ذهب التصوف وجاء هؤلاء المقلدون الأغبياء الجهلاء بأسرار النفوس، المحرومون من الوجدان الرقيق، الذي يتأثر بالمعنى الدقيق - جعلوا كل همهم التقليد في الإشارات والعبارات والكلمات كما بين ذلك حجة الإسلام وصاحب العوارف وغيرهما من متصوفة القرون الوسطى فما بالك بأهل الطريق في عصرنا هذا. قال الإمام الغَزالي في بيان أصناف المغترين من الأحياء: (الصنف الثالث) المتصوفة وما أغلب الغرور عليهم، والمغترون منهم فرق كثيرة (ففرقة منهم) وهم متصوفة أهل الزمان إلا من عصمه الله اغتروا بالزي والهيئة والمنطق فساعدوا الصادقين من الصوفية في زيهم وهيئتهم وفي ألفاظهم وفي آدابهم ومراسهم واصطلاحاتهم، وفي أحوالهم الظاهرة من السماع والرقص والطهارة والصلاة والجلوس على السجادات مع إطراق الرأس وإدخاله في الجيب كالمتفكر وفي تنفس الصعداء وفي خفض الصوت في الحديث إلى غير ذلك من الشمائل والهيئات , فلما تكلفوا هذه الأمور وتشبهوا بهم فيما ظنوا أنهم أيضًا صوفية ولم يتعبوا أنفسهم قط في المجاهدة والرياضة ومراقبة القلب وتطهير الباطن والظاهر من الآثام الخفية والجلية , وكل ذلك من أوائل منازل التصوف، ولو فرغوا عن جميعها لما جاز لهم أن يعدوا أنفسهم في الصوفية كيف ولم يحو

إصلاح التعليم والمدارس الإسلامية في روسيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح التعليم والمدارس الإسلامية في روسيا كتبنا في الجزء الماضي شيئًا في هذا الموضوع، وكان موسى أفندى عبد الله أحد مجاوري الروس في الأزهر ترجم لنا مقالةً من جريدة (وقت) الروسية التي تصدر في أورنبورغ كُتبت بقلم رجل من أعقل المسلمين وأفضلهم في روسيا فضاق ذلك الجزء عن نشرها فرأينا نشرها هنا لما فيها من الفائدة، وهي: المدارس وطلبة العلوم ظهرت بيننا في هذه الأيام مسألة إصلاح المدارس، مسألة خاضت فيها الجرائد وتحدث بها الناس في كل مجتمع، وكُتب فيها ما كُتب من المقالات والرسائل، وكثر فيها القيل والقال، وطال أمد النزاع والجدال، إلى أن سئم البعض من المقال، بيد أنَّا مع هذه الإفاضة في الكلام ما خطونا إلى الأمام إلا خطوةً واحدةً، والمقصد شاسع لا يُنال إلا بعد قطع مسافة طويلة. المسألة مهمة وجديرة بأن نُعنى بها؛ لأن حياة الأمم وبقاءها إنما يكونان بالمدارس التي هي روح الأمم ومدار سعادتها وارتقائها في العلوم والمعارف , ولا يحصل الارتقاء في العلوم إلا بالتدريج , وكم من أمة وضعت أساسًا للعلم والمدنية ثم انقرضت وورثتها أمة أخرى وبنت على أنقاض ما تركت الأولى وأكملت نواقصها، ثم ودعت الدنيا، فخلفتها ثالثة ونظرت في ما تركته من الآثار وزادت عليها وظفرت بما لم يخطر ببال الثانية، وهكذا إلى أن بلغت العلوم والحضارة ما نراه اليوم من الرقيّ والكمال! ووظيفة كل أمة في كل عصر هي أن تكمل ما ورثته من الآباء وتتركه للأبناء، وإذا أهملت أمة هذه الوظيفة فقد جنت جناية لا تُغتفر على أخلاقها، بل على النوع البشري بأَسْرِهِ. وإذا أجَلْنا الطرف في مدارسنا نرى الفوضى سائدةً في أكنافها: لا نظام ولا ترتيب ولا نظارة ولا محاسبة كأمتعةِ بيتٍ طُرِحَتْ إلى الشارع وقت الحريق! ومَن أراد أن يكتب شيئًا فيما يتعلق بها يحار في اختيار نقطة يبتدئ منها , فليس إصلاح هذه المدارس وتنظيم دروسها أمرًا هينًا بل هو أمر في غاية الصعوبة، ولكن الأمة إذا تصدت لهذا الأمر بجد وإخلاص ذللته مهما كان صعبًا؛ إذ لا يوجد في الدنيا شيء أشد قوة من أمة متحدة أفرادها وملتئمة أعضاؤها , وما من غاية قاصية إلا وأدركتها الأمة المتحدة، وما من مسلك وعر إلا وعبرته الأمة المتحدة. والمسائل التي تتعلق بمدارسنا كثيرة لا تحصى، ومضمارها واسع جدًّا لا نهاية له , فلا خير في التحير في اختيار نقطة الكلام فأقول: هل تفتقر مدارسنا الى الإصلاح؟ إن مسألة إصلاح المدارس مسألة جديدة بيننا. إذا رجعنا البصر إلى ما وراءنا قبل عشرين سنة لم نعثر على أفكار مكتوبة تتعلق بالمدارس إلا قليلاً، وإذا كان هذا القليل لم يطبع، ولم ينتشر بين الأمة لم يكن له أثره بالمرة، ولكن الفرق عظيم بين ذلك الزمان وبين اليوم. فإنه لا يكاد يوجد اليوم من لا يبحث عن أحوال المدارس وطلبة العلوم , وإن كان بعضنا ينكر إصلاح المدارس ويحرم تنظيم الدروس ويدعي أن وراء إصلاح المدارس ضررًا جسيمًا يرجع إلى الأمة بالخسار فهؤلاء المنكرون لا يزالون يتباحثون مع غيرهم في شأن المدارس والطلبة , والبحث عن شيء ولو بإنكار الحقيقة خير من إهمال البحث؛ لأن الناس لا يهتدون إلى الحق إلا بعد نزاع وجدال وبحث وتنقيب، والبحث يجلو الحقيقة ويطلع الكثيرين على مواضع خطأهم وينقذهم من التيه في غمرات الضلال. إننا أصلحنا بيوتنا التي نسكنها والعربات التي نركبها وحوانيتنا التي نتجر فيها ومزارعنا التي نحرثها، والأحذية التي نحتذيها، والأردية والفراء التي نلبَسها بل وأوراقنا التي نطبع عليها كتبنا وقرآننا، وحروف مطابعنا وغيرها أفلا تكون ديار التربية والتعليم والمدارس والمكاتب التي يتربى فيها رجال المستقبل وقادة الأمة مفتقرة إلى الإصلاح؟ كل من تعلم في مدارسنا يكون إما مدرسًا في مدرسة أو معلمًا في مكتب أو إمامًا وخطيبًا في مسجد أو عالمًا ذا نفوذ في الأمة أو رئيسًا لبيت من البيوت. ولا أرى أن وجوب اتصاف هؤلاء بالفضائل الجمة وتخلقهم بالأخلاق الفاضلة يحتاج في إثباته إلى دليل! وإذا لم يكن المعلم والمدرس والإمام والخطيب مثالاً في الأخلاق الفاضلة والآداب فلا يرجى منهم خير للأمة قطعًا , وليست وظائف من يكون زوجًا لامرأة أقل من وظائف من يكون معلمًا في مكتب؛ لأن رئيس العائلة معلم في عائلته. كيف ندعي عدم افتقار مدارسنا إلى الإصلاح ولا يدرس فيها (علم التربية) وعلم الأخلاق وعلم السياسة والاجتماع. مع أن هذه العلوم لا بد منها لكل من يرشح للتدريس، أو التعليم، والخطابة أو الكتابة! أم كيف تحسب المدارس التي لا تسمع طلبتها فضيلة من الفضائل الإنسانية ولا تدري ما هي الفلسفة الدينية معمورة غير مفتقرة إلى الإصلاح؟ وكيف ترجى الخدمة للمسلمين من طلبة هذه المدارس؟ كل ما يدرس في مدارسنا عبارة عن عدة حواشٍ وشروحٍ وبعضه كتب من علم الكلام أُلفت بعد ابتلاء المسلمين بالخلاف والجدل , أتكفينا هذه الدروس في هذا الزمان؟ إذا قال لنا الذين يصدقون أقوال الكهان ويحكمون بما في كتب الطلاسم والجفر ويحرمون ركوب السكة الحديدية، ويمتنعون من السفر تطيرًا بحيوان مخصوص: إن مدارسنا أفاضت العلوم منذ قرون ولا تبرح تفيض وستفيض بعد الآن , والقارئون منا أكثر من قارئي الروس؛ لأنهم عندنا خمسة وعشرون في المائة وعند الروس لا يزيد عن عشرين في المائة على أن مدارسهم منتظمة ودروسها على نسق جديد والحكومة تؤيدها بمبالغ طائلة فما الذى يضطرنا إلى إصلاح مدارسنا؟ ! - قلنا لهم: كان الذين يقرؤون في عهد آبائنا قليلين جدًّا في المدن فما بالك بالقرى وما كان المقصد من الكتابة يومئذ إلا كتابة الكتب (الخطابات) وقراءتها أو كتابة أسماء المواليد في سجل النفوس إذا كان القارئ إمامًا في مسجد. ولا شك أن هذه الحاجة حاجة قليلة , وكانت مدارسنا في ذلك العهد تقضي هذه الحاجة. مضت الأيام وتغيرت الأزمان وكثرت الحاجات ونجمت بين الأمم (المنافسة في الحياة) أو (تنازع البقاء) وكانت الغاية من التعلم في المدارس قبل اليوم بنصف قرن الإلمام بشيء من الدين وتعلم الكتابة. أما اليوم فقد صارت مدارس الأمم الحية دور حياة تتخرج فيها هداة الأمة وقادتها , وهؤلاء القادة يقودون أقوامهم إلى ما فيه صلاحهم , ويسوقونهم إلى مستقبل عظيم. إذا بقي هداتنا حيارى إذ تقود هداة الأمم الأخرى أقوامهم إلى مصالحهم فقد خسرنا خسرانًا مبينًا! فلتكن مدارسنا بحيث تربي لنا هداة يقودون الأمة ويكونون لها خير قدوة , وإن كان هذا الأمر مما كان يعد قبل اليوم بثلاث سنين خيالاً صرفًا فقد صارت الآن حقيقةً جليةً كالشمس في وسط السماء. هل كان يخطر ببالنا أن مسلمي الروس يضعون نظامًا في حاجاتهم الدينية والدنيوية ويرفعونه إلى الحكومة وأنهم يجتمعون في عواصم البلاد ويأتمرون في شؤونهم المختلفة كما رأينا اليوم بأعيننا؟ فلا غرو إذا رأينا بعد هذا وكلاء المسلمين يجلسون متكاتفين مع وكلاء الأمم الأخرى في مجالس عالية , وبالجملة إننا نضطر بعد اليوم إلى أن نعيش مع أهل وطننا المتقدمين في العلوم مشتركين في المصالح , وإذا لم نستطع أن نمشى معهم داسونا بأقدامهم وبقينا أذلاء صاغرين! ليست الغاية اليوم من التعليم في المدارس هي تعلم الكتابة فقط، بل الغاية كما قلنا سابقًا هو أن يتخرج فيها رجال يكونون أئمةً للأمة. المتعلمون من الروس أكثرهم يعملون أعمالاً تحار فيها عقولنا، وأما المتعلمون منا فلا يقدر أحدهم على أن يتكلم بالعربية الفصحى بعد أن يكون أضاع جُلَّ عمره في تعلم لسان العرب الذى يحتاج إليه كل عالم إسلامي ديني. أيها الإخوان! نحن في احتياج شديد إلى مدارس منظمة تهيئ لنا رجالاً تحفظ أمتنا من الزلازل والزعازع، والأمواج والزوابع، ومن أنكر هذا فقد أنكر ما أثبته البرهان والعيان. ... ... ... ... ... ... ... رضاء الدين بن فخر الدين (المنار) إن لنا رجاءً كبيرًا بمسلمي روسيا لا يزلزله ما نسمعه عن جمود الكثيرين من أساتذتهم وشيوخهم ونفورهم من الإصلاح الذى قضت به ضرورات الزمان، فإن طلاب الإصلاح كثيرون، وهم الغالبون حتمًا ولو بعد حين , ولعلنا نعود إلى الموضوع ونذكر ما يصل إلينا عن مؤتمر التلاميذ الذى عقدوه في قزان وبعض ما نراه واجبًا في إصلاح تلك المدارس.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (الحقيقة الباهرة في أسرار الشريعة الطاهرة) كتاب وجيز للشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي الشهير بيّن فيه شعب الإيمان الواردة في الحديث بحسب فهمه، وهذا الكتاب أحسن ما اطلعنا عليه من كتبه، فقد تصفحنا منه أوراقًا متفرقةً فرأينا كلامًا معتدلاً ينفع العامة، وقلما ينكر الخاصة منه شيئًا ضارًّا يعد منفردًا به، فإثباته رؤية كثير من الناس للجن قد تبع فيه كثيرًا من المؤلفين، وهو مما ينكره الخاصة ويعدون إشاعته ضارة، وقد سبق للمنار دليل ذلك , وأما ما ينكرونه أو ينتقدونه عليه مما انفرد به فلم أَرَ فيه ما يضر القارئ، مثاله قوله: (والعلم بالله على ثلاثة أقسام: الأوامر الشرعية والنواهي الشرعية والمباحات الدنيوية ومدارك الحواس الضرورية والضرورة العقلية، فعلم الأمر هو علم الفرائض والسنن والفضائل، وعلم النهي هو علم الحلال والكراهة والتنزيه وعلم المباحات هو العلم بالدنيا وأهلها وكيفية آداب المخالطة واكتساب المعيشة وصيانة المجد وحفظ حقوق المقادير وأبهة الهيئة المجتمعة، وهذه الأقسام الثلاثة تتعلم من الشرع وطريقها السمع , وأما مدارك الحواس والعلوم الضرورية فقد اشترك فيها الحيوان العاقل فلا تحتاج إلى اكتساب , وبعد هذا فالهدى هو العلم، لا يستغني القلب عن العلم طرفة عين، والعقل أيضًا محتاج إلى العلم النبوي لا يستغني عنه بنفسه آنًا أبدًا، وكل علم مَدَّ شراعه في الأكوان انفتق رتقه بهمم الأنبياء وباشرته العقول فسلكت فيه فجاجًا) . فالعامي يفهم من هذا الكلام أنه يطالَب بالعلم الديني والدنيوي والخاصي لا يقول: إن فيه شيئًا ضارًّا بعقيدة القارئ، أو آدابه وإنما ينكر هذا التقسيم وهذا البيان للأقسام - ينكر على المؤلف أنه قال: إن الأقسام ثلاثة، وسرد أكثر من ثلاثة معطوفًا بعضها على بعض، ينكر عليه أنه جعل كيفية الكسب وصيانة المجد والعلم بجميع المباحات من العلم بالله، ولم يذكر أن من العلم بالله العلم بصفاته وأسمائه وسننه وحكمه في خلقه، وإنما العلم بالله في الحقيقة هو العلم بهذه الأشياء، ولا يصح أن يسمى غير ذلك علمًا بالله إلا بتأويل , فإن قيل: إنه طوى هذا في العلم بالأوامر، أي: بالفرائض والسنن - وهو ما لا يتبادر من لفظها - يقول المنكر: إن سلمنا أن هذا مما يفهم منها فإننا ننكر على المؤلف سكوته عن أهم أركان العلم بالله ونطقه بما لا يعد من أركانه أو لا يعد منه إلا بتكلف من التأويل. وينكَر عليه قوله: إن المباحات تُتعلم من الشرع وطريقها السمع بأنه لا حاجة إلى أن تتعلم المباحات تعلمًا، ولا تتوقف معرفتها على السمع فإنها هي الأصل، وإنما يتعلم من الشرع القسمان الأولان - الأوامر والنواهي - فيعلم أن ما سواها مباح على الأصل فما سكت عنه الشرع فلم يأمر به ولم ينه عنه فهو مباح وفي الحديث الصحيح عند البخاري ومسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) . وينكُر عليه قوله في مدارك الحواس والعلوم الضرورية وسكوته عن العلوم النظرية، ولا حاجة لشرح ذلك ولا لبيان سائر ما ينتقد في تلك الجملة , ومما ينكر عليه من هذا القبيل ترتيب الشعب وخلط مسائل الإيمان منها ومسائل الإسلام ومسائل الإحسان بعضها ببعض , إن أُريد إلا بيان أن ما ينكر على هذا الكتاب لا يكاد يتجاوز حسن البيان وتحرير المسائل إلى كون ما كتبه ضارًّا بعقائد القارئين أو آدابهم كما يوجد في كثير من الكتب فالكتاب إذًا نافع. وقد أعجبني ما ذكره في شعبة الزكاة وهو: (وإذا تدبر اللبيب يرى أن الوجود كله يتعبد لله بالزكاة عملاً بشريعة الإسلام - هذه الأرض التي هي أقرب الأشياء إلينا تعطي جميع زكاتها من منافعها ونباتها ولا تبخل على من على ظهرها بشيء مما عندها في فصول العام، وكذلك النبات والأشجار والحيوان والبحر والسماوات والأفلاك والشمس والقمر والنجوم، الكل لا يدخر شيئًا من منافع جوهريته وفوائد مادته متعاون بعضه مع البعض في طاعة الله، فمانع الزكاة مخالف لجميع الموجودات بل وللأرضين والسماوات، ولذلك وجب شرعًا قتاله وقهره وإجباره على إيتاء الزكاة، فتدبر سر هذا الحكم وحكمته يظهر لك شيء من جليل معاني الشريعة ففيها البلاغ) اهـ، وهو كلام ظاهره شعري وباطنه فيه حقيقة دقيقة، ويا ليت المؤلف توسل إلى السلطان بإلزام المسلمين بأداء الزكاة لعله يجاب كما يجاب إلى كثير من الأمور الدنيوية التي يطلبها منه. وقد طبع الكتاب على ورق جيد وهو يطلب من مكتبة أمين أفندي هندية. *** (خلاصة السيرة المحمدية) يجب على كل مسلم أن يعرف رسوله الذي هداه الله تعالى على يديه معرفة تغذي إيمانه به وتنمي حبه في قلبه وترغّبه في التأسي به فقد قال تعالى في كتابه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} (الأحزاب: 21) والأسوة تتوقف على معرفة سيرة من تتأسى به في أخلاقه وشمائله وأعماله وسائر شؤونه , وقد كان يصعب على كل مسلم أن يقف على السيرة النبوية؛ إذ لم يكن ألف فيها إلا الكتب المطولة التي تعسر الاستفادة منها على غير العلماء , ومن محاسن هذا العصر أن ألفت فيه المختصرات السهلة في كثير من العلوم ومنها (خلاصة السيرة النبوية) للشيخ عطية محمد البشاري مدرس اللغة العربية في مدرسة العقادين الأميرية , كتاب لا تبلغ صفحاته عقد المئة ولكنه جامع لأهم مسائل السيرة النبوية بالاختصار، مع الإشارة إلى شيء من وجوه الاعتبار، ولملخص سيرة الخلفاء الراشدين , فأنصح لجميع نظار المدارس الأهلية أن يجعلوه من أول دروس الدين ثم ينتقلون منه إلى كتاب (نور اليقين في سيرة سيد المرسلين) وأتمنى لو يعم نشر هذين الكتابين ويُقرآن للعامة في المدن والقرى , ولو كنا عارفين بطرق النشر لأدركنا بعض ما نتمنى من مثل ذلك , هذا ما نرى التنويه به نافعًا بالإجمال ولا حاجة إلى الكلام عن جزئياته بالتفصيل. *** (إعلام البعيد والقريب بعجز مَن ظن أنه رد على السؤال العجيب) للشيخ أحمد المليجي الكتبي مناظرات مع دعاة النصرانية بمصر وردود عليهم منظومة ومنثورة ومنها (السؤال العجيب) وهو سؤال منظوم وجهه إليهم فنظم بعضهم ردًّا عليه، فعاد الشيخ أحمد إلى رد في كتاب منظوم منثور بلغت صفحاته 68 والظاهر أن هذه الردود تتسلسل فلا تنقطع وإذا كان الجدل مكروهًا وضارًّا في الاجتماع فمما يصح للمسلمين أن يفخروا به أنهم لا يعتدون، وإذا اعتدي عليهم ينتصرون فلا يُغلبون. *** (كتاب الموسيقى الشرقي) يكثر المصنفون في هذه البلاد سنة بعد سنة ولكن يقل فيهم من يأتي بشيء مبتكر، يعرِّف به المنكَّر، أو يحرر ما ليس بِمُحَرَّرٍ، أو يحيي به فنًّا مات، أو يقيم به رسمًا درس، وقد أهدي إلينا في هذه الأيام كتاب (الموسيقى الشرقي) فإذا نحن بمؤلفه (كامل أفندي الخُلَعِي) يحاول فيه إحياء هذا الفن الجميل - فن الموسيقى - باللغة العربية بعد أن ذهبت به السنون، وتطاولت عليه القرون، ولم يقدم على هذا إلا بعد أن أخذ له أهبته، وأعد له عدته، بممارسة الفن علمًا وعملاً على أيدي أساتذة العصر فيه كالمرحوم الشيخ أحمد أبي خليل القباني الدمشقي أستاذه الأول والشيخ عثمان الموصلي وغيرهما ثم بمراجعة إدريس بك راغب الشهير , فجاء سِفرًا حافل الريّ، كامل الرويّ، يدخل في مئتي صفحة كبيرة أو يزيد، ذا طبع جميل، على ورق صقيل، وزُين بصور أشهر الموسيقيين المعاصرين مع تراجمهم والمختار من ألحانهم فكان بذلك ذا شجون وفنون، وجديرًا بأن يكثر فيه الراغبون. بدأ المؤلف مقدمة كتابه بتعريف الموسيقى والنغم واللحن والصوت والأصول التي هي موازين الألحان، ثم تكلم على الغناء وآلات الطرب والسماع، وجاء بأقوال الحكماء والفقهاء فيه، ونقل كلام ابن خلدون في الموضوع، ثم عقد للصوت فصلاً خاصًّا، فأطال الكلام في مباحثه الطبيعية والفنية ففصلاً للنغمات، ففصلاً لما يعرف عندهم بالتصوير وعند الإفرنج بقلب القرار وفيهما من الرسوم والجداول، ما يجلي ما اشتملا عليه من المسائل، وجاء بعدهما بفصول في آلات الطرب - العود والقانون والكمنجة الإفرنجية والعربية والناي والصونومتر والمترونوم - وقد وضع في الكتاب رسوم هذه الآلات وشرحها، وبين طرق العزف بها، ثم عقد فصلاً معلولاً للأوزان أو الأصول بين فيه أقسام الواحدة والأوزان المصرية وهي سبعة عشر وأوضح كل ذلك بالإشارات إلى غير ذلك من الفوائد، وهذه الفصول كلها في مباحث الكتاب الفنية. ثم ذكر فصولاً أكثر مباحثها أدبية كآداب المغني والسامع وغناء الحشاشين وملاهيهم وكيفية تعليم الفن وصفة المغني وأسماء ملح الغناء بمصر وتفضيل الغناء القديم على الحديث , وجاء بعد ذلك ببدائع الموشحات ثم تراجم أساتذة الفن وتلاحينهم المختارة , وقد وضع في آخره تلاحين له عربية على العلامات الإفرنجية المعروفة بالنوتة، وهو ما لم يسبقه أحد من أهل لغتنا فيما نعلم. أنفق كامل أفندي على تأليف الكتاب وطبعه عدة سنين هي ربيع عمره وزهرة حياته فهو جدير بأن يُكافأ بالثناء والشكر، ومن الشكر الإقبال على الكتاب وترويجه، وثمن النسخة منه عشرون قرشًا، وهي قليلة على حسن طبعه وورقه وصوره ورسومه فهي الجزاء المادي لمادة الكتاب، ويبقى لصاحبه حق الجزاء الأدبي لمن يعرف مكان هذا الفن من التربية والآداب. *** (أبدع ما نظم في الأخلاق والحكم) جمع السيد يوسف أفندي بن عبد الغني سنو الحسيني البيروتي صاحب مكتبة البدائع بمصر قصائد ومقاطيع في الأخلاق والحكم من نظم الأوائل والأواخر ومزجها بمنظومات له أكثرها في الاقتباس وطبعها فكانت ديوانًا جليلاً، وقد وضع في ذيل الصفحات تعريفًا وجيزًا بكل شاعر عند ذكره لأول مرة يذكر ما عرف من نسبه وتاريخ ولادته ووفاته , وهاك هذه القصيدة مما اختاره لأحد الجاهليين قال: (ومن قصيدة لعدي بن زيد) وعاذلة هبت بليل تلومني ... فلما غَلَتْ في اللوم قلت لها اقصدي أعاذل إن اللوم في غير كنهه ... عليَّ ثُني من غيرك المتردد أعاذل إن الجهل من لذة الفتى ... وإن المنايا للرجال بمرصد أعاذل ما أدنى الرشاد من الفتى ... وأبعده منه إذا لم يسدد أعاذل من تكتب له النار يلقها ... كفاحًا ومن يكتب له الفوز يسعد أعاذل قد لاقيت ما يزع الفتي ... وطابقت في الحجلين مشي المقيد أعاذل ما يدريك أن منيتي ... إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد ذريني فإني إنما ليَ ما مضى ... أماميَ من مالي إذا خف عودي وحُمَّت لميقاتي إليَّ منيتي ... وغودرت إن وُسدت أو لم أوسد وللوارث الباقي من المال فاتركي ... عتابي فإني مصلح غير مفسد أعاذل من لا يصلح النفس خاليًا ... عن الحي لا يرشد لقول المفند كفى زاجرًا للمرء أيام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي بليت وأبليت الرجال وأصبحت ... سنون طوال قد أتت قبل مولدي فلا أنا بدع من حوادث تعتري ... رجالاً عرت من بعد بؤسى وأسعد فنفسك فاحفظها عن الغي والردى ... متى تغوها يغو الذي بك يقتدي وإن كانت النعماء عندك لامرئ ... فمثلا بها فاجر المطالب وازدد إذا ما امرؤ لم يرجُ منك هوادة ... فلا ترجها منه ولا دفع مشهد وعد سواه القول واعلم بأنه ... متى لا يبن في اليوم يصرمك في الغد عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي إذا أنت فاكهت الرجال بمجلس ... فقل مثل ما قالوا ولا تتزيد إذا أنت طالبت الرجال نو

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مؤتمر الأديان في اليابان) كتبنا في الجزء الثامن عشر من السنة الماضية (الصادر في 16 رمضان سنة 1323) مقالةً في دعوة اليابان إلى الإسلام، وكتبنا بعدها نبذًا أخرى في ذلك (راجع: ص 705 و796 و987 م8 وص75 م9) ، وقد أشرنا في الجزء الأول من هذه السنة إلى ما كان لتلك الكتابة من التأثير في بلاد الإسلام شرقيها وغربيها حتى إن بعض أهل الغيرة وعد ببذل المال في هذه السبيل عندما تظهر الدعوة إلى ذلك في المنار، وبعضهم قد أرسل إلينا حوالةً ماليةً للإعانة على ذلك ووعد بتأليف جمعية تجمع المال من الموسرين إذا نحن شرعنا في العمل , وقد أشرنا في بعض ما كتبنا إلى أن مثل هذا العمل لا يأتي إلا من جمعية تقوم به؛ لأن ما يأتي من الأفراد يكون ضعيفًا غير ثابت ولا دائم , وكان خطر لنا من بضعة أشهر أن نسعى في تأليف جمعية للدعوة إلى الإسلام تكون لها مدرسة خاصة لتعليم الدعاة ما يعدهم لإقامة هذه الفريضة المحتمة فاستشرنا بعض أهل الرأي والغيرة في ذلك بمذاكرة الحاضر ومكاتبة الغائب فاجتمعت الآراء على استحسان المشروع، ولكن ظهر لنا أن بعض الكبراء منهم لا يثق بقدرة الجمعية التي يراد تأليفها على جمع المال الذي يكفي للقيام بهذا العمل خلافًا لنا في اعتقادنا أن هذا المشروع يقع أحسن الوقع من نفوس جميع طبقات المسلمين، ويرجى تعضيده من جميع البلاد الاسلامية إذا كان القائمون به ممن يوثق بهم في استقامتهم وكفاءتهم , وإنما كتبنا في ذلك لأجل تحريك الهمم وتوجيه النفوس إلى العمل. وفق الله بعض أهل الفضل للاجتماع والمشاورة في ذلك، وألفوا لجنةً اجتمعت عدة مرات، وبحثت في المشروع، ثم لما أقبل الصيف بحره وتفريقه اختاروا أن يرجئوا الاجتماع والسعي إلى أن ينتهي الصيف. وكان من اقتراح بعضهم أن تعجل الجمعية بإعداد ثلاثة أو خمسة نفر يستعدون بالمطالعة والمدارسة للسفر إلى اليابان فاستحسن اقتراحه، ولكنهم لم يشرعوا في شيء بالفعل وما سكتوا عن ذلك إلا وأنطق الناس كلهم به خبر المؤتمر الديني الذي قرب وقت انعقاده في عاصمة اليابان. سبق للدولة اليابانية عقد مؤتمر ديني منذ سنين، وقد دعت أهل الملل في هذا العام لعقد مؤتمر آخر يحضره الراسخون من أهل كل ملة يُظهرون فيه حقائق دينهم وحججهم على كونه حقًّا مفيدًا للبشر والعمران، ويقال: إن أُولي الأمر في الأمة اليابانية سيدخلون في الدين الذي يظهر لهم بعد البحث الطويل أنه خير الأديان، وأعونها على ارتقاء الاجتماع والعمران. ذكرت (الجرائد المحلية) هذا الخبر فشغل الناس به عن كل خبر حتى كان حديث المحاور والمسامر، في كل نادٍ وسامر، بل تجد الناس يتحدثون به في مواضع أعمالهم، عمال الحكومة في دواوينهم، والقضاة في محاكمهم، والتجار في دكاكينهم، والفَعَلَةُ في مواضع الحرث والبناء وغيرها من الأعمال، وكل مسلم مقيم في مصر يقول: إنه يجب أن يكون لمصر أعضاء في هذا المؤتمر، وقلما يذكر أحد منهم اليأس من قيام الحكومة بذلك، والرجاء في الأمة إلا ويفصح بارتياحه إلى البذل في هذه السبيل بقدر ما تسمح له سعته، ومنهم من يشترط في ذلك أن يكون من يختارون للإرسال أهلاً لبيان ما يمتاز به دين الإسلام على جميع الأديان , ومن شروط ذلك معرفة حقائق الدين الإسلامي وحكمته أو فلسفته كما يقولون، ومعرفة الأديان الشهيرة الأخرى كالبوذية والبرهمية واليهودية والنصرانية , وترى العارفين بأحوال الزمان والمكان يكادون يجمعون على أنه لا يوجد في شيوخ الأزهر مَن هم أهل لذلك على أنه قد يرشح نفسه لمثل هذا العمل من هو دون شيوخ الأزهر علمًا ومعرفةً ومِن الناس مَن يهوى يظهر للناس غيرته وغيرة من يحب. ما أجدر تلك اللجنة التي جمعها غير مرة هذا الرجاء، قبل أن تتنازعه الأهواء بالبحث في هذا الأمر فإن رأته متيسرًا قامت به، وإن رأته متعذرًا أظهرت رأيها للناس فيه لعلهم يقنعون. أما الدولة العلية فقد أرسلت إلى المؤتمر من قِبَلها ثلاثة نفر بأمر السلطان، وبلغنا أن بعض مسلمي الهند وروسيا قد ذهبوا من قبل أنفسهم، وأول مسلم انتدب لذلك رجل إنكليزي قريب عهد بالاسلام، وإن في ذلك لعبرة لأولي الأحلام. * * * (مسألة العقبة) رجونا أن تحسن الدولة العلية المخرج من مسألة العقبة إذا كانت لم تحسن المدخل فلم يقضَ لنا ما رجونا، وذلك أنها لم ترضَ بأن تحل عقدة الخلاف بالمذاكرة بينها وبين الخديوي وحكومته فاضطرت إنكلترا إلى أن تضرب للدولة أجلاً عشرة أيام تُخرج فيها جنودها من نقطة الخلاف وتجيب إلى تعيين لجنة تحدد الحدود على أوجه المطلوب، وتنذرها الويل والثبور إذا هي لم تفعل، فأجابت إنكلترا إلى ما طلبت في اليوم العاشر فكان هذا الفشل كسابقه في مكدونية وغير مكدونية؛ إذ تنال أوربا منا كل ما تريد في تركيا ومراكش وكل مكان، ونحن مصرون على ذنوبنا التي نؤخذ بها كما قال ربنا: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) لا ملوكنا يتوبون عن استبدادهم بالأمر، ولا أمتنا تتوب عن غرورها ومكابرتها واسترسالها في أهوائها وجهالتها , والعجب الذي لا ينقضي أن أكثر الذين يوصفون بالفهم منا يرون أنه يجب علينا إظهار القوة من الضعف ووضع الستور على عيوبنا وذنوبنا التي حل بنا البلاء باقترافها لكيلا يشمت بنا أعداؤنا، ولذلك يوهمون الأمة بأن كل خذلان نصاب به هو عين الفوز والظفر، وسنبين الحق في هذه المسألة في مقال خاص. * * * (الشيخ علي الجربي) رغب شيخ الجامع الأزهر إلى الأمير أن يجعل الشيخ عليًّا الجربي مدرسًا واعظًا في المساجد المصرية، ويعين له راتبًا من الأوقاف الخيرية يستعين به على عمله، فأجاب الأمير إلى ذلك وكتب من ديوانه إلى مدير الأوقاف بعد رسم الخطاب ما يأتي: (بناءً على التماس صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر قد سمحت المكارم السنية بترتيب ستة جنيهات شهريًّا لحضرة الشيخ علي أبي النور الجربي محسوبة على الأوقاف الخيرية اعتبارًا من 26 مارس نظرًا لقيامه بالوعظ وبث العلم وإرشاد المسلمين إلى حقائق الدين الإسلامي واقتضى تحريره لسعادتكم تبليغًا للأمر، أفندم) . ميز الشيخ علي على سائر الوعاظ بجعله واعظًا في جميع المساجد، له أن يعلم ويعظ حيث وجد، وإنما يعين الواعظ عادةً في مسجد واحد، وذلك أن الشيخ عليًّا جوّال وأولئك قاعدون أو متقاعدون , وما ميز عليهم في التعيين إلا وهو ممتاز بالذات فإنك ترى العالم الأزهري من أصحاب الدرجات الرسمية إن وعظ لا يحضر مجلسه إلا الآحاد، وترى الجربي - وهو ليس بصاحب درجة رسمية - يعظ فيحضر مجلسه العشرات والمئات. ترى غيره يعظ في كتاب يقرأه ويعرب كلماته ويبين للعامة ما فيها من نكات البلاغة فلا يبلغ شيء من معاني الكلام قلوبهم وترى الجربي يعظ بغير كتاب فيفهم الناس حتى يبلغ مواقع التأثير من قلوبهم، ولم يذكر كلمةً واحدةً من اصطلاحات فنون البلاغة. رأيت أحد علماء الأزهر يقرأ درسًا للعامة في مسجد عينته فيه جمعية مكارم الأخلاق فإذا هو يفسر لهم حديث: (العلماء سرج الدنيا ومصابيح الآخرة) فمكثت في المسجد ساعةً لم يَعْدُ بكلامه فيها البحث في المصابيح هل هي عين السرج فيكون اختلاف التعبير للتفنن، أم هي أخص منها ... وفي وزن السراج والسرج والمصباح والمصابيح , فانظر ماذا يختارون لتلقين الناس، وكيف يشرحونه لهم، والجربي لا يفعل مثل ذلك، وإنما يتكلم على الناس بما يعتقد أنه يفيدهم في عقائدهم وأخلاقهم وآدابهم وعباداتهم ومعاملاتهم وفقنا الله وإياه إلى السداد والإخلاص آمين. * * * (جمعية العروة الوثقى الخيرية الإسلامية) إن تقرير هذه الجمعية عن السنة الدراسية الماضية ينبئ بنجاحها وثباتها، وفيه أنها أنفقت على التعليم في هذه السنة نحو 5536 جنيهًا منها 4341 جنيهًا وكسور من الأجور التي تؤخذ من التلاميذ، فنشكر لأعضائها الغيورين سعيهم، زادهم الله توفيقًا. * * * (تصحيح) في ص 159 من الجزء الثاني (كأفحوص القطاة) وصوابه: (كأدحية النعامة) ، وهو مبيضها في الرمل، وسبب سبق الذهن إلى الأفحوص ما ورد في الحديث من تشبيه المسجد الصغير به , وفي ص217 من الجزء الثالث: (فلا والذي بيته في السماء) والصواب وضع (ذو) مكان (الذي) كما هي الرؤية وذو عند طيء بمعنى (الذي) .

حال المسلمين في العالمين ودعوة العلماء إلى نصيحة الأمراء والسلاطين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حال المسلمين في العالمين ودعوة العلماء إلى نصيحة الأمراء والسلاطين الشمس مشرقة تطوق بأشعتها الأرض كل يوم، والأبصار محدقة تحيط بما يتنزل فيها من كل أمر، يكاد كل إنسان يعرف من أخبار الأرض ما تعرفه الشمس إن كانت ترى الأشياء كما تريها للناس؛ لأنه جعلها بتصرفه في قوى الطبيعة كالمدينة الواحدة يسهل على من يشاهد أمرًا في رجًا منها أن يفضي به إلى من في سائر الأرجاء , فالبرق الخافق ما بين الخافقين، يفضي إلى المغربين بأخبار المشرقين، وينبئ المشرقين بأعمال المغربين، فطرق العبرة معبّدة، ورواحل الهجرة مذللة، وجني العلوم والعرفان دان، تتناوله الأيدي من كل مكان. هذا التواصل في المكان، والتقارب في الزمان، لم يدعا عذرًا لشعب أو جنس من الناس، إذا لم يجار ويبار سائر الشعوب والأجناس، فقد عهدنا من طبيعة أطفال هذا النوع أن يقلدوا كباره الذين ينشئون بينهم في كل ما يرونهم عليه حتى يكونوا رجالاً مثلهم في أعوام معدودة، وعهدنا من طبيعة رجاله أن يستقلوا دون من تربوا معهم بأمور تكون لهم مزايا مشهودة، فالتقليد والاستقلال في الأعمال الكسبية، كالتوارث والتباين في النواميس الطبيعية بهما يحفظ الإنسان أحسن ما وجد، وبهما يبتدع ما لم يجد، فهما الجناحان اللذان يطير بهما البشر في جواء العلوم والأعمال، حتى يصلوا إلى ما استعدوا له من الكمال. ارجع الطرف إلى ما رأيت من أحوال شعوب هذا العصر، وأصخ الأذن إلى ما تسمع من أخبارهم في كل يوم؛ تعلم أن جميع الشعوب والأجناس قد سارت على طريق الفطرة البشرية التي أومأنا إليها آنفًا ما عدا المسلمين فإنهم كادوا يكونون في هذا العصر من طبيعة غير طبيعة البشر , لكنها دونها بعد أن كانوا قد فاقوا سائر البشر، وسادوهم فكانوا فوقهم أجمعين. إن أرقى المسلمين في هذا العصر مسلمو تركيا ومصر والهند فهل تستطيع أن تقول: إن أحدًا منهم ساوى شعبًا من شعوب الملل المجاورة لهم؟ قد انقدّ من جسم الدولة العثمانية عدة شعوب نصرانية ما منهم شعب إلا وهو الآن أرقى من مسلمي هذه الدولة تركها وعربها وكردها - أرقى منهم في الحكومة والمدنية، أرقى منهم في العلوم والفنون، أرقى منهم في الصنائع والأعمال، أرقى منهم في الآداب والاجتماع، ولك أن تستغني عن ذلك كله بأن تقول: إنهم أرقى منهم في جميع شئون الحياة. وإن تعجب فأعجب من هذا أن يكون النصارى الذين لا يزالون تحت سلطة هذه الدولة أرقى من مسلميها في جميع شئون الحياة على أنهم أقل منهم عددًا ومالاً وحقوقًا في مناصب الدولة , فماذا تقول إذا قابلت بين مسلمي تركيا ونصارى فرنسا وألمانيا وإنكلترا وسائر دول أوربا اللواتي أصبحن مسيطرات على تركيا حتى في كثير من شئونها الداخلية , وقد كن منذ قرنين أو ثلاث قرون يرتعدن من مهابتها والخوف منها. ماذا فعل مسلمو مصر بعد الاشتغال بالتربية والتعليم على الطريقة الأوربية قرنًا كاملاً؟ إنه لم يوجد فيهم فلاسفة ولا مخترعون ولا مكتشفون ولا محررون لشيء من العلوم، بل لم تَسْمُ هممهم إلى إنشاء مدرسة كلية , بل لا يكاد يوجد في عشرة آلاف ألف منهم عشرة رجال مستقلين في الرأي والإرادة لا يهابون في الحق حاكمًا , ولا يخافون فيه لائمًا، قد خرج حكم بلادهم من أيديهم , وهذه رقبتها تكاد تخرج أيضًا بما يمتلك أفراد الأجانب وشركاتهم من أطيانها في كل عام، وما يبتزون من أموالها في كل يوم , ولا نطيل في وصف حالهم فجرائدهم اليومية تغنينا عن ذلك بما تسهب فيه آنًا بعد آن، فكيف يكون حكمنا عليهم إذا قسناهم بنصارى أوربا أو وثنيي اليابان؟ . وهؤلاء مسلمو الهند يعيشون بين أمم من الوثنيين البوذيين والبراهمة ومن المجوس والإفرنج , وكانت لهم في تلك البلاد السيادة العليا في العلم والحكم قد أمسوا وراء هذه الشعوب كلها في العلم والعمل والتربية والثروة فلم تَسْمُ هممهم لمسابقة من هم أكثر منهم عددًا كالهندوس، ولم يخجلوا أن يسبقهم من هم أقل منهم كالمجوس. حدثني سائح مسلم جال في بلاد الهند جولان مختبر قال: رأيت المجوس أرقى شعوب الهند علمًا وعملاً وأخلاقًا وآدابًا وأكثرهم برًّا وإحسانًا لأنفسهم ولجميع من يعيش معهم. رأيتهم في بعض البلاد قد زادت مدارسهم عن حاجتهم فكانوا يبنون المدارس لتعليم سائر الطوائف من المسلمين والوثنيين. سمعت خطيبًا منهم يخطب في محفل حافل فأدهشني بسمو أفكاره، وسعة عرفانه، فقارنت بينه وبين شيخ مسلم سمعته يخطب في مجتمع عام في بومباي يشبه ميدان الأزبكية في مصر وقد أحدق به الناس، من جميع الملل والأجناس، فرأيت الفرق بين المسلم والمجوسي عظيمًا. سمعت المسلم يذكر في خطابه من مكانة الشيخ عبد القادر الجيلاني عند الله تعالى أنه إذا اختطف غراب عظمًا من عظام الذبائح التي تذبح في مولد الشيخ عبد القادر فوقعت منه في مقبرة للكفار فإن الله تعالى يغفر لجميع من دفن فيها كرامة للشيخ. وسمعته يذكر تلك الكرامة التي ذكرت في بعض كتب مناقبه , وملخصها أن مريدًا له مات , فحمل أهله الشيخ على إحيائه فطار في الجو ليدرك ملك الموت فيستعيد منه روح المريد فامتنع عليه ملك الموت قائلاً: لا يمكن أن أعيد روحًا قبضتها بإذن الله إلا بإذن من الله , فغضب الشيخ واجتذب الوعاء الذي أودع ملك الموت فيه الأرواح التي قبضها في ذلك اليوم فوقعت وانكبت الأرواح منها فطارت كل روح إلى جسدها فحيي جميع من مات في ذلك اليوم كرامة للشيخ ولا نجرؤ على ذكر ما قيل في شكوى ملك لربه وما أجيب به. السواد الأعظم من مسلمي الهند يسلمون بمثل هذه الأقوال , ومن ينكرها منهم في نفسه لا ينكرها بلسانه، وإنما ينكر الأكثرون كل دعوة إلى الإصلاح بالعلم الصحيح والتربية القويمة كما هاج أرباب العمائم في بمباي على خطيب المسجد ذي المنارات أن قال في خطبته: (إخواننا الشيعة) وكادت تكون فتنة لولا عناية بعض العقلاء , وإنهم ليبذلون في مولد الشيخ من النفقات ما لو بذلوه في تعميم التعليم لوفى به. في الهند حركة إسلامية جديدة يرجى خيرها , ولكنها ضعيفة المنة بطيئة السير لا يقارب أصحابها أحدًا من أهل الملل الأخرى في سعيهم وجدهم، فماذا جرى للمسلمين، وما الذي دفع بهم من عليين إلى أسفل سافلين؟ . بينا غير مرة أن بلاء المسلمين قد جاءهم من ناحية دينهم فمثاره غرورهم بدينهم , أو ابتداعهم في دينهم , أو جهلهم بدينهم , أو لبسهم لدينهم كما يلبس الفرو مقلوبًا , قبلوا كل داهية عرضها عليهم رؤساؤهم المفسدون بشكل ديني وإن كانت ناكسةً له على رأسه، أو ناسفةً له من أساسه، وأعرضوا عن كل علم وعمل وخير ونعمة وفائدة لم يلونها لهم رؤساؤهم الجاهلون بلون ديني , وإن كانت من لباب الدين وصميم الدين أو من سياج الدين الذي يتوقف عليه حفظ الدين أو بقاء الدين. ولكن هؤلاء الذين قبلوا كل شر باسم الدين، وقد يرفضون كل خير بشبهة الدين قد خويت قلوبهم من الدين حتى لا تجد في الألوف منهم واحدًا يُحَكِّمُ ما يعتقد من الدين في أهوائه وعاداته , فالعادات والتقاليد المتبعة هي المُحَكَّمَة دون ما يعتقد بالبرهان، أو يعترف به؛ لأنه منصوص في القرآن. لا نطيل في شرح هذه المسألة , ولا ندع التمثيل لها بما فعل المسلمون بأساسيها الديني والدنيوي أو الروحاني والجسماني - أساس الإسلام الروحاني توحيد الله تعالى , وإسلام الوجه إليه وحده , فجميع العبادات إنما شرعت للتذكير بهذا الأصل والإمداد له والمحافظة عليه , ومن معناه أن لا يلتمس الإنسان شيئًا ما إلا من الله تعالى، أي: من السنن العامة التي ربط بها الأسباب بالمسببات , ومن الشرك بالله أن يطلب الإنسان شيئًا ما من غير سببه العام، المبذول من مقام الرحمة والإحسان لجميع الأنام، فإن جهل السبب أو تعذر عليه توجه إلى الله وحده لعله يهديه إلى سبب آخر أو يسهل له الحَزَنَ ويذلل له الصعب. ولكنك ترى جماهير المسلمين قد صاروا أبعد الأمم عن استعراف سنن الله تعالى في خلقه والاعتماد عليها دون الأسباب الوهمية، وما نحلوه لبعض الناس من السلطة الإلهية الغيبية، وبهذا صار غيرهم أقرب من جماهيرهم إلى حقيقة التوحيد الخالص في الاعتقاد والعمل، وإن كانوا هم أصحاب القول والدعوى. وأساس الإسلام الدنيوي جعل أمر المسلمين في حكومتهم شورى بينهم لا يستبد بها الآحاد منهم كما يستبد الملوك والأمراء في الحكم عادةً , ومن ثم أجمع الصحابة على أن الإسلام لا ملك فيه ولا سلطان لغير الله تعالى على أهله , وأن أحكامه شورى بين أولي الأمر وهم أهل العلم بالمصلحة العامة والرأي الذين تحترمهم الأمة وتثق بهم , وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يرجع إلى رأيهم في زمنه في الشؤون الدنيوية تربيةً للمسلمين بالعمل على ما أرشد إليه الكتاب العزيز , وكان خلفاؤه من بعده يعملون برأيهم أيضًا , فهذا الأساس في القسم الدنيوي من الإسلام كالتوحيد في القسم الديني الروحاني منه , فكما شرعت العبادات لتدعم التوحيد وتحفظه شرعت الأحكام المدنية والقضائية , وفوض غير المنصوص منها إلى جماعة أولي الأمر لتدعم الشورى التي هي أساس الحكم الإسلامي , ولكن المسلمين قد فعلوا بهذا الأساس شرًّا مما فعلوا بالأساس الأول؛ لأن نزعات الوثنية التي زلزلت التوحيد لم تكن عامةً لجميع المسلمين , ولكن الرضى بحكم الأفراد الاستبدادي , وهدم ما بناه القرآن وأجمع عليه الصحابة من حكم الشورى قد رضي به جميع المسلمين في بلاد لهم فيها سلطة إلا ما لا يخلو عنه الزمان من أفراد ينكرون هذه السلطة بألسنتهم دون أن يؤلفوا جمعيات تقوضها. على أن الإنكار باللسان، لم يتيسر لهم في كل زمان، ولذلك اكتفوا بإنكار القلب الذي سماه الرسول أضعف الإيمان. للإسلام أصول وفروع فمن حفظ الأصول وقصر في الفروع لا يقطع رجاؤه من مغفرة الله تعالى , ومن ترك الأصول كان تاركًا للدين بالمرة غير معدود من أهله ولا رجاء له مع تركها , وأهم أصول الإسلام ما ذكرنا من التوحيد في القسم الروحاني , وحكم الشورى في القسم الجسماني , فمتى يرجو النجاة في دينه من ترك الأصل الأول فجهل سنن الله تعالى , وعلق قلبه ببعض عبيده الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا كما قال القرآن في شأن خير الخلق من النبيين والمرسلين. وكيف يرجو النجاة في دنياه من رضي بحكم الأفراد الاستبدادي , وجعل لنفسه رئيسًا من البشر مقدسًا غير مسئول، أي: إن له في ملكه ما أثبت الله تعالى لنفسه خاصةً بقوله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) بل كيف ينجو في آخرته من خالف نص القرآن وإجماع المسلمين في الصدر الأول , وهو يسلم بقول الفقهاء عامةً أن من ترك أو رضي بترك نص القرآن ومخالفة الإجماع المعلوم من الدين بالضرورة فهو كافر خالد في النار كعباد الأصنام. طال الزمان على إهمال القرآن وترك الإجماع حتى صار أكثر المسلمين يجهلون حقيقة السلطة في الإسلام , بل صار الكثيرون من عامتهم يعتقدون أن للسلطان أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد بتفويض من الشرع كأن الشرع جعل له سلطانًا على الشرع ينسخ منه ما يشاء , ويحكم ما يشاء , وينفذ من أحكامه ما يشاء , ويلغي منها ما يشاء فله من التصرف فيه ما لم يكن لمن جاء به؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه البخاري , بل منهم من يعتقد أن

دفاع الشيخ محمد بخيت عن رسالتيه والرد عليه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دفاع الشيخ محمد بخيت عن رسالتيه والرد عليه كتب الشيخ محمد بخيت رسالةً سماها (إزاحة الوهم والاشتباه عن رسالتي الفونوغراف والسوكورتاه) أورد فيها ما انتقدناه عليه في الجزء الثاني من المنار ورد عليه , وقد اطلعنا على الرد فكنا كما قرأنا جملةً من أوائله ورأينا ما فيها من المكابرة والتناقض والتهافت. نقول في نفسنا: إن الرجل ما كتب هذا إلا ليغالط الناس لاعتقاده بأنهم لا يفهمون ما يقال، وإنما يأخذون من جملة الأقوال؛ إنه قد دافع عن نفسه وَفنَّدَ كلام المعترض عليه، ولما أوغلنا في القراءة ترجح عندنا أنه هو نفسه لم يفهم ما كتب؛ إذ لو فهمه لكرَّم نفسه أن ينسب ذلك إليها، وكنا اعتقدنا فيه مثل هذا الاعتقاد عندما نشر رده الأول في بعض الجرائد الساقطة منسوبًا إليها، وإننا نبين بعض تهافته بما فيها العبرة للقارئين. أدب الشيخ بخيت في رده قال الشيخ في أواخر (ص29) من رسالتيه: (وإنما نقلنا عبارة المعترض بطولها ليعلم الناظر فيها مقدار ما عليه من الأدب والأخلاق، ويُلبِسه المطلع عليها برودًا من نسيج خيوطها) ، اهـ بنصه البليغ. أقول: إنني أعترف بأن في عبارة نقد المنار لرسالتيه يبوسة وأشرت إلى السبب العام لذلك. ذلك أنني كتبت تلك العبارة وأنا متألم الروح لقوله بجواز كون إمام المسلمين كافرًا، واستدلاله على ذلك بحديث لا يصح الاحتجاج به مع عدم الحاجة إلى ذلك في موضوع الرسالة. وقد تلمست له عذرًا في نشر هذه المسألة في رسالة طبعها في وقت اشتد فيه الخلاف بين الدولة العثمانية ودولة غير مسلمة فأعوزني العذر، ولم أجد في قاله ولا حاله منفذًا لنور الإخلاص فكتبت (تحت عامل التأثير) كما تقول الإفرنج، فجاءت العبارة شديدة اللهجة كما يقول كتابنا، ولكنها - بحمد الله - سالمة من مثل ما في كلام الشيخ من النبز بالألقاب، ومجاوزة حدود الآداب، والتشدق بالفخر والإعجاب، وإليك نموذج ذلك من كلامه: قال - بعد أن ذكر أن مستفيدًا كتب يسأله عن عبارات أشكلت عليه في الرسالة -: (وقد رأينا أيضًا بعض الناس قد اعترض على الرسالتين معًا ونشر اعتراضه في إحدى المجلات التي تطبع في مصر فوجدناه كلامًا عليه صبغة الحقد (1) والحسد (2) وملؤه نفثات النفثات (كذا) في العُقَد (3) نستعيذ منه برب الفلق (4) كما نستعيذ برب الفلق من شر ما خلق (5) ولا نجارى هذا المعترض على مثل هذا القول! ! بل نستعين عليه بذي القوة والحول، ونفوض أمرنا إليه، ونتوكل في جميع شؤوننا عليه، فإنه سبحانه وحده هو الذى يهب لمن يشاء من عباده من العلم والحلم ما يشاء، ويمنعهما أو يسلبهما عمن يشاء (6) ويبتليه ببغض العلم والعلماء (7) فيختلق ما شاء أن يختلق عليهم (8) وينسب كذبًا ما شاء أن ينسب إليهم (9) وإن لم يكن منهم في شيء (10) ولا شخص له فيهم ولا فيء (11) فرأيت من الحكمة والصواب أن أجيب عما جاء في الخطاب، وعما اعترض به ذلك السباب (12) اهـ بنصه النزيه. فأنت ترى أنه لم يخلُ سطر من هذه الأسطر من السب والشتم والنبز واللمز والعُجْب والفخر وأنه ليس فيها وراء الشتائم والسباب التي دخلت في جمع الكثرة غير دعوى العلم والحلم والتوكل على الله وعلو الآداب، والترفع عن مجاراة المعترض عليه بالسباب (هذا وما فكيف لو) . ووصف المعترض عند ابتداء الرد عليه في (ص25) بالمتعنت العنيد وقال في (ص26) إنه عاب الكلام؛ لأنه لم يفهمه وتمثل بيت (وكم من عائب..) إلخ ونقص منه لفظ (صحيحًا) و (السقيم) نزاهةً وتفننًا في البديع ولا يتنزه عما رأيت وسترى من ألقابه في سبابه , وقال في (ص29) : جرت عادة المعترض وأمثاله ممن كادوا يتميزون من الغيظ حسدًا على أن يخترعوا علينا الأباطيل، ثم ادعى أنه في رفعة مقامه لا يخطر أحد من هؤلاء الحاسدين على جنانه، ولا يجرى ذكره على لسانه، قال: ولكن الحسد يعمي ويصم , وقال في (ص52) عند قول المعترض: إن الأعراب هم المقيمون في البادية، فهي مسألة خلافية بين الله تعالى وبين هذا المعترض! ونحن ممن يقول بقول الله تعالى، ولا نقول بقول هذا المعترض المخالف لكتاب الله، فانظر إلى أدب هذا الأستاذ مع الله تعالى ويعني بمخالفة كتاب الله أن كتاب الله ذكر أن من الأعراب المؤمن والكافر والمنافق، واستنبط هو باجتهاده الجديد أن هذا التقسيم ينافي كون الأعراب هم سكان البادية ويا ليته راجع كتب اللغة وكتب التفسير قبل كتابة ما كتب لعله يعلم أن المعترض عليه لم يقل إلا بما به قال اللغويون والمفسرون أجمعون، ولكنه إذا علم ذلك ولم يعلم أنه لا ينافي التقسيم المبين في كتاب الله فإنه لا يستفيد ما يمنعه من القول بأن المسألة خلافية بين ... (تعالى عما قال هذا الشيخ علوًّا كبيرًا) . وقال عن قول المعترض (إن حديث جابر منكر أو موضوع) إنه جرأة على الأحاديث لا فرق بينها وبين الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، وستعلم مكان علمه بهذا كما علمت مكان أدبه فيه , وقد دعا على المعترض في آخر (57) ونسبه إلى الاختلاق والافتراء في أول (58) وعَرَّضَ بعد ذلك بما عَرَّضَ به , وقال في أوائل ص (60) : وأما قول المعترض: إن المرأة والأعرابي المقيم بالبادية وراء أنعامه ليسا مظنة (الخلافة) إلخ فهو قول من لم يؤتِهِ الله فهمًا، ولم يذُق للكلام طعمًا، ولك كثير من مثل هذا التعبير الذي يعد في الذروة العليا من النزاهة والأدب فلا نستقصيه , وقال في أواخر الرسالة ما قال من قبل في اتقاد المعترض وأمثاله حسدًا له وتمثل بقول الشاعر: إن يحسدوني فإني غير لائمهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حُسدوا فدام لي ولهم ما بي وما بهم ... مات أكثرهم غيظًا بما يجد أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرًا منها ولا أرد وقال بعد ذلك في خاتمة الرسالة: (وأما ما قاله المعترض من سوء الأدب في العبارة فإننا نسامحه فيه، ونرجو الله أن يسامحه حيث كان من نفسه الأمَّارة، ومع ذلك إن عادت عدنا لها مع عدم مجاراته في السوء الذي هو غاية ما يبغيه، ونقف عند رد ما يبديه من الشبهات بالحجج والبراهين، وإن لم يكن من فرسان ميدان المناظرة) . فيا ليت شعري لو لم تكن أريحية الحلم والكرم والنزاهة والأدب هزت الأستاذ الفاضل للعفو والسماح عن المعترض ماذا كان يقول فيه، ولو لم يلُذْ بالتواضع والخشوع والاعتصام والتوكل ماذا كان يقول عن نفسه؟ ! هذا نموذج حلمه وأدبه وتواضعه وهضم نفسه وسيرِدُ على القارئين نموذج علمه واجتهاده في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

الاختلاف في عد آي القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاختلاف في عد آي القرآن كتب من مدينة بانجهانبور الهند في 27-5-1906 بالإنكليزية ما ترجمته: سيدي العزيز: أكتب إليك أسطرًا قليلة راجيًا أن تعيرها التفاتك وأن تتكرم بالكلام أو بإحاطتي علمًا برأيك فيما يأتي: إني أرى اختلافًا عظيمًا في عدد آيات القرآن الأقدس وأنه عند مراجعة مواضيع هذا الكتاب الكريم قد تنالنا مشقة عظيمة وقد يكون الأمر شاقًّا عليكم أيضًا وقد اختلف قراء الكوفة والبصرة والشام ومكة والمدينة اختلافًا مماثلاً لذلك في (راكواز) [*] فإنهم يختلفون اختلافًا عظيمًا في عدد الآيات التى تشتمل عليها. أليس من الممكن عقد اجتماع سري يحضره مسلمون من مصر وتركيا ومراكش وبلاد العرب والهند لأجل تمحيص المسألة. وأرى أن يكون مكان الاجتماع مكة أو المدينة في أيام الحج، ومع أن هذا الاختلاف لا يترتب عليه شيء في الكتاب الأقدس نفسه إلا أنه مما يوجب الأسف أن لا يتفق المسلمون في الآيات والسور لكتاب صغير الحجم! وإني لآسف على أني لا أتحصل على مناركم كما أني آسف على عدم قدرتي على توضيح أفكاري باللغة العربية حتى أستطيع أن أكتب في جريدتكم ولكنني أرجو أن توفق لخدمة نافعة بواسطة جريدتكم الدينية كما أرجو أن تكون ممتَّعًا بالصحة والعافية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... صديقك المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. كريم بكلش (المنار) من آيات الحياة في الأمة أن يوجد فيها أفراد يهتمون بالكماليات والتحسينيات من كل شيء تتلاقى فيها أفكارهم على بُعد ديارهم فَبَيْنَا كان أخونا الهندي يفكر في مسألة ضبط عدد الآي كان أخونا أحمد أفندي أمين الديك المصري يكتب فيها رسالته (البرهان القويم) التي تراها في الأوراق التالية وقد جاءنا بها قبل مجيء رسالة الاقتراح من الهند فرأينا أن ننشرها برمتها ثم نعقب عليها بجملة وجيزة.

اشتراط القبول في الوقف عقب الإيجاب وعدم جواز بيعه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اشتراط القبول في الوقف عقب الإيجاب وعدم جواز بيعه (س 26) أرسل إلينا أحد العلماء في بمباي (الهند) ما يأتي الحمد لله وحده. سيدي متع الله الأنام بطول بقائكم. وقعت عندنا مسألة يظهر لفضيلتكم أهميتها من سياق عبارة السؤال الآتي الذي نقدمه إلى حضرتكم راجين من فضلكم أن تبينوا فيه الحكم على مذهب الإمام الشافعي والله يديمكم ويتولاكم: رجل وقف وقفًا مؤبدًا على أولاده وهم أبناؤه الثلاثة وبنته وزوجته وأخته بأنه لا يُباع ولا يُرهن ولا يُوهب ولا يُتصرف فيه تصرف الملكية، وشرط لهذا الوقف شروطًا: منها أن يكون النظر لنفسه ما دام حيًّا، ثم بعد موته يكون النظر لولده فلان ثم لأكبر أولاد بنيه، وهلم جرَّا فإن لم يوجد من شرط له النظر أو وجد ولكن فقد فيه الرشد فالنظر لمن شرط له بعده، فإن لم يبق أحد من المشروط لهم النظر فالنظر لناظر مسجد فلان (أي: وإن كان ابن الواقف الذي لم يشرط له النظر موجودًا مثلاً) , ومنها أن يأخذ الناظر الواقف من غلة الوقف كل شهر قدرًا معينًا في مقابلة نظره ما دام حيًّا , ومنها أن يصرف من غلة الوقف على ما لا بد منه لمصلحة الوقف الحالية وأن يحفظ كل شهر قدرًا معلومًا لما يحتاج إليه صرفه لمصلحة الوقف في المستقبل كالبناء وغيره ثم يقسم باقي الغلة على الموقوف عليهم المذكورين {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) . ومنها أنه إذا ماتت أخت الواقف أو زوجته فسهم كل منهما يرجع إلى أصل الغلة وكذا ما يأخذه الواقف في مقابلة نظره يرجع إلى الغلة بعد موته , ومنها أن هذا الوقف يبقى دائمًا وأبدًا في أبناء أولاده ما تناسلوا {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء : 11) وليس لأولاد البنات شيء في هذا الوقف وأن سهم كل بنت بعد موتها يرجع إلى إخوتها {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) , ومنها أنه إذا كان ولد الابنة في درجة لا يرث من قبل جده وفق فرائض الله ليس له سهم في الوقف وإنما يتبرع له الناظر بنزر يسير ومقدار معين قليل لا يزاد عليه. ومنها أنه إذا مات أحد الموقوف عليهم، ولم يترك ولدًا صلبيًّا فإنه ينتقل سهمه إلى إخوته {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) فإن لم تكن له إخوة فإلى أقرب عصباته وهلم جرَّا حتى إذا انقرضوا عن آخرهم تصرف الغلة في جهة البر وقد بينها، وحينئذ يكون النظر لناظر ومتولي مسجد فلان. وشرط أيضًا شروطًا أخر: منها أن تقسم الغلة في آخر الشهر الثالث , ومنها أنه إذا أراد أحد الموقوف عليهم السكنى في بيت معتد للسكنى من بيوت الوقف فإنه يسلم الكرى كل شهر قدر ما يعين عليه الناظر، وأن للناظر أن يقطع قدر الكرى من سهم من يسكن في هذا البيت قبل أن يسلم له سهمه، فإن لم يستوف الكرى من سهمه يطالبه به، وأن للناظر أن يأمر كل من أراد ممن سكن في هذا البيت بتخليته ولو من غير تقصير منه , ومنها أن ليس لأحد من الموقوف عليهم أن يطالب الناظر في حساب ما حصل من الغلة بل يقبل كلما يقدمه له الناظر. ومن أمثالها شروط كثيرة مما لا حاجة إلى ذكرها إلا شرطًا واحدًا هو أن رقبة الوقف إذا جرى عليها شيء سماوي من الحرق والانهدام ولم يُستطع بناؤه ثانيًا فللناظر أن يقترض لأجل البناء، فإن لم يقرض بضمانه فليبعْ رقبة الوقف وليشترِ بثمنها عوضًا عنها. فلما بلغ الخبر إلى الموقوف عليهم الذين هم البطن الأول ردوه ولم يقبلوه إلا أن الولد الذي شرط له النظر بعد الواقف قبله ثم أكره الذين لم يقبلوه على إمضائهم في ورقة التسليم ليستلموا ما يستحقونه من الوقف، فقال أحد الرادين: إن هذا الوقف بعد ردنا إياه صار منقطع الأول وبطُل؛ لما في المنهاج وشروحه وغيرها من كتب الشافعية حيث صرحوا بما معناه أن الوقف يرتد برد الموقوف عليهم المعينين، فإن كانوا البطن الأول يبطل بردهم، ومن قبل بعد الرد لم يعد له فعلى هذا إبقاء هذا الوقف على الوقفية وإجراؤه بحسب شروطه لا يعيده وقفًا، وإكراهنا على الإمضاء مما لا فائدة فيه , فلم يسمع قول هذا القائل , وجرى الناظر الواقف بشروط الوقف، وجعل يسلم سهم الموقوف عليهم بعد كل ثلاثة أشهر، ويأخذ منهم إمضاءهم على ورقة التسليم، وجعل الكرى على من سكنوا في البيت المعتد للسكنى، وجعل يقطع من سهامهم قدر الكرى عند تسليم سهمهم إليهم واستمر هذا الحال مدةً، وفي خلالها توفي أحد أبناء الواقف، وكان من الذين لم يقبلوا الوقف، ثم توفيت أخت الواقف فجعل يعطي سهم الأول لإخوته الموجودين {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) وجعل سهم الأخت في أصل الغلة ثم توفي الواقف وانتقل النظر بحسب شرطه لولده فلان المذكور فجعل يحذو حذو والده في إجراء هذا الوقف فسأله باقي الموقوف عليهم أن يسلم لهم من عين هذا الوقف قدر سهمهم ليتصرفوا فيه مطلقًا لكون الوقف قد بطل بردهم كما علم، فأبى هذا الناظر، وامتنع عن تسليم ما طلبوه من سهمهم في عين هذا الوقف إليهم، وقال: الوقف لازم على الموقوف عليهم كلهم وليس لأحد في عين الموقوف حق ما. فأقام بعض الموقوف عليهم للدعوى على الناظر الموجود عند حاكم البلد الذي يرى إبطال مثل هذا الوقف مطلقًا بحسب قوانينه الجارية، والحكم منتظر وباقي الموقوف عليهم كذلك تبعوا الأول في الدعوى على الناظر المذكور. ثم إن هذا الناظر احتج في جوابه دفعًا للدعوى عليه (حسب ما يقتضيه قانون المحكمة، وذلك أن المدعي يقدم دعواه مكتوبةً في ورقة ويحلف أن ما كتبه فيها هو دعواه، ثم يجيب المدعَى عليه كذلك بتقديم ورقة مكتوبة ويرد الدعوى عليه ويحلف أن ما كتبه فيها هو جواب الدعوى) أن الموقوف عليهم قد أبطلوا حقهم في عين هذا الوقف لكونهم كتبوا إمضاءهم في ورقة التقسيم. هذه هي الحالة والمسئول من فضيلتكم أن تبينوا حكم المسألة على مذهب الإمام الشافعي: أولاً - هل يلزم هذا الوقف الموقوف عليهم المعينين الذين ردوه عندما علموا به من غير تراخٍ؟ ثانيًّا - هل يكفي في القبول إمضاء الرادين في ورقة التقسيم من غير أن يتلفظوا بالقبول مع أن التلفظ بالصيغة شرط في العقد؟ ثالثًا - هل يؤثر القبول بعد الرد إن قلتم بكفاية الإمضاء في ورقة التقسيم؟ رابعًا - إن قلتم ببطلان الوقف بالرد فهل يبطل كله أو بعضه فإن قلتم بالثاني فماذا يبقى وقفًا؟ خامسًا - ماذا حكم الذي بطل هل هو ملك للوقف على ما كان قبل الوقف أم ملك للموقوف عليهم نظرًا إلى أن الواقف أخرج الملك عن نفسه وكان يملكهم للمنفعة مدة حياته أم لا يملكه أحد، وعلى هذا فما معنى بطلان الوقف بالرد المستفاد من صريح عباراتهم؟ سادسًا - هل يأثم الذي أقام الدعوى ومن تبعه عند من يرى بالقانون بطلان كل وقف على المعينين فيحكم ببطلان هذا الوقف بأسره، ويجعله من تركة الواقف وتقسيمه بين الورثة الموجودين وفق فرائض الله أم لا إثم عليهم؛ لأن الناظر الموجود أبى أن يسلم لهم حقهم الذي طلبوا منه من عين هذا الوقف؛ ولأنه لم يقم الدعوى من أقامها إلا بدليل أن الوقف قد بطل في حقه حينما رده؛ إذ دخول عين أو منفعة في ملكه قهرًا بغير الإرث بعيد كما هو ظاهر، وذكره الرملي في نهاية المحتاج بشرح المنهاج، أفتونا مأجورين. (ج) هذا الوقف باطل عند الشافعية لاشتماله على بعض الشروط الفاسدة وهو تفويض بيع الموقوف إلى الناظر على الوجه المذكور في السؤال قال في المنهاج وشرحه لشمس الرملي ما نصه: (ولو وقف) شيئًا (بشرط الخيار) له في الرجوع عنه أو في بيعه أو في تغير شيء منه بوصف أو زيادة أو نقص أو نحو ذلك (بطل) الوقف (على الصحيح) اهـ , ولا فرق بين تفويض البيع إليه متى شاء وبين تفويضه إليه بشرط كالمذكور في السؤال، إذ لا يُجَوِّزُ ذلك بَيْعَهُ بحال , وإذا كان الوقف باطلاً من أصله سقطت تلك الأسئلة إلا أننا نجيب عنها بالإيجاز. أما جواب السؤال الأول: فهو أن الوقف على معين يشترط فيه قبوله كما صرح به في المنهاج، وصرح الرملي في شرحه باشتراط القبول عقب الإيجاب أو بلوغ الخبر، أي: فإن تأخر بطل في حقه. وأما جواب الثاني: فالظاهر أنه يصح مع النية إذا لم يترتب عليه التراخي كأن يعرض عليه كتاب الوقف قبل العلم به، فيكتب عليه فورًا أنه قبله، وأما الإمضاء على أوراق تقسيم الغلة فهو ليس من القبول على الفور، وإن استلزم الرضا بالوقف مع القرينة. وأما جواب الثالث: فهو أن القبول بعد الرد لا تأثير له قال في نهاية المحتاج: (فإن رد الأول بطل الوقف، ولو رجع بعد الرد لم يعد له) ، وقال ابن حجر في شرحه للمنهاج (التحفة) : إنه لا تأثير للرد بعد القبول كعكسه فلو رجع الراد وقبل لم يستحق شيئًا ولكنه قيده بحكم الحاكم على وجه، وتعقبه ابن القاسم في حاشيته، وذكر عبارته في شرح الروض وهي: فلو رجع بعد الرد لم يَعُدْ لَهُ، وقول الروياني: يعود له إن رجع قبل حكم الحاكم به لغيره - مردود كما بينه الأذرعي اهـ. وأما جواب الرابع فهو أنه إذا رد بعض الموقوف عليهم بطل حقهم منه خاصةً دون سائرهم كما صرحوا به، وفي حاشية الشبراملسي على النهاية: (فلو وقف على جمع فقبل بعضهم دون البعض بطل فيما يخص من لم يقبل عملاً بتفريق الصفقة) أقول: وفي القول بتفريق الصفقة مقال سيأتي على أن الأصل فيه أن يكون في البيع أو ما هو بمعناه كالصلح، والوقف ليس كذلك؛ إذ لا معارضة فيه , ويترتب على تفريق الصفقة هنا أن يرث مَنْ قَبِلَ الوقفَ من الباقي فيكون حظه من تركة المورث أكثر , فإذا قيل ببطلان الوقف كله برد من رده فهو أقرب للمذهب والعدل معًا. وأما جواب الخامس فهو أن ما بطل وقفه يكون ملكًا للواقف بل هو لم يخرج عن ملكه كالوصية التي لم تقبل. وأما الجواب عن السادس فهو أن من أقام الدعوى لإبطال الوقف لاعتقاده أنه باطل في نفسه لاشتماله على الشرط الفاسد فلا إثم عليه؛ لأنه توسل بذلك إلى إعطاء كل ذي حق حقه، وكذلك إذا اعتقد بطلانه برد البعض ترجيحًا للقول الثاني في تفريق الصفقة، فالأصل في المذهب أن صحة الوقف تتوقف على الإيجاب والقبول على الفور، وأن رد جميع الموقوف عليهم يبطله؛ لأنه يكون منقطع الأول ورد بعضهم يأتى فيه تفريق الصفقة عندهم، والذي جروا عليه القول بجوازه وقال في المنهاج: إنه الأظهر، أي: من قولي الشافعي ولكن قال الرملي في شرحه: (ومقابل الأظهر البطلان في الجميع تغليبًا للحرام على الحلال) قال الربيع: وإليه رجع الشافعي آخرًا، ثم رد الرملي قول الربيع باحتمال كون الرجوع في الذكر لا في الفتوى، وهو الذي جروا عليه، وهو احتمال بعيد، فمن لم يطمئن له واعتقد أن الحق في تفريق الصفقة البطلان في الجميع، فلا حرج عليه إذا سعى في إبطال الباطل. وأما من اعتقد أن هذا الوقف صحيح في حق بعض الموقوف عليهم دون بعض، وأن هذه الأعيان التي وقفت بعضها ملك للورثة، وبعضها وقف على من قَبِل- ففي الإقدام على دعوى تبطل الوقف منها وتجعلها كلها ملكًا نظر, وترجيح أحد الأمرين فيه دقيق، فقد يقال: إن لصاحب الملك أن يطلب ملكه، وإن أدى ذلك إلى إبطال حق غيره من الوقف، وإبطال ما يؤول إليه من جهة البر الدائمة؛ لأن هذا غير مقصود له، وإنما يجيء بالتبع وهو الأقيس , وقد يقال: ليس له ترجيح نفسه وإبطال جهة البر الدائمة لأجل منفعته العاجلة وهو الأورع , والمسألة دينية يُستفتى فيها القلب، والله أعلم.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (الوقاية من السل الرئوي وطرق علاجه) السل الرئوي أقتل الأدواء للبشر حتى قال أهل الإحصاء: إنه يغتال في كل عام نحو ستة آلاف ألف (6ملايين) منهم، وهو بإجماع الأطباء ينتقل بالعدوى، ولا أعون لِعَدْوَاه وفتكه بالمصابين به من الجهل بحقيقته وطرق انتقاله وكيفية توقّيه ومعالجته، وقد ألف الدكتور خليل بك سعادة كتابًا حافلاً فيما يجب أن يعرفه الجمهور من ذلك سماه (الوقاية من السل) .. إلخ بدأه بمقدمة في خطر هذا الداء، وتاريخ طبه، ثم جاء بفصول في حدّه وأسباب حدوثه وطرق العدوى والوقاية وأعراض المصاب به وتشخيصه ودرجاته وأنواعه، وكيفيات معالجته بالهواء والرياضة والعقاقير والأدوية، وختمه بالكلام في زواج المسلولين , وعندي أنه ينبغي لكل قارئ وقارئة الاطلاع على هذا الكتاب، وهو سهل العبارة فصيحها يستفيد منه كل قارئ وقد طبع طبعًا متقنًا بمطبعة المعارف، ويطلب من مكتبتها بالفجالة ومن مكتبة المنار، وثمنه 10 قروش، وأجرة البريد 15 مِليمًا. *** (أسرار الثورة الروسية) ذكَّرَنا كتابُ السُّلِّ بهذه القصة لمؤلفه، وهي قصة تاريخية عصرية تمثل للقارئ كيف يقوم الظلم الفاحش مع الدهاء والنظام، وكيف يقاوم من الجمعيات السرية بالدهاء والنظام، فإن في القصة من غرائب القسوة في الظلم من الحكومة الروسية، وغرائب الكيد لها من جمعية النهلست السرية ما يرغب كل قارئ في الاطلاع عليه، ولكن لا يعتبر به إلا الأحياء الفضلاء، ولا حياة لأمة مظلومة ليس فيها جمعيات سرية لمقاومة الظلم والتنكيل بزعمائه المستبدين، فجمعية النهلست هي التي دبرت أمر الثورة الروسية التي ستكون منشأ سعادة الأمة، وارتقاء الدولة كما تراه مفصلاً في هذه القصة , وعبارة القصة فصيحة، وثمنها خمسة قروش صحيحة. *** (وقاية الأسنان) لو علم الناس أن الأسنان يمكن أن تبقى سليمة إلى سن الشيخوخة إذا وقيت من أسباب التلف والفساد- لبذلوا جهدهم في وقايتها؛ لأنها ركن من أركان الصحة وركن من أركان اللذة، وركن من أركان الجمال، وهذه الثلاثة أهم ما يهم الناس في هذه الحياة، ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه يمكن وقايتها فهل للقارئين منهم أن يقرأوا كتاب (وقاية الأسنان) للدكتور علي بك البقلي ويعملوا بنصيحته. *** (نيل المراد في تشطير الهمزية والبردة وبانت سعاد) هذه القصائد أشهر ما مدح به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد شطرها الشيخ عبد القادر سعيد الرافعي الطرابلسي فصار شريكًا لناظميها في المدح وبيان السيرة النبوية، والشمائل القدسية، وهو جدير بذلك في مكانه من بيت العلم والأدب، وقد طبعها مع تفسير ما قد يخفى من كلماتها، وهى تطلب من مكتبة نجله الشيخ محمد سعيد بالسكة الجديدة. *** (المجلة العثمانية) مجلة أدبية علمية يصدرها في القاهرة فتحي أفندي عزمي كل شهر مرتين، والعدد منها مؤلف من 16 صفحة، وقيمة الاشتراك فيها 50 قرشًا في القطر المصرى، و65 في سائر الأقطار , وقد صدر منها بضعة أعداد. *** (الأقلام) مجلة شهرية عمومية تبحث في كل فن ومطلب، أنشأها في القاهرة جورج أفندي طنوس أحد المحررين لجريدة الوطن، ومحمود أفندي أبو حسين , وكتب عليها: (ويشترك في تحريرها خيرة الشعراء والمنشئين) ، والعدد مؤلف من 48 صفحة، وقيمة الاشتراك فيها40 قرشًا في القطر المصري و15 فرنكًا في غيره تدفع عند الاشتراك , وقد ظهر الجزء الأول حافلًا بالمقالات الأدبية والقصائد العصرية.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (نادي المدارس العليا - مثال لطفولية الأمة) نبهنا القراء في بعض السنين السالفة إلى أمثلة من طفولية الأمة في حياتها الاجتماعية التي ولدت فيها الأمة ولادة جديدة، بعد أن أماتها الاستبداد قرونًا عديدةً، وهي لا تزال في طور الطفولية، بما تقلد فيه الشوابّ والكهول من الأمم الحية، ومما تلحزت له القاهرة من لذائذ التقليد إنشاء الأندية، أنشأ قوم ناديًا فما قام إلا وسقط، ثم قويت الرغبة فكتب في ذلك الكاتبون، وأظهر الرغبة فيه الراغبون، حتى كان منذ سنين أن جمعت أموال ووضعت قوانين، ولكن أعيد المال إلى أربابه، قبل أن يخرج الأمر من إهابه، وقد أعيدت الكرَّة في العام الماضي فكان الاستعداد أتم، والداعون أنهض بالعمل وأعلم، وما الداعون إلا بعض المتخرجين في المدارس العالية بمصر وأوربا وما المدعوون إلا أمثالهم بالفعل أو القوة. تمخضت الدعوة فولدت (نادي المدارس العليا) وخصوا العليا بالطب والحقوق والهندسة وقسم المعلمين العالي، أي الإفرنجي، وأخرجوا منها قسم المعلمين العربي (دار العلوم) والأزهر , وقد دارت المناظرة في هذا الإخراج بين الباحثين، وَفُهِمَ مما سُمِعَ وكُتِبَ في الجرائد أن المؤسسين يرون المتخرجين في هاتين المدرستين دون المتخرجين في تلك المدارس الأربع وأدنى منهم! ! قرأنا وسمعنا كثيرًا من المقالات التي كتبت، والمباحثات التي دارت في الدعوة إلى تأسيس النادي وما يتصل بالدعوة ككونه خاصًّا بالمسلمين؛ لأن لكل الطوائف الأخرى أندية في مصر خاصةً بهم حتى القبط ونصارى سوريا أو عامًّا لكل أهل الملل فرارًا من التعصب، وكحظر الخوض في المباحث الدينية والمسائل السياسية على أهل النادي ما كانوا في النادي، قرأنا وسمعنا ولكننا لم نكتب في ذلك كلمةً واحدةً؛ لأننا رأينا التيار مندفعًا إلى قرارة لا بد أن يصل إليها وكذلك كان. كان مما سرنا من مواد قانون النادي حظر الخمر والميسر على أهله فيه وإن قرن ذلك بحظر المباحثات الدينية والسياسية , ولكننا لم نلبث أن رأينا أن مجلس إدارة النادي قد نسخ حظر المنكر وهو الخمر، فأباحه وأحكم حظر المعروف وهو المباحث الدينية والسياسية وأصر على تحريمه فساءنا ذلك وأحزننا إذ صار النادي شرًّا من بيوت اللهو المعروفة بالقهاوي والبير (البِيَر كعلل والبارات مواضع شرب البيرا وغيرها من الخمور) ؛ لأن هذه البيوت لا يحظر فيها المعروف من المباحث الدينية والسياسية التي هي أرقى المباحث وأعلاها , ومما زاد في أسفنا وغمنا تعليلهم إباحة الخمر بكون أكثر المشتركين لا يصبرون عنها وما نتوقعه من إفساد التلاميذ المشتركين في النادي بسوء القدوة فإنهم إذا رأوا من يعدونهم أرقى الأمة علمًا وأدبًا يأتون في ناديهم المنكر فإنهم يقتدون بهم في ذلك طبعًا فما كان أغنى التلاميذ عن هذا النادي لو تبصر أولياؤهم. بَيْنَا نحن في ألم خيبة الأمل في النادي وإذا بمجلة المجلات العربية قد وافتنا باثنتين وعشرين صفحة عن النادي فيها من الإغراق في الإطراء ما كان حاملاً لنا على كتابة هذا الفصل، وإنه لقول فصل وما هو بالهزل. قالت مجلة المجلات في فاتحة كلامها: (إذا ذكرنا الأعوام الأخيرة فإننا نذكرها بَهِجِينَ جَذْلاَنيِنَ؛ لأننا شاهدنا فيها قبسًا ما عتم أن بات أخيرًا نار هدى ونعني بذلك هذه النهضة العلمية الأدبية التي بدت مطالعها منذ أعوام، وظهرت اليوم في كبد سماء المجد بدرًا كاملاً يرسل ضياءه اللامع إلى جميع الأنحاء فتسر به النواظر، وتقر له الخواطر، وإننا لا نريد أن نشرح للقارئين تفاصيل هذه النهضة السامية فليس هنا مقامها الآن، ولكننا بدأنا بها تمهيدًا لما سنورده من الكلام عن الناشئة العصرية التي يتألف منها شبان اليوم وزهرة مصر في هذا العصر. (لقد قام شبان اليوم بأعمال جمّة دلت على ذكائهم واقتدارهم، أعمال يؤخذ من مجموعها أن في سويداء وادي النيل رجالاً أَكْفَاء لكل عمل مجيد، وأن سماء مصر يستظل بها كثيرون من الذين نبغوا في العلم والفضل والذكاء) . ثم ذكر مسألة إنشاء الأندية، وقال: إنها (إحدى كبريات المسائل) وذكر ناديًا أنشئ، وكان عمره قصيرًا، وما كان من حركة الفكر في ذلك بعد وقال: (وقد أيدت الناشئة العصرية هذا الأمر الطبيعي ونفت من الأذهان ذلك الاعتقاد الذي يعده الكثيرون حجةً لا جدال فيها، وهي أن المصريين شعب مِكسال لا حياة أدبية له، وأنهم قوم صدق فيهم قول القائلين: (قد اتفقوا على أن لا يتفقوا واتحدوا على أن لا يتحدوا) ، ولكننا نحمد الله لأن شبابنا قد ضربوا ذلك الاعتقاد ضربةً جعلته هباءً منثورًا وأثرًا بعد عين. ولقد يتساءل الناس عن العمل الذي قام به شبابنا حتى صح أن يقال فيهم ما قلناه اليوم؟ سؤال لا نرى جوابًا عليه أبلغ من القول: ليقصد كل امرئ نادي المدارس العليا ليشاهد بعينه اتحاد الكلمة وقوة الاتحاد والزهرة اليانعة التي تملأ القلوب غبطةً وسرورًا , ذلك النادي الكائن في أعظم أحياء العاصمة بجوار فندق (سافوا) والذي يحق اليوم لكل واحد من المصريين أن يفاخر به ويترنم بذكره، ذلك النادي الذي خصصنا للكتابة عنه غالب صفحات هذا العدد، ولا بدع في ذلك لأنه غرس أيدي شبان في مقتبل العمر في حين أنه كان المنظور أن لا يقوم به إلا الكبراء وسراة الأغنياء، ولكن ناشئتنا برهنت على أنها قوة عظمى تحطم في سبيل إرادتها كل عقبة كؤود، وتدوس بقدمها الشوك الذي يعترض وصولها إلى زاهي الورود) . ثم أفاض في الكلام عن كيفية تأسيس النادي وفوائده وذكر ما كان من مساعدة الحكومة وكبار المحتلين له ومن ارتياح الأمير له؛ إذ جعل ولي عهده مشتركًا فيه ونشر قانونه برمته وقال في خاتمة الفصل: (ومسك الختام لهذه الجملة المطولة اليوم هو الاستبشار بظهور هذا النادي إلى عالم الوجود؛ لأن ظهوره جاء حجةً دامغةً، ودليلاً قاطعًا على أن المصريين ليسوا بذلك الشعب المِكسال كما يصفهم البعض من الناس، بل إننا أمة حية لا ينقصنا للقيام بكبير الأعمال إلا الإدارة، وطرح الضعف جانبًا فمتى اعتمدنا على عزيمتنا تمَكَّنَّا من الوصول إلى كل غاية نطلبها، بَلَّغَنَا اللهُ ما نشتهيه من طيب الآمال بمنّه وكرمه) اهـ. الله أكبر , ما هذا النادي الذي كَبَّرَتْهُ مجلة المجلات هذا التكبير، وفخمته هذا التفخيم، وجعلته البرهان القاطع، والدليل الساطع على قوة كبرى، وهمة عليا، قد ذللت بهما نابتتنا كل صعب، واستهانت بكل خطب، وانتشلت الأمة من أسفل السافلين، فعرجت بها إلى أعلى عليين، حتى سَامَتْ الأممَ العزيزةَ أو سَمَتْهَا، فإن لم تكن سمتها فقد ساوتها، أكان هذا النادي فتحًا مبينًا، أم كان استقلالاً للبلاد عزيزًا، أم رأى صاحب المجلة أن النادي أصبح مهجورًا، وخشي أن يأتي عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا؟ ! فأراد أن يجذب إليه الهاجرين له بإعلاء ذكره، وتعظيم قدرهم بقدره، إذ لا يجهل مثله أنه نادٍ قد خلت من قبله الأندية فما ملأ منشئوها مواضعهم فخرًا، ولا ادعوا أنهم تجاوزوا السماكين عزًّا وقدرًا، ولعل هذا هو الأقرب فإننا لم نكد نتم قراءة ما كتبه في مجلته حتى وافانا المؤيد الصادر في 26 ربيع الآخر وفيه ما يأتي مؤيد لما سمعنا من بعض المشتركين: (إلى صفوة الشبيبة المصرية) جاءنا هذا الكتاب يوجه كاتبه الفاضل فيه الخطاب إلى حضرات أعضاء نادي المدارس العليا وهو بعد الديباجة: قامت قيامة الصحف والكُتاب وغيرهم قبل إنشاء نادي المدارس العليا، وقد أنشئ بعد اكتتاب المكتتبين واشتراك المشتركين لكن يظهر أن القوم لم يألفوا الاجتماع بعد , فهم مشتتون على القهاوي والبارات، ولا يعرج على النادي من المتخرجين ما يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة، ومن الطلبة ما يزيد على أصابع اليدين، ويحتج بعضهم ببُعد المكان عن وسط البلدة، والبعض بحرارته , والبعض الآخر بوجود أصحاب معهم لا يسمح قانونه بوجودهم فيه. وقد قال بعضهم: إن الاشتراك السنوي كبير , وبما أن فوائد الاجتماع عديدة حيث أستلفت أنظار حضرات القائمين بإدارة النادي لتلافي ذلك على قدر الإمكان خصوصًا فيما يتعلق ببعد الشُّقَّة، وقيمة الاشتراك، وأرجو من سعادتكم نشر هذا بالجريدة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (دكتور. ر) ... ... ... ... ... ... مصر في 16 يونيو سنة 1906 (المنار) علم مما تقدم أنا ننتقد من هذا النادي عدة أمور: (1) وجود التلاميذ فيه، ولا يسع هذا الفصل بيان ذلك بدلائله. (2) أنهم لم يعتبروا مدرسة المعلمين العربية (دار العلوم) كمدرسة المعلمين الإفرنجية، ولم يدْعوا المتخرجين فيها إلى الاشتراك في النادي، فإن هذا غمص للعلوم العربية، وما من متخرج في مدرسة من المدارس العليا إلا هو تلميذ للأساتذة المتخرجين في دار العلوم، وإن قومًا يغمصون لغتهم وأساتذتها لا يرجى للأمة خير في اجتماعهم، بل أقول: إنه كان ينبغي لهم دعوة علماء الأزهر إلى هذا النادي؛ لأن أكبر فوائد الاجتماع في الأندية تقريب طبقات الأمة بعضها من بعض، لا سيما الطبقات العالية المحترمة وعلماء الأزهر في مقدمتهم، ولا محل هنا لشرح ذلك، ولا شك أن علماء الأزهر وأساتذة دار العلوم أبعد في مجموعهم عن المنكر، وأقرب من الاستقامة والأدب من مجموع المتخرجين في المدارس العليا؛ فوجودهم في النادي مزيد كمال في آدابه. (3) منع المباحث الدينية والسياسية من النادي، وكان ينبغي منع البحث في الطعن بالأديان وكل ما يلقي العداوة بين أهلها والبحث في مسألة الاحتلال أو مقاومة المحتلين أو الحكومة وإباحة البحث في فلسفة الدين وآدابه وفي فلسفة السياسة ومسائلها العامة والخاصة بغير مقاومة الحكومة المحلية. (4) إباحة الخمر بعد منعها، وهذا أكبر عار على النادي من وجهين ظاهرين. (5) سرعة ملل المشتركين من الاجتماع فيه وتفرقهم في القهاوي والبارات المؤذن بقلة الثبات , فهذه الأمور كلها من دلائل طفوليتنا في الحياة الاجتماعية، ولا ينافي هذا أن في النادي أفرادًا تُحْتَرَمُ مزاياهم الفاضلة ويُرْجَى ثباتهم، ومن هؤلاء نرجو تلافي كل خلل، والاستعانة على ذلك بنقد الناقدين، وإطراء المادحين، وإننا لا نريد بهذا إلا النصح والإصلاح، والله الموفق والمعين. * * * (خطبة الأمير على العلماء في الإسكندرية) ظفرنا بنص هذه الخطبة التي نوهت بها الجرائد في وقتها، وقد ضاق هذا الجزء عن نشرها مع فوائد أخرى منها مقالة من أميل القرن التاسع عشر، وقصيدة أبي طالب مشروحة، ونبذة في الثورة الروسية، وتقاريظ متعددة , وموعدنا الجزء السادس.

البرهان القويم في الحاجة إلى عد آي القرآن الكريم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البرهان القويم في الحاجة إلى عد آي القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين وجميع المرسلين (وبعد) : فإن لنا معشر المسلمين كتابًا كريمًا أرغمت لفصاحته أنوف الفصحاء وخرت لمعانيه سُجدًا أرباب المعاني، وذلك الكتاب هو القرآن الكريم الذي حاولت أساطين العلم ومصابيح الهدى علماء الأمة الإسلامية في كل عصر أن تلبَس بخدمته تاج الشرف فأمضوا في ذلك أعوامًا في آجالهم وأنضوا في تحرير أعمالهم مرهفات أقلامهم حتى أشرفت على التمام، ثم اختفت تلك الأشباح وعليها ذلك التاج الفاخر وبقيت تلك الكنوز الثمينة تذكِّرنا بلسان حالها قولهم: تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار من أهم ما قام به ذلك السلف الصالح خدمة القرآن الكريم بتفسيره وجمع أوجه قراءاته وعد آياته وحصرها وعمل المعجمات المتنوعة للاهتداء به. ثم تلاهم في الوجود ذلك الخَلَف فبرهن بجملته على امتزاجه بنوع من الوهن والضعف عن انتهاج مسالك الآباء وتغذية النفوس بما تغذت به أرواحهم فقلَّت قيمة ما ورثوه في أنظارهم ومقتوا المذاكرة في شأنه مقتًا إلا بقية لا تزيد على عدّ الأصابع في هذا المجمع الحافل أردت أن أمد يدي مع أيديهم وأحشر نفسي في زمرتهم بعمل خدمة للقرآن الكريم وهي (دليل للاهتداء به) فأعددت للعمل عدتي وشمرت عن ساعد الجد فسرت بالعمل شوطًا بعيدًا قاربت معه الوصول إلى ما ارتضيته من الغاية، ثم وقفت مفكرًا في طريق تعميم النفع بتلك الخدمة فوجدته عَدَّ آيات السور بتلك المصاحف والتفاسير التي تتبادلها الأيدي عدًّا خاليًا من المباينة والخلاف، ولأجل تنبيه فكرة إخواني من المسلمين وأهل العلم لتلك النقطة أخذت أشتغل لها بنفسي مع تحقيق وتدقيق حتى وصلت بها إلى ما شاء الله أن أصل من الثقة بالنتيجة، وعلى أثر الفراغ من ذلك دعتني عوامل الإخلاص إلى وضع هذه الأسطر اليسيرة أبدي بها لأصحاب الرأي من رجال الدين وأولياء الحل والعقد وأرباب الأقلام نموذجًا من عملي في تحقيق عد الآيات، وبيان ما هو الأولى بالاختيار لتعميم العد بموجبه مؤملاً من حضراتهم تقدير الفكرة حق قدرها، والمناقشة في الموضوع ونقده وتنقيحه بما تمس الحاجة إليه، ثم المساعدة في تنفيذ المقترح بالإشارة إلى وجوب عد آيات المصاحف والتفاسير بالعد الذي يقر عليه الرأي ويشار إليه بالاختيار طلبًا لتوحيده ومنعًا من تعدد العدود؛ رغبة في إفراد طريقة الاستهداء بآيات كتاب الله الكريم في مشارق الأرض ومغاربها، والله الهادي إلى سواء السبيل. 1- القرآن الكريم 114 سورة: الأولى منها سورة الفاتحة والثانية سورة البقرة والأخيرة سورة الناس، والسورة عبارة عن عدد محدود من الآيات والآية عبارة عن مقدار معين من الكلمات الشريفة كان النبي عليه الصلاة والسلام يوقف الحفظة والصحابة عليه عند التبليغ، ويسمي أول كلمة في الآية رأس الآية وآخر كلمة فيها بالفاصلة. 2- كانت الحفظة من الصحابة تجيد مع حفظ القرآن معرفة عدد آياته، وعدد آيات كل سورة من سوره، وعدد كل آية من سورتها، وبذلك كان إذا قرأ القارئ منهم بعضًا من سورة قدّر ما قرأه بما فيه من الآيات. وكان إذا أراد أحد أن يستفيد منهم ما نزل من القرآن في قوم أو حادثة عينوا له السورة التي ذكرت الحادثة ومقدار الآيات الخاصة بذلك، وأشاروا إلى أول تلك الآيات بعددها الخاص بها وإلى الأخيرة منها كذلك ومما يشهد لهم بهذا أولاً ما جاء في الكتاب السابع والستين من صحيح البخاري (كتاب المغازي) بالباب السادس والسبعين من أبوابه (باب قدوم الأشعريين) وهو حديث عن علقمة قال فيه: (كنا جلوسًا مع ابن مسعود فجاء خباب فقال يا أبا عبد الرحمن أيستطيع هؤلاء الشبان أن يقرؤوا كما تقرأ؟ قال: أما إنك لو شئت أمرت بعضهم فقرأ عليك قال أجل، قال اقرأ يا علقمة. قال زيد بن حدير أخو زياد بن حدير أتأمر علقمة وليس بأقرئنا أما إنك إن شئت أخبرتك بما قال النبي في قومك وقومه فقرأت خمسين آية من سورة مريم، فقال عبد الله كيف ترى قال قد أحسن..) إلخ والشاهد فيه تقدير علقمة ما قرأه من السورة بما فيه من الآيات. وثانيًا ما جاء في الكتاب الثامن والسبعين من صحيح البخاري أيضًا (كتاب التفسير) بالباب السابع والخمسين من أبوابه باب {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ..} (آل عمران: 193) .. إلخ) وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن مبيت النبي صلى الله عليه وسلم عند خالته ميمونة، وقد كرره الإمام مؤلف الصحيح في كثير من المواضع، وجاء في هذا الموضع زيادة قوله: (ثم قرأ العشر آيات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن.. إلخ) وفيه الإشارة إلى عدد الآيات الخاصة بحالة معينة مع تعيين السورة التي اشتملت عليها وعدد أول آية فيها وكذلك الأخيرة. ومن قَبِيلِهِ ما ينقله المفسرون في أسباب نزول أوائل آل عمران عن الربيع بن أنس من قوله: (نزلت أوائل السورة إلى نيف وثمانين آية في وفد نجران.. إلخ) وكذلك ما ذكره صاحب لُباب النقول في أسباب النزول عن المسور بن مخرمة من قوله (قلت لعبد الرحمن بن عوف أخبرني عن قصتكم يوم أُحُد فقال: اقرأ بعد العشرين ومائة من سورة آل عمران تجد قصتنا يوم أحد: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ..} (آل عمران: 121) .. إلخ) . 3- جاء بعد ذلك الزمن الذي رأيت فيه من عناية الصحابة بالقرآن ما أسمعناك به زمن بدت فيه ظواهر قضت على الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بنسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار الإسلامية المشهورة اتقاء الخلاف في ذلك الكتاب الفريد، وعلى أثر ذلك قام حفاظ كل مصر من الصحابة والتابعين تبث معارفها عن آياته بتقدير آيات كل سورة من سوره وتعيين حدود كل آية صيانة للتوقيف الذي لقنه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولما جاء عصر تدوين العلوم جمع ما قيل عن ذلك في كل مصر وإذا به ستة أقوال دونت جملةً وتفصيلاً في مؤلفات جعل اسم موضوعها علم فواصل الآي، وبواسطة هذا العلم تتبين أن اثنين من تلك الأقوال الستة نُقِلا عن أهل المدينة عن الإمامين الجليلين أبي جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة بن نصاح ويعرف أولهما بالمدني الأول، وجملة الآيات فيه 6210 مع خلاف فيه بين الإمامين في ستة مواضع، ويعرف الثاني بالمدني الأخير، وجملة الآيات فيه 6214 بلا خلاف فيه بينهما رحمهما الله ورضي عنهما. والقول الثالث من الستة منقول عن أهل مكة ويعرف بالمكي، وفيه روايتان إحداهما عن أُبي بن كعب وجملة الآيات فيها 6210 والثانية عن غير أُبي بلا تعيين، وجملة الآيات فيها 6219 والقول الرابع منقول عن أهل الشام عن أبي الدرداء وقيل عن عثمان بن عفان ويعرف بالشامي، وجملة الآيات فيه 6226، وفى رواية 6225 والأولى أرجح والخامس منقول عن أهل الكوفة عن علي كرم الله وجهه ويعرف بالكوفي، وجملة الآيات فيه 6236 والسادس منقول عن أهل البصرة عن عطاء بن يسار وعاصم الجحدري ويعرف بالبصري، وجملة الآيات فيه 6204 وإليك بيانها ملخصًا: اسم القول ... عدد ... ... ... ملحوظات المدني الأول 6210 وفيه خلاف بين قائليه في ستة مواضع المدني الأخير 6214 ولا خلاف فيه المكي ... 6210 قول أُبَيّ في ذلك 6219 قول غير أبيّ ممن عد ... ... ... ... ... ... ... ... الآيات بمكة ولم يعين من هو الشامي ... 6226 الرواية الراجحة الكوفي ... 6236 لا خلاف فيها البصري ... 6204 لا خلاف فيها 4- مضت أجيال وأعوام، وتلك المؤلفات في زوايا الإهمال كما أهملت أساليب السلف من الصحابة والتابعين في استهدائهم من الكتاب الكريم بالإشارة إلى آياته بعددها كما بَيَّنا منه شطرًا فيما تقدم برقم (2) وأخيرًا قامت من احتياجات المفكرين داعية الرجوع إلى الاستهداء من الكتاب العزيز بما يشبه أساليب السلف في ذلك فعدّت آيات السور أواخر القرن الثالث عشر من الهجرة الموافق للقرن التاسع عشر من الميلاد في مصحفين أحدهما طبع في الأستانة سنة 1298 هجرية، ويعرف بالمصحف العثماني والثاني عده بأوربا مستشرق ألماني اسمه (فلوجل) وطبع بألمانيا، وعمل عليه فلوجل نفسه مُؤَلَّفًا سماه (نجوم الفرقان في أطراف القرآن) جمع فيه ألفاظ الكتاب العزيز كلمة كلمة وأشار إلى جميع مواضع كل كلمة في جميع السور بالأرقام التي وضعها على رؤوس الآي في المصحف المذكور، وبذلك استفاد من قرآننا الكريم مهرة الغربيين في البحث والتنقيب عن المعارف العربية ما لم يحصل عليه أكثر المتعلمين من أبناء اللغة العربية وأتباع ذلك الكتاب العزيز! وبالتأمل في عد المُصْحَفين المذكورين وجدتهما يتفقان في عد 34 سورة ويختلفان في عد الباقي وبإحصاء الآيات في كل منهما تبينت أن جملة آيات المصحف العثماني 6344 وجملة آيات المصحف الألماني 6238 ولم يطابق أحد العددين المذكورين واحدًا من الأعداد المنقولة عن السلف ولأجل استكشاف ما به نتج هذا الخلاف أخذت أتحقق أولاً من صحة كل قول مما نقل عن السلف في جملة آيات القرآن، وجملة آيات كل سورة من سوره وبعد الفراغ من ذلك راجعت ما وثقته به على كل من المصحفين فوجدت أغلاطًا لكل منهما فأحصيتها مشيرًا بالصواب أمام كل غلطة مؤملاً نجاحي في تصحيحها وفى توحيد عدد آيات المصاحف والتفاسير لتقريب وتوحيد وسيلة الاستهداء من ذلك الكتاب، والله المعين، وإليك بيان النتائج التي وصلت إليها: 5- جاء اختلاف عد السلف لجملة آيات القرآن من نقطة واحدة وهي أن بعضهم اعتمد في عده من الفواصل ما لم يعتمده الآخر فواصل في عده، وعلى هذا يكون من بين فواصل الكتاب الكريم ما لم يختلف فيه أحد من السلف ومنها ما وقع فيها اختلافهم، وتسمى الفواصل التي من الصنف الأول بالفواصل المتفق عليها والتي من الصنف الثاني بالفواصل الخلافية، وهذه الفواصل الخلافية نوعان: نوع لم يرد عده إلا في قول واحد من الستة والثاني جاء عده في قولين فأكثر، وأسمي فواصل النوع الأول بالفواصل الإفرادية وفواصل النوع الثاني بالفواصل المشتركة. 6- في القرآن الكريم من الفواصل المتفق عليها 6101 ومن الفواصل الخلافية 248 منها 81 فاصلة إفرادية وإليك جدولاً في تقسيم السور إلى طوائف بحسب ما فيها من الفواصل الخلافية، وجملة ما في كل طائفة من الفواصل المتفق عليها والمختلف فيها: جملة المتفق جملة المختلف عدد السور نمرة ... جنس الطائفة من السور عليه ... ... فيه ... ... مسلسلة للطوائف عدد ... ... عدد ... ... عدد 1176 ... . . ... 39 ... 1 سور لا خلاف في فواصلها بين العادّين 818 ... ... 22 ... 22 ... 2 " الخلاف في فواصل كل منها في موضع ... ... ... ... ... ... واحد 1137 ... 40 ... 20 ... 3 " " " " " " " " " " " " " موضعين 849 ... 36 ... 12 4 ... " " " " " " " " " " " " " ثلاثة مواضع 574 ... 28 ... 7 5 ... " " " " " " " " " " " " " أربعة مواضع 394 ... 20 ... 4 6 ... " " " " " " " " " " " " "خمسة مواضع 475 ... ... 35 ... 5 7 ... " " " " " " " " " " " " " سبعة مواضع 080 ... 09 ... 1 8 ... " " " " " " " " " " " " " تسعة مواضع 101 ... ... 11 ... 1 9 ... " " " " " " " " " " " " " أحد عشر موضعًا 281 ... ... 12 ... 1 10 ... " " " " " " " " " " " " " اثني عشر " 90 ... ... 14 ... 1 11 ... " " " " " " " " " " " " " أربعة عشر " 126 ... ... 21 ... 1 12 ... " " " " " " " " " " " " " أحد وعشرين " --- ... --- ... --- 6101 ... 248 114 7- ولأجل معرفة جملة الآيات في كل قول من أقوال السلف ينبغي فرز الفواصل الخلافية التي جاء عدها في كل قول من تلك الأقوال على حدتها وإضافة المفروز منها إلى الفواصل المتفق عليها ف

المدرسة المحمدية بقزان روسيا

الكاتب: أحمد جان بن محمد رحيم المصطفوي

_ المدرسة المحمدية بقزان (روسيا) بسم الله الرحمن الرحيم روسيا 14 ربيع الآخر سنة 1324هـ من أحمد جان بن محمد رحيم المصطفوي المدرس الثاني بالمدرسة المحمدية بقزان إلى صاحب مجلة المنار حضرة الأستاذ السيد رشيد رضا أرشده الله إلى ما يرضى سيدي.. أبدي إليك العذر لعدم مكاتبتي بعد مفارقتكم مع مرور سبع سنين من تشرفي بمجالسكم لعذر يطول بيانه والعذر عند كرام الناس مقبول. أما بعد: فيا سيدي إنا قرأنا في العدد الثالث من المنار رسالة مكتوبة من قزان مشحونة بالكذب والافتراء على المدرسة المحمدية التي خرج منها من طلبتها من غير إخراج انتصارًا على من أخرج منها من سيئي الخلق، وهم أربعة، وترجمة الكتاب المفتوح كذلك. فاضطررنا إلى أن نرسل إليكم بروجرام المدرسة المحمدية المتبع إليه في التدريس بها لتعرفوا بالمقايسة إليه كذبهم وافتراءهم. المدرسة المحمدية أقسام: الابتدائية والرشدية والإعدادية والعالية. ومدة التحصيل في الابتدائية ثلاث سنوات، وفى الرشدية أربع، وفى الإعدادية أربع أيضًا، وفى العالية ثلاث سنوات أيضًا. فالملتزم في القسم الابتدائي من النصوص: القراءة والكتابة على لسان الأمهات مطابقًا على قواعد اللسان - وصحيح الإملاء - وحسن الخط - وقراءة القرآن الشريف مع التطبيق على قواعد التجويد - والضروريات الدينية من الاعتقاديات والعبادات والمعاملات والأخلاق - وتوسيع الفكر بالمعلومات المختلفة من أحوال الطبيعيات والأمثال الحكمية، ومن الحساب قواعد الجمع والطرح والضرب والتقسيم، وحفظ الأذكار الصلاتية وبعض السور القرآنية التي لا بد منها للصلاة وشيء قليل من التاريخ. ويلتزم في القسم الرشدي: القراءة العربية مع التطبيق على قواعد الصرف والنحو والمطالعة الصحيحة مهما أمكن وتقرير ما فهم باللغة العربية وصحيح الإملاء والإنشاء، وقراءة القرآن في الأسبوع مرة أو مرتين، وبقية قواعد لسان الأمهات من صرفها ونحوها، وتمرين القراءة التركية العثمانية، ومن الحساب تمرين القواعد (الأربع) بعملياتها، وشيء من الجغرافيا العمومية والوطنية، وشيء من تاريخ الإسلام والملة، واللغة الفارسية بقراءتها وقواعدها وتقريرها وتوسيع الأفكار بالمعلومات المختلفة أيضًا. وتحسين الخط. وتخطيط الأشكال الهندسية لتعليم الرسم. وكتاب من (الفقه) الحنفية، وكتاب من الحديث. ويلتزم في القسم الإعدادي المنطق (الرسالة الشمسية) ، والمعاني والبيان والبديع، والعَروض، وأصول الفقه، وسيرة النبي (نور اليقين) والمسائل الاعتقادية حسبما اكتفى به السلف (عقائد الطحاوي) ، والأخلاق النظري والعملي (الطريقة المحمدية) ، والأدبيات العربية والجغرافيا. والجغرافيا العمومية، والتاريخ العمومي، والتفسير (للجلالين) والحديث (للإمام البخاري) ، والهداية (في الفقه الحنفي) ، ومن الطبيعيات الكيمياء. ومسائل الحساب كالكسور الأربعة المتناسبة والفائض وغيرها ويلتزم في القسم العالي: التفسير - والحديث - وفقه أبي حنيفة - والأدبيات العربية والعقائد المدونة مطابقًا لحالة الأمة الحاضرة (كذا) والتاريخ مع النقيد، والجغرافيا مع تاريخها، والطبيعيات، والبيداجوجيا (لحضرة الشيخ حسن توفيق المرحوم) . هذا، وليحكم أهل الإنصاف بما يحصل لهم في تطبيق أقوال السفهاء لهذا البروجرام من الصحة والفساد والصدق والكذب والحق والاختلاق. أعني هل يصح بعد هذا قولهم: إن مدارسنا لا يدرس فيها إلا ما بقي من خيالات اليونان والتفتازاني. وقولهم: ولا يدرس فيها غير ما ذكر لا من التفسير ولا من الحديث وغيره. وقولهم فأخرج من مدرسة عالمجان اثنان وثمانون طالبًا من ذوي النهى وأبقوا (أو بقي) مَن لا يهتم بشيء من الإصلاح (والمترعرعين الذين خرجوا من المدرسة جلهم من الصنف الرشدي وغيرهم من طلبة السنة الأولى للصنف الإعدادي، وهل يمكن لهم أن يكونوا من أهل النهى دون الباقين مع أن طريق التعليم فيها وخيم (كما قالوا) . وهل يصح أيضًا قولهم: والعلوم التي نحصلها في مدارسنا لا تكفي للإمامة والخطابة أيضًا. وقولهم: ولا يعلموننا فيها من الأخلاق والتربية. وقولهم: نحن لا نكون بما تعلمنا فيها إلا مصيبة للعوام وعلماء السوء. وقولهم: أما أساتذتنا فيملؤون أدمغتنا بالخرافات والإسرائيليات، ويشوشون عقائدنا باليونانيات والتفتازانيات، ويسوموننا حفظ الحواشي والتعليقات. وقولهم وقولهم.. فنرجو من جنابكم أن تنشروا هذا البروجرام في المنار وأن لا تدنسوا وجه المنار بمثل هذه الأقوال السافلة والمختلَقات الباطلة. ثم يسألنا قراء المنار: فما سبب انتصار هؤلاء الرعاع على الباطل؟ ! . والجواب: أن ناسًا من الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وإن لم يقروا بألسنتهم يظنون أن التدين والعلوم الدينية مانع من الترقي والتمدن الحقيقي (كما يظنه أمثالهم من أهل الغرب) ويرون جُل المسلمين في روسيا متمسكين على الدين ومعتمدين على أهله والمدارس الدينية. ويستخرجون من هذا وذاك أن تمدن المسلمين في روسيا (بل وفى غيرها) موقوف على حل هذه العقدة أعنى تفرق المسلمين من العلماء والمدارس الدينية، ولوصول هذا المقصود طريق واحد وهى (كذا) إلقاء العداوة والبغضاء فيما بين العوام والعلماء وتشتيت المدارس الحاضرة أيدي سبأ ثم جمعها على الأساس الصحيح كمدارس أوروبا. فصاروا يتخذون لهذا الإلقاء والتشتيت واسطة كل ما يتيسر لهم من الأقوال والأفعال. منهم إغواء الطلبة وأن حالهم ليست حالة مرضية لا من جهة الدروس ولا من جهة المدرسة ولا من جهة المدرسين ولا من جهة الإدارة والقوانين المدرسية ولا من جهة المعيشة ولا من جهة الحال ولا من جهة المال. وليدرس في المدارس الدينية الفنون العصرية واللغة الروسية وما يتعلق بها أصلاً والعلوم الدينية تبعًا، وليحول المدارس الدينية مدارس دنيوية وهكذا؛ لأنهم لا يحسون الاحتياج إلى المدارس الدينية كأكثر أهل فرنسا ويقولون: إن هذه المدارس مهما تكمل يلزم أن تندرس وتفنى بنفسها بعد ما تأسس المدارس الدنيوية بين الأمة، فيلزم عليكم أن تعجلوا الأمر ولو بسنة. ونحن نقول: لا تمسوا مدارسنا الحاضرة ولنصلحها بالتدريج، لئلا يكون حالنا كحال حنين، وابنوا أنتم وأسسوا المدارس المحتاج إليها الأمة بجميع أنواعها من متوسطها وعاليها وليندرس المدارس بعدها بنفسها (على ما تزعمون) ، ونحن لا ننكر احتياج الأمة لمثل تلك المدارس وإلى تعلم اللغة الروسية والعلوم الرسمية، بل نحن نحس هذا الاحتياج كإحساسكم بل أشد، وندعو الناس إليها ومع ذلك نحس الاحتياج إلى المدارس الدينية ولا نرضى انقراضها ولا نخيل كما تخيلون وسنُدخل اللغة الروسية إلى المدارس الدينية أيضًا بشرط أن يتخذ العلوم الدينية أساسًا لما يتعلم فيها ولكن هذا يقتضي شيئًا من التأني ولا يستقيم بالعجلة ولا نصدق انقراض الدينية عند انتشار المعارف، ويؤيد هذا قيام المدارس الدينية في الممالك الغربية والأمريكية مع ارتقاء المعارف فيها غايته، ثم بعد برهة من الزمان وضعنا قبح هذه الحركة على علم الطلبة من الصنوف العالية فانتبه المتبصرون منهم ولم يساعدوهم بعده في حركاتهم فتفرقوا فرقتين فصاروا يسبّون الطلبة الذين لا يتحركون بتحريكهم فعجزوا! ثم أخذوا طريقًا آخر يُخْفون فيها مرادهم من تحريكهم. وصاروا يدّعون أن مرادهم من التحريك إصلاح هذه المدارس مدارس دينية وهم أيضًا يهتمون للعلوم الدينية كما نهتم بل أشد، ولكن العلوم الدينية ليس ما نسميها علومًا دينية بل غيرها وهكذا. اهـ بنصه وفيه غلط قليل أشرنا إلى بعضه ولعله لم يراجعه. (المنار) نشرنا رسالة هذا الأستاذ برمتها؛ لأن الوقوف على حال مسلمي روسيا في التعليم والتربية يهمنا جدًا طالما فيهم من الرجاء وحسن الظن وصاحبنا الأستاذ كاتب الرسالة أدرى بتلك الحال. وما ذكره من ترتيب التعليم في المدرسة المحمدية لا ينطبق على ما كتب إلينا بعض التلاميذ ولا يخلو على إجماله من انتقاد وحاجة إلى الإصلاح، ويا ليته يتفضل ويرسل لنا نسخة من البروغرام لنبدي رأينا في ذلك على بصيرة تامة، وقد اطلعنا على ما كتب رياض أفندي الشهير في إصلاح التعليم في المدرسة الحسينية في أورنبورغ وودنا نشر خلاصته في هذا الجزء وإلقاء دلونا مع دلوه لولا أن جاءت هذه الرسالة فحالت دون ذلك وفتحنا بابًا جديدًا من التروي في الحكم على تعليم مسلمي روسيا. علمنا من هذه الرسالة أنهم يتعلمون لغة الأمهات ويظهر لنا أنها اللغة التترية ويتعلمون اللغة العثمانية والفارسية واللغة العربية وهم في أشد الحاجة إلى اللغة الروسية ولا يستغني أهل التعليم العالي عن لغة أوروبية عامة كالفرنسية أو الإنكليزية وهذا عبء ثقيل فلعل صديقي كاتب الرسالة يعرّفني وجه الحاجة إلى تعلم لغة الأمهات في المدارس وليست لغة علم ولا دين ووجه الحاجة إلى اللغة الفارسية والتركية أي جعل تعلم ذلك إلزاميًّا عامًّا. وعلمنا أنهم يقرأون معاملات الفقه في كل قسم من الابتدائي إلى العالي ولم يذكر مصطلح الحديث. وذكر من المنطق (الشمسية) فقط وكل ذلك منتقد كما سنبينه بعد، وأما ما ذكره في سبب انتقاد المدارس الإسلامية فإلصاقه ببعض المبتدئين من المدرسة المحمدية محل نظر واعتبار، ويهمنا أن نعرف مثار هذه الأفكار، وكيف السبيل إلى تلافيها، وما يجب على العلماء فيها وسنعود إلى البحث في ذلك.

سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين ـ 1

الكاتب: أبو حامد الغزالي

_ سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين (1) دعونا العلماء في الجزء الماضي إلى نصيحة السلاطين وإننا نذكِّرهم في هذا الجزء ببعض ما يروى عن علماء السلف في ذلك: (جعل الإمام الغَزالي الباب الرابع من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصًّا بأمر الأمراء والسلاطين ونهيهم وقال في أوله ما نصه: (قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف وأن أوله التعريف وثانيه الوعظ وثالثه التخشين في القول ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة. والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأُولَيان وهما التعريف والوعظ وأما المنع والقهر فليس لآحاد الرعية مع السلاطين فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويَكُون ما يتولد عنه من المحذور أكثر. وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا مَن لا يخاف الله وما يجري مجراه. فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدَّى شرها إلى غيره لم يجز وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه فقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذاك شهادة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك) [1] وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) [2] ووصف النبي صلى الله عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم وتركه قوله الحق ما له من صديق) [3] . ولمّا علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار - قدموا على ذلك موطِّنين أنفسهم على الهلاك مُحتمِلين أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله. وطريق وعظ السلاطين وأمرْهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل عن علماء السلف، وقد أوردنا جملة من ذلك في باب الدخول على السلاطين من كتاب الحلال والحرام..) . اهـ ما كتبه الغزالي في مقدمة الباب. أقول: قوله: إنه ليس لآحاد الرعية التصدي لمنع السلطان عن المنكر بالقهر صحيح لا لِمَا يترتب عليه من الفتنة فقط، بل هناك علة أخرى هي أظهر وأَوْلى بالتقديم وهي أن إكراه الآحاد من الرعية للسلاطين مُحال وطلبه عبث لا يأتي من عاقل، ولهذا المعنى فرض الله تعالى الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أُمة تتألف وتستعد لذلك كما بينَّا في الجزء الماضي، والأمة تستعد لكل شيء بقدْره، وقوة الأمة أَشدّ بالاتحاد والاجتماع من قوة السلطان؛ لأن قوته منها وقوتها من ذاتها ويد الله مع الجماعة. وسنعود في فرصة أخرى إلى التفصيل في هذه المسألة. فإننا إنما نقصد الآن إلى بيان شيء من هدي السلف في نصيحة الأمراء والسلاطين تذكيرًا للعلماء وكشفًا للقراء عن الفرق بين حالنا اليوم وحال سلَفنا أيام كانت الأمة عزيزة قوية والدين راسخًا معمولاً به. ندَع مما أورده الغزالي من هدي السلف في هذا الباب آثار الصحابة لئلا يقال: إنهم لا يقاس عليهم في بذل أرواحهم في سبيل الحق، وإن من كان يغلظ على عمر بن الخطاب في الحق كان آمنًا عقوبته ليقينه بعدله ودينه ونذكر شيئًا مما أورده عمن بعدهم قال: (وعن الأصمعيّ قال: دخل عطاء بن أبي رَباح على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره وحوالَيْه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة وقت حجه في خلافته فلما بصُر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين اتقِ الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهدْه بالعمار، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقدْ أمور المسلمين، فإنك وحدك المسؤول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم فقال له: أجلْ ثم نهض وقام فقبض عليه عبد الملك فقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت؟ فقال: ما لي إلى مخلوق حاجة ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف) . أقول: هذا نصح علماء الدين لمثل عبد الملك الذي كان أول معلن للاستبداد في الإسلام حتى قال على المنبر: (مَن قال لي اتقِ الله ضربت عنقه) وأين ملوك زماننا من عبد الملك في سياسته وفتوحاته ألا إنهم أحق بالنصيحة منه، ولكن أين الناصحون؟ ! قال الغزالي: (وقد روي أن الوليد بن عبد الملك قال لحاجبه يومًا: قف على الباب فإذا مر بك رجل فأدخلْه عليّ ليحدثني فوقف الحاجب على الباب مدة فمرّ به عطاء بن أبي رَباح وهو لا يعرفه فقال: يا شيخ ادخل إلى أمير المؤمنين فإنه أمر بذلك فدخل عطاء على عبد الملك وعنده عمر بن عبد العزيز فلما دنا عطاء من الوليد قال: السلام عليك يا وليد قال: فغضب الوليد على حاجبه وقال له: ويلك أمرتك أن تُدخل إليَّ رجلاً يحدثني ويسامرني فأدخلت إليَّ رجلاً لم يرضَ أن يسميني بالاسم الذي اختاره الله لي (يعني أمير المؤمنين) فقال له حاجبه: ما مر بي أحد غيره ثم قال لعطاء: اجلس ثم أقبل عليه يحدثه فكان فيما حدثه به عطاء أن قال له: بلغنا أن في جهنم واديًا يقال له هبهب أعدّه الله لكل إمام جائر في حكمه فصعق الوليد من قوله وكان جالسًا بين يدي عتبة المجلس فوقع على قفاه إلى جوف المجلس مغشيًّا عليه. فقال عمر لعطاء: قتلت أمير المؤمنين. فقبض عطاء على ذراع عمر بن العزيز فغمزه غمزة شديدة وقال له: يا عمر إن الأمر جِدّ فَجِدّ. ثم قام عطاء وانصرف فبلغنا عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: مكثت سنة أجدُ ألم غمزته في ذراعي) . (ويُروى عن ابن أبي عائشة أن الحجاج دعا بفقهاء البصرة وفقهاء الكوفة فدخلنا عليه ودخل الحسن البصري رحمه الله آخر من دخل فقال الحجاج: مرحبًا بأبي سعيد إليَّ إليَّ ثم دعا بكرسي فوضع إلى جنب سريره فقعد عليه فجعل الحجاج يذاكرنا ويسألنا إذ ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مقاربة له وفَرَقًا (أي خوفًا) من شره والحسن ساكت عاضٌّ على إبهامه فقال: يا أبا سعيد ما لي أراك ساكتًا قال: ما عسيتَ أن أقول قال: أخبرني برأيك في أبي تراب قال: سمعت الله جلّ ذكره يقول: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143) فعليٌّ ممن هدى الله من أهل الإيمان فأقول: ابن عم رسول الله وخَتَنُه على ابنته وأحب الناس إليه وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله، لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحظرها عليه ولا أن يحول بينه وبينها وأقول: إن كانت لعلي هناة فالله حسيبه، والله ما أجد فيه قولاً أعدل من هذا، فَبَسَرَ وجه الحجاج وتغير وقام عن السرير مغضبًا فدخل بيتًا خلفه وخرجنا، قال عامر الشعبي: فأخذت بيد الحسن فقلت: يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأَوْغرت صدره فقال: إليك عني يا عامر يقول الناس عامر الشعبي عالم أهل الكوفة أتيتَ شيطانًا من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر هلا اتقيت إن سئلتَ فصدقت أو سكتَّ فسَلِمْتَ. قال عامر: يا أبا سعيد قد قلتُها وأنا أعلم ما فيها. قال الحسن: فذاك أعظم في الحجة عليك وأشد في التبعة. قال: وبعث الحَجَّاج إلى الحسن فلما دخل عليه قال: أنت الذي تقول، قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدينار والدرهم؟ ! قال: نعم قال: ما حملك على هذا؟ قال: ما أخذ الله على العلماء من المواثيق: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) قال: يا حسن أمسك عليك لسانك وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرِّق بين رأسك وجسدك) . أقول: وقد ساق المصنف هذه الحكاية في كتاب (ذم الجاه والرياء) مطولة بما هو أبلغ في العبرة والفرْق بين علماء الدين الذين لا يخافون في الله لومة لائم وعلماء الدنيا الذين يتقربون إلى الأمراء والسلاطين بما يرضيهم من سخط الله تعالى. قال: (روي عن سعيد بن أبي مروان قال: كنت جالسًا إلى جنب الحسن إذ دخل علينا الحَجَّاج من بعض أبواب المسجد ومعه الحرس وهو على بِرذَوْن أصفر فدخل المسجد على برذَوْنه [4] فجعل يلتفت في المسجد فلم يَرَ حَلْقة أَحْفَل من حلقة الحسن فتوجه نحوها حتى بلغ قريبًا منها، ثم ثنى وَرِكه فنزل ومشى نحو الحسن فلما رآه الحسن متوجهًا إليه تجافى له عن ناحية مجلسه قال سعيد: وتَجافَيْت له أيضًا عن ناحية مجلسي حتى صار بيني وبينه والحسن يتكلم بكلام له يتكلم به في كل يوم فما قطع الحسن كلامه. قال سعيد فقلت في نفسي: لأبلونَّ الحسن اليوم ولأنظرن هل يَحْمِل الحسنَ جلوسُ الحجاج إليه أن يزيد في كلامه يتقرب إليه أو يحمل الحسن هيبة الحجاج أن ينقص من كلامه. فتكلم الحسن كلامًا واحدًا نحوًا مما كان يتكلم به في كل يوم حتى انتهى إلى آخر كلامه فلما فرغ الحسن وهو غير مكترث به رفع الحجاج يده فضرب بها على منكب الحسن، ثم قال: صدق الشيخ وبرَّ فعليكم بهذه المجالس وأشباهها فاتخذوها خُلقًا وعادةً فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مجالس الذكر رياض الجنة ولولا ما حملناه من أمر الناس ما غلبتمونا على هذه المجالس لمعرفتنا بفضلها. قال: ثم افترّ الحجاج فتكلم حتى عجب الحسن ومن حضر من بلاغته فلما فرغ طفق فقام فجاء رجل من أهل الشام إلى مجلس الحسن حيث قام الحجاج فقال: عباد الله المسلمين ألا تعجبون أني رجل شيخ كبير وأني أغزو فأكلف فرسًا وبغلاً وأكلف فسطاطًا وإن لي ثلاث مئة درهم من العطاء وإن لي سبع بنات من العيال، فشكا من حاله حتى رقَّ له الحسن وأصحابه والحسن مكبّ فلما فرغ الرجل من كلامه رفع الحسن رأسه فقال: ما لهم قاتلهم الله اتخذوا عباد الله خَولاً ومال الله دُولاً وقتلوا الناس على الدينار والدرهم؟! فإذا غزا عدو الله غزا فيه الفساطيط الهبابة (أي العالية المشرعة) وعلى البغال السباقة، وإذا أغزى أخاه أغزاه طاويًا راجلاً فما فتر الحسن حتى ذكرهم بأقبح العيب وأشده فقام رجل من أهل الشام كان جالسًا إلى الحسن فسعى به إلى الحجاج وحكى له كلامه الذي تكلم به [5] فلم يلبث الحسن أن أتته رُسل الحجاج فقالوا: أَجِبْ الأمير فقام الحسن وأشفقنا عليه من شدة كلامه الذي تكلم به فلم يلبث الحسن أن رجع إلى مجلسه وهو يبتسم وقلما رأيته فاغرًا فاه يضحك، إنما كان يبتسم فأقبل حتى قعد في مجلسه فعظم الأمانة وقال: إنما تجالسون بالأمانة [6] كأنكم تظنون أن الخيانة ليست إلا في الدينار والدرهم، إن الخيانة أشدَّ الخيانة أن يجالسنا الرجل فنطمئن إلى جانبه ثم ينطلق فيسعى بنا إلى شرارة من نار، إني أتيت هذا الرجل فقال: أقصر عليك لسانك وقولك إذا غزا عدو الله كذا وكذا.. وإذا أَغْزَى أخاه أغزاه كذا لا أبا لك تُحِّرض علينا الناس إنَّا على ذلك لا نتهم نصيحتك فأقصرْ عليك من لسانك قال: فدفعه الله عني. وركب الحسن حمارًا يريد المنزل فبينما هو يسير إذ التفت فرأى قومًا يتبعونه فوقف فقال: هل لكم من حاجة أو تسألون عن شيء وإلا فارجعوا فما يبقي هذا من قلب العبد؟ !)

التعصب وأوربا والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعصب وأوربا والإسلام للكلام دول، تحالف دول الحقائق تارة وتخالفها تارة، ورُب خلاف يجر إلى حِلاف وحلاف ينتهي بخلاف. قد يُتهم الخليّ بالعشق حتى تجعله التهمة عاشقًا، وقد ينكر الكَذوب الكذب حتى يكون صادقًا. مرت على الشرق الأحقاب والقرون، ودرجت فيه الأجيال والقرون، وهو كما تعلم مشرق الأديان، ومنبت جميع أصناف الإنسان، ولم يقع فيه بين المختلفين في الدين المتجاورين في البيئة من الغلو في التعصب عُشْر مِعْشار ما وقع من أهل أوربا الذين اتحدوا باسم الصليب على إبادة المسلمين أو ما وقع من تعصب نصارى هذه القارة على الوثنيين فيها بل ولا عشر معشار ما وقع من أهل المذاهب النصرانية بعضهم مع بعض فأوربا مثار بركان التعصب الديني في الأرض كما بيَّنا ذلك في مقالات نشرت في أعداد السنة الأولى. لما رجعت دول أوربا المتحدة من حرب الصليب في الشرق مغلوبة على أمرها عاجزة عن بلوغ منتهى ما حدده لها تعصُّبها عالمة أنها دون المسلمين في القوة الحربية والقوة العلمية والأدبية أخذت تستعد في العلم والعمل فكان خذلانها في تلك الحرب مبدأ حياة جديدة لها على حين كانت حياة المسلمين السابقة أخذت بالضعف والتحول فاستفادت من الانكسار، ما لم نستفد من الانتصار، وما زالوا يرتقون فيما تركناه لهم من علم وصناعة واجتماع واعتصام، ونحن نتدلَّى بالجهل والكسل والتفرق والانفصام، حتى دالت لهم الدولة، وعادت لهم الكرَّة، فسادوا علينا واستولَوْا على أكثر بلادنا وقد عاملَنا أكثرُهم بالشدة والقسوة حتى ضبطت بعض دولهم أوقافنا وهدمت أكثر مساجدنا ومنعتنا من التعليم الديني والدنيوي وسلطت علينا قسوسها يحقرون ديننا في بلادنا. وإن إنكلترا وهي أحسنهن استعمارًا وأقربهن إلى اللين والعدل لم تبلغ بعض شَأْو الخلفاء الراشدين في العدل والمساواة بل ولا غير الراشدين من أكثر ملوك الأمويين والعباسيين كما بينا ذلك غير مرة. تحتجّ أوربا على هذه القسوة بأن الشرقيين أو المسلمين متعصبون لا يُؤمَن شرّهم أن يقع على المخالف لهم إلا بغلّ أيديهم وتقييد أرجلهم ووضع الوقر في أسماعهم والغشاوة على أبصارهم، ولكن إنزالها الشر المحقق عليهم خوفًا من الشر المتوهم منهم لا يعد تعصبًا! ! لماذا؟ لأنها تقول: إنهم متعصبون للدين وإننا غير متعصبين له، الشرقيون متعصبون؛ لأن الشرق لا يعرف جامعة غير الدين، الغربيون غير متعصبين؛ لأن الغرب لا يعرف غير الجامعة الجنسية أو الوطنية، المسلمون متعصبون، النصارى غير متعصبين، التعصب الإسلامي خطر على المدنية المسيحية، ما دام هذا القرآن معتقدًا أو محترمًا فالإنسانية على خطر، ما يأخذه الصليب من الهلال لا يعود إليه وما يأخذه الهلال من الصليب يجب أن يسترد منه. أمثال هذا الكلام الذي يرددونه قد فتق آذان المطلعين من المسلمين على كتب أوربا وجرائدها وفتح أعينهم ونبه أفكارهم فاعتقدوا أن أوربا متعصبة عليهم تحاول محو ملكهم ووجودهم الملّي من الأرض وأنها تحاربهم بهذا التعصب وربما كانت نجاتهم بالتعصب فكادوا يحققون التهمة ويَدْعون إلى تحقيقها ولكن روح الإسلام لا يزال غالبًا على مجموع الملة الإسلامية وهو ما سنبينه في هذا المقال. يخفت صوت القوم في اتهام المسلمين بالتعصب حينًا من الدهر، ثم لا تلبث السياسة أن ترفع به عقيرتها، وقد قال في هذه الأيام وزير خارجية إنكلترا في مجلس العموم كلمة فيه سارت بها الركبان قال - والعهدة على ترجمة الجرائد -: إن روح التعصب قد زادت في القطر المصري في هذه الأيام زيادة يُخشى معها على مستقبل البلاد. قال كلمته في مقام الدفاع والاعتذار عن عمل أتته السياسة الإنكليزية في مصر فأنكره عليها بعض النواب في المجلس وطلب من الوزير أن يبين عذر الحكومة في ارتكاب ذلك المنكر وهو القسوة في معاقبة طائفة من الفلاحين في حادثة دنشواي التي سارت بخبرها الركبان وترى مجمل خبرها في باب الأخبار من هذا الجزء. عهدي بصوت المعتذر في مقام الدفاع أن يكون خافتًا ليس له صدى ولكن صوت هذا المُدافِع قد كان أشد من دويّ المَدافِع، خشعت له في المجلس الأبصار، وخفتت له الأصوات، ولم يلبث أن حمله البرق إلى الأرجاء، فكان مع البرق رعدًا قاصفًا في جميع الأجواء، رددت صداه الأقطار، وكان الشغل الشاغل لصحف الأخبار، فأما الجرائد الأوربية فقد صدقت الوزير في قوله، ووافقته على ما يريد به، جارية في ذلك على نهجها المعبد، وتقاليدها المتبعة، وتبعها من الجرائد الإفرنجية والمتفرنجة في مصر من يرى أصحابها لهم فائدة من تغيظ إنكلترا من المسلمين. وأما جرائد المسلمين في مصر ومن أنصف المسلمين في المسألة من أصحاب الجرائد الإفرنجية والسورية فقد أنكروا القول على الوزير وما كل منكِر يعرف كيف ينكر! . وَجِلَ مسلمو مصر وأصحاب الجرائد منهم خاصة من قول الوزير وحسبوا لعاقبته ألف حساب وهبَّ الكُتاب منهم لدفع تهمة التعصب عن أنفسهم فجاءوا بمنتهى ما يتولد بين الغيرة والوجل، من فنون الحِجاج والجدل، وربما كان في دفاعهم ما يعده المتهِمون لهم مثبتًا للتهمة عليهم، ولم أَرَ منهم من شرح ما يريده الوزير من التعصب كما اعتقد، ثم احتج على بُطلانه بما يرجى أن يكون مقنعًا للمنصف، بل رأيت كثيرًا من الناس يعتقدون أن الوزير قال ما لا يعتقد كما قال له اللورد كرومر وهو أيضًا لا يعتقد ما قال. أما أنا فإنني أقول: إنهما يعنيان بالتعصب غير ما فسره به هؤلاء المدافعون من الوجوه التي يقيمون الدلائل على ردها. هل يعني الإفرنج بالتعصب الإسلامي تحابّ المسلمين وتعاونهم على مسابقة غيرهم في طرق الكمال الصوري والمعنوي، فنقول لهم: إنكم تشاهدون أننا أصبحنا أضعف الأمم اتحادًا وتناصرًا، وأشدها تفرقًا وتنافرًا! هل يعنون به بغضنا وكراهتنا للمخالف لنا في ديننا وعدم ثقتنا به بحيث يصعب عليه أن يعيش بيننا فنقول لهم: إذًا كيف أصابت هذه الثروة الواسعة منا جالية اليهود والنصارى منكم ومن السوريين والأرمن وسائر الملل، وكيف صار منكم رئيس الخاصة الخديوية وكثير من مستخدميها ورؤساء دوائر كثير من أمرائنا وأغنيائنا؟ ! ، بل كيف عاش بيننا المبشرون بالنصرانية آمنين، وهم يطعنون بديننا وكتابنا ونبينا؟ هل يعنون به محافظتنا على شريعتنا من جهة الأحكام القضائية فنقول لهم هذه المحاكم الأهلية والمختلطة ومدرسة الحقوق ونظارة الحقانية نفسها حُجّة عليكم فإننا تركنا معظم شريعتنا الإلهية إلى قوانينكم الوضعية ولم يعارض حكامنا الذين فعلوا ذلك أحدٌ من علمائنا ولا من وُجهائنا؟ هل يريدون به اعتصامنا بعُرْوة الدين في أعمالنا الشخصية فنقول لهم: ولماذا راجت خموركم حتى عمت المدن والقرى وربحت تجارة بُورَصكم وبغاياكم حتى أهلكت الحرث والنسل، ولماذا كان عدد أغنيائنا الذين يزورون بيوت الفسق في بلادكم كل عام أضعاف الذين يزورون بيت الله الحرام؟ ! ! ، ولماذا ولماذا ولماذا؟ ! ! ! هل يعنون به أن مصر تريد أن تتبع سائر الأقطار الإسلامية بالاتحاد على الأُمنية التي يعبر عنها بالجامعة الدينية، فنقول: أخبرونا عن قطرين إسلاميين اتحدت حكومتاهما وتحالفتا على دولة غير إسلامية كما تفعل دولكم في تعاطفها وتحالفها؟ ! . ما كانت حكومتان لنا متحالفتين لإعلاء كلمة الله لا سيما في هذه الأزمان، إنْ هم إلا متحالفون لوجه الشيطان، بالأمس قامت دولكم على دولة مراكش الإسلامية فاتحدت على ما شاءت من السيطرة عليها ولم تطلب دولة الترك ولا دولة الفرس أن يكون لهما معكم سهم ولا قالت واحدة منهما كلمة تُشعر بالغيرة عليها أو المساعدة لها بل هما الآن متناوئتان كل منهما تحشد الجيوش على الحدود كأنهما متحدتان على إفناء ما بقي للمسلمين من قوة واستقلال بفتْك كل منهما بالأخرى. على أن الحكومات هي التي تعقد المحالفات وزمام الحكومة المصرية في أيديكم وليس للأمة في أعمالها رأي، بل ليس للحكومة نفسها من دونكم أمر ولا نهي، بل نقول لهم: لو كان للمصريين الذين تشكون من تعصبهم رأي لَمَا اتفقوا على الاعتصام بالجامعة الإسلامية وإنما يعملون بما أرشدتموهم إليه من العصبية الوطنية فإنه وُجِدَ فيهم كثيرون يَعدّون المسلم غير المصري فيهم دخيلاً ويأبون الاشتراك معه في أي عمل ويفتخرون بمعاملة الأجنبي غير المسلم. إذًا ماذا يريدون بهذا التعصب المصمئلّ، المتحفز لمواثبة الدول، المُخْرَنْبِق لينباع، المجَرْمِز ليمُدّ الباع، المتربص ليغتال الثروة الأوربية، المتوثب ليمحو آية المدنية. ألا إنهم يعنون أن المسلمين حريصون على أن يكون حكامهم منهم وأشد ما ينكرون من ذلك أن الإسلام قد جعل من حقوق الخليفة على المسلمين أن يستجيبوا له إذا دعاهم إلى استئصال المخالفين لهم في الدين، ويعتقدون أن السلطان عبد الحميد ما أحيا لقب الخلافة لنفسه، وعُني بإقناع الشعوب الإسلامية بالاعتراف به باستخدام الجرائد وغير ذلك من الوسائل إلا ليمتع نفسه بهذه القوة المعنوية الهائلة التي يستطيع أن يهدد بها أوربا في مستعمراتها متى شاء بل هو يهددها بالقوة والفعل، ولولا ما تحدث له من الشواغل والعراقيل في كل وقت وما تنطوي عليه جوانحه من الخوف والحذر لما أمنت دهاءه، وقد أُعطي هذه السلطة الدينية المخيفة. هذا ما يعتقد الأوربيون في التعصب الإسلامي وهذا ما يخافون منه. ولمّا كانت مسألة العقبة ورأى اللورد كرومر أن السلطان قد ظهر فيها بمظهر الشدة والحزم أولاً ورأى ثرثرة بعض جرائد المسلمين فيها بحقوق الخليفة والخضوع للخليفة واستنادها في بعض ما تكتب على مختار باشا الذي أنيطت به هذه المسألة خلافًا للعادة وقرأ ما كُتب إليه في ذلك اعتقد أن السلطان قد تجرأ بإيعاز إمبراطور ألمانيا المتهور على استعمال تلك السلطة الدينية في هذه المسألة فكتب إلى دولته بذلك فهو قد كتب عن التعصب في مصر ما يعتقد وتبعه وزير الخارجية في ذلك إذ لا مصدر له في المسائل المصرية سواه. فهل يفتأ الكثيرون يقولون: إن اللورد قال ما لا يعتقد وكذلك الوزير؟ وهل تظن الجرائد بما أكثرت من الكتابة في التعصب أنها فتلت في الذروة والغارب، وأقامت الحجة على اللورد والوزير وسائر الأجانب؟ ! . الحجة الناهضة على تبرئة الإسلام نفسه من هذا التعصب المزعوم هي آي القرآن الناطقة بتحريم العدوان، وبأن القتال خاص بمن يقاتلوننا في الدين أي يقاتلون لأجل منعنا من الدعوة إلى ديننا أو من إقامته وإحياء شعائره. وهذه الآيات كثيرة جدًّا وقد تقدم تفسير أكثرها في المنار وحَسْب المنصف منها قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وقوله عز وجل: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (ال

الرد على الشيخ بخيت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرد على الشيخ بخيت 2- وصفه الفونغراف قلنا في الانتقاد الوجيز الأول: إنه وصف الفونوغراف وصْف مَنْ لم يره ولم يعرف شيئًا من علم مخترعيه فجاء في رسالة (رفع الوهم والاشتباه) يرد على قولنا بأنه وصفه بالمقدار الذي يتعلق به ما كان بصدده قال: (كما في ص 26) : وقد أخذنا وصفنا عن أهل الخبرة به وهو أيضًا مطابق في النتيجة تمام المطابقة لما وصفه به المقتطف بالجزء التاسع من السنة الثانية. اهـ. وكان نقل عبارة المقتطف في (ص7و8و9) ويعني بمطابقة وصفه لوصف المقتطف في النتيجة اتفاقهما على أن الفونغراف آلة ناطقة! ! . ألا هل من قارئ فيفهم. ألا هل من متفكر فيعجب. ألا هل من عاقل منصف فيفقه كُنه هذا المصنف؟ ! إننا انتقدنا عليه وصفه الفونغراف وهو الآلة الناطقة وصْف من لم يره. نعني أن الوصف غير مطابق للموصوف. فإذا كان الانتقاد خاصًّا بما وصف به هذه الآلة الناطقة لا في تسميتها آلة ناطقة، فكيف يرد علينا بأن المقتطف وصفه وصفًا آخر نتيجته أنه آلة ناطقة؟ أليس هذا اعترافًا بأنه أخطأ في الوصف وأننا أصبنا في الانتقاد عليه؟ إذا وصف كاتبان الآلة الرافعة للأثقال فذكرا أجزاءها وكيفية تركيبها وطريقة رفعها للأثقال فأخطأ أحدهما في الوصف وأصاب الآخر مع اتفاقهما على كون الموصوف آلة رافعة؟ فهل يصح الرد على من ينتقد وصف المخطئ بأنه موافق للمصيب في كون الموصوف آلة رافعة؟ وإذا كان قوله: إنه موافق للمقتطف في كون الفونغراف آلة ناطقة فقط اعترافًا بأنه مخالف له في وصفها وأننا مصيبون في انتقادنا فلماذا نقل عبارة المقتطف وهي حجة عليه ولا حاجة في إثبات كون الفونغراف آلة ناطقة إلى إيرادها إذ لا نزاع في ذلك؟ ولماذا قال: إنه أخذ وصفه عن أهل الخبرة؟ أليس هذا إصرارًا على دعوى الإصابة في الوصف؟ كيف يجمع بين ما يقتضي الاعتراف بالخطأ وما يقتضي إنكاره، وكيف يورد ما هو حجة عليه على أنه حجته، هل يسلم العاقل المنصف بأنه فهم ما كتب أم التأليف عند أمثاله عبارة عن إيراد النقول، وقال ونقول، وإن لم يتصل ما يسمى دليلاً بالمدلول، سيعلم القارئ مما يأتي ما يدل مع ما عَلِمَهُ هنا على أنه كتب بغير فهم وأن التأليف والمناظرة عنده عبارة عن مراجعة المسائل التي تراد من مظانها (أي من المواضع التي يظن أنها توجد فيها من الكتب) وجمْعها منها وكتابتها وربط بعضها ببعض بعبارات تدل على أن هذه النقول موافقة لما يدعي وإن كانت في نفسها مخالفة له وحجة عليه. إنما كان انتقادنا عليه بما أخطأ في وصف الفونغراف وفي قوله: إن السائل الذي سأله مقيم في الأناضول في الرومللي الشرقي بولاية سلانيك للتنبيه على أن العالِم الديني يحتاج في هذا العصر إلى الوقوف على العلوم والفنون المتداولة فيه ولو بطريق الإجمال الذي يعد صاحبه لمعرفة التفصيل عند الحاجة إليه فإن المسائل الشرعية تتعلق بأعمال الناس وصنائعهم ومعارفهم ومواقع بلادهم فإذا كان الفقيه يجهل ذلك تعذر أو تعسر عليه فهْم كثير من المسائل التي يحتاجون إلى معرفة حكم الشرع فيها وقد يتكلم أو يكتب في مسألة من هذه المسائل على جهل بموضوع السؤال فيعرّض نفسه بل وصِنْفه للاحتقار والازدراء. ولم نبين هذا الغرض اعتمادًا على اكتفاء اللبيب بالإشارة ولكنه لغروره بشهرته لم ينتبه للمراد وقام برَمينا بقلة الأدب معه كما علم القارئ من الجزء الماضي. إلا أننا لم نقصد تنبيهه وحده لما ذكر وإنما افترضنا خطأ أحد المشهورين من علماء الأزهر بمعارضة الإصلاح وذم العلوم التي يسمونها العصرية لتنبيه جميع من على شاكلته إلى الحاجة إليها وكون الجاهل بها عرضة للازدراء. وإننا والله لم نكتب تلك العبارة الوجيزة إلا بعد أن سمعنا الناس في بعض سُمَّارهم يضحكون من تينك المسألتين ويقولون في مؤلف الرسالتين ما لا ينبغي أن نكتب! . رأينا بعد تردد أنه لا حاجة إلى ذكر عبارته في وصف الفونغراف وعبارة المقتطف التي قال: إنها موافقة لها في النتيجة وبيان الفرق بينهما؛ لأن هذا لا يفيد قراء المنار فدَعه يعتقد أن الفونغراف صندوق وأنه له مخارج كمخارج الحروف وشيء يشبه حنجرة الإنسان وأن الغرض من إدارة الزنبلك إدخال الهواء في الصندوق لأجل أن يقرع ما يشبه الحنجرة ويكون الصوت وأن (ذلك الصندوق في مجموع أسطواناته يشبه الإنسان في استعداده؛ لأن يصدر منه ويسمع منه كلام) وأن الفرق بينه وبين الإنسان من وجهين: أحدهما أن مخارج الإنسان مستعدة وقابلة بعد التكلم وقبله كل كلام.. ومخارج كل أسطوانة من أسطوانات الصندوق مستعدة وقابلة؛ لأن يتوارد عليها خصوص الكلمات التي تكلم بها المتكلم، وثانيهما أن الإنسان يتكلم بقصد وشعور والصندوق ليس كذلك! ، دعه في اعتقاده هذا فإنه لا بدع في خطئه إذا أخطأ في وصفه ولا غرابة في إصابته في بعضه بعد ما سمع من أهل الخبرة ما سمع وإنما العبرة في استباحته الكلام فيما لا يعلم وإصراره على الخطأ بعد العلم به ومحاولته إيهام الناس أنه أصاب. وهذه العبرة تكون أكمل في المسائل التي من شأن مثله أن يكون عارفًا بها وهي ما يأتي بعد المسألة الجغرافية. *** (المسألة الجغرافية) قال الشيخ بخيت في أول رسالة السكورتاه: قد ورد علينا خطاب من بعض العلماء المقيمين بالأناضول بالرومللي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية يتضمن كذا.. إلخ فانتقدنا عليه ذلك وبيّنا له أن الأناطول ولاية في آسيا وأن الرومللي الشرقي غلب على ولاية من ولايات الدولة في أوربا دخلت في إمارة البلغار وأن سلانيك ولاية عاصمة من مكدونية لا تزال في حكم الدولة، وتمنينا لو أنه أطلع أحد أولاده الذين يتعلمون في المدارس على رسالته قبل طبعها لعلهم يصلحون له هذا الخطأ الذي يُعدّ من الفضائح في هذا العصر، وإن لم نصرح بذلك في الانتقاد الأول بل نبهنا المؤلف إلى حاجة علماء الدين- لا سيما الذين يدعون الاجتهاد - إلى علم تقويم البلدان كما سيأتي. اعترف بالخطأ في هذه المسألة ولكنه تبرأ منه وألصقه بالمطبعة المسكينة فقال ما نصه، وفيه عبرتان إحداهما في العبارة والثانية في البراعة: إن ما جاء في الرسالة الثانية في بيان محل إقامة السائل على وجه ما ذكره خطأ لا يخفى على من يعلم الجغرافيا ومن لا يعلمها ولكنه خطأ مطبعي، وقد جارى فيه الطبع بالطبع ما جاء في خطاب السائل حيث قال فيه ما لفظه: (محل الحادثة ببلدة دراما بولاية سلانيك في روماللي الشرقي) اهـ. ثم ذكر أن مثل هذا الخطأ يقع كثيرًا. أقول: (أولاً) : قوله: إن هذا الخطأ لا يخفى على من لا يعرف الجغرافيا غير صحيح والذي جرَّأه على كتابته وهو بديهي البطلان إرادته إيهام القارئ أن مثل هذه المسألة لا تخفى عليه والإيهام دأبه وعادته وقد روي عنه أنه أخطأ فيما هو أشد من هذه المسألة ظهورًا؛ وذلك أنه كان ينظر في قضية بالمحكمة الشرعية قبل عزله بزمن وكان أحد الخصم فيها رحلا من خانية فسأله الشيخ بخيت عن بلده فقال: خانية فسأله: أين خانية؟ قال: في كريت. سأله: ألست من أهل كريت نفسها؟ أجاب: بلى. فاشتبه على الشيخ بخيت كونه من أهل خانية ومن أهل كريت معًا وسأله في ذلك فأجابه إن كريت جزيرة، وإن عاصمتها مدينة تسمى خانية وهو منها، قال الشيخ بخيت: كلا، إن عاصمة كريت هي مدينة كريت فقال الرجل: إنه ليس في جزيرة كريت بلدة تسمى كريت فلم يصدقه الشيخ بخيت وصدقه حسن بك صبري وكان محاميًا في القضية فلم يقبل الشيخ بخيت قوله وعدَّه غير معقول وكأنه استنبط هذه المسألة بقياس مصر على كريت؛ إذ يطلق اسم مصر على القطر كله وعلى عاصمته. ولم يزل يجادل في ذلك حتى قال له أحد أعضاء المحكمة: إن حسن بك صبري يعد عالمًا اختصاصيًّا بعلم تقويم البلدان حتى إن المحكمة إذا أرادت تعيين خبير في مسألة تتعلق بالبلاد ومواقعها يمكنها أن تعتمد عليه فلِمَ لا تصدقه؟ ! قال الشيخ بخيت: وأي شيء علم تقويم البلدان والجغرافيا؟ ! هذا علم الشحاذين! ! . أوردنا القصة بالمعنى كما بلغنا ولم يفهم الحاضرون مراده بقوله هذا علم الشحاذين لأنهم يعلمون أن أوسع الناس علمًا بهذا العلم رجال السياسة من الملوك والوزراء وقواد الجيوش على أنه لا يُعلَّم إلا في المدارس التي لا يدخل فيها الشحاذون ولعله يريد أن الفقراء السائحين المعروفين بالدراويش يعرفون ما يعرف أهل هذا العلم وبهذا يعد العلم مبتذلاً لا غضاضة على الجاهل به كأنه يظن أن هذا العلم عبارة عن معرفة أسماء البلاد فقط وفاته أن أكثر علماء الأزهر يجهلون جغرافية بلادهم نفسها إلا مَن تعلمها في هذه السنين! . (ثانيًّا) قوله: (وقد جارى فيه الطبع بالطبع..) .. إلخ من اللغو الذي لا يقبله طبع ولا عقل وما أوقعه فيه إلا ابتغاء البلاغة بالجناس وتأمل قوله: (على وجه ما ذكر) فإنه ليس له وجه وجيه. (ثالثًا) : لا يعقل أن تكون العبارة في الأصل الذي أرسل إلى المطبعة هكذا (المقيمين ببلدة دراما بولاية سلانيك في روماللي الشرقي) فيجعلها طبع أهل الطبع خطأ منهم (المقيمين بالأناضول بالرومللي الشرقي بولاية سلانيك العثمانية، فإن مثل هذا الإبدال والقلب ليس من طبع أهل هذه الصناعة على أن الرسالة ما طُبعت إلا بعد عرضها على المؤلف وتصحيحها) ! ! ! ثم قال الشيخ بخيت بعد ما تقدم: (وبيان محل إقامة السائل لا يتوقف عليه شيء مما نحن بصدده وعدمه، ولذلك لم نهتم له حين ما تنبهنا إليه بعد الطبع) نقول: نعم، إن بيان حكم المسألة لا يتوقف على معرفة مكان من يسأل عنها ونحن لم نقل: إنه أخطأ في الجواب تبعًا للخطأ في معرفة المكان كيف وقد غلب على ظننا أنه لا سؤال ولا سائل؛ إذ لا يمكن أن يوجد سائل مقيم في أمكنة مختلفة فما هذه المراوغات والمغالطات؟ ! . ثم قال: (وأما دعواه أننا ممن يذم علم الجغرافيا وينفر عنها فهي دعوى باطلة عاطلة) إلى أن قال: إننا من شدة حسدنا له نخترع عليه الأباطيل. ونقول: هل ينكر الشيخ بخيت أنه هو الكاتب لما نشره المؤيد في أواخر سنة 1317 بإمضاء (ثابت بن منصور) في ذم الجغرافية والتاريخ والحساب العملي وزعم أنها علوم تضعف العقل؟ إن كان ينكر ذلك بعد اعترافه به لغير واحد من أهل الأزهر وعلمه بأن صاحب المؤيد لم ينسه، فحسبنا ما يسمعه هؤلاء من إنكاره أم يقول: إن هذه العلوم من الكمالات البشرية لغير أهل الأزهر ومن النقائص لهم؛ لأنها تضعف عقولهم عن إدراك علوم الشرع، أم كان ما كتبه مقاومة للإصلاح في الأزهر في ذلك الوقت لأمر ما، ولهذا الوقت الذي لا يطالب فيه بالإصلاح هناك مطالب قول آخر؟ . أما ما أكثر القول فيه من أننا نحسده فجوابنا عنه أننا نراه أجدر بأن يُرحم منه بأن يحسد، وإننا ندعو الله أن لا يبتلينا بمثل علمه وتأليفه وأن يعافيه هو من الابتلاء بمثل ذلك في مستقبل حياته. ثم قال: (وأغرب من دعواه ما ذُكِرَ دعواه أن الاجتهاد اليوم لا يتم إلا بالجغرافيا على الإطلاق حتى فيما نحن بصدده وأمثاله مما لا يختص بكون السائل في مكان دون مكان، ولكن الحسد يعمي ويُصم والعياذ بالله تعالى) اهـ. وأقول: إن مَن له ذوق يدرك به مرامي أساليب الكلام لا يفهم من قولنا: إن الجغرافيا (انتقمت منه لنفسها وعلَّمته أن الاجتهاد لا يتم اليوم بدونها) ما فهمه من أن العبارة من باب الحقيقة وأن الاجتهاد فيها يشمل الاجتهاد الجزئي ولو فيما لا علاقة له بالبلاد والمواقع، وإنما يفهم صاحب الذوق أنها من باب الكناي

رأي في اللغة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي في اللغة العربية قرأنا في الجزء السابع من المقتطف مقال (انتقاد فتاة مصر) لجبر أفندي ضومط أستاذ اللغة العربية والبلاغة في مدرسة الأمريكان الكلية ببيروت ومؤلف الكتب المفيدة في النحو والبلاغة - فرأَينا أن ننقل منه رأيه في الانتقاد اللغوي ونبين رأينا فيه. قال: ثالثًا: الانتقاد اللغوي (وكثيرون من منتقدينا يأتون في هذا النوع من الانتقاد بالمبكيات المضحكات ولا أحاشي جلة من أكابر علمائنا وكتابنا معًا. والغريب أن بعضهم ينكر القياس فلا يجيز في الاستعمال إلا ما نص عليه في كتب أمهات اللغة، فإن لم ينص الصحاح أو الفيروزآبادي أو لسان العرب على (احتار) مثلاً يؤاخذون من يستعملها ولو تابع في استعمالها كثيرين من أكابر الشعراء والفقهاء. وكاد العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المشهورة يهوي في مهواة هؤلاء الأقوام فإنه على سعة علمه لم يرُقه استعمال بعضهم (احتار) مع معرفة أنه قد استعملها قبله الإمام ابن الفارض المشهور وبعض غيره من أكابر الفقهاء كصاحب الكتاب المسمى برد المحتار على الدر المختار. وكنت أعجب من تضييق هاته الفئة كل هذا التضييق وما الذي يعتمدونه في الأخذ بهذه الخطة التي أخذت بخناق الكتبة والمؤلفين وخالفت مبدأ لغة من أشهر لغات العالم باعتمادها على القياس وبمناسبة أوضاعها له حتى في الحركات والسكتات الإعرابية إلى أن وقفت على ما كتبه العلامة الفيلسوف الإمام الغزالي في الرد على المشبِّهة والحشوية في كتابه إلجام العوامّ فترجَّح لي أن كلام الإمام هناك استهوى القوم فقاسوا عليه لكن حيث لا يصح القياس لوجود الفارق فأدى قياسهم هذا لسوء الطالع إلى ما كاد يبطل القياس في ألفاظ اللغة حيث تمس الحاجة إلى القياس وحيث لا مانع يمنع منه عقلاً أو نقلاً وبيان ذلك. (إنه ورد في السنة ألفاظ في حق الباري سبحانه وتعالى توهم الجسمية كاليد والعين والاستواء والنزول وغير ذلك مما أخذها الحشوية دليلاً على التجسيم واستغووا بها العامة وبعض الخاصة بزعمهم أن ذلك مذهب السلف فتصدى الإمام للرد عليهم وإليك بعض كلامه قال: وحقيقة مذهب السلف أن كل من بلغه حديث من هذه الأحاديث من عوام الخلق يجب عليه فيه سبعة أمور: (1) التقويس (2) التصديق (3) الاعتراف بالعجز (4) السكوت (5) الإمساك (6) الكف (7) التسليم. ثم فسر الإمساك بما نصه بالحرف الواحد قال: وأما الإمساك فأن لا يتصرف في تلك الألفاظ بالتعريف والتبديل بلغة أخرى والزيادة فيه والنقصان منه والجمع والتفريق بل لا ينطق إلا بذلك اللفظ وعلى ذلك الوجه من الإيراد والإعراب والتصريف والصيغة. ثم أفاض الإمام في هذا الموضوع بما هو غاية في بابه وحريّ بكل عالم من علماء الكلام عند المسلمين وبكل عالم من علماء اللاهوت عند المسيحيين أن يقف عليه فإنه مما تتطاول إليه الأعناق وتطمح إلى مثله الأبصار في كل زمان ومكان. ولا يبعد عندي أن علوّ طبقة كلام الإمام الغزالي في هذا المقام الكلامي التنزيهي هو الذي استهوى أهل هذه الفئة التي أشرنا إليها فعمموا الإمساك في كل ألفاظ اللغة مع أن الإمام خصه ببعض ألفاظ منها وردت في القرآن وفي بعض الأحاديث مما تُوهم التجسيم وبذلك حظروا على الكتبة والمتكلمين استعمال القياس حيث لا محظور من استعماله فأبطلوا القياس بالقياس فيا لَلغرابة ويا لَلفهم والنظر الصحيحين! . والغريب أن بعضًا من أهل الفئة يتسامحون في القياس إلا أنهم يتأَبّوْنَ كل لفظ قاسته العامة أو استعملته على سبيل الكناية أو المجاز مع أن مسوغ القياس والمجاز هو من الظهور حتى لم يخفَ على هؤلاء. وربما استعملوا بدلاً من ذلك اللفظ لفظًا آخر هو في الأصل قياس أو مجاز، من ذلك: خابره في مسألة كذا أو تخابروا، فإنهم لا يسوغون استعمال هذه اللفظة ويعدلون عنها إلى: نابأه في مسألة كذا، وتنابأوا. مع أن هذه الأخيرة مأخوذة من النبأ والأولى من الخبر. والخبر والنبأ بمعنى واحد إلا أن الخبر أعرف وأعم وأشهر. وكذلك يَأْبون استعمال تكاتفوا على كذا من الكتف ولا يرون أنها كتظاهروا من الظهر على حين أن وضع الكتف للكتف في التعاون أقرب للفهم؛ لأنه أكثر مشاهدة من وضع الظهر للظهر. وبعضهم يرون استعمال التوفير من الكبائر ليس إلا لأن العامة تستعمله بالمعنى الذي يراد استعماله أو وضعه له. وبعضهم يشدد النكير على عائلة الرجل بالمعنى الذي تستعمله للعامة مع أنها (كعاقلة الرجل) من عال عياله كفاهم معاشهم ومؤنهم أو من عال الشيءُ فلانًا أهمه، ومفادها بالقياس على عائلة الرجل أنهم الجماعة الذين يعولهم أو الذين يهمونه، ولا أوضح من الكناية بها على نفس المعنى الذي يراد في استعمالنا الدارج. ومثل ذلك تشديدهم على الدارج والخارج والخارق إذا استعملت بالمعاني التي تستعمل لها في الدارج. وكل هذا غفلة عن النظر الصحيح وقد جر إليه ما استهوى القوم من القواعد الموضوعية لتنزيه الباري تعالى عن الجسمية على ما ألمعنا إليه. فيا لله متى نعدل عن هذا التحرج الذي يقضي العقل والنقل بتركه؟) . (ولا يسعني المقام الآن أن أخوض في هذا البحث إلى نهايته وربما عدت إليه في آخر إذا أفسح لي المقتطف الأغر مجالاً بين صفحاته. ولنرجع إلى فتاة مصر فأقول: إن الكاتب قال في صفحة 31 آخر الوجه: ولكن الرجل الغني المطموع فيه يتناتشه الناس من كل جهة، فإن كان مبدأ الفئة التي أشرنا إليها صحيحًا كانت لفظة (يتناتشه) فيها شيء من العامية، وعندي أن هذه العامية هي في منتهى الفصاحة، ويا ليت الكاتب جاء في روايته بمئات من أمثال هذه اللفظة فإنها لم تخرج عن القياس الواضح الذي لم يتغيب حتى عن العامة) اهـ. (المنار) إن علماء العربية قد بينوا ما هو قياسي في اللغة كالتثنية والجمع الصحيح وما هو غير قياسي وهو ما يعبرون عنه بالسماعي ووضعوا لذلك القواعد والضوابط ومنها أن أبنية الأفعال سماعية لا يصح أن تأتي من كل مادة بكل بناء وإن سمع مثله من مادة أخرى، فإذا علمنا أنهم استعملوا من مادة الحيرة (حار وحيَّر وتَحيّر واستحار) فقط اكتفينا بها ولم نزد عليها أحير إحارة وحاير محايرة واحتار احتيارًا وتحاير تحايرًا وحيرر حيررة وتحيرر تحيررًا.. إلخ، وعلى هذا درج العلماء والكتاب ومضت سُنتهم في انتقاد من خالف هذه القواعد فجاء بشيء غير مسموع وهو مما لا يصح فيه القياس وإذعان المخالف للمنتقد إلا أن يكون في المسألة خلاف في كونها مقيسة أو غير مقيسة فيذهب كل إلى مذهب حتى قام في هذا الزمان أناس يرون أنه يجب أن يتصرف كل كاتب في اللغة كما يشاء ويختار فيدخل فيها من العامي والمخترع والدخيل ما يستحسنه بلا قيد ولا شرط إلا مراعاة أفهام القارئين! ولو جرى الناس على هذا الرأي في جميع الأقطار العربية لأصبحنا بعد زمن غير طويل والمصري لا يفهم كتاب العراقي، والحجازي لا يفهم كتاب المراكشي بل لصارت اللغة غير العربية المدونة في الكتب ولاحتجنا إلى معجمات جديدة وإلى نحوٍ وصرف وبيان أيضًا لكل قطر! . رأيت المنتصرين لهذا الرأي ثلاثة أصناف: الأول: قوم قليلو البضاعة في هذه اللغة وفنونها وقد نصبوا أنفسهم للكتابة والتأليف وهم كثيرون {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} (محمد: 30) . والثاني: أناس يريدون إفساد العربية وهم قليلون. والثالث: أفراد متساهلون في أمر الألفاظ لتعظيم شأن المعاني وهم على سعة في العلم وقوة في الفهم وجبر أفندي ضومط من هذا الصنف، ولذلك يوجد في كتابه من الأغلاط اللفظية ما لا تجد مثله في كلام مَن لا يدانيه في فنون العربية. يوجد في مقابلة أصحاب هذا الرأي قوم جامدون على النقل كما قال جبر أفندي حتى ضيقوا أبواب المجاز والنقل والقياس ولكنني لا أظن أنه يوجد في المشتغلين بالعربية من يقول في اللغة كلها بمثل ما قال الإمام الغزالي في صفات الباري سبحانه وتعالى، مثل ذلك أن ما جاء من هذه الكلمات المتشابهات مفردًا مثلاً يمتنع تثنيته وجمعه كلفظ (عين) فقد ورد {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} (طه: 39) ولكن لا يجوز أن يقال: إن لله تعالى عينين إلا إذا ثبت ذلك بنص من الشارع فهل يعرف المنتقد أحدًا ممن يصفهم بالجمود يقول: لا يجوز تثنية شيء من ألفاظ العربية ولا جمعه إلا بنقل عن العرب؟ إني أجزم جزمًا بأن رأي الغزالي وغيره في هذه المسألة لا دخل له في هذه المسألة قط. وهناك قوم آخرون وسط بين هؤلاء وأولئك يقولون: إن باب القياس في أصل العربية أوسع منه في عرف واضعي الفنون ولا سيما البصريين منهم وإنه ينبغي لنا أن نسلك في العربية مسلك أهلها في الاشتقاق من الجوامد والتعريب والتجوز وغير ذلك ولكن يجب أن لا نجدد فيها إلا ما نحتاج إليه ولا نجده في كتابها وإلا كانت الزيادة تكثُّرًا يثقل علينا احتماله بغير فائدة أو من قبيل تحصيل الحاصل الذي لا يرضى به عاقل، فكلمه (احتار) مثلاً لا حاجة إليها؛ لأنه ورد بمعناها حار وتحير وكاتب هذه السطور يرى هذا الرأي ولكنه لا يطلق العنان فيه للأفراد لما يترتب على ذلك من الفساد الذي أشرنا إليه في فاتحة الكلام بل يحتم أن يكون برأي جمعية من العلماء يبحثون في ذلك ويجعلون له نظامًا وينشرون ما يرونه صوابًا في الصحف ليعم الاستعمال، ويُؤمن الاختلاف، ولا يجوز الخروج عن شيء من النظام الحاضر في مملكة اللغة إلا بعد اجتماع أهل العلم والرأي ووضعهم لها نظامًا جديدًا بعد المشاورة والمذاكرة خلا ما يضطر إليه الكاتب أحيانًا من الحاجة إلى كلمة، وقلما يقع ذلك مني عن عمد ومن هذا القليل استعمالي لفظ (تطور) بمعنى الانتقال من طور إلى طور وقد فسرتها في عنوان المقالة (تطور الأمم وانتقالها من حال إلى حال) . ومن الغريب أن جبر أفندي أقام النكير أيضًا على من ينتقدون الخطأ النحوي في الكلام ورماهم بأشنع الجهل فبالغ في ذمهم بأشد من مبالغة بعضهم في تبجحه بذلك. وسنذكر في الجزء الآتي شيئًا مما خالف فيه القياس لتساهله.

حال المسلمين في تونس والإصلاح

الكاتب: عالم مدرس بجامع الزيتونة

_ حال المسلمين في تونس والإصلاح لعالم مدرس بجامع الزيتونة الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. أحييك أيها المصلح المخلص النصوح الغيور منشئ مجلة المنار الغراء الأستاذ السيد محمد رشيد رضا دام عِزّه، وبوأ من الحفظ حرزه، تحية تعرب عما في الضمير من الشوق إلى سدتك العليا، وحضرتك الشما، ومقامك الأسنى، ممن قدرك حق قدرك، وأدرك فيما تؤمله من الإصلاح حقيقة أمرك، فاهتدى بمنارك إلى سواء السبيل، رغمًا عما يلاقيه أولئك المهتدون من قوم لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق إلا مَن رحم ربي من أساتذة خدموا الأمة والدين وتحملوا في الدعاية إلى ذلك ما يلاقيه المصلحون، من هَمَج رعاع مع كل ريح يميلون، ضلوا وأضلوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا! . ولكن - والمنَّة لله - لم يُثبّط ذلك عزائمهم فما وهنوا لما أصابهم من النكبات، ولا وقفوا لما اعترض سعيهم من العقبات، ممن حسبهم المحافظة على صور العبادات، والتشبث بأهداب العادات، والتمسك بما قاله الأقدمون ولو قبيحًا، وتزييف ما قاله المتأخرون ولو صحيحًا، يزعمون أن ذلك هو الدين، وتجاوُز حده اتباع لغير سبيل المؤمنين. ولولا أن منَّ الله على الأمة التونسية بزعيمها الفاضل العالم المصلح الأستاذ ... لم تبرح في أدوية الضلال تهيم حتى تخرجت من جامعنا (الزيتونة) نشأة هذّب الأستاذ أبقاه الله أخلاقها وأطلق أفكارها من قيود التقليد فأصبحت مجرورة الأَرْسان تركض في ميادين الحرية وإني لمقصر في أداء ما يجب من شكره على ما أسداه إلى أمتنا عمومًا وإلى الحقير خصوصًا من نعم تضيق المهارق عن استقصائها، ويكلّ اليَراع إذا كلف بإحصائها، وحسبي ما أثقل به عاتقي من منة التعريف بذلك الأستاذ الإمام قدس الله روحه، فلست والحمد لله من قوم زعموا أن ذلك الفاضل قد ضل ضلالاً مبينًا. بل أقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى} (النجم: 1-3) ولكن مَن لم يكن بمرتبتك من العقل لم يذق مذاقك من الفضل، ولعَمْر الله إن مَن سرح بصره فيما نشرته مجلتك الغراء في ترجمة هذا الفقيد علم مصيبة رزئه على الدين وما هو بأول هدى لمنارك الذي يهدي الله لنوره من يشاء لا برح منارك يبعث من أشعته ما يهتدي به الساري فيدأب القالي أن يطفئ منها ما يغيظه من مساعيك المشكورة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. اهـ. (المنار) نشرنا هذه الرسالة لما فيها من الفائدة التاريخية في رأي المسلمين بتونس وحالهم بالنسبة إلى دعوة الإصلاح وإمامها المرحوم، وحرية الفكر ورغبة في الصلة العلمية الإصلاحية بيننا وبين ناشئ جديد في العلم يرجى خيره ونشكر لهذا النبيه الفاضل حُسن ظنّه بِنَا. ومن العجب أنه قد عهد إلينا بأن نكتم اسمه دون اسم أستاذه المصلح الذي أرشده إلى الحقيقة، وأقامه على الطريقة، ولا ندري أنسي أم هو يعلم أن أستاذه قوي العزيمة، شديد الشكيمة، لا يَرُوعه جهل الجاهلين، ولا يبالي عذل العاذلين، ولكننا رجحنا الأول احتياطًا. ونسأل الله التوفيق والنصر لهذا الحزب المصلح في تونس بمنه وكرمه.

حال المسلمين في حضرموت والإصلاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حال المسلمين في حضرموت والإصلاح رسالة أرسلها الأديب صاحب الإمضاء من حضرموت إلى السيد حسن بن شهاب في سنغافوره (بعد اطلاعه على رسالة له أرسلها إلى حضرموت يدعو بها إلى الخير) فرأينا أن ننشرها لما فيها من الدلالة على حالة البلاد العلمية والأدبية، وهي: كتابي إلى حضرة الماجد الفاضل السيد حسن بن علوي بن شهاب أسعد الله أيامه، ورفع على هام السِّماك أقدامه، والروح إلى وسيم طلعته شيقة، والعبرة لما منيت به من البيْن مترقرقة، والقلب مطبوع على الود له والثقة، وقد اكتظ بالاشتياق، وقام فيه نبت الحب على ساق، ولم أزل أكاتمه وأنا منه في عناء، حتى احتج عليَّ بقول أبي الطيب: * وألذ شكوى عاشق ما أعلنا * ويقول الآخر: * فصرِّحْ بمن تهوى ودَعْني من الكنى * فحينئذ فضضت ختمه، ورفضت كتمه وبعثت هذه البطاقة منهية لكم ما لديَّ من الشوق المبرح، والبين المطوح، فإني إذا تصورت مجالسكم الفائقة، وتخيلت منادماتكم الرائقة، استخفَّني الطرب، وهزتني أريحية الأدب ولولا أن جناحي كسير لأوشكت أن أطير، لأقضي حق قرابته التي لا تجحد، ولله دَرّ حبيب بن أوس حيث أنشد: إن يفترق نسب يُؤلّف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد وأيده الآخر: وقرابة الأدباء يقصر دونها ... عند الكريم قرابة الأرحام ومما يزيدني كلفًا ويحشو حشاي شغفًا، عدم أنيس أتسلى به، وأتنزَّه بمُلَحه وأدبه، لا أجد إلا من يسخن العين منظره، ويَكْلم القلب مخبره، ويتعب الروح مقامه، ويصكّ السمع كلامه، أما هؤلاء حولي بكل مكان منهم خلف، تخطئ إذا جئت في استفهامها بمن. وعلى كل حال فالحرّ حيثما كان مصابٌ ببلية كالمصحف في حانة خمار أو بيت بغية، ثم إني رأيت منكم كتابًا لبعض مكاتبيكم أثنيتم فيه على الأيام، وشكوتم مقامكم هناك وعسى أن يكون من قَبيل قول أبي تمام: وإذا تأملت البلاد رأيتها ... تشقى كما تشقى الرجال وتسعد وقد وقفت على رسالتك التي رقمتها، وبوشي البديع نمنمتها، فوجدتها بارعة المبنى، رائعة المعنى: إذا سمع الناس ألفاظها ... خلقن لها في القلوب الحسد غانية غنية عن الإطراء والمدح، معرضة عما يرميها به الناقصون من القدح، ولا بد للحسناء من ذامّ، وإنما ينشأ ذم المسك من الزكام: وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم ولقد نثلت الكنانة، ونفضت الجعبة، ولكن شكوت إلى غير ماجدة، وجلبت بضاعة كاسدة، وجلوت الحسناء لعِنِّين، وقد ذم الله قومًا {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الوَاعِظِينَ} (الشعراء: 136) فما بالك بقوم زادتهم العظة نفورًا، ومنَّتهم أنفسهم غرورًا، فلو دعوتهم ليلاً ونهارًا، لم يزدهم دعاؤك إلا فرارًا، نعم لو غيرك قالها من الذين نصبوا بإظهار التنسُّك فخاخ الكيد، وتعارجوا لشنشنة عرفوها عن أبي زيد لعثرت ظاهرًا بطائل من القول، ولكن ما شأن أولئك إلا الإحالة على الأماني الخائبة، والمخرقة بالقصص والأباطيل الكاذبة، وقد استنسر بأرضنا بغاثهم، وكثر لافترائهم تراثهم، فالله للناس من خداعهم ومكرهم، فقد ضاق الحزام على الطبيين. أما ما طلبته من نشر الدعوة المطابق لحقيقة حكم الشرع فدونه خرْط القتاد، كيف وقد أدرجوه في لفائف الأغراض، وبرقعوا محياه بهذه المداهنة، وجعلوه ذريعة لاستجلاب الأبيض والأحمر، هيهات هيهات! لَذاك أعز من مخ البعوض فلا تبحّ صوتك بنداء الجماد، ولا تضع نفخك في رماد، فإنما شمت خلبًا، ورأيت سرابًا، واستمطرت جهامًا، فارجع البصر، لا تغرنّك الشيات والصور، إنما كل ما ترى بعر، ودونك فالتمس لنصحك أناسًا غيرهم، أما هم فما أَمْهروا نحلتك إلا بالإعراض، ولا قرّضوها إلا بلساني المِقْراض، وبالجملة فالمعروف بينهم زَمِنٌ، وجدير بأن يتمثل له ببيت أخي خزاعة، وقَمِنٌ وقد اخلولق أن يدفن في الرمس، وينهار في الطمس، ويصير كأن لم يغنَ بالأمس، غير أني لا أقنط من رحمة الله ولا أيأس، وأترجى من الدهر أن يبتسم ويتنفس: فللنجم من بعد الرجوع استقامة ... وللبدر من بعد الرجوع طلوع ومنذ أيام أنشأت رسالة في تزييف ما شاع عندنا من تعظيم يوم عاشوراء وإظهار السرور فيه، وقراءة أحاديث وحكايات في فضله لا يقبلها إلا سفيه، وهي واصلتكم في طي هذا، فانظروا بعين الرضا الكليلة، وما وجدتم من خطأ فاجعلوا الصواب بديله، واعرضوها على السيد الجليل الشهم النبيل، محمد بن عقيل، وإن رأيتم حذف شيء منها أو زيادة فلكم الرأي الأعلى. والمأمول منكم طبعها ليحصل الانزجار بها أو إرسالها للأستاذ الحكيم منشئ مجلة المنار لنشرها في مجلته وقد ارتضاها من رآها وما للمعاند حجة إلا قوله: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} (الزخرف: 23) تلك كلمة هو قائلها جاهلاً بأنه يفضي إلى الهلاك ساحلها، ودمتم والسلام. ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن بن عبيد الله بن محسن السقاف

رسائل سنغافوره

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسائل سنغافوره وردت لنا عدة رسائل من سنغافوره تدل على أن بين العرب الكرام المقيمين هناك تنازعًا وتخاصمًا وتباغضًا وتحاسدًا تألم له النفس ويضيق منه الصدر. إن أولئك الكرام أجدر الناس بالوفاق والوئام، كما يليق بهدي دينهم وطيب عنصرهم. *** رسالة أحد أعضاء الجمعية الخيرية فمن هذه الرسائل ما كتبه إلينا أحد أعضاء الجمعية الخيرية هناك وكتب بمثله إلى المؤيد فنشره المؤيد غير مستحسن لهذا الخلاف واعظًا أهله وعظًا إجماليًّا نافعًا لمن تدبره فرمى عن قوس عقيدتنا في ذلك. ينكر الكاتب على السيد حسن بن شهاب ما كتبه في المؤيد يفوق به سهام اللوم على مسلمي سنغافوره وعربها الكرام لتقصيرهم في تعليم أولادهم وغير ذلك مما يرقيهم ويرفع شأنهم ويرد عليه وعلى كاتب آخر كتب مثل ما كتب بإمضاء (حزين) بقوله: (إن مسلمي سنغافوره عمومًا وعربها خصوصًا استشهروا استشهار الشمس في الرابعة بالمحافظة على الشرف والدين والسير على نهج الآداب وتعليم أولادهم لا كما زعم ذوو الأغراض في تينك المقالتين) ثم أيد كلامه بأن الجمعية الخيرية لم تزل منذ تأسيسها (6 شعبان 1314) (توالي جلساتها باهتمام فائق فيما يعود نفعه ويجب القيام به في مصالح المسلمين) وذكر من ذلك أنها كانت عزمت على إنشاء مدرسة لتعليم كتاب الله وعلم الكتابة والحساب ولكن السيد محمد السقاف قام بذلك (جزاه الله خيرًا) وأنها تحتفل باستقبال الوافدين إلى سنغافوره من أمراء المسلمين وقناصل الدولة العلية وأنها لم تزل قائمة بالإصلاح بين المسلمين وحل ما يشكل من اختلافهم والسعي في ائتلافهم وأنها أنشأت جمعية أخرى تحت مراقبتها سميت (جمعية مصالح المسلمين) وطلبت من الحكومة دفن وتجهيز مَن يموت من فقراء المسلمين في السجون والمستشفيات وأنها تدير الرأي الآن في القيام بترميم الجوامع التي تحتاج إلى الإصلاح وبفتح مدرسة كبيرة. هذا ما ذكر الكاتب من أعمال الجمعية الخيرية ثم ذكر أنها في آخر جلسة لها قررت فصل السيد حسن بن علوي بن شهاب والسيد محمد بن عقيل من أعضائها؛ لأن الأول نشر كلامًا عن السيد عبد الله بن عبد الرحمن العطاس لا ظل له من الحقيقة، والثاني نقل كلامًا في تخطئة الجمعية. فهذا ملخص الرسالة. نشكر للجمعية كل ما ذكر من أعمالها وندعو الله أن يوفقها لخير مما عملت ونقول لأعضائها الكرام بلسان الإخلاص: إن خير هذه الأعمال التي ذكرت هو إصلاح ذات البيْن ولكن كيف كنتم ولا تزالون تصلحون بين الناس وقد عجزتم عن إصلاح ذات بينكم أليس السيدان اللذان قررتم فصلهما من الجمعية هما من خياركم ومن المعروفين في جميع أقطار الإسلام بالغيرة والفضل. ألم يكن خلاف أحدهما مع السيد العطاس مما يجب تلافيه بالإصلاح بينهما؟ أيجوز أن يهجرهما سائر أعضاء الجمعية لانتقادهما على مسلمي سنغافوره تقصيرهم فيما يرقيهم وعلى الجمعية نفسها تقصيرها فيما يجب؟ أليس كلاهما حقًا؟ أيعدّ الاحتفال بأمراء المسلمين وأمثاله ترقية للمسلمين في هذا العصر. أيكفي ذلك الكُتاب الذي أنشأه السيد محمد السقاف (جزاه الله خيرًا) لترقية أبناء المسلمين وهو لا يُعلم فيه غير ألفاظ القرآن الكريم والحساب والخط؟ أين التفسير والحديث والتوحيد والفقه والأصول؟ أين وسائل هذه العلوم من فنون عربية؟ أين تاريخ الإسلام والتاريخ العمومي الذي ينير العقل؟ أين العلوم العصرية التي هي أساس الثروة والعزة في هذا العصر؟ لعل أعضاء ٍالجمعية الكرام يصلحون ذات بينهم ويعودون إلى الاعتصام، والتعاون على المصلحة العامة والسلام. *** عدة رسائل في تزوّج الهندي بالشريفة وردت لنا عدة رسائل في هذه الواقعة التي سبق لنا القول فيها فرأيناها يناقض بعضها بعضًا، وعلمنا منها أن الناس فيها فريقان كلٌّ يؤيد رأيه ويفند رأي الآخر على اعتقاد أو تحيز، فإن نشرنا هذه الرسائل كلها ولا فائدة في شيء منها كنا ظالمين لقراء المنار. فإن قال قائل: إنك أفتيت في المسألة، ثم نشرت بعض الرسائل فيها فيجب نشر الباقي أو النظر فيه والمقابلة بينها وبيان ما يظهر بعد ذلك أنه الحق. نقول: إن الفتوى كانت على حسب السؤال لا على حسب الواقع الذي لم نطلع عليه. ونكتفي بأن نقول لقراء المنار هناك: إننا لا نرجح قول أحد في المسألة فليكن ما نشر في السؤال وغيره كأن لم ينشر. *** رسالة ذي أذن واعية ملخص هذه الرسالة أن شيخًا معممًا يمقت المنار؛ لأن تعليمه يقلل من كسبه وأكله لدينه - جمع زعنفة لمقاومة محبيه وقرائه وتكلم فيهم بالباطل ثم عقد اجتماعًا دعا إليه بعض هؤلاء المحبين للمنار وبعد أن أسمعهم من الطعن ما ظن أنه أظفره بهم قام عالم منهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إن كنتم تحبون شأن المؤمنين فقد قال رب العالمين: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ..} (النور: 51) الآية، وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ..} (النساء:65) الآية فهلمُّوا إلى حكم الله. وإن كنتم تريدون غير ذلك، فالمحاكم الإنكليزية مفتوحة الأبواب واعفونا من السباب) فبهتوا وعلموا أنهم عاجزون عن حزب الحق من جهة الشرع والقانون جميعًا. هذا ملخص الرسالة وإنما لم ننشرها بنصها؛ لأن كاتبها خالف طريقة حزبنا فطعن بهؤلاء المتعرضين وذمهم ونحن ندعو الله أن يلهمنا وإياهم الأدب والصواب، ويحسن لنا ولهم المرجع والمآب.

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر المكتوب السادس - التربية الدينية والفلسفية [*] من أراسم إلى أميل قد حزرت يا ولدي مقاصدي في تربيتك الدينية فإني أردت أن أخلي بينك وبين عقائدك مع علمي بمخالفتي في هذا مخالفة تامة لما تجري عليه الأمور عادة ذلك أن الطفل لا يكاد يولد حتى ينسب إلى أحد المذاهب التي تتنازع حكومة الدنيا فيتكفل والداه بتقليده دينًا محتجين فيه بعدم أهليته (وهو أمر بيِّن البداهة) لأن يحكم بنفسه ويسبق عرف بلاده وعوائد قومه وتقاليد بيته إلى تحديد الدين الذي يجب انتسابه إليه وهو الاستيلاء على نفسه وقد يقول قائل: إن الوالدين إذا فعلا ذلك فلأنهما يعتبران أنفسهما نائبين عن الأمة في القيام عن المولود قبل أن يعرف نفسه بنفسه فأجيبه: أسلم لك ذلك ولكني أقول إن كان من حق الأمة أن تؤدي إلى المولود دينًا كان حقًّا عليها أيضًا أن تختار له حرفة أو عملاً من أعمال الحكومة وإذًا نصير في حكومة دينية اشتراكية. لا ينبغي أن نجعل ولادة المولود سببًا لسلب حريته فإن انقسام الوالدين في ضروب الوجدان واختلافهما في الأفكار حتى في أيامنا هذه يجعل ولايتهما عليه مشكلة مرتبكة ذلك أنه لا حرب إلا حرب البيوت فإن شأن الوالدين في الدين غالبًا أن يكون الأب كافرًا والأم مؤمنة فكيف يكون الولد إذا تنازعه هذان المؤثران؟ أقول إنه يكون كأهل زمانه حيران عاجزًا فإنَّا كثيرًا ما نلاقي في الناس شبانًا مشغولين بترقيع سرائرهم بخرق من مذاهب المتدينين، يخيطونها مع آراء الأحرار من المفكرين، ونصادف آخرين شاكّين حائرين، مع بقاء استمساكهم بأوهام الواهمين، وقد فشا في الناس التباين والتناقض وعَمَّ بينهم التشوش والاختلاط. وأما أنت فإنك والحمد لله لم تُبتلَ بشيء من هذه المحن لأني وأمك لم نعتقد أن من حقنا أن نغتنم فرصة نوم عقلك فندعوك إلى اتباع ما نحن عليه بدون أن يكون فيه رضاك. واعلم أن لي ككل إنسان غيري رأيًا في المذاهب الدينية والحكمية التي يختلف الناس فيها وهو لا يلزمك شيئًا ولا ينبغي أن تحفل به. (أكرم أباك وأمك) ولكن لا تطع إلا قلبك فأنت حر، ومن حقك أن تسعى وراء معرفة الحق مستعينًا في ذلك بالهمة والبسالة والنزاهة، ولقد كان هذا السعي إلى اليوم خارجًا عن وسعك وبعيدًا عن مقدورك فيجب الآن أن يكون هو عملك في جميع حياتك. ومن المفروض عليك قبل أن تقتنع بشيء في مثل هذه المسائل الخطيرة أن تبحث فيها وتدرسها فإن مثَل من يرفض المذاهب الدينية أو الحكمية على غير علم بها كمثل من يقبلها بدون بحث فيها ولا نظر، كلاهما مناقض لنفسه، غير مسدد في رأيه، ولا شيء في الحقيقة أَدْعَى إلى الضحك من وقاحة أحداث الذين يجاهرون بأن المباحث النظرية التي ارتاض بها أمثال ديكارت [1] واسبينوزا [2] وباسكال [3] ولايبنتز [4] وهيجل [5] ليست خليقة بالتفاتهم وميلهم فللجهلة الأغبياء منهم كلمة يطنطنون بها في هذه الأيام وهي قول أحدهم وهو لم يفتح في حياته صحيفة من كتاب الكون: (ما لي ولإضاعة وقتي في حل ما لا يسبر غوره من مسائل وجود الله وخلود الروح ووحدة الروح والجسم أو تغايُرهما فحسبي الاشتغال بالعلم) . أنا لا أشك في أن العلم الآن مشتغل باستئناف عمل الديانات سالكًا فيه طرقًا أخرى مغايرة لطرقها كل المغايرة فإنه يرجو من البحث في الحوادث بحثًا تجريبيًا ومراقبتها مراقبة قريبة أن يصل إلى حق اليقين الذي أهل الدين يرجون بلوغه من طريق الهداية الإلهية وإني لجازم بأنه قد سلك أقوم المناهج لبلوغ الحق، وإن كان من المتعسر معرفة النتائج التي يؤدي إليها بحثه وإذا فقهنا حالة المعارف على ما هي عليه الآن وجدنا شأنه المطَّرد أنه لم يفدنا في بعض ما قد يهمنا استقصاؤه من المسائل إلا شيئًا من المعرفة قليلاً جدًّا فإنا إذا استثنينا علم تركيب الحيوان؛ لأنه قد أمكنه أن يؤدي إلينا معنى من معاني الإنسان على ما فيه من المذاهب المتعارضة والآراء المتناقضة وعلم طبقات الأرض؛ لأنه قد فتح لعقلنا منافذ نلمح منها على بُعد منشأ الحياة رأينا أن العلوم الصحيحة لم تكشف لنا الستار حتى الساعة عن علة ما من العلل الأولى والتى هي أهيج لشوق العقل من سواها ولكن قد يجيبني مجيب بأن هذه العلل لا ينبغي الاشتغال بها قطعًا؛ لأنها ليست من متناول العقل فأقول له ما هي غاية علمك في هذا؟ أتظن أن ما حصل من تجارب الإنسان في بضعة آلاف من السنين يسوغ تحديد قواه وملكاته المتزايدة أم تريد أنه يكفيه على كل حال أن يسدل الحجاب على ما يجهله لينيم طمع عقله ويخمد شوق إدراكه؟ . أنا لا أعتقد من هذا شيئًا بل أقول إن الإنسان لا يسهل عليه الاستخذاء للجهل والاستكانة له إما لشرف في طبعه أو لخسة فيه. ولو أنه كان يكفي للتخلص من المسائل المحيرة أن توصف بأنها معضلة لا حل لها لكان التقصي منها في غاية السهولة. كل حيّ يطلب النمو لجسمه ما عدا الإنسان فإنه هو الذي يختص من بين سائر الكائنات العضوية بطلب الارتقاء بفكره إلى ما وراء حاجاته المادية فطلبه الفكري موجود فيه سواء سمي خيالاً أو غريزة دينية، ولست أدري مطلقًا ما عسى أن يعود على العاملين على إزالته من العائدة بتكلف احتقاره والزراية عليه ومن ذا الذي في وسعه منهم أن ينتزعه من النفوس الشعرية فإن تطلع الإنسان إلى ما وراء حدود عقله من مقتضيات خلقته وليس من حقنا أن نعتبر بعض الأمور التي يتطلبها الفكر خادعة أو وهمية لمجرد أنها تحير عقولنا أو تنبو عن إدراكنا، فأما إن كان قصدهم تجريد ما يتصوره العقل من منتهى غايات الكمال مما يقارن تصوره من مروعات الوساوس والأوهام والأعمال المنبعثة عن النفاق والرياء فَبِها ونعمت، وأما مُدْركات العقل التي شغلت من التاريخ مكانًا كبيرًا فلا ينبغي التعرض لها بل لا بد أن يكون لها أيضًا محل في تربية الناشئين. ومن هذا ترى أنه لا يزال من حق الحكمة أن توجد مع العلم وأنه يبعد عليهما كل البعد التنافر والتنافي؛ لأن من شأنهما التضافر والتوافي. إن كثيرًا ممن يميلون إلى محو دراسة المذاهب الدينية والحكمية منقادون في هذا إلى حاجة طبيعية للانتقام وهم لا يشعرون فإنهم قد رأوا الحكماء ورؤساء الأديان المقررة في أيامنا هذه بلغوا من تعاطيهم للمظالم ومتاجرتهم بالسرائر ومقارفتهم للفظائع مبلغًا لجأ بالعقل في اشمئزازه من سيرتهم إلى الجحود المطلق فالقسيسون هم دعاة الإلحاد لا الماديون! . ومن اللغو تجسيم أمر الإلحاد فإنه ذنب ضعيف في ذاته يتزلزل مذعورًا أمام وجدان الإنسان وإنما الآثام المبينة والجرائم القوية الحقيقة بأن تدافع نور الهداية والعرفان هي التي يجرأ أصحابها عند اقترافها على التستر برداء الدين، نعم، تلك الآثام هي التي تمتاز بذلك الامتياز الهائل وهو قلب شئون الدنيا وتشويش أحوالها فمن ذا الذي لا يَحار حين ارتكابها من الأبهة الباطلة التي تسري من عقائد مرتكبيها إلى بعض ما يغتصبونه من ضروب السلطة والقوة تسمع بعض المتفكرين إذا راعهم تغلب الشر على الخير يصيحون قائلين: لأن لا يكون لنا إله خَيْرٌ من وجود إله ظالم [6] . ويعيب آخرون على المذاهب الدينية والحكمية أنها لم تبين للناس بيانًا مقنعًا شيئًا من المسائل المتعلقة بنظام العالم وتنازع الخير والشر والاضطرار والاختيار، وأنا أسلم لهم ذلك غير أني أقول: إن كلاًّ منها قد سما بفكر الإنسان إلى العُلى وغيَّر أحوال الأمم وهدى الناس إلى طرائف الفنون وأحيا من الطرف والملح ما لولاه لظل محجوبًا في مجاهل العدم، وكم نرى ممن يودون محو الدين المسيحي من تعليم الناشئين مَن لم يحسن التفكير فيما كان لهذا الدين من التأثير في آداب لغتنا وأخلاقنا وعوائدنا فهم يقولون: إنه رؤيا خبيثة رآها النوع الإنساني في منامه وأنه بنشأته في طور التدلي والهجمية حبس روح الشعوب في ظلمات الجهل، وكل ذلك محل للنظر والبحث، ولكن هيهات أن يقنعوا واحدًا من الناس بأن التيار الفكري الذي جاء به ذلك الدين فغير كل ما في الدنيا لم يكن ثَمّ موجب لوجوده. أنا أدعوك إلى دراسة هذا الدين الذي أنشأ مدنيتنا الحاضرة إنشاءً حسنًا أو سيئًا خلافًا للقائلين بإبطالها وأحثك على أن تأخذ فيها بالجد وترجع فيها إلى أصوله؛ لأن ما يخلص إليك من مطالعة الأناجيل لا شبه بينه وبين ما يؤخذ عن رجال الدين بحال من الأحوال فأنت ترى في الأناجيل مثلاً أن المسيح كان يأبى دائمًا امتثال أي عمل من الأعمال الظاهرة وكان يُستهدف لزراية اليهود عليه ولومهم له بمخالفته لهم كل وقت في السبت والصوم وغسل اليدين قبل تناول الطعام وغير ذلك من الأعمال المشروعة وإذا كان القلب يهتز لسماع بعض المواعظ الإنجيلية فليس ذلك ببدع فإن المسيح إنما جاء ليعلن للناس شرف صغارهم وسمو المستضعفين منهم ووجوب تكريم الطفل والحنوّ على المرأة الخاطئة وإنك لا تجد في غير كتابه أكثر مما تجده فيه من الميل العاطف إلى كل مكروب والرحمة لكل مهان ومحتقر ولا أكثر من ضروب الحرمان للمتكبرين المستأثرين الذين يبتغون العلو على غيرهم من المخلوقين، وقد كان لحبه للفقراء ولكونه نفسه فقيرًا يتتبع الأغنياء على الدوام دون غيرهم بنُذُره وأمثاله الرائعة ولا شك أن تمكن النصرانية مع مثل هذا الأدب الذي جاء به المسيح من تقوية امتياز الدرجات في الأمم الخالية وتأييد مزايا الأنساب وفرط التغاير في الغنى لم يحصل إلا ببلوغ رجالها في المكر حد الإعجاز، فتلك الأمم التي تسمي أنفسها مسيحية وتعتقد أنها على دين المسيح لم يدخل الإيمان في قلوبها قط! اعلم أن معرفة الشيء في وقت ما من أوقات وجوده لا تعد معرفة وإنما يعرف إذا عرف أصله وتاريخه ومصيره، وقد نتج من اتباع البحث في الحوادث الكونية على هذا الترتيب علوم كلها جديدة كعلم تكوُّن الأرض وعلم الأجنة فطرق البحث هذه هي التي ينبغى عليك تطبيقها على دراسة المذاهب الدينية والحكمية وليس عليَّ أن أتعرض بالتصويب أو التخطئة للنتائج التي يؤديك إليها بحثك إذا أحسنت فيه نيتك وصحت عزيمتك، وغاية ما أبتغيه منك أن لا تقبل من الأصول على أنه صحيح إلا ما تكون قد عرفت الحق فيه بنفسك. أقول ذلك وأنا أعلم أنى أطلب إليك أمرًا عظيمًا، ولكن ما حيلتي ولا وسيلة غيره لتنوير عقلك وهدايتك، نعم إن في الدنيا كثيرًا من العلماء الثقات المشهود لهم قد عهد إليهم تحديد العقائد الصحيحة في الدين والحكمة والسياسة والأخلاق فهم بعرفون كل شيء ويعلِّمون الناس كل شيء، وهذا السبب في أن نصف المتعلمين من الناشئين يعتادون على أن يفكروا بمخاخ بعض أفراد من الناس إن صح لي التعبير على هذا النحو. على أن ثمة أمرًا لن تتعلمه قطعًا في مدرستهم ألا وهو الحرية، فإذا كنت تطلب الحرية فعليك أن تطلب الحق في نفسك مستعينًا في طلبه بجميع ما لديك من عُدَد الاستدلال والنظر وإنك سيحصل لك غير مرة مع احتراسك وتيقظك أن تعتقد أن آراء غيرك هي آراؤك وتخطئ في كثير من المسائل قبل أن تعرف أغاليطك ولكن لا تنس أن قوت العقل كقوت الجسم لا يكسب إلا بعرق الجبين، وأن من أخلص في البحث عن الهُدى فقد أظهر بهذا البحث نفسه أنه جدير بالاهتداء. وفي ختام مكتوبي أقول لك من صميم قلبي: إني وَليّك الحميم. *** (المنار) لقد نطق هذا الفيلسوف بالحكمة؛ إذ أبان أن من غريزة الإنسان أن يبح

لامية أبي طالب في الشعب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لامية أبي طالب في الشِّعْب لمّا أظهر النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الإسلام عظم ذلك على قريش فقصدته ومَن آمن به بالإيذاء بل ائتمروا به وأزمعوا على قتله فمنعه قومه بنو هاشم وبنو المطلب فنابذتهم قريش وأخرجوهم من مكة إلى الشِّعب (وهو بالكسر: الوادي) شِعب أبي يوسف فأمر النبي مَن كان بمكة من المؤمنين أن يهاجروا إلى الحبشة وكان يثني على النجاشي بأنه لا يُظلم عنده أحد ودخل هو وقومه الشعب فقطعت قريش عنهم الأسواق ومنعتهم الرزق وأجمعت على أن لا تناكحهم ولا تقبل منهم صلحًا ولا تأخذها بهم رأفة حتى يسلموه للقتل وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة وتمادَوْا على ذلك ثلاث سنين فاشتد البلاء على بني هاشم في الشعب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب أن الأَرَضَة لحست صحيفة قريش إلا ما كان اسمًا لله قال: أربُّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فوالله ما يدخل عليك أحد ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني قط أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد سلط الله عليها دابة فلحست ما فيها فإن كان كما يقول فأفيقوا فوالله لا نُسْلِمه حتى نموت، وإن كان يقول باطلاً رفعناه إليكم. فقالوا: رضينا ففتحوا الصحيفة فوجدوها كما أخبر فما زادهم إلا بغيًا وقالوا: هذا سحر ابن أخيك. فقال: يا معشر قريش علامَ نُحبس ونحصر، وقد بان الأمر وتبين أنكم أهل الظلم والقطيعة، ثم دخل وأصحابه بين أستار الكعبة، وقال: اللهم انصرنا على مَن ظلمنا وقطَّع أرحامنا واستحلّ ما يَحْرم عليه منا ثم انصرف إلى الشعب، وقال هذه القصيدة. قال البغدادي في الخزانة: قال ابن كثير هي قصيدة بليغة جدًّا لا يستطيع أن يقولها إلا مَن نُسبت إليه وهى أفحل من المعلقات السبع وأبلغ في تأدية المعنى. اهـ. ونحن نذكر منها ما ذكر في الخزانة وقيل هي أكثر من ذلك، وهو: خليليَّ ما أُُذني لأول عاذل ... بصغواء في حق ولا عند باطل [1] خليليَّ إن الرأي ليس بشركة ... ولا نَهْنَه عند الأمور البلابل [2] ولما رأيت القوم لا وُدّ عندهم ... وقد قطعوا كل العُرَى والوسائل [3] وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل [4] وقد حالفوا قومًا علينا أظنة ... يعضون غيظًا حلفنا بالأنامل [5] صبرَتْ لهم نفسي بسمراء سَمْحَة وأبيض عضب من تراث المقاول [6] وأحضرت عند البيت رَهْطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل [7] قيامًا معًا مستقبلين رِتاجه ... لدى حيث يقضي خَلْفه كل نافل [8] أعوذ برب الناس من كل طاعن ... علينا بسوء أو ملحّ بباطل [9] ومن كاشح يسعى لنا بعيبة ... ومن ملحق في الدين ما لم نحاول [10] وثور ومن أرسى ثبيرًا مكانه ... وراقٍ لبرّ في حراء ونازل [11] وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل [12] وبالحجر الأسود إذ يمسحونه ... إذا كنفوه بالضحى والأصائل [13] وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافيًا غير ناعل [14] وأشواط بين المروتين إلى الصفا ... وما فيهما من صورة وتماثل [15] ومن حجّ بيت الله من كل راكب ... ومن كل ذي نذر ومن كل راجل [16] فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتقي الله عادل [17] يطاع بنا العِدَى وودّوا لو أننا ... تسد بنا أبواب تُرك وكابُل [18] كذبتم وبيت الله نترك مكة ... ونَظْعَن إلا أمركم في بلابل [19] كذبتم وبيت الله نُبْزَى محمدًا ... ولمّا نطاعن دونه ونناضل [20] ونسلمه حتى نُصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل [21] وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الرَّوَايا تحت ذات الصلاصل [22] وحتى نرى ذا الضِّغْن يركب ردعه من الطعن فعل الأنكب المتحامل [23] وإنا لعمر الله إنْ جدّ ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل [24] بكفي فتى مثل الشهاب سَمَيْدَع ... أخي ثقة حامي الحقيقة باسل [25] وما ترك قوم لا أبا لك سيدًا ... يحوط الذِّمار غير ذَرْب موكل [26] وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ... ثِمال اليتامى عصمة للأرامل [27] يلوذ به الهلاّك من آل هاشم ... فهم عنده في رحمة وفواضل [28] جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً ... عقوبة شر عاجلاً غير آجل [29] بميزان قسط لا يخسّ شَعْرة ... له شاهد من نفسه غير عائل [30] ونحن الصميم من ذؤابة هاشم ... وآل قُصَيّ في الخطوب الأوائل [31] وكل صديق وابن أخت نعدّه ... لعَمْري وجدنا غِبَّه غير طائل [32] سوى أن رهطًا من كلاب بن مرة ... براء إلينا من معقة خاذل [33] ونِعم ابن أخت القوم غير مكذب ... زهير حسامًا مفردًا من حمائل [34] أشمّ من الشمّ البهاليل ينتمي ... إلى حسب في حَوْمَة المجد فاضل [35] لعمري لقد كُلّفت وَجْدًا بأحمد ... وإخوته دأب المحب المواصل [36] فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها ... وزينا لمن ولاه ذبَّ المشاكل [37] فمن مثله في الناس أي مؤمل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل [38] حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلهًا ليس عنه بغافل [39] فأيده رب العباد بنصره ... وأظهر دينًا حقه غير ناصل [40] فوالله لولا أن أجيء بسُبّة ... تجر على أشياخنا في القبائل [41] لكنا اتبعناه على كل حالة ... من الدهر جِدًّا غير قول التهازل [42] لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل [43] فأصبح فينا أحمد في أَرُومة ... يقصر عنها سورة المتطاول [44] حدبتُ بنفسي دونه وحميته ... ودافعتُ عنه بالذرى والكلاكل [45]

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ (هدية الابن) رسالة كتبها بشارة أفندي إلياس عيد الحاج بطرس التاجر السوري ببلدة (إفارة) بالبرازيل وطبعها وجعلها هدية باسم والده المقيم في (بكفيا) بلبنان. وهي تعريف ببلدة إفارة خاصة وببلاد البرازيل عامة وبحال المهاجرين السوريين في تلك المملكة. ومن فوائد الرسالة أنه كان فيمن أرسلت حكومة البرتغال لاستعمار البرازيل عيال كثيرة من بقايا السلالة العربية لكي تنظف بلادها من النسل العربي. إذًا قد كان العرب من المستعمرين الأولين لهذا البلاد وجرى السوريون على آثارهم فهم من خيرة المهاجرين إلى تلك البلاد. *** (تربية النفس بالنفيس) خطاب ألقاه الدكتور محمود بك لبيب محرم في نادي المدارس العليا بالقاهرة. أما موضوع الخطاب فيعرف من عنوانه وأما أسلوبه فيمثل لك أسلوب بعض المتصوفة الذين كتبوا الأجفار والمصنفات في علوم الأسرار في مزجهم اصطلاحات العلوم الكونية بما يضعونه من الاصطلاحات الغيبية الملكوتية بل هو أغرب مفرداته وجمله، ومثاله، ومثله وإليك مثالاً منه: (إن الحقيقة فردية لا تتجزأ، وإن الكون جوهر لا يتداعم، هؤلاء لا يفتشون عن بواطن الأشياء، ويكتفون بعلم ظواهرها العاملة، هؤلاء لا يعرفون للكون في الكون إلا نقطا (ضبطت في الأصل كقفل) واحدًا فسمه المركز لأهل الكرة الأرضية، ودعه مركز السماء لأهل السموات العلية، وأطلق عليه قلب الفلك للسموات والأرضين السمية والدنية، وسمه الطبيعة إن كنت ممن يصيح بأن (المادة لا تتجدد ولا تنعدم) وقل عنه الروح (بالفتح) إن سألك أحد طلبة (تناسخ الأرواح) ! وصِفه بالجريثمة (الميكروب) إن تَجْهورت في نظرك الذرات؟ وعرفها بالتخلق إن درست علوم النشوء وتابعت (داروين) ، وسمها الصوت إن كان لك ميل في تعرف النغمات الموسيقية وفنونها، ونادها صورًا متحركة وثابتة إن كنت تهوى الأحسن والأجمل من الفنون والأفنان، وقُلْ عنها الروح إن سُئلت من آل مذهب (تناسخ الأشباح) وصفها بالذرة إن كنت ممن يستعين على رؤية دقائق الأشياء بالمناظر المُجَهْوَرة (الميكروسكوب) واصطلح عليها سياسة الاقتصاد للجامعة الإنسانية إن وددت تسيير الأمم إلى طريق الهدى والسلام، وعمار الكون بمن تَخَلّق ونشأ فيه، وألفتها (الكرية) إن درست معلومات هارفي ومن اتبعه، واقرأها الحرف في كلم اللغويين. وسمها الصوت إن كان لك شوق إلى (سفينة الشيخ شهاب) ، أو تحب استماع مناغات الطيور على أوكارها. أو تميل إلى تفنن الضاربين على الأوتار والمطربين بأصواتهم الرخيمة، وارسمها أشكالاً متحركة وثابتة إن كانت جِبِلّتك تهوى الجميل من الفنون والأحسن من الأشكال والألوان المصورة وغير المصورة. وسيرها سفينة تجري في الفلك بأمر مدير دفتها. ومبخر مائها ومحرق قلبها إن تطلبت العلم ولو في الصين وأَجْرها سيارة بإرادة قائدها وقوة جاذبيتها ورافقها إن كنت تبغي حرية الحركة والسكون المطلق فادعها كما شئت بما شئت وفى أي مكان وزمان شئت. لا سماع بين التصويت والتسكيت لا رؤية بين الظلمات والنور. لا نمو بين الجوع والشبع. لا انتقال بين الحركة والسكون لا مفرق بين الأبيض والأسود لا تجزئة بين الكل والفرد. لا هيولة بين الجوهر والعَرَض. لا شفاء بين العرض والمرض ولا تعليل بين البيت واللحد. ولا روح بين القلب والجسد. ولا شك بين القاتم والعاتم. لا صوم بين الشك والرؤية. لا دفء بين الماء والنار. ولا تيمم بين البطلان والرجحان) . اهـ المثال بنصه وضبطه. حَسْب القارئ هذا فقد ملّ أو كاد إذ لم يقرأ في حياته كلامًا كهذا الكلام ألفاظ من اصطلاحات العلوم الطبيعية والدينية والصوفية والجغرافية تشبه خرزًا من أنواع شتى وُضع في علبة وخضخض حتى اختلط بعضه ببعض ثم استخرج فنظم نظمًا غير مألوف ولا معروف. فيا ليت شِعْري ماذا كان من أمر أعضاء النادي عندما ألقاه عليهم الدكتور؟ ماذا فهموا منه؟ هل قابلوه بتصفيق الاستحسان، أم بصفير الاستهجان؟ . *** (الرزنامة التونسية لسنة 1324) كتاب كبير يصدر في كل عام تزيد صفحاته على أربع مئة صفحة كبيرة فيها من الفوائد الفلكية والتاريخية والأدبية والسياسية والإدارية والتجارية ما لا يستغني عنه قراء العربية في تونس وغيرها ومؤلفها سيدي محمد بن الخوجة من أفضل الكُتاب في تونس وأوسعهم علمًا واطلاعًا على الكتب العربية والإفرنجية ومن فوائد القسم التاريخي في رزنامة هذا العام كلام مسهب لأحد علماء جامع الزيتونة الأعلام في بيان اختلاق ما كان نُشر في جريدة اللواء المصرية منسوبًا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو كتاب عهد كتبه للأرمن بزعمهم ولم أَرَ هذا العهد إلا في الرزنامة ولم أسمع بذكره أيام نشرته جريدة اللواء ومنها تاريخ صيد المرجان بمياه تونس وتاريخ شركات الأخبار التلغرافية وتاريخ خسائر الحرب بين روسيا واليابان وتاريخ الحمامات المعدنية بتونس. ومن فوائد القسم الأدبي معجم لأسماء الأعلام الإسرائيلية ومقابر الكلاب بباريس ومعدة التمساح. وأما القسم السياسي فهو خاص بحكومة تونس والحماية الفرنسية فيها وكذلك القسم الإداري وفيها كل ما تهم معرفته عن ذلك القطر. وفي هذا الجزء رسوم وصور كثيرة منها رسوم بعض المعاهد الحجازية الشريفة وقبر حواء أم البشر وصورة للرئيس ابن سينا مع ترجمته. وغير ذلك. وثمن النسخة من هذا الكتاب 15 فرنكًا وهو يطلب من إدارة جريدة المنبر ومن محل الحشاب في القاهرة. *** (طوالع الملوك) (مجلة فلكية جغرافية برزخية علمية تصدر في كل شهر عربي مرة لمنشئها السيد محمود العالم قيمة الاشتراك في مصر 50 قرشًا أميريًّا) وكنا كتبنا تقريظًا مطولاً لهذه المجلة الغربية في هذا العصر، فضاق عنه الجزء الماضي ولما لم يرد إلينا بعد الجزء الأول منها شيء وقد مضت أشهر اكتفينا بهذه الإشارة. *** (المنهل الصافي) مجلة علمية أدبية تهذيبية تصدر مرة في الشهر لصاحبها ومحررها محمد أفندي نجيب الخازني وكنا كتبنا لها تقريظًا جمع ولم يُنشر ثم فُقد وهي لا تزال تصدر بانتظام فنتمنى لها طول البقاء والرواج بالتوفيق للخدمة النافعة. *** (المِنبر) جريدة يومية أنشأها في القاهرة محمد أفندي مسعود وحافظ أفندي عوض الغَنيَّان عن الوصف والتعريف لشهرتهما بتحريرهما في المؤيد السنين الطوال وباشتغال الأول منهما بالصحافة مستقلاًّ (وتقويم المؤيد) وبهذا كانا جديرين بأن تكون بدايتهما كنهاية غيرهما في هذا العمل الجليل وأن يكونا مستقلين خيرًا منهما مقيدين برأي غيرهما ومما يقوي الرجاء في نجاح المنبر رغبة كثير من الكاتبين في أن يكونوا من خطبائه. فنسأل الله تحقيق الأمل مع التوفيق لخير العمل. *** (أبو الهول) جريدة عربية أنشأها شكري أفندي الخوري في سان باولو (البرازيل) تصدر كل 15 يومًا مرة. وشكري أفندي الخوري جدير بأن يفيد السوريين بجريدته ويستفيد من إقبالهم حتى تكون أسبوعية فيومية؛ لأن أسلوبه الفكِه في الكتابة يشوق القارئ لا سيما إذا كان سوريًّا فإنه يمزج الهزل بالجد فيجمع للقارئ بين اللذة والفائدة وعنايته بالمسائل الصحية والأدبية أنفع للناس من عناية غيره بالمسائل السياسية والمذهبية.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (زيارة الأمير لطلاب العلم في مسجد المرسي) أظهر الأمير لشيخ علماء الإسكندرية رغبته في زيارة مسجد أبي العباس لرؤية طلاب العلم الديني وعيّن لذلك يوم 14 ربيع الآخر فنظم الشيخ حلقات الدروس في ذلك اليوم وأمر المعلمين بتلقين أفراد من كل فرقة مسائل يسرّ الأمير سماعها وزينت مصلحة الأوقاف المسجد والطريق إليه زينة جميلة وَبَلَّغَتْ حاشية الأمير (المَعيَّة) شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية وغيرهما من كبراء الأزهر رغبته في حضورهم هذا الاحتفال وبعد الزيارة ذهب العلماء إلى قصر رأس التين وسمعوا من الأمير النصائح التي تتعلق بشئونهم وقلد بيده الشيخ شاكرًا الوسام المجيدي الثاني وهم ينظرون فبيّن لهم بالقول والفعل رضاه عن عمله في إدارة التعليم. لهج الناس - تبعًا للجرائد - بهذه الزيارة والنصائح الأميرية ومما قيل وكُتب أن الأمير أعزه الله وأعز به العلم - أظهر الارتياح التام للعلوم التي يسمونها الجديدة كتقويم البلدان والحساب والهندسة وأنه ذم التقليد في نصائحه أو خطابه ففرحنا بذلك وسررنا؛ لأن هذه ضالتنا المنشودة. وقد تمنى أصحاب الجرائد يومئذ لو يحظون بنص خطاب الأمير للعلماء ونحن أحق بالحرص منهم على ذلك وقد طلبنا فحظينا، ذلك أن أحد العلماء الذين حضروا ذلك المحفل المهيب كتب ما سمعه بعد الخروج وتحرى فيه الألفاظ بقدر الطاقة وهذا نص ما كتبه: (خطاب الأمير) (الأمة إذا اتحدت وثقت بأفرادها وكانت ميَّالة إلى تبادل الآراء النافعة، والسعي وراء الصالح العام. إنه كان في مبدأ الأمر إذا قدمت أو سافرت من الإسكندرية وحصلت زيارات رسمية لا أرى إلا الرؤساء الروحيين وبعضًا من مستخدمي المحكمة الشرعية حتى ظننت أنه ليس في البلد علماء، أسأل عن العلماء فيقال لي: إنهم في غاية الخمول ومن ذلك الوقت عزمت على رفعة شأنهم وحفظ كرامتهم وترتيب مرتبات تقوم بحاجتهم وكان نتيجة ذلك المعاهد العلمية في الإسكندرية. وعند ذلك احتجنا إلى بعض العلماء من الأزهر تتميمًا للمواد العلمية (العصرية) فحضر البعض وكان بينهم وبين الإسكندريين غاية الوئام حتى داخلهم بعض الدسائس التي أوجبت زيادة النفرة فيما بينهم وقاسى فيها الشيخ شاكر بعض المقاساة كما قاسى في المدة الأولى من الحُساد فوجدنا أن هذا أمر شاقّ جدًّا فعزمنا على معاملة علماء الإسكندرية بالقسوة الشديدة وإرجاعهم إلى الحالة الأولى لولا أننا أملنا إصلاح الحال ومتابعة العمل النافع. غير أن مازال يوجد - الأصل (في) بدل (يوجد) - أفراد يحبون أن يستعملوا (الفسفسة) لأنهم لا قدرة لهم على العمل؛ لأنه ليس كل متعمم شيخًا، فإن بعض الناس يظهرون بمظهر العلماء ولا يحسنون شيئًا من العمل مع أن العمل قد وضعنا له البروجرامات حتى مشى على (الكسترّة) وصار الإخلال به مضرًّا جدًّا. وأنا أوصيت الشيخ شاكرًا أن يعامل كل واحد بحسب ما يمكنه من العمل فمَن له قدرة على درسين يقرأهما، كذلك من يقدر على الأكثر أو الأقل. فيلزم كل واحد السكينة ويلزم الكبير يرحم الصغير والصغير يعتبر الكبير وأن يترك (الفسفسة) فإني إن شاء الله لدينا الميزانيات ولنا الأمل في أن تزيد الماهيات والمرتبات حتى يعم النفع وكل ميزانية تظهر فيها من الخيرات ما فيه الكفاية. أنا أشتد على الشيخ شاكر بيني وبينه ودائمًا أقول له: عامِلْ هؤلاء الناس بما فيه الراحة ولي أمل شديد في حصول المطلوب كما أني سُررت جدًّا من حالة أبي العباس والطلبة ورأيت نجاحًا باهرًا ولي أمل إن شاء الله أن يكون الأزهر كذلك. (وهنا ضجة من كبار مشايخ الأزهر تقول - وفى رواية قولية: إن بعضهم قال - نعم نعم يا أفندينا نجاح باهر جدًّا امتحنَّاهم فوجدنا الأمر فوق المرام بهمة أفندينا) . الحمد لله لنا أمل قريب يظهر علماء من الإسكندرية ينفعون وطنهم وإذا خطب أحدهم لا يخشى الإنسان من سماع خطابته ولكن هذا لا يكون إلا بالمحافظة على النظام وترك الفساد والحسد كما أننا مستعدون لسماع أي شكوى فأبوابنا مفتوحة لسماع أي شكوى ولكن لا نحب المجاهرة والغوغاء بين الناس. وهنا التفت إلى شيخ الأزهر وقال له: (أحب أن يكون الأزهر متحدًّا مع الشيخ شاكر حتى يحصل نجاح عظيم فإن حالة إسكندرية تسر جدًّا وأرغب أن يكون الأزهر كذلك. ثم إني أحب جدًّا لزوم السكينة وأن لا يحصل شيء أبدًّا حتى إذا جئنا من السفر لا نسمع إلا ما يسرنا) اهـ. قال الكاتب: إنه لم يترك شيئًا مما قاله الأمير إلا كلمة أشار بها إلى أن بعض المشايخ جاءه لأجل الفسفسة والوشاية فأمر زكي باشا فكرشه (أي طرده) ولم يأذن له في الدخول، أقول: وهذا عين الحكمة ولا أحد أقدر على تأديب صغار العقول من المشايخ من الأمير وفقه الله. وهذه النصائح صريحة في استيائه من حال الأزهر وكون هذه المشيخة الجديدة لم تأتِ على ما يرغب ويرجو ولم ينسَ الناس هنا خطبته عند إلباس الكسوة لشيخ الأزهر الحاضر. *** (الجريدة) انْتُدِبَ جماعة من أعضاء مجلس شورى القوانين وغيرهم ممن كان ذاكرهم الأستاذ الإمام في مسألة إنشاء جريدة يومية على الوجه الذي ذكرناه في ترجمته إلى تنفيذ هذا المشروع فدَعَوْا غير واحد من وُجهاء الأغنياء للاكتتاب فاكتتبوا في مجلس واحد بعشرة آلاف جنيه ونيف ثم وضعوا قانونًا لشركة المساهمة وعينوا مديرًا للجريدة وأعضاء لمجلس الإدارة الذي يدير العمل وسموها (الجريدة) وهم الآن يسعون في تأسيس المطبعة والبحث عن العمال والكُتّاب. رأيت أكثر مَن سمعتهم يذكرون الجريدة حتى بعض المكتتبين يقولون: نخشى أن نكون مُقَطّمًا ثانيًا، ومن الناس من يجزم بذلك ويستدلون بأن وجهاء الأعضاء استشاروا اللورد كرومر في أمرها، وقد أيد بعض الجرائد اليومية هذا الرأي فزاد انتشارًا ولا ريب عندنا في حسن نية أهل الرأي من القائمين بهذا العمل وقصدهم فيه إلى خدمة هذه البلاد وعدم إيثار مصلحة على مصلحتها، وأنهم يعلمون كما يعلم كل عاقل أن ليست مصلحة البلاد في اتخاذ حكومتها خصمًا لها والمحتلين أعداءً لأهلها وأن ليس من الخدمة النافعة أن تهب الجرائد عند كل عمل منتقد للحكومة صائحة إن هذا من سوء نية الحكومة أو المحتلين، وأنهم يريدون به هدم حقوق الوطنين عامدين متعمدين، كما يعلمون أن من الخيانة للبلاد السكوت عن انتقاد ما يجب انتقاده من أعمال الحكومة ومشروعاتها بالدليل والبرهان، مع أدب القلم واللسان، وتلك هي الطريقة المثلى في هذه الخدمة الفضلى، وسيرى أكثر الناس أن الجريدة خير مما كانوا يظنون؛ فأعضاء مجلس إدارة الجريدة خمسة وعشرون رجلاً ليس فيهم مَن يعدها ركنًا لمعيشته ولا لرفعته كما هو شأن أصحاب الجرائد، فالرجاء في إخلاص هذه الجماعة أقوى من الرجاء في إخلاص أولئك الأفراد. على أن الفائدة الحقيقية للجريدة موقوفة على حسن اختيار الذين يتولون كتابتها وتحريرها فإذا ظفر مجلس إدارتها بالكاتبين المحررين القادرين على الإجادة في مسائل الاجتماع والأخلاق والاقتصاد والانتقاد والزراعة والتجارة والأدب والشريعة والقوانين ممن لا تنبسط أيدي أصحاب الجرائد الأخرى إلى استعمال أمثالهم تسنى لها أن تكون أرقى من كل ما عداها، وبذلك تكون قدوة صالحة للجرائد كما هو المرجو، وإذا هي ظهرت مثل أرقى الجرائد الحاضرة رآها الناس دونها؛ لأنهم ينتظرون أن تكون أكثر إتقانًا فهم يزنونها بهذا الميزان. *** (حادثة دنشواي) في 13 يونيو ذهب بعض ضباط جيش الاحتلال لصيد الحمام الداجن في جهة دنشواي التابعة لمركز شبين الكوم وكانوا ألموا بها في سيرهم بفرقتهم إلى الإسكندرية ولما شرعوا في الصيد استاء أصحاب الحمام واتفق أن اشتعلت النار في جرن (بيدر) بالقرب منهم فانبرى بعض الفلاحين لصدهم عن صيد حمامهم حرصًا عليه وخوفًا على أجران غلتهم أن تحترق من نار البنادق، وفي أثناء المقاومة أصيبت إحدى نساء الفلاحين بنار بنادق الضباط وظن أنها قُتلت فعادت المقاومة ملاكمة وضربًا بالعصي والطوب فجرح غير واحد وأمر الرئيس أحد الضباط المضروبين بالسير إلى المعسكر لطلب النجدة فسار في حر محرق فأصيب بضربة الشمس على رأسه المشجوج فمات في الطريق. وأثبت التحقيق أن الضباط مالوا إلى المسالمة وسلموا أسلحتهم للفلاحين فما زادهم ذلك إلا خشونةً وعدوانًا وقد سلبوا من الضباط ساعة وسلسلة مفاتيح وصفارة وأخذوا سلاحهم كما هي عادة بعضهم مع بعض في مثل هذه الحال! . هذا وقد عظم أمر الحادثة على المحتلين؛ لأن العزيز يعد الإهانة الصغيرة كبيرة. ومَن يَهُن يسهل الهوان عليه ... فأجمعوا أمرهم على محاكمة الفلاحين في المحكمة المخصوصة بمن يعتدي على أحد من جيش الاحتلال فاجتمعت هيئة المحكمة في شبين الكوم (في 5 ج1) وحكمت حكمًا لا يقبل الطعن ولا الاستئناف على أربعة من الفلاحين بالشنق وعلى اثنين بالأشغال الشاقة المؤبدة وعلى واحد بالأشغال الشاقة 15 سنة وعلى أربعة بالأشغال الشاقة 7 سنين وعلى ثلاثة بخمسين جلدة، ثم بالحبس مع الشغل سنة وعلى خمسة بخمسين جلدة فقط. وقد نُفذ هذا الحكم علنًا على جميع المحكوم عليهم في قرية دنشواي وبعضهم ينظر إلى بعض والأهل والأقربون ينظرون وعسكر الاحتلال محيط بالمكان وكان الجلد في نظر الناس أشد من الشنق فكان لذلك أشد التأثير المزعج للناظرين، ثم لجميع أهل القطر فهبَّت الجرائد للانتقاد والشكوى وكثر لغط الناس بظلم الإنكليز وقال المتفلسفون منهم: إنما كان ذلك اللين السابق قبل تمام التمكن في البلاد. ثم روعوا بزيادة جيش الاحتلال وبما قال ناظر خارجية إنكلترا في التعصب، وقد أشرنا إليه في مقالة التعصب من هذا الجزء حتى قصرت ألسنة الذين كانوا يُثنون على أعمال الإنكليز النافعة ويفضلونها على جميع الدول. يقول بعض المنتقدين على الاحتلال: إن هذا الحكم سياسي ويقول من ينتصر للإنكليز في كل شيء: بل هو قضائي عادل، وعندي أن الأولين هم المنتصرون؛ لأن القوم إذا كانوا يعتقدون أن الحكم القضائي العادل - الذي هو القصاص بالمساواة في مثل هذه الواقعة - يجرئ الفلاحين على جيش الاحتلال لتعصبهم أو لخشونتهم وأن هذا الجيش إذا لم يكن مما لا تطمح النفوس إلى الجرأة عليه فإنه لا يمكن للمحتلين أن يقيموا في البلاد، وكانوا قد قسوا في الحكم للإرهاب وإقفال هذا الباب فإن السياسة المتبعة في كل زمان تقول لهم أصبتم في التنكيل ببضعة رجال وعقابهم بأكثر مما يحكم به العدل في القصاص العادي لمنع حدوث فتن ربما أدت إلى قتل مَنْ لا يُحصى من الرجال وإفساد كثير من الأعمال. وإذا نحن قلنا: إن هذا الحكم قضائي لا سياسي يقول لنا المنتقد: أين القانون أو الشرع الذي بُني عليه الحكم ومتى كان الرأي المجرد قضاءً عادلاً وكيف يكون من العدل قَتْل كثيرين بواحد وجَلْد كثيرين وتعذيبهم طول الحياة لجرح بعضهم مَنْ يكفي لشفائه أيام معدودات؟ ! . فاللائق بمقام الإنكليز في الوجود أن يكون الحكم سياسيًّا وإن كانت السياسة مجهولة للفلاحين. ونسأل الله أن يوفق الحكومة والمسيطرين عليها إلى الطريقة المثلى لحفظ الأمن وتهذيب الفلاحين ليمتنع العدوان الذي تأصَّل في البلاد بضعف الدين وقوة الجهل وزوال هيبة الحكومة وأن لا يعود مثل هذا الخطأ في الفهم بين المحتلين والمصريين. آمين. *** (وفد الشريف إلى اليمن والثورة) بلغن

سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين ـ 2

الكاتب: أبو حامد الغزالي

_ سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين (تابع لما نقل عن الإحياء) (وحكي أن حطيطًا الزيات جيء به إلى الحَجَّاج فلما دخل عليه قال: أنت حطيط؟ قال: نعم، سل عما بدا لك فإني عاهدت الله عند المَقام على ثلاث خصال إن سئلت لأصدَقَنَّ وإن ابتليت لأصبرَنَّ وإن عوقبت لأشكرنَّ. قال فما تقول فيّ؟ قال أقول: إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظِّنة. قال فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان؟ قال أقول: إنه أعظم جرمًا منك وإنما أنت خطيئة من خطاياه. قال فقال الحجاج: ضعوا عليه العذاب. قال فانتهى به العذاب إلى أن شُق له القصب، ثم جعلوه على لحم وشدوه بالحبال، ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئًا. قال فقيل للحَجاج: إنه في آخر رمق فقال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال جعفر (أي راوي الحكاية) فأتيته أنا وصاحب له فقلنا له: حطيط ألك حاجة؟ فقال: شربة ماء، فأتوه بشربة ثم مات وكان ابن ثماني عشرة رحمه الله تعالى. وروي أن عمر بن هبيرة (والي العراق لبني أمية) دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها فجعل يسألهم وجعل يكلم عامرًا الشعبي فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علمًا، ثم أقبل على الحسن البصري فسأله ثم قال: هما هذان، هذا رجل أهل الكوفة يعني الشعبي، وهذا رجل أهل البصرة يعني الحسن فأمر الحاجب فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن فأقبل على الشعبي فقال: يا أبا عمرو إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم فأنا أحب حفظهم وتعهد ما يصلحهم مع النصيحة لهم وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم فيه فأقبض طائفة من عطائهم فأضعه في بيت المال ومن نيتي أن أرده عليهم فيبلغ أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو فيكتب إليَّ أن لا ترده فلا أستطيع ردّ أمره ولا إنفاذ كتابه وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة فهل عليَّ في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور والنية فيها على ما ذكرت؟ قال الشعبي فقلت: أصلح الله الأمير إنما السلطان والد يخطئ ويصيب. قال: فسُرّ بقولي وأعجبه ورأيت البشر في وجهه وقال: فلله الحمد، ثم أقبل على الحسن فقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ قال: قد سمعت قول الأمير يقول: إنه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمون على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لما يصلحهم وحق الرعية لازم لك وحق عليك أن تحوطهم بالنصيحة وإني سمعت عبد الرحمن بن سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استرعي رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة) [1] . ويقول: إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم وأن يرجعوا إلى طاعتهم فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو فيكتب إليَّ أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فاعرضْ كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل فإن وجدته موافقًا لكتاب الله فخذ به وإن وجدته مخالفًا لكتاب الله فانبذه يا ابن هبيرة اتقِ الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب العالمين يزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فتدَع سلطانك ودنياك خلف ظهرك وتُقدم على ربك وتنزل على عملك يا ابن هبيرة: إن الله ليمنعك من يَزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله وإن أمر الله فوق كل أمر وإنه لا طاعة في معصية الله وإني أحذرك بأسه الذي لا يُردّ عن القوم المجرمين. فقال ابن هبيرة: أَرْبِع على ظلعك أيها الشيخ وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين فإن أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحكم وصاحب الفضل وإنما ولاه الله تعالى من أمر هذه الأمة لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته، فقال الحسن: يا ابن هبيرة الحساب من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد يا ابن هبيرة، إنك إن تلق من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلقى رجلاً يُغرك ويمنّيك فقام ابن هبيرة وقد بَسَرَ وجهه وتغيَّر لونه قال الشعبي فقلت: يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره وحرمتنا معروفه وصِلَته فقال: إليك عني يا عامر قال: فخرجَتْ إلى الحسن التحف والطرف وكانت له المنزلة واستخف بنا وجفانا فكان أهلاً لما أُدي إليه وكنا أهلاً أن يفعل ذلك بنا فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف [2] وما شهدنا مشهدًا إلا برز علينا وقال لله عز وجل، وقلنا مقاربة لهم قال عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أن لا أشهد سلطانًا بعد هذا المجلس فأحابيه. وعن الشافعي رضي الله عنه قال: حدثني عمي محمد بن علي قال إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب وكان والي المدينة الحسن بن زيد قال: فأتى الغفاريون وشكوا إلى أبي جعفر شيئًا من أمر الحسن بن زيد فقال الحسن: يا أمير المؤمنين سل عنهم ابن أبي ذؤيب، قال: فسأله فقال: ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب فقال: أشهد أنهم أهل تحطّم في أعراض الناس كثيرًا والأذى لهم فقال أبو جعفر: قد سمعتم فقال الغفاريون: يا أمير المؤمنين سله عن الحسن بن زيد فقال: أشهد عليه أنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه فقال قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ الصالح فقال: يا أمير المؤمنين اسأله عن نفسك فقال: ما تقول فيّ قال تعفيني يا أمير المؤمنين قال: أسألك بالله ألا أخبرتني قال: تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك قال: والله لَتخبرَنّي قال: إنك أخذْتَ هذا المال من غير حقه فجعلته في غير أهله وأشهد أن الظلم ببابك فاشٍ قال فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه، ثم قال له: أَمَا والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم والدَّيْلم والترك بهذا المكان منك قال: فقال ابن أبي ذؤيب يا أمير المؤمنين قد ولِّي أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا آنافهم، قال: فخلى أبو جعفر قفاه وخلَّى سبيله وقال: والله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك فقال ابن أبي ذؤيب: والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك المهدي قال: فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لمّا انصرف في مجلس المنصور لقي سفيان الثوري فقال له: يا أبا الحرث لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار ولكن ساءني قولك له ابنك المهدي فقال: يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في المهد! . وعن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو قال بعث إليَّ أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد عليَّ واستجلسني، ثم قال لي: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي قال قلت: وما الذي تريد يا أمير المؤمنين قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم قال فقلت: فانظر يا أمير المؤمنين إنك لا تجهل شيئًا مما أقول لك، قال: وكيف لا أجهله وأنا أسألك عنه وفيه وجهت إليك وأقدمتك له قال قلت: أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف وانتهره المنصور وقال هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة فطابت نفسي وأنست في الكلام فقلت يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سِيقَتْ إليه فإن قبِلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثمًا ويزداد بها الله سخطًا عليه) يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما والٍ مات غاشًّا رعيته حرَّم الله عليه الجنة) [3] يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله، إن الله هو الحق المبين، إن الذي ليَّن قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بهم رءوفًا رحيمًا مواسيًا لهم بنفسه في ذات يده محمودًا عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق وأن تكون بالقسط له فيهم قائمًا ولعوراتهم ساترًا لا تغلق عليك دونهم الأبواب ولا تقم دونهم الحُجاب، تبتهج بالنعمة عندهم وتبتئس بما أصابهم من سوء، يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم ومسلمهم وكافرهم وكلٌّ له عليك نصيب من العدل فكيف بك إذا انبعث منهم فِئام وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه، أو ظُلامة سقتها إليه، يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له: يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك وملأت قلوبهم رعبًا فكيف بمن شقق أبشارهم وسفك دماءهم وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم وغيبهم الخوف منه يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابيًّا لم يتعمده فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، إن الله لم يبعثك جبارًا ولا متكبرًا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال: اقتصَّ مني فقال الأعرابي: قد أحللتك بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبدًا ولو على نفسي فدعا له بخير [4] يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال له النبي عليه السلام (يا عباس يا عم النبي: نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها) [5] نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئًا إذ أوحى الله إليه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) فقال يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة بنت محمد إني لست أُغني عنكم من الله شيئًا، إن لي عملي ولكم عملكم [6] وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل أريب العقد لا يُطَّلع منه على عورة ولا يخاف منه على حُرة ولا تأخذه في الله لومة لائم، وقال: الأمراء أربعة فأمير قوي ظلف (أي منع) نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله يد الله باسطة عليه الرحمة، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر الرعاة الحطمة) فهو الهالك وحده [7] وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعًا. وبعد أن أطال في وعظه بما حذفنا بعضه اختصارًا قال: (يا أمير المؤمنين من أشد الشدة القيام لله بحقه، وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وإنه مَن طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك) ثم نهضت فقال لي: إلى أين؟ فقلت: إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله فقال: قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه نستعين وعليه نتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة، فقلت: أفعل إن شاء الله تعالى، قال:محمد بن مصعب فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال: أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع نصيحتي بعَ

المعارف في مصر قبل الثورة العرابية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المعارف في مصر قبل الثورة العُرابية كانت الحكومة المصرية قد دخلت في أول عهد ولاية توفيق باشا في طور جديد من الإصلاح الحقيقي وكان الفضل الأول في تنفيذ ذلك لرياض باشا وكان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تلك الوزارة الرياضية عقلاً مفكرًا وروحًا مدبرًا؛ إذ كان برياسة قلم المطبوعات وتحرير الجريدة الرسمية كالمسيطر على جميع أعمال الحكومة كما بينا في ترجمته في المجلد الثامن، ومن ذلك عنايته بانتقاد نظارة المعارف انتقادًا كان له شأن عظيم في إصلاح شأنها وإننا نورد هنا بعض مقالاته نقلاً عن الجزء الثاني من تاريخ حياته (الذي يطبع الآن) وهي: وكتب في العدد 990 منها الصادر في 18 المحرم سنة 1297 -20 ديسمبر سنة 1880: المعارف كثر تحدث الناس في شأنها في هذه الأوقات وكأنهم لما فرغوا من الأفكار المتعلقة بالأمور المالية والإدارية وما كان فيها من الاضطراب وتنوع الأحوال وتقلب الأشكال إذ كفتهم الحكومة أمر ذلك كله بثباتها وتبصر رجالها العقلاء - أخذوا يلتفتون إلى ما به حياتهم الحقيقية ونمو هيئتهم الاجتماعية وظهور شأنهم بين الناس وحسبانهم في عداد أهل العلم وهو العلم النافع الذي رأينا جيراننا من الممالك نالوا به السيادة علي غيرهم وطفقوا يتذاكرون فيما به يكون تقدمه والوسائل الموصلة إلى انتشاره في أقطاره موجهين آمالهم إلى نظارة المعارف العمومية؛ لأنها ذات الشأن فيه فقالوا كلامًا كثيرًا أذكره كما قيل. قالوا: إن المدارس ينبوع هذا الخير الجليل (العلم) وليس له من وسيلة سواها ولكن تحت شروط لا بد من استيفائها (ولسنا الآن بصدد بيانها) وقد افتُتِحَت المدارس في ديارنا من عهد المرحوم محمد علي باشا لكن كان اسمها غريبًا على الآذان وحشيًّا عن القلوب يساق الناس إليها (كأنما يساقون إلى الموت) إذ كانوا يظنون أن الدخول في المدارس هو الانتظام في العسكرية والدخول في العسكرية هو الشقاء الدائم والبلاء المحتم وبعض الناس بعد التنبه كانوا لا يرون خطة أرفع من خطة الكتابة في ديوان أو مصلحة لِمَا يرون للكاتب من المكانة عند الحكام والتصرف في الحقوق فاكتفَوْا بإرسال أبنائهم إلى الكتبة يعلمونهم حتى إذا كبروا انتظموا في سلوكهم وكانت لهم المنزلة المطلوبة بدون حاجة إلى مدرسة ولا مكتب منتظم وبعض الناس ربما كان يعلم فائدة المدارس ولكن كانت توجد أسباب تمنعه من تربية أبنائه فيها ولكننا لا نبديها، وأما في أيامنا هذه فقد تنبهت العقول ووقفوا على فوائد العلم وثمراته حق الوقوف غير أن ذلك يقضي على الآباء بتربية أبنائهم من الآن فصاعدًا على الطريقة المنتظمة، أما الشبان الذين فاتهم زمن التعليم في تلك الجهالة السابقة واشتغلوا بتحصيل مادة المعاش إما بالتوظيف في الخدمات الميرية أو طلب الكسب من وجوه أُخر ولهم شوق تام إلى كسب فضيلة العلم فلا تساعدهم أحوالهم بالضرورة على الرجوع إلى التعليم في مكاتب الأطفال وتعطيل أسباب معاشهم فيودُّ الكثير منهم أن تكون في البلاد مدارس ليلية يتداركون فيها بعض ما فاتهم في الأزمنة السابقة أزمنة جهل آبائهم لعلهم بذلك ينفعون أنفسهم وبلادهم بأكثر مما يقدرون عليه الآن حتى اهتم بعض الشبان من مدة نحو سنتين بتأليف جمعية لفتح مدرسة ليلية ثم عارضتهم بعض الموانع فلم تساعدهم المقادير على النجاح وكانوا في انتظار توفيق إلهي يسوق إليهم ذلك الخير حتي سمعوا بأن نظارة المعارف تروم افتتاح مدرسة ليلية ففرحوا واستبشروا وقالوا: نعمة من الله سِيقت إلينا نؤدي له مزيد الشكر عليها ثم انقبضت نفوسهم عندما سمعوا من شروط تلك المدرسة أن تكون دروسها باللغة الفرنساوية خاصة ولا يقبل فيها إلا من كانت عنده مبادئ الرياضيات والطبيعيات وله تقدُّم في اللغة الفرنساوية وقالوا: يا سبحان الله إن المدارس الليلية في البلاد المتمدنة تُقرأ فيها العلوم الابتدائية باللغة العامية مع التزام التسهيل في التعبير والتحاشي عن ذكر الألفاظ الاصطلاحية الغريبة أو العسرة التفهيم وذلك لفائدتين: (الأولى) أن كل من يعرف القراءة والكتابة يمكنه أن يفهم مبادئ العلوم بهذه الطريقة فلا تفتر همة الذين لم ينالوا حظ التعليم في صغرهم وينتشر العلم حقيقة إذ لا يكون في فهمه صعوبة ولا يمنع الشخص عن أشغاله النهارية. (والثانية) أنه إذا كان التعليم على هذا النمط تكون المسائل العلمية لقربها إلى الفهم كأحدوثات تتسلى بها النفس بل ألذ من ذلك؛ إذ لا يدخل الرجل محفل العلم إلا ويخرج بنور جديد فتنجذب نفوس الناس إلى مستملحات العلم بدل صرف أوقات ليلهم الطويل في مضاجعهم يتقلبون من جانب إلى جانب أو في بيوتهم بمحادثات لا طائل تحتها أو في أماكن أخرى نتحاشى عن ذكرها يُهرعون إلى معهد العلم ليغذوا عقولهم ويروحوا قلوبهم ولم نسمع أن أمة متمدنة افتتحت مدرسة عالية وجعلتها ليلية فلِمَ عدل عن هذه الطريقة الجليلة في بلادنا واخترعت طريقة جديدة وهو جعل التدريس في المدرسة الليلية بلسان أجنبي عن لسان البلد بالكلية لا يفهمه المتفنن منهم ولا العامي والعلوم التي يقرأ بها عالية لا ابتدائية حتى يحرم الناس الذين هم أحوج إلى التعليم وأولى به وهم الخَدَمَة وأرباب الكسب المُحِبُّون لنيل فضيلة العلم ولا يستطيعون، ويتلهفون على ذلك ولا يجدون، وهو مما يوجب الأسف خصوصًا وقد تواتر على الألسنة أن غالب مَن قُبلوا فيها أجانب (وإن كان ذلك غير صحيح فعندي علم اليقين بأن الأكثر وطنيون لكن من الذين تعلموا في مدارس الفرير ونحوها) فهل يقال بأننا تقدمنا عن تلك الممالك فترقينا حتى صارت مدارسنا الليلية أعلى من مدارسهم أو أيقنَّا بأن العامة منا والكتاب لا يستفيدون من ذلك شيئًا أو لاحظت نظارة المعارف أنها بذلك ستحصل في زمن قريب على أساتذة تجعلهم معلمين في مدارسها ومكاتبها فإن كان هذا الوجه الأخير قلنا: إنها ستجعل (مدرسة الخواجات) نهارًا فلها أن تزيد في عدد تلامذتها ما تشاء لهذا الغرض على أنه لو سُلِكَ في المدرسة الليلية مسلك البلاد المتمدنة لتأتَّى لنا الوصول إلى هذا المقصد فكثير من أهل العلم كان يود أن ينتظم في تلك المدرسة ليتعلم العلوم التي فاته تحصيلها لكن منعه التدريس بلغة أجنبية وكون الدروس فوق البدايات وإن كان الثاني قلنا: إن الاستعداد والشوق موجودان في كثير من الناس ولهم رغبة تامة في التعليم فكيف يصح إساءة الظن بجميع شباننا إلى هذا الحد وإن كان الأول قلنا الأولى أن لا نتكلم وإننا وحق الحق لفي حاجة كلية إلى أن يكون التعليم الليلي عندنا مستديمًا آخذًا من البداية سهل الوسائط ميسر الأسباب بلغة بلادنا عامة أو خاصة حتى تنقطع حجة الجاهل ويبطل برهان المتكاسل وتنبعث الغيرة في الكل إذا أقبل البعض على التعليم ويقع التنافس في الفضائل ويجد الشبان الذين استرسلوا مع هوى الشباب شغلاً وتوبخهم الذمة وتلعنهم ضمائرهم إذا تركوه لا يجدون لهم علة يتعللون بها إذ ذاك بل نرى أنه لا بد أن يكون هذا التعليم الليلي إجباريًّا عامًّا لكل مستخدم وقارئ لم يتعلم تمام ما يجب عليه في وظائفه إلا لضرورة تمنعه من مرض ونحوه خصوصًا بعدما أعلنت الحكومة أن جميع المستخدمين في الإدارات أو التحصيلات لا بد أن يكونوا من الدراية بحيث يقدرون على تحقيق القضايا وحل المشكلات بأنفسهم في جميع الجنايات والحقوق والحسابات ونحو ذلك وهذا لا ريب يستدعي أن يكون جميعهم على بصيرة تامة وذوي عقل وافر وهذا لا يمكن إلا بعد تحلية العقل بالعلوم الابتدائية التي لا بد منها لكل من يريد الاستقلال في سيره. هذا حاصل أقوال الناس في شأن المدرسة الليلية التي افتتحتها نظارة المعارف قريبًا وربما كانت تلك الأقوال صحيحة ولكن إن صح ما قالوا فعليهم بتقديم آرائهم لسعادة ناظر المعارف ليتروّى فيها ثم يجيبهم إلى مطلوبهم إن رآه موافقًا وخاليًا من الموانع والمحظورات وإلا أقنعهم بأن تعميم النفع غير ممكن فحينئذ يعلمون الحق ويريحون أنفسهم من الجدال ولهم أقوال في مواضيع شتى يمنعنا من ذكرها في هذا العدد ضيق المقام وربما نذكرها غدًا إن شاء الله. *** وكتب في العدد 993 الصادر في 21 المحرم سنة 1298 - 23 ديسمبر سنة 1880: المعارف مقالات الناس فيها وأفكارهم العمومية متنوعة ذكرنا بعضها في عدد سابق ونذكر بعضًا منها في هذا العدد حفظًا لمتفرقات الأقوال لعل شيئًا منها يقارن صحة فيصادف قبولاً وليكون ذلك دليلاً على تنبيه الأفكار والتفات أذهان الناس إلى النافع الحقيقي، قالوا: نشرت نظارة المعارف إلى جميع فروعها منشورًا مبسوط العبارة مشحونًا بالمعاني الرفيعة قاضيًا على نظار المدارس والمكاتب ومعلميها بوجوب التفاتهم لوظائفهم وقيامهم بواجباتهم مبينًا لهم أن الامتحانات في العام الماضي على الطريقة الجديدة قد أظهرت أن في بعض المدارس قصورًا في التعليم وفي بعضها كمالاً وزيادة فاستوجب موظفو الأولى التوبيخ والإنذار وموظفو الثانية الشكر والثناء، فعلى الجميع من الآن فصاعدًا بذل الجهد في ارتقاء درجة التعليم بحيث تكون الاستفادة تعقلاً وتبصرًا لا حفاظًا ولَقْلقة وبيّن في هذا المنشور كيفية التعليم وطرق التفهيم وأنذر من لم يحذُ حَذْوها بوقوعه تحت مسئولية الديوان. فانشرحت صدور العامة والخاصة بهذه التنبيهات الأكيدة والتعليمات المفيدة وقالوا: لو عمل بهذا المنشور لاطمأنت نفوس الكافة إلى تربية أبنائهم في مدارسنا التي يصرف بها الآلاف من الجنيهات على خزينة الحكومة ليتربى بها على توالي الأزمة رجال يكونون فخر البلاد وحماة ذِمارها فقد كانت النفوس في ريب من نجاح التعليم فيها قبل اليوم ولذلك كانت مدارس الفرير والإنكليز والأمريكان والبروسيان وغيرها عامرة بأبناء الأهالي مسلمين ومسيحيين ومدارسنا ليس فيها منهم العدد اللائق بشأنها ولم يكن ذلك إلا لما أظهرته التجربة من نجاح التعليم في تلك وقصوره في هذه مع مراعاة الآداب التي يفرح بها الوالدان والأقارب في المدارس الأجنبية وإغفالها في مدارسنا لكن (الحمد لله) تلك أيام قد خلت فإن التفات سعادة ناظر المعارف إلى كيفية التعليم وتشديده في أن تكون على وجهها الحقيقي مما يعيد الآمال ويقويها. إلا أنهم يتساءلون فيما بينهم بتساؤلات كثيرة منها قولهم: هل حصلت المكافأة الحقيقية لمن أظهر الامتحان اجتهادهم من الناظر والمدرسين وهى مكافأة الدينار والدرهم فإن مكافأة الشكر والثناء وإن كانت واجبة وهي من أجلّ المكافأة وأجملها ولها تأثير في جلب الرغبات وتقوية العزائم لكنها لا تلتصق بالقلب التصاق النقود والمساعدة المعاشية فإن مَنْ ضاق عليه العيش وكانت حاجته أكثر من إيراده لا تنفكُّ عنه الوساوس ولا يبارح ذهنه الاضطراب وتغلب منغصات الحاجة وآلامها على الفرح الذي أنعشه عندما سمع كلمة الثناء عليه ثم ذلك ينقص من اجتهاده ويحطُّ من همته بل ربما أورث خللاً في كيفية تأديته لوظائفه خصوصًا إذا رأى غير المجتهد مماثلاً له في الرزق وأوفر راتبًا منه، ولقد صدق القائل: النقص من الرواتب نقص من الأعمال، لكن المنشور لم يُذكر فيه حصول تلك المكافأة مع أن المسموع أن ميزانية المدارس كانت قابلة لذلك ونظارة المالية تسمح باستغراقها بل تودُّ لو يُزاد ف

الإسلام هو القرآن وحده

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الإسلام هو القرآن وحده آراء وأفكار للدكتور محمد توفيق أفندي الطبيب بسجن طره هذا عنوان مقال لي جديد، أريد أن أفصح فيه عن رأي أبديه لعلماء المسلمين، المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئا أرشدوني، وإذا ما كنت مصيبًا أيدوني، وبشيء من علمهم أمدوني، فإني لست ممن يهوى الإقامة على الضلال، ولا ممن يلتذّ بحديث مع الجهال، فلذا أجهد النفس في تحقيق الحق وتمحيصه، والإسراع إليه إذا ما بدا لي بارق من بصيصه، وها أنا ذا أشرع في إيضاح المقصود بالتدقيق، راجيًا من الله التوفيق، للهداية إلى أقوم طريق فأقول: لا خلاف بين أحد من المسلمين، في أن متن القرآن الشريف مقطوع به؛ لأنه منقول عن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ بدون زيادة ولا نقصان، ومكتوب في عصره بأمر منه عليه السلام، بخلاف الأحاديث النبوية فلم يكتب منها شيء مطلقًا إلا بعد عهده بمدة تكفي لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل، ومن ذلك نعلم أن النبي عليه السلام لم يرد أن يبلغ عنه للعالمين شيء بالكتابة سوى القرآن الشريف الذي تكفل الله تعالى بحفظه في قوله جل شأنه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فلو كان غير القرآن ضروريًّا في الدين لأَمَرَ النبي بتقييده كتابة ولتكفل الله تعالى بحفظه، ولما جاز لأحد روايته أحيانًا على حسب ما أداه إليه فهمه. فإنْ قيل: إن النبي لم يأمر بكتابة كلامه لئلا يلتبس بكلام الله، قلت: وكيف ذلك والقرآن معجز بنظمه ولا يمكن لبشر الإتيان بمثله ولِمَ لَمْ يضمن ما في الأحاديث من الواجبات كما ضمن ما في القرآن حتى نأمن عليه من التغيير والتحريف والاختلاف ولما كان بعض الدين قرآنًا والبعض الآخر حديثًا، وما الحكمة في ذلك، وما الفرق بين الواجب بالقرآن والواجب بالسُّنة؟ فهذه بعض أسئلة ألقيها على الباحثين ليجيبوا عنها إن كان ثَم جواب. سأل بعض الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: (هل يجب الوضوء من القيء؟) فأجاب عليه السلام: (لو كان واجبًا لوجدته في كتاب الله تعالى) فهذا الحديث صح أو لم يصح، فالعقل يشهد له ويوافق عليه، وكان يجب أن يكون مبدأ للمسلمين لا يحيدون عنه. ولكن ويا لَلأسف لَحِقَ المسلمين ما لحق غيرهم من الأمم، فدفع بهم في ظلمات في بحر لُجيّ يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج أحدٌ منهم يده لا يكاد يراها، ومن لم يجعل الله له من كتابه نورًا فما له من نور. ولع الناس في الأعصر الأولى بالروايات القولية ولوعًا، وتفاخروا بكثرة جمعها جموعًا، حتى ملأت الأحاديث الآفاق، وكثر فيها التضارب والاختلاف. وصار من المستحيل أن يعمل الإنسان بدينه بدون أن يقلد غيره ممن أفنوا أعمارهم في عمل مذهب لهم فأصبح التقليد من أوجب الواجبات في دين المسلمين بعد أن كان من ألدّ أعداء القرآن المجيد. تنوعت المذاهب واختلفت المشارب وتعددت الآراء في كل فرع من فروع الفقه حتى تجد في كل مسألة أن كل ممكن من الممكنات العقلية قد صار مذهبًا لأحد الأئمة ووجب على المقلدين القول (بأن الكل على الحق) فأصبح القول باجتماع الضدين بل النقيضين عقيدة من عقائد الدين بين المسلمين فحق عليهم القول بأن سيتبعون سنن مَنْ قبلهم حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلوه. أراد بعضهم أن يزيل عن العين الرمد فقال بسد باب الاجتهاد. وبذلك شفى الرمد بالإعماء، فصار كل من أراد أن يستعمل عقله في الدين رموه بأنه من المارقين وهكذا ضاع الحق بين الأباطيل: ولولا عناية الله لأزهقت رُوحَه الأضاليلُ. نظر المجتهدون في الأحاديث نظرة علموا ما فيها من الاختلاف، وتحققوا أن أكثرها موضوعات، ولما أراد كل منهم أن يستخرج مذهبه اضطر أن يرفض منها ما صح عند غيره، فهل يعقل أن الله يدين العالمين بشيء لا يمكن لأحد أن يميز حقه من باطله؟ وهل يعذر المسلمون في تركهم القرآن خلف ظهورهم والاشتغال عنه بهذه المذاهب وصرف الوقت في مراجعة الروايات التي لا تحصى لظنهم أن القرآن غير وافٍ بالدين كله، والله تعالى يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 38) وإذا صحت مذاهبهم، فأي تفريط أكبر من ترك القرآن لأكثر واجباتهم في الصلاة والصوم والحج والزكاة وغير ذلك؟ دين الله سهل ميسور، والتقليد فيه محظور، فلو كان العمل بما في الأحاديث واجبًا لَلَزِمَ كل مكلف أن يترك أي شغل آخر ويقضي الليالي الطويلة في مطالعة المجلدات الضخمة من كتب الحديث، ليعرف الضعيف والصحيح والموضوع، والحسن والموقوف والمرفوع، والناسخ والمنسوخ: فهل في شرعة الإنصاف أني ... أكلف خُطَّةً لا تستطاع؟ يحتج السنيون على صحة قولهم بنحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ولكننا نحن القرآنيين نقول: إن إطاعة الرسول لا نزاع فيها ولكن النزاع في مسألة أخرى وهي: هل يفرض علينا الرسول فرضًا لم يفرضه كتاب الله؟ فإذا كان ذلك صحيحًا فهل لأولياء الأمر أن يفرضوا علينا صلوات سبعًا بدل الخمس أو صيام شهرين بدل الشهر ونحن مأمورون بطاعتهم مثل طاعة الرسول؟ وإذا كان الأمر كذلك فما بال جميع أصحاب المذاهب ميزوا بين أمر الله وأمر الرسول أو بين الواجب والسنة وبين المفروض والمندوب؟ أليس ذلك إقرارًا منهم بالفرق الهائل بين الكتاب والسنة؟ نحن لا نجهل أن كل مذهب منها يقول ببعض فرائض لا أثر لها في الكتاب، ولكن الذي نلاحظه على أصحابها ونشكرهم عليه أنهم كانوا دائمًا يجتهدون أن يأخذوا دليلهم على الفرضية من الكتاب إن أمكنهم حتى إن كثيرًا منهم قال بعدم وجوب أشياء كان النبي عليه السلام يواظب عليها ويأمر أصحابه بها، إذ لم يجد دليلاً عليها من القرآن، فأبو حنيفة مثلاً قال بأن قراءة الفاتحة في الصلاة ليست بواجبة؛ لأنه لم يجد أمرًا بذلك في كتاب الله، وكذلك قال في الاستنجاء، وذهب الجميع إلى القول بأن المضمضة والاستنشاق ليستا من فرائض الوضوء، وغير ذلك كثير حتى إنك تجدهم يستنبطون كل ما قالوا بأنه فرض من الآية الواردة فيه، وبعد ذلك يقولون بأن ما زاد عليه فهو سنة، ولو لم يثبت أن النبي تركه مرة واحدة، أليس ذلك أثرًا من آثار الفطرة السليمة الباقية في نفوسهم؟ إذا نظر ناظر في جميع المذاهب المعروفة واستخرج منها جميع ما أجمعوا على وجوبه وجد أنه كله مستنبط من القرآن الشريف إلا مسائل قليلة جدًّا أذكر منها بعضها لأهميتها كعدد ركعات الصلاة، ومقادير الزكاة وما يتعلق بها. لا شك عندي أن هاتين المسألتين متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس ذلك محلاًّ للنزاع، ولكن محل النزاع هو هل كلُّ ما تواتر عن النبي أنه فعله وأمر به يكون واجبًا على الأمة الإسلامية في جميع الأزمنة والأمكنة، وإن لم يرد له ذكر في القرآن رأيي أنه لا يجب. وربما كان ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم هو مندوبًا إليه ندبًا شديدًا أو أنه تطبيق لأوامر القرآن الباقية على أحوال الأمة العربية، بحيث إن غيرها من الأمم لها أن تستنبط من الكتاب ما يوافق أمورها وأحوالها كما سنبين ذلك في مسألة الزكاة. ولنبدأ الآن بالبحث في مسألة ركعات الصلاة. قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} (النساء: 101- 102) إلى آخر الآية، فيتضح من هذه الآيات الكريمة أن قصر الصلاة مباح في السفر إذا خفنا العدو، وأن صلاة الخوف للإمام ركعتان فقط وللمؤتمين واحدة يصلي نصفهم الركعة الأولى معه، ثم يصلي النصف الآخر الركعة الثانية، وهذا هو المتبادر من القرآن الشريف وما ذهب إليه ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد فإذا كانت صلاة الخوف ركعة واحدة للمؤتم، وظاهر من السياق أن هذا قصر، أي دون الواجب، فيكون الفرض في أوقات عدم الخوف هو أكثر من ركعة، أي أن القرآن يفرض على المسلم أن يصلي في كل وقت من أوقات الصلاة أكثر من ركعة، ولم يحدد له عددًا مخصوصًا، وتركه يتصرف كما يشاء، وبعبارة أخرى: إن الإنسان يجب عليه أن يصلي ركعتين على الأقل، وله أن يزيد عن ذلك ما شاء أن يزيد بحيث لا يخرج عن الاعتدال والقصد، فإن الغلو في الدين مذموم وكذا في كل شيء {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (الأعراف: 31) ومن ذلك تعلم أن عدد ركعات الصلاة غير معين إلا بهذا القدر فقط، وهو أن لا تنقص عن اثنتين ولا تزيد إلى درجة الإفراط، وبعد ذلك فللمسلم الاختيار فيما يفعل على حسب ما يجده من نفسه ومن وقته، ولا يجوز له القصر عن الركعتين إلا فيما ذكره القرآن الشريف، والذي يدلك من السنة على أن هاتين الركعتين لهما الشأن الأكبر في الدين ما يأتي: (1) أول ما فُرضت الصلاة كان النبي عليه السلام يصلي دائما ركعتين ركعتين مدة إقامته بمكة وجزءًا من إقامته بالمدينة , فإن قيل: لعل ذلك كان في أول الأمر لحدوث عهد المسلمين بالإسلام فناسب أن يكون التكليف حينذاك خفيفًا، قلنا: إن المعهود في طباع البشر أن يكونوا عند دخولهم في دين جديد شديدي الرغبة في القيام بجميع واجباتهم الدينية ويطلبون المزيد، وكلما طال عليهم العهد أخذوا في التهاون فيها، ولذلك كان المسلمون في أول الإسلام يقومون الليل بعضه إن لم يكن كله، وكلما ازداد اضطهاد المشركين لهم كلما ازدادوا رغبة في الصلاة فلو كلفوا بأكثر من ركعتين في أول الأمر لوجدوا في أنفسهم من الرغبة الشديدة في العمل ما لا يجدونه فيما بعد وخصوصًا لأنهم كانوا غير مكلفين بالجهاد ولا بغيره: كالصوم والحج وغيرهما، ثم لو سلَّمنا أن التخفيف في الصدر الأول كان لمراعاة جانب المسلمين الحديثي العهد بالدين وهم إذ ذاك نفر قليل فلماذا لا يراعى جانب مَنْ دَخَلَ في الدين فيما بعد وقد كانوا يُعدُّون بالملايين؟ فلهذه الأسباب نحن نتخذ هذه المسألة دليلاً على أن النبي ما كان يكتفي بالركعتين في ذلك الوقت إلا لبيان أنهما أقل الواجب، ثم زاد عليهما فيما بعد لبيان أن الزيادة أولى. (2) إن النبي لما زاد عدد ركعات الصلاة كان يقتصر على ركعتين في سفره ولو لم يكن هناك خوف من العدو، ولو كان السفر قصيرًا جدًّا، ولو أقام بالجهة التي سافر إليها بضعة عشر يومًا وزال عنه العناء والتعب، فلو كانت الزيادة واجبة لعُدَّ هذا تهاونًا، وخصوصًا لأن القرآن لم يبح القصر إلا عند الخوف من العدو ولكنهم يقولون تحكمًا: إن هذا هو القصر المراد في القرآن ولا يبالون بمخالفة الظاهر منه ونحن نسمي ذلك (اكتفاء بالواجب) محافظة على مقام القرآن الشريف ولا نقول في قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) إن هذا القيد في الآية المذكورة أنفًا لا مفهوم له كما يقولون اتباعًا لمذ

الرد على الشيخ بخيت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرد على الشيخ بخيت رغب لنا ثلاثة نفر أن نكفّ عن الرد على الشيخ بخيت أحدهم صديق لنا في القاهرة يرى أن كل ما يُكتب في المنار أَنْفَع من هذا الرد، فينبغي اختيار الأنفع وتقديمه على ما دونه، والثاني أحمد أفندي وجدي أحد طلاب مدرسة الحقوق كتب إلينا من السويس كتابًا أثنى فيه على المنار، وذكر من فائدته ما ذكر، ورأى أن هذا الرد من المسائل الشخصية التي لا تليق به ولا نرتاب في إخلاص هذين الناصحين، والثالث مجهول أرسل إلينا رَقيمًا من الإسكندرية كله سباب وشتائم، وحكم على قلبنا وسريرتنا، ومما قاله: إن الشيخ بخيتًا اعترف في رسالته الثانية بأنه أخطأ، ولكنه أحب أن يداري خطأه ويموهه فما كان يجوز بعد هذا أن نعود إلى بيان فضيحته أو ما هذا معناه، ولولا هذا المعنى لم نذكر هذا الكاتب الجبان السبَّاب فنبدأ بالجواب عن هذه الكلمة، وإن لم يستحق كاتبها جوابًا فنقول: لو أن الشيخ بخيتًا اعترف بخطئه في قوله إن خليفة المسلمين يجوز أن يكون كافرًا أو بأن حديث ابن ماجه الذي احتج به لا يُحتجُّ به؛ لأن سنده لا يصح ومتنه لا يدل على ما قاله في رسالة السكورتاه - لكففنا عن الرد عليه،وإن نَبَزَنا بألقاب الجهل والحسد و… فإننا لسنا ممن ينتصر لنفسه دون الحق وقد سبنا كثير من السفهاء في الجرائد، وسعى كثير من المفسدين في إيذائنا، ولم نقل في أحد منهم كلمة سواء انتصارًا أو انتقامًا، وقد هضم أناس حقوقنا المعنوية وأكل آخرون مالنا بالباطل فلم نقل في أحد منهم كلمة ولكننا قد انتُقِدْنا غير مرة على أصدقائنا، وفى هذا الجزء وما قبله شيء من ذلك. وفي مقابلة هؤلاء الثلاثة نرى كثيرين من أهل الأزهر وغيرهم من أهل الرأي والفضل قد استحسنوا هذا الرد وعَدَّوْه من أفضل طرق الإصلاح وخدمة العلم في زمان كثر فيه التهجم على التأليف، واعتادت الجرائد مدح كل تصنيف، لا سيما إذا كان لصاحبه حظ من الشهرة وكِفْل من الجاه وفي ذلك من الغش للأمة ما فيه، وما زال المشتغلون بالعلم يرد بعضهم على بعض، ونحن الآن أحوج إلى هذا منا في الزمن الماضي لِمَا في نشر المصنفات الضارة بالطبع من عموم الضرر والإفساد. تعوَّد الناس عندنا قراءة ردَّ بعض الجرائد على بعض في مسائل السياسة والأخبار، ويرون مجرد الرد دليلاً على العداوة الشخصية ولم يتعودوا مثل هذا في مسائل العلم والدين وإن كان ضرر الخطأ في هذا أشد؛ لذلك توهم بعض الناس أن بيننا وبين الشيخ بخيت عداوة، لا سيما بعد نشر ما نشر في المؤيد فأسرع إلينا بعض مبغضيه يذكرون لنا من السيئات ما لا نحب أن نسمعه إن صدقناهم فيه فكيف نرضى أن نذكره في المنار، ومنه ما يتعلق بالمعاملات والمال وليس من شأن المنار الخوض في ذلك. نعم إن المنار لم ينشأ للبحث في الدين فقط كما نسمع تارة بعد تارة من المفتاتين علينا بأهوائهم، ولكن باب الأخبار الذي فتح فيه من أول نشأته لا يدخل فيه إلا ما كان فيه عبرة وموعظة للأمة. فليعلم القاصي والداني أنه لا عداوة بيننا وبين الشيخ بخيت، وأننا لا نحب أن نسمع عنه شيئًا مكروهًا، وأن ما يتفق لنا سماعه نطويه ولا ننشره إلا أن يكون مما يؤيد حجتنا في المسائل العلمية والدينية التي نناظره فيها، إذ لا محاباة في العلم والدين. هذا وقد سبق إلى فهم صاحب المؤيد أن ما كتبناه في الجزء الماضي يشعر بأنه هو الذي أخبرنا بأن الشيخ بخيتًا هو الكاتب لما كان نُشر في المؤيد بإمضاء (ثابت بن منصور) فكتبنا إليه مبينين أننا لم نقصد ذلك وأن العبارة لا تدل عليه بل فيها ما يدل على أن ذلك كان معروفًا لغير واحد، وأزيد الآن أنه كان في المقالة التي نشرت يومئذ في المؤيد ردًّا على ثابت بن منصور إشارة إلى أن الشيخ بخيتًا هو الكاتب لها لا أزال أذكرها هي: لو أن الشيخ ثابت بن منصور ركب مركبة لتنقله من الخرنفش إلى الأزهر، وكان سائقها لا يعرف جغرافية القاهرة، فسار به إلى جهة باب الحديد - أما كان يفوته الدرس؟ أو ما هذا معناه فذِكْر خروجه من الخرنفش كان إشارة من الكاتب إلى أن ثابت بن منصور هو الشيخ بخيت، وإننا نعرف كثيرين كانوا يعلمون ذلك ومنهم بعض أساتذة المدارس الأميرية. كان المقصود من كتابي إلى المؤيد أن أَبْرَأ من اتهام صاحبه بأنه هو الذي أخبرني بأن ثابت بن منصور هو الشيخ بخيت، وليس فيه كلمة تشعر بانتقاد الشيخ بخيت، وانظر ما كتبه هو إلى المؤيد فإننا ننشره لما فيه من العبرة في اللفظ والفحوى، وكثرة الأدب وقلة الدعوى، ولفائدة تُذكر بعد، وهو: بيان حقيقة صاحب المؤيد الأغر سعادتلو أفندم حضرتلري: وبعد: فإني أرجو نشر ما يلي بجريدة المؤيد إظهارًا للحقيقة ودحضًا لِمَا افتري به علينا ونشرتموه بها. قد رأيت بعدَدَيْ 4956 و4957 من جريدة المؤيد أن صاحب مجلة المنار قد ادعى أنني كتبت رسالة لجريدة المؤيد، ونشرت سابقًا تحت إمضاء (ثابت بن منصور) . وحيث إن هذه الدعوى باطلة عاطلة وتضاف إلى غيرها من دعاويه علينا وعلى غيرنا، ولا يستطيع أن يأتي بواحد يزعم أني خبرته بأني كاتب الرسالة المذكورة ولا أن يقيم حجة، ولو أوهى من بيت العنكبوت على ذلك. وحيث إنه يجوز أن يكون المبغضون إلينا قد افترى ذلك علينا ليشوه وجه الحقيقة الساطعة] يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِم وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ يُتِمَ نُورَهُ [. ويمكن المؤيد أن يراجع الحقيقة ليعلم أني لم أكتب له هذه الرسالة كما أنه لم يسبق لي أني كاتبت المؤيد ولا غيره من الجرائد في شيء ما أصلاً، فقد جئت إلى جريدتكم الغراء بهذه السطور الوجيزة لنشرها بها دحضًا لتلك المفتريات، ولو أني كتبت أو أكتب إلى جريدة لكتبت بإمضائي، وحاشا أن أكتب بإمضاء مجهول مستعار، فإني ممن يعتقد أن التجهيل جهالة لا يرضاها لنفسه عاقل ولا يُقَدَّمُ عليها إلا خائف أو جاهل، ولكن الدعاوي المختلقة على الناس عمت بها البلوى سلفًا وخلفًا حتى قال الشاعر قديمًا: لي حيلة فيمن ينمّ ... وليس في الكذاب حيلة من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة وفقنا الله للصدق في القول والإخلاص في العمل، ووقانا شر الخطأ والخطل، فإنه سبحانه بيده العصمة وتمام المِنَّة والنعمة. كتبه محمد بخيت المطيعي الحنفي بالأزهر. (المنار) كنت أتمنى لو يعلم الشيخ بخيت موقع كتابته هذه عند أهل الفهم والمعرفة بالكتابة، وماذا قالوا في نقد بعض المفردات والأسلوب الذي اكتسبه من المحكمة، ولكنهم لم يهتدوا إلى متعلق (وحيث وحيث) في كلامه، ونقول: إذا كان الشيخ نفسه يجوِّز أن يكون بعض المبغضين له أو (إليه) قد افترى عليه ذلك وأخبرنا وصدقناه، فلماذا جزم بأننا نحن الذين افترينا عليه هذه الفِرْية. هذا ما لا ينبغي أن نطيل فيه، وأهم ما أقصد بنشر رسالته هذه بيان أنها تدل على رجوعه عما كان يقوله في دروسه ومجالسه في شأن الكتابة في الجرائد، فقد بَلَغَنا من طرق كثيرة أنه يقول بأن الكتابة في الجرائد محرمة؛ لأن الجرائد عرضة للإهانة، وإهانة ما يكتب فيها محرم لا سيما إذا كان فيه اسم من أسماء الله تعالى أو أسماء أنبيائه وملائكته أو شيء من القرآن أو الأحاديث، وها نحن أولاء نراه كتب في جريدة كتابة مشتملة مع اسم الله تعالى على كل شيء من كتابه العزيز فإن كان ينكر أنه قال بتحريم الكتابة في الجرائد حتى فيما هو دفاع عن الإسلام وتأييد له كالرد على هانوتو (مثلاً) فإننا نسلم له إنكاره، وحَسْب الناقلين ذلك عنه أن يعرفوا أيهما الصادق، كما عرف الناقلون عنه أنه هو الذي كتب بإمضاء ثابت بن منصور أيهما الصادق، وإن ادعى أن رأيه واعتقاده قد تغير، فإننا نسلم ذلك ونشكره له. هذا وقد ضاق هذا الجزء عن بقية الرد عليه في مسألة الإمامة وموعدنا الأجزاء الآتية. ((يتبع بمقال تالٍ))

رأي في اللغة العربية وأغلاط الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي في اللغة العربية وأغلاط الكُتَّاب وَعَدْنا في الجزء الماضي أن نبيِّن شيئًا مما خالف القياس فيه جبر أفندي ضومط تساهلاً في القياس وحبًّا في سعته لا جهلاً ولا ضعفًا في اللغة وفنونها، وإننا نقول قبل أن نورد ما لا مَنْدُوحَة لنا عن إيراده: إن مثل هذه المخالفة والخطأ مما نراه في كلام جميع كتاب العصر الذي نطلع عليه ولا أستثني النقادين الذين بذلوا جُلَّ عنايتهم في التحرير والتصحيح، وأنا أُقرُّ بأنني كثيرًا ما أراجع بعض مباحث المنار السابقة فأجد فيها من الغلط ما أعلم أن عِلَّته السهو العارض أو الجهل السابق، لا مجرد تحريف الطبع، وأكثر ما يقع لنا من ذلك استعمال كلمة عامية أو جمع غير قياسي أو تعدية فعل بما لم تُعَدّه به العرب، ونحو ذلك مما يكثر في الجرائد والمطبوعات العصرية ونقرأه كل يوم فيعلق منه بأذهاننا ما يعلق على انتقادنا له فسبق إلى أقلامنا، أعتذر بهذا عن نفسي وعن غيري من العارفين باللغة، وأَنَّي لمثلي أن يسلم من مثل هذه الأغلاط الفاشية، وهو ممن يكتب المقال فيلقيه إلى عمال المطبعة ورقة ورقة من غير أن يعيد إليه النظر أو يقرأ منه سطرًا ابتغاء التصحيح والتحرير، وأما تصحيح الطبع فإنه يشغل صاحبه عن كل ما عداه حتى لا يكاد المصحح يفهم ما يقرأ، كأن قوة ذهنه كلها توجهت إلى النظر في صور الكلم ومحاولة تطبيقها على الأصل الذي طبع المثال الذي يراد تصحيحه عنه. أقول: إنني لم أسلَم من الغلط ولم أر أحدًا من كُتَّاب العصر سلم منه، ولكن أصحاب الملكات القوية والاطلاع الواسع في اللغة يقل غلطهم جدًّا، حتى إن العالم النقاد لَيقرأ لأحدهم عدة فصول لا يجد فيها غلطة، وهؤلاء قليلون في كُتابنا اليوم وأكثر منهم من لا تقرأ لأحدهم بضعة أسطر إلا ويعثر ذهنك بغلطة، ويرتبك فهمك عند جملة، ولا أرى من الصواب إضاعة الوقت في الانتقاد على هؤلاء ولكن الانتقاد على هفوات الكُتاب البارعين والعلماء الراسخين، وعلى المتوسطين بينهم وبين أولئك المتطفلين، هو الذي يُحْيِي اللغة ويرقى بها إلى أعلى علّيين، وإعلاء شأن اللغة واجب في نفسه لا ينسخه وجوب انتقاد المصنفات من جهة موضوعها ومسائلها، فإذا قام بهذا قوم وبهذا آخرون رُجي لنا أن نرتقي في العلوم وفي اللغة التي تؤدى بها العلوم، ولكن جبر أفندي لا يحفل بانتقاد اللغة بل يكتفي بأن يكون ما يكتب مما فهمه القارئ، وإن مُزج بالألفاظ العامية التي ليست من اللغة وبالأغلاط النحوية وأَبَقَ من أساليب العرب، وهذا هو ما ننتقده عليه، ونقول: إنه يجب على كل كاتب أن يتبع أئمة اللغة وفنونها فيما قرروه فلا يقيس على السماعي، ولا يخرج في القياس عن حدوده، ولا يدخل الكلمات العامية المحضة في كتابه ولا بأس بغير المحضة وهو ما كان عربي الأصل، وهو أكثر كلامهم على تحريف فيه يسهل تصحيحه، ذلك أن التساهل وتَرْك الأمر فوضى للكاتبين بدعوى العناية بالمعاني مما يفسد اللغة بما يجرئ الجهلاء والضعفاء على التأليف مع كثرة غلطهم ودخيلهم ويثني همة غيرهم عن التحصيل والإتقان. يرى جبر أفندي ضومط أن هذا التساهل مما نحتاج إليه ونحن نمنع ذلك على إطلاقه كما علم من الجزء الماضي، وإنما نريد إيراد بعض ما وقع له من الخطأ وإن كان لا يكاد يسلم منه أحد منا لنبين أنه لا حاجة إليه، فيقال: ينبغي أن نجيزه للحاجة، وأن في الصواب الذي لا نزاع فيه مندوحة عنه، وليعلم الذين ينتقدون بعض عباراته في كتبه أن جُلَّ ما يرونه فيها خطأ يراه هو صوابًا، فهو لم يأته عن جهل (حاشاه من ذلك) ، فلا أريد بما أورده من الأمثلة تحرير مسائلها والجزم بأنه لا يمكن تأويل شيء منها، إنْ أريد إلا أنه خالف القياس المعروف لمحض التساهل من غير حاجة إليه. أول ما خطر في بالي مما انتقد في كتبه قاعدته التي بنى عليها كتاب فلسفة البلاغة وهي على ما أذكر (الاقتصاد على فهم السامع) ، فالاقتصاد لا يتعدى بعلى والمعنى المراد من القاعدة لا يفهم منها بذاتها بل بما شرحها به، ولو قال: التوفير بدل الاقتصاد لكانت العبارة صحيحة؛ إذ يقال وفر عليه وإن لم تَخْلُ من توسع في إفادة المعنى المراد وهو مما يعهد في المواضعات، بل لو قال: (القصد في كد ذهن السامع) لَتم له ما أراد، ولم يُعدَّ الفعل بما لا يُتعدَّى إليه في لغة العرب فكل عالم باللغة يفهم هذه العبارة لأول وهلة من غير كد للذهن ولكن عبارته لا تكاد تفهم مع كد الذهن إلا بعد الوقوف على ما فسرها به، فما لا خطأ فيه هو الذي يتفق مع القاعدة ومثله من يعلم أن اقتصد لا يتعدى بعلى، ولكنه التساهل الذي اتخذه مذهبًا. ومن مخالفة القياس في مقالته (انتقاد فتاة مصر) قوله: (كما في ص من 545 المقتطف) : والتقحّم فيها على الخراب. لا يقال في اللغة: تقحّم عليه كما يقال هجم عليه، وإنما قالوا: تقحّم الفرس بصاحبه:إذا نَدَّ به، فلم يضبط رأسه وإذا ألقاه راكبه، فكان ينبغي أن يقول: وتقحَّما أو تقحَّمها بنا في الخراب. ومنها قوله في ابتداء كلام: (أولاً الانتقاد النحوي) ثم قوله: (ثانيًا الانتقاد البياني) إلخ وهو يكثر من مثل هذه في كتبه تساهلاً في مجاراة كُتاب الجرائد وأمثالهم، وهذا غير معهود في الكلام العربي الصحيح أو الفصيح، ولا يمكن إعرابه إلا بتكلف لا حاجة إليه لمكان الاستغناء عنه بقولنا: (الأول كذا. الثاني كذا) وقد استعمله في أثناء الكلام كما يستعملونه، ومنه قوله: (في ص 545) وفيه مثال آخر: وإنها أجدر كتاب لحدّ الآن يَحْسُن بنا أن نضعه في أيدي شباننا وطلبة مدارسنا يقرءونه أولاً لما فيها من حسن الأسلوب ودقة التعبير إلخ، وإنني أجزم بأنه لولا رأيه الذي ذكرت لما سقط من قلمه مثل هذه الجملة التي لا تكاد تنطبق على قاعدته فيما أرى، ولا أظن أن العالم بالعربية في الهند وبخارى وروسيا وتركيا يفهمها كما يفهمها من أَلِفَ هذا الأسلوب، واعتاد قراءة مثله من سوري ومصري. ومنها ابتداؤه الكلام بالعطف كقوله: (وأكثر كتابنا) وإدخال (قد) على الفعل المنفي كقوله: (قد لا يعد، قد لا يعقل، قد لا تخلو) وكان يمكنه أن يستغني عن الواو ويستبدل (ربما) بقد؛ لإفادة التقليل،ولكنه يكتفي باستعمال الناس مجوزًا،وقد استعمل المَناطقة قد مع النفي في القضايا الشرطيَّة السالبة،وهو يحتج بمن دونهم في الاستعمال كابن الفارض وابن عابدين. ومن المفردات قوله في ص 547: (صفِّيف الأحرف) وكلمة صفِّيف لم يتفق عليها عمال المطابع فنقول: إنه اتبع العرف وإن كان عاميًّا، ولا هي من الكلمات التي لا يوجد في العربية ما يغني عنها؛ إذ يمكن أن يقال مُرتِّب الحروف أو جامع الحروف، وعامة المصريين يقولون جمِّيع، ومنهم من يكتبها جمَّاع بصيغة المبالغة. ومنها قوله: في ص 552: (مقاسة) والصواب: مقيسة، ولعل هذا من السهو أو غلط الطبع ومثله قوله ص 554: يصوغ بالصاد. وأما الألفاظ التي صححها وتَمحَّل لجَعْلها قياسية فلا حاجة إلى استعمال تكاتفوا منها مع كثرة ما ورد في معناها، وقوله في تعليل قياسها على تظاهروا: إن وضع الكتف للكتف في التعاون أقرب للفهم؛ لأنه أكثر مشاهدة من وضع الظهر للظهر - فيه نظر؛ إذ لا نسلم أن معنى تظاهروا في الأصل وَضَعَ كلٌّ ظهره إلى ظهر الآخر والأظهر أن معناه كان كل منهم ظهيرًا للآخر أي معينًا،والظهير: المعين والقوي الظهر، ولعل هذا هو الأصل، ولمَّا كان قوي الظهر من الإبل والدواب مما يعتمد عليه في الإعانة سمي المعين ظهيرًا، ويجوز أن يكون من المظاهرة بين الثوبين ونحوهما أي المطابقة بينهما؛ لأن المتظاهرَيْنِ يكونان كشيء واحد أو هو من حماية الظهر وهو معهود عندهم فمعاونك يمنع عنك من ورائك وأنت تمنع عنه من الأمام من حيث يمنع كل منكما عن نفسه، وهذا نحو جعله من وضع الظهر للظهر ولكنه أظهر في التعاون، ومَنْ ماشاك كتفًا إلى كتف لا يُفْهم من مُماشاته لك أنه يمنع عنك ويعاونك كما يفهم مما تقدم. وما قاله أيضًا في تصحيح استعمال لفظ العائلة بمعنى الآل أو العشيرة غير ظاهر فإن العائلة وصف لمحذوف معروف، أي الجماعة التي تعقل إبل الدية عن القاتل من عشيرتها، فإذا كانت العائلة مِنْ عال عياله بمعنى كفاهم معاشهم ومُؤَنهم يكون معنى الكلمة: الجماعة العائلة،أي المنفقة، وإنما المنفق هنا واحد وهو العائل والمُنْفََقُ عليهم هم الجماعة أي العيال ومثل هذا يقال في تعليله الآخر، ولو قيل: إن الكلمة محرَّفة عن العاقل بإبدال القاف همزة كدأب العوامّ لم يكن بعيدًا. هذا ما يأتي به التساهل وهو إذا كان سهلاً في نفسه، ويمكن تأويل بعضه فهو عظيم من عالم يعد من أوسع علماء اللغة اطلاعًا في هذا العصر، فماذا نقول في كتابة جماهير المعاصرين الذين لا نكاد نفهم كلامهم لولا معرفتنا باللغة العامية؟ على أن منه ما لا يفهم منه الغرض المجمل إلا بمعونة القرائن، فإذا كان صديقنا يجعل المعيار في جيد الكتابة ورديئها فَهْم القارئ فعليه أن لا ينسى أن العبرة بالقارئ العارف بالعربية الصحيحة المدونة المقروءة دون العامية التي تختلف باختلاف البلاد، فإذا كان فَهْم المصري لا يقف في فَهْم قول بعض الكُتَّاب في بعض الصحف (المرأة التي عندها أطول شَعْر من غيرها) فإن فَهْم الحجازي والنجدي والعراقي وكذا الأناطولي والقوقاسي ونحوهما من الأعاجم الذين تعلموا اللغة من الكتب، لا يدرك المراد منه مهما كدَّ ذهنه، ولعل أقرب ما يخطر لأمثال هؤلاء بعد طول التأمل أن معنى الجملة: (المرأة التي يوجد عندها في الدار مثلاً أطول شعر هو من شعور غيرها لا من شعرها هي) وإنما أراد الكاتب أن يقول: (أطول النساء شعرًا) فمن تأمل هذا جزم بأنه لا يجوز لنا أن نخالف القواعد والنقل في اللغة - مفرداتها وجملها وأساليبها - إلا لضرورة يقدرها علماء هذا الشأن بقدرها. وإنني أميل إلى مخالفة المتقدمين في بعض ما قالوا: إنه سماعي، ولكنني لا أجيز لنفسي الانفراد بذلك واستعماله لغير ضرورة حتى يوفق الله علماء هذه اللغة لتأليف جمعية تنهض بهذا العمل وعسى أن يكون ذلك قريبًا.

كتاب مرجيلوث في النبي صلى الله عليه وسلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب مرجليوث في النبي صلى الله عليه وسلم ألف الدكتور مرجليوث الإنكليزي المستشرق كتابًا بِلُغته في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قال في مقدمته: إنه يَعدّ النبي محمدًا من أعاظم الرجال وأنه حل معضلة سياسية هي تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب، وأنه يُجله ويؤدي له ما يستحقه من التعظيم والتبجيل، ولا يقصد بتأليف كتابه الدفاع عنه، ولا إدانته كما فعل غيره من كتاب المسلمين أو النصارى، فليس من غرضه تفضيل الدين الإسلامي على غيره ولا تقبيحه والطعن فيه، ومَنْ علم أن هذا المؤلف عرف اللغة العربية معرفة قلما يساويه أحد من الفرنج فيها، واطلع على كثير من كتب المسلمين يظن أن فهمه للإسلام وتاريخه أدق من أفهامهم، فهو أجدر بالقدرة على بيان الحقيقة؛ ولكن قراءة بعض ما كتب تكفي للذهاب بهذا الظن. يحول بين الإفرنج وفهم الإسلام وتاريخه أمور إذا سَلِمَ بعضهم من بعضها فيندر أن يسلم منها كلها أحد (منها) تأثير ما تربَّوْا عليه ونُشِّئوا فيه من كراهة الإسلام واحتقار المسلمين تعصبًا لدينهم، ومَنْ خُتِمَ على شعوره ووجدانه من أول نشأته بخاتم تعسَّر عليه فَضُّه، فإن هو فضه تعسر عليه محو أثره، وإن هو نزع رِبْقَة التقليد، آوى إلى ركن الاستقلال الشديد، وناهيك إذا كانت حياته الاستقلالية تؤيد ذلك الشيء لمصلحة سياسية، وهذا هو الأمر الثاني وبيانه أن حرص الأوربيين على الفتوح والتغلب وشَرَههم في الكسب من الشرق، وما تُكنُّ صدورهم من الضغن والحقد على جيرانهم من أهله، كل ذلك مما يصرف أبصارهم عن محاسن الإسلام حتى لا يكاد يقع بها إلا على ما يمكن انتقاده، إلا أهل الإنصاف الكامل الذين انسلخوا من تأثير التقاليد والسياسة، ووَجَّهوا كل عنايتهم إلى معرفة الحقائق وقليل ما هم. (ومنها) وهو الأمر الثالث سوء حال المسلمين في هذه القرون التي ارتفع فيها شأن أوربا في السياسة والعلم والعمران فقد أمسى المسلمون حُجَّة على أنفسهم وعلى دينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا. (ومنها) ما تعوَّدوه من الجراءة على الحكم في المسائل التاريخية وكل ما هو غير محسوس بالقرائن الضعيفة واستنباط الأمر الكلي من أمر جزئي واحد، واختراع العلل والأسباب للحوادث بمجرد الرأي والتحكم. (ومنها) عدم إتقانهم لفهم اللغة العربية وفنونها اللغوية والشرعية؛ لأنهم لا يتلقون كل فن عن الأساتذة الماهرين فيه، وقد ينبغ المحصل لبعض العلوم باجتهاده دون التلقي عن الأساتذة المهرة حتى يبرز على كثير ممن تلقى ذلك العلم ويظهر فضله عليهم، ثم هو يخطئ فيما لا يخطئ فيه مَنْ هو دونه في التحصيل من أهل التلقي، وقد سمعت رجلاً من أَعْلَمِ المستشرقين بالعربية وأدقهم فهمًا لها يقول: إن المسلمين يقدمون الحديث على القرآن، فأنكرت عليه ذلك فاحتج بكلام علي لابن عباس (رضي الله عنهما) لما بعثوا للاحتجاج على الخوارج، وهو: لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون ولكن حاجّهم بالسُّنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا. اهـ. فقلت له: ليس المراد بالسُّنة هنا ما اصطلح عليه المحدثون والفقهاء، وإنما المراد بالسنة الطريقة التي جرى عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العمل، فهذه هي التي لا محيص عنها؛ لأنها لا تحتمل التأويل ولا القال والقيل، وأما الأحاديث القولية فإن التأويل ينال منها كما ينال من القرآن أو يكون أشد نَيْلاً، ومن ذلك تأويل عمرو بن العاص الحديث الناطق بأن عمار بن ياسر تقتله الفئة الباغية بقوله: إنما قتله مَنْ أخرجه يعني عليًّا، فقال علي: إذًا ما قتل حمزة إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الذي أخرجه، ولم نعلم أن أحدًا من المسلمين قَويِّهم وضعيفهم متبعهم ومبتدعهم وَهِمَ من كلمة علي كرم الله وجهه ما فهم هذا العالم المستشرق. وجملة القول: أن المنصف من الأوربيين يعسر عليه أن يفهم الإسلام حق فهمه بمجرد الوقوف على فنون العربية والاطلاع على كتبها، فما بالك بغير المنصف وغير المتقن، وسترى فيما ننتقده على الدكتور مرجليوث أن السبب في أكثر غلطه وخطئه في هذه السيرة هو التحكم في الاستنباط والقياس الجزئي وبيان أسباب الحوادث، كما هو شأنهم في أخذ تاريخ الأقدمين من الآثار المكتشفة واللغات المنسية، وأقله عدم فهم اللغة وإلا فهو من أعلمهم ومحبي الاعتدال فيهم، وإننا نبدأ بخير قوله وأقربه من الصواب. ذكرنا ما قال في مقدمة الكتاب من أنه يَعدُّ النبي محمدًا من أعظم الرجال إلخ. ومما عده له من المآثر غير تكوين دولة عظيمة من قبائل العرب أمران عظيمان أحدهما وجوب حسم المسائل التي تتعلق بسفك الدماء بغير الحرب، والثاني أنه إذا ثارت الحرب يجب الحصول بسرعة على النتيجة لا أن تعاد الحرب وتكرر دون جدوى (راجع ص 55) منه. ومما اعترف به أن النبي كان صادق الكُرْه للشعر والسجع، قال: ولعل السبب في ذلك أنه لم يتعلمهما ولم يكن للعرب من أساليب الإنشاء سواهما. قال هذا في ص 60 وفيه رَدَّ على ما نقله في ص 55، عن ما يدور في قوله: إن أهل البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم اللغة وطلاقة اللسان في التعبير، وأنه إن صح ذلك فلا يبعد أن النبي مارس هذا الفن حتى نبغ فيه، أقول: ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم عني بذلك أو مارسه لعُرِفَ ذلك ولظهر أثره في لسانه في سن الشباب ولكن لم يًنقل عنه قبل النبوة شيء من ذلك قط، ولم يكن يوصف بالفصاحة والبلاغة بل كان يوصف بالصدق والأمانة وأحاسن الأخلاق فقول المؤلف هو الصواب. ومما خلط فيه الثناء بالانتقاد قوله (في ص 63) : إن النبي بين لقومه بيانًا مؤكدًا أن الكسوف والخسوف لا يكونان لأجل امرئ مهما علا قدره، ولكنه مع ذلك عدهما أمرًا ذا بال وأنشأ لهما صلاة مخصوصة. ونقول: إن في بيانه هذا منقبة غير مجرد بيان الحقيقة وتطهير العقول من الوهم، وهي أنه لم يرض أن يعظم شأنه بالباطل، فقد قال ذلك يوم مات ولده إبراهيم عليه السلام، وكَسَفَت الشمس فظن الناس أنها كسفت لأجل موته، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، أي من دلائل حكمته وقدرته كما بين ذلك في آيات من كتابه كقوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) وأنهما لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، والحديث في البخاري وغيره، وأما أمره بذكر الله والصلاة عند الخسوف والكسوف، فذاك لأن أهم أغراض الدين التذكير بقدرة الله تعالى وحكمته وتوجيه القلوب إليه بالشكر والدعاء، وتأثر القلوب بذلك عند حدوث مظاهر القدرة والحكمة والنظام،أقوى وأكمل؛ ولذلك كانت مواقيت الصلوات الخمس متعلقة بما يحدث من التغيير في الطبيعة كل يوم وليلة كطلوع الفجر وزوال الشمس وميلها وغروبها وزوال أثر ضوئها بمغيب الشفق؛ ولذلك شُرع الذكر والدعاء أيضًا عند نزول المطر، فالدين يرشد الناس إلى ذكر الله تعالى عند كل حادث يذكِّر بقدرته وحكمته كيلا ينسوه فتغلب عليهم حيوانيتهم فيفترس بعضهم بعضًا. ومما اعترف به من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وحَارَ في تعليله على اتساع دائرة التعليل عنده كما ستعلم ما قاله في ص 63 أيضًا وهو: أنه كان له وسائل لمعرفة الأسرار نعجز عن إدراك حقيقتها، وأن الطبيعة دون الحنكة أعطته موهبة يُحسد عليها ألا وهي معرفة طبائع البشر، فقلما أخطأ في معرفة أحد بل لم يخطئ قط، ونحن نقول: إن إله الطبيعة هو الذي فضله بذلك ليستعين به على هداية البشر، وقد كان ذلك، وما النبوة إلا تخصيص إلهي غايته هداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور فما هذه الحيرة في التعليل، والانقطاع في وَسَط السبيل. ومما حار في تعليله وهو من هذا القبيل سبب شروع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة فقد قال (في ص 72) يستفاد من تاريخ أشهر الرجال أن بَدْءَهم بالأعمال العظيمة كان لأسباب معروفة تدعو إلى ذلك، أما النبي فلا يعلم سبب لبدئه في دعوى الرسالة: ونقول: لو كان هذا الأمر من قَبيل تأسيس الممالك لكان يستحيل أن يقدم عليه العاقل من غير أسباب طبيعية تمهد له النجاح: ككثرة المال والمواطأة مع الزعماء والأعوان وسائر أسباب القوة، ولا عجب في ذلك فإنه كان معتمدًا على خالق الأسباب والمسببات، وفاطر الأرض والسموات، الذي أمره بالدعوة والتذكير، على أنه هو الولي له والنصير. وقال (في ص 74) : إن عظمة النبي كانت في أمرين: أحدهما معرفة أن الأمة العربية تحتاج إلى نبي، وثانيهما جَعْل هذه المعرفة ذات أثر، ونقول: إن أمر النبوة لم يكن بمثل هذا التعمّل والتدبر والعمل والتدبير؛ إذ لو كان كذلك لكان الاعتماد فيه على الأسباب الطبيعية، وقد تقدم آنفًا أنه لم يكن هناك أسباب؛ إذ لو كانت لعُرِفَتْ؛ لأن الأسباب التي تأتي بأعظم المسببات لا تخفى. وقال (في ص 80) سؤالان لا يمكن الإجابة عنهما (الأول) كيف أَتَتْ فكرة النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل العربي دون سواه (الثاني) كيف صادفت فيه من الصبر والعزيمة وقوة العارضة ما تحققت به؟ ولكن نقول كما كان يقول كارليل من أيام (تيوبال كين) كان الماء يصل إلى درجة الغليان وكان الحديد موجودًا ولم يوجد من تلك الربوات من الناس من يخترع الآلات البخارية ونقول نحن: إنه ذهل عن الفرق العظيم بين اختراع الآلات البخارية وبين النبوة، فإن أول مَنْ لاحظ أن لبخار الماء قوة يمكن استخدامها للرفع والدفع مثلاً لم يهتد إلى استخدامها في تسيير المراكب البحرية والبرية ونحو ذلك، وإنما وصل الناس إلى هذه الغاية بتدرج بطيء يبني فيه اللاحقون على ما وضع السابقون، والنبي ادَّعَى النبوة، وجاء بالشريعة وقررها بالكتاب والعمل وجذب الناس، فتم له تكوين دين وشريعة وأمة أحدثت بهدايته دولة قوية ومدنية راقية. وقال (في ص 144) : إن النبي كان يعتقد في نفسه أنه كأحد أنبياء بني إسرائيل. ونقول: إن هذا ينافي ما زعم في غير موضع من أنه قام بهذا الأمر عن فكر وتدبير، وأنه كان يتعلم ويستفيد ويدعي أن ما استفاده من الناس وحي من الله. ومما أَعْياه تعليله فأحاله على الغيب ما تراه (في ص 368) من قوله: لا بد أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم وسائط سِرِّيَّة لمعرفة الأخبار بسرعة غريبة، يعلل بذلك ما كان يقوله صلى الله عليه وسلم بالوحي والإلهام، ولو كان هناك وسائط لَمَا خفيت عن أولئك الأذكياء الذين كانوا معه، وكان ذلك كافيًا لانفضاضهم من حوله، وعدم بذل أرواحهم في سبيل دعوته. ومما مدح به وأثنى قوله في (ص458) : إن النبي نهى عن التعذيب والتمثيل الذي لم تُحرّمه أوربا إلا حديثًا. ونقول: إنها وإنْ حرّمته في بلادها؛ لأن الأمة قويت على السلطة فيها فهي تبيحه أحيانًا في غير بلادها، فهي لم تتمكن من هذه الفضيلة تمام التمكُّن. هذا جُلّ ما أنصف فيه وسدد وقارب، وسنذكر نموذجًا من خطئه في تاريخ الحوادث وبيان تعليلها وأسبابها.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من أحد علماء تونس عمَّتْ بها البلوى فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة، إذ لا يسع الناس عامة، ونشترط على السائل أن يبين اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) وله بعد ذلك أن يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربما قدمنا متأخرًا لسبب كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربما أجبنا غير مشترك لمثل هذا، ولمن يمضي على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يُذكّر به مرة واحدة، فإن لم نذكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله. *** بيع الدَّيْن بالنقد والأوراق المالية (س27) هل يجوز بيع الدَّيْن إلى بعض البنوك أو غيرها بأحد النقدين أو بالأوراق المالية؟ . (ج) لا أعرف نصًّا في الكتاب أو السُّنة يمنع ذلك، وهو في القياس أشبه بالحوالة منه ببيع النقد بالنقد، فإن المراد من هذه المعاملة أن يقتضي المشتري ذلك الدَّين؛ لأنه أقدر على اقتضائه وليس فيه من معنى الربا من شيء، ولكن صورته تشبه بعض صوره الخفية غير المحرمة في القرآن؛ ولذلك يشدد فيه الفقهاء ولمن احتاج إلى ذلك أن يأخذ ما يأخذ من البنك أو غيره على أنه دَيْن يحوله بقيمته على مدينه أو بأكثر منه، ويجعل الزيادة أجرة أو ما شاء، وههنا مسألة يجب التنبيه لها وهي أن ما ورد في الشرع بشأن ما يصح من المعاملات المالية ونحوها، وما لا يصح لا يراد به أن ذلك من حقوق الله على العبد كالعبادات وترك الفواحش، وإنما المراد بذلك منع التظالم والتغابن بين الناس، فكل معاملة لا ظلم فيها جائزة، وما كان فيها ظلم فهي حرام إلا أن تكون برضا المغبون، فمعنى صحة البيع ديانة أنه لا ظلم فيه بنحو غبن أو غش وحكمه النفاذ، وعدم استقلال أحد المتبايعين بفسخه، ومعنى بطلان البيع أن فيه ظلمًا لأحد المتبايعين وحكمه أن لا ينفذ إلا إذا رضي المظلوم، فإذا أراد فسخه جاز له ذلك، مثال ذلك بيع حَمْل الحيوان نُهِيَ عنه؛ لأنه غرر، فإذا اشتريت ما في بطن الفرس باختيارك ورضاك فولدتْه ميتًا، ولم ترجع على البائع بالثمن بل سمحتَ به راضيًا مختارًا، ولو لموافقة العرف فإن الله تعالى لا يعاتبه على أكله. هذا ما كنت أعتقده في مسائل المعاملات كما سبق القول في المنار، ولم أكن رأيت فيه قولاً لأحد، وقد رأيت اليوم نحوه لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولا شك أن من يبيع دَيْنه لا يكون ظالمًا لأحد ولا آكلاً ماله بالباطل الذي ليس له مقابل، وقد يكون تحريم ذلك عليه ظلمًا له؛ لأن الغالب في سبب مثل هذا البيع عَجْز الدائن عن اقتضاء دَيْنه بنفسه أو توقُّفه على نفقة كثيرة وكلاهما ضار به، هذا وإن الدين قد يكون ثمن عروض، والأمر فيه عند الفقهاء لا سيما إذا بيع بالأوراق المالية أهون والله أعلم. *** الأوراق المالية نقود (س28) هل تعتبر الأوراق المالية التي تحملها الدولة كالمسكوكات في المعاملة نقدًا أو عَرَضًا أو شيئًا آخر غيرهما؟ . (ج) الأوراق المالية المسماة (بنك نوت) هي من قبيل النقود المسكوكة، وأكثرها تضمن بقيمتها المرقومة عليها ذهبًا فمن ملك ورقة من ورق البنك الأهلي في مصر مثلاً كان كمن ملك مثل ما كُتِبَ على هذه الورقة ذهبًا؛ لأن الحكومة ضامنة لها تأخذها في كل حين بتلك القيمة، كما يأخذها كل مَنْ يعتد بتلك الحكومة من التجار وأصحاب المصارف (البنوك) وغيرهم، والفقهاء يَعدُّون هذا الورق كوثيقة الدَّيْن. *** المحلَّى بأحد النقدين يُعدُّ من العروض (س29) هل يوجد في الشريعة السمحة ترخيص للتجار في مسألة المُحلَّى بأحد النقدين فيعتبر كسائر العروض لكثرة تداوله ورواجه وصيرورته قسمًا كبيرًا من البضائع، وعسر العمل فيما تقرر في الفقه بشأنه مع مزاحمة الأجانب (لنا في التجارة وانتزاح ثروتنا إذا أبيح لهم ذلك ولم يُبَح لنا؟) . (ج) المُحلَّى بالذهب والفضة لا يُعدّ ذهبًا ولا فضة في الحقيقة ولا في العرف فهو من العروض بالضرورة، وقد رخص بعض العلماء بيع الحلي بنقد من جنسه مع التفاضل وهو أقرب إلى الربا من بيع المحلى. قال ابن القيم في كتاب أعلام الموقعين ما نصه: فصل وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعَرَايا [1] ، فإن ما حرم سدًّا للذريعة أخفّ ممن حرم تحريم المقاصد، وعلى هذا فالمصوغ والحِلْية إن كانت صياغته محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره عُبادَة على معاوية فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي، وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحِلية النساء وما أبيح من حِلية السلاح وغيرها، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها، فإنه سفه وإضاعة للصيغة، والشارع أحكم من أن يلزم الأُمة بذلك، فالشريعة لا تأتي به ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إليه، فلم يبق إلا أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبتة، بل يبيعها بجنس آخر، وفى هذا من الحرج والعسر والمشقة ما تنفيه الشريعة، فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائع لا يسمح ببيعه ببُرٍّ وشعير وثياب، وتكليف الاستصناع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر والحيل باطلة في الشرع، وقد جوّز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه، فلم يبق إلا جواز بيعه كما تباع السلعة، فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة ولا ننكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي وهو بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضوعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: الدراهم بالدراهم والدنانير بالدنانير وفي الزكاة قوله: (في الرقة ربع العشر) والرقة هي الورِق وهي الدراهم المضروبة وتارة بلفظ الذهب والفضة، فإن حَمْل المطلق على المقيد كان ناهيًا عن الربا في النقدين وإيجابًا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما بل فيه تفصيل فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا تَوْفِيَة الأدلة حقها وليس فيها مخالفة لدليل بشيء منها. يوضحه أن الحلية المباحة صارت في الصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع لا من جنس الأثمان؛ ولهذا لم تجب فيها الزكاة فلا يجري الربا بينه وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأعدت للتجارة فلا محذور في بيعها بجنسها ولا يدخلها: إما أن تقضي وإما أن تُربي [2] إلا كما يدخل في سائر السلع إذا بيع بالثمن المؤجل ولا ريب أن هذا قد يقع فيها لكن لو سد على الناس ذلك لَسُدَّ عليهم باب الدَّيْن وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه أن الناس على عهد نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يتخذون الحلية، وكان النساء يلبسنها وكن يتصدقْن بها في الأعياد وغيرها، ومن المعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها المحاويج، ويعلم أنهم يبيعونها، ومعلوم قطعًا أنها لا تباع بوزنها فإنه سفه، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفَتْخَة لا تساوي دينارًا ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى لله وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يعلموها الناس. يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نهى أن يباع الحُلي إلا بغير جنسه أو بوزنه والمنقول عنهم إنما هو في الصرف. يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدًّا للذريعة كما تقدم بيانه وما حرم سدًّا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل، وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر للخاطب والشاهد والطبيب والعامل من جملة النظر المحرّم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يباح بيع الحلية المصوغة صياغة مباحة أكثر من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان سدًّا للذريعة. فهذا مَحْض القياس ومقتضى أصول الشرع ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل والحيل باطلة في الشرع، وغاية ما في ذلك فعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة المتقومة بالأثمان في الغصوب وغيرها، وإذا كان أرباب التحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خرقة تساوي فلسًا، ويقولون: الخمسة في مقابل الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصياغة، وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمة وعدلاً ورحمة وجلالاً بإباحة هذا وتحريم ذاك، وهل هذا إلا عكس المعقول والفِطَر والمصلحة. والذي يقتضي منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت، وحرموا بيع الكست بالسمسم وبيع النشا بالحنطة وبيع الخل بالزبيب ونحو ذلك، وحرموا بيع مُد حنطة ودرهم بمد ودرهم، وجاءوا بربا النسيئة وفتحوا للتحيل عليه كل باب فتارة بالعِينَة وتارة بالمحلِّل وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ عليه، ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم الله والكرام الكاتبون والمتعاقدون، ومن حضر أنه عقد ربا مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقدًا ليس إلا، ودخول السلعة كخروجها حرف جاء لمعنى في غيره، فهلا فعلوا ها هنا كما في مسألة مد عجوة ودرهم بمد ودرهم، وقالوا: قد يجعل وسيلة إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض مد في الجانب الآخر فيقع التفاضل. فيالله العجب كيف حرمت هذه الذريعة إلى ربا الفضل، وأبيحت تلك الذرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتًا خالصًا، وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصياغة بحظها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية، وإذا حصحص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء وبالله التوفيق. فإن قيل الصفات لا تقابل بالزيادة ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء، ولمَّا أبطل الشارع ذلك علم أنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة. قيل: الفرق بين الصنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتقابل بالأثمان، ويستحق عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعه [3] فالشارع بحكمته وعدله منع من مقابلة هذه الصفة بزيادة إذ ذلك يقضي إلى نقض ما شرعه من المنع من التفاضل، فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهر، والعاقل لا يبيع جنسًا بجنسه إلا لما بينهما من التفاوت فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك، فلو جوز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفضل وهذا بخلاف الصياغة [4] التي جوز لهم المعاوضة عليها معه. يوضحه أن المعاوضة إذا جوزت على هذه الصياغة مفردة جازت عليها مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها، إذ لا فرق بينهما في ذلك. يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة: بع هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك، ولا يقول له: لا تعمل هذه الصناعة واتركها، ولا يقول له: تحيل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل، ولم يقل قطّ لا تَبِعْه إلا بغير جنسه، ولم يحرم على أحد أن

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر المكتوب السابع من أميل إلى أمه في ابتداء العشق وغرور الشاب الغرّ بالمعشوقة عن (بن) في 28 سبتمبر سنة -186. لقد كان قولك حقًّا أيتها الوالدة العزيزة فإني قد خدعت نفسي ولا حق لي في الشكوى على كل حال ممن كنت أحبها؛ لأنها لم تكن التزمت لي شيئًا ولا وعدتني الصدق في حبي، بل إنها بما كانت مغمورة فيه من ضروب التبجيل والتكريم تفضَّلت فقبلت مني اعتباطًا صنوف إجلالي ودلائل إعظامي، وقد كان هذا منها لي تشريفًا كبيرًا، وأظن أن من كفران نعمتها أن اتهمها بخيانتي، فإنه لم يكن من ذنبها أن كنت جادًّا فيما لم يكن غيري يتعاطاه إلا هازلاً. على أني إن قلت لك: إني كنت أفكر في أمرها دائمًا على هذا النحو كنت كاذبًا فإن الصدمة التي هدمت صرح غروري بها تلتها ساعة دَهَش وذهول خيل لي فيها أن السماء خرَّتْ على رأسي، وصرت كأني في حيز الفناء، وأنك تقولين: إنك لست أول من ابتلي بهذه الضروب من انكشاف الأباطيل وزوال الأوهام، وهو قول لا ريب عندي في صحته غير أن ما ينتاب الإنسان لأول مرة في حياته يخيل له أنه لم يحصل لأحد غيره في الدنيا، فكنت أسائل نفسي هل يمكن أن يوجد في البرية من يبلغ مبلغها في الخيانة أوليس الحسن إلا نقابًا للنفاق؟ وأقول: إنها لشد ما سخرت مني لسلامة نيتي وسرعة تصديقي..... وأحس بقشعريرة الغيرة تدب في جسمي حتى تبلغ نخاع عظامي. وأول يوم قامت بنفسي فيه الريب على صدقها فررت من المدينة هائمًا على وجهي كالمجنون أَخْبِط خَبْط عَشْواء وقد تعاقبت على بصري في مسيري مشاهد جمة من سنابل الحنطة المدركة، والقنابر المغردة، وما في الهواء من الروح الخافق وجَدًا وحَبًّا والكفور والطواحين التي تنكشف للرائي في أمكنة مختلفة من خلال حجب الأشجار، وقد مزقتها يد الريح، وخرير الماء المتدفق من ينابيعه المنتحبة تحت الخضرة والديكة المغتبطة المتغطرسة واقفة على الدمن ورافعة عقيرتها بزقائها النفاذ في كبد السماء، وأسراب العصافير سائرة متعاقبة في الجو متنافرة، وغير ذلك من المناظر التي لولا هذه الأحوال لهزت نفسي وشرحت صدري فلم تلفتني عن هذه الفكرة الثابتة في ذهني وهي أنها تغشني. لمَّا رجعت إلى المدينة كان الليل قد جن فلمحت شبحًا مبهمًا يسري وجدران البيوت كأنه ظل، فلما بلغ منعطف الشارع سقط عليه ساطع نور الغاز المنعكس، فأراني أنه فتاة شاحبة اللون رثة الثياب تحمل طفلاً على يديها، ولست أدري تمام الدراية لماذا خطر بفكري لرؤيتها أنها خدعت ثم هجرت، وسألت نفسي سؤالاً محنقًا، هل تنقسم النساء في هذه الأيام إلى طائفتين: طائفة خادعة وطائفة مخدوعة؟ تأثرت هذه الفتاة بعضًا من الزمن يجذبني إليها نوع من العطف لا أعرف سره حق المعرفة، فكلما كانت تمر على نور مصباح كنت إخالني أقرأ في وجهها خاطر الانتحار، وقد كنت من تسخُّطي لحالتي بحيث إني كنت أودّ لو أجد السبيل إلى عمل من أعمال البر، وما عتمت الفتاة أن دخلت في مأزق من حارات ضيقة مظلمة ينتهي إلى فناء تكتنفه أطلال دارسة، وفى ركن من هذا الفناء بئر سُدَّت فوهتها بغطاء غليظ من خشب مسوس مشقق فرفعت الغطاء بإحدى يديها العاريتين، واتكأت بمرفقيها عن فم البئر وأرسلت بصرها في غيابتها وعليها سمة القنوط، وفى هذه الساعة انفلت القمر من قبضة السحاب فألقى نوره الأغر على بلاط الفتاة المتوحل، وكنت إذ ذاك مختفيًا خلف جزء من جدار أتتبع جميع حركات الفتاة المسكينة بإمعان؛ لأني لم يكن بقي عندي ريب في أنها قد صممت على الانتحار، وكنت أقول في نفسي: أقل ما في الأمر أني هاهنا لأمنعها منه وما كنت أجسر حتى هذه الساعة أن أظهر لها خشية أن تزيدها رؤيتها لمن شاهدها في هذه الحالة غضاضة وذلة، فبعد أن تروت هنيهة كان جبينها الكئيب في أثنائها مسرح الانفعال والاضطراب، نظرت إلى ولدها وهمهمت بكلمات مبهمة وهي تهز رأسها ثم هرولت داخلة أحد الأكواخ الحقيرة وأغلقت بابه عليها. هذا كل ما علمته ويحتمل أن يكون كل ما سأعلمه من أمر هذه البائسة في حياتي، وقد كنت تلك الليلة غير أهل لفعل الخير إذا فرض أن من الخير تَنْجِية نفس من الموت كانت تؤمن بالحب ثم اضطرت إلى الكفر به ولَعْنه. كأني بك تسألينني كيف ظهر لك أنك ألعوبة لهوى امرأة طائشة أجيرة فأستأذنك في تنزيهك عن سماع تفاصيل هذا الأمر؛ لأنها لا تليق بك ويكفيني في ذلك أن أخبرك بأنها كانت تُحرِّض طالبين أو ثلاثة غيري على التقرب منها في وقت واحد بقبول مساعيهم، وهذا بقطع النظر عن أمير ورتمبورغي [1] يقال: إنها تحبه لِمَالِهِ فليت شعري هل أبصر أحد في حياته نظيرة لتلك المرأة. لم يكن همليت [2] مثلي في سوء الحظ لما كان يقول لمعشوقته أو فيليا (أيتها المرأة اسمك الخور فإن اسم صاحبتي هو الكذب والمكر والغش) ، هذا هو التمثال الذي بخرته ببخور أماني، وجعلت له بين الآهات العفيفات مكانًا، وكنت أتمنى لو دنت مني الكواكب فانتزعتها من نظامها ونظمت له منها إكليلاً، على أن لي أمرًا يسليني وهو أني لم أدنس الحب في حال جنوني به. فاعلمي يا أماه أنه لا يزال من حقي أن أنظر إليك غير خَجِل؛ لأن خطيئتي إنما كانت سوء حكم لا ارتكابًا لشيء من الخنا، ولكن هذا لا يقلل من استماحتي لعفوك، فاغفري لولدك هفوته حتى يمكن أن يغفرها لنفسه. اهـ *** المكتوب الثامن من هيلانه إلى أميل عن (لوندرة) في 10 أكتوبر سنة -186. اعلم يا ولدي العزيز أن ما نقع فيه من ضروب الغي هو الذي يهدينا سبيل الرشد، وأن ما نقترفه من الذنوب هو الذي ينبئنا إذا تألمت منه ضمائرنا بأن لنا في نفوسنا قانونًا زاجرًا، وأن الحكمة في رأيي هي أن نستفيد من كليهما لنتعلم. لم تدهشني نهاية قصتك وسأتحامى كل التحامي أن أعيب سيرتك فيها؛ لأنك قد عبتها بنفسك، ولم يكن كل ما كان في وسعي تأديته إليك من النصائح قبل ختامها المحزن ليساوي ما وَعَظَتْكَ به تجربتك الذاتية، إن في أمور الكون لعدلاً، وإن الدهر يضطرها إلى أن تظهر للناس على حقيقتها، وإن كان يلذ لمخيلة الإنسان أن تزينها بالألوان المموهة وتغشيها بالأستار الحاجبة، وبهذا كان الدهر أستاذنا جميعًا. على أني إن لم أُقر لك بأن مكتوبك الأول سبَّب لي أشد ضروب القلق والحيرة كنت قد كتمتك بعض الحق، نعم قد كان من الثقة لي بطيب عنصرك وبما أعرفه فيك من أصول الشرف ما كان يكفيني للتأكد من أنك لا تتسفل لارتكاب دنيئة ما ولكني كنت أخاف عليك وأنت في هذه السن خدعة القلب وجمحات العجب المفتون وأماني البسالة الخادعة فمما يوجب الأسف أن أَصْدَق الناس في الحب وأخلصهم له هم كذلك أشدهم تعرضًا لمخاطر دسائسه، وأما الشبان الذين يتخذون ما عليه الناس قدوة لهم في سيرتهم فإن قلوبهم الجامدة لا تنخدع بكذب الظواهر، وهم الذين جعلت لهم المحبات المهيِّجة كما جعلت الخمور المتبلة للسِّكِّيرِينَ. تراهم يبذلون من الهمة والنشاط في تحصيل الغبطة أكثر مما يلزم وهم مع هذا في أسوأ عيش وأنكده، هؤلاء الجوَّالون في ميدان الغرام المتعاطون لدسائسه اعتاضوا عن الحب بظله، أعني الظُّرْفَ والكياسة في معاشرة النساء، وإن خسة عواطفهم لتدل على خلوهم من الإدراك وهم شبيهون عندي بأشجار الصفصاف الجوفاء التي تصادف على حافة السواقي (الأنهار الصغيرة) في أنها لِتعُّفن قلوبها لم يبق لها حياة إلا في قشورها. إن الأمم التي لا تُجِلّ رجالها نساءها ولا نساؤها أنفسهن غير جديرة بالحرية، يدلك على ذلك أن عصور الاستعباد وانحطاط النفوس كانت هي عصور فساد الأخلاق والانهماك في الرذائل، فإذا زالت هيبة الدين من النفوس وانعدم إحساس الناس بما عليهم من الفروض الكبرى رأيت الناشئين إذا أعوزهم ما يضيعون فيه أوقاتهم يتصيدون الملاذّ السهلة، فاربأ بنفسك عن هذه الرَّدْغة [3] فلا مقر لك فيها. إني ربما كنت أَعْرَفَ منك بنفسك؛ لأنه يتفق كثيرًا لمن هم في سنك أن يضلوا فيشطوا في طلب مثال من الواقع لما يتخيلونه من منتهى الكمال فيمن يريدون أن يجعلوها مناطًا لحبهم، وهو قريب المنال حاضر بين أيديهم، أرى أنك فوق حنقك على من غرتك نادم على أنك كنت غير صادق في محباتك، فتأملْ في باطن ما تحفظه ذاكرتك تجدني قد أصبت المرمى فيما أقول، فإنك تعلم بوجود ذات من أترابك تفكر فيها ولا تتكلم في شأنها، وتنكر ملامح وجهها وابتسامها وجرس صوتها، وكل ما يتعلق بها حتى ثنيات حلتها تمام النكر، وإن مثالها الظاهر لَيسري سريان الشعاع فوق كتابك إذا فتحته لتقرأ فيه ما صنفه الشعراء، وأنت تود لو تشاهد معها كل ما في الكون من الجمال وتسمع جميع ما للبرية من الأغاريد، وهي التي ينطبق عليها ما تتخيله من معنى الفضيلة وتودّ من أجلها لو تكون أفضل الفضلاء فتلك الذات هي التي تحبها فإن لم تكن تأنس من نفسك شيئًا من هذا لم تكن حتى الآن إلا طفلاً، ولم يَأْنِ لك أن تعتقد في نفسك أنك محب، فالحب الحقيقي هو الذي يرفع النفس ويبعث على طلب الخير وعلى أن يقتضي المحب من نفسه لمحبوبه كل ما يقتضيه لنفسه منه؛ لأن الحب هو إنصاف القلب. فإذا تربصت حتى يحصل في نفسك هذا الوجدان الطاهر فإياك أن تدنس اسمه بإجرائه على لسانك قبل حصوله وإلا ندمت فيما بعد أن لوثت شفتيك بالكذب. وللشبان خطأ آخر في الحب وهو أنهم يظنون أنه إذا حصل بدسائس ووقائع كالتي تُروى في القصص ازدادت لذته وكثر الابتهاج به، فليس الأمر كما يتوهمون؛ لأن في الحب من العظمة الذاتية ما يغنيه عن زخارف الخيال، إن الفلاح البار إذا راح إلى بيته مساء بعد فراغ عمله وجلس لتناول مرقته، وأخذ يلحظ زوجته وهي تغزل أو تخيط بجانب المصطلى، ثم يمسح رءوس أولاده غلاظ العضلات مناديًا كلاًّ منهم باسمه وينكر في نفسه زمن ترقبه لزوجته (جنة) يوم الأحد في ظل شجرة الدردار الكبرى في المزرعة ويراها لا تزال غضة الحسن موفورة الشباب كان أبهج خيالاً أضعافًا كثيرة ممن حظي إلاهة من إلاهات الحب الجديدة. الشباب هو سن الأماني والأحلام وطور الخيالات والأوهام، ثم إن كثرة المطالعة لا ثمرة لها في معظم الأحيان إلا إفساد حكم القلب. على أن الحب في غاية الغنى عن القصص الخرافية؛ لأنه عبارة عن تاريخ لأصح ما في فطرتنا من ضروب الوجدان وأشدها استقلالاً، فوَيْلٌ لمن لا يعشق ويتولَّه إلا في الحلم؛ لأنه لا يلبث أن ينكشف وهمه إذا حان وقت انتباهه. يجب عليك قبل اهتمامك باختيار امرأة تحبها أن توجد لنفسك بين الناس مقامًا، فإن كل عمل تعمله في سبيل تحصيل العلم ورفع شأنك في نظر نفسك ومغالبة ما للأثرة من أنواع الميل الأعمى وبلوغ ما للإنسان من الشرف يفيد المرأة التي ستحبها، كما يفيدك، وكن واثقًا بأن هذا لا يعدّ منك في حقها كثيرًا إذا كان يهمك أن تكون أهلاً لإجلالها لك حفظًا لشرفك وصونًا لعرضك. حاشية: فاتني أن أخبرك بأن (لولا) تتعلم الطب من أجل أن تقبلها جمعية الطبيبات بلوندرة في عدادهن وكلنا نحبك. اهـ. (المنار) ليتأمل اللبيب هذا التذكير اللطيف بلولا التي تربت مع أميل مثل تربيته بعد بيان مَنْ تستحق الحب، وبيان حقيقته وغرور الشبان فيه، فيالله ما هذه الحكمة في هذه البلاغة. ((يتبع بمقال تالٍ))

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (فرقان القلوب) كُتَيِّب جديد للشيخ محمد أبي الهدى أفندي الصيادي الشهير قال في فاتحته: (وأرى أن هذا الكتاب المستطاب جدير بأن يدرس في مكاتب الإسلام؛ لينتفع به إن شاء الله الخاص والعام، فبإقرائه ينتفع بالثواب المنتهي، وبتعلمه ينتفع في دينه المبتدي) ونقول: إن موضوع الكتاب مما يفيد المبتدئين؛ لأنه في أحكام وحكم أركان الإسلام الخمسة، ولكن هناك مانعًا من تدريسه وهو ما فيه من اصطلاحات الصوفية المعروفة وغير المعروفة التي يعسر على معلمي المدارس معرفة المراد منها أو بيانه للتلاميذ، فماذا ترى في فهم التلاميذ لها واستفادتهم منها؟ وما قولك في كتاب تذكر فيه العبارة وتفسر بعبارة أشد منها غموضًا، مثال ذلك ما نقله عن الشيخ أحمد الرفاعي الكبير في بيان حقيقة التوحيد وفسره، وهو كما في (ص4) (وجدان تعظيم في القلب يمنع عن التعطيل والتشبيه، ومعنى ذلك الوجدان استدلال العقل وتسلط فهم القلب على ما يكن إليه الخاطر ويقف عنده السر من البراهين النظرية التي تؤيد سر التوحيد، فيعتقد العاقل بسبب تلك البراهين القاطعة وجود الخالق ولا ينصرف رأيه إلى التعطيل ولا إلى التشبيه) . الظاهر أن هذا كله من كلام الرفاعي، ونقول قبل بيانه له: إن معلمي المدارس لا بد أن يقفوا أمام هذه الجملة موقف الحيرة ويعسر عليهم إيصالها إلى أذهان تلاميذهم؛ لأنهم لا يعقلون وجهها لتفسير وجدان التعظيم باستدلال العقل؛ فإن هذا الوجدان محله القلب واستدلال العقل: أي فكره في تأليف الأدلة النظرية من عمل الدماغ، والقلب يطلق في لغة القرآن على ما يكون به الفكر والإدراك، وعلى ما يكون به الشعور والوجدان، ولعله يرى أن العبارة قد مزجت الاستعمالين فبغى أحدهما على الآخر، ولا شك عندي أن فهمه يقف عند تفسير وقوف السر وتأييد سر التوحيد، وتسمية البراهين النظرية براهين قاطعة، وجعل نتيجتها الاعتقاد بوجود الخالق مع أنها أقيمت على توحيده، والكلام في توحيده إنما يُبنى على التسليم بوجوده، وعدم الانصراف إلى التعطيل والتشبيه يصدق بغفلة الذهن عنهما، فلا تكون تلك البراهين مفيدة للتوحيد ولا مفسرة لذلك الوجدان، فإذا وقف المدرس أمام هذه العبارة الرفاعية الرفيعة هذا الموقف، فهل ينتاشه منه ما بيَّنها به المصنف، إذ قال: (وبيان ذلك أن ينظر في هابطة السرور وهابطة الحزن وحال الانقباض وحال الانبساط ومسامرة الخاطر ونشأة الحب وزفرة البغض ووارد الرأي وطلسمية الفكر والحرص والزهد والحقد والصفح وأمثال ذلك من دقائق الأسرار القالبية التي تتدلى إلى القلب، وتقوم بالعقل ومثلها اللطائف المجردة الخمسة: الشامَّة، والباصرة، والسامعة، والطاعمة، واللامسة، كلها موجودة في الوجود غير منكر وجودها وغير مدركة كيفيتها، ولهذا السر القاطع والدليل الساطع قال تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 21) فإذا استدل العقل وتسلط فَهْم القلب على وجود الخالق بما في الذات المصنوعة من الدلائل التي تجحد وو، فهنالك لا بد أن يعظِّم مولاه ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله) إلخ، ثم انتقل إلى الكلام عن المبلِّغ لهذه الكلمة صلى الله عليه وسلم. هذا نموذج من أول الكتاب وفيه ما هو أشد غموضًا منه في نفسه، وفي الموضوع الذي دسّ فيه وناهيك بكلامه في الأرواح عند الكلام عن أسرار الحج الذي جعله وسيلة للقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم مدّ يده من قبره الشريف حتى خرجت إلى المسجد فقبَّلها الشيخ أحمد الرفاعي والناس ينظرون، وللشيخ أبي الهدى غرام بإذاعة هذه الدعوى حتى لم يَدَعْ الكلام في الدين وأركانه يخلو منها، وقد ذكر هذا الكتاب وجه امتياز الرفاعي على الصحابة وأئمة آل البيت بهذه المنقبة، وذكر أنه ثالث عشر أئمة آل البيت، أي أنه يلي الإمام محمد المهدي المنتظر. فلينظر الناظرون، أين مكانة الأُمة بمدارسها ومعلميها من رأي مؤلف هذا الكتاب؟ نرى المتخرجين في مدارس الأستانة أكثرهم ماديون، ونرى مدارس مصر قريبة منها، ونرى بعض الناس يكتب في الصحف اليومية أن دين الإسلام قد تحجر من شدة الجمود فلا يقبله أهل هذا العصر بالصفة التي دُوِّن بها في الكتب، ثم نجد فينا من يرى أنه ينبغي لنا أن نعلمه من مثل هذا الكتاب، فماذا هذا الخلف العظيم؟

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الشورى في بلاد فارس) تحدث الناس من زمن غير قريب بأن الشاه مظفر الدين صاحب فارس ميَّال للإصلاح، وأن هذا الميل قَوِيَ في نفسه بعد سياحته في أوربا، وكان الناس يظنون أن العقبة الكؤود في طريق الإصلاح لتلك البلاد نفوذ العلماء والمجتهدين الذين يعيشون في الحكومة الاستبدادية كالملوك والأمراء، واعتقادهم كغيرهم أن الإصلاح إنما يكون على يد المهدي المنتظر، ثم نفوذ الوجهاء والكبراء الذين رسخ في نفوسهم حب الحكومة الدسقراطية، واستطابوا ثمراتها، ولما جاءت أنباء تلك الديار بأن العلماء والكبراء هم الذين يطلبون الإصلاح ويلحون فيه عجب الناس منهم وأعجبوا بهم، وتبين لأهل البصيرة أن القول بوجوب الاجتهاد في الدين والعلم هو النور الذي هدى علماء فارس إلى هذه الجادَّة القويمة، ولا غَرْو فلا هداية إلا بالعلم الصحيح ولا علم إلا بالاجتهاد، فالمجتهد أقرب إلى الهدى وإن ضاقت دائرة اجتهاده، والمقلد أحق بالعمى وإن اتسعت دائرة تقليده، وأما الاعتقاد بالمهدي فإنه لا يصد عن الإصلاح إذا عقل طلابه، يقولون: لأَنْ يجدنا المهدي أقوياء صالحين خير من أن يجدنا ضعفاء فاسدين (كما بيَّنا ذلك في كتاب الحكمة الشرعية) . رضي الشاه بأن تكون حكومته قائمة على أساس الشورى الإسلامية، فأمر بذلك ونزل عما كان له بمقتضى النظام القديم من الاستبداد فهنأه الملوك بذلك ما عدا السلطان عبد الحميد وفرح عقلاء المسلمين بذلك في جميع البلاد، وكان أشدهم سرورًا عقلاء العثمانيين، وإنني أقول الآن في هذا العمل الجليل كلمة هي أكبر من المقالات الضافية والقصائد البليغة، وهي أن كتاب الله جعل أمر المسلمين شورى بينهم، فالحكم الفردي الذي يُبنى على قاعدة الاستبداد هو الحكم بغير ما أنزل الله، فلا يجوز أن يُسمى إسلاميًّا، فإذا نفذ حكم الشورى في البلاد الفارسية على وجهه وبقيت سائر حكومات المسلمين استبدادية وجب علينا أن نقول: إنه لا يوجد في الأرض حكومة إسلامية حقيقية إلا الحكومة الفارسية، فالواجب علينا تأييدها لئلا يُمحى حكم القرآن من الأرض، وإنما الواجب إقامة حكمه لا حكم من يسمي نفسه سُنيًّا أو غير سُنيّ وهو مخالف له. *** (جامع ومدرسة دينية في ديروط) أكبر آيات الارتقاء البينة في هذه الديار ما نراه فيها يومًا بعد يوم من بذل المال في سبيل العلم والدين، فهو على قلته في نمو وازدياد يدل على أنه أثر لحياة جديدة في الأُمة، ولا ارتقاء إلا بارتقاء النفوس ولا دليل على هذا الارتقاء إلا بذل المال والوقت في سبيل المصلحة العامة، وهي سبيل الله التي دعا إليها بدعاية الفطرة السليمة والشريعة القويمة. هزت الأرِيحيّة في هذا العام قطب بك قرشيّ وجه مركز ديروط الوجيه، فاختط بجانب داره في بلدة ديروط مسجدًا جامعًا ومدرسة دينية لتعليم العلوم الأزهرية وكُتَّابًا تحضيريًّا لها، وأوقف على هذا البناء الذي يشمل ثلاثة معاهد مائة فدان من أجود أطيانه؛ لينفق من ريعها على المسجد والكُتَّاب وحجرات الطلاب وعلى المعلمين والمتعلمين، وشَرَطَ أن يكون التعليم فيها تابعًا للأزهر في نظامه، إلا أنه شرط أن يُعلَّم فيه فِقْه المالكية والحنفية فقط، ولو أطلق لكان أَوْلى؛ لأن حوادث الزمان كثيرًا ما تقضي باندراس مذهب واستبدال غيره به، وقد سبق الواقفَ غيرُه إلى مثل هذا الشرط فقضى الزمان على ما شرط، ولو شئنا لجئنا بالشواهد على ذلك ولكن المقام ليس بمقام البحث في مثله، وإننا نعلم أن السبب في هذا الشرط هو إحياء المذهب الذي ينتمي إليه أكثر أهالي تلك الجهة من صعيد مصر وهو مذهب المالكية والمذهب الرسمي لحكومة البلاد وهو مذهب الحنفية. وقد دعا الواقف أكابر علماء الأزهر ونظارة المعارف وكثيرًا من وجهاء القاهرة ومديرية أسيوط إلى الاحتفال بوضع الأساس لهذا البناء، فأجاب الدعوة شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية وطائفة من الشيوخ وأمين بك سامي من قبل نظارة المعارف، وكان رئيس الاحتفال محمود بك صادق رئيس أقلام الديوان الخديوي مندوبًا عن الأمير، وحضره أيضًا مدير أسيوط ومحمود باشا سليمان وكيل مجلس شورى القوانين وكثيرون، وقد سافر المدعوون من القاهرة في قطار خاص إلى ديروط يوم الخميس لثمانٍ خَلَوْن من رجب، وكان الاحتفال في يوم الجمعة عاشر رجب. بُدئ الاحتفال بتلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم بتلاوة صحيفة الوقف، ثم تكلم بعض من حضروا وخطبوا بما يناسب المقام، فقال أمين بك سامي كلامًا وجيزًا مفيدًا ذكر فيه قناطر ديروط التي يتوزع منها الماء على أراضي ثلاث مديريات، وشبه بها عمل قطب بك قرشي قائلاً ما معناه أنه يرجو أن يكون هذا العمل ناشرًا للمعارف في أرجاء تلك البلاد كما توزع تلك القناطر الماء فتكون ديروط معهدًا لحياة الأرواح وحياة الأرض. وقرأ الشيخ سليمان العبد من كبار شيوخ الأزهر خطبة قال: إنه يتكلم بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية وسائر العلماء، وموضوع الخطبة ملخص ما قيل في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 18) الآية، وشَرْح الحديث الصحيح (من بنى لله مسجدًا ولو كمِفْحَص قَطَاة بنى الله له بيتًا في الجنة) ، ومن ذلك تفسير المفحص والنكتة في اختياره والكلام في كنس المساجد وتنظيفها، ثم أثنى على قطب بك قرشي الثناء الأوفى، وختم كلامه بالدعاء للسلطان وللخديوي والثناء عليهما بالإطراء المعتاد، وتلاه الشيخ عبد العزيز البشري بخطبة رشيقة العبارة استهلها بالشكوى من كثرة القائلين من المصريين وقلة العاملين، وبيَّن أنه لا يرجى أن يعود إلى مصر مجدها السابق إلا إذا كثر العاملون وانتقل من ذلك إلى الثناء على قطب بك قرشي ثم السلطان والأمير بأسلوبه الشعري، والشيخ عبد العزيز هذا ميال إلى الأدبيات وأسمعني لنفسه شعرًا حسنًا يدل على مستقبل أحسن منه إن شاء الله تعالى، وخطب محمد أفندي أحمد الصعيدي فتكلم عن تأثير العلم في مدنية اليونان والرومان والعرب وأوربا واليابان، ثم انتقل من ذلك إلى شرح عمل الواقف وإطرائه ومدح السلطان والخديوي، وكان هناك آخرون قد أعدّوا شيئًا للخطابة فحال ضيق الوقت دون تلاوتها، وقد اقتُرح على صاحب هذه المجلة أن يخطب فارتجل خطابًا وعى كثيرًا منه مُكاتِب المؤيد فكتبه ونشره المؤيد، وقد تذكرت بقراءته فيه ما كنت ناسيًا منه، وبعض ما نسيه المكاتب، فأنا أنشر هنا ملخص ذلك وهو: إننا نحتفل اليوم بعمل يعتبر من المصالح العامة، فمن مقتضى المقام أن نقول كلمة في المصالح العامة وكلمة في جنس هذا العمل منها وكلمة في الاحتفال به. القيام بالمصالح العامة وبذل المال في سبيلها هو الأساس الذي بُنِيَ عليه مجد الأمم وعزها، وبه ساد المسلمون في الزمن الماضي وبه سادت الأمم العزيزة الحاضرة وبه تسود الأمم في كل زمان ومكان. كثر الكلام في هذه الأيام في ضعف المسلمين وتأخر شعوبهم عن جميع شعوب الأرض في كل شيء وكثر القول في علاج هذا الضعف، ومهما اختلف العقلاء في طرق العلاج فهم لا يختلفون على أن ارتقاء الأمة متوقف على وجود العاملِين للمصلحة العامة، الذين يبذلون في سبيل الأمة أموالهم وأوقاتهم بل وأرواحهم. إننا على ضعفنا في العلم والمال والرأي وجميع مقومات الحياة لا يزال فينا من جراثيم الحياة ما يكفي لإنعاشنا وإقالة عِثارنا إذا وُجد فينا الباذلون والعاملون للأمة، قال بعض علماء الأجانب لعظيم من عقلائنا: إنني قلَّما ذاكرت الوطنيين في مسألة إلا ورأيت فهمهم فيها كفهمنا، فالظاهر أنه لا فرق بيننا وبينكم إلا في شيء واحد وهو كثرة الذين يهتمون بالمصالح العامة فينا وندرتهم فيكم. إن من آيات عناية سلفنا بالمصالح العامة ما بقي لنا من أوقافهم الكثيرة على أعمال البر المختلفة سيما مدارس العلم، وإن ما دَرَسَ من تلك الأوقاف وذهبت معالمه وما عاد ملكًا للجهل بأصله هو أكثر مما بقي. كيف لا يَسْبِق المسلمون إلى بذل المال في كل مصلحة عامة وعمل نافع للأمة وحافظ لشرف الملة والإسلام، وقد جُعل بذل المال في سبيل الله من آيات الإيمان بل جعله هو وبذل النفس أعظم الآيات (وههنا تلونا بعض الشواهد على ذلك من القرآن الحكيم) فالبذل في المصالح العامة هو أفضل الأعمال وأشرفها، والباذلون هم سادة الأمة وعظماؤها؛ لأن الأمة لا ترتقي إلا بهم لا سيما في هذا الزمان الذي لا يقوم فيه عمل عظيم إلا بالمال، فالبذل فيه يعد بمثابة الفتوح والباذلون في مَصَافَّ الفاتحين. لم يدَعْ الإسلام فضيلة من الفضائل المحببة للأمم إلا حثَّ عليها، وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من أعظم ما يدعو إلى النهوض بالأعمال التي يعم ويستمر نفعها وهو قوله: (من سنَّ سُنة حسنة فله أجرها وأجر مَنْ عمل بها إلى يوم القيامة) ، فالسنة هي الطريقة الحميدة التي يعمّ نفعها، فإذا كان الشارع قد وضع الذين يقومون بالأعمال النافعة للأمم موضع الأئمة، أفلا يجب أن نعرف لهم قدرهم وأن نقتدي بمثل فعلهم، ولنا أن نقول: إن مُحْيي السُّنة بعد موتها وانطماس آثارها يعد كالذي سَنَّها لأول مرة؛ لأن مُحْيي الشيء بعد الموت كمُوجِده من العدم، فالسابقون إلى حبس الأوقاف على إحياء العلم والدين وغير ذلك من أعمال البِرّ التي ترقِّي الأمة في هذا الزمان يعدون من واضعي السنن الذين لهم مثل أجر من يعمل كعملهم إلى يوم القيامة. أكتفي بهذا القول الوجيز في المشروع من حيث هو مصلحة عامة، أما كونه مسجدًا ومدرسة دينية فقد رأيت في بعض الجرائد انتقادًا عليه لبعض الناس يرى صاحبه أنه كان ينبغي أن يكون مدرسة ابتدائية أهلية، فإن المساجد كثيرة والتعليم الديني قليل الجدوى، وهذا شأن الناس عندنا اليوم ينتقدون كل خير وقلما ينتقدون الشر، لو كان قطب بك أنشأ مسجده في شارع الدرب الأحمر بالقاهرة حيث المساجد تزيد على حاجة السكان ومدرسته بجانب الأزهر لكان هذا الانتقاد صوابًا، ولكنه أسس هذا المعهد العلمي في جهة ليس فيها معهد لتعليم الدين. في الوجه البحري عدة معاهد لتعليم العلوم الدينية ووسائلها من فنون العربية تابعة للأزهر: كالجامع الأحمدي وجامع المرسي وجامع الدسوقي (وجامع دمياط) ، وليس في الوجه القبلي معهد لذلك، على أن الوجه القبلي أحوج؛ لأن أهله أفقر والرحلة أشق عليهم وأعسر، فلم يبقَ إلا أن المنتقد يرى أن التعليم الديني لا حاجة إليه بالمرة، ولا أحب أن أصف صاحب هذا الرأي بما أراه يليق به فحَسْبه ما يراه الناس من قيمة رأيه. ما هو الأثر الذي رآه المنتقد للتعليم الابتدائي في البلاد ففضله به على التعليم الديني؟ إننا نرى أكثر المتعلمين في المدارس الابتدائية لم يزيدوا أمتهم إلا خبالاً وبلادهم إلا خرابًا؛ لأنهم لا هَمّ لهم إلا اللذات الحيوانية والحظوظ الشخصية، ومهما كان حال طلاب العلوم الدينية رديئًا فإنه لا يبلغ ما هم عليه من الفساد. التعليم الديني إذا أُدي على حقيقته تترقَّى النفوس، وتقل الجرائم والفواحش، ويندر سلب الأموال ونهش الأعراض، ويكثر الصدق والأمانة والمودة في الناس، قد يقال: إن هذا التعليم عندنا ناقص ليس له مثل هذه الآثار الجليلة، نعم إن ال

خطأ العقلاء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطأ العقلاء من مقالات الأستاذ الإمام في جريدة الوقائع المصرية، وفيها تعريض بالعرابيين كتبها في العدد 1079 الصادر في خمسة جمادى الأولى سنة 1298 - 4 أبريل سنة1881. إن كثيرًا من ذوي القرائح الجيدة إذا أكثروا من دراسة الفنون الأدبية ومطالعة أخبار الأمم وأحوالهم الحاضرة تتولد في عقولهم أفكار جليلة، وتنبعث في نفوسهم همم رفيعة تندفع إلى قول الحق وطلب الغاية التي ينبغي أن يكون العالم عليها، ولكونهم اكتسبوا هذه الأفكار وحصَّلوا تلك الهمم من الكتب والأخبار ومعاشرة أرباب المعارف ونحو ذلك - تراهم يظنون أن وصول غيرهم إلى الحد الذي وصلوا إليه وسير العالم بأسره أو الأمة التي هم فيها بتمامها على مقتضى ما علموه هو أمر سهل مثل سهولة فهم العبارات عليهم وقريب الوقوع مثل قرب الكتب من أيديهم والألفاظ من أسماعهم فيطلبون من الناس طلبًا حاثًّا أن يكونوا على مشاربهم، ويرغبون في أن يكون نظام الأمة وناموسها العام على طبق أفكارهم، وإن كانت الأمة عدة ملايين، وحضرات المفكرين أشخاصًا معدودين، ويظنون أن أفكارهم العالية إذا برزت من عقولهم إلى حيز الكتب والدفاتر ووضعت أصولاً وقواعد لسير الأمة بتمامها ينقلب بها حال الأمة من أسفل درك في الشقاء إلى أعلى درج في السعادة، وتتبدل العادات وتتحول الأخلاق، وليس بين غاية النقص والكمال إلا أن يُنادى على الناس باتباع آرائهم. تلك ظنونهم التي تحدثهم بها معارفهم المكتسبة من الكتب والمطالعات، وإنهم وإن كانوا أصابوا طرفًا من الفضْل من جهة استقامة الفكر في حد ذاته وارتفاع الهمة وانبعاث الغيرة لكنهم أخطأوا خطأً عظيمًا من حيث إنهم لم يقارنوا بين ما حصلوه وبين طبيعة الأمة التي يريدون إرشادها، ولم يختبروا قابلية الأذهان، واستعدادات الطباع للانقياد إلى نصائحهم واقتفاء آثارهم، ولو أنهم درسوا طبائع العالم كما درسوا كتب العلم، ودققوا النظر في سطور أخلاقه وعاداته الحقيقية الواقعية التي اقتضتها حالة وجوده، بل لو قارنوا بين الحوادث المسطرة في الكتب، وتبينوا كيفية انتقال الأمم من بداياتها إلى نهاياتها لعلموا أن الأمم في أحوالها العمومية كالأشخاص في أحوالها الخصوصية، بل إن الأحوال العمومية هي عبارة عن مجموع الأحوال الخصوصية، وليست الأمة مثلاً إلا مجموع أفرادها، وليس حال الهيئة المركبة من تلك الأفراد إلا مجموع أحوال هاته الأفراد. فعلى من يريد كمال أمة بتمامها أن يقيس ذلك بكمال كل فرد منها ويسلك في تكميل العموم عين الطريق التي يسلكها لتكميل الواحد، هل يسهل على صاحب الفكر الرفيع أن يودع في عقل الطفل الرضيع أو الصبي قبل رشده وقبل أن يتعلم شيئًا من مبادئ العلوم تلك الأفكار العالية التي نالها بالجد والاجتهاد وكثرة المطالعات؟ كلا بل لو أراد أن يجعل شخصًا من الأشخاص على مثل فكره احتاج إلى أن يبدأ بتعليمه القراءة والكتابة، ثم مبادئ الفنون السهلة التحصيل، ثم يتدرج به شيئًا فشيئًا حتى ينتهي بعد سنين عديدة إلى بعض مطلوبه، ثم هو في خلال ذلك محتاج إلى أن يحصر أعماله ويقيدها بقيود من الترغيب والترهيب، وأن يراقب حركاته في أعماله خوفًا من اختلاطه بفاسدي الأخلاق والأفكار أو المائلين إلى الكسالة والبطالة أو ورود موارد الشهوات، ونحو ذلك من الملاحظات التي لا بد منها فإن اختل شيء من الترتيب في التعليم بأن قدم الأصعب على الأسهل مثلاً أو أهمل ملاحظة أعماله وأحواله اختلت التربية وذهبت الأتعاب سُدى، واستحال صيرورة حال ذلك الشخص مماثلة لحالة مرشده. ولو أنه أراد تحويل أفكار شخص واحد وهو في سن الرجولية هل يمكنه أن يبدلها بغيرها بمجرد إلقاء القول عليه؟ كلا، إن الذي تمكن في العقل أزمانًا لا يفارقه إلا في أزمان. فلا بد لصاحب الفكر أن يجتهد أولاً في إزالة الشبه التي تمسك بها ذلك الشخص في اعتقاداته، وذلك لا يكون في آنٍ واحد ولا بعبارة واحدة، ولكن بعبارات مختلفة في التقريب بعضها سهل المأخذ قريب المنال، والبعض أرقى منه، وبعضها خطابي، والآخر برهاني، وما شابه ذلك. فإن لم يتخذ تلك الوسائل في إرشاده امتنع عليه مقصوده، بل ربما جره نصحه إلى الضرر بنفسه، تلك هي الحالة المشهودة التي لا ينكرها أحد، ثم إن نجاحه في تغيير فكر واحد مع كل هذا الاجتهاد موقوف على أن صاحب ذلك الفكر الفاسد لا يعاشر ولا يخالط في خلال تعلمه إلا مرشده صاحب الفكر السليم، فإن كان يخالط غيره ممن يؤيد فكره الأول طال الزمن وربما لم ينجح فيه الإرشاد، وأظن (أن) هذا يعترف به كل من مارس الأخلاق والعادات. إن كان هذا حال شخص واحد إذا أردنا إصلاح شأنه في صغره أو كبره مع أنه يسهل ضبط أعماله وأحواله والوقوف على كُنْه أوصافه ودرجات تقدمه في المقصود وتأخره فيه، فما ظنك بحال أمة من الأمم تختلف عناصرها وتتباين شعوبها؟ فمن الخطأ بل من الجهالة أن تكلف الأمة بالسير على ما لا تعرف له حقيقة أو يطلب منها ما هو بعيد عن مداركها بالكلية، كما أنه لا يليق أن يطلب من الشخص الواحد ما لا يعقله أو ما لا يجد إليه سبيلاً. وإنما الحكمة أن تحفظ لها عوائدها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعض تحسينات فيها لا تبعد منها بالمرة، فإذا اعتادوها طلب منهم ما هو أرقى بالتدريج حتى لا يمضي زمن طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطة إلى ما هو أرقى وأعلى من حيث لا يشعرون، أما إذا وضع لهم من الحدود ما لم يصلوا إلى كنهه، أو كلفوا من العمل ما لم يعهدوه، أو خولوا من السلطة ما لم يعودوه رأيتهم يتخبطون في السير؛ لخفاء المقصود عنهم وضلال الرأي فيما لم يكن يمر على خواطرهم، فيمكن أن يخرجوا عن حالتهم الأولى لكن إلى ما هو أتعس منها بحكم الاستعداد القاضي عليهم بذلك. مثلاً: إننا نستحسن حالة الحكومة الجمهورية في أمريكا واعتدال أحكامها والحرية التامة في الانتخابات العمومية في رؤساء جمهورياتها وأعضاء نوابها ومجالسها وما شاكل ذلك، ونعرف مقدار السعادة التي نالها الأهالي من تلك الحالة، ونعلم أن هذه السعادة إنما أتت لهم من كون أفراد الأمة هم الحاكمين في مصالحهم بأنفسهم؛ لأنهم أرباب الانتخاب، وإنما رؤساء الجمهوريات وأعضاء المجالس نواب عنهم في حفظ تلك المصالح والحقوق التي رأوها لأنفسهم. وتتشوق النفوس الحرة أن تكون على مثل هذه الحالة الجليلة، لكننا لا نستحسن أن تكون تلك الحالة بعينها لأفغانستان مثلاً حال كونها على ما نعهد من الخشونة، فإنه لو فوض أمر المصالح إلى رأي الأهالي لرأيت كل شخص وحده له مصلحة خاصة لا يرى سواها، فلا يمكن الاتفاق على نظام عام، ولو طلب منهم أن ينتخبوا مائة نائب مثلاً لرأيت كل شخص ينتخب صاحبًا له أو نسيبًا أو قريبًا، فربما ينتخبون آلافًا مؤلفة، ثم لا ينتهي الانتخاب إلى المرغوب أصلاً لوقوف كل واحد عند انتخابه الأول، ولو وكل إليهم انتخاب رئيس للحكومة لانتخبت كل قبيلة رئيسًا منها، ثم يقع الهرج بين الرؤساء، وهكذا حال الأمم التي تعودت على أن يكون زمامها بيد ملك أو أمير أو وزير يدير أعمالها بدون أن يكون لها دخل في رؤية مصالحها - لا يمكن أن يطلب منها الدخول في أعمالها العامة وإلا فسدت، فإذا أردنا إبلاغ الأفغان مثلاً إلى درجة أمريكا فلا بد من قرون تُبث فيها العلوم وتهذب العقول وتذلل الشهوات الخصوصية وتوسع الأفكار الكلية حتى ينشأ في البلاد ما يسمى بالرأي العمومي، فعند ذلك يحسن لها ما يحسن لأمريكا. ويا عجبًا هل الشخص الذي توارث العوائد عن آبائه وأجداده ومرن عليها من مهده إلى كهولته وتعود تفويض مصلحته إلى إرادة غيره يصح أن يطلب منه في زمان واحد خلع جميع ذلك، ويلقى إليه زمام مصلحته وهو في جميع عمره لم يفكر فيها، إن هذا لخطأ ظاهر. ولكون أرباب الأفكار منا يرومون أن تكون بلادنا وهي هي كبلاد أوربا وهي هي، لا ينجعون في مقاصدهم، ويضرون أنفسهم بذهاب أتعابهم أدراج الرياح، ويضرون البلاد بجعل المشروعات فيها على غير أساس صحيح، فلا يمر زمن قريب إلا وقد بطل المشروع ورجع الأمر إلى أسوأ مما كان؛ فيفوت الزمان وهم على حالهم القديم، وكان لهم إمكان أن يكونوا على أحسن منه، فمن يُرد خير البلاد فلا يسعى إلا في إتقان التربية، وبعد ذلك يأتي له جميع ما يطلبه - إن كان طالبًا حقًّا - بدون إتعاب فكر ولا إجهاد نفس، وفي الكلام بقية أذكرها بعد هذا العدد. وكتب في العدد 1082: كلام في خطأ العقلاء تولى أمر هذه البلاد (المصرية) أناس في أزمنة مختلفة، تظاهر كل منهم بأنه يريد تقدمها ونقلها من حالة الهمجية (على ما يزعم) إلى حالة التمدن التي عليها أبناء الأمم المتمدنة، وجعلوا الوسيلة إلى ذلك أن تنقل عادات أولئك الأمم المتمدنين وأفكارهم وأطوارهم إلى هذه البلاد وظنوا أن تقليدنا لعاداتهم وأخذنا الآن بأفكارهم اليومية، وتشبهنا بهم في الأطوار كافٍ في أن نكون مثلهم، وأن استلامنا لتلك العادات وتلقينا الأفكار أمر غير عسير. لم ينظروا في الأسباب والوسائل التي توصل بها أولئك الأمم إلى هذه الحال التي هم عليها حتى يعتدوا مثلها أو قريبًا منها لترقي هذه البلاد، بل ظنوا أن هذه الغاية من الممكن أن تكون بداية، مع أن ما نرى عليه جيراننا من الممالك الغربية لم يصلوا إليه إلا بعد معاناة أتعاب ومقاساة مشاق وسفك دماء شريفة وثل عروش ملك رفيعة، وكانوا في كل ذلك يقربون من المقصود تارة ويبعدون عنه أخرى، كما يرشدنا إليه تاريخهم حتى بدلت الحوادث الدهرية طبائع الأهالي وغيرت أخلاقهم , ونبهت الضرورات أفكارهم , وهذبت المخالطات الجهادية والتجارية عقولهم. إن بداية التقدم الأوربي في الحقيقة كان في نفوس الأهالي وأفراد الرعايا. علمتهم الحروب الصليبية سبر البر والبحر، وخالطوا فيها الأمم الشرقية أجيالاً، وطمحت أنظارهم لمغالبتهم، فدققوا في سبب قوة الشرقيين (التي كانت لهم إذ ذاك) وبحثوا في أحوالهم فرأوا لهم عادات جميلة وفيما بينهم أفكار سامية، ورأوا في دوائر أعمالهم اتساعًا وأيدي الصناعة والاكتساب مطلقة الحرية؛ ولذلك كان الغنى والعز مستوكرًا أقطارهم؛ فأخذ أهالي أوربا عند ذلك في تقليدهم، لكن لا في البهارج والزخارف بل في أسبابها والموصلات إليها وهي توسيع نطاق الصناعة والتجارة ونحوهما من وجوه الكسب؛ فكان ذلك أساسًا للعمل وقر في النفوس وثبت في العقول، وبنوا عليه ما شاءوا، ولو تأملنا تاريخ سير التقدم الأوربي لرأينا أسباب التقدم يجمعها سبب واحد وهو إحساس نفوس الأهالي بآلام صعبة الاحتمال من ظلم الأشراف (النبلاء) وغدر الملوك، وضيق وجوه الاكتساب، ونفرة دينية على المسلمين الذين استولوا على حرمهم المقدس، وهذا الإحساس هو الذي دعا الأنفس الكثيرة العدد إلى الخروج من هذه الآلام فطلبوا لذلك أسبابًا متنوعة أقواها التعاضد والتعاون على ترويج وسائل الكسب وافتتاح أبواب الرزق، فكانت تعقد لذلك المحالفات والمعاهدات وتتألف له الجمعيات , فكان جرثومة تقدمهم أمرًا منبثًّا في غالب الأفراد ومحرزًا في أغلب العقول، وهو نشاط الأهالي في اجتلاب الثروة وطلبهم لحرية العمل لينالوها , ورفضهم لتلك التقيدات التي كانت تمنعهم من طلب حقوقهم الطبيعية، ثم تدرجوا فيه ينتقلون من حال إلى حال، والأص

الدين كل ما جاء به الرسول

الكاتب: أحمد منصور الباز

_ الدين كل ما جاء به الرسول حضرة الفاضل المحترم صاحب مجلة المنار: اطلعت على المقال المندرج في الجزء السابع من المنار لحضرة محمد أفندي توفيق تحت عنوان (الدين هو القرآن وحده) فأدهشني العجب لما رأيته فيه من الفلسفة الخارقة التي لم يسبق لها مثال، إذ قرر حضرته هدم دعامة من دعائم الدين، واجتث أصلاً ثبتت جذوره في قلوب جميع المؤمنين (ثم إن الكاتب لخص المقال بنحو عشرة أسطر تلخيصًا يمكن النزاع فيه على أنه لا حاجة إليه) ثم قال ما نصه: ولعمري لو لم يكن الرسول مُبَيِّنًا لأحكام الله التي لم تفصل في التنزيل: ككيفية الصلاة من ركوع وسجود وتسبيح وتهليل ومشرعًا لما لم يرد في القرآن حكمه، وأن ما يبينه أو يشرعه واجب الاتباع - تعطلت وظيفته وكان اقتداء الصحابة به وتعلمهم منه عبثًا وباطلاً، فقل لي بأبيك: إذا لم يكن أمر الرسول صاحب الشرع وصاحب الوحي المعصوم من الخطأ والزلل كأمر القرآن، والكل من عند الله فما معنى قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) ومعنى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92) ومعنى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ومعنى {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} (النساء: 14) ومعنى {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى} (النجم: 3) . قل لي بإنصاف لو لم يبين الرسول كيفية الصلاة التي أمر الله بها من ركوع وسجود أكان أحد من الصحابة يمكنه أن يؤديها على حسب رغبة الله، فيركع الركوع المخصوص ويسجد مرتين في كل ركعة؟ ما أظن ذلك أبدًا ولا أظن الكاتب نفسه عرف كيفية الصلاة إلا عن سنة النبي، إذ القرآن لم يبين أن يسجد الإنسان مرتين بل أجمل الأمر وترك كيفية التفصيل للنبي، أيريد الكاتب أن يفهم في الدين فهمًا غير ما كان يفهم رسول الله، وبذلك يكون الدين أو القرآن (كالأستك) صالحًا لكل زمان ولا يكون جامد متحجرًا كما يقول البعض؟ أن قول الله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) برهان قاطع على أن سنة الرسول يُرجع إليها ككتاب الله. وكذا قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) أدل دليل على أن أوامر الرسول ونواهيه واجبة على متبعيه، ولا يشتبه عليه أنها نزلت لسبب، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولماذا لم تذكر طاعة الله إلا مقرونة بطاعة الرسول؟ أكان ذلك من باب ترادف اللفظ على المعنى الواحد، فتكون طاعة الله هي اتباع أوامر القرآن وطاعة الرسول هي أيضًا اتباع أوامر القرآن، أم كانت طاعة الله فيما أمر به في القرآن وطاعة الرسول فيما بينه من الأحكام التي لم ترد فيه! قل لي أي المعنيين أرجح عندك؟ لا أظن إلا الثاني الذي لا يقبل العقل السليم غيره. وإني واثق من أن الكاتب مقتنع بالقرآن حيث جزم بصحته، أفلا يقتنع بما سردته له من الآيات؟. ولو كنت أعلم أنه يقتنع بالأحاديث التي لم يستغنِ عن الاستدلال بها في مقاله لأوردت له كثيرًا من الأحاديث الصحيحة التي تزيل عنه الشبهة كحديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم فإذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به) وحديث (ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) وحديث (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإنما حرم رسول الله كما حرم الله) يقول الكاتب: إن آية القصر تفيد أن الصلاة المقصورة ركعة واحدة للمأموم، وإني لأعجب كيف استنتج ذلك؟! لأن الآية لا تفيد ركعة ولا اثنتين ولا ثلاثًا؛ لأن الله يقول: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ} (النساء: 102) ولفظ (سجدوا) لا يفيد ركعة ولا غيرها. أما ما يقوله من أن النبي كان يواظب على أعمال من العبادة كثيرة، ولم يقل أحد بوجوبها، مما يدل على أن المواظبة على الشيء لا تقتضي وجوبه - فهو مردود؛ لأنه بيَّن لأصحابه الواجب والمندوب، وجرى على ذلك نحو أربعمائة ألف مليون مؤمن (كذا) من عهده إلى وقتنا هذا من غير أن يشذ منهم واحد، وإني أخجل أن أقيم على ذلك دليلاً؛ لأن إثبات البديهيات من المشكلات، أفلا يقنع حضرته ما أقنع أولئك الملايين. يقول: إن النبي لم يأمر بكتابة الأحاديث في عهده كما أمر بكتابة القرآن، مما يدل على أنه لم يرغب أن يبلغ عنه شيء من غير القرآن , وهذا أيضًا مردود؛ لأنه كما أمر بكتابة القرآن أمر كثيرًا بحفظ ما يقول ويفعل، روي عنه هذا، وقد حفظت أحاديثه في صدور الرجال الذين حفظوا القرآن وحرصوا عليها حرصًا شديدًا، حتى إن الواحد من أصحابه كان لا يعمل عملاً إلا ويستشهد عليه بجملة أحاديث، وقد خلف من بعدهم رجال دَوَّنُوهَا في الكتب كما دونوا القرآن، وتحروها رواية ودراية حتى ضرب بهم المثل في شدة التحري لسنة الرسول (راجع مصطلح الحديث وتاريخ البخاري وغيره) وجعلوا لها مراتب يعمل بحسابها في الأحكام حتى صار اشتباهها بأحاديث الكذابين محال (كذا) . وما كنت أظن ولا يخطر ببالي أن حضرة الفاضل صاحب المنار يذاكر الكاتب في هذا الموضوع، ولا يقنعه وهو ابن بجدتها ويأمره بعرض مقاله في المنار مع خلوه من الفائدة؛ لأن هذا يعد خلق مشاكل جديدة بين المسلمين وليس هذا مما يتناوله الاجتهاد المزعوم، ولعمري إذا كان فتح باب الاجتهاد يجر إلى ذلك فسده بالطين واجب. ماذا يا حضرة الفاضل تطلب من الأزهريين وغيرهم من العلماء؟ أتطلب دليلاً منهم على أن أقوال الكاتب فاسدة، بعد ما قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} (الحشر: 7) إلخ، وهل بعد أمر الله صراحة كلام لأحد؟ وهل بعد إجماع ملايين من العلماء علي ذلك محل للاستفهام والسؤال؟ كلا. هذا وأرجوكم يا حضرة الرشيد المرشد سد باب مثل هذه المواضيع، ونشر هذه العجالة التي لا أكتب بعدها أبدًا في هذا الموضوع، وفقنا الله وإياكم وجميع المسلمين للاهتداء بهدي الكتاب المبين وسنة رسول رب العالمين. ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد منصور الباز ... ... ... ... ... ... نقيب أشراف مركز كفر صقر من طوخ (المنار) حذفنا من هذه المقالة ما لخص به كاتبها المقال يرد عليه، وقد أشرنا إلى ذلك في موضعه، وحذفنا منها نحو ستة أسطر أخرى ينكر بها الكاتب ما قاله الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي في اختلاف الأمة في فهم الدين وإنما حذفناها لأنه لم يلتزم فيها ما يجب في المناظرة؛ ولأنها ليس فيها شيء من القوة؛ إذ مضمونها أن الأمة اتفقت على الشهادتين وسائر الأركان الخمسة، وليس هذا نفيًا لاختلاف الأمة ولو كنت أجيز لنفسي مناقشة أحد من المتناظرين في أثناء المناظرة لذكرته بالأحاديث التي نطقت بأن الأمة ستفترق وبخلاف الفقهاء والمتكلمين، وبأن الرجل لم يقل أنهم اختلفوا في كل أصل وفرع. أما تعجب الكاتب من عدم إقناع صاحب هذه المجلة للدكتور صدقي، ومن حمله على كتابة رأيه في المسالة ونشره إياها فله وجه، ومن أسباب ذلك أنه لم يتفق له أن ذاكرني في ذلك إلا وأنا مشتغل بالكتابة اشتغالاً لا مندوحة عنه، وإنني أعلم أن من الناس من يعتقد مثل اعتقاده في ذلك، فلهذين السببين ولاعتقادي أن الإنسان إذا كتب ما يخطر له، فإن هذه الخواطر تنتقل بالكتابة من حيز الإجمال والإبهام إلى حيز التفصلة والجلاء، حتى إنه كثيرًا يظهر للكاتب الخطأ فيما كان يعتقد عند كتابته له، وكنت أريد أن أبين رأيي فيما يكتب قولاً لا كتابة ولكنه اقترح أن ينشر ذلك؛ ليعرف رأي علماء العصر فيه، فنشرناه ليكون الرد على ما فيه من خطأ وشذوذ ردًّا على كل من يرى هذا الرأي. وقد حدثنا بعض كبار شيوخ الأزهر وأذكياء المجاورين أن أهل الأزهر اهتموا بذلك المقال وتحدثوا بالرد عليه، وأنهم ظنوا أن المنار ربما يتعقبهم ويرد عليهم، فقلنا لهم: إننا لا نرد على أحد ولكننا ربما نكتب في الموضوع شيئًا بعد انتهاء المناظرة لا نذكر فيه أحدًا من المتناظرين ولا نرد عليه، ثم بلغنا أن بعض الأستاذين قد شرع في الكتابة بالفعل، ونحن لا نشترط على من يكتب إلا نزاهة العبارة وسلامتها من الطعن والتهكم عملاً بأدب القرآن الحكيم {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24) . ((يتبع بمقال تالٍ))

تعليم الدين للأحداث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعليم الدين للأحداث وخطبة الجمعة في الآستانة جاءتنا رسالة من عالم عثماني عنوانها (أهكذا يخلف محمد في أمته) لا نستحسن نشر مثلها في شدته وإن كان حقًّا، ولكن رأينا أن نأخذ منها ما هو من أخص مباحث المنار، وهو مسألتان إحداهما طريقة تعليم الدين للأحداث وطريقة وعظ الرجال به بتركيا في هذا العصر الذي يسمونه (الحميدي الأنور) . ذكر الكاتب في أوائل رسالته أن بعض المستخدمين بنظارة المعارف في الآستانة كان قد رفع تقريرًا إلى المابين يلفت فيه السلطان إلى فقرة (ونخلع ونترك من يفجرك) الواردة في دعاء القنوت إلى وجوب حذفها من هذا الدعاء أو حذفه هو برمته من أدعية الصلاة، وقال: إن السلطان استشار بعض بطانته في أمر هذا التقرير، فأشار عليه بالإغضاء عنه وبيَّن له سوء عاقبة الأمر بتركه، ذلك أن قراءة هذا الدعاء برمته في الوتر واجبة عند الحنفية والتُّرك منهم، ومن تركه عمدًا وجبت عليه إعادة صلاته، وقال الكاتب: (إن هذا الخبر نما إلى سفط الفاتح (سوخته لر) فسخطوا وبربروا، ونقموا وكفروا، فأشار ذلك الداهية على جلالته بأن يصدر إرادة بمنع الجهر بمعاقرة الخمر جهرًا على برازيق الطرق والمحال العمومية، فما أسرع ما كان ذلك مطفئًا لجمرة أصحابنا الشيوخ وداعيا لفثء حدتهم وإرجاع ثقتهم. ولم يكن يخطر لنا هذا الأمر ببال سيما والارتياب في الخبر مدعاة لنسيانه، لولا كراسة تركية صغيرة تسمى (الفباي عثماني) طبعت برخصة نظارة المعارف في مقر السلطنة 1322، وقد حوت ما يحويه أمثالها مما يلزم للمبتدئ تعلمه لأجل حذق القراءة. تصفحت تلك الكراسة فوجدت فيها جميع الأدعية المأثورة حتى (رب يسر ولا تعسر) لكني لم أر مؤلفها ذكر فيها دعاء القنوت الواجبة قراءته على مقلدي مذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه والأتراك في جملتهم، (وذكر هنا كلامًا شديدًا ثم قال) : (وقد استعاض مؤلف الكراسة عن دعاء القنوت بهذه الفقرات (الله بردر محمد حق رسوليدر سلطان عبد الحميد خان ثاني أفنديمز حضرتلري مقدس خلفه سيدر، بزوم سويكيلي بادشاهمز در الله به بيغمبر يمزه بادشا همزه أطاعت أيدرز أمر لريي طوتار نهيلرندن أجتاب أيلرز) ، ومعنى ذلك (الله واحد محمد رسوله حقًّا سيدنا حضرة السلطان عبد الحميد خان الثاني خليفته المقدس ومليكنا المحبوب نطيع الله ونبينا وسلطاننا ونتمسك بما أمروا به ونجتنب ما نهوا عنه) (فعاودني عند قراءة ما تقدم الوجوم، وعجبت من هذا الارتقاء الذي شمل جميع شؤون الأمة حتى دينها! فبعد أن كان المسلمون في أول نشأتهم يؤمرون بالتوجه إلى الله وحده وتمييزه عما سواه بالإخلاص إليه أخذوا في هذا العصر (عصر الترقي) يعلمون أبناءهم التوجه إلى (ثلاثة) بحيث يشركونهم في خصائص الألوهية كي لا يفوت المسلمين التشبه بغيرهم ممن اتخذ له ثلاثة أقانيم، ويا ليتهم إذا فعلوا ذلك قرنوا اسم الأقنومين بألقاب التبجيل وصفات التقديس كما قرنوا اسم الأقنوم الثالث! ! هكذا أُخذ المسلمون عن أنفسهم، وصودروا في وجدانهم وحسهم، وحيل بينهم وبين ما يشتهون من تنشئة أبنائهم. فلا يكاد الناشيء يزايل المكتب ويفلت أمثال الكراسة المذكورة من يده حتى يتناول جريدة من جرائد أمته فيقرأ فيها في وصف القصر (عتبه فلك مرتبه) وفي وصف المقصور (ذات قدس سمات) (ذات فرشته سمات) أي: الذات المقدسة الشمائل أو التي شمائلها كشمائل الملائكة. وإذا أراد أن يمتع بصره بمشاهدة حفلة صلاة الجمعة (السلاملك) رأى (كما رأيت بعيني) عمامة شيخ الإسلام تهوي إلى بين قدمي جلالته وهو يشكر له ويدعو. وإذا أَمَّ المسجد لأداء فريضة الجمعة سَمِعَ حمامة المنبر المطوقة بالذهب يغرد بصوت يستثير الطرب ويقول: الحمد لله، ثم الحمد لله، الحمد لله الذي أيد دين حبيبه بدوام سلطة ملوك آل عثمان الغازي عبد الحميد خان، وأبقى شريعة نبيه ببقاء سلالة آل عثمان الغازي عبد الحميد خان، فسبحان الذي أخذ انتقامه من عدوه بعدالة ملوك آل عثمان الغازي عبد الحميد خان. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له منح الأمن والراحة على عباده بمحافظة ملوك آل عثمان الغازي عبد الحميد خان. ونشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله الذي بنى نصرة الله على عباده بإطاعة عساكر ملوك آل عثمان الغازي عبد الحميد خان، صلى الله عليه وعلى آله. عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي رفيق في الجنة ورفيقي فيها آل عثمان الغازي عبد الحميد خان) صدق رسول الله الذي مدح في حديثه جنود المنتسبين بملوك آل عثمان الغازي عبد الحميد خان) ، اهـ. اضحك أيها القارئ أضحك الله سنك كأني بك وقد ارتبت في هذه الخطبة وحسبتها من أوضاع كاتب السطور أو تماجنه، لكني أحلف لك بكل ما تكلفني الحلف به أن هذه الخطبة قرئت مرات متعددة في (إسكدار) في جامع رأس السوق في بني جشمه وبعض الذين يفهمون نهضوا حالاً، وانخزلوا عن الجماعة وخرجوا من الجامع، وقرئت أيضًا في جوامع أخر وأجيز واضعها بمئة ليرة، وسمعها شيخ الإسلام وغيره من العلماء وسكتوا. لم يعن الشارع بجعل خطبة الجمعة والإنصات إليها من الفروض إلا لما من حقه أن يكون لها من التأثير في نفوس المسلمين، بحيث تحفزهم لشحذ عزائمهم وتوجيه هممهم نحو لَمَّ شعثهم وتوفير كل ما فيه رفعة شأنهم وحفظ كرامتهم بين الأمم، وما قط قصد الشارع أن تكون خطبة الجمعة قصيدة محشوة بألقاب الإطراء والتعظيم وارتكاب الكذب على حد قولهم (أعذب الشعر أكذبه) ولا (دورًا) أو (مَوَّالاً) يتواخى فيه حسن الإيقاع وموافقة أصول الأنغام، وتكون للأمة بمثابة (نشيد وطني) كما عند سائر الأمم. إن شئت أيها القارئ الاستئناس لما نقول بما قرره العلماء رضي الله عنهم في هذا الصدد فدونك ما قاله واحد من كبارهم، وقد عاش في أواخر القرن الثاني عشر الهجري: (ومما يكره للخطيب المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم، فأما أصل الدعاء للسلطان فقد ذكر صاحب المهذب وغيره أنه مكروه، والاختيار أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه) وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك بأن يصفه عادلاً وهو ظالم أو يصفه الغازي وهو لم يزحف على العدو بخيل ولا ركاب، ولكن مطلق الدعاء لهم بالصلاح لا بأس به. وقد اتفق أن الملك الظاهر بيبرس لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة أبدع الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان، وأطنب فيه، فلما فرغ من صلاته أنكر عليه، وقال - مع كونه تُرْكِيًّا - ما لهذا الخطيب يقول في خطبته السلطان السلطان، ليس شرط الخطبة هكذا. وأمر به أن يضرب بالمقارع فتشفع له الحاضرون، هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه. فما خلص إلا بعد الجهد الشديد، واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا (يعني محمد بك الألفي أحد أمراء المماليك، وقد نازعته نفسه بالخروج على السلطان، فأرسل مملوكه محمد بك أبا الذهب إلى الشام؛ للاستيلاء عليها كما فعل محمد علي باشا في إرسال ابنه إبراهيم والتاريخ يعيد نفسه) لما صلى الجمعة في أحد جوامع مصر، وكان مغرورًا بدولته مستبدًّا برأيه فأطنب الخطيب في مدحه، فلما فرغ من صلاته أمر بضرب ذلك الخطيب وإهانته ونفيه عن مصر إلى بعض القرى. فهذا وأمثاله ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله برضا الناس، فإن ذلك موجب لسخط الله والمقت الأبدي، نسأل الله العفو. اهـ. من أمعن نظره فيما قلناه ونقلناه يأسف لحال الأمة الإسلامية كيف أن (سادتها وكبراءها) في العصور المتأخرة أساءوا في إدارة شئونها وتربية أبنائها واستدرجوها في الاستكانة والاستخذاء، حتى نزعت منها روح الحرية وفقدت النعرة والحمية، وحل محل ذلك الضعف والخمول وعدم المبالاة بحفظ الحوزة وحماية الحقيقة إلخ.

رأي واقتراح في مقالة التعصب

الكاتب: عالم فاضل

_ رأي واقتراح في مقالة التعصب لعالم فاضل إلى منار الإسلام والهادي إذا ضلت الإفهام، وطاشت الأحلام. قرأت في المنار الرفيع المقالة المسهبة، بل الآية المعجبة التي تحت عنوان (التعصب وأوربا والإسلام) بعدما استقصيت كل ما سبقها في موضوعها فوجدتها - فضلاً عما اشتملت عليه من البراهين القاطعة والآيات الناصعة في تبرئة دين الله الإسلام وأهله مما يكون منزع شقاق أو افتراق بين أهل الأرض مهما اختلفت نِحَلهم، أو تباعدت حللهم، وأنه بعكس ذلك يدعو إلى الوئام العام، ولم تترك في القوس منزعًا لرامٍ - قد بينت حقيقة الحال على وجهها بما لم يسقطه به ناطق أو محرر وكشف النقاب عن حر المسألة التي تَخَبَّطَ فيها ذوو السياسة والكتاب؛ فألبسوا الأمر غير لباسه، وبنوا البيت على غير أساسه. فجاءت مظهرة رأي خواص المسلمين الذين يُعَوَّل عليهم، ويستند في مثل تلك المواقف الحرجة إليهم، ويا حبذا لو ترجمت هذه المقالة ونشرت في جرائد أوروبا تحت عنوان (رأي علماء المسلمين الآن) ليعلم أهلها عامة والإنجليز خاصة ما عليه المسلمون في دينهم الخالص، وأن هناك من يقف على دخائل الأغراض، وحقائق الأمراض وما لهم من مغارم إن كانوا قساة، أو مراحم إن كانوا أساة، وبالاختصار أقول: إن المسلمين ليغبطون أنفسهم قبل غيرهم بمثل هذه المقالة التي لا يسع كل منصف عدل من الفريقين إلا الإذعان لما جاء فيها إن لم يكن ظاهرًا فباطنًا، وأنا أشهد الله أني من المعترفين بأنها هي طريق الحق التي لا غبار عليها لغرض ذاتي أو عرضي؛ وأنها مرآة ما في قلوب المسلمين الخُلَّص الذين لا يدينون إلا للحق وداعيه والعدل ومراعيه، فلتسلم مطبعة المنار ليقوم بها الدليل ويعرف حكم التنزيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة، إذ لا يسع الناس عامة، ونشترط على السائل أن يبين اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) وله بعد ذلك أن يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربما قدمنا متأخرًا لسبب، كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربما أجبنا غير مشترك لمثل هذا، ولمن يمضي على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يُذَكِّر به مرة واحدة فإن لم نذكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله. أخذ الحق من الوالدين وضابط العقوق (س31) من أحد القراء بمصر: ما قول عالم الأمة الإسلامية وحكيمها ومرشدها أستاذنا السيد محمد رشيد رضا - لا زال كعبة للسائلين - في رجل اشترى لولده أملاكًا من أناس أجانب بعضها وهو صغير والبعض الآخر وهو كبير، دفع الوالد الثمن من عنده. فلما رشد الولد وأراد أن يأخذ ما اشترى له منعه والده من أخذها، فهل يجوز للولد أخذها منه وله الحق في ذلك لكونها مِلكًا له أم لا؟ وهل تُعَدُّ إساءته بأخذها منه عقوقًا يعاقبه الله عليه في الآخرة أم لا؟ أفيدوا الجواب بالدليل الشافي، لا زلتم نجمًا للمهتدين. (ج) الفقهاء يجيزون أخذ الحق من الوالدين وإن استاءا ولا يعدون ذلك من العقوق الذي هو الإيذاء الشديد عرفًا، والمسألة مشكلة من حيث صلة الولد بالوالد، وإننا نذكر أحسن ما قاله الفقهاء في ذلك ثم نتبعه النصيحة النافعة إن شاء الله تعالى. قال شيخ الإسلام السراج البلقيني في فتاواه كما نقل عنه ابن حجر في (الزواجر) ما يأتي: (مسألة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها لتحصيل المقصود في ضمن ذلك، وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين؛ إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل به المقصود، إذ الناس أغراضهم تحملهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفًا، لا سيما إذا كان قصدهم تنقيص شخص أو أذاه، فلا بد من مثال يُنْسَج على مِنْوَاله، وهو أنه مثلاً لو كان له على أبيه حق شرعي، فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه، فلو حبسه فهل يكون عقوقًا أم لا؟) (أجاب) هذا الموضوع قال فيه بعض العلماء الأكابر: إنه يَعْسُر ضبطه، وقد فتح الله سبحانه وتعالى بضابط أرجو من فضل الفاتح العليم أن يكون حسنًا فأقول: العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إلى أحد الوالدين إلى الكبائر، أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل فيه الخوف على الولد من فوات نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك، أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد، أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب أو فيه وقيعة في العرض لها وقع، وبيان هذا الضابط أن قولنا: أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا، مثاله لو شتم غير أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة، فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة. وخرج بقولنا: (أن يؤذي) ما لو أخذ فلسًا أو شيئًا يسيرًا من مال أحد والديه أنه لا يكون كبيرة، وإن كان لو أخذه من مال غير والديه بغير طريق معتبر كان حرامًا؛ لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو، فإن أخذ مالاً كثيرًا بحيث يتأذى المأخوذ منه غير الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي، فكذلك يكون كبيرة هنا، وإنما الضابط فيما يكون حرامًا صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين. وخرج بقولنا: (ما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا) ما إذا طالب الوالد بدين عليه. فإذا طالب به أو رفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه فإنه لا يكون من العقوق، فإنه ليس بحرام في حق الأجنبي، وإنما يكون العقوق بما يؤذي أحد الوالدين بما لو فعله مع غير والديه كان محرمًا، وهذا ليس بموجود هنا، فافهم ذلك فإنه من النفائس. وأما الحبس فإن فرَّعنا على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صحَّحه جماعة، فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق، وإن فرعنا على منع حبسه كما هو المصحح عند آخرين، فإن الحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيبه إليه، ولا يكون الولد الذي يطلب عاقًّا إذا كان معتقده الوجه الأول، فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لإعسار ونحوه، فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقًّا؛ لأنه لو فعله مع غير والديه حيث لا يجوز كان حرامًا، وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء. وقد جاء ولد بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو من والده في اجتياح ماله، وحضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا من ذلك عقوقًا ولا عَنَّفَ الولد بسبب الشكوى المذكورة. وَأَمَّا إِذَا نَهَرَ الْوَلَدُ أَحَدَ وَالِدَيْهِ فإنه إذا فعل ذلك مع غير والديه وكان محرمًا كان في حق أحد الوالدين كبيرة، وإن لم يكن محرمًا، وكذا (أف) فإن ذلك يكون صغيرة في حق الوالدين، ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر. ثم ذكر البلقينى مسألة مخالفة الأمر والنهي فيما يدخل الخوف على الوالد، ومسألة السفر وليس من موضوع بحثنا، وقد بحث ابن حجر بعد إيراد هذه الفتوى في الضابط، وعنده أن المدار في العقوق على ما يتأذى به أحد الوالدين تأذيًا ليس بالهين عرفًا، وإن لم يكن محرمًا لو فعله مع غيره قال: (كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم ولا يعبأ به، ونحو ذلك، مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذٍ تأذيًا عظيمًا) . وقال الغزالي في الإحياء: (وجملة عقوقهما أن يقسما عليه في حق فلا يبر قسمهما وأن يسألاه حاجة فلا يعطيهما وأن يسباه فيضربهما) وهو قد نقل ذلك عن (القوت) لأبي طالب المكي. أقول: لا شك إن إيذاء الوالدين محرم، ولكن ليس كل إيذاء عقوقًا، وإنما العقوق هو الإيذاء الشديد، وهو يختلف باختلاف العرف، عرف العقلاء وأصحاب الذوق السليم والمعرفة بآداب الشرع وأحكامه، وإلا فإن من الوالدين من يؤذيه اتباع ولده للحق ومخالفته لهواه الباطل؛ ولذلك قالوا: إنه لا يجب على الولد أن يطلق امرأته امتثالاً لأمر أحد والديه، وإن مخالفتهما في مثل هذا لا تعد عقوقًا، ومثل ذلك مخالفتهما في كل ما فيه مصلحة له وفي تركه مضرة، نعم إن من البر المحمول أن يؤثر سرورهما على سروره عند التعارض، لا سيما إذا كانا معتدلي الأخلاق سليمي الفطرة. وههنا مسألة مهمة لا بد من الإلمام بها في هذا المقام لإيضاح الحق في الواقعة المسؤول عنها، وهي أن كثيرًا من الوالدين يستبدون في أولادهم استبدادًا أشد من استبداد الملوك الظالمين في رعيتهم حتى يعيش الولد معهما في غم دائم ونكد لازم، والسبب في هذا الاستبداد الذي يكاد يكون منافيًا للفطرة البشرية في الوالدين هو الاعتقاد بأن لهما حقوقًا عظيمة على الولد توجب عليه أن يخضع لكل ما يريدان، وأن لا يكون له معهما إرادة ولا رأي ولا ملك، وإن صار أوسع منهما علمًا وأجود رأيًا وأكبر فضلاً. فهما ينظران إليه في شبابه أو كهولته كما كانا ينظران إليه في حداثته. يقع هذا من الأم قليلاً ومن الأب كثيرًا، لا سيما إذا كان من أصحاب المال أو الجاه فإنه حينئذ يغلب عليه الشعور بعزة سيادة الوالدية وعزة الغنى والرفعة جميعًا، ويلذ له أن يرى ولده مفتقرًا إليه عاجزًا عن الاستقلال بنفسه، وذلك منتهى الجهل وفساد الفطرة وغاية الإسراف في الاستبداد، وهو العلة لما ترى عليه أبناء الأغنياء والكبراء الجاهلين من العجز عن كسب الثروة وعن حفظ ما يرثون منها والسبب في إسرافهم في كل أمر. أما الآباء العقلاء فهم الذين يعينون أولادهم على برهم ويربونهم على الاستقلال بأنفسهم؛ لأنهم يعلمون أن هذا الاستقلال خير لهم من المال والعقار ومن الجاه والأنصار؛ لأن عدمه يذهب بكل شيء موروث، وهو الذي ينال به كل خير معدوم، ومن التربية على الاستقلال أن يعطي الغني ولده شيئًا من ماله وعقاره في حياته يستغله ويتمتع بثمرته تحت نظر الوالد وإرشاده، ولذلك فوائد كثيرة لا محل هنا لشرحها. وقد رأيت بعض الشيوخ المدبرين في طرابلس الشام يقسم بين أولاده كل ما يملكه، ويمسك لنفسه ما لا بد له منه، ويقول: لو أمسكت عنهم لتمنوا موتي ليتمتعوا بما في يدي، أما الآن فهم يحبونني ويتمنون أن تطول حياتي. وقد رأينا بأعيننا هذا القول فيهم، وكان محمد باشا المحمد أغنى أهل بلادنا (لواء طرابلس الشام) وأعقلهم، وقد قسم جميع ما يملك بينه وبين أولاده في حياته بالمساواة؛ ليعودهم على الإدارة والاستغلال، ويربيهم على العز والاستقلال. وما يؤثر عن القدماء في تأييد هذا ما قاله الأحنف بن قيس لمعاوية وناهيك بعقل الأحنف وحكمته، قال يزيد: أرسل معاوية إلى الأحنف بن قيس، فلما صار إليه قال: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟ قال: يا أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة، فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم، ويحْبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً فيملوا حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك. هذا وإنما زدت في جواب هذا السؤال عما سئلت عنه؛ لأنه يثقل على أن أفتي الابن بأن له أن يأخذ حقه من أبيه كما أفتى الفقهاء، ولا أصِل ذلك بما أرجو أن يكون سببًا في البر والصلة وتنبيه عاطفة الرحمة والشفقة في قلب الوالد لعله يتم فضله على ولده بتسليمه ما اشتراه له من قبل؛ ليكون قرة عين له ومحبًا لطول بقائه ومعينًا على بره وشكره، وأنصح للولد أن يبالغ في استعطاف والده واسترضائه حتى تطيب نفسه بذلك، وأذكر الوالد بعد ما تقدم كله بما رواه أبو الشيخ في كتاب (الثواب) من حديث علي وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله والدًا أعان ولده على بره) فإن هذا الحديث من الأدعية التي ترشد إلى الحكمة السامية، وإن كان في سنده مقال، ورواه الفوقاني من رواية الشعبي مرسلاً كما في شرح الإحياء والله الموفق. *** السفر بالزوجة وحال المصريين في السودان (س 32) من أمين أفندي محمد الشباسي في سواكن: إننا مستخدمي حكومة السودان أكثرنا يترك زوجته ويسافر بدونها؛ لعدم رغبتها في السفر بصحبة الزوج محتجة بأن الشرع الشريف لا يجيز نقل الزوجة إلى بلد آخر، فيقع الرجال في أحد أمرين: إما التزوج بالسودانيات اللاتي لا يحصن فروجهن، وإما إتيان ما حرم الله، وكلاهما صعب. فهل يوجد نص شرعي في الكتاب والسنة على حقيقة ما يدعي نساؤنا أم هن يعملن بحكم العادة؟ وإذا طلب أحد من المحكمة الشرعية إلزام زوجته بالسفر معه فماذا يكون الحكم؟ وإنني أتذكر آية شريفة، وهي قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} (الطلاق: 6) ولا يخفاكم أن وسائل الراحة متوفرة في السودان للغاية، وأن الإنسان ليتكبد خسائر جسيمة لعدم وجود أهله معه. اهـ. بتصرف) . (ج) السبب الحقيقي لعدم رضاء النساء بالسفر مع أزواجهم هو فساد التربية وقلة الدين أو كراهية الزوج لسوء معاملته، ولا يوجد نص في الكتاب أو السنة يبيح للمرأة عصيان زوجها في مثل هذا السفر الذي لا ضرر فيه ولا ضرار، بل الكتاب والسنة يوجبان على المرأة طاعة زوجها بالمعروف. ومعاذ الل

أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ أميل القرن التاسع عشر المكتوب التاسع من (أميل) إلى أبيه الاستقلال في العلم، فلسفة الخلق والتكوين والاجتماع والمدنية، والاعتماد على العقل دون الخطابة، حب الوطن. هيدلبرغ في 18 يناير سنة 1860. غادرت مدينة (بن) ونقلت كتبي (وهي كل ما أملكه تقريبًا) إلى مدينة (هيدلبرغ) ، ومن نظام مدارس الجامعة في ألمانيا أنه يجوز لطلبتها مطلقًا أن ينتقلوا من إحداها إلى الأخرى من غير أن يكون في ذلك ضياع لحقوقهم فيما نالوه من الدرجات، على أن هذا التنقل يُمَكِّن الطلبة من الاختلاف إلى دروس أنبغ الأساتذة وأشهرهم في كل من فروع العلوم البشرية. إني إخالني تعلمت كثيرًا من دروس هؤلاء الأساتذة المفيدة ولكني كل يوم أتبين أن تعليم المدارس بجملته لا يمكن أن يقوم لطالب الحق مقام علمه الذاتي الذي يجري فيه على ما ترشده إليه سريرته. أرى مذهبين يتنازعان عقول البشر أعثر عليهما أينما وجهت فكري فأجدهما في العلم والحكمة والدين والسياسة، ومقتضى المذهب الأول أن العالم خلق مقسورًا: أي أن كل ما فيه خصص بإرادة أزلية، وأن صور الحياة في الكائنات الحية ثابتة لا تتغير؛ فتندمج الأصول بعضها في بعض وتنتج الفروع ناقلة مخصصات كل نوع من مثال أزلي له، ومقتضى المذهب الثاني أنه وجد مختارًا بمعنى أن الكائنات لم توجد من العدم بل استحالت من طور إلى طور، وأن القوى لم تسبق في الوجود بل نمت، وأن الأنواع النباتية والمعدنية (هكذا في الأصل ولعل صوابه والحيوانية) مستمرة البقاء غير أنها تتغير وترتقي على مقتضى نواميس طبيعية. وإذا انتقلت من العلم إلى التاريخ وجدت الخلاف بعينه في آراء الناس، فيرى بعضهم أن التمدن قديم وجد مع الإنسان: يعني أن الاجتماع أوجدته قدرة أعلى من قدرة البشر، وأن أي أمة ليس لها أن تختار قوانينها وأوضاعها، وأن للحكومة مُثُلاً لا تحيد عنها الأمم حتى تسقط في مهاوي الفوضى، ويرى بعض آخر خلافًا للأولين أن الإنسان نشأ متوحشًا؛ أي: أنه كان قردًا متقنُ الخلقةِ فَفَرَّ من بين الحيوانات وأنشأ على التعاقب قوانينه ومعايشه ومكانته في البرية بعد أن خلق نفسه إن صح التعبير على هذا النحو، وأن الأمم قد مرت في أطوار نموها ببدايا أوضاع لم تلبث أن باعدتها بتأثير الترقي الذي لا رادَّ له، فكما أن الأرض كانت بنفسها يكون الإنسان بنفسه، ويؤلف مجتمعه بقواه الذاتية. وإذا رجعت إلى الديانات وصدقت أقوال مؤوليها كانت كلها مُوحَاة من الله، فإذا سألت خصومهم عن رأيهم فيها قالوا: إنها أمور طبيعية تدخل في قوانين إدراك الإنسان المألوفة. وكم يكون التباين أشد ومسافة الخُلْف أوسع إذا سألت أهل وطني عن آرائهم في الأمور السياسية، وقد استخلصت من اختلاف طرق النظر هذه نتيجة، هي أني مع بحثي في أفكار غيري وآرائه لا ينبغي لي أن أعول إلا على شهادة عقلي، وسريرتي هذه هي السبيل التي صممت على سلوكها، وهي التي أوضحتها لي أنت أيضًا، ويبعد كل البعد أن تكون هذه الضرورة الملجئة لي إلى الحكم بنفسي على الأمور مدعاة إلى الكبر والصلف بل إنها تبعث في نفسي الذلة والاستكانة؛ لأني أكون مضطرًا في كل وقت إلى الاعتراف لنفسي بأني لا أعرف شيئًا، وأنه يجب عليَّ أن أتذرع بالإقدام وأن أوسع نطاق معارفي وأختلس من النظر في الحوادث مقدمات اقتناعي، وأما البراهين الخطابية التي كنت أعتقد في ساعة من الساعات أني أدرك بها ما لا حدَّ له من العوالم فقد تبين لي أنها شبيهة بتلك الأصداف التي يتناقلها الأطفال في أيديهم ويضعونها على آذانهم متخيلين أنهم يسمعون فيها اصطخاب البحر. على أني لا أدرس وأبحث من أجل أن أكون عالمًا. فكل ما ينتهي إليه طمعي ينحصر في فهم حاجات العصر الذي أعيش فيه والأخذ بناصر الحق، وهيهات أن أنسى بلادي أو أعيش غير مبالٍ بمجاهداتها، فإني وإن ولدت في بلاد أجنبية أجد فرنسا حيثما نظرت فإنها تبدو لي في انتصارها الكثير الذي انتشر في أرجاء الدنيا، وأراها حتى في مصائبها التي نزلت بها عقابًا لرجل من رجالها على تغطرسه وتجبره، هذا الوطن الذي ما رأيته في حياتي هو في نسبته إلى أمي الثانية فَلا يُذْكَرُ إلا وَيَتََسعر جِلدي لذكره، ولا يُنْتَقَصُ إلا ويَتَبَيَّغ دمي كله انتقامًا له، وليس الذي يبهرني منه هو غزواته ووقائعه الحربية، وإنما هو تاريخ مكافحاته ووثباته الباسلة في طريق الحرية، وإني أحب مفكريه الذين يعملون فيه وهم يضحكون وأعجب بكُتَّابه الذين يهيجون القلوب وهم لنور العلم يبثون، فأنا من صميم قلبي ملك له، وبما في نفسي من الأمل في خدمته يومًا ما تجدني مغتبطًا ومعتزًّا بالانتساب إليك. اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (طبعة الرافعي للقرآن الشريف) طبع الشيخ محمد سعيد الرافعي صاحب المكتبة الأزهرية في مصر المصحف الشريف طبعة لطيفة، تمتاز على جميع طبعات المصاحف بتفسير الألفاظ الغريبة على هوامش الصفحات وَبِعَدِّ الآيات الكريمة بالأرقام على لطف حجمها وحسن حروفها، وإننا نعتمد عليها في بيان عدد الآيات في المنار، إلا أننا نذكر العدد في أول الآية وهي في هذا المصحف في آخرها، وهو يُطْلَب من طابعه في تلك المكتبة، فجزاه الله خيرًا. *** (قصيدة حفني بك ناصف في قنا) حفني بك ناصف شهير بعلمه وأدبه، وقد نظم هذه القصيدة عندما عين قاضيًا في محكمة قنا الأهلية، وهي من أبدع ما نظم في الذم بمعرض المدح وإظهار السخط بمظهر الرضا، قال مخاطبًا للمستشار القضائي أو لناظر الحقانية: رقيتني حسًّا ومعنى ... فلصنعك الشكر المثنى وجعلت رأس الحاسدين ... بمصر من قدميَّ أدنى وجعلت سدة منزلي ... من أسقف الهرمين أسنى أسكنتني في بقعة ... فيها غدوت أعز شأنا أرد المشارع سابقًا ... والسبق عند الورد أهنا وأزور آثار الملو ... ك وكنت قبلُ بها معنًّى بلد إذا حلت به ... قدماك قلت حللت حصنا جبل المقطم حوله ... متعطف كالنون حسنا هيهات أن يصل العدو ... له ويدرك ما تمنى أرأيت يومًا مثله ... في القطر تحصينًا وأمنًا النبت في غيطانه ... متقدم غرسًا ومجنى والشيء يعظم حجمه ... في جوِّه ويزيد وزنًا فالسدر كالرمان والـ ... ـجميز كالبيض المحنى والدوم فيه دائم ... يفنى الزمان وليس يفنى ... فخاره ... لهج الأنا ... م بمدحه يُسرى ويُمنى يكفي لترويج الأو ... اني أن يقال (قنا) فتقنى قالوا شخصت إلى (قنا) ... يا مرحبًا بقنا و (إسنا) قالوا سكنت السفح قلـ ... ـت: وحبذا بالسفح سكنى قالوا (قنا) حر فقلـ ... ـت: وهل يرد الحر قنا سرُّ الحياة حرارة ... لولاه ما طير تغنى كلا ولا زهر تبسم ... لا ولا غصن تثنى والحي بدء حياته ... بعد التزام البيض حضنا تتدفق الأنهار من ... حر وتزجي الريح مزنا ها قد أمنت البرد والـ ... ـبرداء والقلب اطمأنا ووقيت أمراض الرطو ... بة واستراق الريح وهنا ألقى الهواء فلا أها ... ب لقاءه ظهرًا وبطنا وأنام غير مدثر ... شيئا إذا ما الليل جنا قد خفَّت النفقات إذ ... لا أشتري صوفًا وقطنا وفَّرت من ثمن الوقود ... النصف أو نصفًا وثُمنا فالشمس تكفل راحتي ... فكأنها أمي وأحنى فإذا بدت لي حاجة ... في الغسل ألقى الماء سخنا أو رمت طبخًا أو علا ... ج الخبز ألقى الجو فرنا سكنى القرى تدع السفيه موكلاً بالمال مضنى أي الملاهي فيه يصر ... ف ماله ومتى وأنى كل امرئ تلقاه من ... بعد الظهيرة مستكنا ... ويرى الغريب السعر أيسـ ـر حالة وأخف غبنا يجد الحليب بعينه ... لبنًا ويلقى السمن سمنا عش في القرى رأسًا ولا ... تسكن مع الأذناب مدنا واربأ بنفسك أن ترى ... مستمرئًا في العيش جبنا ودع الجزيرة والمها ... والجسر والظبي الأغنا واسلُ الأغاني والغوا ... ني واسأل الرحمن عدنا *** (طبقات الشافعية الكبرى) طبقات الشافعية الكبرى للشيخ تاج الدين السبكي صاحب (جمع الجوامع) شهيرة وكنت رأيت نسخة منها في طرابلس الشام فأعجبت بها وتمنيت لو تطبع، فلما جئت مصر وجدت نسختين منها في دار الكتب المصرية، يظهر أن إحداهما منقولة عن الأخرى؛ لأنهما متساويتان في التحريف، ولو وجدت نسخة صحيحة منها لطبعتها، وقد طبعت في هذا العام بمصر على نفقة الشريف أحمد بن عبد الكريم القادري الحسني المغربي الفاسي عن نسخة أصح من النسخ التي اطلعت عليها، على أنها لا تسلم من تحريف لا يقف في طريق الاستفادة منها. طريقة السبكي في هذه الطبقات أن يذكر ما يؤثر عن المترجَمين من غريب العلم والرواية وشوارد الفوائد والمناظرات مع المعاصرين ورقائق الأشعار، وأن يبسط كثيرًا من المسائل المهمة أو المشكلة علي سبيل الاستطراد، فطبقاته أسفار تاريخ وحديث وكلام وفقه وأدب والكلام فيها شجون، طبعت في ستة أجزاء، تزيد صفحات المجلد منها على 300 صفحة أو تنقص قليلاً، وثمنها خمسون قرشًا، ويطلب من محل الحاج محمد الساسي في القاهرة. *** (مقامات بديع الزمان الهمذاني) مقامات البديع أشهر من نار على علم، وهي أحسن من مقامات الحريري أسلوبًا؛ فهي مفيدة في طبع ملكة الإنشاء العربي في نفوس المتأدبين. وأسلوب الحريري ليس بعربي فهو لا يُحتذى في الكتاب وإن كان قد بلغ الغاية في إتقان الصنعة أو إتقان التكلف كما يقول الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى. وقد طبع مقامات البديع في هذه الأيام محمد أفندي محمود الرافعي طبعة مشكولة، وعلَّق عليها شرحًا وجيزًا معظمه في تفسير الغريب، ولا بد أن يكون استعان على ذلك بشرح الأستاذ الإمام، إذًا يكون شرحه أقرب للثقة به، ولم يتح لنا مطالعة شيء منه، وثمن النسخة أربعة قروش. *** (أحسن ما سمعت) ينسب إلى أبي منصور الثعالبي ديوان من مقاطيع الشعر قال: إنه أحسن ما سمع من مختاره، وقد قرأنا طائفة من ذلك فإذا هي لا تصل إلى مرتبة الوسط مما سمعنا، وأين نحن من صاحب اليتيمة في سماعه واطلاعه، فالغالب على الظن أن هذا الديوان من وضع مثل ابن حجة الحموي، على أن ما فيه من الشعر يعجب أكثر القراء في هذا العصر، فهو مما يرجى رواجه، وقد طبعه محمد أفندي محمود الخادم مدير مطبعة الجمهور ومحمد أفندي حسن إسحاق، مع شرح وجيز لبعض أبياته علقه عليه محمد أفندي صادق عنبر، وجعل له مقدمة حسنة الديباجة، ذكر فيه من محاسن اللغة، وشنَّع على أهلها ووصف تقصيرهم في خدمتها، وقال: لولا أن منهم فَذَّيْنِ أَلْمَعِيَّيْنِ عاملينِ على إحيائها لأوشكت اللغة أن تقع فيما نخاف، وقال: إنه يعني بهذين الفذين الشيخ إبراهيم اليازجي والشيخ محمد المهدي مدرس العلوم العربية في دار العلوم (أي مدرسة المعلمين بالناصرية) وقد أطراهما بالألقاب، ونحن لا ننكر أن كلا من الرجلين يخدم اللغة: اليازجي بما ينتقد به الجرائد والمصنفات ويبيَّن ما فيها من الدخيل، والمهدي بتخريج معلمي المدارس الأميرية وطبع الملكات الصحيحة في نفوسهم، وهم العمدة في إحياء اللغة في هذه البلاد، ولكننا لا نوافق الكاتب على الشكوى من الخطر على اللغة وعلى حصر إحيائها في هذين العالمين، فإن في مصر وسوريا وغيرهما من الأقطار كثيرًا من العلماء والكتاب العاملين لإحياء اللغة العربية بالكتاب والنقد والتعليم، أما إمام النهضة في هذه الديار فالسيد جمال الدين والأستاذ الإمام رحمهما الله تعالى، فالسيد هو أرشد الأستاذ وغيره إلى الخروج باللغة من المضيق الذي جعلها الأزهر فيه، وكان من عمل الأستاذ ومساعديه في المطبوعات والأزهر وغيرهما ما أشرنا إليه في ترجمته وشرحناه في تاريخه الذي يطبع الآن. *** (الديانة الإسلامية. للمكاتب الأميرية) كتاب وضعه الشيخ أحمد إبراهيم المصري المدرس بالمكاتب الأميرية (وهو غير الشيخ أحمد إبراهيم الشهير مدرس الشريعة بمدرسة الحقوق الخديوية) موافقًا لما يدرس في السنين الثانية والثالثة والرابعة بتلك الكتاتيب، وقد نظرت في بعض صفحاته عند كتابة هذه السطور فإذا هو مشتمل على مسائل من العقائد والأحكام وعلى كثير من الوصايا والحكم والأحاديث والحكايات الأدبية وقصص الأنبياء عليهم السلام، وقرأت منه جملاً متفرقة فرأيت ما ينتقد في كثير من الأبواب، ورأيته في أول الكتاب يعرف الدين الإسلامي بأنه فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، وهذا التعريف لا يشتمل العقائد التي هي أساس الدين. ويعرف الإيمان بأنه التصديق بما جاء به النبي من الأحكام الشرعية، وهو أيضًا لا يشتمل العقائد وأخبار الأنبياء وغيرهم؛ لأنها لا تسمى أحكامًا، وهو قد انفرد بهذين التعريفين وهما منتقدان من وجوه أخرى فلا يعذر فيها كما لا يعذر بالاكتفاء في قسم الإلهيات من العقائد بعدِّ الصفات العشرين ونحو ذلك، وما ذكره من مختصر قصص الأنبياء فيه ما لا يصح، وقد أخذه من القصص المتداولة، فسعى أن يعنى بتنقيح الكتاب عند طبعه مرة أخرى. *** (ديوان الرافعي) قد صار مصطفى صادق أفندي الرافعي من شعراء العصر المشهورين، له على حداثة سنه ديوان كبير طبع في هذه الأيام الجزء الثالث منه فكان نحو 150 صفحة، وقال: إن هذا الجزء تمام الديوان، فهو سيسمي سائر شعره باسم آخر أو أسماء أخرى، وقد جعل لهذا الجزء مقدمة في نقد الشعر سلك فيها مسلك الخيال والفلسفة، فأتى فيها بعبارات رائعة ونكت دقيقة وحلق بعبارات أخرى في جو الخيال حتى جاوز مسرح النظر، فلم يدرك غايته ولم يهتد إلى مراده، وسنبين قيمة هذا الجزء بنقل شيء منه كما فعلنا في تقريظ ما قبله، فعرض الموصوف على القارئ أبلغ في التعريف من عرض وصفه، وثمن هذا الجزء وحده خمسة قروش وأجرة البريد قرش واحد وثمن الثلاثة الأجزاء عشرون قرشًا، وهي تطلب من مكتبة المنار وغيرها. *** (غرائب الاتفاق) غرائب الاتفاق قصة طويلة تدخل في ثلاثة أجزاء، بنيت حوادثها على المصادفات الغريبة التي لا تكاد تقع، ولكن حسن البناء يقربها من الأذهان، حتى لا تخرجها من دائرة الإمكان، وأنفع ما فيها للقارئ تصوير الوفاء بأجمل صوره وأكمل مظاهره، والصداقة في أبهى مرائيها، وأبدع مجاليها، وذلك بَيِّنٌ ظاهر فيما كان بين يوشع وفيليب منذ تعارفا إلى أن ماتا، وفيها شيء آخر خفي ينبغي أن يُنبه عليه وهو سوء عاقبة المحتالين والخائنين وحسن عاقبة أهل الاستقامة والصدق، وفيها من الأفكار الضارة ما لا تخلو القصص من مثله: كذكر الخيانة والفسق والحيل. القصة إفرنجية الأصل، وقد نقلها إلى العربية فقيد النظم والنثر والقصص شاكر شقير اللبناني، وطبعت في مطبعة المعارف الشهيرة بالإتقان، وهي تطلب من مكتبتها، وثمن الأجزاء الثلاثة عشرون قرشًا. *** (كرة الثلج) هي القصة الثالثة للسنة الثانية من سني (الروايات الشهرية) التي يصدرها يعقوب أفندي جمال، مؤلفها إسكندر دوماس الشهير ومترجمها حنا أفندي أسعد فهمي، وقد بين بها المؤلف شيئًا من أحوال التتر المسلمين وعاداتهم وتقاليدهم في داغستان أو اعتقاده وتخيلاته فيهم، وثمنها خمسة قروش. *** (عذراء دنشواي) قصة يعرف موضوعها من اسمها، واضعها محمود طاهر أفندي حقي، وقد نشرت في جريدة المنبر المصرية، وهي تشرح بعض أحوال الفلاحين في أرياف مصر، وتمثل أفكارهم في محاوراتهم بلغتهم العامية، وثمن النسخة منها أربعة قروش، وتطلب من المكاتب الشهيرة. *** (الدين والأدب) مجلة إسلامية أنشأها بقزان (روسيا) في أوائل هذا العام (ملا عالم جان البارودي) العالم الشهير بغيرته وبخدمته للإسلام في مدرسته وجريدته، وهو يفتتح كل عدد من هذه المجلة بتفسير آيات من القرآن المجيد بالترتيب كما نفعل، ويذكر فيه شيئًا من الشمائل الشريفة ومباحث التربية والتعليم وغير ذلك من المسائل النافعة، فنسأله تعالى أن ينجح عمله ويديم النفع به. *** (النبراس) (مجلة علمية أدبية تاريخية فكاهية تصدر في كل شهر مرة لصاحبها ومدير تحريرها أحمد (أفندي) شاكر، صدر العدد الأول منها 12 رجب الموافق لأول سبتمبر، وفيه بعد الفاتحة نبذة في تاريخ المدارس في الإسلام ونبذة في الكتابة والورق وأخرى في تاريخ محمد علي جد الأسرة الخديوية بمصر، ومسائل شتى لم نجد وقتًا يتيح لنا قراءة شيء منها، والعدد منها مؤلف من ست عشرة صفحة وقيمة الاشتراك فيها عن سنة واحدة 15 قرشًا في مصر وخ

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (رأي في الصيام والسياسة) ينقسم المسلمون إلى قسمين: فمنهم مسلمون صادقون وهم العارفون بالإسلام المذعنون له، وهم الذين يحافظون على الفرائض ويجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، وإذا مسهم طائف من الشيطان فتركوا فرضًا أو أصابوا ذنبًا ذكروا الله فاستغفروا لذنبهم، وأنابوا إلى ربهم. ومسلمون جنسيون أو جغرافيون وهم أصناف، نخص بالذكر منهم الذين لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا يذعنون لما عرفوه منه، فهم لا يصلون ولا يزكون ولا يصومون ولا يجتنبون ما يأمر به الهوى من المعاصي ولكنهم يتعصبون للإسلام بالكلام فيمدحونه ويدافعون عنه بالحق وبالباطل، لا يدخرون في ذلك وسعًا، لا سيما إذا كانوا من أهل الخوض في السياسة والحظوة عند الحكام، وقد يبلغ التحمس بالرجل منهم حتى يظن السامعون أو القارئون لكلامه أنه من أقوى الناس إيمانًا وأصدقهم إسلامًا، وهؤلاء جديرون بأن يسموا بالمسلمين السياسيين، وإليهم نوجه الكلام فنقول: إذا كنتم لا تتركون الإسلام من حيث هو دين شرع لتطهير النفوس وترقية الأرواح وإعدادها بالتهذيب في الدنيا لسعادة الآخرة، ورأيتم أنه لا بد من المحافظة عليه من حيث هو جنسية لاستبقاء الأمة التي هي قوام سياستكم - أفترون أن هذه المحافظة تتفق مع ذلك الترك الذي عم العقائد الخفية والآداب الاجتماعية والشعائر الملية؟ ألا تعلمون أن المحافظة على الشعائر الظاهرة هي آخر ما يزول من مقومات الأمم وحوافظ وجودها؟ فإذا كنتم تهدمون الشعائر الظاهرة حتى الصيام فتفطرون في رمضان جهرًا تدخنون في النهار، بل تُنصب لكم الموائد بعد الظهر فتأكلون عليها مع أهلكم وأولادكم، فماذا أبقيتم من المقومات لهذه الجنسية السياسية؟ إن كنتم تظنون أن وضع (الفقي) في حجرة الخدم لتلاوة القرآن في الليل كافيًا لحفظ هذه الجنسية، فإننا نقطع بأن هذا الظن من الإثم، وأنكم لستم فيه على بينة ولا علم، فعليكم أن تفكروا في هذا المذهب في الجنسية، هل هو مؤد إلى غايتكم السياسية، فإن رأيتم بعد التفكر - ولا بد أن تروا - أنه غير مؤد إلى هذه الغاية فارجعوا عنه إلى ما يتبين لكم أنه خير منه. هذا الفريق من المسلمين السياسيين يتبعون في جنسيتهم الدينية ملوكهم وأمراءهم , ولكن الملوك والأمراء لا يتركون الشعائر الملية المعلومة من الدين بالضرورة جهارًا بل يؤدونها ويزيدون عليها شعائر أخرى ليست من الدين، كالاحتفال بليالي المولد والمعراج ونصف شعبان. ومن كان منهم لا يصوم رمضان يُسِر فطره ويرائي بالصيام، فهذه المجاهرة بالفطر في نهار رمضان ممن لهم مكانة في الأمة إفساد في الدين والدنيا , وإفساد في السياسة والاجتماع، فإن هذه الأمة لا جنسية لها في غير دينها، فإذا أفسده هؤلاء على العامة تعذر عليهم وعلى غيرهم من الخاصة استبدال رابطة جنسية أخرى به في زمن قريب، وهل تمهلها الأمم القوية لتجد هذه الرابطة - إذا أمكن - في زمن بعيد؟ أما الذين لا يصومون من الغوغاء الذين لا رأي لهم ولا فكر في أمر الاجتماع فلا كلام لنا معهم؛ لأنهم لا يقرءون , وإذا قرءوا لا يفهمون , وإذا فهموا لا يعتبرون {أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) . لا تقل: إن المنار مازال ينكر كون الإسلام جنسية ويقول: إن اتخاذه جنسية لا ينجي صاحبه عند الله تعالى، فما باله اليوم يرضى بهذه الجنسية ويأمر المسلمين - سياسة - أن يراءوا بالمحافظة على الشعائر في الظاهر وإن كفروا بها في الباطن. إنك إن تقل هذا أجبك: إن الإسلام قد شُرِعَ للناس ليكون وسيلة إلى سعادة الدنيا والآخرة معًا، وإنما يكون كذلك إذا أقيم على أساسه الصحيح، ومن فوائد المحافظة على شعائره الظاهرة في الدنيا تقوية الروابط الاجتماعية، فمن أقام الدين ظاهرًا وباطنًا فقد سلك سبيل السعادتين، ومن تركه ظاهرًا وباطنًا كان بهدمه لركني السعادة بلاء على غيره بما يعطيه للضعفاء والأحداث من سوء القدوة ويجرئهم على ترك الشريعة، فشره يتعدى إلى الأمة ولا يكون قاصرًا عليه. وإياه نعظ بأن لا يكون فتنة لغيره وأقل ما تنتفي به فتنته أن يحافظ على الشعائر في الظاهر فلا يكون من الهادمين لركني الشريعة والدين وإلا فليخرج منه بالمرة وهذا قسم ثالث. وبقي من القسمة العقلية أن يقيم الدين في الباطن دون الظاهر بأن يوقن بعقائده ويَتَخَلَّق بأخلاقه وآدابه، ولكن يهمل الأعمال الظاهرة والشعائر العامة كالجمعة والجماعة وصيام رمضان والحج مع الاستطاعة، وهذا ما يدعيه أناس من أهل العصر، ويدعون أن من الدليل على صحة إسلامهم غيرتهم على الدين وأهله ويقولون: إنهم أقاموا الركن المعنوي من الإسلام وهو الأشرف والأنفع , وأهل الأزهر ومن على شاكلتهم أقاموا الركن الصوري كالصلاة والصيام وهو الأدنى والأقل فائدة بل الذي لا فائدة له في نفسه، هذا ما يقولونه، والعقل لا يسلم بأن أحدًا يوقن بعقائد الدين ويتأدب بآدابه، ثم يترك أعماله وشعائره، فإن الإنسان قد طبع على أن تكون أعماله أثرًا لاعتقاده ووجدانه، فلو أيقنوا بعقائد الدين واصطبغ وجدانهم بصبغته لعملوا به، أما هذه الغيرة التي يدعونها فهي غير صحيحة وأكثرهم غير صادق في دعْوَاه بها، ومن عساه يكون صادقًا فهو لا يغار على الدين ولا أهله من حيث هم أهله، وإنما يغار على مصالحهم السياسية والاجتماعية؛ لأنه من رؤسائهم أو من الراجين للزعامة فيهم، فهو لا يطلب إلا الرياسة فقط؛ ولهذا حاولنا أن نقيم عليه الحجة بأن غرضه السياسي من الأمة لا يتم له مع هدم شعائرها ومقوماتها الملية والاجتماعية. وأما الذين يقيمون الشعائر الظاهرة دون الباطنة كآداب النفس والغيرة الصحيحة التي تبعث على الدفاع عن الحقيقة، وعلى جمع الكلمة وإحياء مجد الأمة، فلا ننكر أن إسلامهم تقليدي لا ينفعهم في الآخرة إذا لم يكن له أثر في أرواحهم يحملهم على ما أشرنا إليه. وفائدته في الدنيا قليلة؛ لأنها لا تتجاوز العامة. فإننا نرى الخاصة - المتدين منهم وغير المتدين - في حَنَق شديد على رجال الدين الذين ليس لهم منه إلا التقاليد البدنية الجافة التي لا أثر لها في ترقية الأمة، وهم لا يقولون: إن صلاتهم وإن لم تنه عن الفحشاء والمنكر وصيامهم إن لم يعدهم للتقوى مما يضر الأمة من حيث إنه صلاة وصيام، بل يقولون: إنهم بذلك حالوا بين الأمة وبين الترقي في العلوم والآداب والاجتماع. هكذا تفرقت الأمة أيدي سبأ، فنالت الأمم الأخرى منها كل ما تريد , والسبب في ذلك أنه لا يوجد فيها زعماء أقاموا ركني الدين الصوري والمعنوي أو الجسدي والروحي، وهي لا تنهض بغير هؤلاء الرجال، وقد كان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى منهم، ولكن لم تكد الأمة تعرف له ذلك حتى توفاه الله إليه، ولو طالت حياته لرجي - وقد عرف قدره - أن ينهض بها نهضة عظيمة. * * * (الصيام والنساء والعامة) لا خلاف بين العقلاء المتدينين وغير المتدينين أن المرأة أحوج إلى التربية الدينية من الرجال، ومن يقول من الماديين: إن العلم البشري يغني عن الأدب الديني، وأن العلم الكامل مستغن عن الدين لا يقول: إن الجاهل يستغني أيضًا عن الدين، فجميع العقلاء متفقون على أن ترك العامة والنساء للدين من أعظم البلاء والمصائب على البشر؛ ولذلك ترى أهل أوربا يعنون بتربية النساء تربية دينية وإن علموهن العلوم العالية، كما يعنون بحفظ الدين على العامة، وقد علمنا من كثيرين أن عبيد الشهوات في هذه البلاد قد حملوا نساءهم على ترك الصيام وهو آخر ما يحافظ عليه النساء من أركان الدين وشعائره، كما أنهم صاروا قدوة سيئة في ذلك للعامة، ولم يفطن الذين يدعون الفهم والرأي منهم إلى عاقبة ترك النساء وغوغاء العامة للدين مع فقد العلم والتربية العقلية، وإن ظهرت بوادر ذلك في تهتك النساء وإسرافهن، وفي خيانة الخدم والعمال والصُنَّاع وغشهم وفسادهم. ألا يوشك أن تكون هذه الفوضى الدينية الأدبية في هذه البلاد شرًّا عليها من كل ما يعده المتحذلقون شرًّا اجتماعيًّا أو سياسيًّا، ولكن من يتدارك ذلك والأمة ليس لها زعماء؟ وحكامها ليسوا منها ليعنوا بتربيتها وتعليمها ويلزموها بما يرفع شأنها إلزامًا؟ * * * (المدرسة الكلية أو الجامعة المصرية) لم يمت مشروع المدرسة الكلية بموت المنشاوي بل ولا بموت الأستاذ الإمام الذي كان عازمًا على إنشائها في الشتاء الماضي، بل كان يتمخض في الخفاء وتعد له عدته ليظهر في مظهر كامل، ولكن مصطفى كامل بك الغمراوي فاجأنا بفتح باب الاكتتاب للعمل من حيث لا يدري بأن هناك سعيًا يرجى وينتظر. أرسل إلينا هذا الأريحي الفاضل - كما أرسل إلى جميع الصحف العربية - رسالة يذكر فيها وجه الحاجة إلى إنشاء المدرسة الجامعة وتوقفها على بذل المال، وأنه (بادر إلى الاكتتاب بخمسمائة جنيه أفرنكي لمشروع إنشاء جامعة مصرية عامة) بثلاثة شروط: (أحدها) أن لا تختص بجنس أو دين. (ثانيها) أن تكون إدارتها في السنين الأولى في أيدي جماعة يصلحون لذلك. (ثالثها) أن يكتتب الأهالي بمبلغ لا يقل عن مائة جنيه. وما قرأنا هذه الرسالة إلا اعترانا - مع الشكر لأريحية صاحبها - وجوم وامتعاض شديد خوفًا من الفشل بإظهار المشروع قبل أن تعد له عدته وزاد هذا الامتعاض نشر الجرائد لاكتتابات كبيرة كذَّبَها ثانيًا من عُزِيَتْ إليهم أولاً، ثم لم نلبث أن انشرحنا صدرًا لما حضن المشروع سعد بك زغلول الرجل الحازم القدير، وتجدد لنا أمل بالنجاح نسأل الله أن يحققه، وسنعود إلى الكلام في ذلك. * * * (الأزهر ومشيخته) كثر الخوض منذ سنة في الأزهر ومشيخته ومجلس إدارته، وكتب في الجرائد بعض ما يتحدث به الناس من الخلل في الإدارة، والمحاباة في الامتحان، وشهادة العالمية، وبيع الشهادات بالدراهم , وما بين شيخ الجامع ومفتي الديار المصرية من المغاضبة والمناصبة، ومما أشيع أن المفتي شكا شيخ الجامع إلى رئيس النظار وإلى السيد البدوي، وقد بلغنا أن شيخ الجامع ضاق صدره فاستقال، وأنه سيقال بعد أن يعين الشيخ شاكر وكيلاً للأزهر تمهيدًا بجعله أصيلاً بعد استشارة الأمير لحكومته في ذلك، وسنعود إلى ما نراه نافعًا من الكلام عن الأزهر في الجزء الآتي. *** تنبيه ضاق هذا الجزء عن تتمة التفسير وعن الرد على الشيخ بخيت وعلى الدكتور مرجليوث.

ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ماضي الأمة وحاضرها وعلاج عللها نشرت في العدد الثالث من العروة الوثقى بالعنوان الآتي [1] {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) أرأيت أمة من الأمم لم تكن شيئًا مذكورًا ثم انشق عنها عماء العدم فإذا هي بحمية كل واحد منها كون بديع النظام قوي الأركان شديد البنيان، عليها سياج من شدة البأس ويحيطها سورين من مَنَعَة الهم، وتخمد في ساحاتها عاصفات النوازل، وتنحل بأيدي مدبريها عُقد المشاكل. نمت فيها أفنان العزة بعد ما ثبتت أصولها ورسخت جذورها، وامتد لها السلطان على البعيد عنها والداني إليها، ونفذت منها الشوكة وعلت لها الكلمة وكملت القوة فاستعلت آدابها على الآداب، وسادت أخلاقها وعاداتها على ما كان من ذلك لسابقيها ومعاصريها، وأحست مشاعر سواها من الأمم بأن لا سعادة إلا في انتهاج منهجها وورود شريعتها وصارت وهي قليلة العدد كثيرة الساحات كأنها للعالم روح مدبر وهو لها بدن عامل. وبعد هذا كله وَهَى بناؤها، وانتثر منظومها، وتفرقت فيها الأهواء، وانشقت العصا، وتبدد ما كان مجتمعًا، وانحل ما كان منعقدًا، وانفصمت عرى التعاون، وانقطعت روابط التعاضد، وانصرفت عزائم أفرادها عما يحفظ وجودها، ودار كلٌّ في محيط شخصه المحدد بنهايات بدنه لا يلمح في مناظره بارقة من حقوقها الكلية والجزئية، وهو في غيبة عن أن ضروريات حاجاته لا تُنَال إلا على أيدي الملتحمين معه بلحمة الأمة، وأنه أحوج إلى شد عضدهم من تقوية ساعده، وإلي توفير خيرهم من تنمية رزقه، وكأنه بهذه الغيبة في سبات يخيله الناظر إليه صَحْوًا، وذبول يظنه المغرور زهوًا، وأخذ القنوط بآمال أولئك المدهوشين فأبادها وحدثت فيهم قناعة إليهم والرضا بكل حال، ولئن تنبه خاطر للحق في خيال أحدهم أو استفزه داع من قلبه إلى ما يكسب ملته أو يعيد لها مجدًا عَدَّه هوسًا وهذيانًا أصيب به من ضعف في المزاج أو خلل في البنية، أو حسب أنه لو أجاب داعي الذمة لعاد عليه بالوبال وأورده موارد الهلكة، أو لصار من أقرب الأسباب لزوال نعمته ونكد معيشته، ويحكم لنفسه سلاسل من الجبن وأغلالاً من اليأس فتغل يداه عن العمل وتقف قدماه عن السعي، ويحس بعد ذلك بغاية العجز عن كل ما فيه خيره وصلاحه ويقصر نظره عن دَرك ما أتى أسلافه من قبله، وتجمد قريحته عن فهم ما قام به أولئك الآباء الذين تركوه خليفة على ما كسبوا وقيمًا على ما أورثوه لأعقابهم، ويبلغ هذا المرض من الأمة حدًّا يشرف بها على الهلاك ويطرحها على فراش الموت فريسة لكل عاد وطعمة لكل طاعم. نعم رأيت كثيرًا من الأمم لم تكن ثم كانت، وارتفعت ثم انحطت وَقَوِيَتْ ثُمَّ ضَعُفَتْ، وَعَزَّتْ ثُمَّ ذَلَّتْ، وصحَّت ثم مرضت، ولكن أليس لكل علة دواء؟ بلى واأسفا ما أصعب الداء وما أعز الدواء وما أقل العارفين بطرق العلاج، كيف يمكن جمع الكلمة بعد افتراقها وهي لم تفترق إلا لأن كلاًّ عَكَفَ عَلَى شأنه… أستغفر الله لو كان له شأن يعكف عليه لما انفصل عن أخيه وهو أشد أعضائه اتصالاً به، ولكنه صرف لشئون غيره وهو يظنها من شئون نفسه، نعم ربما التفت كلٌّ إلى ما هو في فطرة كل حي من ملاحظة حفظ حياته بمادة غذائه، وهو لا يدري من أي وجه يحصلها ولا بأية طريقة يكون في أمن عليها، كيف تبعث الهمم بعد موتها وما ماتت إلا بعد ما سكنت زمانًا غير قصير إلى ما ليس من معاليها؟ هل من السهل رد التائه إلى الصراط المستقيم وهو يعتقد أن الفوز في سلوك سواه؟ خصوصًا بعد ما استدبر المقصد وفي كل خطوة يظن أنه على مقربة من الحظوة؟ كيف يمكن تنبيه المستغرق في منامه المبتهج بأحلامه وفي أذنه وقر في ملامسه خَدَر؟ هل من صيحة تقرع قلوب الآحاد المتفرقة من أمة عظيمة تتباعد أنحاؤها وتتناءى أطرافها وتتباين عاداتها وطبائعها؟ هل من نبأة تجمع أهواءها المتفرقة، وتوحد آراءها المتخالفة بعد ما تراكم جهل وران غَيْن وخُيِّلَ للعقول أن كل قريب بعيد وكل سهل وعر؟ وأيم الله إنه لشيء عسير يعيا في علاجه النطاسي ويحار فيه الحكيم البصير، هل يمكن تعيين الدواء إلا بعد الوقوف على أصل الداء وأسبابه الأولى والعوارض التي طرأت عليه؟ إن كان المرض في أمة فكيف يمكن الوصول إلى علله وأسبابه إلا بعد معرفة عمرها، وما اعتراها فيه من تنقل الأحوال وتنوع الأطوار؟ أيمكن لطبيب يعالج شخصًا بعينه أن يختار له نوعًا من العلاج قبل أن يعرف ما عرض له من قبل في حياته ليكون على بينة من حقيقة المرض؟ وإلا فإن كثيرًا من الأمراض تتولد جراثيمها في طور من أطوار العمر ثم لا تظهر إلا في طور آخر لتغلب قوة الطبيعة على مادة المرض فلا يبدو أثرها. كلا إنه ليصعب على الطبيب الماهر تشخيص علة لشخص واحد سنو عمره محدودة وعوارض حياته محصورة، فكيف بمن يريد مداواة أمة طويلة الأجل وافرة العدد؟ لهذا يندر في أجيال وجود بعض رجال يقومون بإحياء أمة أو إرجاع شرفها ومجدها إليها، وإن كان المتشبهون بهم كثيرين، وكما أن المتطبب القاصر في الأمراض البدنية لا يزيد علاجه المرض إلا شدة لولا مساعدة الاتفاق والصدفة، بل ربما يفضي بالمريض إلى الموت - كذلك يكون حال الذين يقومون بتعديل أخلاق الأمم على غير خبرة تامة بشأنها وموجب اعتلالها ووجوه العلة فيها وأنواعها، وما يكتنف ذلك من العادات وما يوجد في أفرادها من المذاهب والاعتقادات وحوادثها المتتابعة على اختلاف مواقعها من الأرض ومكانتها الأولى من الرفعة ودرجتها الحالية من الضعة وتدرجها فيما بين المنزلتين، فإن أخطأ طالب إصلاحها في اكتناه شيء مما ذكرنا تحول الدواء داء والوجود فناء، فمن له حظ من الكمال الإنساني ولم يطمس من قلبه موضع الإلهام الإلهي لا يجرؤ على القيام بما يسمونه تربية الأمم وإصلاح ما فسد منها، وهو يحس من نفسه أدني قصور في أداء هذا الأمر العظيم علمًا أو عملاً، نعم يكون ذلك من محبي الفخفخة الباطلة وطلاب العيش في ظل وظائف ليسوا من حقوقها في شيء. ظن أقوام في هذه الأزمان أن الأمم تعالج بنشر الجرائد، وأنها تكفل إنهاض الهمم وتنبيه الأفكار وتقويم الأخلاق، كيف يصدق هذا الظن؟ وإنا لو فرضنا أن كتاب الجرائد لا يقصدون بما يكتبون إلا نجاح الأمم مع التنزه عن الأغراض، فبعد ما عم الذهول واستولت الدهشة على العقول وقل القارئون والكاتبون لا تجد لها قارئًا، ولئن وجدت القارئ فقلما تجد الفاهم، وقد يحمل ما يجده على غير ما يراد منه لضيق في التصور أو ميل مع الهوى، فلا يكون منه إلا سوء التأثير فيشبه غذاء لا يلائم الطبع فيزيد الضرر أضعافًا، على أن الهمة إذا كانت في درك الهبوط فمن يستطيع تفهيمها فائدة الجرائد حتى تتجه منها الرغبات لاستطلاع ما فيها مع قِصَر المدة وتدفق سيول الحوادث؟ إن هذا وحقك لعزيز. ويظن أقوام آخرون أن الأمة المنبثة في أقطار واسعة من الأرض مع تفرق أهوائها وإخلادها إلى ما دون رتبتها بدرجات لا تحصر، ورضاها بالدون من العيش والتماس الشرف بالانتماء لمن ليس من جنسها ولا مشربها، بل لمن كان خاضعًا لسيادتها راضخًا لأحكامها - مع هذا كله يتم شفاؤها من هذه الأمراض القاتلة بإنشاء المدارس العمومية دفعة واحدة في كل بقعة من بقاعها، وتكون على الطراز الجديد المعروف بأوربا حتى تعم المعارف جميع الأفراد في زمن قريب، ومتى عمت المعارف كملت الأخلاق واتحدت الكلمة واجتمعت القوة، وما أبعد ما يظنون، فإن هذا العمل العظيم إنما يقوم به سلطان قوي قاهر يحمل الأمة على ما تكره أزمانًا حتى تذوق لذته وتجني ثمرته، ثم يكون ميلها الصادق من بعد نائبًا عن سلطته في تنفيذ ما أراد من خيرها، ويلزم له ثروة وافرة تفي بنفقات تلك المدارس وهي كثيرة. وموضوع كلامنا في الضعف وداوئه، فهل مع الضعف سلطة تقهر وثروة تغني، ولو كان للأمة هذان لما عدت من الساقطين. فإن قالوا: يمكن التدريج مع الاستمرار والثبات، وافقناهم على الإمكان لولا ما يكون من طمع الأقوياء، حتى لا يدعون لهم سبيلاً لأن يستنشقوا نسيم القوة، فأين الزمان لنجاح تلك الوسائل البطيئة الأثر ... على أنا لو فرضنا مسالمة الدهر ومنحت الأمة مدة من الزمان تكفي لبث تلك العلوم في بعض الأفراد والاستزادة منها شيئًا فشيئًا، هل يصح الحكم بأن هذا التدريج يفيدها فائدة جوهرية، وأن ما يصيبه البعض منها يهيؤه للكمال اللائق به، ويمكنه من القيام بإرشاد الباقي من أبناء أمته، واعجبًا كيف يكون هذا، وإن الأمة في بُعْدٍ عن معرفة تلك العلوم الغريبة عنها، وكيف بذرت بذورها، وكيف نبتت واستوت على سوقها وأينعت وأثمرت وبأي ماء سقيت وبأي تربة غذيت؟ ولا وقوف لها على الغاية التي قصدت منها في مناشئها ولا خبرة لها بما يترتب عليها من الثمرات، وإن وصل إليها طرف من ذلك فإنما يكون ظاهرًا من القول لا نبأ عن الحقيقة، فهل مع هذا يصيب الظن بأن مفاجأة بعض الأفراد بها وسوقها إلى أذهانهم المشحونة بغيرها يقوِّم من أفكارهم ويعدل من أخلاقهم ويهديهم طرق الرشاد في إفادة إخوانهم، لعل الأقرب أن ناقلي تلك العلوم وهم من أمة هذا شأنها مع ما ينعكس إليهم من الأوهام المألوفة فيها، وما رسخ في نفوسهم على عهد الصبا وما يعظمونه من أمر الأمة التي تلقوا عنها علومهم - يكونون بين أمتهم كخلط غريب لا يزيد طبائعها إلا فسادًا. ماذا يكون من أولئك الناشئين في علوم لم تكن ينابيعها من صدورهم، ولو صدقوا في خدمة أوطانهم؟ يكون منهم ما تعطيه حالهم يؤدون ما تعلموه كما سمعوه لا يراعون فيه النسبة بينه وبين مشارب الأمة وطباعها وما مرنت عليه من عاداتها فيستعملونه على غير وضعه. ولبعدهم عن أصله ولهوهم بحاضره عن ماضيه وغفلتهم عن آتيه، يظنونه على ما بلغهم هو الكمال لكل نفس، والحياة لكل روح فيرمون من الصغير ما لا يرام إلا من الكبير، وبالعكس غير ناظرين إلا إلى صور ما تعلموه ولا مفكرين في استعداد من يعرض عليهم، وهل يكون له من طباعهم مكان يحمد أو يزيدها على ما بها أضعافًا. وما هذا إلا لكونهم ليسوا أربابها، وإنما هم لها نقلة وحملة، فهؤلاء الصادقون - إلا من وفقه الله منهم بعنايته الإلهية - يكون مثلهم كمثل والدة حنون يلذ لها غذاء فتفيض منه على ولدها وهو رضيع ليساهمها في اللذة وسنه سن اللبان لا يقبل سواه فيسرع إليه المرض وينتهى به إلى التلف؛ فتكون منزلتهم من الأمة منزلة الآلة المحللة يشتتون بقية الجمع ويبددون أخريات الالتئام. إن كان الفساد أبقى للقوم بعض الروابط فهؤلاء المغرورون يغشونهم بما يذهلهم عنها، وما قصدوا إلا خيرًا إن كانوا مخلصين ويوسعون بذلك الخصاص (الخرْق في باب ونحوه) حتى تعود أبوابًا، ويباعدون ما بين الضفاف حتى تصير ميادين لتداخل الأجانب تحت اسم النصحاء وعنوان المصلحين، ويذهبون بأمتهم إلى الفناء والاضمحلال وبئس المصير. شيد العثمانيون والمصريون عددًا من المدارس على النمط الجديد، وبعثوا بطوائف منهم إلى البلاد الغربية؛ ليحملوا إليهم ما يحتاجون له من العلوم والمعارف والصنائع والآداب وكل ما يسمونه تمدنًا، وهو في الحقيقة تمدن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني , هل انتفع المصريون والعثمانيون بما قدموا لأنفسهم من ذلك، وقد مضت عليه

سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين ـ 3

الكاتب: أبو حامد الغزالي

_ سيرة السلف الصالحين في نصيحة السلاطين (تابع لما في الجزء السابع وما قبله) قال في الإحياء: وعن أبي عمران الجوني قال: لما ولي هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء فهنأوه بما صار إليه من أمر الخلافة؛ ففتح بيوت الأموال وأقبل يجزيهم بالجوائز السنية، وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد، وكان يظهر النسك والتقشف، وكان مواخيًا لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديمًا فهجره سفيان ولم يزره؛ فاشتاق هارون إلى زيارته ليخلو به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه، فاشتد ذلك على هارون فكتب إليه كتابًا يقول فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان ابن سعيد بن المنذر أما بعد، ياأخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين المؤمنين، وجعل ذلك فيه وله، واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبك ولم أقطع منها ودك، وأني مُنْطَوٍ لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوًا لما أجد لك في قلبي من المحبة، واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهنأني بما صرت إليه، وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني، وإني استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت إليك كتابًا شوقًا مني إليك شديدًا، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل) . فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته فقال: علي برجل من الباب، فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني فقال: يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم سل عن سفيان الثوري، فإذا رأيته فألق كتابي هذا إليه، وعِ بسمعك وقلبك جميع ما يقول، فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به. فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة، فسأل عن القبيلة فأرشد إليها، ثم سأل عن سفيان فقيل له: هو في المسجد، قال: فأقبلت إلى المسجد، فلما رآني قام قائمًا وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال عباد: فوقعت الكلمة في قلبي فخرجت، فلما رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي ولم يكن وقت صلاة؛ فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت، فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد رأسه وردوا السلام عليَّ برؤوس الأصابع، فبقيت واقفًا فما منهم أحد يعرض عليَّ الجلوس، وقد علاني من هيبتهم الرعدة، ومددت عيني إليهم فقلت: إن المصلي هو سفيان، فرميت بالكتاب إليه فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه؛ فركع وسجد وسلَّم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال يأخذه بعضكم يقرؤه؛ لأني أستغفر الله أن أمس شيئًا مسه ظلاَّم بيده، قال عباد: فأخذه بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية تنهشه ثم فضه وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب، فلما فرغ من قراءته قال: اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو كتبت إليه في قرطاس نقي، فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يُجْزَى به وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يَصْلَى به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا، فقيل له: ما تكتب، فقال: اكتبوا. (بسم الله الرحمن الرحيم من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هارون الرشيد الذي سُلِبَ حلاوة الإيمان. أما بعد، فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك، فإنك قد جعلتني شاهدًا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترضَ بما فعلته وأنت ناءٍ عني حتى كتبت إليَّ تشهدني على نفسك، أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غدًا بين يدي الله تعالى، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والأرامل والأيتام؟ أم هل رضي بذلك خلق من رعيتك؟ فشدَّ يا هارون مئزرك وأَعِدَّ للمسألة جوابًا وللبلاء جلبابًا، واعلم أنك ستقف بين يدي الحَكَم العَدْل فقد رُزِئْتَ في نفسك إذ سُلِبْتَ حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالمًا وللظالمين إمامًا. يا هارون قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت سترًا دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك يظلمون الناس ولا ينصفون، يشربون الخمور ويضربون من يشربها، ويزنون ويحُدُّون الزاني، ويسرقون ويقطعون السارق، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس؟ فكيف بك يا هارون غدًا إذا نادى المنادي من قِبَل الله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} (الصافات: 22) أين الظلمة وأعوان الظلمة؟ فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك، والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار، كأني بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المشاق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة على سيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة. فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية، فاتق الله يا هارون واحفظ محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمته، وأحسن الخلافة عليهم، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك، وهو صائر إلى غيرك، وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحدًا بعد واحدٍ، فمنهم من تزود زادًا نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته، فإياك أن تكتب لي كتابًا بعد هذا فلا أجيبك عنه , والسلام) . قال عَبَّادٌ: فألقى إليَّ الكتاب منشورًا غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة من قلبي، فناديت: يا أهل الكوفة، فأجابوني، فقلت لهم: يا قوم من يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله؟ فأقبلوا إليَّ بالدنانير والدراهم فقلت: لا حاجة لي في مال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية، قال: فأوتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين، وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أحمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هارون حافيًا راجلاً فهزأ بي من كان على باب الخليفة، ثم استؤذن لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد، ثم قام قائمًا وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسِل ما لي وللدنيا ما لي ولملك يزول عني سريعًا، ثم ألقيت الكتاب إليه منشورًا كما دفع إلي فأقبل هارون يقرأه ودموعه تنحدر من عينه، ويقرأ ويشهق، فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن كنت تجعله عبرة لغيره، فقال هارون: اتركونا يا عبيد الدنيا، المغرور مَنْ غررتموه، والشقي من أهلكتموه، وإن سفيان أمة وحده، فاتركوا سفيان وشأنه. ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرأه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله. فرحم الله عبدًا نظر لنفسه واتقى الله في ما يقدم عليه غدًا من عمله فإنه عليه يحاسب وبه يجازى، والله ولي التوفيق. وعن عبد الله بن مهران قال: حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أيامًا، ثم ضرب بالرحيل فخرج الناس وخرج بهلول المجنون فيمن خرج، فجلس بالكناسة والصبيان يؤذونه ويولعون به إذ أقبلت هوادج هارون، فكف الصبيان عن الولوع به، فلما جاء هارون نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين. فكشف هارون السجاف بيده عن وجهه، فقال: لبيك يا بهلول، فقال: يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفًا من عرفة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك، وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك. قال: فبكى هارون حتى سقطت دموعه على الأرض، ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك الله، قال: نعم يا أمير المؤمنين، رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله، وعف في جماله، كُتب في خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار، قال: أحسنت يا بهلول، ودفع له جائزة فقال: اردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها، قال: يا بهلول فإن كان عليك دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز، قال: يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء، ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني، قال: فأسبل هارون السجاف ومضى. (ثم قال في الإحياء بعد نصيحة للمأمون) : وعن أحمد بن إبراهيم المقري قال: كان أبو الحسن النوري رجلاً قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه، ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكرًا غَيَّرَه ولو كان فيه تلفه، فنزل ذات يوم إلى مشرعة [1] تعرف بمشرعة الفحامين، يتطهر للصلاة إذ رأى زورقًا فيه ثلاثون دَنًّا مكتوب عليها بالقار: (لطف) فقرأه وأنكره؛ لأنه لم يعرف في التجارات ولا في البيوع شيئًا يعبر عنه بلطف، فقال: للملاح: إيش في هذه الدنان؟ قال: وإيش عليك امض في شغلك. فلما سمع النوري من الملاح القول ازداد تعطشًا إلى معرفته، فقال له: أحب أن تخبرني إيش في هذه الدنان، قال وإيش عليك، أنت والله صوفي فضولي هذا خمر للمعتضد، يريد أن يتمم به مجلسه. فقال النوري: وهذا خمر؟ قال: نعم، قال: أحب أن تعطيني ذلك المدرى. فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه: أعطه حتى أنظر ما يصنع، فلما صارت المدرى في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دنا دنا حتى أتى على آخرها إلا دنا واحدًا والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الجسر [2] ، وهو يومئذ ابن بشر أفلح فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد، وكان المعتضد سيفه قبل كلامه، ولم يشك الناس في أنه سيقتله. قال أبو الحسن: فأُدْخِلْتُ عليه وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه، فلما رآني قال: من أنت قلت: محتسب [3] , قال: ومن ولاَّك الحسبة، قلت: الذي ولاَّك الإمامة ولاَّني الحسبة يا أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليَّ، وقال: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك قد قصرت عنه، قال: فأطرق مفكرًا في كلامي، ثم رفع رأسه إليَّ وقال: كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان؟ فقلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن، فقال: هات أخبرني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني أقدمت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك، وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحالة إلى أن صرت إلى هذا الدن فاستشعرتْ نفسي كبرًا على أني أقدمت على مثلك. فمنعت، ولو

الجامع الأزهر ـ مشيخته وإدارته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامع الأزهر مشيخته وإدارته كتبنا في الجزء الثاني من منار السنة الماضية (ص 76 م 8) ما نصه: ما كانت مشيخة الأزهر في زمن من الأزمان عُرْضَة للتغيير والتبديل من الحكام كما نراها في هذه السنين، فقد تناول العزل والإبدال شيوخ هذا الجامع عدة مرات في بضع سنين - عزل الشيخ حسونة باتفاق الحكومة مع الأمير وولي بعده الشيخ عبد الرحمن القطب فلم يلبث أن عزله حكم المنون، فاختار الأمير للمشيخة الشيخ سليمان البشري، ثم عزله بمحض إراداته، وولى مكانه السيد عليًّا الببلاوي بالاتفاق مع الحكومة أو مع أولي الأمر كما يقال، وفي هذا الشهر (أي صفر) استقال هذا الشيخ ونصب بدله الشيخ عبد الرحمن الشربيني باتفاق الحكومة، ثم ذكرنا استقالة الأستاذ الإمام وبعض أعضاء مجلس الإدارة. وكتبنا في نبذة أخرى أن الأمير قد اتفق مع الحكومة على أن كل ما يهم الحكومة من الأزهر شيئان: الأول أن يكون أهله في أمان، والثاني: تخريج القضاة الشرعيين، وأن التعليم فيه لما كان غير كافٍ لتخريج القضاة، عزمت الحكومة علي إنشاء مدرسة لتخريج القضاة خاصة، ثم قلنا: إنه كثر التساؤل بين الناس عن سبب استقالة الشيخ محمد عبده من إدارة الأزهر مع حرصه علي إصلاحه، وأجبنا عن ذلك بالإشارة إلي الشغب الذي بلغ في ذلك العهد غايته في ذلك المكان، فإن بعض الشيوخ الذين يترددون على قصر الأمير كانوا يحرضون مدرسي الأزهر على الشكوى من شيخ الأزهر ومجلس الإدارة وعدم الخضوع لما يراد تنفيذه من قانون، وعلى ما هو أعظم من ذلك، وقد اشتهر عند الأكثرين أن الغرض من ذلك أن يستقيل شيخ الأزهر والمفتي (رحمهما الله) وأن الأمير هو الذي يريد ذلك، وأكد ذلك ما نشر لذلك العهد في الجوائب المصرية والمؤيد وغيرهما من الجرائد التي تخدم (المعية) وأهم ذلك مقال في حديث قال صاحب الجوائب: إنه جرى بينه وبين شيخ من كبار علماء الأزهر وصفه بأوصاف فهم الناس منها أنه الشيخ عبد الرحمن الشربيني الذي كان بعض بطانة الأمير يحاولون إقناعه بقبول المشيخة، التي أيقنوا أن الببلاوي مستقيل منها لما اتخذ لذلك من الأسباب الملجئة، ولما استقال السيد الببلاوي وعين الشيخ الشربيني شيخًا للأزهر، واحتفل بإلباسه الخلعة بحضرة الأمير ألقى الأمير ذلك الخطاب على الشيوخ وكان مؤيدًا لروح ما كانت تنشره تلك الجرائد. كان مدار ذلك الكلام على أن كل ما يهم الأمير وحكومته من الأزهر أن يكون في أمان وهدوء وبعد عن الشغب والقلاقل، وأن يظل مدرسة دينية كما كان وربما كانوا يظنون أن سكون الأزهر، وراحة أهله، ورضا كبار شيوخه عن الأمير وإخلاصهم له هو مما ينتجه جعل الشربيني شيخًا للأزهر؛ لأنه في مقدمة العلماء الأزهريين الذين يرون وجوب بقاء الأزهر على حاله التي كان عليها في زمان تعلمهم فيه وترك الشيخ محمد عبده له، وهو الذي يريد تغيير نظام التعليم وزيادة العلوم والفنون فيه، ولكن جاء الأمر على نقيض ما كان يظن أولئك الظانون؛ فاستاء محبو الإصلاح من أهل الأزهر لترك الأستاذ الإمام لإدارته، كما استاء عقلاء المسلمين في كل مكان، وأما المحافظون على الحالة العتيقة فقد رأيناهم على عهد الشيخ الشربيني اشتد استياء من إدارة الأزهر منهم على عهد من سبقه كما أشرنا إلى ذلك في العدد الماضي، وكثر في هذا كلام الناس وكتابة الجرائد بالشكوى من حال الأزهر والطعن في علمائه حتى إن بعض الأفندية كتب في بعض الجرائد اليومية يقول في بيان جهل علماء الأزهر بالدين وفقد الثقة بهم ما عناه أن الناس لا يقصدون في حل مشكلات الدين والدفاع عنه إلا إلى بعض حملة الطرابيش، وفي ذلك هضم لغير الأزهريين من حملة العمائم كأستاذة المدارس الأميرية وغيرهم. هذا ما ذكَّرنا برسالة كان أرسلها إلينا زعيم النهضة الإسلامية في الهند السيد النواب محسن الملك خان الشهير بعلمه وفضله يرد بها على ما كنا اعتذرنا به عن علماء الأزهر تعقيبًا على رسالته التي نشرناها في الجزء السادس من السنة الماضية، وهي التي أظهر فيها استياءه واستياء مسلمي الهند من ترك الأستاذ الإمام للأزهر، وطعن فيها بعلمائه طعنًا شديدًا فلم ننشرها في ذلك الوقت لمانع زال، فنحن ننشرها الآن وهذه هي: بسم الله الرحمن الرحيم وإياه نعبد وإياه نستعين سعادة الفاضل الحكيم العلامة، دمتم بالعز والكرامة: سلام عليكم، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه النبي الكريم، وعلي آله وصحبه السادة اللهاميم، وبعد فإنا قد سررنا وتنشطنا بحسن صنيعكم إلينا من نشر رسالتنا المشبعة الطويلة التي كتبناها إليكم في قضية علماء الأزهر واستقالة الأستاذ الإمام الكبير محمد بن عبده في مجلتكم الباهرة الغراء التي صدرت في السادس عشر من شهر ربيع الأول الماضي، وقد سرني أيضًا ما قد استتبعتم ذلك بانتقادكم الحافل البديع عقيب هذه الرسالة تحامون فيه عن علماء الأزهر واستفراغكم الوسع بذلك في دفع ما وقع من الغلط والخطأ في الآراء التي ارتآها الناس فيهم، ولكن الذي آمل من طيب خلقكم وطهارة سريرتكم هو أن تعفوا عني مما قد تجاسرت في الانتقاد على هذا الانتقاد، فإنه يا أخي ليس فيما أحسب مما ليطمئن به بال أحد أو أن يفند به ما قد رآه أكثر أهل النظر في هؤلاء العلماء من أنهم لا يحبون إشاعة العلوم الحديثة، ولا يجوزون لها السبيل والتطريق في المدارس والكليات، ولا واحد عندي بمقلع عن رأيه ذلك فيهم فيما أحسب. فقد علمت يا سيدي أن تعسف علماء الأزهر وتعصبهم للعلوم الخَلِقَة البالية وخلافهم للإصلاح في شئون التعليم والأخذ بالعلوم الحديثة ليس مما يرتاب فيه أحد، فقد شحنت بذلك الجرائد المصرية كلها، لا سيما مجلتكم الباهرة التي نصَّت على أنهم لا يجوزون العدول بيسير عن المنوال العتيق الذي يجري عليه نصاب التدريس في الجامع الأزهر، ويتحرجون في تشكيل صناعة التاريخ والجغرافيا في نصاب الدرس الحاضر، فما ظنك بالعلوم العالية الإفرنجية، وما هي فيه من المنهاج الجديد في أرض أوروبا، أفحسبت يا سيدي أن الذين لا يزالون يقرءون ويتلون الجرائد المصرية ولا يَفْتُرُونَ عن مطالعة جريدتكم الغراء ليلاً ونهارًا أفتراهم يقلعون عن رأيهم في شأن هؤلاء العلماء؟ أم ترى أن اعتقادهم في هؤلاء فيما أفديتم بنفسكم بأنهم يعتقدون بأن العلوم الدنيوية تقوض بناء الدين وتفسد العقائد في قلوب المسلمين، وأن إصلاح طريقة التعليم خروج عن صراط السلف المستقيم، أفترى أن هذا الاعتقاد منهم يزول أو يحول أو يضمحل بشيء عن قلوبهم مما كان عندهم من قبل، أما تراهم يوافقونك في قولك، وكل هذه الظنون فيهم باطلة كلا ولا كرامة وحاشاهم عن ذلك. فأما أنتم فلعمري لم تألوا جهدًا في المحاماة عن هؤلاء العلماء، وأتيتم في بيان ذلك بحجتين وكلتاهما ننتقد عليهما وننظر في وزنهما ورجحهما على منهاج أصحاب النظر، أما الحجة الأولي فقولكم: إن من أصحاب الدرجة العلمية الأولى فيهم من يعلمون أولادهم العلوم الدنيوية في المدارس الأميرية وغيرها، وأما الأخرى فقولكم: ولا يطعنون بدين أكابر أمرائهم، وهم قد تعلموا هذه العلوم في مدارس مصر وأوروبا، ولكن هذا الكلام منكم لا يجديهم نفعًا ولا يحامي أو يذب عنهم بشيء، فقد عرفتم ما هو من ديدن علماء هذا العصر أنهم يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يقولون، وهم الذين قال فيهم الشاعر العارف الحكيم مصلح الدين السعدي الشيرازي وهو من معاريف الشعراء ومشاهير أهل النظم - قال: ترك دنيا بمردم آموزند ... خويشن سم وغله اندوزند يعني بذلك أنهم يعلمون الناس ويحملونهم علي رفض الدنيا وترك زخارفها، وهم بأنفسهم يكنزون الفضة ويحتكرون الطعام لأنفسهم [*] ومن دَيْدَنِهِم أيضًا أن لا يطعنوا بشيء على الأمراء والولاة كيما لا يُحْرَمُوا من صِلاَتِهِم ولا ييأسوا من استجلاب خيرهم ومبراتهم، بل وإنا نراهم يوافقون العامة في بِدَعِهم ولا يشنِّعُون بشيء على أفاعيلهم، ويشاركونهم في الأحداث الفظيعة التي يأتون بها في الدين، فنراهم لا ينكرون عليها، بل يعاضدونهم بموافقتهم ومشاركتهم فيها، وشاهد ذلك قولكم في هذه النمرة التي صدرت في السادس عشر من شهر ربيع الأول الماضي (فمشايخ الأزهر يقرءون في كتب الحديث نهي الشارع عن بناء القبور واتخاذ المساجد عليها واتخاذها أعيادًا وتعظيمها، ثم إنهم يشاركون العامة في هذه الأعياد التي يسمونها موالد على ما فيها من المنكرات التي نهى عنها أئمتهم في الفقه، ثم إنهم يقرءون في شمائل نبيهم أنه كان يسدل شعره الشريف ويفرقه وهم ينكرون على من يفعل ذلك من أهل العلم والدين، وقد أمرني بذلك بعضهم، وكان شيخًا للأزهر قائلاً: إنك من أهل العلم لا يليق بك أن ترسل شعرك فاحلقه فحججته بالسنة فحاجني بأن ذلك شعار العلماء الآن) وقد صرحتم قبل ذلك بشيء في قولكم ص 221 من هذه النمرة الحاضرة (وإنما صرح العلماء بكراهة حلق الرأس وكونه مخالفًا للسنة؛ لأنه كان في الصدر الأول شعار الخوارج، فأما إذا أخذنا بإطلاقهم كان اللوم في ترك هذه السنة موجهًا في هذا العصر إلى علماء الدين فإنهم يحلقون، بل ينكرون على من لم يحلق وهم مخطئون) . هذا أم كيف يوافقكم أحد في قولكم: (ظلم وألف ظلم لعلماء الأزهر أن يقال فيهم: إنهم يعدون علوم الدنيا خطرًا على الدين أو عائقًا عن علومه، وإنهم يجهلون أن الإسلام جمع بين مصالح الدارين) إلى آخره. وقد سلف منا مرارًا أنا قد رأينا في الجوائب المصرية أنها قالت في شأن رجل عظيم من العلماء: إنه محترم المقام بين علماء المسلمين، يُجِلُّه كبيرهم وصغيرهم لعلمه وفضله ويعدونه حجة وقته وإمام زمانه في علوم الدين وأصول الشريعة، فهذا العالم الجليل الذي ترأس العلماء في عصره، ومن رأيه ما يقول لمدير الجوائب ما تلك ألفاظه (غرض السلف من تأسيس الأزهر إقامة بيت لله يُعبد فيه، ويطلب فيه شرعه، ويؤخذ الدين كما تركه لنا الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم ... وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم الأعصر فلا علاقة للأزهر به ولا ينبغي له) ولما راجعه المدير واستحفاه بالسؤال قائلاً: (هل حدث يا مولاي ما يقف للأزهر في الخدمة المطلوبة منه؟ فتبسم الأستاذ ثم قال: بل إن الذي من شأنه أن يهدم معالم التعليم الديني ويحول هذا المسجد العظيم إلي مدرسة فلسفة وآداب تحارب الدين وتطفئ نوره في هذا البلد وغيره من البلاد الإسلامية، إلي آخره) وتجاهر في آخر كلامه متظاهرًا قائلاً: (إن الأزهر إنما وجد لحفظ الدين ونشر علومه ليس إلا، وليتركوه كما هو حصن للدين وإن أرادوا به إصلاحًا فليكن الإصلاح منحصرًا في حفظ صحة الطلبة والسهر على راحتهم وتقديم الغذاء الصالح لهم، وما سوى ذلك من مبادئ الفلسفة والعلوم الحديثة العالية فلتدخله الحكومة إن شاءت على مدارسها الكثيرة التي هي في حاجة ماسة إليه. أم كيف نصدقكم في قولكم هذا وإنا نرى هؤلاء العلماء قد ثاروا وشغبوا الناس وأثاروا في إصلاح الأزهر بما اضطر الخديوي إلي إخماد الفتنة، وخاطب شيخ الجامع الأزهر قائلاً: (إن الجامع الأزهر قد أسس وشُيِّدَ على أن يكون مدرسة دينية إسلامية تنشر فيها علوم الدين الحنيف في مصر وجميع الأقطار الإسلامية) ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا. ولما كان يخال

الرد على الشيخ بخيت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرد على الشيخ بخيت تابع لما في الجزء السادس المسائل الدينية (المسألة الأولى: متن الحديث) نص حديث جابر عند ابن ماجه أورده الشيخ بخيت محرَّفًا فأشرنا إلى ذلك في تلك الجملة الوجيزة، وكان غرضنا من تلك الإشارة الفرق بين عبارة الحديث عنده وهي (إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سَوْطَه) وعبارته عند راويه (ابن ماجه) وهي (إلا أن يقهره بسلطان يخاف سيفه وسوطه) فقوله: (بسلطان) معناه (بسلطة) فيشمل كل سلطة لكل قوي. وقد اكتفينا بالإشارة لأنه لم يكن من غرضنا تفصيل خطأ المستنبط الجديد بل عدم الثقة باستنباطه، فلما أراد أن يرد علينا كل ما قلناه - وإن كان حقًّا - رجع إلى الكتب التي من شأنها أن تذكر هذا الحديث وكتب بعد ذكر عبارتنا في تصحيح الرواية ما نصه (ص32) : (ونقول في الرد عليه: قد ذكر في (البرق الوميض) حديث جابر باللفظ الذي ذكرنا وعزوناه في الرسالة إليه، وقد ذكره في (كنز العمال) مطولاً ونسبه للبيهقي وفيه ألفاظ لا توجد في البرق، وجاء في آخره: ألا لا تَؤُمَّنَّ امرأةٌ رجلاً ولا يَؤُمَّنَّ أعرابيٌّ مهاجرًا ولا يَؤُمَّنَّ فاجرٌ مؤمنًا إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه وسوطه. اهـ. وقد ذكره في منتقى الأخبار باللفظ الذي ذكره المعترض، ولعله لقصوره قصر الرواية عليه) . اهـ. ثم ذكر بعد هذه الجملة أن الحديث ذكر في (المهذب) و (شرح الإقناع) قال (وذكره ابن ماجه في سننه مطولاً) وذكر آخره عنه وفيه: (إلا أن يقهره بسلطان) ثم ذكر أسماء بعض الفقهاء الذين أوردوه في كتبهم واستنبط من ذلك أن (كل من احتج به في موضع اقتصر منه علي موضع حاجته في الاحتجاج، وكل ذلك جائز لم يقل بمنعه أحد ولا ضرر في اختلاف الألفاظ مع اتحاد المعنى، ألا ترى أن ابن ماجه قد ذكره في سننه بلفظٍ، والبيهقي قد ذكره بلفظٍ، ومنتقى الأخبار قد ذكره بلفظٍ؟ ولكن حب الاعتراض على الناس يُعْمِي ويصمُّ، نعوذ بالله من ذلك) . اهـ. أقول: قد أخطأ الشيخ بخيت في هذا المقام من وجوه: (أحدها) أن كلامه في رسالة السكورتاه كان في رواية ابن ماجه لحديث جابر لا في الحديث علي الإطلاق، ورواية ابن ماجه ليس فيها اختلاف وليست كما أورده فهو قد نسب إلى ابن ماجه تحريف الحديث، أو نسب إليه ما لم يروه. ولا يخرجه من هذه الورطة كون غير ابن ماجه قد رواه باللفظ الذي ذكره إن صح ذلك. (ثانيها) قوله: إنه عزا حديث جابر إلى (البرق الوميض) غير صحيح، فإن المتبادَر من عبارته في رسالة (السكورتاه) أنه نقل الحديث عن سنن ابن ماجه نفسها فإنه قال ما نصه: (ومما يدل علي أنه لا يشترط للسلطان الذي يقلد القضاة ويأذن بالجمعة أن يكون مسلمًا، بل يجوز ذلك من السلطان الكافر - ما أخرجه ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ... ) وساق الحديث وذكر في آخره (اهـ) ثم قال في ابتداء كلام هكذا: (ولذا قال في النهاية وغيرها: ويجوز التقلد من السلطان الجائر كما يجوز من العادل وذكر في (الملتقط) والإسلام ليس شرطًا فيه، أي في السلطان الذي يقلد. اهـ. كلامها) . ثم ابتدأ كلامًا جديدًا هو حكاية قال في آخرها: اهـ. من البرق الوميض، فهل يفهم أحد من ذلك أنه نقل حديث ابن ماجه من البرق الوميض؟ ! كلا، بل هو يغالط أو يكتب ما لا يريد ثم لا يفهم ما يكتب! (ثالثها) : إن البرق الوميض ليس من كتب الحديث التي يُعتمد عليها ويوثق بها فاحتجاجه بنقله لحديث ابن ماجه لا قيمة له. ولعل اقتصاره على نقل الحديث عنه أدل على قلة الاطلاع - ولا نقول على الجهل بالحديث وكتبه - من اقتصارنا على عبارة منتقى الأخبار الذي هو من كتب الحديث المشهورة المعروفة بالضبط وصحة النقل. (رابعها) قوله: إن (كنز العمال) نسب حديثه المطول إلى البيهقي يفهم منه أنه لم يعزُهُ إلي مخرجه الذي عزاه هو إليه، وهو ابن ماجه، والصواب أنه عزاه إلي ابن ماجه فالبيهقي ولا نقول: إن الشيخ بخيتًا لا يعرف أنهم يرمزون إلي ابن ماجه بحرف (هـ) . (خامسها) ذكره ابن ماجه في جملة من رووا الحديث، والكلام في روايته خاصة تحصيل حاصل لا يصدر من محصل. (سادسها) إن الذين احتج باختلافهم في إيراد الحديث ليسوا كلهم رواة له وإنما هم ناقلون، فالراوي للحديث هو ابن ماجه، وكذلك البيهقي كما في (كنز العمال) وليس صاحب (كنز العمال) من أهل التخريج وإنما هو ناقل، وكذلك الفقهاء الذين ذكرهم، فلا يحتج بنقل أحد منهم، وإنما يجب الرجوع إلي كتب أهل التخريج وقد علمت نص ابن ماجه، وأما البيهقي فهذا نصه كما في السنن الكبرى له: (أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ببغداد أخبرنا أبو جعفر محمد بن عمر بن البحتري أخبرنا محمد بن عبد الملك الدقيقي أنا يزيد بن هارون أخبرنا فضيل بن مرزوق حدثني الوليد بن بكير أخبرنا عبد الله بن محمد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا أيها الناس توبوا إلى الله عز وجل قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة وصِلوا الذي بينكم وبين ربكم بكثرة ذكركم له وكثرة الصدقة في السر والعلانية تُؤجَروا وتحمدوا وترزقوا، واعلموا أن الله عز وجل افترض عليكم الجمعة فريضة مكتوبة في مقامي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلي يوم القيامة من وجد إليها سبيلاً، فمن تركها في حياتي أو بعدي جحودًا بها أو استخفافًا بها وله إمام جائر أو عادل فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له ألا ولا وضوء له ألا ولا زكاة له ألا ولا حج له ألا ولا بر له حتى يتوب فإن تاب تاب الله عليه. ألا ولا تؤمن امرأة رجلاً ألا ولا يؤمن أعرابي مهاجرًا ألا ولا يؤمن فاجر مؤمنًا إلا لمن يقهره بسلطان يخاف سطوته) عبد الله بن محمد هو العدوي منكر الحديث لا يتابَع في حديثه، قاله محمد بن إسماعيل البخاري. اهـ. قول البيهقي. أقول: ومنه تعلم أن طريقه هو عين طريق ابن ماجه لا طريق آخر كما زعم الشيخ بخيت، وأنه أورد الحديث وبيَّن جرح راويه؛ ليعلم أنه لا يُحْتَج به. ومن نص سنن البيهقي الموافق لنص سنن ابن ماجه في قوله (إلا أن يقهره بسلطان) تعلم أن ما في كنز العمال من النقل عنهما محرَّف. وأما الطبراني فلم يُخَرِّج هذا الحديث، وإنما حديثه خاص بفريضة الجمعة ليس فيها ذكر الإمامة ولا القهر بالسلطان فهو لا يعد طريقًا ليقوى به الحديث، فما هذا الغش والتلبيس؟ ! *** المسألة الثالثة: سند الحديث ذكر الشيخ بخيت عبارتنا في تلك العجالة في كون الحديث منكرًا أو موضوعًا لقول البخاري في رواية التميمي: منكر الحديث، وقول وكيع فيه: يضع الحديث، ثم إننا أخذنا ذلك عن الشوكاني ونقل هو عبارة الشوكاني، وفيها ما ذكر عن البخاري وعن وكيع ثم قال (ص34) (ولم يقل الشوكاني: إن الحديث منكر أو موضوع كما اجترأ عليه المعترض من نفسه، ولا يلزم من الطعن في رجال الحديث الطعن في نفس متن الحديث علي ما سيأتي بيانه، ونذكر لك ما قيل في رجاله لتقف على حقيقة الحال ثم نتبعه بما يتعلق بحال المتن) . ثم ساق سند ابن ماجه ونقل بعض ما قيل في رجاله واحدًا واحدًا ثم قال (ص 38) : (ومما أوضحنا لك في الرجال تعلم أن كلاًّ من محمد بن عبد الله بن نمير والوليد بن بكير ثقة عدل لا طعن فيه، وقد روى الوليد وهو ثقة هذا الحديث عن عبد الله بن محمد العدوي ورواه محمد بن عبد الله بن نمير وهو ثقة عن الوليد، وقد تابع محمد بن عبد الله العدوي في هذا الحديث عبد الملك بن حبيب، وأن الطعن فيه غير مُسَلَّم ولم يتفقوا عليه وأن علي بن زيد قد روى عنه قتادة والسفيانان والحمَّادان وخلق، وكفى بذلك توثيقًا وتعديلاً، وقد خرَّج له الأربعة والبخاري في الأدب ومسلم في صحيحه، وإن قرن معه غيره. وبالجملة فلم يطعن على أحد من رجال هذا الحديث بالفسق وعدم العدالة، وعلى فرض تسليم الطعن فغاية ما يقتضيه ضعف هذا الراوي المطعون فيه، وضعف الرواة لا يسقط الاحتجاج بالحديث إلا إذا عارضه ما هو أقوى فيقدم عليه، ولم يوجد ما يعارض هذا الحديث بل وجد من الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع ما يشهد بصحة معناه ويؤيده كما يأتي، وكون الراوي منكر الحديث لا يقتضي أن متن الحديث الذي رواه منكر فإن المنكر قد اختلفوا فيه فقال في التنقيح: هو ما لم يروه أصحاب السنن والمسانيد والصحيح ولا يوجد له أثر في كتاب من كتب الأمهات كمسند أحمد ومعجم الطبراني ومصنف ابن أبي شيبة وغيرهم مع شدة حاجتهم إليه. اهـ) . ثم ذكر أقوالاً أخرى في الحديث المنكر لمتأخري المحدثين، واعتمد قول التقريب بالتفصيل فيه كالشاذ قال: (وقد عملت أن من الشاذ ما يكون صحيحًا وما يكون حسنًا فيكون المنكر كذلك ... ) إلخ. أقول: كلام الشيخ بخيت هنا يدل علي أحد أمرين: إما أنه لا يعرف علم الحديث ولا بوجه الإلمام، وإنما يراجع الكتب عند الحاجة فيكتب عنها ما يلوح له أنه يوافق غرضه، وإما أنه يحرف الكلم عن مواضعه ويدلس و.. و.. عامدًا عالمًا. والأول هو الأظهر، ومن الدلائل علي ذلك من كلامه هذا ما ترى من أنواع الخطأ وهي: 1- جعل الوليد بن بكير كمحمد بن عبد الله بن نمير عدلاً لا طعن فيه، وقد قال الذهبي في الميزان: ما رأيت أحدًا وثَّقه غير ابن حبان، وقد نسب بعضهم ابن حبان إلى التساهل في التعديل، وقالوا: إنه واسع الخطو في باب التوثيق يوثق كثيرًا ممن يستحق الجرح، وفي تدريب الراوي للسيوطي وفتح المغيث للسخاوي تفصيل في ذلك محصله أن له اصطلاحًا خالف فيه غيره منه أنه كان يجعل الحسن صحيحًا، وأنه كان يوثق من لم يطعن فيه أحد. ولم يعتمد الذهبي قول أبي حاتم فيه (شيخ) توثيقًا وكلمة (شيخ) عند أبي حاتم في المرتبة الثالثة قال في صاحبها: (يُكتب حديثه ويُنظر فيه) أي يكتب لأجل البحث عنه، فهل يقال في مثل هذا: إنه ثقة كمحمد بن عبد الله بن نمير الذي روى عنه الشيخان؟ ! 2- قوله: إن الطعن في عبد الملك بن حبيب غير مسلَّم، هو حكاية لقول المقري المؤرخ صاحب نفح الطيب، وهو ليس من أهل الجرح والتعديل، وقوله هذا لا يُعْتَدُّ به فإن الجرح المفسر مقدم على التعديل لا سيما إذا أيَّد بعض أهل الجرح فيه بعضًا. وألفاظ الجرح فيه كثيرة منها ما نقله الشيخ بخيت عن الشوكاني وعن ابن لباب ومنها ما ذكره الذهبي في الميزان عن ابن حزم أنه قال فيه: ليس بثقة، وقال: روايته ساقطة مطروحة. وعن الحافظ أبي بكر بن سيد الناس أنه قال فيه إنه صُحُفِيّ لا يدري الحديث، وضعَّفه غير واحد ثم قال: وبعضهم اتهمه بالكذب وقال ابن حزم: روايته ساقطة مطروحة أقول: فإذا أجللناه عن الكذب فهل نُجِلُّهُ عن القول بالجهل بالحديث الذي أيَّد كلام ابن لباب فيه قول الحافظ أبي بكر إنه صُحُفِيّ لا يدري الحديث؟ والحافظ الذهبي نفسه قد وصفه بذلك مع اعترافه بعلمه فإنه قال فيه: (كثير الوهم صحفي) ويؤيد هذا ما نقله بخيت من مسألة الغرارة، والجواب الذي نقله عن المقري فيها ليس بشيء فإن الذين يقولون بالإجازة لا يعدون من أجيز بغرارة من الكتب (أي جولق) لم يقرأها ولم تقرأ عليه - راويًا لها ضابطًا لما فيها بحيث يُحتج بمتابعته في تقوية منكر الحديث، فليت شعري هل فهم الشيخ بخيت هذا فأغمض فيه أم لم يفهمه؟ ! 3- قوله: إن علي بن زيد قد روى عنه فلان وفلان وكفى بذلك توثيقًا - مردود بأن رواية من ذكر عنه لا تدل على عدم الطعن فيه، بل الطعن فيه منقول فقد قال الإمام أحمد فيه: هو ضعيف، وقال البخاري وأ

أصول الإسلام

الكاتب: طه البشري

_ أصول الإسلام (الكتاب - السنة - الإجماع - القياس) جاءنا من الشيخ طه البِشْري الأستاذ المدرس بالجامع الأزهر تحت هذا العنوان ما يأتي: إلى الدكتور النطاسي محمد توفيق أفندي صدقي: بعد أن نحمد الله إليك ونصلي على نبيه المجتبى ورسوله المصطفى وآله وصحبه: فلقد قرأنا مقالتك التي ذهبت فيها إلى أن الإسلام هو القرآن وحده، ونشدت من العلماء من يساجلك القول ويبادلك الحجة حتى ينتهي البحث إلى الحق الذي لا شبهة فيه، فإذا كنت مصيبًا تابعك وأيَّدك أو مخطئًا خالفك وأرشدك وإني مناظِرك إن شاء الله تعالى بما لا ترى فيه حرجًا عليك من إلزامك بما قال زيد ورأى خالد، لكن بالكتاب نفسه أو بما رأيت فيه حجة لنفسك من غيره ملتزمًا جهد المستطيع حد المناظرة الصحيحة حتى تبلغ منزلة الحق الذي ننشده جميعًا فإما تهدّيًا إلى وفاق، وإلا فقد بلغ أحدنا من مناظره عذرًا، وكثيرًا ما ابتدأت المناظرة بالمهاترة، وانتهت بتلاحٍ، والحق ذاهب بينهما أدراج الرياح، ولا حول ولا قوة إلا بالله، نسأل الله تعالى أن يعافينا وإياك من هذا البلاء. اعلم - وفقنا الله وإياك - أن أصول الإسلام أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما الكتاب فلا تنازع فيه، بل نراك اتخذته وحده التكأة التي تستند في أمر دينك إليها والحجة التي تنافح عن نفسك فيما ذهبت بها. وأما السنة فلأننا نثبتها بالكتاب نفسه فهي منه تستمد، وعليه تستند وعنه تصدر وإليه ترجع، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وليس هناك من معنى لتبيين الكتاب غير تفصيل مجمله، وتفسير مشكله، وغير ذلك من مسائل الدين التي لم يتناولها الكتاب بالنص، ولم ينبسط لها بالبيان ومثله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 151) . الآية فقال: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَاب} (البقرة: 151) ولو كان المراد مجرد تبليغه لاكتفى بقوله: يتلو عليكم آياتنا، ولا يذهب عنك أن التعليم غير الأداء والتبليغ، ثم عطف عليه بالحكمة، وعطفها على الكتاب يقتضي أنها هنا شيء آخر وليس هناك غير السنة، وقال تعالى في مواضع كثيرة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59) وطاعة الله لا شك بالرجوع إلى كتابه، وطاعة الرسول بالرجوع إلى سنته، ولو كان المراد الكتاب وحده لما كان ثمة داعٍ للتكرار، وقال تعإلى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِث..} (الأعراف: 157) .. الآية، فنص في هذه الآية الكريمة على الأخذ بما يحل الرسول والتحرج عما يحظر مطلقًا، وقد ثبت أن السنة أباحت كثيرًا وحظرت كثيرًا بدون أي نص أو إشارة خاصة من الكتاب ومع ذلك يجب الأخذ بكل ما جاءت به لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر:7) . وقد صرح الكتاب العزيز بأن كل ما أوجب الرسول وأمر، أو نهى عنه وحظر إنما هو من الله تعالى يجب اتباعه ولا يجوز اجتنابه؛ لقوله تعإلى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) وقد أكد سبحانه وتعالى على الناس في طاعة الرسول وشدد في مواضع كثيرة من القرآن العظيم بالترغيب في اتباعه ووعد العاملين بأمره بعد أن قرن طاعته بطاعته في قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 71) وبتخويف المخالفين لأمره، والمتجافين عن حكمه بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) فمخالفة الرسول - ولا ريب - مخالفة صريحة لأمر الكتاب الصريح. وقد استدللتَ على أن الإسلام هو القرآن وحده بقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء} (الأنعام: 38) . وعلى تسليم أن المراد بالكتاب هنا هو القرآن، فإن أردت أن القرآن لم يفرط في شيء من مسائل الشريعة بطريق النص فلا نستطيع أن نوافقك على هذا احترامًا لمكان الكتاب الكريم من الثقة والصدق؛ فإن القرآن لم يتناول بطريق النص من مسائل الشريعة إلا يسيرًا، وإن أردت أن الكتاب لم يفرط في شيء من الدين على سبيل الإجمال، قلنا: نعم، فإن القرآن لم يفرط في شيء من كليات الشريعة، وأنت خبير بأن ذكرها مجملة ليس كافيًا في استنباط المجتهد ما يقوِّم به العبادة ويحرر المعاملة، على أننا نقول: إن القرآن لم يفرط في شيء من كليات الشريعة وجزئياتها، فإن ما لم ينص عليه الكتاب منها أمر باتباع الرسول فيه، فكل مسائل الشريعة على هذا من الكتاب إما مباشرة وإما باتباع ما يسنه الرسول الأمين. *** عصمة السنة الصحيحة وأنها من الله قطعًا لا نحسبك تخالف في أن الرسول معصوم، وأن كل ما يجري على لسانه أو يبدو من عمله إنما هو بالوحي السماوي، أو الإلهام الإلهي الصادق، وما كان للرسول أن يشرع شرعًا يتعبد الناس به من عند نفسه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) فأمر الرسول لا يختلف عن أمر القرآن وكلاهما معصوم، فلا مجال ثمة للسؤال بأنه هل يفرض علينا الرسول فرضًا لم يفرضه الكتاب؟ فإن الكتاب والرسول لا يفرضان شيئًا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) . وإنما الذي يفرض هو الله الحكيم، ومظهر هذا الفرض إما أن يجري على لسان النبي العظيم أو يتجلى في لفظ الكتاب الكريم، وليس الأمر بطاعتهما إلا أمرًا بطاعة الله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) .. الآية {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) فالرسول عليه السلام هو الواسطة إلينا في نقل حكم الله العظيم قرآنًا كان أو غير قرآن، والقول - نعوذ بالله - بعدم حجية الرسول قول بالأولى بعدم حجية الكتاب؛ فإننا لم نأخذ الكتاب إلا منه، ولم نلقفه إلا عنه وهو أمين الله على وحيه، وبعيثه إلى خلقه وحجته على عباده. السنة إجمالاً مقطوع بها كالكتاب لا شك في أن الكتاب مقطوع به ولم يكن هذا القطع إلا من طريقه الذي اتصل بنا منه وهو التواتر، والسنة بالجملة جاءتنا من هذا الطريق بعينه؛ لأن إجماع الأمة من المبدأ إلى الآن منعقد على صحة السنة إجمالاً عن رسول الله، وأنها أصل من أصول الدين كالكتاب، وإذا كان طريق السنة هو بعينه طريق الكتاب لا جرم كان مقطوعًا بها إجمالاً كالقطع بالكتاب تفصيلاً. قلنا السنة بحسب الإجمال، أما هي الشخص فسيأتي عنها بعض التفصيل في مراتب السنة الصحيحة. *** عصمة الشريعة كلها لنا في إثبات هذه الدعوى وجهان: الأول: الدلائل الدالة على ذلك من الكتاب مثل قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَه} (التوبة: 32) ونور الله شرعه وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) ولو فسرنا الذكر بالشريعة كلها كتابها وسنتها لكان الأمر ظاهرًا، ولو قصرنا تفسيره على الكتاب لجاءت السنة بطريق اللزوم لما علمت من أنها كائنة لتفصيل مجمله، وتفسير مشكله، ولا معنى لحفظ كليات الشريعة ومجملاتها دون جزئياتها ومفصلاتها التي هي مناط التكاليف وعليها تدور الأحكام. والثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الآن، فإن الله سبحانه كما قيَّض للكتاب العدد الجم من ثقاة الحفظة بحيث لو زِيد فيه حرف واحد لصرفه الآلاف من القارئين، كذلك أقام لكل علم يتوقف عليه فهم الشريعة من الناس من تأدى بعملهم هذا الفرض أحسن الأداء، فمنهم من استنفد السنين الطوال في حفظ اللغات والتسميات الموضوعة على لسان العرب حتى قرروا لغات الشريعة الغراء من القرآن والحديث، وهذا الباب الأول من أبواب فقه الشريعة التي أوحاها الله تعالى إلى رسوله على لسان العرب، ومنهم من جدّ في البحث عن تصاريف هذه اللغات في النطق بها رفعًا ونصبًا وإبدالاً وقلبًا وإتباعًا وقطعًا وإفرادًا وجمعًا إلى غير ذلك من وجوه تصاريفها الإفراد والتركيب، ومنهم من قَصَرَ عمره - وهو طويل - على البحث عن الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الثقة والعدالة من النقلة حتى ميزوا الصحيح من السقيم، وتعرفوا التواريخ وصحة الدعاوى في أخذ فلان عن فلان حتى استقر الثابت المعمول به من الحديث الشريف، فلا محل لدعوى (حصول التلاعب والفساد) في حديث الرسول الكريم، كيف وقد علمت أن السنة شطر الدين، والدين قد جاء إلينا بطريق التواتر القطعي؟ ! وإذا كان نقلة الكتاب العزيز هم العدول الضُبَّاط الحُفَّاظ الأمناء فإن الحديث ورواته إن لم يكونوا هم بأعيانهم فإنهم لا يقلون عنهم في العدالة والحفظ والضبط والثقة والأمانة، فمن طعن في صحة السنة فقد طعن في صحة الكتاب أيضًا. وقد عللت صحة الكتاب وفساد سند السنة بتعاليل نرى من الحتم علينا الإلمام بها جملة ونعقبها بما يكفي لدفعها: (1) كون متن القرآن مقطوعًا به؛ لأنه منقول عن النبي باللفظ بدون زيادة ولا نقصان. (2) كتابة القرآن في عصر النبي عليه السلام بأمر منه. (3) عدم كتابة شيء من الأحاديث إلا بعد عهده بمدة كافية في حصول التلاعب والفساد الذي حصل! (4) عدم إرادة النبي لأن يبلغ عنه للعاملين شيء بالكتابة سوى القرآن المتكفل بحفظه في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} (الحجر: 9) .. الآية ولو كان غير القرآن ضروريًّا في الدين لأمر النبي بتقييده كتابةً، ولتكفل الله بحفظه ولما جاز لأحد روايته على حسب ما أداه إليه فهمه. ونقول: (1) أما القطع بالقرآن كله فلا شك فيه، ولكن ليس بما ادعيت من نقله عن النبي باللفظ بدون زيادة ولا نقصان، فإن هذا ليس كافيًا في القطع بل هو إنما تحقق بالتواتر اللفظي، وهو الذي استفيد منه عدم الزيادة والنقصان، على أنك إن عددت مثل ذلك موجبًا للقطع يلزمك أن تعد السنة الصحيحة مقطوعًا بها - بحسب الشخص - كلها؛ لأنها جاءتنا أيضًا بلا زيادة ولا نقصان بل ولعُدَّ كل خبر ورد من أي طريق بلا زيادة ولا نقصان - مقطوعًا به وهو غير مُسَلَّم. (2) وأما كتابة القرآن بأمر النبي عليه السلام في عصره فلا نزاع فيها أيضًا، ولكن العمدة في القطع به إنما هي بالتواتر كما قدمنا بحفظه في صدور جماعة من الصحابة غير ممكن تواطؤهم على الكذب، والذين يلونهم كذلك ثم الذين يلونهم إلى عصرنا هذا، على أننا لا نهمل ما للكتابة من التوكيد وفوائد أخرى كثيرة: مثل ترتيب الآيات بعضها إلى بعض بإشارة جبريل عليه السلام، فإن القرآن نزل نُجُومًا على حسب مقتضيات الوقائع لا بهذا الترتيب. ولا يعزب عنك أن ما سطره كُتَّاب الوحي من القرآن ليس بين أيدينا شيء منه الآن، بل نحن

المكتوب العاشر من أراسم إلى ولده

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أميل القرن التاسع عشر [*] المكتوب العاشر - من أراسم إلى ولده عن لوندرة في 15 فبراير سنة 1860 لا حق لك يا عزيزي أميل في أن تكون بلا رأي سياسي، فأيما رجل يعيش في قوم ويظهر معتزلاً لما يتعارض بينهم من المصالح غافلاً عما يتقاسم عقولهم من المذاهب - فهو غاية في الحقارة والخسة وكان حقه أن ينشأ بين المتوحشين بل المتوحشون يشتغلون بمصالح قبيلتهم بغيرة وحمية. نعم، قد كان رؤساء الحكومات أكدوا للناس في الأزمان الغابرة أنهم مرسلون من عند الله لسياستهم وتدبير شئونهم وكان عمل الرعايا على هذا الغرض قد قصر على الطاعة المطلقة لأوامرهم فكانوا مِلكًا لولاتهم وخاصتهم كما تملك الأرض ولا حق للأرض في أن تثور على اليد العاملة فيها. وأما الآن فلم يبقَ في البلاد المهتدية بهدي العلم من أنصار هذا الحق الإلهي الذي يزعمه الملوك إلا النزر اليسير وقد قضى العقل على بعض المذاهب السياسية المأخوذة من القوانين الإلهية ثم دل التاريخ على أن السلاطين كانوا يسقطون من عروشهم ولم تكن عناية الله تأخذ سلاحها لنصرهم وأنه كان من الميسور للأمم كل اليسر أن يستغنوا عنهم [1] . هذا السلطان المعصوم الذي لم يكد يبقي للإنسان جراءة على ادعائه للأشخاص في وجه عبر التجرِبة الزاجرة لا يزال يدَّعي للأوضاع البشرية فلا تكاد أي حكومة من الحكومات تستقر حتى تدعي أنها حلت محل المحكومين في أفكارهم وعزائمهم. ولا يخفى أن البلاد التي وضعت حكومتها على هذا النمط يكون من عادة شيوخ بيوتها لفرط حزمهم وبلوغهم في حد الجبن أن يعظوا شبانها بأن لا يشتغلوا بالسياسة. تسمع الأب منهم يقول لابنه: (يا بني آن لك أن تغتني وتتزوج وتجعل لنفسك في الناس ذكرًا وليس من حقك الاشتغال بما وراء ذلك لوجود رجال عهد إليهم الحاكم بمحض إرادته أن يفصلوا في جميع المسائل ويوزعوا المثوبات والعقوبات على الناس فهم كما تقول التوراة أنفاس منخرية التي تحرق أموال المعاندين للنظام المقرر كما تحرق السموم نبات المزارع، فالأحزم لك أن تخلي بين الحكومة وعملها وإذا كان لا بد لك من رأي فلا بأس من أن تختار لنفسك ما يلائمها من الآراء على شرط أن تقصره عليها؛ لأنه لا فائدة للمرء من الاشتغال بمصالح غيره (والعاقل من يتوقى إدخال أصبعه بين الشجرة ولحائها) [2] . وأما الأمم الحرة فالأمور فيها تجري على ما يخالف ذلك كل المخالفة، فلا يكاد طالب العلم فيها يملك اليسير من فصاحة المنطق حتى يمارس المناظرة في المصالح العامة وكل فرد من أفرادها إذا أراد أن يكون شريفًا وجب عليه أن ينتمي إلى حزب من الأحزاب وهم بعيدون كل البعد أن يعتقدوا أن في مجاهدات المعيشة السياسية ضررًا بالمعيشة البيتية بل هم يجلون الفضائل الخاصة على نسبة اتساعها وامتدادها في ميدان الفروض العامة ولو أن وجدان العدل كان قاصرًا على المعاملات الخاصة لعُد من الظلم في حق عامة الناس. إذا تكرر هذا قلت: إن جميع الأمم خلقت لتكون أحرارًا ومن العبث أن يزعم زاعم أن منها من هي مفرطة في الطيش، وفيها من هي غالية في التحمس، ومنها من هي غاية في الجهل، ومنها من هي متنطعة في التأنق. فقد نسي أن الوسيلة إلى ترقية أخلاق الأمم إنما هي ترقية أوضاعها وقوانينها ولا مراء في أن هذه الأوضاع المؤسسة على الحرية لن تنزل من السماء! وأنه من الحمق والجنون أن تنتظرها أمة من حكامها؛ لأن جميع الحكومات المستبدة مبنية على قاعدة أن الناس عاجزون عن سياسة أنفسهم فكيف يرضى الحكام حينئذ أن يكذبوا أنفسهم بالتخلي عنهم وقد يرخون زمامها أحيانًا حذقًا منهم في تصريفها وحزمًا ولكنهم يعرفون عند الحاجة كيف يرتجعون تصريف شكيمتها إلى أيديهم. ليست الحرية بجميع أنواعها مما يعطى ويوهب بل هي مما يغنم بالجهاد والمكافحة، فشدة كفاح العقول والعزائم وجملة إخلاص المخلصين الخاملين وتصلب من لا يستخذون للذل من أفراد الأمة - هي التي بضرورة الأحوال نفسها تكره غاصبي حق الحرية على إرجاعه إلى نصابه ورده إلى أربابه وما يحصل من التعذير في أثناء الجهاد لا يلبث أن يزول وما يعقبه من الرقي دائم لا فناء له، فإن القاطع يبلى بعمله في المقطوع. ليس من قصدي مطلقًا أن أبعث في نفسك كراهة الأمة التي خلقت للمعيشة فيها فأنت صاحب الحكم على أهل زمانك ولكن حذار من الاحتقار لغيرك والاستخفاف به فإن عصرنا سيشتهر في التاريخ بخطوبه ومصائبه؛ لأننا قد عملنا في الحكومات التي تعاقبت على البلاد وهي حكومة الإصلاح والحكومة المقيدة والجمهورية وحكومة نابليون، وليست العصور التي تغمني وتؤلمني هي التي تسعى فيها أمة عظيمة للحصول على الحرية من خلال الحوادث، وإنما هي التي تخلد فيها إلى الدعة من غير أن تنال حريتها. إن لداتي من جيل بذل نفسه في سبيل الحرية وأنا أشتهي بمجامع قلبي أن يكون الناشئون أسعد منهم حظًّا وأوفر غبطةً ولكن ينبغي لهم أن يستفيدوا من زلاتنا وتجاربنا. إنا قد غلونا فيما رجوناه من تصاريف الزمان، وكلما سألت نفسي عن سبب مصائبنا خِلتني أجده في عيوب تربيتنا السياسية فأشدنا بعدًا عن الإيمان يؤمن بالمعجزة، ذلك أنه يعتقد في تغيير أحوال الأمة بأمر من أوامر حاكم مطلق مؤقت الحكومة أو - على الأقل - بأمر مجلس حاكم. ولقد شهدت فرنسا غير مرة تلاشي بيوت حاكمة كانت تعتقد متانة دعائمها وزوال مقاصد لبعض الطامعين من رجالها الذين كانوا يدعون المستقبل لأنفسهم ثم إنها لما انتصرت انتصارها العقيم القصير المدة كان اشتغالها بتحرير نفسها واستخلاص مصايرها أقل بكثير من اشتغالها باختيار الرجال الذين ألقى إليهم الاتفاق زمام سياستها، نعم إن شكل الحكومة واختيار الرجال الذين يصرفون زمامها ليس مما لا يعبأ به ولكن ينبغي أن تكون الأمة هي المنشئة لحريتها على اختلاف ضروبها. قد مضى زمن (المسحاء) فلن يُرى بعد الآن لا في شكل حكومة منجية ولا في صورة حكومة تأتي إلى الدنيا بالنور والهدى، فعلينا أن نخلص أنفسنا من خداع الناس ونطهرها من وثنية الأوهام؛ لأن الأمم لا تنال حريتها باتفاق ولا بسلطة غيبية فائقة للطبيعة [3] ولا بالبخت فلتنظر فرنسا في نفسها تجد أن بختها هو عزيمتها. أنت حدث ومغترب عن بلادك فوسيلتك إلى خدمتها هي أن تنفي عن عقلك الجهل والأوهام والأضاليل التي تبذر في الدنيا بذور الطغاة الغاشمين إذا فعلت ذلك كنت قد أديت في سعيك إلى الحرية شيئًا من العمل والتعلم ائتمارًا بالشر لاستئصاله. فلو لم يكن نظام تربيتنا برمته من شأنه تحرير أبناء الوطن من ملكة الاستقلال بالفكر والإرادة لكانت فرنسا قد اهتدت الطريق إلى الحرية من زمان بعيد فإما أن يكون هذا هو ينبوع ما أصابته من ضروب العجز وإما أن أكون مخطئًا خطأً فاحشًا. لا حق لنا أن نعيب على الأتراك اعتقادهم بالقضاء والقدر , فنحن أثبت منهم فيه ألف مرة؛ ذلك أننا تابعون لبخت يومنا خاضعون لمقدور سياستنا مؤدون لميثاق الطاعة لحكومتنا حتى ولو انتقلت إلى أيدي الكفار وقد أصبح خمود الهمم وانحلال العزائم ملاذًا يلوذ به أشدنا أنفةً وإباءً تراهم لما حل بهم من الكآبة وكسوف البال يحولون وجوههم عما يجري بين أيديهم من الأمور كما لو كان لأي واحد من الناس أن يقنط من أهل زمانه ومن بلاده. إذا ظهر الشر والفساد في الأمة كان حقًّا على الإنسان ومن مقتضى عظمته أن يجاهد في إزالة سببه وليس يكفي الرجل الصالح افتخاره أحيانًا بأن يتخيل في نفسه عالمًا آخر يطوي فيه معتقداته ويشرف من أعاليه على أمور دهره فيحتقرها بل عليه أيضًا أن لا يدخر سلاحًا في مكافحته. ليست أمة من الأمم من هذا العجز في شيء فأنت تعرف كلمة (جوفينال) [4] فكن خيرًا منهم وأنور فكرًا. إن ما يشكو منه جميع الناس في أزمان التدلي من خمود النفوس وأثرة التواكل وبله الاستسلام لضرورة الأحوال منشؤه الناس كلهم أيضًا فما منهم إلا شريك في الهلاك العام إما بسكوته وإما بامتناعه اختيارًا عن العمل على أن تلك الأزمان هي التي يتأتَّى فيها للنفوس الأبية أن تشتد وتثبت في تيار الدمار فعلينا - إن لم نأنس من نفوسنا كفاية في القوة - أن نستعين من سبقت لهم الشهادة في سبيل الحق ومن ماتوا من الكتاب وهم يجاهدون الاستبداد ويعالجون عمى البصائر قبل أن يجنوا ثمار كدهم ومن خروا من منابرهم من الخطباء مخضَّبين بدمائهم ومن حكم عليهم من العقلاء بشاق الأعمال وشكلوا خلال القرون الماضية في سلاسل العبودية المعنوية. ولنتأمل في ماضينا فإنا نجد فيه من السجون المظلمة والمنافي وأنواع العذاب والنكال ما يشهد لنا بنزاهة مقصدنا نزاهة لا تدافع. ألا إن لواء الحرية يُظل جميع المقاومين والمكروبين والمهيضين في سبيل تأدية ما فرض عليهم وبهذا اللواء سيكون لنا الفوز والظفر وعلى هذا الاعتقاد. أقبّلك قبلة الوداع اهـ.

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (حواء الجديدة أو إيفون مونار) ألف نقولا أفندي الحداد قصةً صوَّر فيها كيف يغوي الرجل المرأة حتى ينتهك عِرضها ثم يتركها فتقع في الشقاء، وتضطر إلى البغاء فيحتقرها الناس من دونه وهم ظالمون وبالغ في لوم الناس على ذلك حتى عذر الفواجر أو كاد، ووعد بكتابة القصص في المسائل الاجتماعية , وقد كتب إليَّ كتابًا أرسله مع نسخة من القصة قبل نشرها يقول فيه: إنه يرغب الوقوف على رأي (علمائنا) في القصة وتأثيرها فيهم فأجبته بالكتاب الآتي: عزيزي الفاضل.. رغبت إليَّ أن أقرأ قصتك الجديدة (حواء الجديدة) وأكتب إليك برأيي فيها وأثرها فيَّ بعد القراءة. أراك أحسنت في التصوير والتخييل. واعتصمت بحبوة النزاهة والأدب في التعبير. وأراني استعبرت لغير ما عبارة في القصة، أما الموضوع الاجتماعي الذي نفخت فيها من روحه فليس طريفًا عندي قرأت وسمعت فيه شيئاً عن الإفرنج وفكرت فيه كثيراً ولعل ما قرأته لك فيه خير من قليل ما علمته عنهم وأبشرك بمستقبل حسن في خدمة أدب النفس والاجتماع بما توجهت إليه من وضع مثال لهذه القصة في غايتها دون خصوص موضوعها. كل بغي شقية في هذه الحياة قبل الحياة الآخرة ولكن يعز أن يوجد في بلادنا بغي لها من مكارم الأخلاق وشرف النفس وجودة الذهن بعض ما رويت عن (إيفون مونار!) ويوشك أن يوجد لها ند في بلاد الإفرنج لمكان التربية الدينية والأدبية عندهم كما وصفت من تربيتها فأكثرهن - إن لم نقل كلهن - قوارير أقذار، وقرارات وقاحة وصغار، لا فائدة من تصغير جرائرهن، وعطف القلوب عليهن، إلا جذب من بقي عندنا سليم الفطرة إليهن، أقول هذا وأنا على تعجبي من فساد فطرة من يستطيع الدنو منهن ممن يحزن لشقائهن ويصدق أن أكثرهن مكرهات على الفجور كارهات للبغاء لو وجدن مخرجًا منه لهرعن إليه حتى إنه سبق لي بحث مع بعض أهل الفضل في وجوب السعي لإنشاء ملجأ يؤوي من يريد التوبة منهن ويغنيهن عن طلب الرزق بأعراضهن ولو وُجد من يسعى الآن في مثل هذا لكان يكون للاعتذار عنهن والاستعطاف عليهن فائدة. لك أن تصف من شقائهن بما شئت من إسهاب؛ لتنذر المعرَّضات لمثل فعلهن أن يتدهورن في هاويتهن، ولك أن تصف من فساد الفاسقين وتشوه من سيرتهم بما استطعت من إطناب، لتنفر عن مثل عملهم، وتحذر الفتاة الغر من تغريرهم، فتكون على بصيرة من عاقبة فجورهم، وما يتوسلون به من بهتانهم وزورهم، وليس لك في رأيي أن تجعل ما تكتب منظاراً يكبر مخازي الفساق من جهة ليصغر فضائح الفواسق من الجهة الأخرى. إذا انتقدت عليك تصغير فاحشة المسافحات في مقابلة تكبير فاحشة المسافحين مرة فإنني أنتقد الاحتجاج على تصغيرها بشيوع الفاحشة في ربات البيوت ذوات البعول سبعين مرة لأن ذنب المسافحات أشد ضرراً من ذنب ذوات الأخدان بل لأن إظهار ذلك وبيان أن الناس يتسامحون مع ذوات الأخدان وهم يعلمون بخيانتهن لأزواجهن يضر نشره في قصص يقرأها النساء من العذارى والأيامى، إذ لا تتصور التي تلين للفاسق أن بذل عرضها يفضي إلى أن تكون بغيًّا مسافحة وإنما يغلب على ظنها أنها تصادف زوجًا يستر فضيحتها بغفلته، أو قلة غيرته. قرأت ما كتبت إيفون عن خداع ذلك الشرير لها وعن اجتهادها في استرداد شرفها بالسيرة الحسنة وعن عجزها وإعواز ما تروم فتمنيت لو تقرأ ذلك العذارى اللواتي أصبحن عرضةً لمثل ذلك البذل لأعراضهن بإطلاق أهليهن العنان لهن مع كثرة ما يحاول الفساق من مخادعتهن، وقرأت ما كتبت أنت من شيوع الفاحشة في ربات البيوت وإغضاء الناس عنهن فتمنيت لو لم تطلع عليه قارئة لا سيما إذا كانت عذراءً. هذا ما كان من أثر القصة في نفسي استحسان لما عدا الأمرين المنتقَدين من ناحية ما تنظر من تأثيرهما وأرجو أن تتوخى فيما ستكتب الغاية والفائدة أكثر مما تتوخى من حسن الوضع ولطف التعبير وقوة التأثير وأجدر بمن يعرض عمله لنقد الرجال أن يبلغ منه غاية الكمال. *** (التعليم والإرشاد) كتاب جديد تأليف السيد محمد بدر الدين الحلبي. القسم الأول منه في التعليم وفيه الكلام على العلوم والمؤلفات وبيان الجيد منها من غيره وشرح أسباب انحطاط العلوم الشرعية وذكر الطرق النافعة في التعليم. هذا ما كتب على ظهر الكتاب ونقول: أما المؤلف فهو من أذكياء المجاورين في الأزهر وقد اشتغل بتصحيح كثير من الكتب التي طبعت حديثاً وفيها كثير من مصنفات المصلح العظيم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وتلميذه ووارث علومه ابن القيم وبعض كتب الأدب النفيسة فاستفاد بذلك وبالأسفار وقراءة الصحف ما امتاز به على كثير من أقرانه وحرك همته للبحث في الكتب النافعة والتعليم. وأما الكتاب فقد عرف من اسمه وما كتب عليه من بيان موضوعه وهو من أهم الموضوعات لهذه الأمة التي لا ترجى لها الحياة الطيبة إلا بإصلاح التعليم والإرشاد , وقد أهدى المؤلف كتابه إلى الجرائد والمجلات فشكرًا له على عمله وشكرًا له على هديته , ومن الشكر أن بادرنا إلى التنويه له قبل مطالعته كله وقدمناه على مطبوعات كثيرة أهديت إلينا من قبل. قرأنا من الكتاب جملاً متفرقةً من فصوله فعرفنا منه وأنكرنا، عرفنا منه مسائل كثيرة جاء بعضها مؤيدًا لما ندعو إليه منذ أنشئ المنار كبيان سوء طريقة التعليم في مثل الأزهر وما اختير لها من الكتب وأنكرنا منه مسائل كثيرة واختلافاً كثيرًا منه ما هو من قبيل الرأي ومنه ما هو من قبيل الحكاية والنقل , وفائدته الإجمالية تأييد ما كتب كثيرًا لزلزال الثقة بالكتب التي تدرس في المدارس الدينية وبمدرسيها وهذا تمهيد للإصلاح سبق إليه كثيرون من المصلحين ومقلديهم. وحسبنا هذا التنبيه على فائدته الآن ونرجئ بيان ما أنكرنا منه وما ننتقد به عليه إلى أن يتاح لنا مطالعته كله بالتدقيق، وعسى أن يبادر بعض من اطلع عليه من المدققين إلى انتقاده عنايةً بهذا الموضوع ومسابقةً للأغرار الذين يحكمون على الأشياء بادي الرأي فيظلمونها ويظلمون الناس ويغشونهم وهم لا يشعرون.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار وآراء (تعيين سعد باشا زغلول ناظرًا للمعارف) رأى اللورد كرومر أن يعين هذا النابغة ناظرًا للمعارف العمومية فصدر الأمر العالي بذلك، فاتفقت الجرائد الوطنية والأجنبية في البلاد على استحسان هذا التعيين ووصف الناظر الجديد بالعرفان واستقلال الفكر وقوة الإرادة والاستقامة - وهي صفات الكمال في الرجال - وكان ينبغي أن يتفقوا على شكر اللورد كرومر ولكن الذين جعلوا من مذهبهم ذم المحتلين على كل عمل - وإن كان نافعًا في نفسه وفي عرفهم - قد ذموا نية اللورد في هذا التعيين وما ذموا إلا النية التي اخترعوها له وانتقل بعضهم بسبب الثناء على الناظر الجديد إلى القدح بسائر النظار تصريحًا أو تلويحًا، وما كان ذلك من الذوق في شيء وقال أشدهم إسرافًا: إنه لا خير في هذا التعيين إلا إذا جعل الناظر الجديد آمرًا والمستشار الإنكليزي مأمورًا! ولفظ المستشار يمنع أن يكون مسماه عبدًا مأمورًا وإن لم يكن من دولة محتلة بقوتها في بلاد أبسلها ضعفها وجهلها , فدعْ كلام المسرفين واشكر هذا العمل لإدارة المحتلين، فالشكر مدعاة المزيد من الإحسان عند كل إنسان، ومما قيل وكتب ما يؤيده حتى في جريدة (التيمس) أن في تعيين سعد باشا ناظرًا للمعارف قصدًا إلى ترقية حزب المرحوم الشيخ محمد عبده الذي شهد له اللورد في تقريره بالاعتدال وقالت إحدى الجرائد الأوربية: إذا كانت الأرواح تشعر بما يكون في الدنيا فإن روح الشيخ محمد عبده مسرورة الآن بتعيين فلان ناظرًا للمعارف، وقد صدق صاحب القول وسعد باشا جدير بخدمة المعارف وإسعاد أهل الاعتدال والاستقامة من مريدي أستاذه وأستاذهم الإمام , جعله الله خير خلف له في عمله للبلاد وخدمته، واستقلاله وحكمته. * * * (الجامع الأزهر - مشيخته وإدارته) ذكرنا في الجزء الماضي ما كان بلغنا عن استقالة شيخ الأزهر وعزم الأمير على تعيين الشيخ محمد شاكر وكيلاً للأزهر تمهيدًا لجعله أصيلاً وقد تحقق ذلك ولكن استقالة شيخ الأزهر حُفظت وحمل على طلب إجازة ثلاثة أشهر، وعين الشيخ محمد شاكر وكيلاً لمشيخة الأزهر فعظم ذلك على أهل الأزهر واستنكره كبراء الشيوخ واستكبروا أن يكونوا مرءوسين له على حداثته في السن والعلم، وانتهى الأمر إلى الحكومة أو إلى أولي الأمر فخاطبوا الأمير في ذلك وتقرر أن الشيخ شاكرًا لا يكون شيخًا للأزهر ولا وكيلاً، وقد سمي الآن نائبًا، وقد زاد الشغب والاضطراب في الأزهر أيام نيابته على إمداد الأمير إياه بنفوذه، ويتوقع أن ينتهي هذا التلاعب في الأزهر بجعْله تحت مراقبة نظارة المعارف؛ إذ لا قرار إلا مع السلطة الثابتة المنتظمة , ولعلنا نتكلم عن إصلاحه في جزء آخر.

أدلة الشرع وتقديم المصلحة في المعاملات على النص

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أدلة الشرع وتقديم المصلحة في المعاملات على النص كتبنا في بعض أجزاء المجلدين الثالث والرابع فصولاً عنوانها: (محاورات المصلح والمقلد) بينا فيها طريق الوحدة الإسلامية وجمع كلمة المسلمين المختلفين في المذاهب على الحق الذي أمرهم الله أن يقيموه ولا يتفرقوا فيه , ومما بيناه فيها أن الأحكام السياسية والقضائية والإدارية - وهي ما يعبر عنها علماؤنا بالمعاملات- مدارها في الشريعة الإسلامية على قاعدة درء المفاسد وحفظ المصالح أو جلبها، واستشهدنا على ذلك بترك سيدنا عمر وغيره من الصحابة إقامة الحدود أحيانًا لأجل المصلحة، فدل ذلك على أنها تقدم على النص! وقد طبعت في هذه الأيام مجموعة رسائل في الأصول لبعض أئمة الشافعية والحنابلة والظاهرية منها: رسالة للإمام نجم الدين الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716 تكلم فيها عن المصلحة بما لم نَرَ مثله لغيره من الفقهاء، وقد أوضح ما يحتاج إلى الإيضاح منها في حواشيها الشيخ جمال الدين القاسمي أحد علماء دمشق الشام المدققين فرأينا أن ننشرها بحواشيها في المنار؛ لتكون تبصرةً لأولي الأبصار، وهي هذه: (قال بعد البسملة) : اعلم أن أدلة الشرع تسعة عشر بابًا بالاستقراء [1] لا يوجد بين العلماء غيرها [2] أولها: الكتاب. وثانيها: السنة. وثالثها: إجماع الأمة. ورابعها: إجماع أهل المدينة [3] . وخامسها: القياس [4] . وسادسها: قول الصحابي [5] . وسابعها: المصلحة المرسلة [6] . وثامنها: الاستصحاب [7] . وتاسعها: البراءة الأصلية [8] . وعاشرها: العادات [9] . الحادي عشر: الاستقراء [10] . الثاني عشر: سد الذرائع [11] . الثالث عشر: الاستدلال [12] . الرابع عشر: الاستحسان [13] . الخامس عشر: الأخذ بالأخف [14] . السادس عشر: العصمة [15] . السابع عشر: إجماع أهل الكوفة [16] . السابع عشر: إجماع العترة عند الشيعة [17] . التاسع عشر: إجماع الخلفاء الأربعة. وبعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه ومعرفة حدودها ورسومها والكشف عن حقائقها وتفاصيل أحكامها مذكور في أصول الفقه [18] . ثم إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار) [19] يقتضي رعاية المصالح إثباتًا ونفيًا والمفاسد نفيًا، إذ الضرر هو المفسدة فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة؛ لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما، وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها: النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها فإن وافقاها فبِها ونعمت ولا تنازع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار) وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص [20] والبيان لهما لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما، كما تُقدم السنة على القرآن بطريق البيان، وتقرير ذلك أن النص والإجماع إما أن لا يقتضيا ضررًا ولا مفسدةً بالكلية أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئًا من ذلك فهما موقوفان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضررًا فإما أن يكون مجموع مدلولهما ضررًا ولا بد أن يكون من قبيل ما استثني من قوله عليه السلام (لا ضرر ولا ضرار) جمعًا بين الأدلة، ولعلك تقول: إن رعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه السلام (لا ضرر ولا ضرار) لا تقوى على معارضة الإجماع لتقضي عليه بطريقة التخصيص والبيان؛ لأن الإجماع دليل قاطع وليس كذلك رعاية المصلحة؛ لأن الحديث الذي دل عليها واستفيدت منه ليس قاطعًا فهو أولى - فنقول لك: إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع ويلزم من ذلك أنها من أدلة الشرع لأن الأقوى من الأقوى أقوى، ويظهر ذلك من الكلام في المصلحة والإجماع. أما المصلحة فالنظر في لفظها وحدها وبيان اهتمام الشرع بها وأنها مبرهنة، أما لفظها فهو (مفعلة) من الصلاح وهو كون الشيء على هيئة كاملة بحسب ما يراد ذلك الشيء له، كالقلم يكون على هيئة المصلحة للكتابة، والسيف على هيئة المصلحة للضرب. وأما حدها بحسب العرف فهي السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع كالتجارة المؤدية إلى الربح، وبحسب الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادةً أو عادةً , ثم هي تنقسم إلى ما يقصده الشارع لحقه كالعبادات وإلى ما لا يقصده الشارع لحقه كالعادات. وأما بيان اهتمام الشرع بها فمن جهة الإجمال والتفصيل، أما الإجمال فقوله - عز وجل - {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ} (يونس: 57) , الآيتين ودلالتهما من وجوه: أحدها قوله - عز وجل -: {قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ ... } (يونس: 57) حيث إنه توعدهم وفيه أكبر صالحهم؛ إذ في الوعظ كفهم عن الأذى وإرشادهم إلى الهدى. الوجه الثاني: وصف القرآن أنه { ... شِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُور} (يونس: 57) يعني من شك ونحوه وهو مصلحة عظيمة. الوجه الثالث: وصفه بالهدى. الوجه الرابع: وصفه بالرحمة، وفي الهدى والرحمة غاية المصلحة. الخامس: إسناد ذلك إلى فعل الله - عز وجل - ورحمته ولا يصدر عنهما إلا مصلحة عظيمة. السادس: الفرح بذلك لقوله - عز وجل -] ... فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [ (يونس: 58) وهو في معنى التهنئة لهم بذلك , والفرح والتهنئة إنما يكونان لمصلحة عظيمة. الوجه السابع: قوله عز وجل: {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58) والذي يجمعونه هو من مصالحهم، فالقرآن ونفعه أصلح من مصالحهم، والأصلح من المصلحة غاية المصلحة. فهذه سبعة أوجه من هذه الآية تدل على أن الشرع راعى مصلحة المكلفين واهتم بها ولو استقرأت النصوص لوجدت على ذلك أدلةً كثيرةً. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون من جملة ما راعاه من مصالحهم نصب النص والإجماع دليلاً لهم على معرفة الأحكام؟ قلنا: هو كذلك ونحن نقول به في العبادات وحيث وافق المصلحة في غير العبادات، وإنما ترجَّح رعاية المصالح في المعاملات ونحوها؛ لأن رعايتها في ذلك هو قطب مقصود الشرع منها بخلاف العبادات فإنها حق الشرع ولا يعرف كيفية إيقاعها إلا من جهته نصًّا وإجماعًا. وأما التفصيل ففيه أبحاث: الأول: في أن أفعال الله - عز وجل - معللة أم لا. حجة المثبت أن فعلاً لا علة له عبث والله - عز وجل - منزه عن العبث؛ ولأن القرآن مملوء من تعليل الأفعال نحو: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} (يونس: 5) ونحوه، وحجة النافي أن كل من فعل فعلاً لعلة فهو مستكمل بتلك العلة ما لم تكن له قبلها فيكون ناقصًا بذاته كاملاً بغيره والنقص على الله - عز وجل - محال، وأجيب عنه بمنع الكلية فلا يلزم ما ذكروه إلا في حق المخلوقين [21] والتحقيق أن أفعال الله - عز وجل - معللة بحكم غائية تعود بنفع المكلفين وكمالهم لا بنفع الله - عز وجل - لاستغنائه بذاته عما سواه. البحث الثاني: أن رعاية المصالح تفضل من الله - عز وجل - على خلقه عند أهل السنة واجبة عليه عند المعتزلة، حجة الأولين أن الله - عز وجل - متصرف في خلقه بالملك ولا يجب له عليه شيء؛ ولأن الإيجاب يستدعي موجبًا أعلى ولا أعلى من الله - عز وجل - يوجب عليه. حجة الآخرين أن الله - عز وجل - كلف خلقه بالعبادة فوجب أن يراعي مصالحهم إزالةً لعللهم في التكليف وإلا لكان ذلك تكليفًا لما لا يطاق أو شبيهًا به , وأجيب عنه بأن هذا مبني على تحسين العقل وتقبيحه وهو باطل عند الجمهور. والحق أن رعاية المصالح واجبة من الله - عز وجل - حيث التزم التفضل بها لا واجبة عليه كما في آية: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ ... } (النساء: 17) ، فإن قبولها واجب منه لا عليه وكذلك الرحمة في قوله - عز وجل -: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (الأنعام: 54) ونحو ذلك. البحث الثالث: في أن الشرع حيث راعى مصالح الخلق هل راعاها مطلقًا أو راعى أكملها في بعض وأسفلها في بعض أو أنه راعى منها في الكل ما يصلحهم وينتظم به حالهم؟ الأقسام كلها ممكنة [22] . البحث الرابع: في أدلة رعاية المصلحة على التفصيل وهي من الكتاب والسنة والإجماع والنظر ولنذكر من كل منها يسيرًا على جهة ضرب المثال؛ إذ استقصاء ذلك بعيد المنال. أما الكتاب فنحو قوله - تعالى -: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2) وهو كثير , ورعاية مصلحة الناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم مما ذكرناه ظاهر , وبالجملة فما من آية من كتاب الله - عز وجل - إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح كما بينتها في غير هذا الموضع. وأما السنة فنحو قوله عليه السلام: (لا يبع بعضكم على بيع بعض ولا يبع حاضر لبادٍ، ولا تنكح المرأة على خالتها أو عمتها إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) وهذا ونحوه في السنة كثير؛ لأنها بيان الكتاب وقد بينا اشتمال كل آية منه على مصلحة والبيان على وفق المبين. وأما الإجماع فقد أجمع العلماء - إلا من لا يعتد به من جامدي الظاهرية - على تعليل الأحكام بالمصالح المرسلة وفي الحقيقة الجميع قائلون بها [23] حتى إن المخالفين في كون الإجماع حجةً قالوا بالمصالح ومن ثَمَّ علل وجوب الشفعة برعاية حق الجار وجواز السلم والإجارة بمصلحة الناس مع مخالفتهما للقياس؛ إذ هما معاوضة على معدوم [24] وسائر أبواب الفقه ومسائله فيما يتعلق بحقوق الخلق لعلل المصالح. وأما النظر فلا شك عند كل ذي عقل صحيح أن الله - عز وجل - راعى مصلحة خلقه عمومًا وخصوصًا، أما عمومًا ففي مبدأهم ومعاشهم. أما المبدأ فحيث أوجدهم بعد العدم على الهيئة التي ينالون بها مصالحهم ويجمع ذلك قوله - عز وجل -] يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ [25 {* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار: 6-8) وقوله - عز وجل -: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} (طه: 50) وأما المعاش فحيث هيأ لهم أسباب ما يعيشون ويتمتعون به من خلق السماوات والأرض وما بينهما وجميع ذلك في قوله - عز وجل - {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا..} (النبأ: 6) إلى قوله {.. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} (النبأ: 17) وفي قوله عز وجل: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} (عبس: 24- 25) إلى قوله عز وجل: { ... مَتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} (النازعات: 33) . وأما خصوصًا فرعاية مصلحة العباد السعداء حيث هداهم السبيل، ووفقهم لنيل الثواب الجزيل في خير مقيل. وعند التحقيق إنما راعى مصلحة العباد عمومًا حيث دعا الجميع إلى الإيمان الموجب لمصلحة العباد لكن بعضهم فرط بعدم الإجابة بدليل قوله - عز وجل -: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} (فصلت: 17) تحرير هذا المقام أن الدعاء كان عمومًا والتوفيق المكمل للمصلحة المصحح لوجودها كان خصوصًا بدليل قوله - عز وجل -: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (يونس: 25) فدعا عامًّا وهدى ووفق خاصًّا. إذا عرف هذا فمن المحال أن يراعي الله - عز وجل - مصلحة خلقه في مبدأهم ومعادهم ومعاشهم ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية؛ إذ هي أهم فكانت بالمراعاة أولى ولأنها أيضًا من مصلحة معاشهم لأنه

الدين والعقل

الكاتب: طه البشري

_ الدين والعقل (تابع لرد الشيخ طه البِشري على الدكتور محمد أفندي توفيق صدقي) بعد إذ أوردنا ما أوردنا مما نرى فيه الكفاية في إثبات أن أصول الدين هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس نرى ضروريًّا - وقد هتفت أكثر من مرة بالعقل في غضون البحث في أمور الدين - أن نتكلم باختصار على ما يمكن أن يكون من العلاقات بين العقل والدين. قلنا: إن أصول هذا الدين أربعة، ولم يضف إليها أحد شيئًا آخر بل قصرتها أنت على الكتاب وحده، فأي نظر من أنظار العقل يراد أن يطابقه الدين في كل جزئياته؟ لا يمكن أن يراد بتلك المطابقة أن كل ما يكون واجبًا في نظر العقل أو ممنوعًا فيه يكون كذلك في الدين , فإنه ليس شيء من الدين بُنيت قضاياه على الأدلة العقلية البحتة، إلا بعض أصول العقائد كوجوب الوجود ووجوب الوحدة مثلاً من الواجبات، وامتناع العدم والكثرة مثلاً من الممنوعات وبعد ذلك لا يوجب العقل ولا يمنع من قضايا الدين شيئًا. وإن أُريد من العقل نظره الصحيح بالاستحسان لموجبات الدين كإقامة الصلاة والاستقباح لممنوعاته كإتيان الفاحشة فذلك لا ريب فيه , ولكن لا يعزب عنك أن هذا النظر شيء واعتباره من أصول الدين التي حصر فيها استنباط مسائله باعتبار كونه دينًا مقررًا واجب الاتباع شيء آخر , فمسألة الاستحسان والاستهجان بالنظر الصحيح للعقل الصحيح لازمة لكن لا يمكن أن يبنى عليها حكم شرعي؛ لأن مقتضى كونه شرعيًّا أنه مبني على أصول الشريعة التي ذكرناها وليس استحسان العقل واحدًا منها باتفاقنا جميعًا على أن العقول من حيث استحسانها واستهجانها لا يمكن ضبطها بحال فإن ما يراه هذا حسنًا قد يراه ذلك رديئًا وبالعكس، وذلك لا يقف عند طبقات الحمقى والجاهلين بل كثيرًا ما اجتازها إلى طبقة العقلاء من أقطاب العلم والسياسة والبصر بفنون التشريع. ولا نحسبنا نتكلف أي دليل على هذه الدعوى بل نرى أن أقل نظرة في التاريخ التشريعي تكفينا مؤنة هذا فإن قتل القاتل عمدًا الذي أوجبه الإسلام - ما لم يعفُ أولياء الدم، ولا نشك في استحسانك له - مسألة فيها نظر بين مشرعي الرومان قديمًا وأمة الطليان التي بنيت على أطلالها، والفرنساويين والإنجليز حديثًا فمنهن من أنكرت القتل ومنهن من أوجبته، ومن هؤلاء الموجبات من استحسنته بطريق الشنق، ومنهن من أبته إلا بقطع الرقبة. فهل رمى الناس كل هذه الأمم بالجنون لأن أهلها لم تتفق على استحسان شيء واحد؟ بل هو أكبر الأشياء في مسائل التشريع؟ فما بالك بصغريات الأمور وجزئياتها في نظر الشرائع والقوانين؟ فلنسأل نفوسنا: ماذا تكون الحال لو كان استحسان العقل واستهجانه أصلاً من أصول الدين التي يرجع إليها في استنباط أحكامه؟ هل نستطيع أن نجد اثنين يتفقان على حكم واحد من هذا الدين؟ ! الإسلام ولا شك دين الفطرة أرسل الله به رسوله وهو - تعالى - الحكيم في تقديره العليم بما فيه مصالح الناس على تمايز طقوسهم وتنائي ديارهم وبسط لهم على لسان نبيه من التقرير والبيان ما يقف بالنفوس دون رؤية الشيء الواحد على كثير من الوجوه والألوان، كل نفس بحسب ما تهديها نزعتها بحيث يكون الحسن عند قوم قبيحًا عند آخرين بلا أدنى مستمد لذلك الاستهجان أو الاستحسان كما يقع من الأمم التي لا ترجع في أمور تشريعها إلى أصل واحد. فالدين باعتبار كونه شرع الله الحكيم العليم بما يلائم في أحكامه الفطر السليمة وهي ولا ريب لا تنابذها بحال؛ لأنه لها كالميزان فإذا نابذته النزعات فماذا على الميزان إذا لم يوف الموزون؟ فليس من الصواب أن نتبع نزعة كل هوى تستحسن أو تستهجن، ونحاول أنْ نجري عليها أحكام الدين فإذا نافرته قلنا: إنها ليست دينًا؛ لأنها خالفت العقل والصواب! قلنا ونقول: إن أصول العقائد الدينية إنما بنيت على أدلة عقلية محضة كافية في إثبات الألوهية لمن لا يؤمن بها، ومعجزات لا سبيل للعقل إلى مصادرتها، كافية أيضًا في إثبات دعوى الرسالة، فإذا اقتنع المكلف بهذا القدر وآمن بأن هناك إلهًا حكيمًا متصفًا بصفات الكمال، منزهًا عن صفات النقص، وأنه أرسل رسولاً معصومًا بلَّغ الناس رسالات ربه الكفيلة بسعادتهم وعزهم في كلتا نشأتيهم انصرف - ولا مرية - كل همه إلى تحقيق ما جاء به هذا الرسول الأمين عن ربه الحكيم للعمل به، فأدلة العامل بعد ذلك سماعية. حاجة المجتهد إلى البحث فيها من حيث صحة النقل وعدمها ليعلم إن كانت من الرسول أو ليست منه، وعلى هذا فالعقل الكامل لازم للمجتهد بلا جدال يتدبر به معاني الأحكام: يرجع بالفروع إلى أصولها المقررة، وبالجزئيات إلى كلياتها الثابتة، ويفصل المجمل في الكتاب بالمفصل من السُّنة، ويستظهر الخفي منه بالجلي منها، والبحث عن علل الأحكام الظاهرة ليقيس غير المقرر على المقرر منها، وغير ذلك من عمل المجتهد في استنباطه من الكتاب والسنة وأخذه بالقياس وانتظامه في سلك الإجماع التي هي أصول الدين على أنه شرع الله الذي بسطه فيها وحصره في دائرتها. أستغفر الله أن يكون في ديننا ما لا يحتمله العقل ولا يسعه تصوره، بل نحن قررنا أن العقل السليم مستحسن لكل ما جاء به الدين الحكيم مستهجن لكل ما نهى عنه الشرع القويم. وإذ كتبنا ما نرى فيه الكفاية فيما يتعلق بأصل الموضوع ننتقل بك إلى تمحيص ما بنيت عليه من المسائل، والله الكافي المعين. مبحث الصلاة جاء إلينا القرآن بها إجمالاً، وفصلتها لنا السنة تفصيلاً، أمر الله بها في كتابه وعلمها جبريل لنبيه تعليمًا عمليًّا وهو عليه السلام علمها الناس وبلغها لهم وقتًا وحدًّا وعدًّا، إذ صلى بهم الصلوات الخمس في أوقاتها المعلومة: الظهر والعصر والعشاء أربعًا، والمغرب ثلاثًا، والصبح اثنتين، وواظب عليها كذلك إلا في خوف أو سفر وأمر بإقامتها بالقدر الذي أقامها به بمثل قوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وشدد فيها وأكد، ووعد عليها وأوعد، وميزها بأنها الفرض المحترم من بين ما سن من سنن وزاد من نوافل، فامتازت بنفسها بين جميع الصحابة والتابعين لهم ومن بعدهم إلى يومنا هذا، والقول بأن الصحابة لم يميزوا بين القدر الواجب عليهم من غيره - في أقصى منازل الغرابة، وكيف ذلك وهم المجمعون على أن تارك النوافل مثل ما قبل مفروضة الصبح وما قبل الظهر وبعده وما قبل العصر - لا شيء عليه عند الله، والناس مع إجماعهم على أن من زاد على المفروضة أو نقص عنها- مثل أربع الظهر وثلاث المغرب عمدًا - بطلت صلاته. ومع إجماعهم على أن من نوى اثنتين في النافلة فصلى أربعًا لا تبطل صلاته، أليس ذلك لتفريقهم بين الواجب وغيره؟ وما إجماع مَن بعدهم على التمييز بين الفرض المحتوم من الله والنفل المتطوع به من عند أنفسهم إلا بعد تمييزهم هم. أدرجت في مطاوي كلامك أنك لا تحتج بعمل الصحابة؛ لأنهم لم يميزوا بين الواجب وغيره بل هم إنما كانوا يحافظون على كل ما رأوا النبي يحافظ عليه , ولا يذهب عنك أن النبي عليه السلام كان يحافظ أيضًا على الذي كان يسميه المسلمون بالنوافل، فكيف يجمعون على أن الآتي بهذه والتارك لها لا حساب عليه؟ لا ألتمس أن أجادلك في هذا بما يخرج عن دائرة كلامك، بل مما قلت من أن: كم من أشياء كان يحافظ عليها النبي ولم يقل أحد من المجتهدين بوجوبها كالمضمضة والاستنشاق، والصحابة كلهم مجتهدون بلا خلاف؟ فهل مع هذا يقال: إن الصحابة لم يميزوا بين الواجب وغيره؟ نعم هم فرقوا الواجب من غيره في الصلاة مثلما فرقوا بينهما في الوضوء كما سلف. صلى النبي عليه السلام رباعيةً وسلم في الثانية فألفَتَ ذلك جميع الصحابة، وابتدره منهم ذو اليدين بقوله: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فأجاب صلى الله عليه وسلم بأنها لم تقصر ثم أتم، وسجد للسهو، ولو كان الواجب يتم بالركعتين ما سأل الصحابي بقوله: أقصرت الصلاة، وأي معنى لقصرها غير كونها نقصت فرضًا عن القدر الذي كان مفروضًا؟ ولو كان أقل الواجب اثنتين كما ترى ولم يعرف ذلك الصحابة كما أشرت - هل كان يجيب عليه السلام بأنها لم تقصر - أي لم تنقص عن القدر المشروع؟ بل ويترك صحبه في مثل هذا المقام لا يعرفون القدر الواجب عليهم بل يزيدهم بمثل هذا الواجب رسوخًا بأن القدر الواجب عليهم إنما هو أربع ركعات لا ركعتان وتعلم أن وظيفة الرسول البيان، وتلك تعمية تضاده كل التضاد والرسول الكريم أفطن قلبًا وأعصم دينًا وأفصح لسانًا من مثل هذا. على أنه قد بلغ وقال: (بلغت اللهم أشهد) ، مع نهاية البيان لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67) وقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وليس من التبليغ المحفوف بالبيان أن يدَع صلى الله عليه وسلم صحبه الكرام يعيشون معبَّدين بما لا يفرقون بين واجبه المشروع المفروض عليهم من الله، ونفله المتطوع به من عند أنفسهم، لهم ثوابه، وليس عليهم حسابه. دعا النبي عليه السلام مؤكدًا مشددًا إلى إقامة الصلوات الخمس (أي: المفروضة المبدوءه بتحريمة واحدة المنتهية بسلام واحد) وأبان أنها الفرض المشروع من الله، وواظب عليها كما قلنا طول حياته، الثنائية منها والثلاثية والرباعية من غير زيادة فيها أو نقص عنها (إلا في خوف أو سفر) ولم يبين أن بعضًا منها مزيد فيها على القدر الواجب، فتعين أن تكون هي كلها القدر الواجب، ونحن نكتفي الآن بهذا القدر من الأدلة ونرجع بنظرة إلى ما اختلج بنفسك من الشبه التي لولاها لم تكن لتشذ عما عليه إجماع المسلمين من عهده عليه السلام إلى عهدنا هذا دون أن يعترضهم فيه شك، أو تعتورهم دونه شبهة، والله سبحانه الموفق. ادعيت أن القدر الواجب في الصلاة ركعتان مستندًا على قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) الآية بناء على أنه يستفاد منها أن القصر، أي ما دون الواجب: ركعة، فيكون أقل الواجب ما فوقها أي ركعتين من غير تحديد للطرف الأعلى، وبعبارة أخرى أن الإنسان غير مكلف بأكثر من تين الركعتين إلخ. ونقول: إن الآية في ذاتها لا يمكن أن يؤخذ منها أن صلاة الخوف للإمام ركعتان أو هي للمؤتمّين ركعة، بل غاية ما يؤخذ منها أن طائفة تقوم مع الإمام، ثم تأتي طائفة أخرى لم تُصَلِّ فتصلي معه، ولكن كم ركعة يصلي الإمام أو المؤتمون؟ هذا ما لم تنص عليه الآية الكريمة، بحيث لو لم تبين السنة لما تسنى أن يقطع مُدَّعٍ بأن المفروض على كل طائفة أن تصلي أربعًا أو ستًّا مثلاً، فمن أين جاءك أن كل طائفة تصلي مع الإمام ركعةً واحدةً، إن قلت: السنة، قلنا لك: هي بعينها حتَّمت على المؤتمين في صلاة الخوف أن ترجع كل طائفة فتصلي ركعةً أخرى بناءً على الأولى بحيث تبلغ صلاة كل من الإمام والمؤتمين ركعتين، وهذا هو القصر بعينه، ولا يجادل في ذلك ابن عباس ومجاهد وجابر بن عبد الله الذين استشهدت بهم، فقولك: إن القصر ركعة واحدة دعوى لا دليل عليها بل قام الدليل على خلافها من الكتاب نفسه، بل من الآية عينها؛ لأن قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ}

خاتمة كتاب أميل القرن التاسع عشر

الكاتب: عبد العزيز محمد

_ خاتمة كتاب أميل القرن التاسع عشر من الدكتور وارنجتون إلى زوجته عن لوندره في 15 مايو سنة -186 شهدت بالأمس أيتها الحبيبة العزيزة عيدًا أهليًّا أقامه الدكتور (أراسم) وزوجته احتفالاً ببلوغ ولدهما الواحدة والعشرين من عمره وكان عددنا اثني عشر صديقًا. كان العيد وليمة رجال زانتها المهابة والوقار ولم يمنع كونها كذلك من انتعاش جميع قلوب المدعوين ابتهاجًا وسرورًا، وفي ختام المائدة ابتدأ رفع الأقداح لتعاطي الراح على محبة (أميل) فقام (أراسم) واستأذن في أن يقرب نخب ولده، وما رأيته في حياتي أفصح مقالاً منه حينئذ فقد أفاض في القول عن الفروض التي تجب على الشاب في معيشته القومية وعن التربية ووجوب أن تكون عمل كل منا في جميع حياته وعن الأزمان الحاضرة واقتضائها من المفكر الذي يستمسك بالآراء المؤسَّسة على البحث والاختبار وأن يثبت عليها، وبالجملة فليس في وسعي أن أؤدي إليك أثر هذا الخطاب الأبوي الذي كانت مزيته الكبرى أنه لم يكن كخطاب الخطباء. وما فرغ منه حتى اتجهت جميع الأبصار نحو (أميل) وأنت قد استطعت منذ عودته من إنكلترا أن تعرفي ما هو متحلٍّ به من ثبات الرأي وعلو الآداب وسعة المعارف، فشكر لأصدقاء أبيه أن تفضلوا بإجابة الدعوة إلى هذا العيد البيتي الحقير بعبارات تشف عن لطيف ذوقه ومزيد تواضعه، ثم ارتقى إلى الكلام عن بعض المسائل العامة فبين الخطة التي يؤمل أن يسير عليها في الناس بألفاظ جلية مؤدية تمام المعنى. وقد أحس كل من سمع قوله بأن جميع ما فاه به عن فكره المستقل، ثم تعاقبت الكؤوس وتوالت الأنخاب! ! وبينما كنا على أهبة القيام من المائدة التفت (أميل) إلى والديه وآذنهما بأن لديه خبرًا يريد أن يُعْلمهما إياه وقد لونت جبينه حينئذ حمرة الخجل مع أن ملامح وجهه كلها كانت تعرب عما فيه من ثبات الرجولية. ما كان أشد دهشي ودهش الحاضرين إذ سمعناه يقول بصوت قوي على ما فيه من الاحتشام أنه من الأمس متفق مع (دولوريس) على التزوج بها. ثم أعقب هذا الإخبار أن انحنى أمام والديه قائلاً: هل لي أن أرجو منكما استحسانكما لهذا الاختيار؟ ! هنالك غشيت وجنتي الفتاة السمراوين سحابة من حمرة الخجل وأغضت عينيها فلألأت بين أهدابهما السوداء الطويلة عَبرات الفرح والهناء. لم تجد السيدة (هيلانة) جوابًا لمسألة ابنها إلا إكبابها على عنقه تقبِّله وقد كادت تختنق سرورًا واغتباطًا، وأما (أراسم) فإنه مع تأثره مثلها مما سمع من ولده كان أملك منها لعواطفه. أجاب ولده بصوت ينبئ عن سكينته ووداعته فقال: إذا كنت تحبها فهي ابنتي، ثم قبل هذه الفتاة الحسناء بصدر منشرح ونفس منبسطة. في خلال هذا المنظر المؤثر طرق البريد باب الشارع طرقتين فاضطرب كل مَن في البيت، وكان يحمل رسالةً كان يرى من غلافها أنها آتية من بلاد بعيدة، كانت هذه الرسالة (لأميل) فاستأذن في فض ختامها؛ لأنه ما لبث أن عرف في عنوانها خط (قوبيدون) وقرأها وكانت بالإنكليزية الركيكة -إنكليزية زنجي - فإذا هي تتضمن تهنئةً من هذا الإفريقي البار (لأميل) بعيد ميلاده ورجاءه - كما هي العادة - في عود كثير من أمثاله عليه بالغبطة والهناء وتشتمل فوق ذلك على خبر سار وهو أن الزروع التي زرعت في أرض (لولا) قد نجحت بفضل حذقه وحذق زوجته وأنها ربما كفلت لها صداقها عند الزواج. إني على جذلي باغتباط أصدقائنا محزون لتفكري في مفارقتهم لنا؛ لأن هذه الوليمة العيدية كانت وليمة وداعي أيضًا فهم راجعون إلى فرنسا حيث يدعوهم إليها ما وقع فيها أخيرًا من الحوادث السياسية وحب مسقط رؤوسهم وإني مشيعهم بأحسن آمالي لهم، لست أنسى كلمةً من كلمات (أراسم) الأخيرة التي فاه بها عند مصافحتنا بصوت ملؤه الوقار والهيبة وهي قوله: على كل منا أن يسعى في جعل ولده رجلاً حرًّا فإنَّا بذلك نجتثُّ جراثيم الشرور المحزنة للأمة اهـ. فرغ من تعريب هذا الكتاب المفيد قبيل ظهر يوم الاثنين أول جُمَادى الثانية من سنة 1324 للهجرة النبوية الموافق للثالث والعشرين من شهر يوليه سنة 1906 للميلاد المسيحي، وقد عزمت بحول الله على جمعه وطبعه كتابًا مستقلاًّ، أسأله سبحانه التوفيق والهداية للرشد. ... ... ... ... ... ... المعرِّب ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز محمد * * * استدراك أو تصحيح سقط من المكتوب العاشر الذي نشر في الجزء الماضي نبذة موضعها بين السطر التاسع والعاشر من ص 716 وهذه هي بنصها: إذ قال: لكن لن يعدم المغلوبون سلاحًا فالذي يبقى من السلاح في أيدي الأمم المغلوبة هو الخطابة وبث الأفكار والمقاومة المعنوية، ولن تخضع الحكومة رعيتها ما داموا لا يستكينون للخذلان، نعم إنها تستطيع في ليلة واحدة أن تسلب حقوقهم وأموالهم وتعدم من يسخطونها منهم، وترهب أنذالهم، وتخدع جهالهم، ولكن هيهات أن يكون هذا هو ظفرها النهائي بهم عنوة. لا تظفر بهم إلا متى أزهقت روح الكرامة الإنسانية من نفوسهم. الأمة الحرة - وهي أمة المستقبل - تزيد وتنمو في ظل حكومة الاستبداد، وستنتصر إذا تقوت بما تكتبه من المعارف، وبما يوجد فيها من عواطف الإنصاف التي تخلص إليها من البحث في حقائق الأمور، وبما تستفيده من القوى التي يختلسها العلم من الطبيعة. لا ريب في أنه ليس كل واحد من الناس مخلوقًا لأن يؤدي عملاً سياسيًّا فلا بد فيه من ملكات وميل خاص، ولكن لكل إنسان بل عليه أن يرتأي لنفسه رأيًا في مصالح عصره وبلاده، ولست ملزمًا بأن تأخذ بشيء من ماضيَّ ولا من آرائي؛ فكل جيل مستعد لأن يعمل عمله بنفسه وملزم بأن يسترشد فيه بما يستجدُّ من حاجات أمته، وإنما عليك أن تعلم أنه لا يكفيك أن تطعن في الأوضاع القديمة لهدم بنيانها، بل لابد أن يُثبت لك العلم كذبها أو عدمها وإذا أردت أن تظفر بخصمك.

الدعوة إلى المدرسة الجامعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى المدرسة الجامعة هذا ما كتبته اللجنة التي كانت انعقدت في دار سعد باشا زغلول ونشر في الجرائد وهو من إنشائه: ظهر بمصر في هذه السنين الأخيرة حركة نحو التعليم تزداد كل يوم انتشارًا في جميع طبقات الأمة، ورغم ما تبذله الحكومة من الجهد في توسيع التعليم فإنه غير كافٍ للقيام بحاجات الأمة والزيادة المستمرة في ميزانية نظارة المعارف لا تفي بمطالبها، ولذلك التجأت الحكومة لأن تحرك همم الأفراد وتهز من غيرتهم لمساعدتها على نشر التعليم فنهضوا لمعاونتها وتسابقوا إلى الاكتتاب في إنشاء المكاتب وأقبلوا على تأسيسها كل إقبال مع عدم تعودهم على القيام من أنفسهم بمثل هذه الأعمال فإنه لا يمر يوم إلا وترى فيه إنشاء مكتب جديد في جهة من جهات القطر، ولا يبعد أن نرى عما قليل أن هذا الغراس قد نما وأزهر فتجني أولادنا ثماره ولكن من الأسف أن الحكومة والأفراد مع اعتنائهم كثيرًا بنشر التعليم الابتدائي لم يتمكنوا من توجيه العناية للتعليم العالي بل أهملوه إهمالاً تامًّا، ولا نشك في أنهم إنما اهتموا أول الأمر بما رأوا أن الحاجة شديدة إليه وأنهم لم يجدوا من المال والزمان ما يساعدهم على الاشتغال بالتعليم العالي. ولكن يسرنا أن نرى أن الأمة قد شعرت الآن بأن هناك نقصًا في التعليم يجب عليها سده وتردد في خواطر كثير من أفرادها منذ عشر سنوات تقريبًا إنشاء جامعة وأخذت هذه الفكرة مكانًا عظيمًا من اهتمامهم حتى شرعوا عدة مرات في تحقيقها غير أنهم لم يوفَّقوا؛ لأن الفكرة لم تكن فيما يظهر ناضجة حتى تخرج من عالم الأمل إلى عالم العمل. في هذه السنة هبّ في الرأي العام تيار من نفسه لتحقيق هذه الأمنية؛ لأن الأمة انتبهت بأن تفهم تمام الفهم أن طريقة التعليم فيها ناقصة ودائرته ضيقة تقف وتنتهي بالطالب قبل بلوغ الغاية، وأن من وراء الحدود التي انحصر فيها معارف سامية وحقائق عالية وقضايا جليلة ومشكلات غامضة تشتاق النفوس إلى حلها واختراعات جديدة وتجارب بديعة واختبارات كثيرًا ما شغلت وتشغل عقول كبار العلماء في أوربا ولا يصل إلينا منها إلا صداها الضعيف فمنها ما يختص بالوجود، وما يتعلق بالهيئة الاجتماعية، وما يبحث فيه عن لغة الإنسان وعن الآداب والفلسفة والشرائع والتربية وكل ما يهم ماضي الإنسان وحاضره ومستقبله هو موضوع علوم شتى لا يعرف واحد شيئًا منها ولا يهتم بما كمل منها ولا بما هو سائر نحو الكمال، وأبلغ من ذلك أنه لا يوجد لدينا درس تعرف منه قيمة المؤلَّفات العربية في الآداب والفلسفة والعلوم، ولا قيمة من اشتهروا من مؤلفيها عند الأوربيين الذين بحثوا عنهم وعرفوهم فوفوهم حقهم من الإجلال والاحترام. إن جميع الذين يشعرون منا بنقص تربيتهم العقلية يرون من الواجب أن التعليم يجب أن يتقدم خطوةً في بلادنا نحو الأمام، وأن أمتنا لا يمكنها أن تُعد في صف الأمم الراقية لمجرد أن يعرف أغلب أفرادها القراءة والكتابة، أو أن يتعلم بعضهم شيئًا من الفنون والصناعات كالطب والهندسة والمحاماة، بل يلزم أكثر من ذلك. يلزم أن شبابنا الذين يجدون في أوقاتهم سعةً ومن نفوسهم استعدادًا يصعدون بعقولهم ومداركهم إلى حيث ارتقى علماء تلك الأمم الذين ينشغلون آناء الليل وأطراف النهار بالهدوء والسكينة؛ لاكتشاف الحقيقة ونصرتها في العالم. هذا هو العمل الذي نريد أن نشرع فيه ونطلب المساعدة عليه من جميع سكان القطر. نحن نعلم أن عمل الحكومة وحده لا يفي بكل حاجاتنا وأنه مهما كان لديها من الرغبة ومن القوة فلا تستغني عن مساعدة الأفراد لها، ولذلك نأمل أن يسمع نداءنا كل ساكن في مصر مهما كان جنسه ودينه. ربما اختلفت الأفهام في حقيقة المشروع الذي ندعو إليه ولذلك وجب علينا أن نبين بالإجمال المقصود منه: (أولاً) إن الجامعة التي نريد إنشاءها هي مدرسة علوم وآداب تفتح أبوابها لكل طالب علم مهما كان جنسه ودينه. (ثانيًا) ليس لهذه الجامعة صبغة سياسية ولا علاقة لها برجال السياسة ولا المشتغلين بها فلا يدخل في إدارتها ولا في دروسها ما يمس بها على أي وجه كان. (ثالثًا) إن اشتمال الجامعة على درجات التعليم الثلاث وهي: العالي والتجهيزي والابتدائي - وإن كان من أقصى الرغبات التي يلزم بذل الجهد في تحقيقها عاجلاً أو آجلاً ومن ضمن ما ترمي إليه غايتنا - متعذر الآن؛ لأنه يكون مشروعًا جسيمًا جدًّا، وتنفيذه برمته دفعةً واحدةً يستدعي نفقات وعمالاً ونظامات لا يتيسر الحصول عليها الآن، فلا بد من التدرج في تنفيذه والبدء فيه بما يمكن عمله وتقديم ما الحاجة إليه أشد من غيره. نرى أن التعليم الابتدائي والثانوي والفني موجود الآن في هذه البلاد بمقدار ما يفي بحاجاتها على حسب الإمكان، ويظهر أنه يمكننا بدون أن نخشى ضررًا أن نؤجل الاشتغال بهذه الأنواع الثلاثة من التعليم، وأن نوجه جميع مساعينا الآن إلى تأسيس دروس عالية مما لا وجود له عندنا ولا يمكننا الاستغناء عنه. دروس علمية وأدبية وفلسفية تنور عقول طلابها، وتربي ملكاتهم، وتهذب عواطفهم، وتبلغ بهم مراتب الكمال في أنواع ما يتلقون منها. دروس تؤخذ عن أساتذة يُنتخبون من رجال العلم هنا وفي أوربا تحت إدارة لجنة علمية يرأسها رجل من أهل الفن ذو خبرة تامة بالتعليم، ولا حاجة للقول بأن عدد هذه الدروس وموضوعاتها وأهميتها يتعلق بما يكون للجامعة من الإيراد. (رابعًا) يلزم أن يكون للجامعة تلامذة خصوصيون وهم الذين يقيدون أسماءهم في دفاترها ويلازمون تلقي الدروس فيها المدة التي تقرر لها، ويمتحنون فيها ويحصلون على شهادتها، وتكون لهذه الشهادات قيمة أدبية مع الأمل أن الحكومة تمنحها المزايا التي تراها جديرةً بها في المستقبل، ومع ذلك فإنه يباح لكل راغب في التعليم من غير هؤلاء التلامذة أن يحضر دروسًا لها؛ ليفقه في العلم وليقتبس منها ما يتمم به كماله العلمي. (خامسًا) أن جمعية المكتتبين تنتخب لجنتين: إحداهما فنية لوضع نظام الجامعة وما يتعلق بلوازم التعليم فيها، والأخرى لجمع الاكتتابات من المتبرعين، هذا هو مشروع أول من اكتتبوا لتأسيس الجامعة المصرية التي اعتادت أن تقوم في وجه كل مشروع فنقف به دون الغاية فنقول لهؤلاء: إننا سنسعى جهدنا لتحقيقه، وإذا سعى كلٌّّّ سعينا فلا شك في نجاحه؛ لأنه لا معنى للنجاح في مثل هذه المشروعات إلا أن يتحد الكل، ويعمل الكل، فكل يائس يدعو إلى الخيبة، وكل آمل يدعو إلى النجاح على أننا إذا لم نتمكن من الوصول إلى تمام المطلوب فإننا نرجو الله أن يوفق لإتمامه غيرنا ممن وهب لهم همةً أعلى وفكرًا أسمى وحزمًا أقوى وأملاً أوسع. وبعضهم - وهم الأكثر - يرون مشروعنا جزئيًّا ليس له من الأهمية ما كانوا يرغبون فنقول لهؤلاء: إن نجاح كل عمل يتوقف على معرفة العامل مقدار قوته، وإن التدرج في الأمور أقرب إلى النجاح فيها من الطفرة، والتأني في السير أضمن للوصول إلى الغاية، ونجاحنا في هذا المشروع الجزئي يشجعنا على الاستزادة فيه وتوسيع حالته، فإذا جاء اليوم الذي نشعر فيه بأن في قوتنا أن نوسع دائرة التعليم وننفذ كل مشروعنا وضعنا أيدينا وسرنا جميعًا متكاتفين إلى تلك الغاية السامية , والله ولي التوفيق اهـ. (المنار) إن اللجنة التي اجتمعت لأول مرة في دار سعد باشا زغلول ونشرت هذه الدعوة قد انتخبت أعضاء الدعوة، وجعلت سعدًا وكيل الرئيس الذي أرجئ انتخابه ثم إن سعدًا عُين ناظرًا للمعارف العمومية فاضطر إلى الاستقالة من الوكالة؛ لأن ما حدث له من الشغل الكثير يمنعه من القيام بكل ما تقتضيه، ولكنه لا يزال يساند اللجنة وقد اختير قاسم بك أمين وكيلاً للجنة بعده وهو قريعه في الهمة والنشاط ويرجى أن يكون الرئيس من الأمراء , وعلى الله المتكل في نجاح العمل.

كيف يكون النقد؟

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ كيف يكون النقد؟ [*] كلام في كتاب التعليم والإرشاد ومسائل شتى وقع نظري على كتاب ظهر في هذه الأيام عنوانه: (التعليم والإرشاد) كتبه (السيد محمد بدر الدين الحلبي) قرأته فسرني أن مؤلفه كتبه بتفكر - والمتفكرون قليل - ولم يسؤني أن كثيرًا من نتاج ذلك الفكر تأباه الأدلة وتنكره معارف العارفين؛ لأن المؤلف ليس أول واحد ذهل أو خطأ بل بنو آدم شرع في وقوع الخطأ منهم، ولا يخلص من مثل هذا إلا من أخلصهم الله من عباده المصطفَيْن. وسرني أن كاتبه لم يأبَ أن تُنتقد آراؤه التي حررها فلهذا أقدمت على ما لا يسوءه من نقد هذا الكتاب. اشتهر عند الناس أن معنى النقد والانتقاد هو الذم والطعن وليس كذلك وإنما النقد هو التمييز وكشف خوافي الشيء فتقول: هو حسن، وقد تنقده فتقول: هو رديء وقد تقول: غب النقد أن فيه ما يصلح وما لا يصلح , وفوائده كثيرة أهمها حمل الكاتبين على التحري والإجادة ومحاسبة أنفسهم على ما يكتبون وذلك مدعاة الكمال. والذين يقولون في آراء الناس هذا خطأ وهذا صواب قد كتب العدل عليهم أن ينظروا بالتي هي أحسن لقول الناس في آرائهم، ولا أرى مؤلف هذا الكتاب إلا من أهل العدل من أجل ذلك أطمع أن ينظر إلى قولي في آرائه بالتي هي أحسن. ولو كان خطأ المؤلف مما لا يُحصى كبعض المؤلفات لما صرفت شيئًا من الوقت في نقد كتابه ولكن ما هنالك من ذهول أو خطأ نراه يعد، والخطأ المعدود لا ينقص قيمة صاحبه. وقد يكون الخطأ مما يحصى ولكنه كثير فلا يستطيع المحصي أن يحيط به كله وهذا شأني في هذا الكتاب فقد تتبعته فوجدت الخطأ فيه كثيرًا ورأيت الإحاطة بالكل صعبةً فاقتصرت على المهم وهو في نحو ثلاثين موضعًا. ومن استكثر ثلاثين خطأً كبيرًا في كتاب صغير كل ما فيه أنه أسهب وأبدأ وأعاد في وصف حال التعليم قد يقول: إن هذا الكتاب مملوء غلطًا. فنقول لهذا: إن الكتاب يشفع له اهتمام المؤلف بهذا الموضوع ومشاركة مؤلفه - وهو أزهري - للذين ينادون على الأزهر بالعيوب، وقد أسلفنا أن الخطأ المحصَى لا يستدعي انصراف النظر وإنما يستدعي التذكير وهو ما أردنا بهذا التحرير. التناقض الذي هو في الكتاب رأيت كثيرًا من التناقض في عبارات المؤلفين ولكن لم أَرَ أغرب مما في هذا الكتاب من التناقض؛ لأنني صادفت مؤلفين تطول عليهم المسافة بين موضع وموضع من مواضع الكلام فيأتون في كل موضع بكلام ينقض ما أبرموه في الموضع الآخر، وههنا صادفت التناقض في الموضع الواحد والعبارة الواحدة وصادفته في صفحة والتي بعدها وصادفته فيما هو أبعد من هذا، ولكنه بعد لا يعتد به. والذي أحاط به إحصائي من مناقضات هذا الكتاب يجده المطلع كما وجدته في خمسة مواضع: الأول: ذكر في أول التمهيد في عبارة واحدة من غير انفصال أن وظيفة الدعوة إلى الدين (غير موجودة) عندنا معشر المسلمين وفي العبارة نفسها ذكر أنها (موجودة) وهذه عبارته (ص9) ليس يشك أحد في أن لكل دين من الأديان حملة.. ومرشدين.. ودعاة.. وفي (ص10) لا نعرف للدعاة اسمًا عرفيًّا يخصهم عندنا نحن المسلمين (إذ ليس لهم وجود) حتى يضع لهم العرف اسمًا. لا أقول: إن رجال كل فريق من الثلاثة غير رجال الفريق الأول وإن لكل وظيفة من هذه الوظائف الثلاث رجالاً غير رجال الوظيفة الأخرى وإنما أقول: إن من هذه الوظائف الثلاث موجودة عند أهل كل دين من الأديان. هذه عباراته ولا أرى أحدًا مهما ضعف فهمه يجهل أن بين كلمة (موجودة) و (غير موجودة) تناقضًا صريحًا لا يحتمل التأويل ولا يحتاج لإقامة دليل. الثاني: ذكر في موضع أن التعليم في مصر خير منه في البلاد الإسلامية كلها وذكر في موضع أن نتائج التعليم عند طلبة الأتراك أحسن منها عند المصريين وذكر في موضع أن نتائج التعليم عند أهل الشام وأهل العراق أحسن منها عند المصريين وهذه عبارته: قال في (ص 68) : ومن ذلك ترى أن نتائج التعليم عندهم - يعني طلبة الأتراك - أحسن منها عند المصريين، فالطالب التركي يتعلم اللغة العربية وطرفًا من قواعدها في مدة أربع سنوات بحيث يمكنه أن يتكلم باللغة العربية الفصحى كلامًا خاليًا عن اللحن وإن وُجد فقليلاً، وإن كتب فكذلك. على حين أن الطالب المصري بعد عشر سنوات لا يمكنه ذلك إلا على سبيل الندرة والشذوذ. وقال في (ص69) : ونتائج التعليم عندهم - يعني أهل الشام والعراق - أحسن منها وأوفر منها عند المصريين؛ لأن لهم بعض عناية بتطبيق العلم على العمل. ثم قال في (ص 85) : وإذا كان هذا حال العلم والتعليم بمصر وهذه درجته في الاختلال وكان على علاّته بمصر خيرًا منه في سائر البقاع الإسلامية من الشام والغرب والعراق والهند وتركستان وبُخَارَى وقازان والروم ايلي والأناطول فكيف ترى حالة العلم في البلاد الإسلامية وهل شيء يساويها اعتلالاً واختلالاً؟ ! ثم قال (في ص 88) : ولقد كانت الحالة العلمية في البلاد الإسلامية وفي مصر بنوع أخص في درجة سيئة جدًّا. الثالث: ذكر في فصل خرج به عن الموضوع من كلام طويل في (ص 113) أن المسلمين لا توجد فضيلة توجد في أمة من الأمم إلا وهي موجودة عندهم وما من رذيلة توجد في المسلمين إلا وهي موجودة عند الأمم الأخرى، وفي آخر العبارة الطويلة نقضها من حيث لا يشعر بقوله: (فليس في الحقيقة من ذنب لهم سوى أنهم فقراء أفذاذ لا رابطة ترابطهم ولا جامعة تجمعهم) بل قد نقضها بكتابه كله من أوله إلى آخره؛ لأنه ناطق بمبلغ الجهل الذي وصلوا إليه، وليت شعري، أي عيب أكبر من الجهل وأية أمة من أمم أوربا يشينها من الجهل ما يشين هذه الأمة المسكينة؟ أليس هذا المؤلف نفسه يقول (في ص11) : إن وظائف التعليم والإرشاد والدعوة أصبحت معتلةً مختلةً فماذا يصلح الفساد إذا فسد في الأمة أهل هذه الوظائف - كما يقول - وهم الملح؟ ! أليس المؤلف نفسه يشكو من هذا الفساد العام؟ أما هو القائل (في ص41) : وأصبحت مصالح العباد مهجورةً والحقوق مهدرةً والمستجير بأحدهما - يعني القانون الوضعي والقانون الشرعي - كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ ! وشرح الحالة الحاضرة بأزيد مما أشرنا إليه مشكل جدًّا والبصير إذا التفت عن يمينه مرةً وعن شماله مرةً أخرى عرف مقدار الشر والفساد الواقعَيْن على رؤوس العباد.. هذا قوله، أفلا يجد المرء فيه جوابًا على سؤاله الطويل الذي قال فيه: لو بسطنا صفات الكمال واحدةً واحدةً وسألنا المنصف أن يذكر لنا أي صفة من هذه الصفات تجرد عنها المسلمون لم يجد واحدة يقال إنهم قد تجردوا عنها..؟ ! كلا، بل يجد جملة لا واحدة وكتابك يا صاحبنا شاهد على البعض من هذه الجملة، وكتابك كله ينقض قولك هنا ولقد أجدت في هذه الخطبة التي أسهبت فيها ولكن فاتك النظر إلى سر هذا الفقر الذي ذكرت، وسبب هذا التمزق الذي وصفت، وليس هذا هو الذنب كما قلت بل هو من آثار الذنوب، ومن نتاج العيوب، وأبو الكل الجهل وكفى! الرابع: قوله (ص164) في علم التوحيد: إنه من العلوم المضرة وإنه يجب تركه والإعراض عنه كلية وقد سبق قوله فيه (ص134) : إنه والفقه هما العلمان الوحيدان المقصودان لذاتيهما وكل ما عداهما من العلوم فإنما هو وسيلة إليهما أو وسيلة لما هو وسيلة إليهما، وقال (في ص135) : إذا تدبرت هذه المقدمة التي ذكرناها لك علمت أن جميع أصناف العلوم الشرعية كلها آلات لعلم الفقه والتوحيد وليس غيرهما بينها من علوم المقاصد. الخامس: قال (ص220) في المرحوم الأستاذ الكبير الشيخ محمد عبده: إنه كان ذا تفريط في أمر العلوم الشرعية ومبالغًا في قلة العناية بها , ونقضه بقوله فيه (ص122) : إنه اشتغل مدة حياته بإحياء العلوم الإسلامية. هذه هي المتناقضات الصريحة وما نظنها وقعت منه إلا ذهولاً. ولئن أزعج هذا الانتقاد نفس المؤلف فإن الانزعاج في مثل هذا نافع، فمن وطَّن نفسه على مرارة الانتقاد فكانت علاجًا لذهوله كان ذلك خيرًا له من الإباء وطموح الشهوة بالنفس إلى طلب حلاوة التفريط التي قد تضر بصحة النهى، والله ولينا وبه الاستهداء وكلنا يقع منا الذهول وقد سلف هذا وإنما أعدناه قمعًا لعادة النفس فمن شأنها الإباء على المذكّرين. ومع هذه المناقضات الخمس ترى في العبارات التي حوتها كثيرًا من الخطأ فنعده تابعًا لما قبله. الخطأ السادس والسابع والثامن والتاسع كلها في قوله (ص9) : إنه لا يشك أحد في أن لكل دين من الأديان حملة ومرشدين ودعاة: (1) ففي نفي الشك من كل أحد بهذا المعنى خطأ؛ لأنه ليس من المعاني التي يجزم كل أحد بها جزمًا باتًّا عامًّا لعدم الاستقراء. (2) في دعوى وجود هذه الوظائف الثلاث في كل دين خطأ؛ لأنه إن قصد أن الأديان نفسها تنص على هذه الوظائف الثلاث فذلك غير صحيح؛ لأن ديننا - وهو الذي يصح لنا وله أن ندعي المعرفة به فقط - نجده على أمره بالدعوة والتبليغ لا ينص على هذه الوظائف الثلاث لا بأسمائها ولا بالتفريق بين معنى واحدة والأخرى، وأظن أن المؤلف لا يعرف دينًا آخر غير هذا الدين فلم أدرِ كيف حكم على الأديان كلها وهو يجهل أسماءها، دعْ عنك ما تنطوي عليه! وإن قصد أن هذه الوظائف الثلاث موجودة في الواقع عند أهل كل دين فهو كذلك غير صحيح وقد شهد نفسه أن وظيفة الدعوة غير موجودة عند المسلمين، وليعلم أنها غير موجودة عند اليهود. فكأنه لما رآها موجودةً عند النصارى ظن أنها موجودة مع تينك الوظيفتين اللتين سماهما عند أهل كل دين. (3) وفى تفريقه بين وظيفة الحملة والمرشدين خطأ؛ لأن الحملة إن أدوا ما تحملوا يكونوا قد أرشدوا أو دعوا وإن لم يؤدوا لم تكن لمعرفتهم ثمرة فليسوا أصحاب وظيفة. والمرشدون والدعاة إذا كانوا علماء فهم من الحملة، وإن لم يكونوا من الحملة لم يكونوا من المرشدين ولا الدعاة بل من الغاشّين الوضاعين المفترين على الدين- كما وصفهم هو- والغش والإضلال والافتراء على الدين متى كانت وظائف في الدين؟ ! (4) في إيهام الناس أن المؤلف يعرف كل الأديان خطأ كبير , وهناك خطأ لا نحصيه عليه وهو التكرير في قوله: (لا أقول إن رجال كل فريق من الثلاثة غير رجال الفريق الأول، وإن لكل وظيفة من هذه الوظائف الثلاث رجالاً غير رجال الوظيفة الأخرى) فليتأمل وليتأمل معه من يشاء ممن يكابر في أن هذا ليس بتكرير , ففي هذه العبارة الواحدة ثلة من الخطأ، بل يكاد إذا ضممنا إلى ما ذكرنا هنا التناقض الذي أوضحناه - أن يكون في كل كلمة من كلماتها خطأة وهي أول عبارة في التمهيد. الخطأ العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر (1) في قوله (ص68) : إن نتائج التعليم عند طلبة الأتراك أحسن منها عند المصريين. و (2) في قوله: إن الطالب التركي يتعلم اللغة العربية وطرفًا من قواعدها في مدة أربع سنوات بحيث يمكنه أن يتكلم باللغة العربية الفصحى كلامًا خاليًا من اللحن وإن وجد فقليلاً وإن كتب فكذلك. و (3) في قوله: إن الطالب المصري بعد عشر سنوات لا يمكنه ذلك إلا على سبيل الندرة والشذوذ. و (4) في قوله (ص85) : إن حال العلم والتعليم في مصر على اعتلاله خير منه في سائر البقاع الإسلامية , وفي قوله (ص69) : إن نتائج التعليم عند أهل الشام أحسن منها وأوفر عند المصريين؛ لأن لهم بعض عناية بتطبيق العلم على العمل. و (5) في ادعائه أن هناك نتائج حسنة لهذا التعليم مع مناقضة هذه الدعوى لكتابه كله من أول إلى آخره. قد سلف التنبيه على ما في هذه الجمل من المناقضات والآن نبين ما فيها من الخطأ في هذه الأحكام التي ادعاها. أما قوله:

ديوان الرافعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ديوان الرافعي قال في أول باب التهذيب والحكمة من قصيدة في حال مصر الاجتماعية: على أي دهر مصر لا تتندم ... وفى أي دهر مصر لا تتظلم بنوها بنوها أيما تكُ صدمة ... تقلبهم للجانبين فهم هم وما يتقون البؤس لكنهم متى ... تعَضّ بهم أنيابه يتألموا ويبطرهم عهد الرخاء فإن مضى ... فسهل عليهم بعد أن يتندموا كذي مرض في جاهلي الطب إن يعش ... يعذبه أهلوه وإلا ترحموا وما برحوا إن خاذلتهم ظنونهم ... وأعمالهم مدوا المنى وتوهموا وإن سقمت آراؤهم في ملمة ... تحامل فيها الظن والظن أسقم فرادى وأحداث الزمان جميعة ... وقد علموا سرّ الزمان وعلموا فمن حادث في حادث عند حادث ... كأنك للأحداث يا مصر معجم ومما يزيد الهم لهفًا وحسرةً ... تصايح فتيان بنا أن تقدموا فسبحانك اللهم بلبلت قومنا ... فما يفهم المسكين فينا المنعم يريدون أن يجري إلى مرتقى العلا ... رجال ضعاف إن جروا يتحطموا ويبغون أن نرقى وهاتيك حالنا ... وما عندنا - إلا لأسفل - سلم كمن يُكره الأطفال أن يحفظوا الذي ... يكلمهم من قبل أن يتكلموا ومن أوقر السفن المتاع بمصنع ... ولما يتموها فكيف تعوَّم وقال من قصيدة غزلية: كم تجنى التي أحب وعندي ... أن بعض العصيان كالطاعات إن رأتني يدق ناقوس قلبي ... من جفاها كدقة الأموات فهبي ظلمة الليالي إذا ما ... غشت الأرض والسما هفواتي أو ليس الظلام يعقبه الصبح ... وتمحى الآيات بالآيات غير أني لو كانت الشهب أقلا ... مي وكان الظلام حبر دواتي ووصفت الذي أقاسي من الحب ... وكان الوجود من صفحاتي لانطوى الكون ثم أبصرت في آ ... خر أوراقه (البقية تاتي) هذا وإنني لا أتكلم في انتقاد الديوان ولكنني أنصح للناظم أن يفكر عند النظم أو عند التنقيح في معاني الأبيات التي تبقى بعد القراءة في ذهن القارئ لا في التأثير فقط فإن من تخيلاته أو من أبياته ما يروع لفظه وسبكه السمع حتى إذا تأمله القارئ لم يجد له معنى يستقر عنده الفهم!

سقوط نابليون الثالث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سقوط نابليون الثالث قصة سياسية غرامية ترجمها عن الفرنسية نقولا أفندي رزق الله مدير أعمال جريدتي الأهرام العربية والفرنسية وطبعها على نفقته خليل بك صادق صاحب مسامرات الشعب فكانت ثلاثة أجزاء. ومن قرأ القصة بإمعان واعتبار يرى فيها فائدتين إحداهما سياسية وهي ما تمثله القصة للذهن من رياء الملوك وأعوانهم بظهورهم للناس بلباس العدل والتفاني في حب الأمة والقيام بمصالح الدولة وهم إذا خلَوْا بأنفسهم لم يكن لهم همّ إلا الاتجار بتلك المصالح ومحاربة الأمة بالحيل والدسائس، فجميع بطانة نابليون كانوا من الأشرار المفتونين بجمع المال الحرام وأكل السحت المحادّين للأحرار والأخيار الذين يتفانون في إعلاء شأن الأمة الفرنسية , وكانوا في مطاردتهم لهم وإيقاعهم بهم يطبقون أعمالهم على القانون بالدسائس والحيل والتزوير والختل , وما أنسى لا أنسى ذلك الذي ألف كتابًا في مفاسد القِمَار فأحسن مكافأته نابليون وأظهر للناس أنه يريد بذلك أن تكثر أمثال هذه المؤلفات التي تطهر البلاد من هذا الفساد ولو صدق وأخلص لطهر قصره منه فإنه كان أكبر بيوت القمار في الدنيا وهكذا شأن الملوك وأعوانهم مادام لهم سلطة شخصية من دون الأمة. والفائدة الثانية حكاية ذلك الرجل الذي كان خادمًا في الإصطبل فارتقى بجده وكدّه حتى صار عالمًا سياسيًّا وغنيًّا سخيًّا وفاضلاً وفيًّا فحارب دسائس حزب العاهل العظيم حتى فاز بمراده، وثأر للمحسنين إلى أهله وأولاده، فسيرة مثل هذا الرجل تحرك همة المستعد للاستقلال، حتى ينهض بجلائل الأعمال , وثمن القصة ثلاثون قرشًا صحيحًا.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (كلمات في الأستاذ الإمام ذكرنا بعضها في ترجمته) قال إبراهيم باشا نجيب وكيل نظارة الداخلية: إن الناس لا يعرفون قدر الشيخ محمد عبده إلا بعد ثمانين سنة (يعني أن كل ما ظهر من إجلال الأمة له حيًّا وميتًا دون قدره) . وقال المشير أحمد مختار باشا الغازي: إنني أعتقد أن دماغ هذا الرجل هو أعظم دماغ عرف ولو وزن لرجح بكل دماغ من أدمغة الرجال العظام الذين عرف الإفرنج وزن أدمغتهم , وقال: لما قرأت في الجرائد خبر موته (وكان في أوربا) ضاق عليَّ المكان الذي كنت فيه؛ لأن الخسارة بفقده لا عوض عنها. وقال رياض باشا وزير مصر الأكبر للشيخ عبد الرحمن الدمرداش وكان ملازمًا لفراش الفقيد في مرض موته: إننا كلنا شاكرون لك فإنك لا تخدم رجلاً وإنما أنت تخدم الأمة في هذا الرجل , وقال في موته: خسارة لا تعوض , وقال اللورد كرومر: إن هذا الرجل لا ذنب له إلا أنه أنورُ أهل بلاده , وقد قال له بعض وجهاء المصريين مرةً إن كل أعمال جنابكم محصورة في إصلاح الحكومة فنرغب إليكم أن تعملوا عملاً لترقية المسلمين في مصر فإنهم لم يتعودوا الأعمال الاجتماعية , فقال اللورد: اعملوا أنتم وعليَّ أن أساعدكم فمَن لا يرقي نفسه لا يرقيه غيره , قال المصري: إنه ليس عندنا رجال يهمهم أمر الأمة ويقدرون على العمل النافع لها! فقال اللورد: بل عندكم رجلان غيوران مقتدران وهما الشيخ محمد عبده ورياض باشا فساعدوهما بالمال وهما يعملان للبلاد ما تحتاج إليه من الترقي، أو ما هذا معناه، وبلغنا أنه قال - في جواب مَن قال إن الشيخ محمد عبده متهاون بالدين -: إنه بالعكس متعصب للدين ولكن بعقل! . وقال الشيخ محمد توفيق البكري: إن الفراغ الذي تركه الشيخ محمد عبده لا يملأه شيء؛ فقد كان كما قال المتنبي: ملء السهل والجبل وقال: عجبت للموت كيف تجرَّأ على الشيخ محمد عبده؟ ! ! ! وقال: لو ترك الشيخ محمد عبده منصبه واشتغل بنفسه للأمة لأحدث انقلابًا عظيمًا. وقال الدكتور يعقوب أفندي صروف - بعد أن سمع المؤبِّنين عند القبر يكررون كلمة فقيد مصر وفقيد الإسلام -: إننا لا نرضى أن يكون فقيدكم وحدكم، بل نقول: إنه أكبر من ذلك، إنه فقيد الشرق كله! * * * (دولتا الإسلام تركيا وإيران) يا حسرةً على المسلمين، ماذا يلاقون من البلاء المبين، وأكثرهم عن مثاره غافلون، لم يكد تتمتع منهم الآذان بنغمة وضع القوانين لإصلاح حكومة إيران، حتى صختها أخبار اعتداء الدولة التركية على حدود شقيقتها الفارسية، حتى كأنها تريد أن تشغلها عن إصلاح شأنها، أو تنتقم منها إذا هي أصرت على عزمها، أو كأن خذلان المسلمين قضى بأن يكون بأسهم بينهم شديدًا، وأن ينتقم بعضهم من بعض حتى لا يتعب عدوهم في التنكيل بهم والقضاء عليهم بل تكون بلادهم غنيمةً باردةً له. وإلا فما لنا الآن ولحشر الجيوش على حدود جارتنا وشقيقتنا ولاعتدائنا على جزء من أرضها ونحن مرتطمون في فتنة اليمن الذي توالت السنون ولم ننل من الثائرين فيها منالاً، بل كانت الحرب بيننا سجالاً، وكان من أثر ظلمنا لأنفسنا أن نسفك دماءنا بسيوفنا، ونخرب بيوتنا بأيدينا. يا حسرةً على المسلمين أضاعوا دينهم فأضاع الله دنياهم ومزق ملكهم حتى صاروا شرًّا على أنفسهم من أعدى أعدائهم، وسوادهم الأعظم لا يدري من أين جاءته هذه البلايا، ونزلت به هذه الرزايا، فهو يتهم بها البُرَآء ويبرئ الجناة الظالمين، وهل هم غير الرؤساء المستبدين؟ هؤلاء مسلمو الترك والفرس يناوش بعضهم بعضًا والدول الأوروبية تتحد عليهم فهل يستطيع المسلمون أن يحكِّموا فيهم قول الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) كيف وهذا القول الحكيم مبني على أساس حكم الإسلام وهو كون حكم المسلمين شورى بينهم، لا يستبد به فرد من الأفراد , ونحمد الله أن القتال لم يمتد ونسأله أن يهب للفريقين التوفيق للوفاق حتى لا تمتد الفتنة. * * * (الامتحان في الجامع الأزهر) ألفت إدارة الأزهر ثلاث لجان أو أربعًا لامتحان الذين أتموا مدة الدراسة، وهم كثيرون جدًّا فامتنع كثيرون من كبراء الشيوخ أن يكونوا من أعضائها؛ لأن شاكرًا نائب شيخ الأزهر هو المؤلف لها والرقيب عليها فكان أكثر أعضائها من غير المشهورين ومنهم من صاروا مدرسين من عهد قريب ولكن هذه اللجان قامت بالامتحان بنظام واهتمام وقد رأينا الأزهريين المنصفين يفضلون نظام هذا الامتحان على ما كان قبله، ولم نسمع الآن ما كنا نسمعه في السنة (الدراسية) الماضية من أخبار المحاباة والرشوة، والفضل في ذلك لمراقبة الشيخ شاكر ويقظته، فله الشكر والثناء الحسن , ولعل ما سمعناه من أخبار التساهل وإعطاء الدرجات لأفراد لا يستحقونها مبالَغ فيه ولعل الشيخ شاكرًا يعنى بتحقيق الحق في ذلك. * * * (أخبار نجد) كان عدد الجنود التي أرسلتهم الدولة العلية إلى نجد ستة آلاف جندي فكان من شأن فيضي باشا ما ذكرناه في أجزاء السنة الماضية ومن أمر سامي باشا ما ذكرناه في الجزء السابع من هذه السنة، ونقول الآن: إن الجوع برّح بأولئك الجنود حتى كانوا يجمعون الحنظل من القفر ويستخرجون بذره فيغلونه على النار حتى تخف مرارته فيتبلَّغون به ولكن سمه يفعل في أحشائهم فعله ومازال الجوع والعري وسم الحنظل يفتك بهم حتى لم يبقَ منهم إلا ألف وثمان مئة رجل فأشفق عليهم الأمير ابن سعود فأعطاهم رواحل نقلت سبع مئة منهم إلى البصرة والباقين إلى المدينة المنورة.

فاتحة كتاب محاورات المصلح والمقلد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة كتاب محاورات المصلح والمقلد بسم الله الرحمن الرحيم ] فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [[1] . اللهم اجعلنا من عبادك الهادين المهديين، واجعلنا من الأئمة الوارثين، الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وصل وسلم اللهم على سيدنا محمد وآله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بهديهم إلى يوم الدين، وبعد: فإن الله تعالى جلَّت حكمته، وعلت كلمته، ووسعت كل شيء رحمته - قد أرسل الرسل وأنزل الكتب لهداية الناس وإصلاح شأنهم في معاشهم، وإعدادهم للسعادة في معادهم، وقد مضت سُنته في البشر أن يرتقي نوعهم بالتدريج كما يرتقي أفرادهم من طفولية إلى تمييز إلى رشد وعقل. لذلك جعل خطاب الرسل لهم في كل طور على حسب استعدادهم فخاطبهم طورًا بما يناسب مدركات الحس وطورًا بما يناسب وجدان النفس، وحملهم أولاً على الطاعة بالقهر والإلزام وجذبهم إليها ثانيًا بالإقناع، وضرب الأمثال، حتى إذا ما ارتقت عقولهم بتقلب الزمان واستعدوا لتحكيم العقل في مدركات الحس والوجدان، بعث فيهم خاتم النبيين والمرسلين، الذي جعل الفكر والنظر أساس الدين، نبي جاء بالبينات والهدى وكتاب نهى عن التقليد واتباع الهوى، وعظّم شأن العقل وجعله هو المخاطَب بفهم النقل، فامتاز دينه على سائر الأديان بأنه دين الحجة والبرهان الناعي على متبعي الأوهام والظنون، بأنهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، بل وصفهم بمثل قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) ، وقوله: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ} (الفرقان: 44) {بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ} (الأعراف: 179) . كتاب احتج على صحة العقائد بآيات الله في الأنفس والآفاق، وبيّن فوائد ما دعا إليه من العبادة ومكارم الأخلاق، وأشار إلى مصالح الناس فيما شرعه من الأحكام والسنن، ونبه على مفاسد ما حرمه عليهم من المنكرات والفواحش ما ظهر منها وما بطن، فهدى الناس بذلك وبدعوتهم إلى أن يكونوا على بصيرة في دينهم وعلى بينة منه، وبجعله دين الفطرة وبنفي الحرج والإعنات عنهم فيه، وبجعله يسرًا لا عسرًا، وبالاكتفاء منهم بما يستطيعون منه وبتقرير غناه سبحانه عن العالمين، هداهم بذلك كله إلى أنه ينبغي لهم، بل يجب عليهم أن يفقهوا حكمة جميع ما خوطبوا به ووجه كونه مصلحة لهم ووسيلة لسعادتهم وتركه مدرجة لفسادهم وشِقوتهم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) ووصف من اتبعه بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًًا وَعُمْيَانًا} (الفرقان: 73) . إن دينًا هذا شأنه يعلو عن أن يكون مهبًّا للأهواء، أو مثارًا لاختلاف الآراء، أو مجالاً لتحزب العلماء، أو آلة لسلطان الرؤساء، فهو الحنيفية السمحة ليلها كنهارها كما ورد عمن جاء به صلى الله عليه وسلم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153) ، ثم قال في هذه السورة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام: 159) وقال في سورة آل عمران: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ... الآية ثم قال بعد آية أخرى منها: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) ، وقال عز وجل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) ، وثَمَّ آيات أخرى في التنفير عن التفرق والخلاف. ماذا كان من أمر الذين ينتسبون إلى هذا الدين؟ هل ظلوا على البصيرة في دينهم أم تركوها إلى التقليد واتباع الآراء وخروا عليها صمًّا وعميانًا؟ هل استقاموا على الصراط المستقيم سبيل الله أم اتبعوا السبل الكثيرة فتفرقت بهم عن سبيله؟ هل ظلوا أمة واحدة محافظة على أخوة الدين أم فرقوا دينهم وصاروا شيعًا كل شيعة تعادي الأخرى لمخالفتها إياها في المذهب، ومباينتها فيما أحدثت من المشرب؟ إذا كان الخلاف طبيعيًّا في البشر، وكان أقوى سائق لهلاك الأمم إذا تمادت شيع الأمة فيه ولم تعالجه بعلاجه، فلماذا لا يرجع المسلمون في كل خلاف يقع إلى علاجه الذي بيَّنه الله تعالى في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) تمزق شمل المسلمين بتنازعهم السياسي الذي تبعه التنازع الديني فتفرقوا شيعًا كل شيعة تنتحل مذهبًا تتخذه حجة لنفسها على سائر المسلمين، فكان ذلك حجابًا دون رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله بتحكيم الكتاب والسنة فيه؛ إذ جعلوا مذاهبهم أصولاً يُرجِعون إليها آيات الكتاب وأخبار السنة بالتأويل وغير التأويل (كدعوى النسخ) فعلوا ذلك لتقوية السياسة بالدين، فأضاعوا السياسة والدين، وردوا الأمة أسفل سافلين، فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين. أما خسرانهم للدنيا بسوء السياسة فبما أضاعوا من سيادتهم وسلطانهم، فإن معظم شعوبهم وبلادهم قد استولى عليها الأجانب، وما بقي منها في أيديهم قد أوغلت السلطة الأجنبية في أحشائه، وهي تهدده بسلب دمائه، وأما خسرانهم الآخرة فبما ابتدع جماهيرهم في الدين، واتبعوا غير سبيل المؤمنين الأولين، وهي سبيل الله التي من اتبعها كان على بصيرة من الله وبرهان، وما هي إلا هداية هذا القرآن، الذي وصفهم بما لا ينطبق على جماهير المتأخرين المختلفين، ووعدهم فآتاهم بطاعتهم ما سلبه من الخالفين المخالفين. اقرأ في التاريخ حوادث الفتن بين أهل السنة والشيعة والخوارج، بل بين المنتسبين إلى السُّنَّة بعضهم مع بعض، بين الأشاعرة والحنابلة، بين الحنفية والشافعية، بين الشافعية والحنبلية … إنك إن تقرأ تجد الجواب عما سألتك عنه، ومن أغرب ما تجد أن العدوان بين الشافعية والحنفية كان من أسباب حملة التتار على المسلمين وحمْلهم على تدمير بلادهم، تلك الحملة التي كانت أول صدمة صدعت بناء قوة المسلمين صدعًا لم يلتئم من بعده ويعُد كما كان، تلك الحملة التي يتأول بها بعض الناس خروج يأجوج ومأجوج ويقول إنهم هم التتار. ما لك ولمعرفة حال تفرق المسلمين من كتب التاريخ أو من كتب المذاهب، أدرْ طرفك في بلادهم اليوم وانظر حال أهل هذه المذاهب على ضعف الدين في نفوس الجماهير تجد بأسهم بينهم شديدًا، تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى، كما قال الله تعالى في وصف من لا إيمان لهم ولا أيمان - إلا من حفظ الله من أفراد متفرقين يتحملون الأذى في سبيل جمع الكلمة وإزالة الخلاف وإعادة الأخوة الدينية إلى ما كانت عليه في أول نشأة الدين أو إلى قريب من ذلك. بل تجد الحنفي في كثير من البلاد لا يصلي مع الشافعي، بل تجد من أسباب الخلاف والعداء الشديد كون بعضهم يجهر بـ (آمين) وراء الإمام، وبعضهم لا يجهر بها أو لا يقولها، وكون بعضهم يرفع أصبعه عند الاستثناء في شهادة التوحيد وبعضهم لا يرفعه. مثل هذا الخلاف مما يُجعل في بعض بلاد الهند فارقًا بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، ولا غرو فهم عيال على الكتب التي تبحث في كفر مَن قال: أنا مؤمن إن شاء الله. كالسلفية والأشاعرة وتقول: يجوز نكاح بنت الشافعي قياسًا على الذمية! {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) ألم يعدهم الله بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأن يبدل خوفهم بالأمن، وأن لا يجعل للكافرين عليهم سبيلاً؟ بلى، ولن يخلف الله وعده وإنما هم المخلفون {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) . نعم إنه لم يزل ولا يزال في هذه الأمة قوم ظاهرون على الحق كما ورد الوعد في الحديث، ولكن هؤلاء لقِلَّتهم أمسوا غرباء كما جاء في حديث آخر، وأي غربة أشد من غربة من يوصفون بالكفر والزندقة؛ لأنهم يقولون بوجوب اهتداء المسلمين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟ ! ألم يكن في بني إسرائيل أمة يهدون بالحق وبه يعدلون؛ إذ وصفهم بما وصفهم به من الإعراض عن كتابهم وتحريفه وإذ أحل بهم ما أحل من عذاب السبي والإذلال، وإزالة الاستقلال؟ بلى ولكن كان هؤلاء المحقون قليلين، فليس لهم أمر يُطاع، ولا هدْي يُتبع، فلا أثر لهم في الأمة، فكأنهم ليسوا منها. أتى على الأمة الإسلامية حين من الدهر لم ينبغ فيها عالم إلا وكان في طور كماله أو خاتمة أعماله يأمرها بالاهتداء بالقرآن واتباع سيرة السلف الصالح، وناهيك بالإمامين الجليلين حجة الإسلام الغَزَّالي وشيخ الإسلام ابن تيمية ومن كان على شاكلتهما، ولكن السلطان كان مؤيدًا لعلماء الرسوم وأهل التقليد؛ لأنهم آلة السياسة، وأعوان الرياسة فكان صوت المصلحين بينهم خافتًا، ومقامهم خافيًا، حتى إذا اشتهر لهم كتاب أُحرق، كما أحرق كتاب إحياء علوم الدين، أو رفع شجاع صوته بالدعوة ألقي في غيابة السجن كما فعلوا بشيخ الإسلام تقي الدين. ثم اشتد ضغط السياسة في هذا القرن على أهل العلم والدين في كل بلاد يحكمها المسلمون، فاستيقظ لشدة وطأتها أهل الاستعداد منهم وشعروا بشدة الحاجة إلى الإصلاح قبل أن تجهز على الأمة السياسة الفاسدة، وطفقوا يتنسمون ريح الحرية فوجدوها في مثل مصر والهند فأنشأوا يدعون إلى الإصلاح، والموفَّق - إن شاء الله تعالى - من بدأ بالدعوة إلى الإصلاح الديني؛ إذ عليه يتوقف كل إصلاح، وهو مفتاح النجاح والفلاح. لا إصلاح إلا بدعوة، ولا دعوة إلا بحجة، ولا حجة مع بقاء التقليد، فإغلاق باب التقليد الأعمى وفتح باب النظر والاستدلال هو مبدأ كل إصلاح، وقد كتبنا في مجلة (المنار) التي أنشأناها في مصر في أواخر سنة 1315 مقالات كثيرة في بيان بطلان التقليد، منها ما هو من إنشائنا ومنها ما نقلناه عن الإمام العلامة ابن قيم الجوزية، رحمه الله تعالى. من ذلك مقالات (محاورات المصلح والمقلد) التي نشرناها في المجلد الثالث والمجلد الرابع من المجلة، وبينا فيها طرق الاستدلال الصحيح، وبطلان التقليد، ووجوب البصيرة في الدين، واتباع سبيل السلف الصالحين، وطريق الوحدة الإسلامية في المسائل الدينية

الأمل وطلب المجد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأمل وطلب المجد [*] {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) . {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) . تلك آيات الكتاب الحكيم، تنبئ عن سر عظيم، اختص الله به الإنسان، ورفعه به على سائر الأكوان، ليبلغ به المقام المحمود، ويحوز ما أعدته له العناية الإلهية من الكمال اللائق به. راجع نفسك، وأصغ لمناجاة سرك، تجد في وجدانك ميلاً قويًّا وحرصًا شديدًا يدفعك إلى طلب المجد وعلو المنزلة في قلوب أبناء جنسك، ثم ارفع بصرك إلى سواد أمة بتمامها تجد مثل ذلك في كليتها كما هو في آحادها تبتغي رفعة المكانة في نفوس الأمم سواها، ذلك أمر فطري جبل الله عليه طبيعة هذا النوع منفردًا ومجتمعًا، ليس من السهل على طالب المجد أن يصل إلى ما يطلب ولكنه يلاقي في الوصول إليه وعرًا في السبل، وعقبات تصد عن المسير، ومع هذا فلا يضعف حرصه، ولا ينقص ميله. يقطع شعابًا، ويعاني صعابًا، حتى يرقى ذروة المجد، ويتسنم شاهق العزة، ولو قام في وجهه مانع عن الاسترسال في مسيره والتجأ للسكون رأيته يتململ ويتضجر كأنما يتقلب على الرمضاء، لو سبر الحكيم الخبير أعمال البشر ونسب كل عمل إلى غاية العامل منه رأى أن معظمها في طلب الكرامة وعلو المقام كلٌّ على حسبه وما يتعلق منها بتقويم المعيشة ليس شيئًا مذكورًا بالنسبة لما يتعلق بشؤون الشرف. هذه خلة ثابتة في الكافة من كل شعب على اختلاف الطبقات من أرباب المهن إلى أصحاب الأمر والنهي، كل ينافس أهل طبقته في أسباب الكرامة بينهم ويأنف من ضعته فيهم، ويحرص علي ما يحله في قلوبهم محل الاعتبار حتى إذا ما بلغ الغاية مما به الرفعة عندهم تخطى حدود تلك الطبقة ودخل في طبقة أخرى ونافس أهلها في الجاه ولا يزال يتبع سيره ما دام حيًّا يخطر في بسيط الأرض. ذلك لأن الكمال الإنساني ليس له حد، ولا تحده نهاية، وليس في استطاعة أحد من الناس أن يقنع نفسه ويعتقد أنه بلغ من الكمال حدًّا ليست بعده غاية، سبحان الله ماذا أخذت محبة الشرف من قلب الإنسان وماذا ملكت من أهوائه. يعده ثمرة حياته وغاية وجوده، حتى إنه يحتقر الحياة عند فقده والعجز عن دركه، أو عند مسه والخوف من سلبه. أرأيت أن فقيرًا ذا أسمال لا يؤبه له إذا اعتدى عليه من تطول يده إليه بفعلة تهينه أو قذفة تشينه يغلبه الغضب للدفاع عن المنزلة التي هو فيها فيرتكب مخاطرة ربما تفضي به إلى الموت وأن القذف أو الإهانة ما نقصت من طعامه ولا شرابه ولا خشنت مضجعه في مبيته. آلاف مؤلفة من الناس في الأجيال المختلفة والأجناس المتنوعة ألقوا بأنفسهم إلى المهالك وماتوا دفاعًا عن الشرف أو طلبًا للكرامة والمجد. جل شأن الله لا يهنأ للإنسان طعام ولا شراب ولا يلين له مضجع إلا أن يلحظ فيه أن ما نال منه أعلى مما نال سواه مع وقوف بعض من الناس على ذلك ليعترفوا له بالأعلوية فيه كأن لذة التغذية والتوليد إنما وضعت لتكون وسيلة للذة المباهاة والمفاخرة فما ظنك بسائر اللذائذ، كم يعانى الإنسان من التعب البدني وكم يقاسي من مشاق الأسفار وكم يخاطر بروحه في اقتحام الحروب والمكافحات وكم يحتمل في الانقطاع عن اللذات مع التمكن منها كل ذلك لينال شهرة أو ليكسب فخارًا أو ليحفظ ما آتاه الله منه. ما أجل عناية الله بالإنسان لا يعيش إلا ليشرف فيشرف به العالم وكل لذة له دون الشرف فهي وسيلة إليه، بل الحياة الدنيا هي السبيل الوعرة يسلكها الحي إلى ما يستطيع من المجد وفي نهاية الأجل يفارقها قرير العين بما قارب منه، آسف الفؤاد على ما قصر عنه. ما هو المجد الذي يسعى إليه الإنسان بالإلهام الإلهي ويخوض الأخطار في طلبه ويقارع الخطوب في تحصيله؟ هو شأن تعترف النفوس لصاحبه بالسؤدد وتذعن له بالاعتلاء وتلقي إليه قياد الطاعة، يكون هذا له ولكل من يدخل في نسبته إليه من ذوي قرابته وعشيرته وسائر أمته فتنفذ كلمته وكلمة المتصلين به والملتحمين معه في شؤون من سواهم، وهو أعظم مكافأة من العزيز الحكيم على معاناة الأوصاب لتحصيل ذلك الشأن في هذه الحياة الأولى، فما كان يحسبه طالب المجد عائدًا إلى نفسه بالمنفعة يبارك فيه مدبر الكون فيفيض خيره على بني جلدته أجمعين. واهًا! تلك حكمة بالغة إذا نال الواحد من الأمة مطلبه من المجد نالت الأمة حظها من السؤدد، نعم، وهل نال ما نال إلا بمعونة سائر الآحاد منها {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (الأنعام: 96) ، ماذا يستطيع الجاهد وحده وماذا يكسبه من سعيه إن لم يكن له أعضاء من بني قبيله، فمن كان همه أن يصعد إلى عرش العزة ويرقي إلى ذروة السيادة فعليه أن يهيئ نفسه والمنتمين إليه لتحصيل كل ما يعد في العالم فضيلة وكمالاً. ما أصعب القيام بخدمة هذا الميل الفطري والإلهام الإلهي وما أشد ما تحتمل النفوس في قضاء بعض الوطر مما يتصل به، وما أعظم الحامل للأنفس على تجشم المصاعب لنيل ما تميل إليه من هذا الأمر الرفيع، ما هذا الباعث الرفيع الذي يسهل على الأرواح كل صعب، ويقرب كل بعيد ويصغر كل عظيم ويلين كل خشن ويسليها عن جميع الآلام ويرضيها بالتعرض للتهلكة ومفارقة الحياة، فضلاً عن بذل كل نفيس والسماح بكل عزيز؟ هذا الباعث الجليل وهذا الموجب الفعال هو الأمل. الأمل ضياء ساطع في ظلام الخطوب، ومرشد حاذق في بهماء الكروب، وعلم هادٍ في مجاهيل المشكلات، وحاكم قاهر للعزائم إذا اعترتها فترة، ومستفز للهمم إذا عرض لها سكون، ليس الأمل هو الأمنية والتشهي اللذان يلمحهما الذهن تارة بعد أخرى ويعبر عنهما بليت لي كذا من الملك وكذا من الفضل مع الركون إلى الراحة والاستلقاء على الفراش واللهو بما يبعد عن المرغوب كأن صاحبها يريد أن يبدل الله سنته في سير الإنسان عناية بنفسه الشريفة أو الخسيسة فيسوق إليه ما يهجس بخاطره بدون أن يصيب تعبًا أو يلاقي مشقة. إنما الأمل رجاء يتبعه عمل ويصحبه حمل للنفس على المكاره، وعرك لها في المشاق والمتاعب، وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر، والشدائد بالجلد، وتهوين كل ملم يعرض لها في سبيل الغرض من الحياة حتى يرسخ في مداركها أن الحياة لغو إن لم تغذّ بنيل الإرب فيكون بذل الروح أول خطوة يخطوها القاصد فضلاً عن المال الذي لا يقصد منه إلا وقاية بناء الحياة من صدمات حوادث الكون، وكما كان الميل للرفعة أمرًا فطريًا كذلك كان الأمل وثقة النفس بالوصول إلى غاية سعيها من ودائع الفطرة غير أن ثبوتهما في فطرة عموم البشر كان داعيًا للمزاحمات والممانعات، فإن كل واحد بما أودع في جبلَّته يطلب الكرامة والتمكن في قلب الآخر فكل طالب مطلوب ولن يبلغ سعة العقل الإنساني إلى درجة تعين لكل فرد من الأفراد عملاً تكون له به المنزلة العليا في جميع النفوس غير ما يكون به للآخر مثل تلك المنزلة حتي يكون جميعهم أنجادًا شرفاء بما يأتون من أعمالهم ولكنهم تزاحموا في الأعمال كما تزاحموا في الآمال والأهواء ومسالكهم ضيقة ومشاعرهم ضنكة، فنشأت تلك المقاومات والمصادمات بين النوع البشري حكمة من الله ليعلم الذين جاهدوا ويعلم الصابرين. فإذا توالى الصدام على شخص أو قوم حدث في الهمم ضعف وأصابها انحطاط وحصل الفساد في هاتين الخلتين الشريفتين (الرجاء وطلب المجد) كما يحصل الفساد في سائر الأخلاق الفاضلة بسوء التربية، وربما يؤول الضعف إلى اليأس والقنوط (نعوذ بالله منهما) . ماذا يكون حال القانطين المنقطعة آمالهم؟ يحكمون علي أنفسهم بالحِطَّة ويسجلون عليها العجز عن كل رفعة، فيأتون الدنايا ويتعاطون الرذائل ولا ينفرون من الإهانة والتحقير، بل يوطنون أنفسهم على قبول ما يوجه إليهم من ذلك أيًّا كان، فتسلب منهم جميع الإحساسات والوجدانيات الإنسانية التي يمتاز بها الإنسان على الأنعام فيرضون بما ترضى به البهائم، فلا يهتمون إلا بحاجات قبقبهم وذبذبهم ثم يا ليتهم يكونون هملاً وسوائب يرعون النبات ويتبعون مواقع الغيث ولكنهم وإن تركوا العمل لأنفسهم فالله تعالى يسلط عليهم من يكلفهم بالعمل لغيرهم فيكونون كالنمال الحمالة لا تستفيد مما تحمل شيئًا وظيفتها أن تسعى وتشقى ليسعد غيرها ويستريح، فيعالجون العمل في الفلاحة والصناعة وغيرهما من الأعمال الشاقة ويدأبون بأشد مما يدأب العامل لنفسه ثم لا ينالون مما يعملون شيئًا. ثمرات كسبهم بأسرها محولة إلى الذين سادوا عليهم بهممهم (هذا الذي يتجشمه الذليل في ذله من مشاق الأعمال ومعاناة المكاره لو تحمل بعضًا منه في طلب العزة لأصاب حظه منها) بل تصير درجة القانطين عند من سادوا عليهم أدنى من درجة الحيوانات العاملة؛ فإن السائدين يشعرون بحكم البداهة أن هؤلاء أسقطوا أنفسهم عن منزلة كانوا يستحقونها بمقتضى الفطرة الإنسانية ورضوا لها بما دون حقها بل بما لا يصح أن يكون من شأنها وكفروا نعمة الله في تكوينهم على الشكل الإنساني وإيداعهم ما أودع في أفراد الإنسان فيعاملهم أولئك السادات بما لا يعاملون به ما يقتنون من الحيوانات، ولنا على ذلك شاهد العيان في الأمم التي أدركها اليأس وسقطت في أيدي الأجانب. ونظن أن يوجد أقوام أُخر سامهم ساداتهم في الزمن السابق ويسومونهم الآن ما لا تسام به السوائم الراعية وهم على القرب منا وليسوا ببعيد عنا. عجبًا كيف تتبدل أحكام الجبلة وكيف يُمحى أثر الفطرة؟ كيف تسفل النفس حتى لا تطلب رفعة وكيف تقنط حتى لا يكون لها أمل، والأمل وحب الكرامة طبيعيان في الإنسان. بعد إمعان النظر نجد السبب في ذلك ظن الإنسان أن جميع أعماله إنما تصدر عن قدرته وإرادته بالاستقلال وأن قوته هي سلطان أعماله وليس فوق يده يد تمده بالمعونة أو تصده بالقهر، فإذا صادفته الموانع مرة بعد أخرى وقطعت عليه سبيل الوصول - رجع إلى قدرته فوجدها فانية، وقوته فرآها واهنة، فيعترف بوهنه، ويسكن إلى عجزه، فييأس ويقنط، ويذل ويسفل، اعتقادًا منه بأنه لا دافع لتلك الموانع التي تعاصت على قدرته ومتي كانت قوة المانع أعظم من قوته فلا سبيل إلى العمل لاستحالة قهر المانع فينقطع الأمل فيقع في الشقاء الأبدي، أما لو أيقن بأن لهذا الكون مدبرًا عظيم القدرة تخضع كل قوة لعظمته وتدين كل سطوة لجبروته الأعلى، وأن ذلك القادر العظيم بيده مقاليد ملكه يصرف عباده كيف يشاء - لما أمكن مع هذا اليقين أن يتحكم فيه اليأس وتغتال آماله غائلة القنوط فإن صاحب اليقين لو نظر إلى ضعف قدرته لا يفوته النظر إلى قوة الله التي هي أعلى من كل قوة فيركن إليها في أعماله ولا يجد اليأس إلى نفسه طريقًا، فكلما تعاظمت عليه الشدائد زادت همته انبعاثًا في مدافعتها معتمدًا على أن قدرة الله أعظم منها، وكلما أُغلق في وجهه باب فتحت له من الركون إلى الله أبواب، فلا يمل ولا يكل ولا تدركه السآمة لاعتقاده أن في قدرة مدبر الكون أن يقهر الأعزاء ويلقي قيادهم إلى الأذلاء وأن يدكَّ الجبال ويشق البحار ويمكن الضعفاء من نواصي الأقوياء، وكم كانت لقدرة الله من هذه الآثار، فتشتد عزيمته ويدأب فيما كلفه الله من السعي لنيل الكمال والفوز بما أعده الله له من السعادة في الأولى والآخرة وما كان لموقن بالله وبقدرته وعزته وجبروته أن يقنط وييأس، ولهذا أخبر الله تعالى عن الواقع والحقيقة التي لا ريب فيها

انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك

الكاتب: من مقالات العروة الوثقى

_ انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك [*] {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) . إن للمسلمين شدة في دينهم وقوة في إيمانهم وثباتًا على يقينهم يباهون بها مَن عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم كفالة لسعادة الدارين ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء وهذه الحالة كما هي في علمائهم متمكنة في عامتهم حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من بقاع الأرض عالمًا كان أو جاهلاً أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر ومن أي جنس صبأ عن دينه - رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف يلهج بالحوقلة والاسترجاع ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به بل وعلى جميع من يشاركه في دينه ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ وقرأها قارئهم بعد مائتين من السنين لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من الغليان ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدث عن غريب أو يحكي عن عجيب. المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة، مطالَبون عند الله بالمحافظة على ما يدخل في ولايتهم من البلدان وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم وبعيدهم ولا بين المتحدين في الجنس ولا بين المختلفين فيه وهو فرض عين على كل واحد منهم إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام ومن فروضهم في سبيل الحماية وحفظ الولاية بذل الأموال والأرواح وارتكاب كل صعب واقتحام كل خطب ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية خالصة لهم من دون غيرهم وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية يعرفها أهل الحق ولا يغير منها تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان. المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به الشريعة وما يفرض عليه الإيمان وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه ومع كل هذا نري أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض الآخر ولا يألمون لما يألم له بعضهم فأهل بلوجسستان كانوا يرون حركات الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جاش ولا تكون لهم نعرة على إخوانهم والأفغانيون كانوا يشهدون تداخل الإنكليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا يتململون. تمسُّك المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة التي هم عليها - مما يقضي بالعجب ويدعو إلى الحيرة ويسبق إلى بيان السبب فخذ مجملاً منه: إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال وعن حكمها تصدر بتقدير العزيز العليم - لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها حتى يصير ما يعبر عنه بالمَلَكَة والخلق وتترتب عليه الآثار التي تلائمها. نعم، إن الإنسان إنسانٌ بفكره وعقائده إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير فكل شهود يحدث فكرًا وكل فكر يكون له أثر في داعية وعن كل داعية ينشأ عمل ثم يعود من العمل إلى الفكر ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأعمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد وكل قبيل هو للآخر عماد. إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل ولا أثر لها في الاعتصاب والالتحام لولا ما تبعث عليه الضرورات وتلجئ إليه الحاجات عن تعاون الأنسباء والعصبة علي نيل المنافع وتضافرهم على دفع المضار وبعد كرور الأيام على المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثارها بقية الأجل ويكون انبساط النفس لعون القريب وغضاضة القلب لما يصيبه من ضيم أو نكبة جاريًا مجرَى الوجدانيات الطبيعية كالإحساس بالجوع والعطش والري والشبع بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعدَّه طبيعيًّا، فلو أهملت صلة النسب بعد ثبوتها والعلم بها ولم تدع ضروريات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكّن تلك الصلة ويؤكدها أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه أو ألجأته ضرورة إلى ذلك - ذهب أثر تلك الرابطة النسبية ولم يبق منها إلا صورة في العقل تجري مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات. وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة النسب وهي أقوى رابطة بين البشر يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض. إذا لم يصحب العقد الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلاً من أشكالها فلن يكون منشأ لآثاره وإنما يعد في الصور العلمية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه كما قدمنا. بعد تدبر هذه الأصول البيّنة والنظر فيها بعين الحكمة يظهر لك السبب في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم والعلة في تباطؤهم عن نصرة إخوانهم وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبق من جامعة بين المسلمين في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال وانقطع التعارف بينهم وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل، فالعلماء وهم القائمون على حفظ العقائد وهداية الناس إليها - لا تواصل بينهم ولا تراسل فالعالم التركي في غيبة عن حال العالم الحجازي فضلاً عمن يبعد عنهم والعالم الهندي في غفلة عن شؤون العالم الأفغاني وهكذا. بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم ولا صلة تجمعهم إلا ما يكون بين أفراد العامة لدواعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم بل لا أنساب بينهم وكلٌّ ينظر إلى نفسه ولا يتجاوزها كأنه كون برأسه! . كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء كانت كذلك بين الملوك والسلاطين من المسلمين. أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش ولا لمراكش عند العثمانيين؟ أليس بغريب أن لا تكون للدولة العثمانية صلات صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في المشرق؟ هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين حتى صح أن يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم، ولا بلد وبلد إلا طفيف من الإحساس بأن بعض الشعوب على دينهم ويعتقدون مثل اعتقادهم وربما يتعرفون مواقع أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعض ببعض في موسم الحجيج العام وهذا النوع من الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم على يد أجنبي عن ملته لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته. كانت الملة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين أجزائه فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة وتضمحل هيئة الجسم. بدا هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة في الدين وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون - رضي الله عنهم -. كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان! ! ثم انثلمت وحدة الخلافة فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس. تفرقت بهذا كلمة الأمة وانشقت عصاها وانحطت رتبة الخلافة إلى وظيفة الملك فسقطت هيبتها من النفوس وخرج طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة ولا يرعون جانب الخلافة. وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيزخان وأولاده وتيمورلنك وأحفاده وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً حتى أذهلوهم عن أنفسهم فتفرق الشمل بالكلية، وانفصمت عُرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا وانفرد كلٌّ بشأنه وانصرف إلى ما يليه فتبدد الجمع إلى آحاد وافترق الناس فرقًا كل فرقة تتبع داعيًا إما إلى مُلك أو مذهب فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى الوحدة وتبعث على اشتباك الوشيجة وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية تحويها مخازن الخيال وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من المعلومات ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل المصائب ببعض المسلمين بعد أن ينفذ القضاء ويبلغ الخبر إلى المسامع على طول من الزمان وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت كما يكون على الأموات من الأقارب لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة ولا دفع الغائلة. وكان من الواجب على العلماء قيامًا بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان الشارع أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين ويجعلوا معاقد الاتفاق في مساجدهم ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة ويصير كل واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف الآخر ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم ببعض ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة - يرجعون إليها في شؤون وحدتهم ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر ويجمعوا أطراف الوشائج إلى معقد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها معهد بيت الله الحرام حتى يتمكنوا بذلك من شدِّ أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان والقيام بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من شأنها ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع فإن إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوّها بين العامة وليس بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها واقتدارها على دفع ما يغشاها من النوازل. إلا أنَّا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين إلى هذه الوسيلة وهي أقرب الوسائل وإن التفت إليها في هذه الأيام طائفة من أرباب الغيرة، ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن يؤيدوا هذه الفئة ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم فقد دارستهم التجارب ببيان لا مزيد عليه وما هو بالعسير عليهم أن يبثُّوا الدعاة إلى من يبعد عنهم ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما يعود على دينهم وملتهم بفائدة أو ما يخشى أن يمسها بضرر ويكونون بهذا العمل الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة، وإلى الله المصير.

الرد على الشيخ بخيت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرد على الشيخ بخيت تابع لما في الجزء التاسع الاستدلال بحديث جابر ومعناه قد عُلم مما تقدم في الجزء التاسع أن حديث جابر الذي استنبط منه الشيخ بخيت جواز أن يكون إمام المسلمين وخليفتهم كافرًا لم يروَ إلا من طريق محمد بن عبد الله العدوي التميمي وأن هذا الراوي قد طُعن فيه أشد الطعن فحكم البخاري بأنه لا يجوز الرواية عنه وقال وكيع: إنه كان يضع الحديث، أي يختلقه وينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا إنه لا يتابع على حديثه فمتابعة عبد الملك بن حبيب له لا يعتد بها على أن عبد الملك هذا مجروح وكان يعتمد على الإجازة لما كتب، فإذا نحن اعتبرنا متابعته فإننا لا نحكم بأن الحديث يرتقي بها إلى درجة الصحة أو الحسن، فالحديث لا يحتج به. أما ما أكثر الكلام فيه الشيخ بخيت من كون ضعف الراوي أو نكارته أو وضعه للحديث لا يقتضي أن يكون كل ما يرويه ضعيفًا أو منكرًا أو موضوعًا في نفسه - فهو على ما فيه من التفصيل غير مفيد هنا. وإن كان فيما نقله عن المتأخرين كالمناوي والزبيدي، بل والفاسي - ما يوهم الجاهل بالحديث ما يوهم. والحق أن ما ينفرد به الراوي المعروف بالوضع موضوع لا تجوز روايته إلا للتنبيه على كونه موضوعًا وما ينفرد به الضعيف ضعيف ولا يحتج به في إثبات الأحكام وتقرير الشريعة وما ينفرد به منكر الحديث في اصطلاح البخاري لا تجوز روايته عنه إلا للبيان حتى لا يغتر به أحد، وراوي هذا الحديث كذلك، وقد علم حكمه عند غيره مما سبق، نعم إنه يجوز عقلاً أن يكون الحديث الذي يرويه أشد الناس ضعفًا بل أكثرهم كذبًا ووضعًا مما له أصل في الواقع وهذا الجواز العقلي لا يبيح لمؤمن أن يقبل رواية من لا يوثق به ويحتج بها لاحتمال صدقه عقلاً. وإذا ظهر أن بعض ما رواه قد رواه غيره من الثقات فإنما يكون الاحتجاج بالرواية الأخرى. فخلاصة القول - في استدلال الشيخ بخيت بحديث جابر عند ابن ماجه - إن الشيخ بخيتًا لا يعرف له سندًا يبيح له الاستدلال به والاستنباط منه ولا حجة له في احتجاج بعض الفقهاء به في غير مسألتنا؛ لأنه هو في هذه المسألة مجتهد مستنبط لا مقلد، فيجب أن يكون على بينة في استنباطه وإلا فليقف عند ما قاله الفقهاء ولم يقل إن أحدًا منهم قال: إن الحديث يدل على جواز أن يكون إمام المسلمين كافرًا وأنه قلده في ذلك. قال الشيخ بخيت (في ص 46) بعد ما نقل عن صاحبه الفاسي الذي جعله من الحفاظ ما نقله - أي الفاسي - من الاحتجاج بالحديث الذي تلقاه العلماء بالقبول وإن طعن فيه أهل الحديث ما نصه: (وقد علمت أن حديث جابر الذي نحن بصدده قد تعددت طرقه وروي عن اثنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي سعيد وجابر - رضي الله عنهما - وذكر في كثير من السنن وكتب الحديث كما مر وله شواهد تصحح معناه من الكتاب والسنة الصحيحة وإجماع الأمة وأصول الشريعة) اهـ. أقول بعد الاستعاذة بالله من مثل هذه الجرأة: قد علمت مما ذكرناه في الجزء التاسع أن الحديث لم تتعدد طرقه بل هي طريق واحدة - وأنه لم يروَ عن أبي سعيد وإنما روي عنه حديث آخر يوافق حديث جابر في غير موضع النزاع فهو لا يعد تقوية له فيه وإنما تقوِّي الروايات بعضها بعضًا فيما تشترك فيه وليس في حديث أبي سعيد النهي عن إمامة الفاجر للمؤمن إلا عند الخوف وأنه لم يرو في كثير من كتب السنن كما قال وإنما ذكر في سنن ابن ماجه والبيهقي، أما البيهقي فقد ذكره ليبين أنه لا يحتج به، وأما ابن ماجه فقد قال السندي في حاشيته على كتاب السنن له ما نصه: (وقد اشتمل هذا الكتاب من بين الكتب الستة على شؤون كثيرة انفرد بها عن غيره، والمشهور أن ما انفرد به يكون ضعيفًا وليس بكلي لكن الغالب كذلك) ثم نقل أن السيوطي قال في حاشية النسائي نقلاً عن غيره: (إن ابن ماجه قد انفرد بإخراج أحاديث عن رجال متَّهمين بالكذب ووضع الأحاديث، وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك والعلاء بن زيد وداود بن المنجم وعبد الوهاب بن الضحاك وإسماعيل بن زياد السكوني وغيرهم) ، ثم قال: (وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة، وذلك محكي في كتاب العلل لأبي حاتم) انتهى. قلت: وبالجملة فهو دون الكتب الخمسة في المرتبة، فلذلك أخرجه كثير من عدَّة جملة الصحاح الستة، لكن غالب المتأخرين على أنه سادس الستة. أقول: وحديث جابر الذي هو موضوع مناظرتنا يُعد مما انفرد به دون سائر الكتب الستة التي هي: صحيحا البخاري ومسلم وسنن أبى داود والترمذي والنسائي، وأما البيهقي فهو بعده وطريقه عين طريقه فيه فعلم بهذا سقوط إيهامه قوة الحديث بإخراج أهل السنن له من طرق متعددة تنتهي إلى اثنين من الصحابة. وأما قوله: إن له شواهد تصحح معناه من الكتاب والسنة الصحيحة والإجماع، فقد احتجَّ عليه باشتماله على ستة أمور مؤيدة بما ذكر: (1) الأمر بالتوبة. (2) الدلالة على اشتراط إذن الإمام في إقامة الجمعة. (3) وجوب الجمعة والحض على فعلها والمواظبة عليها وعدم تركها وارتداد من تركها استخفافًا بها وتهاونًا أو جحدًا لها. (4) النهي عن إمامة المرأة في كل من الإمامة الكبرى والإمامة في الصلاة. (5) النهي عن إمامة الأعرابي كذلك. (6) النهي عن إمامة الفاجر للمؤمن كذلك. أقول: إن التدليس أو الإيهام في هذا الكلام لا يقل عن مثله فيما قبله، وبيانه يعلم مما سبق لمن تأمل وهو أن موافقة الكتاب أو السنة الصحيحة أو الإجماع لحديث ضعيف أو موضوع لا تُعد تأييدًا له فيما انفرد هو به في المعنى كما أنها لا تدل على صحة إسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من الأحاديث الموضوعة باتفاق المحدثين ما هو صحيح المعنى لموافقة معناه كله للكتاب أو السنة الصحيحة أو الواقع، ومع ذلك لا تجوز نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا روايته إلا لبيان وضعه وكذلك الحديث الضعيف. هذا هو الحكم فيهما إذا كان معناهما كله صحيحًا مؤيدًا بما ذكروا، وأما إذا كان فيه معنى صحيح مؤيد، ومعنى انفرد به لا يؤيده شيء فلا يجوز أن يقال: إن هذا الحديث مؤيد بما يقوي المعنى الذي انفرد به بموافقة الكتاب أو السنة أو الإجماع لمعنى آخر فيه. مثاله أن يقول قائل: يا أيها الناس اتقوا الله وإياكم وشرب القهوة، وادّعى أن هذا حديث، فهل يباح لنا أن نقول إذا لم يصح هذا الحديث رواية فهو صحيح معنى لأنه مؤيَّد بالكتاب والسنة والإجماع باشتماله على الأمر بالتقوى؟ لا يباح ذلك فإن موافقته لما ذكر بالأمر بالتقوى لا تثبت كونه حديثًا ولا تؤيده في التحذير من شرب القهوة. المثال ينطبق على دعوى الشيخ بخيت تأييد حديث جابر بما ذكر وكونه صالحًا بذلك لأن يحتج به على جواز كون السلطان الذي يأذن بالجمعة ويولي القضاء غير مسلم. وهذا على فرض اشتمال حديث جابر على هذا المعنى كما ادعى، فإذا لم يكن مشتملاً عليه كما هو الواقع فما هي فائدة موافقته للكتاب والسنة في مثل الأمر بالتوبة ووجوب الجمعة؟ ولسنا في حاجة إلى مناقشته فيما ادعاه من تصحيح كل أمر من تلك الأمور بتأييده بالكتاب والسنة فإنه يخرج بنا إلى تطويل لا حاجة إليه في موضع النزاع ولا غرض لنا ببيان كل خطأ وغلط في رسالته، وإنما نذكر من ذلك ما له علاقة بموضوعنا. أما قوله (في ص 47) : إن الكتاب والآثار الصحيحة تؤيد ما يدل عليه الحديث من اشتراط إذن الإمام في إقامة الجمعة - أي ولو كان كافرًا على حسب استنباطه - فعزاه إلى الحنفية وذكر أنهم أخذوا الشرط من قوله تعالى: {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9) ؛ إذ لابد في الذكر من ذاكر وهو مَن له ولاية الإقامة. ونقول: إذا كان الشيخ بخيت مقلدًا بحتًا لهؤلاء الحنفية وإن لم يظهر له صحة دليلهم فما له وما للاستنباط، وإن كان يرى هذا الدليل موصلاً إلى إثبات اشتراط إذن السلطان وإن كان كافرًا في إقامة الجمعة فنقول له: إن الذكر هنا هو الصلاة والذاكر هو المصلي، فمن أين أخذت اشتراط أن يكون المصلي واحدًا وأن الصلاة لابد فيها من ولاية ولو لكافر يأذن بها وأنه يجب أن يكون المصلي الذي يسعى إليه هو صاحب الولاية أو من أذن له صاحب هذه الولاية! أليس المتبادر من الآية فاسعوا إلى أداء هذه الصلاة التي نوديتم لها؟ هل يقول الشيخ بخيت: إن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا} (الأعراف: 204) يدل على أنه يشترط في قراءة القرآن إذن السلطان إذ لا بد في القراءة من قارئ ولابد أن يكون القارئ من له ولاية القراءة؟ وإلا فما الفرق بين هذا وبين قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الجمعة: 9) وكل منهما شرط وجزاء؟ فإن كان يدعي أن هناك دليلاً آخر من غير الكتاب يدل على أن المصلي للجمعة لابد له من إذن فلماذا يدعي أن الكتاب نفسه هو الذي يدل على ذلك؟ ألا يعرف ما هو وصف من ينسب إلى القرآن ما ليس فيه وما هو جزاؤه؟ ولعل الشيخ بخيتًا يذكر لنا من سبقه إلى هذا الاستنباط من الحنفية لنعلم هل هو من طبقة مجتهديهم أم لا، وإنني أخشى أن يكون عزوه ذلك إلى الحنفية كعزوه الحديث إلى كتب السنن أو ... ثم قال في بيان تأييد هذا الحكم بالآثار الصحيحة ما نصه: (وأما الآثار فما روى الحسن البصري موقوفًا: أربع إلى السلطان، وذكر منها الجمعة والعيدين والموقوف في هذا له حكم المرفوع لكونه مما لا دخل للرأي فيه) اهـ. أقول: في فتح القدير: إن هذا الأثر من قول الحسن البصري. والشيخ بخيت جعله رواية عنه موقوفة على بعض الصحابة، ولم يذكر الصحابي الموقوف عليه، فهل جهل صاحب الفتح وغيره من شُرّاح الهداية ومحشيها هذا الصحابي وعرفه الشيخ بخيت؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يذكر هو الصحابي أليس ذكره أقوى في الحجة من ذكر الحسن البصري؟ أم ظن الشيخ بخيت أن قول التابعي فيما لا دخل للرأي فيه - كقول الصحابي يسمي حديثًا موقوفًا وله حكم المرفوع، وإذًا لماذا أسماه أثرًا؟ أم تعمد تسمية قول الحسن (رواية لحديث موقوف) غشًّا للقارئين لرسالته؟ ولماذا لم يذكر من خرج هذا الأثر من المحدثين ليرجع إلى سنده فينظر هل هو سند صحيح أم لا؟ لعله يبين لنا حقيقة الأمر في ذلك برسالة أخرى ولو بالنقل عن البرق الوميض أو التلقي عن صاحبه الحافظ الكتاني الفاسي أو عن كتبه! ! ! ولنا أن نقول بعد ذلك إذا صح أن ما ذكر حديث موقوف أو مرفوع يحتج به فإن قصارى ما يدل عليه أن السلطان أولى بإقامة الجمعة من غيره إن وجد لا أن صحة صلاة الجمعة مشروطة بإذن السلاطين لا تنعقد ولا يقبلها الله تعالى إلا إذا أذن بها السلطان وإن كان كافرًا. ثم قال الشيخ بخيت بعد ما تقدم: (وما قبله ابن المنذر مضت به السنة أن الذي يقيم الجمعة هو السلطان أو من أمره وقال في التلويح: إذا قال الراوي من السنة كذا يحمل عند الشافعي وكثير من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله تعالى على سنة النبي عليه السلام) اهـ. أقول: السنة في الأصل: الطريقة والعادة والسيرة، ولأهل الأصول والحديث والفقهاء فيها اصطلاحات معروفة. واختلف أهل الأصول في قول الصحابي:من السنة كذا، هل يحتج به أم لا؟ قيل يحتج به لأن الظاهر أنه يريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل لا؛ لجواز أن يريد سنة الناس وعادتهم كما في جمع الجوامع وشرحه، وأما قول آحاد العلماء: مضت السنة بكذا، فليس بحجة عند أح

رسالة في تقاليد أهل الطرق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة في تقاليد أهل الطرق جاءنا من أحد علماء تونس المصلحين ما يأتي: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله. حضرة العلامة الأستاذ المشهور السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء أمده الله بروح من عنده، ومنحه من الإعانة على الإرشاد ما لا ينبغي لأحد من بعده. سعد حظي - أيدكم الله - بما امتننتم به عليَّ من اعتباركم لي مشتركًا في مجلتكم التي تقشع بمظهرها سحاب الضلال والبدع التي أحدقت بالأمة ذات اليمين وذات الشمال، والخرافات التي انصبغت بصبغة الدين، والأوهام التي لعبت بعقول أولئك الجامدين، فتبارك الذي أيقظ همتك لإرشاد أمتك فأوضح للساري بمنارك المحجة {وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ} (الزمر: 37) سيما وقد شفعت ذلك بفتح باب الأسئلة للمسترشد، ولعمري إنك قد آتيت بذلك من كنوز السعادة للأمة، ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، وقد حملني فضلكم هذا على تقديم أسئلة لأعتابكم الكريمة: خرجت في بعض هذه الأيام الأخيرة قصدًا لأداء صلاة العشاء مع الجماعة، فما برحت مكاني حتى سمعت أصواتًا مرتفعة وقد رجت الأرض رجًّا فحسبت أن أبخرة احتبست فيها فنشأ عنها زلزال فكثر لغط القوم على ما أعرفه عنهم عند حدوث الزلزال، ولم يزل ظني كذلك حتى دخلت المسجد فوجدت فيه عددًا كثيرًا من نوع الإنسان ينيف على الخمسين يذكر الله ويرقص ويصفق بيده وقد تصبب جبينه عرقًا، فعلمت أن رجة الأرض من وطأة قدميه، فسألني شقيقاي المشهوران عن ذلك فكان جوابي: (الجنون فنون) ! ! فأعاد عليَّ السؤال: كيف يسعى في جنون من عقل؟ فقلت: وأنَّى لهم بالعقل ولو كانت لهم منه مسكة لما فكروا في مثل هذا وتجرأوا علي معصية الله في بيته. هلا انفرد كل منهم بنفسه وذكر الله تعالى كما أمره بقوله: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ} (الأعراف: 205) وهذا إن لم يكن لهؤلاء المجانين شغل تعجل منفعته وإلا فليحملوا فوق هذه الأوزار أوزارًا، وليستعدوا للعذاب المضاعَف يوم لا يجدون من دون الله أنصارًا، ألم تروا أن قضاء الفوائت واجب على الفور إلا في مواضع حسبوا منها الاشتغال بحرفة يحترف المرء بها. ثم ليت شعري أية فائدة ونتيجة في اجتماعهم هذا وترديدهم كلمة التوحيد؟ إن نطقت بها ألسنتهم فقد جحدتها أفعالهم باتخاذ الوسائط وليتهم أدركوا حقيقتها وتركوها ونفسها. عجبًا لهم اتخذوا رسالة في التوحيد لدفين مكناس الشيخ محمد بن عيسى يتلونها بعد صلاة المغرب كل ليلة، ولو سئلوا عن برهان الوحدانية لم يكن جوابهم إلا السكوت أو الاستناد إلى أن ذلك اعتقاد الأقدمين من آبائهم، مع أن مذهب المؤلف عدم نجاة المقلدين، وهو الحق الذي تقتضيه طبيعة الدين، وإن خالف في ذلك أقوام بنوا مذهبهم على الخرافات والأوهام، والعمل بمرائي ليست في الحقيقة إلا أضغاث أحلام، سألت بعض التالين لهذه الرسالة عن قول المؤلف: (تنزه عن المكان) ، فقال: إني أتلو هذه الجملة نحو ثلاثين سنة وسمعنا من قبلك أساتذة أكبر علمًا وسنًّا، فلم يسألنا واحد منهم هذا السؤال، ولم يكافحنا بمثل هذا المقال، فإن كلام الأولياء لا تصل إليه الأفكار، ولا تتوجه نحو إدراك حقيقته الأنظار! ! ! اللهم إلا ممن عميت بصائرهم، وطمست سرائرهم، وقال سبحانك أعوذ بك من هؤلاء الضالين، فقلت: إذا كان الأمر كذلك أفيحسن بك أن تردد ما لا تفهم، ثم أعرضت عنه فلاطفه أحد شقيقيّ حتى أوصله إلى معنى الجملة على بساطتها بأوضح برهان وأحسن تبيان، فكان خلاصة قوله بعد ذلك التقرير: أنا أعتقد أن الله عز وجل في السماء، مستدلاًّ بحكاية عن عجوز كانت ترفع بصرها إلى السماء كل صباح وتقول: عِمْ صباحًا يا مولانا ورؤيت بعد موتها وعليها ثياب خضر. ولعلي أطلت ذيل المقال في الكلام على هؤلاء الجهلة من أرباب الضلال، حتى خرجت بذلك عن دائرة السؤال، إلى دائرة التشكي من هذه الأحوال، فسئم الأستاذ المسترشد، مع عدم الوقوف على المقصد. أقول: إني صدعت بما أظنه الحق لما رأيت ذلك المنكر فقلت: تالله ما هذا من الدين، أيها الناس أين أنتم من صفة السمع (أربِعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا) وكان جوابهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) قلت: {لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ} (الأنبياء: 54-55) ثم نادوا بصوت عالٍ: أين أنت يا قطب مكناس والجرس الأكبر بديوان الصالحين، والغوث المتصرف في السماوات والأرض مزق هذا المعترض كل ممزَّق! ، فقلت: أنتم وأيم الله تشركون من حيث لا تشعرون، أتدعون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم؟ وما القطب والجرس والغوث إلا كلمات تدل على معانٍ يعرفها اللغوي فجعلتموها أعلامًا لأفراد أكلت الأرض أجسادهم، أقول لكم ولا أخشى لومة لائم: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (النجم: 23) . تزعمون أنكم مسلمون وقد دعوتم غير الله تعالى! تزعمون أنكم مسلمون وقد اتخذتم لله وزراء وعمَّالاً سميتموهم بأهل الديوان! أهذا الديوان عندكم مجلس نواب الأمة؟ ! فرددوا عليَّ اللعنة ثم قالوا: نجتمع ليلة النصف من شعبان تلك الليلة الفضلى ونذبح بقرةً أمام زاوية هذا القطب الكامل وندعوا عليه فيموت ببركة الشيخ ابن عيسى! فقلت: وما فضل ليلة النصف من شعبان؟ إن هي إلا ليلة كسائر الليالي نرى القمر فيها كاملاً كما نراه في غيرها. إن زعمتم أنها الفضلى بما أن الأرزاق والآجال تقدر فيه كما تقولون فاعلموا أن أفعال الله تعالى منزهة عن العبث، والأرزاق والآجال قدرت من قبل أن يخلق الكون، فلا معنى لتقديرها تلك الليلة مرة ثانية. وإن زعمتم أنها الفضلى بما أن الله يستجيب دعاء المتضرع فيها ولابد فنقول لكم: أعندكم على ذلك دليل أم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ ! سيدي: هل في كلماتي هذه ما يوجب المروق من الدين، والكفر بالله رب العالمين، خاصة والقوم على إهراق دمي متفقون، فأوضحْ لي سبيل الصواب أيها المرشد الكبير، والمنصف الذي لن يجد الحق دونه من نصير، ودونك من الوالد والشقيقين سلامًا، وتحية كواهلها إجلالاً لمقامكم وإعظامًا، ومن الحقير مثل ذلك على ما تعلمون من صدق الوداد، والخلة الثابتة أصولها بسويداء الفؤاد، وكتب فى 20 جُمادَى الآخرة سنة 1324. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ح. ي ... ... ... ... ... ... (المنار) نشرنا هذا في باب المناظرة والمراسلة لا في باب الفتاوى؛ لأنه رسالة مفيدة في التنديد بالبدع والشكوى من الجهل والميل إلى الإصلاح ولا نرى السؤال فيه إلا من قبيل استفهام التعجب؛ وإلا فأي شبهة في الكلام يبنى عليها تكفير المتكلم؟ أقول له: إن دعاء غير الله شرك بالله، كيف وهذا ليس من الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل وإنما هو أشد الشرك وأظهره وأجلاه ونصوص القرآن في ذلك لا تحتمل التأويل ولا التحريف. نعم إن الذين يرون لأنفسهم رياسة دينية باعتقاد العامة علمهم وصلاحهم يسهل عليهم تكفير كل من خالف أهواءهم، وتقاليد العامة التي تتوكأ في بدعها عليهم وهم يتحرون رضاها لما لهم من الفائدة في ذلك، وإن كانوا يقولون: إننا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة إلا إذا جحد ما هو مجمع عليه معلوم من الدين للضرورة من غير تأويل ولازم المذهب ليس بمذهب. هذا وإن كان الكاتب قد يلام على خطاب العامة بما ينفرهم من قبول كلامه، ويحول دون فهم مرامه، وكان يجب أن يأتيهم من ناحية الإقناع ويحتج عليهم بكلام من يعتقدون ولايته على إبطال خرافاتهم الصريحة، ثم ينتقل منها إلى ما هو دونها بالتدريج، ولكل مقام مقال وإنما يخاطَب الناس على قدر عقولهم، فعسى أن يراعي ذلك بعدُ، ويتحاشى المبالغة في كل شيء، فقد انتقدت عليه قوله: (لا ينبغي لأحد من بعده) ، وقوله: (أعتابكم) ، وقوله: (ولن يجد الحق دونه من نصير) ، والله يؤيدنا ويؤيده، ويسددنا ويسدده، وعليه وعلى والده وشقيقيه السلام. وقد جربنا هذه الطريقة في نصيحة العامة فرأينا فائدتها بأعيننا واختبارنا، نعم إن مشايخ الطرق الذين يعيشون بأكل السحت ومخادعة العوام قلما يسمعون أو يعقلون، فينبغي الإعراض عن مكابرتهم، والموعظة التي تقنع مقلديهم بفساد حالتهم.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أول ما نزل من القرآن (س33) من الدكتور علي أفندي رياض (بالفنث - فيوم) : حضرة سيدي الفاضل صاحب مجلة المنار الإسلامية الغرَّاء: أقدم وافر احترامي لجنابكم ثم أتجاسر بأن أبدي هذه العبارة الآتية وغايتي منها لم تكن الانتقاد؛ لأني لم أكن أهلاً لذلك، ولكن لقصد الاستفهام عن الحقيقة من حضرتكم. لقد طالعت النسخة التي فيها تفسير سورة العصر طبع مطبعة مجلتكم الغرّاء فرأيت في موضوع درس عام فيها لحضرة الإمام -رحمه الله - في صفحة 58 ما نصه بالحرف الواحد: (ولما كان العلم ضوءًا يهدي إلى الخير في الاعتقاد والعمل كان أول ما نزل على النبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب قوله تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..} (العلق: 1) .. إلخ، ويظهر من سياق الحديث أن غرض الأستاذ - رحمه الله - في قوله هذا الاستشهاد على منافع العلم وأن أول نزول الوحي كان بشأن العلم. ولكن سبق لي قراءة تفسير سورة الفاتحة لحضرة الإمام، وهي أيضًا طبع مطبعة مجلتكم الغراء وإذا فيها أن حضرة الإمام - رحمه الله - أثبت بالدليل الكافي أن أول ما نزل به الوحي كان أمّ الكتاب لا (اقرأ) . فهل كان يغير أفكاره فرجع رحمه الله عن رأيه في تفسير الفاتحة إلى ما ذكره في ذلك الدرس وهو أن أول ما نزل (اقرأ باسم ربك) كما أجمع عليه حضرات علماء التفسير؟ ! . ألتمس بكل أدب إفادتنا عن ذلك لأجل اتباع الأصوب مع قبول وافر احترامي. (ج) ما من عالم ولا إمام إلا ويقول أقوالاً ثم يرجع عنها؛ لأن غير المعصوم لا يحيط بالصواب في كل قول وكل رأي ابتداءً، وقد نقل عن الإمام مالك أنه كان يبكي قبل موته؛ لأن أناسًا أخذوا عنه أقوالاً في الدين رجع عنها بعد ذلك. إذًا لا عجب إذا قال الأستاذ الإمام قولاً ثم رجع عنه. والعمدة في بيان رأيه مطلقًا أو رأيه الأخير في هذه المسألة ما كتبه بقلمه في تفسير سورة العلق من جزء عم، وقد يعد تفصيلاً لما نقل عنه في الدرس الذي طبعناه مع تفسير سورة العصر. ولا يخفى أن كلاً من تفسير الفاتحة وهذا الدرس ليسا من كتابته - رحمه الله تعالى - وإنما تفسير الفاتحة من كتابة منشئ هذه المجلة، وفيه بيان رأيه وقد اطلع عليه قبل الطبع وبعده. وأما ذلك الدرس فقد كتبه عنه بعض أدباء تونس عندما ألقاه فيها وطبع هناك في رسالة ثم قرأته عليه ونقحته بإشارته وطبعته مع تفسير سورة العصر الذي كتبه بقلمه. وإنما يرجح ما كتبه في تفسير جزء عم إذا كان هناك تعارض لأمرين: أحدهما أن الإنسان يتحرى فيما يكتب بقلمه ما لا يتحرى في إجازة ما يكتب عنه. وثانيهما أنه آخر ما يؤثر عنه في المسألة وهو قوله بعدما أورد الحديث الصحيح في أول نزول الوحي: وفى هذا دلالة على أن {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) - إلى قوله: - {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) هو أول خطاب إلهي وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية السورة فهو متأخر النزول قطعًا وما فيه من ذكر أحوال المكذبين يدل على أنه إنما نزل بعد شيوع خبر البعثة وظهور أمر النبوة وتحرش قريش لإيذائه عليه السلام. ثم هذا لا ينافي أن أول سورة نزلت كاملة بعد ذلك هي أم الكتاب كما بيناه في تفسيرها اهـ. قوله في تفسير سورة العلق. فأنت ترى أن هذا يتفق مع ما جاء في ذلك الدرس ولا يخالف ما علل به كون سورة الفاتحة هي أول القرآن نزولاً من أن فيها مجمل ما فصله كله من مقاصد الدين حتى كأنه شرح لها. ولكنه مخالف لظاهر قول هذا العاجز في تفسير سورة الفاتحة (ثم رجح الأستاذ الإمام أنها أول ما نزل على الإطلاق ولم يستثنِ قوله تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ..} (العلق: 1) ونزع في ذلك منزعًا غريبًا في حكمة القرآن وفقه الدين..) إلخ، وهذا ما كان منه في الدرس أطلق ولم يستثن، ولو قلت: ولم يستثن سورة اقرأ - لاتفق ذلك مع ما تقدم ذكره نقلاً عنه وكتابة منه. هذا وإن هذه الآيات من أول سورة العلق ينحصر معناها في جعل النبي الأمي قارئًا بقدرة من خلق الإنسان من علق الدم وفضل الرب الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم، فإذا كانت الفاتحة هي أول ما نزل بعد تبليغ هذا الأمر، وبها تحقق امتثاله صح أن يقال إنها هي أول القرآن المقروء بالأمر نزولاً كما أنها في أوله وضعًا وترتيبًا ولا ينافي ذلك تبليغ الأمر بالقراءة قبلها، وإن كان أمر تكوين لا تكليف؛ إذ أمر التكوين هنا يستلزم أمر التكليف. وسنفصل القول بهذه المسألة في تفسير الفاتحة عند ما نطبعه مع الجزء الأول من التفسير العام، فقد كنا أخرنا طبع هذا الجزء وبدأنا بطبع الجزئين الثاني والثالث معًا؛ لأن في الأول اختصارًا في بعض الآيات، وقد زاد الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى فيه بعض الزيادات عما نشر في المنار بقلمه قبل وفاته بزمن قصير - رحمه الله ورضي عنه -. *** العين (س34) أمين أفندي هاشم التلميذ بالمدرسة الخديوية (مصر) : جئت بهذا السؤال إلى مجلتكم الغرّاء التي أفادت الناطقين بالضاد قاطبة لأستمد من نور معارفكم ما خفيت عني حقيقته: كنت أطالع بعض الكتب الأدبية إذ وقع نظري على حديث شريف لقائله النبي صلى الله عليه وسلم: (العين حق تُدخل الرجل القبر والجمل القدر) ، وآخر: (اتقوا سمّ الأعين) فاعتراني وهم لعدم اهتدائي إلى الحقيقة ورجوت حضرتكم شرح: هل للعين مادة تنفصل منها إلى محل النظر فتؤثر فيه أم كيف حتى تنقشع عني غياهب الجهل والوهم وأهتدي إلى الحقيقة ولحضرتكم الشكر سلفًا. (ج) اعلم أولاً أن ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطب أو الزراعة وسائر أمور الدنيا - لا يعد من أمور الدين التي يُبلغها عن الله تعالى وإنما يعد من الرأي وعصمة الأنبياء لا تشمل رأيهم في أمور الدنيا ولذلك يسمي العلماء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من أمر الدنيا أمر إرشاد وهو يقابل أمر التكليف وفي مثل هذه الأمور الدنيوية قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) كما في حديث البخاري ولذلك كان أصحابه عليهم الرضوان يراجعونه أحيانًا فيما يقول من قبيل الرأي كما تعلم مما ورد في وقعتي بدر وأحد، فإذا رأيت حديثًا في أمر الدنيا لم يظهر لك وجهه فلا يرعك ذلك ولا تظن أن في عدم ظهور انطباقه على الواقع طعنًا في الدين، على أنه عليه أفضل الصلاة والسلام كان ذا الرأي الرشيد والفكر السديد حتى في أمر الدنيا، وإن كان كلامه فيها قليلاً؛ لأنه جاء لما هو أهم وأعظم وبعد فقوله عليه الصلاة والسلام (العين حق) حق ثابت بالتجارب والمشاهدات في جميع الأمم والأجيال، ولفظ الحديث: (العين حق) ورد في الصحيحين، وأما حديث: (اتقوا سمّ الأعين) فلا أعرفه ولا أتذكر أنني رأيته في شيء من كتب الحديث المعتمدة ومعناه أن تأثير العين كتأثير السم لا أن في العين سمًّا ينتقل منها إلى من تراه. أما العلة في تأثير العين فهي نفسية لا حسية وذلك أن لبعض النفوس تأثيرات مختلفة من أضعفها وأشهرها تأثير التثاؤب فإننا نرى كثيرًا من الناس يتثاءب لنحو نعاس فلا يلبث أن يتثاءب مَن بجانبه. ومنها ما يكون عند النظر فإنك ترى بعض الناس ينظر إلى آخر فيرتعد المنظور إليه ويأمره بشيء، فلا يرى مندوحة من طاعته وهو ليس له عليه أدنى سلطان وراء هذا التأثير الذي يطلقون عليه تأثير الإرادة؛ لأنه يكون إذا أراد صاحبه أن يكون ويدخل في هذا النوع من التأثير النفسي ما يعرف الآن بالتنويم المغناطيسي وقد كان معروفًا عند بعض الصوفية والهنود بتأثير الهمة أو تصرف الهمة. وإنما نسب التأثير إلى العين في عُرف الناس الذي ورد به الحديث؛ لأنه يحصل بعد النظر إلى الشيء، وفي حديث أخرجه البزار بسند حسن عن جابر نسبته إلى النفس. ومن المصائب أن سمّ الريب في الدين قد سرى في الناس حتى صاروا يعدون من الدلائل عليه كل ما لا يتبادر إلى أفهامهم معناه الموافق لعلمهم وتقاليدهم فالحريص على دينه يبادر إلى أهل العلم الصحيح سائلاً والآخرون يظلون في رَيبهم يترددون.

تتمه نقد كتاب التعليم والإرشاد

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ تتمة نقد كتاب التعليم والإرشاد كلامه في العلوم إن المؤلف تكلم في العلوم اللسانية والدينية ووصف من كتبها وعلمائها وحالها الماضي والحاضر ما بعضه صواب وبعضه خطأ كبير. وإذا ذهبنا نستقصي كل عباراته في هذه المواضع ونبين ما فيها تبعد علينا المسافة وحسب القارئ أننا ذكرنا له نموذجًا من عباراته المملوءة غلطًا، فنوجز من بعد في محاسبة المؤلف على كل ما في عباراته ونكتفي بحسابه على خطئه بالجملة. الخطأ الخامس عشر قد عرفت أن المؤلف ناقض نفسه في علم التوحيد فعدَّه مرة من العلوم الضارة ومرة جعله ثاني المقصودين من كل العلوم، وقد أتاه هذا من أنه لم يفرق بين علم التوحيد وعلم الكلام، وهو يعرف أن الاصطلاح والواقع فرَّقا بينهما. فعلم التوحيد هو الذي يرشد إلى تلقين العقائد من غير فلسفة المتكلمين ولم يُجِد هذه الطريقة إلا الذين نصر هو مذهبهم أعني أهل السنة أتباع السلف لا الأشاعرة الذين احتكروا هذا اللقب، وقد أصاب هو فيما صنع من التنويه بمذهب السلف وأخطأ في شدة انحائه على علم الكلام والمتكلمين، وهذا ما نحسبه عليه هنا ونناقشه فيه. لا أنقل هنا عبارة من عباراته في هذا المعنى لما أسلفت من الاعتذار فليعلم القارئ إجمالاً أن الكاتب بالغ في الحملة على علم الكلام والمتكلمين وأفاضت عليه الخطابة ما أفاضت فصوَّر مسائل هذا العلم بصورة معاول لهدم الدين وصور أهله قومًا نشيطين بالضرب بهذه المعاول. والخطابة إذا فاضت على قريحة تكبر وتصغر وتوجد وتعدم، وبالجملة قد تطمس على صاحبها وسامعيه معالم الحقائق، ولا بأس بأن يرجع القارئ إلى ما كتبه هذا الكاتب ليرى ما وصفنا وخذ رأينا في هذا العلم وأهله. إن الدين كما يعرف العارفون - ولا أقول كل أحد - هو مجموع نصوص منقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بعضها قال الرسول: إنها من قول الله وبعضها لم يقل فيها هذا القول، أما التي هي من قول الله فالمشهور أنها نُقلت كلها نقلاً متواترًا على اختلاف في قراءتها وأن هذه المصاحف المعروفة تجمع بين دفتيها كل ما قال الله لرسوله وأما الأقوال الأخرى فهي المعروفة بأنها أقوال الرسول نفسه، وهي التي تجمعها كتب الحديث. فأما المصاحف فلا جدال بين المسلمين - والحمد لله - في أن ما فيها هي أقوال الله وأما كتب الحديث ففيها جدال ويصدق بعض العلماء منها ما يكذب البعض، ونفرض أن كل ما سماه المسمي صحيحًا صار صحيحًا وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما أسنده إليه المسندون، فإنا لا نريد فتح باب المناقشة بالنقل من حيث هو، بل نريد أن نقول: إن هذه النصوص المنقولة كلها لا يمكن أن يسلم سامعوها من الاختلاف في فهمها؛ لأن في الكلام حقيقةً ومجازًا وكنايةً وللكلام أساليب وفنون، والذي تكلم لم يعين ما أراد بكل كلمة ولم ينصب رجلاً أو رجالاً لتعيين مراده فالاختلاف وقع لأنه لابد من وقوعه والمنصف إذا زعم أنه ظفر بالحقيقة لا يسوغ لنفسه أن يسلب حق النظر من مناظره. الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فهموا من النصوص ما فهموا وأكثرهم لم يسمعوا أكثرها، ولم يكن في وقتهم فراغ إلا لإقامة ما أمروا أن يقيموه، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى فيهم تشوفًا إلى البحث ينهاهم. والذين جاءوا من بعد وجَدوا في أنفسهم حاجة لتفهم بعض الأشياء فوقع البحث فيها قبل أن تترجم الفلسفة اليونانية، والذين لا يعرفون هذا يظنون أنه لم يبتدع علم الكلام إلا بعد أن ترجمت الفلسفة، كلا، بل هي أمور لابد منها لذلك ظهرت من القوم أنفسهم بمقدار ما سمح الوقت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ظن أن البحث في مسائل الاعتقاد لم يكن في عصر النبي نفسه فهو لا يعرف التاريخ بل لا يعرف القرآن. وإذا جاز لنا أن نقول: إنهم أخطأوا في كل ما ذهبوا إليه من المذاهب لا يجوز لنا أن نقول إنهم أخطأوا بما صنعوه من البحث والنظر والتفاهم؛ لأن الحاظر على رجل وظيفة عقله وطبيعة فكره كالحاظر عليه وظيفة سمعه وبصره وطبيعة حسه، وإذا كان مثل هذا الحظر يعاقب عليه القانون فمثل ذلك الحظر يعاتب عليه العلم. ماذا صنع المتكلمون؟ رأوا أن صفات الله التي نقلت إليهم من أقوال الله وأقوال رسوله تشبه صفات الإنسان كلها ورأوا في جملة ما نقل إليهم من الأقوال قول الله في نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) ووجدوا هذا القول يشهد له العقل فقالوا: إذا كانت صفات الله وأعضاؤه غير صفات الإنسان وأعضائه، فلابد لهذه الكلمات التي وضعت لها من معانٍ غير المعاني التي نفهمها من صفاتنا وأعضائنا. ضرورة أنها لا تخلو من معنى فالتمسوا لها معاني مما تساعد عليه اللغة، ربما كانوا مخطئين في تفاسيرهم؛ لأنه لا يعرف الله حق المعرفة إلا هو ولكن لا أرى في هذا الصنيع هدمًا للدين وهم لا يزالون يعترفون بأن الله صانع العلم ومدبره ومرسل الرسل وشارع الأحكام. ماذا صنع المتكلمون؟ رأوا أن الكائنات كلها بإرادته وأعمال العباد من جملة الكائنات فحاروا في هذه المسألة جملة وتفصيلاً وخاضوا في بحرها فلم يجدوا ساحلاً، سار هذا مشرقًا وسار ذاك مغربًا وكلهم يلتمسون المخلص من هذه المحارة، وهي أن الله هل يريد كفر الكافر وفجور الفاجر أم لا يريده؟ ! فإذا أراده وجب أن يكون فلا يستطيع الكافر أن لا يكفر فكيف يحاسبه وإذا لم يرده فكيف يقع في ملكه ما لا يريد؟ ماذا صنع المتكلمون؟ رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بصوت وحرف، ثم قال: هذا كلام الله، فحاروا، هل كلام الله هذا الصوت الذي سمع من فيّ الرسول أم شيء غيره يليق بتنزه الخالق عن الصوت؟ ! . فتناظروا وتنافروا وكان ما كان. ماذا صنع المتكلمون؟ رأوا أن الله لا تدركه الأبصار ثم رأوا أن الوجوه إليه ناظرة يوم القيامة فالتمسوا لنظر الوجوه إليه معنى يليق بتنزهه عن أن تدركه الأبصار. ماذا صنع المتكلمون؟ رأوا أن ذرات المادة التي تتركب منها الجسوم تتداخل في جسوم أخرى، وأن لا علاقة لها بعالم الغيب كما للروح، ورأوا أن المعاد كائن والجزاء واقع فاختلفوا هل تُجازَى الأرواح وحدها أو تركب الأرواح في أجسام تصنع لها؟ ! وقال قائلون: بل تعاد كل تلك الذرات التي كانت الجسوم تتركب منها على تداخلها في جسوم متعددة. نحن قلنا: إن المتكلمين رأوا ما رأوا مما وصفنا، والحقيقة أن كثيرًا من أفراد الأمة كانوا يسألون عن مثل هذا ولم يكن المتكلمون إلا أهل العلم الذين يُرجع إليهم. الخطأ السادس عشر يقول صاحبنا (ص50) : (إنه لم يكن مخالفو الرسل ومكذبوهم يطعنون في نفس الشرائع التي جاء بها الرسل) ، ونحن لا نحاسبه هنا على خطئه في الإيهام بأنه يعرف كل الشرائع وكل المجادلات التي جرت بين الرسل مما قال الرسل لأممهم، وما أجابهم الأمم به فإننا إذا حاسبناه على مثل هذا احتجنا أن نكتب كتابًا أكبر من كتابه؛ لأن هذا الإيهام مع الحكم على الكل من غير استقراء ولو ناقصًا يراهما القارئ أنَّى ساح في فدافد هذا الكتاب القاصية. كلا، فإن المحاسبة على هذا في كل موضع تضيع علينا وقتًا هو أثمن من أن يصرف في مثل هذا. ولكنا نحاسبه هنا على الخطأ في هذا المعنى وهو (أن مخالفي الرسل ومكذِّبيهم لم يكونوا يطعنون في الشرائع التي جاء بها الرسل) فنقول ولا نريد به إلا أن يحاسب المؤلف نفسه بعد هذه المرة حينما يكتب - إن القرآن المجيد مملوء بما كانت الأمم تعترض به على أشخاص الرسل وعلى ما جاءوا به، فاعتراضهم على أشخاص الرسل رد للأصل فيتبعه الفرع، واعتراضهم على ما جاءوا به صريح في رد الشرائع نفسها. وابتعادًا عن التطويل، نورد من هذا شيئًا قليلاً ثم نوصي المؤلف أن يقرأ المصحف الشريف. إن اعتراضات الأمم على الحشر وكل الرسل جاءوا بالدعوة إلى الإيمان به أكثر من أن يستوفيها كتاب كبير، فمن ذلك ما حكاه القرآن المجيد من قول بعضهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} (سبأ: 7) ومن ذلك قول بعضهم: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} (المؤمنون: 82) .. إلخ، والكلام في القرآن عن إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسل فيه كثير جدًّا. واعتراضات الأمم على عبادة الخالق وحده وترك عبادة الأوثان - ولم يجيء الرسل كلهم إلا لها - أشهر من أن تذكر، فمنهم قوم نوح: {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًًا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23) ومنهم قوم إبراهيم: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} (الشعراء: 71) إلخ، ومنهم قوم شعيب: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} (هود: 87) ، ومقالات قريش في نبينا عليه الصلاة والسلام لا نذكرها؛ لأنَّا لا نظن المؤلف نسيها. واعتراضات الأمم على ما كلفهم به رسلهم من الأخذ بأعمال البر كإعطاء الأموال للفقراء وترك أعمال الشر كغصب الأموال وأكلها بالباطل معروفة أيضًا كقول قوم شعيب: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء} (هود: 87) وقول العرب: {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) . فماذا بقي من أقسام الشرائع مما لم تعترض الأمم به على رسلها وأي رسول لم يقولوا فيه مجنون أو ساحر أو شاعر أو كذاب، أليست هذه الصفات التي كانوا يعتقدون في الرسل من جملة ازدرائهم بما جاءوا به وتكذيبه من أصله؟ كلامه في أصول الفقه الخطأ السابع عشر والثامن عشر تكلم المؤلف على أصول الفقه فأسهب وأصاب في مواضع وأخطأ في مواضع وإنما نعد له خطأين في النتيجة وهما: (1) أن علم أصول الفقه إنما يحتاج إليه المجتهد فقط. و (2) أنه غير لازم لهؤلاء المقلدين. إن قصد أن المجتهد يحتاج إلى أصول الفقه على النحو الذي يعرفه الطلبة وهو ما كان بصدده، فليس بصحيح. وإن قصد أن هؤلاء المقلدين لا يلزم لهم أن يقرأوا علوم العربية وعلوم الحديث وهي التي يتألف منها علم أصول الفقه فقد شهد نفسه أنه غير صحيح بدليل أنه حصر الفائدة كلها في تعلم العربية والفقه ولم ينهَ عن علم الحديث. فماذا يرى من بعد هذا في قراءة كتاب أو كتب تجمع شيئًا من علوم العربية وعلوم الحديث، فتمرن هؤلاء المقلدين على ما تعلموه وتساعدهم على ما كلفوا أن يحفظوه من فروع الفقه. أنا لا أقول: إن التقيد بهذه الطرائق فيه الخير كل الخير، ولكني أقول: إن تعلم هؤلاء المقلدين لأصول الفقه ولو على هذه الطرائق يخفف شيئًا من جهلهم الذي يلازمهم بملازمتهم للفروع وحدها. الخطأ التاسع عشر وبما ذكرناه في الأصول يعرف المطلع عليه أن المؤلف أخطأ في تعظيم شأن علم فروع الفقه حتى قال (ص133) : إننا في حاجة تامة لقراءة كتب الفقه. الخطأ العشرون والحادي والعشرون والثاني والعشرون يحض المؤلف على قراءة كتب فروع الفقه ثم لا يرى التقيد بمذهب من المذاهب الأربعة صالحًا بل يراه ضارًّا وهو يكره - كما نكره - هذه الكتب التي للمتوسطين والمتأخرين ويحب - كما نحب - تلك الكتب التي للمتقدمين، وفي مجموع كلامه في هذا الباب نجد الصواب كثيرًا ولكنا رأيناه يخطئ في ثلاثة أشياء: (1) في تنويهه بكتب الفروع وهو يعرف أن الذين سموا بالأئمة كانوا يكثرون من الرجوع عما يفتون به، وأن الدين يكره تعظيم الأحبار

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه

الكاتب: محمد نجيب الغرابلي

_ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كنت ليلاً مع أمير المؤمنين ... عمر الفارق ذي القدر المكين صاحب الدرة ثاني الراشدين ... مَن به الله أعز المسلمين فقووا حتى أذلوا المشركين ... وإذا نار أضاءت سحرا ... قال يا أسلم قم ماذا أرى علَّهم ركب يريدون القِرى ... فخرجنا وهو كالسهم انبرى ودنونا من خِبَاء المصطلين ... فإذا بامرأة قد نصبت ... قدرها بين عيال أعولت ثم حيينا فردت واستوت ... قال هل أدنو فقالت إن أردت فبخير أودع القلب الحزين ... قال ما بال العيال تصرخ ... قالت الجوع وإني أنفخ أُوهِم الصبية أني أطبخ ... علَّهم من بعد ذا أن يفرخوا [1] ويناموا حول قِدري جائعين ... يالنار أُضرمت في الأضلع ... أحرقت قلبي وأجرت مدمعي بيننا الله وبين الأصلع ... هاأنا من فرط جوعي لا أعي بين نَوْح وصياح وأنين ... قال يا أماه مَن أدرى عمر ... بك قالت ذاك أدهى وأمر من تولى أمرنا لا يستقر ... ينبري للناس في قر وحر يسمع الشاكي ويؤوي البائسين ... وَيْ لعمري كيف يرعى وينام ... ليس هذا من قوانين الأنام من سها عن نوقه جنح الظلام ... يتولى رعيها راعي الحمام إنما هذا جزاء الغافلين ... ولقد أصغى لها من غير ضيق ... وهو بالإصغاء للشكوى خليق فمضى بي ذلك الشيخ الشفيق ... يسرع الخطو إلى دار الدقيق وأتى منها بدهن وطحين ... ثم قال احمل عليَّ قلت وي ... بل أنا أحمل قال احمل علي قلت عفوًا قال هل منكم فتي ... يحمل الأوزار عني يا أُخي يوم يُؤتى بي لرب العالمين ... وسرى الفاروق خوف النقمة ... في الدجى يحمل قوت الصبية وهو ممن بشروا بالجنة ... لا يرى في حمله من حطة بل قيامًا بحقوق المسلمين ... فمضى بي مسرعًا نحو الصغار ... فأتيناهم وهم في الانتظار ولفرط الجوع بين الجنب نار ... في استعار ما لهم منها قرار ورأونا فاشرأبُّوا قائمين ... قالت الأم اصبروا قد جاءنا ... ذلك الشيخ بما فيه المنى ولقد يسره الله لنا ... والأمير غافل عن حقنا في كتاب الله بالنصر المبين ... فدنا منها برفق وابتسام ... ودموع العين منها في انسجام قال قومي هيئي هذا الطعام ... معنا إن اليتامى لا تنام بالطوى والله خير الرازقين ... رحم الله أبا حفص عمر ... وسقى بقعته صوب المطر فلقد أبصرت أسلاك الشرر ... تلفح اللحية منه بالسحر وهو مهتم بإنضاج العجين ... قالت الأم وقد رُمنا القيام ... وتركنا عندها فضل الطعام يا رعاك الله يا ساري الظلام ... تحمل الأقوات للغرثى الصيام أنت أولى من أمير المؤمنين ... قال إي يرحمك الله اعدلي ... واذكري خيرًا ولا تستعجلي فإذا جئتِ الأمير فادخلى ... تجديني قاعدًا في المنزل وعليَّ الجد في ما تطلبين ... وتنحى عنهم مستترا ... رابضًا مربض آساد الشرى وأنا أطلب تعجيل السرى ... فإذا هو مقبل مستبشرا شاكرًا لله رب العالمين ... قال يا أسلم قد أسهرهم ... قارس الجوع بل استعبرهم ولذا أحببت أن أبصرهم ... في سرور وكذا غادرهم فلقد ناموا جميعًا باسمين ... هكذا كانوا عبيد الأمة ... لا غرانيق العلى والعزة مزجوا شدتهم بالرحمة ... ولذا شادوا صروح الرفعة ومضوا شرقًا وغربًا فاتحين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نجيب الغرابلي ... ... ... ... ... ... ... بمدرسة الحقوق

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (السمير المفيد في شرح المواليد) كتاب جديد وضعه إبراهيم أفندي ماجد الصيدلي الكيماوي لمستشفى القصر العيني في علم المواليد أو التاريخ الطبيعي أو الأحياء كما يقال وهو جزآن: الأول في علم الحيوان، وقد طبع في العام الماضي، والثاني والثالث في النبات والجماد طُبعا معًا في هذا العام وهو أحسن كتاب رأيناه بالعربية لتعليم هذا الفن بسهولته وحسن أسلوبه الذي يشوق القارئ ولا يمل السامع؛ إذ هو عبارة عن حكايات ومحاورات في استجلاء محاسن الكائنات ومعرفة فوائدها وهو بما فيه من الصور والرسوم يمثل للذهن هيئتها الحسية فيكون أقرب إلى فهم أوصافها وتمييز ما يتشابه من أصنافها. ومن محاسنها أنه لا يخلو من الفوائد الأدبية كبيانه عند ذكر البوم خطأ الجاهلين الذين يتشاءمون به. وكنت أود لو لفت الأذهان عند ذكر ما في هذه المخلوقات من الحِكم والأسرار إلى أنها من إبداع العليم الحكيم والرب الرحيم كي يربي بذلك وجدان الإيمان في القلوب إذًا لكان كتابه أنفع من كتب العقائد المتداوَلة ولجمع بين تربية العقل والروح ولعله يزيد فيه هذه الزيادة النافعة عند طبعه مرة أخرى. ولما تم طبع الجزء الأول في السنة الماضية ابتاعت منه نظارة المعارف كثيرًا من نسخه وينتظر أن تبتاع منه معظم نسخ الثاني والثالث؛ إذ لا تجد مثل هذا الكتاب في فنه. وإننا نحث طلاب الأزهر وغيرهم من القارئين الذين لم يتلقوا هذا العلم على مطالعة هذا الكتاب؛ لأنه مما يمكن فهمه لأمثالهم بدون أستاذ. *** (التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم) للشيخ طنطاوي الجوهري المدرس بالمدرسة الخديوية طريقة حسنة في مزج علوم الكون بعلوم الدين والجمع بين هداية القرآن وما ينفع الناس من شؤون العمران وله في ذلك كتب مختصرة مفيدة كجواهر العلوم وميزان الجواهر مَن طالعها يغذي عقله وروحه وخياله بقوتها وشجونها، وقد طبع له في هذا العام كتاب جديد سمّاه بما رأيت وأهداه إلى إمبراطور اليابان ليعرضه على مؤتمر الأديان الذي انعقد في عاصمة بلاده وهو مؤلَّف من ثنتين وخمسين جوهرة وفيه أبواب وفصول كلها في محاسن الإسلام وحكمه وفضله وقد بدأه المؤلف بترجمة حال نفسه في النظر والتحصيل وترقِّيه في ذلك وهذا مما ينكره عليه كثير من الناس، ولا بدع فإن الطبع البشري ينفر من الدعوى ومظانها وإن أخلص صاحبها وصدق، ولكن رأينا من هؤلاء الناس من يسرف في الإنكار حتى يغمط الحق ويعمى عن جميع المحاسن، فعسى أن يحاسب مدَّعو الإنصاف من هذا الصنف أنفسهم. طبع الكتاب الحاج محمد أفندي الساسي بمصر وهو يطلب منه، فعسى أن يقبل الناس على مطالعته، فإنه من الكتب النافعة إن شاء الله تعالى. *** (قانون ديوان الرسائل) ديوان الرسائل هو ديوان الإنشاء للدولة الذي يضم كُتابها على اختلاف أعمالهم، وكان أبو القاسم علي بن منجب بن سليمان الشهير بابن الصيرفي من الكُتّاب في عهد الدولة الفاطمية، فألف كتابًا وجيزًا سمّاه: (قانون ديوان الرسائل) ؛ لأن يكون دستورًا يتبع في اختيار من يؤهل للتوظف في ديوان الرسائل رئيسًا كان أو مرؤوسًا، وأن يخلد كتابه في الديوان ليقتدي به الموظفون ويأخذوا بالقراءة فيه وتدبره؛ لأنه كالمعلم ولأخلاقهم كالمهذب، كذا قال في مقدمته. عثر على نسخة خطية من هذا الكتاب في مكتبة كمبردج علي بك بهجت وكيل دار الآثار العربية، فنسخها وطبعها وجعل لها مقدمة وهوامش مفيدة لعلها تزيد عن ثلث الكتاب، فيها فوائد من تاريخ الفاطميين لا يُستغنى عنها، فنشكر له عنايته وهمته. *** (تاريخ التمدن الإسلامي) صدر الجزء الخامس من هذا التاريخ المفيد منذ أشهر وهو (في نظام الاجتماع وطبقات الناس والآداب الاجتماعية والمعيشة العائلية وحضارة المملكة وآثار المدنية وأبهة الدولة ومظاهر العظمة والفخامة) وهو آخر أجزاء الكتاب وأكثرها فكاهة. وقد ذكر في آخره أسماء الكتب التي ورد ذكرها فيه وفهرس عام مرتب على حروف المعجم. وإننا لا نزال نرجو أن يتيح لنا القدَر مطالعة الكتاب كله وإعطاءه حقه من التقريظ والانتقاد ولا يسعنا - والقدر لما يسعدنا على ذلك - إلا أن ننوه بالكتاب ونثني على همة صديقنا مؤلفه واجتهاده في خدمة تاريخنا من حيث قصرنا فيه. *** (المذهب الاجتماعي في التشريع الجنائي) ألقى علي بك أبوالفتوح المفتش بالنيابة العمومية خطابًا في نادي المدارس العليا منذ بضعة أشهر موضوعه المذهب الاجتماعي في التشريع وأهدانا نسخة منه مطبوعة قرأناها، فإذا هي مفيدة في بابها. بيَّن فيها أن فلاسفة أوربا في القرن الثامن عشر قد شنوا الغارة على المذاهب التي كانت متبعة في الجنايات متكئين على ما اعتادوا من الدلائل النظرية فأخطأوا في علوم القضاء كما أخطأوا في علوم السياسة وكان همهم أن يقيدوا القضاة ويجعلوا السلطان للقانون وحده لما رأوا من تأثير استبداد الحكام من الخراب والفساد. أما فلاسفة القرن التاسع عشر فقد خالفوا مَن قبلهم في طرق البحث فجعلوا أساسه التجربة والاختبار والمشاهدة، وصاروا يرون أن من الضرورة تقييد القضاة بألفاظ القوانين في كل حال ومن الضرورة أن يكون القاضي أوسع سلطة مما كان بحيث يناط كثير من الأمور باجتهاده ويوكل إلى رأيه واستقلاله. وهذا الرأي الأخير يوافق الشريعة الإسلامية في أكثر أحكامها الجنائية فعسى أن يعتبر بذلك الذين اتخذوا عبارات الفقهاء من قبيل الأمور التعبدية، على أن أكثرها مبني على أمور نظرية، واتباعها ينافي ما قررته الشريعة من اشتراط الاجتهاد في القاضي. وهذا المقام يحتاج إلى بسط وإيضاح يطول شرحه ولا يسع باب التقريظ أقله، وفي الرسالة فوائد أخرى لا يحيط بها إلا من قرأها. *** (تاريخ أساس الشرائع الإنكليزية) ألَّف هذا الكتاب (دافد وطسن راني) بلغته الإنكليزية وترجمه بالعربية نقولا أفندي الحداد وطبع الترجمة إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية بمصر وهو يطلب منه، وثمن النسخة منه عشرة قروش صحيحة. الكتاب من أنفع الكتب التي نُقلت إلى لغتنا، وأتمنى لو يقرأه أهل الأزهر ومَن لي بأن أتمنى لو يقرأه أهل سوريا والعراق، بل والحجاز ليعلموا كيف ارتقت هذه الأمة الإنكليزية التي تسوس وهي في جزيرتها المنتبذة في أقاصي البحار نحو ربع البشر! عسى أن يعقلوا كيف يخرب الاستبداد العمران ويزيل الدول ويذل الأمم وكيف يسود الناس بالعدل والسلطة المقيدة برأي الأمة ويعزوا حتى يكون أدنى الأمة فيهم أعز من أعظم الأمراء من غيرهم. ولعلي أعود إلى الكلام عن هذا الكتاب والنقل عنه. *** (أنساب العرب القدماء) رسالة في الرد على القائلين بالأمومة والطوتمية عن العرب الجاهلية لجرجي أفندي زيدان. والأمومة أو الطوتمية مذهب جديد لبعض الإفرنج زعموا أن العرب ليس لها أنساب متصلة إلى الآباء، وإنما ينتسبون إلى الطوتم، و (الطوتم) كلمة أخذوها عن هنود أمريكا وهي تطلق عندهم على ما تعبده أو تقدسه القبيلة أو الشخص من أنواع المخلوقات حيوانًا كان أو نباتًا أو جمادًا لاعتقادها أنه يحميها أو يكف أذاه عنها، ويعد في عرف أهلها أبًا لها بانتسابهم إليه؛ إذ لا يعرف لهم أب وإنما يعرفون أمهاتهم فقط. وقالوا: إنه ثبت لهم هذا المذهب مما عليه بعض القبائل المتوحشة من هنود أمريكا وأوستراليا وزنوج أفريقية وألحقوا العرب بهم بطريق القياس الذي استدلوا عليه بتأنيث لفظ (الأمة) وباشتقاقها من مادة الأم، وبنسبة بعض القبائل إلى حيوانات معروفة كبني أسد. وقد رد عليهم جرجي أفندي زيدان ردًّا داحضًا لمزاعمهم مفندًا لطريقتهم في جعل الجزئي قاعدة كلية والشبهة برهانًا قاطعًا واعتمادهم على الاستقراء الناقص. وهذا شأن الإفرنج لا يكاد يوثق بعلمهم النظري والعقلي؛ لأنهم لم يتقنوا إلا العلوم العلمية المبنية على التجربة والحس. ومن أراد أن يعرف تفصيل أقوالهم في هذا المذهب فعليه بكتاب (الأمومة عند العرب) وهو يطلب من مكتبة المنار وثمن النسخة منه أربعة قروش، وأجرة البريد نصف قرش، وحسبه في الرد على المذهب رسالة أنساب العرب القدماء، وهي تطلب من مكتبة الهلال. *** (ديوان تذكار راغب وصبري) هو الديوان الثاني للشاب الذكي رشيد أفندي مصوبع وقد قدمه إلى إدريس بك راغب رئيس الماسون في مصر وإسماعيل باشا صبري وكيل نظارة الحقانية بافتتاحه بقصيدتين في مدحهما. ومن أحسن ما رأيناه له في هذا الديوان قوله في استنكار سلوك بعض نساء الأغنياء: عار على الغيد أن تزهو وتفتخرا ... وتبدي التيه في الأعطاف والأشرا بأي عطف تميل الخود تائهة ... ويفخر العطف إمّا صِين واستترا قدر الغواني بتحصين الجمال وإن ... تهتكت زال ذاك القدر واندثرا لو تترك العاشق المسكين ملتهبًا ... شوقًا لها ظل ذاك الحسن معتبرا ثم أطال في بيان سوء عاقبة هذا السلوك وما ذكرناه كافٍ لبيان أسلوبه. *** (العباسة أخت الرشيد) قصة تاريخية غرامية لجرجي أفندي زيدان صاحب الهلال وهي من القصص التي لها أصل مروي في التاريخ، والمسائل التاريخية فيها أكثر من المسائل الاختراعية، وفيها وصف الترف والإنفاق في عهد العباسيين، وفي ذلك من الفكاهة ما فيه وهي تطلب من مكتبة الهلال وثمن النسخة منها عشرة قروش. *** (الطفل المفقود) اسم لقصة من قصص مسامرات الشعب الشهرية التي يصدرها خليل بك صادق صاحب مكتبة الشعب، وهذه القصة من أحسن هذه القصص وضعًا وفائدة؛ لأن ما فيها من الكلام عن الحب الفاسد قليل يورد مقرونًا بالذم وما ينظر من سوء العاقبة. وأما ما تشرحه عن الحب الصالح والعفة والمروءة والوفاء والسخاء والصبر - فهو الكثير الطيب. وقد صدر من هذه القصة أربعة أجزاء لا يكاد الإنسان يبدأ بقراءة جزء منها ويستطيع أن يتركه قبل أن يتمه. فأنصح لصاحب المسامرات أن يختار أمثال هذه القصة بعد الآن للنشر، وإذا استطاع أن ينشر قصصًا ليس فيها ذكر للرذائل مطلقًا فليفعل؛ فإن الرذيلة وإن ذكرت مقرونة بالذم تؤثر في نفوس المستعدين لها حتى يزداد ميلهم إليها وجراءتهم عليها، فما بالك إذا كانت تشرح الرذائل وتبين طرقها وغبطة أهلها بها وتفننهم في تحصيلها! ويظهر أن لمترجم القصة وهو نقولا أفندي رزق الله ذوقًا في حسن الاختيار، كما أنه من أحسن مترجمي هذه القصص عبارة فعسى أن يراعي في الاختيار ما ذكرنا لتكون هذه المسامرات من وسائل التهذيب كما أنها من وسائل التسلية. *** (صحف جديدة) فتاة الشرق (مجلة أدبية تاريخية روائية لصاحبتها لبيبة هاشم) ولبيبة هاشم من أشهر الفتيات السوريات المتعلمات في الأدب ولها آثار في بعض الصحف، وعبارتها رشيقة منسجمة قريبة من أفهام القارئات بله القارئين، ورأينا فكرها قويمًا فيما كتبت عن (واجبات الزوجة) في الجزء الأول، وعن (نساء الشرق والاقتصاد) ، وهذه الموضوعات أنفع ما يكتب في مثل هذه المجلة. تصدر فتاة الشرق مرة في الشهر وسنتها عشرة أشهر، وقيمة الاشتراك فيها خمسون قرشًا، فعسى أن تجد من مساعدة الفضلاء ما يضمن لها طول البقاء. تونس مجلة عربية تصدر مرتين في كل شهر بتصاوير ورسوم تحتوي على مباحث علمية أدبية فنية. لصاحبيها صالح بن محمود وجبرائيل إنكيري، ثمن الاشتراك في المملكة التونسية 10 (فرنكا) في السنة، وفى الخارج 12 ف في السنة. صدر العدد الأول من هذه المجلة في 5 أكتوبر، وفيه أن أهم موضوع تبحث

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (تعليم الدين في مدارس الحكومة) اقترح مجلس شورى القوانين على الحكومة التوسع في تعليم الدين في مدارسها، وزيادة العناية به فقامت جريدة (الإجبت) التي يصدرها في القاهرة إدريس بك راغب من سروات المصريين تعترض على هذا الاقتراح، وطفقت جريدة المؤيد والأهرام تردان عليها، ونقل عنها أنه تنكر تعليم الدين في المدارس، وتقول: إن الدين لا ينبغي أن يعلم إلا في البيوت، بل نقل عنها الطعن في الدين مطلقًا، وإدريس بك يرى أن ما في المدارس كافٍ لا يحتاج إلى مزيد ولا ينكر التعليم الديني ولا هو من دعاة الإلحاد فيما نعلم. وبذلك انفتح باب الكلام في مسألة التعليم الديني في مدارس الحكومة وغيرها وخِيفَ أن يتجرأ محبو الإلحاد إلى الدعوة إليه، واقترح علينا غير واحد أن نكتب في ذلك قائلين: إن المنار أجدر بهذا الموضوع من غيره، وقد صدقوا وإنا لكاتبون في ذلك إن شاء الله تعالى. *** (الدكتور ضياء الدين أحمد) زار مصر في أواخر الصيف الماضي الدكتور ضياء الدين أحمد عائدًا من أوربا إلى عليكره ليتولى التعليم العالي في مدرستها الكلية الشهيرة، وهو قد تخرج في هذه المدرسة ونال شهادتها، ثم ذهب إلى أوربا لإتمام دروسه العالية في بعض العلوم، فدخل جامعة كمبردج، فكان أعظم نابغ في العلوم الرياضية حتى إنه نال جائزة إسحق نيوتن الفلكي، وهي مائتا جنيه تُعطى للنابغ الأول في الهيئة الفلكية بعد امتحان ثلاث سنين، ثم ذهب إلى ألمانيا وتلقى فن التعليم في كلية (جونتجن) حتى نال (شهادة الدكتورية) وبعد أن أتم دروسه زار فرنسا وأقام فيها شهورًا اطلع فيها على نظام التعليم وسيره هناك، ثم زار مصر وأقام فيها شهرين وأيامًا كان جُل همه فيها الاطلاع على شؤون التعليم. لقينا منه شابًّا متوقد الذكاء شديد الغيرة على أمته بعيدًا من الهزل واللغو معتصمًا بالأدب وهو يتكلم بالعربية مع حصرٍ ما ويفهم ممن يكلمه بعبارة فصيحة، بل علمنا منه أنه عربي النسب. وقد أعجب بفضله وأدبه كل من عرفه هنا واحتفل بعض معارفه بتوديعه في فندق الكونتننتال احتفالاً دعوا إليه كثيرًا من ذوي المعارف وأصحاب الصحف، ولما انتظم عقد الاجتماع قام الدكتور ضياء الدين فينا خطيبًا باللغة الإنكليزية فتلا خطبة بدأها بالشكر لأصدقائه الذين أكرموا وفادته، ثم تكلم عن مدرسة عليكره وما يراد من ترقيتها والزيادة فيها حتى تكون جامعة كبرى، وعن حظ الجامعة من الدين والتربية الدينية، وسنورد ترجمة قوله في جزء آخر. وبعد أن أتم خطابه وقف حافظ أفندي عوض أحد صاحبي جريدة المنبر فتلا ترجمة خطبته بالعربية. ثم قام الشيخ علي يوسف شيخ المؤيد وتلا خطابًا وجيزًا تكلم فيه عن مدرسة عليكره وأثنى على الدكتور ضياء الدين وعليها فأحسن وقد صدق في قوله: (إن مصر لو رُزقت مدرسة جامعة ذات مبادئ قويمة مثل التي عليها كلية عليكره وتناسب في عظمتها حالة مصر الحاضرة لكانت مصدر حياة أقوى وأعم نفعًا لا للمصريين فقط ولكن لمسلمي العالم كله الذين هم في حاجة كبرى للترقي الصحيح المبني على دعائم العلم والفلسفة) . فعسى أن يسعى مع الذين يتمنون أن تكون الجامعة المصرية التي يدعى إليها الآن مشتملة على هذه المبادئ التي ذكر منها العلم والفلسفة، ولم يذكر دعامة الدين ولكنه لا ينكرها وهي من دعائم كلية عليكره ولولاها لكانت تلك الكلية وبالاً على المسلمين. وبعد ذلك كشف الستار عن مائدة الشاي وما يتبعه من اللبن وأنواع الأكل اللطيفة فأقبل عليها المدعوون وهم يتهللون بشرًا وطلاقة بهذا الاجتماع الأدبي، ثم انصرفوا مودعين شاكرين. *** (الشورى في فارس وسفير تركيا) ترجمت جريدة (تربيت) التي تصدر في طهران ما كتبناه في الجزء السابع عن الشورى في بلاد فارس ونقله عنها بعض الجرائد الأخرى فكان له تأثير عظيم وقد اعترض سفير تركيا على نشر هذه الترجمة رسميًّا فأجابه ناظر الخارجية بأن مولاه الشاه قد أطلق الحرية للصحف فلا يمكن تقييدها، ولما علم الناس بهذا الاعتراض اشتد استياؤهم وقالوا: إن تركيا تريد أن تقيدنا في بلادنا وتمنع عنا النور كما منعته عن إخواننا العرب في بلادها، وسنتكلم عن هذه المسألة بالتفصيل في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. *** (الشيخ أحمد أبو خطوة - وفاته) فجع العلم والقضاء في الشهر الماضي بوفاة الشيخ أحمد أبي خطوة أحد قضاة محكمة مصر الشرعية وإنها لفاجعة ليست كالفواجع فالشيخ أحمد أبو خطوة ليس بالعالِم الذي يتعزى عنه بوجود كثير من أمثاله في الأزهر أو غير الأزهر. بل هو العالم الذي لا أعرف له خلفًا في علوم الكلام والحكمة النظرية والمنطق والفقه وفنون العربية كلها لا في الفهم الدقيق ولا في الأداء والتعليم، ولذلك انضوى إلى دروسه أذكياء تلاميذ الأستاذ الإمام من بعده وكان منهم من يحضر بعض دروسه في حياته كالمنطق والكلام والفقه إذ لم يكن الأستاذ الإمام يقرأ بعد رسالة التوحيد إلا التفسير والبلاغة فلما مات الشيخ أبو خطوة صار هؤلاء الأذكياء كاليتيم من الأبوين. كان - رحمه الله تعالى - وقورًا مهيبًا على تواضعه ورفقه، حسن السمت حليمًا لا تخشى بوادره، حسن التصرف في الأمور لا يدخل في شيء إلا ويعرف كيف يخرج منه، بصيرًا بأحوال زمانه خبيرًا بشؤون بلاده، قادرًا على الإصلاح في المحاكم الشرعية لو فوِّض إليه القيام به، لا سيما بعد وضع الأستاذ الإمام لذلك التقرير الذي أحصى طرق الإصلاح ووجوهه، ولكن الحكومة أو أولياء الأمر في مصر جهلوا قدره فلم يستفيدوا من استعداده، وكثيرًا ما يحجبهم عن معرفة الرجال قول بعض من يثقون بقوله وإن قال كلمته عن جهل بالحقيقة أو سوء ظن أو هوى. وجملة القول: إن مصر قد خسرت بموت هذا الرجل خسارة عظيمة، وقد التمسنا من بعض أصدقائه بأن يترجمه للمنار ولعله يفعل متفضلاً. *** إلى الأديب محمد الهادي السبعي وكيل المنار السابق: قد أعذر من أنذر، ومن صبر عدة سنين يشكر ولا يكفر، والشرف خير من المال، والعبرة بالخاتمة والمآل {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} (الإسراء: 80) .

فصل المقال في توسل الجهال

الكاتب: أبو بكر خوقير الكتبي

_ فصل المقال في توسّل الجهال ألَّف الشيخ أبو بكر خوقير الكتبي أحد علماء مكة المكرمة كتابًا جديدًا سمَّاه (فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال) واسمه يدل على مسمّاه، وقد أحسن فيه ونصر السنة وخذل البدعة، وقد طبع في هذه الأيام بمطبعة المنار على حساب الحاج عبد القادر التلمساني الفاضل السلفي، وإننا نورد خاتمته على سبيل النموذج، وهي: (ولنختم هذه العجالة بكلام صديقنا العلامة الشيخ محمد طيب المكي في رسالته في التوحيد، فإنه خلاصة ما كتبناه فيها، قال - حرسه الله ووفقه -: الأمر أنه ينبغي أن يعتقد أنه لا تصرف لغير الله سواء كان ذلك التصرف ابتداءً أو مترتبًا على تصرف آخر كأن يخلق شيئًا ويخلق بذلك شيئًا آخر، وهذا هو القول بالأسباب ولكن مع الاعتراف بأن الله قادر على خلقه مع قطع النظر عن السبب أخذًا بعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} (النحل: 40) ... الآية، وأيضًا فقد نفى الله معاونة غيره له، حيث قال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ} (سبأ: 22) لا هبة كما تزعمه كفار قريش حيث يقولون: لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك! ولا كما تزعمه المعتزلة من أن العبد أُعطي قدرة يخلق بها أفعاله، ولا كما تزعمه غلاة المنهمكين في الأولياء من أن لهم التصرف، وأن الله أعطاهم تصرفًا في العالم وأنهم يولون ويعزون ويذلون.. ولا أصالة ولا قائل به، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ} (سبأ: 22) بخلق شيء من أجزاء العالم. وفيه رد أيضًا على المعتزلة؛ إذ العبد لو خلق فعله لكان له في العالم شرك في الجملة {.. وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} (سبأ: 22) رد على الفلاسفة القائلين بتوسط العقول وعلى كل من يرى مثل ذلك الرأي {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23) رد على الذين يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا عنده زلفى، وعلى القائلين إن الصالحين الذين نذهب إلى قبورهم ونستجير بهم ونستغيث - وإن لم يكونوا ملاكًا ولا ظهراء ولا شركاء - فهم أصحاب رتب ومقامات عند الله فهم شفعاء فقال: {وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23) ، فكيف لنا معرفة من أذن له؟ فإن نهاية ما ثبت من ذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والأنبياء والملائكة والصالحين يوم القيامة بعد الإذن، وبعد أقوال الأنبياء: نفسي نفسي ما عدا النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت أنهم يشفعون في كل منهم، بل الخلاف واقع في سماعهم النداء وعدمه , وأيضًا من أخبرنا بأنهم أحباب الله على أن الاستشفاع ليس ممن تشافهه ويجيبك بأني أشفع لك، ومع ذلك لو قال: أشفع، لا ندري هل تقبل شفاعته أم لا؟ والدعاء مقبول قطعًا إما في الدنيا أو تعوض عنه في الآخرة. على أنه من القواعد الشرعية أن من أطاع شيئًا أو عظّمه بغير أمر الله ذمَّه الله وغضب عليه كما سنقرره، وأيضًا من التوحيد الذي يحتاج فيه إلى الرسل تخصيصه بالعبادة والدعاء قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء: 36) ، {أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (يوسف: 40) ، {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ} (الأحقاف: 4) ، {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18) ، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) ، وعن ابن عباس- رضي الله عنه - قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: ياغلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، ورواه الحافظ ابن كثير بأطول من ذلك، فمن دعا غير الله مستعينًا به أو طالبًا منه كمن قال: يا شيخ فلان أغثني، على سبيل الاستمداد منه - فقد دعا غير الله وهذا الدعاء منع عنه الشارع؛ إذ لا يُستعان إلا بالله {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) . واعلم أن مَن أطاع مَن لم يأمر الله بطاعته أو من أمر بطاعته من وجه دون وجه فأطاعه مطلقًا، فإن الله سمَّى ذلك المطيع عابدًا لذلك المطاع ومتخذه ربًّا، قال الله تعالى: {لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} (يس: 60) {يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} (مريم: 44) ، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} (التوبة: 31) ، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الفرقان: 43) ، فإذن ليس لأحد أن يعبد غير الله ولا أن يدعوه، وليس العبادة إلا نهاية الخضوع، والدعاء مخ العبادة، وأما من قال: أتوسل، أو: بحق. فالعلماء منهم من يحرم ذلك مطلقًا ومنهم من يجعله مكروهًا كما نص عليه في الهداية، ومنهم من يجيز التوسل بالأحياء دون الأموات كما فعله عمر رضى الله عنه، ومنهم من يخصه بالنبي صلي الله عليه وسلم، ومنهم من يجيزه، وعلى كلٍ فهو لم يطلبه الشارع منا وقد وقع فيه شبهة فتركه أولى من هذه الحيثية وسدًّا للذرائع؛ لأن الجهلة لا يفرقون بين التوسل والاستشفاع والطلب من المتوسل به مع أن الاستشفاع لا يكون إلا في يوم مخصوص، والطلب من غير الله لا يجوز، ولو تأملت الأدلة الواردة بالتجويز مع ضعفها فإنها لا تفيد إلا جوازه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو الوسيلة المقطوع بقربه من الله تعالى وأما غيره فما يدرينا به، ومن العجب أن يترك التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتوسل بغيره. جعلنا الله وإياكم من المتبعين لا من المبتدعين) انتهى. وله رسالة مطبوعة في الهند في قول العامة: يا شيخ عبد القادر شيء لله، ولكثير من علماء بغداد ومصر والشام واليمن والهند أبحاث شريفة في هذا المقام لا نقدر علي إيرادها في هذه العجالة، أما أهل نجد فلهم في ذلك المؤلفات الكثيرة وهم أول من نبَّه الناس لذلك في القرن الماضي، ولقد قال بعض السادة من أهل حضرموت: لو لم يقيِّض الله أولئك القوم لتلك النهضة لعكف الناس على القبور كافة ولم يحصل من العلماء إنكار ولا أخذ ورد ولم تتحرك لذلك الأفكار، وأما ما دار بينهم وبين الناس من القتال فقد كان سببه مَن منعهم الحج وتحرش بهم ووصل إلى ديارهم فجرَّأهم حتى حصل ما حصل فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومن نظر في كتبهم عرف ما يفتريه الناس في حقهم، وأن مرجعهم في الأحكام والاعتقاد إلى كتب السنة والتفسير ومذهب الإمام أحمد وطريقة الشيخين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فلهما الفضل على جميع الناس في هذا الباب كما يعترف بذلك أولو الألباب وهذه كتبهما قد نشرها الطبع، فنطقت بالحق وقبلها الطبع، فمَن أراد الاحتياط ورام التحري والوقوف على الحقيقة فلينظر فيها وفي كلام من انتقد عليهما من المعاصرين لهما وليحاكم بينهم بما وصل إليه من الدليل المحسوس والبرهان، وما صدقه الضمير والوجدان، فإن الزمان قد ارتقى بالإنسان كما يقتضيه الرقي الطبيعي فمزق عنه حجب الاستبداد، وفك عنه قيود الاستعباد، ورجع به إلى الحكم بما في الصدر الأول والطبع العربي، ولقد تنازل في المحاكمة من يحاكم بين غير الأقران والمعاصرين في الزمان، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في أعلام الموقعين: (فإذا ظفرت برجل واحد من أولي العلم طالب للدليل محكّم له متبع للحق حيث كان وأين كان ومع مَن كان - زالت الوحشة وحصلت الألفة ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك، والجاهل الظالم يخالفك بلا حجة ويكفّرك أو يبدعك بلا حجة وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة وسيرته الذميمة، فلا تغتر بكثرة هذا الضرب فإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم، والواحد من أهل العلم يعدل بملء الأرض منهم. واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض، قال عمرو بن ميمون الأودي: صحبت معاذًا باليمن فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ثم سمعته يومًا من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فصلّوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قال قلت: أصحاب محمد ما أدري ما تحدثونه؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي: صل الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي نافلة. قال: يا عمرو بن ميمون قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك، وفي لفظ آخر: فضرب على فخذي وقال: ويحك، إن جمهور الناس فارقوا الجماعة، وإن الجماعة ما وافق طاعة الله تعالى، وقال نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن يفسدوا وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ، ذكرهما البيهقي وغيره، وقال بعض أئمة الحديث: وقد ذكر له السواد الأعظم فقال: أتدري من السواد الأعظم؟ هو محمد ابن أسلم الطوسي وأصحابه، فمسخ المتخلفون الدين وجعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور وجعلوهم عيارًا على السنة وجعلوا السنة بدعة والمعروف منكرًا لقلة أهله وتفردهم في الأعصار والأمصار وقالوا: من شذ شذ الله به في النار وما عرف المتخلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان عليه الناس كلهم إلا واحدًا منهم فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفرًا يسيرًا فكانوا هم الجماعة وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم على الباطل وأحمد وحده على الحق فلم يتسع علمه لذلك فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل، فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة وهي السبيل المهيع لأهل السنة والجماعة حتي يلقوا ربهم، مضى عليها سلفهم وينتظرها خلفهم منن المؤمنين {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 23) انتهى. ومثل ذلك في كتب الشافعية منهم أبو شامة قال في كتاب البدع والحوادث: وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيرًا لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ثم نقل عن عمرو بن ميمون عن البيهقي في كتاب المدخل. ومنهم الشعراني قال في كتاب الميزان: قال سفيان الثوري: المراد بالسواد الأعظم هو مَن كان من أهل السنة والجماعة ولو واحدًا، وفي رواية عنه: لو أن فقيهًا واحدًا على رأس الجبل لكان هو الجماعة اهـ. وحسبنا قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (النحل: 120) أي قام بما قامت به الأمة، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يكُ من المشركين تشبيهًا له بإبراهيم، كما قال الشاعر: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد فليجتهد طالب الحق أن يعتصم في كل باب من أبواب العلم بأصل مأثور عن النبي صلى الله عليه

لائحة التعليم الديني للمملكة العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لائحة التعليم الديني للمملكة العثمانية هي إحدى اللوائح الإصلاحية الدينية منقولة من فصل (لوائح الإصلاح والتعليم الديني) من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام الذي يطبع الآن وهي بحروفها: (اللائحة الأولى) كتبها في منفاه ببيروت ووقع عليها مع بعض وجهاء المسلمين وأرسلها إلى سماحة شيخ الإسلام بالآستانة وذلك في 26 جمادَى الثانية سنة 1304 ومنها يعلم أنه لم يألُ جهدًا في النصح للدولة وأنها لو عملت بإرشاده وصدقت أمله ورجاءه الحسن فيها لأحيت الإسلام وجددت مجده، وكانت بذلك ذات سيادة إسلامية حقيقية. وهذا نص ما كتبه، رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة وصلى الله على نبيه وآله وصحبه. وبعد: فقد رأينا وسررنا كما سر المسلمون كافة بما نشر في جريدة الطريق من أنه صدرت الإرادة السنية إلى حضرة صاحب السماحة مولانا شيخ الإسلام بأن تؤلف تحت رياسته العلمية لجنة أعضاؤها حضرات صاحبي السماحة نوري أفندي أمين الفتوى، وحسني أفندي رئيس مجلس المعارف، وصاحب العطوفة عبد النافع أفندي، وصاحب الفضيلة خوجة إسحاق أفندي، وأن يناط بهذه اللجنة إصلاح جداول الدروس في المكاتب الإسلامية [1] وتقويمها حتى تكون كافلة بجميع الوسائل الصحية لتعليم أولاد المسلمين وتلقينهم ضروريات الدين الإسلامي وتربيتهم بالآداب والأخلاق الإسلامية على وفق الحق المطلوب. وإن حضرة مولانا شيخ الإسلام وحضرات أعضاء اللجنة الكرام وإن كانوا في غِنًى بآرائهم القويمة ومعارفهم الواسعة عن أن يتقدم إليهم أمثالنا بالمشورة ولكنها الحمية للدين تبعثنا على بسط ما يلوح بخواطرنا إلى أولياء أمورنا مع الاعتراف بالعجز والإقرار بالقصور عملاً بقول سيدنا علي - كرم الله وجهه -: (من واجب حقوق الله على العباد النصيحة بمبلغ جهدهم، وليس امرؤ - وإن عظمت في الحق منزلته، وتقدمت في الدين فضيلته - يفوق أن يعان على ما حمله الله من حقه، ولا امرؤ - وإن صغرته النفوس، واقتحمته العيون - بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه) . إن مَن له قلب من أهل الدين الإسلامي يرى أن المحافظة على الدولة العلية العثمانية ثالثة العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، فإنها وحدها الحافظة لسلطان الدين، الكافلة ببقاء حوزته، وليس للدين سلطان في سواها، وإنا والحمد لله على هذه العقيدة عليها نحيا وعليها نموت. إن للخلافة الإسلامية حصونًا وأسوارًا، وإن أحكم أسوارها ما استحكم في قلوب المؤمنين من الثقة بها، والحمية للدفاع عنها، ولا معقد للثقة ولا موقد للحمية في قلوب المسلمين إلا ما أتاهم من قبل الدين ومن ظن أن اسم الوطن ومصلحة البلاد ومشاكل ذلك من الألفاظ الطنانة يقوم مقام الدين في إنهاض الهمم وسوقها إلى الغايات المطلوبة منها - فقد ضل سواء السبيل. المسلمون قد تحيف الدهر نفوسهم، وأنحت الأيام على معاقد إيمانهم، ووهت عرى يقينهم، بما غشيهم من ظلمات الجهل بأصول دينهم، وقد تبع الضعف فساد الأخلاق، وانتكاس في الطبائع وانحطاط في الأنفس، حتى أصبح الجمهور الأغلب منهم أشبه بالحيوانات الرتع غاية همهم أن يعيشوا إلى منقطع أجيالهم يأكلون ويشربون ويتناسلون ويتنافسون في اللذات البهيمية وسواء عليهم بعد ذلك أكانت العزة لله ورسوله وخليفته أو كانت العزة لسائد عليهم من غيرهم. وهؤلاء الهنديون وسكان ما وراء النهر وقبائل التركمان وأشباههم يمثلون هذه الرزية أظهر تمثيل، ولم تكن هذه المحنة خاصة بقوم من المسلمين دون قوم ولكن عمت بها البلية حتى خشي على قلوب كثير من العثمانيين أن يمسها هذا المرض الخبيث لولا أن تدركها قوة مولانا أمير المؤمنين - خلد الله ظله -. هذا الضعف الديني قد نهج لشياطين الأجانب سبل الدخول إلى قلوب كثير من المسلمين واستمالة أهوائهم إلى الأخذ بدسائسهم والإصاخة إلى وساوسهم فخلبوا عقول عدد غير قليل، ثم انبثت دعاتهم في أطراف البلاد الإسلامية حتى العثمانية لتضليل المسلمين، فلا نرى بقعة من البقاع إلا فيها مدرسة للأمريكانيين أو اليسوعيين أو العزارية أو الفرير أو لجمعية أخرى من الجمعيات الدينية الأوربية والمسلمون لا يستنكفون من إرسال أولادهم إلى تلك المدارس طمعًا في تعليمهم بعض العلوم المظنون نفعها في معيشتهم أو تحصيلهم بعض اللغات الأوربية التي يحسبونها ضرورية لسعادتهم في مستقبل حياتهم. ولم يختص هذا التساهل المحزن بالعامة والجهال، بل تعدى إلى المعروفين بالتعصب في دينهم بل لبعض ذوي المناصب الدينية الإسلامية. وأولئك الضعفاء أولاد المسلمين يدخلون إلى تلك المدارس الأجنبية في سن السذاجة وغرارة الصبا والحداثة ولا يسمعون إلا ما يناقض عقائد الدين الإسلامي ولا يرون إلا ما يخالف أحكام الشرع المحمدي، بل لا يطرق أسماعهم إلا ما يزري على دينهم وعقائد آبائهم ويعيب عليهم التمسك بعُرى الطاعة لأوليائهم ويقع ذلك في نفوسهم موقع القبول؛ لأنه من أساتذتهم القُوَّام على تربيتهم بإذن آبائهم، ولا نطيل القول فيما يتلقونه من العقائد الفاسدة والآراء الباطلة، فذلك أمر أعرف من أن يبين. فلا تنقضي سِنو تعليمهم إلا وقد خوت قلوبهم من كل عقد إسلامي وأصبحوا كفارًا تحت حجاب اسم الإسلام، ولا يقف الأمر عند ذلك بل تعقد قلوبهم على محبة الأجانب وتنجذب أهواؤهم إلى مجاراتهم ويكونون طوعًا لهم فيما يريدونه منهم ثم ينفثون ما تدنست به نفوسهم بين العامة بالقول والعمل، فيصيرون بذلك ويلاً على الأمة، ورزية على الدولة، نعوذ بالله. ولو فقه المسلمون لبذلوا من أموالهم ما يجيدون به تربية أبنائهم مع استبقائهم مسلمين في العقيدة، عثمانيين في النزعة، هذا ما جلبه الجهل على الأمة الإسلامية وإن غائلته لمن أشد الغوائل، وقد كنا نخاف أن تحل بوائقها لو لم تدفعها عزيمة مولانا أمير المؤمنين. أما المكاتب والمدارس الإسلامية فقد كانت إما خالية من التعليم الديني جملة، وإما مشتملة على شيء قليل منه لا يتجاوز أحكام العبادات على وجه مختصر وطريق صوري لا يعدو حفظ العبارات مع الجهل بالمدلولات، ولهذا رأينا كثيرًا ممن قرؤوا العلوم في المدارس العسكرية وغيرها خلوًّا من الدين وجهالاً بعقائده منكبين على الشهوات وسفساف الملذات لا يخشون الله في سر ولا جهر، ولا يراعون له حكمًا في خير ولا شر وانحط بهم ذلك إلى الكلب في الكسب والانصباب على طلب التوسعة في العيش، لا يلاحظون فيه حلالاً أو حرامًا ولا طيبًا أو خبيثًا، فإذا دُعوا إلى الدفاع عن الملة والدولة ركنوا إلى الراحة ومالوا إلى الخيانة وطلبوا لأنفسهم الخلاص بأية وسيلة. وبالجملة، فإن ضعف العقيدة والجهل بالدين قد شمل المسلمين على اختلاف طبقاتهم إلا من عصم الله وهم قليلون، ولهذا تراهم يفرون من الخدمة العسكرية ويطلبون للتخلص منها أية حيلة وهي من أهم الفروض الدينية المطلوبة منهم ونرى غيرهم من الأمم يتسابقون إلى الانتظام في سلك جنديتهم مع أنها غير معروفة في دينهم، بل مضادة لصريح نصوصه ونرى المسلمين يبخلون بأموالهم إذا دعت الأحوال إلى مساعدة الدولة والإنفاق على مصالح الأمة ولا يبخلون بذاك على شهواتهم بعكس ما نرى في سائر الأمم. هكذا انطفأ من المسلمين مصباح العقل فلا يعرفون لهم رابطة يرتبطون بها ولا يهتدون إلى جامعة يلجأون إليها وتقطع ما بينهم {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذه أحوال نذكر منها القليل والله يعلم أن الواقع منها أكثر من الكثير نذكرها مقرونة بأنفاس الأسف وصعداء الحزن لما نعلم أن الأجانب قد أرسلوا ذئابهم يتخطفون شاذتهم وأغلبهم شاذة ويفترسون نادتهم وجمهورهم نادة ومسارعة الفساد فيهم مشهورة يحس بازديادها كل سنة عما قبلها وإن عواقب ذلك لتخشى ولا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا استقرينا أحوال المسلمين للبحث عن أسباب هذا الخذلان لا نجد إلا سببًا واحدًا وهو القصور في التعليم الديني إما بإهماله جملة كما هو في بعض البلاد وإما بالسلوك إليه من غير طريقه القويمة كما في بعض آخر أما الذين أهمل فيهم التعليم الديني فجمهور العامة في كل ناحية لم يبقَ عندهم من الدين إلا أسماء يذكرونها ولا يعتبرونها، فإن كانت لهم عقائد فهي بقايا من عقائد الجبرية والمرجئة من نحو أنه لا اختيار للعبد فيما يفعله وإنما هو مجبور فيما يصدر منه جبرًا محضًا، فلهذا لا يؤاخذ على ترك الفرائض ولا اجترام السيئات ومثل أن رحمة الله لا تدع ذنبًا حتى تشمله بالغفران قطعًا لا احتمال معه للعقاب فليفعل الإنسان ما يفعل من الموبقات وليهمل ما يهمل من المفروضات فلا عقاب عليه وما شاكل ذلك مما أدى إلى هدم أركان الدين من نفوسهم واستل الحمية من قلوبهم، ولا منشأ لهم إلا عدم تعليمهم عقائد دينهم وغفلتهم عما أودع في كتاب الله وسنة رسوله، وأما الذين أصابوا شيئًا من العلم الديني فمنهم من كان همهم علم أحكام الطهارة والنجاسة وفرائض الصلاة والصيام وظنوا أن الدين منحصر في ذلك ومتى أدوا هاتين العبادتين على ما نص في كتب الفقه فقد أقاموا الدين وإن هدموا كل ركن سواهما ويشتركون مع الأولين في تلك العقائد الفاسدة. ومنهم من زاد على ذلك علم الفروع في أبواب من المعاملات متخذًا ذلك آلة للكسب وصنعة من الصنائع العادية وأولئك الأغلب من طلاب الإفتاء والقضاء ووظائف التدريس وما شاكل ذلك لا ينظرون من الدين إلا من وجه ما يجلب إليهم المعيشة، فإن مال بهم طلب العيش إلى مخالفته لم يبالوا بذلك معتقدين على مثل عقائد الجهلة مما قدمنا وهؤلاء لا تختص مفاسد أعمالهم بذواتهم، ولكنها تتعدى إلى أخلاق العامة وأطوارهم، فهذا القسم أعظم الأقسام خطرًا وأشدها ضررًا في العامة والخاصة وما أفراده بقليل. نعم لا ينكر أن الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه يوجد في هذه الطبقة رجال وقفوا عند ما حد الكتاب واستمسكوا في الدين بالعروة الوثقى وأضرم الدين في قلوبهم نار الحمية، واستفز اليقين هممهم للنصرة الملية، إلا أنهم قليل والموجود منهم قد يكون خامل الذكر، أو قاصر الاقتدار عما تطالبه به الشريعة في إرشاد الأمة، وبالجملة فوجود أمثالهم لم يكن كافيًا في دفع الشرور الوافدة من غيرهم ولولا ما لطف الله بهذه الأمة بسر توجه مولانا الخليفة الأعظم لعجل لها من الوبال ما استحقته لسوء أعمالها ونبذها أحكام الله وراء ظهرها وانحراف قلوبها عن مقاصد ولاة أمورها الصادقين. وقد نظر مولانا - أعزه الله ونصره - إلى عظم هذا الأمر وهول عواقبه فأصدر إرادته السامية بالنظر في وجوه تداركه. فيا للنعمة العظمى ويا للمرحمة الكبرى، هشت لها قلوب المؤمنين، وبشت لورود بشراها وجوه الصادقين، وارتفعت أصوات التضرع إلى الله بتأييد شوكة مولانا أمير المؤمنين، وتأييد دولته وإعلاء كلمته. وإنه بعد التأمل في الأحوال المتقدمة وهي ظاهرة مشهورة، والوقوف على سببها الذي أشرنا إليه وهو غير خفي على مدارك مولانا شيخ الإسلام وأعضاء اللجنة الكرام نعلم أن أمير المؤمنين لم يرد من إصلاح الجداول أن يدرج في فنون المدارس الإسلامية بعضها الكتب الفقهية مع بقاء التعليم عل

الأمة وسلطة الحاكم المستبد

الكاتب: من مقالات العروة الوثقى

_ الأمة وسُلطة الحاكم المستبد [1] {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (آل عمران: 117) . إن الأمة التي ليس لها في شؤونها حل ولا عقد ولا تستشار في مصالحها ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحاكم واحد، إرادته قانون ومشيئته نظام يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد - فتلك أمة لا تثبت على حال واحد ولا ينضبط لها سير فتعتورها السعادة والشقاء، ويتداولها العلم والجهل، ويتبادل عليها الغنى والفقر، ويتناوبها العز والذل، وكل ما يعرض عليها من هذه الأحوال خيرها وشرها فهو تابع لحال الحاكم. فإن كان حاكمها عالمًا حازمًا أصيل الرأي عالي الهمة رفيع المقصد قويم الطبع، ساس الأمة بسياسة العدل ورفع فيها منار العلم ومهد لها طرق اليسار والثروة وفتح لها أبوابًا للتفنن في الصنائع والحذق في جميع لوازم الحياة، وبعث في أفراد المحكومين روح الشرف والنخوة وحملهم على التحلي بالمزايا الشريفة من الشهامة والشجاعة وإباء الضيم، والأنفة من الذل، ورفعهم إلى مكانة عليا من العزة ووطَّأ لهم سبل الراحة والرفاهية وتقدم بهم إلى كل وجه من وجوه الخير. وإن كان حاكمها جاهلاً سيئ الطبع سافل الهمة شرهًا مغتلمًا جبانًا ضعيف الرأي أحمق الجَنان خسيس النفس معوج الطبيعة - أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران وضرب على نواظرها غشاوات الجهل وجلب عليها غائلة الفاقة والفقر وجار في سلطته عن جادة العدل وفتح أبوابًا للعدوان، فيتغلب القوي على حقوق الضعيف ويختل النظام وتفسد الأخلاق وتخفض الكلمة ويغلب اليأس، فتمتد إليها أنظار الطامعين وتضرب الدول الفاتحة بمخالبها في أحشاء الأمة. عند ذلك إن كان في الأمة رمق من الحياة وبقيت فيها بقية منها وأراد الله بها خيرًا - اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة واستئصال جذورها قبل أن تنشر الرياح بذورها وأجزاءها السامة القاتلة بين جميع الأمة فتميتها وينقطع الأمل من العلاج. وبادروا إلى قطع هذا العضو المجذم قبل أن يسري فساده إلى جميع البدن فيمزقه، وغرسوا لهم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء وجددوا لهم بنية صحيحة سالمة من الآفات (استبدلوا الخبيث بالطيب) وإن انحطت الأمة عن هذه الدرجة وتركت شؤونها بيد الحاكم الأبله الغاشم يصرفها كيف يشاء، فأنذرها بمضض العبودية وعناء الذلة ووصمة العار بين الأمم جزاءً على ما فرطوا في أمورهم {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) .

الإسلام هو القرآن وحده

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الإسلام هو القرآن وحده ردٌّ لردٍّ [1] نحمدك اللهم يا هادي المسترشدين إلى الحق والصواب، ونسألك أن تؤتينا الحكمة وفصل الخطاب وأن تؤيدنا بروح منك، فإننا لا نعتمد إلا عليك ونصلي ونسلم على نبيك المبعوث رحمة للعالمين، بكتاب مبين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عليم حكيم (وبعد) : فقد اطلعت على ما كتبه الأستاذ الفاضل الشيخ طه البشري ردًّا عليَّ فيما ذهبت إليه، فسررت جدًّا لغيرته، وشكرته على أدبه ونزاهته، ولكن لما كنت أخالفه في أكثر آرائه اضطررت إلى مناقشته ليظهر لي الحق إن كنت مخطئًا، راجيًا من أهل الإنصاف والعقل أن يكونوا حكمًا بيننا، والله ولي الهداية، المنقذ من الغواية. قال - حفظه الله -: (وأما السنة فلأننا نثبتها بالكتاب نفسه فهي منه تستمد وعليه تعتمد) ثم استشهد على ذلك بعدة آيات من القرآن الشريف لم تكن لتخفى علينا من قبل، فلهذا نبدي له رأينا فيها واحدة بعد أخرى: الآية الأولى: قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) : (ليس هناك معنى لتبيين الكتاب غير تفصيل مجمله وتفسير مشكله ... ) إلخ، ونقول: لو كان جميع ما ورد في كتب السنة من الأحاديث المعتبرة تبيينًا للقرآن لكان في غاية الإجمال ولَما وصفه الله تعالى بكونه بينًا ومفصلاً في قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) ، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} (الحج: 16) ، وقوله: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: 3) ، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114) وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (هود: 1) إلى غير ذلك من الآيات. فكيف وصفه الله تعالى بهذه الأوصاف وهو محتاج إلى كل المجلدات الضخمة (كتب السنة) لتوضحه وتفسره وتفصله؟ وكيف يكون القرآن آية في البلاغة وفيه ما لا يُفهم إلا إذا فسره الرسول بنفسه؟ ألا يستنكف أحدنا أن يكتب للناس كتابًا لا يفهمونه إلا إذا فسره هو لهم؟ ! ! فما لك بالقرآن المبين، نعم، قد أطلق القرآن الكلام في مسائل قليلة لتكون عبارته منطبقة على أحوال جميع البشر في كل زمان ومكان، ولكن هذا شيء والإجمال شيء آخر. ولتوضيح المقام نضرب مثلاً لكلٍّ: فمثال الإجمال قولك: حرم الله الخبائث، وإذا أردت تفصيله تقول: حرم الله الخنزير والخمر والميتة والدم وغيرها. ومثال الإطلاق أن تقول: جاء محمد، وتقييده يكون بنحو قولك: (جاء محمد راكبًا فرسًا في يوم الجمعة) ، فالمجمل ما دخل تحته جميع أفراد المفصل، والمطلق لا تدخل فيه أفراد المفصل، والمطلق لا تدخل فيه أفراد المقيد ولكنه يتحملها، أي أن الأول كالجراب الحاوي للمفصل والثاني كجراب غير حاوٍ له ولكنه يسعه , فالقرآن ليس فيه مجمل نحتاج إلى تفصيله إلا وفصله بقدر ما تقتضيه حاجة البشر , ولكنه فيه مطلق لم يتقيد ليقيده أولياء الأمر حسب الحال والزمان والمكان , فإن قيل: لِمَ لا نعتبر السنة تقييدًا لمطلقه بالنسبة للعالمين؟ قلت: لأن النبي لا يعلم حالة البشر في جميع الأزمنة والأمكنة , وإن كان الله تعالى أعلمه بها فلِمَ لَمْ يقيد جميع مطلق القرآن بالقرآن كما قيد بعض مطلقه فيه؟ والخلاصة: إن القرآن بيّن ومفصل تفصيلاً يفي بحاجة جميع البشر بدون احتياج إلى شيء سواه , ولذلك لم يصفه الله تعالى بالإجمال في موضع واحد ووصفه بضده في مواضع كثيرة كما بينا ذلك فيما سبق. إذ لا يمكن أن يكون معنى التبيين المذكور في الآية ما ذكر الأستاذ وإنما معناه الإظهار والتبليغ وعدم كتمان شيء من الكتاب أو إخفائه عن العالمين كما ورد مثل ذلك المعنى في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} (آل عمران: 187) ، وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (المائدة: 15) ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) إلى غير ذلك من الآيات، ثم على فرض أن التبيين هنا معناه التفصيل والتفسير للمجمل والمشكل كما يقول، فهل نسمي ما زاد في السنة عن الكتاب مما ليس له أثر فيه تفصيلاً وتفسيرًا أم ماذا؟ وذلك مثل كثير من نواقض الوضوء وقتل المرتد لمجرد الارتداد وتحريم الحرير والذهب وغير ذلك مما لم يشر إليه الكتاب. الآية الثانية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) ؛ أي يُظهر لهم جميع ما أوحاه الله إليه من الدين ويبلغهم إياه مفصلاً وموضحًا بلُغتهم التي يفهمونها وإتيان النبي بهذا القرآن هو كذلك، وليس في الآية ما يدل على أنه يأتي أولاً بالكتاب غير مفهوم ثم يأخذ في تفسيره وشرحه لهم بعبارات أخرى. وهب أن ما يدعونه صحيح فالآية صريحة في أن هذا التفسير والتفصيل هو لقومه الذين نشأ وبعث فيهم - وهو ما ندعيه - وليست نصًّا في أنه كان عامًّا لجميع البشر كما هو ظاهر. الآية الثالثة: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 151) فتعليم الكتاب هو تحفيظه للناس وتفهيمه لمن لم يفهمه منهم، وتدريبهم على التدبر والتفكر فيه والاستفادة منه وتوجيه أنظارهم إلى ما فيه من الآيات والدلائل والعبر والحكم وحثهم على إدراكها وتصورها وغير ذلك مما قد يفوت بعضهم. وقوله: (والحكمة) عطف تفسير كقوله تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (البقرة: 53) ، والمعنى أن القرآن ذو حكمة كما وصفه بقوله: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} (يس: 2) ، وعلى تسليم أن العطف هنا للمغايرة فليس المراد بالحكمة الشرائع والعبادات ونحوها وإنما المراد الحكم والمواعظ والآداب والفضائل وأنواع التهذيب والتأديب والتثقيف التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم نحو الأمة العربية حتى أخرجها من ظلمات الهمجية إلى نور العلم والمدنية. ونحن لا نرفض شيئًا من ذلك بل نقبله على العين والرأس كما قلنا في المقالة السابقة، والذي ندعيه أن القرآن مشتمل على أمهاتها، ولا أظن أن حضرة الأستاذ يخالفنا في ذلك. الآية الربعة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59) ونحن لم نعارض في ذلك بل نقول: إن إطاعة الرسول فرض محتم على كل من أمره بشيء، وإنما موضوع البحث هو: هل أوامر الرسول القولية (السنة) خاصة بزمنه أم عامة؟ وبعبارة أخرى هل فرض علينا نحن فرضًا غير ما في كتاب الله تعالى؟ وهل للرسول أن يفرض على من ليس في عصره وبعد تمام القرآن شيئًا زيادة عما فيه؟ أما من كانوا في عصره فله أن يأمرهم بأي شيء يرى فيه مصلحة لهم في دينهم أو دنياهم؛ لأنه رئيسهم وأعظم أولياء أمورهم وأعلمهم بما فيه الفائدة وأرجحهم عقلاً وهو أولى الناس بتطبيق القرآن على حالهم وتقييد مطلقه بما يوافقهم، وطاعتهم له واجبة. ولو وجه إلينا خطابه لوجبت علينا نحن أيضًا ولعلمنا أن الله أمره بذلك، ولكن دعوانا أنه لم يفعل , فهذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها تشبه من وجه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (الحجرات: 2) فلو وجد عليه السلام في زماننا لحق علينا امتثال هذا الأمر. الآية الخامسة: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) فليس في هذه الآية ما يدل على أن الرسول يأمر أو ينهى أو يحل أو يحرم بغير ما في القرآن فمن اتبع القرآن فقد اتبعه في كل ذلك. ولعل ما سقط من هذه الآية في مقالة الشيخ من الطابع لا منه! الآية السادسة: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) : هذه الآية وردت في الفيء ونصها هكذا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) ومعناها: ما أعطاكم الرسول من الفيء فخذوه وما نهاكم عن أخذه منه فانتهوا. يقولون إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب أي سبب النزول، ولكنا نقول: إن الكلام هنا في السياق لا في السبب، ولو لم يعتبر للسياق لوجب على كل مسلم مثلاً أن يكون دائمًا متجهًا نحو الكعبة في أي عمل يعمله لقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة: 150) ولكن السياق يدل على أن ذلك في قبلة الصلاة فكيف يعتبر السياق هنا ولا يعتبر هناك؟ ! سلَّمنا أن آية: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} (الحشر: 7) عامةً في كل شيء وأمر، ولكن هذا لا يفيد مناظرنا الفاضل شيئًا؛ لأننا نقول إن السنة أعطاها الرسول للعرب لا لنا كما سبق، ولو أعطاها لنا لوجب علينا أخذها، وبعبارة أخرى: إن السنة هي خطاب الرسول الخاص والقرآن خطاب الله العام، أما ما أورده بعد ذلك من الآيات فليس فيه شيء جديد ويعرف الجواب عنه مما بيناه هنا. ثم إني أسأل حضرته سؤالاً وهو: ما الحكمة في جعْل بعض الدين قرآنًا والبعض الآخر سنة؟ مثلاً إذا كان الله تعالى يريد أن كل من كان عنده من المسلمين عشرون دينارًا من الذهب أو مئتا درهم من الفضة وجب عليه أن يخرج زكاتها ربع عشرها في جميع الأوقات وفي جميع البلدان، فلماذا لم يذكر ذلك تفصيلاً في الكتاب كما ذكر المواريث وغيرها؟ وما حكمة الإجمال في بعض المواضع والتفصيل في الأخرى؟ قال حفظه الله: (إن كل ما يجري على لسان الرسول أو يبدو من عمله إنما هو بالوحي السماوي أو الإلهام الإلهي الصادق) وهذه العبارة على إطلاقها غلط لا نوافقه عليها؛ لأن بعض أعمال الرسول وأقواله كانت باجتهاد منه عليه السلام ولم تكن وحيًا مطلقًا، وقد عوتب في بعضها؛ لأن الله تعالى لم يقره على غير الصواب والكمال وما كنا نظن أن حضرة الأستاذ نسي ذلك أو تناساه مع أن القرآن الشريف شهد به وكذلك الأحاديث الصحيحة المعتبرة عنده؛ فلذا نلفت نظره إل

رسالة من طهران بحروفها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة من طهران بحروفها بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة رشيدنا ومرشدنا حكيم الإسلام وفيلسوفه مربي الأمة المحمدية والدنا وأستاذنا السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الإسلامي , أطال الله بقاه ورزقنا بره ولقاه , آمين يا رب العالمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فالموجب لتحرير هذه السطيرات هو الإخبار بما اعترض به سفير الدولة العثمانية الأمير شمس الدين بك على الجرائد الفارسية عند ترجمتها لمقالتكم (الشورى في بلاد إيران) المذكورة في العدد السابع من المجلد التاسع من مجلتكم الغراء. أول مَن ترجم ذلك ذكاء الملك في جريدته (تربيت) الغراء، فنبه المترجم علماء الفرس وسواسهم، وذكر لهم بعد الترجمة أن منزلة ومقام حضرة حكيم الإسلام وفيلسوفه السيد محمد رشيد رضا عند جميع أهل الأقطار من المسلمين وخصوصًا العرب الكرام بمنزلة مئة عالم مجتهد من أهل التشيع، فاغتنموا الفرصة وفكروا - أيها السواس - في مقالة هذا الحبر واقرأوها على المنابر وفي المعابر. ثم نقل ما ترجم، وما قال في جريدة (مجلس) وهي جديدة الطلوع يقرأها في طهران الصغير والكبير والذكر والأنثى بل وفي جميع إيران. كتب الأمير شمس الدين بك إلى وزير خارجية (علاء السلطنة) كتابًا، وأغلظ فيه وذكر أن ما ترجمته روزنامة (تربيت) ، ونقلته عنها جريدة (مجلس) من المنار أسباب يلقيها أعداء الدولة ليوقعوا النفاق بين الدولتين، ويحدثوا الشقاق بين الفريقين، فالأولى أن تحتموا على جرائدكم إذا رأوا مثل هذه المقالات أن لا يترجموها، فأجابه وزير الخارجية بأن صاحب المقالة ليس من رعيتنا حتى نؤاخذه، وبأن سلطاننا قد أطلق الحرية للجرائد والأقلام فلا يمكننا معارضتهن بشيء. هذا معنى ما كتبه السفير، وما أجابه به الوزير، رأيت الكتاب والجواب بعيني في يد سيد محمد صادق نجل السيد محمد الطباطبائي المجتهد مدير جريدة (مجلس) . وقد كنت يومًا في مجلس مشحون من طلاب العلوم الدينية فتذاكروا ما جرى بين السفير والوزير، فقام أحدهم خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن دولة الترك تريد أن تضغط على عقولنا وأفكارنا كما فعلت بإخواننا من العرب المساكين، تطلب منا أن لا نكتب في جرائدنا ما ينور عقولنا، وينبه أفكار أهل ملتنا من الفرس بأن مجلس الشورى إذا دار في إيران فأحكامه وقوانينه هي أحكام الشريعة وقوانينها، فيجب على كل مسلم أن يتبع أحكام الشريعة المحمدية حيث كانت , ماذا رأينا من الدولة التركية؟ رأينا منها التعدي على حدود مملكتنا من طرف تبريز رأينا منها التعدي والظلم لإخواننا وأهل ملتنا في العراق. رأينا منها ذبحهم وجزرهم في الشهر الماضي , مهلاً مهلاً أيها الترك أفيقوا من غفلتكم، وتيقظوا من نومكم، فليس اليوم كالأمس، ولا غد كاليوم، انفتحت علينا أوربا وأتانا أهلها من كل حدب ينسلون، هذا تاجر وهذا سائح وهذا حكيم والآخر داعٍ لدينه، والقصد من الكل ابتلاعنا معاشر أهل الإسلام، فإن تيقظتم وإلا فأنتم صبوحهم ونحن غبوقهم لا سمح الله بذلك، أيها الترك تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئًا ولا نتخذ المستبدين أربابًا من دون الله، طاعتهم كطاعته ومعصيتهم كمعصيته، بل نجالدهم بالسيف والسنان، والقلب واللسان، فإن توليتم فنشهدكم بأنا مسلمون، ونبرأ إلى الله من المستبدين الخائنين، ومستمسكون بقوله عز من قائل في وصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وهم الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) . هذا معنى ما خطب به خطيب الطلاب الدينية أحببت أن أطلعكم عليه فإنه بعد ما ترجم قولكم صار بين الناس - ذَكرهم وأُنثاهم - أشهر من نار على علم اهـ. (المنار) ذكر الكاتب اسمه، ولم يأمر بكتمه، ولكننا لم نذكره لأجل قوله: إنه اطلع على ما كتب السفير والوزير , ولعله يبيّن عنوانه الذي تصل إليه به الرسائل لنكتب إليه. وقد رأى القراء أن خطيب طلاب العلوم بطهران أعقل من سفير دولتنا الذي يدعي أن بيان الحق، وإظهار حكم الله في أمر المسلمين وقاعدة حكومتهم لا يأتي إلا من عدو لدولته، ولا يكون له من الأثر إذا هو ظهر في بلاد الفرس إلا تأريث العدوان بينهم وبين قومه الترك، ومعنى هذا - ولا ندري أفهمه أم لا - أن دولته عدوة للحكم الإسلامي الذي وضع القرآن له أساس الشورى، وأنها تعادي كل من يقول به أو يحاول العمل به. ونحن ننزه الدولة في مجموعها والأمة العثمانية عن هذه الضلالة، ونقول: إن الأمة والدولة يئنَّان من حكم الاستبداد ويحنان إلى حكم الشورى، ولكنهما غلبتا عليه ولو لم يجد المابين عمالاً مثل حضرة السفير لما تمكن من القضاء على القانون الأساسي ومجلس المبعوثان بالإعدام , لماذا يكون المُطالب بالشورى والعدل، أو المادح لهما عدوًّا للدولة، ولا يكون المساعد على الاستبداد والظلم لأجل المال والجاه هو العدو المبين للدولة والملة؟ أي الأمرين أضمن لسلامتهما؟ أليس من العار علينا أن نجد الجواب الصحيح عند أحد طلاب الفرس والجواب الباطل عند أحد وزراء الترك. إن ما أنذر المسلمين به الخطيبُ الفارسي لَواقع إن لم يتداركوا أمرهم، وإن الخطر على العثمانيين أقرب , فنسأل الله تعالى أن يغير ما بنا إلى خير منه قبل أن تقع الواقعة فتكون خافضةً رافعةً.

خطبة الدكتور ضياء الدين أحمد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة الدكتور ضياء الدين أحمد قال بعد مقدمة في الشكر لأصدقائه الذين احتفوا به ولأصحاب الجرائد ما ترجمته: أيها السادة: لم تعد كلية عليكرة شيئًا غير معلوم في مصر. فأكتفي بأن أقول: إنها الآن تتألف من ثلاثة أقسام: المدرسة الابتدائية والمدرسة الثانوية والمدرسة العالية. وبالمقارنة بمدارس مصر الابتدائية والثانوية يصح أن نعتد مدارس مصر الابتدائية والثانوية كالمدرسة الابتدائية عندنا بقسميها الابتدائي والراقي؛ لأن المدارس الثانوية للتعليم العام لا وجود لها في الحقيقة بمصر , والتي يسمونها هنا المدارس العالية كمدرسة الطب والحقوق، تسمى في أوربا مدارس ثانوية فنية , فمدرستنا العالية في الكلية لا يصح أن تقاس بها مدارسكم العالية هنا وإن كانت المدرسة العالية في عليكرة لا تزال في طفوليتها، أو كأنها مدرسة ثانوية راقية، ولا ننكر أن مدرستنا الكلية لم تخرج إلى الآن رجالاً من عظماء العلماء الذين يكتشفون الاكتشافات المهمة في العلوم والفنون بيد أنها قد خرجت رجالاً ذوي كرامة ونفوس عالية وإخلاص لبلادهم وملتهم. يوجد في بلاد الهند أكثر من مائة مدرسة مثل كلية عليكرة لكن الذي يجعل لكليتنا امتيازًا حقيقيًّا على غيرها أنها الشرقية الوحيدة التي يوجد فيها نظام خاص بإقامة الطلبة فيها على الطريقة الإنكليزية، وأول ما يعلم الطلبة فيها حب الكلية والعمل المستمر لترقيتها وإعلاء شأنها بكل ما في إمكانهم، ويتدرج من ذلك إلى ترقية شعورهم في مبادئ الإخلاص والوطنية حتى إذا ما ظهر أن طالبًا ما يشتري بمصلحة المدرسة مصلحة شخصية له حقره الطلبة كافةً، فإما أن يكفر عن ذنبه بخدمة عامة وإما أن يبرحها غير مأسوف عليه. ويوجد في المدرسة مجتمعات عديدة وأندية كثيرة للطلبة، والمبدأ الذي تسير عليه هذه المجتمعات والأندية هو المبدأ الذي وضعه المستر بك رئيس المدرسة السابق في خطبة ألقاها عند تأسيس النادي المسمى (يونيون كلوب) إذ قال: (أيها الطلبة هذا البناء بناؤكم، وهذا النادي ناديكم، وهو جزء من أجزاء المدرسة الكلية، وهو المكان الذي تكوّنون فيه رأيكم العام، وتغذون آراءكم، وتربون أخلاقكم، وتعدون أنفسكم لإدارة الأعمال) . أما نظام المدرسة العام فهو على الطريقة الإنكليزية حيث يتولى الطلبة شؤونهم بأنفسهم في السير والإدارة , ومن حسن حظنا في عليكرة أننا لا نعرف، ولا نتبع الطريقة الفرنسية في ضبط الطلبة ونظامهم بواسطة ضباط، فإنها طريقة عقيمة، ولها مضار كثيرة ظاهرة في مصر، ومن أسرار نجاحنا أن نتمسك كثيرًا بالتربية الدينية والتربية الوطنية. إذ يجبر الطلبة على تأدية الواجبات الدينية كلها وينشطون على الاهتمام والاشتغال بأحوال المسلمين في أنحاء العالم كافةً. أما المسائل السياسية فلا يمكن الاستغناء عنها، ولا منعها من الكلية إذ لابد للشاب الطالب من أن يفكر، ومن الجنون أن يصد سيال الفكر بحواجز صناعية لابد أن تهدم وتسقط في يوم من الأيام وينساب التيار في جهات عديدة، والذي نعمله في الحقيقة هو أن نعد لذلك السيال طرقًا ومسالك يجري فيها. والكلية الآن تتبع بروجرام التعليم في الحكومة، وتعد الطلبة لامتحان المدارس الجامعة الكبرى. على أن الغاية من مبدأ الأمر أن تكون مدرسة عليكرة جامعةً إسلاميةً مستقلةً , وقد قال المرحوم السيد أحمد خان منذ زمن طويل في خطبة ألقاها: (إن نجاتنا لا تكون إلا في الوقت الذي يصبح فيه أمر تعليمنا بيدنا، ولا تسترقنا مدارس الحكومة الجامعة , وحينئذ نأخذ العلوم بيميننا والفلسفة بشمالنا ونحمل تاج: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فوق رؤوسنا. وقال منذ اثني عشر عامًا أحد حكام الولايات الهندية وهو السير أنتي مكدونال في خطبة ألقاها: (ليس من البعيد أن تنمو هذه الكلية فتصير مدرسةً كبرى، وتكون قرطبة الشرق الحديث، وينتج الفكر الإسلامي من بين جدران هذه المدرسة الرقي السياسي والديني الذي لا يؤمل الآن من الآستانة أو مكة نفسها) . وقد أخذ المسلمون بعد وفاة المغفور له السيد أحمد خان يفكرون بمساعي النواب محسن الملك في إنشاء جامعة إسلامية وجامعة للمسلمين , وثمت فرق بين التعبيرين كما ظهر في جامعة أيرلندا الكاثوليكية حتى لقد كان البحث في جعل كلية عليكرة مدرسةً جامعةً كبرى موضوع المناقشة والأخذ والرد في مؤتمر التربية الإسلامي , وقد قال سمو أغا خان في ختام خطبة له بعد الكلام في أسباب انحطاط المسلمين ما يأتي: (إن كنا حقيقةً كما ندعي آسفين على انحطاط ملتنا وأمتنا فواجب أن نتحد في نهضة واحدة لإصلاح هذه الحال، وفي مقدمة كل عمل يجب أن نبذل الجهد لتكوين مدرسة جامعة يتعلم فيها المسلم زيادةً عن العلوم الحديثة تاريخ الإسلام والمسلمين , وأن لمسلمي الهند حقًّا طبيعيًّا برقي وتقدم إخوانهم في مصر وفارس وأفغانستان وغيرها بجعل عليكرة (أكسفورد إسلامية) يرد إليها أبناء المسلمين لا لتعلم العلوم الحديثة فقط، بل لتربية أخلاقهم وتنمية صفات الإخلاص والمروءة والإيثار على النفس وغير ذلك من الصفات التي نهضت بالمسلمين في عصورهم الأولى، ولا ريب مطلقًا في أن مدرسة جامعة كبرى كهذه تعيد لنا مجدنا الذاهب، أفلا يتحد المسلمون، ويجهدون أنفسهم في إنشاء مدرسة جامعة كهذه، فهل فقدوا الشعور الشريف ومكارم الأخلاق التي كانت سببًا في نهضتهم الأولى حتى أصبحنا غير قادرين على جمع شيء من المال لهذا العمل المجيد؟ ! وقد كان المستر موريس ناظرنا السابق وضع مشروعًا لنظام المدرسة الجامعة المطلوبة، واقترح أن تكون فيها مدرسة كلية خاصة بالعلوم العربية. إننا إذا تكلمنا أيها السادة عن مدرسة جامعة إسلامية فلا نريد مدرسة عالية تلقى فيها العلوم التي يمكن تلقينها في مدارس ثانوية، وإنما نريد أن نضع أساس مصدر فكر تنمو فيه الأرواح وتتربى الرجال وتسمو الأخلاق. نريد مكانًا يكون مهبطًا للعلم ودارًا يلتئم بين جدرانها أرقى ما يكون من الفكر الإسلامي حتى تتشعب من تلك الشمس أشعة العلم والعرفان في كل أرجاء العالم. وإني أؤكد لكم أن إنشاء هذه المدرسة الجامعة لم يعد من قبيل الآمال؛ لأننا قد ابتدأنا وخطونا خطوات في هذه السبيل إذ تم الاتفاق على تأسيس كلية عربية لا يقصد منها أن يتعلم الطلبة فيها اللغة العربية لتأدية امتحان مخصوص، ولكن الغرض منها أن يتلقى الطلبة تاريخ الإسلام بفحص وتدقيق للبحث في أسباب رقيه وانحطاطه , وإننا نؤمل أن تُظهر هذه المدرسة الجواهر المختبئة في آداب اللغة العربية وتنشر الكتب العديمة المثال بتفاسير وإيضاحات , وفي عزمنا أن نخصص بعض الطلبة بهذه الكلية العربية ونجعل لهم مرتبات لكي يستريح بالهم من جهة الحياة وليتفرغوا للدرس والبحث. ونحن الآن أيضًا ننشئ في محاذاة تلك الكلية العربية كليةً أخرى للعلوم الطبيعية، وغير خافٍ أن تعليم العلوم الطبيعية عمل كبير يحتاج إلى إنفاق مال وفير، ولكن والحمد لله لدينا من المال والوسائل ما يكفي للبدء والشروع، وإذا ساعدنا التوفيق نضم إلى هاتين المدرستين مدرسةً أخرى لعلمي الاقتصاد والتاريخ السياسيَّيْن والعلوم السياسية كلها، وهكذا نستمر في إنشاء مدرسة بعد أخرى حتى لا يكون ثمت علم من العلوم لا يتعلم في عليكرة , ولهذا نؤمل أن يؤم الطلاب المسلمون من جميع أنحاء العالم عليكرة لتلقي العلوم فيها. وقد طالما سألنا بعض الناس: لماذا يضيق بنا الفكر وحب الذات فننشئ مدرسةً جامعةً إسلاميةً، ولا يكون سمو النفس ومكارم الأخلاق والتسامح في الدين باعثًا على جعل جامعتنا عامةً مشتركةً؟ ! ونحن نقول: إننا لا نقصد منع غير المسلمين من جامعتنا الإسلامية، فإن أبوابها مفتوحة كما هي الحال الآن في عليكرة لغير المسلمين وكل محب للعلم بلا تمييز بين المختلفين في الجنس والدين، فيوجد الآن طلبة وأساتذة من اليهود والمسيحيين والوثنيين، ولا نسعى مطلقًا في إخراجهم منها ولا نسميها (جامعة إسلامية) إلا بالمعنى الذي تنسب إليه أكسفورد وكمبردج إلى كنيسة إنكلترا الرسمية , وإني أورد لكم بعض الحجج التي نقيمها في هذا الصدد: أولها: من المعترف به أن التربية الدينية جزء أساسي في التربية العمومية، وفي جميع مدارس إنكلترا وألمانيا يعلم الدين إجباريًّا، ولابد في كل جامعة كبرى من وجود مدرسة أو اثنتين للدين واللاهوت , أما المدارس الجامعة في الهند التي هي تابعة للحكومة فلا أثر للدين فيها , وقد لفت اللورد كرزون حاكم الهند العام السابق نظر الرأي العام إلى هذه النقطة، وعدَّها نقصًا في نظام التعليم الهندي , ولست أدري إلى أي حد من الحكمة يصح اتباع طريقة كهذه في مثل هذه البلاد على حين أننا نتألم الآن من نتائجها؟ ! ثانيها: قد أصبح من المقرر أن أفيد نظامًا للتعليم هو نظام معيشة الطلبة في المدرسة كما هو المتبع في إنكلترا وفي عليكرة، وإنني لا أخشى معارضةً إذا قلت صراحةً: إن ذلك النظام لا يصلح مع إهمال الدين. ثالثها: أشك كثيرًا في إمكان جمع المال لإنشاء مدرسة جامعة لا دين لها، اللهم إلا إذا قامت الحكومة بإنشائها، وأذكر أن السير ميخائيل هيكس بيتش وزير مالية إنكلترا أخيرًا قد ألقى علينا في خطبة له ما يأتي: (قد دلت التجارب أنه لا توجد وسيلة لحمل الناس على دفع المال بسخاء لمشروع من الأعمال أحسن من صبْغه بصبغة دينية) . رابعها: أن المدرسة الجامعة ليست معملاً (فاوريقة) لصناعة طلبة ينجحون في امتحانات مخصوصة ويأخذون شهادات عالية، ولكن المدرسة الجامعية يراد منها أن تخرج رجالاً كبارًا ورجالاً ينقطعون للعلم والدراسة والبحث , ولا يمكن لمدرسة جامعة لا دين لها أن يدوس الإنسان على الفوائد المادية وينقطع للعلم وللتعليم وبالعكس قد دلت التجارب على أنه يوجد في المدارس التي لها دين من ينقطع للعلم والتعليم. ولست الآن أريد الخوض في مشروع الجامعة في مصر فأنتم أدرى بدائكم ودوائكم أكثر مني ولكني أريد بالنيابة عن رؤساء كلية عليكرة أن أدعوكم إلى الهند لتنظروا بأعينكم تفاصيل العمل قبل أن تبدأوا في مصر، وقد يوجد خلاف بشأن المدرسة الجامعة ونوعها، ولكني أعتقد أن كل ذي ذمة يتفق معي في الحاجة إلى مدرسة ثانوية للفقراء , ومدارسكم التجهيزية الأربع لا تكفي لتربية الأمة كلها ولو وجد من يتبرع بالمال لتربية أبناء الفقراء فيها. ليس من الغريب أن المسلمين الذين يكوّنون هنا خمسةً وتسعين في المئة من مجموع الأمة من الهمة والنشاط على ما يؤهلهم لإنشاء مدرسة ثانوية واحدة في حين أنه يوجد في مصر ست مدارس ثانوية أهلية ليست منها واحدة للذين يتألف منهم خمسة وتسعون في المائة من مجموع الأمة! يوجد هنا اعتقاد فاسد وهو أنه يلزم أن يكون المعلمون في المدارس الثانوية أوربيين , ومما يمنع الناس أن يفتحوا مدارس ثانوية الخوف من كثرة النفقات ومن أسباب أخرى، وإنني موقن بأنه إذا وجد أساتذة مصريون للمدارس الثانوية فإن عدد المدارس الأهلية يزداد، وإذا كان الهنود يُعلِّمون في مدارس أرقى كثيرًا من مدارسكم الثانوية إخوانهم الهنود باللغة الإنكليزية، فلماذا لا يقدر المصريون على تعليم إخوانهم كذلك؟ فلهذا أرى أن أول واجب على قادة الأفكار هنا أن يسعوا في تربية معلمين , هذا عمل سهل لا يقتضي نفقات كثيرة ويمكن

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (مَن حرَّم الخمر على نفسه في الجاهلية) إذا سلمت الفطرة وكرمت النشأة فقد يبلغ المرء من مراتب الفضيلة - مع فقد الأخذ بالتعليم والقيام بالتأديب - ما لا يبلغه مع وجْدهما وقد ثلمت فطرته، وخبثت نشأته، لذلك تجد في سيرة أبناء الجاهلية من الفضائل الاختيارية ما يعز مثله على قوم يرون أن لهم في العلوم الجواد المصلى، وأنهم نالوا من التربية القدح المعلى، وإنما هم عبيد الشهوة، وأسرى اللذة، يعاقرون الخمر جهرًا وهم يعتقدون أنها محرمة في الدين الذي ينتسبون إليه، وضارة في حكم الطب الذي يعولون عليه، وقد كان يوجد في الجاهلية من حرمها على نفسه وهو لا يرى فيها إثمًا في حكم الدين، ولا ذمًّا من المعاشرين، وإنما هو العقل أراد حقيقة خبثها فأبى أن يحكم لذته في عقله. قال أبو علي القالي في أماليه: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباس والعباس بن هشام قالا: حرم رجالٌ الخمرَ في الجاهلية تكرمًا وصيانةً لأنفسهم منهم عامر بن الظرب بن عمر بن عباد بن يشكر بن بكر ابن عدوان بن عمر بن قيس بن غيلان وقال في ذلك: سئَّالة للفتى ما ليس في يده ... ذاهبة بعقول القوم والمال أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يفرق ترب القبر أوصالي [1] مورثة القوم أضغانًا بلا إحن ... مزرية بالفتى ذي النجدة الحالي وحرم قيس بن عاصم الخمر وقال في ذلك: لعمرك إن الخمر ما دمت شاربًا ... لسالبة مالي ومذهبة عقلي وتاركتي من الضعاف قواهم ... ومورثتي حرب الصديق بلا نبل (قال) : وحرم صفوان بن أمية بن محرث الكناني الخمر في الجاهلية وقال في ذلك: رأيت الخمر صالحةً وفيها ... مناقب تفسد الرجل الكريما فلا والله أشربها حياتي ... ولا أشفي بها أبدًا سقيما (قال) : وحرم عفيف بن معد يكرب عم الأشعث بن قيس الخمر وقال: وقائلة هلم إلى التصابي ... فقلت عففت عما تعلمينا وودعت القداح وقد أراني ... بها في الدهر مشعوفًا رهينا [2] وحرمت الخمور عليَّ حتى ... أكون بقعر ملحود دفينا وقال عفيف بن معد يكرب أيضًا: فلا والله لا ألفى وشَربًا ... أنازعهم شرابًا ما حييت أبى لي ذاك آباء كرام ... وأخوال بعزهم ربيت (قال) : وحرم سويد بن عدي بن عمر بن سلسلة الطائي ثم المعنيّ الخمر، وأدرك الإسلام فقال: تركت الشعر واستبدلت منه ... إذا داعي منادي الصبح قاما كتاب الله ليس له شريك ... وودعت المدامة والندامى وحرمت الخمور وقد أراني ... بها سدكًا وإن كانت حراما أقول: ويالله لسلالة هذا الشعر وكم في الأمالي من مثله وما هو أرق منه. *** (رقة أشعار العرب) قال أبو علي (ص29) : وحدثنا أبو بكر بن دريد رحمه الله قال: سألت عبد الرحمن يومًا فقلت له: إن رأيت أن تنشدني من أرق ما سمعت من عمك من أشعار العرب فضحك وقال: والله لقد سألت عمي عن ذلك فقال: يا بني وما تصنع برقيق أشعارهم فوالله إنه ليقرح القلوب ويحث على الصبابة، ثم أنشدني للعلاء بن حذيفة الغنوي: يقولون مَن هذا الغريب بأرضنا ... أما والهدايا إنني لغريب غريب دعاه الشوق واقتاده الهوى ... كما قيد عود بالزمام أديب وماذا عليكم إن أطاف بأرضكم ... مطالب دين أو نفته حروب أمشي بأعطان المياه وأبتغي ... قلائص منها صعبة وركوب فقلت: أريد أحسن من هذا، فأنشدني: لعمري لئن كنتم على النأي والقلا ... بكم مثل ما بي إنكم لصديق فما ذقت طعم النوم منذ هجرتكم ... ولا ساغ لي بين الجوانح ريق إذا زفرات الحب صعَّدن في الحشا ... كررن فلم يعلم لهن طريق (ثم قال أبو علي) : وأنشدنا أبو بكر رحمه الله قال: أنشدني عبد الرحمن عن عمه قال: أنشدتني عشرقة المحاربية وهي عجوز حيزبون زَولة: جريت مع العشاق في حلبة الهوى ... ففُقتهم سبقًا وجئت على رسلي فما لبِس العشاق من حلل الهوى ... ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلي ولا شربوا كأسًا من الحب مُرَّةً ... ولا حلوة إلا شرابهم فضلي قال أبو بكر: الحيزبون: التي فيها بقية من الشباب، والزولة: الظريفة، والزول: الظريف، وقوم أزوال، والزول أيضًا: الداهية، والزول: العجب، وقال لي غير أبي بكر: الحيزبون: العجوز ولم يحدد لها وقتًا , ثم أنشد في مكان آخر لابن أبي مرة الملكي: إن وصفوني فناحل الجسد ... أو فتشوني فأبيض الكبد أضعف وجدي وزاد في سقمي ... أنا لست أشكو الهوى إلى أحد آه من الحب آه من كمدي ... إن لم أمت في غد فبعد غد جعلت كفي على فؤادي من ... حر الهوى وانطويت فوق يدي كأن قلبي إذا ذكرتكم ... فريسة بين ساعدي أسد يدي بحبل الهوى معلقة ... فإن قطعت الهوى قطعت يدي وأنشد لأبي بكر بن الأنباري عن المظفر: هل من جوى الفرقة من واق ... أم هل لداء الحب من راق أم من يداوي زفرات الهوى ... إذ جلن في مهجة مشتاق يا كبدا أفنى الهوى جلها ... من بعد تلذيع وإحراق حتى إذا نفَّسها ساعةً ... كرت يد البين على الباقي (المنار) القارئ يرى في هذه المقاطيع أرق الشعر وألطفه مسلكًا في الروح وأشده جذبًا للقلوب.

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (كتاب الأمالي والنوادر لأبي علي القالي) أرأيت هذا الذي قرأت من مختار الشعر العربي في تحريم الخمر وفي النسيب؟ هو منقول من كتاب الأمالي والنوادر، وما كتاب الأمالي والنوادر؟ هو الذي عده ابن خلدون من أركان كتب الأدب؛ إذ قال في فصل الكلام على علم الأدب: وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين: وهي أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرّد وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها , اهـ. كان في هذا الكتاب من النوادر التي قلّ أن تكتحل برؤيتها عين، فصارت ولله الحمد مسرح كل عين تعشق الأدب إذ شرع في طبعها الشيخ إسماعيل بن يوسف بن صالح بن دياب التونسي فتم منها طبع الجزء الأول وجزء الذيل والثاني لا يلبث أن يتم، طبع في هذه الأيام كثير من كتب الأدب ولكن لم يطبع كتاب بالإتقان والضبط والتصحيح الذي طبع به كتاب الأمالي , طبع في المطبعة الأميرية على ورق جيد مضبوطًا ما فيه من الشعر ومن الكلم الغريب والأعلام التي يشتبه فيها وما قد يشتبه من التركيب في النثر بالشكل، وأظن أنه لم يعتنِ بطبع كتاب بعد (المخصص) كما اعتنى بطبعه , وقد علم القارئ أن هذا الكتاب على ما فيه من الفكاهة مما يطبع في نفس قارئه ملكة البلاغة العربية , وقيمة الاشتراك فيه خمسون قرشًا. *** (مفردات الراغب في غريب القرآن) كتاب المفردات للراغب أشهر من نار على علم , وهو ما زال منذ وجد معوان المفسرين؛ ذلك أنه رتب الألفاظ على حسب أوائل الحروف كالمصباح وفسرها تفسيرًا قلما تجد مثله في كتب اللغة التي قد تفسر الشيء بالأعم والأخص وبالتعريف الدوري , وهو كثيرًا ما يحدد المعاني حتى يكون تفسيره اللفظ كالتعريف المنطقي , وقد طبعه في هذه الأيام الحاج مصطفى البابي الحلبي في مطبعته طبعًا واضحًا مضبوطًا بالشكل , وقد راجعت معه عدة مواد فلم أَرَ فيها غلطًا، فيجب أن يشكر له إحياء هذا الكتاب النفيس والشكر كل الشكر إقبال أهل العلم على اقتناء الكتاب والاستفادة منه. *** (خمس رسائل نادرة) الأولى: في شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه لشيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحراني , والثانية: في الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم للحافظ الذهبي الدمشقي , والثالثة: رسالة قاضي الإمام أبي نصر محمد بن عبد الرحيم الخيام , والرابعة: فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) وما المراد بهذه السبعة , والخامسة: رسالة الأدب الصغير وهي من حكم عبد الله بن المقفع الكاتب المشهور , طبع هذه الرسائل الشيخ عبد المجيد زكريا في مجموعة بلغت صفحاتها نحو 160، فنحثُّ أهل العلم على مطالعتها. *** (قانون الصين) يقول الشيخ سعيد العسلي الرحالة السوري أنه ظفر في (كشغر) بنسخة من قانون الصين الذي يسمونه (لي) وهو من وضع عاهل الصين السابق (تونجي خانكدي) وأنه هداه إليه بعض أهالي (كشغر) , ونقله هو إلى العربية بمساعدة بعض العارفين باللغة التركية والصينية معًا في مدينة (خوم يوزه) من تلك الولاية , ثم تصرف في الترجمة بالتقديم والتأخير والحذف والاختصار والتوضيح , وقد طبع ما ترجمه في مصر , ومن مزايا هذا القانون مزج المواعظ والنصائح بالأحكام القانونية. ويا ليت المترجم لم يتصرف فيه ولم يفصل بين الحِكَم والأحكام. أما طبعه فحسن , والورق الذي طبع عليه جيد، ولكنه لم يجعل كل مادة في أول السطر كما هي العادة المسهلة للمراجعة والمرغبة في المطالعة , هذا وإن مثل هذا القانون مما يرغب في الاطلاع عليه الحكام لا سيما رجال القضاء ومحبي التاريخ والوقوف على طرائف العلوم والآداب فهو مما يرجى رواجه من غير ترغيب فيه , ويحمد مترجمه على إتحاف العربية به. *** (فصول الحكماء) رسالة جديدة من تأليف الشيخ أبي الهدى أفندي الشهير ذكر فيه تعريف الحكمة وأسماء طائفة من قدماء الحكماء وطائفة من حكماء المسلمين العقليين يتكلم عن الواحد منهم بجملة وجيزة , ثم ذكر طائفةً من حكماء المسلمين الدينيين وتكلم عنهم بكلام أوسع , والرسالة نحو مئة صفحة مثل صفحات كتاب الإسلام والنصرانية وتطلب من طابعها أمين أفندي هندية. *** (بليزار) أهدتنا مطبعة المناظر منذ ثلاث سنين قصة بليزار فوضعناها بين الكتب المعدة للمراجعة في أوقات الفراغ إن وجدت , ولم نَرَ من حاجة للمبادرة إلى الكتابة عنها والإعلان بها؛ لأن الغرض من مثل هذه الكتابة تنبيه الراغبين إلى ابتياع ما يكتب عنه ترويجًا له , وقلما يقرأ المنار حيث تباع قصة بليزار إلا عند طابعها وبائعها , وِعِكْنا في الشهر الماضي أيامًا فرأينا من التسلية أن ننظر في بعض ما لم ننظر فيه من القصص المهداة إلينا , وبدأنا بقصة بليزار فبدا لنا ما لم نكن نحتسب، بدا لنا أن هذه القصة كتاب من أحسن الكتب في الأخلاق والسياسة تتمثل فيه السياسة في أبهى صورها , وتتجلى فيه السياسة القويمة في أسنى مجاليها، لا يقرأ الفصول الأولى منها ذو قلب ويملك عينيه أن تهملا , وما كان لصاحب المناظر وهو من نعرف في تحري النافع والتجافي عن اللغو أن يختار طبع قصة لا تفيد , ولعله يرسل إلى مصر طائفةً من هذه القصة لئلا نكون قد ظلمنا القراء في تشويقهم إليها مع امتناعها. *** (لحن كيوتزر - مكسيم غوركي) قصتان من مطبوعات مطبعة المناظر أولاهما للفيلسوف لاون تولستوي الروسي في بيان ما أحدثته المدنية الحديثة من الفساد في البيوت بإعطاء النساء من الحقوق فوق ما أعطتهن الطبيعة، حتى صار همّ المرأة في التمتع بمعنى الزوجية صارفًا لها عن القيام بشئون الأمومة , وناهيك بمفاسد غرامهن بالموسيقى , والثانية مجموعة فيها ثلاث قصص وجيزة أو حكايات وضعية , عنوان الأولى: العجانون , والثانية: الشيطان , والثالثة: الكذب , وأطلق على المجموع اسم كاتبها وهو من كتاب روسيا الاجتماعيين المشهورين , وترجمها إبراهيم أفندي شحادة فرح من الأدباء السوريين في البرازيل لما فيها من الفائدة وحسن الأسلوب. *** (المعارف) (جريدة إسلامية عمومية أسبوعية لمدير سياستها محمد صادق المحمودي) ظهرت في تونس في أواخر ذي القعدة الماضي في شكل الجرائد اليومية الكبرى. وذكر صاحبها الفاضل في خطبة العدد الأول أنه أنشأها لخدمة العلوم والمعارف ونشر فضائل الآداب الإسلامية ولخدمة اللغة العربية وتحري أساليبها البليغة البعيدة عن العجمة , وجعل أمر السياسة فيها ثانويًّا فأصاب , وفى العدد الأول منها مقالة في تاريخ الجرائد تكلم فيها عن الجرائد التونسية باعتدال , ولكننا انتقدنا عليه فيما قاله عن الجرائد المصرية ما لا يكاد يسلم من مثله من يكتب عن غير بلاده كقوله عن جريدة الأهرام: إن سياستها لا تنطبق مع سياسة الجرائد الإسلامية. والواقع أن سياستها في هذه السنين أقرب إلى سياسة اللواء والمؤيد من كل جرائد النصارى، وقوله: إن مؤسسي المقطم (من أقباط مصر) ، والصواب أنهم سوريون كأصحاب الأهرام , وكمبالغته في الكلام عن جريدة اللواء وجعْلها خادمةً للإسلام ... ولم نقرأ فيها شيئًا قط فيه خدمة لدين الإسلام نفسه، بل كثيرًا ما نرى فيها مسائل تخالفه عن غير عمد في الغالب كقولها: إن قتل القاتل من بقايا الهمجية , وليس لقب زعيم الحزب الوطني الذي ذُكر في بعض الجرائد في هذا العام مما كافأ المسلمون به صاحب جريدة اللواء على خدمتهم وخدمة دينهم كما ظن وإنما هي كلمة كتبها صديق له من نصارى السوريين في جريدة أوربية فلاكتها بعض جرائد تلك البلاد وأنكرتها الجرائد المصرية , ومن مبالغته ما ذكره عن انتشار اللواء في الهند والممالك العثمانية، والصواب أنه ليس لجريدة مصرية انتشار في البلاد العثمانية إلا الأهرام الأسبوعية , وأما الهند فقلما يوجد فيها من يقرأ العربية غير علماء الدين، وهؤلاء قلما يقرأون الجرائد لبُعدهم عن السياسة، وإنما يقرأ بعضهم المجلات. وأما الآستانة فكل من أرسل إليها شيئًا يصل ولكن إلى الحكومة فلا خصوصية لجريدة على أخرى هناك إلا بزيادة المقت , والحكومة العثمانية لم تمنح صاحب جريدة اللواء رتبة ميرميران، ولا صاحب المؤيد الرتبة الأولى من الصنف الأول وهي أعلى من رتبة صاحب جريدة اللواء إلا بالتماس الخديو , وكقوله: إن جريدة الصحافة تمتاز على سائر الجرائد الأسبوعية (بكونها تطبع بثماني صفحات) والصواب أن هنا عدة جرائد أسبوعية ذات ثماني صفحات. مضت عادة المنار بأن يعرف بالصحف الجديدة تعريفًا مجملاً لا يشوبه مدح ولا نقد , وقد خالفنا العادة في التعريف بهذه الجريدة للعناية بها وللتنبيه على ما يقع كثيرًا من غلط البعيد عن الشيء في الكلام عنه , فإننا كثيرًا ما نرى جرائد الهند وتونس (مثلاً) تحفل ببعض ما ينشر في صحيفة مصرية لم يشعر به أهل مصر؛ لأن الجريدة لا شأن لها ولا انتشار , أو لم يحفلوا به لعلمهم بالهوى الباعث للكاتب على ما كتب وللغيرة على التاريخ؛ إذ مقالة المعارف تاريخية لا شعرية ولا سياسية فيقال: إن هذا من التخيل أو الغرض الذي لا يؤخذ على ظاهره بالقبول. *** (المهذب) (جريدة يومية أدبية علمية صناعية تصدر موقتًا يوم السبت من كل أسبوع) أنشأها في زحلة من لبنان الخوري بولس الكفوري رئيس الكلية الشرقية فيها , وعهد إلى عيسى أفندي إسكندر المعلوف بتحريرها , ومَن عرف ما للخوري بولس صاحبها من المكانة والفضل وما لعيسى أفندي محررها من الشهرة والبراعة يرجو كما نرجو أن يكون لهذه الجريدة من اسمها أفضل نصيب، فتكون من خير ذرائع التهذيب، ولنا في هذا المقام أن نفخر بهمة السوريين وخصوصًا اللبنانيين الذين ينشئون الجرائد اليومية وغير اليومية في قلل الأجيال، وفي مهاجرهم وراء البحار، ولا تسمو إلى مثل ذلك همة غيرهم من الناطقين بالضاد في مثل تونس وحلب وبغداد.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (جمعية الشورى العثمانية) ليس في الدنيا مملكة كالمملكة العثمانية في اختلاف الأجناس واللغات والملل والنحل , وقد سادت دولة الترك هذه الشعوب المتفرقة بالقوة العسكرية بضعة قرون ولكنها لم تحولهم عن لغاتهم ولا عن أديانهم , ولم توحد بينهم بجنسية قانونية يتحدون فيها بالعدل والمساواة في الحقوق، لم تفعل كما فعلت دول العرب في تحويل الشعوب عن دينها ولغتها معًا أو عن أحدهما بالقوة الأدبية، ولا كما فعلت دول أوربا في تحويل الوثنيين الأصلاء واليهود والعرب الدخلاء عن دينهم بالقوة القاهرة وإبادة من تأبَّى وإجلائه، فبقيت هذه الشعوب التي لم تتحد مع الدولة برابطة لغة ولا دين ولا حكومة مساواة تفترص النهز للخروج عليها والانفصال منها , فمنهم من قضى مأربه ومنهم من ينتظر. كان ضعف هذه الشعوب وجهلها وعدم النصير لها هو العون للدولة على إخضاعها وسيادتها بالقوة , ولكن صروف الزمان قد أفاضت على هذه الشعوب شعاعًا من نور العلم بشؤون الاجتماع البشري، وأوجدت لهم أنصارًا من دول أوربا التي أربت قواها على قوة الدولة , واتفق أن اشتد من أول هذا القرن (الهجري) ظلم الدولة واستبداد السلطة المطلقة فيها حتى كان نفور المتحدين معها في الدين واللغة والجنس منها (أي الترك) أشد من نفور المتحدين معها في الدين فقط كالعرب والأكراد؛ لأن سهم الترك من شعاع العلم كان أوفر، وشعورهم بألم زوال السلطة أقوى , فانبرى بعض أهل الغيرة من الترك إلى تأليف جمعية سرية تسعى في تلافي الخطر الذي ينذر دولتهم بإزالة الحكم المطلق الاستبدادي المدمر للممالك والمهلك للأمم وإعادة مجلس (المبعوثان) والعمل بالقانون الأساسي، ولكن السلطان تتبع بأعوانه أثر الجمعية فمزق شملها قبل أن تبدأ بعمل ما , وظهر من فساد أخلاق بعض أعضائها الذين صاروا أعوانًا للاستبداد بما نالوا من الرواتب والرتب وما ذهب بثقة الناس حتى من الصادقين من سائرهم. هذا وإن هذه الجمعية لما لم تكن مؤلفةً من جميع الشعوب العثمانية كانت جديرةً بأن لا تدرأ الخطر، ولا تنال الظفر، لهذا فكر كثير من عقلاء العثمانيين بوجوب السعي في تأليف جمعية من الشعوب العثمانية كلها ومازال هذا الفكر يتقلب في الأطوار حتى تمخض فولد (جمعية الشورى العثمانية) . تألفت هذه الجمعية في القاهرة من أفراد من الترك والعرب والأرمن والروم والكرد , والغرض منها اتحاد الشعوب العثمانية على اختلاف أجناسها ومللها في السعي لجعل الحكومة العثمانية حكومة شورى وعدل , وهذه هي الطريقة المثلى لصيانة الدولة من التمزيق بالاختلاف الذي هو ظهير الاستبداد، والتفرق الذي هو نصير الاستعباد، ولو أن مؤسسي جمعية تركيا الفتاة اهتدوا إلى هذا التأليف بين الشعوب والملل في ابتداء العمل؛ لما نزل ببلاد الأرمن وكريت ومكدونية ما نزل، ولما تفاقم أمر الاستبداد واستفحل، فعسى أن يسرع العثمانيون إلى الدخول في هذه الجمعية أفواجًا ويعضدوها بآرائهم وأموالهم , وهذه صورة نشرة منها جاءتنا في البريد مطبوعةً بالتركية والعربية والفرنسية والأرمنية: (اللائحة الأساسية لجمعية الشورى العثمانية) تألف جمعية لجميع سكان المملكة العثمانية باسم جمعية الشورى العثمانية وهذه لائحتها الأساسية: مادة 1: القصد من تأسيس هذه الجمعية هو جعل الحكومة العثمانية دستوريةً شورويةً بالفعل. مادة 2: إن الجمعية ستبذل ما في وسعها للوصول إلى غرضها هذا بكل الوسائل المشروعة. مادة 3: إن جمعية الشورى العثمانية تؤلَّف من العثمانيين من غير التفات إلى الدين والجنسية. مادة 4: يكون للجمعية لجنة مركزية أصلية تقوم بوضع نظامات الجمعية وقوانينها. مادة 5: إن قاعدة أعمال اللجنة المركزية هي الآن بمصر القاهرة. مادة 6: إن فروع الجمعية تكون كلها تابعة في أعمالها للجنة الكبرى المعروفة باسم اللجنة المركزية الأصلية. مادة 7: إن سير أعمال الجمعية يعين من قِبَل اللجنة المركزية. مادة 8: إن مقصد الجمعية الساعية للحصول عليه ليس خفيًّا , لذلك يجوز من الآن إعلان وجودها. مادة 9: إن اللجنة المركزية تقوم بوضع القوانين وطبعها وتسمية الأشخاص اللازمين للوظائف التي ترد بالقوانين وتعيين وظائف كل فرد من الجمعية ومراقبة أعمال الموظفين. مادة 10: تطبع هذه اللائحة الأساسية باللغات التركية والعربية والأرمنية والإفرنسية. هذا وإن الذين وضعوا هذه اللائحة الأساسية يرجون من جميع إخوانهم العثمانيين الذين يهمهم خير وطنهم وشرفه ومجده أن ينضموا إليهم ويساعدوهم للوصول إلى هذه الغاية الشريفة التي تسعى إليها جمعيتهم , والله الموفق. جميع المخاطبات تُرسل الآن موقتًا إلى صندوق البوستة نمرة 1174. ... ... ... ... ... ... ... ... (جمعية الشورى العثمانية) *** (أمير - بل ملك - أفغانستان في الهند) طالما تمنى الإنكليز أن يزور أمير الأفغان بلاد الهند , وقد نالوا في هذه الأيام ما تمنوا فسُروا بذلك , ولما وصل حبيب الله خان إلى الهند خاطبه ملك الإنكليز على لسان البرق بلقب (جلالة الملك) وكان يقال: إن إنكلترا لا تعد أفغانستان مستقلةً تمام الاستقلال، بل تحت حماية حكومة الهند الإنكليزية فهذا اعتراف من ملك الإنكليز بأنها مملكة لا إمارة , وهذا هو أثر الحزم وحسن السياسة من الأمير عبد الرحمن خان رحمه الله والملك حبيب الله خان وفقه الله. ليس من موضوع المنار أن يذكر أخبار احتفال حكومة الهند بضيفها الجليل , ولكن إذا ترك خبر زيارته لمدرسة العلوم في عليكرة يكون قد قصر فيما هو من أهم موضوعاته. زار الملك المدرسة وبحث فيها بحث مفتش خبير، فكان بحثه من آيات علمه وعقله , قابله أعضاء مجلس إدارة المدرسة وكانوا 32 فكان جل مذاكرته معهم في المباحث الدينية حتى قيل: إنهم عجزوا عن مجاراته والإجابة عن جميع أسئلته , ولما أطلعوه في مكتبة المدرسة على بعض المصاحف والكتب الدينية قال: إنني عالم بما في هذه الكتب وأريد أن أقف على ما في عقول الذين يتدارسونها , وبعد أن صلى الظهر في جامع المدرسة طلب أن يرى الدروس فرتبت الفرق في حجراتها , واطلع على عدة منها وظهر اهتمامه وإصغاؤه في درس الاقتصاد السياسي ودرس التاريخ ودرس تعليم اللغات ودرس أصول الدين , وقد استأذن أستاذ هذا الدرس في سؤال بعض الطلبة وبعد الإذن طفق يسأل مدة ساعة كاملة، ثم أمر بعض الطلاب بقراءة آيات من القرآن وكانت عينا الملك تفيضان من الدمع عند سماع التلاوة. وطلب أن يقف على درس طلبة الشيعة وقد قال لهؤلاء الطلاب: أصيخوا لما أقوله لكم أيها الطلاب , أنتم في شرخ الشباب وستذكرون ما أقوله لكم متى تقدمتم في السن، تسمعون الناس يقولون: إن أمير أفغانستان سني متعصب أيلزم أن أكون متعصبًا؛ لأنني سني؟ ! أتفضلون أنتم الهندوس على أهل السنة؛ لأنكم من الشيعة؟ ! كلا وإنني - وأنا سني - لا أفضل الهندوس على الشيعة. قرأتم في الجرائد أنني نهيت في دلهي عن تضحية البقر يوم العيد وأنا هناك مجاملة للهندوس وتحاميًا لجرح عاطفتهم الدينية، فإذا كان هذا شعوري في مجاملة الهندوس فكيف يكون شعوري وميلي إلى الشيعة؟ إذًا لا تصدقوا أنني متعصب، إن في رعيتي السني والشيعي والهندوس واليهود , وقد أطلقت للجميع الحرية في الدين والمذهب. نعم لا أسمح للشيعة أن تهين الخلفاء الثلاثة وتزدريهم، فإن كان هذا يعد تعصبًا فأنا متعصب. كانت المدرسة قد أعدت خطبةً للترحيب به واطلع عليها كما هي العادة في مثل ذلك فلم يسمح بقراءتها كلها حرصًا على الوقت , وخطب هو بالفارسية خطابًا افتتحه بالشكر لحكومة الهند على مساعدة المدرسة , وذكر أنه سمع عن المدرسة الحسن والسيئ، وكان السيئ هو الغالب على ذهنه قال: (فجئت لأعرف الحقيقة بنفسي؛ لأنني لا أثق في شيء من الأعمال بالروايات) ، ثم صرح بأنه بعد الاختبار الدقيق علم أن الطاعنين في المدرسة كانوا كاذبين، وأكد ذلك ثلاثًا قال: (وجدت مجلس الإدارة يبذل العناية التامة لجعل الطلبة على يقين في إيمانهم , وأن الطلبة يتقدمون وينمون ليكونوا من المسلمين الصالحين , وإنني سألتهم أسئلةً يعسر على بعض المسلمين الصالحين حلها فأجابوا عن كل سؤال، ولم تكن أجوبتهم سطحيةً لا تتجاوز حناجرهم بل كانت علمًا فائضًا عن قلوبهم فأحمد الله أن وجدتهم على ثبات في دينهم واستقامة في آدابهم , وسيكون حبيب الله خان بعد اليوم أحرص الناس على قطع ألسنة من يذمون هذه الكلية (وهنا صفق الحاضرون، فأشار بيده أن أمسكوا) وقال: (من كان لا يزال يظن أن الدين والعلم لا يتفقان , وأن الدين يضعف حيث ينمو العلم فليأت إلى هذه الكلية وليرَ كما رأيت ما يفعل العلم لفائدة الدين ومصلحة النابتة الجديدة. بلغني أن بعض المسلمين في الهند يسيئون الظن في بعض فروع التعليم فيالذلك من جهل فاحش. أصيخوا لما أقول: إنني أدافع عن التعليم الغربي وقد استبدلت بحسبانه طريقًا للشر إنشاء كلية دعوتها (الكلية الحبيبية) إضافة إلى اسمي تدرس فيها العلوم الأوربية على الطريقة الأوربية إلا أنني أصر على القول بأنه لابد من جعل التعليم الديني أساسًا تقوم عليه جميع أركان التعليم فإذا هدمتم الأساس هدم ما بني عليه , لذلك أقول لكم: اجعلوا تمرين الطلبة في علوم الدين غاية الغايات , وقد وضعت هذا الشرط في كليتي , وأرجو أن يراعى هنا بالدقة التامة , ولكن مع مراعاة هذا الشرط أكرر القول بأنني صديق مخلص للتعليم الغربي وأحب له النجاح التام) . ثم آذن القوم بأنه قد وهب المدرسة عشرين ألف روبية هبةً معجلةً ومرتبًا سنويًّا قدره ستة آلاف روبية.

خاتمة السنة التاسعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة التاسعة بسم الله نبدئ القول ونعيده، وبحوله وفضله نودع عامًا ونستقبل آخر، فله الحمد على ما وفق فيما مضى، وإياه نسأل التوفيق لخير منه فيما يأتي، فإن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، هو ربي، إليه أدعو وإليه أنيب. كانت السنة التاسعة للمنار كالسنين الأربع قبلها في كثرة الإقبال على المنار فيها وطلب المئين من الناس للاشتراك , ولكننا رددنا كل طلب لم نعرف صاحبه ولم يعرفنا به صديق نثق بوثوقه به؛ لأن التجارب علَّمتنا أن أكثر المجهولين الذين يطلبون الاشتراك ولا يرسلون القيمة عند الطلب يمطلون بعد ذلك ويسوفون، أو يهضمون الحق وهم متعمدون، وأن سوء حال الأكثرين يحمل على سوء الظن بالأقلين من الصالحين، وستكون هذه طريقتنا في السنة العاشرة إن شاء الله تعالى، لا نرسل المنار إلى أحد من طلاب الاشتراك إلا إذا أرسل إلينا القيمة مع الطلب إلا أن يكون معروفًا لدينا، أو يطلب له ذلك من نثق بضمانه من أصحابنا، فحسبنا ما قاسينا من مطل الماطلين. قيمة الاشتراك في السنة العاشرة قد جعلنا قيمة الاشتراك في المنار ستين قرشًا لأهل القطر المصري والسودان فزدنا فيها عشرة قروش وهي سدس مجموع القيمة الآن , والسبب في ذلك أن النفقة زادت علينا ضعف ذلك أو أكثر، فقد زادت أجرة المكان عما استأجرناه به أول مرة مائتين وخمسة وعشرين قرشًا في الشهر بعدما فصل منه عدة حجرات جعلت دكاكين تؤجر بما هو أكثر من هذه الزيادة , وزادت أجور العمال في المطبعة زيادة تذكر فتستكثر , وزاد مطل المشتركين مع ذلك. حال المشتركين في كل سنة نزداد علمًا بصحة ما بيناه في المجلد السادس من أحوال (قراء الصحف المنشَّرة) في الأقطار الإسلامية وأصنافهم في مصر (راجع ص 314، م 6) وهي أشد البلاد مطلاً حتى إن بعض المديريات (كالدقهلية) لم يرسل إلينا قيمة الاشتراك منها في هذه السنة إلا نحو ستة من المائة. نعم إن أكثر المشتركين في المديريات لم يطالبهم بقيمة الاشتراك مطالِب ولم يذكِّرهم بها مذكر , والصحف نفسها لا تعد مذكرةً في عرف البلاد فهم يقرءونها ولا يخطر لهم ببال أن لها حقًّا , وأنها ما وصلت إليهم إلا بعد نفقة كبيرة؛ لأنهم اعتادوا أن لا يؤدوا حقًّا إلى مستحقه إلا بعد إلحاح في الطلب وكثرة مراجعة في السؤال , ومنهم من يعز عليه أن يؤدي حقًّا بدون حكم قضائي , ومنهم من لا يؤدي الحق بعد الحكم به إلا إذا حجز على شيء مما يملك وباعته الحكومة عليه أو حاولت بيعه. ألا إن شأن هؤلاء الناس في الليّ والمطل لغريب، وقد كنت أذاكر إبراهيم باشا نجيب وكيل الداخلية في هذا الخلق المتمكن من نفوس الأكثرين فأخبرني أنه ما تمكن إلا بالوراثة. قال: إن الحكومة لم تكن تحصل الأموال المضروبة على الأهالي إلا بالضرب، السبب في هذا أن الناس كانوا يدَّعون العدم وهم واجدون، وينكرون ما بأيديهم فإذا ضُربوا يعترفون، كان أحدهم يضع ما يطلب منه من النقد في فيه ويحلف لعامل التحصيل الأيمان المغلظة أنه لا يملك الآن شيئًا حتى إذا ما برّح الكرباج بجلده، وشربت السياط من دمه، أخرج النقد من فمه، ورمى به إلى العامل. ثم إنه يعود إلى مثل ذلك الكرة بعد الكرة، لا يعتبر وإن لدغ من الجحر الواحد سبعين مرة. وأقول الآن كما قلت من قبل: إن أشد الناس مطلاً كتّاب المصالح والدواوين، وصغار المستخدمين، ثلة من حملة الشهادات الابتدائية وقليل من أصحاب الشهادات النهائية، وأظن أن التعليم الناقص مع عدم التربية الصالحة هو أشد تأثيرًا في نفوس هؤلاء من الوراثة التي حدثني بأصلها إبراهيم باشا. طلب مني أحد هذه النابتة الجديدة أن أجعله مشتركًا في المنار منذ أربع سنين فأجبته إلى ذلك إذ رأيته ممن يرون لأنفسهم مكانةً في الأدب يمتاز بها بين الجالسين على كراسي الديوان وأنه دخل في زمرة أهل التأليف , وبعد أن تمت السنة الأولى من اشتراكه كان كلما رآني يعدني بأن سيرسل إليَّ قيمة الاشتراك على رأس (الشهر الآتي) فلما كرت الشهور على هذا الوعد المكرر (وهو أمر على خلاف المثل القائل: المكرر أحلى) صرت إذا رأيته أبتسم تعجبًا فيبادر بالاعتذار، وأي عذر أقرب إلى الأذهان من النسيان؟ ! ثم قال لي غير مرة: لعلك تذكرني في أول الشهر بكتاب يرسل أو وكيل يسأل فجاريته بهذا وذاك وأنَّى تنفع مثله الذكرى؟ ! أمثال هؤلاء يتعجب منهم ولا يعتب عليهم , ومن المشتركين من يعتب عليهم ويتعجب منهم كبعض الأغنياء الذين يؤخرون قيمة الاشتراك عدة سنين لمحض الكسل وهم من محبي المنار وعارفي صاحبه الذين يعتقد أنهم راضون عن عمله مغبوطون به ويتمنون دوام نجاحه، ألا يفكر هؤلاء في كونهم أجدر الناس بالسبق إلى أداء حق المنار أول كل سنة , وأن الأجدر إذا أخَّر كان غيره أولى بالتأخير أو الظلم بالجحد؟ وكيف يقوم حينئذ عمل ينفق عليه في كل شهر بضعة آلاف؟ ! أما حال المشتركين في سائر الأقطار فهي على ما شرحنا من قبل إلا أن مسلمي روسيا قد قصر بعضهم تقصيرًا معظم سببه تأثير الحرب في بلادهم، فقد تعطل البريد في بعضها، فلم يصل إليها المنار مطردًا ولم يتيسر لأهلها إرسال النقود , ومازلنا نقول: إنهم أحسن المسلمين وفاءً في الغالب بعد عرب نجد وحضرموت أينما كانوا وحيثما أقاموا , وأما أهل تونس فما زال الوكيل الذي أقيل منذ سنة يرجئ حسابهم، وإنما يمكن الحكم عليه الآن من دونهم، وسيكون ذلك في جزء آخر. ونختم الكلام بالثناء الحسن على السابقين بالخيرات من أهل هذه البلاد وغيرها وهم الذين يؤتون الحق في أول وقته أو قبله، وعلى المقتصدين الذين يؤتونه متى طُولبوا ولا يؤجلونه وإن لم يستعجلوا. فبهؤلاء تقوم الأعمال، ولولاهم لفسد العمران. طلب الأجزاء المفقودة وحال البريد ومما يفيد ذكره في هذا البحث أو الدرس أن أكثر المشتركين مطلاً هم أكثر مطالبةً بأجزاء يدَّعون أنها لم تصل إليهم , وأن الرسائل التي ترد علينا ربما كان ستون منها في المئة خاصةً بطلب الأجزاء المفقودة , وقد بحثنا في هذه المسألة فتبين لنا بعد التحري والتدقيق ما يأتي: (1) أن بعض الأجزاء يفقد بتقصير من إدارة المجلة , والسبب الغالب في ذلك أن يسقط بعض العنوانات أو يذهل عنه عند إلصاقها على الغلاف , ومن غير الغالب أن يسقط بعض الأعداد من العربة التي تنقل الأجزاء إلى البريد , وكل من الغالب وغير الغالب نادر. (2) أن عمال البريد يختزلون من كل جزء عدة نسخ لكنهم يتراوحون فيها فلا يلتزمون نسخ مشترك معين , وقد يخطئون في التوزيع فيعطون المرء ما ليس له. (3) أن كثيرًا من المشتركين لهم أقارب أو أصدقاء يحبون قراءة المجلة فهم يأخذونها عند مجيئها قبل أن يراها صاحبها , ومن هؤلاء الذين يأخذ الأقربون والأصدقاء نسخهم من يبادر إلى طلب بدلها من إدارة المجلة , ومنهم من لا يطلبها إلا بعد العلم بصدور ما بعدها ومنهم من لا يطلب إلا في آخر السنة أو عند المطالبة بقيمة الاشتراك، ومنهم من يطلب بعد سنين أجزاءً فُقدت منها. (4) أن من الناس من يدعي أن الأجزاء لم تصل إليه منذ كذا شهرًا وهو يعلم أنه لم ينقطع عنه منها شيء , وهؤلاء هم الذين يتعمدون هضم الحق ويستبيحون الكذب في ذلك , وقد اتفق أن واحدًا منهم طولب بقيمة الاشتراك فقال للمطالب: إنني لم أَرَ المنار منذ كذا وذكر سنة أو أكثر أو أقل فالتفت المطالب إلى نافذة بجانب الرجل فيها أوراق فرأى فيها عدة أجزاء من المنار هي آخر ما صدر منه، فقال له: وأي شيء هذا؟ ! وأشار إلى الأجزاء! ! فرده ردًّا آخر , ونحمد الله أن كان هذا الصنف من مشتركي المنار قليلاً لا كثَّر الله في أمة من أفراده. لكثرة طلب المفقود نصرح في كل سنة بأن من يطلب جزءًا لم يصل إليه في مدة لا تتجاوز شهرًا واحدًا من موعد صدوره كان حقًّا على الإدارة أن ترسله إليه , ومن طلبه بعد ذلك وجب أن يرسل ثمنه (وهو الآن ستة قروش صحيحة) فإن وجد أرسل إليه , والإدارة لا تضمن وجوده , ولكنها تضمن ما يصل إليها من الدراهم. تقصير إدارة المنار قد كان تقصير الإدارة في إصدار المنار في مواعيده (أوائل الشهور) أشد في هذه السنة منه فيما سبقها , والسبب في ذلك انكسار آلة الطبع وطول الأمد على إصلاحها ثم ما عرانا من التوعك غير مرة , وقد قصرنا أيضًا في مكاتبة من كاتبونا من المشتركين والمحبين، ومعظم السبب في ذلك كثرة الأعمال مع فقد المساعد وعسى أن لا نقصر من بعد. الانتقاد على مباحث المنار ليس عندنا انتقاد على المنار في هذه السنة لم ينشر إلا ما كتبه بعض القراء في إنكار نشر رسالة الدكتور صدقي (الإسلام هو القرآن وحده) وعندنا أن الحق يعلو ولا يُعلى، لا تطمسه شبهة، ولا تقوم للباطل عليه حجة، وإنما يخاف على دين من ليس على يقين من دينه , ومن كان كذلك لا يعتد بدينه ولا يترك بحث الباحثين لأجله. أما الانتقاد بالقول فقد بلغنا منه مسألتان جديرتان بالذكر قالهما أحد فضلاء الأوربيين: (إحداهما) ما ورد في الجزء الماضي من وجوب الهجرة على المسلم الذي يقع تحت سلطة غير المسلم , ورد ذلك في مقالة من مقالات العروة الوثقى نشرت في الجزء الماضي , ونقول: إننا لم ندعُ في المنار إلى الهجرة التي تنافي مصلحة الأوربيين المستعمرين ومصلحة رعاياهم المسلمين في هذا العصر، وإنما هو أثر تاريخي لغيرنا كُتب لغرض سياسي فات وقته ومضى زمنه فلم يخطر في بالنا أن نحذف كلمة الهجرة منه ولا أنه يكون لها تأثير يُذكر، بل نقول: إن الأستاذ الإمام لم يكن يرى في آخر أيامه أن الهجرة واجبة على المسلمين من رعايا الأجانب الذين لهم من الحرية في الدين ما يكادون يجدون مثلها في البلاد التي يحكمها المسلمون , وقد جرب أهل الجزائر فهاجروا إلى البلاد العثمانية، وبلغنا أنهم لم يلبثوا أن ندموا. (الثانية) قولنا في الجزء الماضي أيضًا: إن الإفرنج لا يكاد يوثق بعلمهم النظري والعقلي؛ لأنهم لم يتقنوا إلا العلوم العملية المبنية على التجربة والحس , وأقول: إنني تنبهت بعد طبع الكراسة التي فيها هذه الكلمة إلى ما فيها من المبالغة في الجرح الذي لا ينكر أصله منصف لا سيما مع المقابلة بين العلوم النظرية وغيرها ولولا أنها الكراسة العاشرة لاستدركت على العبارة في ذلك الجزء قبل أن ينتقد أحد. ومن غريب انتقاد المكابرين زعمهم أن المنار مجلة دينية فكيف تنشر بعض الآراء السياسية؟ ! وهؤلاء لا يُلتفت إلى قولهم، ويكفي في إظهار افتياتهم قراءة عنوان المجلة , ولو انتقدوا كثرة المسائل الدينية لكان انتقادهم أقرب. الثناء على المنار أما ما يرد علينا من الثناء على المنار من الغرب والشرق فهو عظيم، وإننا لنخجل من نشره لا سيما إذا كان محضًا , ونسأله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحقق ظن من يحسنون الظن بنا , وأن يقينا شر الغرور بالنفس، والغفلة عما لا نخلو عنه من تقصير ونقص. الدعوة إلى الانتقاد والتأييد وإننا ندعو أهل الغيرة على الملة والأمة من العلماء والفضلاء إلى الانتقاد بالكتابة على ما يرونه خطأً أو باطلاً مما يُنشر في المنار , ونعدهم بنشره مقرونًا بالثناء والإقرار بالقبول إذا أقنعنا , أو ببيان ما عندنا من إيضاح مقصدنا وتأييده بالدليل , والحق بعد ذلك لا يخفى على الجماهير؛ إذ هو الذي يعلو ولا يُعلى. كما ندعوهم إلى تأييدنا فيما ننشره من بيان الحق والنصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ومن الإرشاد ال

فاتحة السنة العاشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة العاشرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم أنبيائه، وعلى آله وصحبه، وأهل وداده وقربه، وعلى كل عبد مصطفى من جميع الورى، أما بعد: فإن المنار قد دخل بهذا الجزء في سنته العاشرة، فقطع مرحلة الأعداد المفردة، ووقف بباب الأعداد المركبة، فكان نموه، وثباته، وتغذيه بما يحفظ عليه حياته، وقوته على دفع عوارض العلل التي تواثبه، ومقاواته لما يناهضه ويناصبه؛ آيات بينات على أنه كائن حي، يرجى أن يبلغ منتهى العمر الطبيعي، الذي يكون لمثله بالاستعداد الموهوب والمكسوب، وتوفيق الله المطلوب، وبإسعاد محبي الإصلاح الذي يدعو إليه، والحق الذي يناضل دونه، وما إسْعَادهم إلا الدعوة به وإليه، والنصيحة له، والدفاع عنه، فالدعوة حياة المذاهب في الفلسفة، والسياسات، والأديان، وكل ما يرتقي به شأن هذا الإنسان، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) . المنار يدعو جميع المسلمين بكتاب الله إلى سعادة الدارين: بتقويم فطرة الله، ومعرفة سنن الله، وينهاهم به عن التفرق في الدين، ويأمرهم بالاعتصام بحبله المتين، فالدين والفطرة صنوان، والشريعة والطبيعة شقيقتان، فمُنزِّل القرآن، هو مُنْزِل الفرقان والميزان، وواضع الشريعة هو خالق الطبيعة؛ فالقرآن هداية وعرفان، وعروج بالأرواح إلى الروح والريحان، بالعبودية المؤدية إلى رضا الرحمن، والانتهاء باضطراب أمواج النزعات البشرية إلى مستقر السكينة والاطمئنان، {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} (الإسراء: 9) . والفرقان عقل يفرق بين الحق والأباطيل، ويدرك أسرار الخليقة وفقه التنزيل، فهو المخاطب بإقامة الشريعة، وهو المطالب بالتصرف في الطبيعة، فيأخذ منها بقدر اجتهاده، على حسب استعداده، والميزان عدل عام، في الأخلاق والأفكار والأحكام، به ينفذ حكم القرآن والفرقان، حتى يلتئم شمل الإنسان؛ فيعطي كل ذي حق حقه، ويوفي كل ذي قسط قسطه، وإن لربه عليه حقًّا، ولنفسه عليه حقًّا، ولزوجه عليه حقًّا، ولأهله عليه حقًّا، ولقومه عليه حقًّا، ولأمته عليه حقًّا، ولمجموع الناس عليه حقًّا، فالقرآن يهدي إلى الحقوق ويبين، والفرقان يفرق بين المتشابهات ويعين، وإنما القسمة بالميزان، وبالثلاثة تكمل فطرة الديان، فالقرآن كتاب مسطور، وضياء ونور، وبالفرقان نقرأ وندرس، ونجتلي ونقبس، وبالميزان نعمل بالعلم، ونقوم بالقسط، ومن شذ عن هذه الثلاثة فلم يهتد بالنقل والعقل، ولم يخضع لسلطان العدل، فقد أنزل الله لعلاجه الحديد، الجامع بين المنافع والبأس الشديد، فيؤدب بقوة السلاح، حتى يستقيم أمر الإصلاح {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً} (الإسراء: 33) . {الم * اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 1-4) {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس} (الحديد: 25) ؛ فهذا بيان للناس؛ بأن بناء معاشهم، ومعادهم، يقوم على أربعة أركان: الكتاب، والعقل، والعدل، والقوة، وهي هي القرآن والفرقان، والميزان، والحديد. وقد هدم التقليد الأربعة الأركان، استبدل بها قول فلان وفلان، أسماء سماها المقلدون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان. فأما ركن الكتاب فبزعمهم أن فهمه، والاهتداء به خاص بنفر يسمون المجتهدين، وأنهم انقرضوا وقد عقم الزمان عن مثلهم إلى يوم الدين. وأما ركن الفرقان فيما أهملوا من الحكمة العقلية والدينية، والعلوم النظرية والعملية. وأما ركن الميزان فبإباحة الاستبداد لذوي السلطان، وتحتيم طاعتهم، ولو في الإثم والعدوان. وأما ركن الحديد: فبالإعراض عن الأعمال الصناعية، وما تتوقف عليه من الفنون الرياضية والطبيعية، فمتى يثبت لشعوبهم ودولهم بنيان، وقد هدموا جميع هذه الأركان، وفسقوا عن هداية القرآن، {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) . فالمنار يدعو المسلمين إلى إقامة الأركان الأربعة باسم الإسلام، من حيث يحتجون على هدمها بالإسلام. وإنما إقامتها أن يكون أمر الأمة بأيدي أهل القرآن العرفاء، وأصحاب الفرقان الحكماء، ومقيمي الميزان في السياسة والقضاء، وحملة الحديد لمدافعة الأعداء ومنع الاعتداء، وهؤلاء الأصناف هم: أولو الأمر، الذين لم يجب أن يرد إليهم كل أمر، وهم أهل الإجماع الجديرون بالاتباع، وهم أحل الحل والعقد الذين ينقضون ويبرمون، ويحلون ويعقدون، وهم أهل الشورى الذين ينصبون الخلفاء والأمراء، ويضعون الأحكام في السياسة والإدارة والقضاء، وعلى هذا أراد النبي تربية المؤمنين واتبعه بقدر الاستعداد الخلفاء الراشدون، وبترك هذا حل ما حل من البلاء بالمسلمين {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) . بهذه الأركان الأربعة كان الإسلام دين الفطرة، والهادي بسنن الشريعة إلى كمال سنن الطبيعة، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) فالمسلم من يقيم دين الله، بإقامة سنن فطرة الله، ومن يجمع بين العلم بما أنزل الله، والعلم بما خلق الله، ويفقه الاتفاق بين قوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} (يونس: 64) ، وقوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30) ، ومن ذهب إلى التفريق بين دين الله وفطرته، وزعم أن العلم بكتاب الله لا يتفق مع العلم بخليقته، فقد جهل الخالق والخليقة، والشريعة والحقيقة، وكان حجابًا دون الإيمان، يصد عنه أولي العلم والعرفان، فما بال من يزعم أن العلم والدين ضدان، أولئك أعداء القرآن، وأولياء الشيطان {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِياًّ مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} (النساء: 119) {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (النساء: 120) . أيحسب هؤلاء الهائمون في أودية الأوهام؛ أن هذا الشيء الذي يسمونه فقهًا هو الإسلام؟ أليس أصل هذا الإسلام هو القرآن؟ أليست السنة من قبيل العمل به والبيان؟ فما بالهم قد حصروا الدين فيما لم يحفل بأكثره الكتاب، ولم يفصل فيه شيء مما وضعوا له من الفصول أو فتحوا من الأبواب؟ أرأيتك كم سورة أو آية نزلت في أحكام البيع والإيجار، والكفالة والحوالة والجعالة والإقرار، والمساقاة والمزارعة، والشفعة والوديعة والرهان، والحجر والصلح والغصب والضمان؟ بل أين ما أكثرتم من أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس؟ وما أطلتم به من الكلام على الطهارة والطهارات والأنجاس؟ وما جئتم به في جميع العبادات من الرأي والقياس؟ هل أنزل الله في ذلك كله عشر معشار ما أنزل من الأمر بالنظر في المخلوقات، واجتلاء آياته في الأرض والسموات من تصريف الرياح والبحار، وتفجير الينابيع والأنهار، وإنبات الحدائق والجنات متشابهات وغير متشابهات، وتسخير الدواب والأنعام، والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، ونصب الجبال كالأوتاد، وبناء السبع الشداد، ورفع السماء ووضع الميزان، وجعل الشمس والقمر بحسبان؟ {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً * ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً * وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} (الفرقان: 45-49) . فكيف تحصرون جميع أمور الدين، فيما سكت عنه الكتاب أو أجمله أو فوضه إلى المستنبطين، وتجعلون ما فصل الإرشاد إليه، وجعل المعوَّل في معرفته تعالى عليه، هو الذي يأتي بنيانه من القواعد، ويقتلع أصول أحكامه والعقائد، أليس هذا منتهى التفريط في الكتاب الذي ما فرط الله فيه من شيء؟ {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} (الفرقان: 50) . إذا شغلك الفقه عن آيات الله التي بين يديك، فهل يصح أن يشغلك عن آياته في نفسك التي بين جنبيك، ألم يرشد القرآن إلى السير في الأرض؛ لاستطلاع العبر؟ ألم ينبئك بسننه في نظام البشر، ألم يهدك إلى أنه- تعالى -لا يهلك المصلحين؟ وإن كانوا في العقيدة مشركين، وأنه لا يبقي على الظالمين، وأن العاقبة للمتقين، فما لك لا تعد من هذا الدين معرفة تواريخ الأمم الغابرة، واختبار أحوال الأمم الحاضرة، ومعرفة الأقطار والبقاع، والعلم بشؤون الاجتماع، أليس هذا من إقامة القرآن، واستعمال الفرقان والميزان؟ أليس قد أنزل الثلاثة لترقية شأن الإنسان؟ فكيف تشغلك أحكام حركات الأبدان، ومعاملات الأقران، عن حكم الديان، في الأناسي والأكوان؟ {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ البَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} (الفرقان: 53-54) . ألا ليت الذين يجعلون هذا الفقه معظم الدين، عنوا به بعض عناية أهل القوانين، فطابقوا بينه وبين مصالح الناس، من جميع الشعوب والأجناس، وقربوه من الأفهام، وأبعدوه عن الأوهام، إذًََََََا لبقي لهم ذكرًا وشرفًا، ولم تجد حكامهم عنه منصرفًا، وها نحن أولاء، نراهم قد نسخوا أحكامه السياسية والمدنية والجنائية، ولم يتركوا للمسلمين إلا ما يعتقدون من الأحوال الشخصية، وهل كانت أحكام فقهائهم فيها مرضية، أم تتألم الحكومة منها، وتتألم الرعية؟ ألا إنهم قد نَفَّرُوا الناس من الفقه والدين، ولولا الجرايات والعسكرية؛ لأع

الدعوة إلى انتقاد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى انتقاد المنار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان في الدين، حافظتان لجميع الفرائض، ومرغبتان في جميع الفضائل، وتركهما معصيتان كبيرتان، مسهلتان للفسوق والعصيان، فالمنار يدعو كل من ينظر فيه، إلى انتقاد ما يرون أنه ينتقد عليه ويعد المنتقدين بأنه ينشر ما يرسلونه إليه، إذا كان مقرونًا بالدليل والبرهان ولا برهان في الدين إلا السنة المتبعة والقرآن، ومن يتبدل الغيبة بالنصيحة، وينصرف عن الهداية إلى الغواية، فيخوض فيما نكتبه مع الخائضين، ويزعم أنه مخالف لهدي الدين، فهو الذي خالف كتاب الله فترك ما أمره به، وفعل ما نهاه عنه، فإنه فرض النصيحة، وحرم الغيبة والوقيعة.

قيمة الاشتراك في السنة العاشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قيمة الاشتراك في السنة العاشرة قد جعلنا قيمة الاشتراك على أهل القطرين مصر والسودان ستين قرشًا صحيحًا، وعلى عمال البريد منهم ثلاثين قرشًا، وأبقيناها في سائر الأقطار كما كانت.

اللائحة الثالثة من لوائح إصلاح التعليم والتربية الدينية

الكاتب: محمد عبده

_ اللائحة الثالثة من لوائح إصلاح التعليم والتربية الدينية للأستاذ الإمام يظهر أنه كتبها؛ لأجل إقناع أولي الأمر في مصر بالعناية بالتربية الدينية بعد عودته من سوريا، وعفو الأمير عنه، وقد وجدت مسودتها بخطه بالعنوان الذي تراها مفتتحه به. وجامع الكتاب وضع سائر العنوانات قال- رحمه الله تعالى-: هذا مجمل أفكار فيما يجب الالتفات إليه من نظام التربية بمصر (ويمكن تفصيله عند إرادة العمل به) إذا كان الناس في حاجة إلى صلاح الحاكم؛ فما حاجة الحاكم إلى صلاحهم؛ بأخف من حاجتهم إلى صلاحه، فإن السلطة سلطتان: جيدة ورديئة، فالجيدة ما كانت على المحكومون للمحكومين. والرديئة ما أخذ بها المحكومون لغاية الحاكم، وقضاء غرضه الثابت. أما الأولى: فإن منزلتها من المحكومين منزلة الروح من الجسد، لها التدبير وعلى أعضاء الجسد وظائف العمل، وغاية التدبير والعمل حفظ حياة الكائن الحي، وهو مجموع الروح والبدن، فكل يستفيد من الآخر ما به بقاؤه ونماؤه. وكما تحتاج الآلات البدنية إلى سلامة الروح من العلل النفسية: كالجنون والخمود والجهل ونحو ذلك، تحتاج الروح إلى سلامة الآلات البدنية من الآفات؛ التي تعطلها عن الحركة: كالشلل والخدر والتشنج وما شابه ذلك، وماذا يمكن للروح السليمة أن تأتيه في بدن؛ تعطلت آلاته وفسدت أعضاؤه. وأما السلطة الثانية: فمنزلتها منهم منزلة الصانع من آلته، فصاحب السلطة صانع والمحكوم آلته في الصنع، فهو كاتب مثلاً والمحكومون قلمه، أو هو حارث والمحكوم محراثه، وكما أن الآلة لا تعمل إلا بالعامل، ولا يظهر أثرها إلا في يده كذلك العالم لا يمكن له العمل إلا بآلته. وكما يجب أن تكون اليد العاملة قادرة على إدارة الآلة، يجب أن تكون الآلة وأجزاؤها صالحة للعمل، فإن فقد أحد الأمرين امتنع العمل أو نقصت ثمرته، فكل من السلطتين في حاجة إلى صلاح المحكوم، فكما يطلب المحكوم في كل حال؛ أن يكون حاكمه صالحًا لأن يحكمه، كذلك يطلب صاحب السلطة في أي منزلة كان؛ أن يكون المحكوم بحيث ينقاد إلى كل ما يحكم به، وعلى الصفات التي تنساق به إلى الغاية التي يذهب إليها حاكمه. أما ما رسخ في خيال بعض الشرقيين، ومن اغتر بحالهم ممن خالطهم من الأوروبيين، من أن صاحب السلطة قوته علوية، والمحكوم طبيعته سفلية، ولا نسبة بينهما إلا أن الأول قاهر والثاني مقهور، وأن الثاني في حاجة إلى صلاح الأول؛ ليكون به رؤوفًا رحيما، وأن الأول لا حاجة به إلى صلاح الثاني؛ لأنه مقهور له على كل حال، فذلك منشؤه الغرور والجهل بطبيعة الجمعيات الإنسانية ونظامها القطري. ولذلك نرى أرباب هذا الاعتقاد من ذوي السلطة، لا تدوم له دولة، ولا يثبت لهم سلطان؛ لتخبطهم في سيرهم بجهلهم منزلتهم من محكوميهم، وتصرفهم فيهم على خلاف ما يجب أن يصرفوهم فيه، وتغافلهم عن استطلاع طباعهم بما يؤهلهم للعمل على ما يريدون منهم. يقال: إن الرعية في كثير من البلاد آلة للحاكم في بلوغ مقاصده في دولته، فقد يكون ذلك حقًّا لكنها آلة ذات شعور وإرادة، وما له شعور وإرادة فجميع أعماله إنما تكون عن شعوره وإرادته، فتصلح الأعمال بصلاح الشعور والإرادة، وتفسد بفسادهما، فلا يمكن أن تكون تلك الآلة صالحة للعمل، إلا إذا كان الشعور والإرادة صالحين له، وصلاحهما بأن يكون الشعور وجدانًا للفرق بين النافع والضار، وبين النظام والاختلال؛ ليكون ما يقرره الحاكم من القوانين وأصول الإدارة معروفًا عند أغلب الرعية، وأن تكون الإرادة صادرة عن هذا الوجدان، حتى يكون النظام منها في مكانة الاحترام. فإذا كان الشعور مختلاًّ والإرادة فاسدة، كانت الأحلام طائشة، والأهواء متحكمة، ومداخل السوء كثيرة، فويل لذي السلطة من تلك الرعية وبعيد عليه أن يستقر لسلطانه فيها قرار، وكل ما يتخيله إصلاحًا لهم أو له فيودعه في أصول حكومته، فهو كالنقش على الماء، أو الرسم في الهواء. طبيعة مصر والمصريين أرض مصر ضيقة عن حاجة أهلها، فمساحة الصالح منها للسكنى لا تزيد عن حاجة الساكنين زيادة بينة، وهي محاطة من أطرافها بالصحاري الجدبة والمياه المالحة، وليس فيها من الغابات ما يعوذ به الوحشي من الحيوان؛ فضلاً عن الإنسان؛ ولذلك نرى كثيرًا من أنواع الوحوش؛ التي كُنا نراها كثيرة في البلاد من نحو أربعين سنة: كالضباع والذئاب والخنازير، قد كادت تنقرض بإصلاح الأراضي الزراعية؛ وانتشار الإنسان في أطرافها وتعهدها بالزرع والعمارة، وأهل مصر لا يعرفون معنى المهاجرة من دار إلى دار، ولا يمكن أن يتصوروا ذلك ما دام في أرضهم نبات ينبت، فإذا أمحلت أرضهم فضلوا الموت فيها على المهاجرة منها، وتاريخ الماضي وشاهد الحال ينطقان بذلك. ولذلك كان أهل مصر سكان أرضهم من آلاف من السنين، وكل قادم إليهم امتزج بهم، وغلبت عليه عوائدهم وأطوارهم، وانتسب نسبتهم فصار مصريًّا، وأحرز جميع خواص المصريين، ونسي أصله وغاب عن أعقابه منشؤه، ثم إن طباعهم مرنت على الاحتمال وألفت مقاومة القهر بالصبر، فلو أن سيف المتغلب كان أعدى من سيف المماليك، وجوره أشد من جور إسماعيل باشا، لما أمكنه أن ينقص من عددهم مقدارًا يذكر، ولا أن يزيلهم عن مواقفهم مسافة تعتبر؛ ولهذا كان المتغلبون يفنون فيهم وهم باقون. أهل مصر قوم سريعو التقليد، أذكياء الأذهان، أقوياء الاستعداد للمدنية بأصل الفطرة، فما أيسر أن تفعل الحوادث فيهم؛ فتنبههم إلى الأخذ بما يحفظ عليهم حياتهم في ديارهم من أي الوجوه، فلا يبيدون من حاجة، فأهل مصر على ذلك هم رعية حاكمهم، ولا يمكن لحاكمهم أن يستبدل بهم رعية أخرى في بلادهم. فحاكمهم إذا كان رأسًا فهم بدنه، وإذا كان عاملاً فهم آلته، فلا بد من استصلاحهم، حتى يستقر سلطانه عليهم زمنًا مديدًا، ترمي إليه أنظار الدول السامية المقام في المدنية. أهل مصر في موقع عرف كل الناس منزلته في الأرض، وهو ممر أهل المشرق إلى المغرب؛ وأهل المغرب إلى المشرق، وهو في حلق أوروبا تتلاقى فيه سيارة الأمم، فقلما توجد بلاد يكثر فيها اختلاط الأمم مثل هذه البلاد. الأمم العظيمة الأوروبية يحسد بعضها بعضا؛ على التمكن في أرض مصر أو الفوز بإحراز المنافع السياسية أو المالية فيها، فالوساوس والدسائس لا تنقطع نفثاتها من أولئك الأحزاب، يبثونها بين المصريين؛ ليوغروا صدورهم على من علت كلمته فيهم. وأعظم فاعل في نفوسهم (وأغلبهم مسلمون) أن يقال: إن صاحب هذه المنفعة ليس من دينكم، وأنكم مأمورون ببغضه وانتهاز الفرص؛ لكشف سلطانه متى أمكنت. أهل مصر شديدو الانفعال بما يلقى إليهم؛ كثيرو التذكار لما ينطبق على أهوائهم، فلكل كلمة من هذا القبيل مكان من نفوسهم، ولكن ربما لا يظهر أثر ذلك؛ لاحتجابه بحجاب العجز أحيانًا، غير أن طباع المصريين كالكرة المرنة تتأثر بالضغط، فينخفض بعض سطحها قليلاً من الزمن، ثم لا يلبث أن يعود إلى حاله، فالله يعلم متى يظهر أثر تلك الانفعالات؛ التي يمكن أن تتأثر بها نفوسهم بما يُلقى إليهم. يقال: إن أهل مصر ضعفاء، ولكن قد أظهر التاريخ أنه متى وُجِدَ القائد؛ كانوا أشد على الخصم من أشجع الأمم؛ وأثبتهم قدمًا في المواطن، ولا يعلم متى يوجد القائد، ومن أي جنس يكون، إذا تركت أهواؤهم بغير تهذيب تجري، حيث تجد سبيلاً للاندفاع، ثم لا يقدرون النظام قدره، مهما كان بالغًا من الصلاح؛ ولا يبالون به، بل يعتقدون أن كل نظام حبر على ورق، فلا يستطيع حاكمهم أن يثبت سلطته عليهم على أمر مكين، بل هم دائمًا في التواء عليه بالمخالفة، متى أمكنت الفرصة، إلا إذا أخذوا بتربية صحيحة، فهناك تنضبط أحوالهم، وينشئ النظام احترامه في قلوبهم، ويهتدي صاحب السلطة إلى طرق تصريفهم. احتقار أمر النظام والتأثر بالوساوس؛ إذا لم يكن مبعثهما الحق، ينشآن عند المصريين من أمرين: الأول: بُعد جمهورهم عن المعرفة بوجوه المصالح. والثاني: حرمانهم من التربية التي تطبع في نفوس أغلبهم الاستقامة والتؤدة والتبصر في العواقب، ومرجع الأمرين إلى سوء العقيدة، وظن ما ليس بواجب واجبًا، وظن الواجب غير واجب، فما دامت هذه حالهم فهم رعية غير صالحة، فلا يصلحون بدنًا لرأس ولا آلة لعامل؛ لاختلال المدارك وفساد الإرادات. أهل مصر لم يأتهم التاريخ القديم بذي سلطة يَفْهَمُ هذا السر، وتَنْفَذ بصيرته إلى هذه الحقيقة، فلذا لم تثبت فيهم دولة لقبيل زمنًا يُعْتد به، وكل إصلاح نظامي نشأ فيهم كان كالبناء على الهواء، فالسلطة التي تسعى في أن تجعلهم رعية صالحة، تكون قد فتحت في نفوسهم فتحًا جديدًا، وظفرت ببغيتها منهم ظفرًا مبينًا، وأمنت كل غائلة تخشى من دسائس الأعداء ووساوسهم. أهل مصر قوم أذكياء كما قلنا، يغلب عليهم لين الطباع؛ واشتداد القابلية للتأثر، ولكنهم حفظوا القاعدة الطبيعية وهي أن البذرة لا تنبت في أرض إلا إذا كان مزاج البذرة مما يتغذى من عناصر الأرض، ويتنفس بهوائها وإلا ماتت البذرة بدون عيب على طبقة الأرض وجودتها، ولا على البذرة وصحتها، وإنما العيب على الباذر. أنفس المصريين أشربت الانقياد إلى الدين، حتى صار طبعًا فيها، فكل من طلب إصلاحها من غير طريق الدين، فقد بذر بذرًا غير صالح للتربة التي أودعه فيها، فلا ينبت ويضيع تعبه، ويخفق سعيه، وأكبر شاهد على ذلك؛ ما شوهد من أثر التربية التي يسمونها أدبية من عهد محمد علي إلى اليوم، فإن المأخوذين بها لم يزدادوا إلا فسادًا، وإن قيل: إن لهم شيئًا من المعلومات، فما لم تكن معارفهم العامة وآدابهم مَبْنِيَّة على أصول دينهم، فلا أثر لها في نفوسهم. ولا أتكلم عن إصلاح لدين غير الإسلام في مصر، فإن غير المسلمين فيها العدد القليل، والجمهور الأغلب من المسلمين. الدين الإسلامي الحقيقي ليس عدو الأُلفة، ولا حرب المحبة، ولا يحرم المسلمين من الانتفاع بعمل من يشاركهم في المصلحة، وإن اختلف عنهم في الدين وفي آدابه كفاية لتعريف الآخذ به بوجوه المصالح، وإرشاده إلى مظان الفوائد والبصر بالعواقب، وتقويمه بفضائل الأخلاق، وبالجملة فهو أفضل كافل لجعل الرعية صالحة لأن تكون بدنًا لرأس أو آلة لعامل. وقد أرشدتنا التجربة إلى أن كل عارف بحقيقة الدين الإسلامي، كان أوسع نظرًا في الأمور، وأطهر قلبًا من التعصب الجاهلي، وأقرب إلى الألفة مع أبناء الملل المختلفة، وأسبق الناس إلى ترقية المعاملة بين البشر، وإنما يبعد المسلم عن غيره جهله بحقيقة دينه، وهذه آيات القرآن شاهدة على ما نقوله، اللهم لمن يفهمها كما جاءت، ويعرف معناها كما وردت. إن القرآن وهو منبع الدين، يقارب بين المسلمين وأهل الكتاب، حتى يظن المتأمل فيه أنهم منهم، لا يختلفون عنهم إلا في بعض أحكام قليلة، ولكن عرض على الدين زوائد؛ أدخلها عليه أعداؤه اللابسون ثياب أحبائه، فأفسدوا قلوب أهاليه ولا قلوب أقرب إلى الإصلاح من قلوب أهل مصر. أهل مصر مضى عليهم الزمن الطويل والقرون العديدة، ولم يروا مربيًا يأخذهم بدينهم، فحرموا خيره، ولم يبق عندهم إلا ما فيه المضرة لهم ولغيرهم، تحت اسم الدين وليس بدين. على أنه ليس فيهم من ينكر أن القرآن كلام الله، وأنه ينبوع الدين، ولكن ليس لهم من معاهد التربية إلا جهتان: المدارس الأميرية، ومدرسة الأزهر الدينية، وليس في الجهتين ما يهدي

تمثيل القصص أو التياترو

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تمثيل القصص أو التياترو (س1) من الشيخ محمد نجيب التونتاري الأستاذ المدرس بالمدرسة الشمسية بروسيا. بسم الله تعالى حضرة الأستاذ العلامة السيد الرشيد مولانا: محمد رشيد رضا - سلمه الله - وأدام فيضه. أرجوكم حل هذه المسألة الآتية، ببيان حكمها الشرعي بيانًا فلسفيًّا، بسبكها في القالب العصري؛ لكي يؤثر في الجميع، ولا يرتاب أحد في حكمها، لا زلتم مرشدين ومأجورين، وهو أن النابتة العصرية بيننا، أنشؤوا في هذه الأيام تياترو مليًّا ببلدة قزان، مثلوا فيه القصص الغرامية، فحضرت الممثلات المسلمات فيما بينهم، وقد أنكر ذلك العلماء، وعدوه من الملاهي المحرمة، ونحن وإن لم ننكر فائدة التمثيل، من حيث كونه عبرة وعظة، ودرسًا تاريخيًّا مليًّا. ولكن لا يمكننا أن نكابر في مضراته المحسوسة، من ابتذال النساء، ورقصهن مع الرجال مما ينافي الآداب الإسلامية، ويهيج الشهوات البهيمية، وقد قرر العلماء أن المجموع الذي يتضمن المحذور، يكون محذورًا لا محالة، وأن درء المفاسد يقدم على جلب المصالح، فبناء على ذلك، أظن أنه يجب النهي والانتهاء عن ذلك، نعم إن سائر مجالسنا ربما لا تخلو من ضرر أيضًا، فإن مجالس العلماء بيننا قلما تخلو من فضول الكلام، بل من الشتم والغيبة والبهتان، تلك الأمور المحرمة قطعًا، ولكن إذ اعتادوها، أصبحوا لا يرون فيها بأسًا، ويجري الأمر من غير نكير، وعسى أنها تصلح بصلاح العلماء، ولو بعد أمد بعيد - إن شاء الله تعالى- وقد أورد الأستاذ الوجدي هذه المسألة في دائرة المعارف، وبسط القول في حكمها، ولكني أحب أن أراها في صفحات المنار، بأظهر مجاليها والله الموفق. (ج) (الحلال بَيِّن، والحرام بَيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس) كما ورد في الحديث، وهذه المشتبهات هي التي يسأل عنها ويستفتى فيها. وما جعل هذه المسألة من قبيل المشتبهات، إلا ما يعبرون عنه بروح العصر، وهو انفعال نفوس المتعلمين على الطريقة الجديدة، ومن يقلدونهم بجمال مدنية أوروبا، وتوجهها إلى تقليد الأوروبيين في كل ما يسهل التقليد فيه، وأي شيء أسهل من التقليد في الزينة، والزخرف، واللهو، واللعب؟ نهى القرآن نهيًا صريحًا عن إبداء النساء زينتهن لغير بعولتهن أو آبائهن، وغيرهم من المحارم، فهل يشتبه بعد هذا في إبداء الزينة مع ما هو شر منها، وهو الرقص مع الأجانب، ومطارحتهم الغرام، وتمثيل معاملتهم معاملة الأزواج تارة، والأخدان تارة أخرى؟ لا محل للتردد في تحريم هذا العمل، وتحريم التعاون عليه، والمساعدة لأهله، بل وفي إقرارهم عليه والسكوت عن إنكاره عليهم. ولا حاجة إلى البحث في مفاسده فإنها بديهية. ولكن المفتونين بالتقليد يستحبون ترك هذه الآداب الإسلامية، والحكم بأن المحافظة عليها ضارة بالمسلمين؛ لأنها تحرمهم من منافع تمثيل القصص التي هي أنفع منها. وينقسم هؤلاء إلى قسمين: (الأول) المارقون من الدين؛ الذين يودُّون لو يمرق منه سائر المسلمين، فهؤلاء يهزؤون بمن يخالفهم في كل ما يسمونه تمدنًا، وإن كان مما يشكو منه عقلاء وفلاسفة أئمتهم الأوروبيين، فهم كما قال الشاعر: عُمي القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدا وقد كثر عددهم في الترك وهم يكثرون في مصر، ولا يمكن إقناع هؤلاء بشيء من طريق الدين، فالحلال والحرام عندهم سيان، وإنما يمكن إقناع أذكيائهم الذين يقدرون جنسية الدين قدرها؛ بأن كذا ضار بالأمة أو نافع لها في سياستها، ومصالحها الاجتماعية. (الثاني) المؤمنون بأصل الدين، الراغبون في التوفيق بينه وبين المدنية الحديثة؛ بالتساهل في بعض أحكامه والتأويل لبعض نصوصه، كما فعل أهل الكتب الدينية من كل أمة، في كل زمان يغلب عليه روح خاص، يسري في الكبراء والخواص، وهؤلاء هم الذين يحاولون الموازنة، بين منافع (التياترو) ومضاره التي يعترفون بأن أهمها هتك النساء المسلمات لصيانة الحجاب، ومخالفتهن للنصوص الصريحة في الكتاب، وهؤلاء يسهل إقناعهم بالدلائل الدينية والعقلية جميعًا. هؤلاء هم الذين يقولون: إننا لا نرتاب في عصيان المرأة؛ بإبداء خفي زينتها في المتمثَّل (ملهى التمثيل) ورقصها مع الرجال، ولا في عصيان من يغريها بذلك، ولكن التمثيل الذي يوجد فيه العاصيات والعاصون لله عمل نافع في نفسه، فالمعصية فيه قاصرة على أهله، ولا حرج على المؤمنين في شهوده؛ بنية الاستفادة من الغرض والمقصد منه، دون نية الإسعاد على الوسيلة المحرمة، كما أنه لا حرج على من يشاهد الصور والتماثيل، وإن كان صانعوها آثمين في عملهم. ولعل هذا أقوى ما نبين به شبهتهم في شهود التمثيل، وما هو بالذي يقنع الفقيه فيفتي بنفي الحرج؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح عند التعارض. فكيف تباح المفسدة اليقينية لأجل مصلحة وهمية؟ إن أمكن إثبات حصرها في التمثيل، فلا سبيل إلى إثبات معارضتها لمنع المسلمات من هتك حرمة الشرع والخروج عن أدب الدين؛ إذ يمكن أن يكون هذا التمثيل المفيد من الرجال خاصة، وإن كان لا بد من وجود النساء، فيمكن استخدام غير المسلمات فيه كما يفعلون في مصر، وهؤلاء النساء غير مكلفات بفروع الشريعة عند الحنفية ومَنْ وافقهم، ولا يحرم النظر إليهن بغير سوء، أو يمكن للنساء المسلمات فيه أن لا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وهو الوجه والكفان، وأن لا يرقصن مع الرجال، ولا يأتين بمنكر آخر معهم، فالحرص على إتيانهن في المتمثل بكل ما يأتي به غير المسلمات، لا يمكن أن يكون لأجل المصلحة المزعومة، التي بنينا هذا الإلزام على التسليم بها جدلاً. فثبت أن الغرض من ذلك تغذية الشهوة واتباع الهوى؛ تقليدًا للأوروبيين في شيء فيه إثم لكم ولهم، ومنافع لهم لا لكم؛ لأنهم جروا في هذا التمثيل على جعل لهوهم ولعبهم الذي لا خروج فيه عن عاداتهم وآدابهم المُقَومَة لشعوبهم، مشتملاً على بعض الفوائد والعبر، بعد الارتقاء في العلوم والآداب، وسائر مقومات الاجتماع، فإن كنتم مقلديهم ولا بد، فاعفونا من التحريف والتأويل في الدين، فما أنتم إلا عون عليه لأولئك المارقين. وأما المارقون من الدين من حيث هو دين، الراضون به من حيث هو رابطة اجتماعية كالجنس، واللغة. فيقال لهم: إن تحويل النساء عن الآداب، والعادات الإسلامية اتباعًا وتقليدًا لغير المسلمين مبدأ لقطع الرابطة الإسلامية، وهدم هذه الجنسية، فليس ضررها محصورًا في عصيان بعض النساء لأمر الله، وجرأتهن على انتهاك محارمه؛ إذ يستحيل أن لا تعصي امرأة من الأمة ربها قط، ولا شك أن معصية بعضهن بما ذكر، لا تستلزم عصيان سائرهن به؛ إذ جعل كل امرأة ممثلة محال، فلا خوف على الأمة من عصيان قليل من أفرادها، وإنما الخوف عليها محصور في: الانتقال من طورإلى طور؛ بتأثير روح أجنبي غايته تحويل المسلمين عن دينهم وجنسهم، وجذبهم إلى غيرهما بالإقناع والاستحسان، حتى يكونوا غذاء له، ومادة تمده في نمائه وبقائه. مَثَل المُقَلِد مع المُقَلَد: كَمَثَل الطفل مع الرجل، يحسب الطفل أن كل ما يفعله الرجل مفيد له، إذا هو حاكاه فيه ساواه في فائدته منه، فإذا رآه يدخن حاول التدخين مثله ما لم يمنعه مانع، وربما كان في التدخين هلاكه؛ إذ لا يحتمل بدنه من سم الدخان ما يحتمله بدن الكبير المعتاد عليه، وما كل ما يفعله الرجل نافعًا له، وما كل نافع له ينفع الطفل والدارج، ولا اليافع والشارخ، وقد تكون وسيلة المنفعة الواحدة للرجل غير وسيلتها هي للطفل، فالتغذية منفعة ووسيلتها للطفل اللبن. وللدارج الطعام اللطيف، وأما الرجل الأيِّد فإنه يستفيد من الطعام الكثيف من الغذاء ما ربما يكون ممرضًا لمن دونه. هكذا شأن الأمم الجاهلة الضعيفة مع الأمم العالمة القوية، تظن الأولى أن كل ما تفعله الثانية مفيد لها فتحاول تقليدها فيه، غير شاعرة بأنها تقلد على غير بصيرة تامة، ولا اكتناه للمقاصد البعيدة - وإنما الأمور بمقاصدها -، فتقع في الخسران المبين من حيث ترجو الفلاح العظيم، كما نقلدهم الآن في الأزياء، والعادات التي تزيد في ثروتهم، وتذهب بثروتنا. والآداب التي ترسخ بها جنسيتهم من حيث تضعضع جنسيتنا، وأهم هذه العادات ما أدى إلى تركنا للدين، وإرخاء عنان التفرنج للنساء في التهتك والخلاعة. تدخل المرأة النصرانية المُتمثل ولا شعور عندها، بأنها قد أحدثت في جنسيتها حدثًا، أو جاءت في دينها أمر فَرِيَّا. وأما المسلمة فإنها تشعر إذا فعلت ذلك، بأنها قد انسلخت من قديم مرغوب عنه، ودخلت في جديد مرغوب فيه، ويسري هذا الشعور منها وممن تربى مثل تربيتها إلى سائر نساء قومها، ورجالهم الذين يألفون عملها، ويقرونه. أنقلدهم بهذا؟ ولا نقلدهم في تربية النساء الدينية، التي نرى أقوى شعوبهم، وأعزها، وأعلمها كالجرمانيين، والسكسونيين، هم أشد عناية بها ممن دونهم، بلغ من رسوخ الشعور الديني عند نسائهم: أن المرأة التي يقذفها الفقر في مهواة البغاء، تعلق صورة المسيح أو أمه في بيتها؛ لإحياء ذكرى الدين في قلبها، فإذا همت بالمنكر فيه، حولت وجه الصورة إلى جهة الجدار استحياءً وأدبًا. إذا صح أن هذا التياترو يفيد مسلمي روسيا في آدابهم وأخلاقهم، مثل ما يزعم الإفرنج أنهم يستفيدون منه؛ فما هذه الفائدة المدعاة إلا من الأمور التي تسمى تحسينية أو كمالية؛ أي: مما يطلب وراء الضروريات والحاجات التي لم يستكملوا شيئًا منها. وقد دعاني إلى رؤية هذا التمثيل العربي بمصر بعض الفضلاء أول مقدمي إليها، وبعد رؤيته سئلت عن فائدته. فقلت: إنني لم أر له فائدة وراء التسلية إلا تمرين أسماع من يحضره من العوام على كلام عربي، هو وسط بين كلامهم وبين العربية الفصحى. ثم رأيت أن بعض القصص لا تخلو من فائدة وعبرة. أقول هذا وأنا أعلم أن المقلدين، يضيع عندهم البرهان إن خوطبوا به، فكيف ولا سبيل إلى مخاطبتهم بما يفهمون. وقد كان يكون هذا مفيدًا، لو كان للمسلمين زعماء عقلاء يدبرون أمرهم، ويديرون بالرأي والروية مصالحهم، ولكنهم أضحوا فوضى، لا سراة لهم إلا أننا نرجو الخير من بعض العلماء وأصحاب الصحف. فنسأل الله أن يوفقهم لخير الإرشاد، وينفع بهم العباد.

أسئلة من جاوه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من جاوه إسلام من دون البلوغ (س2) السيد عقيل بن عثمان بن يحيى في (تيمور كونغ - جاوه) . ما قولكم في إسلام من دون البلوغ من اللقطاء، وأولاد الكفار، وأهل الكتاب، هل تجري عليه أحكام الشرع، كالمكلف في حياته وموته، أم ينفرد بأحكام تخصه؟ (ج) قال - صلى الله عليه وسلم -: (كل مولود يولد على الفطرة - وفي لفظ: ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، وفي رواية: على فطرة الإسلام، وفي رواية زيادة: حتى يُعْرِبَ عنه لسانه - فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) الحديث رواه أحمد والشيخان واستدل به على أن الصغير لا يحكم عليه قبل التمييز إلا بالإسلام الذي هو دين الفطرة، حتى يميز ويعبر عن فكره فإنه يحكم له بالملة التي يختارها. وهو المراد برواية جابر عن أحمد: (حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه: فإما شاكرًا، وإما كفورًا) . وينقل أهل الأثر صحة إسلام المميز عن أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن شيبة وعدمها عن الشافعي وزفر. واستدل على هذا بحديث (رُفِع القلم عن ثلاثة) ، وذكر منهم الصبي حتى يبلغ. والحديث حسنه الترمذي، وفيه بحث وأجيب عنه: بأن الإسلام يكتب له لا عليه، وإنما يدل الحديث على أنه يؤاخذ لا على أنه لا يقبل إسلامه، كيف وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم - يقبل إسلام الصغار لا يرد أحدًا، ومن المشهور الذي لا يرده أحد من المختلفين في المسألة، إسلام علي - كرم الله وجهه - وهو دون البلوغ. قال عروة: أسلم علي والزبير وهما ابنا ثمان سنين، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم - ابن الزبير، لسبع أو ثمان سنين. وقد يصح الاستدلال بالحديث على أن من دون البلوغ؛ لا تصح ردته عن الإسلام. وهي رواية عن أحمد والمذهب: الأول؛ أي: أن المميز يصح إسلامه وردته. وفي رواية ثالثة: لا يصح شيء منهما. على أن المميز الذي في حجر والديه يكون تابعًا لهما في الأحكام الدنيوية، وإن قلنا بصحة إسلامه على المختار، حتى يبلغ سن الرشد أو يخير، كما أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - بتخيير أولاد أصحابه؛ الذين كانوا متهودين مع بني النضير وكانوا أرادوا إكراههم على الإسلام، وفيهم نزل {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) راجع تفسير الآية في المجلد التاسع ص 161. *** حمل الميت على عربة (س3) ومنه: هل يجوز حمل الميت على عربة تجرها الخيل أو الرجال، إذا قيل: إن هناك مصلحة كبعد القبر، أو خفة المؤنة. وهل فيه إزراء بالميت أو تشبه غير محمود؟ المسألة ذات بال، فمن القوم من يشدد النكير، ومنهم من يقول بالتيسير. (ج) إنما جعل المسألة ذات بال التقاليد والعادات، ولا يهتم الناس من جميع الأمم بشيء من العادات، كالعادات في تجهيز الموتى ودفنهم وزيارتهم، حتى إن الذين ينسلخون من الأديان ويتركون العبادات وسائر التقليد، يظلون محافظين على ما درج عليه أهل ملتهم؛ من التقاليد والعادات المتبعة في هذا الأمر. لا دليل في الكتاب ولا في السنة على تحريم حمل الميت على عربة من غير تشبه بغير المسلمين في دينهم؛ لا سيما إذا كان هناك مصلحة؛ لأن المراد بحمله نقله وإيصاله إلى القبر ليدفن، وقد كانوا يحملون النعش في صدر الإسلام بالكيفية المعروفة في زمنهم، ولم يقل الشارع: إن هذه الكيفية تعبدية، لا ترفعها المشقة التي تجلب التيسير. ولو كانت الوسائل العادية التي كانوا يفعلونها واجبة على سبيل التعبد بمجرد جريهم عليها، لوجب علينا أن لا نقاتل إلا بمثل سلاحهم، وإن سحقتنا المدافع سحقًا، وأن لا نلبس إلا مثل ملابسهم، وإن سبقتنا الأمم في النشاط سبقًا، أما التشبه المحظور في مثل هذا العمل، فهو ما يشتبه فيه المتشبه بالمتشبه به في أمر من أمور دينه، ويكون ذلك عن قصد، وما أغنى المسلمين عن هذا؛ إذ يحتاجون إلى نقل ميتهم على عربة، فالعربات التي ينقل عليها أهل الكتاب أمواتهم لها شكل مخصوص مزين بالتماثيل، لا يحتاج المسلم إلى مثله قط. ولا نفتيه باتخاذه، وإن لم يقصد التشبه بهم. على أن هذا الشكل من عاداتهم لا من عباداتهم، والمسلمون لم يسلَموا في أكثر البلاد من التشبه بهم، فيما هو عندهم من قبيل العبادة المحضة والتقاليد الدينية الخالصة كحمل المباخر والقماقم أمام الجنازة، والترنم بالأناشيد الدينية. ويفعل المسلمون هذه البدع التي سرت إليهم ممن جاورهم من أهل الكتاب في مصر وغيرها لغير حاجة إليها، ويزعمون - إن اعترض عليهم بالتشبه -: أنها لا تشبه فيها؛ لأن أناشيد أهل الكتاب هي غير أناشيدنا، وهم يضعون في مباخرهم البخور ونحن نضع فيها الزهور، وأنت ترى أنه يمكن أن تكون مسافة البعد عن التشبه في العربة أوسع؛ بأن تكون العربة التي تحمل عليها أموات المسلمين من قبيل عربات النقل، ولكنها أنظف وأكثر ارتفاعًا، ويوضع التابوت عليها بالهيئة التي يحمل بها على الأكتاف عادة، وبهذا ينتفي التشابه بالمرة، لكنه لا ينتفي في البدع المعتادة بما ذكر آنفا؛ لأن الفرق بين أناشيدنا وأناشيدهم المتحدة في الظاهر، ليس بذي شأن، لا سيما إذا كانوا يمدحون المسيح والحواريين، ويستعينون بهم، ويطلبون الرحمة من الله للميت، فأكثر أناشيدنا المتبعة من هذا القبيل؛ لأنهم ينشدون قصيدة البردة ونحوها، ومدح النبي وأصحابه من قبيل مدح المسيح وحواريه - عليهم السلام - أجمعين. وبهذا نعلم أن المسألة مسألة عادات وتقاليد، لا مسألة حرص على السنة، فإن ما خالفوا فيه السنة، وأخذوا فيه بالبدعة لا حاجة إليه، وما حرصوا فيه على العادة قد يحتاج إلى تركه لمصلحة، ونحن نتبع المصلحة في العادات، ومتبع المصلحة لا يسمى متشبهًا بمن سبقه إليها، ولا مقلدًا له على أن تشبهنا بغيرنا في عادة له لم يحرم علينا، ما لم يكن فيه مفسدة وضرر فله حينئذ حكمه. *** رهن العقار والديار على مديري الكنائس والأديار (س4) ومنه: ما قولكم فيمن يرهن عقاره أو دياره على مديري أموال الكنائس والأديار؛ ويوفيهم ما اصطلح معهم عليه من ربح المال شهريًّا؛ ويَدَّعي أن ذلك ليس من المعاملات الربوية. ما هو حكمه؟ هل يفسق بهذا الفعل أو هذا الاعتقاد، أم له فيه فسحة أو مسامحة؟ وما يقال في مساهمة أو معاملة من هذا ديدنه؟ إن أشبعتم الفصل والنقل في هذا الباب فهو من المهم في الدين؛ لتساهل أهل هذه الجهة في الاحتياط والورع، بل تقادعهم في الحرام السحت والطغيان، وتعاقدهم على الإثم والعدوان، وتقاعدهم عن المبرات والإحسان، فصارت معاملتهم كلها فاسدة بما يدعونه صحيحًا، وقد عم الربا هذا القطر (جاوى) من غير مبالاة، فعسى أن يحصل لهم بما تضعونه ارتداع، ولكم ثواب الدلالة على الهدى وإيضاح الحق. (ج) مديرو الكنائس والأديار كغيرهم من الناس في المعاملات المالية ما خصهم الدين بأحكام في العقود والمعاوضات، فالرهن عندهم كالرهن عند غيرهم، إن جائزًا في نفسه فجائز معهم، وإن ممنوعًا فممنوع. والدين قد حرم الربا؛ لما فيه من قساوة القلب وترك التعاطف والمواساة للمحتاج، كما بيَّنا ذلك بالتفصيل في تفسير آيات الربا، وبيَّنا ما هو الربا المحرم بالنص، فيراجع في المجلد التاسع. واعلم أنك إذا عددت كل ما يقوله المصنفون في كتب الأحكام التي يسمونها فقهًا من أمور، وحكمت بفسق التارك لبعض شروطهم في هذه المعاملات الدنيوية، فإنك تقذف بالمسلمين في مأزق من الحرج، لا قبل لهم به ولا طاقة لهم باحتماله. إن الدين حرم الربا والغش والخيانة، وأكل أموال الناس بالباطل، والضرر والضرار، وكل ما فيه إفساد للأخلاق وتدنيس للأرواح، وأوجب عليهم الوفاء بالعقود، وأقرهم على عقودهم ما لم تحل حرامًا أو تحرم حلالاً، وأباح لهم بعد ذلك أن يتعاملوا كيف أرادوا بالتراضي بينهم كما بيَّنا ذلك مرارًا، وهم غير مكلفين بالعمل بآراء الفقهاء واجتهادهم، التي لا دليل عليها في النص، إلا إذا أمر الحكام بالقضاء فيها، فحينئذ تتبع لأجل أن تكون المعاملات نافذة تدينًا وتعبدًا، مثال ذلك: اشتراط الإيجاب والقبول في البيع مثلاً لما يتعبدنا الله به، وقد قال به من قال؛ اجتهادًا لما رآه من المصلحة فيه. فإذا تعارف الناس على نوع من المعاطاة وتراضوا به، جاز لهم ذلك دينًا، ولكنهم يضطرون إلى التزام الإيجاب والقبول، إذا أرادوا أن يكون البيع نافذًا عند حاكم يشترطه. *** حُكم شرب البيرا وعصير الزبيب (س 5و6) ومنه: ما هذا الشراب المسمى (بيرا) ؟ وما حكمه؟ وما مادة أخذه؟ وهل يقال: إنه من الأجزاء الدوائية، أو غير المسكرات، أو يحل تناوله؟ وهل هو أنواع؟ وهل في عصير الزبيب ما يجوز شربه؟ (ج) البيرا هي (الجعة) ؛ أي: الشراب المأخوذ من ماء الشعير، ويقال: إنها تخمر بحشيشة الدينار، وهي أنواع ولا شك في كونها من المسكرات، ولكن يقال: إن القليل منها لا يسكر لا سيما بعد الاعتياد، والصحيح المختار عند جماهير المسلمين ومنهم الشافعية الذين يقلدهم أهل بلادكم، أن ما أسكر كثيره فقليله حرام وهي ليست من الأدوية، ولكنها تفيد في تحليل البول، وفي الحلال ما يغني عنها في ذلك كالبقدونس. ومن مرض بحصر البول، ولم يجد محللاً غيرها، حل له التداوي بها بقدر الحاجة. وعلمت أنه يوجد نوع منها يستعمل للتحليل، لا يسكر قليله ولا كثيره ولكنه قليل المكث؛ يشرب عقب صنعه، فإذا طال عليه الأمد أيامًا، فسد وذهبت فائدته. وأما عصير الزبيب: فلا يحرم إلا إذا اختمر وصار مسكرًا، وقد عجبت من هذا السؤال في غير شبهة، وما زال المسلمون مذ كانوا يشربون ماء الزبيب وغيره منبوذًا ومعصورًا؛ ما لم يمكث زمنًا يتخمر فيه ويصير مسكرًا، وله في مصر وغيرها مواضع يباع فيها هو وماء الخروب وعرق السوس وغير ذلك. *** يانصيب (س7) ومنه: (يا نصيب) لم نعرف ما هيته، ولم نر استئناسًا لتعاطيه أو دليلاً على حله. فما هو؟ وما حكمه هو وأشباهه؟ (ج) هو نوع من أنواع القمار، كيفيته أن يضع امرؤ أو شركة قراطيس صغيرة فيها أرقام تسمى نمرًا؛ أي: أعدادًا، يذكر في كل قرطاس منها ما يدل على أن كذا من هذه النمر؛ يسحب في يوم كذا من شهر كذا وأن طائفة منها (أي: النمر) يربح كذا قرشًا أو جنيهًا أو فرنكًا، وكذا منها يربح كذا؛ أي: أقل من ذلك. ويبيعون هذه القراطيس بثمن قليل، بالنسبة إلى ما يُرجى من بعضها، ويشتريها من يشتريها؛ آملاً أن تكون النمرة فيما يشتريه من النمر الرابحة، وإذًا يكون أعطى قليلاً وأخذ كثيرًا. وكيفية السحب: أن توضع بطائق عليها أرقام تلك النمر في وعاء مستدير فيه ثقب، يفتح بعد أن تخضخض البطائق في الوعاء؛ فينزل منه بطاقة بعد أخرى أمام شهود يصيح صائحهم: ببيان نمرة كل بطاقة تنزل؛ إذ تكون رابحة حتى إذا تم عدد ما كتب على القراطيس أنه ربح يكون السحب قد تم وعرف الرابح من غيره. مثال ذلك: أن تكون النمر التي قدر لها الربح عشرة من مائة، فالمعنى أن البطائق العشر التي تسقط أولاً هي التي تكون رابحة، ومن العادة أن تكون الأولى أوفر سهمًا، وهذا العمل من القمار؛ أي: الميسر المحرم في الدين كما هو معلوم.

الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ] نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ [[*] قال الأستاذ الإمام - عليه رضوان الله تعالى -: (يستحيل بقاء الأزهر على حاله: فإما أن يصلح، وإما أن يسقط) ، وكان - أكرم الله مثواه - باذلاً جُلَّ عنايته في إصلاحه؛ حذرًا من سقوطه وحرمان المسلمين مما يرجى بإصلاحه، وكان أقدر من عرفنا من الناس على هذا الإصلاح وسائله ومقاصده، وأحكمهم في تنفيذه، إلا أنه أخطأ في أمر واحد لولاه لتم له ما أراد من الإصلاح؛ وهو فوق ما طلب منه ذلك الأمر هو محاولة إصلاحه برضى كبراء شيوخه، واستعمالهم فيه بالإقناع دون السلطة، إلا ما بدأ به من وضع قانون لإدارته، والسعي في إصدار إرادة من الأمير به بناءً على قرار من مجلس النظار؛ لعلمه أن العمل بدون ذلك متعذر. ولا محل لشرح ذلك هنا بل موضعه الجزء الأول من تاريخه الذي نعتني بطبعه الآن، وإنما نريد أن نبين أنه كان يحاول تنفيذ هذا القانون بدون استعانة بسلطة التنفيذ في البلد؛ بل بمجرد رضى شيخ الأزهر وأعضاء الإدارة. كان الشيخ حسونة النواوي أول من ولي المشيخة، واختير للعمل بهذا القانون مع المرحوم وسائر من اختيروا للإدارة، وكان المرحوم هو الذي اختاره، وسعى لدى الأمير بتعيينه وكيلاً للشيخ الإنبابي المرحوم ثم أصيلاً، وقد استعان على هذا ببعض أصدقائه كالمرحوم أمين باشا فكري. ذلك أنه كان يعتقد أن الشيخ حسونة أمثل الشيوخ وأرجاهم لقبول الإصلاح، علمت ذلك منه أول مقدمي لمصر سنة 1315؛ إذ قلت له: سمعت من بعض مجاوري الأزهر الطرابلسيين أن شيوخ الأزهر قد امتعضوا من جعل الشيخ حسونة شيخًا للأزهر؛ لأنهم لا يعدونه من كبار العلماء. فقال: إن كانوا يعنون بذلك أنه لا يقدر على إيراد الاحتمالات الكثيرة في مثل عبارة جمع الجوامع؛ فهذا صحيح ولكن هذه الاحتمالات التي يوردونها ليست من العلم في شيء، والشيخ حسونة أمثلهم. وقد دلت التجارب على صدق هذا القول- ولا ننسى فضل المرحوم السيد علي الببلاوي الذي ظهر من فضله فوق ما كان يظن فيه - فإن ما جرى على يد الشيخ حسونة أولاً وآخرًا، لم يجر على يد غيره مثله. نعم كان الشيخ حسونة يرجئ بعض ما يقترح المرحوم؛ عملاً بالتدريج عن رأي واعتقاد، ولكنه لم يكن يقرر الشيء ولا ينفذه؛ كما فعل من جاء بعده ما عدا الببلاوي، وقد تقلب على الأزهر في هذه المدة عدة شيوخ، كان أشهرهم في علوم الأزهر أبعدهم عن الإصلاح. فالشيخ سليم البشري من أشهرهم لم يجر على يده شيء، بل كان معارضًا لكل شيء فأرضى أمثاله من المحافظين على القديم، وأغضب طلاب الجديد، والشيخ عبد الرحمن الشربيني أشهرهم على الإطلاق وهو لم يفعل شيئا، ولم يرض طائفة من الطائفتين. قلت للأستاذ الإمام مرة: إن قرار مجلس إدارة الأزهر هو كقرار كل مجلس رسمي وكل محكمة يطالب القانون بتنفيذه ويعاقب على تركه، فلماذا لا تطالب بتنفيذ هذه القرارات الكثيرة التي يمتنع شيخ الأزهر من تنفيذها بصفة رسمية؟ فلو فعلت هذا مرة واحدة؛ لنفذ كل قرار. فقال: إن هذا لا يكون إلا بسلطة الحكومة، وإنني أرجو أن لا أدع الحكومة تتداخل في الأزهر ما دمت فيه، فكيف أكون أنا الذي يدعوها إلى ذلك؟ فنحن ندعو الشيوخ بالإقناع معتصمين بالصبر. وكان يكره أن يكون (للمعية) أصبع في الأزهر، كما يكره أن يكون للحكومة يد فيه؛ لاعتقاده أن خير الإصلاح في العلم والدين؛ ما كان بعيدًا عن السياسة فائضًا عن اقتناع العلماء به واستقلالهم فيه، ولكن (المعية) ولعت بالأزهر ولوعًا كاد يكون عشقًا وغرامًا، ولما رأت أن تمتعها بهذا المعشوق لا يتم مع وجود هذا العذول الرقيب، طفقت تناهضه حتى كان ما كان من أمر استقالته من إدارة الأزهر، وكان ما كان بعده من الخلل في هذا المكان، حتى أدى ذلك إلى إقامة نائب عن شيخه الشربيني، يدبر الأمر من دونه عدة أشهر ثم إلى استقالته، وإعادة الشيخ حسونة إلى المشيخة وعلى يد الشيخ حسونة تم مشروع مدرسة القضاء الشرعي، وصدر به الأمر العالي فصدق قول المرحوم فيه: إنه أمثلهم في حياته وبعد مماته. مما كان ينويه من إصلاح الأزهر إنشاء قسم قضائي فيه يرشح فيه الطلاب لمنصب القضاء. زاده حرصًا عليه اقتراح المستر سكوت - المستشار القضائي الأول - إصلاح المحاكم الشرعية، وجواز جعل المتخرجين في مدرسة الحقوق الخديوية قضاة شرعيين. لم أر الأستاذ مهتمًّا في مقاومة شيء كاهتمامه في حمل الحكومة على الإغضاء عن جعل متخرجي الحقوق قضاة للشرع. سعى في ذلك. وحاول إقناع كبراء الشيوخ بأن يسعوا معه، فلم ير منهم مبالاة فكان يتململ ويقول: إذا نفذ هذا المشروع، قضي على الأزهر، وقد نجح سعيه فلم ينفذ. وعندما حاولت الحكومة تعيين قاضيين من محكمة الاستئناف الأهلية للمحكمة الشرعية العليا بمصر، ولم يتم ذلك قوي عزمه، وظن أن الفرصة سنحت لإنشاء القسم القضائي، وقد فتحنا كوة للبحث في ذلك؛ إذ أنشأنا مقالة في المنار الذي صدر في ذي الحجة سنة 1316؛ نقترح فيه إنشاء هذا القسم القضائي، ولكن حال دون إنشائه عزل الشيخ حسونة من المشيخة، وتولية الشيخ عبد الرحمن القطب في 24 المحرم سنة 1317، ولم يلبث هذا أن توفي بعد شهر من توليته، وولي الشيخ سليم البشري الذي وقف في عهده سير الإصلاح، وكان من أمر (المعية) من أول عهده إلى الآن ما أشرنا آنفًا إلى أنه انتهى باستقالة المصلح العظيم من إدارة الأزهر، وبهذا انقطع رجاء الحكومة من إصلاح حال القضاة الشرعيين الذين ضجت منهم الأمة طالبة بلسان الجمعية العمومية ولسان مجلس الشورى إصلاح المحاكم الشرعية، فعهدت إليه بوضع مشروع إنشاء مدرسة قضائية، يتولى هو بنفسه أمرها. وكان هذا المشروع آخر عمل إصلاحي عمله؛ إذ تم في أوائل مرض الموت. وما كان يؤلمه من هذا المشروع إلا انفصاله عن الأزهر، وقصارى ما أمكنه من وصله به، جعله تحت نظر مفتي الديار المصرية دائما، وكان للحكومة معه وقفة في هذه المسألة. تبارك ناصر المخلصين، أحياء وميتين. فقد قضت حكمته - عز وجل - أن يقوم بتنفيذ المشروع، ويجعله أشد صلة بالأزهر سعد باشا زغلول ناظر المعارف لهذا العهد، ولا يجهل أحد من المصريين من هو سعد باشا من الأستاذ الأمام، وأن يكون ذلك في عهد مشيخة الشيخ حسونة وبعد موافقته عليه، وجعله تحت نظره، وقد علم القراء اعتقاد المرحوم في الشيخ حسونة، وما كان من نيته في أيام مشيخته الأولى، وهاك نص القانون في ذلك: مشروع أمر عال بإنشاء مدرسة القضاء الشرعي نحن خديوي مصر: بعد الاطلاع على قانون الجامع الأزهر الصادر به الأمر العالي بتاريخ 20 محرم سنة 1314 (أول يوليه سنة 1896) . نمرة 3 وبناء على ما عرضه علينا ناظر المعارف العمومية، وموافقة رأي مجلس النظار، أمرنا بما هو آت: المادة الأولى - يخصص قسم من الأزهر؛ لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء ووكلاء دعاوي وكتبة للمحاكم الشرعية، ويسمى (مدرسة القضاء الشرعي) . المادة الثانية - تكون هذه المدرسة باعتبار كونها قسمًا من الأزهر تحت إشراف شيخه، وتكون لطلبتها من الامتيازات ما لغيرهم من الأزهريين، ويتولى إدارتها ناظر، يعينه ناظر المعارف، ويكون لها محل مخصوص. المادة الثالثة - تنقسم هذه المدرسة إلى قسمين: القسم الأول لتخريج كتبة للمحاكم الشرعية. والقسم الثاني لتخريج قضاة ومفتين وأعضاء ووكلاء دعاوي للمحاكم الشرعية أيضًا. القسم الأول المادة الرابعة - يشترط فيمن يدخل القسم الأول من مدرسة القضاء الشرعي ما يأتي: أولاً - أن يكون طالب علم في الأزهر أو أحد ملحقاته مدة ثلاث سنين، وأن يكون حميد السيرة. ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم، سليمًا من العاهات. ثالثًا - أن ينجح في امتحان الدخول في المواد الآتية: (أ) حفظ نصف القرآن الكريم على الأقل. (ب) المطالعة في الكتب السهلة مع الصحة وفهم المعنى. (ج) الإملاء. (د) النحو. (هـ) الفقه. (و) مبادئ علم الحساب. المادة الخامسة - يكون امتحان الدخول في هذا القسم تحت رياسة شيخ الجامع الأزهر، أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من عضوين ينتخبهما ناظر المعارف العمومية؛ بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في المادة 18. المادة السادسة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم خمس سنوات. المادة السابعة - تدرس في هذا القسم العلوم الآتية: التفسير - الحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - التوثيقات الشرعية - التوحيد - المنطق - آداب وأخلاق دينية - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية ونظام القضاء والإدارة - اللغة العربية - الحساب والهندسة - التاريخ والجغرافيا - الخط. المادة الثامنة - الامتحان النهائي للقسم الأول: يكون تحت رياسة شيخ الجامع الأزهر أو من ينيبه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال مؤلفة من عضوين ينتخبهما ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة المبينة في المادة 18. المادة التاسعة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الأول تحريريًّا وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية. المادة العاشرة - تعطى لمن نجح في الامتحان النهائي لهذا القسم شهادة الأهلية الأزهرية، ويكون أهلاً بموجبها لأن يعين كاتبًا بالمحاكم الشرعية؛ فضلاً عن المزايا المقررة لها بحسب قانون الأزهر. القسم الثاني المادة الحادية عشرة - يشرط فيمن يدخل القسم الثاني من مدرسة القضاء الشرعي ما يأتي: أولاً - أن يكون حاملاً لشهادة القسم الأول. ثانيًا - أن يكون صحيح الجسم سليمًا من العاهات. ثالثًا - أن يكون حميد السيرة؛ لم يسبق الحكم عليه بسبب أمر مخل بالشرف وأن يكون عاملاً بأمور دينه. المادة الثانية عشرة - تكون مدة الدراسة في هذا القسم أربع سنين. المادة الثالثة عشر- تدرس في هذا القسم العلوم الآتية: تفسير وحديث - الفقه على مذهب أبي حنيفة - حكمة التشريع - الأصول على مذهب أبي حنيفة - آداب البحث - توحيد - منطق - آداب وأخلاق دينية - أصول القوانين - نظام المحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية ونظام القضاء والإدارة - محاضرات عامة ودراسة بعض القضايا ذات المبادئ الشرعية - اللغة العربية - العلوم الرياضية - التاريخ - تقويم البلدان - الخواص التي أودعها الله تعالى في الأجسام. المادة الرابعة عشرة - الامتحان النهائي للقسم الثاني يكون تحت رياسة شيخ الجامع الأزهر أو من ينيبه عنه بواسطة لجنة أو أكثر على حسب الأحوال، وتتألف كل لجنة من خمسة أعضاء ينتخبون من علماء الأزهر وأرباب المعارف الفنية بمعرفة ناظر المعارف بعد أخذ رأي لجنة الإدارة. المبينة في المادة 18. المادة الخامسة عشرة - يكون الامتحان في مواد الدراسة بالقسم الثاني تحريريًّا وشفهيًّا على حسب التفصيل الذي تشتمل عليه اللائحة الداخلية. المادة السادسة عشرة - يصدر لمن نجح في الامتحان النهائي للقسم الثاني: البيورلدي العالي - المنوه عنه في المادة 53 من قانون الأزهر- وزيادة عما لحامله من المز يا، يصير أهلاً بموجبه لأن يكون وكيل دعاوى أو قاضيًا أو عضوًا أو نائبًا بالمحاكم الشرعية. أحكام عمومية المادة السابعة عشرة - يكون للمدرسة لجنة إدارية تسمى لجنة الإدارة، وتتألف من: شيخ الجامع الأزهر أو من ينوب عنه رئيسًا، ومن مفتي الديار المصرية، ومن ناظر المدرسة، ومن عضوين آخرين ينتخبهما ناظر المعارف بالاتفاق مع ناظر الحقانية. المادة الثامن

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (وقائع الحرب) نظم فارس أفندي الخوري أحد كتاب الشام وشعرائها المشهورين أربع قصائد في تاريخ الحرب بين الروس واليابان؛ التي كان مبدأها أوائل فبراير (شباط) سنة 1904 ونهايتها في أوائل سبتمبر (أيلول) سنة 1905. وأهداها إلى صديقه الدكتور حسين أفندي حيدر فطبعها هذا طبعًا متقنًا بمطبعة الأخبار بمصر، وهي تباع بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز بقرشين صحيحين. وإننا نورد بعض الفصول من هذه القصائد؛ لما فيها من الفائدة والعبرة في ثوب الفكاهة والتسلية؛ ومنها يعلم القارئ درجة الناظم في القدرة على نظم الوقائع وضبطها مع الإنصاف، والأمانة في النقل، وتحري تنبيه الذهن وإنارة العقل، قال في القصيدة الأولى وهو الفصل 5، 6، 7 (وما في الهوامش من تفسير بعض الكلم منقول من الأصل؛ إذ وضع في آخره جدول لذلك) . (نكبة الروس بغرق الأميرال مكروف على الدارعة بتروبالسك في 13 نيسان سنة 1904) سعى طوغو على مكروف يوم الـ ... ـلقا، وأعد تدبيرًا مريرا أقام له الفخاخ بكل وجه ... يؤججه بها نارًا حرورا وناصبه بعرض البحر حربًا ... فكر عليه لا يخشى نكيرا أثارته الشهامة عن عرين ... ويأبى الليث إلا أن يثورا فقاتله وناضله بقلب ... يريه كل معتاص يسيرا ولكن قلما عدد قليل ... يفوز ويغلب العدد الكثيرا تدفقت الكرات عليه حتى ... رأى في الكر موقفه مبيرا [1] فدار إلى الخليج يريد أمنًا ... وكان بواره في أن يدورا مضى يجتاز فوق فخاخ طوغو ... كملاح يحاذر أن يجورا إلى أن شقت الغمرات فاهًا ... وأصعدت البلايا والسعيرا فشاهد تحت أخمصه جحيمًا ... وقد فتحت قذائفه حفيرا [2] كأن جهنما وجدت سبيلاً ... ومطوياتها لقيت نشورا كأن هناك بركانًا تلظى ... وأطلق في الفضا نارًا ونورا كأن البحر غضبان عليهم ... لما جروا على الدنيا شرورا طوى بضميره حنقًا، فلما ... دنا مكروف كاشفة الضميرا هوت فيه السفينة في خليج ... وكانت قبل تخترق البحورا على مكروف، قد بكت البواكي ... وأطلقت المدامع والشعورا ففاض له بأرض الروس دمع ... يؤلف لو يضم معًا غديرا بمصرعه عزوم الروس خارت ... وحق لها بذلك أن تخورا رجاء القوم معقود عليه ... ليدفع عنهم الخطب العسيرا أميرهُمُ وعند أشد ضيق ... يراد لكشفه فقدوا الأميرا فكان بهديه قمرًا مضيئًا ... وكان بكره أسد مزيرا [3] وإن الروس لا يسلون عنه ... ولو وجدوا له فيهم نظيرا (6) (الوقعة البرية الأولى على نهر يالو في 1 أيار سنة 1904) أقام الروس في يالو قلاعًا ... على تحصينها صرفوا شهورا مسيل النهر دونهم فظنوا الـ ... ـعدى لا يستطيعون العبورا ومن خاض البحور إلى الأعادي ... أيأبى أن يخوض لهم نهورا؟ مشى اليابان لا يخشون بؤسًا ... وماء النهر يكتنف الصدورا بجيش كل من فيه جريء ... تمنى للأعادي أن يطيرا وصبوا من مدافعهم كرات ... يفلق عزم صدمتها الصخورا لئن صبرت جيوش الروس شيئًا ... فبعد هنيهة ولت ظهورا وأبقت من ذخائرها نهابا ... ومن أعتادها شيئًا كثيرا [4] ولليابان في الآثار ... شد ... فكم قتلوا وكم أخذوا أسيرا أتوا أَنْطُنْغَ بالرايات، حتى ... على أسوارها خطرت خطيرا لعمرك ليس يحمي السور مُدْنًا ... إذا عدمت من التدبير سورا فهل حدثت في أخبار دلني ... وما شادوا بساحتها قصورا وما قد أنفقوا عملاً ومالاً ... على المرسى وكيف جرى أخيرا أباحوها إلى اليابان غنمًا ... وما نالوا على نصب أجورا ولا عجب لمختال مدل ... إذا أخلى الحواضر والثغورا إذا غفل الرعاة عن المواشي ... فمن ذا يدرأ الأسد الهصورا وإن الخاشع اليقظان يكوي ... بحد حسامه البطل الفخورا كذلك من توخى البغي متنًا ... تراه بدون معثرة عثورا (7) (وقعة كنشو) وكنشو بالمدافع منعوها ... وولوا حفظها جيشًا كبيرا وظنوا أنها تبقى طويلاً ... وتثبت في خفارتهم دهورا أغار الخصم منقضًّا عليها ... ونار الروس تكتسح المغيرا إلى أن كوروا القتلى تلالاً ... وأوشكت المعاقل أن تمورا [5] رأوا أن العدو يموت طوعًا ... ولا يأبى التقحم والكرورا ومن رغب المنية وانتحاها ... يبيت عدوه عنها نفورا بدا للروس أن الفتح دان ... يغذ فلا معين ولا مجيرا [6] فولوا تاركين على الروابي ... ذخائرهم لأعداهم نصيرا لقد شمخوا على اليابان لما ... رأوا جنديهم قزما زميرا [7] وقالوا: سوف نطحنهم فتغدو ... قبورهم الضواري والنسورا ولكنا على يالو وكنشو ... وجدنا القول بهتانًا وزورا فعرض الجسم لا يغني فتيلاً ... وطول القد لا يجدي نقيرا ألست ترى الوليد وفيه حزم ... يسوم الفيل خسفًا والبعيرا رهام الطير تنخلع ارتياعًا ... إذا رأت البواشق والصقورا *** وقال في أول القصيد الثانية: (الوقعة الكبرى في جوار مكدن في 15 شباط سنة 1905) (1) بمكدن كور بتكن لَمَّ جيشًا ... وشاد له المعاقل والحصونا رأى الأعتاد وافرة لديه ... فظن مقامه حرزًا حصينا ولكن رأي أوياما أراه ... أمورًا خيبت تلك الظنونا أقام له المراصد في الصياصي ... وبين جفونه بث العيونا [8] تخبره بما اصطنعوا دفاعًا ... لحوزتهم وكيف يدبرونا أعد الخطة المثلى ليوم ... يروع حر أزمته السنينا ورتب للهجوم عليه رأيًا ... يكون لمجد رايته ضمينا وهز جناحي الجيش التفافًا ... على أعدائه المتحصنينا رمى اليسرى بكوركي فندزو ... فأكو ثم في نوجي اليمينا (2) ودارت للمنون رحى طحون ... لها الأجساد قد صارت طحينا وطبق كل ناحية دخان ... كثيف أسود يعمي العيونا وصوت القذف أوقر كل أذن ... فإن سمعته تحسبه طنينا فليس بمبصر أحد أخاه ... وما هو سامع منه الأنينا فصار الحزن من دك سهولاً ... وصار السهل من جثث حزونا لو انقشع الدخان بدت أمور ... ترد المرد شيبًا منحنينا جيوش كيفما العين استدارت ... تراهم يظهرون ويختفونا كأن الأرض بالأبطال حبلى ... تدفعهم حيارى صارخينا فلا حجر تراه العين إلا ... يحجب خلفه منهم جنينا كأن حجارها الصم استحالت ... رجالاً بالحديد مسربلينا فلا واد بتك الأرض إلا ... ويخرج من معاطفه كمينا كأن عقولهم ذهبت شعاعًا ... فليس لهم بها ما يرهبونا فكل فتى غدا أسدًا هصوراً ... وموطئ رجله أضحى عرينا *** (حديث عيسى بن هشام أو قرة من الزمن) لمحمد بك المويلحي مقالات أدبية، كان ينشرها في جريدة مصباح الشرق بأسلوب مقامات البديع والحريري، وراويتها عيسى بن هشام. وكان يتمنى كثير ممن قرأها من محبي الأدب لو تجمع في كتاب فكان لهم ما تمنوا. جمع الكاتب نفسه هذه المقالات ونقَّحها، وزاد فيها ونقص منها وطبعها، فكانت كتابًا صفحاته 336، وقد قال في (إهداء الكتاب) ما يأتي: (أَلِفَ المؤلفون والكُتَّاب أن يبدؤوا كتبهم عند نشرها بإهدائها إلى بعض ذوي الشأن والفضل، والضعيف العاجز يهدي هذا الكتاب إلى كل من يقرأه من أديب يجد فيه طرفًا من الأدب، وحكيم يرى فيه لمحة من الحكمة، وعالم يبصر فيه شذرة من العلم، ولغوي يصادف فيه أثرًا من الفصاحة، وشاعر يشعر فيه بمثل طيف الخيال من لطف الخيال. وأهديه إلى أرواح المرحومين - الأديب الوالد، والحكيم جمال الدين، والعالم محمد عبده، واللغوي الشنقيطي والشاعر البارودي، أولئك الذين أنعم الله عليهم، وأولئك الذين تأدبت بأدبهم وأخذت عنهم) اهـ. ونقول: إن هذا العبارة أبلغ ما في الكتاب من خيال الشعر الفصيح، ولمحات الحكمة في التلويح، ثم ذكر صورة كتاب كانت عنده من السيد جمال الدين بخطه وهي: حبيبي الفاضل تقلبك في شؤون الكمال يشرح الصدور الحرجة من حسراتها، وخوضك في فنون الآداب يريح قلوبًا علقت بك آمالها، وليس بعد هذا الإرهاص إلا الإعجاز ولك يومئذ التحدي، ولقد تمثلت اللطيفة الموسوية في مصر كرة أخرى، وهذا توفيق من الله - تعالى -، فاشدد أزرها، وأبرم بما أوتيت من الكياسة والحذق أمرها، حتى تكون كلمة الحق هي العليا، ولا تكن كالذين غرتهم أنفسهم بباطل أهوائها، وساقتهم الظنون إلى مهواة شقائها، وحسبوا أنهم يحسنون صنعًا، ويصلحون أمرًا، كن عونًا للحق ولو على نفسك، ولا تقف في سيرك إلى الفضائل عند عجبك، لا نهاية للفضيلة ولا حد للكمال، ولا موقف للعرفان، وأنت بغريزتك السامية أولى بها من غيرك والسلام. ... ... ... ... ... ... ... جمال الدين الحسيني الأفغاني *** (الدقائق في الحقائق) ألف يعقوب أفندي جبرائيل مراد، مترجم وسكرتير إدارة دائرة بوالينودرانبت باشا بكفر الدوار كتابًا سماه بهذا الاسم، أودع فيه أفكاره في النفس والروح والقدرة الإلهية والأديان، وقد أهدى إلينا نسخة مطبوعة منه، فنظرنا في بعض صفحاتها من أوائلها وأواخرها، فرأينا فيها فكرة حسنة، سبق المؤلف فيها أناس؛ ولكنه لم يأت بها تقليداً بل هداه إليها النظر والفكر، فتقبلها بقبول حسن، بل أدهشه حسنه وجمالها، وراعته عظمتها وجلالها، فملكت قلبه وفتنت لبه، حتى ظن أنها إلهام، أفاضه عليه ذو الجلال والإكرام؛ لأن مثلها لا يأتي من الفطنة ولا يستفاد بالتعليم، كما قال عاشقات يوسف: {مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} (يوسف: 31) ثم سرت منها عدوى الافتتان بها، إلى الهيام بالعبارة المؤدية لها، فتخيل أن الإعجاز ينطوي في كلامه، الناشر لإلهامه أو المعبر لأحلامه. أما الفكرة الحسنة: فهي الجمع بين الكتب المنزلة - التوراة والزبور والإنجيل والقرآن - وإزالة التفرق بين متبعيها. هذا ما دعا إليه الإسلام، ونادى به القرآن، وهو وحي الرحمن، فكل من دعا إليه فقد دعا إلى المقصد الحق، وإن أخطأ في الوسيلة، ولا بد لكل قول من تأثير في نفوس مستعدة له فإذا كان في الناس من يعد هذا الكتاب، كما قال الأستاذ الإمام في بعض الجرائد (نوبات عصبية) فلا بد أن يوجد فيهم، من يعده حكمة مرضية. *** (القول المتين في الرد على المخالفين) رسالة للشيخ قاسم بن سعيد الشماخي صاحب مجلة نبراس المشارقة والمغاربة، طبعت في العام الماضي، وأهدانا نسخةً منها في هذه الأيام، فرأينا في فاتحتها، أنه يَرُد فيها على مجلة اسمها الإسلام، يصدرها في بعض الأحيان رجل اسمه الشيخ أحمد علي الشاذلي وكأن الشيخ قاسمًا ظن أن لهذه المجلة شأنًا، أو لما تكتبه وقعًا، فعني بالرد عليها وما هي مما يرد عليه، ولو عرف حقيقتها، لما بذل شيئًا من الزمن في قراءتها بله الرد عليها، وقد ألقيت إلينا مرة نسخة منها. قيل لنا: إن فيها ردًّا علينا، فلم يحركنا ذلك إلى تناولها، حرصًا على الوقت أن يضيع في قراءة شيء منها. وقد وقع نظري في هذه الفاتحة على اسم المنار، فقرأت أسطراً من الكلام الذي ذكر فيه، فإذا هو حكاية عن رجل هندي، أنكر على المنار إنكار التقليد، والدعوة إلى معرفة الدين بالدليل. عرفت ذلك الهندي، وما هو بهندي، إن هو إلا رجل مصري، كان يبيع الكتب في أسواق مصر وشوارعها، وملاهيها - كما قيل لي- ثم طوحت به الطوائح إلى كلكته، وهناك عين إمامًا في مسجد، وما هو ممن يحفل بقوله ولا باعتراضه، فعسى أن يسامحني الشماخي إذا لم أجبه إلى قراءة ما كتبه في هذه الرسالة، وقد علمت أنه دافع عني، فأنا أشكر له ذلك، وأسأل الله لي وله التوفيق. *** (فتاة مصر) قصة وضعها الدكتور يعقوب أفندي صروف، وجعلها ذيلاً للمقتطف في مجلد سنة 1905، وهي قصة لا كالقصص، فإن أكثر القصص لغو وما عساه يوجد فيها من الفائدة، فهو كما قيل في الخروب: درهم عسل في قنطار خشب، وأما هذه القصة فكثيرة الفوائد، وترجع فوائدها إلى شيئين عظيمين: أحدهما مالي، والآخر أدبي اجتماعي. أما الأول: ففيه بيان مكانة المال في هذا العصر، وقوة ر

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (علماء تونس ومصر وجامع الزيتونة والأزهر) كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى- يقول: إن مسلمي تونس سبقونا (يعني أهل الأزهر) إلى إصلاح التعليم، حتى كان ما يجرون عليه في جامع الزيتونة خيرًا مما عليه أهل الأزهر. ولما عاد من سفره الأخير إلى تونس، كتب مذكرات عن حال التعليم فيها، وجاء ببعض الأوراق الرسمية في ذلك، وقال لي غير مرة: إنني سأعطيك ما عندي في ذلك؛ لأجل أن تضم إليه رأيي وما تراه، وتنشره بالمنار في مقال يكتب في المقابلة بين جامع الزيتونة والجامع الأزهر. وكنا نرى أن هذا مما يجب في شرعة الإصلاح على التراخي؛ ولكن أَجَل المصلح لم يكن على التراخي، بل عاجله الأجل قبل أن يفرغ من الأهم إلى هذا المهم. * * * (وزراء تونس من العلماء) ذكرنا بهذا ما رأيناه في الجرائد التونسية الأخيرة من خبر وفاة الوزير الأكبر وجعل وزير القلم والاستشارة خلفًا له، وجعل رئيس محكمتي الاستئناف من قبل خلفًا لهذا. فالوزير المتوفى كان نابغًا في العلوم العربية والدينية؛ إذ تلقاها في جامع الزيتونة. حتى قيل: إنه يعد من طبقة أهل الترجيح في الفقه، وكذلك وزير القلم الجديد وهو الشيخ يوسف جعيط فهو من أشهر المتخرجين في ذلك الجامع، وقد درس فيه ثم اشتغل بالسياسة، وتقلب في المناصب حتى صار اليوم وزير القلم والاستشارة، فهذان الوزيران قد دخلا باب السياسة، وهما شيخان زيتونيان بكل معنى الكلمة كما يقول الغربيون، حتى ارتقيا إلى منصة الوزارة. فهل يخطر في بال أحد من مدرسي الأزهر، أن يستعد لمثل ذلك حتى يكون أهلاً للوزارة، أو لما دونها من أعمال الحكومة؟ كلا إن أحدًا منهم لا يفكر في مثل هذا الاستعداد، ولو فعله أحد منهم لكان خيرًا لهم، وأشد تثبيتًا في العلم والدين، فإن لم يولوا من تلك الأعمال شيئًا؛ لأن نظام الحكومة المصرية لا يسمح بذلك، فربما كانوا أنفع لأمتهم مع البعد عن الحكومة منهم، وهم لها عاملون. ههنا يخطر في البال أن سعد باشا زغلول ناظر المعارف العمومية بمصر كان أزهريًّا، وقد ارتقى في الحكومة إلى أعلى مرتبة في القضاء، ومنها إلى الوزارة، ونرى الأزهريين يفاخرون به لا سيما بعد أن رأوا الأمة مبتهجة، والجرائد متفقة على الثناء عليه عندما ولي الوزارة، والحكومة نفسها تكاد تمن على الأمة باختياره، ولكن سعد باشا وزير المعارف بمصر، ليس عريقًا في الأزهرية كعراقة الشيخ يوسف حعيط وزير القلم والاستشارة بتونس بالزيتونية، فإن الشيخ يوسف تعلم في الزيتونة على الطريقة المألوفة راضيًا بها، حتى صار مدرسًا، وقرأ المطول فيه درسًا وهو أعلى كتب البلاغة. والأزهريون يقرؤون مختصره لأهل النهاية، ويمتحنونهم به. وسعد زغلول صحب الأستاذ الإمام في أول المجاورة، وأدرك السيد جمال الدين فأخذ عنهما، واعتقد في أول نشأته العلمية أن طريقة الأزهر في التعليم رديئة، فتبع الحكيمين المصلحين، قبل أن تطبع الطريقة الأزهرية ملكتها في نفسه، ولم يرض أن يجري عليها إلى منتهى شوطها، ويأخذ شهادة العالمية، ويصير من المدرسين، بل أخرجه الأستاذ الإمام من الأزهر، عندما ولي هو رياسة تحرير الجريدة الرسمية، وجعله محررًا معه، ثم كان من أمره ما هو معروف. ومنه أنه تعلم اللغة الفرنسية وهو قاض، ودرس علم الحقوق بها حتى أدى الامتحان في فرنسا، وأخذ منها شهادة (الليسانس) ، وهو يَعُدُّ مثل المطول والمختصر من الكتب، التي تبعد عن البلاغة وتحول دون ملكتها. على أننا لا نقصد الآن إلى بيان طريقة التعليم في الجامعين والمفاضلة بينهما. وإنما غرضنا من المقابلة والتنظير أمران: (أحدهما) بيان أن العالم الديني إذا اختبر الأحوال العامة ونظر في طرق نظام الحكومة التي تتولى أمره، وتناول شيئًا من العلوم الدنيوية يكون أقدر على خدمة بلاده وأمته، سواء تقلد الأحكام الدنيوية أم لم يتقلدها، وقد كان كثير من الناس يعتقدون أن الأستاذ لو ترك خدمة الحكومة ومنصب الإفتاء؛ لأمكنه أن يعمل للأمة الإسلامية عامة، وللشعب المصري خاصة، أضعاف ما كان يعمل وهو في الحكومة. (وثانيهما) التنبيه إلى شيء من الفرق بين تونس ومصر، في حال علماء الدين، ونسبتهم إلى الحكومة. وإليك ما هو أبلغ من ذلك. * * * (جمعية طلاب جامع الزيتونة) ألف بعض النبهاء من جامع الزيتونة جمعية، يعلم غرضهم منها من الخطبة الآتية وقد ساعدهم على ذلك بعض شيوخهم الفضلاء. وقد اجتمعوا في اليوم الرابع من هذا الشهر (المحرم) في المدرسة الخلدونية؛ للمذاكرة في قانون الجمعية، وحضر اجتماعهم هذا كثير من كبار المدرسين، وكانوا قد اختاروا أحد العلماء، رئيسًا لعملهم في التأسيس ووضع القانون وهو الشيخ الطاهر النيفر، فافتتح الجلسة بخطاب بليغ في الموضوع. فقام الشيخ الخضري بن الحسين من العلماء الحاضرين، فشكر له وللتلاميذ الذين نهضوا بهذا العمل النافع، ثم وزعت الرقاع لانتخاب رئيس وأعضاء للجمعية، فأجمعت الآراء على اختيار الشيخ محمد رضوان للرياسة، وهو من العلماء الفضلاء أصحاب الرأي والروية، كما يؤخذ من بعض الجرائد التونسية، وفيها أنه متقن للغة الفرنسية، ولما يرتق طلاب الأزهر إلى مثل هذا العمل. ورأينا في جريدة (لسان الأمة) التي صدرت حديثًا في تونس صورة خطبة للشيخ محمد النخلي من كبار العلماء المشهورين، كان أعدها ليلقيها في هذا الاجتماع، فحال دون ذلك مانع من الحضور، فأحببنا أن ننشر هذه الخطبة برمتها لما لنا من الحرص على معرفة آراء علماء الدين في الأمور الاجتماعية، ولما فيها من بيان حقيقة الجمعية، وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) . أيها السادة العلماء، والأفاضل الأعيان: يحسن في هذا المقام أن أصدر هذا الخطاب الوجيز بكلمات حكمية، سارت سير الأمثال: ليس أحد بأقل من أن يعين، ولا بأكبر من أن يعان. لا تكال الرجال بالقفزان، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه لا بقميصه وطيلسانه. ليس الحداثة في سن بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب وهي أمثال إذا تأملنا معانيها، وتدبرنا مغازيها، أكسبتنا حسن الظن، وكامل الثقة بالمشروع، الذي هيأه لنا أبناؤكم بجامع الزيتونة، وقضت علينا أن نمد لهم يد المشاركة والمساعدة؛ لإحداث مشروع، افتكره هؤلاء التلامذة؟ ولزمنا بمقتضى قاعدة الإنصاف، التي هي أخص حلاكم التي تحليتم بها، أن نطهر ضمائرنا من احتقار الأفكار، وأن نلاحظ المصالح بقطع النظر عن مصدرها، بعين ملؤها التوقير والاعتبار، هذا وإن نخبة من ناشئة تلامذة الجامع الأعظم دار العلوم الشرعية أدام الله عمرانه، وشيد بحسن عنايتكم أركانه، انبعث فيهم شعور شريف، نهض بعزائمهم إلى الشروع في تأسيس جمعية تحت اسم (جمعية تلامذة جامع الزيتونة) ، واقترحوا على العبد العاجز: أن ألقي خطابًا في الموضوع ونتائجه وألحوا، وقالوا: إن المؤمن أخو المؤمن. وحقًّا ما قالوا. أيها السادة: لا أقصد بهذا الخطاب أن أعلمكم ما تجهلون، أو أفيدكم ما أنتم عنه غافلون، وإنما هو ذكرى لكم ببعض ما تعلمون، والذكرى تنفع المؤمنين، وتؤكد يقين المستيقنين. ليست ألسنة التقليد للغير هي التي تأمرنا بلم شعثنا، ومد يد الإعانة لبعضنا، وإقامة التعارف مقام التناكر، والتواصل مكان التفاصل، حتى نحيي رابطة العلم أو نمي هذا الشعور،، بل لسان الدين الحنيف الذي نزاول علومه آناء الليل وأطراف النهار في هذه المدرسة الزاهرة هو الذي يأمرنا بذلك في عمومه وخصوصه، وتصريحه وتلويحه، لمن سبر أغواره، واستقرأ آثاره، كيف ولا يعزب عنكم ذلك وأنتم علماء الدين وحملة الشريعة المطهرة. ألم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - مجالس يحضرها أصحابه الكرام؟ وكانت تلك المجالس مجالس هدي وإرشاد، وتعميم نفع للعباد، وكانت أحيانًا مهبط الوحي، فيها يتلقون تعاليم الدين، وعنها يصدرون فائزين، وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، وأذكركم بنادي عمر بن الخطاب فإنه كان غاصًّا بالشيوخ، والكهول، والشبان. وكان يقول: لا يمنع أحدكم حداثة السن أن يبدي رأيه. في هذه النوادي يتعارفون، ويتواصون بالحق، ويتواصون بالصبر، ويتعاونون على البر والتقوى. أما إذا أردنا أن نثبت ما للجمعيات من الفوائد العامة والخاصة بلسان التاريخ فإن البحث في هذا الموضوع، يستدعي حشد مجلدات عما تأسس في العالم المتمدن من الجمعيات، وما كان لها من النتائج على اختلاف الأحزاب والمقاصد، حتى بالحاضرة التونسية. نحن - وإن كنا يجمعنا الجامع - متفرقون، وإن وجد بيننا رحم علم - فنحن والحق يقال - متقاطعون، ولا أكلكم إلا للمشاهدة، وربما كانت المشاهدة تفصح لكم عن الحالة الحاضرة أكثر مما أفصح لكم عنه هذا اليراع الكليل. هل عملنا بالآية التي توجنا بها هذا الخطاب؟ هل عملنا بقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) هل عملنا بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا) هل عملنا بقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقًا، الموطؤون أكنافًا، الذين يألفون ويُؤلَفُون) ونحن أبناء العلم الديني أحق بالعمل، هل نحن أبناء العلم نألف ونؤلف، وهو من صفات الأحبين الأقربين؟ أظن أن المجافاة بلغت بيننا النهاية، والمنافرة من غير سبب شرعي رمتنا إلى أبعد غاية. فهلم بنا إلى العمل بديننا القويم. وأن يصافح أحدنا الآخر مصافحة الودود المخلص الكريم، كما جاء ذلك في حديث صاحب الخلق العظيم. عزم إخواننا في الدين، وأبناؤكم في تلقي علومه على إحداث هذه الجمعية المباركة، ودعوكم للانتخاب والمشاركة في العمل. الغرض من هذه الجمعية: أولاً - إيجاد روابط الألفة والوداد بين كل من أنبتته هذه المدرسة الإسلامية. ثانيًا - تمكينهم من وسائل التعاون بينهم، على ما فيه مصلحتهم العامة والخاصة. ثالثًا - إسعاف فقراء التلامذة، وصونهم من معيشة الابتذال التي يعيشونها اليوم بفضل الإهمال والغفلة. وأنتم تعلمون أن قسمًا عظيمًا من تلامذة جامع الزيتونة، كادوا يتكففون، وأنهم لا يجدون القوت الضروري إلا بطرق ممتهنة، لا ترضاها معزة العلم بل والكرامة الإنسانية، وإن قسمًا مهمًّا منهم يسكن حيث مرابط الحيوانات المعدة لذلك؛ لأن عدد المدارس التونسية - لتكاثر التلامذة - صار غير كاف لإيوائهم أجمعين، وسيكون هذا الموضوع أهم المواضيع التي تداول الجمعية البحث فيها، وتطرق أبواب المساعدة من همم الرجال لنوالها. هذا أنموذج من مقاصد هذه الجمعية، وهي - وايم الله- مقاصد سامية محتاجة إلى همم الرجال وبذل المال؛ لأنه قوام الأعمال، فمن ساعد فقد امتثل لأوامر إنفاق المال في سبيل الله، واستحق رضاء الله وثناء الناس. الناس خصوصًا الجمعيات الأخر يَزِنُون هممنا، ويقدرون عزائمنا، بما يكون من نتيجة هذا المشروع، وما يحبطه من الفشل والخيبة - لا قدر الله - وهم ينتظرون ما يكون في مشروع هيأه أمثالكم، فهل يقارنه النشاط

الهوى والهدى أو اللذة والمنفعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهوى والهدى أو اللذة والمنفعة [*] يولد الحيوان ذا وجدانين متضادين؛ وجدان اللذة بما يلائمه، ووجدان الألم مما لا يلائمه، وإحساس الطبيعة الحيوانية بالحاجة إلى اللذيذ يسمى (شهوة) ، وهو يطلبه قبل وجوده، ويلتذ به بعد أن يصيبه. فالشهوة: هي الشعور الأول للحيوان، واللذة: هي الشعور الثاني والمطلب الأول. لا فصل في هذا بين الحيوان الأعجم والناطق؛ على أن الإنسان لا يولد ناطقًا، بل يولد أشد عجمة وأضعف شعورًا من سائر الحيوانات. يتعلم وليد الإنسان النطق بعد ولادته بأشهر؛ فيعبر عن شعوره وإدراكه، ويفهم من غيره بعض ما يعبر به عما في نفسه، ثم يتولد فيه الميل إلى البحث ومعرفة المجهولات، ثم الفكر فيما تدركه مشاعره، والتذكر، والتخيل، والقياس، والاستنتاج؛ وهي اللذة المعنوية؛ تسوقه إليها شهوة عقلية، ينفرد بالترقي فيها دون الحيوان الأعجم، وبذلك يميز بين النافع والضار، ويحكم بوجوب طلب الأول وإن كان مُؤلِمًا كالدواء، واتقاء الثاني وإن كان مشتهى ومستلذًّا كالخمر والحشيش، وكالإسراف في اللذات النافعة. كما يميز بين الحق والباطل في الاعتقاد، ويرجح الحق على الباطل. يرتقي الإنسان في التمييز بين النافع والضار، والحق والباطل بالتدريج، وربما بلغ أشده واستوى، وهو يرى بعض النافع ضارًّا، وبعض الباطل حقًّا، ولا يحيط أحد من الناس خبرًا بالمنافع والحقائق ولو لشخصه، فما قولكم -دام فضلكم- في الباحث عن المنافع والمضار لأمة عظيمة أو دولة كبيرة. ترتقي معرفة الناس بالمنافع والمضار بارتقاء التربية الصالحة، والتعليم النافع وإنك لتجد أكثر المترقين في تربيتهم وتعليمهم يؤثرون اللذة على المنفعة في كثير من شؤونهم وأحوالهم، فما بالكم بمن دونهم في ارتقائهم. إيثار اللذة على المنفعة، والباطل على الحق: هو اتباع الهوى، وعكسه هو اتباع الهدى، ولو كان كل لذيذ ضارًّا، أو كل نافع مؤلمًا؛ لهلك الناس باستحباب الهوى على الهدى، ولكن أكثر اللذائذ نافعة، وأكثر المؤلمات ضارة، والحق والخير محببان إلى النفوس البشرية طبعًا، وإنما يكرهها الجاهل بهما، أو من تربي على ضدهما، حتى ملك الباطل أو الشر وجدانه، واستحوذ على نفسه استحواذًا. فليس في فطرة الإنسان غريزة تصده عن الكمال في اتباع الهدى باختيار الحق على الباطل، وترجيح النافع على الضار، فتبارك الفاطر الحكيم. يحب الطفل اللعب وهو نافع له، وقد يؤثره في سن التمييز على التعليم، فيظن الجاهل أن هذا إيثار للذة على المنفعة؛ لفساد في الفطرة، وما هو بفساد في الفطرة، وإنما هو مظهر الحكمة فيها. لا ينفر الولد من التعلم إلا إذا كان فيه إرغام للفطرة بتكليفه، فَهْمُ ما هو غير مستعد لفهمه، وذلك ضار به، أو بمنعه من اللعب النافع له، أو بمعاملته بالشدة العائقة له عن كماله، وهذا التحكم في عقله ونفسه كالتحكم في جسمه بسومه حمل الأثقال ومصارعة الرجال، وأكثر الناس يعرفون درجات قوى الأجسام، دون درجات قوى النفوس والأحلام. جرب بعض الناس طريقة الحكمة في التعليم والتربية، وهي الطريقة التي لا تخرج الناشئ عن طوره، فتجعل الدارج يافعًا، أو الطفل كهلاً؛ الطريقة التي لا تحمل الطبيعة ما لا تحمل، فجذبوا الناشئين بسلاسل اللذة التي عرفوها إلى جنة المنفعة التي جهلوها، فانجذبوا طائعين مسرورين. هكذا يمكن للمربي الحكيم أن يجمع بين الهوى والهدى، ولولا هذا الإمكان لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) ، ولكن المربي الجاهل يمد الناشئ في الهوى، ويغذيه باللذة، ويصور له الألم أو الحرمان في المنفعة، حتى يكون من الخاسرين. سنة الله في الأمم تشبه سنته في الأفراد، فللأمة طفولة وتمييز، وشباب واستواء. وهي تُؤْثِرُ قبل بلوغها سن الكمال الاجتماعي اللذة على الفائدة، وتستحب العمى على الهدى؛ للجهل بوجوه المصالح العامة، وما يرفع الأقوام وما يضعها، وحينئذ تكون أحوج إلى المربي الحكيم من الطفل اليتيم. ما ارتقاء الأمة إلا كثرة الحكماء والفضلاء فيها، ومهما كثر هؤلاء، فلا يكونون في سواد الأمة إلا عدداً قليلا، فأكثر أفراد الأمم الراقية الآن يؤثرون اللذة، ويسعون لها سعيها في عامة أحوالهم. ألم يأتك نبأ خسارة من طبع كتب الفيلسوف (هربرت سبنسر) في علم الاجتماع، وفلسفة التربية والتعليم، وهي أنفع ما كتب حكماء الغرب في أرقى أممه؟ ! قارن بين هذا وبين الربح العظيم الذي يناله من يطبعون القصص الغرامية وغير الغرامية. نعلم أن الدَهْمَاء من كل أمة يتبعون مواقع اللذة، وينفرون من النافع إذا لم يكن مستلذًّا، ولكن الأمة المرتقية لا يروج عندها الضار بها، وإن كان لذيذا. تربية الأمم وإرشادها أشرف الأعمال وأفضلها وأشقها وأعسرها، ويعوزه من العلم والحكمة والإخلاص والنزاهة، ما لا يعوز غيره. فإن فتنة الهوى فيه لا يقاس بها فتنة، حتى إن الملك العاطل من حلية هذه الصفات يتبع هواه في سياسة رعيته، حتى يودي بشعبه ورعيته، ولو كان خساره في ذلك موازيًا لخسار الأمة في مجموعها. آية من يتبع الهدى في إرشاد الأمة أن لا يتبع فيه هواها، ولا يتحرى ما يرضيها وإن كان يرديها، وأن يكون كالطبيب يجرعها المر؛ ليقيها الضر، إذا تعذر أن تجذب باللذات إلى المنافع، كما يجذب الدارج واليافع. لا يؤمن الفرد من اتباع الهوى في سياسة الأمة، وإرشادها عن علم أو جهل لذلك جاء الوحي بوجوب جعل أمر المسلمين شورى بينهم، وبذلك ارتقت الأمم العزيزة وينبغي لمرشديها أن يسلكوا سبيل الشورى كحاكميها، فلا يستبد أحد الأفراد برأيه في الإرشاد، لهذا نرجو من هذه (الجريدة) من تحرير الفوائد، فوق ما نرجو من غيرها من الجرائد، والسلام على من اتبع الهدى، ورجح العقل على الهوى.

سنن الاجتماع في الحاكمين والمحكومين لهم وجزائهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سنن الاجتماع في الحاكمين والمحكومين لهم وجزائهم طبيعة الاجتماع تقضي بوجود الحكام، ما قضت بوجود النزاع والخصام، فإذا لم يتغلب على الناس من يحكم فيهم كما يشاء، اختاروا هم لأنفسهم من يحكم بينهم كما يشاءون؛ لأن ما قضت به سنن الوجود واقع ما له من دافع. الحكم حاجة من حاجات الناس، يقوم به بعضهم بالنيابة عن الباقين، فهو كسائر الحاجات من العلوم، والمهن، والحرف كالزراعة، والصناعة، والتجارة التي يقوم بكل فرع من فروعها من يكفي المجتمع همها، كما يقوم هو بسائر حاجاتهم، ويكفيهم ما أهمهم. فالحاكمون كغيرهم من العاملين، كل صنف يخدم مجموع الأصناف، التي يعبر عنها بالشعب أو الأمة، من حيث يخدمونه (وكلٌ ميسرٌ لما خُلِق له) ومسير إلى حيث يسوقه استعداده، فمن سابق ومتخلف، ومن محسن ومسيء، ولكل جزاء، والجزاء إما مال يكفي أو يغني، وإما مال وجاه يعلي. جزاء الأعمال التي تتطلبها طبيعة الاجتماع طبيعي مثلها، ولولا ذلك لما اندفع كل فريق إلى العمل الذي يزين له استعداده جزاءه والغبطة به، فمن يطلب من الجزاء الطبيعي على العمل أكثر مما تفرضه سنة الاجتماع من الجزاء عليه فهو باغ، متنكب صراط الحق، غير مقيم لميزان العدل، إذ يطفف لنفسه ويخسر للأمة. البغي في اقتضاء الجزاء، يكون من الأفراد، ومن الجمعيات، والأصناف، فالأول: لا تأثير له في إفساد الأمة وتلافيه سهل. وأما الثاني: فهو البلاء المبين؛ لأن قوة الاجتماع هي أعظم القوى. وإنما يتحقق البغي بتحديد قيم الأعمال والأشياء تحديدًا طبيعيًّا - إن أمكن- أو قانونيًّا؛ ليكون متجاوز الحد هو الباغي الذي يجب إرجاعه عن بغيه. ينجح زيد في بغيه على عمرو، إذا كان أقوى منه علمًا أو جسمًا، والحاكم يفصل بينهما، إذا رفع الأمر إليه، وإلا كان الراضي بالهضيمة مستحقًّا لها جزاء على جهله، ومن ذلك ما يقع كثيرًا من الحوذية، يطلبون فوق ما حدد لهم في التعريفة، فالعارف يهددهم، والجاهل قد ينقدهم، والخطب في الأمرين سهل. وإنما الخطب الجلل: أن يتفق صِنْف من القائمين بأعمال المجتمع، فيبغون في طلب الجزاء. ومنه ما يعرف في هذا العصر باعتصاب العمال، ولكن هذا الاعتصاب يجري في أعمال لم تحدد أجورها تحديدًا طبيعيًّا، ولا شرعيًّا، ومسلك العدل في تحديد القانون له دقيق، ولا أرى له وجهًا ترضى به طبيعة الاجتماع، إلا أن يكون النسبة بين كسب المالكين وأجور العاملين، ويأبى علينا هذا المقال أن نخوض فيه، ويرضى لنا أن نرده إلى الحاكمين. لا نقول: إن اعتصاب العمال من البغي، ولا نقول: إن فيه خطرًا على الشعب، وإنما الخطر العظيم في بغي الحاكمين، الذين يوكل إليهم تلافي بغي الأفراد والجمعيات من المحكومين لهم. ما هو نوع عمل الحكام في الأمة؟ وما هو نوع جزائهم عليه؟ جاء في فاتحة الكلام أن الحاكم إما متغلب بالقوة؛ يحكم كما يشاء، وإما مختار من المحكومين له؛ فيحكم بينهم بما يشاءون من الشرائع والقوانين، فالحاكم الأول يرى أن عمله من قبيل إدارة صاحب المزرعة والماشية والعبيد لما يملك، وأن ما يأخذه هو من قبيل الغلة والريع، وأنه يجب على المحكومين له، أن يقوموا له في مزرعته الكبيرة (المملكة) بما يطلب، وأن يرضوا بما يفرضه لهم وعليهم والمحكومون له يرونه سلطانًا باغيًا، يتربصون به الدوائر على حسب حالهم في العلم والقوة، أو الجهل والضعف. والحاكم الثاني يعلم كما يعلم المحكومون له أن عمله من قبيل عمل الأجراء، وأن ما يأحذه من الجزاء المالي عليه أجرة مفروضة، وأن الجزاء المعنوي وهو الجاه أثر طبيعي لإحسانه في عمله كما لغيره من المحسنين إلى الأمة في ترقية العلوم والفنون والأعمال. على حسب حال الأمة يكون حكامها في نفس الأمر الذي تقضي به طبيعة الاجتماع (كما تكونون يولى عليكم) أما حكم الشرع والعقل فهو يقضي بوجوب جعل الحكام أجراء للأمة، قال أبو العلاء فيلسوف الشعراء: ملّ المقام، فكم أعاشر أمة ... حكمت بغير كتابها أمراؤها ظلموا الرعية، واستجازوا كيدها ... فعدوا مصالحها، وهم أجراؤها كذلك شأن أكثر الأجراء والوكلاء مع المالكين الجاهلين بما يجب أن يكون عليه ملكهم، العاجزين عن تحديد أجور العمال وإلزام كل عامل أن يلزم حده؛ لذلك أنحى الفيلسوف في شعره باللائمة على الأمة التي مكنت أجراءها من الاستبداد في السيادة عليها، حتى تجاوزوا مصالحها، ينبهها بذلك إلى إقامة الشريعة فيهم، وإرجاعهم إلى الكتاب العزيز الذي جعل أمر المؤمنين شورى بينهم. ذلك حكم الشريعة والعقل، ولن تقدر الأمة على القيام به، إلا بتغيير الأفكار التي كان من أثرها الطبيعي، أن صار الأجراء سادة مالكين، وتحصيل الأفكار والعلوم والأخلاق التي تمكنها بالاتحاد من جعل المتغلب بقوته مختاراً لعدله وفضيلته. إذا أحسن الحاكم المتغلب في عمله، واقتصد فيما يتناول من مال الأمة جزاء عليه، كان جديرًا بالجاه الصحيح، وهو ملك القلوب وقيادتها بالمحبة والتعظيم، وبما يتبعه من الحمد والثناء، وإذا أساء عملاً وأسرف فيما يأخذ يفوته الجاه الصحيح، ويستبدل به الجاه الباطل، وهو قهر الرعية على أن تعامله معاملة الحاكم العادل من الثناء والتعظيم الصوري مكابرة للنفس وعصيانًا للقلب، في سبيل طاعته الإلزامية. أما الحاكم المختار للأمة، فهي التي تفرض له برضاها أجره، وتملكه قلوبها طائعة مختارة. روى ابن سعد في الطبقات عن حميد بن هلال قال: لما ولي أبو بكر قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افرضوا لخليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعينه، قالوا: نعم، برداه (ثوباه) إن أخلقهما وضعهما، وأخذ مثلهما، وظهره (أي ما يركبه) إذا سافر، ونفقته على أهله كما كان ينفق على أهله قبل أن يستخلف، قال أبو بكر: رضيت. وفي رواية أنه أراد أن يعمل في التجارة طرفًا من النهار لأجل عياله، وينظر في أمور الناس في سائر الأوقات فمنعوه، وقال عمر: نفرض لك، فأراد أن يتمنع فأقنعوه، وفرضوا له كواحد من المهاجرين، لا أرقاهم ولا أدناهم، وكذلك كان ينفق قبل الخلافة. هكذا كانت حكومة المسلمين في أول عهدها، كانت من القسم الثاني من التقسيم المتقدم، فعرض عليها من عوارض الاجتماع ما حولها عن وضعها، وجعلها من القسم الآخر. وكم من حكومة كانت ظالمة بالتغلب، فزحزحتها طبيعة الاجتماع عن مكانها، ووضعتها تحت سيطرة الأمة، كحكومات الفرنجة في بلادها. لم تكن حكومة الشورى في المسلمين أثرًا لارتقاء اجتماعي فيهم، ولذلك لم يطل عليها العهد، وإنما كانت ائتمارًا بأمر الدين وعملاً بهدايته، وقد تغلبت العصبيات في الأمة قبل أن يستقر هذا النوع من الحكومة، ويلقي بوانيه (أي يثبت ويقيم) بهدي الدين، ويصير طبيعيًّا في الأمة. للحكومات آجال مقدرة بقدر أحوال المحكومين لها الاجتماعية، ولمدبر الكون فيها سنن لا تتبدل ولا تتحول، فما قصر أجل حكومة الشورى في المسلمين، إلا لأن ذلك المجموع المؤلف من جميع الشعوب والأجناس لم يكن مستعدًّا لأن يكون مسيطرًا على حاكميه لقلة معارفه الاجتماعية، ولانتفاء الوحدة التي تجعل الأمة كرجل واحد. وإنما يستفيد الناس من الدين والدنيا في كل زمان بقدر استعدادهم، ولو كانوا شعبًا واحد في قطر واحد، لرجي لهم طول هذا الأجل، كما طال أجل حكومة الرومان، ثم قضي عليها بالتوسع في العمران، ودخول الشعوب الكثيرة تحت سلطانها. إذا أراد الله بأمة أن تنهض إلى جعل حكومتها تحت سيطرتها، كما يجب أن تكون، سهل لها من أسباب العلم الصحيح والتربية القويمة، ما ينير أذهانها، ويجمع كلمتها حتى تكون أمة عاقلة حكيمة (والعاقل لا يظلم لا سيما إذا كان أمة) كما قال الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني. يسرنا أن نرى بوادر العلم والتربية في أفراد من أمتنا الإسلامية، في كل شعب وكل قطر، وأن نرى بعض مرشديها يحثونها على الاستزادة منهما، ويسوءُنا أن نرى بعض الجاهلين المرائين، يفتاتون على المرشدين المخلصين، فيعلقون آمال الأمة بغير هذا الطريق المعبد، والصراط السوي في تقويم الحكومة، وما يجب أن تعاملها به الأمة، ولكن قضت سنة الله بأن يغلب الحق الباطل، ويرجح النافع على الضار ولو بعد حين. يسهل على من أوتي الخلابة في القول والعرفان بأهواء الجماهير، أن يغش أمة هي في طور الطفولة في الحياة الاجتماعية، وليس لها زعماء وحكماء ترجع في الأمور العامة إليهم، ويسهل على من أوتي الحكمة وفصل الخطاب، أن ينصح لها ويهديها سبل الرشاد، فإذا هي رزئت بالمختلبين وحدهم شقيت، وإذا هي رزقت الناصحين سعدت، وإذا تنازعها الصنفان وجد صاحب الحق من نصر العقلاء وإن قلوا، ما يفل جموع أنصار الباطل وإن كثروا، وبذلك ترتقي الأمة ارتقاء يجعلها أهلاً لأن تختار حكامها، وتحدد لهم الجزاء المالي على أعمالهم، وتمنحهم الجاه والشرف باختيارها؛ لأنهم يحكمونها بمشيئتها المبنية على الحكمة والعرفان، وهي تجزيهم بمشيئتها الناشئة عن الرضا والإذعان.

إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج للقطر المصري في هذا العصر حال لا يشاركه فيها قطر آخر من أقطار الأرض، وهذه الحال مفيدة له من وجه، وخطر على أهله من وجه آخر، فيجب أن يعرفوا كيف يجتنون الفوائد من الوجه الأول، ويجتنبون الغوائل من الوجه الثاني. الحال التي انفرد بها، هي أن جميع الأمم الراقية تنازع أهله الحياة في المعاش أو الاقتصاد كما يقال، وفي الاجتماع والآداب، وما من أمة منها إلا وهي أرقى من أهله في العلوم والأعمال، ولها من الحقوق فيه أكثر مما لهم، فالقوانين المصرية تبيح للأجانب أن يملكوا من البلاد كل ما يملكه الوطني، وأن ينشروا فيها لغاتهم، وأديانهم، ومذاهبهم، ويأتوا بعاداتهم وتقاليدهم، كما يفعل الوطني، ولكن الحكومة المصرية ليس لها من المراقبة والسلطان على الأجنبي مثل ما لها على الوطني، فالأجنبي أوسع حرية، وأكثر استقلالاً في أعماله كلها. أما وجه الفائدة من هذه الحال، فهو أن الأوروبيين في مجموعهم مدرسة جامعة في البلاد، تعلم أهلها من الأعمال المالية بأنواعها، والاجتماعية، والأدبية ما لم يكونوا يعلمون، وتعليم العمل أقرب إلى النفع من تعليم العلم؛ إذ العمل مقصد والعلم وسيلة إليه في الغالب، فكل عامل ينفع البلاد ويرقيها، وما كل عالم ينفع، وما علينا - والمدرسة العملية مفتحة الأبواب، ودروسها مبذولة في كل مدينة وقرية لكل من له عين تبصر، وأذن تسمع، وعقل يدرك، وقلب يتأثر - إلا أن نتعلم كيف نكتسب، وكيف نقتصد، وكيف نؤسس الشركات، وكيف نؤلف الجمعيات، وكيف نحافظ على الآداب والعادات، وكيف نقيم بناء وحدتنا الجنسية، وكيف ندعو إلى عقائدنا وآدابنا الدينية، وكيف نوزع هذه الأعمال على أصناف العاملين، وكيف نكون مع هذا التوزيع متعاونين متكافلين. وأما وجه الخطر فهو أجلى وأظهر، فإن ضعيفًا ينازع الأقوياء الحياة، يوشك أن ينزعوه. وواهنًا يصارع الأشداء يقرب أن يصرعوه، وإذا كان في الأمثال المسلمة (ضعيفان يغلبان قويًّا) فما بالك بعدة أقوياء يغالبون ضعيفًا واحدًا، ألا يكون الخطر عليه شديداً؟ بلى إنه يخشى أن تنزع هذه الشركات الأجنبية والمصارف (البنوك) ؛ أكثر ما في أيدي المصريين من أرض مصر، حتى يكون أكثرهم فيها أجراء، لا رزق لهم إلا ما يفيضه المالك الجديد عليهم من أجور أعمالهم من الحرث والخدمة، ويكون الكثيرون منهم عالة، لا يجدون من جود الأغنياء ما يسد رمقهم، ويفنى الباقون في الغالبين بالتقليد والمحاكاة، يومئذ (لا كان يومئذ) لا يستطيع أن يقول المصري: هذه بلادي، فأنا أولى وأحق بأن أتولى أحكامها بنفسي، وأدير نظامها بيدي. إنما يخشى أن يسرع هذا الخطر المادي، إذا شايعه الخطر المعنوي، وأمده في سيره وهو التهاون في أمر مقومات الأمة ومشخصاتها من الدين واللغة والآداب والعادات الحسنة، بل أقول: لا يمكن لأمة أن تحفظ كونها إلا بالمحافظة على عاداتها، وإن كانت غير حسنة ولا قبيحة، وأن تتروى في القبيح منها، فتدعو إلى تركه إن تحقق قبحه بالتدريج، واستبدال النافع بالضار، ولا حسن في عادات الأمم إلا النافع، ولا قبيح إلا الضار. ألم تروا أن أعز الأمم وأوسعها سلطانا، هي أشد الأمم محافظة على العادات والتقاليد المشخصة لها، وإن كان غيرها خيرًا منها. ألم تعلموا أن أكثر الأمم الأوروبية قد استنفدت حيلتها، بعد ما استنفرت بلاغتها وفصاحتها في محاولة إقناع الإنكليز باستبدال المقياس العشري (المتر) بمقاييسهم (اليرد) بل بتوحيد المقاييس، وناهيكم بفوائده فلم يزد ذلك الإنكليز إلا محافظة وثباتًا على ما درجوا عليه. ألم يأتكم نبأ ما كان لاستبدال إسماعيل باشا الخديو، التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري من الفرح والسرور في أوروبا. قيل: إن ذلك اليوم كان عند الأوروبيين عيدًا من الأعياد، بل فتحًا مبينًا، من أجلِّ الفتوحات في تحويل الشعوب من حال إلى حال. وهم ينظرون عيدًا ثانيًا أو فتحًا آخر بإقناع المسلمين عامة بترك العمل يوم الأحد كما فعل بعض تجارهم. تنتزع أراضي مصر من أهلها قطعة بعد قطعة، فلا تشعر الأمة بانتزاعها؛ لأن البلاد تبقى على حالها، لا يتغير من معالمها، ولا من شؤون عولمها شيء، وتترك مقومات الأمة ومشخصاتها، عقيدة بعد عقيدة، وعادة بعد عادة، ولا تشعر الأمة بتركها، وما له من الأثر في حياتها؛ لأن تحول الأمم كتحول الظل، لا يشعر أحد بحركته، ويشعر كل أحد بعاقبته، وانتقال الثروة من الشعب الكبير كانتقالها من الرجل الواحد الذي يغتر بكثرة ماله، فيسرف ويبذر، لا يلاحظ عند كل نفقة ما بقي من ماله، ونسبتها إلى دخله، وإنما تنحصر ملاحظته في شيء واحد وهو أنه يملك مليونًا، فهو اليوم ينفق عشرة آلاف، على أنها عشرة من مليون، وفى غد ينفق عشرة أخرى على أنها عشرة من مليون، ولا يزال يرى المليون مليونًا، وإن لم يضم إليه شيئًا، والعشرة عشرة وإن صارت بانضمامها إلى ما قبلها عشرات فمئات، حتى تستغرق المليون فلا يبقى منه شيء، أو يبقى منه ما يكون مثله في يد الفقير والمسكين. لا يهولنك ما قرأت فتكون من اليائسين ولا تستهينن به فتكون من المغرورين فإن الخطر الذي ذكرناه وإن كان صحيحاً مما يمكن اتقاؤه، وإن لمصر على ضعفها قوة المالك المدافع عن ملكه، أو المحافظ عليه في زمن لا غصب فيه، ولا مصادرة في المال، ولا استبداد يحول دون التربية والتعليم، والمحافظة على مقومات الأمة من اللغة والشعائر والأخلاق، والعادات. فالخطر المخشي ليس خطرًا اضطراريًّا لا قبل لنا به، ولا حول لنا ولا قوة على دفعه، وإنما هو خطر نتقحم فيه بمشيئتنا واختيارنا، وإذا نحن اتقيناه كان مصدره وهو التنازع بيننا وبين الأجانب مصدر علم وعرفان، وترقٍ في الاجتماع والعمران، نعم إنه لا يخلو من إثم، ولكن منافعه تكون أكبر من إثمه. كيف يُتقى هذا الخطر؟ قد علم مما مر، أن الخطر محصور في أمرين: إضاعة الثروة، وإهمال مقومات الأمة، فأما الثروة فلها ثلاث آفات أو ثلاث بلاليع: القمار، ومنه مضاربات البورصة، وقد فشا وباؤه في القطر المصري، حتى لم يدع قرية ولا مزرعة (عزبة) سالمة من فتكه، وإعطاء الربا للأجانب، وبيع الأطيان والأملاك منهم، ولا سبيل إلى إقناع الناس باتقاء هذه الآفات الثلاث، ولكن الجرائد إذا فصلت مضارها، وكررت النذر فيها، وتتبعت الوقائع والحوادث في تخريبها للبيوت، وإفقارها للأغنياء، وإذلالها للأعزاء، رجونا أن يقل فتكها حتى لا يصل إلى درجة الخطر على الأمة. وأما مقومات الأمة، فأمرها أعظم ومجال القول فيها أوسع، وإنما يخاطب في شأنها الزعماء المصلحون، والعلماء العاملون، والأغنياء العاقلون، وأصحاب الصحف الغيورون، والخطباء المؤثرون، إذ المدار فيها على إيجاد معاهد للتربية والتعليم، ينشأ فيها الرجال المستقلون، والنساء القادرات على تربية الولدان وإقامة النظام في البيوت، وهذا ما يطلب من الزعماء والأغنياء، ولا ينكر ما للجرائد الناصحة من التأثير في الحث عليه، ثم على النصح المتتابع للأمة في المحافظة على تلك المقومات، وإعلاء شأنها، والتقريع الشديد للذين يهملون شيئًا منها، وهذا ما يطلب من الخطباء والكتاب. وإني لأعجب! كيف تقصر الجرائد الوطنية في هذين الركنين العظيمين؟ حفظ ثروة الأمة، وحفظ مقوماتها الجنسية وترقيتهما. وتطيل الكلام في المسائل الخارجية والحوادث الجزئية، فيكون أكثر ما تقوله لغوًا، لا فائدة فيه للجمهور، أليست مصر أحوج إلى حفظ ثروتها ومقوماتها منها إلى سائر الأشياء؟ أليست هذه الثروة والمقومات على خطر من التنازع مع سائر الأمم، يجب تداركه؟ أليست الجرائد هي المطالبة ببيان ذلك والحث على تلافيه؟ بلى وعسى أن يكون عناية الجريدة به أكبر من عنايتها بسواه والله الموفق.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الكرامة والمعجزة (س8) السيد محمد بن هاشم علوي (بجاوة) أسألك عن كلمة: (كل معجزة لنبي فهي كرامة لولي) هذه الكلمة تلهج بها الناس عندنا لا سيما عبدة الخوارق، ولا أدري هل هي حديث أو أثر وما معناها؟ (ج) العبارة ليست حديثًا ولا أثرًا عن الصحابة، وهذه الاصطلاحات من المعجزة، والكرامة، والولاية قد حدثت بعدهم، وإنما هي كلمة لبعض المشايخ وافقت هوى الناس، فتلقوها بالقبول، وصارت عندهم من قبيل القواعد الدينية، وسارت بها الأمثال فيما بينهم، ونحمد الله أننا لم نعدم في شيوخ التصوف والعلم من أنكرها. ينقل عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والحليمي من أئمة الأشعرية، أنهما وافقا المعتزلة على إنكار الكرامات. وذكر التاج السبكي في طبقات الشافعية الكبرى أنه يزداد تعجبه من نسبة إنكارها إلى الأستاذ (وهو من أساطين أهل السنة والجماعة) وكذَّب ذلك، ثم قال ما نصه: (والذي ذكره الرجل في مصنفاته، أن الكرامات لا تبلغ مبلغ خرق العادة قال: وكل ما جاز تقديره معجزة لنبي، لا يجوز ظهور مثله كرامة لولي. قال: وإنما مبلغ الكرامات إجابة دعوة، أو موافاة ماء في بادية في غير موقع المياه، أو مضاهي ذلك مما ينحط عن خرق العادة، ثم مع هذا قال إمام الحرمين: من أئمتنا هذا المذهب متروك. قلت: وليس بالغًا في البشاعة مبلغ مذهب المنكرين للكرامات مطلقا، بل هو مذهب مفصل بين كرامة وكرامة، رأى أن ذلك التفصيل هو المميز لها من المعجزات. وقد قال الأستاذ الكبير أبو القاسم القشيري في الرسالة: إن كثيرًا من المقدورات يعلم اليوم قطعا، أنه لا يجوز أن تظهر كرامة للأولياء لضرورة أو شبهة ضرورة يعلم ذلك، فمنها حصول إنسان لا من أبوين وقلب جماد بهيمة أو حيوانا، وأمثال هذا كثير. انتهى، وهو حق لا ريب فيه، وبه يتضح أن قول من قال: (ما جاز أن يكون معجزة النبي، جاز أن يكون كرامة لولي) ليس على عمومه، وأن قول من قال: (لا فارق بين المعجزة والكرامة إلا التحدي) ليس على وجهه اهـ. كلام السبكي هنا. وقال بنفي العموم أيضًا في جوابه عن شبهة القائلين بأنه لو جازت الكرامة لاشتبهت بالمعجزة. وقال في الكلام على إحياء الموتى نحوه، ومنه قوله: (ولا أعتقد الآن أن وليًّا يحيي لنا الشافعي وأبا حنيفة حياة يبقيان معها زمانًا طويلا، كما عمرا قبل الوفاة، بل ولا زمنًا قصيرًا يخالطان فيه الأحياء، كما خالطاهم قبل الوفاة) . *** محو الناس للأسماء من اللوح المحفوظ (س9) ومنه معطوفًا على السؤال السابق: وأسألك سيدي عن قول من سمعته يقول: (فلان محينا اسمه من اللوح المحفوظ) وهذا القائل ممن يدَّعون الكرامات والتصوف، وهو غبي عن أول ما يجب عليه، وإذا فرضنا حسن استقامته ومعرفته، فهل يسوغ له هذا القول؟ وما معناه؟ وهل هو مدح لمحو اسمه أم ذم؟ وقد أنكرت عليه قوله فلامني الناس المتهافتون على الخزعبلات؛ لصغر سني وعدم كبر عمامتي، وعدم قولي لمن يطلب من الدعاء، أنت في رقبتي. تفضل يا سيدي بين لي ما أشكل علي، فقد اختلج بخاطري أنهم مصيبون في تصديقهم قوله، وأنه ما قال منكرًا من القول، وأني مخطئ في إنكاري، وما يدريني أن الحق معهم، أجبني يا والدي. (ج) إنك مصيب في إنكارك وهم المخطئون، وليس الحق بكبر السن أو العمامة، فقد ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عتاب بن أسيد على مكة وهو ابن إحدى وعشرين سنة، فاثبت على فطرتك السليمة، ولا تقبل من أحد قولاً بغير دليل بيِّن. أما كلمة الدجالين، فلا تفهم إلا بالقرينة، فإنهم قد يريدون بمحو الاسم الحكم بالموت، وقد يريدون به إخراج المسمى من أهل المرتبة التي هو فيها حقيقة، كالولايات الدنيوية أي عزله منها، أو ادعاء كالذين يعترفون لهم بالولاية. ومهما كان المراد، فهذا القول من الجرأة على الله، لا يصدر إلا من جهول، غرَّه افتتان العامة بدعاويه، وتقبيلهم ليديه. فصدقهم، وافتتن بنفسه، أو نسي بهذا الجاه ربه فأنساه نفسه. وينبغي لك أن تتلطف في الإنكار على هؤلاء؛ لئلا تأخذهم العزة بالإثم، فيؤذوك، فإنهم لخضوع العامة لهم يطغون، ويستحلون الإيذاء لاسيما إذا أمكنهم إخفاء سببه؛ ليدعوا أن المعترض قد عاقبه الله كرامة لهم، فإن أكثر كراماتهم المزعومة هي الإيذاء للناس، ولم نسمع أن أحداً منهم قد نال من الكرامة أن أنقذ بعض بلاد المسلمين من الظلم أو أخرجهم من ظلمات البدع والخرافات. *** قتلى مسلمي الروس في الحرب اليابانية (س10) يوسف أفندي هندي بالبريد المصري (تأخر) ما حكم الشرع الشريف فيمن قُتل من مسلمي الجند الروسي في حرب اليابان؟ هل ماتوا طائعين أم عاصين؟ ولا أظنهم يُعدون شهداء؟ أرجو التكرم بالإفادة؛ لازلتم ملجأ لكل مستفيد. (ج) إنني أعتقد أن محاربة مسلمي روسيا لليابان، ليست معصية لله - تعالى - ولا ممنوعة شرعًا، وأنها قد تكون مما يثابون عليها عند الله، إذا كانت لهم فيها نية صالحة، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، وللنية الصالحة في حرب المسلم مع دولته غير المسلمة وجوه، منها أن طاعته إياها، تدفع عن إخوانه من رعيتها شيئا من ظلمها وشرها، إذا كانت استبدادية ظالمة، وتساويهم بسائر أهلها في الحقوق والمزايا، إذا كانت نيابية عادلة، أو تفيدهم ما دون ذلك إذا كانت بين بين، ومنها أن العلوم والأعمال الحربية لا تزال من أهم عناصر الحياة الاجتماعية في البشر، فإذا حرم منها شعب من الشعوب ضعفت حياته، والضعيف لا يكون إلا ذليلاً مهينا. والخير للمسلمين من رعايا تلك الدول أن يكونوا مشاركين لسائر أهل الملل فيها في جميع مقومات الحياة الاجتماعية، أقوياء بقوتهم، أعزاء بعزتهم، لا أن يكونوا فيهم ضعفاء أذلاء بدينهم، فإن دين الإسلام لا يبيح لأهله أن يختاروا الضعف والذلة على القوة والعزة، وإذ هم اختاروا ذلك، عجزوا عن حفظ دينهم، فكان ذلك إضاعة للدين نفسه، فلا تلتفت إلى متعصب جهول، يقول لك: إن المنار يبيح للمسلمين أن يعتزوا بالكافرين، إلا إذا رأيته يعقل الكلام. فقل له: إنه ينصح للمسلمين بأن يختاروا العز على الذل، - مهما كان مصدر العز - والقوة على الضعف، ويرى أن حفظ الإسلام في غير داره لا يكون إلا بذلك. ويتمنى نصارى العثمانيين لو تدخلهم الدولة في الجندية لذلك. *** الدخان هل هو نجس وضار (س11) من محمد أفندي زيدان بسنورس الفيوم (تأخر) ما قولكم - جعلكم الله منار الإسلام، وينبوع العلم، ومنهل الوارد - في مسألة الدخان التي أخذ اختلاف الناس فيها كل مأخذ، ضاربًا أطنابه على أفكارهم وعقولهم، فأصبح معظمنا - والحمد لله - إن لم أقل الكل مغمورًا في غياهب الجهل بكنهها مضطرب الضمير، تلعب به أيدي الخلاف على موائد الجهالات، مختلج الصدر بالسؤال عما يكشف لثامها ويرفع نقابها، وعن بيان أحكامها، وهل الدخان نجس، أو منع منه الإمام؟ وهل يضر؟ وهل يكون حجابًا بين العبد وربه من الأنوار؟ وإني لأرى هذه المسألة أهم مسألة توجه إليها أنظار النظار بالبحث في خبايا أسرارها؛ ليستخرجوا معادنها الجوهرية، ولا أرى مقدامًا على خوض بحارها، وسلوك سباسبها إلا منار الإسلام، فوليت وجهي شطره بلسان حال الأمة؛ مريدًا بيان حقيقتها بما يسر الضمير، ويرتاح إليه الخاطر، مشدودًا نطاقه بساطع براهين مناركم، كما عهدنا من قبل، ولازلنا نعهد نشر لواء المنارعلى عويص المسائل، فأدحض سحاب الجهل بقوى الحجة، وبياض المحجة، فلعله يتفضل عليَّ بل على الشعب بأسره، بنقطة من بحار علومه الفياضة، أو بشعاع من شمس معارفه، فنهتدي بها سواء السبيل، والسلام. (ج) قد نشرنا هذا السؤال بنصه؛ لما فيه من الفكاهة، وبيان استعداد الناس للإحفاء والاستقصاء في كل شيء، وأن ما يراه بعضهم من الأمور التي لا يؤبه لها، يراه آخرون ذا بال بل من أهم المهمات. أما كون الدخان نجسًا أو غير نجس فالجواب عنه: أن هذا النبات الذي يسمى دخانا - لأنه يستعمل إحراقًا ليتمتع بدخانه - هو كسائر النبات طاهر، ولا يوجد في الدنيا نبات نجس، وأما كونه ضارًّا أم لا، فهذا مما يرجع فيه إلى الأطباء لا إلى الفقهاء، والمعروف في الفقه أن كل ضار محرم على من يضره، وما كان من شأنه أن يضر قطعًا إلا في أحوال نادرة، يمكن إطلاق القول بحرمته، أو ظنًّا يحكم بكراهته. والمشهور عن الأطباء أن في هذا النبات المعروف بالدخان، وبالتبغ، والتتن، وبالتنباك، مادة سامة تسمى نيكوتين، فهو لذلك يضر المصدرين قطعًا، وأن صحيح الجسم إذا تعوده بالتدريج، فإنه لا يضره ضررًا بيِّنًا، ولا شك أن تركه خير للصحة من استعماله. فينبغي لمن لم يُبْتَلَ به أن لا يقلد الناس فيه، فإنه إذا لم يخلُ من ضرر ما، يكون مكروهًا شرعا، وعلى من ابتلي به أن يراجع الطبيب الحاذق فإذا جزم بضره، وجب عليه تركه، وإذا قال: يحتمل أن يضره، استحب له تركه، وإذا قال: إنه لا يضره مطلقًا، أبيح له استعماله، وإذا اتفق أن كان نافعًا له لمقاومة مرض ما، كما ينفع كثير من السموم في مقاومة بعض الأمراض، صار مطالبًا باستعماله شرعًا، وقد يكون حينئذ واجبًا، إذا جزم الطبيب بتوقف منع الضرر على استعماله، وإلا كان مخيرًا بينه وبين ما يقوم مقامه. فعلم من ذلك كله أنه قد تعتريه الأحكام الخمسة كما يقولون. *** النهي عن الجمع بين الأختين والتزوج بامرأة الأب إلا ما قد سلف (س12) عكاشة أفندي خليل بالأبيض من السودان: أرشدني أرشدك الله إلى الصراط المستقيم إلى تفسير قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 23) وقوله: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 22) ورجائي نشره في مناركم ولكم الثواب. (ج) معنى قوله عز وجل: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} (النساء: 22) لكن ما سلف أي سبق لكم من ذلك في زمن الجاهلية لامؤاخذة عليه، وكانوا في الجاهلية يجمعون بين الأختين في الزواج، ويتزوجون بنساء آبائهم إذا ماتوا عنهن، فنهى الله عن ذلك، وبيّن أن ما سبق في الجاهلية لا يؤاخذ عليه. وهذا الاستثناء يسميه النحاة الاستثناء المنقطع. ويقول بعض المفسرين: إن الاستثناء متصل ولا حاجة إلى بيان قوله لمن يريد فهم المعنى، ولا حاجة له في الاصطلاحات النحوية. *** الحب وهل هو اختياري أم اضطراري؟ (س13) ... التلميذ بمدرسة الناصرية بمصر: ما هو الحب؟ وهل هو اختياري أم اضطراري؟ أفيدونا بأجلى بيان، وأعظم برهان، وإن شئتم فأرسلوا لنا الرد على غير صفحات المنار، ويكون لكم الفضل، والله لا يحرمنا من أمثالكم. (ج) ورد لنا هذا السؤال منذ سنة وشهر، ولم يأمر السائل بكتمان اسمه ولا بالرمز إليه، وكنا ترددنا في الجواب عنه، ثم نسيناه، ولما راجعنا في هذه الأيام ما تأخر من الأسئلة التي جاءتنا في السنة الماضية؛ ولم نجب عنها رأيناه فيها، واستحسنا أن نجيب عنه جوابًا مفيدًا، لأمثال السائل من الناشئين الذين أنشأت بوادر الحب تعبث بنفوسهم، وتنشئ له في مخيلاتهم جنات باسقة الأشجار، بهيجة الأزهار، تجري من تحتها الأنهار، وتغرد من فوقها الأطيار، تتهادى في أفيائها كواعب الأبكار، فيتراءى لهم من سعادة الحياة في مناغاة أولئك الغادات، في حدائق هاتيك الجنات، ما قد يشغلهم عن تحصيل العلم، ويعوقهم عن تربية النفس، ويجذبهم إلى مطالعة قصص الغرام التي تغذي تلك التخيلات والأوه

التعليم الديني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعليم الديني لا نعرف بلادًا إسلامية أثَّر فيها التفرنج، كما أثر في مصر. وأغرب مظاهر هذا التأثير ما جرى منذ أشهر من الخلاف بين المسلمين، في تعليم الدين بالمدارس، بل وفي فائدة تعليم الدين وعدم فائدته، وإمكان الاستغناء عن الدين في تهذيب الأخلاق، وتربية النفوس. فتحت باب البحث في ذلك الجرائد، وتبعها الناس كعادتهم فمن قائل: إن موضع تعليم الدين البيوت لا المدارس، وإنه ينبغي للحكومة أن تبطل تعليم الدين من مدارسها. ومن قائل: إن ما يعلم في هذه المدارس كاف، لا حاجة إلى الزيادة عليه. ويقابل هذا القول، طلب أعضاء مجلس الشورى والجمعية العمومية زيادة التوسع في تعليم الدين بهذه المدارس. ووراء هذه الأقوال والآراء ما كتبه بعض الناظرين في آراء فلاسفة أوربا، ونشر في جريدة المؤيد من بيان وجه الحاجة إلى تعليم الدين، وبيان الاستغناء عنه، ومن قال بذلك من علماء الغرب. ومما يتشدق به المقلدون لأصحاب الآراء الفلسفية الناقصة، قولهم أنه يمكن الاستغناء عن الدين، بالتربية الأدبية العقلية، المبنية على الإقناع بضرر الرذائل، ونفع الفضائل، كأن يقول المعلم للتلميذ: إن الكذب قبيح، ومقترفه محتقر بين الناس، لا يوثق بقوله، ولا يعتد بشهادته، ولا بخبره، وإن الخمر ضارة؛ تذهب بالصحة والمال. ومن هؤلاء من يرى أن هذه الطريقة أفضل من طريقة الدين المبنية على التخويف من عذاب الآخرة؛ لأن في هذا التخويف من إضعاف النفس، وإيقاعها في الأوهام ما فيه على زعمهم. ومن أهل الدين الراسخ من سرى له شيء من أوهام المتفلسفة، فصار يرى أن تعليم الدين والتربية عليه في الصغر ضار، ولكنه يجب بعد بلوغ العقل أشده؛ لأن الدين عبارة عن فلسفة روحية، والمبتدئ ليس أهلاً لتلقي الفلسفة. قد استعجل متفرنجو المسلمين جدًّا، في جعل مسألة التعليم الديني محل بحث ونظر، واستعجل المتفلسفة منهم في الحكم بأن الإقناع العقلي كافٍ في تهذيب الناشئين، ومُغنٍ عن الأخذ بالدين أو خير منه، فإن أئمتهم من غلاة الملاحدة في أوربا لم يظفروا بإقناع شعب من شعوبهم برأيهم هذا، ولا يزال جميع الأوربيين يقيمون بناء التربية والتعليم على أساس الدين، على أن حاجتهم إليه دون حاجتنا لوجوه، منها انتشار التعليم الأدبي والإقناعي في جميع طبقاتهم، حتى إن بعض بلادهم لا يوجد فيها أمي ولا أمية، ونحن عاجزون عن تعميم التعليم بدين أو بغير دين، فهل من الصواب أن تجعل المتعلمين منا على قلتهم غير متدينين، وهم القدوة لسائر الأمة؟ أم الصواب أن يسعى هؤلاء النفر من المتفلسفة، إلى محو الدين من الأمة برمتها متعلمها وأميها. وهل يظنون أن جميع أفراد الأمة يكونون حينئذ فلاسفة أو متفلسفين مثلهم، يتركون الشرور لقيام الدليل العقلي على ضررها أو منافاتها للشرف؟ قلما تجد أحدًا من أصحاب هذا الرأي العقيم تاركًا للمعاصي والشرور؛ لأنها ضارة بالمجتمع، أو مخلة بالشرف، ومن ترك ذلك ظاهرًا لا يتركه باطنا، إلا من تربى منهم تربية دينية حقيقية، طبعت في نفسه ملكات الفضائل طبعًا، عجزت عن محوه نزغات الفلسفة الناقصة. يمكن أن يجمع للناشئ بين الإقناع والدين؛ بأن يبين له ضرر الرذائل والمعاصي في سياق حكمة تحريمها، وبيان محاسن الفضائل ومنافعها في سياق حكمة إيجابها أو استحبابها، وإلا تعسر الإقناع أو تعذر؛ لاختلاف الأفهام في حقيقة الشرف، والخير، والشر، والنفع، والضر. فإذا قلت للناشئ: إن الزنا قبيح أو مخل بالشرف، لا يمنعه ذلك أن أقنعه بأن يأتيه سرا؛ لأن أمر الشرف منوط بنظر الناظرين وعرفهم. وإذا قلت له: إنه خطر على الصحة؛ لأنه مدعاة للإسراف، أو مجلبة لبعض الأدواء. لم يكن لقولك من التأثير - إن أخذ بالتسليم - إلا العزم على الاقتصاد فيه، والحذر من غشيان المصابات بالأدواء، ويظن أن ذلك مما يسهل عليه، وربما وجد من الناصحين من يقول له: إن ترك ذلك العمل ضار بالصحة، فكانت نصيحته أقرب إلى القبول من نصيحتك. وإذا قلت له: إن لهذه الفاحشة غوائل اجتماعية: كاختلاط الأنساب، وقلة النسل، وإثارة الشرور بين المتنازعين فيها عند المشاركة، فلا نطمع منه إن عقل قولك، بأن يترك لذته الثائرة حبًّا بالمصلحة العامة. ولكن أكثر الذين يتربون تربية دينية صحيحة، لا يستحلون الفاحشة ويستهينون بها كما يفعل من فقدوا ذلك، وإنك لتجد في كل بلد يدين أهله بحرمة هذا الفاحشة كثيرين يتقونها خوفًا من الله -عز وجل -على ضعف العلم بالدين وعدم التربية عليه، ولولا الخرافات التي زلزلت العقائد، وشوهت وجه الأحكام: كالاعتماد على الكفارات، والشفاعات، والغفران، لكان وقوع هذه الفاحشة من المتدينين من النوادر. وقل مثل ذلك في الخمر، فإن المتعلمين على الطريقة التي يطلبها المتفرنجون والمتفلسفون؛ أعرف من غيرهم بما فيها الضرر، وهم مع ذلك أكثر شربًا لها من سواهم. وأضف إلى ذلك جريمة القمار، وما فيها من المضار، على أن المتفرنجين والمتفلسفين منا لا يحرِّمون بعقولهم هذه الموبقات الثلاث، التي يجاهدها فلاسفة أوروبا بعقولهم، وعلومهم أشد الجهاد، ويعدونها شر غوائل المدنية الأوروبية، وهي لا تزداد بالرغم منهم إلا انتشارا. إن الجميع متفقون على قبح الكذب وضرره، وإنهم لأعجز عن إقناع الناشئين بتركه مهما قويت حجتهم من أضعف مرشد ديني، وإن لم يأت بحجة أو حكمة وراء النص، وقصارى ما يبلغه قولهم من نفس من يقبله، أن يحترس من الفضيحة بالكذب الجلي، لا أن يتركه مطلقا. أما زعم المتفلسفين: أن تربية الدين، قد تضر بالعقل أو النفس بما فيها من الإرهاب والتخويف، فهو زعم باطل، لا يقوله إلا من يجهل الدين والناس، وسنبين ذلك في فرصة أخرى. وأما القول بأن الدين فلسفة لا ينبغي أن يتلقاه إلا المتعلم المستعد لتلقي العلوم العالية فله وجه، وفيه قصور، فإن الدين له طرفان: أدنى وهو الهداية العامة لكل مكلف، وإن أميًّا جاهلا. وطرف أعلى وهو كما قيل: حكمة وفلسفة. والصواب أن يعلم التلميذ في المدرسة الابتدائية، ما يليق به من الطرف الأول، ويترقى به تدريجا. يعلم في السنين الأولى مع القراءة بالحكايات عن الأشياء، أن الله -تعالى- هو الذي أعطى كل شيء خلفه ثم هدى، فإذا كان موضوع درسه في النحل مثلا: يذكر له بعد شرح ما يليق بفهمه من حالها وأعمالها، أن الله - تعالى- هو الذي خلقها، وألهمها أن تعمل لحفظ حياتها هذه الأعمال، ويترقى به في ذلك. ويعلم مع الإلهيات على هذا النحو شيئًا وجيزًا من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخلاقه، وآدابه، ويذكر له أن الله - تعالى - ميزه هو وأمثاله من الأنبياء بعلم خاص بهم دون سائر الناس، يهدون به الناس إلى الحق والخير، كما ميز النحل بعلم خاص بها لا يشاركها فيه غيرها، وأما العبادات: فيجب أن يتعلمها الناشئون بالعمل لا بالقول، وكذلك العامة اتباعًا للسنة السنية (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري، وأما تعليم المبتدئين فلسفة السنوسي وأمثاله في الإلهيات: كالصفات العشرين، فهو من العبث الذي يعد جناية على الدين، من ينتقده فإني معه أول المنتقدين، والله على ذلك من الشاهدين. سألت أحد الفضلاء المستمسكين بالدين عن ولد له، لعله في الثانية عشرة أيصلي؟ فقال: لا أدعه يصلي الآن؛ لأنه لا يعقل معنى الصلاة، فإذا بلغ السن التي يفهم فيها معنى الصلاة، فإنه يصلي. هذا الوالد الذي يرى هذا الرأي من أبناء كبار الباشوات، وقد تعلم في أوربا وتقلد بعض الأعمال العالية في الحكومة، وهو يفهم من معنى الصلاة، ما لا يفهم أكثر أهل الأزهر؛ لأنه قرأ الإحياء قراءة استهداء، ويقل فيهم من قرأه، وكثير من مدرسيهم لا يعرف عدد أجزائه، ولا رأى منها شيئًا، وهو على ما نعتقد غير مصيب، ولعمري إنه ينبغي لمن يرى رأيًا يخالف ما درجت عليه أمته، أن لا يتعجل العمل به، بل يبحث، ويستشير، ويناظر من يعلم، أو يظن أنهم أهل للبحث في ذلك، لعله يرجع عن رأيه أو يمضي فيه على بينه تامة، ولا يعتد في هذا المقام بتجربة الواحد والآحاد. نقول في الصلاة ما قلنا في الدين بجملته، إن لها طرفًا أدنى وطرفًا أعلى، ومن فوائد حمل الناشئ المميز على الصلاة: تعويده الطهارة، والوضوء، ومنها توليد الشعور الإجمالي بالعبادة في قلبه، وهذا شيء عرفناه بنفسنا، ورأينا أثره في غيرنا ممن تربوا تربية دينية، فلا يصح لمن لم يذقه أن ينكره، ومنها تعويده المحافظة على المكتوبات في أوقاتها، فإن كل عمل يؤدى بنظام في أوقات معينة، يحتاج فيه إلى التعويد في الصغر، فقلما يحافظ الإنسان على عمل منتظم لم يتعوده، وإن هو اعتقد نفعه في الكبر. فأنا اعتقد أن الرياضة البدنية من الضروريات لذي الأعمال العقلية مثلي، واستحث عزيمتي للارتياض كل يوم، فلا تواتيني إلا في بعض الأيام، وإنني أعاتب نفسي منذ سنين على هذا الإهمال والتقصير، ولو لم أكن مواظبًا على الصلاة من الصغر، لما بعد أن أترك بعض أوقاتها تكاسلاً أو تأوّلا. ومن فوائد المواظبة على الصلاة قبل البلوغ، أن المواظب عليها لا يقع بعد البلوغ في مهلكة الشبان، التي يعبر عنها كتاب العصر بالعادة المضرة، وناهيك بشرورها ومضارها، وإذا هو اجترحها لا يفرط فيها، فإن لم يتركها لأنها محرمة، امتنع من الإسراف فيها؛ استثقالاً لتكرار الغسل، وهذا ضرب من ضروب نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر، والناس عنه غافلون. تعليم الدين في المدارس المصرية بحث قوم في تعلم الدين بمدارس الحكومة، فمنهم من قال بوجوب الزيادة فيه، ومنهم من قال: إن ما فيها كاف، ومنهم من قال: إنه لا ينبغي أن يعلَّم الدين في المدارس، وإنما موضع تعليمه البيوت، وهم يعلمون أن تعليم البيوت منوط بالنساء، وأن النساء المصريات لسن على شيء من علم الدين، ولا من علم الدنيا الذي يؤخذ بالتلقين , وقد رددت الجرائد هذه الأقوال، ولم أر فيما قرأته فيها بيانًا صحيحاً لما يجب أن يكون عليه هذا التعليم في هذه المدارس، ولا في غيرها. وقد طلبت الجمعية العمومية من الحكومة التوسع في تعليم الدين بمدارسها، فقررت نظارة المعارف زيادة دروسه في المدارس الابتدائية، فانتقدت ذلك الجرائد التي لا يرضيها من الحكومة شيء ولم تبين ما هو الصواب. وعندنا أنه يجب أن يكون معظم هذه الدروس في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم في سيرة الخلفاء الراشدين إن اتسع لها الوقت، وإلا كانت عبثا. وقد وجد القبط فرصة في هذه الأيام لطلب كان قد سبق لهم فلم يجب، فطلبوه فأجيب الآن، وهو أن تعلَّم الديانة النصرانية في هذه المدارس أيضا وقد عُدَّتْ إجابتهم إلى هذا الطلب غريبة؛ إذ لا يعهد تعليم دينين في مدارس حكومة من حكومات الأرض، بل لا تسمح حكومة أوربية أن يعلم في مدارسها مذهب من مذاهب الديانة المشتركة بين أهل المملكة، غير مذهب الحكومة، أعني أن حكومة إنكلترا التي تدين بمذهب البروتستانت، لا تسمح لرعيتها من الكاثوليك أن يعلموا مذهبهم في مدارسها. وجم المسلمون لهذا العمل وكثر كلامهم فيه، ولو خاضت الجرائد فيه لكان هو الشغل الشاغل للقطر كله، ولكنها سكتت لما نعلم ويعلم سائر العقلاء العارفين بالمأزق الذي وضعت فيه نفسها. وقد سألني كثير من المتفكرين عن رأيي في ذلك، وكان منهم بعض المدرسين في المدارس والأزهر، فقلت ما حاصله: إن للمسألة

تاريخ المصاحف ـ 1

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ تاريخ المصاحف بقلم الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب بسجن طره (1) لما لهذا الموضوع من العلاقة الكبرى بجميع مباحثي في الإسلام التي سبق نشرها في المنار الأغر، رأيت أن أفيض القول فيه بما يزيل ما ران على قلوب كثير من الناس من الشبهات والإشكالات التي يقذف بها المسلمين دعاةٌ من المسيحيين، لا يميزون بين الغث والسمين. ولإيضاح المسألة إيضاحًا تامًّا، رأيت أن أضع مقدمة هامة تمهيدًا للبحث، ودعامة للفحص، فنقول: غير خاف على أحد أن الأمة العربية قبل الإسلام كانت أمة أمية، يقل فيها وجود من يعرف القراءة والكتابة معرفة جيدة، وكان جل اعتمادهم في جميع ما يروونه من أنسابهم وأشعارهم وغيرها على حفظهم لها في صدورهم، ولم يعرف أنه كان عندهم كتاب ما من الكتب في أي موضوع كان، وغاية ما كانوا يفهمونه من لفظ (كتاب) أنه أي صحيفة مكتوب عليها؛ من نحو الجلود أو العظام أو الحجارة أو الجريد، بل إن الصالح للكتابة من كل هذه الأشياء كان لديهم قليلاً؛ ولذلك لم يستغنوا بنوع واحد منها عن باقيها، ولم يكن عندهم الورق الذي نعرفه الآن، وهذا اللفظ ما كان يطلق عندهم إلا على ورق الشجر وعلى رقاع من الجلود رقيقة، والإطلاق الأخير مستعار من الأول. ولا تجد في اللغة العربية اسمًا خاصًّا بما يشبه ورقنا المعروف سوى لفظ واحد وهو (الكاغد) وهو فارسي معرب، وقد أدخلته العرب في لغتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذا لم يرد في كلامهم قبله عليه السلام ولا في عصره، ولم يرد في أحاديثه ولم نسمع أنه كان مما يكتب عليه القرآن في حياته عليه السلام، والغالب أن هذا اللفظ دخل في اللغة العربية بعد فتح المسلمين لبلاد فارس، وأما لفظ (القرطاس) فهو أقدم في اللغة، وورد في القرآن الشريف، وكان معناه عندهم الصحيفة من الأشياء التي كانوا يستعملونها للكتابة، ثم أطلقوه فيما بعد على الكاغد أيضًا حينما عرفوه، وصاروا يسمون به كل ما يكتبون عليه من الصحف، هذا وإن ما ورد في كلامهم من لفظ (كتاب) كانوا يريدون به ما يطلق عليه في عرفنا اليوم لفظ (خطاب) أو جواب، ومنه قوله تعالى في قصة سليمان: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم} (النمل: 28) ، ومنه كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الملوك؛ يدعوهم إلى الإسلام، ومثل الكتاب: السفر والزبور والسجل والدفتر، فإن معانيها كلها متقاربة، وما كانوا يفهمونها كما نفهمها الآن؛ ولذلك لما جمع القرآن بعد النبي، اختلفت الصحابة في ماذا يسمونه به وتوقفوا؛ لأنهم لم يعهدوا مثله من قبل، ثم استقر رأيهم أخيرًا على تسميته بالمصحف؛ تبعًا لأهل الحبشة في تسمية مجموعاتهم بذلك، والمصحف: الكتاب، بالمعنى الذي نفهمه نحن الآن عند الإطلاق؛ لأنه مأخوذ من أصحف أي جمع الصحف. وكل صحيفة كتاب عند العرب كما ذكرنا، وكانت أيضًا كتب بعض الأمم غير العربية عبارة عن قطع من الجلود أو القماش، يختلف عرض الواحدة منها من 12 إلى14 قيراطًا، وكانوا يلفونها على قضيب من الخشب ملصق بأحد أطرافها كما تلف الخرائط الجغرافية الآن. وهذا هو الطي المذكور في قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُب} (الأنبياء: 104) ولا تزال التوراة مطوية كذلك عند السامريين إلى اليوم. هذا الذي تقدم، ليس خاصًّا بمشركي العرب، بل يشمل أيضًا أهل الكتاب منهم، ولذلك لا نسمع بوجود نسخه كاملة من التوراة أو الإنجيل بينهم كالنسخ الموجودة الآن، ولم يكن عندهم سوى أجزاء قليلة منهما مكتوبة على قطع متفرقة من الجلود أو العظام أو الخشب أو نحوه. فلذا وصفهم القرآن الشريف بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَاب} (آل عمران: 23) ، وخاطبهم بقوله: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ} (المائدة: 15) وقال فيهم: {وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13) وقال لهم:] قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ [1] الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ [أي صحفًا متفرقة (الأنعام: 91) ] تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ [وقال أيضًا: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) وهذا كله يدل على أن كتبهم المقدسة ما كانت تامة ولا محصورة بين دفتين، بحيث لا تقبل الزيادة ولا النقصان، وإنما كانت مبعثرة في رقاع منثورة، وأن بعض صحفهم كان حقًّا والبعض الآخر كان باطلاً. أما ما ورد في القرآن من نحو قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّه} (المائدة: 43) ، فمعناه أن عندهم أجزاء من التوراة فيها حكم الله في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكما يطلق لفظ القرآن ويراد به أجزاء منه، كذلك يطلق لفظ التوراة أو الإنجيل ويراد به بعضها أو أجزاء منها، وهذه مسألة شائعة في القرآن الشريف وفى اللغة، ومن ذلك قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ} (البقرة: 185) أي بعضه أو جزء منه. قدمنا لك هذه المقدمة؛ لتعلم أن العرب ما كانت تعرف الكتاب ولا الورق بمعنييهما عندنا، وأوضحنا لك فيها درجة معرفتهم القراءة والكتابة، وذكرنا لك ما كانوا عليه يكتبون. بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فيهم وحالتهم كما علمت، وأوحي إليه هذا القرآن ليبلغهم إياه، فانظر ماذا فعله هذا الرسول الأمين حتى نشر بينهم الكتاب المبين. علم قوة ذاكرتهم واعتمادهم عليها في نقل أخبارهم وأشعارهم، حتى إن كثيرًا منهم كان يسمع الأبيات من الشعر أو القصيدة الطويلة تتلى عليه فيحفظها من أول مرة، فداوم صلى الله عليه وسلم على حضهم على تلاوة القرآن، وبالغ في حثهم على حفظه وضبطه. وفرض عليهم قراءته في الصلوات، وبقي على هذه الحالة بضعًا وعشرين سنة حتى كثر فيهم القراء، وكانت السورة الواحدة يحفظها الألوف من الناس، والقرآن كله يحفظه الكثيرون منهم. لم يكتف صلى الله عليه وسلم بذلك؛ بل أمر بكتابته، واختار طائفة منهم لتكتبه له على ما تيسر له إذ ذاك من الجلود والعظام والجريد والحجارة وغيره مما كانوا يعرفونه، وأكثر في ترغيبهم في التعلم ومدح القراءة والكتابة بنحو قوله: يوزن يوم القيامة مداد العلماء بدماء الشهداء، ومثل ذلك في الأحاديث كثير. ورد في القرآن الشريف أيضًا قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) وقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) وذم الله تعالى أهل الكتاب بقوله: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (البقرة: 78) وألزم تعالى المؤمنين بكتابة الدَّين في الآية المشهورة في آخر سورة البقرة؛ وبذلك وجدت فيهم الرغبة في تعلم القراءة والكتابة، وأخذ عدد الكاتبين بينهم يزداد شيئًا فشيئًا، وكتب كل ما نزل من القرآن كثير من المسلمين في عهده عليه الصلاة والسلام. ولم يمت إلا بعد أن كانت جميع السور مرتبة الآيات، مكتوبة في السطور عند الكثير منهم، محفوظة في صدور الجماهير وبعد أن سمعوها منه مرات عديدة في الصلوات والخطب وغيرها، وسمعها هو أيضًا منهم. والخلاصة أن النبي عليه السلام تبع أقرب الطرق لتعميم نشر القرآن المجيد بين أفراد الأمة العربية، وعمل أحسن ما يمكن عمله بالنسبة لمعلوماتهم وحالتهم. سمت نفوسهم بعد ذلك للعلا بما بثه فيهم واستعدت للرقي، فلما كثر اختلاطهم بمن جاورهم من الأمم، أخذوا ينقبون ويفتشون في أحوالهم بعيون مبصرة وعقول مفكرة؛ كي يعثروا على جديد يقتبسونه أو إصلاح إلى بلادهم يسوقونه، فبصروا بما لم يبصروا به من قبل. ووجدوا أن لتلك الأمم طريقة أخرى في تدوين معلوماتهم لم تكن تخطر على بالهم. وهي أن يكتبوها على صفحات صحف من نوع واحد، يضمون بعضها إلى بعض مرئية على حسب ترتيب عباراتها، وربما رأوا أنواعًا أخرى من القرطاس أحسن من التي كانوا يعرفونها؛ كأوراق البردي بمصر مثلاً. دعاهم داعي الفزع عند قتل سبعين من القراء يوم اليمامة إلى المبادرة والإسراع في جمع القرآن على طريقة تلك الأمم؛ خوفًا عليه من الضياع من تلك الرقاع المختلفة، فعقدوا في الحال اجتماعًا، واستقر رأيهم إجماعًا على العمل على تلك الطريقة. وهكذا جمع القرآن، ووجد بين العرب أول كتاب بالمعنى الذي نفهمه نحن الآن، وتحقق وعد الرحمن: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر:9) . اختلف المسلمون في ترتيب سور القرآن وطرق قراءته. وتبع ذلك اختلاف مصاحفهم؛ لأن الرسول لم يلزمهم باتباع ترتيب مخصوص في السور، ولم يجمعهم على قراءة واحدة، سور القرآن كل منها ككتاب قائم بذاته كما قال تعالى: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (البينة: 2-3) فليس ثم فائدة كبيرة في التزام ترتيب مخصوص، ولفظ (سورة) مأخوذ من سور المدينة سميت به القطعة المخصوصة من القرآن؛ لأنها طائفة مستقلة بذاتها. فكأنه صلى الله عليه وسلم ترك بين المسلمين 114 كتابًا، كل منها محفوظ مكتوب مرتبة آياته، وجمعها بالطريقة الحاضرة لم يكن معروفًا في عهده، وإنما حدث بعده بقليل، وإن كانت في زمنه مجموعة عند بعضهم في الصحف المتنوعة التي ذكرناها. أما اختلاف القراءات فهو نوعان: اختلاف بسبب اللهجات كالإمالة وعدمها، واختلاف آخر في الكلمات كتغيير شكلها أو إعرابها أو بعض حروفها أو نحو ذلك، ولكل من النوعين فوائد، ففوائد الاختلاف بسبب اللهجات هي: (1) تسهيل نطقه وفهمه وحفظه لقبائل العرب (2) إظهار أنهم يعجزون جميعًا عن الإتيان بمثل سورة منه كما تحداهم بذلك، ولو بلغاتهم المختلفة، وأن عجزهم عن المعارضة ليس ناشئًا عن نزوله بلهجة واحدة لا يعرفها كثير منهم. وفوائد اختلاف الكلمات هي: (1) تسهل حفظه على كل أحد. وبيان ذلك أن من أراد حفظ القرآن كثيرًا ما يسبق لسانه بنطق مخصوص. فإذا علم أن هذا خطأ جاهد نفسه لتقويم لسانه، ولكن إذا علم أن قراءته جائزة لم يحتج إلى هذا العناء مثلاً إذا أراد أن يحفظ قوله تعالى: {كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ * وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ} (الفجر: 17- 18) فيجهد نفسه في العدول عن ذلك، ولكنه إذا علم أن هذه قراءة جائزة لا يحتاج إلى التعب. وهذا الأمر يدركه جيدًا من عانى حفظ القرآن الشريف. ومن ألزم بإصابة غرض واحد لا غير، ليس كمن أبيح له إصابة أي غرض من بين بضعة أغراض. ولا تنس ما لتسهيل حفظ القرآن على الأمة من الفوائد، فإنه أعظم طريقي القرآن في نقله وروايته، وخصوصًا في الأزمنة القديمة وبين الأمم الساذجة. (2) تكثير المعاني، فبتعدد القراءات تكثر المعلومات وتزداد الفوائد. وقد يكون بعض المعاني مبينًا للبعض

كلمة إنصاف واعتراف

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ كلمة إنصاف واعتراف محمد توفيق صدقي يرى الناقد البصير أن ما كتبته في هذه المسألة ينحصر في بحثين، بحث في السنة القولية وبحث في السنة العملية، ثم يرى أن الرادّين عليّ لم يأتوا بشيء في المبحث الأول يشفي عليلاً أو يروي غليلاً. وأن أستاذنا الكبير ومصلح الإسلام العظيم السيد محمد رشيد يوافقني في هذا البحث، بل هو مرشدي الأول. وأما البحث الثاني (السنة العملية) فالشطط الوحيد الذي ارتكبته فيه على ما أرى؛ هو إنكاري وجوب ما فهم الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه دين واجب ولم يكن مذكورًا في القرآن، ولكن أجمع عليه المسلمون سلفهم وخلفهم؛ عملاً واعتقادًا بدون أدنى اختلاف بينهم. وأهم ذلك في الحقيقة مسألة ركعات الصلاة، وأرى أن ما كتبه صاحب المنار الفاضل في هذه المسألة كافٍ في الرد عليّ، فأنا أعترف بخطأي هذا على رؤوس الأشهاد وأستغفر الله تعالى مما قلته أو كتبته في ذلك، وأسأله الصيانة عن الوقوع في مثل هذا الخطأ مرة أخرى. وأصرح بأن اعتقادي الذي ظهر لي من هذا البحث بعد طول التفكر والتدبر هو أن الإسلام هو القرآن وما أجمع عليه السلف والخلف من المسلمين عملاً واعتقادًا أنه دين واجب وبعبارة أخرى أن أصلَي الإسلام اللذين عليهما بني هما الكتاب والسنة النبوية بمعناها عند السلف؛ أي طريقته صلى الله عليه وسلم التي جرى عليها العمل في الدين. ولا يدخل في ذلك عندي السنن القولية غير المجمع على اتباعها، ولا ما كان ذا علاقة شديدة بالأحوال الدنيوية كبعض الحدود ومقادير زكاة المال والفطر والأصناف التي تؤخذ منها؛ وغير ذلك مما لم يذكر في الكتاب العزيز. فأبيح بعض التصرف في أمثال هذه المسائل إذا وجد عندنا مقتض، وبهذا التقرير تزول جميع الإشكالات التي أوردتها في مقالتيّ السابقتين، نسأل الله تعالى الهداية في القول والعمل، والصيانة من الشطط والزلل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي ... ... ... ... ... ... ... الطبيب باسبتاليات سجن طره (المنار) نحمد الله أن ظهر صدق قولنا في الرجل وأنه معتقد، ويذعن لما يظهر له أنه الحق.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (اللص والقاضي) عن محمد بن مقاتل الماسقوري قاضي الري قال: كان محمد بن الحسين يكثر الإدلاج إلى بساتينه فيصلي الصبح، ثم يعود إلى منزله إذا ارتفعت الشمس وعلا النهار، قال محمد بن مقاتل فسألته عن ذلك، قال: بلغني في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (حبب إلي الصلاة في الحيطان) وذلك أن أهل اليمن يسمون البستان الحائط، قال محمد بن الحسين: فخرجت إلى حائط لأصلي فيه الفجر؛ رغبة في الثواب والأجر، فعارضني لص جريء القلب، خفيف الوثب في يده خنجر كلسان الكلب، ماء المنايا تجول على فرنده، والآجال تحول في حده، فضرب يده إلى صدري، وَمَكَّنَ الخنجر من نحري، وقال لي بفصاحة لسان وجراءة جنان: انزع ثيابك واحفظ إهابك، ولا تكثر كلامك، تلاق حمامك ودع عنك اللوم، وكثرة الخطاب، فلا بد من نزع الثياب. فقلت له: يا سبحان الله، أنا شيخ من شيوخ البلد، وقاض من قضاة المسلمين، يُسمع كلامي ولا تُرد أحكامي، ومع ذلك فإني من نقلة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أربعين سنة، أما تستحي من الله أن يراك حيث نهاك. فقال: يا سبحان الله، أنت أيضًا أما تراني شابًّا ملء بدني أروق الناظر وأملأ الخاطر وآوي الكهوف والغيران، وأشرب القيعان والغدران، وأسلك مخوف المسالك، وألقي بيدي في المهالك، ومع ذلك فإني وجل من السلطان، مشرد عن الأهل والأوطان، وأخشى أن أعثر بواحد مثلك وأتركه يمشي إلى منزل رحب، وعيش رطب، وأبقى أنا هنا أكابد التعب، وأناصب النصب، وأنشأ اللص يقول: تُري عينيك ما لم تَرَ إياه ... كلانا عالم بالترهات قال القاضي: أراك شابًّا فاضلاً ولصًّا عاقلاً ذا وجه صبيح ولسان فصيح، ومنظر وشارة، وبراعة وعبارة. قال اللص: هو كما تذكر، وفوق ما تنشر. قال القاضي: فهل لك إلى خصلة تعقبك أجرًا، وتكسبك شكرًا، ولا تهتك مني سترًا؟ ومع ذلك فإني مسلم الثياب إليك، ومتوفد بعدها عليك، قال اللص: وما هذه الخصلة؟ قال القاضي: تمضي معي إلى البستان، فأتوارى بالجدران، وأسلم إليك الثياب، وتمضي على المسار والمحاب. قال اللص: سبحان الله! تشهد لي بالعقل وتخاطبني بالجهل ويحك، من يؤمِّنني منك أن يكون لك في البستان غلامان جلدان علجان، ذوا سواعد شديدة، وقلوب غير رعديدة، يشداني وثاقا، ويسلماني إلى السلطان، فيحكم في آراءه، ويقضي علي بما شاءه، قال له القاضي: لعمري، إنه من لم يفكر في العواقب فليس له الدهر بصاحب، وخليق بالرجل من كان السلطان له مراصدًا، وحقيق بأعمال الحيل من كان لهذا الشأن قاصدًا، وسبيل العاقل أن لا يغتر بعدوه؛ بل يكون منه على حذر؛ ولكن لا حذر من قدر، ولكن أحلف لك ألية مسلم، وجهد مقسم، أني لا أوقع بك مكرًا، ولا أضمر لك غدرًا. قال له اللص: لعمري، لقد حسّنت عبارتك ونمّقتها، وخشّنت إشارتك وطبقتها، ونثرت خيرك على فخ ضيرك، وقد قيل في المثل السائر على ألسنة العرب: (أنجز حر ما وعد) (أدرك الأسد قبل أن يلتقي على الفريسة لحياه ولا يعجبك من عدو حسن محياه) ، وأنشد لا تخدش وجه الحبيب، فإنا ... قد كشفناه، قبل كشفك عنه واطلعنا عليه والمتولي ... قطع أذن العيار، أعير منه ألم يزعم القاضي أنه كتب الحديث زمانا، ولقي فيه كهولاً وشبانا، حتى فاز ببكره وعونه، وحاز منه معنى متونه وعيونه، قال القاضي: أجل. قال اللص: فأي شيء كتبت في هذا المثل الذي ضربت لك فيه المثل، وأعملت الحيل؟ قال القاضي: ما يحضرني في هذا المقام الحرج حديث أسنده، ولا خبر أورده، فقد قطعت هيبتك كلامي، وصدعت قبضتك عظامي، فلساني كليل، وجناني عليل وخاطري نافر، ولبي طائر، قال اللص: فليسكن لبك، وليطمئن قلبك، اسمع ما أقول، وتكون بثيابك حتى لا تذهب ثيابك إلا بالفوائد. قال القاضي: هات. قال اللص: حدثني أبي عن جدي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يمين المكره لا يلزمه فإن حلف وحنث فلا شيء عليه) وأنت إن حلفت حلفت مكرهًا، وإن حنثت فلا شيء عليك، انزع ثيابك. قال القاضي: يا هذا قد أعيتني مضاة جنانك، وذرابة لسانك، وأخذك عَلَيَّ الحجج من كل وجه وجانب، أتيت بألفاظ كأنها لسع العقارب، أقم ههنا، حتى أمشي إلى البستان، وأتوارى بالجدران، وأنزع ثيابي هذه، وأدفعها إلى صبي غير بالغ، تنتفع بها أنت ولا أتهتك أنا، ولا تجري على الصبي حكومة؛ لصغر سنه وضعف متنه، قال اللص: يا إنسان، قد أطلت المناظرة، وأكثرت المحاورة، ونحن على طريق ذي غرر، ومكان صعب وعر، وهذه المراوغة لا تنتج لك نفعا، وأنت لا تستطيع لما أرومه منك دفعا، ومع هذا فتزعم أنك من أهل العلم والرواية، والفهم والدراية، ثم تبتدع وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الشريعة شريعتي، والسنة سنتي، فمن ابتدع في شريعتي وسنتي فعليه لعنة الله) قال القاضي: يا رجل، وهذا من البدع. قال اللص: اللصوصية بنيَّة بدعة، انزع ثيابك، فقد أوسعت من ساعة مجالك، ولم أشدد عقالك، حياء من حسن عبارتك، وفقه بلاغتك، وتقلبك في المناظرة، وصبرك تحت المخاطرة. فنزع القاضي ثيابه ودفعها إليه، وأبقى السراويل. فقال اللص: انزع السراويل؛ كي تتم الخلعة. قال القاضي: يا هذا دع عنك هذا الاغتنام، وامض بسلام، ففيما أخذت كفاية، وخل السراويل فإنها لي ستر ووقاية، لا سيما وهذه صلاة الفجر قد أزف حضورها وأخاف تفوتني فأصليها في غير وقتها، وقد قصدت أن أفوز بها في مكان يحبط وزري، ويضاعف أجري، ومتى منعتني من ذلك، كنت كما قال الشاعر: إن الغراب وكان يمشي مشية ... فيما مضى من سالف الأحوال فأضل مشيته وأخطأ مشيها ... فلذاك كنوه أبا المرقال قال اللص: القاضي -أيده الله تعالى- يرجع إلى خلعة غير هذه، أحسن منها منظرا، وأجود خطرا، وأنا لا أملك سواها، ومتى لم تكن السراويل في جملتها، ذهب حسنها، وقل ثمنها لا سيما والتكة مليحة وسيمة، ولها مقدار وقيمة، فدع ضرب الأمثال واقنع عن ترداد المقال، ما دامت الحاجة ماسة إلى السروال. ثم أنشد: دع عنك ضربك سائر الأمثال ... واسمع، إذا ما شئت فصل مقالي لا تطلبن مني الخلاص، فإنني ... أُفتي متى ما جئتني بسؤال ولأنت إن أبصرتني ذا ... قول، وعلم كامل وفعال جارت عليه يد الليالي فإنني ... أبغي المعاش بصارم ونصال فالموت في ضنك المواقف دون ... أن ألقى الرجال بذلة التسآل والعلم ليس برافع أربابه ... أولا، فقد مسه على البقال ثم قال: ألم يقل القاضي أنه يتفقه في الدين، ويتصرف في فتاوى المسلمين؟ قال القاضي أجل. قال اللص: فمن صاحبك من أئمة الفقهاء؟ قال القاضي: صاحبي محمد بن إدريس الشافعي، قال اللص: أسمع هذا وتكون بالسراويل، حتى لا تذهب عنك السراويل إلا بالفوائد؟ قال القاضي: أجل. يا لها من نادرة، ما أغربها، وحكاية ما أعجبها، قال: حدثني أبي عن جدي عن محمد بن إدريس يرفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة العريان جائزة، ولا إعادة عليه) تأول في ذلك غرقى البحر، إذا سلموا إلى الساحل، فنزع القاضي السراويل، وقال خذها وأنت أشبه بالقضاء مني، وأنا أشبه باللصوصية منك، يا من درس على أخذ ثيابي موطأ مالك وكتاب المزني. ومدَّ يده؛ ليدفعه إليه فرأى الخاتم في إصبعه اليمنى فقال: انزع الخاتم. فقال: إن هذا اليوم ما رأيت أنحس منه صباحا، ولا أقل نجاحا، ويحك ما أشرهك وأرغبك، وأشد طلبك وكلبك، دع هذا الخاتم، فإنه عارية معي، وأنا خرجت ونسيته في إصبعي، فلا تلزمني غرامته. قال اللص: العارية غير مضمونة ما لم يقع فيها شرط عندي، ومع ذلك أفلم يزعم القاضي أنه شافعي؟ قال: بلى. قال اللص: فلم تختمت في اليمنى. قال القاضي: فأنا أعتقد ولاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وتفضيله؛ على كل المسلمين من غير طعن على السلف الراشدين، وهذا في الأصول اعتقادي، وعلى مذهب الشافعي في الفروع اعتمادي، فأخذ اللص في رد مذهب الرفض، وجرت بينهما في ذلك مناظرة طويلة، رويناها بهذا الإسناد، انقطع فيها القاضي، وقال بعد أن نزع الخاتم ليسلمه إليه: خذ يا فقيه، يا متكلم، يا أصولي، يا شاعر، يا لص. اهـ (من طبقات الشافعية الكبرى) . *** (شرح عقيدة السفاريني) للشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي (رحمه الله تعالى) عقيدة منظومة اسمها: (الدرة المضية في عقد الفرقة المرضية) بلغني أن الشيخ حسن الطويل (عليه الرحمة) ، قال لما اطلع عليها ما معناه: إن هذه أول عقيدة إسلامية اطلعت عليها. ولناظمها شرح مطول عليها سماه (لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية) . جمع فيه المؤلف أقوال السلف والخلف، ومذاهب الفرق في مسائل الاعتقاد، وبين رجحان مذهب السلف على غيره، مؤيدًا ذلك بالدلائل النقلية، وكذا العقلية، فيما يستدل على مثله بالعقل، واقتبس جل تحقيقاته فيه من كلام الإمامين الجليلين: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم، عليهما الرحمة والرضوان، فجاء كتابًا حافل الري، جامعًا لما لم يجمعه غيره من المأثور والمروي، كثير الفوائد، جم الأوابد والشوارد، لا يكاد يستغني عنه طالب السعة والتحقيق في العقائد الإسلامية، أو يحيط بما في كتب ابن تيمية وابن قيم الجوزية. نعم إنه ينكر عليه كثرة الروايات والأقوال المأثورة في أشراط الساعة، ونحوها من المسائل التي ليست من العقائد الدينية، ومنها ما لا يصح له سند، ولكن من يعلم أنه لا يجب عليه أن يعتقد ما لا يقوم عليه البرهان، لا يضره إيراد ذلك، وقد ينفعه الاطلاع على تلك الأقوال، فيستخرج من مجموعها ما يحق الحق ويبطل الباطل. وجملة القول: إن هذا الكتاب لا يستغني عنه بشيء من كتب العقائد التي يتداولها طلاب العلم، وكلها من وضع المتكلمين الذين جروا على طريقة فلاسفة اليونان، ليس فيها بيان لمذهب السلف يجلي حقيقته، ويوضح طريقته، بل فيها ما يشعر بأن مذهب السلف هو التمسك بالظواهر من غير فهم ثاقب، ولا علم راسخ، وأن الخلف أعلم منهم، وهيهات هيهات لذلك، بل السلف أفهم، وأعلم، وأحكم، وما خالف المتكلمون فيه السلف فهو جهل مبين، أو نزغات شياطين، وبمثل هذا الكتاب تعرف ذلك. رغب في نشر هذا الكتاب بعض محبي العلم والدين؛ من العرب الكرام المخلصين، فأرسل إلينا نسخة خطية منه، فطبعنا له عنها عددًا معينًا، جعله وقفًا لله - تعالى - يوزع على طلاب العلم السلفيين في بلاد مختلفة، وطبعنا منه على نفقتنا طائفة من النسخ زيادة عن النسخ الموقوفة، بإذن الطابع الواقف، وهي تباع بمكتبة المنار بشارع درب الجماميز بثمن قليل بالنسبة حجم الكتاب، وحسن ورقه وطبعه. جعل الكتاب جزأين، صفحات الأول 388 والثاني 448، ووضعنا له فهرسًا مرتبًا على حروف المعجم؛ لتسهيل مراجعة فوائده الكثيرة المطوية في مباحثه المختلفة، وجدولاً للخطأ والصواب، فدخل ذلك مع ترجمة المؤلف في 38 صفحة فمجموع صفحات الكتاب 864 ورقة كورق المنار، وثمن النسخة منه غير مجلدة عشرون قرشًا صحيحًا، ما عدا أجرة البريد. *** (الوجيز في القانون الجنائي) عمر بك لطفي من أشهر علماء القوانين في هذه الديار، أتقنها علمًا وتعليمًا وعملاً، فقد كان مدرسًا بمدرسة الحقوق، ووكيلاً لها زمنًا طويلا، والآن تحسبه مدرس شرف فيها، وهو الآن يشتغل بالمحاماة وبتدريس القانون الجنائي بمدرسة البوليس. وقد ألف في هذه الأيام كتابًا في القانون الجنائي سماه (الوجيز) ،

استقالة اللورد كرومر وتقريره

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استقالة اللورد كرومر وتقريره ما كاد اللورد كرومر يتم تقريره السنوي عن مصر والسودان، حتى عرض له في معدته مرض شديد حتى صار يُغَذَّى بالحقن، وحتى لم يسطع الحفاوة بأخي ملك الإنكليز الذي زار مصر في هذه الأيام كما يجب، وحتم عليه الأطباء الاستقالة من منصبه، وترك الأعمال العقلية بتة، فكتب إلى حكومته بذلك؛ فرَاجَعَتْه عسى أن يثني عزمه؛ فلم يفد ذلك، فقبلت استقالته مع إظهار الأسف العظيم على اضطراره إلى ترك الخدمة، والثناء العاطر عليه الذي شارك الحكومة فيه جميع أحزاب الأمة. وقد صرحت الحكومة تصريحًا رسميًّا بأن سَتُسَيَّر في مصر على طريقته، وتعمل بما أرشد إليه في تقريره الأخير، وهذا التقرير هو أشد التقارير وطأة على الوطنيين؛ لا سيما الذين يعرفون بالحزب الوطني، من حيث ما يراد فيه من تغيير نظام الجنسية المصرية، ومحاولة إقناع دول أوروبا بترك الامتيازات، والاستغناء عنها بمجلس تشريع وطني؛ معظم أعضائه من رعايا هذه الدول؛ وباقيهم من الوطنيين. ومما نقل عن التقرير، فكان شديد الوقع على نفوس المسلمين، كلام في الشريعة الإسلامية فحواه: أنها لا تصلح لهذا الزمان. وكلام فيما يسمونه الجامعة الإسلامية، وكلام عن المستر دنلوب في اللغة العربية، وإننا ننتظر صدور نسخة التقرير العربية؛ لنقرأها ونبين ما هو الحق في الشريعة، ومعنى كونها خاتمة الشرائع الإلهية. أما اللورد نفسه فهو بما عمل في مصر، يعد من أعظم السياسيين في هذا العصر، وقد اعترف له الوطنيون مع الأجانب بالنزاهة التامة، وترقية مالية البلاد وتكثير مواردها، واحترام استقلال القضاء والحرية الشخصية فيها، وناهيك بحرية المطبوعات، ويشكو منه الوطنيون أنه لم يرق المعارف، ولم يزد مصر إلا بعدًا عن الاستقلال. ويقولون: إن نجاحه الذي ظهرت به عظمته، يقوم على ثلاثة أركان: مزاياه الشخصية وثقة حكومته به، ومساعدتها إياه في كل ما يطلب، وطول الزمن الذي صرفه في مصر، ونسوا ركنًا رابعًا: وهو طبيعة مصر وأهلها، فمصر تواتي كل حاكم قوي، وتخضع لإرادته في كل ما يريد منها، ولولا استعداد القابل لما ظهر استعداد الفاعل، والحكيم من يراعي في عمله الاستعداد الطبيعي فيما يعمل فيه، ولو وجد في أمرائها رجل كاللورد كرومر، لعمل فيها خيرًا مما عمل اللورد؛ لأن أميرها كان يراعي مصلحتها من كل وجه خالصة لها، واللورد كان ينظر إلى مصلحة دولته أولا، وإلى مصلحة مصر ومصالح دول أوروبا ثانيا. وقد اهتزت مصر وأوروبا لاستقالته، وخاف الماليون على أموالهم، والأحرار على حريتهم من بعده، واستحسن بعض النزلاء والوطنيين أن يعمل له تذكار في مصر. وكانت جريدة المؤيد و (الجريدة) ، أكثر الجرائد المصرية اعتدالا في الكتابة عنه. وأفضل ما استفادت مصر في هذه المدة؛ مدة اللورد كرومر أو الاحتلال، استيقاظ الشعور بوجوب الاستقلال الذاتي، أو الاعتماد على النفس في الرقي. استيقظ هذا الشعور في بعض النفوس، ولولا أن أكثر الجرائد شغلت الأمة عنه بالأماني والأوهام؛ لانتشر انتشارا عظيما، ولجاء بالإصلاح المبين. شغلت الأمة عن نفسها بمقاومة الاحتلال؛ ولكن بالأماني والغرور، وبالطعن في الحكومة؛ لأنها تواتي الاحتلال، وبمطالبة الحكومة مع ذلك بكل ما يرقيها، ويرفع شأنها، بذلك نسيت نفسها، فلم تتعاون على الأعمال الاستقلالية، ولم يوجد فيها معاهد للتربية الملية، والتعليم الذي يقصد به الرفعة والكمال؛ من غير طريق الحكومة. بل لم يوجد فيها عون ولا نصير، لذلك الأب البر الرحيم (الأستاذ الإمام رحمه الله) الذي أراد أن ينتهز هذه الفرصة؛ لإصلاح الأزهر على عمله هذا، ولكنه وجد بعض الأعوان على النهوض بجمعية خيرية إسلامية، فنهض بها. هذا وقد ابتدأت الأمة؛ تشغل نفسها بما يوهمها الموهمون من سياسة خلف اللورد كرومر، وهو أنها ستكون مرقية للشؤون المعنوية، كما رقي اللورد كرومر بالشئون المادية. وإننا ننصح لها بأن لا يشغلها عن استعدادها الذاتي شاغل، وأن تعلم أن من لا يرقي نفسه لا يرقيه غيره، وأن أفضل ما يمكن أن تستفيده من الإنكليز هو تمكينها من ترقية نفسها بالتربية والتعليم الذي تقوم به، وهي بثروتها قادرة عليه، وما بينها وبينه إلا أن تتوجه بتوفيق الله - تعالى - إليه. ويظن أن الأمير سيكون أشد مواتاة؛ للسير (ألدن غورست) خلف اللورد كرومر على عمله بمصر منه لسلفه، وأن السير يكون أكثر تساهلا من اللورد مع الماليين؛ فيما ينشئون من الشركات، ويعمرون من أرض الحكومة، ولا يظن أنه يكون أوسع منه صدرًا لمشاغبات الصحف، وأقرب مودة للحرية، وجملة ما يقال أن السياسية الإنكليزية لا تتغير في مصر؛ بذهاب إنكليزي ومجيء إنكليزي.

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار كتب إلينا أحمد أفندي الألفي ينتقد علينا أمورًا؛ إجابة لدعوة المنار إلى الانتقاد عليه، ولكن ما انتقده آراء في تحرير المجلة وإدارتها وكتابة التفسير، وهو على ما فيه من الفائدة لنا، ليس مما ندعو إليه، إنما ندعو إلى انتقاد ما يراه أهل العلم في المنار باطلا، وبيان ذلك بالدليل، ولعل منه قوله: مغالاتك في الجريدة حتى أخذت (بالفأل) ووضعت المجلة موضع المتشيع للجريدة، وظنه أنني اشتغلت عن المنار بالتحرير فيها. وهكذا رأيت كثيرًا من الناس، ينسبون إليَّ أكثر ما يكتب في (الجريدة) ويظنون أنني من محرريها، والحق أنني ساعدتها بعدة مقالات في أوائل ظهورها، وأنا أحسن الظن بها، وإذا كتبت فيها فإنما أكتب في موضوع أدبي أو اجتماعي، لا في سياسة مصر ولا أكتب عن لسانها، وأما العناية بتقريظها فسببه هضم الناس لها بغير حق، وكونها تنفيذًا لرأي الأستاذ الإمام، وإن لم تكن كما كان يريد من كل وجه (والفأل) ذكر فكاهة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل الحسن.

تاريخ المصاحف ـ 2

الكاتب: موسى أفندي جار الله الروسي

_ تاريخ المصاحف (2) هذا ما وعدنا بنشره مما كتبه صاحبنا موسى أفندي جار الله الروسي قال: (قال العلماء: أول ما نزل من القرآن {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} (العلق: 1-4) ولم ينزل بعده شيء إلى ثلاث سنوات (وتسمى هذه السنوات زمن فترة الوحي) ، ثم أخذ القرآن ينزل في تضاعيف عشرين سنة {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: 106) ، {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} (الفرقان: 32) ، فمنه ما نزل مفرقًا وهو غالب القرآن، ومنه ما نزل جمعًا كالفاتحة، والإخلاص والكوثر وأغلب الأنعام. وكلما نزل عليه صلى الله عليه وسلم آية أو سورة وسري عنه، كان يُقرئ الصحابة ما نزل ويستحفظهم فيحفظونه على الفور عن ظهر قلب، ويعتنون بذلك تمام الاعتناء؛ لأن الحفظ الحرفي في عصر الرسالة وزمن النزول كان من أعظم العبادات وأقرب القرب، وكانوا إذا حفظوا آية من النبي - عليه السلام - يترددون عليه غير مرة؛ ويتلونها أمامه حتى يزداد تثبتهم من حفظها وأدائها، ويسألونه هل حُفظت كما أنزلت حتى يقرهم عليها، وبعد إتقان الحفظ والتثبت في تمام الضبط، أخذ كل واحد منهم ينشر ما حفظ: كانوا يعلِّمونه للأولاد، والصبيان، وللذين لم يشهدوا النزول ساعة الوحي من أهل مكة والمدينة، ومن حولهم من الناس، فلا يمضي يوم أو يومان إلا وما نزل محفوظ في صدور جماعة غير محصورين، وقد عين جماعة عظيمة من الصحابة على حفظ القرآن وإقرائه، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -إلى المدينة قبل الهجرة جماعة من حفظة الصحابة؛ يعلمون القرآن لأهل المدينة وأولادها، وكان الرجل إذا هاجر إلى المدينة دفعه النبي- عليه السلام -إلى رجل من أولئك الحفظة يعلمه القرآن، ولما فتح مكة ترك فيها معاذ بن جبل لذلك. وكان من أكابر الصحابة - وهم ألوف- من يعتني بتعرف فقه القرآن ومعانيه وإتقانه حفظًا وكتابة. كانوا لا يأكلون نهارهم، ولا ينامون ليلهم باهتمامهم واشتغالهم بضبط الآيات وحروفها ووجوهها، وكان بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم صيحة وزجل بتلاوة القرآن، وكان النبي يسمع إلى الملأ منهم، ويحمد الله على أن جعل في أمته أمثالهم. وبمثل هدا الاهتمام التام لإتقان القرآن في صدر الإسلام، حفظه ألوف من الصحابة في تضاعيف عشرين سنة. وحيث إن القرآن كان ينزل مفرقًا منجمًا، ويحفظه الذين يعتنون به على مهل ومكث في تضاعيف سنوات كثيرة، وذلك أعون في الحفظ وأيسر للذكر. وأكثر من حفظه كان شرع في حفظه من صباه، وزد عليه ما كان للنبي - عليه السلام - المعصوم من نسيان القرآن، من كمال الاعتناء والاهتمام بالترغيب في حفظه، والأمر بتعاهده، فكل من تأمل أدنى تأمل، يتبين ويقطع أن القرآن قد حُفِظ في الصدور بتمام الإتقان وأرسخ الحفظ وأتم الضبط وكامل البيان، وقد نطقت الأحاديث، ودلت الآثار على أن النبي- عليه السلام - كان يوقف أصحابه على ترتيب آيات السور، ويعلِّمهم مواضعها من السورة نصًّا، وكان يقرأ السورة في الصلوات وغيرها، ويسمعونه فيعرفون من ذلك ترتيب الآيات، فالصحابة ضبطت عنه عليه السلام ترتيب آي كل سورة ومواضعها، كما ضبطت عنه نفس الآيات وتلاوتها. وكانت السورة مرتبة لحديث أحمد وأبي داود في تحزيب القرآن، وحديث (واثلة) في إعطاء السبع الطوال والمئين والمثاني؛ بدل الكتب الثلاثة السماوية والتفضيل بالحواميم والمفصل، والأحاديث تدل على أن النبي- صلى الله عليه وسلم - كان يختم القرآن وأن الصحابة كانوا يختمون عنده عدة ختمات، وكل ذلك يدل دلالة واضحة على أن القرآن كان محفوظًا في صدور ألوف من الصحابة، مجموعًا مرتبًا على ترتيب معلوم عند كل واحد منهم. قال معاذ: عرضنا القرآن على النبي عليه السلام- فلم يعب منا أحدا. وكان للنبي عليه السلام كَتَبة؛ يكتبون فورًا كل ما نزل إليه على الصحائف والقراطيس من الرقوق والأوراق غالبًا، وعلى الألواح وعسب النخل أحيانًا. كان النبي -عليه السلام- يملي عليهم مباشرة، بقول: إن هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في سورة كذا. وكان كتابة ما نزل من القرآن ملتزمة منهم. حتى زمن الاختفاء في أوائل الإسلام، إذ كان المسلمون يتدارسون القرآن من الصحائف في البيوت، وكان المشركون يدعون الدراسة إذ ذاك الهينمة [1] من شواهد حديث عمر قبل إسلامه مع أخته وختنه. وكانت العرب تكتب كل شيء نفيس أو مهم عندهم، كالأشعار الفصيحة، والخطب البليغة من شواهد ذلك القصائد المعلقة، والصحيفة التي أكلتها الأرضة. وكان كثير من الصحابة لهم علم بالقلم، وكان أنس بن مالك يقول: هذه أحاديث سمعتها من رسول الله وكتبتها وعرضتها، وكثير من هؤلاء كانوا يكتبون في الصحائف كل آية حفظوها، ويعرضونها على النبي -عليه السلام - وعين من هؤلاء جماعة على كتابة الوحي، كانوا متمكنين من الكتابة باللسان العربي كل التمكن كعلي وعثمان وعمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وأنس بن مالك وعبد الله ابن سلام وغيرهم. فكان النبي يملي عليهم مباشرة؛ فيكتبون ما نزل بحضرته، ويعرضون عليه مرة بعد أخرى حتى يقرهم. بهذا الكيفية كتب القرآن من أوله إلى آخره في حياة الرسول على صحائف وقراطيس متفرقة، وكانت هذه الصحائف والقراطيس أغلى عندهم من أنفسهم، وأنفس من كل نفيس، وأحب إليهم من كل حبيب جليس. يدل عليه أحاديث رويناها في تنافسهم في حفظ هذه الصحائف والقراطيس، وفي حبهم التبرك بها أحيانًا في المجالس. وكل ما ذكرته عن شأن حفظ القرآن في الصدور، وما أجملته بعد ذلك في كيفية جمعه في الصحائف وأثبته في السطور، يدل دلالة قطعية باهرة على أن القرآن زمن النبي -عليه السلام -كان مجموعًا مرتبًا على ترتيب معلوم؛ محفوظًا في الصدور مكتوبا على ترتيب الحفظ في السطور والأحاديث متضافرة متساعدة في ذلك. ولأن إهمال الحفظ والكتابة والترتيب من النبي، ومن ألوف مؤلفة من الصحابة الذين يتيقنون أن السبب في عزهم وسعادتهم هو القرآن، وأنه هو أساس دينهم وشريعتهم، وأنه هو الذي يقربهم إلى الله -عز وجل - والذين كانوا يبذلون جميع ما يستطيعون وما يتصوره العقل في سبيل حفظه كما أنزل مصونًا عن أدنى شائبة - الإهمال من مثل هؤلاء شيء محال لا ريب فيه. ثم توفي رسول الله يوم أكمل الله لنا ديننا ورضي لنا الإسلام دينا، والإسلام قد ظهر في جميع جزيرة العرب؛ وفيها مدن وقرى كثيرة كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي وبلاد مضر وربيعة وقضاعة والطائف ومكة كلهم قد أسلم، وبنوا المساجد ليس فيها مدينة ولا قرية ولا حلة أعراب إلا وقد قرئ فيها القرآن في الصلوات، وعلمه الصبيان والنساء وكتب. ومات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون كذلك؛ ليس بينهم اختلاف في شيء أصلا، كلهم أمة واحدة، ودين واحد، ومقالة واحدة، ثم تولى الأمر أبو بكر سنتين وستة أشهر فغزا فارس والروم وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس القرآن، وجمع الناس المصاحف جمعًا مبتدأ، كأُبيّ وعمر وعثمان وعلي وزيد وابن مسعود وسالم. ولم يكن بين المسلمين اختلاف في شيء زمن خلافته، وما كان من ظهور الأسود العنسي في صنعاء ومسيلمة باليمامة وانقسام العرب أربعة أقسام: طائفة ثابتة على الطاعة، وطائفة مانعة للزكاة، وطائفة معلنة بالردة، وطائفة متوقفة متربصة لمن تكون الغلبة. فقد أَخرَج إليهم أبو بكر البعوث، وجهز إليهم عصابة من المسلمين فقتل الأسود ومسيلمة، ولم يمض عام واحد حتى راجع الجميع الإسلام، فلم تكن هذه الفتن إلا كنار اشتعلت فانطفأت للساعة. فبعد أن سكنت هذه الفتن، أحس عمر الفاروق بضرورة جمع القرآن في كتاب واحد؛ على مشهد من جميع الصحابة وملأ من الحفظة والكتبة، ولما استقر رأي أبي بكر وعمر على ذلك، أحضرا زيد بن ثابت، وأبديا له ما عزماه. واستعظم زيد ذلك أولا، واستسهل نقل الجبل، شأن كل مقتدر على عظام الأمور، يقدر الأمر حق قدره، محتاط عاقل، لا يغفل عما يلزم عليه في القيام بأعظم المصالح عن كمال الاقتدار، وواجب الاحتياط، وعظيم التثبت، وبالغ الجد والاجتهاد، ووفور السعي، غير مغتر بما له من الخصال، وإن كان فردًا مفردًا فائقًا على أقرانه وأهل عصره. ووافق أخيراً فعزم على ما عزما عليه. والإنسان مهما بلغ فى الاقتداروعلو الهمة، قد يكون إذا وقع عليه أمر عظيم وعزمه وتصوره من جميع وجوهه؛ غير غافل عن وسائل تحصيله وأسباب الوصول إليه يعتريه طبعًا نوع من التردد وشيء يشبه التوقف. لكنه لا يلبث فيزول، ويمضي العازم على عزمه، وجمع أبو بكر الحفظة المشهود لهم بالضبط والإتقان. وكان أهمهم زيد وأبي بن كعب وعثمان وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن السائب وخالد بن الوليد وطلحة وسعد وحذيفة وسالم وأبو هريرة وعبادة بن الصامت أبوزيد وأبو الدرداء وأبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص واجتمعوا برياسة زيد بن ثابت في منزل عمر ليتشاوروا في كيفية جمعه وتخصيص أعمال كل واحد منهم. ثم أخذوا يوالون اجتماعاتهم في مسجد المدينة؛ لكتابة القرآن. وكلهم كانوا يحفظونه عن ظهر قلب، وكانوا قد اعتنوا قبل بكتابته جملة مرار من ذاكرتهم ليتحققوا من ضبطهم له وحفظهم إياه، وجاء من كان كتب مصحفًا بمصحفه، وأحضروا كل الصحائف والقراطيس التي كتبوا فيها القرآن بحضرة النبي -عليه السلام - وإملائه، وعهدوا إلى بلال أن ينادي بأنحاء المدينة، أن من كانت عنده قطعة عليها شيء من القرآن، فليأت بها إلى الجامع، وليسلمها إلى الكتبة المجتمعين لجمع القرآن على مشهد الصحابة، وجيء بعدد كثير من القطع، وما كانوا يقبلون قطعة حتى يتحققوا أنها كتبت بين يدي النبى وحضرته؛ إذ كان غرضهم أن لا يكتب إلا من عين ما كتب بين يديه، وما كانوا يفعلون ذلك إلا مبالغة في الاحتياط، ومغالاة في التحفظ، وإيغالا في الضبط. وكانوا يقابلون القطع بعضها ببعض لئلا يبقى مجال شك في تمام الضبط. وكتب القرآن زيد بن ثابت جميعه. قال زيد: حتى وصلنا إلى آية {لَقَدْ جَاءَكُمْ} (التوبة: 128) من سورة التوبة ففقدناها، وفتشناها لنجدها مكتوبة ثم وجدناها مكتوبة عند أبي خزيمة ابن أوس بن زيد الأنصاري. وقال زيد: حتى وصلنا إلى سورة الأحزاب، ففقدت آية من سورة الأحزاب حين نسخت الصحف، قد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها فالتمسناها لنجدها مكتوبة، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب: 23) فألحقناها في سورتها في المصحف وتم جمعه. وجمع عمر جميع الحفظة والصحابة وقرأه عليهم. ولم يقع من أحد منهم اعتراض حين العرض، ولم يسمع ولم يظهر بعد أيضا. وبعد إجماع أكابر الصحابة على هذا الترتيب في هذا المصحف، لا يمكن أن يقال أنهم رتبوا ترتيبًا سمعوا النبي -عليه السلام -يقرأه على خلافه. وإجماعهم على هذا الترتيب وإقرارهم عليه بلا خلاف من أحد منهم؛ أقوى برهان على أنهم وجدوا ما أفادهم علمًا لا يدع عندهم ريبا. فتقرر أمر القرآن تقريرًا قطعيًّا في هذا المصحف. وكان ذلك أعظم فرض قام به سلفنا الصحابة، وأهم شيء حدث في الإسلام

منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق [*] (1) سأل سائل بترعة السويس هل كانت نافعة للمسلمين أو الشرقيين أم ضارة بهم؟ فأجاب غير واحد بأنها كانت مثار المضار، وبركان الأخطار، لولاها لما جاس الأوروبيون خلال هذه الديار، ولما تمكنت سلطتهم في كثير من الأقطار، وأجاب واحد ممن حضر بأنها كانت نافعة أكثر مما كانت ضارة؛ إذ لولاها لكان أهل الهند والأفغان كأهل مراكش في جهلهم وغفلتهم، وجفوتهم للمدنية وفنونها التي وصلت إليها في هذا العصر، بل ولكانت مصر التي تزهو بعمرانها الآن خرابا يؤدي ذكران البوم العشرات من قراها مهورًا لإناثها؛ على الطريقة التي كانت متبعة عند البوم في الزواج على عهد إسماعيل باشا. ناهيك باليابان وما صارت إليه، وبالصين وما تشرف عليه. يسهل على غير الخبير المحقق في طبيعة الاجتماع، العارف حقيقة حال الهند والأفغان ومراكش ومصر، أن يماري في القول مراءً ظاهرًا أو غير ظاهر، وأن يستفتي أمثاله: أليس الفرق عظيمًا بين الهند التي كانت زاهية على عهد السلطنة التيمورية، بالمعارف والصنائع الوطنية، مستغنية بنفسها عن أوروبا وسائر العالم، وبين مراكش التي كانت ولا تزال تغلب عليها البداوة، بجهالتها، وغباوتها، وعصيانها لكل نظام؟ أليس كل ما ينسب إلى الأفغانيين من الفضل هو تجافيهم عن المدنية الأوروبية، ومنع الأوربيين أن يساكنوهم في بلادهم أو يتجروا فيها آمنين؟ ولولا ذلك لضاع استقلالها وكانت ولاية من ولايات الهند. ألم تأخذ مصر بأسباب المدنية الأوروبية من عهد محمد علي باشا وهي على استقلالها؟ ألم تدخل في أول ولاية محمد توفيق باشا في طور جديد من إصلاح، خابت به آمال طلاب الزواج من البوم بالقرى والمزارع التي آلت إلى الخراب؟ كل هذا يقال في الاستفتاء، ويقال أكثر منه، ويكون نص الفتوى عن كل سؤال: بلى. وهي كلمة يكتفي بمثلها مشايخ الإسلام في الآستانة إذ يجيبون بكلمة (أولور) في مقام الإيجاب، وبكلمة (أولماز) في مقام السلب، وبعد ذلك يأتي الحكم على الأوروبيين كافة بأنهم ما جاؤوا الشرق بخير ما ولا منفعة، بل جاؤوا بشرور ومضار أعظمها إزالة استقلاله، وأي خير أو نفع يوزن بسلب الاستقلال، حتى تصح المقابلة بين منافع الأوروبيين ومضارهم في الشرق؟ هذا هو الحكم الذي يرمي قاضيه عن قوس عقيدة الجماهير، والجماهير في الشرق جاهلون بالسياسة راغبون عنها، ويقل في المشتغلين منهم بها والباحثين عنها من يحيط بأطراف مسائلها، ويعرف المطالب ببراهينها ودلائلها، ولولا أن هؤلاء العارفين قليلون فينا، لما كنا نشكو مرض الأمة الذي يعبرون عنه بلفظ التأخر والانحطاط. وهؤلاء العارفون القليلون لا يرضون بهذا الحكم، وإنهم لأعلم من غيرهم بقيمة الاستقلال الذي عبث به الأوروبيون، وبأنه لا يوزن به شيء. ولكنهم يعطون كل شيء حقه ثم يوازنون بين الأشياء، لا يمنعهم من ذلك أن يكون في إحدى كفتي الميزان؛ ما يَرجَح بكل ما يوضع في الأخرى. على هذه الطريقة القويمة نسير في بيان منافع الأوروبيين ومضارهم في الشرق، بعد تمهيد مقدمات تعين على فهم مرادنا من المقابلة وهي: (1) إننا نريد بالمنافع كل ما يزيل شيئا من شقاء الأمة أو يزيد في سعادتها، فيدخل فيها أمور الصحة ولا سيما مطاردة الأوبئة، وأمور المعاش والكسب ولا سيما ترقية الزراعة، وتأسيس الشركات المالية، ويدخل فيها العلم والتربية، والآداب، وأمور الاجتماع، وتدبير المنزل، والعلم بالإدارة، والسياسية، وأصول النظام، وغير ذلك، مما ينقل الأمة من طور أدنى إالى طور أرقى. (2) إننا نريد بالمضار ما يقابل المنافع بجميع وجوهها التي أومأنا إليها آنفا، وهو كل ما تصير به الأمة إلى حال شر مما كانت عليه، في أفرادها، وبيوتها وهيئتها العامة سواء كان ذلك من جهة البدن كالمعاش والصحة، أو من جهة النفس كالعلوم والأخلاق والآداب، وإن شئت فقل كما يقول كُتَّاب العصر من الجهة المادية والجهة الأدبية، ويدخل في الجهة الأدبية الدين. (3) إننا نريد بالأوربيين كل ما يتناوله اللفظ، لا الحاكمون منهم خاصة. (4) إن المقابلة التي نوازن بها بين المنافع والمضار إضافية، أي إننا ننسب حال الأمة بعد اختلاطها بالقوم إلى حالها قبله، لا إلى ما ينبغي أن تكون عليه من الكمال، ولا إلى ما عليه الأمم الأوروبية في أنفسها، ولا إلى ما تهوى عامتنا أو خاصتنا أن نكون عليه. (5) إن الكلام في المقابلة لا يتناول نيات القوم ومقاصدهم فينا، وإنما هو خاص بالأثر الطبيعي لدخولهم في البلاد، سواء جاء على وفق ما يقصدون أو على ضده. (6) إن الغرض من بيان المنافع التنويه بها، والتنبيه إلى الاستزادة منها ومن بيان المضار، تقبيحها والتنفير عنها، ووراء ذلك تلبية نداء التاريخ بتخليد هذه الحقيقة في ألواح الصحف، سالمة من نزعات تعصب الجاهلية، محفوظة من نزغات الأهواء السياسية؛ لأن مدونها يحبها لذاتها، ولا يخاف في تقريرها لومة لائم، ويحب أن يكون المسلمون وسائر أهل الشرق على هدى وبصيرة فيما يأخذون، وفيما يتركون. (7) إنه لا يفقه هذا الموضوع حق الفقه، إلا من كان عارفًا تاريخ الشرق حق المعرفة، خبيرًا بأخلاق الناس فيه، وعاداتهم، وطبائع الأمم، وأحوال الاجتماع، وشئون السياسة، ونحن لا نكتب هذه المقارنة والموازنة لمثل هذا العالم الاجتماعي النحرير، وإنما نكتبها للجمهور الذي لا يعرف من حال نفسه، وحال من يعيش معهم، إلا ظواهر غرَّارة لا تنفذ بصيرته إلى شيء مما وراءها، وإن كان يوجد في أفراده من يظن أنه أحاط بما هنالك علما، وقتله فقهًا وفهما. من مسائل علم الاجتماع، أن الأفراد والأمم المؤلفة منها تقتبس ممن يخالطها ويجاورها ما يناسب استعدادها. فالأفغانيون لما كانوا أهل حرب، وأولي قوة وبأس، اقتبسوا من الأوروبيين النظام العسكري؛ وما يتبعه من الاستعداد للحرب والكفاح. والسوريون لما عرف من استعداهم القديم للتجارة، كان أول شيء استفادوه من الأوروبيين فنون التجارة وطرقها الجديدة حتى بذوهم في ذلك، فقد كان معظم تجارة سوريا الكلية ببيروت في أيدي الأجانب، فغلبهم عليها من كانوا يخدمونهم من الأهالي حتى لم يبق لهم منها إلا أقلها. والمصريون وهم أهل حرث وزرع، قد استفادوا منهم في ترقية زراعتهم؛ ما سبقوا به جميع الزراع في المشرق. وكذلك يكون اقتباس المضار على حسب الاستعداد، فلابد من تدبير هذه القاعدة الاجتماعية فيما نذكر من المقابلة والموازنة في الفصول الآتية. (2) نبتدئ بذكر المنافع والفوائد التي استفدناها بمخالطة الأوروبيين والاتصال بهم وفي اقتباس علومهم ومعرفة أحوالهم وشئونهم، فنعد منها ما يسبق إلى الذهن أنه الأهم، ونختار في سردها معدودة لفظ الفوائد فنقول: الفائدة الأولى استقلال الفكر رأيت في يد أحد طلاب العلم جريدةً جديدةً، وكنت تلميذًا في فرقته، ورأيته يغمطها، ويدعي أنه يقدر على إنشاء جريدة خير منها. فقلت له: إنني لا أدعي مثل هذه الدعوى، فإن كنت واثقًا، فاكتب لي مقالة في موضوع اجتماعي أو سياسي، مما تبحث في مثله الجرائد. قال: اقترح. قلت: اكتب لي مقالة في الاستقلال، فسكت ولم يرجع إلي قولا، ولا كتب شيئا. عزمت على أن أكتب شيئًا في استقلال الفكر، ولم أفرغ له إلا بعد ثماني ساعات، لم تخطر في بالي فيها تلك الواقعة. ولكن كانت أول ما سبق من الذهن إلى القلم عند الكتابة، وما أثبتها عبثا ولا فكاهة؛ بل أردت أن أنبه القارئ إلى جلال الموضوع الذي لا أزال أجله من ذلك اليوم؛ عسى أن يهبه من انتباهه ما يليق به لا سيما إذا كان يحب الاستقلال لنفسه ولأمته. يكثر في الجرائد ذكر استقلال الأمم والشعوب، وقلما تذكر شيئًا في استقلال الأفراد الذي هو أصل استقلال الجماعات الكبيرة؛ التي تسمى أممًا وشعوبا. استقلال الآحاد نوعان: استقلال الفكر، واستقلال الإرادة. وهذان النوعان هما الجناحان للإنسان يطير بهما إلى الكمال في العلم والعمل، ويكون حظه من النجاح على قدر حظه من قوتهما، وحسن استعمالهما. استقلال الفكر يكون ببلوغ العقل أشده وارتقائه إلى مستوى رشده، فإن العقل القاصر؛ هو الذي يتبع مذهب التقليد في كل ما يلقى إليه، كما نرى من الأطفال، ومن هم في حكم الأطفال من الرجال. فالمستقل في فكره هو الذي يستعمل عقله في البحث عن الحق والصواب في معارفه، والتمييز بين النافع والضار من مصالحه أو مصالح أمته عندما يبحث فيها، فلا يقبل من هذا ولا ذاك قول من هو مثله، إلا إذا ظهر له أنه الحق والصواب. إن الذي لا يعرف الحق والصواب بالنظر والاستدلال، لا يعد عالمًا ولا سياسيا، بل لا يعد عاقلا؛ لأن ما يحفظه من أقوال الناس في الكتب والجرائد، أو في البيوت والمحافل، لا يرفعه إلى مرتبة العقلاء الذين يميزون بين الأقوال بالدليل العقلي، فإن الأولاد المميزين يحفظون الأقوال مثله ولا يعدون من العقلاء، إلا إذا أريد بالعاقل من ليس مجنونا؛ يجب أن يُساق إلى البيمارستان أو مستشفى المجاذيب فإن هذا الاصطلاح يسمح لنا أن نطلق لقب العاقل على الإمعة الذي لا رأي له، وإنما يتابع كل واحد على رأيه؛ لا سيما إذا لم يكن متهمًا عنده بعداوته له، لسبب من أسباب التهم. استقلال الفكر طبيعي في البشر، كما أن ضده وهو التقليد طبيعي فيهم. فأما التقليد فهو طبيعي في الراشدين، ولولا ذلك لما ارتقوا في علم ولا عمل، ولسار جميعهم على ما كان عليه أول واحد منهم، فكانوا كالبهائم متساوين في علمهم وعملهم {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون} (الزمر: 9) لو ترك الناس وفطرتهم، لأعطوا طور القصور حقه، وطور الرشد حقه. ولكن معظم الأفراد الذين بلغوا أشدهم مستقلين في أفكارهم، مستدلين على آرائهم، ولكانت أعمالهم على حسب أفكارهم؛ لاستقلال إرادتهم المعبر عنه بالحرية الشخصية في عرف هذا العصر. ولكن الرؤساء المسيطرين قد تصرفوا في الفطرة تصرفًا ذهب بالاستقلال الذي لا يتفق مع الاستبداد. ولذلك ترى أهل البداوة أقرب إلى الاستقلال من أهل الحضارة المحكومين بسلطة استبدادية. الحضارة كمال بشري وآفته الاستبداد، الذي يحول دون ما تقتضيه الحضارة من كمال الأفراد، لعبثه باستقلالهم وسيطرته عليهم في علومهم وأعمالهم. التعليم في البلاد التي تساس بالاستبداد يكون مبنيًّا على التقليد بطبع الحكومة؛ لأن الذين يعرفون الحقائق لا يرضون أن يتحكم في مجموعهم واحد منهم، إرادته حكم، وهواه شريعة وقانون. فاستقلال الأفكار حرب لحكم الاستبداد وكثيرا ما كانت هذه الحرب سجالاً، والعاقبة للمستقلين. الشرق أعرق في التقليد من الغرب، فهو أعرق في الاستبداد أيضا. وقد ظهر الإسلام في الشرق؛ وهو يرسف كالغرب في قيود التقليد، ويئط من وزر الاستبداد الثقيل، فكسر القيود، ووضع الأوزار. ولكن عاد الاستبداد إلى المسلمين بعد أقل من نصف قرن. فكان كلما قوي يقوى التقليد، ويضعف الاستقلال حتى زال من مجموع الأمة، وصار الأفراد المستقلون فيها كالغرباء، لا وليّ لهم، ولا نصير. قاست أوربا من بلاء الاستبداد أكثر مما قاست ممالك الشرق. وحلكت ظلمات التقليد فيها أكثر مما حلكت في غيرها. ولكن ما عتمت أن ضاء لها قبس من علوم عرب الأندلس وغيرهم، فوجد فيها من عرف قيمته، وأنضى في استعماله عزيمته، حتى

الجامعة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامعة الإسلامية تكلم اللورد كرومر في تقريره الأخير عن الجامعة الإسلامية كلامًا يؤيد الذين أظهروا يقظة المسلمين في غير شكلها، فرأينا أن ننشر ما كتبه الأستاذ الإمام عن ذلك في رده الثاني على موسيو هانوتو، وهو لم ينشر في الرسائل المتداولة، ناقلين ذلك عن الجزء الثاني من تاريخه قال رحمه الله: شأن المسلمين اليوم، وظهور دعوة فيهم إلى توحيد كلمة المسلمين، وجمع السلطة الدينية والسياسية في شخص واحد في جميع البلاد الإسلامية. أؤكد لمسيو هانوتو أن هذه الدعوة لم يوجد لها أثر إلى اليوم في بلد من بلاد المسلمين، ولو خطا خطوة إلى معرفة أحوالهم على ما هي عليه، ما خطر بباله أن يشير إلى هذه الدعوى، فضلاً عن أن يبني عليها حكما، وإن ما علق بالأوهام منها فإنما منشؤه سوء فهم بعض مسيحيي الشرق ثم انعكاس ذلك في أذهان سياسيي المغرب، وقد يكون لسوء نية بعضهم مدخل في تعظيم ما توهم فيها. وإني أعرض الحقيقة كما هي، لا يغشاها ستار من تمويه، ولا غطاء من تلبيس، وأرجو أن يكون في هذا البيان ما يقنع مسيو هانوتو بحسن مقاصد المسلمين اليوم في كلامهم عن الدين، وما يَرُد أمثال صاحب الجريدة التي نشرت حديثه [1] إلى رشدهم؛ حتى يتقوا الله في أنفسهم وأهل بلادهم، ولا يتخذ بعضهم من السلم حربا، ولا من السكون شغبا. لا أنكر أن طائفًا من الدين؛ طاف في هذه السنين الأخيرة بعقول بعض المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض، وإن نسمة من نفس الرحمن مرت بأنفس قليل من أهل الفضل فيهم فحركت ساكنهم، وأثارت هممهم إلى النظر فيما كان عليه أهل هذا الدين، وفيما صاروا إليه، وإن منهم من يتكلم بما يرى؛ إذا وجد سبيلاً إلى الكلام، ومنهم من ينشر رأيه في كتاب أو جريدة؛ إذا تهيأت له الوسائل لذلك. ثم يوجد مقلدون لهؤلاء يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ولا كلام لنا في هذر المقلدين، وإنما كلامنا فيما يرمي إليه غرض أولئك الناظرين. ظهر الإسلام لا روحيًّا مجردًا، ولا جسدانيًّا جامدًا، بل إنسانيًّا وسطًا بين ذلك أخذ من كل القبيلين بنصيب، فتوفر له من ملائمة الفطرة البشرية ما لم يتوفر لغيره. ولذلك سمى نفسه دين الفطرة، وعرف له ذلك خصومه اليوم، وعدُّوه المدرسة الأولى التي يرقى فيها البرابرة على سلم المدنية. ثم لم يكن من أصوله أن يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله، ويأخذ على يده في عمله. جاء هذا الدين على الوجه الذي ذكرنا فهدى ضالا، وألان قاسيًا، وهذب خشنًا، وعلم جاهلاً، ونبه خاملاً، وأثار إلى العمل كسلاً، وأقدر عليه وكلا، وأصلح من الخلق فاسدا وروج من الفضيلة كاسدا ثم جمع متفرقا ورأب منصدعًا وأصلح مختلاًّ، ومحا ظلمًا، وأقام عدلاً، وجدد شرعًا، ومكن للأمم التي دخلت فيه نظامًا امتازت به عن سواها ممن لم يدخل فيه، فكان الدين بذلك عند أهله كمالا للشخص وألفة في البيت، ونظاما للملك. وظهرت به آثار النعمة عليهم في جميع شؤونهم، ولم يفت العلم حظ من عنايته، بل كان قائده في جميع وجوه سيره. فإن شاء قائل أن يقول: إن الدين لم يعلمهم التجارة، ولا الصناعة، ولا تفصيل سياسية الملك، ولا طرق المعيشة في البيت لم يسعه أن ينكر أنه أوجب عليهم السعي إلى ما يقيمون به حياتهم الشخصية والاجتماعية، وأوجب عليهم أن يحسنوا فيه وأباح لهم الملك، وفرض عليهم أن يحسنوا الملكة، وما ظنك بدين يقول خليفته الثاني - وهو في المدينة من بلاد العرب - (لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر) ويقول خليفته الرابع: (أقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش) أي خشونته، يريد بذلك أن يساوي المساكين في العيش ليكون قدوة الأغنياء في الإحسان، وأسوة الفقراء في حسن الصبر. هكذا كان الإسلام مهمازًا للمسلمين؛ يحثهم إلى جلائل الأعمال، ومصباحًا لبصائرهم يسترشدون به في استغراق الأحوال، وتقويم الأفكار، وعاطفًا يعطف قلوبهم على الأمم بالعفو، والمرحمة، وحسن المعاملة، حتى رضيتهم الأرض سادة لها، وقادة لسكانها، وكان من أمرهم وأمره ما هو معلوم. أفبعد هذا يعجب عاقل إذا رأى المسلم يرضى ما رضيه هذا المرشد الحكيم، ويمقت ما مقته؟ أيدهشه أن يرى المسلم يهزأ بكل ما لم يعتقده سائغًا في دينه، وإن كان ملك الأرض أو ملكوت السموات، بعد ما شهد المسلم من أثر نعمة الله عليه في هذا الدين ما شهد؟ لا عجب في ذلك فإنه نتيجة ضرورية ينساق إليها الأمر بنفسه بحكم سنة الله في خلقه. واأسفا، لم يبق للمسلم من الدين إلا هذه الثقة فيه، أما الدين نفسه فقد انقلب في عقل المسلم وضعه، وتغير في مداركه طبعه، وتبدلت في فهمه حقيقته، وانطمست في نظره وحق فيه قول علي -كرم الله وجهه - (إن هؤلاء القوم قد لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبا) . لا أبحث اليوم في الأسباب التي وصلت بالدين في نفس المسلم إلى ما ذكرت. ولكن أقول ولا أخشى منكرا لما أقول: قد دخل على المسلم في دينه ما ليس منه، وتسرب في عقائده من حيث لا يشعر ما لا يتصل بأصلها، بل ما يهدم قواعدها ويأتي على أساسها، عرضت البدع في العقائد والأعمال، وحلت محل الاعتقاد الصحيح، وأخذت مكان الشرع القويم وظهرت آثارها في أعماله، وعم شؤمها جميع أحوالها. إن صح لفظ الحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) أو لم يصح فالقرآن يؤيد معناه، وعمل الأولين من المسلمين يحقق صحة ما حواه، فالرجل والمرأة سواء في الخطاب التكليفي، وكانا سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض الإسلام، وخصال الإيمان، وفي طلب العلم بما يلزم لصلاح معادهما ومعاشهما وبما تحسن به المعاملة مع من يتصل بهما قرب أو بعد على تفصيل معروف في كتاب الله، وسنة رسوله، وعمل الصالحين من بعده، حتى لم يبق باب من أبواب العلم إلا دخل منه بقدر الاستطاعة وما يسمح الزمان. ضل المسلم بعد ذلك في معنى العلم، فظن الرجل أن غاية ما يفرضه الدين منه معرفة: فرائض الوضوء، والصلاة، والصوم، في صورة أدائها، أما ما يتعلق بسر الإخلاص فيها، ووسيلة قبولها عند الله، فذلك مما لا يخطر له ببال إلا القليل النادر. أما آداب الدين، وتهذيب الروح، واستكمال الخصال الجليلة، مما جعله الإسلام غاية العبادات، وثمرة الأعمال الصالحات، فهو مع أنه أهم علوم الدين مما لا تتوجه إليه عزيمة، ولا تنصرف نحوه، اللهم إلا من أشخاص قلائل منثورين في أطراف الأرض، لا ترقى بهم أمة، ولا تسمو بهم كلمة. أما من ينقطعون لطلب العلوم؛ ليحصلوا جملة منها، فقد انقسموا إلى فريقين: الأول - من يظن أنه وارث علوم الدين والقائم بحفظها، وقد قل أفراده في معظم البلاد الإسلامية، ولم يبق منه إلا رسوم، لا يكاد يدركها نظر الناظر، والمشتغلون منهم في بعض البلاد، كمصر والآستانة فإنما حظ الذكي منهم وقليل ما هو، أن ينظر في كتب مخصوصة عينها له الزمان وضعف العرفان، ويفهمها بمعنى أن يثق بأن هذا اللفظ دال على ذاك المعنى، ومتى تم له ذلك فقد استكمل العلم، سواء سلم له عقله ودينه وأدبه بعد ذلك أم لم يسلم، فكان مثلهم مثل من ورث سلاحا، فكان همه أن ينظر إليه، ويملأ عينه منه، ولا يمد يده إليه يستعمله أو يزيل الصدأ عنه، فلا يلبث أن يأكله الصدأ ويفسده الخبث، ويزعمون أن الدين يصد عما وراء ما عرفوا من العلوم النافعة، ومن رأي هؤلاء أن لا شأن لهم مع العامة، ولا يجب عليهم أن يأمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، وقد ارتكبوا بذلك خطأ في فهم دينهم، لا يساويه في سوء عاقبته خطأ، وللكثير منهم بل الأغلب من سوء الفهم في الدين ما لا حاجة إلى عده ولا يخفى أن ما يحصله هذا الفريق في العلم، لا يظهر له أدنى أثر في صلاح الأمة كما هو مشهود. والفريق الثاني من يهيؤه أولياؤه لنيل منصب من مناصب الحكومة عال أو سافل، وأفراد هذا الفريق إن كثروا أو قلُّوا، يحصِّلون مبادي العلوم المعروفة بالعلوم العصرية. ثم يحصِّل كل واحد ما به ينال المنصب الذي يعده له والده، على أن ما يحصل إما لفظ يحفظ، أو خيال يخزن. والمدار على الوصول إلى ورقة الشهادة. ومن هؤلاء من يذهبون إلى أوربا؛ لاستعمال التربية فيها، ولا غاية لهم سوى هذه الغاية. فمن أصاب منهم بعد ذلك وظيفة قنع بها، وحصر همه على العمل فيها، ومن لم يجد وقف على الأبواب ينتظرها، فإذا مل الانتظار أو تقضى زمن العمل، وجدته في قهوة أو ملهى يسرف في أوقاته، ويفسد في أدواته. والصالحون منهم - وقليل ما هم - لا يهمهم شأن العامة شقيت أو سعدت، هلكت أو قامت، فأي أثر لما تعلمه هؤلاء يظهر في الأمة؟ وأستثني منهم شواذ في كل بلد على ضعفهم يرجى أن ينمو عددهم، وتجني الأمم ثمار أعمالهم. هذا شأن الرجال مع العلم. أما النساء فقد ضُرِب بينهن وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن أو دنياهن بستار، لا يدرى متى يرفع، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة، أو يؤدين فريضة سوى الصوم، وما يحافظن عليه من الفقه؛ فإنما هو بحكم العادة، وحارس الحياء وقليل جدا من موروث الاعتقاد بالحلال والحرام، وحشو أذهانهن الخرافات، وملاك أحاديثهن الترهات، اللهم إلا قليلاً منهن، لا يستغرق الدقيقة عدهن، وكل من الرجال والنساء يعد نفسه مسلما، يعدها الجنة، ويمنيها السعادة. أخطأ المسلم في فَهْم معنى التوكل والقدر، فمال إلى الكسل، وقعد عن العمل ووكل الأمر إلى الحوادث تصرفه حيثما تهب ريحها، ويظن أنه بذلك يرضي ربه ويوافي رغائب دينه. أخطأ المسلم في فهم ما ورد في دينه من أن المسلمين خير الأمم، وأن العزة والقوة مقرونتان بدينهم أبد الدهر، فظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم، وأن رفعة الشأن تابعة للفظه، وإن لم يتحقق شيء من معناه، فإن أصابته مصيبة أو حلت به رزية تسلى بالقضاء، وانتظر ما يأتي به الغيب؛ بدون أن يتخذ وسيلة لدفع الطارئ، أو ينهض إلى عمل؛ لتلافي ما عرض من خلل، أو مدافعة الحادث الجلل، ومخالفًا في ذلك كتاب الله، وسنة نبيه. أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر، والانقياد لأوامرهم، فألقى مقاليده إلى الحاكم، ووكل إليه التصرف في شئونه ثم أدبر عنه، حتى ظن أن الحكومة؛ يمكنها القيام بشئونه جميعها من إدارة وسياسة؛ بدون أن يكون لها منه عون سوى الضريبة التي تفرضها عليه، ومن رأى حزن الآباء إذا طلب أبناؤهم لأداء الخدمة العسكرية، وما يبذلونه من السعي في تخليصهم منها، حكم بأن مما يعقله أكثر المسلمين من معنى الحكومة، لا يمكن انطباقه على شيء من أوليات العقل، وعرف أن ثقتهم بالحاكم قد بلغت إلى حد التأليه؛ من حيث ظنوه قادرًا على كل شيء بدون عون من أحد، وانقلبت تلك الثقة إلى الإدبار والتخلي عنه، من حيث أنهم تركوه وشأنه، لا يساعدونه في حادث، ولا يعينونه فى أمر مهم، اللهم إلا إذا أرغموا على ذلك، ومن ذا الذى يحسن عملاً إذا ألجئ إليه بالرغم؟ ومن هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور العامة جملة، وضعف شعوره بحسنها وقبيحها، اللهم إلا ما يمس شخصه منها. أما الحكام وقد كانوا قدر الناس على انتياش الأمة مما سقطت فيه، فأصابهم من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم؛ ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة، ولم يفهموا من معنى الحكم إلا تسخير الأبدان لأهوائهم، وإذلال النفوس لخشونة سلطانهم، وابتزاز الأموال لإنفاقها في

تشبيه كتاب الإحياء بالقرآن

الكاتب: رضاء الدين بن فخر الدين

_ تشبيه كتاب الإحياء بالقرآن حضرة السيد منشئ المنار محمد رشيد رضا أفندي سلمه الله وعافاه. يزعمون أن الإمام النووي قال في حق الإحياء: كاد الإحياء أن يكون قرآنا، ونقله الشيخ عبد القادر العيدروس باعلوي في كتابه (الأحياء في فضائل الإحياء) المطبوع في هامش الإحياء. ولا شك أن الإحياء كتاب عزيز، قلما يكون له مثيل. ولكن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل، من بين يديه، ولا من خلفه. وكيف يقاس كلام المخلوق على كلام الخالق؟ ونحن نستغرب جدًّا صدور القول من النووي وإن كان غير معصوم من الخطأ، وقد كنت طالعت في زمان مضى شرح مسلم لهذا الإمام الجليل. ولكن لا (اتخطر) أني رأيت فيه ما يقرب من هذا القول، وليس عندنا من سائر تأليفاته شيء، ولذلك جئنا نستفسر رأيكم في هذا الأمر، وهل القول المذكور منقول من النووي بالسند الصحيح؛ أو رأيتموه في آثاره المتداولة في تلك الأصقاع بأنفسكم، ويا حبذا لو كتبت هذا في المنار، فلعلنا نستفيد منه ويستفيد غيرنا، ولكم في ذلك جميل الثناء وكثير الإكرام. ... ... ... ... ... عضو الجمعية الشرعية ببلدة أوفا سابقا ... ... ... ... ومحرر جريدة (وقت) ببلدة أورنبورغ حاليًا ... ... ... ... ... ... ... رضاء الدين بن فخر الدين (المنار) ليست عبارة النووي - رحمه الله تعالى -بالمكان الذي وضعتموها فيه وإن صحت نسبتها إليه، فإنها لا تدل على مساواة كتاب الإحياء لكتاب الله، ولا كونه يقاس به، وإنما هي عبارة يقصد بمثلها المبالغة، واعتبر بحديث أنس عند أبي نعيم في الحلية (كاد الفقر أن يكون كفرا، وكاد الحسد أن يغلب القدر) فأنت ترى أن الحديث لا يمكن حمله إلا على المبالغة المعهودة في الأسلوب العربي بمثل هذا التعبير، وضعف سنده لا ينافي مجيئه على أساليب العرب وقوانين البلاغة، فمعنى العبارة المعزوة إلى النووي أن كلام الإحياء يؤثر في القلوب ويرغبها في الهداية، بحيث أن يقال فيه بلسان المبالغة إنه قريب من القرآن في ذلك.

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار من أحمد موسى المنوفي بكلكته كلكته 17 ربيع الأول سنة 1325 فضيلتلو أفندم صاحب مجلة المنار المحترم من بعد إهداء التحية، أقول: حيث أفدناكم في خط خصوصي قبل هذا، بأن غرض الفقير من مكاتبتكم والاشتراك في مجلتكم؛ هو الوقوف على حقيقة قصدكم من إنكار تقليد أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في فهم معنى الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ليس إلا، فنرجوكم الإفادة عن ما إذا كان قصدكم إظهار المخالفة، لتعرفوا فنعذركم؛ إذ لستم أول من خالف لهذا الغرض، وإن كانت الآخرة خيرًا وأبقى، وقد يضطر الإنسان في التماس قوته إلى ما لا يجوز {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) ، فإن كان هذا قصدكم، فنحن نكتفي منكم بالإشارة ولو من طرف خفي؛ لعلمنا أن ساحة عفو الله واسعة، ورحمته وسعت كل شيء، وعليه فنكف اليراع عن الاسترسال في موضوع ولجتموه مضطرين، وإن كان قصد حضرتكم هو رد الأمة إلى الصواب لما تحقق عندكم، وثبت لديكم من خطأ الأئمة الأربعة أو أحدهم في فهم كلام الله، وسنة رسوله، وأقوال الصحابة فالمأمول من غيرتكم على الشرع الشريف؛ أن تبينوا لنا في أي موضوع أخطأ الأئمة أو بعضهم في فهم ما ذكر، فإن بينتم لنا ذلك، فالأصل أن تفيدونا عما إذا كان أصحاب المخطئ منهم أجمعوا على موافقته على الخطأ أو على مخالفته، بحيث تركوا العمل بقوله بالمرة، وصار العمل على خلاف ما ذهب إليه، أم اختلفوا فمنهم من خالف ومنهم من وافق، فإن كان الأول فإنا نلتمس من فضيلتكم مع الاحترام لشخصكم أن تعرفونا: أولا - وجه خطأ الإمام في فهم معنى الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة المجمع عليها. وثانيا - محل اتفاق أصحابه معه على الخطأ من ذلك العهد إلى عهدنا هذا، فإن عرفتمونا عن ذلك ولا أخا لكم فاعلين، تبين لي صحة قصدكم، وسلامة نيتكم، وشدة غيرتكم على الأمة المحمدية، وحرصكم على انتشالها من مهاوي الضلالة، وحينئذ أضم صوتي مع صوتكم؛ قياما بالواجب وعلى الله إتمام المقاصد {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} (آل عمران: 110) الآية، (من رأى منكم منكرًا) الحديث، وإن لم تفعلوا كما هو الراجح، علمنا أن القصد غير صحيح والنية غير سليمة، وإنما القصد إظهار المخالفة تحيلاً لالتماس القوت، هنا يحسن بي أن أقول لحضرتكم: إن انتظامكم في سلك محرري الجريدة، يغنيكم عن ارتكاب هذا الشطط الذي يأباه مقام من يدعى بفيلسوف الإسلام مرة، وبالمصلح أخرى. وإن كان الثاني وهو اتفاقهم على مخالفة إمامهم فيما أخطأ. أو الثالث وهو اختلافهم في ذلك. فقد تحقق لدينا أن القوم لم يحابوا إمامهم، ولم يأخذوا أقواله قضايا مسلمة، ولم يتبعوه إلا فيما تحقق لديهم بالأدلة الصحيحة؛ لأنهم لا يعتقدون عصمته، بل الإمام نفسه لا يعتقد لنفسه العصمة من الخطأ. ولذا لا نجد إمامًا إلا وقد خالفه أصحابه في كثير من المسائل، وضَعَّف له أتباعه كثيرًا من الأقوال، فعلام يلام المتبوع وهو مقر بجواز وقوع الخطأ منه، وبأي دليل يؤاخذ التابع؛ وهو لم يراع لإمامه في مقابل الحق حرمة. وإن قلت أيها المصلح: نحن لا نعتقد أن الأئمة أو أحدهم لم يفهموا معنى الكتاب والسنة، بل فهموا ذلك. غير أنهم أو أحدهم قد يسلك سبيل القياس في مقابل نص القرآن أو صحيح السنة أو إجماع الصحابة، بلا ضرورة ملجئة. فنقول: إن كان لديكم من ذلك فتفضلوا بتحريره؛ لنكون لكم من الشاكرين، ولخطتكم إن كان حقًّا من السالكين، وإياكم واتباع الهوى، وسلوك خطة المكابرة أو المغالطة، فإنا عند ذلك معرضون، وللحق راضخون {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) هذا وإن تفضلتم على الفقير المذنب بالجواب عن اعتقاده في أن وقوع الخطأ من أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد؛ الذين قد قلدهم في فهم معنى الكتاب والسنة جمهور الأمة إلا قليلا ممن أغواهم الشيطان من زمن غير بعيد؛ أقل منه ممن أصيبوا في عقولهم، وزين لهم الشيطان أنهم أدركوا من أسرار الشريعة ما لم يدركه هؤلاء الأئمة؛ حملة الشرع الشريف؛ وإن تقليد أحد الأئمة المذكورين، أولى من تقليد من ذكرنا من الغواة على فرض أنهم على شيء من العلم والتقوى. هل أنا الفقير مصيب في هذا الاعتقاد أم لا؟ بينوا تؤجروا ودمتم أفندم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محسوبكم المطيع ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد موسى المنوفي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بكلكته (المنار) تعجلنا بنشر هذه الرسالة برمتها على مجيئها قبيل إتمام المنار، وعلى قيام القرائن السابقة واللاحقة عندنا، بل الدلائل الناطقة على سوء اعتقاد صاحبها بنا، وظنه أنه قادر على دحض حجتنا والتنفير عن خطتنا، بل على كونها ليست شرطنا في انتقاد المنار، وهو أن يذكر لنا المنتقد شيئًا مما نشرناه، ويبين بطلانه بالدليل أو يطالبنا بالدليل عليه إذا نحن أوردناه غفلاً. وليس منه أن يحاسبنا على نيتنا وكسبنا، أو يُعرِّض بسبنا وثلبنا، أو يخترع لنا رأيًا ويسألنا عنه. نشرنا الرسالة على هذه كله؛ لنبين لمرسلها أن ما فيها ليس بالشيء الذي يسمى انتقادا، وأننا فيما نحن عليه من البصيرة ولبينة في الدين، لا نحفل بقول من يقول أو يكتب أننا نخَطِّئ الأئمة الأربعة، وإن كان ذلك مما ينفر عن المنار جماهير العوام، وكثيرين ممن يعدون من الخواص؛ الذين يجلون هؤلاء الأئمة إجلالاً خياليًّا تقليديا، لا يوازي معشار إجلالنا الحقيقي لهم رحمهم الله وجزاهم خيرًا. وأول ما نقوله في الجواب: إن طريقتنا التي جرينا عليها في المنار ليست من الوسائل التي يلتمس بها (القوت) - لو كنا معوزين - لأنها مخالفة لأهواء الأكثرين وآرائهم، ومظنة لأن تكسد سوقها فيهم، وإنما يلتمس القوت من يلتمسه من أصحاب النفوس الصغيرة؛ من حملة الأقلام بما يرضي الجمهور. وقد صرحنا في مقدمة المنار بأننا أنشأناه ونحن نتوقع عدم رواجه، وأن أهل الخبرة والرأي أنذرونا ذلك، ثم ظهر لنا صدق ذلك، وظل المنار أربع سنين لا يأتي من اشتراكه إلا جزء قليل ينفق عليه، وهو الآن على سعة انتشاره لا يعد ربحه مقصودًا لمن يقدر أن يربح بغيره؛ إذا تركه أضعاف ما يربح منه، وقد تمر السنين ولا نطالب أكثر المشتركين بقيمة الاشتراك، بل نترك ذلك لأمانتهم، وما هذا شأن من يعمل لأجل القوت. ولسنا من محرري الجريدة؛ كما قال في فضوله الذي يشبه سائر أقواله في كونه رجمًا بالغيب. ثم إننا لقينا من الإيذاء في سبيل المنار ما يعرفه الكثيرون إجمالاً وتفصيلا، ولا نطيل فإن الإخلاص صلة بين العبد وربه، ومن لم ير في دعوتنا إلى انتقاد ما نكتب، ونشر ما ينتقد علينا، آية على أننا لا نريد إلا بيان الحق، فله أن يسيء الاعتقاد بنا كيف شاء، وعلينا أن نسأل له العفو والمغفرة والهداية من الله تعالى. ثم إننا نتكلم في المقصد فنقول: ملخص الجوهر في كلامه، أننا ننكر على من نظروا فيما فهم الأئمة الأربعة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فاتبعوا منه ما رأوه صوبا، وردوا ما رأوه خطأ، وسمي هذا الاتباع تقليداً؛ وهو لو وجد لا يعد تقليدا، ونحن لم ننكر ذلك قط، فإن أصر على زعمه، فليبين لنا مكانه من المنار، وإنما ننكر التقليد في الدين وهو الأخذ بقول القائل من غير دليل؛ لما قام عندنا من الحجج والدلائل على بطلانه وبذلك قال الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، وما أجاز التقليد إلا ضعفاء المقلدين الذين خالفوا أئمتهم في استباحة التقليد. أما كون الأئمة أصابوا في فهم الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؛ فهو لا يمنع بطلان التقليد في نفسه؛ إذ لا ينقض دلائله، بل ربما يؤكده؛ لأن ما جاز لهم جاز لغيرهم؛ لأنه ليس وحيًا اختصهم الله به، وجعله فوق كسب سائر البشر، بل هو أمر ممكن يتناوله كسب كل كاسب، وإن تفاوت الناس فيه و {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) . ? والحق أن المجتهد منهم ومن غيرهم يخطئ ويصيب، بل قال أهل الأصول: إن اجتهاد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - قد يقع فيه الخطأ. ولكن الله لا يقرهم عليه، بل يبين لهم الحق فيه، وأنى للأئمة الأربعة وغيرهم بذلك. والمقلدون يأخذون بما صح في مذاهبهم، وإن بحث العلماء فيه، وبينوا مخالفته للدليل، وليراجع أصول الكرخي. أما الدلائل على بطلان التقليد؛ فقد بيناها بالتفصيل في مقالات خاصة وفي تفسير القرآن، وفي كثير من الفتوى وغيرها، فلا سبيل إلى إعادتها هنا، بل عليه أن يراجعها في مجلدات المنار السابقة، وله بعد ذلك أن يذعن لها أو أن يرد عليها إن استطاع، ونحن نعده بنشر رده في المنار؛ بشرط أن لا يتعدى البحث في الموضوع إلى ما ليس منه؛ كما فعل في هذه الرسالة. ومن أقدم ما كتبناه تفصيلاً في ذلك (محاورات المصلح والمقلد) وفيها نصوص الأئمة في بطلان التقليد لهم ولغيرهم، وهي مطبوعة على حدتها في كتاب، فله أن يطلبه من مصر وثمنه مع أجرة البريد روبية واحدة. وقد طبع في هذا الأيام أجزاء من كتاب (الأم) للإمام الشافعي؛ وعلى هامشه مختصر صاحبه الإمام المزني، وهو مفتتح بهذه العبارة بعد البسملة (قال: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني - ورحمه الله -: اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ومعنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه، وبالله التوفيق) . ثم ماذا يريد المنتقد من حصره الإنكار في تقليد الأئمة الأربعة؛ فيما فهموه من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟ هل يريد أنه يجب تقليدهم فيما فسروا به القرآن، وشرحوا به الحديث وأقوال الصحابة. وعدم تقليدهم فيما اجتهدوا فيه من الأحكام التي لم يصرحوا بأخذها من هذه المصادر الثلاثة، إن كان يريد هذا وهو ظاهر عبارته الأولى؛ فقد هدم معظم الفقه الذي يدين الجمهور بتقليده خصوصًا فقه الحنفية، وإلا فليدلنا على تفسير الإمام أبي حنفية للقرآن، وشرحه للأحاديث وأقوال الصحابة ليقلدها من يتبع رأيه الجديد، ويترك ما عداها من مسائل الفقه المأخوذة بالقياس والاستحسان. وإن كان يقول بقول عامة المقلدين أنه يجب تقليد ما في هذه الكتب من غير القيد بالالتفات إلى مآخذها؛ فما هو معنى العبارة الأولى؟ الموضوع طويل الأذيال، واسع الأردان، صنف العلماء فيه مصنفات كثيرة وأحسن ما رأيناه فيه؛ هو ما كتبه الإمام ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) المطبوع في الهند، ونقلنا كثيرًا منه في المجلد السادس، فعلى المنتقد أن يقرأ ما كتبنا، وما كتب هذا الإمام وغيره في المسألة، ثم يكتب بعد ذلك ما يظهر له أنه الحق إن كان طالبًا له. وليعلم أن جماهير المسلمين قد أهملوا الاهتداء بالكتاب والسنة؛ اكتفاء بهذا الفقه، ثم أهملوا هذا الفقه فقلَّ فيهم من يتعلمه، وقلَّ في متعلميه من يعمل به، حتى صار الإسلام عند الأكثرين جنسية لا هداية، وقد أخذهم الله بذنوبهم، وإننا نعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا ترجى لهم هداية إلا بدعوة الكتاب والسنة والرجوع بالدين إلى ما كان عليه في عهد السلف، ولا نجد حائلاً دون هذا إلا التقليد الذي صار على بطلانه في نفسه اسمًا بلا مسمى، وهو مع ذلك لا يزيد المسلمين إلا تفرقًا واختلافًا وضعفًا وهلاكا فنحن نحاول هدمه، وندعو المسلمين كافة - لا المنتمين إلى المذاهب الأربعة فقط - إلى الاهتداء بما لا خلاف فيه بين أ

إخلاص ابن سعود

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إخلاص ابن سعود كتب إلينا من بلاد العرب أن الدولة العلية؛ ظهر لها بعد رجوع العسكر ثم المفتشين من نجد إخلاص ابن سعود لها، وما كان من كذب ابن الرشيد وغشه، وأرسل ابن سعود بطلب الآستانة وفدًا إلى السلطان مؤلفًا من صالح بن عذل وإبراهيم بن عبد العزيز بن رافح وخدمهما وهم أربعة، ولما وصلوا البصرة أكرمتهم الحكومة جدًّا وسافروا على نفقتها، وأخيراً كتبت الدولة لابن سعود، والظاهر أنها تطلب منه فيه تأديب قاتلي أبناء الرشيد ظلمًا وعدوانًا.

تاريخ المصاحف ـ 3

الكاتب: موسى أفندي جار الله الروسي

_ تاريخ المصاحف بقية ما كتبه موسى أفندي جار الله الروسي (3) ثم أصيب الإسلام بموت عمر، وولي عثمان فزادت الفتوح واتسع الأمر، وسعى الساعون في إيقاع الخلاف بنشر الاختلاف، فدعت الحال إلى نشر المصاحف المكتوبة على مشهد من الصحابة عظيم، فجمع الصحابة، وكانت عدتهم يومئذ بالمدينة تزيد على اثني عشر ألفًا، فطلب المصحف من حفصة أم المؤمنين، وأحضر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام، فكتبوا خمسة مصاحف من غير تغيير ولا تبديل، عما كان عليه المصحف الذي كتبه زيد بأمر أبي بكر. وما ورد عن عثمان في الأنفال وبراءة فإبداء عما كان يراه قبل من أنهما سورة واحدة؛ إذ لم يقف على بيان من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد شهد عثمان النسخ الأول، وقد وقع الإجماع فيه على هذا الترتيب، ولم يبد عثمان خلافًا فيه، ولو كان له رأي يراه لوجب عليه أن يظهره، وما جرى بين عبد الله بن عباس وبين عثمان من سؤال وجواب فحكاية لما كان يراه عثمان قبل. وعين زيدًا أن يقرئ بالمدني، وبعث عبد الله بن السائب مع المكي، والمغيرة بن شهاب مع الشامي وأبا عبد الرحمن السلمي مع الكوفي، وعامر بن قيس مع البصري، وقرأ كل مصر بما في مصحفه على هؤلاء الصحابة، ونسخوا من هذه المصاحف الخمسة مصاحف لا يحصى عددها، فلم يبق في الإمكان كيد الكائدين، ولا وهم الواهمين. بقي عثمان كذلك اثني عشر عامًا، حتى مات، وبموته حصل الاختلاف، وابتدأ أمر الروافض. ثم تولى الأمر عليّ وملك، وبقي خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعًا غالب الأمر، ساكنًا بالكوفة، والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان، وهو يؤم به الناس، والمصاحف معه وبين يديه، ثم بعده ابنه الحسن. وكان علي يثني ثناءً على أبي بكر وعثمان فيما فعلا في المصاحف. ولو كان وقع من أبي بكر وعثمان تغيير في شيء بنقص أو زيادة (ولا يمكن ذلك؛ لامتناع تواطئ الكثير المتفرق على التغيير في شيء، فلو وقع من أحد لظهر ولافتضح المرتكب من ساعته) ، لما قدر على مذلة التحمل والصبر عليه بعدما تولى الأمر، وهو الذي قاتل أهل الشام في رأي يسير رآه، ورأوا خلافه. وعلي شهد النسخين، ورأس في كلا الوقتين: غالب القول فيصلا في القضايا ... نافذ الرأي حائز الجلايا فلا يمكن أن أبا بكر وعثمان قد أسقطا بعض ما نزل في أهل البيت. ولم يكن أبو بكر وعثمان إلا كغيرهما من الصحابة في شأن جمع القرآن. ولو كان نزل شيء في أهل البيت؛ لتواتر كسائر الآيات، وكَتْم ما شاع وذاع أمر محال لا يستطاع [1] . وعلماء الإمامية - رحمهم الله تعالى - أَجَلّ من أن يقولوا: قد وقع نقص في القرآن بمكر أبي بكر أو أمر عثمان. والشيخ الصدوق أبو جعفر محمد بن علي ابن بابويه، والسيد المرتضى علم الهدى ذو المجد أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، والقاضي نور الله في مصائب النواصب، والإمام الطبرسي في مجمع البيان، هؤلاء أعلم علماء الإمامية وأعلام أمتنا الإسلامية، قد قالوا بامتناع وقوع التغيير في القرآن، وقالوا: إن العلم بتفاصيل القرآن وأبعاضه كالعلم بكله وجملته. فمن رام في إسقاط بعض آيات نزلت، فليسع أولاً في رفع كل القرآن، وكتم أخبار انتشرت. وما نقل عن بعض علماء الشيعة من سقوط بعض آيات نزلت، فلا أرى أن ذلك كان رأيًا لهم يرونه، إنما ذلك من جملة بقايا أخبار كانت تنشر من عند الذين يحبون أن تشيع الفاحشة والفتنة في المسلمين، ومن عند الذين يبغون خبالاً ويسعون فسادًا في الدين. وقد كانت مثل هذه الأخبار أنفع وسيلة في الحصول على أغراضهم السياسية ففازوا فوزًا عظيمًا في دعوتهم، ونالوا فوق ما أملوا في كسر شوكة الأمة الإسلامية وتفريق وحدتهم وقد دس هؤلاء من أباطيل الأخبار شيئًا كثيرًا في الدين، قد تلقاه واغتَّر به قوم من أهل الخير؛ فأدخلوه في دواوين الأحاديث والأخبار، وأسفار السنن والآثار. وقد مَنَّ الله علينا؛ إذ جعل فينا رجالاً عدولاً ميزوا سنن نبينا عن موضوعات الأخبار، وأكاذيب الآثار، فسقونا من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين. هذا وكل ما ذكرته من تاريخ القرآن والمصاحف فهو حق؛ لأن الأمر كان ووقع كذلك، ومن ادعى انتصاف الشمس في النهار، فإنما عليه أن يشير إلى ما هنالك، ومن خالف فلا يعتد به، فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم نقلوا أخبارًا ظنوا صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته، وإلى قوم أتوا بأقوال لا يقوم لها من عالم الشهود شاهد، ولو أننا سلكنا مسلكهم، واستجزنا التدليس على أنفسنا، وارتكبنا ما لم يرتكب سلفنا؛ لأتينا بما يبلس به خصومنا أسفًا لكن يكفينا في بيان الحق أن نأتي بما كان، وليس من شأن العاقل أن يتمسك بما بَعُد عن الحق وبان. وحيث وَفَّينا الموضوع بعون الله - تعالى - بما استطعنا من البيان. وكان ذلك خير ما جنينا، وخيار ما اقتطفنا من حدائق الأعيان، رأينا من واجب الإحسان علينا أن نأتي بما يدل على امتناع وقوع التحريف في القرآن. ونحن الآن نأخذ بحول الله وقوته في إجمال ما فصله العلماء في ذلك، وأن نجمع ونلتقط ما انتشر في صحائف الدواوين من هنا وههنا وهنالك. البرهان الأول: أن النبي- صلى الله عليه وسلم - انتقل والصحابة ألوف مؤلفة ما منهم أحد إلا وهو يحفظ قسطًا وافرًا من القرآن، وفيهم مئات يحفظونه كله بتمام الضبط والإتقان عن ظهر قلب. ثم إن الكثير منهم تشتتوا إثْر ذلك في الأقاليم وانتشروا في الأقطار؛ استيطانا بمواطنهم الأصلية، أو تعينًا لعمل من الأعمال الملكية والدينية. ثم نسخت المصاحف ووصلت إلى هذه الأعداد الكثيرة في المدن والبلاد، فلو كان وقع تغيير في كلمة أو تحريف في حرف؛ لظهر ولثارت الأمة، وهاجت الخواطر على جامعي المصاحف، وقاتلوهم قتالا، ولارتد كثير من الناس؛ لأن اندساس أقل تغيير فيه بجهل العباد، أو وقوع تصرف فيه الأفكار وكيد أهل الفساد، يقضي بأنه غير منزل من عند الله - سبحانه وتعالى - لكنا لم نسمع أن أحدًا من مسلم وغيره عارض في شيء من القرآن، وادّعى ذلك فيه. ولو وقع حبة تغيير فيه في العصر الأول، لوقع تغييرات في العصور الأخيرة، على سنن قانون الطبيعة في النمو. لكنَّ القرآن قضى من أجله ثلاثة عشر قرنًا وزيادة، وملأت المصاحف وجه الأرض وطباقها، ولم يوجد مصحف يختلف عن الآخر بحرف واحد. البرهان الثاني: أن القرآن أكبر دلائل النبوة به ظهر الدين وعز شوكة المسلمين، هو آية ظلت أعناق الجبابرة لها خاضعين، فأذعنوا له بخفض الجناح طائعين لأوامره، عاملين بأحكامه. فلا يمكن أن يُرضِي الأمة تحريفُ شيء منه، ولو كان دونه بذل المُهج والنفوس. البرهان الثالث: من أَلَمَّ بتاريخ الصحابة، ونظر نظرة في صحاح الأحاديث يعلم أتم العلم ما كانت عليه الصحابة من غاية الاعتناء، ونهاية الاهتمام في حفظ القرآن وضبطه، حتى مقادير المدات، وتفاوت الإمالات، ويعرف ما لهم من مزيد العناية في ضبط الأحاديث، والرواية حفظًا وكتابة، ومن وفور الاحتياط، وعظيم التثبت عند أدائها، وتبليغها للأمة. والعقل يحكم طوعًا بالقطع، وضرورة باليقين أن الجم الغفير والجمع الكثير الذين أخذوا القرآن تلقيًا عنه عليه السلام في تضاعيف عشرين سنة، وضبطوه حفظًا في الصدور، وثبتًا في الصحائف والسطور، لا يجوز عليهم التخليط فيه ولا التغيير. وشِعْرُ الأقدمين مع أنه لا يمكن أن يظهر ظهور القرآن، ولا أن يحفظ كحفظه، ولا أن يضبط مثل ضبطه، ولا أن تمس الحاجة إليه مساسها للقرآن، لو زيد فيه بيت أو لفظ، أو غُيِّر فيه حرف أو حركة، لتبرأ منه أصحابه، وأنكره أربابه، وطعن فيه عارفوه، وجحده راووه. وقد شوهد ذلك في كثير من الأشعار والخطب والأراجيز، يعرفه من يعتني بلغة العرب ورواياتها. فإذا كان ذلك مما لا يمكن في شعر الأقدمين. فكيف يجوز وقوعه في القرآن مع العناية الصادقة، والضبط المتقن، والعلم بأنه دليل النبوة، ونور الشريعة، وملجأ الأمة؟ البرهان الرابع: أن العلم بالقرآن كله وجملته فاق في الوضوح والاشتهار أشهر المتواترات من كبار الحوادث، وعظائم الوقائع، ومهمات الأمور، وحواضر الأحوال، والعلم بآيات القرآن، وسوره، وتفاصيله، وأبعاضه، عند حفاظه ورواته في العصر الأول، كالعلم به كله وجملته: فإن العناية إذ ذاك توفرت، والدواعي اشتدت، والقرائح انبعثت إلى حفظه الراسخ، وضبطه المتقن، والغايات تباينت، والأغراض اختلفت: فمنهم من يضبطه لإتقان قراءته ومعرفة وجوهها وصحة أدائها. ومنهم من يحفظه لاستنابط الأحكام وبيان تعاليم الإسلام، ومنهم من يقصد بحفظه معرفة تفسيره ومعانيه، والوقوف على غامضه وغرائبه. ومنهم من يعجبه بالغ فصاحته، وفائق بلاغته، ورائق أسلوبه، وشائق نظمه، وعجيب تأليفه. ومنهم من يحفظه استلذاذًا بتلاوته واستحبابًا في كرامته، وتقربًا بقراءته، وتعبدًا بدراسته، ومنهم من يحفظه لمجرد التشرف بشرف حمله، والقيام بواجب أدائه وتعليمه وهو الأغلب. فبالضرورة لا يمكن على أهل هذه الهمم العالية، والأغراض المتفاوتة، والغايات المتباينة، مع كثرة أعدادهم وتباعد بلادهم أن يجتمعوا على التحريف والتغيير، ويتواضعوا على التبديل. البرهان الخامس: لا يخفى على الخبير بعلوم القرآن وطرقه الثابتة؛ أنه لم يَنْقَضِ عصر الرسالة إلا وتتابع التابعون، وأخذوا عن الصحابة مباشرة، وقل فيهم من لا يحفظ كل القرآن. وكان الرجل لا يكون عظيمًا في الأعين، ولا يعد صاحب حديث ما لم يحفظ عشرات آلاف من الحديث. فتتبعوا حفظه الصحابة في كل زمان ومكان، فما بلغهم أن صحابيًّا كذا، يحفظ آية كذا، بلغة كذا من اللغات التي نزل بها القرآن - وسأبين معنى اللغات والأحرف في القرآن، بما لا أظن أن الحق يتعداه إن شاء الله - إلا ارتحلوا إليه وتلقوا عنه، حتى جمعوا القراءات التي قرأ بها القرآن بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم جاء قرن كان حفظ القرآن عندهم؛ كأنه أمر لازم، وكأن أقطار حوافظهم قد امتدت، ودوائر إحاطتهم قد اتسعت. فكثر فيهم من يحفظ مئات ألوف من الحديث، ومن يحفظ أشعار الجاهلية، وأيام العرب، وخطبها، وأمثالها، وأراجيزها، ما لا تسعها ضخام الأسفار، كانوا يحفظون كل ذلك؛ لأجل القرآن وعلومه، فوضعوا علوم الرسوم والتجويد والقراءات، وعلوم الدين وكل مبادئها. وكان من أساس دينهم في الله تشديد النكير على البدع، وشدة الاعتصام بالسنة الثابتة، والمحافظة على ما ورد، والوقوف عند حد أمر ثبت. وما مضى قرن إلا وجاء الذي بعده محققًا باحثًا في علوم القرآن، جاريًا على ما جرى عليه سلفه. كل إنسان أحاط بعلوم القرآن خبرًا يعلم أن طرقه ورسمه واختلاف رواياته كلها توقيف، لم يتصرف فيها أحد بشيء. فوقوع التحريف في القرآن من مثل هذه الأمة غير ممكن. البرهان السادس: الصدر الأول كان محاطًا بالأعداء من اليهود وغيرهم. وكانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا عمومًا وللنبي - عليه السلام - خصوصًا، واقفين له ولقومه بالمرصاد، ناصبين لهم حبائل الفتن، موغرين عليهم صدور الناس. فلو عثروا على أدنى تحريف أو تغيير؛ لشنوا على جامعي المصاحف غارة الفتنة، وشنعوا عليهم في جميع القبائل. ولكان ذلك من أعظم الفرص المساعدة على اتهامهم في نظر الأمة. وأكبر الوسائل المؤدية إلى تفريق الجامعة ا

خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ خلاف الأمة في العبادات ومذهب أهل السنة والجماعة لشيخ الإسلام وعلم الأعلام الإمام: تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه مقدمة لصاحب المنار شرع الله - تعالى - لعباده على ألسنة جميع رسله أن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه. ولكنهم كانوا يتفرقون في كل أمة، فيزول ما أريد بالدين من معنى الاجتماع والائتلاف، حتى إذا ما شرَّع الله لهم الدين العام الذي هو خاتمة الأديان، شدد فيه التنفير من التنازع والتفرق والاختلاف. وأكد الأمر بالاعتصام والاتحاد والائتلاف. وقال لخاتم النبيين {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، ومع ذلك لم تسلم هذه الأمة من اتباع سنن من قبلها، والاختلاف كما اختلفوا أو أشد. ولما وقع الخلاف وكثرت المذاهب، وصار لكل فريق أنصار يخالفون الآخرين، ويطعنون عليهم، امتاز أهل الحق المعتصمون بحبل الله بالدعوة إلى الاجتماع والألفة، والتباعد عن التنازع والفرقة، وجعلوا المرجع في ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ عملا بقوله -عز وجل- {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) فكتاب الله ثابت لا نزاع فيه، وسنة رسوله معلومة لا خلاف فيها، فما جرى عليه، وتبعه فيه أصحابه على طريقة واحدة بلا خلاف بينهم يمتنع فيه الخلاف من المؤمنين، وما اختلف فيه العمل، كان المؤمنون مخيرين فيه لا ينازع أحد منهم أخاه إن أخذ بغير ما أخذ هو به وكل جائز. وقد سُمِّيَ هؤلاء بأهل السنة والجماعة؛ لأنهم يحكمون السنة العملية المتبعة فيما هو حتم، وفيما هو مخير فيه، ويختارون الاجتماع والاتفاق على الخلاف والافتراق، ولذلك كان من مزاياهم التباعد عن تكفير أهل القبلة وتضليلهم؛ لأجل الخلاف، والعمدة عندهم في صحة الإيمان وولاء أخوة الإسلام هو الأخذ المجمع عليه في العصر الأول المعلوم من الدين بالضرورة، ويعذرون من أخطأ فيما عدا ذلك. ثم إن علماء أهل السنة، قد كانوا ينظرون في وجوه الترجيح بين ما اختلف فيه على أهل العصر الأول أو الرواية عنهم، فيأخذ كل واحد ما يراه أرجح، مع كونه يعذر من يأخذ بغير ما اختاره هو؛ لا سيما إذا كان رأيًا لا رواية، ثم حدث في الأمة التقليد، وصار كل فريق يتعصب لعالم من أئمة علماء الأمصار من بعدهم فعاد لذلك التفرق والاختلاف الممقوتان عند الله؛ إلى المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، ووجد بذلك أهل البدع ما وجدوا من المطاعن عليهم، وعلى مذهبهم، بل كان ذلك مما طعن به في أصل الدين. سبق لنا قول في هذا الخلاف ومضاره، ورأيٌ في تلافيه واتقاء أخطاره، أودعناها مقالات محاورات المصلح والمقلد، التي جمعت من المنار وطبعت في كتاب مستقل، وأيدناه بما كتبه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في كتابه القسطاس المستقيم من الدعوة إلى إزالة الخلاف؛ بالأخذ بالمجمع عليه، والتخير في المختلف فيه، وقليل من الناس من يترك كل ما أجمع على تحريمه، ويؤدي كل ما أجمع على وجوبه، ويفعل ما سهل عليه مما أجمع على ندبه واستحبابه. ولكن المرزوئين بالتعصب للمذاهب، يسهل عليهم قطع أخوة الإيمان؛ بسبب خلاف في رواية أو رأي مما لم يجمع عليه المسلمون، وهم مع ذلك يتركون بعض الفرائض، ويرتكبون بعض المحرمات، ويحسبون ذلك أهون من الخلاف في الدين. وقد قرأنا في هذه الأيام رسالة لشيخ الإسلام: أحمد بن تيمية في مسألة الخلاف في العبادات، وحقيقة السنة والجماعة، فآثرنا نشرها؛ رجاء أن ينفع الله بها المسلمين {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) قال - رحمه الله تعالى وأثابه -: (قاعدة) في صفات العبادات الظاهرة التي حصل فيها تنازع بين الأمة في الرواية والرأي مثل: الأذان، والجهر بالبسملة والقنوت في الفجر والتسليم في الصلاة، ورفع الأيدي فيها، ووضع الأكف فوق الأكف. ومثل: التمتع والإفراد والقران في الحج، ونحو ذلك. فإن التنازع في هذه العبادات الظاهرة، والشعائر أوجب أنواعًا من الفساد الذي يكرهه الله ورسوله وعباده المؤمنون. (أحدها) جهل كثير من الناس أو أكثرهم بالأمر المشروع المسنون الذي يحبه الله ورسوله؛ والذي سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته؛ والذي أمرهم باتباعه. (الثاني) ظلم كثير من الأمة أو أكثرهم بعضهم لبعض، وبغيهم عليهم تارةً بنهيهم عما لم ينه الله عنه، وبغضهم على ما لم يبغضهم الله عليه، وتارة بترك ما أوجب الله من حقوقهم وصلتهم؛ لعدم موافقتهم له على الوجه الذي يؤثرونه، حتى يُقَدِّمُونَ في الموالاة، والمحبة، وإعطاء الأموال، والولايات، من يكون مؤخرًا عند الله ورسوله، ويتركون من يكون مقدمًا عند الله ورسوله لذلك. (الثالث) اتباع الظن وما تهوى الأنفس، حتى يصير كثير منهم مدينًا باتباع الأهواء في هذه الأمور المشروعة، وحتى يصير في كثير من المتفقهة والمتعبدة؛ من الأهواء من جنس ما في أهل الأهواء الخارجين عن السنة والجماعة كالخوارج، والروافض، والمعتزلة، ونحوهم. وقد قال تعالى في كتابه: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (ص: 26) وقال في كتابه: {وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيل} (المائدة: 77) (الرابع) التفرق والاختلاف المخالف للاجتماع والائتلاف، حتى يصير بعضهم يبغض بعضًا ويعاديه، ويحب بعضًا ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضي الأمر ببعضهم إلى الطعن واللعن والهمز واللمز. وببعضهم إلى الاقتتال بالأيدي والسلاح وببعضهم إلى المهاجرة والمقاطعة، حتى لا يصلي بعضهم خلف بعض، وهذا كله من أعظم الأمور التي حرَّمها الله ورسوله. والاجتماع والائتلاف من أعظم الأمور التي أوجبها الله ورسوله قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ} (آل عمران: 102-106) قال ابن عباس: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة. وكثير من هؤلاء يصير من أهل البدعة؛ بخروجه عن السنة التي شرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته ومن أهل الفرقة بالفرقة المخالفة للجماعة؛ التي أمر الله بها ورسوله وقال: إلى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ} (البقرة: 213) ، وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: 4-5) ، وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19) ، وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الجاثية: 17) ، وقال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (يونس: 93) ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال:1) وقال: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: 10) وقال: {إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} (النساء: 114) وهذا الأصل العظيم؛ وهو الاعتصام بحبل الله جميعا وأن لا يتفرق هو من أعظم أصول الإسلام ومما عظمت وصية الله - تعالى - به في كتابه. ومما عظم ذَمُّهُ لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواطن عامة وخاصة، مثل قوله: (عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة) ، وقوله: (فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) ، وقوله: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه [1] فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه) ، وقوله: ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟) قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (صلاحُ ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر. ولكن تحلق الدين) وقوله: (من جاءكم وأمركم على رجل واحد منكم يريد أن يفرق جماعتكم فاضربوا عنقه بالسيف كائنًا من كان) ، وقوله: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم) ، وقوله: (ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة: منها واحدة ناجية، واثنتان وسبعون في النار، قيل: ومن الفرقة الناجية؟ قال: هي الجماعة، يَدُ اللهِ على الجماعة) ، وباب الفساد الذي وقع في هذه الأمة؛ بل وفي غيرها هو التفرق والاختلاف؛ فإنه وقع بين أمرائها وعلمائها من ملوكها ومشايخها وغيرهم، من ذلك ما الله به عليم، وإنْ كان بعض ذلك مغفورًا لصاحبه؛ لاجتهاده الذي يغفر فيه خطأه أو لحسناته الماحية أو توبته أو لغير ذلك. لكن يعلم أن رعايته من أعظم أصول الإسلام، ولهذا كان امتياز أهل النجاة عن أهل العذاب من هذه الأمة بالسنة والجماعة. ويذكرون في كثير من السنن والآثار في ذلك ما يطول ذكره، وكان الأصل الثالث بعد الكتاب والسنة الذي يجب تقديم العمل به هو الإجماع، فإن الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة. (النوع الخامس) هو شك كثير من الناس، وطعنهم في كثير مما أهل السنة والجماعة عليه متفقون، بل وفي بعض ما عليه أهل الإسلام، بل وبعض ما عليه سائر أهل الملل متفقون؛ وذلك من جهة نقلهم وروايتهم تارةً، ومن جهة تنازعهم ورأيهم أخرى، أما الأول فقد علم الله الذكر الذي أنزله على رسوله، وأمر أزواج نبيه بذكره، حيث يقول: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ

منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق الاستبداد (3) الفائدة الثانية الخروج من الاستبداد أتى على الشرق حين من الدهر كان يعبد فيه الملوك عبادةً حقيقيةً، ويسميهم آلهةً، ويدعوهم أربابًا، وهو لم يسلم من هذا الاعتقاد سلامةً تامةً عامةً إلى اليوم، ثم ارتقى بعض شعوبه إلى الاعتقاد بأن الملوك ليسوا آلهة خالقين، ولكنهم أصحاب سلطة إلهية وسيادة ربانية تجب طاعتهم عدلوا أو ظلموا، وتقديسهم أساءوا أو أحسنوا، ثم جاء الإسلام بإصلاح جديد، فجعل أمر المؤمنين شورى بينهم، وأمر أصحاب الرأي السديد والمعرفة بالمصالح العامة واجب الامتثال في سياسة الأمة وإدارتها، حتى لا يطمع فرد من الأفراد بالاستئثار بالسلطة والاستبداد بالأمر. وجرى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياستهم على هذه القاعدة، فكان يقدم رأي أصحاب الرأي المعبرعنهم بأولي الأمر على رأيه كما فعل يوم أحد؛ إذ كان صرح بأنه لا يرى الخروج إلى حرب قريش، حتى تصل إلى المدينة. ورأى أصحابه الخروج فعمل برأيهم، وكما فعل يوم بدر، والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة. ولكن الشرق لم يكن تم استعداده لهذا الإصلاح الأعلى؛ لما بيناه في مقال (طبيعة الاجتماع في الحاكمين والمحكومين) ؛ لذلك تسنى لبني أمية أن يعبثوا به، ويزيلوه في زمن قريب. ولي أبو بكر - رضي الله عنه - أمر المسلمين بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخطب الناس، وقال: وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإذا استقمت فأعينوني، وإذا زغت فقومني. وولي عمر رضي الله عنه فقال نحو ذلك في خطبته. ومن المشهور المستفيض على الألسنة؛ أنه لما قال على المنبر: من رأى منكم فيِّ عوجًا فليقومه. قام رجل فقال: لو رأينا فيك عوجا لَقَوَّمْنَاه بسيوفنا، فقال: الحمد لله الذي جعل في المسلمين من يُقوِّم عوج عمر بسيفه. ومما روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال على المنبر: أمري لأمركم تبع، وقال في أول خطبة خطبها بعد أن ولي الخلافة: ألا وإن لكم علي بعد كتاب الله - عز وجل - وسنة نبيه ثلاثًا: (اتباعُ مَن كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وَسنُّ سنة أهل الخير فيما لم تسنوا عن ملأ، والكَفُّ عنكم إلا فيما استوجبتم) . فانظر كيف قيد اتباع من كان قبله بكونه فيما اجتمعوا عليه وسنوه، فهو دليل وراء الأدلة العملية على أن أبا بكر وعمر كانا يأخذان برأي الأمة فيما لم يرد به الكتاب ولم تمض به السنة، وتأمل قوله: (فيما لم تسنوا عن ملأ) ، والملأ: الجماعة من أهل الرأي والمكانة في الأمة، وهم بمعنى النواب. أما سيرة علي - كرم الله وجهه ورضي عنه - فهي على تلك السنة، ما غَيِّر ولا بدَّل، ولا رغب في الدنيا، ولا جنح إلى زخرفها. ولكن نزا عليه بنو أمية أعداء بني هاشم في الجاهلية والإسلام، وكان من أمرهم ما كان، ولا محل لشرحه في هذا التمهيد. وإنما غرضنا أن نقول: إنهم استبدوا عملا، وما عتموا أن جهروا بالخروج عن سنن الإسلام في حكمه قولا؛ إذ قال خطيبهم عبد الملك بن مروان على المنبر: من قال لي اتق الله ضربت عنقه. فتحولت الحكومة إلى استبدادية، كانت على حسب سيرة الحاكم، إلا على الملقب بالخليفة أو الملك: فتارة يكون عادلاً كعمر بن عبد العزيز، وتارة يكون جائرًا، وتارة متوسطًا. وكان معظم ظلمهم وظلم من بعدهم لمن يأنسون منه سخطًا من سلطتهم أو مقاومة لها، وسائر الناس في راحة وأمان، يتقدم به العلم ويزهو العمران، حتى استدار الزمان، ورجع الشرق إلى نحو ما عليه كان. أخبار المماليك يقل في القارئين من لا يعرفها، وسيرة إسماعيل باشا لم يمت جميع من ذاقوا مرارتها، ومفاسد بايات تونس مأثورة، ومنكرات دايات الجزائر غير منكورة، كان من هؤلاء من يعاقب الناس الذين يحل عليهم غضبه، ولو لحفظ عرضهم من فسقه بإحدى ثلاث: الخازوق، أو ترديته من أعلى جبل قسنطينة، أو إغراء كلاب عاقرة به تنهشه وتمزق لحمه حتى يموت شر ميته. كان هذا قبيل إغارة فرنسا على الجزائر. ولا يجهل أحد من قراء الصحف حال بقية الممالك التي لما تؤثر فيها حالة الأوربيين، ولم تحملها على تغيير سلطتها الاستبدادية، إما لجهلها بها لعدم الاختلاط بهم، واقتباس علومهم، والوقوف على حال حكوماتهم كمراكش، وإما لأن السلطة الاستبدادية فيها لا تزال أقوى وأقدر على منع العلم عن الجاهلين، مع مطاردة طلاب الإصلاح من العارفين، كما هو شأن الحكومة العثمانية. إن محاربة الآستانة للعلم والدين، ومطاردتها للعقلاء والعارفين، لفوق ما يتخيل المتخيلون؛ لأنها أضعاف ما يروي الراوون، إن أكثر المطبوعات العربية الجديدة التي تعد في مصر من آيات الارتقاء التي استعدت أو تستعد بها الأمة لأن تحكم نفسها بنفسها هي في الولايات العثمانية من أشد الجنايات، وأعظم الجرائم تضطرب لذكرها القلوب، وترتعد الفرائص، حتى من أولئك الذين يسفكون الدماء بالأسواق في وقت الضحى؛ لأن سافك الدم كثيرًا ما يسلم بالرشوة أو المحاباة، وإذا حوكم لا تتبرأ منه المحاماة، وإذا حكم عليه يدركه العفو في أحد الأعياد بعد عشر سنين أو أقل، أما من يتهم باقتناء كتاب مما يعد منبهًا للأفكار أو بطلبه من مصر، فلا يتجرأ أحد على الدفاع عنه، ولا على الارتشاء منه، ولا يؤخذ منه عدل، ولا تنفعه شفاعة. كم من عالم عامل، ومن غيور فاضل، يئن في ظلمات السجن لا يتجرأ أحد على ذكره ولا السؤال عنه، وكم من عالم وغيور أُخرِج من داره، ونفي إلى حيث لا يسمع أهله وولده بذكره، وما كنت عازمًا على الإشارة إلى مثل هذا؛ لولا أن أُلْقِيَ إليِّ قبل هذه الكتابة رقيم من الحجاز فيه أن أمير مكة جلد بعض أهل العلم مائة جلدة على مشهد من الناس، ثم كبله في السلاسل والأغلال؛ لأنه كتب كتابًا في التوحيد، قال فيه: إن الأمر كله لله، لا ينبغي أن يطلب الخير، ودفع الضر من غيره - عز وجل - بعد العجز عن الأسباب التي سنها، واستعمال القوى التي وهبها فصار إظهار التوحيد الخالص ممنوعًا بهذه الحكومة في حرم الله، وقد كان أعظم مظهر له في أرض الله. هذا واليابان تفاخر أوربا بالحرية والعدل وحكم الشورى، وإيران تحاول مجاراتها في ذلك، ومصر لا حديث لها إلا المجلس النيابي، فمن أبنائها من يلح بطلبه الآن، ومنهم من يقول: يجب أن نعد له أولا عدته، ونكتفي الآن بتوسيع اختصاص مجلس الشورى ومجلس المديرات. وقد سبقهم العثمانيون إلى المطالبة بإعادة القانون الأساسي ومجلس (المبعوثان) (أي: النواب) ، وترى أهم حديث للجرائد التونسية في هذه الأيام حديث مجلس الشورى عندهم، والمطالبة بإنصاف التونسيين من الأوربيين. لكن الفرق بين المصري وأخيه العثماني؛ أن الأول يجهر بطلبه في بلده، ويناقش حكومته جهرًا، في المجالس الرسمية، وفي الجرائد، وفي المحافل العامة والخاصة، وقد يطعن عليها وعلى القوة المشرفة عليها، وهي تبيح له ذلك. والعثماني لا يتجرأ على الحديث بذلك في بلاده؛ وإن كان في كسر بيته قد أغلقت دونه الأبواب، وأرخيت عليها السجوف والأستار؛ لأنه أعلم الناس بالمثل القائل: للحيطان آذان، وهو لا يأمن على نفسه الأهل والجيران؛ لأن الاستبداد قد أفسد الناس أي إفساد، حتى صار الرجل الحر يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وفصيلته التي تؤويه، وإنما يجهر بذلك في أوربا ومصر، وكل بلاد ليس فيها لأبناء جنسه سلطان ولا حكم. فأعظم فائدة استفادها أهل الشرق من الأوربيين معرفة ما يجب أن تكون عليه الحكومة واصطباغ نفوسهم بها، حتى اندفعوا إلى استبدال الحكم المقيد بالشورى والشريعة بالحكم المطلق الموكول إلى إدارة الأفراد، فمنهم من نال أمله على وجه الكمال كاليابان، ومنهم من بدأ بذلك كإيران، ومنهم من يجاهد في سبيل ذلك بالقلم واللسان، كمصر وتركيا. ليست هذه الفائدة بالشيء التافه، ولا بالأمر اليسير، ولا هي بالمنفعة التي تقرن بالنظائر، بل هذه مرتبة البشرية العليا، في هذه الحياة الدنيا، فإن القوم الذين يرضون أن يستبد بهم حاكم؛ يقبل فيهم ما يشاء، ويحكم بما يريد، ينبغي أن يعدوا من الدواب الراعية، والأنعام السائمة إذن هذه الفائدة هي عبارة عن الارتقاء من حضيض البهيمية إلى أفق الإنسانية، فحسب الشرق إن استفاد هذه الفائدة وعرف قيمتها. لا تقل أيها المسلم: إن هذا الحكم أصل من أصول ديننا، فنحن قد استفدناه من الكتاب المبين، ومن سيرة الخلفاء الراشدين لا معاشرة الأوربيين، والوقوف على حال الغربيين، فإنه لولا الاعتبار بحال هؤلاء الناس؛ لما فكرت أنت وأمثالك بأن هذا من الإسلام، ولكان أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الركن علماء الدين، في الآستانة، وفي مصر، ومراكش، وهم هم الذين لا يزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية، ويعد من أكبر أعوانها، ولما كان أكثر طلاب حكم الشورى المقيد هم الذين عرفوا أوربا والأوربيين، وقد سبقهم الوثنيون إلى ذلك. ألم تر إلى بلاد مراكش الجاهلة بحال الأوربيين كيف يتخبط في ظلمات استبدادها؟ ولا تسمع من أحد كلمة شورى؛ مع أن أهلها من أكثر الناس تلاوة لسورة الشورى، ولغيرها من السور التي شرع فيها الأمر بالمشاورة، وفوض حكم السياسة إلى جماعة أولي الأمر والرأي. فإن قلت: إن أول من نبه المصريين إلى حقوق الأمة على الحاكم، وإلى فضل حكومة الجمهورية، والملكية المقيدة على الحكومة الاستبدادية، شيخان من شيوخ الدين وإمامان من أئمة الإسلام، وهما: السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده، وإنك أنت قد نشرت في (المنار) مقالات للسيد مقالات في (الحكومة الاستبدادية) ، كانت مما نشره هو في بعض الجرائد على عهد إسماعيل باشا، وهي تحرك الجماد، وصرحت في ترجمة الشيخ بأنه كان يدعو إلى ذلك، وأنه قال، بل كتب عن نفسه هذه الكلمة الجليلة: دعونا إلى هذا والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد، وقد كان مضى على المصرين أكثر من نصف قرن، وهم يتدارسون علوم أوربا، ويشتركون مع الأوربيين في كثير من الأعمال، ويتزاحمون معهم بالمناكب، ويتبادلون بالأموال ولم يخطر في بالهم أن يقلدوهم بإصلاح الحكومة والسيطرة عليها. إن قلت هذا؛ محتجًا على أننا نحن المسلمين، قد اقتبسنا فائدة مقاومة الاستبداد من الدين، فإن لي أن أجيبك عن ذلك؛ بأنني لا أنكر أن ديننا يفيدنا ذلك كما رأيت في مقدمة هذا المقال. كيف؟ وإنني لم أطلع على كتابة لأحد في ذلك أوسع مما كتبته في (المنار) ، وإنني مطلع على سيرة هذين الإمامين الحكيمين وعالم بأنهما كانا قد عاهدا توفيق باشا؛ قبل أن يصير الأمر إليه على نصره وعاهدهما هو على إنشاء مجلس نيابي، وعلى تعميم التعليم في القطر المصري ومع هذا كله أقول: إننا لولا اختلاطنا بالأوربيين؛ لما تنبهنا من حيث نحن أمة أو أمم إلى هذا الأمر العظيم، وإن كان صريحًا جليًّا في القرآن الحكيم، نعم إن أستاذينا الحكيمين - رحمهما الله تعالى - أهل لأن يفهما ذلك من القرآن؛ لأنهما أول من دعا في هذا العصر إلى جعله أساسًا للإصلاح، وبينا من حكمه وفضله، ما عجزت الأوائل عن الإتيان بمثله. ولكن كلامنا في تنبه الشعوب الشرقية على اختلاف مللها ونحلها، لا تنبه فيلسوفين من أهل ملة منها، على أن هذين الحكيمين قد استفادا من الاعتبار بحال أوربا، وعرفا حال أهلها قبل دعوتهما إلى هذا الإصلاح. لا ينبه الأمة إلى مثل هذ

أسئلة من بعض أهل العلم بتونس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من بعض أهل العلم بتونس التوحيد وتوفي ملك الموت للناس (س14) أعظم أساس أقيم عليه هيكل الإسلام توحيد الله - تبارك وتعالى - واعتقاد أنه وحده المتصرف في الكون، وكيف تجامع هذه العقيدة الاعتقاد بملك الموت الذي جاء به قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) ، فما الحكمة في تفويض أمر توفي الأنفس لهذا الملك؟ (ج) إن تفويض التوفي إلى بعض الملائكة، كتفويض تبليغ الوحي للأنبياء إلى بعضهم، وكتفويض تبليغ الرسالة للناس إلى المرسلين، وكتفويض غير ذلك من الأعمال إلى المخلوقين، كل ذلك لا ينافي التوحيد وكون الله - سبحانه وتعالى - هو المتصرف في الكون؛ لأنه عز وجل هو الذي أقدرهم، وهو الذي سخرهم، ولو سلبهم ما أعطاهم لما قدروا على شيء. ولكن قضت حكمته أن يربط أمور الكون بعضها ببعض، فيجعل هذا سببًا لذاك، وهو واضع الأسباب والمسببات، ومدبر العلل والمعلولات، وقد بين لنا في كتابه كلتا الحقيقتين: حقيقة ربط الأسباب بالمسببات، وحقيقة انفراده بالخلق والتدبير. ومنه ذلك الربط والتسخير. فكما قال: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) ، وقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42) ، وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (الزمر: 62) ، ولكل مقام مقال، ولا تنافي بين الحقيقتين عند العقلاء، حتى من أهل الوثنية الراقية كمشركي العرب وقت البعثة، وإنما كان شرك هؤلاء خاصًّا بالعبادة، وهو التوجه بالقلب إلى غير الله في قضاء الحاجات عند العجز عن الوصول إليها من طريق الأسباب، أو التقرب إلى الله، وما يتبع ذلك من دعاء المتوجَّه إليه، وجعله وسيلة إلى الله، كما بَيَّن لنا ذلك الكتابُ العزيزُ في آيات تنطق بأنهم كانوا يعتقدون أن الله خالق كل شيء، وأن ما يدعون من دونه إنما يدعى؛ ليشفع لهم عنده، ويقربهم إليه زلفى، وهذا هو الشرك في الألوهية، وقد شرحناه مرارًا كثيرة في بابي: التفسير والفتاوى وغيرهما من أبواب المنار وترى منه شيئًا في التفسير من هذا الجزء. وهذا النوع من الشرك هو الذي ابتلي به أكثر الخلق بما يقيسون في هذا الأصل الذي يجب أن يكون مبنيًّا على البرهان القطعي، لا على القياس الظني أو الوهمي، وناهيك بقياس الرب الرحيم العليم الحكيم على الملوك القساة الجهلاء السفهاء، إذ يقولون: إن الملك يقضي حاجات الناس بواسطة المقربين إليه من حاشيته، أو وزرائه، أو يكل إليهم ذلك، ولا يسمح لكل أحد أن يطلب حاجته منه مباشرة، فكذلك يفعل الله - سبحانه وتعالى عما يصفون -، فقد أبطل هذا القياس على ألسنة جميع رسله، وهدى الناس إلى أن يلتمسوا منه حاجاتهم بالسيرعلى سنته في الأسباب والمسببات حتى إذا أعوزهم السبب وضاقت بهم السبل، ونفدت منهم الحيل، وجب عليهم أن يلجؤوا إليه، ويعولوا في أمرهم عليه، ويخصوه بالدعاء، ويقصروا عليه الرجاء عسى أن يهديهم إلى ما جهلوا من الأسباب، أو يخفف عليهم ثقل ما حملوا من الأوصاب، ولم يأذن لهم أن يدعوا من دونه أحدا، ولا أن يطلبوا منه عونًا أو مددًا أما تقرأ ما أمر به خاتم أنبيائه، وصفوة أصفيائه {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً * قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً * إِلاَّ بَلاغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ} (الجن: 20- 23) ، فإذا كان خاتم النبيين والمرسلين، لا يملك للناس ضرًّا يدفعه، أو نفعًا يرفعه، أو رشدًا يهدي به القلوب، بل يملك التبليغ للرسالة فقط، وهو فيما عدا ذلك بشر مثلكم، فماذا تقول بغيره ممن يطلب منهم ذلك؟ أما الحكمة في جعل قبض الأرواح موكولاً إلى ملك الموت، فهي داخلة في الحكمة العامة في ربط الأسباب بالمسببات، وجعل الأرواح اللطيفة عاملة في الأجسام الكثيفة، وعلى طالب الحكمة أن يعرف ذلك، فمتى عرفه أو عرف منه، لم يقل: لم كان كذلك؛ لأنه يشاهد أنه منتهى الكمال في الإبداع، كما أن منتهى الجهل في الناس أن يظنوا أن خلق كل شيء آنفًا هو أدل على كمال قدرة الخالق، كما تخيلت القدرية، كأن هؤلاء الجاهلين يرون أن الحكمة والنظام ينافيان كمال القدرة، تعالى الله عن جهلهم. *** قيام الدين بالدعوة وحديث (أُمرت أن أقاتل الناس) (س15) الإسلام كما لا يخفى عليكم، قام بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالسيف والقوة، كما يعتقد الكثير من أصدقاء الدين الجهلاء، وكيف يجامع هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس، حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) فإنه صريح في أن القتال كان للحمل على الدخول تحت لواء الإسلام؟ (ج) أما كون الإسلام قام بالدعوة لا بالسيف قطعي لا ريب فيه. وأما الحديث فقد ورد في مشركي العرب الذين لم تقبل منهم الجزية بعد الإذن بقتالهم، وما أذن للمسلمين بقتالهم إلا بعد أن آذوا النبي ومن معه، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، وقعدوا لهم كل مرصد، ووقفوا في سبيل الدعوة، فلم يكن الإذن إلا للدفاع عن الحق، وحماية الدعوة كما بيناه مرارا، وليس الغرض من الحديث بيان أصل مشروعية القتال، فإن هذا مبين في الكتاب العزيز بمثل قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج: 39) الآيات، وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (البقرة: 190) الآيات، وإنما الغرض منه بيان أن قول لا إله إلا الله كاف في حقن الدم، وإن لم يكن القائل لها من المشركين معتقدا؛ لأن الأمر في ذلك يبنى على الظاهر، وهذا بالنسبة إلى وقت القتال، ولكنه بعد ذلك، يؤمر بالصلاة والزكاة، فإن امتنع عن قبولهما لا يعتد بإسلامه، كما يؤخذ من رواية (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة) وهو في الصحيحين على غرابته؛ لأن شعبة تفرد بروايته عن واقد وقد عد من الإشكال فيه أن يكون راويه ابن عمر مع ما علم من محاجة عمر لأبي بكر في قتال مَانِعِي الزكاة، ولم يحتج به عمر، ولا ابنه قاله له. وأجاب ابن حجر عن هذا باحتمال نسيان عبد الله له في ذلك الوقت. ومما يؤيد قولنا أَنَّ الحديث خاص بالمشركين وإن كان لفظه عامًّا؛ رواية النسائي له بلفظ: (لا أمرت أن أقاتل المشركين) ، وقد علمت أن المراد بيان غاية القتال لا مشروعيته، وأن سبب مشروعيته الدفاع وتأمين الدعوة ومنع الفتنة، لا الإكراه على الدين المنفي بنص القرآن الحكيم. *** الاضطهاد في الدين وقتل المرتد (س16) إذا كان الإسلام لا يضطهد أحدًا لعقيدته، فكيف يشرع قتل المرتد الثابت بقوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ؟ (ج) كان المرتد من مشركي العرب، يعود إلى محاربة المسلمين وإيذائهم فمشروعية قتله أظهر من مشروعية قتال جميع المشركين المحادين للإسلام. وكان بعض اليهود ينفر الناس من الإسلام بإظهار الدخول فيه، ثم بإظهار الارتداد عنه ليقل قوله بالطعن فيه قال تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران: 72) ، فإذا هدد أمثال هؤلاء بقتل من يؤمن ثم يرتد، فإنهم يرجعون عن كيدهم هذا فالظاهر أن الأمر بقتل المرتد كان لمنع شر المشركين، وكيد الماكرين من اليهود فهو لأسباب قضت بها سياسة ذلك العصر، التي تسمى في عرف أهل عصر سياسة عرفية عسكرية، لا لاضطهاد الناس في دينهم. ألم تر أن بعض المسلمين أرادوا أن يُكرِهوا أولادهم المتهودين على الإسلام، فمنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير، والإسلام في أوج قوته. وفي ذلك نزلت آية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) . *** حكاية القرآن المسخ في بني إسرائيل (س17) جاء في القرآن الحديث عن مسخ بعض الأمم من بني إسرائيل، فهل هو محمول على حقيقته من انقلاب الأعيان، كما هو مذهب الجمهور (وهو مخالف لسنة الله في الكون) ، أو هو محمول على التشنيع بحالهم، كما هو مذهب مجاهد؟ وإذا كان كذلك، فبماذا نجيب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - (مسخت امرأة من بني إسرائيل) ؟ هذه الآية وما ماثلها تعد من أصول الدين وقواعده العامة التي تقضي على غيرها، ولا يقضي عليها شيء، ولا يمكن رد الحديث إليها فيما وصل إليه علمنا إلا بحمله على ذلك السبب الخاص، فكأن الضرورة قضت بذلك في تلك الحال. (ج) لفظ المسخ لم يرد في القرآن إلا في آية واحدة، هي قوله - تعالى -: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِياًّ وَلاَ يَرْجِعُونَ} (يس: 67) ، وهي بيان لقدرة الله - تعالى - على الانتقام منهم لو شاء. ولكنه لرحمته لم يفعل كل ما يقدر عليه من التنكيل بالكافرين والظالمين، والمروي عن السلف تفسير المسخ هنا بالإقعاد أو الإهلاك. روى ابن جرير عن الحسن {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} (يس: 67) قال: لو نشاء لأقعدناكم. ورواه عن قتادة بلفظ (لأقعدناهم على أرجلهم فما استطاعوا مضيًّا ولا يرجعون، فلم يستطيعوا أن يتقدموا ولا أن يتأخروا) وروي عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها: (ولو نشاء أهلكناهم في مساكنهم) . ولم يرو عن أحد أنه قال: إن المسخ تحويل الخلقة من شكل إلى شكل. ويقول الراغب في المفردات: إن المسخ تشويه الخلق والخُلق، وتحويلهما من صورة إلى صورة، وهو مأخوذ من مسخت الناقة أي: أنضيتها، حتى تغير خلقها، ولا يفهم منه أنك جعلتها بقرة. والحديث الذي ذكرته لا أتذكر أين يوجد. ولكنني أعلم أنه ليس في الصحيحين. والخطب في مثله سهل بعد الذي علمت، وبعد العلم بأن هذه الروايات في الأمور التي يطلب فيها العلم الصحيح ليست مما يحتج به. *** الدابة التي تتكلم في آخر الزمان (س 18) ما معنى قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} (النمل: 82) فهل الآية محمولة على ظاهرها أو هي كناية عن ظهور العجائب؟ (ج) هذه الآية مما أخبر الله به عن المستقبل البعيد، فهي من أنباء الغيب التي تؤخذ بالتسليم، ما لم يكن ظاهرها محالا، فتحمل على خلاف الظاهر بالتأويل كما هي القاعدة، وكلام الدواب ليس محالا في نظر العقل؛ ولذلك يطمع علماء الإفرنج الآن، في معرفة لغة بعض الحيوانات كالقرود والببغاء، تتكلم بالقدر المعروف، ويحتمل أن تترقى في هذا الكلام، كما يحتمل أن توجد حيوانات أخرى تكلم الناس، ولا نقبل أقاصيص المفسرين في ذلك. *** طائفة محمد بن عيسى أكلة الثعابين والنار (س19) من الناس طائفة تنتسب إلى الشيخ محمد بن عيسى، وتأتي من المنكرات ما يتقطب له وجه السنة. ولكن تظهر من الخوارق ما يقف الناظر متحيرًّا دون الوصول إلى حقيقته، وإدراك كنهه، كأكل ذوات السموم، وابتلاع المدى، وإدخال السيف في البطن والعين، وإلصاق النار بالبشرة وأكلها، وليس شيء من ذلك بضار لهم. فما الحقيقة فيما يأتونه؟ (

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (فرائد اللغة العربية) في لغتنا الغنية فرائد كفرائد اللآل، قد أُهمِلت على جدارتها بالاستعمال، ومنها المفردات التي يؤدي الواحد منها معنى جملة. وكنت شرعت في جمعها قبل الهجرة إلى مصر، فكتبت منها أوراقًا من حرفي الهمزة والباء، ثم حَالَ السفر دون المضي في العمل. وقد عنَّ لي الآن أن أَذكُر بعض هذه الفرائد؛ أُذكِّر بها الكُتَّاب لعلهم يستعملون منها ما يروق لهم. ولم أراع في الكلمات الآتية ترتيبًا ولا نظامًا إلا ترتيب ما يخطر ببالي أولاً فأولا. وهاك ما خطر الآن: (التَّجْذِيذ) : أن تستتبع القوم فلا يتبعك أحد، وهو مصدر جذَّذ الرجل. (العِدَال) ككتاب: أن يقول واحد فيها بقية وآخر ليس فيها بقية، وأن يعرض أمران فلا تدري إلى أيهما تصير، فأنت تتروَّى في ذلك، وهو مصدر عادل. (اللُّويَة) بالضم كالكوفة: القوم يكونون مع القوم؛ ولا يستشارون في شيء. (العرازيل) قوم عرازيل: مجتمعون في لصوصية. (الأوشاب) : أخلاط الناس المتفرقون، ومثله (الأوزاع) . (الأوقاس) بالمهملة والمعجمة: السقاط والعبيد وأشباههم. (الغوغاء) : السفلة، واستعماله بمعنى الضوضاء والجلبة خطأ. وقيل الغوغاء: الكثير المختلط. (الطراء) القوم يجيئونك من بعيد من غير أن تشعر بهم، وهو من الطراء والطروء. (النفيج) الأجنبي يدخل بين القوم، ويصلح أمرهم أو الذي يعترض لا يصلح ولا يفسد. (المتنفج) الذي يفتخر بأكثر مما عنده. (النفاج) المتكبر يفتخر بما ليس عنده. (العِرِّيض) بكسر العين وتشديد الراء: الذي يتعرض للناس بالشر. (الغيدار) الذي يسيء الظن فيصيب. (المعِنّ) بالكسر: من يدخل فيما لا يعنيه ويعرض في كل شيء، وهي معنة. (المفِنَّ) بالكسر: ذو الفنون والغرائب، وهي مفنة. (الفجفاج) الكثير الكلام، المتشبع بما ليس عنده. (الضعضاع) الرجل بلا حزم ورأي، ومثله الضعضع. (الوهين) الرجل يكون مع الأجبر يحثه على العمل. (عزاه التهذيب إلى أهل مصر) . (التوليج) ولج ماله: إذا جعله في حياته لبعض ولده، فسامع الناس فانقدعوا وكفوا عن سؤاله. يقال: ولَّج ماله. (الإغراب) أغرب الرجل: بالغ في الضحك، وتزوج من غير أهله. وأجرى فرسه إلى أن مات. (التنصي) تنصى القوم: تزوج من خيارهم وشرفائهم الذين هم ناصيتهم. ومثله نذراهم أي: تزوج من ذروتهم. (الفراطة) كثمامة: الماء يكون شرعًا بين عدة أحياء، مَن سبق إليه فهو له. (التناوة) بالكسر: ترك المذاكرة والمدارسة. (الإفتاق) يقال أفتق فلان: إذا سمنت دوابه. (الإفناق) يقال أفنق الرجل: تنعم بعد بؤس. (الافتجار) يقال افتجر الكلام: اخترقه من غير أن يسمعه أو يتعلمه من أحد. (الافتحار) يقال افتحر الكلام والرأي: أتى به من قصد نفسه ولم يتابعه عليه أحد. (التجرم) تجرم عليه وتجنى عليه وتذقح له: نسب له الذنب ما لم يفعل. و (الذُّقَّاحة) بالضم وتشديد القاف: من تعود التذقح والتجرم. *** (تاريخ الأستاذ الإمام) قد تم طبع الجزء الثاني والثالث من هذا التاريخ، فأما الثاني: فهو في منشآته وآثاره القلمية التي لم تدون في الكتب: كمقالاته القديمة والحديثة في الجرائد، ولوائحه في الإصلاح والتربية والتعليم، وكتبه ورسائله للعلماء والفضلاء، وناهيك بمقالات العروة الوثقى وصفحاته 560. وأما الثالث: فهو في التأبين والتعازي والمراثي، وصفحاته 428، ولعلها أطرف كتب الأدب العصرية وأنفعها. وإننا نقرظ كلاًّ منهما بنشر مقدمته؛ فإنها أحسن مبين لحقيقتها. (مقدمة الجزء الثاني) (بسم الله الرحمن الرحيم) {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} (يس: 12) . مات الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) ولم يمت، بل هو حي بآثاره التي هي مقبس أنواره، مات الموتة الطبيعية، وحيي الحياة العقلية الروحية، فهو لا يزال كما كان، قبل أن يغيب عن العيان، تنقل أقواله، وتذكر أعماله، وتكتب معارفه، وتشكر عوارفه، ولا غرو فإن للعلماء والحكماء في هذه الدنيا حياتين؛ حياة جسدية محدودة تبتدئ بيوم الولادة وتنتهي بيوم الوفاة، وهي الحياة الحيوانية التي يشاركهم فيها سائر الناس بل سائر الحيوان. وحياة عقلية روحانية غير محدودة وهي تبتدئ بظهور ثمرات عقولهم النافعة لأئمتهم، أو لكل من يجنيها من الناس، وتدوم ما دام الزمان، وبقي من الناظرين في آثارهم إنسان، وقد كان الأستاذ الإمام من خيرة هؤلاء العلماء، وأفضل أصحاب هذه الحياة من الحكماء، تشهد له بذلك آثاره المرقومة في وجوه الصحائف، ومآثره المرسومة في ألواح القلوب: تلك آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار يسفر لك هذا السفر من تاريخ هذه الحياة عن الرجل؛ وهو فيما دون العاشرة منها (وفي نحو الرابعة والعشرين من حياته الطبيعية) ، تارة يحرر الواردات الآليهة في حقائق علم الكلام الأعلى، ويسير في المزج بين عرفان الصوفية وبرهان الفلاسفة على الطريقة المثلى، متمكنًا من مقام التوحيد، متنكبًا عن مقعد التقليد، على حين لا توحيد ولا كلام عند المشتغلين بالعلوم الدينية، إلا حكاية بعض ما قاله متأخرو الأشعرية، وتارة يقتبس أنوار الحكمة من أستاذه السيد جمال الدين، ويفيض منها على عقول المستعدين، بما يكتب من المقالات في فلسفة التربية والصناعات، وآونة يحبر الفصول الإنشائية، ويجلي المعاني العصرية، في أثواب الأسجاع الحريرية، ويزفها كالخرائد على منصات الجرائد، داعيًا إلى استقلال الفكر، وتناول علوم العصر، حاثًّا على ترقية الأمة، حاضًّا على تجديد مجد الملة، آمراً بالاتحاد على ترقية الأوطان، ناهيًا عن التعصب الذميم بين المختلفين في الأديان، فهذا مثال طور الطلب والتحصيل من حياة الرجل العقلية، يبتدئ في الكتاب برسالة الواردات، وينتهي بالتحفة الأدبية. ثم يمثله لك في طور آخر. وهو تارة بين أرباب الرياسة، يرشدهم إلى طرق الإدارة والسياسة، ويهديهم سبيل الرشاد؛ لترقية الرعية وعمران البلاد، وتارة يشرف على الأمة بالوعظ والتعليم، ويسلك بها صراط الحياة المستقيم، ببيان غوائل السرف وفوائد الاقتصاد، وتقويم النفوس بعقائل الفضائل وأحاسن الآداب، بعد تطهيرها من لوث الخرافات، ومساوي التقاليد والعادات، يهبط على الفلاح في حرثه فيخاطبه بما يفهم، ويعرج بطالب الحكمة إلى أفقه فيعلمه ما لم يكن يعلم، وهذا هو المثال الأول لطور العمل، من الحياة المعنوية للرجل، تجليه لك مقالاته في جريدة الحكومة الرسمية، وجل عمله فيها خاص بإصلاح حال البلاد المصرية. ثم يجليه لك مع أستاذه في الديار الأوربية، متحدين على إرشاد جميع الشعوب الإسلامية، السيد الحكيم يقترح ويدبر، والأستاذ الإمام يكتب ويحرر، يدعوان إلى العروة الوثقى التي لا انفصام لها، ويجمعان القلوب على الوحدة وكانا أحق بها وأهلها، هنالك تتجلى لك روح القرآن، هابطة من سماء الحكمة والعرفان مؤيدة بالعزة والسلطان، تطوف بتلك العروة البلاد، وتصافح قلوب أهل الاستعداد فتحييها حياة جديدة، وتجذبها إلى عيشة سعيدة، هنالك ترى الإلهام الإلهي يمد بتأثيره العلم الكسبي، فيصيبان مواقع الإقناع من العقل، ويبلغان مواضع التأثير من النفس فلا يقرأ القارئ ما في العروة من بيان حال المسلمين، وأسباب ما أصيبوا به من البلاء المبين وما تطب لدائهم، وتصف من دوائهم إلا وينثني أسير البرهان مملوك الوجدان بالإذعان، مندفعًا إلى العمل بذلك البيان بالجنان واللسان والأركان وذلك طور مستوى القوة وكمال الفتوَّة، ومنتهى علو الهمة، وبيع النفس والوقت للملة والأمة. ثم يظهره لك رابضًا في الديار السورية، يعمل لإصلاح الإسلام بإصلاح الدولة العثمانية، أو مقيمًا في الديار المصرية، يبين لأولي الأمر طريق الإصلاح بالتربية الدينية، وهو في القطرين يتكلم عن فهم ثاقب، ويرمي عن فكر صائب، يبين طبائع البلاد والساكنين، ويجمع بين مصلحة الحاكمين والمحكومين، ويهديهم إلى الطريق القويم، في نظام التربية والتعليم معرِّضًا باستعداده لتنفيذ العلم بالعمل، مصرحًا بضمان تحقيق الأمل، وفي ذلك ما فيه من اعتماده على الله، وثقته بالقوى والمواهب التي آتاه، يلوح لك ذلك في لوائح الإصلاح، وما فيها من إشراع مناهج الفلاح. ثم يبرزه لك في طور المبارزين للطاعنين على الدين المبين، فيتراءى لك أن قلمه أمضى من الحسام، وكلمه أنفد من السهام، فهو بهما يكرّ ويصول ويجندل من المجادلين الفحول، ولا ينثني إلا والحق غالب على أمره، والباطل مغلوب يَأْرِز إلى جحره، وحسبك من ذلك رده على موسيو هانوتو في قوله في طبيعة الديانتين الإسلامية والمسيحية، ثم رده عليه في مسألة الجامعة الإسلامية. ثم يريكه يجوب الأقطار، ويقطع أجواز البحار؛ للنظر في آثار الأولين واستخراج العبر منها للآخرين، فتراه في صقلية مرة، يتصفح الصحف والأسفار، ويستنطق العاديات والآثار، ويقرأ ما نقش على الجدران بالعربية؛ لتحقيق المسائل التاريخية. ومرة يبحث عن الأخلاق والعادات، وينقب عن المنشآت والمستحدثات يتردد بين الأديار والكنائس والمقابر والمدارس، ثم يزف ما استفاد إلى أمته، فيما كتب عن رحلته. ثم يكشف لك عن الحجاب، وهو يراسل العلماء والكبراء والكتاب، فتارة يتلو عليك من كتبه إلى حزب المصلحين، وأهل البصيرة من علماء المسلمين ما تخشع له القلوب، وتتحدر من وقعه الشؤون، فكأنك منه وقد عاد بك الإسلام إلى عصر النبي - عليه الصلاة والسلام - فرأيت نفسك تتدفق غيرة على الدين، وتفيض حزنًا على ما حل بالمؤمنين، فلم يبق لها هَمّ إلا أن تكون كلمة الحق هي العليا وكلمة الباطل هي السفلى، أو كأنك معه في عصر الراشدين، كأنه معك أمير المؤمنين يصول على الأرواح بمواعظه الصادعة، ويختلب الألباب ببلاغته الرائعة. ومرة يشنف مسامعك باللؤلؤ والمرجان، من رسائل الوداد إلى الأصدقاء والخلان، فيمثل لك الأدب الباهر واللطف الساحر، ويصور لك الوفاء في أجمل صوره، والإخلاص في أجل مظاهره، والصدق في الحب على البعد والقرب، ويريك من ذلك الرجل الحزين على أمته، المستغرق في عمل الإصلاح لملته، أديبًا ظريفا، ونديمًا لطيفا، حسن الأماليح مليح الأفاكيه: حلو الفكاهة مرّ الجدّ قد مزجت ... بشدة البأس منه رقة الغزل وآونة يقرئك مما كتب إلى المؤلفين بالعربية، أو المترجمين للكتب الأجنبية، ما يرفع من أقدارهم، ويشب من نارهم، وما يشحذ غرار همتك ويزجي ركاب عزيمتك، إلى أن تكون من زمرتهم، وتساهمهم في مثل خدمتهم. وأحيانًا يسمعك من تعازيه للمحزونين ومواعظه للمرزوئين بالأقربين ما يحلو به مرير الصبر، ويرغب فيما عند الله من المثوبة والأجر، ويترك القلوب مفثوءة الثائرة قد سكنت قدرها الفائرة، وأنشأت تشيع الأحزان، وتستقبل السلوان. ثم يختم لك ذكرى هذه الحياة الروحية، والآثار العقلية بشذرات من الحكم المنثورة، والآيات المأثورة، فترى إجمالاً ينبئ عن تفصيل وقليلاً لا يقال له قليل، كأنه صورة مصغرة لتلك الروح الكبيرة، أو عناوين لتلك الكتب المسطورة على أن الكتاب كله نَتْفٌ من أقواله ونموذج من أعماله، وأن آثاره في النفوس لأعظم من آثاره في الطروس، فهو حي في الآخرة بما قدم من عمل، حي في الدنيا بما ترك من أثر، يمثل حياته هذا الكتاب الناطق وين

المشروبات الروحية وتأثيرها

الكاتب: نصر أفندي فريد

_ المشروبات الروحية وتأثيرها جاءنا من الدكتور نصر أفندي فريد طبيب العيون بالمنصورة ما يأتي: 19 ربيع الأول سنة 1325 حضرة الأستاذ الفاضل: قرأت لكم في العدد الأسبق بجريدة المنار الغراء كلامًا في الخمر، ملخصه أنه لا فائدة منها إلا أن الجعة مدرة للبول، وحيث إن جريدتكم الغراء لها تأثير فعال في نفوس المسلمين، وجدت من الواجب علي أن لا تفوت الجريدة هذه الملحوظة. المشروبات الروحية وتأثيرها هذه المشروبات ليس لها أدنى فائدة للصحة بالمرة، إلا في ظروف يعرفها الأطباء دون غيرهم في بعض الأمراض، والأنزفة بمقادير معينة، وضررها على الصحة فيما عدا ذلك وبيل للغاية، وقد تألفت جمعيات كثيرة في أوربا لمنع المسكرات، فأثرت تأثيرًا حسنًا، وفي سنة 1903 أفرنكية، وزعت بلدية باريس - عندما كنت فيها -، منشورات في المدينة وفي جميع الجرائد معززة بآراء نطس الأطباء بضرر هذه المشروبات. فأمراض الجنون والشلل العام وأمراض الكبد والكليتين والمعدة والقلب والسل أغلبها مسبب من المشروبات الروحية. أما إدرار البول المشاهد بعد شرب هذه المشروبات ومن ضمنها الجعة، فهو متسبب من تهييج الكليتين واحتقانهما من الكؤل الموجود في هذه المشروبات. وإني أتأسف لانتشار هذه الفكرة بين العوام، وهي تعاطيهم الجعة عند إصابتهم بمرض في الجهاز البولي، فيغترون بهذا الإدرار البولي الكاذب، فتزداد الحالة خطارة، وينتهي الاحتقان الكلوي بالتهاب كلوي عاقبته الموت، إن لم يبادر المصاب بالانقطاع عن تعاطي أم الخبائث. والسلام. (المنار) نشكر للدكتور الفاضل مبادرته إلى هذا التنبيه المفيد، وما زلنا ننصح للناس بأن لا يفتروا بكلام الأطباء المقلدين أو المفتونين بزخرف المدينة؛ إذ يأمرون من يشكو معدته أو غير معدته بشرب نبيذ كذا، فإن أكثرهم يأخذ على هذا الغش أجرًا من باعة الخمور. وقد قرأنا في الجزء الأخير من مجلة المقتطف مقالة مفيدة في هذا الموضوع، سننشرها في الجزء الخامس. وكتب إلينا أحد أساتذة المدارس بمصر، ما يأتي: أستاذي المفضال السيد محمد رشيد رضا. سلام الله عليه. وبعد فهل لي أن أطلب إليكم نشر هذه الكلمة على صفحات المنار؛ إعلانًا للحقيقة، وشكرًا للصادقين. سيدي أرى أن أمرك مقسم، والناس فيه فريقان: فمن عائب يهجن منك مخاطبة اللورد كرومر، ويتمنى لو نقمت عليه مع الناقمين، وصرمته مع الصارمين، فلم تكتب إليه شيئا. ومما يرمونك به أنك في استفهامك منه عما يريد - من لباب الإسلام أم قشوره، قد بينت له أي الأمرين يختار وذكرت له وجوه الاختيار من عمل الحكام بالفقه، ورجوع بعض المسلمين عن العمل به ومن تخطئة بعضهم البعض فيه. يقولون لو غيرت هذه اللهجة. أما أنا فمهما يكن من الأمر فإنما أرى أن مولاي الرشيد - حفظه الله - قد استدرج جناب اللورد إلى العدول عما في تقريره، وخاتله فختله وبالواجب عمل - من كان يظن أن اللورد كرومر لا يرجع عما في تقريره في حفلة الأوبرا الخديوية بعد مجاملة سمو الأمير له، وزيارته في الوكالة البريطانية، واشتداد الصحافة المصرية في الطعن على تقريره. ولكن اللورد كرومر دَلَّ على تمسكه بما في تقريره وإصراره عليه وهزؤًا بالمطاعن فيه في الصحافة وغيرها إذ قام في الأوبرا خطيبًا، ولم ينبس ببنت شفة دَحْضًا ونقضًا لتلك المطاعن في الإسلام كما كان القوم يظنون، ولقد كاد اليأس من رجوع اللورد كرومر عن تلك التهم الشنيعة، يستحكم في نفوسنا، وزحزح كبير آمالنا، لولا ما سحر به السيد الرشيد (سدد الله سهمه) جناب اللورد كرومر بكتابه إليه، واستدرجه إلى ما يريد وقد كان، وعرف العالم الأوربي بشهادة خبير منهم أن كل تهمة توجه إلى الإسلام نفسه لا نصيب لها من الصحة، ولا باعث لها من مرقدها إلا حزازات النفوس وسخائم الصدور، ألا فليرفع المسلمون في جميع الأقطار عقيرتهم بالدعاء للمنار وصاحبه. وها أنا فاعل.. سدد الله المنار، وأطال في بقاء صاحبه آمين. (المنار) قال بما قلتم وبما سمعتم كثيرون، ولولا أن الجهالة عذر طبيعي للجاهل، فيما ينشأ عنها، وإن لم تكن عذرًا شرعيًّا في نفسها، لكان لنا أن نعجب أشد العجب لضعيف يتخذ لنفسه عدوًّا قويًّا، يلح عليه بأن يلج في عداوته، ولا يرضيه منه أن يجنح إلى صداقته. هذا وإنني وإن بينت في سؤالي للورد ما أتمنى أن يجيب به تبرئة للإسلام، لم أخاتله. ولكنني وفقت إلى تنبيهه إلى شيء يعتقده، وحمله على التصريح به. فأحمد الله على هذا التوفيق، وأشكر للرجل هذا الإنصاف، وسأبين العبرة في خلاف الناس بباب الأخبار والآراء.

آراء الناس في مكاتبتنا مع لورد كرومر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آراء الناس في مكاتبتنا مع لورد كرومر من الناس من يكتب ليرضي الناس، فهو يتحرى رضاهم بالحق وبالباطل، فلا الحق مقصود له في ذاته، ولا الباطل مطلوب له لذاته، وإنما يكتب لهوى خاص هو كل ما يقصد. ومنهم من يتحرى الحق رضي الناس أم لم يرضوا، وافق أهواءهم أم لم يوافقها، ولا يتبع الناس الهوى في شيء، كما يتبعونه في الكلام عن الحكام والرؤساء ورجال السياسة، وإننا نرى أهل الأهواء قد يعدون الشيء الواحد إذا صدر عن زيد نافعًا، وإذا صدر عن عمرو ضارًّا، ويقول فلان قوله فيعدونه إيمانًا وإصلاحًا، ويقوله آخر فيعدونه كفرًا وإفسادًا. منذ سنتين وأشهر نشرت عدة مقالات في بعض جرائد القاهرة في ذم الفلسفة، والتعريض بمن زعموا أنه يريد إدخالها في علوم الأزهر (يعنون الأستاذ الإمام رحمه الله) ، وقالوا: إن الأزهر مدرسة دينية محضة، لا يجوز تعليم شيء فيها غير الدين. وفي هذا العام أمر شيخ الجامع الأزهر بعض المشايخ بقراءة فلسفة اليونان فيه، فطفق بعضهم يقرأ الإشارات لابن سينا، وبعضهم يقرأ كتبًا أخرى في ذلك، ولم يكتب أحد، بل لم يقل أحد شيئًا، فلماذا كان توهم إدخال الفلسفة في الأزهر منكرًا دافعًا إلى ذلك الانتقاد الشديد، وصار تعليم الفلسفة بالفعل الآن معروفًا لا ينتقده أحد؟ وقد نشرت إحدى جرائد المسلمين منذ سنتين مقالاً لأحد الأمراء، عبث فيه ببعض أصول الدين وعقائده، وكتبت جريدة أخرى لهم أن الحكم بقتل القاتل من بقايا الهمجية، بل استَبْدَل الحكام القوانين بالشريعة، ولم يقل المسلمون شيئًا، ولا حركوا ساكنًا، بل ظلوا يعدون هؤلاء الحكام من رؤساء الدول. وقد قال اللورد كرومر في تقريره الأخير عن حال مصر والسودان كلمة في الشريعة، قام لها الناس وقعدوا لا لذاتها، بل لأنها من اللورد كرومر. وقد أطال الرد والطعن كثير من الكتاب على كلمة الرد من حيث هي كلمته، وتكلم بعضهم فيها لذاتها. ومما كتب في الرد على اللورد مقالة في الرق، نشرت في اللواء معزوة إلى حكيم من حكماء الإسلام. ولكنه لا يعرف البديهي من قواعد الإسلام؛ إذ زعم أن الزكاة المفروضة فيه تصرف بحكم القرآن إلى الحكام، وإلى سفراء الدول وقناصلهم، وفي بناء الفنادق للسياح. ولو كتب مثل هذا الكلام في المقطم، لقامت عليه وعلى كاتبها قيامة اللواء وغير اللواء، وعدوا ذلك أعظم جناية على الإسلام. هكذا ينظر أكثر الناس إلى من قال، لا إلى ما قال، ولا يعرفون الرجال بالحق بل يعرفون الحق بالرجال، كلا إن اتباعهم الهوى في الرجال، يصرفهم عن معرفة الحق وعن طلبه، فلا يقبلونه ممن لم يوافق أهواءهم. ولكنهم يقبلون الباطل ممن فتنوا بهم، وصاروا موضع ثقتهم، وهذا من أكبر البلاء على الناس؛ إذ لا ترتقي أمة منهم إلا إذا كثر المستقلون فيها بالحكم على الناس وعلى الأقوال، الذين يطلبون الحق لذاته، ويجعلونه هو الميزان لمعرفة الناس ومعرفة الأشياء. قال لورد كرومر قوله في الشريعة الإسلامية، فقامت له جرائد المسلمين وقعدت، وأعولت وولولت، وذمت وقدحت، وأرنأت واقترحت، ثم صدر المنار فكان خيرًا منها دفاعًا، وأشد للمخالف إقناعًا، وزاد على ذلك أن وفق إلى أخذ كتاب من اللورد نفسه، يبرئ فيه الدين الإسلامي نفسه من النقد والطعن، ويستدل على ذلك، ويصرح بأن عبارة التقرير - التي فهم منها الطعن في الدين نفسه - لم تؤد مراده الذي بينه ووضحه بما كتبه إلينا. فماذا قال الناس في ذلك؟ اختلفوا فيه كما هي عادتهم، فاستحسنه فريق كل الاستحسان، وشكر لنا سعينا، وللورد فضله وإنصافه، وبالغ بعض أفراد هذا الفريق في الإعجاب بذلك، حتى قال لنا أحد المحامين وهو ممن لا يختلف اثنان في كمال استقلاله، وجودة رأيه، وسعة علمه: أخبرني هل سحرت اللورد بكتابك إليه وهو لا يعرفك، أم استعنت عليه بوسائط أخرى، حتى نجحت في أخذ هذا الجواب الذي لا يتصور أن يخدم الإسلام بمثله في هذا الباب؟ إلخ ما قال. وذهب فريق آخر إلى أنه لا فضل للورد في جوابه، وإنما الفضل كله فيه لصاحب المنار. وقد جرت بين أحد الباشوات من هذا الفريق، وأحد المشايخ الوجهاء من الفريق الأول مراجعة ومحاورة بذلك في حفلة عرس في العاصمة، وكان بعض الوجهاء فيها موافقا للباشا، وبعضهم موافقا للشيخ. وذهب فريق ثالث إلى أن صاحب المنار قد أخطأ فيما كتبه إلى اللورد؛ لأنه لقنه الجواب في السؤال. ورد عليهم بعض الناس بأن صاحب المنار قد أحسن في ذلك؛ لأنه ورَّط به اللورد حتى أجابه إلى ما يريد من تبرئة الدين الذي هو الكتاب والسنة، وهذا هو غرضه من الكتاب. ورد عليهم آخرون بأن ما استدل به اللورد في جوابه مؤيد بتقاريره، فهو لم يستفد الجواب من السؤال، وإنما جاء به من عند نفسه كما هو مفهوم من استدلاله. وقال فريق آخر: إن صاحب المنار قد أخطأ؛ لأنه كان سببًا لهذا الكتاب الذي يميل القلوب إلى اللورد، حتى تراه أهلاً للشكر والثناء، ونحن لا نحب أن نرى منه ما يحببه إلينا، بل نحب أن نرى منه ونسمع عنه، ما يزيد بغضنا فيه وحنقنا عليه. وصاح فريق آخر: إن صاحب المنار لا يستحق على هذا العمل إلا القدح والذم، والسب والشتم، والقدح والتشهير، والتمثيل والتصوير؛ لأنه دافع عن اللورد الذي هو عدو الوطن والوطنيين، وخصم الإسلام والمسلمين، ولو كان هؤلاء يقولون ما يعتقدون، وإذا ظهر لهم الحق يذعنون، لوجدوا كثيرين يقولون لهم: إنكم لمخطئون، فإن المنار ما دافع عن اللورد، بل رد ما يفهم من كلامه بثلاث مقالات لم يسبقه أحد إلى مثلها، ثم توسل إلى استكتابه ما هو عين المصلحة للإسلام والمسلمين، وإن لم يوافق أهواء بعض المتحمسين من الوطنيين الذين يكرهون الحق إذا ظهر على لسان زيد، وينفرون من المصلحة إذا جاءت على يد عمرو، وهم لا يتبعون إلا شعور الكراهية والنفور، ولا يصيخون إلا لداعي الإفراط والغرور، وأكثرهم مقلدون لما يقوله أصحاب الصحف الغالون. أما أصحاب الصحف المصرية؛ فأكثرها لم يقدر هذه المسألة قدرها على عنايتها دائمًا بأقل ما يؤثر عن الرجال العظام كلورد كرومر من قول وعمل، حتى ما لا شأن له في المصالح العامة، كالرياضة والدعوات إلى الطعام أو الشاي. أما السبب الذي لأجله لم تحفل الجرائد بأمر يعد من أهم موضوعاتها؛ وهو استدراك اللورد على عبارة في تقريره الرسمي في مسألة مهمة؛ فهو أن جرائد الإفرنج، وما على شاكلتها من الجرائد العربية لا ترى من مصلحتها التنويه ولا مقتضى ملتها بالشهادة للدين الإسلامي، أو تبرئته من مناهضة المدنية أو مخالفتها مهما ارتقت. وأما جرائد المسلمين التي كان ينتظر منها أن تنوه بذلك وتهتم به، فقد اتفق أنه ظهر في وقت تحالف فيه بعض أصحابها المشهورين على إسقاط (حزب الشيخ محمد عبده) ، بالذم والتشهير والقدح والتصوير، وقد افترضوا ما يظنون من نجاحهم في إيهام الجمهور بأنهم هم الذين كانوا سبب استقالة اللورد، وتغيير إنكلترا سياستها في مصر تغييرًا مرضيًا (كما يزعمون) ، ولهذا ترى همهم محصورًا في جعل حسنات ناظر المعارف سعد باشا زغلول سيئات، وفي الطعن بعلومه ومعارفه وإتقانه للغة الفرنسية، هذا وهو أنبغ رجال وطنهم المحبوب بألسنتهم وأقلامهم، فكيف يعترفون مع هذا لصاحب المنار بأنه أحسن صنعًا، وهو من حزب الشيخ محمد عبده المحكوم عليه بالإسقاط عندهم؟ أليس المعقول من أصحاب هذا الحكم أن يحولوا الأمر عن وجهه، ويجعلوا الحسنة سيئة؟ بلى. على أن جريدة اللواء أظهرت الارتياب في هذه المكاتبة، كأنها كرمت نفسها أن تعترف بصحتها، ثم لا تقدرها قدرها وصعب عليها أن تعترف للورد أو لصاحب المنار بمزية، فلم تر مخرجًا من ذلك إلا بإظهار الارتياب والشك فيما قيل. ولكنها جزمت بتكذيب ما نقل عن الشيخ حسونة افتياتًا عليه. وجريدة المؤيد نقلت السؤال والجواب، وتنزلت من سمائها فقبلت الجواب على أنه تنازل من اللورد، ورجوع عن قوله الأول. وهي على كونها لم تترك اللسع أو اللدغ الخفي في هذا كعادتها قد كرمت نفسها أن تعد الدفاع عن الإسلام دفاعًا عن اللورد، فتركته إلى من لا كرامة لهم في أنفسهم، ولا في أنفس أحد من العقلاء الذين يعلمون أن ذلك لم يدفع عن اللورد ضرًّا، ولم يجلب له نفعًا. وقد كتب إلينا من القاهرة وغيرها في استحسان السؤال والجواب، واستهجان خطة المشاغب فيه، وقد اكتفينا بنشر كتاب لأحد أساتذة المدارس؛ لأنه لم يسم فيه أحد، وقد صرح بطلب نشره، فليراجع في باب المراسلة.

حادثة دمياط في طي الأرض، تقبيل أعتاب القبور، صناديق النذور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حادثة دمياط في طي الأرض، تقبيل أعتاب القبور، صناديق النذور يقال: إن مسلمي مصر يتحركون إلى الترقي المدني الذي تعتز به الأمم، ويتهمهم الإفرنج بأنهم يحاولون أن يجعلوا ترقيهم إسلاميًّا؛ يمتزج فيه الدين بالمدنية والسياسة، ولو كانت هذه التهمة الشريفة صحيحة، لكنا نرى مبدأ هذه الحركة من الأزهر، وما على شاكلته من المدارس الدينية، ولكنا نرى بين طلاب المدنية من طريق علوم الدنيا، وبين رجال الدين صلة واتفقنا على الغاية التي يلتقي فيها الفريقان في آخر السير، متحدين على إنهاض الأمة، وإعزاز الملة. ونحن لا نرى بينهما إلا التباين التام، وفقد الثقة، والتدابر على خط مستقيم. ونرى أن أهل الدنيا أقوى في ذلك من أهل الآخرة؛ فهم يجذبونهم ولا ينجذبون إليهم، فلا ترى أحدًا ممن ارتقى بالعلوم الدنيوية، يربي ولده تربية أزهرية. ولكن أكابر علماء الأزهر قد يربون أولادهم في المدارس الدنيوية، حتى مدارس الحقوق التي يكون المتعلمون فيها قضاة، يحكمون بالقوانين من دون الشريعة، وقد سمعت بأذني بعض هؤلاء العلماء يقول بكفر قضاة المحاكم الأهلية؛ لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، ثم هو يحاول جعل ولده واحدًا منهم، أو محاميًا حكمه في نظره حكمهم. ولو سألت السواد الأعظم من المتخرجين في المدارس الدنيوية العالية، هل يرضون أن يكون شيوخ الأزهر وأمثالهم قضاة للمحاكم المدنية والجنائية، وحكامًا للسياسة والإدارة؟ لقالوا لك: إن البلاد تستغيث من أحكامهم في الأمور الشخصية، فكيف تستقيم للأمة حال إذا هم حكموا في غيرها؛ لا سيما في الأمور المالية على اختلاف فروعها الآن، والسياسية على وعرة مسالكها، والتواء طرقها. وكان يرجى تلافي هذا التقاطع من رجال الدين، لكنهم واقفون في المضيق الذي كان فيه أشياخهم وأشياخ أشياخهم، والأمة متحركة بطبيعة العصر، فلا هم يسيرون معها، ولا هم يستطيعون إيقافها معهم، ولا هم يساعدون طلاب الإصلاح على الجمع بين الدين، وما لابد منه لسلامة الملة والأمة، كاستقلال الفكر وتحصيل علوم العصر. إنك لتحدث أهل الرأي والفكر من الطبقات المختلفة في شأن الإسلام والمسلمين، فلا تكاد ترى أحدًا يرجو أن يجيء يوم يحكم المسلمون فيه بشريعتهم، وهم في حال راقية عزيزة فيفكر في ذلك، ويسعى له سعيه. أليس هذا هو البلاء المبين؟ بلى، وإن وراءه لبلاء أكبر منه؛ وهو نفور بعض الذين يتلقون العلوم العصرية من عقائد الدين، واعتقادهم أنها لا تتفق مع العقل، ولا يلتئم مع استقلال الفكر، ولا نجاح لأمة لا تعطي العقل حقه من الحرية، وتبلغ الفكر مداه من الاستقلال، وكان يرجى تلافي هذا من العلماء أيضًا بأن يجاهروا بمقاومة البدع والخرافات. كنا ننتظر من الأستاذ الأكبر الشيخ حسونة النواوي حركة إصلاح جديدة في مقاومة البدع، أقوى من الحركة التي كانت في مشيخته الأولى، فما زادته الأيام إلا حنكة واختبارًا. ولكن حادثة دمياط جاءت بنقيض ما كان ينتظر أو يرجى، فقد كانت هذه المسألة فرصة لإحياء سُنَّة أو سنن، وإماتة بدعة بل بدع كثيرة؛ لامتداد الأعناق، وإصاخة الأسماع، وتشوف النفوس إلى ما قاله شيخ الأزهر، فيما عليه العامة من الافتتان بالدجالين وقبور الصالحين. دُعي الشيخ حسن عليّ أحد علماء دمياط إلى قراءة قصة المولد في أحد المساجد، فسمع الناس منه ما لم يعتادوا. سمعوا منه قصة ليس فيها شيء من الروايات الموضوعة، والأكاذيب المصنوعة، مفتتحة بقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164) فَسَرُّوا بما سمعوا، وانشرحت صدورهم. وكان مما ذكر في القصة خبر الهجرة الشريفة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قطع المسافة بين مكة والمدينة في مثل المسافة التي يقطعها بها الناس، فسأله بعد ذلك سائل، لماذا لم يقطعها في لحظة، كما يفعل أهل الخطوة من الأولياء؟ فأجاب؛ بأن مسألة الخطوة غير ثابتة، ولو ثبتت لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق بها وأجدر، لا سيما في ذلك الوقت الذي خرج فيه مع صاحبه عليه الرضوان مستخفيين من قريش؛ خوف أذاهم، ولكانت آية يهتدي بها خلق كثير. ويقال أنه سئل عن البقعة التي فيها قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، هل هي من أرض الدنيا أم من الجنة؟ فأجاب: بأنها من أرض الدنيا، ولا أدري هل فسر لهم حديث الشيخين في ذلك أم لا. وسئل عن النقود التي تلقى في الصناديق التي توضع عند أضرحة المشايخ والأولياء في المساجد، فأجاب: بأن هذا العمل غير مشروع، وأن الصدقة على البائسين والمنكوبين، كأهالي المطرية الذين احترقت بلدهم في هذا العام، والبذل في الأعمال العامة كإنشاء المدارس أولى وأفضل. وسئل عن تقبيل أعتاب حجرات قبور الصالحين، فقال: إنه غير مشروع بل هو بدعة. ساءت هذه المسألة الأخيرة شيخ الصندوق في ذلك المسجد من دمياط، فأوعز إلى خطيب من خطباء الفتنة؛ بأن يعرض بتضليل الشيخ حسن علي، ووسوس إلى كثير من العوام بأن الرجل أنكر الكرامات، وأهان الأولياء، فقامت قيامة الغوغاء عليه، فنمى الأمر إلى شيخ الأزهر، فأمر شيخ علماء دمياط بالتحقيق، فأظهر هذا الشيخ وأعوانه من التحامل على الشيخ حسن ما أظهروا، حتى إنه كان يقبل شهادة الطاعنين فيه، ولا يسمع شهادة المدافعين عنه (كما قيل) . ولما علمت العامة بتحامل العلماء عليه، هاجت هيجانًا شديدًا حتى حاولت الفتك به غير مرة، وصارت ترجمه بالحجارة أو الطوب إذا خرج، وترجم البيت الذي هو فيه إذا لم يخرج. ثم رُفع الأمر إلى مشيخة الأزهر، فعقد الشيخ حسونة مجلس الإدارة للنظر في ذلك، وبعد النظر حكم بمنع الشيخ حسن علي من التدريس مدة سنة كاملة، وبقطع مرتبه من التدريس في هذه المدة. هذا ما سمع وشاع. قيل: إن الحكم إداري؛ سببه إساءة الشيخ حسن علي إلى شيخ العلماء في بلده عند التحقيق، وهو قول معقول، إذ لو كان أخطأ في بعض المسائل الدينية، لحكم عليه بعد بيان غلطه له وإقناعه بالصواب أن يعترف بالخطأ السابق، ويقرر الصواب في دروسه على رؤوس الأشهاد. ولكن العامة فهمت أنه عوقب على إنكار ما يسمونه الخطوة، أو طي الأرض للصالحين، وتقبيل أعتاب الحجرات التي تبنى فيها قبورهم، ونحو ذلك من البدع، وربما قالوا: إن الأولياء تصرفوا فيه، وهذا ما كنا نرجو أن يتلافاه الشيخ حسونه؛ لأن هذه الحادثة أحسن فرصة لنصر السنة ومحو البدع، بأن يظهر الحق للملأ على ألسنة الجرائد. الحق في هذه المسائل من البديهيات التي لا ينتطح فيه عنزان. أما مسألة طي الأرض، وقطع المسافات الطويلة في دقيقة أو دقائق، فلم يأت بوجوب الإيمان بها كتاب ولا سنة، ولم يقل بها أحد من الأئمة المجتهدين، بل لم يكن يخطر ببال السلف، ولما حدث القول بذلك في الخلف استنكره بعض الفقهاء، حتى قال بعضهم بأن من يعتقد جواز ذلك يكفر ويخرج من الإسلام، أو يحكم بجهالته وغباوته، كما صرح بذلك صاحب الوهبانية من فقهاء الحنفية بقوله فيها: ومن لوليّ قال طي مسافة ... يجوز جهول ثم بعض يكفر. ولا شك أن الناظم كان يعتقد أحد الوجهين اللذين حكاهما عن العلماء، فليكن الشيخ حسن مثله ومثل من نقل عنهم. وهذا قولهم فيمن قال بالجواز، فما بالك بمن يقول: إن ذلك واقع بالفعل. وهب أن هذا وقع كرامة، فهل يكلف من لم يثبت ذلك عنده، ولم يشاهده أن يجعله عقيدة دينية له؟ أي دين يتسع لهذا؟ أيتسع له دين الإسلام الذي قرر كتابه أن لله في الخليقة سننًا لا تتبدل ولا تتحول، وأن لا حكم في الدين إلا لله، وما أنزل الله بهذا من سلطان. وأما مسألة تقبيل الأعتاب فهي بدعة، لا سند لها من كتاب ولا سنة ولا قول إمام مجتهد، وكيف؟ وقد قال الفقهاء في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم: ليس من السنة أن يمس الجدار، ولا أن يقبله، بل يقف من بعيد ويسلم. نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تشييد القبوروتشريفها، وعن الكتابة عليها، وعن إيقاد السرج عليها، وعن اتخاذ المساجد عليها، ولعن من يفعل هذا. ومضى الصحابة والتابعون على هذه السنة، فلم يبنوا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يصلوا إليه ولا بنوا قبرًا لأحد من المهاجرين والأنصار. ولما حدثت بدعة بناء القبور، كان بعض الأمراء المتمسكين بالسنة يهدمها كما حكاه الإمام الشافعي في (الأم) ، قال: ولم أر أحدًا من الفقهاء أنكر عليهم ذلك، أي: هدمها. فهل صارت البدعة سنة، وصار بناء القبور وتشريفها، وبناء المساجد عليها، والصلاة إليها دينًا متبعا، بعد أن لَعَن الشارع فاعل ذلك، وصار لهذه المساجد التي تبنى عليها أحكام شرعية، منها: أن تقبيل أعتابها مطلوب شرعًا، ومنكره يعاقب ويهان؟ وأما مسألة الروضة فالرواية فيها ضعيفة عن الشيخ حسن علي، سمعتها من واحد مجملة، وإنني مع ذلك أقول فيها قولاً وجيزًا: أقول: إن العلماء قالوا في حديث الشيخين: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة) : إن معناه أن العمل هناك بطاعة الله يكون سببًا لدخول الجنة، وقيل: إنها تنقل يوم القيامة إلى الجنة، وقال بعضهم: إنه لما كان جلوسه صلى الله عليه وسلم وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والدِّين والإيمان هناك شبه ذلك الموضع بالروضة؛ لكرم ما يجتنى فيه، وأضافه إلى الجنة؛ لأنها تؤول إلى الجنة وهذا هو الصواب في تفسيره ويشهد له ما ورد في تسمية مجالس الذكر برياض الجنة، كما في حديث جابر وأبي هريرة ومعاذ، ولم يقل أحد: إن المراد بها أن مجالس الذكر من أرض الجنة، لا من أرض الدنيا. وأما مسألة الصناديق التي توضع عند الأضرحة؛ لاستدرار أيدي الذين يظنون أن إلقاء المال في الصندوق منها؛ سبب لقضاء صاحب الضريح لحاجة الملقي، فما قاله الشيخ حسن فيها، لا يستطيع أحد أن ينكره إلا أولئك الأغنياء الذين يأكلون تلك الأموال بالباطل، ولم يبلغنا أن الرجل نوقش في هذه المسألة، فلا نبحث فيها. فعلم مما تقدم أن كل ما قاله الرجل حق لا وجه لمؤاخذته على شيء منه، وهذا مما يقوي القول بأنه أُوخِذ على شيء آخر يتعلق بمعاملته لشيخ علماء دمياط. ولكن الناس لم يعرفوا ذلك الشيء، فظنوا أن شيخ الأزهر وأعضاء مجلس إدارته ينكرون تلك الحقائق، ويقولون بوجوب الإيمان بطي الأرض للصالحين بالفعل، وتقبيل أعتاب المساجد التي بنيت على قبورهم ابتداعًا في الدين، وبأن إلقاء المال في الصناديق عند قبورهم، أفضل من الصدقة على الفقراء والمساكين، وإغاثة المنكوبين والبائسين. والناس في هذا الظن فريقان: فريق يعلم الحق في هذه المسائل، فهو يعتقد أن الشيوخ مبطلون، وللبدع والخرافات مؤيدون. وفريق لا علم عنده، فهو يقلدهم بما يظن أنهم عليه. ولا ينبغي إقرار أحد من الفريقين على ظنه ظن السوء بالعلماء؛ لذلك نقترح على الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أن يبين للناس الحق في هذه المسائل، وأنه لم يؤاخذ الشيخ حسن لخطئه فيها، بل لأمر آخر وله أن يكتمه، فهذا وقت يجب فيه البيان ولا يصح فيه السكوت، والأستاذ في فضله وترويه أهل لذلك.

منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منافع الأوربيين ومضارهم في الشرق (4) الجمعيات يرى كثير من العقلاء أن العلة الأولى لارتقاء الأمم هي القوة، وبها سعد الإفرنج في بلادهم، وبها سادوا على معظم أمم المشرق، فالقوة أساس مدنيتهم، والسلاح مصدر عزتهم وعظمتهم، وإلا فهم لا يمتازون على غيرهم بالقوى العقلية ولا بشيء من المواهب الغريزية. وهذه اليابان قد اقتفت آثارهم في العناية بالجندية وتشييد الأساطيل الحربية، فقهرت أكبر دولة من دولهم، حتى صارت الدول العزيزة منهم تعتز بمحالفتها، وتخطب مودتها؛ لمكان قوتها بعد أن كانوا يرونها أنقص منهم في الخلقة، وأقل في استعداد الفطرة، فعلى سائر الممالك الشرقية أن تتلو في ذلك تلوها، وتقفو في أمر القوة أثرها، ويعارض أصحاب هذا الرأي العالم الاجتماعي؛ مبينًا أن القوة في هذا الزمان تتوقف على أسباب كثيرة، مرتب بعضها على بعض فلابد من الأخذ بمبادئها؛ لأجل الوصول إلى غاياتها. فما هو السبب الأول الذي يجب الابتداء به لترقية الأمة ورفعة شأنها؟ يقول المشتغلون بالسياسة: إن سبب ارتقاء أوربا وعزتها، وسيادتها هو انتظام حكوماتها، وتقيدها بالشورى التي هي ناموس العدل، وينبوع السعادة، فكل أمة تحب الارتقاء يجب أن توجه عنايتها قبل كل شيء إلى إصلاح حال حكومتها، بجعلها مقيدة بالشورى والقوانين العادلة. ويقول لهم العالم الاجتماعي: وما هو السبب المؤدي إلى إصلاح الأمة لحكومتها؟ وهل يتسنى لأمة غير مرتقية أن تفعل ذلك؟ فكيف يجعل إصلاح الحكومة علة لكل ارتقاء، وهو معلول لنوع من ارتقاء الأمة لابد أن يتقدمه، فما هو هذا النوع الذي هو السبب الأول للارتقاء أو علة العلل له؟ يقول علماء التربية: إن العلة الأولى لارتقاء الأمم هي التربية والتعليم، فكلما انتشرت المدارس، ينتشر فيها وبها ومنها شعاع الارتقاء، وكلما كان التعليم أعم وأكمل، كان الارتقاء أتم وأشمل، ألم يهدِ إليك أن بسمرك قال عن قومه الألمانيين: إنهم انتصروا في فرنسا بالمدرسة؟ والأقوال في إثبات هذا الرأي لا تحصى، وكم كتبنا، وكتب الكاتبون في بيانه وإظهار برهانه، ولنا في ذلك مقال مطول بأسلوب المحاورة نشرناه في العدد الثاني من سنة المنار الأولى، بيَّنا فيه أن سبب جميع أنواع الترقي الصورية والمعنوية، إنما هو التربية والتعليم، وفي هذا المقال قال أحد أصحاب الصحف: ماذا أبقى صاحب المنار لسائر الأعداد التي تصدر في المستقبل بعدما جمع في هذا العدد كل شيء، بل قد أعجب الأستاذ الإمام بذلك المقال، وأجاز كل ما ورد فيه. ولكن العالم الاجتماعي يقول لنا مع ذلك: إن الأمة لا تتوجه إلى العناية بالتربية النافعة، والتعليم الرافع لها من أفق إلى أفق أعلى منه، إلا بعد نوع من الارتقاء يتقدم ذلك، فيهدي الأمة إليه، ويقدرها عليه، فما هو هذا النوع الذي نسميه السبب الأول وعلة العلل؟ ويقول علماء الاقتصاد وأرباب الأموال: إن الثروة مبدأ كل ارتقاء ومصدر كل إصلاح، فلا مدارس، ولا تعليم، ولا تربية، ولا تنظيم إلا والمال أساسه الذي عليه يبنى، وقواعده التي عليه يرفع، فعلى الأمة الشرقية التي تطلب رفعة الشان والعزة والسلطان، أن تبدأ بجمع الثروة التي تمكنها من نشر التربية والتعليم في الأمة، ومن تنظيم الحكومة وتعزيز الدولة. ويرد عليهم العالم الاجتماعي: إننا لا ننكر أن المال هو الوسيلة لجميع الأعمال. ولكن جمع المال يتوقف على العدل والعلم، لا سيما في البلاد التي دخلها الإفرنج العالمون من طرق الكسب ما لا يعلم الشرقيون. وقد أخذ بهذا السبب اليهود فكانوا فيه أبرع البشر، وهم يحاولون منذ قرون أن يؤسسوا به ملكًا، ولما يساعدهم القدر. فعلينا أن نبحث عن السبب الأول للارتقاء فنطلب الأمر في إبانه، ونأخذه بربانه فإنه: من طلب الغاية في المبدأ لا ... يؤوب إلا بالقنوط والشقا ومن يسر سيرًا طبيعيًّا لها ... يدرك بالتوفيق منها المنتهى يرى العالم الاجتماعي: أنَّ العلة الأولى لارتقاء الأمم هي الجمعيات، فلا ترتقي أمة إلا بعد أن تنبه حوادث الزمان أفرادًا من أولي الألباب فيها إلى وجوب السعي لترقيتها ورفعة شأنها، وأول ما يجب عليهم هو تأليف (الجمعيات) ؛ للتعاون على ما يجب القيام به من الأعمال. فالجمعيات هي السبب الأول والعلة الأولى لكل ارتقاء، بها صلحت العقائد والأخلاق في أوربا وبها صلحت الحكومات وبها ارتقت علومها وفنونها، وبها عزت وعظمت قوتها، وبها فاضت ينابيع ثروتها، وبها انتشر دينها في الخافقين، وبها سادت على المشرقين والمغربين. أليست الجمعيات السياسية السرية هي التي طهرت أوربا من استبداد الملوك والبابوات، وأزالت منها حكومات الأشراف، واستبدلت بها حكومات الجمهورية، والملكية المقيدة بالقوانين، وسيطرة أهل الشورى من الأمة؟ أليست الجمعيات الدينية والخيرية هي التي أنشأت المدارس؛ لتعميم التربية والتعليم، وأنشأت الملاجئ والمستشفيات؛ للمرضى والبائسين؟ أليست الجمعيات العلمية والفنية هي التي هذبت اللغات، ووسعت دائرة العلوم والفنون، بما خصصت لكل فرع من فروعها رجالاً يصبرون نفوسهم على التحرير والتمحيص لمسائله وتأييدها بالتجارب وترقيتها بالاكتشافات والاختراعات؟ أليست الجمعيات المالية المعبر عنها بالشركات هي التي أنشأت المعامل لجميع الصناعات، ومدت سكك الحديد في جميع الجهات، وسيرت في البحار تلك الجواري المنشآت، وابتدعت البيوت المالية (البنوك) ؛ لتيسير المعاملات؟ بلى، إنه ما من عمل ارتقى إلا وكانت الجمعيات هي رقَّته، إن لم تكن هي التي أوجدته واخترعته، فالجمعيات هي تظهر منتهى استعداد الإنسان للارتقاء، بل هي التي تحقق معنى الإنسانية في هذا النوع، إذ لا معنى للإنسانية إلا حياة الاجتماع والتعاون، فمهما قل الاجتماع في أمة ضعف معنى الإنسانية فيها، ومهما كثر الاجتماع واعتز كانت الإنسانية أقوى وأكمل. سبق الشرق الغرب إلى كل نوع من أنواع الارتقاء المدني. ولكن المدنية لم تكمل في الشرق، ولم تبن على قواعد يؤمن سقوطها، ولذلك سقطت، وما ذاك إلا أن قيامها كان بعمل الأفراد لا الجمعيات، فلولا هذه الجمعيات، لما كانت مدنية الغرب الحديثة أرقى وأكمل وأجدر بأن تكون أثبت وأدوم. وجدت الجمعيات السرية والجهرية في الشرق. ولكن انقصمت عراها، قبل أن بلغت مداها، وجاء الإسلام بالتعاليم الاجتماعية، فجعل أمر المؤمنين شورى بينهم أي: تقوم به الجماعة، لا يستقل به الأفراد، وأمر بتأليف الجمعيات للأعمال النافعة بمثل قول الله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) ، وبمثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يد الله على الجماعة) ومع هذا لم يكن حظ المسلمين من الجمعيات أحسن من حظ سائر أهل المشرق، بل كان من سوء حظهم أن استحالت الجمعيات السياسية، كجمعية الشيعة التي ألفت؛ لجعل الحكم في أهل البيت عليهم السلام، وجمعية الخوارج المعروفة إلى مذاهب دينية، زادت المسلمين تفريقًا وخذلانًا. وفسدت جمعية الصوفية الإصلاحية بعد أن ربت كثيرًا من المصلحين، وصارت جمعية الباطنية التي أسست لإفساد الدين الإسلامي جمعيات ومذاهب متعددة، لم يأت منها إلا الشر والوبال على الشرق فترى أن جمعيات المسلمين السياسية ما أفسدها إلا اصطباغها بصبغة الدين، بجعل تعليمها مذهبًا يدعى إليه باسم التقرب إلى الله، وستر موضوعها، وإخفاء مقصدها في ذلك وقد قصَّروا في تأليف الجمعيات الخيرية، والعلمية الفنية، والشركات المالية، ولولا ذلك لما ماتت مدنيتهم قبل بلوغها سن الرشد. والآن نرى الشرق، قد أنشأ يتعلم من الغرب كيفية تأليف الجمعيات والشركات، فنجح أهل يابان في ذلك ورشدوا، ولا يزال العثمانيون والمصريون في سن الطفولية من هذه الحياة الاشتراكية الاجتماعية، التي لا وسيلة لبلوغ هذا النوع رشده بدونهما. أسسنا غير مرة جمعيات علمية وأدبية وخيرية وسياسية، فكانت تسقط الجمعية منها بعد الخطوة والخطوتين والخطوات القليلة، وقد نجحت في مصر الجمعية الخيرية الإسلامية نجاحًا يوثق بدوامه واستمراره، وهي أفضل ما عمل المسلمون بمصر في هذا الطور الجديد من الحياة، وتليها جمعية العروة الوثقى، وجمعية المساعي المشكورة الخاصتين بالتعليم. وأسسنا شركات مالية كثيرة للعمل في الزراعة والتجارة، حبط عملنا في بعضها، وثبت بعضها، والرجاء في المستقبل عظيم. ارجع البصر إلى البلاد التي لم تأخذ عن الأوربيين شيئًا من العلم، ولم تشترك معهم في شيء من الأعمال، كبلاد مراكش، هل ترى فيها جمعية خيرية أو دينية أو علمية أو سياسية، أو تشاهد فيها شركة تجارية أو زراعية أو صناعية؟ تأمل واعرف الخير وينابيعه، وكيف تستزيد منه. واعلم أن الجمعيات والشركات هي المعيار الذي يعرف به تقدم الأمم وتأخرها، وحياتها وموتها، فلا يغرنك القيل والقال، ولا نبوغ بعض الأفراد في بعض العلوم أو الأعمال، فإن هؤلاء النابغين إذا لم يجدوا في أمتهم جمعيات تعرف قيمتهم، وتسعدهم على إبراز ثمرات نبوغهم يذهب استعدادهم سدى، ويجزر مدّه قبل أن يبلغ المدى، وإذا وجدوا ذلك زكا استعدادهم، وامتد إمدادهم، وكانوا كجنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، كما أنهم يؤتون أجرهم مرتين.

الأشربة الروحية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأشربة الروحية (مقالة المقتطف التي وعدنا بنشرها) قلما تجد مائدة من موائد الإفرنج خالية من الشراب: من الخمر أو البيرا أو الشمبانيا، ولم تولم وليمة من غير أن تشرب عليها أقداح الراح ولا تحسبن ذلك خاصًّا بالإفرنج، بل هو شائع عند كل الأمم حديثهم وقديمهم. فآثار مصر، وخرائب بابل وأشعار اليونان وتواريخ الرومان، وأخبار الأمم الحاضرة والغابرة، وكتب الرحلات، كل ذلك ناطق بأن الناس لم ينفكوا عن تعاطي كؤوس الراح من أول عهدهم بين مقل ومكثر ومقلل ومدمن ولم ينفك فضلاؤهم عن التحذير منها والنهي عنها، وحجتهم أنها تسكر، وتذهب العقل، وتتلف المال والصحة. لكن النهي والتحذير لم يأتنا بطائل، فلا يزال الناس ينفقون على الخمورأضعاف ما ينفقونه على تعليم أولادهم، وينفق بعضهم عليها أكثر مما ينفق على طعامه، ولا يزال الأطباء يصفونها لضعاف الأجسام؛ كأنها من المقويات فيقوّون اعتقاد الناس فيها، ويزيدون ميلهم إليها، فهل الأطباء مصيبون في ذلك؟ وهل نفع الأمور كاف للتكفير عن مضارها؟ هذه مسألة جديرة بالنظر ولا سيما بنظر الأطباء. ولا نريد بالمضار هنا مضار السكر؛ لأنها تفوق كل ما يمكن أن ينسب إلى الخمر من النفع أضعافًا كثيرة، فلا وجه للموزانة بينهما، وإنما نريد مضار الشرب المعتدل، أو شرب الخمور على الطعام الذي اعتاده الأوربيون ومن جرى مجراهم، واتفق أكثر الأطباء على وصفه لنحاف الأجسام، أو للذين ساء هضمهم للطعام. يقصد بالطعام: تغذية الجسم، وبالشراب: تسهيل هضم الطعام حتى يغذي الجسم وليس وراء ذلك فائدة عملية من الطعام أو من الشراب لمن يأكل ويشرب، نعم، إن من يبيع الأطعمة والأشربة، يستفيد كثيرًا من بيع بضاعته نفعت المشترين أو أضرتهم، ولذلك نرى صانعي الخمور وبائعيها من أغنى أهل الأرض. ولكن هذه الفائدة خارجة عن موضوع بحثنا، ولو كانت الدافع الأكبر لترويج الخمور في الدنيا ولا ينكر أن في الطعام والشراب لذة للآكل والشارب ولكنها تختلف كثيرًا باختلاف الناس، وأحوالهم من الصحة والمرض، والراحة والتعب، والأنس والوحشة، وباختلاف الرهط والصحب إلى غير ذلك مما لا ضابط له. لكن هذه اللذة - وإن أفادت في بعض الأحيان - لا تعد من النفع المقصود بالطعام والشراب، وهو تغذية الأجسام فإن جسم الإنسان، كجسم الحيوان وكجسم النبات، من هذا القبيل ينمو ويقوى وتصلح حاله بالغذاء الكافي، ويؤذى ويضعف وتفسد حاله بقلة الغذاء. ازرع بزرة في التراب واتركها من دون ماء، فلا تنبت، أو ازرع البزرة في الماء واتركها من دون تراب، فلا تنبت، وإن نبتت ذوت ويبست حالاً؛ لأن نمو البزرة حتى تصير شجرة، يقتضي أن تتغذى، والغذاء يأتيها من التراب. ولكن لابد من أن يذوب أولا في الماء، حتى يتمكن من دخول جسمها وتغذيتها، فإذا زرعت في التراب ورويت بالخمر، لم تعش ولم تنبت، وهذا أمر يستطيع كل أحد امتحانه فيرى أن الخمور لا تذيب الأطعمة على أسلوب يجعلها صالحة لتغذية النبات. وجسم الحيوان يختلف عن جسم النبات من وجوه كثيرة. ولكنهما يتغذيان على أسلوب واحد تقريبًا. ولقد أَبَنَّا في مقالة سابقة موضوعها الحق والباطل، أن مقياس الحقائق استعمالها والانتفاع بها. وهذه الحقيقة أي: ضرر شرب المسكرات مهما كان مقدارها قليلا، وَجَدت لها شركات التأمين على الحياة نفعًا كبيرا، فهي تتساهل مع الذين لا يتعاطون المسكرات أبدًا أكثر مما تتساهل مع الذين يتعاطونها ولو قليلا. أي: صار للامتناع عن شرب المسكرات قيمة مالية تقدرها شركات التأمين بالدرهم والدينار. ولقد وصلت إلى ذلك بعد اختبار طويل واستقراء دقيق، وهذا أدل دليل فِعلي على ضرر المسكرات، ولو وصفها الأطباء وأطنبوا بمدحها ونفعها. فإذا عرض اثنان أن (يسوكرا) حياتيهما على مبلغين متساويين من المال، وكان سنهما واحدًا وأعمالهما واحدة، وتساوت فيهما كل الشروط التي تشترطها شركات (سوكرتا) الحياة ما عدا شرب المسكرات؛ أي: إن كان أحدهما يشرب الخمور والآخر لا يشربها، فإن الشركة تفرض على الأول أكثر مما تفرض على الثاني؛ لكي تسوكر حياتيهما على مبلغين متساويين، وإن دفعا مبلغين متساويين كل سنة، ضمنت للثاني أكثر مما تضمن للأول، كأنها تقول بعبارة تجارية حسابية لا تقبل الشك ولا الريب: إنه قد ثبت لي بالاستقراء أن عمر الذي يشرب مسكرًا أقصر من عمر الذي لا يشرب مسكرًا، فلا أستطيع أن أعاملهما معاملة واحدة، وأكون بمأمن من الخسارة ولابد للذي يشرب المسكر من أن يدفع لي سنويًّا أكثر مما يدفع من لا يشرب مسكرًا؛ لكي أضمن حياتيهما على مبلغين متساويين من المال. وهذا وجه يكفي لأن يكون فصل الخطاب بين الذين يقولون بضرر المسكرات ولو كان مقدارها قليلاً وشربها معتدلا وبين الذين يقولون: إن لا ضرر منها حينئذ بل منها نفع. وهذا الحكم العملي التجاري المبني على الاستقراء يؤيده العلم أيضًا، قال الكولونيل دفي أحد أطباء الجيش الإنكليزي في مقالة نشرت حديثًا في مجلة القرن التاسع عشر: إن المسكرات تفعل بالطعام: فلا يعود ينهضم بالسرعة التي كان ينهضم بها لولاها، وتفعل أيضًا بأعضاء الهضم فتقسيها، كما تقسي القطع اللحمية التي توضع فيها، فلا يعود فعل الهضم سهلاً عليها وإذا اختل فعل الهضم اختل فعل التغذية، وتضر أيضًا بالرئتين والكليتين والكبد والدماغ. غير أن كثيرين يشربون المسكرات بالاعتدال، ولا ينالهم من شربها ضرر ظاهر، فيتخذون ذلك دليلاً على عدم الضرر من الشرب المعتدل. ولكن هل قاس أحد قوة هؤلاء الناس الجسدية والعقلية وهم غير شاربين للمسكرات بقوتهم الجسدية والعقلية وهم شاربوها. نعم، إنهم إذا اعتادوا الشرب، فقد تضعف قواهم وتخمل عقولهم في الساعة التي اعتادوا الشرب فيها، إذا امتنعوا عن الشرب حينئذ. ولكن يحدث مثل ذلك بكل من يعتاد شيئًا ثم يفطم نفسه عنه حتى الأفيون والحشيش؛ لأن أعصابه تصير تنتظر المنبه أو المسكن في الساعة التي اعتادته فيها، فتضطرب إذا قطع عنها. ولكن إذا تكرر هذا الانقطاع مدة أَلِفَتْهُ الأعصاب، ولم تعد تضطرب منه. وبديهي أن المسكر جسم غريب يدخل الجسم، بل هو سم يتعب الجسم، فيجاهد الجسم للتخلص منه، كما يجاهد للتخلص من سائر السموم التي تدخله، وهذا الجهاد عمل شاق، يذهب فيه جانب من قوة الجسم، وإذا تكرر دخول هذا السم يومًا بعد يوم، فلا بد من حصول الضرر أخيرًا. ورب قائل يقول: إننا نرى الأطباء يصفون المسكرات في بعض الأحيان ويقولون أن لا بد منها ولا يكتفون بوصف الضعيف الفعل كالخمر والبيرا بل يصفون القوي الفعل كالعرق والكُنياك، فكيف تقولون بضررها قولاً مطلقًا من غير قيد. والجواب: أنّ الألكحول الذي هو العنصر الفعال في المسكرات على أنواعها نافع في بعض الأحوال المرضية ولازم فيها دواء لا غذاء وخير للطبيب أن يصف حينئذ الألكحول النقي نفسه لا أمزجته المعروفة بالمسكرات، وهو إذا وصف كذلك شربه المريض مكرهًا، ولم يجد في شربه لذة، ولا رأى في نفسه ميلاً إليه، بعد الشفاء من المرض. بل إنه لو شرب أطيب المسكرات دواء لما وجد في نفسه ميلاً إليها كما لو شربها للتلذذ بطعمها. أما ما يزعمه بعض الأطباء من أن المسكرات غذاء نافع، فزعم قديم قوِّضت أركانه الآن. وليس الألكحول غذاء بل هو سم زعاف مثل سائر السموم ويجب أن يعامل مثلها، يجتنب دوامًا ولا يستعمل إلا إذا دعت الحاجة إليه دواء؛ لأن العلم والاستقراء قد أثبتا ذلك.

أسئلة من الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من الحجاز بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذه أسئلة نرفعها لحضرة السيد رشيد رضا منشئ المنار الإسلامي بمصر، لا زال بعافية آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نرجوكم يا سيدي أن تجاوبوني عنها على صفحات مناركم المنير. (س 20-26) ما قولكم شكر الله سعيكم: (1) في قول بعض من ألف في الأحاديث الموضوعة هذا الحديث صح من جهة الكشف، وهل يعتمد ذلك؟ (2) وهل الكشف له أصل في ديننا، أو هو باطل؟ (3) ولفظ كَشْف، هل كان معروفًا عند الصحابة رضوان الله عليهم؟ (4) وهل يعتمد على قول من يقول: إن الحديث قد يكون صحيحًا عند المحدثين وهو ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل الله تعالى يعرفون أنه موضوع؟ (5) وهل يعتمد على قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شرط العصمة في أحد؟ فكيف نرد بعض الأحاديث ونقول: راويها كذاب، والكذب ما أحد معصوم منه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟ (6) وعلى قول بعض الناس: إن الشيخ السيوطي كان يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة، ويصحح عليه الأحاديث، فالموضوع يخبره عنه أنه موضوع، والصحيح أنه صحيح. (7) ويقول الناس من أهل العلم ببلدنا: إن الشيخ الغزالي اجتمعت روحه بروح سيدنا موسى سأل الباري سبحانه وتعالى عن علماء هذه الأمة وأنهم كأنبياء بني إسرائيل، فجمع بين روح سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام وبين روح الغزالي رحمه الله، فسأل سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم الغزالي عن اسمه فقال له: محمد بن محمد بن محمد الغزالي. فقال له: أنا سألتك عن اسمك، فلماذا أخبرتني عن اسمك واسم أبيك وجدك. فقال له الغزالي: وكيف قلت أنت للباري لما قال لك: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (طه: 17-8) هي عصاي إلخ.. هل هذه المسألة صحيحة ومروية بسند مرضي عن نبينا، أم هي من اختراعات الشيوخ. نرجوكم سيدي أن تبينوا لنا الحق في هذه المسائل لا زلتم هادين مهديين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... مستفيد من الحجاز ... ... ... ... ... ... ... ... ... م ح ن الجواب عن مسائل الكشف لم يقل أحد من الأئمة: إنَّ الكشف من الدلائل الشرعية، أو من مآخذ الأحكام الدينية، ولا يقبل أحد من المتكلمين، ولا من المحدثين، ولا من الفقهاء، الاحتجاج بحديث لم تصح روايته بالطرق المعروفة في علم الحديث، ممن يدعي أنه صح من طريق الكشف، فهذا الكشف الذي يتحدث به الصوفية شيء لا يثبت به حكم شرعي ولا دليل حكم شرعي كالحديث، ولو جعلنا الكشف حجة شرعية، لما كانت دلائل الشرع محصورة فيما جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، وتلقاه عنه أصحابه الذين هم خير هذه الأمة، وهم لم يقولوا بهذا الكشف، ولم يحتجوا به. نعم إنه نقل عن بعضهم شيء من النطق بالإلهام الصادق، كإخبار الصديق عما في بطن امرأته من الولد، ومعرفة عثمان ما كان من ذلك الرجل الذي نظر إلى المرأة بشهوة. ولكنهم لم يسموا هذه الإلهامات النادرة كشفا، ولا عدوها طريقًا لمعرفة الأحكام، وقد سمى عثمان ما اتفق له مع الرجل فراسة. ولكن بعض العلماء أطلق على ما كان منهم لفظ الكشف، وكانت تعرض لهم المشكلات الشرعية في الأحكام، فيتذاكرون ويتشاورون فيها، ولا يعتمدون في تقريرها على شيء بعد الكتاب والسنة إلا على الرأي في استبانة المصلحة وتحري العدل. ولم يدع أحد منهم بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم: أنه رآه بالكشف أو في النوم، فأخبره بأن الحق كذا أو الحكم كذا. وإذا قلنا بأن من خواص نفوس البشر أن تدرك بعض الأمور من غير طريق الحس والعقل نادرا، وأن بعض الناس قد يكون استعداده لذلك قويًّا، وأن من كان استعداده له ضعيفًا، تيسر له تقويته بضروب من الرياضة، كما ينقل نَقْلاً مستفيضًا عن البراهمة والصوفية فإن هذا كله لا علاقة له بالدين، وإنما هو من قبيل سائر خواص المخلوقات التي منها ما هو طريق للعلم، كالخواص التي بني عليها صنع الآلات التي يعرف بها ما سيحدث من الأنواء والزلازل قبل حدوثه. ولا شيء من ذلك يعد من الدين، ولم يصل الكشف إلى أن يكون طريقًا منضبطًا للعلم، بحيث يعرف كل من كان من أهله، ما يعرفه الآخرون، إذا هو طلب معرفته بأن تتفق معارفهم من غير أن يأخذ بعضهم عن بعض. ثم إن الصوفية الذين يعدون الكشف من ثمرات طريقتهم، لا يقول أهل الصدق والعرفان منهم: إن الكشف دليل شرعي، بل يعدون من شروط الاعتداد بصحته موافقته للشرع. قال محيي الدين في فتوحاته: كل كشف شهد الشرع له ... فهو علم فيه فلتعتصم وقالوا: إن الكشف إذا جاء بخلاف ما علم من الشرع فهو باطل، ويعدونه من وحي الشياطين، ولهم في ذلك حكايات غريبة، ولم أر من علماء الأصول من بالغ في التسليم بما نقل من الإلهام والكشف، حتى ما علم عند المحدثين أنه لم يصح مثل أبي إسحاق الشاطبي الغرناطي صاحب الموافقات، فإنه عد من الأصول كون المزايا والمناقب عامة، كعموم الأحكام والتكاليف بين النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، إلا ما ثبت أنه خاصة به، وذلك مما افتحره لم يسبقه إلى القول به أحد من أئمة المسلمين، وإن قال جمهور المتكلمين: ما جاز أن يكون معجزة جاز أن يكون كرامة وهو خلاف التحقيق. وقد ذكر من فروعه الخوارق من الفراسة الصادقة، والإلهام الصحيح، والكشف الواضح، والرؤيا الصالحة. واشترط للعمل بذلك ما بينه في المسألة الحادية عشرة من النوع الرابع من المقاصد قال: (إن هذه الأمور لا يصح أن تراعى وتعتبر، إلا بشرط أن لا تخرم حكمًا شرعيًّا ولا قاعدة دينية، فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال أو وهم، وإما إلقاء من الشياطين وقد يخالطه ما هو حق وقد لا يخالطه، وجميع ذلك لا يصح اعتباره من جهة معارضته لما هو ثابت مشروع، وذلك أن التشريع الذي أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم عام لا خاص، كما تقدم في المسألة قبل هذا، وأصله لا ينخرم، ولا ينكسر له اطراد، ولا يحاشى من الدخول تحت حكمه مكلف. وإذا كان كذلك فكل ما جاء من هذا القبيل الذي نحن بصدده، مضادًّا لما تمهد في الشريعة فهو فاسد باطل) . ومن أمثلة ذلك مسألة سئل عنها ابن رشد في حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في أمر، فرأى الحاكم في منامه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: لا تحكم بهذه الشهادة فإنها باطل، فمثل هذا من الرؤيا لا يعتبر بها في أمر ولا نهي، ولا بشارة ولا نذارة؛ لأنها تخرم قاعدة من قواعد الشريعة، وكذلك سائر ما يأتي من هذا النوع، وما روي أن أبا بكر رضي الله عنه أنفذ وصية رجل بعد موته برؤيا رؤيت، فهي قضية عين، لا تقدح في القواعد الكلية لاحتمالها، فلعل الورثة رضوا بذلك، فلا يلزم منها خرم أصل، وعلى هذا لو حصلت له مكاشفة بأن هذا المعين مغصوب أو نجس، أو أن هذا الشاهد كاذب، أو أن المال لزيد، وقد تحصل بالحجة لعمرو، أَوْ مَا أشبه ذلك، فلا يصح له العمل على وفق ذلك ما لم يتعين سبب ظاهر، فلا يجوز له الانتقال إلى التيمم، ولا ترك قبول الشاهد، ولا الشهادة بالمال لزيد على حال، فإن الظواهر قد تعين فيها بحكم الشريعة أمر آخر، فلا يتركها اعتمادًا على مجرد المكاشفة أو الفراسة، كما لا يعتمد فيها على الرؤيا النومية، ولو جاز ذلك لجاز نقض الأحكام بها، وإن ترتبت في الظاهر موجباتها، وهذا غير صحيح بحال، فكذا ما نحن فيه، وقد جاء في الصحيح: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأحكم له، على نحو ما أسمعه منه) ، الحديث، فقيد الحكم بمقتضى ما يسمع، وترك ما وراء ذلك، وقد كان كثير من الأحكام التي تجري على يديه يطلع على أصلها وما فيها من حق وباطل. ولكنه - عليه السلام - لم يحكم إلا على وفق ما سمع، لا على وفق ما علم، وهو أصل في منع الحاكم أن يحكم بعلمه وقد ذهب مالك في القول المشهورعنه، أن الحاكم إذا شهدت عنده العدول بأمر يعلم خلافه، وجب عليه الحكم بشهادتهم إذا لم يعلم منهم تعمد الكذب؛ لأنه إذا لم يحكم بشهادتهم كان حاكمًا بعلمه، هذا مع كون علم الحاكم مستفادًا من العادات التي لا ريبة فيها، لا من الخوارق التي تداخلها أمور، والقائل بصحة حكم الحاكم بعلمه فذلك بالنسبة إلى العلم المستفاد من العادات لا من الخوارق ولذلك لم يعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الحجة العظمى، وحكى ابن العربي عن قاضي القضاة الشاشي المالكي ببغداد أنه كان يحكم بالفراسة في الأحكام جريًا على طريقة إياس ابن معاوية أيام كان قاضيًا، قال: ولشيخنا فخر الإسلام أبي بكر الشاشي جزء في الرد عليه، هذا ما قال وهو حقيق بالرد إن كان يحكم بالفراسة مطلقًا من غير حجة سواها. فإن قيل: هذا مشكل من وجهين: أحدهما أنه خلاف ما نقل عن أرباب المكاشفات والكرامات، فقد امتنع أقوام عن تناول أشياء، كان جائزًا لهم في الظاهر تناولها اعتمادًا على كشف أو إخبار غير معهود، ألا ترى إلى ما جاء عن الشبلي حين اعتقد أن لا يأكل إلا من الحلال، فرأى بالبادية شجرة تين فَهَمَّ أن يأكل منها، فنادته الشجرة: لا تأكل مني فإني ليهودي، وعن عباس بن المهتدي أنه تزوج امرأة قليلة الدخول، وقع عليه ندامة، فلما أراد الدنو منها زجر عنها، فامتنع وخرج فبعد ثلاثة أيام ظهر لها زوج، وكذلك من كان له علامة عادية أو غير عادية يعلم بها، هل هذا المتناول حلال أم لا؟ كالحارث المحاسبي حيث كان له عرق في بعض أصابعه، إذا مد يده إلى ما فيه شبهة تحرك، فيمتنع منه، وأصل ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وغيره في قصة الشاة المسمومة، وفيه فأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكل القوم، وقال: ارفعوا أيديكم فإنها أخبرتني أنها مسمومة ومات بشر بن البراء. الحديث، فبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك القول، وانتهى هو، ونهى أصحابه عن الأكل بعد الإخبار، وهذا أيضًا موافق لشرع من قبلنا، وهو شرع لنا إلا أن يرد ناسخ، وذلك في قصة بني إسرائيل، إذ أمروا بذبحها وضرب القتيل ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله، فرتب عليه الحكم بالقصاص. وفي قصة الخضر في خرق السفينة وقتل الغلام، وهو ظاهر في هذا المعنى إلى غير ذلك، مما يؤثر في معجزات الأنبياء - عليهم السلام -، وكرامات الأولياء رضي الله عنهم. والثاني: أنه إذا ثبت أن خوارق العادات بالنسبة إلى الأنبياء والأولياء، كالعادات بالنسبة إلينا، فكما لو دلنا أمر عادي إلى نجاسة الماء أو غصبه لوجب علينا الاجتناب فكذلك هاهنا؛ إذ لا فرق بين إخبار من عالم الغيب، أو من عالم الشهادة، كما أنه لا فرق بين رؤية البصر لوقوع النجاسة في الماء ورؤيتها بعين الكشف الغيبي، فلا بد أن يبنى الحكم على هذا، كما يبنى على ذلك، ومن فرق بينهما فقد أبعد. فالجواب أن لا نزاع بيننا في أنه قد يكون العمل على وفق ما ذكر صوابًا وعملاً بما هو مشروع على الجملة، وذلك من وجهين: (أحدهما) الاعتبار بما كان من النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فيلحق به في القياس ما كان في معناه، إذ لم يثبت أن مثل هذا من الخوارق مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان من الأمور الخارقة بدليل الواقع، وإنما يختص به من حيث كان معجزًا، وتكون قصة الخضر على هذا مما نسخ في شريعتنا على أن خرق السفينة، قد عمل بمقتضاه بعض العلماء بناءً على ما ثبت عنده من العادات. أما قتل الغلام فلا يمكن القول به. وكذلك قصة البقرة منسوخة

استفتاء عن الكشف الطبي على الميت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استفتاء عن الكشف الطبي على الميت (س 27) من السيد عبد الجليل الزاووش أحد نابغي النابتة العصرية (بتونس) . الحمد لله وحده: حضرة الأستاذ المحقق العالم المدقق، حكيم الإسلام ومرشد الأنام سيدي: رشيد رضا منشئ مجلة المنار الباهرة الغراء، دام إسعاده وكماله. أما بعد السلام الأتم عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني أرجوكم - ولكم مزيد المنة والشكر، ووافر الثواب والأجر - أن تتفضلوا بالجواب الشرعي عن السؤال الآتي ونشره في أقرب وقت على صفحات مناركم. أطال الله بقاكم وإليك السؤال: ما هو الحكم في إحضار الحكيم المعمول به في بعض الممالك الإسلامية الشرقية؛ لأجل الاطلاع على من يخبر بموته وشهادته بصحة الخبر، واكتشافه سبب الموت؛ حتى لا يدفن الإنسان حيًّا، ولا يخفى المرض المعدي وفي ذلك مما يفيد الأمة في حالتها الصحية ما لا يخفى، فهل ذلك - رعاكم الله - مما لا يجوز مطلقًا ولو كان الحكيم مسلمًا، ولم يستتبع الكشف على الميت أدنى عملية جراحية، أو ما يوجب أقل إهانة لكرامة الميت، ولو مع تخصيص حكيم لمباشرة الرجل وحكيمة لمباشرة المرأة أو يسوغ مطلقًا أم المقام فيه تفصيل؟ أفيدونا تؤجروا وترحموا. (ج) ليس في هذه المسألة نص عن الشارع، وهي من المسائل الدنيوية التي تتبع فيها قاعدة درء المفاسد وجلب المصالح وحينئذ يختلف الحكم باختلاف الأموات، فإذا وقع الشك في موت من ظهرت عليه علامات الموتى، وعلم أن الطبيب يمكنه أن يعرف الحقيقة بالكشف عليه فإن الكشف عليه يكون متعينًا، ويحرم دفنه مع بقاء الشك في موته وإبقاؤه عرضة للخطر، ويختار الطبيب الذي يوثق به؛ للعلم ببراعته وأمانته على غيره؛ لأن العبرة في ذلك بالثقة، فإذا لم يوجد طبيب مسلم يوثق به، ووجد غيره اعتمد عليه، بل إذا وجد طبيب مسلم غير موثوق به، وطبيب غير مسلم موثوق بتكرار التجربة، يرجح الاعتماد على الثاني؛ لأن المسألة ليست عبادة فيكون الترجيح فيها بالدين، بل أقول: إن مَنْ اشترط من الفقهاء إسلام الطبيب الذي يؤخذ بقوله في المرض الذي يبيح ترك الغسل والوضوء إلى التيمم، إلا لاعتبار ذلك من أركان العدالة التي هي سبب الثقة، وقد صرحوا حتى في هذه المسألة الدينية بأن المريض إذا صدق الطبيب الكافر بأن الماء يؤذيه في مرضه، كان له أن يعمل بقوله. وإذا كان من اشتبه في موته امرأة ووجدت طبيبة يوثق بها قدمت على الطبيب حتمًا، فإن لم توجد كشف عليها الطبيب كما هو الشأن في جميع الأمراض. ومن درء المفاسد والقيام بالمصالح العامة، ما تفعله (مصلحة الصحة) بمصر، وحيث توجد من مقاومة أسباب الوباء والأمراض المعدية، ومن أعمالهم ما هو مفيد قطعًا، ومنه ما تظن فائدته، فإذا علم أن في الكشف على الميت؛ لمعرفة سبب مرضه مصلحة عامة، لم يكن ما يعبرون عنه بتكريم الميت مانعًا من ذلك، نعم، إن إهانة الميت محظورة. ولكن الإهانة تكون بالقصد وهو منتف هنا، على أن درء المفاسد وحفظ المصالح العامة من الأصول التي لا تهدم بهذه الجزئيات، والمدار على العلم بأن هنا مفسدة يجب درؤها، أو مصلحة يجب حفظها، فإذا علم أولو الأمر ذلك عملوا به، والشرع عون لهم عليه.

أسئلة من الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من الهند حضرة المصلح الكبير والفليسوف الشهير صاحب مجلة المنار الأكرم. السلام عليكم وبعد: فنرجوكم الإفادة المطابقة لمذاهب الأئمة الأربعة أو أحدهم عما هو آت، ثم إبداء رأيكم الخاص في ذلك: رجل من تجار المسلمين القانطين بكلكته، تأتي له حوالات نقدية من الجهات على البنك، وأصحاب البنك المذكور قوم من النصارى الأروباويين، فيبقيها في البنك، ويؤخذ منها بقدر الحاجة فقط، بلا شرط بينه وبين أصحاب البنك، فإذا مضى على النقدية أو بعضها ستة أشهر، يحسبون له زيادة عن الأصل روبيتين في المائة في السنة، فيكون في الستة الأشهر روبية في المائة، وذلك لأنهم - أي: أصحاب البنوك - ينتفعون ببقاء الدراهم عندهم نحو اثنتا عشرة روبية أو أكثر في المائة سنويًّا، وللعملة في البنك عادة على الرجل المذكور في السنة يأخذونها منه بقشيشًا، فهل - والحالة هذه - يباح للرجل المذكور ما يأخذه من أرباب البنك باختيارهم من غير شرط معهم كما تقدم أم لا؟ أفيدونا سيدي. فإن المسألة واقعة حال. لا زلتم … سؤال آخر: حضرة المحقق من التزم القيام بوظيفتي الإفتاء، ودعوة الأمة إلى العمل بالكتاب والسنة، فضيلة الشيخ محمد رشيد الأفضل. قد اطلعت على قولكم خلال جوابكم على مسألة الأعطار الإفرنكية: وأكثر أئمتنا وعلمائنا على أن الصلاة لا تصح من متنجس البدن أو الثوب أو المصلى، وقد اختلفوا ... إلخ. ولا يخفاكم أنَّ مقابل الأكثر الكثير، وعليه فالفقير يلتمس من سيادتكم أن تبينوا له بعضًا من القائلين بصحة الصلاة مع النجاسة غير المعفو عنها، مع الاختلاف في القدر المعفو عنه منها كما هو مقرر، إن لم يمكنكم بيان الكل ولكم الفضل. سؤال آخر: وكذا ألتمس من تحقيقاتكم أن تفيدونا عن بعض القائلين بطهارة الخمر المفهومة من قولكم في الجواب المذكور، وإن كانت نجاستها حسية، كما هو المعروف عن الفقهاء القائلين بذلك ... إلخ؛ لنكون على بصيرة بواسطتكم من حكم الكتاب والسنة، إذ لم نفهم منهما إلى الآن طهارة الخمر المتخذة عن عصير العنب وثمرات النخيل، وحينئذ نعتقد أن وجودكم سيدي بين ظهرانينا منة من الله علينا ورحمة، وكم لله علينا من النعم. تفضلوا مولاي بالجواب، ولكم إن شاء الله الأجر والثواب. سؤال آخر: ما الحكم سيدي في قوم من أهل الهند المسلمين لا يورثون البنات والزوجات؛ جريًا على عادة الهندوس الكفرة، وهي عادة قديمة للمسلمين أيضًا قبل إسلامهم، وقد خَيَّرَهُمْ حاكم البلاد حين ترافعوا إليه في مسألة الميراث المذكورة، بين أن يفصل بينهم بموجب الشريعة الإسلامية، وبين أن يكون الفصل بموجب عادة الكفار مواطنيهم، فقالوا: نختار البقاء على العادة القديمة، ورضوا بعدم توريث البنات والزوجات معًا، وبعضهم البنات فقط، وآخرون لا يورثون الأولاد ذكورًا كانوا أو إناثًا، بل ما يتركه الميت لولد أخته الذكر دون الأنثى مع وجود ولد الصلب، وذلك بحسب عادة بلادهم القديمة، وهم يختلفون في ذلك، فأهل بنجاب لا يورثون البنت والزوجة، وأهل كيزرات يحرمون البنت فقط، وأهل مليبار يحرمون الأولاد مطلقًا وما ترك لابن الأخت. فهل يكفرون بهذا الفعل أم لا؟ بينوا تؤجروا ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد موسى ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بكلكته الجواب على مسألة أمانات البنك من أعطى إنسانًا باختياره مالاً أو عَرَضًا لا يستحقه عليه، فأخذه كان حلالاً بالإجماع، ما لم يكن هناك غش أو نحوه من الأمور التي تنافي أن يكون المعطي قد أعطى برضاه واختياره، ومن هذه الأمور ما قد يكون معروفًا للآخذ، ومنها ما يكون شبهة، ومن ذلك موضوع السؤال، فإنه لم يسأل عنه، إلا وهو عند أصحاب الواقعة محل شبهة، هل هو من الربا أم لا؟ ولو جزموا بأحد الوجهين، لم يسألوا. أما الربا فقد عرَّفه الحنفية الذين يقلدهم أكثر أهل الهند؛ بأنه الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع، كما في حواشي فتح القدير وغيرها، فقولهم المشروط في البيع، يخرج منه واقعة الحال المسؤول عنها؛ إذ لا شرط فيها، وفي شرح المنهاج للشمس الرملي الشافعي أن الربا شرعًا عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد، أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما؛ وقوله: (أو مع التأخير) معناه أو عقد مع تأخير، كما في حاشية الشبراملسي عليه. ولا عقد في الواقعة المسؤول عنها. ويشبه مسألة الحوالة مسألة الوديعة التي تقع كثيرًا، فإن بعض البنوك قد تزيد للمودع شيئًا على ماله المودع فيها، وما قد يقع منه بلا شرط فهو يشبه الواقعة، إلا أن يقال: إن الوديعة أشبه بالقرض أو الدين، منها بالأمانة؛ لأن أهل البنك يتصرفون بالمال ويردون غيره، والعرف يقوم مقام العقد في ذلك، وقد صرح غير واحد من الفقهاء بأن كل قرض جر نفعًا للمقرض فهو ربا، ورووا ذلك حديثًا. وأقول: إن ما جرى عليه العرف في معاملة البنوك على ما نعلم، أَنَّ ما يوضع فيها أمانة، يجوز لصاحبه أن يسترده كله أو بعضه متى شاء، وما يؤخذ على أنه دين ليس لصاحبه أن يسترده إلا بعد انتهاء الأجل، أو يأخذ ما يطلب من المال بربًا أكثر من الربا الذي يأخذه هو من البنك، وإن كان ما طلبه جزءًا من ماله. مثال ذلك، أن من أعطى البنك ألفًا على أن له في المائة ثلاثًا في السنة، ثم طلب قبل انقضاء السنة خمس مائة، فإن البنك يعطيه إياها على أن له ستًّا في المائة أو أكثر أو أقل قليلاً، وكل ذلك يجري بعقود مكتوبة. أما الودائع فيعطي البنك بها وصلاً للمودع، ومنها ما لا يزيده على ما أودع شيئًا، فيبقى وجه الشبهة في الواقعة المسؤول عنها، وفيما يشبهها أنها من قبيل القرض الذي جر نفعًا، وهي ضعيفة في الحوالة قوية في الوديعة. على أن الفقهاء لا سيما الحنفية قد شددوا في مثل ذلك، ويعدون كل ما يؤخذ بلا مقابل ربا، فمن اعتقد ذلك حرم عليه الأخذ. وإذا رجعنا إلى الدليل، رأينا أن حديث (كل دين جر نفعًا) ... إلخ ضعيف كما سيأتي عن نيل الأوطار، بل قال الفيروزبادي: إنه موضوع. ولكن في الباب أحاديث أخرى، وآثار تفيد في إنارة المسألة، قال في منتقى الأخبار: (عن أبي هريرة قال: كان لرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال: أعطوه فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنًّا فوقها، فقال: أعطوه، فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن خيركم أحسنكم قضاء) . وعن جابر قال: (أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان لي عليه دين، فقضاني وزادني) . متفق عليهما. وعن أنس وسئل: (الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه، أو حمله على الدابة، فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك) ، رواه ابن ماجه. وعن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أقرض فلا يأخذ هدية رواه البخاري في تاريخه. وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قتّ [1] فلا تأخذه فإنه ربا. رواه البخاري في صحيحه. أقول: أثر عبد الله بن سلام لا يحتج بمثله الجمهور، الذين يحصرون أدلة الشرع في الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ومن الغريب قوله بفشو الربا في المدينة، والظاهر أنه قاله بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخراج اليهود منها، وقال الشوكاني في شرح هذه الأحاديث ما نصه: حديث أنس في إسناده يحيى بن أبي إسحاق الهنائي وهو مجهول، وفي إسناده أيضا عتبة بن حميد الضبي، وقد ضفعه أحمد، والراوي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف، قوله (سن) أي: جمل له سن معين، وفي حديث أبي هريرة دليل على جواز المطالبة بالدين إذا حل أجله، وفيه أيضًا دليل على حسن خلق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتواضعه وإنصافه، وقد وقع في بعض ألفاظ الصحيح أن الرجل أغلظ على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فهمَّ به أصحابه، فقال: (دعوه فإن لصاحب الحق مقالا) كما تقدم، وفيه دليل على جواز قرض الحيوان، وقد تقدم الخلاف في ذلك، وفيه جواز رد ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، وبه قال الجمهور وعن المالكية إن كانت الزيادة بالعدد لم يجز، وإن كانت بالوصف جازت، ويرد عليهم حديث جابر المذكور في الباب، فإنه صرح بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - زاده، والظاهر أن الزيادة كانت في العدد، وقد ثبت في رواية للبخاري أن الزيادة كانت قيراطًا، وأما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فتحرم اتفاقًا، ولا يلزم من جواز الزيادة في القضاء على مقدار الدين جواز الهدية ونحوها قبل القضاء؛ لأنها بمنزلة الرشوة، فلا تحل كما يدل على ذلك حديثا أنس المذكوران في الباب وأثر عبد الله بن سلام [2] والحاصل أن الهدية والعارية ونحوهما إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدَّين أو لأجل رشوة صاحب الدَّين، أو لأجل أن يكون لصاحب الدَّيْنِ منفعة في مقابل دينه فذلك مُحَرَّم؛ لأنه إما نوع من الربا أو رشوة، وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس، وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا فالظاهر المنع لإطلاق النهي عن ذلك. وأما الزيادة على مقدار الدَّين عند القضاء بغير شرط، ولا إضمار فالظاهر الجواز من غير فرق بين الزيادة في الصيغة والمقدار، والقليل والكثير؛ لحديث أبي هريرة وأبي رافع والعرباض وجابر، بل هو مستحب. قال المحاملي وغيره من الشافعية: يستحب للمستقرض أن يرد أجود مما أخذ؛ للحديث الصحيح في ذلك، يعني قوله: (إن خيركم أحسنكم قضاء) ، ومما يدل على عدم حل القرض الذي يجر إلى المقرض نفعًا، ما أخرجه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفًا بلفظ: كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا، ورواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفًا عليهم، ورواه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي - عليه السلام - بلفظ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نهى عن قرض جر منفعة، وفي رواية: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) ، وفي إسناده سوار بن مصعب وهو متروك، قال عمر بن زيد في المغني: لم يصح فيه شيء، ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا: إنه صح، ولا خبرة لهما بهذا الفن. اهـ المراد منه، ومعظمه منقول من فتح الباري. وأما الربا الذي نهى عنه الكتاب العزيز بالنص الصريح، فهو ربا النسيئة المضاعف، وقد ذكرنا كيفيته، وبينا حكمته بالتفصيل في تفسير آياته من أواخر سورة البقرة. وتحريمه ليس تعبديًّا، كما يقول من يرى ذلك من الفقهاء، بل هو معلل بقوله عز وجل: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) وبقوله: {وَاتَّقُوا اللَّه} (آل عمران: 130) بعد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) فإن هذا من القسوة، ومنع المعروف عند الحاجة المنافي للتقوى، والمراد بهذا الربا المعروف: ما كان عليه الناس في الجاهلية، وهو كما قال الإمامان مالك وأحمد وغيره: أَنْ يكون للرجل على الرجل دَيْن مؤجل من قرض أو ثمن، فيقول له عند الأجل: إما أن تقضي، وإما أن تربي فيزيد ويربي له لحاجته كلما طلب. وليس منه في شيء ما تقدم في السؤال، وهو أن يستعمل إنسان مال آخر مودعًا عنده برض

مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

الكاتب: موسى عبد الله القزاني

_ مطالب مسلمي روسيا من دولتهم ألَّف الشيخ رضاء الدين بن فخر الدين أحد أكابر علماء المسلمين في روسيا، والعضو في المحكمة الشرعية هناك سابقًا، رسالة أبان فيها رأيه في مطالب مسلمي روسيا من حكومتهم. قال: يظهر من قراءة بعض الأوراق المطبوعة وغير المطبوعة، ومما يسمع من أفواه الكثيرين أن مطالب قومنا المهمة عبارة عما يأتي: (1) استرداد الحقوق الواسعة التي منحتها الإمبراطورة (كاترينا) الثانية للجمعية الشرعية، (أو المحكمة الشرعية) في سنة 1787م. (2) إخراج المدارس الإسلامية من تحت إدارة نظارة المعارف العمومية الروسية، وجعلها تحت نظارة الجمعية الشرعية التابعة الآن لنظارة الداخلية. (3) مساواة المسلمين القاطنين في روسيا للروس الأرثوذكس، في الحقوق المدنية والعسكرية كافة بلا استثناء. (4) مساواة علماء الإسلام الرسميين في الامتيازات، للروحانيين المسيحيين. (5) إلغاء جعل معرفة اللغة الروسية شرطًا في تعيين أئمة المساجد وأعضاء الجمعية الشرعية. (6) الحرية في الدين، والمناظرة مع المتحكِّكين بالمسلمين، وحرية الصحافة. (7) إبقاء فصل الخصومات المتعلقة بالأمور الشخصية، كالنكاح والطلاق، وتقسيم التركات والوصايا، وما إليها من الخصومات العائلية، كما كان في الزمن السابق بأيدي علماء المسلمين أنفسهم، دون تحويلها إلى المحاكم المدنية. ثم أفاض الكاتب في بيان رأيه في هذه المواد (ما عدا المادتين الثالثة والسابعة) ، فآثرنا أن نترجم كلامه على المواد الخامسة والسادسة والثامنة؛ لما فيها من الفوائد. وأما كلامه في بقية المواد فهو في الغالب مختص بالشؤون الداخلية البحتة؛ ولهذا أغفلنا ترجمته. قال حفظه الله: الكلام على المادة الخامسة لا يحسن بنا أن نحكم بضرر اشتراط تعلم اللغة الروسية لأئمة المساجد وأعضاء الجمعية الشرعية أو بنفعه، إلا بعد إنعام النظر في حالتنا الحاضرة، إذا ظلت مدارسنا الدينية على ما هي عليه من الخلل، ودامت حال المتعلمين فيها على ما هي عليه من الفوضى والفاقة، فهو ضار ألبته؛ لأن الحالة الراهنة تقضي عليهم بأن يرتادوا من يتعلمون منه اللغة الروسية مبتدئين من (ألفبائها) . بعد أن قضوا أعوامًا كثيرة في زوايا المدارس الإسلامية، وناهزوا سن الكهولة. ومعظم أولئك المتعلمين لا يتسنى لهم - لضيق ذات يدهم - أن يظفروا بمعلم متحل بالفضائل والآداب. فيضطرون إلى اختيار المعلمين المتسفلين في أخلاقهم وآدابهم بأجور زهيدة. فيتلقون منهم فنونًا من الجهل مع يسير من العلم. ثم ترى فئة من أولئك المتعلمين الذين قضوا سن الشباب بالعفة والاستقامة هادئين متنكبين عما يخل بآدابهم. يقصدون لتعلم اللغة المذكورة القرى الروسية أو المدن. فيتفق لهم أن يروا هناك مجالس الفسق ومحلات الفجور لأول مرة من حياتهم، فهم - وإن قدعوا نفوسهم مرة أو مرتين عن الدخول في غمار تلك المجالس - يقعون في مهاويها في المرة الثالثة لا محالة. فينتشر بهذه الواسطة داء فساد الأخلاق بين المتعلمين، وينهدم بنيان تعففهم. وما ذلك الضعف في الإرادة، والخور في العزيمة إلا من نقصان تربيتنا المدرسية ووهنها؛ لأننا لا نربي التلاميذ تربية تجعلهم يمتنعون عن الرذائل؛ لكونها مضادة للكمال الإنساني، ولمرضاة الله واهب الكمالات. وإنما تربيهم تربية تجعلهم لا يأتون المنكرات مخافة من الناس لا غير. نجد بين المتعلمين في مدارس الحكومة الرسمية كثيرين يجتنبون شرب المسكرات، وتناول الدخان. وأما المتعلمون منا في المدارس الدينية، فيقال: إن الأعفَّاء فيهم قليلون جدًّا في هذه الأيام، فهذه جهة الضرر. وإما إذا نظرنا إلى حاجة من يسكن هذه البلاد في قضاء حاجتهم المعاشية، وحفظ حقوقهم الخصوصية والقومية إلى اللغة الروسية - لغة الأمة الحاكمة - فإننا نقول بنفع اشتراط تعلمها للأئمة أيضا نفعًا عظيمًا. هذا رأيي في أئمة المساجد. وأما رأيي في أعضاء الجمعية الشرعية فكما يأتي: لا يؤمل خير للجمعية الشرعية، والمسلمين من عضوية من ليست لهم قدم راسخة في العلوم الإسلامية مع قصر باعهم في اللغة الروسية وقوانين الحكومة. بل يَتَحَتَّم أن يكون الأعضاء فيها لهم براعة في العلوم الإسلامية، وفي لغة الحكومة، وقوانينها. وما اشترطت لهم الحكومة من درجة التعلم في المدارس الرسمية ليس بشيء في جنب ما أحب أن يكونوا عليه. يجب أن تكون مقاماتهم في العلوم الإسلامية مقامات المجتهدين بالاجتهاد الاصطلاحي، لا بالاجتهاد اللغوي فقط. درجة الاجتهاد يجب علينا أن نشترطها من عند أنفسنا، ولو لم تشترطها الحكومة؛ لأن ذلك يعود على أمتنا بمنافع جمة ما بين دينية واجتماعية. أما منافعه الدينية فظاهرة. وأما النفع الاجتماعي العظيم فهو إن كون قضاتنا بهذه المثابة من الاقتدار، يجعل لهم مكانة سامية في نظر الحكومة، ويكون سببًا لبقاء فصل الخصومات العائلية التي أتى ذكرها في المادة الثامنة من مطالب الأمة بأيدي علمائنا، وبقاء جمعيتنا الشرعية إلى ما شاء الله. كأني بقائل يقول: هل يمكن ظهور المجتهدين من بيننا؟ فأقول في جواب هذا السؤال: نعم، لا يوجد اليوم فينا مجتهدون، ويستبعد الناظر في حالتنا الحاضرة ظهورهم في المستقبل القريب أيضًا. بيد أنه إذا انتظمت مدارسنا، ودرست فيها العلوم النافعة من كتب أصحاب العلوم الحقيقية بدل هذه الكتب السخيفة، فلا مانع - في رأيي - من ظهور المجتهدين بيننا. لا يشترط الاجتهاد الإسلامي ثلث الشروط التي تشترط في ترشيح المرء لأن يكون رئيسًا أو مدعيًا عموميًّا أو عضوًا أو محاميًا في المحاكم الكبيرة في أوربا وفي روسيا. نرى اليوم بين الروس الذين لا يفوقون المسلمين الساكنين في هذه البلاد بشيء من: الذكاء الفطري، الاستعداد الطبيعي، ألوفًا يساوون المجتهدين في المذهب، بل المجتهدين المطلقين في علومهم، وبراعتهم في الفقه (علم الحقوق) والقوانين الوضعية. فكيف يمتنع إذًا ظهور مائة أو خمسين مجتهدًا من بين مسلمي روسيا الذين ينيف عددهم على 15 مليونًا، إذا سعوا له سعيه وأتوا البيوت من أبوابها. إذا نحن أخلدنا إلى الأرض، ورضينا بالجمود على هذه الحالة الوضيعة فحرام علينا أن نعد أنفسنا من نوع الإنسان الذي فطر على أن يترقى دائمًا مع الزمان. أنا أعلم أن كلامي هذا يحفظ قلوب كثير من الجامدين، فينبذونني بالجهل والمروق عن دائرة الأدب مع الأئمة السالفين، ويقولون ألبتة: (ما لهذا الجاهل الضال، قد حط من قدر الاجتهاد، وتجرأ على القول بإمكان ظهور المجتهدين في هذا الزمان. أما سمع هذا المتهور خبر انقضاء عصر الاجتهاد، وانغلاق بابه منذ قرون كثيرة) . غير أني أقول لهؤلاء: (إني لم أكتب ما كتبت لغفلتي عن مباحث الاجتهاد، وخبر انغلاق بابه عند بعضهم. بل كتبته بعد أن بحثت وأدمنت الفكر في هذه المباحث زمنًا طويلا، حتى هداني البحث والتنقيب إلى معرفة مفتجري فكرة (انغلاق باب الاجتهاد) ، والأسباب التي حملتهم على افتجارها، والعصور التي ظهرت فيها تلك الفكرة السيئة. زحفت التتار إلى بغداد فدمروها تدميرًا وقتَّلوا العلماء تقتيلاً، وأبادوا الآثار العظيمة الشاهدة بعظمة المسلمين السابقين، وفعل الأسبانيون الأفاعيل بالمسلمين، وساموهم سوء العذاب في جزيرة الأندلس، أضر هؤلاء المتوحشون بالبلاد الإسلامية والمسلمين أضرارًا مادية جسيمة لكن أضرارهم المعنوية لا يقام لها وزن أمام الأضرار التي أنتجها شيوع فكرة (انغلاق باب الاجتهاد، وامتناع بلوغ الأخلاف شأو الأسلاف في الكمال والعلم) بين المسلمين. لم تتمكن فكرة انغلاق باب الاجتهاد والارتقاء في نفوس المسلمين حتى فترت الرغبات في العلم، وتقاعد الهمم عن الارتقاء والتقدم، فأنشأوا يتدارسون السفاسف بدل الفضائل، ويشتغلون بالأوهام اليونانية بدل العلوم الحقيقية. وبالجملة إن الخسائر التي جرتها إلى المسلمين (فكرة انغلاق باب الاجتهاد) ، أكثر وأفظع من الخسائر التي أتتهم على أيدي (جنكيز) و (هولاكو) و (إيزابلا) ، وأضرابهم من المتوحشين المفسدين. ولهذا أعتقد أننا إذا قضينا على الفوضى السائدة في مدارسنا، وأدخلنا فيها العلوم الحقيقية، وأفرغنا كنانة جهدنا في نشر التربية الإسلامية الصحيحة ظهر فينا المجتهدون بكثرة إن شاء الله؛ إذ الاجتهاد أمر كسبي مرتبط بالأسباب الظاهرة التي تنالها الأيدي. ثم إن سنة الارتقاء التي تجري عليها شؤون العوالم كلها بتقدير العزيز العليم، تقضي أن يكون كل شيء أكمل وأرقى مما قبله. نرى اليوم الأمم الراقية الحية يبنون كل شؤونهم على تلك السنة الثابتة، فيسيرون سيرًا حثيثًا في مدارج الرقي، ومراقي الكمال. أما المسلمون ففشا بينهم منذ زمن بعيد إنكار سنة الارتقاء، واعتقاد سير العالم إلى التدلي والانحطاط، فرئموا الضعة والجمود، حتى حقت عليهم كلمة الذل والهوان. لعل اختتام النبوة أيضًا مبني على تلك السنة (سنة الارتقاء) . كانت الأمم السالفة لنقصان مداركهم، وعدم اكتمالهم في المزايا الإنسانية، يضلون عن الشرائع التي كانت الأنبياء تبلغها إليهم، ويحيدون عن صراط الله السوي، بعد مضي أزمنة يسيرة من عهد الأنبياء. فكان الله - عز وجل - يبعث إليهم من يقوِّم لهم أود الدين، ويهديهم إلى الحق المبين من الأنبياء الآخرين. وأما الأمم الذين يأتون بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فيكونون قد ارتقوا في المدارك، واكتملوا في الخواص الإنسانية، حتى يستطيعوا بذلك حفظ الشريعة المطهرة، ويبلغوها إلى من بعدهم بلا تحريف ولا تبديل. فلا تبقى حاجة إلى إرسال من يجدد الدِّين بعد خاتم النبيين فبناءً على ما ذكرنا ينبغي أن يكون المجتهدون وأساطين الإسلام أكثر وأبرع من المجتهدين السالفين، كلما خطا المجتمع الإنساني خطوة إلى الأمام. وأما تعلم أعضاء المحكمة الشرعية اللغة الروسية، فما اشترطته لهم الحكومة قليل جدًّا في رأيي. بل يتحتم على من يترشحون للعضوية في تلك المحكمة أن يحضروا دروس علم الحقوق ولو بصفة المستمعين في جامعات الحكومة، بعد أن يمتحنوا في دروس المدارس البلدية أو مدارس المعلمين. لا يخفى على أهل البصر أن قوة المحكمة الشرعية، وسمو مكانتها لدى المحاكم التي فوقها، وارتفاع شأنها في أعين المسلمين التابعين لها، ليست هي كل بنائها الشامخ، وتنوع الأشجار في الحديقة الحافة بها. بل لا تتحقق تلك الأماني السامية؛ إلا إذا كان أعضاؤها والقضاة فيها من أهل المقدرة على القيام بواجباتهم حق القيام. ثم إذا تسنى لهم التعارف برجال الحكومة العظام، يؤمل منهم أن يخدموا المسلمين خدمًا جليلة. أشغال المحكمة الشرعية مرتبطة اليوم بسائر المحاكم المدنية أشد الارتباط. ويزيد هذا الارتباط عامًا بعد عام. قد تحدث في المحكمة مشاكل، لا يمكن حلها إلا بمقابلة أولي الأمر ومحادثتهم. وأحيانًا تستفتى المحاكم الكبيرة من قضاة المحكمة الشرعية في بعض المسائل الفقهية. وكذلك قد يقصد المحكمة أبرع المحامين؛ ليرجعوا إلى القضاة في بعض المهمات. وتكون كتابات هؤلاء على غاية من الإيجاز والنظام، قلما يفهمها حق الفهم إلا أهل البصر في الأمور القضائية والشؤون القانونية، فيبقى العضو الجاهل باللغة الروسية في حيرة واضطراب في مثل هذه الظروف. ثم إن العضو الذي

كلام فريد أفندي وجدي في الدين وفلسفة التشريع ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلام فريد أفندي وجدي في الدين وفلسفة التشريع كتب محمد فريد أفندي وجدي صاحب مجلة الحياة منذ أشهر مقالة في بعض الجرائد اليومية، قال فيها: إنه سينشئ مدرسة يدرس فيها العلوم العليا؛ من كونية واجتماعية وعمرانية، ومن ذلك جميع العلوم الطبيعية والفلسفية بأنواعها ... إلخ، أي: إنه سيقوم وحده بما تريد لجنة (الجامعة المصرية) أن تبدأ به، وترى ما لديها من مال الاكتتاب وهو عشرات الألوف من الجنيهات، وما وُقِفَ على الجامعة من الأطيان لا يزال غير كاف للشروع في هذا القسم العالي. ولكن فريد أفندي وجدي سخي بالوعود، وقد تبرع له سيد أفندي محمد صاحب المدرسة التحضيرية بحجرة من مدرسته وفَّى بها وعده، فهذه الحجرة هي مدرسة العلوم العليا. وقد شرع فريد أفندي في إلقاء الدروس فيها، ونشر الدرس الأول من علم فلسفة التشريع في جريدة المؤيد ثم في مجلته، فتذكرنا بقراءته تلك المقالات التي كان ينشرها في المؤيد عن الإسلام؛ إذ جاء فيه بمثل ما جاء فيها من أمور تعزى إلى الإسلام وهو لا يعرفها، وفلسفة فيه لا يرضاها. وكان خطر لنا أن ننتقد تلك المقالات؛ قيامًا بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن عرض لنا أمور ثنت عزمنا عن ذلك منها الرغبة عن انتقاد فريد أفندي لذاته، ولأنه صاحب مجلة، ولا نحب أن يكون بين أصحاب المجلات مثل ما بين أصحاب الجرائد من المناقشات التي لا يؤمن أن تصير من قبيل المراء والمشاغبة، تركنا الرد على ما جاء في تلك المقالات من مخالفة أصول الدين، والنفس تحاسبنا على ما فرطنا، وتعتذر عن تفريطها بأن تَتَبُّعَ خطأ الناس والرد عليه غايةٌ لا تُدْرَك، ولا يستطيع القيام بها واحد وهو من فروض الكفايات. ولكنها ليست مطمئنة بأن هذا العذر يرضي الله - تعالى- مع ما ترى من سكوت العلماء في هذا العصر عن إنكار المنكر، ثم عرض لنا مثل هذا عندما قرأنا درس فلسفة التشريع، وإن كان الخطأ فيه دون الخطأ في تلك، ثم جزمنا بأن الانتقاد واجب علينا، فبادرنا إلى كتابة هذا النقد فعسى أن ينظر فيه رصيفنا فريد أفندي بعين الإنصاف. في هذا الدرس أو المقالة كثير من الأمور المنتقدة، وأهمها عندنا ما قاله في التشريع، وكون الوحي هو أصل الشريعة عند المسلمين. وقبل البحث فيها نقول كلمة لا بد منها في انتقاد عبارة فريد أفندي وهي: إن القارئ لها لا يكاد يفهم منها معنى محررًا يجزم بأنه هو مذهب الكاتب ومراده، بل يجد فيها من التعارض والإبهام والعسلطة ما لا يجزم معه بالمعنى المراد. ومثل هذا مما يتعسر نقده. ويسهل الجدل والمراء فيه. ولم أذكر هذا إلا لأن الضرورة قضت بذكره كما ستعلم. بدأ المدرس المقال بقوله: (لم يعتن المسلمون في الصدر الأول بشيء بعد تقرير الأصول الدينية بقدر ما اعتنوا بالأمور التشريعية) وفيه أن المسلمين لم يكن عندهم شيء يعبر عنه بالأمور التشريعية غير ما شرعه الله لهم من الدين على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وكما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الجاثية: 18) . وفريد أفندي جعل المسلمين شارعين، ولذلك قال بعد ما تقدم: (ثم لما اتسع نطاق العمران، واستدعت الأحوال تدوين شريعة شاملة لجميع الأصول والفروع اقتضت الحاجة أن ينبغ المشرعون الأولون من المسلمين كالأوزاعي والشعبي وسعيد ابن المسيب وأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد) ... إلخ، ثم قال: (فاختلف المشرعون الأولون) . وقال: فظلوا يشتغلون بأمر التشريع والتقنين. وقال: فاستحال أمر المتشرعين، والصواب أن هؤلاء لم يكونوا إلا رواة للحديث ومستنبطين منه ومن الكتاب، أي: مبينين ما يفهمونه منهما للناس، وناقل الشريعة ومفسرها لا يسمى شارعًا، (ولا مشرعًا كما تقول الجرائد الآن) ، وإنما الشارع والمشترع (أو المشرع) هو واضع الشريعة. ويطلق الشارع في كتب المسلمين على الله - تعالى - لأنه واضع الشرع، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبينه عن الله - تعالى - ولم يعرف إلا منه. نعم يصح استعمال هذه الألفاظ في غير هذه المعاني لغة لا سيما لفظ التشريع فإنه يستعمل عند علماء الفنون العربية اسمًا لنوع من محسنات البديع. ولكن الموضوع ليس لغويًّا، وإنما الكلام في الشرع الإسلامي، فينبغي فيه اتباع اصطلاح أهله المأخوذ من القرآن إلا أن يخرج المتكلم عن صراطهم، ويجعل الشرع من وضع البشر. قال فريد أفندي في الأئمة الذين تقدم ذكرهم: فظلوا يشتغلون بأمر التشريع والتقنين، ويعقدون لذلك الدروس الحافلة حتى جاء القرن الثالث، وكان قد طرأ ضعف في أمر الحكومة انتقلت به إلى شكل حكومة مطلقة مستبدة بعد أن كانت شورية دستورية. فاستحال أمر المتشرعين الإسلاميين إلى حفظة أقوال المتقدمين، وبطل الاجتهاد؛ لعدم نبوغ العلماء الضليعين، وأصبح رجال العلم تبعًا لرجال السياسة في الأهواء والميول، فتوالى الضعف على هيئتهم شيئًا فشيئًا، حتى تولاهم العجز بأخص معانيه، فاصطلحوا على عدد من الكتب يقرؤونها، ويتفهمون عباراتها بدون نقد ولا محاكمة، وصار هذا معنى الدين والتمسك بالسنة في نظرهم. أقول: يفهم من قوله السابق (ثم لما اتسع نطاق العمران) ... إلخ، وقوله هذا أن تدوين الشريعة - أو التشريع على رأيه - قد كمل في وقت اتساع العمران قبل تحول الحكومة من الشورى إلى الاستبداد. ونحن نعلم أنه لم يدرك حكومة الشورى من أولئك الفقهاء أوالمشرعين على رأيه إلا سعيد بن المسيب؛ لأنه تابعي ولد في خلافة عمر وهو لم يدون شيئًا، والباقون كانوا في زمن بني أمية وبني العباس وحكوماتهما استبدادية بلا نزاع على أن العمران كان في زمنهما أكثر نموًّا. ثم إن علماء القرن الثالث لم يكونوا كما ذكر، بل ولا القرن الرابع ولا القرن الخامس، فالفقه ما اتسع نطاقه إلا في هذه القرون، وإن كان الفضل للمتقدم، ولعلنا نبين ذلك إن مارانا فيه ممارٍ. ثم قال فريد أفندي: (نحن في هذا الدرس سنعمل على فهم ما هي الشريعة في الاصطلاح الاجتماعي، وكيف تكونت الشرائع في مدى التاريخ؟ وكيف ترقت أصولها حتى وصلت إلى أرقى ما وصلت إليه اليوم؟ وكيف تكونت الشريعة الإسلامية القرآنية؟ وما مكانها من بين سائر الشرائع؟ وما معنى كونها خاتمة الشرائع؟ وماذا هو الاجتهاد؟ وكيف حصل الاستنباط؟ إلخ، ولنا في كل مبحث من هذه المباحث كلام في فلسفة الموضوع الذي نتكلم عليه، وآخر ما انتهى الرأي إليه، وتطبيق ذلك على روح القرآن، وإظهار إعجاز الشريعة الإسلامية من هذه الوجهات بأصرح بيان) اهـ. ونقول: هذه بضعة وعود منصوصة، وأشار برمز (إلخ) إلى وعود أخرى وبنى على الوعود وعودًا ولم يفِ بما وعد؛ إذ لم يكن باقي الدرس إلا كلامًا في العدل يتلوه كلام في معنى كون أصل الشرائع من الوحي، وإيراد اعتراضين على ذلك غير واردين، والجواب عنهما بما لا يدفعهما. وكلام في بناء القوانين على الأخلاق، وقد ذكرتنا هذه الوعود بقول الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - في كتابة فريد أفندي: إنها (مقدمات ووعود) . عرف العدل بأنه ما أدى إليه العقل من الأحكام وهذا غير صحيح؛ لأن الأحكام التي وصل إليها الناس بعقولهم: منها ما هو عادل، ومنها ما هو جائر. والحاكمون بها منهم العادل ومنهم الظالم، فالعدل أمر آخر لا محل للكلام فيه هنا ولم نذكره؛ لأنه مقصود بالذات. وإنما ذكرنا لأنه جاء عقبه بما يأتي: (هنا يلزمنا أن ننبه إلى موضوع خطير، وهو أن متشرعي أوربا عامة يعيبون علماءنا في اعتقادهم بأن أصل الشرائع الوحي، ولهم في ذلك علينا مطاعن في غاية الصرامة. ونحن هنا لا مناص لنا من حل هذه الشبهة، فنقول: القرآن الكريم توسع في معنى الوحي فلم يقصره على النبيين، بل أطلقه على أدنى درجات الانسياق الطبيعي الحيواني، فقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (النحل: 68) وإذا صح إطلاق الوحي على هذا الانسياق الفطري الحيواني صح من باب أولى إطلاقه على نتائج العقل الإنساني؛ لأن الله خالق كل شيء والباعث على كل شيء، فيكون لا تنافي بين قول متشرعي أوربا: إنّ الشرائع أصلها العقل. وبين قول علماء الإسلام: إنّ أصلها الوحي. إذا لم يقبل العلماء هذا الحل الموافق للكتاب والعلم، فقد تعرضوا لِشُبَهٍ لا مخلص لهم منها وهي: (أولاً) لو كان أصل الشرائع الوحي بمعناه السامي؛ لنزلت الشرائع الأولى حاصلة على العدالة بمعناها الخاص، والمشاهد بين حوادث التاريخ أن الشرائع بدأت مناسبة لعقل الإنسان وسذاجته ونقص أخلاقه. والله يتنزه عن ذلك. (ثانيًا) في الأرض أمم كثيرة في أدنى درجات التوحش، ولديها شرائع على حسب مداركها مطابقة في أصولها الأولية لشرائع الجمعيات البشرية الأولى، فلماذا نحكم بأن شرائع المتوحشين العصريين هي من تلقاء أنفسهم، وتلك الشرائع هي من الوحي، مع تشابهها في النقص والسذاجة؟) اهـ. افتجر فريد أفندي لعلمائنا قولاً لم يقولوه ولا قاله أهل مذهب منهم، وأورد عليه مطاعن عزاها إلى الأوربيين؛ ليدافع بكشف شبهتها عن الإسلام والمسلمين، فكان دفاعه - لو صح ما يسبق إلى الأذهان منه - من قبيل تلك المطاعن أو أشد منها. الظاهر من عبارة فريد أفندي الذي يفهمه منها القارئ؛ هو أن الوحي أصل كل شريعة وجدت في البشر، فكانت قانونًا يحكم بها الناس فيما يختلفون فيه، فعلى هذا يكون مما يعتقد المسلمون أن الأحكام التي كانت عليها العرب في الجاهلية وكذا غير العرب من الوثنيين - كلها مبنية على أصل الوحي الإلهي، وإنه لقول ينقضه الإسلام بكتابه وسنته ومذاهب أئمته نقضًا، وإنما يقول المسلمون كافة: إن الشرائع التي جاء بها الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام - هي من وحي الله - تعالى- لا من مخترعات عقولهم، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: 213) . فإذا كان فريد أفندي يريد من عبارته ما يدل عليه ظاهرها وهو أن المسلمين يقولون: إن أصول جميع الشرائع كان بوحي من الله، حتى شرائع الوثنيين المنحطين في الوثنية، أو الذين ارتقوا فيها كقدماء المصريين والكلدانيين والرومانيين، ثم يقول: إن علماء أوروبا يوجِّهون إلينا تلك المطاعن؛ لأجل ذلك. فقد أعلمناه أن هذا باطل، ونزيد على ذلك أن الأوربيين لا ينسبون إلينا هذا الاعتقاد، ولا يطعنون علينا به. ولو طعنوا لما دفع قوله طعنهم؛ لأن الوحي لا يصح إطلاقه على نتائج العقول وما تولده الأفكار، وإن صح إطلاقه على الإلهام الفطري. وإن أراد بأصل الشرائع ما يعتقد المسلمون أن النبيين المرسلين جاءوا به عن الله - تعالى - ودعوا الناس إليه على أنه وحي من الله، لا من عند أنفسهم، فقد صدق في حكاية اعتقادنا، وأن علماء أوربا يطعنون علينا بهذا الاعتقاد، بل لا يطعنون علينا إلا باعتقادنا أن أصل شريعتنا نفسها وحي من الله دون شريعة اليهود مثلاً، وحينئذ يكون دفعه لهذه المطاعن بما فسر به الوحي هو عين الهدم لأصل الإسلام، والتكذيب للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن ما نطق به القرآن، وا

آثار علمية أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آثار علمية أدبية (صدى مقال المنار في دعوة العلماء إلى نصيحة السلاطين) وشهادة موسيو وامبري للإسلام ترجم بعض فضلاء الترك مقالنا: (حال المسلمين في العالمين ودعوة العلماء إلى نصيحة الأمراء والسلاطين) الذي كتبناه في الجزء الخامس من مجلد المنار التاسع (ص357م9) باللغة التركية وطبعه باللغتين ووزعه في بلاد كثيرة، فكان له صدى استحسان وإعجاب من أصحاب الأفكار المستقلة من الترك وغيرهم، كما أكبره كثير من كتاب العربية وأظهروا استحسانه في الصحف المنشرة: كالمقتطف بمصر، ومرآة الغرب في أمريكا الشمالية، والمناظر في أمريكا الجنوبية وكتب إلينا غير واحد من كبراء الترك كَتْب الاستحسان والشكر. وقد أرسل مترجم المقال نسخة منه إلى العالم المجري الرحالة الشهير موسيو (وامبري) العالم بالتركية وكثير من اللغات الشرقية، فكتب إليه وامبري رقعة نقلنا صورتها بالزنكغراف، وهذه هي، ويليها ترجمتها. بغاية التدقيق قرأت الرسالة التي ترجمتوها، لقد أصبتم في أن إنقاذ الأمم الإسلامية، ولا سيما العثمانية من الظلم والاستبداد هو من عمل العلماء قبل كل أحد. إن روح نظام المسلمين هو الدين والذي أحياهم هو الدين والذي يكفل سلامتهم في المستقبل هو الدين ليس إلا، ولهذا أنتم خدمتم ملتكم جيدًا (بهذه الرسالة) ، ومتى سنحت فرصة، سأنشر رسالتكم في الجرائد الإفرنجية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد ملتكم القديم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وامبري *** (فرائد اللغة العربية) الكلم الذي يؤدي معاني الجمل (أبد) الشاعر- كضرب - أتى في شعره بالعويص، وما لا يعرف معناه. (أبر) الرجل الكلب - كنصر وضرب - أطعمه الإبرة في الخبز. وهكذا كانوا يشتقون من الأسماء الجامدة ما تعرض له الحاجة، ويجب أن يكون هذا مقيسًا كما هو مقتضى الطبع في كل لغة حية ومنها لغة العامة، فإنهم يشتقون بالسليقة من غير تكلف ولا مواضعة. يبدأ باشتقاق الكلمة من تعرض له الحاجة إليها أولا، من غير أن يفكر أنه زاد في اللغة كلمة أو كلمات، ويسري ما يشتقه بين الناس كأنه قديم، لا يتلفتون إلى حدوثه، ولا يسندونه إلى أول من تكلم به. (أبز) الإنسان - كضرب - استراح في عدوه ثم مضى. (أتنت) المرأة - كضرب - وآتنت وأيتنت: ولدت الولد منكوسًا؛ وهو أن تخرج رجلاه قبل يديه. (أبدأ) الصبي، خرجت أسنانه بعد سقوطها. (البدء) السيد الأول في السيادة، و (الثنيان) الذي يليه في السؤدد، فلا يقال البدء إلا فيمن انتهت إليه الرياسة في قومه. قال أوس بن معري السعدي يفتخر: ثنياننا إن أتاهم كان بدأهموا ... وبدؤهم إن أتانا كان ثنيانا والبدء أيضًا: الشاب العاقل المستجاد الرأي، والعظم بما عليه من اللحم والمفصل. (البديء) والبدي: البئر الإسلامية؛ أي: التي حفرت في الإسلام، فهي حديثة غير عادية كذا قالوا، والصواب أنها البئر الحديثة التي يعرف حافرها أو مالكها في أي زمن وأية أمه. (الخفية) البئر القديمة التي يعرف حافرها كزمزم. (القليب) البئر القديمة التي لا يعرف لَهَا رَبّ ولا حافر. (الركي البدي) هي البئر ماؤها ظاهر بارز. وهو على حد عيشة راضية. (الركي الغامد) هي البئر المغطى ماؤها بالتراب. (الركي البكي) ويقال ركية بكية إذا نضب ماؤها، وهو تشبيه بالناقة القليلة اللبن وأصله بكيئة. يقال بكؤت الناقة إذا قل لبنها، ويقال بكؤت عينين إذا قل دمعها وهو مجاز. (البراء) بالفتح كسماء أول ليلة من الشهر، وابن البراء أول يوم منه. *** (الإنجيل الصحيح) أو إنجيل برنابا لعل قراء المنار يذكرون أننا نشرنا في المجلد السادس ترجمة مقدمة كتاب الفيلسوف تولستوي الروسي المسيحي لكتابه الذي سماه (الأناجيل) تحت عنوان (الإنجيل الصحيح) ، ونعيد لهم الآن من تلك المقدمة الطويلة المنشورة في عدة أجزاء هذه الجملة الوجيزة: (ولا ينبغي للقارئ أن ينسى أن هذه الأناجيل بشكلها الحاضر، لا تتضمن ألبتة شهادة الحواريين وتلاميذ عيسى مباشرة، وأنَّ القول بذلك من الخرافات التي لا تصبر على محك النقد، فضلاً عن عدم بنائها على أدنى أساس سوى رغبة نفوس أرباب التقوى والورع في أن تكون كذلك. فقد توالت القرون، والناس يدونون الأناجيل، ويهذبون موضوعاتها، ويتوسعون في عباراتها، ويشرحون أقوالها، فإن أقدم النسخ التي وصلت إلينا قد تمت كتابتها في القرن الرابع للميلاد، وهي مكتوبة على نسق واحد من أولها إلى آخرها، أي بلا فواصل ولا غير ذلك من الإشارات التي تستعمل لإيضاح الكلمات وبيان الجمل؛ ولذلك دعت الضرورة حتى بعد القرنين الرابع والخامس إلى تفسيرها بطرائق متخالفة من كل الوجوه، وصارت نسخ هذه الأناجيل تقارب الخمسين ألفًا) . هذا ما قاله الفيلسوف، ونقول: إن رجال الدين قد اختاروا من بين الأناجيل الكثيرة تلك الأربعة المشهورة، ورفضوا ما سواها بالتدريج. ويقال: إن بعض مذاهب النصرانية القديمة، كانت تتمسك ببعض الأناجيل المرفوضة عند أهل المذاهب المعروفة الآن. ومن الأناجيل التي رفضتها الكنيسة إنجيل برنابا أحد حواري المسيح عليه السلام، وقد فقد كثير من الأناجيل المرفوضة بتتبع الكنيسة لها، وقضائها عليها أو إخفائها لها. ولكن إنجيل برنابا مما بقي تحت حجاب الخفاء حتى لم يطَّلع عليه إلا بعض الباحثين من العلماء، وما زال هؤلاء الباحثون الذين لا يصدهم شيء عن إحياء الآثار القديمة، يتوقعون الظفر بنسخة من هذا الإنجيل؛ لينشروها بين الناس حتى صدق عليهم قول الشاعر: قل من وجد في أمر يحاوله ... واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر ظفروا بنسخة باللغة الطليانية، كانت قد سرقت من مكتبة الفاتيكان التي يوجد في خزائنها السرية من الكتب ما لا يوجد في غيرها؛ لما كان للبابوات الذين جمعوها من النفوذ والسلطان في الممالك النصرانية. ترجمت هذه النسخة بالإنكليزية، وطبعت في هذا العام بمدينة أوكسفورد باللغتين معًا، وتفضل الطابع لها بإهدائنا نسخة منها فشكرًا له. رأينا هذه النسخة توافق الأناجيل الأربعة المشهورة في كثير من مسائل التاريخ والإرشاد، وتخالفها في أهم القواعد والمسائل: كالتعبير عن المسيح عليه السلام بعبد الله ورسوله، وبيان أنه لم يصلب، والبشارة الصريحة عنه بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتصريح بكون الذبيح إسماعيل لا إسحاق (عليهما السلام) . أردنا أن نحيي هذا الأثر بلغتنا، كما أحياه الإفرنج ببعض لغاتهم (ولابد أن يحيوه بسائرها) ، فكلفنا صاحبنا الدكتور خليل بك سعاده أن يترجمه لنا بالعربية، لما نعهد فيه من البراعة في اللغة الإنكليزية، فطفق يترجم، وأنشأنا نطبع شركة بيننا، واخترنا أن تكون الترجمة عن الإنكليزية حرفية لا تصرف فيها. ولكننا زدنا على الأصل عدد الجمل بالأرقام لكل فصل؛ لأجل سهولة المراجعة عند النقل منه، ولا يلبث الإفرنج أن يفعلوا ذلك. وهاك ما قاله برنابا في مقدمة إنجيله كما جاء في الأصل: الإنجيل الصحيح ليسوع المسمى المسيح نبي جديد مرسل من الله إلى العالم كما رواه برنابا رسوله برنابا رسول يسوع الناصري المسمى المسيح، يتمنى لجميع أهل الأرض سلامًا وتعزية. أيها الأعزاء، إن الله العظيم العجيب، قد بعث إلينا في هذه الأيام الأخيرة بنبيه يسوع المسيح برحمة عظيمة؛ للتعليم. والآيات التي اتخذها الشيطان ذريعة؛ لتضليل كثيرين تحت ستار التقوى، مبشرين بتعليم شديد الكفر، داعين المسيح ابن الله، رافضين الختان الذي أمر به الله دائمًا، مجوزين كل لحم نجس، الذين ضل من عدادهم أيضًا بولس الذي لا أتكلم عنه إلا مع الأسى، وهو السبب الذي لأجله أسطر ذلك الحق الذي رأيته وسمعته أثناء معاشرتي ليسوع؛ لكي تخلصوا، ولا يضلكم الشيطان فتهلكوا في دينونة الله، وعليه فاحذروا كل أحد يبشركم بتعليم جديد مضاد لما أكتبه، لتخلصوا خلاصًا أبديًّا. وليكن الله العظيم معكم، وليحرسكم من الشيطان ومن كل شر آمين اهـ. أقول: ومن المأثور عن القوم أن بولس أدرك برنابا وسافر به إلى بعض البلاد التي نشر فيها تعليمه وفلسفته الدينية. فالظاهر من هذه المقدمة أن برنابا رآه خالف ما يعرف هو عن المسيح بالمشاهدة والتلقي فارقه، وكتب هذا الإنجيل؛ لأجل بيان حقيقة ما دعا إليه المسيح وما بشر به. *** (حياة الزوجين) كتاب (اجتماعي أدبي اشتمل على آداب حياة الزوجين، وما يجب على كل منهما نحو صاحبه، وعلى ما تضمنته أسفار الحكماء وأسطورات العلماء، ما تتضح به مناهج السعادة وقواعد الهناء لهما. تأليف مصطفى أفندي عبد اللطيف أحد موظفي مصلحة البوستة المصرية بالقاهرة) . إذا نظرت في فهرس هذا الكتاب، رأيت من أسماء المباحث فيه ما تقول: إنه ينبغي لعامة القراء أن يطلعوا عليه، كالكلام في الزواج وفوائده، ومبادئ الزواج المشروع، وماذا يجب على المرأة لزوجها من الطاعة والنشاط، وحسن الخلق والبشاشة والنظافة والاقتصاد وغير ذلك، وما يجب على الرجل لزوجه أيضًا. ويلي ذلك باب الوصايا وفيه إحدى عشرة وصية، ويليه بحث تأثير المرأة في الهيئة الاجتماعية وبحث تربية البنات، ووجوب تعليم المرأة وهو فصل في نصائح فيلسوف لبنته، ويا لها من نصائح حكيمة. لم يستبد مؤلف هذا الكتاب برأيه فيما كتب، بل اقتبس من الكتب والمجلات فوائد كثيرة عزاها إليها. ولعله نسي أن يعزو إلى المنار منها تلك العبارة التي ترجمها الأستاذ الإمام عن مذكرات البرنس بسمارك، فمن اطلع على هذا الكتب الوجيز، قرأ ما لا يتيسر له الاطلاع عليه غالبًا إلا إذا كان مقتنيًا لأشهر المجلات العربية، وإننا برؤية فهرسه وتصفح بعض صفحاته، نحكم بأن ما فيه من الفوائد النافعة مما ينبغي أن يذاع ويقرأ في البيوت على النساء والبنات. ويباع في مكتبة المنار وغيرها من المكتبات الشهيرة، وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة. *** (أقوال الجرائد في تاريخ الأستاذ الإمام) أصدرنا جزء المنشآت وجزء التأبين والرثاء من هذا التاريخ معًا، وإن كان قد تم طبع أحدهما قبل الآخر بعدة أشهر، وأهديناهما إلى الجرائد اليومية بالقاهرة في يوم واحد، وإننا نذكر بعض ما كتب عنه في جرائد المسلمين والقبط والسوريين ثم نذكر ما كتبته جريدة روسية عن الجزء الثالث؛ ليعتبر القارئ العاقل بما يرى من الاختلاف فيها. قالت الجريدة في ع 88 الصادر في 11ج 1 سنة 1325 و22 يونيو سنة 1907: (تاريخ الأستاذ الإمام) تم الآن طبع جزأين من هذا التاريخ الذي كان يترقب ظهوره كل مصري يعترف بفضل المرحوم الشيخ محمد عبده، وليس المعترفون به قليلين. هذان الجزءان هما الثاني والثالث. أما الأول فسيتم طبعه في هذا الصيف. والثاني يحتوي على بعض رسائله ومقالاته التي نشرت في الجرائد، ولوائحه في إصلاح التربية والتعليم الديني، ومدافعته عن الدين، ورحلته إلى صقلية، وعلى كتبه ورسائله إلى العلماء والفضلاء في الموضوعات المختلفة، وعلى بعض حكمه المنثورة. والثالث يحتوي على تآبين الجرائد والفضلاء، ومراثي المحبين من الأدباء، جمعهما الفاضل الشهير الأستاذ محمد رشيد رضا أحد كبار تلاميذ المرحوم الأستاذ الإمام. وهو يكتب الآن الجزء الأول الذي يحتوي على سيرة المرحوم وترجمة حياته. إن الإمام - رحمه الله - شغلته الشواغل الكثيرة المتعلقة بالخدمة العمومية عن التأليف. ولكن هذا الجزء الثاني المحتوي على مكتوباته المتنوعة، يهدينا مؤلفًا كبيرًا من ذلك القلم الذي بعث روح حياة جديد

بدعة غريبة في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بدعة غريبة في مصر يقولون: إن مصر بلاد العجائب وأي العجائب أغرب مما يحدث في مصر يقوم شيخ عالم كالشيخ حسن علي الدمياطي ينكر بعض البدع والخرافات التي فشت في المسلمين، فيقيم عليه النكير العلماء وأنصارهم من العوام، ويعاقب بمنع رزقه الذي يستحقه شرعًا من الأوقاف، ومنعه من تعليم المسلمين وإرشادهم سنة كاملة. ويقوم شيخ آخر كالشيخ عبد الرحمن عليش فيبتدع بدعة جديدة في الإسلام هي من أغرب البدع وأنكرها، فلا يلقى من العلماء إنكارًا ولا من الأمة نفارًا، وما أظن أن أحدًا سبق هذا الشيخ إلى وقف المساجد على الأموات من غير المسلمين؛ لأجل الصلاة على أرواحهم. وكيف وإن وقفها على أموات المسلمين أنفسهم من البدع التي لا يعرفها كتاب الإسلام، ولا تقبلها سنة نبيه عليه الصلاة والسلام. اسم الشيخ عليش الكبير- رحمه الله - مشهور في مصر وفيما جاورها من البلاد؛ بما كان عليه من التحمس والتشدد في الدين، على كونه من أشهر علماء الأزهر المعمرين، وقد بلغ من تحمسه أنه لما بلغه أن السيد محمد السنوسي - رحمه الله تعالى - يقول بالاجتهاد أخذ حربة وقصد إليه ليطعنه بها لما كان بمصر وأنه لما وشى إليه أحد أولاده بالشيخ محمد عبده - رحمه الله - عندما كان يقرأ العقائد النسفية (وهو مجاور بالأزهر) ، قائلا: إنه رجَّح مذهب المعتزلة على مذهب الأشعري ثار عليه وعلى أستاذه الأفغاني، وكان طول حياته حربًا لحكيم الإسلام وللأستاذ الإمام وللسيد السنوسي، وإن هؤلاء الثلاثة لأعظم مسلمي هذا العصر أثرًا في الإسلام. ما أبعد الفرق بين الشيخ عليش في تحمسه الديني وغيرته على الإسلام في مذاهبه وتقاليده وبين أولاده وأحفاده الذين لم يرثوا منه علمًا ولا خُلُقًا، فهم أول من مثَّل الإسلام أمام الإفرنج في معرض الهزء والسخرية؛ إذ جمعوا لهم بعض الزعانف المنتسبين إلى الطريق، وجعلوا يرقصون ويذكرون؛ ليصورهم الإفرنج في تلك الحالة، ويثبتون صورهم في الكتب مبينين أن رقصهم على تلك الصفة الشنيعة من عبادات الإسلام. ثم بلغنا في العام الماضي أن الشيخ عبد الرحمن عليش قد وقف قطعة أرض بحارة الجوار القريبة من الأزهر بنى فيها مسجدًا باسم همبرتو الأول ملك إيطاليا لتقام الصلوات فيه عن روح الملك المتوفى ويكون تذكارًا له، وسلمه لحكومة إيطاليا، وهي بدعة غريبة لا يعرف لها نظير في الإسلام. وفي تلك السنة رفع الشيخ محمد عبد ربه قضية على الشيخ عبد الرحمن عليش بأن له حقًّا في الأرض التي بني فيها المسجد، فهي أرض مغصوبة. فكان مما قدمه المحامي عن الشيخ عبد الرحمن عليش إلى المحكمة من الأوراق التي يسمونها المستندات ما يأتي بنص الحافظة التي حفظها له المحامي وغلطها اللغوي: عدد ترجمة مُوَقَّع عليها بإمضاء مترجم أول الوكالة السياسية الإيتالية بمصر محمد بيك علي علوي مؤرخه في 16 مارس سنة 1906 تفيد أن الشيخ عبد الرحمن عليش المدعى عليه بناء مسجد، وأعطاه للحكومة الإيتالية ورقة باللغة الأجنبية ترجمة المشروح أعلاه. خطاب باسم الشيخ عبد الرحمن عليش مؤرخ في 21 فبراير سنة 1906، يفيد تشكر قنصل إيتالية بالنيابة عن الوزارة الخارجية الإيتالية لحضرة الشيخ عبد الرحمن عليش؛ نظير تبرعه بقطعة أرض من أملاكه للحكومة الإيتالية؛ ليقام عليها مسجد تقام فيه الصلوات الخمس على روح الملك. (3) فقط ثلاثة أوراق لا غير تقدموا لمحكمة السيدة زينب بحافظه بإمضاء محمد زكي عبد المجيد المحامي بمصر 22 -3 سنة 1906 ترجمة نمرة 1 حافظة الوكالة السياسية الإيتاليه تعترف: أن الشيخ عبد الرحمن عليش الكبير بَنَى في حارة الجوار بخط الأزهر جامعًا باسم جلالة الملك همبرترالأول وتذكارًا له، والجامع المذكور أعطاه للحكومة الإيتالية هذه الترجمة طبق الأصل. 16 - 2 سنة 899 - قنصل جنرال دولة ... ... مترجم السياسة بمصر ... ... ... إيتالية والوكيل السياسي ... محمد علي علوي ... ... ... بمصر المستر سلفاخس ... ... ... ... راحي ... ... ... ... ختم القنصلية (المنار) ويلي هذا صورة كتاب شكر من عميد دولة إيطاليا بمصر للشيخ عبد الرحمن عليش. وكتبت جريدة الأخبار في هذا الشهر شيئًا في هذه المسألة، علم منه أن حكومة إيطاليا مغبوطة بموالاة الشيخ عبد الرحمن عليش لها وموادته إياها، وأنهم أخذوا عنه صورة شمسية عرضوها في بعض جرائدهم. وعظَّمت شأنه جريدة الأخبار تبعًا لهم، فجعلته من العلماء الذين لهم الشأن والنفوذ وما هو منهم في شيء ولا نفوذ له، بل لا يكاد يعرف. وقد نمى إلينا أن إيطاليا تستعين بموالاة هذا الشيخ لها، وبما تعظِّم من شأنه بالباطل على تأييد نفوذها فيمن استولت عليهم من المسلمين، وفيمن تطمع بالاستيلاء عليهم كأهل طرابلس الغرب وأهل اليمن، فإن لها يدًا خفية في فتنة اليمن، ولها طمع في تلك الولاية تغذيه وتنميه في نفسها إنكلترا فيما يقال. ولكن أجهل المسلمين لا يعتد بشيخ يقف مسجدًا؛ لتصلى فيه الصلوات الخمس على روح ميت غير مسلم، بل ولا ميت مسلم، بل ولا نبي من الأنبياء، فإن الصلوات الخمس عند المسلمين لا تكون إلا خالصة لله وحده. وأما الصلاة على الأنبياء التي يخصون بها الأنبياء فهي الدعاء بمثل: اللهم صل على محمد، أو صلى الله عليه وسلم عند ذكره. فهل يعتد به أهل اليمن أو طرابلس وفيهم العلماء والعارفون؟؟ ليس ما فعله عبد الرحمن عليش من التساهل الديني الذي يجعلونه التعصب الذميم، بل هو من تساهل الجهل والتهاون والعبث بالدين. وقد يفهم جهلة العوام ولو بعد حين أن نسبة المسجد إلى همبرتو، كنسبة غيره إلى بعض الأولياء كالدسوقي والبدوي والحنفي، ولا يبعد أن يبنى له فيه قبر للملك يزار، ويضمه إليه عباد القبور.

العسر المالي والربا والبنوك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العسر المالي والربا والبنوك أصيبت بلاد مصر في هذه السنة بنقص في المال، وعُسر في التجارة بالعقار والعروض، وغلت دونها أيدي أصحاب البيوت المالية في أوربا فأفلس كثير من الأغنياء فيها، ولم يبق صنف من أهلها إلا وقد ذاق مرارة العسر، ومسه ألم الضر، وينتظر الناس الآن موسم القطن - الذي تقدر قيمته في السنة بثلاثين ألف ألف جنيه أو تزيد إلى خمسة وثلاثين - وهم بين الخوف والرجاء - وإنما يخافون أن يعبث بالموسم الماليون الأوربيون، فيعظم الخطب ويعم الكرب. لقد صرنا إلى زمن لم يعرف له نظير في التاريخ - زمن يقبض على أعنة جميع مصالحه ومرافقه وسياسته أصحاب النقود فيصرفونها كيف شاؤوا، زمن صار فيه العلم بتصريف الأموال من أوسع العلوم وأدقها، زمن صارت فيه الأمم الفقيرة أذل الأمم، ودولها أضعف الدول، فالمال في هذا الزمان هو أساس القوة والعزة، وآلة السيادة والسلطة. يعسر على أمة تبغي النجاح في تحصيل الثروة ومباراة الأمم العزيزة بالغنى أن تصل إلى ما تريد من ذلك، ما لم تسلك سبل تلك الأمم، وإنها لسبل معبدة: منها القصد ومنها الجائر. وما الجائر إلا سبيل القمار والربا لا سيما المضاعف أو المركب، والقمار والربا محرمان في الإسلام تحريمًا غليظًا. فمن ثم كانت الشعوب الإسلامية اليوم في حيرة، لا تدري كيف تعيش مع هذه الأمم الإفرنجية التي تنازعها الوجود مع عدم مجاراتها في سبل الثروة، ولا كيف تجاريها مع الاحتراس من الربا بأنواعه. لو أن للإسلام دولاً قوية، وشعوبًا غنية يمكنها أن تستغني عن أوربا، أو أن تجعلها تابعة لقوانينها، أو تلجئها إلى اتباع مدنيتها؛ لسهل عليها أن تسلك في جمع الثروة والتصرف فيها مسلكًا يقرن المصلحة بالفضيلة؛ فضيلة الرأفة بالبائس الفقير، وإسعاده في الأمر العسير، وما الحيلة وليس لنا دولة عزيزة قوية، في أمة عالمة غنية، وأوربا تمتص دماءنا حتى كادت تذهب بلحومنا. لم يجد حكامنا حيلة لمنع الربا فأباحوه لرعيتهم في قوانينهم، وتعاملت به دولهم حتى إن السلطان عبد الحميد الذي حرص على لقب الخلافة حرصًا لم يسبقه به سابق، يأكل الربا ويؤكله، ومثله في ذلك أمير مصر. وأكثر المسلمين لا يأكلون الربا. ولكنهم يؤكلونه فيدلون بأموالهم إلى الأجانب، وذلك شر من أكل الربا منهم، بل شر الأقسام التي تتصور في معاملة الربا وأشدها ضررًا وأعظمها خطرًا. ذلك أن لهذه المعاملة صورًا نذكر أهمها ومنه يعلم باقيها - أحدها أن لا تأكل من أحد ولا تؤكل أحدًا - ثانيها أن تأكل من الأجنبي خاصة ولا تؤكل أحدًا - ثالثها أن تأكل من الأجنبي وغيره ولا تؤكلهما - رابعها أن تأكل منهما جميعًا وتؤكل الثاني دون الأول - خامسها أن تأكل منهما جميعًا وتؤكلهما كذلك - سادسها أن تأكل منهما وتؤكل الأجنبي فقط - سابعها أن تؤكل غير الأجنبي ولا تأكل من أحد - ثامنها أن تؤكل الأجنبي خاصة ولا تأكل منه. فأفضل هذه الأقسام وأشرفها أولها. وأخسها وأشدها ضررًا ثامنها. وما بينهما من الأقسام مرتبة على حسب درجاتها من الضرر في الأمة، الثالث شر من الثاني وهكذا، وأكثر المسلمين الذين يتعاملون بالربا، قد اختاروا شرها على الإطلاق، ثم ما يقرب منه. إذا كان كل ما اشترطه الفقهاء في جواز المعاملات المالية، كالبيع والصرف والقرض والحوالة والشركة دينًا يجب اتباعه في كل زمان ومكان، ويكون التارك لشيء منه عرضة لغضب الرحمن، فما أشد الحرج على المسلمين في هذا الزمان، بل ما أكثر الفسوق فيهم والعصيان، فإنه لا يكاد يوجد في الألف أو الألوف من التجار وغير التجار واحد يراعي تلك الشروط والأحكام في معاملاته، وما ذاك إلا أن في مراعاتها حرجًا شديدا، وعسراً عظيما، وإذا قلت أيضا: إن في معرفتها لحرجًا، لم تكن بعيدًا من الصواب، ولولا الحرج لما قل العالمون بها، وقل العاملون في هؤلاء العالمين أو فقدوا. السواد الأعظم من المسلمين يسلمون بأن تلك الأحكام الفقهية كلها دين إلهي. ولكن هذا التسليم مبني على أساس التقليد الواهن لا سلطان له على النفس، ولذلك لم تعمل به، ولما كان الاعتقاد بحرمة الربا اعتقادًا صحيحًا مؤيدًا بنص الكتاب العزيز ترى أنه يقل في المسلمين من يقدم على أكل الربا، ولا تقل: وكيف يؤكلونه بما يقترضون، ولا يأكلون بما يقرضون؟ فإنك تعلم أن الاقتراض بالربا لم يرد به نص الكتاب، وإنما جاء تحريمه في الحديث. وقد يستنبط من الكتاب استنباطًا ومكان ذلك من النفوس دون مكان النص قوة وتأثيرًا، ثم إن الضرورة قد تلجئ المحتاج إلى الاقتراض، ولا ضرورة تلجئ الغني إلى الاقتراض، فإن كان الفقيه لا يرى تلك الضرورة صحيحة شرعًا فإن المقترض يراها صحيحة، وهو مسوق للعمل بما يرى ويعتقد دون ما يرى غيره، ولا ينفك خاصة الناس وعامتهم يجتهدون فيما يعرض لهم، ويعملون باجتهادهم مهما ضيقت مقلدة الفقهاء في منع الاجتهاد، ولا يمنع ذلك أن يكون التقليد هو الغالب عليهم. لولا التقليد لوجد المسلمون المخرج في شريعتهم من كل حرج وعسر، فإن من قواعدها الأساسية في نص الكتاب: نفي الحرج والعسر في الأحكام وإرادة اليسر فيها. قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6) وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) وفي الحديث (لا ضرر ولا ضرار) رواه مالك في الموطأ مرسلاً وأحمد، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ومن ثم كان من قواعد الفقه أن المشقة تجلب التيسير وأن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه إذا ضاق الأمر اتسع. يقول كثير من أهل الرأي: إن العسر المالي الذي مدت في البلاد أطنابه، وضربت في أرضها أوتاده، ويخشى أن يصير شره المستطيل مستطيرًا، فيجعل ثروة الأمة هباءً منثورًا، يمكن مقاومته بإنشاء بنك وطني ينتزع بأيدي أغنياء البلاد بعض ما عليه ماليو الأجانب من الأثرة والاستبداد، والتحكم في معايش العباد، فقام في وجوههم آخرون يقولون: إن دين الإسلام لا يسمح لأهله بأن ينشئوا لهم بنكًا؛ لأن البنوك هي بيوت الربا كل معاملاتها أو جلها بالربا، فرد ذلك بعض المقترحين قائلاً: إن البنك الذي نقترحه ليس من نوع بنوك الصيارف التي تنشأ؛ لأجل الإقراض بالربا الفاحش أو غير الفاحش. وإنما هو من نوع البنوك الكبرى التي هي واسطة بين أرباب الأموال في مداولتها بينهم بقبول حوالة هذا، وتحصيلها من ذلك بأجرة معينة، وإيصال ما يريد إرساله أهل بلد إلى آخر بأجرة أيضًا، وليس هذا من الربا المحرم علينا بالنص، ولا نريد بنكًا أكثر من هذا. قال بعض المعترضين: إننا نشك في كون هذا ليس من الربا المحرم، وإننا نطلب من العلماء بيان ذلك. لجأوا إلى العلماء المعروفين بالفقهاء، وباب الربا عندهم أوسع من الأرض والسماء، فإنه يطلق عندهم على جميع البيوع الفاسدة، والمعاملات المالية التي لا تنطبق على الشروط المدونة. وباب الاجتهاد عندهم مقفل، بل مسدود والفتوى بالقواعد العامة: كمراعاة المصالح، وتقدير الضرورات من عمل المجتهد المفقود. على أن الحلال بَيِّنٌ والحرام بَيِّنٌ، والرجوع إلى النص وآراء المجتهدين أمر هين وإن كانوا يريدون من العلماء إقناع العوام، لا معرفة الحلال والحرام، فما هم بمدركي فتوى رسمية ولا حيلة فقهية. هذه مسألة من أكبر المصالح العامة التي ينبغي أن تنظر فيها الجماعة، المعبر عنها في الكتاب بأولي الأمر؛ أي: أصحاب الشأن في الأمة؛ ليستنبطوا حكمها بمقتضى قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وليس أصحاب الأمر هم الملوك والأمراء ولا طائفة الفقهاء؛ إذ لم يكن مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند نزول الآية ملوك يحكمون، ولا فقهاء يفتون وإنما كان هناك جماعة من أصحاب الشأن في الأمة العارفين بمصالحها، المعروفين بحسن الرأي فيها، وهم يوجدون في كل أمة بحسب حالها، فأولو الشأن والرأي في المصريين الآن يتألفون من عدة أصناف رجال مجلس الشورى، وقضاة المحاكم العليا من شرعية وأهلية، والمحامون وأصحاب الجرائد، وكبار المدرسين والمزارعين والتجار. فأقترح أن تتألف لجنة من هؤلاء الأصناف، وتنظر في هذا الأمر، هل هو ضروري للأمة؟ فإن كان ضروريًّا وضعوا له قانونًا أول مواده منع الربا المضاعف المحرم بالنص القطعي؛ لشدة ضرره وهو لا ضرورة إليه، ونظروا فيما عدا ذلك من أعماله التي لابد منها، هل فيها شيء من ربا الفضل الذي حرم؛ لسد الذريعة إلا لذاته كما في (أعلام الموقعين) ؟ فإن كان فيها شيء من ذلك، فهل وصلت الضرورة فيه إلى حد يجوز العمل بقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) أم لا؟ قال الإمام ابن القيم: (الربا نوعان: جلي وخفي. فالجلي حُرِّم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حُرِّم؛ لأنه ذريعة إلى الجلي. فتحريم الأول قصد، وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجلي فربا النسيئة: وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل: أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال، حتى تصير المائة آلافًا مؤلفة وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا مُعْدَم مُحتاج، فإذا رأى المستحق يؤخر مطالبته، ويصبر عليه بزيادة يبذلها له، تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت فيشتد ضرره وتعظم مصيبته، ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوة على غاية الضرر، ثم أطال وأورد آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) . وأورد بعد هذا فصلاً في ربا الفضل الذي حُرِّم لسد الذريعة: وهو أن يبيع الدرهم بدرهمين مثلا، وذكر الخلاف فيه، وأن بعض الصحابة جَوَّزَه، وبَيَّن أنه ككل ما حرم لسد الذريعة قد يباح للمصلحة (راجع ص 203 من أعلام الموقعين) . وأنت تعلم أن باب المصلحة أوسع من باب الضرورة. وأساس المعاملات في الشريعة أن كل محرم ضار، وكل نافع حلال؛ ولذلك علل الكتاب حرمة الربا بقوله: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ولكن أكثر معاملات البنوك لا ظلم فيها، بل منها ما فيه الرحمة للمتعاملين، فإن العاجز عن الكسب إذا ورث مالاً وأودعه فيه بربا الفضل، يستفيد هو والبنك معًا. وتبحث اللجنة في سائر فروع المسألة، وتمضي الأمة ما تقرره اتباعًا لهداية القرآن، وتثبت للعالمين أن شرع الإسلام موافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان.

أسئلة من القاهرة عن الربا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من القاهرة عن الربامن 32 - 35 فضيلة الأستاذ العلامة صاحب مجلة المنار الغراء السلام عليكم. وبعد، فأرجو من فضيلتكم أن تكشفوا النقاب عن هذه الأسئلة الآتية: ولكم مني مزيد الشكر سلفًا. (1) هل ربا الفضل جائز مطلقًا؛ فإن كان بعضه جائزًا وبعضه غير جائز، فتفضلوا بشرح مستوف بفرق الجائز من غير الجائز؟ (2) ما قولكم في حديث أبي أسامة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ربا إلا في النسيئة) أيعتبر منسوخًا بحديث أبي سعيد الخدري الذي روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز) أم كيف يمكن الجمع بين الحديثين؟ (3) في صحيح البخاري أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء هاء، والبُّر بالبُّر ربا إلا هاء هاء، والشعير بالورق ربا إلا هاء هاء، والثمر بالتمر ربا إلا هاء هاء) . من هذا الحديث يتبين لدينا أربع صور، ونشاهد في ثلاث منها التجانس في البدلين وفي الرابع اختلاف فيهما؛ لأن الشعير غير الورق فما حكم بيع الشعير بالورق المقصود من هذا الحديث؟ وما العلة في اختلاف هذه الصورة عن الصور الأخرى؟ (4) جاء في حاشية ابن عابدين (ج4 ص 243 هامش مطبعة بولاق) تحت مطلب (كل قرض جَرَّ نفعًا حرام) هذه العبارة بحروفها، وفي معروضات المفتي أبي السعود لو ادَّان زيد العشرة باثني عشر بطريق المعاملة في زماننا بأزيد من عشرة ونصف، ونبه على ذلك ... إلخ. من هو هذا السلطان الذي أصدر الأمر المذكور؟ وفي أي زمن كان؟ وما دواعي إصداره له وأَنَّى نجد صورة الأمر؟ ثم من هو شيخ الإسلام المشار إليه، وهل يمكنكم أن تفيدونا - أثابكم الله - بنص فتواه، عسانا نقف على الأسباب التي بنى عليها الفتوى؟ ... ... ... ... وتفضلوا في الختام بقبول فائق احتراماتي أفندم ... ... ... ... ... طالب بمدرسة الحقوق الخديوية (المنار) أما الجواب عن الأول، فقد نقل المحدثون أن السلف - رضي الله عنهم - قد اختلفوا في ربا الفضل، فأجازه ابن عمر وابن عباس وأسامة بن زيد وابن الزبير وزيد بن أرقم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير مطلقًا، ونقلوا عن ابن عمر أنه رجع عن ذلك، واختلفوا في رجوع ابن عباس، وحجتهم حديث أسامة المذكور في السؤال وهو في الصحيحين، والجمهور على خلافهم وحجتهم حديث أبي سعيد الذي تقدم في السؤال أيضًا وهو في الصحيحين، وإنما جعل مدار الخلاف في ربا الفضل على الأحاديث؛ لأن الربا المحرم في القرآن هو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية وهو أن يزيدوا في المال كل شهر كما قال ابن حجر في الزواجر؛ لأجل الإنساء أي: التأخير في الأجل حتى يتضاعف أضعافًا كثيرة. وفي حديث جابر عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى عبدًا بعبدين. وفي حديث عبد الله بن عمر عند أحمد وأبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (ابتع علينا إبلاً بقلائص من إبل الصدقة إلى محلها) ، قال: فكنت أبتاع البعير بقلوصين وثلاث قلائص من إبل الصدقة إلى محلها. ثم ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أداها من إبل الصدقة عندما جاءت. وهناك روايات أخرى في موطأ مالك ومسند الشافعي، وعند البخاري تعليقًا في شراء الحيوان بالحيوان مع التفاضل، بل والنسيئة، وهذا مما يقول الجمهور بجوازه على أنهم رووا النهي عنه من حديث سمرة وحديث جابر بن سمرة. فهذا نوع من ربا الفضل، قد أجازه الجمهور. وأما الجواب عن الثاني وهو تعارض حديث أسامة (لا أبي أسامة كما ورد في السؤال) ، وهو (لا ربا إلا في النسيئة) واللفظ للبخاري، ولفظ مسلم: (إنما الربا في النسيئة) ، وحديث أبي سعيد: (لا تبيعوا الذهب) ... إلخ كما ذكر في السؤال، فقد قال الحافظ في فتح الباري: واتفق العلماء على صحة حديث أسامة واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد، فقيل: إن حديث أسامة منسوخ. لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال وقيل: المعنى في قوله: (لا ربا) الربا الأغلظ الشديد التحريم المتوعد عليه بالعقاب الشديد، كما تقول العرب: لا عالم في البلد إلا زيد مع أن فيها علماء غيره، وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل، وأيضًا نفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة، إنما هو بالمفهوم، فيقدم عليه حديث أبي سعيد؛ لأن دلالته بالمنطوق، ويُحمل حديث أسامة على الربا الأكبر. اهـ. والقول بالنسخ أضعف الأقوال، والقول بترجيح المنطوق على المفهوم كما ترى غريب في هذا المقام، وإذا قلت: إن المنفي في صيغ الحصر منفي بالمنطوق، كنت أقرب إلى الصواب، وإلا لما كان نفي الألوهية عن غير الله في كلمة التوحيد إلا من قبيل المفهوم الذي تعرف ما قال فيه أهل الأصول، فبقي القول بأن حصر الربا في النسيئة هو الربا الحقيقي الذي ورد فيه الوعيد الشديد في القرآن، وهذا هو الجمع الذي جرى عليه المحققون، كابن القيم وقال: إن ربا الفضل لم يُحرَّم لذاته، وإنما حرم لسد الذريعة. وعلى هذا يكون الربا الذي ورد عليه الوعيد في القرآن خاصًّا بربا النسيئة المعهود في الجاهلية، ولا يدخل فيه ربا الفضل خلافًا لبعض الفقهاء، ولو تناوله القرآن بالنص، لما اختلف فيه أكابر علماء الصحابة لا سيما ابن عباس وابن عمر (رضي الله عنهم) ، فعلى هذا لا يكون ربا الفضل منافيًا للإسلام. وأما الجواب عن السؤال الثالث؛ فهو أن ما نقله السائل غلط وقع في بعض نسخ البخاري المطبوعة، ومنها النسخة التي على هامش فتح الباري، والصواب (والشعير بالشعير) وحديث (هاء وهاء) هذا هو حديث عمر، وليس فيه ذكر الورق إلا في رواية أبي ذر وأبي الوقت من رواة البخاري، فإنهما قالا: (الذهب بالورق) بدل (الذهب بالذهب) ، واتفق جميع رواة الصحيحين على (والشعير بالشعير) ، وبه احتج الشافعي وأبو حنيفة وفقهاء المحدثين على أن الشعير صنف غير البر خلافًا لمالك والليث، وغيرهما ممن قال: إنهما صنف واحد. وأما الجواب عن الرابع فهو أنَّ السلطان الذي أصدر ذلك الأمر: إما السلطان سليمان القانوني ولعله الأرجح، وإما ولده السلطان سليم، فإن أبا السعود كان في عصرهما وقد توفي في جمادى الأولى سنة 982. والسلطان سليم قد توفي في رمضان من تلك السنة، وقد ولاه سليمان الإفتاء سنة 945 وهو هو شيخ الإسلام. أما صورة الفتوى فلم نقف عليها، والظاهر أن سببها وسبب الأمر السلطاني الذي بني عليها منع الربا المضاعف، والاطلاع عليها لا يفيدنا فائدة فقهية، وإنما فائدته تاريخية محضة، فإننا نعلم أنها مبنية على استباحة المعاملة، ولذلك علل ابن عابدين عبارة الدر التي ذكرتموها؛ بأن السلطان إذا أمر بمباح وجبت طاعته، (والمعاملة) ، ولا إخالكم تجهلونها؛ هي بيع القليل بالكثير احتيالاً على الربا كأن يقرضه تسع مائة، ويبيع منديلاً ثمنه عشرة قروش بمائة قرش مثلا، وقد أجاز الحيلة الحنفية والشافعية، واستدلوا عليها بإذن النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيع الصاعين من التمر الرديء بصاع من التمر الجيد بالحيلة؛ وهي أن يباع كل من الصاع والصاعين بالثمن، وذلك خروج من نص (والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء) في الحقيقة دون الصورة، والمانعون للحيلة كالمالكية والحنابلة لا يجدون للحديث مخرجًا إلا القاعدة التي ذكرها ابن القيم، وهي أن ما حُرِّم لسد الذريعة كربا الفضل جاز للمصلحة، وأنت تعلم أنه لا معنى لاشتراط كون بيع النقد أو القوت بجنسه يدًا بيد مثلا بمثل لذاته؛ لأن عاقلاً لا يفعل ذلك إذ ليس فيه فائدة، وإنما يقصد الناس بالبيع الزيادة بالقدر أو الوصف ولا شيء من ذلك بمحرم لذاته؛ لأنه هو أصل المنافع والمقصد من التجارة، فلم يبق لذلك الشرط معنى إلا سد ذريعة التوسل إلى ربا النسيئة الذي كانوا يأكلونه أضعافًا، فلما أَخبَر عامل خيبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يأخذون الصاع من التمر الجنيب، وهو الطيب أو الصلب، وقيل: ما أخرج حشفه بصاعين من الجمع، وهو ما خلط بغيره، أو الدقل وهو نوع رديء، قال: (لا تفعل بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة. فأباح ذلك عند العلم بالحاجة إليه، وأمر بأن يكون البيع بالدراهم؛ لأنه هو الأصل في التجارة، وليبقى بعيدًا عن ذريعة الربا. ومن الحنفية من صرح بأن الحيلة في الربا لا تجوز إلا لحاجة، كتثمير مال اليتيم أو الأرملة، أو طالب العلم المنقطع عن الكسب، وعنده مال إذا أنفقه نفد واضطر هو إلى ترك العلم، فلم يجزه هؤلاء إلا للحاجة أو الضرورة ولا يجيزون أن يكون مضاعفًا، فقد راعى هؤلاء النص القطعي في تحريم الربا المضاعف الذي لا هوادة فيه، وراعوا المصلحة أو الضرورة وقدروها بقدرها في ربا الفضل، وأخرجوها بما يسمونه المعاملة أو المرابحة عن صورة المنهي عنه في الأحاديث، حتى لا تخرج عن حكمة الشارع في معناها ولا في صورتها، فإن كل حيلة أبطلت حكمة الشارع ومقصده فهي باطلة، لا تزيد صاحبها إلا مقتًا وضلالاً. واعلم أن الزيادة الأولى في الدَّين المؤجل من ربا الفضل، وإن كانت لأجل التأخير، وإنما ربا النسيئة المعهود هو ما يكون بعد حلول الأجل لأجل الإنساء أي: التأخير، وإذا تكرر ذلك كان الربا المضاعف، كما كانوا يفعلون في الجاهلية. والذين يقولون بالمعاملة أو المرابحة، يجددون العقد عند نهاية الأجل إذا لم يدفع؛ لكيلا يزيدوا المال لمحض الإنساء صورة ومعنى. ولكن هذا إذا أدى إلى مضاعفة المال على المدين، كان مخالفًا لحكمة الشاعر، ولا يستحله ذو دين.

أسئلة من سنغافورة عن القرآن الفونغراف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من سنغافورة عن القرآن بالفونغراف (س 36 و 37) عون الله الحضرمي بتصرف في لفظه: ظهرت آلة تنطق بالأحرف بالغناء والأشعار المختلفة، وتغني وتنوح ثم ظهرت فيها قراءة القرآن والأذان، وصارت تتداوله أيدي الكفرة وأهل الطغيان، في كل قهوة و (مخدرة وزق زقاق) كأنه للتفرج والفرح، ويباع في كل دكان، من أهل الإسلام وأي دين كان؛ لأن الأمة زاغت بهذه الفنون كأنهم أصيبوا بالجنون، ولا ندري ماذا يكون، والله يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) . فأجبنا سؤال مجلة المنار عن حكم الشريعة في المسألة، فإن منهم من قال: ذلك جائز، ومنهم من قال: ذلك لا يجوز. فنرجو أن تجتهدوا فيها وتملأوا صحيفتكم بفتواها. وهذا عندي من أكبر الكبائر، والله أعلم بما في الضمائر. (س) من السيد حسن بن علوي بن شهاب: إلى المنار المنير: ما حكم الإسطوانات المودع فيها صوت القارئ للقرآن، فهل هي كالمصحف في الحكم: حملاً ومسًّا وحرمةً أم لا؟ وقد اختلفت الأفهام هنا وأنا أعتقد أن لا حكم لها، بل هي كغيرها من الجمادات. (ج) قد جاءتنا أسئلة أخرى في معنى هذين السؤالين من مصر وغيرها فاكتفينا بهما عنها، فأما استعمال هذه الآلة في تأدية القرآن، فهي فيما نرى تابعة لقصد المستعمل، فإذا قصد بذلك الاتعاظ والاعتبار بسماعه، فلا وجه لحظره، وإذا قصد به التلهي وهو ما عليه الجماهير فى كل ما يسمعونه من الفونغراف، فلا وجه لاستباحته، وأخشى أن يدخل فاعله في عداد من اتخذوا دينهم هزؤًا ولعبًا، فيتناوله وعيد قوله عز وجل: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيع} (الأنعام: 70) الآية، وقوله تعالى في وصف الكافرين أهل النار: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأعراف: 51) ، وأن يدخل مشتري الإسطوانات أو الألواح التي تؤدي القرآن بهذا القصد في عداد من نزل فيهم {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} (لقمان: 6) كلا بل ربما كان شرًّا من هؤلاء الناس، فإنه جعل الآيات نفسها مع ذلك اللهو في قرن، فصرف النفس عن الاعتبار، حتى إذا تليت عليه كان كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرًا. وقد كان الأستاذ الإمام يتأثم من استعمال الفونغراف في تأدية القرآن مطلقًا فيما ظهر لي منه. ولكن وجد في أصحاب العمائم هنا من تجرأ على القول بإباحته مطلقًا. ولعل ما ذكرناه من اختلاف الحكم فيه باختلاف القصد أقرب. والله أعلم بالسرائر. وقد يكون لبعض الناس من المقاصد الصحيحة غير قصد الاعتبار والاتعاظ بسماع القرآن، ما يبيح لهم ذلك، أو يجعله مطلوبًا، كأن يستعين به من لا يضبط القراءة أو لا يحسنها على ضبطها وتجويدها أو تحفظ فيه أثرًا تاريخيًّا. وأما حكم حمل ومس الإسطوانات أو الألواح التي بها تتأدى القراءة الذي بني السؤال عنه على الاعتقاد بحرمة حمل المصحف أو مسه على المحدث، وهو من يحتاج في صحة صلاته إلى الوضوء أو الغسل، ففيه وجهان: (أحدهما) : أن يقال إن إسطوانة الفونغراف، أو لوحه الذي ينشأ عن قرع الإبرة له الصوت المشتمل على الكلام ليس قرآنًا مكتوبًا؛ إذ لا يرى الناظر فيه شيئًا من كلمات القرآن ولا حروفه، فلا يتناوله الضمير فى قوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) ، الراجع الى قوله: {كِتَابٍ مَّكْنُون} (الواقعة: 78) بناءً على أن المراد بالكتاب: القرآن وهو وجه ضعيف في التفسير؛ لأنه ليس بكتاب. وهذا الوجه ظاهر على طريقة الفقهاء الذين ينظرون في استنباط الأحكام إلى مدلولات الألفاظ في الغالب، وهو الذي لاح للسائل فيما يظهر. (والوجه الثاني) : أن ينظر في المسألة إلى حكمتها وسرها، فيبني الحكم على ذلك. وبيان ذلك أن تلك النقوش التي تسمى كتابًا ما كان لها حكم الكلام؛ إلا لأنها وسيلة للعارف بها إلى أدائه ونقله، وكذلك إسطوانات الفونغراف أو ألواحه وسيلة إلى ذلك. فإذا كانت الألواح والصحف المكتوب فيها القرآن كله أو بعضه محترمة؛ لأنها وسيلة إلى أدائه، فلماذا لا تكون ألواح الفونغراف وإسطواناته محترمة كذلك؟ ولصاحب هذا الوجه أن ينقض الوجه الأول بأن العرف يسمي ما في هذه الإسطوانات والألواح قرآنًا؛ إذ يقال: إن هذا اللوح فيه سورة كذا أو قوله تعالى كذا. وإذا نظرنا في الكتابة نظر الفيلسوف، نرى أن النقوش الدقيقة التي في ألواح الفونغراف أجدر من النقوش الكتابية بأن تسمى كلامًا؛ ذلك بأنها كتابة طبيعية حدثت من تموج الهواء بالقراءة اللفظية بواسطة الإبرة المعروفة، وهي تعيد الكلام كما بدأه القارئ لا تخطئ. وأما الكتابة الخطية المعروفة فهي كتابة اصطلاحية، لا تؤدي الكلام بطبعها، بل بالمواضعة والاصطلاح، وقد يقع الخطأ فيها من الكاتب، فلا يؤدي ما أُملِي عليه كما هو، ومن القارئ فلا يؤدي ما كُتِب على وجهه، وإن كان عارفًا بالكتابة، بل المتلقي القراءة لا يضبطها كما هي؛ لذلك قال بعض علماء الأصول: إن تواتر القرآن خاص فيما ليس من قبيل الأداء، فإننا لا نقطع بأن أداءنا لهذا القرآن المتواتر كأداء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو كان في عهده فونغراف حفظت به قراءته، لقطعنا بذلك، ولعدَّ الأداء أيضًا متواترًا. ومن ثَمَّ قلنا: إن من المقاصد الصحيحة أن يستعمل الفونغراف في أداء القرآن؛ لأجل ضبطه إن احتيج إلى ذلك. هذا وإن تحريم مس المصحف على المُحْدِثِ لا ينهض عليه دليل من الكتاب ولا من السنة. ولكن بعضهم ادَّعى الإجماع على حرمة مسه للجنب، ولا تسلم له هذه الدعوى، والخلاف في غير المتوضئ أقوى. نعم إن احترام القرآن واجب قطعًا، وإهانته من كبائر المحظورات، بل من الكفر الصريح إذا كانت عن عمد. ولكن حمل المحدث له ينافي الاحترام، ولا يستلزم الإهانة، فرب محدث يحمل القرآن وهو له أشد احترامًا، ورب متوضئ يحمله وهو مقصر في احترامه.

الجنة والنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجنة والنار (س38) من محمد أمين أفندي فوزي صاحب جريدة العجائب بمصر. حضرة الأستاذ الفاضل صاحب مجلة المنار الغراء. تحيات وتسليمات، وأرجو الجواب على السؤال الآتي تحت إمضائي. هل الجنة والنار حقيقيتان؟ وإن كانتا كذلك فأين مقرهما؟ أفيدونا ولحضرتكم الثواب. (ج) إذا أردتم بالسؤال كونهما ثابتتين أم لا، فالجواب أنهما ثابتتان قطعًا، وما أراكم تريدون هذا، وقد قرأتم الآيات الصريحة في ذلك. وإن أردتم هل مدلولهما على معناهما حقيقي كما يفهم من اللفظ أم لا؟ - وهو ما يغلب على الظن - فالجواب أنه ليس المراد منهما ما يفهمه العربي من اللفظ، بل لكل منهما حقيقة شرعية أخرى، يؤخذ وصفها من مجموع ما ورد فيها من النصوص، ويقال بالإجمال: إن الجنة دار الجزاء الحسن على الإيمان الصحيح والأعمال الصالحة، لا بستان كبساتين الدنيا، والنار دار الجزاء على الكفر والأعمال السيئة، لا مجرد ما نسميه نارًا. أما مقرهما فهو في غير هذا العالم؛ أي: في عالم الغيب، فلا فائدة في البحث عنه، فنحن نؤمن بهما إيمانًا غيبيًّا؛ اتباعًا لما جاء به الرسول عن الله تعالى، لا نزيد على ذلك ولا ننقص منه، ولا نُشَبِّه عالم الغيب بعالم الشهادة، بل نفوِّض ذلك إلى الله تعالى.

القسم برب موسى وعيسى وإبراهيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القسم برب موسى وعيسى وإبراهيم وأبجد وهوز ... إلخ (س 39 و40) من عبد الحافظ أفندي علي (بشربين) . سيدي العلامة المفضال منشئ مجلة المنار الغراء. بعد الاحترام: سُئِلت مرة، وسألت علماءنا مرارًا عن اليمين المتداول بين الناس وهو: (والله العظيم رب عيسى وموسى وإبراهيم) ؛ ظنًّا مني أنه لا بد من حكمة يُعْرف العالم العامل، ولكني من الأسف لم أهتد على الجواب الشافي الكافي، وسألت أيضًا العلماء والأوداء عن معنى: (أبجد هوز حطي ... إلخ) ، فلم أقف على الحقيقة. (فنرجوكم إجابتنا في العدد الآتي، ولكم الشكر وأمضيه باحترام) . (ج) أما القسم المذكور فلا أعرف له حكمة، ولا أرى البحث عنه أمرًا ذا بال، ويسبق إلى الذهن أنه جرى على لسان بعض محبي السجع، فاستحسنه الناس وسمعت بعض العامة يحذف منه اسم عيسى، فخطر لي أنه ربما كان من أقسام اليهود وسرى منهم إلى المسلمين. وأما أبجد هوز ... إلخ، فهي كلمات ضبطوا بها حروف المعجم، ولهم فيها روايات، جَمَعَ المشهور منها الشيخ حسين والي في كتاب الإملاء. قال: (هذا وكان تعليم الحروف في أول الأمر على ترتيب: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ) . قال في القاموس: وأبجد إلى قرشت وكلمن رئيسهم ملوك مدين، ووضعوا الكتابة العربية على عدد حروف أسمائهم، هلكوا يوم الظُّلة، فقالت ابنة كلمن كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحله سيد القوم أتاه الـ ... حتف نارًا وسط ظله جُعِلت نارًا عليهم ... دارهم كالمضمحله ثم وجدوا بعدهم ثخذ ضظغ فسموها الروادف. اهـ فهم قوم شعيب - صلى الله عليه وسلم - ويوافقه ما في الخطط المقريزية. ورُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعروة بن الزبير أنهما قالا: (أول من وضع الكتاب العربي قوم من الأوائل نزلوا في عدنان بن أدين أول أسمائهم - أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت - فوضع الكتاب العربي على أسمائهم، ووجدوا حروفًا ستة ليست من أسمائهم؛ وهي ثخذ ضظغ فسموها الروادف اهـ. أما الفقهاء فقد قال منهم محمد: سمعت بعض أهل العلم يقول: إنها أسماء ولد سابور مَلِك فارس أمر من كان في طاعته من العرب أن يكتبوها، قال: فلا أرى لأحد أن يكتبها؛ فإنها حرام اهـ. وقال سحنون: سمعت حفص بن غَياث يُحَدِّث أن أبا جاد أسماء شياطين) اهـ. وبنى على ذلك كراهة تعليمها الصبيان. انتهى المراد من كتاب الإملاء.

مطالب مسلمي روسيا من دولتهم

الكاتب: رضاء الدين بن فخر الدين

_ مطالب مسلمي روسيا من دولتهم تتمة رسالة الشيخ رضاء الدين الكلام على المادة الثامنة نحن نعبر هنا عما أتى في هذه المادة (بالخصومات العائلية) توخيًا للسهولة. وفي الواقع أن هذا الخصومات لا تعدو البيوت (العائلات) في الغالب، وهي تفارق الخصومات الأخرى بوجوه عديدة. لاجتهاد المجتهد دخل كبير في سائر الخصومات، وكثيرًا ما يعول القاضي في فصلها عليه. وأما الخصومات العائلية: فمعظمها - إن لم نقل كلها - يرجع في فصلها إلى الكتاب والسنة فقط. وتقسيم التركة مثلاً لا حاجة فيه إلى الاجتهاد بالمرة، وإنما العمدة فيه الكتاب والسنة. أو نقول: إن الحاجة فيه الى الاجتهاد شاذة نادرة. ليست محاولة الحكومة الروسية أخذ فصل الخصومات العائلية من أيدي قضاة المسلمين وتسليمها إلى المحاكم المدنية أمرًا حديثًا. بل يظهر من مطالعة كتاب (رحلة تركستان) لرجل يقال له: (شيللر) أن الحكومة همت بهذا الأمر قبل اليوم بثلاثين سنة، غير أنه قد عرض حينئذ في سبيل إتمامه عوائق، اضطرتها إلى إرجائه إلى يوم يواتيها. لا أرى وسيلة معقولة تتوسل بها الحكومة إلى سلب قضاة المسلمين حق فصل (الخصومات العائلية) سوى زيادة هضم حقوق المسلمات، وعدم اقتدار علماء المسلمين على تلافي هذا الخلل في الحكم والقضاء. إذا فاجأتنا الحكومة قائلة: أيها المسلمون، قد عم وطم بينكم ظلم النساء والإجحاف بحقوقهن، وقضاتكم لا يفكرون في إصلاح هذا الخلل، والخطب يتفاقم يومًا فيومًا، أفيجدينا نفعًا أن نجاوبها قائلين: نحن برءاء مما تتهمينا به؟ أو أن نقول: ليبق الأمر بأيدينا، ولو كانت الحال كما تقولين: كلا. إن رجال الحكومة لا تخفى عليهم خافية من شؤوننا؛ لأنهم يراقبوننا بقلوب متيقظة وعيون ساهرة، وإن كنا نخالهم غافلين عنها. نعم، إن العرائض التي تُرفَع إلى المقامات العالية من قبل المسلمات قليلة بالنسبة إلى عدد النفوس. غير أن قلتها لا تصلح أن تكون دليلاً على قلة وقوع الظلم عليهن؛ لأن المسلمات في هذه البلاد متحجبات، لا يمكنهن التظلُّم والتشكي من حالهن بأنفسهن. وفريق منهن يزجين الأيام في العذاب الأليم والشقاء الدائم متسليات بإحالة الأمور إلى القضاء والقدر. فإبقاؤهن على هذه الحالة التعيسة جدير بأن يعد ضربًا من الظلم، وعدم الاكتراث بشأن هؤلاء المسكينات. مطالبتنا الحكومة بما في هذه المادة، كما هو تشبه قولنا لها: لا يهمنا أمر المسلمات وإنصافهن، وإنما يهمنا بقاء الأمر بأيدينا، ولا أظن الحكومة تقنع لنا بمثل هذه المطالبة العارية من كل حجة وبرهان. لا يقلُّ الظلم والحيف، ولا يكون الناس آمنين من قبل حكامهم، إلا إذا كان القضاة الشرعيون يراعون مقاصد الشريعة العادلة، وكانت القوانين التي يعول عليها في الحكم وطيدة الأركان ثابتة البنيان، وفصلت الدعاوي بالعدل وتحري منهج الإنصاف. إذا كانت القوانين ملائمة لمعاملات الناس وحالاتهم الاجتماعية، فلا جرم أنهم يعيشون سعداء من هذه الجهة. وأما إذا كانت على العكس، فلا تزيد أمورهم إلا ارتباكًا واختلالاً. لا بد في وضع علم الحقوق من ملاحظة عادات الناس وطرق معاملاتهم، سواء كان مبنيًّا على أساس الوضع الإلهي، أو على أساس العقول السليمة والآراء الصائبة. وغني عن البيان أن عادات الناس وأساليب معاملاتهم تتغير على اختلاف الأعصار، وتحول الدول. وهذا التغير الدائم يقضي بتبدل بعض قوانين الأزمنة الغابرة في الأزمنة الحاضرة، وبتبدل بعض قوانين الأزمنة الحاضرة في الأيام الآتية. ومن هنا نرى الدول الأوربية تجدد وتحور قوانينها في كل ربع عصر على الأقل. هذا أمر لا مندوحة عنه في سير المجتمع البشري. لا يخفى على المشتغلين بالعلم أن المتون المعول عليها في علم الحقوق الإسلامية أو في الفقه الإسلامي؛ وضعت قبل اليوم بسبعة أو ثمانية قرون في بغداد والري والشاش (المسمى اليوم طاشكند) وسمرقند ومرغينان ومرو وما إليها من المدن المعمورة في سالف الأزمان. ولا شك أن مؤلفي تلك الكتب راعوا في وضعها: عادات تلك العصور، ومناهج معايش أهل تلك البلاد. وبما أننا اليوم نعيش في عصور غير عصورهم وفي بلاد غير بلادهم، نجد طائفة من القواعد الفقهية المذكورة في تلك الكتب، يستحيل العمل بها في هذه الأيام في بلادنا؛ ولذلك نرى القضاة الشرعيين فينا يلجؤون حينًا بعد حين إلى الحكم الجزافي. والحكم الجزافي - وإن كان عظيمًا عند الله - لا تبدو مضاره الدنيوية في مرة أو مرتين. ولكنه إذا تكرر عدة مرات، صار قاعدة مطردة في الحكم حتى إن الحكم بخلافه يوقع الحكومة في ريبة، ويضعف ثقتها بقضائنا وقضاتنا. وما ينشأ عن هذا من المفاسد لا يعلمه إلا أهل البصر من القضاة والحكام. وبالجملة: إن كثيرًا من القواعد المذكورة في الكتب الفقهية، لا يمكن الأخذ بها في الأزمنة الحاضرة. وإن كثيرًا من الأشياء التي ظهرت في هذه الأيام لا ذكر لها، ولا إشارة إليها في تلك الكتب. فلهذه الأسباب نرى القضاء الشرعي فينا يتقلص ظلُّه يومًا فيوما، ولا يرتابنَّ أحد في شيوع الظلم وضياع الحقوق، إذا لم يكن القضاء مبنيًّا على أصول تكفل العدل، وإيتاء كل ذي حق حقه. ولذلك يصعب جدًّا أنْ نرد على الحكومة توجيهها إلينا ظلم النساء والإجحاف بحقوقهن، بتطبيق الأمر على الواقع، وإن كان الرد عليها بالدلائل النظرية والقواعد المنطقية سهلاً ميسورًا. ومن هنا أقول: لا ينبغي لنا أن نطالب الحكومة بما أتى في هذه المادة بصورة مبهمة مجملة، بل يجب علينا أن نقرن بها بعض الدلائل، قائلين مثلاً نحن لا نرغب في بقاء فصل الخصومات العائلية بأيدي قضاتنا؛ لكون هذا الأمر عادة معروفة فينا منذ عهد قديم فقط، بل نطلبه لكونه أمرًا دينيًّا بحتًا أيضًا؛ لأن حكم القضاة غير المسلمين في مثل هذه الخصومات لا أثر له في نظر الشريعة الإسلامية بل تحوير الفقه الإسلامي وجعله صالحًا للحكم به في هذا الزمان راجعان إلى علماء المسلمين أنفسهم. وفي وسع الحكومة أن تؤلف لجنة من علماء المسلمين الكبار، وتنوط بها وضع كتاب فقهي في الدعاوي العائلية وأبواب القضاء، والشهادات والدعوى والبينات، وما شاكلها من المباحث حتى يتخذه القضاة الشرعيون (دستورًا) ؛ للعمل في القضاء، وفصل الخصومات: ويمكن تلخيص كلامنا على هذه المادة في المباحث الآتية: (1) كتبنا الفقهية لا تكفي اليوم لفصل الخصومات العائلية. (2) بعض القواعد الفقهية لا يمكننا الجري عليها فى هذه الايام. (3) القواعد الفقهية يجوز تغييرها بحسب اقتضاء الأزمنة والمصالح العامة. (4) فصل الدعاوي العائلية من الأمور الدينية. (5) يجب وضع كتاب فقهي يكون عمدة للقضاة الشرعيين في قضائهم. فنتكلم هنا على هذه المباحث الخمسة مبحثًا مبحثًا ولو باختصار، فنقول: (المبحث الأول) : لو شئنا لسردنا هنا؛ لإثبات هذا المدعى دلائل كثيرة بيد أننا لا نحب أن نطيل المقال بإيراد الأمثلة الجزئية المختلفة. غني عن البيان أن كتبنا الفقهية أُلِّفت في زمان لم تكن فيه البوسطة (البريد المنتظم الحاضر) والتلغراف والتليفون، وما إليها من المخترعات الحديثة. وكذلك لم يكن فيه دفاتر للمواليد والوفيات المنتظمة كاليوم، ولا محكمة الإشهاد التي تعرف في روسيا (بالناتاريوس) ، ولا شهادة المحاكم والأطباء، ولا النفي إلى سيبيريا مؤبدًا أو مؤقتًا بمدة مديدة، ولا الحكم بالانخراط في سلك المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، وما شاكلها من النظامات المستحدثة في الدول المتمدنة اليوم. مع أن لهذه المذكورات دخلاً كبيرًا اليوم في معاملاتنا ودعاوينا، وفصل الخصومات وإعلان الأحكام. ولا يتسنى تطبيق أحكام تلك النظامات الحديثة على ما في الكتب الفقهية إلا لأفراد قلائل من نوابغ العلماء. والكتب التي لا تصلح أن تكون عمدة لكل قاض جديرة بأن يقال فيها: إنها لا تكفي لحاجة العصر الحاضر. يكلف رجل مقيم في إحدى مدن سيبيريا امرأته الساكنة في أحد بلدان روسيا المتوسطة بواسطة التلغراف بعد إشهاد محكمة (الناتاريوس) على هذا الكلاف. أو يبعث رجل في مدينة موسكو بكتاب إلى زوجه في سيبيريا يخبرها فيه بطلاقها بعد أن حول النقود التي تصرفها المرأة لنفقة العدة على إحدى البنوكة. ففي مثل هذه النوازل يحار قضاتنا الشرعيون المتوسطون، فلا يكادون يستخرجون فيها حكمًا ما من كتب فقهية تنوء ببعير. وأما كبار القضاة - وإن لم تملكهم الحيرة بالمرة - فلا يعدو فكرهم مباحث (كتاب القاضي) ومبحث (جواز العمل بالخط وعدم جوازه) . ولا يخفى على البصير أن فصل تلك القضايا بأمثال هذه المباحث أصعب من خرط القتاد. فتضطر أولئك النساء إلى تزجية الأيام، كالمعلقات شاكيات القضاء والقدرإلى آخر حياتهن. (المبحث الثاني) : يقع أحيانًا أن جزأ من دعوى واحدة ينظر في مقاطعة (ياكوتسكي) في أقاصي سيبيريا، وجزأً آخر في بلدة (بلاباي) (في أواسط روسيا) . تلجأ قضاتنا اليوم عند النظر في أمثال هذه الدعاوي إلى ما في فصول (كتاب القاضي إلى القاضي) من الأحكام. مع أن أوجه الأقوال في هذه الفصول (وهو قول أبي يوسف) لا يمكن تطبيقه على ما يجري في هذه البلاد. هذه المرأة الساكنة في بلاباي مثلاً تقضي ثلاثين أو أربعين عامًا من حياتها، وهي تندب حظها. مع أن زوجها لا يزال في قيد الحياة وليس من المفقودين أيضًا، ولا يتسنى لها الاجتماع معه ولو مرة في عمرها. يا ليت مثل هذه المرأة كانت واحدة أو عشرًا فقط. بيد أنهن لسوء الحظ يعددن بمئات في جميع أنحاء البلاد (الروسية) التي يسكنها المسلمون. لا يذهبنَّ أحد إلى أني أطعن بكلامي السابق على الكتب الفقهية، وأحط من قدر مسائل (كتاب القاضي إلى القاضي) ، فإن العمل بما في تلك الفصول كان موافقًا غاية الموافقة للعصور الأولى المخدجة في كل أسباب العمران وشؤون التمدن. وأما اليوم قد انقلبت الأمور ظهرًا لبطن، حتى لو رجع الإمام أبو حنيفة لنحى الكتب الفقهية التي ألفها تلميذه الإمام محمد عن مستقرها الذي أقرتها فيه متفقهة الأزمة المتأخرة، ووضع فقهًا جديدًا يلائم روح هذا الزمان لا محالة. لا يحسن بنا البتة أن نحاول تطبيق الحوادث، وجميع شؤون الناس المتجددة على القواعد المحصورة بين جلود الكتب الفقهية، بل يجب على كل بصير أن يبذل غاية جهده في تطبيق تلك القواعد على الحوادث والعادات. رأينا كثيرًا من الجامدين على الكتب الفقهية، كانوا يأبون كل الإباء تصديق خبر رؤية الهلال الذي يرد إليهم ممن يعرفونه في البريد؛ إذ يجدونه غير مستوف للقيود المذكور في باب (كتاب القاضي إلى القاضي) المذكور في كتب الفقه المتداولة. مع أن هؤلاء لم يكونوا يرتابون أدنى ارتياب في كونهم هم أئمة المساجد أصحاب المنشورات حين يتلقون منشوراتهم التي كانت ترسل إليهم من مراكز الولايات بمئات من الوسائط - من يد مستخدم روسي في المركز (بمعناه المعروف بمصر) . يقضي قضاتنا اليوم في المرأة التي يعجز زوجها عن الإنفاق عليها باستدانتها على زوجها، ولا يجوِّزون الفرقة بهذا السبب أبدًا. كان هذا الحكم موافقًا في العصور الاولى (وربما يكون موافقًا في هذا العصر أيضًا) لمعيشة من يسكنون الكوفة وبغداد، وأمثالهما من البلاد الحارة. وأما بلادنا التي يحكم فيها البرد الشتوي الزمهريري عدة شهور، فمن المحال العمل فيها بهذا ا

الانتقاد على محمد فريد وجدي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على محمد فريد أفندي وجدي (2) وصف بعض المحررين في إحدى الجرائد اليومية فريد أفندي وجدي بأنه من عشاق الانتقاد عليه، وكنا نحن على علم يقيني بأنه يمقت الانتقاد أشد المقت؛ لأنه من أصحاب الدعوى العريضة والغرور، ولأنه لما طبع كتاب (تطبيق الديانة الإسلامية على نواميس المدنية) ، وأهداه إلينا تصفحنا بعض صفحاته، فألفينا فيه من الخطأ في المسائل الدينية والدعوى ما لا يجوز السكوت عليه، وكنا قد عرفنا الرجل معرفة شخصية وأحسنا الظن به؛ لما حدثنا به عنه بعض محبيه من انقطاعه للمطالعة والكتابة، فكرهنا أن ننتقد الكتاب بدون استشارته واستئذانه، فكتبنا إليه - وكان في دمياط - نتلطف في الاستئذان، ونلبسه من حلل الثناء ما يكون به حسنًا جميلاً، فكتب إلينا راجيًا أن لا ننتقد الكتاب، وقال: إن الانتقاد يصرف الناس عن المنتقد؛ لأن الأمة لم تتعود ذلك أو ما هذا معناه. فاكتفينا يومئذ بإطرائه وإطراء كتابه؛ تنشيطًا له. إلا أننا انتقدنا عليه شيئًا واحدًا؛ وهو دعوى أن أحدًا لم يقم بالبحث عن أسباب ما حل بالمسلمين؛ لما فيه من هضم المنار [1] . لما كتب ذلك الكاتب في تلك الجريدة ما كتب، قلنا: لعل الزمان غَيَّر منه فحبب إليه الانتقاد، أو لعله صار يحسن الظن بالأمة، فلا يخاف أن تصرفها كلمة نقد عن الشيء الذي تنتقده إذا كان حسنًا في نفسه. فكتبنا في جزء الشهر الماضي ما كتبنا، ولم يكد ينتشر الجزء، حتى بادر فريد أفندي وجدي إلى كتابة أربع مقالات في جريدة اللواء؛ تمثل كل كلمة منها للقارئ اضطراب مجموعه العصبي - وهو عصبي المزاج - وبلوغ الغيظ والغضب والامتعاض منه منتهى ما تبلغ من أمثاله العصبيين. على أنه يقرر ويكرر في كتاباته ما اقتبسه من المنار أو غيره من قول الإمام مالك: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر. (يشير إلى قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم) ، بل يصرح بأن هذا أصل من أصول الإسلام العمرانية التي يفضل بها غيره. فلماذا عظم عليه الانتقاد عليه وأخذته العزة بالإثم، حتى استفرغ كل هاتيك الغميزة والإزراء بالمنتقد، والتعظيم والتبجيل لنفسه، وكلاهما منكر عظيم؟ ذكرنا في نبذة الجزء الماضي: أن الأستاذ المرحوم - رحمه الله تعالى - قال في وصف ما يكتب فريد أفندي وجدي: إنه مقدمات ووعود. وكان يرجى أن تفيده هذه الموعظة الدُّرية من إمام العصر، وحكيم الشرق ومفخر مصر، فيترك تلك المقدمات والوعود التي كلها دعاوى وتبجح، ويتكلم في المقاصد من غير أن يدخل نفسه فيها. ولكنه كان بعد العلم بها أوغل في ذلك منه قبله، وزاد على الوعود فتوعدنا إذا عدنا للانتقاد عليه بما يأتي: قال في آخر المقالة الأولى بعد دعوى أن الناس يعهدون منه إلى اليوم دفع السيئة بالحسنة، ما نصه: (فإن لم يعد الشيخ رشيد رضا إلى صوابه، ويحترم الأمة التي يعيش بين أظهرها، ويعرف مقامه من العلم والعمل، اضطررنا لتعقب سقطاته في مجلة الحياة، وشننا عليه غارة لا يقيم بعدها رأسًا، فيأخذ عنا درسًا ينفعه هو وأمثاله؛ ممن يريدون أن يعيشوا بين ظهراني هذه الأمة باحتقارها، وتسفيه أحلام قادتها) . مهلاً يا أخي فريد أفندي، ولا تبطش البطشة الكبرى، فإني معذور بما كتبت؛ لأنه اعتقادي، وأنت تدعي احترام حرية الاعتقاد، حتى إنك تدعي تصحيح عقائد المارقين من النابتة الجديدة. مهلاً يا أخي، ولا تستعمل قدرتك كلها في الانتقام، فإنني لا أعتقد أن بيان غلطك - وأنت غير معصوم - إهانة للأمة، وترك لاحترامها. مهلاً يا أخي، واستعمل الحلم، فإنني ما علمت ولا سمعت بأنك من قواد الأمة، ولا أعتقد أن انتقاد القائد إذا أخطأ في قيادته يكون احتقارًا للأمة. بعيشك يا أخي، قلِّد صاحب جريدة اللواء في الفخر والدعوى ومدح النفس، ولا تقلده في دعوى أن الأمة تبع لك وأنها وراءك، فإن هذا هو الاحتقار لها، لا بيان خطئك في فهم الشرع، وتعريف الوحي وإنكار نبوة آدم عليه السلام، ولا في تحريك العصبية الجنسية الجاهلية. ثم قال في آخر المقالة الرابعة: (وإني قد تسامحت هذه المرة مع الشيخ رشيد؛ دفاعًا عن مدرسة العلوم العالية، ولو عاد للحط من كرامتي وكرامة مدرستي، ولم يلتزم جادة المحاسنة في الكلام على القوم الذين يعيش بين أظهرهم، بدأت له في الدرس الذي وعدته به، وكنت أنا صوت السخط العام عليه، والعاقل من اختار السلام. والسلام) اهـ. رفقًا يا أخي فريد أفندي، واجعل الانتقام خاصًّا لا عامًّا، ولا تسلط عليَّ الأمة التي ترى أنك أنت قائدها، فإنك ربما جربت ذلك فقضيت عليَّ ثم ندمت. وربما كشفت لك التجربة أنك لست قائدًا للأمة إلا في خيالك ووهمك، وأن مكانة أخيك أثبت فيها من مكانتك، فبؤت بالخيبة. الانتقام الخاص الذي أذنت لك فيه؛ هو أن تتبع سقطات المنار وتثبتها في الحياة، فإني لا أبرئ المنار من السقطات، ولا أدعي العصمة، وأتمنى لو أجد وقتًا أقرأ فيه مجلدات المنار التسعة أو العشرة؛ لأستخرج منها ما لعلي أهتدي إليه من السقطات، وأبينها للناس. وإنني في كل سنة أحث العلماء على نقد المنار، وأنشر كل ما يرد إلي من ذلك، ولا أسخط على الناقد، ولا أهينه، ولا أتكبر عليه، وإنني أتمنى أن تستعين على نقد المنار بغيرك، فما أراك وحدك أهلاً له؛ لعدم اطلاعك على العلوم الدينية، وأتمنى أن يكون من تستعين به من غير المحبين لي، وأنصح لك أن تترك في ذلك مدح نفسك وذم غيرك، وما اعتدته من المقدمات والوعود، فإنك إن تفعل هذا، أنقل كلامك في انتقاد المنار، وإلا أهملته ولم أحفل به. وأما الانتقام العام الذي نهيتك عنه مع علمي بعجزك، فهو تحريك العصبية الجاهلية عليَّ؛ أعني: عصبية الجنسية؛ لأني لست مصرًّيا. العصبية الجاهلية والإسلام لم تكتف يا أخي بالغميزة والإزراء في مقالاتك، حتى قلدت جريدة اللواء في شر ما جنت به على الإسلام من تحريك عصبية الجاهلية بتفريق المسلمين إلى جنسيات مناطها الوطنية، فأخذت ترجف بأن الحامل لي على انتقاد كلامك كراهة؛ أن ينجح للمصريين عمل عظيم (كمدرسة العلوم العليا) ولماذا يا ترى أكره أن ينجح للمصريين عمل عظيم؟ هل أنا على مذهب مصطفى كامل في العصبية الجنسية الجاهلية التي محاها الإسلام؟ فقام هو يثبتها، وجئت أنت اليوم تؤيده من حيث أيَّدك في نشر طعنك على أخيك. ألست قد حاربت هذه النزعة الجاهلية، وبينت فسادها مرارًا كثيرة؟ على أنني باذل كل حياتي لنصيحة المصريين وخدمتهم، قبل غيرهم من الشعوب الإسلامية التي هي عندي في مرتبة واحدة من حيث هم مسلمون، لا أُفَضِّلُ سوريًّا على صيني، ولا تونسيًّا على مصري. قلت بعد الإرجاف بما ذكر، والتصريح بأنه ربما كان لطف أخلاق المصريين ومجاملتهم؛ سببًا في جرأتي على الافتيات عليك ما نصه: (لم يكتف هذا الرجل أن يتحكك في مجلته بملوكنا وأمرائنا، وعلمائنا وكتابنا، ورجال صحافتنا على طريقة أصحاب الجرائد الساقطة، حتى قام اليوم يفتات على أئمة الدين) .. إلخ. أقول: لو أنك قلت هذا القول قبل سنتين أو أكثرلأحسنت فيك الظن، وقلت: لعله لا يدري ماذا جنى هؤلاء الرؤساء على الإسلام والمسلمين، فهو يعتقد أن ما ننسبه إليهم خطأ يضر. ولكنك في هذه المدة الأخيرة قلدتني في ذلك، حتى غلوت في ذم هؤلاء الرؤساء غلوًّا كبيرًا، وحكمت بمروقهم مع معظم الأمة من الإسلام، وخصصت منهم أهل الأزهر بأشد الطعن لا سيما في مقالاتك التي نُشِرت في المنبر، وادعيت أنه لم يبق أحد من أصحاب العمائم يرجع إليه في فهم الدين، وإنما انحصر علم الدين في بعض أصحاب الطرابيش، وإنما تعني طربوشك وحده فإنه يرجح بعدة طرابيش، كما رجح بالعمائم كلها. فكيف جاز لك هذا الغلو، ولم يجز لي أن أبيِّن الحقائق بالاعتدال؟ لعل السبب في ذلك؛ أنك ولدت في مصر وإن لم تكن مصري الأصل، وأنا لم أتشرف بمثل هذا المولد. إن هذه الأمة أمة واحدة، كما جاء في الكتاب العزيز. فكيف يفرقها فريد أفندي تبعًا لصاحب جريدة اللواء، ويجعلها أممًا وتلك هي العصبية الجاهلية التي أزالها الإسلام، وجعل المؤمنين أخوة أينما كانوا ومن أي جنس كانوا. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم. وقال صلى الله عليه وسلم: (من قُتِل تحت راية عمية، ينصر العصبية ويغضب للعصبية، فقتلته جاهلية) . رواه مسلم والترمذي عن جندب، وفي حديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر - وناهيك بمكانه من الدين -: (إنك امرؤ فيك جاهلية) . أتدري لماذا قال له ذلك؟ قاله لما عيَّر بلالاً الحبشي بأمه الحبشية، أتدري ماذا فعل أبو ذر عند ذلك؟ إنه وضع خده على التراب، وآلى أن لا يرفعه، حتى يطأ عليه بلال. فهل كنت وأنا عربي من سلالة الرسول أبعد عن مسلمي مصر في الجنس من بلال الحبشي عن أبي ذر؟ فإذا كان صاحب ورقة اللواء يدعو إلى العصبية الجنسية؛ لأنه سياسي لا يبالي وافق الإسلام في سياسته أم خالفه، فأنت يا فريد أفندي لست سياسيًّا، بل تتنفج دائمًا بالدعوة إلى الإسلام. فما معنى إخراجك إياي من هذه الأمة، وتحريض مَنْ فتنتهم جريدة اللواء بالعصبية الجاهلية عن هدي الإسلام، وإخوة الإيمان عليَّ، وتبغيضي إليهم؛ بإيهامك إياهم أنني أحتقر المصريين كافةً ولا أحب لهم الخير؛ لأنني لست منهم. إن أمثال هؤلاء المفتونين لا قيمة لرضاهم ولا لسخطهم، فحسبي أن المؤمنين الصادقين من المصريين، يروني أخًا لهم وأراهم إخوة لي، وإن زعمت أنهم قليل؛ لتصريحك بأن أكثر الأمة عوامها، وخواصها ليسوا على الإسلام الصحيح، فإن هذا القليل عندي خير من كثير أهل العصبية الجاهلية. على أنني أحب الخير لجميع الناس من كل الشعوب والأجناس، ويعرف لي هذا كثير من الموافقين والمخالفين. ظن فريد أفندي وجدي كما يظن صاحب جريدة اللواء أن العصبية الجاهلية أصبحت سلاحًا قاتلاً في أيديهما، لا يجردانها على (دخيل) إلا ويجدلانه، حتى لا يرتفع له رأس، ولا تقوم له قائمة (ياللغرور) . وظن فريد أفندي وجدي أنني لشدة رعبي من هذا السلاح، لم أرد على إبراهيم بك المويلحي إذ تحرش بي من نحو سنتين ونصف، فكتب في المؤيد يقول: إنني جئت مصر فقيرًا، ثم بعد أن صرت غنيًّا طعنت على أهلها. ونسي فريد أفندي أو تناسى أن المسألة كانت أكبر من ذلك، وأن المويلحي لم يكن هو الذي طعن فيَّ وحده، بل انبرى لي يومئذ المؤيد واللواء والجوائب وجرائد أخرى، ولم أكن أنا المقصود وحدي يومئذ بحملة هذه الجرائد، ومن كتب فيها، وإنما كان الغرض الأول الذي تسدد سهامها إليه هو المرحوم الأستاذ الإمام فخر المصريين، وأعظم نابغ في مصر. وليعلم فريد أفندي أن تلك الغارة الشعواء التي يعجز هو عن عشر معشارها، ما زادت المنار إلا انتشارًا، ولعله لا يجهل مصدرها العالي، وما أنفق فيها من بدر الذهب. فاكفف يا أخي غربك، واستوقف سربك، واعلم أن الأمر ليس في يديك، وأن سهمك ربما عاد عليك، فهذه نصيحتي إليك، ثم إلى سائر المغرورين، الذين يفرقون بالجنسية جماعة هذا الدين، ولولا هذه النصيحة، لما ذكرت عنك هذه الفضيحة، فلا يغرنَّك اعتقادك بجهل الأمة التي قلت بمروقها من الدين، وبعدم استعدادها للحكم النيابي، فتظن أنك تعبث بها كما تشاء لا سيما إذا وازرك اللواء، فإن الأمة صارت تمي

نموذج من إنجيل برنابا ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من إنجيل برنابا (الهوامش التي علاماتها حروف مأخوذة من النسخة الطليانية، يظهر أن واضعها يزعم أنها لما وافق هذا الإنجيل فيه القرآن. والهوامش التي علاماتها أرقام بين أقواس فهي لما وافق فيها العهد العتيق والعهد الجديد. وهي من النسخة الإنكليزية) [أ1] . الفصل السادس عشر [ب1] التعاليم العجيبة التي علمها لتلاميذه بخصوص الارتداد عن الحياة الشريرة وجمع يسوع ذات يوم (تلاميذه وصعد إلى الجبل [1] 2 فلما جلس هناك دنا منه التلاميذ، ففتح فاه وعلمهم قائلاً: 3 عظيمة هي النعم التي أنعم بها الله [ت1] علينا، فترتب علينا من ثم أن نعبده بإخلاص قلب 4 وكما أن الخمر الجديدة توضع في أوعية جديدة [2] هكذا يترتب عليكم أن تكونوا رجالاً جددًا إذا أردتم أن تعوا التعاليم الجديدة التي ستخرج من فمي 5 الحق أقول لكم، كما أنه لا يتأتى للإنسان أن ينظر بعينه السماء والأرض معًا في وقت واحد، فكذلك يستحيل عليه أن يحب الله والعالم [ث1] . 6 لا يقدر رجل أبدًا أن يخدم سيدين [3] أحدهما عدو للآخر [ج1] ؛ لأنه إذا أحبك أحدهما أبغضك الآخر. (7) فكذلك أقول لكم حقًّا: إنكم لا تقدرون أن تخدموا الله والعالم؛ (8) لأن العالم موضوع في النفاق والجشع والخبث [4] 9 لذلك لا تجدون راحة في العالم، بل تجدون بدلاً منها اضطهادًا وخسارة 10، إذًا فاعبدوا الله، واحتقروا العالم؛ 11 إذ مني تجدون راحة لنفوسكم [5] 12 أصيخوا السمع لكلامي؛ لأني أكلمكم بالحق. (13) طوبى للذين ينوحون على هذه الحياة؛ لأنهم يتعزون [6] . (14) طوبى للمساكين [7] الذين يعرضون حقًّا عن ملاذ العالم؛ لأنهم سيتنعمون بملاذ ملكوت الله. (15) طوبى للذين يأكلون على مائدة الله [8] ؛ لأن الملائكة ستقوم على خدمتهم. (16) أنتم مسافرون كسياح 17 أيتخذ السائح لنفسه على الطريق قصورًا وحقولاً، وغيرها من حطام العالم، 18 كلا ثم كلا، ولكنه يحمل أشياء خفيفة ذات فائدة وجدوى في الطريق 19 فليكن هذا مثلاً لكم 20، وإذا أحببتم مثلاً آخر فإني أضربه لكم؛ لكي تفعلوا كل ما أقوله لكم. (21) لا تثقلوا قلوبكم بالرغائب العالمية، قائلين: من يكسونا [9] أو من يطعمنا، 22 بل انظروا الزهور والأشجار مع الطيور التي كساها وغذاها الله [أ2] ربنا بمجد أعظم من كل مجد سليمان، 23 والله [ب2] الذي خلقكم ودعاكم إلى خدمته هو قادر أن يغذيكم، 24 الذي أنزل المن [10] من السماء [ت2] على شعبه إسرائيل في البرية أربعين سنة، وحفظ أثوابهم من أن تعتق أو تبلى، [11] 25 أولئك الذين كانوا ست مائة وأربعين ألف رجل [12] خلا النساء والأطفال 26 الحق أقول لكم: إن السماء والأرض تهنان [13] بيد أن رحمته لا تهن للذين يتقونه. [أ3] 27 أغنياء العالم هم على رخائهم جياع وسيهلكون. [14] 28 كان غني ازدادت [15] ثروته، فقال: ماذا أفعل يا نفسي 29 إني أهدم إهرائي؛ لأنها صغيرة وأبني أخرى جديدة أكبر منها، فتظفرين بمناك يا نفسي) 30 إنه لخاسر؛ لأنه في تلك الليلة توفي. 31 ولقد كان يجب عليه العطف على المسكين، وأن يجعل لنفسه أصدقاء من صدقات أموال الظلم في هذا العالم؛ لأنها تأتي بكنوز في عالم السماء. 32 وقولوا لي من فضلكم: إذا وضعتم دراهمكم في مصرف عشار، فأعطاكم عشرة أضعاف وعشرين ضعفًا، أفلا تعطون رجلاً كهذا كل مالكم 33. ولكن الحق أقول لكم: إنكم مهما أعطيتم وتركتم لأجل محبة الله فستسر دونه مائة ضعف مع الحياة الأبدية [16] [ب3] 34 فانظروا إذًا كم يجب عليكم أن تكونوا مسرورين في خدمة الله. الفصل السابع عشر [ت3] عدم إيمان التلاميذ ودين (المؤمن) الصحيح 1 ولما قال يسوع ذلك أجاب فيلبس: إننا لراغبون في خدمة الله. ولكننا نرغب أيضًا أن نعرف الله [17] لأن أشعيا النبي قال: (حقًّا إنك لإله [ث3] محتجب. [18] 3 وقال الله لموسى عبده: (أنا الذي هو أنا) [19] . 4 أجاب يسوع: يا فيلبس، إن الله صلاح بدونه لا صلاح 5 إن الله موجود بدونه لا وجود، 6 إن الله حياة بدونها لا أحياء [أ4] 7 هو عظيم حتى إنه يملأ الجميع وهو في كل مكان، 8 هو وحده لا نِدَّ له، 9 لا بداية ولا نهاية له [ب4] . ولكنه جعل لكل شيء بداية، وسيجعل لكل شيء نهاية [ت4] 10 لا أب ولا أم له، 11 لا أبناء ولا إخوة ولا عشراء [ث4] له 12 ولما كان ليس لله جسم فهو لا يأكل ولا ينام، ولا يموت ولا يمشي ولا يتحرك. 13 ولكنه يدوم إلى الأبد بدون شبيه [ج4] بشري 14؛ لأنه غير ذي جسد وغير مركب وغير مادي وأبسط البسائط، [ح4] 15 وهو جواد لا يحب إلا الجود، 16 وهو مقسط حتى إذا هو قاص أو صفح فلا مرد له. 17 وبالاختصار أقول لك يا فيلبس: إنه لا يمكنك أن تراه وتعرفه على الأرض تمام المعرفة 18. ولكنك ستراه في مملكته إلى الأبد، حيث يكون قوام سعادتنا ومجدنا 19، أجاب فيلبس: ماذا تقول يا سيد حقًّا لقد كتب في أشعيا أن الله أبونا [20] فكيف لا يكون له بنون؟ 20 أجاب يسوع: إنه في الأنبياء مكتوب أمثال كثيرة، لا يجب أن تأخذها بالحرف بل بالمعنى؛ 21 لأن كل الأنبياء البالغين مائة وأربعة وأربعين ألفًا الذين أرسلهم [أ5] الله إلى العالم، قد تكلموا بالمعميات بظلام 22. ولكن سيأتي بعدي بهاء [21] كل الأنبياء والأطهار [ب5] ، فيشرق نورًا على ظلمات سائر ما قال الأنبياء 23؛ لأنه رسول الله [ت5] 24. ولما قال هذا تنهد يسوع وقال 25: ارأف بإسرائيل أيها الرب إلاله [ث5] وانظر بشفقة على إبراهيم وعلى ذريته؛ لكي يخدموك بإخلاص قلب. 26 فأجاب تلاميذه: ليكن كذلك أيها الرب الإله [ج5] . 27 وقال يسوع: الحق أقول لكم إن الكتبة والعلماء قد أبطلوا شريعة [22] الله بنبواتهم [ح5] الكاذبة المخالفة لنبوات أنبياء الله [خ5] الصادقين 28؛ لذلك غضب الله على بيت إسرائيل وعلى هذا الجيل القليل الإيمان 29، فبكى تلاميذه لهذه الكلمات، وقالوا: ارحمنا يا الله [23] [د5] ترأف على الهيكل والمدينة المقدسة، ولا تدفعها إلى احتقار الأمم لكي لا يحتقروا عهدك 30. فأجاب يسوع: وليكن كذلك أيها الرب إله آبائنا [ذ5] . * * * الفصل الثامن عشر [أ6] يوضح هنا اضطهاد العالم لخدمة الله وأن حماية الله تقيهم 1وبعد أن قال يسوع هذا قال: لستم أنتم الذين اخترتموني [24] ، بل أنا اخترتكم؛ لتكونوا تلاميذي [25] ، فإذا أبغضكم العالم تكونون حقًّا تلاميذي 3 لأن العالم كان دائمًا عدو عبيد خدمة الله، 4 تذكروا الأنبياء الأطهار الذين قتلهم العالم 5، كما حدث في أيام إيليا [ب6] : إذ قتلت إيزابل عشرة آلاف عشرة نبي، حتى بالجهد نجا إيليا المسكين وسبعة آلاف من أبناء الأنبياء [26] الذين خبأهم رئيس جيش أخاب 6، أواه من العالم الفاجر الذي لا يعرف الله 7 إذًا لا تخافوا أنتم [27] ؛ لأن شعور رؤوسكم محصاة؛ كي لا تهلك 8. انظروا العصفور الدروي والطيور والأخرى التي لا تسقط منها ريشة بدون إرادة الله 9. أيعتني [ت6] الله بالطيور أكثر من اعتنائه بالإنسان الذي لأجله خلق كل شيء؟ 10 أيتفق وجود إنسان أشد اعتناء بحذائه منه بابنه 11؟ كلا ثم كلا 12 أفلا [ث6] يجب عليكم بالأولى أن تظنوا أن الله لا يهملكم وهو المعتني بالطيور 13. ولكن لماذا أتكلم عن الطيور , بل لا تسقط ورقة شجرة بدون إرادة الله [ج6] . 14 صدقوني؛ لأني أقول لكم الحق: إن العالم يرهبكم إذا حفظتم كلامي 15؛ لأنه لو لم يخش فضيحة فجوره؛ لما أبغضكم. ولكنه يخشى فضيحته، ولذلك يبغضكم ويضطهدكم [أ7] 16. فإذا رأيتم العالم يستهين بكلامكم فلا تحزنوا، بل تأملوا كيف أن الله - وهو أعظم منكم - قد استهان به أيضًا العالم حتى حسبت حكمته جهالة 17، فإذا كان الله يحتمل [ب7] العالم بصبر. فلماذا تحزنون أنتم يا تراب وطين الأرض 18؟ فبصبركم تملكون أنفسكم [28] ، 19 فإذا لطمكم أحد على خد , فحولوا له الآخر ليلطمه [29] 20 لا تجازوا شرًّا بشر [30] ؛ لأن ذلك ما تفعله شر الحيوانات كلها 21. ولكن جازوا الشر بالخير [ت7] ، وصلوا لله؛ لأجل الذين يبغضونكم [31] 22، النار لا تطفأ بالنار بل بالماء. لذلك أقول لكم: لا تغلبوا الشر بالشر بل بالخير [32] ، 23 انظروا الله [ث7] الذي جعل شمسه تطلع على الصالحين والطالحين [33] , وكذلك المطر 24. فكذلك يجب عليكم أن تفعلوا خيرًا مع الجميع؛ لأنه مكتوب في الناموس: كونوا قديسين؛ لأني أنا إلهكم قدوس [ج7] [34] كونو أنقياء؛ لأني أنا نقي، وكونوا كاملين؛ لأني أنا كامل [ح7] [35] 25 الحق. أقول لكم: إن الخادم يحاول إرضاء سيده , فلا يلبس ثوبًا ينفر منه سيده 26. وأثوابكم هي إرادتكم ومحبتكم 27 , احذروا إذًا من أن تريدوا أو تحبوا شيئًا غير مُرْضٍ لله [خ7] ربنا 28 أيقنوا أن الله يبغض بهرجة وشهوات العالم؛ لذلك ابغضوا أنتم العالم. ((يتبع بمقال تالٍ))

أبو حامد الغزالي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجة الإسلام أبو حامد الغزالي إن سيرة عظماء الرجال، أكبر عون على تربية الأجيال، وقد كان الإمام أبو حامد محمد الغزالي من علماء الإسلام المصلحين في أصول الإسلام وفروعه وآدابه اعترف له بذلك العلماء، وعدوه من المجددين المشار إليهم بحديث: (إن الله - تعالى - يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) رواه أبو داود، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في المعرفة من حديث أبي هريرة، وعلم عليه في الجامع الصغير بالصحة. وسيأتي ذكر شيء من أقوال الفقهاء والمؤرخين والصوفية فيه. لذلك هممت منذ سنين بأن أكتب في المنار شيئًا عن الرجال العظام، أبدأ فيه بملخص سيرته في المنار، ولم أوفق إلى ذلك قبل اليوم. وأرجو أن يكون فيما أكتبه الآن عبرة لأولي الألباب. أصله ومنشؤه هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، لم أر أحدًا ذكر له أكثر من ثلاثة آباء وأسماؤهم عربية. ولكن نسبه لا يعرف منها، فهو إما من العرب الذين تغلغلوا في بلاد الفرس من أول الفتح الإسلامي. وإما من الفرس الذين غلبت عليهم الأسماء العربية؛ لعراقتهم في الإسلام. وإنك لتجد كثيرًا ممن يتكلمون في التاريخ، يجزمون بنسب العلماء الذين نشئوا ببلاد الفرس في الإسلام، فيقولون: إنهم من الفرس، وإن فلانًا فارسي الأصل والمنشأ، حتى إن منهم من يعد أصحاب الأنساب العربية المعروفة من الفرس، كصاحب القاموس وصاحب الأغاني وأضرابهم. ومن أسباب هذا الغلط فيما أرى؛ اشتهار قول ابن خلدون: إن أكثر علماء الملة من العجم، وهو مخطئ فى هذا الحكم، ومخطئ فيما علله به. والصواب أن علماء الإسلام الذين نبغوا في بلاد الفرس وغيرها من بلاد الأعاجم، منهم العربي كمن ذكرنا آنفًا، ومنهم العجمي كسيبويه، ومنهم المجهول نسبه كأبي حامد الغزالي , فيتوقف في مثله حتى يظهر الدليل، وقد يستدل على أنه من سلالة عربية بما يأتي في فصل اشتغاله بالعلم من بلاغته، مع قلة ممارسته للفنون العربية. أما ما ينسب إليه الغزالي , فقد اختلف فيه وفي ضبطه، هل هو بالتخفيف أو التشديد؟ وقد جاء في ترجمة أبي حامد لشارح الإحياء في ذلك ما نصه: (قال صاحب تحفة الإرشاد نقلاً عن الإمام النووي في دقائق الروضة: التشديد في الغزالي، هو المعروف الذي ذكره ابن الأثير، وبلغنا أنه قال: منسوب إلى غزالة - بتخفيف الزاي - قرية من قرى طوس , قلت: وهكذا ذكره النووي أيضًا في التبيان. وقال الذهبي في العبر , وابن خلكان في التاريخ: عادة أهل خوارزم وجرجان يقولون القصاري والحياري بالياء فيهما، فنسبوه للغزل وقالوا: الغزالي، ومثل ذلك الشحامي. وأشار لذلك ابن السمعاني أيضًا وأنكر التخفيف، وقال: سألت أهل طوس عن هذه القرية فأنكروها. وزيادة هذه الياء، قالوا: للتأكيد. وفي تقرير بعض شيوخنا: للتمييز بين المنسوب إلى نفس الصنعة , وبين المنسوب إلى من كانت صنعته كذلك. وهذا ظاهر في الغزالي فإنه لم يكن ممن يغزل الصوف ويبيعه. وإنما هي صنعة والده وجده. ولكن في المصباح للفيومي ما يؤيد التخفيف، وأَنَّ غزالة قرية بطوس، وإليها نسب الإمام أبو حامد. قال: أخبرني بذلك الشيخ مجد الدين بن محمد أبي الطاهر شروان شاه بن أبي الفضائل فخراور بن عبيد الله بن ست المنا بنت أبي حامد الغزالي ببغداد سنة عشر وسبعمائة، وقال لي: أخطأ الناس في تثقيل جدنا، وإنما هو مخفف. وقال الشهاب الخفاجي في آخر شرح الشفاء: ويقال: إنه منسوب إلى غزالة ابنة كعب الأحبار , وهذا إن صح فلا محيد عنه. والمعتمد الآن عند المتأخرين من أئمة التاريخ والأنساب , أن القول قول ابن الأثير أنه بالتشديد) . ولد أبو حامد في مدينة طوس من عمل خراسان سنة 450 قال ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، فلما حضرته الوفاة وصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير، وقال له: إن لي لتأسفًا عظيمًا على تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في وَلَدَيَّ هذين فعلمهما ولا عليك أن تنفد في ذلك جميع ما أخلفه لهما. فلما مات أقبل الصوفي على تعليمهما إلى أن فني ذلك النزر اليسير الذي خلفه لهما أبوهما، وتعذر على الصوفي القيام بقوتها، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي، فأواسيكما به، وأصلح ما أرى لكما أن تلجئا إلى مدرسة، فإنكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما. ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجتهما , وكان الغزالي يحكي ذلك ويقول: (طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله) اهـ. فأنت ترى أن الغزالي نشأ فقيرًا، وكذلك أكثر النابغين في الأمم والعصور التي لا إلزام فيها بالتعليم والتربية، يخرجون من بيوت الفقراء، أو من هم على مقربة منهم. والأغنياء يشغلهم الترف والنعيم عن الجد والاجتهاد في العلم، لا سيما في تلك الأزمنة التي كان فيها طلب العلم لا يتم إلا بالرحلة إلى العلماء المشهورين، كما ترى فيما يلي، وناهيك بما كان في طي المسافات من المشاق. طلب الغزالي للعلم قرأ في صباه طرفًا من فقه الشافعية على أحمد بن محمد الراذكاني في بلده (طوس) ثم سافر إلى الإمام أبي نصر الإسماعيلي في جرجان، وعلق عنه كتاب التعليقة وعاد إلى طوس. قال الإمام أسعد الميهني: فسمعته يقول: قطعت علينا الطريق، وأخذ العيارون جميع ما معي ومضوا، فتبعتهم فالتفت إليَّ مقدمهم، وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت، فقلت له: أسألك بالذي ترجو السلامة منه، أن ترد علي تعليقتي فقط، فما هي بشيء تنتفعون به. فقال لي: وما هي تعليقتك؟ فقلت : كتب في تلك المخلاة، هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها. فضحك وقال: كيف تدعي أنك عرفت علمها , وقد أخذناها منك، فتجردت من معرفتها، وبقيت بلا علم؟ ؟ ثم أمر بعض أصحابه فسلم إليَّ المخلاة، قال الغزالي: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني به في أمري، فلما وافيت طوس، أقبلت على الاشتغال ثلاث سنين حتى حفظت جميع ما علقته , وصرت بحيث لو قطع على الطريق، لم أتجرد من علمي. قال التاج السبكي: وقد روى هذه الحكاية عن الغزالي أيضًا الوزير نظام الملك. أقول: - وفيها من العبرة لمثل طلاب الأزهر- أَنَّ هذا الإمام العظيم ما وصل إلى ما وصل إليه إلا بعد أن جعل قصده في طلب العلم أن يكون العلم صفة من صفاته، لا أن يفهم ما يأخذه عن العلماء إذا هو قرأه فقط، فينبغي لكل طالب علم أن يتلقى العلم؛ لأجل أن يكون له فيه حكم ورأي، ولا يكتفي بأن يكون راويًا لأقوال العلماء ولو مع الفهم؛ لأن من يفهم علم غيره، لا يعد هو عالمًا إلا إذا هو أشرب العلم، وصل له فيه فهم خاص، يقدر على الاستدلال عليه، ودفع معارضة المخالفين عنه، وصار بحيث لو رجع عنه من نقل عنه لا يرجع هو. قال السبكي: ثم إن الغزالي قَدِم نيسابور ولازم إمام الحرمين، وَجَدَّ واجتهد حتى برع على يديه في مذهب الشافعي، والخلاف والجدل والأصلين والمنطق , وقرأ الحكمة والفلسفة، وأحكم كل ذلك، وفهم كلام أرباب هذه العلوم وتصدى للرد عليهم وإبطال دعاويهم، وصنف في كل فن من هذه العلوم كتبا أحسن تأليفها، وأجاد وضعها وترصيفها، كذا نقل النقلة عنه وأنا لم أر له مصنفًا في أصول الدين بعد شدة الفحص، إلا أن يكون قواعد العقائد وعقائد صغرى (كذا) . أقول: وفاته كتاب الاقتصاد في الاعتقاد. وظاهر قوله: (وقرأ الحكمة والفلسفة) أنه لم يقرأها على إمام الحرمين، وهو كذلك كما يعلم من كتابه (المنقذ من الضلال) وفيه أنه صنف كتبًا في الكلام، وستأتي عبارته فيه. وقال الزبيدي في ترجمته: بعد أن ذكر من مشايخه بطوس أحمد بن محمد الراذكاني، وفي جرجان أبا نصر الإسماعيلي، وفي نيسابور إمام الحرمين وشيخه في التصوف. (ومن مشايخه أيضًا يوسف السجاج، وفي الحديث أبو سهل محمد ابن أحمد بن عبيد الله الحفصي المروزي، والحاكم أبو الفتح نصر بن علي بن أحمد الحاكمي الطوسي، وأبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد الخواري خوار طبران، ومحمد بن يحيى بن محمد السجاعي الزوزني، والحافظ أبو الفتيان عمر بن أبي الحسن الرواسي الدهستاني، ونصر بن إبراهيم المقدسي على قول الذهبي، وقال غيره: لم يدركه، فهؤلاء شيوخه في العلوم الثلاثة: يعني الفقه والتصوف والحديث أقول: وهؤلاء الكثيرون الذين سمع منهم الحديث، إنما سمعه منهم في آخر أمره بعد أن رجع من سياحاته، ثم قال الزبيدي: ولم أطلع على أسماء شيوخه الذين قرأ عليهم في الكلام أو الجدل، فإن عثرت على شيء بعد ذلك، ألحقت به إن شاء الله تعالى. وأما علوم الفلسفة: فلا شيخ له فيها، كما صرح بذلك في كتابه (المنقذ من الضلال) اهـ. أقول: إنه أخذ الكلام والخلاف عن إمام الحرمين؛ لأنه كان من المبرزين فيهما، وما كان للزبيدي أن يغفل عن ذلك. ولم يذكروا شيوخه في الفنون العربية: كالنحو والصرف والبيان والأدب، ويحتمل أنه أخذ عن الراذكاني مع الفقه شيئًا من مباديها، واعتمد بعد ذلك فيها على اشتغاله بنفسه، فقد قال عبد الغافر الفارسي خطيب نيسابور وكان من معاصريه: إنه كان مما يعترض به عليه وقوع خلل من جهة النحو، يقع في أثناء كلامه، وروجع فيه، فأنصف من نفسه، واعترف بأنه ما مارس ذلك الفن، واكتفى منه بما يحتاج إليه في كلامه، مع أنه كان يؤلف الخطب، ويشرح الكتب بالعبارات التي تُعجِز الأدباء والفصحاء عن أمثالها، وأذن للذين يطالعون كتبه، فيعثرون على خلل فيها من جهة اللفظ أن يصلحوه، ويعذروه فما كان قصده إلا المعاني وتحقيقها، دون الألفاظ وتلفيقها. اهـ كلام عبد الغافر. ونحن نرى أن كلامه في كتبه أعلى من كلام أقرانه أسلوبًا، وأحسن بيانًا، وأشد تأثيرًا، كما نجد فهمه للكلام العربي أدق من أفهامهم، وذلك منتهى المقصد من الفنون العربية كلها. فإذا كان الوصول إلى هذا المقصد ممكنًا مع الإقلال من الاشتغال بالنحو، فلماذا يضيِّع العاقل الوقت الطويل في قراءة الكفراوي والشيخ خالد , والأزهرية والقطر والشذور وابن عقيل والأشموني وحواشي هذه الكتب، على أن كتابًا منها يكفي الطالب ما لا بد منه من النحو. ولعل من فهم الشذور أو ابن عقيل يكون أعلم من الغزالي بنفس النحو، فعليه أن يفكر في الطريقة التي يكون بها مع ذلك مثل الغزالي , أو على مقربة منه في فهم الكلام العربي، الذي وضع النحو لضبطه وللإتيان بالكلام البليغ منه قولاً وكتابةً، ولذلك طريق غير كثرة مزاولة كتب النحو التي يضعف مثلها ملكة اللسان، كما قال ابن خلدون، فليفكر في ذلك طلاب الأزهر الأذكياء، لا سيما من كان منهم عربي اللسان، يسهل عليه فهم الكتب البليغة في الأدب والتاريخ وغير ذلك بالممارسة قبل تلقي الفنون، فإن كاتب هذه السطور، قرأ كثيرًا من هذه الكتب قبل طلب العلم، ومنها كتاب إحياء علوم الدين لصاحب السيرة. ولكن هذا لا يتيسر للأعاجم. وقد يستدل بهذا على أن الغزالي من عشيرة عربية بقيت محافظة على أصل لغتها، إلا ما لا تخلو عنه طبيعة المخالطة للأعاجم من التحريف والدخيل؛ إلا أن يقال: لغة الفرس كافة كانت قد تحولت عربية في ذلك العهد، وصار العارف بالفارسية يتلقاها بالتعلم، وهذا ما ينكره كثير من العارفين منهم صاحبنا الدكتور محمد مهدي خان فإنه يقول: إن لغة العامة هناك في القرن الرابع والخامس كانت الفارسية. وقد كان الغزالي يعرف الفارسية وألف فيها ولو ك

بغداد في القرن السادس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بغداد في القرن السادس ومجلس شيخا الشافعية والحنابلة رضي الدين القزويني وابن الجوزي قال الكاتب الأديب أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي البلنسي في رحلته الشهيرة، في الفصل الذي أنشأه للكلام عن بغداد: (هذه المدنية العتيقة، وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، ومثابة الدعوة الإمامية القرشية الهاشمية قد ذهب أكثر رسمها، ولم يبق منها إلا شهير اسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث عليها، والتفات أعين النوائب إليها كالطلل الدارس، والأثر الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز الغفلة والنظر، إلا دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها منها كالمرآة المجلوة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبتين، فهي تردها ولا تظمأ، وتتطلع منها في مرآة صقلية لا تصدأ، والحسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ، هي من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة، ففتن الهوى منها إلا أن يعصم الله مخوفة. وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع بالتواضع رياء، ويذهب بنفسه عجبًا وكبرياء، يزدرون الغرباء، يظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمن سواهم الأحاديث والأنباء، قد تصور كل منهم في معتقده وخلده أن الوجود كله يصغر بالإضافة لبلده، فهم لا يستكرمون في معمور البسيطة مثوى غير مثواهم كأنهم لا يعتقدون أن لله بلادًا أو عبادًا سواهم، يسحبون أذيالهم أشرًا وبطرًا، ولا يغيرون في ذات الله منكرًا، يظنون أن أسنى الفخار، في سحب الإزار، ولا يعلمون أن فضله بمقتضى الحديث المأثور في النار، يتبايعون بينهم بالذهب قرضًا وما منهم من يحسن لله فرضًا، فلا نفقة فيها إلا من دينار نقرضه، وعلى يدي مخسر للميزان تعرضه، لا تكاد تظفر من خواص أهلها بالورع العفيف، ولا تقع من أهل موازينها ومكاييلها إلا على من ثبت له الويل في سورة التطفيف، لا يبالون في ذلك بعيب، كأنهم من بقايا مدين قوم النبي شعيب، فالغريب فيهم معدوم الإرفاق متضاعف الإنفاق، لا يجد من أهلها إلا من يعامله بنفاق، أو يهش إليه هشاشة انتفاع واسترفاق، كأنهم من التزام هذه الخلة القبيحة على شرط اصطلاح بينهم واتفاق، فسوء معاشرة أبنائها، يغلب على طبع هوائها ومائها , ويعلل حسن المسموع من أحاديثها وأنبائها. أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكرين، لا جرم أنَّ لهم في طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرًا من أوزارهم، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم، ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم. لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق منهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة. فأول من شاهدنا مجلسه منهم، الشيخ الإمام رضي الدين القزويني رئيس الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار إليه بالتقديم في العلوم الأصولية، حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر، وأخذ القراء أمامه بالقراءة على كراسي موضوعة، فتوقوا وشوقوا، وأتوا بتلاحين معجبة، ونغمات محرجة مطربة، ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور فخطب خطبة سكون ووقار وتصرف في أفانين العلوم من تفسير كتاب الله - عز وجل - وإيراد حديث رسوله صلى الله عليه وسلم والتكلم على معانيه. ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب وما قصر، وتقدم وما تأخر ودفعت إليه عدة رقاع فيها [1] فجمعها جملة في يده، وجعل يجاوب على كل واحدة منها، وينبذ بها إلى أن فرغ منها، وحان المساء، فنزل وافترق الجمع. فكان مجلسه مجلس علم ووعظ، وقورًا هينًا لينًا، ظهرت فيه البركة والسكينة ولم تقصر عن إرسال عبرتها فيه النفس المستكينة، ولا سيما آخر مجلسه، فإنه سرت حميا وعظه إلى النفوس , حتى أطارتها خشوعًا، وفجرتها دموعًا، وبادر التائبون إليه سقوطًا على يده ووقوعًا، فكم من ناصية جزَّ [2] وكم مفصل من مفاصل التائبين طبق بالموعظة وحز، فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك ترحم العصاة وتتغمد الجناة، وتستدام العصمة والنجاة، والله تعالى يجازي كل ذي مقام عن مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه، برحمته وكرمه إنه المنعم الكريم، لا ربَّ سواه، ولا معبود إلا إياه. وشهدنا له مجلسًا ثانيًا إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر المذكور، وحضر مجلسه ذلك اليوم سيد العلماء الخراسانية، ورئيس الأئمة الشافعية، ودخل المدرسة النظامية بهز عظيم، وتطريف آماق [3] تشوقت له النفوس، فأخذ الإمام المتقدم الذكر في وعظه مسرورًا بحضوره ومتجملاً به، فأتى بأفانين من العلم على حسب مجلسه المتقدم الذكر. ورئيس العلماء المذكور هو صدر الدين الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد [4] ، المشتهر المآثر والمكارم، المقدم بين الأكابر والأعاظم. ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد جمال الدين أبي الفضائل بن علي الجوزي، بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي، وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة، وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفرا كل الصيد آية الزمان، وقرة عين الإيمان، رئيس الحنبلية والمخصوص في العلوم بالرُّتب العلية إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة والمشهور له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام في النظم والنثر، والغائص في بحر فك نفائس الدر. فأما نظمه فرضي الطباع، مهياري الانطباع. وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقس وسحبان. ومن أكبر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر، ويبتدئ القراء بالقراءة وعددهم نيف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان والثلاثة آية من القرآن يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصيها عددًا، أو يسميها نسقًا. فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته عجلاً مبتدرًا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررًا، وانتظم أوائل الآيات المقروءات في أثناء خطبته فِقرًا، وأتى بها على نسق القراءة لا مقدمًا ولا مؤخرًا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها. فلو أن أبدع مَنْ في مجلسه، تكلف تسمية ما قرأ القراء به آية آية على الترتيب، لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلاً، ويورد الخطبة الغراء بها عجلاً، {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} (الطور: 15) {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ} (النمل: 16) . فحدث ولا حرج عن البحر، وهيهات، ليس الخبر عنه كالخُبر. ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ، وآيات بينات من الذكر طارت لها القلوب اشتياقًا، وذابت بها الأنفس احتراقًا , إلى أن علا الضجيج وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده، فيجزها، ويمسح على رأسه داعيًا له منهم من يغشى عليه، فيرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هولاً يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل، لكانت الصفقة الرابحة , والوجهة المفلحة الناجحة، والحمد لله على أن منَّ بلقاء من تشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله. وفي أثناء مجلسه ذلك، يبتدرون المسائل، وتطير إلى الرقاع، فيجاوب أسرع من طرفة عين، وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا إله سواه. ثم شاهدنا مجلسًا له ثانيًا له بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر في ساحة قصور الخليفة، ومناظره مشرفة عليه، وهذا الموضع المذكور هو من حرم الخليفة، وخُصَّ بالوصول إليه، والتكلم فيه؛ ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته، ومن حضر من الحرم. ويفتح الباب للعامة، فيدخلون إلى ذلك الموضع، وقد بسط بالحصر. وجلوسه بهذا الموضع كل (يوم) خميس، فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور، وقعدنا إلى أن وصل هذا الحَبْر المتكلم، فصعد المنبر وأرخى طيلسانه عن رأسه؛ تواضعًا لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاؤوا، وأطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة، وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات، صدع بخطبته الزهراء الغراء، وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات، ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب إلى أن أكملها، وكانت الآية {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} (غافر: 61) فتمادى على هذا السين، وحسن أي تحسين، فكان يومه أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته , وكنى عنها بالستر الأشرف، والجناب الأرأف. ثم سلك سبيله في الوعظ كل ذلك بديهة لا روية، ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروءات على النسق مرة أخرى. فأرسلت وابلها العيون، وأبدت النفوس سر شرفها المكنون، وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين، وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس لا تملك تحصيلاً، ولا تميز معقولاً، ولا تجد للصبر سبيلاً. ثم في أثناء مجلسه ينشد من النسيب مبرحة التشويق، بديعة الترقيق، تشعل القلوب وجداً، ويعود موضوعها النسيبي زهدًا، وكان آخر ما أنشده من ذلك وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام. أين فؤادي إذا به الوجد ... وأين قلبي فما صحا بعد يا سعد زدني جوى بذكرهم ... بالله قل لي فديت يا سعد ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فِيْه، إلى أن خاف الإفحام فابتدر القيام، ونزل عن المغير دهشًا عجلاً، وقد أطار القلوب وجلاً، وترك الناس على أحر من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر، فمن معلن بالانتحاب، ومن متعفر في التراب، فياله من مشهد ما أهول مَرْآه، وما أسعد من رآه، نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز بنصيب من رحمته، بمنه وفضله. ثم ذكر أنه حضر له مجلسًا ثالثًا، وأثنى عليه، وفضله على كل من رأى في الحجاز والعراق. وفَضَّل وعَّاظ الشرق على وعاظ الغرب أهل بلاده (الأندلس) . العِبرة في هذه الإثارة التاريخية من وجوه أحدها: أن بغداد لما ضعفت مدنيتها، وتضاءلت العلوم والمعارف فيها، أعقب ذلك أهلها فسادًا في الأخلاق، وشرها في الارتزاق، وعجبًا بما كان على عهد الآباء واحتقارًا للغرباء، وقد كانت في أيام حياتها العلمية تقدر كل أحدٍ قدره حتى كان يجيئها الغريب، فيكون رئيس العلماء فيها، فيذعنون له، ويعترفون بإمامته. وهذه سيرة الغزالي حجة الإسلام، حجة على ذلك

هلال الصوم والفطر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هلال الصوم والفطر من سواكن السودان س 44: عن هلال الصوم والفطر من سواكن (السودان) . بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي مستجدًّا بعده. حضرة الأستاذ الفاضل: رب العلوم، ومعدن الفهوم، الحسيب النسيب، السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الغراء - حفظه الله - وتولاه. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد أشكلت علينا مسألة منذ أعوام، وكثر الهرج لأجلها، فأحببت أن أقدمها لجنابكم؛ سائلاً حلها، وإجابتي عنها جوابًا شافيًا وافيًا على صفحات المنار ليهتدي كل من استهدى به. وذلك عند حلول رمضان وإثبات الصوم أو الفطر، حتى افترق أهل البلدة لثلاث فرق. وإليك نبأهم بالتفصيل: (الفرقة الأولى) : تحتج بظهور هلال رمضان، أو الفطر عيانًا في قطرها وثبوته بالتواتر، كما هو محرر بالكتب الفقهية، فإذا ثبت هلاله صامت، وكذا أفطرت، وإذا غم أكملت عدة شعبان ثلاثين يومًا، وهؤلاء هم فقهاء البلدة ومشايخهم. (الفرقة الثانية) : تعتمد في صومها وإفطارها على قنابل الحكومة المطلقة؛ إيذانًا بحلول رمضان أو الفطر؛ محتجة بأن هذه القنابل لا تطلق إلا بإذن شيخ الإسلام بعد ثبوت هلال الشهر لديه، ويصل إلى البلاد الأخرى على لسان البرق. (الفرقة الثالثة) : تعول في صومها وإفطارها على قاعدة منسوبة للإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه -، وهي في كتاب عجائب المخلوقات للقزويني ونصها: قال جعفر الصادق - رضي الله عنه -: إذا أشكل عليك أول شهر رمضان فعد الخامس من الشهر الذي صمته في العام الماضي، فإنه أول يوم من شهر رمضان الذي في العام المقبل وقد امتحنوا ذلك خمسين سنة فكان صحيحًا) . اهـ من عجائب المخلوقات. فأرجو الأستاذ إفادتي عن المسألة هذه، مبينًا وجه الحق في الاتباع، وأرجو أن لا تحيلونا على ما مضى، إذا سبق في هذا الموضوع جواب؛ ليحق الله الحق، ويخرجنا من ظلمة التقليد بساطع أنوار الحق التليد والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه الفقير ... ... ... ... ... ... 23 جمادى الآخرة سنة 1325 ... ... ... ... ... ... عبد القادر ملاقلندر البخاري (ج) كتبنا في باب الأخبار النبوية الواردة في الصيام، فصلاً فيما يثبت به الصيام والفطر، هذا نصه (ص814م6) ، وعدد الأحاديث فيه تابع لما قبله. *** فصل فيما يثبت به الصوم والفطر (7) جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (إني رأيت هلال رمضان فقال: (أتشهد أن لا إله إلا الله؟) قال: نعم. قال: (أتشهد أن محمدًا رسول الله؟) قال: نعم، قال: (يا بلال أذِّن في الناس أن يصوموا غدًا) . رواه الشيخان، وأصحاب السنن عن عكرمة عن ابن عباس. وفي رواية لأبي داود (فأمر بلالاً فنادى في الناس أن يصوموا وأن يقوموا) . وفي حديث آخر عند أبي داود: (أن النبي عليه السلام اكتفى مرة بشهادة ابن عمر في الصيام) ؛ وهو حجة على ثبوت الصوم بشهادة رجل واحد. (8) عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: (اختلف الناس في آخر يوم من رمضان، فقدم أعرابيان فشهدا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالله لأهلاّ الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا) رواه أحمد وأبو داود وزاد في رواية: (وأن يغدو إلى مصلاهم) . (9) قال صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فافطروا، فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له) رواه الشيخان والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر. وفي رواية البخاري وغيره: (الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين) وفي رواية لمسلم وغيره: (الشهر هكذا وهكذا) ، وأشار بالعقد إلى 29 و30، وفي لفظ الشيخين: (صوموا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) ؛ وظاهر أن الكلام في رؤية الهلال وعدمها. ومعنى اقدروا له: احسبوا، وقدروا، يقال قدره (من بابي ضرب ونصر) وأقدره وقدر له، وغبي هنا بمعنى غم في الروايات الأخرى؛ أي: لم يظهر. والأحاديث نص في أن العبرة برؤية الهلال، لا بحساب الحاسبين، وتقاويم المنجمين؛ وذلك أن هذا الدين عام للبدو والحضر، فوجب أن تكون مواقيت عباداته معروفة عند عامة المكلفين، غير مخصوصة بطائفة الحاسبين، وجاء في بعض الروايات (وانسكوا له) ، فمواقيت الحج تعرف برؤية الهلال أيضًا. (10) عن كريب: أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، قال: فقدمت فقضيت حاجتها، واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس ثم ذكر الهلال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت رأيناه ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم، ورآه الناس، وصاموا وصام معاوية، فقال: ولكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم، حتى نكمل ثلاثين أو نراه: فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، قال: لا، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه أحمد ومسلم، وأصحاب السنن الأربعة. الأظهر أنَّ المشار إليه بقوله: هكذا أمرنا رسول الله؛ هو قوله: لكنا رأيناه ليلة السبت ... إلخ، فإنه هو المنطوق الموافق للمروي، وقيل: إنه أشار إلى ما يفهم من قوله من عدم اعتداد أهل بلد برؤية أهل بلد آخر، وهو غير مروي في المرفوع، ولا هو صرح به، فنكتفي بروايته، فالراجح إذا حمل قوله على المروي المعروف. وقد اختلف علماء السلف فى المسألة، فقيل: يعتبر كل أهل بلد رؤيتهم بعدت البلاد أو قربت. وقيل: لا يلزم أهل بلد العمل برؤية أهل بلد آخر، إلا إذا ثبت عند الإمام الأعظم فَبلَّغه؛ لأن أمره نافذ في جميع البلاد. وقيل: إن تقاربت البلاد كان حكمها واحد. وإن تباعدت عمل كل برؤيته، واختلفوا في حد البعد، فبعضهم ناطه باختلاف المطالع وهو الوجه العلمي، وبعضهم ناطه بمسافة القصر وهو قياس فقهي، وقد رجَّح النووي وغيره من الشافعية كل واحد من القولين، وقطع بكل منهما جماعة من الفقهاء. ونقول: إذا اختلفت الرؤية في البلاد المتقاربة، فإن كان هناك حاكم شرعي ورجح شهادة , وبلغها للناس، وجب أن يعتمدوا عليها، ولا يلتفتوا إلى رؤية الآخرين؛ لينضبط الأمر، ولا يكونوا فوضى في إقامة ركن من أركان دينهم، هذا صائم وهذا مفطر، وإن اختلفت في البلاد المتباعدة، فهناك النظر والاجتهاد، وقد رأيت أن بعضهم اعتبر البعد باختلاف مطالع القمر، وبعضهم اعتبره بمسافة القصر والأول: يستلزم تحكيم علماء الفلك. وقد ذكرنا أن غرض الشرع؛ أن يجعل ما تعرف به مواقيت العبادة عامًّا، يعرفه العوام والخواص، حتى لا يتحكم الكبراء في المسائل الدينية، كما فعلوا في الأمم السالفة. والثاني: يمكن أن يتجه لو ورد حديث يذكر فيه اختلاف الحكم ببعد البلاد، فيقال حينئذ: إن مسافة القصر هي البعد الشرعي الذي تختلف به الأحكام. وهناك وجه آخر في البعد والقرب، ربما كان أجد بالاعتبار، وهو أن البلاد المتصلة التي بين أهلها امتزاج وتعامل؛ كالبلاد المصرية كلها تعد بلادًا متقاربة، ولا ينبغي أن يكون بعض أهلها مفطرًا وبعضهم صائمًا؛ بحجة اختلاف الرؤية، فإذا ثبتت الرؤية في بعضها، يصوم الجميع، وإلا أكملوا عدة شعبان ثلاثين، وصاموا متفقين، وما يفعلونه الآن في الأقطار الإسلامية من الإثبات في مكان، وإعلام الآخرين به حسن في ذاته، وغير حسن ما يحتف به من البدع. وأما البلاد التي لا صلة بينها قوية سهلة، ولا تعامل بينها إلا بمهاجرة بعض أهلها من إحداها إلى الأخرى، فلا بأس باعتبار كل ما يثبت عنده، وإن تيسر إعلام كل قطر الآخر بنبأ البرق الذي يؤمن تزويره، ولو كان للمسلمين إمام أعظم ينفذ حكمه الشرعي في جميع بلادهم، وتيسر له إعلامهم بما يثبت عنده من الرؤية وصاموا بذلك لكان له وجه من الحسن. واتجه قال ابن الماجشون) . اهـ ما في المجلد السادس، وقد سقط من آخره شيء وأصله , واتجه ما قاله ابن الماجشون: من أنه لا يلزم أهل بلد برؤية غيرهم، إلا أن ثبت ذلك عند الإمام الأعظم؛ لأن البلاد في حقه، كالبلد الواحد، لنفوذ حكمه فيها. وجملة القول أنَّ العبرة بالرؤية أو إكمال العدة، فإذا ثبتت عند الحاكم وأعلم بها الناس، عملوا بإعلامه.

سؤالان أو أسئلة من جاوه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سؤالان أو أسئلة من جاوه عتق جميع العبيد والإذن بتزويج المعتوقات أرسل إليّ بعض أهالي سليبس هذان السؤالان، والتمس مني إرسالهما إليكم؛ لكي تنشروهما في المنار مع الجواب. وهما الأول في الإعتاق والإذن بالتزويج بصيغة الجمع. (س 45، 46) إنه لما استولت حكومة هولندا على جزيرة سليبس، وأخذت سلطان بوني أسيرًا، كان لديه أرقاء كثيرون، وكذلك أهالي تلك الجهة لديهم كثير من الأرقاء، فلما استولت هولندا على تلك النواحي، هرب أولئك المماليك، وتركوا مالكيهم، فما قولكم رضي الله عنكم - فيمن أعتق أرقاءه بصيغة الجمع، قائلاً: (إني أعتقت جميع مماليكي، وجعلتهم أحرارًا لوجه الله ذكورًا وإناثًا. وإذا أذن المعتق بتزويج معتوقاته) قائلاً: إني أذنت لكل من يتولى عقود الأنكحة من قضاة المسلمين أن يزوج كل معتوقة لي عند عدم وليها الشرعي، على من تريد، فهل يكفي في كل الإعتاق والإذن بالتزويج صيغة الجمع أم لا؟ أفيدونا، ولكم الأجر والثواب. الثاني من صلى بالناس الجمعة في مرض النبي صلى الله عليه وسلم (س47) لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي به فمن صَلَّى بالناس الجمعة التي وقعت في حال مرضه صلى الله عليه وسلم؟ ومن الذي خطب بهم الخطبة؟ أفيدونا مأجورين. الجواب عن السؤالين الأولين يصح العتق بصيغة الجمع، ويتناول كل فرد، لا نعلم في ذلك خلافًا. وأما الإذن بالتزويج، ففيه تفصيل: فإذا أرادت المعتقة أن تتزوج في بلد ليس لها فيه ولي غير مولى العتاقة، وقامت البينة عند القاضي على ذلك الإذن، كان له أن يزوجها، وإذا لم تقم عنده بينة طلبه، ليزوج هو. وأما إذا كان المولى غائبًا ولا ولي سواه، فللقاضي أن يزوج سواء كان هناك إذن أم لا، الولاية له حينئذ. (الجواب عن السؤال الآخر) قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مرض مرض الموت في أواخر صفر أو أوائل ربيع الأول، وقالوا: إن المرض قد اشتد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال، وقالوا: إنه توفي حين اشتد الضحى من يوم الإثنين، وقالوا: إن أبا بكر رضي الله عنه هو الذي كان يصلي بالناس بأمره عليه الصلاة والسلام؛ في المدة التي لم يكن يستطيع الخروج فيها، وقالوا: إنه خرج في صبيحة يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي الصبح بالناس فضحك؛ سرورًا برؤيتهم، وكادوا يفتنون في صلاتهم فرحًا به؛ إذ ظنوا أنه عوفي، وأراد أبو بكر أن يتأخر؛ ليتم صلى الله عليه وسلم الصلاة بالناس، فأشار إليه بأن يمضي في صلاته. وقال بعضهم: إن أبا بكر صلى في الناس سبع عشرة صلاة، ولم أر أحدًا قال إن منها صلاة الجمعة. ورأيت في الإحياء: أن ابتداء الأذان لأبي بكر رضي الله عنه بالصلاة بالناس كان في أول ربيع الأول، فإذا كانت وفاته صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر منه كما هو المشهور، فالصلوات التي أمَّ أبو بكر بها الناس كانت متفرقة، ومنها الليالي التي اشتد بها المرض، فلا عجب إذا كان صلى الله عليه وسلم هو الذي صلى بالناس آخر جمعة من أيام حياته الشريف.

العصبية الجنسية واللواء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العصبية الجنسية واللواء أرسل إلينا بعض طلبة مدرسة الحقوق مقالاً من الإسكندرية عنوانه (المنار والسياسة والدين) . ولكن موضوعه الدفاع عن صاحب جريدة اللواء، وإطراؤه بالمدح والثناء، ومؤاخذة المنار على إنكار عليه ما أدخله في دعوة الوطنية؛ من نزغات العصبية الجنسية الجاهلية، وإقامته الحجج على أن ذلك مناف لما قرره الإسلام من أخوة الدين، ومن الحقوق الأخرى لكل مقيم في دار الإسلام أيًّا كان جنسه. ذكره بذلك، ما كتبناه في الجزء الماضي ردًّا على فريد أفندي وجدي. قال الكاتب: (أما بعد، فإن لي كلمة، يدفعني الشعور بالواجب أن أقولها لكم وهي وإن كانت لا تتفق إلى الآن مع رأيكم، إلا أن لي ملء الثقة في أنكم لا ترفضون كل ما يخالفكم؛ لما ناديتم بذلك كثيرًا، وشهدناه منكم غير مرة. فأنا أرسل إليكم تلك الكلمة؛ معتقدًا أني أخدم بها الحق، كما أخدم بها المنار، فرجائي أن تنشروها في مجلتكم، ولكم بعد ذلك أن تعلقوا عليها، ما شئتم أن تعلقوا) . نقول: إننا لا نرفض كل ما يخالفنا، ولا ننشر كل ما يوافقنا، وإنما نختار ما نرى فيه الفائدة من الأمرين، ومنه الانتقاد علينا في المسائل الدينية والعلمية، ممن يبحث في المسألة نفسها، لا في اعتقاده بنية صاحبها وشؤونه الخاصة، فلو كان الكاتب جعل مقالته في انتقاد رأينا في العصبية الجنسية؛ لنشرناها. ولكن معظمها في بيان اعتقاده في صاحب جريدة اللواء، وما يرجوه من سعادة البلاد بدعوته، وهو ما نعتقد خلافه. فهو يذكر اعتقاده فيه، ويقول: (فماذا تنتقدون عليه في ذلك؟ وماذا ترون فيه مما يخالف روح الدين؟) كأنني بانتقاد العصبية الجنسية الجاهلية عليه، انتقدت عليه كل شيء يقوله. وقد غلا في ذلك، حتى حكم بأنني أعد المبادئ التي تنهض بها الأمم - وهي مبادئ صاحب جريدة اللواء في رأيه مخالفة للإسلام، وأنني أجعل الحياة الوطنية عين العصبية الجنسية الجاهلية؛ وبذلك أكون منفرًا عن الإسلام. وهذا غير صحيح، فما فائدة التطويل بشرح رأي غير منطبق على الواقع. ليس في المقال دفاع حقيقي عن صاحب جريدة اللواء في موضوع العصبية الجنسية، إلا إنكار أن تكون مما يدعو إليه، قال: لعلكم تريدون بذلك، ما يطعن به على الدخلاء، وتحذير المصريين منهم في اللواء. إن كنتم تريدون ذلك وهو الواقع، فما أبعد دعوته عن عصبية الجنسية؛ لأن مصطفى كامل باشا قد عرَّف معنى الدخلاء غير مرة، وفهم ذلك عنه الكثيرون من قرَّاء اللواء فهو يعني بالدخيل من يزج بنفسه في أهل أمة، ويسعى في ضررهم، وهو يطلق هذا اللفظ على فئة من نصارى سوريا، رأينا من أعمالهم أنهم يحملون في صدورهم أقبح النيات نحونا؛ سعيًا وراء مصالحهم وأهوائهم. ثم ذكر أنه إن كان قد أدمجنا في تلك الزمرة؛ فما ذلك إلا لاعتقاده أننا نفعل فعل تلك الزمرة، وأننا لا نخلص في فائدة الأمة المصرية، ثم استدل على ذلك بإجلاله لبعض السوريين كرفيق بك العظم. أقول: ليست العصبية الجنسية في اللواء مأخوذة من كلمة الدخلاء التي جعلها هجيراه فقط، بل نرى روحه فائضة بهذه العصبية التي جعلها مضادة للسوريين بوجه خاص، فما غاضت آونة؛ لعدم المحرك إلا وفاضت أخرى. وقد طغت حتى تجاوزت السوريين المقيمين في مصر إلى غيرهم، كما ظهر ذلك عندما علل تألب العساكر السورية المسوقة إلى اليمن بخسة المنبت. وقد ظهر أثرها في الأغرار المخدوعين بجعجعة هذه الجريدة، حتى صار مثل محمد فريد أفندي وجدي لا يسمح لمحمد رشيد رضا أن يتكلم في شؤون الأمة المصرية، بل ولا في شؤون ملتها، ولا يجد أحدًا ينشر له هذا إلا اللواء؛ صاحب الدعوة وناشرها. وإن مثل هذه العصبية يكون مظهرها في اللسان أقوى منه في الكتابة، وقد سمعنا من خاصة أصدقائنا الفضلاء من المصريين أنها قد قويت، حتى صار بعض المتعلمين، بل والمعلمين يعذلون من إخوانهم من يعترف بفضل سوري، أو يخلص له في الصداقة ورأينا أهل الفضل والدين من المصريين يألمون؛ لطروء النزعة الجاهلية على المسلمين. ولعل المنتقد قد قرأ ما كتبه بعض إخوانه طلاب الحقوق في بعض المجلات المحدثة من كونهم يطلبون: بيان الدين والدفاع عنه من المصريين. بل وصل شر العصبية إلى بعض علماء الأزهر الذين يعيشون فيه مع طوائف المسلمين من جميع الأقطار، حتى قال أحد كبرائهم مرة عندما مدح أمامه (مسجد الست الشامية) في موقعه ونظافته: نعم. ولكن من الأسف أنهم حشوه بالشوام: وهو - وإن بناه الشوام، ووقفوه ووقفوا عليه - ليس فيه مستخدم شامي إلا الخطيب الصالح الذي يقصد المسجد؛ لأجله من الأماكن البعيدة، ممن لم تفسد دينهم عصبية الجاهلية. أتدري من هو ذلك العالم؟ إنني لا أسميه، وإنما أقول لك: إنه صديق صاحب جريدة اللواء من علماء الأزهر الذي كان يزوره، كما يزوره هو. بل ارتقى صاحب جريدة اللواء بهذه العصبية إلى مستوى أسمى، فصرح بأن أمير البلاد أشار في خطبته يوم خلع على الشربيني خلعة مشيخة الأزهر إلى وجوب خروج صاحب المنار من مصر؛ لأنه هو الغريب الذي هو غير راض عن طريقة التعليم في الأزهر. على أننا لو سلمنا أن اللواء لا يعني بالدخلاء الذين ينفر عنهم، ويبغض فيهم غير فئة من نصارى السوريين، كما يرى المنتقد الحسن الظن، لما كنا إلا قائلين بأنه مخطئ خطأ ضارًّا بالبلاد؛ لأن أول من يخطر بالبال من هذه الفئة أصحاب المقطم، وهم لم يذهبوا مذهبهم المعروف في السياسة؛ لأجل فائدة سوريا ومصلحتها، حتى يقال: إنه مذهب سوري، ويذم منتحله بأنه أو لأنه سوري أو دخيل. كلا، إنه ما ذهب أحد منهم هذا المذهب؛ لأنه سوري دخيل في البلاد المصرية، يتعصب عليها وعلى أهلها؛ ليحول مصالحها ومنافعها إلى وطنه، وإنما قصارى سوء الظن فيهم أن يكونوا يلتمسون بهذا منفعتهم الخاصة، فما معنى نبزهم بلقب الدخلاء، وجعل ذلك علة لعداوتهم للمصريين؟ أليس من المقرر في علم الأصول، والمعروف عند أرباب الأذواق والعقول أن ترتيب الحكم على المشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق؟ أليس الاسم المنسوب من قبيل المشتقات، ولذلك يعمل عمل اسم المفعول؟ فبهذا تبين أن ترتيب الطعن في قوم على كونهم سوريين دخلاء؛ يؤذن بأن كونهم سوريين هو علة ذلك الطعن، وما ترتب عليه، وحينئذ يكون طعنًا في جميع السوريين من حيث هم سوريون، وهو على كونه خرقًا وأفنًا في الرأي ضار؛ لأنه تأريث عداوات وضغائن بين أهل قطرين متجاورين في الأرض، متساوين في اللغة والتابعة العثمانية، متقاربين في العادات، وأكثر أهلهما مع هذا متفقون في الدين. إن السوريين المقيمين بمصر وحدهم، لا يستهان بعداوتهم؛ فإنهم أصحاب قوة مالية تقدر بنحو خمسين مليون جنيه، وقوة أدبية لا تحتاج إلى تعريف. وما من أحد منهم يعد من أصحاب الرأي، والإشراف على أحوال العصر، إلا وهو يعتقد بأن خطة جريدة اللواء تضعه من المصريين موضع العدو من عدوه. ومن هؤلاء من هو مخالف لأصحاب المقطم في الرأي والسياسة، ومنهم من يبغضهم ويطعن فيهم. أي قول قال به أصحاب المقطم، وليس في المصريين مسلمهم أو قبطهم من يقول بمثله، فما بالك بسائر الشعوب التي يوجد منها ألوف تقيم في مصر، ولهم جرائد تخالف رأي اللواء، كما يخالفه المقطم وهي أشد خلافًا، فلماذا لا ينوط ذنبها في رأيه، بكون أصحابها من جنس كذا، أو من بلاد كذا؟ إن كل أجنبي بمصر , يرى جنسه أشرف من الجنس المصري، وأجل من أن يخضع لقانونه، وهو يعمل في هذه البلاد لأمته وبلاده وما أصابه من الثروة ينقلب به إلى أهله. والسوري يرى نفسه شقيقًا للمصري، ومساويًا له في كل شيء وقلما يرجع سوري إلى بلاده بما كسب من مال. ولكن كثيرًا منهم جاءوا إلى مصر بأموال عظيمة، لا سيما في هذه السنين الأخيرة. فلأي شيء يعد اللواء ذنب الواحد منهم عارًا عليهم. وما هو الفرق بين السوري والمصري والإفرنجي في ذلك؟ على أن جميع الأجناس صارت تشعر بأن اللواء يدعو إلى عدوانها، بل طفقوا يعتقدون أن المصريين يبغضون كل غريب، فما أشأم اللواء! المنتصر للواء؛ يرى أن خطته هي التي تنجح بها الأمم، وأنه لا نجاح بسواها، ونحن نرى ضد ما يرى، وما توسعنا في مسألة الجنسية الآن وقبل الآن؛ إلا لأنها منافية لروح الإسلام من جهة، ولمصلحة المصريين ثم السوريين من جهة أخرى، ولو شئنا لبيَّنا تنفير هذه الخطة جميع الأوربيين من المصريين، وكيف جعلتهم عونًا للإنكليز عليهم، بعد أن كانوا عونًا لهم على الإنكليز، وبيَّنا كيف شغلت هذه الخطة المصريين بالسياسة العقيمة من الطريقة المستقيمة، وغير ذلك مما ننكره على هذه الجريدة المتهورة وصاحبها. ولكننا ندع ذلك للأيام، فهي التي تكشف للناس، كيف كانت هذه الوطنية عبارة تبغيض المصريين إلى جميع الشعوب وكثرة الفخر والدعوى والعظمة، ولعل اليوم الذي تنكشف فيه الحقائق ليس ببعيد. الجرائد وتاريخ الأستاذ الإمام وصاحب جريدة اللواء جاءتنا رسالة من الشيخ أحمد المنوفي إمام الجامع الكبير بكلكته (الهند) في موضوع انتقادنا على بعض الجرائد فيما كتبت عن تاريخ الأستاذ الإمام، أنحى فيها على صاحب جريدة اللواء إنحاءً شديدًا، يتعلق بسيرته وسياسته، كما أطرأه صاحب الرسالة السابقة في ذلك. فنعتذر عن نشرها بمثل ما اعتذرنا به عن نشر تلك؛ لأنها لا تفيد القراء وإنما تفيدنا نحن، وقد قرأناها، وإنما نذكر جملة منها على سبيل النموذج؛ لما فيها من اعتقاد كاتبها في الأستاذ الإمام - عليه رضوان الله- لا مجازاة للواء على شتمه إيانا مرة بعد أخرى إذ لو كان غرضنا ذلك لنشرناها برمتها. قال الكاتب في عرض الكلام على صاحب اللواء: (ثم ازداد غلوًّا، فجعل مداد قلمه تامور المسلمين، ومهجة المصريين، لا استغراب ما صدر منه من هذه اللفظة الشنيعة التي منشأها الغطرسة وسوء الأدب مع أئمة الدين وقادة المسلمين، ألا وهي قوله: (تاريخ الشيخ عبده) إذ مثل هذه اللفظة يتحاشا من كتابتها، وجعلها عنوانًا على إمام الأئمة المرحوم الأستاذ الإمام، أقلُّ الناس أدبًا، وأشدهم تكبرًا، وأجهلهم بحقيقة نفسه، بل لا ينبغي لأديب أن يجعلها عنوانًا على أصغر تلميذ، فضلاً عن الأستاذ الإمام. فما بالك بصاحب (جريدة) اللواء، الذي يعتقد أنه خلَّص المسلمين وعلى الأخص المصريين من دوكه أو أخرجهم من سَلَى جمل، وأنهم لولاه لم تقم لهم قائمة إلخ ما قال، ومنه عدم التفرقة بين ما يكتبه صاحب هذه الجريدة، وما يكتبه خلفاؤه؛ لأنهم كما قال الكاتب: (لا يكتبون إلا ما يوافق مشربه) . وجملة القول: أننا لا نحب البحث في مذهب جريدة اللواء، وسيرة صاحبها في سياسته، ومشربه، ولا نحاول إقناع المعجبين بها وبه بما نعتقد فيهما؛ لأنهم يتبعون في ذلك الإعجاب الشعور والوجدان، دون الرأي والبرهان، والوجدان يستفزه الغلو والشذوذ؛ ولذلك نال عبد الله أفندي نديم رحمه الله من إعجاب الجماهير، وتصفيق قلوبهم وأيديهم، ما لم يصل إلى مثله ولا إلى عشره صاحب جريدة اللواء إلى اليوم؛ لأنه كان يقول لهم فيما يكتب يخطب: إن قذائف مدافع الإسكندرية تصل إلى قبرص من هذه الناحية، وقذائف مدافع الآستانة تصل إليها من الناحية الأخرى، فكيفما جالت المراكب الإنكليزية فهي تحت رحمة مدافعنا. ومصطفى كامل يهزأ بالإنكليز، ويهددهم بما يقرب من هذا، ومتى وصل إلى مثله - وما ذلك ببعيد - يصير إعجاب الجماهير به أشد منه اليوم؛ لأ

الانتقاد على محمد فريد وجدي ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على محمد فريد وجدي في كتبه (3) كنز العلوم واللغة نكتفي في هذا الجزء بالانتقاد على مادة واحدة من مواد كتاب كنز العلوم واللغة؛ لأن باب المناظرة لا يتسع فيه لأكثر من ذلك. أخطأ فريد أفندي وجدي فيما كتبه في لفظ (حديث) أنواعًا من الخطأ، تدل على أنه لا ثقة بنقله وروايته، كما أنه لا ثقة بفهمه ورأيه. (الخطأ الأول) تعريفه الحديث في الاصطلاح، بقوله: (والحديث في الاصطلاح، أطلق على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكلام) وهذا غير صحيح، وهو يدل على أنه لم يتلق، ولم يقرأ شيئًا من كتب الحديث مطلقًا، أو قرأ شيئًا قليلاً لم يفهمه، والصواب أن الحديث في اصطلاحهم ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريرًا أو صفة. ويطلق كما في النخبة على كل من: المرفوع والموقوف والمقطوع. (الثاني) قوله: إنه لم يصح عند أبي حنيفة إلا سبعة عشر حديثًا فقط، فإن من يعرف غير هذا العدد من الصحاح لا يعترف له أحد بالإمامة والاجتهاد المطلق نعم، إن الرواية عن أبي حنيفة قليلة، وفرق بين ما يروى عنه، وما يصح عنده. (الثالث) قوله: (إنه لم يصح عند الإمام مالك إلا ثلاث مائة حديث) ، وهذا خطأ كبير، فقد قال الحافظ ابن حجر: كتاب مالك صحيح عنده، وعند من يقلده، على ما اقتضاه نظره من الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وغيرهما. وقد نقل عن الإمام الشافعي أن الموطأ أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى. نعم، إن الشافعي قال ذلك قبل وجود صحيحي البخاري ومسلم، اللذين قدمهما العلماء بعده على الموطأ. ولكن ذلك لم يخرج الموطأ عن كونه صحيحًا. وقد نقل السيوطي في تنوير الحوالك عن القاضي أبي بكر بن العربي أن الموطأ هو الأصل الأول، والبخاري هو الأصل الثاني. وأنَّ مالكًا روى مائة ألف حديث، جمع منها في الموطأ عشرة آلاف، ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة (أي العملية) ، حتى رجعت إلى خمس مائة وعن إلكيا الهراسي كان تسعة آلاف، فرجع إلى سبع مائة. أقول: والظاهر أن الخلاف في العدد خاص بالأحاديث المسندة، وهي كما نقل عن الأبهري ست مائة، وعن ابن حزم خمس مائة ونيف. ومجموع الأحاديث والآثار فيه ألف وسبع مائة وعشرون. قال الأبهري: المرسل منها 222، والموقوف 613، ومن أقوال التابعين 285، وكل ما فيه قد صح عند مالك. وإن قال بعض المحدثين بعده بضعف قليل من رواياته، وقد نقل عنه أنه قال: (عرضت كتابي هذا على سبعين فقيهًا من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه، فسميته الموطأ) ، فلينظر الناظر على مبلغ علم فريد أفندي بالآثار، وجرأته على كتابة ما ليس له به علم. (الثالث) قوله: (ولم يصح عند البخاري إلا 6200 حديثا (كذا) من أكثر من 600.00 سمعها من الناس) . أقول: لا ندري، أيخترع فريد أفندي وجدي هذه الأقوال اختراعًا أم سأل بعض من يظن فيه العلم أن يكتب له ذلك، ليفتخر بعلم غيره، فكان افتخاره بالجهل. أما المعروف المشهور في كتب الحديث، فهو أن ما في الجامع الصحيح للبخاري هو بعض ما صح عنده، وهو بالمكرر يزيد عما قال، وبدونه ينقص، قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح: جميع أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات سبعة آلاف وثلاثة مائة وسبعة وتسعون حديثًا، والخالص من ذلك بلا تكرار ألفا حديث وست مائة وحديثان. ثم تكلم في إحصاء المتون المعلقة المرفوعة بغير وصل. ولا يتفق زعم فريد أفندي وجدي مع عد المكرر ولا مع تركه. هذا إذا فرضنا أنه لم يصح عند البخاري إلا أحاديث الجامع، والصواب أنه قد صح عنده غيرها، وقد صح عنه أنه قال: (لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحًا، وما تركت من الصحيح أكثر حتى لا يطول) . (الرابع) قوله: أول من ألف في الحديث مالك في الموطأ (كذا) توفي سنة 179، وقيل: ابن جريج. والصواب أن أول من دون الحديث ابن شهاب الزهري بأمر عمر بن عبد العزيز كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح، ورواه أبو نعيم في الحلية عن مالك نفسه وفي باب اكتتاب العلم من الموطأ رواية محمد بن الحسن، وعلقه البخاري (أخبرنا مالك أخبرنا يحيى بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أبي بكر عمرو بن حزم: أن انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنته أو حديث عمر أو نحو هذا، فاكتبه لي؛ فإني قد خفت دروس العلم وذهاب العلماء) . نعم، إنهم ذكروا أن مالكا وابن جريج من أول من صنف الحديث مرتبًا على الأبواب، وهذا أخص من مطلق التأليف والتدوين، فإن الذين كتبوا الحديث على أقسام: منهم من كتب ما اجتمع له كيفما اتفق، ومنهم من رتبه على الأبواب، ومنهم أصحاب المساند الذين ذكروا ما أسنده كل صحابي على حدة بحسب رواياتهم، ومنهم أصحاب المعاجم الذين رتبوه على حروف المعجم. وقد كان ممن ألف الحديث مرتبًا على الأبواب في القرن الثاني مالك بالمدينة، وابن جريج بمكة، وسفيان الثوري بالكوفة، والأوزاعي بالشام، والربيع بن صبيح أو سعيد بن أبي عروبة أو حماد بن سلمة بالبصرة، وهشيم بواسط، ومعمر باليمن، وجرير بن عبد بن حميد بالري، وابن المبارك بخراسان. قال الحافظان ابن حجر والعراقي: وكان هؤلاء في عصر واحد، فلا يدرى أيهم أسبق، كذلك كتب المسند غير واحد في عصر واحد، فاختلفوا في الأول منهم. فلو كان فريد أفندي وجدي مطلعًا على أقوال المحدثين في ذلك، لقال: إن مالكًا وابن جريج هما أول، بل من أول من صنف الحديث مبوبًا، كما يقال أول أو من أول من كتب المسند نعيم بن حماد وأسد بن موسى وعبد الله بن موسى. وأنَّى لمثل فريد أفندي وجدي أن يعرف شيئًا من هذه الفروق والدقائق، أو مثل من وصفه بالتدقيق والتحقيق في كل ما يكتب، كبعض محرري المؤيد. على أن القول بسبق ابن جريج لمالك أقوى من عكسه، كما أطلق ذلك غير واحد، ومنه ما في التذكرة للحافظ ابن حجر عن الإمام أحمد أنَّ ابن جريج وابن أبي عروبة أول من صنف الكتب. (الخامس) قال فريد أفندي وجدي: (ثم توالت بعد ذلك المجموعات السبع الشهيرة بكتب السنة الصحيحة وهي: مجموعة البخاري المتوفى سنة 256 هـ، ومسلم المتوفى سنة 261 هـ، وأبو داود (كذا) المتوفى سنة 275 هـ وابن ماجه المتوفى سنة 282 هـ، والنسائي المتوفى سنة 333 هـ والدارقطني المتوفى سنة 385 هـ) . أقول: إنه ذكر أن المجموعات سبع وعد ستًّا فقط، فلا نعد هذا عليه، وإنما نعد عليه أنه ترك من الكتب الستة كتاب الترمذي، واستبدل هو به الدارقطني، وهذا يدل على الجهل المطلق بهذا العلم، ولو ترك ابن ماجه لقلنا: إنه تركه للخلاف فيه، وإن جرى جميع المتأخرين على عده السادس من الستة. ولكن أنَّى لمثله، ولمن يقرظ له كتبه، فيصفها بالتحقيق والتدقيق أن يعرف هذا. (السادس) زعمه أن ابن ماجه توفي سنة 282، والصواب أنه توفي سنة 272، وقيل 275. (السابع) زعمه أن النسائي توفي سنة 333، والصواب أنه توفي سنة ثلاث وثلاث مائة. فبأي شيء مما يكتب فريد أفندي يوثق. إن كل ما كتبه في هذه المادة لا يزيد إلا قليلاً عن الصفحة، وقد رأيت أن معظم ما هو نقلي من ذلك فهو خطأ؛ لأن منه الكلام في النسخ والوضع، وله في ذلك عبارات لو تتبعناها وانتقدناها لفظًا ومعنى؛ لأطلنا في إحصاء ما يتعذر إحصاؤه. ومن قرأ قوله في آخر هذه المادة: (هذا وإننا في عصر كثر فيه النبهاء، وأخذ كثير منا في احتذاء مثال أئمتنا في مسألة الأحاديث من الاكتفاء بالصحيح السليم، وإن كان قليلاً، وترك المشكوك فيه، مهما كان كثيرًا) . من قرأ قوله هذا يظن أنه هو في مقدمة هؤلاء النبهاء الذين ذكرهم. ولكنه إذا تتبع الأحاديث التي يحتج بها فيما يكتب، يرى أنه يشكك في أصح الروايات؛ كأحاديث الشفاعة. ويعتمد في الأكثر على الأحاديث المشكوك فيها، أو المقطوع بضعفها أو وضعها، وهو لا يعلم. وسنبين ذلك في فصل مستقل إن شاء الله.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (لباب الخيار في سيرة المختار) ألف الشيخ مصطفى الغلاييني البيروتي مختصرًا في السيرة النبوية سماه بهذا الاسم، وطبعه طبعًا جميلاً على ورق حسن، ضبط فيه بالشكل ما رآه مما يشتبه فيه غير العالم، فكانت صفحاته 82 صفحة، وهو أسهل المختصرات، وأقربها إلى إفادة التلاميذ المبتدئين والعوام. ذكر في أول هذا المختصر أن الإسلام قام، أو نشر بالدعوة لا بالسيف، وقسم حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثلاثة أدوار: ما قبل البعثة، وما بعدها إلى الهجرة، وما بعد الهجرة، وذكر المسائل والغزوات دون السرايا، ونبَّه على مواضع العبرة في كثير من المواضع، وختم المختصر بأحاديث من الحكم وجوامع الكلم بلغت 221 حديثًا، رتبها على حروف المعجم. وثمن النسخة من هذه السيرة قرشان صحيحان ما عدا أجرة البريد، وتطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (فلسفة الإسلام ومدنية القرآن) كتاب جديد يؤلفه أحمد أفندي بدوي النقاش أحد ضباط الجيش المصري في سكة الحديد السودان. وقد طبع الجزء الأول منه في مطبعة الآداب والمؤيد. وقد يتعجب القارئ من نسبة كتاب في الفلسفة إلى ضابط مصري، لا سيما إذا كان عالمًا بحال التعليم في المدرسة الحربية المصرية، وأنه تعليم صناعي ليس فيه شيء يرقي الفكر، حتى إن دراسة التاريخ، قد ألغيت من هذه المدرسة منذ سنتين، ولا ترى جريدة من الجرائد المبالغة في انتقاد نظارة المعارف، تنتقد ذلك على نظارة الحربية. نعم يتعجب القارئ من تأليف ضابط مصري كتابًا في فلسفة الدين، ولا يذهب بتعجبه إلا تذكر تفاوت استعداد البشر، فإن في الضباط المصريين أفرادًا من المغرمين بقراءة كتب العلم والدين والتاريخ والمجلات الدينية والعلمية. ومؤلف هذا الكتاب من المستعدين للفلسفة، ويا ليت تربيته لم تصرفه عما خلق مستعدًّا له إلى غيره. قرأنا مسائل من الكتاب، فرأيناها نتائج فكر دقيق، جاءت من كل فج سحيق، بعضها جلي وبعضها خفي، لم تقو العبارة بيانه. ومن مباحث الكتاب؛ طبيعة الفكر الإنساني، والإرادة والعقل، وحرية الإنسان واستقلاله بوجود الله، والفلسفة الإلهية، وإيصال القرآن إلى السعادة وغير ذلك. *** (الدليل - في موارد أعالي النيل) كتاب جديد كبير الحجم والفائدة صنفه بالإنكليزية السر وليم جارستن مستشار نظارة الأشغال العمومية بمصر، ونقله إلى العربية إبراهيم منصور بك رئيس الترجمة في هذه النظارة، وطبع بمطبعة المعارف طبعًا في منتهى الحسن، وهو يشتمل - كما كتب في طرته - (على مطالب التعديل والإصلاح. ويليه نبذة لجناب المستر ديبوي مفتش عموم ري السودان، شرح فيها خبر رحلته إلى بحيرة نسانا وأنهار السودان الشرقي. وفي درج الكتاب رسوم جمة، وله ملحقات) . نقول: أما الكتاب فهو قسمان وخاتمة، وفي القسم الأول منها 12 فصلاً في الكلام على بحيرة فكتوريا وبحيرة ألبرت أدور وبحيرة ألبرت وهي ينابيع النيل وأصوله، وعلى نيل فيكتوريا والنيل الأعلى المعروف ببحر الجبل، وعلى البحرين الأبيض والأزرق وهما فرعا النيل العظيمين وغير ذلك. والقسم الثاني في (تصرفات الأنهار وممكنات المشاريع) وفيه فصلان. وأما الملحقات ففيها فوائد كثيرة في مشروعات، ومباحث مهمة، كتعلية حبس أسوان، ومشروعي وادي الريان وفرع رشيد. وأما الرسوم فيه فهي 46 رسمًا، وهناك رسوم أخرى كثيرة منها الملون، كخرائط الجغرافية، ومنها غير الملون وهي في غاية الإتقان. ومن خدمة اللغة في هذا الكتاب أن مترجمه بالعربية، قد فسر في هوامشه الألفاظ التي احتاج إلى استعمالها فعني بالبحث عنها ووضعها في مواضعها ولم تكن مستعملة عند كتاب العصر، كالمساك بوزن سحاب، وهو مكان من النهر تتراصف إليه حطامة الأغصان، ورفاض الحطب والعشب وغيرها فتحبس ماءه وتعوق سيره، ويعرف بالسد. وكالمفجرة بوزن المتربة قال: وهي أرض تطمئن وتنفجر فيها أودية، وبالتخصيص فجوة ما بين جبلين، وهي الفجة والوادي والغور. وهو يفسر أيضًا كل ما يرد في الكتاب من الاصلاحات والدخيل. وأسلوب الترجمة عربي فصيح، قلما تجد لأحد من كتاب هذا العصر ومترجميه مثله، وإن لم يخل من بعض ما ينتقد على نابغيهم، وهاك هذا النموذج منه في الكلام على بحيرة ألبرت: (أما بحيرة ألبرت فالحادثات فيها على خلاف ما تقدم. ولكن لا مرد لوقوعها وفعلها أكيد. ذلك أن منالج جبل رونزوري والفواعل الجوية فيه، تؤدي إلى تحات جوانبه على الدوام وتفتتها، وكل ما ينساب منها من الرفاض [1] تجترفه السيول إلى أخاديد [2] ومضايق ذاهبة به إلى نهر سملنكي، وهو يرمي بها إلى بحيرة ألبرت، ومعها مقادير من الطين التي تجتلبها مياهه من أنحائه العليا. هذا وانحدار النهر عند الطرف الجنوبي لبحيرة ألبرت يقل، فتخف بذلك جريته، فتصبح مياهه - وليس لها قوة دافعة - تستاق تلك المواد، فتستقر جميعًا في بطاح البلاد المجاورة. وعليه فقد كونت رواسب الأجراف [3] في الأطراف الجنوبية من بحيرة ألبرت سهلاً بسيطًا من الأرض يتداخل شيئًا فشيئًا بمياه هذه البحيرة، فيرفع منسوب قاعها، ولا تزال هذه الرواسب تعمل هذا العمل على التوالي. ومثل ذلك يعمله بحر فيكتوريا في الطرف الشمالي للبحيرة، فهو يلقي بإبليزه وأجرافه في البحيرة فتضيق. فنشكر لواضع الكتاب خدمته لهذه البلاد، ولمترجمه خدمته لها وللغتها، بما لم يخدمها أهلها. *** (هذا يلاشي تلك) لفيلسوف شعراء فرنسا أو شاعر فلاسفتها فيكتور هيجو أو هوجو، (أو الاسم بالغين أو الكاف بدل الجيم، على ما نرى عليه المعربين والمترجمين من الخلاف) مقال عنوانه: (هذا يلاشي تلك) ، وصف فيه مباني الأقدمين وفخامتها كالأهرام وقصر الكرنك وعمود السواري والبادثيون والبالثيون ذهب خياله في فلسفة اجتماعية دقيقة، فجعل ذلك رمزًا للسلطة الروحية والسياسة التي استعبد البشر بها الكهنة، والملوك وبين أن اختراع المطبعة الذي سهل نشر العلم بين جميع الناس يلاشي تلك السلطة ويذهب العلم بالكنيسة. وانتقد على ذلك بعض الكتاب وحاول بيان أن المطبعة لم تعدم الكنيسة، بل خدمتها ورد عليه المترجم ثانية، نشر ذلك في جريدة البصير، ثم طبع على حدته. *** (مطمع الفصحاء) كتاب ألفه الشيخ علي فؤاد المنوفي في شيء سماه الإنشاء وجعله عشرة أقسام: في رسائل الود والشوق، والعتاب والاعتذار، والقطيعة والاستعطاف، والرجاء والشكر، والتعازي والتهاني. وأودعه أربع مقامات، وجعل له شرحًا أكبر منه، وإن شئت فقل: إنه صنف كتابًا آخر، جعله هامشًا له وسماه شرحًا، وإن كان أكثر ما فيه ليس بشرح، ولا مناسبة بينه وبين المشروح في معنى الأصل. مثال ذلك شرحه للبيت الآتي: إني لأبصر من أفعالها عجبًا ... الوصل يغضبها والصد يرضيها فإنه لا يبين المراد من البيت في شرحه، وإنما يتكلم عن أقسام الفعل في الصرف، فيذكر المجردة والمزيدة، والملحقة والسالمة، والمضاعفة والمهموزة وغير ذلك. كذلك شرحه للبيت الآخر: أكتم الوجد والآلام تظهره ... هيهات هيهات ذو طب يداويها فإنه لا يذكر في شرحه إلا نحو صفحتين في أسماء الأفعال، كأنه يشرح كتابًا في النحو والصرف. قال المؤلف في فاتحة كتابه: (وكل ما فيه من المنشآت ابتكاري، كما أن بعض ما به من الأبيات اختياري) . يعرف المرء باختيار وجمع ... ودليلي على الأديب اختياره ونقول: إنه ليس فيه شيء من الابتكار، وهاك هذا النموذج مما فيه من المنظوم والمنثور، وهو ما قاله في أول قسم الاستعطاف بعد أبيات لغيره. (مهما في التجني علي أفرطت، وأذقتني بصدك الهوان، فروحي لمودتك أوهبت، يا إنسان كل إنسان) . لله أشكو غرامي ... وما أعاني وألقى قطعت حبل ودادي ... ولم أخن لك حقا وبي تبدلت غيري ... فالله خير وأبقى لكن.. عهدي بجميل خصالك، وقوفي على سبب هجرانك. لئن كان بالسلوان عني عواذلي ... لكم حدثوا والله قد كذبوا بما عن الحب والعهد القديم وودكم ... وحق الهوى ما ضل صاحبكم وما لمهجتي الشجو أورثت، ولعيني السهد وهبت، وإلى الأرق بعثت، وللبي قد روعت. فزاد اشتياقي وقل اصطباري ... ولم أستطع في هواك الهجوع فؤادي أسرت قيادي ملكت ... أما آن عفوك عن صادق سميع مطيع مشوق ولوع حذار العذول كتمت وجدي ... يا خير مأمول عدمت رشدي فمن علي يرد الجواب ... وحقك إني به لقنوع دامت لك علياك، ولا أعدمني الله محياك والسلام) اهـ. ولا يحسبن القارئ: أننا تعمدنا نشر أدنى ما في الكتاب بعد البحث عنه، بل هذا من أحسنه، فإن أساء بنا الظن، أوردنا له أبياتًا كتب بها إلى صديق آخر، وهي: أيا من فاق أهل العصر طرًّا ... بما أبداه من شرف الطباع أسأت إليك فاستوحشت مني ... وأبدلت التواصل بانقطاع فصرت أقارع الأهوال ضنكًا ... وأنتف شعر رأسي من مجاعي وأصرخ في (الشوارع والحواري) ... بأصوات كأصوات الضباع وأزري دمع عيني فوق خدي ... ومن أسفي أعض على صباعي ولما أن رأت عيناي موتي ... وأن الروح مني في النزاع أتيت إليك معترفًا بذنبي ... ورجلي فوق كتفي بانخضاع أؤمل فيك أنك تعف عني ... لأنك بحر جود ذو اتساع فألقني بفضلك ثدي عفو ... لأشفي القلب منه بالرضاع هكذا جاءت هذه الأبيات في الكتاب، فلا تظن أن مطبعتنا حرَّفت فيها أو صحفت. ههنا يقول القارئ: ما بال المنار أطال فى الكلام على هذا الكتاب، وخالف عادته في مثله، وأنا أقول له: إن السبب في ذلك التعريف بمكانة كتاب كتب مصنفه في أوله؛ أنه ورد إليه 26 تقريظًا له من أكابر العلماء وأفاضل الشعراء، وذكر منها تقريظًا للشيخ سليم البشري الذي هو شيخ المالكية اليوم، وكان شيخ الأزهر بالأمس يشهد فيه للكتاب بأنه مفيد ونافع. وتقريظًا للشيخ محمد بخيت الحنفي المشهور، يقول فيه: (وبعد، فقد اطلعت على كتاب مطمح الفصحاء، بل مرتع البلغاء، فوجدت من بحور الأدب درر منظومة في سلوك الذهب، تزري بقلائد العقيان في نحور الحسان، كيف لا، وقد حوى من النثر أغلاه، ومن الشعر أعلاه، فجزا (كذا) الله مؤلفه أحسن الجزاء، وأكثر من أمثاله النبلاء، وجمل به وجه هذا الزمن، ونفع بمؤلفه الأمة والوطن آمين) . وقد كان حظه من كبر الجرائد كحظه من أكابر العلماء، فإن جريدة المؤيد قرظته تقريظًا؛ جعلته في منتهى البلاغة.. أَفَيُلامُ المنار بعد هذا كله؛ أن أطال القول فيه. *** (نخب من مبتكرات مكسيم غوركي) مكسيم غوركي من كتاب الأمة الروسية، قد اشتهر بما كتب من المقالات والرسائل في الإصلاح السياسي والاجتماعي، وله أسلوب رشيق، وكثيرًا ما يبرز المعاني في قوالب الوقائع. وقد اختار سليم أفندي قبعين. وهو من أدباء السوريين العارفين باللغة الروسية؛ أربع مقالات لهذا الكاتب وترجمها بالعربية وطبعها، فبلغت صفحاتها ثمانين صفحة ونيفًا. عنوان المقالة الأولى: (الملك الرافع اللواء) وعنوان الثانية: (أحد ملوك الجمهورية) ، وعنوان الثالثة: (فرنسا الجميلة) ، وعنوان الرابعة: (اليهود) وثمن هذه النخب 3 قروش صحيحة. *** (غرائب الأسرار - جاسوس الألزاس) غرائب الأسرار: قصة مؤلفة من أجزاء، ترجم الجزء الأول منها؛ واسمه (جاسوس الألزاس) حسن أفندي موسى (ضابط بالاستيداع) . فأما وقائع الجزء فهي تكاد تكون في غرابتها من الخوارق أو الشعوذة، وفيها من الرموز والأسرار ما يشوق النفس إلى الجزء الثاني؛ لنقف على حل تلك الرموز، وكشف هاتيك الأسرار. وأما الترجمة فهي أقرب إلى العامية منها إلى العربية الصحيحة. وصفحات الجزء الذي ط

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (المسألة المراكشية وحرب الدار البيضاء) كتبنا في السنة الأولى للمنار نصيحة فيه لسلطان مراكش؛ أنذرناه فيها بأن طوفان أوربا لابد أن يفيض على بلاده، فيغمرها إن لم يبادر هو إلى إصلاح شأنها بما تقتضيه حال العصر من التربية والتعليم، لا سيما تعليم الفنون العسكرية والمالية. ثم كنا نعيد النصائح والنذر مرة بعد أخرى، وآخر عهدنا بها ما كتبناه في أيام انعقاد مؤتمر الجزيرة من العام الماضي {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) بالأسباب والمسببات وسنن الله تعالى في الأمم، وإنما يعتمدون في دفع الضر، وحفظ المصالح على الخوارق، وكرامات الأولياء مع ما درجوا عليه من التقاليد والعادات، لا يقبلون وراء ذلك إصلاحًا، ولا يبتغون بدونه فلاحًا، وقد سبق لنا بيان التجائهم إلى قبر مولاي إدريس، وجؤار أهل العلم الديني عنده بكلمة يا لطيف؛ ليدفعوا بذلك ما طلبته فرنسا من السلطان يومئذ فليرجع إلى ذلك في المجلد الثامن من أراد. مرت الأيام والسنون، وأهل هذه البلاد {يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن} (التوبة: 126) أو مرات {ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ} (التوبة: 126) من تفريطهم وغرورهم {ولا هم يذكرون} (التوبة: 126) ، ما حل بأمثالهم من الأمم والشعوب الجاهلية بحال هذا العصر ورقي أممه، وما يجب من إعداد القوة لمدافعتها إذا عدت بحسب الاستطاعة، وعلى قدر ما هي عليه من الاستعداد، وكل ذلك مما يرشد إليه الإسلام، ويفرضه بنص القرآن. ولكن أين أولئك الجاهلون من الإسلام والقرآن، وهم يعتقدون أن قراءة تفسيره تميت السلطان، وحياته عندهم أولى من إحياء القرآن، ثم ماذا تفيدهم قراءته إذا كانوا يعتقدون أن الاهتداء به من الاجتهاد الممنوع بحكم شيوخ التقليد الجامدين، وأنَّ الدِّين لا يؤخذ إلا من كتب الفقهاء الميتين، كما يفهمها أصحاب الجاه من الشيوخ الحاضرين، وهم يرون أن العلوم والفنون والصنائع التي تصنع آلات القوة، كالبنادق (ويسمونها المكاحل) والمدافع والبوارج الحربية كلها محرمة، لا يجوز للمسلمين الاشتغال بها، كما يرى ويعتقد ذلك أشباههم من أصحاب العمائم في أكثر بلاد المسلمين، وبذلك أضاعوا الدنيا والدين وكانوا سبب هلاك المسلمين. مرت الأيام والسنون، فدخلت (مسألة مراكش) ؛ أي: مسألة محاولة أوربا استعمارها والاستيلاء عليها في طور جديد، فقد اعتدى بعض المغاربة على العُمَلة الأوربيين في مرفأ الدار البيضاء، وهي من حواضر مملكة مراكش، ففتح بذلك لفرنسا باب استعمال القوة في هذا الثغر، فدخلت منه، وذلك ما كانت تبغي. أصبحت فرنسا مع قبائل المغرب في حرب تعددت وقائعها، فالقبائل تهاجم الدار البيضاء، فتلاقيها العساكر الفرنسية بمدافعها، ومن ورائها البوارج تساعدها بمدفعها، فتمزق شمل القبائل، وتنسفهم في الهواء نسفًا. ولكن الفرنسيين قد دهشوا من شجاعة المغاربة واستبسالهم، فسلطوا عليهم عسكرهم من مسلمي الجزائر؛ لعلمهم بأنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وقد ترك المغاربة الهجوم إلى حيث تنالهم مدافع البحر. مهما عظمت شجاعة المغاربة، فإنها - والجهل قائدها - لا تكفي لحفظ استقلال البلاد، ولا تدفع عنها ما تريد فرنسا منها، فإن الجهل لا يغلب العلم، والاختلال لا يعلو النظام، فإذا كان أهل المغرب الأقصى أسودًا، فإن العقلاء من البشر قد عهد منهم التصرف في الأسود وحبسها في بلاد ما هي مواطنها، وما عهد أن تعيش فيها وجعلها مع ذلك في مواضع النزهة، يأنس برؤيتها حتى النساء والولدان. نعم، ينتظر أن تتعب فرنسا في تذليلهم، كما تعبت في الجزائر، ولكن العاقبة للمتقين كما قال الله تعالى، والتقوى تفسر في كل مقام بحسبه، فهي تفسر في باب الحرب والصدام باتقاء أسباب الانكسار والخذلان، ولا شك أن فرنسا هي المتقية ما يجب اتقاؤه في هذا المقام، بالتدبير التام، وإعداد ما تستطيع من قوة، كما أمر الله تعالى. ومن التدبير الذي يتخذه العقلاء ولا يدري به الجهلاء - وهو من قبيل السيل يضرب جلمودًا بجلمود - إيقاع الشقاق بين الزعماء في المغرب. وما وقف ذلك عند حد الخارجين على السلطان والمحاربين له، بل قامت طائفة عظيمة من الأمة فبايعت بالملك مولاي حفيظًا (أو عبد الحفيظ) أخا السلطان عبد العزيز بفتوى من العلماء، فصار في البلاد سلطانان سيحارب كل منهما الآخر، فيكفون فرنسا شر قوة البلاد. يظن كثير من الناس أن السلطان عبد العزيز سيلجأ إلى فرنسا؛ لتحفظ له سلطانه، وتكفيه شر أخيه، كما لجأ توفيق باشا إلى إنكلترا في إبان الثورة العرابية، وبذلك تحتل فرنسا بلاد مراكش احتلالاً رسميًّا يسمى موقتًا، وتعمل عملها فيها باسم السلطان، كما تحكم تونس باسم الباي، وهذه هي الطريقة التي استقر عليها رأي ساسة أوربا في استعمار بلاد المسلمين؛ لأن حكمهم باسم أمرائهم وملوكهم أقرب إلى السلام، وأبعد عن النزاع والخصام. إنه ليحزننا؛ أن نرى مملكة إسلامية في الشقاء الذي أحاط بمملكة مراكش، ولا يسرنا أن تبقى على ما هي عليه، أو على ما كانت عليه، إذا كان ما انتابها الآن مبدأ للانتقال من حال إلى حال. وإنه ليحزننا؛ أن يكون انتقالها بقوة الأجانب، لا بتدبير رجالها وحكمتهم. ولكننا لا نرى منفذًا لخيط من خيوط أشعة الرجاء في أولئك الرجال الجهلاء، فيا طالما نصحنا لهم، وأنذرناهم البطشة الكبرى {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} (القمر: 36) ، بل كان مثلنا ومثل سائر الناصحين معهم {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) . إن أهل العقل والعلم من طلاب الإصلاح للمسلمين، تتمنى قلوبهم لو يدوم لسلطنة مراكش استقلالها، ويتحول طوفان أوربا عنها، حتى يكون إصلاح حالها من نفسها ولو بعد حين. ولكن عقولهم تحكم بأن هذا شيء لا مطمع فيه، وتدرك أن من العدالة العامة في الأكوان، ومن سنن المبدع في اجتماع الإنسان أن يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق. (راجع سورة الأنبياء من 18: 21) وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون؛ أي: لعمارتها. (راجع آية 105 من السورة المذكورة) ولا شك أن العلم بالنظام، وبطرق العمران، وتأمين السكان من الحق، وهو مما يقوم به الأوربيون، وأن ما عليه المغاربة من ضد ذلك هو من الباطل، وأن الأوربيين يعدون بالنسبة إلى المغاربة من الصالحين لاستعمار الأرض الذي امتَنَّ الله علينا به، كما قال - تعالى - {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61) ، فكان الكتاب العزيز مؤيدًا لحكم العقل في وجوب زوال استقلال المغاربة، وكل دولة لا تحسن الاستعمار ولا تقيم النظام، إلا أن تتوب وتقيم الميزان بعد الاستعداد له بما تقتضيه حال الزمان. ولا يظهر صدق الآية الكريمة في إرث الأرض إلا بهذا التفسير، ولنا فيه سلف صالح فهو منقول لا مخترع. إن حُكم الفرقان والقرآن بأن دول العلم والنظام والاستعمار هي التي تسود على دول الجهل والخلل والإفساد في الأرض، هو الذي يخفف من ألم حسرة العقلاء على زوال استقلال دول المسلمين، ولا أقول: دول الإسلام، فإن من يقضي القرآن بزوال دولته لا تكون دولته إسلامية. ولكن قد تكون مسلمية، وبهذا نبرئ الإسلام بحق من مناقضة أصول العمران العلمي، ونجعل ذلك على أعناق المسلمين. * * * (غرور متعلمي اللغات الأوربية) إن أصحاب العقول الصغيرة من متعلمي اللغات الأوربية، يتخيلون أن كل من تلقف لغة منها، صار من العلماء الأعلام والحكماء المرشدين للأنام. ولكن هؤلاء المتعلمين يعدون بالألوف، ولا نكاد نجد واحدًا منهم في الألف يفيد أمته بكتاب يفضل به غير العارفين بهذه اللغات، وإننا نرى أكثر ما يكتب كاتبوهم في الجرائد أو غيرها، في منتهى السخف وضعف الفكر؛ والسبب في هذا أن اللغة الأوربية وسيلة للعلم، وليست هي عين العلم، ولا عين العقل الذي لا علم بدونه ولا فهم. إذا وجد في متعلمي هذه اللغات أفراد كفتحي باشا زغلول وقاسم بك أمين لهم آثار في الترجمة والتصنيف؛ تدل على أنهم استفادوا من اللغة الأوربية علمًا وبصيرة، فإنه يوجد فيهم ألوف ما يستفيدوا إلا الغرور والتبجح والدعوى، ومنهم من أضاع ثروته الموروثة، وأهان نفسه وذوي قرابته بسوء سيرته، وما كانت اللغة الأجنبية التي يعرفها إلا عونًا له على إضاعة ماله وشرفه، ثم هو يفاخر باللغة وعلومها، ويحتقر علوم العربية من دينية وغيرها، ويحط من قدر أهلها. للأستاذ الإمام آثار جليلة كتبها قبل أن يتعلم اللغة الفرنسية كمقالات الوقائع المصرية ومقالات العروة الوثقى، وقد كان ما يكتبه بعد تعلم هذه اللغة أدل على كثرة الاطلاع والسعة في العلم، ولكن هل يوجد في هؤلاء الألوف من المتعلمين من يستطيع أن يكتب مثل تلك المقالات التي كان العالم يهتز لها حتى أن إنكلترا ذات الحرية الواسعة منعت العروة الوثقى من مصر والهند. ولا غرو فإن العقول التي وسعت دائرة العلوم باللغات الأوربية حتى صارت هذه اللغات تتعلم لأجل ذلك يوجد مثلها في الأمة العربية وفي غيرها من الأمم. وقد كان السيد الكواكبي غير عارف باللغات الأوربية ولكن ما كتبه في الاستبداد لا يوجد في فلاسفة أوربا كثيرون يكتبون أحسن منه أو مثله بل الذين يعرفون لغات أوربا وليس لهم من علومها سهم يعتد به. وما لي لا أضرب لهؤلاء المغرورين الأمثال إلا بمن ماتوا، فهذا رفيق بك العظم فليأتونا بكثير من مثله من متعلمي اللغات الأوربية، وهذا صاحب جريدة المؤيد، لا يختلف عاقلان في تفضيل ما يكتبه وهو لا يعرف لغة أجنبية، على ما يكتب صاحب جريدة اللواء العارف باللغة الفرنسية. فليخفض المغرورون برطانة اللغة الأجنبية من غرورهم، فإن الناس تتفاضل بالعقول لا باللغات، فذو العقل الكبير قد يقتبس العلم من الوجود، كما اقتبسه جميع الفلاسفة، وإن للعاقل الشرقي من موارد العلم الغربي كتبًا كثيرة ومجالات مترجمة، يستفيد منها ما لا يستطيع صاحب العقل الصغير أن يستفيده من ينابيعها وأصولها. نعم. إن صاحب العقل الكبير إذا اطلع على تلك الأصول يكون أوسع علمًا منه قبل الاطلاع عليها، وإن الأمم الشرقية لا تستغني عن طائفة من الأذكياء يَنْفرون؛ لاقتباس تلك العلوم من لغاتها ونقلها إلى قومهم، كما أنها لا تستغني عن طائفة يحيون لغتها وعلومها الدينية والأدبية والتاريخية، ولا يجوز تفضيل أفراد إحدى الطائفتين على الأخرى؛ لأن كلاًّ منهما يخدم الأمة بما لابد لها منه، فإن جاز التفاضل، كان تفضيل من يشتغل لإحياء الأمة بمقوماتها الأصلية من اللغة والدين والعلوم، على من يجلب لها علومًا من غيرها أظهر؛ لأن فقد العلوم الأجنبية عنها نقص، وفقد مقوماتها الذاتية موت وفناء. فهل بقي بعد هذا البيان من عذر لبعض الأغرار المفتونين بما لقفوا من العلم الناقص بلغة أجنبية، في تنقيص العلماء بدينهم ولغتهم وتاريخهم، إذا كانوا لا يرطنون معهم بتلك اللغة. على أن وراء العلم الذي تعد اللغات وسائل له أمرًا آخر؛ هو مناط الإفادة بالعلم لمن يحصله، وهو مكارم الأخلاق؛ كالصدق والإخلاص والاستقلال والعزيمة والشجاعة والعفة، وغير ذلك من الفضائل، فإذا أغضينا عن الذين يتعلمون بعض ل

السنوسية والجامعة الإسلامية

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ السنوسية والجامعة الإسلامية [*] عبد الحميد الزهراوي حقائق نافع بيانها لعله ظهر للقارئ من المقالة التي ترجمتها الجريدة من قلم ضابط إنكليزي له اطلاع على أحوال إفريقيا الإسلامية أن الأوربيين غير غافلين عن سير المسلمين في سائر شؤونهم وجميع أقاليمهم، وتراهم يُظهرون من الاهتمام ببعض الذين لهم زعامة دينية، وبكل ما هو مظنة القوة والاجتماع، ما يبيِّن للسامع أن رابطة صغيرة بين جماعة قليلة من المسلمين، تُرى في نظر الأوربيين غولاً يخشى اغتياله ويجب أن يحال بينه وبين النمو؛ لئلا يكون شره مستطيرًا. والأمثلة على ذلك كثيرة، نكتفي منها الآن بما يقوله هذا الكاتب الإنكليزي الذي ترجمته (الجريدة) قال: (وقلَّ أن ترى في أوربا من يعلم شيئًا كثيرًا عن هذا المذهب، حتى لو سمع معظم الأوربيين كلمة (سنوسية) لما فهموا شيئًا، مع أنها لفظة لها في آذان فاهميها وقع شديد ومعنى مُرٌّ مَضّ، وما يُعلم عن هذا المذهب وإن قل، ينبئ بانتشار نفوذه وقوته، وأنه على مضادته لأوربا، لا يبعد أن يكون السبب في أخطار وأهوال، ربما أفضت إلى كسح العنصر الأبيض من أفريقية، كما تنبأ بذلك الدكتور كارل بيتر وهو حجة) . إن هذا الكاتب قد عظَّم من هول زعامة السنوسي تعظيمًا، جعله يستدبر الصواب استدبارًا، ونراه قد عزا لهذه الطائفة كل حركات عروق المسلمين في قلوبهم وأحشائهم، ولا يستطيع الواقف على حقيقة الحال إلا أن يغيب في العجب؛ إذ يراه يقول: إن مصر من جملة البلاد التي يسري فيها نفوذ السنوسي، وأنها تحركت بأصابع من هذا النفوذ، فيا للعجب! متى تحركت مصر؟ وكيف تحركت؟ وما هي حركتها؟ وأين هو سلك الاتصال بين حركتها والكهربائية السونسية؟ ولكن ليست مصر وحدها في الانجذاب إلى هذه الكهربائية على رأي الكاتب بل كل حركات قلوب المسلمين عمومًا وإفريقية المسلمة خصوصًا، فهو يقول: (ولا ينكر أحد ما يشمل الأقطار الأفريقية المسلمة وغيرها من السخط العام الآن، وإليك شاهدًا على ذلك حرب الصومال، والحركة المصرية، وثورة زولو، والقلاقل التي في مستعمرة ألمانيا الجنوبية الغربية، وحوادث شتى بالشاطئ الغربي. خطوب صغيرة لكنها تنذر بالخطب الأكبر، والداهية الدهياء. ثم أضف إلى ذلك مسألة المغرب الأقصى ومصاعب فرنسا في شمال أفريقيا، والحركة الأثيوبية الزنجية في الجنوب) . ويقول في مكان آخر: (ويظهر أن الاضطراب الذي جرى بمصر حديثًا؛ كان سببه دعاة الطريقة السنوسية هناك، وإن كان السنوسيون لم يريدوا ذاك الهياج ولم يستحثوه لمجيئه قبل أوانه، ولذلك لم ينهضوا بتغذية الفتنة التي أنتجوها) . ويقول في الختام: (وخلاصة القول أن السخط بين أهالي أفريقية عام طام، فشرارة واحدة تضرم النيران من أقصى أفريقية إلى أقصاها، وفى زعمي أن السنوسيه هي مصدرة الشررة التي لابد أن تصيب لغم السخط المستقر في صدور الأهالي) . إن أمثال هذه الكتابة تدعونا إلى أن نتفكر ونستقصي بالبحث عن تفاسيرها. ولا يظهر لنا من خلال المذاهب المتعددة في تفسير هذا الاهتمام الذي يظهره هؤلاء الكتاب إلا أن القوم مضطرون لهذا السهر والتجسس على شؤون البلاد التي ملكوها، والتي يطمعون أن يملكوها، فهم قد عرفوا أن القوه بالتضام والاتفاق، ويريدون أن يقطعوا من البلاد التي يطمعون بها كل أرومة للتضام، ويحرصون على أن يجتثوا كل سنخ للقوة، وقد زعموا أن الطريقة التي عليها السنوسية هي أرومة عظيمة لتجمع المسلمين الناقمين على أوروبا، وأن هذه الجماعة التي حوله سيكونون يومًا جيشًا جرارًا كالجراد، يلقف في طريقه كل نابتة من الأوربيين. إما أن تكون هذه المزاعم مصطنعة؛ لتعظم الحكومات الأوربية في أعين شعوبها هول (الخطر الإسلامي) كي تكون تلك الشعوب راضية عن كل فتك بهذه الشعوب؛ ليقطعوا دابر كل تحاب بينهم وتعارف وتعاطف، حتى يكونوا أفذاذًا مقطعي الأطراف مشرفين على الانقراض من غير رثاة. وإما أن تكون قائمة في أذهانهم خطأ أو إسرافًا في سوء الظن، أو تكبر في مخيلاتهم من مظاهر التآخي الديني. وخليق بنا على كلا الوجهين؛ أن لا نمر بهذه المسألة متجاهلين هذه المزاعم التي عليها يبنون صرحًا من سياسة الإسراف بسوء الظن. والكلام في روح هذه المسئلة؛ وهي الرابطة الدينية والجامعة الإسلامية، تدور حوله أغلاط كثيرة تقع من باحثينا وباحثيهم؛ والأغلاط منشأ سوء التفاهم ومنشأ التنافر الذي ما برحنا نراه يمتد في عهد كنَّا نظنه يتقلص فيه. فلذا رجحنا اليوم أن نخوض غمار هذا البحث غير رامين إلا إلى تجلية الحقائق التي نعلمها. وكلامنا إن لم ينفع في دوائر السياسة، ينفع في دوائر العلم التي يطوف حولها الشرقي والغربي متصافحين. ونرجو أن يأتي يوم تعلو فيه الحقيقة في هذه المسئلة على المزاعم؛ مصطنعة كانت أم خطأ. *** (1) اللغط في الجامعة الإسلامية مركز الدائرة في هذه المسئلة هي الجامعة الإسلامية، وقد شغف كثيرون من الباحثين منا ومن الأوربيين ببلوغ الحقيقة في هذه النقطة، فَأَبَت على أكثرهم واستعصمت بحجُب من التشابه، فعمي السبيل على الطالبين، وانقسموا فرقًا، وسلكوا مذاهب؛ أعقلهم الذين اعترفوا بأنهم لم يروا وجه الحقيقة، ومنهم من وصف الذي شبه له زاعمًا أنها هي الحقيقة. والذين اشتهوا الوصف والبيان، ولم يطيقوا أن يظهروا العجز من بعد البحث والنظر، قد اختلفت أقوالهم: فمنهم من يثبت وجود هذه الجامعة، ومنهم من ينفيه. والمثبتون منهم من يتشاءم به، ومنهم من يتيمن، ومنهم من لا يبني عليه أملاً، ومنهم من لا يوجس منه وجلاً. لكن يظهر من الفصول والمقالات الكثيرة التي قرأناها لكتاب الأوربيين أن في أوربا كلمة واحدة عامة بوجود هذه الجامعة، وأن فيها خطرًا على المستعمرات الأوربية، أو قد تكون عائقًا عظيمًا يومًا ما عن بلوغ أوربا أمانيها من ابتلاع كل بلاد المسلمين ابتلاعًا تامًّا. ويؤذن هذا بأن من يقول غير هذه الكلمة منهم هو من الشاذين. والكُتَّاب المسلمون يميل أكثرهم إلى تصديق هذا الحدس الأوربي، وتتغنى أقلامهم بأن المسلمين كثيرون، وكلهم في الدين إخوان، وأن مستقبلهم حسن بواسطة كثرتهم وجامعتهم الدينية، وعلى شيء من هذا بنى السيد توفيق البكري كتابه (مستقبل الإسلام) . والغريب في الأمر أن أكثر الباحثين في (الجامعة الإسلامية) يبتون فيها الأحكام من غير أن يقولوا لنا: ما حقيقتها وما تاريخها، أذلك لشدة وضوحها أم لأنها ليس لها صورة حقيقية واحدة، فهي تصور كما يقوم ظلها في خيال الكاتبين. (2) حقيقتها ما الجامعة الإسلامية إلا اتفاق في كلمة واحدة؛ وهى أن القرآن كتاب الله، جاء به محمد رسول الله. ولكن المطلع على تاريخ المتفقين هذا الاتفاق، يعلم أنه لم يدفع عنهم الاختلاف الذي لا اتفاق معه بعد، فمنذ اختلف المسلمون ثلمت جامعتهم، ولم يتفقوا اتفاقًا سياسيًّا بعد عهد عمر ولا اتفاقا دينيًّا بعد عهد علي، فما هي جامعة قوم مختلفين منذ ثلاثة عشر قرنًا؟ اختلافًا سياسيًّا واختلافًا دينيًّا، يقتل بعضهم بعضًا، ويستعين بعضهم علي بعض بأهل الملل المخالفة من الأساس. ما هي جامعة قوم لم يخل يوم من أيامهم من قتال فئة منهم فئة أخرى، منذ مقتل خليفتهم الثاني إلى يومنا هذا؟ ما هي جامعة قوم يُسرُّ ملوكهم المختلفون بذهاب ممالك ملوك آخرين منهم؟ ما هي جامعة قوم حدثنا التاريخ من حديثهم أن أجنبيًّا شرقيًّا (هولاكو) اكتسح بلادهم وهم في عزهم، فلم تتضام أيديهم علي مقاتلته، وكانت لا تزال قويه على قتال بعضها بعضًا. وحدثنا التاريخ من حديثهم أن أجنبيًّا غربيًّا (الصليبيين) هاجم بلادهم، فلم يجتمعوا كلهم على طرده، حتى حركت الهمة طائفة منهم قويت وحدها على صده. الجامعة التي يلغطون بها هذه هي (صوره مكبرة في خيال الأوربيين منتزعة من دعوى المسلمين الإخاء الديني. وصورة محبوبة في خيال المسلمين منتزعة من مس الحاجة إلى مثلها على رأيهم) ثم قد أصبح لهاتين الصورتين ظل في الوجود قام عليه الحساب الحاضر. فالأوربي يقول يجب محو هذا الظل لئلا يصير شبحا حقيقيًّا هائلاً ويذهبون في محوه مذاهب كما يبين في كتاباتهم المتنوعة المختلفة. والمسلم يقول يجب جعل هذا الظل شبحًا حقيقيًّا يكون بهيبته حاميًا حقوقنا أجمعين ولهذا عظم تشبث المسلمين هذه السنين بمسألة هذه الجامعة الإسلامية للدلالة على التضام والترابط ولكن لا يصنع هذا شيئا ما دام الاختلاف الديني والسياسي قاضيين أن يدوم تقتيل المسلمين بعضهم بعضا ويقعد بعضهم عن نصرة الآخر. ولو تدبر الأوربي والمسلم لالتفلتا إلى أمر نافع غير هذا لأن الظل لا يصير شبحًا. لو تدبر الأوربي لعرف أن الجامعة الإسلامية قد يخلقها الإسراف في إبادة مُلك المسلمين ولعرف المسلم أن هذه الجامعة لا تنفع حتى يقوم العلم الصحيح عندهم مقام التقاليد وتكون الجامعة يومئذ جامعة قومية. (3) السخط العام من الأوربيين لو تدبر الأوربيون لعلموا أن السخط العام الحقيقي الذي يرونه ويسمعون به ليس ناشئًا من الجامعة الإسلامية، بل هو ناشئ من سوء الإدارة، وهو يجر إلى هياج الشعوب نفسها باسم الخلاص من الظلم، لا باسم الدين، ويشهد التاريخ أن شعوبًا كثيرة هاجت على حكوماتها نفسها باسم الخلاص من الظلم، لا باسم الدين، فإذا لم ينتظر الأوربيون من المسلمين الذين تحت حكمهم هياجًا إلا باسم الدين، فإنهم سوف يتعبون من سوء نتائج هذا الخطأ على تمادي الأيام. (4) خطر الجامعة الإسلامية وعندي أنه إن صح أمر الجامعة الإسلامية، لا ينتظر منها الشر الذي ينذر به كتاب الأوربيين إلا أن يكون الشر عندهم هو صد المطامع وإيقافها عند حد. ولماذا لا ينتظرون إلا الشر من قوم كان لهم دول عظيمة، فلم يسيئوا إلى بني آدم، كما ينتظرون منهم الآن. (5) السنوسية أما السنوسية فطائفة في الصحراء بين طرابلس ومصر، ملتفون حول شيخ طريقة، في الأرض كثير من أمثالها وأمثاله. واضع هذه الطريقة هو السيد أحمد ابن إدريس وهو رجل من صوفية المغرب وعلمائه، رحل إلى اليمن وتوفي فيها، وهو شيخ الأستاذ المرغني المشهور، وشيخ الشيخ إبراهيم الرشيدي، وشيخ العلامة السيد السنوسي (محمد علي) المولود عام 1204 في مستغانم، وقد طلب العلم في فاس، ثم رحل إلى مكة فلقي أحمد بن إدريس، فأخذ عنه التصوف وخلفه في الطريقة، وأحب أن يؤسس له مركزًا في الحجاز، فلم يساعد على ذلك فغادر الزاوية التي بناها في جبل أبي قبيس عند مكة، ورحل إلى طرابلس الغرب سنة 1255هـ، ونزل في الجبل الأخضر وبني هناك عدة زوايا، ثم رجع إلى الحجاز سنة 1263 هـ، فأقام بمكة سبع سنين يقرأ الحديث فنما ذكره، وزار مصر عائدًا من الحجاز فأجَلَّه عباس باشا الخديوي آنذاك، وهرع الناس لزيارته. ولما كثر مريدوه في صحراء ليبيا، أراد أن يعتزل البلاد التي فيها الأمر والنهي لحكومات معروفة، فأرشده مريدوه إلى جغبوب لعزلتها ووجود الماء هناك، فبني زواية عام 1273هـ وأقام فيها بين عربان البادية إلى أن توفى عام 1276هـ، فخلفه ابنه السيد محمد المهدي السنوسي، وقام مقامه بنشر الطريقة، وازداد عدد المريدين على هذا، ودخل في مريديه ملك واداي، فلذلك أصبح مقامه في تلك الجهات كمقام الملوك؛ لأن مريديه يجبون له عن طيب نفس المفروض عليهم من زكوات أموالهم وهو يصرفها على ال

الجامعة الإسلامية

الكاتب: رفيق بك العظم

_ الجامعة الإسلامية كتب رفيق بك العظم الشهير بمباحثه التاريخية والاجتاعية رسالة في الجامعة الإسلامية، أشرنا إليها في الجزء الماضي، ووفاء بالوعد نقتبس منها ما يأتي: هل صحيح ما تقوله أوربا عن الجامعة الإسلامية؟ علمت أيها القارئ من هذا التمهيد أن الاجتماع يستدعي بطبيعته وجود الروابط القومية والوطنية ... إلخ، وأن الغرض من هذه الروابط حفظ التوازن بين قوى المجتمعات الإنسانية الميالة إلى المغالبة بحكم الأنانية والطمع، وأن أقل هذه الروابط تأثيرًا في المجتمعات رابطة الدين، وأن المسلمين لم تجمعهم هذه الجامعة يومًا، حتى ولا على التعاون على دفع الكوارث الكبرى التي حلت ببلاد الإسلام من هجمات أهل الصليب والتتار، ولو اجتمع المسلمون أمام أمثال هذه الجوامع الكبرى سواء في ذلك الوقت أو الآن أو كل زمان؛ لأتوا عملاً تستدعيه طبيعة الوجود لا سبة فيه، ولا موآخذة عليه، إلا إذا محيت من صفحات الوجود قوانين الروابط الاجتماعية بحكم الأخوة الإنسانية، والمساواة العامة بين أفراد البشر وأقوامهم، ولا يكون هذا إلا إذا استبدل البشر بخلق آخرين من جنس الملائكة المطهرين. إذا تقرر هذا؛ فاعلم أن دعوى القائلين بخطر الجامعة الإسلامية المتوقع بمعناه الذي يريده أولئك القائلون مدفوعة من وجوه: الوجه الأول: إن الجوامع الجنسية غالبة عند الأمم؛ وأخصها الأمة الإسلامية لهذا نرى المسلمين قد مزقهم الأوربيون، وتشاطر ملكهم الدول المسيحية دون أن يمد بعضهم يد المعونة إلى بعض باسم الدين والجامعة الإسلامية؛ لغلبة العصبية الدينية ولتخاذلهم المعروف؛ المتأتي عن تحاسد أمرائهم الذين أعماهم الجهل وحب الذات والأنانية الباطلة، حتى عن الاعتصام بالجوامع السياسية التي تقضي بها أحيانًا المصالح المتحدة بين دول الأرض. الوجه الثاني: إن المسلمين ولو اجتمعوا باسم الدين لمناهضة دول أوربا، فلا يكون اجتماعهم خطرًا على المدنية كما يذهب إليه سياسيو الغرب، بل يكون وفاء بحق القومية ورجوعًا إلى الاعتصام بالرابطة العامة التي يمكنها أن تقابل رابطة الدول المسيحية الغربية التي اجتاحت أغلب ممالك الإسلام، وكانت خطرًا كبيرًا على حياة المسلمين السياسة. وقد أبنَّا فيما سبق أن قوانين الاجتماع الطبيعية تقضي على الشعوب بالذود عن مجتمعها، والذب عن استقلاله، ما لم يصبح البشر كله في حقوق الإنسانية والتمتع بثمرات الحياة سواء. الوجه الثالث: إن القول بالجامعة الإسلامية واتحاد الإسلام، وغير ذلك من الألفاظ الوضعية التي أراد واضعوها إيغار صدور الأمم على المسلمين، إنما هي من موضوعات السياسيين في هذا العصر، لم ترد في تاريخ الإسلام، وليس لها في الدول الإسلامية شأن غير سياسي أصلاً؛ وهو شأن الدول القائمة والأمم الفاتحة في كل عصر، وعلى تقدير أن هناك ما يدعو إلى الظن باتحاد المسلمين في هذا العصر فمنشأُوه اتحاد أوربا على اكتساح ممالك الإسلام واستعباد المسلمين. فليسموا اتحاد المسلمين بإزاء اتحادهم الاتحاد الديني، أو الجامعة الإسلامية، أو الشرق والغرب، أو ما شاءوا من الأسماء. أفليس معنى ذلك كله أن المسلمين يريدون الاعتصام بجامعة كبرى، تقابل اجتماع الدول المسيحية على اهتضام حقوق الأمم الإسلامية؟ من العجيب أن الدول الأوربية التي تسوغ لنفسها الحق بالاستيلاء على الممالك الشرقية والقضاء على حياة المسلمين السياسية، لا تسوغ للمسلمين الحرص على هذه الحياة، بأن يحموا بقوة الاجتماع والتآلف ذمارهم، ويصونوا من عبث العابثين استقلالهم، وأن ينادي ساستهم أن في وجود الجامعة الإسلامية خطرًا على أوربا. وبعبارة أوضح على سياسة دولها الموجهة إلى تدويخ الممالك الأسيوية والأفريقية، ولا يجوز أن يقول المسلمون: إن في وجود الجامعة المسيحية الأوربية خطرًا على الممالك الإسلامية، مع تحقق الخطر من قبل هذه، وانتفائه من قبل تلك. إن ساسة الغرب يوهمون العالم أن الجامعة الإسلامية خطر على المدنية؛ لاصطباغها بصبغة دينية، مع أنها خير على المدنية، وأرجى لنفع الإنسانية، لو قام بها المسلمون. وإليك البيان. الإسلام والجامعة الإسلامية من المعلوم بالضرورة أن معنى الدعوة إلى الدين هو ربط أفراد كثيرين وأقوام عددين بعقيدة واحدة، فالأمة التي تدين بدين واحد مسوقة بضرورة المشاركة في الاعتقاد إلى المشاركة في العواطف، وهذا هو الارتباط الديني، الذي قلنا: إنه كباقي الروابط طبيعي بين البشر مادام لهم دين أو أديان، والإسلام من هذه الوجهة كباقي الأديان إلا أنه يمتاز بأمرين جديرين بالنظر والاعتبار: وهما تنويهه بشأن الارتباط الأخوي بين المسلمين ارتباطاً خاصًّا، ثم الارتباط الإنساني بين الناس كافة ارتباطًا عامًّا. ومما جاء في الأمر الأول قوله تعالى في القرآن الكريم: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، وفي الحديث النبوي (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم) وفي الحديث أيضًا (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ، ولذا كانت رابطة التعاون والإخاء عقيدة من عقائد المسلمين وإن تناسوها، ولم يعملوا بها إلا قليلاً. ومما جاء في الأمر الثاني في الرابطة الإنسانية، قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13) ، وفي الحديث: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بالتقوى) [1] . وأنت ترى من هذا أن الإسلام له رابطتان: رابطة العواطف التي يشترك بها كل أرباب دين، ورابطة التعاون والإخاء التي يدعو إليها بالفعل، إلا أنه بيَّن معنى هذا التعاون في أنه على الخير دون الشر، وعلى البر بالناس دون العدوان عليهم لكي يكون ارتباطهم بجامع الإخاء الديني، واجتماعهم عليه غير مقصود به العدوان، بل المحاسنة والإحسان، وصريح قوله بالاجتماع وعدم التفرق محمول على ما تستدعيه حالة الاجتماع من لزوم حفظ البيضة، وكف الأيدي العادية عن المجتمع، وهذا ضروري للمجتمعات كما أشرنا إليه في التمهيد. ثم لكي لا تكون جامعة الدين سببًا للعدوان مع الآخرين، بل وسيلة إلى التدرج في مدارج الإنسانية في أعم مظاهرها؛ وهي المساواة العامة بين أفراد البشر وأقوامهم فيما تقتضيه حقوق الإنسان على الإنسان من الكرامة وحسن الجوار، وتبادل المنافع والأعمال التي جعلت الإنسان مدنيًّا بالطبع؛ أي محتاجًا إلى التعاون، مفتقراً بعضه إلى بعض، قال الله - تعالى- إرشادًا للمؤمنين إلى ذلك {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} (الحجرات: 13) الآية. هذه هي الوحدة الدينية التي يدعو إليها الإسلام. أفلا يرى المنصفون من كل قبيل أن الجامعة الإسلامية التي يوهم ساسة الغرب العالم المسيحي بخطرها على المدنية إذا اصطبغت بصبغة الدين هي خير للمدنية من أن لا تصبغ بهذه الصبغة [2] وأن فوضى العقول عند الطوائف الإسلامية تأتي بما هو شر على المدنية مع تنكر نفوس المسلمين لهذا العهد؛ لما تأتي به دول أوربا لمضادتهم ومضادة دولهم من أساليب المكر والخديعة؛ توصلاً لامتهان حقوقهم، وسلب استقلالهم، ووطء بساط ملكهم حيثما كان. اللهم، إن المسلمين ما قذف بهم في لج الحيرة، ووقف بهم عن السير مع الأمم الراقية في سبيل المدنية الصحيحة، وكشف ما بينهم وبين الأمم المتمدنة، فرموهم بكل نقيصة ونالوهم بكل سوء - إلا انفصامُ عروة وحدتهم الدينية، والخروج عن قانونها الجامع الذي يرمي إلى غرض الاجتماع الصحيح والمدنية الفاضلة، ويريد الشعوب على توحيد الكلمة؛ لضرورة القيام على شؤون الحياة المدنية. وإنما يتحقق معنى الحياة في قوم أعزوا جانبهم، وذادوا عن حوضهم، وكانوا يدًا على من ناوأهم، وأقسطوا في المعاملة إلى من عداهم، وهذا ما يريده الإسلام. من الظلم أن يمثل ساسة الغرب الجامعة الإسلامية بصبغتها الدينية في صورة ينكرها الإسلام، ويأباها العدل، ولا تنطبق على نص من نصوص الدين كما رأيت. وحسبك من الدين والتاريخ دليلاً على أن الإسلام لا يحض أهله على الجامعة إلا ليكونوا يدًا على من ناوأهم، وأن يقسطوا إلى من سواهم وإن افترق عنهم في الدين، ما لم يبادئهم بالعدوان ويرد بهم السوء - أن بعض القرشيين من المشركين كانوا يزورون بعض المهاجرين من ذوي قرابتهم في المدينة، فلا يقبلون عليهم، ولا يحسنون إليهم؛ لما عُرِفت به قريش من الشدة على المسلمين، والإصرار على الشرك، فنزلت في تنبيههم إلى أن الدين لا يمنع من الإحسان إلى غير أهله، ماداموا غير مناوئين للمسلمين هذه الآية {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) . وهذا التسامح الذي عرف به الإسلام، ونبه عليه القرآن هو الذي سد كل منفذ من منافذ الأغراض السياسية التي تفسد نظام الاجتماع، وتفرق وحدة الإنسانية وتلقي العداوة والبغضاء بين بني الإنسان، فلم يستطع زعماء السياسية في الدول الإسلامية جمع الشعوب العائشة في البسيط الإسلامي على كلمة الإسلام بقوة الإكراه ولم يسعهم أن يعاملوا مخالفيهم في الدين بضروب من العنت، تلجئهم ولو إلى الهجرة والجلاء من بلاد بسط عليها الإسلام جناح سلطانه، وآخر من نعهد أنه حاول ذلك من ملوك المسلمين السلطان سليمان العثماني، فإنه لما رأى شغب المسيحيين في ولاياته الأوربية، وتوالي خروجهم عن الطاعة، وعلم أن بقاءهم على النصرانية خطر على تلك الولايات، استفتى علماء عصره في إكراههم على الإسلام فأبوا أن يفتوه بذلك، وكان ما توقعه ذلك السلطان من الخطر على تلك البلاد فضلاً عما لاقته الدولة العثمانية من النصب والتعب في سياسة أهلها، ولم تزل تلاقيه فيما بقي منها في حوزتها إلى الآن. إن السياسيين وأهل الأنانية المتوحشة في أوربا الذين يرجفون بخطر الجامعة الإسلامية، لا يرون أن من الخطر على المدنية والعبث بنظام الألفة الإنسانية، والوحدة البشرية، اضطهاد المسلمين الذين تحت كنفهم وإرهاقهم بضروب من الإذلال والإعنات؛ قصد القضاء عليهم واستئصال شأفتهم باسم السياسة، ويرون أن من الخطر على المدنية وجود جامعة إسلامية، تعامل باسم الدين مخالفيهم في السياسة والدين معاملة الأكفاء في الإنسانية والعشراء في الوطنية كما سبق بيانه، أفليس في هذا ما يدعو إلى الحكم على رجوع الإنسانية القهقري، وتقدم المدنية إلى الوراء. حقًّا إن هذه (السياسة) المطلقة من قيود الإنسانية والوجدان، ومن قيود الحق والعدل، تشبه في تشكيلها حكايات الغيلان الواردة في أساطير الأولين وتماثيل إله الشر عند اليونانيين. فالسياسيون إذا ساقوا الش

أبو حامد الغزالي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (2) رأيه في التعلم والتعليم بيَّنا كيف تعلم أبو حامد الغزالي حتى صار حجة الإسلام وإمام العلماء الأعلام وهو أنه اجتنب التقليد، وجرى على طريق الاستقلال، وكيف ربى نفسه بالرياضة والعمل، حتى صار شيخ العارفين وصفوة الصديقين، ونقفي على ذلك ببيان رأيه في التعلم والتعليم والعلوم، وتربية النفس، والكمال البشري في الدنيا، باستخلاص ذلك من كتبه، وتقديمه زبدة نقية لطالب الكمال في العلم والمعرفة والعمل والمجاهدة وما يتبع ذلك، حتى كأن المُطَّلع عليه أدرك حجة الإسلام في نهايته، وأخذ عنه صفوة حكمته، وما كان ليتيسر لنا هذا لولا أن سبق لنا مطالعة هذه الكتب من قبل؛ بقصد الاهتداء بها وأخذ الحقائق منها، وقد كنا ذكرنا في المنار أن كتابه إحياء علوم الدين كان أستاذنا الأول، وأننا وفقنا لمطالعته قبل الشروع في طلب العلوم الآلية والشرعية، وبإرشاده كان لهذا العاجز طريقة خاصة في الطلب مقرونة بالنية الصالحة، كان من أثرها ما عبر عنه شيخنا الشيخ حسين الجسر بقوله في ملأ من الناس بدار علي أفندي السمين بطرابلس الشام: إن فلانًا ساوى في سنة واحدة من سبق لهم الاشتغال على سبع سنين من أذكياء الطلاب، والفضل في هذا بعد عناية الله وهدايته لأبي حامد الغزالي، جزاه الله عنا خير الجزاء. وإنما صرحت بهذا؛ ليعلم من يقرأ ترجمة حجة الإسلام في المنار، أنني أجري فيها على بينة وخبرة متمكنة، لا كمن يريد أن يكتب عن عالم أو حكيم، فينظر عند الكتابة إلى بعض ما قيل فيه، وبعض ما يؤثرعنه، فيختطف من ههنا عبارة ومن هناك أثارة، ويجعل ذلك ترجمة. ولترغيب طلاب العلوم لا سيما الأزهريين منهم في التأمل والتبصر فيما نكتب عن هذا الإمام، وتحري الاستفادة منه، ولعل ذلك يكون مشوقًا لهم إلى مطالعة الإحياء وغيره من كتبه. رأي الغزالي فيما يطلب من المتعلم نلخص ما يأتي من كتاب العلم من الإحياء مقرونًا بالعبرة، فقد جاء في الباب الخامس منه في آداب المتعلم والمعلم ما يأتي: أما المتعلم فآدابه ووظائفه [1] كثيرة ولكن ينظم تفاريعها عشر جمل. وظائف طالب العلم وآدابه: (الوظيفة الأولى) تقديم طهارة النفس عن رذائل الأخلاق، ومذموم الأوصاف؛ إذ العلم عبادة القلب، وصلاة السر، وقربة الباطن إلى الله تعالى، وكما لا تصح الصلاة التي هي وظيفة الجوارح الظاهرة إلا بتطهير الظاهر عن الأحداث والأخباث. فكذلك لا تصح عبادة الباطن وعمارة القلب بالعلم إلا بعد طهارته عن خبائث الأخلاق، وأنجاس الأوصاف. أقول: ثم أطال في هذا، وقد اشترطه مثله صاحب الذريعة إلى مكارم الشريعة لطالب علم الحقائق، فقال: (حق المترشح لتعلم الحقائق أن يراعي ثلاثة أمور: الأول - أن يطهر نفسه من رديء الأخلاق تطهير الأرض للبذر من خبائث النبات، وقد تقدم أن الطاهر لا يسكن إلا بيتًا طاهرًا، وأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب) وقد شرح الغزالي هنا حديث عدم دخول الملائكة بيتًا فيه كلب (وهو في الصحيحين) بطريق الإشارة والاعتبار، فقال: (واعلم أن القلب المشحون بالغضب، والشَّرَه إلى الدنيا والتكلب عليها، والحرص على التمزيق لأعراض الناس - كلب في المعني، وقلب في الصورة، فنور البصيرة يلاحظ المعاني لا الصور، والصور في هذا العالم غالبة على المعاني باطنة فيها، وفي الآخرة تتبع الصور المعاني وتغلب المعاني؛ فلذلك يحشر كل شخص على صورته المعنوية) ، ثم قال: (فإن قلت كم من طالب رديء الأخلاق حصل العلوم، فهيهات ما أبعده عن العلم الحقيقي النافع في الآخرة الجالب للسعادة، فإن من أوائل ذلك العلم أن يُظهر له أن المعاصي سموم قاتلة مهلكة، وهل رأيت من يتناول سمًّا مع علمه بكونه سمًّا قاتلاً؟ إنما الذي تسمعه من المترسمين حديث يلقونه بألسنتهم مرة، ويرددونه بقلوبهم أخرى، وليس ذلك من العلم في شيء. قال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يقذف في القلب. وقال بعضهم: إنما العلم الخشية لقوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) وكأنه أشار إلى أخص ثمرات العلم. ولذلك قال بعض المحققين معنى قولهم: تعلمنا العلم لغير الله فَأَبَى العلم أن يكون إلا لله، إن العلم أبى وامتنع علينا، فلم تنكشف لنا حقيقته، وإنما حصل لنا حديثه وألفاظه. (فإن قلت: إني أرى جماعة من العلماء الفقهاء المحققين برزوا في الفروع والأصول، وعدوا من جملة الفحول، وأخلاقهم ذميمة لم يتطهروا منها، فيقال: إذا عرفت مراتب العلوم، وعرفت علم الآخرة، استبان لك أن ما اشتغلوا به قليل الغناء من حيث كونه علمًا، وإنما غناؤه من حيث كونه عملاً لله - تعالى -، إذا قصد به التقرب إلى الله - تعالى -، وقد سبقت إلى هذا إشارة، وسيأتي فيه مزيد بيان وإيضاح إن شاء الله - تعالى -) . أقول: المراد بهذه الوظيفة ما نعبر عنه بالتربية النفسية، فمن رأيه أنها مقدمة على التعليم، وأن من يعلم من لم تتهذب أخلاقه كان كمن يقلد الدر أعناق الخنازير، ويعطي السلاح للمجانين، وذلك أن المتعلم الفاسد الأخلاق يستعين بعلمه على الشرور والإفساد في الأرض، كما هو مشاهد. ومن رأي كثير من العقلاء أن علة سوء حال أهل الأزهر: هي كون أكثرهم ممن لم يتحلوا بتربية ولا تأديب؛ لكونهم من بيوت لا تعرف للتربية معنى، ولا للتهذيب سبيلاً، ولا للعلم قيمة. وإنما يقذف أهلها بأولادهم في الأزهر؛ لأجل الخلاص من خدمة العسكرية أو لأجل الجراية، وأرقاهم من يقصد أن يكون بعد التعليم قاضيًا أو مفتيًا، ولا شيء من ذلك يعد من طلب العلم لوجه الله، إذا لم يقصد بالعلم الديني وجه الله بإحياء هدي كتابه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لإصلاح حال عباده في نفوسهم وأحوالهم الاجتماعية، فأي غناء فيه، وكيف يرجى الخير من صاحبه؟ بل لا يشك عاقل في كون طلب العلوم الدنيوية، لا يكون مرقيًا لنفس صاحبه وحاملاً له على خدمة أمته بالإخلاص النافع، إلا إذا صاحبته تربية النفس، وتهذيب الأخلاق، وحسن النية. فمن كان فاسد الأخلاق اتخذ العلم وسيلة لحظوظ الدنيا وشهواتها، لا يبالي في سبيلها بأمة ولا ملة. ففساد الأخلاق هو السبب في قلة النابغين في علوم الدنيا والدين، وقلة العاملين المخلصين ممن يعدون نابغين. ولو كانت نفوس أكثر المتعلمين منا أو الكثير منهم عالية، وأخلاقهم كاملة، لسهل عليهم النهوض بهذه الأمة إلى أوج العزة في زمن قصير. ولكن بلاءنا بفقد التربية أضعاف بلائنا بنقص التعليم. وإذ قد قرأت بعض كلمات حجة الإسلام في علماء الدين في عصره المنير، فماذا تقول فيهم في عصرنا هذا؟ ثم قال: (الوظيفة الثانية) : أن يقلل (وفي نسخة يفرغ) علائقه من الاشتغال بالدنيا ويبعد عن الأهل والوطن، فإن العلائق شاغلة وصارفة {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه} (الأحزاب: 4) ومهما توزعت الفكرة قصرت عن درك الحقائق، ولذلك قيل: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، فإذا أعطيته كلك فأنت من إعطائه إياك بعضه على خطر. (يريد على شك) والفكرة المتوزعة على أمور متفرقة كجدول تفرق ماؤه، فنشفت الأرض بعضه واختطف الهواء بعضه، فلا يبقي منه ما يجتمع ويبلغ المزارع) . أقول: إنه جعل الرحلة ومفارقة الوطن والأهل وتقليل العلائق والشواغل وظيفة واحدة؛ لأن الغرض منهما فراغ الفكر وصفاء الذهن، فكأنه هو الوظيفة المقصودة، وقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلاً للرحلة في طلب العلم، وكونها مزيد كمال في التعليم، ومازال الناس في هذا في الشرق والغرب، حتى أن أهل المملكة الواحدة من ممالك أوربا لا يكتفون بالرحلة من بلد من بلادهم إلى آخر لجودة التعليم في مدارسه واتساع دائرة العلوم فيها، بل يرحل منهم كثيرون إلى مدارس مملكة أخرى؛ كرحلة أهل فرنسا وإنكلترا إلى سويسرا وألمانيا. ثم قال: (الوظيفة الثالثة) : أن لا يتكبر على العلم، ولا يتأمر على المعلم، بل يلقي إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل، ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق. وينبغي أن يتواضع لعلمه، ويطلب الثواب والشرف لخدمته. فلا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم، ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين، وهو عين الحماقة. ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم، فليقلده وليدع رأيه، فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه؛ إذ التجربة تطلع على دقائق يستغرب سماعها، مع أنه يعظم نفعها. وبالجملة كل متعلم استبقى لنفسه رأيًا واختيارًا دون اختيار المعلم، فاحكم عليه بالإخفاق والخسران. أقول: ذكر في هذه الوظيفة كثيرًا من الآداب. قد يتوقف في تقليد المعلم منها ويظن أن هذا مخالف لما ذكرناه عنه من سلوك طريق الاستقلال في العلم، وإنما يظن هذا من يغفل عن الفرق بين العلم نفسه وبين طريق التعليم، فتَحَكُّم الطلاب في طريقة الأستاذ في التعليم خرق وفساد لا يجوز بحال، ولو جاز هذا لكان مؤديًا إلى المحال، عندما يقترح كل طالب طريقة غير التي اقترحها الآخر، وأنى يكون للتلميذ في طرائق التعليم، مما لا يعرف الصواب فيها إلا بعض العلماء المجربين، وإنما بيَّنت هذا على ظهوره؛ ليعتبر به طلاب العلم في الأزهر، فإن كثيرًا منهم يعدون عقبة في طريق إصلاح التعليم؛ بما جروا عليه من العادات في المطالعة والفهم بطريق التفكيك، وتتبع المفردات، والإعراض عن الأساليب، والتزام الشروح والحواشي والتقارير. وقد كلمت غير واحد من المدرسين في تحسين طريقة التعليم بالجري على الأساليب الحديثة، فاعتذروا بأن المجاورين يتركون دروسهم إذا هم تركوا المألوف فيها، وإنما يأتي هذا الإفساد من المجاورين الذين ألفوا طريقة الأزهر العتيقة بطول الجري عليها، إذ المبتدئ لا رأي له، وكان منتظرًا من هؤلاء إذا حكموا في ذلك أن يكونوا وسيلة للإصلاح، لا للبقاء على الخطأ القديم. نعم، إن فيهم من يطلب الإصلاح فلا يجده، وهم الأذكياء من تلاميذ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، وقد وجدوه الآن بمدرسة القضاء الشرعي، وسيظهر أثر ذكائهم واستقلالهم بعد زمن قصير. إن شاء الله تعالى. على أن التقليد في العلم نفسه ضروري للمبتدئ، حتى يصير أهلاً للنظر والاستدلال، فعند ذلك يسلك طريق الاستقلال، ثم قال: (الوظيفة الرابعة) أن يحترز الخائض في العلم في مبدأ الأمر عن الإصغاء إلى اختلاف الناس، سواء كان ما خاض فيه من علوم الدنيا أو من علوم الآخرة، فإن ذلك يدهش عقله، ويحير ذهنه، ويفتر رأيه، ويؤيسه من الإدراك والاطلاع، بل ينبغي أن يتقن أولاً الطريقة الحميدة المرضية عند أستاذه، ثم بعد ذلك يصغي إلى المذاهب والشبه، وإن لم يكن أستاذه مستقلاًّ باختيار رأي واحد، وإنما عادته نقل المذاهب وما قيل فيها فليحذر منه؛ فإن إضلاله أكثر من إرشاده فلا يصلح الأعمى لقود العميان وإرشادهم. ومن هذا حاله، فهو يعد في عمى الحيرة وتيه الجهل. (ومنع المبتدي عن الشبه، يضاهي منع الحديث العهد بالإسلام من مخالطة الكفار. وندب القوي إلى النظر في الاختلافات، يضاهي حث القوي على مخالطة الكفار. ولهذا يمنع الجبان عن التهجم على صف الكفار، ويندب الشجاع له. ومن الغفلة عن هذه الدقيقة ظن بعض الضعفاء أن الاقتداء بالأقوياء فيما ينقل عنهم من المسا

أثارة من التاريخ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أثارة من التاريخ قطعة من مكتوب شهاب الدين بن مري تلميذ ابن تيمية يعزي إخوانه تلاميذ شيخ الإسلام عنه، ويحثهم على جمع مصنفاته. أيها الإخوان: لا تنسوا تقريرات شيخنا الحاذق الناقد الصادق - قدس الله روحه - لمعاني قوله تبارك وتعالى في بيان الحِكَم الأربع التي أودعها الله سبحانه في ضمن انكسار عسكر الرسول في يوم أحد، وهي قوله تعالى: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران: 141-142) ، فلا تهملوا أمر الفكرة الصالحة في هذه المعاني الشريفة وغيرها، ولا تجزعوا لما حصل فإن الله حي لا يموت، وهو المتكفل سبحانه بنصر الدين وأهله، والمختبر لعباده فيما يبتليهم به، والخبير بجملة مصالحهم والرؤوف بهم، والهادي لمن يشاء إلى صراط مستقيم، ولا يهلك على الله إلا هالك، والسعيد من قام بما عليه إلى وفاته، ومن أراد عظيم الأجر التام ونصيحة الأنام ونشر علم هذا الإمام الذي اختطفه من بيننا محتوم الحمام، ويُخْشَى دُرُوسُ كثير من علومه المتفرقة الفائقة مع تكرر مرور الليالي والأيام - فالطريق في حقه هو الاجتهاد العظيم على كتابة مؤلفاته الصغار والكبار، على جليتها من غير تصرف فيها ولا اختصار، ولو وجد كثيرًا من التكرار، ومقابلتها، وتكثير النسخ بها وإشاعتها، وجمع النظائر والأشباه في مكان واحد، واغتنام حياة من بقي من أكابر الإخوان، فكأننا جميعًا بكمال الفوت وقد حان، ويكفينا ما عندنا على ما فرطنا من عظيم الأسف، فلوجه الله معشر الإخوان لا تعاملوا الوقت الحاضر بما عاملتم به الوقت الذي قد سلف، فإن حياته (رحمه الله ورضي عنه) كانت مأمولة لاستدراك الفارطات الفائتات، وتكميل الغايات والنهايات، فاغتنموا تحصيل كل مهمة في وقتها بلا كسل ولا ملل، ولا تشاغل ولا بخل؛ لأن هذا المهم الكبير أحق شيء يبذل في تحصيله المال الكثير، وقد علمتم مضرة التعليل والتسويف، وذلك من أكبر القواطع عن مصالح الدنيا والآخرة، فاحتفظوا بالشيخ أبي عبد الله [1] أيده الله، وبما عنده من الذخائر والنفائس، وأقيموه لهذا المهم الجليل، بأكثر ما تقدرون عليه ولو تألمتم أحيانا من مطالبته؛ لأنه قد بقي في فنه فريدًا، ولا يقوم مقامه غيره من سائر الجماعة على الإطلاق. وكل أحوال الوجود لابد فيها من العوارض والإنكار، فاحتسبوا مساعدته عند الله -تعالى - وأنهضوا بمجموع كلفته، فإن الشدائد تزول والخيرات تغتنم، فاكتبوا ما عنده وليكتب ما عندكم، وأنا أستودع الله دينه وما عنده، وأوصيه بالصبر أيضًا، وبمعاملة الله سبحانه فيما هو فيه وإن قصَّر الإخوان في حقه، وليطلب نصيبه من الله تعالى متكلاً عليه في رزقه المضمون، ومجملاً في الطلب؛ لأن ما قسم لابد أن يكون، وإنما أحث هممكم الصالحة عليه تحصيل كراريس الرد على عقائد الفلاسفة؛ لأنه ليس في الوجود لهذا المؤلف نسخة كاملة غير النسخة التي بخطي، وكانت في الخرستان الشمالي من مدرسة شيخنا، وأخبرني الشيخ شرف الدين - رحمه الله تعالى - أنه أودع المجموع في مكان حريز، ولقد شح علي بإنفاذ هذه الكراريس وقت الذهاب من الشام، ولا قوة إلا بالله، والكراس الرابع منها أخذه أبو عبد الله من يدي وهو عنده، ونسخة الأصل التي بخط الشيخ هي في القطع في الكبير، وكانت هناك أيضًا، وقد بقي من آخر نسختي أقل من ورقة فأوصلوا ذلك إلى أبي عبد الله؛ ليكمل النسخة إلى عند قوله (فهذا باب وذاك باب والله أعلم بالصواب) وللطولسي نسخة بخط كيس وكملوها؛ لأنه مؤلف لا نظير له ولا يكسر الفلاسفة مثله، ومن الله نسأل المعونة على جمع شمل هذه المصالح الجليلة بعد شتاتها، ونعوذ به من عوارض القواطع وآفاتها؛ لأن الفوت صعب وغائلة التفريط ردية، وانتهاز الفرص من أهم الأمور وأجمعها لمصالح الدنيا والآخرة، وما يعقلها إلا العالمون، وسيندم المفرطون في استدراك بقايا هذه الأمور الكاملة والمقصرون، كما ندم المتخيلون بطول حياة الشيخ والمفترون، وهذه الأمور التي قد أشرت إليها في هذه الأوراق الخفيفة هي أعلى أبواب النصيحة وأتمها فيما أعلم؛ لأن الذاهب مضى والوقت سيف منتضى، وكل من ذهب بعده من أكابر الإخوان ما عنه عوض. والدهر في إدبار، والشرور في زيادة، وإذا جمعت هذه المؤلفات العزيزة الكثيرة، ونقل من المسودات ما لم ينقل، وقبل رأي أبي عبد الله في ذلك كله؛ لأنه على بصيرة من أمره، وهو أخبر الجماعة بمظان المصالح المفردة التي قد انقطعت مادتها، وقوبل كل ما يكتب مع أصلح الجماعة أوعلى نسخة الأصل، وروجع شيخنا الحافظ جمال الدين الذي هو بقية الخير؛ لثقته وخبرته وشفقته وتحرقه على ظهور هذه المواد الصالحة في الوجود؛ ولسعة علمه وإحاطته بكثير من مقاصد شيخنا المؤلف، وروجع الشيخان العالمان الفاضلان المحققان (القاضي شرف الدين وشمس الدين بن أبي بكر) فإنهما أحذق الجماعة على الإطلاق في المناهج العقلية وغيرها، وأذكرهم للمباحث الأصولية فيما يشتبه من المقاصد؛ خوفًا من التصحيف وتغيير بعض المعاني، وروجع غيرهم من أكابر الجماعة أيضًا - كان في ذلك خير كثير، واستدراك كبير إن شاء الله تعالى. (والشيخ أبو عبد الله) سلَّمه الله، هو بلا تردد واسطة نظام هذا الأمر العظيم، فساعدوه وأزيلوا ضرورته، واجمعوا همته، واغتنموا بقية حياته، واقبلوا نصيحتي فيما أتحققه من هذا كله كما كنت أتحقق. إن اغتنام أوقات الشيخ وجمعها على التآليف والإتقان والمقابلة خير من صرفها في مجرد المفاكهة اللذيذة والمنادمة، والنفوس فرطت كثيرًا في ذلك الحال، والله المسؤول بأن يكفيها مضرة كمال الفوت الذي لا عوض عنه بحال، إنه رؤوف رحيم جواد كريم، فإن يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة، صارت إن شاء الله تعالى مؤلفات شيخنا ذخيرة صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقل وينصر الطريقة السلفية على قواعدها، ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا، يستعملهم فيه بطاعة الله) ، وقال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة) والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 8) ، وكما انتفع الشيخ بكلام الأئمة قبله، فكذلك ينتفع بكلامه من بعده إن شاء الله تعالى، فاتبعوا أمر الله، واقصدوا رضا الله بجمع كل ما تقدرون عليه من أنواع المؤلفات الكبار، وأشتات المسائل الصغار، ومعها نسخ الفتاوى المتفرقة، وسائر كلامه الذي قد ملئ - ولله الحمد - من الفوائد والفرائد والشوارد، فأيقظوا الهمم، وابذلوا الأموال الكثيرة في تحصيل هذا المطلب العظيم الذي لا نصير له، فهذا هو الذي يلزمنا من حيث الأسباب. والتمام على رب الأرباب ومسبب الأسباب وفاتح الأبواب الذي يقيم دينه وينصر كتابه وسنة نبيه على الدوام، ويثبت من يؤهله لذلك من أنواع الخاص والعام، وكلٌّ مجزي في القيامة بعمله {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) . وقد علم أن الإمام أحمد بن حنبل كان ينهي في حال حياته عن كتابة كلامه؛ ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ولما توفي استدرك أصحابه ذلك الأمر الكبير فنقلوا علمه، وبينوا مقاصده، وشهروا فوائده، فانتصرت طريقته، واقتفيت آثاره لأجل ذلك، والوجود هو على هذه الصفة قديمًا وحديثًا، فلا تيأسوا من قبول القلوب القريبة والبعيدة لكلام شيخنا، فإنه - ولله الحمد - مقبول طوعًا أو كرهًا، وأين غايات قبول القلوب السليمة لكلماته، وتتبع الهمم النافذة لمباحثه وترجيحاته؟ ووالله - إن شاء الله - ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه رجالا هم إلى الآن في أصلاب آبائهم. وهذه هي سنة الله الجارية في عباده وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصي عدده غير الله تعالى، ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أُخرِج طريدًا ثم مات بعد ذلك غريبًا، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما لا خطر في باله، ولا مر في خياله من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها له على جميع كتب السنن؛ وذلك لكمال صحته وعظمة قدره، وحسن ترتيبه وجمعه، وجميل نية مؤلفه، وغير ذلك من الأسباب. ونحن نرجو أن يكون لمؤلفات شيخنا أبي العباس من هذه الوراثة الصالحة نصيب كثير- إن شاء الله تعالى - لأنه كان بنى جملة أمور على الكتاب والسنة ونصوص أئمة سلف الأمة، وكان يقصد تحرير الصحة بكل جهده، ويدفع الباطل بكل ما يقدر عليه، لا يهاب مخافة أحد من الناس في نصر هذه الطريقة، وتبيين هذه الحقيقة، وقد علم أن لكتبه من الخصوصية والنفع والصحة والبسط والتحقيق والإتقان والكمال وتسهيل العبارات وجمع أشتات المتفرقات والنطق في مضايق الأبواب بحقائق فصل الخطاب ما ليس لأكثر المصنفين في أبواب مسائل أصول الدين وغيرها من مسائل المحققين؛ لأنه كان يجعل النقل الصحيح أصله وعمدته في جميع ما يبني عليه، ثم يعتضد بالعقليات الصريحة التي توافق ذلك وبغيرها، ويجتهد إلى دفع كل ما يعارض ذلك من شبه المعقولات، ويلتزم حل كل شبهة كلامية وفلسفية كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، ويلتزم أيضًا الجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول، ويجزم بأن فرض دليلين قطعيين متعارضين من المحال، إن كانا عقليين أو عقليًّا ونقليًّا، قال: لأن الدليل هو الذي يجب ثبوت مدلوله. فإما أن لا يكونا قطعيين. وإما أن لا يكون مدلولاهما متناقضين، وعلى هذا المقصد الجليل بنى كلامه المتين، وتقاسيمه العجيبة في أول قاعدته الكبيرة الباهرة التي ألفها فى دفع تعارض العقل والنقل، فكانت مقاصده وتحقيقاته في هذا الباب العظيم عجبًا من عجائب الوجود، وكان يقول: لا يتصور أن يتعارض حديثان صحيحان قط؛ إلا أن يكون الثاني ناسخًا للأول. قال: والإمام أحمد بن حنبل كان في زمنه يصرح به ويلتزم تحقيقه، وأنا في زمني ألتزم حكم هذه القاعدة أيضًا، والنهوض بالجواب عن كل ما يعارضها، وكان رحمه الله ورضي عنه يذب عن الشريعة، ويحمي حوزة الدين بكل ما يقدر عليه، وكان كما علم من حاله لا يخاف في هذا الباب لومة لائم، ولا ينثني عما يتحقق عنده، ولم يزل على ذلك إلى أن قضى نحبه ولقي ربه فقدس الله روحه، ونور ضريحه، ونصر مقاصده، وأيَّد قواعده. والله سبحانه يعلم حسن قصده وصحة علومه ورجحان دليله، وهو ناصر الحق وأهله ولو بعد حين. وجميع ما وقع من هذه الأمور فيه من الدلالة - إن شاء الله -على شمول أمره وظهور كلمة هذه العلوم الباهرة أكثر مما فيه من الدلالة على خلاف ذلك (ولا قوة إلا بالله) غير أن الأشياء المقدورة تفتقر إلى أسبابها المعلومة، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في العريش يوم بدر، يجتهد على الاستغاثة بالله التي كانت أكبر أسباب النصرة في ذلك اليوم، بعد أن عرفه الله تعالى قبل ذلك جلية مصارع القوم، ولما التزمه أبو بكر من ورائه قائلاً له: يا رسول الله، أهكذا مناشدتك ربك؟ فإنه واف لك بما وعدك. لم يترك استغاثته بربه

نموذج من إنجيل برنابا ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من إنجيل برنابا (2) الفصل السبعون [أ1] (1) انصرف يسوع من أورشليم بعد الفصح، ودخل حدود قيصرية فيلبس [1] . (2) فسأل تلاميذه بعد أن أنذره الملاك جبريل بالشغب الذي نجم بين العامة، قائلاً: (ماذا يقول الناس عني؟) . (3) أجابوا: (يقول البعض: إنك إيليا، وآخرون إرميا، وآخرون أحد الأنبياء) . (4) أجاب يسوع: (وما قولكم أنتم في؟) . (5) أجاب بطرس: (إنك المسيح ابن الله) . (6) فغضب حينئذ يسوع، وانتهره بغضب، قائلاً: (اذهب وانصرف عني [2] لأنك أنت الشيطان، وتحاول أن تسيء إلي) . (7) ثم هدد الأحد عشر قائلاً: (ويل لكم إذا صدقتم هذا؛ لأني ظفرت بلعنة كبيرة من الله على كل من يصدق هذا) . (8) وأراد أن يطرد بطرس. (9) فتضرع حينئذ الأحد عشر إلى يسوع لأجله، فلم يطرده. (10) ولكنه انتهره أيضًا قائلاً: (حذار أن تقول مثل هذا الكلام مرة أخرى؛ لأن الله يلعنك) . (11) فبكى بطرس وقال: (يا سيد، تكلمت بغباوة فاضرع إلى الله أن يغفر لي) . (12) ثم قال يسوع: (إذا كان إلهنا لم يرد أن يظهر نفسه لموسى عبده، ولا لإيليا الذي أحبه كثيرًا، ولا لنبي ما، أتظنون أن الله يظهر نفسه لهذا الجيل الفاقد الإيمان؟ (13) بل، ألا تعلمون أن الله قد خلق بكلمة [أ2] واحدة كل شيء من العدم، وأن منشأ البشر جميعهم من كتلة طين؟ . (14) فكيف إذًا يكون الله شبيهًا بالإنسان؟ (15) ويل للذين يدعون الشيطان يخدعهم) . (16) ولما قال يسوع هذا ضرع إلى الله لأجل بطرس، والأحد عشر وبطرس يبكون ويقولون: (ليكن كذلك، أيها الرب المبارك إلهنا [ب1] ) . (17) وانصرف يسوع بعد هذا، وذهب إلى الجليل إخمادًا لهذا الرأي الباطل الذي ابتدأ أن يعلق بالعامة في شأنه. *** الفصل الحادي والسبعون [ت1] (1) ولما بلغ يسوع بلاده [3] ذاع في جهة الجليل كلها أن يسوع النبي قد جاء إلى الناصرة [3أ] . (2) فتفقدوا عندئذ المرضى بجد، وأحضروهم إليه متوسلين إليه أن يلمسهم بيديه [3ب] . (3) وكان الجمع غفيرًا جدًّا حتى أن غنيًّا مصابًا بالشلل لما لم يمكن إدخاله في الباب، حُمِل إلى سطح البيت الذي كان فيه يسوع، وأمر القوم برفع السقف ودلي على ملاء أمام يسوع. (4) فتردد يسوع دقيقة ثم قال: (لا تخف أيها الأخ؛ لأن خطاياك قد غفرت لك) . (5) فاستاء كل أحد لسماع هذا وقالوا: (من هذا الذي يغفر الخطايا) . (6) فقال حينئذ يسوع: (لعمر الله، إني لست بقادر على غفران الخطايا ولا أحد آخر. ولكن الله وحده يغفر [أ3] . (7) ولكن كخادم لله، أقدر أن أتوسل إليه لأجل خطايا الآخرين. (8) لهذا توسلت إليه لأجل هذا المريض، وإني موقن بأن الله قد استجاب دعائي. (9) ولكي تعلموا الحق، أقول لهذا الإنسان: (باسم إله [ب2] آبائنا إبراهيم وأبنائه قم مُعافى) . (10) ولما قال يسوع هذا قام المريض معافى، ومجَّد الله. (11) حينئذ توسل العامة إلى يسوع ليتوسل إلى الله لأجل المرضى الذين كانوا خارجًا. (12) فخرج حينئذ يسوع إليهم ثم رفع يديه، وقال: (13) (يا أيها الرب إله الجنود، الإله الحي، الإله الحقيقي، الإلة القدوس الذي لا يموت [ت2] ألا فارحمهم. (14) فأجاب كل أحد (آمين) . (15) وبعد أن قيل هذا وضع يسوع يديه على المرضى، فنالوا جميعهم صحتهم. (16) فحينئذ مجدوا الله قائلين: (لقد افتقدنا الله بنبيه، فإن الله أرسل لنا نبيًّا عظيمًا) . *** الفصل الثاني والسبعون [أ4] (1) وفي الليل تكلم يسوع سرًّا مع تلاميذه قائلاً: (2) الحق أقول لكم، إن الشيطان يريد أن يغربلكم كالحنطة [4] . (3) ولكني توسلت إلى الله لأجلكم، فلا يهلك منكم إلا الذي يلقي الحبائل لي. (4) وهو إنما قال هذا عن يهوذا؛ لأن الملاك جبريل قال له كيف كانت ليهوذا يد مع الكهنة، وأخبرهم بكل ما تكلم به يسوع. (5) فاقترب الذي يكتب هذا إلى يسوع بدموع قائلاً: (يا معلم قل لي، من هو الذي يسلمك؟) . (6) فأجاب يسوع، قائلاً: (يا برنابا، ليست هذه الساعة هي التي تعرفه فيها. ولكن يعلن الشرير نفسه قريبًا؛ لأني سأنصرف عن العالم) . (7) فبكى حينئذ الرسل قائلين: (يا معلم، لماذا تتركنا؟ لأن الأحرى بنا أن نموت من أن تتركنا) . (8) أجاب يسوع: (لا تضطرب قلوبكم ولا تخافوا) [5] . (9) لأني لست أنا الذي خلقكم، بل الله الذي خلقكم يحميكم [ب3] . (10) أما من خصوصي؛ فإني قد أتيت لأهيئ الطريق لرسول الله [ت3] الذي سيأتي بخلاص للعالم. (11) ولكن احذروا أن تُغشوا؛ لأنه سيأتي أنبياء كذبة [6] كثيرون، يأخذون كلامي وينجسون إنجيلي. (12) حينئذ قال اندراوس: (يا معلم اذكر لنا علامة لنعرفه) . (13) أجاب يسوع: (إنه لا يأتي في زمنكم، بل يأتي بعدكم بعدة سنين، حينما يبطل، ولا يكاد يوجد ثلاثون مؤمنًا. (14) في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل [أ5] رسوله الذي تستقر على رأسه غمامة بيضاء، يعرفه أحد مختاري الله وهو سيظهره للعالم. (15) وسيأتي بقوة عظيمة على الفجار، ويبيد عبادة الأصنام من العالم. ... (16) وإني أسر بذلك؛ لأنه بواسطته سيعلن ويمجد الله، ويظهر صدقي. (17) وسينتقم من الذين سيقولون أني أكبر من إنسان. (18) الحق أقول لكم: إن القمر سيعطيه رقادًا في صباه، ومتى كبر هو أخذه [7] بكفيه. (19) فليحذر العالم أن ينبذه لأنه سيفتك بعبدة الأصنام. (20) فإن موسى عبد الله [ب4] قتل أكثر من ذلك كثيرًا، ولم يبق يوشع على المدن التي أحرقوها، وقتلوا الأطفال. (21) لأن القرحة المزمنة يستعمل لها الكي. (22) وسيجيء بحقٍّ أجلى من سائر الأنبياء، وسيوبخ من لا يحسن السلوك في العالم. (23) وستحيي طربًا أبراج مدينة آبائنا بعضها بعضًا. (24) فمتى شوهد سقوط عبادة الأصنام إلى الأرض، واعترف بأني بشر كسائر البشر، فالحق أقول لكم: إن نبي الله [ب] حينئذ يأتي. (المنار) وفي موضع آخر من هذا الإنجيل، بيان سبب تسمية سيدنا عيسى إلهًا وابن الله وهو أن الرومانيين الذين كانوا يحكمون اليهود يومئذ، رأوا آياته عليه السلام في إبراء البرص وغيرهم من المرضى، فقالوا: هذا إله إسرائيل قد افتقد شعبه، كعادتهم في إطلاق اسم الإله على كثير من المخلوقات ... إلخ. ((يتبع بمقال تالٍ))

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حكم من قال: أنا في جاه النبي، وحديث (توسلوا بجاهي) (س 48) من أحمد أفندي البدوي في (القناطر الخيرية) . ملخص السؤال: إن بعض المجاورين في الأزهر عندهم اتخذ دكانًا كبيرًا لبيع الحلاوة، وقد وقف خطيبًا على جمهور من الأفاضل وقال لهم: من قال أنا في جاه النبي فقد كفر. فقال له السائل: قال عليه الصلاة والسلام (توسلوا بجاهي فإن جاهي عظيم) ، فأجابه بأن هذا حديث مكذوب، هات لي حديثًا من الكتب الستة أو آية من القرآن. ويطلب بلسان أهل البلد بيان الحق في ذلك. (ج) إن الرجل قد أخطأ في كلمة وأصاب في كلمة: أخطأ في تكفير من قال أنا في جاه النبي صلي الله عليه وسلم، وأصاب في قوله: إن عبارة (توسلوا بجاهي) إلخ ليست حديثًا مرويًّا عنه صلى الله عليه وسلم، بل هي من الموضوعات كما سبق لنا القول في المنار غير مرة. أما الكفر بمعني الارتداد عن الإسلام فهو إنما يكون بإنكار شيء مما جاء به صلى الله عليه وسلم، عُلِمَ من الدين بالضرورة إجماعًا كالقرآن كله أو بعضه، وككون الصلوات المفروضة خمسًا. ولعل الرجل ما قال بالتكفير إلا وهو يظن أن من قال تلك الكلمة فهو يعني بها أن النبي صلي الله عليه وسلم ينفع أو يضر من دون الله. وهي ليست نصًّا في ذلك، وإذا كان من لوازمها القريبة أو البعيدة، فلازم المذهب ليس بمذهب لا سيما في باب الردة وإنني أرى الناس يستعملون هذه الكلمة (أنا في جاه النبي) لإنشاء استعظام الأمر أو استفظاعه. يقول قائل: فلان شرير يخشى ضره أنا في جاه النبي. ويريد الآخر أن يبالغ في تصديقه فيقولها أيضًا، ولا يكاد قائلها يقصد الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم لينقذه من شر الرجل. هذا وإن الكلمة لم يرد بها كتاب ولا سنة ولا أثر عن الصحابة أو الأئمة، فتركها أسلم من استعمالها وإن لم تكن كفرًا. فلا يليق أن يجعل اسم النبي (صلى الله عليه وسلم) عنوانًا على الاستفظاع، كما هو المستعمل، وإن قصد قائلها أنه ينجو من الشر والعذاب ويصيب الخير والثواب بجعل نفسه في جاه النبي صلي الله عليه وسلم قولاً - فقصده هذا مخالف لهدي النبي وما جاء به من أن النجاة في الآخرة إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح. وأن أمر الدنيا مبني على الأسباب وسنن الله التي لا تتغير، والتي بمراعاتها انتصر المؤمنون معه صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهم فئة قليلة، وولوا الأدبار يوم حنين وهم كثيرون، وانكسروا كذلك يوم أُحُد. *** صخرة بيت المقدس (س 49) من محمد أفندي عبد الكريم بمدرسة الناصرية بمصر. ما قولكم في الصخرة المقدسة الموجودة ببيت المقدس ببلاد الشام، وفي أي زمن قُدِّست؟ ومن أطلق عليها اسم التقديس؟ وهل هي حقيقة متصلة بالجبل، ومعلقة بين السماء والأرض؟ وما هي الحقيقة فيها؟ لازلتم كهفًا للواردين، وملجأ للقاصدين، ودمتم. (ج) لم يرد في كتاب الله ولا في أحاديث رسوله وصف الصخرة بالمقدسة وإنما وصفت تلك البلاد كلها بالأرض المقدسة؛ لظهور الأنبياء والمرسلين فيها، وبإرشادهم تتقدس نفوس الناس من الشرك والرذائل. وكانت الصخرة ومازالت قبلة اليهود، فهي معظمة ومعدودة من الآثار الشريفة؛ لأنها من آثار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وليست متصلة بالجبل ولا واقفة في الجو، وإنما هي سقف لمغارة صناعية وقد سبق لنا وصفها، فراجع ص 266 من المجلد السادس. *** مشكلتان في القضاء الإسلامي (أحدهما واردة على حكم القاضي باجتهاده، والثانية على تعدد المذاهب) وجه إلينا السؤالين الآتيين بعض كبار علماء القوانين والفقه في ملأ من الفضلاء سامرين عنده، ورغب إلينا أن نجيب عنهما في المنار، وقال: إنه سأل بهما بعض الفقهاء المشهورين، فلم يحسنوا جوابًا، وقد أجبنا هناك جوابًا مجملاً نفصله هنا. (السؤال الأول) (س 50) قرر الفقهاء أن يكون القاضي مجتهدًا، ومعناه أنه يحكم بما أداه إليه اجتهاده، ويلزم من هذا أن يكون المتحاكمون جاهلين بالأحكام التي يحكم لهم أو عليهم بها، وفي ذلك ما فيه، وهو مما يعد على الفقه الإسلامي. (ج) إن الدين الإسلامي لم يأت بقوانين وأحكام مفصلة لجميع ما تحتاج إليه الأمة في معاملاتها الدنيوية، وإنما جاء ببعض القواعد العامة والأحكام التي احتيج إليها في عصر التنزيل، وفوض القرآن الأمر فيما يحتاج إليه من أمور الدنيا: السياسية والقضائية والإدارية، إلى أهل الرأي والمعرفة بالمصالح من الأمة بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) فهذا ما جاء به الإسلام، وهو هداية تامة كاملة لا تعمل بها أمة إلا وتكون مستقلة في أمورها مرتقية في سياستها وأحكامها، يسير بها أهل الرأي والمعرفة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة التي يقتضيها الزمان والمكان، ومن ذلك أن يضعوا القوانين وينشروها في الأمة، ويلزموا القضاة والحكام باتباعها والحكم بها، ولكن المسلمين لم يهتدوا بذلك على وجه الكمال. أما أهل الصدر الأول؛ فقد قاموا بما تقتضيه حال الزمان والمكان بقدر الإمكان، لاسيما على عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد كان ما هو معروف عندهم أتم المعرفة من أحكام القرآن، وأقضية الرسول وسنته في تحري العدل والمساواة - وافيًا بمعظم حاجاتهم القليلة بمقتضى السذاجة الفطرية، وشظف العيش والتمسك بالدين، ومن لوازمه قلة الاعتداء والاحتيال، فكان يكتفى في القاضي أن يكون عالمًا بما ذكر، صاحب بصيرة فيه، وعدالة في نفسه، بحيث إذا عرض له قضية لم يرد فيها كتاب ولم تمض بها سنة - ولعل ذلك قليل - أن يعمل رأيه تطبيقها على العدل، ويقيسها بما يشبهها مما ورد. ولم يكن الناس في ذلك العهد يشعرون بأنهم في حاجة إلي معرفة ما عساه يعرض من أحكام القضايا غير المنصوصة ليدون وينشر، بل لم يكن ذلك متيسرًا لغلبة الأمية على المسلمين ولتفويضهم أمر الذين يدخلون في ذمتهم إلى حكم أنفسهم بأنفسهم. ونتيجة ذلك أنهم لم يكونوا محتاجين إلى وضع القوانين ونشرها، ولذلك صرفوا همتهم إلى الدعوة إلى الإسلام، وما يتبع ذلك من الفتوحات. ومما يدل على أن ما كانوا عليه كان كافيًا في إقامة العدل وراحة الناس وأمانهم، بحيث لا يشعرون بحاجة إلى معرفة ما كانوا يحكمون به - ما رواه ابن سعد في الطبقات وابن راهويه عن عطاء قال: كان عمر يأمر عماله أن يوافوه بالموسم، فإذا اجتمعوا قال - أي على مسمع الملإ من أهل الموسم الواردين من الجهات -: (يا أيها الناس، إني لم أبعث عمالي عليكم؛ ليصيبوا من أبشاركم ولا من أموالكم ولا من أعراضكم إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فعل به غير ذلك فليقم) فما قام أحد إلا رجل قام فقال: يا أمير المؤمنين، إن عاملك فلان ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أميرالمؤمنين، إنك إن فعلت هذا يكثر عليك، وتكون سنة يأخذ بها من بعدك. قال عمر: أنا لا أقيد وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيد من نفسه؟ [1] قال عمرو: فدعنا لنرضيه. قال: دونكم فارضوه. فافتدى منها بمئتي دينار، عن كل سوط بدينارين. اهـ والشاهد في عدم قيام أحد من أهل الموسم يشكو العمال غير هذا الرجل، وقد كتبنا في المجلدين الرابع والخامس من المنار مقالات أو نُبذًا في القضاء في الإسلام، ومما كتبناه في أول النبذة الرابعة ما نصه (ص 166 م 5) . (أركان القضاء وأصول الحكم في الإسلام أربعة: الكتاب العزيز والسنة، والاجتهاد في الرأي والمشاورة في الأمر. وإنها لأركان عظيمة، وأصول قويمة، والأساس الذي بنيت عليه هذه الأركان: (درء المفاسد وجلب المصالح والمنافع) ولهذا كان الاجتهاد شرطًا في القاضي؛ لوجوب تطبيق الأحكام على المنفعة في كل زمان ومكان بحسبه. وأقول الآن: فقد كان قضاة المسلمين ممن يسمون بلسان الأوربيين الآن بقضاة العدل والإنصاف. ثم أوردنا الأحاديث وآثار الصحابة الدالة على تلك الأركان، ومما أوردناه في سنتهم في الاستشارة وعدم الاستبداد فيما لا نص فيه ما جاء في (ص 127 م 5) . (روى الدارمي والبيهقي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة، فإن علمها قضى بها، فإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال:أتاني كذا وكذا، فنظرت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجد في ذلك شيئًا، فهل تعلمون أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام الرهط، فقالوا: نعم، قضى فيه بكذا وكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويقول عند ذلك: (الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا) وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم (أي الذين هم أولو الأمر في الآية) فاسثشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به. وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك، وكان يرجع إلى أقضية أبي بكر ... إلخ. أقول: فأنت ترى أن ما جروا عليه في الصدر الأول كان منتهى الكمال الممكن في عصرهم الكافل لحاجتهم. ولكن حدثت للمسلمين بعد ذلك حاجات أخرى: فقد فتحوا المدائن والأمصار، ودخل الناس في دينهم أفواجًا من جميع الأمم والملل، فكثرت حاجات العمران، وحدثت للناس أقضية كثيرة لم يكن لها نظير في الصدر الأول، كما قال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوا. ثم إن هؤلاء الناس لم يكونوا من فهم الدين والاهتداء به كما كان أهل العصر الأول، ومن ثم احتيج إلى وضع قوانين عامة يعرفها الناس ويتقاضون بها، وكان يجب بمقتضى هداية القرآن أن يجتمع لذلك أولو الأمر، وهم المعبر عنهم في الأثر المذكور آنفًا برؤوس المسلمين وعلمائهم، فيضعوه، وتجري الأحكام عليه، ما لم يروا تحويره وتنقيحه. ولكنهم تركوا ذلك للأفراد يكتبون متفرقين ما يظهر لهم أن الأمة محتاجة إليه فكثرت المذاهب والآراء، وكان ينصب القاضي من هؤلاء الأفراد المنصرفين إلى وضع الأحكام برأيهم واجتهادهم، حتى إذا ما ضعف العلم بفشو تقليد أفراد من المصنفين في الأحكام، صار الحكام المستبدون يولون القضاء أفرادًا من متعلمي مذاهبهم، فكان ذلك نقصًا في القضاء عند المسلمين؛ سببه عدم الاهتداء بما سبق تقريره من أصول الدين، مع ما طرأ عليهم من الأمراض الاجتماعية والفتن السياسية، فتبعة التقصيرعلى المسلمين، لا شيء منه يلصق بهداية الإسلام. فوض القرآن لجماعة أولي الأمر أن يستنبطوا للأمة ما تحتاج إليه بالشورى فلم يفعلوا، ونهاهم عن تقليد الأفراد فقلدوهم، ونهاهم في آيات كثيرة عن التفرق والخلاف فتفرقوا واختلفوا، ولو وضع لهم أولو الأمر قانونًا مدونًا لا خلاف فيه، بحيث يعرف الحاكم والمحكومون ما به يكون الحكم، لكانوا مهتدين بهدي الإسلام، ولم يمنع ذلك من أن يكون القاضي مجتهدًا، كما كان في عهد السلف مع التزام أحكام الكتاب والسنة، فإن ما يضعه أولو الأمر لمصلحة الدنيا واجب الاتباع بنص القرآن، كما يجب اتباع الله ورسوله. وحينئذ يكون جل اجتهاد القاضي في تطبيق أحكام الكتاب والسنة وقانون أولي الأمر على القضايا، وأقله فيما عساه يعرض من القضايا التي أغفلها القانون ولا نص فيها، ويشترط في ذلك أن يقرن اجتهاده باجتهاد

المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الجديدة (كتاب غريب القرآن للسجستاني) كتب علماء الإسلام في غريب القرآن كتبًا كثيرة؛ منها المطول والمختصر، ومنها المنثور والمنظوم. ومنها مختصر للشيخ أبي محمد بن عزيز السجستاني سماه نزهة القلوب، وهو مرتب على حروف المعجم ترتيبًا خاصًّا. وقد طبعه في هذه السنة محمد أفندي الخانجي وشركاؤه طبعًا جميلاً، ضبطت فيه كلمات القرآن في الأكثر. فجاء كتابًا لطيفًا بشكل صغير يوضع في الجيب، وهو مفيد يفسر الكلمات غالبًا بالمعنى المراد، وتارة يذكر أصل الاشتقاق. *** (غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب) كتاب للشيخ محمد السفاريني الحنبلي المتوفى سنة 1188 شرح منظومة الشيخ أبي عبد الله محمد بن عبد القوي المرداوي الحنبلي المتوفى بالشام 699، أحد شيوخ تقي الدين ابن تيمية في العربية. وهذا الشرح يدخل في مجلدين، فيهما من الأخبار والآثار والفوائد والشوارد ما لا يوجد إلا في الأسفار الكثيرة، فقد كان السفاريني واسع الاطلاع، حسن الاختيار في الغالب. وقد طبع كتابه هذا الشيخ عبد الفتاح الحجاوي النابلسي بإذن أحفاد المؤلف. وثمن النسخة منه عشرون قرشًا. وأجرة البريد في القطر المصري أربعة قروش. وهو يطلب من مكتبة المنار وغيرها من المكاتب المشهورة. *** (كتاب الأمالي لأبي عليِّ القالي) سبق لنا قول في هذا الكتاب النفيس، وهو جزآن يتلوهما جزء لطيف سماه ذيل الأمالي، وجزء آخر ألطف منه سماه النوادر، وقد تم طبع الجميع في مطبعة بولاق الأميرية، على نفقة الشيخ إسماعيل بن يوسف صالح بن دياب التونسي المقيم بمصر. قلنا في الجزء الأخير من السنة الماضية: إن هذا الكتاب من أفضل كتب الأدب، وقد عده ابن خلدون أحد أركانها الأربعة التي تعد سائر الكتب فروعًا منها. والثلاثة الأخرى: أدب الكاتب لابن قتيبة، والكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ. ففي الكتاب من مختار المنظوم والمنثور للعرب، والمخضرمين وكبار المولدين. ومن مباحث اللغة والأدب؛ ما هو خير عون على طبع ملكة البلاغة في نفس من يزاول قراءته. وأما طبعه، فنعيد القول بأنه لم يطبع بمصر فيما نعلم كتاب بعد المخصص مثله؛ في الضبط والإتقان، مع جودة الورق. فعسى أن يقبل عليه عشاق الأدب، ولابد أن تبتاع نظارة المعارف طائفة من نسخه. *** (سفينة النجاة) كتاب في النحو، وضعه للتعليم في مدارس (الفرير) أحد أساتذتها (الأخ بلاج) وهو مؤلف من أربعة أجزاء لطيفة، الأول والثاني: ذكرت فيه المسائل بأسلوب السؤال والجواب، وضبطت بالشكل التام دون التمرينات الملحقة بها، وهما لتعليم المبتدئين في السنة الأولى والثانية، ومسائلها تليق بهم. ووضع للثالث والرابع شروح في هوامشهما، وقد أهدانا المؤلف نسخة من طبعة الكتاب الرابعة، فإذا هي بمكانة من الجودة والضبط والإتقان. فمتى نجد في الأزهر مثل هذه الكتب؛ لتسهيل التعليم التي سبق علماءنا إليها الأجانبُ. ولولا أن نظارة المعارف سبقت إلى مثل هذه الكتب وأن هذا المؤلف أخذ عنها وحذا حذوها، لساغ لنا أن نقول: إن الأجانب خير منا في خدمة لغتنا. *** (سفينة البلغاء) وأهدانا هذا المؤلف أيضًا نسخة من رسالة في علوم البلاغة الثلاثة، سماها سفينة البلغاء. وهي نحو ستين صفحة فنشكر له هذا وذاك. *** (التقدم) جريدة سياسية يومية أنشأها في تونس البشير الفورتي، وبَيَّنَ أن من مقاصدها الدعوة إلى الاعتصام بالدين والدفاع عنه، وخدمة الجامعة الإسلامية في بذل النصائح لأهل الوطن في جميع الشؤون، والاعتدال في تنبيه الحكومة إلى ما يجب. فنحث القراء والكتُّاب على تعضيدها بالإقبال عليها، وإسعادها على هذه الخدمة الجليلة.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (سياسة إيطاليا بمطامعها في بلاد المسلمين) دولة إيطاليا تحاول مجاراة الدول الاستعمارية، ولكنها تجهل الاستعمار فتسلك إليه غير طرقه، وتأتيه من غير أبوابه. ومن المعروف المشهور أن لها طمعًا قديمًا في ولاية طرابلس الغرب العثمانية، وقد علمنا في هذه السنة أن أطماعها قد تعلقت بولاية اليمن، وأنها منذ زمن غير قريب تدس الدسائس إلى إمام الزيدية فيها لتقوي عزيمته على محاربة الدولة العلية، وتتوهم أنها تدخل اليمن في ظلمات هذه الفتنة، فلا يفطن لها أحد. وإن طمعها في اليمن لأدل على جهلها بطرق الاستعمار من طمعها في طرابلس الغرب، لا لأن عرب اليمن أشجع وأمرن على الحرب من عرب طرابلس، ولا لأن الزعيم الديني الذي في اليمن سياسي حربي بالفعل، والزعيم الديني (وهو السنوسي) الذي في صحاري طرابلس ليس كذلك - بل لأن اليمن والحجاز صنوان، فالدولة التي يستقر سلطانها وقوتها في اليمن تكون خطرا متصلاً بالحجاز، فأول من يتألب عليها إذا كانت غير مسلمة عرب الجزيرة، ويجب على جميع المسلمين في جميع أقطار الأرض أن يكونوا عونًا لهم بكل ما يستطيعون؛ فكأن دولة إيطاليا بطمعها في اليمن تهدد المسلمين بهدم الكعبة، والقضاء على الإسلام في حرم الله تعالى وحرم رسوله (صلى الله عليه وسلم) . ومع هذا ترى لبعض خدم هذه الدولة وسائل سياسية تضحك الثكلى؛ يراد فيها غش المسلمين وإقناعهم بأن إيطاليا محبة للإسلام والمسلمين: منها تلك الهدية التي أرسلتها إلى السنوسي، وما أمكن أن ترسل إليه إلا باسم رجل مسلم من مستخدميها، ثم كتب إليه بعد ذلك بأن ملك إيطاليا دفع ثمنها لحبه الشديد في الإسلام نفسه وفي المسلمين عامة، والسنوسي خاصة! ! ومنها ما ذكرناه في بعض أجزاء منار هذه السنة من استخدام الشيخ عبد الرحمن عليش في بناء مسجد وإيقافه ليُصَلَّى فيه على روح (أمبرتو الأول) ملك إيطاليا السابق؛ ليشيعوا ذلك بين جهلة مسلمي طرابلس واليمن والصوال، والشيخ عليش يصفه بالإيمان ليوهم الناس أنه كان مسلما! ! ومنها إنشاء مجلة بمصر نصفها عربي ونصفها طلياني، كتب عليها (عربية تليانية إسلامية) ويدير أعمالها وسياستها رجل طلياني، ويكتب فيها من الخبط والخلط في الدين والتصوف ما يبكي المسلم الصادق، ويضحك المارق والمنافق. وأما الحب الذي يضعه مدير سياسة هذا الفخ حوله؛ ليجذب به إليه من يراه من أغرار المسلمين الذين يشبهون الطير في غرارتها، فهو مدح الإسلام ودعوى إقناع الأوربيين بفضله، وأي فضيحة على المسلمين أشنع من ثقتهم بأن بعض الأجانب الذين يخدمون دولة طامعة في بلادهم، هو الذي يبين لأوربا وللمسلمين جميعًا حقيقة الإسلام وفضله، وهو لا يعرف أحكامه ولا يستخدم إلا الجاهلين بها؟ ولماذا لم يجعل هذه الخدمة للإسلام بلغات الدول التي يقول: إنها أعدي أعدائه كإنكلترا وفرنسا، دون لغة أهله العربية ولغة محبيه - بزعمه - الإيطاليون؟ وقد وقع لبعض جرائد المسلمين تقريظ لهذه الصحيفة الخادعة، ولعله كان قبل التأمل فيها والتفطن لما في أحشائها ومطاويها، فعسى أن لا تعود هي ولا غيرها إلى ذلك. *** (حزب الأمة) انعقدت الجمعية العمومية لشركة (الجريدة) المصرية في 13 شعبان، فخطب فيهم حسن باشا عبد الرازق (لاعتذار رئيس الجمعية محمود باشا سليمان عن الحضور بسبب صحي) خطبة سياسية اجتماعية، جمعت بين الحكمة والبلاغة، قد سمى فيها الجماعة المؤسسة للجريدة بحزب الأمة، وبين مقاصده في ست جمل كلية، فوافق من حضر على ما قال بإجماع عقب مناقشة. وقد تلقى العقلاء ظهور هذا الحزب بالقبول، وما زال الناس يدخلون فيه فرادى وثبات. وفقه الله للخير وأيده بالثبات. *** (رزء عظيم بعظيم من زعماء المسلمين) روت الأهرام عن بعض الجرائد الإنكليزية أن الممالك الهندية قد أصيبت بوفاة النواب محسن الملك الناظم الاعزازي لمدرسة العلوم الكلية في عليكره. فوجلت منا القلوب لهذا النبأ العظيم والرزء الأليم الذي أصاب المسلمين عامة في ذلك العقل الحكيم، والقلب الرحيم، والعلم الواسع، والتدبير النافع، والقلم الكاتب، والرأي الصائب، وأصاب صاحب هذه المجلة بصديق صادق، ومحب مخلص. وإنني أكتب هذه الكلمات لأحشرها في المجلة، وقد تمت موادها بعد حذف شيء مما جمع منها، وإن لنا لعودة إلى الكلام عن هذا الرجل العظيم. وعسى أن يمن علينا الدكتور ضياء الدين أحمد بترجمة حافلة، له رحمه الله. *** (الرد على فريد أفندي وجدي) قد علم قراء المنار أننا ما تصدينا للرد على ما يكتبه محمد فريد أفندي وجدي إلا لأنه يتكلم في أصول الدين وفروعه بغير علم (إلا ما يقتبسه من المجلات والجرائد، وبعض الكتب العربية والفرنسية التي ينظر فيها عند الحاجة) وإنه لما رأى ذلك فزع إلى جريدة اللواء، فأوسعنا فيها سبًّا وشتمًا وتهديدًا ووعيدًا، ومزج ذلك بشيء من المغالطة، جعلها كالرد لما انتقدنا به كلامه في فلسفة التشريع. ولكنه رأى أننا رددنا هذه المغالطة ردًّا محكمًا لا يقبل المراء، وأننا لم نبال بتهديده ووعيده بأنه سيتتبع سقطات المنار، حتى لا يدعنا نرفع رأسًا! بل أظهرنا له السرور بتصديه لنقد المنار (إن كان يقدر على ذلك) لأن النقد علينا ضالتنا التي ننشدها دائمًا، فهددنا وتوعدنا في مجلته بأنه قد كتب إلى كثير من علماء الدين يطلب منهم الرد علينا، وأنه سيطبع ما يرد عليه من ذلك متى كثر في كتاب ويوزعه، كأنه موقن بأن سيجيبونه إلى ما طلب!! وجعل ذلك خاتمة لمقالة في السب والشتم والدعوى والتبجح، استغرقت أربع ورقات؛ سماها الدرس الأول، وقال: (وإني لن أزال ألقي عليه من هذه الدروس ما دام لم يعرف قدره، حتى يفيق من هواه، ويفيء إلى أمر الله) !! ، ويعني بأمر الله - فيما يظهر - ترك نصيحته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإنما أمر الله بالتناصح والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بترك ذلك. وما رأيت أحدًا من العقلاء اطلع على كلامه هذا، أو على مقالاته في اللواء، إلا وقال: إنه أهان بها نفسه إهانة لا يستطيع أن يبلغها منه الأعداء، وإنها أشد عليه من نقد المنار لكلامه وكأن بعض محبيه بيَّن له ذلك، ونصح له بأنه إذا لم يستطع مقابلة المنار إلا بمثل هذه الدروس التي هي تبجح وإطراء لنفسه وإزراء بمناظره، فالسكوت أجدر به وأحفظ لكرامته ولعله يسكت المنار عنه، فكتب إلينا ما يأتي: مصر في 18 - 9 سنة 1907 إلى حضر الشيخ رشيد: أرجوكم أن لا ترسلوا إليَّ المنار؛ مادمتم تسبوننا فيه، فقد عزمت أن لا أرد عليكم، ولا يتم عزمي هذا إلا إذا ابتعدت عن كل ما يثير نفسي! ولو كنت أعلم أن فيما تقولون ظلاًّ من الحق والصدق، لقرأته صاغرًا. ولكنكم اتخذتم اليوم خطة أنتم أعلم بمصير السالكين فيها. وقد تكلفت كتابة هذا الخطاب إليكم إبقاء على مجلتكم من الرد بالبوستة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فريد وجدي فلينظر أهل الفهم والعقل إلى هذا الكلام، وليعجبوا من قوله - وكله مواضع عجب - (ولو كنت أعلم أن فيما تقولونه) ... إلخ، فهل يستطيع أحد من خلق لله، أن يحكم على قول يقال في المستقبل، بأنه ليس فيه ظل من الحق والصدق، إلا إذا كان موقنًا بأنه يعلم الغيب، وأنه معصوم في كل ما يقول ويكتب؟ لقد كان مما قلته: إن موضوع علم الحديث: كل ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال والصفات ... إلخ، وأنه مخطئ في جعله موضوعه الأقوال فقط. ومنه تخطئته في قوله: إنه لم يصح عند البخاري إلا كذا حديثًا، إذ نقلت عن البخاري نفسه أنه صح عنده أكثر من ذلك. فإذا كان أعلم بما صح عند البخاري من البخاري والحفاظ الذين نقلوا عنه؛ لأنه يعلم الغيب مثلاً، فهل يأتي ذلك في الحكاية عن الاصطلاحات؛ كموضوع علم الحديث الذي قال فيه عن المحدثين ما هم مجمعون على خلافه؟ نعم، كان مما قلت: إنه غير صادق في قوله: إن مشيخة الأزهر قررت كتابه (كنز العلوم واللغة) في الأزهر وملحقاته، وإنما اشترت مكتبة الأزهر بعض النسخ منه. ثم تبيَّن لي أن أمين المكتبة الأزهرية لم يشتر هو باستحسانه ولا بأمر شيخ الجامع شيئًا من الكتاب، وأن ما وجد في المكتبة وظننت أنا أنها ابتاعته منه، فهو مما أرسله إليها ديوان الأوقاف، فإن بعض أصحاب فريد أفندي سعى له في الديوان، فاشترى الديوان بعض النسخ وأرسلها إلى مكتبة الأزهر وله العادة في ذلك. ووالله، إنه لم يظهر لي أن شيئًا مما كتبته مخالف للحق ولو بوجه ما، إلا ذلك الظن بأن مكتبة الأزهر ابتاعت بعض نسخ ذلك الكتاب ولكن ظهور الحق في ذلك أشد على فريد أفندي وجدي من خفائه.

نموذج من إنجيل برنابا ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من إنجيل برنابا (3) الفصل الرابع والتسعون [أ1] (1) ولما قال يسوع هذا عاد فقال: (إني أشهد أمام السماء وأُشْهِد كل ساكن على الأرض، أني بريء من كل ما قال الناس عني؛ من أني أعظم من بشر. (2) لأني بشر مولود من امرأة، وعرضة لحكم الله [ب1] ، أعيش كسائر البشر عرضة للشقاء العام. (3) لعمر الله [ت1] الذي تقف نفسي بحضرته، إنك أيها الكاهن لقد أخطأت خطيئة عظيمة بالقول الذي قلته. (4) ليطف [ث1] الله بهذه المدينة المقدسة حتى لا تحل بها نقمة عظيمة لهذه الخطيئة) . (5) قال حينئذ الكاهن: (ليغفر لنا الله [ج1] . أما أنت فصل لأجلنا) . (6) ثم قال الوالي وهيرودس: (يا سيد، إنه لمن المحال أن يفعل بشر ما أنت تفعله؛ فلذلك لا نفقه ما تقول) . (7) أجاب يسوع: إن ما تقوله لصدق، إن الله يفعل صلاحًا بالإنسان، كما أن الشيطان يفعل شرًّا. (8) لأن الإنسان بمثابة حانوت من يدخله برضاه يشتغل ويبيع فيه. (9) ولكن قل لي أيها الوالي وأنت أيها الملك، أنتما تقولان هذا لأنكما أجنبيان عن شريعتنا؛ لأنكما لو قرأتما العهد وميثاق إلهنا [1] ، لرأيتما أن موسى حول بعصاه البحر دمًا، والغبار براغيث، والندى زوبعة، والنور ظلامًا. (10) أرسل الضفادع والجرذان على مصر فغطت الأرض، وقتل الأبكار، وشق البحر وأغرق فيه فرعون. (11) ولم أفعل شيئًا من هذه. (12) وكل يعترف بأن موسى إنما هو الآن رجل ميت. (13) أوقف [2] يوشع الشمس وشق الأردن وهما مما لم أفعله حتى الآن. (14) وكل يعترف بأن يوشع إنما هو الآن رجل ميت. (15) وأنزل إيليا النار من السماء [3] عيانًا، وأنزل المطر [4] ، وهما مما لم أفعله. (16) وكل يعترف بأن إيليا إنما هو بشر. (17) كثيرون آخرون من الأنبياء والأطهار وأخلاء الله فعلوا بقوة الله أشياء لا تبلغ كنهها عقول الذين لا يعرفون إلهنا [أ2] القدير الرحيم المبارك إلى الأبد) . *** الفصل الخامس والتسعون [ب2] (1) وعليه فإن الوالي والكاهن والملك، توسلوا إلى يسوع أن يرتقي مكانًا مرتفعًا ويكلم الشعب تسكينًا لهم. (2) حينئذ ارتقى يسوع أحد الحجارة الاثنى عشر، التي أمر يوشع الاثني عشر سبطًا؛ أن يأخذوها من وسط الأردن عندما عبر إسرائيل من هناك، دون أن تبتل أحذيتهم [5] . (3) وقال بصوت عال: (ليصعد كاهننا إلى محل مرتفع حيث يتمكن من تحقيق كلامي) (4) فصعد من ثم الكاهن إلى هناك. (5) فقال له يسوع بوضوح يتمكن كل واحد من سماعه (قد كتب في عهد الله الحي [ت2] [6] وميثاقه أن ليس لإلهنا بداية [ث2] ولا يكون له نهاية [ج2] ) . (6) أجاب الكاهن: (لقد كتب هكذا هناك) . (7) فقال يسوع: (إنه كتب هناك أن إلهنا [ح2] قد برأ كل شي بكلمته [خ2] [7] فقط) . (8) فأجاب الكاهن: (إنه لكذلك) . (9) فقال يسوع: (إنه مكتوب هناك أن الله لا يُرى [أ3] وأنه محجوب [ب3] عن عقل الإنسان؛ لأنه غير متجسد [ت3] وغير مركب، وغير متغير [ث3] ) . (10) فقال الكاهن: (إنه لكذلك حقًّا) . (11) فقال يسوع: (إنه مكتوب هناك، كيف أن سماء السموات لا تسعه [8] لأن إلهنا غير محدود [ج3] . (12) فقال الكاهن: (هكذا قال سليمان النبي يا يسوع) . (13) قال يسوع: (إنه مكتوب هناك أن ليس لله حاجة؛ لأنه لا يأكل، ولا ينام، ولا يعتريه نقص [ح3] ) . (14) قال الكاهن: (إنه لكذلك) . (15) قال يسوع: (إنه مكتوب هناك أن إلهنا في كل مكان وأن لا إله سواه [خ] الذي يضرب ويشفي، ويفعل كل ما يريد [9] ) . (16) قال الكاهن: (هكذا كتب) . (17) حينئذ رفع يسوع يديه وقال: (أيها الرب إلهنا [د3] هذا هو إيماني الذي آتي به إلى دينونتك، شاهدًا على كل من يؤمن بخلاف ذلك) . (18) ثم التفت إلى الشعب وقال: (توبوا؛ لأنكم تعرفون خطيئتكم من كل ما قال الكاهن، إنه مكتوب في سفر موسى عهد الله إلى الأبد. (19) فإني بشر منظور، وكتلة من طين تمشي على الأرض، وفانٍ كسائر البشر. (20) وإنه كان لي بداية وسيكون لي نهاية، وإني لا أقدر أن أبتدع خلق ذبابة) . (21) حينئذ رفع الشعب أصواتهم باكين وقالوا: (لقد أخطأنا إليك أيها الرب إلهنا [أ4] فارحمنا [ب4] ) . (22) تضرع كل منهم إلى يسوع ليصلي لأجل أمن المدينة المقدسة؛ لكيلا يدفعها الله في غضبه؛ لتدوسها الأمم [ت4] . (23) فرفع يسوع يديه وصلى لأجل المدينة المقدسة ولأجل شعب الله وكل يصرخ: (ليكن كذلك آمين) . *** الفصل السادس والتسعون [ث4] (1) ولما انتهت الصلاة قال الكاهن بصوت عال: (قف يا يسوع لأنه يجب علينا أن نعرف تسكينًا لأمتنا) . (2) أجاب يسوع: (أنا يسوع ابن مريم [ج4] من نسل داود، بشر مائت ويخاف الله، وأطلب أن لا يعطى الإكرام والمجد إلا لله) . (3) أجاب الكاهن: (إنه مكتوب في كتاب موسى أن إلهنا سيرسل لنا مسيَّا [ح4] الذي سيأتي ليخبرنا بما يريد الله، وسيأتي للعالم برحمة الله. (4) لذلك أرجوك أن تقول لنا الحق: هل أنت مسيَّا [خ4] الله الذي ننتظره؟) . (5) أجاب يسوع: (حقًّا، إن الله وعد هكذا. ولكني لست هو؛ لأنه خلق قبلي، وسيأتي بعدي [10] . (6) أجاب الكاهن: (إننا نعتقد من كلامك وآياتك على كل حال أنك نبي، وقدوس الله. (7) لذلك أرجوك باسم اليهودية كلها وإسرائيل أن تفيدنا حبًّا في الله، بأيَّة كيفية سيأتي مسيَّا) . (8) أجاب يسوع: (لعمر الله [أ5] الذي تقف بحضرته نفسي، أني لست مسيَّا الذي تنتظره كل قبائل الأرض، كما وعد الله أبانا إبراهيم [11] قائلاً: بنسلك أبارك كل قبائل الأرض. (9) ولكن عندما يأخذني الله من العالم، سيثير الشيطان مرة أخرى هذه الفتنة الملعونة، بأن يحمل عادم التقوى على الاعتقاد بأني الله، وابن الله. (10) فيتنجس بسبب هذا كلامي وتعليمي، حتى لا يكاد يبقى ثلاثون مؤمنًا. (11) حينئذ يرحم الله العالم، ويرسل رسوله الذي خلق كل الأشياء لأجله. (12) الذي سيأتي من الجنوب بقوة [ب5] وسيبيد الأصنام وعبدة الأصنام. (13) وسينتزع من الشيطان سلطته على البشر. (14) وسيأتي برحمة الله لخلاص الذين يؤمنون به. (15) وسيكون من يؤمن بكلامه مباركًا) . *** الفصل السابع والتسعون [ت5] (1) (ومع أني لست مستحقًّا أن أحل سير حذائه [12] قد نلت نعمة ورحمة من الله لأراه) . (2) فأجاب حينئذ الكاهن مع الوالي والملك قائلين: لا تزعج نفسك يا يسوع قدوس الله؛ لأن هذه الفتنة لا تحدث في زماننا مرة أخرى. (3) لأننا سنكتب إلى مجلس الشيوخ الروماني المقدس بإصدار أمر ملكي أن لا أحد يدعوك فيما بعد: الله أو ابن الله) . (4) فقال حينئذ يسوع [أ6] : (إن كلامكم لا يعزيني؛ لأنه يأتي ظلام حيث ترجون النور. (5) ولكن تعزيتي هي في مجيء الرسول الذي سيبيد كل رأي كاذب فيَّ وسيمتد دينه ويعم العالم بأسره؛ لأنه هكذا وعد الله أبانا إبراهيم. (6) وإن ما يعزيني هو أن لانهاية لدينه [ب6] لأن الله سيحفظه [ت6] صحيحًا) . (7) أجاب الكاهن: (أيأتي رسل آخرون بعد مجيء رسول الله [ث6] ؟) . (8) فأجاب يسوع: (لا يأتي بعده أنبياء صادقون مرسلون من الله. (9) ولكن يأتي عدد غفير من الأنبياء الكذبة، وهو ما يحزنني. (10) لأن الشيطان سيثيرهم بحكم الله [ج6] العادل، فيتسترون بدعوى إنجيلي) . (11) أجاب هيرودس: (كيف أن مجيء هؤلاء الكافرين يكون بحكم الله العادل؟) . (12) أجاب يسوع: (من العدل أن من لا يؤمن بالحق لخلاصه يؤمن بالكذب للعنته (13) لذلك أقول لكم [ح6] : إن العالم كان يمتهن الأنبياء الصادقين دائمًا وأحب الكاذبين، كما يشاهد في أيام ميشع وأرميا [13] لأن الشبيه يحب شبيهه [خ6] ) . (13) فقال حينئذ الكاهن: (ماذا يسمى مسيّا؟ وما هي العلامة التي تعلن مجيئه [أ7] ؟) . (14) أجاب يسوع: (إن اسم مسيَّا [ب7] عجيب؛ لأن الله نفسه سماه لما خلق نفسه، ووضعها في بهاء سماوي (15) قال الله: (اصبر يا محمد [ت7] لأني لأجلك [ث7] أريد أن أخلق [ج7] الجنة والعالم، وجمًّا غفيرًا من الخلائق التي أهبها لك، حتى إن من يباركك يكون مباركًا، ومن يلعنك يكون ملعونًا. (16) ومتى أرسلتك [ح7] إلى العالم أجعلك رسولي للخلاص، وتكون كلمتك صادقة، حتى إن السماء والأرض تهنان. ولكن إيمانك لا يهن أبدًا. (17) إن اسمه المبارك محمد) . (18) حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: (يا اللهم، أرسل [خ7] لنا رسولك [د7] يا محمد [ذ7] تعال سريعًا لخلاص العالم!) . *** الفصل الثامن والتسعون [ر7] (1) ولما قال هذا انصرف الجمهور مع الكاهن، والوالي مع هيرودس، وهم يتحاجون في يسوع وتعليمه. (2) لذلك رغب الكاهن إلى الوالي أن يكتب بالأمر كله إلى رومية إلى مجلس الشيوخ، ففعل الوالي كذلك. (3) لذلك تحنن مجلس الشيوخ على إسرائيل، وأصدر أمرًا أنه ينهى ويتوعد بالموت كل أحد يدعو يسوع الناصري نبي اليهود - إلهًا أو ابن الله. (4) فعلق هذا الأمر في الهيكل منقوشًا على النحاس ... إلخ.

خطبة إسماعيل بك غصبرنسكي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة إسماعيل بك غصبر نسكي تلاها باللغة التركية في فندق الكونتننتال بالقاهرة على نحو ثلاث مائة رجل من جميع الطبقات المتعلمة (ماعدا الأمراء) وقرأ ترجمتها بالعربية الشيخ عبد الوهاب النجار: شيء من أحوال المسلمين في البلاد الروسية نشأت لمسلمي روسيا في الأزمان السالفة دولتان كبيرتان: إحداهما دولة (ألتون أوردو) وكانت عاصمتها مدينة (سراي) قرب بحر قزوين، والأخرى الدولة التيمورية. ولما سقطت هاتان الدولتان الكبيرتان، وقامت على أنقاضهما خانات (إمارات) صغيرة متعددة وهي: إمارة سيبيريا، وإمارة قزان، وإمارة إستراخان وإمارة قريم وإمارات القافقاس، نشأت في آسيا الوسطى إمارات بخارى وخيوا وخوقند وعدة جمهوريات صغيرة - إذا صح هذا التعبير - في تخوم الدولة الإيرانية الشمالية. ثم دار الزمان دورته، وحمَّ لإمارتي بخارى وخيوا أن تصيرا داخل حدود الممالك الروسية، وتدخلا تحت حمايتها. وأما بقية الإمارات فقد استولت عليها الروس استيلاءً كاملاً، وصارت الآن ولايات روسية صرفة. أول الإمارات سقوطًا هي إمارة قزان وسيبيريا. وأما الجمهوريات التركمانية فلم تخضعها الروس إلا في العهد الأخير. نزل معظم مسلمي روسيا في آسيا وفي القافقاس، وقسم عظيم منهم يقطنون الولايات الداخلية والشرقية من أوربا الروسية، وقليل في شبه جزيرة قريم وعدد المسلمين الساكنين في القافقاس الشرقية وداغستان، وفي تركستان تسعون في المائة بالنسبة لغيرهم من الشعوب هناك. وأما في سيبيريا فهم الأقلون. الساكنون منهم في الولايات الشرقية من أوربا الروسية يختلطون بالروس وسائر الأجناس. وهم الأكثرون في ولاية أوفا، إذ هم هناك سبعون في المائة بالنسبة لغيرهم. وأما عدد مجموعهم فهو يناهز - بحسب إحصاء سنة 1897 - سبعة عشر مليون نسمة. وإذا ضممنا إليها أهل بخارى وخيوا جاوز عددهم 20 مليونًا. ولا ينبغي أن يفوتنا العشرة الملايين من الترك الساكنين في تركستان الصينية (كشغر) الذين تجمعهم ومسلمي روسيا أواصر اللغة والآداب، وبذلك تألف هناك (مجتمع جنسي) مؤلف من ثلاثين مليون نسمة. تسعة وعشرون مليونا من هؤلاء سنيون ومليون واحد شيعيون. وأما من حيث الجنسية واللغة؛ فكلهم ترك سوى ثمانمائة ألف من قبائل الشراكسة القاطنين في جبال القافقاس، ولهم مع ذلك إلمام بالغة التركية. يشتغل مسلمو روسيا بالزراعة وتربية المواشي، وبالتجارة بحسب ما تسمح لهم مواطنهم. وكانت لهم في سالف الأيام صناعات تذكر. ولكنها أخذت تسقط رويدًا رويدًا من مكانتها الأولى بمزاحمة مصنوعات المعامل الأوروبية الحديثة، كما هي الحال في الأقطار الإسلامية قاطبة. والقريميون منهم معروفون بتعهد البساتين، وإنماء الفواكه المختلفة الطيبة. والقوقاسيون أو القافقاسيون يشتغلون في الغالب بتربية دود القز، وصنع البسط والطنافس الجيدة. وقد انتشرت بينهم في العهد الأخير زراعة القطن انتشارًا عظيمًا. وأما التركستانيون فيقومون على تربية دود القز، وإنماء الفواكه وزارعة القطن. والجهات الشمالية من آسيا الوسطى عبارة عن القفار والأراضي القاحلة، ويندر فيها الماء العذب السائغ، وتتقلب في أرجائها قبائل رحالة بمواشيها وأنعامها. في ولايات أوربا الروسية والقوقاس أربع مشيخات إسلامية. ثلاث منها للسنيين وواحدة للشيعة. ولدى كل مشيخة مفتٍ (أو شيخ إسلام) وثلاثة قضاة أو أعضاء، وتنظر هذه المشيخات في الأمور الدينية البحتة: كالنكاح والطلاق، والمواريث والنسب، وتقسيم التركات. وتوزع السجلات على أئمة المساجد كي يثبتوا فيها المواليد والوفيات، وعدد الطلاق والنكاح، وما إليها مما يقع في أحيائهم وتقسم التركات الإسلامية في روسيا على وفق الشريعة الإسلامية وكذلك الوصايا الإسلامية، لا يمسها القانون الروسي بسوء. في كل قرية إسلامية - في أوربا الروسية وفى القريم - مسجد وكُتَّاب. وأما القرى الكبرى ففيها عدة مساجد وعدة كتاتيب. وفي أوربا الروسية والقوقاس سبعة آلاف مسجد وثمانية آلاف كُتَّاب، وما ينيف على مائة مدرسة دينية، وأكثر مسلمي روسيا عناية بأمور التعليم والمدارس، المسلمون الساكنون في الولايات الداخلية الروسية. وعدد المتعلمات من البنات في الكتاتيب يساوي ثلث المتعلمين من الذكور. ومما يحسن ذكره هنا أن جماعة من الفتيات المسلمات يتعلمن في مدارس البنات التجهيزية الرسمية. وكذلك تتعلم اليوم في القسم الطبي من جامعة بطرسبورغ أربع عشرة فتاة مسلمة. وقد كانت أكملت دروس الطب فيها فتاتان مسلمتان، وهما تمارسان اليوم صناعة الطب. وكان دخول السيدة (رضية) إحدى تينك الطبيبتين في الجامعة بسعي المرحوم شاكر باشا السفير السابق للدولة العثمانية في بطرسبورغ. وليس لدي الآن تفصيل بشأن الكتاتيب والمدارس الإسلامية في آسيا الروسية. ولكني أعلم أن المدارس الدينية كثيرة، ملأى بطلاب العلوم في مدينة بخارى وخوقند وسمرقند وغيرها من حواضر البلاد التركستانية. وإني لا أتمالك أن أذكر هنا بكل أسف أن تلك المدارس، لا تبرح تسود فيها الفوضى والخلل في طرق التعليم. ومن أجل ذلك لا تأتي بفوائد يقتضيها هذا الزمان ونطاق برجراماتها أضيق من أفكار الأساتذة القائمين فيها بالتعليم والتدريس، وليست بيننا إلى الآن مدارس للمعلمين والمعلمات. ولكن فكرة إنشاء المدارس من هذا القبيل قد حدثت في العهد الأخير. انتشرت بين مسلمي الروس فكرة الارتقاء والتمدن منذ رُبْع قرن انتشارًا يذكر ومن ثمرات هذه الفكرة أنهم جعلوا في العهد الأخير، يصلحون كتاتيبهم ومدارسهم وينشرون المؤلفات المفيدة في العلوم العصرية والأدبيات التركية، وطفقوا ينشئون المعاهد العامية على الطراز الحديث، ويرسلون التلاميذ إلى المدارس الروسية والأوروبية، وإلى الآستانة ومصر؛ لتلقي العلوم الحديثة العصرية والعلوم العربية والدينية. ويناهز عدد الكتب المنتشرة بين مسلمي روسيا في العلوم العصرية والأدبية نحو خمس مائة كتاب. وعدد المطابع الإسلامية الموجودة في روسيا كما يأتي: ثلاث في بطرسبورغ، وثلاث في قزان، واثنتان في تفليس، وثنتان في باكو وواحدة في باغجة سراي وفي قزان ثلاث مطابع روسية ذات حروف عربية، فيكون المجموع ثلاث عشرة مطبعة. وأما الصحف المنتشرة الإسلامية في البلاد الروسية فهي: صحيفتان في بطرسبورغ، وأربع في قزان، وثلاث في أورنبورغ وثلاث في باكو، وواحدة في طاشقند قاعدة تركستان اليوم، وواحدة في تفليس، وواحدة في باغجه سراي، واحدة من هذه الصحف تصدر باللغة العربية والبقية بالتركية. وإحدى الصحف التركية تكتب بلهجة تقرب من لهجة الترك العثمانيين، والبقية تكتب الآن بلغات تركية مختلفة باختلاف الأقاليم. والرجاء أن تتحد لغات هذه الصحف أو تتقارب كل التقارب في مستقبل قريب أو بعيد. وهذا الاتحاد اللغوي غاية ما يرمي إليه المصلحون والمنورون منا. وثلاث صحف من تلك الصحف علمية أدبية والبقية سياسية أيضًا. وأما من جهة الخطة فثلاث عشرة صحيفة منها وطنية معتدلة، وثنتان ترميان إلي غاية (اشتراكية ديمقراطية) . وفي روسيا اثنتا عشرة جمعية خيرية إسلامية، غرضها إسعاف المعوزين، والأخذ بأيدي البائسين والمساكين، ولها قوانين مصدق عليها من الحكومة. ويتجاوز عدد الكتاتيب التي أصلح أمرها ألف كتاب، تعلم فيها القراءة التركية والكتابة، والقرآن والعقائد الدينية، ومبادئ الحساب والجغرافية والتاريخ الإسلامي وشيء من علم حفظ الصحة. وأما المدارس الدينية فقد أصلحت منها مدرسة في قزان، وأخرى في أورنبورغ، وثالثة في أوفا. وفي تلك المدارس تدرس اليوم العلوم الرياضية والطبيعية، وتقويم البلدان والتاريخ. دع عنك العلوم العربية والدينية بأنواعها. ولقد نشأ لمسلمي روسيا أفراد جادوا بأموالهم وأنفس أملاكهم؛ في سبيل ترقية المعارف وإعلاء قدر الأمة والملة. وأخص بالذكر من بينهم المرحوم الحاج نعمة الله قراميشف السيبيري الذي بذل أموالاً طائلة في سبيل إنشاء مائة كتاب ومائة مسجد، وأنفق مبلغًا عظيمًا لتأسيس مكتبة عامة، أودعها أنفس الكتب وأندر الآثار أكرم الله مثواه وأحله مقامًا كريمًا. وأنفق التاجر القزاني المرحوم أحمد الحسيني في إنشاء معاهد العلم وترقية المعارف ثلاثمائة ألف روبل. وأنشأ شقيقه عبد الغني الحسيني مائتي كُتَّاب على نسق حديث، وقد نشر بهمته الشمَّاء فكرة إصلاح الكتاتيب، وكذلك الأصول الحديثة المعروفة بالأصول الصوتية التدريجية إلى تخوم الصين؛ وذلك بإنشاء الكتاتيب في تلك الديار النائية، كما أنشأها في الولايات الروسية المتوسطة، جزاهم الله عنا وعن العلم والفقراء جزاء حسنا. وممن تقضي علينا الإنسانية أن نذكر اسمه مقرونًا بالإجلال والاحترام الحاج زين العابدين تاغييف الباكوي؛ لأن خدمة هذا المثري الكريم في سبيل نشر العلم وإسعاد الفقراء، أكثر وأجزل. أنشأ هذا الرجل في داغستان مائة مسجد ومائة كتاب. وأنشأ في ضواحي مدنية باكو حقلاً أنموذجيًّا. وأنشأ للدفاع عن الحقوق الوطنية جرائد متعددة باللغة الروسية والتركية. وبذل ملايين من الروبلات لتعليم أناس كثيرين في الجامعات الروسية والأوروبية. وما معظم الأطباء والمحامين والمهندسين المسلمين الذين نفتخر بهم، إلا من آثار همة هذا الرجل الكريم. ولم ينس هذا الرجل العظيم المسلمات أيضًا، فقد أنشأ في مدينة باكو مدرسة شامخة للبنات، أنفق على بنائها فقط عشرين ألف جنيه. ووقف عليها وقفًا يأتي بإيراد قدره ثلاثون ألف جنيه سنويًّا، ولا يبعد أن تصبح هذه المدرسة ذات يوم (المدرسة الجامعة) للإناث. ولم يجتزئ هذا الرجل بمساعدة من في روسيا فقط، بل مد يد المعونة إلى إيران أيضًا. وقد طبعت هناك كتب جمة على نفقة هذا الرجل الكريم. ويقدر ما ساعد به المنكوبين والبائسين في البلاد الفارسية بمليون روبل وزيادة. أيها السادة: شاركوني في الدعاء لهذا الرجل الناصح للإنسانية، والخادم للفضيلة. أطال الله بقاءه وحفظه من كوارث الزمان. وأما الأغنياء الذين أنشأوا كتابًا أو كتابين، ومدرسة أو مدرستين فهم كثيرون جدًّا، يتعذر عليَّ الآن إحصاؤهم، وما الخطوة التي خطوناها إلى الأمام في ميدان التقدم، إلا بفضل هذه الكتاتيب والمدارس التي أسست، ووصلت بهمة أمثال من ذكرنا أسماءهم من أولي الهمم العالية، إلى ما وصلت. وها قد آن لنا أن نوجه وجه الكلام إلى الأمور التجارية والاقتصادية. إن لدى المسلمين الساكنين في آسيا الوسطى وأوروبا الروسية قوة تذكر في هذا الشأن. ولكنه لابد من إعدادها وتنميتها بنشر العلوم والمعارف بينهم؛ لأن الأقوام الذين يتفق للمسلمين أن يباروهم في ساحة الأعمال التجارية، أشداء أقوياء فيما يمارسون. فلمسلمي روسيا - عدا من يسكنون منهم الولايات الداخلية - من الأراضي ما يكفيهم للاستغلال. وقد تولدت بينهم فكرة الحرص عليها، وعدم تمكين الآخرين منها، تولدًا يبشر بحسن المغبة إن شاء الله. وأهل تركستان بارعون جدًّا في أمور الفلاحة والزراعة. لا يقدر على نزع الأرض الغالة من أيديهم - من الوجهة الاقتصادية - لا الروس، ولا مهاجرو الألمان. وهم يكدحون في أمر الزراعة كدحًا، لا يعرفون فيه الملل والسآمة. فهم يشبهون المصريين من هذه ا

بحث في المؤتمر الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بحث في المؤتمر الإسلامي لتعارف المسلمين والبحث عن أسباب ضعفهم وطريق علاجه وتاريخ الدعوة إليه أول صوت سمعناه في هذا العصر يدعو المسلمين إلى التعارف والاتحاد والتعاون في الرأي، والسعي على تدارك ما حل بالمسلمين من الرزايا الاجتماعية التي هبطت بهم من ذلك الأوج الذي كانوا فيه إلى الحضيض الذي صاروا إليه حتى سبقهم أهل الملل من الكتابيين والوثنيين في المدنية - هو صوت الحكيمين الغيورين المجاهدين في سبيل الله، الجهاد الذي لا يفضله جهاد في هذا العصر: السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده. رحمهما الله تعالى وجزاهما عن نفسهما، وعن الأمة والملة خير الجزاء. للسيد جمال الدين مقالات كثيرة في تنبيه المسلمين من رقدتهم، وإعلامهم بأسباب تمزيق قوتهم، ودعوتهم إلى الوحدة، ودلالتهم على وسائل القوة، وله من الدروس والخطب والمحاورات في ذلك ما هو مشهور بين العارفين، وإن لم يقيد بالتدوين، ولما اجتمع الشيخان في باريس وأصدرا جريدة (العروة الوثقى) كان قطب سياستهما دعوة علماء المسلمين وعقلائهم إلى النظر في أحوال المسلمين العامة وإرشادهم إلى ما ينهض بهم إلى مجاراة الأمم العزيزة وكان من رأيهما أن يشتغل بذلك أهل كل قطر في قطرهم بالتعاون بينهم، وأن يكون لهم مجتمع عام في الحجاز يأتمر فيه من يحضر الموسم من أعضاء جمعية العروة الوثقي فيما بينهم، وما كانا يكتفيان في هذا الإرشاد بما ينشر في جريدة العروة الوثقى، بل كانا يكاتبان من يرونه أهلاً لذلك في أقطار المسلمين. وفي الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام نموذج من كتبه لبعض أولئك الأعضاء (راجع ص 488 - 512) . وقد جاء في فاتحة العدد الأول من جريدة العروة الوثقي بعد ذكر تنبه عقلاء المسلمين، وسعيهم في معالجة عللهم ما نصه: (وبما أن مكة المكرمة مبعث الدين ومناط اليقين، وفيها موسم الحجيج العام في كل عام، يجتمع إليه الشرقي والغربي، ويتآخى في مواقفها الطاهرة الجليل والحقير والغني والفقير، كانت أفضل مدينة تتوارد إليها أفكارهم ثم تنبثُّ إلى سائر الجهات. والله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل) . وجاء في خاتمة مقالة نشرت في العدد الخامس عنوانها {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) إرشاد إلى كيفية الوحدة في الإصلاح الديني، ومنه (ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة، يرجعون إليها في شؤون وحدتهم، ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعون أطراف الوشائج إلى معقد واحد، يكون مركزه الأقطار المقدسة، وأشرفها معهد بيت الله الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان) ... إلخ (فراجعه في ص 254 من الجزء الثاني تاريخ الأستاذ الإمام) . وجاء في آخر مقالة منها نشرت في العدد العاشر، عنوانها حديث (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) ما يأتي (كما في ص 29 من الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام) . (وأرى أن العلماء العاملين، لو وجهوا فكرتهم لإيصال أصوات بعض المسلمين إلي بعض، لأمكنهم أن يجمعوا بين أهوائهم في أقرب وقت، وليس بعسير عليهم ذلك بعد ما اختص الله من بقاع الأرض بيته الحرام بالاحترام، وفرض على كل مسلم أن يحجه ما استطاع، وفي تلك البقعة يحشر الله من جميع أجيال المسلمين وعشائرهم وأجناسهم) ... إلخ. هذه إشارة مما كتبه الأستاذ الإمام، باتفاق الرأي بينه وبين حكيم الإسلام، منذ ربع قرن. فإن العدد الأول من العروة الوثقي قد صدر في 5 جمادى الأولى سنة 1301. *** ثم إننا لما أنشأنا المنار في أو أخر سنة 1315، كتبنا في العدد الثلاثين والأربعين من السنة الأولى مقالاً في (الإصلاح الديني) اقترحنا فيه على مقام الخلافة تأليف جمعية إسلامية في مكة المكرمة، يكون لها شُعَب في كل قطر إسلامي، وفصلنا ما يجب أن تقوم به هذه الجمعية من الإصلاح في العقائد والتعاليم الأدبية والأحكام القضائية والمدنية، واللغة، ومن تلافي البدع والتعاليم الفاسدة [*] . وإنما جعلنا هذا الإصلاح مقترحًا على سلطان آل عثمان لبيان أنه واجب عليه؛ لأنه هو القادر على تنفيذ ذلك، ويمنع من يتصدى له هناك من دونه. ثم إن السيد عبد الرحمن الكواكبي (رحمه الله تعالى) قدم إلى مصر في سنة 1318، ونشر فيها كتاب (سجل جمعية أم القرى) الذي صور فيه انعقاد تلك الجمعية المقترحة خفية بدون علم الحكومة العثمانية وأمير مكة المكرمة (الشريف) وإن ذلك كان في موسم سنة 1316. كل ذلك كان الإصلاح الديني فيه ممزوجًا بالإصلاح السياسي على النهج الذي جرى عليه المسلمون من اشتمال الدين على كل شيء. وكذلك كانت فكرة المقترح الأول السيد جمال الدين رحمه الله تعالى. ثم إن الأستاذ الإمام وجه ذهنه بعد مفارقة السيد جمال الدين في أوربا، وعودته هو إلى سوريا ثم إلى مصر، يحاول الوصول إلى إصلاح حال المسلمين بإقناع الحكومة بسلوك الطريقة المثلى لتربية المسلمين وتعليمهم، فكتب ثلاث لوائح [1] : أحداهما لإصلاح المملكة العثمانية عامة، وقدمها إلى شيخ الإسلام في الآستانة سنة 1304 ليقدمها إلى السلطان. والثانية - لإصلاح سوريا وقدمها إلى واليها بعد إرسال الأولى إلى الآستانة. والثالثة - لإصلاح التربية الدينية والتعليم في مصر، ولم تعمل الحكومة العثمانية ولا المصرية بما اقترحه عليهما، ولو عملت إحداهما به لعملت ما يعجز عن كل مثله جمعية ومؤتمر لإصلاح الدين. ثم رأينا الأستاذ الإمام في السنين الأخيرة من عمره، قد استقر رأيه على اليأس من حكام المسلمين، وحصر الرجاء في عقلاء أهل العلم والفضل يدعون إلى الإصلاح حيث يجدون حرية مع تجنب السياسة ظاهرًا وباطنًا، ومسالمة أهل السلطة سرًّا وجهرًا، والرضا منهم بعدم معارضة الإصلاح في العقائد والأخلاق والآداب وروابط الاجتماع الأهلية والقومية. فإن عارضوا فالرأي أن يبذل الجهد في إقناعهم، وكان يرى أن هذا متيسر للمصلحين العقلاء مع حكام المسلمين الأوربيين، إذا ظهر لهؤلاء أن الأمر لا سياسية فيه. ومن الأمثال المأثورة عنه (ما دخلت السياسة في عمل إلا وأفسدته) وإننا نرى عقلاء المسلمين يكادون يجمعون على هذا الرأي. جاء مصر في هذه الأيام (إسماعيل بك غصبرنسكي) صاحب جريدة (ترجمان) التركية التي تصدر في (بغجه سراي) من بلاد القريم التابعة لروسيا، وتلا على جمهور عظيم من سكان مصر الخطبة التي نشرنا ترجمتها قبل هذه المقالة، واقترح في آخرها تأليف مؤتمر إسلامي ينعقد في مصر؛ للبحث عن الأسباب التي كان بها المسلمون متأخرون عن غيرهم من الأمم، واشترط أن لا تطرق مباحثه باب السياسة بل تحصر في الأسباب الاجتماعية والاقتصادية. وما هى هذه الأسباب الاجتماعية والاقتصادية؟ نحن نقول: إن المسلمين كغيرهم من البشر، مستعدون لكل ارتقاء وحضارة وإن المانع لهم من ذلك أمران: استبداد السياسية، والجمود على التقاليد الدينية التي قيدتهم في كل شيء، حتى في تصرفهم في بيوتهم وأموالهم. وأضرب لهم مثلاً علماء الأزهر الذين يستنكرون أشد الاستنكار لبس الأحذية السوداء المعروفة هنا بالجزم (جمع جزمة) وقضاة الشرع الذين يأبون أن يكون في المحكمة الشرعية أجراس كهربائية لطلب الكتاب والمحضرين والخدم؛ لأن هذا وذاك مما لايليق بأهل الدين؛ أو لأنه لا يخلو من كراهة شرعية. فهذا المثل الصغير ينبئ عن أمر كبير وإن هزئ به الجهلاء، أو اشتغل به عن الموضوع أهل الأهواء، فهو كمثل البعوضة والذباب في القرآن. فالمسلمون لا يقدرون على مجاراة أمة مطلقة من القيود التي تقيد الفكر أن يأخذ مداه في كل علم ورأي، وتقيد الإرادة أن تنفذ كل عمل يظهر للمفكرين أنه نافع وهم مقيدون فكرًا وإرادة؛ إما بالتقاليد الدينية، وإما بالسياسية الاستبدادية. فعمل المؤتمر محصور بالطبع في فك القيود التي تقيد المسلمين، حتى يكونوا أحرارًا مستقلين، فإذا حظر أهله على أنفسهم البحث فيما هو سياسي منها، بقي لهم ما هو ديني فقط، ومنه ما يتعلق بحكامهم ومنه ما لا يتعلق بهم. مثال ذلك الشركات المالية التي هي أعظم أركان الثروة في هذا العصر، ولا أذكر فيها مسألة فرضية، بل مسألة واقعة هي في تاريخ مصر الحديث أصل الانقلاب السياسي والعمراني، ولا أفتات على المسلمين فيما أقوله فيها افتياتا، أو أستنبط خلافهم فيها استنباطًا، وإنما أروي فيها رواية تنبئ عما عليه المسلمون من القيود التي تمنعهم من مجاراة غيرهم في تحصيل الثروة التي هي أساس العمران. زرت وزير مصر الأكبر رياض باشا، فألفيت في حضرته جماعة من أكابر المسلمين؛ منهم العالم الأزهري، والمهندس، والمؤرخ، والطبيب، ومن كان ناظرًا لبعض المدارس العليا، وكل واحد منهم يعد من أكبر رجال طبقته وأعلمهم، وهم يتذاكرون في مسألة شركة ترعة السويس، وأن شراء أسهمها غير جائز شرعًا لأن عملها غير مشروع. وكان أشدهم عارضة في ذلك العلامة الأزهري (طبعًا) ولا أحب أن أذكر شيئًا من أدلتهم، المبني بعضها على أن الماء لا يملك وأن أوراق السهام لا قيمة لها في نفسها ... إلخ، وما عجبت لقول أحد كعجبي من موافقة واحد منهم لهم في ذلك، أعهد منه الميل إلى كسر مقاطر التقليد، ورأيته في هذه السنة يسعى في تأسيس بنك أهلي، وهو أشد من أعرف اهتمامًا بمشروع المؤتمر الإسلامي. وقد جهرت هنالك باستغراب جعل هذه المسألة موضعًا للبحث وجزمت بجواز عمل الشركة وشراء سهامها، مصرحًا بأن أوراق السهام ليست هي التي تقابل الثمن، وإنما هي مثل أوراق الصكوك والحجج التي تكتب لمن يشتري عقارًا أو يقرض آخر مالاً. جهرت بهذا ولكنني لم أسمع من أحد كلمة موافقة. ولكنني أظن أنه أعجب بعض الحاضرين، ورأيت الوزير هش له. فإذا كان أرقى مسلمي مصر الذين يعدون الآن في مقدمة شعوب المسلمين علمًا وقربًا من المدنية، يتباحثون حتى اليوم في أعلى محافلهم الاجتماعية في شركة ترعة السويس، ويقولون بعدم جواز شراء سهامها، وهي هي السهام التي براها وراشها أميرهم إسماعيل، وأعطاها لأوربا، فحاربتهم بها واحتلت بلادهم، وملكت عليهم أمرها، فهل يلام مسلمو مراكش إذا قال عالمهم الكتاني: إن شر عمل عمله محمد علي باشا هو بناء القناطر الخيرية، وكان ينبغي أن ينفق المال الذي أضاعه في بنائها على بناء المساجد؟ ؟ كلا، إن علل المسلمين واحدة، ولو كان محمد علي مقيدًا بالتقاليد الدينية، لما أنشأ القناطر الخيرية. إن شركة ترعة السويس وأمثالها من أمور العمران التي لم تكن معروفة في عصر التنزيل، فيرد فيها كتاب أو تمضي بها سنة. ولكن الفقهاء المستقدمين، قد وضعوا أحكامًا للشركات وغيرها من المعاملات المتعارف عليها في عصرهم، فجمد المستأخرون عليها؛ إذ عدوها دينًا يجب اتباعه في كل زمان ومكان، فهل يسهل على المسلمين الذين يريدون مجاراة الأوربيين في الكسب، أن يدرسوا قبل كل عمل هذه الكتب الفقهية الضيقة الواسعة، ويتقيدوا بها ثم يجروا وراء المطلقين من القيود، فيلحقوا بهم ويطمعوا في مسابقتهم؟ لا يسهل الجواب عن هذا على فقيه يعرف الأحكام المدونة في هذه الكتب، ولا يعرف حال العصر في الأعمال المالية والاجتماعية، ولا على رجل مالي أو متمدن كما يقال لم يقرأ كتب الفقه، وإنما يسهل على من عرف الأمرين أن يجيب عنه بحق. ولكن جوابه لا يكون إلا سلبًا. أعرف بمصر كثيرًا

النسخ في الشرائع الإلهية

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ النسخ في الشرائع الإلهية للدكتور محمد توفيق أفندي صدقي الطبيب في مستشفيات سجن طره النسخ هو إبطال حكم لبدل أو لغير بدل. وهو واقع في جميع الشرائع الإلهية والوضعية، خلافًا لمن أنكر ذلك من الجهلاء. أما الشرائع الوضعية فوقوعه فيها مشاهد معروف. وأما الإلهية فشواهد وقوعه فيها عديدة، أغنتنا عن إيرادها مؤلفات كثيرة بين الأمة الإسلامية أشهرها (إظهار الحق) لمؤلفه العلامة المحقق رحمة الله الهندي. فقد أتى فيه بما يفحم كل مكابر، ويخرس كل عنيد. يقع النسخ على ضربين: (1) نسخ بعض شريعة رسول سابق بشريعة آخر لاحق. (2) ونسخ حكم في شريعة بحكم آخر فيها. والسبب في وقوعه اختلاف حال المكلفين باختلاف الزمان والمكان. فما يلائم البشر في زمن طفوليتهم، قد لا يلائمهم في زمن كهولتهم وشيخوختهم. كما أن ما يوافق الإنسان في صحته قد لا يوافقه في زمن مرضه، لذلك اقتضت حكمة الشارع العليم أن ينسخ من شرائعه ما أصبح غير مناسب. قال الله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب} (الرعد: 38) {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) . فالنسخ عندنا لا يقع إلا في الأحكام (الأوامر والنواهي) ولا يقع في القصص أو في القضايا العقلية؛ إذ لا معنى لوقوعه في ذلك، كما أنه لا معنى لوقوعه في الألفاظ. فلسنا ممن يسلم القول بنسخ لفظ بلفظ كما يتوهمون. أو بنسخ لفظ وإبقاء حكمه كما يزعمون، إذا لو سلم ذلك لكان دليلاً على جهل الشارع أو خطأه أو عبثه. فسبحان ربك واسع العلم والحكمة عما يصفون. قدمنا ذلك لنعلم أن النسخ لمقتضٍ أو لحكمة لا عيب فيه عند العقل، وهو واقع بالفعل، فإنكاره جهل أو مكابرة للمحسوس. كما وقع النسخ في الشرائع السابقة، كذلك وقع في الشريعة الإسلامية؛ لمقتضيات الأحوال في الأمة العربية زمن التشريع. فكان للشريعة إذ ذاك صورتان: (1) صورة تمهيدية وقتية. (2) وصورة ثابتة باقية. فالصورة الأولى هي التي صارت منسوخة لا يعمل بها. والصورة الثانية هي التي لم تنسخ، وطولب الناس أجمعون بالعمل بها. أما الصورة الأولى فنجد لها أمثلة عديدة في الأحاديث النبوية. وأما الصورة الثانية فأمثلتها كثيرة في الكتاب (القرآن الشريف) . وإذا فتشنا الأحاديث المنسوخة وجدنا بعضًا منها نسخ بأحاديث مثلها، والبعض الآخر نسخ بالقرآن. وإذا فتشنا القرآن لا نجد فيه ما نسخ بقرآن مثله ولا ما نسخ بحديث، كما بينا ذلك في مقالة لنا نشرت سابقًا في المنار (في الجزء الثاني من المجلد التاسع صحيفة 110) . فالقرآن لا يجوز أن ينسخ بالسنة ولو كانت متواترة، وبه قال الإمام الشافعي- رضي الله عنه - وليس فيه منسوخ مطلقًا كما قال بعض أئمة المفسرين كأبي مسلم الأصفهاني. وكما دل على ذلك الاستقراء والدليل. الكلام في الناسخ والمنسوخ في الشريعة الإسلامية، نشأ بين المسلمين منذ نشوءها؛ إذ لا يمكن الاستغناء عن البحث فيه بعد معرفة وقوعه فيها. فكان إذا سمع أحد الصحابة حكمًا وعلم ما يخالفه، بحث في أيهما نسخ الآخر حتى يتضح له ما يجب العمل به. فلا غرابة إذا سمعنا فيما روي عنهم أن فلانًا منهم قال: إن هذا الحكم منسوخ بذاك. وقد نعثر في الروايات على قول من يقول بخلاف قوله، وقد لا نعثر. ولكن جميع هذه الروايات لا يمكن القطع بصحتها، وخصوصًا ما كان واردًا في تفسير القرآن الشريف؛ لكثرة المكذوب منها، حتى قال أحد الأئمة وهو الإمام أحمد: (ثلاثة لا أصل لها التفسير والملاحم والمغازي) ولا يخفى على أحد قدر الإمام أحمد في علم الحديث. ولذلك لا يمكننا معرفة رأي الصحابة في موضوع النسخ في القرآن على سبيل اليقين. وغاية ما يظهر لنا من الآثار المختلفة على علاتها أن بعضهم يقول بجواز وقوع النسخ فيه؛ كعمر وابن عباس. والبعض الآخر كأُبي بن كعب ينكر ذلك (أو على الأقل ينكر جواز نسخ أي عبارة من عبارات القرآن الشريف، إن سلم نسخ حكمها) راجع ما قلناه في المقالة السابقة. على أن رأي أي واحد منهم لا يجوز الأخذ به بدون دليل. والذي نراه نحن: أن العقل لا يستقبح وقوع النسخ في القرآن الشريف، إذا كان القرآن يبين لنا نصًّا جميع ما نسخ، وجميع ما لم ينسخ. أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين ذلك بيانًا يُنْقَل متواترًا، ويتفق عليه عملاً بين المسلمين. وإذ لم يكن هذا ولا ذاك، فالقائل بالنسخ يعرض الدين لطعن الطاعنين واستهزاء الهازئين وعبث اللاعبين الذين جعلوا القرآن عضين، فيعملون ببعضه ويتركون بعضه الآخر؛ اتباعًا لأوهامهم وأهوائهم، فما جزاء من يفعل ذلك منهم إلا خزى في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما يعملون. ومن العجيب دعواهم النسخ في الآيات مع عجزهم عن بيان الحكمة في نسخها، وليس عندهم من دليل عليه عقلي أو نقلي. والله تعالى يقول في شأن القرآن {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} (الكهف: 27) فلا يجوز أن يبدله الله بعد وعده بعدم تبديله؛ إذ النكرة (أي لفظ مبدل) في سياق النفي تعم. يقول المحققون منهم: (إن النسخ خلاف الأصل، ومتى أمكن التفسير بدونه وجب المصير إلى ذلك التفسير) وأي آية في القرآن لا يمكن تفسيرها بدون هذه الدعوى الباطلة؟ فهذا إقرار عظيم بأن القرآن لا نسخ فيه، حيث إنه يمكن تفسير جميعه بلا حاجة إلى ما يزعمون. وكيف ينسخ وهو لا يجوز التبديل فيه؟ وإذا كان القرآن (1) لم ينص على الآيات المنسوخة. (2) ولم يرد عن رسول الله نص قاطع بذلك. (3) وما روي عن أصحابه مختلف وغير يقيني. (4) ولم يتفق المسلمون على الآيات المنسوخة، بل ولا على القول بالنسخ. (5) وإذا كان لا حاجة إليه في التفسير. (6) ولا حكمة تظهر فيه. إذا كان كل ذلك، فبأي شيء يتمسكون؟ أما قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) ، وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) فقد فسرناهما في المقالة السابقة بما يشفي العلة، ويروي الغلة. ونزيد الآن على التفسير أن الآية الثانية هي من سورة النحل. وقد نزلت هذه السورة قبل إيجاب القتال على المؤمنين؛ أي في مكة أو في أوائل مدة المدينة [1] كما تدل على ذلك الروايات الكثيرة، وكذلك قوله تعالى فيها: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (النحل:41- 42) ، وقوله في آخرها: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل: 126-127) ، وإذا كان نزولها في مكة فالمراد بالهجرة في الآية السابقة هجرة الحبشة. وعلى كل حال إذا كان نزولها في مكة أو في أول مدة المدينة؛ فأي حكم من أحكام الشريعة الإسلامية كان نزل في تلك المدة ثم نسخ، حتى يرد فيها قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (النحل: 101) الظاهر أن القول بأنه مفتر إنما صدر من أهل الكتاب الموجودين بالمدينة، أو القليل منهم الموجود بمكة حينما سمعوا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، يحل ما حرمته الشريعة الموسوية من المطعومات. كما في سورة الأنعام المكية، التي ورد فيها قوله تعالى {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} (الأنعام: 145) إلى قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ} (الأنعام: 146-147) . وقد أشار تعالى في سورة النحل إلى هذه الآيات بقوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} (النحل: 118) بعد الآية التي نحن بصدد الكلام عليها بقليل، وقد كذبوه كما أخبر، فما ذكرناه هنا وهناك يدل على أن تفسير الآية هكذا: وإذا أتينا بحكم في الشريعة الإسلامية بدل حكم في الشرائع السابقة ووضعناه مكانه قالوا: إنما أنت كذاب تختلق الأحكام وتنسبها إلى الله ... إلى آخر الآيات. أما تفسيرهم لهذه الآية وآية (ما ننسخ) فهو يخالف السياق في كل منهما، وينافي قوله تعالى {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِِ} (الكهف: 27) الآية. والخلاصة: أن القرآن لا نسخ فيه مطلقًا. أما السنة القولية (الأحاديث) فبعضها نسخ بالقرآن، وبعضها الآخر نسخ بالأحاديث الأخرى. وعندنا أنه لم يبق منها شيء يجب العمل به غير موجود في القرآن؛ لأنها لم تكن إلا شريعة وقتية تمهيدية لشريعة القرآن الثابتة الباقية، ولذلك كانت قولية نهيت الصحابة عن كتابتها ولم يعاملها النبي عليه السلام ولا أصحابه بالعناية التي عومل بها القرآن؛ لتزول من بين المسلمين وتندثر [2] فلا يعملون بها. كما بينا ذلك في مقالات لنا سبقت في المنار. وإن أنكر علينا منكر ونسبنا للمروق، قلنا له: (1) إذا كان نسخ القرآن بالسنة غير جائز، كما هو مذهب الشافعي. (2) وإذا كان تخصيص عموم القرآن بها لا يجوز، كما هو مذهب داود وأهل الظاهر والخوارج. (3) وإذا كان العمل بالظن مذمومًا في القرآن الشريف. وكل ما ورد فيها من الأحكام ظني بإجماع علماء الحديث؛ لأنها أخبار آحاد. إذا كان كل ذلك مُسَلَّمًا به بين المسلمين بعضهم أو جميعهم، فأيّ شيء خالفتُ فيه الإجماع أو ابتدعته، حتى أرمى بالمروق؟ أنا لا أنكر ما للأحاديث من الفوائد العلمية أو التاريخية أو اللغوية أو الأدبية، ولكن كل ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين، ولا يلحقها بالقرآن الشريف. الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن إنكار المتواتر مكابرة وجحود، فلا يجب التعويل إلا عليهما، ولا الرجوع إلا إليهما. {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول} (النساء: 59) والرد إلى الله يكون بالرجوع إلى كتابه، وإلى الرسول بالرجوع إليه في حياته، وإلى ما أيقنا أنه منه بعد وفاته. ولم يقل القرآن إلى من ظننتموه الرسول أو ما حسبتموه صدر منه، فلا يمكن الإيقان إلا بالمتواتر أو الدليل العقلي. لم يتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله إلا القليل الذي لا شيء فيه من أحكام الدين؛ لأن الله أراد أن تكون سنن الأقوال شريعة زائلة. أما سنن الأعمال المتواترة فقد أراد الله أن تبقى بين المسلمين؛ لإيضاح الكتاب ولتصوير ما أراده بالفعل ككيفية الصلاة والحج؛ لأن الإيضاح بالعمل أبلغ من كل قول. ولذلك أجمل القرآن الكلام في هاتين المسألتين؛ اكتفاء بعمل النبي صلى الله عليه وسلم لهما بين جماهير الناس الذين يؤمَن تواطؤهم

خطبة إسماعيل بك عاصم المحامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة إسماعيل بك عاصم المحامي التي ألقاها في الحفلة [*] التي أعدها في داره لعلماء الكتاب أصحاب المجلات المصرية ومحرريها؛ احتفالاً بإتمام مجلة المنار للسنة العاشرة من عمرها (مساء 12 شوال سنة 1325 28 نوفمبر سنة 1907) . بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد الله، والصلاة والسلام على من اجتباه، فإن براعة استهلالي هي تقديم الشكر والثناء لحضراتكم على إجابة دعوتي، وتشريف هذا الاحتفال الأدبي بإكمال مجلة المنار الزهراء لصديقنا السيد محمد رشيد رضا السنة العاشرة من عمرها. ولعل هذه أول مرة قام فيها إنسان عربي مصري بمثل هذه الحفلة، ودعا إليها أعاظم أصحاب المجلات، وأفاضل محرريها؛ سرورًا وابتهاجًا بمجلة علمية أتمت العقد الأول من عقود الأعداد، وأرجو أن يكون هذا الاجتماع فاتحة لأمثاله في المستقبل. إني يا حضرات الأفاضل، عرفت مجلة المنار في السنة الثانية من نشأتها؛ إذ نبهني إليها صديقي المرحوم (نقولا بك توما) الأصولي الشهير، وكان في يده نسخة منها، قال لي: إنها أحسن مجلة دينية وأفصح صحيفة عربية أدبية، فأنعمت النظر فيها فألفيتها جديرة بالمطالعة والادخار، وحينئذ تاقت نفسي لمعرفة محررها، وقابلته فوجدت منه إنسانًا فاضلاً أديبًا، وكاتبًا عالمًا أريبًا، كما تشاهدون وتشهدون. فعاشرته ثمانية أعوام وهو يزداد كمالاً في محاسن أخلاقه، وتزداد مجلته جمالاً بالمباحث الأخلاقية العالية والأفكار الصحيحة البعيدة عن التقليد الأعمى، وبالمقالات الحكمية العمرانية، من الوجهتين الدينية والمدنية، فازداد حبي له كما ازداد إعجابي بثباته بالرغم من مقاومة الذين لا يفقهون ما يقول أو يفقهون قوله , ولكنهم يثيرهم عليه الجهل الذي قد يثور بأهله البسطاء على المصلحين الأذكياء، فازدادت مجلته انتشارًا، ولاقت عند أهل الحجا اعتبارًا، حتى غبطه عليها محبوه، وإنما يعرف الفضل ذووه. ومن المقرر أيها السادة، أن الصحف هنا قسمان: أحدهما سياسي ويغلب عليه اسم الجرائد، وهي تبحث في الغالب عن الحكومة، وعلاقتها بالأمة والدول، وعن الأمة وعلاقتها بالحكومة، وعن حقوق كل منهما التي لها أو عليها للأخرى، وتراقب ما يتجدد من التقنين والتشريع، وتنبه إلى العدالة والاعتدال، والانتصار للمظلوم، والأخذ بيد صاحب الحق المهضوم، ونحو ذلك. فهي نعم المرشد الأمين إذا أخلصت في النصح والإرشاد، ولم تسلك سبل التحيز والهوى والعناد. والقسم الثاني: علمي أدبي؛ ويغلب عليه اسم المجلات. وهي تبحث عن تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس، وتثقيف الطباع وتصحيح الأفكار، وإحياء اللغة التي بها حياة الأمة، وإنماء الصنائع، والتنبيه إلى المخترعات المفيدة، وبث روح العلوم النافعة الجديدة، إلى غير ذلك مما يرقي العرفان، ويزداد به العمران. وهذه ربما كانت أنفع للأمم، وخصوصًا للحديثة العهد منها بالمدنية؛ لأنها مهما تضاربت أفكارها وتسابقت أقلامها، فهي إنما تكون للبحث في مسائل علمية اجتماعية، أو أمور صناعية عمرانية، فلا يحدث عن احتكاك بعضها بالبعض غير أشعة تستضيء بنورها العقول. ولهذا وجب على أرباب المجلات أن يتتبعوا الرذيلة فيطمسوا رسومها، ويتعاونوا على قلع جذورها من النفوس الضالة بما أوتوا من الهداية والحكمة، والموعظة الحسنة وقوة البرهان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) ، وأن يتبعوا الفضيلة من طريق الشرائع السماوية والنواميس الاجتماعية ويثبتوها في النفوس، حتى تنطبع في مرآة أخلاق الأمة وشعورها. والناس تسعد بالأخلاق ما صلحت ... فإن هم فسدت أخلاقهم فسدوا فإذا أنتم قمتم بهذه الواجبات، وأديتم المطلوب من مجلاتكم حق الأداء، فاستنارت بها عقول الأمة وارتقت أفكارها وعظمت نفوسها، فعرفت قيمة الاجتماع وقوة التعاون، فأوجدت المدارس والمستشفيات والمصارف والكليات والجامعات العالية بقدر الحاجة إليها، ثم ذاقت لذة القيام بنفسها، وأنفت إجابة كل داع يضلها عن السبيل السوي - هنالك يتيسر لها إيجاد المجالس النيابية، واللجان التشريعية التي تطلبها الجرائد السياسية، ويتمناها كل محب لنفسه ووطنه. لا يخفى على حضراتكم أن من الأدلة على حياة الأمة وارتقائها أن تعرف قيمة رجالها العاملين لنفعها حق قدرهم، وتشجعهم على أعمالهم حسًّا ومعنى، فيذوقوا من حلاوة الاحترام والإكرام ما يقوي منهم الآمال بالإصلاح العام، فيزدادوا نشاطًا وتفننًا في عملهم، ويقتدي بهم غيرهم، فيزداد ارتقاء الأمة بقدر زيادة النابغين فيها. لهذا رأيت من الواجب عليَّ لصديقي (المرشد الرشيد) أن أحتفل بإكمال مجلته (المنار) للسنة العاشرة من ظهورها في هذا اليوم المبارك 22 شوال سنة 1325، فقد كان في مثله ظهور أول عدد منها سنة 1315. ويحسن بي أن أعرض على نظركم هذه النسخة من العدد الأول المذكور، وأقتطف منه زهرات متفرقة، يتأرج نادينا بعرفها. قال في المقدمة الافتتاحية: أيها الشرقي المستغرق في منامه، قد تجاوزت حد الراحة فتنبه من سباتك وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد بدلت الأرض غير الأرض، واستولى أخوك الغربي المستيقظ على قوى الطبيعة، فقرن بين الماء والنار وأولدهما البخار، واستخدم الكهرباء والنور، واخترق الجبال، واختبر أعماق البحار، وعرف مسائلة الهواء، وجمع بين أقطار الأرض، بل عرج للقبة الفلكية فعرف الكواكب ومادتها، إلى أن قال: وإن هذا العصر عصر العلم والعمل فلا تضيع أوقاتك بالتخيل والتفكر والأماني والتشهي. {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: 46) . ثم قال: إن من وظيفة هذه المجلة الحث على تربية البنات والبنين، وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة وشبهت الحق بالباطل، حتى صار إنكار الأسباب إيمانًا، وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة الحقائق كفرًا، والتسليم بالخرافات صلاحًا، واختبال العقل ولاية، والخنوع والذل تواضعًا، والتقليد الأعمى علمًا وإيقانًا. ومن غرضها رد الشبهات الواردة عن الشريعة الإسلامية، ودحض مزاعم من زعم أنها حجاب بين العاملين بها وبين المدنية، وإقناع أرباب النِّحل المتباينة بأن الله - تعالى - شرع الدين للتحاب والتواد والبر والإحسان، وإن المعارضة والمناصبة تفضي إلى خراب الأوطان، وتقضي على هدي الأديان. فهذا ما أردت أن أجتنيه لكم من أزهار هذه المقدمة. ومن أبدع ما رأيته؛ أن سعادة العالم الفاضل أحمد فتحي باشا زغلول استشهد في مقدمة ترجمته لكتاب (الإسلام) المطبوع في سنة 1315 في الصفحة السابعة بشذرات من فاتحة أول عدد من المنار، فهي حينئذ قد شبت في مهدها، وحازت الثقة عند أكابر الأمة منذ نشأتها. فهذا ما دعاني أيها الأخلاء لاتخاذ هذه المناسبة اللطيفة والمصادفة الجميلة، وسيلة حسنة للتشرف بدعوة حضراتكم لنجتمع على مائدة السمر الأدبي فوق أرائك المحبة والصفاء، فيهنئ بعضنا البعض على هذا الاجتماع الأخوي المفيد، ونهنئ كلنا هذا الأخ العزيز المحتفل به على توفيقه لهذه الخدمات التي نوهنا عنها، ونسأل الله أن يمنحه الصحة ويزيد في عمره وعمر مجلته؛ ليزداد به النفع العام. وهذا جهد ما يستطيع مثلي عمله والسلام. لا خيل عندي أهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال ثم إني أشكر حضراتكم بلسان الأمة المصرية على جزيل فوائد مجلاتكم الزاهرة، فإنها طالما نشرت من أريج دوحها ما تعطرت بها النفوس، وأتمنى أن يتكرر مثل هذا الاجتماع ولو مرة في كل شهر؛ لتبادل الآراء في ما يكون به زيادة ترقية الأفكار. وفي الختام أبتهل إلى الله أن يؤيد مولانا الخليفة والسلطان الأعظم بروح من عنده، وأن يوفق خديوينا المعظم ورجال حكومته وعقلاء الأمة لما فيه نقع العباد وخير البلاد، آمين.

أبو حامد الغزالي ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (3) رأيه في العلوم الدنيوية قال في بيان العلم الذي هو فرض كفاية من الباب الثاني من كتاب إحياء العلوم الذي بين فيه العلوم المحمودة والمذمومة. (اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر العلوم. والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية ما اسْتُفِيدَ من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل اللغة. فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح. فالمحمود ما ترتبط به مصالح الدنيا كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس فريضة. أما فرض الكفاية فهو ما لا يستغنى عنه في قوام الدنيا كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان. وكالحساب فإنه ضروري في المعاملات، وقسمة الوصايا والمواريث وغيرها. وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين. فلا يُتعجب من قولنا: إن الطب والحساب من فروض الكفايات، فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة، فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك [1] ، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء [2] وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه، فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله. وأما ما يُعَدّ فضيلة لا فريضة؛ فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه. ولكنه يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه. وأما المذموم منه؛ فعلم السحر والطلمسات، وعلم الشعوذة والتلبيسات. وأما المباح منه؛ فالعلم بالأشعار التي لا سخف فيها، وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه) اهـ. أقول: لا يظهر وجه ما قاله في الأشعار التواريخ، إلا فيمن يقرأهما لمحض التسلي والتفكه. فأما قراءة الأشعار لأجل معرفة اللغة - مفرداتها وأساليبها - واكتساب ملكة البلاغة وتمييز الصحيح والفصيح من غيره، فهو على قاعدته من فروض الكفاية، بل ربما يستنبط من كلام له في كتاب (إلجام العوام من علم الكلام) أن معرفة اللغة العربية فرض عين على كل مسلم، بحيث يفهم الكلام البليغ ويميز بين الحقيقة والمجاز والكناية، فإنه قال هنالك: إن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء الله وصفاته وأفعاله لا يجوز أن يؤخذ بالترجمة؛ فإن غير العربية لا تؤدي ما يؤديه القول الوارد فيها على وجهه في كل صفة من تلك الصفات، وضرب لذلك الأمثال. وأما تواريخ الأخبار - ولعله يعني بهما ما يقابل تواريخ المحدثين - فقد كانت في زمنه قليلة الفائدة، وهي في هذا العصر مادة السياسة التي قال بأنها فريضة، وينبوع العلوم الاجتماعية التي تشرح لنا سنن الله- تعالى - في الأمم، وهو يعد العلم بسنن الله - تعالى- في خلقه كالعلم بصفات الله وكماله أعلى العلوم الدينية، كما سيأتي عنه. فلو كان في هذا العصر لقال في الشعر والتاريخ قولاً مفصلاً على نحو ما قلنا. رأيه في علوم الفلسفة ثم تكلم عن العلوم الشرعية، وأورد على نفسه هذا السؤال (فإن قلت فلم لم تورد في أقسام العلوم الكلام والفلسفة، وتبين أنهما مذمومان أو محمودان) وأجاب عن علم الكلام بما سنذكره في الكلام عن العلوم الدينية وإن كان لا يعده منها، وعن الفلسفة بما يأتي: وأما الفلسفة فليست علمًا برأسها، بل هي أربعة أجزاء: (أحدها) الهندسة والحساب وهما مباحان كما سبق، ولا يُمْنَع عنهما إلا من يخاف عليه أن يتجاوزهما إلى علوم مذمومة، فإن أكثر الممارسين لهما قد خرجوا منهما إلى البدع، فيُصان الضعيف عنه لا لعينه، كما يصان الصبي عن شاطئ النهر خيفة عليه من الوقوع في النهر، وكما يصان الحديث العهد بالإسلام عن مخالطة الكفار خوفًا عليه، مع أن القوي لا يندب إلى مخالطتهم. (والثاني) المنطق وهو بحث عن وجه الدليل وشروطه، وهما داخلان في علم الكلام. (والثالث) الإلهيات وهو بحث عن ذات الله سبحانه وتعالى وصفاته، وهو داخل في الكلام أيضًا، والفلاسفة لم ينفردوا فيها بنمط آخر من العلم، بل انفردوا بمذاهب بعضها كفر وبدعة، وكما أن الاعتزال ليس علمًا برأسه، بل أصحابه طائفة من المتكلمين وأهل البحث والنظر، انفردوا بمذاهب باطلة فكذلك الفلاسفة. (والرابع) الطبيعيات وبعضها مخالف للشرع والدين الحق، فهو جهل وليس بعلم حتى يورد في أقسام العلوم، وبعضها بحث عن صفات الأجسام وخواصها وكيفية استحالتها وتغيرها، وهو شبيه بنظر الأطباء، إلا أن الطبيب ينظر في بدن الإنسان على الخصوص من حيث يمرض ويصح. وهم ينظرون في جميع الأجسام من حيث تتغير وتتحرك. ولكن للطب فضل عليه وهو أنه محتاج إليه. أما علومهم في الطبيعيات فلا حاجة إليها) اهـ. وقد أوسع المجال لذلك في كتابه (المنقذ من الضلال) ، فقال: فصل في أقسام علومهم اعلم أن علومهم بالنسبة إلى الغرض الذي نطلبه ستة أقسام: رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية وسياسية وخلقية. أما الرياضية فتتعلق بعلم الحساب والهندسة وعلم هيئة العالم، وليس يتعلق شيء منها بالأمور الدينية نفيًا وإثباتًا، بل هي أمور برهانية لا سبيل إلى مجاحدتها بعد فهمها ومعرفتها، وقد تولدت منها آفتان: (الأولى) من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها، فيحسُن بسبب ذلك اعتقاده في الفلاسفة، ويحسب أن جميع علومهم في الوضوح ووثاقة البرهان كهذا العلم، ثم يكون قد سمع من كفرهم وتعطيلهم وتهاونهم بالشرع ما تناولته الألسن، فيكفر بالتقليد المحض ويقول: لو كان الدين حقًّا لما اختفى على هؤلاء مع تدقيقهم في هذا العلم، فإذا عرف بالتسامع كفرهم وجحدهم، يستدل على أن الحق هو الجحد والإنكار للدين، وكم رأيت ممن ضل عن الحق بهذا القدر ولا مستند له سواه، وإذا قيل له: الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقًا في كل صناعة. فلا يلزم أن يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقًا في الطب، ولا أن يكون الجاهل بالعقليات جاهلاً بالنحو، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها البراعة والسبق، وإن كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها، فكلام الأوائل في الرياضيات برهاني وفي الإلهيات تخميني، لا يعرف ذلك إلا من جربه وخاض فيه. فهذا إذا قرر على هذا اتخذ (كذا) بالتقليد، لم يقع منه موقع القبول، بل تحمله غلبة الهوى وشهوة البطالة وحب التكايس، على أن يصر على تحسين الظن بهم في العلوم كلها، فهذه آفة عظيمة لأجلها يجب زجر كل من يخوض في تلك العلوم، فإنها وإن لم تتعلق بأمر الدين لكن لما كانت من مبادئ علومهم يسري إليه شرههم وشؤمهم، فقلَّ من يخوض فيه إلا وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لجام التقوى. (الآفة الثانية) نشأت من صديق للإسلام جاهل ظن أن الدين ينبغي أن يُنصر بإنكار كل علم منسوب إليهم، فأنكر جميع علومهم وادعى جهلهم فيها حتى أنكر قولهم في الكسوف والخسوف وزعم أن ما قالوه على خلاف الشرع، فلما قرع ذلك سمْعَ من عرف ذلك بالبرهان القاطع لم يشُك في برهانه، لكن اعتقد أن الإسلام مبني على الجهل وإنكار البرهان القاطع، فيزداد للفلسفة حبًّا وللإسلام بغضًا، ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن الإسلام ينصر بإنكار هذه العلوم، وليس في الشرع تعرض لهذه العلوم بالنفي والإثبات ولا في هذه العلوم تعرض للأمور الدينية. وقوله عليه السلام: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله تعالى وإلى الصلاة) ليس في هذا ما يوجب إنكار علم الحساب المعرف بمسير الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلتهما على وجه مخصوص وأما قوله (لكن الله إذا تجلى لشيء خضع له) فليس توجد هذه الزيادة في الصحاح أصلا. فهذا حكمة الرياضيات وآفتها. (وأما المنطقيات) فلا يتعلق شيء منها بالدين نفيًا وإثباتًا، بل هو النظر في طرق الأدلة والمقاييس وشروط ومقدمات البرهان وكيفية تركيبها وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبها، وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان. وليس في هذا ما ينبغي أن ينكر بل هو من جنس ما ذكره المتكلمون وأهل النظر في الأدلة، وإنما يفارقونهم بالعبارات والاصطلاحات وبزيادة الاستقصاء في التعريفات والتشبيهات ومثل كلامهم في قولهم: إذا ثبت أن كل (1) (ب) لزم أن بعض (ب) (1) أي إذا ثبت أن كل إنسان حيوان لزم أن بعض الحيوان إنسان ويعبرون عن هذا بأن الموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية، وأي تعلق لها بمهمات الدين يجحد وينكر؟ فإذا أنكر لم يحصل من إنكاره عند أهل المنطق إلا سوء الاعتقاد في عقل المنكر بل في دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا الإنكار، نعم لهم نوع من الظلم في هذا العلم وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطًا يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل. وربما ينظر في المنطق أيضا من يستحسنه ويراه واضحا فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك البراهين فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية فهذه الآفة أيضا متطرقة إليه. (وأما علم الطبيعيات) فهو بحث عن أجسام العالم: السموات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة كالماء والهواء والتراب والنار، ومن الأجسام المركب كالحيوان والنبات والمعادن وعن أسباب تغيرها واستحالتها وأمزاجها. وذلك يضاهي بحث الطبيب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسة والخادمة وأسباب استحالة مزاجه، وكما ليس من شرط الدين إنكار ذلك العلم إلا في مسائل معينة ذكرناها في كتاب (تهافت الفلاسفة) وماعداها مما يجب المخالفة فيها فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها وأصل جملتها أن يعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى لا تعمل بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها، والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته عن ذاته. (وأما الإلهيات) ففيها أكثر أغاليطهم. فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوا في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيه. ولقد قرب أرسطاطاليس مذهبه فيها من مذاهب الإسلاميين على ما نقله الفارابي وابن سينا ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا يجب تكفيرهم في ثلاثة منها وتبديعهم في سبعة عشر، ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين صنفنا كتاب التهافت. أما المسائل الثلاث فقد خالفوا فيها كافة المسلمين، وذلك في قولهم أن الأجساد لا تحشر وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة والعقوبات روحانية لا جسمانية، ولقد صدقوا في إثبات الروحانية فإنها كائنة أيضًا ولكن كذبوا فيها إنكار الجسمانية وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به. ومن ذلك قولهم أن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات، فهو أيضًا كفر صريح بل الحق أنه (لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض) . ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته، فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل. وأما وراء ذلك من نفيهم الصفات وقولهم أنه عليم بالذات لا بعلم زائد على الذات، وما يجري مجراه فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك، وقد ذكرنا في كتاب (فيصل التفرقة بين ا

المؤتمر الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر الإسلامي نشرنا في هذا الجزء خطبة إسماعيل بك غصبرنسكي صاحب جريدة (ترجمان) التي اقترح فيها على مسلمي مصر الدعوة إلى مؤتمر إسلامي. جاء الرجل مصر لهذا الغرض فبدأ بزيارة أصحاب الجرائد اليومية وكاشف المسلمين منهم بما جاء لأجله فوعده صاحب جريدة (المؤيد) منهم بالمساعدة ودعوا الناس إلى سماع خطبته التي أعدها لذلك. وقد طبع أوراقًا للدعوة ووزعها على نحو 600 ممن اختار من الوجهاء والفضلاء، وكان موعدهم ليلة السبت لخمس بقين من رمضان فأجاب كثيرون وحضر كثيرون لم يُدعوا فازدحموا على باب فندق الكونتننتال وتعذر تقديم المدعوين على غيرهم فكان السابق هو المقدم كأن كل واحد منهم كان يرى أن الداعي والمدعوين وغيرهم من المسلمين سواء في حضور هذا الاجتماع الذي يبحث فيه عن أحوال المسلمين كافة. كان عدد المجتمعين زهاء ثلاث مائة رجل فقرئت عليهم الخطبة التركية ثم ترجمتها العربية، وبعد ذلك قام صاحب (المؤيد) فذكر بعد تمهيد وجيز - في كون فكرة المؤتمر ناضجة قد استعدت لها النفوس - أسماء طائفة من شيوخ الأزهر ووجهاء العاصمة قال: إنهم أذنوا له بأن يذكر عنهم أنهم أجابوا الدعوة وهم الأستاذة المشهورون الشيخ سليم البشري والشيخ توفيق البكري والشيخ محمد شاكر والشيخ محمد بخيت والشيخ محمد حسنين العدوي والشيح حسين والي، والباشوات حسين واصف وإسماعيل أباظة والدكتور حسن رفقي وعلي شعراوي والدكتور علوي وموسى غالب، والبكوات أحمد تيمور وعبد العزيز فهمي المحامي ورفيق العظم وطلعت حرب وحقي العظم وإبراهيم الهلباوي المحامي وأحمد زكي ويوسف صديق وعمر لطفي المحامي ومحمد فريد وعلي بهجت وإسماعيل رأفت وحسن بكري المقاول ومحمد أحمد الشريف ثم ذكر من الصحافيين نفسه وحافظ أفندي عوض، وقد علمنا أنه كان كلم أكثر الشيوخ والباشوات من هؤلاء قبل ليلة الاحتفال ودعاهم إلى ذلك دعوة خاصة فرضوا وأذنوا له بذكر أسمائهم وقد انتقد بعض الناس هذا وقالوا: إنه عبارة عن إجابة الدعوة قبل سماعها وظنوا أنه لا يخلو من تواطؤ خاص. ثم أشيع في البلد أن وراء الستار إرادة تدير أمر المؤتمر وتصرف كبراء المشتغلين به في عملهم، ورأيت غير واحد ممن ذكرنا أسماءهم آنفًا يظن هذا في بعضهم واقترح بعض الوجهاء على صاحب (المؤيد) أن يدعو كثيرا من الفضلاء إلى حضور أول اجتماع يعقده للبحث في المؤتمر، فدعا بعض من سمي له وأفرادًا من غيرهم إلى الاجتماع في دار الشيخ البكري في الساعة التاسعة من ليلة 9 شوال فأجاب الدعوة زهاء خمسين رجلاً. اجتمعوا في ردهة الدار وكان صاحب (المؤيد) قد دعا من حضر ممن ذكر أسماءهم من قبل وسماهم (اللجنة التحضيرية) إلى مخدع بجانب الردهة يأتمرون ويختصمون في اقتراح عرضه عليهم وهو أن يخرج من اللجنة أناس منهم بعد اختيار من يرضاه ويرضونه ليكون مكانهم فلم يتفقوا على ذلك إذ رأى بعضهم أنه لا حق لهم أن يستبدوا بالعمل هم ومن يختارونه. ولما طال الانتظار وملَّ الحضار ظهر الغضب على بعض الحاضرين، وقال بصوت جهوري: ما معنى لأن ندعى إلى مشروع عام ويتركنا الداعي ويخلو بنفر من دوننا في مخدع يأتمرون بينهم سرًّا؟ ما هذا إلا إهانة وعمل غير معقول، فرأى من القوم ارتياحًا لقوله وموافقة له عليه، وصاروا يتناجون بينهم: إن البكري وصاحب المؤيد قد استبدا بالمشروع لأمر ما ويريدان أن يختارا للمؤتمر من يرضيان ليتم ذلك الأمر. وكان ذلك الغاضب قد مر على النفر المؤتمرين في مخدعهم وأعاد عليهم ما قال آنفًا فخرجوا وقام فيهم صاحب المؤيد فقال: إنه قد شاع بين الناس أن إرادة خاصة تدبر أمر مشروع المؤتمر وهذا غير صحيح وإنما خلونا لنتذاكر فيما نعرضه عليكم وهو أننا رأينا من مصلحة المشروع أن أخرج أنا وحافظ أفندي عوض منه وحسن باشا رفقي وإسماعيل باشا أباظة وفلان وفلان فالمرجو منكم أن تنتخبوا بدلهم من الحاضرين لإتمام اللجنة التحضيرية للمؤتمر أو ما هذه خلاصته، فبرأ نفسه بخروجه مما ظن فيه الظانون. فقام كاتب هذه السطور وقال: إن بقية من سميتموهم اللجنة التحضيرية لم ينتخبوا فالعدل أن ينتخب جميع الأعضاء ابتداءً، فحاول صاحب المؤيد والسيد البكري أن يثبتا عدم الحاجة إلى جعل أحد ممن ذكرت أسماؤهم ليلة الاحتفال بالخطبة موضعًا للانتخاب؛ لأنهم ذكروا أمام مقترح المؤتمر وجمهور من حضر خطبته ولم يعارض في أحد منهم أحد، والسيد البكري سمى ذلك انتخابًا، وقال صاحب المؤيد وإننا نعرض أسماءهم الآن على الحاضرين ونأخذ رأيهم فيهم. فقال كاتب هذه السطور: إنه ما كان لأحد أن يطعن في كفاءة أحد في وجهه ولا على مسمع الملأ ولذلك اتفقت الأمم كلها جعل الانتخاب في مثل هذا الأمر سريًّا فنحن نجل ونحترم كل واحد من أولئك المذكورين ولكننا ربما نرى أناسًا آخرين أولى بهذا العمل من بعضهم، فكل واحد ينتخب سرًّا من يعتقد كفاءته لهذا الأمر مع حفظ كرامة الآخرين. وأما من ذكر صاحب المؤيد أسماءهم ليلة الاحتفال وسكوت السامعين فلا يسمى انتخابا؛ إذ لم يخطر في بال أحد من السامعين أن تلك الأسماء ذكرت لأخذ رأيه فيها ولا أن له الحق في جرح أحد ممن ذكر. ثم اقترح بعض الحاضرين أن يكون البحث قبل كل شيء إمكان المؤتمر وعدمه، وإذا ظهر أنه ممكن فهل الأولى أن يكون عامًّا أو خاصًّا بمصر، وطال الجدال في ذلك واقترح بعضهم بيان موضوع المؤتمر أولاً، فكان السيد البكري أحسن من أجاب؛ إذ قال ما مثاله موضحًا أن السيد جمال الدين قال: إنه لا فرق بين المسلمين وبين سائر الشعوب إلا في الدين ولا يمكن أن يكون دين الإسلام في حقيقته هو السبب في تأخرهم؛ لأنه هو الذي كان السبب أولاً، في جمع كلمة العرب ونقلهم من الجهل والأمية إلى العلم، ومن البداوة إلى المدنية، ومن الفقر والضعف إلى الغنى والسيادة فالشيء الواحد لا يكون سببًا للشيء ولضده معًا فلابد أن يكون فهم الدين قد تغير ودخل فيه ما ليس منه فكان أثره في الآخرين ضد أثره في الأولين، ولا يصلح حال المسلمين إلا بالرجوع إلى حقيقة الدين (قال) هذا ما سمعناه من السيد جمال الدين وهذا ما سمعناه من الشيخ محمد عبده وعليه جميع العارفين من الكتاب والباحثين ومنه يعرف موضوع المؤتمر. وعند هذا قال بعض الحاضرين لبعض ومنهم أحمد بك زكي الأمين الثاني لأسرار مجلس النظار أن هذا عمل قامت به مجلة المنار. وقام الشيخ إسماعيل خليل فقال قولاً جاء فيه إشارة إلى ما صرح به غيره من جواب هذا القول وهو أن ما يكتب في المنار وكذا في بعض الجرائد أحيانًا من البحث في أسباب ضعف المسلمين وطرق علاجه يكون محلاًّ لانتقاد بعض الناس، فإذا كان مثل ذلك معزوا إلى طائفة كبيرة من علماء المسلمين وفضلائهم وأهل الرأي فيهم - يرجى أن يكون مقبولاً نافعًا، وقد أشرنا إلى ذلك في مقالتنا عن المؤتمر في هذا الجزء. وبعد كثرة الجدال انفض القوم ولم يتفقوا على شيء، فعزم من حضر ممن سماهم صاحب المؤيد اللجنة التحضيرية على أن يسموا أنفسهم اللجنة التأسيسية أو لجنة التأسيس للمؤتمر وأن يضموا إليهم من يختارونه للعمل معهم. ثم إنهم بعد ذلك اجتمعوا واختاروا الشيخ سليمًا البشريّ رئيسًا للمؤتمر وعمر بك لطفي المحامي كاتبًا للسر وناطوا تحديد موضوع المؤتمر ونظامه بلجنة مؤلفة من الشيخ توفيق البكري وصاحب المؤيد وإبراهيم بك الهلباوي وحسن باشا رفقي ورفيق بك العظم. ((يتبع بمقال تالٍ))

رزيئة مصر بحسن باشا عاصم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رزيئة مصر بحسن باشا عاصم رزئت مصر في ثالث شوال برجل الجد والعمل والثبات والاستقامة والعدل والنظام، خادم الأمة المخلص نابغة النوابغ نادرة العصر يتيمة العصاميين العصماء حسن باشا عاصم رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأحسن عزاءنا وعزاء البلاد عنه. وإننا نكتب في شأنه كلمات لا نقصد بها مجرد الرثاء والتأبين، ولا محض الترجمة والتأريخ، بل العبرة والموعظة للأمة، عسى أن يكون فيها لأهل الاستعداد حسن الأسوة. ومن هو حسن باشا عاصم الذي يحليه المنار بهذه الألقاب والنعوت مخالفًا عادته في ذكر الناس بأسمائهم؟ من هو حسن باشا عاصم الذي يؤبنه المنار وقد مات من الأمراء والباشوات وكذا العلماء ولم يذكر خبر موتهم ولا عزى البلاد عنهم؟ كان حسن عاصم رجلا من الرجال الذي تنهض بأمثالهم الأمم إذا كثروا فيها ولو كثر أمثاله لأذعنت إنكلترا بأن المصريين قادرون على أن يحكموا أنفسهم كأرقى أمة أوروبية فقد كان إذًا روحا من أرواح الحياة القومية، وركنا من أركان النهضة المدنية، وإن كان عمله مما كانت تجهله العامة، وقلما تهتف به ألسنة الخاصة. كان ربما يزور هذه البلاد السائح المؤرخ فيقرأ جرائدها، ويغشى أنديتها ومعاهدها، ويتحدث مع الخواص والعوام، والمحكومين والحكام، فيسمع ويقرأ أخبار الأحزاب ومؤسسيها، والتحزب لها أو عليها، والمحاورات في التفاضل بين أفراد يقال: إنهم هم الذين ينهضون بالبلاد، ولا يسمع لحسن باشا عاصم في هذه المواضع ذكرا، ولا يقرأ عنه في هذه الصحف خبرا، فكيف كان لحياة البلاد روحًا مدبرًا، ولنهضتها ركنا مشيّدًا، والأمة في مجموعها غافلة عنه جاهلة عمله، ويتنازع زعامة النهضة فيها زيد وعمرو، وخالد وبكر؟ الجواب عن هذا أن الرجل كان فعالا ولم يكن قوالاً، وأمتنا في مثل هذا الطور تشغلها الأقوال، وتغرها الدعاوى العراض الطوال، ورب قؤول كبير الدعوى قدير على التغرير، لو كثر أمثاله في الأمة ما زادوها إلا رهقًا، ولكن ما كان يعرف حسن باشا عاصم أحد - وكل أهل الفضل في البلاد يعرفونه - إلا ويجزم بأنه لو كان فينا عشرون رجلا مثله في صفاته وأعماله لنهضوا بنا نهضة لا تخطر في بال الذين يقولون ما لا يفعلون، ولكانوا حجة لنا على الأجانب لا يكابر أحد في دحضها. ولكن يوجد في البلاد مئات أو ألوف يستطيعون أن يقولوا بألسنتهم وأقلامهم ما يشتهر بمثله المرء بين العامة قضت عليهم حال المعيشة بأن يكون كسبهم الذي هو قوام معيشتهم بأعمال أخرى. صفات حسن باشا عاصم (استقلال الفكر) من الصفات التي تحلى بها هذا الرجل استقلال الفكر والرأي، فقد كان لا يقلد أحدًا في رأيه وإنما ينظر في الأمر ويطيل فيه الفكر والتدبر حتى يظهر له الصواب. وإننا نرى أكثر الرجال قد درجوا على التقليد والتسليم حتى كأنهم لم يخرجوا من الطفولية، وهم لا يشعرون بذلك لأنهم يظنون أنهم مستقلون فيما قبلوه بادي الرأي ولا محل هنا لكشف التلبيس في ذلك. (استقلال الإرادة) كان رحمه الله تعالى مستقل الإرادة قوي العزيمة، أعني أنه كان يعمل دائما ما يعتقد أنه الصواب والخير والموافق للمصلحة في الواقع ونفس الأمر بحسب اعتقاده، وإن كان مما يخشى أن يعود عليه بالضرر. وهذا الخلق فينا أضعف من سابقه. ولو كان عندنا كثير من الحكام والعاملين الذين يعملون بما يعتقدون أنه الخير والمصلحة للبلاد لكنا من أرقى الشعوب، فإن فينا عددًا كثيرًا من العارفين بما يجب ولكنهم ضعفاء العزائم فلا يعملون بما يعلمون. (الثبات والاستقامة) كان رحمه الله تعالى كالجبل الراسخ في ثباته على رأيه وعلمه واستقامته في سيرته، وبهذا كان نافعا في استقلاله وقوة إرادته. فإن العزيمة تكون في الخير والشر وفي المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، وتكون للرجل الثابت وللرجل القلّب؛ فإن الإمعة الذي ليس له رأي مستقر قد يكون ضعيفًا في العمل بالرأي قبل أن يتحول عنه وقد يكون قويا. وكان رحمه الله لا يشكو من شيء شكواه من التقلب والتحول في الناس، فقد اقترحت عليه غير مرة مشروعات نافعة للأمة مما يكون بالاجتماع والتعاون وكان يجيبني في كل مرة: إنك حسن الظن في الأمة أكثر مما يجب لأنك لما تختبرها. وقال لي مرة أو غير مرة ما معناه: إننا إذا دعونا إلى هذا العمل نجد المجيبين إليه كثيرين في أول الأمر ثم يتسللون لواذًا حتى لا يبقى منهم من يمكن أن يستمر به العمل. (الصبر والاحتمال) كان على نحافة بدنه آية في الصبر على العمل واحتمال المشقة، لا يمل ولا يسأم. ولولا الصبر والاحتمال ما كان ثبات ولا استقامة. كان في كل عمل دخل فيه يعمل ما لا يعمله عدة رجال حتى كان يمل ويتململ كل من يشتغل معه - لا سيما إذا كان هو رئيسه - ولكنه لا يستطيع أن يشكو من كثرة العمل مع من يراه يعمل أضعاف عمله، وقد كان يشتغل أخيرًا في أربع إدارات كبيرة في كل يوم فيعجب كل عمالها من صبره وجلده، وهي إدارة القصر العالي وإدارة تركة الأمير محمد إبراهيم وإدارة الجمعية الخيرية ومدارسها وإدارة الشركة الإنكليزية المصرية، هذا وهو غير مهمل لإدارة منزله بل مقيم لها على أكمل نظام. (النظام والإتقان) كان عاشقًا للنظام كَلِفًا بإتقان كل أمر يشتغل به، فكان كل عمله مرتبا منظما متقنا حتى قال فيه سعد باشا زغلول: إنه خلق منظما بالطبع. ومن يخطر بباله أن صاحب تلك الأعمال الكثيرة كان يشغل ساعات من ليله ونهاره ويشغل معه فيها بعض أصحابه في البحث عن صحة كلمة أو عبارة فيما يطبعه لمدارس الجمعية الخيرية أو لشركة إحياء العلوم العربية؟ خطر له أن يطبع أجزاء القرآن الكريم لأجل التعليم في مدارس الجمعية بحسب قواعد الرسم لا برسم المصحف المتبع عن الصحابة عليهم الرضوان، فبدأ أولا بالبحث عن جواز ذلك واستفتى فيه الأستاذ الإمام فأفتى ووجد نصا عن الإمام مالك بجوازه في مصاحف التعليم، ثم كان يستنسخ الأجزاء ويبحث بنفسه مع أهل العلم في الكلم الذي يشتبه رسمه بكلمة (الضحى) تكتب ألفها بصورة الياء أم ملساء؟ والكلمات التي في آخرها ياء تحذف في قراءة حفص لأجل الوقف. فكنا نسهر معه الليالي ذوات العدد نتباحث في هذه الكلمات. ثم ناط ضبط ذلك كله وتصحيح الأصل بالشيخ حسين والي مؤلف كتاب الإملاء ليطبقه على قواعد الرسم بعد مراجعة كتب القراءات لكي لا يخرج الرسم عن أداء المتواتر منها ثم إنه كان يراجع بنفسه كل ما يصححه الشيخ حسين. وقد عزم منذ أكثر من سنتين على طبع كتاب (العمدة في الأدب) لابن رشيق بنفقة جمعية إحياء العلوم العربية، فلما أرسلت إليه المطبعة الأميرية نموذج الملزمة الأولى بعد تصحيح مصححيها لها ومراجعتها مقابلة على النسخ - قرأها فتوقف في فهم بعض عباراتها والأحاديث وأبيات من الشعر فيها فراجع كاتب هذه السطور في ذلك في مكتب المنار. وغير مرة كنا نراجع فيه الأحاديث في كتبها والأشعار في مظانها من كتب الأدب واشترى هو ديوان حسان بن ثابت (رضي الله عنه) لأن فيها شيئًا من شعره وراجع أيضًا غير واحد من أصحابه أهل العلم والأدب. وبعد هذا كله لم يأذن بالطبع لأنه بقي في الملزمة عبارة غامضة يرجح أنها محرفة! وطفق يسأل ويبحث عن نسخة أخرى من العمدة ليجلبها أو يستنسخها من القطر الذي يعلم أنها فيه. وأبى عليه خلق الإتقان وأمانة العلم أن يطبعها وهو يعتقد أن فيها تحريفًا فتبارك من أنعم عليه بهذه الأخلاق، ويا ليت الذين يتَّجرون بطبع الكتب الدينية والعلمية وغيرها يعنون بعض هذه العناية بالضبط والإتقان. (الجد والرصانة) كنا نرى كثيرا من الناس ينتقدون منه رصانته وجده في كل وقت وحال، وتجنبه الهزل والدعابة وتحاميه المزاح والمفاكهة في الحديث إلا قليلا وهذا هو الواجب على من يريد أن يخدم شعبا يعتقد أنه يكثر فيه الطيش والخفة ويغلب على أكثر أفراده الهزل واللهو واللعب في زمن يزاحمه فيه أهل الجد والعمل من الشعوب الأخرى على بلاده وينازعونه جميع مقومات حياته، فلولا هذان الخلقان لما قدر على كل ما عمل. ولكننا لا ننكر مع هذا أن استغراق جميع الأوقات في الجد والتزام الرصانة في جميع الأحوال من المبالغة المنتقدة في الفضيلة ولكن لا يُقبل انتقادها إلا ممن يصرف أكثر أوقاته في الجد ويفرغ أقلها للأهل والصحب يفاكههم ويمازحهم وينبسط إليهم في الحديث، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا. (الاقتصاد والوفاء) اشتهر فقيدنا المبكي بأعين الفضلاء بالمبالغة في الاقتصاد حتى كان بعض الناس يظن فيه البخل والتقتير وهو لم يكن بخيلاً ولا مقترًا في النفقة؛ بل كان في الإنفاق على ما أمر الله تعالى في قوله: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: 7) كان يكتب لبيته ميزانية السنة قبل دخولها، فيجعل الخرج غير مستغرق للدخل كله ويحصي كل أنواع النفقات ويضيف إليها مبلغًا احتياطيًّا ثم يؤدي كل شيء في وقته، فكان يدفع اشتراكات الصحف العربية والإفرنجية في أواخر شهر ديسمبر من كل سنة واشتراك الجمعية الخيرية في غرة المحرم، فيأخذ أول وصل من وصولات التحصيل وأجور الخدم في أول يوم من كل شهر وثمن كل شيء يشتريه في وقته. ولولا هذا الاقتصاد لما قدر على الوفاء الكامل في المعاملة بأداء كل حق قي وقته ولا على الاستغناء عن الاقتراض والاستدانة بالربا. نعم، إن اقتصاده المبني على قواعد العلم الحديث والتزامه النظام فيه ومن كل عمل كان يستلزم مخالفة أهل البلاد في بعض الأمور مخالفة يستنكرونها فيسمونها بغير اسمها. فمن ذلك أنه كان إذا دعا إلى طعامه نفرًا من أصحابه وزاره عند وقت الطعام أو قبيله صاحب آخر فإنه لا يدعوه معهم، بل كان بعض أصدقائه ربما يتعمد أن يقول: بلغني أن فلانا وفلانا سيأكلان العشاء عندك وأحب أن أكون معهم ليجيبه بحريته المعهودة: إنه ليس لك كرسي على المائدة في هذه الليلة. وذلك أنه رحمه الله تعالى كان يهيئ الطعام على قدر حاجة الآكلين المعلومين بلا تقتير ولا تبذير. وكيف يوصف بالتقتير من كان خدمه يأكلون من جميع ما يأكل منه أهل البيت وضيوفهم من الألوان والحلوى حتى الفاكهة في الشتاء. وبلغ من اقتصاده في مال الجمعية الخيرية أنه كان لا يرمي ورقة مكتوبة من الأوراق التي لم تبق من حاجة إليها إلا بعد أن يقص منها ما عدا المكتوب إن كان ينتفع به بإمكان كتابة شيء عليه. ووقع لي معه دقيقة من هذه الدقائق أذكرها مثالا، وهي أنني جئت مرة قصر عابدين أبغي لقاء الأمير، وكان هو رئيس التشريفات فأرسلت إليه بطاقة الزيارة للاستئذان، ولما هممت بالخروج من حجرته قال لي: خذ هذه البطاقة - وكانت لا تزال في يده - فإنها أدت وظيفتها الآن ويمكن أن تؤديها مرة أخرى. فقلت له: ذكرتني هذه الدقة في الاقتصاد كلمة للإمام الغزالي وهي أن الميزان الذي لا يرجح بالحبة لا يرجح بالقنطار لأن القنطار مؤلف من الحب، فإذا ألقي في الميزان حبة بعد حبة لم يكن الرجحان إلا بحبة، فأعجبه هذا القول وكان يتمثل به. ومن الناس من يهزأ بهذه الدقائق ويعدّها من الصغائر التي لا تنبغي لأهل النفوس العالية. وهذا خطأ وجهل يزينه لصاحبه الإسراف والخرق واعتياد الخلل والحرمان من النظام فإن الكاتب (الخطاط) الذي لا يعنى بكل حرف من الكلمة لا يكون مجموع خطه كامل الحسن، وا

الاحتفال بالعقد الأول من عمر المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بالعقد الأول من عمر المنار أنشئ المنار في سنة 1315 وصدر العدد الأول منه في مساء اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال من تلك السنة، ثم زحزحنا أول سنته إلى غرة ذي القعدة ثم إلى أول المحرم فصارت السنة الهجرية هي سنة المنار الحسابية منذ سنته الخامسة أي سنة 1320. وفي أوائل هذه السنة - وهي العاشرة - خطر لإسماعيل بك عاصم الخطيب والمحامي الشهير أن يقيم في داره احتفالا ينوه فيه ببلوغ المنار هذه السن من عمره، ولكن عرض له سفر قضى بإرجاء ذلك، وعاد إلى مصر قبيل شهر رمضان وذاكرني في ذلك فأخبرته بتاريخ إنشاء المنار فسر بذلك وعزم على أن يجعل الدعوة إلى الاحتفال في مثل اليوم الذي صدر فيه أول عدد منه وهو 22 شوال، فوزع رقاع الدعوة على أصحاب المجلات الشهيرة في مصر ومحرريها ليجتمعوا مساء ذلك اليوم في داره بالعباسية ويكون الاحتفال في ليلة 23 وهي أول ليلة ظهر في مثلها المنار. وكذلك كان للمنار في مصر محبون كثيرون من علية القوم، ومنهم من يقدر على ما لا يقدر عليه إسماعيل بك عاصم من خدمة الإصلاح بالتنويه به والعون على زيادة انتشاره، ولكن إسماعيل بك عاصم ابتكر هذا النوع من الإصلاح لا بسانحة عرضت أو فكرة سنحت كما ظن بعض من لا يعرف كنه الرجل، بل أرشدته إلى ذلك فطرته وهدته إليه ملكة راسخة فيه هي حب الاجتماعات العلمية والأدبية ونشر الآراء والحكم النافعة. فكم سبق له من تأليف الجمعيات ومن مساعدة المؤلفين لها بالمال والقال على قدر الحال كما أخبرني الثقة وشاهدت في جمعية مكارم الأخلاق. ويدخل في هذا الباب مساعدته لفن التشخيص أو التمثيل بتأليف القصص وإيداعها ما يراه مناسبا لأهل البلاد من انتقاد العادات الضارة والترغيب في الآداب النافعة وبالعون على تمثيلها بالمال، فقد سمعت الشيخ سلامة مدير دار التمثيل العربي وأشهر الممثلين يقول: إنه كان يؤلف الرواية ويعطي (الجوق) ستين جنيهًا إعانة له على تمثيلها بمصر. على أن غيره لا يبيع القصة بأقل من هذا الثمن. ذكرت هذا قبل الكلام عن كيفية الاحتفال لبيان بعض مزايا المحتفِل لمن لا يعرفها من قراء المنار في الشرق والغرب وفي مصر أيضًا؛ فإنني سمعت كثيرين يقولون بلهجة الإعجاب والتعجب: كيف خطرت لفلان هذه الفكرة؟! يظنون أنها سانحة عرضت، لم تأت عن ملكة رسخت. إسماعيل بك عاصم يطالع المنار بدقة متتبعًا سير الإصلاح فيه، وكثيرًا ما يذاكرني في مسائل منه يعجب بها فضل إعجاب، ومسائل ينتقدها أو يري فيها غموضًا أو إيهامًا. فعلمه بخدمة المنار علم تفصيلي وله عنده منزلة خاصة عبر عنها بهذا الاحتفال الذي يحب أن يجعله سُنَّة دائمة، فجزاه الله عن عمله وعن نيته خير الجزاء. أجاب الدعوة إلى الاحتفال عشرون مدعوًّا تجمعهم رابطة العلم والأدب اجتماعًا لا يفرقه الاختلافات في الجنس فإن منهم العربي (وهم الأكثر بالطبع) والفارسي كالدكتور محمد مهدي خان صاحب مجلة (حكمت) والتركي كالدكتور جودت بك صاحب مجلة (اجتهاد) ولا الاختلاف في الوطن فإن منهم المصري والسوري وغير ذلك ولا الاختلاف في الدين فإن منهم المسلم والنصراني القبطي وغير القبطي واليهودي وهو فرج أفندي مراد المحامي محرر مجلة التهذيب الدينية الأدبية لطائفة القرابين. تم اجتماع القوم بعد العشاء الآخرة في الساعة السابعة مساء، وكانوا قد أقبلوا فرادى ومثنى وثبات. وطفقوا يتسامرون بألطف الكلام والبشر يتدفق من وجوههم سرورا بهذا الاحتفال الذي ألف بين الآلاف والأشكال، وصاحب الدعوة كان يقابل كل واحد بالحفاوة والبشر حتى كأن سروره به يرجح بسرور مجموعهم. وفي أثناء الساعة الثامنة دُعوا إلى حجرة المائدة فانتظموا حولها كعقد اللؤلؤ المنظوم، أو كمنطقة مؤلفة من النجوم، ولا بدع فهم نجوم الهداية إلى الآداب والعلوم، وقد أعجبوا بذوق صاحب الدعوة ورب الدار، فيما على المائدة من تنسيق الرياحين والأزهار، واختيار أنواع الفاكهة والثمار، مع حسن نظام الدار، وما يزينها من تألق الأنوار، فإنه جلب إليها صنوف الفاكهة السورية كالعنب الزيني والزعرور اللبناني وغير ذلك، علما منه بأن المحتفل لأجله ونحو نصف المدعوين وهم سوريون يحنون بذلك إلى ما ألفوا في سن الصبا، وأن سائر المدعوين يسرون منه بجدة الطريف، وما زال الإنسان يحن إلى غير المبذول المعروف. مكثوا نحو ساعة ونصف يمزجون أطايب الطعام بأطايب الكلام، ويجمعون بين أحاسن الفاكهة وأحاسن المفاكهة، ثم طافت القناني على الأكواب تترعها بالماء الغازي (الغزوزة) الممزوج بأحلى الشراب، فأكلوا هنيئا مريئا، وشربوا حلالا طيبا، وبعد الطعام قام صاحب الدعوة خطيبًا مُرحبا بالقوم ترحيبا، فألقى الخطبة التي نشرناها في هذا الجزء من المنار، وزاد عليها نحوها من عقائل الكلام ورقائق الأشعار. وههنا أقول: إن إسماعيل بك عاصم قد اعتاد ارتجال الخطب ولم يتعود تأليفها وحفظها ثم تلاوتها - كما يفعل كثير ممن يدعون الخطابة - فضلا عن كتابتها وتلاوتها في الورق. ولكنه في هذه المرة خالف عادته وكتب الخطبة التي نشرناها وطبعها ليوزعها على من يحضر الاحتفال ولكنه غلب عليه ما تعود فألقاها بالمعنى غالبا وزاد فيها ما فتح عليه ارتجالا، وكان مما زاده الثناء على هذا العاجز بأكثر مما في الخطبة فأخجلني ذلك جدًّا. قمت بعد إتمامه ما جاد به لأشكر له ولإخواني الحاضرين فضلهم وأقول شيئًا يناسب المقام فأوحى إليّ سلطان الخجل الذي كان يحكم فى وجداني حكمًّا استبداديًا لا طاقة لي بدفعه أن كل ما يمكن أن أقوله من الشكر أو الكلام في الإصلاح والعلم فهو يتضمن الثناء على نفسي. وارتج علي - أو كاد - حتى لم أجد من القول إلا الاعتذار عن الشكر بالعجز عنه إذ لم أوت جراءة الخطيب وطلاقته، وعن الكلام في المسائل العلمية والأدبية بأنني أفتح عيني فلا أرى أمامي إلا العالم النحرير، أو الكاتب البارع في التحرير، أو الفيلسوف المدقق، أو المؤرخ المحقق، فماذا عساني أفيد هؤلاء الفحول، وهم أعلم مني بكل ما يمكن أن أقول؟ قلت: ولو أنهم في مجتمع عظيم من سائر طبقات الناس لكان يتيسر لي أن أصرف بصري عنهم، وأخاطب بما يفتح على غيرهم. فقبلوا بكرمهم العذر وأعجبهم الاعتراف بالعجز، ولكنهم لتواضعهم عدوه من التواضع. ثم قام يعقوب أفندي صروف الدكتور في العلم والفلسفة ومحرر مجلة المقتطف المفيدة فألقى خطابا مفيدا افتتحه بقوله: إنه عند ما قدم السيد رشيد رضا إلى هذه الديار كتب إلى بعض أهل العلم (وذكر اسمه) كتابًا يقول فيه أنه قد ظعن إلى مصر عالم واسع الاطلاع قادر على البيان والإفصاح عن علمه، حر لا يخاف في إبداء ما يعتقد شيئا. فلما اطلعت على العدد الأول والثاني من المنار جزمت برأي قلته وكتبته بعد ذلك غير مرة وهو أن إخواننا المسلمين سينظرون في المستقبل إلى صاحب المنار وكذا إلى المرحوم المفتي (يعني الأستاذ الإمام) كنظر النصارى في أوروبا إلى لوثير وكلفن. ذلك أيها السادة؛ لأن الدين له أعظم تأثير في الأحوال الاجتماعية، فما من مدنية قامت في العالم إلا وكان أساسها الدين. إننا لا نبحث في أصول الأديان لأننا كلنا نعتقد أنها من الله فهي فوق البحث ولكن فهم الناس للدين هو الذي يصدهم عن المدنية أو يسوقهم إليها، فقد كان أهل أوربا يفهمون الدين المسيحي فهمًا حال بينهم وبين العلم والمدنية عدة قرون. وبعد أن قام فيهم لوثير وأنصاره بالإصلاح الديني تغير فهم الناس للدين تغيرًا كان مبدأً لمدنيتهم الحاضرة. وقد كان العرب من قبل يفهمون الإسلام فهمًا دفعهم إلى المدنية والعلوم، ثم انقلبت الحال وصار المسلمون محتاجين إلى إصلاح يجمع بين الدين والمدنية. إن فلانا هو الذي أخذ على نفسه القيام بهذا الإصلاح في مجلته (المنار) التي اجتمعنا للاحتفال بها في هذه الليلة إجابة لدعوة صديقنا الخطيب الفاضل والمحامي الشهير إسماعيل بك عاصم. إن صاحب المنار يقاوم البدع والخرافات ويشرح الدين شرحا يسهل سبيل المدنية ويهدم العقبات التي تعترض سالكيها ويبين كيفية سلوكها، فهو يهدم ويبني في وقت واحد. ثم ذكر أن هذا العمل يسر المسيحيين وغيرهم من سكان الشرق ويعدونه خدمة عامة لا خاصة بالمسلمين لأنهم يعلمون أن الشرق الأدنى لا يرتقي إلا إذا ارتقى المسلمون؛ إذ هم العنصر الأكبر فيه. وأثنى على هذا العاجز المحتفل لأجله وأشار إلى ما لقيه من المصاعب وصبره عليها، وعلى إسماعيل بك عاصم بما يليق بغيرته على العلم وحبه له وإكرامه لآله. هذه فحوى ما فاه به الدكتور الحكيم مُلخصًا، وقد كان موضع الإعجاب والاستحسان كما يليق بما فيه من الإبداع والإحسان، نطق بذلك كل لسان بعد ما نطقت بالتصفيق اليدان. ثم قام سيد أفندي محمد صاحب المجلة المدرسية (وناظر المدرسة التحضيرية الكبرى) وارتجل خطبة ضافية الذيول متدفقة السيول، مدح فيها العلم وأهله وحمد فيها المحتفِل وأطرى المحتفَل لأجله، ومما قاله أنه عرف صاحب المنار أول مقدمه لهذه الديار، وعلم أنه سينشئ صحيفة إصلاحية فيها، لذلك كان من المواظبين على قراءة المنار والاستفادة منه منذ ظهر إلى الآن. وأنه لم يكن قبل المنار يسمع صوتا ولا يرى كتابة تنشر في مقاومة البدع والخرافات. ثم ذكر ما لقي المنار من المقاومة والمعاداة وصبر صاحبه على ذلك حتى تم نوره وعم ظهوره وانتشر تعليمه وانتفع الناس به. وصرح بأن المقاومين له من العلماء وغيرهم قد انتفعوا هم أنفسهم به وصاروا يفكرون في حالهم ومآلهم وما ينبغي أن يكونوا عليه في هذا العصر، وقد بالغ في إطراء هذا العاجز وتحليته بالألقاب التي لا يستحقها إذ لم يكن يشير إليه إلا بكلمة (أستاذنا) وما يصله بها من النعوت العالية فجزاه الله عن حسن ظنه بأخيه خيرًا. وقد أثنى على المحتفل الكريم في فاتحة القول وختامه بل في كثير من أجزائه وأقسامه، وصفق له السامعون مرارا. ثم قام توفيق أفندي عزوز صاحب مجلة (المفتاح) خطيبًا وهو من كتاب وخطباء القبط، أصهار الرسول صلى الله عليه وسلم، فذكر أن مجلته قريبة من مجلة المنار في السن فهي في السنة التاسعة من عمرها، وأفاض في تفضيل المجلات على الجرائد وأثنى على المحتفل وهنأ المحتفل لأجله. وكان حسن بك حمادة صاحب مجلة (الأحكام الشرعية) قد أعد شيئا وكتبه ليجعله أصلا لخطبة يلقيها فضاق الوقت بإطالة الخطيبين الآخرين فمنعه كغيره عن الخطابة فأعطاني ما كان كتبه وهو بنصه: (لو مضت سنة الأدب بأن لا يهنأ الشخص بسار، إلا بعبارة تحيط بوصفه مسبوكة في قالب من البلاغة مساو لبلاغته، لوجب على حضرة الأخ الفاضل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر أن يقوم بتهنئة نفسه ويؤدي هذا الفرض عن هذا العاجز، ولكن الله سبحانه وتعالى يقبل شكر عباده على قصورهم عن أداء واجبه، وصاحب المنار خير من تخلق بخلق مولاه فأطلب إليه أن يتقبل تهنئة هذا الضعيف له على ثبات إرادته ومغالبته لما اعترضه من الصعاب في سبيل عمله الجليل الذي يؤديه للعالم الإسلامي بل العالم الإنساني. إذا قضى واجب الوطنية والتابعية علينا مرة بمشاطرة صاحب المنار الأغر السرور بهذا العيد الأدبي، فإن واجب الدين الذي وقف صاحب المنار نفسه لخدمته، وصرف مواهبه في الذب عن حوضه، يوجب علينا ذلك مرات كثيرة، وقد ضمنا من ورائها أدب أقمن

الماديون والإلهيون

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الماديون والإلهيون [1] فلسفة صحيحة ] وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [[*] محمد توفيق أفندي صدقي (تمهيد - غرور الماديين بمعلوماتهم - الجوهر الفرد - المكان - الزمان - قوى المادة - ما هو البرهان الصحيح؟ - المعجزات - الفلتات الطبيعية - مذهب داروين - القضاء والقدر - أبسط الأحياء - الفعل المنعكس في السلسلة الحيوانية - عمل المخ هو فعل منعكس متضاعف - الإنسان مضطر في صورة مختار - اختلاف أحوال المادة - الظلم - تبرئة الخالق منه. الإنسان مفتون بنفسه مغرور بعقله، لا يعرف من الأمور إلا ظاهرها فيظن أنه أدرك بواطنها، فيتيه إعجابًا وينأى بجانبه تمردًا واستكبارًا. عرف الماديون شيئًا من أسرار الوجود فوجدوا لذة وراحة عقلية ما كانوا يشعرون بها من قبل، وتوهموا أنهم فهموا هذا الكون وسبروا غوره وأمكنهم التعليل عن منشأِه وأصله بدون الاحتياج إلى شيء ليسلبهم تلك اللذة الفكرية التي حصلوا عليها. قام الدين يناديهم بالإذعان لعلة العلل ومسبب الأسباب، ووصفه لهم بما لم يمكنهم إدراكه ولا يقدرون على تصوره، فكبر عليهم ما دعاهم إليه. وعز عليهم ترك ما هم فيه، فأعرضوا عن الدين وأظهروا العداء له، وقالوا: ما لنا ولهذا الهذيان ونحن (وللطبيعة الحمد) قد وصلنا إلى درجة من العقل لا تتفق مع هذا البهتان الكبير. شرب بعض المقلدين لهم من حياض أفكارهم فثملوا بها، وفاتهم أن الدين الصحيح يذهب بمتبعيه إلى بساتين الحرية والراحة العقلية التي يمرح فيها المؤمن ويعلو على دوح التصورات الفكرية حتى يبلغ الملكوت الأعلى ويصل إلى معرفة واجب الوجود، فينزل إلى المادة وقد عرف علتها الحقيقية التي لا يعروها الوهم، ولا يدنوا منها الخطأ أو الشك. إن كان الماديون ينكرون وجود الله لأنهم لا يمكنهم أن يدركوا كنهه تعالى فأي شيء أدركوا؟ هل أدركوا المادة؟ أم هل أدركوا قوامها؟ أسمع صوتا من بعيد أظنه من بعض الغافلين يقول: نعم قد أدركوا كل شيء أما قرأت علومهم؟ أما سمعت بمكتشفاتهم؟ فأي شيء لم يدركوا؟ ادن مني يا هذا ولا تعجل علي فإني آتيك بالخبر اليقين. ومخبرك بحقيقة علمهم، ففكر معي تفكيرًا وتروَّ في الأمر طويلاً. خذ قطعة من أبسط الأشياء كالحجر مثلاً واسحقها، ثم خذ بين أصبعيك منها أصغر ذرة تقدر عليها، ثم سر في تقسيمها إلى أصغر منها بالعقل. فهل تقف عند حد أو لا تقف؟ إن قلت أنك لا تقف قلت: إذًا هذه الذرة مركبة من ذرات [2] لا عدد لها وليس لها حصر. فكيف ذلك وهي محصورة بين أصبعيك تقلبها كيف شئت؟ فهل يكون غير المتناهي متناهي وغير المحصور محصورًا؟ أي تناقض أصرح من هذا؟ وإن قلت أنك تقف عند حد سألتك: هل الذرة التي تقف عندها لها امتداد أم ليس لها امتداد؟ فإن كان لها امتداد فلم لم تتصور تقسيمها ولم تقف عندها؟ وإن لم يكن لها امتداد (وهو الصحيح) فهل يمكنك أن تدركها بعقلك أو تتصورها في فكرك؟ كلا، إذًا أنت لا تدرك شيئًا من مادة هذا الوجود الواقع تحت حسك، فكيف بواجب الوجود (الله تعالى) ولمَ تنكر وجوده، وقد قامت عليه الدلائل القاطعة كالتي بيناها في بعض مقالاتنا السابقة في المنار؟ تفكر ثانيًا في تلك الذرات التي لا امتداد لها، فهل يمكنك أن تتصور كيفية اجتماع بعض أجزائها ببعض حتى تتركب منها الأجسام الشاغلة للفراغ؟ إذا وضع ثلاث منها بعضًا بجانب بعض، فهل تثبت للوسطى منها جانبين أم لا؟ فإن أثبت ذلك لها كان ذلك نقضًا لقولك الأول أنها لا امتداد لها وأمكنك قسمتها. وإن لم تثبت لها الجوانب، فهل تتصور كيفية وجودها واتصال بعضها ببعض؟ كلا إنه لا يمكنك ولا يمكنني ذلك؛ إذًا لا يمكننا أن نتصور حقيقة الأجسام ولا الفراغ ولا المكان؛ لأن ما يقال في الأجسام يقال مثله في المكان، وما قيل في الذرات التي لا تنقسم (وهي الجواهر الفردة عند الفلاسفة والمتكلمين) يقال في النقط الهندسية عند الرياضيين. ثم تفكر ثالثًا في وجود هذه الذرات منذ الأزل على اعتقادك؛ مع قولك بحركاتها التي ليس لها أول، وخذ حركة منها لنتكلم عليها. أليس قبل هذه الحركة حركات لا عدد لها لأنها أزلية كما تقول؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف أمكن انقضاؤها جميعًا، وكيف جاز أن تأتي تلك الذرة بحركات لا عدد لها قبل كل حركة؟ أليس ذلك قولاً بأن ما لا يعد أمكن عده؟ وما لا يمكن الإتيان عليه قد أمكن الإتيان به؟ أول ليس هذا تناقضًا بينًا؟ ومثل الحركات الأزلية لحظات الزمان، فإنه يستحيل وجودها منذ الأزل، فهل يمكنك بعد ذلك أن تقول بأنك تفهم الأزل أو تفهم الزمان؟ إلى هنا قد تبين بأجلى برهان أن الماديّ لا يفهم كنه المادة ولا مكانها ولا زمانها. إنه كلما خرج من تناقض سقط في آخر. فهل يفهم شيئًا من خواص المادة وقواها؟ إن للمادة قوى كثيرة عرفنا بعضها كالكهربائية والمغناطيسية والجاذبية العامة بين الأرض والأجسام التي عليها وبين الأجرام الكونية بعضها مع بعض، أليست كل هذه ألفاظًا لا نعرف لها معنى حقيقيًّا؟ وما مثلنا في ذلك إلا كمثل الذي (فسر الماء بعد الجهد بالماء) . خذ مثلاً قوة الجاذبية التي بين الشمس وأحد السيارات كالأرض أو كزحل، فما هو هذا الشيء الذي به الجذب؟ هل هو مادة أو غير مادة؟ فإن كان مادة فكيف يحصل به الجذب وإن كان غير مادة فهل يمكننا تصوره؟ وكيف يحصل الجذب بين الحديد والمغناطيس؟ وما الجواب الشافي عن مثل هذه الأسئلة؟ فإذا كان الماديون لا يفهمون المادة ولا زمانها ولا مكانها ولا قواها؛ فأي شيء يفهمون أو يدركون؟ إنهم لا يعلمون إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الحقائق غافلون. وإذا لم يكن عدم إدراك الشيء عقبة في سبيل التسليم بوجوده، فلماذا ينكرون وجود الله تعالى؟ وأي فرق بين المادي والإلهي في الحرية العقلية؟ الإلهي يعتقد بوجود أشياء لا يدرك عقله كنهها؛ لأنه قام عنده عليها الدليل. وكذلك المادي يعتقد ولا يمكنه أن يدرك كنه ما يعتقد، فهل يكون أحدهما أكثر تمتعًا بالحرية العقلية من الآخر؟ كلا، فبماذا يفتخرون؟ إن عدم إدراك الشيء ليس دليلاً صحيحًا في نظر العقل على عدم وجوده، وإلا لأمكننا أن نقول: إننا لا ندرك شيئًا من كنه هذا العالم المحسوس، فهو غير موجود. وحينئذ نقع في السفسطة. ومن بلغت به درجة المكابرة إلى هذا الحد، فلا يصح خطابه ولا التكلم معه لأنه ليس بعاقل. البرهان الصحيح على وجود الشيء أو عدمه (إن لم يكن محسوسًا) هو ما بني بناء منطقيًّا صحيحًا، تنتهي مقدماته إلى البديهيات العقلية. وأشهر هذه البديهيات وأكثرها ورودًا في الدلائل: أن الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان، والنقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، مثال الضدين: البياض والسواد، ومثال النقيضين: البياض وعدمه، أو النفي والإثبات في كل شيء. فكل ما أدى القول به إلى ما يخالف البديهيات كان باطلاً واستحال وجوده، وكل ما لم يؤد إلى ذلك كان جائزًا وأمكن وجوده، وإن لم يكن للعقل إدراك كنهه ومعرفة كيفية وجوده، ويجب الإيمان به إن قام عليه الدليل وإلا بقي في حيز الإمكان. هذه المسألة هي أصل الأصول ومرجع البشر قاطبة في جميع علومهم الصحيحة، ومن لم يفهمها ولم يمكنه أن يميز بين ما يصادم البداهة وبين ما لا يمكن إدراك كنهه؛ فهو غير أهل لأن يتلقى شيئًا من العلوم العقلية. ولا يمكنه أن يعرف الحق من الباطل ولا أن يفرق بين الخطأ والصواب. وإذا كان عدم أدرك كنه الشيء ليس موجبًا لإنكاره كما قررنا، فمن باب أولى تكون مخالفة الشيء لما اعتدناه لا تقتضي عدم تصديقه. فمن أنكر خوارق العادات (المعجزات) التي يدعيها أهل الملل لأنبيائهم، وجزم بعدم إمكان وقوعها لذلك السبب (أي غرابتها واستبعادها) فهو نحيف العقل جاهل؛ إذ ليس كل غريب مستحيلاً وإلا لما أمكن للبشر إنطاق الجماد (كما في الفونوغراف) ونقل الكلام إلى مسافات بعيدة كما في (التليفون) والسير بسرعة عجيبة كما في الآلات البخارية والكهربائية إلى غير ذلك من الاختراعات الغريبة التي ما كان يحلم بها الأولون، ولو أُخبروا بها لكذبها أكثرهم كما يكذب المعجزات بعض أهل هذا الجيل الحاضر الذين فتنوا بمعلوماتهم التي هي بالنسبة لما خفي عنهم ليست إلا جهالات مركبة. ولو عمل الإنسان بهذا المبدأ السخيف، وهو الجزم باستحالة الشيء لعدم اعتياده له، لما تقدم خطوة إلى الأمام في سبيل الاختراع والاكتشاف. أما إذا كان إنكار المعجزات مبنيًّا على ادعائهم استحالة خرق نواميس الطبيعة، فهي دعوى لا يمكن إثباتها، ويوجد في عالم الحيوان والنبات من الشواذ ما يكذبها، ولا يمكن تعليلها ولا تبين سبب مخالفتها للمعهود، كما في الأجنة التي تولد مختلطة بعضها ببعض أو ناقصة أو زائدة عضوًا أو جزءا منه. فلمَ لم تجر هذه الأشياء على ما اعتدناه؟ على أننا لا نعرف جميع نواميس الكون حتى نجزم بأن كل ما خالف ما علمناه منها يكون خارقًا لها، فلم لا تكون تلك المعجزات تابعة لناموس لا نعلمه إلى الآن؟ ومتى علمناه أمكننا تفسيرها تفسيرًا علميًّا صحيحًا. ألم تر إلى العلماء قبل أن جاء داروين بنظرياته في ارتقاء الأنواع بعضها عن بعض، كيف كانوا لا يفهمون معنى للأعضاء الأثرية، ولا يدركون سببًا لظهور بعض الأشياء في أجنة الحيوانات ثم انمحائها قبل أن تقوم بأية وظيفة أو تؤدي أي عمل؛ كالأسنان التي تظهر في طور التكوين في الفك الأعلى لأجنة الحيتان والحيوانات المجترة ولا عمل لها إذ ذاك، ثم تزول ولا يبقى لها أثر، حتى ظن بعض الناس أن ظهورها هذا عبث، ولو لم تشاهد بالحس لأنكر المكابرون وجودها. فليتأدب الإنسان وليعلم أنه لم يؤت من العلم إلا قليلاً، ولا يغترن بما علم من ظواهر الأمور. الإنسان طائش، إذا جهل حكمة شيء أسرع بتكذيبه وإنكاره. ولكن ذلك لا يغنيه من الحق فتيلاً. جهل حكمة الخالق لهذا الوجود وكنهه فتسرع في إنكار وجوده، فهل أراحه ذلك مما أحاط به من المعضلات التي يناجيه بها عقله ويطالبه بحلها؟ أنت مسكين أيها الإنسان وبعقلك حيران. نظر المادي نطرة سطحية في الكون، ودعاه للإيمان باليوم الآخر وبقضاء الله وقدره، فقال: لو آمنت بذلك لآمنت بظلم مبين، فأنا أنكره كله لأستريح من هذا العذاب الأليم، والتجأ إلى جحر التكذيب فلحقه فيه ما فر منه، ولكي تفهم ذلك يجب أن تصغى لما سأتلو عليك: إن أبسط الأحياء في هذا العالم ما كان ذا خلية واحدة كالحيوان المسمى (أميبا) هذا الحيوان هو قطعة صغيرة من مادة حية تسمى البروتوبلاسم [3] ولها من خواص الحياة ما هو معلوم للفسيولوجيين، فإذا نبهت بأي منبه تحركت. إذا ارتقينا إلى ما فوق هذا الحيوان في الرتبة، وجدنا هذه الخاصية - وهي إجابة التنبيه بالتحرك - أخذت في التضاعف في الحيوانات المركبة، وامتاز بعض أجزائها (وهي أيضًا عبارة عن خليات بروتوبلاسمية) بالقيام بها دون سواها. فبعد أن كانت الأميبا هي التي تقابل بنفسها التنبيه فتتحرك بجملتها، صار في الحيوانات الراقية بعض الأجزاء مختصًّا بمقابلة التنبيه، فتجيب عنه أجزاء أخرى بالحركة. أما الأجزاء الأولى فهي الأعصاب الحساسة التي تحمل التنبيه إلى المراكز العصبية كالتي في النخاع الشوكي، فيرتد فيها إلى أعصاب أخرى تسمى الأعصاب المحركة حتى يصل إلى العضلات فيؤثر فيها تأثيرًا مخصوصًا يظهر لنا بانقباضها. وهذا هو ما يسمى بالفعل

التدوين في الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التدوين في الإسلام سادتي الكرام: حقًّا إني حري بالفخر، حقيق بتقديم واجب الشكر على أن تنازلتم بقبولي هذه المرة خطيبًا في ناديكم الجامع لنوابغ الأمة ونخبة أهل الفضل والعلم منها، وإني أعترف بأن موقفي بينكم موقف صعب لا يجرؤ على الوقوف فيه ضعيف مثلي ليس في مرتبتكم السامية في العلم والاطلاع، فألتمس منكم لهذا السبب المعذرة إذا تلعثم لساني واضطرب جناني، والكريم يعذر على كل حال. ولقد اخترت موضوعًا لبحثي هذه المرة، أظنه لا يخلو من فائدة تاريخية مع ما أعتقد في نفسي من العجز عن إعطاء مثل هذا الموضوع أو البحث حقه من البيان والتدقيق. لكن قاعدة (ما لا يدرك كله لا يترك كله) ربما سمحت لي بعرض معلوماتي في هذا الشأن على مسامع سادتي الحاضرين، مهما كانت قيمتها هينة في نظركم ونظر التاريخ. الموضوع هو التدوين في الإسلام أو مبدأ الكتابة، وتقييد العلم في الصحف عند المسلمين. إن الذي دعاني إلى اختيار هذا البحث على بعده عن أذهان كثير منا لهذا العهد هو تصدي بعض الباحثين لتطريق الوهن والتجريح إلى العلوم التي وصلت إلينا من أسلافنا في الصدر الأول: كالحديث وآداب اللغة العربية والتاريخ. فقد زعموا أن المسلمين لم يدونوا هذه العلوم إلا في القرنين الثاني والثالث، وأن الأخبار التي تتلقى بالرواية مدة قرنين ثم تكتب بعد ذلك الأمد الطويل، قلما يوثق بسلامتها من التحريف والتبديل، وذلك قياس لأخبار العرب على غيرها من أخبار الأمم الأخرى التي لم تكتب صحيحة في حينها، وإنما كتبت بعد مرور زمن طويل أو قصير عليها مشوهة بآفة التبديل والتحريف، فسقط اعتبارها على ظنهم في التاريخ، وهذا الزعم بالنسبة إلينا مردود من وجهين: (الوجه الأول) ما عرف عن العرب من إتقان الحفظ والرواية، وكونهم مطبوعين على ذلك. (الوجه الثاني) ثبوت التدوين وكتابة الأخبار في الإسلام من أوائل القرن الأول؛ أي من عهد صاحب الرسالة وأبي بكر الصديق، وثبوت عناية العرب المسلمين بالكتب أو العلوم المدونة منذ ذلك القرن. أما الوجه الأول: فبيانه أن قوى الإنسان ومشاعره خاضعة كلها لحكم الفطرة؛ إذ المشاهد أن الإنسان إذا فقد أداة من قواه العاقلة أو مشاعره قويت فيه أداة أخرى. فضعيف الذاكرة يكون قوي التفكر بحكم الحاجة إلى استحضار صور المعلومات التي تغيب عن حفظه.. وفاقد البصر يكون قوي السمع والحفظ كذلك. والعرب لما كانوا أمة أمية قليلي العناية بالكتابة التي هي أداة من أدوات الحضارة، استعاضوا عنها لاستيفاء أخبارهم وتداولها بقوة الحفظ، فمرنوا على هذه القوة حتى صارت لكثير منهم ملكة لا يحتاج صاحبها إلى تكلف عناء في حفظ ما يرد على سمعه من الأخبار والأشعار، فقامت عندهم مقام الكتابة وقيد الأخبار بالصحف؛ لذلك كانت أخبار العرب وأشعارهم التي وصلت إلينا إلى هذا اليوم، إنما اتصلت بالمسلمين بالرواية؛ ثم قيدها هؤلاء بالكتب في العصر الأول وما بعده. وكلكم تعلمون أيها السادة مبلغ قوة الحفظ عند العرب؛ بما تقرأونه من أخبار حماد الراوية الذي كان ينشد عدة قصائد على قافية واحدة لعدة شعراء، وكذا تقرؤون أخبار غيره التي من هذا القبيل، وقد كان عبد الله بن عباس يحفظ القصيدة الطويلة بسماعها مرة واحدة، وها أنا ذا أورد لكم خبرًا من أخباره في الحفظ يستدعي إعجابكم بذلك الرجل الجليل الذي كان يستوعب ذهنه من شرائع الإسلام وأخبار العرب وغيرهم ما لا تستوعبه مكتبة من المكتبات الضخام. روى هذا الخبر صاحب الأغاني بسنده، قال: بينما ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه؛ إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين أو ممصرين حتى دخل وجلس، فاستنشده ابن عباس قصيدة: أمن آل نعم أنت غاد فمبكر ... غداة غد أم رائح فمهجر حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه نافع بن الأزرق، فقال: الله يا ابن عباس إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقصى البلاد؛ نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل ويأتيك مترف من مترفي قريش فينشدك: رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت ... فيخزى وإما بالعشي فيخسر فقال له ابن عباس: ما هكذا قال، وإنما قال: رأت رجلاً إما الشمس عارضت ... فيضحي وإما بالعشي فيخصر فقال: ما أراك إلا قد كنت قد حفظت البيت. قال: أجل، وإن شئت أنشدك القصيدة كلها. قال: فإني أشاء، فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها. فانظروا إلى هذا الذكاء العظيم الذي اختص به أولئك القوم، حتى لقد بلغ من ثقتهم بقوة الحفظ والرواية أن كانوا لا يثقون بخبر مكتوب إلا إذا كان معززًا بالسند والرواية، ولما أخذ العلماء بتدوين الأخبار النبوية وأخبار الصحابة ثم تاريخ الخلفاء، دونوا هذه الأخبار مدعومة بالرواية، ولم يكتفوا بقيدها في الصحف مجردة عن الأسانيد؛ خوف دخول التحريف عليها واطمئنانًا للرواية المعروفة السند المستوفية لشروط الصحة على الترتيب المعروف عند المحدثين إلى الآن. وفي اعتقادي أن الذي ذهب بالباحثين إلى الظن بعدم تدوين الأخبار إلا بعد القرن الثاني هو تقيد المؤلفين في ذلك العصر بنقل الأخبار بالرواية، مع فقد ما دوِّن قبل ذلك لفقده لحسن التنسيق والجمع وشروط الصحة عند المؤلفين لا سيما من جهة الترتيب والتخصيص الذي يروق أهل العصر الثاني، ويناسب حالة الرقي في الحضارة كما سنتكلم عليه بعد. هذا بيان الوجه الأول. وأما الوجه الثاني وهو ثبوت التدوين وكتابة الأخبار في الإسلام في أوائل القرن الأول، فالأدلة عليه كثيرة وتشتتها في ثنايا الكتب وتفاريق السطور لا يمنعنا أن نجتزئ منها بالقليل المقنع الذي وسعنا جمعه. ولأقدم بين يدي ذلك مقدمة قصيرة فأقول: إذا قيل: إن العرب أمة أمية، فليس هذا القول على إطلاقه بل ربما أطلق هذا الوصف على عرب البادية إطلاقًا أعم من إطلاقه على غيرهم من سكان المدن وأرباب الدول البائدة؛ كسكان اليمن ومدن نجد والحجاز والعراق والجزيرة وأطراف الشام الذين عرفت لهم دول ذات حضارة ومجد كالتبابعة في اليمن، والمناذرة في العراق، والحوارث في أطراف الشام الذين منهم ملوك تدْمُر في شرقي سوريا الذين تنسب إليهم الزباء (زنوبيا) وزوجها أذينة (أوذينوس) ومنهم ملوك غسان في جنوب سوريا وتاريخهم مشهور معروف. فهؤلاء الشعوب لا يجوز أن يطلق عليهم وصف الأمية بالنسبة لحالة كل عصر كانوا فيه، وإنما غموض تاريخهم وطموس آثارهم أضاف تاريخهم إلى التاريخ القديم، فكان مجهول الحقيقة إلا قليلاً مما وقف عليه الباحثون من الآثار الكتابية للحميريين في اليمن، والكتابات النبطية في شمال الحجاز، وسيكشف دأبهم على البحث وتتبع الآثار أكثر من ذلك. وحسبكم شاهدًا على أن الأمية لا يجوز إطلاقها على كل العرب ما كان موجودًا من كتب أهل الحيرة إلى أوائل القرن الثالث الهجري؛ بدليل ما قاله هشام ابن محمد بن السائب الكلبي في كتاب الأنساب، وهو أني كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وأنساب آل نصر بن ربيعة، ومبالغ أعمار من ولي منه لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة. أما عرب الحجاز، فالمعروف عن الكتابة عند سكان المدن منهم قبيل البعثة أنها كانت موجودة ولو مع الندرة، يدلك عليه كتابة المعلقات السبع التي كانت على الكعبة، والصحيفة التي تعاقدت فيها قريش على رد الحقوق وإنصاف المظلوم وعلقوها على الكعبة، والمعروف أنهم كانوا يكتبون العربية تارة بالخط النبطي وتارة بالخط الحيري الذي عرف بعد ذلك بالكوفي وتارة بالخط العبري، وممن عرف منهم بكتابة هذا الخط ورقة بن نوفل ابن عم خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ولما جاء الإسلام كان النبي عليه السلام يحض على تعلم الكتابة وتعلم اللغات الأخرى، فشاعت الكتابة بين الصحابة وأبناء الصحابة، وبها ضبط الوحي وحفظ القرآن، فكانت كلما نزلت آية كتبها الكاتبون في الحال، ومن هؤلاء الكتاب عثمان ابن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن سعيد والعلاء الحضرمي وحنظلة بن الربيع وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وعبد الله بن الأرقم الزهري، وهؤلاء كتاب الوحي والرسائل، كتبوا للنبي عليه السلام، وأما من عداهم من كتاب الصحابة فكثيرون منهم: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم. ومن أبناء الصحابة عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو بن العاص (وهو صحابي) وعبد الله بن الحارث بن هشام وغيرهم. إذا علمتم مما تقدم أن الكتابة كانت شائعة على عهد النبي عليه السلام بين المهاجرين والأنصار، وأن أول ما كتب بها هو القرآن الكريم، وكانوا يكتبونه على الرقاع والأضلاع وسعف النخل والحجارة الرقاق البيض، ثم جمعه أبو بكر رضي الله عنه ودونه في الصحف على ما هو معروف مشهور. أما الحديث وفيه تاريخ الصدر الأول، وهو الذي عليه مدار بحثنا الآن، فإنه كان يكتب كذلك على عهد النبي عليه السلام على نحو ما كانوا يكتبون عليه القرآن وقد رخص لهم النبي بكتابته كما أمرهم بكتابة العلم مطلقًا. فقد أخرج ابن عبد البر في جامع بيان العلم بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قيدوا العلم بالكتاب) وروى بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، أكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم قلت: في الرضا والغضب؟ قال نعم، فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقًّا. وروى بسنده عن أبي هريرة قال: لما فتحت مكة، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطب فقام رجل من اليمن يقال له: أبو شاة، فقال: يار سول الله اكتبوا لي. فقال رسول الله: (اكتبوا لأبي شاة) يعني الخطبة وروى ابن عبد البر أن رسول الله كتب كتاب الصدقات والديات والفرائض والسنن لعمرو بن حزم وغيره، وأخرج عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول: لم يكن أحد من أصحاب محمد أكثر مني حديثًا إلا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كتب ولم أكتب. وروي عن عبد الله بن عمرو قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء تسمعه ورسول الله يتكلم في الرضا والغضب؟ فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله فأومأ بأصبعه إلى فيه، وقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) . وأخرج الذهبي في تذكرة الحفاظ أن أبا بكر كتب أكثر من أربعمائة حديث، وفي تنوير الحوالك على موطأ مالك وغيره من كتب الحديث: أن عمر حاول مرارًا أن يكتب السنن ثم عدل؛ خوفًا من انكباب الناس على كتب السنن مع وجود كتاب الله. وأخرج ابن عبد البر عن سعيد بن جبير أنه كان يكون مع ابن عباس، فيسمع منه الحديث فيكتبه في واسطة الرحل، فإذا نزل نسخه، وأخرج عن معنٍ قال: أخرج إليَّ عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتابًا وحلف أنه بخط أبيه بيده. هذه الأخبار الصحيحة وما ماثلها تدلنا على أن الحديث كتب إن لم يكن كله فجُلُّه على عهد الرسول وأصحابه الكرام، والحديث يشتمل أكثر تاريخ الخلفاء كما تعلمون، وكتب فن النحو الذي أملاه علي بن أبي طالب على أبي الأسود الدؤلي. وكتب عبد الله بن عمرو بن العاص كتابًا في الأحداث وكتابًا فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعهما منه شفي بن مانع الأصبحي. فقد نقل المقريزي من رواية أبي سعيد بن يونس صاحب تاريخ مصر عن حياة بن شريح قال: دخلت على الحسين بن شفي بن ما

إصلاح الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح الأزهر يرى أصحاب العقول الكبيرة من مصالح الأمم ما لا يراه غيرهم من العقلاء إلا بعد زمن طويل من دعوتهم إليه، فقد رأى الأستاذ الإمام في أواخر مدة طلبه للعلم من حاجة الأزهر إلى الإصلاح ما لم يكن يراه غيره من قومه، وكان يدعو إلى ذلك في كل وقت بما تقتضيه حاله، حتى كان في أول ولاية العباس ما كان من سعيه لديه في الإصلاح المعروف وكان من قواعد الإصلاح المتبعة عند الأستاذ الإمام؛ أن يكون إصلاح الأزهر بشيوخه وأن لا يكون للحكومة سلطان عليه في ذلك، حتى قال لي غير مرة: إنني ما دمت في الأزهر لا أدع سبيلاً لتداخل الحكومة فيه. وكان للأمير رأي في الأزهر، ذكره في خطابه الذي ألقاه على العلماء يوم خلع على الشيخ عبد الرحمن الشربيني خلعة مشيخة الجامع، وهو أن يبقى على حاله وأن لا يكون للحكومة شأن فيه إلا حفظ النظام، وتستعيض عن تربيته وتعليمه لقضاة الشرع بإنشاء مدرسة خاصة يتخرجون فيها. وبعد أن أنشئت مدرسة القضاء الشرعي على أحسن وضع ممكن بدا للأمير في إصلاح الأزهر، فأمر بتأليف لجنة رئيسها ناظر الحقانية ومن أعضائها مدير الأوقاف ورئيس الديوان الخديوي؛ للنظر في طرق الإصلاح ووضع تقرير فيه. وقد بلغنا أن هذه اللجنة تستمد من تقرير ملخص من تقريرين للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، قدم أحدهما إلى المعية، وموضوعه إصلاح التعليم في الأزهر، والآخر إلى ديوان الأوقاف وموضوعه زيادة المرتبات الشهرية للعلماء على طريقة تساعد الإصلاح. وقد شاع أن أساس الإصلاح الجديد هو أن يكون للأزهر مجلس أعلى فوق مجلس إدارته من أعضائه رئيس الديوان الخديوي ومدير الأوقاف، وعضو من أعضاء مجلس شورى القوانين، وعضوان من المشتغلين بالتعليم بالمعارف. وباقي أعضائه شيخ الأزهر وهو الرئيس والمفتي وأحد أعضاء مجلس إدارته وأحد مشايخ الأروقة فيه، وهذان يختارهما الأمير. ومن الإصلاح الجديد أن يكون لشيخ الأزهر وكيل من حقوقه أن يقوم مقام شيخ الأزهر عند غيبته في كل شيء، وقد اضطرب شيوخ الأزهر لهذا النبأ، وطفقوا يكتبون عرائض الشكوى، وربما استقال شيخ الجامع.

الأحزاب في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأحزاب في مصر كان يطرق مسامعنا في المجالس، وتبصر أعيننا في الجرائد كلمة (الحزب الوطني) ولا نجد لها مدلولاً، وما زالت الجرائد الإنكليزية تقول: إن في مصر حزبًا وطنيًّا سياسيًّا، حتى صار فيها عدة أحزاب، وربما أخذت هذه الجرائد ذلك من الحركة الوطنية التي قامت في وجه الاحتلال في أوائل ولاية أمير البلاد لهذا العهد؛ إذ كان متحمس بتلك الحركة يمدح بالوطنية، والمنكر لشيء منها أو المتقاعس عن مشاركة ذويها يزن بالميل إلى الاحتلال، ثم صار يوصف أهلها بالحزب الوطني. ويظن بعض المفكرين أن للإنكليز غرضًا في وجود الأحزاب بمصر لا سيما النوع الذي يعرف عندهم بالمتطرف، فكانت كتابة جرائدهم إغراء بذلك ودعًّا إليه. ومن الناس من يقول: إن تسمية أولئك الذين قاموا في وجه الاحتلال حزبًا خطأ عرفي أو لغوي؛ إذ يفهم منه أن في البلاد حزبًا آخر أو أحزابًا آخرى يناظر ويعارض بعضها بعضًا، ولم يكن في البلاد شيء من ذلك وإنما كان السواد الأعظم مغبوطًا بما ظهر به أولئك الذين يكتبون في مقاومة المحتلين، ويستميلون فرنسا لمساعدتها عليهم، وما كان يوجد لهم معارض، وكان يوجد أفراد يعتقدون أن ما قاموا به عقيم أو ضار لما أفادهم النظر في العواقب، ولكن هؤلاء الأفراد لم يكونوا يعارضون ولا يقاومون، وغاية ما كان يظهر من الواحد منهم أن يكاشف صديقه من الآخرين برأيه، والصواب أن مثل أولئك يصح أن يطلق عليهم لفظ (حزب) لغة، فإن الحزب كما في المعاجم جماعة الناس والصنف والطائفة منهم، وقال الراغب: الحزب: جماعة فيها غلظ. وفي لسان العرب (وحزب الرجل: أصحابه وجنده الذين على رأيه) ثم قال: (وكل قوم تشاكلت قلوبهم وأعمالهم فهم أحزاب وإن لم يلق بعضهم بعضًا) . فأنت ترى أن لتسمية أولئك القوم حزبًا وجهًا في اللغة وجيها، ولكن للأحزاب في أوروبا معنى أخص؛ وهو عبارة عن ارتباط المتشاكلين في القلوب أي الشعور بالحاجة إلى مصلحة عامة وفي الأعمال لهذه المصلحة بقانون معروف، ولم يوجد مثل هذا في مصر إلا في هذا العام، فقد تشكل فيه حزب الأمة والحزب الحر وحزب الإصلاح الدستوري والحزب الوطني، وسمعنا أيضًا نغمة حزب آخر سمي الحزب الجمهوري؛ ولذلك سمي هذا العام بعام الأحزاب، وقال الشيخ عبد المحسن في قصيدة يذكر فيها مرضه وشيئًا من العبرة بحال الزمان وأهله: وطوارق الأسقام ما برحت ... تنتاب كالأحزاب في مصر أما موضوع هذه الأحزاب فهو - بحسب ما صرح به زعماؤها - واحد، المقصد منه خدمة البلاد بالوسائل الممكنة، حتى قيل إن الخلاف بينهم في الألفاظ والأشخاص فقط. والصواب أن لكل حزب منها قطبًا يدور عليه: وهو مؤسس الحزب ورئيسه الموثوق به عند المؤسسين المتعارفين المستعذبين لمشرب الحزب إلا حزب الأمة، فإن رئيسه هو ليس المؤسس له الذي تدور عليه سياسته، وإنما هو منتخب انتخابًا حقيقيًّا لرياسة شركة الجريدة قبل أن يسمى جمهور المؤسسين أنفسهم حزبًا سياسيًّا. ولهذا يطمع سائر الأحزاب في سقوط هذا الحزب؛ لأن الشرق لم يتعود الأعمال المشتركة، وإنما قوام أموره بالأفراد؛ ولأن أفراده ليسوا متفقين على مقاصده ولا متعاضدين فيه، بل منهم من يتربص به الدوائر ويساعد غيره عليه؛ ولأنه ليس له سلطة يأوي إليها ويعتمد على مساعدتها وإمدادها، والسلطة في هذه البلاد سلطتان: سلطة الأمير الرسمية في الأحكام الحقيقية في نفوس الجمهور ميلاً، وسلطة الاحتلال الحقيقية في الأحكام والأعمال. وهذا الحزب يريد أن يكون وسطًا بين هاتين السلطتين باسم الأمة، فلا هو مع الإنكليز كما أشيع ولا مع الأمير فيما يحب الأمير ويرى في السياسة، وإن كان مخلصًا كغيره للخديوية نفسها. هذا هو مبدأ العاملين فيه الآن، فهو لا سند له إلا من ذاته، فإذا نجح كما نحب فذلك من دلائل ارتقاء الأمة في الأمور الاجتماعية، وإذا هو سقط فسقوطه برهان على أن الأمة لم تعدُ طور الطفولية في حياتها الاجتماعية. والحزب الحر مؤسسه محمد وحيد بك وهو رئيسه الداعي إليه والمدافع عنه بمساعدة صديقه محمد نشأت بك الذي كان من حاشية الأمير (معيته) وهو كاتب مجيد بالفرنسية، وليس لهذا الحزب جريدة خاصة كغيره وإنما يكتب عنه محمد بك في المقطم ومحمد نشأت بك في بعض الجرائد الفرنسية كالبروغريه، ولم يدخل فيه أحد من أكابر البلاد، وأفراده أقل من أفراد سائر الأحزاب، وهو يمتاز بكثرة الحث على مسالمة المحتلين والثناء على ما يستحسن من أعمالهم في البلاد، فهجيراه هذه الكلمة (سلامة المصريين في مسالمة المحتلين) فهو لا يخالف غيره من الأحزاب إلا في هذا، وهو خلاف قولي؛ إذ لا يقول حزب من الأحزاب بوجوب مقاومة المحتلين ومعاداتهم بالعمل، وإنما قصاراهم أن يبالغوا في انتقاد ما يرونه منتقدًا من أعمالهم، ويكبروه ويسكتوا عن الثناء على ما يرونه حسنًا نافعًا أو يصغروه. فذاك يمدح ولا يذم ولا ينتقد، وهم يذمون وينتقدون، وقلما يمدحون ولا خلاف في سائر المطالب الأساسية. وأما حزب الإصلاح الدستوري فمؤسسه الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد وهو رئيسه، وقد اختار له من الأعضاء من يجمعهم الرأي وترشدهم الرؤية، ويثبتهم الركن الركين الذي يأوون إليه، فقانونه أوضح قوانين الأحزاب، ورجاله أدهى رجالهم، والشيخ علي نفسه أبعد المشتغلين بالسياسة المصرية غورًا وأشدهم حزمًا وأحذقهم في الدخول في الأمر والخروج منه. الفرق الحقيقي بين هذا الحزب وغيره من الأحزاب التي تشاركه في الخدمة العامة للأمة أنه مؤيد لسياسة الأمير، لا يتحول عنها في حال من الأحوال، يتهم إذا اتهمت، وينجد إذا أنجدت، ويوالي من والت، ويعادي من عادت، فهو حزب طبيعي متين والرجاء في ثباته وبقائه أقوى من الرجاء في سائر الأحزاب بحسب ما عليه مصر من الحالة الاجتماعية والسياسية الآن، ولا دليل على تغيرها في زمن قريب. وما صرح به هذا الحزب في قانونه من كون طلب المجلس النيابي أصلاً من أصوله، لا ينافي تأييده لسياسة الأمير صاحب الحكم الشخصي، فإن طلب المجلس النيابي مرضي للأمير أيده الله بتوفيقه، كما علم من حديثه المشهور مع مكاتب جريدة (الطان) الفرنسية، بل لا يبعد أن يكون هو أول من فكر بوجوب طلب الأمة له كما يقول بعض العقلاء. وأما الحزب الوطني فمؤسسه الآن مصطفى كامل باشا صاحب جريدة اللواء، وهو رئيسه، وهو جزء من الحزب الوطني الذي كان موجودًا بالقوة أو بالفعل من قبل على ما بيناه في صدر هذا المقال، والقسم الآخر من ذلك الحزب هو حزب الإصلاح الدستوري. والفرق بين هذين الحزبين على ما أرى وهو رأي يوافقني عليه كثير من العقلاء هو أن حزب الإصلاح الدستوري يجمعه الرأي وبه يعمل، والحزب الوطني يجمعه الإحساس والشعور وبه يعمل، وإن شخص صاحب جريدة المؤيد ليس ركنًا من أركان الحزب الأول وإن كان قطبه وأقدر العاملين فيه ولكن شخص صاحب جريدة اللواء ركن من أركان الحزب الآخر مقصود بالذات منه، ولذلك اتفقوا على أن يكون رئيس الحزب ما دام حيًّا بلا شرط ولا قيد. ويظهر لنا أن المعجبين بالحزب الوطني أكثر عددًا من المعجبين بغيره من الأحزاب؛ لأن منهم فيما يقال أكثر تلاميذ المدارس والخائضين في السياسة من العامة وذلك معقول؛ لأن هؤلاء الذين يتبعون داعي الشعور ويخضعون لسلطان الوجدان ويحبون الغلو أكثر ممن عداهم. وقد سلكت جريدة اللواء طريقة تحريك الوجدان وتهييج الشعور الوطني بعناية عظيمة تناسب الاستعداد الغالب على الشعب. ويظن أن غرض صاحبها من ذلك ومن نشر الدعوة إلى حزبه في الأرياف؛ هو أن يستميل رأي السواد الأعظم إلى نفسه، حتى يكون زعيمًا حقيقيًّا إذا دعا إلى شيء تؤيده الأمة بالمال والحال ... وادعاؤه هذه الزعامة من قبل دليل على استعداده لها، فإننا قد تعودنا أن نرى كل رأي للواء معزوًّا إلى الأمة برمتها، حتى مثل العفو أو عدم مقاصة ذلك المجرم القاتل في السودان. وقد أمدته في استعداده هذا الجرائد الإنكليزية في أثناء حادثة العقبة؛ إذ كانت تصفه بالزعيم المهيج وغرضها من ذلك معلوم فيالله من دهاء الإنكليز. هذا، وإن في كل حزب من الأحزاب من الرجال المحبين للبلاد والمخلصين في خدمتها بحسب اعتقادهم من يعتمد عليهم في القيام بشؤونها، وقد جهل بعض الحقيقة من قال: إن كل حزب قد أنشئ لتأييد جريدة، ومدير تلك الجريدة هو منشئه ومسخره لجريدته، ومن أنه لا فرق بين هذه الأحزاب في المقصد. ونرجو أن يكون إنشاء الأحزاب في مصر آية من آيات الأخذ بالارتقاء الاجتماعي، وأن يكون تعددها سببًا لطول حياتها؛ لما تقتضيه المباراة والمزاحمة من تمسك كل حزب بما قام به، ونسأله تعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير والمصلحة للبلاد.

أوربا والإسلام

الكاتب: محمد الأصرم

_ أوربا والإسلام ومقابلة بين الإسلام والمسيحية في المدنية لوزير فرنسي كتب السيد محمد الأصرم من فضلاء التونسيين والموسيو دوديانوس المراقب المدني الفرنسي في بلده سوسه من أعمال تونس بالاشتراك تقارير في الأحوال التونسية، وقدم هذا التقرير إلى مؤتمر الاستعمار الذي اجتمع في مرسيليا سنة 1906 الموسيو ميلي الذي كان في منصب الوزير المقيم لفرنسا بتونس، وجعل له مقدمة بقلمه تلاها في المؤتمر. وقد ترجمها في هذه الأيام بعض التونسيين، ونشرها في جريدة الزهرة، فرأينا أن ننشر الترجمة في المنار بعد تصحيحٍ ما لعباراتها وهي: هذا التقرير على صغر حجمه يبين مسألة من أكبر المسائل الحالية وهي العلاقة بين أوروبا والإسلام. كانت هيئة الاجتماع المسيحية في خلال القرن السابع للمسيح على حالة محزنة، تتنازعها من جهة غاية التوحش ومن أخرى ما أصاب الفكر من التعمق والتدقيق في مفاهيم الألفاظ، وعلى هيئات سياسية دخلت في سن الهرم، وسفاسف دينية حلت محل اتساع أنظار القرون الأولى. فالسلطة كانت تميل أحيانًا إلى البطش وطورًا إلى مقتضيات الضعف، لكنها في كلتا الحالتين كانت مقلقة للعباد، فرومية كانت في جدال مستمر مع الآستانة (يعني بابا روسيه وبطرك الآستانة) ولم يتمحض منصب البابا لسلطته، ويتخلص من الروابط الملوكية والتغالي في اعتقاد القديسين (المرابطين) إلا وقد سقط في مهواة الوثنية، وتركت الواجبات العسكرية واستبدل المأجورون بالعسكر النظامي، واضمحلت العائلة بالتجافي عن القيام بالواجب، ولم تكن هناك حرية في الاعتقاد بل لم يكن رواج إلا لسخط القسوس واضطهادهم لمن ينبس بينت شفة لا تلائم أغراضهم. وبالجملة فالحالة كانت في تلك العصور محفوفة بجميع موجبات التأخر والانحطاط، فظهر الإسلام والحالة هذه ونجح في تقدمه العجيب بسبب ما أحدثت السلطة اليونانية في النفوس من السآمة والمقت. جاء الإسلام مخالفًا لكثير من الأديان التي ضاعت حقيقتها في غمرات الأوهام، فإن هذا الدين تنزه عما لا يعقل من الخوارق، وقام على الحجج البينات التي لم تزل إلى الآن موجودة، غير أنهم في الغالب يحيدون به عن مقاصده؛ لأنهم يريدون اختلاق الخوارق له مع أنها لم تكن، ويتضح كل الاتضاح إن سلمنا أن الإسلام جاء مقاومًا للمسيحية حسبما كان يفهمها اليونانيون أنه - أي الإسلام - جامع بين السلطتين الدينية والسياسية؛ كما أن ملوك بيزانس أي ملوك اليونان كانوا يدّعونهما. وهو - أي الإسلام - قليل الغربة في أصوله؛ لأنه لم يكن المقصود منه في ذلك الوقت تجديد اعتقاد الناس، بل تغيير انقيادهم الظاهري، فلما أثقلت كاهل المسيحية اليونانية فلسفة القوم المنكرة، جاء الإسلام بنسخ التثليث وإزالة أدران الفلسفة الإسكندرية؛ ولما بعدت حقيقة المسيح الكنيسية شيئًا فشيئًا عن البشرية، وفشا اعتقاد تعظيم القديسين، حتى انحدر بالناس إلى عبادة بعض الأشياء من الكائنات، جاء الإسلام بإرجاع المسيح - على تكريمه إياه - إلى نسبته البشرية وبإنكار القديسين، ولما أضعفت أديار الرهبنات الدولة والعسكرية جاء الإسلام بإبطالها، ولما كانت الغاية المسيحية إضعاف العائلات بإيثار العزبة على التزوج، جاء الإسلام بكراهة تعمد قطع النسل وبالحث على التناسل بإباحة تعدد الزوجات، ولما كانت الهيئة المدنية المسيحية منقسمة إلى مراتب وراثية متشعبة، وكانت الرتبة الأولى فيها للقسيسين، جاء الإسلام بإبطال سلطة القسيسين وإزالة حق الوراثة في المراتب والاستعاضة عنها بالاستحقاق الذاتي (لا فضل لعربي على عجي إنما الفضل بالعلم والتقوى) كما أنه أزال الواسطة بين الخالق والمخلوق وبين الرئيس والمرؤوس، ولما كان الملوك هم المحافظين على أصول الدين، واستحوذوا بذلك على التصرف بالعقائد والمعتقدين من رعاياهم - جاء الإسلام بالتسامح والحرية في الدين على شرط قبول الداخلين تحت سيطرته من غير المسلمين بأداء الجزية، وهو أداء خفيف جدًّا. ولما كانت الصدقة الإنجيلية قد ضغطت تقريبًا تحت استئثار أصحاب الرتبة المفضلة من الهيئة، جاء الإسلام بالحث على المعادلة والتعاضد إلى حد لا نهاية بعده. وبالجملة إن الديانة المسيحية لم يكن تأسيسها إلا على الخوارق، فالإسلام قد عدل عنها تقريبًا، وجعل نبيه بشرًا كسائر البشر. هكذا كانت طباع الإسلام الأولى وإن اعترى فروعه تغيير بسبب ما اعترى المسلمين من الأوهام، فأصوله لم تزل ثابتة إلى الآن. وقد تجلى الإسلام ميسرًا ومستكملاً للإنسانية ومنزها عن الغموض ببساطة الوحدانية المعقولة، وبذلك تباعد عن قضايا المعارضة بأنواعها، ولم يصد نموه ستة قرون مضت في المجادلات الدينية، وأربعة مثلها مضت على الإدارة الرومانية [1] ولم يكف ذلك حصنا للمسيحية بل حصل هذا الدين الجديد على كنز ثمين بسرعة عجيبة [2] وهو رغم ما سطرته كتبنا متسمر الدوام , وإذا تمحض للترفع بتنزهه عما ذكر من الأدران، أمكنه تقديم متبعيه على متبعي المسيحية نحو ثلاثة أو أربعة قرون، فإن معالم بغداد وقرطبة العلمية كانت منابع للأنوار الساطعة عندما كانت معالمنا المسيحية منحنية على الجهل المطبق، فكل العلوم وكل الصنائع وكل الفنون كانت تأتي من الشرق، وجمهوريات البحر المتوسط كانت تكتسب بسطتها من علائقها مع مخالفيها في الدين. وإن زهرة هذا التمدن النفيسة المحفوظة في أوانيها الجميلة الأنيقة كقصر إشبيلية وحمراء غرناطة لم تزل تُخجل أشراف المسيحيين حتى اضمحلال العربية بحيث أن مدة الإسلام المثمرة دامت نحو ثمانية قرون نهايتها سقوط غرناطة، وكانت بعد ذلك فتوحات العثمانيين الذين تراهم على عدم التفاتهم لانفتاح الزهرة الفكرية، قد أثبتوا للإسلام مدة قرنين أو ثلاثة عظمة سياسية وعسكرية. وعليه فإن الديانة الإسلامية حافظت مدة ألف سنة على قوة انتشارها ونظامها ولذا يصح أن نقول بحسب المدة على الأقل: إن وظيفتها تعادل وظيفتي اليونان والرومان معًا. هذا وبعد وقوف الشجرة الإسلامية عن النمو والإثمار، لم تزل عروقها آخذة في الامتداد الخفي، وتنشق أرضها عن أخلاف غليظة في أماكن السودانيين، كما إن أخلافها في آسيا تحمل مع الراحلة مادة التلقيح الهندي والماليزي والصيني [3] . فهاته الحقائق هي التي ينبغي استحضارها في الذهن عند إرادة التكلم عن الإسلام باستخفاف! ! فإن قيل: كيف طرأ السكون على أهل عقيدة شريفة معقولة مثل عقيدة الإسلام؟ ولماذا وقفت في أفريقيا وآسيا الصغرى عن الإثمار الآن بعدما أثمرت سابقًا في الفرس وأسبانيا، ثم لأي سبب كان هذا التقدم الأوروبي الحالي المترقي عما سواه؟ الجواب: إن مسألة مثل هذه لا يمكن تفصيلها في هاته الأوراق. لكن لنا أن نقتصر على مجرد نتيجة فلسفية، وهي أن نقول: إن مدنيتنا المسيحية الأصل، قد فتحت مجالاً متسعًا للنمو المادي، وإن نهضتنا في القرن السادس عشر قد منحتنا جسارة في الفكر واختبارًا في الفحص العلمي ربما لم يعرفها المسلمون، وإن الذي يهم في هذا المقام على كل حال هو اعتبار الحيثيات عند إرادة الحكم في هذا الموضوع؛ لأن تقهقر المسلمين المشاهد: إما أن ينسب إلى نفس الأصول الدينية، فيكون الإسلام محكومًا عليه بالاقتصار على الحياة المادية، وإما أن ينسب إلى أسباب خارجية عارضة، فيكون قابلاً للنهضة والرجوع إلى ما كان عليه. لكن هناك من السذج والأغرار من يقضي عليه قضاء مطلقًا بدون مراعاة الحيثيات المشار إليها، ولعمري إنه يصعب عليهم بيان كيف أمكن لهذا الدين القاصر على زعمهم إنتاج ثمار عجيبة في الزمن الماضي، وهم أناس لا يحسنون معرفة التاريخ ويقتصرون في حكمهم على ما تشاهده أبصارهم. قد انتشر هذا الفكر بفرنسا مدة المسألة الجزائرية من حيث علاقتنا مع الإسلام ويوجد إلى الآن هناك كثير من الفرنسيين بقوا عليه. لكن وجدنا بمصر ثم بتونس مسلمين من نوع آخر، ولذا لم يكن من الممكن ولا المقنع الاقتصار على حكم استبدادي بسيط، ووجب الرجوع إلى الشواهد التاريخية، وقد يجب الاعتراف حينئذ بأن طباع المسلمين عامة اعتراها تغيير من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر، وذلك تحت سلطة الأتراك بالمشرق وسلطة البرابرة بالمغرب، ففي أسبانيا انقطعت العلائق بين المسلمين والمسيحيين بعد سقوط غرناطة دفعة واحدة، والتعصب من الجهتين هو الذي حملهم على ذلك. وأما من جهة الآستانة فالعلائق السياسية قد استمرت، ولكن العلمية سقطت في العدم، فالبرابرة بالمغرب والأتراك بالمشرق سارا كأنهما جرمان ثخينان بطرفي السلك منعا سيلان الكهرباء فيه. والحقيقة أنه من تاريخ عدم التفاهم بين المسلمين والمسيحيين، قد اختارت كل فرقة من أساليب دينها ما يلائم إحساسها، فعقيدة القضاء والقدر ليست هي أساس الأعمال في الإسلام؛ بدليل أن القرآن لا يرى مانعًا من تقدم الأمم بتعاطي أسباب التقدم. لكن عقيدة القدر تسري بالعرض والتبعية إلى فكر المسلم الساذج؛ بمعنى أن تصرف الخالق في المخلوق يكون مباشرة (أي بلا سعي ولا سبب) ولذا ترى المرابطين علماء اللاهوت من البرابرة يبالغون منذ ظهروا في التمسك ببعض النصوص الدينية مع خلوها عن الفائدة، ويخطبون في الناس كبعض أهل المذاهب المسيحية؛ مقاومين لكل تمدن، وأعانهم على ذلك عربان الخيام بأفريقية، وتمموا هذا المشروع المنتج للصلابة واليبس، مع كونه انتزع من الدين لينه ومساعدته على اكتساب التمدن وقصره على حركات بدنية، لكن الفرق المستنيرة التي يحاكي ليان أفكارها ليان البحر المتوسط، انسحبت مع أمواجه وتجمعت ببلدان السواحل؛ لتقتحم تعب المدافعة ومصادمة البربرية. ففي الجزائر سابقًا، وفي مراكش الآن عروش الخيام يعني الذين ولد فيهم الجهل شدة التعصب الديني هم الذين وجدناهم عرضة لنا. ويجب أن نتفاهم في معنى التعصب هنا، وهو أن هاته العروش إنما يتعصبون للاستقلال والهمجية، فالدين عندهم هو الراية التي يتخذونها وسيلة لتغطية بغضهم للأجنبي، فالرحالون لم يكن أوائلهم مسلمين، مع أنهم كانوا يبدون مثل هذه الإحساسات بعينها نحو الفاتح الروماني، وكان الأمر يشتبه علينا في الزمن السابق، فيظهر لنا أن الأخذ بثأرنا من هذه العروش أمر طبيعيي، وأن ذلك يكون باغتصاب أملاك المساجد والجوامع مطلقًا، حتى أرشدتنا التجربة فيما بعد إلى حقائق الأمور، فعاملنا التونسيين بمزيد الاعتبار، فاحترمنا دولتهم وعوائدهم وشرائعهم وعدليتهم وجوامعهم وأملاكهم. وفي الحقيقة، إن ما وجدناه بتونس لم نجده بالجزائر: وجدنا بتونس نخبة من الأعيان الأهليين ومجتمعًا لمزاولة العلوم وهو جامع الزيتونة، فإنه وإن انحطت شهرته عما كان عليه في القديم، لم تزل به مادة الحياة قوية تؤذن بقرب عود اخضراره، وهاته الحالة المساعدة أمكننا معها أن نخطو خطوة زائدة سنة 1898 وهي تأسيس جمعية من شبان التونسيين المتعلمين تحت عنوان الخلدونية؛ تذكارًا للمؤرخ العربي ابن خلدون، وتكفلت هاته الجمعية بإدخال الفنون الأوروبية بين طلبة الجامع الأعظم، وافتتحت دروسها بمسامرة نظامية، وقام أحد مدرسي الجامع الأعظم ببيان أن لا نفرة بين الإسلام والعلوم العصرية. وأخيرًا وقع اقتداء بالجزائر (كذا) قبول بعض أفراد من الأهلين بمجلس الشور

أعمال حسن باشا عاصم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أعمال حسن باشا عاصم كتبنا في الجزء الماضي شيئًا عن أخلاق حسن باشا عاصم، ونكتب في هذا الجزء شيئًا عن أعماله، وعمدتنا في هذا وذاك الاختبار، وغرضنا منه بيان طريق التأسي والاعتبار، وإنما قدمنا الكلام في الأخلاق لأنها هي مصادر الأعمال، فهي الأصل الأصيل في تفاضل الرجال، ولم نسلك فيما كتبنا ولا فيما نكتبه الآن مسلك الاستقصاء بل نكتفي بما قل ودل. تمهيد في تربيته وتعليمه بالتربية والتعليم يتفاضل المتساوون والمتقاربون في الاستعداد، وقد اتفق لحسن عاصم منهما ما أظهر استعداده العظيم. كان والده من حاشية محمد باشا عاصم أحد كبار المديرين في هذا القطر ولم يكن لهذا نسل. وولد حسن في حجره فسُر به وتولى تربيته، بل تبناه وأضاف اسمه إلى اسمه، فعلمه التعليم الابتدائي والوسطي والعالي، فانتقل من المدارس الابتدائية إلى مدرسة الإدارة (الحقوق) فكان في طليعة النابغين ثم أرسل مع بعض النابغين إلى فرنسا على نفقة الحكومة؛ للترقي في علوم الحقوق والسياسة، فتلقاهما بجده واجتهاده حتى كان من خير النابغين وحملة الشهادات العالية فيهما. وكيف لا وهو لم يكن يعرف اللهو والبطالة، ولا ممن يحفل باللذات والشهوات البدنية، وتلك هي قواطع طريق العلم على طلابه لا سيما في أوروبا ولا سيما في فرنسا. وما أظن إلا أن بيت محمد باشا عاصم كان نقيًّا من اللوث الذي تلطخ به كثير من البيوتات كالسكر وما يتصل به عادة، وكأني بذلك الرجل وأنا لم أعرفه ولم أعرف عنه شيئًا كان بصيرًا بالمفاسد التي تدب إلى الناشئين في السعة، فحال بين ربيبه وبينها، فلم تتدنس نفسه برذائل المترفين ولا بدناءة المعوزين، فهذه التربية النقية هي التي ساعدته على كمال تحصيل العلوم، حتى كان وهو ابن الخادم مشرفًا للمخدوم بنسبته إليه ومحييًا لذكره، ولولاه لما عرفه مثلي ولا دوّن اسمه في هذه المجلة الإصلاحية. وكم أفسدت باريس من أولاد الأمراء والوجهاء الذين هم أرفع من محمد عاصم باشا ذكرًا في قومهم. عمله في القضاء والنيابة: لما عاد من أوروبا جعلته الحكومة مساعدًا للنيابة فوكيلاً فرئيسًا في الإسكندرية ثم في طنطا، وكان قد مات محمد عاصم باشا فكان خير خليفة له في أهله، حتى إنه كان ينفق معظم مرتبه الشهري على قلته في المرتبات التي كان يقوم بها مربيه الذي مات ولا مال له. بل لم يتعجل في العودة من أوربا إلى مصر إلا لأجل هذا، فقد كان يبغي الاستزادة من العلم إلى أن يصير دكتورًا في العلوم التي كان يشتغل بها بعد أن نال شهادتها العالية المعبر عنها عندهم بالليسانس، ففاجأة نعي مربيه فاكتفى بما حصل، ورجع عما كان أمّل، وقد كان في النيابة العالم المصلح للنظام ولحال الاجتماع، إذ كان يتعقب الأشقياء المفسدين وسلبة الأمن المعتدين، حتى طهر منهم المديريات التي عظم بلاؤها بهم وكان يزجي كل من تحت رياسته في الجد والاجتهاد، فلا يكادون يجدون ساعة بطالة. ولما جعل السير سكوت مستشارًا قضائيًّا لمصر، وجه همته إلى إصلاح المحاكم الأهلية، وكانت مختلة معتلة، فكان يطوف على رجال القضاء والنيابة يسألهم عن رأيهم في الإصلاح وعما يشكون منه، فما كان يسمع من الأكثرين إلا عبارات الثناء والإقرار بالرضا عن الحال الحاضرة. حتى ظفر بحسن عاصم فأخبره هذا بجميع العلل وبطرق علاجها، فجاء به وبصديقه علي بك فخري الذي رأى فيه مثل نباهته واستعداده، وجعلهما مفتشين للقضاء ثم عضوين للجنة المراقبة التي أنشئت في نظارة الحقانية، فكانا هما الواضعين لنظام المحاكم الحاضر وطريقة المراقبة القضائية المتبعة، بل كان حسن عاصم هو الذي اقترح بموافقة رفيقه اختيار القضاة من أهل الكفاءة بالاستقامة والنباهة واختبار البلاد، كالمتخرجين من دار العلوم وغيرهم ممن عرف بالعلم والفضل وإن لم يكن متخرجًا في مدرسة الحقوق، وبذلك تيسر للحكومة إصلاح المحاكم بقدر الإمكان. ومن خدمة حسن عام للقضاء وضع مشروع المحاكم الجزئية، ثم السعي مع صديقه على فخري في إنفاذه عند سنوح الفرصة لهما بثقة السير سكوت المستشار المحب للإصلاح بهما. وله في ذلك أعمال أخرى ليس من غرضنا تقصيها. وكان للسير سكوت من الإعجاب بعلمه واستقامته وقدرته على العمل ما أحله عنده في أعلى منازل الثقة والكرامة. وأراد ترقيته فلم ترض الوكالة البريطانية بذلك، بل حاولت أن تدليه لاتهامها إياه بمناصبتها، فعرقلت عليه السياسة الاستمرار في عمله النافع في المحاكم، وذلك شأنها ما دخلت في عمل إلا وأفسدته، كما كان يقول الأستاذ الإمام. وما كانت تهمة حسن عاصم بالسياسة محض اختلاق، ولكن ربما كان يبالغ فيما ينقل للوكالة عنه أو كانت الوكالة تنظر إلى الأمور بعين الاحتياط، فتراها أكبر مما كانت عليه. وكانت في البلد حركة وطنية قبلتها بل روحها الأمير الجديد (عباس حلمي باشا) تبعثها الآمال وتحدو بها الأقوال، حتى تزجيها إلى بعض الأعمال التي كان يظن أنها وسائل لإزالة الاحتلال والتمتع بكمال الاستقلال، وكان أكثر أهل الفهم والرأي من رجال الحكومة وغيرهم مغرورين بتلك الحركة، ولم يسلم من شيء من ذلك حسن عاصم على أناته وبصيرته، وكان صديقه ورفيقه في العمل علي فخري بك أشد منه إعجابًا بل تحمسًا بها، بل أقول: إنه لم يسلم من الغرور بتلك الحركة أحد من أهل الرأي والظهور في البلد إلا ما دون عدد أنامل اليد الواحدة. قد يظن بعض الشبان اليوم أن في البلاد حركة وطنية قوية لم تكن من قبل، وما ذلك إلا لأنهم لا يعرفون شيئًا عن الحركة التي كانت من نحو خمس عشرة سنة إذ كان الرجال يجرون عربة الأمير بأيديهم، وإذ كان الأمير يعود من سياحته الصيفية فتكتظ الإسكندرية بمئات الألوف للقائه، حتى قيل: إنه دخل في الإسكندرية في يوم واحد ثمانون ألفًا من أهل الأرياف. وما ذلك إلا لأن السلطة الأجنبية ثقيلة على النفوس البشرية تنفر منها بالطبع، فإذا آنست بصيصًا من الأمل بالتملص منها على يد من تثق بهم من أبناء جنسها السياسي أو الديني، فإنها لا تعتم أن تعشو إليه وتعول عليه، وقد كان الشعب يرى من الأمير الجديد منذ تولى ذلك البصيص، بل كانت ترى من حاله وتسمع مما ينثر من درر أقواله، ما يجعل ذلك البصيص نورًا ساطعًا يملأ الجوانح أملاً، وينفر بالنفوس إلى الجهاد الوطني خفافًا وثقالاً، فلا عجب إذا كان مثل حسن عاصم وهو في شبابه ممن كان يظن أن في تلك الحركة بركة، لا سيما وهو مطلع على ما كانت تدبره فرنسا، وما تعد به مصر وتمنيها. غرضنا من هذا البيان ومن سائر ما نكتبه عن الرجل أن تكون العبرة بسيرة رجل نابغ منا مبنية على أصل ثابت، ورواية صحيحة في زمن لا يكتب فيه عن رجال العصر إلا أصحاب الصحف السياسية في الغالب، وهم لا يبينون من الحقائق إلا ما تسمح لهم به السياسة على الوجه الذي تحبه وترضاه. فليعلم الشبان المتحمسون في الوطنية الذين تهيجهم نغمات المتغنين بأشعارها، والضاربين على أوتارها، أن هذا النابغة الذي يفتخر الوطن به قد تحمس في شبابه بالسياسة أيامًا كانت دواعي التحمس فيها أوفر، والآمال بالنجاح أقوى، ثم استقر رأيه بعد الاختبار على أن العاملين للوطن والمخلصين في خدمة الأمة، يجب عليهم أن يتنزهوا عن الشوائب والتحمسات السياسية والتهيجات الطبيعية، وأن يلتزموا السكينة والروية، ويجعلوا عمدتهم إتقان الأعمال دون الغرور بزخرف الأقوال والانخداع بالدعاوي العراض الطوال؛ لذلك كان يعمل ليله ونهاره من غير لغط ولا دعوى، ولا تذمر ولا شكوى، بل كان ذلك دأبه منذ كان. كان السير سكوت المستشار المصلح المخلص على ما هو مشهور بين جميع العارفين، قد وعده بأن يجعله نائبًا عموميًّا بعد أن جعله الأفوكاتو العمومي، ولكن الورد كرومر أمره بعزله كما يقال، فحار في أمره وبعد العناء والجهاد قدر على أن يستبدل العزل وجعله قاضيًا في محكمة الاستئناف الأهلية بمرتب أنقص من مرتبه قبله، فلم يزده ذلك إلا جدًّا في العمل ومضاء في الإصلاح. ومما يؤثر عنه أنه كان يسمع خبر عزله، فلا يحدث عنده فتورًا ولا مللاً ولا يثنيه عن الابتداء بعمل جديد أو وضع مشروع لعمل مستقبل، وإن كان يتوقف تنفيذ هذا وإتمام ذاك على بقائه في عمله. وقد كان مما اقترحه في أثناء التحدث بعزله نقل طائفة من الكتاب باليومية في محكمة الاستئناف لعدم الحاجة إليهم إلى المحاكم الابتدائية التي هي في أشد الحاجة إليهم، فأخبره رئيس الكتاب بأن أمر عزله قد تقرر بل كتب، ولم يبق دون تنفيذه إلا ختمه، فقال رحمه الله ما معناه: إن هذه فرصة تحرم إضاعتها، وإنني أعمل الواجب ما دمت متمكنًا منه، وإن هذا التمكن يستمر إلى أن أبلغ الأمر بالعزل رسميًّا. عمله في المعية عز على أصدقاء هذا العامل المصلح أن يكون ظنينًا على عمله عند القوة الفعالة في البلاد، وأن لا يوضع في الوضع الذي يستحقه من ناصية القضاء، ولما خلا منصب رياسة التشريفات عند الأمير بنقل عباني باشا منه إلى نظارة الحربية، بادر الأستاذ الإمام فرغب إلى الأمير أن يجعل الفقيد رئيسًا للتشريفات، فذكر له الأمير رجلاً آخر من المرشحين عنده لهذا المنصب، فقال الأستاذ الإمام رحمه الله وكان الأمير أطال الله عمره يقدر رأيه حق قدره: كلا الرجلين كفء ويمتاز عاصم بمعارفه القضائية، وأفندينا تعرض عليه القوانين واللوائح فيحسن أن يكون في معيته من يدرسها ويبدي رأيه فيها. ذكر لي ذلك الأستاذ في سياق عناية الأمير به، وكونه هو الذي اقترح جعله مستشارًا في الاستئناف، ثم جعله مفتيًا، وما كان فضل عاصم ليخفى على الأمير، لذلك فضله على غيره وولاه هذا المنصب. إننا نرى من المتعلمين من يختار أو يختار أولياؤه له علم الحقوق ليكون قاضيًا أو محاميًا، أو علم الهندسة ليكون مهندسًا، أو علم الطب ليكون طبيبًا مثلاً. ولكننا نرى النابغين فيما يوجهون جل عنايتهم إليه قليلين، وأقل من هذا القليل من يبرع في العمل كما نبغ في العلم، وأقل من هؤلاء من يعهد إليه عمل غير ما استعد له واشتغل فيه، فيتقنه بعد إتقان غيره والبراعة فيه. أولئك الذين أعطوا من المواهب العقلية ما أعدهم لإتقان كل عمل يشتغلون به، وقد كان حسن عاصم من هذا الفريق النادر، فإنه كان في أخلاقه وجل معارفه وسابق عمله أبعد الناس عن خدمة الأمراء، ولكنه على هذا عمل في خدمة الأمير ما عجز عن مثله كل من كان في خدمته وخدمة أسلافه، كما عجز عن الزيادة عليه من جاء بعده. كان رجال التشريفات من قبل رياسته لا عمل لهم في غالب أوقاتهم، فخلق لهم من الأعمال ما استغرق عامة أوقاتهم في القصر، حتى إنه استخرج دفاتر التشريفات القديمة من عهد محمد علي، وعرف ماضي ذلك وحاضره، ثم وضع للتشريفات نظامًا ثابتًا حدد فيه أوقات المقابلات الرسمية وغير الرسمية، وكذلك الدعوات وحفلة المرقص الخديوي، فقد كان كل ذلك محفوفًا بالفوضى والخلل. ومن ذلك أنه اشترط فيمن يقابل الأمير شروطًا في الزي للموظفين وغير الموظفين، قد تختلف باختلاف المقابلات واختلاف زي الأمير العسكري والملكي فيها، ونفذ ذلك كله على الوطنيين والأجانب على سواء. وما كان يسهل عليه أن يشذ عن نظامه ذاك أحد. وأذكر من تنفيذه النظام على الأجانب من كبار المحتلين وغيرهم أن بعض كبار الموظفين منهم جاء عابدين بلباس غير ما ي

رزيئة مصر بحسن باشا عبد الرازق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رزيئة مصر بحسن باشا عبد الرازق حق لمصر اليوم أن تتمثل بقول الشاعر: رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال يحق لمصر ذلك وقد رزئت بفقد الرجل العظيم حسن باشا عبد الرازق، ولم يمض على فقدها لصديقه الكريم حسن باشا عاصم إلا شهر ونصف، وعلى فقدها لصديقهما الأستاذ الإمام إلا سنتان وأشهر. أولئك هم الرجال العاقلون العالمون العاملون المخلصون في مصالح ومواطن لا خلف لهم فيها تتعزى البلاد بأداء ما كانوا يؤدون كما كانوا يؤدون. ولا نكفر نعمة الله على البلاد بمن بقي من أصدقائهم العاملين الصادقين الذي نجيل أبصارنا فلا نرى للواحد منهم كفؤًا ولا ندًّا يضارعه في عمله أو يفي غناءه فيه، بل يجب أن نشكر له تعالى هذه النعمة، مع الصبر على ما أصابنا من المصيبة، عسى أن يبارك لنا في أعمارهم، وينفعنا بأعمالهم، فإن الصبر مجلبة الرحمة، والشكر مدعاة المزيد، ولكن (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) كما ورد في الحديث الشريف. ليس المنار شاعرًا يرثي ولا خطيبًا يؤبن، ولا مؤرخًا يدون، وإنما هو واعظ ومذكر، يستخرج العبر من حيث يجدها ويسوقها إلى من غفل عنها أو جهلها، ولا عبرة أنفع بعد هداية الله من التذكير بفضل العاملين الغابرين، على الوجه الذي يزيد الناس معرفة بفضل العاملين الحاضرين، وينهض بهمم المستعدين للتأسي بأولئك ونصر هؤلاء. إنما كان حسن باشا عبد الرازق رجلاً - والرجال قليل - باستعداده الفطري ونشأته الدينية. فأما الاستعداد فهو الأصل في نبوغ كل رجل في الشرق حتى اليوم إلا ما عساه يكون في اليابان من حسن التعليم والتربية النظامية التي تنهض بضعيف الاستعداد حتى يبذ من هو أعلى منه استعدادا إذا لم يصادف هذا من يربيه كتربيته. نشأ من فقدنا اليوم نشأة دينية حتى أن الحكام المستبدين عجزوا عن حمله على السكر ونحوه وهو في ريعان شبابه وغضاضة إهابة، وقد كان مرة مع إسماعيل باشا المفتش وأعوانه فأرادوه على الشرب معهم فتمنع، فألحوا فاستعصم، فأعطوه كأسا من الجعة (البيرة) باسم (أفندينا إسماعيل باشا) وحلفوا عليه به ليشربن، فأصر على التمنع فاستكبروا ذلك منه وطفقوا يرجعون إليه القول ويسر إليه بعضهم ما يراه وراء هذا التمنع من عاقبة إهانة الاسم الكريم (اسم الخديوي) فسنحت له حيلة للتخلص، فأخذ الكأس فأدناها من شفتيه فألقاها متقززا مكفهرا وهو يتفل ويقول: قطعت البيرة وشاربوها! ! كيف تشربون هذا الشيء المر البشع الطعم وكيف تطيقونه؟ فقابلوا ذلك بالضحك والسرور، ولم يعودوا إلى عرضه عليه. مثل هذه الواقعة يعدها بعض النابتة المتفرنجة خشونة وحشية (وقلة ذوق أيضا) ولكن من أوتي نصيبا من الحكمة يعدها آية النبوغ الكبرى، لا لأن شرب كأس الجعة يهدم الدين فحفظ الرجل دينه بالامتناع عنه، بل بدلالتها على قوة الإرادة وعدم المبالاة بلوم اللائمين في العمل بما يعتقد وإن كانوا كبارا. فهذه هي دعامة الفضائل وأصل الكمالات التي يكون بها الرجال رجالا. ولولا هذه المزية لما كان حسن باشا عبد الرازق ذلك الرجل الذي أحسن القول فيه أصحاب الجرائد التي تناهض حزبه السياسي الوطني وعدوه من أفراد الأمة العاملين الذي يقل نظيرهم، وما يقولونه هم وغيرهم من العارفين بأقدار الرجال بألسنتهم أبلغ مما كتب وأكبر. بموت هذا الرجل تكررت العبر التي ترشد الأمة والنابتة الجديدة منها خاصة إلى أن الشرف الحقيقي والمجد الصحيح لا يكونان للإنسان إلا بأخلاقه وصفاته النفسية، لا بماله ونَشَبه، ولا بعشيرته ونسبه، ولا بأوسمته ورتبه، فقد مات في هذه السنين الثلاث الأخيرة غير واحد من أكابر الأمراء والعلماء والأغنياء، ولم تكتب الجرائد في أحد منهم ولا قال الناس فيهم مثل ما كتب وقيل في تأبين الأستاذ الإمام ثم صديقه حسن باشا عاصم ثم صديقهما حسن باشا عبد الرازق. على أنه كان لكل واحد من هؤلاء حالة سياسية تقضي باحتراس بعض الجرائد وعدم إرخائها العنان للقلم في تأبينهم مرضاة أو مراعاة لمن هم في جانب عنهم. فوصف كل واحد منهم بما وصفته تلك الجرائد به لا يمكن أن يعد من قبيل المبالغة، بل كلنا نعلم أن ما علم من فضلهم أكثر مما قيل ومما كتب. خدم حسن باشا عبد الرازق أمته في حسن سيرته في قومه وفي مجلس الشورى وفي تربية أولاده النجباء. وسنبين ذلك في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

أقوال الجرائد اليومية في الاحتفال بالمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أقوال الجرائد اليومية في الاحتفال بالمنار علمنا أن بعض قراء المجلة في غير هذا القطر يحبون أن ننشر في المنار أقوال الجرائد المصرية في الاحتفال بالمنار، فرأينا أن نوافي المحب ولو ببعض ما يحب. وقد كتبت الجرائد الشهيرة شيئًا في ذلك قبل الاحتفال وبعده ولكننا لم نحفظه بل لم نطلع على كل ما كتب. فمما كتب قبل الاحتفال ما جاء في العدد 221 من (الجريدة) الصادر في 21 شوال: عيد المنار تهنئ (الجريدة) هذه المجلة العلمية التي كم لها من موقف مشهور في الدفاع عن الحقائق العلمية والمذاهب المتينة في أبواب الشرع الشريف. وكم لها من التنبيه الرشيد على وجوب التمسك بالآداب العالية ونبذ التقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان. نهنئ العلم وفن الكتابة في شخص مجلة المنار التي فتح الله عليها بالثبات النادر لأمثالها في الشرق فإنها ستتم بعد الغد السنة العاشرة من عمرها. وندعوا لها بطول البقاء قائمة على خدمتها الإرشادية حاملة على الدخائل التي ظن القوم أنها من الدين وليست منه في شئ. ولا شك في أن من يقف مثل هذا الموقف غير المألوف عند العوام كما وقف السيد محمد رشيد رضا نفسه على خدمة الحق من غير مبالاة يصادف مصاعب - لولا الثبات - تذهب بعزيمة القائم بها. فمن يعلم مقدار هذه الصعوبات كما نعلم لا يتردد في أن يزف التهنئة للمنار بمناسبة هذا العيد. ولقد كان زميلنا الأستاذ إسماعيل بك عاصم أول الشاعرين بهذا الواجب فإنه قد نوى الاحتفال بهذا العيد، إذ دعا إلى منزله أصحاب المجلات العلمية وكتابها في مساء الخميس 22 شوال سنة 1325 الموافق 28 نوفمبر عام1907 فنسأل للمنار أن يحييه الله أعواما كثيرة ونشكر ثبات منشئه على الحق وفضل المحتفل على حسن اعتداده بإقامة منارات العلم والعرفان. ثم كتب في (الجريدة) بعد الاحتفال ما يأتي (نقلا عن العدد الصادر في 26 شوال) : الاحتفال بمجلة المنار للعقلاء كلمة واحدة على أن الديانات مُصلحة للنفوس وناحية بها مناحي الخير، وكذلك اتفقوا على أن الديانات الثلاث المعروفات في ديارنا هذه لا تضاد بينها في الحقيقة ونفس الأمر، وإنما يوجد في كل متأخرة منها عن أختها بعض زيادات اقتضاها تدرج الإنسان أو بعض تفاسير لما غمض من نصوص ما قبلها. لا خلاف في هذا بين أولي الألباب من أصحاب هذه الديانات على تخالف رسومها الظاهرة وتقاليدها في تلقين العقائد التسليمية، كما لا خلاف بينهم في أن التقاليد التي هي في كل دين بعيدة عن أصله وغريبة عن طبعه هي مضرة بأهله وأن مقاومتها وإزهاق روحها يُعد إصلاحا كبيرا في الأمم يستحق القائمون به أعظم شكر وأجزل مكافأة أدبية. ولدينا الآن مثال جديد على ما قدمنا، فإن حضرة الأصولي الفاضل إسماعيل بك عاصم خطر في باله خاطر شريف وهو أن يقوم بخدمة جليلة للإصلاح بتكريم أهله ووجد من المناسب لهذا أن يقيم احتفالاً لمجلة المنار الإصلاحية بإتمامها عقدًا من العمر (عشر سنين) فدعا لمنزله حضرات أصحاب المجلات العلمية ومحرريها مساء يوم الخميس فلبوا دعوته وانتظم في منزله عقدهم، فيهم المسلمون والمسيحيون والموسويون. وقدم لهم مائدة فاخرة، وبعد الطعام قام فألقى خطبة بليغة حتى إذا أتمها قام حضرة العالم الفاضل منشئ المنار فأجابه بكلمات في منتهى البلاغة فزاد رفعته في أعين الحاضرين ذلك التواضع الذي اشتملت عليه هذه الكلمات. وتلاه حضرة الدكتور يعقوب أفندي صروف منشئ المقتطف فذكر في خطبته مثل ما قدمناه من فوائد الديانات إذا أُحسن تفسيرها والقيام بها حق القيام، ونوّه كثيرا بفضل منشئ المنار وحسن خدمته الإنسانية بخدمته الدينية. ثم خطب الأديب توفيق أفندي عزوز صاحب المفتاح فأجاد ثم الأديب سيد أفندي محمد صاحب المجلة المدرسية وذكر في خطبته ما لاقاه السيد رشيد من الصعوبات في نصرة الحق وقال: إن مخالفي المنار قد انتفعوا به. وانتهت هذه الحفلة بإجماع الحاضرين وهم نحو عشرين فاضلا على أن ما قام به حضرة إسماعيل بك من تكريم العلم على هذه الصورة يستحق أعظم شكران، فخرجوا وهم بلسان واحد يلهجون بالثناء ويتحدثون باهتمامه بالعلم والعلماء. ونحن نشارك بشكر حضرة الفاضل إسماعيل بك ونتمنى أن تسري وتعم هذه الروح الشريفة، روح تكريم العلم بتكريم رجاله، ونرجو أن يكون عمل حضرته فاتحة جميلة لأمثاله. جاء في عدد الأهرام الذي صدر في غد يوم الاحتفال ما نصه: حفلة أدبية أقام أمس في داره العامرة حضرة الكاتب الفاضل والمحامي المشهور إسماعيل بك عاصم مأدبة شائقة؛ إكرامًا لحضرة العالم العامل السيد رشيد رضا واحتفالاً بمرور عشر سنوات كاملة على مجلته المشهورة (المنار) وقد دعا إلى الحفلة أصحاب المجلات المصرية ومحرريها، وألقى عليهم خطبة نفيسة ذكر فيها مآثر السيد رشيد في مباحث مجلته الزهراء التي هي أكبر أمثلة الاجتهاد المنافي للتقليد الجامد في الدينيات والدنيويات، وتطرق من ذلك إلى ذكر خصال المومى إليها لكريمة من فضل وفضيلة وآداب وبُعد نظر وإلى معاشرته إياه مدة ثماني سنوات متوالية. وبيَّن ضرورة احتفاء الأمة بأصحاب المجلات الراقية بها ووجوب تنشيطها لهم وما يطالبون به ويرجون له إزاء ذلك من كشف الحقائق وتأييدها الإصلاح الوطني والاجتماعي وجاء في أواخر الخطبة قوله: (ومن أبدع ما رأيناه أن سعادة العالم الفاضل أحمد فتحي باشا زغلول استشهد في مقدمة ترجمته لكتاب (الإسلام) المطبوع في سنة 1315 في الصحيفة السابعة بشذرات من فاتحة أول عدد من المنار فهي حينئذ قد شبت في مهدها وحازت الثقة عند أكابر الأمة منذ نشأتها. ونحن نثني على حضرة الداعي والمدعو ونسأل الله أن يكثر من هذه الأريحية في صدور وجهائنا وفضلائنا. وجاء في جريدة الظاهر ما نصه: أرسل إلينا حضرة عزتلو الأصولي البارع إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير خطبته التي ألقاها في الحفلة التي أعدها أخيرا في داره للعلماء والكتاب أصحاب المجلات المصرية ومحرريها بإتمام مجلة المنار للسنة العاشرة من عمرها. وقد افتتحها حضرته بمقدمة أمل فيها أن تكون الحفلة فاتحة لأمثالها في المستقبل، ثم استطرد منها إلى ذكر مجلة المنار وخدمتها العلمية والدينية وأخلاق صاحبها وعلمه وأدبه مبينا أن تقدير العاملين تنفع الأمة - وخدمتها وتشجعهم على أعمالهم حسًّا ومعنًى مما يزيد في رقي البلاد وتقدمها. وختمها بالشكر على الذين أجابوا الدعوة وحضروا الحفلة، فنشكره أجل شكر على حسن صنيعه هذا ونرجو أن يقتدي به أدباء الأمة وأفاضلها لتكون الفائدة أعم والنفع أتم. وجاء في المؤيد الذي صدر في 25 شوال ما يأتي: احتفل حضرة القانوني الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم المحامي ليلة الجمعة في داره بالعباسية بدخول مجلة المنار في سنتها العاشرة احتفالا شائقا دعا إليه أرباب المجلات المصرية. وبعد الطعام خطبهم حضرة المحتفل في فضل المجلات، واستطرد إلى ذكر المجلة المحتفل بها وعدَّد فضل صاحبها. فأجابه حضرة صاحب المنار بعبارات الشكر وأثنى على رصفائه الحاضرين أطيب الثناء، ثم قام بعض أرباب المجلات وخطبوا أيضا بما يناسب. وقبيل منتصف الليل انصرف المدعوون داعين لصاحب المنار ومجلته ومثنين على مروءة صاحب الدعوة ووفائه ومتواعدين أن يجتمعوا في خلال هذا الشتاء اجتماعات أخرى للبحث فيما ينفع البلاد ويرقي شأن العلم فيها. وجاء في جريدة مصر في غد يوم الاحتفال ما نصه: الاحتفال الأدبي الكبير دعا حضرة الأصولي الفاضل عزتلو إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير مساء أمس إلى حفلة أدبية أقامها في منزله بالعباسية لحضرات أصحاب المجلات العلمية الأدبية لمناسبة دخول مجلة المنار في سنتها العاشرة وتمهيدًا لموالاة هذه الاجتماعات الأدبية لتكون واسطة في زيادة التآلف والتعارف بين جماعة المشتغلين بالصحافة. فلبي دعوته جميع أصحاب هذه المجلات إلا واحدًا أو اثنين اعتذرا عن عدم الحضور لأسباب قسرية، فكان عدد الحاضرين منهم لا يقل عن العشرين وكلهم من كبار رجال الصحافة المشهورين، وهم أصحاب المقتطف والهلال والمفتاح والمنار والمقتبس ومجلة سركيس والهدى وحكمت ومرآة العلوم ومجلة الاجتهاد التركية. ولما انتظم عقد اجتماعهم أخذوا يتبادلون عبارات التحية والمودة ويتباحثون في ما يرقي شأن مهنتهم ويعلي مكانتها، ثم دعاهم حضرة المحتفل الفاضل إلى قاعة الطعام التي كانت في أبهى زخرفها وزينتها، حيث اجتمعوا حول مائدة فاخرة على الطراز الأوربي، فتناولوا ما لذ وطاب. ثم انبرى الخطباء منهم وهم حضرات إسماعيل بك عاصم والدكتور يعقوب صروف وفارس نمر صاحبا المقتطف وتوفيق أفندي عزوز صاحب مجلة المفتاح والسيد أفندي محمد صاحب مجلة الهدى والمجلة المدرسية فتكلموا بما يناسب المقام، فهنأوا المحتفل به على تقدم مجلته وارتقائها وأثنوا على حضرة إسماعيل بك عاصم الذي كان واسطة عقد هذا الاجتماع وتمنوا جميعا أن تكثر بينهم مثل هذه الاجتماعات الأدبية المفيدة. ثم نهض حضرة الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار فأثنى على المحتفلين به جميعا وأظهر لهم خجله من احتفائهم به وإكرامهم له عن غير جدارة واستحقاق بعبارات كلها في منتهى البلاغة وحسن التعبير. ومن ثم انصرف الجميع وكلهم ألسنة تلهج بالشكر والثناء على صاحب هذه الحفلة بعد أن قرروا إعادة مثل هذا الاحتفال الصحافي مرة في كل شهر لما ينجم عن ذلك من الفائدة والنفع. وجاء في المقطم الذي صدر في غد يوم الاحتفال ما نصه: أولَمَ حضرة الخطيب الشهير والأصولي الفاضل إسماعيل بك عاصم مساء أمس وليمة فاخرة في منزله بالعباسية لحضرات أصحاب المجلات العلمية والأدبية في هذه العاصمة - احتفالاً بدخول مجلة المنار الغراء في سنتها العاشرة ومد لهم مائدة مزدانة بالأثمار من دمشق الشام وحلب وبيروت ولبنان وأدار الندل - هو بضمتين خادم الدعوة - عليها ما لذ وطاب من الطعام المتعدد الألوان , ولما انتهى المدعوون من العشاء وقف سعادة الفاضل صاحب الدعوة وسط جمع كله من رجال العلم وأرباب القلم، وخطب عليهم خطبةً غراء رنانةً نشرناها برمتها في هذا العدد ليطلع القراء الكرام عليها , ثم وقف حضرة العالم الفاضل السيد رشيد رضا المحتفل به ورد على تلك الخطبة ردا كله اتضاع واحتشام بكلام قل ودل ووقع في النفس وقعا حسنا، وتلاه آخرون من المدعوين فخطبوا في مدح المحتفل والمحتفل به وأظهروا فوائد مجلة المنار وشهدوا بالفضل لصاحبها المفضال. ثم اتفق المدعوون على أن يجتمعوا للأنس والسمر وتوثيق عرى المودة والصداقة مرارا في هذا الشتاء ويبحثوا في غضون ذلك عن أحسن الطرق التي تتجه مساعيهم فيها لخير الجمهور ونفع أهل القطر. وجاء في جريدة المنبر الصادرة في 27 شوال ما نصه: فاتنا أن نشير إلى الاجتماع الأدبي الذي عقده في منزله مساء الخميس الماضي حضرة صاحب العزة إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير، احتفالا بإتمام مجلة المنار الغراء للسنة العاشرة من سني حياتها. لقد كان جامعا لنخبة أهل الفضل من أصحاب المجلات المصرية ومحرريها، حافلا بالشائق والمعجب من الآراء والأفكار وقد استهل الاحتفال حضرة صاحب الدعوة بخطبة في إطراء حضرة المحتفل وفي شؤون أخر،ثم خطب على إثره بعض المدعوين في تكريم حضرة الأستاذ النافع صاحب المنار وتأثير المجلات العلم

كتابان سياسيان لحكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

_ كتابان سياسيان لحكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني [*] الأول أرسله من البصرة إلى رئيس المجتهدين في السامرة (سر من رأى) وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم حقًّا أقول: إن هذا الكتاب خطاب إلى روح الشريعة المحمدية أينما وجدت، وحيثما حلت، وضراعة تعرضها الأمة على نفوس زاكية تحققت بها، وقامت بواجب شؤونها كيفما نشأت، وفي أي قطر نبغت، ألا وهم العلماء فأحببت عرضه على الكل وإن كان عنوانه خاصًّا. حبر الأمة، وبارقة أنوار الأئمة، دعامة عرش الدين، واللسان الناطق عن الشرع المبين، جناب الحاج الميرزا محمد حسن الشيرازي صان الله به حوزة الإسلام ورد كيد الزنادقة اللئام. لقد خصك الله بالنيابة العظمى عن الحجة الكبرى واختارك من العصابة الحقة وجعل بيدك أزمة سياسة الأمة بالشريعة الغراء وحراسة حقوقها بها وصيانة قلوبها عن الزيع والارتياب فيها، وأحال إليك من بين الأنام (وأنت وارث الأنبياء) مهام أمور تسعد بها الملة في دارها الدنيا وتحظى بالعقبى، ووضع لك أريكة الرئاسة العامة على الأفئدة والنُّهى إقامة لدعامة العدل وإثارة لمحجة الهدى، وكتب عليك بما أولاك من السيادة على خلقه حفظ الحوزة والذود عنها والشهادة دونها على سنن من مضى. وإن الأمة قاصيها ودانيها وحضرها وباديها ووضيعها وعاليها قد أذعنت لك بهذه الرئاسة السامية الربانية جاثية على الركب خارة على الأذقان، تطمح نفوسها إليك في كل حادثة تعروها، تطل بصائرها عليك في كل مصيبة تمسها، وهي ترى أن خيرها وسعدها منك وأن فوزها ونجاتها بك وأن أمنها وأمانيها فيك. فإذا لمح منك غض طرف، أو نيت [1] بجانبك لحظة، وأمهلتها وشأنها لمحة ارتجفت أفئدتها، واختلت مشاعرها، وانتكثت عقائدها، وانهدمت دعائم إيمانها، نعم لا برهان للعامة فيما دانوا إلا استقامة الخاصة فيما أمروا، فإن وهن هؤلاء في فريضة، أو قعد بهم الضعف عن إماطة منكر لاعتور أولئك الظنون والأوهام، ونكص كل على عقبية مارقًا من الدين القويم، حائدًا عن الصراط المستقيم. وبعد هذا وذاك وذلك أقول: إن الأمة الإيرانية بما دهمها من عراقيل الحوادث التي آذنت باستيلاء الضلال على بيت الدين، وتطاول الأجانب على حقوق المسلمين، ووجوم الحجة الحق (إياك أعني) عن القيام بنصرها وهو حامل الأمانة، والمسؤول عنها يوم القيامة - قد طارت نفوسها شعاعا وطاشت عقولها، وتاهت أفكارها ووقفت موقف الحيرة (وهي بين إنكار وإذعان وجحود وإيقان) لا تهتدي سبيلا. وهامت في بيداء الهواجس في عتمة الوساوس، ضالة عن رشدها لا تجد إليه دليلا، وأخذ القنوط بمجامع قلوبها، وسد دونها أبواب رجائها، وكادت أن تختار - إياسا منها - الضلالة على الهدى، وتعرض عن محجة الحق وتتبع الهوى، وإن آحاد الأمة لا يزالون يتساءلون - شاخصة أبصارهم - عن أسباب قضت على حجة الإسلام (إياك أعني) بالسبات والسكوت، وحتم عليه أن يطوي الكشح عن إقامة الدين على أساطينه، واضطره إلى ترك الشريعة وأهلها، إلى أيدي زنادقة يلعبون بها كيفما يريدون، ويحكمون فيها بما يشاؤون، حتى إن جماعة من الضعفاء زعموا أن قد كذبوا وظنوا في الحجة ظن السوء، وحسبوا الأمر أحبولة الحاذق وأسطورة الملق؛ وذلك لأنها ترى (وهو الواقع) أن لك الكلمة الجامعة، والحجة الساطعة، وأن أمرك في الكل نافذ، وليس لحكمك في الأمة منابذ، وأنك لو أردت تجمع آحاد الأمة بكلمة منك (وهي كلمة تنبثق من كيان الحق إلى صدور أهله) فترهب بها عدو الله وعدوهم، وتكف عنهم شر الزنادقة، وتزيح ما حاق بهم من العنت والشقاء، وتنشلهم من ضنك العيش إلى ما هو أرغد وأهنى، فيصير الدين بأهله منيعًا حريزًا، والإسلام بحجته رفيع المقام عزيزًا. هذا هو الحق، أنك رأس العصابة الحقة [2] ، وأنك الروح الساري في آحاد الأمة فلا يقوم لهم قائمة إلا بك، ولا تجتمع كلمتهم إلا عليك، لو قمت بالحق نهضوا جميعًا ولهم الكلمة العليا، ولو قعدت تثبطوا وصارت كلمتهم هي السفلى، ولربما كان هذا السير بالدوران حينما غض حبر الأمة طرفه عن شؤونهم، وتركهم هملاً بلا راع، وهمجًا بلا رادع ولا داع يقيم لهم عذرًا فيما ارتابوا. خصوصًا لما رأوا أن حجة الإسلام قد وَنَي فيما أطبقت الأمة خاصتها وعامتها على وجوبه، وأجمعت على حظر الاتقاء فيه [3] خشية لغوبه، ألا وهو حفظ حوزة الإسلام الذي به بعد الصيت وحسن الذكر والشرف الدائم والسعادة التامة. ومن يكون أليق بهذه وأحرى بها ممن اصطفاه الله في القرن الرابع عشر، وجعله برهانًا لدينه وحجة على البشر. أيها الحبر الأعظم، إن الملك قد وهنت مريرته فساءت سيرته، وضعفت مشاعره فقبحت سريرته، وعجز عن سياسة البلاد، وإدارة مصالح العباد، فجعل زمام الأمور كليها وجزئيها بيد زنديق أثيم غشوم ثم بعد ذلك زنيم ... يسب الأنبياء في المحاضر جهرًا ولا يذعن لشريعة الله أمرًا، ولا يرى لرؤساء الدين وقرًا، يشتم العلماء، ويقذف الأتقياء، ويهين السادة الكرام، ويعامل الوعاظ معاملة اللئام، وإنه بعد رجوعه من البلاد الإفرنجية قد خلع العذار، وتجاهر بشرب العقار، وموالاة الكفار، ومعاداة الأبرار. هذه هي أفعاله الخاصة في نفسه، ثم إنه باع الجزء الأعظم من البلاد الإيرانية ومنافعها لأعداء الدين: المعادن، والسبل الموصلة إليها، والطرق الجامعة بينها وبين تخوم البلاد، والخانات التي تبنى على جوانب تلك المسالك الشائعة التي تتشعب إلى جميع أرجاء المملكة وما يحيط بها من البساتين والحقول. نهر الكارون والفنادق التي تنشأ على ضفتيه إلى المنبع وما يستتبعها من الجنائن والمروج ... والجادة من الأهواز إلى طهران، وما على أطرافها من العمارات والفنادق والبساتين والحقول. والتنباك وما يتبعه من المراكز ومحلات الحرث وبيوت المستحفظين والحاملين والبائعين أنى وجد وحيث نبت، وحكر العنب للخمور وما تستلزمه من الحوانيت، والمعامل والمصانع في جميع أقطار البلاد، والصابون والشمع والسكر ولوازمها من المعامل والبنك، وما أدراك ما البنك؟ هو إعطاء زمام الأهالي كلية بيد عدو الإسلام واسترقاقه لهم واستملاكه إياهم وتسليمهم له بالرئاسة والسلطان. ثم إن الخائن البليد أراد أن يرضي العامة بواهي برهانه فحبق قائلاً: إن هذه معاهدات زمانية، ومقاولات وقتية، لا تطول مدتها أزيد من مائة سنة! ! يا لله من هذا البرهان الذي سوله خرق الخائنين، وعرض الجزء الباقي على الدولة الروسية حقًّا لسكوتها (لو سكتت) مرداب رشت وأنهر الطبرستان والجادة من أنزلى إلى الخراسان وما يتعلق بها من الدور والفنادق والحقول. ولكن الدولة الروسية شمخت بأنفها وأعرضت عن قبول تلك الهدية، وهي عازمة على استملاك الخراسان والاستيلاء على الأذربيجان والمازندران إن لم تنحل هذه المعاهدات ولم تنفسخ هذه المقاولات القاضية على تسليم المملكة تمامًا بيد ذاك العدو الألد، هذه هي النتيجة الأولى لسياسة هذا الأخرق. وبالجملة: إن هذا المجرم قد عرض أقطاع البلاد الإيرانية على الدولة ببيع المزاد، وإنه ببيع ممالك الإسلام ودور محمد وآله عليهم الصلاة والسلام للأجانب، ولكنه لخسة طبعه ودناءة فطرته لا يبيعها إلا بقيمة زهيدة ودراهم معدودة (نعم هكذا يكون إذا امتزجت اللئامة والشره بالخيانة والسفه) . وإنك أيها الحجة إن لم تقم بنصر هذه الأمة ولم تجمع كلمتها ولم تنزعها بقوة الشرع من يد هذا الأثيم، لأصبحت حوزة الإسلام تحت سلطة الأجانب (يحكمون فيها بما يشاؤون ويفعلون ما يريدون) وإذا فاتتك هذه الفرصة أيها الحبر ووقع الأمر وأنت حي لما أبقيت ذكرًا جميلاً بعدك في صحيفة العالم وأوراق التواريخ. وأنت تعلم أن علماء الإيران كافة والعامة بأجمعهم ينتظرون منك (وقد حرجت صدورهم وضاقت قلوبهم) كلمة واحدة يرون سعادتهم بها ونجاتهم فيها ... ومن خصه الله بقوة كهذه كيف يسوغ له أن يفرط فيها ويتركها سدى. ثم أقول للحجة قول خبير بصير أن الدولة العثمانية تتبجح بنهضتك على هذا الأمر، وتساعدك عليه لأنها تعلم أن مداخلة الإفرنج في الأقطار الإيرانية والاستيلاء عليها تجلب الضرر إلى بلادها لا محالة، وأن وزراء الإيران وأمراءها كلهم يبتهجون بكلمة تنبض بها في هذا الشأن؛ لأنهم بأجمعهم يعانون هذه المستحدثات طبعًا، ويسخطون من هذه المقاولات جبلة، ويجدون بنهضتك مجالاً لإبطالها، وفرصة لكف شر الشره الذي رضي بها وقضى عليها. ثم إن العلماء وإن كان كل صدع بالحق وجبه هذا الأخرق الخائن بسوء أعماله، ولكن ردعهم للزور، وزجرهم عن الخيانة، ونهرهم المجرمين ما قرت كسلسلة المعدات قرارًا، ولا جمعتها وحدة المقصد في زمان واحد. وهؤلاء لتماثلهم في مدارج العلوم وتشاكلهم في الرئاسة وتساويهم في الرتب غالبًا عند العامة لا ينجذب بعضهم إلى بعض ولا يصير أحد منهم لصقًا للآخر ولا يقع بينهم تأثير الجذب وتأثر الانجذاب حتى تتحقق هيئة وحدانية وقوة جامعة يمكن بها دفع الشر وصيانة الحوزة. كل يدور على محوره، وكل يردع الزور وهو في مركزه، (هذا هو سبب الضعف عن المقاومة وهذا هو سبب قوة المنكر والبغي) . وأنت وحدك أيها الحجة بما أوتيت من الدرجة السامية والمنزلة الرفيعة علة فعالة في نفوسهم، وقوة جامعة لقلوبهم، وبك تنضم القوى المتفرقة الشاردة، وتلتئم القدر المتشتتة الشاذة، وإن كلمة منك تأتي بوحدانية تامة يحق لها أن تدفع الشر المحدق بالبلاد، وتحفظ حوزة الدين وتصون بيضة الإسلام، فالكل منك وبك وإليك، وأنت المسؤول عن الكل عند الله وعند الناس. ثم أقول: إن العلماء والصلحاء في دفاعهم فرادى عن الدين وحوزته قد قاسوا من ذاك العتل شدائد ما سبق منذ قرون لها مثيل، وتحملوا لصيانة بلاد المسلمين عن الضياع وحفظ حقوقهم عن التلف كل هوان وكل صغار وكل فضيحة. ولا شك أن حبر الأمة قد سمع ما فعله أدلاء الكفر وأعوان الشرك بالعالم الفاضل الصالح الواعظ الحاج الملا فيض الله الدربندي، وستسمع قريبا ما صنعه الجفاة الطغاة بالعالم المجتهد التقي البار الحاج السيد علي أكبر الشيرازي، وستحيط علمًا بما فعله بحماة الملة والأمة من قتل وضرب وكي وحبس. ومن جملتهم الشاب الصالح الميرزا محمد رضا الكرماني الذي قتله ذلك المرتد في الحبس. والفاضل الكامل البار حاج سياح، والفاضل الأديب الميرزا فروغي، والأريب النجيب الميرزا محمد علي خان، والفاضل المتفنن اعتماد السلطنة وغيرهم. وأما قصتي وما فعله ذلك الكنود الظلوم معي، فمما يفتت أكباد أهل الإيمان ويقطع قلوب ذوي الإيقان، ويقضي بالدهشة على أهل الكفر وعباد الأوثان، إن ذاك اللئيم أمر بسحبي وأنا متحصن بحضرة عبد العظيم عليه السلام في شدة المرض على الثلج إلى دار الحكومة بهوان وصغار وفضيحة لا يمكن أن يتصور دونها في الشناعة (هذا كله بعد النهب والغارة) {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) . ثم حملني زبانيته الأوغاد وأنا مريض على برذون مسلسلاً في فصل الشتاء وتراكم الثلوج والرياح الزمهريرية، وساقتني جحفلة من الفرسان إلى خانقين وصحبني جمع من الشرط ... ولقد كاتب الوالي من قبل والتمس منه أن يبعدني إلى البصرة علمًا منه أنه لو تركني ونفسي لأتيتك أيها الحبر وبثثت لك شأنه وشأن الأمة، وشرحت لك ما حاق ببلاد الإسلام من

كتابان سياسيان للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده

الكاتب: محمد عبده

_ كتابان سياسيان للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أو مطالب مصر من إنكلترا للمستر بلنت الإنكليزي المستشرق الشهير كتاب سماه (التاريخ السري للاحتلال) جاء في الطبعة الثانية منه ترجمة كتابين أرسلهما إليه صديقه الأستاذ الإمام جوابًا عن أسئلة سأله عنها، وقد ترجمتهما جريدة اللواء عن الإنكليزية إلى العربية، ونقلهما عنها المؤيد وهذا نص الجريدتين: سأل المستر (ولفرد سكاون بلنت) المرحوم المفتي رأيه في الحال السياسية الجديدة التي نشأت في مصر عن إبرام الاتفاق الودي عقب توقيع فرنسا وإنكلترا عليه، فأجابه فضيلته على ذلك السؤال في كتاب بعثه له في يوم 6 مايو سنة 1904 هذا نصه: (إن رأيي في الإدارة المصرية إذا بقيت الخديوية في عائلة محمد علي هو كما يأتي: (1) أول وأهم قاعدة أساسية في تلك الإدارة، هو أنه يجب أن لا يكون للجناب الخديوي أي سلطة تخوله التداخل في أعمال الهيئات التنفيذية للنظارات ولا إدارة الأوقاف والأزهر ولا المحاكم الشرعية؛ بمعنى أنه لا ينبغي أن يجعل لتداخله الشخصي أثر ما في الإدارة المصرية مطلقًا. (2) ويجب أن يشكل مجلس على نسق مجلس الشورى الحالي بوجه التقريب، ولكن على نظام أقوم وترتيب أمثل منه، وينبغي أن يكون الوزراء وكبار الموظفين أعضاء فيه. وليس هناك ما يمنع من انتظام بعض كبار الموظفين من الإنكليز في الحكومة المصرية في سلك أعضائه، ويكون من اختصاص هذا المجلس سن القوانين الجديدة. (3) وينبغي أن توضع حدود لتداخل السلطات التنفيذية الذي يدعيه الموظفون الإنكليز كالمستشارين وغيرهم لأنفسهم، حتى لا يكون الموظفون المصريون مجرد آلات صماء لا إرادة لهم ولا رأي يبدونه من تلقاء أنفسهم. (4) وأن يشكل مجلس إدارة في كل نظارة من النظارات: كالحقانية والداخلية مثلاً، ينتخب أعضاؤه بواسطة المجلس العام المتقدم الذكر، وتكون وظيفة كل مجلس من هذه المجالس الإدارية البحث في تفصيلات المسائل المهمة ووضع المشروعات والقوانين والنظامات لكل مصلحة من مصالح الحكومة. (5) وأن يوضع قانون لنظارة المعارف يكون إجباريًّا بالنسبة للشئون المتعلقة بالمعارف العمومية والتعليم، وينبغي أن يخصص قسم من الدخل العمومي للقيام بنفقات التعليم، يكون كافيًا لفتح مدارس للتعليم العام وأخرى للتعليم الفني تكفي لسد حاجات البلاد. هذا هو رأيي بوجه عام قد أبديته لكم. فكتب له المستر (بلنت) بعد ذلك بشهرين، يسأله أن يتوسع في آرائه هذه ويضع نموذجًا للدستور المروم إدخاله في مصر، فأجابه إلى طلبه بعد طول روية ومشاورة أصدقائه في ذلك، وأخذ آرائهم في هذا السؤال وسؤال آخر عرضه عليه المستر بلنت أيضًا؛ يتعلق بما ينبغي أن يتخذ من الاحتياطات ضد ما يتوقع حدوثه من عدم ثقة الجناب الخديوي بالدستور، كما وقع على عهد المغفور له والده مما قضى على الآمال الوطنية. واستفسر منه أيضًا عما إذا كان من الممكن أن يقبل المصريون تعيين أمير أوربي بصفة والٍ تحت سيادة جلالة السلطان؛ إذا صعب الحصول على أمير من العائلة الخديوية متشبع تشبعًا تامًّا من الأفكار الدستورية. فأجاب المرحوم المفتي على جميع ذلك بالكتاب الآتي: صديقي العزيز المحترم: أهديك عظيم تحيتي وأعتذر لك عن إبطائي في الرد على كتابك المؤرخ في 8 يونية، فإني كنت مشغولاً جدًّا بالامتحان في مدرسة المعلمين والأزهر وغيرهما ولم أجد وقتًا خاليًا لأجيبكم فيه على كتابكم هذا، لا سيما وأن موضوعه دقيق للغاية ويعوزه مزيد ترو ودقيق نظر. وقد فكرت طويلاً، وتذاكرت مع بعض أفاضل المصريين فوجدتهم مجمعين على أن من أول الضروريات لحسن الإدارة المصرية؛ هو قيام الحكومة الإنكليزية بضمانة النظام في البلاد وكفالته، ومعنى ذلك أنها تراقب استتبابه والمحافظة على استمراره وعلى الدستور الذي يمنح لمصر، وأن لا تدع ذلك الدستور عرضة لتداخل الخديويين. ومتى تمت هذه الضمانة ومنح الدستور لا تبقى حاجة إلى نزع سلطة الحكم من عائلة محمد علي ولا إلى تعيين أمير أوروبي، لا سيما وأن تعيين أمير أوروبي لا يصادف قبولاً من الأهالي ولا يساعدهم على تحسين حالتهم. أما من جهة الدستور: فينبغي أن يراعي فيه ما سأذكره الآن من المسائل الآتية بصفة خاصة: (1) أن تناط جميع شئون الحكومة بسلطة أو أخرى (كذا) من السلطتين الآتيتين: أولاً: تناط بسلطة تشريعية تسن القوانين الإدارية والقضائية. ثانيًا: تناط بسلطة تنفيذية تكلف بتنفيذ تلك القوانين، وأن تحصر السلطة التشريعية في مجلس نواب أو وكلاء يزيد عدد أعضائه عن أعضاء مجلس الشورى الحالي، وتكون دائرة اختصاصاته الحالية بحيث تُحترم قراراته، وتكون واجبة التنفيذ، وأن لا يُسمح للوزراء بعدم احترامها ومراعاتها مهما كانت ظروف الأحوال، وهذا المجلس هو الذي يسن القوانين كافة، وتنتخب الوزارة من بين أعضائه، وأن تحصر السلطة التنفيذية في الوزارة التي تخول حق تقديم مشروعات القوانين بحيث لا تستأثر بسنها وحدها؛ لأن حق سنها هو من اختصاص مجلس النواب. (2) وأن تناط جميع مسائل الحكومة التي ليس لها ارتباط بسن القوانين بالوزارة بما في ذلك منح الرتب والنياشين، وأن لا يترك من أشغال الحكومة شيء مطلقًا للجناب الخديوي، وأن يناط بها أيضًا أمر المصالح المختصة بالتعليم الديني وغيره والمحاكم الشرعية والأهلية، وتوزيع الرتب والنياشين دون أن يسمح لسموه بأي تداخل فيها مطلقًا. (3) وإذا فُرِضَ وكان بعض الوزراء من الإنكليز، وكان لهم مرؤوسون من المصريين، فإنه ينبغي أن يعطى هؤلاء المرؤوسون المصريون أو الوزراء الثانويون سلطة تسمح لهم بأن يفصلوا في جميع المسائل المختصة بالدين وما أشبه ذلك تحت مراقبة الوزراء الأصليين، بحيث لا يكون الموظفون المصريون مجرد ألعوبة في أيديهم كما هو الحال الآن. وينبغي أن تلغى وظائف جميع المستشارين؛ اكتفاء بهؤلاء الوزراء، وفي هذه الحالة تقضي الضرورة بأن يكون رئيس الوزراء مسلمًا، بحيث يكون مركزه الرسمي محدودًا بوظيفة الرئاسة دون أن يشغل رئاسة نظارة من نظارات الحكومة. (4) وأن يكون جميع الموظفين الآخرين في الحكومة من المصريين؛ أعني أن المديرين ووكلاء المديريات وقضاة المحاكم الأهلية ابتدائية كانت أو استئنافية وأعضاء النيابة وغيرهم يكونون مصريين، ويجوز تعيين إنكليز كمفتشين وتعيينهم أيضًا في بعض وظائف في المصالح الهندسية والمعارف، وفي الوظائف الصناعية التي يحتاج الأمر فيها إلى معارف خاصة، حين لا يوجد فيه مصري تتوفر فيه الإحاطة بتلك المعارف الفنية. على أنه يجب على كل حال أن يحصر عمل أولئك الموظفين الأجانب فيما هو داخل ضمن دائرة اختصاصاتهم فقط، وأن يكونوا خاضعين لمراقبة الوزراء بحيث لا يخولون أقل سلطة إدارية أو قضائية؛ تفضي إلى إضعاف نفوذ الموظفين المصريين. (5) وأن يخول أعضاء مجلس النواب الحق في أن يسألوا النظار عن تنفيذ القوانين، وينتقدونهم على ما يفرط منهم من الخطأ أو يقع من الخلل في الأعمال، ويتحتم على النظار أن يبينوا أسباب ما يقومون به من الأعمال، وإذا وقع خلاف بين النواب والنظار يوكل أمر حل ذلك الخلاف إلى لجنة تشكل من خمسة أعضاء من مجلس النواب ينتخبون بالاقتراع السري، وخمسة آخرين من أعضاء محكمة الاستئناف ينتخبون مثلهم بالاقتراع السري، ورئيس المجلس ورئيس النظار ورئيس محكمة الاستئناف، ويكون حكم هذه اللجنة بالأغلبية المطلقة. ويجوز زيادة أعضاء هذه اللجنة بإضافة أعضاء آخرين عليها من مجلس النواب ومحكمة الاستئناف. وإني أعتقد أنه إذا وضع نظام دستوري على هذا النمط وضمنته الحكومة الإنكليزية لقام بحاجة البلاد، ولنالت حكومتها استقلالاً لم تعرف له مثيلاً. وينبغي أن لا ننسى إعادة تنظيم شؤون المعارف والتعليم، فإن هاتين المسألتين هما من أمس الأمور التي يبدأ مجلس النواب بمباشرة الاشتغال بها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده وبعد فراغة من هذا الكتاب وضع في ذيله الحاشية الآتية: قد نسيت أن أتكلم على الحربية، فأقول: إن السردار الإنكليزي وبعض ضباط الإنكليز يبقون في الجيش المصري، ولكن يجب أن يشغل المصريون ما بقي من وظائف الجيش، وإذا فرض وقامت بعض صعوبات بشأن ذلك، ورأت الحكومة الإنكليزية وجوب وجود قواد إنكليز فيه أعني (باشاوات) فلا ضرر في ذلك. *** قول المنار في الكتابين: قد كثر حديث الناس في هذين الكتابين لمَّا نُشرا في جريدة اللواء ثم المؤيد وغيره، ثم اتسع مجال الآراء فيهما بعد أن استنبط (اللواء) منهما ما استنبط ولخصمها (المؤيد) بما لخصمها به وزعم أن ما لخصه هو رأي الكاتب، وناهيك بتقليد الجرائد في دهماء هذه البلاد. قال المنتقدون: إن الكتابين يدلان على بغض كاتبهما للأسرة الخديوية كافة وللأمير الحاضر خاصة. وقالوا: إن فيهما تحسينًا للظن بالإنكليز، وقالوا: بل فيهما مشايعة لهم. وقالوا: هذا رأي الكاتب في الدستور المصري وأطلقوا؛ أي: إنه لو كان الأمر كله بيده لرضي لبلاده بما كتبه فيهما. وقالوا: إن كاتبهما على غير بينة بالقوانين الأساسية للأمم. وأغرب ما قالوا وما كتبوا هو ما أنبأ عن استنكارهم سلب السلطة الشخصية من الخديويين بحصر السلطة في مجلس النواب ومجلس الوزراء! ! وهم من هم المستنكرون لذلك؟ هم الذين يزعمون أنهم طلاب المجلس النيابي والحكومة الدستورية لمصر! ! ! يالله العجب. وقد استحسن كثير من العقلاء المستقلين المطالب التي في الكتابين، واستدلوا بهما على غيرة كاتبهما على بلاده وأهلها، وسعيه في إصلاح حالها سرًّا وجهرًا من كل طريق وكل منفذ. وأنكر آخرون صحة نسبة الكتابين إلى الأستاذ الإمام، وقالوا أنه ليس فيهما شيء من روحه ولا من أسلوبه. وإننا نبين حقيقة معناهما الذي حرفته الأهواء عن موضعه الذي وضعته فيه الظروف والأحوال بعد تمهيد نمهده لذلك فنقول: (1) ليعلم القارئ قبل كل شيء أن ما نشر في الجرائد ليس هو الذي كتبه الأستاذ الإمام، بل هو ترجمة لأحد محرري جريدة اللواء عن الإنكليزية. وما في الأصل الإنكليزي مترجم عن العربية. فإذا ظهر الأصل العربي الذي يقول حافظ أفندي عوض أنه رآه عند مؤلف الكتاب، يكون مراد الكاتب أظهر وأصح، والحكم عليه أعدل. (2) إن المراد منهما لا يفهم تمام الفهم إلا بترجمة ما كتبه (المستر بلنت) إلى الأستاذ الإمام بالحرف؛ لأن الفتوى تكون على حسب السؤال كما هو مشهور ومعروف. (3) قد علم مما كتب (اللواء والمؤيد) أن موضوع سؤال مستر (بلنت) يتعلق (بالحالة السياسية الجديدة التي نشأت في مصر عن إبرام الاتفاق الودي عقب توقيع فرنسا وإنجلترا عليه) فما رآه كان خاصًّا بتلك الحالة التي أمنت فيها إنكلترا معارضة أوربا لها في مصر. فإذا تذكرنا أن كل ما فعلناه من مقاومة الاحتلال أيام كان ضلع أوربا كلها معنا ولا سيما فرنسا لم يزده إلا قوة ورسوخًا - فإننا يمكن أن نعقل أن تلك المطالب التي طلبها الأستاذ الإمام بعد اتفاق أوربا مع الاحتلال علينا كانت كبيرة جدًّا، وأن الانتقاد على هذه المطالب ينبغي أن يكون محصورًا في كثرتها أو عظمتها، حتى جعلت نجاح إنكلترا بوفاق إبريل 1904 نجاحًا لمصر وحرمانًا لإنكلترا من معظم ما كان لها من النفوذ والسلطة. (4) ذكر اللواء فالمؤيد من موضوع سؤال بلنت كلمة (ا

نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية روى ابن عساكر عن محمد بن إسحاق قال: أخبرني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: والله ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعهم من الآفاق - عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة بن عامر - فقال: ما هذه الأحاديث التي أنشيتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآفاق؟ قالوا: (تنهانا؟) (قال: أقيموا عندي لا والله لا تفارقوني ما عشت , فنحن أعلم، نأخذ منكم ونرد عليكم) فما فارقوه حتى مات) . وروي أيضًا عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لألحقنك بأرض دوس. وقال لكعب (الأحبار) : لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة. وروي عن أبي أوفى قال: كنا إذا أتينا زيد بن أرقم فنقول: حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقول: كبرنا ونسينا , والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد. ورُوي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: بلغني حديث عن عليّ خفت أن أصاب أن أجده [1] عند غيره، فرحلت حتى قدمت عليه العراق، فسألته عن الحديث فحدثني وأخذ عليَّ عهدًا أن لا أخبر به أحدًا، ولوددت لو لم يفعل فأحدثكموه. ورُوي عن عمرو بن دينار قال: حدثني بعض ولد صهيب أنهم قالوا لأبيهم: ما لك لا تحدثنا كما يحدث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أما إني قد سمعت كما سمعوا ولكني يمنعني من الحديث عنه أني سمعته يقول: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ولكني سأحدثكم بحديث حفظه قلبي ووعاه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيّما رجل تزوج امرأة ومن نيته أن يذهب بصداقها لقي الله فهو زانٍ حتى يموت، وأيما رجل بايع رجلاً بيعًا ومن نيته أن يذهب بحقه فهو خائن حتى يموت) ورواه غيره والحديثان المرفوعان فيه مشهوران. وصهيب من السابقين الأولين رضي الله عنه. وروى أحمد وأبو يعلى (وصحح) عن عثمان قال: ما يمنعني أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون أوعى أصحابه عنه، ولكني أشهد أني سمعته يقول: (من قال علي ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار) . وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد، قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثًا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا عهد عمر؛ فإني لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون أوعى أصحابه إلا أني سمعته يقول: (من قال عليَّ ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار) . وروى أحمد والدارمي وابن ماجه وآخرون من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس إياكم وكثرة الحديث عني، فمن قال عني فلا يقولن إلا حقًّا وصدقًا، فمن قال عليَّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار) وقد روي عن بعض الصحابة الاعتذار بهذا الحديث المتواتر عن التحديث أو كثرته. وقد فتح الحافظ ابن عبد البر بابًا في كتاب (جامع بيان العلم) لبحث ذم الإكثار من الحديث، وقيده بقوله: دون التفهم له والتفقه فيه، قال - كما في مختصره: (عن الشعبي عن قرظة [2] بن كعب قال: خرجنا فشيعنا عمر إلى صرار [3] ثم دعا بماء فتوضأ، ثم قال لنا: أتدرون لم خرجت معكم؟ قلنا: أردت أن تشيعنا وتكرمنا. قال: (إن مع ذلك لحاجة خرجت لها، إنكم لتأتون بلدة لأهلها دويٌّ بالقرآن كدويِّ النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم) قال قرظة: فما حدثت بعده حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعنه أيضًا قال: قال لنا: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شريككم. وفي رواية عن قرظة أيضًا، قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال: أتدرون لما مشيت معكم؟ قالوا نعم نحن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيت معنا (لتكرمنا) فقال: إنكم تأتون أهل قرية لها دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث لتشغلوهم، جودوا القرآن وأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، امضوا وأنا شريككم. فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا، قال: نهانا عمر بن الخطاب. وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: ألا يعجبك أبو هريرة جاء فجلس على جانب حجرتي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسمعني، وكنت أسبح (تعني أنها تصلي) فقام قبل أن أقضي تسبيحي، ولو أدركته لرددت عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يسرد الحديث كسردكم. (وعن أبي الطفيل قال: سمعت عليًّا على المنبر يقول: أتحبون أن يكذب الله ورسوله لا تحدثوا الناس إلا بما يعلمون. وعن أبي هريرة أنه كان يقول: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائين: فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم (والبلعوم: الحلقوم) وعنه أنه قال: لقد حثدتكم بأحاديث لو حدثت بها زمن عمر بن الخطاب لضربني عمر بالدرة اهـ. أقول: فلو طال عمْر عمر حتى مات أبو هريرة في عصره لما وصلت إلينا تلك الأحاديث الكثيرة عنه، ومنها 446 حديثًا في البخاري ما عدا المكرر. وقد ذكر ابن عبد البر لنهي عمر وهو أمير المؤمنين عن التحديث تأويلات (منها) أنه (إنما كان لقوم لم يكونوا أحصوا القرآن فخشى عليهم الاشتغال بغيره عنه إذ هو الأصل لكل علم) وأقول: إن ما رواه في ذلك عن قرظة ينافي ذلك، فقد نهاهم عن تحديث قوم يحفظون القرآن، يفتأون يتلونه لأصواتهم به دوي كدوي النحل. ولو أراد نهيًا مقيدًا بهذا القيد لقال: لا تحدثوا إلا من حفظ القرآن. وقد عزا هذا القول لأبي عبيد قال: (وقال غيره: إنما نهى عمر عن الحديث عما لا يفيد حكمًا ولا سنة) وهذا أضعف مما قبله وقد عزاه إلى مجهول، وماذا يعني قائله بالحديث الذي لا يفيد حكما ولا سنة؟ أهي الأحاديث عن شمائله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه؟ كيف وهي أنفع من أحاديث الأحكام الفقهية؟ ثم ذكر أن بعضهم رد حديث قرظة هذا؛ لأن الآثار الثابتة عن عمر خلافه وذكر من هذه الآثار أمر عمر أن يبلغ عنه أن الرجم مما أنزله الله على نبيه في الكتاب. أقول: وهذا الأثر لا يصلح دليلاً؛ لأنه إنما نهى عن اشتغال الناس بالحديث عن الكتاب الذي هو أصل الدين. فإذا ادعي مدع أن عمر ما كان يريد أن يجعل الحديث أصلاً من أصول الدين، يمكنه أن يقول: إن حكم الرجم في رأيه من أحكام القرآن لا من أحكام الحديث غايته أن آيته نسخت تلاوتها، فالأمر بتبليغه أمر بتبليغ حكم قرآني، فلا يعارض النهي عن التحديث. ثم ذكر وجهًا آخر لرد حديث قرظة، وهو معارضة الكتاب والسنن له كقوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (الحشر: 7) وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الشورى: 52) قال: ولا سبيل إلى اتباعه والتأسي به إلا بالخبر عنه. وقد يجاب عن هذا بأن صراطه المستقيم هو القرآن والسياق يعين ذلك، وأن من يعمل بالقرآن يكون متأسيًا به لحديث عائشة في صحيح مسلم وغيره (كان خلقه القرآن) وأن سنته التي يجب أن تكون أصل القدوة، هي ما كان عليه هو وخاصة أصحابه عملاً وسيرة، فلا تتوقف على الأحاديث القولية. وأما الأمر بأخذهم ما يعطيهم الرسول فهو في قسمة الفيء ونحوه ما في معناه، والحديث الذي نحن بصدده لا يعارض ذلك. وذكر من أمثلة معارضته السنن حديث (نضّر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها) بناء على جعلهم الأحاديث القولية من السنن، وهو اصطلاح للعلماء توسعوا فيه بمعنى السنة، فجعلوها أعم مما كان يريده الصحابة من هذا اللفظ (السنة) وهي الطريقة المتبعة التي جرى عليها العمل. والحديث يصلح معارضًا للنهي عن التحديث وبينهما يطلب الترجيح. ويقول ابن عبد البر: إن عمر كان يريد النهي عن الإكثار لا عن أصل التحديث، وهو كما ترى، وإن الأخذ بالمرفوع مقدم. أقول: وههنا شيء آخر وهو إقرار الصحابة لعمر على نهيه، وقد يعارضه أنهم حدثوا فلم ينتهوا، وقد مر بك أن أبا هريرة كان يحدث بعده، فكأن اجتهادهم اختلف في المسألة. ومما ذكره ابن عبد البر عن عمر في معارضة حديث النهي قوله: (تعلموا الفرائض والسنة كما تتعلمون القرآن) فسوّى بينهما، وعن مورق العجلي أنه قال: كتب عمر: تعلموا السنة والفرائض واللحن كما تتعلمون القرآن، والجواب عن هذا يعلم مما قبله؛ وهو أن تعلم السنة غير التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن السنة سيرته صلى الله عليه وسلم، وتعرف من الصحابة بالعمل وبالأخبار كنحو (من السنة كذا) كما كانوا يقولون، والتحديث عنه نقل كلامه كما هو المتبادر، وإن اصطلح المحدثون بعد ذلك على تسمية كل كلام فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا وسنة. ومنه تسمية ابن عبد البر نفسه لرواية قرظة التي هي موضوع بحثنا حديثًا، وفسر اللحن في أثر عمر عن مورق فقال: قالوا: اللحن معرفة وجوه الكلام وتصرفه والحجة به. ثم قال: وعمر أيضًا هو القائل: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) وهو القائل: (سيأتي قوم يجادلونكم بشبه القرآن فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل) وأقول: إن هديه صلى الله عليه وسلم ليس موضع اشتباه، وأما سنته فلو أريد بها هنا أقواله لكان فيها من الشبهات ما في القرآن أو أكثر؛ لأن القرآن أعلى بيانًا وقد نقل بالحرف، والحديث كثيرًا ما نقل بالمعنى. فالسنة لا يراد بها إلا السيرة والطريقة المتبعة عنه صلى الله عليه وسلم بالعمل، والعمل لا تعترض فيه الشبهات. فلذلك أمر بالاحتجاج عليهم بالسنن. ومثل هذا أمر علي لابن عباس لما بعثه للاحتجاج على الخوارج، قال: (لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون، ولكن حاجهم بالسنة فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا) . اهـ من نهج البلاغة. ومن العجائب أن يغبى بعض المحدثين أحيانًا عن الفرق بين السنة والحديث في عرف الصحابة الموافق لأصل اللغة، فيحملوا السنة على اصطلاحهم الذي أحدثوه بعد ذلك، وليس لنا أن نلوم بعد هذا ذلك العالم الفرنسي المستشرق الذي قال لي مرة: إن الصحابة كانوا يقدمون الأحاديث على القرآن وذكر لي قول علي لابن عباس، فقلت له: إنه لا يعني بالسنة الأحاديث فإنها ذات وجوه تحتمل تأويل المجادلين كالقرآن، وإنما هي الطريقة المتبعة بالعمل. مثال ذلك احتجاج علي على معاوية وأصحابه بحديث عمار (تقتله الفئة الباغية) فقد أوله عمرو بن العاص فقال: إنما قتله من أخرجه. يعني عليًّا؛ ولكن لا سبيل إلى تأويل كيفية الصلاة وعددها وكيفية الحج لأنها ثابتة بالسنة. ولا يخفى أن السنة بهذا المعنى تشمل ما هو مفروض وما هو مندوب وما هو مستحب كما مر جوابه. هذا، وإن المبحث كبير ولا سبيل إلى تحريره واستيفاء فروعه في هذا الجزء، فنكتفي بما تقدّم في الوفاء بما وعدنا به في الجزء الماضي. وليعلم القارئ أن هذا البحث الأصولي بمعزل عن مسألة اهتداء المسلم بما يصح عنده من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، فتلك الأقوال هي ينابيع الحكم ومصابيح الظلم، وجوامع الكلم، ومفخر للأمة على جميع الأمم، بل إن في الأحاديث التي لم تصح أسانيدها من البدائع، والحكم الروائع، والكلم الجوامع، ما تتقاصر عن مثله أعناق العلماء، وتكبو في غاياته فرسان الحكماء، ولا تبلغ بعض مداه قرائح البلغاء، ولا غَرْوَ فإن من ال

حياة اللغة العربية

الكاتب: محمد الخضري

_ حياة اللغة العربية وبحث الترجمة والتعريب ونادي دار العلوم لكل لغة مقومات ومشخصات تمتاز بها على غيرها من اللغات كما تتمايز أنواع الجنس وأشخاص النوع. وحياة كل لغة تكون بأداء وظيفتها مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها. ووظيفة اللغة محصورة في شيء واحد هو تعبير أهلها بها عما يعلمون مهما اتسعت دائرة معارفهم وعلومهم. وقد كان للغة العربية حياة أدبية في عصر الجاهلية ثم ظهر بها الإسلام فجدد لها حياة أخرى أعلى مما كانت فيه؛ إذ جدد لها دينًا وشرعًا وسياسة ومدنية قامت بعلوم لغوية وعقلية وصناعية، فوسعت اللغة ذلك كله مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها في المفردات والأساليب. إن ما يتجدد للناس من المعلومات ببحثهم واكتشافهم وبما ينقل إليهم عن غيرهم، يظهر في لغتهم بضروب من المظاهر: فمنها ارتجال الأسماء، ومنها الاشتقاق، ومنها الترجمة، ومنها التجوز، ومنها التحويل للدخيل من الأسماء الأجنبية وإدخاله في لغتهم وجعله منها مع تركه على حاله، أو مع ضرب من التصرف فيه يكون به مناسبًا وملائمًا لكلماتها في أوزانها ومخارجها، وهو ما يسمى عندنا بالتعريب. وكل ذلك من مقتضى حياة اللغة، فهو يحصل في اللغة الحية بلا تكلف، كما يأكل كل من الإنسان الأبيض أو الأسود أو الأصفر الشيء المختص بأرض الآخر، فيتغذى به بدنه ويبقى هو مع ذلك على لونه ومشخصاته، لا يعرض له تغيير. ضعفت حياة اللغة العربية منذ بضعة قرون بعد أن صارت قسمين: عامية وخاصية، فأما الخاصية: وهي لغة العلم والكتابة فصارت متكلفة، وخرجت عن كونها ملكة راسخة. وأما العامية وهي لا تكون إلا ملكة حية في الألسنة، فصارت قاصرة على ما يصل إليه علم الأميين ومن في حكمهم من المتعلمين. وصار المشتغلون بالعلم والكتابة ضعافًا في ملكتها بقدر مزاولتهم للخاصية التي لم تصر ملكة لهم. فإذا عرض للعوام شيء جديد من المسميات بادروا إلى تسميته بلا تكلف كما هو شأن أهل الملكة في كل لغة، فترى المشتغلين منهم بالطباعة (مثلاً) يسمون كل أداة من أدواتها الأعجمية باسم منه العربي ومنه العجمي ومنه المعرب (وسنبين ذلك بعد) ولكن الخواص - وأعني بهم المشتغلين بالعلوم العربية - فإنهم يحارون فيما يعرض لهم من ذلك؛ إذ ليس لهم ملكة العامية كالعوام الآن ولا ملكة الخاصية التي كانت لناقلي علوم اليونان. سكت هؤلاء الخواص على هذا النقص زمنًا، وبحث بعضهم فيه أبحاثًا لم يكن فيها غناء. وقد أنشأ في هذا العام جمهور من المتخرجين في مدرسة دار العلوم وأكثرهم معلمون للعربية في مدارس الحكومة - ناديًا لهم، رأوا أن يكون من فوائد اجتماعهم فيه خدمة اللغة العربية بأكثر مما يخدمونها به في المدارس. وقد رأوا أن يكون أول عمل يقومون به البحث في هذه المسائل، وإننا نورد لهم خطابين في مسألة أسماء الأجناس الأعجمية التي يراد إدخالها في اللغة العربية هل تعرب تعريبًا أم تؤخذ بالترجمة والوضع الجديد؟ وقد عرف رأينا في ذلك مما تقدم، وسنزيده بيانًا بعد إيراد الخطابين. خطاب الشيخ محمد الخضري المدرس بمدرسة القضاء الشرعي أيها السادة: ينبئنا التاريخ أن اللغة العربية كانت لآخر القرن الثاني عشر قد وصلت إلى منتهى الضعة، وكادت تصبح أثرًا دارسًا، ولولا رجلان فكرا في إحيائها ووجدا من خيرة الأعوان من كان شعارهم الإخلاص والجد؛ لكنا اليوم على ما كان عليه سلفنا في أواخر ذلك العهد. أما أولهما فمحمد علي باشا مؤسس الأسرة الخديوية زادها الله تشريفًا وتكريمًا فإنه وجد المرحوم رفاعة باشا وتلاميذه بعد أن زج بهم في مضمار الحياة، فساروا شوطًا بعيدًا، ووضعوا الحجر الأول في نهضة اللغة، كتبوا وترجموا شيئًا كثيرًا أبقته لنا الأيام دليلاً على إخلاصهم ثم على مقدرتهم واستعدادهم، لم يتركوا فنًّا من الفنون التي كنا مستضعفين فيها إلا كتبوا فيه ترجمة أو من عند أنفسهم. وأما الثاني فهو صاحب الدولة المخلص في خدمة بلاده مصطفى رياض باشا. وجد الأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده وتلاميذه ورجال العزيمة من نابغي السوريين فقاموا بالنهضة الثانية. عهد إلى المرحوم إصلاح الوقائع المصرية والإشراف على ما يكتبه أرباب الدواوين في محاوراتهم، فكان ذلك منبهًا لهم أن يعتنوا بإصلاح ما يكتبون وتعلم ما يجهلون. ومن أكبر مساعد لتلك النهضة الجرائد العربية على اختلاف مذاهبها ومشاربها، فهي التي رفعت من قدرها وساعدت على رقيها بما كان يبذله أصحابها من الهمة في اختيار اللفظ والأسلوب، سواء في ذلك فاضلهم ومفضولهم. إذا دبت الحياة في جسم فإنها لا تقف عند غاية، فإن صاحبها دائمًا يرجو الكمال وهو أبدًا بعيد عن الأنظار، كذلك نحن الآن فإنا في بدء نهضة ثالثة يأخذ بيدها ويشد أزرها ذو السعادة الوزير المخلص سعد زغلول باشا ناظر المعارف العمومية في عهد مولانا وسيدنا أمير مصر عباس باشا حلمي الثاني، فهو مؤيد النهضة الثالثة كما كان جده مؤيد النهضة الأولى. تلك النهضة أن تكون اللغة العربية لغة تعليم وتعلم وكتابة وتكلم، ينبت فيها الصغير ولا يخل بوزنها الكبير، والأعوان اليوم أكثر منهم أمس، فإن البذور التي غرست قد أثمرت في كثير من الأنفس الطيبة، فصارت من أنفسها تطلب الغايات وترقب الكمال والمعونة من مثل هؤلاء أعظم. هذا المطلوب أيها السادة عزيز المنال وعر المسلك، فلا بد للوصول إليه من عزيمة صادقة يقودها العقل الصحيح لتهيئة الطريق، حتى لا تلتوي علينا المقاصد فنظن أنفسنا سائرين للأمام ونحن للخلف راجعون. ننظر أمامنا فنجد عقبات كثيرة لابد أن نقدرها قدرها حتى يمكننا تذليلها، عقبات كثيرة لست في معرض إحصائها الآن؛ لأني أقتصر على عقبة واحدة جعلت مجال البحث بين أيديكم. بيننا محدثات كثيرة تصل بلادنا على أيدي المخترعين الذين قدروا بجدهم أن ينتفعوا من كل ما خلقه الله سبحانه للإنسان، ولم يكن آباؤنا قد عرفوها حتى يعدوا لها العدة من الأسماء المبينة لمسماها، فنقف أمامها مبهوتين لا ندري كيف نعبر عنها، فإذا كتبنا وقف بنا القلم عندها حائرًا، فمنا من يكتب اللفظ الذي وضعه المخترع ويحيطه بقوسين علامة على أنه ليس من لغتنا أو بعبارة أوضح علامة على نقص اللغة ونفورها من كل جديد، ومنا من يحتال لذلك فيؤدي المعنى بكلمة وضعها العرب بإزاء مسمى آخر، وما يجده الكاتب يجد مثله المتكلم. لا يتفق الناس على شيء يتبعونه، وهذا نقص عظيم يجب أن نتلافاه وأن نتفق على ما نستعمله؛ لذلك وضعنا موضع البحث هذا السؤال: ما هي الطريقة المثلى للدلالة على المحدثات؟ أتعريب ألفاظها التي يضعها لها محدثوها وصقلها حتى تكون موافقة للهجات العرب؟ أم التوسع في بعض الألفاظ العربية ووضعه بإزائها. وقبل الإفصاح برأي في هذه المسألة، أبين لحضراتكم كيف كان العرب المتقدمون يفعلون إذا عرض عليهم شيء محدث من طريق غيرهم. ولا أريد أن أتوسع في البحث إلى ما وراء أسماء الأجناس؛ فإن اللغة العربية عندها من الثروة في الأسماء الدالة على المعاني ما لا تحتاج معه إلى استعارة من غيرها، أما أسماء الأجناس فإنها بالضرورة تتجدد بحدوث مسمياتها، والعرب كما تعلمون كانوا فقراء جدًّا من هذه المواد، فإنهم أهل بادية وحاجات المتبدي قليلة؛ إذ ليس أمامه إلا سماؤه وأرضه وبهمه وسلاحه ووجدانه، فمن المعقول أن يتفنن في وضع ما يدل على أجزاء ذلك من الأسماء، أما أدوات الحياة مما تخرجه الصنعة وتبدعه الفكرة فهو منها بعيد، وقلما يتلقى باديهم شيئًا منها عن بلاد أخرى؛ لأنهم انقطعوا عن الأمم أو كادوا. فأما الحاضرون منهم، وهم سكان ريف العراق ومشارف الشام واليمن فقد كان لهم من جوار الفرس والروم ما جعلهم يتلقون كثيرًا من الأداة، فتسوقهم حاجة التعبير والإبانة عما في النفس على أن يكون لذلك الشيء الذي استعملوه لفظًا يعبر عنه. والمعقول في اختيار اللفظ للمعنى ثلاث طرق: الأول: الوضع الجديد، وهذا لا مجال للكلام فيه؛ لأن الأقدمين ما عولوا عليه، وليس بيننا من يقول به على ما أظن، وسبب هذا فيما أعلم أن أحرف اللغة العربية قد شغلتها الأوضاع، فقلما نركب ثلاثة أحرف إلا وجدنا مجموعها قد وضع واستعمل اللهم إلا حروفًا قلائل، استثقل العرب جمعها في كلمة واحدة ومثل الثلاثة الأربعة والخمسة. الثاني: التوسع في الاستعمال وهو المراد بالتجوز: بأن يكون اللفظ قد وضع بإزاء مسمى، ولمناسبة بين المسمى القديم والجديد يستعمل ذلك اللفظ في المعنى الجديد ككلمة (تأمور) فإنها في أصل اللغة القلب؛ لأنه وعاء الدم ثم توسعوا فيها فجعلوها لكل وعاء، فإذا جاءهم أي وعاء على أي شكل استعملوا فيه لفظ (تأمور) ولا يأخذون عن غيرهم شيئًا، حتى يتركوا كلمة إبريق التي وضعها صناعه لتدل على شكله الخاص به، ويبحثون في كلماتهم القديمة عن لفظ قديم يدل على ما يشبه الدينار والدرهم فيستعملونه فيها ولا يأخذونها. الطريق الثالث: التعريب وهو أنه يأخذ من المخترع للشيء المسمى واسمه؛ بعد أن يصقلوه بألسنتهم حتى يكون خفيفًا عليها مناسبًا للهجتها، وهذا هو الطريق المعقول الذي اتبعه العرب وكل أمة من أمم العالم. مضى على الأمة العربية زمن طويل قبل الإسلام، وهي تتناول الألفاظ الدالة على الأجناس من واضعيها وتلحقها بلغتها من غير أن يقف في طريقها معارض، أخذوا الدينار والدرهم وألحقوهما بأبنيتهم واشتقوا منهما، فقالوا: فرس مدنر أي فيه نقط كالدينار، وقالوا: دنر وجهه أي تلألأ، ودينار مدنر أي مضروب، ودنر فلان كثرت دنانيره، وقالوا: رجل مدرهم كثير الدراهم، ودرهمت الخبازي صار ورقها كالدراهم، وأخذوا اللجام واشتقوا منه، فقالوا: ألجم وملجم ولجم، وتجوزوا في استعماله فقالوا: التُّقى ملجم؛ لأنه يقيد اللسان، ويكفه كما يفعل اللجام بالدابة. أخذوا من الصناعات الإستبرق والسندس والأساور والإبريق والطست والخوان والطبق والخز والديباج والسندس والهندسة والمهندس. وأخذوا من النباتات النرجس والبنفسج والنسرين والسوسن والياسمين والجلنار والزنجبيل والقرفة والفلفل والكراويا والعنبر والكافور والصندل إلى غير ذلك مما أحصاه نقلة اللغة. وكانت قاعدتهم في التعريب على جهتين: (الجهة الأولى) أن يلحقوا الكلمة بأبنيتهم، ومتى صارت الكلمة كذلك عدت من اللغة، وحكم عليها بما حكم على بقية الكلام فيشتقون منها، وكانوا يبدلون حرفًا مكان حرف لتقارب مخرجهما، كما فعلوا في لجام وكان أصله (لغام) بالغين، والجيم والغين متقاربان مع سهولة الجيم، وإذا كان الحرف بين كاف وجيم جعلوها جيمًا لقربها منها، ولم يكن بد من إبدالها؛ لأن ذلك الحرف ليس من كلامهم، فقالوا: جربز وآجر وجورب. وربما جعلوها قافًا؛ لأنها قريبة أيضًا فقالوا: قربز. ويبدلون مكان آخر الحرف الذي لا يثبت في كلامهم الجيم، فقالوا: كوسج وساذج، وأصل ذلك كوسه وساده كما ننطق به نحن الآن، ويبدلون مكان الحرف الذي بين الفاء والياء الفاء، فقالوا الفرند والفندق، وربما جعلوها باء، فقالوا برند، فالبدل مطرد في كل حرف ليس من حروفهم، يبدل منه ما قرب منه من الحروف الأعجمية. (والجهة الثانية) أن يبقوا الكلمة على وزنها عند الأمة ذات الشأن في وضعها كما فعلوا في الأبريسيم والأهليلج، وكما فعلوا في كثير من الأعلام، وقصدهم من ذلك ألا يبقى هناك

أوربا والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أوربا والإسلام رأي المنار فيما كتبه موسيو ميلي ونشرناه في الجزء الماضي: كتب ذلك الوزير في الإسلام والمسلمين كتابة خبير بصير، وقد صدق في قوله: إن جراثيم الحياة كامنة في الإسلام، وإن الرجوع إلى القرآن بعد تفسيره واستخراج ثماره بطرق العلوم العصرية هو الذي يعيد الحياة إلى المسلمين (وإن أمة أوربية تتجرد عن أوهامها القديمة وتفهم هذه الخطة العالية يمكنها أن تتقدم على غيرها تقدمًا عجيبًا) وقد نصح لأمته إذ نبهها إلى ذلك بقوله بعدما تقدم وذلك في آخر مقاله: (فاليوم الذي تشمر فيه فرنسا عن ساعد الجد وتسعى في تعليم وتربية الأهالي - ولا نقصد بذلك أن تلزمهم بنظاماتنا بل أن تسير بهم في مناهج التقدم الملائمة لطباعهم - هو اليوم الجميل حسب قول موسيو جونار الذي تحصل به على أكثر من فتح الممالك إذ به تتحقق لها السلطة على الأرواح) . ولكن هل تقبل فرنسا هذه النصيحة وتقدرها قدرها؟ قرأنا لكثير من علماء فرنسا وساستها كلامًا حسنًا في الإسلام وأماني حسنة في شأن المسلمين، ولكن ما رأينا لذلك تأثيرًا حقيقيًّا، فصار أكثرنا يحمل ذلك الكلام وأمثاله على الخلابة والتمويه ومخادعات السياسة، ولكن الكلام المعقول في نفسه إذا سمعه العاقل عن العاقل لا يمكن له أن يسميه تمويهًا وخداعًا، فأنا أعتقد أن جراثيم الحياة كامنة في الإسلام، وأن رؤساء المسلمين هم المانعون لها من النمو، وأعتقد أن دولة أوربية تتمكن من إحياء مملكة إسلامية يعرف لها فضلها جميع المسلمين ويكون لها منهم قوة تجعل لها مكانة عليا في الأرض، حتى في أوربا نفسها، وقد سبق لي كتابة في ذلك. وأعتقد أن فرنسا من أقدر الدول الكبرى على ذلك وأحوجهن إليه. فكيف يمكن أن أعتقد مع هذا كله أن قول موسيو ميلي مخادعة أو خلابة؟ ؟ أنا موقن بصحة كلامه وصدقه، وربما كان اعتقادي هذا أقوى من اعتقاده هو. ولكنني أشك في فقه أمته حقيقة ما يقول وقدرتها على الانسلال من الوهم القديم الذي أشار إليه. يعدون الشعوب الإسلامية من الشعوب الميتة أو الضعيفة، ولكن منهم من يقول: إن جراثيم الحياة كامنة فيها. ويعدون فرنسا من أعظم الأمم الحية، ولكن منا ومنهم من يعتقد أن مكروبات الضعف والانحطاط كامنة فيها. فنقول على هذا وذاك: إن المسلمين محتاجون إلى دولة كفرنسا تساعدهم على الحياة الجديدة في شمال أفريقية، وإن فرنسا محتاجة إلى حفظ حياتها القديمة وإمدادها بشعوب قابلة للحياة والقوة كالمسلمين. وإن هذا المطلب ممكن في نفسه ولكن فرنسا غافلة عنه؛ لأن القوي العزيز قلما يفكر في حقيقة حال من يراه دونه، فهذه عقبة دون المطلب ومن ورائها عقبة أخرى وهي أن الضعيف قلما يؤمن بإخلاص القوى له، فالمسلمون إلى اليوم لا يظنون أن فرنسا تريد بهم خيرًا وهم معذورون بهذا، وإنني أصرح به نصحًا لفرنسا ورغبة في حسن التفاهم بيننا وبينها لعل في ذلك فائدة لنا ولها. فما قلته هو الحقيقة وإن وُجد في المسلمين من أحسن القول في فرنسا كما وُجد في الفرنسيين من أحسن القول في المسلمين، فتلك الأقوال لم تغير الحقيقة ولا يغيرها مثلها، وإنما تغيرها الأعمال. والمسلمون الذين تسوسهم فرنسا لا يستطيعون أن يستميلوها بعمل أكثر مما هم عليه من الطاعة لها ولكنها هي تستطيع أن تستميلهم وأن تملك قلوبهم وأرواحهم كما هي مالكة لأبدانهم وأوطانهم، فهي التي يجب عليها الابتداء بالعمل. ربما يظن بعض المغرورين بقوتهم أن حال الجزائر خفية، لا يعرف حقيقتها مسلمو مصر والشام والحجاز وسائر المشرق. الحق أقول لهؤلاء: إن تلك الحال ليست بخفية، فإننا نعرفها ونشعر بشعور أهلها ولكن ما كل ما يعلم يكتب، وإنما كتبنا الآن هذه الكلمات؛ لما رأينا من بارقة الأمل في حسن التفاهم والسعي إليه بالعمل. لا نطلب من فرنسا للمسلمين أكثر مما أشار إليه مسيو ميلي، وهو السعي في تعليمهم وتربيتهم، بالقيد الذي ذكره والشرط الذي اشترطه، وهو أن يكون القصد تقدمهم بما يلائم طباعهم لا إلزامهم بنظامات فرنسا وعاداتها، فضلاً عن شرائعها ودينها، فالمطلوب مساعدتهم على إحياء لغتهم ودينهم، وإنماء ثروتهم مع تعليمهم العلوم والفنون العصرية بالتدريج الملائم لحالهم. يسهل هذا على فرنسا إذا قنعت من الاستعمار والامتلاك بما دون تحويل المسلمين عن لغتهم ودينهم ورقبة بلادهم، ولها بعد ذلك من موارد الثروة ومصادر القوة ما شاءت مع الرضا والحب. يعلم كل الملمين بأحوال السياسة من المسلمين أن فرنسا طامعة في الاستيلاء على المغرب الأقصى وتأليف إمبراطورية أفريقية إسلامية، وأهل الرأي منهم يعلمون أن شجاعة أهل المغرب واستبسالهم لا يدفعان عنهم ما تريده فرنسا بهم مع جهلهم وتفرقهم وكون بأسهم بينهم شديدًا. ولكن سياستها إياهم بمثل ما ساست به الجزائر في الماضي قد يراها المغرورون أمرًا يسيرًا، وهي في الحقيقة من أعسر الأمور وأشدها تعقيدًا وخطرًا على فرنسا في المستقبل، ويظن المغرورون أن تغيير السياسة في الجزائر تغييرًا صوريًّا كاف في إرضاء المسلمين في تلك البلاد، وإقناعهم في سائر البلاد بأن فرنسا تريد ترقيتهم مع المحافظة على دينهم ولغتهم. والحق أنه لا يفيد في الأمر إلا الإخلاص في العمل وهو لا يخفى على أحد. أقول هذا لفرنسا وأنا ناصح أمين، وإنما أنصح لها لاعتقادي أن في مصلحتها هذه خيرًا للمسلمين، بل أعتقد أن فرنسا لو جعلت لأهل الجزائر واليًا منهم لكانت فائدتها من ذلك أكبر من فائدتهم، فهل تلومني أمة الحرية إذا صرحت لها باعتقادي هذا، وتعاقبني عليه بمنع هذا الجزء من المنار أن يصل إلى الجزائر؟ كلا بل أظن أنها تقدر كلامي قدره، فإن لم تقدره اليوم فلابد أن تقدره في يوم آخر. بل نحن نعلم أن فرنسا ما رضيت أن يكون سلطانها على تونس سلطان حماية لا سلطان امتلاك رسمي؛ إلا لما استفادته من العبرة بحال الجزائر التي نعرفها نحن وهي أعرف بها منا. ولكن ما عملته في تونس منتقد من وجوه كثيرة، والمنة بما فيه من إصلاح أكبر منه. وقد شكرنا لها في هذه الأيام ما كان من التنفيس عن حملة الأقلام، وإنشاء مجلس الشورى وإن كان دون المرام، فعسى أن يكون هذا بدء سياسة مثلى يشكرها لها الإسلام.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب) سئل الشيخ محمد مصطفى أحد علماء الجزائر عن حكم الزينة واللباس في الإسلام وعن حكم احتجاب المرأة فأجاب عن ذلك بنحو خمسين ورقة، وطبع ما كتبه وأهدى إلينا منه نسخة فتصفحنا منها أوراقًا من مواضع مختلفة فلم نجد إلا قولاً قويمًا واختيارًا في النقل حسنًا. والمؤلف أدام الله النفع به متتبع لحركة العلم واقف على سير الإصلاح الديني والاجتماعي، وهو ينقل في مقالته هذه وفي غيرها من تصانيفه عن كتب الأستاذ الإمام وعن المنار نقولا تدل على دقه الاستقصاء وحسن الاستحضار ومراعاة حال العصر وتطبيق الأحكام على مقتضى الحال، ومن نقوله واختياره في مسألة الحجاب ما يأتي: وقال - يعني الآلوسي - في تفسير سورة النور: المشهور من مذهب أبي حنيفة أن الوجه والكفين والقدمين ليست بعورة مطلقا فلا يحرم النظر إليها. وقد أخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق؛ فأعرض عنها وقال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه صلى الله عليه وسلم) ، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) رقعة الوجه وباطن الكف، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال: الوجه والكفان. ولعل القدمين عندهما كالكفين إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاءً بالعلم بالمقايسة؛ فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في ستر الكفين لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات) اهـ. وقال المحقق ابن عابدين في رد المختار على الدر المختار ما نصه: (وفي شرح الكرخي: النظر إلى وجه الأجنبية والحرة ليس بحرام، ولكنه يكره لغير حاجة) اهـ ونقل عن السادة الحنابلة أن ستر وجه المرأة ويديها ليس واجبًا. ويروى عن القاضي عياض الإجماع على أن المرأة لا يلزمها في طريقها ستر وجهها وإنما هو سنة وعلى الرجال غض البصر عنها لقوله تعالى {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30) . وقال في شرح مختصر سيدي خليل عند قوله: (ومع أجنبي غير الوجه والكفين) ما يأتي: يجوز للأجنبي المسلم أن ينظر إلى وجه المرأة وكفيها من غير عذر ولو شابَّة، إلا لخوف فتنة أو قصد لذة. وهل يجب عليها حينئذ ستر وجهها أو لا يجب عليها ذلك؟ خلاف بين ابن مرزوق وعياض، وفصل الشيخ زروق في شرح (الوغليسية) بين الجميلة فيجب عليها، وغيرها فيستحب اهـ. وقال المحقق سيدي محمد الخرشي في سراجه على المختصر المذكور ما نصه: قال مالك (تأكل المرأة مع غير ذي محرم ومع غلامها، وقد تأكل مع زوجها وغيره ممن يؤاكله) ، (قال) ابن القطان: فيه (أي في قول مالك) إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبي؛ إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا اهـ. وقال الفاضل عبد الحميد أفندي الجابري في مبدإه ما نصه: ليس في الأمر الشرعي أو فيما اعتاده المسلمون ما يمنع النساء عن مخالطة بعض الرجال الأجانب عنهن بقدر الحاجة لغرض صحيح ومنفعة حقيقية، كالتماس حرفة أو تجارة تلائم حالهن أو تستدعيها ضرورتهن، أو تعلم علم بدون أن يتبرجن لهم بزينتهن أو يقعدن معهم مقعد اللهو والطرب ... إلى أن قال: قد تكون المرأة لا معيل لها من الرجال فنضطر لأن تقوم بأود نفسها ويكون من مقتضيات كسبها مخالطة الرجال أو حضور بعض مجامعهم، فمن كانت كذلك فهي لا تمنع عن تلك المخالطة ولا تعاب في عادة المسلمين عليها بقدر الحاجة للاكتساب لا سيما إذا لم تكن شابة حسناء، فإنها يعطى لها في ذلك تمام الحرية اهـ. نعم، الخلوة بالأجنبية حرام أو مكروه. قال صاحب الدر المختار: وفي الأشباه الخلوة بالأجنبية حرام إلا لملازمة مديونة هربت ودخلت خربة أو كانت عجوزًا شوهاء أو بحائل اهـ. ونقل محشيه ابن عابدين عن القنية أن الخلوة بالأجنبية مكروهة كراهة تحريم. وعن أبي يوسف ليست بتحريم ... إلى أن قال: إن الخلوة المحرمة تنتفي بالحائل وبوجود محرم أو امرأة ثقة قادرة. وهل تنتفي أيضًا بوجود رجل آخر أجنبي؟ لم أره اهـ. قلت: ذكر بعض المالكية أنها تنتفي بذلك. ثم قال المؤلف بعد هذه النقول: وكل من اطلع على الكتب التاريخية يعلم أن التبرقع ليس من مخترعات الإسلام (يعني أهله) فقد كانت نساء اليونان يستعملن البرقع إذا خرجن من بيوتهن كما هو الآن عند المسلمات وعند غيرهن من النساء الشرقيات في الشام ومصر. ولا يخفى أن نساء قبائل البربر وغالب عرب البادية لا يسترن وجوههن عن الأجانب ومع ذلك فهن لسن بخارجات بهذه العادة عن دائرة الدين الإسلامي. وقال بعض الحكماء: قد يجر التشديد في الحجاب الزائد على أصل الشرع إلى فساد صحة المرأة؛ إذ بإلزامها القعود في مسكنها دائما تحرم من منافع الهواء والشمس وسائر أنواع الرياضة الجسمية والعقلية، ولذلك كان معظم نساء المدن عليلا ضعيفا، ومتى ولدت إحداهن مرة تضعضعت بنيتها وبدت كأنها عجوز وهي في ريعان الشباب، ولا يمكن أن تنتج أبناء أقوياء تقوم بتربيتهم كما ينبغي إذا كانت مضطرة إلى البطالة ممنوعة من جميع الحركات المفيدة في نموها بدنا وحجى، بخلاف نساء البوادي فإنهن لما كن يتعاطين الأعمال الشاقة من الاحتطاب والسقي وتنقية المزارع والحصاد وجمع الزيتون وما أشبه ذلك - صرن في الغالب أصح أجساد وأصفى لونًا من المدنيات. ولم يشدد في الاحتجاب إلا السادة الشافعية وأفتى غيرهم من المتأخرين بقولهم، وعللوا ذلك بفساد الزمان. ولذلك قال عدة من متأخري الفقهاء الحنفية: حل النظر إلى وجه المرأة مقيد بعدم الشهوة وإلا فحرام. وهذا في زمانهم وأما في زماننا فيمنع النظر إلى وجه الشابة ولو من غير شهوة لا لأنه عورة بل لخوف الفتنة) . (المنار) إن جمهور الشافعية القدماء على أن النظر إلى الوجه والكفين غير محرم لأنه ليس بعورة اتفاقا. قال الرملي في نهايته هذا القول الذي ضعفه النووي ونسبه الإمام للجمهور، والشيخان للأكثرين وقال في المهمات أنه الصواب. واستدل لتصحيح النووي التحريم باتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات وبمظنة الفتنة. وما ادعوه من الاتفاق غير صحيح وإنما هو من فعل الأمراء في المدن خاصة، ولا حجة فيه فيبقى مظنة الفتنة وقد أفتى بعض الشافعية بحرمة النظر إلى وجه الأمرد لهذه العلة، وهو ما صححه النووي في المنهاج وكل ذلك اجتهاد من المتأخرين، وقد خالف كثير من الفقهاء المتأخرين أقوال من قبلهم بعلة فساد الزمان، ولعلهم لا يعرفون حقيقة الفرق بين زمانهم وزمان أولئك السابقين. فقد عهدنا أهل كل زمان يذمون زمانهم. والمؤلف لم يحفل بهذا الاجتهاد فقد قال بعد ما تقدم: (والحاصل أنه يحرم على الرجل نظره إلى حرة أجنبية مشتهاة ما عدا الوجه والكفين) ثم بين وجه هذا الاستثناء تبيينا وقد سلك نحو هذا المسلك في النقل والاختيار في سائر المسائل التي تقدمت الإشارة إليها فنحمد الله على وجود مثله في تلك البلاد. *** (بلوغ الأرب. في مآثر الشيخ الذهب) كتاب في جزئين للشيخ أحمد جمال الدين التونسي أحد مدرسي الطبقة العليا في جامع الزيتونة بتونس. والشيخ الذهب شيخه في الطريق. والكتاب محشو بالخرافات والدجل فيسوءنا ويحزننا والله أن يكون منسوبا إلى أحد مدرسي الطبقة العليا في تلك المدرسة الدينية التي تلي الأزهر في الشهرة، وأن نرى عليه تقاريظ اشهر علماء تلك البلاد ومنهم من نُجلّه عن تقرير الخرافات والثناء على كتاب هي فيه وعلى مؤلفه ويغلب على ظننا أن من علماء الإسلام في تونس من يقرظ الكتاب من غير أن يطلع عليه اطلاعا يكفي للحكم عليه اكتفاء ببيان مؤلفه لموضوعه وعملاً بحسن الظن فيه، كما هو شأن أكثرهم في مصر وسوريا كما نعلم بالاختبار. وقد رأيت تقريظا للشيخ محمد الإنبابي شيخ الأزهر الشهير في زمنه على كتاب لبعض الرفاعية كله طعن قبيح في الشيخ عبد القادر الجيلي وفي طريقته وأهلها وفيه من الجهل بالدين والتصوف العجب العجاب، وهذا الكتاب هو الذي حملني على تأليف كتاب (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) وأنا يومئذ في حجر الاشتغال والتحصيل. فهذا ما نعتذر به عن تقاريظ من نُجلَ من أولئك العلماء. وليست الخرافات هي كل ما ينقد في هذا الكتاب، بل تجد عبارته عامية الأسلوب كثيرة اللحن والغلط وفيه من تحريف آي القرآن العزيز عن مواضعها ما لا يصدر من عالم. وإنني أنقل نموذجًا منه ليعتبر بعبارته ومعانيه وعقل مؤلفه المعتبرون. جاء في ص 39 وما بعدها من الجزء الأول ما نصه: (لطيفة) كان ورد على الحاضرة (أي تونس) عالم جليل بصير يقول: أن أصله مغربي شريف أثناء مدة الأمير الصادق باي وأنزلوه بعلوة النيفر الكاين، بدريبة غربال وهو في أبهة وخدمة له برره وهو في فصاحة الكلام وبلاغته آية من آيات الله يحفظ ألف بيت كل كلماته شوارد اللوغة! متفنن حضرته؟ يتكلم في علم الكلام والتصوف بكلام عجيب. ووافق أني كنت عنده يوما فجاء المرحوم الشيخ محمد السنوسي الأديب فقال له الشيخ أين الوعد فقال له في محلى فقال ما قيدت نفسي بمحلك ثم التفت إلى الشيخ وقال احكم بيننا فقلت له ما عرفت الموضع فقال قرر له الموضع فقال الشيخ السنوسي: إني كنت عند السيد فسمع ذكره؟ وطبلا فقال لي هذا سماع بلادكم قلت هذا سماع البوادي وسماع بلادنا ستسمعه في محلي فقلت للشيخ أورضيتم بأن أحكم بينكما قال نعم قلت يا شيخ السنوسي؟ يلزمك أن توفي الوعد؟ في محل السيد لا في محلك فضحك متعجبا من هذه المعاملة المنافية للحكم في ظنه فقلت له يا هذا إن هؤلاء إذا سمعوا السماع؟ ربما صاحوا وربما مزقوا ثيابهم وربما طاروا في الهواء ولا يصلح بهم أن يحضروا معهم من لا يكون على حالهم لا سيما النساء ودارك مملؤة بالأجانب عنهم فضرب السيد الكف على الكف وقال صوفي ورب الكعبة فقلت له أمين يا رب العالمين؟ ثم حكى لنا أعجوبة في السماع حضرها عند ملك المسلمين في ذلك التاريخ الكاين؟ في الصين وأصلهم من الأربعة آلاف الذين أرسلهم أبو جعفر المنصور العباسي بمطلب من سلطان الصين فنصروه على القائمين عليه ثم خيرهم بين الإقامة على الإكرام التام أو الرجوع؟ فاختاروا الأول قال نزلت عنده ضيفا فاكرم نزلي ثم جاءني يوما وقال لي يا ابن بنت رسول الله هل لك شيء ترغبه ولم أوفيك به قال فقلت له لقد نزلت عند ملوك المسلمين والنصارى وما أكرمني أحد مثلك ولكن بقي عليك شيء واحد وهو السماع فقام على قدميه وقال: الأمان يا رسول الله وغدًا نستعمله. ثم أرسل لي؟ ولما جئت وجدت مجلسًا محتفلاً بالعلماء والوزراء وهو بينهم فأجلسني بإزائه وأمامهم نصف دائرة من الكراسي ثم أذن على الجواري فخرجن من تحت الستور واحدة بيدها عود وبيد الآخرة؟ مزمار وبيد الأخرى طار إلخ وجلسن على تلك الكراسي قال: ثم التفت إليَّ وقال: أي السماع نقدم: العربي أو الصين؟ فقلت: الأول مراعات للغته عليه السلام فترنمن وتنغمن بألحان؟ تسري مسرى بنات الحان، وأصوات توقف الطير وتحرك الجان أو ما معناه ولما راق السماع وسرى في الأرواح سريان الراح أو معناه أنشدت جارية منهن بيتين بديعين؟ وأجادت في إنشادهما قال: فما راعنا وإلا واحد من العلماء صاح وصعق ورمى بنفسه على ا

شيء من سيرة حسن باشا عبد الرزاق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شيء من سيرة حسن باشا عبد الرزاق (علمه وأدبه) نبت حسن باشا في بيت كريم وجاور في الأزهر تسع سنين تلقى فيها من فنون العربية وعلوم الشريعة ما رأى نفسه غير محتاج إلى تلقي غيره فيه. وهكذا شأن النابغين تكون مدة تعلمهم قصيرة في الغالب وكم من طالب أقام في الأزهر عشرات السنين ولم يستفد منه ما يطمعه في شهادة العالمية. وكان من شيوخه الشيخ نصر الهوريني اللغوي الأديب الشهير، ولعله هو الذي رغبه في الأدبيات فكان يحفظ كثيرا من مختار الشعر ويورد في حديثه الشواهد والأمثال منها فيضعها في مواضعها، وكان لنا معه محاضرات أدبية يسمعنا فيها أكثر مما يسمع منا. وقد نظم الشعر كثيرا ولكنه لم يبذله فلم يشتهر به. أما علمه بأصول الدين وأحكام الحلال والحرام، فقد ظهر أثره في جميع أدوار حياته فلم تعبث بعقيدته الشبهات على اتصاله بأهلها، ولم تزلزل استقامته معاشرة المترفين المسرفين مع الحكام مع الشباب والجدة اللذين هما أشد مثارات الافتتان. وأما علمه بالفقه فقد ظهر أثره في مجلس الشورى إذ هو الذي أعانه على فهم القوانين ودقة النظر في انتقادها على كونه لم يتلق علم الحقوق بالدراسة. (مزيته في أمته، بسياسة أسرته) لهذا الرجل مزية في بلاده لا يفضله فيها أحد قط فيما أعلم، مزية لو تبعه فيها أصحاب البيوتات لنالت البلاد بهم ما يتمنى لها محبوها من الارتقاء في أقرب وقت، مزية يمكن شرحها في مصنف خاص ولا يسعنا هنا إلا الاكتفاء بالإشارة إليها بعبارة وجيزة. من المتفق عليه بين العقلاء أن لحياة الأمة وارتقائها مبدأ وغاية فالمبدأ هو التربية الحسنة في البيوت والتعليم النافع للأفراد، وغايتها اتحاد من أوتوا المبدأ على العمل لرقيها المادي والمعنوي. فنحن نرى العقلاء يشكون من إهمال التربية الحسنة في البلاد ومن فقد الاتحاد بين المتعلمين حتى كأن المتعلمين في الأزهر أمة والمتعلمين في دار العلوم أمة والمتعلمين في سائر المدارس أمة - وكل أمة من هذه الأمم بعيدة عن الأخرى في أخلاقها وأفكارها. ولا أزيد على ذلك هنا. فكيف ربى هذا الرجل الحكيم أولاده؟ علم أبناءه - حسنا وحسينا ومحمودا - علم الحقوق وجعل الأول محاميا أهليا ومدرسا بمدرسة البوليس وألزم الثاني بعد أن قبل محاميا في المحاكم المختلطة بأن يكون عمدة في بلدة (أبو جرج) ولولا حسن التربية الأدبية الدينية لما ترك الإقامة في العاصمة مع أقرانه في العلم ورضي بأن يكون عمدة جل عمله مع الفلاحين طاعة لأبية. وجعل محمودًا في الإدارة فكان معاونًا في قسم الأزبكية ثم ترقى فصار مأمور الضبط في الفيوم وجعل أبنيه مصطفى وعليًّا مجاورين في الأزهر ولعله لا يوجد فيه من أولاد الباشوات الأغنياء غيرهما لأن كبراءنا يعدون المجاورة في الأزهر ضعة وضياعًا. وهما الآن في ذروة المجاورين تحصيلاً، يمتازان بالأدب العالي وحسن الإنشاء. وللشيخ مصطفى من المنظوم والمنثور ما يجعله في بدايته مزاحمًا للمجيدين في نهايتهم، وجعل ابنه إبراهيم في مدرسة الزراعة وابنه إسماعيل في مدرسة الناصرية وهو صغيرهم الذي لا يزال في حجر التعليم الابتدائي، فلا أدري أين كان يريد أن يوجهه بعد ذلك ولعله كان يرشحه لخدمة المعارف. وقد علم من هذا أنه كان يريد أن يجعل كل واحد من أولاده السبعة في أفق من آفاق أعمال البلاد ليكونوا قدوة يقتدى بهم في صدق الخدمة مع المحافظة على مقومات الأمة الدينية والاجتماعية ودعاة للوحدة وحسن التفاهم بين جميع طبقاتها المختلفة في التربية والتعليم، فيكونوا بذلك كالكواكب السبعة السيارة كل يدور في فلكه مع حفظ النسبة بينه وبين غيره بالجاذبية العامة. أما الجاذبية العامة بين هؤلاء فهي التربية التي كان يمدهم بها كبيرهم الذي كان منهم بمنزلة الشمس من كواكب السماء بجمعه بين الزي المصري من الجبة والقباء والعمامة ورتبة الباشوية، وبين إقامة شعائر الإسلام والآراء العصرية، والمستحسن من مظاهر المدنية، والقيام بالخدمة القانونية والسياسية، فما كان أروع تلك المائدة التي يستدير معه حولها حملة العمامة والطربوش الذين صار بين أمثالهم من البعد في مصر ما هو معروف. بل كان ولا يزال - ولن يزال إن شاء الله - في ذلك البيت اجتماع أروع وأبدع وهو الاجتماع الأسبوعي في كل ليلة جمعة لإلقاء الخطب الاجتماعية والأدبية والمذاكرات العلمية والدينية، وهذا الاجتماع عام لكل من يحضره من أسرة عبد الرزاق. فالمرحوم كان مربيا لإخوته وولدهم أيضًا. فأي تربية ترجو البلاد أفضل من هذه التربية؟ وما قولكم في أمة تتألف من مثل هذا البيت أو يكثر أمثاله فيها؟ (خدمته للأمة) أما خدمة الرجل لأمته في مجلس الشياخات بمديريته (المينا) وفي شورى القوانين نائبا عنها مدة ثماني عشرة سنة ثم في شركة الجريدة وحزب الأمة فهو معروف مشهور. فقد كان عضوا عاملا ومثالا صالحا في فهمه ودقته واستقلاله وحريته، كما كان قدوة في صلاحه واستقامته، تغمده الله بمغفرته ورحمته. أمين

مصائب الأمة الإسلامية بفقد رجالها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصائب الأمة الإسلامية بفقد رجالها (وفاة ذكاء الملك) ما نفضت الأمة الإسلامية يديها من غبار دفن النواب محسن الملك المصلح العظيم في الهند ولا رقأت دموعها عليه إلا وفاجأها نعي ذكاء الملك، العالم الاجتماعي والكاتب البليغ وداعية الإصلاح المؤثر صاحب جريدة (تربيت) الفارسية التي كانت تصدر في طهران عاصمة الفرس. وافاه الأجل المحتوم في رمضان، وتأخر نعيه عنَّا وسنترجمه في الجزء الآتي أو ما بعده. وقد علم القراء أن حسن باشا عاصم توفي على إثره في أول شوال، وتلاه حسن باشا عبد الرزاق، وكلاهما من رجال الإصلاح وأركان النهضة في مصر. *** (إبراهيم بك اللقاني) مازلنا بعد ذلك نتمثل بقول الشاعر: (تكسرت النصال على النصال) أيامًا، وإذا بالمنية قد أقصدت بسهم آخر نابغة النابغين وأفصح الخطباء وأبلغ المنشئين العالم القانوني صديقنا إبراهيم بك اللقاني المحامي الشهير وهو أرقى تلاميذ السيد جمال الدين بعد الأستاذ الإمام، وكان له في تلك النهضة الجمالية المقالات الرائعة، والخطب النافعة. ولكن الأمراض حالت بين الأمة وبين مساعدته لها بالإصلاح في هذه السنين حتى وافاه الأجل المحتوم، فكان أكبر عزاء أهل العلم والأدب عنه أنه كان من تبريح مرض السل به لا راحة له في الحياة، ولا نفع للأمة منه، ولا أنس للأصدقاء به. وسنذكر شيئًا من ترجمته في جزء آخر *** (الشيخ علي حسين) ثم لم نلبث بعد دفن هذا الصديق الكريم إلا أيامًا حتى بُغتنا بوفاة صديقنا الشيخ علي حسين أحد مساعدي التفتيش في نظارة المعارف بعد إلمام مرض السل (الذي اغتال اللقاني قبله) به زمنًا قصيرًا فيما نعلم وهو في شرخ الشباب ومقتبل العمر. تخرج في مدرسة دار العلوم، واشتغل بالتعليم في المدارس زمنًا ثم بتفتيش الكتاتيب في الأرياف، ثم في العاصمة. وكان من حزب الإصلاح الديني الاجتماعي، ثابتًا في رأيه، بصيرًا في أمره، هادئًا ساكنًا في عامة أحواله، كثير البحث في الأمور العامة، والتتبع للحوادث السياسية، فلو سألته عن حوادث حرب الدولة العلية واليونان أو حرب روسيا واليابان مثلاً لسردها عليك سردًا منتظمًا، وذكر لك آراء وميول الجرائد والدول فيها، كأنما يقرأ من تاريخ مدون. وكان صادق الحديث، صادق الود، دقيق النقد إلا أنه قليل البشاشة، قليل الحركة والرياضة. وكنت أنتقد منه هذا وأكثر عذله عليه. ولا ريب أنه هو الذي أعده للمرض الذي اغتاله، وإذا أراد الله أمرًا هيأ أسبابه. عني أخوه الكبير (لأمه) الشيخ محمد المهدي المدرس بمدرسة القضاء الشرعي بتمريضه، ولا عناية الوالد الرحيم بالولد البار النجيب، وبذل من وقته وماله في خدمته ما لم يفده إلا الأجر وحسن الذكر دون ما كان يحرص عليه من صحته وعافيته؛ فتوفاه الله تعالى في بيته فجهزه الجهاز الشرعي، وبعد تشييعه ودفنه أوعز إلى بعض الجرائد فنشرت عنه أنه لا يقيم الاحتفال المعتاد المعروف بالمأتم؛ لأنه ليس من السنة، وإنما هو من العادات التي أوهمت بعض الجرائد العامة أن القيام بها ثلاث ليال من السنة، فرأى الشيخ المهدي موت أخيه فرصة يعلم الناس بها قولاً وعملاً أن ذلك ليس من السنة في شيء. والعمل أبلغ من القول ومنه الكف وترك القادر. وقد توهم بعض الناس بذلك أنه لا يقبل تعزية الناس ويعدها بدعة وهو توهم باطل، فقد عزيناه في داره، فلا زال مؤيدًا للسنَّة في أقواله وأفعاله.

خطاب الشيخ أحمد الإسكندري في اللغة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب الشيخ أحمد الإسكندري في اللغة العربية بسم الله الرحمن الرحيم أيها السادة الأفاضل: إني لأحسبني سعيدًا موفقًا أن أقف الليلة معبرًا بلسان جمهور عظيم من أبناء اللغة العربية وحراسها وكفاة حاجها، وحماة ذمارها من حاضري مجلسنا هذا وغير حاضريه، ومن كل من يصلي إلى القبلة أو ينطق الضاد. أولئك الذين سأرى منهم من يشد أزري ويقيم عذري؛ إذا تنكبت عن محجتهم، أو فَتَر همي دون استيعاب آرائهم، واشتفاف ما في مزادتهم، فإن لكل فكر غاية، ولكل رأي شرعة، ورحم الله من استدرك فائتًا فنبه إليه، وأبصر ضائعًا فدل عليه، ولا تزال الجماعة من الناس بخير ما بقيت فيهم نَصَفَة لأنفسهم، وارتياح للحق أَنَّى جاءهم، فإن هم استمرؤوا المراء والعنت وخاطروا بمروآتهم في مصارعة الحق غضبًا للنفس وتعصبًا للهوى، فلا والله إن أفلحوا في أمر، أو أبلوا في عدو. هذا الذي أعرفه فيكم من النصفة في الحكم، والمظاهرة للحق، والحفاظ على سلامة اللغة، والنعرة في تشريف الجنس - هو الذي أطمعني في حسن الظن بأن مقالي هذا سيستجيش عزائمكم، ويستثير هممكم، ويستنصر حفائظكم؛ لمناهضة العجمة التي كادت تجهز على لغتكم، وتنازعكم وجودكم، وتنسخ من الدنيا جنسكم وملتكم، وهو الذي هون عليّ أن أبدأ بالتكلم في ذلك فأقول: حالة اللغة في زمنيها الماضي والحال شهد العدو قبل الصديق بأن لغة العرب أفسح اللغات مجالاً لقائل، وأخفها جرسًا على سامع، وأنها أجلى اللغات بيانًا وأعذبها منطقًا وأغناها لفظًا وأوفرها أسلوبًا، وأخصرها عبارة، وأوضحها تمييزًا وإعرابًا. ولو حاولت الاستشهاد على ذلك بأقوال علماء اللغات من شرقيين وغربيين لصرفت وجه القول عن موضوع الليلة، ولما وسعتني ليلة أو ليال ولو وقع ذلك مني في كتاب حافل، ولكني أترك الحكم بصحته لعزيز علمكم وجميل إنصافكم. هذه اللغة التي خدرها أهلها عن التبذل لسواها، وصان حُرَّ وجهها أولياؤها عن مسألتها غيرها منذ أزمان سحيقة، وعصور متوغلة في القدم يتضاءل أمامها التاريخ، ويتصاغر دونها عدد المئات والألوف، وقد تناوبها ما يتناوب كل طويل العمر من سعادة وشقاء وشدة ورخاء، فلشد ما تنكر لها الدهر فصابرته، وصارمها الصديق فحاسنته، كما طالما أشرقت لها أسارير الزمان، وأطلق لها في كل شيء الرسن والعنان، فمرت بها عصور سعد كانت فيها لغة العلم والحكمة، لغة الخطابة والمحاضرة، لغة الجدل والمناظرة، لغة الشعر والأدب، لغة الشريعة والدين، لغة القضاء والأحكام، لغة القرآن الكريم. وهي بعد لم تفقد من هذه الخصائص والمزايا إلا قليلاً، وما كانت سعادتها وشقاؤها إلا بإقبال أبنائها وإدبارهم، فإن هم كانت لهم دولة في الملك والعلم ضمت اللغة إلى حضنيها جميع العلوم والفنون، وبسطت جناحيها على سائر المعاني والأغراض، ولم تقف عند حد كفايتها لحاجات أبنائها، بل تعدتهم إلى من دان لهم ودخل في عهدهم، وإن دالت دولتهم وأسلم اللغة أهلها للغريب؛ تقلص ظلها وتقبضت أطرافها، وفترت عن مدافعة ذوي الطول والغلب. تعتبر ذلك بما دخل العربية من الألفاظ والمبالغات وأساليب التعظيم والتفخيم من الفارسية والتركية أيام غلبة الديلم والترك والفرس على دولة بني العباس، واشتقاقهم منها ممالك وإمارات عديدة. وهي اليوم تغالب عصرًا من عصور بؤسها وشقائها هو أشد العصور بأسًا وأصعبها مراسًا؛ ليس عصر غلبة أمة على أمة، بل عصر غلبة الغرب على الشرق، عصر إجلاب الغرب على الشرق بخيله ورجله، وعدده وأساطيله ولغاته المختلفة وعلومه وفنونه وصنائعه وكتبه وجرائده. دهم الغرب الشرق منذ أكثر من قرن بهذه القوة التي لا قبل له بها فوقفت العربية أمام هذا القاهر المستأثر بكل خير ومنفعة وقفة عاجز بائس، وقفة ظمآن على ينبوع عذب لا سبيل له إلى ورده. لم يكن هذا الوهن والانكشاف عن خور فطري في العربية أو جبن متأصل فيها، ولكن هذا شأن جميع اللغات أمام كل انقلاب جديد وحادث عظيم. وقد جرت سنة الوجود على أن مصير اللغات أمام الانقلابات العظيمة والحوادث الجِسام إلى أحد حالين: إما أن تتسامح في قبول كل ما يطرأ عليها من لغة غيرها لا سيما الألفاظ ذات المعاني التي لم تعهدها من قبل، فتندمج إحداهما في الأخرى على طول الزمن، كما اندمجت لغة بقايا عرب الأندلس في اللغة الأسبانيولية، وعرب جاوه في لغة الملايو، واللغة القبطية ورومية سورية في العربية. أو يتخلف عنهما خليط ليس من اللغتين، كما فعلنا نحن في لغة المحادثة فنشأت العامية المختلفة اللهجات المتشعبة المناحي وتبعها اختلاف الأجناس من مصري وشامي وعراقي ومغربي وسوداني وحجازي ويماني. وكما فعلت أمم أوربا أمام لغات المغيرين والفاتحين فنتجت لغات فرعية وأمم مختلفة الأجناس. وإما أن تتحرز عنها وتتصرف في استعمال ألفاظها لضم هذه المعاني الغريبة إليها بطرق التجوز والاشتقاق واستعمال الغريب والعتيق منها فيما له أدنى ملابسة به؛ فتحفظ بذلك كيانها وتبقي شكلها، بيد أنها تعظم وتفره وتزداد نشاطًا ورشاقة. وبعد، فإن هي آنست من أهلها روحًا قويًّا ونحيزة سليمة استطالت على اللغة الأجنبية وصادرتها على أعز عزيز عليها من علومها وفنونها. ففي أي طريق من هاتين نسير في تشجيع العربية؟ على اقتحام العقاب وتذليل الصعاب التي تحول دون ورودها نهر العلوم والمعارف الذي تحول مجراه إلى جهة الغرب؟ يقول قوم بسلوك الطريق الأولى، ومنهم حضرة خطيبنا الأول، وقد سمعتم أقواله، ويقول قوم بسلوك الطريق الثانية وأتشرف أن أكون أنا منهم. وها أنا الساعة آتي على الشبه والأعذار التي ينتحلها الفريق الأول ويتوهمون أنها تدفع عنهم تهمة الاستسلام والخنوع للغة الأجنبي سواء تعرض لها زميلي السابق أو لم يتعرض لها فأقول: (الشبهة الأولى) يقولون: إن لغة أي أمة ما هي إلا أصوات مختلفة تدل على المعاني التي تقوم بنفس كل فرد منها وتقع تحت إدراكه، وإن هذه المعاني والمدركات لا تخرج عن دائرة احتياجاته ومرافقه ومشاهداته بحسب طبيعة المقر الذي نبت فيه، والبيئة التي استوطنها، فليس يطلب إلا ما يعرفه ولا يصف إلا ما يشاهده من الأناسي وأنواع الحيوان والنبات والجماد، فإن هو انتقل من وطنه إلى وطن آخر يباينه طبيعة وسكانًا اختلفت احتياجاته ومشاهداته ومعانيه التي كانت تقوم بنفسه، واختلفت معارفه وأغراضه بقدر مخالفة الوطن الجديد للقديم - فهو لا يستعجم أمام هذه المناظر الجديدة ولا يخرس دون التعبير عن أغراضه الحديثة بعلة أنه لم يعهدها في وطنه ولم يوضع لها اللفظ في لغته، بل يجاري طبيعة وطنه الجديد، ويساجل الجيل الذي يعاشره، فيقتبس من لغته كما اقتبس من معانيه، ويتزود من ألفاظه كما تزود من المعلومات الحديثة التي أضافها إلى علمه. ومثل الأمة في ذلك مثل الفرد وذلك طبيعي في البشر. فإن العرب الذين نحن الآن بصدد البحث في لغتهم لم يشذوا عن هذا الناموس الطبيعي، بل نقلوا إلى لغتهم كثيرًا من الألفاظ الفارسية والرومية والحبشية والهيروغليفية والسنسكريتية إلخ، سواء كان ذلك في عصر جاهليتهم وبداوتهم، أو في عصر إسلامهم وحضارتهم. فقد كان شعراؤهم وتجارهم يدخلون العراق والشام والحبشة ويأتون بألفاظ أممها في شعرهم وحديثهم، فلا تلبث أن تنشب بلغتهم وتلوكها ألسنتهم وتمتزج بأرقى طبقات الفصيح من كلامهم. وكفى لذلك دليلاً أن القرآن الكريم جاء بهذه الألفاظ في تضاعيف آياته وعباراته البليغة مثل السندس والإستبرق والقسطاس، ولم تتجاف عنها الأحاديث الشريفة وعبارات البلغاء وسمر الخلفاء. بل تعدت تلك الألفاظ إلى أطعمتهم وملابسهم وآنيتهم، كالسكباج والطيلسان والسكرجة، على أنهم لم تقصر همتهم على نقل الأسماء فحسب، بل تصرفوا فيها واشتقوا منها أفعالاً وجمعوها جموعًا مختلفة فقالوا: ألجم الفرس إذا ألبسه اللجام وبهرج عمله إذا أبطله وجعله كالدرهم المبهرج، وجمعوا أستاذًا على أستاذين ونموذجًا على نماذج ونموذجات، مما عده أئمة اللغة أصلاً من أصول اللغة، وسموه بالتعريب، وأفردوه بالمؤلفات الممتعة. فبعد هذا كله لو أدخلنا في اللغة العربية أسماء الآلات الحديثة والجواهر المستكشفة والاصطلاحات العلمية، كما وضعها أربابها أو بنوع من التحريف لم نُحدِث حدثًا في اللغة، ولم نجن فيه بفعل منكر، وإنما نفعل ما فعله العرب أنفسهم ونكون بذلك قد خرجنا من الضيق الذي نحن فيه وانتجعنا باللغة منتجعًا تستمرئ به، ويزيد في فراهتها، وما برحت اللغات يأخذ بعضها عن بعض، فالإنجليزية مثلاً تنقل عن الفرنسية ما لم يكن فيها من أسماء المعاني والذوات ولا سيما أسماء الأدوات واصطلاحات العلوم، وكذلك الإنجليزية عن هذه وعن غيرها. ونقول في إزالة هذه الشبهة: لا نمنع أن اللغة يأخذ بعضها عن بعض وأن العرب أخذت من لغات غيرها، وأن في القرآن والحديث ألفاظًا أعجمية الأصل، وأن جميع هذا يسمى تعريبًا، وهو أصل من أصول اللغة، ولكن من هم الذين يأخذون ويضعون ويعربون ويتصرفون في اللغة العربية؟ لا شك أنهم أهل ذلك اللسان وهم العرب أنفسهم. فلا حق لغيرهم في التصرف والتعريب والاشتقاق من ألفاظ غيرهم، ولم يقل أحد من أئمة اللغة ونقلتها الثقاة بجواز إدخال الأعاجم والمولدين شيئًا من لغتهم في العربية الفصحى وعده منها، بل مقتوا ذلك وحاربوه ونبهوا الناس إليه في معاجمهم، فقالوا: إنه أعجمي عربه العرب أو عربه المُولدون. وربما أفردوا لذلك كتابًا ككتاب (المعرب) للجواليقي و (الشفاء) للشهاب الخفاجي وغيرهما. كما قاموا بجمع كثير من الألفاظ التي تقابل ما شاع على ألسنة أهل زمانهم من المولد والمستعجم، وسموه الفصيح كفصيح ثعلب وغيره. ننقل هنا رأي الأئمة فيمن له حق التعريب: قال الشهاب الخفاجي نقلاً عن الجواليقي: اعلم أن العرب تكلمت بشيء من الأعجمي، والصحيح منه (أي: مما صار معربًا) ما وقع في القرآن والحديث أو الشعر القديم أو كلام من يوثق بعربيته. فترون من ذلك أن التعريب حق للعرب وحدهم. وأمَّا ما عربه غيرهم من المولدين فلم يعدوه من قسم المعرب الذي يصلح استعماله في الفصيح، ولذلك قال الشهاب الخفاجي في آخر مقدمته في الشفاء: وقد أترك بعض ما عربوه لعدم وروده عمن يعتد به نحو (بشخانة) للكلمة التي يقولون لها ناموسية، قال: (وهو مولد) . بشخانة قد طرزت ... قالت بلفظ موجز على الحريريّ سما ... قدري والمطرزي وقال السيوطي نقلاً عن ابن دريد في الجمهرة: باب ما تكلمت به العرب من كلام العجم حتى صار كاللغة: فمما أخذوه من الفارسية البستان والبهرجان إلخ..، وقال نقلاً عن ابن الأنباري شارح المقامات: كثيرًا ما تغير العرب الأسماء الأعجمية إذا استعملتها كقول الأعشى: (وكسرى شهنشاه الذي سار ملكه) الأصل: شاهان شاه، فترون أنه لم يستشهد إلا بكلام عربي وهو الأعشى. فالتعريب إذن هو كما قال الجوهري في الصحاح: تعريب الاسم الأعجمي هو أن تتفوه به (العرب) على منهاجها. ونبحث الآن عمن هم العرب الذين يعتد بعربيتهم في استعمال الألفاظ التي هي من موضوع علم متن اللغة. قال البغدادي في كتابه (خزانة الأدب) نقلاً عن ابن جابر: (علوم الأدب ستة: اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان والبديع، والثلاثة الأول لا يستشهد عليها إلا بكلام العرب) ولا ريب في أن م

رأي كبار ساسة الغرب في الحركة المدنية الجديدة في الشرق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي كبار ساسة الغرب في الحركة المدنية الجديدة في الشرق قول كرومر في مصر والشرق: خطب لورد كرومر في مجلس الأعيان بلندره خطبة في موضوع اتفاق إنكلترا وروسيا الأخير فيها كثير من العبر لنا إن كنا نعتبر. فأحببت أن أنبه إلى ذلك بنقل جمل من ترجمة الخطبة، ثم الإشارة إلى مواضع العبرة فيها: قال: (إن الحال التي طرأت على الشرق منذ أعوام طوال وهي حال الانتقال من طور إلى طور قد اشتدت وتعاظمت في هذه الأيام. فإننا نرى الغرب يسعى إلى إدخال آرائه وأفكاره على الشرق في كل مكان، أو الشرق يسعى من تلقاء نفسه لأن يقتبس من الغرب نظامًا للأحكام لم يألفه ولم يكن يعرفه. فأفضى ذلك إلى إلقاء العناصر المتناقضة المتضادة كلها في بوتقة سياسيّة اجتماعية إدارية واحدة؛ لتذوب وتصهر فيها، ولا يعلم إلا الله ما تكون نتيجة صهرها وامتزاجها معًا. أما العناصر المتضادة المشار إليها فأذكرها الآن بالإيجاز آملاً أيها السادة أن أقنعكم بأن لكلامي عنها دخلاً حقيقيًّا في مسألة الاتفاق الإنكليزي الروسي: فأولاً: إننا نرى العواطف الدينية المتأصلة في النفوس تصارع اللاأدرية أو ما يقرب من اللاأدرية في كل مكان، ولا ريب أن اتصال الغرب بالشرق يُأول إلى زعزعة الأركان الأدبية التي يقوم عليها بناء الهيئة الاجتماعية الشرقية كلها. وثانيًا: إننا نرى في كل مكان تقريبًا أقوامًا ذوي عادات قديمة وآراء وأفكار شائعة وميل شديد إلى بقاء القديم على قدمه يتكلفون اليوم الجري في الأحكام على طرق غريبة عن الشرقيين ولا سابق علم لهم بها. وثالثًا: إن بين الخاصة المتعلمين والعامة الأميين في كل مكان من الشرق وخصوصًا في الهند ومصر - بونًا بعيدًا وهوة عظيمة. أما العامة فلم يحصلوا في هذه الأيام إلا على قليل من المعارف التي تزحزح حجب الجهل عن بصائرهم، وأما الخاصة المتهذبون فعلى جانب عظيم من المعرفة ولكنها غير مختمرة بخمير الاختبار والعمل. وهم يحاولون أن يحلوا بهذه المعرفة بعضا من أعوص المسائل وأعسر القضايا التي يشغل حلها عقول الفحول من أهل السياسة والإدارة. ولا ننس بعد ما ذكر أننا نلاقي في بلادنا هذه صعوبات كثيرة. فإن نمو الديمقراطية وانتشارها في بلادنا زاد صعوبات القضية التي وصفها المستر بريط منذ أعوام بقوله: (إنها قضية حكم شعب على شعب) يعني تدبير الشعب الإنكليزي لأمور الشعب الهندي. فليت الذين يشتغلون منا بالسياسة في هذه البلاد وهم لا يسئلون عما يفعلون، فيجزمون في الأمورويبتون، ويقولون ما يشاءون عن هذه المسألة الشرقية ولا يحتاطون، ولا يقدرون عواقب ما يقولون - ليت هؤلاء يتذكرون أحيانًا تحذير الدوق ولنجتون حيث قال مخاطبًا القوم: (إن كنتم تضيعون الهند يومًا فكونوا على يقين أن البرلمان هو الذي يضيعها لكم) (استحسان) والذي أتذكره أن دوق ولنجتون إنما قصد مجلسًا واحدًا من مجلسي البرلمان وهو غير مجلس الأعيان. (ضحك واستحسان) ولا يغيب عن الأذهان أيضًا أن الحروب اليابانية الأخيرة أثرت في عقول الشرقيين تأثيرًا عظيمًا وخصوصًا عقول أهل الشرق الأقصى، ولا عجب في ذلك كله فإنما هو نتيجة اختلاط الشرق بالغرب، وانتشار التمدن وتقدم المعارف والتعليم واتباع سياسة العقل والكمال التي لا تبقي الشعوب المحكومة غائصة في ظلمات الجهل حتى يسهل حكمها على الشعوب المتوسطة عليها. ولكن ذلك مما يوجب التفكير والتدبير أيضًا. لا أقول إنه يوجب الهم والقلق وإنما أقول إنه يوجب على الأمم التي لها أملاك في الشرق أن تزيد عناية وسهرًا ويقظة وحذرًا عما كانت عليه في كل ما غبر من تاريخها؛ إذ ليس يعلم أحد ما ستكون نتائج الاختمار الذي تطرق إلى أفكار أهالي الشرق الأقصى بعد ما أضحى مبدأ الجنسية يتأصل في الشرق ويحل محل الروابط الأخرى التي كانت تربط الناس هناك معا. على أني أستنتج منذ الآن نتيجة يؤمن الخطأ فيها، وهي أن المنافسات والمناظرات التي بين الأمم الغربية المخالطة للأمم الشرقية قد زادت الصعوبة جدًّا في حل المسائل الشرقية. وهنا ذكر مسألة المغرب الأقصى ومكدونية ثم قال: وتأملوا مصر أيضًا فإني منذ نحو سنتين أرسلت رسالة إلى نظارة الخارجية البريطانية شرحت فيها أخطار حركة الجامعة الإسلامية على مصر، فتوهم قوم أني بالغت في أمر تلك الأخطار. ولتدارك تلك الحركة في الحال وتسكينها بوجه السرعة ظنوا أن توهمهم لم يخل من الصحة. على أنني لم أبالغ في ما قلت، بل إني أشبه ما يسمونه بحادثة سينا اليوم بصورة جلية واضحة ألقيت من فانوس سحري على حجاب سياسي فجلت الحقيقة لبصائر المتأملين، وأبانت أن الضغائن القومية يمكن أن تهيج وتتعاظم بسرعة عظيمة، وأظهرت الصعوبات الحقيقية المستبطنة كل القضايا المتعلقة بالأحكام الشرقية. فالنتيجة التي أستنتجها هي وجوب الترحيب بكل ما من شأنه تخفيف الخطر الذي ينجم عن تنافس الدول الأوربية وتناظرها في المسائل الشرقية. ولذلك أرحب بهذا الاتفاق بين إنكلترا وروسيا لأنه يؤدي إلى توطيد أركان السلام في البلدان التي له علاقة بها، ويسهل علينا حل القضايا الأوربية الأخرى التي يكون لهذه البلدان شأن عظيم فيها (استحسان) اهـ المراد من الخطبة. وجوه العبرة في كلام اللورد: العبرة في كلام اللورد من وجوه: (أحدها) قوله: إن الغرب يسعى إلى إدخال آرائه وأفكاره على الشرق. فيجب على المشتغلين بالمباحث الاجتماعية منا أن يفهقوا غرض الغرب من ذلك ليعرفوا هل هو خير لهم أم شر أم هو بين ذلك. (ثانيها) تمثيله لحالنا في ذلك الانتقال بإلقاء العناصر المتناقضة كلها في بوتقة سياسية اجتماعية إدارية لتذوب وتصهر فيها. فيجب علينا أن نفقه معنى هذا التمثيل. ما هي هذه العناصر؟ من هم الملقون لها في هذه البوتقة لتذوب فيها؟ ما هو غرضهم من إذابة عناصرنا وما هو حظنا منه؟ هل نحن على بينة من هذا العمل، وهل لنا اختيار فيه من حيث هو عمل اجتماعي كبير تنتقل به الأمة من طور تعرفه إلى طور تتخيله فتحسب أنها تعرفه وهي لا تعرفه؟ (ثالثها) تبرؤه من العلم بنتيجة ذلك العمل الذي أبرزه في قالب التمثيل وتفويضه إلى الله وحده. فإذا كان مثله في علمه وعمله، وحنكته واختباره، وكونه من أشهر صاغة البوتقة التي هي آلة صوغ الأمم والشعوب لا يدري نتيجة عمله وعمل أمثاله، فهل يسهل على العناصر التي في البوتقة أن تكون أعلم بهذه النتيجة؟ يجب التأمل الطويل وعدم الاغترار بالأَحْدَاث المعجبين بما أخذوا عن الإفرنج من الأفكار والعادات التي هي علل الانقلاب. (رابعها) قوله: إن العواطف الدينية الراسخة في نفوس أهل الشرق أمست تصارع الإلحاد والتعطيل، وجزمه بأن اتصال الغرب بالشرق يُأول إلى زعزعة الأركان الأدبية التي يقوم عليها بناء الهيئة الاجتماعية الشرقية كلها. ويمكن جعل هذين القولين مقدمتين لقياس منطقي ينتج نتيجة مزعجة جدًّا. فإذا كان الأَحْدَاث الذين يتبعون كل ناعق بالوطنية والجنسية يحسبون أن هدم أركاننا القديمة أمر نافع لسهولة إحداث بناء آخر من الجنسية الوطنية، فإن أصحاب العقل والرَّوِيَّة يرون أن البناء أعسر من الهدم، وأننا نستقبل أخطارًا كبيرة في التحول والانقلاب أراها أشد هولاً مما تشير إليه هاتان المقدمتان من كلام اللورد اللتان أشار إلى نتيجتهما بعد بقوله: (إن مبدأ الجنسية يتأصل في الشرق ويحل محل الروابط الأخرى) . (خامسها) قوله في خواص المتهذبين والعارفين من أن معرفتهم غير مختمرة بخميرة الاختبار. (سادسها) بيان التفاوت بين عامة الشعب وخاصته. وهذا التفاوت يكون دائمًا مثار التخالف، والأمة لا تقوى وتعتز إلا إذا تكونت من أفراد متقاربين في الأفكار والأخلاق والعادات. إلا أن هذا التفاوت بين أفرادنا وبيوتنا لمثار خطر عظيم. (سابعها) وهو بالنسبة إلى المصريين أهمها قوله: (إن الضغائن القومية يمكن أن تهيج وتتعاظم بسرعة عظيمة) فهذا أقوى ما يهيج أهل أوربا على أهل الشرق! ! (ثامنها) كلامه في الاختمار الذي تطرق إلى أهل الشرق الأقصى وهو الذي حكم بحرمان أهل المعرفة والتهذيب في الشرق الأدنى منه. وقد يوضح هذا النوع من العبرة ما كتبه مكاتب (التيمس) في بكين عاصمة الصين إليها في ذلك. وهاك موضع العبرة منه نقلا عن المقطم بتصرف لفظي يسير وعنوان جديد وهو: نهضة الصين وسبب ارتقاء اليابان قالت التيمس: (يؤخذ من رسالة مكاتبنا أن مملكة الصين الضخمة دفنت في هذه الأيام أفكارًا قديمة مضى على رسوخها في أذهان أبنائها قرون عديدة، واندفعت بعزم شديد لا يرد ولا يقاوم إلى اقتباس التعلم الغربي، والاهتداء بمعالمه إلى مناهج التقدم والارتقاء. ولا شك أن هذا النهوض بعد ذلك السبات يعد دليلاً على الشعور الحي في نفوس الصينيين، ولاسيما الطبقات المتوسطة منهم؛ فقد طلبوا من الحكومة بصوت واحد أن تتحدى اليابان في اقتباس التعليم الغربي. ولما رأت الحكومة هذه النهضة العامة لم يسعها إلا أن تجاريهم وتجيبهم إلى مطالبهم لأن الزمان الذي كانت تلك الطبقات تحترم فيه التقاليد القديمة وتنقاد إلى الحكومة وذوي الشأن قد مضى وفات منذ انتصرت اليابان على روسيا، بل منذ اشتبكت الحرب بين الصين واليابان فإن هذه الحرب كانت عبرة وعظة للصينيين إذ دلتهم على أن قاعدتهم في التعليم عقيمة لا تأتيهم بثمرة، ولا تنشئ منهم رجالاً يديرون دفة السياسة، ويتفننون في نظام الجندية. أما الحرب الثانية بين روسيا واليابان: فقد علمتهم أن التعليم الغربي يضمن لأمة شرقية فوزًا مبينًا على أعظم دولة غربية ولكنهم أخطأوا في نظرهم لأنهم نسبوا نجاح اليابان وفوزها إلى ما اقتبسته من علوم الغربيين وفنونهم، والحال أن العلوم والفنون لم تفدهم بقدر ما أفادتهم كفاءتهم وصفاتهم الشخصية. والتمدن الأوربي إنما يعد حلقة وصلها اليابانيون بما أوتوه من شدة الذكاء والاستعداد الشخصي، فتم لهم ما أرادوا وعدت دولتهم في مصاف الدول العظمى. ولو وقف الأمر عند حد التمدن الذي اقتبسوه لما نجحوا ولا بلغوا هذه الدرجة. فالمصلحون الصينيون يحسبون تقدم اليابان نتيجة التمدن الغربي فقط وبعبارة أجلى: إنهم يريدون الاستمساك بأحد العاملين اللذين ارتقى بهما اليابانيون والإضراب عن العامل الآخر وهو أهم من الأول وأدعى إلى العناية والاستمساك؛ فإذا اهتموا به وعالجوا أدواءهم الشخصية وقوموا المعوج من عاداتهم وتقاليدهم وكان لهم ذكاء اليابانيين وكفاءتهم فإنهم يدركون ما أدركه إخوانهم، وإلا فإن التمدن الأوربي والتعليم الغربي لا يفيدهم شيئًا ولا ينقعان لهم غلة. وهب أن هذه الحركة الجديدة تعود بالنفع على الصينيين لكن التعليم الغربي عزيز المنال على الشعب الشرقي إلا إذا كان أفراده يستأصلون من نفوسهم ذلك الشعور الراسخ ويراعون مقتضى التعليم الغربي من كل وجه. فإنه يغير العادات والأخلاق والعقليات والأدبيات ويقضي على التقاليد والخرافات قضاء مبرمًا. فإذا كان في وسع الصينيين أن يفعلوا ذلك كله فالنجاح منهم على طرف التمام وإلا فإن انقسمت كلمتهم وانتصر قوم للحديث وآخرون للقديم أدى أمرهم إلى فوضى عظيمة تحصدهم حصدا، فيكون التعليم الغربي قد أفضى إلى الهيجان والاضطراب بدلا من أن يكون وسيلة إلى التقدم والارتقاء. وهذا شأن كل أمة شرقية تتلقى التعليم الغربي

أبو حامد الغزالي ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (4) تتمة الكلام في رأيه في العلوم الدنيوية (تابع لما في الجزء التاسع) (مقدمة رابعة) [1] من عظائم حيل هؤلاء في الاستدراج إذا ورد عليهم إشكال في معرض الحجاج قولهم: إن هذه العلوم الإلهية غامضة خفية وهي أعصى العلوم على الأفهام الذكية؛ ولا يتوصل إلى معرفة الجواب عن هذه الإشكاليات إلا بتقديم الرياضيات والمنطقيات. فمن يقلدهم في كفرهم إن خطر له إشكالٌ على مذهبهم يحسن الظن بهم ويقول: لا شك أن علومهم مشتملة على حله؛ وإنما يعسر عليَّ دركُه لأني لم أحكم المنطقيات ولم أحصل الرياضيات. (فنقول) أما الرياضيات التي هي نظر في الكم المنفصل وهو الحساب فلا تعلق لها بالإلهيات، وقول القائل إن الإلهيات تحتاج إليها خرق كقول القائل: إن الطب والنحو واللغة يحتاج إليها الحساب أو الحساب يحتاج إلى الطب. وأما الهندسيات التي هي نظر في الكم المتصل يرجع حاصله إلى بيان أن السموات وما تحتها إلى المركز كروي الشكل وبيان عدد طبقاتها أو بيان عدد الأكر المتحرّكة في الأفلاك، وبيان مقدار حركاتها، فلنسلم لهم جميع ذلك جدلاً أو اعتقادًا فلا يحتاجون إلى إقامة البراهين عليه ولا يقدح ذلك في شيء من النظر الإلهي؛ وهو كقول القائل: (العلم بأن هذا البيت حصل بصنع صانع بناء عالم مريد قادر حي يفتقر إلى أن يعرف أن البيت مسدس أو مثمن وأن يعرف عدد جذوعه وعدد لبناته) وهو هَذَيَانٌ لا يخفى فساده وكقول القائل: (لا يعرف كون هذه البصلة حادثة ما لم يعرف عدد طبقاتها ولا يعرف كون هذه الرمانة حادثة ما لم يعرف عدد حباتها) وهو هجر من الكلام مستعبث عند كل عاقل. نعم قولهم: إن المنطقيات لا بد من أحكامها، هو صحيح. ولكن المنطق ليس مخصوصًا بهم؛ وإنما هو الأصل الذي نسميه في فن الكلام: (كتاب النظر) فغيروا عبارته إلى المنطق تهويلاً، وقد نسميه كتاب الجدل وقد نسميه مدارك العقول، فإذا سمع المتكايس والمستضعف اسم المنطق ظنَّ أنه فن غريب لا يعرفه المتكلمون ولا يطلع عليه إلا الفلاسفة، ونحن لدفع هذا الخيال واستئصال هذه الحيلة في الإضلال نرى أن نفرد القول في مدارك العقول في غير هذا الكتاب ونهجر فيه ألفاظ المتكلمين والأصوليين؛ بل نوردها بعبارات المنطقيين ونَصُبُّهَا في قوالبهم ونقتفي آثارهم لفظًا لفظًا ونناظرهم في هذا الكتاب بلغتهم - أعني بعباراتهم في المنطق - ونوضح أن ما شرطوه في صورته في كتاب القياس وما وضعوه من الأوضاع فى إيساغوجي وقاطيغورياس [2] التي هي من أجزاء المنطق ومقدماته لم يتمكنوا من الوفاء بشيء منه في علومهم الإلهية؛ ولكنَّا نرى أن نفرد مدارك العقول في غير هذا الكتاب فإنه كالآلة لدرك مقصود هذا الكتاب ونفرد له كتابًا مفردًا، يرجع إليه ولكن رُبَّ ناظرٍ يستغني عنه في الفَهْمِ فيُؤَخِرَهُ حتى يعرض عنه من لا يحتاج إليه ومَنْ لا يفهم ألفاظنا في آحاد المسائل في الرَّدِ عليهم. فينبغي أن يبتدئ أولاً بحفظ الكتاب الذي سميناه معيار العلم الذي هو الملقب بالمنطق عندهم. اهـ كلام أبي حامد الغزالي في فاتحة كتابه (تهافت الفلاسفة) وذكر بعد ذلك فهرس المسائل التي أظهر تناقض مذهب الفلاسفة فيها وهي عشرون مسألة ثم قال ما نصه: (فهذا ما أردنا أن نذكر تناقضهم فيه من جملة علومهم الإلهية، وأما الرياضيات فلا معنى لإِنْكَارِهَا ولا للمخالفة فيها، فإنها ترجع إلى الحساب والهندسة، وأما المنطقيات فهي نظر في آلة الفكر في المعقولات، ولا يتفق فيه خلاف به مبالاة) وقد علم مما نقلناه عن كتابه (المنقذ من الضلال) أن المسائل العشرين من الفلسفة الإلهية التي بَيَّنَ في هذا الكتاب تناقضهم فيها ليست إلا أغلاطًا وابتداعات إلا ثلاث مسائل عدها من الكفر وهي: (1) إنكارهم البعث الجسماني زاعمين أن الثواب والعقاب في الآخرة يكونان على الأرواح المجردة. (2) زعمهم أن العالم قديم أزلي. (3) زعمهم أن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات (راجع ص 699) وأما الرياضيات والمنطقيات فليس فيها شيء يسمى بدعة ولا كفرًا؛ بل هي علوم حقيقة نافعة، وكذلك الطبيعيات وإن كثرت فيها إلى عهده النظريات. ولعمري إنه لولا تساهله وتسامحه لاستخرج أكثر من هذا من أغلاطهم المبنية على نظرياتهم الفاسدة، وما حمله على تلك الحملة عليهم إلا ما رآه من كسر كثير من المغرورين بعلومهم لقيود التقوى وتبجحهم بضروب الفخر وزخرف الدعوى حتى كادت تعم بفتنتهم البلوى، ولم يكن لها في عصره فائدة دنيوية تذكر. وقد كان - رحمه الله - فليسوفًا علميًّا لا نظريًّا فقط، ألم تر كيف جعل المسائل الطبيعية من لباب الدين بما نفخ فيها من روحه في كتاب التفكر من الإحياء؛ إذ يبحث فيه عن أعضاء الإنسان ووظائفها وحكمها، ومما تتألف منه على طريقة الأطباء حتى إنه يذكر عدد عظام العضو. كذلك يبحث في الأرض والهواء والبحار والحيوان والنبات بحثًا يدل على أنه كان واقفًا على علوم التاريخ الطبيعي، كما انتهى إليه علم الفلاسفة في عصره إلى ما له هو من الرأي المبتكر فيه، ومنه أن الماء ليس عنصرًا بسيطًا كما كانوا يقولون؛ بل هو مركب، وقد حقق رأيَّه المتأخرون. ومما بينه من طبائع الحيوان قوله في الكلام على أصناف الحيوانات من كتاب التفكر (لو أردنا أن نذكر عجائب البقة أو النملة أو النحلة أو العنكبوت وهي من صغار الحيوانات في بنائها بيتها وفي جمعها غذاءها وفي إلفها لزوجها، وفي ادخارها لقوتها وفي حذقها في هندسة بيتها وفي هدايتها إلى حاجتها - لم نقدر على ذلك، فترى العنكبوت يبني بيته على طرف نهر فيطلب أولاً موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونه حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ثم يلقي اللعاب الذي هو خيطه على جانب ليلصق به ثم يغدو إلى الجانب الآخر فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثم كذلك يتردد ثانيًا وثالثًا، ويجعل بُعْدَ ما بينهما متناسبًا تناسبًا هندسيًّا حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كالسَّدَى اشتعل باللُّحْمَةِ فيضع اللحمة على السَّدَى ويراعي في جميع ذلك تناسب الهندسة ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البق والذباب، ويقعد في زاوية مترصدًا لوقوع الصيد في الشبكة، فإذا وقع الصيد بادر إلى أخذه وأكله. فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ووصل بين طرفي الزاوية بخيط ثم علق نفسه فيها بخيط آخر وبقي منكسًا في الهواء ينتظر ذبابة تطير فإذا طارت رمى بنفسه إليه [3] فأخذه ولفَّ خَيْطَه على رجليه وأحكمه ثم أكله. وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يُحْصَى. أفترى أنه تَعَلَّمَ هذه الصنعة من نفسه أو كوّنه آدمي أو علمه؟ أو لا هادي له ولا معلم؟ أفيشك ذو بصيرة في أنه مسكين ضعيف عاجز؟ بل الفيل - العظيم شخصه الظاهرة قوتُه - عاجز عن أمر نفسه فكيف هذا الحيوان الضعيف؟ أفلا يشهد هو بشكله وصورته وحركته وهدايته وعجائب صنعته لفاطره الحكيم وخالقه القادر العليم؟ فالبصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله وكمالِ قدرتِه وحكمته ما تَتَحَيَّرَ فيه الألبابُ والعقولُ فضلاً عن سائر الحيوانات. وهذا الباب أيضًا لا حَصْرَ له فإن الحيوانات وأشكالها وأخلاقها وطباعها غير محصورة، وإنَّما سقط تعجب القلوب منه لأنسها بكثرة المشاهدة. نعم إذا رأى (الإنسان) حيوانًا غريبًا ولو دودًا تجدد عجبه وقال: سبحان الله ما أعجبه! والإنسان أعجب الحيوانات وليس يتعجب من نفسه) . اهـ فعلم من كلِّ ما تقدم أن رَأْيَ الغزالي في العلوم الدنيوية بطريق التفصيل هو أن كل علم يحتاج إليه الناس في معايشهم ومصالحهم فهو من فروض الكفاية، وما زاد عن الحاجة من مباحثه الكمالية يُعَدُّ فضيلةً لا فريضة كما صرَّح به في الكلام على علم الحساب من الإحياء وما لا يحتاج إليه منها إلا لنحو تسلية فهو مباح ما لم يكن فيه ضَرَرٌ أو مفسدةٌ دينية أو دنيوية. وأنَّ ما كان ضارًّا منها فهو محرم كالسحر والتلبيس والدجل. وأن العلوم الرياضية لا ضررَ في شيءٍ منها، وأن العلوم الطبيعية إذا قُرِنَتْ بالعبرة وتنبيه الذهن إلى ما فيها من الحِكَمِ الدالة على علم الخالق وحكمته ورحمته، تكون من علومِ الدين التي حثَّ عليها القرآن، وإذا اتُّبعتْ فيها الطريقة النظرية اليونانية تكون قليلة الجدوى كثيرة الأغلاط؛ ولكن الغلط فيها لا يصادم عقيدة الإسلام، ولا يقتضي خروج صاحبه من الدين. وإن في الفلسفة الإلهية ثلاث مسائلَ تُعَدُّ من الكفر الصريح. وقد ذكرناها آنِفًا. وإن عِلْمَ المَنْطِقِ من مقدمات علم الكلام، وأما علم الكلام فهو ضار بالعوام، ويجب أن لا يوجه إلا لمن عرضت لهم الشبه في عقائدهم أو لمجادلة من يوجهون الشبه إلي المسلمين لتشكيكهم في دينهم كما سيأتي. وهو عنده، وعند علماء الصوفية العارفين غير علم التوحيد، ولذلك جعل للتوحيد والتوكل كتابًا في الإحياء غير كتاب قواعد العقائد. على أن ما كتبه في قواعد العقائد ليس فيه من جدل المتكلمين إلا قليل بقدر الضرورة، وقد علمت أن المتكلمين مزجوا بين جميع العلوم الطبيعية والفلسفة اليونانية وبين العقائد الإسلامية وسموا ذلك كلَّه علمَ الكلام، ولذلك قيل إن موضوع علم الكلام هو الوجود، والغزالي لا يعده من علوم الدين. بل من رأيه أن علم الأحكام الذي يسمونه الفقه من علوم الدنيا لا من علوم الدين وأن طلاب الآخرة يكتفون من هذا العلم بقدر ما يحتاج إليه في القضاء والإفتاء، ولا يشتغلون باستنباط ما لا تدعو الحاجة إليه؛ بل يصرفون سائر الوقت في علم الدين والعمل الذي يقرب العبد من ربه عز وجل كما نُفَصِّلُ ذلك في الفصل الآتي. * * * رأيه في العلوم الشرعية قسم العلوم في الباب الثاني من كتاب العلم من الإحياء إلى محمودة ومذمومة. والمحمودة إلى شرعية وغير شرعية. وقد تقدم بيان رأيه في العلوم غير الشرعية وأن منها ما هو فريضة وما هو فضيلة وما هو مباح. وقال: (وأما المذموم منه فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعوذة والتلبيسات) ثم تكلم بعد ذلك في العلوم الشرعية، وقبل أن نذكر تفصيل رأيه فيها نذكر رأيه في العلم الذي هو فرض عين. العلم الذي هو فرض عين: وذكر في أول الباب الثاني اختلاف العلماء في العلم الذي هو فرض عين على كل مكلف، وزعْم كل من غلب عليه علم من التفسير والحديث والكلام والفقه والتصوف أن علمه هو فرض العين. وجزم هو بأن فرض العين هو العلم بمعنى كلمتي الشهادة وما يتبعه من العقائد السمعية من غير شك ولا اضطراب، والعلم بالطهارة وأحكام الصلاة عند دخول وقتها، وبأحكام الزكاة عند وجوبها على المكلَّف، وكذلك الحج، وبأحكام الصوم عند مجيء رمضان، وكذلك حكم كل ما يكون بصدد العمل به، فإذا تصدى للتجارة وجب عليه معرفة ما يحترس به من الوقوع في الحرام بقدر الحاجة، حتى إنه قيَّد وجوب تعلم الحذر من الربا بشيوعه في البلد. وكذلك تحريم أكل الخنزير ونحوه، وهو يقول في مواضع من كتبه: إن المكلَّف إذا مات قبل أن يعلم شيئًا مما يذكره المتكلمون في صفات الله تعالى كعلمه وكلامه هل هي عين الذات أو غير الذات وهل هي قديمة أو حادثة بأن لم يفكر في ذلك أصلاً وقبل أن يعلم بتحريم كثير من المحرمات التي لم يكن عرضة للوقوع فيها - فلا يكون ناقصًا في دينه ولا مسؤولاً يوم القيامة عمَّا جهله من ذلك ونحوه. وبع

تعريف وكلام عام في العربية والاستعراب والتعريب والإعراب

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ تعريف وكلام عام في العربية والاستعراب والتعريب والإعراب [*] لا الأخذ بالتعريب يضرها ولا الإعراب ينفعها وإنما نفعها وضررها على حسب همم رجالها. كلام يجر إلى كلام وحديث يسوق إلى حديث، والشيء بالشيء يذكر والند مع الند يقرر. إن مبحث التعريب الذي خطب فيه الفضلاء هذه الأيام قد تدرج ببعضهم إلى ذكر العرب والاستعراب، ثم جال بفكري إلى غير ما ذكروه من الأبواب فأحببت أن أعرب الآن عن بعض ماجال بفكري مما يحوم حول هذا المبحث وهي موضوعات متعددة أحببتُ أن أوحد الكلام فيها وآتي به مستمسكًا بعضه ببعض فلعلك تعرف الكتاب من عنوانه، وعساك تقف على ما يعجبك في شيء من بيانه. *** قال بعض الظرفاء: إذا كان وطن العرب شبه جزيرتهم فرأس مالهم لايزال كما هو والربح من بعده كثير. ونحن نأخذ هذا الكلام على وجهه من الجد صارفين النظر عن وجهه من الظرف ونقول: نعم إننا نجد في عرب اليوم عرب أمس وزيادة. نجد هذا في اللغة والأخلاق والعادة والحالة الاجتماعية والسياسية والجغرافية. ولعل القارئ إذا جلى أمام نظره ما يشهد لهذا يظن نفسه في رواية تمثيلية، بيد أنها طبيعية لا صناعية، وحقيقية لا خيالية. ميادينها الفيافي والفدافد الواسعة لا دائرة صغيرة ضيقة، وأبطالها الملايين الكثيرة لا نفر من الناس. ولو نشر اليوم أحد الجدود الأقدمين في أوربا مثلاً لأنكر فيها كل شيء، ولكنْ لو نشر أحد الجدود الأوربيين في شبه جزيرة العرب لما أنكر فيها شيئًا، فإن كل ما ترك من مأوى ومركب وسلاح وماعون وكساء وغذاء وقبائل وملاحم ومغازي ومفاوز وفدافد يجد خلفاءه لم يحدثوا فيه حدثًا ولم يعمدوا فيه إلى تغيير. يجد الخيام من الأوبار والجلود، ويجد السيوف والرماح والمجان والدروع، ويجد الصافنات والعاديات والقلائص والروامل والرواحل والعشار اليعملات، ويجد الصاع والقصاع والبرم والقدور والقداح، ويجد القمصان والعمائم والبرود والخفاف، ويجد العصائد والخزائر والهرائس والبر والشعير والتمر والزبد والألبان، ويجد بني صخر وبني حرب وبني عامر وبني وائل وبني بكر وبني طيء وبني فلان وفلان، ويجد حروبًا بين هذه القبائل قائمة ونيرانًا مستعرة يتواعدون الأيام لمنازلاتهم ويتربصون الفرص لمغازيهم، ويجد يد الطبيعية لم تزل موضوعة على حالها في تلك الطلول والديار وهاتيك المنازل والمناهل لم تدن منها يدُ الصناعة في شيء من الأشياء. كانت جزيرة العرب أقسامًا وهي اليوم كما كانت: تُهامة والحجاز واليمن وحضرموت وظفار والبحرين ونجد وبوادي الشام والعراق. كانت هذه البلاد تختلف وهي الآن كذلك؛ فتهامة والحجاز لم يكن فيها حرث وزرع إلا قليلاً، وكان أهلها أولي شظف في العيش غالبًا، ولا يزال القوم على هذه الحال. وأهل اليمن مع محافظتهم على جميع عادات العرب كان لهم حرث وزرع وهم اليوم هكذا. وأهل حضرموت وظفار والبحرين كان لهم حظ بالتجارة والاتصال بالهند مع المحافظة على سنن العرب، ولا يزالون اليوم على هذا المنوال، وكانت نجد كالحجاز إلا في زيادة المزارع وهي الآن كذلك، وكانت بوادي الشام والعراق ما بين قريب إلى المعمور وبعيد عنه وشأنهم مع أصحاب الممالك على حسب القرب والبعد وهي اليوم هكذا. وبالجملة كان أهل هذه الجزيرة روَّادَ معايش وطلاب أداة وماعون، ويتصل من أجل ذلك كل قسم منهم بالبلاد القريبة منهم ويقتبسون منهم شيئًا من العادات والاعتقادات ويكون لهم معهم شأن من الشؤون في الروابط السياسية والاجتماعية وهذا الحال عينه مشاهد اليوم فيهم بالتمام، وزد عليه أنهم كانوا في أنفسهم شعبًا واحدًا في لغة واحدة وبيئة واحدة وعادات واصطلاحات تكاد تكون واحدة. فالبيئة لم تتغير ولم يتطرق إليها انقسام جديد غير ما ذكر، والعادات والاصطلاحات لم تتغير ولم يطرأ إليها من الروابط إلا ما كان يطرأ مثلها من قبل، وكذلكم اللغة لم تتغير وكل من زعم تغيرها كان زعمه مبنيًّا على الظن والتخمين وضعف علم بالماضي والحاضر. فمخارج الحروف في لغة هؤلاء لا تزال كما وصفها لنا الناقلون كسيبويه وغيره، والمصادر التي نجدها منقولة عن العرب هي موجودة اليوم في لغة هؤلاء العرب إلا ما أوجده بعض مدوني العلوم أخذًا من اللغة نفسها وجريًا على سننها. والاشتقاق من المصادر كله على حاله، وجميع المشتقات تدور في لغة عرب اليوم على الوجه الصحيح، وإذا كنا نحن نتعلم بعض المشتقات تعلمًا ويتكلف المتعلمون منَّا تصحيحها تكلفًا، فإنها موجودة لديهم بالفطرة يتلقونها وهم أطفال وتصير المعرفة غريزية. قد سمعنا ذلك من صغارهم مثل كبارهم على حدٍ سواء ولا يحتاج المخالف إلا تجربة بسيطة. والألفاظ التي تدل على الأمور المحسوسة موجود مِنْهَا في لغتهم كل ما هو في المعاجم إلا ما حدث في عهد حضارتهم واتساع دولتهم، وهذا المستثنى ليس دليلاً على تغيُّرِهَا؛ بل هو دليل على عدم تغيرها؛ لأن بعض ما حدث في الحضارة لم يحدث لديهم، فهم من هذه الجهة قد بقي لديهم رأس المال لم يتغير وما حدث في الحضارة هو زائد. وقواعد التركيب وقوانين الترتيب من التقديم والتأخير والوصل والفصل والحصر والإظهار والإضمار والإفراد والجمع والأدوات ومواقعها وتأثيرها - باقية أيضًا كما هي. فإذا كانت المخارج محفوظة، والمصادر ظلت على حالها، والاشتقاق لم تفسد طرائقه، وأسماء الأشياء لم تتغير، وقواعد التركيب وقوانين الترتيب، وصيغ الإفراد والتثنية والجموع والضمائر كما هي؛ فأي تغير طرأ على لغة القوم؟ ! تجد الحضري في مصر والشام مثلا يقول النساء (راحوا) وهو خطأ؛ لأن الواو ضمير الذكور. وأما البدوي أو ابن جزيرة العرب فإنه يقول النساء رحن وهو الصواب كما نقل عن الأولين. وتجد الحضري في مصر يقول: (فلان يضرب) بفتح الراء وفي الشام يقولون (يضرب) بضم الراء، وكلاهما خطأ. وأما البدوي أو ابن جزيرة العرب فإنه يقول: (يضرب) بكسر الراء وهو الصواب كما نقل عن الأولين. ولو أردنا أن نورد الشواهد لهذا لاحتجنا إلى مجلدات، فنحن نستغني عن هذا بأن نحيل من لم يثق بقولنا على التجربة ومخالطة هؤلاء العرب ولو قليلاً. وإنما يصح أن نعدّ من التغير تركهم حركات أواخر الكلم؛ هذا إذا صح أن الأولين كانوا ينطقون بها دائمًا، وأما إذا صح ما يذهب إليه بعضهم من أن الحركات لم يكن الأولون يستعملونها إلا في لغة الشعر وحالات مخصوصة فلا يكون هؤلاء مبتدعين بتركهم سنة من سنن الأولين، ويصح أن نعد من التغير إهمالهم ضمير المثنى وإهمالهم بعض الأدوات التي يقوم مقامها غيرها أو يمكن الاستغناء عنها. فمما تركه أكثر القبائل من الأدوات (هل) استغناء عنها بهمزة الاستفهام أو بقرينة الاستفهام، ومما تركوه (قد) التي للتحقيق والتي للتقليل استغناءً عنها بالقرائن، وممَّا تركه أكثرهم (لم) التي تدخل على المضارع فتحيل معنى الفعل المنفي للماضي تركوها استغناءً عنها بـ (ما) التي تدخل على الماضي مباشرة فإن (ما ضرب) مثل (لم يضرب) بالتمام، ومما تركوه (لمّا) التي تفيد استمرار النفي في الماضي إلى الوقت الحاضر. هذا كل ما عرفته مما تركوه بعد إمعاني زمنًا طويلاً في مخاطباتهم وسماع شعرهم، ورأيتهم أيضًا لا يستعملون التنوين إلا للتنكير ولا يحذفون النون لناصب أو جازم. وبَدِيِهِيٌّ أن هذا التغير ليس من التغير المفسد، ثم إنه لقلته غير جدير أن يعد، فأما إهمال الحركات فهو جَائِزٌ عند أهل الإعراب في حالة الوقف. وماذا على القوم إذا أجروا الكلمات كلها مجرى الكلمات الموقف عليها، وإذا ضممت إلى هذا المنزع ما تعرفه من اختلاف لغات الأولين في حالة الإعراب كما نقله إلينا الناقلون لم يصعب عليك أن تعد إهمال الحركات لغة من اللغات هي خير من بعض تلك اللغات التي تفسد كل ما نقلوه من قواعد الإعراب؛ فقد نقلوا لنا أن بعض العرب كانوا يرفعون المفعول وينصبون الفاعل، وليس شيء فوق هذا مما يمحق كل ما يرجونه من فوائد الإعراب. ومن أحاط علمًا بكل ما نقل في هذا الباب أو أكثره لا يجد قاعدة مما بنوه إلا وهي منقوضة بشيء آخر قد سمَّوه من شواذ اللغات. فأيُّ ضرر يحدث من هذه اللغة التي تهمل فيها الحركات ويسد فيها باب الإعراب؟ ألم تروا أن هؤلاء القوم يتفاهمون والحالة هذه تمام التفاهم؟ ولقد تقصيتُ كثيرًا من الدواوين المنسوبة إلى شعراء الجاهلية والمخضرمين فألفيت فيها كثيرًا مما قد خالفوا فيه قواعد الإعراب مخالفةً ظاهرةً واضحةً لا تحتمل التأويل، وإنما قلت: إنها ظاهرة؛ لأنها واقعة في القوافي، وسأفرد لهذا الموضوع مبحثًا مستقلاًّ بَيْدَ أنني آتي هنا بأمثلة تؤيد ما قلته. قال جرير: حملت أمرًا عظيمًا فاصطبرت له ... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا والقاعدة تقضي أن يقول (يا عمر) بضم الراء. وقال: فالشمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا ولا وجه لنصب القمر، وما تكلفوه من التأويل في الإعراب غير مَرضيّ لدى الأذواق التي سلمت من التمحل. وقال من قصيدة قافيتها نون مكسورة من بحر الوافر: عرفنا جعفرًا وبني عبيد ... وأنكرنا زعانف آخرين بكسر النون، والقاعدة تقتضي فتحها وليس كسرها لغة لقومه فيما روي. وبعد هذا البيت: أتوعدني وراء بني رياح ... كذبت لتقعدن يداك دوني وقال من قصيدة قافيتها باء مفتوحة من بحر الوافر: ألم تران زيد مناة القوم ... قراسية تذل به الصعابا والقاعدة تقتضي رفع الصعاب بعد قوله: (تذلّ) بالتاء، وإذا خالفنا الموجود في النسخ المطبوعة والخطية وقرأناها (تذل) بنون المتلكمين قد يستقيم المعنى ولا يتأذى الإعراب، فعسى أن تكون صحة الرواية على هذا الوجه. وقال من قصيدة قافيتها راء مكسورة من الوافر: لقد نادى أميرك بابتكار ... ولم يلووا عليك ولم تزار والقاعدة تقضي بأن تكون الكلمة التي بعد (لم) الثانية (تزر) لا (تزار) . وأنا لا أقصد بهذا إحداث مذهب جديد - هو إهمال الإعراب - بل أقصد تأييد أن اللغة العربية التي كانت قبل ثلاثة عشر قرنًا أو أربعة عشر قرنًا أو أكثر هي باقية اليوم في وطنها كما هي لم يطرأ عليها تغير ولاسيَّما عند أهل الخيام العريقين بها، وأقصد أيضًا أن أذكر الناس بأن إهمال الإعراب لا يضر هذه اللغة كما لم يضر كل اللغات الخالية منه. وأما إهمال ضمير المثنى فلا أدري له سببًا بَيْدَ أنني لا أراه كبيرًا من الأمر؛ بل هو يخفف الكلفة فيما لا حاجة إليه. أقول لا حاجة إليه لأن الضمير لا يذكر إلا بعد معرفة الاسم الظاهر؛ إما بذكر لفظه أو بسبق وجوده في ذهن المخاطب. فمتى كان الظاهر معروفًا أنه مُثنى لم يبق لأجل الإفادة حاجة إلى تثنية الضمير، ولم يكن من بأسٍ أن يدخلَ في حكم ضمير الجمع؛ لأن الجمع يصدق على ما فوق الواحد؛ فمتى قلت (الرجلان) لم يضرك من حيث المعنى أن تقول جاءوا، كما تقول ذلك في الرجال، ومثل هذا إذا قلت (الفارس والراجل تقابلوا) بدل (تقابلا) أو إذا قلت (الفارسان غلبوا) بدل (غلبا) . ولهذا شواهد وأمثلة من اللغة الفصيحة نفسها، وكذلك لا أقصد بهذا إحداث مذهب جديد في العربية، ولكنني أقصد بيان أن هذا ليس من التغيير المفسد؛ بل هو استغناء عمَّا لا حاجة إليه. ومثل هذا يقال في إهمالهم بعض الأدوات تخففًا منها أو استغناءً بغيرها عنها، ولا يعزب عن الذي تَتَبَّعَ النقول أن كثيرًا من القبائل عندها ما ليس عند غي

رأي الشيخ أحمد المنوفي في الإصلاح ورجاله

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي الشيخ أحمد المنوفي في الإصلاح ورجاله كتب إلينا في 11 ذي الحجة ما يأتي من الشيخ أحمد موسى المنوفي إمام المسجد الكبير في كلكته الذي كان طعن فينا برسالة نشرت في جريدة اللواء، ثم كتب إلينا ذلك الانتقاد والتعريض الذي نشرناه في الجزء الثالث (ص236) على ما فيه من دلائل سوء الظن بنا. وبعد أن قرأ كثير من أجزاء المنار وكتاب محاورات المصلح والمقلد، وكتاب شبهات النصارى وحجج الإسلام رجع عمَّا كان يظن؛ فدل ذلك على إخلاصه وحسن نيته في ذمنا من قبل ومدحنا من بعد، غفر اللهُ له وأحسن مثوبتَه قال: أقدم لسيادتكم تحية طيبة مباركة وأرجوكم نشر ما يأتي ولكم الفضل. بما أن الإنسان بطبيعته مجبول على حبِّ وطنه وإن بعدت الديار وشط المزار، ولا يخفى أن ما ينشأ عن تلك المحبة الطبيعية من السعي وراء مصلحة الوطن يكون بحسب المحبة قوة وضعفًا، ولقد مكثت محبتي للوطن زمنًا طويلاً كامنة في الفؤاد لا يظهر علي أدنى أثر من آثارها، وبعبارة أوضح ضعيفة جدًّا؛ وإذا بحثنا عن سبب ضعفها لم نجد شيئًا سوى اليأس من المصلحة والإصلاح مع الغفلة عن النهضة الإسلامية، والحركة الوطنية التي قام بها أخيرًا الإمامان الحكيمان الأستاذ السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ المفتي الشيخ محمد عبده قدَّس الله أرواحهما وحشرنا في زمرتهما وجزاهما عن الإسلام والمسلمين خيرًا، فلقد بثَّا في الأمة روحَ الحياة والشعور والغيرة، وأيقظاها من الغفلة. فهما أساس النهضة، وكل من جاء بعدهما لا يخرج عن كونه مُتَمِّمًا لعملهما مهما بلغت درجته في الإصلاح والأخذ بيد الناهضين، وزِدْ على هذا وذاك أني أبعد الناس عن مطالعة الجرائد وأشدهم كراهية لمن يطالعها لزعمي أنها خالية عن النفع أو تشتمل على بعض منافع لا تقابل ما فيها من الضر، وقد علمتم عوائد الأزهر بين الذين مَكَثْتُ بَيْنَ ظهرانيهم بضع سنين في الأيام التي كانوا لا يسمعون فيها باسم الإصلاح، فهذا كله كان سببًا في اقتصاري على محبة الوطن الطبيعية فقط، وعدم إبداء شيء مما يلزمها؛ ولكن مع هذا الجمود كنت أميل بطبيعتي أيضًا إلى كل من أسمع عنه بأنه مُجِد في خدمة الوطن إلى أن سمعت أخيرًا في العام الذي تُوفِيَ فيه إمامُ النهضة المصرية - بل الإسلامية - الأستاذ الحكيم المفتي بأن رجلاً من الصُحَافيين وقف نفسه وماله على السعي وراء مصلحة الوطن والعمل على استقلاله وتخلصه من رق العبودية، فنما ميلي نحو ذلك الواقف إلى أن صار محبة، والمحبة حملتني على الإقبال على مطالعة الجرائد والاشتراك في جملة منها، فعلمت أني كنت في ضلال مبين لما في الصحف الحرة الخالية عن الأغراض الذاتية من الفوائد التي أقلها الوقوف على أحوال الهيئة الاجتماعية ومعرفة آراء الرجال وغير ذلك، ولكن للأسف وجدت سعادة الواقف المفضال يعتقد في نفسه - والعياذ بالله - الكمال المطلق، يريد أن يسبح الخلق بحمده ويخضع الوجود لعظمته، وأن لا يُسْأل عمَّا يفعل، وقد علمنا أن المتصف بذلك الكمال المطلق فعبدناه وخضعنا لأوامره ما استطعنا ... إلخ واأسفاه، كنا نظن أن حضرة الأستاذ المخلص في عمله المهتم بصالح أمته السيد محمد رشيد رضا على عكس ما كنا نعتقد في بطل وطنيتنا دولة الواقف، ولكن لمَّا بلونا الرجل وجدنا المسألة معكوسة على خط مستقيم وجدناه حكيمًا يضع الأشياء في مواضعها لا تأخذه في نصرة الحق لومة لائم مع الروية والتعقل؛ وجدناه ماهرًا بتشخيص الداء ووصف الدواء، وجدناه حليمًا ذا أناة، لا يعجل بالعقوبة على من ظلمه؛ بل يعالج الظالم المعتدي معالجة خبير بكل ما لديه من الوسائل حتى يرجعه عن ظلمه واعتدائه، وحينئذٍ يرشده إلى ما في صلاحه في الدنيا والأخرى، وجدناه فيلسوفًا في معرفة طرق الإصلاح وما يصلح للوقت وأهله، وبالجملة لو لم يكن له إلا كتابا (شبهات النصارى وحجج الإسلام) و (محاورات المصلح والمقلد) لكفاه شرفًا وفضلاً فهو - والحق يقال - الذي يصح إطلاق الحكيم عليه الآن، ولقد أصبح فضيلته بعد اطلاعي على كتابيه المذكورين أحب الناس إليّ، ولقد أعجب بهما كذلك حضرة السري الوجيه العلامة المؤرخ الأديب محمد بيك العمري صاحب معمل السكاير المشهور بعاصمة الهند كلكتة، وقال لي مرارًا (إني لولا عدم سبق معرفتي بيني وبين الأستاذ لم يسعني إلا إرسال تشكراتي للأستاذ مما نافح به عن الدين وردَّ كَيْدَ أعدائه في نحورهم) هذا وأقسم عليكم بشرف الحق وفضيلة العلم وعز الصدق إلا ما نشرتم هذا تحت مسئوليتنا؛ والله الموفق. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد موسى *** (المنار) قد نشرنا رسالته وبَرَرْنَا قسمَه إلا أننا حذفنا منها تلك السطور التي يبين فيها اعتقاده الأخير في ذلك الصحافي، فعسى أن يعذرنا في ذلك. ونسأل الله الذي لم يحقق سوء ظنه فينا من قبل أن يجعلنا أهلاً لحسن ظنه من بعد من غير غرور ولا فتنة. وكتب إلينا كتابًا آخر في 18 ذي الحجة قال فيه: حضرة الأستاذ المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام، وبعد فإني لا أستطيع أن أعبر عمَّا حصل من السرور بوصول كتب (الإسلام والنصرانية) و (شبهات النصارى وحجج الإسلام) و (تاريخ الأستاذ الإمام المفتي عليه رضوان الله) ولَعَمْرُ الحق لقد صغر في عيني ما لدي من الكتب القديمة التي لا يخفى على فضيلتكم ما فيها من الحجب المانعة من العلم النافع، فواأسفاه قد ضاع العمر سُدَىً، غير أني أحمد الله الذي مَنَّ عليَّ بإرشاد حكيم الإسلام وأكبر خلفائه، تالله إنك سيدي معذور فيما تبديه من الآراء المفيدة المناقضة لما عليه الناس من الجمود، والنفس الخبيثة تكره من يحاول ردَّها عن ما اعتادت عليه، ولو كانت عادتها عبادة الأوثان، نعوذ بالله من الخذلان والتمادي في الغي. أقول قولي هذا وما أبرئ نفسي؛ فإني والحق يقال كنت كثيرًا ما أتهمكم بسوء القصد، أما الآن فأنا لله الحمد أول موافق على ترك التقليد والجمود على الخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والفضل في ذلك لسيادتكم ومطالعة كلام الإمام الحكيم بإمعان وإنصاف، وفقنا الله وإياكم لما يحبه ويرضاه.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (قاموس الأمكنة والبقاع) كتاب (فتوح البلدان) للبلاذري من أجلِّ مختصرات التاريخ القديم لأمتنا، وقد طبعته شركة طبع الكتب العربية منذ سنين وبعد طبعه عهدت إلى علي بهجت بك وكيل دار الآثار العربية بأن يضع معجمًا لما ورد فيه من أسماء الأمكنة والبقاع؛ لسعة علمه بالتاريخ القديم والحديث؛ فقام بذلك، وطبعت الشركة ما كتبه؛ فكانت صفحاته أكثر من مئتي صفحة وليست فائدة هذا الكتاب خاصة بمن يقتني كتاب (فتوح البلدان) ولا هو مما يستغني عنه بالمطولات التي استمدت منه (كمعجم ياقوت) فإن فيه فائدة لأهل هذا العصرلا تؤخذ من غيره، وهي بيان حال تلك البلاد والبقاع الآن بحسب ما وصل إليه اجتهاد المؤلف؛ فمنها ما خرب وعفا، ومنها ما بقي وزاد عمرانه أو نقص، فنشكر للمؤلف وللشركة هذا العمل النافع. *** (رسالة الغفران) للفيلسوف العربي الشهير أبي العلاء المعري رسالة كتبها إلى الشيخ علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح؛ جوابًا عن رسالة بعث بها إليه، والرسالة تروي للقارئ قصة خيالية طاف راويها في العالم الآخر، ودخل الجنة ورأى ما فيها من النعيم فوصفه أحسن وصف، وثافن فيها الشعراء والأدباء وشرح ما دار بينهم من المحاورات والمماتنات. وأسلوب الرسالة هو أسلوب الأمالي الأدبية التي كان علماء الفنون العربية يملونها على الطلاب في القرون الأولى، وفيها من فرائد اللغة وغرائب الشجون ما طار بشهرتها في عالم الأدب؛ فكانت طلبة الأدباء ورغيبة البلغاء، وقد طبعها أمين أفندي هندية طبعًا متقنًا مضبوطًا بالشكل بعد أن صحح أصلها معارضة على نسخة صحيحة، ووقف على طبع أكثر من نصفها الشيخ إبراهيم اليازجي وخلفه بعد وفاته في تصحيح باقيها أحد علماء الأزهر، فنحثُّ الأدباء على مطالعتها وهي تطلب من مكتبة هندية وثمنها عشرة قروش. *** (كتاب الأضداد في اللغة) لما عني الأولون بنقل اللغة العربية وضبطها ووضع الفنون لها أكثروا من التصانيف في فروع كثيرة من فروعها؛ كالمترادف والمشترك والأضداد وغير ذلك، ومن الكتب النافعة في الأضداد كتاب محمد بن القاسم بن بشار الأنباري النحوي، ومن مزاياه أنه تتبع قطرب فيما ذكره من الأضداد وبَيَّن غلطه في بعضها وقد أجاب في أوله من عاب التضاد في اللغة فقال: هذا كتاب ذكر الحروف التي توقِعها العرب على المعاني المتضادة فيكون الحرف منها مؤديًا عن معنيين مختلفين، ويظن أهل البدع والزيغ والإزراء بالعرب أن ذلك كان منهم لنقصان حكمتهم وقلة بلاغتهم وكثرة الالتباس في محاوراتهم عند اتصال مخاطباتهم، فيُسألون عن ذلك ويحتجون بأن الاسم منبئ عن المعنى الذي تحته، ودال عليه وموضع تأويله. فإذا اعتور اللفظة الواحدة معنيان مختلفان لم يعرف المخاطب أيهما أراد المخاطب وبطل بذلك تعليق الاسم على المسمى. فأجابوا عن هذا الذي ظنوه وسألوا عنه بضروب من الأجوبة أحدها: أن كلام العرب يصحح بعضه بعضًا، ويرتبط أوله بآخره ولا يعرف معنى الخطاب منه إلا باستيفائه واستكمال جميع حروفه. فجاز وقوع اللفظة على أحد المعنيين دون الآخر وألا يراد بها في حال التكلم والإخبار إلا معنى واحد فمن ذلك قول الشاعر: كل شيء ما خلا الموت جلل ... والفتى يسعى ويلهيه الأمل فدل ما تقدم قبل (جلل) وتأخر بعده على أن معناه (كل شيء ما خلا الموت يسير) ولا يتوهم ذو عقل وتمييز أن الجلل هنا معناه (عظيم) وقال الآخر: يا خول يا خول لا يطمح بك الأمل ... فقد يكذب ظن الأمل الأجل يا خول كيف يذوق الخفض معترف ... بالموت والموت فيما بعده جلل. فدل ما مضى من كلام على أن (جلل) معناه: يسير، وقال آخر: فلئن عفوت لأعفون جللاً ... ولئن سطوت لأوهنن عظمي قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي. فدل الكلام على أنه أراد: فلئن عفوت عفوًا عظيمًا؛ لأن الإنسان لا يفخر بصفحه عن ذنب حقير يسير. فلما كان اللبس في هذين زائلاً عن جميع السامعين لم ينكر وقوع الكلمة على معنيين مختلفين في كلامين مختلفي اللفظين، وقال الله عز وجل وهو أصدق قيلاً: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ} (البقرة: 249) أراد الذين يتيقنون ذلك فلم يذهب وهم عاقل إلى أن الله عز وجل يمدح قومًا بالشك في لقائه، وقال في موضع آخر: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} (الإسراء: 102) وقال تعالى حاكيًا عن يونس: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ} (الأنبياء: 87) أراد رجا ذلك وطمع فيه، ولا يقول مسلم: إن يونس يتيقن أن الله لا يقدر عليه اهـ. (المنار) يحكم قارئ هذه العبارة أن الكتاب مفيد بأسلوبه البليغ كما أنه مفيد بمباحثه، وأكبر فائدته عندي أنه بجمعه لهده الحروف - أي الكلمات - التي قيل: إنها متضادة المعاني قد سهل للمدقق سبيل الحكم في هذا النوع من اللغة بغير ما حكم به جمهور من سبقه؛ فإن استعمال الكلمة في معنيين متضادين خلاف المعقول، ويلوح لي أن أكثر ما عدوه من الأضداد يمكن تفسيره بما لا تضاد فيه. وإن القليل الذي يتعذر أو يتعسر فهمه من غير تضاد في معانيه لابد أن يكون مما استعملته قبيلة في معنى وقبيلة أخرى في ضد ذلك المعنى، أو مما وقع فيه الخطأ في الاستعمال من العرب أنفسها فإن خطأها في المعاني مما لا ينكر. وإذا كان العربي القح يخطئ في المعاني فالمولد أجدر بذلك، ومن خطأ نقلة اللغة والمفسرين ما قاله بعضهم في تفسير الظن في الآيات التي تلوت فيما نقلناه عن هذا الكتاب فقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّه} (البقرة: 249) ليس مسوقًُا لمدحهم على ظنهم حتى يقال: إنه يمتنع مدحهم بالظن. وما حكاه عن ظن فرعون لا يظهر فيه إرادة اليقين، وقوله عز وجل في يونس: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْه} (الأنبياء: 87) يظهر فيه معنى الظن جليًّا و (نقدر) هنا بمعنى (نضيق) على حد {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (الرعد: 26) فما المانع من أن يظن يونس أن الله تعالى لا يضيق عليه؟ والكتاب يطلب من المكتبة الأزهرية للشيخ محمد سعيد الرافعي وثمنه 7 قروش. *** (إنجيل برنابا) قد تم طبع الإنجيل في مطبعة المنار، وقد نقلنا منه نموذجات للقراء من قبل، ونذكر هنا منه بعض ما ذكره في مسألة محاولة اليهود قتل سيدنا عيسى وإنجاء الله إياه، وإلقاء شبهه على يهوذا الإسخريوطي وذلك موافق لما يعتقده المسلمون في الجملة قال: (الفصل الخامس عشر بعد المئتين) 1- لما دنت الجنود مع يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع سمع يسوع دنو جم غفير 2- فلذلك انسحب إلى البيت خائفا 3- وكان الأحد عشر نيامًا 4- فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم. 5- فجاء الملائكة الأطهار وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب 6- فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة في صحبة الملائكة التي تسبح الله إلى الأبد. (الفصل السادس عشر بعد المئتين) 1- ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع 2- وكان التلاميذ كلهم نيامًا 3- فأتى الله العجيب بأمر عجيب 4- فتغير يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيهًا بيسوع حتى إننا اعتقدنا أنه يسوع 5- أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم 6- لذلك تعجبنا وأجبنا: (أنت يا سيد هو معلمنا) 7- أنسيتنا الآن؟ 8- أما هو فقال مبتسمًا: هل أنتم أغبياء حتى لا تعرفوا يهوذا الإسخريوطي؟ 9- وبينما كان يقول هذا دخلت الجنود وألقوا أيديهم على يهوذا؛ لأنه كان شبيهًا بيسوع من كل وجه. 10- أما نحن فلما سمعنا قول يهوذا ورأينا جمهور الجنود هربنا كالمجانين 11- ويوحنا الذي كان ملتفًّا بملحفة من الكتان استيقظ وهرب 12-ولما أمسكه جندي بملحفة الكتان ترك ملحفة الكتان وهرب عريانًا [1] 13- لأن الله سمع دعاء يسوع وخلص الأحد عشر من الشر [2] . (الفصل السابع عشر بعد المئتين) 1-فأخذ الجنود يهوذا وأوثقوه [3] ساخرين منه 2- لأنه أنكر وهو صادق أنه هو يسوع 3- فقال الجنود مستهزئين به: يا سيدي لا تخف؛ لأننا قد أتينا لنجعلك ملكًا على إسرائيل 4- وإنما أوثقناك؛ لأننا نعلم أنك ترفض المملكة 5- أجاب يهوذا: لعلكم جننتم 6-إنكم أتيتم بسلاح ومصابيح لتأخذوا يسوع الناصري كأنه لص أفتوثقونني أنا الذي أرشدتكم لتجعلوني ملكًا. (ثم قال في أواخر الفصل) 77- وحكموا بالصلب على لصين معه 78- فقادوه إلى جبل الجمجمة حيث اعتادوا شنق المجرمين وهناك صلبوه عريانًا مبالغةً في تحقيره. 79- ولم يفعل يهوذا شيئا سوى الصراخ: يا الله لماذا تركتني [4] فإن المجرم قد نجا أما أنا فأموت ظلمًا. 80- الحق أقول: إن صوت يهوذا ووجهه وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن اعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافةً أنه هو يسوع 81- لذلك خرج بعضهم من تعليم يسوع معتقدين أن يسوع كان نبيًّا كاذبًا، وأنه إنما فعل الآيات التي فعلها بصناعة السحر 82- لأن يسوع قال: إنه لا يموت إلى وشك انقضاء العالم 83-لأنه سيؤخذ في ذلك الوقت من العالم اهـ المراد منه. وثمن النسخة ذات الورق المتوسط من هذا الإنجيل 15 قرشًا، وذات الورق الجيد 20 قرشًا، وأجرة البريد قرشان وله مقدمة ثمنها عشرة قروش. *** (المصحف الشريف) قد اشتهرت طبعة مطبعة ترجمان للمصحف الشريف وكثر الإقبال عليها لجمال حروفها وصحتها، وقد أرسلنا منه نسخًا إلى بعض الأقطار من القطع الوسط والقطع الصغيرة فمن أحب أن نرسل إليه شيئًا منها فليرسل لكل نسخة من القطع الوسط فرنكين ومن القطع الصغيرة فرنكًا ونصفًا. *** (جامع الثناء على الله) جمع الشيخ يوسف النبهاني كثيرًا من الأدعية والأذكار المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن شيوخ الصوفية وسماها (جامع الثناء على الله) وما زال الذكر والدعاء غذاء الإيمان، ومن رأينا أنه ينبغي للمؤمن أن يهتم قبل كل شيء بأداء الفرائض والحقوق التي عليه لله ولنفسه وأهله وذي القربى، فإذا وجد وقتًا لنوافل العبادة فليبدأ بتلاوة القرآن مع التدبر سواء كان ذلك في الصلاة أو خارج الصلاة، فإن خاف على نفسه الملل انتقل إلى الأذكار المأثورة عن الشارع، فإن وجد من الوقت ما يسع المزيد عليها فليقرأ بعض ما كتبه رجال الصوفية، وأما الذين يتركون الفرائض ويصرون على المآثم ويحصرون تعبدهم بقراءة أوراد الطريق فإن التصوف بل التدين بريء من أهوائهم. وإنني كنت في أول النشأة أقرأ بعض أوراد الصوفية ومنها ورد السحر للبكري وكان يكون لذلك تأثير عظيم في نفسي، ثم وجدتني بذلك هاضمًا لحق القرآن علي، ومشتغلاً عنه بكلام لا يخلو عندي من اللغو الذي نهت الآيات عنه، وناهيك بما في القصيدتين الجيمية والميمية من ذلك، ولما صرت أفهم مراد الصوفية بمثل قوله (ومل نحو الخمار أبي السرج * واشرب واطرب) إلخ لم أزدد إلا بعدًا عن عبادة الله في السحر بهذا الشعر الركيك. على أن هذا الكتاب أمثل من أكثر كتب النبهاني، وثمنه أربعة قروش ويطلب من أكثر المكاتب المصرية. *** (الراوي) مجلة روائية أدبية تاريخية أسبوعية يصدرها في الإسكندرية طانيوس أفندي عبده الكاتب المعروف في عالم الصحافة والأدب. فهو لما أوتيه من حسن الذوق في اختيار القصص الإفرنجية وحسن الترجمة جدير بالنجاح في عمله هذا، غني عن تقريظه. وقيمة الاشتراك في مجلة الراوي مائة قرش في السنة لأهل مصر والسودان وثلاثون فرنكًا لغيرهم،

نادي دار العلوم الخديوية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نادي دار العلوم الخديوية اتخذ المتخرجون في مدرسة دار العلوم المعروفة الآن (بمدرسة المعلمين الناصرية) ناديا علميًّا أدبيًّا يتعارفون فيه ويتعاونون على ترقية شئونهم الاجتماعية، ويبحثون عن أقوم الطرق وأقربها لتعليم العربية وفنونها وتدريس آدابها وإحياء العلوم بها على النحو الآتي كما في المادة الثانية من قانون النادي: (1) التنقيب عن الكتب النافعة والسعي في نشرها. (2) تنقيح وتصحيح ما تدعو إليه الحاجة من الكتب المفيدة. (3) تأليف كتب سهلة فيما لم يدون فيه مؤلفات قريبة التناول. (4) وضع أسماء عربية للمسميات الحديثة التي ليس لها أسماء عربية معروفة. (5) البحث في ألفاظ العامة ورد ما له أصل عربي منه إلى أصله، والتنبيه على الدخيل فيها. (6) الاصطلاح على طريقة لكتابة الألفاظ الأعجمية بحروف عربية. (7) تسهيل فن رسم الحروف. (8) تأليف رسائل في الآداب والأخلاق. (9) محاضرات علمية وأدبية. وقد عرف القراء من الجزء الماضي ومن هذا الجزء أن النادي بدأ عمله بالبحث في مسألة أسماء الأجناس ومصطلحات العلوم الأعجمية، وإنا لنرجو من رجال هذا النادي العاملين ما لا نرجو من غيرهم؛ فإنهم أمة وسط في الشعب المصري الذي جمد بعض المتعلمين فيه على التقاليد العتيقة حتى في كيفية التعليم وأولع بعضهم بالتقاليد الحديثة حتى ما كان منها مقطعًا لروابط الأمة الاجتماعية، ولست أعني بهذا تفضيل كل واحد منهم على كل واحد من غيرهم؛ وإنما أعني أنهم بتربيتهم وتعليمهم وسطٌ بين طرفين يوجد في كل منهما أفراد أقرب إلى الاعتدال، وأبعد عن الجمود والتفرنج من كثير ممن هم في الوسط، ولكن طالب الإصلاح والترقي يعد في مجموع الأزهريين غريبًا، كما أن من ينكر شرب الخمر وترك الصلاة من المتعلمين في سائر المدارس يعد في مجموعهم غريبًا، وإن كان الكثيرون منهم يصلون ولا يسكرون.

ترجمة فقيد الإصلاح ذكاء الملك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة فقيد الإصلاح ذكاء الملك كل ما كنا نعرفه عن ذكاء الملك صاحب جريدة (تربيت) هو أنه كاتب إصلاحي بليغ غير موثق الفكر بالتقاليد، وأنه قد جمع إلى استقلال الفكر استقلال الإرادة وقوة العزيمة؛ فقد كان يكتب ما يعتقد وإن خالف أهواء الشعب. وما الكتاب الذين جمعوا هذه الصفات بكثيرين فينا فنقول: مات ذكاء الملك فخلفه فلان وفلان. كلا بل نتمثل بقول الشريف فيمن هو في عصره دون ذكاء الملك في عصره. ويقول من لم يدر كنهك إنهم ... فقدوا به عددًا من الأعداد هيهات أدرج بين برديك الردى ... رجل الرجال وواحد الآحاد كان ذكاء الملك لعنايته بالإصلاح يتتبع أخباره في جميع بلاد الإسلام، ويتعرف رجاله في جميع الأقطار، فعرف السيد جمال الدين الأفغاني وكان صديقًا له وعشقه المنار بالأستاذ الإمام فكان بينهما موادة ومكاتبة وأَبَّنَهُ أحسنَ تَأبين في جريدته، وقد ترجمنا تأبينه ونشرناه في تاريخ الأستاذ الإمام، وكان ينقل عن المنار كثيرًا، وآخر ما عرفناه من ذلك نقله لما كتبناه في حكومة الشورى في بلاد فارس وقوله: إن قول صاحب المنار أعظم تأثيرًا في العالم الإسلامي من قول مائة مجتهد من علماء الشيعة. أو ما هذا معناه. راعنا مصاب الشعب الفارسي بل الأمة الإسلامية بوفاته وتمنينا لو وقفنا على ترجمة حياته بالتفصيل، ومازلنا واقفين في موقف التمني حتى منَّ علينا ميرزا محمد القزويني العضو بدار الترجمة الهمايونية في طهران بنسخة من جريدة (الصور) الفارسية مع كتاب عربي منه أرسله إلينا من باريس يرغب إلينا فيه بما نحن أشد فيه رغبة وهو ترجمة الفقيد؛ لأنه من الحقوق التي تطالبنا بها ذمة طلب الإصلاح وتقريب طوائف المسلمين بعضهم من بعض. وكان ذكاء الملك طَيَّبَ اللهُ ثراه وجزاه أفضل الجزاء من خير الأعوان على هذا الإصلاح، وإننا ننشر كتاب هذا الفاضل الغيور والصديق الوفي للفقيد مع الشكر له، ثم ننشر بعده ترجمة ما كتب في جريدة الصور. وهذا نص الكتاب الذي أرسله إلينا من باريس: غرة زانويه (يناير) سنة 1908 و22 ذي القعدة سنة 1325. حضرة السيد المفضال العلامة منشئ جريدة المنار الأغر أدام الله ظلكم العالي: بعد إهداء كمال السلام وأسنى التحيات أظنكم تعرفون الكاتب الشاعر الشهير ذكاء المُلْك صاحب جريدة (تربيت) الفارسية المنطبعة بطهران ومنشئها منذ إحدى عشرة سنة، فقد كان بينه وبين الأستاذ الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده علائق ودية ومكاتبات متواصلة، وكان الأستاذ الإمام يقرأ جريدة (تربيت) ويقدرها أعظم الجرائد الفارسية نفوذًا في الدوائر العالية، وأشدها تأثيرًا في قلوب المسلمين الذين يتكلمون بالفارسية، ورأيت أنا بنفسي تآليف الأستاذ الإمام التي كان أرسلها جميعها هدية إلى ذكاء الملك بطهران مع كتاب ودّي بخط يده يظهر فيه غاية الإعجاب ويتشكر فيه ذكاء الملك عما كتبه في جريدته (تربيت) من خدمات الأستاذ الإمام للعالم الإسلامي أجمع ومن جملة عبارته: الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده هو العالم الحقيقي الوحيد في كافة الأنحاء الإسلامية من مراكش إلى الصين ومن تركستان إلى اليمن والسودان الذي يعلم الغرض الأصلي من الإسلام، ويعرف تطبيق قواعده على مقتضيات العصر، ولأجل تربية أمثال هذا الرجل بعث نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن نبغ بين علماء الإسلام كثيرون أمثاله فإن الإسلام يبقى ثابت الأركان والمسلمين يرتقون إلى أعلى مدارج المدنية والسعادة، وإلا فلو استمر علماء الإسلام بالجمود على ظواهر الأحاديث ونصوص فتاوى المتقدمين كما هم عليه الآن فعلى الإسلام السلام 000 إلخ. وبعد وفاة الأستاذ الإمام كتب ذكاء الملك ترجمة حياته في جريدة (تربيت) بعناية التفضل والإشباع ونهاية التوقير والتمجيد، ثم بعد ذلك كتب ترجمة حاله ثانيًا مترجمة عن المنار الأغر أطول وأبسط من الأولى وكان غالبًا يترجم مقالات المنار الأغر في جريدته. والغرض من هذا الإطناب تذكار حضرتكم إن كنتم تعرفون ذكاء الملك وتعريفكم إياه إن لم تكونوا تعرفون، وهاهو ذكاء الملك توفي أيضًا في شهر رمضان الماضي ومضى إلى جانب أستاذيه السيد جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام محمد عبده أفاض الله عليهم جميعًا شآبيب الغفران، وبما أني كنت من تلامذة الفقيد ومن خواص أصدقائه كتب إلي من طهران نجله جناب ميرزا محمد علي خان الملقب بلقب أبيه ذكاء الملك، وطلب مني أن أكتب إلى حضرتكم وأستدعي منكم أن تكتبوا - إن استصوبتم ذلك - بضع أسطر في المنار الأغر في الإعلام بوفاة رجل مسلم من أعظم كتاب اللغة الفارسية وشعرائها في هذا القرن الأخير ونبذ يسير في ترجمة حاله. والأمر إليكم فانظروا ماذا تأمرون. وكان المأسوف عليه من أخص أصدقاء المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني ومن أعظم رجال الإصلاح ومن أكبر أركان النهضة السياسية الأخيرة في بلاد إيران؛ فقد كان قلمه يخلب الألباب ويسحر العقول بما آتاه الله من النفوذ والتأثير. وأصابته صدمات شديدة من أول شبيبته إلى آخر وفاته بسبب شدة حرصه على الإصلاح وكتابته المقالات الغرَّاء في حثِّ الحكومة على إدخال النظامات العصرية في إدارات الدولة وتحريض العلماء على نفض الأيدي من التقاليد الجامدة والتعاليم القديمة والمباحث اللفظية الضئيلة والتأسي بأمثال السيد جمال الدين الأفغاني، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وحضرة العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر وأمثالهم، وأرسلت طيَّه جريدة من جرائد طهران الإسلامية تتضمن ترجمة حياة الفقيد، وفي الخِتَامِ اقبلوا يا حضرة العلامة فائق احترامي وخالص سلامي. ... ... ... ... ... ... ... ميرزا محمد قزويني ... ... ... ... ... ... ... ... العضو بدار الترجمة الهمايوني بطهران

فاجعة أدبية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاجعة أدبية قد توفي إلى رحمة ربه فيلسوف إيران وأديبها الشهير ذكاء المُلْك طاب ثراه عصر يوم السبت 11 رمضان، فكان موته ثلمة في بناء العلم والأدب وهيهات أن يفخر الإيرانيون في وقت قريب بمثله. اشتغل المرحوم سبعين سنة بخدمة الوطن خدمة خالصة وإحياء موات أدبيات اللغة الفارسية بحرارة الشبيبة وتجارب الشيخوخة، وإذا كان الإيرانيون بجهل جاهليهم وعدم مساعدة حكومتهم المستبدة لم يعرفوا قيمته، ولم يوفوه حقَّه من الإجلال كما كان حظ أمثاله من العظماء، فإنهم قد أبقوا ذلك تراثًا لخلفهم الذين يرجى أن يقدروا أمثاله قدرهم. ولكن الإفرنج قد قدروه قدره في حياته بالتنويه بفضله والتعريف به لقومهم حتى إن الفرنسيين لقبوا هذا الرجل بفيكتور هوغو الشرق. ونحن في هذا العدد نذكر خلاصة من ترجمة هذا الفيلسوف المعظم، وإن أمهل الزمان نقوم بما يجب علينا لهذا الرجل الكامل المحترم. مختصر ترجمة المرحوم طاب ثراه هو المرحوم ميرزا محمد حسين خان المخلص بفروغي [1] الملقب بذكاء الملك ولد في منتصف ربيع الثاني سنة 1255 بمدينة أصفهان وتوفي يوم السبت 11 رمضان سنة 1325 بطهران فيكون عَمَّرَ سبعين سنة و5 أشهر ووالده هو المرحوم الآقا محمد مهدي المعروف بأرباب من مشاهير أصفهان، وكان على اشتغاله بالتجارة على حظٍ عظيم من العلم والفضل لاسيَّما علوم التاريخ والجغرافية والهيئة؛ فإن له فيها تصانيف عديدة وقد سافر إلى الهند وأقام فيها طويلاً وعاشر فضلاء الإنكليز وأخذ حظًّا عظيمًا من العلوم الحديثة والسياسة، ولمَّا رجع إلى أصفهان قبل خمسين سنة أراد أن يظهر معارفه؛ ولكن الأذهان في ذلك الزمن لم تكن مستعدة لقبول هذه النفائس الثمينة، فَأَكَبَّ على تحسين حال الزراعة والتجارة في أصفهان، وكان يمكنه أن يفيد بلاده بأكثر مما أفادها؛ ولكن عموم الجهل يومئذٍ حال دون ذلك. أما فقيدنا ذكاء الملك فإنه بعد أن حَصَّلَ علوم العربية وأدبياتها ومبادي سائر العلوم سافر من أصفهان إلى العراق العربي لأجل تكميل تلك المبادي فمكث هناك طائفة من الزمان ثم عاد إلى أصفهان، وكان والده قد عاد من الهند فكانت نتيجة تآلف الأب والابن بما كان أتقنه كل منهما ظهور نهضة جديدة في العلم والسياسة؛ فكان ما تولد في دماغه يومئذٍ من قوة النهضة العلمية هو ما نراه الآن في أدمغة شباننا، فأخذ يتتبع بشغف عظيم دواوين الشعراء وكتبهم الأدبية ليشحذ بها غِرَار استعداده الفطري للشعر حتى كان شعره في الخامسة والعشرين مساويًا لشعر أساتذة هذا الفن. وسافر للمرة الأولى إلى شيراز وطن الشيخ السعدي فنشبت عامئذٍ حرب أمريكا الشهيرة، وقل ورود القطن إلى معامل أوربا، فانتهز الفقيد هذه الفرصة فاشترى بجميع ما يملكه قطنًا وسافر به إلى الهند؛ ولكن ساورته الأنواء الشديدة في البحر فاضطر إلى إلقاء بضاعته كلها في البحر كغيره وعاد إلى شيزار بِخُفَّيْ حُنَيْن. ثم سافر سائحًا إلى كرمان ويزد والعراق العجمي وركمان شاه وهمدان والعراق العربي وغيرها من الأقطار، فلبث في سياحته هذه أربع عشرة سنة وكان في كل مكان موضع الحفاوة والإكرام من العظماء والأمراء مثل محمد حسين خان وكيل الملك وإمام قلى ميرزا عماد الدولة وأولاده وسائر أهل الكمال والذوق. ثم ملّ السياحة واتخذ طهران مقامًا له فصحبه المرحوم محمد حسين خان اعتماد السلطنة [2] وجعله مساعدًا له في الترجمة وتحرير الجريدة الرسمية، ولما كانت الجريدة الرسمية قليلة الفائدة حثَّه صاحب الترجمة على إنشاء جريدة (اطلاع) الباقية إلى الآن [3] وكان يساعده في تحرير النشرات والرسائل والكتب العلمية. ونعني أن اعتماد السلطنة كان يهيئ مواد التأليف من الكتب وغيرها وصاحب الترجمة هو الذي يكتبها بقلمه. وكنت تراه دائمًا متململاً متألمًا لبلاء أبناء وطنه بالمستبدين، وكان يفكر دائمًا في الإصلاح لا يبرح ذلك من مخيلته قط. ومن الشواهد على ذلك أنه من نحو عشرين سنة كانت دبت عقارب السعاية فيه إلى الشاه ناصر الدين بسبب ظهور بوادر هذه الأفكار الإصلاحية فأتعبوه طائفة من الزمن؛ أي حبسوه مدة مديدة إلى أن تولى المرحوم الشاه مظفر الدين فأفرج عنه، ولما استنشق نسيم الحرية أنشأ جريدة (تربيت) وهي كما لا يخفى أول جريدة حرة أسست في عاصمة إيران. ومن خدمة هذه الجريدة أنها ولَّدت في نفوس الإيرانين الرغبة في قراءة الجرائد وكانوا إلى ذلك العهد ينفرون منها لركاكة عبارتها. وذلك بما جذبهم به من انسجام عبارته وبلاغة أسلوبه. ومنها أنه كان في زمن الاستبداد ينشر فيها جميع الأفكار الحرة بأسلوب لا يؤاخذه عليه القانون. وفي الجملة أنه قضى عشر سنين في نشر جريدته كان فيها عرضة لإيذاء الأعداء والمحبين. وفي العام الماضي أصابه مرض شديد فحلّ قواه، وقد شفي منه إلا أن صحته لم تعد كما كانت قبله، ولما كان هو الذي يتولى تحرير الجريدة وإنشاءها اضطر في آخر السنة إلى إبطالها. ومن خدمته أيضًا اشتغاله بالتدريس والتعليم في مدرسة العلوم السياسية سبع سنين وثلاث سنين أخرى في إدارتها، ولو جمعت دروسه في تلك المدرسة من المسائل الأدبية والمعاني والبيان والبديع ومختارات الشعر وغير ذلك لكان مؤلفًا كبيرًا. وكان للفقيد مؤلفات كثيرة طبع منها: (1) تاريخ ساسانيان. (2) ترجمة كتاب السياحة حول الأرض في ثمانين يومًا. (3) كلية هندي. (4) عشق وعفت. (5) ريحانة الأفكار. (6) قصة جورج الإنجليز. وله كتب أخرى مترجمة من اللغات الأجنبية، وله شعر كثير ولكن أكثره مفقود والباقي منه يدخل في ديوان كامل.

خاتمة المجلد العاشر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد العاشر قد تمَّ المجلد العاشر بحمد الله وحسن توفيقه وبه قَطَعَ المنار مرحلة الأعداد المفردة، وأشرف على مرتبة الأعداد المركبة، فازداد منشئه بصيرة فيما يدعو إليه، ودرجة استعداد المسلمين له، وانْقَشَعَ من أمامه كثير من السحب، وهتكت من دونه كثائف من الحجب التي كانت تلبس عليه القياس، فيما يحكم به على الناس، فرأى من أحوال البشر، ما يعد من آيات العبر، وبهذا الاعتبار صدق على المنار ما قلناه فيه منذ ثلاث سنين: إنه قد دخل في سن التمييز. التقصير في إدارة المنار وقد عجزنا في هذه السنة عن إصدار المنار في أوقاته وإقامة النظام في إدارته لأسباب طبيعية لا مندوحة عنها وأهمها اتساع دائرة العمل وتشعبه مع قصر الساعد وعدم المساعد، فمنشئ المنار هو الذي يحرره وهو الذي يصحح نموذجات الطبع وهو الذي يكاتب المشتركين وينظر في محاسبتهم وهو الذي ينظر في إدارة المطبعة وهو الذي يتولى تصريف مطبوعاتها وينظر في تصحيح سائر ما يطبع فيها، ثم إنه يقرأ لبعض الطلاب درسًا في التفسير ودرسًا في الحديث ويشتغل أحيانًا بشيء من التأليف مع قيامه بمعظم خدمة نفسه؛ لأنه يعيش عيشة الوحدة. ومن فروع هذه الشواغل أنه أصدر في هذا العام جزئين من تاريخ الأستاذ الإمام وأتم طبع جزئين من التفسير لم ينشرهما إلى الآن؛ لأنه تمكن من استخراج فهرس لأحدهما، ولم يتمكن من استخراج فهرس الآخر. وأتم طبع إنجيل برنابا ولو لم يعمل في هذه الكتب كلها إلا تصحيح كل كراسة منها مرتين أو ثلاثة لما كان الوقت الذي اغتالته قليلاً. ولولا أنى في خجلٍ من الأصدقاء والمحبين لي في الغيب بما قصرت في مكاتبتهم لما أشرت إلى هذا العذر. وأكبر خجلي ممن لهم معنا معاملة مالية كطلاب الكتب؛ فقد كان في المكتبة مدير يتولى محاسبتهم وقد تركها من أوائل السنة، ولم نوفق إلى من يقوم مقامَه، ولا إلى وكيل لإدارة المجلة والمطبعة يكفينا أمر هذه الجزئيات، بهذا نعتذر أيضًا عن تأخر إتمام تأليف وطبع جزء الترجمة من تاريخ الأستاذ الإمام. فتاوى المنار ومما قصرنا به أيضًا في هذا العام الإجابة عن الأسئلة، ومن أسباب ذلك أن أكثر الأسئلة التي وردت علينا في هذا العام كانت في مسائل دنيوية مما يفصل فيه القضاة ويفتي به المفتون الرسميون وأمثالهم من علماء أحكام المعاملات، ومنها ما كان مرسله يطلب الجواب عنه من نصوص مذهب معين، والمنار لم يفتح باب الفتوى لأمثال هذه المسائل؛ بل لبيان حكم الدين وأسراره واتفاق عقائده مع العقل وأحكامه مع مصالح البشر ومنافعهم ولرد الشبه الفلسفية والمدنية عنه وما يشكل من الآيات والأحاديث على القارئ. فهذا ما نلتزم الجواب عنه من المسائل الدينية - وإن أبطأنا وأرجأنا ولنا الخيار في غيره - ومن سأل سؤالاً من هذا القبيل وطال الزمن على الجواب عنه فليعلم أنه ضاع قبل وصوله إلينا أو بعده فليعده إلينا ثانية. ومن أسباب إرجاء المجاوبة على بعض الأسئلة إيرادها من خلال كلام آخر فنحتاج إلى نسخ السؤال فنرجئه إلى وقت الفراغ وقلما نظفر به. مكاتبات المنار وههنا ننبه إلى سبب من أسباب تأخير كل ما يطلب من المنار وهو خلط المطالب، فعسى أن يكتب السائل سؤاله أو أسئلته في ورقة لا يكتب فيها شيئًا آخر؛ ليسهل علينا إلقاؤها إلى المطبعة عاجلاً، ولا نضيع شيئًا من الوقت في استنساخها. كذلك ينبغي لطالب الكتب أن يكتب ما يطلبه في ورقة مستقلة لا يذكر فيها شيئًا من الأسئلة وما يتعلق بشؤون المنار. فإن كان هنالك حساب مشترك بيَّن ما يطلب للمنار ولثمن الكتب وإن استثقل الكاتب كتابة ورقتين فلا بأس بأن يفصل بين الحسابين في الورقة الواحدة. حال المشتركين أما حال المشتركين في هذا العام فقد كان كالأعوام الماضية إلا أن أهل القاهرة كانوا أحسن أداءً على ما عليه البلاد من العسرة المالية؛ ولكن سائر أهل القطر كانوا أقل وفاءً منهم في السنين الماضية. والاعتذار بالعسرة كان في هذا العام تكأة أهل المطل في أكثر المعاملات كما علمنا ممن هم أوسع اختبارًا منا، وكذلك أهل تونس كانوا أشد تقصيرًا في هذا العام على أنهم لم يقعوا في عسرة كعسرة أهل مصر، على أن مصر في عسرتها أغنى وأقنى وأيسر من تونس وغيرها من بلاد المسلمين زادها الله يسرًا ووفقها للشكر عليه باستعماله فيما يزيدها علمًا وارتقاءً. وقد كان تجدد المشتركين كثيرًا أيضًا ولكننا لم نجب إلا من أرسلوا القيمة سلفًا إلا أفرادًا أتوا إلينا بضمان بعض أصدقائنا على ما اشترطنا. دعوة المنار والانتقاد عليه أما دعوة المنار فلم تلق في هذا العام مقاومة شديدة؛ ولكن بعض الجرائد حملت علينا حملةً مُنْكَرَةً في أول العام لأننا كتبنا بعض مقالات في الجريدة التي أنشأها بعض السروات. وكان الغرض من الحملة تنفيرنا من مساعدة الجريدة التي يقاومون سياستها، ولم يتعرض الكاتبون إلى الانتقاد على المنار أو الرد على مسائله؛ وإنما كان جلها نبزًا بالألقاب كلقب (الخليفة الكاذب) يعنون خليفة الأستاذ الإمام. وكتب فريد أفندي وجدي أربع مقالات في جريدة اللواء يحرك فيها الأضغان الجنسية الوطنية على صاحب المنار لأنه غير مصري المولد، وقد عرف القراء سبب ذلك ولم نر له إلا التأثير الحسن في قراء المنار على ما لنزغات الجنسية من سوء التأثير وحل الرابطة الإسلامية، وهذه النزغة هي العقبة الكؤود في طريق الدين بمصر؛ وقانا الله شرها وكفى البلاد أمرها. وكتب الشيخ أحمد المنوفي من الهند انتقادًا على المنار وصاحبه، ثم رجع عن رأيه ذلك كما رأيت في هذا الجزء وسنشير في فاتحة الجزء الآتي إلى موقف الإصلاح في مصر الآن. هذا وإننا نختم صفحات الجزء بمثل ما دعونا إليه في فاتحته من وجوب نقد ما يراه أهل العلم خطأ في المنار، والدعوة إلى ما يرونه من الصواب فيه والتعاون على هذه الخدمة، والله الموفق وله الحمد على كل حال.

فاتحة السنة الحادية عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة الحادية عشرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أنزل الكتاب تبصرة وذكرى لأولي الألباب، والصلاة والسلام على نبي الرحمة، الذي بعث في الأميين ليعلمهم الكتاب والحكمة، محمد النبي، العربي الحجازي، وعلى آله وأصحابه خير الآل والأصحاب، ومن تبعهم واهتدى بهديهم إلى يوم المآب {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ} (الرعد: 29) . أما بعد فإن المنار بحمد الله وعنايته، وتوفيقه وهدايته قد أتم عشر سنين كاملة، وتجاوز الأعداد المفردة إلى الأعداد المركبة، وهو في نمو طبيعي، وارتقاء تدريجي، لم تطفر به مساعدة الكبراء، كما طفرت بكثير من العاملين، ولم تظفر به مكايدة الرؤساء، كما ظفرت ببعض المصلحين، بل سار لطيته على استقلاله في جميع أعوامه وأحواله، سلاحه تحرِّي الحق، وعدَّته التزام الصدق، وجُنته الإخلاص لله، وحصنه تقوى الله باتباع سنن الله {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} (ص: 49-50) . جاهد في سبيل الإصلاح بقدر الإمكان، وما تقتضيه حال الزمان والمكان، فهاجمته السياسة بدسائسها، فنالت من قريبه وصديقه، ولكنها لم تزحزحه عن طريقه، وواثبته الخرافات بوساوسها، فحالت دون سرعة انتشاره، ولكنها لم تقو على صد تياره، وصادمته التقاليد بهواجسها، فصدت الكثيرين من متقلديها عنه، ولكنها لم تنل منه، بل عزَّ هؤلاء وأولئك في الخطاب {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الأَحْزَابِ} (ص: 11) . نعم، قد انهزم من أمامه الدجالون فلا يجدون قوة ولا حولاً، وانهزم كذلك المقلدون فلا يرجعون إليه قولاً، وأنى للمتوكئ على عكاز القال والقيل أن ينافح منتضي سيف الدليل تحت لواء السنة والتنزيل؟ ألا إنهم لا يصدونه بل يصدون عنه، ولا يقولون له ولكن يقولون فيه، وكذلك كان يقول المقلدون إذ دعوا إلى غير ما كانوا يعتقدون {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} (ص: 8) . الحق أبلج، لا يخيل سبيله، ولا تخفى على الناظر البصير غرته وحجوله، فلا يضره ضعف الداعي وغربته إذا قويت عارضته وعرفت حقيقته، والباطل لجلج، وإن كثر قبيله، ودعمت فروعه وأصوله، فلا تنفعه قوة الداعي وعصبته إذا ضعفت مريرتة ودحضت حجته، وإنما يثبت المقلدون حيث لا يوجد المستدلون، ويسود المتواكلون ما سكت عن معارضتهم المستقلون {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) . لا خوف على الحق إلا من الاستبداد بمنع حرية العلم والإرشاد، فالحق لا يوجد إلا حيث توجد الحرية والاستقلال، وتظهر آثار مواهب الناس في الأقوال والأعمال؛ لهذا لا نخاف على دعوة الإصلاح في هذه البلاد، أو تعود إليها سلطة الاستبداد، نعم إن سيره قد يسرع وقد يبطئ، وإن الداعي إليه يصيب في رميه ويخطئ، ولكنه يستفيد من الخطأ كما يستفيد من الإصابة، وقد يزداد مضاء في الرفض والإجابة، حتى يعمل الاستعداد لإصلاح عمله، ويبلغ الكتاب أجله {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38) ، {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) ، {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} (الرعد: 40) . إن للإسلام ثلاث مظاهر أو مراتب: التقليد وعليه أكثر المسلمين المعتقدين، والبصيرة وعليها نفر من العلماء المحققين، والجنسية وهي تشمل حتى المارقين من المتفرنجين، وقد هوجم أولاً في تقاليده لتحويل العامة عنه، وهوجم في كتابه وسنته لزلزال الخاصة فيه، وهوجم في جنسيته لحل رابطة المعتصمين به، على أنه لا يخشى عليه من مهاجمة الأجانب عنه، وإنما يخشى عليه من مهاجمة الذين يعدون منه، فالمتفرنجون منهم يفتنون العامة عن تقاليدهم باسم المدنية، وشُبَه العلوم والفنون العصرية، ويحلون جنسيتهم الإسلامية بدعوتهم إلى الجنسية الوطنية، وهم لا يتهمون في ذلك بالإيقاع بالدين؛ لأنهم يأتون العامة عن اليمين، ويدعون إلى ما يدعون معتقدين أنهم مصلحون، فتعيَّن على أهل البصيرة والعرفان أن يناقحوا عن هذا الدين بالبرهان واقفين عند حدود السنة والقرآن، فإن كلا من مسلمي التقليد والجنسية يعترفون بأن مرتبة البصيرة هي المرتبة العلية {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الرعد: 19) . ألا وإن من المحال حفظ تقاليد المقلدين من غارة إخوانهم المتفرنجين، فإنها من قبيل العادات التي يعروها (كما نشاهد) المحو والإثبات، ألا وإن مصارعة الجنسية الوطنية للجنسية الإسلامية، مجهولة العواقب، إلا حيث يساعدها الحكام مع الأجانب، فهنالك يرجح أن تكون آية الوطنية هي المرفوعة، والراية الإسلامية هي الموضوعة، ويتبع ذلك سرعة تسلل العوام من هذه التقاليد المعزوة إلى الإسلام في مثل هذه البلاد غريبًا كما بدأ؛ لأن أهل البصيرة هم الأقلون عددًا، والأضعفون ساعدًا وعضدًا، إذا غَلبوا بالبرهان يُغلبون بالسلطان، فهم إما مضطهدون جهرًا، وإما مهددون سرًّا على أنهم لا يقنطون من رحمة الله، ولا ييأسون من روح الله {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10) ها أنا ذا أقول على رءوس الأشهاد: إن طالب الإصلاح الديني مهدد حتى في هذه البلاد، ورب مقاومة خفية شر من صدمة علنية، ورب اصطدام أحدث ظهورًا خير من إهمال أوجب فتورًا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} (البقرة: 216) فما ظهر حق إلا بعد اضطهاد، ولا خذل باطل إلا بعد عناد، فلا يغررك تقلب الظالمين في البلاد، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراًّ ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} (الزمر:21) . فيا أيها الكائدون الظالمون، إنما كيدكم على ملتكم إن كنتم تعقلون، ويا أيها المقلدون الجامدون، إن تقاليدكم تتحول عنكم تحول الظل وأنتم لا تشعرون، ويا أيها العابثون بالجنسية إنكم لبنائكم تهدمون، وتبنون لغيركم من حيث لا تعلمون، ويا أيها المصلحون المستبصرون اصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102) ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 103-104) لا تفرقنكم عوامل المدنية فإن دينكم عون لكم عليها إن كنتم تفقهون، ولا يفتننكم سلطة الأمم الأوربية فتقلدوها فيما لا تعلمون، فإن روح المدنية والسلطة هو الدين والآداب، وقد أنعم الله عليكم من ذلك بأكمل مما أنعم به على أهل الكتاب {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة: 200) ، {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201) {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 202) . إن الفساد قد طرأ على جسم هذه الأمة من زمن بعيد، فهو يحتاج إلى تكوين جديد، ومن المبشرات أن نرى المسلمين قد تنبهوا إلى الحاجة إلى هذا التكوين، ولكن اختلفت فيه الآراء، وعبثت به الأهواء، ولا زعيم يرجع إليه، ولا إمام يقتدى به، وما على طلاب الإصلاح الآن إلا إقامة الحجة والبرهان، وتربية استعداد الأمة إلى أن ينهض زعيم من الأئمة، ولا بد من مسالمة الفرق والأحزاب، وإحاطة استقلال الرأي بسياج الآداب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17- 18) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ومحرره ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني

الدعوة إلى انتقاد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى انتقاد المنار إننا نكرر الدعوة إلى انتقاد المنار في كل عام ونعد بنشر ما ينتقد به على ما ننشر من المسائل الدينية والعلمية لعدة أمور: (1) أننا نتحرى في كل ما نكتب الحق والإرشاد إلى الخير، ونعتقد أننا عرضة للخطأ مهما بذلنا من الجهد في تحري الإصابة، فغرضنا الأول من دعوة العلماء إلى انتقاد ما نكتبه هو تكميل نفسنا ومساعدتنا على ما نتوخاه من الإرشاد. (2) حرصنا على تكميل غيرنا من قراء المنار بما نحب أن نكمل به نفسنا من معرفة الحق والخير والمصلحة، وكراهة أن يعلق ما عسى أن نقع فيه من الخطأ بنفس بعض القراء فلا يجدوا عنه مصرفًا. (3) إقامة فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كثيرًا من أهل العلم يعتذرون عن تركهم لذلك بأن الناس لا يقبلون أمرًا ولا نهيًا، بل يعادون من ينصح لهم ويرشدهم إلى الحق وربما آذوه بالقول أو الفعل فها نحن أولاء نؤمّنهم من العداء والإيذاء، ونعدهم بقبول النصح والإرشاد. (4) فتح باب المناظرة التي تعلم كل واحد من المتناظرين ما لم يكن يعلم وتدفعه إلى بذل الجهد والعناية في استكناه الحقائق، والإحاطة بأطراف المسائل، وترك الحكم للقراء. (5) قطع ألسنة أهل الدعوى، والمتبعين للهوى، الذين يقولون: هذا حق وهذا باطل، وهذا حلال وهذا حرام، وفلان مخطئ أو ضال، أو نافع أو ضار، وهم على غير بينة فيما يقولون، أو على غير إخلاص فيما به يحكمون، فالمنار يقول لمن يخوض فيه منهم: إن كنتم تقولون الحق فأبرزوه للقارئين، وهاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وإلا فأنتم بأكل لحم أخيكم بالغيبة، وبحسدكم الذي زين لكم هذه الوقعة تقولون ما لا تعملون، أو تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون. هذا، وإننا نشترط على المنتقد الذي نعد بنشر انتقاده أن يوجه انتقاده إلى ما كتبنا من المسائل العلمية دينية أو غير دينية مبينًا موضع المسألة من المنار بأن يقول: ذكرتم في صفحة كذا من مجلد كذا ما هو كيت وكيت وهو خطأ، ويبين ذلك بالدليل. ولا نعد بنشر الانتقاد المبهم (نحو: أنتم تقولون كذا) مما لعلنا لم نقله ولم يخطر ببالنا، وإنما جاءه من وقيعة بعض الكاذبين أو من سوء الفهم - ولا الانتقاد الغفل من الدليل - ولا ما كان موجهًا إلى الأعمال الإدارية أو الشخصية أو اختيار المباحث والمسائل أو أسلوب الكتابة، فكل هذا مما نترك لنفسنا الخيار فيه، مع الشكر عليه؛ لأن فائدته في الغالب خاصة بنا وعدم العلم بها لا يضر القراء شيئًا.

شرط الاشتراك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شرط الاشتراك (1) كل من قبل الجزء الأول من مشتركي المنار السابقين يعد مشتركًا إلى آخر السنة , ويجب عليه دفع ستين قرشًا إن كان من مصر أو السودان , وثمانية عشر فرنكًا إن كان من سائر الأقطار، وإن ردّ المجلة في أثناء السنة لأن ضياع بعض أجزاء السنة علينا كضياع جميعها. (2) يجب على من يطلب الاشتراك أن يرسل القيمة سلفًا , وأن يكون اشتراكه من أول السنة (المحرم) أو منتصفها (رجب) . (3) إذا لم يصل إلى المشترك أحد الأجزاء فإن الإدارة ترسله إليه بغير ثمن إذا هو طلبه في مدة لا تتجاوز شهرًا واحدًا من موعد وصوله إليه في بلده، وإذا طلبه بعد ذلك كان عليه أن يرسل ثمنه كمن فقد الجزء وطلب بدله , وثمن الجزء الواحد ستة قروش مصرية. تنبيه لم ننشر في هذا الجزء شيئًا من التفسير لسبب عارض.

القرآن ونجاح دعوى النبي عليه الصلاة والسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القرآن ونجاح دعوة النبي عليه الصلاة والسلام آراء علماء أوربا في ذلك ألّف القسيسون وأعوانهم من المتعصبين للنصرانية كتبًا في القرون المتوسطة يمثلون بها الإسلام في أقبح صورة ينتزعها خيال الكاتب منهم على حسب تمكنه في الكذب والبهتان، ولما ارتقت العلوم والفنون في أوربا وضعف التعصب الأعمى على المخالف بقدر ذلك كثر الباحثون من علماء الإفرنج في شئون الشرق بالإنصاف , فتغير لذلك اعتقادهم في الإسلام والمسلمين، وألفوا في بيان مزايا هذا الدين التي كانت مجهولة , وفضائل أهله التي كانت مهضومة كتبًا كثيرة. ومن هؤلاء المؤلفين: البرنس كايتاني الإيطالي فإنه ألف كتابًا في تاريخ الإسلام يقال إنه كتبه بحرية وإنصاف بحسب ما وصل إليه علمه. وقد زار مصر في هذا الشتاء فاحتفى به نادي المدارس العليا , وأكرم مثواه , وأثنت عليه جرائد المسلمين ثناءً حسنًا. وقد ترجم المؤيد في أوائل هذا الشهر تقريظ جريدة التيمس لتاريخ البرنس كايتاني ومنه هذه العبارة: (ومن رأي المؤلف على إعجابه الفائق بصاحب الشريعة الإسلامية أن مزية النبي هي كفاءته العجيبة كسياسي محنك أكثر منه كنبي موحى إليه. ويؤيد قوله بدليل سبق إهماله حتى الآن , وهو أن حنكته وحسن سياسته أفادا في تأييد سلطته أكثر من إفادة القرآن أو أي حمية دينية) اهـ نص ترجمة المؤيد لعبارة التيمس. وهذا الذي قاله هو اعتقاد الإفرنج العارفين بنشأة الإسلام، وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي إنهم يعتقدون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بما قام به بحنكته وسياسته، لا بتأييد الله تعالى له بوحيه وعنايته، ولولا هذا لما كان لهم مندوحة عن الدخول في الإسلام، ومثل الإفرنج في هذا الرأي كل من لا يدين بالإسلام من علماء المشرق. فدعوى أن نجاح النبي صلى الله عليه وسلم كان بسياسته وحنكته - أي تجاربه - هي أكبر شبههم على الإسلام. ومن الشواهد على ذلك من كلام علماء بلادنا غير المسلمين الأسطر والأبيات الآتية التي كتبها إليّ الدكتور شبلي شميل الفيلسوف المشهور بعدم التدين. حمله عليها قراءة المنار , وهي: إلى غزاليّ عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار: أنت تنظر إلى محمد كنبي وتجعله عظيمًا , وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم، ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض , فالجامع بيننا: العقل الواسع , والإخلاص في القول , وذلك أوثق بيننا لعرى المودة. ... ... ... ... ... ... ... من صديقك الدكتور شميل الحق أولى أن يقال دع من محمد في سدى قرآنه ... ما قد نحاه للحمة الغايات [1] إني وإن أك قد كفرت بدينه ... هل أكفرنَّ بمحكم الآيات أو ما حوت في ناصع الألفاظ من ... حكم روادع للهوى وعظات وشرائع لو أنهم عقلوا بها ... ما قيدوا العمران بالعادات نعم المدبر والحكيم وإنه ... رب الفصاحة مصطفى الكلمات رجل الحجا رجل السياسة والدَّها ... بطل حليف النصر في الغارات ببلاغة القرآن قد خلب النهى ... وبسيفه أنحى على الهامات من دونه الأبطال في كل الورى ... من سابق أو لاحق أو آت (المنار) كتب الدكتور إليَّ بهذا لا لينشر بل ليقرأ على أنه خواطر جاشت في صدره، ثم بعد أن نشر المؤيد ما نشره عن التيمس , ورددت عليه في الجريدة استأذنت الدكتور بنشر ما كتبه فأذن , وهو كما يرى القارئ أكثر من البرنس كايتاني تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم , وكذا للقرآن الحكيم الذي لم يدرك البرنس كايتاني تأثيره؛ لأنه لا يفهمه كالدكتور شميل. ونحن-على كوننا نشكر لشميل ما اعترف به من مزايا نبينا وكتابنا، ونسأل الله أن يهديه للباقي منها وهو المهم الأعظم - لا نقول: إنه اعترف بنبوته ولا بحقية كون كتابه إلهيًّا. وننكر عليه أشد الإنكار قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث كونه رجلاً أعظم منه من حيث كونه نبيًّا على أنهم لا يعنون بمثل هذا التعبير الذي قاله شميل وكايتاني أنه نبي وسياسي وأن نبوته أقوى من سياسته. بل يعنون أنه نجح بسياسته لا بنبوته التي ادعاها , ولكن المؤيد غفل عن هذا وادعى أن ما قاله كايتاني حق، ولو كان حقًّا لكان هو وجميع علماء أوروبا وعلماء أهل الكتاب والوثنيين العارفين بتاريخ الإسلام كلهم على الحق , واستلزم ذلك كون المسلمين على غير الحق فيما يتعلق بأصل دينهم؛ لأنهم يقولون بخلاف هذا القول! ! نبهت (الجريدة) المؤيد إلى هذه الهفوة , وقالت: إن ما ترجمه عن التيمس من قول كايتاني كفر ما كان لصاحب جريدة تفتخر بأنها إسلامية أن ينقله ويقره. فرد عليها صاحب المؤيد بقوله الآتي نقلاً عن عدده الذي صدر في 3 المحرم , والعنوان منا فقط: رأي المؤيد في القرآن أمّا نحن , فنقول للجريدة: إننا نقلنا عبارة البرنس كايتاني عن التيمس , ونحن نعتقد أنها ليست كفرًا فلا نلام إذا لم نرد عليها , وأمّا الجريدة فقد نقلتها وهي تعتقدها كفرًا , ولم ترد عليها فهي المقصرة والملومة. إن غرض البرنس كايتاني من عبارته ظاهر , وهو الإعجاب بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم , واعتبارها فوق كل قوة دينية أخرى كانت له. والله تعالى يقول في كتابه الكريم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) , فلم يُرد البرنس كايتاني بقوله هذا حطًّا من شرف الدين الإسلامي ولا تحقيرًا للقرآن الكريم , وماذا يفعل القرآن وحده إذا كان الداعي به على أخلاق غير الأخلاق العالية التي اشتهرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل القرآن نفسه يقول: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) فجعل مناط قوة ارتباط المؤمنين به والتفافهم حوله وانتصارهم له وفدائهم إياه بالنفس والمال سلامة أخلاقه من العيوب المنفرة. فلو كان فظًّا غليظ القلب ما نفعه قرآن , ولا حمية دينية. وهذا كلام يقوله كل مسلم يعقل، ويعرف ما هو الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وروحه الأخلاق الشريفة التي أعجب بها البرنس كايتاني. (وليس المقام مقام مقارنة بين القرآن والنبي صلى الله عليه , وأيهما أفضل؛ لأن هذا لا يؤخذ من عبارة البرنس كايتاني ولا هو غرض مؤرخ كبير كهذا , بل هذه المباحث العقيمة الآن تليق بجريدة مثل (الجريدة) لا يذوق محررها طعمًا لكلام مؤلف , ولا يعرف وزنًا لقيمة رأي مؤرخ) . أليس القرآن بيننا الآن كما هو بين المسلمين منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى الآن؟ فهل يستطيع مسلم أن يقول: إن قوة الإسلام الحقيقية كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهل لذلك سبب سوى الأخلاق العالية التي وهبها الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم , وهل أخلاقه الفائقة إلا موهوبة من عند الله , وهي معجزة من معجزاته؟ فهل يكون كافرًا بالله من قال: إن قوة هذه المعجزة بخصوصها كان لها دخل في فتوحات الإسلام على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من كل معجزة دينية أخرى. إن للقرآن الكريم وظيفة أخرى لا يشاركه فيها مشارك وهي كونه شريعة إلهية , جمعت بين مصالح الدين والدنيا , ففاق بهذه المزية كل الكتب الإلهية الأخرى كما فاقها في الأسلوب والبيان , فهل ينقص من فضل القرآن ومزيته أن يقال: إن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كانت فوقًا تأثيرًا في فتوحاته وبسطة سلطانه. هذا ما أردنا بيانه , ونترك للجريدة المشاغَبة واللغط والوثوب من خطأ إلى غلط) . اهـ كلام المؤيد. (المنار) إن المؤيد جرى في الرد على الجريدة في هذه المسألة على طريقة المراء المعتاد في المناقشات السياسية , فحرف كلام كايتاني عن موضعه , وجعله من باب الإعجاب بالأخلاق التي أكرم الله بها نبيه وتفضيل تأثيرها على القرآن , وإنما كلام كايتاني في غير ذلك إذ زعم أن جُلَّ نجاح النبي صلى الله عليه وسلم أَوْ كله بسياسته وحنكته - أي تجاربه - لا أخلاقه الموهوبة من الله، كما قال فيه الدكتور شميل: إِنه رب السياسة والدهاء. وكان للمؤيد مندوحة عن تأييد شبهة كايتاني وتقويتها، بأن يقول للجريدة: إنه سكت عليها؛ لأنه لا يطالب غير المسلم بأن يقول في الإسلام أكثر من ذلك , مع العلم بأن المسلمين لا يأخذون عقيدتهم عن مؤرخ نصراني. ولكنه لم يوفق لذلك؛ فاضطررنا إلى كشف الشبهة بالمقالة الآتية في الجريدة: رد شبهة المؤيد على القرآن [2] يقول المنكرون لنبوة نبينا محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - سواء كانوا من الأوربيين أو غيرهم: إن ما تم على يديه من جمع كلمة العرب وكذا وكذا مما ثابت في التاريخ إنما كان بالدهاء والسياسة وسمو الأفكار وعلو الأخلاق الذي يكون عادة لكثير من الرجال كالبرنس بسمارك ونابليون الأول. وإن ما ادعاه من النبوة , وما جاء به من القرآن لا تأثير لهما في نفسهما , وإنما التأثير له هو بنفسه وبهما؛ لأنه استخدمها في تنفيذ سياسته {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} (الكهف: 5) . ويعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر كسائر البشر لا يمتاز على غيره إلا بالنبوة وما تستلزمه كما هو نص قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} (الكهف: 110) الآية. وقوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم} (يوسف: 109) . ويعتقدون أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سن الشباب وبلغ الأربعين ولم يعمل عملاً اجتماعيًّا ولا سياسيًّا , وأن ما تم على يديه بعد ذلك إنما كان بالنبوة التي اختصه الله بها وبالقرآن الذي أوحاه إليه , فكان روحًا أحياه به حياة جديدة، وأحيا به من اتبعه فكان اهتداء الجميع بالقرآن لا بتأثير صفات النبي الشخصية كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا} (الشورى: 52) , فالله تعالى هو الذي هدى المؤمنين بكتابه , ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي هداهم بصفاته البشرية وكفاءته الشخصية؛ ولذلك أنزل الله عليه قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) , وقوله: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال: 63) . بل يعتقد المسلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتقي في أفكاره وأخلاقه بالقرآن نفسه فكلما أنزل الله عليه شيئًا منه ازداد كمالاً به؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها لِمَنْ سألها عن أخلاقه: (كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن) رواه مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وغيرهما. ومما هَدَاه الله تعالى إليه بكتابه مشاورة أصحابه في الأمر , فكان يستشيرهم , ويعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه كما فعل في غزوة أحد , وكانوا يسألونه إذا أشار بأمر: هل هو وحي فيُطاع بلا بحث ولا تردد أم هو الرأي؛ ليذكروا ما عندهم , فإذا قال: هو الرأي. ذكروا ما عندهم كما كان يوم بدر. وقد ترك صلى الله عليه وسلم رأيه إلى رأيهم. فمن هذه العجالة يعلم أن القرآن هو الأصل في هداية الرسول صلى الله عليه وسلم وهداية أصحابه عليهم الرضوان إلى ما تم على يديه وأيديهم معه وبعده مما أدهش التاريخ إذ لم يجد له نظيرًا، ولو شئنا لأتينا بأكثر مما أتينا به من الشواهد على ذلك من الآيات وال

ما هي اللغة

الكاتب: أحمد فتحي باشا زغلول

_ ما هي اللغة خطبة أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية في نادي دار العلوم. الفكر: حركة نفسية يحتاج في ظهوره إلى معونة الجهاز المخصوص الذي يكون به الكلام. وعليه، فالكلام هو حركة ذلك الجهاز المنبعثة عن مجرد الطبع، أو المدفوعة بالإرادة للتعبير عن حركة من حركات النفس. ينتج من هذا أن الكلام يتنوع باختلاف الشارات التي تدل على الأفكار , وأن تلك الشارات تنقسم إلى قسمين: طبيعية , وصناعية. فالأولى هي التي تصدر عن الذات من حيث هي؛ أي: بمقتضى وجودها المادي، وكل شارات هذا القسم عَرَضِيَّة , مثل شارات اليد , والرأس , والعين , وبقية الأعضاء , ومثل الأصوات التي ليست ألفاظًا , والكلام؛ أي: النطق. والثانية خارجة عن الذات , وهي تحدث من تأثير الإنسان في المباديات الخارجة عنه , وكل شارات هذا القسم جوهرية , بمعنى أن لها دوامًا طويلاً كان أو قصيرًا , كالأعلام والنقش , أو الرسم والحفر والكتابة. ومما تقدّم يتبين أن الكلام الطبيعي عامٌّ لِكونه مفهومًا بذاته مع جميع الناس ومن الحيوان أحيانًا , كما هو الحال بالنظر لشارات الأعضاء وأصوات الغضب , أو الاستحسان من غير أن يكون هناك اتفاق سابق على مفهوم تلك الشارات. وعلى خلاف ذلك الكلام الصناعي أو الاتفاقي؛ لأنه عبارة عن مجموع الألفاظ المخصوصة الموضوعة للمعاني المخصوصة , وعن التراكيب أو الصيغ الناتجة من تأليف هذه الألفاظ لتوصل إلى الذهن بواسطة الأذن أو العين معاني مخصوصة متفق عليها. وقد يتأتى أن يكون الكلام الصناعي عامًّا؛ أي: إن كل الناس يدركون المراد منه كالرسم مثلاً , وعلى هذا يتضح خطأ تعريفهم اللغة بأنها أصوات يُعَبِّر بها كل قوم عن أغراضهم. والصحيح أن اللغة: هي مجموعة من العادات المخصوصة التي تجري عليها كل أمة في التعبير عن أغراضها بواسطة الكلام أو الكتابة , وتقدم بيان معنى الكلام. ولا يصح إطلاق اسم اللغة على ذلك المجموع إلا إذا كانت النسبة تامة بين اللفظ ومدلوله؛ لأن قوة اللغة متوقفة على شِدة المطابقة بحيث إن الأذن أو العين ترسم في ذهن السامع أو القارئ صورة المدلول كما هي، ولا يتم ذلك إلا باجتماع شروط ثلاثة: الشرط الأول: أن يكون لكل مدلول علامة خاصة به تدل عليه دائمًا , ولا تدل على غيره أبدًا. الشرط الثاني: أن تكون هذه العلامة قابلة للتعبير بتغير المدلول وتبعًا له. الشرط الثالث: أن تكون قابلة للاشتقاق لمدلولها , فإذا اشتق منه مدلول اشتق منها علامة دالة عليه بالشروط عينها. وبناءً على ما تقدم تكون شروط اللغة الحقيقية بهذا الاسم ثلاثة أيضًا: الأول: أن يكون تعبيرها محكمًا , وذلك عبارة عن تمام المطابقة بين الدال والمدلول , ولا سبيل إلى هذا إلا إذا سهل استعمال اللفظ قَدْر المعنى، ولم يزد المعنى عن اللفظ المستعمل لأجله , وهذا الشرط صعب التوفر؛ فما وُفِّقت لغة حتى الآن لِنَيْل هذه المزية , اللهم إلا لغة علماء الرياضة , بل إن اللغات الأخرى لن تنالها أبدًا. الثاني: الملابسة , وهي الخاصة الموجودة في الألفاظ والتراكيب، أي الصيغ، تلك الخاصة التي يدرك بها الفاهم نظائر المدلول ونقائضه , والملابسة تقتضي تحليل الفكر الإنساني، وذلك غير ميسور عادة في اللغات الأصلية إلا نادرًا. الثالث: الوضوح التام , وهو يرجع للشرطين السابقين , ولصناعة ترتيب الألفاظ , وتركيب الجمل ترتيبًا وتركيبًا ينتفي معها الإبهام، ويرتفع الشك والالتباس, ومن اللغات ما تميل بأهلها إلى الإغراب في التعبير , وهذا هو السبب في ظلمتها وتعسر فهمها وكلما كان القول طبيعيًّا؛ أي: بسيطًا ازداد وضوحًا , فالبساطة هي أمثل طرق الكلام على أنها طريقة العلم والواقع وهي التي يسهل بها التعبير عن الأفكار وحركات النفس كما ينبغي. وكأني بحضراتكم وقد استنتجتم مما ذكرته إلى الآن خطر مذهب التجوز أو الاشتراك في اللغة وذكرتم أنه يذهب بجمالها، ويخفي من وضوح دلالتها ويجعلها ثقيلة على أهلها بعيدة المنال على طُلاّبها من الأمم الأخرى. سمعت في الاجتماعين الماضيين كلامًا كثيرًا في اللغات الأجنبية , وأن لها أصلاً أو أصولاً ترجع إليها، وتستمد روح التجدد منها , فأهلها في حِلّ مما يفعلون , وأما نحن فلا أَصْلَ للغتنا، ويبنون على هذه المقدمة نتيجة هي أنه يجب علينا أن نعرف كلمة أعجمية لنضيفها إلى لغتنا العربية. الحق أني ما فهمت النسبة بين تلك المقدمة وهذه النتيجة؛ فإني أنظر إلى تلك اللغة اللاتينية التي هي أصل لغات أمم أوروبا المعروفة بهذا الاسم من فرنساوية وتليانية وأندلسية وغيرها , فأجدها لغات ممتازة تمامًا عن ذلك الأصل، بل أجد الفرنساوي من حيث هو لا يعرف كلمة واحدة من أصل لغته , وكذلك بقية من ذكرنا وأرى أن كل لغة حية هي لغة مستقلة قائمة بنفسها لها قواعد خاصة بها , وتراكيب وصيغ تميزها عن أصلها تمامًا , فإذا استعاروا لِمُحْدَثٍ جديد اسمًا من ذلك الأصل فإنما هم يستعيرونه من لغة أعجمية بالنظر إلى لغتهم. ألا ترون أنهم لا يقصرون الاستعارة على اللغة اللاتينية، ويتعدونها إلى اليونانية القديمة , وأحيانًا يستعيرون كلمتين، من كل لغة كلمة، وينحتونها ويدمجون هذا المزيج في لغتهم فيصير جزءًا منها , ويفسحون له في كتب اللغة محلاًّ بين كلمتين أصليتين بحسب ترتيب حروفه الأبجدية. إنهم يعملون أكثر من هذا: إن لكل بلد عادات في أكلها وسكناها ولباسها وأطوارها , ويتبع ذلك وجود أسماء عند قوم لمسميات لا يعرفها قوم آخرون إلا أن التجارة وطرق المواصلات تنقل هذه المسميات، أو تجعلها تشاهد في أماكنها من النازحين إليها؛ فيرى أهل البلد ما يروق لهم من بعض تلك الخصوصيات لأهل البلد الآخر , ولا يجدون من لغتهم نصيرًا على التعبير عنه تمامًا , لكنهم لا يختارون ولا يقصدون الاجتماع تلو الاجتماع، ولا يفترقون شيعًا وأحزابًا , بل يقدمون على تناول المسمى واسمه ويدرجون عليه من ساعتهم فيمتزج بلغتهم، ويعرفه الكل، ويتحرون في حديثهم أن يلفظوه كأنهم في نطقهم به من أهله، والأمثلة على ذلك لا تُحْصَى يعرفها كل من تعلم لغة واحدة أجنبية. هم يعملون ذلك حتى في العلوم فترى الحكيم الفرنساوي وهو يقرر مذهبه عندما يأتي على ما يخالفه من مذاهب الألمان إذا وصل إلى معنى خاص بأحدهم لم يفكر أن يعبر عنه بغير لفظه الألماني وهكذا , ثم يذكر بهامش كتابه معناه. ما كان هذا لِيُفْسِدَ لغة من تلك اللغات , ولا يثير عاطفة الحنان والإشفاق عليها , بل ما ازدادت لغاتهم بهذا إلا طلاوة ويُسرًا , بل تكاد هذه الطريقة تجري عند الأمم الغربية عامَّة لتكون الألفاظ الغريبة عن لغتهم برهانًا عن سَعَة مداركهم , ورحب صدورهم لكل نافع وكل مفيد , ولتكون دليلاً على مصدر المسمى ومذكرة بجزء من ترجمته. قالوا: إن ذلك جائز عندهم لتماثل أحرف هجائهم واتحاد صدورها وأشكالها , وأما نحن فلا قبل لنا على عمل ما يعملون لاختلاف أحرف هجائنا، وصورها وأشكالها، ولست أرى في هذا الاعتراض إلا أنه دليل أحد أمرين , فإما شعور يعجزنا عن المجاراة لفتور في همتنا أو قصور في معارفنا , وإما أن أحرف هجائنا وأشكالها وصورها محتاجة هي أيضًا إلى الإصلاح؛ لنتمكن من تناول كلمات الغير بأشكال وصور تجعلنا ننطق كلماتهم كما ينطقون، وننقل عنهم كما هم عن بعضهم ينقلون. نحن إما عرب أو مستعربون , وإما أجانب عن لغة العرب أو مولدون , فإن كنا الأولين فلنا حقنا في التصرف بلغتنا كما تقتضيه مصلحتنا , وإن كنا مستعربين فبحكم قيامنا مقام أصحاب هذه اللغة وبكوننا ورثناها عنهم بعد أن بادوا ليس لأحد أن ينازعنا في استعمال ما كان مباحًا لآبائنا من قبلنا , وإن كنا أجانب أو مولدين فمن له يسيطر علينا، ويحرمنا ثمرة الكدّ في حفظ هذه اللغة وتفضيلها على غيرها من سائر اللغات , فيلزمنا بالبقاء على القديم ويحكم علينا بالجمود واعتقال اللسان. أَخَذَ العرب العلوم عن أهلها , ونقلوها إلى لغتهم , فلما وجدوا منها استعصاء في بعض المواضع ذللوها وأخضعوا الغريب عنها لأحكامها فأيسرت ودرجت بعد الجمود , فكانت لهم نعم النصير على إدراك ما طلبوا من نور وعرفان. نسينا نحن أن زماننا غير زمانهم فكانوا أصحاب حَوْل وطَوْل , وذوي مجد وسلطان , ونحن على ما نعلم من الضعف والانزواء على أنهم في عِزِّهِم وبعد فِخَارِهِم وتمكنهم من أنفسهم لم يعتزوا بلغتهم فينفروا من العُجْمَةِ؛ لأنها عُجْمَة بل استخدموها حيث وجب الأخذ بها تمكينًا للغتهم وحذرًا من أن يصيبها الوَهْن إذا قعدوا بها عن مجاراة تيار التقدم، وهم أَُولُو الرأي فيه , وخوفًا من أن يعيقهم الجمود فيها عن حفظ مركزهم العظيم بين الأمم التي كانت تعاصرهم. أيجوز لنا أن نتخلف عن السير في طريقهم، والاسترشاد بهديهم، والعمل بطريقتهم بحجة أنهم انقرضوا وبادوا , فلا حق لنا في متابعة الرقي , ولا يجوز أن نخطوا بعدهم خطوة إلى الأمام؟ لكن من الذي استأجرنا حراسًا من الخرس على هذه الوديعة؟ وبأي قوة أخضعنا على الوقوف هذا الموقف؟ موقف الاستكانة، وقطع الرجاء، وفقدان الهمة، وانحلال العزائم؟ أنقص في الأفهام، أم قصر في الأجسام، أم جهل بأنا من البشر لنا كل حقوق الإنسان؟ ليس لنا أن نتمسك بالقديم لقدمه وإن أصبح عديم الجدوى، وإلا فأولى بنا أن نكف عن الدرس والمطالعة , وأن نكتفي من كل شيء بما ورثنا عن الآباء لنعيش كما عاش الأوَّلُون. غير أني أرجوكم أن تتعلموا الصبر فلا تجزعوا إذا أصابتكم مصائب التقدم فتركتم آخر القوم، ولا تحزنوا إذا هَصَرَتْكُمْ عوامل الرُّقِيّ , فَمُنِيتُمْ بِمَن يقف متفرجًا عليكم وأنتم كالصور المتحركة الناطقة , لكنها تتحرك بحركة هي عبارة عن اهتزاز الشيء مكانه , وتنطق بلغة دائرة قد خَلَتْ من العلم الذي أصبح دارجًا على ألسنة المتفرجين. جزع خصوم مذهبنا على اللغة العربية، وحسبوها طعامًا سهل التناول والهضم في مَعِدِ اللغات الأعجمية , فاستجاروا من التعريب , وصاحوا: إننا لا نطيق اسمًا عجميًّا يدخل عليها. أليست هي تلك اللغة الحافلة بالألفاظ والتراكيب العالية والقول الفصيح , المصونة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وهي لن تتأثر ببعض كلمات تدخل عليها في كل عام , بل إن هذا العمل مما يؤيدها , ويشد أزرها, ويرفع مقامها بين اللغات فلا يطمع الأعاجم في اعتبارها من اللغات الميتة. قالوا: ذلك يفسد علينا لغة القرآن , وما أشد ما أجاب به عن هذا الاعتراض حضرة الفاضل السيد رشيد أفندي فلا خوف على القرآن ما دام في الوجود مسلم. ألا ترون أن القرآن محفوظ مصون عند من لم يعرف العربية من المسلمين، إليكم الترك والهند والصين والقوقاز والروسيا تلك أُمَم تعد خلقًا كثيرًا من المسلمين , لا يعرف الواحد منهم غير لغة أمته وهو مع ذلك يحرص على القرآن أشد من حرص الجبان على دمه. أيعجزكم أن تحافظوا على القرآن بيمينكم , وتفسحوا المجال في لغتكم للتقدم باليسار؛ لتنالوا السعادتين , وتكونوا من الناجحين في الدارين؟ قالوا: العلم النافع. قالوا: كثير منه مخالف للدين. قالوا: الحضارة تهددنا فلنتقها بها. قالوا: هي تخالف الدين. قالوا: حدثت مستحدثات , فسموها. قالوا: حرام عليكم إن كنتم فاعلين. من جَرَّاء هذا قال الفرنج عنا أنا قوم جامدون , وما جمودنا إلا من الدين , ف

الدين الإسلامي والمدنية

الكاتب: علي سيد يوسف

_ الدين الإسلامي والمدنية رسالة لصاحب التوقيع اقتبس بها بعض شهادات علماء الإفرنج للإسلام والعرب. نشرناها ترغيبًا لمثله في هذا الموضوع وإن سبق لنا نشر هذه الأفكار في المنار. (فهرس) حالة العالم قبل وجود الديانة الإسلامية - حقيقة الديانة الإسلامية - أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم وصفاته - الدين الإسلامي دين الفطرة - الدين الإسلامي دين المدنية والترقي - سديو ودروي - إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم - قول العمرانيين فيه - حكم المؤرخين عليه - الإسلام ليس بدين جديد - الدين الإسلامي ليس بالدين الضيق - كل رقي في العلوم الطبيعية يدعو إلى التقرب من الديانة الإسلامية - الدين الإسلامي هو أنشودة الفلاسفة في المستقبل. إني أكتب ما أكتب عالمًا عِلْمَ اليقين أن الديانة الإسلامية ليست بالشيء العويص الذي لا يمكن للإنسان استكناه مجاهيله، أو استشفاف مساتيره، بل هي مما يمكن تحققها بالاختبار والتجربة إذا صعد الإنسان بِمنْطَاد بحثه إلى سماء الحقيقة غير متعصب لفريق دون آخر؛ فبهذا يطل الإنسان على كبد حقيقتها , ويعرف كُنْهَهَا من سموّ ترتيبها ومتانة قواعدها وإحكام نظامها , فيحكم بأنها ليست بالديانة التي أوجدتها قريحة آدمي مهما حاز الصفات والكمالات ولكنها هي هداية إلهية، يخالف جوهرها جوهر الأفكار البشرية. ظهر النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد العرب وقد كان قومه في هُوَّةِ الانحطاط بَعيدين عن التمدن والرقي الفكري , يدلُّك على ذلك وَأْدُهُمْ لِبَنَاتِهِمْ وهُنّ على قيد الحياة , وعبادة الأوثان , وغير ذلك من الأخلاق الذميمة التي تقضي بمتبعها إلى الخسران والهلاك المبين , وليست بلاد العرب فقط هي التي كانت في تلك الحالة بل ما جاورها أيضًا من بلاد الرومان في الغرب، وبلاد العجم في الشرق , فإن هاتين الدولتين كانتا يتنازعان الحياة , وناهيك بما حصل في شأن ذلك من الفتن والقلاقل التي لم تدع قلبًا سليمًا في البشرية يتمتع بالراحة إلا وَأَسْقَتْهُ مما هو أمرّ من الصابِ والعَلْقَم - كل هذه القلاقل المزعجة والكوارث المُدْلَهِمَّة جاء الإسلام ليمحوها من على ظهر الوجود، وليؤيد السلام العام، والوئام التام، وليكون واسطة بين التمدن الحديث وبين التمدن القديم , فلم يمض غير قليل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلا ورأينا بلاد العرب في وقت واحد ترسل جيشين , أحدهما: لمحاربة القياصرة , والثاني: لمحاربة الأكاسرة , ففتحوهما وانهالت عليهم خيراتهما وظلوا ناهجين في التقدم إلى أن بلغوا في ظرف ثمانين سنة ما لم يبلغه الرومان في ظرف ثمانية قرون , واستخرجوا كنوز اليونان والأعاجم والهنود في العلوم والمعارف , وبلغوا الطبقة الثالثة من الرقي في العلوم الطبيعية، وهي طبقة الامتحان والتجربة , وإليك شهادة عالم من كبار علماء الطبيعة. قال: (يجب علينا مَعَاشِرَ الباحثين أن نهتم بالكنوز التي تركها العرب؛ فإن فيها حقائق وأفكارًا سامية تدعو إلى الاكتشاف والاختراع؛ لأن العرب تقدموا في العلوم الطبيعية تقدمًا مدهشًا للغاية حتى بلغوا الطبقة الثالثة من الرقي فيها ألا وهي طبقة الامتحان والتجربة , وناهيك أن نظرية الانحراف في الضوء لم يكن ترقيها إلا بواسطة ما عثرنا عليه في مؤلفات الخازن) . وقال العلاّمة سديو في البحث السادس عشر من تاريخه في اشتغال العرب بالعلوم الرياضية: (لما اشتغل العرب بالفلك التفتوا إلى العلوم الرياضية، فأتوا بالعجب العجاب في الهندسة والحساب والجبر وعلم الضوء والميكانيكا، وترجموا من ابتداء خلافة المأمون هندسة أقليدس وتيودوس وأبولونيوس وو … وشرحوا مؤلفات أرشميدس في الكرة والأُسْطُوَانَة وغيرها , واشتغلوا قرونًا بدقائق الهندسة , وظهرت حميتهم في المناظرات العلمية خصوصًا في المراسلات الرياضية، وطبقوا الجبر على الهندسة، وترجموا كتب هيرون الصغير في الآلات الحربية وقطيزيبوس وهيرون الإسكندري في الآلات المفرغة للهواء والرافعة للمياه , وألف حسن بن هيثم في استقامة النظر وانعكاسه في المرايا التي تحدث النار , وألف الخازن في علم الضوء والنظر كتابًا في انكسار الضوء , وفي المحل الظاهر للصورة من المرايا المنحنية , ومقدار الأشياء الظاهرة وكبر صورتي الشمس والقمر إذ رُئِيَا على الأفق عند الشروق أو الغروب) . وقال أيضًا دروي في تاريخه: بينما أهل أوربا تائهون في دُجَى الجهالة لا يرون الضوء إلا من سَمِّ الخِيَاط إذ سطع نور قوي من جانب المِلَّة الإسلامية من علوم أدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك حيث كانت بغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة المعارف , ومنها انتشرت في الأمم , واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصناعات وفنونًا عظيمة. وهذه هي أقوال الفلاسفة وكبار المؤرخين في الديانة الإسلامية شهادة علنية على أن الدين الإسلامي دين الترقي والمدنية. هذه هي آثار الدين وآثار أهله الذين تمسكوا به , وأما حقيقة الدين فهي كما قال مسيو مسمير رئيس الإرسالية المصرية ردًّا على الفيلسوف أرنست رينان في خطبة له في جمعية العلماء: (نحن مَعَاشِرَ المحققين من الفلاسفة نقول: إن من تأمل كلام القرآن رأى أن محور الإسلام الوحدانية وقطبيه المؤاخاة وتحسين شئون العالم بالتدريج بواسطة العِلْم وهذه هي حقيقة أسباب نصرة الإسلام) . وقال كاتب آخر من مشاهير كتاب الغرب في مجلة (الكوارترلي رفيو) في مقالة عنوانها: (الأسباب الحقيقية في ارتفاع وانحطاط الأمم الإسلامية) : لما كان الدين الإسلامي جامعًا بين الدين والدنيا كان ذلك من أهم أسباب كثرة الواردين إليه , فإن الرجل عندما يسلم يصبح أخًا لثلاث مائة مليون من النفوس , له ما لهم وعليه ما عليهم , وَلَعَمْرِي إن ذلك مما يزيد علائق المَحَبَّة ويربط الهيئة الاجتماعية , ثم استدل على ذلك بكلام كتبه بوسويرث سميث في كتابه المسمى (محمد والديانة المحمدية) لا حاجة لنا بسرده في هذا المقام. يرى القارئ الكريم من خلال هذه السطور التي كتبناها عن الديانة الإسلامية - مستندين على أقوال الفلاسفة والحكماء وكبار المؤرخين والكتاب - أن الديانة الإسلامية تزداد كل يوم في الحجج , ويشهد العلماء المحققون بروحانيتها حتى إن المسيو أرنست رينان - الذي حمل حملته على الديانة الإسلامية والعلوم العربية - كتب بعد أن زَمْجَرَ وأوعد، وأبرق وأرعد: (إن في دين الإسلام أحكامًا رفيعة المقام , وما دخلت جامعًا إلا وحصل لي انجذاب لدين الإسلام , وتأسفت على عدم كوني مسلمًا لولا أن هذا الدين أَخَّرَ العقل البشري، وحجبه عن التأمل في حقائق الأشياء) ولكن عبارة مسيو رنان الأخيرة ليس لها أدنى نصيب من الصحة , وقد علم من كلامنا الذي أسلفناه الجواب الشافي من علة المسيو رنان. وإلى هنا نمسك عِنَان اليَرَاع عن الخوض في هذا الموضوع؛ فإن في ذلك القدر الكفاية لأرباب العقول والهداية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي سيد يوسف (المنار) إن حَكِيمَي الإسلام السيد جمال الدين والأستاذ الإمام قد رَدّا في أوربا على رينان، وقطعا ما جاء به من الزور والبهتان بسيف الحجة والبرهان حتى اضطر إلى الإذعان، فرحمهما الله وحباهما الروح والريحان.

كلمات عن العراق وأهله

الكاتب: عالم غيور

_ كلمات عن العراق وأهله لعالم غَيُور على الدولة ومذهب أهل السنة العراق ولا أَزِيدك به عِلْمًا من أفضل الأقطار تربةً , وطيب هواء , وعذوبة ماء , وبه أنهار عظيمة كدجلة والفرات ورياله وقارون , تنساب فيه انسياب الأُفْعُوَان، وتخترق منه كل مكان، غير أن أكثره خراب، ينعق فيه البوم والغراب؛ لعسر المواصلات , وفقد الأمن , وحرمانه من نور المعارف والمدنية. والحكومة فيه كما هي في غيره: عبارة عن شركة سلب ونهب وفساد تعمل في خراب البلاد وهلاك العباد، وهم في غمرتهم ساهون، وعن الدسائس الأجنبية عَمُون، حتى أصبح بر العراق كله متسلحًا بالسلاح المارتين مما ترسل به إنكلترا كل حين بوسائل متوفرة لديها، ووسائط سهلة عليها. ومن البلاء العظيم انتشار مذهب الشيعة في العراق كله حتى أصبح ثلاثة أرباع أهله شيعيين وذلك بفضل جدّ مجتهدي الشيعة وطلبة العلوم منهم، ومؤازرة الحكومة لهم، بأخذها على يد أهل السنة عن مقاومة سعيهم، وخفض كلمتهم، وفي النَّجَف مجتمع مجتهدي الشيعة وفيه من طلبة العلوم ستة عشَر ألفًا. ودأبهم أنهم ينتشرون في البلاد ويجِدُّون في إضلال العباد، ولذلك يحسب عقلاء العراق أن القطر قد انسلخ من الدولة , ولم يبق لها فيه من الرسم إلا الاسم. ولقد استحكمت النفرة منها في قلوب الجميع فلا يذكرونها بلسانهم، وقلما يراجعونها في شئونهم، ولقد استطلعت وأنا أتقلب في البلاد طوايا النفوس من أمير ومأمور، وعالم وجاهل، فوجدت الكل في ضجر وسخط، وملل وهم من صلاحها يائسون، وبسوء إدارتها ساخرون، وذوو العقول والفضل منهم في كَمَد، قد أرهق منهم الجسد، وهم شاعرون بضرورة الإصلاح، وأن لا حياة للإسلام بدونه ولا نجاح، وقد أعدتهم الحوادث والعِبَر لتحسس هذه الروح , وتلمس المخرج مما هم فيه، وتراهم مع غلبة اليأس منه لا تزال تتناجى به نفوسهم، وتحنّ إليه أرواحهم، وتلهج به ألسنتهم، ولكنهم في محيط مظلم وضغط مؤلم، لا يهتدون الطريق، ولا يجدون الرفيق، ولا يصل إليهم من آثار دعاة الإصلاح إلا النَّزْر القليل؛ لشدة المراقبة على هذا الأمر الجليل، ولقد تطلبت المنار، فلم أجد له أثرًا في تلك الديار. ولقد اجتمعت بكثير من علماء بغداد وعقلائها وأشرافها , ولم أر فيهم أجمع لفنون الفضل، وصفات الكمال كشكري أفندي الآلوسي وابن عمه الحاج علي أفندي , فلقد رأيت من سَعَة اطلاعهما , وقوة دينهما , وسلامة عقيدتهما السلفية , واستنارة عقولهما , ووقوفهما على حكمة الدين وأسراره، واطلاعهما على أمراض الإسلام والتهابهما غيرة وحمية على الدين , ومجاهدتهما في سبيله فريقًا من الجامدين من المقلدة وعباد القبور - ما بهرني وعشقني فيهما. ولقد أوذوا في هذا السبيل , وامتحنوا فما ضعفوا وما استكانوا ولا يزالان يصدعان بالحق , ويهتفان بضرورة الإصلاح مع منازعة اليأس لهما. وأعداؤهما من عبدة القبور والأوهام وأنصار التقليد والخرافات ينبذونهم باسم الوهابية؛ لينفروا منهم، ويحرضوا الحكومة على اضطهادهم غير أن حزبهم من ذوي العقول النيرة وطلاب الإصلاح أخذ ينمو عدده، ويكثر عضده، وكلهم أَوْجُلُّهم من الأعيان، وذوي المكانة ورفعة الشأن، ولم أر أحدًا يقدر مؤلفات ابن تيمية وابن القيم قدرها مثلهما ولهما تعشق غريب فيها، وقد سعيا في طبع الكثير منها، وهمتهما مصروفة وراء تتبعها والسعي في طبعها لا طمع لهما في ذلك سوى خدمة العلم والدين , فَلِلَّهِ دَرُّهُمَا وعلى الله أجرهما… ولشكري أفندي قوة على التأليف عجيبة وقد ألّف في رمضان ردًّا على الشيخ يوسف النبهاني في سبعين كراسًا بياضًا من دون تسويد , وقد تكفل بطبعه أحد تجار جده فأرسله إليه , وهو كتاب نفيس يقضي على النبهاني قضاءً لا يسمع له صوت من بعده؛ والسبب في ذلك أنه ألَّف رسالة في تضليل ابن تيمية وابن القيم , وانتقصهما ما شاء , ثم عدّ من مصائب الدين انتداب بعض الزائغين في زعمه لنشر مؤلفاتهما وتمثيلها للطبع , وندد بالشيخ نعمان أفندي الآلوسي رحمه الله لتأليفه كتاب (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) وذمه وذم عائلته , وذكر أنهم أصيبوا بالمحن , فلم يعتبروا , ولا اتعظوا , ويزعم أنه من مجددي الدين في هذا العصر. وهكذا بلغ به الغرور إلى هذا المبلغ والجنون فنون. اهـ ما أردنا نشره من هذه الرسالة , ويليه كلام حسن في الأستاذ الإمام والمنار وصاحبه يتعلق بالإصلاح أضربنا عن ذكره مع حمد كاتبه وشكره. ونقول: قد ذكرتنا هذه الرسالة بما كنا كتبناه في المجلد الثاني من المنار (في رمضان سنة 1317) من نشر مذهب الشيعة في العراق وهذا نصه: قرأنا في بعض الجرائد أن الدولة العلية قد عزمت على إرسال بعض العلماء إلى سَنَاجِق البصرة والمنتفك وكَرْبَلاَ لإرشاد القبائل الرحالة هناك , وقرأنا في بعضها أنه قد صدرت الإرادة السنية بذلك فعلاً , ونحمَد الله تعالى أن الدولة العلية قد تنبهت لهذا الأمر قبل أن يخرج من يدها بالمرة , فقد سبقها الشيعة , وبثوا الوعاظ والمرشدين في هذه القبائل وغيرها من العُرْبَان الضاربين على ضفاف الدجلة والفرات فأدخلوا معظمهم في مذهب الشيعة. يذهب المُلا الشيعي إلى القبيلة , فيمتزج بشيخها امتزاج الماء بالراح بما يسهل عليه من أمر التكاليف الشرعية ويحمله على هواه فيها كإباحة التمتع بالعدد الكثير من النساء الذي له الشأن الأكبر عند أولئك الشيوخ , وغير ذلك؛ حتى يكون وليجته وعيبة سره ومستشاره في أمره , فيتمكن المُلاَّ بذلك من بث مذهبه في القبيلة بأقرب وقت , ويكتفي من السياسة غالبًا بإفهام القوم أن رئيس طائفة الشيعة المحقة شاه العجم ورئيس الطائفة الأخرى المسماة بالسنية السلطان عبد الحميد , ولا شك أن هؤلاء يكونون عونًا لرئيس مذهبهم إذا وقع نزاع (لا قدر الله) بينه وبين رئيس المذهب الآخر وإن كانوا في بلاد الآخر , ويمكن للدولة العلية أن تتدارك الأمر بعض التدارك إذا كان الذين تختارهم للإرشاد والتعليم أهل حكمة وغيرة حقيقية يهمهم الإصلاح والإرشاد , بحيث يقدمونه على منافعهم الشخصية على أن الذي يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة لا يحرم من أجر الدنيا , بل ربما كان نجاحه أتم , وقد استغنى جميع دعاة الشيعة في تلك القبائل مع حصولهم على غرضهم في نشر المذهب. وليبدأ دعاة الدولة العلية بمن على الفرات , فإن فيهم عددًا كبيرًا لم يزل على مذهب أهل السنة، والله الموفق. اهـ (من ص687م2) . هذا ما كتبناه من نحو تسع سنين. ونقول الآن: إن أكثر من أجابوا دعوة علماء الشيعة هناك لم يكونوا على شيء من مذهب أهل السنة , فإذا كان أولئك الدعاة يبثون فيهم الوعاظ يعلمونهم الفرائض وأحكام الحلال والحرام , فإن ذلك يكون خيرًا لهم في دينهم من الحالة التي كانوا عليها، فنحن لا نعد الأمر من الجهة الدينية بلاءً نازلاً كما عدَّه الأستاذ كاتب الرسالة , ولكن الأمر مهم من الجهة السياسية؛ فإن السياسة هي التي كانت ولا تزال مَثَار الخلاف بين أهل السنة والشيعة , ولولاها لَمَا كان خلاف وما أضاع الدين والدنيا علينا إلا الخلاف. وقد كان طلاب الإصلاح بالوحدة الإسلامية مغتبطين بما حصل هذه في السنين الأخيرة من التآلف والتعارف بين الفريقين , حتى وقع أخيرًا ما وقع من التعدي على الحدود , فباتوا يخشون أن تهدم السياسة السوءى في سنة واحدة ما بناه دعاة الإصلاح في عشرات من السنين. فنسأل الله أن يقي الإسلام شرها ويكفي المسلمين فتنتها وضرها.

أسئلة من الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من الحجاز القُطْب والأبدال والأنجاب والخَضِر وسند أهل الطريق (س 1 - 7) بسم الله الرحمن الرحيم , وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. حضرة الأستاذ الحكيم والمصلح العظيم علامة الزمان سيدي العزيز السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار حفظه الرب المنان. أحييكم تحية تليق بمقامكم الكريم، وأسأل الله تعالى أن يحفظكم بحفظه السَّرْمَدِيّ , وأن يهدي الله بكم الضالين. وها أنا ذا مقدم لمقامكم الكريم أسئلة ذات بال نرجوكم الجواب عنها على صفحات مناركم المنير: ذكر الشيخ يوسف النبهاني في كتابه شواهد الحق (ص101) أحاديث استدل بها على وجود الأقطاب والأبدال والأنجاب والأوتاد والنقباء , ووجود الخضر عليه السلام , وهذا لفظها: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تعالى في الأرض ثلاثمائة قلبهم على قلب آدم , وله أربعين قلوبهم على قلب موسى , وله سبعة قلوبهم على قلب إبراهيم , وله خمسة قلوبهم على قلب جِبْرَائِيلَ , وله ثلاثة قلوبهم على قلب مِيكائيل , وله واحد قلبه على قلب إسرافيل , فإذا مات الواحد أبدل الله سبحانه وتعالى مكانه من الثلاثة. إلخ. عن علي رضي الله عنه أنه قال: البدلاء بالشام , والنجباء بمصر , والعصائب بالعراق , والنقباء بخُرَاسان , والأوتاد بسائر الأرض , والخضر عليه السلام سيد القوم. إلخ ولم يذكر النبهاني سندًا , ولا من أي كتاب من كُتُب الحديث أخرجها , فأرجوكم أن تفيدوني: هل تصح هذه الأحاديث؟ وهل الخضر عليه السلام حي إلى هذا الزمان؟ وما قولكم فيمن يُكذِّب بوجود الخضر وغيره من الأقطاب؟ نرجوكم الجواب الكافي الشافي. وفي كتاب النبهاني شواهد الحق ص132 يقول: إن الشيخ الأمير أجازه بثبته , وما اشتمل عليه من علوم الشريعة والطريقة , ومن معقول ومنقول وذكر سنده من الأمير إلى الحسن البصري عن سيدنا علي , عن النبي صلى الله عليه وسلم , عن جبريل , عن ميكائيل , عن إسرافيل , عن عزرائيل , عن اللوح , عن القلم , عن الرب الجليل جل جلاله , وتقدست صفاته وأسماؤه. أرجوكم أن تفيدوني عن هذه الإجازة بهذه الصيغة المذكورة , هل هي معتبرة عند المحدثين ويعمل بها , أم هي ضرب من الخرافات؟ وما على من أنكرها؟ وهل يصح اجتماع الحسن البصري بسيدنا علي أم لا؟ ؛ أفيدوني , ولكم الأجر سيدي. في كتاب النبهاني صحيفة 130 قال: ومن كتب الإمام ابن تيمية كتاب العرش , قال في كشف الظنون: ذكر فيه أن الله سبحانه وتعالى يجلس على العرش , وقد أخلى مكانًا يقعد معه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم , كما ذكر ذلك أبو حيان في النهر في قوله سبحانه وتعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} (البقرة: 255) وقال، يعني أبو حيان: قرأت في كتاب العرش لأحمد بن تيمية ما صورته بخطه. انتهت عبارة كشف الظنون , ثم نقلها من طريق آخر عن السبكي وحط على الشيخ ابن تيمية , ونسبه إلى القول بالتجسيم وهو بَرَاء من ذلك. فلما رأيت هذه العبارة بحثت عن كتاب العرش , ووجدته عند بعض الأصدقاء , فقرأته مِرَارًا , ونسخته بيدي من النسخة , وما وجدت لهذه العبارة رائحة , والنسخة التي قرأتها ونسختها هي بخط يماني بدون نقط الظاهر أنها من عهد قديم , وكادت أن تمزق من قِدَمِها ولحقتها الأَرَضَة. فما قولكم في هذه العبارة؟ أيجوز نسبتها إلى هذا الإمام بعد أن بحثنا عنها , فما وجدناها في كتابه؟ أفيدوني ولكم الأجر سيدي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم بالحجاز ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م ح ن (أجوبة المنار) نقول قبل كل شيء: إن الشيخ يوسف النبهاني لا يوثق بعلمه ولا بنقله، ولا ينبغي أن تحفلوا بكتبه، وقد سُئِلْنا غير مرة عن بعض الخرافات التي يبثها في كتبه الملفقة , فلم نجب السائلين بشيء؛ إذ كان يتوقف ذلك على مراجعة الكتب التي يسألون عما ورد فيها , وأي عاقل يسمح بإضاعة وقته في مراجعة تلك الكتب. أما وقد ذكرتم في هذا الرقيم ما سألتم عنه؛ فإليكم الجواب , والله الهادي إلى الصواب. أما الجواب عن السؤال الأول , فاعلم أنه قد ورد في الأبدال عدة روايات لا يصح منها شيء , وإن أشار في كنز العمال إلى تصحيح حديث علي عند أحمد (الأبدال يكونون بالشام وهم أربعون رجلاً , كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً يسقي بهم الغيث , وينتصر بهم على الأعداء , ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب) وفي رواية عنه إنهم ستون. وفي رواية عن عُبَادة عند أحمد , وأخرى عن أبي هريرة أنهم ثلاثون أخرجها عنه ابن حبّان في تاريخه. ولم أرَ أحدًا من المحدثين الحفاظ خرج ما ذكره النبهاني عن علي , ولكن ذكره ابن حجر الهَيْتَمِيّ في الفتاوى الحديثية على أنه من كلام علي كرّم الله وجهه , لا من روايته المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك حديث ابن مسعود لم أر من أخرجه عنه باللفظ الذي ذكره. ولكن ابن حجر أورده في فتاواه بعد أثر علي عازيًا إياه إلى اليافعي (وذكر في نسخة الفتاوى المطبوعة بمصر الرافعي وهو غلط مطبعي) , ولم يقل عن ابن مسعود , ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم. وكان ابن حجر نقل عن اليافعي أن الأبدال سبعة على الأصح؛ ولذلك قال بعد أن أورد حديثه: (والحديث الذي ذكره - إن صح - فيه فوائد خفية , منها أنه مخالف للعدد السابق قبله , ومنها أنه يقضي أن الملائكة أفضل من الأنبياء، يَعْني خلافًا لجمهور أهل السنة) . إلى آخر ما قاله على تقدير صحة الحديث , وما هوبصحيح , فلا حاجة إلى التعب في استنباط الفوائد والمباحث فيه. ثم قال ابن حجر بعد بحثه فيه: واعلم أن هذا الحديث لم أر من خرجه من حفاظ المحدثين الذين يُعتمد عليهم , ولكن وردت أحاديث تؤيد كثيرًا مما ورد فيه. وذكر ما ورد وحاول تقويته بالحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما من طرق كثيرة , وهو: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق , لا يضرهم من خذلهم , ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله , وهم ظاهرون على الناس) ثم نقل عن الإمام أحمد أن الأبدال هم أهل الحديث , وعبارته: (إن لم يكونوا أهل الحديث , فمن هم؟) واعتمد ابن حجر أن الخلاف في العدد من قبيل الاصطلاح. ثم ذكر واقعة له مع مشايخه في ذلك، نذكرها هنا لِما فيها من الدلالة على أنهم كانوا يقلدون المتصوفة في هذه المسائل من غير أن يقوم عليها دليل من النقل. قال: (ولقد وقع لي في هذا المبحث غريبة مع بعض مشايخي هي أني إنما رُبِّيت في حجور بعض أهل هذه الطائفة - أعني القوم السالمين من المحذور واللوم - فوقر عندي كلامهم؛ لأنه صادف قلبًا خاليًا فتمكن. فلما قرأت في العلوم الظاهرة وسني نحو أربعة عشر سنة (كذا) فقرأت مختصر أبي شجاع على شيخنا أبي عبد الله الإمام المجمع على بركته وتنسكه وعلمه الشيخ محمد الجويني بالجامع الأزهر بمصر المحروسة , فلازمته مدة , وكان عنده حدة , فَانْجَرَّ الكلام في مجلسه يومًا إلى ذكر القطب والنجباء والنقباء والأبدال , وغيرهم ممن مر , فبادر الشيخ إلى إنكار ذلك بغلظة , وقال: (هذا كله لا حقيقة له , وليس فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم) فقلت له - وكنت أصغر الحاضرين معاذ الله بل هذا صدق وحق لا مرية فيه؛ لأن أولياء الله أخبروا به , وحاشاهم من الكذب. وممن نقل ذلك الإمام اليافعي , وهو رجل جمع بين العلوم الظاهرة والباطنة. فزاد إنكار الشيخ وإغلاظه علَيّ , فلم يَسَعني إلا السكوت فسكتُّ وأضمرت أنه لا ينصرني عليه إلا شيخنا شيخ الإسلام والمسلمين وإمام الفقهاء والعارفين أبويحيى زكريا الأنصاري , وكان من عادتي أني أقود الشيخ محمد الجويني لأنه كان ضريرًا , وأذهب أنا وهو إلى شيخنا المذكور - أعني شيخ الإسلام زكريا - يسلم عليه. فذهبت أنا والشيخ محمد الجويني إلى شيخ الإسلام , فلما قربنا من محله قلت للشيخ الجويني: لا بأس أن أذكر لشيخ الإسلام مسألة القطب ومن دونه وننظر ما عنده فيها. فلما وصلنا إليه أقبل على الشيخ الجويني , وبالغ في إكرامه , وسؤال الدعاء منه , ثم دعا لي بدعوات منها: (اللهم فقهه في الدين) وكان كثيرًا ما يدعو لي بذلك، فلما تم كلام الشيخ , وأراد الجويني الانصراف قلت لشيخ الإسلام: يا سيدي القطب والأوتاد والنجباء والأبدال وغيرهم مِمن يذكره الصوفية هل هم موجودون حقيقةً؟ فقال: نعم , والله يا ولدي، فقلت له: يا سيدي إن الشيخ - وأشرت إلى الشيخ الجويني - ينكر ذلك ويبالغ في الرد على من ذكره. فقال شيخ الإسلام: هكذا تفعل يا شيخ محمد؟ وكرر ذلك عليه حتى قال له الشيخ محمد: يا مولانا شيخ الإسلام آمنت بذلك وصدَّقت به وقد تُبْت. فقال: هذا هوالظن بك يا شيخ محمد. ثم قمنا , ولم يعاتبني الشيخ الجويني على ما صدر مني. اهـ فيؤخذ من هذه الواقعة أمور (منها) : أن ابن حجر الهيتمي تربى في حِجر بعض أهل الطريق , وصار تقليدهم وجدانًا له لا يقبل فيه قول مشايخه , وإن كانوا عنده من أئمة العلم والعمل والتنسك كالشيخ الجويني , وهذا هوالسبب في إنكاره الشديد على شيخ الإسلام ابن تيمية , الذي كان لا يقبل في الدين شيئا إلا إذا ثبت في الكتاب أوالسنة نصًّا أودلالة. ومن اتبع وجدانه وشعوره النفسي في الأمر لا يقبل فيه دليلاً وقد قال الأستاذ الإمام: (إن غاية التصوف جعل الدين وجدانًا للإنسان الذي يتربى عليه , لا يقبل فيه مناقشة ولا جدالاً) وهذا حسن إذا لم يدسّ في الدين ما ليس منه. (ومنها) بيان أنه كان يوجد في علماء الأزهر الأعلام الصالحين إلى ذلك العصر من ينكر جَهْرًا على من يقول بوجود القطب والأبدال وأضرابهم. (ومنها) أن سؤال شيخ الإسلام زكريا عن المسألة كان مبنيًّا على أن ما يقوله الصوفية في القطب والأبدال صحيح أم لا لا على أن ذلك هل صحّ في الأحاديث أم لا. وكذلك كان جواب ابن حجر لشيخه الجويني , فقد قال له: إن الأولياء أخبروا بذلك وحاشاهم من الكذب. ولم يقل: إن ذلك قد صح في الحديث. وهذا يوافق قوله الذي أشرنا إليه آنفًا في الاختلاف في عدد الأبدال أنه من الاصطلاحات ولا مشاحة في الاصطلاح. (ومنها) أن شيخ الإسلام لم يحتج على الشيخ الجويني بحديث في ذلك. ونحن نقول أيضًا: إن الصوفية اصطلحوا على وضع هذه الأسماء لمسميات , اعتبروا فيها صفات خاصة , ولا مشاحة في الاصطلاح , كما قال ابن حجر. وجملة القول أن حديث ابن مسعود الذي أورده النبهاني لم يروه الحُفّاظ عنه , فهو مُخْتَلق عليه , وإن حديث علي لم يَرِد أيضًا باللفظ الذي أورده النبهاني , بل ورد بألفاظ أخرى أقواها ما أخرجه الإمام أحمد , وقد تقدم. ومن هنا تعلم أن النبهاني لا علم له بالحديث , وإنما هو حاطب ليلٍ لا يوثق بنقله , كما لا يُوثق برأيه , ولا يُعتد باختياره؛ فإنه مقلد للمقلدين الذين يروجون الخرافات وكل ما يحظى صاحبه عند العامة. فهذا هوالجواب عن السؤال الأول. وأما الجواب عن الثاني , وهو: هل الخضر في الأحياء إلى اليوم؟ فاعلم أن العلماء قد اختلفوا فيه , فنفاه بعضهم , وأثبته آخرون , ولكن لم يقل أحد: إنه يجب على الناس الإيمان به. والنفي هوالأصل , وليس عند المثبتين دليل من كتاب الله , ولا من الأحاديث التي يُحتج بها , ولا من الإجماع الأصولي (كيف والمسألة خلافية) والقياس لا مدخل له في المسألة , فدعوى وجود الخضر في الأحياء لا تقوم لها حُجة شرعية , وإنما تبع القائلون بها الصوفية؛ لِثقتهم بهم في كل شيء , حتى إنهم لا ينكرون عليهم ما يخالف الشرع مخالفة صريحة , بل يؤولونه إن لم يؤولوا النص الشرعي. على أن بع

إلى الأحرار في روسيا وفي البلاد العثمانية وفي سائر البلاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إلى الأحرار في روسيا وفي البلاد العثمانية وفي سائر البلاد [*] أيها الإخوان , نخبركم بمزيد الأسف أن الدستور الإيراني الجديد صار على شفا السقوط بسعي الحكومة المستبدة. نعم إن حكومتنا الإيرانية المستبدة لضعيفة أمام حزب المجاهدين الإيرانيين. ولكن ما الحيلة والحكومات المستبدة تتعاون وتتحد على اضطهاد الفقراء، واستئصال المطالبين بالحرية والعدل. كانت الحكومات المستبدة المجاورة لفرنسا تساعد إمبراطور فرنسا على محاربة طلاب الحرية , كذلك تساعد الحكومة الروسية والحكومة العثمانية حكومة إيران المستبدة على إسقاط الدستور الإيراني , وتبديد شمل أحزاب الاشتراكيين الديموقراطيين في إيران. أيها الإخوان , إذا كانت الحكومة المستبدة تتعاون على محافظة استبدادها ومصالحها , فماذا يكون إذا نحن معاشر الأحرار اتحدنا على محاربة الاستبداد والمستبدين , فنحن معاشرَ حزب الاشتراكيين الديموقراطيين الإيرانيين نرجو من إخواننا الأحرار في روسيا والبلاد العثمانية , وغيرها من البلاد باسم الإنسانية والحرية , والنصيحة للنوع البشري أن يساعدونا في هذا السبيل , ويظهروا امتعاضهم واستياءهم من الحكومتين الروسية والعثمانية اللتين لا تألوان جهدًا في السعي لإسقاط الدستور الإيراني بالتداخل في أمور إيران الداخلية , نحن معاشر المجاهدين نرفع أصواتنا على عتبة مجلس الشورى الإيراني قائلين: ليحيا جميع الأحرار والناصحين لوجه الإنسانية على وجه البسيطة , لتحيا الجمهورية الديموقراطية , ولتسقط الحكومة المقلقة , وليسقط الأغبياء الظالمون حزب الديموقراطيين الاشتراكيين الإيراني 28 ذي الحجة سنة 1325.

فقيد الصحافة والوطنية مصطفى باشا كامل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فقيد الصحافة والوطنية مصطفى باشا كامل ما لنا لا ننتهي من نعيٍّ إلا إلى نعيٍّ، ولا نفرغ من ترجمة مبكيٍّ إلا ونفجأ بتأبين مبكيٍّ، وما بال (أم لهيم) تلتهم من المسلمين أشهر الكتاب والسياسيين، فها هي ذي قد اغتضرت اليوم أندى الصحافيين المصريين صوتًا , وأبعدهم في عالم السياسة صِيتًا، وأشدهم في دهماء بلده تأثيرًا، وأكثرهم وليًّا ونصيرًا، مصطفى باشا كامل صاحب جريدة اللواء العربية ومدير جريدتي اللواء الفرنسية والإنكليزية، ورئيس الحزب الوطني الذي تأسس في مرض مماته واختاره رئيسًا له مدة حياته. قضى رحمه الله تعالى عن أربع وثلاثين ربيعًا قضى نصفها في السياسة، ونصف هذا النصف في الصحافة باذلاً فيما أخذ فيه جميع أوقاته مفرغًا فيه منتهى وجدانه وشعوره، وما زال الشعور والوجدان أقوى المؤثرات في الإنسان، وقد أعجب بخطته في اللواء جمهور القارئين، ثم تحزبت له نابتة كبيرة من المتعلمين، بل عشقه بعض طلاب الحقوق عشقًا، وملك قلوبهم ملكًا، فظهر أثر تحزبها في تشييع جنازته بمظهر غريب، ما رؤي مثله من نسيب ولا قريب، حتى أثرت حالهم في جميع المشيعين، وجذبت قلوب الناظرين، بل استعبرت المقل الجامدة، وسعرت الأفئدة الخامدة، بل كان لهم بعد ذلك سلطان على أكثر الجرائد المصرية، حتى المخالفة للفقيد في آرائه السياسية، ومن كان بينه وبين أصحابها مناصبة شخصية، بل صار لهم ظهور سياسي يرجو الجذع نائله، ويخشى القارح عقابله، ومشى في جنازته خلق كثير في مشهد لم يعهد له نظير، حمل فيه تلاميذ المدارس رايات للحداد يعلوها السواد، وقدر عدد من شهد الجنازة بخمسة عشر ألفًا، ورأى بعضهم أنهم يناهزون ثلاثين ألفًا. كان رحمه الله تعالى مصداقًا بينًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) . فقد كان في سن الدراسة يحدث نفسه بالسياسة، ويمنيها بالرياسة، فيحدو به ذلك إلى مثافنة الكبراء، ويزجيه إلى مناقشة الرؤساء والوزراء حتى فتحت له السياسة وهو في مدرسة الحقوق أبوابها، وزينت له بأن يكون طَلابها، فآثر لحبها التناوة على المذاكرة بجد وعناية، حتى ظهر أثر ذلك في الامتحان، على ما كان من اللوذعة وجرأة الجنان على أنه نال بعد ذلك شهادة الحقوق في مدرسة طولوز الفرنسية. وكان كبير النفس، طموحًا إلى المعالي، جريء الجنان، طلق اللسان، قوي الشعور والوجدان، متلافًا للمال إذا اقتضت الحال، فهذه هي الصفات الفطرية التي أهلته لتلك الغاية الكسبية بافتراص الحوادث، ومواتاة الوقائع، ومساعدة الزمان، واستعداد البيئة والمكان. أما استعداد البيئة , فمنشؤه أنه كان قد سبق لهذا الشعب حركة حيوية، ونهضة اجتماعية أدبية تلتها يقظة وطنية أنتجت ثورة شعبية عسكرية، وعقب ذلك احتلال الإنكليز للبلاد؛ وإيقاف حركة ذلك الاستعداد، فسكتت الألسنة وسكنت الأقلام، وغلت الأيدي، وقيدت الأقدام، ولكن هذا الوقوف كان في الظاهر، دون ما تنطوي عليه السرائر من ضغائن مضطربة، وحفائظ مضطرمة، وأوهام مفزغة، وأحلام مزعجة، مع مجاراة الأمير توفيق للاحتلال، ومواتاته له في كل حال. فبعد أن قضى الأمير توفيق وولي الأمير عباس دخلت البلاد في عهد جديد من الحركة الوطنية تجلت فيه كتجليات الحقيقة الكلية، فكان تجليها الأول هو التجلي العام الذي ظهر في الخواص والعوام، وكان لسانه الناطق جريدتا المؤيد والأهرام، ثم فتر التجلي في جميع الطبقات، ثم ظهر في طبقة الضباط وقتًا من الأوقات، ثم فتر طائفة من الزمان، ثم ظهر في مظهره الذي هو عليه الآن بأن نفخت روحه في الناشئين، ففعلت فعلها في غير أصحاب العمائم من المتعلمين، لأن هؤلاء لا يعرفون لهم جنسية إلا في الدين، وقد كان مصطفى كامل (رحمه الله) هو المجلي، في ميدان هذا الطور من أطوار التجلي، ثم صار داعية النابتة إلى هذه الوطنية وهاديها، أو سائقها وحاديها، وهي هي فوق المدعو والهادي، وأمام المسوق والحادي. وقد كنت أُعجبت بما رأيت من تجلي الوطنية أول مقدمي لهذه البلاد , فكتبت فيها مقالة في المؤيد عنوانها (الحياة الوطنية) أُعجب بها كثيرون حتى استظهرها بعض أساتذة المدارس الأميرية، ثم رأيت الدعوة موجهة إلى جعل الوطنية جنسية للمسلمين، فأنكرتها في المنار بالبرهان المبين، وأكثرت من الكتابة فيها حتى في تفسير القرآن، ولا ينبغي لي الخوض في ذلك الآن. عرفت مصطفى كامل في السنة الأولى من هجرتي لهذه البلاد , وكنت أَراه كثيرًا في إدارة المؤيد إذ كنت أطبع المنار في مطبعة الآداب وكان معجبًا بالمنار حتى كان يهنئني أحيانًا ببعض المقالات , ويقول لي: إنك قادر على خدمة الإسلام أنفع خدمة وأجلها , ولكن الكتابة لا تكفي وحدها , فاطلب من الشيخ محمد عبده أن يجعلك خطيبًا في أحد المساجد الكبيرة؛ فإن له نفوذًا يمكنه من ذلك , وهو صاحبك فيما أرى , ولو كان لي به صحبة لطلبت لك منه ذلك، ومن هذه العبارة يعلم رأيه في تأثير الخطابة. ثم أصدر جريدة اللواء - والمنار يومئذ في أصيل سنته الثانية - فنصحت له في تقريظها بأن يتتبع ما يكتب في الجرائد الأوربية عن الإسلام , ويترجمه لجريدته ليكون لها امتياز عن غيرها من الجرائد الإسلامية , وأن يترك ما اشترطه من عدم إرسالها إلا لمن يدفع الاشتراك سلفًا , فساءه ذلك , ولكنه علم بعد التجربة أنه لباب النصيحة. وانتقدت عليه الإرجاف بمسألة الخلافة العربية؛ إذ كان كتب أن في مصر من يسعى لها سعيها , وبينت له وجه الضرر في ذلك الإرجاف، فكبر عليه ذلك , وقطع المبادلة الصحافية بيننا وبينه , وأنحى علينا بعد ذلك كثيرًا؛ لما كان عليه - عفا الله عنه - من الشدة على من خالفه , ولو مهضومًا، ونصر من وافقه ظالمًا كان أو مظلومًا، وكان الأول من أسباب بُطْء انتشار اللواء، على ما كان فيه من مواضع إعجاب الدهماء، كالمبالغة في ذم المحتلين، وانتقاد الحكومة، ومدح الأمة، وتحامي الانتقاد عليها، والتنويه بالاستقلال، والتعجيل بطلب محو الاحتلال، ولكن اللواء صار في هذه المدة الأخيرة من أهم الجرائد المصرية وأكثرها انتشارًا. فرحم الله مؤسسه , وعفا عنه! ولعلنا نوفق بعدُ إلى كتابة شيء عن العبرة بسيرته في حياته وموته.

تاريخ العرب والإسلام في سلك القصص والروايات

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ تاريخ العرب والإسلام في سلك القصص والروايات لأسلوب القصص المعروفة بالروايات تشويق للمطالعة لا ينال منه الملل، وجذب إلى القراءة لا يخشى معه السأم، فإذا هي أودعت من الفوائد النافعة في التاريخ والآداب والأخلاق والسياسة وشئون الاجتماع ما يتفق مع اللذة كانت من أقوى ذرائع تهذيب الجمهور , ورفع طبقات العامة إلى مستوى يتصلون به مع طبقات الخاصة حتى تكون الأمة كسلسلة , إذا تحرك أحد طرفيها انتقلت الحركة إلى الطرف الآخر. وإنه ليحزننا أن نرى أكثر القصص أو الروايات كما يقال خالية من هذه الفوائد مشتملة على كثير من المفاسد، تغري الفتيان والفتيات بالغرام، وتجرئ الحيي على ارتكاب الحرام، وتعلم الأغرار حيل الشطار. هذا , وإننا نحن المسلمين قد أصبحنا وأمسينا أجهل الأمم بتاريخنا، وكيفية تلك النشأة الصالحة لملتنا، وينابيع تلك الآداب التي أخضعت أمم المدنية لشراذم من الأعراب؛ ذلك بأن تاريخ تلك النشأة لم ينظم في السلك العلمي الحديث، وإنما بقي روايات متفرقة كروايات الحديث، لم يرزق مِن فلاسفة التاريخ مَن يستنبط حكمه، كما رزق الحديث مِن الفقهاء مَن استنبط أحكامه. فنحن الآن في حاجة إلى وضع تاريخ الإسلام في أسلوب علمي؛ لأجل الخواصّ، وإلى إيداعه في أسلوب قصصي يسهل تناوله حتى على العوامّ، وقد كان الوضع الأول آخر عمل توجهت إليه همة الأستاذ الإمام، وفي عزمنا أن نخلفه فيه إن شاء الله وأمهلتنا الأيام، وأما الثاني فقد شرع فيه صديقنا السيد عبد الحميد الزهراوي العالم الإسلامي والكاتب الاجتماعي، وقد سمى الرواية الأولى (خديجة أم المؤمنين) وسننشرها في المنار بالتدريج، وهاك مقدمتها في هذا الجزء: خديجة أم المؤمنين (1) مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم قبل ثلاثة عشر قرنًا على الحساب القمري حدث في الكون حادث عظيم جدًّا لم يحدث بعده مثله إلى الآن، وقد كان له دويّ قويّ وأثر كبير في آسيا وأوربا وأفريقيا، وخلفه انقلاب عظيم في ممالك الأرض، وتغير جسيم في أحوال الأمم والشعوب. ذلك الحادث هو قيام العرب بعقيدة جديدة وانضمامهم جميعًا إلى كلمة النبي الذي قام فيهم منهم وهو محمد عليه الصلاة والسلام , وشروعهم جميعًا بالهجوم على الممالك، وفوزهم بهذا الهجوم، وانتصارهم وغلبتهم على الأمم , وانضمام أمم كثيرة إلى عقيدتهم وتكوّن ملكهم العظيم من حدود الهند إلى البحر الأطلانتيكي شرقًا وغربًا , ومن سواحل البحر الأحمر إلى سواحل بحر قزوين شمالاً وجنوبًا في أسرع ما عرف في التاريخ كله من الفتوحات الكبيرة السريعة. هذا الحادث العظيم يتلقاه بعض الناس بغير تفكر , كأنه معتاد الحدوث كثيرًا فلا يبحث هؤلاء عن سر حدوثه , ولا يريدون أن يستفيدوا من التدبر والتفكر بسر ذلك النجاح العظيم الذي أوتيه أولئك القوم بسرعة جديرة أن نشبهها بلمح البصر. وبعضهم يتلقاه كما هو , أي: يفهم أنه حادث من أكبر الأحداث التي حدثت في الدنيا , ويراه جديرًا بالبحث والتأمل وإمعان النظر , ولدى التأمل نجد هناك جزئين تمَّ بهما هذا الحادث العظيم؛ الأول: النبي محمد عليه الصلاة والسلام , والثاني: الذين آمنوا به ونصروه من العرب، وبديهي أن أول مؤمن به هو صاحب الفضل الأول بعد النبي في إقامة هذا الصرح العظيم. ومن الأمور التي يحق أن يفخر بها جنس النساء أن هذا الفضل الأول - أي: السبق بالإيمان به والموافقة له - كان نصيب سيدة من أشراف قومه هي زوجته السيدة خديجة بنت خويلد من قريش، ولما كانت سيرة هذه السيدة الشريفة المساعدة في وضع الأحجار الأولى من هذا الحادث العظيم لا تخلو بالبداهة من فوائد جسيمة أزمعت أن أقدم في هذه الأوراق لمحبي الفوائد الأدبية والاجتماعية والسياسية والتاريخية أعظم هدية مقتطفًا هذه الثمرات من دوحة حياة هذه السيدة الجليلة , ولكن رأيت من اللازم جدًّا قبل دخولي بالقارئ على سيرتها أن أمر به مرة على قومها العرب عامة، ثم قريش خاصة؛ فإن تعرفه بهم يساعده على معرفة هذه السيدة الجليلة. * * * العرب العرب كسائر الأمم: أوائلهم مجهولة، وأحوالهم منذ عرفوا معروفة. نقف الآن عند هاتين الكلمتين ونلتفت قليلاً إلى مبحث لطيف نختصر فيه الكلام , ثم نعود إلى سياق حديثنا. يزعم كثير من الأقوام أنهم يعرفون أصول أمتهم إلى أبي البشر الأول , ومن الأقوام من يزعمون أنهم يعرفون سلاسل أصول الأمم كلها حتى يصلوا بها إلى ذلك الأصل الأول. ومن التزم التحقيق لا يستطيع أن يجزم بشيء مما يذكر عن تلك الأصول والأوائل، ومن تسامح بتصديق ما يُرْوَى يتشابه عليه الأمْر , فَيَحَارُ في تصديق المتناقضات، والترجيح بين المختلفات، ومهما جنح الحريص على المعرفة إلى الاستئناس بما يمكن قَبوله من الحكايات في هذا الباب لا يستغني عن طرح كثير منها مما تقوم الأدلة على بطلانه. لماذا حرص كل الشعوب على معرفة أسلافهم إلى أول أصل؟ لا ندري , ولكن يلوح لنا أنه لذَّت للأكثرين دعوى هذه المعرفة؛ فابتدع كل قوم أسطورة في بيان أصلهم , ينقلها الآباء للأبناء , ويسطرونها في كتبهم تسطيرًا. أما الباحثون عن أنساب الشعوب فلما يئسوا من هذه المعرفة قنعوا بأن تكون لهم معرفة ما بأصول الشعوب التي وجدوها متقاربة في اللغات وغيرها من المميزات , وقد آنسوا من كثرة البحث والاستئناس بالمنقول أن البشر المعروفين اليوم هم من ثلاث سلالات: (1) السامية و (2) الإريانية و (3) التورانية. وظاهر من هذا أنهم لما أرادوا وضع أسماء للأصول القليلة التي تفرعت منها هذه الشعوب المعروفة تساهلوا بقبول بعض ما لفق في حكاية البشر مما قبل التاريخ , ولكن هذا لا يروي في الحقيقة غليل المحققين , ولا غليل الخياليين؛ فسيظل المحققون صابرين على جهل مثل هذا، ويبقى الخياليون مستمسكين بما قد حُكي لهم من قبلُ , وربما تسلى محب الحقيقة عن احتجابها برؤية تماثيلها , وما تماثيلها إلا أساطير الأولين. أما نحن , فنرى أنه لا حاجة للتسلي بتلك الأساطير؛ لأننا إذا اشتهينا المعرفة فأمامنا - مما قد نستطيع معرفته - ما ننفذ مراحل أعمارنا من غير أن نقطع في ميدانه شوطًا بعيدًا، وما الوصول إلى غاية في هذا الميدان مما يجوز أن نطمع فيه. فإذا أردنا الآن أن نعرف العرب فعلينا قبل كل شيء أن نريح أنفسنا من الطمع بمعرفة سلسلتهم الآدمية إلى آدم , أو إلى نوح بالتفصيل , كما قطعنا طمعها من معرفة ذلك في سائر الأمم؛ فلهذا لا حاجة إلى ما يذكره علماء الأنساب من كون هذا الجيل من الأجيال السامية إذ يقال: أَنَّى لهم العلم بسام أبي الشعوب السامية؟ وكيف يبني أهل الفن مبادئ على شيء غير معروف بالطرق التي تفيد العلم اليقيني؟ وما أغنى من يريد أن يعرف جيلاً كالعرب عن الاستعانة بأساطير الأولين. يقول المؤرخون: إن العرب ثلاثة أقسام: (1) بائدة , و (2) عاربة , و (3) مستعربة. أما البائدة: فهم العرب الأُول الذين ذهبت عنا تفاصيل أخبارهم؛ لتقادم عهدهم وهم: عاد، وثمود، وطسم، وجديس، وجرهم الأولى، وأما العرب العاربة فهم عرب اليمن من ولد قحطان، والعرب المستعربة هم ولد إسماعيل بن إبراهيم. هذا قولهم , وهو لا يعجبني؛ لأن البائدة ليست موجودة حتى تعدّ , وإن كانوا يعدونها؛ لأن منها اشتق غيرها فهذه شهادة بأنها لم تَبِدْ. وقد ذكروا في هذا التقسيم عرب اليمن من ولد قحطان قسمًا مستقلاًّ , ولم يذكروا لنا من هو قحطان هذا. وذكروا أولاد إسماعيل بن إبراهيم قسمًا مستقلاًّ , ولم يأتوا بدليل قويم على أنه تفرع من إسماعيل ذرية مستقلة هم العرب المستعربة. وَجُلّ ما ذكروه أن إسماعيل الذي كان غريبًا في جوار مكة المكرمة تزوج بامرأة عربية من تلك القبائل التي كانت حولها. فهل انقطع نسل تلك القبائل حتى أصبح لا يذكر إذا ذكر العرب , ثم تبارك نسل إسماعيل الغريب وحده حتى صار قسمًا مستقلاًّ هو ثالث ثلاثة أو ثاني اثنين إذا ذكر العرب؟ لسنا ندري ولكننا نعرف أن هذا من جملة الأقوال التي تكتسب بكثرة الموافقة في مرور القرون صبغة لا تزول , فتغر الأكثرين وهي في الحقيقة لا تصبر على النقد والحك , فليت أولي الألباب يكثرون من حك هذه المشهورات. وإنما يعجبني جدًّا في هذا الباب ما روي من أن النبي العربي - عليه السلام - كان إذا انتسب يقف عند عدنان ولا يتجاوزه؛ ويقول: (كذب النسابون) [1] , ويعني بذلك الذين يزعمون معرفة الأنساب إلى آدم أو إلى نوح. أما الذي لا يغير النقد من سطوع جوهره شيئًا , فهو أن العرب يوم ظهر فيهم النبي الذي أعلى شأنهم كانوا متفرقين في أقطار جزيرة العرب ومنقسمين قبائل كل قبيلة تذكر لنفسها نسبًا فيه عند رجل معروف لديها، وتمسك عما وراءه. والمشهور أنَّ لقبائل الحجاز أصلاً، ولقبائل اليمن أصلاً آخر، وللقبائل بعد ذلك أصول متفرعة من أحد الأصلين. وعرب العراق والشام ترجع إلى أحد هذين الأصلين أيضًا، فعدنان هو أبو عرب الحجاز غالبًا، وقحطان هو أبو عرب اليمن والعراق والشام غالبًا. وإن قال قائل: كيف عرف هذا عن العرب وهم أهل بادية متشتتون متفرقون، متقاتلون متذابحون، لا ملك لهم جامع، ولا شرع فيهم وازع، ولا يد لهم في الأعمال الاجتماعية، ولا نصيب لهم في الشئون السياسية، وليس لهم قبل الإسلام كتاب معروف تدون فيه أخبارهم، وتذكر فيه مآثرهم وآثارهم، فمن أجل ذلك لا يجوز الثقة بما ينقل ويحكى عنهم ولسنا نعرفهم إلا بالإسلام، فالإسلام قد جمع الأوزاع من أهل هذه اللغة الواحدة على كلمة الغزو، وهذا لا يثبت أن العرب كانوا يعرفون لقبائلهم أصولاً , وأنهم كانوا يتعارفون بأنسابهم؟ ؟ نقول لصاحب هذا القول: إن العرب لم يكونوا مجهولين ولا مجهولة أخبارهم. فإذا قلنا: إنهم لم يكونوا أهل كتابة وتاريخ , فأشعارهم المحفوظة المنقولة هي ديوان سيرهم، وإذا لم نثق بنقل أشعارهم استطعنا أن نعرف العرب من تاريخ الأمم المجاورة لهم. فالفرس قد سبروهم؛ لأن من العرب ملوكًا كانوا لهم خاضعين، وقوادًا كانوا بأمرهم عاملين. والروم قد خبروهم؛ لأن مملكتهم ملوكًا وقوادًا وولاة من العرب، والديانة المجوسية تعرفهم؛ لأن منهم من كان على دين ملوك فارس، والكنائس تعرفت بهم؛ لأن منهم نصارى بل قسيسين ورهبانًا، وبيع اليهود ما جهلتهم، والفلسفة ما أنكرتهم، والحضارة قد ألمت بمساكنهم (في اليمن والعراق والشام) ومخالطة الأمم أخذوا بقسط منها وأخذت بقسط منهم، فكيف يكون هذا الجيل مجهولاً بعد كل هذا؟ إن العرب كانوا معروفين. ومما عرفوا واشتهروا به الحرص على وحدتهم القومية , فكانوا أمام الغريب أمة واحدة لها وحدة باللغة والنسب واتصال الديار والعصبية عند التناصر , فإذا رجعوا إلى ما بينهم كانوا قبائل شتى تنتمي كل قبيلة إلى أب لها , ثم يجمع قبائل كثيرة منهم أب واحد وهكذا. ولا يستبعد من أمة محتاجة إلى التناصر وليس لها كسائر الأمم كتاب يجمع أخبارهم وسير أبطالها أن يُعْنَى كثير من أفرادها بحفظ ذلك في أذهانهم , وأية أمة ممن نرى يتناسى أفرادها سيرة أبطالهم. وقد كان الرجل من العرب إذا عظم أمره أو كثر ماله انفرد بأهله , وانتمت إليه الذرية , ووضعوا لأنفسهم نسبة جديدة من غير أن يضيعوا حظهم من الارتباط بالنسبة الأولى؛ لأن لهم عند التناصر حظًّا منها عظيمًا. يذكر أحد علماء هذا الشأن أن العرب كانت قبائلهم أرحاء وجماجم , فالأرحاء ه

كتاب مصر الحديثة للورد كرومر ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب مصر الحديثة للّورد كرومر (نظرة إجمالية في الكتاب) أقام لورد كرومر في مصر نحو ربع قرن متصرفًا بنفوذ الحاكم المطلق , فعرف من أحوال حكومتها وسيرها الاجتماعي ما يعز على غيره من حكام البلاد أو نزلائها من الأوربيين أن يعرفوه , ثم أودع زبدة ما عرفه في كتاب يدخل في ثلاثة مجلدات , طُبع اثنان منها , وأوصى هو بطبع الثالث عقب موته؛ لأنه خاص بحال مصر في عهد الأمير الحالّ عباس باشا الثاني , والظاهر أنه أشد الأجزاء وطأً وأثقل قيلاً على مصر والمصريين على أن الجزء الثاني لا تستخف وطأته، بل لا تطاق كلمته، فهو قد حكم لكل الشعوب التي تتبوأ أرض مصر وعليها , ولكنه حكم على المصريين لا لهم , ولم يحكم عليهم بالمساواة بل فضل القبط على المسلمين تفضيلاً من حيث دينهم وما فيه من المرونة التي تساعدهم على مجاراة المدنية ما لا يساعد الإسلام أهله على زعمه. ولم يكتف بالحكم في قضايا الشعوب من حيث هو حاكم سياسي اجتماعي , بل حكم أيضا في قضايا الرجال المشهورين الذين عرفهم من بعض الوجوه , وكان حكمه عليهم من غير الوجه الذي عرفهم به؛ إذ حكم على مطويات العقائد , ومكنونات الضمائر , وخطرات القلوب. ولم يرضه هذا حتى رفع نفسه إلى مستوى الحكم على الإسلام من حيث هو دين , ومن حيث هو شريعة ونظام اجتماعي , فحكم من الحيثية الأولى له وعليه , ومن الحيثية الثانية عليه لا له , وانتقل من الحكم عليه إلى الحكم على أهله عامة حتى في مستقبل أمرهم , فكان حكمه هذا صاخّة تصخّ المسامع , وقارعة تصدع القلوب , بل هو عِبْرة للمعتبرين , وموعظة للمصريين وسائر المسلمين. رأيت حديث الناس في هذا الكتاب يدور على قطبين: (أحدهما) : الحكم على شعور الكاتب حينما دوَّن حكمه على المصريين , وعلى الإسلام والمسلمين , فما رأيت بينهم خلافًا في كونه كتب بمداد الحقد والحنق , وقلم الحفيظة والانتقام من المصريين بما فوقوا إليه من سهامهم، وصوبوا إليه من أسنة أقلامهم في وقت مفارقته لديارهم، وهو وقت ضاق فيه ذاك الصدر الواسع عن احتمال الانتقاد، بَلْهَ الشماتة والإزراء على أنه قد ظهر ضيق صدر اللورد قبل ذلك في تقريره الأخير، ثم في خُطْبته التي خطبها قبيل الرحيل. هذا , وأما القطب الثاني لحديث الناس في الكتاب فهو غرضه منه , وقد رأيت أهل الفهم والذكاء يقولون من غير مواطأةٍ ولا تقليدٍ: إن غاية اللورد من هذا الكتاب هي أن يستل من نفوس أحرار قومه فكرة توقيت الاحتلال، والخروج من مصر في يوم من الأيام، ويقنعهم ويقنع أوربا معهم بأن لا ضمان لحفظ مصالح الأوربيين في مصر , بل ولا مصالح المصريين إلا بقاء الإنكليز في مصر؛ لأن المصري شديد التمسك بدينه الذي لا يتفق مع المدنية فإن هو تركه واتبع هذه المدنية كما يحب الأوربيون ويبغون كانت مدنيته تقليدية لا حقيقية , وكان بذلك شرًّا من المسلم المتدين وأشد عداوةً للأوربي وللمسيحي , ولو غير أوربي. ويرون أن تصريحه بعدم استحسان ضمّ مصر إلى أملاك إنكلترا , وما أظهره من الميل إلى إعدادهم للاستقلال هو من التمويه , وذرّ الرماد في العيون , وإلهاء المصريين بالأماني والأحلام , وأصحاب هذا القول غافلون عن طرق الاستعمار الجديدة , ومنها حكم البلاد باسم أهلها , والرضى بالسلطة الفعلية بديلاً من السلطة القولية , وقد سبق لنا بيان لهذه الطرق في السَّنَة الأولى من المنار , وفي غيرها أيضًا. هذه صفوة الآراء التي دارت بين الناس في شعور مؤلف كتاب مصر الحديثة , وفكره المستولي عليه عند الكتابة , وفي غايته منه , وذلك ضرب من ضروب انتقاد المصنفات مطروق الأبواب معهود عند الكتاب. ومما ينتقد على هذا الكتاب - وهو من أصول الانتقاد - استنباط القواعد الكلية من شواذّ الحوادث الجزئية، ولم يسلم اللورد من ذلك , فإنه في المقابلة بين عقل الغربي والشرقي أورد الأمثلة لعقل الشرقي الضعيف التنظيم والإدراك (لاعتقاده بالقضاء والقدر , ورضوخه لكل سلطة تتولى أموره) فإنه بعد أن دعم الحكم على عقل الشرقي بهاتين العِلّتين مثّل للحكم الكلي العامّ بما نصُّ ترجمته: قال اللورد: (حدث أكثر من مرة أن (المفتحجي) في مصلحة الحديد المصرية حوَّل الخط والقطار عليه، لم يمر إلا نصفه إلى الخط الآخر؛ فأدى ذلك إلى انقلاب القطار , وحدث أيضًا أن سائق قطار نَسِيَ أحيانًا أيّ مفتاح يجب أن يُحَرَّك لكي يوقف القطار , وحدث مرة أن عمال السكة الحديدية قُتِلوا لأنهم ناموا بعد أن وضعوا رءوسهم على الخط الحديدي , وإنما فعلوا ذلك ليثقوا بأنهم يستيقظون على أصوات القطار الآتي) . ونقول: إن أمثال هذه الجزئيات تقع في أوربا وفي جميع البلاد من جميع الشعوب، وناهيك بالطبقة الدنيا من العمال , فإن ذكي الفطرة عالي النفس لا يرضى لنفسه بأن يكون من أحقر عمال سكة الحديد، وناهيك بالمبتدئين من أهل هذه المهنة بها , والغالب أن يكون أصحاب ذلك الشذوذ الذي ذكره منهم. فحال أمثال هؤلاء لا يصح أن يكون مناط المقابلة بين الشعوب في ارتقاء العقل وملكة النظام فيه. وإنما ينظر في حالهم من وجهة النشاط في العمل , والصبر عليه , ولعله لو قابل بين فَعلة الأوربيين وفَعلة المصريين في هذه المزايا لَمَا قدر أن يبخس المصريين حقهم، وإن ظن أن القضاء والقدر قد فتك باستعدادهم لكل عمل! ! ونسي أن أكثر المستخدمين في سكة الحديد من القبط الذين هم على شاكلته في عدم الإيمان بالقضاء والقدر. وإنني أذكر له شيئًا من بَلادة بعض الأوربيين وغفلتهم وهو أبعد عن العقل والنظام مما صدر عن صغار فَعلة السكة الحديدية في مصر , ناقلاً إياه عن كتاب صفوة الاعتبار لصديقه الشيخ محمد بيرم الثقة العدل - رحمه الله تعالى - فإنه كتب في الفصل الذي عقده لبيان عادات أهل فرنسا وصفاتهم ما نصه: ومع ذلك - أي انتشار المعارف - فلا يزال في فرنسا خَلْق كثير على السذاجة والجهل. ودونك حكاية ظريفة تقيس عليها ما يقرب منها: ففي سنة 1297 هـ 1880م كان أحد أصحاب العمل باليد مشتغلاً جهة باريس وكان له ابن مشتغل جهة بردو فلم يوفر الابن من كسبه ما يشتري به حذاءً , فأرسل إلى أبيه يشتكي له القلّ , ويطلب منه شراء حذاءٍ له , فاشتراه له , وحمله في الطريق وهو مفكر في كيفية إيصاله إليه , فبينما هو ماشٍ إذ مرّ مُحاذيًا للسلك الكهربائي , فقال: هذا أيسر طريق! ! إني أحمله الحذاء وهو يوصله لابني. فجاء إلى عود السلك وعلّق فيه الحذاء وأسرَّ إلى العود بقوله: (أوصِلْ هذا لابني فلان في المكان الفلاني) وذهب مسرورًا باطلاعه على مسلك سهل بلا مصروف. ثم مرّ من غدٍ متفقدًا ما فعل السلك بالحذاء , فوجد في ذلك المكان حذاءً عتيقًا أفناه اللُّبْس , ففرح , وقال: (إن ابني لَعاقل حيث أرسل لي القديم لأستعين به على ثمن الجديد) فانظر إلى البلاهة التي لو صدرت من أحد المشرقيّين لشنعوا بجميع الجنس بأنه وحشي بعيد عن المعارف وتهذيب الأخلاق. وقد صدق ظنّه صديقه لورد كرومر , فإنه شنع على الشرقيين كافّة بما وقع من بعض فعلة سكة الحديد بمصر. ثم قال بيرم: (واعلم أن مثل هذا الرجل كثير سِيَّمَا في القرى الصغيرة والجبال، بل وفي أهل المدن كثير ممن يعتقد بالخرافات الباطلة , ويعتقد التأثير لأشجار وجمادات، ويتشاءم بالأوقات، فقد رأيت في كثير من بلدانهم , وبلدان الطليان , وكذا الإنكليز طاقات في حيطان , فيها منارات توقد ليلاً بالزيت أو بالشمع العسلي تقربًا إلى بعض أوليائهم أو الجن , معتقدين حلول المتقرب إليه بتلك الطاقة، ولا ينورونها بغير ما ذكر من الأنواع؛ لأن القسوس يقولون لهم: إن شمع الشحم أو الغاز من البدع التي لا يتقرب بها. وكذلك يطلبون البخت وقضاء الحاجات من جمادات أو أماكن اعتقاد حلول أرواح فيها. وقد ذكر من هذا النوع في (كشف المخبا عن فنون أوربا) ما يتعجب منه السامع مما ترى الأورباويين، ومن تشكل بشكلهم وتباهى بتقليدهم يحملون عبثه على البلاد الإسلامية وحدها , ويجعلونها سخرية , وينزهون أوربا عن مثلها مع أنها حاوية لشبهها ولأشد منها؛ بل ربما أسند ذلك الجاهل أو المتجاهل إلى ديانتنا الشريفة - وحاشا لله - أن تؤدي أو ترشد لمثل ذلك , بل إنها هي المهذبة , والمنقذة من غياهب الجهل إلى نور المعارف الحاثة على العلم وفتح البصائر) . ا. هـ بحروفه. هذا ما قاله عن أهل فرنسا , وهم أسبق الأوربيين إلى العلم والمدنية , وأذكاهم أذهانًا على أنه قال: إن الإنكليز كذلك. بل قال في كلامه من عادات الإنكليز وصفاتهم ما نصه: (وأما أطوار الطبقة السفلى , فهي أشنع مما مر ذكره في همج الفرانسيس سواء كان من من جهة الاعتقاد أو من جهة السيرة والحركات فيتطيرون من أشياء كادت أن لا تحصى , وينقادون إلى السَّحَرة والدّجّالين بما يخرج عن حدّ المعقول وكاد التعلم أن يكون عندهم مجهول الاسم فضلاً عن المسمى سوى ما يرطن لهم القسيسون في الكنائس) إلخ. أقول: أما خرافات القبور والأولياء التي قال: إنهم يعيبون الإسلام بمثلها , وهو منها بريء , فقد أخذها المسلمون عنهم وهم أخذوها عن أجدادهم أو مجاوريهم من الوثنيين , فالإسلام والنصرانية الحقيقية بريئان منها؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) ، قالوا: يا رسول الله , اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ . رواه الشيخان وغيرهما. وإن تعجب فعجب مقارنته في هذا المقام بين الأوربي مطلقًا والعامي المصري في الحساب فقد قال بعد ما تقدم ما ترجمته كما في المؤيد: (وقارن أيضًا بين تقدير الأوربي للحساب وبين المصري العامي الذي يشكل عليه إشكالاً كاملاً كل أمر يتعلق بالأرقام أو الكمية , فإن عددًا قليلاً من عامة المصريين يعرفون عمرهم. فإذا سألت المصري عن عمر رجل متقدم في السن يكون جوابه غالبًا: (إن عمر الرجل مائة سنة) ويقول في نفسه: ماذا يهم التدقيق في هذا الأمر , أو أي أمر آخر علمي) . قلت: إن هذا من مواطن العجب؛ لأن المقارنة فيه بين الأوربي المتعلم والمصري العامي , ولماذا لم يقارن في الحساب والأرقام بين المتعلم من الفريقين؟ لعله لأنه يعلم أن المصريين من أقوى الشعوب استعدادًا للبراعة في الحساب وسائر العلوم الرياضية , وقد أراد الإنكليز منذ بضع سنين أن يجعلوا ترقية المهندسين منهم على المهندسين من المصريين مبنيًّا على قاعدة عادلة؛ لظنهم أن الإنكليز أعلم وأبرع , فامتحنوا الفريقين , فأسفر الامتحان عن فوز المصريين وتخلف الإنكليز عنهم , وسكت الفريقان على ذلك الامتحان , فلم يُعلموا به الجرائد. أما الإنكليز فلِمَا هو ظاهر , وأما المصريون فلِخوفهم أن يحنق عليهم رؤساؤهم , وينتقموا منهم. ومما تقدم في كتابه تقليده لغير واحد من كتاب الأوربيين في آرائهم في الإسلام, وكان أجدر من كثير من أولئك الكاتبين بمعرفة حقيقة الإسلام لو أراد أن يعرفه وينصفه فإنه عاش في مصر عمرًا طويلاً , وعرف أشهر علمائها ن بل أشهر علماء الإسلام المعروفين في العالم كله الآن , وناهيك بالأستاذ الإمام وطول باعه في علوم الدين , ورسوخه في فهم القرآن , وهو الذي لم يكن يحتاج في مخاطبته إياه وفهمه عنه إلى ترجمان كما كان يحتاج في مخاطبة غيره من شيوخ الأزهر. ولكنه لم يكن يسأله عن أصول الإسلام وحكمه وأحكامه، ولا الأستاذ الإمام كان يبتدئه بشيء من ذلك , وإنما كان يقصد إليه؛ لأجل الكلام في المسائل المصرية , لا سِيَّم

احتفال السوريين بحافظ أفندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ احتفال السوريين بحافظ أفندي إبراهيم دعا سليم أفندي سركيس السوريين بمصر وغيرها إلى الاكتتاب للاحتفال بحافظ أفندي إبراهيم الذي ينوه بفضلهم؛ ليكون هذا الاحتفال توددًا من شعب إلى شعب هما بمنزلة الشقيقين , فلبى الدعوة كثيرون , وبعد انتهاء مدة الاكتتاب أُقِيمت الحفلة بفندق شبرد , وحضرها مع جمهور المكتتبين كثيرون من وجهاء وأدباء المصريين , وأصحاب الجرائد وكان ترتيبها هكذا: افتتح الاحتفال سليم أفندي سركيس ببيان الغرض منه، خطب سليمان أفندي البستاني في الشعر والشعراء، أنشد نقولا أفندي رزق الله قصيدة (مصر وسوريا) خطب سليم بك باخوس في إكرام الرجال للرجال، تليت قصيدة للأمير شكيب أرسلان، خطب إسماعيل بك عاصم، أنشد أمين أفندي البستاني قصيدة له، خطب رفيق بك العظم , تليت قصيدة لأسعد أفندي رستم، قُرئ كتاب في تحية الصحافة للشعراء المرسل من إدارة جريدة (مرآة الغرب) بنيويورك , أنشد الدكتور إبراهيم أفندي شدودي قصيدة له , وقدم سليم أفندي سركيس لحافظ أفندي هدية رواق المعري في البرازيل وهي قلم من الذهب بشكل الريشة , ثم الهدية الإكرامية من مجموع السوريين وهي دواة ومقلمة من الفضة، وختمت الحفلة بقصيدة الشكر من حافظ وهي: لمصر أم لربوع الشام تنتسبُ ... هنا العلى وهناك المجد والحسبُ ركنان للشرق لا زالت ربوعهما ... قلبُ الهلال عليها خافقٌ يجبُ خدران (للضاد) لم تهتك ستورهما ... ولا تحوَّل عن مغناهما الأدب أُمُّ اللغات غداة الفخر أمهما ... وإن سألت عن الآباء فالعرب أيرغبان عن الحسنى وبينهما ... في رائعات المعالي ذلك النسب ولا يمتَّان بالقربى وبينهما ... تلك القرابة لم يقطع لها سبب إذا ألمت بوادي النيل نازلةٌ ... باتت له راسيات الشام تضطرب وإن دعا في ثرى الأهرام ذو ألم ... أجابه في ذرى لبنان منتحب لو أخلص النيلُ والأردنُّ ودّهما ... تصافحت منهما الأمواه والعُشب بالواديين تمشى الفخر مشيته ... يحفُّ ناحيتيه الجود والدأب فسال هذا سخاء دونه ديمٌ ... وسال ذاك مضاءً دونه القضب نسيمَ لبنان كم جادتك عاطرةٌ ... من الرياض وكم حياكَ منسكب في الشرق والغرب أنفاس مسعَّرةٌ ... تهفو إليك وأكبادٌ بها لهب لولا طلاب العلا لم يبتغوا بدلاً ... من طيب رياك لكنَّ العلا تعب كم غادةٍ بربوع الشام باكيةٍ ... على أليفٍ لها يرمي به الطلب يمضي ولا حلية إلا عزيمته ... وينثني وحلاه المجد والذهب يكرُّ صرف الليالي عنه منقلبًا ... وعزمه ليس يدري كيف ينقلب بأرض (كولمبَ) أبطالٌ غطارفة ... أسدٌ جياعٌ إذا ما ووثبوا وثبوا لم يحمهم علمٌ فيها ولا عددٌ ... سوى مضاءٍ تحامى ورده النوب أسطولهم أملٌ في البحر مرتحلٌ ... وجيشهم عملٌ في البرّ مغترب لهم بكلّ خضم مسربٌ نهجٌ ... وفي ذرى كل طودٍ مسلك عجب لم تبدُ بارقةٌ في أفق منتجعٍ ... إلا وكان لها بالشام مرتقب ما عيبهم أنهم في الأرض قد نُثروا ... فالشهب منثورة مذ كانت الشهب ولم يَضِرْهم سراءٌ في مناكبها ... فكل حيّ له في الكون مضطرب رادوا المناهل في الدنيا ولو وجدوا ... إلى المجرَّة رَكبًا صاعدًا ركبوا أو قيل في الشمس للراجين منتجع ... مدُّوا لها سببًا في الجوّ وانتدبوا سعوا إلى الكسب محمودًا وما فتئت ... أم اللغات بذاك السّعي تكتسبُ فأين كان الشآميُّون كان لها ... عيشٌ جديد وفضل ليس يحتجب هَذِي يدي عن بني مصر تصافحكم ... فصافحوا تصافح نفسها العربُ فما الكنانهُ إلا الشام عاج على ... ربوعها من بنيها سادةٌ حسب لولا رجال تغالوا في سياستهم ... منا ومنهم لما لمنا ولا عتبوا أن يكتبوا لي ذنبًا في مودّتهم ... فإنما الفخر في الذنب الذي كتبوا

إنجيل برنابا مقدمتنا له

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إنجيل برنابا.. مقدمتنا له قد تمّ طبع إنجيل برنابا كما قلنا في الجزء الثاني عشَر من السنة الماضية , وقد كتب له مترجمه الدكتور خليل سعادة مقدمة، ذكر فيها ملخص ما قاله علماء الإفرنج فيه ورأيه في ذلك فنشرناها وقفينا عليها بمقدمة منا، هذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، وعلى عيسى المؤيد بروح الله، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين. أما بعد , فإننا نرى مؤرخي النصرانية قد أجمعوا على أنه كان في القرون الأولى للمسيح عليه السلام أناجيلُ كثيرة , وأن رجال الكنيسة قد اختاروا منها أربعة أناجيل، ورفضوا الباقي. فالمقلدون لهم من أهل مِلّتهم قبلوا اختيارهم بغير بحث , وسيكون ذلك شأن أمثالهم إلى ما شاء الله. وأما من يحب العلم، ويجتنب التقليد من كل أمة فهو يود إذا أراد الوقوف على أصل هذا الدين وتاريخه لو يطلع على جميع تلك الأناجيل المرفوضة , ويقف على كل ما يمكن الوقوف عليه من أمرها , ويبني ترجيح بعضها على بعض بعد المقابلة والتنظير على الدلائل المرجحة التي تظهر له هو وإنْ لم تظهر لرجال الكنيسة. لو بقيت تلك الأناجيل كلها لكانت أغزر ينابيع التاريخ في بابها ما قبل منها أصلاً للدين وما لم يقبل , ولرأيت لعلماء هذا العصر من الحكم عليها والاستنباط منها بطرق العلم الحديثة المصونة بسياج الحرية والاستقلال في الرأي والإرادة ما لا يأتي مثله من رجال الكنيسة الذين اختاروا تلك الأربعة، ورفضوا ما سواها. إنجيل المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام واحد هو عبارة عن هَدْيهِ وبشارته بمن يجيء بعده لِيُتمّ دين الله الذي شرعه على لسانه وألسنة الأنبياء من قبله , فكان كل منهم يبين للناس منه ما يقتضيه استعدادهم , وإنما كثرت الأناجيل؛ لأن كل من كتب سيرته عليه السلام سماها إنجيلاً لاشتمالها على ما بشر وهدى به الناس. من تلك الأناجيل (إنجيل برنابا) وبرنابا حواري من أنصار المسيح الذين يلقبهم رجال الكنيسة بالرسل. صحبه بولص زمنًا , بل كان (هو الذي عرف التلاميذ ببولص بعدما اهتدى (بولص) ورجع إلى أورشليم) [1] , فلعل تلاميذ المسيح ما كانوا ليثقوا بإيمان بولص بعدما كان من شدة عداوته لدينهم لولا برنابا الذي عرفه أولاً , وعرفهم به بعد أن وثق به. ومقدمة هذا الإنجيل الذي نقدم ترجمته لقُرّاء العربية اليوم ناطقة بأن بولص انفرد بتعليم جديد مخالف لِمَا تلقاه الحواريون عن المسيح. ولكن تعاليمه هي التي غلبت , وانتشرت , واشتهرت , وصارت عماد النصرانية. ويذهب بعض علماء الإفرنج إلى أن إنجيل مرقس وإنجيل يوحنا من وضعه كما في دائرة المعارف الفرنسية. فلا غرو إذا عدت الكنيسة إنجيل برنابا إنجيلاً غير قانوني أو غير صحيح. لم نقف على ذكر لإنجيل برنابا في أسفار التاريخ أقدم من المنشور الذي أصدره البابا جلاسيوس الأول في بيان الكتب التي تحرم قراءتها , فقد جاء في ضمنها إنجيل برنابا. وقد تولى جلاسيوس البابوية في أواخر القرن الخامس للميلاد , أي: قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم على أن بعض علماء أوربا يرتابون اليوم في ذلك المنشور كما ذكر الدكتور سعادة في مقدمته , والمثبت مقدّم على النافي. مرت القرون وتعاقبت الأجيال ولم يسمع أحد ذكرًا لهذا الإنجيل حتى عثروا في أوربا على نسخة منه منذ مائتي سنة , فعدوها كنزًا ثمينًا , ولو وجدها أحد في القرون الوسطى - قرون ظلمات التعصب والجهل - لَمَا ظهرت , وأنى يظهر الشيء في الظلمة , والنور شرط الظهور؟ ظهرت هذه النسخة في نور الحرية المتألق في تلك البلاد , وكانت موضع اهتمام العلماء وعنايتهم , وموضوع بحثهم واجتهادهم , وانبرى بعض فضلاء الإنكليز في العام الماضي لترجمتها بالإنكليزية , وتعمم نشرها وقد أهديت إلينا نسخة منها عند نشرها , فرأينا أنه يجب أن لا يكون حظ قراء العربية منها أقل من حظ قراء الإنكليزية , فكاشفنا بذلك صديقنا الدكتور خليل سعادة , فوافقت رغبته رغبتنا , وترجم النسخة بالعربية ترجمةً حرفيةً , وباشرنا طبعها بعد معارضتها معه على الأصل؛ لأجل الدقة في تصحيحها. بحث علماء أوربا في هذه النسخة , وكتبوا في شأنها فصولاً طويلةً لخصها الدكتور سعادة في مقدمته , فمن مباحثهم ما هو علمي دقيق ككلامهم في نوع ورقها وتجليدها ولغتها , ومنها ما هو من قبيل الخَرص والتخمين , كأقوالهم في الكاتب الأول لها , والزمن الذي كتبت فيه , وتبعهم في مثل هذا البحث أصحاب مجلتي المقتطف والهلال. ويجب أن ننبه في هذا المقام على قاعدة من قواعد البحث الفلسفية، وأصل من أصوله العقلية، وهي قاعدة إطلاق البحث أو بنائه على رأسه ولو مفروضًا. فإن كثيرًا من الباحثين يبنون أبحاثهم على فرضٍ يتخذونه قاعدةً مسلمةً , وربما كان فاسدًا فيجيء كل ما بني عليه مثله؛ لأن ما بُنِيَ على الفاسد فاسد حتمًا. مثال هذا ما امتحن به بعض الفلاسفة تلاميذه , وهو أنه عمد إلى جرة كانت في الشمس , فقلبها من غير أن يروه , ودعاهم، فقال: إني أرى وجه هذه الجرة المقابل للشمس باردًا. ثم قلبها ولمس الجانب الآخر معهم , فإذا هو سخن؛ فطالبهم بعلة ذلك , فطفقوا ينتحلون العلل وهو يردها , ولما سألوه عن رأيه في ذلك قال: إنه يجب أن يتثبت من صحة الشيء أولاً , ثم يبحث عن علته. وكون الجانب المقابل للشمس من هذه الجرة باردًا , والجانب المقابل للأرض سخنًا غير صحيح , بل قلبتها أنا لأختبر فطنتكم. وكذلك فعل بعض الباحثين في إنجيل برنابا , فرضوا أنه من وضع بعض المسلمين , ثم حاروا في حزر تعيين واضعه , هل هو غربي أم شرقي , عربي أم عجمي , قديم أم حادث. وما قال أحد فيه قولاً إلا وجد من الباحثين من يفنده حتى رأى الدكتور سعادة بعد الاطلاع على تلك الأقوال أن الأقرب إلى التصور أن يكون كاتبه يهوديًّا أندلسيًّا من أهل القرون الوسطى تنصر , ثم دخل الإسلام , وأتقن اللغة العربية , وعرف القرآن والسنة حق المعرفة بعد الإحاطة بكتب العهد العتيق والجديد، واستدل على هذا الفرض بعلمه الواسع بأسفار العهد القديم , وموافقة التلمود , وإحاطته بالعهد الجديد , وغفل عن عزوه إلى كتب العهدين ما لا يوجد في نسخها التي عرفت في القرون الوسطى , وهي التي بين أيدينا الآن؛ كعزو قصة هوشع وحجي إلى كتاب دانيال، وعن مخالفته لها أحيانًا في مسائل أخرى , ولو كان من أهل القرون الوسطى وما بعدها لَمَا وقع في هذا الغلط الظاهر مع علمه الواسع. واستدل أيضًا بموافقة بعض مباحثه للقرآن والأحاديث , وما كل ما وافق شيئًا في بعض مباحثه يكون مأخوذًا منه وإلا لزم أن تكون التوراة مأخوذة من شريعة حمورابي لا وحيًا من الله لموسى عليه السلام. على أن معظم مباحث هذا الإنجيل لم تكن معروفة عند أحد من المسلمين , وأسلوبه في التعبير بعيد جدًّا من أساليب المسلمين عامَّةً والعرب منهم خاصَّةً , كما بين بعض القسيسين في مجلة دينية , وأي مسلم يذكر الله ولا يثني عليه , والأنبياء ولا يصلي عليهم , ويسمي الملائكة بغير الأسماء الواردة في الكتاب والسنة. وقد كانت مسألة اليوبيل أقوى الشبهات عندي على كون كاتبه من أهل القرون المتوسطة , لا من قرن المسيح حتى بين الدكتور سعادة ضعفها بدقة نظره , فلم يبق للباحثين دليل يعوَّل عليه في هذا المقام , فإن موافقة بعض ما فيه لبعض ما ورد في شعر دانتي يمكن أن يعلل بأن دانتي اطلع عليه وأخذ منه إن لم يكن ذلك من قبيل توارد الخواطر. أما الهوامش العربية التي وجدت على النسخة , فيحتمل أن تكون للراهب فرمرينو الذي اكتشف هذا الإنجيل في مكتبة البابا بأن يكون دخوله في الإسلام حمله على تعلم العربية , حتى كان مبلغ علمه فيها أن يترجم بعض الجمل بعبارة سقيمة تغلب عليها العجمة , وما فيه من العبارات الصحيحة على قلتها لا ينافي ذلك , فإن كل من يتعلم لغة أجنبية في سِنّ الكبر تكون كتابته فيها لأول العهد من هذا القبيل: صواب قليل، وخطأ كثير على أن أكثر العبارات الصحيحة في هذه الهوامش منقول من القرآن أو بعض الكتب العربية التي يمكن أن يكون قد اطلع عليها الكاتب. ويحتمل أن يكون بعض القسوس أو من هم على شاكلتهم قد تعلم العربية؛ ليتبين هل فيها مصادر لهذا الإنجيل يمكن إرجاعه إليها. ويرجح هذا الاحتمال تسميته الفصول سورًا تشبيهًا له بالقرآن , أمّا عزو هذه الهوامش إلى مسلم عريق في الإسلام فخطأ لا يحتمل الصواب؛ إذ لا يوجد مسلم عربي ولا عجمي يطلق لفظ السور على غير القرآن , أو يقول: (الله سبحان) , كما جاء في مواضع منها هامش ص 141 و 16؛ لأن كلمة (سبحان الله) مما يحفظه كل مسلم من أذكار دينه، أو يقول: ميخائيل بدل ميكائيل , ويجهل اسم إسرافيل فيسميه أوريل أو أورفائيل , أو يقول: إن السموات أكثر من سبع , وإن العدد لا مفهومَ له. كما قال علماء الأصول. ولذلك أمثلة أخرى أضف إليها عدم اطلاع علماء المسلمين في الأندلس وغيرها على هذا الإنجيل , كما حققه الدكتور مرجليوث مؤيدًا تحقيقه بخلو كتب المسلمين الذين ردوا على النصارى من ذكره، وناهيك بابن حزم الأندلسي وابن تيمية المشرقي , فقد كانا أوسع علماء المسلمين في الغرب والشرق اطلاعًا كما يعلم من كتبهما , ولم يذكرا في ردهما على النصارى هذا الإنجيل. بقى أمر يستنكره الباحثون في هذا الإنجيل بحثًا علميًّا لا دينيًّا أشد الاستنكار وهو تصريحه باسم (النبي محمد) عليه الصلاة والسلام قائلين: لا يعقل أن يكون ذلك كتب قبل ظهور الإسلام؛ إذ المعهود في البشارات أن تكون بالكنايات والإشارات , والعريقون في الدين لا يرون مثل ذلك مستنكرًا في خبر الوحي. وقد نقل الشيخ محمد بيرم عن رحّالة إنكليزي أنه رأى في دار الكتب البابوية في الفاتيكان نسخة من الإنجيل مكتوبة بالقلم الحِمْيَرِيّ قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم , وفيها يقول المسيح: (ومُبَشِّرًا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) , وذلك موافق لنص القرآن بالحرف , ولكن لم ينقل عن أحد من المسلمين أنه رأى شيئًا من هذه الأناجيل التي فيها البشارات الصريحة , فيظهر أن في مكتبة الفاتيكان من بقايا تلك الأناجيل , والكتب التي كانت ممنوعة في القرون الأولى ما لو ظهر لأزال كل شبهة عن إنجيل برنابا وغيره. على أنه لا يبعد أن يكون مترجم برنابا باللغة الإيطالية قد ذكر اسم (محمد) ترجمة , وأنه في الأصل الذي ترجم هو عنه قد ذكر بلفظ يفيد معناه كلفظ البارقليط ومثل هذا التساهل معهود عند المسيحيين في الترجمة , كما بيّنه الشيخ (رحمة الله) للشواهد الكثيرة من كتبهم في الأمر السابع من المسلك السادس من الباب السادس من كتابه (إظهار الحق) وزاده بعد ذلك بيانًا في البشارة الثامنة عشر. ولا يحسبن القارئ المسلم أن علماء أوربا وبعض علماء بلادنا كالدكتور سعادة , وأصحاب المقتطف والهلال يظهرون الريب في هذا الإنجيل الموافق في أصول تعاليمه للإسلام تعصّبًا للنصرانية؛ فإن الزمن الذي كان التعصب فيه يحمل العلماء على طمس الحقائق التاريخية وغيرها قد مضى. وقد بحث علماء أوربا مثل هذه المباحث في الأناجيل الأربعة , فبينوا أنه لا يُعْرَف مَتَى كُتِبَتْ , ولا بأيّ لغة أُلّفت , وقال بعضهم: إن مؤلفيهاغير معروفين , واتهم بعضُهم بولصَ بوَضْع أكثرها , كما ترى في دائرة المعارف الفرنسية وغيرها , بل منهم من جعل أصول تعاليمها مأخوذ من ال

خطبة حفني بك ناصف رئيس نادي العلوم في مسألة التعريب

الكاتب: حفني ناصف

_ خطبة حفني بك ناصف رئيس نادي دار العلوم في مسألة التعريب أكثر القائلون بتطبيق (سياسة الباب المفتوح) على اللغة العربية من ذكر جمود أمتنا واشتغالها عن الجواهر بالأعراض , ووقوفها موقف المستضعفين أمام الأمم الغربية , ونعوا علينا تحرجنا قبول الدخيل في لغتنا، ورمونا (بالرجوع إلى الوراء , والنفور من كل جديد , والوقوف عند حدّ ما أماته الزمان، ومخالفة سنة اللغات الحية صاحبة الحركة الدائمة التي قدر أهلها أن ينتفعوا بكل ما خلقه الله) إلى آخر ما أتوا به من القضايا الخطابية؛ بقصد التأثير في أفكار السامعين حتى تخيلوا أن الكَلِمَ الأعجمية واجبة الاستعمال في اللغة العربية حرصًا على الزمن أن يضيع في انتقاء ألفاظ عربية تسد مسدها , وأن قواعد الاقتصاد السياسي تقضي بصرفه في اختراع آله حربية أو معمل صناعي أو مصرف مالي , ولقد كدت من شدة التأثير أمسك عن الكلام خِيفَة أن أضيع عليكم ساعة يمكنكم فيها اختراع بندقية جديدة , أو آلة للطيران , أو علاج للسرطان. مسكينة الأمة المستضعفة , لا تدري من أين تُؤْتَى , ولا تعرف لِتأخّرها عِلّة , فتذهب مع كل ذاهب , وتمشي وراء كل حاطب. ظننا النيل سبب رخاوتها فعدلنا عنه إلى الآبار فما نشطنا، وخِلْنا الأزياء الواسعة مانعتنا عن الحركة فاستبدلنا بها أزياءً ضيّقة فما عدونا. وحسبنا اقتعاد السيارات والدراجات يوصلنا إلى المدنِيَّة فاقتعدنا وما استفدنا، وزعمنا ملاهي التمثيل أقرب سبيل فأبعدتنا، وعددنا النفازج (الباللو) معارج فما عرجنا، وغيرنا العمائم بالقلانس , والدور بالقصور , وظهور الصافنات ببطون العربات فما أخرجنا كل ذلك عما نحن فيه من الاستضعاف ولا سَمَا بِنَا إلى راقي الألمان والإنكليز واليابان. إن لارتفاع الأمم وانحطاطها أسبابًا خاضَ فيها الحكماء , وأفاض في بيانها العلماء وليس المقام الآن مقام ذكرها , وإن المسألة التي نحن بصددها مسألة نقلية يُرجع فيها إلى كتب اللغة والأدب , وليس لأحدٍ أن يأخذ فيها بالهوى , أو يسترسل مع الوجدان , أو يقتصر فيها على مجرد الاستقباح والاستحسان , فكما لا يجوز في التاريخ أن تنكروا غلبة اليابان للروس محتجين بأن الصغير لا يغلب الكبير , لا يجوز في العربية أن تنصبوا الفاعل , وتقدموا خبر إنّ على اسمها احتجاجًا بأن المعنى لا يتغير , ولا أن تقولوا: ما الفرق بيننا وبين العرب الأولى حتى جاز لهم وضع ألفاظ مقتضبة , وتعريب كلمات أعجمية , والشذوذ عن القياس وامتنع علينا , أليسوا رجالاً ونحن رجال؟ ليس لأحد أن يقول ذلك إلا خرج من الرِّبْقة , وخلع العذار , ورضي بأن يكون طليقًا لا يتقيد بشيء. المسألة منصوصة في الأسفار , فمن شاء أن يخرق الإجماع , ولا يقصر شيئًا على السماع , ويستريح من عناء الدروس فَلْيصنعْ ما شاء فليس عندنا ما يرغمه على اتباع الجماعة , ولا فائدة في الجدال معه , وإذا شاء أن يتبع المنصوص فها هو بيانه. اتفق العلماء على أن اللغة العربية كانت لسان عاد , وثمود , وأميم , وعبيل , وطسم , وجديس , وعمليق، وجُرْهم , ووَبار من أولاد إرم بن سام. وأول تنقيح دخلها بعمل يعرب بن قحطان رأس العرب العاربة , وجرى أولاده على لغته في أنحاء اليمن كلها , ثم تفرق جماعة منهم في نجد والحجاز وتِهَامة والشام والحِيَرة. ولما أصهر إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام إلى قبيلة جُرْهم أدخل تنقيحًا ثانيًا في اللغة , وجرى على أثْرِه القبائل من أولاده كربيعة ومُضَر وكنانة ونزار وخزاعة وقيس وضبة. والتنقيح الثالث أدخلته قريش بالتدريج انتخابًا من لغات قبائل العرب التي كانت تفد عليهم في كل عام , وتمكث بين ظهرانيهم نحو خمسين يومًا , منها ثلاثة أيام بسوق ذي المجاز , وسبعة بسوق مجنة , وثلاثون بسوق عكاظ، وعشرة في مناسك الحج. والتنقيح الرابع هو اختيار علماء المَصْرَيْن البصرة والكوفة (نقلة اللغة في عصر الأمويين والعباسيين) , فقد قصروا اختيارهم على ست قبائل من صميم العرب لم تختلط بغيرها , وهم: قيس عيلان , وأسد , وهذيل وبعض تميم , وبعض كنانة وبعض طَيِّ , ولم يأخذوا عن لخم , وجذام لمخالطتهم القبط أهل مصر، ولا عن قضاعة وغسان وإياد لمخالطتهم أهل الشام والروم , وأكثرهم نصارى يقرءون بالعَبْرانية، ولا عن تغلب؛ لأنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونان , ولا عن بكر؛ لمجاورتهم النَّبَط والفرس , ولا عن عبد القيس وأَزْد عمان؛ لأنهم كانوا بالبحرين مخالطين الهنديين والفرس، ولا عن أهل اليمن: (حِمْيَر , وهمدان , وخولان والأزد) ؛ لمخالطتهم الحبشة والزنج والهنديين , ولا عن بني حنيفة وسكان اليمامة وثقيف والطائف؛ لمخالطتهم تُجّار اليمن عندهم , ولا عن حاضرة الحجاز وقت نقل اللغة لفساد لغتها بالاختلاط. وعدّوا لغة قريش أفصح اللغات العربية؛ لأنها خالية عن عنعنة تميم , وهي إبدال الهمزة عَيْنًا نحو: عَنْتَ وعِنّكَ , أي: أنت وإنك، وعن تَلْتَةِ بَهْرَاءَ , وهي كسر أول المضارع , نحو: تِلْعَب وتِلْهو، وعن كَسْكَسَةِ ربيعة ومضر , وهي: إلحاق سِين بعد كاف المخاطب: رأيتكَسْ، وعن كَشْكَشَة هوازن , وهي إلحاق شِين بعد كاف المخاطبة: نحو رأيتكَشْ , وعن فَحْفَحَة هذيل , وهي: قلب الحاء عينًا؛ نحو: عَتَّى , أي: حَتَّى، وعن وكم ربيعة , وهي كسر كاف الخطاب بعد الياء الساكنة , أو الكسرة , نحو: عَلَيْكِمْ وَبِكِمْ، وعن وهم بني كلب , وهي كسر هاء الغيبة إذا لم يكن قبلها ياء ساكنة ولا كسرة , نحو: عَنْهِمْ , وبَيْنَهِمْ , وعن جَعْجَعَة قُضَاعَة , وهي قَلْب الياء الأخيرة جِيمًا؛ نحو: الساعج يدعج , أي: الساعي يدعي , وعن وَتْم أهل اليمن , وهو قَلْب السين المتطرفة تاءً؛ نحو: النَّات أي: الناس، وعن الاستنطاء في لغة سعد والأزد وقيس , وهو قلب العين الساكنة نُونًا قبل الطاء , نحو: أَنْطِي أي أعْطِي، وعن شَنْشَنَة اليمن , وهي قلب الكاف شِينًا , نحو: لَبَّيْشَ اللهم لَبَّيْشَ، وعن لَخْلَخَانِيّة الشَّحْر وعمان وهي حذف الألف في نحو: مَشَاءَ اللهُ أي ما شاء، وعن طُمْطُمَانِيّة حِمْيَر , وهي جَعْل أل (أم) نحو: طاب امْهَوا؛ أي: الهواء , وعن غَمْغَمَة قُضَاعة , وهي إخفاء الحروف عند الكلام , فلا تكاد تظهر. ولم ينظر نقلة اللغة إلى لغة كل قبيلة على حدتها , بل جمعوا الألفاظ التي يتكلم بها كل القبائل التي عولوا على الأخذ عنها , وجعلوها لغةً واحدةً مقابل اللغة الأعجمية , لا يخطئ المتكلم إلا إذا خرج عنها كلها , فلفظ المُدْيَة لغة دَوْس (بطن من الأزد) , ولفظ السكين لغة قريش , فنقل الأئمة اللفظين , وأباحوا لكل إنسان أن يتكلم بأيهما شاء , ولو لم يوجد في العرب من تكَلّم بهما معًا , ومن هنا جاء الترادف في اللغة والاشتراك اللفظي , ولو جمعوا لغة كل حي من العرب على حدتها لَتكرر العمل وطال الزمن. ثم نظروا بعد ذلك إلى المفردات , فما كان منها كثير الدوران على ألسنة العرب عدوه فصيحًا، وما كان قليل الدوران على ألسنتهم عدوه غريبًا ووحشيًّا يعدّ استعماله مُخِلاًّ بالفصاحة , ولو كان معروفًا عند المخاطبين. واستخرجوا من استعمالات العرب قواعد تتعلق بأحوال أواخر الكلم وقواعد تتعلق بباقي أحوالها وسموها علم النحو والصرف , وجعلوا لبعض تلك القواعد قيودًا واستثناآت حتى يكون الاستعمال الكثير مضبوطًا بقوانين تُحْتَذَى عند القياس , وما شذّ عن ذلك عن ذلك جعلوه سماعيًّا يقبل من العربي ولا يقبل من المولد. وكانوا شديدي الحرص على بيان السماعي والقياسي , فإذا لم يكن اللفظ (مادة أو هيئة) قد سمع من العرب منعوه بتاتًا , وشنعوا على مستعمله. ولأجل أن يعرف السامع مقدارَ عنايتهم بالمسموع من العرب , ومقدار الانحطاط الذي كان يلحق بمن يخطئ منهم أروي لك قصة وفود سيبويه على يحيى بن خالد البرمكي ببغداد , فقد عقد يحيى مجلسًا جمع فيه بين سيبويه رئيس نحاة البصرة وبين الكسائي رئيس الكوفة , فقال له الكسائي: تسألني أو أسألك؟ فقال سيبويه: سَلْ أنتَ. فسأله الكسائي عن قول العرب: (قد كنتُ أظنُّ أن العقربَ أشد لسعةً من الزُّنْبُور , فإذا هو هي) أيجوز (فإذا هو إياها) ؟ فقال سيبويه: لا يجوز النصب. فقال الكسائي: العرب ترفع ذلك وتنصبه. فقال يحيى: لقد اختلفتما , وأنتما رئيسا بلديكما , فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي: هذه العرب ببابك قد سمع منهم أهل البلدين , فيحضرون ويُسألُون. فقال يحيى وجعفر أنصفت. وأمرا بإحضار أعرابي من أهل البادية وسألوه , فقال: (القول قول الكسائي) فقال سيبويه ليحيى: (مُرْه أن ينطق بذلك , فإن لسانه لا يطاوعه) فاكتفى المجلس بحكم الأعرابي , وخجل سيبويه , وسافر بعد ذلك إلى فارس , فأقام بها حتى مات وكانت هذه المسألة سبب علته , وكانت وفاته في سنة 180 وعمره 32 , وهكذا كانت عادة علماء البلدين متى اختلفوا في أمر تلمَّسوه عند البدو وتسمَّعوه منهم. وعرفوا المعرَّب بأنه الاسم الأعجمي الذي فاهت به العرب الموثوق بعربيتهم فإذا فَاهَ به غير العربي سمي مولدًا , وقد تبعهم في ذلك كل من كتب في اللغة كأصحاب الصحاح والقاموس والمحكم والعباب , وأجمع العلماء على أن لا يُسْتَشْهَد في اللغة والصرف والنحو إلا بكلام العرب , ولا يجوز الاستشهاد بكلام المولدين إلا في علوم البلاغة. وأجازوا استعمال الكَلِم في غير ما وضعت له متى وُجِدَت مناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المراد , وقامت قرينة تمنع إرادة المعنى الأصلي , وحصروا تلك المناسبات بالاستقراء , وسموها علاقات , وهي: المشابهة - نحو: فاهَ الخطيب بالدرر؛ أي: الكلمات الحِسان. والسببية - نحو: رعينا الغيث؛ أي: الكلاء. والمسببية - نحو: أمطرت السماء نباتًا؛ أي: ماء. والكلية - نحو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} (البقرة: 19) . والجزئية - نحو: بث الأمير العيون؛ أي: الجواسيس. والحالية - نحو: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران: 107) أي: الجنة. والمحلية - نحو: سال الوادي , وجرى الميزاب؛ أي: ماؤه. واللازمية - كإطلاق الحرارة على النار. والملزومية - نحو: دخلت الشمس من الكوَّة؛ أي: ضوءها. والإطلاق - نحو: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد) أي: لا صلاة كاملة. والتقييد كإطلاق المِشْفَر على شفة الإنسان , والمشفر للبعير , كالشفة للإنسان. والعموم - كإطلاق الأبيض والأسمر على السيف والرمح , والدَّابَّة على ذات الأربع. والخصوص - كإطلاق اسم الشخص على القبيلة؛ نحو: تميم , وقريش , وربيعة. والبدلية - نحو: (في ملك فلان ألف دينار) أي: متاع يساوي ألفًا. والمبدلية - نحو (أكلت دمًا إن لم أرعك بضرة) أي: أكلت دية. واعتبار ما كان - نحو: {وَآتُوا اليَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 2) أي: الذين كانوا يتامى. واعتبار ما يكون - نحو: {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} (يوسف: 36) أي: عنبًا. الدالية - نحو: فهمت الكتاب؛ أي: معناه. والمدلولية - نحو: (قرأت معناه مشفوعًا بتقبيل) أي: قرأت لفظه. والمجاورة - نحو: شربت من الراوية , أي المَزَادَة المجاورة للجمل , وقد تكون المجاورة في الذكر فقط , كما في المشاكلة نحو: اطبخوا لي جبة وقميصًا. والآلية - نحو: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ} (الشعراء: 84) , أي: ذِكْرًا حسنًا صادقًا. والتعلق - كإطلاق لفظ المصدر على الفاعل أو المفعول , كشاهد عدل {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: 11) . والشرطية - نحو: {وَمَا كَانَ ا

السنن والأحاديث النبوية

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ السنن والأحاديث النبوية جاءتنا هذه الرسالة من الشيخ صالح بن علي اليافعي أحد العلماء الغَيُورين في حيدر آباد الدكن يرد فيها على الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي فيما كتبه في النسخ , وكون الأحاديث ليست من أصول الدِّينِ , ولطولها ننشرها بالتدريج مبتدئين بمقدمتها التمهيدية , وهي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل محمدًا بالهُدَى ودِين الحق، وجعل له لسان الصدق صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومتبعيه وأنصاره وأحزابه. أمَّا بَعْدُ , فإني قد وقفت على رسائل لحضرة العالم الباحث الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي , كان يرمي فيها أولاً إلى أن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القرآن مجردًا عن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم وتعاليمه غير معتبر لِمَا زاده الله على ما في القرآن من أحكامه , ولازم قوله بل صراحته دالة على محو صورة الإسلام الموجود , وجواز تشكيله له شاء بأي صورة شاء وكأنه استشعر شناعة ذلك , فأعلن رجوعه عن إطلاق القول في ردّ جميع السنن , وخص منها قبول السنن الفعلية التي نقلتها الأمة بالإجماع أو بالتواتر. وردَّ جميع السنة القولية زاعمًا أنها آحاد , وما تواتر منها ليس فيه شيء من الأحكام. وقوله هذا - وإن كان أهونَ من قوله السابق ظاهرًا - مآله وحقيقته بعد التزامه , ثم تطبيقه على ما في نَفْس الأمر الواقع هو حقيقة قوله الأول مِن رَدِّ أكثر السنن الفعلية , بل لا يبعد إذا قلنا كلها؛ لأنه ما مِن فِعْل نقل إلينا من تلك إلا وقد اختلف في هيآته وأحكامه المقومة لحقيقته. والمسلمون الناقلون لِتِلْكَ الأعمال إنما كان مستند اختلافهم في ذلك , إما السنن القولية وإما اجتهاد من يتأتى له الاجتهاد منهم , فإذا لم يجب أن تكون سنن الرسول صلى الله عليه وسلم القولية من الدين فلأن لا تكون مجهودات غيره من الدين أولى وأحرى. وإذا كان كل فعل من السنن الفعلية قد اختلفت في صفاته وهيئاته الطوائف والمذاهب بحيث يكون حقيقة هذا الفِعْل عند هؤلاء غير حقيقته عند أولئك. وإذا كان المستند السنن القولية أو الاجتهاد وسلمنا أن كلاًّ منهما ليس من الدين - لزم أن لا يعلم المتعين أخذه وأن لا يجب عمل مخصوص للزوم انتفاء المدلول بانتفاء دليله , والمسبب بانتفاء سببه؛ إذ لا دليلَ ولا سبب لوجوب أو حرمة أو نَدْب أو كراهة إلا السنن القولية المفسرة للقرآن والناصّة على أحكام الأعمال , فإذا انتفت انتفى كل ذلك , وجاز لِمَن شاء أن يقول: إن الواجب من الأعمال كذا وكذا , وإن معنى القرآن ومراده ذا أو ذا , كيف شاء فعاد الأمر في جميع أمور الدين إلى الإجمال والإبهام , ولزم الانسلاخ عن دين الإسلام , وهذا هو ما يتحاشى عنه كل من يؤمن بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والحقير قد نبه حضرة الدكتور في رسالة أرسلتها إلى حضرة سيدنا منشئ المنار الأغر , ولكنه أرسل إليَّ مكتوبًا يذكر فيه أن بعض تلك الرسالة ضاع عنه , ويطلب إرسال ذلك إليه ليطبعَ الرسالة , ولكني اعتذرت حيثُ لمْ يبقَ لدي منها شيء؛ لأني أرسلت إلى حضرته المسودة. ولما كتب حضرة الدكتور رسالته الأخرى التي طبعت في المنار (الجزء التاسع من المجلد العاشر) بِعُنوان (النسخ في الشرائع الإلهية) رأيته صدر رسالته بالكلام على حقيقة النسخ , واختار القول بجوازه عقلاً وشرعًا , ووقوعه في الشرائع الإلهية والقوانين الوضعية البشرية , وهذا شيء لا ننازعه فيه؛ لكنه أنكر وقوعه في القرآن فعلاً , وخص ذلك بالسنة النبوية , ثم تدرج من مسألة النسخ إلى تقسيم السنة إلى قسميها: فعلية وقولية , وكل منهما إلى متواتر وآحاد تمهيدًا لِمَا خلاصته أن القولية لا سِيَّمَا الآحاد منها لا يجب العمل به بعد زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وزعم أن السنن القولية مطلقًا إنما هي شريعة وَقْتِيَّة تمهيدية لشريعة القرآن الثابتة الباقية , وعلل ذلك بالنهي عن كتابتها , وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يعاملوها بالعناية التي عُومِلَ بها القرآن قصدًا منهم؛ لأن تندثر وتزول من بين المسلمين فلا يعملون بها. هذه خلاصة قوله لكنه يظهر من تناقض كلامه وجوب العمل , وقَبول ما كان متواترًا من ذلك لا ما نقل آحادًا سواء كان حسنًا أو صحيحًا أو مشهورًا أو مستفيضًا. وحيث كان ذلك مخالفًا لدين الإسلام فيما أعتقد , بل الآحاد الصحيح بجميع أقسامه مستلزم للطعن في القرآن وتكذيبه , ومخالف لجماهير المسلمين , بل لجميعهم , بل لجميع الأديان والملل وسائر متبعيها , بل مخالف لِمَا عليه مدار الاجتماع البشري؛ كل ذلك على ما أعتقد ولا أَحْسَبُ أنّ أحدًا ممن عُرِفَ بالعلم والعقل كحضرة الدكتور يخالفني وينازعني في ذلك بعد التفكر وبشرط الإنصاف - حيث كان الأمر كذلك فيما أعتقد بعثني حب إظهار الحق والتعاون على البِرّ والنصيحة إلى مناقشة حضرة الأخ الدكتور فيما كتبه في رسالته , مما رأيته خلافَ الصواب , لما عرفت من حسن نيته ورجوعه إلى الحق كما هي عادته. وألتمس من مولانا المرشد وسيدنا العلامة القدوة داعي الأنام لاتباع حقيقة الإسلام، منشئ المنار مولانا حضرة السيد محمد رشيد رضا وأرجوه أن يدرج هذه البضاعة المزجاة في مناره، وأن يسقط ما فيها من الغلط بصائب أفكاره، وأن يشركنا في صالح دعواته، ولنعد لما كنا بصدده من الشروع في المقصود فنقول: (سيأتي المقصد) . ((يتبع بمقال تالٍ))

تنبيه للمستفتين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنبيه للمستفتين إذا أراد المستفتي أن لا يتأخر نشْر سؤاله والإجابة عنه , فَلْيَكْتُبْهُ على ورقة مستقلة , ولا يجعله في غمرة كتاب آخر , فيكلفنا استخراجه منه؛ إذ ربما تمرّ الشهور ولا نجد وقتًا لنسخه. ومن سأل في ورقة واحدة عِدَّة أسئلة فَلْيَفْصِلْ بينها في الكتابة؛ فيبتدئ كل سؤال بسطر جديد، وَلْيَكُنِ الخط واضحًا، ومن علم أن في عبارته غلطًا فليأذن لنا بتصحيحها إنْ شاء وإلا نشرناها على علاتها أو أهملناها.

خديجة أم المؤمنين ـ 1

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين (1) الفصل الأول [*] (مكة وحالة قريش الاجتماعية عند البعثة) نشأت خديجة في بلد شأنه عجيب: قَصِيّ عن العمران، في وادٍ غير ذي زَرْع، لا تنساب فيه الأمواه، ولا تكتنفه الحدائق، ولا تقوم للصناعات فيه دولة، ولا يجد مبتغي الزخارف لديه مجالاً، ولكن أبدله الله جمالاً معنويًّا وكساه جلالاً روحانيًّا، فالأفئدة تهوي إليه، والمطايا تزجى له من كل فجٍّ عميق. هذه البلدة المقصودة هي (مكة) المكرمة الشهيرة التي لا يجهل اسمها وشهرتها أحد، هي أم البلاد العربية , واقعة في القطعة المسماة الحجاز من شبه جزيرة العرب، قائمة بيوتها في سفوح جبال محيطة بها. لم نقف على مقدار عدد نفوسها في تلك الأيام التي نشأت فيها خديجة , ولكن عدد مقاتلتها لم يكن يتجاوز الألفين في الغالب فيمكننا أن نحرز أهلها إذ ذاك بنحو خمسةَ عَشَرَ ألفًا كلهم أولاد أب واحد , قد ورثوا باستعدادهم لا بِنَسَبِهِمْ هذا المقام الكريم والبلد الشريف ممن كان قبلهم من القبائل. وذلك أن قُصَيّ بن كلاب استطاع أن يجمع جميع ذراري فهر بن مالك إلى مكة , ويزاحم بهم من كان فيها من القبائل فلم تلبث أن صارت لهم خاصة. وفي مكة هذه بيتٌ مُقَدَّس قديم العهد يكاد يكون أول أمره مجهولاً عند المشتغلين بالتاريخ اسمه بيت الله أو الكعبة. وكان جميع عرب الحجاز يعظمون هذا البيت أكثر من كل البيوت التي شرّفوها، ويحجون إليه، ويتعارفون ويتعاطفون لديه. كانت هذه البلدة المشرفة تضم بين تلك الجبال المهيبة أُمَّة صالحة الاستعداد للرقي مَتَى أريت طريقه , كما تضم الصدفة جوهرة لا يظهر بهاؤها وَرُوَاؤُهَا حتى تعالج بعض المعالجة , وتزال عنها تلك القشور , أمَّا من حيثُ الحضارة فلم تكن كما ينتظر ابن حضارة هذا العصر من البلدان وإنما هي بيوت ساذجة مبنية بالحجارة واللَّبِن , ومسقوفة بجذوع النخل خالية من الزخرف. وهذا البلد الأمين باقٍ إلى يومِنا هذا لم يزدد على طول القرون إلا تشريفًا وتكريمًا , ولم يتغير فيه إلا أشكال الأبنية , وازدياد التجارة , والبيت المشرف لم يتغير وضعه , ولا وضع الشعائر التي حوله؛ وإنما بُنِيَ هناك زيادات وتحسينات اقتضتها الدواعي. ومكة معدودة اليوم من جملة بلاد الدولة العلية العثمانية بيد أنها لم تحرم حتى الآن من أمير عربي يتصل نسبه بسيدتنا خديجة هذه، ونفوذه فيها وفيما حولها نفوذ تام يستمده من السلطان العثماني، ومن احترام العرب لهذه السلالة. ومن الآثار المشهورة الباقية في مكة بئر زمزم , ويقولون: إن قبيلة جُرْهُم كانت دفنتها، ثم احتفرها عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم , وكان ذلك من مفاخر عبد المطلب؛ لأنه لم يكن بمكة من ماء إلا في آبار بعيدة عن البيت المشرف , فلما أخرج عبد المطلب زمزم في جوار البيت انصرف الحاجّ إليها. وَلِحَفْرِ زمزم حديثٌ طويل؛ خلاصته تدل على شغف عبد المطلب بتسهيل الماء على الحجاج , فإذا تأملنا في حرص القوم على مِثْل هذه العناية بالغرباء وأبناء السبيل نعلم شيئًا من روح تربية الهمم , وترقية العواطف في ذلك المجتمع الذي نشأت فيه (خديجة) . وكان من جيِّد أمْر أهلها في مجتمعهم ذلك أنهم اقتسموا النظر في الأمور العمومية فيما بينهم؛ فكأنهم كوَّنوا حكومة جمهورية من غير رئيس عام , وكان أمْرُ هذه الجمهورية الغريبة الوضع سائرًا على منتهى النظام , ولكن لم يكن هذا النظام لسرّ في ترتيب هذه الجمهورية؛ فإنها لا يؤمل منها في حَدِّ ذاتها أن تثمر نظامًا بالغًا منتهى الجودة والقوة , وإنما ذلك أثر من آثار تربيتهم العمومية , فالأخبار كلها دالّة على أن القوم بالجملة كانوا كأنهم مفطورون على التضامن التّامّ؛ فلذلك كان مِن مزايا ذلك الاجتماع الذي لا نعهد له نظيرًا أن كلَّ فرد من أفراده تام الحرية لا يشعر بقهر حاكم , ولا يخشى سطوة جبار , وكل منهم في أمن من فوات الحقوق واعتداء الحدود؛ الجنايات قليلة، وكرامة الناس محفوظة، والآداب سليمة، والحدود غير متجاوزة، والحقوق مصونة، وذرائع الفساد مسدودة، وسلامة الفطر غالبة، والمزايا التي بها كمال الإنسانية راجحة. فإذا أضفنا إلى كل ذلك احترام الغريب وتوقيره إيّاهم وتوقيه أذاهم , نجد أن ذلك المجتمع لا يَكادُ يوجد نظيره , ولكن مع كل هذا الجمال والحُسْن والصلاح في هذا المجتمع كان فيه عيوب , فإذا أُزِيلَت يُصبح أولَ مجتمع راقٍ في الدنيا , وخليقًا أن يفيض على جيرانه من بركات العقول التي أشربت بديع جماله، واشرأبت إلى عظيم كماله، ثم تاقت إلى تعريف العالم بما أكنت تلك البقعة التي لم تكن شيئًا مذكورًا من العقول المنيرة والأرواح العالية. وقد وقع ذلك فإن الذي منه تنشأ الأسباب , وإليه ترجع الأمور قد أتاح لهذا البلد الجمهوري من ينظفه من تلك العيوب التي أشرنا إليها , فكان بعد ذلك كما هو المنتظر منه؛ أي: تم ظهوره , فصار مشرقًا لنور عظيم بلغ مشارق الأرض ومغاربها , فأخذ كل قوم منه بقدر استعدادهم. أمّا الجمهورية التي أشرنا إلى أنها كانت في هذا البلد فقد أقاموها على أساس يأمنون معه من الزلزال؛ وذلك أنهم رَأَوُا الشرف انتهى إلى عَشَرَة رهط من عشَرة بطون لاشتهارهم بأعمال مجيدة، ثم أجمعوا أمْرَهم على أن يكون النظر في الأمور العمومية من خصائص هذه البيوت العشرة , وَتَرَاضَوْا على أن يكون لِكُلّ بيت من هذه العشرة وظيفة يختص بها , تُعَدّ من مفاخره؛ فهم بهذا الصنيع قد أخذوا بشيء من أصول حكم الأشراف , وبذلك أَعْطَوُا الأعمال التي يمجد بها الفرد أو الأسرة حقها من التكريم والتشريف ليزداد نشاط أربابها , وحرص غيرهم على التشبه بهم , وأخذوا أيضًا بشيء من أصول الحكم النيابي , وهو أعظم الآيات على وجود التضامن الذي هو أحد الأركان التي تحتفظ بها سعادة الأمم. أمّا الشورى , فقد وفروا منهم حظها، وعظموا في أنفسهم حقها , وبها كانوا يشرعون ما يشرعون من الأحكام والحدود، ويفصلون ما يفصلون في بعض القضايا والحقوق. وقد أَلْغَوُا الرئاسة العامّة مِن بينهم كأنهم عدُّوها لَغْوًا , إذا صدقوا في تضامنهم وصلحوا في تشاورهم وإرادتهم الحق وقليلة الجدوى , إذا مرض تضامنهم ووهي نظامهم. أو أنهم خشوا أن يكون حب الرئاسة إذا وجدت مدعاة لكثرة تنازعهم وتنافسهم؛ فلا يأمنون بعد ذلك كثرة الفشل , والشقاق , وسقوط الهيبة من نفوس الغرباء , ووقوع الفتور في نفوس الأقربين. أو أنهم أنفوا أن يُمَلِّكُوا عليهم أحدًا؛ لأنهم كلهم يحملون بين أضالعهم نفوس الملوك , وجمهوريتهم هذه لم يكن لها رئيس عام , ولكن كانوا يقيمون واحدًا في وظيفة رئيس عام مُوَقَّتًا. أهل هذا المجتمع اللطيف لم يكونوا أولي شغف بالمحاربات , فعلاقاتهم الخارجية مع جيرانهم من القبائل وأهل القرى والبلاد كانت حَسَنَةً , ولكن هذا لم يقعدهم عن أن يكون استعدادهم تامًّا لِمَا ينزل بهِم , فإن نزل بهم ما يطيقونه كشفوا اللثم عن قوتهم , وَبَرَزُوا من غير تريث , وإن نزل بهم ما لا قِبَلَ لهم به تَرَيَّثُوا وعمدوا إلى الأَنَاةِ , وَفَتَقُوا من الحيلة أبوابًا يخرجون منها إلى السَّعَة مِن الضيق , ومِن فَلّ الجيوش بالحُسام إلى فلِّها بالبيان , وقد أعطوا من هذا حظًّا عظيمًا. ومِن أشهر حوادثهم الخارجية التي ضاقوا بها زرعًا هجوم القائد الحبشي أبرهة الذي كان غلب على بعض بلاد اليمن , فقد دهمهم بجيش عظيم لم يروا لأنفسهم طاقة به , فقابله عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم , وكان يومئذ رئيس قريش , فأحسن مقابلته ولطف بعض الشيء من حدته التي كان بها مسوقًا لهدم (بيت الله) على زعمه لأسباب فصلها رواة الأخبار , ثم أصابته داهية سماوية فَقَفَلَ بجيشه ثانيًا عزمه؛ لأنه رأى في أهل هذا البلد ما لم يكن يَخْطُر له في بالٍ. نعم رأى في مقدمه هذا على هؤلاء القوم عجبًا من الأمر , وذلك أنه لَمّا أتاهم أرسل إليهم رجلاً حميريًّا كان معه اسمه حناطة , وأوصاه أن يسأل عن سيد أهل هذا البيت وشريفها , فيبلغه أن الملك لا يريد الحرب وإنما جاء لهدم هذا البيت , فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها , فدلوه على عبد المطلب بن هاشم, فجاءه , وبلَّغَه ما أمره به أبرهة , فكان جواب عبد المطلب: إننا لا نريد حربه. قال حناطة: إنه أوصاني أن يريد مواجهتك إن لم تريدوا الحرب , فانطلق عبد المطلب مع حناطة إليه , فلما رآه أبرهة رأى الوسامة والجلال , فأعظمه وأكرمه , وأخذه إلى جانبه , وقال للتُّرْجمان: سَلْهُ أن يقول ما يبدو له , فلم يكن من عبد المطلب إلا أنه صرف لسانه عن الخوض في عزم القائد على هدم البيت وجداله فيه , بل أظهرَ الاقتناع بضرورة المسالمة , وعدم معارضة القائد في أمر هذا المعبد , وقال له: إذا لم يكن لك غير هذا الأرْبِ فَرُدَّ علينا إبلَنَا. قال أبرهة للترجمان: قُل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك , ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في الأموال وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك! فأجابه عبد المطلب: إننا نحن أرباب المال , وأما البيت فله رب هو سيمنعه. فقال له: إنه ما كان ليمتنعَ مِنِّي. فأجابه: أنت وذاك. وَرَدَّ أبرهة الإبلَ على عبد المطلب , وبقي مُصِرًّا على عَزْمِه , ورجع عبد المطلب على قريش , فأمرهم أن يعتصموا بالجبال، ولا يأتوا أمرًا حتى يروا ماذا يكون , وقد أتى من لدن العناية الغيبية ما لم يكن في الحساب , فإن أبرهة لما أصبح وتهيَّأَ لدخول مكة برك الفيل الذي كان يركبه وحرن , وأتوا كل باب من أبواب الحيل ليقوم ويمشي تلقاء مكة , فلم يَقُمْ , ثم رَأَوْا حِجارة تسقط عليهم من أرجل صِنْف من الطير , فتشاءَمَ أبرهة , وتذكر ما أنذره به ذلك الرجل الجليل السني الطلعة عبد المطلب من حماية هذا البيت بطريقة لا يبلغها عقله , فخمدت في صدره جذْوَة الحدّة والتهور , وخذل أمام هؤلاء القوم الذين حاربوه بالسلم , ورموا عقله بسهم نافذ من بيان عبد المطلب مع رمي الطير جيشه بحجارة من سجيل. وهذه أكبر حوادثهم الخارجية وأشهرها. وفي عام هذه الحادثة وُلِدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم , وقد سَمَّوْهُ عامَ الفيل لِمَا ذكرنا من قصته , ورجال هذه الحملة قد عُرِفُوا بعدها باسم أصحاب الفيل , وقد أُشِيرَ إلى مُجمل هذه الحادثة في القرآن المجيد. *** الفصل الثاني (بيوتات قريش وخصائصها) أمَّا بيوت شرفهم العشرة فهي: هاشم، وأمية، ونَوْفل، وعبد الدار، وأسد، وتيم، ومخزوم، وعدي، وجُمَح، وسهم. وأما الأمور التي كان توليها من خصائص هؤلاء فهي: السِّقَاية، والعِمَارة، والعِقَاب، والرِّفَادَة، والحِجَابَة، والسِّدَانَة، والنَّدْوَة، والمشورة، والأَشْنَاق، والقبة، والأَعِنَّة، والسِّفَارَة، والأَيْسَار، والأموال المحجرة. هذه الأسماء أكثرها اصطلاحي يحتاج إلى تفسير يوافق العصر الذي نحن فيه حتى نفهم شكل ذلك المجتمع الذي سميناه جمهوريًّا على حَسَبِ اصطلاح عصرنا. فأمَّا السِّقَاية , فقد نفهم من اللفظ نفسه؛ أي: سِقَاية الحُجَّاج الذين كانوا يأتون (بيت الله) من كل جانب , ولا يخفى على أحد أن العناية بهؤلاء الغرباء , وتوزيع المياه عليهم من أهم الأمور العمومية في ذلك الظرف , وكان بنو هاشم هم أهل هذه الوظيفة. وأمّا العِمَارة , فهي منع من يتكلم في (بيت الله) بكلام سفيه قبيح , أو يرفع فيه صوته , وكانت هذ

صلات المؤمنين بغيرهم في أول الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صِلات المؤمنين بغيرهم في أول الإسلام مقتبس من الدروس التي كان يلقيها في الأزهر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رضي الله عنه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: 119) {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120) . قال الأستاذ الإمام: إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع أهل الكتاب , وكذا مع المشركين بالتبع والمناسبة , وإن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين , ومعاملة بعضهم لبعض , وإرشادهم في أمرهم؛ يعني أن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك. ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآيات بما قبلها ثلاث مقدمات: (1) أنه كان بين المؤمنين وغيرهم صِلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم , والإفضاء لهم بالسر , وإطلاعهم على كل أمر , منها المحالفة والعهد , ومنها النسب والمصاهرة , ومنها الرضاعة. (2) أن العزة من طباع المؤمن , فإنه يبني أمره على اليُسْر والأمانة والصدق, ولا يبحث عن العيوب؛ ولذلك يظهر لغيره من العيوب , وإن كان بليدًا ما لا يظهر له هو وإن كان ذكيًّا. (3) أن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة، وإبطال ما جاء به الإسلام، وكان هم المؤمنين الأكبر نَشْرَ الدعوة، وتأييد الحق. فكان الهَمّان متباينين، والقصدان متناقضين. ثم قال: فإذا كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شَكَّ مقتضية لأنْ يفضي النسيب من المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين , وكذا المحالف منهم لمحالفه من غيرهم بشيء مما في نفسه , وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين والخلاف بينهم , وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال؛ لذلك جعل الله تعالى للصِّلاتِ بين المؤمنين وغيرهم حَدًّا لا يتعدونه؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} (آل عمران: 118) إلى آخر الآيات. (بطانة) الرجل: وليجته وخاصته الذين يستنبطون أمْره , ويتولون سِره. مأخوذ من بطانة الثوب , وهو الوجه الباطن منه كما يسمى الوجه الظاهر ظهارة. و (من دونكم) معناه: من غيركم. و (يألونكم) من الإِلْو , وهو: التقصير والضعف. و (الخبال) في الأصل: الفساد الذي يلحق الحيوان , فيُورِثه اضطرابًا؛ كالأمراض التي تؤثر في المخ , فيختل إدراك المصاب بها؛ أي: لا يقصرون ولا ينون في إفساد أمركم. والأصل في استعمال فعل (لا) أن يقال فيه نحو: (لا آلو في نصحك) , وسمع مثل (لا آلوك نصحًا) على معنى: لا أمنعك نصحًا وهو ما يسمونه: التضمين. و (عنتم) من العنت , وهو: المشقة الشديدة , و (البغضاء) شدة البُغض. أما سبب النزول؛ فقد أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال: (كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهودَ , لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية؛ فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم هذه الآيةَ) وأخرج عَبْد بن حُمَيْد أنها نزلت في المنافقين. وروى ابن جرير القولين عن ابن عباس. وذكر الرازي وجهًا ثالثًا أنها في الكافرين والمنافقين عامَّةً؛ قال: (وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين , فهذا لا يمنع عموم أول الآية , فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عامًّا وآخرها إذا كان خاصًّا لم يكن خصوص آخر الآية مانعًا من عموم أولها) وسيأتي عن ابن جرير ترجيح الأول. وأما المعنى فهو: نَهْي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين الموصوفين بتلك الأوصاف , على القول بأن قوله: (لا يَأْلُونَكُمْ) (آل عمران: 118) إلخ نعوت للبطانة هي قيود للنهي كذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق للتعليل فالمراد واحد وهو أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر , وهو أنهم لا يألون خبالاً وإفسادًا لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً , فهذا هو القَيْد الأول. والثاني قوله عز وجل:] وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ [أي: تمنواعنتكم , أي: وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة. والثالث والرابع قوله:] قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [أي: قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها , ويعز عليهم إخفاؤها، على أن ما تخفي صدورهم منها أكبر مما يفيض على ألسنتهم من الدلائل عليها. وهذا النوع من البغضاء والعداوة مما يلقاه القائمون بكل دعوة جديدة في الإصلاح ممن يدعونهم إليه , وما كان المسلمون الأولون يعرفون سُنّة البشر في ذلك إذ لم يكونوا على علم بطبائع الملل , وقوانين الاجتماع وحوادث التاريخ حتى أَعْلَمَهُم الله بذلك؛ ولذلك قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) يعني بالآيات هنا: العلامات الفارقة بين من يصح أن يتخذ بطانة , ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته؛ أي: إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات والفصول الفارقة بين الأعداء والأولياء فاعتبروا بها، ولا تتخذوا أولئك بطانة. وأنت تَرَى أنَّ هذه الصفات التي وصف بها من نهى عن اتخاذهم بطانة لو فرض أن اتصف بها من هو موافق لك في الدين والجنس والنسب لما جاز لك أن تتخذه بطانةً لك إن كنت تعقل؛ فما أعدلَ هذا القرآنَ الحكيمَ! وما أعلى هديَهُ! وأسمى إرشادَهُ! لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود , فظنوا أن النهي عن المخالف في الدين مطلقًا , ولو جاء هذا النهي مطلقًا لَمَا كان أمْرًا غريبًا , ونحن نعلم أن الكافرين كانوا إلبًا على المؤمنين في أول ظهور الإسلام؛ إذ نزلت هذه الآيات لا سِيَّمَا اليهود الذين نزلتْ فيهم على رأي المحققين. ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود؛ لأن الله تعالى - وهو منزلها - يعلم ما يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة , كما وقع من هؤلاء اليهود , فإنهم بعد أن كانوا أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا فصاروا عونًا للمسلمين في بعض فتوحاتهم (كفتح الأندلس) وكذلك كان القبط عونًا للمسلمين على الروم في مصر، فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على هؤلاء واحدًا في كل زمان ومكان أبد الأبيد؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية، ولا تروي غلته الرواية، فإن أرجح التفسير المأثور يؤيد ما قلنا. قال ابن جرير يردّ على قتادة القائل بأن الآية في المنافقين , ويؤيد رأيه الموافق لِمَا اخترناه ما نصه: (إن الله - تعالى ذِكْرُهُ - إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء , إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بتلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم , فأما من لم يتأسوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم , إما بأعيانهم وأسمائهم , وإما بصفات قد عرفوهم بها) . وإذا كان ذلك كذلك , وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم الكفار (أي: كما قال قتادة) غير مدرك به المؤمنون معرفة ما هم عليه لهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم لهم والتودد إليهم , كان بينا أن الذين نهى الله عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم على ما وصفهم الله عز وجل به , فعَرَفَهم المؤمنون بالصِّفة التي نعتهم الله بها , وأنهم هم الذين وصفهم الله - تعالى ذكره - بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب؛ لأنهم لو كانوا المنافقين لَكَان الأمْر منهم على ما بيَّنا , ولو كانوا الكفار ممن ناصب المسلمين الحرب لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانةً من دون المؤمنين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل. اهـ فهذا شيخ المفسرين وأشهرهم يجعل هذا النهي فيمن ظهرت عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه ممن كان لهم عهد فخانوا فيه كبني النضير الذين حاولوا قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء ائتمانه لهم لمكان العهد والمحالفة , ويمنع أن يكون مرادًا به جميع الكافرين أو المنافقين. فهذا حكم من أحكام الإسلام في المخالفين أيام كان جميع الناس حربًا للمسلمين , فهل ينكر أحد له مسكة من الإنصاف أنه في هذه القيود التي قيد بها يعد منتهى التساهل والتسامح مع المخالفين؟ إذ لم يمنع اتخاذ البطانة إلا ممن ظهرت عداوتهم وبغضاؤهم للمسلمين، فهم لا يقصرون في إفساد أمرهم ويتمنون لهم من الشر فوق ذلك. لو كانت هذه القيود للنهي عن استعمال المخالفين في كل شيء , ومشاركتهم في كل عمل لكان وجه العدل فيها أزهر، وطريق العذر فيها أظهر؛ فكيف وهي قيود لاتخاذهم بطانة يستودعون الأسرار ويستعان برأيهم وعملهم على شئون الدفاع عن الملة , وصون حقوقها , ومقاومة أعدائها؟ ما أَشْبَهَ هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارًا وأولياءً؛ إذ قيد بقوله عز وجل: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) , {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 9) , وقد شرحنا هذا البحث في تفسير قوله تعالى: {لاَ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 28) [1] . هذا التساهل الذي جاء به القرآن هو الذي أرشد عمر بن الخطاب إلى جعل رجال دواوينه من الروم , وجرى الخليفتان الآخران , وملوك بني أمية مِن بعدِهِ على ذلك إلى أن نقل الدواوين عبد الملك بن مروان من الرومية إلى العربية. وبهذه السيرة وذلك الإرشاد عمل العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في إناطة أعمال الدولة باليهود والنصارى والصابئين , ومن ذلك جعل الدولة العثمانية أكثر سفرائها وو

اليمن سبب فتنتها وإمام الزيدية فيها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اليمن سبب فتنتها وإمام الزيدية فيها إن العرب في اليمن وحضرموت ونَجْد وسائر جزيرة العرب يحبون الدولة العثمانية محبةً صادقةً وزادهم حبًّا فيها , وحرصًا على بقائها في هذا الزمن اعتقادهم أن دول أوربا تتربص بها الدوائر، وتحاول إزالة سلطتها لإزالة سلطة الإسلام من الوجود وهم على بقاء مميزاتهم الجنسية والوطنية على نحو ما كانوا في القرون الماضية والأجيال الغابرة - لم يطرأ عليهم من التغير ما طرأ على أهل الآستانة ومصر والشام والأناطول , وغيرها من الأقطار الإسلامية: لا تزال الرابطة الدينية عندهم فوقَ رابطة الجنس واللغة والوطن , لم تعلمهم المدنية الأوربية التعصب للجنس كما علمت الأتراك ولا للبقعة كما علمت المصريين , فهم يتمنون لو يجدون من الترك حكامًا يقيمون العدل , ويحكمون بالشرع، لا يجدون في صدورهم حرجًا من ذلك. ولكن الذي لا يطيقون احتماله ولا يصبرون عليه هو الظلم والجور والخيانة والغدر؛ لأنهم ورثوا الاستقلال الشخصي والقومي وعزة النفس , وإباء الضيم منذ آلاف من السنين. وقد بينت في المنار من قبلُ أنَّ فئةً قليلةً من العمال (الحكام) المسلمين العدول العارفين بالشرع المهتدين به يكفون الدولة في اليمن أمْر هذه الحروب التي طالت عليها السنون , فخربت البلاد , وأضاعت على الدولة من الأموال والرجال ما هي في أشد الحاجة إليه لصيانة استقلالها من عبث أوربا التي تواثبها المرّة بعد المرّة، وأضرت بها أنواعًا أخرى من المضرات لا حاجة إلى شرحها الآن. الزيدية: طائفة من عرب اليمن , تدين بوجوب إقامة إمام لها من العترة النبوية، فهم بذلك أجدر العرب بعدم الخضوع للدولة العثمانية , ولكنهم مع ذلك يتمنون لو تقيم الدولة في بلادهم العدل , وتحكم بالشرع ويكون لها منهم ما يريدون فما بالك بغيرهم؟ حاولت الدولة غير مرّة أن تقيم الحُجة الشرعية على هؤلاء بوجوب طاعة السلطان، وتحريم الخروج والعصيان، فأرسلت من خاطب إمامهم بذلك غير مرة فكانت حجة الإمام أنهض، وحجة السلطان أدحض؛ لأن الظلم والبغي بغير الحق حجج عملية، لا تبطلها الحجج القولية، ولا تفيد معها شيئًا. وقد عثرنا في هذه الأيام على نَصّ ما أجاب به إمام الزيدية عما وجهه إليه الشيخ محمد الحريري مفتي حَمَاه المندوب الذي أرسله إليه السلطان منذ سنين ومنه يعلم صحة رأينا في هؤلاء القوم وهذا نصه: المنصور بالله محمد بن يحيى حميد الدين عصمتي بالله وما توفيقي إلا بالله بسم الله الرحمن الرحيم اللهم أَيِّدْ دِينك القويم بالعلماء العاملين، واكشف ببركتهم جهل الجاهلين، وارفع بحميد سعيهم غفلة الغافلين، فهم بحور العلم الزاخرة، ونجوم الهدى الزاهرة، وزينة الدنيا والدين والآخرة وأهل الفضائل المتكاثرة، منهم ذو المجد الشامخ المنيف، والحسب الباذخ الشربف، والأدب المثمر روضه الوريف، السيد محمد الحريري الرفاعي الحسني الحموي، ألبسه الله جلباب التقوى، وقاده إلى التمسك بالحبل الأقوى، وأعاد على محياه السلام الأسنى، والإكرام الأهنى، وصلى الله على محمد خاتم أنبياه، وعلى آله سفينة النجاة، وتراجمة الكتاب وقرناه، وعلى صحابته الذين اتبعوه بعد مماته وفي محياه. أمّا بعدُ؛ فإنا نَحْمَدُ الله الذي لا يرجى ويخشى سواه، ولا نعبد إلا إياه. وإنه وافانا منك أيها السيد كتاب كريم، ومسطور رائق فخيم، أفاد معرفة بحقوق العترة النبوية، والسلالة العلوية، بما ورد فيهم من الآيات القرأنية، والأحاديث الصحيحة المروية , (وإن دواعي المحبة اقتضت المراسلة، وبواعث المودة جذبت إلى المكاتبة والمواصلة) ، وإن من لوازم المحبة والإيمان بذل النصيحة للإخوان، لا سِيَّمَا ولاة الأمور، الذين ناط الله بهم صلاح الجمهور، وأفاد - أسعده الله - أنه مستنكر لِمَا جرى بيننا وبين الولاة المرسلين من حضرة الدولة العثمانية، والسدة الخاقانية من الحرب والاختلاف، وعدم التوافق والائتلاف، وأنه يرى الخير في إصلاح ذات البين، ورفع الفتنة التي تؤدي إلى التهلكة والحين، وأنه ورد الحثّ عليه في السنة والكتاب، وأنه مناط الرضا لرب الأرباب، وأن السلطان الأعظم ممن أقام الله به الدين، وانتظمت به أحوال المسلمين، وتشرف بخدمة الحرمين الشريفين، وأقام بجهاد الكفار، ومنابذة الأشرار، وأن رغبته في صلاح الدنيا والدين، وقمع الفجار المعتدين، وأن القطر اليماني المحروس بالله محلّ الإيمان، كما ورد عن سيِّد ولد عدنان، وأن سعيه في ذلك نصيحة دينية، ومحبة إيمانية. فنقول: نَعَم الأمر كما ذكرتم , مما وقع بيننا وبين من تعلق بالسلطة القاهرة أعز الله بها الإسلام، وقمع بها ذوي الإلحاد الطَّغَام، ولم يكن لنا من الرياسة الدنيوية طلب، ولا في الراحة البدنية إِرْب، ولا نعول على جمع المال ووفرة المكسب، ولا مزيد على ما نحن فيه من الحَسَب والنَّسَب، لكنا رأينا المأمورين لم يؤدوا حقوق الله، ولا رعوا حرمة ما حرمه الله، ولا غضبوا يومًا على معاصي الله، ولم يعملوا بشيء من كتاب الله ولا سنة رسول الله، ولا شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، وارتكبوا المعاصي، ورموا إليها الناس بأطراف النواصي، وجاهروا الله بشرب الخمور، وارتكاب الفجور، وظلموا كل ضعيف، وأهانوا كل شريف، حتى فسدت الذرية، وارتفعت كلمة اليهودية والنصرانية، وصارت الأكراد والمجوس تحكم البرية. {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} (التوبة: 10) . ولا تأخذهم في المسلمين رأفةٌ ولا رحمةٌ، وَلَمَّا لم نجد عن أمر الله بُدًّا، استعنا وتوكلنا عليه , وبذلنا في الجهاد جهدًا، امتثالًا لقول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) , وقوله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) , وقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) , وخوفًا مما خوَّفنا الله به من نحو قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) , ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر , أو ليسلطن الله عليكم شراركم , فيدعو خيارُكم فلا يستجاب لهم) حتى إذا بلغ الكتاب أجله كان هو الله المنتصر لنفسه. ولم نزل نتوخى أن السلطة القاهرة - أعز الله بها الإسلام - إذا رُفِعَتْ إليها تلك القبائح التي لا يختلف في وقوعها اثنان، أن تأخذها حمية الدين والإيمان، على تلافي ما فرط من الإضاعة، وتستدرك ما فات من حق عترة رسول الله الذين لا تستحق بدون اتباعهم الشفاعة، فلم يزدادوا مع طول المدة إلا انسلاخًا من الدين، وتوسعًا من تأمر الفجرة المعتدين. فإن قلتَ أيها السيد: إن تلك القبائح مباحة في الإسلام، وإن فعلها مستحل من أتباع شريعة سيد الأنام. فهات الدليل، ولا يقول بذلك إلا ضليل، وإن أنكرت أيها السيد أن ذرية الرسول، هم الحجة في الفروع والأصول. صاح بك قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) , وقوله تعالى: {قُلْ لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) , ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: (إني تارِكٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي؛ إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يتفرقا حتى يردا عَلَيّ الحوض) وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن عند كل بدعة تكون من بعدي وليًّا من ذريتي) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أهل بيتي أمان لأهل الأرض) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أهل بيتي كسفينة نوح) وغير ذلك مما لا يتحمله المقام , فالظهور أبين للحجة، وأوضح للمحجة، لا ما خوفتنا به من القتل والنَّكال، فإنّا أهل بيت لا تزعزعنا كواذب الآمال، ولا نعُد بذل نفوسنا في سبيل الله إلا من أشرف الخصال، ولا نفزع إلى غير ذي الجلال، ولا ندعو سواه في البكور والآصال. على أن قومي تحسب الموت مغنمًا ... وإن فرار الزحف عار ومغرم {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ} (الملك: 20) ، {إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} (آل عمران: 160) ، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) ، {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) ، {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) , فنحن من وعد ربنا على يقين، {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) , وإنك لا تجد في خطتنا المنصورة إلا قائمًا لعبادة ربه إذا أسدل الليل جناحه، أو تاليًا كتاب الله وذاكرًا إذا أطلع الفجر صباحه، ومساجدنا معمورة بالعلم والعمل، وقلوبنا ضالّة عن الجبن والفشل، ولا نفتخر كغيرنا بآلات الحرب الفاخرة، ولا بالسيوف المتكاثرة، التي تحت أمْرِنا عائرة، بل نتبرأ من الحول والقوة، ونتمسك بأذيال سيرة الإمامة والنبوة: مغارس طابت في ربا الفضل فالتقت ... على أنبياء الله والخلفاءِ إذا حمل الناس اللواء علامة ... كفاهم مثار النقع كل لواءِ فقد أوضحنا لك أيها السيد طريقتنا، وأبلغنا إليك أفعال أعادينا {فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 81-82) ولو يعلم السلطان الأعظم حقيقة الحال، لَسَارع إلى إعانتنا في الحال والمآل، ورفع جميع المأمورين من الخطة اليمانية، وأمرهم بحرب الفرقة الكفرية، ولمنعهم عن محاربة العترة النبوية، التي هي بضعة من الذات الشريفة المحمدية، ولأوفى جدنا الأعظم أجر تبليغ الأنباء المشار إليه بـ {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} (الشورى: 23) الآية، ولتباعد عن مشابهة من قال فيهم خاتم النبيين: (من قاتلنا آخر الزمان فكأنما قاتل مع الدجال) , وعن الدعوة النبوية في قوله لأهل بيته: (أنا حرب لمن حاربتم , سلم لمن سالمتم) , وقد أمر الله تعالى بالكون مع الصادقين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) , وثبتهم بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ

المؤتمر الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر الإسلامي سبق لنا قول في المؤتمر الإسلامي الذي اقترحه إسماعيل بك غصبرنسكي القريمي , ونقول الآن: إن اللجنة التي تألفت للبحث في ذلك، وسمت نفسها اللجنة التأسيسية قد وضعت لهذا المؤتمر قانونًا طبعته وأرسلته مع دعوة عَامَّة مطبوعة بالعربية والتركية والفارسية إلى الجرائد الإسلامية في القطر المصري وغيره من الأقطار الإسلامية , وإلى من عرفت من أهل الفضل والرأي من المسلمين. وقد جعلت الباب الثاني من القانون خاصًّا ببيان موضوع المؤتمر، وفيه ثلاث (مواد) نذكرها بنصها وهي: (المادةُ الرابعةَ عَشْرَةَ) وظيفة المؤتمر هي البحث في الأسباب التي أوجبت تأخّر المسلمين من الوجهة الاجتماعية , ومما داخل الدين من البدع والنظر في إزالة تلك الأسباب , وفيما يؤدي إلى رقيهم. (المادة الخامسةَ عَشَرَ) لا تُقْبَل الآراء التي تُعْرَض من الوجهة الدينية إلا إذا كان لها سندٌ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس. (المادة السادسةَ عشْرةَ) لا يجوز التعرض في مناقشات المؤتمر وأبحاثه للمسائل السياسية أيًّا كان نوعها. اهـ وقد سرنا موافقة الشيخ سليم البشري رئيس اللجنة على المادة الخامسة عشرة سرورًا عظيمًا , وعددناها من بشائر الإصلاح، وأمارات النجاح، ذلك بأن الإصلاح الإسلامي مع التزام المذاهب المعروفة والجمود على كتب متبعيها محال , ولذلك جرينا في المنار على اتباع الدليل في المسائل الدينية , وترك التقليد , وإقامة الحجج على المقلدين؛ لأن المنار كالمؤتمر عامّ لجميع المسلمين. وقد قلنا في مقالة طويلة عنوانها (بحث في المؤتمر الإسلامي) نشرناها في الجزء التاسع من السنة الماضية ما نصه (ص680م10) : ثم إنه ينبغي أن تكون القاعدة الأساسية الأولى للإصلاح الديني في المؤتمر هي المحافظة على المُجْمَع عليه عند المسلمين , لا سِيَّمَا ما كان منه معلومًا من الدين بالضرورة , وذلك هو القرآن المجيد , وما استفيد منه بالنص القطعي وبعض السنن المتبعة - ونَعْنِي بالسُّنَّة معناها اللغوي الذي كان يفهمه الصحابة , ومنه ما هو فرض أو واجب ككون الصلوات المفروضة خمسًا، رَكَعَات كل صلاة منها كذا يقرأ فيها كذا , ويركع في كل ركعة مرة , ويسجد مرتينِ , ومنها ما هو مندوب في اصطلاح الفقهاء كما هو معروف. ذلك أن المؤتمر الإسلامي عامّ لجميع المسلمين , وفيهم السُّنِّيّ السلفي وغير السلفي , والشيعي , والإباضي. ومِن السُّنِّيَّة الحَنَفِي والمالكي ... إلخ , ومن الشيعة الجعفري والزيدي، فالذي يجمع بين هؤلاء ويوحد كلمتهم هو كتاب الله والسنن العملية المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتلقي عن آله وأصحابه رضي الله عنهم. وبذلك يكون المؤتمر غير مقيد بالتقاليد الاجتهادية التي تثير النزاع وتفرق الكلمة فلا يمنع أعضاءه مانع من الاعتصام بحبل الله , ودعوة سائر المسلمين إلى الاعتصام به. كتبنا هذا لِتنبيهِ لجنة المؤتمر قبل الابتداء بعملها إلى الأساس الذي لا يفيد المؤتمر بدونه شيئًا , وكنا نخاف أن يحاول من دخل في اللجنة من علماء الأزهر تقييد المباحث الدينية في المؤتمر بنصوص كتب المذاهب , وكان أخوف من نخاف في ذلك رئيس اللجنة الشيخ سليم البشري؛ لأنه كان يبلغنا عنه أنه ممن ينكرون على المنار الإنحاء على التقليد والاعتماد في مباحثه على الأدلة الشرعية , فلما رأيناه الآن، وافق على قانون الذي جعل أساس مباحثه الدينية الاجتهاد دون التقليد حلّ الرجاء محل الخوف , ووجب علينا أن نثني على الأستاذ الكبير الشيخ سليم البشري أجمل الثناء , فحياه الله تحيةً مباركةً طيبةً. إنما قصرنا الثناء على الشيخ سليم من دون سائر أعضاء اللجنة الواضعة لهذا القانون؛ لأن معارضة مثل الشيخ سليم من كبار العلماء أصحاب الشهرة والصفة الرسمية في مسألة إجازة الاجتهاد ومنع التقليد تعدّ عقبة في سبيل الإصلاح , وموافقته عليها تعد تمهيدًا عظيمًا لهذه السبيل التي هي سبيل الله , وعونًا كبيرًا للسالكين فيها، ولا نبخس أحدًا من أعضاء اللجنة حَقَّهُ، ولا نظلمه شيئًا من فضله، بل نرجو أن يكثر فينا من أمثالهم الجاهرون بهذه الدعوة , كما كثر المعتقدون لها وإن لم يصرحوا بها. إن في علماء الأزهر كثيرين يعتقدون بطلان التقليد , ووجوب اتباع الدليل , ولكن يقل فيهم من يجهر بذلك قولاً , ويندر من يتجرأ منهم على كتابة ذلك في الصحف المنشرة , والدعوة إليه على رءوس الأشهاد؛ ذلك بأن كبراء الشيوخ ذوي المكانة عند الأمراء والشهرة عند العامة ينكرون ذلك على قائله , ويضطهدونه إن استطاعوا , ويبالغون في ذلك مبالغةً هي عندي من مثارات العجب. أفلا يحق لنا إذًا أن نكبر إجازة الشيخ سليم البشري جعل قبول ما يقدم للمؤتمر من الآراء والمباحث الدينية مشروطا بأن تكون مُؤَيَّدَةً بدليلٍ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس , ونحن نعلم أنه من أولئك الشيوخ الكبراء , بل هو في ناصيتهم وذروتهم إذ هو شيخ المالكية وكبيرهم الآن , وكان بالأمس شيخ الأزهر؟ وقد اشتهر بأنه أعلم أهل الأزهر الآن بالحديث , ولعلّ الخير جاء من هذه الناحية فأهل الحديث ما زالوا أبعدَ الناس عن التقليد. ونعود إلى مباحث المؤتمر , فنقول: إن المباحث الدينية قد اشتُرِط فيها هذا الشرط الذي سررنا به على إجماله , وأما المباحث الاجتماعية فلم يشترط فيها شيء , وإذا يسر الله واجتمع المؤتمر فإننا سنحتاج إلى تحديد ما هو اجتماعي غير ديني؛ وفي ذلك من العُسْر ما فيه لا سِيَّمَا في المسائل العائلية والمالية , بل أقول: إن المسألة الجنسية لها علاقة عند المسلمين بالدين , وقد كان السيد جمال والشيخ محمد عبده يقولان: إن المسلمين لا جنسيةَ لهم في غير دينهم , ولكن كثيرًا من الأتراك والمصريين يقولون اليوم بجنسية النسب , وجنسية الوطن , ولا يعدون هذا مما يتعلق بالدين , وهذه المسألة من أكبر المسائل التي ننتظر من المؤتمر - إنِ اجْتَمَعَ - حَلّ عقدتها. ذكر إسماعيل بك غصبرنسكي في أحد أعداد جريدته (ترجمان أحوال زمان) أن أحد أذكياء الترك يريد أن يلقي في المؤتمر خطابًا يبيّن فيه أن ارتقاء أمة الترك يتوقف على انفصالها من العربية لغةً ودينًا وسياسةً! ! ! وربما يسمع المصري وغير المصري ممن لا يعرفون الغايةَ التي وصلت إليها نابتة الترك من التفرنج هذا القول , فيرونه عجيبًا غريبًا , ولكن لا يعجب منه مَن يعلم أن كبار الترك قد دارَتْ بينهم مناقشاتٌ طويلة في هذه المباحث استمرت عِدَّة سنين , وكان فيهم من كتب مثل هذا الرأي حتى غلا بعضهم , فقال: إنه يجب تطهير التركية مما فيها من مفردات اللغة العربية. نحن نَعُدُّ هذا شذوذًا وغلوًّا، ويوافقنا على رأيِنا كثير من فضلاء الترك لا سِيَّمَا المتدينين منهم. وإذا انعقد المؤتمر فإن جمهور المسلمين من جميع الشعوب سيسمعون من أخبار أمراض المسلمين الاجتماعية والدينية ما لا يخطر لهم الآن في بال، ونسأل الله أن يحسن العاقبة والمآل.

الرد على اللورد كرومر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرد على اللورد كرومر (2) تتمة الكلام في مسألة المعارف إن اللورد يعلم أنه استعمل المغالطة في هذا الفصل، فعمل محمد علي وعباس وإسماعيل ليس حجة على ما يجب اتباعه الآن من حَصْر تعليم الحكومة في فرنجة عدد معين للوظائف. والإنفاق في وقت كانت الحكومة فيه على شفا الإفلاس لا يجعل مقياسًا لوقت يزيد فيه دخلها على خرجها زيادةً عظيمةً. ولو كان عمل محمد علي وعباس وإسماعيل مما يصح أن يتبع في هذا العصر لَكَان الواجب على الناس أن يرجعوا القَهْقَرَى دائمًا , ولما ساغ لإنكلترا أن تدعي أن هذه البلاد محتاجة إليها في تقدمها وارتقائها , فإنها تقدر بنفسها أن تكون على أحسن من زمن إسماعيل , فما بال اللورد يمثل ظلمات الماضي الحالكة شَرَّ تمثيل , ثم هو يجعلها أساسًا يبني عليه سياسته في التعليم؟ ! اللورد قد ذم المتفرنجين في كتابه ذمًّا بليغًا , وبين أنهم لا قيمةَ لهم في نظر الشيخ محمد عبده , فكيف لا يعذره إذا طلب لبلاده تعليمًا أنفع من هذا التعليم الذي لا يقصد منه إلاَّ تكوين المتفرنجين؟ ! ومن المغالطة في تقرير اللورد قولُهُ: إن إبطال التعليم المجَّاني كان إلغاءً لامتياز جائر؛ لأن الذين كانوا يعلَّمون مجانًا هم في الغالب أولاد الأغنياء، فإن العدل في إزالة هذا الامتياز بما يوافق المصلحة إنما يكون بتحويل الامتياز عن الأغنياء وتخصيصه بالفقراء , وما أسهل ذلك على الحكومة لو أراده القابضون على أزمتها. لو كانت الطريقة التي أزيل بها امتياز أولاد الأغنياء على أولاد الفقراء في التعليم المجاني عادلة , لكان من العدل أن يمنع الماء عن الأراضي التي كان الأغنياء يميزون فيها على الفقراء في الرّيّ حتى لا تزرعَ منها أرض فقير ولا غني , فإن العلم حياة النفوس كما أن الماء حياة الأرض. لم يكن الشيخ محمد عبده راضيًا عن سياسة التعليم بمصر في وقت من الأوقات. ففي زمن توفيق باشا حمل على نظارة المعارف حملةً قَلَمِيّةً منكرةً في جريدة الحكومة الرسمية، ومقالاته في ذلك مثبتة في الجزء الثاني من التاريخ الذي وضعناه له. وقد حمل ذلك الحكومة على الشروع في إصلاح التعليم والتربية , ولكن جاءت من الثورة العرابية, فأوقفت كل عمل , وتلاها الاحتلال ونفى الشيخ من البلاد. وبعد عودته رأى سياسة التعليم غير سديدة؛ فقدم لعميد الدولة المحتلة - وإياك أعني أيها اللورد - لائحة [1] فيما يجب اتباعه في التربية والتعليم , فوضعت في زوايا الإهمال. لعل اللورد لم يَنْسَ أن الشيخ كتب في هذه اللائحة ما نصُّهُ: (المدارس الأميرية ليس فيها شيء من المعارف الحقيقية ولا التربية الصحيحة) [2] ... ... ... ثم ذكر غرض محمد علي باشا من إنشائه لها , وما كان حظها من خلفه إلى عهد إسماعيل باشا , ولكن الشيخ ذكر ذلك حُجة على فَقْدِ التربية والمعارف الحقيقية منها , فجاء اللورد يذكره مِن بعدِهِ في تقرير 1905 , ويجعله حُجة على بقاء ما كان على ما كان إلاَّ المجانية , فإنه يرى إبطالها بعد انتظام مالية الحكومة وامتلاء خزائنها! . مَرَّتِ الأيام على موت هذه اللائحة والشيخ محمد عبده قاضٍ في المحاكم ليس له طريق رسمي إلى دعوة الحكومة إلى إصلاح التربية والتعليم , وقد جرب طريق النصيحة , فلم يجده موصلاً إلى المطلوب , فلما صار مُفْتيًا وعضوًا في مجلس الشورى حاول أن يجعل مجلس الشورى وسيلةً إلى غرضِهِ , وبرأيه طلب بعض أعضاء الجمعية العمومية سنةَ 1902 أن تعرض قوانين ولوائح التعليم في نظارة المعارف (بروجراماتها ومنشوراتها) على المجلس , ولم ينس اللورد تلك المناقشة التي دارت في ذلك بين الشيخ محمد عبده وفخري باشا ناظر المعارف في الجمعية العمومية (وقد بيَّنَّا ضعفَ أقوال الناظر يومئذٍ في المنار ص110و149م5) . ثم إن الشيخ محمد عبده اقترح باسم المجلس في سنة 1904 أن يعلم تاريخ الإسلام باللغة العربية في المدارس التجهيزية. وقد ذكر في آخر تقرير له بشأن امتحان مدرسة دار المعلمين الناصرية (دار العلوم) ضعف تعليم التوحيد والتفسير والحديث فيها , فإذا كان تعلم المعلمين للدين ضعيفًا , فكيف يكون تعليم هؤلاء المعلمين له؟ . نكتفي بهذه المذكرات في بيان غَلَطِ اللورد في قوله: إن ما كتبه الشيخ محمد عبده لمسيو جرفيل كان يعلم أنه لا أصلَ له فهي تذكره - إن كان ناسيا - أن لها أصلاً أصيلاً مؤيدًا بالبرهان والدليل، ومن العجائب أن يكابر اللورد في هذا مع ما يعلمه من مؤيداته الرسمية وغير الرسمية. فمن ذا كتب ما يعلم لأنه لا أصل له؟ الشيخ أم اللورد؟ اللورد يعرف ذلك إذا لم يكن السَّخَط قد أنساه تلك اللائحة التي قدمت إليه , وتلك الحجج المدونة في المحاضر والدواوين الرسمية , وكلها ناطقة بأن الشيخ محمد عبده لم يكن راضيًا من التعليم والتربية في مدارس الحكومة. فهذا ما نقول في السبب الأول لسخط اللورد على الأستاذ الإمام وتغيير كلامه فيه. * * * (إفضاء الأستاذ الإمام لمستر بلنت بعيوب الاحتلال) أما السبب الثاني لسخط اللورد على الشيخ , وهو ما ظهر له من أنه هو الذي لقن مستر بلنت جُلَّ ما في كتابه (التاريخ السري للاحتلال) من عيوب إدارة المحتلين بمصر [3] , فهو مما يعذر فيه فإن هذا مما يغيظ السياسي والحاكم المطلق حقيقة. وأي شيء يؤلم الإنسان أكثر من بيان عيوبه وإظهار سيئاته؟ ولكن يجب على المؤرخ أن يعذر حافظي الوقائع التاريخية ورواتها ومدونيها. واللورد في كتابه (مصر الحديثة) مؤرخ لا حاكم , فكان يجب أن يتذكر ذلك. ثم إذا كان هو في تدوينه لتاريخ مصر لم يتحام القدح في أمرائها وعلمائها وجميع أهلها بِنَاءً على أنه مؤرخ يجب عليه إظهار الحقائق - إذا فرضنا أن كل ما كتبه حقائق - فكيف يسخط على من سلك طريقته، ومن أعانه على ذلك؟ أليس من العدل العام أن يدين المرء كما يُدان؟ هذا ما يُقال من الجهة العامة. ويقال من الجهة الخاصة: إن مستر بلنت كان صديقًا للشيخ محمد عبده , وكان كل منهما يثق بأمانة الآخر وإخلاصه؛ فبأي حقٍّ يحجر اللورد على صديقين متجاورين أن يفضي كل منهما إلى الآخر بما في نفسه من المسائل العامة أو الخاصة , ويكاشفه بشعوره لا سِيَّمَا إذا كان مؤلمًا له , والشاعر الحكيم يقول: ولا بُدَّ من شكوى إلى ذي مروءة ... يواسيك أو يسليك أو يتوجع ألا إن منتهى الاستبداد، واحتقار حرية الأفراد أن يؤاخذ الناس بما يتناجون به في زوايا بيوتهم، وما يسرونه لأصدقائهم ومحبيهم. ثم إن اللورد يعلم - كما يعلم كل عاقل - أنه لا يخطر في بال الإنسان عندما يحدث صديقة أن كل ما يقوله سيحفظ ويدَّون وينشر بين الناس؛ ولذلك ينتقد بعض أهل الرأي على مستر بلنت ذكر مسائل وخواطر حدثه بها الشيخ محمد عبده , فنشرها وهي مما لا ينبغي نشره كتمني جمال الدين لو يقتل إسماعيل باشا , واستحسان محمد عبده لرأيه، على أن هذه المسألة أصغر من القالب الذي وضعها لورد كرومر فيه كما سَنُبَيِّنُهُ. بقي علينا , وقد بَيَّنَا اختلاف قولي اللورد في الأستاذ الإمام , وسبب هذا الاختلاف أن نبين الحق فيما لَمَزَهُ به , فنقول: إنه ينحصر بِحَسَب ما اطلعنا عليه من ترجمة الجرائد في ثلاث مسائلَ: (الأولى وصفه بأنه خيالي) قول اللورد في الشيخ: إنه كان مفطورًا على الخيال [4] . لا يتفق مع قوله فيه من الجهة العملية في الحكومة وغيرها أنه كان مصلحًا - ومن الجهة السياسية والاجتماعية أنه أنشأ في مصر مدرسةً فكريةً , وأن أتباعه إذا نجحوا وسوعدوا على ما اختطه لهم من المبادئ المعتدلة فيهم تصل البلاد إلى الاستقلال , وأنهم كالجيرونديين في أحزاب الثورة الفرنسية؛ أي: في الاعتدال والعقل , كما لا يتفق مع قول المستشار القضائي الذي وافقه هو عليه - ومن الجهة العلمية والشرعية أنه كان متضلعًا من علوم الشرع , مع ما به مِنْ سَعَةِ العقل واستنارة الذهن. ما هي الآراء الخيالية التي كان يبديها اللورد , فيتعذر عليها تنفيذها له؛ لأنها خيالية لا عملية؟ لعله يَعْنِي بها تلك اللائحة [5] التي اقترح بها عليه جعل التربية الدينية أساس التعليم في المدارس والكتاتيب , وبيَّنَ له فيها أنه لا يصلح حال البلاد المصرية وتكون بمأمن حتى من التعصب وفتنه إلاَّ بالتربية الدينية الصحيحة؛ لأن الدين الإسلامي رائد الألفة ورسول المحبة. إن كان يعني اللورد باتباع الأستاذ الإمام للخيال هذا الرأي الذي أوضحه أتم الإيضاح في تلك اللائحة , وكان يظهر على لسانه شيء منه في كل فرصة (كاقتراحه في مجلس شورى القوانين تعليم تاريخ الإسلام في المدارس التجهيزية) فلماذا يسيء الظن بدينه , وهل تكون هذه الغيرة على الدين لضعاف الإيمان أو للاأدريين؟ للورد أن يعد طلب التربية الدينية والتعليم الإسلامي أمرًا خياليًّا؛ لأن سياسته في ذلك مناقضة لاعتقاد الأستاذ الإمام , فإن أحدهما يرى أن الإسلام الحقيقيَّ هو منتهى الكمال البشري كما عرف ذلك عنه القريب والبعيد , وصرحت به المجلة الفرنسية [6] ، والآخر يمثل الإسلام بأنه آفة المدنية , ومقيد البشر بالقيود التي لا يرتقون ما لم يتركوها ويتركوه معها. ويمكن أن يقال: إن تقديمه تلك اللائحة لعميد إنكلترا وأمله بأن يقنعه بما فيها هو الأمر الخيالي , فإنه قد بالغ في تحسين الظَّنّ بهذا العميد وبدولته حتى أراد أن يستعين بهم على إصلاح شأن الإسلام، وتخيل أنه رُبَّما يصل إلى ذلك بالبرهان، على أننا نحن نعرف السبب في محاولته ذلك , وهو أنه لَمَّا كان منتهى غرضه من حياته الإصلاح الديني بالتربية والتعليم , كان يتوسل إلى ذلك بكل ما يخطر في البال أنه ممكن قائلاً: (إذا لم ينفع لا يَضُرّ) . إذا كانت تلك اللائحة هي دليل اللورد على أن الرجل كان خياليًّا , فلا يبعد أن يكون تقريره في إصلاح المحاكم الشرعية خياليًّا أيضًا في نظر اللورد؛ فإنْ لم يكن التقرير نفسه خياليًّا فإلحاح كاتبه على اللورد بالسماح بالمال من خزينة الحكومة لتنفيذه هو الخيالي , فإنه إنما سكت عن هذه المطالبة حين قال له اللورد: (إنني لا أعطي قرشًا واحدًا للمحاكم الآن) , كما أخبرني بذلك الأستاذ الإمام في وقته , وقال: إنه هكذا قال: لا أُعْطي , بضمير المتكلم , وهكذا يقول: فليقل لنا اللورد أي شيء في ذلك التقرير يُعَدُّ من الخياليات , أو من الأماني والأحلام التي هي غير ممكنة في ذاتها؟ ولكن يمكن لمن أساء الظن باللورد وحكومته أنْ يقول: إنهم لا ينفذون تقريرًا فيه إصلاحٌ لِمحاكمَ شرعيةٍ وراء إصلاحها إصلاح كبير للبيوت الإسلامية؛ لأن من سياسة إنكلترا موتَ الشرع في مصر وإبطالَ ثقة المسلمين به , حتى إن لورد كرومر الذي يُعَدّ من خيارهم يرى مطالبته بإصلاح المحاكم الشرعية من الخيالات والأوهام، أو من الأماني والأحلام، إذا قال من يسيئون الظن باللورد وحكومته مثل هذا القول؛ أفلا يكون رمي الشيخ محمد عبده بأنه خيالي رميًا للورد وحكومته بما هو شر من ذلك؟ نَعَمْ , إنه كان للأستاذ الإمام آمال في حسن مستقبل الإسلام قد يعدها حتى بعض المسلمين من الأماني والأحلام، فإن منها أنه سينتشر في أوربا نفسها في يوم من الأيام، ولكن هذه الآمال مما لا أظن أن لورد كرومر قد علم بها؛ إذ لو علم بها ظن أو خشي أن يكون الشيخ (لا أدريًّا) , فإنها آمال مبنية على الإيمان بصدق وُعُود القرآن أولاً، وعلى فلسفة دقيقة في طبيعة الأديان وطبائع البشر ثانيًا، فهو قد كان يقول على ر

القرآن والعلم ـ 1

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ القرآن والعلم (1) تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز اشتبه بعض علماء الإفرنج من المستشرقين وغيرهم الباحثين في الإسلام في آيات كثيرة من القرآن الشريف لم يفهموا معناها الصحيح بسبب ما وجدوه في بعض كتبنا من التفاسير السخيفة والآراء السقيمة. وقد اتبعهم في ذلك دعاة المسيحيين متخذين بعضَ آراء هؤلاء المستشرقين ذريعةً للطعن في الكتاب العزيز ناسِبِينَ إليه الجهلَ والخطأَ؛ لتشكيك عوامّ المسلمين في دينهم القويم. وقد سبق لي أن تكلمت على كثير من هذه الشبهات في (مقالات الدين في نظر العقل الصحيح) بما يشفي العِلّة، ويروي الغُلّة، ولكن فاتني أن أستقصيها جميعًا إذ ذاك؛ فلذا رأيت الآن أن أستدرك ما فاتني خِدمةً للإسلام , وتذكيرًا للعلماء كي ينظروا في هذا الدين , ويقدروه قدره. فإنه ما نظر فيه عالم محقق من أي وجهة كانت إلاَّ وجد الحق والصواب عمادًا لجميع مبانيه، والعلم والعقل أساسًا لكافة عقائده وأوامره ونواهيه، وقد رأيت أن أذكر الآية أولاً، ثم أعلق عليها بما يفتح الله به عليَّ حتى يتضح الدليل، وتستبين السبيل، فأقول وبالله أستعين: المسألة الأولى (الحجر) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ المُرْسَلِينَ * وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ * وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ} (الحجر: 80-82) . اعلم أنه يوجد بين العقبة والبحر الميت مدينة شهيرة عند السائحين تدعى باللغة اليونانية (بترَا) أي: الصخرة , وهي المسماة في العهد القديم بمدينة (سالع) كما في سفر الملوك الثاني (14: 7) وفي كتاب أشعيا (16: 1) وَكِلاَ الاسْمَيْنِ: (بترا) و (سالع) بمعنى واحد , لكنهما بلغتين مختلفتين. يحيط بهذه المدينة جبال وعرة , أعلاها جبل هور المذكور في سفر العدد (33: 38) ولذلك كان اليهود يسمون أهلها الأولين بالهوريين , ومعناه: سكان الكهوف؛ لأن بيوتهم منحوتة في الصخور , ومنظر هذه المدينة من أعجب المناظر. فلما رأى بعض سياح الإفرنج هذه المدينة، وسمع ذكر (الحجر) في القرآن الشريف ظن أن هذه الكلمة ترجمة لفظ (بترا) اليوناني لتوهمه أنها بفتح الحاء والجيم (الحَجَر) وبنى على ذلك أن (الحجر) في القرآن هو (سالع) في العهد القديم. ولَمَّا كانت مدينة سالع هذه معروف عنها ما ينافي أن أهلها أهلكهم الله بالصَّيْحَة , وما يدل على أنها كانت عامرةً بالسكان إلى ما بعد الميلاد بقليل أخذوا يطعنون على القرآن الشريف , وينسبون إليه الخطأَ والجهلَ بالتاريخ , والله يعلم أنهم لَكَاذِبون؛ إذ لولا تسرعُ هؤلاء الحَمْقَى وجهلهم لعلموا أن الحِجْر بكسر الحاء وسكون الجيم غير بترا أو سالع , وأن إحداهما تبعد عن الأخرى بُعْدًا عظيمًا , فإن الحجر قرية صغيرة على خط سكة الحديد الحجازية الآن إلى جنوب دُومَة الجَنْدَل، وتنزل بها حُجاج الشام، وتسمى بمدينة صالح وهو النبي الذي أرسله الله إلى أهلها (ثمود) , ولا تزال إلى الآن آثار مساكنهم التي كانوا ينحتونها في جبالها المسماة: (أثالب) كما قال في دائرة المعارف العربية , ويمكن لكل أحد أن يذهب إليها وإلى سالع لِيَرَى بِعَيْنَيْ رأسه أنهما مدينتان متباعدتان في موضعين مختلفين , وأن المسافة بينهما تقارب ما بين الإسكندرية والعقبة , وأن الحِجْر في الجنوب الشرقي لسالع. ومعنى الحِجْر: المكان الذي حوله حجارة , وهو غير معنى (سالع) أي: الصخرة. وما يزعمه بعضهم أن جميع ما نراه فيها من البيوت كانت قبورًا لا مساكنَ لم يَقُمْ دليلٌ على صحته , كذاك لا يبعد أن بعضها كان كذلك , والقرآن لم يقُلْ إن جميعها كانت مساكِنَ , ولا أن جميع مساكنهم كانت منحوتةً في الجبال. بل قال: إن بعض المساكن كانت تبنى على الأرض , والبعض الآخر ينحت في الجبال كما في سورة الأعراف: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً} (الأعراف: 74) إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} (الأعراف: 78) فكانت لهم قبورًا بعد إهلاكهم , وإن لم تكن جميعها كذلك في أول أمْرِهِم. ومن ذلك تعلم خطأَ ما قاله المستشرق الشهير مرجليوث في كتابه المسمى (محمد) في هذه المسألة. * * * المسألة الثانية (الإسراء وتاريخ بيت المقدس) قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1) . المسجد الحرام هو: الحَرَم المَكِّيُّ والمسجد الأقصى هو: بيت المقدس. وهذا البيت كان خَرَّبَهُ تيطس الروماني سَنَةَ سبعينَ للميلاد , وأحرقه بالنار , فلم يكن له وجود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ آثارًا وأطلالاً؛ فكيف يقول القرآن الشريف: إن النبي أسرى به إليه؟ الجواب [1] : المسجد في اللغة: مكان السجود والعبادة , ولا يُشترط فيه أن يكون محاطًا بالبناء , ولا أن تكون سُقفه مرفوعةً على أعمدة أو نحو ذلك مما اعتاده الناس الآن , وما كانت مساجد العرب في مبدأ الإسلام إلاَّ أمكنةً بسيطةً خاليةً من الأبنية الضخمةِ والزخرف والزينة , وكل مكان يعبدون الله فيه يسمونه مسجدًا لهم , بل سَمَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جميعَ الأرض مسجدًا لِصِحَّةِ العبادة في أي جزء منها؛ فقال: (وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورَا) فلا يلزم من قول القرآن: إن النبي أُسْرِيَ به إلى المسجد الأقصى. أنه كان إذ ذاك مبنيًّا مَشِيدًا , كما كان قَبْلَ تخريب الرومان له. ولذلك كان العرب يذهبون إلى أورشليم وغيرها من بلاد الشام , ويعرفون ما كان عليه المسجد الأقصى من الخراب , ومع ذلك لم يسمع من أحد منهم انتقاد على عبارة القرآن الشريف هذه , أو تردد في فهمها , أو تكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم فيها؛ وغاية ما سُمِعَ منهم تكذيبه في ذهابه إلى هذا المسجد بهذه السرعة العجيبة , لا في وجود ما يسمى عندهم بالمسجد الأقصى , وإنْ كان خربًا. على أن الظاهر أن القرآن الشريف يريد بالمسجد الأقصى بلدَةَ: (أورشليم) , وبالمسجد الحرام: (مكة) أي: إنَّ النبي سار ليلاً من مكة إلى أورشليم؛ لأن المسجد الحرام ما كان بيتًا للنبي صلى الله عليه وسلم ينام فيه , بل كان نائِمًا في بيت أم هانئ أحد بيوت مكة , كما جاء في الروايات الواردة في هذه المسألة. فالقرآن أطلق هنا المسجد الحرام على مكة , وأطلق المسجدَ الأقصى على أورشليم من باب تسمية الكل بالجزء الذي هو أعظم وأشهر شيء فيه. ومثل هذا الإطلاق شائع في العربية وغيرها , وكثير في القرآن الشريف؛ ولذلك وردَ تسمية الحرم كله بالبيت العتيق كما في قوله تعالى في الذبائح: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ} (الحج: 33) , مع أن الذبح لا يعمل في نفس البيت , وإنما يعمل في (مِنى) بالقرب منه. أمّا ما وردَ في بعض الروايات من أن النبي صلى الله عليه وسلم ربط زمام البُراق في إحدى حلقات بيت المقدس , فالأقرب عندي أن هذه الروايات وأمثالها هي مما وضعه الواضعون بعد تعمير بلاد المسلمين لهذا البيت؛ أي: بعد فتح عمر لبلاد الشام وإقامة مسجد مكان الهيكل (بيت المقدس) وقد غاب عن هؤلاء الواضعين هذه الحقائق كما هو شأن الكذابين , فلم يعرفوا أن ما يشاهدونه في زمنهم لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم [2] . واعلم أن القرآن الشريف قد ذكر تاريخ بيت المقدس , وما لحقه من التخريب؛ فلا يُقال: إننا فيما قلنا ملفقون أو إننا لأجْل دِفاعِنا عن القرآن ننسب إليه ما لم يعرفْه , ولم يخطر على بال مؤلفه كما يقولون. بل ورد فيه في نفس هذه السورة (الإسراء) بعد الآية السابقة قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا} (الإسراء: 4-5) هم بُخْتَنَصَّرُ وقومه الكلدانيون , {أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ} (الإسراء: 5) اليهودية؛ أي: جالوا، وترددوا فيها للنهب والقتل والسلب والسبي والتدمير , {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} (الإسراء: 5) {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} (الإسراء: 6) بأن أرسلنا عليهم كورش ملك فارس , فدَمَّر مملكتهم , وفتح بابل , وأنقذ اليهود من أسرهم , وأكرم مثواهم , وأحسن إليهم , وردهم إلى بلادهم؛ فصاروا فيها أعزاء , وسادوا على أعدائهم الذين تركهم الكلدانيون فيها تحت رعايتهم , فعاد إلى اليهود شيء كبير من مجدهم السابق , ثم عَمَّروا بيت المقدس الذي كان خَرَّبَه بختنصر وأحرقه , وصاروا يقيمون شعائر دينهم فيه كما كانوا يفعلون من قبلُ {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} (الإسراء: 6) فرجعوا من الأسر بأشياء كثيرة من الذهب والفضة، وبأمتعة، وبهائم، وتحف، وغيرها كما في سفر عزرا (1: 4 -11) {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} (الإسراء: 7) . العقوبة الثانية {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا} (الإسراء: 5) {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ} (الإسراء: 7) أي: بيت المقدس {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} (الإسراء: 7) فدخله تيطس الروماني بجيشه , ونهبه وأحرقَ الهيكل ودمَّرَه تدميرًا كما فعل الكلدانيون مِن قبلُ , وتشتت اليهودُ بعد ذلك في العالم ولم تعد إليهم الدولة إلى الآن. وإنما قال القرآن: {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الإسراء: 7) مع أن الداخلين المدمرين للمسجد في المرة الثانية غيرُ الذين دمروه في المرة الأولى؛ لأن الجامع بينهم شيء واحد , وهو كونهم جميعًا عبادًا لله , فإنه قال في أول القصة: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا} (الإسراء: 5) بدون ذِكْر جنسهم. وهذا على حد قولك: (دخل الأوربيون الجامع الأزهر مرة ثم دخلوه مرة أخرى) مع أن الداخلين في المرة الثانية قد يكونون إنكليزًا وفي الأولى فرنساويين ولاشتراكهم في الوصف (وهو كونهم أوربيين) كان هذا التعبير صحيحًا , ومِثْل ذلك قوله تعالى مخاطبًا ليهود العرب: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة: 55) مع أن ذلك لم يحصل لهم , وإنما حصل لبني إسرائيل في زمن موسى ولاشتراك يهود العرب معهم في الدِّين جاز هذا التعبير , وهو شائع في جميع اللغات. فمما تقدم تعلم أن القرآن الشريف ذَكَرَ أن المسجد الأقصى خُرِّب مرتيْنِ , وذكر لليهود عقوبتين، الأولى: ما أوقعه الكلدانيون بهم , والثانية: ما فعله الرومانيون. أما الواقعة الأولى فقد تَمَّتْ في سنة 587 قبل الميلاد , وبها زال استقلال اليهود , وصاروا خاضعين للكلدانين , ثم الفرس، ثم اليونان , ثم الرومان. وأما الثانية؛ فقد تمت في سنة سبعين بعد

السنن والأحاديث النبوية

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ السنن والأحاديث النبوية (بحث النسخ) قال حضرة الدكتور: (النسخ هو إبطالُ حُكْمٍ لبدل أو لغير بدل) . وأقول: ما ذكره من تعريف النسخ غير كافٍ ولا وافٍ؛ فإنه غير جامعٍ , ولا مانعٍ , ولا نطيل بالمناقشة فيما يتعلق بالعبارة؛ إذ مراده بذلك الكلام على النسخ المعروف عند المسلمين , وهو صريح في اختياره النسخ بمعناه عند المتأخرين - أمّا هو في عُرْف السَّلَف , فهو زيادة على ما ذكره يعم رفع دِلالة العامّ , والمطلق , والظاهر؛ إمّا بتخصيص أو تقييد أو حمل على مقيد وتفسيره وتبيينه. قال شيخ الإسلام ابن القيم - رحمه الله -: حتى إنهم ليسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا؛ لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد؛ فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ , بل بأمر خارج عنه , وبذلك تزول إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح الحادث المتأخر - انتهى ملخصًا - وهل الإنساء والنسخ شيء واحد أم هما شيئان؟ ذهب بعض السلف إلى الأول , والظاهر أنه أَعَمُّ من النسخ , أمّا على قول مَن قال: إن معناه التأخير والإرجاء. فهو قبل نزوله وأوان ظهوره للتكليف لا يوصف بنسخ ولا عدمه. واعلم أيها القارئ أنه يتفرع على النسخ بمعناه عند الخلف خلاف بينهم , هل يجوز نسخه بالآحاد الصحيحة , أم ببعضها دون البعض؟ أما السلف: فلا نعلم عنهم خلافًا في جوازه. قال حضرة الدكتور: فالنسخ عندنا لا يقع إلا في الأحكام (الأوامر والنواهي) ولا يقع في القصص أو القضايا العقلية؛ إذ لا معنى لوقوعه في ذلك. وأقول: إذا سلمنا أن معنى النسخ هو ما ذكره المتأخرون حيثُ قالوا في تعريفه: (هو أن يدل على خلاف حكم شرعي دليل شرعي متراخٍ) فلا شَكَّ أن المنسوخ لا يجوز أن يكون من الإخبار عن الأمور الماضية أو الواقعة في الحال أو الاستقبال؛ مما يؤدي نسخه إلى كذب أو جهل - بخلاف الإخبار عن حل الشيء أو حرمته ونحوها؛ فإنه يجوز النسخ في هذا الأخير , وكذلك القضايا العقلية لا يجوز النسخ فيها لإفضاء ذلك إلى الجهل , وكذلك إذا قَيَّدَ نصًا بتأييد أو توقيت فلا يجوز نسخه لاستحالة العبث والجهالة. أما إذا فسر النسخ بمعناه عند السلف فلا مانع من وقوعه في كل ما ذكرناه؛ لأنهم لم يشترطوا في الناسخ منافاة المنسوخ. ودونك ما ذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره عنهم بعد قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) قال ابن أبي طلحة , عن ابن عباس رضي الله عنه {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106) قال ابن جريج , عن مجاهد: ما نمحو من آية , وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106) . قال: نثبت خطها ونؤيد حكمها. حدَّث به عن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك , وقال الضحاك: ما ننسخ من آية , ما ننسك. وقال عطاء: أما ما ننسخ , فما نترك من القرآن وقال ابن أبي حاتم: يعني ترك , فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وقال السُّدِّيّ: ما ننسخ من آية نسخها: قبضها. قال ابن أبي حاتم: يَعْنِي قبضها رفعها مثل قوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيَا فارجموهما ألبتة) وقوله: (لو كان لابن آدم واديانِ من ذهب لاَبْتَغَى لهما ثالثًا) وذكر عن ابن جرير ما مؤداه اختيار مذهب المتأخرين في تفسير معنى النسخ , وأنت ترى بُعْدًا بين ما فهموه وما فهمه المتأخرون إلا ما نُقل عن أصحاب عبد الله بن مسعود، لكنه محمول على ما هو معروف عن السلف من أنهم كثيرًا ما يفسرون الشيء ببعض معانيه نظرًا لِحال السامع تارةً , ولما يقتضيه المقام تارةً , ولظهوره في باقي معانيه الأخرى , ولم يكونوا ليحدوا الأشياء بالحدود والتعاريف التي اصطلح عليها المتأخرون , فإذا كان النسخ عندهم مفسرًا بالرفع والقبض الذي هو أعمُّ عند المتأخرين فالله جَلَّ شَأْنُهُ ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم الأحكام في جميع أنواع الموضوعات والقصص والأخبار للإذعان والاعتبار , وردًّا على المعاندين الكفار , فإذا قامت الحُجّة , وحصل لرسوله صلى الله علية وسلم الفَلْج وعليهم الغَلَبَة , فالعقل لا يوجب إبقاء الحُجة مسطورةً مكتوبةً , كما أنه لا يجب ولا يلزم حبس وإبقاء الجيش العظيم على البلد بعد فتحها , وكما أن الأحكام تختلف باختلاف حال المكلفين، كذلك التعاليم الأخلاقية ونحوها تختلف باختلاف أحوالهم أيضًا - فإذا أنزلَ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ما شاء من أخبار أو غيرها لمقتض ولمصلحة , ثم رفعها على ما لها من الإجلال فائزة بالنصر , وقهر الأعداء غير منقوضة بريب أو تكذيب لا سِيَّمَا إذا أحل وأنزل بدلها ما هو أنسب وخير منها لنا , فيا تُرَى أي جهل وعبث يلزم؟! فسبحان ربك رب العزَّة عما يصفون. ثم قال حضرة الدكتور: فلسنا ممن يسلم القول بنسخ لفظ بلفظ كما يتوهمون أو بنسخ لفظ وإبقاء حكمه كما يزعمون. واستدل على ذلك باستلزامه الجهل أو العبث. وأقول: هذا الاستبعاد من حضرة الدكتور منشؤه عدم الإمعان في معاني القرآن؛ لأن الله جَلَّ شَأْنُهُ وعظم سلطانه ذو الكمال وخالق الكمال النسبي , وكلتا يديه يمين فهو يعبر لرسوله صلى الله عليه وسلم عن شئونه بما شاء مما هو كافٍ في إعجاز مخلوقه القاصر والمعاند الكافر , ولا محذور في أن يرفع عبارة (قد اعتبروا) بمدلولها ثم يكررها ثانيًا لمقتض في قالب عبارة وألفاظ أكمل من الأولى , أو أنسب بالحال منها فإنه ما من كمال نراه إلا وعند الله أكمل منه , والكل بالنسبة إلينا معجز وكمال كما قال تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} (البقرة: 106) . ومما يوضح ذلك ويقربه ما هو في المُحْكَم بين دَفَّتَيِ المُصْحَفِ مِن ذِكْر القصة الواحدة في مواضعَ متعددةٍ بألفاظٍ وعبارات متغايرة لفظًا متحدةً مَعْنًى , وقد تراها بزيادة ونفص , وما ذلك إلا لاختلاف ما يقتضيه الحال لسوقها في الاستشهاد بها ولاختلاف أحوال المتلقين عن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن منهم من يميل إلى التطويل وحفظه , ومنهم من يميل إلى الاقتصار على الاختصار إما لعدم الفرص أو غير ذلك - فإذا حسن ذكر القصة الواحدة بعبارات وألفاظ متغايرة لفظًا مع بقاء الكل فجوازه كذلك بعد رفع الأول ونسخه أولى وأحرى , وهذا ظاهر لا غُبَارَ عليه - على أنه قد يُقَال: لم لا تسلم وتحمل ذلك على ما نزل قبل التحدي بالإعجاز؟ وإذا رفع بالنسخ أو الإنساء ما هو كذا فقد قدمنا الحكمة فيه وسببه , وإذا بقي محفوظًا لأفراد لا يصح أن يثبت بروايتهم آيات قرآنية , فما ذلك إلا ليتحقق صدق قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) الآية , وليعرف أن البدل خير من المبدل فيشكروا الله على ما أعطاهم , وانظروا إلى ما روي في الصحيح: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثًا , ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب , ويتوب الله على من تاب) . فإنه كان قرآنًا يُتْلى؛ أي: ثم رُفِعَ وأُنْسِيَ لفظه , وإنما بقي محفوظًا لدى من لا يثبت بروايته آيات قرآنية؛ والعلة التي أدركناها في ذلك ما ذكرناه , فإذا تتبعنا المصحف وجدنا ما هو أولى وأظهر مثل قوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ} (الفجر: 20) الآية - أما ما يذكر في آية (الشيخ والشيخة) ، إلى آخِرِهِ كما في الصحيح , وأن ذلك كان قرآنًا يُتْلَى , ثم نُسِخَ لفظه كذا قالوا فلا يبعد أن يُقالَ: إن هذا مما نُسخ لفظُه وحكمه؛ لأن الرجمَ أولُ ما نزل في أول الإسلام , ثم نسخ بنزول حَدِّ الزاني , وحينئذ قال صلى الله عليه وسلم - في حديث عُبَادة رضي الله عنه: (خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيّب بالثيّب جلد مائة والرجم) منسوخ - ثم شرع الرجم مرةً أخرى؛ لأنه رجم ماعزًا والغامدية بعد أن قال ذلك. انظر ذلك في زاد المعاد لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله. ولنعد إلى ما كُنّا بصدده , فنقول: إذا لم يشترط في النسخ المنافاة والمناقضة بين الناسخ والمنسوخ , وهو يدل عليه كلام عامة السلف , وهو ظاهر القرآن حيث جعل متعلق النسخ والإنساء - الآية - ولم يخص بذلك حكمها وإذا جاز الإنساء , فالنسخ كذلك قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: 6، 7) فلا عيبَ ولا نَقْصَ في نسخ ما شاء , وسواءٌ في ذلك رفع لفظ بلفظ ورفع لفظ وإبقاء حكمه؛ لِمَا تقدم ولأنه إذا تفضل بالبدل فهو لا شك يبدله بما هو خير منه؛ لأنه إذا وعد بإعطاء أحد خيرين فكرمه وكرامته لرسوله صلى الله عليه وسلم تقتضي أن يمتن عليه صلى الله عليه وسلم بأفضلها وأكملها؛ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (الضحى: 5) , أو يُقالُ: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) أي؛ المنسية , والله أعلم بمراده. فإن قيل: ما الحكمة في رفْع ألفاظ وإبدالها بألفاظ أو رفع لفظ بعد نزوله؟ قلتُ: قد بيّنا ذلك فيما تقدم , ولكن نحن مهما جهدنا فلا نستطيع أن نعلل بأصح وأحكم مما أجاب الله به منكري النسخ بقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) أيْ: لَمّا كان المنسوخ قبل نسخه مناسبًا للمصلحة ومطابقًا للحكمة , فإذا نسخناه لمقتض فإنما هو لنأتي بخير منه؛ أي: أكثر مناسبةً وأشد مطابقةً للحكمة. أما ما استدل به حضرة الدكتور، وعلّل به جواز وقوع النسخ حيث قال: والسبب في وقوعه اختلاف حال المكلفين باختلاف الزمان والمكان , فما يلائم البشر في زمن طفوليتهم قد لا يلائمهم في زمن كهولتهم أو شيخوختهم , ومَثّل لذلك باختلاف حالة الإنسان بالصحة والمرض - فهذا التعليل للنسخ إنما أخذه حضرته عن المتكلمين الذين ادَّعَوْا لأنفسهم الكمالَ فوقَ كلِّ أحدٍ حتى إنهم قد يدعون لأنفسهم أنهم يعرفون من الدين ما لم يعرفه السلف , وأنهم قد يصلحون منه ما يزعم بعضهم أنه ناقصٌ منه , وما درى المساكين أن النقص وصفهم اللازم الذاتي , ولله دَرُّ الشاعر: وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم ولو كان لا يكون النسخ في الشرائع إلا إذا صار المنسوخ بمنزلة ما لا يلائم حالة البشر , بحيث يكون نسبته إليهم كنسبة ما لا يناسب حالة المريض لَكان ذلك - أي النسخ - لا يكون إلا بعد إحراجهم غايةَ الإحراج , بحيث يكونون قد عانوا ما قرب أن يكون خرج عن حدّ استطاعتهم , وهذا لا يجوز مِن واسع الرحمةِ , فكيف يستقيم قول حضرة الدكتور؟ قدمنا ذلك لِنعلمَ أن النسخ لِمقتض أو لحكمة لا عيبَ فيه عند العقل , إلخ؛ لأنه يفهم منه أن إبقاء التكليف وعدم النسخ والحالة هذه جائز عقلاً وشرعًا , والذي يُقال: إن تأخير النسخ إلى تلك الحالة ممتنع عقلاً وشرعًا؛ لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) والنسخ شرعًا هو الذي دلّ القرآن دلالة الكريم عليه , وهو تبديل ذي الخير مما أوحي إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما هو أكثر خيرًا منه - وهو من باب التوسيع فيما كثرت فوائده , وعمّت عوائده , وفيه تنبيه هذه الأمة لِفتح أبواب المعارف والرقي إلى مدارج الكمال والاستعداد لِكل ما عسى أن ينجمَ من خير يقدم أو بلاء يهجم. فما ذكره حضرة الدكتور من الحكمة في النسخ ليس هو حكمته؛ نعم هو يقرب ويضارع مَا نَصَبَهُ الشارع مسوغًا للترخيص في المحكم؛ لأنه ألزمَ عِباده بامتثال ما شرَعَه محكمًا بشروط وأسباب ما لم تع

الجامعة المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامعة المصرية وهبة حسن بك زايد نام مشروع هذه المدرسة زمنًا طويلاً , وشغل الناس عنها ما أصيبت به البلاد من العسرة المالية. ثم اختير للجنة التأسيس الأمير أحمد فؤاد باشا رئيسًا عاملاً فجد واجتهد مع اللجنة، فهبّ المشروع من نومه حتى تقرر أن تفتح أبواب الجامعة في أواخر هذا العام لتدريس آداب اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية , وتاريخ مدنية الإسلام. وكان إحياء هذا العمل بأمرين لولاهما ما تيسر الشروع فيه: (أحدهما) أمر الأمير بأن يخصص للجامعة خمسة آلاف جنيهٍ كلَّ سنةٍ مِن الأوقاف الخيرية. (ثانيهما) تبرع حسن بك زايد من أهل الثراء في مديرية المنوفية بوقف خمسين فدانًا وكسور من أطيانه الجيدة على الجامعة. وقد احتفل في السادس عَشَرَ من هذا الشهر بتلاوة الوقفية في داره ببلده , فأجاب الدعوة إلى هذا الاحتفال كثير من الوجهاء وأصحاب الصحف العربية والإفرنجية , يتقدمهم الأمير أحمد فؤاد وأعضاء لجنة الجامعة. وبعد أن افتتحت الحفلة بتلاوة آيات من القرآن الكريم تلا حسين رشدي باشا مدير الأوقاف خُطْبة للأمير فؤاد باشا رئيس لجنة الجامعة بالنيابة عنه , وهي تتضمن الثناء على حسن بك زايد , وبيان أن الجامعة صارت قادرة بعد هبته هذه على الظهور في عالم الوجود. ثم تلا حفني بك ناصف ناموس لجنة الجامعة (سكرتيرها) الوقفية. وقام من بعده الدكتور علوي باشا فألقى خطبة في تقدم الأمم بالعلم والحثّ على التبرع للجامعة. ولا غَرْوَ؛ فقد كان الدكتور ممن اكتتب لها بألف جنيهٍ , فهو ما قال إلا وقد فعل. ثم قام من بعده قاسم بك أمين نائب رئيس اللجنة العامل , وألقى خطبة نفيسة أودعها من الفوائد الاجتماعية ما يقتضيه المقام، وما يناسب الحال العامة بمصر في هذه الأيام، ولعلها آخِر ما دونه بقلمه من المنشآت الجميلة , فقد وافته منيته بعدها بأيام معدودات، وإننا ننشرها لِمَا فيها من الفائدة وهذا نصها: أيها السادة , في هذه الأيام [1] التي كثرت فيها الاكتتابات للجمعيات الخيرية والمكاتب والمستشفيات وغير ذلك , ولا يمد يديه لمساعدتها , وتحمل جزء من مغارمها إلا عدد قليل من سكان العاصمة , أرى أن عمد البلاد , وأعيان الأقاليم هؤلاء الذين يصحّ أن أسميهم منكوبي المشروعات الخيرية هم أحسن أبناء وطننا، ويستحقون ثناء الأُمّة وإعجابها. وفي الحقيقة أن كل مشروع قام به الأفراد في بلادنا كان الفضل في نجاحه راجعًا على الأكثر إلى سكان الأرياف؛ فإنهم وُهبوا من الحياء الطبيعي ما يجعلهم يخجلون من رفض أي مساعدة تُطْلَب منهم , وعندهم من كرم الأخلاق ما يدفعهم إلى بذل المال حتى إذا لم يكن في حيازتهم لتعضيد الأعمال النافعة. طبيعة شريفة، وكرم جميل، وسهولة أخلاق محبوبة , ولكن أستسمحكم إذا قلتُ: إن هذه الصفات كانت تفيد أكثر مما أفادت لو كانت الإدارة التي تديرها أكثر اعتدالاً في حركتها , وأكثر تمييزًا في تأدية وظيفتها , وإذا أردت التوسع أقول: إن أهل البِرّ في بلادنا على العموم لا يعرفون كيف يصرفون أموالهم. أيها السادة. إن عمل الخير حسن على كل حال , ولكن أحسن منه وَضْع الخير في محله. لو كان المحسنون يوجهون إرادتهم إلى إحياء أُمّتهم وتعظيم وطنهم أكثر من اهتمامهم بشراء الزهور , وتشييد القبور وإضاءة الأضرحة - لو كانوا يجودون للأعمال بنسبة الخير المنتظر منها لكانت الجامعة المصرية اليوم كأمثالها في البلاد الأخرى , أغنى جمعية في هذا القطر. ولكنها أفقرها جميعًا. من التبرعات الجسيمة التي تحصل سنويًّا في هذا القطر على شكل هِبَة أو وَقْف من كل هذا المال الذي يصرف في وجوه قليلة النفع أو غير نافعة - كان نصيب الجامعة شيئًا قليلاً لا يُذْكر. ولولا أنَّ عناية الجناب الخديوي أدركتها ومنحتها مرتبًا سنويًّا قدره خمسة آلاف جنيهٍ لَرَأَيْنَا في هذا العصر - الذي تعده الجرائد والخطباء والشعراء مبدأ النهضة الوطنية، وتتغنى فيه بمدح الشعور الوطني على نغمة تطرب السامعين وتفتح قلوبهم وجيوبهم أيضاً - في هذا العصر الذي نريد أن نجعله حدًّا فاصلاً بين ماضينا ومستقبلنا , ونطلب أن تتحقق فيه أمانينا العزيزة - في هذا العصر لولا أن أدركتها هذه العناية العظيمة لرأينا شيئًا محزنًا مخجلاً , وهو أن أنفع مشروع ظهر في مصر وُلِدَ فيها مَيِّتًا. ولكي يكون الاعتراف بالحق تامًّا لا أستطيع أن أمنع نفسي من التصريح بشيء يجتهد دائمًا دولة الأمير الذي يرأس هذه الحفلة أن يخفيه لشدة تواضعه , وهو أنه من اليوم الذي قَبِلَ فيه أن يشرف لجنة إدارة الجامعة برئاسته لها , وصار في مقدمة العاملين فيها تحققنا أن النجاح صار مضمونًا. أيها السادة , إن الوطنية الصحيحة لا تتكلم كثيرًا , ولا تعلن عن نفسها. عاش آباؤنا وعملوا على قدر طاقتهم , وخدموا بلادهم وحاربوا الأمم , وفتحوا البلاد , ولم نسمع أنهم كانوا يفتخرون بحب وطنهم فيحسن بنا أن نقتدي بهم , ونهجرَ القول ونعتمدَ على العمل. إذا أردنا أن ننفع بلادنا ينبغي علينا قبل كل شيء أن ننظر إلى أنفسنا , ونعرف قيمتنا , ونزن قوتنا , وندرس أسباب تأخرنا , ثم نسعى ونعمل لتحسين حالنا. يجب علينا أن نفهم أن مسألتنا الاجتماعية ليست شيئًا وُجِد بالصدفة أو يتغير بمعجزة , بل إنها كسائر القضايا العلمية مسألة تحليل وتركيب , وإن لتكوين ونمو الجمعيات الإنسانية أسبابًا عديدةً ترتبط بالدين والشرائع والأخلاق والإقليم والجنس واللغة وطرق التربية؛ فتغيير الحال الاجتماعية إنما يكون بتغيير الأسباب التي اشتركت في تكوينها. فكل ما يكتب ويقال في هذا الموضوع هو خير مبارك منتج، وما عداه فهو تعب ضائع. أيها السادة: إن من أهم أسباب انحطاط الأمم وارتقائها طرق التعليم والتربية, وإذا نظرنا إلى ما يجري عندنا وجدنا أن التعليم الموجود الآن لا يصلح إلا لإعداد موظفين أو أصحاب فنّ , يحترفون به للقيام بحاجات الحياة التي لا يستغنى عنها كالطب والهندسة والمحاماة , وهذا التعليم يوزع في مدارسنا على الطلبة بمقدار معلوم , لا يزيد عن الغاية التي وُضِع لأجلها. تلك هي خطة الحكومة في التعليم وقد حذا حذوها أصحاب المدارس الخصوصية , والحكومة تعترف بأن هذا القدر من التعليم غيرُ كافٍ , ولكنها اضطرت إلى عدم التوسع فيه للأسباب التي شرحتها في تقاريرها العديدة , وأهمها كما تعلمون هي مسألة المال. وفي الحقيقة , أنه لا توجد حكومة في العالم تستطيع أن تتولى بنفسها أمر التعليم العام بجميع فروعه ودرجاته , وإذا نظرنا إلى ما يجري في البلاد المتمدنة نجد أن القسم الأعظم من التعليم في يد جمعيات علمية هي المؤسسة والمديرة لنظامه , وأن عمل الحكومة فيها محصور في تعضيدها ومساعدتها على قدر الإمكان. هذا هو الذي حمل الحكومة المصرية على استنهاض همة الأهالي لنشر التعليم الابتدائي , وهذا ما دعانا أيضًا إلى أن نطلب من أبناء وطننا أن يفكروا في نشر التعليم العالي , وأن يبذلوا ما في وسعهم في سبيله ليكمل نظام التعليم في بلادنا , ويصبح وافيًا بجميع حاجات الأمة. أيها السادة , نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب العلم في مصر وسيلة لمزاولة صناعة , أو للالتحاق بوظيفة؛ بل نطمع أن نرى بين أبناء وطننا طائفةً تطلب العلوم حُبًّا للحقيقة وشوقًا إلى اكتشاف المجهول. فئة يكون مبدؤها التعلم للتعلم. نوَدُّ أن نرى من أبناء مصر كما نرى في البلاد الأخرى عالمًا يحيط بكل العلم الإنساني , واختصاصيًّا أتقن فرعًا مخصوصًا من العلم , ووقف نفسه على الإلمام بجميع ما يتعلق به , وفليسوفًا اكتسب شهرة عامة وكاتبا ذاع صيته في العالم، وعالما يرجع إليه في حل المشكلات، ويحتج برأيه. أمثال هؤلاء هم قادة الرأي العام عند الأمم الأخرى والمرشدون إلى طرق نجاحها والمديرون لِحركة تقدمها , فإذا عدمتهم أمة حلّ محلهم الناصحون الجاهلون والمرشدون الدّجّالون. أيها السادة , إذا نظرنا إلى طائفة المتعلمين في مصر , وهم متخرجو المدارس نجد أنهم يعملون على مبدأ (اكسب كثيرًا واتعب قليلاً) ولا نجد فيهم العالم المحب لعلمه أو فنه , والعاشق الذي تحتل شهوة العمل في قلبه , وتتمدن فيه وتملؤه برمته , ولا تقبل منافسًا أو منازعًا أو شريكًا أو ضيفًا بجانبها. وإنما نجد أفرادًا قليلين جدًّا يصرفون وقتًا قصيرًا من حين إلى حين لتكميل معارفهم , ولكنهم مجردون عن تلك الحمية تلك النار التي تشعل القلب والشعور , والتي بدونها لا تبحث النفس عن تجديد العمل , ولا تطلب الارتقاء إلى المراتب السامية. ألا يظهر لكم مثلي أن الارتقاء في الإنسان تابع على الخصوص لإحساسه , وأن أكثر الناس استعدادًا للكمال هم أصحاب الإحساس الذين تهتز أعصابهم المتوترة بملامسة الحوادث , وتبلغ منهم الانفعالات النفسية مبلغًا عظيمًا , فيظهر أثرها فيهم بكثرة وشدة. أولئك هم السعداء الأشقياء الذين يتمتعون ويتألمون أولئك هم السابقون في ميدان الحياة , تراهم في الصف الأول مخاطرين بأنفسهم يتنافسون في مصادمة كل صعوبة. من بينهم تنتخب القدرة الحكيمة خيرهم وتوحي إليه أسرارها , فيصير شاعرًا بليغًا , أو عالِمًا حكيمًا , أو وليًّا طاهرًا , أو نبيًا كريمًا. أيها السادة , إن عدم استعداد طلبة العلم لحب العلم لذاته هو عيب عظيم فينا , يجب أن نفكر في إزالته , وهو نتيجة من نتائج التربية المنزلية التي غفلت عن تربية إحساسنا، وأهملت تربية قلوبنا وشعورنا؛ فأصبحنا مادّيين , لا نهتم إلا بالنتائج في جميع أمورنا حتى في الأشياء التي بطبيعتها يجب أن تكون بعيدة عن الفوائد كعلاقات الأقارب والأصحاب. وليس من المنتظر أن تتغير أخلاقنا من هذه الجهة تغييرًا محسوسًا إلا إذا تم إصلاح العائلة المصرية. هل يجوز أن يؤخذ من اعترافنا هذا أننا نخشى أن الجامعة المصرية إذا فتحت أبوابها لا تجد طلابًا للعلم؟ سمعت هذا الاعتراض , واعتقادي التام أنه وَهْم باطلٌ. نحن إذا كنا نأسف لِعدم بلوغ حب التعلم الدرجة التي نتمناها له , فليس معنى ذلك أنه مفقود في بلادنا. حبُّ التعلم موجود، ووجد في بلادنا من قديم الزمان , ولا يزول عن أرضنا أبدًا! وتاريخ مصر الحديث يثبت بأقوى البراهين أن حب التعليم كان ولا يزال ينمو في نفوس أُمَّتنا من عهد المرحوم محمد علي باشا إلى الآن. ولي أمل عظيم أن إنشاء الجامعة المصرية يكون سببًا في ظهور شبيبة هذا الجيل , وما يليه على أحسن مثال. وما حالة القلق والاضطراب التي نلاحظها فيها الآن إلا إنذار مطمن , يدلنا على أنها مملوءة بقوة عظيمة تطلب ميدانًا تتصرف فيه , لتتمتع بالتوازن الملازم لصحتها. هذا هو البناء الفخيم الذي نحب أن الأمة المصرية تشيده بيدها ليبقى أثرًا خالدًا في هذا القطر، وشاهدًا على حسن استعدادها للنمو العقلي والرقي الأدبي , فكل من وضع حَجَرًا في هذا البناء يخدم أمته أجل خدمة. فشُكرًا للسابقين، وشُكرًا لِلاَّحقين في هذا العمل الصالح. وإني أرى في الصف الأول من صفوف المحسنين المتبصرين الذين يعرفون كيف يصرفون أموالهم في سبيل الخير رجلين قاما بما يجب عليهما , وهما حضرة أحمد بك الشريف وصاحب هذه الدار الكريمة. اهـ

مصاب مصر بقاسم بك أمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب مصر بقاسم بك أمين يموت كل يوم خلْق كثير , فيخلفهم مثلهم , فتمسي الأمة وتصبح وكأنها لم تفقد أحدًا. ولكن في الناس أفرادًا امتازوا بالمزايا النادرة في قومهم , فأولئك إذا مات الواحد منهم يشعر أهل البصيرة من أُمّتهم بأنهم فقدوا من لا يقوم مقامه غيره , ولا يعمل عمله سواه. ومن هؤلاء الأفراد من فقدته مصر اليوم ألا وهو قاسم بك أمين القاضي بمحكمة الاستئناف الأهلية , ونائب رئيس إنشاء الجامعة المصرية , ومؤلف كتابي (تحرير المرأة) و (المرأة الجديدة) اغتالته المنية فجأةً (في 21 من هذا الشهر) فلم تنذره بمرض ولا سَقَم , بل لم تنذر عقلاء البلاد ليعدوا لهذا الخطب عُدَّته، ويأخذوا للمصاب أُهْبَته بتوطين النفس على الصبر، وتوجيه قواها إلى الجَلَد والتجلد. امتاز قاسم بك أمين بمعظم المزايا التي تعوز المصريين في سبيل الحياة الاستقلالية التي ولوا وجوههم شطرها. امتاز باستقلال الفكر , وجودة الرأي , وصفاء الذهن , وَسَعَة الخيال , وقوة الإرادة , والعدل في الحُكْم , والوفاء في الصداقة , والإخلاص للبلاد , وكان مع هذا من علماء الحقوق والأخلاق والاجتماع والفلسفة العقلية , وقد وجَّه هِمّته في السنين الأخيرة إلى فرع من فروع هذه العلوم وهو ترقية البيوت (العائلات) بتعليم النساء وتهذيبهن , فلم يكتفِ بكتابيه فيه , بل جعله همه الأكبر إلى أن وافته منيته ولسانه رطب بذكر تهذيب النساء وتمدينهن , وتمني مشاركة الفتيات المصريات للفتيان في محافل العلم والأدب. قال ذلك في خُطْبَة فرنسية أَلْقاها في نادي المدارس العليا قبل وَفَاته بساعة أو ساعتين. كان قاسم بك أمين يعد في استقلاله وفي الحرص على ترقية بلاده من طبقة يُعَدّ رجالُها على الأنامل , وهم أصدقاء بعضُهم لبعض، مات إمامهم وكبيرهم فَكَرَّ أكثرهم على أثره. مات الأستاذ الإمام فتلاه صديقه علي بك فخري أحد أركان النهضة الوطنية العاملين في ترقية القضاء والمحاكم الأهلية , فحسن باشا عاصم المصلح في القضاء وفي المعية وقطب إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية , فحسن باشا عبد الرازق الذي كان في مجلس الشورى هو الثنيان، بعد البدء الذي هو الأستاذ الإمام، وهذا قاسم بك أمين خامسهم فلا غَرْوَ إذا تفاقم بالرزيئة به الخطب، وعظم على البلاد الكرب، فإنه كاد يتحقق به قول الأستاذ الإمام: إن الأمة مصابة بالعقم وقحط الرجال، فللأمة أن تتمثل اليوم بقول ابن النبيه: والموت نقاد على كفه ... جواهر يختار منها الجياد فقد كنا نقول: إن هذا البيت من الشعريات، وصرنا نقول اليوم: إنه من المشاهدات، ولا ننسى أن مصر فقدت أيضًا في هذه المُدّة القليلة الشيخ أحمد أبا خطوة نابغة الأزهر، وإبراهيم بك اللقاني الذي كاد يكون في آخِرِ عُمُرِهِ منسيًّا لحيلولة المرض بينه وبين العمل , وهو في مقدمة كتاب مصر وخطبائها ومن أركان النهضة الجمالية الأولى فيها , وكان كلا الرجلين من أصدقاء الأستاذ الإمام أيضًا فيا لَلَّهِ ما كان أشأم فقده على هذه البلاد , فقد ذكرني بما تتابع بعده من خيار الرجال قتل عمر بن الخطاب إذ فتح على المسلمين باب الفتنة في السلطة , فقتل بعده عثمان وعلي (رضي الله عنهم أجمعين) . كمل للأستاذ الإمام قوة الفكر والنظر، مع القدرة والمرانة على القول والعمل، وكان حسن عاصم أقوى في العمل منه (أي: من نفسه) في القول والنظر، وأما قاسم أمين فكان نظريًّا، أكثر مما كان عمليًّا، فكان يسبح في بَحْرٍ لُِجِّيٍّ من الفكر، ويطير في جو واسع من الخيال، فيؤلف بين الحكم العقلية، وبين التخيلات الشعرية، فلهذا كان لمكتوبة من التأثير وقوة الجاذبية، ما جعله في مقدمة كتاب العربية، على قِلّة اشتغاله بفنونها، وتحصيله لها، وما ذاك إلا أن كلامه يشبهه في كون روحه أكبر من جسمه، ومعناه يفيض الجمال على صورته، حتى كاد يكون فكرًا مجردًا، أو خيالاً متوهمًا. كان قاسم من الهائمين في رياض الجمال المعنوي , فكان ذلك يرفعه أحيانًا عن عالم المادّة وما فيه النَّصَب واللُّغُوب والمصائب في المال والوَلَد والصديق , فيهون عليه ما أصابه من ذلك , ويفيض عليه الجَلَد والصبر، ويخيل لي أن لو طال عُمُرُهُ، وقلّ عَمَلُه، واستراح بالُه، لانتهى أمْرُه بفلسفة عالية تظهر على لسانه، وتفيض من قلمه، فتروي أرض مصر بالحكم الجليلة، في غلائل من الشعريات الجميلة، وناهيك بما في اجتماع الحكمة والشعر، من تربية الشعور والفكر. على أن ما في هذه الطريقة من الخطأ في الحكم قد يعسر انتزاعه ممن تمكن فيه , فإن الفكر يتحد فيه مع الوجدان، اتحادًا يقل أن يفيد معه البرهان، لذلك كان لقاسم آراء في فلسفة الأديان، ومستقبل الإنسان، تعد عند المنطقي من الخيالات، وهو يراها من الحدسيات أو الوجدانيات. كان فقيد مصر اليوم من أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية الأولين , ولكن خدمته لها كانت بالرأي لا بالعمل، أما العمل الذي كان يتوق إليه، ويتمنى لو يتيسر له، فهو أن يؤسس ولو بماله - إن وجد المال - مدرسة لتربية البنات المصريات على ما يحب ويرى أنه يرقي هذه البلاد. كان قاسم كَنْزًا مخفيًّا لا يعرفه إلا أصدقاؤه , وكان أول شيء عُرِفَ به في عالم الأدب ردُّه على الدُّوق دركور فيما كتبه مِن الانتقاد على البيوت بمصر لا سِيَّمَا مسألة الحجاب وسوء حال النساء المسلمات. كتب الدُّوق في ذلك كتابًا باللغة الفرنسية , فردّ عليه قاسم باللغة الفرنسية , وقد ذكر لنا غير واحد أن عبارته في رده كانت كعبارة كُتّاب فرنسا البلغاء. وكان قلمه في ذلك الرد يتدفق غيرةً وحماسةً , وقد بين فيه ما للحجاب من الفائدة , وشنع على ما في أوروبا من التبذل والتهتك وتجارة الأعراض. وأخبرني قاسم أنه كان يومَ اطلع على ما كتبه الدُّوق دركور غافلاً عن حال النساء بمصر , فآلمه ذلك النقد والتشنيع , فاندفع إلى الرد بوجدان الغيرة وبعد أن شفى غيظَه، وأرضى غيرتَه بذلك عاد إلى نفسه وفكّر في الأمر , فرأى أن كثيرًا من العيوب التي عاب الدُّوق بها البيوت المصرية صحيح في نفسه , فبعثه ذلك إلى درس هذه المسألة قائلا في نفسه: إنه لا ينفعنا إذا كان العيب فينا أن نرد على مَن يعيبنا ونبحث عن عيوب قومه , وإنما يجب علينا أن نبحث عن عيبنا , فنعرِفه ونسعى في إزالته. وطَفِقَ يبحثُ ويسأل ويفكر في حال البيوت بمصر , ويقرأ ما كتب الإفرنج في شأن النساء , وانتهى به البحث والتنقيب إلى تصنيف (كتاب تحرير المرأة) الذي هَزّ مصر هزةً شديدةً , وشغل جرائدها في تقريظه ونقده زمنًا طويلاً , وبعث همة غير واحد من حملة العمائم والطرابيش جميعًا إلى التصنيف في الردّ عليه , وبذلك طارَ صيت قاسم بك أمين في الآفاق وعُرِفَ اسمُه في الشرق والغرب , وعُدَّ من المصلحين الاجتماعيين. ثم ألف كتابه (المرأة الجديدة) لتعزيز رأيه , وتفنيد آراء خصومه , فكان دون كتاب تحرير المرأة مادةً وفائدةً وتحريرًا وتأثيرًا على أنه فوقه صراحةً في المقصد وحريةً في القول المخالف لرأي الجمهور وميله. وقد تولى في السنتين الأخيرتين من عُمُرِهِ الاشتغال بتأسيس (الجامعة المصرية) فلم يدخر وسعًا، ولم يأْلُ جهدًا، وكان مَناطَ الأمل في إنجاح هذا العمل، وأي مصاب ترزأ به البلاد أشد من فقد رجالها عندما يتم استعدادهم، ويكمل رشادهم، وتعرف الناس قيمتهم، ويشرعون في الأعمال الكبيرة التي يرجى نهوضهم بها، وينتظر نجاحهم فيها؟ فهذا ما ضاعف الحزن على فقيد مصر اليوم. حزن العقلاء على قاسم لذاته , وما تحلّتْ به ذاته من المزايا العالية، وضاعف حزنهم عليه أن كان مصاب البلاد به قريب العهد بمصابها بأصدقائه من رجال الاستقلال، وما يرقي الأمة من الأعمال، وضاعفه مرةً أخرى أن كان في الوقت الذي بدأ فيه بعمل عظيم، وأنشأت النابتة تعرف من فضله ما يعرف الكهول والشيوخ من أهل المعرفة والفضل. يموت الرجل فيبكيه الأهل ويندبه النساء , ولكن قاسمًا أبكى عظماء الرجال وأقدرهم على التجلد والاحتمال، وندبه مثل سعد باشا زغلول وفتحي باشا زغلول , وإنما أرادا أن يؤبناه , فكان تأبينهما ندبًا وتعدادًا، وبكاء ونشيجًا، أبكى معهما جميع من بلغ القبر من المشيعين، وذلك ما لم يعهد لسواه من الميتين. وجملة القول فيه أنه يصدق عليه ما قاله هو في تأبين الأستاذ الإمام من أنه لا يوجد في الأمة من يملأ الفراغ الذي كان يشغله، فرحمه الله تعالى رحمةً واسعةً , وأحسن عزاء أهله وأصدقائه ووطنه فيه.

مصافحة السوريين للمصريين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصافحة السوريين للمصريين يوجد في مصر الأوربي من إنكليزي وفرنسي , إلخ والأمريكي والهندي والفارسي والأرمني , والمغربي من تونسي , وجزائري , ومراكشي , والعثماني من تركي , وكردي , وعربي , ومِن العرب: الحضرمي, واليمني , والحجازي , والعراقي , والسوري. ولم نَرَ صنفًا ممن ذكرنا وممن لم نذكر من الأصناف أقرب إلى المصري من السوري , فهو جار له في بلاده , وموافق له في لغته وأكثر عاداته مع كونه عثمانيًّا مثله , ولكننا على هذا كله لم نَرَ المصري في مناظرة أو منافسة مع صِنْف من أصناف البشر الذين تضمهم بلاد مصر إلا مع السوري فما هو سبب ذلك؟ يرى من دقق النظر أن السبب في هذا هو ذلك القرب نفسه , فإن السوري لما كان صنوًا للمصري امتزج به امتزاج الماء بالراح , وشاركه في عامة شئونه من مأكله ومشربه ولهوه وجدِّهِ وهزْلِه , فما من سوري في هذا القطر إلا وله من الأصدقاء المصريين مثل ما له من السوريين، أو أكثر. ومن طبيعة المنافسة أن تكون بين الخلطاء ما لا تكون بين البعداء، فالأفراد ينافسون إخوتهم وأقاربهم وجيرانهم , وأهل البلد ينافسون أقرب البلاد إليهم , وكذلك أهل المديريات فأهل الأقطار فأهل الممالك. قد كانت المنافسة الأولى بين المصريين والسوريين في أعمال الحكومة , ثم ضعفت أو تلاشت , وخلفتها المنافسة في الصحافة أو السياسة. كانت بين المقطم والمؤيد , ثم بين المقطم واللواء. وحقيقة هذه المنافسة أنها منافسة أفراد لا أصناف؛ إذ رأي المقطم في السياسة ليس هو رأي السوريين , وإنما هو رأي أصحابه وأول من قارعهم فيه صاحب جريدة الأهرام من السوريين. ولكن اللواء كان يرد عليهم من حيث إنهم سوريون ودخلاء , فكان ذلك من قبيل تعليق الحكم بالمشتق وهو كما قال علماء الأصول يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق. أعني أن رد اللواء على أصحاب المقطم من حيث هم منسوبون إلى سوريا ودخلاء في مصر يفيد أن علة ما يرميهم به من خيانة مصر هو كونهم سوريين. فلو كان الأمر كما يدعي - وهو ليس كذلك - لكان كل سوري خائنًا لمصر , أو لَكَان مجموع السوريين كذلك. وهذا باطل؛ لأنه مبني على أصل باطل , ولكنه سرى في أوهام كثير من الناس لا سِيَّمَا الأغرار. وهذا ما عناه حافظ بقوله: لولا أناس تغالوا في سياستهم ... منا ومنهم لما لمنا ولا عتبوا ونحمَدُ الله أن كلاًّ من المقطم واللواء اللذين يعنيهما حافظ قد رجع - مع إصراره على أنه كان حسن النية - عن الخطة التي كانت تعد غُلوًّا , وكادت تجعل المنافسة بين جريدتين سببًا للتعادي بين شعبين كل منهما صنو للآخر وشريك له في كل مقومات الحياة حتى أوشك أن يصدق في ذلك ما قيل من أن سوء التفاهم كثيرًا ما يكون أضر من سوء القصد. لقد حسن في هذه الفرصة ما قام به سليم أفندي سركيس من تأليف جمعية من خيار السوريين علمًا وأدبًا , وجمع طائفة من النقود منهم ومن غيرهم من السوريين بالاكتتاب؛ لأجل دعوة جماعة من خيار المصريين علمًا وأدبًا إلى الاحتفال باسم السوريين لإكرام حافظ أفندي إبراهيم الشاعر المصري الشهير. ولما كان الغرض من هذه الحفلة موادة السوريين للمصريين كانت الخُطَب والقصائد التي أشرنا إليها في الجزء الماضي ممثلة لذلك أحسن تمثيل , وقد وقع ذلك موقعه الذي يستحقه؛ فأثنت الصحافة المصرية كلها كالصحف السورية على سليم أفندي سركيس , وأيدت الغرض من الاحتفال بالكَلِم الطيب في التأليف بين العنصرين اللذين هما بمنزلة الأخوين.

تصحيح غلط

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصحيح غلط في السطر 16 من ص 124 (وعن) محله قبل كلمة (غمغمة) بينها وبين الواو , فتصير (وعن غمغمة) قضاعة (إلخ , وفي السطر الخامس من ص 125 من الجزء الماضي (عدوه غريبًا) , وقد سقط من قبلها هذه الجملة (عدوه فصيحًا , وما كان قليل الدوران على ألسنتهم) . وفي هذا الجزء أغلاط مطبعية أخرى مدركة ككلمة (محمده) في س17 ص93 وصوابه (محمد عبده) , ومنها كلمة (إذا) في س3 ص101 وصوابها (إذ) .

خديجة أم المؤمنين ـ 2

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين (2) الفصل الرابع (مقام النساء في قوم خديجة) تلك كانت أحوال قوم خديجة في نظام اجتماعهم ذلك , ولم يكن مقام المرأة فيهم مقامًا مهينًا، بل كان لها لديهم مقام كريم، وجلّ ما عرف عنهم من انحطاط مقام المرأة أنهم كانوا يكرهون البنات , وأنهم كانوا يَئِدونهن؛ أي: يدفنونهن في التراب وهنّ على الحياة {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 58-59) . هذا ما عُرِفَ عنهم ومَن أخذ هذا الأمر على ظاهره وإطلاقه يستخف بهؤلاء القوم؛ لأن انحطاط قيمة المرأة ومقامها عندهم دليلٌ على انحطاطهم , ولكن أخذ الأمر على ظاهره وإطلاقه ليس من شأن الذين يحبّون معرفة الحقائق. إن كل بلد فيها الفقراء وذَوُو اليسار، وفيها الحمقى وأُولُو الألباب، وفيها القساة وأهل المَرْحَمَة. فليس من العقل ولا العدل أن يجعل عمل بعض الحمقى أو القساة أو الفقراء في بلد مثالاً ومرآةً لأعمال مجموع أهل البلد. كان في مكة فقراءُ وحَمْقى وقساة كما هو الحال في سائر البلاد , وكان أناس قليلون من هذه الأصناف يأتون هذا العمل الفظيع؛ نَعْنِي الوأْدَ (دَفْنُ البنات في الحياة في سِنّ الطفولة) فلا ينبغي أن يُقال بدون تقييد: إن القوم الذين نشأَتْ منهم سيدتنا هذه كانوا يَئِدون البنات. إن قومًا نبغَتْ فيهم مثل هذه السيدة لا يُعقل أن يكونوا قَتَلَةَ بناتٍ؛ كَلاَّ إنهم لم يكونوا يقتلون الأجساد، ولم يكونوا يقتلون منهن العقول والإرادات، وأما الذي نقل عنهم فهو عَمَل نَفَرٍ يكادون لا يُذكرون من فقرائهم أو حمقاهم أو قساتهم. ولم يكن الذين يئدون بناتهم يأتون هذا العمل الفظيع تغيظًا من هذه النسمات البريئة , أو احتقارًا لجنس المرأة كما يلوح لأول وهْلَة , بل كان يسوقهم إلى ذلك فساد في الخيال وضعف عظيم في الطبيعة. وإن الخيال الفاسد ليزين المنكر حتى يظنه صاحبه من المعروف؛ كما يشاهد كل واحد منا كثيرًا. كان منهم فقراء يزين لهم خيالُهم الفاسد أن فتاتهم إذا ظلّتْ في ميدان الحياة ربما نالها ضيْم من فقرهم , وربما عجزوا عن أن يكرمنهن بنفقة تساويهن بأَتْرَابهن من ذوي قرباهن أو جوارهن، فيرون مواراتهن في التراب خيرًا لهن من بقائهن دون الأتراب. لا نكرانَ للحق أن هذا لَخيالٌ باطل , ولا سِيَّمَا عند المؤمنين , ولكن هذا الخيال الباطل لم يوحِ إلى صاحبه أن الفتاة شجرة خبيثة يجب اجتثاثها قبل النمو , ويستحسن حرمان الوجود من ثمراتها , وإنما زيّن له سوء عمله هذا من طريق أخرى هي كرامة فتاته. يتخيل ذلك المسكين أن فتاته إن عاشت تعيش مثله في غصص تذيب الفؤاد , ولو قدَّ من الجلمود، وكرب تسود الوجوه البيض , وتبيض الشعور السود، فيزين له خيالُه أن يحمي كريمته فِلْذَةَ كَبِدِهِ مِن مثل هذه الحياة التي بلاها فقلاها , وأن يتقي بألم ساعة عند توديعها وتسليمها إلى الأبد آلام سنين يراها فيها كثيرة النصب قليلة النصيب , كما يتقي أحدهم بألم الكي آلام سقم مزمن. وكان منهم حمقى توسوس لهم شياطينُ الخواطر بأن الفتاة ربما وقعتْ في يد من لا يرعى له ولها حُرْمَة. ولو قضي على كل البشر بمثل هذه الوساوس لآذنت الدنيا بالانقضاء , ولكن الموجد لم يشأ إلا أن تكون الدنيا على هذا النمط من الاستمرار , فلذلك لم يوجد لهذه الوساوس سلطانًا على قلوب البشر إلا قليلاً ممن بلغنا شيء عنهم من هذا القبيل. ساء ما يزين لهؤلاء الفقراء والحمقى الذين كبر نصيبهم من القسوة مع نصيبهم من الفقر والحمق , فلو علم المعدم أن اليسار ليس محتكرًا في بيوت معينة وأشخاص مختصة , وإنما يتاح للعاملين المحسنين مع الظروف المناسبة، وأن قيمة كل امرئ ما يحسنه، وأن ليس عليه إلا أن يعمل بالمعروف عند قومه، ويصبر قليلاً حتى يتاح له ما يقوم به شأنه، لَمَا سهلَ عليه أن يقصف بيديه غصنًا منه أنبته الله , ولا لذة أكبر من تربيته وتنميته. ولو علم الأحمق أن الفرار من توهم العدو نهاية الجبن وغاية الخذلان، ويثمر أقصى درجات الخسران لَرَأَى أنه جدير بالبكاء على حظه من ضعف النفس. وهيهاتَ أن يكون قوم (خديجة) على هذا النمط من ضعف النفوس , وهم المعروفون بالشجاعة والإقدام. وأَيُّ قوم تطيب لهم الحياة إذا كانوا لا يرون سلامة حرمهم إلا بإفنائها؟ وأَنَّى يجد الشخص الطمأنينة إذا كان دأبه الهرب، من غير ما طلب؟ أَمّا إنهم كانوا يكرهون البنات إذا بُشِّرَ أحدُهم بها فلا يستطيع أحدٌ إنكارَه؛ لأن القرآن المجيد هو الذي سجّلَ هذه الحقيقة التاريخية , وقد سرى هذا إلى نفوسهم من شدة احتياجهم إلى البنين الذين سيكونون المدافعين في ذلك المجتمع القائم بنفسه قيامَ المجتمعات الكبيرة. وليس معناه أن البنت تظلّ طول دهرها مكروهةً , أو أن النساء لا قيمةَ لهن ولا قَدْرَ عند أولئك القوم. ما ذنْب القوم إذا كان نَفَر من فقرائهم وحمقاهم قد ضعف نفوسهم , فاستسلموا إلى الاستراحة مما يلذ للكرام التعب فيه؟ وما إجرامهم إلى الإنسانية من بعْدِ أن يقوم أمجادُهم بافتداء كثير من الفتيات اللاتي تصدى آباؤهن لِوَأْدِهِن من الفقر؟ إن العرب كافّةً وقريشًا خاصّةً كانوا يعزّون المرأة ولا يهينونها , وقد أَعْطَوُا النساءَ كلَّ ما لهن من الحقوق في نظر العدل , ولم يَنْسَوْا أن المرأة كالرجل هي إنسان يحمل دماغًا فيه إدراك , وأن لهذا الإنسان المؤنث نفسًا كنفس ذلك الإنسان المذكر تغضب وترضى وتنعم وتشقى , فأعطَوْا دماغها ونفسها حقيْهِما. وقد رَوَوْا لنا أن هندًا بنت عتبة وهي من قوم سيدتنا (خديجة) جاءها أبوها يشاورها في رجلين من قومها رغبَا الزواجَ بِها , فقالت: صِفْهُمَا لي , فقال: (أما أحدهما ففي ثروة وَسَعَة من العيش , إنْ تابعتيه تابعكِ، وإن ملتِ عنه حطّ إليكِ، تحكمين عليه في أهله وماله، وأما الآخر فموسع عليه منظور إليه، في الحَسَب الحسيب، والرأي الأريب، مدره أرومته، وعز عشيرته، شديد الغيرة، لا ينام على ضَعَة، ولا يرفع عصاه عن أهله) [1] فقالت: يا أبتِ الأول سيِّد مضياع للحرة , فما عست أن تلين بعد إبائها، وتضيع تحت جَنَاحه إذا تابعها بعلها فأشِرَتْ، وخافها أهلها فأمنت، فساء عند ذلك حالها، وقبح عند ذلك دلالها، فإن جاءت بولد أحمقت، وإن أنجبت فعن خطأ ما أنجبت، فاطوِ ذكر هذا عَنّي ولا تسمه عليّ بعدُ. وأما الآخر فبعل الفتاة الخريدة، الحرة العفيفة، وإني لأَخْلاقِ مثل هذا لموافقة؛ فزوجنيه , فزوجها الثاني , وكان هو أبا سفيان بن حرب فولدت منه معاوية مؤسس دولة بني أمية الشهيرة , وأحد نجباء العرب ودواهيهم. فهكذا كان مقام المرأة في قوم سيدتنا (خديجة) لا يفتات أهلها عليها في حقها , وهكذا كان رأي ذوات الحِجَى والزكانة منهنَّ. ولقد كان كثير من نساء العرب يشاركن في السياسة والأمور العمومية. وناهيك أن الحرب التي ظلت مستعرة نحوًا من أربعين سنةً بين بني ذُِبيان وبني عبس لم يتفكر في إطفاء نارها إلا امرأةٌ , ولم تتمكن من إطفائها إلا بِما لها من المكانة , وحسن الرأي , وذلك أن بيهسة بنت أوس بن حارثة بن لام الطائي لما زوجها أبوها من الحارث بن عوف المرِّيّ، وأراد أن يدخل عليها قالت: أتتفرغ للنساء والعربُ يقتُل بعضُها بعضًا؟ تَعْنِي بني عبس وبني ذبيان. فقال لها: ماذا تقولين؟ قالت: (اخرج إلى هؤلاء القوم فأَصْلِحْ بينهم , ثم ارجعْ إليّ) فخرج وعرض الأمر لخارجه بن سنان , فاستحسنَ ذلك وقاما كلاهما بهذا الأمر , فمشيا بالصلح , ودفعا الدِّيات من أموالهم , وحَسْبك مَنِ اشتهرْن مِن العربيات في السياسة منهن اللاَّتِي كُن من شيعة الإمام علي أيام مناصبة معاوية كسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية، وبكارة الهلالية، والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية، وأم سنان بنت جشمة بن خرشة المذحجية، وعكرمة بنت الأطرش بن رواحة، ودارمية الحجونية، وأم الخير بنت الحريش بنت سراقة البارقي. وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب الهاشمية. وفدتْ سودة على معاوية بعد موت علي , فاستأذنتْ عليه , فأذن لها فَلَمّا دخلت عليه سلمت سودة , فقال لها: كيف أنت يا ابنة الأشتر؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. قال لها: أنت القائلة لأخيك: شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران وانصر عليًّا والحسين ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان إن الإمام أخا النبي محمد [2] ... علم الهدى ومنارة الإيمان فقُد الجيوش وسِر أمام لوائه ... قدمًا بأبيض صارم وسنان قالت: (يا أمير المؤمنين , مات الرأس، وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد نسي) فقال: (هيهات , ليس مثل مقام أخيك ينسى) . قالت: صدقْتَ والله يا أمير المؤمنين , ما كان أخي خفي المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء: وإن صخرًا لتأتمُّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وبالله أسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: قد فعلت فقولي حاجتك. فقالت: يا أمير المؤمنين (إنك للناس سيّد، ولأمورهم مقلد، والله سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعةُ لَكَان فينا عز ومَنْعَة، فإمَّا عزلتَه فشكرناك، وإمّا لا فعرفناك) فقال معاوية: (إيايَ تهددين بقومك , والله لقد هممتُ أن أردَّكِ إليه على قِتْب أشرس , فينفذ حكمه فيك) فسكتَتْ , ثم قالت: صلى الإله على روح تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونًا قد حالف الحق لا يبغي به ثمنًا ... فصار بالحق والإيمان مقرونًا قال: ومَن ذلك؟ قالت: علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى، قال: ما أرى عليك منه أثرًا. قالت: بلى , أتيته يومًا في رجل ولاّه صدقاتنا , فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين , فوجدته قائمًا , فانفتل من الصلاة , ثم قال برأفةٍ وتعطفٍ: ألكِ حاجةٌ؟ فأخبرته خبر الرجل , فبكى , ثم رفع يديه إلى السماء , فقال: (اللهم , إني لم آمُرْهم بِظُلْم خلقك، ولا ترْكِ حقِّك) ثم أخرج من جيبه قطعةً من جراب , فكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} (يونس: 57) {فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة: 60) {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (هود: 86) إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي مَنْ يقبضه منك , والسلامُ) . قال معاوية: اكتبوا لها بالإنصاف لها والعدل عليها. فقالت: (ألي خاصَّةً أم لقومي عامّةً؟) فقال: (ما أنت وغيرك) . قالت: (هي والله الفحشاء واللؤم , إن كان عدلاً شاملاً , وإلاّ يسعني ما يسع قومي) . قال: (اكتبوا لها بحاجتها) . ووفدت بكارة الهلالية أيضًا على معاوية بعد موت علي , فدخلت عليه , وكان بحضرته عمرو بن العاص ومروان وسعيد بن العاصي , فجعلوا يذكرونه بأقوالها التي قالتها في مشايعة علي ومعاداة معاوية , فقالت: (أنا والله قائلة ما قالوا , وما خفي عنك مني أكثر

ترجمة القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة القرآن (س) من الشيخ حسن شاه أفندي أحمد (بروسيا) . حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا. نرجو أن تعيروا جانب الالتفات لهذه المسألة المُهِمَّة: ذكر الفاضل أحمد مدحت أفندي من علماء الترك العثمانيين في كتابه (بشائر صدق نبوت) ما ترجمته: إن ترجمة القرآن مسألة مهمة عند المسلمين , وجميع المباحثات التي دارت بشأن ترجمة هذا الكتاب المجيد لم ترس على نتيجة؛ وذلك لوجوهٍ: (الأول) أنَّ ترجمته بالتمام غير ممكنة؛ لإعجازه من جهة البلاغة. (والوجه الثاني) أن فيه كثيرًا من الكلمات لا يُوجد لها مقابلٌ في اللغة التي يترجم إليها , فيضطر المترجم إلى الإتيان بما يدل عليها مع شيء من التغيير ثم إذا نقلت هذه الترجمة إلى لغة أخرى يحدث فيها شيء من التغيير أيضًا , وَهَلُمَّ جَرّا , فيخشى من هذا أن يفتح طريق لتحريف القرآن وتغييره. (الوجه الثالث) أن كلمات الكتب السماوية يُسْتخرج منها بعض إشارات وأحكام بطريق الحساب , فإبدالها بالترجمة يسد هذا الطريق. مثال ذلك أن سعدي جلبي كتب في حاشيته على البيضاوي عند تفسير سورة الفاتحة أنه إذا أخرجت الحروف المكررة من سورة الفاتحة التي هي أول القرآن , وسورة الناس التي هي آخر سوره تكون الحروف الباقية ثلاثةً وعشرين.. قال - وفي ذلك إشارة إلى مُدّة سني النبوة المحمدية -: (فإذا ترجم القرآن لا يبقى في الترجمة مثل هذه الفوائد التي هي من جملة معجزاته. انتهى) من بشائر صدق نبوت. أمّا أدباؤنا معشر الترك الروسيين , فإنهم مصرون على ترجمته , ويقولون: لا معنى للقول بأنه لا تجوز ترجمة القرآن إلا إيجاب بقائه غير مفهوم؛ فلذا يذهبون إلى وجوب ترجمته , وهو الآن يترجم في مدينة قزان , وتطبع ترجمته تدريجًا , وكذلك تشبث بترجمته إلى اللسان التركي زين العابدين حاجي الباكوي أحد فدائية القفقاز فنرجو من حضرة الأستاذ التدبر في هذه المسألة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره الإمام الحقير ... ... ... ... ... ... ... ... أحسن شاه أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... الكاتب الديني السماوي (ج) إن من تقصير المسلمين في نشر دينهم أن لا يبينوا معاني القرآن لأهل كل لغة بلغتهم , ولو بترجمة بعضه لهم لأجل دعوة من ليس من أهله إليه , وإرشاد من يدخل فيه عند الحاجة بقدر الحاجة. وإن من زلزال المسلمين في دينهم أن يتفرقوا إلى أمم تكون رابطة كل أُمّة منها جنسية نسبية أو لغوية أو قانونية , ويهجروا القرآن المنزل من الله تعالى على خاتم رسله , المعجز بأسلوبه وبلاغته وهدايته , المُتَعَبّد بتلاوته اكتفاءً بأفرادٍ مِن كل جنس يترجمونه لهم بلغتهم بِحَسَب ما يفهم المترجم. هذا الزلزال أَثَر من آثار جهاد أوربا السياسي والمدني للمسلمين. زيّن لنا أن نتفرق وننقسم إلى أجناس ظانًّا كل جنس مِنا أنّ في ذلك حياته , وما ذلك إلا موت للجميع. ولا نطيل في هذه المسألة هنا , ولكننا نذكر شيئًا مما يخطر في البال مفاسد هجْر المسلمين للقرآن المنزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) استغناءً عنه بترجمةٍ أعجميةٍ يغنيهم عنها تفسيرُه بلغتهم , مع المحافظة على نصّه المتواتر المحفوظ من التحريف والتبديل , مع مراعاة الاختصار؛ فنقول: (1) إن ترجمة القرآن ترجمةً حرفيةً تطابق الأصل مُتعذّرةً , كما يعلم من المسائل الآتية , والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن , أو فهم من عساه يعتمد هو على فهمه من المفسرين , وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن وإنما هي فهم رجل للقرآن، يخطئ في فهمه ويصيب، ولا يحصل بذلك المقصود المراد من الترجمة بالمعنى الذي ننكره. (2) إن القرآن هو أساس الدين الإسلامي , بل هو الدين كله؛ إذ السنةُ ليست دينًا إلا من حيثُ إنها مبينة له. فالذين يأخذون بترجمتِه يكون دينهم ما فهمه مترجم القرآن لهم , لا نفس القرآن المُنزل من الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. والاجتهاد بالقياس إنما هو فرْعٌ عن النص , والترجمةُ ليست نصًّا من الشارع، والإجماع عند الجمهور لا بُدَّ أن يكون له مستندٌ , والترجمة ليست مستندًا. فعلى هذا لا يسلم لِمَنْ يجعلون ترجمةَ القرآن قرآنًا شيء من أصول الإسلام. (3) إن القرآن مَنَعَ التقليد في الدين , وشنعَ على المقلدين؛ فأخذ الدِّين من ترجمة القرآن هو تقليد لمترجمه؛ فهو إذًا خروجٌ عن هداية القرآن لا اتباع لها. (4) ويلزم من حرمان المقتصرين على هذه الترجمة مما وصف الله به المؤمنين في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) وأمثالها من الآيات التي تجعل من مزايا المسلم استعمالُ عقْلِه , وفَهْمِهِ فيما أنزلَ الله. (5) وكما يلزم حرمانهم من هذه الصفات العالية , يلزم منعُ الاجتهاد والاستنباط من عبارة المترجم؛ لأن الاجتهاد فيها مما لا يقول به مسلم. (6) إن من يعرِف لغةَ القرآن , وما يحتاج إليه في فهمه كالسُّنَّة النبوية , وتاريخ الجيل الأول الذي ظهر فيه الإسلام يكون مأجورًا بالعمل بما يفهمه من القرآن , وإن أخطأ في فهمه؛ لأنه بذل جهده في الاهتداء بما أنزله الله هداية له. كما يعلم ذلك من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فيما فهموه من كيفية التيمم إذ عذر المختلفين في فهمها والعمل بها , ومثله معاملته لهم فيما فهموه من نهيه عن صلاة العصر إلا في قريظة ولذلك شواهدُ أخرى. ولا إخالُ مسلمًا يجعل لعبارة مترجم القرآن هذه المزية. (7) إن القرآن ينبوع للهداية والمعارف الإلهية لا تَخْلُقُ جِدَتُهُ، ولا تفتأ تتجدد هدايتُه، وتفيض للقارئ على حَسَبِ استعداده حكمته، فربما ظهر للمتأخر من حكمه وأسراره ما لم يظهر لمن قبله تصديقًا لعموم حديث (فرب مبلَّغ أوعى من سامع) وترجمته تبطل هذه المَزِيّة؛ إذ تقيد القارئ بالمعنى الذي صوره المترجم بحسب فهمه. مثال ذلك إن المترجم قد يجعل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) من المجاز بالاستعارة؛ أي: إن اتصال الريح بالسحاب , وحدوث المطر عَقِب ذلك يشبه تلقيحَ الذكرِ للأنثى وحدوث الولد بعد ذلك , كما فهم بعض المفسرين. فإذا هو جرى على ذلك بأن فرضنا أنه لا يوجد في اللغة التي يُتَرْجَمُ بها لفظ يقوم مقام (لواقح) العربي في احتمال حقيقته ومجازه إذا أُطْلِقَ فإنّ القارئين يتقيدون بهذا الفهم، ويمتنع عليهم أن يفهموا من العبارة ما هي حقيقة فيه وهو كون الرياح لواقح بالفعل؛ إذ هي تحمل مادة اللقاح من ذكور الشجر إلى إناثه. فإن لم ينطبق هذا المثال على القاعدة لتيسر ترجمة الآية ترجمةً حرفية , فإن هناك أمثلةً أخرى , وحَسْبُنَا أن يكون هذا موضحًا. والترجمة تقف بنا عند حدٍّ من الفهم يعوزنا معه الترقي المطلوب. (8) ذكر الغزالي في كتاب (إلْجَامُ العَوَامِّ عن عِلْمِ الكلام) أن ترجمة آيات الصفات الإلهية غيرُ جائزةٍ , واستدل على ذلك بما هو واضح جِدًّا, وقد ذكرنا عبارته في تفسير {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: 7) , وبَيّنَ أنّ الخطأ في ذلك مدرجة للكفر [1] . (9) ذكر الغزالي في الاستدلال على ما تقدمَ أن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها - أي: ومثل الفارسية التركية وغيرها - فما الذي يفعله المترجم في مثل هذه الألفاظ؟ وهو إن شرحها بحسب فهمه ربما يُوقِع قارئ ترجمته في اعتقاد ما لم يرده القرآن. (10) وذكر في ذلك أيضًا أن من الألفاظ العربية ما لها فارسية تطابقها (لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها منها) فإذا أَطْلَقَ المترجمُ اللفظَ الفارسي يكون هنا مؤدِّيًا المعنى الحقيقي للفظ العربي , وربما كان مراد الله هو المعنى المجازي، ومثل الفرس غيرهم من الأعاجم. وهذا المقام من مزلات الأقدام إذا كان الكلام عن الله عز وجل وصفاته وأفعاله. (11) وذكر أيضًا في هذا المقام أن من هذه الألفاظ ما يكون مشتركًا في العربية , ولا يكون في العجمية كذلك. فقد يختار المترجم غير المراد لله من معنى المشترك؛ ولا يخفى ما فيه، وقد مرَّ نظيره آنفًا. (12) مِن المُقَرَّرِ عند العلماء أنه إذا ظهَر دليلٌ قطعيٌّ على امتناع ظاهر آية من آيات القرآن , فإنه يجب تأويلها حتى تتفقَ مع ذلك الدليل. والفرْقُ بين تأويل ألفاظ القرآن وتأويل ألفاظ ترجمته لا يخفى على عاقل لا سِيَّمَا في الآيات المتشابهات والألفاظ المشتركة. (13) إن لِنَظْمِ القرآن وأسلوبه تأثيرًا خاصًّا في نفس السامع لا يمكن أن ينقل بالترجمة , وإذا فاتَ يفوتُ بِفَوْتِهِ خيرٌ كثيرٌ , فيا طالما كان جاذبًا إلى الإسلام حتى قال أحد فلاسفة أوربا (وهو فرنسي نسيت اسمه) : إن محمدًا كان يقرأ القرآن بحال مؤثرة تجذب السامع إلى الإيمان به , فكان تأثيره أشد من تأثير ما ينقل عن غيره من الأنبياء من المعجزات. وحضر الدكتور فارس أفندي نمر مرةً الاحتفال السنوي لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة , فافتتح الاحتفال تلميذ بقراءة آياتٍ من القرآن , فقال لي الدكتور فارس أفندي: إن لهذه القراءة تأثيرًا عميقًا في النفس , ثم لَمّا كتبَ خبر الاحتفال في جريدته (المقطم) كتب ذلك. فإذا كان لتلاوة القرآن هذا التأثير حتى في نفس غير المؤمن به , فكيف نحرم منها المسلمين بترجمة القرآن لهم! (14) إذا ترجم القرآن التركي والفارسي والهندي والصيني إلخ , فلا بُدَّ أن يكونَ بيْنَ هذه التراجم مِن الخلاف مثل ما بين تراجم كتب العهد العتيق والعهد الجديد عند النصارى , وقد رأينا ما استخرجه لهم صاحب إظهار الحق من الخلافات التي كنا نقرأها، ونحمد الله تعالى أن حفظ كتابنا من مثلها؛ فكيف نختارها بعد ذلك لأنفسنا! (15) إن القرآن هو الآية الكبرى على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم , بل هو الآية الباقية من آيات النبيِّين , وإنما يظهر كَوْنُهُ آيةً باقيةً محفوظةً من التغيير والتبديل والتحريف والتصحيف بالنص الذي نقلناه عمَّنْ جاء به من عِنْدِ الله والترجمة ليست كذلك. هذا ما تراءى لنا من الوُجُوه المانعة من ترجمته للمسلمين , ليكون لهم قرآن أعجمي بدل القرآن العربي , وإذا كان بعض هذه الوُجُوه مما يمكن إدخاله في البعض , وإنما ذكر هكذا لزيادة الإيضاح , فإن هناك وُجُوهًا أخرى يمكن استنباطها لمن تأمل وفكر في وقت صفاء الذهن وصحة البدن , بل منها ما تركناه مع تذكره كاستعمال المشترك في معنييه , واللفظ في حقيقته ومجازه , كما حققه بعض أهل الأصول كالشافعية. أما دعوى القائلين بوجوب ترجمته أنَّ عدم جواز الترجمة يستلزم إيجاب بقائه غير مفهوم فهي ممنوعة؛ فإننا نقول: إن فهمه سهل , ولكن ليس لأحد أن يجعل فهمه حُجَّةً على غيرِهِ , فكيف يجعله دِينًا لشعب برمته! وإن لاهتداء المسلم الأعجمي بالقرآن درجتين - درجة دنيا خاصة بالعَوَامِّ الذين لا يتيسر لهم طلب العلم؛ فيحفظون الفاتحة وبعض السور القصيرة؛ لأجل قراءتها في الصلاة , ويترجم لهم تفسيرها، وتقرأ أمامهم في مجالس الوعظ بعض الآيات , ويذكر لهم تفسيرها بلغتهم كما جرى عليه كثير من الأعاجم حتى ببلاد الصين - ودرجة عليا للمشتغلين بالعلم , وهؤلاء يجب أن يتقنوا لغته , ويستقلوا بفهمه مستعينين بكلام المفسرين غير مقلدين لأحد منهم. إن الأعاجم الذين دخلوا في الإسلا

سد يأجوج ومأجوج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سد يأجوج ومأجوج (س2) من أمين أفندي الشباسي بهندسة عتبره (السودان) . فضيلة الأستاذ المرشد صاحب مجلة المنار الغراء: كنا في منزل يُتلى فيه القرآن الكريم , فلما جاء ذكر ذي القرنين ويأجوج ومأجوج والسدّ قال أحد إخواني: إن هذه القصة لم يظهر لها أثر تاريخي للآن , مع أنه صار اكتشاف ما على الأرض من قبل ذلك العهد وبعده. قلتُ له: يا أخي , لَعَلَّ هذا الأثر التاريخي يظهر فيما بعدُ؛ ليكون معجزةً للقرآن على ممر الأيام , كما حصل في قصة فرعون؛ فإنه وعد بأن ينجيه ليكون لمن بعده آيةً , وقد تحقق ذلك في هذه الأيام. فقال: يا أخي , إن كلامك هذا هو جواب عليك؛ إذ إن فرعون وخلافه آثار صغيرة جدًّا مدفونةٌ تحت الأرض وظهرت، والسدُّ ليس كذلك , وهذا وجه استغرابي؛ لأن سياق الآية يدلنا على أنه بين جبلين كبيريْنِ , ومن حديد ونُحَاس , ومن دونه أُمَّة كبيرة لو فُتِحَ لها ذلك السدُّ لدوخت العالم بأسره! فأين هي تلك الأُمّة وذلك السد، ورسْمُ الكُرَة الأرضيّة أمامَ نظري أُقَلب فيه فلا أجد تلك الأمة ولا ذلك السد. قلتُ: يا أخي , إني أظنُّ أن هذه الأمة هي أمة التتار , والسد هو سدّ الصين المشهور , وقد خرجت واخترقت آسيا والهند ومصر وأوربا وأخذت المُلْك من المسلمين , وأتذكر أني رأيت حديثًا في بعض الكُتُب لا أعرِف صِحَّتَه جاء فيه ما معناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا مع أصحابه، ففزع , فلما سألوه عن السبب قال: وَيْلٌ لأُمَّتِي من السّيل المنهمل , يشير إلى قرب خروج يأجوج ومأجوج , فلما خرجوا وأخذوا الملك من المسلمين في عهد ملك التتار فسر علماء ذلك الوقت هذا الحديثَ بذلك. وبعد جدال كبير حصل بيننا وعدته بأن أفيده عن يد فضيلتكم بالجواب القطعي؛ فرجائي أن تفيدوا الجواب على صفحات المنار الأَغَرّ حتى يقتنعَ المشاغب , كما هو المشهور من فضيلتكم من إيضاح الحقائق , ولفضيلتكم الشكرُ، أفندم. (ج) سألنا هذا السؤال غيرُ واحد من مصر وروسيا وغيرهما من الأقطار؛ ونقول قبل كل شيء: إن دعوى معرفة جميع بقاع الأرض باطلةٌ؛ فإن بقعة كل من القُطْبَيْنِ لا سِيَّمَا القطب الجنوبي لا تزال مجهولةً. وقد استدل بعض العلماء على أن السدّ بني في جهة أحد القطبين بذكر بلوغ ذي القرنين إلى موضعه بعد بلوغ مغرب الشمس مطلعها , وليس ذلك إلا جهة الشمال , أو جهة الجنوب. ولا يعترض على هذا القول بصعوبة الوسائل الموصلة إلى أحد القطبين؛ فإن حالة مدنِيّة ذلك العصر , وحالة الأرض فيها غير معروفة لنا الآن , فنبني عليها اعتراضًا كهذا؛ فما يدرينا أن الاستطراقَ إلى أحد القطبين أو كليهما كان في زمن ذي القرنين سهلاً , فكم من أرضٍ يابسةٍ فاضت عليها البحار فغمرتها بطول الزمان , وكم من أرض انحسر عنها الماء فصارت أرضًا عامرة متصلةً بغيرها أو منفردةً (جزيرةً) وكم من مدينة طُمِسَتْ حتى لا يُعْلَمَ عنها شيءٌ , ومِن المعلوم الآن من شئون المدنيات القديمة بالمشاهدة أو الاستدلال ما يجهل بعض أسبابه كالأنوار والنقوش والألوان وجر الأثقال عند المصريين القدماء , فالقرآن يقول في ذي القرنين: {فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ} (الكهف: 85-86) كذا من مطلع الشمس ومغربها وبين السَّدَّيْنِ، فما هي تلك الأسباب؟ هل هي هوائية أو كهربائية؟ اللهُ أعلمُ بذلك. هذا ما يُقال بالإيجاز في رَدّ دعوى معرفة جميع أجزاء الأرض , التي بُنِيَ عليها الاعتراضُ. ثم إن ما بني على هذه الدعوى باطلٌ , وإنْ فرضنا أنها هي مسلَّمة , وذلك أنه يوجد في الأرض موضعان معروفان يحتمل أن السدَّ كان فيهما؛ أحدهما: الموضع الذي يُسمّى الآن (دربند) بروسيا , ومعناه: السد , وفيه موضع يسمى (دمرقبو) أي: باب الحديد , وهو أثر سد قديم بين جَبَلَيْنِ يُقال: إنه من صنع بعض ملوك الفرس , ويحتمل أن يكون موضع السد. وقد ذكره ملطبرون في جغرافيته بما يدل على ذلك (راجع ص15و16ج 3) وأخبرني مختار باشا الغازي أنه رأى خريتةً جغرافيةً قديمةً لِتِلْكَ الجهات , وفيها رسْم ذلك المكان , وبيان أن وراءه قبيلتين اسم إحداهما: (آقوق) واسم الثانية: (ماقوق) وتعريب هذين اللفظين بيأجوج ومأجوج ظاهِرٌ جَلِيٌّ. وأمّا الموضع الثاني , فإننا نترجم ما جاء فيه عن بعض التواريخ الفارسية على غرابته وهو: في الشمال الشرقي من مدينة صنعاء التي هي عاصمة اليمن بعشرين مرحلة (مائة وبضعة فراسخَ) مدينة قديمة تُسَمّى الطُّوَيْلة. وفي شرقي هذه المدينة وادٍ عميق جدًّا , يحيط به من ثلاث جهات جبال شامخة منتصبة , ليس فيها مسالك معبَّدة , فالمتوقّل فيها على خطر السقوط والهويّ , وفي الجهة الرابعة منه سهوب فيحاء , يستطرق منها إلى الوادي ومنه إليها , وفجوة الوادي من هذه الجهة تبلغ خمسة آلاف ذراع فارسي (الذراع الفارسي متر وأربعة سنتيمات) وفي هذه الفجوة سدّ صناعي يمتد من أحد صدفي الجبلين إلى الآخر , وهو من زُبر الحديد المتساوية المقدار , فطول هذا السد خمسة آلاف ذراع , فأما سمكه فخمسة عشَر شِبْرًا وأما ارتفاعه فيختلف باختلاف انخفاض أساسه وارتفاعه؛ لأن أرضه غير مستوية. في القرن العاشر للهجرة لَمّا فتح سنان باشا القائد العثماني اليمن وصل إلى قلعة تسمى تسام , واقعة بجوار هذا السدّ , فأمر بعدَّ زبر الحديد المبني بها السد , فقصارى ما تيسر لهم عده منها تسعة آلاف. في طرفي هذا السد قلعتان عظيمتان , محكمتا البناء , قديمتان، تسمى إحداهما قلعة العرصة والثانية قلعة الباحثة.اهـ فهذا الوصف ينطبق على ما جاء في القرآن من وصف السد , وبلاد اليمن هي فيما يظهر بلاد ذي القرنين؛ لأن هذا اللقب من ألقاب ملوك العرب الحِمْيَرِيّينَ في حَضْرَمَوْتَ واليمن المعروفين بالأذواء (كذي يزن وذي الكلاع وذي نواس) ولكن إن صح وجود السد , فأين يأجوج ومأجوج منه , وهم التتر كما ورد في تاريخ السوريين قبل الإسلام أو السكيثيين الذين وصفهم حزقيال النبي بما ينطبق على وصفهم في تواريخ اليونان. ويعدهم النصارى رمزًا لأعداء الكنيسة. ثم إن لم يكن السد المذكور في القرآن هذا ولا ذاك , ولم يكن فيما بقي مجهولاً من الأرض؛ فَلِمَ لا يجوز أن يكون قد اندكّ , وذهب أثره من الوجود؟ إن قيل يمنع من ذلك أن اندكاكه , وخروج يأجوج ومأجوج من علامات الساعة أجبنا بجوابين؛ (أحدهما) : أن قرب الساعة يمتد ألوفًا من السنين؛ بدليل أن نبينا نبي الساعة , وقرب الساعة نسبي؛ أي: ساعة هو قرب بالنسبة إلى ما مضى من عمر الأرض , وما يدرينا أنه ملايين من السنين. (وثانيهما) : أن هناك ساعة عامةً وساعة خاصةً؛ أي: هلاك أمة معينة كما ورد في شرح بعض الأحاديث الواردة في الساعة. وربما عدنا إلى التفصيل في هذه المسألة.

حكم صور اليد والصور الشمسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكم صور اليد والصور الشمسية (س3) من الشيخ محمد بسيوني في (سنبس برنيو) . حضرة علامة الزمان , فريد العصر والأوان سيدي المرشد السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الغراء , نفعني الله بعلومه آمين. وبعد تقديم واجبات التحيات والاحترام , فالمرجو من تفضيلات سيدي الجواب عن السؤال الآتي صورته , وهذا هو: ما قولكم - دامَ فضلُكم - في صورة مشتغلة باليد وصورة متخذة بالفوتغراف هل الفرق بينهما متحقق أم لا؟ وما تقولون فيمن قال: إن الصورة التي اتخذت بالفوتغراف ليس فيها فعل صورة , بل هي حبس صورة كحبس الصورة التي في المرآة؛ فلا يحرم ولكن يحرم وضع هذه الصورة في البيت لمشابهتها الأصنام , فهل هذا القول صحيحٌ أم لا؛ أفيدوني سيدي , ولكم من الله جزيل الأجر والثواب. (ج) صانع الصُّوَر مصوّر , سواءٌ صنعها بيده أو بالآلة الشمسية (الفوتغرافية) . وصورة الشيء هي صورته سواءٌ صورت باليد أو بالآلة , لا فَرْقَ بينهما شرعًا ولا عُرْفًا. وأمّا قولُ مَن قال: إنه يحرم وضْع الصور في البيت لمشابهتها الأصنام , فهو مبنيٌّ على أصْل صحيحٍ , وهو أن سبب النهي عن التصوير وعن اتخاذ الصور هو منْعُ تلك الشعائر الوثنية؛ أي: تعظيم الصور أو عباداتها؛ ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة بِهَتْكِ القرام (الستار) الذي كان مُعَلَّقًا في بيتها لمشابهته الصوَر التي كانت في الكعبة، فلما هتك واتخذت منه وسادةً كان صلى الله عليه وسلم يستعملها ولا يرى في ذلك بأسًا. وحديث القرام أخرجه البخاري في صحيحه وغيرُه. وإذا كان القائل يعترِف بأن عِلّة تحريم التصوير واتخاذ الصور هي ما ذكر , فأي فرق يبقى عنده بين ما سمّاه فعل الصورة وحبس الصورة؟ القصد من الأمرين واحد , وفي كل منهما عمل اختياري للمصور , فإذا فرضنا أن قومًا عبدوا شخصًا أو حيوانًا أو غيره كما عبد بعض البابية الرجل الملقب ببهاء الله , فهل يجوز عند ذلك القائل للمصور المسلم أن يصور لهم معبودهم بالآلة الشمسية؛ ليعظموها , ويعبدوها بِنَاءً على أن فِعْلَهُ حبس تلك الصورة لا فعل لها؟ إن هذا قول لا وَجْهَ له فيما نرى , واللهُ أعلمُ.

الوقف على المساجد والمدارس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوقف على المساجد والمدارس (س4) مستفيد من سنغافورة: ما قول المنار المنير في بناء المدارس للتعليم والوقف عليها , وبناء المساجد للصلاة , ولا يخفى عليكم ما ورد في فضلها, فأي الأمرين من البنائين أفضل أفيدونا؟ (ج) في المسألة تفصيل , فإقامة الجمعة والجماعة في المساجد من شعائر الإسلام , إذا تركها أهل بلد وَجَبَ إلزامُهم بها. قال الفقهاء: ولو بالقتال. والعلوم منها ما هو فريضةٌ , ومنها ما هو فضيلةٌ , ولا بُدَّ لأهل كل بلد منها , فإذا وجد في بلد مسجد لإقامة الشعائر أو أكثر عند الحاجة فَبِناء المدارس والوقف عليها في ذلك البلد أفضلُ لا محالةَ , بل لا فَضْلَ في بناء مسجد لا حاجة إليه؛ لأن مِن أغراض الشريعة جعْل المساجد على قدْرِ الحاجة لِمَا في كثرتها من تفرّق المسلمين , وإذا أمكن اجتماع أهل البلد في مسجدٍ واحدٍ فهو أفضلُ من تفرقهم في مسجدين أو أكثر , بل ذهب الإمام الشافعي إلى وُجُوبِ أداءِ الجُمُعَة في مسجدٍ واحدٍ إنْ أمْكَنَ في تفصيل سبق لنا الكلام فيه في أحد مجلدات المنار. وإذا وجد في بلد مدارس للتعليم , ولم يوجد فيها مسجد لإقامة الجمعة والجماعة , فلا شَكَّ أن بناء المسجد يكون حينئذٍ أفضل؛ لتوقف إقامة الشعائر عليه. وإنما تأتي المفاضلة في بلد لا مسجدَ فيه ولا مدرسةَ , ويحتاج أهلُه إليهما معًا وحينئذ يظهر أنه يجب الابتداء بالمسجدِ , ويمكن أن يُصلى فيه , ويُعلم ما لا بُدَّ منه حتى يتيسرَ بِناء مكان للتعليم خاصّ به. وقد تبين مما تقدم أن بناء المدارس أفضلُ في البلاد التي فيها مساجدُ تُقامُ فيها الشعائرُ , وأكثر أمصار المسلمين كذلك فبناء المساجد فيها مع عدم الحاجة إليها مضادٌّ لمقصد الشريعة , وهو لا يكون إلا عن رياء أو جهل.

السياسة الإنكليزية الجديدة في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السياسة الإنكليزية الجديدة في مصر ننشر هذه المقالة بالإمضاء الرمزي لكاتبها لِمَا فيها من البشارة بالمجلس النيابي كان عميد الدولة الإنكليزية في عهد توفيق باشا يدير الأمر معه وما يتفقان عليه ينفذ بهدوء وسكون , ولكن توفيق باشا كان لضعف إرادته يواتي العميد فيما يريد , قَلََّمَا يُرَاجعه في شيء , فلما ولي العباس رأى منه ذلك العميد ما لم يكن يرى من والده من المقاومات , فكان ينتهز فرصة كل حركة لتقوية نفوذ دولته في البلاد , فأكثر من المستشارين والمفتشين والقضاة وكبار العمال من الإنكليز , وفعل ما فعل. ثم ظهرت المقاومة في الجرائد وعلى ألسنة الناس حتى صارت تشويشًا مزعجًا. وقد كان لورد كرومر يتمنى لو يتفق مع الأمير , ولكن كان في طبيعة كل منهما وطبيعة الوقت ما يحول دون ذلك , حتى إنهما تَكَلَّمَا غيرَ مَرَّةٍ في أَمْرِ الوفاق , وبعد التواطؤ بزمن قصير أو طويل كان يعود التدابر كما كان أو أشد حتى قِيلَ: إن اللورد عزم في آخِرِ مُدّتِهِ على إقناع دولته بوُجُوب عَزْل الأمير , ولكن جاء هذا الرأي في عهد وزارة الأحرار الحاضرة , وهي وزارة تميلُ إلى التساهل في المستعمرات , وما في معناها كمصر في عرفهم , فلم يتم للورد ما يريد بل خرج هو من مصر وبقي أميرها فيها. ومما كان قد عزم عليه الرجوع إلى كبار الأمة في معرفة مطالبها الحقيقية؛ لإنالتها ما يمكن منها مع الإعراض عن الأمير. ولا ننسى ما كان في آخر مدته من حملة الجرائد الإنكليزية على الخديو , لا سِيَّمَا بعد أن نشر مكاتب الطان عن الأمير ذلك الحديث الشهير , فعالج الأمير تلك الحملة عليه بحديث آخَرَ عهد إلى مستر ديسي الإنكليزي بنشره في جريدة الديلي تلغراف الإنكليزية , أهم ما فيه الإشارة إلى رغبته في الوفاق , فكان ذلك مقدمةً للسياسة الجديدة التي سنبينها. وهناك مقدمة ثانية شرع فيها لورد كرومر , وتكفل سر ألدن غورست بالمضي فيها وهي اختيار الأَكْفَاء من المصريين للوظائف الكبرى وتحميلهم (مسئوليتها) , وأول ما بدأ به الأول من ذلك جعل سعد باشا زغلول وزيرًا للمعارف , وأخيه أحمد فتحي باشا وكيلاً للحقانية، وآخر ما قرره الثاني جعل عبد الخالق ثروت باشا نائبًا عموميًّا. وهناك مقدمة ثالثة جربها العميد الجديد , فجاءت كما يراد وهي اعتماد إنكلترا على الأمير في سياسة البلاد العامة , وعدم الالتفات إلى مطالب الأمة وجرائدها. فالسياسة الجديدة للإنكليز في هذه البلاد هي أن يلقوا تبعة سياستها وإدارتها على غاربها , فلا يحملوا منها شيئًا في مصر بل يحملوها الأمير وحكومته ومجلس نواب الأمة، وما دونه من مجالس المديريات. ما هو مجلس نواب الأمة؟ هل هو مجلس الشورى أم الجمعية العمومية؟ وما معنى تحميله تبعة وهو لا يتبع رأيه؟ لا لست أعني بمجلس النواب ما ذكر وإنما أعني أن الحكومة البريطانية عزمت على أن تمنح مصر ما تطلبه بلسان جرائدها وأحزابها من الدستور والمجلس النيابي، وأن تجعل الفضل في هذا للأمير , فهو يُكاشفها بذلك , وهي تظهر له الموافقةَ على رغبته بكيفية مخصوصة. والأمير ينفذ لها رغائبها بمصر. إننا نعلم من مصدر رفيع أن الإنكليز عزموا على أن يمنحوا مصر المجلس النيابي , وأنه ليس للإنكليز مقاصدُ في مصر تُنافي السماح للمصريين بذلك , بل يفتخر أحرار إنكلترا بذلك لموافقته لسنتهم في تحرير الشعوب , وترقية الحكومات ويكتفون في الأمن على مصالحهم بمصر باستمرار الاحتلال , والثقة بمودة أمير البلاد , ولا يبالون بالجرائد والأحزاب , بل يعتقدون أن ستسكن من نفسها , وأن خير علاج لها إهمالها. هذا ما أرويه للقراء روايةً لا يشوبها رأي ولا تخرص، فما كان منه عن شيء مضى فهو مما يعرفه العارفون، وما كان عن شيء يأتي فسيراه الناظرون، وقد يقال من باب الرأي: إن الإنكليز مخطئون في ظنهم أن الحركة الوطنية ستسكن من نفسها؛ فإن وراء مجلس النواب الذي سيكون محدود السلطة كلامًا كثيرًا في سلطتِه , ووراء ذلك مسألة الاحتلال نفسها. نعم , إن معظم حماسة الجرائد يمكن أن تتحول إلى نقد الوطنيين الذين يحملون تبعة الإدارة , وتكون الحُجَّةُ على المحتلين ضعيفةً بل ظهرت بوادرُ هذا في كلام اللواء في أول مصري عريق حمل تبعة العمل في الحكومة , وهو سعد باشا زغلول , فإن اللواء أشد عليه منه على مستشاره مستر دنلوب. فمن مثل هذا قد استنبط الإنكليز أن السياسة الجديدة التي شرعوا فيها ستعقبهم راحة من ضوضاء مصر , وتشغل المصريين بأنفسهم , والله أعلم بما تأتي به حوادث الأيام.

القرآن والعلم ـ 2

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ القرآن والعلم (2) تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب في ردّ الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز المسألة الثالثة (ذو القرنين ومطلع الشمس ومغربها) قال الله تعالى في قصة ذي القرنين: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} (الكهف: 86) إلى قوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} (الكهف: 90) . تقول العرب: بلغ فلان مغرب الشمس , أو وصل إلى المشرق إذا سار إلى أقصى ما عرف لهم من المسكونة في جهتي الشرق والغرب , فكان الكلام على تقدير مضاف؛ أي: وصل فلان إلى أرض المغرب أو أرض المشرق , ومعنى ذلك أنه وصل إلى آخر أرض تغيب عنها الشمس , أو إلى أول أرض تشرق عليها بِحَسب علمهم , وإلى الآن تقول جميع الأمم الراقية: (بلغ فلان الشرق الأقصى) إذا سافر إلى بلاد اليابان أو إلى بلاد مراكش. ويسمون هذه البلاد: الشرق أو المشرق وبلاد الغرب أو المغرب , ولا يعنون بذلك سوى أنها أول بلاد من الدنيا القديمة تشرق عليها الشمس , وآخر بلاد تغرب عنها؛ فمعنى قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (الكهف: 86) أنه وصل إلى آخر أرض معروفة للعرب تغيب عنها الشمس ويسمونها المغرب. ومهما كان الإنسان عالمًا فإنه لا يتحاشى أمثال هذه التعابير المعهودة للبشر , فكذلك القرآن الشريف فإنه جرى عليها , وكذلك كل كتاب ولو كان في الفلك أو الجغرافيا الحديثة {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) أي: خُيّلَ له أنها تغرب في العين , كما يخيل ذلك لكل من وقف على ساحل البحر وَقْتَ الغروب فإنه يرى الشمس كأنها تغيب في البحر؛ ولذلك نسب القرآن الأمر إلى وجدان ذي القرنين؛ فقال: {وَجَدَهَا} (الكهف: 86) ولم يقل مثلاً: (حتى إذا بلغ مغرب الشمس رآها وهي تغرب في العين) أو نحوه مما يفيد أنها تغرب فيها حقيقة. والعين: كل ماء جارٍ , كما في قوله تعالى {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 57) أي: أنهار جارية وكقوله في وصف الجنة {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} (الغاشية: 12) وقوله: {حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) معناه ذات طين أسود , وفي قراءة (حامية) أي: ساخنة ولعل سخونة الماء ناشئة عن وجود ينبوع حارّ خارج من جوف الأرض بجوارها , وإذا كان المراد مياه المحيط فقد تكون سخونتها ناشئة عن التيارات المائية الآتية من خط الاستواء كما هو معروف للمطلعين على علم الجغرافية , فإن المحيط الأطلانطيقي ينطبق عليه هذان الوصفان وهو كونه ذا طين أسود , وكون بعض مياهه ساخنة , فلعل ذا القرنين وصل إليه بسيره إلى نهاية أفريقية من جهة الغرب. فإن تيار الخليج STREAM GULF الآتي من ساحل أمريكا عند خط الاستواء ينقسم وهو ذاهب إلى الشمال إلى قسمين: قسم يصعد إلى أوربا , وقسم ينزل إلى ساحل أفريقيا الغربي ولون مائه أسود , وهو ساخن (فإن درجة حرارته لا تقل عن 85 بمقياس فرنهيت) . ثم قال: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} (الكهف: 90) والمعنى أنه سارٍ إلى أرض المشرق حتى وصل إلى أول أرض تطلع عليها الشمس؛ أي: بِحَسَبِ ما تعرف العرب من المسكونة , ولعل ذا القرنين وَصَلَ إلى جبل عالٍ من جبال آسيا ظن أنه نهاية الأرض , أو وصل إلى ساحل الهند الشرقي فظن أنه نهاية العالم , فلما وصل إلى تلك الجهة التي تسميها العرب مطلع الشمس أو المشرق وجد الشمس أول ما تطلع تطلع على قومٍ عُرَاة الأبدانِ , ليس لهم من دون الشمس وقاية , وهذا هو حال الأمم المتوحشة الساذجة. واعلم أن أمثال هذه السياحات أو الفتوحات الكبيرة معهودة في تواريخ القدماء كالإسكندر المقدوني وغيره , وكان يتيسر لهم ذلك لِعِظَمِ قوتهم , وضعف الأمم المجاورة لهم وبساطتهم , وقِلّة عددهم بالنسبة لهم , فكان يسير الفاتح العظيم منهم بجيشه الجرار , ولا يجد في كثير من الجهات أدنى مقاومةٍ , أو إذا وجد تكون في الغالب ضعيفةً. والغالب أن ذا القرنين هذا المذكور في القرآن هو أحد ملوك اليمن الحميريين , فإن العرب لا يعرفون ملوك غيرهم من الأمم , وما كانوا يسألون النبي عليه السلام عنها , و (ذو) لفظة عربية محضة وردت كثيرًا في ألقاب العرب أهل اليمن كذي يزن وذي كلاع وذي نُوَاس. ونقل عن ابن عباس أنه سئل عن ذي القرنين المذكور في القرآن , فقال: هو من حمير. وقال أحد شعراء الحميريين: قد كان ذو القرنين قبلي مسلمًا ... ملكًًا علا في الأرض غير مفندِ بلغ المشارق والمغارب يبتغي ... أسباب ملك من كريم سيدِ وكل ذلك يؤيد أن العرب ما سألوا النبي إلا عن ذي القرنين هذا المعروف عندهم , ونظرًا لانْدِرَاسِ التاريخ القديم عمومًا وخصوصًا تاريخ العرب الأقدمين , ولعدم الثقة بأكثر ما جاء فيه من القصص , ولعدم اهتمام الأمم المتأخرة بشأن أهل اليمن لم يشتهر أمْر هذا الفاتح الكبير بين الأمم الأخرى , والمظنون أنه كان على زمن الخليل إبراهيم عليه السلام. قيل: إن اسمه الصعب بن الرايش. وقيل: إنه أبو كرب شمس بن عبير بن أفريقش، وكان ملوك اليمن يَلْبَسُونَ تاجًا له قرنان الغالب أنهم اقتبسوه من ملوك مصر. وأول من لَبِسَهُ اشْتُهِرَ بينهم بلقب ذي القرنين من أجل ذلك. وفي التاريخ القديم آثار كثيرة يدل على أن أهل اليمن كانوا قد بلغوا شأوًا كبيرًا من القوة والعظمة , وأنهم تغلبوا على أقاصي البلاد , وغَزَوْا بابل، وبلغوا الهند، وفتحوا بلاد الفرس ويسمى غزو العرب لبلاد فارس في أحاديث الفرس (غزو ذو حاق) , وكان ذلك قبل الميلاد بأكثر من 2000 سنة , وقد أغار أهل اليمن أيضًا على بلاد المغرب، وفتحوا مصر , واستوطنوها، ويسمون فيها بالهكسوس. فلا يبعد أن يكون ذو القرنين المذكور في القرآن هو أكبر ملوكهم الفاتحين , وقد بلغ ملكه أو سيره أقصى ما كان معروفًًا إذ ذاك من بلاد المشرق والمغرب , وقد بنى سدًّا بين جبلين في جهة الشمال لا يعرف الآن موضعه؛ لمنع يأجوج ومأجوج من التعدي على الأمم المجاورة لهم , وهما قبيلتان شهيرتان من القبائل القديمة المتوحشة , وقد ورد ذكرهما أيضًا في كُتُب أهل الكتاب (تك10: 2وحز38: 2 و3) . وإذا علم الإنسان أن أكثر بقاع الأرض لم تطأها أقدام أحد مِن السائحين الباحثين أو الجغرافيين , وإذا تذكر ما عرض لهذا السد من التغيرات الطارئة عليه من الصدأ , ومن هبوب الرياح , ونزول الأمطار , ورسوب التراب وغيره عليه بل ربما تغطى بأشياء كثيرة مما يحملها سيل المياه على الجبال , إذا تذكر كل ذلك أدرك شيئًًا من أسباب عدم عثور أحد على مثل هذا السد , وربما إذا رآه أحد الآن لا يمكنه أن يميزه عن سائر الجبل , فقد يكون مغطى بطبقة حَجَرِيَّة مما أذابتها المياه , وحملتها إليه، فجفت عليه. فإذا جاء يومُ القيامة انْدَكَّ هذا السّدّ كما تُدَكّ جميع الجبال كما قال القرآن الشريف: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقاًّ} (الكهف: 98) . هذا ومن تذكر إغارة المغول (التتار) وهم نسل يأجوج ومأجوج في القرن السابع الهجري على بلاد المسلمين والنصارى , وما أَتَوْهُ من الإفساد في الأرض , وما أوقعوه بالأمم المختلفة من القتل والسَّبْي والنَّهْب - أمكنه تصور حصول هذا منهم مرةً أُخرى قبل مجيء الساعة , كما قال القرآن الشريف: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} (الأنبياء: 96-97) ولا مانِعَ من أن يكون ما حصل منهم سابقًًا هو الذي أراده القرآن في هذه الآية ويكون قوله: {وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ} (الأنبياء: 97) كقوله: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) على أن الانشقاق حصل في عَصْرِ النَّبِيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم , وهو تعبير معهود في الكتب المقدسة إذا أنبأت عن الحوادث المستقبلة. * * * المسألة الرابعة (يحيى بن زكريا) قال الله تعالى: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيَّا} (مريم: 7) . يقولون: إن يحيى هو يوحنا عند أهل الكتاب , ويوحنا هذا اسم شهير عند اليهود سُمِّيَ به كثيرون قبْل ابن زكريا؛ فكيف يقول القرآن: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيَّا} (مريم: 7) ؟ ؟ ونقول لا نُسَلِّمُ بأنّ لفظ يحيى في القرآن هو تعريب لفظ يوحنا عندهم؛ لأن يحيى من الحياة , ويكتب في العبرية هكذا () , وينطق: يحييه , وأما (يوحنا) فهو الصيغة اليونانية للفظ (يوحنان) العبري , ومعناه: (يهوه حنون) أي: الله حنون. فهو إذًًا من الحنان لا مِن الحياة , وعليه يكون لفظ يحيى غير يوحنا , ووجود شخص مُسَمًّى باسمين كثير جدًّا , وقد يكون الاسم الثاني لقبًا له , وأمثلة ذلك في كتب العهدين كثيرة جدًّا؛ منها أن اسم بطرسَ: سمعانُ واسم تداوسَ: لباوسُ , وهما من تلاميذ المسيح (راجع مَتَّى 10: 2و3) وكان النبي عليه السلام يغير كثيرًا من أسماء أصحابه , فيشتهرون بما سَمَّاهم به رسول الله , وعند جميع الأمم يوجد أشخاص لهم أكثر من اسم. هذا إذا لم نقل إن تسمية ابن زكريا في العهد الجديد بيوحنا هو من خطأ مؤلفي الأناجيل باللغة اليونانيه؛ إذ يجوز أنهم لم يحسنوا نقل اسمه الحقيقي (يحييه) إلى لغتهم. ويحتمل أن الاسم الذي بشر الله به زكريا هو (يحيى) ولما اشتُهِر عن يحيى الشفقة والحنان بالناس كما قال القرآن في وصفه: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} (مريم: 13) صاروا يلقبونه بيوحنا حتى شاع بينهم ذلك أكثر من اسمه الأصلي الذي سمّاه الله به. وهناك وجه آخر في تفسير عبارة القرآن الشريف. وهو أن زكريا طلب من الله وارثًًا له من نسله خوفًًا من مواليه , فَبَشَّرَهُ الله بأن سيكونَ له ولد , وسيكون اسمه يحيى , وقال له: إن هذا الاسم لم يسم به أحد قبله؛ أي: بينهم في أهله وعشيرته , كما قال إنجيل لُوقَا (1: 61 فقالوا لها - أي: لأمه - ليس أحد في عشيرتك تسمى بهذا الاسم) فقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياًّ} (مريم: 7) أي: في أهل زكريا الذين كان الكلام معه في شأنهم والخطاب له فيمن يرثه منهم إذا سلم أن لفظ يحيى هو عين يوحنا , وأنه تعريب له. على أنه قد يكون المراد بالسمي السمي الحقيقي؛ أي: إنه لم يسم أحد قبل يوحنا بهذا الاسم , وكان مثله في صفاته العالية وأخلاقه الطاهرة , فكل من سمي قبله به ما كانوا يستحقونه؛ لأنهم لم يصلوا إلى درجته في الشفقة والرحمة والحنان , وقد ورد لفظ السمي في القرآن بهذا المعنى أيضًا في سورة مريم التي منها هذه الآية التي نحن بصدد الكلام عليها , فقال تعالى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} (مريم: 65) أي: سميًّا حقيقيًّا , وإلا فقد اتخذ آلهة أُخْرَى من دُونِ الله كثيرون. * * * المسألة الخامسة (السَّامِرِيُّ والعِجْل) قال الله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِ

السنن والأحاديث النبوية

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ السنن والأحاديث النبوية (تتمة بحث النسخ) قال حضرة الدكتور: وإذا فتشنا الأحاديث - إلى أن قال - فالقرآن لا يجوز أن ينسخ بالسنة ولو كانت متواترة , وبه قال الإمام الشافعي رحمه الله , وليس فيه منسوخ مطلقًًا كما قال أئمة بعض المفسرين كأبي مسلم الأصفهاني , وكما دل على ذلك الاستقراء والدليل , وأتى بكلام , ثم قال: والذي نراه نحن أن العقل لا يستقبح وقوع النسخ في القرآن الشريف إذا كان القرآن يبين لنا نصًّا جميع ما نسخ، وجميع ما لم ينسخ، أو أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك بيانًا ينقل متواترًا ويتفق عليه عملاً بين المسلمين , إلخ. والناظر يرى بادئ بدء بعد المقارنة بين كلام حضرة الدكتور أن قوله (والذي نراه نحن، إلخ) هو رجوع منه ونسخ لقوله: فالقرآن لا يجوز أن يُنسخ بالسنة ولو كانت متواترةً؛ لأنه إذا كان النسخ هو كما ذكر إبطال حكم إلى بدل أو لغير بدل , وجاز أن يقبل قول الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية منسوخة , لا إلى بدل مثلاً في حق من علم صدور ذلك القول منه صلى الله عليه وسلم , فما ذلك إلا قول بجواز نسخ القرآن بالسنة , وهو مناقض لقوله: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة. وسيأتي لنا كلام على الأخبار التي يلزم الأخذ بها , ويعلم صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما ما ذكر حضرة الدكتور من اشتراط أحد الأمرين للنسخ , إما تبيين القرآن لنا نصًّا جميع ما نسخ وجميع ما لم ينسخ , أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك وينقل متواتراَ , إلخ. فنقول فيه: إن حضرته ذكر أن النسخ لمقتض لا يستقبح عقلاً يَعْنِي أنه جائز عقلاً , فهل ما اشترطه للنسخ واجب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم عقلاً , فما هو؟ أم شرعًا، فأين هو؟ وهل يشترط ذلك فيما نسخ لفظه ومعناه لا إلى بدل؛ لأن تعريف النسخ الذي ذكره أول الرسالة يشمله , وليس هو داخل فيما أنكر وقوعه من نسخ لفظ بلفظ , أو نسخ لفظ وإبقاء حكمه؟ وما معنى اشتراط التواتر , فإن النسخ إنما كان يقع في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وَقْتَ نًُزُول الوحي , وذلك مضى وانقضى , والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يلزموا الأُمّة , ولم يوجبوا عليهم أن ينقلوا الدين إلى من بعدهم بالتواتر , ولم نَرَ ذلك ولا في موضع من كلامهما , ولم يجعلا ذلك شرطًا لا للتبليغ ولا للقبول , وسيأتي مزيد بيان لذلك. إن اشتراط حضرته ذلك مع اشتراطه أن يتفق عليه عملاً بين المسلمين مِمّا لا يجوز عقلاً لامتناع تأخُّر ما يلزم في وجود شيء عن وجوده , كأسبابه وشروط وجوده والنسخ قد وقع؛ بدليل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106) الآية , والتواتر واتفاق عمل المسلمين إنما هو بعد ذلك، والله تعالى لم ينصب ذلك شرطاً لِقَبُولِنَا ذلك , أو أن الحال لا ينكشف لنا إلا بأحدهما , فظهر أن ذلك لا يصلح لأن يكون سببًا للنسخ، ولا لبلوغه إلينا. أما اشتراط حضرته في رسالتيه لبيان النسخ طريقة معينة مخصوصة , وهي أن يقول الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم: هذه الآية ناسخة , وهذه منسوخة , فهو التزام لما لا يلزم , واكتفاء بما لا يكفي , ولا يطرد في جميع المسائل , فإن النسخ مشترك لفظًا يصدق على معاني مختلفة وصدقه عليها مختلف فيه , ثم هو في أفراد كل واحد من مَا صِدْقَاتِه قد يكون عامًّا. ثم معرفة المراد منه قد يكون مجملاً , فإذا قيل هذه الآية منسوخة أو هذه ناسخة فقط. ولم يقرن ذلك بما يعين المراد احتمل ذلك نسخ كل هذه الآية أو بعضها أو زيادة أمر في الناسخ مع بقاء المزيد , أو رفع شرط أو قيد أو زيادتهما إلى غير ذلك فتبين أن مجرد قوله: هذه الآية ناسخة وهذه منسوخة لا يكفي في بيان المراد إلا بانضمام ما يبين المراد مع ذلك مما يتبين به مورد النسخ المعين , وإذا كان الله أجاز النسخ في شرعه بجميع معانيه كما دل عليه كلام السلف , أو بعضها كما هو قول المتأخرين ففي الموارد المخصوصة؛ أي: ووقت البيان لا يجوز أن يؤتى بما لا يتبين المراد منه إلا مع مبين - والبيان: إخراج الشيء من حيّز الإشكال إلى حيز التجلي , فظهر بذلك أن معرفة الناسخ والمنسوخ لا يتوقف على خصوص ما ذكره حضرة الدكتور بل معرفته في كل محل بما يبين المراد هو الأولى , وإن لم يكن بلفظ ناسخ أو منسوخ , ومن ذلك ما ذكره العلماء في معرفة الطريق الذي يكون الناسخ بها ناسخًا والمنسوخ منسوخًا. وَلَيْتَ شِعْرِي , ألا يكفي في الدلالة على النسخ تأخّر التاريخ مع التعارض والتناقض بين الحكمين , ككون الشيء في آية حلالاً , وفي آية بعدها متأخرة نزولاً حرامًا أو العكس؟ وقد ذكر علماء الأصول طرق معرفة النسخ والناسخ والمنسوخ , وبينوا ذلك فارجع إلى كتبهم إن شِئْتَ. ثم لا ندري ما الموجب لطعن الطاعنين، واستهزاء الهازئين بعد ثبوت جواز النسخ عقلاً وشرعًا ووضعًا , ووقوعه في الشرائع فعلاً كما اعترف بذلك حضرة الدكتور؛ فليتأمل حضرته في هذا الموضع , وليعلم أنه بادر إلى التهكم والتعريض بمخالفيه إلى استحقاقهم أشد العذاب قبل أوانه؛ إذ لم يقم حجة على ما قال , ولم يحط علمًا بما لديهم من الحجج؛ لا سِيَّمَا معاصريه , إذ لا يمكننا إنكار اطلاعه على ما هو مسطور في زبر الأولين , وإنْ كنا نستبعد إمكانَ اطلاعه على الكل نقول ذلك قياسًا على أنفسنا , وكما قال ذلك الكبار. ونقول أيضًا: إذا كان النسخ هو ما ذكرنا سابقًا عن السلف رضي الله عنهم , وما ذكره حضرته وأنه يرى أن العقل لا يستقبحه , فلا محل للتشنيع على مَنْ قال بوقوعه في القرآن , وعليه فالقول بوُقُوع النسخ في القرآن أو عدم وقوعه منحصر في الدليل النقلي , وفي الاستقراء؛ أي: تتبع آيات القرآن , فحضرة الدكتور استدل على عدم وقوع النسخ في القرآن بقوله تعالى: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) حيث قال: فلا يجوز أن يبدله الله بعد وعده بعدم تبديله؛ إذ النكرة (أي لفظ مبدل) في سياق النفي تعم. وأقول: قد اختلف في أن المتكلم هل يدخل في عموم خطابه أم لا؟ والحق أنه لا يدخل إلا بقرينة , وليس هنا قرينةٌ تدل على ذاك , بل القرينة تدل على عدم دخوله. فالآية المذكورة ليس هي عندنا مما تدل على منع النسخ بمعناه السابق , وإنما تدل على صيانة القرآن عن انتحال المبطلين وعبث أعداء الدين , وأن الله لا يجعل لهم عليه سبيلاً , وذلك نظير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) , وقوله: {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 42) , ونقول أيضًا: نفي الشيء فرع عن ثبوته , ولا شَكَّ هنا أن المراد بنفي المبدل نفي جميع التبديل بجميع معانيه , وأكثر معاني التبديل لا يجوز أن ينسب إلى الإله؛ وعليه فلا يدخل في عموم المنفي كما خصص عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 20) بما سوى الواجب لاستحالة تعلق القدرة به - ويقرب من ذلك قوله تعالى: {فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} (الجن: 26) فإنه لولا الاستثناءُ لمن ذكره لَوَجَب أن لا يطلع على غيبه أحد مطلقًا , لكنه لا يجوز بحال أن يقال: إنه تعالى داخل في عموم المنفي. فتبين بما ذكرناه أن التبديل المنفي في قوله تعالى: {لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) إنما هو التبديل الذي يكون مِن البشر , كما كان يفعله اليهود والنصارى في كتابيهم. أما التبديل بمعنى النسخ بأن يبدل الله آية مكان آية أو ينسخ حكمها هو أو رسوله لا من تلقاء نفسه , فهذا لا عَيْبَ فيه كما ذكر الدكتور , والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن التبديل من تلقاء نفسه , وإذا كان النسخ هو ما ذكرناه عن السلف , فإنكار وقوعه مكابرة، ومخالفة لما هو ثابت في الواقع كما دل على ذلك الاستقراء؛ إذ ما من عامٍّ إلا وقد خصّ , وما من مطلق إلا وقد قيد إلا آيات التوحيد، وما ضاهاها. وأيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) خاصة في معنى من معاني التبديل , ومحله المعين والفاعل معلوم , فهي بلا ريبَ نصّ في جواز النسخ الذي لا عيبَ فيه عقلاً , أمّا قول حضرة الدكتور فما ذكرناه هنا وهناك يدل على أن تفسير الآية هكذا: وإذا أتينا بحكم في الشريعة الإسلامية بدل حكم في الشرائع السابقة , ووضعناه مكانَه قالوا: إنما أنت مفتر كذّاب تختلق الأحكام , وتنسبها إلى الله إلى آخر الآيات - وزعم أن القول بأنه مفترٍ في قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} (النحل: 101) إنما صدر من أهل الكتاب الموجودين بالمدينة إلخ. وأقول: إن قوله إنما صدر من أهل الكتاب الموجودين بالمدنية هو اعتراف منه بجواز أن تكون هذه الآية مدنيةً , فاحفظه. ثم إن ما ذكره حضرته، وحمل الآية عليه غير صحيح لِمَا قدمناه؛ ولأن سياق الآية لا يدل عليه , وإنما يدل على خلافه , فإنه تعالى ذكر المشركين , ثم حكى هذا القولَ عنهم , ورَدّ عليهم بأن أكثرهم لا يعلمون؛ لأنهم ليس معهم كتاب والمشركون هم الذين زعموا أن الغلام النصراني يُعَلّم النبي صلى الله عليه وسلم افتراءً وكذبًا كما كذبهم الله في هذه الآية وغيرها، ويدل على ذلك أيضًا أن الله لما بَرَّأَ رسولَه صلى الله عليه وسلم من تُهَمهم الكاذبة ذَكَرَ أن سبب تهجمهم وإقدامهم على ما هو واضح البطلان إنما هو ضلالهم , وعدم إيمانهم بآياته , فإنه تعالى لا يهديهم، وأكد في الردّ عليهم بأن المفتري في تبديل آيات الله إنما يكون مَنْ لا يؤمن بها , وهذا نص أيضًا في إرادة المشركين , فظهر أن القائل بأنه مفترٍ إنما هم المشركون , ولأن الآيات قبلها وبعدها إنما هي في ذكر مساوئ المشركين , وتحذير المؤمنين من التخلق بأخلاقهم، والاقتداء بعاداتهم , وعن الإصغاء والالتفات إلى شُبُهاتهم عند نزول ناسخ، أو تبديل آية مكانَ آية؛ لأنهم لا يؤمنون بآيات الله , فلم يهدهم للصواب في الجدل , فهم يستدلون على كذب الرسول صلى الله عليه وسلم بما يرون في كتابه من النسخ لاعتقادهم أن ذلك تناقض لعدم علمهم بما في ذلك من الحكم والمصالح. أما أهل الكتاب (اليهود) , فلم يَأْتِ لهم ذكر حتى يعودَ الضمير إليهم وأيضًا , فإن الله تعالى قد عيّن هؤلاء القائلين بأنهم الذين لا يؤمنون بآياته , وهذا لا يصحّ صدقه على اليهود إذا كان المُراد بالآيات: الأحكام , وبالآية الواحدة الحكم لإيمانهم بالتوراة , وإن أريد بالآيات الجمل من الكلام المحدود المخصوصة , فإن أطلقت على عبارات التوراة فكذلك , وإن لم تطلق بَطَلَ حمْل الآية المبدلة على شيء من عبارات التوراة، فثبت بذلك أن المراد: وإذا بدلنا آية من القرآن مكان آية منه، قال المشركون: إنما أنت مفتر. وهم لا علم لهم بالتوراة ولا بأحكامها. ثم نقول: لو كان التبديل؛ أي: النسخ ممنوعًا في القرآن مطلقًا , وأن الله لا يبدل آية مكان آية لَمَا صَحّ تقييده في جواب الكفار حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} (يونس: 15) حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (يونس: 15) , فإنه لا معنى للتقيي

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (كتاب التربية) أَلَّفَ علماء أوربا كتبًا كثيرة في فن التربية , فلما كتب ذلك الفيلسوف سبنسر كان ما كتبه ناسخًا لطريقة من قبله , ولكثير مما جاءوا به وقدوة جديدة لمن عاصره , ولمن يجيء بعده فهو الذي بنى قوانين التربية على أسس المنفعة , وبين خطأ الناس في تقديم الزينة على المنفعة كما جرى عليه المتوحشون من أقدم زمن يعرفه التاريخ. وكتابه في التربية أشهر من أن يذكر فينوه به , وقد ترجمه بالعربية محمد أفندي السباعي أحد محرري الجريدة , وطبع في مطبعتها طبعًا حسنًا على ورق جيّد فبلغت صفحاته 143 , وجعل ثمنه عشرون قرشًا، وهو يطلب من إدارة الجريدة. *** (مجموعة الخطب) تمنى كثير من أهل العلم والأدب لو تطبع الخُطَب التي تلقى في نادي دار العلوم، وكاشفوا رئيس النادي (حفني بك ناصف) بأمنيتهم , فوافقت رغبته رغبتهم وقرر مجلس إدارة النادي طبع الخطب التي يكتبها أصحابها. وقد طبعت المجموعة الأولى، فأوعت ثماني خطب في موضوع اللغة والتعريب والترجمة , فبلغت زهاء مائة صفحة , وجعل ثمن النسخة منها قرشان ونصف قرش , وهي تطلب من النادي بشارع عبد العزيز (نمرة 5) . *** (بلاغات النساء) كتاب لطيف من تأليف أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر المحدث المؤرخ (المتوفى سنة280) أودعه ما رواه عن النساء من خطبهن وطرائف كلامهن , وملح نوادرهن , وأخبار ذوات الرأي منهن , وأشعارهن في الجاهلية وصدر الإسلام , ففيه من الخُطب خطب عائشة أم المؤمنين في فضائل أبيها ورثائه، وخطبتها السياسية بالبصرة وخطبتها لما بلغها قتل عثمان. وفيه خطبة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام لما منعها أبو بكر ميراثها, وغير ذلك من خطب وكلام أمهات المؤمنين ونساء الصحابة رضي الله عنهن وعن أزواجهن , وكلام غيرهن في السياسة والآداب والمدح والرثاء , ومن أحسنه كلام كثيرات منهن مع معاوية في تخطئته بما كان منه. وفيه كثير من كلام النساء في الأزواج مدحًا وذمًّا، ووصاياهن لبناتهن , والتعبير عن سائر أغراضهن نثرًا ونظمًا، وليته خلا من أخبار مواجنهن، وأحاديث رفثهن، إذًا لكان الكتاب جديرًا بعناية الشبان والشواب؛ لِمَا فيه من روائع الآداب طبع الكتاب أحمد أفندي الألفي طبعًا حسنًا على ورق جيد , وشرح في هوامشه ما رآه خفيًّا من مفرداته حتى بعض كلم الرفث والمجون الذي كان أجدر بالخفاء منه بالظهور، وقد بلغت صفحاته زهاء 200 من قطع المنار , وجعل ثمن النسخة منه عشرة قروش صحيحة , ويطلب من المكتبات المشهورة. *** (مطالع البدور في محاسن ربات الخدور) هو كتاب خاص بوصف محاسن النساء نظمًا ونثرا , جمع فيه واضعه محمد سليم بك أبو الخير الأنسي ما اختاره ذوقُهُ من كلام المتقدمين , وما جادت به قريحتُه في ذلك , ومثل هذا الوضع لا يحتاج إلى من ينوه به , ولا يرغب فيه؛ لذاك كتبنا عنه هذه الكلمات قبل مطالعة شيء منه , وقد جعله جزئين لطيفين , طَبَعَ أحدهما وشرع في طبع الآخر , وثمنهما عشرة قروش , وثمن الذي طبع وحده خمسة قروش , ويطلب من المكتبات المشهورة. *** (تحفة المجالس ونزهة المجالس) كتاب لطيف في المحاضرات , يُعْزَى إلى جلال الدين السيوطي , جُلُّهُ حكايات وأخبار في فضل العقل والعلم , وأخبار الأولين من الأنبياء والخلفاء والملوك والقضاة والمتلصصين والنساء والعشاق. طبعه الحاج محمد أفندي دربال التونسي التاجر بسوق العطارين بالقاهرة , وقد جعل ثمن النسخة منه خمسة قروش صاغ , وهو مما يرجى رواجه؛ لتوفر الرغبة في أمثاله من كتب الفكاهات والمحاضرات عند جميع طبقات الناس , ولِرخص ثمنه. *** (الحمَّامات المعدنية) رسالة موضوعها التداوي بالحمَّامات المعدنية في القطر التونسي , وضعها الطبيب بيورف بلغة أجنبية , وتلقاه عنه بالعربية الشيخ محمد بن حسين بيرم في عهد محمد بن حسين باي , ونقلها إلى اللغة العربية , ووضع لها مقدمة من عنده. وقد طبعها في هذه الأيام طابع كتاب تحفة المجالس , وقد جعل ثمن هذه الرسالة قرشين ونصف قرش , فنحث القُرَّاء على مطالعتها لِمَا فيها من الفوائد المتعلقة بالاستحمام بالمياه المعدنية , ونخص بالذكر أهل تونس لما فيها من الكلام عن حماماتها بالتفصيل. *** (الإسلام - والرد على لورد كرومر) كتب أحد فضلاء المصريين مقالات دينية في الرّدّ على لورد كرومر نشرها في جريدتي المؤيد واللواء بتوقيع (أبقراط) , ثم جمعها وطبعها على حدتها فبلغت 64 صفحةً. منها مقالة في المقابلة بين الإسلام والنصرانية , ومقالة في (المرأة في الإسلام والنصرانية) , وسائر المقالات في الرِّقِّ وتعدد الزوجات , والطلاق , والعبادات , والجنة والنار , والجهاد. ولعلّ هذه المقالات أحسن ما نشر في الجرائد رَدًّا على كتاب لورد كرومر (مصر الحديثة) , وثمن النسخة منها ثلاثة قروش. *** (تقرير السير ألدن غورست) كان الناس ينتظرون هذا التقرير انتظارَ مَنْ يتوقع شيئًا جديدًا في أمْر عظيم؛ لِمَا شاع وذاع، ونشرته الجرائد في جميع البقاع من أن الإنكليز غيروا سياستهم في إدارة هذه البلاد منذ استقالة لورد كرومر إرضاءً للمصريين الذين أظهروا السّخط من الإدارة السابقة. وكان الكثير يظنون - وهم لم يروا من السير ألدن غورست المعتمد الجديد عملاً جديدًا يخالف طريقة سلفه اللورد - أنهم سيقرءون في تقريره عن سنة 1907 شيئًا جديدًا , يستنبطون منه كُنْهَ السياسة الجديدة. وكانوا يظنون أن من فروع التغيير في سياسة الوكالة البريطانية بمصر حرمان أصحاب المقطم من ترجمة التقرير السنوي بالعربية , وطبعه، وإهدائه إلى المشتركين في جريدتهم , وبيع طائفة منه فلما جاء الموعد , وظهر تقرير العميد الجديد بمصر بالإنكليزية والعربية في وقت واحد كالعادة قالوا: (ما أشبه الليلة بالبارحة) وَرَأَوْا صِدْقَ قول لورد كرومر: (يذهب إنكليزي ويجيء إنكليزي) فقد نسج غورست على منوال كرومر , ورمي عن قوسه. قالوا: إلا في مسألة الصلة الشخصية بالأمير , فإن هذا يحاسنه بقدر ما كان ذلك يخاشنه , وصرح بعض الأحزاب بأن هذه المحاسنة تخشى ولا ترجى , ويقول آخرون غير ذلك , وسترينا مصداق أحد القولين حوادث الأيام، لا سِيَّمَا بعد زيارة الأمير لملك الإنكليز في هذا العام، ومهما قيل في هذا التقرير وما قبله مِنْ حيثُ السياسة فلا خَوْفَ في أن هذه التقارير تواريخ رسمية، لإدارة البلاد المصرية والسودانية. *** (كلمات لقاسم بك أمين) كان قاسم بك أمين الذي نعيناه إلى القراء في منار الشهر الماضي يكتب بعض ما يسنح له من المعاني التي فيها عظة وحكمة , وما يعن له من الآراء والخواطر , أو يراه من غريب المناظر. وقد ألقي إلى إدارة الجريدة ما كتبه من ذلك , فطبعته، وأطلقت عليه هذا الاسم (كلمات لقاسم بك أمين) ؛ فكان زهاء ستين صفحةً مثل صفحات كتاب الإسلام والنصرانية , وجعلت ثمنه عشرة قروش صحيحة تعظيمًا لقيمته المعنوية , وإننا ننقل من فرائد تلك الكلمات أحسن نموذج للقراء وهو: الحرية الحقيقية تحتمل إبداء كل رأي , ونشر كل مذهب , وترويج كل فكر. أن الذي يمدحك بما ليس فيك إنما هو مخاطب غيرك. رُبّ كلمة يتجرعها الحليم مخافة ما هو شر منها. إذا استشارك عدوّك فأخلص له النصيحة؛ لأنه باستشارتك قد خرج من عداوتك ودخل في مودتك. تعصب أهل الدين وغرور أهل العلم هما منشأ الخلاف الظاهر بين الدين والعلم , وليس بصحيح أن يوجد بينهما خلاف حقيقي لا في الحال ولا في الاستقبال ما دام موضوع العلم هو معرفة الحقائق المؤسسة على الاستقراء , فمهما كثرت معارف الإنسان لا تملأ كل فكره - بعد كل اكتشاف يتحققه العلم يبحث عن اكتشاف آخر , وفي نهاية كل مسألة يحلها تظهر مسألة جديدة تطالبه بحلها. الآن وغدًا يشتغل عقل الإنسان بالعلم؛ أي: بمعرفة الحوادث الثابتة , ولا يمنعه ذلك من التفكر في المجهول الذي يحيط بها من كل طرف. هذا المجهول الذي كان ويكون بعد، الذي لا قرارَ له ولا حدَّ لا في الزمان ولا في المكان هو دائرة اختصاص الدين. المقلد في إيمانه مقصر يحمل عقيدته كما تحمل الوردة في عروة الملابس، والمنكر مجازف جاوز حد العقل والعلم، وأبغض منهما من يخادع بدينه , فيقول: إنْ كان الله غير موجود ما خسرت أكثر من غيري , وإن كان موجودًا ربحت مع الرابحين؛ لذلك أؤمن به. هذا هو المحتال الذي لا يصان أحد حتى الإله من نصبه. أتعس البرية إنسان ضاع إيمانه يدس الموت بسمه في حياته , فيفسد عليها لذتها , وينغص عليها شهوتها. وسننشر بعض آرائه في أهل عصره. *** (شقاء المحبين) قصة في جزئين من وضع إسكندر دوماس الفرنسي الشهير , وترجمها بالعربية حنا أفندي العنحوري , الشاب الدمشقي الذي نبغ في آداب هذه اللغة في سِنّ الصبا نبوغًا قَلَّمَا قاربه في مثله أحد من المشهورين بالترجمة والكتابة في هذا العصر , ولولا أن فاجأته المَنِيّة في نحو الثامنة والعشرين من سِنّه لَرَأَيْنَا من آثار قَلَمِهِ ما يعدّ من آيات حياة العربية. قلما رأيت ترجمة لأحد من الكتاب المعروفين كترجمة هذه القصة تكثر فيها فرائد اللغة التي هجرها الكُتّاب لِقِلّة اطلاعهم , وتزين بالأمثال والاقتباس والتضمين وحل المنظوم من كلام الشعراء الأولين المجيدين , وتقلّ فيها الأغلاط الشائعة الآن. طبع القصة إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية في جزئين , وأهدى إلينا نسخةً منها وعهد إلينا أنْ لا نكتب عنها شيئًا إلا بعد قراءتها , فقلنا: لا بُدَّ لهذا من سبب. فَلَمّا قرأنا صفحات منها علمنا أنه عهد إلينا بذلك؛ لعلمه بأننا نعرف قيمة هذه الترجمة البليغة، وثمن الجزئين معًا عشرون قرشًا , وهي تطلب من طابعها. *** (القطر المصري) مجلة سياسية أسبوعية تؤيد سياسة الحزب الوطني بمصر أنشأها أحمد أفندي حلمي أشهر محرري جريدة اللواء في عهد مؤسسها، وإذا كان من مروجي جريدة اللواء بقلمه كما هو معروف , فلا غَرْوَ أن تروج مجلته وهي كبيرة الحجم قليلة الثمن إذ قيمة الاشتراك فيها 50 قرشًا في السنة.

خديجة أم المؤمنين ـ 3

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين (3) الفصل الخامس (مقام خديجة عند قومها) ما أكرم هذا المقام , وأي بليغ لا تأخذه الهيبة إذا دعي لتصور هذه المنزلة؟ سيدة بطلعتها الفخامة والشرف يتجليان، والجمال والكمال يتآلفان، ومزايا كالزهر نفحًا وطيبًا ... وكزهر السما بهاءًا ونورًا من شرف حَسَب، إلى كرم محتد، إلى سؤدد قبيل، إلى عز عشيرة، إلى جمال ذات، إلى كمال صفات، إلى فضل حجى، إلى طهارة نفس، ذلك ما كان تتزين به سيدتنا (خديجة) وذلك ما كانت تحل به بين قومها في المكانة العالية والمقام الكريم. هذه المزايا ليست بالبدع من الأشياء، ولا نبأها بغريب من الأنباء، بل هي معهودة في كثير من النسوة، ومع ذلك لم يكن لاسمهنّ نصيب بغير الخمول، قد طويت أعلامهن، ولم ينشر ذكرهن، ولم يسمُ في أقوامهن مقامهن، فكيف تسامى اسم (خديجة) وعلت منزلتها؟ إنما كان لخديجة ذلك الشرف بشيء آخر غير مزاياها. ذلك الشيء هو ارتقاء مدارك قومها , وسلامة أذواقهم , وحسن انتظام مجتمعهم. وليس بكافٍ لتعالي امرئ أن يكون كاملاً بل لا بُدَّ مع ذلك من إحاطة قومه علمًا بفضائله , ووجود ميل فيهم للفضائل والكمال , ومن المشهور أن الحجارة الكريمة عند من لا يعرف مزيتها لا قيمةَ لها , وهي عند عارفيها فوق القيم , فالحق أن ارتفاع من يستحق الرفعة في قوم ليس دليلاً على فضله وسعادة جده وحده , بل هو دليل أيضًا على فضل أولئك القوم وسعادة جدهم، فقد ربح قوم كان للأفاضل منزلة كريمة لديهم، وخسر قوم لا يعلو بينهم إلا من استعان بجيش من الحيل والخداع، وحواشٍ من النقائص المتغلبة على الطباع. وإذا كنا معجبين بالسيدة (خديجة) لوفرة مزاياها الشريفة , فنحن بقومها الذين شرفوا هذه المزايا أشد إعجابًا. وليست (خديجة) وَحْدَها هي التي نالت مقامًا كريمًا في قريش , بل كثير من فضليات نسائهم نلْنَ المقامَ الكريم فيهم , وكان لكثير منهن آثارٌ مشكورةٌ في مساعدة الإسلام , الذي نقل العرب وغيرهم إلى أعلى مما كانوا فيه , ولم يستطعن ذلك بما لهنَّ من القدر الذي يليق بإنسان ذي رأي معدود، وعقل مذكور، ونفس مشابهة , وَحَسْبُكَ من هذا أن الرجل العظيم عمر بن الخطاب أبا العدل وأبا الفتوح وأبا السياسة والإدارة لم يكن إسلامُه إلا بمحاورة سيدة من أولئك السيدات القرشيات , هي أخته فاطمة زوجة ابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. نحن نعلم أن أكثر الناس يمرون بالمزية يعهدون أمثالها , فلا يلتفتون إليها ما لم تكن رائعةً وفوق ما اعتادوا , وهذا عندنا ضارٌّ؛ لأن فيما يعهدونه أيضًا ما يستحق الالتفات إليه، ويغري بالانتفاع منه إن كان مفيدًا، والتغافل عن الإنسان المفيد إذا لم يكن فوق العادة يوصل إلى الحرمان أَلْبَتَّةَ من ذلك الرائع المنشود، والسامي الذي هو فوق المعهود. ولا يشكنَّ القارئ في أن كثيرًا من الأشياء التي صرفتنا الألفة عن إجلال شأنها هي في جلالة الشأن عند الإمعان فوق ما نتصور. وفي كثير مما لا نتفكر فيه منها ما تخر الأفكار صاغرة أمام زاخر فوائده، وباهر أسراره؛ فلذلك أحببنا أن نمر بقارئنا مرةً في تفصيل جملة تلك المزايا التي شرفها قوم (خديجة) حتى كانت بها كريمة المقام فيهم؛ لأنه ربما اختلج في صدره التعجب من إكبارنا شأن مزايا معهودة في كثيرين , وقد يكون قارئنا من حزب الأكثرين الذين لا يبالون بالمعهودات، ولا يطربون بغير الغرائب. نعم، نعم نحن لم نطرف بما فوق المعهود، ولم نُهدِ ما وراء المشهود، ولا عذنا بمبتدعات التصور، ولا لذنا بغرائب الحوادث، وشواذ المصادفة، وخوارق العادة، ولم نمت إلى أفئدة القراء إلا بمعروف له أمثال، ومألوف لا تضيق بتصديقه الأفكار، ولكن الأمر في هذه المعهودات على ما قلنا. وإذا ثبنا إليها بنظر الإمعان غير وسنانة عين بصيرتنا ألفينا فيها عند سأم النفس من لذة الحس، أعظم ما نتوق إليه من لذة التصور وفائدة الإدراك. وإذا كانت الحياة واحدة كان جديرًا بنا أن نقف متذكرين هذه الوحدة أبدًا أمام كثرة اختلاف المظاهر، وشدة احتجاب الأسرار , ولم يكن حسنًا بنا أن ننسى أحاسن ما تلده لنا هذه الأم من الصور التي لا تُحْصَى. إننا بتذكرنا مَن سادوا وشادوا، وبتذكرنا من صلحوا وأصلحوا، بتذكرنا من أوجدوا وابتدعوا - نتذكر تاريخ أمنا الحياة , وترتاح نفوسنا باستجلاء أحسن صورها، وتتوارد عليها اللذة باشتياقها إلى نصيب من ثروة تلك الأم التي جادت بمقاديرَ منها عظيمة على إخواننا أصحاب تلك المظاهر، ولابسي تلك الصور، ولم لا نتوق إلى حديث ذلك التراث وهو يملأ كنوزًا إن عجزت أفكارنا أن تحيط بكُنْهِ جواهره خبرًا فهي لا تعجز أن تأتينا بلذة من التأمل في بديع كيانها , والأمل ببلوغ ما تميل إليه النفس منها. * * * الفصل السادس (فضائل خديجة والفضائل عند قومها) تبارك واهب الحياة، فقد أبدع لنا في (خديجة) المثال الأسنى منها، وأطلع لنا في شخصها زواهر الإنسانية الفضلى، وبنور هذه الزواهر رأينا مدارك قريش في الأفق الأعلى، وتربيتهم الأدبية والعقلية في المنزلة العليا. نحن مَعْشَرَ بني الحياة متفاوتون كثيرًا في قوى النفوس , وأكثرنا في الحقيقة مغبون الحظ، منقوص النصيب من القوى التي تكون بها الحياة هنيئةً شريفةً مسعدةً لصاحبها وغيره , وقليل منا من رزقوا فضلاً من هذه القوى النافعة الآتية بالغبطة والحُبُور. ولدى التأمل نجد استعداد فطرة الشخص هو الأساس في حسن الحظ من هذه القوى النافعة , ثم للتربية دخل كبير , فإذا اجتمع في الشخص استعداد حسن وتربية حسنة كان حظه عظيمًا من فضائل النفس , وقد اجتمعتا في (خديجة) فرأينا في سيرتها ذلك المثال السني، والكمال السمي. عرفنا حسن استعدادها؛ لأن التربية وحدَها لا تفعل شيئًا في جوهر النفس إذا كان غير صالح لفعلها كما لا يصلح الماء لأن تطبع فيه ما تشاء، وعرفنا حسن تربيتها؛ لأن الاستعداد وحده لا يسير بصاحبه إلى المرغوب في المجتمع. ومن حسن استعداد هذه السيدة وحسن تربيتها عرفنا شيئًا آخر جديرًا بالتنويه, وقلما رأينا من نوَّه به أو التفت إليه , فلذلك عنينا به نحن كثيرًا في صدد هذه السيرة وهو ارتقاء قوم (خديجة) ارتقاءً عظيمًا فإن التربية الشخصية مقتبسة في الغالب من التربية العمومية. والمجتمع غالبًا أشبه بالمرآة يرينا من الأشياء مقبولاً ومردودًا ومسكوتًا عنه. وتشتهر المقبولات حتى يطلق عليها اسم المعروف، والمردودات حتى يطلقَ عليها اسم المنكر، ويضطر الناس إلى تقرير تربية عمومية هي أن لا يخالف المعروف، ولا يوافق المنكر، ويبقى للناس سبح في المسكوت عنه من الأشياء حتى يرى كل منهم رأيه فيها , فهذا يستحسن شيئًا حتى يوجبه على نفسه، وذاك يستقبح شيئًا حتى يحرمه عليها. وأعقل الناس في هذه الأشياء المسكوت عنها من جعل المعروف والمنكر معيارًا لها , فكل ما قرب من المعروف كان حسنًا , ويكون وجوبه على حَسَب درجة قرْبه من المعروف، وكل ما قرب من المنكر كان مسترذلاً، ويكون حظره على حسب درجة قربه من المنكر، والأصل في المنكر هو الأذى والعدوان , وعليه قِيسَ الأصل في المعروف قياس الضد , فالأصل فيه العدل والإحسان. فعلى هذين الأصلين تقوم دعامة النظريات في التربية، وعليهما تشاد الأعمال فيها. وأي باحث لا تأخذه هيبة إذا اطلع على ما كان لقوم (خديجة) من التعمق في في دقائق هذا الفن من حيث النظر، وعلى بدائع النتائج فيه من حيث العمل، أي والله إن هؤلاء القوم النازلين في ذلك البلد الصغير البعيد، وإخوانهم الآخرين الضاربين في تلك الفيافي يدهش المطالع ما يراه لهم من الباع الطويل في فن التربية على مقتضى مجتمعهم ذاك. فتراهم مثلاً لما كانت السماحة ضرورية ولا سِيَّمَا لذلك الاجتماع جعلوها في المقام الأول , ولم يأتوا بطبعها في النفوس حتى نبغ فيهم أجواد بلغوا بهمتهم في الجود الكواكب , وازَّينت الأرض بمناقب هممهم، وإيثار أخيهم الإنسان على أنفسهم، كما فعل كعب بن مامة الذي آثر رفيقة بمائه , ومات هو عطشًا. ولما كانت الشجاعة ضربة لازب لكل شخص , وكل جماعة في كل زمان وكل مكان تجدهم جعلوها شعار المحامد وتاج المناقب , وسيروا فيما ضربوه من الأمثال قولهم: (الشجاع موقى، والجبان ملقى) وكانوا يتمادحون بالموت قتلاً، ويتهاجمون بالموت على الفراش , ولما بلغ عبد الله بن الزبير - وهو ابن أخي خديجة - قتل أخيه مصعب، خطب فقال: (إن يُقْتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه. إننا لا نموت حتفًا ولكن قطعًا بأطراف الرماح وموتًا تحت ظلال السيوف. وإنْ يقتل المصعب فإن في آل الزبير خلفًا منه) ذلك لأنهم كانوا يكرهون الحياة إذا لم تشرف , ويرون الحياة الرذيلة معرضة للعدم أكثر من الحياة الشريفة , ولمثل هذا يقول علي بن أبي طالب: (بقية السيف أنمى عددًا، وأطيب ولدًا) وتقول الخنساء وهي إحدى الشهيرات في العرب: نهين النفوس وبذل النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها لا يستنكرن أحد إذا قيل له: إن الشجاعة - وهي السجية التي لا ترقى الأمم إذا خلت منها - كانت في العرب من الأخلاق الفاشية التي لا يعتدّون بأحد منهم ما لم تكن فيه , وقد سهل على نفوسهم انطباع هذا الخلق فيها؛ لأن أكثر شيء كانوا يتناقلونه هو حديث الشجعان، وإقدامهم في الشدائد حتى فضلوا، والجبناء وإحجامهم فيها حتى رذلوا، وهنالك من الشعر في الشجاعة والشجعان ما يفعل في النفوس فعل السِّحْر، فيستنزلها من الخوف على الحياة والهرب بها إلى الخوف على الشرف حتى تهون النفوس في سبيله، كقول عنترة وهو أحد مشهوري شجعانهم: بكرتْ تُخوفني الحتوف كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل فأجبتها إن المنية منهل ... لا بُدَّ أن أُسْقَى بكأس المنهل فاقني حياء لا أبا لك واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل وقد يظن ظانّ أن شجاعة العرب وبَأْسهم لم يكن إلا فيما بينهم , ومثل هذا الظن من قلة الاطلاع عل جملة أخبارهم , فنحن لا نزيد أن نأتي بآية على شجاعتهم مما فعل هؤلاء القوم بعد إسلامهم , فإن ذلك مشهور ولكن حسبنا أن ندل القارئ على ما كان من بأس العرب يوم ذي قار إذ أراد كسرى أن يوقع سوءًا ببني بكر بن وائل؛ لسبب لا محلَّ لتفصيله , فجهز عليهم جيشًا كثيفًا؛ لِيهلكهم به , وبلغهم خبرُه؛ فتجهزوا له، وأعانهم قبائل أخرى , فتوافوا بواد اسمه ذو قار وكانت الهزيمة على جيش كسرى حتى تبعهم العرب إلى داخل البلاد الفارسية , وهي واقعة مشهورة كثرت فيها الأشعار، وظهر فيها ما للشجاعة من الفضل في كسب الفخار، وحمى الذِّمَار، واتقاء العار، وفي هذه الواقعة يقول الأعشى أعشى بني بكر: وجند كسرى غداة الحنو صبحهم ... منا غطاريف ترجو الموت وانصرفوا لقوا ململمة شهباء يقدمها ... للموت ... لا عاجز منا ولا خرف فرع نمته فروع غير ناقصة ... موفق حازم في أمره أنف فيها فوارس محمود لقاؤهم ... مثل الأسنّة لا مِيل ولا كُشفُ لما رأونا كشفنا عن جماجمنا ... ليعلموا أننا بكر فينصرفوا قالوا البقية والهنديّ يحصدهم ... ولا بقية إلا السيف فانكشفوا لو أن كل مَعَدٍّ كان شاركنا ... في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف لما أمالوا إلى النشاب أيديهم ... ملنا ببيض لمثل الهام تختطف إذا عطفنا عليهم عطفة صبرت ... حتى تولت وكاد القوم ينتصفوا بطارق وبني ملك مرازبة ... من الأعاجم في آذانها الشُّنُف من كل مرجانة في البحر أحرزها ... تيارها ووقاها ط

المسلمون والقبط

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسلمون والقبط سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم أفراد أرقى من القبط في كل علم , وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي أرقى من المسلمين , فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في مصالحهم العامة من حيث هم قبط، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح. وهذا ما حمدتهم وأحمدهم عليه , وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله , وإن كنت أعلم أنه لو أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية لَمَا وجدوا في القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا , ويجعل عنان خطابته (مصريون قبل كل شيء) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوروبا , ويقول الجميع: إن المسلمين في مصر يُحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية , ويدعون إلى ارتباط بعضهم ببعض لمقاومة النصارى في مصر , بل في جميع الأرض. لم تكد تقر شقشقة أحمد زكي بك من دعوة المسلمين في جمعية الرابطة المسيحية إلى توثيق عقد الأخوة بينهم وبين القبط , ويقنعهم بالأدلة الدينية والتاريخية أن الإسلام في هديه وسيرة سلفه يوجب عليهم المودةَ للقبط - حتى قام بعض الكتاب من القبط يكتبون في بعض الجرائد القبطية وغيرها أن حقوقهم مهضومةٌ بين المسلمين , وأنهم يطلبون المساواةَ بتعيين المديرين ومأموري المراكز منهم , فوافقتهم جرائد المسلمين الكبرى في مطالبهم , فلم يقنعهم ذلك , بل تَمَادَوْا في الكتابة حتى جعلوا أنفسَهم أصحابَ البلاد , وجعلوا المسلمين من قبيل المحتلين بغير حقٍّ , وأغلظوا القولَ للواء والحزب الوطني , فكتب الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير جريدة اللواء قولاً ثقيلاً في الرد على بعض كتابهم سخر فيه منهم , وهزى بهم، وافتخر عليهم , فكان ذلك جل ما يبغون من حركتهم الجديدة. [1] قامت قيامتهم ولم يكتفوا بما يكيلون كل يوم للشيخ عبد العزيز من الصيعان الكثيرة في مقابلة صاعه , بل أنشأوا يكتبون في جرائدهم: إن المسلمين يريدون بتعصبهم الديني استئصال القبط وجميع النصارى من مصر , وإنه يجب عليهم أن يوفدوا الوفود إلى أوربا للاستغاثة بدولها وأممها المسيحية قبل أن يبيدهم المسلمون المتعصبون , أو يضطروهم إلى الجلاء عن بلادهم , والهجرة إلى بلاد أخرى يأمنون فيها على أنفسهم من المسلمين , ثم هم يطلبون أيضًا معاقبة الشيخ عبد العزيز شاويش الذي أهانوه أضعافَ ما أهانهم , وأن يرد عليه ويتبرأ منه كُبَرَاء المسلمين، ويعقدون الأندية والسّمار للبحث في هذه النازلة , ويكتتبون بالأموال لها. من علم أن القبط في القطر نحو نصف مليون في نحو أَحَدَ عَشَرَ مليونًا مِن المسلمين - وأنّ العمال والمستخدمين منهم في الحكومة أكثر من المسلمين - وأنّ المسلمين قاموا منذ سنين يدعون إلى الرابطة الوطنية , فكان لهذه الدعوة من التأثير في نفوس القارئين والسامعين، والأساتذة والمتعلمين أن صار يفضل كثير منهم القبطي على المسلم الشامي والحجازي ... ، بل سمعت غير واحد من المعلمين والمتعلمين يقول: لا فَرْقَ عندي بين أن يكون أمير البلاد مسلمًا أو قبطيًّا - وأن المسلمين جعلوا أحزابهم وأنديتهم شُرعًا بينهم وبين القبط - وأن القبط يتعصب بعضهم لبعض في كل مصلحة وكل عمل حتى في القضاء - وأن المسلمين على شدتهم في انتقاد حكامهم قَلَّمَا ينتقدون القبط؛ فهم ينتقدون وزير المعارف المسلم على إحسانه في عمله بحُجّة أنه لم يكن فيه مرغمًا للإنكليز ولا معاندًا لهم , أو أنه يجب عليه أن يعمل أكثر مما عمل , ولا ينتقدون وزير الخارجية القبطي الذي هو ألصق بالمحتلين وبالاتفاق معه سلخ لورد كرومر السودان من ملك الدولة العَلِيّة وملكه للإنكليز , وكان رئيس محكمة دنشواي التي ظلت الجرائد الإسلامية تعير وتسب العضو المسلم فيها , ولم تذكر رئيسها بسوء - من علم هذا وأمثاله يتعجب أشد التعجب لهذه الثورة المعنوية التي أثارتها القبط في الوقت الذي يبالغ فيه المسلمون في موادتهم وتوثيق عُرَى الإخاء بينهم وبينهم. حقًّا , إن في الأمْر مثارًا للعَجَب، قَلَّمَا رَأَيْنَا من بحث في حقيقة السبب. يقول بعض الناس تبعًا لبعض الجرائد: إن قطبي الرَّحَى لهذه الحركة أُخْنُوخ أفندي فانوس رئيس جمعية الرابطة المسيحية، ومجمع الإصلاح القبطي، وصاحب جريدة مصر اللذان يسعى كل منهما لجعل ولده مديرًا , فهما اللذان أَيْقَظَا هذه الفتنةَ لحظ شخصي , فكانت فتنة جنسية أو طائفية باتباع الجمهور لهما. ومن رأيي أنهما بريئان من هذه التهمة , ولو كان ذلك هفوة لهما لَمَا خفي على جمهور طائفتهما الحازمة اليقظة، بل يغلب على ظنّي أن هذه الطائفة تجل عن أن تتوسل إلى تقرير جعل المديرين منها بهذه الوسيلة؛ لأن ربح مدير لا يوازي خسارة مودة المسلمين لهم، ودعوتهم إلى مساواتهم ومؤاخاتهم - هذه الخسارة التي تعرضوا لها الآن بمنتهى ما عندهم من الجرأة والإقدام. والراجح عندي أن القوم شعروا بالتغير الجديد في السياسة , وعلم بعض كبرائهم بالنبأ الذي نشرناه في الجزء الماضي قبل أن نعلم به - وهو عزم الإنكليز على السماح لأمير البلاد بإنشاء مجلس نيابي - ومن البديهي أن جمهور القبط لا يرغبون في أن يكون في مصر مجلس نيابي , ولا أن يقلل المحتلون من سيطرتهم على البلاد. فلما علموا بذلك رَأَوْا أنه لا سبيلَ إلى تحويل الإنكليز عن هذه السياسة الجديدة إلا بإقناع أُمّتهم بانفجار بركان تعصب المسلمين على القبط، وسائر المسيحيين؛ ليقولوا: إن هؤلاء إذا جُعِلَ لهم رأي نافذ في سلطة بلادهم يهضمون وهم الاكثرون حقوق الأقلين. وإنني لمعظم لقدرهم بهذا الظن , ومعتقد فيهم الحزم والتكاتف , وإن ترجح عندي أنهم ربما أخطئوا في اجتهادهم، وجاء الأمر على خلاف مرادهم، وحينئذ يكون شرّ هذه الحركة أكثر من خيرها، وإثمها أكبر من نفعها. سمعنا غير واحد من أهل الفهم والرأي يقولون: إن تعصب القبط بعضهم لبعض , وتعاونهم على مصالحهم المِلِّيَّةِ يُعَدُّ مِن الأمور الطبيعية في الاجتماع , فإن الفئة القليلة إذا لم تعتصم بعروة التعصب فإنها تذوب وتفنى في الأُمّة الكبيرة التي تعيش معها، فالقبط معذورون في سيرتهم التي هم عليها؛ لأنها طبيعية لا بُدَّ منها. ونقول: نعم , إن ذلك طبيعيّ وبديهيّ , ولكن ما كان كذلك يجب الاعتراف به، ويستنكر جحوده فما بالك بادعاء ضده. ثم إنه ليس من الطبيعي البديهي أن تكون الفئة القليلة في الأمة الكبيرة مهاجمة في جهادها الاجتماعي , فتطلب ما تبغي بالطريقة التي جرت عليها القبط في هذه الأيام إلا إذا كان لها حدث جديد، أو أوت إلى ركن شديد. يعبرون عن أنفسهم في مقام مطالبة المسلمين بما يطلبون بالأمة القبطية , وُيدلون بأنهم أصحاب البلاد؛ لأنهم سلالة فرعون ذي الأوتاد، ويجهرون بأن المسلم فيها أجنبي محتلّ، وأتاويّ معتدٍ، وينكرون على المسلمين أن يكون لهم فيها حق مِنْ حيثُ هم مسلمون فاتحون، ولا ينكرون على أنفسهم أن يَدّعوا الحقوق فيها من حيث هم قبط مسيحيون، وهم في الحقيقة رعايا ذِمِّيُّونَ، فما هو الحدث الجديد الذي أنطقهم بهذا اللسان؟ وما هو الركن الشديد الذي يأوون إليه الآن؟ لا يظهر لنا حدث غير ما بيناه من تغير السياسة الإنكليزية في البلاد , وعزمها على السماح للأمير بتأليف مجلس نيابي فيها يشترك معه فيما يسمونه مسئولية إدارتها. ولا نعرف لهم ركنًا فيما صمدوا إليه إلا رغبة السياسة الأوربية عامة والإنكليزية خاصة في نبز نهضة المسلمين بالتعصب الديني - فهذا ما رأوه من موقع الضعف في المسلمين والقوة لهم؛ لهذا جعلوا قول الشيخ عبد العزيز شاويش - وهو على رأيهم دخيل في مسلمي مِصْرَ - برهانًا على أن في مصر تعصبًا إسلاميًّا , لا يلبث أن ينفجر بركانُه , فيدفن القبط وسائر النصارى معهم تحت مقذوفاته النارية. وقد طلبوا من الحزب الوطني أن يتبرأ من هذا القول , ففعل , ومن العجب أنهم لم يرضوا، ويقال: إنه قد تجددتْ لهم صلةٌ وديةٌ برئيس أساقفة الكنيسة الإنكليزية، وإنه رغب إليهم في الرجوع إليه، والتعويل في رغائبهم عليه. ولكن فاتهم على حذقهم أن السياسة (لا سِيَّمَا الإنكليزية منها) إذا قررت أمرًا أنفذته لا محالة لا يصدها عنه مراعاة فئة صغيرة ولا كبيرة، ولا مسألة اختراعية كمسألة التعصب الإسلامي، أو حقيقية كإزالة السلطة الشخصية وحماية الحرية القومية، فنبشرهم بأن السياسة الجديدة التي بينها المنار في الجزء الماضي واقعة ما لها من دافع. وأمر مجلس النواب في هذه البلاد صار موكولاً إلى إرادة أميرها باختيار المحتلين ورضاهم أو كاد. فإنْ نجحت الحركة القبطية فقصارى نجاحها أن تكون سببًا في تأخيره عامًا أو أكثر وما ذلك بالربح الكثير في جنب ما يخسرون من مودة المسلمين بما اشتملت عليه مقالاتهم من التّهكم بمجد الإسلام الأول , والشماتة بزواله كالتعبير عنه (بالعظمة البالية) ورمي المسلمين السابقين بظلمهم وظلم غيرهم، واللاحقين بالتعصب عليهم وعلى أهل دينهم، وبمطالبة جميع كُبَراء المسلمين وكتابهم بأن يعتذروا لهم عن مقال الشيخ عبد العزيز , وإنْ كانوا هم البادئين بالعدوان , وقد أصروا عليه بجعل ذنب الشيخ عبد العزيز ذنبًا لجمهور المسلمين، وبالسعي في جمع كلمة نصارى السوريين والروم والأرمن إليهم؛ لمقاومة المسلمين كما روي لنا، ويؤيده ما يكتبون في الجرائد، وبترجمة الأقوال السيئة التي يكتبونها، ويكتبها الآخرون باللغات الأوربية، لإيهام أوربا أن في البلاد تعصبًا ربما يفضي إلى ثورة دينية. أول خسارة خسروها بهذه المغاضبة هي اعتقاد المسلمين أن دعوة الوطنية التي قاموا بها في هذه السنين قد كانت خسارًا عليهم، وربحًا للقبط وحدهم. فإن دعاة هذه الوطنية من المسلمين كانوا يبغون بها أن يتحدوا بالقبط , ويتعاونوا معهم على مقاومة السلطة الأجنبية؛ ولذلك رضوا بأن يساووهم ويؤاخوهم مع العلم بأن الحكومة في صفتها الرسمية إسلامية تابعة لخليفة المسلمين باتفاق الدول، بل غضوا النظر في الغالب عن رجحانهم عليهم لهذا الغرض. فتبين لهم أن القبط لا يرضون بهذا الاتحاد من كل وجه , بل يستفيدون منه ويحولون دون استفادة المسلمين شيئًا منهم، حتى نفي التعصب عنهم، ثم يبنون أعمالهم كلها على أنهم أُمّة ممتازة لا عضو في جسم الأمة المصرية أو الشعب المصري - وأنهم لا يرضون بمقاومة الأجنبي ولا يودون استقلال البلاد دونه - وأنهم إذا وجدوا فرصة لمواثبة المسلمين واثبوهم من أضعف جانب فيهم , كنبزهم بلقب التعصب ومعاداة النصارى في هذه الأيام. فإذا كانت نتيجة دعوة المسلمين إلى الوطنية المصرية بلسان جرائدهم وخطبائهم وأحزابهم وعد القبطي أخًا له، والمسلم غير المصري (دخيلاً) فيهم، أن تقوم عليهم جرائد القبط وجمعياتها الدينية، وأنديتها القومية، ترميهم بالغلو في التعصب والتواطؤ على إبادة النصارى , فأي فائدة لهم في هذه الوطنية؟ بل أي غائلة شر عليهم منها؟ . أقول: إن في هذا خسارًا للقبط؛ لأنه ربما يغري المسلمين بمناظرتهم , والتشبه بهم في جمعياتهم الدينية , وترجيحهم لأبناء مِلَّتِهِمْ في جميع الأعمال والمصالح. وإذا دبّ في المسلمين الشعور بوجوب ترجيح المسلم على القبطي كما تفعل القبط فإن ذلك يثمر حرمان ألوف من القبط من موارد الرزق السائغة في دوائر المسلمين الخاص

بحث ما ومن وتفسير سورة الكافرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بحث (ما ومن) وتفسير سورة الكافرون 106 (س5) من محمد حسيب أفندي عامر وكيل تلغراف (بلبيس - شرقية) . حضرة العلامة المفضال صاحب المنار بعد السلام والتحية؛ نرجوكم إيضاحَ معنى لفظة (ما) , وما تشير إليه في قوله عز وجل: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون: 2-3) , فإني إنْ أعطيتها حكم غير العاقل كقاعدتها النَّحْوِيّة استحال ذلك على المولى سبحانه وتعالى، وإن أعطيتها حكم العاقل فالأصنام وما كانوا يعبدون ليست بذي عقل، أفيدوني مأجورين والسلام. (ج) قالوا: إنّ لفظ (ما) هنا أُرِيد به الصفة، أي: (المعبود) وإذا أريد بها الصفة تطلق على العاقل وغيره. وجوَّزَ بعضُهم أن يكونَ إطلاقُها على الله عز وجل بعد إطلاقها على الأصنام من قبيل المشاكلة؛ لأجل التناسق في التعبير. ولعل السائلَ يعلمُ أنه نقل عن سيبويه وغيره أن كون (ما) لما لا يعقل أغلبي لا مطرد , والشواهد عليه من التنزيل وكلام العرب معروفة، قال الزمخشري في الكشاف: و (ما) عام في كل شيء , فإذا علم فرق بما ومن وكفاك قول العلماء: (من لما يعقل) اهـ أي: فأَطْلَقُوا (ما) على العاقل في نفس القاعدة التي ذكروا فيها أنّ (مَن) خاصّة بالعاقل. وفي حاشية الأمير على المغني بعد ذكر عبارة الكشاف: قال التفتازاني: أي يصحّ إطلاقُ ما على ذي العقل وغيره عند الإبهام؛ لاستفهام أو غيره , فإذا علم أن الشيء من ذوي العلم والعقل فرق بمن وما , فتختص (من) بالعاقل , و (ما) بغيره. وبهذا الاعتبار يقال: إن (ما) لغير العقلاء. واستدل على إطلاق (ما) على ذوي العقول بإطباق أهل العربية على قولهم: (مَن لِمَا يَعقل) مِن غير تجوّز في ذلك حتّى لو قِيل: (لمن يعقل) . كان لغوًا بمنزلة أن يقال: الذي عقل عاقل. فإن قِيل: كان الواجب هنا أن يفرق بما ومن؛ لأن ما يعقل معلوم أنه من ذوي العلم. قلنا: نعم , لكن بعد اعتبار الصلة , أعني (يعقل) . وأما الموصول نفسه فيجب أن يعتبر مبهمًا مرادًا به شيء ما ليصح في موقع التفسير بالنسبة إلى من لا يعلم مدلول (من) وليقع وصفه بـ (يعقل) مفيدًا غير لغو. ومحصله أنك إنْ لاحظْتَ العاقل مِن حيثُ إنه عاقل استعملت فيه: (من) وإن لاحظته مِن حيثُ إنه شيءٌ ما استعملت فيه (ما) كما تقول: ما الإنسان؟ . اهـ وأنت تعلم أن (ما) في السورة ليست لبيان أن مدلولها عاقل أو عالم , بل لبيان أنه شيء معبود , فاستعمل فيه اللفظ العام الذي تفسره الصلة. هذا , وإنني رأيتُ بعض الناس لا يفهمون معنى السورة , وقد سألني غير واحد بالمشافهة عن معنى ما فيها من صورة التكرار , فأحببت أن أورد هنا ما كتبه الأستاذ الإمام في تفسيرها تتمة للفائدة , وهو: الكافر هو المعاند الجاحد الذي إذا رأى ضياء الحق أغمض عينيه، وإذا سمع الحرف من كلمته سَدَّ أذنيه، ذلك الذي لا يبحث في دليل بعد عرضه عليه، ولا يذعن للحجة إذا اخترقت فؤاده، بل يدفع جميعَ ذلك حُبًّا فيما وجد نفسَه فيه مع الكثير ممن حوله، واستند في التمسك به إلى تقليد من سلفه، فهذا الصِّنْف هو الذي قال الله فيه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 22-23) . بعض هذا الصنف بل الغالب من أفراده يقول للداعي إلى الحق أو يحدث نفسه ليلهيها عن فهمه: إلامَ يدعونا؟ أإلى الله , فَنَحْن نعتقد به؟ أإلى توحيده فنحن نوحده؟ وغاية ما في الأمر نتخذ شُفَعَاءَ إليه، نسأله بحقهم عنده أو بمكانتهم لديه، أإلى عبادته فنحن نركع ونسجد له؟ وغاية ما عندنا زيادة على ذلك أننا نعظم أولياءَه , وأهل الشفاعة عنده، ونتوسل إليهم ليتوسلوا إليه. هذه وساوسهم , وهذه أَمَانِيُّهُمْ فأراد الله سبحانه أن يقطع العلاقة بينهم وبين ما عليه الداعي إلى الحق صلى الله عليه وسلم بأصرح ما يمكن أن يصرّح به , فقال له: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} (الكافرون: 1-2) أي: إنّ الإله الذي تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده؛ لأنكم إنما تعبدون ذلك الذي يتخذ الشفعاء أو الولد أو الذي يظهر في شخص أو يتجلى في صورة معينة أو نحو ذلك مما تزعمون , وإنما أعبد إلهًا منزهًا عن جميع ما تصفون به إلهكم {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون: 3) أي: إنكم لستم بعابدين إلهي الذي أدعو إليه كما تزعمون، فإنكم زعمتم أن الذي تعبدونه يتقرب إليه بتعظيم الوسائط لديه، فتوسلتم بها إليه، وتعتقدون أنه يقبل توسطها عنده، فهذا الذي تعبدونه ليس الذي أعبد فلهذا لا تعبدون ما أعبد , بل تعصونه وتخالفون أمره، ثم لما كانوا يظنون أن عبادتهم التي يؤدونها أمام شفعائهم، أو في المعابد التي أقاموها لهم وبأسمائهم، أو يؤدونها لله في المعابد الخاصة به أو في خلواتهم، وهم على اعتقادهم بالشفعاء - عبادة لله خالصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضلهم في شيء نفى أن تكون عبادته مماثلةً لعبادتهم , وأن تكون عبادتهم مماثلةً لعبادته , فقال: {وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} (الكافرون: 4) فـ (ما) هذه مصدرية وليست بالموصولة , مثل التي تقدمت أي: ولا أنا بعابد عبادتكم {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (الكافرون: 5) أي: ولا أنتم عابدون عبادتي. فمفاد الجملتين الأوليين الاختلاف التام في المعبود , ومفاد الجملتين الأخريين تمام الاختلاف في العبادة , فلا معبودنا واحد ولا عبادتنا واحدة، لأن معبودي ذلك الإله الواحد المنزّه عن النّدّ والشفيع، المتعالي عن الظهور في شخص معين، أو المحاباة لشعب أو واحد بعينه، الباسط فضله لكل من أخلص له، الآخذ قهره بناصية كل من نابذ المبلغين الصادقين عنه، والذي تعبدونه على خلاف ذلك. وعبادتي مخلَصة لله وحدَه، وعبادتكم مشوبة بالشرك مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى , فلا تُسمى على الحقيقة عبادة فأين هي من عبادتي {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) دينكم مختص بكم لا يتعداكم إليَّ , فلا تظنوا أني عليه أو على شيء منه {وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) [*] أي: ديني هو دين خاصّ بي، وهو الذي أدعو إليه، ولا مشاركة بينه وبين ما أنتم عليه، ولا يخفى أن هذا المعنى الذي بيناه هو ما يهدي إليه أسلوب السورة الشريفة خصوصًا هذه الآية الأخيرة {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) , فإنها صريحة في أن المراد: نفي الخلط المزعوم. وما دلت عليه السورة هو ما دلت عليه آية {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) أي: لا علاقة بينك وبينهم لا في المعبود ولا في العبادة. وأما ما قيل من غير ذلك فإن صحّ شيء مما وردَ فيه , فاحمله على معناه مستقلاًّ عن معنى السورة , ولا تَغْتَرَ بكل ما يُقال , فأفضل ما تفهم هو أقرب ما يفهم والله أعلم. اهـ

النقوط

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النقوط (س6) ومنه: حضرة العلامة المفضال صاحب المنار الغراء. بعد السلام والتحية - أرشدونا أرشدكم الله: (هل ما يسمى (النقوط) المتعارف والمستعمل بين أفراد الأمة المصرية في الأفراح وما شابهها، سواء كان ذلك بالنقدية أو ما يقوم مقامها - محلل أم محرم وما الدليل؟ أفيدونا مأجورين) (ج) كل ما يبذل من المال بالرضا والاختيار تبرعًا فلا حَرَجَ على باذله , ولا على المبذول له إلا أن يقصد به الإعانة على عمل محرم كالفسق والفساد في الأرض، والنقوط لا يقصد به شيء من المحرمات فيما نعلم , وإنما هو إكرام من قبيل الهدية والأصل في جميع التصرفات المالية الإباحة , فالقول بها لا يحتاج إلى الدليل , وإنما يستدل على المحرم؛ لأن التحريم خلاف الأصل.

حديث من زار قبر والديه يوم الجمعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حديث من زار قبر والديه يوم الجمعة (س7) من الشيخ أحمد شرف الدين بالأزهر: حضرة الأستاذ السيد رشيد رضا المحترم. سلامٌ على حضرتكم ورحمة الله. أما بعد. فقد جمعني وجماعة من أكابر علماء الأزهر الشريف مجلس، فسمعت منهم حديثًا لم أسمَعْهُ مِن قَبْلُ , وحيثُ لم أَرَ عليه بلاغة سيد العرب والعجم صلى الله عليه وسلم ولحضرتكم سَعَة اطلاع على السّنّة الصحيحة أردْتُ عرْضَه على مسامع سيادتكم حتى إذا كان صحيحًا أيَّدْتُمُوه ونشرتم ذلك بمناركم المضيء , وإن كان ضعيفًا أو غير حديث أَوْضَحْتُمْ سَبِيلَه ولكم الفضل , والحديث هو: قال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ زَارَ قَبْرَ وَالِدَيْهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ فَكَأَنَّمَا حَجَّ، ومَنْ زَارَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ أَتَى بِعُمْرَة) وإذا صَحَّ هذا فلا لَوْمَ إذًا على مزاحمة النساء للرجال في زيارة القبور؛ لأن كلاًّ يريد أن يحج. (ج) الحديث ظاهِرُ الوَضْعِ , ولم أَرَ مَن خَرَّجَهُ بِهَذَا اللفظِ , وقد عَلِمْت أنّ مِن علامات الحديث الموضوع بناء الثواب الكبير على العمل القليل. وقال في الفوائد المجموعة: حديث (مَن زار قبْر والديه أو أحدهما يومَ الجمعة غُفِرَ له) في إسنادِهِ وَضَّاعٌ , وله شاهِدٌ في إسنادِه ضَعْفٌ. ورُوِيَ: (مَن زار قبر أبيه أو أُمّه أو عَمّته أو خالته أو أحَد أقاربه كُتِبَ له حجّة مبرورة) ولا أَصْلَ له. اهـ ولعله يَعْنِي بحديث الشاهد: (مَن زار قبر والديه أو أحدهما في كل يوم جمعة غُفِرَ له وكُتِبَ بَرًّا) لِمَا فيه من الزيارة. عزاه في الجامع الصغير إلى الحكيم الترمذي , عن أبي هريرة وَعلَّمَ عليه بالضعف , وفي إسناده محمد بن النعمان مجهول , وشيخه يحيى بن العلاء الرازي البجلي متروك , بل قال الإمام أحمد: إنه كان يَضَعُ الحديثَ؛ فهو موضوعٌ لا ضعيفٌ، ولا شَكَّ عندي في أنّ كل ما رُوِيَ في هذا المعنى موضوع , اختلقه المختلقون بعد اعتياد الناس زيارةَ قبور الأقربين في أيام الجُمَعِ , ولم يكن ذلك من سُنّة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه في شيء.

زيارة الحرم النبوي واستئذان ملك الموت على النبي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ زيارة الحرم النبوي واستئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم (س8 و9) من محمد أفندي حلمي الكاتب الأول لمركز المسلمية (السودان) حضرة سيدي الحسيب النسيب الفاضل الأفخم العلامة الكامل السيد محمد رشيد رضا حفظه الله. عليكم منا السلام والرحمة والبركة والإكرام وبعدُ. فأرجو من فضلكم وكرم أخلاقكم المشهورة الإجابة على السؤالين الآتيين، وأرجو إن كان سبق لسيادتكم التكلُّم عنهما في مجلدات غابرة أن تجيبوني عليهما , وأكون ممنونًا جِدًّا لو تفضلتم وتكرمتم بدرجهما في أول عدد؛ لأهمية لزومهما عند الجمهور خصوصًا في هذه الأصقاع , ولا خلاف بأن فضيلتكم أصبحتم مشهورين بالعلم والفضل في جو علوم العربية , بل صرتم لنا من أركان الإسلام , والله على ما أقول وكيل وهو حسبي ونعم الوكيل. س (1) هل زيارة الحَرَم المدني سُنّة؟ وهل كل أحد مُكَلّف بزيارته بعد الحَرَم المَكي؟ س (2) هل ملك الموت قد استأذن سيدنا محمدًا في قبض روحه الشريفة؟ وكيف كان ذلك؟ وهل صحّ أنه لم يسبق له أن استأذن على أحد قبله كما يزعمون أو يذيعون؟ هذه هي أسئلتي يا سيدي , وقد أقنعت المجادلين لي في السؤال الأول نقلاً عن إغاثة اللهفان للإمام الحجة ابن القيم فلم يقنعوا، وأما السؤال الثاني , فلم أتكلم عنه بشيء لعدم معرفتي حقيقتَهُ , ولم أعثر في الكتاب المذكور على شيء بخصوصه , وجميع المجادلين لي أَبَوْا أنْ يقتنعوا حتى ينظروا جوابَكم بالمنار؛ لاعتقادهم فيه وهم من الأهالي والمستخدمين. ومن المستخدمين مشتركون في مجلتكم الزاهرة ولكن كَلّفوني أن أكتب أنا، وعلى أي حال فإننا ممنونون , وتَجِدُنا منتظرين بفارغ الصبر أفندم. زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أما الجواب عن الأول , فهو أن زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم مندوبٌ إليه لا مفروضٌ على المسلمين كالحج كما يتوهم العوامُّ. وحَسْبُك في الترغيب فيه قولُه صلى الله عليه وسلم: (صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلاَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) رواه أحمد والبخاري ومسلم , وغيرهم من حديث أبي هريرة. وأحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر وغيره، وقوله: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ , وَمَسْجِدِي هَذَا , وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري. ورواه غيرهم عنهما وعن غيرهما. استئذان ملك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم وأما الجواب عن الثاني , فهو أنّ الحديث في ذلك لا يَصِحُّ، ولا عبرة بسكوت بعض أهل السِّيَرِ عليه , ولا بذكره في بعض الخُطَب التي قَلَّمَا تحرى أصحابها الصحاح من السنن والآثار , بل أولع أكثرهم بالواهيات والموضوعات. روى حديث استئذان مَلَك الموت على النبي صلى الله عليه وسلم , وتخييره بقبض رُوحِه الشريفة الطبراني في المعجم الكبير عن جابر وابن عباس في حديث طويل قال المحدثون: إنه مُنْكَرٌ , في إسناده عبد المنعم بن إدريس اليماني القصاص عن أبيه , عن وَهْب بن مُنَبِّهٍ. قال الإمام أحمد: كان يكذب على وهب بن منبه. وأبوه إدريس متروك أيضًا , قاله الدارقطني. ورواه أيضًا من حديث الحسين بن علي، وهو مُنْكَر أيضًا في سنده عبد الله بن ميمون القداح. قال البخاري: ذَاهِب الحديث. وقال أبو حاتم: متروك.

الرد على كتاب لورد كرومر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرد على كتاب لورد كرومر (3) صاحب الحق لا يسكت عنه وإن طال عليه الأمد، وإننا سننشر في المنار بعض ما نكتبه في دفع هجمات اللورد فيما كتبه عن الإسلام ونودع جميع ما نكتبه في مصنف خاص ونعتمد في أقواله على ترجمة المؤيد (مع تنقيح ما في العبارة) فنبدأ بعبارته، ثم نقسم القول، ونرد على كل قسم منه بالتفصيل. القسم الثاني (كلامه في الإسلام والمسلمين) قال اللورد في سياق الكلام في المقابلة بين الإنكليزي والمصري ما ترجمته: قلت فيما تقدم: إن التقاليد الدينية هي من جملة الموانع الكائنة بين الإنكليزي والمصري، فإن الإنكليزي على كونه أحد أفراد العائلة الأوربية من جهة التمدّن العمومي. يحاول أكثر من كل أوربي آخر أن يصل إلى أسمى درجات الرقي من التمدن المسيحي , أي: إنه يحاول أن يدخل نظام آداب مسيحي صريح (في المعاملة) ويجعله قاعدة للعلاقات بين الرجل والآخر. يحمله على ذلك تلك المبادئ القديمة التي جاءته من أسلافه، والدم البيوريتاني الذي لا يزال يجري في عروقه. ومن الجهة الأخرى نرى المصري متمسكًا كثيرًا بدين الإسلام , وهو التوحيد الشريف الذي ينوب فيه الإيمان إلى درجة قصوى عن الوطنية في البلدان الشرقية، وهو وسيلة للاتحاد العام بين جميع المسلمين من دلهي إلى فارس , ومن الآستانة إلى زنجبار؛ إذ يتحولون للصلاة نحو منبع دينهم وهو قبلتهم. فما هي القواعد الأساسية لهذا الدين الذي أثر تأثيرًا عظيمًا في الجنس البشري؟ إنها مبينة في القرآن الشريف , وقد شرحها العلماء من جميع الأمم بلغات كثيرة , ولكن عظمتها الأصلية وسهولتها لم يبينا بأكثر بلاغة مما بينها به أتباع النبي الأولين الذين انطرحوا عند قدمي ملك الحبشة المسيحي يطلبون حمايته له من اعتداء عرب قريش؛ إذ قالوا: أيها الملك , كنا قومًا أهلَ جاهلية , نعبد الأصنام , ونأكل الميتة , ونأتي الفواحش , ونقطع الأرحام , ونسيء الجوار , ويأكل القويُّ منا الضعيفَ , فكنا على ذلك حتى بعث الله لنا رسولاً كما بعث الرسل إلى مَن قَبْلَنا , وذلك الرسول منا نعرف نسبَه , وصِدْقَه , وأمانته , وعفافه , فدعانا إلى الله تعالى لِنعبدَه ونوحدَه ونخلعَ (أي: نترك) ما كان يعبدُ آباؤنا مِن دونِه مِن الأحجار والأوثان , وأمرنا أن نعبدَ اللهَ وحدَه، أمَرَنَا بالصلاة والزكاة والصيام، وأمرنا بصدق الحديث , وأداء الأمانة , وصلة الأرحام , وحسن الجوار , والكَفّ عن المحارم والدماء , ونهانا عن الفواحش , وقول الزور , وأكل مال اليتيم , وقَذْف المحصنة، فصدَّقْناه , وآمنا به , واتبعناه على ما جاء به. هذه هي قواعد الدين الإسلامي، إن العمل بهذه القواعد قد أفاد مِئات الملايين من الذين اعتنقوا الإسلام - وخصوصًا الفقراء بينهم - عزاء روحيًّا فضلاً عن النعم المادية من خيرات هذا العالم وأمل الخلود في العالم الآتي، ولا ريْبَ أن الهيئة الاجتماعية الأصلية تستفيد كثيرًا من اعتناق الدين الإسلامي، وقد قال السير جون سيلي عما عرفه بقوله: (قوة الدين التي تنشئ الممالك) ما يأتي: (أينما وجدت قبيلة بربرية قد رفعت نفسها يومًا ما حتى ارتقت عن حالها الهمجية , ونالت بعض التقدم تجد أنها فعلت ذلك عادة بواسطة اعتناقها الدين الإسلامي) . اهـ ولسوء الحظ نرى أن المصلح العربي العظيم الذي قام في القرن السابع (يريد به محمدًا صلى الله عليه وسلم) قد اضطرته دواعي مركزه يومئذ إلى القيام بأكثر من تأسيس دين، إنه حاول أن يوجد نظامًا اجتماعيًّا، فكانت النتائج لهذا النظام هي التي وصفها المستر ستانلي لاين بول - وهو الرجل الذي راقب مراقبةً دقيقةً ما في الإسلام من وجوه القوة والضعف - إذ قال: (إن الإسلام عظيم من حيث كونه دينًا، وقد علم الناس أن يعبدوا إلهًا واحدًا عبادة طاهرة، وقد كانوا مِن قبلُ يعبدون آلهةً كثيرةً عبادةً غيرَ طاهرة، ولكن الإسلام أخفق إخفاقًا كاملاً بصفته نظامًا اجتماعيًّا) . قال لورد كرومر: إنّ الأسباب التي أوجبتْ فشلَ الإسلام من حيثُ هو نظامٌ اجتماعي متعددة. (أولها) وأعظمها مكانةً أن الإسلام يجعل المرأةَ في مركز منحطّ جِدًّا. (ثانيها) أن الإسلام بمراعاته التقاليد المحيطة بالقرآن أكثر من القرآن نفسه جمع بين الدين والشرع، فجعلهما جزءًا واحدًا غيرَ قابِل للتفريق أو التغيير , فنتج عن ذلك أن تلاشى من النظام الاجتماعي ما فيه من المرونة. فإن المصري حتّى الآن إذا لجأ إلى الشرع في أمور الوصاية فإن قضيته يحكم بها بمقتضى المبادئ الضيقة , التي وضعت لما يوافق أحوال الهيئة الاجتماعية الأولى في شبه جزيرة العرب في القرن السابع. ومنذ سنوات قليلة أي: سنة 1890 أوضح مُفتي الديار المصرية الأكبر كيف تعاقب عصابات اللصوص التي يثبت ارتكابها لجريمة الاعتداء بالسلاح ليلاً على إحدى القرى , فقال: إنه يمكن أن يعاقب المجرم على سِتّة وُجُوهٍ مختلفة: فإما أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى , ثم يقطع رأسه , أو يشوه جسمه كما تقدم , ثم يصلب بعد ذلك , أو أن يقطع رأسه فقط , أو أن يصلب فقط , أو أن يقطع رأسه أولاً ثم يصلب بَعْدئذ. وأفاض المفتي في تقريره عن كيفية صَلْب المجرم , وهو أن يربط الرجل إلى صليب في شكل معين , ثم يوخز بِحَرْبَة في الجانب الأيسر , وتبقى الحَرْبَة وهي تحز في محل الجرح إلى أن يموت. ثم إن بعض المسلمين قد عمدوا بنية حسنة إلى تشويه الشرع المقدس؛ إذ أقلقوا خواطرهم في اختراع وسائل يريدون فيها أن يبينوا أن مبادئ القرن السابع الشرعية , ونظامه الاجتماعي يمكن تطبيقها على مجرّبات القرن العشرين المدنية , ولكن العادة المبنية على القانون الديني مؤيدة بالمغالاة في إكرام الشارع الأصلي قد قيدت جميع المتعلقين بالإسلام بقيد من حديد لا سبيلَ إلى النجاة منه. ولقد قيل: (إن الإنسان عاش في القرون الوسطى ملفوفًا بِقَلَنْسُوَةِ الكاهن) فالمسلم الصحيح في الأيام الحاضرة ملتف بالشرع أكثر من الْتِفَاف الناس بِالقَلَنْسُوَةِ في القرون الوسطى. (ثالثها) أن الإسلام لا يشجّع على الرِّقِّ , ولكنه يتساهل في الاسترقاق، فقد قال السيد (أمير علي) : (إن محمدًا وجد تلك العادة سارية بين الوثنيين من العرب , فخفض من هذا الشر) ولكنه عجز عن إلغائِهِ تمامًا , أما أتباعه فقد تناسَوْا عدم تشجيعه , وأجمعوا على إباحة الرق , وجعله عنوانًا لسلوكهم. ويليق بنا أن نقول في هذا المقام: إن من الأمور التي تُوجب الخجل على المسيحي أنه لم يَكْتَفِ قَبْل الآن بأن يستعبد العبيد بَلِ ارتكب أقبح من ذلك , فكان يتخطفهم، على أن الديانة المسيحية لم توافق مطلقًا على الرق. وقد اشتهر أخيرًا أن الإسلام دين خالٍ من التسامح , وهي شهرة صحيحة من بعض الوُجُوه , ولكن لا بُدَّ من تحديد وإيضاح لهذه التُّهْمَة العامّة. نعم , إن أتباع النبي شهروا الحرب على الذين اعتبروهم مِن الكافرين , وقد علمهم دينهم أنه يجوز استرقاق غير المؤمن مَتَى أخذوه أسيرًا في الحرب , وزِدْ على ذلك أنّ الخصام الطائفي كان كثيرًا , فقام السُّنِّيُّونَ في وَجْه الشيعيين , واضطهد السنيون الوهابيين بدون شفقة - على أن الخروج عن الإسلام يعاقب عليه بالموت , وقد كان هذا العقاب ينفذ فعلاً منذ سنوات غير كثيرة. ونَرَى مِن الجِهَة الأُخْرى أن تواريخ الإسلام لم يشوهها شيء من مثل تاريخ ديوان التفتيش , وزِدْ على ذلك أيضًا أن المسلم إذا لم تؤثر في نفسه طوارئ خاصة مثيرة لعواطفه فهو لا يتأخر عن أن يعامل اليهودي والمسيحي بتساهل يَشُوبُهُ شيء من الاحتقار. ففي قُرَى الصعيد لبث الهلال والصليب والجامع والكنيسة جَنْبًا إلى جَنْب سنوات كثيرة. ومع ذلك نرى الإسلامَ يميل إلى بَثّ رُوح عدم التساهل , وإنماء الحقد والاحتقار لا للمشركين فقط , بل يشرك معهم جميع المؤمنين الذين لا يقولون: إن محمدًا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ يصنف الإسلام؛ فقال: إن المسلم منذ قرونٍ كثيرة ما برح يؤمر أن ينتقم لنفسه مِن أعدائه , وأن يضرب من يضربه عينًا بعين , وسِنًّا بِسِنّ , وعليه تجد أن الإسلام يختلف عن النصرانية في أنه يغرس في العقول أن الانتقام والكره يجب أن يكونا أساسًا للعلاقات بين الرجل والآخر بدلاً من المحبة والإحسان. ثم إن الإسلام يحدث بغضًا خاصًّا للذين لا يقبلون الدين الإسلامي. يقول القرآن: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} (محمد : 4) {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} (محمد : 12) . وقد علق اللورد على الآيات في ذيل الصحيفة قوله: ومن الجهة الأخرى تجد في سورة البقرة قوله: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) , فالأقوال المتناقضة الكثيرة وغير المتلائمة الموجودة في القرآن لا يمكن التوفيق بينها , ولعلّ السببَ في ذلك هو أن تعاليم محمد كانت مبنيةً في الأكثر على الحوادث الجارية , وعلى أحوال شخصية في حياته. نعم , إن محمدًا إنما أشار في طعنه على الكافرين بوجه خاصٍّ إلى الوثنيين الذين أقاموا في زمنه في شبه جزيرة العرب , ولكن الذين فسروا القرآن بعد ذلك جعلوا تلك المطاعن موجهة إلى المسيحيين واليهود , وهذا الذي يفهمه الآن جمٌّ غَفِير من المسلمين. أليست كلمة الغازي - وهي أسمى لقب يطمع بإحرازه أي ضابط في جيش السلطان - معناها: مَن يحارب في سبيل الإسلام , والبطل الشجاع الذي يذبح كافراً؟ ألا نجد أن كل عالم ألقى الخُطْبَة في الجامع يستنزل غضب الله على رءوس غير المؤمنين بصراحة واضحة في كل زمان , وبصراحة تزداد كثيرًا عند وجود ظروف تضرم شعلة التعصب؟ ألا يجب أن تعتبر كل بلاد غير إسلامية (دار حرب) ؟ فَمَتَى علمنا أن مثل هذه المبادئ ما برحت تغرس في أذهان المسلمين كل القرون الماضية لا نجد باعثًا على الدهشة من نمو رُوح عدم التساهل فيهم. ثم قال بعد الامتنان على المصريين بإعطاء الإنكليزي لهم ما لا طيانهم وترقيته لعقولهم وآدابهم: ومع ذلك فإن المسلم المصري - مع أنه يكره الباشا التركيَّ , ويخافه إلى حد أنه يدرك الفوائد التي أجزلها له الإنكليزي ويعترف بسموّ مداركه وكفاءته - فهو على كل ذلك لا يقدر أن ينسى أن الإنكليزي يلبس على رأسه برنيطة وهو يلبس طربوشًا أو عمامة. ومع أنه يقبل المنافع بمزيد الارتياح , فهو يذكر دائمًا أن اليد التي منحتها ليست يد مسلم , وهذا الأمْر يؤثر في نفسه أكثر من كون الإنكليزي أجنبيًّا عنه. مهما بذل الإنكليزي مِن وسائط التودد والعقل فهو عاجز عن هدم هذا الحاجز الحصين - وهنا نقل اللورد قول المستر بانري: الإسلام هو كل شيء للفلاح , وهو يعتبر غير المؤمنين فئة قليلة حقيرة، ولا يمنعه عن الفتك بهم وإعلان ميزة الإسلام إلا حقيقة مكدرة له هي أنه ليس في الإمكان الفتك بهم الآن. ولي

القرآن والعلم ـ 3

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ القرآن والعلم (3) تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز [1] (المسألة الثامنة) (موت سليمان) قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ} (سبأ: 14) اعلم أنه كثيرًا ما يحدث أن الإنسان إذا لَحِقَه الموت فجأة عقب انفعال عصبيّ ومجهود جسمانيّ يحصل له تيبس في الحال في جميع أجزاء جسمه بحيث يحفظ بعد وفاته هيئته وشكل جسمه قبل الممات، ويبقى على هذه الحالة من بضع ساعات إلى يومين فأكثر، وخصوصًا إذا كان الجو باردًا , وتسمى هذه الحالة في كتب الطب باللغة الإنكليزية Spasm Cadaveric أي: تيبس الموت. ولذا يشاهد في بعض الحروب أن بعض العساكر يموت ويبقى واقفًا مستندًا على بندقيته كأنه حي إلى أن يبتدأ التعفن في الجثة , فتزول يبوستها وتسقط. فالظاهر أن سليمان عليه السلام كان واقفًا بعد مجهود جسماني عقلي مستندًا على عصاه {مِنسَأَتَهُ} (سبأ: 14) ففاجأه الموت، فحصل له ما يحصل لغيره , وبقي قائمًا كأنه لم يَمُتْ فشاهدت الجن أنه لا يبدي حراكًا، ولا يظهر عليه أنه يتنفس لعدم تحرك صدره؛ فداخلهم شك في حالته , وربما اجتمع على وجهه الذباب فلم يطرده عنه , فازداد شكهم , ثم دخلت فأرة (وهي من دواب الأرض) وأخذت تلعب حوله , وأخيرًا بدأَتْ تقرض عصاه والجنُّ إلى ذلك ينظرون فيتعجبون , ولكنهم خافوا أن يتركوا أعمالهم المكلفين بها , أو أن يظهروا شكهم في حياته، ولبثوا على هذه الحالة مترددين بِضْعَ ساعات أو يومًا أو يومين. فلما حركت الفأرة العصا التي أخذت تقرضها عن موضعها قليلاً اخْتَلّ التوازن فسقط على الأرض وَبِذَا أَيْقَنَتِ الجِنُّ أنه كان ميتًا , وأن اشتباههم كان في محله. ولو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا لحظةً بعد وفاته قائمين بأشغالهم الشاقة , ولعرفوا الوفاة حين حدوثها بلا تردد. ولفظ (لبث) يستعمل في الزمن القليل والكثير كقوله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} (البقرة: 259) . فهذا هو التفسير الصحيح لهذه الآية الذي ينطبق على العلم، ولا يوجد في تاريخ سليمان ما ينافيه. * * * (المسألة التاسعة) (الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص: 34-35) معنى هذه الآية: أن سليمان لَمّا وَرِثَ أباه داود في مُلْكِهِ سأَلَ اللهَ أنْ يرزقَه وَلَدًا لِيَرِثَهُ مِن بَعْدِ مَوْتِهِ , ولِيَبْقَى المُلْكُ في نَسْلِه , فاختبره الله تعالى , ولم يجب دعاءَه في أول الأمر إلا بإعطائه ولدًا ناقص الخلقة (كأن يكون لا رأسَ له ولا مخَّ , أو نحو ذلك مما يحصل أحيانًا لبعض المولودين) ولما كان هذا المولود أقرب إلى الميت منه إلى الحي المدرك سمّاه الله جسدًا كأنه لا رُوحَ له , فلمّا وجد سليمان أن مَن رزقه الله ليخلفه في كرسيه عَدَمُهُ خَيْرٌ مِن وُجُودِهِ ضَجِرَ، وتألَّمَ، ولَمْ يَشْكُرِ اللهَ على كل حال , ولكنه لم يلبث إلا قليلاً ورجع إلى الله يستغفره على ما فرط منه , ويرجوه العفوَ عن عدم رضائه بِما قضاه تعالى , وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} (ص: 35) أي حيثُ إنك لم تَرْزُقْنِي بِمَن يَرِثُني في هذا المُلْك فوسعه علي، وزدني سلطانًا , ومتعني بما لا يصل إليه أحد من الملوك بعدي حتى تعوضني بذلك ما حرمتني من النَّسْل الصالح , فاستجاب الله دعاءَه , وسَخَّرَ له الريحَ , وسَلَّطَه على الجن والإنس والطير , وبعد ذلك رَزَقَه الله تعالى أيضًا بمن يرثه (وهو ابنه رحبعام) ولكنه كان ضعيف العقل سَيِّئ التدبير , رديء السياسة حتى خرجت عليه عَشَرَةٌ من أسباط بني إسرائيل، ووقع الانقسام بينهم في عهده. فمما تقدم تعلم أن قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ} (ص: 34) معناه ذاك المولود الناقص , وهو أول مَن رُزِقَه , وقال: ألقيناه على كرسيه؛ لأنه بمنزلة ولي عهده كما يقولون الآن , وتقول العرب: (أُلْقِيَ الليلةَ على كرسي الفرس مولودٌ) مثلاً إذا رزق كسرى بالولد الذي يرثه في ملكه، ويجلس على كرسيه من بعده. وهذا التفسير هو الذي كان يفهمه العرب من هذه الآية؛ ولذلك ورد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها ما يقرب منه , ولولا حَشْوُ مفسرينا الإسرائيلياتِ في تفسير الكتاب العزيز ما فَهِمَ أحدٌ منها خلافه؛ فاحذر مما قالوه , ولا تَعْبَأْ به، فإنه مَثَارٌ لشبهات كثيرة. * * * (المسألة العاشرة) (اللؤلؤ والمَرْجَان) قال الله تعالى: {مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 19-22) , فقال كثير من الناس: إن اللؤلؤ والمَرْجَان يخرجان من البحر المالح, ولا يوجد منهما شيء في البحر الحلو. واعلم أن اللؤلؤ يخرج من كثير من الأنهار , ويوجد في بلاد أوستراليا أنهار مشهورة باستخراج الصدف واللؤلؤ منها؛ وهاك أسماء بعضها: نهر هنتر Hunter , وكلارنس Clarence , وكوك Cook's , وكليد Clyde , وغيرها، وهي موجود في ولاية ويلز الجنوبية الجديدة Wales South New من أوستراليا. * * * (المسألة الحادية عشر) (السماء في القرآن) السماء: من سَمَا، أي: ارتفع , فالسماء في اللغة كل مرتفع فسقف البيت سماء والسحاب سماء , والكواكب سماوات والفراغ اللانهائي الذي فوق رءوسنا هو سماء أيضًا , وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الشريف بعِدَّةِ مَعَانٍ تُعْرَف من السياق , وتفسر في كل مقام بحسبه , وإن اشتركت كلها في معنى الارتفاع والسمو. وكذلك يوجد في اللغة العربية ألفاظ كثيرة تُستعمل في مَعَانٍ مختلفةٍ لا يعينها إلى السياق. مثلاً (لفظ) نَجْم يُسْتعمل في الكوكب , وفي النبات، فمثال الأول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} (النجم: 1) ومثال الثاني: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6) والمقام هو الذي عين كلا من المعنيين , ويسمى هذا النوع من الألفاظ بالمشترك. إذا عرفت ذلك فاعلم أن لفظ السماء إذا ورد في القرآن يجب أن يعرف معناه من المقام , ويجب أن لا يحمل في جميع المقامات على معنى واحد مثلاً في قوله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (الرعد: 17) معناه: السحاب؛ ولذلك قال في آية أخرى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الوَدْقَ} (النور: 43) (أي: المطر) {يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) الآية , وفي قوله: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} (الحج: 15) يعني: سقف البيت , وفي قوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ} (الرحمن: 7) معناه: الكواكب. والألف واللام هنا للجنس , وكذلك في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} (ق: 6) أي: جعلنا أجزاءَ كل منها متماسكة , ثم هي في مجموعها متجاذبة بعضها إلى بعض كالبُنْيَان يشُد بعضه بعضًا {وَزَيَّنَّاهَا} (ق: 6) بأن جعلنا أشكالها جميلة مستديرة , وأن بعضها مع بعض لها منظر بهيج , ثم أضأناها بالأنوار الذاتية أو المنعكسة عليها من غيرها {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) أي: شقوق , فلا ترى كوكبًا منها به كسور أو منشقة أجزاؤه أو متفرقة , فهو كتأكيدٍ لِقَوْلِه: {بَنَيْنَاهَا} (ق: 6) وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} (الملك: 5) السماء الدنيا معناها الجو , أو الفراغ المحيط بنا القريب منا , وهو المزين بالكواكب , وأما ما وراءه من الفراغ اللانهائي , فليس به زينة ولا شيء , وجعلناها رجومًا للشياطين بانقضاض الشهب منها لإهلاكهم كما في قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} (الصافات: 10) وهذه المسألة لا يوجد في العلم الطبيعي الآن ما يصدقها , ولا ما ينفيها , وغاية الأمر أنها غير معروفة له , فنحن نصدقها لإتيان النبي الصادق بها , وقد ثبتت نبوته عندنا بالبراهين القاطعة كما أوضحناه في مقالات الدين في نظر العقل الصحيح. وقوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (الملك: 3) المراد به: الأجرام السبعة العلوية المشهورة التي كانت تعرفها العرب، وتراها بأعينها وهي القمر وعُطَارد والزهرة والشمس والمِرِّيخ والمُشْتَرِي وزُحَل. وإنما خصّ هذه السبعة بالذكر؛ لأنها أكبر ما تعرفه العرب وأكبر ما تشاهده , وإلا فالأجرام السماوية العظيمة أكثر من سبعة. وليس في القرآن الشريف ما يدل على الحصر. على أن بعض علماء اللغة قالوا: إن العرب إذا أرادت المبالغة في العدد تأتي بلفظ سبعة , وما ركب منها كالسبعين والسبعمائة , واستشهدوا على ذلك بنحو قوله تعالى في وصف جهنم: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} (الحجر: 44) فإن المقام مقام تهويل لا يناسبه إلا ذكر العدد الكبير. وإن لم يكن لِجَهَنَّمَ سوى هذه الأبواب السبعة اقتضى المقام عدم ذكر العدد هنا بالمَرّة؛ لقلته، فلو لم يكن لفظ السبعة يستعمل عندهم في مطلق الكثرة لَمَا ذكره هنا؛ ولذلك قال أئمة المفسرين في مثل هذه المواضع: إن العدد لا مفهومَ له , ومثل ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} (لقمان: 27) . قد يقول قائل ما بالك تَذْكُرُ هنا في تفسير السماوات السبع القمر والشمس مع أن القمر تابع للأرض , والشمس هي مركز العالم والسيارات تدور حولها , ومنها أرضنا هذه. ونقول: إن هذه المسائل الفلكية لم يتعرض لها القرآن هنا في مثل هذه الآية , وغاية ما ذكره أن الله خلق سبع سموات طِبَاقًا , وقلنا: إن الأجرام التي خلقها الله هي عالية بالنسبة لنا؛ فهي سموات وهي سبع طباق , بعضها فوق بعض بالنسبة لنا أيضًا , فلا دَخْلَ لِذلك في كون بعضها تابع لغيره [1] فإن هذه المسائل لا علاقة لها بتفسير الآية كما لا يخفى على ذِي عقل. ويستعمل لفظ السماء في اللغات الإفرنجية أيضًا في عِدَّة معانٍ مختلفة , ففي الإنكليزية لفظ Heaven قد يُرَادُ به السحاب أو الجوّ أو الذات العليّة أو الجنة أو غير ذلك , والمقام هو الذي يعين هذه المعاني المختلفة كما هو المعهود في اللغة العربية. * * * (المسألة الثانية عشرة) (الأرض والجبال) قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} (الطلاق: 12) , وقال: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} (النحل: 15) , وقال: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} (النبأ: 7) . لم يذكر في القرآ

السنن والأحاديث النبوية

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ السنن والأحاديث النبوية بحث العمل بالحديث وبحث التواتر يقول حضرة الدكتور: أنا لا أنكر ما للأحاديث من الفوائد , ثم قال: ولكن ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين، ولا يلحقها بالقرآن الشريف. الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم. ونقول إن الله - جل شأنه - أرسل رسلاً أوجب على عباده تصديقهم واتباعهم في كل ما أرسلوا به , وليس من شرط الرسول أن يأتي بكتاب من عند الله. وبعبارة أخرى: لم يقُلْ أحد من العقلاء بعد ثبوت رسالته: إنه يجب على الله أن ينزل عليه كتابًا يقرأه، أو كلامًا يتلوه بلفظه - بل عرفوا الرسول بأنه بشر أوحي إليه بشرع , وأمر بتبليغه سواء كان التبليغ والبيان بالقول أم بالفعل , على أن القول مقدم على الفعل ومعرفة الشرع بالقول أكثر منه بالفعل , والله - جل شأنه - لم يخصص طريقًا ولا طرقًا معينة لحملة الشرائع في تبليغها إلى مَن نأى وبعد مكانًا أو زمانًا , ولم يذكر في موضع ما من أي كتاب من كتبه أن من رد ما بلغه من الدين بغير تواتر معذور , ولم يقل ذلك أحد من رسله , أو ممن يعول عليه من أتباعهم , بل لم يشترط ذلك أحد من البشر في شئون دنياهم الاجتماعية. وإنما مدار ذلك - والله أعلم - هو حصول التصديق بالنسبة إلى خصوص من بلغه خبر , ولم يقصر في البحث عن صِحّته وصدقه , فحين تصديقه لا يجوز له ردّه , وهذا هو الذي دلّ الشرع والعقلُ عليه , وعليه اتفق أهل المِلَلِ قاطبةً , وهذا مما نجل حضرة الدكتور عن مخالفته. بعث الله رسله مبشرين ومنذرين لِئَلاّ يكون للناس عليه حُجّة , وهو لا يأمر بالمحال ولا يكلف نفسًا إلا وسعها , فلو أوْجَبَ على الأمم تبليغ كل مسألة مِن شرعه بالتواتر , وعلى المبلغين ردّ غير التواتر لَكان ذلك تكليف ما لا يطاق مستلزمًا لِملاشاة الأديان، ومعطلاً لسائر المواصلات ومعاملات بني الإنسان، والله منزّهٌ عن إرادة ذلك فَبَطَلَ اشتراط التواتر لنقل مسائل الدين. دلّ القرآن على أن من جاءته الحُجّة عن الله بتوسط رسله وردها جحدًا أو مكابرة أو بما شاء كل ذلك وداناه - فقد كفر بالله وبرسله واستحق العقاب وشديد العذاب. ومن بلغته الحُجّة عن رسول من رسله حين وجوب طاعته في خصوص تلك المسألة من طريق لا يردها في جميع شئونه , ولا ينكر صحتها بعد البحث والتنقيب ثم ردّ ما جاء عن الرسول بتلك الطريق تشهيًا فلا شكَّ أنه معانِدٌ ومكابِرٌ ومنابذ لطاعة ذلك الرسول , وسواء كانت هذه الطريق متواترة أو آحادية. فقول حضرة الدكتور: ولكن ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين - يعني الأحاديثَ الصحاح الآحادي ولو كانت مشهورة ومستفيضةً. ثم قوله: (الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم) يدلُّ بَلْ هو ظاهِرٌ في أنّ مَن أنكَرَ واجبًا من الشرع فهو كافر؛ ولذلك احتاط في أنه لا يكون الشيء واجبًا إلا إذا نقل بالتواتر. والحق أن التواتر ليس شرطًا في وجوب الخبر كما أن من أنكر ما دل عليه التواتر قد لا يكفر في بعض الصور , بل قد لا يكفر من أنكر بعض الواجبات عند غيره , كما قد عرفت أن الحصر الذي ذكره غير مسلم , وذلك لأن الشيء قد يكون متواترًا عند شخص دون شخص , وقد يختلف معنى التواتر وشرائطه عند أُنَاس دون أُناس , بل التواتر عند بعض الناس لا يفيد العلم وعند بعضهم في بعض صوره , وعلى قول الجمهور يمكن أن يوجد تواترٌ في أمْر ما , ويعسر على بعض الناس معرفته , وتحقق وقوعه في ذلك الأمر بل يمكن أن يوافيه حمامه، قبل أن يبلغ من ذلك مرامه، والحق أن من أنكر ما عرف وُجُوبه من دِين الإسلام , وصار ذلك معلومًا له ولو بخبر الآحاد كفر , وكذلك مَن أنكر ما هو معلومٌ من الدِّين بالضرورة , ولم يكن قريب عهد الإسلام أو نشأ بعيدًا عن العلماء كفر , وإن لم يكن منقولاً بالتواتر المعروف عند التواترية. نحن لا ننكر أن بعض أنواع التواتر يفيد العلمَ , ولكن ننكر انحصار العلم الخبري فيه , أو فيما باشرَ الشخص سماعه كما أنَّا لا نسلم أنّ ما هو متواترٌ عند أناس يلزم أن يسلم تواتره الآخرون. إن من رمى التقليد جانبًا وتبرّأ من التعصب المشوم , وجعل الحق مطلبه , والإنصاف رائدَه , ونظر في أقوال العقلاء من هذا النوع البشري نَظَرَ الناقد البصير علم علمًا لا يعتريه شكٌّ أنّ كل ما وجد عندهم من الحقّ فهو مطابقٌ أو مأخوذٌ مِمّا جاء به المعصومون عليهم الصلاة والسلام عن الخلاق فاطر الأنام، وحيث كان غرضنا في هذا المقام تحقيق الخبر المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , وما يجب قبوله، وما لا يجب نقول. * * * العلم والطرق المؤدية إليه الناس تكلموا على العلم وعلى الطرق المؤديّة إليه، فمنهم من شدد وضيّق , فلم يجعل إلى العلم سبيلاً غير ما أدركه بأحد حواسه , وهذا مع كونه إهمالاً لأفضل ما امتاز به الإنسان في أعلى مدارج إنسانيته هو تعطيلٌ لجميع الارتفاقات , والتعاون على تحصيل أنواع العلوم المختلفة المواضيع؛ إذ من المحال أن يقوم الفرد بتحصيل جميع العلوم التي قد حققها وعرفها جميع البشر - فهؤلاء المضيقون غاية معتقدهم تعرية الإنسان عن أكثر العلوم، والقضاء عليه بالوقوف دون مصاف كثير من الحيوان والبهائم لما عرف من أن إحساس بعضها أقوى من إحساس الإنسان. ومِن نتائج مذهبهم المشئوم ضياع وانحلال عُرَى التضامن الاجتماعي , وارتفاع الوثوق مِن بينِ أفراد الناس في أشد ضروراتهم - ولذلك ترى هؤلاء المضيّقِينَ من أكثر الناس تناقضًا في علومهم وأقوالهم وأفعالهم؛ لأنه مِن المستحيل عليهم التزام مذهبهم الفاسد , ومن تتبع علومهم وأقوالهم وأفعالهم في جميع شئونهم وَجَدَهم على جانب بعيد , وفي غاية المناقضة لما أصلوه مما ذكرناه عنهم. ومن الناس من وسع بعض التوسعة لكنه أنكر حصول العلم من طريق الوحي , وهؤلاء هم الزنادقة المنكرون لوجود واجب الوجود أو المنكرون للنبوات، وهؤلاء يئول إنكارهم إلى تنقيصه تعالى شأنه المؤدي إلى نفيه المؤدي إلى المحال في الضروريات، والقدح في المشاهدات , وكون الشيء فاعلاً لنفسه أو مفعولاً لغير فاعل. ومن الناس من طلب الحق , وتبين له فساد قول هؤلاء وهؤلاء , واجتهد في طلب الصواب، فسلم بأكثر الطرق المؤدية إلى العلوم لكنه أهمل بعضها لاشتراطه لها شروطًا يعسر أو يتعذر وجودها , وهذه عدوى سرت إليه من مخالطة من تقدم ذكرهم من الملحدين السابق ذكرهم. فمن اشترط في وُجوب قَبُول الوحي - أي الشرع - أو اعتبار الأخبار مطلقًا: المشافهة والسماع , أو بلوغه بالإجماع عملاً , أو التواتر - فقد نصب في طريقه العقبات، وأقام دونه سدّ المحالات، وشرع في الدين ما لم يأذن به الله، ونحن نسأل حضرةَ الدكتور: هل تشترط ذلك في جميع العلوم التي يشتغل بها الناس، وفي جميع ما يتعلق بشئونهم الاجتماعية أم لا تشترط ذلك إلا بخصوص بلاغ الأحكام والمسائل الدينية؟ أنا لا أظُنّ أنه يلتزم ذلك في الأوّل , ولئن التزمه فالواقع والمشاهدة تردّه , وهي أعدل حكم بلْ يلزمه من التناقض ما لزم المضيّقِين السابق ذكرهم. إذا بَطَلَ في الأول اشتراط ذلك ففي الأديان كذلك لما قدمنا من تلازم القدر بالشرع فلا فرْقَ يُعْتَدّ به. وعليه فالذي دلت عليه الكتب والشرائع السماوية، وهو ما عليه عامّة البشر {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) هو أن من ثبت لديه بخصوصه صِحّة خَبَر وصدقه وجبَ عليه قَبُوله , وهو في حقّهِ علم حين تصديقه [1] اللَّهُمَّ إِلاّ أنْ يكونَ الخبر ينتج ضررًا على أحد , والمخبر معلوم فسقه؛ فيجب التبين والتروي حتى يظهر وينكشف حال ذلك الخبر , وكذلك مَن بلغَه الخبر عمن لا يعلم حاله - والأمر ما ذكرناه - وجب عليه التنقيب , فإن صحّ لديه ذلك الخبر من الطُّرُق الذي يصحح بها مثله وجب عليه قبوله , كما أنه يقبله في بقية شئونه الدنيوية, ولا يجوز له اتباع هواه والتشهي والترجيح بلا مرجح. لم يوجب الله علينا - مَعْشَرَ المسلمِينَ - التقيدَ بما أسس بعض الناس؛ بل نهانا عن التقليد واتباع الآباء , وأوجب علينا النظرَ، فما وافقَ دينَنا الذي هو الدين المستحيل مخالفته للعقل الصحيح قبلناه , وليس من العدل أن نترك ما لدينا مِن الحق ونقتصر على ما لَدَى المُخالِفِين، وإنْ دلّ عليه ديننا، أمّا ما خالفَ ديننا فلا شكَّ أنه مخالف للعدل والعقل. وليس في الدين ولا في القرآن ولا في الحديث الصحيح ما يناقض ما دلّ العقل الصحيح عليه [2] ، ومن زعم ذلك فعليه البيان , نَعَم في الدين أشياء لم تستعد بعض العقول لإدراكها , وسببه ما قدمناه من تضييق بعض الناس , وسَدّ أكثر أبواب الطرق المؤدية إلى العلم , فإذا كمل لبعض الناس استعداده العقلي , وصار إنسانًا بالمعنى الذي خُلِقَ لأجله فلا شكَّ أنه يدرك معلومات لا يكمل العقل إلا بإدراكها , فعلى مَن لم يَأْتِ هذه البيوت من أبوابها أن يسألَ أهلَ العلم. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

شكر المنار على تأبين ذكاء الملك

الكاتب: بدائع نكار ميرزا

_ شكر المنار على تأبين ذكاء الملك رسالةٌ جاءَتْنا من العالم الأديب بدائع نكار ميرزا فضل الله البيهقي مدرس العلوم الأدبية في مدرسة طهران السياسية. ورغب إلينا ميرزا محمد علي خان نجل صديقنا (رحمه الله) ذكاء الملك أن ننشرها في المنار , فنشرناها شاكرين للأديبين فضلهما , وهي: هو جدير أن يؤذن في المنار ... معارف عنونت في المنار [1] وكنا في محاق الجهل دهرًا ... بغرته سلخنا من سرار سأجعل شكر منشئها دثاري ... وأجعل مدحه أبدًا شعاري وما أنا في رفع خبري إلى حضرة مولاي - أدام الله بقاءه ابتداءً، ونصب وجوه أملي لشمول عواطفه رجاءً - قبل التعرف إليه ببعض المعارف، والتقرب إليه بطرائف اللطائف، إلا كطالب الإيناس قبل الإبساس، والماتح بلا أسباب وأمراس، ولكني أجلّ سيدي من أن يحتاج العبد إلى تقربه بالوسائل، ويمت إليه بذرائع القبائل، لأن داعي فضله على المنار جهارًا يدعونا إلى نار قِراه ليلاً ونهارًا، فلا أُلاَمُ على ذلك الإقدام إنْ لَبَّيْت دعوته، وصليت قبلته، وأتيت ناره، ويممت داره، قيل بممبج مأواه ونائله ... في الشرق يسأل عمن نيله سيلا على أني من آل داود، ومن عاملي الشكر معدود، وكيف لا أشكر من مولاي نِعَمَه التي أَحْيَتِ القلوبَ، وأماتت العيوب، وحسّن منا الأخلاق، وعلّق علينا الأعلاق، فجزاه الله عن المسلمين خيرَ الجزاء، ورداه عنهم برد الثناء. * ولو سكتوا أثنت عليه الحقائب * ... قد وقفت على خاتمة الجزء الثانيَ عَشَرَ مِن المنار في مدرسة السياسة من طهران، بعدما وقفت على فاتحة المجلّة في خُرَاسان. تنورتها من أرض طوس وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي وقفت على تأبين الفقيد الفريد ذكاء الملك - أطاب الله ثراه - فأخذني مِن الأسف ما جرّ بي إلى التَّلَفِ. فقدنا ذكاء الملك لا بل سماءه ... وما حال ملك زال عنه ذكاؤه فقدناه لو أن يفتدي لفديته ... ولكن قضاء الله حتم مضاؤه مضى رحمه الله وأصمى على قلوبنا سهام الهموم، وأحمى على أكبادنا مكاوي الغموم، فلولا خلفاه الصالحان، وفرعاه الباسقان، وثمراه اليانعان، وقمراه الطالعان، لَمَا صبرنا على هذه الرّزِيّة، بل هلكنا من سطوات تلك البليّة، ولكن بحمد الله ومَنِّهِ. وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا الملك مغبون ولا الموت غابن فها أنا مع عُقْدَة لساني، وعُجْمَة بَيَانِي، وضِيق بَاعي، وقِلّة مَتَاعِي، ونُقْصان بِضَاعتي، وكَلاَلَة يَرَاعَتِي، أشكر مِن مَوْلاي - أدامَ اللهُ بقاه - تأبينه على فقيدنا ذكاء الملك طاب ثراه، وأسأل الله أن يديم ظلال عواطف مولاي على رءوس أهل الأدب، ويقيمه على تثقيف الأَوَد من العَجَم والعَرَب، وأن يجعلَ كِتابي هذا عنده مقبولاً، لا مردود عليَّ مبذولاً، وأنهي إلى تلك الحضرة العالية من أديبنا ذكاء الملك بن الذكاء أزكى وأوفى الثناء، أختتم كتابي معتذرًا بذلك الخطاب. لا تنكرن وإن اهتديت نحوك من ... علومك الغر وآدابك التقا فقبّم الباغ قد يهدي لمالكه ... برسم خدمته من باغه التحفا العبد فضل الله بن داود البيهقي المدعو ببدائع نكار للسُّدَّةِ السَّنِيَّة العَلِيّة والعتبة البهية الرضوية على راقدها آلاف الثناء والتحية.

البرهان الصريح في بشائر النبي والمسيح

الكاتب: أحمد ترجمان

_ البرهان الصريح في بشائر النبي والمسيح عليهما السلام بمنِّهِ تعالى سننشر كتابًا فيه بشائر النبي والمسيح عليهما السلام , منها للنبي عليه السلام وأُمّته من نبوة أشعيا ص 40 عدد 3 , وص 4 عدد 2 و25 , وص 43 عدد 16 , ونبوة دانيال ص 2 و7 و9 الوارد فيها ختام النبوة والحساب من حرب أدريانوس ملك الرومان لليهود سنة 132 , وانتهاء المُدّة سنة 622 , وهي سنة الهجرة والإذن بالفتح والجهاد. ونبيّن فيه صحة الترجمة في مواضع منها في التكوين بشأن سيدنا إسماعيل ص 16 عدد 12 (إنسانًا وحشيًّا) . قال العالم الإسرائيلي: الترجمة إنسان بري (يسكن البرية) يده في الكل , ويد الكل فيه , ولفظه العبراني: بيري آدام؛ أي: آدم بري , ويده في الكل المراد به: سيدنا محمد عليه السلام؛ لأنه من إسماعيل. وفي مزمور 80 عدد 17 وابن آدم الذي اخترته أي: نبينا ابن إسماعيل عليهما السلام؛ لأنه سُمِّيَ إسماعيل آدم، وفي التكوين من قول الرّبِّ للخليل (ص 21 عدد 13 وابن الجارية أيضًا اجعله أُمَّة لأنه نَسْلك) والأصل العبراني أن نسلك هو ولفظه (كي زرعخاهو) أي إنه هو زَرْعُك. وفي المسيح عليه السلام (وخلق الرب له من غير أب) من نبوة أرميا: (ص 31 عدد 22 خلق الربّ شيئًا حديثًا في الأرض أنثى تحيط برجل) وفي الشروح أن هذا في المسيح وتأييد نبوة أرميا هذه في القرآن الشريف من سورة آل عمران وفي نبوة أشعيا ص 49 المختصة بالمسيح يحكى بالوحي ما يكون للمسيح , وفيها أن له مجيئين , والأصل العبراني لها عدد 5، قال: الرب جابلي من البطن عبدًا له لإرجاع يعقوب , فيضم إليه إسرائيل. ولم ترجع بني إسرائيل كما في عدد 4 أمّا أنا فقلت عبثًا ولمجيئه الثاني عدد 6 قال: سهل أن تكون لي عبدًا لتقيم أسباط يعقوب , ورد محصوري إسرائيل , وأجعلك نورًا لأمم لتكون خلاصي إلى أقصى الأرض. ثم أكد ذلك في عدد 8-13 وفي عدد 6 (وأجعلك) قالوا بدلها فقد جعلتك. وما ذكر في أعمال الرسل ص 13 عدد 47 خلاف الأصل العبراني أيضًا؛ لأن رسالته كانت لبني إسرائيل ونبوة ميخا ص 5 عدد 3 و4 تؤيد أن له مجيئين كنبوة أشعيا هذه ص 49 , وتؤيدها أيضًا نبوة أشعيا ص 11 التي هي لمجيئه الثاني؛ لأن فيها يرفع راية الأمم، ويجمع بني إسرائيل من أربعة أطراف الأرض , وهذا معنى ما ورد في نبوة أشعيا ص 49 عدد 6 لِتكونَ خلاصي إلى أقصى الأرض؛ أي: خلاص بني إسرائيل , كما في ص 12 من نبوة أشعيا أيضًا المتممة لِص 11 , وهذا في آخر الأيام كما في نبوة هوشع ص 3 عدد 5 ونبوة أشعيا ص 49 تؤيد مجيء المسيح مجيئه الأول قبل انتهاء تسلط اليهود على الشعب في أرض فلسطين كما في عدد 7 والرب يحميه منهم كما في عدد 3 (في كنانته أخفاني) وعدد 8 (وحفظتك) وقد قلعت اليهود من أرض فلسطين سنة 132 , ثم لَمّا دخلَ الإسلام صاروا في حماه. ومنها في نبوة أشعيا ص 53 عدد 8 (أنه ضرب من أجْل ذنب شعبي) والأصل (ضربة لهم) ولفظ لهم بالعبراني (لاموا) لأن الكلام في الشعب الذين أخذوا لِبَابِلَ وحضروا منها , والنبي أرميا بين كثيرًا منه في مراثيه , وفي عدد 10 (فسر) والأصل فأراد , وفي عدد 10 أيضًا (أن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً) ولم يكن في الأصل العبراني لفظ ذبيحة والكلام في الشعب؛ لأنه ذكر يرى نسلاً , وفي مزمور 22 عدد 16 ثقبوا يديَّ , والأصل (كأسد يديَّ) مع أنهم اعترفوا في كتبهم باعتماد الأصل العبراني، والمسيح أيد نبوات الأنبياء كما في إنجيل مَتَّى ص 5 عدد 17 ولم يؤيد التواريخ. ونبين في الكتاب بعض الآثار المصرية والآشورية التي تؤيد التواريخَ الإسلامية الصحيحةَ , ونذكر نبْذَةً في فضائل الإسلام، ونطلب منه تعالى العَوْن في البدء والختام. (تنبيه) في نبوة أشعيا ص 41 عدد 25 (أنهضته من الشمال) , وقبل وضع الحركات التي وضعت بعد قرون كان ينطق بها (أنهضته من مخبأه) وهو الغار، وعلى وضع الحركة قام نبينا - عليه السلام - من الشمال , وهي المدينة شمال مكة، ودخل مكة شرقًا , والكلام في مساكن قيدار كما يأتي , وفي ص 42 عدد 11 ذكر مساكن قيدار وفي عدد 13 (خروج الرب كرجل حروب) إشارة للجهاد وقيدار بن إسماعيل كما في التكوين ص 25 عدد 13. (يا أخت هارون) ورد أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم حديث صحيح , وفي نبوة حزقيال ص 37 عدد 24 سمي المسيح داود , ونبوة زكريا ص 12 و13 تمت في يهوذا المكابي وأخيه يوناثان. وموجود بلد اسمها سامره (شمرون بالعبراني) قبل دخول بني إسرائيل الأرض كما في سفر يشوع 12: 20، وفي آثار توتمس الثالث وجود يهود بِفِلَسْطِين قبل دخول بني إسرائيل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد ترجمان

نادي دار العلوم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نادي دار العلوم لا يجهل أحد من المتعلمين في مصر أن أهل نادي دار العلوم هُمْ عماد النهضة العلمية العربية في هذا العصر، وسيكونون بعد اجتماع شملهم بهذا النادي أنفع للبلاد، وأقدر على القيام بأعباء التعليم والإرشاد. فتحوا باب البحث في التعريب والترجمة فأفادوا ما أفادوا. ثم فتحوا باب البحث في مسألة الرِّبَا عندما اشتدت العسرة المالية , وزعم كثير من الناس أن المسلمين لا يمكن أن يحفظوا ثروتهم، ويجاروا غيرهم في الارتقاء إلا إذا تعاملوا بالربا، وأنشأوا المصارف (البنوك) المالية. وأن الدين إذا كان يمنعهم من كل ما يعرف عندهم بالربا فهو لا يوافق مصالحهم الاقتصادية والسياسية في هذا العصر. خطب غير واحد من أعضاء النادي ومِن غيرهم في الربا , فكانت خطبهم ينابيعَ للفوائد النقلية والاجتماعية والاقتصادية. وقد سلك كل واحد منهم مسلكًَا أَنَارَ فيه المسألةَ مِن بعض جهاتها كما فعلوا في مسألة التعريب والترجمة , ولم يتصد منهم أحد للكلام فيها من جميع الوُجُوه إلا الرئيس في خطبة الختام. وقد ألقى صاحب هذه المجلة (المنار) كلمات وجيزة في ذلك أدمجناها في التفسير من هذا الجزء ولم يكن بحث كل خطيب في الموضوع من بعض الوجوه عجزًا عن سائرها وإنما كان ذلك هو المجلي للمسألة، والمقرب للصواب من الأفهام. ثم بحثوا في مسألة الزواج , والعادات في الْخِطْبَة , والاحتفال في العرس فأجادوا، وأفادوا.

القبور المشرفة والتماثيل للموتى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القبور المشرفة والتماثيل للموتى اقتراح بناء مدفن لعظماء الرجال بمصر نشر في (الجريدة) اقتراح بناء مدفن لعظماء الرجال بمصر تنقل إليه عظام من مات منهم , ويدفن فيه من سيموت مِن بَعْدُ. نشر هذا الاقتراح بتوقيع (باحثة البادية) وما هو إلا خيال باحث في الحاضرة أو تمني مُتَفَرْنِج في العاصمة قَدِ استعجلَ جِدًّا بِهَدْمِ تقاليد قومه الدينية , ونقلهم من مبادي التقاليد الأوربية إلى غاياتها. لا أُنْكِر أنّ بعض العلل التي بني عليها الاقتراح له وجه نظري معروف لمثله وضعت الأمم الوثنية من قبل التماثيل والنُّصُب، وبنت القبور، وشرفتها، وعظمت هذه الآثار الماثلة حتى عبدتها، ولكن كان إثْمُها أكبرَ من نَفْعِها، وشرُّها أكثرَ من خيرها؛ ولذلك هدمها الإسلام، وحرم نَصْب التماثيل , وتشييد القبور، وتشريفها كما في حديث عَلِيّ - كَرَّمَ اللهُ وجهَه - في صحيح مسلم وغيره: (لا تَدَعْ تِمْثَالاً إِلاّ طَمَسْتَهُ , وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاّ سَوَّيْتَهُ) . رُبَّمَا قالت باحثة البادية أو باحث الحاضرة: إن الإسلام ما فَعَلَ ذلك إلا ليطمسَ رسومَ الوثنية حتى لا تنازعَ التوحيدَ في سلطانه على النفوس , وهذه العلة مأمونة في هذا العصر (عصر المدنية والنور وعصر المادية والعلوم) وإذا انتفت العلة انتفى المعلول. لقد قال مثل هذا القول أحدُ طلاب علم الحقوق من أولاد علماء الدِّين , ونشره في المؤيد ردًّا على مَن أنكر نصب تمثال لمصطفى باشا كامل، وسكت له الجمهور على ذلك , ولكنهم لم يكونوا بسكوتهم مذعنين. ما أسهل تفنيد هذه الشبهة على الاعتراف بِصِحّة ما قِيلَ مِن سبب تحريم الإسلام للتماثيل والنصب والقبور المُشْرِفَة! ! ولا أكتفي بأن أقول: إن هذه شعائر وثنية منع الإسلام صورتها؛ لأنها تذكر بمعناها ولو بعد حين، ويخشى أن تعيد روح الوثنية إلى نفوس المستعدين، فلا نعيد هذه الصورة , وإن أمنت العلة الآن، سدًّا لِلذَّرِيعَةِ ولو في مستقبل الزمان، بل أقول أيضًا: إنّ العلة غير مأمونة في هذه الأيام، لا سِيَّمَا عند جماهير العوامِّ، فلو نصبت التماثيل وبنيت الهياكل الخاصّة لبعض القبور، فإنها لا تلبث أن تصبغ بالصِّبْغَة الدينية بمصر , ويتبرك بها أو يعبدها الجمهور، وأستدل على ذلك بأقوال دُعَاتِهَا وأفعالهم. جاء في مقال (باحثة البادية) ما نَصُّهُ: والعامّة من أهل مصر بل بعض الخاصّة لهم وَلَعٌ فائِق بزيارة الأضرحة , واعتقاد راسخ بنفع أصحابها؛ حتى إنك لو دفنت حِمارًا وبنيتَ له ضريحًا وقُبّةً لَزَارَهُ عددٌ من الناس يتبَرّكون به وهم يعلمون أنه حِمَارٌ، فإذا كان الأمْر كذلك في الحِمار؛ فكيف به في الرجال , وكيف به في عظمائهم؟ اهـ ونحن نقول مع الباحثة: إن عظماء الرجال يكونون أجدرَ بهذا التعظيم والتبرُّك , وهذا ما يحرمه الإسلام ويعده معارضًا للتوحيد. ذكرت باحثة البادية من الرجال الذين تقترح نقل عظامهم للمدفن الجديد محمد عبده , ومصطفى كامل , وقاسم أمين , فنقول: كيف نأمن أن تُعَظَّمَ أَضْرحتهم تعظيمًا دينيًّا بعد أن يُتخذ لها مكانٌ خاصٌّ يُقْصَدُ بالزيارة , والأول منهم إمام من أئمة الدين , وداعٍ مِن دُعَاة القرآن , ومُحَامٍ عنه وعن السُّنَّة، وأقوى خاذل في عصره للبدعة؟ كيف نأمن ذلك والثاني منهم على كونه ليس مِن رجال الدين في العلم ولا في الإرشاد، وليس له مقالة تؤثر في الكتاب ولا في السنة، ولا في الدفاع عن أصول الإسلام وعقائده - قد نحله أشياعه جميع الألفاظ التي يعظمون بها أئمة الدين وأولياءه , كقولهم: فقيد الإسلام، رضي الله عنه، قَدَّس الله سِرَّه، قدس الله رُوحَه. بل قرن بعضهم ذكره بذكر الأنبياء , وكاد بعضهم يفضله عليهم. وذكر أخوه الصغير في مناجاة ناجاه بها أن رُوحَه مُشْرِفَة على العَرْش يَعْنِي أنها فَوْقَ عرش الرحمن! ! وذكر أخوه الكبير من أنباء ولادته نحو ما رُوِيَ في ولادة النبي صلى الله عليه وسلم مِن أنه وُلد طاهرًا مختونًا، وجعله بعضهم ثاني النبي (صلى الله عليه وسلم) في عظمته , وكلامه كالإنجيل والقرآن. وقال فيه شوقي شاعر الأمير: لو كان للذكر الحكيم بقية ... لم تأت بعد رثيت في القرآنِ هذا وهو يعلم أن القرآن الكريم لم ينزل منه شيء في رثاء الأنبياء والصِّدِّيقِينَ، بل كل ما قال في شأن موت من أنزل عليه وهو خاتم النبيين {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} (الزمر: 30-31) أي: إنك يا محمدُ تموت وهؤلاء المشركون الذين قالوا: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ} (الطور: 30) يموتون أيضًا، وتختصمون جميعًا عند الله تعالى. وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144) ؟ الآية، وقد نزلت عندما فتن بعض المسلمين، فانهزموا في وقعة أُحُد إذ صاح صائِح: (قُتِلَ محمدٌ) . أفرأيت من يغلو فيه الناس ذلك الغلوّ الذي أشرنا إلى قليل مما قرأناه فيه , ونحن لم نقرأ إلا أقلّ ما كتب - وسكتنا عما سمعنا من بعض غلاة المارقين , وما رُوِيَ لنا عن بعضهم مِن مِثْلِ قولهم: إنه كان أفضل من الأنبياء , وإنه نفعنا أكثر مما نفعنا الإسلام! - أيستغرب أن يعظم تمثاله وقبره تعظيمًا دينيًّا؟ فيا أيها المتفرنجون أربعوا على ظلعكم , وخففوا السير , واتَّئِدُوا بهذه الأُمّة المسكينة؛ فإن مصابها عظيم , والخطر الذي يحيط بها أعظم فلا تستعجلوا بهدم ما بقي لها من العقائد والآداب والأحكام الدينية , وأنتم لم تبنوا لها دينًا ولا شريعة أخرى أحسن مما جاء به الإسلام، ولا تستطيعون أن تحفظوا بقية الممالك التي فتحها لكم الإسلام، إذا فرضنا أن ما ترمون إليه بالتماثيل ونقل عظام الموتى إلى أضرحة عظيمة يزيد في تعظيم أصحابها والتبرك بهم والاقتداء بسيرتهم هو مما يفيد في ترقيتها، وفرضنا أنه لا يقوي نزعة الوثنية فيها؛ فدعوه الآن لمجرد نصوص أئمة المذاهب التي تنتمي إليها الأمة في تحريم نبش الموتى , وتحريم نصب التماثيل مطلقًا , وخذوا بالأمة إلى أسباب العزة والقوة التي لا خلاف فيها شرعًا ولا عقلاً، وهي كثيرة لا يكاد يدعو إليها داعِ، وقَلَّمَا يجمع لها مال أو يؤلف لها اجتماع. أليست المدارس العلمية والدينية، والكتب التاريخية والفنية، والجمعيات الخيرية والدينية والأدبية هي أنفع من القبور والتماثيل الوثنية؟ فلماذا لا تبذلون لها المال، وتدعون إلى تعميمها في البلاد؟ أليست مدرسة مصطفى كامل أفضل ما يعزى إليه من الأعمال؟ فلماذا لا تبذلون لترقيتها ما جمعتم للتمثال، أليست آثار الأستاذ الإمام في إصلاح حال المسلمين والإسلام هي أفضل ما يحيا به ذكره، ويرغب في التأسي به، فلماذا لا تبذلون المال لنشرها وتعميم النفع بها؟ .

خديجة أم المؤمنين ـ 4

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين (4) الفصل السابع [*] (جمال خديجة والجمال عند قومها) الجمال محبوب لذاته عند الطبع، ومحبوب لفائدته عند العقل، ومع كثرة ما ألفت العيون رؤيته، والآذان سماع أحاديثه لا تزال أسراره موضوع التفكر، ولا تزال دقائق تأثيراته محل الإعجاب، كيف لا , وهو السر الأعظم في جذب الإنسان إلى مقاماته العلى من الإبداع، والسبب الأكبر في إبعاد ما بينه وبين الحيوان في مراقي الوجدان والإدراك، فشرفه مجمع عليه عند بني آدم بغير خلاف بينهم، وأيما قوم حرموه فقد باءوا بحرمان عظيم؛ ولذلك لم نجد بُدًّا مِن ذِكْر هذه المزية الأخرى لقوم (خديجة) فإنها مَزِيَّة جديرة بالذكر لا سِيَّمَا بعد أن اشتهر عند مَن لم يعرف هؤلاء القوم أنهم كانوا لا حَظَّ لهم من الجمال، ولا ذوق لهم في الحُسْن، ولا نصيب من توجه النفس إلى الأحسن. كَبُرَتْ سُبَّةً أنْ يكونَ قومُ (خديجة) على ما يظن هؤلاء الذين لا يتآلف في ذهنهم أن يكون القوم سكان إقليم حار , وَذَوِي شَظَفٍ مِنَ العَيْشِ , ثم يكونوا مع ذلك ذوي خِلْقَة جميلة وصورة بديعة. وكَبُرَ مِنّا تقصيرًا أنْ لا نُبَيِّنَ في هذا الباب ما هو من جملة مناقب هذه السيدة وقومها , فإن استغرب قوم لم يعيروا أسرار الخليقة نظرة تخصيصنا فصلاً لهذا الموضوع، فإنهم سيرونه فيما بعد مكينًا في موضعه على أنه سيجد فيه المتفكرون صاحبهم الأنيس، ويجد هو فيهم أهله الكرام. إن العرب قد تناسبت أجزاؤهم، وتناسقت أوضاعهم، واعتدلت أشكالهم: بياضهم جميل، ليس فيه بَهَق بعض الأجيال، وأُدْمَتهم لطيفة ليس فيها حُلْكَة بعض الأقوام، ولَعَلّ مَن فازت من حسانهم بحظ عظيم من الجمال تقل نظائرها في حسان الآخرين، وتكون آية المنتهى في جمال العالمين. والمشهور أن الجمال يختلف في أذواق الناس، ولكل جيل قياس في الحُسْن لا يأتي عليه قياس جِيل آخر , ولكن مَن أَمْعَنَ بما يتناقله الكل من صفات الحسن يجد ثَمَّةَ جهة جامعة ومقياسًا واحدًا تتفق معه المقاييس كلها , وذلك أن الحُسْن الذي لا خلافَ فيه ليس هو بلون الأديم وإنما هو باعتدال القامة، واستواء الهامة، وتناسب أجزاء الوجه ومقاطعه، وحلاوة المبسم، وملاحة العينين، ولطف الحاجبين، ورقة الشفتين، ولعل هذه المذكورات تكثر في العرب حتى ندر أن نجد غير موصوف أو موصوفة بالحسن من مشهوريهم ومشهوراتهم. وإذا أُضِيفَ إلى ما ذكرناه بياض الأديم وتشربه بحمرة أو صفرة كان ذلك فضلاً في الجمال قد يبلغ به منتهى الكمال، ولم يكن هذا اللون قليلاً في العرب عامّة وقوم خديجة خاصّة. والعرب لم يكثروا في كلامهم مِن شيء بمقدار ما أكثروا مِن وصف الجمال , وقد رأيناهم يستحسنون هذين اللونين كثيرًا: البياض المُشَرب بِحُمْرَة أو البياض الضارب إلى صفرة. قال ذُو الرُّمّة أحد شعرائهم: بيضاء صفراء قد تنازعها ... لونان من فضة ومن ذهب وهذا اللون هو لون اللؤلؤ، وقد جاء في القرآن المجيد تشبيه حسان الجنة باللؤلؤ المكنون , ولا يختلف أحد إلى عهدنا هذا في أن هذا اللون هو الذي تكون صاحبته أقرب إلى الكمال في الجمال , إذا أخذت بحظّ مِن تناسب بقية الأوضاع , فإنه عندما ينطبع فيه الاحمرار لسبب من الأسباب تكون حمرته ألطفَ من الحمرة الملازمة لبعض البِيض , وعن مثل هذا عَبَّرَ عَدِيّ بن زيد أحد شعراء العرب بقوله: حمرة خلط صفرة في بياض ... مثلما حاك حائك ديباجا ولكثرة البياض اللطيف في العرب شبّهوه بالصبح , واشتقوا من الصبح لونًا, فقالوا للأبيض صبيح، واشتقوا من الزهر لونًا , فقالوا للأبيض المشرب بحمرة أزهر. وتشبيههم بورد الخدود دليل على كثرة هذا اللون؛ فإن هذه الحمرة لا تنطبع إلا على أديم أبيضَ , ورأيناهم يشبّهون الأعناقَ كثيرًا بأباريق الفِضّة , كما قالت قريبة بنت حرب أخت أبي سفيان في أعمامها وأخوالها. وليس بعجيب بعد أن كان الجمال الرائع من جملة خصائص العرب أنْ نجدهم مغرمي القلوب بمجالي تجلياته، منصرفي الوُجوه إلى مشارق أنواره، ثم لا بدع بعد ذلك إذا وجدنا حبّ الجمال قد لطف أذواقهم، وعوّدَهم على الاستحسان، ونقلهم من حال إلى حال، إلى أن تَهَيّأوا لِقَبُول الدعوة التي رَقَتْ بِهم مِن هذا الجمال إلى أعلى، ومِن هذا الغرام إلى ما هو أولى، نقلتهم إلى تصور الجمال الإلهي مصدر كل جمال، وَرَقَتْ بِهم إلى عِشْقِ الكمال المعنوي الذي هو فوق كل كمال، فلم يصعب على أولئك الذين شغفهم الجمالُ المحسوس، أن يفهموا الجمال المعقول، وأن يزدادوا نصيبًا منه مع نصيبهم من ذاك , ولم يعز عليهم أن ينتقلوا إلى العالم الجديد الذي دعوا إليه؛ لأنه تَبَدَّى لهم أجمل مما كانوا عليه. ونحن إذْ نَرَى للعرب الحظّ الأوفر من الشغف بالحسن والاستحسان يزيد قدرهم في اعتقادنا , ونرى مِن غير تردّد أنهم كانوا لذلك العهد مِن أرقى الأجيال الراقية على بعدهم عن الزخرف، وعدم تعلقهم بكل أسباب الحضارة، ولعلنا إذا بحثنا عن المؤثر الأعظم في وفرة جمال هذا الجيل نجد ذلك لأنهم خصوا بأخذ المعتدل من المعاش، والتنقل في المعتدل من الأقاليم، وحبب إليهم المعتدل من المهن والأعمال، وأضافوا إلى ذلك أنهم لا يتزوجون من غير رؤية غالبًا , وللانتخاب دخل كبير في تحسين الجنس، وتجويد النسل. وإن بدا لأحدهم أن يتزوج بمن سمع بجمالها سماعًا تجده لا يقصر في البحث والتدقيق بواسطة من يثق بحسن ذوقهن، وجودة إمعانهن، والحكاية الآتية تدلُّنا على مقدار حرصهم على اختيار الجميل , وعلى مبلغ هذا الشعب من الجمال: أَرَادَ مَلِكٌ مِن مُلُوكِهِمْ (هو عَمْرُو بْنُ حُجْرٍ مَلِكُ كِنْدَةَ جَدُّ امْرِئِ الْقَيْسِ) أنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَوْفِ بْنِ مُحَلِّمٍ (الَّذِي يُقالُ فِيهِ لاَ حرَّ بِوَادِي عَوْفٍ لإِفْرَاطِ عِزِّهِ) وَكَانَتْ ذَاتَ جَمَالٍ فَوَجَّهَ إِلَيْهَا امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا عِصَامُ لِتَنْظُرَ إِلَيْهَا، وَتَمْتَحِنَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا، فَلَمَّا رَجَعَتْ قَالَ لَهَا الْمَلِكُ: مَا وَرَاءَكِ يَا عِصَامُ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ جَبْهَةً كَالْمِرْآةِ الصَّقِيلَةِ يُزَيِّنُهَا شَعْرٌ حَالِكٌ، إِنْ أَرْسَلَتْهُ خِلْتَهُ السَّلاَسِلَ، وَإِنْ مَشَّطَتْهُ خِلْتَهُ عَنَاقِيدَ كَرْمٍ جَلاَّهُ الْوَابِلُ، وَمَعَ ذَلِكَ حَاجِبَانِ كَأَنَّهُمَا خُطَّا بِقَلَمٍ، أَوْ سُوِّدَا بِحُمَمٍ، قَدْ تَقَوَّسَا عَلَى مِثْلِ عَيْنِ الْعَبْهَرَةِ، الَّتِي لَمْ يُزْعِجْهَا قَانِصٌ , وَلَمْ يَذْعَرْهَا قَسْوَرَةٌ، بَيْنَهُمَا أَنْفٌ كَحَدِّ السَّيْفِ الْمَصْقُولِ، لَمْ يَخْنَسْ بِهِ قِصَرٌ وَلَمْ يَمْضِ بِهِ طُولٌ، حُفَّتْ بِهِ وَجْنَتَانِ كَالأُرْجُوَانِ، فِي بَيَاضٍ مَحْضٍ كَالْجُمَّانِ، شُقَّ فِيهِ فَمٌ كَالْخَاتَمِ، لَذِيذُ الْمُبْتَسَمِ، فِيهِ ثَنَايَا غُرَرٍ، ذَوَاتُ أشُرٍ، يتقلب فيه لسان ذو فصاحة وبيان، يزين به عقل وافر، وجواب حاضر، يلتقي بينهما شفتان حمراوان كالورد، يحلبان ريقًا كالشهد، تحت ذاك عنق كإبريق الفضة، ركب في صدرها تمثال دمية، يتصل به عضدان ممتلئان لحمًا، مكتنزان شحمًا، وذراعان ليس فيهما عظم يمس، ولا عرق يجس، ركبت فيهما كفان رقيق قصبهما، تعقد إن شئت منهما الأنامل، نتأ في ذلك الصدر ثديان كالرمانتين يخرقان عليها ثيابَها. إلى أن قالت حين انتهت إلى وصف ساقيها: وشيتا بشعر أسود، كأنه حلق الزمرد، يحمل ذلك قدمان كحذو اللسان، فتبارك الله! مع صغرهما كيف يطيقان حمل ما فوقهما؟ . ووصفهم الحسن والجمال في الشعر مشهور، كقول بعضهم من قصيدة: ويزين فوديها إذا حسرت ... صافي الغدائر فاحم جعد فالوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع مثل الليل مسود وجبينها صلت وحاجبها ... شخت المخط أزج ممتد وكأنها وسنى إذا نظرت ... أو مدنف لما يفق بعد فهذا مثال من أمثلة الجمال العربي الذي كان لرهط خديجة حظ منه كبير , ولم يكن حظها هي منه قليلاً. * * * الفصل الثامن (ثراؤها والثراء عند قومها) وكان للسيدة (خديجة) مع ما آتاها الله من الجمال وفضائل النفس حظّ مِن الثراء أيضًا , وثراؤها في حياة أبيها , وكانت تاجرة , ولَعَلَّ أباها نحلها رأس المال بَادِئَ بَدْءٍ. لم يكن اشتغال سيدتنا هذه بالتجارة شيئًا يعجب منه في قومها؛ فإنهم كادوا يكونون كلهم تجارًا، تقضي بذلك طبيعة مقامهم في ذلك البلد، وشريعة تربيتهم على طلاب المجد واتساع السئود، ومنافسة الأقرب والأبعد، ولولا شغفهم بهذا لَمَا سمعنا بصدى همتهم في التجارة مِن بين إخوانهم الآخرين، ولولاه لاستطابوا مِن العيش ما استطابه ذلك الأعرابي الذي سُئِلَ عن طعامهم في البادية , فقال لسائله: بَخ بَخ! عيشُنا عيش تعلل جاذبه [1] ، وطعامنا أطيب طعام , وأهنؤه وأمرؤه، القَتّ [2] والهَبِيد [3] والصليب [4] والعِلْهِز [5] والذآنين [6] والعراجين [7] والضباب [8] واليرابيع [9] والقنافذ [10] وربما أكلنا والله القِدّ [11] واشتوينا الجِلْد، فما نعلم أحدًا أخصب منا عيشًا، ولا أرخى بالاً، ولا أعمر حالاً، أَوَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ شاعر وكان والله بصيرًا برقيق العيش ولذيذه: إذا ما أصبنا كل يوم مذيقة [12] ... وخمس تميرات صغار كوانز فنحن ملوك الناس خصبًا ونعمة ... ونحن أسود الناس عند الهزاهز وكم متمنٍّ عيشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به حقًّا فائزًا فالحمد لله على ما بسط من حسن الدَّعَة، ورزق من السَّعَة، وإياه نسأَلُ تَمَامَ النِّعْمَةِ. هذا ما استطابه الأعرابي، وَحَمِدَ الله عليه هذا الحَمْدَ. وما الأعراب إلا بشر قد يستطيب غيرهم من البشر ما يستطيبون إذا خلصوا إلى مثل معيشتهم , ومارسوها لكن من الناس مَن لا يطلبون في الحقيقة ما يقيم مادة البدن فقط كما تطلبه سائر الحيوانات , بل يتسابقون إلى ما به الغبطة من المقتنيات والذخائر، ويتبارون في ما به التمايز من المستحسنات والبدائع، وبمثل هؤلاء يزيد الله الإنسان بسطة من المعارف، وقوة في المدارك. وقريش كما عَرَفَ القارئ كانوا ممن أعدهم الله لعمل عظيم في الأرض ولا يتمّ ذلك بحَسَب سنته سبحانه ما لم يكن في سابق تربيتهم وطرق حياتهم ما يلائم الطريق الذي سيستأنفونه، وما أمامهم إلا المغامرة في السيادة على شعوب العالم بقدر ما يستطيعون , فلم يكن لائقًا بمن هم عَتِيدُونَ لِمِثْلِ ذلك أن يقيموا في بلدهم ولا يعرفوا العالم، ولا تميل نفوسهم إلى خيرات السماء والأرض الفائضة في مُلْك الله الواسع، بل اللائق بهؤلاء أن يكون كل واحد منهم أنطق حاله بقول ذاك الشاعر من أبناء ملوك العرب (امرئ القيس) : فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني -ولم أطلب- قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وحقًّا كانت حال القرشيين ناطقة بمثل هذا الكلام، وكل منهم له في المجد أَرَبٌ، فلا بدع إذا انصرفت أنفسهم إلى تحصيل المال فإنه أعظم أدوات هذا المطلوب , وقد نجح فيه منهم كثيرون، ونفعوا بالغنى قومهم عند الشدائد منهم عبد الله بن جدعان الشهير بِجَفْنَتِهِ التي كان يقدمها للفقراء والمساكين من زوّار مكة وأهلها , وقد أمدّ قومه بالسلاح في حرب حاربوها، وسلح مائة كميّ من غير قومه ممن حارب معهم , وفي هذه الحرب قتل أحد إخوة السيدة (خديجة) العوام أبو الز

عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية الجمعة 25 جمادى الآخرة - 11 تموز (24 يوليو) في هذا اليوم السعيد استعاد العثمانيون قانونهم الأساسي , ومجلس الأمة الذي يكفله، استعادوهما بسعي الأحرار، وتعزيز الجيش الجرار، فهو عيد الأمة العثمانية على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها. في هذا اليوم استنشق العثمانيون نسيم الحياة السياسية والاجتماعية، وذاقوا حلاوة طعم الحرية، فكان مثلهم كالمصاب بداء عُضَال عادت عليه صِحّته على حين فجأة؛ فكان قدر الحياة عنده عظيمًا. في هذا اليوم شعر العثمانيون كلهم بأنهم أحرار في بلادهم، يتمتعون بما وهبهم الله من القوى العقلية والمشاعر والأعضاء، ويستعملون استعدادهم الفطري فيما خلق له من العلم والعمل، لا يستبد في عملهم مستبد جائر، ولا يستعبدهم حاكم قاهر، فكان رجاؤهم في الارتقاء كبيرًا. في هذا اليوم أمن العثمانيون على حياتهم وشرفهم وأموالهم؛ مِن حَرْث ونَسْل وتجارة وصناعة، فتوجهت نفوسُهم إلى الكسب الذي يرفه معيشتهم، وبه تنمو ثروتهم وتنتظم مالية دولتهم. في هذا اليوم أحسَّ العثمانيون بأنهم أُمّة لهم حقوق على دولتهم، ومصالح يقوم عليها بناء وحدتهم، وعليهم فروض وواجبات يؤدونها لحكومتهم، ولهم قانون يساوي بينهم في معاملاتهم، وأن لهم بذلك كله جنسية جامعة لهم على اختلاف أنسابهم ولغاتهم، وتباين مذاهبهم ودياناتهم. في هذا اليوم وجد العثمانيون عاطفة الإخاء والوداد، وجاذبة الولاء والاتحاد، فصافح المسلم النصراني، وصالح الكردي الأرمني، وعانق التركي العربيَّ، بل امتزجت العناصر كلها في بوتقة القانون الأساسي، فكانت كسبيكة واحدة مِن الذهب لا زَغَل فيها ولا صدأ عليها. في هذا اليوم استراح العثمانيون من ثقل وطأة الجواسيس، وأمنوا شرور عمال السعاية والتلبيس، وعلموا أنه لا يُخْشَى عليهم إلا من سوء أعمالهم، ولا يُظلمون إلا من قِبَل أنفسهم. في هذا اليوم نفض العثمانيون غبار الذل عن رءوسهم، وأَلْقَوْا أوزار المسكنة عن كواهلهم، وطردوا غول الفقر الذي نزل في ربوعهم، وهزموا جند اليأس الذي حل بين ضلوعهم، وهبت عليهم نفحات الرجاء ببقاء شوكة دولتهم نافذةً قويةً، وارتقاء بلادهم في معارج العلم والمدنية. في هذا اليوم أنشأ العثمانيون المشتتون في أطراف البلاد، والهائمون من الخوف والاضطهاد في كل وادٍ، يحنون إلى بلادهم التي هي خير بقاع الأرض تربةً وأطيبها هواءً، وأعذبها ماءً، ويشتاقون إلى أهلها الذين هم أطيب الناس عنصرًا، وأكرمهم جوهرًا، وأشدهم مودّةً وعطفًا، وأسخاهم نفسًا وكفًّا، وسيعودون إليها زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانًا، رِجَالاً أو ركبانًا، وكانوا قد زهدوا فيها كارهين، وهجروا أهلها مُكْرَهِين. في هذا اليوم تستعد السجون المظلمة، والصحاري المقفرة، والجزائر المنفردة، لردّ ما أودع فيها من الأحرار الأخيار، الذين حاربوا الظلم، وواثبوا الاستبداد، ونشدوا القانون والحرية، ودعوا إلى العدل والمدنية، فمزقت الحكومة الشخصية المطلقة شملهم ونكلت بهم تنكيلاً. في هذا اليوم يخفق قلب المملكة العثمانية شوقًا إلى لقاء أبنائها الأحرار الأبرار , الذين طوّحت بهم السياسة فأبعدتهم عن أُمّتهم، في أشد أوقاتها حاجةً إلى خدمتهم، وترجو أن يشتد بعودتهم إليها أزرها، ويستقيم أمرها، حتى تفاخر أعظم البلاد مدنية وعمرانًا. في هذا اليوم تبتسم ثغور البلاد العثمانية , ويتهلل وجْهُ بُرُدها بلقاء كتب العلم النافعة، وصحف الأفكار المنيرة، والأخبار الصحيحة، التي كان الاستبداد قد قضى عليها بأن تستقبلها عابسةً باسِرَةً، ثم تجعلها وقودًا للنار، وبئس القرار. في هذا اليوم أنشأت أفكار العثمانيين تجول في ميادين الأعمال الأدبية، والمصالح السياسية والمالية، والآمال ملء قلوبهم، والرجاء ينير السبل أمامهم. في هذا اليوم تنحل عُقُل الأقلام، فتجري على صفحات المهارق، وتنجلي سحب العقول والأفهام، فتشرق شموسها على عالم الحقائق، وينكسر قفص الفكر والخيال، فتغرّد طيورهما في فضاء الرقائق، فيتبارى العقلاء المستقلون، والكُتاب المنشئون، والشعراء المبدعون، وكُلٌُّ في فلك الحرية يسبحون. في هذا اليوم تَقَرُّ في البلاد العثمانية عَيْنُ الإسلام، بما يسرُّ به جميع أهل الأديان، من الحرية التي تظهر فيها الحُجّة وتدحض الشبهة، ويتميز بها صاحب السُّنَّة مِن صاحب البدعة، ويكون الدين كله لله، لا للسلطة ولا للجاه، فبالحرية تنكشف الحقائق، ويُزَيَّلُ بين الصادق والمنافق، ويقذف بالحق على الباطل , فإذا هو زاهق. الفضل في هذه المزايا الكثيرة التي نلناها في هذا اليوم لجمعياتنا السياسية العاملة، ولضباطنا ذوي النباهة والغيرة والحمية والبسالة، الذين اتحدوا مع إخوانهم السياسيين، وأنذروا الاستبداد بالوثبان عليه، والقضاء على سلطته بقوة السلاح، إذا لم تَنَلِ الأُمَّة مطلبها مع حفظ الأرواح. فالواجب على هذه الجمعيات المدبرة، والقوة المنفذة، أن تكفل الدستور الذي نالته الأمة، حتى تأمنَ عليه من دسائس أعوان الاستبداد، الذين قاموا بتنظيم حكومة الجواسيس أعظم قيام، وأول عمل يجب عليها هو السعي لإبعاد أعوان الاستبداد عن دار السلطنة - لا عن دار السلطان فقط - ومحاكمة مَن يمكنُ أن يسترد منهم العدل، ما وهبهم الجور والظلم، وتشكيل وزارة حُرّة تقوم بأعباء السلطنة، وتنتقي الولاة والمتصرفين والقضاة ورؤساء العدلية من أخيار الأحرار، الذين يرجى أن تصلح بهم الإدارة ويستقيم القضاء، ويحفظ الأمن ويستقر العدل، لتندفع الأُمّة إلى الأعمال النافعة في ظلّ الحرية الظليل. ثم العناية بأمر انتخاب نواب الأُمّة بانتداب عقلاء الأحرار في كل ولاية إلى تنبيه أهلها لخيار رجالهم المعروفين بالاستقامة والاستقلال والحرية. إذا نحن كفينا شر المستبدين الأولين، ونلنا وزارة من الأحرار المستقلين، فالواجب علينا أن نقف عند هذا الحدّ من المطالب في العاصمة، وتعود السيوف إلى أغمادها، وتنصرف الضباط إلى سابق شأنها، مع إحكام الروابط الخفيّة، بينها وبين الجمعيات السياسية، ويتوجه الأحرار إلى إصلاح حال المملكة، بجميع الوسائل الممكنة. والحَذَرَ الحَذَرَ؛ من عواقب نشوة الظفر، الحَذَرَ الحَذَرَ مِن إهانة شخص السلطان، والتسلق إلى عرشه بالبغي والعدوان، فمادام السلطان مستويًا على عرشه فهو رئيس الأمة ومرجع سلطتها، ومنفذ قوانينها وشريعتها، والوزارة هي الواسطة بينها وبينه، فاعتداء المرءوس على الرئيس بإدلال القوة، دون القانون والشريعة، مجلبة للفوضى ومدعاة للخلل، ويخشى في مثل الحال التي نحن فيها أن يفضي إلى الخطر. أي الأمرين خير؟ أأن يعتقد السلطان أن ما صار إليه، خير مما كان عليه، أم العكس؟ أأن يرى أن أولئك الذين كانوا يدلونه بغرور، ويمدونه في تلك الوساوس والأمور، قد أخلصوا النصح له، وحفظوا شخصه وسلطته، أم أن يراهم قد خدعوه وغشّوه، واستغلوا ما رأوه من الضعف البشري فيه، فبغَّضوا إليه أُمّته الكريمة، وزينوا له محاربة حريتها بما أوتيه من الذكاء والعزيمة، وحببوا إليه التجسس والاستبداد، وقبحوا في نظره الهدى والرشاد؟ إذا كان من المعقول أن السلطان يحب السلطة المطلقة ويؤثرها، فليس من المعقول أن يريد السلطان بالدولة أو الأمة السوء ويكره لها الخير، وكل ما جرى من السوء في تلك السنين النحسات فإن أسبابه وعلله ترجع إلى أمْر واحد وهو خوف السلطان على نفسه وعلى منصبه مِن أحرار أُمّته، وتبع ذلك اعتقاده أن أولئك الأشرار الذين اصطفاهم هم حماته والمخلصون له - وهم غير مخلصين إلا لبطونهم ملأها الله نارًا - فإذا رأى اليوم نجباء الأحرار محيطين به من كل جانب، وقابضين على زمام السلطة والقوة، ولم يَرَ منهم إلا الأدب والكمال، والعمل بالإخلاص، ألا يقول في نفسه: إذا كانت هذه سيرة هؤلاء معي بعد أن نكلت بهم تنكيلاً، ومزقتهم في الأرض كل مُمَزق، فليْتَ شِعْرِي كيف كانوا يكونون معي لو سرت معهم من أول الأمر على الدستور؟ وكيف كان تقدم المملكة الآن؟ إن الحكومة الجديدة لا تستغني عن تجارب هذا السلطان، وعن ذكائه الذي تضرب به الأمثال، وعن براعته في حل المشاكل السياسية، لا سِيَّمَا في السياسة الخارجية، وليس بينها وبين الاستفادة منه، إلا أن يأمن هو لها وتخلص هي له. إن أفضل ما نفاخر به الآن هو أننا نلنا الدستور من غير إراقة للدماء، ولا إيقاع البلاد في فوضى الثورة، ولا غير ذلك مما يذمّ ويكره، فيجب أن نحافظ على هذه الفضيلة، وأن لا يرتكب في طلب الفرع، ما عصمنا الله منه في طلب الأصل، فعسى أن يكون تاريخنا في هذا الطور من الحياة أنظف من تواريخ جيراننا فيه. إذا نحن اقتحمنا عقبة هذا الانقلاب بهدوء وسكينة , فإن رجاءنا في اقتحام ما وراءها من العقبات يكون أقوى، وأملنا في مجلس الأًمّة يكون أعظم. نَعَم , إن أمامنا عقبات كثيرة منها ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام الظالمين للحرية الجميلة التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا، ويهيمون بها شغفًا، ومنها ما هو أقرب إلى الوقوع كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين المتعصبين والمقلدين، ومنها مسألة تكوّن الجنسية العثمانية، وما يقف في طريقها من جنسيات الشعوب التي يتألف منها جسم الدولة العَلِيّة، فمن المُطالَبُ بالنظر في ذلك؟ وإن أمامنا من مشكلات المسائل الأدبية ما يلي المسائل السياسية في استرعاء همتنا، واستدعاء عنايتنا، فإن الحرية التي فاجأت بلادنا، ستعبث بأخلاقنا وآدابنا، وتحدث شيئًا من التفرّق بين جمعياتنا وأفرادنا، فمن يجني وَرْد الحرية لا بُدَّ له من توطين النفس لوخز شوكها، ومن يشتار عسلها، لا مندوحة له عن التعرض لإبر نحلها، فمن المطالب بتلافي ذلك ليعظم النفع ويقل الضرر؟ هذا , ولا تنس المسائل الاقتصادية فإن الحرية ما حلت في بلاد كبلادنا خصبة التربة جيدة الإنبات، غنية بالمعادن والغابات، قابلة لرواج التجارة وللصناعات، إلا وتدفقت عليها أموال أوربا لأجل استثمارها فيها، وهناك من أبواب الرجاء للبلاد والخوف عليها ما لا يفطن له الآن في الأمة إلا أفراد من الناس، فمن المطالب بتنبيه الأمة إلى طرق الثروة الطبيعية مع حفظ رقبة بلادها، والحذر من قضاء الديون الأجنبية عليها؟ أليس المطالبون بكل ما سألنا عنه هم أهل العلم والرأي من الأحرار الذين يعرفون كيف يسعد البشر بالحرية , ويتمتعون بثمارها، ويستضيئون بأنوارها مع الأمن من نارها؟ أليس هم المَرْجوُّون لتوحيد الجنسية، وحفظ الآداب القومية، والمقومات المِلِّيِّة، وتأليف الشركات الأهلية، وإنشاء الجرائد الوطنية، للسير بالأمة إلى ما فيه خيرها بالعلم والعمل؟ بلى , إنهم لَهُمِ المطالبون بكل شيء، فلا ينبغي أن تشغلهم المسائل السياسية عن كل شيء. يتساءل بعض الناس بينهم: هل الدستور العثماني في هذه الكرة مكفول مضمون؟ هل السلطان مقتنع بأن تنفيذه خير من تعطيله؟ هل طالب أولئك الضباط به لمحض المصلحة العامة، أم لَهُمْ أغراض شخصية يسعون إليها، فتبرد نيران حميتهم إذا هم نالوها، ألا يخشى أن يتفرق شملهم بعد أن يسكن الاضطراب، ثم يحال بينهم وبين إمكان التألب مرّة أخرى، فتأمن السلطة ا

القانون الأساسي والخط السلطاني به

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القانون الأساسي والخط السلطاني به ننشر هنا أهم موادّ هذا القانون في حقوق العثمانيين ليتدبرها القراء منهم فيعرفوا قيمتهم، وأنهم ليسوا عبيدًا لحكامهم. ثم ترجمة الخط السلطاني في الحاجة إلى هذا القانون. المادة 9 - إن جميع العثمانيين متمتعون بحريتهم الشخصية بشرط أنْ لا يعتديَ أحدٌ على حقوق غيره. 10 - إن الحرية الشخصية مصونة من جميع أنواع التعدي، ولا يجوز مجازاة أحد بأي وسيلة كانت إلا بالأسباب والأوجه التي يعينها القانون. 11 - إن دين الدولة العثمانية هو الإسلام ومع مراعاة هذا الأساس وعدم الإخلال براحة الخلق والآداب العمومية تجري جميع الأديان المعروفة في الممالك العثمانية بحرية تحت حماية الدولة مع بقاء الامتيازات المعطاة للجماعات المختلفة كما كانت عليه. 12 - إن المطبوعات هي حرة في ضمن دائرة القانون. 14 - يسوغ لكل فرد من أفراد التبعة العثمانية أو الجملة منهم الشكوى إلى جهة الاختصاص من مخالفة القوانين والنظامات أو من أفعال المأمورين. 17 - إن العثمانيين جميعهم متساوون أمام القانون، كما أنهم متساوون كذلك في حقوق وظائف المملكة ما عدا الأحوال الدينية والمذهبية. 21 - كل أحد أمين على ماله وملكه الذي تحت تصرفه , ولا يؤخذ من أحد ملكه ما لم يثبت لزومه للنفع العام وحينئذ يدفع ثمنه الحقيقي سلفًا وفقًا للقانون. 23 - لا يسوغ إجبار أحد على الحضور إلى محكمة غير المحكمة المنسوب هو إليها قانونيًّا وفقًا لقانون أصول المحاكمة الذي تقرر وضعه. 24 - المصادرة والتسخير والجريمة من الأمور الممنوعة، وإنما يستثنى من ذلك التكاليف والأحوال التي تعين في أوقات الحرب بحسب الأحوال. 25 - لا يجوز أن يؤخذ من أحد بارة واحدة باسم ويركو ورسوم أو بصفة أخرى ما لم يكن ذلك موافقًا للقانون. 26 - إن التعذيب وكل أنواع الأذى ممنوع منعًا باتًّا كليًّا. * * * ترجمة الخط الشريف السلطاني بالقانون الأساسي وهو خطاب السلطان لمدحت باشا الصدر الأعظم باعتماد القانون وأمره بتنفيذه. وزيري سمير المعالي مدحت باشا: إن التدنيات العارضة منذ أزمان على قوة دولتنا العَلِيّة قد نشأت من الانحراف عن الطريق المستقيم في إدارة الأمور الداخلية أكثر مما نشأت من الغوائل الخارجية, ومن ميل الأسباب الكافلة أمنية التبعة من حكومتهم المتبوعة إلى الانحطاط؛ فلذا كان والدي الماجد المرحوم عبد المجيد خان أعلن مقدمة للإصلاحات خط التنظيمات الذي منح به جميع الرعية الأمن على نفوسهم وأموالهم وأعراضهم وناموسهم موافقة لأحكام الشرع الشريف المقدسة , وما عشناه إلى الآن في ضمن دائرة الأمن , وما وفقنا به اليوم إلى وضع وإعلان هذا القانون الأساسي الذي هو ثمرة الآراء والأفكار المتداولة بالحرية المستندة على تلك الأمنية إنما هو من جملة آثار تلك التنظيمات الخيرية فلذلك أردد خاصّة في هذا اليوم المسعود اسم المرحوم المشار إليه وموفقيته وأصفه بعنوان محيي الدولة , ولا ريبَ بأنه لو كان الأوان الذي تأسست فيه التنظيمات المذكورة موافقة لاستعداد زماننا هذا وإلجاءاته لَكَان المرحومُ المشار إليه وضع يومئذ أحكام هذا القانون الأساسي الذي نشرناه الآن وأنفذه , ولكن جناب الحق علق حصول هذه النتيجة المسعودة الكافلة بالتمام سعادة حال مِلَّتنا وأرجأها إلى عهد سلطنتنا فنقدم بِنَاءً على هذه الدلالة لجناب الرب الكريم الحمد والشكر العظيم. على أن التغييرات التي وقعت بالطبع في أحوال داخلية دولتنا العَلِيّة والتوسيعات التي حصلت في مناسباتها الخارجية أوصلت عدم كفاءة شكل إدارة الحكومة لدرجة البداهة , وَلَمّا كان أقصى مقاصدنا الخيرية إزالة الأسباب المانعة للآن من الاستفادة الواجبة من الثروة الطبيعية لمملكتنا وأمتنا , ومن قابليتهما الفطرية وتقدم صنوف الرعية في طرق الترقّي بالتعاون والاتحاد اقتضى لأجل الوصول إلى هذا المقصد أن يوضع للحكومة أساس مأمون منتظم , وهذا أيضًا يتوقف على تأمين هذه الفوائد وتقريرها , بمعنى أن قوة الحكومة تحافظ على حقوقها المقبولة والمشروعة , وعلى منع الحركات غير المشروعة، أعني بها منْع ومحو ضروب الخطآت , وسوء التصرف المتولدة من الحكم الاستبدادي الفردي أو حكم الأفراد القلائل ليستفيد جميع الأقوام المركبة هيئتنا منهم نعمة الحرية والعدالة والمساواة بلا استثناءٍ ذلك الحق والمنفعة الحريّان بالهيئة الاجتماعية المدنية. ولما كان ربط القوانين والمصالح القائمة بقاعدتي الشورى والحكومة المقيدة المشروعتين , والثابت خيرهما مما تحتاج إليه هذه الأصول أوعزنا في خطنا الذي أذعنا به جلوسنا إلى وُجوب تأليف مجلس عمومي، وحيثُ إن القانون الأساسي الذي وجب تنظيمه في هذا المطلب قد وضع بالمذاكرة في الجمعية المخصوصة التي تعينت مُرَكَّبَةً مِن متحيزي الوزارة وصدور العلماء , ومن سائر رجال وعمال دولتنا العلية , وجرى عليه التصديق في مجلس وكلائنا بعد إمعان نظر التدقيق , وكانت المواد المندرجة فيه إنما هي متعلقة بحقوق الخلافة الإسلامية الكبرى , والسلطنة العثمانية العظمى , وحرية العثمانيين ومساواتهم , وصلاحية الوكلاء والمأمورين ومسئوليتهم , وبما للمجلس العمومي من حق الوقوف وباستقلال المحاكم الكامل , وبصحة ميزانية المالية , وبالمحافظة على مركز الحقوق في إدارة الولايات واتباع أصول المأذونية , وكان جميع ما ذكر مطابقًا لأحكام الشرع الشريف ولاحتياجِ الملك والملة , وقابليتهما في يومنا هذا , وكانت أخص آمالنا في مطلب سعادة العامة وترقياتها مُساعِدةً لهذا الفكر الخيري وموافقة له - فاستنادًا على عون الله ومدد روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبلنا هذا القانون الأساسي وأرسلنا به لطرفكم بعد أن صادقنا عليه فبادروا لإعلانه في جميع أنحاء الممالك العثمانية وأطرافها؛ ليكون دستورًا للعمل إلى ما شاء الله وباشروا بإجراء أحكامه منذ اليوم متخذين أسرع التدابير لتنظيم ما تقرر فيه وتسطر من النظامات والقوانين كما هو مطلوبنا القطعي , ونسأل جناب الحقّ المتعالي أن يجعل مساعي المجتهدين في سعادة حال ملكنا ومِلَّتِنا مظهرًا للتوفيق في كل الأعمال.اهـ في 7 ذي الحجة سنة 1293.

مقدمتنا لكتاب التربية الاستقلالية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمتنا لكتاب التربية الاستقلالية أو أميل القرن التاسع عشر بسم الله الرحمن الرحيم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) . فله الحمد والشكر والثناء الحسن، وعلى نبيه ورسوله الصلاة والسلام، والرحمة والبركات لمن تزكوا بالتربية العالية، وتعلموا الكتاب والحكمة السامية، فكان لكل منهم نصيبه من السعادة في نفسه، والسيادة في أبناء جنسه، ومنهم مَن أعدته هذه التزكية للسعادة الآجلة، كما أعطته السيادة العاجلة {كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} (الإسراء: 20-21) . فبالتربية والتعليم سعادة الدنيا، وبهما سعادة الحياة الأخرى والأمور بمقاصدها. للإنسان استعداد لا يعرف له حد ولا نهاية، ولا تظهر ثمرات استعداده إلا بالتعاون، ولا يكون التعاون إلا بالعيشة الاجتماعية، وشئون الاجتماع لا ترتقي إلا بالنظام، وإنما يقوم النظام بالحكام، والحكام عرضة للبغي والأثرة , لا يصدهم عنهما إلا سيطرة الأمم عليهم، والأمة لا تصلح للسيطرة على حكامها إلا إذا كان أفرادها أحرارًا في أنفسهم، مستقلين في أفكارهم وإرادتهم، فالحرية والاستقلال، هما القدمان اللذان يسير بهما الإنسان إلى منازل الكمال. لا يصل الإنسان إلى الكمال في شيء من مقاصد الحياة إلا بالسير التدريجي على سنن الفطرة، والسير بطيء وسريع، فمنه الهدَجان والدليف، والدألان والوجيف [1] ؛ بل منه القهقرى، والرجوع إلى الوراء، فإذا هو أرشد إلى الغاية في البداية، وأمدّ بما يوافق الفطرة من ضروب الهداية، يكون أبعد عن التخبط في سيره، والضلال في طريقه، وأقرب وصولاً إلى المقاصد، بالسفر القاصد. ولكن مضت سنة الأولين بما أبانَ لنا أن الإنسان لا يرتقي في المقاصد الاجتماعية إلا بتوزيع الأعمال، ونوط كل عمل بطائفة من الناس، يصرفون همتهم إليه، ويعولون في معايشهم عليه، ومن هذه الأعمال حفظ الأمن وحماية النظام، ومنها الإرشاد والتعليم، والتربية والتأديب - وأن الصنفين القائمين بهذين العملين - ولهما القيامة على سائر الأصناف - قد يسيئون التصرف، ويتبعون الهوى، فيعبثون بالحرية والاستقلال، فيحولون دون ما توجه إليه الناس مِن الكمال - وأن الأول منهم (وهو صِنْف الحُكّام) كثيرًا ما يُمْعِنُ في الاستبداد، ويغلو في الاستعباد، حتى يفسد على الناس ما ارتقى به الاجتماع قبله، ويخرب ما أقامه من معالم العمران من سلفه، وقد يستعين بصنف المعلمين والمربين، على إفساد النفوس والأفكار من الناشئين، بتنشئتهم على الخنوع للمستبدين، وتقليد الميتين، فيرجع قومه القهْقَرَى، ويسيرون في اجتماعهم إلى الوراء، حتى تكون البداوة خيرًا من مدنيتهم، لأنها على إقفارها من نتائج العقول في الفنون والصناعات، تكون عامرة باستقلال الفكر والإرادة وحرية التصرف، وما يتبع ذلك من عزة النفس والتحلي بكثير من الفضائل التي هي من طبيعة الفطرة ولوازم تلك المعيشة. فالكمال الاجتماعي الذي يُطْلَب بالمدنية عرضة لنقائص يجلبها للبشر استبداد الوازع من الأمراء والسلاطين، وفساد القوّام على التربية والتعليم، وسوء اختيار الأفراد الذين يعيشون في كنف السلطة والحكم، وينامون على مهاد الراحة والترف، فتفسد فطرتهم، وتهي عزيمتهم، ويرضون أن يكونوا عالةً على غيرهم، وعبيدًا للقوّام عليهم، بما فقدوا من الحرية والاستقلال، بل يقول الحكيم ابن خلدون: إن التأديب والتعليم الصناعي يذهب بالبأس وعزة النفس لأن الوازع فيهما أجنبي، وأما الأدب الشرعي , فليس كذلك لأن الوازع فيه نفسي، وهو موافق لقول علماء العصر: إن كمال الإنسان في أن يكون حرًّا مستقلاًّ تصدر أعماله بإرادته واختياره عن اعتقاده ووجدانه، ولا يحكم عليه إلا الشرع والقانون الذي رضيه لنفسه، وكان له رأي في اختيار القائمين بتنفيذه. هذا المقصد العالي لا يُنال في الحضارة إلا بتربية وتعليم تتبع فيهما سنة الفطرة وتُتَّقَى فيهما أهواء الوازعين الذين يرون من مصلحتهم أن يصبغوا نفوس النابتة بصِبْغة خَاصَّة يستديمون بها السيادة عليهم، وقَوْدهم كالأنعام إلى ما يريدون منهم. أسرف الوازعون من رؤساء الدِّين والدنيا في الجور على الخاضعين لهم في أوربا زمنًا طويلاً حتى لم يعد للطاقة البشرية قِبَلٌ باحتمال جورهم، فأحدث ذلك الضغط انفجارًا عظيمًا اهتزت له الأرض، وزلزل ذلك القهر والجبروت، بل زال واندك بهمة دعاة الحرية والاستقلال، ولكن حدث عنه بمقتضى السنة الإلهية التي يعبر عنها (برد الفعل) إسراف في مقاومة تَيْنك السلطتين الجائرتين - سلطة الحكومة وسلطة الكنيسة - فحدثت المذاهب المادية والاشتراكية المتطرفة والفوضوية وكانت فرنسا أشد الشعوب والأجيال غلوًّا في ذلك وإنكلترا أشدها اعتدالاً فيه لما جرت عليه من المحافظة على التقاليد القديمة، والتثبت في النزوع إلى الآراء والأعمال الجديدة. انبثت آراء الغالين في مقاومة السلطة والدين في كتب التربية والتعليم التي ألفها كبار الحكماء والكتاب من الأوربيين لا سِيَّمَا الفرنسيين منهم حتى صار حقها مَشُوبًا بباطلها، ونفعها معارضًا بإثمها، وكان من أشهر كتب التربية (كتاب أميل القرن الثامن عشر) للحكيم الفرنسي الشهير (جان جاك روسو) , ثم ارتقت المعارف، وزخرت بحار العلم، فصار الآخرون، يستدركون على ما مضى عليه الأولون، كما فعل (ألفونس أسكيروس) في كتابه الذي سماه (أميل القرن التاسعَ عَشَرَ) إشارة إلى ما ينبغي أن يكون عليه فنّ التربية في ذلك القرن وما بعده. وهو الكتاب الذي نشرنا ترجمته في بضعة مجلدات من المنار، في كل مجلد منها رسائل معدودة، نشرت في أجزاء متصلة أو متفرقة، وقد جمعنا شمل هاتيك الرسائل والشذرات كلها اليوم لننشرها في هذا السّفْر على قراء العربية عَامَّة، وأرباب البيوت منهم خَاصَّة، لما في قراءتها متصلة من تمام الفائدة بما يكون القارئ أوعى للمسائل وأضبط، وأرغب في تتبعها وأنشط. لم أَرَ في المصنفات الحديثة ولا القديمة مصنفًا كهذا الكتاب جمع بين اللذة والفائدة في أنفع العلوم التي تتفاضل فيها عقول البشر , وهو علم تربية الإنسان جسمًا وعقلاً ونفسًا؛ ليكون سعيدًا في نفسه، نافعًا لأبناء جنسه، ولهذا رغب في نشره الأستاذ الإمام - قدّس الله رُوحه في دار السلام - وعهد إلى مريده ذي الفطرة السليمة، والآداب القويمة: صديقنا عبد العزيز أفندي محمد القاضي بالمحاكم الأهلية المصرية، بأن يترجمه بالعربية، لينشر في مجلة المنار الإسلامية، وحسبي من بيان مزية الترجمة عرضها على القراء العارفين بقواعد العربية وأساليبها، فهم الذين يشهدون لها بأنها في الذُّرْوة العليا بين المصنفات للترجمة في هذا العصر، فالكتاب بها عون للنابتة على إحكام مَلَكَة الإنشاء والترجمة، كما أنه بمعانيه يطبع في النفوس ملكات استقلال الفكر والإرادة، وحب الحرية، والرغبة في خدمة الأمة، وغير ذلك من الفضائل، ويهدي العقول إلى أمثل طرق التربية والتعليم. ألا إنّ غرض المؤلف من كتابه هذا هو هداية قارئيه إلى الحياة الزوجية الفضلى، ومحبة الزوجين، ووفائهما في القرب والبعد، والسّرّاء والضّرّاء، ومكان الأم من قلب الهيئة الاجتماعية، وتربية جسم الطفل على سُنّة الفطرة ليكون بدنه سليمًا قويًّا، وتربية حواسه وخياله وفكره، ووجداناته وعواطفه، كالرحمة والإحسان , والعدل والمساواة , والإيثار وغير ذلك من القوى والصفات الرُّوحية مهتديًا في ذلك كله بالعمل والاحتكاك بالحوادث، وإلى تعليم الناشئ العلوم الكونية بعرض المعلومات على مشاعره وإرشاده إلى كيفية النظر فيها، والحكم الصحيح عليها، وإعداده للعلوم النظرية في الدين والفلسفة ليحكم فيها بنفسه، بعد بلوغ رشده، وغاية ذلك كله أن يخرج المربّي حُرًّا مستقلاًّ خَيِّرًا فاضلاً لا يحكم ولا يقول إلا عن علم وبصيرة، ولا يعمل إلا ما يرى أن فيه الخير والمنفعة. ولما كان قوام التربية العملية القدوة والتأسّي اختار المؤلف أن يجعل تربية (أميل) في بلاد الإنكليز؛ لأنهم أرقى الشعوب أخلاقًا وأعرقهم في الحرية والاستقلال. ولما كانت العلوم لا تبلغ كمالها إلا حيث يكثر الأخصائيون جعل المؤلف التعليم العالي لأميل في مدارس ألمانيا العالية، لأن الألمانيين أرقى شعوب العالم في تحرير العلوم. هذا الضرب من التربية والتعليم على سنة الفطرة موافق لهداية القرآن الذي هو دين الفطرة، وما أنكره المؤلف من تلقين الدين للناشئ كما يلقن الفنون وإلزامه بالتقليد فيه، ومِنْ حَمْله على الآداب وعمل الخير خوفًا من العذاب في الآخرة وعدم النجاة فيها له وجه وجيه فإن النبي (صلى الله عليه وسلم) لم يعلم ولدان أصحابه ولا كبارهم الدين كما تعلم الفنون، وإنما أدبهم وزكاهم بتلاوة القرآن عليهم، وبسيرته (سنته) الحميدة فيهم، دعاهم بالدليل وعلمهم بالدليل وأدبهم بالدليل وليس في الإسلام شيء تقليدي لا يستند إلى دليل. فلا غرو إذا كنا نسلم للمؤلف ما اختاره من جعل قوام التربية الأدبية الاعتبار بما في الفضيلة والخير من المنفعة وما في ضدهما من المضرة بالاختبار لا مجرد القول، فإن ذلك معقول في نفسه وموافق لهداية الإسلام. ونعذره في نهيه عن دعمها بنصوص الدين لأن ما يعرفه من هداية الأديان ينافي اتباع طريقته فالجمع بينهما جمع بين الضدين. على أنه على اعتداله لم يسلم من السخط على دين الكنيسة بمقتضى سنة رد الفعل التي أشرنا إليها من قبل. ولكن طريقته تنطبق على هداية القرآن؛ لأنها موافقة للفطرة ويَزِيدها الإسلام قوةً وتمكينًا ببيان أن الآثار الطبيعية للخير في الدنيا وهي منافعه التي يؤتى لأجلها لا تذكر بالنسبة إلى الآثار الطبيعية التي تكون له (أي الخير) في الحياة الآخرة , وهذه قضية بيناها بالدلائل والنصوص في مواضِعَ كثيرة من تفسير القرآن الحكيم ومن المنار. فلم يَبْقَ بعد هذا إلا أن أنصح لقراء العربية بأن يجعلوا هذا الكتاب ركنًا للتربية والتعليم , مع مراعاة المُسْلِم منهم لهداية القرآن التي أجزم بأن المصنف لو علمها لجعلها ركنًا للتربية فوق هدايات الحواس والعقل والوجدان. أنصح للمتعلمات من البنات ومن ربات البيوت بأن يقرأنه المرة بعد المرة. وأنصح للرجال أن يقرءوه لنسائهم ويفسروه لهن تفسيرًا. وأنصح للنابتة الجديدة من تلاميذ المدارس الدنيوية، وطلاب المدارس الدينية، بأن يقدموا العناية بمطالعته على جميع ما يطالعون من الكتب للاستعانة على تأديب النفوس وإحكام صناعة الإنشاء وإتقان أسلوب الترجمة. وإني لعلى علم بأن الإقبال على هذا الكتاب وتوخي العمل به سيكون مبدأً لعصر جديد يربي في نفوس قراء العربية الحرية الذاتية والاستقلال الشخصي والنوعي , ومَتَى كثر الأحرار المستقلون في شعب فإنهم يحيون شعبهم حياة استقلالية يستحيل أن يعبث بها مستبدٌّ، أو يفس

القرآن والعلم ـ 4

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ القرآن والعلم (4) تفسير من اللغة والتاريخ والجغرافيا والطب في رد الشبهات التي يوردها الإفرنج على بعض آيات الكتاب العزيز المسألة الرابعةَ عَشْرَةَ (هامان وزير فرعون) قال الله تعالى حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا} (القصص: 38) , وقالوا: إن هامان كان وزيرًا لأحشويروش ملك فارس، وهو متأخر عن فرعون بسنين. وهذه الشبهة من أضعف الشبهات، فإنه لا يبعد أنْ يكونَ لفرعون وزير يسمى هامان , ثم سمي بهذا الاسم وزير آخر لملك الفرس , ومن عَرَفَ علاقة المصريين بالأمم المجاورة لهم وتغلبهم على بلادهم تارة , وخضوعهم لهم تارة أخرى كما كان يحصل بين ملوكهم وملوك فارس لا يتعجب من دخول بعض أسماء أهل مصر في لغات الأمم الأخرى , ولا من دخول بعض أسماء من هؤلاء الأمم في لغة مصر القديمة , على أننا لا نعرف جميع أصول ما ورد في الكتب المقدسة مِن الأسماء , ولا ندري جميع مصادرها، فيجوز أنْ يكونَ للفظ هامان أصل في اللغة المصرية القديمة (الهيروغريفية) لا نعرفه. ولا يخفى أن ردّ الأعلام المنقولة من اللغات بعضها إلى بعض عسير , وفي بعض الأحيان يكونُ متعذرًا. وخصوصًا مثل هذه الأسماء القديمة الواردة في كتب الأمم المقدسة. فكم في كتب العهدين مِن أعلام لا يعرف اشتقاقها إلا رَجْمًا بالغيب! وكم فيها مِن أسماء لأشخاص من أُمّم يسمون عند أممهم بغيرها ولا يعرف سبب لهذا الاختلاف. فإذا كان الأمر كذلك فلا معنى لتلك الشبهة. فإن الشبهة لا تدحض حُجّة إلا إذا بنيت على أساس ثابت مقطوع به. ومادامت الشبهة وَهْمِية أو ظنية , فلا يلتفت إليها. ولا يعبأ بها في مقابلة الدلائل اليقينية. * * * المسألة الخامسة عشرة (أموال قارون) [1] قال الله تعالى في قصة قارون: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ} (القصص: 76) فقال قوم: إن ذلك غير معقول؛ لأن وجود مال بهذه الكثرة غير معروف. ونقول: أما إنْ كانَ ماله من الذهب والفضة فربما كان قولهم صحيحًا. وأما إنْ كانَ من غير الذهب والفضة أو كان من جنس العروض لا من جنس النقد كان ذلك جائزًا. فمن المحتمل أنه كان عنده مخازن عديدة تحتوي على غلال ومأكولات وملبوسات ومفروشات ومصنوعات , وغيرها مما ادخره لنفسه أو للاتجار به، وكان لهذه المخازن عدة أبواب ومفاتيح كثيرة تثقل العصبة أولي القوة وخصوصًا إذا لاحظنا أن مفاتيح الأمم القديمة كانت كبيرة وضخمة. بحيث يصعب على الإنسان حمل كثير منها. على أن الأرجح أن لفظ (مفاتح) معناه الخزائن , وقياس واحده مَفْتَح بفتح الميم. وبذلك قال ابن عباس والحسن. وقد ورد بهذا المعنى أيضًا في قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) أي خزائن الغيب ومكنونات أسراره. خزائن أموال قارون كانت ثقيلة. وهذا أمر مشاهد مثله الآن ومعروف كما في البلاد الأوربية والأمريكية من النقود الذهبية وغيرها. * * * المسألة السادسةَ عَشْرَةَ (الوضع اللغوي) (استعمال لفظ القلب في القرآن) توضع الألفاظ في اللغات للمعاني والذوات لمناسبات صحيحة أو غير صحيحة , ثم يفشو استعمالها بين الناس ويتوسع فيها حتى يجهل كثير من الناس أصول معانيها , فلا يبالون في استعمالهم لها إنْ كانَ السبب الذي وضعت لأجله هذه الألفاظ للمعاني المخصوصة صحيحًا أو غير صحيح. مثال ذلك قولهم: (فلان مجنون) أي غير سليم العقل فلفظ (مجنون) من جُنّ الرجل أي أصابته الجِنّ , ولما كان هذا الاعتقاد شائعًا بين القدماء فشا بينهم استعمال لفظ مجنون , وما كان من مادته فيمن اختل عقله وإنْ كانَ هذا الاختلال في الحقيقة ليس ناشئًا عن الجن كما يزعمون , ولم تبال الناس بالبحث عن صحة هذا السبب المزعوم الذي لأجله استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى بل صاروا يستعملونه (بقطع النظر عن البحث في حقيقة أصله) في كل اختلال للعقل حتى كأنه وضع في أول الأمر لهذا المعنى. ومثل ذلك لفظ (عبقر) وهو اسم لموضع تزعُم العرب أنه مِن أرض الجن , ثم نسبوا إليه كل شيء تعجبوا من جودة صنعه كما في قوله تعالى: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} (الرحمن: 76) مع أن هذا الموضع لا وجود له إلا في مخيلاتهم الواهمة. وكذلك لفظ (القلب) فإنه في الأصل موضوع لداخل الشيء ولبه , ولذا أطلقوه على الفؤاد ولما كانوا يعتقدون أن الفؤاد هو مكان التعقل والتفكر صاروا يسمون العقل قلبًا من باب تسمية الشيء بمحله على سبيل المجاز المرسل , ثم شاع بينهم هذا الاستعمال حتى صارت الكلمتان (العقل والقلب) عندهم مترادفتين في بعض المواضع وجرى على ذلك الأولون والآخِرون غير مبالين إنْ كانَ أصل هذا الاستعمال مبنيًّا على فكرة صحيحة أو غير صحيحة. ومن ذلك أيضًا قولهم: (غربت الشمس، أو طلعت) فإنه تعبير يُرَاد به احتجاب الشمس عنا أو ظهورها لنا سواء كان ذلك ناشئًا عن حركاتها أو عن حركة الأرض , فإن أمثال هذه المباحث يجب أنْ تكونَ بعيدةً عن الأوضاع اللغوية التي عهدتها الناس وعن الاصطلاحات التي جروا عليها في كلامهم وتعبيراتهم , ولذلك تجد في جميع اللغات ألفاظًا وُضِعَتْ في الأصل لأفكار غير صحيحة , ثم شاعت بين الناس في معانٍ صحيحةٍ فلم تجد العلماء بُدًّا مِن الجري عليها في كلامهم واستعمالها في عباراتهم مع علمهم بخطأ الأصل الذي بنيت عليه. وما سمعنا بأن أحدًا منهم عاب غيره لأجل استعمالها بعد شيوعها بين الناس ومعرفتهم لها , ولذلك يقولون: (لا مُشَاحَّةَ في الاصطلاح) . فنحن لا ننكر أن في القرآن بعض ألفاظ وضعها العرب في معانٍ مخصوصةٍ لأفكار كانت عندهم وهي غير صحيحة , ثم شاعت بينهم في المعاني حتى نزل القرآن , فلم يستَغْنِ عن استعمالها فيما استعملت فيه بينهم , وإن كانوا في وضعها مخطئين , فإن ذلك مما تقتضيه الضرورة لنزوله بتلك اللغة فلا يجوز أن يتحاشى تعبيراتها المعهودة للعرب وخصوصًا إذا كانت سَلِسَلة التركيب. وإنما الذي ننكره بما كتبناه سابقًا أمران: (1) أن يضع القرآن من تلقاء نفسه لفظًا في معنى لفكرة غير صحيحة. (2) أن ينص على أمر من الأمور بعبارة له صريحة , ويكون هذا الأمر في الواقع ونفس الأمر غير صحيح. فلا ينافي ذلك ورود لفظ فيه مثل القلب، وعبقري، ومجنون، بمعنى العقل والشيء الجميل ومختل العقل. وإن كانت العرب في وضع هذه الألفاظ لهذه المعاني قد راعوا عِلَلاً غير صحيحة. فإن ذلك معهود في جميع اللغات وفي كلام جميع العلماء مهما أوتوا من العلم والفلسفة؛ إِذْ لا داعي يدعوك لترك أمثال هذه الألفاظ بعد جريانها على ألسنة الناس في معانٍ صحيحة، وإن كانت في أصل وضعها خطأً , فإنهم لو تحاشوا لضاقت عليهم اللغات , ولَكانت تعابيرهم عاجزةً عن تأدية المعنى المراد ركيكةً في نظر جماهير الناس، فمن أمثلة ذلك في اللغات الأجنبية تسميتهم بعض جزائر أمريكا باسم Indies West أي جزائر الهند الغربية، والسبب في ذلك أن مكتشف أمريكا (كريستوفر كولومبس) لما رأى هذه الجزائر ظنّ أنها جزائر الهند , فسماها بذلك وجرى الناس على هذه التسمية إلى هذا اليوم مع علمهم بأنها خطأ. ومِن ذلك أيضًا تسمية الأطباء لبعض الديدان الشريطية المعوية باسم Solivm Taenia أي الدودة الشريطية الوحيدة؛ لتوهم الناس في الزمن السابق أنه لا يوجد منها في الأمعاء سوى واحدة , ومع أنهم الآن قد علموا أنه قد يوجد منها أكثر من واحدة، ترى جميع العلماء يصرون على هذا الاسم , وإنْ كانَ الوصف فيه خطأً؛ لشيوعه بين الناس. وكذلك تسميتهم بعض الأمراض العصبية (بالهستيريا) من لفظ Hystera اليوناني، ومعناه (الرحم) لظن الناس في الزمن الأول أن علَّةَ هذا المرض هي في الرحم , ومع عِلْمِ الأطباء بخطأ ذلك لا يزالون متمسكين به. إذا علمتَ ذلك فاسمع الآن معنى القلب في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) , فمعنى القلوب في أول الآية، العقول. وإنما لم يقل: (فتكون لهم عقول يعقلون بها) لِرَكَاكَةِ ذلك، ولم يَقُلْ: (فتكون لهم أمخاخ يعقلون بها) ؛ لعدم معرفة العرب ذلك ولاستنكارهم هذا التعبير والقرآن لم يَأْتِ لتعليمهم أمثال هذه المسائل الفسيولوجية؛ فلذا لم يهتم بها ويصح أنْ يكونَ معنى القلوب هنا الأنفس العاقلة المفكرة والأرواح المدركة المدبرة؛ لأن قلب الشيء هو جوهره ولُبّه [2] وخلاصته , ولا جوهر للإنسان سوى روحه فإنها هي حقيقته وكل ما سواها قشور لها. وأما لفظ القلوب في آخر الآية فمعناه العضو المعروف في صدر الإنسان , ومعنى الآية أنهم لم يعموا عن المواعظ والعبر؛ لعمى أبصارهم , بل لعمى قلوبهم التي في صدورهم؛ أي لعدم تأثرها وانفعالها حتى كأنها قلوب أموات، فإن قلوب الأحياء تتأثر بما يحيط بالإنسان من العوامل فتَزِيد ضرباتها أو تنقص وتقوى , أو تضعف وتنتظم , أو تختل إلى غير ذلك من التغيرات التي تحصل لحركات القلب , وهي تدل على مبلغ تأثر صاحبه وعلى درجة الإحساس عنده، فَمَنْ لم يتأثر قلبُه كانت نفسُه جامدةً؛ لأن القلوب هي دلائل النفوس , ولذلك قيدها الله هنا بقوله: {فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) لمنع التجوز في معنى القلوب، فكأنه تعالى يقول: إن الذي يدلكم على موت نفوس هؤلاء القوم وجمود أرواحهم أنكم لو أحسستم بقلوبهم الحقيقية التي في صدورهم لَمَا وجدتموها تنفعل أو تضطرب لِمَا تضطرب منه قلوب الأحياء المتقين إذا سمعوا ما به يتعظون , أو رَأَوْا ما به يعتبرون، فكأنه تعالى جعل آخر هذه الآية كدليل على ما قاله في أولها مما معناه أن عقولهم أو نفوسهم لا تدرك شيئًا , ولولا القيد المذكور وهو قوله: {الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) لأَمْكَنَ حَمْل القلوب في آخر الآية على ما حملت عليه في أولها , وكان المراد منها العقول في الموضعين، وبذلك تخفى الفائدة من باقي الآية , ولا يكون ما في آخرها كالدليل على ما نسبه إليهم في أولها. هذا وورود لفظ بمعنيين مختلفين في أول الجملة وفي آخرها كما في هذه الآية له شواهدُ أُخْرَى كثيرةٌ مِن القرآن وفي كلام العرب؛ كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ} (النور: 43) - أي الأعين - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} (النور: 44) أي العقول , وكقول الشاعر: لم نَلْقَ غيرك إنسانًا يلاذ به ... فلا بَرِحْتَ لعين الدهر إنسانًا * * * المسألة السابعة عشرة (التناقض في عبارات القرآن في السورة الواحدة) ذكر بعض المتقدمين من أمثلة ذلك التناقض في السورة الواحدة ما جاء في سورة المزمل من الأمر بالصلاة بالليل في أولها مع ما ينافي ذلك في آخرها , ولما كنت ممن لا يقول بجواز النسخ في القرآن وجب علي التكلم على هذه الشبهة بما لا يخل بأصولي الآتية في تفسير القرآن الشريف , وهي: (1) عدم القول بالنسخ في القرآن. (2) عدم توقف فهم القرآن على روايات الآحاد. (3) كون آيات كل سورة يلتئم بعضها مع بعض كأنها نزلت دفعةً واحدةً. فمع مراعاة هذه الأصول الثلاثة نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم هو وأ

السنن والأحاديث النبوية

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ السنن والأحاديث النبوية بحث العمل بأحاديث الآحاد والحديث المتواتر وَلْنَعُدْ , فنقول: التواتر هو وإنْ كانَ من الطرق المفيدة للعلم إذا وجد إلا أنا لا نحصر إفادة العلم بالأخبار فيه , كما إنا لا نلزم به كل أحد قبل أن يعرف أنه متواتر إذا لم يقصر في الطلب أو كان معذورًا لبعده عن أهله. قال حضرة الدكتور: لم يتواتر من أقواله - صلى الله عليه وسلم - إلا القليل الذي لا شيء فيه من أحكام الدين. أقول ما ذكره غير مسلَّم , والتواتر هو ما نقله جَمْعٌ عَن جمع , يبعد تواطؤهم على الكذب، أي عن محسوس، وقد اختلفوا اختلافًا كثيرًا في تعيين هذا الجمع. وبناءً على تعيين الجمع فيما نظنّ قال بعضهم بندرة وعزة المتواتر في الأحاديث النبوية. وهذا أولى ما يقال في الاعتذار عن ابن الصلاح في قوله بذلك. قال السيوطي نقلاً عن شيخ الإسلام: إن قول ابن الصلاح نشأ عن قلة الاطلاع على كثرة الطرق وأحوال الرجال وصفاتهم المقتضية لإبعاد العادة أن يتواطئوا على الكذب أو يجعل منهم اتفاقًا - قال: ومن أحسن ما يقرر به كون المتواتر موجودًا وجودَ كثرةٍ في الأحاديث أن الكتب المشهورة (أي المتواترة عن مؤلفيها) بأيدي الناس شرقًا وغربًا المقطوع عندهم بصحة نسبتها إلى مؤلفيها إذا اجتمعت (أي أو اجتمع بعضها كما قال ذلك جمهور أهل الحديث) على حديث , وتعددت طرقه تعددًا تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أفاد العلم اليقيني بصحته إلى قائله. قال: ومثل ذلك في الكتب المشهورة كثير اهـ. وأقول أيضًا: إن مَن تجرد عن التعصب والتقليد لا تخفى عليه الحقيقة المنشودة في هذا الباب. وبما قدمناه وما يأتي يظهر للمنصف مكانة الخبر الذي ينقله آحاد ثقات قد عرفوا بقوة الحفظ والذكاء والعدالة والورع والتقوى , وعرفوا أن الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس ككذب على أحد، وأن مَن كذب عليه متعمِّدًا يتبوأ مقعده من النار , اعتقدوا ذلك وهم بالصفات التي عَرفتَ وتحملوا من الرواية ما اعتقدوا وُجُوب العمل به , ثم وجوب تأديته لغيرهم كالأمانة, وقد علموا ما في الخيانة من الوعيد والترهيب عن كتم العلم. فإذا اتصل سند الخبر بمثل من ذكرناه فهو فيما نعتقد مفيد للعلم أي يبعد أن يمنع العقل عن مثل من نعتناه الكذب عادة , ورب رجل يعدل رجالاً - فإن قيل: سلمنا أنّ مَن كان مثل هذا يبعد منه الكذب عادة إلا أنه لا يؤمن عليه النسيان , قُلْتُ: قد علم من عادة المحدثين كتابة ما سمعوه , وعلى الأقل للمراجعة إلى وقت التأدية , وهم لا يعتمدون على المكتوبات إلا ما كان موثوقًا به ومحفوظًا بغاية الاحتياط , ولا يقبلون المكتوبات التي لا يُدرى حالها وإنْ كانَ كاتبها ثقة - وهذا أكبر دليل على أن ما عندهم من الأخبار أصح ما وجد من الأخبار في العالم بعد كتاب الله - وإنما كان تواتر القرآن مقدمًا على كل خبر؛ لأنه نقل بمثل هذه الأسانيد اليقينية متواترة. على أنا نستبعد عادة أن الراوي الذي ذكرنا صفاته يحدث بما نسيه إذْ لو فعل ذلك لم يكن بالمرتبة التي ذكرناها لا سِيَّمَا في أحاديث الأحكام والأعمال لشدة حاجته وحاجة معاصريه إلى العمل بها. على أنه إذا نسي ذلك لا يحدث به , وإن حدث فإنه يذكر اللفظ بالشك. ويبعد كل البعد أن ينسى نسيانه لذلك وأبعد من ذلك أنْ لا يوجد هذا الحديث عند غيره. على أنه لو فرض وقوع ذلك وهو غاية الندور فلا نسلم أن ذلك يضر في الدين إذْ قد اغتفر ذلك، أي النسيان والخطأ، فيما حاجة الناس إليه أكثر، وفيما وجب فيه زيادة الاحتياط، وهما فيه أشد ضررًا وفيما هو سبب للضرر بلا واسطة وذلك في القضاء؛ لأن أحد الخصمين قد يكون أَلْحَنَ بحُجّته من الآخر , فلم يضر الحاكم أن يحكم بخلاف الواقع في هذه الحالة إذا لم يقصر فلأَنْ يغتفر ذلك في الرواية أولى لكون الضرر منها إن وجد لا يكون هو السبب المباشر للضرر غالبًا. فتبين بذلك أن ما عسى أن يطعن به في الرواية التي وصفناها مع كونه لا يضر في الدين هو بناء شاذ على شاذ على شاذ , كلُّ منها يبعد وقوعه عادة - بل هو أولى بالوثوق من خبر الجمع الفسقة غير الموثقين الذين يقال في خبرهم يمنع أو يبعد العقل تواطؤهم على الكذب عادة. فبعد الكذب عمن ذكرناه أكثر من بعده عن جمع التواتر الذي ذكروه. وحَيْثُ كان الأصل في جميع العلوم سواء كانت تصورية أو تصديقية هو ما أدركه الشخص بأحد مشاعره الظاهرة أو الباطنة , أو ما دل العقل عليه أو الوحي السماوي، وهذا الأخير لا يكون إلا علمًا حقًّا دائمًا، وما تقدمه يتفاوت الناس فيه تفاوتًا لا يحصره حد , فقد صحّ لدينا عن المتقدمين وشهدنا ورأينا ما لا يحصى في زماننا أنه قد تصحح الجماعات ما يعدونه علمًا لديهم بتطبيقه على معلومات فرد واحد، بل قد يتبين فساد معتقدهم في جانب معلومات الفرد الواحد - وذلك دليل واضح على أن الفرد الواحد الممتاز بالكمال في صفاته وعاداته يعادل بل يرجح بالأفراد الكثيرين من بني نوعه. ونحن أيضًا نرى الشخص المنصف قد يتهم نفسه فيما سمعه بأذنه إذا خالفه فيه من يعتقد أنه أحفظ منه فمثل هذا المنصف إذا اتهم نفسه فيما سمعه بأذن نفسه , وقدم على ذلك الخبر الممتاز الذي ذكرناه قد يبعد كل البعد أن يقدم على خبر سمعه بنفسه خبر الكثيرين غير العدول - وهل يمكن أن يقال ما علمه الإنسان وسمعه لا يسمى علمًا لجواز زواله بالنسيان؟ فتبين بطلان الخبر أو العلم بعد اعتقاد ثبوته هو عندنا يضارع زوال العلم بالنسيان. وأيضًا احتمال النسيان في الخبر مع الذهول عنه كما أنه لا يضر الخبر وهو علم في حقه ما لم يتذكر أنه نسيه، فكذلك لا يضر المُخبَر بالفتح إذا كان المُخبِر بالكسر بالصفات التي ذكرناها. إن خبر الآحاد قد اتَّفَقَ على اعتباره جميعُ البشر كما هو مشاهد واعتبرته الكتب السماوية في شرائعها وأنبياء الله ورسله في التبليغ عنه والله ورسوله أمر الأمة أن يبلغوا عنهما جمعًا وفُرَادَى، وبعبارة أخرى كل فرد من الأمة مأمور بالتبليغ , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكليم الله موسى بن عمران عليه السلام ترك بلدًا من أمره الله بإنذارهم , وخرج من بين أظهرهم إلى مَدْيَن معتمدًا على خبر الواحد. وأثنى الله على من احتج بخبر الواحد كمؤمن آل فرعون إلى غير ذلك مما لا يكفي لبسطه المجلدات. كل ذلك معلوم بالضرورة ولا ينكره إلا مكابر، فكيف يصح قول حضرة الدكتور: لا يجب العمل بخبر الآحاد مطلقًا , ومِنْ ثَمَّ قال الإمام أحمد رحمه الله: إن خبر الآحاد الصحيح يفيد العلم، وبه قال داود الظاهري والكرابيسي والمحاسبي , وحكي هذا عن مالك بن أنس. فإن قيل: إن الجمهور قائلون بأن خبر الآحاد يفيد الظنّ. قلنا: أولاً إذا كان غرض الباحث مقصورًا على طلب الحق , وهو ضالته فلا محل لهذا الاعتراض من أصله , على أنه يحتمل أنْ يكونَ قولهم (خبر الآحاد يفيد الظنّ) قضية مهملة أي وهي في قوة الجزئية [1] , وبهذا الاعتبار يكون بعض أخبار الآحاد قد يفيد العلم. وأيضًا المعروف من مذهب الجمهور أن المشهور والمستفيض لا يجري فيه الخلاف , وذهبوا أيضًا إلى أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا تلقته الأُمّة بالقَبُول بحَيْثُ يكونون بين عامل به ومتأول له، لأن التأويل فرع القبول وجعلوا من هذا القسم أحاديثَ الصحيحين - بل أكثر أحاديث ما صنف فيما يحتج به من الكتب التي صنفتْ في الصحاح والحسان لانجبار الحسان بتعدد الطرق - ولا يهولنك ما قد تسمع به من التفرقة بين رجال الصحيح ورجال الحسن , فإن شرائطهم في رجال الحديث الحسن ربما لا يبلغها من وسم بأعلى سمات الفضل والعدالة في زماننا هذا - يدلك على ذلك ما عرف عنهم من أقوالهم في الجرح حتى إنهم قد يعدون أحاديث من سمع في بيته الغناء موضوعة - فإن قيل: إن هذا إفراط قد يؤدي إلى ضياع كثير من السنن. قلنا: لكنه يدل على أن ما في أيديهم مما وسموه بالصحة والحسن مُنَقّى ومبرّأ من كل احتمال يؤدي إلى عدم قَبُوله - على أنّا لا نسلّم انحصار وجود ذلك عند من تركوه , بل يجوز وجود ذلك عند غيره مِن الثقات إنْ كانَ هو مِن السُّنَّة في نفس الأمر , وإنْ كانَ مكذوبًا فلا حاجة لهم ولا لنا به. إن أحاديث الكتب المشهورة عن مؤلفيها فيما يحتج به من السنن النبوية قد عرفت الأمة بأسرها صحتها أو حسنها؛ لتعدد الطرُق، وصارت مقبولة عند الكل وأكثرها قد جمعت ودونت في عهد التابعين أو تابعيهم , أما مجرد الكتابة بلا ترتيب للعمل أو للحفظ فقد كان في زمن الصحابة - رضي الله عنهم - كما ثبت ذلك من طرُق عديدة. وعليه فما قرروا صحته فقد اتفقت الأمة على قبوله إذْ كانوا بين عامل به ومتأول، وهو يفيد العلم، لأن سكوتهم عن الطعن فيما هو كهذا بل قبولهم له يدل على معرفة كل واحد من العاملين به أو المتأولين له بصحته، وهم في كل طريق وطبقة عدد كثير , لا يُجَوِّزُ العقلُ تَوَاطُؤَهُمْ على الكذب عادة. وأيضًا يدل ذلك على أن هناك طرقًا معضدة كثيرة ألجأتهم إلى عدم الرد، ولهذا نرى من لم يلتزم ذلك بالعمل عدل إلى التأويل - وإن ما هذه حاله لا يبعد أن نقول: إنه أَعْلَى من بعض أنواع المتواتر - وما ذكرناه معلوم إن عرف حال المحدثين واحتياطهم في رواية السنة. ألا تراهم قد عمدوا حتى إلى جميع ما شاع على ألسنة العوامّ مما نسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صرحوا بتزييف الزائف وما له أصل ردوه إلى أصله، فما بالك وما رأيك فيهم إذا وجدوا ما لا يصح مكتوبًا في كتب الهداية؟ أَتُرَاهُم يسكتون عليه , وقد عرف من عادتهم أن ما في إسناده ولو مجهول واحد لا يُحتجُّ به عندهم؟ إن أهل الحديث لا يعتبرون رواية من انحطت درجته عن مرتبة رجال الحسن لاعتقادهم أن كثرة الكذابين ونحوهم لا يزيدون الخبر إلا وهنًا. لو كانوا يأخذون برواية كل من روى حتى الكذابين والفسقة والكفار كما هي عادة التواترية لبلغ رواة كل حديث من أحاديث الأحكام في كل طبقة إلى حدّ الكثرة التي يعتبرها التواترية - فإنْ كانَ أحدٌ يشكّ في قولنا فليتتبع كتب الصحاح والحسان , وكتب الأحاديث الضعيفة , وكتب موضوعات الحديث , وغيرها مِن كتب السير والمغازي والتواريخ المسندة والتفاسير وغيرها - أنا لا أشك أنه يجد أسانيدَ متعددةً لكل حديث , فإذا لم يتقيد بطريقة أهل الحديث في شرائط الرواية وجرى على طريقة التواترية فهو يجزم بأن رجال هذه الأسانيد يبعد تواطؤهم على الكذب - لا سِيَّمَا إذا لاَحَظَ من عمل بكل حديث من العلماء من عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حين كتابتها في كتب الحديث. يقول التواترية: إن خبر الآحاد يفيد الظنّ , وقد قدمنا فساده , ويرتبون على ذلك كبرى قياس من الشكل الأول، وهي فكل ظنّ أو كل عمل بالظنّ فهو مذموم بنص القرآن، وقد عرفت فساد الصغرى [2] , والحق أن بعض الآحاد يفيد العلم. وأيضًا نحن لا نسلم الكبرى كلية؛ لأن القرآن إنما ذمّ الخرص وبعض الظنّ لقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) , وأيضًا ما ذكره الله مِن الظنّ المذموم إنما هو الظنّ في تأسيس الشرائع بلا اعتماد على بينة من الله في ذلك، ومَن تتبع آياتِ القرآن في ذلك وجده إنما يذم هذا النوع من الظنّ , أو ما هو في معناه كما قال تعالى قبل ذلك: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا} (يونس: 68) , وقوله: {مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} (يوسف: 40) , وقد يذمهم الله بم

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم الأخبار والآراء (إعادة القانون الأساسي ومجلس المبعوثان في الدولة العلية) في صبيحة يوم الجمعة المبارك 25 جمادى الآخرة صدرت الإرادة السلطانية بإعادة (مجلس المبعوثان) والأوامر من مقام الصدارة إلى الولايات بالانتخاب. فشمل الفرح والسرور جميع العثمانيين في دار السلطنة وجميع الولايات , وفي جميع أقطار الأرض وعدوا هذا اليوم العظيم عيدًا عامًّا للأمة العثمانية على اختلاف مِلَلِهَا ونِحَلِهَا. أما سبب نيل هذه الأمنية التي تشوف إليها العثمانيون مِن نَحْوِ ثُلُثِ قَرْنٍ بعد ما سلبت منهم، فهو التدبير العظيم الذي قامت به جمعيات الأحرار العثمانيين في أوربا ومصر بعد اتحادها ودخول كبار ضباط الجيش المستنيرين فيها , وربما نُبيّن ذلك في وقت آخر. وما كاد نبأ البرق يوافي مصر بهذه البشرى حتى انبثّ فيها بين العثمانيين مِن الترك والسوريين والأرمن وغيرهم , فأنشأ يُهَنِّئُ بعضُهم بعضًا والبِشْرُ يتدفق مِن وجوههم. ثم طاف جمهور منهم في الشوارع الكبيرة بالقرب من الأزبكية وهم يهتفون بالأناشيد العثمانية. ثم اجتمع مئاتٌ منهم في رحبة قهوة (اسبلنددبار) وطفق يترنّمُ بعضُهم بالأناشيد والآخرون يصفّقون لهم. وقام غير واحد منهم فخطبوا بالتركية , وقام صاحب هذه المجلة فخَطَبَ بالعربية خُطْبَة وَجِيزَة صفَّقَ لها الجمهورُ مِن حَمَلَةِ الطرابيش والبرانيط بهجةً واستحسانًا. كان موضوع الخطاب أن هذا اليوم عيد لجميع العثمانيين على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأجناسهم، وأن الفضل في نيلنا الدستور عائد لمساعي أحرارنا وجمعياتنا السياسية، وضباطنا ذوي البسالة والحَمِيّة، وأنه يجدر بنا مَعْشَرَ العثمانيين أن نفاخر جميع الأمم بنيل الدستور من غير ثورات داخلية تُرَاقُ فيها دِماءُ الألوف ويَهْلِكُ فيها الحَرْث والنَّسْل، وأنه ينبغي لنا أن ننسى الماضي , وأن نعمل للمستقبل فنظهر للأمم كلها أننا أهل لهذا النوع الراقي من الحكومة، فيجب أن يتحد التركِيّ والعربِيّ والرومِيّ والأرمنِيّ وسائر الأجناس العثمانية , ويقوموا بالأعمال التي ترفع شأنَ البلاد على قواعد المحبة والمساواة… ومما قلته أيضًا أننا نشكر للحضرة السلطانية المبادرة إلى إجابة طلب الضباط الناطقين بلسان أحرار الأمة، فَبَطَلَ التصفيقُ أو قَلَّ عند ذِكْرِ السلطان , وأشار كثير من الترك والأرمن إشارات الإنكار. وفي يوم السبت التالي اجتمع في دار رفيق بك العظم جمهورٌ عظيم من فُضَلاء العثمانيين المختلفين في الجنس المُتَحِدِينَ في العثمانية لأجل المذاكرة في تنظيم مظاهرة بإعلان السرور , وإرسال برقيات الشكر إلى جمعيات الأحرار في أوربا وإلى الآستانة، وقد كانت جمعية الشورى العثمانية قررت في يوم الأربعاء الماضي جمع أكثر هؤلاء الأحرار للمذاكرة في شئون الثورة ومطالبة الصدر الأعظم سعيد باشا بأن يختم تاريخه بمساعدة الأمة على إعادة الدستور , وجمع (مجلس المبعوثان) فلما بشرنا البرق في مساء يوم الجمعة بصدور الإرادة السلطانية بذلك تحول مقصد الاجتماع إلى ما ذكرنا. اقترح الجمهور أن ترسل تهنئة برقية إلى الأمير صباح الدين داماد (ابن أخت السلطان) رئيس جمعيات الأحرار بباريس يشكر له فيها سعيه وسعي الأحرار ويكلفه فيها أن يبلغ نيازي بك رئيس الضباط الذين أظهروا الثورة العسكرية في مكدونية وإخوانه كنوري بك وأنور بك شكرهم وسرورهم. ورسالة أخرى إلى الصدر الأعظم. فاقترح صاحب هذه المجلة إرسال رسالة خاصة إلى السلطان. قلت: إن ضباطنا وأحرارنا طلبوا والسلطان أعطى فنشكر له أنه قدر الحال حقَّ قدرها وبادرَ إلى الإجابة ولم يضطر الجند إلى سفك الدماء. فوافقني على هذا الاقتراح مَن حضر من السوريين أكثرهم بالقول وبعضهم بالسكوت، وعارضني أكثر الترك والأرمن، وقال واحد من أشهر أحرار الترك: إنه لم يُجِب الطلب فضلاً وإحسانًا , ولكنه أجابه بعد أن أشرعت في وجهه مئة وخمسون ألف حربة (سنكه) وقال بعض المعتدلين منهم: لا بأسَ بأن يذكر في تلغراف الصدر الأعظم تبليغ السلطان سرور العثمانيين , وبعد طول البحث انتخب الجمهور لجنة منهم لتقرير ما يجب , وجعلوا رئيسها إسماعيل حقي بك القائمقام العسكريّ (لأن الدستور رجع بقوة الجند) , فقررت أن تحتفل في أحد دور التمثيل احتفالاً يَخْطُبُ فيه العثمانيّون بالتركيّة والعربيّة والفرنسيّة والأرمنيّة والروميّة. وأن يعرض على الجمهور المحتفل صورة رسالتين برقيتين إحداهما للأمير صباح الدين أفندي، والثانية للصدر الأعظم، وترسلان بعد إقراره عليهما. وقد بذل الحاضرون ما يلزم من النقود لأجل ذلك بغير اكتتاب بل بمجرد الأريحية. وفي مساء ذلك اليوم اجتمع جمهور من المصريين في حديقة الأزبكية لإظهار السرور بنيل العثمانيين للدستور ومجلس النواب (المبعوثان) حضرنا هذا الاجتماع في أثنائه , واقترح علينا حسين بك تيمور، الذي دعا إلى الاحتفال وبعض العثمانيين، أن نخطُب بالحاضرين خُطْبَة تُناسب المقام , وكان جُلُّ أقوالهم إطراء للسلطان بأنه تفضل وتكرم بالدستور أي بغير عِلّة ولا سبب، ولا ثورة ولا طلب، وأن جيوشه منتشرة من منابع النيل إلى سيلان! ثم رأينا الجرائد كتبت عن هذا الاحتفال , فوصفته الجريدة والمقطم كما حصل وذكر اللواء عنه نُبْذَة صغيرة معظمها كذب، وهذا ما جاء في الجريدة. * * * (مظاهرة في حديقة الأزبكية) أعلن حضرة حسين بك تيمور أنه سيخْطُب في حديقة الأزبكية نحو الساعة السادسة بعد ظهر أمس؛ لإظهار السرور بمنحة الدستور لإخواننا العثمانيين. فبِنَاءً على هذا الإعلان توافدَ الناسُ مِن خاصَّة وعامَّة إلى حديقة الأزبكية، ولما وافت الساعة السادسة الْتَفّوا حول كوشك الموسيقى , فافتتح الخطابة حضرة ربيع أفندي المدرس بالمدرسة التحضيرية , فبسط كلمة عن فوائد الدستور , ثم قال: إننا نؤمل البلوغ إلى غايتنا من نيل المجلس النيابي، وإن طال علينا الأمد. ثم اختتم خُطْبته بالدعاء لجلالة السلطان والأمة العثمانية والجناب العالي. وتلاه شاب يدعى الشيخ حسين الغزي من طلبة العلم في الأزهر الشريف فحذا حذو الخطيب الأول في الموضوع , ثم تلاه حضرة الشيخ صادق عمران فتلا قصيدة يمدح بها جلالة السلطان والأمة العثمانية , ثم طلب جماعة من رجال الصحافة والأدب إلى حضرة الأستاذ العلامة السيد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار، أن يتكلم في الموضوع كلمات تروي الغليل فأجاب دعوتهم , وارتقى مكان الخطابة , فقال ما خلاصته: هذا اليوم هو عيد للعثمانيين عامَّةً وعيد للمسلمين خاصَّةً، فإنه عيد بحكومة الشورى التي يتمتع بخيرها العثمانيون كافَّةً من جميع الملل والأجناس. وحكومة الشورى التي قررها الإسلام بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) , وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) . مسائل الأمن والخوف من الأمور العامة المتعلقة بسياسة الأمة وإدارتها , ولم يفوض القرآن الأمر فيه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وَحْدَهُ وهو الإمام المعصوم وصاحب الشريعة ومبلغها بل جعل الأمر فيها إليه وإلى أُولِي الأمْر مِن الأُمّة يديرونها بالشورى بينهم. من هم أولو الأمر؟ زعم بعض المحرّفين أو المخرّفين أن أُولِي الأمر هم الملوك والسلاطين، وهو زعم ظاهر البطلان، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن معه حين نزلت الآية ملوك وسلاطين , وإنما كان يستشير أولي الرأي والمكانة من الأمة، فهم أولو الأمر بغير نزاعٍ. أفرأيتم هذه الهداية إلى حكومة الشورى وسلطة الأمة. هل يوجد عناية وتأكيد في شريعة ودين أبلغ منها؟ إذا كان رب العالمين لم يَرْضَ أنْ يكون خاتم رسله مستقلاًّ بإدارة الأمور العامة دون أهل الرأي من أمته , فكيف يرضى أو يشرع لغيره ممن هو دونه بذلك؟ مع هذا كله لم تلبث حكومة الإسلام بعد الخلفاء الراشدين أن صارت شخصيةً استبداديةً , ولا نخوض في الكلام عن الماضي , فإنما غَرَضُنَا الكلامُ عن الحاضر. تقلبَ الزمان، ودالتِ الدولُ، ودخل العالم الإنساني في طَوْر جديد، فسبق غير المسلمين إلى حكومة الشورى، وكانت حكومة دولتنا العَلِيَّة، وهي شخصية على خطر بين الحكومات النيابية الشورية المجاورة لها , ففكر بعض أصحاب العقول الكبيرة فيها من نحو نصف قرن في جعل الحكم بيد الأمة , وأنفذوا ذلك من نحو ثلث قرن , فوضعوا القانون الأساسي وأنشأوا (مجلس المبعوثان) الذي تعبرون عنه بمجلس النواب، ولكن لم تلبث السلطة المطلقة أن استردت هذه المنحة أو هذا الحق منهم. لو كانت الأمة العثمانية في ذلك الوقت مستعدةً للدستور استعدادَها اليوم لَمَا أمكن أخذه منها، ولكنها لم تَنَلْهُ باستعداد الجمهور , بل باستعداد أفراد مِن نابِغِي وزرائها أصحاب الأدمغة والأفكار البعيدة، والغيرة الشديدة كمدحت باشا وإخوانه. لم يكن العقلاء في الأمة العثمانية يعدون على الأصابع فيموت الدستور بموتهم، بل كان في الأمة كثير من أهل التربية العالية والمعارف السامية , ولكنهم لم يكونوا منبثين في الأُمّة كلها , ولا مشتغلين بإشراب رُوحِها مَعْنَى الحكم الذاتي. فلما رأوا أنفسهم قد سلبوا ما فيه سعادة الأمة وعزة الدولة، وأنه لا سبيلَ إلى استرجاعه من الأعلى كما جاء أولاً بتدبير مدحت باشا وحسين عوني باشا وإخوانهما رَأَوْا أَنْ يطلبوه مِن جانب الأُمّة بتوجيه نفوس المتعلمين إليه؛ فأنشأوا الجمعيات السِّرِّيَّة التي ظَلَّتْ تَسْعَى وَتَدْأَب وتصارع الصعوبات حتى أتيحَ لها الظَّفَرُ الآن ونالت ما تتمناه. ولما بلغ هذا المقام من البيان التاريخي المفيد كبر على أناس لم يفقهوا قوله فحدث شيء من الشغب وانقطع الخطيب عن الخطابة.ا. هـ كلام الجريدة. وأَزِيدُ على ما ذَكَرَتْهُ الجريدةُ ما جاء في بعض الصحف , وهو أن بعض المصريين صاحَ لِيَحْيَا السلطانُ. لِتَسْقُط تركيا الفتاة. أو حزب تركيا الفتاة. فصاح بصياحه جمهور مِن الحاضرين فاستاء مَن كان هناك مِن فضلاء الترك وغيرهم من العثمانيين , وقال قائل منهم: يا شيخ رشيد , لا تتكلم على هؤلاء الذين لا يفهمون. فما زادهم ذلك إلا صياحًا بسقوط تركيا الفتاة أي الأمة العثمانية في حياتها الدستورية الجديدة! ! ! وظنوا لجهلهم أنّ مِن لوازم حب السلطان أن يعيش على شيخوخته وضعفه عمرًا طويلاً بغير أُمَّة أو بأُمّة ميتة، وُجُودُهَا كَالْعَدَمِ، فَهَكَذا يكون الاحتفال بالدستور! ! أما العثمانيون الأخيار , فقد جعلوا موعد احتفالهم مساء يوم الثلاثاء غُرّة رجب , وأن لا يذكر الخُطَباء فيه اسم السلطان بذمّ ولا مدح , ولا تهنئة ولا شُكْر عَمَلاً بِرَأْيِ السواد الأعظم , وخلافًا لرأي أكثر السوريين , وهم العدد الأقل في جمهور المؤتمرين بالاحتفال , وسنذكر شيئًا عن الاحتفال في الجزء الآتي. أرسل إلينا كثير من المُحِبِّينَ رسائل التهاني بنيل أمتنا للدستور لعلمهم بما أصابنا مِن الاستبداد، منها ما طار به البرق ومنها ما عدا به البريد، منها ما هو بعنواننا الخاصِّ، ومنها ما هو بوصف جمعية الشورى الع

خديجة أم المؤمنين ـ 5

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين (5) الفصل العاشر [1] (محمد - عليه الصلاة والسلام - قبل تزوج خديجة) وإذا العناية صاحَبَتْ مَرْءًا فَلا ... تُكْثِرْ سُؤَالَكَ فِيهِ كَيْفَ ولِمْ وَمَا ودعِ الترددَ إنْ أتاك حديثُه ... مهما حوى مهما نما مهما سما لا تسأل كيف أبدع الإنسان من فتق الكواكب من رتق موادها، وقدر مدارات لحركاتها، ونظامات لتقابلها، وأنشأ منهن المقسمات ليلنا ونهارنا، المدبرات صيفنا وشتاءنا، الناظمات في أحشائهن شملنا، المادات بنسائمهن نسماتنا، وبأرواحهن كياننا، ولا تسأل لم خلق لنا الأرض جميعًا نُشَرِّح أحشاءها، ونقطع أوصالها، ونستخرج أفلاذها، قد حصرناها على عِظمها في يدنا، وحشرنا كل ما فيها في ذرات صغيرة من دماغنا، إن شئنا نرفع من شأنها بما نركب من أجزائها، فيأتي منها من البدائع ما يدهش ألبابنا، ويسحر أبصارنا، وإن شئنا لم نعبأ بها، واستشرقت نفوسنا إلى غيرها، فاطلعنا إلى مصادر الأرواح ومواردها، ومشارق الأسرار ومغاربها، وارتفعنا إلى ينابيع الأكوان ومظاهرها، وتلمسنا ثمة حياة لا تحتاج فيها إلى ماء الأرض وهوائها، وترابها ونارها. ولا تسأل كيف تقاربت صورنا معشر الإنس وتباعدت حقائقنا، ولم طالت آمالنا وأعمالنا، وقصرت آجالنا وأعمارنا، ولم جشعت نفوسنا بتكثير الصور , ثم شغفت كل نفس بأنواع منها، وتخالفنا في تمييزها وترجيح بعضها على بعض، وتدابرنا في مناهج طلابها، وتقاطعنا في سبيل اكتسابها، ولم هذا البون في أنصبائنا، والفرق في مرامينا، والبعد في مدارجنا، والغبن في معارجنا. ولماذا منا أناس مع الكواكب مداركهم سابحة في أفلاك الحقائق، وبروج الرقائق والدقائق، ومع الأنوار سيرهم منتشرة في سابق الدهور ولاحقها، وبادي الشعوب وحاضرها، وآخرون مع الديدان مشاعرهم دابة بين أوراق الآجام وأحطابها، أو تحت دخان القفار ونقعها، ومع العصف صورهم منطوية في أحشاء الأواكل، ومندرجة في الأواخر مع إخوانهم الأوائل. لا تسأل عن هذا كله إن كانت نفسك قد وقفت عند مطمأنها من معرفة الأول الآخر، الظاهر الباطن، ذي الحياة الأزلية الساري سرها في الأكوان والوجودات، البادي خط جلالها وجمالها على لوح الآيات البينات، من الأشكال والتنوعات {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} (الروم: 20-25) . إذا وقفت نفسك عند هذا المطمان من المعرفة فلعلها تصل بك إلى معرفة أن ذا الحياة الأزلية ذو حكمة ليس في وسع استعدادنا أن نحيط بأسرارها خبرًا مهما حامت حولها آمال مداركنا، ومهما طافت في سوح قدسها صوافي سرائرنا، فأخلق بأحدنا أن يتذكر في هذه المسابح الفكرية عجز أجنحة عقولنا عن أن تصل بنا إلى ما دون هذا السر الأعظم، ووقوعها بنا في كثير من أشراك الأوهام في الوجودات التي هي تحت حسوسنا، وفي جوار جسومنا ونفوسنا. وعسى أن ترقى بك هذه المعرفة إلى الإذعان بأن هذا الحي الأزلي الحكيم ذو عناية ربانية لا يحاسب على ما يختص بها ممن يشاء فله الأمر كله فيما يبدئ ويصور، وله الحكمة فيما ينوع ويميز، منه كل شيء وإليه المآب. وإن كنت في ريب من الحكمة الأزلية، والعناية السرمدية، فدع نفسك واقفة ما شاءت في عتمة النفي، أو دائرة في سجن الشك، أو طائرة في جوّ الوهم لا قرار لها. وإنما نحكي هنا للذين هم بربهم يؤمنون. سبق في العناية الأزلية أن تكون هداية شعوب كثيرة إلى أقوم سبل الحياة على يد رجل من العرب يرتفع به اسمهم في العالمين , وكان من هذا الشرف الذي اعتده الله للعرب أعظم نصيب لعبد المطلب الذي أخرج الله إنسان هذه الهداية من أولاده. كان عبد المطلب [2] من كبار أشراف قريش ورزق عَشَرَة أولادٍ مِن الذكور , وكان ابنه عبد الله أحبهم إليه فزوجه شريفة من أشراف قريش مِن بني زهرة تُدْعَى آمنةَ , فحملت منه , وقبل أن تضع حملها تُوفي , فلمّا وضعت كفل وليدها جده , وكان هذا الوليد المبارك (محمدًا) صاحبَ القرآن. فما أسعدك يا عبد المطلب! أكنتَ تدري وأنت في أبواب أبرهة الحبشي تَتَطَّلب منه ردّ ذلك القليل من الإبل الذي لك مما استاقه من إبل مكة أن سيولد لك في هذا العام حفيد تنثني أعناق الملوك في الأجيال المقبلة خاضعة لذكره. أكنت تفكر إذ قصارى أملك حفظ مقامك بين قومك المنقطعين في تلك البرية أن اسمك سترن به المحافل في الأمصار النائية والشعوب المختلفة على مدى عصور كثيرة , كلما ذكر نسب حفيدك العظيم الذي أعتده الله لمنصب يتبعه من أجله العالم ويبقى ذكره فيهم إلى الأبد. أخطر على قلبك أن بلدك المقدس الذي لم يكن يحج إليه إلا العرب ستحج إليه كل شعوب الأرض اتباعًا لما جاءهم به حفيدُك من الهداية. أجاء في خلدك أن كنتك آمنة الزهرية إنما ولدت من يشرف الله به قومك ويجمع به كلمتهم ويعلي سلطانهم وينشر لغتهم ويقيم لهم مجدًا مع الدهر مذكورًا، وفي كتاب العالم مسطورًا. هل كنت ملهمًا إذ سميته محمدًا؟ وكنت على رجاء كبير بأن يقيم له العالمون تحميدًا لا ينقطع، وتمجيدًا لا يزول. أعرفتَ أنك بحفظك هذا اليتيم , وكفالتك إياه , وعنايتك به إنما كنت تحفظ للعالم كله التحفة التي آتاهم الله من كرمه، والوديعة القدوسية التي اختص الله بيتك لظهورها، وقومك لانتشار مبدأ نورها. فأنت بما أوتيت من هذه السعادة الخالدة جدير أيها المخصوص بعناية الحي الأزلي، فليدم ذكرك جمالاً للمحافل واسمك ساميًا مع اسم حفيدك نبي الشعوب وبركة العالم. كانت ولادة محمد في القرن السادس من ميلاد المسيح عليهما الصلاة والسلام، أي حوالي سنة سبعين وخمسمائة منه , وحوالي السنة الثامنة والأربعين من ملك كسرى أنوشروان. ولم يكن قومه يعرفون سني الأمم وتواريخها ولا سني أنفسهم، وإنما كانوا يحفظون الأعمار ويوقتون آجال الأشياء بالوقائع الشهيرة والحوادث العظيمة كما هو شأن الأميين إلى عهدنا. وُلِدَ عامَ الفِيل، وهي سنة اشتهرت بهذا الاسم لوقوع حادثة فيها عندهم تدور صفوة حكايتها على حرن فيل القائد الحبشي وإبائه المسيرَ تلقاء مكة، فلذلك سميت بهذا الاسم. وحادثة الفيل شديدة الشهرة , ويصح أن نقول: إنها من التاريخ المقدس عند المسلمين أي إنها ذكرت في القرآن , ولكن على أسلوبه في القصص التي يذكرها لأجل العبرة فقط لا على أسلوب المؤرخين ونقلة الأخبار. وقد أعطي لمرضعة على عادة قريش في إعطائهم الأولاد للمراضع من القبائل النازلة قرب مكة ابتغاء أن تتربى أجسامهم في البادية حيثُ الأرضُ النظيفة قد كسيت من الأزاهر أبدع النمارق الطبيعية، والنسائم متحملة من ذلك العبير تهديه إلى النفوس رائحة وغادية. إذا بزغ رأس النهار أرسل إلى أفئدة أهل النشاط روحًا مبشرًا بطيب عقبى العمل، وسوء منقلب الكسل، وكأن بينه وبين سكان البراري وساسة الأنعام عهدًا أنْ لا يقبل بطلعته الباسمة إلا وهم مستقبلوه بالتحيات الطيبات من مباسم هممهم، وثغور اجتهادهم، ورافعون إليه آيات الشكر على ما له من الأيادي البيضاء في اخضرار عيشهم، وابيضاض وجوه آمالهم. بزغ الفجر يومًا على نسمتين في أباطح تهامة قد أسفر عليهما البشر، ونفذت الغبطة من أعماق جوانحهما إلى أسارير وجهيهما، ولم يكن ذلك الأنس والبشر لما حولهما من مجالي عرائس الطبيعة؛ لأن السماء كانت شحيحة عليهم تلك السنة فلم تترع حياضهم، ولا أونقت رياضهم، ولو لم يصن الوادي لهم القليل مما أغيثوا به مرة لقتلهم الظمأ - ولا لما حولهما من وافر الرزق وسابغ النعم؛ لأنهما لم يكونا يملكان إلا غنيمات قد جارت عليها السنة، وقتلها الجهد والجدب، ولكن كان ذلك السرور بنعمة جديدة أصاباها فملأتهما فرحًا، وأشبعتهما ابتهاجًا، ولم يكونا يفتران عن هذا الحديث الذي كانا يتغذيان به صباح مساء، ويجددان به شكرًا على هذه النعماء، وهذا ما كانا يتحدثان به: - حقًا يا حليمة إنك قد جئتنا بتحفة سنية ونسمة مباركة. - إي والله يا حارث وانظر ما أَجْمَلَه، انظر إلى هذه الأشفار الهدب، انظر إلى هذه العيون الدعج، انظر إلى هذا الجبين الأزهر، انظر ما أبهى انعكاس هذا الضياء المقبل من الشرق على مرآة هذا الجبين. كان هذا الحديث يجري بين امرأة وزوجها من قبيلة بني سعد صبيحة يوم كانا قبله في مكة وكانت هذه المرأة هي التي جاءت بحفيد عبد المطلب لترضعه، وقد حدثت هي حديثها كيف جاءت به وكيف رأت من بركته، قالت: خرجت مع زوجي وابن لي صغير على أتان لي قمراء [3] معنا شارف [4] لنا والله ما تبض بقطرة وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معنا مِن بُكائه من الجوع، ما في ثديي ما يغنيه، وما في شارفنا ما يغذيه، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج، فخرجت على أتاني تلك فلقد أذمت [5] بالركب ضعفًا وعجفًا حتى قدمنا مكة نَلْتَمِسُ الرُّضَعَاءَ، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبي الصبي، فكنا نقول يتيم وما عسى أن تصنع أمه وجده، فكنا نكرهه لذلك، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعًا غيري، فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبي: (والله إني لأكره أن أرجع مِن بينِ صواحبي ولم آخذ رضيعًا، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه) قال: لا عليك أن تفعلي، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة، قالت: فذهبت إليه فأخذته وما حملني على أخذه إلا أني لم أجد غيره. قالت: فلما أخذته رجعت به إلى رَحْلِي , فلما وضعته في حِجْرِي أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن فشرب حتى رَوِيَ , وشرب معه أخوه حتى روي ثم ناما، وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا إنها حافل [6] فحلب منها ما شرب وشربت معه حتى انتهينا رِيًّا وشِبَعًا , فبتنا بخير ليلة، قالت يقول صاحبي حين أصبحنا: تعلمي والله يا حليمة لقد أخذت نسمة مباركة. قالت: فقلت: والله إني لأرجو ذلك. قالت: ثم خرجنا وركبت أتاني وحملته عليها معي , فوالله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شيء من حمرهم حتى إن صواحبي لَيَقُلْنَ لي: يا ابنةَ أبي ذؤيب وَيْحَكِ أَرْبِعِي علينا [7] ، أليست هذه أتانك التي كنت خرجتِ عليها؟ فأقول لهن: بلى , والله إنها لَهِيَ. فيقلن: والله , إن لها لَشَأْنًا. قالت: ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد , وما أعلم أرضًا من أرض الله أَجْدَبَ منها , فكانت غنمي تروح عَلَيَّ حِينَ قدمنا

الرابطة عند النقشبندية وطاعة المريد لشيخه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرابطة عند النقشبندية وطاعة المريد لشيخه (س10) من ع. س. ط. في سنغافورة. حضرة العالم الفاضل السيد محمد رشيد رضا، صاحب (المنار) المنير بمصر. قد كثرت الضوضاء والأخذ والردّ في هذه الأيام بين مجلة (الإمام) بسنغافورة ومَن يثق بها، وبين من يسمون أنفسهم أهل الطريقة وأرباب السلوك، وذلك بسبب السؤال الآتي والجواب عنه والمجادلات فيه، ولأن المنار هنا له اعتبار عند أولي الأبصار، أحببنا أن يكون الحَكَمَ في هذه القضية لكي تقطع جهيزة صوت كل خطيب، حيث قد امتلأت الأسماع نقيقًا , وأعمدة الجرائد سوادًا , والقلوب شُبهًا فنؤمِّل بسط الجواب وبيان الحق بأدلته ودحض الشُّبه الباطلة ولا بُدَّ أن تكونوا قد كتبتم سابقًا في هذا الصدد؛ فنرجوكم أن لا تُحِيلُونا على ما ليس بأيدينا أثابكم الله. أما السؤال المثير للجدال فهو: ما قولكم في الرابطة التي يلزم بها مشايخ الطريقة النقشبندية المريدين، ومعناها أنه لا يصحّ منهم ذكر الله إلا بعد إحضار صورة الشيخ في قلب المريد , ثم يشرع في الذكر مع حضورها ويتركه إذا غفل عنها؛ لأنه حينئذ باطل لتمكن الشيطان من المريد لخلوّ قلبه من صورة الشيخ، وأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} (آل عمران: 200) دليل لهم وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) أمرٌ بها، أي مع التفسير المذكور إلى نحو ذلك، وجاء في سؤال آخر إلى مجلة الإمام: إن من حق الشيخ أن يمنع المريد عن إجابة أبيه وأمه المسلمَيْنِ إذا نادياه , ولو كان في النزع، وكذا منع الزوجة عن زوجها والعكس، وقد وقع ذلك هنا ومات المريض حزينًا. ويقولون: إن الشيخ يربي التلميذ بذلك. ومن السؤال أيضًا قولهم: يجب على التلميذ متابعة شيخه بدون سؤال أو تردد ولا يجوز له أن يعترض على شيخه ولو رآه على فاحشة؛ لأنه كالنبي المرسل بالنسبة إليه ولا ينكر عليه ولا بقلبه وإن عقوبة الإنكار حينئذ الحرمان، وأوجبوا على المريد أن يعتقد أنه لا يمكن أن يصل إليه مدد ولا خير من ربه إلا بواسطة الشيخ؛ لأنه الوسيلة له. وللشيخ محلات للسلوك والتلقين يحشر إليها جملة من الرجال الشّبّان والنساء الشوابّ يجتمعون بها من غير محرمية، بل جلهم جهال بالواجبات العينية، وإن الذكر وَحْدَهُ كافٍ للوصول والقرب من الله ولو ترك أكثر الفروض العينية. وقد أجابتهم مجلة الإمام بالمَنْع في الجميع، وأن تلك المبادئ مما تبع ضلال الأمة فيها مَنْ قبلهم من الأمم، وإن بعضها فيه ميل إلى جانب الشرك، وقد نقل الإمام ما قاله المفسرون في الرباط الشرعي والوسيلة الشرعية , وجزم بأن عبادة الله لا تجوز بغير ما شرعه الله، وأن من زاد فيها كمن نقص منها، مبتدع مردود عليه قوله، وأن الرابطة بالمعنى المذكور في السؤال لم يُعلّمها النبي أحدًا من أصحابه , ولا علمها الصحابة أحدًا من التابعين، وأن تطهير القلوب من الصور والتماثيل ليس بأولى مِن تطهير محلات العبادة منها. وأنه يحرم متابعة الشيخ فيما نهى الله عنه ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن شرع للعباد ما لم يأذن به الله فهو ضالّ مُضِلّ، وأن أعظم مرشد وأعلم طبيب ديني هو نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد أكمل الله به الدين، فلا دواءَ ديني نافع إلا وقد بيّنَه لنا، ومَن لم تشف أمراض قلبه أدوية القرآن لا شفى الله مرضه، وأن النبي أرشدنا إلى دواء الوسواس، وهو ذكر الله ليخنس الشيطان، فمن لم يخنس شيطان وساوسه بذكر الله فهو الكاذب , ومستحيل أن يخنس لحضور صورة شيطان مثله في قلب موسوس متهوس , وما في السؤال من الآداب هو ضدّ الأدب في الإسلام , ولم يؤدبنا به النبي , ولم يعمل به الصحابة، فعلى طالب الحقّ أن يلزم هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ويجتنب البِدَع إلى نحو ذلك. واعترض أهل الطريقة بزعمهم أن الجنيد والجيلاني وأضرابهما أوجدوا الرابطة بمعناها المشروح أعلاه , وإلزام المريد بما ذكر من الشروط، وأن لا يمنع المريدُ الشيخَ أي شيء أراده مِن نفسه أو ماله سواء كان ذكرًا أم أنثى، وأن الإمام وأصحابه خرجوا عن الدين ومَرَقُوا منه بإنكارهم إلى نحو ذلك. وإنا نسأل مِن المنار المنير إبداءَ ما يراه الصوابَ في هذا الموضوع مع البيان الشافي، فإنّا إلى ذلك محتاجون، نعدّ الأيام والساعات، والله المسئول أن يديمكم نفعًا للعباد وشجى في حلوق أهل البدع والإلحاد آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. س. ط *** (س11) من س. س. في (كوالا لمغور) في جنوب ميلاي. سيّدي، تصدر في سنغافورة مجلة عِلْمِيّة مِلِّيَّة بلغة الملايو، اسمها (الإمام) يكتب فيها بعض رجال الإصلاح , ومحررها رجل وطنِيّ اسمه عباس بن محمد طه، وهو مِن خِيرة شُبّان هذه البلاد عِلْمًا وعَمَلاً، اشتهر أخيرًا بمحاربة البِدع والخرافات التي ألصقت بالدين. وفي المجلة باب للفتوى، وقد سئل منذ أشهر عن الرابطة المعروفة عند أهل الطريقة النقشبندية، وهي إحضار المريد صورة الشيخ في القلب عند الذكر، وبربطه من جملة الإرادة التامّة , واستفادة علم الواقعات حتى يفنى تصرفه في تصرف الشيخ أخذًا من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200) . وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119) . فأفتى الإمامُ بأنّ الآمرين بفعل هذه الرابطة والعاملين بها ليس لهم مستند من الكتاب أو السنة. وأن الآيات التي جعلوها سندًا لهم لا تدلُّ على مرادهم ألبتة. ثم أورد أقوال المفسرين كالخازن والجلالين في الآيات المذكورة , إلخ ما جاء في الجواب. ثم قال: إذًا فإحضار المريد صورة الشيخ في قلبه عند الذِّكْر هو إشراك بالله. وهذا ما جاء الإسلام لمحوه، أو ما معناه. ثم أنحى على أهل الطرق الآن , ونسب كثيرًا منهم للدجل والتضليل، وأورد لنفي الرابطة آيتين آية: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} (النساء: 36) وآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: 5) .ا. هـ بالمعنى. فلما نشرت هذه الفتوى وهاته التصريحات التي لم يعهد لأحد مِن قبل هذا الشاب التصريح بها، قامت قيامة شُيُوخ الطُّرُق في هذه المستعمرة , ونسبوا للإمام ومحرره تضليل عباد الله الصالحين , وأوهموا العامَّة أن الإمام يسعى في هدم المعتقدات , وهم إلى الآن يحرضون العامَّة بِهجر الإمام وعدم الاطلاع فيه. أما الحقير وكثير مِن متخرجي المدارس الأميرية فبقينا متوقفين حتى يأتينا مِنْ عِنْدِ الأستاذ بيان شافٍ في هذه المسألة التي نعلم ويعلم الكثير أن لكم القدح المعلى في حلها والله يبقيكم لنا. (ج) لو قلت: إني من أجدر الناس وأحقهم ببيان الحق في هذه المسألة لرجوت أن أكون صادقًا، وإذا بينت السبب في ذلك رجوت أن يذعن له كل عاقل منصف، ذلك بأنني قد سلكت الطريقة النقشبندية، وعرفت الخفي والأخفى من لطائفها وأسرارها، وخضت بحر التصوف ورأيت ما استقر في باطنه من الدرر، وما تقذف أمواجه من الجيف، ثم انتهيت في الدين، إلى مذهب السلف الصالحين، وعلمت أن كل ما خالفه فهو ضلال مبين. وأمهد للفصل في المسألة تمهيدًا يقرب المراد من طالب الحق، فأقول: قد عرفنا من طباع البشر وأخلاقهم أن يألفوا ما أخذوه بالرضا والتسليم ويأنسوا به، فإذا وجدوا لهم مخالفًا فيه تعصبوا له , ووجهوا قواهم إلى استنباط ما يؤيده ويثبته ويدفع عنه هجمات المخالفين لهم فيه، لا يلتفتون في ذلك إلى تحري الحق واستبانة الصواب فيما تنازعوا فيه. ولولا فشوّ هذا الخلق في الناس لَمَا بقيت الأديان والمذاهب والأحزاب والشيع , والحق في كل منها واحد لا تعدد فيه. ثم إن من أخلاق البشر أيضًا أن لا يجتمعوا على شيء إلا إذا اعتقدوا أنّ فيه خيرًا لهم، وقد يكون هذا الاعتقاد لبعضهم عن نظر واستدلال أو تجربة واختبار وللبعض الآخر عن اتباع وتقليد لِمَن اعتقدوا فيهم الفضل والكمال. على هاتين القاعدتين بني التعصب للمذاهب والطرق في جميع المِلَل، وعليه يتخرج أخذ كثير من أهل الصلاح والتقوى والعلم والعمل بالرابطة في الطريقة النقشبنديّة وبغيرها مِن البِدَع التي لم تكن على عهد السلف في غيرها مِن الطرق , وبكثير من القواعد والمسائل في مذاهب الفقهاء والمتكلمين الذين جاءوا بما لم يكن عليه السلف الصالح. يذهب الرجل المشهور بالصلاح أو العلم إلى شيء يظهر له بِحَسَبِ اجتهادِه أنه حقّ أو خير فيتبعه آخرون عن استحسان لما استحسنه , ومعرفة بدليله أو عن محض التقليد، فإذا خالفهم غيرهم فيه عدّوهم منتقصين لهم تعصّبًا لما هم عليه , فيقوى الخلاف ولا يزالون مختلفين إلا مَن رَحِمَ ربُّك , وهم الذين يحكمون الدليل ويتحرون به استبانة الحق، فإذا ظهر لهم ولو على يد الخصم ولسانه أتوا إليه مذعنين، وقبلوه راضين مطمئنين. إذا تدبرت هذا فاعلم أن أئمة الصوفية وكبراءهم ما وضعوا هذه القواعد مِن الرابطة وطاعة الشيخ المسلك طاعةً عمياء مُطْلَقَةً حتى مِن قيود العقل والشرع عند الغالين وغير ذلك من الأصول والقواعد إلا عن علم وتجربة واختبار وصلوا بها إلى مرتبة اليقين بأن ذلك مفيد لهم وموصل إلى الغاية التي يقصدونها بطريقتهم. وأعني بالعلم هنا عِلْم النًَّفْس مِن حيثُ إدراكُها وشعورها ووجدانها وصفاتها وأخلاقها. وقد كان مثلهم في ذلك كمثل علماء الكلام الذين بحثوا في الموجودات وبنوا علمهم الإلهي عليها , وكل منهما إذا وجد في علمه ما يخالف ظواهر الشرع لجأ إلى التطبيق بالتأويل والْتِمَاس ما يؤيِّده مِن القرآن العزيز والحديث الشريف، وقد يتمحل لذلك ويتكلف إذا اعترض عليه. كذلك فعل المتكلمون الذين زعموا أن الأفلاك التسعة في الهيئة اليونانية هي: السموات , والكرسي , والعرش , وكذلك فعل بعض أهل الطريق فيما ذكر في السؤال , وما لم يذكر فيه من تأويل الآيات التي زعموا أنها تدل على مشروعية ما يسمونه الرابطة والتوجه , ولا دليلَ في شيءٍ منها على ذلك. لو كان في الشرع دليلٌ على أنّ ذلك مطلوبٌ في الدين لَمَا خفي عن الصحابة والتابعين، بل لأَمَرَ به النبي صلى الله عليه وسلم , وعَمِلَ به , وتواتر عنه؛ لأنه مما يتعلق بجوهر الدين، وهو عبادة الله ومعرفته، فلا يقاس على ما يمكن أنْ يستنبط من القرآن مِن أسرار الكون التي لم تؤثر عن الصدر الأول. قال السيد الآلوسي النقشبندي في باب الإشارة مِن تفسير سورة الجُمُعَة: وذكر بعضهم أن قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} (الجمعة: 2) بعد قوله سبحانه: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} (الجمعة: 2) إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفاضة القلبية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين: فيزكّون مُرِيدهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم، حتى تخلص قلوبُهم وتزكو نفوسُهم، وهو سِرُّ ما يقال له التوحيد عند السادة النقشبندية، وقالوا بالرابطة ليتهيّأَ ببركتها القلب لِمَا يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلاً يعوَّل عليه عن الشارع الأعظم، صلى الله

وجه المرأة الحرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وجه المرأة الحرة (س12) مِن محمد رحيم أفندي الشفي في (زويله باشي) بسمبر (روسيا) . الفاضل الجليل والعالم النبيل السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار الأغر، دمت بالعز والكرامة. أمّا بعد فقد كثرت المباحثة والمناظرة في حق وجه الحرة في طرفنا، فبعض العلماء قالوا: ليس بفرض ستر وجه الحرة، لحديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أبو داود وابن مردويه والبيهقي أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق , فأعرض عنها , وقال: (يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا) وأشار إلى وجهه وكفه، وبعضهم قالوا: إن سَتْرَ وجه الحرة فَرْض، وإن لم تستره تكون آثمةً عند الله، لِقَوْلِ عائشة رضي الله عنها إحدى عينيها فحسبت لاندفاع الضرورة (كذا) أخذه القهستاني والزاهدي , فالمأمول من سيادتكم أن يبين الحق من الأقوال لرفع النزاع من بين الناس. (ج) حديث عائشة لا تنهض به الحُجّة، فإنه مُرْسَل , وفي إسناده مَن تُكُلِّمَ فيه، والأصل في المسألة قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) فقد روي عن ابن عباس أنه قال: الظاهر منها الكحل والخدان، وفي رواية عنه: الزينة الظاهرة: الوجه وكحل العين وخضاب الكف والخاتم. وعن سعيد بن جبير والضحاك: الوجه والكف. وعن عَطَاء: الكفان والوجه. وسئل الأوزاعي عن قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) فقال: الكفين والوجه، ذكر ذلك كله ابن جرير في تفسيره , وذكر أقوالَ مَن قالوا: إنها الثياب والحلي , أو الوجه والثياب، ثم قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول مَن قال عُنِيَ بذلك الوجه والكفان يدخل في ذلك إذا كان كذلك الكحل والخاتم والسِّوَار والخضاب. وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في ذلك بالتأويل؛ لإجماع الجميع على أن على كل مصلّ أن يستر عورته في صلاته وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، إلا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أباح لها أن تبديه مِن ذراعها إلى قدر النصف. فإذا كان ذلك من جميعهم إجماعًا كان معلومًا بذلك أن لها أن تبدي مِن بدنها ما لم يكن عورةً كما ذلك للرجال؛ لأن ما لم يكن عورةً فغير حرام إظهاره، وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلومًا أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) ؛ لأن كل ذلك ظاهر منها. وقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور: 31) يقول تعالى ذكره: وَلْيُلْقِينَ خُمُرَهُن وهو جَمْع خِمَار على جيوبهن؛ لِيَسْتُرْنَ بذلك شعورَهن وأعناقَهن وقرطهن اهـ كلام ابن جرير. والجيوب جمع جيب، وهو فتحة القميص على الصدر، وكانت المرأة تضع الخمار على رأسها وتسدله إلى الوراء؛ فيظهر عنقها وصدرها، فأُمِرْنَ بِأَنْ يَجْعَلْنَ طرفه على الجيب لِيَسْتر العنق والصدر. ولم يؤمرن بوضعه على الوجه، فلو لم يقل إلا ما ظهر منها لَكَان يصحّ أنْ يقال: إن كشف الوجه باقٍ على أصل الإباحة، فكيف وقد أمر بستر الجيب , ولم يأمر بستر الوجه! وناهيك بحكاية ابن جرير: الإجماع على ذلك , وهو ما كان عليه النساءُ في عهد السَّلَف، فقد كن يأتين المساجد , ويغشين الأسواق , ويسعفن الجرحى في مواقع القتال , ويخطبن على الرجال , ويناقشن الأمراء والحُكّام. تفعلن ذلك وأمثاله مكشوفات الوجوه. ومن جال في أرض المسلمين في الأقطار المختلفة يرى أن أكثرهن يخرجن مكشوفات الوجوه , ولا يستره منهن إلا بعض نساء المدن، وهي عادة حكمت بها غيرة الرجال عندما دخل المسلمون في الحضارة , وانغمسوا في الترف الذي يستلزم الفسق والفجور، ولذلك ترى أكثر الفقهاء عللوا وجوب ستر المرأة وجهها عن الرجال بخوف الفتنة، وابتدأ هذا البحث والخلاف في القرن الثاني. هل يمكن لمكابر أن يقول: إن النساء كن يصلين مكشوفات الوجوه في مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته ولا يراهن أحد؟ إذا كابر أحد نفسَه , وقال: يحتمل أن الرجال لم يكونوا يرون النساء في المسجد؛ لأنهن يصلين وراءهم , ولم يخشَ أن يقال له: إنهم كانوا يرونهن قبل الصلاة، إذ كن ينتظرن الجماعة معهم وبعدها عند الانصراف كما هو مأثور مشهور - فهل يسفه نفسه , ويقول: إن الرجال لم يكونوا يرون وُجُوهَ النساء وأيديهن في أثناء أعمال الحجّ مِن طواف , وسَعْي ووقوف بعرفة وجولان في أرض الحرم , ومعلوم لكل مَن يعرف أحكام الحج في الإسلام أن كشف المرأة وجْهَها في الإحرام واجب , ومن النساء من تحرم بالحج من أول أشهره , فتكون أكثر من شهرين محرمة مكشوفة الوجه واليدين أينما كانت , وحيثما حَلَّتْ , وهي مع الرجال في جميع الأعمال. ومن نظر إلى كلام فقهاء القرون الوسطى الذين رجّحوا تحريمَ النظر إلى الوجه والكفين يجد أنهم لم يأتوا عليه بدليل من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل أهل الصدر الأول، وإنما عللوه بخوف الفتنة وسدّ الذريعة، وقد قالوا بحرمة النظر إلى وجه الأمرد , وعللوه بتلك العلة، ومِن العَجَب أن إمام الحرمين من الشافعية اغترّ بمنع الحكام النساء من الخروج في زمنه , وظنّ أنّ عليه جميع المسلمين. قال الرملي في شرح المنهاج عند تصحيح المتن لحرمة النظر إلى وجه المرأة وكفيها حتى عند الأمن من الفتنة: (والثاني لا يحرم , ونسبه الإمام للجمهور والشيخان للأكثرين، وقال في المهمات: إنه الصواب. وقال البلقيني: الترجيح بقوة المدرك والفتوى على ما في المنهاج , وما نقله الإمام من الاتفاق على منع النساء , أي منع الولاة لهن , معارض لِمَا حكاه القاضي عياض عن العلماء: إنه لا يجب على المرأة ستر وجهها في طريقها، وإنما ذلك سنة , وعلى الرجال غضّ البصر عنهن للآية، وحكاه المصنف عنه في شرح مسلم , وأقره عليه) , إلخ ما ذكره، ومنه أنه يحرم النظر إلى المرأة المتنقبة التي لا يرى منها غير عينيها ومحاجرها , وإلى العجوز والمشوهة. وفي حاشية المقنع من كتب الحنابلة: (لا يجوز له النظر إلى الأجنبية قصدًا وهو المذهب. وقال القاضي: يحرم النظر إلى ما عدا الوجه والكفين؛ لأنه عورة , ويباح له النظر إليهما مع الكراهة إذا أمن الفتنة , ونظر بغير شهوة وهذا مذهب الشافعي. قال في الإنصاف: وهذا الذي لا يسع الناس غيره خصوصًا للجيران والأقارب غير المحارم الذين نشأ بينهم) , ثم نظر في هذا بأن فيه تجريئًا للفساق , وهو مخالف لمقاصد الشرع في إصلاح أمر الدنيا والآخرة. وبمثل هذا صرح الحنفية مع أن الجميع يَرْوُونَ عن أئمتهم أن الوجه والكفين غير عورة، وعن ابن عباس تفسير الآية بذلك. أقول مسألة الخوف من الفتنة العارضة أو سدّ ذريعتها لا يصحّ أن تجعل دليلاً لتغيير حكم من أحكام الدين التي كان عليها السلف بحظر أو إباحة تغييرًا مطلقًا كأن يقال مثلاً: إن صلاة النساء مع الرجال في المساجد حرام في الإسلام، بناءً على ما يقولون به من فساد الزمان، ومثله كشف المرأة وجهها. وإنما يصرح بأن حكم الإسلام هو الذي كان عليه السلف اتباعًا للكتاب والسنة، ولكن إذا عرض ما يمنع من العمل به بِنَاءً على قاعدة دَرْءِ المفاسد، فإننا نمتنع عنه مادامت المفسدة متوقعة. فحاصل الجواب أن كشف المرأة لوجهها هو الأصل الذي كان عليه الناس , وأقرّه الإسلام , بل أوجبه في الإحرام , وادِّعَاء حُرْمَته في أصل الدين جناية على الدين، وتحكم فيه بالرأي أو الهوى , وإثبات للحرج والعسر فيه، وقد نفاهما الله عنه؛ لأن أكثر المسلمات يشق عليهن ذلك مع الحاجة إلى العمل والسفر , وإنْ تَحمَّله من نساء الأمصار من تَعوَّدْنَه أو من كفتهن الثروةُ مزاولةَ الأعمال. ودعوى خوف الفتنة من كشفهن لوجوههن لا تُسلّم على إطلاقها، فإننا نعرف من نساء الفلاحين والبدو السافرات من نقطع بأنهن أبعد عن الريبة من نساء المدن المتنقبات، ولكن المرأة التي تعلم أن في كشف وجهها مفسدة يحرم عليها كشفه بلا شك.

احترام المسلم لشعائر غيره الوطنية والدينية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ احترام المسلم لشعائر غَيْرِه الوطنية والدينية (س13 و14) من ج. ا. بمصر. جناب الأستاذ العالم الشيخ رشيد رضا المحترم. حَبَّذَا لو تكرّمتم بإبداء معلوماتكم السديدة , وآرائكم المفيدة عن السؤالين الآتيين، وما ذلك إلا حبًّا في الإفادة والاستفادة. 1- هل يجوز لأحد المسلمين أن يراعي شعائر الدولة التابع لها أم لا؟ مثلاً إذا فرض وجود بعض المسلمين التابعين لدولة مسيحية كروسيا وغيرها، هل يتحتم على الرعايا المسلمين في مثل هذه الأحوال أن يُجَارُوا الشعب في شعائرهم مع وجود المغايرة في الاحتفالات الدينية، بمعنى هل يليق بهم أن يقوموا بالاحترام اللازم للقيصر أو للحاكم إذا مرّ في الشوارع , أو قابلوه في محله كما تفعل الرعية التي على دين ملكها أو حاكمها. وهل يتشارك المسلمون في إقامة الاحتفالات التي تقوم بها الدولة التابعون لها كاحتفالها بعيد ملكها أو بعيد وطني , أو يجب تجنب مثل هذا الاحترام وهذه الاحتفالات بغير الملوك المسلمين. 2- هل يجوز للمسلم احترام شعائر غيره الدينية أم لا؟ مثلاً إذا أراد أحد المسلمين دخول كنيسة مسيحية أو ما شاكلها , وطلب منه رفع عمامة أو مجاراة الشعب في عوائده الدينية، هل له أن يفعل هذا أم يمتنع. هذا ما أردنا الاستفهام عنه من عالم خبير مثلكم، فنرجو الإجابة، إما عموميًّا في مجلتكم الزاهرة، أو خصوصيًّا باسمي، والسلام. (ج) أما الاحتفالات والشعائر الوطنية , فيباح للمسلم أن يشترك فيها مع أهل وطنه ما لم تشتمل على محرم في الإسلام , كشرب الخمر على اسم الملك الذي يسمونه النخب. وأما الشعائر الدينية فلا يجوز للمسلم أن يشارك غير المسلمين فيها كأن يصلي معهم كصلاتهم الخاصة بهم , كالتي تكون منهم في الكنيسة وهم مكشوفو الرؤوس متوجهون إلى قبلتهم، وإن لم يقل قولاً يحظره الإسلام. فالمحظور في هذا المقام يرجع إلى أمرين: أحدهما: الإتيان بما هو ممنوع في الإسلام , كتعظيم صور الأنبياء والصالحين , أو طلب الخير أو دفع الشر منهم. وثانيهما: العمل الديني الخاص بغير المسلمين , بحيث لو عمله المسلم لعده رائيه منهم، هذا ما اتفق عليه الفقهاء فيما نعلم , ولعلنا نفصل القول في ذلك بعد.

حديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حديث علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل (س15) من أحمد أفندي محمد عطيوة بالقناطر الخيرية. المرجو من حضرة الأستاذ الحكيم السيد رشيد رضا، إفادتي عن هذا الحديث: (علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل) في أي كتاب من الكتب الحديثة المعتبرة هو، وفي أي باب هو، صحيح هو أم ضعيف؟ ولكم من الله الأجر، ومني عاطر الثناء والشكر. (ج) هو حديث موضوع , تجدونه في كتب الموضوعات، وذكره الحافظ السيوطي في الدرر المنتثرة، وقال: لا أصل له، والشيخ عبد الرحمن الدبيع في تمييز الطيب من الخبيث، وقال: (قال الدميري والزركشي وابن حَجَر: إنه لا أصل له) .

السنن والأحاديث النبوية

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ السنن والأحاديث النبوية (5) بحث العمل بالأحاديث القولية والأحاديث الفعلية يقول حضرة الدكتور: أمّا السُّنّة القولية (الأحاديث) فبعضها نسخ بالقرآن، وبعضها الآخر نُسِخَ بالأحاديث الأخرى. ونحن نقول: ما الدليل الذي قام لدى حضرة الدكتور في التفرقة بين السنة القولية والسنة الفعلية؟ ولِمَ لا يكون النسخ في الفعلية؟ وما الدليل على ذلك؟ أليس من المُقَرّر والمسلم أن أصل كل تشريع إنما هو القول؟ وهل يعرف الواجب والحرام , والسنة والمكروه إلى غير ذلك إلا بالقول؟ ألم يكن من المعلوم أن الأفعال تتطرقها احتمالات كثيرة إذا لم يقارنها البيان بالقول، وقد تبقى مجملة لا يتعين المراد منها إلا به؟ يقول حضرة الدكتور: (فبعضها نسخ بالقرآن) ويقال عليه: إن نسخ السنة بالقرآن؛ قد قال الإمام الشافعي: إنه لا يكون، حتى حَكَى بعض الشافعية عنه أنه قال حيث وقع نسخ السنة بالقرآن فمعه سنة عاضدة له. حضرة الدكتور لم يذكر ذلك عنه، بل نقل بعض قوله , وترك البعض ودونك قول الإمام في الرسالة: (لا ينسخ كتاب الله إلا كتابه، ثم قال: وهكذا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينسخها إلا سنته) فإن جاز الاستدلال بقول الإمام هناك جاز هنا , وإلا فلا في الموضعين. وقوله: (وبعضها الآخر نسخ بالأحاديث الأخرى) يقال عليه: فهذه الأخرى الناسخة هل هي معلومة أم لا، وهل هذه هي المدونة عند أهل الحديث أم هي أحاديث غيرها؟ وأين هي؟ وَمَنْ أدراك بها , فإنك قد قررْتَ أنك لا تقبل النسخ إلا أن تجد الله أو رسوله قال هذا ناسخ وهذا منسوخ , وينقل إلينا ذلك بالتواتر؛ فَهَلاَّ أنصفْتَ مناظريك؟ وقوله: (وعندنا أنه لن يبقَ منها شيء يجب العمل به غير موجود في القرآن) الجواب عليه هنا أن يقال: إن هذه مجرد دعوى لا يستطيع حضرته أن يقيم البينة عليها هو ولا غيره , فإن في السنن من الأحكام والآداب أضعاف ما في القرآن , وهي بفضل الله تعالى لا تخالف مقاصد القرآن , وهي مطابقة للعقل , ولا يمكن أن يستغني عنها البشر , ولولا خوف الإطالة لأتينا بجمل منها , وبيّنا ما لها وما عليها , ومقدار الحاجة إليها فليتتبع ذلك حضرته. بل نقول: ولا يبعد أن القرآن محتاج إلي السنة أكثر من احتياج السنة إليه، يوضحه أن القرآن الكريم ذو أوجه والسنة مبينة للمراد منه تارة وشارحة ومفسرة أخرى. أو تأتي بأحكام زائدة على ما فيه يشرعها الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لشدّة حاجة البشر إليها إظهارًا لكرامة رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليه وليتعودوا طاعته واتباعه كما أَمَر بذلك في كتابه، ولئلا تجرّهم الشبهات إلى ردّ بيانه للكتاب الكريم. ولبسط ذلك محل آخر. يقول حضرته: (لأنها لم تكن إلا شريعة وقتية تمهيدية لشريعة القرآن الثابتة الباقية) وأقول: هذه دعوى وتعليل لما شاء بما شاء , وكل أحد يمكنه أن يدعي، فأين الدليل؟ أما قوله تعليلاً لذلك: نُهِيَتِ الصحابة عن كتابتها، فيقالُ عليه: إن مسألة النهي عن الكتابة والترخيص فيها هي مسألة لا تدلّ على نسخ السنن النبوية بأحد الدلالات مطلقًا، والقارئ يرى أن حضرة الدكتور قد ملأ الكون صياحًا بالإنكار على العمل بالظّنّ، فما لنا نراه قد انسلّ هنا إلى هَدْم ما كان أسسه، ثم يَعْمِد إلى هدْمِ القصور اليقينية، فيرد جميع السنن ويلغي طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي أمر الله بها في غير موضع من كتابه , والأحاديث المتواترة لفظًا ومعنًى في وُجُوب اتباعه واتباع سنته. ويرد إجماع الصحابة، بل جميع الأمة، ما له يردّ ذلك كله بالخرص والتخمين الذي لا يبلغ إلى أضعف مراتب الظن، بل لا يصح أن يعتبره معتبر، فليعتبر حضرته بمناقضته لنفسه بنفسه. إن أمر النهي عن الكتابة لم ينقل إلينا متواترًا، بل قد اختلف في رفعه إلى المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وفي نسخه، وقد عارضه ما هو أقوى منه، ولم ينصَّ فيه على أن المراد منه أن السنن موقت شرعها، أو أنها منسوخة بعد مُدّة كذا من الزمن , ولا أنه نُهِيَ عنها لأجل أن تندثر السنن بطول الزمن. إن أحد هذه الأمور التي ذكرناها تمنع الاستدلال على ما قصده حضرة الدكتور، فكيف يصح أن يكون ما هذا حاله معارضًا لجميع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وإجماع الصحابة، بل وسائر المسلمين! فطاعة الرسول ووجوب اتباع سننه معلوم بالضرورة من دين الإسلام - لا سِيَّمَا إذا كان حديث النهي عن الكتابة مُعَلّلاً بعلة منصوصة عن رواية، وهو خوف الالتباس بالمصحف. وكل من روي عنه من الصحابة النهي أو الامتناع عن كتابة الحديث فهو دائر على هذه العلة، كما صرحوا بذلك. ومنهم من خاف أن يقع في الوعيد على الكذابين، ومنهم من نهى عن كتابة رأيه , فاشتبه ذلك على الناظرين , فظنوا أنه نهي عن كتابة السنة النبوية، وليس الأمر كذلك - فالقول بأن نهيهم عن كتابة العلم أو الحديث نصّ في النهي عن كتابة السنن النبوية هو قول بالخرص. ثم هل يجوز لمن لا يُجَوِّز العملَ بالظن أن يأخذ أقوالهم في أمر قد صرحوا بسببه أن يتركه ويهمله , ثم يحمل قولهم على غير ما أرادوه، بل على ما نُهُوا عنه، وهو ترك اتباع السنة واعتقاد وجوب اتباعها. ثم نقول: الحقُّ أن الأمور المعللة يدور حكمها مع عللها، وحيث زالت العلة زال الحكم، وهو هنا خوف الالتباس بالمصحف، فقد وقع الإجماع على جواز - بل استحباب - كتابة الحديث، وقال بعضهم بالوجوب، وهو الحق. هذا كله إذا سلمنا أن حديث النهي مرفوع وأنه غير منسوخ. ومن اطلع على القاعدة الأصولية من أنه إذا وقع التعارض بين دليلين أحدهما مانع والآخر مرخص مثلاً , عرف أن الإجماع على كتابة السنن غير معارض لنص؛ لأنه بعد تساقط الدليلين المتعارضين، أعني حديث النهي عن الكتابة وأحاديث الأمر والترخيص فيها، تبقى البراءة الأصلية , والإجماع إن لم نقل هو حجة، فهو مؤيد لها. ونحن نسأل حضرة الدكتور، هل حكم حديث النهي عامّ وباقٍ أم لا؟ فإنْ قُلت بالأخير، فقد وافقتنا، وحينئذ لا يصحّ لك الإلزام به. وإن قلت بالأول لزمك أن تمنع عن كتابة جميع العلوم المستنبطة من القرآن بل أولى من ذلك كله أن تمنع عن كتابة سائر العلوم. إن كان الاختلاف في كتابة السنة قادحًا في العمل بها مسوغًا لاقتراح أن علة ذلك وسببه كونها شريعةً مؤقتةً - فإن الاختلاف قد وقع في جميع القرآن وكتابته، وأول من خالف في ذلك الخليفة الأول , ثم رجع إلى قول عمر - رضي الله عنه - قِيل يسوغ أن يقال: إن الصِّدِّيق رضي الله عنه لم يخالف في ذلك إلا لأن شريعة القرآن مؤقتة؟ لا - لا - في الأمرين، فإن قيل: إن الصِّدِّيق قد وقع الإجماع عليه، والفاروق لما سأل الصحابة رأيهم في جمع السنن أشاروا عليه بجمعها، ولكنه خالفهم للسبب الذي ذكرناه، كما صرح بذلك هو؛ إذ لم يحن له الوقت المناسب الذي يزول فيه خوف الالتباس، ولما كان هو إذ ذاك صاحب الأمر لم يستطع من أشار عليه منهم أن يفعل غير ما أمضاه الخليفة. ومن تفكر في أهل زماننا بل منذ أزمان قديمة رأى صحّة هذا التعليل المنصوص دراية كما هو صحيح رواية , فإنك تجد مصداق ذلك فيما نراه من انكباب الناس وانهماكهم على كُتُب شحنت بآراء مشايخهم وأسلافهم حتى جعلوها كالمصاحف، بل قدموها على المصحف وعلى السنة النبوية على صاحبها ألف صلاة وتحية. أما قوله: (ولم يعاملها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه بالعناية التي عُومِلَ بها القرآنُ لِتزول مِن بينِ المسلمين وتندثر) فأقول: أي المعاملات يريد حضرة الدكتور؟ فإنْ كان يريد أن القرآن يمتاز بأنه كلام الله لفظًا ومعنى، وأنه معجز متحدّى به، وأنه متعبّد بتلاوته، وأنه كلام الخالق غير المخلوق ونحو ذلك , فهذا صحيح وسنن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن تعامل بهذه المعاملة كلها، فكما أن الله جلَّ وعلا هو الربّ والإله المعبود ومحمد - صلى الله عليه وسلم - عبده ورسوله وداعٍ إليه بإذنه , فلا يعامل بما يعامل به الإله مما يخصّ الألوهية والربوبية , فكذلك كلامه - صلى الله عليه وسلم - لا يعامل بما يعامل به القرآن من كل الوجوه كما تقدم، وإن أراد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعامل سنته بما يعامل به القرآن مِن حيثية التشريع , كأن يأمر الأمة بما لا يجب الائْتِمَار به , وينهاهم عمّا لا يجب أن ينتهوا عنه , أو أنه يعتقد ذلك , أو أن أصحابه يرون عدم وُجُوب اتّباعه في جميع أقواله وأفعاله , وفيما شرع الله مِن الدِّينِ على لسانه، فإرادة هذا منه - صلى الله عليه وسلم - أو منهم هو أمحل المحال، وحضرة الدكتور نجله أن يعني ذلك، فمن زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أوجب ما ليس بواجب , وحرّم ما ليس بحرام على الأمة، وأنه يعلم ذلك ويعتقده، أو أن أصحابه يعتقدون ذلك، أو أنهم لم يأتمروا به.. إلخ، فخطؤه فوق كل خطأ، وافتراؤه فوق كل افتراء، ومع ذلك كله هو غير مستند إلى شيء يصحّ الاعتماد عليه حتى ولا شبهة. فقول القائل: إن ما أوجبه أو حرمه النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو مقيّد بوقت حياته - هل يصحّ ويثْبُت بدعوى عدم الكتابة أو دعوى النهي عنها أو أنها لم تكتب مدونة مرتبة؟ قد قدمنا أن عدم الكتابة مطلقًا لم يرد فيها إلا حديث واحد قد اخْتُلِفَ في رفْعِه وسبب النهي منصوص كما قدمناه مع معارضته لما هو أصحّ منه. فهل يصح أن يكون ذلك الحديث المذكور ناسخًا للآيات الكثيرة القرآنية المصرحة بوجوب ولزوم طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه؟ إنّ طاعة الله لا ينازع أحد في وجوبها في وقته - صلى الله عليه وسلم - وبعد وفاته، وإنها - أي طاعة الله - واجبة علينا كما هي واجبة على أول الأمة. لكنّا نرى القرآنَ مصرّحًا بأنّ طاعة الله مشروطة بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهل طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا الائتمار بأمْرِه والانتهاء لنهيه، وإلا لم تكن له طاعة , وقد عرفت ثبوتها ودَلَّ القرآنُ عليها نصًّا كما يأتي، وهي لا تكون إلا في سننه القولية، كما قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً * مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} (النساء: 79-80) أمّا الاتِّبَاع والتَّأَسِّي, فيكون في الفعلية العمليّة والقوليّة. مهما يمكن لأحد أن يعبّر عن وُجُوب اتّباع أحد وطاعته لا يمكنه أن يعبّر عن ذلك بأكثر وأوضح مما عبّر الله به في وُجُوب اتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنْ كان ذلك قابلاً للتشكيك لزم أنْ لا يوجد في العالم خير يوثق به وبدلالته. إن الله جلّ شأنُه لم يأمر بطاعته في القرآن إلا وأمر بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - معه , بل قد يُفْرِدُ الأمر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويجعلها شرطًا لطاعته ولم يفرد طاعته عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم هو تارةً يأمر باتباعه , وتارةً يأمر بالتحاكم إليه , ويجعل ذلك من شرائط الإيمان , وكذلك تسليم ذلك له , وعدم وجدان الحرج - وتارةً يأمر بالتأسّي به , وتارةً يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) , وتارةً يُعْلِمنا بأنه المبلّغ عنه المؤتمن , وتارةً ينسب التحليل والتحريم إليه - صلى الله عليه وسلم - ثم نراه ينبّه في محلّ آخرَ بأنّه لا ينطق عن

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (إرشاد الأريب، إلى معرفة الأديب) المعروف بمعجم الأدباء، أو: طبقات الأدباء: مؤلف هذا الكتاب هو أبو عبد الله ياقوت: الحموي المولد، البغدادي الدار , الروميّ الجنس , صاحِبُ كتاب معجم البلدان المشهور. كان غلامًا لتاجر حموي علمه ليكون عونًا له في تجارته , ثم أعتقه وتركه مدّة , ثم استعمله في تجارة سفره بها , فلما عادَ كان مولاه قد تُوُفِّيَ , فأعطى أولاده وزوجته شيئًا مما كان بيده فأرضاهم واتّجر بالباقي , وجعل بعض تجارته كتبًا , فكانت عونًا له على ما تَصْبُو إليه نفسُه مِن العلم لا سِيَّمَا التاريخ والأدب. فألف مؤلفات كثيرة في ذلك أشهرها معجم البلدان , ومعجم الأدباء الذي ذكر ابن خِلِّكان أن اسمه (إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء) ولكننا أهدينا منذ أشهر المجلد الأول منه مطبوعًا طبعًا متقنًا على ورق جيد , وإذا باسمه الذي كتب عليه (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب) وكان بعض النسخ كتب عليها هذا الاسم , وبعضها كتب عليها ذاك. موضوع هذا المعجم تراجم مَن كانوا يعرفون بالأدباء في تلك العصور، قال المؤلف في فاتحته (ص 5) : (وجمعْتُ في هذا الكتاب ما وَقَعَ إليّ مِن أخبار النَّحْوِيِّين واللغويين والنّسّابِين والقُرّاء المشهورين والإخباريّين والمؤَرّخِين والورّاقِين المعروفين، والكُتّاب المشهورين، وأصحاب الرسائل المدوّنة، وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة، وكل مَن صَنَّفَ في الأدب تصنيفًا، أو جمع في فنّه تأليفًا، مع إيثار الاختصار والإعجاز، في نهاية الإيجاز، ولم آلُ جهدًا في إثبات الوفيات، وتبين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم ومستحسن أخبارهم، والإخبار بأنسابهم وشيء من أشعارهم إلخ) فالكتاب من أحسن دواوين التاريخ والأدب , وقد كان كنزًّا مخفيًّا فأظهرته همة أوربية. ذلك أن رجلاً من الناشئين في البلاد الإنكليزية اسمه إلياس جب كان مغرمًا بدرس العلوم والتواريخ العربية والتركية والفارسية , ثم مات في الخامسة والأربعين مِن سِنِّهِ , فوقّفَتْ أُمّه مالاً عظيمًا على إحياء الكتب الشرقية التي كان مشتغلاً بها يصرف ريعه في ذلك , وعهدت بالعمل إلى لجنة من الرجال القادرين عليه , وقد شرعت اللجنة بطبع هذا الكتاب بعدما عُنِيَ الدكتور مرجليوث العالم المستشرق الشهير بتصحيحه , وقد أهدتنا الجزء الأول منه , فإذا فيه بعد الفاتحة فصلان في علم الأدب وعلم الأخبار , يتلوهما باب الهمزة , وهو يبتدئ باسم آدم بن أحمد الهرمي وينتهي باسم أحمد بن علي بن المعمر وصفحاته تزيد على أربع مائة , منها ترجمة أبي العلاء المعري في 43 صفحة , فنشكر لجميع العاملين في إحياء هذا الكتاب وأمثاله فضلهم , ونخص بالذِّكْرِ المُصَحِّح , ونرجو أن يُعْنَى طابعو الكتب في مصر ولو بعض هذه العناية في التصحيح والإتقان. *** (الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) بنيت قواعد الإسلام وأقيمت أركانه على أساس العلم حتى كان من المجمع عليه عند علمائه أن جهل المكلف بما يجب عليه من أصوله وفروعه ليس بعذر في الدنيا ولا في الآخرة , فالقاضي الشرعي لا يترك عقوبته إذا ارتكب موجبها جاهلاً كما أن الله تعالى لا يَعْذِرُهُ في الآخرة إذا اقترف الفواحش والمنكرات جاهلاً بتحريمها. قالوا: إلا إذا نشأ في شاهق جبل , أو كان قريب عهد بالإسلام. والعلم ما كان بالدليل، فالعالم لا يكون إلا مجتهدًا , ولذلك أجمعوا على أن المقلد لا يسمى عالمًا كما صرح به ابن القيم في أعلام الموقعين , وقد بقي الفقهاء إلى القرون الوسطى يطلقون لفظ العالم ويريدون به المجتهد , كما ترى في كلامهم عن القاضي والمفتي , ولكن وجد في هذه القرون من المؤلفين الجاهلين من ادَّعَى أن الاجتهاد طوي زمنه وأن العلم بالإسلام أي بالكتاب والسنة صار متعذرًا , وأن الواجب على جميع المسلمين هو الأخذ بما كتب في المصنفات الفقهية التي ألفها المنتسبون إلى أحد المذاهب المشهورة فقام المدافعون عن العلم يردون هذه الدعوى ويبينون وجوه بطلانها حتى أفردوا ذلك بالتأليف. من هؤلاء الحافظ الشهير جلال الدين عبد الرحمن السيوطي فقد وضع فيها كتابًا سمّاه (الرد على من أخلد إلى الأرض، وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) , وقد أورد فيه النقول الكثيرة عن أكابر علماء المذاهب الأربعة لأن كلامهم يقنع المقلدين المنكرين ما لا يقنعهم الدليل المؤيد بنصوص الكتاب العزيز وما جرت به السنة السَّنِيّة. وقد طبع هذا الكتاب طبعًا حسنًا في المطبعة الثعالبية بالجزائر , وهو يطلب من صاحبها أحمد أفندي بن مراد التركي وأخيه فنشكر لهما إحياء هذا الكتاب النافع ونحثّ القراء على الإقبال عليه. *** (ليالي سطيح) طبع الجزء الأول من هذا الكتاب الذي شرع في تأليفه حافظ أفندي إبراهيم وجعله في انتقاد الأخلاق والعادات، ووصف حال الاجتماع في مصر، وجعله حوارًا مع سطيح الكاهن الجاهلي، ذلك الكتاب الصغير الكبير، الذي تبارى في تقريظه عالم الكتابة والتحرير، فسالت أنهار الجرائد بمدد آياته، وجرت أقلام الكتاب في فلك حسناته، ولهجت ألسنة الفصحاء بوصف ما في مبانيه من المتانة والإحكام، وما أودعه أسلوبه من الرّقّة والانسجام، وتغلغلت أفكار الحكماء في التأمّل بما انطوى عليه من الحِكَم والعِظات، وما بينه من الأمثال والمثلات، وتلطف الناقدون في الإيماء إلى ما فيه مما لم يَخْلُ من مثله كلام الناس، كالتفاوت بين بعض الجمل أو عصيان قوانين القياس، فلو جمع ما كتب في تقريظ كتاب ليالي سطيح، من الثناء والمديح لَكَان معه كليالي هجر الملال، مع ليالي الوصال، على أن ليالي التقريض هي من ليالي الوصال البيض، جمع فيها الأدب بين جمهور من الأدباء المنشئين، وبين محبوبهم حافظ أفندي إبراهيم. أخذ أولئك الكاتبون مسالك القول على من يحاول بعدهم وصف الكتاب أو نقده, فما على المنار إلا أن يجعل الوفاء بذمة حافظ عَرْض شيء من حِكَم كتابه على قارئيه، لعلهم يهتدون إلى فضله بكواكب لياليه، فمن ذلك قول سطيح في الحث على العناية باللغة العربية ونصر دولتها وذِكر إمامي المصلحين: حكيم الإسلام، والأستاذ الإمام (ص 62) : فما ضركم لو تساندتم جميعًا وأنتم تتجازون زمن القمر عدًّا، فرفعتم من شأن هذه الدولة، وحركتم من الخامدين، وهززتم من الجامدين، فإني أراكم بين متفصح على أخيه، ومتنبل على قرينه، وليس هذا صنع من يريد ما تريدون، تحاولون ردّ هذه الدولة إلى شبابها، بعد أن خلا من سنها، ولو لم يتداركها الله بذلك الأفغاني لقضت نحبها ولقيت ربها، قبل أن يمتعها بكم ويمتعكم بها، أدركها الأفغاني ولم يبق فيها إلا الذماء، فنفخ فيها نفخة حركت من نفسها، وشدت من عزمها، أدركها وهي شمطاء قد نهض منها بياض المشيب في سواد الشباب، فشاب قرناها قبل أن تشيب ناصية القرن الخامس، فسودت يده البيضاء ما بيضت من شعرها سود الليالي، وتعهدتها همته بصنوف العلاج حتى استقامت قناتها، وبدا صلاحها، وقد كان الناس في ذلك العهد يدينون باللفظ ويكفرون بالمعنى، فمازال بهم حتى أبصروا نور الهدى، وخرجوا بفضله من ظلمات القرون الوسطى، وقام بعده نفر ممن تأدبوا عنه , فكانوا كالسيوف فرجت للرماح ضيق المسالك , فانفسح للمتأدبين المجال وجَالَ كُلٌّ جَوْلَتَهُ، وتنبه الوجدان وتيقظ الشعور وتحرك الفكر حتى أفضى إلى حركة النفس، وظهر أثر جمال الدين في النفوس العالية، وأصبحت تبتدر كلامه الأسماع الواعية، فكان من ذلك أن انطوى أَجَلُ التقليد، وأن بعث الله على يديه ميت اللغة وأحيا رُفَات الإنشاء، وغادر رحمة الله عليه مصر ولم يضع لنا كتابًا نأخذ عنه، أو مؤلفًا نغترف منه، ولكنه ترك لنا رءوسًا تؤلف، وأفكارًا تصنف، وكأنه أحس بذلك حين أحسّ بالموت , فكان يقول وهو يجود بنفسه: خرجنا منها ولم ندع لنا أثرًا ظاهرًا بين السطور، ولكننا لم نغادرها حتى نقشنا ذلك الأثر على صفحات الصدور، فإن لم ترثوا عنا في بطون الكتب فقد ورثتم عنا في صدور الرجال، فإذا حثوتم التراب على رجل الأفغان فعليكم برجل مصر. خرج من الدنيا كما خرج سقراط لم يغادر كلاهما مؤلفًا، ولم يدع مصنفًا، فلولا محمد عبده ما عُرِفَ رجلُ الأفغانِ، ولولا أفلاطون ما ذكر رأس فلاسفة اليونان. ولما سكنت أنفاس الأفغاني بعد أن تجددت بذكره الأنفاس، خلفه حكيم الشرق في دولته، ووطّن نفسه على المضي في طريقته، فأسمع الناس في الحق وأسمعوه، وأخافوه في ذات الإله وخافوه، ولم يزل بهم حتى غلب حقّه على باطلهم ثم مضى لسبيله رحمه الله. فتفتقت الأذهان، وتطلعت العقول إلى البحث، وبرزت اللغة من خبائها، تجر مطارف آدابها، وأطل علم الأدب Literature من مناره مشرقًا على النفوس فأرسل نورَه إلى الضمائر، ونفذت أشعته إلى السرائر، فنمى تحت نظره الشعور كما ينمو النبات جادته الشمس بالنظر، أو كسته أشعة القمر، فلطف من كثافة النفوس، وهذب من مرارة الأرواح، حتى شفت الأولى وعذبت الثانية وبدأ دور هذه الحياة الجديدة بفضل الأدب وعلمه. ا. هـ المراد منه هنا. ثم ذكر سطيح ومحاوره الأستاذ الإمام وتلاميذه في مقام ما يرجى من الإصلاح فقال (ص 144) . قال (أي سطيح) وأين مكانك من العلم، وأين منك منزلة الحِلم؟ قال حسبي أني من تلاميذ حكيم الإسلام، الأستاذ الإمام، طيّب الله ثراه، وجعل النعيم مثواه، قال: إني لأرى رأيًا حصيفًا، وأسمع قولاً شريفًا، فمن أي تلاميذه تكون؟ فقد سمعنا أنهم فريقان , فريق قد اختصه بسياسته، وفريق قد اختصه بعلمه، وقد أثنى عليهما العميد، وتنبأ لهما بالطالع السعيد، قال: لا عِلْمَ لي بما تقول. ولقد كنت ألصق الناس بالإمام أغشى داره، وأرد أنهاره، وألتقط ثماره، فما سمعته يخوض في ذكر السياسة قبّحها الله، ولكنه كان يملأ علينا المجلس سحرًا من آياته وينتقل بنا بين مناطق الأفهام، ومنازل الأحلام، ويسمو بأنفسنا إلى مراتب العارفين بأسرار الخلائق، وحكمة الخالق، وكان ربما ساقه الحديث إلى ذكر أحوال هذا المجتمع البشري , فأفاض في شئون الاجتماع وحاج العمران، ووقف بنا على أسرار الحياة ولم يزل ذاك همه رحمه الله يلقي في الأزهر دروس التفسير , وفي داره دروس الحِكمة حتى مضى لسبيله، فإن كانوا يسمون تلاميذه أحزابًا، ويقسمون تعاليمه أبوابًا، فتلاميذه حزب العلم والعرفان، وتعاليمه سياسة التقدم والعمران، على أنه كان من أشد الناس تبرُّمًا بالسياسة وأهلها، حتى أعلن براءته من الالتصاق بها، فقال عنها في كتاب الإسلام والنصرانية ما قال. لكنه كان يحتكّ بها ما دعت إلى ذلك الحاجة ويرصد حركاتها رصدًا، ويصد غاراتها صدًّا خشيةَ أن تقطع على العلم سبيله، أو أن تقف عثرة في طريق الفضيلة، ولولا ذلك لقطعت عليه سلك أمانيه، وحالت بينه وبين ما كان يبتغيه، فكم تلطف في ابتزاز قواها، وتحامى جهده طريق أذاها، حتى إذا ظفر بطلبته، وفاز برغبته، واستمد منها ما شاء، تحت حماية الإفتاء، عطف على العلم بذلك الإمداد، ورد عليه ما سلبت يد الاستبداد، ولعله أوهم العميد، بيقظة حزب جديد، ليرد عاديته، ويفسد عليه سياسته، في مصادرة العلم، ومصارعة الحلم، أما ترى بربك أثر ذلك في المدارس، وما عبثت به يد ذلك السائس، ولولا أن الإمام مادَّهم حبل الوداد، وجاذبهم فضل الن

الأمة العثمانية والدستور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأمة العثمانية والدستور إذا كان المنار لا يسع عشر معشار ما نعلم من أسباب هذا الانقلاب الذي حدث في بلادنا ومقدماته ونتائجه وما نراه في أمر استفادة الشعوب العثمانية من الحرية والدستور - فذلك لا يصدف بنا عن نشر بعض الآراء والأخبار التي تُذكِّر الكاتبين في الصحف اليومية والأسبوعية ببعض ما ربما يذهلون عنه، وتُنَبّه القارئين إلى ما ينفع التنبه له، وإنني أشير الآن إلى ثلاث مسائلَ هي أركان العبرة في هذا الباب: (1) أول شيء يجب على المنار التنبيه إليه والتنويه به هو ما يؤيد خطته في إقناع المسلمين بوجوب حسن المعاملة بينهم وبين من يعيش معهم من غير أهل دينهم , وتعاون الجميع على ما يرقي البلاد ويرفع شأن الدولة، وفي رد طعن الطاعنين في الإسلام بأنه دين تعصب وعدوان، وفي المسلمين بأنهم لا يلتئمون مع أحد ممن لا يدين بدينهم، لا سِيَّمَا الذين يزعمون أن العلماء المُعُمَّمِين، هم الذين يبثون الشقاق بين العالمين. أؤيد هذه الخطة من الجهة الإيجابية والجهة السلبية بما ظهر للعالم أجمع من أن عقلاء المسلمين هم الذين قاموا بهذا العمل الجليل للاتحاد والمساواة بينهم وبين غيرهم، وأن شيخ الإسلام قد كان ومازال ركنهم الذين يلجأون إليه، وقطبهم الذي يدورون حواليه. إن أحرار المسلمين هم الذين بدءوا بدعوة الأحرار العثمانيين من النصارى واليهود في مصر وأوربا وفي الولايات العثمانية إلى مشاركتهم في جهادهم، وهم الذين أعلنوا هذا الجهاد ووطّنوا أنفسهم على قتال إخوانهم من الجند , إذا هم حاولوا تأييد السلطة المستبدة، ثم إنهم بعد الظفر بالدستور قد كانوا هم السابقين إلى مصافحة الأرمن والروم وغيرهم من الشعوب الموافقين لهم في العثمانية المخالفين في الاعتقاد، وهم الذين رفعوا أصواتهم في كل مكان بأننا لا نجعل الدين مفرقًا بيننا وبين إخواننا العثمانيين، بل نكون معهم كما أمرنا الإسلام بالقول المشهور فيه: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ؛ بل منهم مَن بالغ في قوله وغلا في رأيه , فاستحسنوا التنازل عن بعض حقوقنا إرضاءً لعاطفة بعض شعوبنا، كالذين يرون أن يجعل جامع أيا صوفيا مجلسًا للمبعوثين، ويخرج عن كونه مسجدًا للمسلمين، وهم من الترك الذين يذكرهم هذا الجامع بذلك الفتح المبين. هذا ما فعله مسلمو العثمانيين مِن البدء في الدعوة إلى الاتفاق والعمل بها في كثير من البلاد، وهذا ما ينبغي أن يفعله الباقون، فإن المسلمين هم العنصر الأكبر والأقوى، فإذا هو علم أن الخير في الوفاق وعمل بذلك تبعه غيره بالضرورة , ولو قام أحد الشعوب القليلة الضعيفة يدعو الشعب الكثير القوي إلى المساواة وهو غير مقتنع بها لما كانت دعوته مجابة ولا مقبولة. فأدعو المسلمين في جميع البلاد العثمانية إلى أن يكونوا هم البادئين بِبِرّ غيرهم والاتفاق معهم واشتراك الجميع في الأعمال التي توثق الرابطة العثمانية وتعمر بها البلاد التي يمتع بعمرانها الجميع، بهذا تتكون الأمة العثمانية، وتعتز الدولة العَلِيّة، وبهذا يقطع المسلمون ألسنة القادحين فيهم من الأوربيين، ويكونون مهتدين في ذلك بهدي الدين المبين. أدعو إلى هذا مذكرًا بالاعتدال فيه، لئلا يفضي الغلو فيه إلى ضد ما يراد به، بأن يعتقد الجمهور أن كرتهم بالدستور خاسرة، أو أنهم يعمرون الدنيا بخراب الآخرة، فيحملهم ذلك على الشنآن، أو يدفعهم إلى العدوان، فعلى المرشد أن يكون حكيمًا في نصحه، مراعيًا لاستعداد الأكثرين في هديه. وأُذكّر الجميع بأن الطفرة مُحَالٌ، وأن ما يحصل بالتدريج يكون أولى بالبقاء والثبات، فإذا ترك أحد الفريقين للآخر ما كان يراه حقًّا له، فلا يستعجل عليه بطلب سائر ما يراه مِن الحقوق لنفسه، حتى التقاليد القديمة، والعادات الراسخة، فإن المصلح في القوم لَيَدْعُو أبناءَ جِنْسِهِ ودِينِه ووطنه إلى ترْكِ بِدْعة مِن البدع أو ضلالة من الضلالات، ويقيم على دعوته الحجج القيمة والآيات البيّنات، ثم لا يستجيب له قومه إلا بالتدريج، وأرى أن من الحكمة في تلافي الشذوذ والتقصير، أن يبادر العقلاء والصحافيون من كل أهل دين إلى انتقاد أهل دينهم ولو بالعنف، والسكوت عن غيرهم أو الاعتذار عنهم ولو بالتأويل , هذا إذا كان الشذوذ صريحًا في مناوأة أحد الفريقين الآخر، وإلا اتفق الجميع على انتقاد المسيء مِن حيثُ إنه مسيءٌ، مِن غير ذِكْر لِدِينِهِ ومذهبه، ولا اتهام قومه بمشايعتهم له. (2) أنتقل بالقارئ من المسألة الدينية، إلى المسألة الجنسية، فقد كان التعصب للجنس أشد خطرًا على الدولة من التعصب للدين، فإن الشقاق الديني إذا كان يقدّ جِسم الأمة فيجعله نصفين، فإن الشقاق الجنسي يمزقه فيجعله أجزاءً كثيرة ويصيب شره الجميع، فالمسلم التّركِيّ، يعادي المسلم العربِيّ، والنصرانيّ اليونانِيّ يعادي النصرانيَّ البلغاريَّ، وعلى ذلك فَقِسْ. لو بدأ بالدعوة إلى ترك العصبية الجنسية العربي أو الكردي أو الألباني أو الأرمني أو الرومي أو البلغاري لَمَا سمعت للبادئ من هؤلاء دعوة , ولَمَا كان لها من الوقع والتأثير عشر معشار ما كان لمجاهرة التركي بها؛ لأن الترك هم أصحاب السلطة في الدولة فهم من هذه الجهة كالمسلمين من سائر الملل , فلما قال أحرارهم هلُمّوا أيها العثمانيون نترك التعصب للجنس ونشترك بلقب واحد لا يقصد به امتياز جنس على آخر لباهم الجميع حامدين شاكرين. فوجب أن نخصّ الجنس التركي بالثناء الحسن قبل أن نتناسى أو ننسى أننا أجناس مختلفة. ولا بدع في جهر الترك بذلك فإنهم كما صرحنا منذ بضع سنين أرقى العثمانيين تربيةً وتعليمًا، وأعلاهم أدبًا وتهذيبًا. (3) بعد ذكر مسألتي الدين والجنس أذكر شيئًا من عمل الجمعية التي تلافت ضررهما , وسعت مع غيرها لخير العثمانيين كافّةً. ينضم العثمانيون الأحرار إلى هذه الجمعية - جمعية الاتحاد والترقي - ويعمل الجميع لحفظ الدستور الذي نالوه بعد السعي الحثيث إليه حتى اندمجت الجمعيات فيها أو كادت، وتدامجت معها كما أرادت، وإن هؤلاء الأحرار المتحدين في هذه الجمعية هم الذين يديرون نظام المملكة الآن، وقد ظهر من كفاءتهم واعتدالهم ما جعلهم موضِعَ إعجاب الأمم والدول الأوربية كما تنطق جرائدها بلغاتها المختلفة. وقد مرّ على إعلان الدستور شهر أو أكثر ولم يبلغنا أن أحدًا انتقد على الجمعية عملاً من الأعمال أو أدبًا من الآداب على أن أوربا تراقبها مراقبةَ الناقد البصير الذي لا يحابي ولا يداهن حتى قلنا: إن (مجلس المبعوثين) لا يرجى أن يكون خيرًا منها في الإدارة والإصلاح، ولا أقرب إلى العدل والإنصاف. ينحصر عمل الجمعية الآن في ثلاثة مقاصد: (1) تطهير الدولة ملكيتها وعسكريتها من المفسدين الذين ناط بهم الاستبداد السابق أمورها. (2) تقوية استعداد الأمة للحكم الدستوري. (3) تحسين الصلات بين الدولة العَلِيّة، وبين جميع الدول الأوربية، لا سِيَّمَا ذوات السبق إلى الحرية كإنكلترا وفرنسا. أما تطهير الحكومة من رجس أعمال الاستبداد السابق، فالمبادرة إليه من أهم الضروريات قبل أن يجتمع مجلس المبعوثين وتلقي إليه الجمعية مقاليد السيطرة والمراقبة، فإنه ليعجز أن يعمل في عِدّة سنين ما تعمله هي في هذه الأشهر التي تتقدم اجتماعه كما يظهر لنا من الطريق السويّ الذي سارَتْ عليه في ذلك. فقد بدأت بتطهير المابين والباب العالي ونظارة الحربية وأكثر الولايات في وقت واحد؛ فأخرجت من المابين رؤساءَ الفتنة والفساد , وعزلت السر عسكر رضا باشا وناظر الداخلية ممدوح باشا , وسجنتهما مع تحسين باشا رئيس كتاب السلطان والشيخ أبي الهدى أحد مستشاريه , وفَرَّ مِن رؤساء المابين عزّت باشا ونجيب باشا ملحمه وسليم باشا ملحمه إلى أوربا. وأخرجت من المابين أكثر الحجاب والكتاب والخَدَم وممثلي الروايات وأجواق المويسيقات من النساء , وحددت نفقات السلطان وراتبه الشهري , ونفقات قصره وجعلت جميع بطانته من الأحرار أعضاء جمعية الاتحاد والترقي , فآل الأمر إلى أن وضع هو على صدره شارة الجمعية , وقال: إنه رئيسها. وكثر العزل والنقل في المعسكرات , وهذا ضروري جدًّا؛ لتكون الجمعية واثقةً من القوة التي هي سياج الدستور وعماد الأمن. وكذا في الدوائر الملكية. ولَمّا رأى كثير من الخائنين أن إخوانهم في الفساد والتخريب يُعْزَلُونَ بادروا إلى الاستقالة فكثرت بذلك الأعمال التي ليس لها الآن عمال، واختيار الأبدال عسر جدًّا مع تحرّي الأَكْفَاء أصحاب النزاهة، فلذلك ترى أنه يجب على الجمعية أن تقبل من عمال الاستبداد مَن لم يُعْرَفْ بالتجسس ولا بالرِّشْوَة، وإن كان ممن جروا على مصانعة القوة، وأن تجري في ذلك على سنة التدريج فإن في العجلة مفاسدَ كثيرة. وأما تقوية استعداد الأمة للحكم الدستوريّ , ومقت الاستبداد فقد سارت الجمعية فيها على الطريقة المثلى بتأسيس شُعَب لها في كل مدينة , يرتبطون باللجان العليا في الآستانة وسلانيك وأوربا، وبحمل الشعب على المظاهرات وتجريئه على الخُطَب الحماسية في تقبيح الحكومة السابقة حتى أفرط بعض الناس في ذلك إفراطًا لا تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ. ثم إننا نرى بعين البصيرة ونسمع من أخبار البلاد أن كثيرًا من المنافقين أعوان الاستبداد السابق ومُحِبّيه يتهافتون على الدخول في شعب الجمعية تعززًا بالقوة واكتسابًا من السلطة، لا حُبًّا في الدستور وحِرْصًا على الحرية، ولكن قَلَّمَا يرتقي هؤلاء بأنفسهم إلى أن يكونوا أعضاءً عاملين في الجمعية، كما صار يدعي كل مَن كان يطعن في الدولة أنه مِن الأحرار طلاب الدستور. ونرجو أن يوفق الأعضاء الصادقون إلى تمحيص شوائب هؤلاء الأوشاب , أو إلى محقهم وتزكية الجمعية مِن نفاقهم. هذا , وإن في البلاد نوعًا مِن جراثيم الفساد لم يبلغنا أن الجمعية قررت إزالته على شدّة خطره على الحرية. ألا وهو عصابات الفساد من أشقياء الأهالي الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق , ويأوون إلى بعض الوجهاء فينقذونهم من الحكام بالرشوة حتى بلغ من استهانتهم بالحكومة في بعض البلاد أن زالت هيبتها من قلوبهم , وصاروا يأتون المنكرات على مَرْأًى مِن شرطتها وهم آمنون مطمئنون، فيجب على الجمعية أن ترشد الحكام الأحرار الذين تقيمهم الآن إلى تعقب هؤلاء الأشقياء وتربيتهم بالشدة التي لا يطمعون معها في عودتهم إلى مثل ما كانوا عليه في أيام الحكومة السابقة , وإلاّ كانت فائدة الحرية للأشرار وغائلتها على الأبرار. وأما المقصد الثالث من مقاصد الجمعية , وهو موادة الدول الأوربية، فقد كانت فيه أحزم وأحكم منها في سائر أعمالها الحسنة، ولا نرى فيه شائبة نذكر بها إلا الاحتراس من جفوة ألمانيا والنمسا، والله الموفق؛ فنسأله حسن الختام.

المجلس النيابي لمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المجلس النيابي لمصر ذكرنا في الجزء الرابع من منار هذه السنة أن إنكلترا عازمة على إنشاء مجلس نيابي في مصر وقد تلقى جمهور المصريين هذا الخبر بالدهشة والاستغراب , وعدّوه مناقضًا لما يستنتج من سيرة المحتلين في مصر وتصريحات لورد كرومر في تقاريره وناظر خارجيتهم في مجلس النواب بلندره. وكنا نظنّ أنّ حركة القبط التي شرحناها في الجزء الخامس مما يحتمل أن يحمل الإنكليز على إرجاء السماح بإنشاء هذا المجلس إلى أجل حتى جاءنا نبأ جديد من أنباء أوربا السّرّيّة العالية بأن القوم لا يزالون على عزمهم وأن مجلس النواب المصرِيّ يوشك أن ينعقد في السنة القابلة. لا أقول: إن كتابات القبط التي تتابعت على لندره لم يكن لها أثر فيها , وإنما أقول: إنه قد عارضها إعلان الدستور في الدولة العَلِيَّة , واضطرار حكومة بريطانيا لإظهار الرضا والابتهاج به , وما اضطرها إلى ذلك إلا أخلاق شعبها وتقاليدها القديمة الراسخة في حبّ الحرية , ونصر الأحرار أينما كانوا وحيثما وجدوا، فرأت وزارة الأحرار الإنكليزية أنه لا يليق بها أن تظهر الميل إلى الدستور في مكان , والميل عنه في مكان آخر على أن الإنكليز قوم يجارون الطبيعة ولا يقاومونها , ويعملون في كل حال ما يرونه يليق بها. ويوشك أن يكون للوفد المصري الذي سافر إلى لندرة بزعامة إسماعيل باشا أباظة تأثير حسن في المسألة، فإن إنكلترا يصعب عليها أن تؤدي هذه الخدمة لمصر بطريقة يسهل فيها غمط حقها , وإنكار فضلها , وإسناد عملها إلى غيرها مع أنه لا يمكن أن يتم في مصر أمر عظيم بدون رضاها مادامت جيوشها محتلة فيها.

كيف نستعمل الحرية

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ كيف نستعمل الحرية [*] أيها السادة الأحرار: وقفت غير مرة مثل هذا الموقف بعد إعلان الحرية، وكنت في مواقفي الأُوَل أرسل القول إرسالاً؛ لأن المواضيع متوفرة، والشعور بالحال أطلق اللسان من عقاله، وفكّ الأفكار من أصفادها، بعد أن لبثت مُدّة ترسف فيها، حتى كدنا نيأس من انتهائها، مع علمنا بأن لكل بداية نهاية. ولكنني الآن أتلو عليكم خطبتي تلاوةً، لأنني سئلت أن أتكلم في موضوع لا أتعداه، ومرتجل الكلام لا يستطيع حصره في موضوع واحد، لأن الخطب الارتجالية حُرّة مثلكم أيها السادة فهي تَأْبَى التقييد، وقد جعلت موضوع خطابي هذا (كيف نستعمل الحرية) لأننا أحوج إلى هذا الموضوع الآن من سائر المواضيع. خاض الخطباء في تعريف الحرية وحدودها، حتى كادوا يضعون لها قيودًا، ويخرجونها عمّا وجدت له، ولو كانت ذات شعور لعجبت كيف يحاول تقييدها طلقاؤها! . وكاد قوم بهذه النواحي يشوهون وجهها الجميل، ويشوشون مفهومها المستبين، فظنوا أن الحرية تبيح للناس امتهان حكامهم، والنعي على صالحهم وطالحهم. سادتي: إن من يدفع عن مركزه بقوة، إنما يرجع إليه مثل القوة التي دفع بها، فإذا كانت المظالم زحزحتنا بقوتها الوحشية عن مكاننا، فنحن لا نرتكز في نقطة إلا إذا دفعنا تلك المظالم في صدرها، وأنحينا باللائمة على القائمين بها. الشعب الذي يغلو الحكام في ظلمه، يجب أن يتطرف في الحرية متى نالها. الحاكم المسترسل بالظلم، الملوث بالرشوة، لا يفيقه من سكرة الاستبداد إلا التقريع الفظيع، والتنديد الشديد، فهو كالعضو المخدر، لا يحس إلا بالوخز المؤلم وربما لا يحس به. كل هذا أيها الإخوان لازم بل واجب، ولكن لا يسوغ أن نجعله دينًا لنا حتى كأنه هو المقصود بكلمة الحرية، إذًا نكون صرفنا الحرية عن معناها، ولم نعرف كيف نستعملها، وحاشا ثم حاشا، وكلاّ ثم كلاّ. أيها الشعب السوري العظيم، يا سلالةَ الفينيقيين الذين أدهشوا العالم، الذين لم تَهَبْ سفنهم هجمات أمواج المحيط الأعظم، الذين ملأ ذكرهم بطون التواريخ، إنني أحييك وأهش لك، أُحيّيك باسم الحريّة، وأناديك بملء ماضغيّ: أنت أسمى من أن تضع الحرية في غير موضعها، وأنت أحق بها وأهلها، بل إنما وجدت لتكون لك قبل كل البشر. الحرية هي تمتع الشخص بما لا يضير به سواه، وصيانة الأفراد من عبث الحاكمين، وسهولة سلوك السبل التي من شأنها إعلاء شأن الأمة، وتبسط أبنائها في الحضارة والعمران، وعدم استكانتهم للظلم والهوان. أبيح لنا القول أيها الإخوان، فاسترسلنا في القول، والقول مقدمة للعمل فيجب أن نعمل أيضًا. وضح لنا نهج المعين الذي ارتوى منه الإفرنج قبلنا، فلا يحسن بنا أن نرتشف منه ارتشافًا، بل يجب أن نبتلعه ابتلاعًا إذا قدرنا. أتيح لنا أن نعمل ما نشاء، فلا يليق بنا أن نعمل ما من شأنه إضعاف قُوَانا وإنهاك جسومنا، بل يجب أن نعمل على ما يرفع شأننا، ويجعلنا في مَصَافّ الأمم الحيّة الراقية، وبذلك نحسن استعمال الحرية. الجمعيات هي أساس النجاح، ودعائم الرّقيّ، فيجب أن نؤسس جمعيات، لا يسوغ أن تكون جمعياتنا لطائفة من الناس، لا يجوز أن تكون إسلامية أو مسيحية أو يهودية مهما كانت وجهتها، وأنّى كان قصدها، بل يجب أن تكون عثمانية بحتة، أنتم عثمانيون أيها الإخوان، فيجب أن تكون جمعياتكم عثمانية، الجامعة التي تنضمّون تحت لوائها هي العثمانية، فاجعلوها جمعياتكم كذلك تحسنوا استعمال الحرية. عاشرت اثنين أيها الناس منذ بضع سنين اسمهما مشترك بين المسلمين والنصارى، وأنا للآن لا أعرف إنْ كانا مسلمَيْنِ أو نَصْرَانِيَّيْنِ، ويجب أن تكونوا أنتم كذلك أيضًا، يجب أن تتعارفوا بعثمانيّتكم لا بمذهبكم ونحلتكم، أليس كذلك؟ بَلَى , بَلَى. المدارس الوطنية هي كل ما نحتاجه الآن؛ لننهض من كبوتنا، ونُقَال من عثرتنا، وليس عندنا الآن مدارس وطنيّة بالمعنى الذي أريده، أريد بالوطنيّة التي تضمّ الفِرَق والنِّحَل، وتنشئ طلاّبَها تنشئة واحدة، غايتها إعلاء شأن الوطن، ووقاية الحرية بالمهج والأرواح، والمدارس هي نبت الجمعيات وبنتها , فمتى أنشئت الجمعيات فقد أسست المدارس، فأنشئوا الجمعيات أنشئوا الجمعيات تحسنوا استعمال الحرية. الجرائد هي القوة الكبرى والمدرسة التهذيبية، وهي ميزان أعمال الأمة، وعنوان حالها، وهي المسيطر الرقيب على الحكومة , بل إن رقابتها تتناول كل شيء، وهي قائد الأمة إلى مواطن السعادة والهناء، والصادقة بها عن معاطن البوار والشقاء، فيجب أن تكثر الجرائد بيننا ويعمّ انتشارها وبذلك نحسن استعمال الحرية. الخطابة هي مدرسة الشعوب الثانية بعد الجرائد، ولها من العوامل في التأثير الكبير، ومن البواعث على العمل المفيد، ما يرفع ويعلي، وينتاش الأمم من الحضيض الأسفل، وينيف بها على يفاع المجد والسؤدد، وإذا كانت الجرائد للقراء فقط فإن الخطب يتناولها سمع القارئ والأمي، ويستفيد منها العامل والجاهل، والنشيط والخامل، والصانع، والزارع، بل هي لكل أحد، والخطابة الحرة كانت ولا تزال من الدعائم التي يشاد عليها بناء التمدن الباهر، ويرتفع بها صرح المجد الحقيقي، فالمنابر المنابر! ! ! لا تهملوا شأنها، ارفعوا أعوادها، ليرنّ صوت خطبائها، ليهتفوا فلتدم الحرية، فبذلك نحسن استعمال الحرية. التآلف بين الفِرَق والنِّحَل هو الضامن الوحيد لبقاء وَحْدَتنا، واجتماع قوانا، والمحافظة على حريتنا، وبه نرد عادية المظالم، وندفع غائلة الظالم، وهو الذي يجعل مجموع أفراد الأمة كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، كما ورد في الحديث الشريف، فيجب أن نتآلف، يجب أن نتآلف، يجب أن نتآلف، لنحسن استعمال الحرية، فليدم التآلف. إن استعمال الحرية يكون بالسير على النهج الذي أشرعته لكم أيها السادة، وثَمَّة شئون أخرى، يضيق مثل هذا الموقف عن استيعابها، ولنا من حزم رجالنا خير كفيل للسير على النهج السوي، والطريق المعبّد، والأمل معقود على أن يبينوها بالعمل لا بالقول. بقيت لي كلمة أُرَانِي مُلْجَأً إلى الجهر بها، قبل نزولي عن هذا المنبر، تلك الكلمة هي إعلان استيائي واستياء العقلاء، ممن يذهبون إلى أن الحريّة منحة أو هبة من شخص معلوم، إن هذا القول لا يليق صدوره من الأحرار، إنه كذب وخيانة ونفاق، وليست هذه الخصال من الحرية في شيء، إن الحرية هي حق للشعب يسلبه منه بعض الظالمين سلبًا، فنيل الشعب له إنما هو استرداد لحقه المغتصَب منه، وليس من الهبات والمنح، الحرية ليست ملكًا للحاكم ولا للسلطان فكيف يهب الإنسان ما ليس بملك له. هذا , وإنني أشكر لجيشنا الباسل سعيه الكبير، وعمله العظيم، الذي خالف به كل جيوش العالم، منذ وجد الجيش وأسست الجندية، فإن الجيوش في كل الأدوار والأجيال، كانت يد الظالم القوية، يستعين بها على قتل روح الحرية، ولا أذهب بالاستشهاد بكم بعيدًا أيها السادة، بل أُلْفِتُ أنظارَكم إلى فظائع جيش العجم، ومنكرات جيش روسيا، وكيف يمثلون بطلاب الحرية أقبح تمثيل عملاً بإرادة المستبدّين، وتنفيذًا لمقاصد الظالمين، فليمت المستبدّون، وليسحق الظالمون. وأشكر أيضًا لرجال جمعية الاتحاد والترقي العثماني، ولكل رجال الإصلاح الذين وقفوا حياتهم، وخاطروا بأرواحهم، في سبيل استرجاع الحرية، وأصرح بأن جمعيتهم قامت بما لم تقم به جمعية في العالم منذ أسست الجمعيات، فإنها كانت سببًا في إحياء شعب بأسره، لأن الشعب المستعبَد هو والميت شرع، هذا مع اعترافي بما للجمعيات من الأثر المحمود في خدمة النوع الإنساني. وأسأل الله أن يوفقنا للسير على ما يُعْلِي شأنَ أُمَّتِنا، ويرفع مقام دولتنا، ويحفظ علينا نعمة الحرية مادامت السموات والأرض. اهـ. (المنار) جاءنا من بيروت أن الجمع المحتفل قد صفق للخطيب تصفيقا شديدًا، وهتف بالدعاء له وللمنار هتافًا كثيرًا.

خديجة أم المؤمنين ـ 6

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين (6) الفصل الحادي عشر [*] (الحب الشريف) إن أشرف السِّيَر سِيَر أهل الفضيلة، وما الفضيلة إلا من خصائص النفوس، فمن كان من عشّاق الفضائل حسن به أن لا تفتر نظرات بصيرته إلى النفس، فهي مستقرّ الخوارق، ومستودع العجائب. النفس مَجْلَى الآيات الكُبَر، ومهبط الفيوضات العُلَى، والمرآة العظمى التي ينكشف بها الأزل والأبد، والمطبعة العظمى التي ترتسم بها الأشياء وتتكثر الصور. هي السلك الممدود بين مبدع الطبائع، ومقيم الشرائع، وبين الجواهر المتألفة الصامتة، والظواهر المسخرة المطيعة، فهي خليفة عليها، واقفة على خطواتها، مشرفة على حركاتها، وهي مجذوبة من طرف إليها بجاذبية الأنس والعادة، ومجذوبة من طرف آخر إلى مصدر بوارقها بجاذبية الحبّ والشوق، فبانجذاب النفس إلى الظواهر تأخذ الظواهر حظّها من الانكشاف، وبانجذاب النفس إلى مانح الظهور تأخذ النفس حظّها من الشهود والإشراف، فيحق لها في الحالتين أن تتمجد بما ميّزها به فاطِرُها تَباركَتْ عظمتُه، وتعالى شأنه. أعظم خصائص النفس الحب والبغض، بل إن هاتين الطبيعتين المتضادّتين أعظم نواميس الأكوان والموجودات كلها، لكن اختلفت المحبات، وتباينت الأشواق، وأُوتِيَتِ النفس الإنسانية أعظم نصيب من هاتين الطبيعتين لاتساع المحيط الذي تدور فيه، ولاتصالها بعالم الحسّ وعالم الغيب، وترددها بالانجذاب بينهما فهي إن وقفت يومًا مع الظواهر أنست بها , فعشقتها لما رشّ عليها مبدعها من الحسن الذي هو وصفه، وإن ارتفعت إلى المبدع دهشت فتولهت لما هنالك من المجالي الأزلِيّة التي تطير السرائر شوقًا إلى التمتع بها. الفضائل والرذائل، الخيرات والشرور، الحزن والسرور، الرغبة والرهبة، الإقدام والإحجام، الكسل والنشاط، الارتفاع والهبوط، كل ذلك من مبتدعات الحب والبغض وآثارهما، وكل درجة من هذه الأشياء فإنما هي على مقاييسهما، هما بالاختصار رُكْنَا السعادةِ والشقاء، فمن هُدِيَ إلى تصريفهما والجري بهما على سُنَّة مُثْلَى فقد أهديت إليه السعادة , وأُوتِيَ بالحب الشريف والبغض الشريف حظًّا مِن الخير عظيمًا. كانت السيدة (خديجة) ذاتَ قلب طاهر، والقلب الطاهر مركز الحب الشريف، فماذا أحبّت سيدتنا هذه؟ كان قلبها تواقًا إلى معالي الأمور، عظيم الشنف بمحاسن الأخلاق، وقد أمدّ الله فطرتها إمدادًا عظيمًا فقويت معرفتها بالمكارم، وعظم علمها بأن الفضائل هي التي تليق بالإنسان، سواءٌ وقفت نفسه مع هذه المحسوسات , أم أرادت أن تندرج في زُمْرَة عُشّاق المجالي الأزليّة. عرفت هذه السيدة صلة النفس الإنسانية بمن منه انشقت أسرارها، وانفتقت أنوارها، فكان لها تشوف إلى جود عظيم يفيض عليها من العناية الربّانِيّة، كما هو شأن ذوي السرائر الصافية، وحصل لها من هذه الحالة الطيبة قوة فراسة، والفراسة نور، فكانت تهتدي بها فيما هي حائمة الروح عليه من الفضائل، ومن أحب شيئًا أحبّ أهله من أجله، فلما عرفت ابن عبد الله ووجدت فيه ما يعشق من المزايا العَلِيّة، انتثرت حَبَّةٌ من تلك المحبة الشريفة التي كانت بها تنشد المكارم , فوقعت في محلّ مِن قلبها لتنبت شوقًا إلى هذا الرجل الصالح الذي ألفت المكارم كلها لديه، وأيقنت أن معرفتها هذا السعيد بمزاياه العظيمة هو أعظم الآثار التي كانت تتشوف إليها من لَدُن العناية المرجوة. الآن وجدَتْ مُحِبَّةُ الفضائلِ والمحامد أعظم مَن تتجلى الفضائلُ والمحامِدُ فيه، فكيف ينفر منه قلبها؟ بل كيف لا يميل إليه فؤادها؟ فالأمانة هو ذلك الشهير فيها وقد سبرته في متجرها فربحت بواسطته أضعافًا، والشجاعة هو المنشأ فيها على يد عظيم الهمة أبي طالب، والنباهة هو الذي تسطع في محيَّاه طوالعها، والحكمة هو الذي تقرأ في سيماه آياتها، والعفة هو ربها، والمروءة هو مجمع شواردها، ومحاسن الخلقة هو النسخة الصحيحة منها، فأي الفضل تنشد بعد هذا مُحِبَّةُ الفضل، وأي المحامد تريد بعد هذه مريدةُ المحامد؟ كمال خَلْق وكمال خُلُقٍ، جمال شخص وجمال نفس، حنكة لم يظفر بمثلها أقرانه مِن الشُّبَّان، ووقار لم يحظ بأقلّه الكبار، وهمّة لا تقف أمامها الصعاب، وعزيمة لا تني أمام الثقال، قوي شديد، حليم رشيد، كما يقول فيه عمه أبو طالب وهو به جدير: فمن مثله في الناس أي مؤمّل ... إذا قاسه الحكام عند التفاضل؟ حليم رشيد عادل غير طائش ... يوالي إلهًا عنه ليس بغافل لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل فأصبح فينا أحمد في أرومة ... تقصر عنه سَوْرَة المتطاول فما أكثر غبطة السيدة (خديجة) إذ عرفت هذا السيد الجليل، وما كان أجدرها بأن يتعلق قلبُها الطاهر به، وما أقوى نور فراستها إذ علمت أنه لا نظير له، وأن سعادتها لا تتمّ إلا به، وما أحقها أن تغتنم الفرصة وتسبق إلى تزوّج هذا الشريف الذي جمع إلى شرف النسب شرف الخلال. * * * الفصل الثاني عَشَرَ (تفاؤلٌ هذا وقتُه) كانت الكهانة شائعة في ذلك الزمان كما هو شأنها في كل الأزمنة إلى زماننا هذا، وكان علماء التوراة ينبئون دائمًا بظهور نبيّ مُنْتَظَر، وبعضهم كان يقول: إنه سيظهر مِن العرب، والراهب بَحِيرَا تفرّس بابن أخي أبي طالب إذ كان معه صغيرًا , وقال له: سيكون لابن أخيك هذا شأن! ولم يكن بعيدًا عن المألوف أن يخبر بعض الناس بالمغيبات , ولكن لم يكونوا يصدقون كل شيء من هذا القبيل ولا يكذبون كل شيء كما هو الشأن في أهل زماننا أيضًا. وقد كثر التكهّن قبيل ظهور النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن أكثر الناس لم يكونوا يبالون بتلك الأخبار؛ لأنهم تَعَوّدوا أن يروا شيئًا من كذب الكهانة مع مصادفة صدقها أحيانًا، فلم تكن الثقة بها في الحقيقة تامّة، ولا سِيَّمَا في الأمور العظيمة. وبينما نساء من قريش مجتمعات في عِيدٍ لهُنّ في الجاهلية، إذ تمثل لهن رجلٌ، فلما قرب نادى بأعلى صوته: يا نساءَ مَكَّة، سيكون في بلدكن نبيٌّ يُقال له أحمد، فمن استطاع منكن أن تكون زوجًا له فلتفعل. فَكَذَبْنَهُ وَرَمَيْنَهُ بالحصى، وكانت فيهن (خديجة) فلم تَرْمِه كما رَمَيْنَه. لم يكن هذا المنبئ كاهنًا معروفًا، فلذلك احتقره النساء؛ لأنهن لا يعبأن في الغالب إلا بأهل الشهرة. ولكن كان قومهن يعتقدون بالهاتف، وهو على اعتقادهم روح ينطق بالشيء مِن حيثُ لا يُرى، أو يتمثل بصورة بشرية فيقول قولاً من هذا القبيل ثم يغيب، فكأن السيدة (خديجة) اعتقدت أن هذا المنادي هاتف، فلم ترمه كما رماه ترائِبُها، ولعلّها صدقت إذ ذاك وتفاءلت خيرًا، ورجت أن تكون صاحبة هذا الحظ. وإن صحّ ظننا هذا بالسيدة كان لنا دليل جديد على عظيم تطلعها إلى بركات الجناب القُدُسِيّ، فإنّ الرغبة في تزوج المنعم عليهم بالنبوة لا تعظم إلا من العارفة بذلك الجناب الأَعْلَى الذي يتفضل بخلعة النبوة على مَن يشاء. كانت النبوة معروفة عند قومها بما سمعوه من أخبار أنبياء جيرانهم بني إسرائيل، ومعروف أن النبي رجل كالرجال , ولكن يصطفيه الله ويرفع درجة نفسه على درجات سائر نفوس البشر، حتى يطلعه على ما لم يطلع عليه أحدًا من أسرار عالم الغيب، وليست النبوة ملكًا أو حظوظًا زائدة مِن نعيم الدنيا، بل جلّ الأنبياء الذين سلفوا كانوا مقلين , ولم يكن حظهم إلا مقاومة الناس إياهم وتعذيبهم،، والنساء إنما يرغبن بالنعيم والرفاهية ورغد العيش وكثرة الحلل والحلي، وكل هذا لا يرجى لدى الأنبياء الذين تنصرف أنظارهم عن متاع الغرور، ويلتفتون إلى ما فيه غِبْطَة الرُّوح، فلا تَتَصوّر السعادةَ من النساء عند الأنبياء إلا اللاتي أنعم الله عليهن بسلامة الفطرة وقوة الاستعداد كالسيدة (خديجة) . ولما رجع عبدها (ميسرة) من الشام في تلك السفرة التي ذهب بها مع الهاشمي (محمد) أخبرها بأحوال غريبة رآها منه لا يكون أمثالها إلا لمن سمعت أخبارهم من الصالحين المباركين، فما لبث أن رنّ في قلبها صدى ذلك الصوت الذي سمعته بأذنها، صوت ذلك المنادي في النساء المجتمعات اللاتي كانت معهن في العيد، وكان هذا الصدى الذي رنّ في قلبها تتألف منه هذه الكلمات: (تفاؤل هذا وقته) . * * * الفصل الثالث عشر (الخواطر في قلب خديجة) كانت (خديجة) تعرف أن ليست النبوة بالكسب والاجتهاد، وإنما هي محض عطاء واختصاص من الحيّ الأزلي الدائم، ولكن كانت تعيد على خواطرها ما حكاه لها عبدها (ميسرة) ويرنّ على أثره ذلك الصدى في قلبها فتقول في نفسها: أيّ مانع يمنع رجائي بفضل الله بأن أكون صاحبةَ الحظِّ مِن الرجل المبارك الذي أنبأ به الهاتف؟ أيّ مانع يمنع فضل الله عن قومي إذا أراد أن يخرج منهم ذلك الإنسان الذي يقول عنه علماء التوراة، وكان لها ابن عم من جملة علماء هذا الكتاب. ثم إذا مر بقلبها خاطر آخر يقطع عليها هذه الآمال وينهاها عن هذه الأحلام - التي كانت تراها في اليقظة - ترجع إلى الشيء المحقق الذي لا ينازع فيه خاطر ولا يماري فيه حِجًى وهو ما تحلّى به ابن عبد الله من صفات الكمال، فتتمثل في فكرها تلك الطلعة السّنِيّة , ويلمع أمامها برق من تلك العينين الدعجاوين، وتنسى الشمس وسائر الدراري حين تذكر دائرة ذلك الوجه المتألق، ويَقْوَى إيمانها بالملائكة إذ ترى في هذا الشخص البشريّ آياتِ القُدُس والطهارة، فتقول في نفسها: أفليس حسبي أن أكون ربة النصيب من فتى قريش الوحيد الذي كَمَّلَه الله، إن لم أكن صاحبة الحظ من الصالح الذي أنبأ به الهاتف. ثم تتراجع إليها الخواطر ويقلبها ذلك الحب الشريف الذي نَمَتْ حَبّته في قلبها على ضروب من الحيرة , فتقول في نفسها مرَّةً أخرى: مَن لي بهذا المكمل الذي مَالَ إليه قلبي، وحامت حوله خواطري، وعكفت في دائرة محاسنه نفسي، أليست تمنع العادات بأن أكون أنا الخاطبة؟ أفّ للعادات ما أثقلَ أحكامَها! وما أظلمَ قضاءَها! وما أشدَّ عتمةَ مسالكها! وما أسوأ عواقبَ الجمود عليها! وما أبخس صفقة الذين لا يتزحزحون عنها! نعم، نعم، أُفٍّ للعادات، فكم أوقفت بعض الأجيال في سجون ضيقة مظلمة من التقليد الضارّ , وحجبت عنهم أنوار التبصير والتدبّر والتفكّر , فانطمست عليهم سُبُل الارتقاء في معارج الاستحسان والتحسين , وغمت عليهم مطالع السعادة الحقيقية للنفوس. أُفٍّ ثم أُفٍّ للعادات؛ فهي قاطعة الطريق على نتائج العقول , تزجّ بها في مهاوي العدم، أو تذرها في سجن أقفر ممنوعًا عنها كل ما يربها، ويا عجبًا لبني آدم الذين يضعون العادة في هذا المكان من الحكم على نفوسهم والقضاء على عقولهم وقلوبهم، أليس لهم ما يذكرهم بأن العادة من صنعة أيديهم وتصوير أحلامهم، أليس لهم ما يبصرهم بأن العادة يجب أن تكون تابعة لا متبوعة، ومنقادة لا قائدة، حتى إذا فتحت أمام بصائرهم أبواب أُخَر لما هو خير وَدَّعُوا عادتهم تلك محمودة على قدر ما نفعت، ومذمومة على مبلغ ما أضرت، واستقبلوا أخرى مصاحبيها على مقدار ما يدوم من أسبابها، وينفع من أبوابها. تبرمت (خديجة) بالعادة كثيرًا، وتأففت من تقلبها طويلاً، وسردت كل سيئات الجمود عليها في نفسها التي هي أعلى من نفوس الغافلين عن المقدمات والنتائج، لما خصها الله من سلامة الفطرة، وفضل الفطنة، وقوة آلة المعرفة، ومزيد حرارة الهمة. ثم عادت تعذر الضعفاء الذين لا يستطيعون التغلب على ال

أسئلة من روسيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من روسيا (س 12 - 16) من الشيخ محمد نجيب التونتاري المدرس. سيدي الفاضل أعرض على حضرتكم ما يأتي بيانه لمحض الاستفسار والاستنباء، وإن كان في صورة الانتقاد وهو: أني قرأت في الجزء الثالث من المجلد العاشر من مجلة المنار الغراء في قسم التفسير عند قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} (الإِنسان: 8) الآية حديثًا طويلاً مرويًّا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد رأيت في (نوادر الأصول في معرفة أخبار الرسول) للحكيم أبي عبد الله محمد بن علي الترمذي رحمه الله أنه عدّ هذا الحديث من المنكرات حيث قال في الأصل الرابع والأربعين فيما يعدونه صدق الحديث بعد ما ساق الحديث إلى آخره: هذا حديث مزوق قد تطرف فيه صاحبه حتى يشبَّه على المستمعين، والجاهل يعض على شفتيه تلهفًا ألا يكون بهذه الصفة، ولا يدري أن صاحب هذا الفعل مذموم، قال الله عز وجل في تنزيله الكريم: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العَفْوَ} (البقرة: 219) وهو الذي يفضل عن نفسك وعيالك، قال صلى الله عليه وسلم: (خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، وابدأ بمن تعول) وافترض الله على الأزواج النفقة لأهاليهم وأولادهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع بما يقوت) أفيحسب عاقل أن عليًّا رضي الله عنه جهل هذا الأمر حتى أجهد صبيانًا صغارًا من أبناء خمس أو ستّ على جوع ثلاثة أيام ولياليها حتى تضوروا من الجوع , وغارت العيون بِخلاء أجوافهم حتى أبكى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما به من الجهد؟ هب أنه أثر في نفسه هذا السائل، فهل كان يجوز له أن يحمل على أطفاله جوع ثلاثة أيام بلياليهن؟ هذا ما ذكره الحكيم الترمذي في وجه التنكير، إلا أن المتدبر لو تدبر في أحوال هؤلاء الكرام لا يستبعد وقوع هذا الحال منهم؛ ولذا لم يتبين لي وجهه والمأمول من الأستاذ إيضاح ذلك حتى ترتفع الشبهة. (الفونغراف) وقد رأيت أيضًا في هذا الجزء في قسم الفتاوى سؤالاً يتعلق بالفونوغراف، فخطرت لي عند ذلك مسائل أخرى تتعلق به، وهي هل يجب السجدة على من سمع آية السجدة منه؟ وإن شخصًا لو شهد بواسطة الفونغراف أو أودع الوصية فيه , هل تقبل شهادته وتنفذ وصيته أم لا؟ وإني أظن أن السجدة تجب على السامع إذ هو كالاستماع عن إنسان، وإنما الفونغراف آلة للاستماع فقط، وكذا الشهادة والوصية ينبغي أن تكون صحيحة نافذة مهما ميز صوتها، فإن الأصوات متمايزة في التليفون والفونغراف حتى إننا لو سمعنا صوتًا معروفًا لنا مِن قبلُ، نقول: إنه صوت فلان ولا نشتبه فيه فيكون ذلك في حكم الاستماع عن نفس القائل، والله أعلم. (التجارة بالجلود) إن إخواننا المسلمين في سبريا الروسية غالبهم يتجرون بالجلود، وفيها جلود ميتة غير مدبوغة، وجلود غير مذكاة، وإنهم يسألون عنها ويستفتون ما حكمها الشرعي؟ وربما تكون المعاملة بين المسلمين بالطائفة القرغزية، فما حكم ذلك شرعًا؟ هل تكون فيها توسعة إن قلنا: إن دارنا دار حرب , ومذهبنا يوسع فيها في عدة مسائل كمسألة الربا مثلاً؟ هذه المعاملة مما تعم به البلوى في تلك الأقطار، والمرجو من الأستاذ حلّ هذه المسألة، بحيث يخرجها عن الشبهة ولا يوقع حرجًا إن شاء الله تعالى. (الإمامة) إن رجلاً قطعت إحدى رجليه من فوق الكعب، وله قدم صناعية، وكان إمامًا في بلدة منذ سنين، والآن وقع خلاف بين علمائنا في صحة إمامته، فمن قائل: إنها لا تجوز، والأكثر على الجواز، ونحن لم نر في الكتب التي بأيدينا أن صحة القدم من شرط الإمامة، ولذا لا أرى بأسًا في إمامته متى وجد سائر الشروط المهمة، وأرجو من الأستاذ بيان ذلك أيضًا حتى يندفع الاختلاف بيننا. (النسخ) هل هو من أصول الدين، بحيث لا يجوز الخلاف فيه أم هو مسألة خلافية بين المسلمين، كما ذكره الفاضل محمد توفيق في مقالة الناسخ والمنسوخ، وهو يقول: إن أُبَيَّ بن كعب رضي الله عنه قال بعدمه، أي بعدم نسخ القرآن بالقرآن، واستشهدوا عليه بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما معزوًّا إلى البخاري إلا أننا لم نَرَ نقلاً آخر سوى ما ذكره عن أُبَيّ ما يؤيد هذا القول , وليس في هذا القول أيضًا تصريح بعدم النسخ، وإنما يحتمله كما يحتمل غيره , ولا يقطع بالاحتمال مراد القائل , ولم يُذْكَر خلافٌ بين الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة، ثم إن أبا مسلم رحمه الله الذي نسب صاحب المقالة هذا القول إليه هل يعتبر قوله بحيث نعُدّه خلافًا في المذهب، فبعضنا يقول: إن النسخ لا خِلافَ فيه بين أهل السنة، وإنما هو خلاف نشأ مِن الاعتزال، ولكن لم يظهر لي وجه هذا القول أيضًا، فإن النسخ ليس من موادّ الخلاف بين السُّنِّيِّ والمعتزلِيّ فيما أعلم، والله أعلم. وذكر ابن أمير الحاج في شرح التحرير خلافًا في نسبة هذا القول إلى أبي مسلم حيثُ قال: حكى الرازي والآمدي وابن الحاجب إنكاره وقوع النسخ مطلقًا , وقيل: لم ينكر وقوعه، وإنما سمّاه تخصيصًا فعلى هذا يصير النزاع لفظيًّا، والله أعلم. والمأمول من الأستاذ تفصيل هذه المسألة وتحقيقها كما وعد في ذيل تلك المقالة، وكما تفضل بالأجوبة الشافية في المسائل السابقة. ... ... ... ... ... ... ... العبد المستفيد من علمكم الوافي ... ... ... ... ... ... ... محمد نجيب ... ... ... ابن الأستاذ شمس الدين محمد الحاج المرصع التونتاري الجواب عن أثر علي وآله عليهم السلام: إننا قد ذكرنا ذلك الأثر في الإيثار لأجل العِبْرَة به، وقد أشرنا إلى ضعف الرواية بقولنا (ويروى) ولم نثبته في تفسير الآية , بل وعدنا بذكره في تفسير سورة الإنسان إن أنسأ الله لنا في العمر، وعند ذلك نذكر مكان الرواية والمسألة، وما قاله الحكيم الترمذي بعضه وجيه مقبول، وبعضه منتقد مردود، والإيثار مرتبة وراء مرتبة تقديم الإنسان نفسه على من تجب نفقتهم عليه من أهل وولد، وتقديم هؤلاء على غيرهم، وقد ورد في الصحاح أن كبار الصحابة آثروا على أنفسهم وأولادهم مع الفقر وشدة الحاجة، فكان ذلك سبب ثناء الله عليهم بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) وقد حررنا هذا المبحث في المجلد الثاني من المنار (راجع ص 11 و17 منه) , ولا يبعد أن يقصد علي وفاطمة تربية ولدهما على الإيثار إنْ صحّ الأثر من طريق الرواية بنصها أو مبالغة فيها ولا حاجةَ إلى التطويل في ذلك فالخطب فيه سهل. الجواب عن مسائل الفونغراف: إنما شرع السجود عند تلاوة أو سماع الآيات المخصوصة الآمرة بالسجود , أو المرغبة فيه لإظهار الخضوع والامتثال، ومن سَمِع القرآن من الفونغراف صدق عليه أنه سَمِع القرآن، فالظاهر أنه يشرع له السجود عند سماع آية السجدة منه، وإنما عبرنا بـ (يشرع) دون (يجب) لأننا نرى أن السجود مُسْتَحَبٌّ لا واجب كما تدلّ على ذلك الأحاديث الصحيحة، وعليه الشافعية. وأما الشهادة والإقرار والوصية وسائر المعاملات الدنيوية، فالعِبْرَة في ثبوتها أن تكون بحيث يوثَق بصدورها ممن صدرت عنه، ويؤمن من التزوير فيها؛ لأنها ليست من المسائل التعبديّة التي يوقف فيها عند نصّ الكتاب , وما مضت به السنة بلا زيادة ولا نقصان، فإذا وثق القاضي بشهادة الفونغراف مثلاً كانت بينة شرعية صحيحة؛ لأن البينة كل ما تبين به الحق كما حققه ابن القيم وذكرناه في المنار مِن قبلُ. الجواب عن مسألة جلود الميتة: روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن الثلاثة من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الشاة الميتة: (هلا انتفعتم بجلدها) , وهذا اللفظ للبخاري، وفي رواية أخرى له (هلاّ استمتعتم بإهابها) والإهاب (ككتاب) الجلد , أو ما لم يُدْبَغْ منه كما في القاموس. ولفظ أحمد ومسلم وغيرهما: (هلاّ أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به) , فقالوا: إنها ميتة، فقال: (إنما حرم أكلها) , وذكر الدباغ بيان لطريق الانتفاع وليس فيه حصر، وفي لفظ لأحمد: إن داجنا لميمونة ماتت , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ألا انتفعتم بإهابها، ألا دبغتموه، فإنه ذكاته) أي: إن الدباغ مطهر كالذكاة. ولا ينافي هذا جواز الانتفاع بالإهاب غير المدبوغ كما تدل عليه الرواية المطلقة. وروى مالك وأبو داود والنسائي وابن حبان من حديث ميمونة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرّ به رجال يجزون شاة لهم مثل الحمار، فقال: (لو أخذتم إهابها) فقالوا: إنها ميتة , فقال (يطهرها الماء والقرظ) ، صحَّحَه ابن السكن والحافظ. ولعَلّ هؤلاء لو اكتفوا بأمره إياهم بأخذ إهاب الميتة والانتفاع به لَكَفَاهم , ولم يذكر لهم غيره وحَسْبُك بعبارة الحصر في قوله: (إنما حرم أكلها) أي: لا الانتفاع بها، وحديث: (لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب) ؛ قد أعلّ بالاضطراب والإرسال؛ فلا يعارض هذه الأحاديث الصحيحة , ولا ينسخها. ولا يعارضها ما ورد في النهي عن شحوم الميتة، فإنها مما يؤكل فسُدَّتْ الذريعة إليه. وأمثل ما قيل في النهي عن استعمال جلود السباع أنها مدعاة القسوة والكبر. هذا وإن المراد بالتنزّه عن النجاسة هو أن يكون المؤمن طاهرًا نظيفًا بعيدًا عن الأقذار , وما فيها من المهانة والمضارّ، ولذلك كان الدباغ مطهرًا؛ لأنه يزيل العفونة والرطوبة التي ينتن بها الجلد، فكل ما يزيل ذلك فهو دباغ مطهر، والذين يشترون جلود الميتة لا يتركونها بغير دباغ ولا معالجة حتى تفسد عليهم بل يعالجونها حتى ينتفعوا بها، فالذي أراه وأعتقده أن التجارة بهذه الجلود جائزٌ شرعًا, لا إثْمَ فيه ولا حرج. وإذا باعها المسلم من غير المسلمين كان لجواز البيع وجه آخر عند الذين يقولون: إن المخالفين لا يكلفون العمل بفروع الشريعة، وعليه الحنفية، ووراء هذا كله ما أشار إليه السائل مِن أن التزام العقود الصحيحة في المعاملات إنما يجب في دار الإسلام إلا أن يقال: إن في النهي عن بيع النجس معنى غير كونه عقدًا فاسدًا، والعُمْدَة في المسألة ما ذكرناه أولاً، والله أعلم بالصواب. الجواب عن مسألة الإمامة الظاهر من السؤال أن الإمام المسئول عن إمامته يأتي بأعمال الصلاة كلها تامّة , وحينئذ يكون موضعُ الوقفة في صِحّة إمامته كونَ إحدى رجليه من الخشب، وهذا لا يصلح مانعًا من صحة الإمامة، وقد ثبت في صحاح الأخبار والآثار اقتداء الناس بالإمام يصلي جالسًا للمرض، واختلف العلماء فيمن يقتدون به، فقال بعضهم يصلّون قاعدين مثله، وادّعى ابن حزم إجماع الصحابة والتابعين على هذا، وقال بعضهم يصلون قائمين وفصّل بعضهم في ذلك. والأصل أن كل من صحّت صلاته صحّتْ إمامته. ومن استثنى من هذه القاعدة بعض من تصح صلاته للضرورة ولا تصح إمامته، كالذي لا يحسن الفاتحة لم يَسْتَثْنِ مَنْ ذهب أحد أعضائه فاتخذ له بدلاً من معدن أو خشب؛ لهذا لا أرى وجهًا للخلاف في صحة إمامة الإمام المسئول عنه. الجواب عن مسألة النسخ بالإجمال: لا أتذكر أنني رأيت في الحديث ذكر النسخ، والأصل عندهم في هذه المسألة قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) , والآية في اللغة: العلامة والعبرة. وقالوا: قد سميت الطائفة المخصوصة من القرآن آية؛ لأنها علامة يفضي منها إلى غيرها: أو لأنها علامة دالّة على الحق، والنسخ في أصل اللغة: نقل كتاب عن كتاب , وجعل الزمخشري في الأساس قولهم: نسخت الشمس الظل، من المجاز، وال

التعبير عن الملائكة والجن بالقوى ومعرفة حقيقتهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعبير عن الملائكة والجن بالقوى ومعرفة حقيقتهم (س 17) ورد هذا السؤال على الأستاذ الإمام من صاحب الإمضاء في 6 يونيه سنة 1905 , فبعث به الأستاذ إلى صاحب هذه المجلة ليجيب عنه في المنار كما كان يفعل أحيانًا في أمثال هذه المسائل، وقد كان ضاع بين الأوراق , ثم عثرت عليه في هذه الأيام وهذا نصه: فضيلتلو سيدي الأستاذ الحكيم: بكل أدب واحترام لاَئِقَيْنِ لهذا المقام أتقدّم لأبلغكم أوفر التحيّات وأزكى السلامات والشكر على خِدْمَاتِكم الدينيّة، وقيامكم بتأدية الحقوق العلمية وتقوية السلطة الدينية الإسلامية , أدامكم الله ركنًا منيعًا للوراثة المحمدية. وبعدُ؛ فيا حضرةَ الأستاذ , لما بيني وبينكم من المودة الإيمانية أحب مطالعة أقوالكم لأستعين بها على نزع ما اعتراني من البدع والخرافات الباطلة، ولله الحمد، فقد رأيت الفائدة فلله الشكر ولكم، والله أسأل أن يطيل حياتكم ويكثر من أمثالكم. أستاذي بينما كنت أنظر في نفيس تفسيركم لسورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس: 1) إذ وجدت ما يأتي. حضرتكم قلتم: قد وصف الله الوسواس الخناس بقوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس: 5-6) , وقلتم: {مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ} (الناس: 6) بيان للذي يوسوس أو بيان للوسواس الخناس، فالمُوَسْوِسُون قسمان: قسم الجِنّة: وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم , ولكن نجد في أنفسنا أثرًا ينسب إليهم , ولكل واحد من الناس شيطان , وهي قوة نازعة إلى الشر , إلخ. فبينتم حضرتكم بأن الجن خلق مستترون لا نعرفهم , فهل المراد لا نعرف كيف أحوالهم من ابتداء نشأتهم , مع كون القرآن مصرحًا بأنهم خلقوا من مارج من نار في آيات كثيرة , والحديث مصرحًا بأن الشيطان يسري في جسم الإنسان مسرى الدم كما كان يسري في الآلهة لمعبوديهم , ونعرف أيضًا أن النبي بعث لهم وكلفهم بالرسالة , فمنهم مَن آمنَ ومنهم من كفر، فهذا كله يثبت لنا أن الجن موجودون بحقائق غير حقائقنا , وأنهم يقدرون على التشكل بشكل ما. ثم حضرتكم قلتم: (وإنما نجد في أنفسنا أثرًا ينسب إليهم) , فهل ينسب إليهم حقيقةً أو مجازًا مع كونكم جعلتم هذا الأثر للشيطان الذي قلتم عنه بأنه (قوة من جملة القوى الإنسانية) , فكأنه لا شيطانَ ولا إبليسَ , وكأن هذه القوة هي التي أمرها الله بالسجود فتكبرت فلعنها الله , وقالت: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (ص: 79) {لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: 82) وكأنها هي التي قال لها الله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً} (الإسراء: 64) وكأنها هي التي بعث لها المصطفى يبلغها الرسالة، وكأنها هي المذكورة في قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ} (الأحقاف: 29) إلخ، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) أي القوى، وكأنها كانت تتلقى السمع لتبلغه لرئيسها، فلما بعث النبي أرادت أن تتلقى السمع، فأصيبت بشهاب قبس. وبكل احترام لمقامكم وعدم الاعتراض لأقوالكم أطلب الإيضاح عن ذلك؛ لأن فكرتي متشتتة الآن مع بيان كيف حقيقة الجانّ، وكيف كان خطاب المصطفى لهم لتأدية الرسالة , وبيان ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه أشفى المصروع , وأخرج من جسده الجانّ مع أن الحكماء تنكر ذلك، والظاهر للعقل، هذا مع بيان التوسّل بالنبي والصالحين في الدعاء، ولكم الشكر. ... ... ... ... ... ... كاتبه ولدكم ... ... ... ... ... ... ... محمود فهمي ... ... ... ... ... ... ... باشمهندس ري مديرية الدقهلية (ج) قول الأستاذ الإمام رحمه الله في الجنّ: (هم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم) هو الأصل عند المسلمين , وكذا أهل الكتاب في هذا الباب. والمراد لا نعرف حقيقتهم؛ لأنهم من الخلق المغيَّب عنا. وما جاء في القرآن مِن خبر خلقهم, وغير ذلك لا ينافي كوننا لا نعرف حقيقتهم , وكذلك إخباره عن جميع عالم الغيب لا يقتضي أننا نعرِف حقيقة ذلك العالم. والعلم بأن الجانّ خلق من مارج لا يفيدنا معرفة حقيقته , بل ولا ظواهر صفاته ومميزاته كما أن خلق الإنسان من طين لا يبين حقيقته ولا مميزاته. ومثل ذلك يقال في تكليفهم. وظاهر قوله تعالى في سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ} (الجن: 1) إلخ، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَهُمْ حين سمعوا منه القرآن , فآمن بعضهم وكفر بعض، وقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس التصريح بذلك؛ قال في تفسير الآية: (ما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنّ ولا رآهم) إلخ، ولكن رُوِيَ عن ابن مسعود أنه رآهم وقرأ عليهم , وقال ابن تيمية: إن ابن عباس علم ما دلّ عليه القرآن , ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجِنّ له إلخ، فَحَسْبُكَ مِن أمْرِ تكليفهم أن حبر الأمة ابن عباس كان يعتقد بِحَسَبِ فهمه للقرآن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يَرَ الجِنّ إنما أوحى الله إليه أنهم سمعوا منه القرآن , ونزل عليه فيهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ} (الأحقاف: 29) وإذا صحّ حديث ابن مسعود وأبي هريرة في رؤيته إيّاهم ومكالمتهم , فذلك لا يدُلُّ على أنهم صاروا مِن عَالَمِ الشهادة , وأننا صِرْنَا نَعْرِف حقيقتهم، فإن الله قد يطلع رسله على بعض غيبه، وذلك خصوصيّة لهم كما قال في سورة الجِنّ: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26-27) إلخ. وكذلك حديث صفية عند الشيخين وغيرهما: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) لا يدلّ على حقيقة الشيطان ولا يجعلها معروفة لنا , والحديث تمثيل لا حقيقة كقول الشاعر: * جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي * وليس فيه (كما كان يسري في أعضاء الآلهة) كما قال السائل. وقد قال تعالى في الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) . وقوله: إنه صح أن النبي شفى المصروع , وأخرج من جسده الجانّ لا أدري من أين جاء به السائل على أنه لا يدُلّ على أنّنا نعرف حقيقة الجانّ. وأما تعبيره عنهم بالقوى فقد كنا نقلناه عن الأستاذ الإمام في تفسير سورة البقرة , فأنكره بعض الناس وإن وَرَدَ موردَ التأويل لمُحاجَّة المنكرين لعالم الغيب , فطلبنا منه أن يوضحه فأوضحه بكتابة بليغة زادها على تفسير آيات خلق آدم الذي نشرناه في المنار , وإننا نورد هنا ما كنا كتبناه هناك , وما زاده عليه رحمه الله وأحسن مثواه، ونميز ما كتبه بوضعه بين أقواس هكذا [] وهاك ما هنالك. تقدم أن الملائكة خلق غيبي لا نعرف حقيقته , وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى الذي نقف عنده , ولا نَزِيد عليه وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل صِنْف وظيفة وعمل , ونقول الآن: إن إلهام الخبر والوسوسة بالبشر مما جاء في لسان صاحب الوحي - صلى الله عليه وسلم - وقد أسندا إلي هذه العوالم الغيبية وخواطر الخير التي تُسَمّى إلهامًا، وخواطر الشّرّ التي تسمى وسوسة كل منهما محله الرُّوح، فالملائكة والشياطِينُ إذن أرواح تتصل بأرواح الناس، فلا يصحّ أن نمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة لنا [لأن هذه لو اتصلت بأرواحنا فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا، ونحن لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة , ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس، فإذن هي من عالم غير عالم الأبدان قطعًا] والواجب على المسلم في مثل الآية الإيمان بمضمونها مع التفويض , أو الحمل على أنها حكاية تمثيل , ثم الاعتبار بها بالنظر في الحكم التي سيقت لها القصة. وأقول: إسناد الوسوسة إلى الشياطينِ معروف في الكتاب والسنة، وأما إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة , فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها السلام , ومن حديث الشيخين في المحدثين وكون عمر منهم. والمحدثون الملهمون وحديث الترمذي والنسائي وابن حبان وهو: (للشيطان لَمّة بابن آدم وللمَلَك لمة، فأما لمّة الشياطين فإيعاذ بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمّة الملك فإيعاذ بالخير وتصديق بالحق، فمَن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان , ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (البقرة: 268) قال الترمذي: حسن غريب , لا نعلمه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص، والرواية إيعاد في الموضعين كما أن الآية من الثلاثي في الموضعين، فما قالوه في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبي فيما يظهر وإلا فهو غير صحيح، واللمة بالفتح الإلمام والإصابة. (قال الأستاذ) : وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فهم معنى الملائكة، وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات , وخلقة حيوان , وحفظ إنسان , وغير ذلك فيه إيماء إلى الخاصّة بما هو أدقّ مِن ظاهر العبارة , وهو أن هذا النموّ في النبات لم يكن إلا بِرُوح خاصّ نفحه الله في البذرة , فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة، وكذلك يقال في الحيوان والإنسان، فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده، فإنما قوامه بروح إلهي سمي في لسان الشرع ملكًا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوى الطبيعية (إذا كان لا يعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة) والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها , وبه قوامها ونظامها , لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكًا , وزعم أنه لا دليلَ على وجود الملائكة , أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموسًا طبيعيًّا، لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات (وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودًا لا يدرك كُنْهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح , ولكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، ولا يعلم إلا الله عَلامَا يختلف الناس، وكل يقر بوجود شيء غير ما يرى ويحس ويعترف بأنه لا يفهمه حقَّ الفهم , ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه , وماذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيب عنه لو قال أصدق بغيب أعرف أثره، وإن كنت لا أقدره قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي ويحظى بما يحظى به المؤمنون) . يشعر كل من فكر في نفسه، ووازن بين خواطره عندما يهم بأمر فيه وجه للحق أو للخير، ووجه للباطل أو للشر، بأن في نفسه تنازعًا، كأن الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى، فهذا يورد وذاك يدفع، وواحد يقول: افعل , وآخر يقول: لا تفعل حتى ينتصر أحد الطرفين، ويترجح أحد الخاطرين، فهذا الشيء الذي أودع في أنفسنا , ونسميه قوة وفكرًا وهو في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه , وروح لا تكتنه حقيقتها - لا يبعد أن يسميه الله تعالى ملكًا , ويسمي أسبابه ملائكة أو ما شاء من الأسماء، فإن التسمية لا حَجْرَ فيها على الناس , فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة والسلطان النافذ والعلم الواسع؟ . وأقول: إن ا

السنن والأحاديث النبوية

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ السنن والأحاديث النبوية كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الآحاد والسنة رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [*] أنا لا أريد أن أناقش أخانا الفاضل العالم العامل الأستاذ الشيخ صالحًا اليافعي في جميع ما كتبه ردًّا عَلَيَّ , فإن ذلك يؤدي إلى التطويل والتشويش وملل القارئين وسآمتهم وضياع أوقاتهم وربما خرجنا بالتطويل عن الغرض، وتركنا الجوهر وأكثرنا الكلام في العرض، فلذا آثرت أن أذكره بكلمات قليلة في الموضوع هي تبصرة للمفكرين. وعبرة للناقدين {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) , وقبل البدء في هذه الكلمات أقدم له جزيل الشكر على غيرته على دينه , وعلى ما أبداه من الأدب العالي في جميع ما خطَّه قلمُه , وأسأل الله تعالى أن يكثر بين المسلمين من أمثاله. وهذه هي الكلمات: (الكلمة الأولى) - في تقرير بعض شبهات غير المسلمين على مسألة النسخ في القرآن - قالوا: إن محمدًا قد بلغ من الدهاء مبلغًا بحيثُ صار يلعب بعقول أصحابه , ويجعلهم يقبلون منه ما لا يُقْبَل من غيره , فكان يأتيهم بالآية من قرآنه , فإذا اتَّضَحَ له فيها عيب , أو سمع عليها انتقادًا في مغزاها , أو معناها أمر أصحابه بإسقاطها من القرآن بدعوى أنها نسخت. وبلغ به الأمر أنه إذا كان ما في الآية من الأحكام متفقًا مع هوى الأُمّة أو مصلحتها , ولكن كان في إنشائها شيء لم يرق له بعد إذاعتها أسرع بنسخ لفظها دون معناها خوفًا من أن يوجد في العرب من يمكنه أن يعارضها في بلاغتها. وإذا أتاهم بحكم واتضح له بعد تجربته أنه لم يَرْضِ الناس أو أنه لا ينفعهم , أو قد يضر بمصلحتهم الْتَجَأَ إلى حيلته المشهورة، وهي دعوى النسخ في الأحكام، وبذلك كثرت بين المسلمين الآيات المنسوخة لفظًا وحكمًا , أو لفظًا فقط , أو حُكْمًا فقط. (قالوا) : ولا يدري أحد ما الحكمة في كل هذا التقلب والتلون سوى التخلص مما كان يقع فيه من الورطات والغلطات، ولولا ذلك لما أمكنه التخلص منها، وقد ضاع بسبب ذلك مما أتى به من القرآن آيات كثيرة جاء ذكرها في أحاديث المسلمين، وهي وإنْ كان أكثرها مما فقد بسبب إهماله في المحافظة على قرآنه إلا أن المسلمين اعتذروا عن ذلك بدعوى النسخ , وقالوا تحكّمًا: إنها جميعًا مما نسخ لفظه، وإن كان لا يمكنهم التعليل عن ذلك بعِلّة معقولة، ولا يمكنهم الإتيان بحكمة لذلك مقبولة، على أن أكثر الروايات التي ذكرت فيها هذه الآيات صريحة في أنها ضاعت من القرآن , ولم يَرِدْ فيها ذِكْرٌ للنسخ لا تصريحًا ولا تلميحًا، وما بقي من القرآن الآن بعد كل هذا التصحيح والتنقيح تجد شططًا في كثير من أحكامه فضلاً عما في عباراته من المتناقضات والاختلافات والمسائل الخاصّة بمحمد وأهل بيته، ولا فائدة منها لأحد سواه، كالآيات الكثيرة من سورة الأحزاب والتحريم وكبعض آيات سورة الحجرات والمجادلة، فإذا صح عند المسلمين نسخ ألفاظ الآيات التي أدت وظيفتها وانقضى زمنها، فلماذا لم تنسخ ألفاظ أمثال هذه الآيات الواردة في حالات خَاصَّة وفي وقائع خَاصَّة، وقد أدت وظيفتها وانقضى زمنها؟ وما حكمة نسخ ألفاظ آية الرَّجْم مثلاً مع بقاء حكمها في شريعة المسلمين؟ هذا شيء من شبهات القوم على مسألة النسخ في القرآن، وقد قررناه هنا كما يقررونه في كتبهم الطاعنة في الإسلام، ومنه ترى أن اعتمادهم فيها إنما هو على روايات الآحاد التي يتمسك بها المسلمون , وعلى ما اتفق عليه جمهورهم من تسليم مسألة النسخ والقول بها، وكان الأولى بعلمائهم الذين يقولون بالنسخ أن ينظروا في أمثال هذه الشبهات نظرة تحقيق وتدقيق، ويردوها بالبرهان إن كانوا قادرين، بدل أن يقوموا في وجهنا ويردّوا مذهبنا في هذه المسائل بما هو في الحقيقة طعن في أصول الدين، وبمثابة تسليم سكاكين للخصم ليقطع بها منهم الوتين، فَحَسْبُنَا الله ونعم الوكيل. أنا لا أقول ذلك ليأخذ المسلمون برأيي بلا برهان، بل قد قدمت من البراهين ما يقنع المنصفين، ويهدي المستهدين، وسأزيد الأمر قوة في الكلمات الآتية بما سيكون إن شاء الله نافعًا للمؤمنين، هادمًا لجميع شبهات أعدائهم المخالفين. (الكلمة الثانية) - في بيان أسباب نشوء مذهب النسخ بين جمهور المسلمين وتواتره في جميع الأزمنة - اعلم أن من أسباب ذكره في عصر الصحابة أمورًا منها: (1) كلامهم في نسخ الأحاديث والسنة، فقد كانت الأحاديث والسنن تنسخ بأحاديث وسنن مثلها وتنسخ أيضًا بالقرآن الشريف، فالكلام في النسخ قديم بين المسلمين، ونشأ منذ نشوء الشريعة الإسلامية. (2) ثم إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يستعملون لفظ النسخ في القرآن بمعنى أوسع مما جرى عليه المتأخرون، فكانوا يريدون به تخصيص العامّ , وتقييد المطلق وتبيين المجمل؛ لأن من معاني النسخ الرفع، وفي كل ما تقدم رفع لدلالة العام والمطلق والمجمل، فلذا تواتر بين المسلمين الكلام في نسخ القرآن كما تواتر بينهم الكلام في نسخ السنة والأحاديث. أما رفع حكم الآية مطلقًا فقد دلّ الاستقراء على عدم وجود شيء منه في القرآن كما بيناه في المقالات السابقة , ولم يرد نصّ قاطع عن الرسول بشيء من ذلك , ولم يصرح به الكتاب العزيز , وإن سلم أن بعض الصحابة قال به في بعض الآيات فهو مذهب له في فهمها , ولسنا ملزمين بتقليد أي صحابي فيما فهم، ولذلك خالف جميع المفسرين ابن عباس وهو أعلم الصحابة بالتفسير في كثير مما ذهب إليه فيه على أن أكثر الروايات المأثورة عن الصحابة في التفسير موضوعة كما قال الإمام أحمد بن حنبل ونقله عنه السيوطي في الإتقان، فلا يمكننا أن نعلم باليقين رأي الصحابة في أكثر الآيات التي يحصل فيها هذا الخلاف. على أنه قد نقل فيما صح عندهم من الروايات أن بعض الصحابة كان ينكر النسخ في الآيات، بمعنى أن يبطل حكمها مطلقًا , أو أن تلغى فلا تتلى ولا يعمل بها، كأبي بن كعب فإنه رضي الله عنه كان يقول: (إني لا أدع شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم) . يريد بذلك أنه لا يترك آيةً ما بدعوى أنها منسوخة كما رواه البخاري في صحيحه، فالنسخ وإن أنكرناه بمعناه عند الخلف , فنحن لا ننكره ببعض معانيه كما عند السلف , ولا نرى عيبًا في تسميتهم التخصيص والتقييد والتبيين نسخًا. فإن كان هناك اختلاف ما بين مثل أبي مسلم الأصفهاني أحد منكري النسخ وبين الصحابة , فهو خلاف لفظي لا حقيقي كما لا يخفى. فمسألة النسخ هذه اختلف فيها المسلمون من عدة وجوه: (1) في معانيها. (2) في الآيات المنسوخة، وقد أنكر الإمام الشوكاني وغيره النسخ إلا في بضع آيات , وأنكره غيره في جميعها بمعناه عند المتأخرين كما هو مذهبنا. (3) في جواز نسخ القرآن بالسنة، وأنكره الإمام الشافعي رضي الله عنه، فأنا بما قلته في هذه المسألة لم أكن بدعًا من المسلمين في شيء، فإن المسألة فيها خلاف من عدة وجوه من العصر الأول إلى اليوم , وأكثر ما فيها من الخلاف هو في الحقيقة لفظي , وإن كان لتقريرها على الوجه الذي ذهبنا إليه فيما كتبناه سابقًا تَندكّ دعائم شبهات المخالفين لنا في الدين وتسقط حجتهم. أما الروايات التي تفيد نسخ لفظ القرآن أو ضياع شيء منه فقد أنكرها كثير من محققي أئمة المسلمين سلفًا وخلفًا , وأظهر بعضهم أن أكثرها من وضع الملاحدة لتشكيك المؤمنين. وهي تنافي النصوص المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) - {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} (الكهف: 27) , وهي لا تتفق مع ما علم بالتواتر من عناية المسلمين بكتابهم حفظًا وكتابةً مِن عهد الرسول إلى اليوم، فهي إن لم تكن موضوعة من أعداء الإسلام المنافقين لغش المسلمين وتشكيكهم في دينهم, فلا يبعد أن يكون الواضع لها من بعض الفرق الإسلامية لتأييد مذهب لهم في مسألة ما , أو إثبات دعوى باطلة لا يجدون لها سندًا من الكتاب المتواتر , فيختلقون الروايات , ويدّعون أنها كانت قرآنًا ونسخ، وقد انطلت حيلتهم هذه على بسطاء المحدثين، كما انطلت عليهم في مسائِلَ أخرى كثيرةٍ , يقف عليها من مَارَسَ علم الحديث؛ فاخترعوا من الأحاديث ما يؤيد مذاهبهم ومزاعمهم. وقد يكون منشأ بعضها خطأ الراوي وعدم فهمه حقيقة بعض المسائل , فيظن أن كل ما أوحي إلى النبي ولا يجده الآن في القرآن كان قرآنًا ونسخ كحديث: (بلغوا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه) , فوقع بسبب ذلك في الغلط رواية ودرايةً، ولو علم أن من الوحي ما ليس بقرآن مطلقًا لما سمّاه قرآنًا. وإني لأَعْجَب من قبول بعض المسلمين ذلك منهم واستشهادهم على نسخ اللفظ بآية: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعلى: 6-7) مع أن مثل هذا الاستثناء قد ورد - كما قرره الأستاذ الإمام - في القرآن لتأييد النفي، ولبيان أن لا شيء في هذا الوجود يستعصي على مشيئة الله، فكأنه يقول: إنك لا تنسى أبدًا إلا إن قضى الله بذلك، فلا رادّ لقضائه، ولكنه تعالى لا يقضي به كما وعد بذلك في مثل الآيتين السابقتين. وقد ورد مثل هذا المعنى في آيات كثيرة في القرآن الشريف كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} (هود: 107) مع قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (النساء: 57) {وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر: 48) وغيره كثير. ((يتبع بمقال تالٍ))

كلمات المنار

الكاتب: محمد هاشم بن طاهر

_ كلمات للمنار جاءتنا هذه الرسالة من صاحب التوقيع، وهو أحد الأشراف المخلصين في جاوى، وقد سألنا نشرها، فأجبنا سؤله مع الشكر له لأنها بمثابة ردّ على الصادفين عن الحق بلا برهان ولا دليل، بل بمحض التمحل والتأويل، قال: (بسم الله الرحمن الرحيم) أيها المنار حيّاك الله وبيّاك، لقد أوضحت السبيل، وبينت الدليل، وشفيت الغليل، ونحن إليك بالأشواق، السلام عليك ورحمة الله وبركاته، من قوم نظروا إليك بعين الإنصاف، فشاهدوا بها ما حُزت من محامد الأوصاف، فأبصارهم إلى طلعتك مشتاقة، وبصائرهم لما عودتها من لذائذ الحكمة مفتاقه (كذا) ثبت الله دعائمك أيها المنهج القويم، والقِسْطَاس المستقيم، لقد كشفت قناع الحقائق، وبينت تباين الطرائق، وشددت أزر الحق، وشيدت مباني السنة، وخربت مصانع البدع، وجددت لهذه الأمة دينها، ودعوتها لتدرك يقينها، فمنها من اتبعك، ومنها من ضَلَّلَكَ وبدَّعَك، هكذا سنة الله في المصلحين، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. أيها المنار أنت والله الحق الثابت في الكتاب وروده، والواضحة في سني السنة حدوده، والمرفوعة عليها قواعده، والموطّدة على طوديهما شواهده، فلا يحزنك (وحاشاك) ما هذى به بعض حاسديك، وما فاه به الأغبياء من راديك، فقد وردت إلينا ردودهم التي هي أوهن من بيت العنكبوت، واطلع عليها المستبصرون عندنا من طلاب الحق فأنشدوا بلسان واحد. إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا وانقلبوا يتضاحكون من تلك الردود التي هي ليست بشيء ولا بعض شيء، فلا تهدم حقًّا، ولا تبني باطلاً، فما عليك ولا على الحق بأسٌ من تلك الكلمات المزورة، وهاتيك السطور المصورة، فهي غاية ما قصر رأيهم عليه، ومنتهى ما بلغوا من العلم إليه، وإننا لا نكره اطلاع الناس عليها إذ ليست هي بمعقول ولا منقول، والحمد لله الذي لم يجعل بيان الحق بزخارف اللسان، ولكن بالدليل والبرهان، والأخذ بما في القرآن، وأحاديث سيد ولد عدنان. أيها المنار لا تروعنك (وحاشاك) ثراثر الجهلة والحسدة، ولا تهمنك وأنت الليث هماهم السفلة والقردة، فتالله ما أوضح منار الحق لرائديه، وما أرفع أعلامه لوارديه، وما أحلى الرجوع إليه لدى طالبيه، وما أدحضه لحُجة محاربيه، هو الحق والله أجل من أن تخفض أعلامه، أو تخفى أحكامه، أو تحلو لك أيامه، ما فتئت والله مناهجه مسلوكة، وما انفكت نواقضه متروكة، لدى حماة ذمار الشريعة، وحراس حصونها المنيعة، معاذ الله أن يستر شمس الحق ضباب الهذيان، أو يخفي سنا مناره عنا حجاب البهتان، بنفسي أفديك أيها المنار من أن يدنس طاهر ساحتك المدنسون، أو يدلس في واضح أحكامك المدلسون. أيها المنار لك أسوة بالأنبياء والمرسلين، وفي جميع المصلحين، فَادْأَبْ فَلِلْحَقِّ طُلاّب، ولا تعبأْ بفرقتين إحداهما عمشت بصائرها عن رؤية الحق، مذ عميت عليها أنباء العلم، فصارت إذا حدثتها بما صحّ سندُهُ عن النبي صلى الله عليه وسلم شاغبت، وإذا حدثتك هي بما لا سَنَدَ له عن بعض من تعظمهم طلبَتْ منك الإيمان بالمحالات، فهذه جاهلة ملبس عليها، ثبت التقليد في قلبها. والثانية ثقلت عليها وطأة الحق إذ جاءها، وطفقت تضلل من رام إهداءها، وتذمرت من ورود حق المقال، خوفًا من انثلام اعتقاد أولئك الأنذال، وهذه غير ملومة؛ لأنك جذذت عليها أصول الكُدْيَة، وسددت دونها سبل الفرية، وكسدت بضاعتها الرائجة التي طالما استنزفت بها الأموال، وأضلت بها عقول الجهال، وأنت بالرغم منها حولت الهزل جدًّا، ومددت لها من الضيم بظهور الحق مدًّا. أيها المنار إنني أعتقد كما يعتقد كل منصف، وأدين الله تعالى بأنك أنت الحق الصراح الذي لا يتردد فيه عاقل، ولا يرده إلا متهور جاهل، أو أحمق متجاهل، فويلك آمِنْ أيها الحائد عن السنن القويم، والناظر إلى المنار بعين السخط الذميم، ولا تُبارِ قومًا لا يشق لهم في المعارف غبار، ولا يدرك لعباب علومهم قرار، طالما أزاحوا دَيَاجِيرَ الجهل بشموس المعارف، وأزالوا بقواطع الأدلة هام المجادل المجازف، فارجع البصر، وأنعم النظر في أجزاء المنار الماضية والقادمة، تدرك هناك وصفك ووصفهم، وجراءتك وخوفهم، وأنا أبتهل إلى الله أن يميتني على ما ضمه وشمله منار الحق , ويبعثني عليه إنه بالإجابة جدير , والسلام. ... ... ... ... ... ... ... السيد محمد هاشم بن طاهر ... ... ... ... ... ... ... بجاوا - المالاغ

أبو حامد الغزالي ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أبو حامد الغزالي [*] (5) رأيه في حكمة التكليف ورد شبهات الباطنية عليه [1] جواب المسائل الأربع التي سألها الباطنية بهمدان من الشيخ الأجلِّ أبي حامد محمد بن محمد الغزالي رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين , وصلوات الله على سيدِنا محمدٍ , وعلى آله وصحبه أجمعين. سئل: ما قول سيدنا الشيخ الإمام الأجل، حجة الإسلام، شرف الشريعة، مقتدى الفرق، إمام الأئمة، في هذه المسائل الأربع التي لبس (بها) هؤلاء القوم الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، وموهوا بها استجلابًا لقلوب الخلق، وهي هذه. (المسألة الأولى) أليس أهل الإسلام متفقين على أن الباري جل ذكره غَنِيّ عن كل شيء غير محتاج إلى شيء ما؟ ثم مع ذلك كلهم معترفون بأنه كلف العباد العبادة وأقر بها , فكيف تراك نسيت بحجة العقل أن غَنِيًّا عن كل شيء يكلف من لا يحتاج إليه أن يعمل عملاً هو غني عنه؟ بَيِّنْ لي كيف ذلك لَعَلِّي أن أكون من العالمين. (المسألة الثانية) إن الله تعالى كلف العباد الطاعة , ونهاهم عن المعصية ليثيبَ مَن أطاع ويعاقبَ من عصى، وهذا مستحيل جدًّا في العقول، فأي حاجة به إلى معاقبة خلقه حتى يدعوه ذلك إلى أن يكلفهم أمرًا إذا لم يأتوه عاقبهم عليه , وإن كان لا حاجةَ به إلى ذلك، فالقول مستحيل جِدًّا ولا توجبه حكمة، وإن كان تعالى به إلى ذلك حاجة فما يصنع بالتكليف وهو قادر على أن يثيب من يريد , ويعاقب من يريد؟ فالتكاليف أيضًا حشو لا توجبه حكمة والحاجة نقص، وإنه سبحانه وتعالى لا ينسب إلى نقص وهو غني غير محتاج. (المسألة الثالثة) إن الله تعالى كلَّفَ العبادَ الطاعة لِينفعَهم بها، أتراه جل ذكره عجز عن أن ينفعهم بغير التكليف حتى يحتاج أن يكلفهم ثم ينفعهم؟ إن كان غرضه نفعهم فالتكليف ساقط وهو حشو , وإن كان يعجز عن ذلك إلا بالتكليف فالقدرة ساقطة والعجز ثابت وهو محال. (المسألة الرابعة) إن الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهذا باب تحير فيه العقول، هل يجوز أن يَأْمُر حكيم بِأَمْرٍ يخرج عن الحكمة، وينبو عنه العقل , ثم يحظر على العاقل البحث عنه؟ أليس ذلك ضربًا من الجور والظلم؛ لأنه جعل الحُجّة على هذا الخلق العقل وأمر أهله ونهاهم وخصّ غيرهم من البهائم على ما خلقوا عليه بالآلات التي خلقت لها , وألهم العقل استعمالها بمثل اللجام الذي تروض الدّابّة به وغير ذلك من حبالات الصيد والحيل المعروفة التي يطول شرحها؟ وإذا كانت حجة العقل على المكلفين والمأمورين والمنهيين بأمره , ثم يكلفون أمرًا ويمنعون من الفحص عنه والتماس سبب يتصور به ما يكلفونه عندهم ويصح في معقولهم ومعلومهم الذي هو حجة عليهم، أليس يكون ذلك ظلمًا صريحًا؟ ووجدنا المتحلِّين بالعلم من جميع الأصناف يقولون: إن الله جلّ جلاله لا يقبل عملاً إلا على بصيرة , فإذا منع العاقل من البحث والنظر أين يكون بصيرًا، وهل يرجى أن يوحى إليه؟ هذا مُنْكر من القول لا يعقل، وما لا يعقل فليس بشيء. ووجدنا هذا الكتاب الناطق بين الخلق من الحق يخبر في موضع بآية: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) ويخبر في موضع آخر بأنه يُسْأَلُ , ويقتضي الجواب في قوله تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى} (طه: 124-126) , فأي سؤال أتمّ من هذا السؤال الذي اقتضى هذا الجواب، وفي القول مثل هذا كثير، والتناقض في مثل هذه الآيات ظاهر موجود إذا لم يعبر عنه ببيان يقبله العقل، فهذه أعزك الله المسائل الأربع قد شرحت لك بعضها فلا بُدَّ من قول خامس تصح به التكليفات، لأن سقوطها أيضًا لا يصح. أَبِنْ لي ذلك فإني أراك من المحسنين، إلى هنا كلامهم فإن رأى سيدنا أن يجيب عن هذا ويوضح هذه الإشكالات ويكشف عن هذه التلبيسات حاز به الأجر الجزيل والثواب الكثير إن شاء الله تعالى. أجاب , وقال: أما السؤال الأول وهو استبعاد التكليف مع الاستغناء , وتوهم التناقض بينهما , فمصدره الجهل بحقيقة التكليف، فكأن السائل لم يسمع قوله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: 46) وقوله: {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} (الروم: 44) وقوله: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} (الإسراء: 7) كأنه ظن أن تكليف الله تعالى عباده يضاهي تكليف الإنسان عبده، فإن السيد يكلف عبده الأعمال التي يرتبط بها غرضه , وما لا حظ له فيه ولا يحتاج إليه فلا يكلفه به، فكأن هذا السائل ثبت في وهمه قياس فاسد، وهو تشبيه تكليف الله تعالى بتكليف عباده، فجعل نفسه مثالاً لله، تعالى الله وتقدس عن خياله ومثاله، والكشف عن حقيقة التكليف مما يطول، ومن اقتبس حقائق العلوم عن رأيه السخيف، وعقله الضعيف، وقياسه الفاسد، كثر تعثره بالضلالات، بل ينبغي أن يطلب حقائق العلوم من أهله وهم العلماء الأقوياء القائمون بحقيقة المعقولات، المطلعون على أسرار الشرع، العارفون بشروط الأدلة والبراهين، المستبصرون بمداخل الغرور والتلبيس فيها. وإذا كان شرح ذلك مما لا يسمح به عداوة؟ على مثل هذه الأسئلة الضعيفة الصادرة عن ضعف البصيرة، فلا علاج للأفهام الضعيفة أنفع من ضرب الأمثلة؛ فلنقتصر على ضرب مثلين. (المثال الأول) تكليف الله عباده يجري مجرى (معالجة) الطبيب للمريض، فإنه إذا غلبت عليه الحرارة مرة يشرب المبردات، والطبيب غني عن شربه لا يستضر بمخالفته ولا ينتفع بموافقته، ولكن الضرر والنفع يرجع إلى المريض، وإنما الطبيب هادٍ ومرشد فقط، فإن وفق المريض حتى وافق الطبيب شفي وتخلص، وإن لم يوفق تمادى به المرض وهلك، وبقاؤه وهلاكه عند الطبيب سِيّان، فإنه مستغنٍ عن بقائه، فكذلك خلق للعبادة الأخروية أسبابًا تفضي إليها إفضاء الدواء إلى الشفاء، وهي الطاعات ونهي النفس عن الهوى بالمجاهدة المزكية لها عن رذائل الأخلاق مشقيات في الآخرة ومهلكات، كما أن رذائل الأخلاط ممرضات في الدنيا ومهلكات، والمعاصي بالإضافة إلى حياة الآخرة كالسموم بالإضافة إلى حياة الدنيا، وللنفوس طبّ كما أن للأجساد طبًّا، فالأنبياء أطباء النفوس يرشدون الخلق إلى طريق الفلاح لتمهيد طرق التزكية للقلوب، كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10) , ثم كما يقال: إن الطبيب أمر المريض بكذا ونهاه عن كذا، وإنه زاد مرضه لأنه خالف الطبيب، وإنه صح لأنه راعى قانون الطبيب , ولم يقصر في الاحتماء، وبالحقيقة لم يتماد مرض المريض بمخالفة الطبيب لعين المخالفة , بل لأنه سلك غير طريق الصحة التي أمره الطبيب بها , فكذلك (مداواة) النفوس هي الاحتماء الذي ينفي عن القلوب أمراضها، وأمراض القلوب تفوِّت حياة الآخرة، كما تفوت أمراض الأجساد حياة الدنيا. (المثال الثاني) إن الملك من الآدميين قد يخصّ بعض خدمه وعبيده الغائب عن مجلسه بمال ومركوب ليتوجه إلى مجلسه تارةً لحظ الملك في استخدامه والاستعانة على نظام مملكته ومصالحها به، وهذا القسم ونظيره في حق الله تعالى محال، وتارةً ليتوجه العبد إلى مجلسه وينال رتبة القرب منه ويسعد بسببه مع استغناء الملك عن الاستعانة به , وتصميمه العزم على أن لا يستخدمه أصلاً، ولكن ليقربه من نفسه، لمجرد حظ العبد، والزيادة في قربه. ثم العبد إن ضيع المركوب، وأنفق المال، لا في الطريق إلى السيد، عدّ كافرًا للنعمة، وإن ركب المركوب وأنفق المال في الطريق متزوّدًا به عدّ شاكرًا للنعمة، لا بمعنى أنه نال الملك حظًّا لنفسه، ولكن أراد سعادة العبد، فإذا وافق مراد السيد فيه، كان شاكرًا، وإن خالف عدت مخالفته كفرانًا، والله يستوي عند كفر العباد وإيمانهم، بالإضافة إلى جلاله واستغنائه، ولكن لا يرضى لعباده الكفر، فإنه لا يصح لعباده، فإنه يشقيهم، كما لا يرضى الملك المستغني لعبده الغائب الشقاوة بالذل والفقر، ويريد له السعادة بالقرب منه، وهو غني عنه، قرب منه أو بعد. فهكذا ينبغي أن يفهم أمر التكليف، فإن الطاعات أدوية، والمعاصي سموم، وتأثيرها في القلوب، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم، كما لا يسعد بالصحة إلا من أتى بمزاج معتدل، وكما يصح قول الطبيب للمريض قد عَرَّفتك ما يضرك وما ينفعك، فإن وافقتني فلنفسك، وإن خالفت فعليها، فكذلك قول الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} (فصلت: 46) . (وأما السؤال الثاني) فهو فرع من هذا السؤال، فإن قوله: إن الله مستغنٍ في إثابة عبده عن الطاعة، وهو لم يتضرر بها، يضاهي قول القائل: إن الله مستغنٍ في إنشاء الإنسان عن الأمر بالوقاع، وفي إنماء الطفل عن الرضاع، وفي إشباعه عن الطعام، وفي إروائه عن الشراب، وفي تصحيحه عن الأدوية، فما باله عاقب بعقوبة الجوع من ترك الأكل، وعاقب بالمرض من ترك الأدوية، وعاقب بموت الطفل من ترك رضاع ولده، وهذا خيال من يظن أن الله تعالى يفعل ذلك غضبًا وانتقامًا، وليس يدري أن لفظ الغضب والانتقام مستعار ومأوّل، وإنما غضب الله عبارة عن إرادته الإيلام، فكما أن الأسباب والمسببات يتأدى بعضها إلى بعض في الدنيا بترتيب مسبب الأسباب، فبعضها يفضي إلى الإيلام، وبعضها إلى اللذات، ولا يعرف عواقبها إلا الأطباء، فكذلك نسبة الطاعات والمعاصي إلى آلام الآخرة ولذاتها من غير فرق. وكذلك (السؤال الثالث) ينحل به، فإن الله تعالى لا يوصف بالعجز عن الإشباع من غير أكل، والإرواء من غير شرب، والإنشاء من غير وقاع، والإنماء من غير رضاع، ولكنه قد رتب الأسباب والمسببات كذلك، لسر وحكمة لا يعلمها إلا الله عز وجل، والراسخون في العلم، وليس ذلك بعجب، إنما العجب في التعجب من هذا التدبير المحكم والنظام المتقن، وَلَعَمْرِي مَن لا يهتدي إلى سر الحكمة فيه يتعجب منه لقصور هدايته، ومثاله في التعجب مثال الأعمى الذي دخل دارًا فتعثر بالأواني الموضوعة في صحن الدار، فقال لأهل الدار ما أَرَكَّ عقولَكم، لماذا لا تردون هذه الأواني إلى مواضعها، ولِمَ تركتموها على الطريق؟ فقيل: إنها موضوعة في مواضعها، وإنما الخلل في فقد البصيرة [2] ، والجملة فمن لم يدرك الفرق بين التعجب وبين البرهان كثر خبطه وضلاله، وليس في هذا إلا تعجب محض، وأن الله تعالى لِمَ رتب الأسباب؟ ولو رتبها على وجه آخر لتصور أن يتعجب منه جاهل ويقول لم لم يفعل ضده، وهذه التعجبات منبعها أوهام العوامّ، ولا يلتفت المحصل إليها، بل إلى مقتضى البراهين. (وأما السؤال الرابع) ففي إيراده خبط، وكأن السائل لم يقدر على أن يفصح عما في ضميره، والذي يتحصل منه تعجبات أربع: (التعجب الأول) قوله: كيف أمر بالشيء ومنع عن البحث عنه والبصيرة لا تحصل إلا بالبحث؟ وهذا تعجب فاسد، فإن العمل يستدعي اعتقادًا جازمًا أو معرفة حقيقية، والاعتقاد الجازم يحصل بالتقليد المجرد عن سبيل التصديق والإيمان، والمعرفة تحصل بالبرهان، والوصول إليها بالبحث، ولم يُمْنَع عن البحث كل الخلق، بل الضعفاء القاصرون عن الاطلاع على عويصات البراهين ومعاصات البحث، وإنما مثال ذلك أمر الطبيب المر

استحالة المادة ـ 1

الكاتب: خليل سعادة

_ استحالة المادة للدكتور خليل سعادة (1) كتبها عند إذاعة خبر هذا الاكتشاف ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود أومض من كعبة العلم نبأ خطير، دوت له أرجاء العالم المتمدّن أي دوي، وعندي أنه أعظم اكتشافات البشر، وأسمى ما بلغت إليه مداركهم، فلا يحسب بجانبه كشف العالَم الجديد شيئًا مذكورًا، وما بلوغ القطب الشمالي إليه سوى ألعوبة من ألاعيب الصبيان، كيف لا وهو الأمنية الكبرى التي طمحت إليها أبصار فلاسفة العصور، والغاية القصوى التي اشرأبت إليها أعناق الحكماء في جميع الدهور، حلم رآه أسلافنا في ليل مُدْلَهِمّ بظلمات الأوهام، فتجلى لنا نورًا باهرًا يبدد دياجي الجهل، وينير بصائر الأفهام، بل قل هو الحق أنزل على عيون مبصرة، وآذان مصغية، وقلوب واعية، فزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا. نريد بهذه التوطئة الاكتشاف الحديث الخطير، وهو استحالة المادة الواحدة البسيطة من عضو إلى آخر، كما تبين الآن في استحالة بخار الراديوم إلى عنصر الهليوم. أجل أماطت الطبيعة أخيرًا نقاب الخفاء عن وجهها الوضاح، ورفعت الحجاب بعد دلال ونفار، طال أجله ألوفًا من السنين، غادة وضاءة لا كالغادات تعشقها العالم، فهام لأجلها في البيد والقفار، وجرى وراءها إلى قنن الجبال ولجج الأبحار، تقفى أثرها في الرمضاء اللاذعة تحرقه أشعة شمسها، وفي الثلوج المتراكمة يلذعه قارس بردها، سهدته قرونًا طوالاً وهو يرقبها طول ليله في السيارات والدراري وليل العاشقين طويل، وتطلبها في قطرات الماء ورشاشه يحدق فيها بمجهره، وهي غزال نفور كالزئبق الفرار، إذا دنت نأت، وإن قربت بعدت، هي أشبه بِرَهْرَهَات الآل وسراب الظمآن، لم تكشف القناع عن ثغرها البسام لحظة من الزمن، تطلبها في الحرارة والنور، وامتطى في أثرها الكهربائية والبخار، وكالمها بين الزهور والرياحين، وشرح لها وجده بين الرياض والبساتين، فكانت إذا أدنته منها ابتسامة، أوقفته عن الدنوّ منها مهابة، جمال تكلل بالجلال، وأنفة إلا أنها دلال، منها نحل العاشق سقمًا، وضاق ذرعًا، فلما أيقنت منه التفاني في سبيل غرامها، والاستقتال في هيامها، أماطت الآن اللثام، بعد آلاف سنين في التحجب والدلال، والتلاعب والمطال. طمحت أبحاث أسلافنا منذ الأعصر المترامية في القدم إلى اكتشاف أمرين خطيرين، أولهما أكسير الحياة الذي يتذرع به المرء إلى دَرْء كأس الحمام , ونيل الخلود على وجه البسيطة، وثانيهما حجر الفلاسفة الذي يباح له به تحويل المعادن إلى ذهب، فيصبح المرء بهذين الاكتشافين خالدًا مثريًا، ولبث القدماء يخطون في دياجير الأوهام، ويتلمسون الحقيقة في ظلمات بعضها فوق بعض، حتى نبغ نحو أواخر القرن الثامن رجل هو لغز من ألغاز التاريخ، غريب الأطوار، كثير المطامح، بعيد المرامي، يسمى جابرًا، تفرغ إلى البحث في المعادن، وانقطع إلى إجراء الامتحانات المتعددة بشأنها تذرعًا لتحويلها ذهبًا، وكان مذهبه أن المعادن خليط من عناصر متعددة يمكن ترقية الدنيا منها إلى الأشكال العليا، ومافتئ يكثر من التجارب، ويعيد في الامتحانات، وهو في كل ذلك يتراوح بين الحقيقة والضلال، حتى أصبح له في عصره شأن خطير، ومنزلة راقية في عيون أهله، وهو أحق رجل بأن يسمى شيخ الكيماويين، ولكنه منطق الحقيقة بالجهالة، واكتنف الحقّ بالباطل، ولم يدر خطورة قوله، ولم يحلم حينئذ أن سيقوم في فجر القرن العشرين رجل من أشهر الكيماويين ويكتشف أعظم اكتشاف قدر للمرء حتى الآن، ويجيء به مصداقًا لأقواله. بيد أن العلوم الراقية لبثت قرونًا طوالاً خليط فن واحد، فكان الباحث متكهنًا في الطب، وعالمًا في التنجيم وطوالع السعد، وصهارًا للمعادن، وطال أمره دهورًا يتلمس الحق على غير صراط الهدى، حتى بزغت عليه أشعة العرفان فانبثق الطب من الكهانة والفلك من التنجيم وكيمياء الحق من كيمياء الباطل. ولما انتظمت الكيمياء فنًّا قائمًا بنفسه نبذ طلابها آراء الأقدمين نبذ النواة فتبين لهم أن العناصر الأربعة التي قال بها السلف، وهي النار والهواء والماء والتراب، ليست بعناصر، بل هي مواد مركبة تنحل إلى مواد أخرى بسيطة، أطلقوا عليها لفظ العناصر الصحيحة، وكان من أوائل اكتشافاتهم بهذا الصدد الأكسوجين. ولما تم لهم هذا الفتح المبين، نشطت الهمم من عقالها، واستولى على المنقطعين إلى هذه الأبحاث هوس شديد. نضرب لك مثلاً واحدًا لتفقه إلى أي حد بلغ بهم ذلك الهوس، وهو الكيماوي الطائر الصيت (لافوازيه) ، فإنه كان في صدر جلة الكيماويين الذين تحروا البحث والامتحان بشأن الأكسوجين، فبعث إلى الأكاديمي في أواخر القرن الثامن عشر رسالة ضافية الذيول بخصوص تأكسد المعادن، [1] وكانت له أثرًا خالدًا، ومازال يوالي التجارب حتى انفجر بركان الثورة الفرنساوية، واندلع لهيبها في باريس وسائر أرجاء فرنسا، وكان (لافوازيه) ، لنكد الطالع رجلاً عريقًا في نسبه، كبيرًا في حسبه، وافرًا في ثروته، فأصبح هدفًا للثائرين، وغرضًا لسهام الحاسدين، فصوب أعداؤه نحوه شكايات باطلة أصابت منه مقتلاً، فحكم عليه بالإعدام، وكان إذ ذاك منهمكًا في تجارب كيماوية خطيرة، فطلب من لجنة الثورة أن تمهله بضعة أيام ريثما يتمّ أبحاثه واكتشافاته، فعاملته بغلظة يندى منها جبين التمدن، وأجابته بفظاظة يحمر لها وجه الحرية، قائلة أنْ لا حاجةَ بالجمهورية للعلماء! فقيد من كعبة العلم إلى باحة (الغليوتين) [2] وهو الذي قال بشأنه ساعتئذ (لاغرانج) أحد مشاهير مواطنيه: بعد دقيقة يسقط رأسٌ تَمرُّ بكم أجيال وقرون قبل الحصول على مثله. فانقشعت إذا ذاك غياهب الجهل عن بصائر أولي النهي، ففقهوا أن جل المواد المعروفة إنما هو مركبات وخليط مواد بسيطة متعددة، فحسروا عن ساعد الجد وقذفوا بالأوهام القديمة من حالق، وتواردت عندئذ اكتشافات العناصر تَتْرَى على نوادي العلم ومجامع العرفان، فبنيت صروح المعارف على أطلال الخرافات، ووطد بنيان الكيمياء على عمد راسخة الأركان، واكتشف الباحثون في العناصر نواميس كيماوية عجيبة لم تكن لتخطر في بال أسلافنا ولا في الأحلام. العروة الوثقى التي وقفت عندها الألباب حيرى، هي الذريرات الأصلية لهذه العناصر، فقالوا: إنها جواهر مادّيّة تتألف من جواهر فردة إذا تجزأت بَطَلَ العنصر أن يكون عنصرًا بالخصائص والمقومات التي يتميز بها عن سواه، غير أنه لما كان الجوهر الفرد لا يقبل التجزؤ فعلاً إذ لم يكشف البشر ذريعة أو وسيلة تؤدّي إلى ذلك، لبث العنصر ثابتًا على ممر الأدهار. بَيْدَ أن القول بوجود هذه العناصر المتعددة الأشكال، المتباينة الخواص ثابتة على هذا المنوال منذ الأزل، مناف لمطمح الفلسفة السامية القائلة بوحدة المادة , وخصوصًا إذا اعتبرت أرضنا نفسها ذريرة من مجاميع ونظامات هذا الكون العجيب الذي يملأ القلب مهابة ورهبًا متى تجلى لك خلال أستار الدجى كواكب ودراري سابحة أو معلقة في فضاء يتطاول الطرف إلى الإحاطة بعظمته وفقه رموز أسراره، فيرتدّ عنه وهو كليل. ذلك ما حدا جلة المتضلعين من العلوم الطبيعية إلى القول بأن سائر العناصر المعروفة مشتقة من عنصر واحد، متناه في بساطة التركيب، ولطافة القوام، وخفة المادة، غازي الشكل، ولما لم يكن معروفًا عندهم حينئذ من العناصر التي يمكن الحصول عليها، ما يصح أن يكون أصلاً لجميع المواد سوى الهدروجين، حسبوه ذلك الأصل حتى أنبأ بعضهم من هذه الاستدلالات بوجود عناصر أخرى كانت لم تزل مجهولة، لكي تملأ فراغًا في حلقات العناصر المعروفة، فجاءت الاكتشافات التالية مصداقًا لنبوتهم. ثم إنه تبين من الأبحاث الحديثة أن الجوهر الفرد للهدروجين على ما فيه من التناهي في الصغر، هو كبير جدًّا في حجمه بالنسبة إلى ما كشف مؤخرًا من الذريرات الكهربائية، التي أطلقوا عليها اسم الإلكترون، بحيث إن جرم الجوهر الفرد الواحد من الهدروجين يوازي ألف جرم من الإلكترون، وثبت لهم أن هذه الذريرات الكهربائية تستقل عن الجواهر الفردة، وتقوم بنفسها، ويكون لها جميع الخواص المقومة للجوهر الفرد، حتى تَرجَّحَ عند كبار الطبيعيين الآن أن الجواهر الفردة لجميع العناصر تتألف من هذه الذريرات الكهربائية فقط، التي بعضها إيجابي، وبعضها سلبي، بمقادير متساوية، وأن اختلاف العناصر متوقف على اختلاف مقادير هذه الذريرات في تأليف جواهرها الفردة، فما العناصر إذًا سوى مجاميع هذه الذريرات التي يثبت قوامها بقوتي الجذب والدفع. فمتى فقهت ذلك علمت كيف تتأتى استحالة المادة من عنصر إلى عنصر على ما صدرنا به هذه المقالة، بَيْد أنه لم تتح لبشر مشاهدة هذه الاستحالة عيانًا، إلا منذ نحو أسبوعين من الزمن، وتفصيل ذلك أنه قدم إلى مدينة باريس، منذ بضع سنوات، في أواخر القرن المنصرم، فتاة بولونية المحتد في غضاضة الشباب وريعان الصبا، لمتابعة بعض دروس فلسفية، ولو علم أهل تلك المدينة ما سيكون لهذه الفتاة في العالم من خطورة الشأن والصيت الذائع لاحتفوا بها احتفاءهم بالأميرات والملكات من زوّارهم، فينقضي ذكر الملوك والملكات الذين زاروا باريس، أما اسم مدام كُري، فيبقى خالدًا، وهي الفتاة التي نعنيها، فإنها ما لبثت حينًا من الدهر حتى تزوجت الأستاذ كُري، فأقاما في بيت بعيد عن ضوضاء المدينة وجلبة القوم، يواليان الامتحانات الكيماوية، حتى ظفرا أخيرًا بأمنية ما وراءها أمنية، ألا وهي اكتشاف الراديوم. أما وجه أهمية هذا الاكتشاف، فهو أن العلماء وجدوا أن معدن الراديوم يختلف عن جميع المواد والعناصر المعروفة على وجه البسيطة في أمر هو إشعاع الحرارة والنور على الدوام، دون أن يخسر شيئًا منهما، فسواء وضعته في الماء والثلج، أو الهواء، بقيت حرارته مرتفعة عما يحيط به، وهو أمر لو سمعه العلماء في حلم لما صدقوه، ولما وجد الباحثون عنصرًا يختلف في خصائصه عن سائر العناصر ذعروا منه، بيد أنهم توسموا به أخيرًا خيرًا، إذ علموا أنه سيلقي بين أيديهم مقاليد الكون، وينشر أمام أبصارهم رموز الطبيعة وأسرارها، فتهافتوا عليه تهافت العطاش على الماء، حتى بلغت أثمانه في الأشهر الأخيرة مبلغًا فاحشًا، لم يسمع بمثله من قبل، فإن المقدار الذي لا يتعدى جزءًا من خمسة عشر جزءًا من القمحة منه، يساوي خمسين ألف جنيه. وكان في عداد الذين اشتغلوا بالبحث في الراديوم وأسراره الكيماويّ الشهير السير وليم رمزي، فوجد نظير غيره من المشتغلين به أن في جملة ما ينبعث من هذا المعدن مادة غازية كثيفة بقيت لديهم حينًا من الدهر لغزًا من الألغاز، لأنها كانت تلبث ردحًا من الزمان , ثم تخفى دون أن يتمكن أحد من الوصول إلى كنهها، فوضع السير رمزي أخيرًا هذا الغاز في زجاجة دقيقة جدًّا سدها سدًّا محكمًا، ومافتئ يراقبها حتى تبدت له معجزة من المعجزات، وهو أن تبدى من هذا الغاز بعد يومين من الزمن بواسطة السبكترسكوب خط ضارب إلى الاصفرار، وهو الخط الذي يشير إلى وجود عنصر الهليوم، وهو مادة توجد في الشمس، ولم يعثر عليها في أرضنا إلا حديثًا، ثم بعد نحو أسبوع من الزمن، زاد الخط إشراقًا دلالةً على أن مادّة الراديوم الغازية استحالت إلى عنصر الهليوم، ولم يبق لها من أثر. و

رسالة التوحيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة التوحيد (مقدمة الطبعة الثانية) بسم الله الرحمن الرحيم {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) . إن الله جلَّتْ قدرتُه، وبلغت حكمته، قد برأ هذا الإنسان، بفطرة أعلى من فطرة سائر أنواع الحيوان، أودع فيه شعورًا بلذات وآلام غير جسدية، فكان له بذلك حياة غير الحياة الحيوانية، أنشأه مستعدًّا لإدراك معلومات غير محصورة، إذ خلقه ليحيا حياة غير محدودة، جعل مدار حياته على التعاون والاجتماع، ليستعين بذلك على استجلاء ما في الكون من النظام والإبداع، أنشأ أفراده متفاوتين في الاستعداد للعلوم والأعمال، ليتيسر لمجموع النوع القيام بجميع العلوم والأعمال، فأدناهم الخدم والبناءون والزارعون، وأعلاهم الساسة والحكماء، فالأنبياء والمرسلون، فهؤلاء كالعقول والقلوب والأرواح، وأولئك كالأرجل والأيدي والمَعِد والأمعاء، فمنهم من يقوم للنوع بأدنى ما يحتاج إليه، ومنهم من يهديه إلى أعلى ما يتشوف استعداده إليه، مع إحسانه التصرف فيما هو قائم عليه، وهذه الهداية هي هداية الدين الذي هو قوام الفطرة للإنسان، الناهض بها إلى طلب الكمال في العلوم والأعمال. سار الدين بتكميل الفطرة البشرية على منهاج التدريج في الارتقاء، كما هي السنة العامة في جميع شئون الأحياء، حتى جاء خاتم النبيين والمرسلين بالإسلام، الذي بلغ بالإنسان مرتبة الاستقلال التام، وبين كتابه أنه دين الفطرة للناس، من جميع الشعوب والأجناس، الموافق لهم في كل مكان، المنطبق على مصالحهم في كل زمان، فهو للقبائل الساذجة كالمربي الرحيم، وللشعوب الراقية كالإمام الحكيم، كلما ساروا في العلوم والمدنية شوطًا رأوه المجلي في ميدان السبق {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) . لكن المسلمين قد خذلوا هذا الدين، وصاروا حجة عليه عند أكثر العالمين؛ إذ زينت لهم التقاليد والعادات، أن يجعلوه حجابًا دون العلوم والفنون والصناعات، وأن يتفرقوا فيه مذاهبَ وشيعًا، وينقصوا منه سننًا، ويزيدوا عليه بدعًا، وأن يجعلوا كتب العقائد ملأى بالجدل والمراء، بين أهل المذاهب من الأموات والأحياء، وقد مرت القرون وليس عندنا مصنف يصلح للدعوة إلى الإسلام، على الوجه الذي اشترطه علماء الكلام، وهو أن يكون على وجه يحرك إلى النظر، ويدعو إلى البحث والتفكر، حتى قام الأستاذ الإمام، الذي كان في هذا العصر حجة الإسلام، الشيخ محمد عبده قدس الله روحه في دار السلام، فكتب (رسالة التوحيد) في بيان حقيقة هذا الدين، فجاء مع التزام الشرط بما لم يأت بمثله أحد من أئمة المسلمين. لا أذكر في بيان فضل هذه الرسالة، أن مجلس إدارة الأزهر قرر تدريسها في الجامع الأزهر رسميًّا، ولا أن علماء الهند ترجموها بلغة الأوردو ليدرسوها في مدرسة عليكره الكلية وغيرها، ولا أن علماء الأقطار الذين اطلعوا عليها، قد كتبوا لمؤلفها من منثور الثناء ومنظومه ما يزيد على حجمها أضعافًا مضاعفة، ولا أن بعض علماء النصارى قالوا عندما قرءوها: لو كان ما في هذه الرسالة هو الإسلام، لكنَّا أول من يدخل فيه، ولكنها حكمة الشيخ محمد عبده، الذي نؤمن بفضله، وعلو كعبه، لا أشرح هنا شيئًا من مثل هذا، وإنما أقول: إنه لا يقدر هذه الرسالة حق قدرها إلا من كان عالمًا بمنتهى ما وصل إليه علم الكلام من الارتقاء في الإسلام، وواقفًا على ما كتبه فلاسفة أوربا في الانتقاد على الأديان، مع ما كتبوه في بيان مزاياها، وفي علم النفس وعلم الأخلاق وعلم الاجتماع البشري. لم تدع الرسالة شبهة على الدين إلا وكشفتها، ولا عقدةً من عقد المشكلات إلا وحلَّتها، ولكن الشُّبه تذكر فيها غالبًا بطريق الإيماء والتلويح، دون الإبانة والتصريح، وذلك أدنى أن لا يشك الضعيف، ولا يشتغل القوي عن المقصد الشريف، وقد أشار إلى ذلك المصنف في قوله: (راميًا إلى الخلاف من مكان بعيد، حتى ربما لا يدركه إلا الرجل الرشيد) . كتب الأستاذ الإمام هذه الرسالة في مُدّة قليلة، وبادر إلى طبعها، فلما قرأها في الجامع الأزهر على الألوف من العلماء، ونجباء الطلاب، ظهر له فيها أغلاط لُغوية، ومسائل تحتاج إلى إيضاح، وكُلِمٌ جدير بالحذف، فكان يكتب ما يراه من التنقيح في النسخة التي يقرأ بها الدرس، ويَزِيد ما يزيد في هامشها، وقد انتقد عليه الشيخ محمد محمود الشنقيطي (رحمهما الله) ذكره لمسألة خلق القرآن؛ لأنها مخالفة لشرطه في التزام مذهب السلف، فأمر بحذف ذلك منها (راجع ص 37 منها) ، وانتقد عليه حروفًا أخرى، فأقنعه في بعضها، واقتنع منه في بعض، وقد جمع جميع ما صححه في جدول، فكان ذلك في سبعين موضعًا أو أكثر، وبقي فيها كلمات نادرة قد سها المؤلف عنها مع تصحيحه لمثلها، فأبقيتها على أصلها، [1] (إلا كلمة واحدة في ص 131) ولم أزد فيها من عندي إلا الرقم الدالّ على عدد السور والآيات عند ذكرها. ولما كتب إلي صديقي حمودة بك عبده، يأذن لي بإعادة طبع الرسالة، أعطاني الجدول فصححت هذه الطبعة معارضة عليه، وعلى نسخة المؤلف، وعلقت عليها هوامش قليلة سمعت بعضها منه في الدرس، ولولا أنه نهى عن شرحها، ووَضْع الحواشي لها لَجَاز لي أن أكثر من هذه الهوامش، ولكن ما رآه رحمه الله هو الصواب، وما جاء به هو الحكمة وفصل الخطاب، فهذه الطبعة هي المعتمدة، وعليها المعول، ولا يستغني عنها مَن طالع الطبعة الأولى، فرحم الله الأستاذ الإمام، ونفع برسالته الأنام، آمين. ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار

تقريظ الموضوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (مبادئ الاقتصاد السياسي) قد اشتهر بيننا أن الغنى والفقر إنما يكونان بالحظوظ والأقدار، لا مدخل فيهما لعلم المرء وعقله، ولا لذكائه وسعيه، بل اشتهر بين الأدباء أن العلم والحِجَى، ضدان للثروة والغنى، وقد نظم أدباؤنا في القديم والحديث كثيرًا من الشعر في هذا المعنى، تداوله الناس وحفظوه فصارت به المسألة عندهم من القضايا المسلمات، التي يتوهمون أنها من البديهيات، وكيف لا تكون كذلك عند الجمهور، وهي مدعمة بظواهر ما جاء في الدين من إسناد كل شيء إلى مشيئة الله عز وجل، وللعلماء والصوفية فيها من الكلام ما هو أشد تأثيرًا في النفوس من كلام الشعراء والأدباء. ومما يُؤْثَر فيها عن الإمام الشافعي رضي الله عنه من أبيات. لكن من رزق الحجى حرم الغِنَى ... ضدان مفترقان أي تفرق ثم إنهم يرون ظواهر الحوادث الجزئية تؤيد هذا الرأي وتثبته، إذ يرون مثل فلان باشا، وفلان بك، يعبثون بالألوف من الدنانير، وهم على ما يعرفون منهم من الجهل والغباوة. فإذا قِيلَ لمن يعتقدون هذا الاعتقاد: إن لتدبير الثروة علمًا يبحث فيه عن ينابيعها ومواردها ومصادرها، فيعلم الواقف عليه طرق تحصيل الثروة وحفظها وتوزيعها، ولماذا كانت تلك الأمة غنية، وهذه الأمة فقيرة، ولماذا يتزاحم في البلد الواحد شعبان أو شعوب متعددة، فيسبق قوم ويتخلف آخرون - إذا قيل لهم هذا قالوا: إن العلم لا شأن له في هذا، وإنما هي الحظوظ والأقدار، ويسردون ما يحفظون من الآثار والأشعار. الأقدار هي المقادير والموازين التي أقام الباري بها نظام الكون، فهي تقتضي الأسباب لا تنافيها، وإن اشتهر استعمالها بيننا فيما جهل سببه غالبًا، والحظ في الأصل هو النصيب الذي تناله من الشيء بسعي أو بغير سعي، وإن غلب استعماله فيما يناله المرء بغير سعي منه إليه، ولا ننكر أن بعض الأفراد ينالون الغنى والثروة بأسباب لا يعرفونها، ولا يسعون إليها سعيها، ولا ننازع في تسمية ذلك حظًّا جاد به القدر، على ما بيننا وبين أولئك الناس من الخلاف في فهم معنى القدر، وإنما نقول في إقناع المنكرين لفائدة علم تدبير الثروة الذي وضع له اسم (الاقتصاد السياسي) : إن الواضعين لهذا العلم والمصنفين فيه والدارسين له والعاملين به يعرفون من أحوال أهل الحظوظ ما تعرفون، ومنهم من يؤمن بالقدر كما تؤمنون، ولكنهم مع ذلك يعلمون من أحوال العالم ما لا تعلمون، فضموا علمهم إلى علمكم، ثم لكم بعد ذلك حكمكم. إذا كنتم تعذرون فيما تحكمون به على ثروة الأفراد في كل أمة، فلا عذر لكم إذا قستم عليها ثروة الشعوب والأمم، فسيروا في الأرض فانظروا كيف صارت الأمم التي عنيت بهذا العلم أغنى الأمم وأعزها، وكيف يدخل أفراد منها في بلاد أمة أخرى، فلا يلبثون أن يكونوا هم المستقر والمستودع لثروتها، بل القابضين على روح الحياة المالية والاجتماعية فيها. ألا إن أمتنا أحوج إلى هذا العلم منها إلى جميع العلوم الدنيوية، لأنه روح جميع العلوم والأعمال، ولكننا لا نزال مقصرين فيه بقدر حاجتنا إليه، حتى إنني لم أرَ في لغتنا غير كتابين وجيزين فيه طال العهد على وضعهما، وارتقى العلم بعدهما، فصرنا محتاجين إلى خير منهما، وقد أحس بهذه الحاجة محمد فهمي أفندي حسين المحامي (المتخرج من عهد قريب في مدرسة الحقوق الخديوية) فحملته الغيرة على أمته وبلاده على وضع كتاب جديد في هذا العلم يستمد مسائله من الكتب الإفرنجية الحديثة، وقد فعل وسماه (مبادئ علم الاقتصاد السياسي) ، وقد طبع الجزء الأول من عهد قريب فبلغت صفحاته 184 صفحة، وجعل ثمنه عشرة قروش صحيحة، فعسى أن يرى من الإقبال عليه ما ينهض بهمته إلى إتمام الكتاب تأليفًا وطبعًا. وهو يطلب من مؤلفه، ومن المكاتب المشهورة. وسننقل شيئًا منه تنويهًا به، وإفادة لقراء المنار. *** (الإسلام روح المدنية. رد على لورد كرومر) لم يكد ينتشر كتاب لورد كرومر، الذي سماه (مصر الحديثة) ، حتى كان أول ما ترجمته الجرائد المصرية منه، كلامه في الإسلام والمسلمين. ووعد بعض الأفراد وبعض الأحزاب بتأليف كتب في الرد عليه، ولكن قد سبق الجميع إلى ذلك صديقنا الشيخ مصطفى الغلاييني البيروني، فبادر إلى وضع كتاب في ذلك، وطبعه في بيروت في أيام الاستبداد الشديد، إذ كان يخشى المرء أن يحاسب ويعاقب على مثل هذا التأليف وعلى طبعه بدون رخصة من نظارة المعارف في الآستانة، ولو طلبت الرخصة فيه لما أجيب الطالب إلا إلى العقاب، وقد بلغ من شجاعة مؤلف هذا الكتاب أن ذكر فيه الأستاذ الإمام (رحمه الله تعالى) ، ونقل بعض كلامه وشيئًا مما يؤثر عنه، ونقل عن المنار أيضًا، وكان يومئ إلى ذلك بقوله: قال السيد في المجلة، وقد كان ذكر الأستاذ الإمام أو المنار قبل إعلان الدستور في المملكة العثمانية جريمة من أكبر الجرائم، وخطرًا على من يذكر هذا اللقب (الأستاذ الإمام) أو اسم صاحبه (الشيخ محمد عبده) أو المنار أو صاحبه، ولو تلويحًا من أشد الأخطار، فشكرًا للشيخ مصطفى على شجاعته وعمله. هذا ولم تتسن لنا مطالعة الكتاب، ولكننا نرجو أن يكون خيرًا مما كتب أكثر أصحاب الجرائد في الرد على لورد كرومر، وناهيك بمن يستمد من كلام الأستاذ الإمام، في الدفاع عن الإسلام، ومن يصدف عن ذلك ظاهرًا، وإن لم يستغن عن الاقتباس منه باطنًا، وثمن الكتاب في مصر خمسة قروش صحيحة عَدَا أجرة البريد، ويطلب من مكتبة المنار، فنحث القراء على مطالعته. *** (تاريخ العرب قبل الإسلام) كتاب جديد يؤلفه جرجي أفندي زيدان، المؤرخ العربي الشهير، وقد أنجز الجزء الأول منه، فإذا هو قد استمد مسائله من الكتب العربية، والكتب الإفرنجية في اللغات المختلفة. ولبعض الكتب الإفرنجية مزية على العربية في هذا الموضوع بما اكتشفوه من الآثار القديمة في بلاد العرب. وقد اقتبس المؤلف شيئًا منها لا يستغني عن الاطلاع عليه قراء العربية، وهو على قلته يصحّ أن يتمثل فيه بقول الشاعر: قليل ما أمرت به ولكن ... قليلك لا يقال له قليل وقد نظرنا في الكتاب نظرة إجمالية، فألفيناه حسن الترتيب جامعًا لكثير من المباحث النافعة، ولكن لم يتح لنا مطالعته لنحكم فيه على علم بما نرجو أن يكون قد جاء به من التحقيق فعسى أن ينتدب بعض من قرأه من أهل العلم والرأي إلى موافاتنا بمقال حافل في تقريظه ونقده، إظهارًا لقيمته، وشكرًا لفضل مؤلفه، أما ثمن هذا الجزء الذي صدر من الكتاب فعشرون قرشًا مصريًّا، ويطلب من مكتبة الهلال بالفجالة. *** (عروس فرغانة) هي إحدى القصص التي جعلها جرجي أفندي زيدان، منشئ الهلال ملحقة لسني مجلته (تتضمن وصف الدولة العباسية في عهد المعتصم بالله (سنة 218- 227هـ) ، وقيام الفرس لإرجاع دولتهم بالسيف، ونهوض الروم لاكتساح المملكة الإسلامية , ويتخلل ذلك وصف آداب الأتراك وعاداتهم في أقصى بلادهم ووصف سامُرَّا عاصمة المعتصم، وواقعة البذ في حرب بابك، وواقعة عمورية في حرب الروم، وغير ذلك) وهي تقع في 204 صفحات حسنة الطبع، وإن شهرة هذه القصص في إيداع الفكاهة القصصية المسلِّيَة شيئًا من الفوائد التاريخية , ورغبة القراء فيها مما يجعلها غنية عن التقريظ والثناء، وثمن النسخة منها عشرة قروش، وأجرة البريد قرشان، وتطلب من مكتبة الهلال. *** (مجلة صراط مستقيم) صدرت في الآستانة مجلة إسلامية يحررها باللغة التركية طائفة من العلماء، وقد كتب إلينا مديرها ما يأتي: إلى إدارة المنار: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) . شرعنا في نشر مجلة باسم الصراط المستقيم، والله الموفق. غرضنا خدمة الدين المبين، ولكن حال بلادنا من حيث الكتب والجرائد حال محزنة، ولم نكن نرى من قبل الآثار المصرية الثمينة، وهل كانت رؤيتها من الممكنات؟ والآثار التي كنا نملكها، جعلتها الحكومة السابقة طعامًا لمواقد الحمامات، وقد دخلنا منذ الآن في حياة جديدة. أما مجلتكم العلية، فهي مشهورة في جميع الكون، فنرغب أن يكون لإخواننا مساكين الترك نصيب من مائدتكم العلمية، ونحن مفتقرون في هذا الموضوع لمعاونتكم العلية، فنرجوكم أن ترسلوا لنا مجموعة من مجلتكم، وأن ترسلوا كل ما يصدر منها بعدُ في وقته. وإن أنبأتمونا عن الآثار الجديدة المطبوعة بمصر نكن لكم من الشاكرين، واقبلوا فائق احترامنا. (المنار) قد سررنا سرورًا عظيمًا بهذه المجلة، ونشكر لمديرها الفاضل حسن ظنه بنا، وسنبدي رأينا في منهجها ومقالاتها بعد أن يتيسر لنا ترجمة بعض مقالاتها، ثم نكتب لمديرها إن شاء الله تعالى. *** (القسطاس المستقيم) جريدة عربية جديدة أنشئت في دار السلطنة العثمانية (الآستانة) بعد إعلان الدستور، أنشأها الحاج محيي الدين أفندي كريمة، والحاج حسن أفندي المجدوب، من خيار أبناء بلدتنا (طرابلس الشام) المقيمين في الآستانة، وقيمة الاشتراك فيها نصف ليرة عثمانية في بلاد الدولة العَلِيّة، و60 قرشًا في مصر، و15 فرنكًا في البلاد الأجنبية. فنتمنى لها من الرواج والانتشار في هذه الديار وغيرها ما يبعث أصحابها إلى تكبير حجمها وتكثير فوائدها.

كتاب أبي معشر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب أبي معشر كُتِب إلينا من سنغافورة وجاوه أن هذا الكتاب منتشر في تلك البلاد، يجلبونه إليها من مصر، وأن بضاعة المنتحلين للتنجيم والعرافة رائجة به، وسألنا الكاتبون عن رأينا فيه، فأرسلوا إلينا نسخة منه لننظر فيها، إن لم يكن سبق لنا الاطلاع عليه، فنقول بعد الاطلاع على عدة أبراج منه: إننا لم نر في لغتنا كتابًا أجمع للمفاسد والمضارّ منه، فهو مفسد للعقل والدين والآداب، محرض على الفسق والفجور، مقطع للروابط بين الأزواج والأهل والجيران، وهو على ذلك كله خالٍ من الفائدة واللذة. أما كونه مفسدًا للعقل، فنعني به أنه يمد الضعيف في غيه، فيزيده فسادًا بقبوله لما وضع له من بيان ما يعرض للمرء في مستقبل حياته الدنيا. لو فكر من له مسكة من العقل أقل التفكير في الطريقة التي يبين بها هذا الكتاب حوادث المستقبل لجميع البشر في 24 فصلاً، منها 12 برجًا للرجال، و12 برجًا للنساء - لرأى أن ذلك باطل بالبداهة، فإن من مقتضى ذلك أن كل من اتفقت أسماؤهم وأسماء أمهاتهم، وكل من اتفق العدد الحاصل من جمع أسمائهم وأمهاتهم، بعد طرح عدد الاثنا عشر منها، حتى تبقى اثنا عشر أو أقل يكونون متفقين فيما يعرض لهم من الأمور والأحوال في أجسامهم من مرض وصحة وحياة وموت، وفي أزواجهم وأولادهم وكسبهم وغناهم وفقرهم وأخلاقهم وآدابهم ومكانتهم في الناس، وفي غير ذلك، لا فرق بين أحد منهم إلا من ثلاثة وجوه، فإن لكل برج عنده ثلاثة وجوه، يعبر عنها بقوله الوجه الأول من نظر إليه كوكب كذا يكون كيت وكيت. فللعاقل أن يجمع أسماء كثير من الملوك والأمراء والعلماء والأغنياء والفقراء والصناع والزراع والعمال والخدام - أسماءهم وأسماء أمهاتهم بحساب الجمل على طريقة أبي معشر، ويعرضها بعد الإسقاط على أبراجه، وينظر بعد ذلك فيما يشرحه من شئونهم، فبهذه الطريقة يظهر له بطلان ما في ذلك الكتاب، إن كان ممن يشتبه في بطلانه. ولا حاجة إلى شرح ذلك وتفصيله، فإنه يكاد يكون من البديهيات الأولية، وإنما يروج ما فيه على ضعفاء العقول من العوام والنساء، لأنهم لا ينظرون في طريقته نظرةً عامةً للبحث فيها، هل هي معقولة أم لا؟ وإنما يفكرون فيما يلقى إليهم من كلامه المجمل العامّ الذي ينطبق على بعض أحوالهم مع الإيمان والإذعان التقليدي بأن في أمثال هذه الكتب أنباء عن الغيب يتوارثها الخلف عن السلف، ويسلمون بها تسليمًا. أمثال هؤلاء الأغرار تسهل مخادعتهم، فلو قرأت لأحدهم البرج الذي يؤخذ من اسمه واسم أمه بطريقة أبي معشر أو غيره من البروج، لأخذ من كل ما يقرأ له شيئًا ينطبق على بعض أحواله، ووجد فيه شيئًا لا ينطبق عليها، ولكنه لانتظاره ما يمكن أن يصدق عليه، يتشبث ويفطن له، ويَغْبَى عن غيره ويظن أنه غير مقصود به. وأما إفساده للدين، فهو مشترك بين إفساده للعقل باعتقاد الباطل الذي ورد النهي عنه في الأحاديث الصحيحة التي تسمِّي تصديق المنجمين والعرافين كفرًا، وبين إفساد الآداب التي يأمر الشرع بالمحافظة عليها والتحريض على الفسق وتقطيع الروابط بين الأزواج وغيرهم. المعروف من أمر النساء أنهن أحرص على البحث عن مستقبل حياتهن من الدجالين والعرافين والمنجمين، وإنك لتجد في بروجهن من هذه المفسدات أكثر مما تجده في بروج الرجال. مثال ذلك أنه يقول للمرأة: إنها تتصل بكثير من الرجال بالحرام، وإنها تتزوج عدة أزواج، وإنها تكون سعيدة مع الأخير منهم، وإنها تكون شديدة الحظوة والقبول عند الكتاب أو الحكام ... فقل لي بعيشك، كيف تكون حال المرأة التي تعتقد صدق هذا الكتاب إذا سمعت من قارئه عليها أمثال هذه الأنباء؟ ألا يكون ذلك مجرئًا لها على العشق، وعلى بغض زوجها ... ؟ يظهر لي أن واضع هذا الكتاب كان حريصًا على هذه المفاسد متعمدًا لها، وأنه كان من كتاب الدواوين أو صديقًا لهم، لأنه يرغب النساء فيهن. ومن خبثه الدال على تعمده أنه يقول عن بعض النساء اللواتي يحرضهن على الفسق: إنهن يتُبْن بعد ذلك , ويوفقن للحج إلى بيت الله الحرام، فإنه بذلك ينال من إفساد العفيفة المتدينة ما كان يعز عليه أن يناله لو لم يخبرها بأنها ستوفق بعد ذلك إلى ما يكون كفارة لذنوبها. وقس على هذه المفسدة ما يصفه الكتاب من أحوال أعداء المرأة ومن يكيد لها ويتربص بها الدوائر، فإن ذلك يذهب بخيالها مذاهب في التطبيق على من تعرف من أهلها وجيرانها، ومتى اعتقد الإنسان أن أحد الناس عدوّ له، فإنه يحمل أكثر ما يراه منه على ما يقوي اعتقاده فيه، حتى إنه إذا سمعه يثني عليه، اعتقد أنه يتهكّم أو يعرض بذمّه. وجملة القول أن هذا الكتاب من أقبح الكتب وأشدها ضررًا، ولا شك في حرمة طبعه وبيعه، فما قولك بالاكتساب به، ألا يكون من كبائر الإثم والفواحش؟ بلى، وإن من قدر على منع طبع هذا الكتاب أو بيعه أو انتحال التنجيم به ولم يفعل، فهو آثم، ويغلب على ظني أن أهل سنغافورة وأهل جاوة، لو بينوا لحكومتيهم ما في هذا الكتاب من الدّجل والإفساد للآداب العامة، ومخالفة الدين، وطلبوا منع الدجالين من التنجيم به، لأجابتهم الحكومة إلى ذلك. ولو نبهت الحكومة المصرية مثل هذا التنبيه، لرجي أن تحاكم الذين يطبعون هذا الكتاب، وتمنعهم من بيعه، فعسى أن ينتدب لذلك بعض أهل الغيرة، وأن تحمل الجرائد اليومية على المتجرين بهذا الكتاب وأمثاله، وتطالب الحكومة بمجازاتهم على ما يمنعهم منه القانون المانع لكل ما يخالف الآداب العامة.

سفر صاحب المجلة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سَفر صاحب المجلة سافر صاحب هذه المجلة من القاهرة قاصدًا سوريا لزيارة الأهل والأقربين، والأصدقاء والمحبين، الذي حال بيننا وبينهم الاستبداد إحدى عشرة سنةً، كان ذكر اسمه فيها خطرًا عليهم، يهددهم به من يستاء من أحد منهم، قائلاً: إما أن تفعلوا كذا أو تتركوا كذا , وإما أن أبلغ الحكومة بأنكم تكتبون إلى صاحب المنار , أو يكتب هو إليكم , أو أنكم على رأيه واعتقاده في حاجة الدولة والأمة إلى الإصلاح، ونحو ذلك. سافرنا قبل صدور هذا الجزء، وإننا نكتب هذا في القطار بين القاهرة وبورسعيد. وسنقيم في تلك الديار إلى ما بعد عيد الفطر، ثم نعود منها، وندخل مصر إن شاء الله آمنين. وقد جعلنا أخًا لنا وكيلاً عنا في إدارة المجلة ومطبعتها، وعهدنا إلى إدارة البريد المصري أن تعده وكيلاً عنا، وتدفع له كل ما يرد باسمنا من الرسائل والدراهم. فعسى أن تكون غيرة قراء المنار الأخيار على إدارة المجلة في غيبتنا أعظم مما كانت عليه أيام كنا فيها، وأن يرسلوا إليها ما وجب عليهم من قيمة الاشتراك، فإن العمل فيها وفي المطبعة لا يزال مستمرًّا، وإنا لَنَعُدُّ مَن يرسل قيمة الاشتراك إلى المجلة في غيبتنا، من أفضل أهل الذوق والوفاء لنا، بل نعد له ذلك جميلاً يذكر، وفضلاً يشكر.

مكاشفة في أول ولاية السلطان عبد الحميد ومدتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مكاشفة في أول ولاية السلطان عبد الحميد ومدتها كان كثير من أهل الآستانة وغيرهم من خواص العثمانيين يتحدثون بأن بعض المنجمين أو الصالحين بشر السلطان عبد الحميد بأنه يكون ملكًا مدة ثلاث وثلاثين سنة، وقد حدثني بعض كبار رجال الدولة في سياق الكلام على اعتقاد السلطان بالمشايخ الذين يدعون الكشف أو الجفر والزايرجة، كأبي الهدى وعنايته بالشيخ ظافر - حديثًا غريبًا يرويه عن السلطان نفسه، وملخصه أنه كان في المدينة المنورة رجل يعرف بأمين أفندي الطرابزوني، يشتغل بالجفر، ويخبر بأمور المستقبل، فأرسل إليه السلطان يتعرف منه هل يكون سلطانًا، فقال: إنه يكون سلطانًا في سنة 1293، قال هذا للشيخ ظافر، وكان هو الواسطة بينهما، فلما أنبأ الشيخ ظافر عبد الحميد (أفندي) بذلك كبر عليه أن يصدقه، لأن عمه السلطان عبد العزيز كان في صحته وعافيته، وكذلك أخوه مراد أفندي، الذي هو ولي العهد، وكان ذلك في أول تلك السنة، ولكن لم يلبث أن صدق كلامه كما هو معلوم. قال الراوي هذا معنى ما سمعته بأذني من السلطان عبد الحميد، وسمعت بعض الكبراء في الآستانة يزيدون في الرواية قائلين: إن أمين أفندي حدد مدة ملكه بثلاث وثلاثين سنة، فقال يملك أو يحكم 33 سنة. ومن يتذكر أن السلطان ولي في شعبان سنة 1293، يعلم أن المدة قد تمت بحسب السنين الهجرية، ويحتمل أن يقال في تأويل الشق الثاني من الخبر: إن السنة الثالثة والثلاثين قد كانت خاتمة لحكم السلطان بنفسه وقبضه على زمام السلطة بيده، فإن إعلان الدستور قد حول الحكم إلى الوزارة ومجلس الأمة. ولعل السلطان نفسه يفكر في هذا التأويل، فينشرح له صدره، إذ كان ممن يصدق أمثال هؤلاء القائلين، لا سِيَّمَا بعد أن صدق الخبر فيما يتعلق بأول الولاية. وأما من لا يبالي بهم صدقوا أم كذبوا، فلا يحتاج إلى التأويل. وقد ذكرت هذا الخبر قبل إعلان الدستور لكثيرين، وبعده لكثيرين، منهم أصحاب المقطم.

الاحتفالات بالدستور العثماني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفالات بالدستور العثماني احتفل العثمانيون عامة بالدستور في بلادهم، وفي كل بلد يضم طائفة منهم، في مشارق الأرض ومغاربها، وقد كان السرور بالدستور مدرسة للتربية والتعليم، تعلم فيها ألوف من العثمانيين الخطابة، وتربوا على الوفاق والمحبة، ولكنها كانت مدرسة لا كالمدارس: كان تعليمها يشبه الوحي، وتربيتها تشبه الآيات والمعجزات، فإنها قد علمت الخلق الكثير في يوم واحد، وربت الشعوب المختلفة في الأجناس واللغات والأديان والمذاهب والتقاليد والعادات في ساعة واحدة. لو صافح المسلمون النصارى في سلانيك والآستانة ومصر فقط، لكان لقائل أن يقول: إن ذلك أمر طبيعي، حصل بالسعي في الزمن الطويل، فإن أحرار العثمانيين الذين على هذا الرأي كثيرون جدًّا في هذه البلاد، وهم يسعون له من قبل، ولو وافقهم مثل أهل بيروت والشام، لقال ذلك القائل: إن أهل هذين البلدين على مقربة من أهل هاتيك البلاد، فيما ذكر من وجود الأحرار العقلاء المحبين للإصلاح فيهم، ومن وقوفهم في أقرب وقت على ما كان من إخوانهم في هاتيك الأمصار التي سبقتهم عملاً وسعيًا إلى ذلك، فلم يلبثوا أن جاوروهم أو اتبعوهم. ولكن ماذا يقول ذلك القائل في موافقة عمل أهل جدة (ثغر الحجاز) , وأهل البرازيل وأهل الأرجنتين لعمل أهل الآستانة وسلانيك ومصر والشام والعراق في وقت واحد، وهم لا يعلمون من أمرهم في ذلك شيئًا. كتب إلي وجيه من مسلمي جدة كتابًا يشرح فيه ما كان من أمر أهلها في الاحتفال بالدستور، على الرغم من والي الحجاز راتب باشا الظالم الملحد في الحرم، الذي كان يومئذ فيها كاتمًا للدستور، ثم مثبطًا للهمم عن الاحتفال به، بعد أن أعلنته للناس جمعية الاتحاد والترقي. فقد قال الكاتب: إن المسلمين والنصارى قد تزاوروا وتعانقوا في ذلك الاحتفال، وطفق كل فريق يهنئ الآخر. وذكر أمورًا أخرى منها حسن تأثيره في نفوس الأعراب، ومنها بعض مفاسد الوالي واتفاقه مع الأمير الشريف. وقد أوقَفَنَا على هذا الكتاب بعض محرري الأهرام والمقطم، فلخصوه في الجريدتين. وكتب إلينا جورج أفندي حداد، مؤسس شعبة جمعية الشورى العثمانية في البرازيل، كتابًا في الاحتفال الذي قام به العثمانيون في سان باولو، قال فيه: إن الأرمن الذين هنا لم يكونوا يكلمون السوريين ولا يعاشرونهم، فلما جاء نبأ الدستور أقبل بعضهم على بعض متعارفين متوادّين وانتظم موكب الاحتفال من المسلمين والدروز والنصارى من الأرمن والسوريين وغيرهم. فهل يمكن أن يكون هذا وذاك بتواطؤ أو تقليد؟ وذكر أنه اجتمع للقيام بالاحتفال نحو ألفي سوري، ومائة أرمني في أعظم مرسح في سان باولو، وكانت الموسيقى العسكرية تشب من نار حماسهم، وتضاعف سرورهم وجذلهم، ثم انبرى للخطابة فريق منهم، وخطب هو أيضًا بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن إخوانه الأحرار، مؤسسي جمعية الشورى العثمانية في مصر، قال: (ثم سار الموكب، تتقدمه الموسيقى، وهو رافع راية عثمانية كبيرة جدًّا، صنعت لهذا الاحتفال خاصة، إلى دار القنصلية العثمانية، ومذ أبصرهم القنصل، رفع الراية العثمانية، وجعل يحييهم بها، وقد صعد أعضاء لجنة الاحتفال إلى مكان القنصل، وهنأه بعضهم وقدم إليه عريضة طولها 80 سنتمترًا وعرضها 50 فحواها الشكر للسلطان على رضاه بإعادة نشر القانون الأساسي، ونيل شعبه للحرية، وبينا كان القنصل يخاطب الأعضاء، طلب الجماهير منه أن يشرف عليهم من إحدى النوافذ، ويظهر أن الرجل من أرباب الحزب المحافظ، وممن تأصلت في نفوسهم الكبرياء؛ لأنه لم يحفل بالطلب، ولم يلب النداء، فهاج الناس واضطربوا وصاحوا: إن مولانا السلطان خاطب الشعب من النافذة مظهرًا الرضا والسرور، فكيف تأبى ذلك، وأنت من صغار مستخدمي دولتنا العَلِيَّة؟ فاضطر القنصل لمخاطبتهم والاعتذار إليهم، ثم تركوا دار القنصلية, وطفقوا يطوفون بالشوارع العظيمة، والحاصل أن هذا الموكب المؤلف من هذه الفرق التي كانت تحتدم في نفوسها نار العداوة والبغضاء وكره الواحدة منهن للأخرى، كان من أجمل المناظر التي تسر بها النفوس، وتغبط لها القلوب) . وجاء في جريدة أبي الهول البرازيلية في ختام كلامها عن هذا الاحتفال ما نصه: اهتمت الصحافة البرازيلية والطليانية بالمظاهرة وذكرتها بالثناء والتكريم، وجرائدنا العربية لم يهتم منها بالحفلة إلا الميزان. فالأفكار ذكرتها بأقل مما تذكر عن حفلة إكليل، وطلبت من الله في الختام أن يجعل الحرية طويلة المكث في ديارنا! والدستور ثابت القرار في وطننا! وصاحب الأفكار لم يحضر الحفلة، وهكذا محرر المنارة الذي اهتم بالمظاهرة الخارجية أكثر من المظاهرة الداخلية اعتقادًا منه أن الأخيرة غير لازمة! وقد اهتم جناب الأديب إلياس أفندي مسرة بالأمر وطير الخبر تلغرافيًّا إلى جريدته في باريس، فاستحق الشكر. وتكرم جناب الشيخ سابا الخوري نزيل الريو، فأفاد اللجنة أن شركة هافاس نقلت الخبر إلى لندن ثم إلى بقية العواصم الكبيرة. وقد شارك إخواننا الأرمن نزلاء سان باولو بهذا الاحتفال الذي كان فريدًا في عظمته، ويتيمًا في محاسنه. وفي الختام نثني بلسان الحرية على اللجنة التي رتبت هذه المظاهرة، ونشكر الخطباء الذين حركوا في صدور الجمهور الحماس، ونهنئ الشعب السوري في هذا العيد الكبير، عيد الحرية والمساواة. ولاتزال جرائد أمريكا الشمالية والجنوبية تأتينا وهي ملأى بذكر الاحتفال بالدستور في معظم الولايات والأرجاء الأمريكية، واشتراك جميع الطوائف والملل في ذلك، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه في صدر هذا المقال. وكتب إلينا من المفازة في بلاد السودان محمد أفندي كمال الدين عدره سرتجار البندر يقول: إنه طاف بالناس بعد علمه بنبأ الدستور ودعاهم إلى منزله للاحتفال ببعثة الدستور من قبره، فلبى دعوته خلق كثير من السودانيين، وأشخاص من السوريين الموظفين في الحكومة، فتلا عليهم خطابًا ألم فيه بماضي الدولة المظلم، وما يرجى لها من النجاح والفلاح في المستقبل، وشكر لرجال الأحرار الذين كانوا مبثوثين في البلاد الحرة، ومشتتين في أصقاع المعمور، يسعون فيما اختطوه لأنفسهم وجعلوه نصب أعينهم حتى رجعوا إلى بلادهم وألوية النصر تخفق فوق رؤوسهم، وجنود الظفر تحيط بهم. ثم قام بعده طاهر أفندي الخانجي باشكاتب المركز، وشكر للحاضرين تلبيتهم الدعوة للاحتفال بالدستور، وطلب من صاحب الدعوة بلسانه ولسان الحاضرين أن يكتب لرئيس الأحرار، مهنئًا بهذا الفوز العظيم، فأجاب الجمهور بأنه يعرف من رجال الأحرار صاحب المنار، وأنه سيكتب إليه بما رغبوا، فهتفوا جميعهم للمنار، وبعد ذلك انفرط عقدهم وهم مسرورون بهذه الحال، شاكرون للداعي إلى الاحتفال.

احتفال الأرمن بذكرى شهداء الحرية العثمانيين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ احتفال الأرمن بذكرى شهداء الحرية العثمانيين في اليوم الثالث من هذا الشهر احتفلت طائفة الأرمن في كنيستها بالقاهرة بإحياء ذكرى شهداء الحرية من جميع العثمانيين. فحضر الاحتفال خلق كثير من العثمانيين المقيمين بمصر، ومن المصريين، حتى اكتظت بهم الكنيسة على سعتها، وبقي جمهور عظيم في رحبتها. وقد أقيم أمام محراب الكنيسة (المذبح) دكة كبيرة على جانبيها رايتان سوداوان، بينهما راية بيضاء كتب عليها (إكرام شهداء الحرية العثمانيين) ، ووضع عليها مقاعد للقسيسين والخطباء، ووقف من دونها جوقة من بنات المدرسة الأرمنية , كن يلقين بين كل خطبة وأخرى نشيدًا مؤثرًا وضع لهذا الغرض. افتتح الحفلة عظيم القوم وأسقفهم، وتلته فتاة أرمنية بخطبة أحسنت إلقاءها، فحسن وقعها، وخطب بعض فضلاء الأرمن بالأرمنية، وبعضهم بالتركية، فأحسنوا وأجادوا وصفق لهم القوم تصفيقًا. وخطب الدكتور شرف الدين بك، أحد مسلمي الترك الأحرار، وهو من أفضل من عرفنا أخلاقًا وآدابًا، فذكر ما كان بين المسلمين والأرمن من المودة، قبل حوادث الأرمن المشئومة المعروفة، حتى كان مما قاله، أن المسلم كان يدعى إلى الخدمة العسكرية، فيذهب إليها تاركًا امرأته وأولاده وأملاكه إلى جاره الأرمني، يتعهدها في غيبته بما يجب، كما كان الأرمني يفعل مثل ذلك إذا احتاج إلى مغادرة مكانه لأمر ما. ثم ألم بذكر ما جرَّ إليه الاستبداد من تلك الحوادث المشئومة واستطرد منها إلى ذكر الإصلاح الذي نشده الأحرار فأصابوه، وقال: إن المسلمين من الترك وسائر العثمانيين ليسوا متعصبين كما يصورهم بعض الناس، فإن أول حركة أتوا بها بعد أن نالوا الحرية في عاصمتهم، هي زيارتهم لأضرحة الذين قضوا ضحية للظالمين. وبعد أن أتم خطابه التفت إلى أسقف الأرمن ومَنْ بجانبه من القسيسين فعانقهم واحدًا بعد واحد، فصفقت الجماهير لهذا المنظر أضعاف تصفيقهم الكثير للخطيب. ثم خطب الدكتور برتوكاليس بك الرومي العثماني باللغة الفرنسية، فالدكتور فارس أفندي نمر بالعربية، فأحسنا وأجادا، وكان كل أولئك الخطباء قد عهد إليهم بالخطابة، وكتبت أسماؤهم في البرنامج المطبوع في بيان ترتيب الاحتفال. كادوا يختمون الاحتفال بعد خطاب فارس أفندي نمر، لولا أن اقترح بعض المصريين الحاضرين على صاحب هذه المجلة الصعود إلى الدكة وإلقاء شيء مما يفتح عليه به. وقد تمنعت معتذرًا بأن الاحتفالات المنتظمة التي يعين فيها عدد الخطباء وموعد الإلقاء لا يحسن أن يُتطفل عليها، ففطن لذلك بعض العثمانيين من الأرمن وغيرهم، فاختطفوني من مجلسي وأصعدوني إلى دكة الخطابة، فتلقاني الأسقف والقُسوس بالحفاوة، وبعد العناق الْتَفَتُّ إلى الجمهور إجابة لما اقترحه المقترحون , وقلت والتصفيق والهتاف يكاد يبلغ عنان السماء ما خلاصته: قد رأيتم أيها السادة أنني اختُطِفْتُ من مكاني إلى هذا الموقف الذي أثر في وجداني تأثيرًا لم يدع لتصور الكلام وتدبيره مجالاً، فمهما سمعتم مني فأنا معذور بالتقصير فيه. قد رأيتم أنني عانقت هؤلاء الأحبار والقِسّيسين، وأنا رجل من رجال الدين الإسلامي، ولا بدع في ذلك، فإن شيخنا الأكبر شيخ الإسلام قد سبقني إلى ذلك، فعانق البطرك في دار السلطنة، وإن القانون الأساسي الذي نلنا به هذه المساواة التي نحتفل بها لم ننله إلا بمساعدة شيخ الإسلام الحال، فقد روي لنا أن السلطان كان يريد قمع الحركة العسكرية الطالبة للدستور بالقوة، فاستفتى شيخ الإسلام في ذلك، فلم يفته، بل قال: إن قتالهم غير جائر شرعًا؛ لأنهم يطلبون طلبًا شرعيًّا. وقد كان أحد مشايخ الإسلام من واضعي هذا القانون مع مدحت باشا وإخوانه، فهذا القانون قد وضع بفتوى من أحد شيوخ الإسلام، وأعيد الآن بمساعدة شيخ الإسلام، فهو موافق للإسلام. لا أقول هذا تقليدًا للشيخين، فإنني أقول ما أقول في الإسلام عن علم وبصيرة، ويعلم كثير من الأرمن الحاضرين أنني من مؤسسي إحدى جمعيات الأحرار التي سبقت غيرها إلى التأليف بين جميع العثمانيين بالفعل، قبل أن تفكر في ذلك جمعياتنا في أوروبا، بل إن هذا الفقير هو رئيس اللجنة المؤسسة لهذه الجمعية التي من بعض أعضاء إدارتها أحد خطباء الأرمن النجباء في هذا الاحتفال. وإنما احتججت بشيخ الإسلام السابق، وشيخ الإسلام الحال، تنويهًا بفضلهما، وإقامة للحجة على من يزعمون أن المسلمين متعصبون أو أن دينهم ينافي الحرية والمساواة - وعلى بعض الجاهلين من المسلمين الذين يظنون أنهم بالتعصب الذميم يخدمون الدين، وإنما هم يَجْنُون عليه بذلك. ثم انتقلت إلى الكلام عن المساواة التي ابتهج بها العثمانيون كافّة، وبينت أنها مما جاء به الإسلام، ثم قلت: يقولون: إن فرنسا هي أم الحرية والمساواة. نعم، ولا ينكر فضل فرنسا أحد، ولكن العثمانيين أجدر من الفرنسيين بالفخر بالمساواة. إن فرنسا أمة واحدة، جنسها واحد، دينها واحد، مذهبها واحد، لغتها واحدة، تربيتها واحدة، فأي غرابة في طلب عقلائها وفضلائها المساواة بين أفرادها بعد أن عرفوا ما لهم على حكومتهم وما عليهم لها، بل ما ينبغي أن تكون عليه، وهم متفقون في هذه الوحدات كلها؟ لا غرابة ولا عجب. أما نحن العثمانيين، فإننا قد جمعنا من أشتات الأجناس المتفرقين في كل شيء ما لم يجتمع في مملكة أخرى. نحن متفرقون في الأجناس والأنساب، متفرقون في اللغات، متفرقون في الدين، متفرقون في المذاهب، متفرقون في طرق التربية والتعليم - أو نقول في الجملة: إننا متفرقون في كل شيء يتفرق فيه الناس، فإن كنا على هذا كله نطلب المساواة ونحتفل بنيلها في المعاهد العامة والمعابد الدينية، فلا شك أن في هذا مجالاً للفخر وموضعًا للعجب. وقد يتساءل عن سبب ذلك , ويظن أنه مخالف لقوانين الاجتماع الإنساني، لا سِيَّمَا بعد أن برَّح الاستبداد بنا تبريحًا زاد في مسافات الخلف بين الطوائف والملل اتساعًا، وملأ القلوب إحنة وبغضاء. ولكن المتأمل في ذلك يرى له سببًا طبيعيًا ظاهرًا، وهو ذلك الاستبداد الذي زاد في التفريق والتمزيق، ذلك الاستبداد نفسه هو الذي مزقنا أولاً , ثم جمعنا ثانيًا. كيف كان هذا؟ إنما كان بالمساواة في الظلم، وتعميم الاستبداد، فلولا أن الاستبداد كان عامًّا، واقعًا على جميع العثمانيين بالمساواة في الجملة، لما كان الاندفاع إلى طلب المساواة بالدستور عامًّا. كان ظلم الاستبداد واقعًا على رأس المسلم والنصراني وغيرهما، كان عامًّا شاملاً، للتركي والعربي، والأرمني والكردي، والألباني والرومي، فهذه المساواة هي التي جمعت كلمة الأحرار العقلاء من جميع هذه الطوائف على تمني المساواة في العدل الذي قرره الدستور، وهو الذي نهض بهمة العاملين من هؤلاء الأحرار إلى طلب ذلك بكل وسيلة ممكنة، وهو الذي هز أريحية جميع العثمانيين للاحتفال بالدستور بعد الظفر به، بسعي جمعياتهم وقوة ضباطهم وجيشهم - فإذا كانت المساواة في الشر قد أدّت إلى هذا الخير، فما أعظم فائدة المساواة، وما أعَمَّ بركتَها؛ فحيا الله المساواة. فنحن العثمانيين جديرون بالفخر بالدستور إذ غلبنا الأهواء والموانع الناشئة من اختلافنا حتى نلناه، جديرون بالاتفاق على الاحتفال به وإقامة الأعياد العامة له، جديرون بالمحافظة عليه، جديرون بالتنويه بالأحرار الذين نجحوا في نيله، وبالدعاء والذكر الحسن لمن مات منهم شهيدًا في سبيله. ثم اعتذرت عن الإطالة بذهاب الوقت المعين، وبما ألم بالحاضرين من الجوع والسآمة , وقد كان لكلام هذا العاجز من حسن الوقع والتأثير فوق ما يستحقه؛ دل على ذلك ما ظهر على وجوه الحاضرين، ولما كان من شدة التصفيق وتكرره، ثم التهاني التي سمعتها في الكنيسة وبعد الخروج منها، في ذلك اليوم وبعده بأيام، وكان أكثر المهنئين تلطفًا في التهنئة وإطراءً في الثناء، أولئك الخطباء البلغاء الذين سبقوني بخطبهم المفيدة، كالدكاترة شرف الدين بك، وبرتوكاليس بك، وفارس أفندي نمر، حتى قال هذا الأخير: إن تأثير هذه الوقفة أعظم من تأثير المنار في عشر سنين، أي فيما يتعلق بمشرب المنار في التساهل والدعوة إلى الوفاق والوداد بين المسلمين وغيرهم. وممن كرر لنا التهنئة بذلك الدكتور نجم الدين بك عارف، من فضلاء الترك المقيمين بمصر، والعارفين بالعربية، وجمهور أحرار الأرمن؛ بل كان ابتهاج هؤلاء عامًّا، فنسأل الله تعالى أن يديم علينا معشر العثمانيين نعمة الوفاق والتوفيق لحفظ الدستور والاستفادة التامة منه.

الصحف في البلاد العثمانية

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ الصحف في البلاد العثمانية لم تكد الاحتفالات تنتهي في عاصمة السلطنة وسائر بلادها، حتى طفق أهل العلم والفضل يمدون الجرائد بآرائهم وأفكارهم، وانبرى الأديبات في الآستانة خاصة للكتابة، بعد أن وقفن ذلك الموقف المشهود في الخطابة، فأكد لنا الخُبر الخَبر، وهو ما كنا نسمعه عن الارتقاء الأدبي العظيم في الآستانة وغيرها من ولايات الدولة، ولا مراء في أن هذا الانقلاب الأخير نتيجة ذلك الارتقاء الكبير. تسابق الناس إلى طلب إنشاء الجرائد والمجلات، ولا سِيَّمَا في الآستانة، حتى بلغ عدد ما أنشئ فيها وحدها حتى الآن مائتين وعشرين، ما بين جريدة ومجلة، وقد صدر في بقية البلاد ما يقارب ذلك، ومن ذلك ثماني جرائد هزلية مصورة رأيناها معتصمة بحبوة النزاهة والأدب، بعيدة عن المجون وسخيف الهزل، ولا رَيْبَ في أن أعمال المرء هي مرآة لأخلاقه، ينطبع فيها ما يحمد وما يذم، وعسى أن تكون هذه الجرائد الهزلية في مسلكها الأدبي قدوة لكثير من جرائدنا الكبرى التي أصبحت مجموعة للشتائم والتفنن في أساليبها، حتى صار كثير من الأدباء يصدفون عن قراءة الجرائد العربية. رأيت في جريدة (قلم) إحدى الجرائد التي نوهت بها في صدر هذا المقال رسمًا أثر فيّ تأثيرَا لم أعرفه منذ وُجدْتُ، أحدث في فؤادي اضطرابًا، وفي جسمي رعدة عظيمة، وقشعريرة قوية الشكيمة، حتى كدت لا أملك نفسي على دفع البكاء، ثم تلا ذلك انكماش وسكون، وفتور وذهول. ذلك الرسم يمثل هيكلاً منتصبًا من العظام، يحكي رسوم علماء التشريح (Physiologic) التي توضع للدلالة على أعضاء الإنسان، لا لما وضعه صاحب الجريدة، وهو تلاوة العفو على هذا الهيكل من السلطان! يرى الرائي ذلك الهيكل والأداهم والقيود مطوقة يديه ورجليه، كأنه من بقايا المغضوب عليهم من نيرون العاتي الروماني، وأمامه رجل يتلو عليه نبأ العفو عن السياسيين! فكأن الرسم يقول له: اغرب عني؛ فقد جئت بعد وقتك بزمان طويل، وما أكثر الذين ذاقوا من وبال حكومة الظلم السابقة ما يجعل هذا الرسم ينطبق عليهم تمام الانطباق. ورأيت رسمًا آخر يمثل سجينًا أخنت عليه السنون، وأذاقه الظُّلاَّم عذاب الهون، فتبدلت خلقته، وتغيرت سحنته، وانسدل شعره على كتفيه، وملأت لحيته صدره، وطالت أظفاره، حتى صدق عليه قول عنترة في الأسد: (له لبد أظفاره لم تقلم) وما كانت حياة أبي الأحرار مدحت باشا في منفاه (قبر الأحياء) إلا كحياة هذا السجين. ظهرت الجرائد في حياتها الجديدة، فرأينا فيها المباحث المستفيضة في السياسة والعمران والاجتماع، وكلها تدل على اختبار منشئيها، وَسَعَة علم كاتبيها، وبُعْد غورهم في السياسة، وحسن أسلوبهم في استمالة الدول، ولا سِيَّمَا صديقتَيْ دولتنا القديمتين، إنكلترا وفرنسا، حتى مالتا إلينا وقرظتا أحرارنا أحسن تقريظ، وحتى أصبح أحد وزراء فرنسا من قبل يقول في خطبة له: (إن أحرار تركيا أعظم من رجال الثورة في فرنسا) ، وناهيك صدور هذا القول من فرنسي، دع أنه من مشهوري رجال السياسة؛ لأن الفرنسي يملأ ماضِغَيْهِ فخرًا برجال الثورة، ويعترف بأنهم فوق كل البشر، بل أصبح ساسة الإنكليز يكتبون عنا مثل الفقرة الآتية من مقالة لجريدة الدايلي تلغراف الكبرى: (وأكبر واجب على إنكلترا في الحال الحاضرة، أن تساعد بكل قواها رجال الإصلاح في السلطنة العثمانية، وتراقب مراقبة حبية عمل أية دولة تحاول بذر بذور الشقاق في البلقان , أو أي عمل يراد به مناوأة رجال تركيا الفتاة في شئونهم) ، وإذا لم تجن من صداقتنا لهاتين الدولتين الكبريين فائدة إلا صدهما لباقي الدول عن عرقلة مساعينا وإيقاف سير أعمالنا، لكانت خير فائدة. كانت الجرائد قبل هذا الانقلاب تكتب بغير أقلام أصحابها، وأريد بذلك أنها كانت تكتب ما يراد منها من إطراء أعمال الحاكمين، وتقديس البغاة الظالمين، لا ما تريد من المباحث التي تعود بالنفع والخير على البلاد والعباد، على أن كثيرًا من أصحاب الجرائد كانوا مغبوطين بتلك الحال التي جعلتهم في مصافِّ الأغنياء والعظماء - عظماءِ ذلك العصر المظلم، الذي كانت العظمة فيه عبارة عن الخيانة والجاسوسية والوساطة بين الحاكمين والمحكومين لهم، بالرشى وأكل أموال الناس بالباطل. ولكن جرائد الآستانة كانت على شدة المراقبة والسيطرة عليها تكتب في شئون الزراعة والصناعة والأدب، وما في معنى ذلك مما لا علاقة له بالسياسة كل مفيد، أما جرائد سوريا وباقي الولايات، فكانت دون أخواتها في الآستانة في المباحث، وأوغل منهن في تقديس السلطة الجائرة، والفئة الباغية الخاسرة، ثم لاتزال بعد التمتع بالحرية متخلفة عنها بمراحل، فعسى أن تغذّ في سيرها، وتجتهد في إدراك شأوها، فلا تضع نفسها منها موضع الظالع من الضليع، ورجاؤنا كبير في الذين عقدوا النية على إنشاء جرائد جديدة في تحقيق الأمل كصديقنا الشيخ أحمد حسن طبارة، الذي أصدر جريدته (الاتحاد العثماني) , وصديقنا عبد الغني أفندي العريسي، فإنه عزم هو وحسن أفندي بيهم الشهير على إصدار جريدة يومية سمياها (المفيد) وأذاع صديقانا جرجي أفندي يني، وأخوه صموئيل أفندي نشرة ذكرا فيها أنهما سينشآن مجلة علمية أدبية سياسية، دَعَوَاها المباحثَ، فسرنا هذا النبأ؛ لأن الكاتبين ضليعان بما انتدبا له. استغرقت المباحث السياسية أقلام الكتاب، حتى يكاد من ينظر في جرائد الآستانة، في هذه الآونة، لا يرى فيها مقالة أدبية أو بحثًّا اجتماعيًّا أو أخلاقيًّا إلا فيما ندر، وهم لم يتناولوا المرأة في بحثهم ألبتة، لذلك انبرت عاطفة جلال إحدى فضليات بنات الآستانة , وكتبت مقالة تستنكر فيها ذلك، وقد بحثت في شأن المرأة بحثًا مفيدًا، ودعت الكتاب إلى مشاركتها في موضوعها، نشرت المقالة في جريدة (ثروت فنون) بعنوان (أليس لنا نصيب في الرقي) وترجمتها (الجريدة) بالعربية وإننا ننقلها عنها بنصها، مع تصحيح قليل، قالت: (نقرأ الجرائد، فلا نراها تكتب في المرأة إلا شذرات قليلة، وبعض مقالات يكتبها بعض السيدات، فنستغرب من كتابنا تركهم للمباحث الجليلة في رقي المرأة، على أنهم يكثرون من كتابة المقالات الضافية الذيول، الكبيرة الحواشي، في إصلاح الحيوانات الأهلية، ونراهم حلقوا بأقلامهم في جو الصين واليابان، وما فكروا قط في إصلاح أحوال المرأة، كأن المرأة في نظرهم لا تعد من الإنسان، أو هي في درجة أقل من درجة الحيوان، أو كأن المرأة لاتزال في اعتبارهم معدودة من الزينة غير المفيدة، أو من متاع البيت. ترى حضرة المحرر الشهير، والكاتب البارع، مشناق بك يملأ أعمدة الجرائد بالكتابة عن شركة البواخر، ولم نره يكتب عن إصلاح المرأة، كأن إصلاح المرأة في نظره ليس له من الأهمية في الهيئة الاجتماعية ما لشركة السفن. ينصح لي بعض الأعيان بأن أقرأ ثلاثًا، وأكتب واحدة! حبًا وكرامة، فإني أقرأ خمسًا، وأكتب واحدة، وإذا أرادوا الزيادة، فلا أكتب شيئًا، وأقرأ عشرًا، ولكن هل لهم أن يتفضلوا هم ويكتبوا فيغنوني عن الكتابة. نحن نعد أنفسنا من بني الإنسان، ونطلب أن يكون لنا نصيب في الهيئة الاجتماعية، ولقد سكت الكتاب العثمانيون عن البحث عن حقوقنا، مع أن الإنسانية تقضي عليهم أن لا يسكتوا، وأن يطلبوا إصلاحنا قبل أن نطلبه نحن. نحن نرى مباحث الصحف منحصرة إلى الآن في كيف تكون زينة المرأة، كأن المرأة إذا ذكرت، لا يتبادر من ذكرها إلا أنها (ألعوبة مزينة) ولا يخطر على بال الباحث في هاته الصحف أن المرأة كالرجل لها ما له وعليها ما عليه. فيجب أن لا يقتصر الباحثون على زينة المرأة كلما أرادوا البحث في شأنها، ومن يقتصر على ذلك يهين المرأة، ويجرح عواطفها. ونحن نريد أن نزين عقولنا قبل أن نزين أجسادنا، وهذا لا يكون إلا بالتربية والتعليم، وفتح أبواب المدارس في وجوه الفتيات. اقترحت حضرة فاطمة هانم أفندي في مقالتها التي نشرتها (ثروت فنون) أن تؤخذ سراي رضوان باشا، وتجعل مدرسة للبنات، وأما أنا فأرى أن تفتح مدرسة للبنات حيثما كانت وكيفما وجدت. وقد استحسنت الكاتبة أن يتضمن بروجرام المدرسة تعليم التطريز والأمور المنزلية، باللغتين التركية والإنكليزية، ورأيي أنه متى كان التدريس جيّدًا مفيدًا، فليكن بأية لغة كانت. وإذا وفقت فاطمة هانم أفندي إلى إنشاء هذه المدرسة، فلتعدني خادمة فيها، فإن لم أستطع أن أقوم بوظيفة التعليم والتدريس، فإنني أكون من جملة المتعلمات، لأن في التعلم والتعليم خدمة للوطن، وأؤكد أن بيننا من النساء من هي واسعة الاطلاع، عارفة بحاجات الأمة. المرأة تمثل في الهيئة الاجتماعية نصف أدوار قصة الحياة، فلو عرف الكتاب الكرام هذه الحقيقة، وأعطوها حقها من البحث، لقاموا بخدمة وطنية عظيمة، وأظن أنهم إذا فعلوا ذلك بقيت عظمتهم الكتابية في المنزلة التي لا تمس بسوء، فهل يرضى أولئك الكتاب أن يشتغلوا في كثير مما لا فائدة منه، وأنا وأمثالي من الفتيات ننادي بإنشاء المدارس، ونحن لانزال في دور التحصيل؟ اهـ فعسى أن نرى في فتياتنا من ينهجن نهج الكاتبة القويم، ويذهبن مذهبها في وجوب التربية والتعليم. وقد ورد في الأنباء الأخيرة أن مشيخة الإسلام أعلنت بأنها ستصدر جريدة شبيهة بالرسمية، تنشر فيها مزايا الدين الإسلامي، ودحض التأويلات وبيان فسادها، ورد الشبهات التي يرمى بها، هديًا للناس، ودفعًا للخرافات والأوهام، فسرنا هذا النبأ كثيرًا الآن، مثل هذه الجريدة ستقطع ألسنة كثير من الحشويين والممخرقين، وتقضي على التقليد والمقلدين، فتكون عونًا للمنار على تأييد مبادئه التي جاهر بها منذ سنين. ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا

البرنامج السياسي لجمعية الاتحاد والترقي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البرنامج السياسي لجمعية الاتحاد والترقي نشرت جرائد الآستانة هذا البرنامج ليكون محورًا تدور عليه سياسة الدولة، فأحببنا نقله عنها لقراء المنار، وهذه ترجمته بالحرف: 1- جعل الوزارة مسئولة بصورة مطلقة أمام مجلس المبعوثان، وعلى ذلك تعد الوزارة مستقيلة إذا لم تحُز أكثر الأصوات في المجلس. 2- لا يكون مجلس الأعيان (الشيوخ) مقيدًا بالمادة 62، ولا يزيد عدد أعضائه عن ثلث أعضاء مجلس المبعوثان، ويعين السلطان ثلث أعضائه، وتنتخب الأمة ثلثيه لمدة معينة. 3- سيطلب أن يكون لكل من بلغ سن العشرين من الذكور حق الانتخاب للدرجة الأولى، سواء أكان من أصحاب الأملاك أو لم يكن، بشرط أن يكون من رعايا الدولة، ماعدا الذين سقطوا من الحقوق المدنية، فليس لهم هذا الحق. 4- سيطلب إضافة مادة صريحة صراحة تامة للقانون الأساسي، تبيح الحرية في إنشاء جمعيات سياسية، بشرط أن تراعي في ذلك المادة الأولى من القانون الأساسي. 5- سيطلب وضع قوانين خاصة، لوجوب تنفيذ قانون توسيع السلطة الإدارية في الولايات الوارد ذكرها في المادة 108 من القانون الأساسي، بشرط أن لا تحل الرابطة الموجودة الآن في إدارة الولايات. 6- يتوقف تعديل وتبديل التقسيمات الإدارية في الولايات الآن، على رأي مجلس المبعوثان، وإنما يجب الإسراع في بعض التعديلات من حيث قرب القرى والنواحي أو بُعْدها باعتبار مواقعها مما يسهل إدارة الأمور. 7- إن لغة الدولة هي التركية، وستكون جميع مخابرات الحكومة بهذه اللغة. 8- أن يكون لمجلس المبعوثان حق وضع القوانين من غير قيد، بشرط أن يطلب ذلك عشرة من أعضاء المجلس على الأقل. 9- كل شخص له أن يتمتع بالحرية التامة والمساواة مع كل الرعايا بصرف النظر عن جنسه ومذهبه، وهو مكلف بما يكلف به كل عثماني، بصرف النظر عن جنسه ومذهبه، وبما أن كل الرعايا العثمانيين متساوون أمام القانون ولهم الحق في وظائف الحكومة، فكل فرد تتوفر فيه شروط الكفاءة يوظف في الحكومة بحسب مقدرته وكفاءته، كما أن الرعايا غير المسلمين ينتظمون في سلك الجندية. 10- الأديان حرة، وستبقى الامتيازات الدينية المعطاة للطوائف المختلفة على ما كانت عليه. 11- سيطلب تنظيم القوى الحربية والبَحْرية حَسَب ما يقتضيه الزمان والمكان ومركز الدولة السياسي بين الدول، وسيطلب تقليل مدة الخدمة العسكرية، بشرط أن لا تضر بتمرين الجيش واستكماله لأسباب القوة. 12- إلغاء الفقرة الأخيرة من المادة 113 الواردة في القانون الأساسي المنافية للحرية الشخصية. 13- اقتراح وضع قوانين تعين حقوق العمال وأصحاب الأعمال المتقابلة. 14- سيطلب التذرع بالوسائل الموصلة إلى توزيع الأراضي على الفلاحين، بشرط أن لا يخل ذلك بحقوق تصرف ملاك الأراضي المعترف بها قانونًا، وأن تسهل السبيل لاقتراض الفلاحين النقود بأرباح قليلة. 15- سيطلب قبول أصول (التخميس) في أمور الأعشار بصفة مؤقتة، بشرط أن تبنى على أساس صحيح وتجرب في الحال، وفي الجهات القابلة لمثل هذه التجربة، وتطبق فيما بعد أصول (قاداسزو) بالتدريج. 16- التعليم حر ألبتة، فكل عثماني له أن ينشئ المدارس حسب القانون الخاص بذلك، كما ورد في القانون الأساسي. 17- كل المدارس تكون تحت إشراف الدولة، والأمل صيرورة تربية الرعايا العثمانيين كلهم على نسق واحد ونظام تام، فتنشأ مدارس مختلطة حرة عمومية تفتح أبوابها لكل العناصر، ويكون فيها التدريس حرًّا، وتعليم اللغة التركية في القسم الابتدائي إجباريًّا، والتعليم الابتدائي مجانًا في المدارس الرسمية، وأما التدريس الثانوي (الإعدادي) والعالي، فإنه سيكون في المدارس العمومية الرسمية المارّ ذكرها، بشرط أن يكون التعليم باللغة التركية، ويتسرع بالوسائل الجدية لوضع بروغرامات تتكفل بالمصلحة، وإيجاد معلمات ومعلمين أَكْفَاء، وتنشأ مدارس للتجارة والصناعة والزراعة، لترقية أحوال الدولة الاقتصادية، أما المدارس المنوط بها تعليم الدين بصورة خاصة، فإنها مستثناة مما ذكر. 18- توجه العناية إلى ترقية أحوال الأمة والمملكة الزراعية والاقتصادية والعمرانية، ويتوسل إلى ذلك بالأسباب المؤدية إلى المطلوب. 19- سيقترح تعديل انتخاب المبعوثان، وجعله موافقًا لهذا البرنامج، بحيث لا يبقى أقل ملاحظة من قِبَل الحكومة تعرقل سير الانتخابات عن السير بكل حرية. 20- سيقترح أن يكون لكل عثماني حائز الأوصاف المطلوبة الحق في ترشيح نفسه لعضوية مجلس المبعوثان في أي بلد من البلاد العثمانية. 21- يمكن تعديل مواد هذا البرنامج حَسَب ما تقتضيه أحوال الزمان، وبقرار اجتماع عمومي، ويمكن أيضًا إلغاء بعض المواد أو إضافة مواد أخرى عليه.

من خطبنا الإسلامية في الديار السورية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخُطبة الأولى من خطبنا الإسلامية في الديار السورية ألقيناها على منبر جامع المجيدية في بيروت بعد صلاة العصر وصلاة جنازة الغائب على المصلحين الكرام: السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده المصري، وعبد الرحمن أفندي الكواكبي السوري، وذلك في يوم الخميس 28 من شهر شعبان، وقد لخص هذه الخطبة بعض من حضرها من الأدباء بما يأتي مع تصحيح وتوضيح: السلام عليكم ورحمة الله. الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن الإسلام دين سهل سائغ موافق للفطرة البشرية، قام به أهله عند ظهوره خير قيام، وليس لهم كتاب غير القرآن، ولم يكن القرآن في أول الأمر مصحفًا مجموعًا كما هو الآن، وإنما كتبت آياته على الجلود والعظام وسعف النخل، ثم جمعت في مصحف واحد بإجماع الصحابة، فالإسلام هو هذا الكتاب الحكيم، وما بيَّنه من سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) . إني سائلكم: أهذا هو الإسلام الذي غير وجه الأرض، ونقل البشر من طور إلى طور؟ نعم، إنه هو، ولو أخذته اليوم طائفة من المسلمين بقوة كما أخذه الأولون لغيرت وجه البسيطة مرة ثانية، كما غيره سلفها من قبل، ولست أعلم لماذا رغب المسلمون عن القرآن وذهبوا يؤلفون الكتب الكثيرة في الدين، وقد رأينا أن الاشتغال بهذه الكتب مع الإعراض عن القرآن ما زاد الإسلام إلا ضعفًا، والمسلمين إلا خسفًا. أنزل الله دينه على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فعمل به أولئك الأميون من عرب الجاهلية، وهم على ما تعلمون من التفرق والتعادي والفساد، فعلمهم الإسلام وهذبهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) . من المعلوم في طبائع البشر أنه لا يتربى ويتزكى بعد الكبر، إلا أفراد قلائل من أصحاب الاستعداد العالي، لأن الأخلاق متى رسخت في النفس قلما تتغير، ولكن أولئك الصحابة الذين غيروا وجه الأرض، قد تربَّوْا بعد الكبر، تلك التربية التي كانوا بها أئمة، وكانوا هم الوارثين. نشأوا يعبدون الأصنام، ويئدون البنات، ويستحلون السلب والنهب، إلا أنه كان فيهم استعداد لهذا الإصلاح الذي ساقه الله إليهم: كان فيهم ذكاءُ عقلٍ واستقلالُ فكر وقوةُ إرادةٍ، فلما فهموا الإسلام قبلوه وأيدوه ونصروه، وحملوه إلى غيرهم ونشروه. إن الإسلام دين عام لجميع البشر، ليس خاصًّا بمن ظهر فيهم أولاً من العرب، ولكن لماذا ظهر هذا الدين الحكيم في تلك الأمة الجاهلية، ولم يكن بدء ظهوره في أمة من أمم المدنية كالمصريين والروم، واليونانيين والفرس؟ ! السبب في ذلك عظيم جِدًّا، يتعلق بالاستعداد، وهو ما كانت عليه العرب من سذاجة الفطرة واستقلال الفكر والإرادة. كانت الأديان والحكومات بما طرأ عليها من الفساد قبل الإسلام، قد أضعفت استعداد تلك الأمم بما طبعتهم على التقليد والخضوع والخنوع لرؤسائهم، والجمود على تقاليدهم وعاداتهم، فإذا دُعِيَ أحدهم إلى إصلاح جديد قال من فوره: إن هذا يخالف ما وجدنا عليه آباءنا، فإن لم يمنعه من الاستجابة التقليد لسلفه في الدين، منعه ما طُبِع عليه من العبودية لحكامه الظالمين، وأما العرب فلم يكن لهم من العلوم والمعارف الدينية وغير الدينية ما يحقر في أنفسهم ما يلقى إليهم من دين أو علم جديد، ولم يكن لهم من الحكام المستبدّين من يفسد عليهم بأسهم، ويذهب بعزيمتهم، بل أعدهم لذلك بطبيعة البدواة وسذاجة الفطرة، فجعلهم من أهل الشجاعة التي هي مظهر استقلال الإرادة، والحرية التي هي مظهر استقلال الفكر، فكان فيهم كثيرون إذا دُعُوا إلى الحق والخير فقهوا الدعوة، وإذا اعتقدوا الشيء قاموا ودافعوا عنه بالقوة، لذلك أنزل الله عليهم كتابه، وبعث فيهم رسوله، فاستجاب له من سمع ووعى، وقالوا: إنا نمنعك (أي نحميك) مما نمنع منه أنفسنا وأهلنا، وقام الإسلام بهم خير قيام، حتى كان من أمره وأمرهم ما كان. هذه مقدمة يمكنني أن أبين بعدها ما هي حقيقة الإسلام، ليعلم غير العالم من الحاضرين ويتذكر أولو العلم منهم أن المسلمين يسهل عليهم اليوم أن يعرفوا دينهم ويهتدوا به من غير حاجة إلى مدارس تدرس فيها الكتب الكثيرة. الإسلام أمر سهل جِدًّا، وهو عبارة عن الرجوع إلى الفطرة البشرية، وما هي الفطرة البشرية؟ هو ما انطوت عليه نفسك من الإذعان للسلطة الغيبية واختيار ما تعتقد أنه الخير والمصلحة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) إلا أن الفطرة يعرض لها الفساد بالجهل وسوء القدوة، فإذا ذكر صاحبها بآيات الله فاهتدى بها رجعت إلى أصلها {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4) فحصل مقصد الإسلام، وحينئذ يجد المسلمون سَعَة في الوقت لتحصيل ما يحتاجون إليه من العلوم والفنون، وما يترتب عليها من الأعمال والصناعات التي تقوى بها أمتهم وتعتز دولتهم. قلنا: إن الاهتداء بالإسلام لا يتوقف على درس الكتب الكثيرة، والأعمال التي تستغرق الأوقات، وذلك أن الإسلام مبني على ثلاث أسس: (الأول) إصلاح العقل بالعقيدة المطهرة للجنان، المبنية على البرهان. (الثاني) إصلاح النفس بتزكيتها وتطهيرها من الرذائل، وتحليتها بالفضائل. (الثالث) إصلاح الأعمال من العبادات والحقوق التي يستقيم بها أمر الأفراد وترتقي الهيئة الاجتماعية. الأساس الأول يبنى عليه الإيمان بوجود الله تعالى، ووحدانيته، ومعناها أنه سبحانه وتعالى هو المتفرد بالسلطة الغيبية العليا، التي تلجأ إليها النفوس عند العجز عن الأسباب والسنن، فلا ينفع غيره ولا يضر سواه، إلا ما يتعامل به الناس بالأسباب التي سخرها الله لهم بحكمته، وأَقْدَرَهُمْ عليها بمشيئته، وأنه منزه عما لا يليق به من صفات الحوادث، وما يلمّ بالبشر وغيرهم من النقص، وأنه هو المتفرد بشرع الدين والتحليل والتحريم. ويتلو ذلك تصديق الأنبياء فيما جاءوا به من الوحي، والإيمان بعالم الغيب من الملائكة، والجزاء على الأعمال التي تزكي النفس فترفعها إلى عِلّيين، أو تدسيها فتلقيها في أسفل سافلين، فهذه العقيدة تصلح العقل، بإطلاقه من العبودية لبعض البشر أو المظاهر الطبيعية، وهي الوثنية التي أفسدت عقول الأولين، والخضوع الأعمى للرؤساء المسيطرين، وكل ذلك مبين في القرآن أكمل تبيين، مؤيد بالدلائل والبراهين. الأساس الثاني يبنى عليه تزكية النفس من الأخلاق الذميمة، وتحليتها بالأخلاق الحسنة، وإذا تهذبت أخلاق الناس صلح أمرهم، واستقام نظامهم، وقد فصل لنا القرآن ما تحتاج إليه من ذلك تفصيلاً. الأساس الثالث تبنى عليه العبادات والآداب العملية، وقد بين القرآن ذلك بالإجمال، ووكل بيانه بالتفصيل إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) , فكان يعلمه الناس بالعمل، وعبر عن ذلك بقوله: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ، وكذلك كان الصحابة يُعلِّمون من دخلوا في الإسلام على أيديهم، فلم يقل أحد: إنه كان لهم في الشام ومصر وفارس كتب يعلمون بها الناس دينهم عندما يدخلون في الإسلام؛ ولكن المسلمين دونوا عبادتهم في الكتب، وأكثروا فيها من الأقسام والفروع والاصطلاحات، حتى وصلنا إلى أزمنة صارت فيها هذه الكتب صعبة لا يتيسر للأكثرين درسها وتعلمها، فتركها السواد الأعظم، وصارت دراستها محصورة في فئة تستفيد منها في دنياها، كمريدي القضاء والفتيا والتدريس. على أنهم على طول مزاولتها لا يستغنون عن أخذها بالعمل، فقد حدثني أحد كبار العلماء أنه قرأ كتاب الحج مرارًا كثيرة، ولما أراد أن يحج لم يستغن عن المطوفين الذين يعلمون العوامّ مناسكهم بالعمل. وتعلم العبادات بالعمل سهل جِدًّا، وما لا بُدّ فيه من القول يمكن أن يقال في مجلس واحد، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم الأعرابي دينه في مجلس واحد، فإذا عاهده على العمل به رضي منه وقال: (أفلح الأعرابي إن صدق) . التاريخ يخبرنا بأن الإسلام انتشر في مدة قليلة في ممالك كثيرة لسهولته، وأية سهولة على المرء أسهل عليه من مجاراة فطرته، وتقويم ما يعرض لها من العوج، فالإسلام يدعوكم إلى ما في فطرتكم من الميل إلى اختيار ما فيه الخير والمصلحة، ولذلك يرشدنا إلى التذكر في مواطن كثيرة من مواطن هدايته , فيقول: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الأنعام: 152) - {لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} (الأنعام: 126) - {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) ، وإنما يتذكر الإنسان ما كان يعلمه ثم نسيه أو غفل عنه، فكأنه يرشدنا بذلك إلى أن ما يدعونا إليه من الخير هو مما أودع في فطرتنا , ثم غلفنا عنه بسوء القدوة وفساد التربية - فدين الإسلام أسهل الأديان، لا حرج فيه ولا مشقة {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) - {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) ، فإذا كان على سهولته ويسره كافلاً لسعادة الدنيا والآخرة، فأي عذر لنا إذا أهملناه وتركنا هدايته؟ {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) ، يرضى بأن يكون كالدواب لا يهمها إلا علفها، أو كالكلاب العاقرة ينهش بعضها بعضًا. ربما يعترض بعض الناس على ما أقول من أن تلقين الدين لا يشغلنا عن تعلم العلوم والفنون الدنيوية، التي هي مبادئ الصناعات التي تعتز بها الأمة وتَقْوَى الدولة، حتى تكون في مصافّ الدول الكبرى، لأنهم يزعمون أن الدين ينهانا عن ذلك، ولو لم يوجد فينا أمثالُ هؤلاء، لَمَا وصلنا إلى ما نحن عليه الآن من الضعف والانحطاط في الثروة والقوة. نحن اليوم في حالة لا تخفى على أمثالكم: صرنا وراء جميع الأمم، والذنب في ذلك علينا لا على الإسلام. فالإسلام لم يجن علينا، وإنما نحن جنينا عليه وعلى أنفسنا؛ إذ جعلنا بيننا وبين القرآن حجبًا كثيفة، فأعرضنا عنه وعن العلوم التي تحفظ بها بيضتنا. كانت العلوم الرياضية والطبيعية عند ظهور الإسلام مندرسة، ليس لها سوق نافقة عند أمة من الأمم، فأحياها المسلمون عندما ظهر الإسلام ونفذت شوكته. ومن العجب أن الجامدين الذين يحرمونها اليوم يعترفون بأن أولئك الأساطين الذين درسوها من علمائنا هم خيرة علمائنا! ((يتبع بمقال تالٍ))

الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة ـ 1

الكاتب: محمد روحي الخالدي المقدسي

_ الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*] (1) (الفرق بين الانقلاب والثورة) الانقلاب في اصطلاح المؤرخين تغيير مهم في حكومة الدولة، وقلب في قوانينها، وهو غير الثورة، التي بمعنى العصيان والخروج عن الطاعة، والقيام على الحكومة المشروعة، والفرق بين الانقلاب والثورة كبير، فإن الثورة كثيرًا ما تضر بمنافع الأمة ومصالحها، وتصدها عن السير في طريق النجاح، بخلاف الانقلاب، فإنه مهما آلم الأمة ورضرضها، فهو يخطو بها خطوة في التقدم، ويصعد بها درجة في سلم النجاح، وأكثر كُتَّاب العربية لا يفرقون بين الكلمتين، ويطلقون اسم الثورة على الانقلاب، فيقولون الثورة الفرنساوية مثلاً، بدل الانقلاب الفرنساوي، ولم يلتفتوا إلى ما روي عن لويس السادس عشر، ملك فرنسا، لما أُخْبِرَ بهدم قلعة الباستيل (Bastille la) وإطلاق المسجونين فيها فقال: إذًا هذه ثورة (Révolte) فأجابه المخبر: عفوًا يا مولاي، بل هذا انقلاب (Révolution) . فمراد ملك فرنسا أن فعل الثائرين غير مشروع، ولا حق لخروجهم عن الطاعة، وجواب المخبر ينافيه، وبيَّن أن الانقلاب غير الثورة والعصيان، فنحن اليوم أحوج إلى تعيين معاني الكلمات، وإلى سكب قوالب الألفاظ على قدر المعاني؛ لأن الانقلاب السياسي من شأنه أن يحدث انقلابًا في اللغة والأدب، فضلاً عن انقلاب الأخلاق والعادات والأفكار، ألا ترى الجرائد العثمانية على اختلاف لغاتها من تركية وعربية ورومية وأرمنية ويهودية (أسبانية وعبرانية) وبلغارية وفرنساوية والجرائد الألبانية والكردية على وشك الظهور - كيف بدلت لهجاتها بعد حدوث الانقلاب، وهجرت تلك الألفاظ الفخمة والتعبيرات السقيمة، التي تغطي المعاني بستار المهابة حتى تستبهم على القارئ، وتقيد فكره بسلاسل التذليل والاستعباد. * * * (الاستبداد يولد الانقلاب) فالذي يولد الانقلاب هو الاستبداد، ومقتضاه التغلب والقهر اللذان هما من آثار الغضب والحيوانية، لا من قواعد الدين الإسلامي، كما يتوهم البعض منا، وأكثر الأوربيين الذين يصفون الحكومات الإسلامية بكونها ثيوقراطية، أي أنها جامعة بين الديانة والسياسة، وأحكام المستبد أو المستبدين في الغالب جائرة عن الحق، مجحفة بمن تحت يدهم من الخلق، لحملهم إياهم على ما ليس في طوقهم من أغراض المستبد أو المستبدين وشهواتهم، ولذا ورد في الخط الشريف السلطاني الذي منح به القانون الأساسي (إن قوة الحكومة تحافظ على حقوقها المقبولة والمشروعة، وعلى منع الحركات غير المشروعة، أعني بها منع ومحو الخطيئات وسوء الاستعمالات المتولدة من الحكم الاستبدادي الفردي أو الأفراد القلائل، ليستفيد جميع الأقوام المركبة هيئتنا منهم نعمة الحرية والعدالة والمساواة بلا استثناء وذلك حق ومنفعة حَرِيَّان بالهيئة الاجتماعية المدنية، إلخ) . * * * (الاستبداد والإسلام) فالاستبداد هو منبع الشرور، وسبب التأخر والانحطاط، وقد ورث ملوك الإسلام هذا الاستبداد عن أكاسرة الفرس وقياصرة الرومان، عن نماردة بابل وفراعنة مصر، عن جنكيز خان وتيمور لنك. والإسلام أول شريعة اعترضت على الاستبداد، وقاومته أشد المقاومة، وساوت بين أفراد الأمة، وحافظت عن الحقوق والحرية الشخصية، وأمنت الأجانب المعاهدين، فضلاً عن أفراد الأمة - على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، ومهدت السبيل للحكومة الديموقراطية، ووضعت حق الحاكمية في الأمة، ولم تكتف بإعطائها الحرية في القول والعمل والكتابة والاجتماع، بل فرضت على كل فرد من أفرادها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجعلت الأمة مسيطرة على الحقوق العامة، ولم تفرق في الحقوق الخاصة بين المسلمين وخليفتهم، ولا أولي الأمر منهم. ورد في الدرر، وهو من أهم الكتب الشرعية: (إن الخليفة يقتص منه ويؤخذ بالمال، لأنهما من حقوق العبد، ويستوفيه ولي الحق، إما بتمكينه أو بالاستعانة بمنعة المسلمين) ، ولذا حكمت القضاة على أكثر من واحد من الخلفاء وسلاطين الإسلام برد المال وضمانه، وأنزلتهم عن المنصة، وأقعدتهم مع الخصم في مجلس الحكم. * * * (الاستبداد آسيوي لا إسلامي) كان الحال على ما ذكر مدة الخلفاء الراشدين، ومن اقتفى أثرهم، كعمر بن عبد العزيز، من بني أمية، ثم تغلب الاستبداد الآسيوي على أحكام الدين الإسلامي، وانقلبت الخلافة إلى سلطنة، وأصبح خليفة الإسلام (مقدسًا وغير مسئول) ، كملوك الإفرنج ليومنا هذا، لا يقتص منهم، ولا يؤخذون بالأموال، ولا تستطيع المحاكم إحضارهم، ولا إصدار الحكم عليهم، ويرثون الملكَ كما يرث أحدنا مال أبيه فاستبدوا بالأمر استبداد لويس الرابع عشر، الذي كان يقول: (الدولة هي أنا) , و (أموال الرعية إنما هي ملك لملكها، فإذا أخذ شيئًا منها، فقد أخذ حقه! !) ، واستباحوا التصرف في نفوس الرعية وأموالهم وأعراضهم، وفي خزائن الدولة وبيت المال وأوقاف المساجد والمؤسسات الخيرية. وصار الوزراء والمصاحبون يقولون: (خسرو بكند شيرينست) , أي: ما أعجب كِسْرَى فهو حسن، فالحسن هو ما استحسنه السلطان، والقبيح ما استقبحه السلطان، ولا دخل في ذلك للعقل والذوق، ولا للحكمة والشرع، لأنهم أولوا الشرع على حَسَب غاياتهم وأغراضهم. فإذا تصفحت تواريخ الأمم الإسلامية في الشرق والغرب، تراها مؤسسة على هذا الاستبداد الآسيوي، وعلى جانب من الاستعباد الأفريقي، وليس فيها شيء من الحرية الإسلامية ولا المشورة المأمور بها في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كما قال الله لنبيه: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) , وقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، وحديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وأمثاله كثيرة كحديث حلف الفضول المشهورة في التواريخ: وذلك أن قبائل من قريش تداعت إلى حلف الفضول الذي عقدته قديمًا قبائل العرب، واشتهر باسم رؤسائهم الفضيل والمفضل، فاجتمعت وجوه قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتحالفوا وتعاقدوا أن لا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وكان ذلك قبل الإسلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد شهدت مع عمومتي حلفًا في دار عبد الله بن جدعان، ما أحب أن لي به حُمْرَ النَّعَم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت) فأي شيء أشبه بهذا الاجتماع والتعاقد من البرلمان والمبعوثان؟ لا , بل من جمعية الاتحاد والترقي؟ ولقد أحسن جِدًّا العلامة المقري في جوابه المذكور في نفح الطيب حيث قال: سألني بعض الفقهاء عن السبب في سوء بخت المسلمين في ملوكهم، إذ لم يَلِ أمرهم من يسلك بهم الجادَّةَ، ويحملهم على الواضحة، بل من يغتر في مصلحة دنياه، غافلاً عن عاقبة أخراه، فلا يرقب في مؤمن إلاَّ ولا ذمة، ولا يراعي عهدًا ولا حرمة! فأجبته: بأن ذلك لأن الملك ليس في شريعتنا، وذلك أنه كان فيمن قبلنا شرعًا، قال الله تعالى ممتنًّا على بني إسرائيل: {وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً} (المائدة: 20) ولم يكن ذلك في هذه الأمة، بل جعل لهم خلافة، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) الآية، وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا} (البقرة: 247) وقال سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا} (ص: 35) , فجعلهم الله تعالى ملوكًا ولم يجعل في شرعنا إلا الخلفاء، فكان أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يستخلفه نصًّا، لكنْ فَهِمَ الناس ذلك فهمًا، وأجمعوا على تسميته بذلك، ثم استخلف أبو بكر عمر، فخرج بها على سبيل الملك الذي يرثه الولد عن الوالد إلى سبيل الخلافة الذي هو النظر والاختيار، ونص في عهده على ذلك، ثم اتفق أهل الشورى على عثمان. فإخراج عمر لها عن بنيه إلى الشورى دليل على أنها ليست ملكًا، ثم تعين علي بعد ذلك، إذ لم يبق مثله، فبايعه مَنْ آثر الحق على الهوى، واصطفى الآخرة على الدنيا، ثم الحسن كذلك، ثم كان معاوية أول من حوَّل الخلافة ملكًا، والخشونة لينًا، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم، فجعلها ميراثًا، فلما خرج بها عن وضعها لم يستقم ملك فيها. ألا ترى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان خليفة لا ملكًا، لأن سليمان رحمه الله رغب عن بني أبيه إيثارًا لحق المسلمين، ولئلا يتقلدها حيًّا وميتًا، وكان يعلم اجتماع الناس عليه، فلم يسلك طريق الاستقامة بالناس قط إلا خليفة، وأما الملوك فعلى ما ذكرت إلا مَنْ قلّ، وغالب أفعاله غير مرضية. اهـ فيظهر لنا من هذا الكلام الفرق بين الخلافة والملك، والسبب الذي جعل ملوك الإفرنج مقدسين وغير مسئولين. * * * (منبع الاستبداد قصر الملك والخلافة) ومنبع استبداد الدول الإسلامية في قديم الزمان وحديثه، هو قصر الخلافة، ودار الملك والإمارة، حيث تكثر دسائس المقربين، ويشتد حرصهم على الجاه وطمعهم في جمع الأموال وادخارها، وفي إنفاذ الكلمة، ولذا ابتعد عنهم أهل التقوى والورع في جميع البلدان والأزمان. فالمقرب منهم لا يكاد يتم له الأمر إلا ويظهر له رقباء يشون به، وينصبون له أشراك المكيدة، ويتهمونه بأنواع التهم، وينسبون إليه كل خلل في الدولة، حتى يبعدوه عن مركز الدولة، وربما تسببوا في مصادرته وقتله مع أولاده وعياله، كما جرى للبرامكة مع هارون الرشيد. فتاريخ الدول والإمارات الإسلامية كلها وقائع برمكية. وقد ينصر الوزير على الخليفة أو الأمير، ويحجر عليه، ويصير هو المستبد بالأمر، ونتيجة القضيتين واحدة، وهي الاستبداد، وتغلب القوة على الحق. والأمة في جميع هذه الأحوال شاخصة ببصرها لا تطلع على خفايا السياسية وتدبير الملك، ولا على دسائس المقربين وحيلهم لإخفائهم جميع ذلك عنها، واستبدادهم بالأمر عليها. ولقد أجاد لسان الدين بن الخطيب وزير بني الأحمر في الرسالة التي خاطب بها الوزير ابن مرزوق، ووصف بها أحوال خدمة الدولة ومصايرهم، وعبر فيها عن ذوق ووجدان، وهي أبلغ ما حرر في هذا الصدد، وقد ذكرها المقري في الجزء الثالث من نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب. فالمصلحون لم يتخلصوا من هذه الغوائل ولا وجدوا وقتًا لإصلاح داخل الممالك وتحكيم سياستها الخارجية، ولذا انصرفت هممهم لجمع الأموال وادخارها، واغتنام فرصة التقرب ونيل التوجه واكتساب السعادة، لأن الواحد منهم لا يدري إلى متى يدوم له التوجه والإقبال، فيسارع إلى الاستفادة من الحال التي أسعده الحظ بنيلها. * * * (قصر السلطنة العثمانية وتربية ولي العهد والكامريلا) كان قصر السلطنة في الممالك العثمانية مرتبًا على الأصول والتقاليد الموروثة عن المغول، حيث كانت الدولة عبارة عن خيمة كبيرة حكومتها بابها العالي. وأول وظيفة على هذه الحكومة إنزال الخان المعظم على الرحب والسَّعَة، وإسكان من معه من الحريم والأسرة والأقارب والحاشية، واستكمال أسباب راحتهم وسعادتهم، واستحضار النفقات اللازمة لهم ولرؤساء (ا

العمل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العمل [1] لئن كان للطبيعة حق الأولوية في إحداث الثروة، سواء في أرضها الخصبة، أو في أحراشها الكثيفة، أو في مناجمها الكثيرة المعادن، أو في مراعيها الغزيرة الكلأ، أو في أنهارها المتدفقة بالخيرات، فإن المدار في استثمار كل ذلك على العمل ولو قليلاً، فلا بُدَّ من فلح الأرض وبذر الحبوب قبل أن تجود الطبيعة بنعمائها، وتبذل الأرض غلتها، ولا بُدَّ من احتفار المناجم قبل استخراج كنوزها، ولا بُدَّ من جني الثمار قبل التمتع بلذيذ طعمها. فالعمل ضروري للعمران، ولازم لكل موجود، وهو للموارد الطبيعية التي هي ينابيع الثروة بمثابة الدلو من البئر، إذ لولاه ما قدر أحد على الاغتراف منها. وقد وفى الدين العمل قسطه من المدح، حيث حثّ على التمسك به، فقال عز وجل في سورة مريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} (مريم: 25-26) وهو أمر به؛ لأنه إذا كان جلّ شأْنُه يأمر السيدة مريم، وهي في وقت المخاض، بهزّ جذع النخلة قبل أن يتساقط عليها التمر، مع أنه قادر على أن يكفيها مئونة ذلك التعب، فمن البديهي أنه يأمر كل فرد من أفراد الهيئة الاجتماعية بالسعي في تحصيل رزقه، ولا سِيَّمَا إذا كان صحيح الجسم. وقال تعالى في آية أخرى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} (النبأ: 10-11) أي وقتًا يلزم فيه السعي لتحصيل العيش وترقب الرزق بالعمل، وقال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) وهو أمر بوجوب جوب البلاد، والضرب في طولها وعرضها رغبةً في العمل والانتفاع بما خلق جلت عظمته من الخيرات، وقال: {فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ} (العنكبوت: 17) أي: اعملوا حتى تحصلوا على ما يقوم بضروراتكم، وقال: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15) وقال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شابّ ذي جلد وقوة، وقد بكر يسعى، فقالوا: وَيْحَ هذا! لو كان شبابه وجلده في سبيل الله، فقال النبي: (لا تقولوا هذا؛ فإنه إن كان يسعى على نفسه لِيكفيَها المسألة ويغنيها عن الناس، فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم، فهو في سبيل الله) وقال: (احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا) وقال: (لأَنْ يأخذ أحدكم حبله فيحتطب، خير من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه) وقال: (ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) رواه البخاري، وهكذا فضل النبي العمل في أية حرفة على الاستنامة إلى الكسل، وإراقة ماء الوجه في الطلب. وجاء في الإنجيل ما معناه: (تأكل خبزك بعرق جبينك) , وهو حث على العمل طلبًا للارتزاق. وروي أن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً فقال ما تصنع؟ قال: أتعبّد، قال ومن يعولك؟ قال أخي، قال: أخوك أعبد منك. وقال عمر بن الخطاب: (ما مِن موطن يأتيني الموتُ فيه أحب إليّ مِن موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري) , وقال: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق , ويقول: اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة) ، وقيل للإمام أحمد: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: (هذا رجل جهل العلم، أما سمِع قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي) . وقوله عليه السلام حين ذكر الطير فقال: (تغدو خماصًا وتروح بطانًا) ، فذكر أنها تغدو في طلب الرزق. هكذا يحث الدين على العمل ويرغب فيه مراعاة لتقدم العمران، ومحافظة على النوع الإنساني من الفَنَاء، ومن ذلك تظهر حطة أولئك الذين يرون التوسل وسيلة للارتزاق، والتسول حرفةً للعيش، أولئك الذين لم يعرفوا مَزِيّة العمل وعلاقته بالسعادة، ففضلوا مدّ أيديهم للسؤال على مدها للعمل، واستسهلوا أن يكونوا كالكلاب تأكل كل ما يلقى إليها، أولئك هم الذين يحل الشقاء بالبلد الذي يحلون فيه، فهم يستنفدون ثروته، ويستنزفون خيراته، بدون أن يسعوا في إحداثها. العمل هو أساس الثروة، فكيف ينتظر النجاح بدونه، وهو دعامة كل ما نراه في العالم مِن التقدم في المدنية. ما رأينا بلدًا تمسك أهله بأهداب العمل إلا وتحولت فيه الصحاري القفراء إلى حدائقَ غَنّاء، وجادت الأرض بكنوزها، وانْسَابَ الذهب إلى جيوب أهلها. لولاه لم يَصِرِ الترابُ تِبْرًا، وتتبدل المفاوز بمعاهد للعلوم، ومعابد للنسك، ومعامل للصناعة. لولاه ما ضحكت الأرض من بكاء السماء، ولا ابتسمت الأزهار في الأكمام، ولا حملت الأشجار لذيذ الثمار من كل زوجين اثنين؛ إذ إنه لا بُدَّ من غرسها قبل أن تصير دانية ظلالها، مذللة قطوفها، ولا غنى عن تعهدها قبل أن تترعرع أغصانها، وتصير دوحة تناطح السحاب. لولاه ما استنبط الإنسان الوسائل التي يسخر بها القوى الطبيعية، ويتغلب على الصعاب، ويقرب المسافات بالبخار والكهرباء، ويجعل كليهما رهين إشارته. لولاه ما أخذت الأرض زخرفها، وبلغت من المدنية غايتها، وبدت آثار العمران في أنحائها، وصارت معمورة، يتزايد سكانها في كل عام، وتتضاعف ثروتها آنًا فآنًا. من ينكر فضل العمل في إحداث الثروة، فليرجع ببصره الكَرّة إلى (أستراليا) في الماضي يجدها في آخر درجة من الانحطاط، لخمول سكانها الأصليين، وكثرة اتِّكَالهم على الموارد الطبيعية، ويشاهدها الآن، وقد نالت من العمران حظًّا وافرًا، وجرت في المدنية شوطًا بعيدًا. ذلك لأن قومًا عرفوا مَزِيّة العمران استوطنوها، فنهلوا من تلك الموارد، وعملوا في بَرّها وبَحْرها، واحتفروا المناجم واستخرجوا كنوزًا دفنتها الأرض في بطنها أجيالاً، وحافظت عليها لمن يُقِّدُر العمل حقَّ قدره. فطبيعة تلك البلاد لم تتغير، وإنما تغير سكانها. بل ما لنا وللتمثيل بأستراليا، وأمامنا شبه جزيرة العرب التي كانت محطّ رحال المدنية، ومهبط العلوم والعرفان، ومصدر العمران، ما لها قد عفت آثار مدنيتها، ودالت دولة ملوكها، واندرست معالم علومها، واندثرت معارفها، وصار ذلك المجد القديم، والسؤدد الماضي، أشبه بحلم حالم! ! ؟ أليس السبب هو أن ذلك السلف الصالح خلف مِن بعدهم خلفٌ أضاعوا الجد الموروث، وأهملوا العمل، وتمسكوا بأذيال الكسل، حتى صاروا قديمًا في عالم جديد {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} (الكهف: 18) . كان (كسناي) وأضرابه يعتبرون الأرض الوسيلة الوحيدة لإحداث الثروة، ويبخسون العمل حقه في الإحداث، وذلك زعم صحيح من جهة أن الأرض ينبوع المواد التي تقوم بها الصناعة، فلا يقدر الصانع على نسج ثوب بدون قطن، ويستحيل عليه صناعة آلة حديدية بدون حديد، ولكن (كسناي) بخس العامل حقه، وأنكر عليه تحويله الحديد من شكله الطبيعي، حيث لا ينتفع به، إلى شكل يصير بواسطته آلة بخارية يتهافت الناس على ابتياعها. أنكر على العالم الكيماوي تركيبه لدواء فيه شفاء للناس من مواد طبيعية لا تفيد كثيرًا، وهذا ما لا ترضاه العدالة، على أنه بعد (كسناي) كما قدمنا أتيح للعمل أن يأخذ (آدم سميث) بناصره، ويظهر فضله، ويطنب في مدحه، ومن ثم أخذ مقامه في الصعود، ونجمه في السعود، حتى لقد قال فيه العلامة (جيد) : إنه هو الجدير دون غيره أن يكون الوسيلة في إحداث الثروة حقيقة؛ إذ الإنسان هو المنتج الحقيقي لها، وما الطبيعة إلا طوع إرادته، يحركها كيف شاءت تلك الإرادة. * * * أ- أدوار العمل (عصر الصيد) في ذلك العصر كان الإنسان قليل العمل، كثير الاعتماد على الطبيعة، يعيش من صيد البر أو البحر، وكان رحالاً كالأنعام السائمة، يسكن البقاع الكثيرة القنص، كما تأوي هذه إلى المروج الغزيرة الكلأ، ويلقي عصا الترحال إذا قل الصيد، كما تفعل هي إذا غيض الماء أو جفت المراعي. وقد كان في ذلك الدور مهددًا بخطرين: الوحوش الكاسرة، والمجاعات المهلكة، لقلة ادخاره، لما يقتات به في إعساره، فالويل له إذا أصابه مرض أقعده عن الصيد، أو انتابه حر أو برد منعه عن مطاردة فريسته، والويل له إذا كان ضعيف النكاية أعداءه (كذا في الأصل) الذين يداهمونه لسلب ما اقتنصه. وكان عدم ادخاره راجعًا إلى أسباب كثيرة، منها عدم احترام الحقوق، فكان حقه مزعزعًا لا يقدر هو على حمايته، وليس هناك حكومة تدافع عنه، ومنها عدم وجود مسكن له أو ذرية في أغلب الأحيان، ولذا لم يوجد عنده ما يدعوه إلى الاحتفاظ بالقوت تحرزًا للمستقبل. * * * (عصر الرعاية) ولما رأى نفسه معرضًا للمجاعات القتالة التي كانت تجتاحه من وقت إلى آخر، ورأى أنه ملزم بالنفقة على زوجته وأولاده، توجهت همته إلى تدجين الحيوانات النافرة كالإبل والخيل والغنم وغيرها، مما كان لا ينتفع به كثيرًا. ووجد من أهله وذويه من يساعده على رعي تلك الإبل والغنم في الوديان والمروج الفسيحة التي تحيط به، والانتقال بها من مكان إلى آخر. وفي ذلك العصر ازداد عدد الناس عما كانوا عليه، وتألفت منهم قبائل كثيرة كانت ثروة كل واحدة منهن تقدر بعدد رءوس الإبل أو الغنم التي تملكها، كما كانت الحال عند العرب والتركمان، وكما هي الآن عند العرب الرحالة والزط. ويمكننا أن نعزو كثرة عدد الناس إلى سببين: (الأول) كثرة نتاج الحيوانات التي كانوا يربونها حتى صاروا في سَعَة من العيش، فكانوا ينتفعون بألبانها وأوبارها ولحومها وجلودها، حتى قلت المجاعات بينهم. (الثاني) ازدياد العصبية في كل واحدة من تلك القبائل، مما جعل حق الملكية مضمونًا نوع ضمان، وحبب إلى كل فرد اقتناء الحيوانات فزادت الثروة وزاد العدد. * * * (عصر الزراعة) وكانت النتيجة الطبيعية لزيادة عدد السكان هي الازدحام على المراعي بالحيوانات، مما جعل حشائشها التي غرستها يد الطبيعة غير كافية لسد الحاجة، فعمد الناس إلى معالجة الزراعة من إثارة الأرض، وبذر الحبوب فيها وتعهدها بالسقي، حتى نبت ما يكفي لمئونتهم ولأنعامهم. واستخدموا في الزراعة كثيرًا من تلك الحيوانات، ومن ذلك العصر ظهر العمل بمظهر أجلى، إذ لم يعد الإنسان مُفوِّضًا كلَّ أموره للطبيعة، يأوي حيث نبتت حشائشها، ويرحل إذا جفت خيراتها، بل أخذ يُعوِّل على مِعْوَله، فيحول به الأرض المجدبة إلى مزارع كثيرة الخيرات، وانبنى على رغد عيشه تقدم عظيم في أحواله الأدبية، فنظم معيشته وظهرت الحكومات لأول مرة بالمعنى الذي نراها به الآن، ولا حاجة بنا إلى القول: إن معظم الأمم المتمدينة في الزمن الماضي كانت تعالج الزراعة في أول أمرها قبل أن ترسخ قدمها في المدنية. والسبب في ذلك بساطة الزراعة، وعدم احتياجها إلى كثير تفكير أو كبير عناء، على أن تلك الأمم نفسها وَجَّهَتْ همتها بعد أن تم لها الأمر إلى استجادة الصنائع على اختلاف أنواعها. * * * (عصر الصناعة) الصناعة أثر من آثار المدنية، تتوجه الهمم إليها عند بزوغ شمسها، وتستجاد إذا زخر بحر العمران، والسبب في ذلك راجع إلى أمرين: (الأول) أن الإنسان لا تتوق نفسه إلى الكماليات، كالصناعات المختلفة، إلا بعد تحصيل الضروري من مأكل وملبس. (الثاني) هو أن معظ

إلمامة بكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام ـ 1

الكاتب: أحمد الإسكندري

_ إلمامة بكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام لحضرة الفاضل جرجي أفندي زيدان [*] عرف الناس في مصر من حضرة الفاضل جرجي أفندي زيدان معلمًا فمترجمًا فصحافيًّا ففيلسوفًا لغويًّا فنسابة فروائيًّا مبتدعًا فمتفرّسًا فمؤرخًا خياليًّا قصاصًا. ثم هم يستقبلون منه الآن مؤرخًا إسلاميًّا محققًا، ولا ندري ما يعرف منه أهل سورية قبل هجرته إلى مصر، كل هذه صفات فاضلة ومواهب جليلة قلما يخلص بعضها لأفذاذ العلماء ونوابغ الرجال. وهي بخلوصها لحضرته أفادت من لا يُحصَى عددهم من قراء العربية ولا سِيَّمَا المسيحيين منهم وعلماء الشرقيات من الأوربيين وغيرهم ممن لا يحبون مطالعة الكتب العربية أو لا يستفيدون منها لو لم تشكل بالأشكال التي رسمها جرجي أفندي زيدان لمؤلفاته العديدة. كان هذا الفاضل يؤلف الكتب الروائية، ويأتي فيها بالممكن والمستحيل والمستملح والمستنكر، فكنا لا نتعرض لها بمسخ أو نسخ، لعِلْمِنا أن الذي قاده إلى هذه المواقف هو استرسال الخيال، وهو قد يفضي بصاحبه في النثر إلى مثل ما يفضي به في الشعر، فيكون أعذبه أكذبه، ولاعتقادنا أن نفعها أكبر من إثمها، وأن الكتب العربية الصحيحة لا تزال بعد منتشرة في جميع أرجاء العالم، ناطقة ببيان الغث من السمين، والصحيح من الباطل، على أنه ما من كتاب وضعه بشر إلا وكان فيه لهوى النفس والسخائم الدينية والعصبية الجنسية بله الخطأ والغفلة أثر أي أثر، إلا ما شذ وندر، فلما قرأت تقريظ حضرة الفاضل (المغربي) أحد محرري المؤيد لكتاب (تاريخ العرب قبل الإسلام) ، وهو آخر ما أُخرج للناس بعدُ مِنْ كُتُب مؤلفنا المذكور وجدته قد ملأ ما يقرب من صفحة من صفحات المؤيد بعبارات الإطراء والتهويل والإعجاب والإغراب مما لو قبله القارئ لم يشك أن العرب خلقت خلقًا جديدًا أو أن تاريخ جاهليتها الأولى المقبور في بطون القدم قد نبشه المؤلف من ناوُوسه، فرابني قولُه - والمبالغة تريب - ولم أَرَ الأمر يخرج عن إحدى خصال ثلاث، إما أن يكون قرظه ولم يقرأه كعادة أكثر محرري الصحف لضيق وقتهم؛ وإما أن يكون قرأه وصانع المؤلف لصداقة بينهما - وللصداقة حقوق - وإما أن يكون المؤلف قد وفق حقيقة للعثور على الضالة المنشودة والحلقة المفقودة من تاريخ جاهلية العرب، وما ذلك بعزيز على نشاط الرجل واجتهاده. ولما كنت ممن عُنِيَ بهذا الموضوع عناية شديدة، قرأت الكتاب بإلهاف، أخذ يتناقص بتناقص أوراق الكتاب، فإذا به - والحق أقول - خير مؤلفات الرجل، ولا أنكر أنه أفادني بعض فوائد ثمينة، هاجت في نفسي ميلاً إلى نقده ولا يُنْقَد إلا كل ذي قيمة. يقع كتاب (تاريخ العرب قبل الإسلام) في 250 صفحة، كتب في 30 صفحةً منها مقدمة طويلة، ليست من موضوع الكتاب في شيء، وإنما ذكر فيها كعادته في كتبه غموض تاريخ العرب وصعوبة التأليف فيه أو تعذره، إلا على من كان من أهل الجسارة أو الاطلاع الواسع، والمعرفة بكثير من اللغات الحية والميتة والبحث والتنقيب في آثار الأمم الخالية، ثم ذكر شبه فهرس مطول، ثم تمهيدًا في مصادر تاريخ العرب، وهي الكتب العربية وغير العربية من اليونانية والرومانية والنقوش الأثرية، وقد تحامل على العرب فيها ما شاء أن يتحامل، مما يظن معه قارئه ابتداء أن أكثر مصادر الكتاب أثرية أو يونانية قديمة أو أوربية حديثة، لكثرة أسماء الكتب والرحلات التي ذكرها، وهي نحو السبعين كتابًا، غير الموسوعات والمعاجم الكبرى التاريخية والأثرية وغيرها (كما يقول) فإذا هو قرأ الكتاب وجد أن نحو أربعة أخماسه عربي المصدر، وأن لا ذكر لهذه الكتب والمعاجم إلا نزرًا يسيرًا في ذيل الكتاب، يعرف ذلك مَنِ اطّلع على الكتاب بإمعان، ومن رأيي أن هذه المقدمة تجارية أكثر منها علمية. * * * فائدة المؤرخ من الكتاب إن الذي لا يعرف اللغات الأوربية يستفيد من الكتاب: أولاً: ما ترجمه المؤلف من آراء بعض قدماء اليونان في الجغرافية العربية غثّة كانت أو سمينة. ثانيًا: ما ترجمه من آراء بعض سياح الأوربيين قي شمال جزيرة العرب وجنوبها على قلة في ذلك. ثالثًا: بعض الصور والرسوم والخطوط والنقود التي نقلها من رحلات هؤلاء السياح، مثل رسم سد مأرب، وبعض قصور اليمن، وهيكل تدمر وبطرا. رابعًا: معرفة كيف كان يختلف اللسان النبطي والتدمري عن العربي الفصيح، وهي فوائد تشكر للمؤلف إذاعتها في كتاب مستقل. * * * الأمور التي تؤخذ على المؤلف الأمر الأول: تردده أو إنكاره بعض الحقائق التاريخية البديهية في موضع، وتشبثه بتحقيق بعض الظنون والتخرصات في موضع آخر، اعتمادًا على أوهام وتخيلات قامت بذهنه فقط. فمثال الأول: أنه عندما أراد التكلم على تقسيم عرب أواسط الجزيرة وشماليها إلى قحطانيين (يمانيين) وعدنانيين، مال إلى إنكار هذا التقسيم، ورأى رأيًا عجيبًا لا يخطر على بال مؤرخ ولا قارئ، وهو أن هؤلاء العرب كلهم عدنانيون، فعنده أن مثل طَيِّئ وكندة ولخم وجذام ومذحج وهمدان ومازن والأوس والخزرج عدنانيون. ونورد هنا ما قاله في ذلك (صفحة 182 و183) قال: وكل هذه البطون أو القبائل قد رأيت أنها ترجع بأنسابها إلى كهلان بن سبأ، أي أنهم قحطانية، ذلك ما أجمع عليه العرب، ولكن لنا رأيًا في هذا الإجماع، لا يخلو ذكره من فائدة. قد رأيت في ما ذكرناه عن الفروق بين القحطانية والعدنانية، أن لكل منهما خصائص في اللغة والاجتماع والعادات والدين وأسماء الأعلام. وإذا تدبرت أحوال هذه الدول من غسان ولخم وكندة رأيتها تنطبق على العدنانية أكثر مما (كذا) على القحطانية، مِن حيثُ اللغةُ، فإننا لم نَرَ في كلامهم وأقوالهم ما يدل على أنهم كانوا يتكلمون لغة حِمْيَر، بل لغة العدنانية أو عرب الشمال في الطور الثاني. وقد يقال: إنهم اقتبسوا لغة الوسط الذي انتقلوا إليه، ولكنا نستبعد ذلك، لأن الغالب في اقتباس لغة الآخرين أن يقع من الضعيف نحو القوي - فلو كان أولئك القوم قادمين من بلاد اليمن لَحافظوا على لسانهم وسائر عاداتهم، لأنهم كانوا يومئذ أرفع منزلة من بدو الشمال، وكان هؤلاء ينظرون إلى اليمنية نظرهم إلى أهل الدولة ويعدونهم الملوك، كما ينظر البدوي الأمي إلى المتمدنين أصحاب الصولة والعلم. وزد على ذلك أن اليمنية كانوا يكتبون بالحرف المسند ولا نرى لهذا الحرف ذكرًا في أخبارهم، ولا أثرًا في أطلالهم. وقد علمت أن الكهلانيين أهل حضارة كما رأيت في ما ذكرناه من حديث سيل العرم، وكيف أن الكهلانيين كانوا أهل حدائق وقصور باعوها وانتقلوا. فلو صح ذلك لاختاروا الإقامة في بلد آخر من اليمن غير مأرب وما جاورها؛ لأن السيل لم يخرب إلا جزءًا صغيرًا من اليمن. فلم يكونوا يعدمون مكانًا يقيمون فيه، كما كان يقيم سواهم من قبائل الحضر، وإخوانهم الحميريون مازالوا أهل دولة وعمران وظلوا في رغد ورخاء وسَعَة من العيش إلى ظهور الإسلام. فما كان أغنى الكهلانيين عن الرحلة إلى بادية الشام أو العراق والرجوع إلى البداوة، وهي شاقة على من تعود الحضارة والرخاء. واعتبر ذلك في معبوداتهم، فإنها من معبودات عرب الشمال أو العدنانية، ولم نجد عندهم ما يميزهم عن هؤلاء من هذا القبيل. ولو كانوا من عرب اليمن، لوجدنا بين معبوداتهم اسم عشتار أو إيل أو نحوها. وهكذا يقال في أسمائهم وليس فيها رائحة الأعلام السَّبَئِيَّة أو المعينية، بل هي مثل أسماء سائر عرب الشمال، ولا سِيَّمَا الذين سكنوا مشارف الشام قبلهم كالأنباط ونحوهم، ومنها الحارث وثعلبة وجبلة والنعمان وغيرها. ولا يعترض بما ذكره العرب بين أسماء ملوك حمير من أمثال هذه، فإن أكثرها مبدل بأسماء شمالية، وإنما عمدتنا في ما ذكرناه على الأسماء التي وقفوا عليها في الآثار المنقوشة. فلا دليل على قحطانية هذه الأمم إلا أقوال النسابين، وهي أضعف من أن يعول عليها في هذا الشأن، لاحتمال أن تكون تلك الأمم قد انتحلت الانتساب إلى عرب اليمن التماسًا للفخر بين قوم لا يعرفونهم، ولا سِيَّمَا بعد أن تقربوا من الروم أو الفرس وصاروا من عمالهم اهـ. * * * ونقول في دحض هذه الأقوال: (1) أما عدم الاختلاف في اللغة، فإن الاختلاف فيها إما أن يكون في الأصول، وإما في الفروع، أما الأصول فلم يكن بينها خلاف جوهري؛ لأن لغات العرب كلها من أصل واحد، كما اعترفت به حضرته، وأما الفروع فلم ينكر أحد سواه وقوع الاختلاف فيها حتى في لغات القبائل التي لم تخرج من اليمن، فالاختلاف في الإعراب والتصريف والقلب والإعلال والإبدال مملوء به كتب النحو والصرف والاختلافات في معاني الكلمات المفردة لم تهملها كتب اللغة والأدب، ولذلك وقائعُ وحكايات جر الخطأ في التفاهم بسببها إلى إزهاق الأرواح، كما في حكاية قتل مالك بن نويرة وقومه، وكلنا يعرف ما هي العجعجة والشنشنة والاستنطاء في لغات اليمانية. ولو كان بعض الاتفاق في اللغات بين القبائل المختلفة يجعلها من أصل واحد، لقد كان المحتم على حضرة المؤرخ أن تقول: إن قبائل حمير التي لم تخرج من اليمن عدنانية أيضًا، لاتحادها مع العدنانيين في الأصول واختلافها عنها في بعض الفروع إبّانَ ظهور الإسلام، وقد حفظ لنا التاريخ الصحيح وكتب السنة الصحيحة كثيرًا من مقالات وفود الحميريين على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي لا تختلف عن العدنانية إلا في معاني بعض المفردات. وإنما حدث هذا التقارب في اللهجة واللغة لتقاربهم في البيئة (الوسط) وللمجامع والأسواق التي كانوا يقيمونها، وأما أن الضعيف يقتبس لغة القوي، وزعمه أن اليمانيين كانوا هم الأقوياء الغالبين، فذلك على فرض تسليمه، لا ينهض حجة على إثبات دعواه، لما كانت عليه العرب في القرون القريبة من ظهور الإسلام من التقارب في جميع الأحوال، حتى قبائل حمير نفسها بعد غلبة الحبشة والفرس عليها. (2) وأمّا إنه لم يوجد أثر للحرف المسند من جهات الشمال، فذلك قد كذبه بنفسه في موضع آخر عند تكلمه على عرب الصفا، حيث أتى بهذا العنوان لأمم سبئية في الشمال، وذكر تحت هذا العنوان كلامًا كثيرًا عن أن أمم حمير انتقلت إلى الشمال ووجد لها أنواع من الخط المسند، كالقلم الصفوي والثمودي واللحياني، وقال: إن الباحثين لا يزالون في أول البحث. (3) أمّا إنه لا حامل للقحطانيين على الهجرة من بلادهم وجناتهم وقصورهم إلى الصحاري المجدبة بلا سبب عظيم، وأن سيل العرم لا يكفي لتفرقهم أيادي سبأ، فإن الأسباب الحقيقية لهذه الهجرة لا تزال مجهولةً، كأسباب هجرة أكثر الأمم القديمة، وإنما كان من أهمها حادثة سيل العَرِم، مضافة إلى منازعات وحروب أهلية أو مجاعات أو أن الأرض قد ضاقت عليهم، فالتمسوا غيرها من بلاد الله، ولم تكن وجهتهم في رحلتهم هذه القفار، بل كانت ريف العراق ومشارف الشام، ولا تنكر حضرة المؤرخ عظم دولتهم في الحيرة والأنبار وفي سوريا وفلسطين، فلقد احتلوا في الأولى جميع الأراضي التي بين دجلة والفرات، حتى سميت العراق العربي، وفي الثانية أكثر بلاد فلسطين وسورية وحلب، ولا شَكّ أن هذه كانت أخصب من بلادهم، وبقية اليمانيين الذين سكنوا البدو منهم، فإنما تراجعوا إليه بعد منافسات مع بني عمهم في الشمال مع بُعْد عهدهم باليمن وخصبه، وأما اكتفاء المؤرخين بذكر حادثة سيل العَرِم، فذلك وَهْم سرى إليهم من تعقيب ذكر قصة السيل في القرآن الكر

السنن والأحاديث النبوية

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ السنن والأحاديث النبوية (2) كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الآحاد والسنة رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [*] (الكلمة الثالثة) في بيان ما استشكله الأستاذ الشيخ اليافعي في تفسيرنا للآيات التي يستدلون بها على النسخ في القرآن. إن استدلالهم على النسخ بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) قد فنده الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تفسيره كما نقلنا ملخصه عنه في مقالة الناسخ والمنسوخ، وقلنا: إن المراد بالآية هنا هي العلامة والدليل على النبوة كالمعجزة ونحوها، ومعنى نسخها: ترك العمل بها في التأييد وعدم إظهارها مرة أخرى لتصديق النبي، وذلك على حد قوله تعالى في آية أخرى في هذا المعنى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} (الرعد: 38) أي لكل زمن حال مكتوب عليهم ومقدر لهم لا يناسبهم غيره {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (الرعد: 39) من الآيات السابقة وغيرها، فلا يعيدها مرة أخرى للأمم اللاحقة، لعدم مناسبتها لحالهم، فهو كقوله هناك: {مَا نَنْسَخْ} (البقرة: 106) فالمجرد النسخ في الآيتين بمعنى واحد {وَيُثْبِتُ} (الرعد: 39) ما يشاء مما يرى الحكمة في إبقائه أو إعادته {وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) أي العلم التامّ بكل حال وما يناسبه: فالسياق في هاتين الآيتين يدل على ما قلناه فيهما، وهما مُفسِّرتان بعضهما لبعض. يقول الأستاذ الفاضل: لو كان تفسيرنا لهذه الآية صحيحًا لكان التقدير فيها: ما ننسخ من مثل آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ونقول: نعم , فليكن كذلك فهو كقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) , فإن تقديره: وما منعنا أن نرسل بالآيات التي تقترحونها إلا أن كذب بمثلها الأولون، وقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) , فإنما المثلية في قوة الحجة والإقناع، لا في كُنْهها وماهيتها، فأي عيب يراه الأستاذ في هذا المعنى، وكيف يفسر هذه الآيات وآية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} (الرعد: 38) إلخ الآية التي سبق ذكرها؟ . فكل آية من آيات الأنبياء السابقين التي نسيها الناس أو لم يظهرها الله تعالى مرة ثانية على يد النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بمثلها في الإقناع والهداية أو بخير منها في ذلك، فأظهر تعالى على يده معجزات كثيرة، وأنزل عليه آيات الكتاب العزيز، فهو المعجزة العظمى الباقية، وآية الآيات الكبرى الخالدة، التي رآها الناس في كل زمان ومكان، ويقدرها العقلاء قدرها، فإنها لا تشتبه بسحر ولا بشعوذة أو غش أو تدليس، فهي خير من جميع المعجزات التي سبقتها، وأعم فائدة وأتم دليلاً، وأكثر مناسبة لحال البشر، وقد ظهر ذلك الآن أتم الظهور، فنرى العلماء اليوم في أوربا وكثير من البلاد المتمدنة صاروا ينفرون من ذكر المعجزات الحسية، ويودون لو أوتي أنبياؤهم معجزات غيرها علمية عقلية أدبية، أي كمعجزة القرآن الشريف. فلو لم يؤت صلى الله عليه وسلم سواه لكفى، ولذلك قال تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) فما بالك وقد أعطي معجزات كثيرات غيره، كما تواترت به الأخبار. واعلم أن نظم الآية التي نحن بصدد تفسيرها لا يقبل أي معنى آخر سوى ما اخترناه فيها، ولذلك ختمت بقوله تعالى: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) , فلو كان المراد آيات الأحكام، كما يقولون لقال: ألم تعلم أن الله عليم حكيم، فإنه أتم مناسبة وأشد ملاءمة لما يقولون، ولما قال بعدها: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} (البقرة: 107-108) فقد سأل بنو إسرائيل موسى من قبل مقترحين آيات غير ما أراهم عنادًا وكفرًا {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} (النساء: 153) , فإذا كان تفسيرهم صحيحًا، فما مناسبة هذا الكلام هنا، وما معناه؟ ! وإذا كان المراد آيات الأحكام لا المعجزات، فهل الله تعالى أتى بدل الآيات المنسوخة بآيات خير منها؟ إن كان ذلك صحيحًا، فكيف نسخ كثير من أحكام القرآن بالسنة على قول بعضهم؟ مثلاً قالوا: إن آية {الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (البقرة: 180) قد نسخت بحديث (ألا لا وصية لوارث) فلم لم يأت بدلها في القرآن؟ وأين البدل للآيات التي نسخ لفظها وحكمها معًا؟ كقوله: عشر رضعات معلومات يحرمن، الذي نسخ على زعمهم بقوله: (خمس رضعات معلومات) , ثم نسخ لفظ هذا الأخير، ولم يأت بدله، ولا يزال حكمه باقيًا، كما في مذهب الشافعي، وكذلك لم يأت بدل للفظ: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة، وغير ذلك كثير! ! أما آية مناجاة الرسول التي فسرناها في مقالاتنا السابقة، فنزيد على تفسيرنا لها أن قوله تعالى فيها: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (المجادلة: 13) إلخ، معناه: إن لم تفعلوا ما ندبتم إليه من تقديم الصدقات قبل مناجاة الرسول، والحال أن الله قد رجع إليكم بالتخفيف والتسهيل فيما شرعه لكم، فلم يعاملكم كما كان يعامل الأمم السابقة، ولم يعنتكم بشيء مما أوجبه عليكم، فلذا ندبكم إلى هذا الأمر، ولم يجعله عليكم فرضًا، كما هي سنته في معاملتكم بالرأفة والرحمة، فأقيموا الصلاة إلخ، فقوله: {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} (المجادلة: 13) قد ورد هنا بمعنى الرجوع إلى التخفيف والتسهيل على هذه الأمة والعدول عن معاملتها كسابقيها، لا بمعنى التجاوز عن السيئات وغفران الذنوب. وقد ورد بذلك المعنى أيضًا في آية أخرى في سورة المزمل، وهي قوله تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} (المزمل: 20) أي: رجع إليكم بالتخفيف , ورفع عنكم ما يشق عليكم، وليس معناه في هاتين الآيتين العفو عن الذنوب، إذ لا ذنب هنا صدر منهم. قال الأستاذ الفاضل الشيخ اليافعي، منتقدًا على تفسيرنا لآية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) : إن السياق لا يدل على أن هذا القول صدر عن أهل الكتاب كما قلنا، فإنه لم يتقدم لهم ذكر في السورة. ونقول: إن صدور هذا الكلام من أهل الكتاب لا ينافي أن غيرهم من العرب شاركهم في ترديده والموافقة عليه، عنادًا للنبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبًا له، فلذلك وردت هذه الآية في سياق الكلام عن مشركي العرب، فإنهم وافقوا أهل الكتاب منهم في دعاويهم الباطلة وتعاونوا بهم على تكذيب النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك كانوا يقولون تقليدًا لهم في تكذيب القرآن ? {أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} (الأنبياء: 5) , فإنهم لا يؤمنون برسل الأولين ولا يعرفونهم ولا يصدقون بآياتهم، ولكنهم يرددون ما يلقيه لهم أهل الكتاب، وإن خالف معتقداتهم، مادام فيه تكذيب للنبي وإغاظة له، ولذلك ترى في القرآن آيات كثيرة أمثال هذه التكذيبات اليهودية أو النصرانية واردة في سياق الكلام مع مشركي العرب، فإنهم جميعًا كانوا متضامنين ومتحدين بعضهم مع بعض على بغض النبي صلى الله عليه وسلم وتكذيبه وعرقلة مساعيه، فهم - وإن اختلفت أديانهم - أمة واحدة ويد واحدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن أمثلة هذا التضامن والاتحاد في التكذيب قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: 91) ولما كان اليهود هم المُوعِزين إلى المشركين بذلك عنادًا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحقدًا عليه ومكابرة له قال تعالى له: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ} (الأنعام: 91) الآية، وهي واردة في سياق الكلام مع مشركي العرب للسبب الذي ذكرناه، وهو أنهم أمة واحدة ومتحدون على بغض الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه وتلقين بعضهم بعضًا صنوفًا من الشبهات والتشكيكات غير مبالين بمخالفتها لمعتقداتهم، فلذا صح أن ينسب ما يقوله بعضهم لهم جميعًا لاتباعهم له وتعويلهم عليه في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في جميع اللغات المعروفة، ينسب عمل بعض أفراد الأمة إلى الأمة جميعها، خصوصًا إذا رضيت به وأقرته، وإن اختلفوا عقيدة، فما بالك إذا كانوا جميعًا يأتون الشيء ويعملونه. ومن أمثلة ذلك أيضًا قول المشركين: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} (القصص: 48) مع أنهم لا يؤمنون بموسى، ولا بما جاء به، وهو يدل على أنهم كانوا يقلدون اليهود تقليدًا أعمى، ويطيعونهم في جميع ما يوعزون به إليهم، وإن نافى معتقداتهم، كما قلنا إرضاءً لهم واستجلابًا لودهم ومعاونتهم لهم على الرسول صلى الله عليه وسلم. فكثير من مثل هذه الأقوال كان صادرًا عن اليهود , ثم تبعهم فيه المشركون وصاروا يرددونه عنهم، فلذا اتبعوا اليهود في تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: إن القرآن نسخ بعض شرائع التوراة، كالسبت وتحريم بعض اللحوم. ولذلك جاءت آية {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) في سياق الكلام مع المشركين، مع أن القول صدر أولاً من أهل الكتاب، وقلدهم فيه المشركون تقليدًا أعمى، كما قلدوهم في غيره مما سبق بيانه، وجاءت به الآيات في سياق الكلام معهم. هذا وإن الأستاذ الفاضل قد استنكر جَعْل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النحل: 104) وصفًا لليهود، وفاته أن الله تعالى قد وصفهم بمثله في آيات أخرى كثيرة، كقوله: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ} (المائدة: 43) - إلى قوله - {وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} (المائدة: 43) , وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) . (الكلمة الرابعة) - بيان أسباب أن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين. أولاً: قد يكون الراوي كذوبًا، لكنه منافق ومتظاهر بالصلاح والتقوى لسبب ما من الأسباب التي تحمل الناس على الكذب، وهي كثيرة معروفة، فيغتر به بعض الناس، لعدم معرفتهم عنه شيئًا يجرحه، لشدة احتراسه وتستُّره. وقد يكون بعض المحدثين مؤمنًا صادقًا مخلصًا صالحًا لكنه ينخدع لظاهر هؤلاء المنافقين، فيأخذ الحديث عنهم ويصدقهم، وهم كاذبون، إذ كلما اشتد صلاح المرء، وخوفه من الله،

مناظرة عالمين في مجلس المأمون

الكاتب: عبد القادر المغربي

_ مناظرة عالمين في مجلس المأمون [*] إذا أردنا من القرآن كلام الله: كان قديمًا، لأنه يكون إذ ذاك عبارة عن صفة من صفاته تعالى، وهي قديمة، وإن أريد بالقرآن ماعدا الصفة القديمة من صوت مسموع أو مصحف مصنوع: كان حادثًا. هذه المسألة على بساطتها ووضوحها كان لها في تاريخ الإسلام الديني أسوأ الأثر، وآل الأمر فيها إلى أن يسجن مثل الإمام أحمد بن حنبل، ويقيد ويعذب، وكان سواد الأمة ومعظم علمائها من الفريق القائل بأن القرآن قديم. أما الفريق القائل بالحدوث، ويسمّى (المعتزلة) فاتفق له من بعض خلفاء بني العباس من يأخذ بقوله، ويحمل الناس عليه، ومن ثَمَّة كانت صولته أشد، وعامل جبروته أنفذ، وكان من هؤلاء الخلفاء الذين أيدوا القول بالحدوث المأمون بن الرشيد، فكان هذا الخليفة على ما فيه من علم صحيح وعقل رجيح، يشدد على الناس وينكل بهم إنْ قالوا بما يخالف رأيه، فكان الناس لعهده يستترون في بيوتهم، وينقطعون عن شهود الجمعة والجماعة، ويتسللون من بلد إلى بلاد خشية الفتنة والإرهاق، وقد مُنِعَ الفقهاء والمحدثون من القعود للناس في المسجد الجامع الواقع في الجانب الشرقي من الرصافة، وفي غيره من المواضع، إلا بِشْرًا المِرِّيسِيّ ومحمد بن الجهم ومن رأى رأيهما من علماء المعتزلة القائلين بحدوث القرآن، وكل من أظهر مخالفتهم قيد إليهم، وعرض قوله عليهم، فإن أصر قتل سرًّا أو جهرًا , أو نفي من الأرض، وكان كثيرون من العلماء يوافقونهم في الظاهر خوفًا على أنفسهم، وفي الباطن يَبرَأون إلى الله مما أعلنوه. شاع أمر هذه المحنة في بغداد، وجعل أهل الأمصار الإسلامية يتداولون خبرها ويتعوذون بالله من شرها: قال عبد العزيز بن يحيى الكناني - الذي نلخص هذه المقالة من رسالة له ألفها فيما حدث له -: اتصل بي وأنا بمكة ما ابتلي به الناس في بغداد، وكيف استطال عليهم بِشْر المِرِّيسِيّ ولَبَّسَ على أمير المؤمنين وعامة أوليائه، فأطال همي هذا الخبر، وأطار نومي، فخرجت من بلدي متوجهًا إلى ربي وأسأله سلامتي حتى قدمت بغداد، فشاهدت من غلظ الأمر وامتداده أضعاف ما كان يصل إِلَيَّ. ثم إن عبد العزيز جعل بعد وصوله إلى بغداد يبتهل إلى الله أن يسدده، ويثبت عزيمته، ويرشده إلى طريقة يتوصل بها إلى قهر تلك الفئة الجائرة، وكف عاديتها، فبدا له أن يخفي أمره عن الناس جميعًا خشيةَ أن يقتل قبل أن يسمع كلامه، ثم ارْتَأَى أخيرًا أن يقف بعد صلاة الجمعة في جامع الرصافة ويرفع صوته بمخالفة أهل البدعة وتسفيه آرائهم وطلب محاجّتهم، فإن إشهاره نفسه على هذه الصورة يحول دون اغتياله قبل مناظرته، واستماع قوله، ولم يكد ينتهي الإمام من صلاة الجمعة في ذلك الجامع حتى سمع الناس من الصف الأول حيال القِبْلَة والمنبر، صوت رجل مكّيّ الزّيّ واقف على قدميه ينادي بأعلى صوته ابنه الصغير الذي أقامه قبالته عند الأسطوانة الأخرى: الأب: ما تقول في القرآن يا بني؟ الابن: كلام الله منزل غير مخلوق يا أبتي. فارتاع الناس لهذه المحاورة وهربوا على وجوههم خارجين من المسجد، وأسرعت الشرطة فاحتملوا عبد العزيز وابنه إلى رئيسهم (رئيس البوليس إذ ذاك عمرو بن مسعدة) وكان جاء لِيُصَلِّيَ الجمعة في جامع الرصافة. الرئيس: أمجنون أنت؟ عبد العزيز: لا. الرئيس: موسوس؟ عبد العزيز: لا. الرئيس: معتوه؟ عبد العزيز: لا , والحمد لله، وإني لَصحيحُ العقلِ , جيّدُ الفهْمِ , ثابتُ المعرفةِ. الرئيس: فمظلوم أنت؟ عبد العزيز: لا. الرئيس لأصحابه: مروا بهما سحبًا إلى منزلي. فاحتملهما الشرطة، وجعلوا يعدون بهما سحبًا شديدًا، وأيديهما في أيديهم يمنة ويسرة، حتى صاروا بهما إلى منزل الرئيس على هذه الحالة الغليظة، فأُدْخِلا عليه وهو جالس في صحن داره على كرسي من حديد وشواره عليه [1] . الرئيس: مِن أين أنت؟ عبد العزيز: من أهل مكة. الرئيس: ما حملك على ما صنعت بنفسك؟ عبد العزيز: طلبت القربة إلى الله ورجاء الزلفى لديه. الرئيس: هلاّ فعلْتَ ذلك سِرًّا مِن غير نداءٍ ولا إظهارِ المخالفة لأمير المؤمنين! ! ولكن أردت الشهرة والرياء والسؤدد لتأخذ أموال الناس. عبد العزيز: ما أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين، والمناظرة بين يديه لا غير ذلك. الرئيس: أوَتفعلُ ذلك؟ عبد العزيز: نعم، ولذلك قصدت، وبلغت بنفسي ما ترى، وتغريري بنفسي وسلوكي البراري أنا وولدي رجاءَ تأدية حقِّ الله فيما استودعني من العلم والفهم في كتابه، وما أخذه عليّ وعلى العلماء من البيان [2] . الرئيس: إن كنت إنما جعلت هذا سببًا لغيره من المطالب إذا وصلت إلى أمير المؤمنين فقد حل دمك. عبد العزيز: إن تكلمت في شيء غير هذا، وجعلت هذا ذريعة إليه، فدمي حلال. فوثب الرئيس , وقال لأعوانه أخرجوه بين يدي، فأخرجوني أنا وابني بين يديه، وهو راكب على فرسه، وجعلوا يعدون بنا على وجوهنا، وأيدينا في أيديهم، حتى وصلنا إلى دار الخلافة الشرقي من بغداد. فدخل الرئيس على المأمون، وبقيت أنا وابني في الدهليز واقفين على أرجلنا، فأطال ثم خرج إلى حجرة له وأمر بي: الرئيس: أخبرت أمير المؤمنين بخبرك، وما فعلت، وما سألته من الجمع بينك وبين مخالفيك للمناظرة بين يديه، وقد أمر أطال الله بقاءه وأعلى أمره بإجابتك إلى ما سألت، وأمر بجمع المناظرين على هذه المقالة إلى مجلسه - أعلاه الله - في يوم الإثنين الأدنى، ويحضر هو بنفسه معهم ليناظروا بين يديه، ويكون هو الحكم بينكم. عبد العزيز: أطال الله بقاء مولانا أمير المؤمنين، وأيد دولته. الرئيس: أعطنا كفيلاً بنفسك حتى تحضر معهم يوم الإثنين، وليس بنا حاجة إلى حبسك. عبد العزيز - أدام الله عزك، أنا رجل غريب، ولست أعرف في هذا البلد أحدًا، ولا يعرفني من أهلها أحد، فمن أين لي من يكفل بي، خاصّة مع إظهاري مقالتي، لو كان الخلق يعرفونني حق معرفتي، لتبرأوا مني وهربوا من قربي وأنكروني. الرئيس: نوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم، وتنصرف فتصلح من شأنك، وتتفكر في أمرك، فلعلك ترجع عن غَيّك، وتتوب من فعلك، فيصفح أمير المؤمنين عنك. عبد العزيز: ذلك إليك أعزك الله، فافعل ما رأيت. ولما جاءت غداة يوم الإثنين، حمل عبد العزيز مكرمًا إلى دار الخلافة، وأدخل إلى حجرة رئيس الشرطة، فسأله هذا عما إذا كان لم يزل مقيمًا على رأيه، ثم نصحه وحذره وخامة عاقبة مخالفة أمير المؤمنين فيما إذا ظهر عليه مناظروه، وإنه ليس حينئذ إلا السيف، وإنه إنْ ندم ورجع عن مقالته سأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وضمن له جائزة وقضاء ما له من حاجة، فأجابه عبد العزيز بأنه ما خرج من بلده إلا رجاء إقامة الحق. الرئيس وقد وقف على رجليه: قد حرصت على خلاصك جهدي، وأنت حريص على سفك دمك جهدك. عبد العزيز: معونة الله أعظم وألطف من أن ينساني، وعدل أمير المؤمنين أوسع من أن يضيق عليّ. وكان قد صدر الأمر إلى بني هاشم أن يركبوا، وإلى القضاة والفقهاء الموافقين لهم على مذهبهم وسائر المتكلمين والمناظرين أن يحضروا، والقواد والأولياء [3] ، فركب القوم بالسلاح لإحداث الهيبة في نفس عبد العزيز وسائر الناس الذين يوشك أن يفسدهم، قال عبد العزيز ثم أذن لي، فلم أزل أنقل من دهليز إلى دهليز حتى صرت إلى الحاجب صاحب الستر الذي على باب الصحن [4] . الحاجب: إن كنت تحتاج إلى تجديد الوضوء؟ عبد العزيز: ما لي إلى ذلك حاجة. الحاجب: اركع ركعتين. (عبد العزيز ركع أربع ركعات ودعا الله) . الحاجب: استَخِر الله وقم فادخل. فأزاح الستر وأخذ الرجال (التشريفاتية) بيدي وعضدي وجعل أقوام أيديهم في ظهري وعلى رقبتي وطفقوا يعدون بي. ونظرني المأمون وأنا أسمع صوتًا: (خلوا عنه) , وكثر الضجيج من الحجاب والقواد بمثل ذلك، فخلوا عني، وقد كاد يتغير عقلي من شدة الجزع، وعظيم ما رأيت في ذلك الصحن من السلاح، وهو ملء الصحن، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين، ما رأيتها قبل ذلك ولا دخلتها. قال عبد العزيز: فلما أوصلني الحُجّاب إلى باب الديوان، وقفت فسمعت المأمون يقول: أدخلوه قرّبوه، فلما دخلت من باب الديوان، وقعت عيني عليه، وقبل ذلك لم أنتبه إليه لما كان على باب الديوان من الحجاب والقواد، فقلت: السلام عليك , يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ثم قال: ادْنُ مِنّي، فدنوت منه، ثم جعل يقول: ادن مني، فدنوت منه، ثم جعل يقول: ادنُ وأدنو، ويكرر ذلك وأنا أدنو خطوةً خطوةً، حتى صرت إلى الموضع الذي يجلس فيه المتناظرون ويسمع كلامهم، والحاجب معي يقدمني، فلما انتهيت إلى الموضع قال لي المأمون: اجلس , فجلست. وسمعت رجلاً من جلسائه يقول - وقد دخلت الديوان -: يا أمير المؤمنين , يكفيك من كلام هذا قُبْح وجهه، فوالله ما رأيت خلقًا لله أقبح وجهًا منه، فسمعت قوله هذا وفهمته، وما رأيت شخصه، على ما كنت فيه من الجزع والرعدة. قال عبد العزيز: وتبين لأمير المؤمنين ما أنا فيه من الجزع، وما قد نزل بي مِن الخوف، فجعل ينظرني وأنا أرتعد خوفًا وأنتفض، وأحَبّ أن يؤنسني، ويسكن روعتي، فطفق يكثر كلام جلسائه، ويكلم عمرو بن مسعدة (رئيس الشرطة) , ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج إليها، يريد بذلك كله إيناسي، وجعل يطيل النظر إلى الإيوان ويدير نظره فيه، فوقعت عيناه على موضع من نقش الجص قد انتفخ. فقال: يا عمرو , ما ترى هذا النقش في الجص قد انتفخ وسيقع، فبادر في قلعه وعمله. فقال عمرو: قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا. ثم أقبل المأمون على عبد العزيز يسائله: المأمون: ما الاسم؟ عبد العزيز: عبد العزيز. المأمون: ابن مَن؟ عبد العزيز: ابن يحيى بن مسلم. المأمون: ابْنُ مَن؟ (يسأله عن جَدِّه) عبد العزيز: ابن ميمون الكنانيّ. المأمون: أوَأنت من كنانة؟ عبد العزيز: نعم يا أمير المؤمنين. ثم سكت المأمون هنيهة لا يتكلم. المأمون: مِن أين الرجل؟ عبد العزيز: مِن الحجاز. المأمون: ومِن أيّ الحجاز؟ عبد العزيز: مِن مكة. المأمون: ومَن تعرف مِن أهل مكة؟ عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، قلَّ من بها من أهلها إلا وأنا أعرفه. إلا رجلاً ضوى (لجأ) إليها أو من جاور بها، فإني لا أعرفه. المأمون: أتعرف فلانًا وفلانًا (وجعل يعدد جماعة من بني هاشم) . عبد العزيز: نعم يا أمير المؤمنين أعرفهم. المأمون: وأولادهم وأنسابهم (وذكر شيئًا من ذلك) . عبد العزيز: نعم (وأجابه عما سأل) . قال عبد العزيز: وإنما يريد أمير المؤمنين إيناسي، وبسطي للكلام، وتسكين روعتي وجزعي، فذهب عني ما كنت فيه، وما لحقني من الجزع، وجاءت المعونة من الله عز وجل، فقوي بها ظهري واشتدّ قلبي، واجتمع فهمي، ثم أقبل المأمون عليّ , وقال: يا عبد العزيز , إنه قد اتصل بي ما كان منك، وقيامك في المسجد الجامع، وقولك: إن القرآن كلام الله إلخ , بحضرة الخلق وعلى رءوس الخلائق، وما كان من مسألتك بذلك من الجمع بينك وبين مخالفيك على القول لتناظرهم في مجلسي، والاستماع منك ومنهم، وقد جمعت المخالفين لك لتناظرهم بين يدي، وأكون أنا الحاكم بينكم، فإن تتبين الحجة لك عليهم والحق معك اتبعناك، وإن تكن الحجة لهم عليك والحق معهم عاقبناك، وإن استقلت أقلناك. ثم أقبل على بشر المِرِّيسِيّ , وقال: يا بشر قم إلى عبد العزيز فناظره وأنصفه، فوثب بشر من موضعه كالأسد يثب إلى الفريسة فرح

رحلة صاحب المجلة في سوريا ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سياحة صاحب المجلة (في سوريا) (1) (بيروت) وافيت بيروت في السادس والعشرين من شهر شعبان، وقد صحا الجمهور من نشوة الفرح بالدستور، وثابوا إلى التفكر والتأمل بعد تلك الرياضة في روض الوجدان والشعور، وكان مما يحمد عليه أهل بيروت ويذكرون به أنهم قد انتقلوا من خمول الاستبداد إلى نشوة السرور بالحرية، ومن هذه النشوة إلى السكون والروية، ولم يكن منهم غلو مذموم، كما يحصل عادة في مثل هذا الانتقال بمقتضى قاعدة (رد الفعل) ، وقد اشتهر ما كان من تحول الضغائن والأحقاد بين المسلمين والنصارى منهم إلى المسالمة والوداد، وكان المسلمون هم البادئين بهذا الخير، كما كانوا في الغالب يبدءون، وكما يقال بالشر. وقد رأيت فضلاء المسلمين في هذه الأيام مهتمين بأمرين عظيمين، أحدهما مشترك بين جميع العثمانيين، وهو ما تفكر فيه جمعية (الجامعة العثمانية) من إنشاء مدارس لتعليم جميع الطوائف وتربيتهم على الوحدة الوطنية أو نحو ذلك من الأعمال. ولا بُدَّ أن يكون فضلاء النصارى متفقين معهم على ذلك، وإنما أسندت الاهتمام به إلى المسلمين عن علم، وجعلت مشاركة النصارى لهم من قبيل الاستنباط العقلي لأنني لم أجتمع بأحد من علماء هؤلاء وفضلائهم، فأعرف بالاختبار ما يهتمون به من الأعمال في عصر الدستور، إذ كان أهل العلم والفضل من المسلمين هم الذين استقبلوني في البحر وأكرموا مثواي في البر. وما كانت إقامتي بينهم إلا ثلاثة أيام ضاقت عن رد الزيارة لجميع الزائرين منهم، ولو طالت لتصديت للقاء أهل الرأي من غيرهم. والأمر الثاني مما يهتم به المسلمون خاص بهم، وهو ما توجهت إليه همة (الجمعية العلمية) من إحياء المدارس التي أسستها من قبل جمعية المقاصد الخيرية، وكانت تدير نظامها شعبة المعارف التي قضى عليها الاستبداد، فجعل هذه المدارس أثرًا بعد عين، ولا أذكر ما سمعته من الآراء في إيجاد المال لهذه المدارس واختيار كتب التعليم لها بعد النظر فيما بين الأيدي منها، وجَلْب مثله من مصر، وإنما أرجو أن أكتب بعد قليل من الزمن من أخبار أعمال هذه الجمعية ما يحقق أفضل الآراء وأنفعها. رأيت مسلمي بيروت مستعدين لقبول كل إصلاح ديني ومدني، ورأيت فيهم نفرًا من أهل الغيرة الملية والميل للأعمال التي تنهض بالأمة وترقي شأن البلاد، وقد أحببت أن يكون لي حظ من معرفتهم وسعي في جمع صفوة أهل الإخلاص منهم ومكاشفتهم بما أراه من أصول الإصلاح، وقد سرني من حديث من اجتمعت به منهم، أنني رأيت التفاوت بينهم غير بعيد، والخلاف بين طبقاتهم غير شديد، والتنافس بين أهل الظهور لم يهبط إلى دركة الحسد، ومقاومة الجامدين للإصلاح لم ترتق إلى درجة المقاومة. والسبب في ذلك على ما ظهر لي، أن أذكياء النابتة الذين يحبون الإصلاح لم يتربوا تربية أوربية تبعدهم من الدين وتشوه مدنية سلفهم في أعينهم، وتحبب إليهم الانسلاخ من كل قديم، وتزين لهم الافتتان بكل جديد، كما فُتِنَ كثير من المتفرنجين في الآستانة ومصر وتونس، ولم يتوسعوا في علم الكلام والفقه فيجعلوهما مع فنون العربية كل المطلوب لارتقاء المسلمين، ولم يحرموا منهما حرمان من يعادي الشيء لجهله به - وإن المشتغلين بالعلوم الدينية والفنون العربية لا يوجد كثير من المتقنين لها والبارعين فيها الذين يخشى أن يكونوا زعماء قادرين على تأليف العصبيات لمقاومة الإصلاح، كما هو شأن رجال الدين الجامدين في كثير من بلاد المسلمين. ونتيجة هذا أن قلة اشتغال مسلمي بيروت بالكتب الإسلامية المتداولة وعدم افتتانهم بالتفرنج قد جعل نفوسهم مستعدة للإصلاح الذي لا يرتقي المسلمون بدونه، وهو الجمع بين هداية الكتاب والسنة وبين العلوم والمعارف العصرية بغير معارضة قوية. رأيت من النابتة العصرية من يقول: يجب علينا أن نعمل بمعزل عن الشيوخ الجامدين، ولا نبالي بهم، رضوا أم سخطوا، ومن يقول: لا بُدَّ من مقاومتهم والقضاء على نفوذهم، ومن يتوسط فيقول: بوجوب مسالمتهم ومداراتهم والاستعانة بمن لان جانبه منهم، والمرجع عندي أن العاملين في بيروت لا يجدون مقاومة يعتد بها، وأحوج ما يحتاجون إليه المال والزعيم الذي تجتمع عليه القلوب، ومتى وجد أصحاب الهمم من الرجال، سهل عليهم إيجاد المال، والزعيم إنما يشترط لإتقان العمل وكماله، فلا يتعذر على أهل الغيرة الابتداء بالعمل مع فقده. ومتى تكونت الأعضاء تكونًا طبيعيًّا ثبت لها رأس طبيعي. أما حكومة بيروت فهي سائرة في طريق النظام بهمة واليها ناظم باشا، وحزمه ودرايته، ولكن هذا الوالي لم يأت بعمل ما في ملحقات الولاية، كما يعلم من الكلام الآتي عن طرابلس، ولولا قرب عهده بالمجيء إلى الولاية، لقلنا: إن حسن حال الأهالي هو الذي حسن حال الحكومة في مدينة بيروت، فهو لا يدل على فضله ولا يقوي الرجاء في إصلاح حال الولاية بحسن إدارته، ولكنه لقرب عهده لمَّا يتمكن من تنظيم إدارة داره فلا مجال للومه. * * * (طرابلس الشام) وافيت هذه البلدة، وقد أهوت شمس يوم الجمعة (وهو التاسع والعشرون من شعبان) إلى الغروب، والناس يرقبون غروبها ورؤية هلال رمضان بعده، أقبلوا يستهلون، فبدا الهلال لعين واحد منهم، فحكم القاضي بشهادته، وأصبح الناس من ليلتهم صائمين. مكثت في دار صديقي الصديق الشيخ محمد كامل الرافعي أسبوعًا كاملاً أستقبل وفود الزائرين المهنئين من العلماء وعمال الحكومة والوجهاء ورجال الجمعيات الثلاث: جمعية الاتحاد والترقي، وجمعية الجامعة العثمانية، والجمعية العلمية. وقد ظهر لي مما دار بيني وبين صفوة الناس من الطبقات العليا والوسطى، أن استعداد مسلمي طرابلس للإصلاح الديني والمدني دون استعداد مسلمي بيروت. ذلك بأن مسلمي طرابلس أكثر من أهل بيروت اشتغالاً بدرس كتب الفنون العربية والعلوم الإسلامية التي وضعت منذ القرون الوسطى بعد انحطاط مدنية المسلمين وضعفهم في العلوم، وهي مما يضعف الاستعداد؛ لأنه يشغل الفطرة ولا يكملها، فيكون عائقًا لها عما سواه، كما أشرنا إليه في الكلام عن استعداد أهل بيروت، وربما نوضحه في فرصة أخرى، على أن أهل طرابلس قد قل اشتغالهم في السنين الأخيرة لحكم الاستبداد، التي اضطهِدَ بها العلم وكتبه أشد الاضطهاد. هذا سبب معنوي من أسباب ضعف استعداد أهل طرابلس، وسيعده أكثرهم غريبًا أو باطلاً بالبداهة محتجين بأن من كان أوسع علمًا في فن أو علم ما كان أقوى استعدادًا لغيره، ولا محل هنا لدحض هذه الحجة أو إبطال هذه الشبهة. وثم سبب آخر، وهو الفراغ والبطالة في طائفة كبيرة منهم وعدم المنافسة والارتقاء في العمل عند أكثر العاملين. ومن الأسباب في ذلك قلة احتكاك أهل طرابلس بمن هم أرقى منهم في العلوم والأعمال من الأجانب والعثمانيين، فإن طرابلس أصبحت كأنها بمعزل عن العالم المدني، لا يهاجر إليها المرتقون في العلوم، إذ لا مدارس ولا تعليم فيها ولا المرتقون في الأعمال التجارية أو الصناعية أو الزراعية؛ إذ لا رجاء لأحد في الكسب منها. ومنها ما هو أثر طبيعي لما قبله من عدم وجود الجرائد اليومية إليها من بيروت؛ لأنها غير متصلة بها بسكة حديدية، فالمقيم فيها لا يعرف شيئًا يعتد به من أحوال العالم. من أجل هذا وذاك كانت حكومة طرابلس شرًّا من حكومة بيروت في وقت الاستبداد، ولم تنل نصيبًا من الإصلاح في زمن الدستور، وقد كان فسادها الماضي وضعفها الحاضر علة لكثرة الأشقياء فيها المستعينين بها على السلب والنهب والنيل من أعراض الناس ودمائهم، فإن هؤلاء الأشقياء زعماء يشترون ذمة كبراء الحكام ويشاركونهم بما يتمتعون به من أموال الناس وأعراضهم ويرضخون لأفراد الشرطة والزبانية بدريهمات يستعبدونهم بها، فإذا رفعت على أحدهم قضية كفاه أمرها رجال المحاكم، فإذا جاء البلد حاكم جديد، وحاول أن يقرر فيها الأمن ويقيم ميزان العدل وأنفذ الشرطة إلى بعض هؤلاء الأشقياء المتهمين بالقتل والضرب أو السلب والنهب عادت إليه الشرطة قائلة إنهم قد فروا هاربين، فلا يعلم مكانهم، وإنما يكونون هم الذين لقنوها ما تقول. * * * (حادثة الاعتداء علي وسببها) ما كنت لأذكر هذه الحادثة في المنار، لو لم تشتهر في الأقطار، ويظلم بها أهل طرابلس على الإطلاق، حتى وجب علي أن أبرئ المظلومين، وأبين سبب تقصير المقصرين. حقيقة الحادثة أنني دخلت طرابلس باحتفال عظيم لم يسبق له نظير فيها، فقد استقبلني عند الباخرة في البحر جمهور من أهل العلم والوجاهة، ووفود من الجمعيات الثلاث: جمعية الاتحاد والترقي؛ والجمعية العلمية؛ وجمعية الجامعة العثمانية، وكان في الانتظار على رصيف الجمرك في الميناء جماهير من جميع الطبقات، وجوقة مويسيقية أرسلتها جمعية الاتحاد والترقي، فلما أقبل عليهم الزورق الذي يحملنا مرفوعًا عليه العلم العثماني - أعزه الله تعالى - صدحت المويسيقى، وبعد السلام على كثير من المستقبلين ذهبنا إلى موقف الترام الذي بين الميناء والبلد، فإذا بمركبة كبيرة من مركبات الترام معدة لنا من قبل جمعية الاتحاد، فتبوأناها مع خواص أعضاء الجمعيات وجوقة المويسيقى في مقدمتها والناس من حولها يطلقون البارود. فوقفت في نافذة من نوافذ المركبة وشكرت للقوم أريحيتهم وسارت المركبة حتى إذا ما بلغت الموقف من البلد، استقبلنا فيه جمهور آخر، وسرنا حتى إذا كنا بالقرب من الدار التي نؤمها في أشهر شوارع البلد وأسواقها، فاجأنا شقي من أولئك الأشقياء الذين أشرنا إليهم، اسمه كامل المقدم، فقال أين هذا الذي تسلمون عليه؟ فعرفني بالقرينة، فضربني بعصا في يده، وقعت على جانب رأسي، ثم رفعها ثانية، وأهوى بها فتلقاها الشيخ محمد كامل الرافعي، وكان عن يساري في مقدمة الناس. فأخرج الشقي مسدسًا، وأطلق منه رصاصة واحدة، اعْتَقَدْتُ أنه يريد بها قتلي، واعتقد الجمهور ذلك فيما يظهر، فإنهم أرجعوني وأحدقوا بي، وأرادوا إدخالي لأحد البيوت المجاورة لذلك المكان. وتقدم إليه أكثر من واحد منهم، فطردوه ثم استأنفنا السير إلى دار الرافعي، وكانت قريبة منا، وهنالك أخبرني القوم بالمعتدي، وأنه ابن عبد الرحمن أفندي المقدم، الذي كان يجلني وأنا طالب علم أشدّ الإجلال، على ما كان رحمه الله من كبرياء، حتى إنه كان يستقبلني ويشيعني عند الباب. ذلك أنه كان قد اعتدى على إخوتي من قبل بإيعاز عصبة من تلك العصب التي أشرنا إليها (والشر داعية الشر) فالظاهر أن تلك العصبة ثقل عليها أن يَعتزَّ مَن اعتدَتْ عليهم بأخ لهم، لأنها تحب أن يكون شرها دائمًا لا ينقطع. وقد رأيت جميع الناس من جميع الطبقات يعتقدون ذلك، ولولا هذا الاعتقاد لأظهروا استياءهم، ولقامت قيامتهم على هذا الشبح البالي من حكومتهم على عدم ثقتهم بها، بل لاستنهضوا همة حكومة الولاية إلى معاقبة ذلك المعتدي، الذي عدوا جريمته إهانة لهم كلهم، أي إهانة لأهل البلد، لأنه أساء إلى المئات من فضلائهم بالتعدي على الضيف الذي يحدقون به تعظيمًا له وتكريمًا، وقد سمعت من الناس وعنهم ما جزمت به وأيقنت بأن الاستياء العام كان شديدًا، وأن بعض أهل الجرأة جهروا لزعماء عصبة ذلك الشقي وله بسوء هذا العمل، وبمقت الناس لهم لأجله، وحدثني بعض الكبراء والمتوسطين أن أولئك الزعماء أقسموا جهد أيمانهم بأن هذا الأمر لم يكن

تسامح الدين الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تسامح الدين الإسلامي جاء في جريدة اللواء تحت هذا العنوان ما يأتي، مع تصحيح قليل: (نشرت جريدة (ريج) الروسية أن مخبرها الخصوصي في الآستانة العلية قابل سماحة شيخ الإسلام، وطرح عليه أربعة أسئلة طالباً الجواب عن كل منها، وهي: 1- ما رأي شيخ الإسلام في تعليم المرأة المسلمة؟ 2- ما رأي شيخ الإسلام فيما نشرته الجرائد التركية من وجوب ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة التركية؟ 3- بأي نظر ينظر شيخ الإسلام إلى المدارس الفنية العثمانية؟ 4- ماذا يفهم شيخ الإسلام من الأقوال القائلة بالحرية في الدين؟ أجاب سماحته عن السؤال الأول بقوله (إن القرآن الكريم يأمر الرجال والنساء جميعاً (بالعلم) فيلزم كل فرد من أفرادهما أن يتعلم القراءة والكتابة، ولهذا السبب نقابل - بانشراح صدر - انتشار التعليم بكل أنواعه بين النساء، زيادة على تحصيلهن العلوم الابتدائية، لأني أرى من الأوفق والأصوب أن تتولى الطبيبة أمر معالجة المريضة المسلمة، لذلك يجب أن تؤخذ الفتيات إلى المدارس الطبية، وأما مسألة قيام النساء بوظيفة المحاماة والقضاء، فأمرها لم يتم بعد في البلاد الأخرى، ولا أدري بأي نظر ينظر الأهالي هذه المسألة في بلادنا) . وقال سماحته مجيباً عن السؤال الثاني: (فهم القرآن واجب على المسلمين مطلقاً، لذلك لا نعارض فكرة ترجمة القرآن إلى اللغة التركية، بل نَعُدُّ بَذْلَ كل مجهود في إبراز هذه الفكرة الشريفة إلى حيز الوجود ديناً عظيماً علينا، ولكن حيث إن في القرآن كثيراً من المواضع يصعب فهمها على العامة، واشترطت لحلها كثرة العلم والتعلم، لذلك نرى من الواجب أن تعهد وظيفة ترجمة القرآن إلى أفاضل الفلاسفة المسلمين الذين لهم إلمام تام بلغة القرآن وروح الإسلام وأدبيات العرب حتى لا يخشى من تغيير معانيه الجليلة) . وأجاب عن السؤال الثالث بما ترجمته: إنا معشر رجال الدين وظيفتنا النظر في شؤون المدارس الدينية، وأما الفن، فأمره ليس بأيدينا، بل هو راجع إلى الحكومة والأهالي، لذلك نحن لا نتداخل في أمره، وعلى الحكومة أن تنتخب لمدارسها من الفنون ما ينجم عنه رقي الأهالي وقوة الدولة وحضارة البلاد ولا نطلب من الحكومة تسليمها لنا ولا أن تكون مدارسها الابتدائية تحت نفوذنا. ولا يوجد في المدارس الفنية من الدروس الدينية غير حصة واحدة، وأكرر القول بأن الفن والصناعة ليسا من عمل رجال الدين، بل من عمل الحكومة، ولكنهما ليسا بمخالفين للدين، ولهذا السبب نسلم أمر هذه المسألة تماماً إلى الحكومة. وقال مجيباً عن السؤال الرابع: (نحن على جانب عظيم من الحرية الدينية، ولكن لا نتداخل في أمور ديانة الأمم وخصائصها ووجدانها في أي حال، وإذا تداخلنا فإنما يكون ذلك باللسان فقط، ويأمر الدين الحنيف كل مسلم متزوج بزوجة مسيحية أن يرسل زوجته مرتين في الأسبوع لزيارة أقربائها، ولم يأمر نبينا الكريم الناس بما لا طاقة لهم به، حتى أن تركيا لم تضغط، ولا في الأزمنة التي كانت لها فيها قوة كبرى، على رعاياها المسيحيين في أمورهم الدينية، فينبغي أن ينفذ حكم الحرية التامة في أمور الديانات ليأمن كلٌّ على معتقده وديانته) . * * * (شأن المرتدين عن الإسلام) وهنا قطع المخبر كلام سماحته سائلاً رأيه في المنتقلين من الإسلام إلى المسيحية، فأجاب قائلاً: افرضوا أن فرقة عسكرية فرت من بين صفوف المقاتلين، لا شك أنكم تعتبرونها خائنة شر خيانة، وحينئذ تحكمون عليها بأشد العقاب، ونحن كذلك أمة واحدة، نذوب أسفاً على كل خارج من صفنا ونستاء منه استياء شديداً وليس أمرنا هذا مخالفاً للحرية الدينية المبنية على أساس أن كل الناس مختارون في أمر الدين، ولا نطلب بأي حال من الحكومة أن تعاقب الخارجين من الدين أو نضغط عليهم بالقوانين والتضييق، كما لا نحكم على الخارجين عن الدين إلا بالحكم المعنوي، ولا يمكن إجبار الناس لقبول الإسلام أو المسيحية، وإذا كان لشخص اختيار في الارتداد فلا يمنعنا مانع عن إظهار كراهتنا له ونفورنا منه. (زواج المسلم بالمسيحية [1] ) وسأل المخبر سماحته أيضاً قائلاً: إن الإسلام يصرح لمنتحليه بزواج الفتاة المسيحية، ولماذا يمنع الفتاة المسلمة من الزواج بالمسيحي! فأجاب بقوله: (تعرفون أن نفوذ الزوج فوق نفوذ الزوجة في المنزل، وهي تابعة له، ونحن معشر المسلمين نعد كلاًّ من اليهود والنصارى من أهل الكتاب، ونؤمن بكتبهم ونصدق برسلهم، ولهذا السبب الصراح نقدر على الإقامة مع اليهودية أو النصرانية بلا أدنى تعد على عقيدتها، ولا تعرُّضٍ لأمورها الدينية، وأما اليهود والنصارى فليسوا بمؤمنين بالقرآن ولا بمصدقين بنبينا الكريم، بل يعدونهما كذباً محضاً، لذلك حرُم على المسلمين أن يضعوا فتياتهم تحت نفوذ قوم هذه حالهم مما يحرمه ديننا الحنيف) . (مسلمو روسيا) ثم عرج سماحته بالكلام نحو مسلمي روسيا، فقال: (إني ما زلت أنصح لمسلمي روسيا بأن يكونوا مطيعين ومخلصين لوطنهم، بيد أنه يجب عليهم أن يعضوا بالنواجذ على حقوقهم الدينية وعلاقاتهم الجنسية) . (العلماء الروحيون والحرية الدينية) ثم فتح باب الكلام أيضاً بشأن الحرية الدينية، إذ قال: (إني في جانب من يقول بالحرية التامة نحو الدين، وأعتقد أن جميع العلماء الروحيين إذا اعتقدوا أن جميع البشر إخوان، وأنهم عبيد مستوون عند الله الواحد القهار، زالت من بينهم المجادلات الدينية، وطمست آثار المظالم والفتن) . ثم قال المخبر تعليقاً على ما تقدم (فليفهم القراء علو منزلة رئيس علماء المسلمين وليحكموا على بقية رؤساء الأديان الأخرى) . اهـ (المنار) إن قراء المنار يعرفون رأينا في هذه المواضيع، وربما عدنا إليها في جزء قادم.

جريدة النظام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جريدة النظام جاءنا من إدارة جريدة النظام ما يأتي: (يسرني أن أنهي إلى علمكم أنني قد عولت بعون الله وحسن توفيقه على إصدار جريدة يومية سياسية، اسمها (النظام) بالحجم المعتاد للجرائد الكبرى، سيكون شعارها الدفاع عن مصالح مصر بالإخلاص والصدق اللذين اعتادهما القراء منا في الخمسة عشر عامًا التي مضت من خدمتنا الصحافية. فإذا تفضلتم بالإشارة لذلك في صحيفتكم الغراء بشكل يجذب الأنظار , فإنكم تعجزونني عن النهوض بواجب الشكر لكم. وإذا أردفتم تلك الإشارة، برجاء ممن يريدون مراسلة الجريدة أو التوكيل عنها في الجهات أن يخاطبونا منذ الآن في ذلك، بحيث لا تتعدى طلباتهم منتصف شهر نوفمبر، فإنكم تجعلون الفضل فضلين والشكر لكم عليه شكرين، والسلام) ... ... ... ... ... ... ... ... محمد مسعود ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب جريدة النظام بمصر و (المنار) يرحب بالنظام، ويرجو له نجاحًا وفلاحًا، وتوفيقًا للسير على النهج القويم، والصراط المستقيم، وإن في خبر صاحبه لمزاولته الكتابة بضع عشرة سنة، وتفننه الصحافي، وذوقه الأدبي، ما يرجى معه رواج النظام، ورغبة محبيه فيه. (الجزائر) وجاءنا من عمر أفندي راسم الجزائري أنه عزم على إنشاء مجلة (علمية أدبية تهذيبية) سماها الجزائر، ولقد ضاق هذا الجزء عن التنويه بها بأكثر من هذا فندعو له بالتوفيق والنجاح.

تصحيح وبيان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصحيح وبيان (تصحيح) سقط السطر الأخير من (ص 568 ج 8 - 11) وهو: (ثلاثون رجلاً. أي صدقكم الله وعده ونصركم على قِلّتكم وكثرة المشركين , واستمر هذا) فيكتب بالقلم. * * * (بيان) أصدرنا هذا الجزء من المنار غير مُصدَّر بالتفسير والفتاوى؛ لأن صاحب المجلة لا يزال في سياحته.

ترجمة الخنساء

الكاتب: محمد المهدي

_ ترجمة الخنساء [*] هي السيدة تماضر، الصحابية الشهيرة الجليلة، بنت عمرو بن الحارث بن الشريد من سراة سُليم، كانت رضي الله عنها من شواعر العرب المشهود لهن بالتقدم، وإنما لقبت الخنساء تشبيهًا لها بالظبية؛ لأن الخنس من صفات الظباء، وهو تأخر الأنف عن الوجه مع ارتفاع في الأرنبة، ويقال لها خناس على سبيل التمليح، وقد كانت من أجمل نساء العرب وأفصحهن، نشأت عزيزة حرة، لا تفتات عشيرتها عليها بأمر. مر بها دريد بن الصِّمَّة فارس هوازن وسيد بني جُشَم وهي تهنأ بعيرًا لها , فانخلع لبّه على كبر سنه وانصرف إلى رحله وهو يقول: حيوا تُمَاضرَ واربعوا صحبي ... وقفوا فإن وقوفكم حسبي أخناس قد هام الفؤاد بكم ... وأصابه تبل من الحب ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أينق جرب متبذلاً تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب [1] متحسرًا نضخ الهناء به ... نضخ العبير بريطة العصب [2] فسليهم عني خناس إذا ... غض الجميع هناك ما خطبي ثم غدا إلى أبيها فخطبها إليه، فردته أحسنَ ردٍّ، ثم طلب إلى أخيها معاوية أن يشفع له عندها، فأبت بعد امتحانه، وقالت: أأترك أولاد عمي كعوالي الرماح وأتزوج شيخًا من بني جشم هامة [3] اليوم أو الغد!! فألحّ عليها، فقالت القصيدة التي مطلعها: أتكرهني هبلت على دريد ... وقد أصفحت سيد آل بدر معاذ الله يرضعني حبركي ... قصير الشبر من جشم بن بكر [4] فهجاها دريد , فقيل لها: ألا تجيبينه؟ فقالت: والله , لا أجمع عليه أن أرده وأهجوه، ومن هنا تعلم مقدار أدبها وحريتها وعزتها عند قومها. وقد كانت في أوائل أمرها تقول البيتين والثلاثة، فلما قتل شقيقها معاوية يوم حورة الأول سنة 612 م , وقتل أخوها لأبيها صخر يوم كلاب سنة 615 م في خبرين طويلين، أكثرت من الشعر وأجادت , وأُنسِيَتْ بهما من كان قبلهما وأكثرت المراثي، وأجود مراثيها ما خلط فيه مدح بتفجيع، فإنه يكاد يكون الغاية من كلام المخلوقين، كقولها في معاوية: سأحمل نفسي على حالة ... فإما عليها وإما لها تهين النفوس وهَوْن النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها فإن تك مرة أودت به ... فقد كان يكثر تقتالها فيومًا تراه على هيكل ... أخا الحرب يلبس سربالها ويومًا تراه على لذة ... وعيش رضي فقد نالها فخرّ الشوامخ من فقده ... وزلزلت الأرض زلزالها وكقولها في صخر: ألا يا صخر إن أبكيت عيني ... فقد أضحكتني زمنًا طويلا دَفَعْتُ بك الخطوب وأنت حي ... فمن ذا يدفع الخطب الجليلا إذا قبح البكاء على قتيل ... رأيت بكاءك الحسن الجميلا وقولها فيه: أعينَيَّ جُودَا ولا تجمدا ... ألا تبكيان لصخر ندى ألا تبكيان الجريء الجميل ... ألا تبكيان الفتى السيدا طويل النجاد رفيع العما ... د ساد عشيرته أمردا إذا القوم مدوا بأيديهم ... إلى المجد مد إليهم يدا فنال الذي فوق أيديهم ... من المجد ثم مضى مُصْعِدا يُحَمِّله القومُ ما عالهم ... وإن كان أصغرَهم مولدا وإن ذكر المجد ألفيته ... تأزر بالمجد ثم ارتدى وقولها: يا أم عمرو ألا تبكين معولة ... على أخيك وقد أعلى به الناعي فابكي ولا تسأمي نوحا [5] مسلبة ... على أخيك رفيع الهم والباع فقد فجعت بميمون نقيبته ... جم المخارج ضرّار ونفّاع فمن لنا إن رُزِئْناه وفارقنا ... بسيد من وراء القوم دفاع قد كان سيدنا الداعي عشيرته ... لا تبعدن فنعم السيد الداعي وزائيتها المشهورة التي تقول فيها: كأن لم يكونوا حمى يتقى ... إذ الناس إذ ذاك من عزيزا هم منعوا جارهم والنسا ... ء يحفز أحشاءها الموت حفزا ببيض الصفاح وسمر الرماح ... فالبيض ضربًا وبالسمر وخزا وخيل تكدس بالدارعين ... وتحت العجاجة يجمزن جمزا جززنا نواصي فرسانها ... وكانوا يظنون أن لن تجزا فمن ظن ممن يلاقي الحروب ... بأن لن يصاب فقد ظن عجزا نعف ونعرف حق القرى ... ونتخذ الحمد مجدًا وكنزا ونلبس في الحرب نسج الحديد ... ونلبس في الأمن خزًّا وقزا ورائيتها السائرة مسير الأمثال: أغر أبلج تأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار جلد جميل المحيا كامل ورع ... وللحروب غداة الروع مسعار حمال ألوية هباط أودية ... شهاد أندية للجيش جرار لا يمنع القوم إن سألوه خلعته ... ولا يجاوزه بالليل مرار وقد فاخرتها سلمى الكنانية، وكذلك هند بنت عُتْبَة في عكاظ ففخرتهما في حديث مشهور. * * * رتبة الخنساء بين الشعراء أجمع علماء الشعر على أنه لم تكن امرأة قط قبل الخنساء ولا بعدها أشعر منها، ولقد كان النابغة الذبياني تضرب له قبة حمراء، فيجلس لشعراء العرب بعكاظ على كرسي فينشدونه، فيفضل من يرى تفضيله، فأنشدته الخنساء فأُعْجِبَ بشعرها، وقال: لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لفضلتك على شعراء الموسم. فاغتاظ حسان بن ثابت - رضي الله عنه - من تفضيل الأعشى على شعراء الموسم، وقال للنابغة: أنا أشعر منك ومن أبيك، فقال له النابغة يا ابن أخي، أنت لا تحسن أن تقول: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع ثم قال للخنساء، أنشديه، فأنشدته، فقال: ما رأيت امرأة أشعر منك، قالت: ولا فحلاً، فقال حسان: أنا والله أشعر منك ومن أبيك حيث أقول: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما وَلَدْنَا بني العنقاء وابني محرق ... فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما فقالت الخنساء: ضعفت افتخارك وأنزرته في ثمانية مواضع، قال: وكيف؟! قالت: قلتَ: لنا الجفنات، والجفنات ما دون العشْر، فقللت العدد، ولو قلت: الجفان، لكان أكثر، وقلت: الغر، والغرة البياض في الجبهة، ولو قلت: البيض لكان أكثر، وقلت: يلمعن، واللمع شيء يأتي بعد الشيء، ولو قلت: يُشْرِقن لكان أكثر؛ لأن الإشراق أكثر من اللمعان، وقلت: بالضحى، ولو قلت: بالدُّجَى لكان أكثر في المديح؛ لأن الضيف بالليل أكثر طروقًا، وقلت: أسيافنا، والأسياف دون العَشرة، ولو قلت: سيوفنا لكان أكثر، وقلت: يقطرن، فدللت على قلة القتل، ولو قلت: يَسِلن لكان أكثر؛ لانصباب الدم، وقلت: دمًا، والدماء أكثر من الدم، وفخرت بمن وَلَدْت ولم تَفْخر بمن وَلَدَكَ!! فسكت حسان ولم يحر جوابًا، وقام منكسرًا منقطعًا، وقد سئل جرير، من أشعر الناس؟ فقال: أنا لولا الخنساء، قيل بم فضلتك؟ قال بقولها: إن الزمان وما يفنى له عجب ... أبقى لنا ذَنبًا واستؤصل الراس إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناس وكان بشار يقول: لم تقل امرأة شعرًا إلا ظهر الضعف فيه، فقيل له: أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك غلبت الفحول. *** (الخنساء في صدر الإسلام) ... اتفقت كلمة الرواة على أن السيدة تماضر الخنساء رضي الله عنها كانت صحابية، قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وقومها بنو سليم وأسلمت معهم، بيد أنها لم تدع ما كانت عليه في الجاهلية من تسلبها [6] على أبيها وأخويها، وقد بلغ مِنْ وُجْدها على صخر أنها عميت من البكاء، فلما كانت خلافة عمر رضي الله عنه أقبل بها بنو عمها عليه، وقالوا: يا أمير المؤمنين لو نهيتها، فدخل عليها فوجدها على ما وُصفت من تقريح مآقيها، فقال لها: ما أقرح مآقي عينيك يا خنساء؟ فقالت: بكائي على السادات من مضر، فقال: حتى متى؟ اتق الله إن الذي تصنعين ليس من صنع الإسلام، وإنه لو خلد أحد لخلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الذين تبكين هلكوا في الجاهلية، وهم أعضاء اللهب وحشو جهنم، فقالت: ذلك أطول بعويلي عليهم، ثم استنشدها فأنشدته ارتجالاً: سقى جدثًا أكناف غمرة [7] دونه ... من الغيث ديمات الربيع ووابله وكنت أعير الدمع قبلك من بكى ... فأنت على من مات بعدك شاغله فرقَّ لها عمر وقال: خلوا سبيل عجوزكم فكل امرئ يبكي شجوه. وقد رآها مرة تطوف بالبيت محلوقة تبكي وتلطم خدها، وقد علقت نعل صخر في خمارها، فوعظها، وقال: إنه لا يحل لك لطم وجهك، ولا كشف رأسك، فكفت عن ذلك، وقالت: هريقي من دموعك واستفيقي ... وصبرًا إن أطقت ولن تطيقي بعاقبة فإن الصبر خير ... من النعلين والرأس الحليق ولما لامتها السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقالت لها: إن الإسلام قد هدم كل الذي تصنعين أنشأت تقول: ألا يا صخر لا أنساك حتى ... أفارق مهجتي ويُشَق رَمسي يذكرني طلوع الشمس صخرًا ... وأذكره بكل مغيب شمس فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أسلي النفس عنه بالتأسي فقد ودعت يوم فراق صخر ... أبي حسان لَذَّاتي وأُنسي فقالت عائشة: ما دعاك إلى هذا إلا صنائع منه جميلة، فقالت: نعم، إن لشعاري سببًا، وذلك أن زوجي كان رجلاً متلافًا للأموال، يقامر بالقداح، فأتلف فيها ماله حتى بقينا على غير شيء، فأراد أن يسافر، فقلت له: أقم وأنا آتي أخي صخرًا، فأتيته وشكوت إليه حالنا وقلة ذات اليد بنا، فشاطرني ماله، فانطلق زوجي فقامر به، فقمر حتى لم يبق لنا شيء، فعدت إليه في العام المقبل أشكو إليه حالنا، فعاد لي بمثل ذلك فأتلفه زوجي، فلما كان في الثالثة خَلَتْ بصخر امرأتُهُ فعذلته، ثم قالت: إن زوجها مقامر، وهذا ما لا يقوم له شيء، فإن كان لا بُدَّ من صلتها فأعطها أخس مالك، فإنما هو متلف، والخيار فيه والشرار سيان، فأنشأ يقول: والله لا أمنعها خيارها ... وهي حصان قد كفتني عارها ولو هلكت قددت خمارها ... واتخذت من شعر صدارها [8] ثم شطر ماله فأعطاني أفضل شطريه، فلما هلك اتخذت هذا الصدار، والله لا أخلف ظنه، ولا أكذب قوله ما حييت. وقد مكثت أكثر من أربعين سنة وهي أحزن نساء العرب على فقيد، غير أن الإسلام اجتث جاهليتها ووجهها إلى رضوان الله وابتغاء مثوبته، يشهد لذلك ما كان من خطبتها في بنيها الأربعة يوم القادسية سنة 16 هـ، وذلك أنه لما ضرب البعث على المسلمين لفتح فارس، سارت مع بنيها الأربعة وحضرت الوقعة وأوصت أولادها من أول النهار فقالت: يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} (آل عمران: 200) الآية، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى سياقها، وجللت نارًا على أرواقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، عند احتدام خميسها، تظفروا بالمغنم والكرامة، في دار الخلود والمقامة. فقاتلوا حتى قتلوا رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين، فبلغها الخبر، فقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. ولما بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك، أجرى عليها أرزاق أولادها الأربعة، وكان لكل واحد مائتا درهم، حتى قبض رضي الله عنه، وكانت وفاة الخنساء زمن معاوية بالبادية سنة 50 هجرية 670 ميلادية.

إعجاز القرآن

الكاتب: الجاحظ

_ إعجاز القرآن قطعة للجاحظ سلك أئمة البلاغة في الكلام عن إعجاز القرآن الكريم سبلاً عديدة وذهبوا مذاهب مختلفة في تبيين وجوه الإعجاز وبيان أساليب التحدي، وكان الباقلاني أكثرهم إيفاءً للكلام في كتابه (إعجاز القرآن) الذي جعله خاصًّا بهذا الموضوع، بيد أن الجاحظ، وهو إمام الكتاب ورئيس المنشئين، سلك سبيلاً أخرى في كلامه عن إعجاز القرآن، فإنه لم يتعرض إلى دقائق الفصاحة وفلسفة البلاغة وبيان مناحي الكلام ومسالك النظم والنثر، بل تكلم عن الإعجاز باعتبار كونه ثابتًا واقعًا، وإليك كلامه: بعث الله محمدًا عليه الصلاة والسلام في زمن أكثر ما كانت العرب فيه شاعرًا وخطيبًا، وأحكم ما كانت لغة، وأشد ما كانت عدة، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله وتصديق رسالته، فدعاهم بالحجة، فلما قطع العذر وأزال الشبهة، وصار الذي يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة، نصب لهم الحرب ونصبوا له، وقتل من عليتهم وأعمامهم وبني أعمامهم، وهو في ذلك يحتج عليهم بالقرآن، ويدعوهم صباحَ مساءَ إلى معارضته - إن كان كاذبًا - بسورة واحدة أو بآيات يسيرة، فكلما أراد تحديًا لهم بها وتقريعًا لهم بعجزهم عنها، قالوا له: أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا. قال: فهاتوا ولو مفتريات، فلم يرم ذلك خطيب ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه ويكابر فيه ويزعم أنه قد عارض وناقض، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم وسهولة ذلك عليهم وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم، وعارض الشعراء من أصحابه والخطباء من أمته، لأن سورة واحدة وآية يسيرة كانت أنقض لقوله، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس والخروج عن الأوطان وإنفاق الأموال. وهذا من جليل التدبير الذي لا يخفى على من هو دون قريش والعرب في الرأي والنبل بطبقات، ولهم القصيد العجيب والرجز الفاخر، والخطب الطوال البليغة والقصار الموجزة، ولهم الأسجاع واللفظ المنثور، ثم يتحدى به أقصاهم، بعد أن ظهر به عجز أدناهم، فمحال - أرشدك الله - أن يجتمع هؤلاء كلهم في الأمر الظاهر، والخطاب المكشوف البين، مع التقريع بالتقصير والتوقيف - على العجز وهم أشد الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة، والكلام سيد أعمالهم، وقد احتاجوا إليه والحاجة تبعث على الحيلة في الأمر الغامض، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة، كما أنه محال أن يطيقوه ثلاثًا وعشرين سنة على الغلط في الأمر الجليل المنفعة، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه، ويجدون السبيل وهم يبذلون أكثر منه.

من خطبنا الإسلامية في الديار السورية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة الخطبة الأولى من خطبنا الإسلامية في الديار السورية (2) تابع لما نشر في (ص 641 ج 9 م 11) الإسلام هو الذي هدى المسلمين إلى العلم، وكانت عنايتهم بالعلوم تنمو بنمو سلطانهم وقوة شوكتهم، ثم دالت دولة العلم، ودولة السيادة والحكم، وضَعُفَ الدين مع ضعف العلوم العقلية، وقام الاستبداد يحارب العلم ويضطهده، فإن الحاكم المستبد يرى من مصلحته أن تكون الأمة جاهلة ذليلةً، إذ الاستبداد في الأمة العالمة بحقوقها أمر عسير غير يسير. قال حكيمنا السيد جمال الدين: العاقل لا يظلم ولا سِيَّمَا إذا كان أمة. فهذا سبب ما كنتم تقاسون من محاربة الحكومة التي سقطت منذ عهد قريب للعلم، واضطهادها للمتهمين به وهو عندها أشد الجرائم! ! ! أتى على المسلمين حين من الدهر وهم لا يجارون أحدًا من الأمم في العلوم والفنون، وقد ذاقوا مرارة ذلك ورأوا سوء عاقبته في أنفسهم ودولتهم، فصاروا يفتنون من كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون، كما قال تعالى في المنافقين: تنقص بلادهم من أطرافها وتسقط في أيدي الأجانب ولاية بعد ولاية بل مملكة بعد مملكة وهم لا يهتدون إلى سبب ذلك، ولا إلى طريق تلافيه، بل يعتمدون ويتكلون على ما لا يتكل عليه من كرامات الأولياء ومدد الأموات! ولم يجعل الله ذلك سببًا للنصر، بل أمر بإعداد ما يستطاع من القوة، حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالآيات الإلهية. أذكر لكم من الشواهد على ذلك ما يُؤْثَرُ عن أهل بخارى: فإنهم أُنْذِرُوا هجمة روسيا عليهم، فلم يعدوا لها ما يستطيعون من قوة، بل هزِئوا بذلك وسخروا، وقالوا إن بلادنا في حماية شاه نقشبند! (هو الولي الذي تعزى إليه الطريقة النقشبندية) فلما زحف عليهم جيش الروس، لم يملكوا من نجدة هذا الولي لهم شيئًا، بل انقلبوا على أعقابهم خاسرين، وخسروا استقلالهم وما كانوا معتبرين. فيا أيها الناس تأملوا وتدبروا: إذا تركت الأمة أن تعد لأعدائها ما تستطيع من قوة، كما أمر الله تعالى وكما تقتضي طبيعة الاجتماع، واتكلت في حياتها السياسية والاجتماعية على الأموات، ألا تكون جديرةً بالموت دون الحياة؟ بلى، وهذه هي حالنا في هذه القرون الأخيرة، ولكن الله تعالى وعد بأن يظهر هذا الدين، وأن لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب، ولذلك سخر لنا من المجددين من يعلمنا كيف نحفظ شرف الإسلام، ونكون أعزاءَ بين الأنام. ظهر بين المسلمين أقوام تعلموا العلوم الأوربية وعرفوا أحوال العالم، فرأوا أن جميع الأمم تقوى والمسلمين يضعفون، ودول النصرانية والوثنية تترقى وتعز، ودول الإسلام تتدلى وتذل، وبحثوا في سبب ذلك فرأوا أن المسلمين مؤلفون من كل جنس، ومتبوئون لكل أرض، فلا يمكن أن يكون سبب ضعفهم في كل قطر عدم استعداد جنسهم، ولا شيء يرجع إلى طبيعة أرضهم، ولم يروا سببًا مشتركًا بينهم لا يشاركهم فيه غيرهم، إلا تقاليد دينهم، فقالوا - كما قال بعض أساتذتهم من الإفرنج -: إن دين المسلمين هو سبب انحطاطهم ولا مطمع لهم في الارتقاء إلا بتركه والأخذ بما عليه أوربا! ! وعلى هذا الرأي الفاسد كثير من نابتة الترك والهنود والمصريين والتونسيين. فهذا صنف واقف على طرف مقابل للطرف الذي عليه السواد الأعظم الذي يمقت العلوم الطبيعية والرياضية والاجتماعية التي عليها مدار العمران، والصنفان يتجاذبان سائر المسلمين، ذاك يدعوهم إلى دنيا بغير دين، وذاك يمسكهم ليبقوا على ما هم عليه، وما هم بباقين. بين هذين قامت طائفة معتدلة وقفت موقف الوسط بين الفريقين، فالتفتت إلى هؤلاء الذين يريدون أن يبقى المسلمون على ما هم عليه حرصًا على دينهم، وقالت لهم: إن نيتكم صالحة ولكنكم تنكبتم الطريق لتعليم الدين وحفظه، حتى صار بين أمتكم وبين هذه الكتب الكلامية والفقهية مراحل كثيرة، فلا هم يطلبونها ولا أنتم قادرون على حملهم على تعلمها والأخذ بما فيها، فيجب أن تبحثوا معنا عن طريق آخر لتعليم الدين بسهولة تليق بفطرة الناس في أفرادهم وجمعياتهم، كما أخطأتم في ظنكم أن العلوم التي تبنى عليها الأعمال تنافي الدين، فنفرتم المسلمين عما به قوام أمتهم ودولتهم. والتفتت إلى أولئك الذين يريدون الدنيا بترك الدين، فقالت لهم: إن قصدكم إلى تقوية الأمة والدولة حسن ولكنكم تبنون من جهة وتهدمون من جهة، فيقلّ نفعكم فيما تبنون لعدم الثقة بكم، ويعظم ضرركم بما تهدمون من أساس التقوى والفضيلة مع التقاليد والبدع القبيحة. هذه الطائفة هي التي تدعو إلى حقيقة الإسلام الذي يجمع لأهله بين مصالح الدنيا والآخرة ومطالب الروح والجسد. وأول من دعا إلى ذلك في بلادنا العربية، السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى. طَرَقَ سمْعَ كثير منكم اسمُ هذا الرجل الذي هز الآفاق هزًّا، ولكن يوجد فيكم من لا يعرف شيئًا من أنبائه الصحيحة، لكثرة خوض أهل الأهواء فيها، وقد كان مخاطبكم ممن استقرأ أخباره، وتتبع آثاره، وجمع كثيرًا مما كتبه، وقد علمت من ذلك أنه دعا إلى حقيقة الإسلام وإحياء القرآن في قلوب الناس، ودعوتهم به إلى ما يحييهم، ويجعلهم أمة عزيزة، ذات دولة أو دول قوية، ولكنه قد أنفق أكثر أيام عمره في السياسة، لما رأى أن الملوك يقاومون هذه الدعوة، لأن البلاد التي تحكم بالاستبداد، لا مقام فيها للإصلاح والاستقلال. بالله عليكم كيف يرضى الحاكم المستبد بالدعوة إلى هداية القرآن الذي يجعل أمر المسلمين شورى بينهم، وإنما استبداده عبارة عن جعل أمرهم بيده وحده، وجعلهم عبيدًا خاضعين له؟ كيف يرضى بأن يكون شأنه في سياستهم كشأن النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان لا يبرم أمرًا من الأمور العامة إلا بعد الشورى، حتى إنه كان يعمل برأي الجمهور وإن خالف رأيه ورأي بعض كبراء أصحابه، كما فعل يوم أُحُد؟ ! ! (وذكرنا ملخص الخبر فيها في الخطبة) ألا إن أولئك المستبدين يحاولون أن تكون رتبتهم فوق رتبة النبي عليه الصلاة والسلام وهم لا يصلحون أن يكونوا خَدَمَة له، بل يحاولون أن يكونوا آلهة تعبد، يستخفون الأمة ويستعبدونها بالفعل، وإن وجدوا مجال القول ذا سَعَة صرحوا بما يودعه الاستبداد في نفوسهم، كما فعل الذي قال: (أنا ربكم الأعلى) . لذلك أقول لكم عن خبرة وبصيرة: إن الذي دعا السيد جمال الدين إلى الاشتغال بالسياسة هو اعتقاده أن الدعوة لا تكون إلا حيث تكون الحرية وحكومة الشورى، ولهذا قام في مصر بتأسيس حزب له نفخ فيه روح حب الحكم الذاتي أو النيابي، وكان من أعضاء حزبه توفيق باشا ولي العهد للإمارة المصرية يومئذ، وقد عاهده على أن يجعل لمصر - إذ يصير الأمر إليه - مجلسًا نيابيًّا ويحول الحكومة بذلك من النوع الاستبدادي المطلق إلى النوع الشوري المقيد، ولكنه لم يكد يستقر على كرسي الأمر حتى نَفَى السيد جمال الدين من مصر حبًّا في الاستبداد، وتلذذًا بالاستعباد. ولكن السيد لم يمل ولم ييأس، بل صبر ينتهز الفرص، فجذبته الأيام إلى بلاد الفرس، فاستأنف فيها العمل لإنشاء حكومة الشورى فنفاه الشاه من البلاد، ولقي من البلاء في ذلك ما لم يلقه إلا قليل من العباد، ثم قذفت به المقادير إلى الأستانة، فأحسن السلطان إليه، حتى طمع فيه، ولكنه ما عتم أن يئس منه، حتى مات هناك غير راض ولا مَرْضِيّ عنه، هكذا قضى حياته في التطويف في البلاد ولم يتخذ له زوجة ولا جنح إلى شيء من حظوظ الدنيا. كان للسيد مريدون كثيرون يَرِدُونَ ينبوع معارفه، ولكن لم يصدر أحد منهم ريان من مشربه، ويثبت على مذهبه، إلا الشيخ محمد عبده، فقد كان هذا الإمام الجليل تربى تربية دينية صحيحة إلا ما كان من غلوه في العبادة، فقد مكث زمنًا طويلاً لا يكلم أحدًا، وزمنًا أطول من ذلك الزمن لا ينظر إلا إلى الأرض ولا يهتم بغير إصلاح نفسه، إلا ما كان من درس يقرؤه لإخوانه المجاورين في الأزهر، ثم رجع إلى الاعتدال، ولكن لم يفارقه الخشوع ورقة القلب. ولقد دخلت عليه مرة بيته فرأيته يطالع في السيرة النبوية ودموعه تجري على لحيته، خشوعًا واعتبارًا بما لقيه - صلى الله عليه وسلم - من الأذى في سبيل ربه، وكان في كل سنة أو أكثر يعتريه تنبه عصبي من إطالة الفكر في سوء حال المسلمين، حتى همّ في ليلة من ليالي رمضان أن يطيع هذا الوجدان فينزل إلى جوار الأزبكية حيثُ مجامعُ اللهو وينادي: أيها المسلمون , ماذا رأيتم في دينكم من العيب حتى تركتموه؟ أخبروني لعلّي أبين لكم خطأكم. وأرسل إلي مرة يخبرني بأن مرضًا ألم به فمنعه النزول من عين شمس إلى القاهرة، فجئته فإذا هو في حجرة النوم وإذا بين يديه ثلاثة كتب مفتوحة ينظر فيها، فقلت له ما هذه الكتب وما هذا المرض؟ فقال هذه كتب من أصول الفقه أشغل نفسي بمباحثها وعباراتها المعقدة عن القرآن، فقد أطلت الفكر فيه وفي أحوال المسلمين فحصل لي التنبه العصبي الذي تعرف حتى أثر في ظاهر جلدي، فإذا أنا وضعت إصبعي على جبهتي أتألم. اشتغل الأستاذ الإمام بالسياسة زمنًا مع السيد ثم وجد في أواخر عمره حرية في مصر فترك السياسة واشتغل بالإصلاح الديني والاجتماعي، واشتهر أمره بذلك حتى عرفه الأقارب والأجانب. أليس من العجب أن يوجد في كُتَّاب فرنسا من يشهد بأن طريقة الأستاذ الإمام هي الطريقة المثلى لإصلاح حال المسلمين، ويوجد في المسلمين أنفسهم من يقول بضرر تعاليمه عن جهل وغباوة، أو تقليد للمرجفين عن بغي وحسد. نشرت جريدة الأهرام منذ شهرين مقالة مترجمة عن جريدة الطان الفرنسية الشهيرة جاء فيها: إن المسلمين في تونس ثلاث طبقات (الأولى الجامدة) وهي التي تحرص على بقاء المسلمين على ما هم عليه، وتنفر من العلوم العصرية والمدنية الغربية وأهلها هم الأكثرون. (الثانية المارقة) وهي التي تنكر الدين ولا ترى أن تقف عند حدوده في شيء، وأهلها هم الأقلون، وهم يخفون مذهبهم هذا لضعفهم، ولا يرجى منهم خير لأمتهم. (الثالثة المعتدلة) وهي التي تعمل لترقية المسلمين في العلوم والمدنية مع المحافظة على دين الإسلام، وهي التي يُرْجَى منها الخير للبلاد التونسية، وأهلها يتبعون التعاليم التي كان يلقيها في مصر الشيخ محمد عبده، والتي تنشرها بينهم مجلة المنار. وقد كتب أكثر من واحد من الإفرنج مثل هذا عن مسلمي مصر، وهو ما كتبه لورد كرومر في تقاريره وتاريخه لمصر. فهذه طريقتنا أيها الإخوان في الإصلاح. نريد أن نجمع لأمتنا بين مصالح الدنيا والآخرة، وقد عرف هذا كُتَّاب الإفرنج واعترفوا بفائدته فلا ينبغي للمسلمين أنفسهم أن يجهلوه! نحن في حاجة عظيمة إلى العلوم والفنون والصناعات العصرية التي تقوى بها أمتنا وتعتز بها دولتنا. ولا يكون الخير في ذلك تامًّا إلا إذا أقمنا معه أصول ديننا، وهي القرآن الحكيم والسنة السنية التي جرى عليها سلفنا الصالح، ولا تنافي بين الأمرين، فنحن إذا لم نجمع بين مصالح الدنيا وهداية الدين لا تقوم لنا قائمة. فهذه الطريقة الإصلاحية التي دعانا إليها حكيما الإسلام السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده هي التي يدعو إليها المنار ويناضل عنها، وهو مستعد - بمعونة الله تعالى - للتوفيق بين العلوم الحقيقية وأصول المدنية الصحيحة، وبين الكتاب والسنة، ومَنْ اشتبه عليه شيء في ذلك فليكتب إليه به، يفصله له تفصيلاً. قد انتشرت دعوتنا هذه في جميع الأقطار، حتى أن

الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة ـ 2

الكاتب: محمد روحي الخالدي المقدسي

_ الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*] (2) (بروتوكول لوندره ورفضه) سمي جمهور المبعوثين بعد ذلك (أوت أفندم) لتصديقهم على كلام الرئيس بدون مناقشة ولا مباحثة، ولكن كان فيهم - والحق يقال - فئةٌ عارفون بمصالح الدولة وطرق الإصلاح، جسورون على التكلم والدفاع عن حقوق الأمة والمناضلة في سبيل منافعها، غير أن الحال كانت ذات خطر شديد؛ لأن العدو كان يتأهب للحرب على الحدود، فأراد رئيس المجلس تحويل المذاكرات إلى المسائل الخارجية، لأن مندوبي الدول الست الذين عقدوا مؤتمر الآستانة اجتمعوا في لوندره وليس للدولة العلية مندوب معهم، ووقعوا بتاريخ 31 مارث (مارس) سنة 1877 على (بروتوكول) أي مضبطة طلبوا فيها من الباب العالي عقد الصلح مع الجبل الأسود، والتفرغ له عن نحو عشرين ناحية من أملاك الدولة العلية، لكون لسانهم سلافيًّا ودينهم مسيحيًّا! ! ! كما طلبوا إجراء الإصلاحات الموعود بها تحت مراقبة الدول وإشرافها وغير ذلك، وأبلغوا هذه المضبطة إلى الباب العالي في 3 نيسان (أبريل) سنة 1877. جاء ناظر الخارجية إلى مجلس المبعوثان وقرأ على أعضائه ترجمة البروتوكول وشرح لهم أحوال السياسة الخارجية وأفهمهم أن رد البروتوكول تكون نتيجته إعلان روسيا للحرب علينا، وليس للدولة العلية عضد من بقية الدول كما كان لها في حرب القرم، ولا نقود في خزينتها. وكرر عليهم ما قاله مدحت باشا في المجلس العالي لدى مذاكراته في لائحة مؤتمر الأستانة، وكانت أكبر الصعوبات من العسرة المالية، وشدة الاحتياج إلى التجهيزات العسكرية. فاعترض أكثر المبعوثين على قبول البروتوكول، وأظهروا من الحماسة والغيرة الوطنية ما لا مزيد عليه، وكان مبعوثو الأرناءوط المجاورة بلادهم للجبل الأسود أشدهم اعتراضًا، وقام مبعوث الأكراد , فقال ما ملخصه: تزعمون أن المالية في ضيق شديد، فكيف يمكننا تصديق ذلك وأنتم في هذه البهرجة والألبسة الغالية والدور المفروشة بأحسن الأثاث والرياش والعربات والخيل المطهمة؟ تعالوا إلى عندنا في كردستان وانظروا بؤس العيش ومرارة الحياة التي نحن فيها! ! لما كنت في بلادي لم يكن علي إلا ألبسة مرقعة بالية كبقية إخواني من أهالي كردستان، ولما رأيتكم ترتدون أحسن الألبسة وتتألق على صدوركم النياشين المجوهرة خجلت من نفسي فاشتريت الثوب الذي ترونه علَيّ من سوق الدلالين! ! وأنا مرهق، لا مِن المخازن الكبيرة وأنا موسر، وإذا كانت سلامة الوطن والمحافظة عليه تقضي علَيّ ببيعه فأنا أبيعه وأنا مغبوط وأعود إلى ثوبي المرقع. ثم قال الرئيس في ختام المذاكرة: هل يقبل المجلس ما جاء في البروتوكول لملاحظات ناظر الخارجية؟ فرفض المجلس قبوله بالأكثرية، وكانت الأقلية ثمانية عشر صوتًا من الروم المبعوثين عن الروم أيلي ومن الأرمن. فنظم الباب العالي نشرة مؤرخة في 9 نيسان (أبريل) سنة 1877 احتجّ فيها على بروتوكول لوندره المنظم بدون اطلاعه وانضمام رأيه، وقال: إن تكليف الباب العالي إجراء الأحكام على ما يقضي به هذا البروتوكول مخالف لاستقلال المملكة العثمانية الذي أقرته الدول في معاهدة باريس، فقرئت هذه النشرة على مجلس المبعوثان فاستحسنها وأقرها وشكر الباب العالي على تنظيمها، فأجاب عنها البرنس غور جاقوف في بطرسبرج بنشرة رفعها إلى الدول في 19 نيسان (أبريل) مضمونها: أن الباب العالي رفض إجراء الإصلاح الموعود به فصارت الحرب ضرورية؛ لأن روسيا مضطرة إلى إيفاء واجباتها نحو الأهالي المسيحيين! فأجاب الباب العالي بنشرة أخرى للدولة قال فيها: إن تركيا لا ترفض إجراء الإصلاحات، وإنما ترفض الإشراف والمراقبة على أعمالها؛ لأن في ذلك غمطًا لحقها وإزراءً بشرفها , وعبثًا باستقلالها الذي أقرت عليه الدول الموقعة على معاهدة باريس. وصارت النشرات (سير كولير) والمحررات السياسية تتطاير من عواصم أوربا والإنذارات (ميمو راندوم) والمذاكرات تتساقط على السفراء ونظار الخارجية، فلم يُجْدِ ذلك نفعًا بل أعلنت الحرب في 24 نيسان (أبريل) سنة 1877. * * * (مناقشات مجلس المبعوثان وانفضاضه) بحث المجلس بعد ذلك في لائحة نظام الولايات وتشكيل مجالس الإدارة وذكر في اللائحة أن مجلس إدارة الولاية يتألف من ستة أعضاء ينتخب نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين، فاعترض بعض المبعوثين على هذا التخصيص الذي هو داعية للتفريق، وقالوا: إن القانون الأساسي أطلق على جميع الرعية اسم (عثمانيين) بدون تفريق بينهم في الدين والمذاهب، وإن الأكثرية في مجالس الإدارة تكون من حق المسلمين؛ لأن الموظفين كالوالي والدفتردار (رئيس المحاسبة) والمكتوبجي ونحوهم أعضاء دائمون في مجلس إدارة الولاية، وطلبوا إخراج المفتين من بين الأعضاء الدائمين لكونهم بمثابة الرؤساء الروحيين. فقال الرئيس: ليس للمفتين صفة دينية كصفة الرؤساء الروحيين، ورغم انتشار هذا الزعم الفاسد، فالمفتي ما هو إلا مأمور القانون، أي المحامي عن القانون والشريعة، وليس له سيطرة على المسلمين كسيطرة الرئيس الروحي على أبناء مِلَّته، وإنما هو من علماء الحقوق المعروفين عند الإفرنج باسم (Jurisconsulte) واعترضوا أيضًا على تسمية (متصرف) , فقالوا: إن هذا الاسم مشتق من التصرف الدال على الاستبداد والإذلال والاستعباد، فهو لا يوافق روح الحرية والمساواة. واستعلم بعض المبعوثين عن أحوال معسكر الأناضول ونقصان التجهيزات العسكرية، وعلى تعيين أحد الخدمة قائمقام، وقد كان (شوبقجي) أي حامل قصبة التدخين عند بعض الكبراء، إلى غير ذلك. ثم اشتغل مجلس المبعوثان بتدقيق ميزانية المالية، وطلبت الحكومة خمسة ملايين ليرة عثمانية للدخول في الحرب فتألف قوميسيون من أحد عشر مبعوثًا للتذرع بالوسائل المؤدية إلى الحصول على المبلغ المطلوب. فحاولوا اقتراضه من إنكلترا على أن يكون لها في مقابل ذلك واردات مصر، كما فعلوا قبلاً فرفضت إقراضهم؛ لأن التأمينات غير كافية، فقرروا عقد قرض داخلي بفائدة عشرة في المائة من واردات أصحاب الأملاك والتجار، وأخذ راتب شهرين من أصحاب الرواتب، فصدق مجلس المبعوثان على هذا القرض وعلى كل ما طلبته الحكومة منه , وختم جلساته في تموز (يوليو) سنة 1877، فقال الرئيس: ارجعوا إلى ولاياتكم وأعيدوا الانتخابات واجتهدوا بأن ترسلوا إلينا مبعوثين أوفر عقلاً وأكثر وقوفًا على ما تحتاج إليه البلاد! ! . فيرى من ذلك أن مجلس المبعوثان - على ضعفه وعجزه وجهل أعضائه في السياسة والإدارة - لم يكن منه قصور أو تقصير في وظائفه، ولم يحصل فيه اختلاف شديد بين المسلمين والمسيحيين، وإنما كانوا جميعًا متفقين على مقاومة الاستبداد ومنع التعدي وتبذير الأموال، وكل منهم عارف بمصالح بلاده الخاصة؛ لأن معرفة ذلك لا تحتاج إلى علم كبير أو رأي ثاقب لبداهتها ووضوحها كالشمس في رابعة النهار، غير أن الواقفين منهم على مصالح الدولة العامة وسياستها الخارجية كانوا أقل من القليل، والحكومة أبت أن تعترف لهم بحق، بل نظرت إليهم نظر الوصي إلى الصبي! ! . * * * (الحرب الروسية العثمانية) استمرت الحرب الروسية العثمانية ثمانية أشهر (نيسان - كانون الأول سنة 1877) ، وأبرزت الجنود العثمانية فيها من الشجاعة والصبر والثبات والقوة ما دل على حياة الأمة وفتوتها وسلامة جسمها من أعراض الهرم أو المرض الذي يصفها به العدو، ولكن نقصان التجهيزات العسكرية وسوء الإدارة كانا سببًا في انتصار الروس في أوربا وآسيا، وتجاوزهم نهر الطونة (الدانوب) وجبال البلقان، وأخذ القرص، ومحاصرة أرضروم من جهة الأناضول، وفتح بلفنا في الروم إيلي، ولقد أظهر عثمان باشا وعسكره من الشجاعة والمقاومة ما حير الروس وأوربا كلها فاعترفوا بفضلهم وقدروهم قدرهم (والفضل ما شهدت به الأعداء) 10 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1877. * * * (طلب مدحت باشا وانتخاب المبعوثان ثانية) استنزفت هذه الحرب ثروة البلاد وأضعفت قوتها وأفرغت صناديق الحكومة من الأموال، لكثرة الإنفاق وانقطاع الوارد إليها من التكاليف والرسوم، فتقرر إعادة الْتِئَام مجلس المبعوثان، وطلب مدحت باشا من أوربا، وعقد قرض لوندره، وعقد الصلح مع روسيا، فجرى انتخاب ثان بأمور (أوامر) مؤقتة لا كما يقضي نظام انتخاب مجلس المبعوثان. * * * (افتتاح مجلس المبعوثان مرة ثانية وخطاب السلطان فيه) افتتح مجلس المبعوثان مرة ثانية في يوم الخميس الواقع في 7 ذي الحجة سنة 1294 و13 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1877، فذهب الوكلاء الفخام والوزراء الكرام والعلماء الأعلام وأعضاء مجلس الأعيان والمبعوثان وسفراء الدول الأجنبية إلى سراي بشكطاش، واصطفوا على الصورة الآتية: فكان عن يمين الحضرة العلية السلطانية أدهم باشا الصدر الأعظم ووكلاء الباب العالي ثم موظفو المجالس العالية ثم رؤساء المذاهب المختلفة , ثم أعضاء شورى الدولة ومستشارو النظارات المختلفة وكثيرون من أعيان رجال العسكرية والملكية بحسب رتبهم ومقاماتهم، وكان عن شمالها حضرات شيخ الإسلام والشريف عبد المطلب أمير مكة المكرمة قبلاً , ثم العلماء من رتبة قاضي عسكر الروم إيلي والأناضولي , ثم (الفريقان) الكرام وفريق من العلماء الأعيان. وكان أعضاء مجلس الأعيان أمام الحضرة العلية السلطانية من ناحية اليمين على صفين، وأعضاء مجلس المبعوثان أمامها من ناحية الشمال على تسعة صفوف، وفي الساعة السادسة على الحساب العربي دخل السلطان الأعظم وسلم الرقيم المشتمل على نطقه لسعيد باشا باشكاتب المابين، فتلاه على الحاضرين، وهو: يا أيها الأعيان والمبعوثان: إنني اكتسبت الممنونية بفتح المجلس العمومي، وبمشاهدة مبعوثي الملة (الأمة) - ثم ذكر الحرب مع روسيا والمحافظة على الملية أي القومية واللغات وحق المساواة وإدخال غير المسلمين من الرعية في الجندية والمحافظة على القانون الأساسي وإصلاح المالية والعدل في جباية الأموال الأميرية وتنظيم القوانين - وختمه بقوله: يا أيها المبعوثان: (إن إبراز الحقائق في المسائل القانونية والسياسية، وضمان منافع البلاد، يتوقفان على مجاهرة أرباب الشورى بأفكارهم بالحرية التامة، وبما أن القانون الأساسي يقضي بذلك، فإنني لا أرى احتياجًا إلى أمر أو ترغيب آخر) . * * * (مذاكرات مجلس المبعوثان) ثم انعقد مجلس المبعوثان في الدائرة الخاصة به، تحت رياسة حسن فهمي أفندي (وهو اليوم باشا من النظار) , وشرع المبعوثون في المذاكرات والمباحث بقية شهر كانون الأول (ديسمبر) وكانون الثاني (يناير) وأوائل شباط (فبراير) سنة 1878 , وكثر الجدال بين المبعوثين وبين الحكومة - لا بين الأعضاء المختلفين بالدين واللسان - وطلب بعضهم التدقيق في حسابات المالية، وحضور ناظرها لمناقشته الحساب، ومحاكمة المرتكبين، وسؤال المتهمين باختلاس الأموال الأميرية، وسوء الأعمال المختلفة المتعددة، وقام أحد المبعوثين وقال: إن الجاندرمة (فرسان الشرطة) في الولاية التي بعثت منها تنهب الأهالي، والمحاكم ترتشي على إبطال الحق وإحقاق الباطل، والضابطة تعذب المحبوسين بالضرب وأنواع العذاب. واعترض مبعوث آخر على المذابح التي جرت في بلغارستان، وطلب التحقيق والبحث عنها. وطلب جماعة من المبعوثين عزل خمسة من الوكلاء: منهم محمود جلال الدين با

البلاد العربية والسكة الحجازية

الكاتب: رفيق بك العظم

_ البلاد العربية والسكة الحجازية [*] بلاد العرب أو شبه جزيرة العرب مساحتها مليون ومائة ألف ميل مربع، وعدد سكانها على أقل تقدير سبعة ملايين، وعلى أكثره عشرة ملايين، وهي من أخصب البلاد أرضًا وأجودها تربة وأعظمها خيرًا، إذا اعتني بها، وتوفرت وسائل الأمن والراحة والعمران فيها. واليمن أجود بلاد العرب بقاعًا وأكثرها سكانًا وأعظمها ثروة وخصبًا، ولهذا كانت تسمى قديمًا (العربية السعيدة) إلا أنها محاطة بصحاري رملية منخفضة شديدة الحر، قليلة المياه، يظن السامع بها أن اليمن كلها على هذا النمط: صحارٍ ورمال مع أن هذه الصحاري لا تمتد إلى الداخل من السواحل الشرقية والغربية أكثر من خمسين إلى ستين ميلاً، يجتازها المسافر في ثلاثة أو أربعة أيام، حيث يرى سلسلة جبال الثراة وبلاد شحر وحضرموت وجبل صعدة وصنعاء، حيث الوديان الفسيحة المخصبة والسهول المكسوة بالخضرة والجبال ذات الينابيع الغزيرة والأشجار الباسقة. وسكان اليمن أهل نشاط وعمل، متوفرون على الزرع والتجارة بقدر ما يتسع لهم المجال وتساعدهم الحال، ومع هذا فإن بلادهم مفتقرة إلى إصلاح كثير وعناية من الحكومة كبيرة، لفقد الوسائل الحديثة في تعميم الري واستنبات أنواع الزرع وفَقْد الراحة والأمن في أيام الحكومة الماضية التي كانت كلها أيام خصام ونزاع بين الحاكم والمحكوم له كادت تفضي إلى خراب البلاد. ولو صرفت الحكومة الآن وجهتها إلى إصلاح اليمن مع توفر أسباب العمران الطبيعية ثمة لكان لها منها مورد رزق عظيم يقدره بعضهم ببضعة عشر مليونًا من الليرات، وأهم أصول الإصلاح التي يحتاجها رقي البلاد وعمرانها وإثراء الخزينة والأهلين هي: (أولاً) إن مياه الأمطار الغزيرة التي تنهمر في اليمن تكون مجاري وسيولاً لا تصل إلى البحر بل تغور في الرمال، وأكثرها يتجمع في مخازن في باطن الأرض على عمق أربعة أو ثلاثة أمتار. فإذا تتبعت مظانّ هذه المخازن وحفرت فيها الآبار , ثم استكثر من عمل الحياض والخزانات الكبيرة في الجبال وسفوحها جعلت السقيا عامة في أكثر أطراف اليمن، وتحولت تلك الصحاري القاحلة إلى جنات ناضرة حافلة بالزرع والضرع، ويساعدها على ذلك ما منحتها إياه الطبيعة من قوة الإنبات والخصب، وهي تصلح لكل أنواع النبات الذي ينبت في البلاد الحارة، كالبن والقطن والنيلة وأنواع البهارات وغيرها، ويمكن أن تزدرع في السنة ثلاث مرات ويؤخذ منها ثلاث غلات، والبلاد الجبلية صالحة لاستنبات جميع أنواع النبات الذي ينبت في البلاد المعتدلة وناهيك بقطر عظيم كاليمن، إذا بلغ نظام الري والزرع فيه مبلغه في الهند ومصر، فإنه يكون بلا ريب من أغنى البلاد العثمانية وأوسعها مزدرعًا ومصدرًا لثروة الحكومة والأهلين، إذا أضيف إلى ذلك بقية الإصلاح المطلوب. (ثانياً) أنْ تُقَسَّيم ولاية اليمن إلى ثلاث ولايات، إحداها صنعاء , والثانية عسير , والثالثة تعز، لكي يتسنى بهذا التقسيم إدارة شئون اليمن، إدارة منتظمة تشرف بها الحكومة على أمور الرعية والبلاد إشرافًا حقيقيًّا، يضم إليه أطراف البلاد المتنائية، وينشر راية العدل والراحة والأمن على كل البلاد، وهذا العمل مهما استلزم من النفقات التي ستقوم بها خزانة الدولة، فإنه يعوض على الحكومة تلك النفقات أضعافًا مضاعفة في بضع سنين. ولقد أجمع على لزوم تقسيم اليمن إلى أربع أو ثلاث ولايات كل العارفين بأحوال اليمن، والذين اختبروا حالها من إخواننا الأتراك، فلا مندوحة للحكومة عن هذا التقسيم، إذا عزمت عزمًا أكيدًا على إصلاح البلاد اليمانية، وهي عازمة على ذلك إن شاء الله. (ثالثاً) إصلاح مرفأ الحديدة، وجعله مرسى أمينًا للسفن، ومد خط حديدي من الحديدة إلى صنعاء، ثم تعميم السكة الحديدية في البلاد بالتدريج بقدر ما يمكن مالية الحكومة، لأن سهولة المواصلات ضروري لبلاد متباعدة الأرجاء يراد إصلاحها وتكثير موارد الثروة الزراعية والتجارية فيها، ولا سيما وأن بلاد اليمن فيها كثير من المعادن والكنوز الأرضية التي لا يتيسر استخراجها والعمل فيها إلا بسهولة المواصلات، ولقد عرفت اليمن قديمًا بغناها بمعدن الذهب، ويظن بعضهم أن هذا المعدن النفيس فقد منها، مع أنه لم يزل موجودًا بكثرة فيها، ولقد رأيت بعيني رأسي قطعًا منه ممتزجة أجزاء ذهبها برمل متحجر، كان استحضرها صديق لي من بعض أطراف اليمن لأجل تحليلها وتقدير النسبة بين الرمل والذهب فيها، ليسعى بعد ذلك بتأليف شركة لاستخراجه، فعاجلته المنون وأصبح مطويًّا في التراب. ومما لا ريب فيه أن السكة الحديدية الحجازية إذا أمكن إيصالها إلى القطر اليماني، كانت من خير المشروعات النافعة لبلاد العرب عامة وللدولة خاصة، فإنها متى بلغت مكة ومد منها ناشط إلى جدة سهل مدها إلى الحديدة عن طريق القنفذة أو طريق آخر أقرب منها، وهناك تتصل بخط الحديدة الذي يتصل بصنعاء، وبذلك تكون الدولة قد وصلت بين أقصى بلادها في الجنوب وأقصاها في الشمال والغرب إذ نصل بين خط الآستانة والحجاز بخط برجيك المَنْوِيّ مَدُّه من حلب، وفي هذا العمل الجليل من الفوائد الاقتصادية والسياسية ما لا ينكر قدره ومنفعته ولا سيما بعد أن صار البحر الأحمر مزدحمًا لعدة دول أجنبية، وكان من قبل بحيرة عثمانية. ويجدر بنا أن نطلب من رجال حكومتنا النظر فيما تقدم من الأمور، وفي إصلاح شئون بلاد العرب والتوفر على عمرانها. وقد يرون أن الدول الأجنبية تبذل مزيد الجهد في عمران مستعمراتها في إفريقيا على قلة سكانها وقلة الأيدي التي تعمل فيها وضعف الأمل في أن تكون تلك المستعمرات بكثرة سكانها وعمرانها والانتفاع من ثمراتها كمستعمراتها في آسيا وأمريكا وجزائر المحيط، فما أحرى الدولة العثمانية بأن تنافس الدول بقطر عظيم فسيح كثير السكان متوفرة فيه مصادر الثروة ووسائل العمران إذا أعطي كل العناية والالتفات ونال حظًّا من الإصلاح عظيمًا، ولا سيما في عصر الحكومة الدستورية التي نرجو أن تكون حكومة خير وسعادة على المملكة العثمانية جمعاء إن شاء الله. أما السكة الحديدية الحجازية التي نتمنى أن تكون خير واسطة لعمران شبه جزيرة العرب في مستقبل الأيام إذا اتصلت باليمن، فقد انتهى منها الآن قسم عظيم وبلغت المدينة المنورة على ساكنها الصلاة والسلام. وقد افتتح هذا الخط باحتفال عظيم في شهر أغسطس الماضي، والأدوات التي تلزم لإتمام الخط إلى مكة البالغ ثمنها نحو ثلاثِ مائةٍ وخمسين ألف ليرة كلها معدَّة على ما نعلم، وطول الخط من دمشق الشام إلى المدينة ألف كيلو متر وثلاث مائة وكيلو متر، يضاف إليه الخط من حيفا إلى درعا وطوله مائة وواحد وستون كيلو مترًا، فيكون مجموع ما تم من الخط إلى الآن ألفَ كيلو متر وأربعَ مائة وثلاثة وستين كيلو مترًا، بلغت نفقاته نحو ثلاثة ملايين ليرة عثمانية، وكانت نفقة الكيلو متر الواحد ماعدا آلات السكة نحو ألف ليرة وثلاث مائة ليرة. وطول الخط من دمشق إلى مكة 1751 كيلو مترًا، وطوله إلى جدة 1830 كيلو مترًا. والخط يمر من الشام إلى معان في سهول منبسطة وأراضي خصبة مبثوثة فيها القرى الآهلة بالسكان، إلا أن حوران أكثر سكانًا وعمرانًا من معان، وربما كانت أراضي معان أخصب من أراضي حوران. وأحسن البلاد التي يمر فيها الخط وأجودها هواءً وأعلاها عن سطح البحر هي عمان، فإنها تعلو عن سطح البحر نحو 1074 مترًا، وفيها من الآثار القديمة والخرائب العظيمة شيء كثير، ومنها الملعب (Amphithéatre) الذي وجدوه في تلك الخرائب، وخارطة سورية المرسومة على قطعة كبيرة من الحجر (بلاطة) وهي أعجب وأبدع ما رُئِيَ في أطلال عمان وخرائبها. وسكان معان وعمان أكثرهم من عرب البادية، ويشتغل قليل منهم بالزراعة، وفي معان بعض قرى لمهاجري القفقاس. ولو نشط العربان الذين في تلك الديار إلى الاعتمال في الأرض ونشر الإصلاح جناحه على تلك الديار لكانت من أغنى البلاد السورية وأكثرها غلة وأجملها بقاعًا. ولقد هم كثير من الناس بابتياع الأراضي التي على جانبي الخط من الحكومة في معان وعمان لإحياء مواتها واستغلالها، فأبت عليهم ذلك، لصدور إرادة سلطانية تقضي بالمنع، على أمل أن تضم تلك الأراضي الفسيحة إلى الجفالك (المزارع) السلطانية أو يستأثر بها أفراد من المقربين، ولم يكن شيء من ذلك إلى الآن. فنرجو أن توفق الحكومة الحاضرة لإطلاق يد الناس في استعمار تلك البلاد، بحيث لا تباع أرض إلا على شرط إصلاحها واستثمارها في بُرْهَة سنتين أو ثلاث سنين، وإذا مضت المدّة ولم تصلح الأرض وتستثمر ساغ للحكومة استردادها. وفي يقيننا أن كثيرًا من أغنياء البلاد السورية يتقدمون إلى إصلاح تلك الأراضي وإحيائها متى انتظمت أمور السكة الحديدية وانصرفت همة الحكومة إلى عمران تلك الجهات ورفع راية الراحة والعدل والأمان على ربوعها. ومحطة عمان الآن هي من المحطات العظيمة في هذه الطريق، وفيها معمل (ورشة) لإصلاح القواطر ومخازن للسكة الحديدية، ويليها في العظم محطة تبوك والأراضي التي بعد عمان ومعان إلى المدينة ليست خصبة، بل هي صحارٍ وقفار إلا العلا، فإنها قرية عامرة ذات ينابيع وأشجار وحدائق تزرع فيها أنواع البقول والفاكهة والنخيل، وتجود في أرضها فواكه البلاد الحارة كالنخيل والموز والليمون، وأهلها بارعون في فن الزراعة؛ لأن أكثرهم يذهبون إلى دمشق ويزاولون فن الزراعة عملاً في غوطتها، ولا سيما في قرية جوبر المشهور أهلها بالبراعة في فن الزراعة، ثم يعودون إلى بلدهم لأجل الاعتمال في الأرض. ولقد كان بعد المسافة بينهم وبين الشام يمنعهم من التوسع في إنشاء الحدائق والإكثار من زرع أنواع الفواكه والبقول والاتجار بها، وأما الآن فالأمر ليس كذلك، ولو اعتنى أهل هذه القرية بزرع النخيل والموز واستكثروا من الجيد منهما لانتفعوا بذلك كثيرًا، لأن دمشق محرومة من هذين الصنفين من الفاكهة، لأن جوها لا يناسبهما في الشتاء لشدة البرد والصقيع. هذا ومن الضروري أن يمد ناشط من هذه السكة الحديدية من معان إلى العقبة، وطول هذا الخط نحو 90 كيلو مترًا، أو من المدور، وهو أقصر مسافة من ذاك، لأن هذا الفرع يفيد الدولة من الوجهة العسكرية جدًّا، ريثما يصل الخط إلى اليمن. وكل من رأى خط السكة الحجازية لا يسعه إلا شكر القائمين بالعمل فيه كمسير باشا ومختار بك وباقي المهندسين والعمال، ولا سيما المشير كاظم باشا رئيس إنشاء الخط الذي بذل من الهمة في إنجازه والعناية في شأنه ما لا يستكثر على رجل عظيم مثله، وإنا لنرجو بعد توليه منصب الولاية في الحجاز أن يساعد على إتمام هذا الخط ووصوله إلى مكة ثم اليمن بما في إمكانه ليكون شكر الأمة له مضاعفًا جزاه الله وكل العاملين لإنجاز هذا الخط خير الجزاء.

السنن والأحاديث النبوية

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ السنن والأحاديث النبوية (3) كلمات في النسخ والتواتر وأخبار الأحاديث والسنة رد على الأستاذ الفاضل الشيخ صالح اليافعي [1] (الكلمة السادسة) في التواتر. أهم ما يطعن به في وجوب التواتر فيما يعمل به في الدين، مسألة إرسال النبي صلى الله عليه وسلم الآحاد للتعليم وللحكم بين المسلمين وللملوك. فاعلم أن خبر الواحد - كما قلنا - لا يوجب اليقين، ولا يجب العمل به إلا إذا أيدته قرائن أخرى قطعية، فهؤلاء الآحاد الذين كان يبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجهات للتعليم ما كان يجب على الناس فيها أن يوقنوا بما يخبرونهم به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يجوز عليهم الخطأ والنسيان، كما أنه يجوز عليهم الكذب أو الارتداد. وإنما هؤلاء الناس الذين كانوا في تلك الجهات تحققوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم هؤلاء الرسل وأوجب عليهم طاعتهم والأخذ عنهم، وقبل أن يحققوا ذلك لا تجب عليهم طاعتهم ولا الأخذ عنهم، فهم في طاعتهم لهم وأخذهم عنهم بعد تيقنهم من أنهم مرسلون إليهم من قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم إنما هم مطيعون لله ولرسوله ولأولي الأمر، فإذا قالوا لهم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا فاعملوا به، وجب عليهم أخذ هذا القول عنهم كما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ووجب عليهم العمل به، لا لأنهم أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة قاله،ولكن لأنهم أمروا بطاعة أولياء أمورهم فلا يجوز مخالفتهم أو رفض كلامهم إلا إذا علموا بكذبهم، وحينئذ يرفعون الأمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم بعزلهم عن تولي أمورهم وتسقط عنهم طاعتهم فيما يروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليه فهؤلاء القوم ما كانوا عاملين بالظن، وإنما هم مطيعون لأمر يسمعونه من أولياء أمورهم بآذانهم، فيأخذون به ويعملون به كما أمروا، وسواءٌ في ذلك أيقنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله أو لم يقله، فالعهدة فيه على رواته. فإن قيل: إن لم يكن هؤلاء عاملين بالظن، فالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه عامل بالظن؛ وإلا فكيف يوفق بأن هؤلاء القوم لا يبلغون عنه إلا ما يريدون؟ قلت: إن الرسول صلى الله عليه وسلم إن لم يعلم ذلك بطريق الوحي كما كان يخبره الوحي بحالات كثيرة مثل هذه عن أصحابه البعيدين عنه كما هو مشهور في سيرته صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعلم مِن هؤلاء المبعوثين الصدق والإيمان وقوة العقل والعلم بالدين، وقد اختبرهم بنفسه زمنًا طويلاً حتى علم أخلاقهم وأميالهم وأحوالهم وسبر غورهم، فهو يكاد يجزم بصدقهم وإخلاصهم كما يجزم أحدنا - وإن كان نظره أضعف من نظر الرسول صلى الله عليه وسلم - بصدق صاحبه وإخلاصه بعد معاشرته له زمنًا طويلاً في أحوال مختلفة. وإن بقي في النفس أدنى شكّ في ذلك أو تجويز للخطأ أو النسيان عليهم، فهؤلاء المبعوثون ما كانوا يذهبون إلى جهات منقطعة عن المسلمين، بل كان بينهم وبين المسلمين صلة وثيقة وعلاقة كبيرة، فكان يأتي منهم الكثيرون إلى المسلمين مرات عديدة في السنة للزيارة والتعارف والحج والتجارة وغير ذلك، ويذهب إليهم المسلمون لمثل هذه الأغراض، فإذا حاد المبعوثون عن شيء مما تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخطئوا فيه وصل ذلك إلى علم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقرب وقت، فيصحح هذا الخطأ أو يعزلهم أو يعاقبهم. فبالوحي وبثقته الأكيدة بمن أرسله بعد التحقق منه زمنًا طويلاً، وبإخبار الذاهبين إليهم والآتين مِن عندِهم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم واقفًا على ما يبلغ عنه في تلك الجهات ومهيمنًا عليه، فإن حصل خطأ أو كذب في شيء منه فالعاملون به مطيعون لأولياء أمورهم وليسوا عاملين بالظن، ولا يلبث هذا الخطأ أو الكذب إلا قليلاً، فيمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقرب وقت. وهذه الحالة ضرورية في مبدأ الدعوة حتى يعم الدين تلك الجهات، ويكون فيها وفي غيرها مشهورًا مستفيضًا متواترًا، فلا يتطرق لشيء منه بعد ذلك ريب أو شك، وهي تشبه حالة التلاميذ مع معلمي المدارس وتلقيهم العلم عنهم وعملهم به، فإن الأمة رقيبة عليهم، فإن أخطئوا في شيء أو دسوا عليهم أمرًا، فسرعان ما يصل إلى علم الأمة وأولياء أمورها، فيتلافونه في أقرب وقت. أما أحاديث الآحاد عنه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فهي تختلف عن ذلك اختلافًا كبيرًا؛ لأن رواتها ليسوا أولياء أمر المؤمنين حتى تجب طاعتهم من هذه الوجهة، ولم يثق بهم الرسول، ولم يعرفهم ولم يُعيّنهم لهذا الأمر ولم يَقُمْ رقيبًا عليهم، لا بالوحي ولا بأخبار الناس عنهم، فالفرق بين الحالتين عظيم. أما رسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، فالغرض من ذلك إلفات نظرهم إليه وتنبيههم للبحث في دعوته وتشويقهم للنظر في أمره وحالته، وإلا فلا يمكن الإيمان لأجلها إلا بعد التثبت منها والتحقق من أمر الدعوة والداعي، فهي كالتمهيد للدعوة الحقيقية، بوصول الدين إليهم متواترًا على أيدي الناس كما حصل بعد وفاته. والخلاصة أن القرآن الشريف يذم العمل بالظن كثيرًا، فلا يمكن أن الله سبحانه وتعالى يلزم عباده المؤمنين بالعمل بما لا يوجب عندهم اليقين، وإلا كان أمرًا لهم بما يذم به غيرهم، ويلومهم على اتباعه. وحيث إن أحاديث الآحاد مِن حيثُ هي لا تفيد اليقين كما بيناه في الكلمة الرابعة، فلذا اشترطنا التواتر فيما يجب علينا الأخذ به في الدين، فدليلنا على ذلك مبنيّ على حكم العقل وما جاء به الكتاب العزيز. (الكلمة السابعة) معنى السنة، وبيان وُجُوب العمل بها. السنة في اللغة وفي اصطلاح السلف هي الخطة والطريقة المتبعة، فسنته صلى الله عليه وسلم هي طريقته التي جرى عليها في أعماله واقتدى به أصحابه فيها، وهي واجبة الاتباع حتمًا على كل مَن آمَنَ به وصدقه صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المراد بما جاء في الحث على اتباع السنة في أقوال الصحابة والسلف رضوان الله عليهم جميعًا، كما لا يخفى على متأمل في أقوالهم، ومن ذلك حديث: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) أي عليكم بطريقتي وطريقة خلفائي الراشدين مِن بعدي، فلا نِزاعَ في أن اتباع طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في الدين هي واجبة على جميع أتباعه المؤمنين، أما أقواله صلى الله عليه وسلم التي لم تكن طريقة متبعة له ولا لأصحابه، فهي موضوع بحثنا، وهي المقصودة في مقالاتنا الأخيرة، تلك التي رواها الآحاد وانفردوا بها، ولو كانت واجبة الاتباع لعلمها الناس جميعًا في عصره عليه السلام وجروا عليها في أعمالهم، وهذا هو أدل دليل على أنها لم تكن دينًا عامًّا لجميع البشر، بل هي خاصّة لمن وجهت إليهم لأحوال خاصَّة وظروف مخصوصة أو أنها كانت للإرشاد والندب لا للوجوب، ولذلك لم يكن اتباعها عامًّا بينهم. فهناك فرق عظيم بين لفظ (السنة) ولفظ (الأحاديث) ويجب على كل باحث في هذا الموضوع أن يدرك هذا الفرق جيدًا، حتى لا يقع في الخلط والخبط. وقد أدرك الإمام مالك هذا الفرق، فكان - رضي الله عنه - يقدم عمل أهل المدينة على الأحاديث، ويرد منها ما خالف سنتهم التي ورثوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو صحت أسانيدها، وقد رد من ذلك مئات كثيرة. أما تسمية الأحاديث مطلقًا بالسنة، فهي من اصطلاح المتأخرين، ولولا هذا الاصطلاح لما احتجنا في مقالاتنا إلى تقييد لفظ السنة بقولنا (العمليَّة) فإن السنة لا تكون إلا عمليَّة، وأما القول الذي يقال ولا يكون مبدأً يجري عليه العمل دائمًا فلا يسمى سنة عند المتقدمين. فاتّباع سنة أي شخص، هي الجري على منهجه والتزام طريقته ومبادئه وأصوله، وليس معنى ذلك أن يتقيد المتبع بكل جزئية من جزئيات كلام المتبوع، مثلاً قد أكون متبعًا لسنة الأستاذ الإمام رضي الله عنه في تفسير القرآن الحكيم ومع ذلك أرى في بعض الآيات خلافَ ما يرى، ولا يخرجني ذلك عن كوني متبعًا سنته، فإن سنته هي في ترك التقليد واستعمال العقل وعدم القول بالنسخ وتحري الحق والصواب، لا في التزام كل قول من أقواله التزامًا أعمى، فكذلك ترك بعض أقواله صلى الله عليه وسلم في الأمور الدنيوية المحضة، وما حكم فيه بالرأي والاجتهاد، وما خالف المصلحة في زمننا لا يُخْرِج المسلمَ عن كونه متبعًا سنته صلى الله عليه وسلم، فإن سنته هي في اتباع الحق والصواب وتجنب الضار ومراعاة المصالح، كما دل عليه الكتاب العزيز، وترادفت فيه الأخبار المتعددة المصادر المختلفة المبنى المتحدة المغزى، وكما جرى عليه عمل كبار المسلمين وعقلائهم في كل زمان ومكان. فسنته صلى الله عليه وسلم هي في اتباع مبادئه الشريفة والجري على خطته ومنهجه وإطاعته فيما أوحي به إليه، أو ما وافق الصواب والمصلحة من آرائه واجتهاداته، وليست سنته في الجمود والتقليد والبعد عن العقل والتفكير، كما عليه أكثر المسلمين اليوم، ولذلك كان أصحابه يخالفونه في كثير من المسائل في حياته وكان عليه السلام يرجع عن رأيه لآرائهم، ولذلك أمر بمشاورتهم، وما قال أحد بأن من خالفه منهم خرج عن سنته، فإن سنته هي الشورى والتفكير ورعاية مصالح العباد وتحري العدل والإنصاف وعدم الاستبداد بالرأي. وقد خالف أصحابه رضوان الله عليهم في حياته وبعد مماته بعض أقواله وبعض ما حكم به مراعاة للمصلحة، ولولا خوفُ الإطالة لذكرت شيئًا من ذلك كثيرًا، وقد وفيت هذا البحث في رسالة لي طويلة وفقنا الله لطبعها عن قريب. وسنته صلى الله عليه وسلم في الأمور تعلم من نصوص الكتاب العزيز ومما تواتر بين المسلمين عنه قولاً وعملاً ومن مجموع ما رُوِي عنه من المصادر المختلفة في المسائل المتعددة. فسنته معلومة للمسلمين باليقين وواجب اتباعها على جميع المؤمنين. وهذا هو المراد بما جاء في الكتاب الكريم من الأمر باتباعه والاقتداء به والجري على منهجه والاهتداء بهديه صلى الله عليه وسلم , وهو أيضًا المراد مما ورد عن أصحابه وعن سلف المسلمين من القول بوجوب اتباع السنة النبوية. وأما أخبار الآحاد التي لم يجر عليها العمل بلا انقطاع بين المسلمين فهي موضوع النزاع في كل عصر وجيل، كما يتضح لك من الكلمة الآتية: (الكلمة الثامنة) آراء أئمة المسلمين في أخبار الآحاد، وما قالوه فيها، وكيفية معاملة الصحابة لها. (1) قال الإمام أحمد بن حنبل ما معناه: إن الأحاديث الواردة في تفسير عبارات القرآن الشريف لا أصل لها. كما نقله عنه الحافظ السيوطي في الإتقان. (2) وقال الإمام الشافعي: (إن نسخ القرآن بالحديث لا يجوز) . (3) وقالت الظاهرية: إن تخصيص عموم القرآن بها غير جائز، وإن العمل بها غير واجب. (4) وقال جمهور الأصوليين: (إنها ظنية) . (5) وقال جمهور المسلمين: (إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد) . (6) وقال كثير من الأئمة، كالقاضي عياض: (إنه لا يجب الأخذ بها في المسائل الدنيوية المحضة، ولو كانت موثوقًا بها) . (7) وقال جميع المحدثين: (إن الموضوع منها كثير، وتمييزه عسير، وفي بعض الأحوال مستحيل) راجع ما ذكرناه في الكلمة الرابعة. (8) وقال أبو حنيفة وأضرابه من أهل الرأي والقياس: (إن الصحيح منها قليل جدًّا) حتى إنه لم يأخذ إلا ببضعة عشر حديثًا. (9) وقال مالك رضي الله عنه: (إن عمل أهل المدينة مقدم عليها) , وكذلك أهل الرأي والقياس يقدمون القياس الجلي

إلمامة بكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام ـ 2

الكاتب: أحمد الإسكندري

_ إلمامة بكتاب تاريخ العرب قبل الإسلام لحضرة جرجي أفندي زيدان (2) ذكرنا في مقالنا الآنف الأمر الأول من الأمور التي تؤخذ على المؤلف وهو (تردده أو إنكاره بعض الحقائق التاريخية البديهية في موضع. وتشبثه بتحقيق بعض الظنون والتخرصات في موضع آخر اعتمادًا على أوهام وتخيلات قامت بذهنه فقط) ومَثَّلنا للشق الأول من هذا الأمر وأدحضناه بما عرفه القراء. والآن نمثل للثاني ونأتي على بقية الأمور التي تؤخذ على المؤلف، فنقول: مثال الثاني - أنه عندما تكلم على دولة النبط في بطرا نقل عن التوراة وعن كاتر مير الفرنسي وعن كوسين دي برسفال وعن آخرين ما يفيد أن الأنباط ليسوا عربًا , وأنهم آراميّون أتوا من الشرق فأجلوا الأدوميين عن بطرا واحتلوها , ثم رفض كل هذه النصوص والآراء وغيرها من النصوص التي لم يذكرها مما جاء في السفر الأول من أسفار المكابيين وفي تاريخ يوسفيوس من غير أن يذكر برهانًا واحدًا على نقضها، واستنبط هو بنفسه أنهم عرب، وذكر لذلك دليلَيْنِ: الأول أن اليونان حيثما ذكروهم سموهم عربًا (ولعله يعني تقسيمهم جزيرة العرب إلى عرب بترية في الشمال وسعيدة في الجنوب) . والثاني أن أسماء ملوكهم عربية. وهما دليلان يتضاءلان أمام النصوص التاريخية، ولا سِيَّمَا إذا كان ثمة ما يجعل هذين الدليلين ينعكسان على غير مراد المؤلف، فيكونان حُجَّةً عليه لا له. ونحن ننفي أولاً هذين الدليلين ثم نأتي بأدلتنا الوجودية على آرامية النبط، أما الدليل الأول فإن تسمية اليونان لسكان الشمال العربي من جزيرة العرب بالعرب البترية هي تسمية جغرافية، كما أننا نسمي ما وراء أسوان بالسودان، مع أن أكثرهم عرب لا زنوج، وكما نسمي الصحراء الشرقية من مصر الصحراء العربية مع أن سكانها من البشارية والبجاة، لا يعرفون العربية. على أن جميع ما عرف من حروب القائد اليوناني أنتيفونوس وابنه ديمتريوس أنه وجد حولهم قبائل يظاهرونهم ويستجيبون لصراخهم، ويؤيد ذلك ما نقله حضرة العلامة المفضال جبر ضومط عن يوسفيوس (جزء ثالث. مجلد 33 مقطتف) على أن سِفْر المكابيين من التوراة سماهم نبطًا وجعل العرب أحلافًا لهم حينما استعان بهم يهوذا المكابي، وهو كان معاصرًا لهم أيضًا. وأما الدليل الثاني - فإن ما عثر عليه من أسماء الملوك العربية لا يثبت أن الشعب عربي، فقد ثبت أن النبط في آخر أمرهم خضعوا للعرب وخصوصًا قضاعة، وأن الملوك الذين عاصروا منهم ملوك اليونان هم عرب حكموا أمة النبط، كما يستفاد من تاريخ يوسفيوس. وكما أننا لا نسمي الأمم الهندية إنجليزًا؛ لأن إمبراطور الهند إنجليزي، كذلك لا نسمي النبط عربًا؛ لأن ملوكها في بعض الأحيان كانوا عربًا، على أن هذه الأسماء لم تكن خاليةً من التحريف والصبغة الآرامية والعبرية، مع أننا عثرنا على كثير منها مكتوب بالخط النبطي نفسه لا اليوناني الذي مظنة التحريف، وأما كون لغة الكتابة عند النبط غيرَ لغةِ التخاطب، فهو مما لم يقم عليه دليل، وما كان أحوج المؤلف إلى ذكره لو وجده. أما أدلتنا على أن النبط ليسوا عربًا وأنهم خليط من الأدوميين القدماء ومن الآراميين الذين جاءوا مع بُخْتَنَصَّرَ ومن اليهود ومن العرب، فهي: (1) ما هو مشاع مستفيض عن العرب قبل الإسلام وبعده أن النبط غير العرب، وأنهم كانوا يعيرون العربي بأنه نبطي، واعتبر كثير من الفقهاء أن نداء العربي بِيَا نبطيُّ قَذْف وسبّ، ناهيك بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا تكونوا كنبط السواد إذا سئل عن نسبه قال: أنا من بلد كذا. (2) أن لغتهم لغة خاصة بهم تخالف العربية وتنال حظًّا من الآرامية وحظًّا من العبرية وحظًّا من العربية. بل فيها كثير من اليونانية. (3) أن جميع النصوص التاريخية من التوراة في إشارة أرميا وحزقيال وفي أسفار المكابيين ما يفيد أن النبط غير العرب، وأن الإله انتقم من الأدوميين وضربهم بغارة بختنصر، فدمر عليهم وأورث الأرض من بعدهم الكلدانيين الذين جاءوا معه من بابل، وأن النبط كانوا في بعض أدوارهم أحلافًا ليهوذا المكابي، وأنهم استأجروا جيوشًا من العرب يظاهرونهم، وهذا يدل على أن المستأجر غير الأجير. (4) ما جاء في تاريخ يوسفيوس من أن النبط بقوا مستقلين عن العرب إلى أيام الإسكندر مانيوس بن أرستو بولوس بن يوحنا هركاتوس بن سمعان أخي يوناتان ويهوذا المكابي اليهودي، فإنه بعد وفاة هذا الملك أخضعهم العرب وقام منهم عليهم عدة ملوك، كانوا يسمون تارةًَ ملوك النبط وتارة ملوك العرب، وإن كانت الجنسية متميزة بينهما، وبقوا كذلك إلى أن استولى عليهم الرومان سنة 105 م. (5) حقق كل من كاتر مير الفرنسي وكوسين دي برسفال وغيرهما من علماء الآثار أن سكان بطرا بعد الأدوميين هم أمم نازحة من العراق وبابل، ولا ينطبق ذلك إلا على زمن بختنصر، إذ سكان بطرا قبل بختنصر لم يعرفوا إلا باسم الأدوميين، وبعده لم يعرفوا إلا باسم النبط، من أنه من الثابت أن بختنصر أباد الأدوميين تحقيقًا لوعيد حزقيال وأرميا النبيين، مع أن الله ينزل عليهم بلاءه ويجعل جبال عيصو خرابًا وميراثًا لذئاب البرية، وأنه حارب العرب حتى كاد يفنيهم، فلو كان النبط عربًا لما استبقاهم فيها، فظهر من ذلك أن الأنباط بقايا القبائل الآرامية التي أسكنها بختنصر في بطرا ليكونوا حراسًا ونقلة لتجارة بابل؛ لأن فتوحاته كانت كلها تجارية، ثم امتزجوا بغيرهم من اليهود والعرب، وما يرى في لغاتهم من الألفاظ العربية لا يربو على ما يوجد في العربية المضرية من الألفاظ العبرية. على أن المؤلف لما أحس بضعف دليله عن تبريره تلك الحلية التي هاجها في أكثر من خمس صفحات من كتابه مع تيقنه أن المكتوب من آثارهم ليس عربيًّا، زعم بلا دليل أن لغة تخاطبهم غير لغة كتابهم، ثم رجع وقال: (على أننا لا نظن اللغة العربية التي كان يتفاهم بها النبطيون هي نفس اللغة العربية التي عرفناها في صدر الإسلام، ولا بُدَّ من فرق بينهما اقتضاه ناموس الارتقاء) . هذا مع علمنا أن النبط دخلوا في حوزة الرومان في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد، وإننا نروي كثيرًا من شعر العرب وأمثالهم منذ القرن الرابع من الميلاد، مما يظهر لنا تمام الإظهار أن هذه اللغة العربية الفصيحة بإعرابها واشتقاقها وكثرة أساليبها التي لا تتناهى قد تكونت بهذه الصورة قبل ذلك بكثير أي وقت ما كان النبط نبطًا، بل قبل هذا الوقت، ولا سِيَّمَا إذا علمنا أن اللغة العربية هي لغة أهل بادية، وهم أبعد الناس عن الانقلابات اللغوية، كما يصرح بذلك حضرة المؤلف في أكثر من موضع من كتابه. (6) إن النبط الذين كانوا في الشرق في صحراء الكوفة وعلى ضفاف الفرات وبقوا متميزين عن العرب إلى ما بعد الإسلام بنحو مائة وخمسين سنةً، هم يشبهون نبط الشام من أكثر الوجوه، بدليل أن ما وجد من آثارهم ومعبوداتهم وخطوطهم يدل على أنهم من عنصر واحد، وأطلال تدمر والخط التدمري صِنْو النبطي تشهد بذلك، فإن كان نبط الشام خالطوا قضاعة، فنبط العراق خالطوا لخمًا وجذامًا وبكرًا وتغلبَ وعبادًا. ومن أمثلة الشق الثاني، وهو تشبثه بتحقيق بعض الظنون إلخ، أنه عندما تكلم على دول اليمن ذكر من بينها دولة، زعم أن العرب لم تعرفها، وهي أهل (معين) ، وقَفَّى على إثر ذلك بأن استظهر أنها أمة قديمة جدًّا تبتدئ أخبارها منذ أربعين قرنًا قبل الميلاد لعثورهم على أثر قديم من آثار بابل ذكر فيه بالخط المسماري: (أن زام سين حمل على مغان وقهر ملكها معنيوم) واستنتج أن مغان هذه هي مغان طور سيناء، وأن الميم في (معنيوم) للتنوين، وبالطبع يعتقد أن اللفظ حرف واختزل حتى صار (معينًا) ، وكذلك نقل عن سفر الأخبار (أن الله أعان عزريا على الفلسطينيين وعلى العرب المقيمين بجوار بعل وعلى المعونيين) أي المجاورين طبعًا للفلسطينيين، وكل هذه الحوادث حدثت في برية الشام والأمة يمانية. أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني ولو كان الشبه بين لفظين يكفي أن يبنى عليه تاريخ أُمّتين، لقد حقّ لنا أن نقول على التاريخ العفاء. ثم اقتضب الكلام ورأى رأيًا أخيرًا، أنهم من جالية الآراميين، أتوا من العراق في هذه العصور السحيقة واستعمروا اليمن، ثم أشكل عليه الأمر بأن المعينيين لو كانوا من العراق لكتبوا بالخط المسماري، مع أن آثارهم مكتوبة بالخط المسند المشتق من الفينيقي، فلم يَرَ حَلاًّ لهذا المشكل سوى ادعائه بأنهم استبدلوا بالخط المسماري الخط الفينيقي لسهولة هذا الأخير في نظره! ! ! ولكن كل هذه العراقة في القدم لم تمنعه من وصفهم في موضع آخر أنهم كانوا معاصرين للسَّبَئبِيِّين الذين لم تبتدئ دولتهم على رأيه إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، ونقل عن اليونان في صفحة (116) أن هذه الأمم وغيرها كانت متعاصرة، وأن عاصمتهم (مأرب) ثم يتشبث في موضع آخر بأن القحطانيين السبئيين كانوا بعد المعينيين، أو أنهم ورثتهم أو أنهم حبشان أوانهم عمالقة جاءوا من مصر، هذا إلى اضطرابات وتناقضات توقع طالب التاريخ في حيرة وارتباك، يهون عليه معهما نبذ كل هذه التخرصات، والاعتقاد بأن كل هذه الأمم كانت قبائل متجاورة في مخاليف متقاربة أعظمها مأرب. الأمر الثاني من الأمور التي تؤخذ على المؤلف - تناقض عبارات كتابه في عدة مواضع. منها ادعاؤه أن أسماء ملوك حمير لم يكن بينها أسماء عدنانية، حتى قال في صفحة (166) لم نجد لذلك أثرًا في الآثار المنقوشة، ثم نقل في صفحة (159) أثرًا عظيمًا لأبرهة الحبشي، وفيه يسمي ولاته من حمير وأقْيالهم يزيد وكبشة ومرة وثمامة وحنشًا ومرثدًا كما تقدم. ومنها تناقضه في أن الجبائيين لم يعرفهم العرب، بل عرفهم اليونان وحدهم ثم ذكر في صفحة (134) أن الهمداني في كتابه صفة جزيرة العرب، قال: (جبأ مدينة المفاخر وهي لآل الكرندي من بين ثمامة آل حمير الأصغر) مع أن اليونان لم يذكروهم بأكثر من أنها قبيلة تجارية. ومنها تناقضه في استظهار أن السبئيين حبشان، ثم ذكر في صفحة (136) أن المعينيين القادمين من العراق نقلوا معهم حضارة العراق ونظام حكومته، وقسموا اليمن إلى محافد وقصور، وطمعوا في جيرانهم وأخضعوهم، وأنشئوا الدولة المعينية والسبئية والحميرية. ومنها تناقضه في أن المعينيين لم تعرفهم العرب، مع أنه نقل في صفحة (111) عن الهمداني في كتاب الإكليل، أن (محافد اليمن براقش ومعين، وهما بأسفل جوف الرحب مقتبلتان، فمعين بين مدينة نشان وبين درب شراقة) وروي أن مالك بن حريم الدلاني يقول فيها: ونحمي الجوف ما دامت معين ... بأسفله مقابلة عرادا وفيها وفي براقش يقول فروة بن مسيك: أحل يحابر جدي عطيفًا ... معين الملك من بين البنينا وملكنا براقش دون أعلى ... وأنعم إخوتي وبني أبينا ومنها تناقضه في أن العرب لم يعرفوا دولة النبط في الشام، ثم ذكر في عدة حوادث أنهم عرفوها خصوصًا في صفحة (79) ، حيث نقل عن ابن خلدون وحمزة الأصفهاني معرفتهما لنبط الشام، وأن بطرا كانت تسمى بعد الإسلام الرقيم، ولهم فيها شعر، هذا إلى مناقضات كثيرة لا تسع سردها ولا تفصيلها هذه المجلة. الأمر الثالث من الأمور التي تؤخذ على المؤلف، جسارته على وضع الأسماء والتقسيمات التاريخية مع ضعف الاستظهار، كتقسيماته أدوار تاريخ العرب، وكتسم

حادثة صاحب المجلة بطرابلس الشام

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ حادثة صاحب المجلة بطرابلس الشام (أقوال الصحف فيها) لم تكن الرسائل البريدية والبرقية التي وردت على منشئ هذه المجلة، وهو في سياحته، معلنة الأسف العظيم لوقوع حادثة الاعتداء بطرابلس - بأكثر مما ورد على إدارة المجلة من سائر أنحاء القطر المصري ومن الشرق والغرب وسوريا أيضًا والآستانة وكلها تبدي الاستياء الشديد والتعريض والتنديد وتهنئ صاحب هذه المجلة بسلامته مما كِيدَ له، وتعد نجاته عناية من الله بالعلم والإسلام، وإننا كما بدأنا الشكر للكاتبين الأولين نعيد الثناء عليهم وعلى الآخرين. وقد تناولت هذا الموضوع جرائد سوريا ومصر الكبرى باهتمام زائد وإلى القراء ما كتبته بهذا الشأن: شاع أمس في الثغر أنه بوصول الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر إلى طرابلس تصدى له بعضهم وضربه بعصا فجرحه في رأسه ثم ابتدره بإطلاق الرصاص فأخطأه، فكان لهذا الخبر رنة أسف لدى الجميع، وإنا نبشر الكل بأن الأستاذ في سلامة وعافية والحمد لله، وهذا نص تلغراف تلقيناه في هذا الصباح من طرابلس بتفصيل الحادثة: (وصل الأستاذ الرشيد مساءَ الجُمُعَة، فكان له استقبال حافل وعدد المستقبلين يربو على الخمسِمِائَةِ شخص، أرسلت شعبة جمعية الاتحاد والترقي العثماني عربة خصوصية لركوبه والموسيقى الوطنية، فوصل البلدة بكل احتفاء تحفه الأهل والأحباب إلى أن اقترب الجميع من سوق العطارين، فتصدى كامل المقدم الذي كان ضرب صالح وأدهم رضا سابقًا، ووقف أمام الأستاذ وابتدره بضربة على رأسه بعصا، فلم تصبه تمامًا، فأراد أن يضربه ثانية فتلقاها الشيخ محمد الرافعي بيده وتمسك بالعصا حتى أخذها من كامل، فما كان منه إلا أن أشهر مسدسين، وأخطر كل من يقترب منه بالموت العاجل، فاقترب منه رجل لم تؤثر به تلك التهديدات، وأراد ردعه فأطلق عليه عيارًا ناريًّا فلم يصبه وبعد ذلك فَرَّ. وقد كان الأستاذ أدخل إحدى الدور القريبة، فأخذ بعد ذلك لدار الشيخ محمد الرافعي، ولم يزل هناك. لم يهتم كما يجب من بيدهم أمر الضبط، الكدرُ عموميٌّ من جراء ذلك، الأستاذ لم يبد عليه أثر كدر، بل تحمل ذلك بصبر كما هي عادته. لم يبق أحد من الوجوه إلا وقد هُرِعَ للسلام عليه. أمور الحكومة ليست هي على ما يرام، وقد استعفى أكثر أفراد الضبطية، التفصيل بالبوسطة) . فنهنئ صديقنا الأستاذ بسلامته، ونطلب من الحكومة بكل إلحاح التحري على المعتدي ومجازاته أشد المجازاة تنكيلاً له وإرهابًا لغيره. ... ... ... ... ... ... ... ... (الاتحاد العثماني) * * * كتب إلينا من طرابلس أن حضرة العلامة السيد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار وافى الفيحاء مساء الجمعة الماضي على أنه قبل وصوله إلى الدار المعدة لنزوله هجم عليه أحد الأهالي وضربه بعصا على رأسه رغمًا عن شدة ازدحام الناس الملاقين حوله. ثم أطلق عياره الناري في الهواء وأخذ يطوف في الأسواق كأنه لم يأت شيئًا مذكورًا. نقول: وهذه الحادثة السيئة غريبة في بابها، ولا نظن الذي أقدم على هذا العمل الفظيع إلا مغرى مدفوعًا بيد أعلى، فعسى أولياء الأمور أن يبحثوا ليقفوا على الحقيقة، لكي يقطعوا تلك اليد أو يقيدوها على الأقل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (لسان الحال) * * * صرف حضرة العلامة السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية 12 سنة في القطر المصري بعيدًا عن أهله ووطنه، وأصاب أهله وذويه ما أصابهم من اضطهاد المعتدين، كما يذكر أكثر قراء هذه الجريدة التي وقفت وقتئذ في وجه الظالمين وقفة طويلة. ولما أعلن الدستور، سافر السيد رشيد إلى طرابلس، فمر ببيروت حيث قوبل مقابلة شائقة جديرة به، وبعد الإقامة في بيروت أيامًا سافر إلى طرابلس، فوصل مساء الجمعة 29 الماضي. فنزل لمقابلته على ظهر الباخرة جمهور من مشايخ طرابلس وأعضاء جمعياتها وجمهور من أهالي القلمون، وكان في انتظاره على الرصيف خلق كثير ومعهم الموسيقى، فاستقبلوه بكل إجلال وأعدت له في الترام عربة خاصّة ركب معه خواص المحبين، وهكذا سار موكب المقابلة بين عزف الموسيقى وإطلاق البارود إلى منزل فضيلة مضيفه الأستاذ الشيخ محمد الرافعي، حيث توافد العلماء والوجهاء للسلام عليه. وحدث في أثناء الطريق أن شقيًّا من أشقياء طرابلس المشهورين هجم على السيد رشيد بعصا وضربه بها فأصابت شطر رأسه ولم تؤلمه. فهجم الجمهور على ذلك الشقي كامل المقدم فأخذ بإطلاق النار على الجمهور وفر هاربًا، وكان هذا العمل مدعاة للمغامرة بالسيد رشيد، ووردت عليه تلغرافات التهنئة من وإلى بيروت وجمعية الاتحاد والترقي والوجهاء والأعيان والعلماء، وزاره القومندان وأعرب عن أسفه، وظهر أن الشقي مدفوع بأيدي أناس من الحساد، ثم زار القومندان والضباط وأعضاء نادي جمعية الاتحاد والترقي السيد رشيدًا، وطلبوا منه أن يحضر الاجتماع الذي عقد في النادي، ففعل وألقى خطابًا جميلاً كان له أحسن وَقْع. وقد اهتم والي بيروت بالاعتداء على السيد رشيد اهتمامًا عظيمًا، فأرسل وكيلاً لمتصرفية طرابلس، وأمره بالقبض على الجاني، فنحن إِذَا شكرنا أعيان طرابلس للحفاوة بعالم منهم هو فخر بلدهم بلا نزاع ولا جدال، فإنا نأسف لوجود أنذال في تلك المدينة يحرضون السفاحين على ارتكاب مثل هذه الجنايات، وأملنا أن يعاقب والي بيروت ذلك الشقي والذي أغروه عقابًا صارمًا شديدًا يكون عبرة لسواهم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام) * * * اعتداء ذميم - ورد كتاب من طرابلس ينبئ بأن أحد الأشقياء المدعو كامل المقدم هجم على حضرة العالم الفاضل السيد رشيد رضا صاحب المنار، بينما كان جمهور عظيم يحتفل بقدومه، وضربه بعصا على رأسه، ولكن فضيلة الشيخ محمد كامل الرافعي تلقى العصا قبل أن تصيب السيد رشيدًا بسوء. فكان للحادث وقع كبير، وازداد على أثره ميل الجمهور إلى السيد رشيد، وكتبت لجنة الاتحاد والترقي في بيروت إلى لجنة سلانيك تستشيرها في إعلان الأحكام العرفية في طرابلس بعد حادثة السجن، وهذا الحادث الموجب للأسف. أما الجاني فالهمة مبذولة للقبض عليه وعلى من يُظْهِر التحقيق اشتراكهم معه، ولقد طلب والي بيروت قوة عسكرية من دمشق لاستخدامها عند الضرورة في توطيد الأمن. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الجريدة) * * * أتانا من غير مكاتبنا في طرابلس الشام أن حضرة العالم الفاضل السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار وصل إليها يوم الجمعة الماضي، فاستقبله جمهور كبير من العلماء والأعيان ورجال جمعية الاتحاد والترقي على ظهر الباخرة، ووقفت الناس على المرفأ لرؤيته وأعدت له الجمعية عربة خصوصية ركب فيها والموسيقى تصدح أمامه حتى قرب من دار الشيخ محمد كامل الرافعي , ففاجأه هناك شقي اسمه كامل بن عبد الرحمن المقدم بضربة عصا على رأسه، ولكنها لم تكد تصيبه حتى تلقاها عنه العلامة الرافعي ونزعها من يد ذلك الشقي. فشهر هذا مسدسين وجعل يطلقهما على الجماهير التي حاولت صده ثم فر هاربًا، ولم يُصَبْ أحد بسوء والحمد لله. وظل حضرة الأستاذ مع ذلك ساكنًا رابط الجأش، كما ينتظر من أمثاله من ذوي النفوس الكبيرة. وقد وردت الرسائل من أنحاء سورية بتهنئته واستنكار فعلة ذلك الشقي. وقد طير البرق خبر ما جرى إلى دولة والي بيروت وجمعية الاتحاد والترقي فيها، فأرسل دولة الوالي وكيلاً لمتصرفية طرابلس وطلب قوة عسكرية من دمشق بعد ما ظهر احتياج طرابلس إلى زيادة عساكرها، وأوصى دولته بالقبض على الجاني الذي يقال: إنه فعل ما فعل بإغراء واحد من أقاربه. ولايزال العلماء والوجهاء وكبار رجال الحكومة يؤمون منزل الشيخ الرافعي لتهنئة ضيفه الكريم بالقدوم والسلامة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقطم) * * * كان حضرة الفاضل الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار في مصر، قد سافر في الأسبوع الفائت إلى بيروت ومنها إلى وطنه طرابلس الشام، بعد أن حالت الأحوال الماضية دون ذهابه إلى وطنه زمنًا طويلاً. وقرأنا اليوم في جريدتي الاتحاد العثماني والأحوال ما خلاصته أن حضرة الشيخ رشيد رضا وصل إلى طرابلس مساء الجمعة في 25 الماضي فاحتفل باستقباله حتى إذا اقترب من سوق العطارين تصدى له كامل المقدم (وفي رواية الأحوال أنه عبد القادر مؤدن) وابتدره بضربة على رأسه وضربة ثانية فتلقاها الشيخ محمد الرافعي ونزع العصا من يده، فما كان من الرجل إلا أن أشهر مسدسين , ثم أطلق عيارًا ناريًّا، فلم يصب أحدًا، وأركن إلى الفرار، وقد كان الأستاذ أدخل إحدى الدور القريبة، فأخذ بعد ذلك إلى دار الشيخ محمد الرافعي، ولم يزل هناك، وقد اتفقت الأحوال والاتحاد العثماني على تواني من بيدهم أمر الضبط في هذه الحادثة. والمؤيد يأسف لهذا الحادث ويستنكر هذا الاعتداء ويرجو أن يكون ناشئًا عن تهوس فرد واحد فقط، وأن يتمتع حضرة صاحب المنار بكل هناء وسرور في زيارته لوطنه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المؤيد)

الدولة العلية وبلغاريا والنمسا

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ الدولة العلية وبلغاريا والنمسا ما أكثر العبر في أعمال البشر، وما أقل المعتبرين! إن الخطيئة التي يأتيها الفرد في بيئة عسى لا يشعر بها أحد، أو الذنب الذي يصدر من بدوي في العراء لا يحس به سوى خليطه أو رهطه، قد يصدر من أمة برمتها، وتأتيه حكومة بعد تقريره في دار ندوتها! ! وإن ما يمر على الذاكرة من أشباه هذا ونظائره كثير جدًّا، ولكن قل من يتدبر ويعي؛ ذلك أن أعمال الأفراد لا يلاحظها إلا علماء الأخلاق والاجتماع، وهم أطباء النفوس والأمم، ولكن أعمال شعب بأسره مما لا سبيل إلى كتمانه وإخفائه، بل هو مما يصل إلى كل حس، ويقع تحت كل نظر. يقول الفلاسفة الاجتماعيون: إن إقرار مجموع عاقل على خطأ مستحيل، ولكن هذا القول لا يصح على إطلاقه إلا إذا كان النهب والاختلاس في عرف الفلاسفة أمرًا حلالاً طيبًا، والحق الذي لا مراء فيه أن الإنسان مهما استكنه أحوال البشر فإنه لا يحيط علمًا إلا بجزء يسير من كل كبير، وعليه فلا تثريب على من قال وهو يظن نفسه مصيبًا، بل على من فعل وهو يوقن أنه مخطئ. أعلنت النمسا في السابع من أكتوبر الماضي أنها ألحقت مقاطعتي بوسنة وهرسك بمملكتها، وأنهما صارتا بهذا الإلحاق جزءًا منها! ! فقلب هذا الحادث كيان السياسة الأوربية وحول أنظار الدولة الدستورية الجديدة إلى ما يراد بها، فصرفها عن القيام بالإصلاح الداخلي، وكانت بلغاريا سبقتها فأعلنت استقلالها قبيل ذلك بيومين، فكان هذا وما سبقه صادفًا بالدولة العلية عن الاهتمام بما تقتضيه أحوال البلاد الداخلية بله الخارجية. توقع الناس من وراء هذا الانقلاب المفاجئ في عالم السياسة حربًا ضروسًا تشتعل جذوتها في (ترنوفو) ثم تمتد إلى سائر أنحاء شبه جزيرة البلقان، وتنبأ فريق بأن ذلك قد يحمل بعض دول أوربا الكبرى على خوض غمراتها، فيكنَّ إذ ذاك من جُنَاتها وكماتها، وفي ذلك من الويلات والمصائب ما فيه. على أن هذا الفكر والذهاب إليه ليس من باب الحدس والتخمين، ولولا حلم الدولة الدستورية الجديدة وأناة الإمارة النزقة لَحَمَّ الأمر وجف القلم، ولكنا الآن نكتب بدل هذه الكلمات أخبار الفلج والخذلان. عظم على العثمانيين صنع بلغاريا والنمسا واستغرب صدوره آخرون، على أنه لا محل للغرابة، فإن بلغاريا تتحفز لهذا الأمر منذ أمد بعيد، وإنما دعاها إلى التسرع ما تتوقعه من سيدتها (الدولة العلية) إذا هي استجمعت قواها ومضى عليها نصف عقد من الأعوام وهي دستورية حرة، فإنها إذ ذاك تخشى أن تعبث بحقوقها وتستهين بسيادتها، فأسرعت إلى إعلان استقلالها، وهي تكاد لا تتوقع من وراء ذلك إلا احتجاجًا يتلوه سكوت ورضى؛ لأنها مستيقنة بأن رجال الدولة العقلاء لا يرون من الصواب الدخول في حرب أقل ما يخشى فيها من الخسار أن تنقلب الحال إلى ما كانت عليه - لا قدَّرَ اللهُ - وفي ذلك البلاء الجم والمصاب العمم. إن استقلال بلغاريا يتألم له العثماني الصادق، ولكنه ليس مما يؤبه له في الحقيقة، فإن بلغاريا قد استقلت فعلاً في أيام حكومة الجواسيس الخائنين، فليس من الكياسة أن يجعل استقلالها قولاً من المصائب التي نزلت بالعثمانيين، على أننا ربما ننال شيئًا من حقوقنا التي اغتصبتها من قبل بسبب هذا الاستقلال. إلا أن صنع النمسا لَهُوَ شَرّ صنع يقع أو يتصور، وشر منه أقوالها بعد وقوعه، ومن العجيب أن يكون القول أنكى من العمل! لم تكد هذه الدولة النهمة تعلن إلحاق هاتين المقاطعتين بمملكتها حتى قام العثمانيون من سائر النِّحَلِ والمِلَلِ في كل أرض يتبوّءونها يعلنون استياءهم واستهجانهم عمل النمسا، وعز عليهم أن تؤذيهم بالفعل، وأن يؤذوها هم بالقول، فصمموا على الإعراض عن مشتري سلعها، وهذه الحرب الاقتصادية - كما يسمونها - من أجمل ما تحارب به أُمّة عَدُوًّا لها، ولا سِيَّمَا إذا كان هذا العدو كالنمسا: أمة تجارية بحتة. ومن دلائل الحياة في الأمة العثمانية إجماعها على ذلك في جميع بلاد الدولة، فقد كانت البواخر النمسية تغادر الآستانة كما تغادر بيروت ويافا واللاذقية وغيرها من دون أن تأخذ شيئًا أو تعطي شيئًا حتى أضبارات البريد، وغلا كثيرون في ذلك، فطفقوا يمزقون ما لديهم من الملابس النمسية، على كونها - حال تمزقها - ملكًا لهم! ! ! وكان لمصر وغيرها من مدن القطر حظّ من هذا العمل، فكان لمجموع هذا الإعراض أو المقاطعة - كما يقولون - تأثير شديد في معامل النمسا ومصانعها حدا بالأكثرين من أصحابها إلى مخاطبة حكومتهم ناعين عليها ذلك الإلحاق، الذي يخشى أن يؤدي إلى إملاق أي إملاق، فما كان من هذه الحكومة المنصفة (؟) إلا أن أَوْعَزَتْ إلى معتمدها في الأستانة بأن يحتج على حكومتها! ! ! طالبًا منها حمل رعيتها على نبذ المقاطعة! ! ! هذا هو القول الذي قلنا عنه فيما تقدم إنه أنكى من العمل! أليس من الأعاجيب أن تقرر النمسا في دار ندوتها إلحاق بوسنة وهرسك بمملكتها نهبًا وسلبًا من الدولة العلية جهارًا، وتحظر على الأمة العثمانية أن تسير وراءَ ميولها ورغائبها؟ إن من المتعذر على دولة مستبدة أن تحمل رعيتها على مشتري سلعة دون أخرى قسرًا، فكيف يكون ذلك ميسورًا لحكومة دستورية؟ ! ! إن في هذا لمواطن للعبر ومواضع للتذكير، فهل مِن مُعْتَبِر أو مُدَّكر! ! ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا

الإسلام والمدنية الحديثة ـ هل يتفقان

الكاتب: موسيو رينيه ميليه

_ الإسلام والمدنية الحديثة.. هل يتفقان؟ [*] إني اخترت موضوع البحث في الإسلام لأول مرة في مؤتمر إفريقية الشمالية لسببين: الأول أن المسألة الإسلامية هي مركز دائرة جميع المسائل في إفريقية الشمالية؛ وذلك لأن هذه المسألة مهمة في إفريقية أكثر منها في البلاد الإسلامية الأخرى؛ إذ كان بين الإسلام والنصرانية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط نضال قديم، ومازال أثره باقيًا في القلوب. والثاني لأننا نحن الفرنسيين نعيش مع المسلمين في تونس والجزائر ونحن مضطرون إلى الاختلاط بأهلهما لارتباطنا معهم بمصالح دائمة. إن الهند الإنكليزية فيها زهاء أربعين مليونًا من المسلمين؛ ولكن الإنجليز لا يختلطون بهم اختلاطًا دائمًا، وفي مصر، وهي أكثر بلاد الإسلام مدنية، لا يختلط الإنكليز كذلك بأهلها اختلاطًا يفضي إلى الاستعمار الحقيقي، والأوربيون لا يقطنون سوى المدن الكبيرة، وليس لهم من العلاقات مع سكان القرى ما للمستعمرين منا مع العنصر الوطني في مستعمراتنا الإفريقية على أن المسألة الإسلامية يجب أن تتقدم على غيرها من المسائل الأخرى التي يبحث فيها المؤتمر بقطع النظر عما تقدم. لا يكون الاستعمار موطد الأركان قائم البنيان إلا إذا أمكننا الوصول إلى طريقة تجعلنا على صفاء ووداد مع أهل الدين الإسلامي، الذي يربط الأمم المختلفة الأجناس والمشارب المنتشرة بين المحيط الأطلانطيقي وخليج قابس. ويجب أن نضيف إلى هذا الاعتبار اعتبارًا آخر أكبر منه شأنًا وأعمَّ فائدةً، وهو أن ظنون الغربيين بالأمم الأخرى قد بدأت تتغير تمامًا، وأذكر أنني كنت أسمع وأنا يافع أن الأمم الآسيوية لا تقوم لها قائمة، وأنها ستبقى رازحة تحت أعباء الانحطاط والجمود، وفي الغالب كانوا يلصقون التهمتين معًا بها على ما فيهما من التناقض، إذ حينما توجد حركة تأخر لا بُدَّ وأن تتبعها حركة تقدم. وقد كان من الأمور التي لا نزاع فيها أن الصين أمة جامدة، وأن اليابان أمة ليس لها إلا مدنية سطحية، وأن الهند لا يمكن أن تصلح شئونها، وكانوا يتهمون الإسلام بهذه التهم نفسها، وإن الذين هم في سن موافقة يذكرون أن الغربيين كانوا يرددون نظرية مؤداها أن المسلمين في جمود تام بسبب اعتقادهم في التوكل والقضاء والقَدَر، ولست في حاجة إلى القول بأن هذه التهم التي كانت تجسمها كبرياء الغربيين قد تبين فسادها، فإن المدافع التي أطلقت في موكدن دوت في أقاصي آسيا، وأصبحت الأمم التي كنا حكمنا عليها بالموت والجمود يقظة نامية، سواءٌ كانت في الصين أو الهند الصينية أو الهند الإنكليزية أو في إيران، التي أخذ أهلها يطلبون دستورًا، وها هي الآستانة ظهرت فيها حركة أهلية أدهشت العالم بأجمعه، وما كان يخطر ببال طلبة مدرسة العلوم السياسية أنه سيطرأ تغيير على برنامج دراستهم، وهو الأمر الذي أصبح لا بُدَّ منه الآن بعد أن تغيرت المسألة الشرقية ودخلت في طور جديد. وإننا إزاء هذا الانقلاب الذي حصل لا نجد بُدًّا من التساؤل عن الجمود الذي وصفوا به الإسلام، إذ قد يكون شبيهًا بتهمة الخمول التي ألصقوها باليابان، وما لبثت أن اضمحلّتْ وظهر بطلانها! ! وإني لا أريد أن أذكر انتشار الإسلام، لأنه هو الدين الوحيد الذي ينتشر ويزداد أهله بسرعة في آسيا وإفريقية، على حين أن الأديان الأخرى بقيت واقفة عند حد محدود لا تتجاوزه ألبتة، وقد أصبحت هذه المسألة لا نزاع فيها، ولكن ماذا تقولون إذا أَثْبَتُّ لكم أن الإسلام شرع يطبق العلوم الحديثة ويستفيد منها؟ ومن ذلك أنه أنشأ بقوته الذاتية وبالمهندسين المسلمين ذلك الخط الحديدي العظيم الممتد بين دمشق والمدينة المنورة، الذي يبلغ طوله 1300 كيلو متر! ! وماذا يقول اليوم فطاحل الفلاسفة الذين قالوا: إن أهل الإسلام مصابون بنوع مخصوص من أنواع مرض النوم؟ ماذا يقولون الآن إذا علموا أن المسلمين تبرعوا بمقدار ثمانين مليونًا من الفرنكات مما أنفق عليه؟ وإن لفرنسا فائدة كبرى بالاشتراك في هذا البحث العظيم. فإذا كانت مدنية الإسلام هي تلك المدنية الجامدة المزعومة، فيجب علينا إذ ذاك أن نعامل هؤلاء المسلمين الذين نحن مرتبطون بهم بسياسة الضغط والشدة خلافًا لما جبلنا عليه من انعطافنا لجميع الناس إزاء ما يبدو من حركاتهم أو يظهر فيهم من روح الحروب الصليبية التي بقيت بكيفية غربية كامنة في صدور المسلمين حتى البعيدين عن الدين منهم (؟) ومن الأمور المدهشة أن الإنسان قد يلاقي في فرنسا أناسًا مازالوا محافظين على بقية مِن أوهام الحروب الصليبية ضد المسلمين. وأما إذا اعتقدنا في الحركات التي تجلت في كل مكان عكس ذلك، فمن الواجب أن نمد أيدينا بحرية إلى شعوبنا الإسلامية ونَقُودها معنا في طريق المدنية، وهذه النقطة هي التي أريد أن أبحث فيها اليوم أمامكم. إن أمامنا طرقًا لحل هذه المسألة الكبرى. فمنها الطريقة التي يمكنني أن أسميها الطريقة المباشرة، وهي أن نفتح القرآن وكُتُب السنة، ونستخلص منهما النصوص التي تثبت أن المؤمنين الصادقين في كل عصر يهشون للعلوم ويقبلون عليها. منذ عهد غير بعيد جاءني كتاب من أحد المسلمين الجزائريين، وهو السيد عبد السلام بن شعيب، فرأيت فيه بعض تلك النصوص، مثل: (الحكمة ضالة المؤمن ينشدها أنى وجدها) و (اطلبوا العلم ولو بالصين) وغير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار. هذه الطريقة تصلح لإقناع قومنا بأن الإسلام يحث على العلم، ولكن هناك عقبتين تقفان في سبيل نجاحها (الأولى) أنني وزملائي الذين يدافعون عن الإسلام لسنا بِحُجَّةٍ في تفسير الآيات والأحاديث واستخلاص المبادئ الإسلامية الصحيحة منها. (والثانية) أن المتدينين لا يتبعون دائمًا ما ترمي إليه نصوص دينهم، بل كثيرًا ما يحيدون عنها، ويأخذون بأقوال الفقهاء والشراح الذين يذهبون في أقوالهم كل مذهب، فلا يكفي أن ينص الدين على شرف العلم، ليكون أبناء ذلك الدين راغبين فيه مقبلين على تحصيله. وهناك طريقة أخرى، وهي الطريقة التاريخية: في اعتقادي أن خطأ المشتغلين منا بالإسلام هو درس هذا الدين مستقلاًّ عن الظروف التي كانت محيطة بظهوره، فلو عرفنا كيف كانت حال العالم حين ظهر، لوقفنا على أسباب انتشاره المدهش. إن الذي ساعد الإسلام على الانتشار هو ما قرره الإمبراطور بيزانطين في القرن الثالث للمسيح، من جعل المسيحية دين الحكومة، وقد جر هذا القرار على الدولة البيزنطية من المشاكل أعقدها. ولقد كان الدين الروماني القديم دين حكومة أيضًا، ولكنه كان دينًا يبتلع الديانات الأخرى، بمعنى أن روما كانت كلما تغلبت على أمة، جعلت آلهتها آلهة لروما. وبخلاف ذلك كانت الحال في بيزنطية، ومنذ اليوم الذي استخدم فيه الإمبراطور السيف لنشر الدين انفتح في وجه الدولة البيزنطية باب الآلام والهموم، ولو أعدتم النظر في تاريخ القرن الرابع والخامس والسادس للمسيح لوجدتم الإمبراطرة متوفرين على توحيد الدين وموجهين إليه كل قوى الدولة، وفي ذلك كان تضعضع ملكهم وانقراضه. فكم أهرقت دماء في سبيل كل عقيدة من عقائد المسيحية، وكم من مقاطعة ضيعها الإمبراطور على إثر كل قرار كان يصدر من مجمع (نيقة) . وإن مسألة طبيعة المسيح عليه السلام أو مسألة الأقانيم التي نعتقدها الآن بكل سكينة واطمئنان قد سالت من أجلها دماء غزيرة، ونشأت من الجدال فيها حروب هائلة - هذا وإنه قد بلغ من عناية الحكومة بنشر الدين أنها غفلت عن احتياجاتها الأولية، فاحترمت الصوامع ورفعت عن أهلها الخدمة العسكرية وعافتهم من دفع الضرائب. فلم يكد يدخل القرن السادس حتى كانت الدولة في غاية الضعف وملئت جوانبها بالخلافات الدينية. إذًا فما هو الإسلام؟ الإسلام دين جاء بخلاف كل ذلك، فقد اعتاض عن تعدد درجات الإدارة بسلطة واحدة يرجع إليها الحل والعقد في كل الأمور، ولم يقرر شيئًا من وساطة القسيسين بين الآلهة والشعب، ولم يسن نظام الصوامع، وقضى على عادة العزوبة التي كانت متبعة مستفيضة بين المسيحيين في ذلك العصر، وقضى أيضًا على عادة التنسك والخروج من الدنيا، فقرر الاشتغال بالدنيا والآخرة معًا، وبالجملة فقد أتى الإسلام بنظام مضاد للنظام المسيحي في ذلك العهد، ملائم لحاجات الناس، وهذا هو سر غلبته على الدين المسيحي. ثم إن الإسلام أرجع الدين إلى حاله الطبيعية، ولم يَأْتِ بشيء من تلك العقائد المسيحية الفلسفية، بل قال بكل وضوح: (لا إله إلا الله) ، وبذلك خلا الإسلام من ذلك الاعتقاد الذي قسم الدول الأوربية، والذي جعل أهل مصر وآسيا الصغرى في حالة استياء من تسلط الدولة البيزنطية. وكيف لا تميل هذه الشعوب الساخطة إلى أهل الإسلام وهم يعلنون أنهم أهل التسامح مع مخالفيهم في الدين، لا يطلبون منهم إلا ضريبة يستعينون بها على إصلاح شئونهم وشئون الدولة الإسلامية، ولقد بلغ الأمر بأحد الولاة إلى تثبيط دخول الذِّمِّيِّين في الإسلام بدلاً من أن يرغبهم فيه أو يكرههم عليه؛ لأن إسلامهم يقلل من دخل بيت المال. ومن هذا الوصف التاريخي الموجز يمكنكم أن تتصوروا كيف نضبت ينابيع الحياة في الدولة البيزنطية، وأنتم تعرفون كيف انتشرت عادة التنسك والتقشف مع أنها لم تقلل من فساد الأخلاق - ويمكنكم أن تدركوا كيف أن التبعة الآسيوية اعتبرت ظهور الإسلام إيذانًا بنجاتهم وسعادتهم. وأذكر أني أيام كنت أدرس تاريخ الإسلام كان الأساتذة يقررون سرعة انتشاره من دون إيقافنا على أسبابه، وغاية ما كانوا يذكرونه هو أن طبيعة العرب طبيعة حربية، وأن خيولهم جيدة، تكاد تسبق ظلالها! ! مع أن الحقيقة أن الفتوحات العربية كانت على البغال، إلا أن العرب أتوا بعقيدة سهلة التناول، لا تثقل الجندي المجاهد، ثم إنهم فوق ذلك أَتَوْا متشبعين برُّوح التسامح، وذلك هو سر الانقلاب العظيم الذي أعطاهم ملك آسيا وإفريقية ونصف إسبانيا: وإذا كان ذلك كذلك أدركتم ما تبع هذه النهضة من الأعمال الجليلة. أتى العرب بعقائد سهلة ملائمة للفطرة وأعطوا الحياة الدنيا قسطها من الاعتبار، فترقت العلوم والفنون والآداب باجتهادهم الذي عجز عنه المسيحيون الذين عاصروهم، وإني لَيُخَيَّلُ إِلَيّ أنه كانت على أبصار مَسيحيِّي القرون الوسطى غشاوة من تنسك منعتهم من إدراك الأشياء على حقائقها. وقد جاء العرب في الوقت نفسه بمبدأ في البحث جديد، مبدأ يتفرع عن الدين نفسه، وهو مبدأ التأمل والبحث. ثم هل تعرفون بأي كتاب من كتب العهد العتيق كان يتعلق المسلمون؟ كان اهتمامهم بكتاب أرسطو أكثر منه بخيالات أفلاطون، نعم كان كل اهتمامهم بكتاب ذلك الحكيم المدقق، وواضع أساس العلم في الحقيقة، ثم إنهم مالوا إلى الاشتغال بعلوم الطبيعة وبرعوا فيها، وهم الذين وضعوا أساس علم الكيمياء، وقد وجد فيهم كبار الأطباء - ولفرط تقديرهم للحياة الدنيا نبغ فيهم الشعراء المجيدون الذين قالوا شعرًا إذا وصفناه بأنه أرضي؛ فذلك لأنه قريب من العقول، يغذيها وينعمها، وإنه أفضل من خيالات شعراء القرون الوسطى بألف مرة، فأين هذه الحياة من تخبط الغرب المسيحي في تماثيله وأوهامه وانزوائه! ! هذا؛ وإني لا أطيل القول في الشيء المشهور من أن الحضارة العربية بلغت شَأْوًا عظيمًا في بغداد وقرطبة، وإنما يسرني أن أبحث في أسبا

من خطبنا الإسلامية في الديار السورية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخطبة الثانية من خطبنا في الديار السورية [*] وهي من الخطب السياسية أيها الإخوان الكرام: اقترحتم علي أن أقول شيئًا في الدستور والاجتماع، وماذا عسى أن أقول في موضوع قد تبارى فيه الخطباء الكثيرون مِن قَبْلُ، فلم يَدَعُوا لمن بعدهم مقالاً، ولم يغادروا لمن تأخر عنهم متردَّما، فرب فكر فيه أريد أن ألقيه عليكم، فيخطر في بالي أنه قد ورد على مسامعكم، وجال في مجامعكم، فيقف الفكر، ويتلعثم اللسان، ولكنني لم أحضر تلك المجامع، ولم أسمع شيئًا من تلك الأقوال، فإذا قلت شيئًا مما قيل من قَبْلُ، فلي فيه شيء من العذر، ورب مكرر يحلو، ورب إعادة فيها إفادة. المراد من الدستور أن يكون حكم الأمة لها، تديره بيد من تختار من أفرادها، لا بيد رئيس يستبد فيه برأيه، ويتصرف فيها بهواه وإرادته، وإن استبداد شخص واحد بأمة كبيرة لَمِنْ أعجب أمور البشر في طور الجهل والانحطاط. أتدرون ما هي القاعدة النظرية التي يبني عليها المستبدون هياكل سلطتهم الجائرة؟ هي أن الأمة كالمجنون أو السفيه أو الولد القاصر الذي لا يحسن التصرف في ملكه، فلا بُدَّ له من وصي يقوم بمصالحه، وولي يتولى تدبير أموره! ! ! هذه النظرية باطلة من عدة وجوه، ولكنهم يُحِقّونها بالقوة: هل يمكن أن تكون الأمة كلها جاهلة أو سفيهة كالطفل أو المجنون، فلا يوجد في سوادها الكثيرِ أفرادٌ يصلحون لتدبير أمرها، وإقامة العدل والنظام فيها بالشورى دون هوى الرئيس، ويكون ذلك الرئيس الذي يدعي حق الوصاية عليها، والولاية على جميع مصالحها، هو الحكم العدل، والعاقل الرشيد، يأخذه عن آبائه بحق الإرْث، كما يرث عنهم الولاية والملك؟ كلاّ، إن ذلك أمر غير معقول، وحكم استبدادي غير مقبول، المشاهدة تنقضه، والتاريخ يفنده، فقد قرأنا في سير الغابرين، ورأينا في حال الحاضرين، أن أكثر الملوك والأمراء المستبدين، هم أعرق أفراد أممهم في الجهل، وأَوْغَلهم في أفن الرأي، وأشدهم فسادًا في الأرض. أي قاضٍ مِن قُضاة العدل حكم بجنون الأمة أو سفهها، ووجوب نصب فرد من الأفراد وصيًّا عليها؟ أي شرع يبيح للوصي أن يتصرف في مال السفيه أو القاصر تصرف المالك في ملكه، ولمن كان في وصايته كثيرون أن يتبع في معاملتهم هواه، فيمنع بعضهم من حقه، ويعطي الآخر ما لا يستحقه، كما هو شأن الملوك والأمراء المستبدين! ! ألا إن هؤلاء الأدعياء في وصايتهم، المعتدين في ولايتهم، ليسيئون التصرف في ملك الأمة وفي سياستها، فهم قد جعلوا أنفسهم أوصياءَ عليها بالقوة القاهرة، وبالقوة القاهرة يمنعونها من التصرف معهم ومشاركتهم بالرأي، بل يحولون بينها وبين معرفة ما تملك، وما لها من حق الرأي والتصرف، لتبقى عالةً عليهم، راضيةً ببقاء الأمر فيهم، ولهذا يمقت المستبدون العلم ويقاومونه أشد المقاومة، وقد رأيتم ذلك في أنفسكم، فقد كنتم منذ أشهر تحرقون كتب العلم، أو تدفنونها في حنادس الليل تحت الأرض، خوفًا من زبانية الاستبداد أن تدمر على بيوتكم فتراها، فتنزل العقاب الشديد بمن اقتناها، على أنهم كانوا يعاونون الذين يهربون السلاح، ويساعدون الأشقياء على إفساد الأمن وهضم الحقوق، فقد كان كل ذنب مباحًا أو متساهلاً فيه عند حكومتنا الماضية، إلا ذنب العلم واقتناء الكتب والصحف الحرة، التي كانوا يعبرون عنها بالأوراق المضرة. لماذا؟ لأنهم يعلمون أن الأمة إذا عرفت حقوقها، يوشك أن تجتمع فتطلبها من طريقها، وإذًا يحرمون من التمتع بذلك السلطان المطلق، والتصرف بتلك القناطير المقنطرة، فقد قال حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني: العاقل لا يُظْلَم، ولا سيما إذا كان أمة. ما هو الطريق الذي تسلكه الأمم لاسترجاع حقوقها المغصوبة من الملوك المستبدين؟ ألا إنه لَهُوَ الاجتماع والتعاون: الاجتماع الذي تسوق إليه المعرفة، والتعاون الذي يدعو إليه الشعور بالحاجة، ومن هنا ننتقل إلى الكلام على الاجتماع والجمعيات. الاجتماع على الحق قوة لا تعلوها قوة، بهذا قد جرت سنة الله في خلقه، وقد ورد في الحديث الشريف: (يد الله على الجماعة) وهذا أبلغ تمثيل لعظمة هذه القوة، وأي شيء أعظم قوة ممن كانت كلاءة الله ظلاًّ ممدودًا فوقهم، وسنته في النجاح صراطًا مستقيمًا أمامهم، ألا ترون أن الحكام المستبدين يطاردون الجمعيات، ويخافون منها ما لا يخافون من الجيوش المنظمة، والأساطيل المدرعة، لعلمهم أن الحق لا يغالب إذا وجد نصيرًا. قال الأستاذ الإمام (إنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه) . ماذا أقول في بيان قوة الجمعيات؟ هي التي قوضت حصون الظلم، ودمرت هياكل الاستبداد، وحررت الأمم والشعوب من العبودية، وشيدت فيها صروح العلم والمدنية، وليس الشاهد والدليل على هذا ببعيد عنكم، وأنتم الآن في نادي شعبة للجمعية التي أسقطت سلطة الاستبداد في المملكة العثمانية، وأدالت منها سلطة دستورية شورية. أرأيتم لو أن أحدًا همس في آذانكم قبل ثلاثة أشهر وأنتم تئنون من ذلك الظلم الفاحش قائلاً: إن نفرًا من إخوانكم العثمانيين لا يتجاوزون عدد الأنامل، يجتمعون في حجرة لهم نوافذها مغلقة، وستورها مسبلة، يتخافتون بينهم في تدبير الحيل، واتخاذ الوسائل، لتقويض هيكل تلك السلطة الاستبدادية، التي أوشكت أن تقضي على الدولة العلية، وإعادة الدستور العثماني، وإحياء القانون الأساسي، فما هو رأيكم في هؤلاء المجتمعين، ألا يقول أكثركم: إنهم مجانين (مجانين مجانين) بلى، ولكن قد علمتم الآن علم اليقين أن هؤلاء النفر هم الذين قوضوا تلك السلطة الظالمة، وقضوا عليها قبل أن تقضي هي القضاء الأخير على الدولة العلية، فما الذي أقدر ذلك العدد القليل على إسقاط حكومة مؤيدة بجيش عظيم، ومال كثير، وألوف كثيرة من الأعوان والأنصار، القابضين على زمام الأحكام، كانت ترتعد من ظلمهم الفرائص، وتضطرب لتصور استبدادهم القلوب؟ أليس هو الاجتماع للمطالبة، والتعاون على استبدال العدل بالظلم؟ بلى، ولو كان أولئك الأنصار الأخيار من اليائسين، كما كان أكثر العثمانيين، لَمَا نالت الأمة العثمانية هذا النصر المبين، الذي كان موضع إعجاب الناس أجمعين، حتى قال كثير من ساسة أوربا وكُتّابها: إنه لم يسبق له نظير في تاريخ البشر؛ لأن المعهود في التاريخ أن هذه الغاية لا تنال إلا بعد ثورات داخلية، وحروب أهلية، بين أنصار الاستبداد والظلم، وطلاب الدستور والعدل. الآن قد خطر في بال كثير منكم أننا قد نلنا هذا النصر بسيوف جيوشنا، لا بتدبير أفراد من جمعياتنا، نعم، إننا لولا جيشُنا الباسل لَمَا عملنا الآن شيئًا، ولكن لا ننسى أن جيشنا قد كان منذ كان حامي السلطة الاستبدادية ونصيرها، وعونها على قهر الأمة وظهيرها، فما عدا مما بَدَا؟ أليس قد اتحد بعض ضباطه أهل العرفان والحمية، بأولئك المجاهدين في سبيل العدل والحرية، فكان العلم والرأي، هما القائدين للجيش؟ بلى. الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني نلنا الحرية والدستور، وأصدر قاضي محكمة الاجتماع العليا حكمه ببطلان تلك الوصاية الاستبدادية، والولاية القهرية، وإثبات رشد الأمة وأهليتها للقيام بشئونها، والتصرف في ملكها، ولكن هل رشدت الأمة حقيقة، وصارت أهلاً للتصرف النافع، الذي تحفظ به المصالح؟ إن الحكم الصحيح في شأن الأمة العثمانية عسير جدًّا. فإنها على اختلاف شعوبها في الأجناس واللغات والأديان والمذاهب متفاوتة تفاوتًا عظيمًا في التربية والتعليم اللذين يؤهلان الأمم للحرية والحكم الدستوري، فتكون دستورية بطبيعتها لا مقودة إلى الدستور بالسلاسل. إن مجموع الترك أرقى في هذه التربية من مجموع العرب، والأرمن أرقى من الأكراد، والآستانة والولايات الأوربية، أرقى من الولايات الآسيوية، وولايات سورية وسط بين ولايات أوربا وبين العراق والحجاز واليمن، وإننا نرى الاستعداد في سورية ضعيفًا، فماذا نقول فيما دونها، فكرنا كثيرًا ونحن في مصر لنختار من كل مدينة في سورية أفرادًا من الأحرار الشجعان ليؤلفوا لنا شعبًا لجمعية الشورى العثمانية، فلم نعثر في أكثر المدن على من نثق بقبوله لدعوتنا، ودخوله في جمعيتنا، ودخل في الجمعية رجلان من أهل بيروت، كل منهما صديق للآخر، ولم يكاشف أحدهما الآخر بذلك إلا بعد إعلان الدستور، وناهيكم بجرأة أهل بيروت. إن العاقل الراشد إذا منع التصرف في ماله بالقوة القاهرة، وطال عليه الزمن وهو لا يعمل ثم أبيح له العمل وهو غير متمرن عليه يحار في كيفية التصرف، ولا يسهل عليه أن يجري فيه على طريق السداد. وقد اهتدى إلى هذا المعنى أحد أغنياء بلادنا العقلاء (المرحوم محمد باشا المحمد) ، فقسم ثروته الواسعة في حال حياته بينه وبين أولاده؛ ليتمرنوا تحت مراقبته على إدارة تلك المزارع والضياع، لئلا تفاجئهم الثروة فيعوزهم حسن إدارتها وحفظها، وغفل عن ذلك كثير من الأغنياء، فلم يأذنوا لأولادهم بالتصرف في إدارة ثروتهم، ولا بالتمتع بما تستشرف له نفوسهم منها، فلم يلبث أولئك الأولاد بعد موت والديهم إلا قليلاً، حتى أضاعوا جميع ما تركوه لهم إسرافًا وتبذيرًا، كما رأينا وشاهدنا في مصر كثيرًا، وإذا كانت إدارة الثروة الشخصية لا تصلح إلا بالعلم والتمرن معًا، فكيف تكون إدارة الممالك وسياسة الأمم؟ لا يعجلن أحد بالاعتراض على هذا الكلام فيقول: إنه مؤيد للحكومة المطلقة التي أراحنا الله من شرها، ومعارض للحكومة الدستورية التي امتلأت القلوب رجاءً في خيرها، معاذَ الله أن أحتج لتلك الحكومة الظالمة بكلمة، وأنا أعلم أنها لو بقيت سنة أو سنتين ولم ينجح الأحرار بالوسيلة التي أخذوا بها في هذا العام، لوقعت الأمة والدولة في خطر لا تؤمن عاقبته، وإنما قلت ما قلت آنفًا لأنبه الأفكار إلى حقيقة حالنا، وما يجب علينا في هذا الطور الجديد. الأمة العثمانية في مجموعها مستعدة للحكم الدستوري، فإن فيها من الأحرار المرتقين في المعارف والأخلاق من جميع الشعوب من يرجى أن يقوم بهم هذا الحكم خير قيام، ويؤمن عليه من عدوان الاستبداد، ولكن ضعف استعداد الأمة في كثير من البلاد يحملهم مشاقَّ كثيرة في إقامة العدل، وإصلاح حال الملك، ومقاومة كيد المتقهقرين، أعوان المستبدين الظالمين. لا تظنوا أن الأحرار الكرام الذين نلنا الدستور بسعيهم، كانوا غافلين عن هذا، كلاّ إنهم قد أعدوا له عدته، فأخذت جمعية الاتحاد والترقي على نفسها أن تكفل الدستور الذي كانت قابلة ولادته وأمه ومرضعه إلى أن يبلغ أشده ويستوي، فأنشأت لها شعبًا ولجانًا في كل مركز من مراكز الولايات والألوية والأقضية في المملكة، وجعلت لها أندية سياسية اجتماعية، ولها في ذلك مقصدان: المقصد الأول: مراقبة الحكومة في سيرها لأجل أن تنفذ الشريعة والقوانين في دائرة الدستور، ويحفظ الأمن ويقام العدل بقدر الاستطاعة والإمكان. والمقصد الثاني: نفخ روح الحياة الدستورية في الأمة وتحبيب الحرية إليها بِبَثِّ الآراء والأفكار النافعة فيها بالخطب والمحاورات، وحثها على التربية الملية والتعليم العصري الذي يجعلها أمة دستورية بالطبع، تأبى الاستبداد وتنفر منه، كما تنفر من الأسقام والأدواء، فحيا الله جمعية الاتحاد والترقي، وإنه يجب على الأمة كلها أن تساعدها في سعي

الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة ـ 3

الكاتب: محمد روحي الخالدي المقدسي

_ الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة [*] (3) (تفنن المابين في أكل الرشَى ومنح الرتب والأوسمة) كان لرجال المابين في الارتكاب وسوء الاستعمال ظرف ورقة وتورية بديعة، فلما أنشئ قضاء (بئر السبع) في تيه بني إسرائيل، وعين له قائمقام في الآستانة، قال له دولة الناظر حسبما أفاد: (بالطه كيرماش اورمانه كوندر يورم) أي إني أرسلك إلى غابة لم تدخلها بلطة الحطاب. فذهب وحطب في الناس حتى عزل، وأخذ تحت المحاكمة، ثم عين في محل آخر. وهذا مثال من ألف بل آلاف أمثلة للارتكاب الذي أفسد أخلاق الأمة وأخرها عن اللحاق بالأمم المتمدنة، ويروي عنه الناس نوادر عجيبة وأساطير غريبة تحتاج إلى الجمع في كتاب أو الإفراغ في قالب قصصي، وبعد أن كان تعيين الموظفين يكون بطلب الباب العالي والنظارات، صار التعيين وتوجيه الرتب من المابين مباشرة! تهافت الناس على احتجان الرتب مع لقب بك، الذي لا وجود له في الحقيقة بين الألقاب الرسمية، كوجود لقب باشا مثلاً، وإنما اشتهر فريق باسم بك، وفريق باسم أفندي، فكانوا عند توجيه الرتبة ينظرون إذا كان الاسم مقرونًا بلقب بك، صدرت الإرادة السنية بموجبه ونشرت في التوجيهات الرسمية، فصار بائعو الرتب يتعمدون وضع لقب في الطلب، لتصدر بموجبه الإرادة السنية وتنشر في القسم الرسمي من الجرائد، فتتناقلها الجرائد العربية وتقول وجهت الرتبة الفلانية مع لقب بك، لتوهم القارئ أن لقب بك توجيه جديد، كلقب كونت أو مركيز عند الإفرنج، وامتلأت دوائر الآستانة بالموظفين، بلا تمييز في جدارتهم واستحقاقهم واضطلاعهم بالعمل الذي هم فيه، ولم يكن الغرض من التعيين التحري على موظف قادر على إيفاء الوظيفة حقها من العمل، بل إيجاد وظيفة وعمل للمقربين والملتمس لهم أو للذين يُخْشَى بأسهم! ! فزاد عدد الأعضاء في شورى الدولة عن المائتين، ونظامهم أن يكونوا سبعة وثلاثين عضوًا، وكذلك مجلس المعارف ومجلس التفتيش والمعاينة الضاغط على حرية نشر الكتب وإدخالها، وهو الذي محا من كتب اللغة كلمات كثيرة مثل: حرية، وطن، اختلال، انقلاب، جمعية، رشاد… كما غيرت أسماء الموظفين من عبد الحميد وسلطاني ونحو ذلك إلى أسماء أُخَرَ، وبعضها حرفت وكتبت سلتاني، وامتلأت نظارة المعارف بالموظفين حتى قال ناظرها الأخير لما عرضوا عليه الميزانية: لولا وجودُ معاشات المعلمين لأمكنني وضع الموازنة! ! فكانت معاشات المعلمين تضايقهم وهم يريدون حصر المعاشات بالموظفين من الرؤساء والأعضاء والكتاب والمفتشين، وزاد عدد أعضاء الجمعية الرسومية عن ثمانين عضوًا، وكذلك مجلس المالية والأوقاف والعسكرية والبحرية وغير ذلك من أنواع المجالس ودوائر الحكومة والمعية الشاهانية، حتى ضاقت المجالس والأقلام بالموظفين وصار أكثرهم لا يجد له كرسيًّا للجلوس عليه! ! وكانوا يأخذون رواتبهم وهم نائمون في بيوتهم. * * * (اختلال المالية وإرهاق الفلاح) اختلت الموازنة المالية اختلالاً عظيمًا أدَّى بها إلى حجز نحو نصف رواتب الموظفين والعساكر ومخصصاتهم في كل سنة، واستفحل الظلم في جباية الأموال الأميرية وطرح الأعشار وتحصيل رسوم الأغنام، وتسابق الموظفون إلى المزاودة بأعشار الأقضية والألوية، وعدوا ذلك فضيلة وسببًا مشروعًا للمكافأة والترقي، والمكلفون من الزراع والفلاحين يئنون تحت أثقال هذه التكاليف والمظالم ولا ناصر لهم ولا مفكر في شئونهم، وقَلَّمَا كان يمر على القرية شهر من دون أن يأتيها المعشرون وجباة الأموال الأميرية ونصيب المعارف ومصرف (بنك) الزراعة وإدارة الرسوم الستة، أي الديون العمومية والإعانات المختلفة، وكان الظلمُ أشدَّ على المسلمين منه على المسيحيين الذين كانوا يحتمون بأديارهم وبرؤسائهم الروحيين، ولقد سمعت كثيرًا من الفلاحين أنهم اضطروا إلى بيع أراضيهم وتزويج بناتهم ليأخذوا صداقهن ويعطوا للجباة ما يطالبونهم به من الأموال الأميرية! ! فصار الفلاح يتجنب زراعة الأرض إلا بقدر حاجته الضرورية. ومن القواعد التي قررها الفيلسوف الشهير مونتسكيو مؤلف روح القوانين: (إن الأراضي يقل إيرادها بالنسبة لحرية سكانها لا بالنسبة لخصبها) ، فإذا كان الفلاح حرًّا عمر الأرض المَوَات وجعلها خصبة بعمله وحراثته، وإذا فقد الحرية أصبحت أرضه الخصبة مواتًا بسبب الظلم والاستبداد. وعليه فإن ما نشاهده اليوم في أوربا من العمران إنما هو نتيجة الحرية، فحيثما توجهت فيها لا ترى إلا مروجًا نضرة وأشجارًا وكرومًا مخضرة وأنهارًا جارية، كأنها بستان عظيم ليس فيه قطعة أرض خراب. وصار رجال المابين يحرضون الولاة والمتصرفين على الإسراع بتحصيل الأموال والبعث بها إلى الآستانة، وكان القائمون بأدائها لا يدرون أين تنفق وكيف تصرف، لعدم نشر الموازنة المالية (Budget) ، بخلاف إدارة الديون العمومية التي هي تحت مراقبة الأجانب، فإنها في غاية الانتظام والترقي، تزيد وارداتها في كل سنة فتدفع رواتب موظفيها ومرتبات الديون بأوقاتها المعينة، وقد حدا ذلك الدولة إلى العود إلى الثقة المالية بها، وأصبح أصحاب الديون في أوربا آمنين على أموالهم، ولو حدثت قلاقل في المملكة العثمانية، فإن قيمة أسهم الديون لا تتنزل إلا قليلاً، وإذا أردت المقايسة بين إدارة الديون العمومية وبين نظارة المالية، فانظر إلى قرية من قرى الألمان أو اليهود المستعمرين في سوريا وفلسطين، وما فيها من الانتظام والعمران والترقي، وإلى قرى الأهالي المجاورة لها وما فيها من الفقر المدقع والخراب - يتضح لك الفرق بين الإدارتين. * * * (اختلال الإدارة العسكرية بإدارة الجواسيس لها) اختلت إدارة العساكر البرية والبحرية، وأصبحت لا تمرن على التعليم الناري وإصابة الهدف، ولا تساق سوق الجيش خوفًا من الهيجان وحدوث الانقلاب! ! مع أن دول أوربا ولا سِيَّمَا ألمانيا وروسيا والنمسا وفرنسا تقوم جيوشهن في كل سنة بمناورات حربية، يحضرها الإمبراطور نفسه مع أولاده وأسرته وجميع ضباط السفارات الأجنبية، فيستطلعون أحوال الجند ويشوقونهم. وصار الأسطول العثماني الذي أنفق على شرائه الملايين كالْمُقْعَدِ الذي يَرُومُ النهوضَ ولا يَقْدِرُ عليه لطول مكثه، فصدأت آلاته بسبب عدم الاستعمال والجري في البحار، واختلست أموال كثيرة من التجهيزات العسكرية، ولا سِيَّمَا في تجهيز الأسطول وشراء البواخر والمدرعات، وصار الترقي في المراتب لا يبنى على القدم والاضطلاع والاستحقاق، بل على الالتماس والانتساب والرشوة، فكان الضابط يرتقي إلى المراتب الكثيرة في أوجز مدة، وقد يكون لا يعرف للجندية مَعْنًى، حتى ولا احترام من فوقه في الرتبة، وكان الضباط يبيعون رواتبهم التي تبقى دينًا عند الحكومة للسماسرة بأثمان بَخْسَة، حتى بِيعَتِ المِائَة قرش بأربعة قروش! وَبِيعَ حُلَّة (بدلة) العسكري التي تشتريها الدولة بمئات من القروش بعشرين قرشًا.. أي أن المستحق للراتب والحلة كان يوقع على الورقة المؤذنة بالوصول إليه على القاعدة والأصول، كأنه استلم الحلة من مخزن الألبسة أو قبض الراتب من صندوق الخزانة! ثم يسلمها للسمسار فيعطيه هذا في مقابلها ما يتفقان عليه، ثم يتفق السمسار مع المحاسبة جي ومن فوقه ويربحون الفرق، ويقيدون ذلك في الدفاتر (إيراد ومصرف) ، كأنها جرت على القاعدة والأصول. وبهذا أصبح الضباط في حالة يرثى لها. وكنت ترى ضباط البحرية، البالغ عددهم نحو ستة آلاف، في قهوات الآستانة، خلوا من العمل، يتجولون في شوارعها وحاراتها! ! اشتبهت الإدارة المستبدة في أمراء العسكرية الذين تعلموا في أوربا، وخدموا الأمة والوطن وصارت لهم ملكة ومعرفة تامة بأحوال الزمان، فأبعدتهم عن الآستانة وأشغلتهم بالوظائف الثانوية، بداعي ميلهم إلى الأفكار الحرة وإعادة القانون الأساسي ولقد بلغ عدد الراجعين منهم إلى الآستانة بعد حدوث الانقلاب ستين شخصًا من الباشوات وأمراء العسكرية، وخمس مائة ضابط، ومنهم رجب باشا وفؤاد باشا الشهير وناظم باشا وهو صِهْر عالي باشا. وأصبحت قيادة العساكر وإدارة المدارس العسكرية بأيدي أناس لا كفاءة لهم، وليس لهم عمل إلا التجسس على أصحاب الأفكار النيرة، وإبعادهم عن مركز الإدارة، وكانوا يعدون ذلك خدمة لمنافع السلطنة والمحافظة على الخلافة الإسلامية! ! ! فأصبح للتجسس والمراقبة دائرة من أعظم دوائر الدولة، لها مراكز وشعب كثيرة ومعاشات وافرة غير الإحسانات والإنعامات! ! فكان الجواسيس ينظمون التقارير في كل حادثة ومسألة صغيرة كانت أو كبيرة، ويختلقون المسائل ويفترونها ويصورونها في قوالب مستحيلة، ينبذها العقل ويأباها أولو النظر الصحيح والوجدان السليم، وما ذلك إلا لإظهار خدمهم وإثبات تيقظهم ومغالبتهم لنيل المكافأة، والمابين لا يَكلّ من تحقيق مضمون هذه التقارير، لعله يجد في مائة كاذبة واحدًا صحيحًا، فإذا قالوا: (فلان له قصد سَيِّئٌ بالخليفة) ، أو: (له مخابرة مع حزب تركيا الفتاة) ، أو: (عنده أوراق ضارة) كانت كل واحدة من هذه التهم كافيةً للدمور على منزله وتفتيش أوراقه، وهتك حرمته، ثم نفيه أو حبسه أو عزله وإبعاده، فكانت شبههم هذه تدور على حدوث المؤامرة ضد الذات الملوكية والمس بحقوق الخلافة الإسلامية، على أنهم لم يتخذوا في الحقيقة سياسةً إسلاميةً، وهي المعبر عنها عند الإفرنج بقولهم (بان إسلاميزم Panislamisme) كما توجد سياسة سلافية (بان سلافيزم Panslavisme) وسياسة جرمانية (بان جرمانيزم Pangermanisme) ، ولا تجد في دوائر الدولة كلها قلمًا مخصوصًا للمصالح الإسلامية، كما يوجد في باريس وبرلين وبطرسبرج أقلام ودوائر خاصة بدرس المسائل الإسلامية درسًا تاريخيًّا علميًّا للوقوف على أفكار المسلمين وهيئتهم الاجتماعية، وعلى أحوال العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، ليكون الوزراء والموظفون على بصيرة ويقين من حقائق هذه المسائل الحيوية الاجتماعية. فقصدهم من السياسة الإسلامية إنما هو أكل الحيات والتظاهر بالكرامات والتكبر على الناس والتشبه ببني العباس. لم تباشر الحكومة أمرًا جديًّا لعمران البلاد، واستخراج ثروتها الطبيعية، والسير بها في معارج التمدن والرفاه، وتعليم رعاياها أصول الزراعة والتجارة وعقد الشركات والتعاون على ما فيه نفع البلاد، بل عاكست جميع المشروعات الوطنية، فكانت لا تمكن من فتح المدارس الخصوصية أو تعليم الأولاد، ولا سِيَّمَا المسلمين في المدارس والبلاد الأجنبية، وحظرت تأسيس الجمعيات، وأطفأت حمية أرباب الهمم، تذرعًا بأنها تؤدي إلى الثورة والانقلاب! فكم نظر الولاة والمتصرفون شزرًا إلى مدرسة وطنية أسسها الفرد، أو إلى مدرسة سلطانية أسستها الجماعة، أو إلى شركة صناعية أو مالية عقدها الأهالي، وسرعان ما كانت تتعطل ويمحى أثرها، وكم منعوا الآباء من إرسال أولادهم إلى المدارس الأجنبية، أو إلى مدارس أوربا، وكم اضطهدوهم من أجل ذلك! ! ليس ما أجرته الحكومة من مد بعض الخطوط الحديدية، وإصلاح المرافئ التجارية، وتطهير المستنقعات إلا إجابةً لطلب الشركات الأوربية، وتوسط بعض المتنفذين للاستحصال على امتيازاتها، والاستفادة بما يعود عليهم بسببها من المنافع الشخصية، فمنح ا

افتتاح مجلس المبعوثان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ افتتاح مجلس المبعوثان ثلاث خطب ارتجالية في الاحتفال به بطرابلس الشام [*] (خلاصة الخطبة الأولى في ميدان التل) أيتها الأمة العثمانية الكريمة: أهنئك بهذا اليوم السعيد الذي تحتفلين فيه بافتتاح مجلس المبعوثين، وإنني لأهنئك بأمر عظيم، أهنئك بأنك صرت بهذا اليوم أمة، وما أحلى هذا القول في فمي، وأحبه إلى قلبي؛ نعم في هذا اليوم صار يصح إطلاق لفظ الأمة عليك، ولم تكوني من قبله إلا عبارة عن أفراد متفرقين لا يصدق عليهم هذا اللفظ على وجه الحقيقة. يطلق لفظ الأمة في عرف علماء الاجتماع والسياسة على الجمع العظيم الذي يتألف من شعوب متعددة، ويرتبط بعض أفراده ببعض بقوانين ومصالح مشتركة. فالاجتماع هو الأصل الذي يتحقق به معنى الأمة المؤلفة من جمعيات بعضها أكبر من بعض، أدناها الأسرة، وهي أول اجتماع بشري وأقدمه، وأعلاها الأمة التي هي منتهى ما يصل إليه الاجتماع. هل يسوغ لنا أن ندعي أننا كنا أمة في طور الاستبداد الماضي الذي قضينا عليه القضاء المبرم في هذا اليوم؟ كيف وقد كنا ممنوعين من كل معنى من معاني الاجتماع، حتى في الأسرة، فقد صار الأب يهرب من ابنه، والابن ينفر من أبيه، والأخ يفر من أخيه، خوفًا من تجسس بعضهم على بعض، وحتى صار الاجتماع في الأعراس والمآتم مخوفًا ومهددًا في دار السلطنة! ! منع الاستبداد الماضي أن يجتمع الناس للشكوى من الظلم بأنفسهم أو بكتابة (المحاضر) ، وفرض عليهم أن يشكوا منفردين، وإن كان ما يشكون منه مشتركًا، بل منع شهادة التواتر الشرعية؛ لأنها لا تحصل إلا من جمع كثير. فالأفراد الذين يمنعون من أصغر أنواع الاجتماع ويهددون بالعقاب عليه كيف يسوغ لهم أن يدّعوا أرقى أنواعه وأعلاها؟ اليوم قد تحقق زوال ذلك الاستبداد المفرق، فاجتمع المبعوثان الذين اختارتهم الشعوب العثمانية؛ لينوبوا عنها في القيام بمصالحها العامة، كوضع القوانين والمراقبة على الحكام العاملين، فبهذا الاجتماع تحقق تكوّن الأمة. فهذا اليوم هو العيد الوطني الأكبر العام لجميع العثمانيين، فإن ما عداه من الأعياد الدينية وغير الدينية خاصّ ببعض الشعوب والأجناس، أو بعض الأديان والمذاهب، وفي هذا اليوم يحتفل بهذا العيد المسلم والنصراني واليهودي وغيرهم، يحتفل به التركي والعربي والألباني والرومي والكردي والأرمني، يحتفل به العثمانيون في البلاد العثمانية، وحيثما كانوا من البلاد الأجنبية، يحتفلون به مجتمعين ممتزجًا بعضهم ببعض، لأنه عيد الجميع. هذا الجمع الذي نحن فيه يمثل لنا احتفالاً من تلك الاحتفالات الكثيرة. أَمَا ترون فيه الحاكم السياسي والإداري والقاضي الشرعي وأمراء العسكرية وغيرهم من رجال الحكومة ممتزجين بعلماء الدين الإسلامي وقسوس النصرانية، وسائر أصناف الأمة من الزراع والصناع والتجار والعمال وتلاميذ المدارس [2] والبشر يتدفق من وجوه الجميع؛ لأن العيد هو عيد الجميع. ثم إنني أهنئ الأمة في هذا العيد السعيد بمعنى آخر، وهو أنها قد صارت في هذا اليوم حاكمةً لنفسها بنفسها، فإن المبعوثين الذين اجتمعوا في هذا الوقت المبارك في دار السلطنة؛ لينظروا في قوانين البلاد، وكيفية تنفيذها، فيقروا ما يشاءون، ويغيروا ما يشاءون، لم يكن السلطان هو الذي اختارهم وولاهم هذا العمل، ولا غيره من رجال الحكومة، وليس له ولا للحكومة أن يختاروا غيرهم عند انتهاء مدتهم، أو يعيدوا انتخابهم، وإنما كان هذا من الأمة، فهي التي أنابتهم عنها للنظر في شئونها؛ لأن هذا الحق هو لها دون غيرها، فهي إذن الحاكم الأعلى، وجميع الحكام من أعلاهم إلى أدناهم مستأجرون لها بما لها؛ لأجل أن يقوموا بما لا بُدَّ لها منه، ولا غناء عنه من المصالح العمومية، ملتزمين في ذلك شريعتها وقوانينها التي ارتضتها لنفسها. في هذا اليوم نالت الأمة هذا الشرف العظيم بالفعل، وكانت من قبل مستعبدة للحاكم المستبد يتصرف في أموالها وأرواحها وحقوقها كما يشاء، ولا يسمح لها أن تقول، ولا أن تفعل إلا ما يدل على السمع والطاعة والخضوع للعبودية. بقي أن تعلموا أيها الإخوان أنَّ حكم الأمة لنفسها محصور فيما ذكرنا من اختيارها، وانتخابها لمن ترى فيهم الكفاءة والاستعداد لوضع القوانين العادلة لها، والمراقبة لتنفيذها والنظر في مصالحها العامة، كعلاقة الدولة مع الدول الأجنبية، وليس منه ما رأيناه من تجمهر بعض الأفراد واجتماعهم في دار الحكومة لإلزام بعض الحكام بما يرونه ويرغبون فيه، فإن هذا هو عين الفوضى والخلل، لا تصلح معه حال، ولا يستقر نظام، ونسأل الله أن يتم علينا هذه النعمة، ويوفق نوابنا إلى ما فيه خير الملة والأمة. * * * (خلاصة الخطبة الثانية في نادي الجامعة العثمانية) أحب أن أقول كلمة وجيزة في معنى الثقة بنجاح مجلس الأمة، ودوام الدستور: سمعت كثيرًا من الناس يدعون الله تعالى بمثل قولهم: (الله يتمم بالخير) ، فكان يسرني هذا الدعاء من جهة، ويسوءني من جهة أخرى. يسرني لأنه صادر عن غيرة وحرص على نعمة الدستور، وخوف على مجلس المبعوثين الذي يكفله أن يفشل أو يصيبه كيد الكائدين، ويظفر بمراده حزب المستبدين المتقهقرين. ويسوءني بما يظهر من فحوى القول ولحن الدعاء، من ضعف الثقة وتغليب الخوف على الرجاء، فإن هذا الخوف يكاد يقرأ على الوجوه، ويسيل من الألسنة متدفقًا عن القلوب. إنني أدعو مع الداعين بأنْ يتم الله عملنا بالخير، ويجعل النهاية خيرًا من البداية، فإننا لا نستغني عن الدعاء، في السراء ولا في الضراء، ولكنني أدعو وأنا ممتلئ القلب بالأمل والرجاء، ولست أرى للخوف محلاًّ بفضل الله وكرمه، فإن حالنا اليوم لا تقاس على حالنا من مدة ثلث قرن كامل، أيامَ عقد مجلس الأمة الأول، ثم حله الاستبداد، فلم يلق في حله مقاومة ولا ملامًا، بل كان بردًا وسلامًا. الفرق بين مجلسنا اليوم ومجلسنا في ذلك الوقت بعيد جدًّا، إن ذلك المجلس لم يكن بسعي الأمة ولا برأيها، ولم تكن عالمة به ولا مستعدة له، وإنما هو من صنع مدحت باشا، أبي الحرية، وبعض إخوانه الوزراء والكبراء، فهم الذين وضعوا القانون الأساسي، وبسعيهم ألزموا السلطان بقبوله، فأظهر القَبُول وأمرت الوزارة بانتخاب المبعوثين فانتخبوا واجتمعوا، ولما تفرق شمل هذه الوزارة حل السلطان ما كان منعقدًا، وفرق ما كان مجتمعًا، فكان إبطال (مجلس المبعوثان) أسهل عليه من إبطال نابليون لمجلس النواب؛ إذ لم يكن له من الأمة عضد يؤيده، ولا من الجيش نصير يحفظه ويعضده، أطلقوا على ذلك المجلس لقب (أوت أفندم) [1] ؛ إذ قالوا: إن الأعضاء كانوا يصادقون على كل شيء تلقيه إليهم الحكومة بكلمة (أوت أفندم) فلما أراد السلطان فض المجلس قال لهم مندوبه: اخرجوا واذهبوا إلى بلادكم، فوضعوا أيديهم على جباههم (إشارةَ الطاعةِ) قائلين: (أوت أفندم) ، وولوا منصرفين (فما كان لهم من فئة ينصرونهم وما كانوا منتصرين) . ماذا كان من أمر القوة العسكرية، كالشرطة وغيرها؟ إنها هددت المبعوثين ذوي الجرأة، وأنذرتهم البطش بهم إذا لم يسرعوا بالسفر من الآستانة، فذهبوا مسرعين، ذلك بأن الاستبداد خاف من بقائهم أن يحدثوا هنالك تأليبًا للناس ويحملوهم على المطالبة ببقاء مجلس الأمة والمحافظة على القانون الأساسي، على أن الأمة نفسها لم تكن تحفل بذلك ولا تعرف قيمته، ولذلك لم يظهر منها أدنى اهتمام في مكان ما. أما الآن فقد تغيرت الحال، واستبدل الله أقوامًا بأقوام، فقد نلنا الدستور، وأعدنا القانون الأساسي بسعي أحرار الأمة النابغين، ومساعدة الجند وضباطه المستنيرين، لا بسعي أفراد من الوزراء يمكن أن يصيبهم ما أصاب مدحت باشا وإخوانه من نفي واغتيال، فيذهب الدستور ومجلس الأمة ويموتان بموتهم. كلا، إن من ورائهما ذلك الجند الباسل الذي ساعد أحرار الأمة على نيل هذه الرغيبة، ولولاه لم نصل إلى هذه النعمة، من غير خطر على الدولة والأمة، ومن ورائهما أحرارنا المنبثون في جميع الولايات العثمانية ينفخون روح الدستور فيها. تشهد أمم أوربا كلها بأن الجيش العثماني أشجع جيوش العالم وأشدها بأسًا وثباتًا في ميادين الجلاد، حتى قال الجنرال مولتك، القائد الألماني الشهير، الذي نكل ذلك التنكيل بالفرنسيس: أعطوني مائة ألف جندي عثماني أفتح بهم أوربا كلها. ولكنهم كانوا يقولون: إن هذا الجيش الباسل ينقصه الضباط والقواد العارفون الصادقون. والآن يوجد عندنا عدد عظيم من هؤلاء الضباط الذين تعلموا أحسن التعليم، وتربوا أعلى التربية، وهم الذين كانت تطاردهم السلطة المستبدة الماضية؛ خوفًا أن يقضوا على استبدادها حتى شَتَّتَتْ شمل الكثير منهم، فكان منهم المسجونون، ومنهم المنفيون، ومنهم الهاربون، وقد بقي في الجيش العامل منهم مَنْ قلب تلك السلطة، وأراح الله البلاد العثمانية من شرها، فهل نخاف اليوم على مجلس الأمة، وقد عاد أولئك الضباط الكثيرون من سجونهم ومنفاهم، وانضموا إلى إخوانهم العاملين في الجيش، وكل منهم يفدي الدستور ومجلس الأمة بروحه ويبذل دونهما آخر نقطة من دمه؟ كلا، إن العارف بحال الدولة والجيش، وبما أتته جمعية الاتحاد والترقي من الاحتياط والتدبير للمحافظة على الدستور وحماية مجلس الأمة، لا يخالج صدره أدنى خوف على المجلس في هذا اليوم، وإنما كنا نخاف على الدولة في دور الانقلاب من الخارج، كنا نخاف أن تقوم في وجهنا أوربا، فتفسد علينا عملنا، وتضطرنا إلى الدخول في حرب لا تؤمن عاقبتها، أما وقد لقينا من الدول الأجنبية ميلاً وانعطافًا عظيمين إلا ما كان من ضم النمسا ولايتي البوسنه والهرسك إلى أملاكها، ومن إعلان البلغار الاستقلال، ولم يكن في ذلك خطر على حكومتنا الجديدة ولله الحمد والمنة، بل رأت النمسا من الحرب الاقتصادية التي ناجزتها بها الأمة العثمانية ما جعلها تندم على ما فعلت وتود إرضاء الدولة العلية. أما المَشاغب الداخلية التي يحركها في بعض الولايات أنصار الاستبداد من حزب التقهقر كالعراق والشام والحجاز، فلا خوف منها ولا خطر، فإذا قام مثل طالب الرفاعي يثير حزبه من أكلة الأفاعي؛ ليفسدوا في الأرض، ويؤلبوا الأشقياء في ولاية البصرة على الدولة، فإن قيامه هذا لا تأثير له، ولا يعجز الحكومة الحرة استئصاله، فإن لديها من الرجال من يأكلون أكلة الأفاعي، فلا يعجزهم التنكيل بهذا الرفاعي، كما نكلوا قبله بذلك الشقي الكردي، فسيحبط عمل المفسدين، ويستقر الأمن في جميع الولايات العثمانية عن قريب إن شاء الله تعالى. ومن الناس من يخاف أن يفشل مجلس الأمة، ويعجز المبعوثون عن القيام بما نيط بهم وعهد إليهم من مصالح الدولة والأمة، وإنني أصيح بأعلى صوتي، إن هذا الخوف في غير محله أيضًا. إن المجلس السابق على ما كان عليه من الضعف، وما قيل من أن جميع أعضائه أرادوا أن يكونوا من حزب الحكومة حتى لقبوا بكلمة (أوت أفندم) ؛ لخضوعهم لما يُرَادُ منهم - على هذا كله قد ظهر من بعضهم أفكار وآراء حسنة، واستقلال يرجى خيره لو دام؛ فكيف يكون مجلسنا اليوم وقد ارتقت الأمة بالنسبة إلى زمن المجلس الأول في الاستعداد والمعارف والأفكار بالرغم من اضطهاد الحكومة الاستبدادية للعلم والحرية حتى إنها بنبوغ الكثيرين مِن رجالها قد انتصرت على الاستبداد وهو - كما قال

إصلاح التعليم الديني في الآستانة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح التعليم الديني في الآستانة هذا ملخص مطالب طلاب دار الفنون في الآستانة من نظارة المعارف، وقد ذكرت جرائد الآستانة أن طلبهم قد أجيب: 1- تدريس التفسير الشريف بتقرير معاني القرآن الحكيم الظاهرة وأسباب نزوله، وبيان الناسخ والمنسوخ، وتطبيق ذلك على القوانين الفلسفية. 2- تدريس الحديث الشريف، وأن تكون مدة تدريس البخاري أربع سنين. 3- تدريس أصول الحديث، مع تراجم رواته وطرق أسانيده. 4- تدريس أصول الفقه، وبيان قواعده الكلية، وتقرير تعاليمه وتفرعاته، وتدريس الفروق في القواعد والأصول بين المذاهب الأربعة. 5- تدريس الفقه مع بيان القواعد الفقهية والفروع، ومأخذ ذلك من الأدلة الشرعية الأربعة، مع إيضاح الحكمة الشرعية في ذلك وفلسفة الأحكام. 6- تدريس التاريخ الإسلامي. 7- تدريس تواريخ الأديان المشهورة. 8- تدريس السيرة النبوية بالتفصيل. 9- تدريس التوحيد، وذلك بأن تنبذ طرق تدريس التوحيد القديمة، ويُلْقَى علم التوحيد إلقاء عمليًّا يوافق الزمان والبيئة، ويترك من علم الكلام الألوف من خرافات الفلسفة القديمة التي امتزجت به. 10- تدريس الدين الإسلامي وبقية الأديان: وذلك بتدريس المقايسات بين أصول الدين الإسلامي وقواعده وأصول باقي الأديان وقواعدها. 11- تعليم طرق الدفاع عن الدين الإسلامي قولاً وكتابةً وأصول المباحثة فيه. 12- تعليم أصول التدريس والتعليم، وعلم تربية الأطفال بطريقة نظرية وعملية. 13- تدريس الحكمة والفلسفة على الطريقة الجديدة. 14- تدريس علم الأخلاق نظريًّا وعمليًّا. 15- تدريس علم الروح. 16- تدريس التاريخ العام. 17- تدريس أصول الإنشاء بالتركي والعربي. 18- إيضاح تشبث المسيحيين ولا سِيَّمَا البروتستانت بنشر دينهم وأساليبه. 19- تعليم إلقاء المواعظ والنصائح وأصول الخطابة على الطراز الجديد.

رحلة صاحب المنار في سوريا ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة صاحب المنار في سوريا (2) (القلمون) مكثت في طرابلس أسبوعًا، زارني في أثنائه أكثر أهل القلمون وأخذوا يستعجلونني بالخروج إليها، فلما كان يوم الموعد الذي ضربته لهم انقسم أهلها شطرين: أحدهما جاء طرابلس لأجل أن يكون معي، وأكثر أفراده من الشبان والكهول؛ والآخر خرج لاستقبالنا مسافة ربع الطريق وثلثه ونصفه بين القلمون وطرابلس، وأكثره من الشيوخ والنساء والأطفال، والمسافة كلها ساعة ونصف. كان عدد كثير من الشبان يحملون السلاح فطفقوا منذ خرجنا من طرابلس يطلقون بنادقهم ومسدساتهم في الهواء، فرغبت إليهم أن يكفوا عن ذلك فامتثلوا، حتى إذا ما وصلنا إلى الموضع المعروف بأبي حلقة ألفينا فيه نفرًا من شبان طرابلس فحيونا بإطلاق البارود والرصاص في الهواء فأجابهم من معنا بمثل تحيتهم، بل بأحسن منها، فلم أنكر عليهم ذلك لعلمي بأن العرف يقضي بتسجيل العار عليهم إذا لم يفعلوا. وكذلك فعلوا عندما أشرفوا من رابية (ظهر الرويسات) على القلمون، لإيذان من بقي فيها بقدومنا، وعندما وصلنا إلى دارنا أيضًا، لأنه من قبيل سلام المفارقة. وقد ذكرت هذا لأنه من العادات التي لم أكن أعرفها من قبل، وسيأتي ذكر شيء آخر في معناه. وكان من حفاوة أهل القلمون بي أن حمل بعض نسائها مجامر العود الهندي وغيره من البخور أمامي من طرابلس إلى القلمون، وكان فيمن خرج للقاء ممن بقي فيها من يحمل المجامر أيضًا. وقد راعني وأثر في نفسي رؤية الأولاد الصغار من بنين وبنات في الخامسة والسادسة فيما فوق يتعسفون الطريق ويتسلقون الروابي بين الأشواك والحجارة، تبعوا في ذلك آباءهم وأمهاتهم وإخوتهم، وكان النساء يغنين ويزغردن، ولهن في ذلك أغاني مناسبة للمقام، وهذه العادة قديمة عند نساء البادية والقرى والبلاد التي لم يتسع نطاق الحضارة فيها. وقد ورد في هذا الباب أن النساء استقبلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قدومه إلى المدينة وهن يضربن بالدفوف وينشدن الأناشيد، ومنها قولهن: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع وكان فيمن خرج للقائنا مسافة نصف ساعة شيوخ وعجائز في عشر التسعين وعشر المائة من السن، وهم صائمون وصحتهم جيدة، بل مشى إلى طرابلس أكثر من واحد من هؤلاء المعمرين. وأهل القلمون يعمرون لاعتدالهم في معيشتهم ورياضتهم الدائمة بالعمل في الأرض مع جودة الهواء والماء، فالخمر لا تدخل القلمون ولا يشربها أحد من أهلها، والفاحشة غير معروفة فيها ولله الحمد والمنة، وهاتان الكبيرتان هما أفتك بصحة الناس من كل ما يأتيه الناس. سألت رجلاً من هؤلاء الشيوخ (هو الحاج علي طوط) عن سنه فقال: أربع وتسعون سنة. وهو يواظب على صلاة الفجر في المسجد غلسًا وربما يجيئه قبل طلوع الفجر حتى في أوقات المطر والبرد، كهذه الأيام. ويمشي عدة ساعات في النهار وهو صائم. وسألت رجلاً آخر (هو السيد عبد القادر علي) عن سنه فقال: لا أدري ولكنه ذكر لي حكايات منها أنه كان ملاحًا في البحر فجاءه مرة علي طوط ليعمل معه عمل البحر فلم يقبله لأنه صغير لا يستطيع أن يحرك المجداف. فالظاهر من هذا أنه يكبره بزهاء خمس عشرة سنة، فهو قد ناهز العشرة الأولى بعد المائة أو جاوزها ولا يزال يصوم ويعمل في أرضه بالعزق وشيبه غير تام. فليعتبر بهذا بعض الشبان والكهول المتفرنجين في مصر وغيرها الذين يزين لهم الترف والتهاون بالدين ترك الصيام محافظة على الصحة! ! ولو عقلوا لعلموا أن البطنة هي التي تفسد عليهم صحتهم حتى أن أكثرهم ليتناول الأدوية والعقاقير والمياه المعدنية لأجل إصلاح المعدة والمعَى وتسهيل الهضم وهم في سن الشباب فماذا تراهم يفعلون إن شاخوا؟ على أنه قلما يشيخ منهم أحد! ومما يفيد ذكره في هذا الباب: باب الاعتبار بحال الناس في الدين أن أهل القلمون كانوا بهدي بيتنا أبعد مسلمي بلادنا عن البدع، كما أنهم أبعدهم عن المعاصي. ولما انتهى دور الإرشاد فيهم إليَّ رأيت عندهم من البدع أنهم يوقدون السرج والشموع عند قبرين، أحدهما قبر السيد محمد القصيباتي الحسني، المشهور في المقبرة القديمة، وهو أحد أجدادهم وأجدادنا من جهة الأمهات؛ وثانيهما قبر بني حديثًا عند عليقة على شاطئ البحر، وكانوا يربطون بهذه العليقة خرقًا صغيرة يقتطعونها من ثيابهم الخلقة يسمونها آثارًا لأجل شفاء المرضى، وكل من هذا وذاك معروف في جميع البلاد. فما زلت أنهاهم وأعظهم حتى تركوا البدعتين، نساء ورجالاً، وصار من يزور القبور منهم يكتفي بالسلام على الموتى والدعاء لهم والتفكر في الموت والآخرة، كما هو المأثور. وكان أكثر النساء من غير أسرتنا تاركات للصلاة وجاهلات بأحكامها وأحكام الطهارة وآداب الزوجية، فجعلت لهن مكانًا أعظهن وأعلمهن به كما أعلم الرجال في المسجد، فصلحت حالهن في زمن قريب، وكن أسرع امتثالاً من الرجال. وكذلك كان يوجد رجال يتركون الصلاة ولا يحضرون الدرس في المسجد، فكنت أختلف إليهم في بيوتهم، وأذكر أنه استعصى واحد من البلداء الخاملين فأمرت الشبان فسحبوه سحبًا، ولكنه لم يواظب وأعيانا أمره فاكتفيت منه بوعد مكذوب. وكان فيها رجال يسرقون الثمرات كثيرًا وغيرها من المتاع قليلاً، فندر ذلك ندورًا، كأن لم يكن شيئًا مذكورًا، وكان عمدتي في وعظهم وتعليمهم كتاب إحياء العلوم وكتاب الزواجر وشرح المنهاج، فصار فيهم متفقهون في دينهم يستحضرون ما لا يستحضره كثير من العلماء المدرسين، وكلهم من الفعلة والفلاحين والصيادين. على هذا تركت القلمون عندما سافرت إلى مصر، ولذلك قال أزهد الزاهدين، وبقية السلف الصالحين، العالم الأصولي السائح المعتبر الشيخ عبد الباقي الأفغاني، رحمه الله تعالى: لو بقي رشيد في بلده يعلم الناس ويرشدهم لكان خيرًا له من الذهاب إلى مصر، حيث لا يستطيع أن ينفع كما ينفع هنا. قال هذا عندما ذكر سفري له وهو لا يعلم أن قصدي بالسفر التصدي لإرشاد أعظم، وتعليم أعم وأشمل، ولما عدت إليها في هذه الأيام علمت أنه قد فتن كثير من أهلها فتركوا الصلاة، واتصل بعضهم بالذين اعتدوا على بيتنا من أشقياء طرابلس فأغراهم هؤلاء بقطع الأشجار وشهادة الزور وإضاعة الحقوق وكادوا يجذبونهم إلى الخمر والفحشاء والقيادة، أغروهم بالمال وغروهم بأنهم يحمونهم من الحكومة وإن سلبوا ونهبوا وضربوا وقتلوا، فسلسوا لهم وساعدوهم على نهب بيتنا، وتقطيع الأشجار من بعض بساتيننا وكرومنا، ونحمد الله أن كان هؤلاء المغرورون قليلين، وأن كان أكثر الأهالي لهم ولمضليهم من الكارهين، ونحمده أن جعل الشر أضعف من الخير. عدت إلى هؤلاء الناس وهم قومي الذين أغار عليهم ما لا أغار على سواهم، وكنت أظن أن ما لي من مثال الهداية والدين في نفوسهم قد صغر وتضاءل في هذه الفترة، فإذا هو قد كبر وعظم حتى صار خياليًّا مقرونًا بشيء من الخرافات، فقد كان الرجال والنساء والأطفال يفدون على دارنا ليلاً ونهارًا ومعهم الضعفاء والمرضى والمخدجون يلتمسون الشفاء مني باللمس والرقي وكتابة النشرات وما يعبرون عنه بالحرز والحجاب، على أن في رجالهم من يعرف رأيي في ذلك، فكنت أتلطف في بيان الحق لهم بقدر ما يسمح به المقام ويليق بحال المخاطب، وأحثهم على المداراة الصحية والتداوي ومراجعة الأطباء عند الحاجة، وقد سبق للمنار البحث في هذه المسائل والجمع بين الأحاديث الواردة في الرقي، كحديث إقرار الذين رقوا الملدوغ بسورة الفاتحة، وحديث وصف الذين يدخلون الجنة بغير حساب بأنهم لا يسترقون، على أن إقناع النساء بلباب الحق في هذه المسائل عسير، ولا يتم ولو مع الإرشاد في زمن قصير، ونسأل الله تعالى أن لا يجعلنا فتنة لأنفسنا، ولا لمن يحسن الظن بنا. قلت مرة لعبد الرحمن أفندي الكواكبي - رحمه الله - لو تيسر لنا أن نجعل بعض محبي الإصلاح المعتصمين بالكتاب والسنة شيوخًا للطريق لأمكن لنا بذلك هداية العامة بسهولة، ولكن هؤلاء المصلحين قليلون ولا يكاد أحد منهم يرضى بأن يكون شيخًا لطريقة من الطرق. فقال: إننا قد جربنا ما ذكرت فأقنعنا رجلاً من الصالحين المستنيرين في حلب بأن يكون من شيوخ الطريق فيرجع العامة عن بدعهم وخرافاتهم ويهديهم إلى طريق الدين السوي، فقبل بعد إباء ونفور، فلما رأى إقبال العامة عليه واعتقادهم صلاحه وبركته فتن بذلك وجاراهم في اعتقادهم، فكانوا سببًا لضلاله بدلاً من أن يكون سببًا لهدايتهم، وخسرناه خسارة لا مطمع في رجوعها راجع تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا} (البقرة: 165) الآيات في الجزء الثاني من تفسير القرآن الحكيم أو في المنار. عقدت في القلمون عدة مجالس للوعظ والتذكير قلّ مَنْ تخلف عنها من حاضري القرية، فتاب الناس توبة يغلب على ظني أن أكثرهم صادق فيها، ولا أخشى من الإصرار على الفساد إلا على نفر قليل من الموالين لبعض الأشقياء الغرباء الذين أشرت إليهم فيما سبق من القول. وقد ألفت لهم جمعية عنوانها قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) وجعلت لها صلة بجمعية التعاون التي سعيت بتأسيسها في طرابلس. * * * (دده وسائر الكورة) بدأت الوفود تفد من الكورة على القلمون للسلام علينا منذ اليوم الثاني من وصولنا إليها كرئيس دير البلمند ووجهاء البلاد من المسلمين والنصارى، وقد نزل معظم أهل (دده) - وهي على قمة الجبل بإزاء القلمون على الساحل - بعد العشاء وهم يطلقون البارود من بنادقهم والرصاص من مسدساتهم ويهزجون بالأغاني فتلقاهم شبان القلمون في خارجها وأدخلوهم باحتفال يناسب ما هم فيه، وقد قيل لي: إن من الرسوم المعتادة في ذلك أنه لو لم يخرج شبان القلمون للقائهم لما دخلوها، لأن ذلك يعد من الإهانة في عرفهم. وعند وصولهم إلى دارنا تحلقوا أمامها وطفقوا يهزجون ويطلقون العيارات النارية إلى قريب من نصف الليل ثم انصرفوا مشيعين مشكورين، وكان زعيمهم في هذا الاحتفال الأمير علي عبد الرحمن الأيوبي. وجميع الأناشيد التي هزجوا بها مناسبة لمقتضى الحال، ولعل أكثرها ارتجالي، فإنه في الترحيب بالقادم (صاحب هذه المجلة) وفيها إطراء له بالأعمال السياسية والعلمية، وقد ذكر بعض القوالين المسلمين فيما أنشده عبارة معناها: لولاك يا فلان لما ارتفع شأن الإسلام، فأجابه رفيق له من النصارى بعبارة معناها أنه ليس لكم وحدكم وأنه قد طبع لنا الإنجيل، يعني بذلك إنجيل برنابا! ! وقد أضحكتني هذه العبارة وأضحكت كل من سمع بها من العارفين بإنجيل برنابا، فحبذا هذه السذاجة مع هذا الاتفاق بين المسلمين والنصارى الذي حمدت عليه أهل ددَّه حمدًا جميلاً. (للرحلة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان أيها الأعيان والنواب: بسبب الصعاب التي قامت في وجه إنفاذ الدستور الذي وضعته موضع الإجراء عند ارتقائي العرش أوقف هذا القانون يومئذ الاضطرار الذي أشار إليه كبار الحكومة. وأُجِّلَ إنفاذ القانون وأرجئ عقد المجلس إلى وقت يصل فيه الشعب إلى الدرجة المرومة من التقدم بواسطة نشر التعليم العام، وقفت عنايتي على إيجاد الرقي في جميع أنحاء بلادي، وبفضل نشر التعليم العام ارتقت درجة إفهام جميع طبقات شعبنا وبناءً على الرغبة التي أعلنت ولأن هذه الرغبة تضمن في الحاضر والمستقبل خير بلادنا لم نتردد - رغم الذين كانوا على رأي مخالف - في إعلان الدستور ثانية، وأمرنا بإجراء انتخابات جديدة. ودعونا مجلس المبعوثان للاجتماع، وعلى أثر تغيير طريقة الحكم الإداري أسندنا منصب الصدارة العظمى إلى كامل باشا. وبينا كان مجلس النظار المؤلف تحت رياسته عاكفًا على تنظيم الحكومة الدستورية خرج أمير بلغاريا ووالي الرومللي الشرقية عن حدود الأمانة لسلطنتنا لسبب ما وأعلن استقلال بلغاريا وعلى أثر هذا العمل أخذت النمسا وهنغاريا أيضًا بضم البوسنة والهرسك اللتين سلم إليها احتلالهما وقتيًّا بمعاهدة برلين. فأبلغت إقرارها إلى الباب العالي وإلى الدول. فهذان الحادثان العظيمان اللذان يخترقان حرمة المعاهدات ويمسان الصلات، سَبَّبَا لنا أسفًا عظيمًا. وعلى أثر اختراق حرمة المعاهدات سلمنا مجلس نظارنا مهمة عمل الواجب للدفاع عن حقوق حكومتنا. وإنا نود في كل حال معاونة مجلس المبعوثان. وبما أن صلاتنا مع جميع الدول حسنة ووثيقة. فلنا الأمل أنه مع معاونة الدول صديقاتنا تحل المسائل السياسية. وإنا نود من صميم الفؤاد تنظيم المالية، وتسوية موازنة الميزانية، ومواصلة تحسين حالة سلطنتنا وزيادة عدد المدارس لزيادة نشر التعليم العام، وإبلاغ جيشنا وبَحْرِّيتنا درجة الكمال. وكذلك تنظيم الدوائر المختلفة التي وضعت مشروعات قوانين شتّى ستعرض على مجلس المبعوثان ومجلس الأعيان لإقرارها. وعلى أمل أن مبعوثاننا سيبذلون كل جهدهم في هذه السبيل نعلن اليوم إذًا فتح مجلس المبعوثان. ومنتهى متمنانا سعادة الأمة ونجاحها وأقصى رغبتنا وآكدها وعزيمتنا الثابتة التي لا تتغير أن تكون إدارة البلاد مطابقة للدستور. نسأل الله أن يحصر مجلس المبعوثان كل قواه في خدمة البلاد وخيرها. (المنار) بعد أن تلا رئيس كتاب المابين هذا الخطاب نطق السلطان بهذه الجملة بصوت خافت (إنني كثير السرور برؤيتكم مجتمعين أمامي هنا، وأسأل الله أن يكلل أعمالنا بالنجاح والتوفيق) ولقد كان للخطبة وقع سيئ في الآستانة وانتقدتها الصحف ثمة انتقادًا شديدًا.

خطب ودروس صاحب المنار في هذه الديار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطب ودروس صاحب المنار في هذه الديار [*] إن لي في هذه الدنيا وطنين: وطن النشأة والتربية، وهو سورية، فإنني نشأت في قرية القلمون، المجاورة لطرابلس الشام في ساحل الكورة من لبنان، وتعلمت في طرابلس. ووطن العمل، وهو مصر، التي أقمت فيها إحدى عشرة سنة، أدعو إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي، وأقرأ الدروس وأعمل في بعض الجمعيات. ولما أقر الله عيوننا معشر العثمانيين بالحكومة الدستورية اشتقت إلى زيارة وطني الأول، لرؤية الأهل والأصدقاء ولاختبار حال البلاد بعد أن اشتدت عليها وطأة الاستبداد، ومساعدة محبي الإصلاح والترقي في التنبيه لما يجب أن تتوجه إليه الهمم. زرت بيروت وطرابلس والقلمون ثم عدت إلى بيروت ومنها ذهبت إلى دمشق الشام فبعلبك فحمص فطرابلس. وقد ألقيت في أكثر هذه البلاد خطبًا ودروسًا، وجرى لي مع أهل الفهم والظهور فيها محاورات كثيرة فوقفت على ما أحببت الوقوف عليه. أما المقاصد التي كان يدور عليها كلامي فهي محصورة فيما يأتي: (1) وجوب الجمع بين هداية الدين والعلوم العصرية التي عليها مدار ثروة الأمة وعزة الدولة، مع بيان عدم التنافي والتعارض بين دين الإسلام وهذه العلوم من رياضية وطبيعية واقتصادية. (2) الاعتماد في هداية الدين على اتباع سيرة السلف الصالح من الصحابة الكرام والتابعين لهم ومن سار على طريقهم، وما طريقهم إلا الاهتداء بالكتاب العزيز والسنة السَّنِيَّة، وقد فصلت ذلك في الخطب والدروس بمطالبة العلماء بأن يعلموا الناس دينهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم المؤمنين به، فهديه أفضل الهدي وطريقه أقصد الطرق. وبينت ذلك في أسس الدين الثلاثة، العقائد والآداب والأعمال. (3) أما العقائد فبينت أن الاعتماد على كتب الكلام في تلقينها للعوامّ لا يأتي بالفائدة المطلوبة، وربما يضرهم ويوقعهم في شكوك وشبهات لا يجدون منها مخرجًا، ذلك بأنها لم تؤلف إلا لحماية العقيدة من شبهات الفلاسفة والمبتدعة كما بيَّنه حجة الإسلام الغزالي في كتاب (إِلْجَام العوام عن علم الكلام) وفي غيره من كتبه، وإنما يجب اتباع طريقة القرآن في تلقين المسلمين عقائدهم بالاستدلال عليها ببديع صنع الله في خلق السماوات والأرض وما فيها من البحار والأنهار والجبال والحيوان والنبات. (4) وأما الآداب والأخلاق فيعتمد في تعليمها على الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الناهية عن الفواحش والمنكرات، الآمرة بالمعروف والباقيات الصالحات، المنبهة على ما فيها من فوائد الخير ومنافعه في الدنيا والآخرة، وغوائل الشر ومضارّه في الدنيا والآخرة - وعلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن اهتدى بهديهم من الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين. (5) وأما الأعمال، كالوضوء والتيمم والصلاة والحج، فقد بينت أنه ينبغي أن تعلم بالعمل كما ورد في الأحاديث الصحيحة، ومنها حديث (صلوا كما رأيتموني أصلي) , وإذا قرأ الإنسان جميع الكتب ولم يتلق الأمور العملية بالقدوة فإنه لا يحسنها على أن الأقوال لا يستغنَى عنها في كثير من المسائل. ذكرت في عدة دروس وخطب أن هذه الطريقة هي التي يمكن تعميمها في مدة قليلة ترجى فائدتها ويظهر أثرها , وأنه من استطاع أن يعلم الناس كلهم أو بعضهم ما زاد على ذلك من كتب الكلام والفقه وغيرها فليفعل فالطريقة التي تقترحها لا تكون مانعة له بل تكون مسهلة عليه , ولكني أرى أن من المتعذر تعميم تعليم هذه الكتب فلنبدأ بالممكن الأسهل طريقًا الذي لا بد منه لكل مسلم. (6) الحث على تأسيس الجمعيات الخيرية لإنشاء المدارس ونشر التعليم الذي يتحقق به المقصد الأول من هذه المقاصد , وهو الجمع بين الدين والعلوم ولإعانة المنكوبين والمعوزين عند الحاجة لتكون طبقات الأمة متعاطفة متراحمة يحترم فقيرها غنيها ويرحم كبيرها صغيرها. (7) الحث على شكر نعمة الدستور بمساعدة جمعية الاتحاد والترقي على إتمام عملها العظيم في داخل البلاد من مراقبة الحكومة لأجل الثقة بالعدل وحسن الإدارة، ومن بث الآراء والأفكار التي تنفخ روح محبة الدستور والمحافظة عليه في قلوب طبقات الأمة العثمانية. وقد خطبت وتكلمت في الاستبداد والدستور والمساواة أكثر من مرة. (8) تنبيه الأمة إلى ما يجب عليها من محبة الدولة العلية وبذل المستطاع في تأييدها وتعزيز جانبها. وموالاة الدول التي تواليها ومعاداة الدول التي تعاديها ومجازاة هذه الدول بالإقبال على بضائعها أو بالإعراض عنها حتى تصير الدول تخشى عداوتنا وترجو مودّتنا، فإنه لا شيء يهم أوربا من بلادنا مثل رواج تجارتها فيها. ولما جاءنا نبأ ضم النمسا ولاية البوسنة والهرسك إلى أملاكها وإعلان البلغار الاستقلال التام دون الدولة العلية , وتحدث الناس باحتمال محاربة الدولة للبلغار وأظهر كثير من الشبان التطوع في الحرب بينت في خطاب ألقيته في نادي جمعية الاتحاد والترقي بطرابلس وفي خطبة ألقيتها أمام الثكنة العسكرية في بيروت أن الدولة إنما تحتاج إلى مساعدة الأمة بالمال دون تطوع الرجال؛ لأن ما عندها من العسكر كاف لمحاربة أية دولة عظيمة إذا وجد المال الكافي لتجهيزه. ثم رأيت بعد أسابيع من آخر خطبة ألقيتها في ذلك بعض الجرائد المصرية تقول مثل هذا القول الواضح لكل عارف بالحقيقة. (9) بيان التفاوت بين الشعوب والملل في البلاد العثمانية في العلوم والمعارف والاستعداد للقيام بأعمال الحكومة والكسب والاستطراد من ذلك إلى أن العرب أشد تقصيرًا في ذلك من الترك والأرمن والأرناؤوط , كما أن المسلمين من العرب أشد تقصيرًا من النصارى، ولَفتُّ الأذهان إلى مضرّة هذا التفاوت إذا طال أمره؛ لأن الوحدة العثمانية لا تتحقق إلا باتفاق جميع الشعوب والفِرَق التي تتكون منها الأمة العثمانية واشتراكها في الأعمال التي تصلح بها الدولة وتعمر بلادها، وهذا الاتفاق والالتئام من نتائج التقارب في التربية والتعليم، فلا بد من عناية العرب عامّة والمسلمين منهم خاصّة بالتربية والتعليم؛ بقصد مجاراة غيرهم من إخوانهم العثمانيين , وتمكين رابطة الاتحاد بهم ومساواتهم في أعمال الحكومة ومجاراتهم في الأعمال الحرة , وإلا ساءت العاقبة وخيف أن تساعد أوربا في المستقبل كل جنس على الاستقلال , وتجعل العرب تحت سيطرتها لعدم استعدادهم لتكوين حكومة مدنية. (10) تكريم الشعب وتنبيهه إلى أنه أهل لكل مكرمة وكل خير، وإن العامي إذا اتقى الله فاجتنب الشرور والمعاصي ولزم الطاعة ورغب في الخير والبر فإنه يكون خيرًا وأفضل من كثير من المتعلمين الذين لا يستعملون علمهم إلا لجر المنافع إلى أنفسهم ولو بالباطل، وإن الفقير القانع الصالح أفضل من الغني الذي لا ينفع الأمة بغناه، ولا يقف في الكسب عند حدود الله، وإن كثيرًا من الفقراء يمكنهم أن يبذلوا شيئًا قليلاً من الصدقة، على قدر حالهم، للجمعيات الخيرية وبذلك يُعدُّون من خَدَمَة الأمة ونحو ذلك. هذه هي المقاصد التي كان يدور عليها كلامي وكان يفهمها المتعلم والعامي: هذا يفهم فهمًا إجماليًّا، وذلك يفهم فهمًا تفصيليًّا، وقد رضيها وأثنى عليها جميع من لقيت من العلماء والأدباء وظهر لها أثر حسن في الدهماء، لما عليه أهل بلادنا من الذكاء، وقد سألت أكثر من واحد من أهل العلم الذين سمعوا الخطب والدروس الدينية التي كنت ألقيها في المساجد: هل انتقدتم عليَّ شيئًا فأتقي العود إلى مثله؟ فيقولون ما يقول أهل الفضل في هذا المقام إذا كان ما سمعوا مستحسنًا عندهم غير منتقد، ذكرت هذه الكلمة تمهيدًا لما يأتي. (حادثة الشام) ذكرت جريدة الاتحاد العثماني خبر تلك الحادثة، ولم تخطئ إلا في قولها: إنني سافرت من الشام ليلاً، والصواب: أنني صليت الفجر فيها وسافرت في القطار الذي يخرج منها بعد مطلع الشمس. وقد علم القراء أن ذلك الرجل الذي قطع علي الدرس قبل إتمامه لم يَدَّعِ في مجلس الدرس أنني قلت شيئًا وأخطأت فيه , وإنما تكلم كلامًا مستقلاًّ في مسألتين , لم أتعرض لهما في ذلك الدرس ولا في غيره من دروسي في بر الشام بإثبات ولا نفي، وهما مسألة تقليد الأئمة الأربعة واعتقاد فضلهم وهدايتهم، ومسألة زيارة القبور واحترام الصالحين والتوسل بهم. وقد كان صاحب الفضيلة مفتي الشام حاضرًا ذلك المجلس، فإياه أسأل دون أولئك الألوف التي كانت حاضرة الدرس: هل سمع مني كلمة مخالفة للشرع؟ إن كان سمع شيئًا مخالفًا فأُذكِّره بالميثاق الذي أخذه الله على الذين أوتوا الكتاب (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) أن يبين لي ذلك في كتاب خاص يبعث به إليّ، وأنا أنشره في المنار , وغيره مع بيان ما عندي فيه، أو في رسالة ينشرها في بعض الصحف ليظهر الحق لطالبه , ولا يخوض الناس في الباطل بغير علم. وسأكتب إليه كتابًا خاصًّا أسأله فيه هذا البيان، وهو أعلم بما ورد في الكتاب العزيز والأحاديث الشريفة في وعيد كاتمي العلم. (كشف شبهتين أو ثلاث) إذا كنت لم أتعرض لذكر زيارة القبور والتوسل بالأموات الصالحين في شيء من كلامي في بلاد الشام، فقد اشتهر عني أنني كتبت كثيرًا في إنكار البدع المتعلقة بذلك. وإذا لم أكن قد تعرضت هنا لذكر الاجتهاد والتقليد فقد علم الكثيرون أنني كتبت بذلك كثيرًا. وكنت أعرض كل ما أكتبه ولا أزال أعرضه لنقد العلماء وأنشر كل ما يرد علي منهم في ذلك، ولا تتسع هذه الجريدة لذكر شيء من ذلك، وإنما أريد هنا كشف شبهتين خاض فيهما بعض الناس بسوء نية، وبعضهم بإخلاص وحسن قصد، ولكن مع سوء فهم أو تصديق للكاذبين الذين يشيعون عنا الأباطيل حتى زعموا أننا ننكر وجود الملائكة وجودًا مستقلاًّ. الأولى: أشيع عني أنني أطالب كل مسلم بأن يكون مجتهدًا مثل الأئمة رضوان الله عليهم! وربما تطرف من يستبيح الكذب لإرضاء هواه، فزعم أنني أطعن في الأئمة المجتهدين! وأقول في الجواب عن هذه الشبهة: إنه لا يطالب الناس بمثل ما ذكر إلا من كان لا يعقل أن هذا من طلب المحال، لقصور استعداد أكثر الناس عن ذلك أو عدم تفرغهم له. ومن فهم أنني أعني هذا بالترغيب في الاهتداء بالكتاب والسنة فهو مخطئ، فإنما أعني به أن وعظ الناس وتذكيرهم بالكتاب والسنة هو الذي يؤثر في قلوبهم ويبعث روح الدين في نفوسهم، وأطالب المشتغلين بالعلم أن يعنوا بفهمهما ويذكروا العامة بهما، سواء منهم من تفرغ لدرس كتب المذاهب، كبعض طلاب العلم ومن لم يتفرغ له كأكثر العامة. ومسألة النهي عن التقليد مسألة أخرى يراد بها فهم كل قول بدليله لا أن يكون كل مشتغل بالعلم قادرًا على تدوين مذهب! ! وهذا ما أعنيه بالإصلاح الديني وملخصه أن يُعْنَى المشتغلون بعلم الدين بفهم الكتاب والسنة بقدر الاستطاعة وفهم كلام الأئمة بدليله، وأن يبذلوا جهدهم بإرشاد العامة بهما كما تقدم. وهذا هو عين اتباع الأئمة، وقد ورد عنهم نصوص كثيرة مصرحة به، وهو غير التقليد الذي نهوا عنه. الثانية: إنني لم أنكر زيارة القبور، وإنما أنكر دائمًا ما يكون عند زيارتها من البدع التي لم تكن على عهد السلف الصالحين، ولم يقل بمشروعيتها أحد من الأئمة المجتهدين، وأقول: إن حب الصالحين والأولياء المقربين من الأحياء والميتين إنما ينفع ويكون وسيلة إلى الله عز وجل إذا أفاد صاحبه التشبه بهم في خشية الله وتقواه بترك المعاصي والعمل الصالح مع الإيمان

من بحث الكرامات

الكاتب: محمد المكي بن عزوز

_ من بحث الكرامات إلى حضرة البارع الغيور أبي عبد الله الشيخ محمد رشيد رضا، صاحب المنار، أيده الله وسدد مسعاه. السلام عليكم، وبعد. فقد طالما تشوقنا إلى مناسبة المراسلة وارتباط المواصلة حتى حان وقتها بمناسبة ما كتبتموه في جريدة الاتحاد العثماني من إجمال رحلتكم إلى سورية، فنهنئكم بتعاهدكم للوطن الأول واكتسابكم علمًا بأحوال ما كان غائبًا عنكم واطلعنا على مقاصد دروسكم وخطبكم الدالة على غزارة علم وجودة براعة وحسن إحساس وشعور من تنبيهكم للتعاون على البر والتقوى والتعاضد ماديًّا وأدبيًّا، والسعي في عمارة الدارين، وحضكم العلماء والمفيدين أن يكون وعظهم وتعليمهم مؤسسًا على الكتاب وما صح من السنة فقهًا وعقائد وآدابًا، فلقد وفيتم ما عليكم من مسئولية قوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ} (آل عمران: 104) الآية، وقد أبلغتم تلك النصائح بالحكمة والموعظة الحسنة، فصنعكم هذا لا ينكره عالم يتحرى السنة والجماعة، ولا يستثقله إلا جاهل أو حاسد، فنشكركم على تلك الهمة والحزم السديد. بقي بحث الكرامات، ذكرتم أنكم لم تتعرضوا له في الشام، وقد تعرضتم له الآن، أما ما أحلتم عليه في مجلدات المنار، فمع الأسف إنني إلى الآن ما رأيت من المنار عددًا، للسبب الذي كان حائلاً في الأستانة، كما لا يخفى، ولكن النقطة المقصودة هنا من بحث الكرامات جلية من الإجمال المسطور في الاتحاد العثماني، وقد أكدتم على أهل العلم أن يكتبوا لكم ما ظهر لهم، فإنكم طوقتم أعناقهم أمانة شديدة المسئولية، فيكون السكوت منهم وفاقًا في جميع ما هو مسطور هناك، فاخترت مكاتبتكم بما عنَّ لي، والمأمول من كمالكم الإنصاف والرجوع إلى الحق الذي يتبين لكم فنقول: قولكم في الكرامة: (إنها لا تكون مخالفة لسنن الله تعالى في خلقه بتغيير أو تبديل أو تحويل؛ لأن الله تعالى أخبر بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول) هذا لفظكم تعنون قوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) {َلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (الإسراء: 77) تفسير هذه الآية ونحوها بعدم خرق العادة , وعدم انحراف سبيل الطبيعة في الكون موجب للأسف، وقد سمعت الاحتجاج بها مرارًا على لسان من يدَّعِي انحصار حوادث الكون في الأسباب انحصارًا كليًّا، ورأيته في كتب جديدة عربية وتركية، ولا أدري أول من دسَّ هذا البلاء تحت هذه الآية الكريمة، فهو دفع للمعجزات النبوية بالصدر، لأنها محض خرق العادة وما هو إلا تبديل وتحويل لما هو معتاد في النظام الكوني، وليس لأحد أن يفرق بين المعجزة والكرامة في أصل التبديل والتحويل؛ لأنه لا دليل على تخصيص عدم التبديل والتحويل بزمان دون زمان، فالمراد بسنة الله في الآية نصره لأنبيائه ومَنْ قفاهم، وخذلانه لأعدائه ومن والاهم، ونحو ذلك من إحقاق الحق وإبطال الباطل. قال المحقق، مجدد القرن الثاني عشر، الإمام الشوكاني في تفسير فتح القدير تحت هذه الآية ما نصه: (فهل ينظرون - أي فهل ينتظرون - إلا سنة الأولين، أي سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء العذاب كما نزل بأولئك، فلن تجد لسنة الله تبديلاً، أي لا يقدر أحد أن يبدل سنة الله التي سنها بالأمم المكذبة من إنزال عذابه بهم بأن يضع موضعه غيره بدلاً منه، ولن تجد لسنة الله تحويلاً بأن يحول ما جرت به سنة الله من العذاب فيدفعه عنهم ويضعه على غيرهم، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما، ثم قال: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ. هذه الجملة مسوقة لتقرير معنى ما قبلها وتأكيده) . ومثل الشوكاني سائر المفسرين من أئمة الدين، ولا يقال هنا العبرة بعموم اللفظ؛ لأن المعنى الذي زعموا تناول اللفظ إياه مناقض لأكثر آيات القرآن التي قصت وقائع الأنبياء وغيرها من عجائب قدرة الله، كنار إبراهيم وعصا موسى وخلق الله عيسى بلا أب وواقعة أصحاب الفيل وغير ذلك، ولنا أن نقول نزوعًا بالآية اعتبارًا بعموم اللفظ عمومًا لا ينقض آية أخرى: من سنة الله أن يخلق أشياء بأسباب لحكمة وأشياء بلا أسباب لحكمة , ولن تجد لسنة الله تبديلاً. وأعجبني ما كتبه صاحب الحمية الإسلامية مفتي الديار المصرية في كتابه المسمى (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) بعد إشارته إلى حديث (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) قال في صحيفة 138: ومن اتبع سنن قوم استحق الوقوع تحت أحكام سنن الله فيهم، فهل ينتظر المتبعون سننهم السائرون على أثرهم أن يصنع الله بهم غير الذي صنع بسابقيهم، وقد قضى بأن تلك سنته ولن تجد لسنة الله تبديلاً. اهـ فإن كان مرادكم سد الذريعة خوف توسيع الخرق على الراقع من جهة العامة، فسد الذريعة من أصول الشريعة، لكن مع السلامة من مفسدة أكبر من تلك، وخوفكم على العامة بهذه المثابة إفراط، فإنه لا تلازُم بين جواز وقوع الكرامة خرقًا للعادة بإذن الله وجواز ما يعمل من البدع في زيارة الأولياء والغلو في الاعتقاد. وأنتم تعلمون أن الكرامة ثابتة عند أهل السنة قاطبة حتى الإسفرايني والقشيري المرويّ عنهما البحث في شأن الكرامة ما أنكراها، وإنما قالا: لا تبلغ مبلغ المعجزة، وبعضهم شرط أن لا تتوالى وتترادف ترادفًا يجعلها عادةً، وفيه نظر. وكلامنا الآن في جواز أصل وقوعها إمكانًا وسنة، لا في عوارضها، وإرشاداتكم على طريقة السلف الصالحين في الاعتقاد، وهل نطق بذلك أحد من أهل القرون الثلاثة؟ فتأملوا المسألة فإن خطرها كبير والمادّيّون والطبيعيون بالمرصاد، فإذا سمعوا علماء المِلِّة يقولون بعدم خرق العادة فيا بشراهم يبنون على هذا الأساس الموهوم ما شاءوا؛ لأن مذهبهم انعزال الخالق جل جلاله عن التصرف في العالم استغناء بالطبيعة، أعاذنا الله وإياكم من الضلال، وبالله تعالى التوفيق. ... ... ... ... ... ... ... محمد المكي بن عزوز بالآستانة (المنار) إننا لا نقول بأن ما يعبر عنه بخوارق العادات غير جائز ولا غير واقع، بل نقول الآن كما قلنا من قبل: إنه جائز وواقع , وإن كانت الآيات التي أيد الله بها الأنبياء ليست محصورةً في الخوارق الكونية، وقد كانت عبارة الكرامات التي ذكرناها في المقالة التي نشرناها في جريدة الاتحاد العثماني مجملة؛ لأننا كتبناها بعد كتابة تلك المقالة فأودعناها بين سطورها في المكان اللائق بها ثم جعلناها ذيلاً لها، فكان إيجازها هو السبب في إجمالها، ولم نَرَ بذلك بأسًا؛ لأننا أحلنا على ما سبق لنا من التفصيل الذي يبين مرادنا. وفي تلك المقالات التي نشرت في المجلد الثاني والمجلد السادس بيان مستفيض لكل ما ألَمَّ به صاحب هذه الرسالة، ومنه البحث في تأييد الدين بالخوارق، وفي عَدّ كثير من علماء الدنيا إياها شبهات على الدين ومنفرات عنه، فعسى أن يطلع عليها كلها ثم يبين لنا رأيه فيها. وإننا ننقل الآن له شيئًا منها يتعلق بمرادنا من قولنا إن الكرامات لا تكون مغيرة لسنن الله تعالى. كتبنا في المقالة الثامنة من مقالات (الكرامات والخوارق) التي نشرناها في الجزء الأول من المجلد السادس الذي صدر في غرة المحرم سنة 1321 ما نصه (ص 17) . أما البحث في آيات الأنبياء , كيف وجدت , وهل كانت كلها بمحض قدرة الله تعالى التي قامت بها السماوات والأرض أم كانت لها سنن رُوحانية خفية عن الجمهور خصهم الله تعالى بها كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور؟ فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضارًّا. ومبلغ العلم فيها أنها كما قال ابن رشد: قد وجدت ونقلت نقلاً متواترًا اعترف به المؤمنون بهم والكافرون الذين سموها سحرًا؛ لجهلهم بالتفرقة بينها وبين تلك الشعوذات والحيل الباطلة. وفي شرح المواقف أن المعجزة كل ما يراد به إثبات النبوة , وإن لم يكن من الخوارق. (فعلم بهذا أن آيات الأنبياء عليهم السلام مصونة من إنكار المنكرين، واعتراض الواهمين، وأنها قد انتهت فلا يخشى أن يضر الاعتقاد بها في الزمن الحاضر وما بعده، كما أنه لم يضر في الماضي وإنما كان نافعًا) . اهـ من سياق الكلام في مبحث تنفير الخوارق عن الدين. وذكرنا في المقالة التاسعة التي نشرت في الجزء الثاني من ذلك المجلد (ص 55 م 6) عدة مسائل في الموضوع، الأولى منها في سنن الكون وكونها عامّة في ارتباط الأسباب والمسببات، والثانية في كون الظن لا يعارض اليقين، والثالثة في كون روايات الآحاد تفيد الظن، والرابعة في كون العجائب والخوارق قد نقلت عن جميع الأمم، ووجوب تمحيص النقول وتحريرها، والخامسة في تمحيص المروي (ليعلم أنه واقع حقيقة ولم يكن تخييلاً للأنظار، أو خداعًا للأبصار أو الأفكار) وهذا نص السادسة: قد كشف العلم أسبابًا لأمور كثيرة كانت تُسَمَّى خوارقَ وكراماتٍ، فإذا علم بعد تمحيص الرواية والمروي أن شيئًا من هذه الغرائب وقع لا محالة , فينبغي الرجوع لالتماس الأسباب من مظانِّها في العلم الطبيعي وعلم النفس، فإن لم يظهر له سبب يحمل عليه، ولا وجه يمكن أن يئول إليه، فهو الذي يصح أن يسمى خارقة أو أعجوبة، والنظر فيه من وجهين: حال من ظهر على يده، وإمكان قياسه على غيره ثم بَيَّنا ذلك والغرض منه - كما لا يخفى - تنبيه الناس لحيل الدجالين، وجذب مبغضي الخوارق إلى الدين، ولذلك قلنا في المسألة العاشرة (ص 59 م 6) ما نصه: (إذا فرضنا أن العلم أظهر لما يؤثر من المعجزات عللاً روحانية، وأسبابًا خفية) ؛ أي كما يعتقد منكرو الخوارق الآن، فلا يهمن واهم أن ذلك قدح في النبوة أو ظهور لبطلانها، كلا إن تحقق (تأمل) فلا يبعد أن يكون تحققه مظهرًا لحقية النبوة، كأن يتبين أن الأرواح العالية تتصل بالعالم الأعلى وتستمد من عالمه الذي يسمى الملائكة قوةَ العلم والهداية وقوة الأعمال الغريبة، كإحياء الموتى وقلب العصا حيةً. فإن لم يتبين به صدقها فلا وجه لظهور عدمه؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما كانوا يدعون أن الآيات التي يؤيدهم الله تعالى بها خارجة من سننه الظاهرة والخفية، وما كانوا يدعون أن لهم سلطانًا في ملك الله تعالى يتصرفون فيه بمشيئتهم وإرادتهم كما شاءوا وكيفما شاءوا، وإنما كانوا يتبرءون من حولهم وقوتهم ويسندون ما يؤيدهم الله سبحانه به إليه، ويقولون: إنه واقع بإذنه، وقد كان اعتمادهم في دعوتهم إلى الله على البرهان، وكانوا لا يُعْطَوْنَ الآيات إلا بعد معاندة ومجاحدة من قومهم وإلحاح في طلب آية لا يعرف مثلها عن البشر في أفعالهم السببية، وكان الله تعالى يقيم عليهم الحجة التي يطلبونها , ولم تكن هي العمدة في إثبات الدعوة إلى الله وبيان وحدانيته وقدرته وعلمه ووحيه {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوب

صدى حادثة الشام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صدى حادثة الشام جاءنا هذا الرقيم من أحد علماء تونس المصلحين، وقد سأَلَنا نشره في المنار وإننا ننشره إجابة لسؤله مع الشكر له ولأولئك الذين يحسنون بنا الظن، قال: أيها السيد الكريم: من ذا الذي يعلم خدمتك للملة، وجهادك في سبيل ترقية الأمة، ثم لا يسجد لله شكرًا على ما نجاك ممن أراد بك كيدا؟ فهنيئًا للعلم والحكمة، بما أسبغ الله عليهما من النعمة. ولقد رأيت المصطفين الأخيار، من نابتة هذه الديار، فرحين بما آتاهم الله من فضله وأفاض عليهم من طوله؛ إذ حفظ زعيم هذه الأمة، الداعي إلى سبيل ربه بالموعظة الحسنة والحكمة. وإني لأَذْكُر بهذه الحادثة ما كان للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أُحد من عمر بن قميئة، وأحب أن يذكر ذلك أسرى الأوهام (حيثما كانوا) ممن يرون هذه الحادثة أثرًا من آثار تحرج الدين عليك، وانتظاره الفرص للانتقام منك! كلا والله، إنك لمن أحب الناس إليه، وأكرمهم عليه، ولو تمثّل لهم بشرًا لرأوه يحمد الله حمدًا كثيرًا، ويشكره بكرة وأصيلا، على أن الحادثة - بفضل الله - لم تزد درجتك إلا ارتفاعًا، وصيتك إلا اشتهارًا؛ ولكنهم يفهمون الشرف مقلوبًا، والمجد معكوسًا. فيا لله والدين والإنسانية، وطلاب الإصلاح من نبغاء الجمعية البشرية، من هؤلاء الذين يَهْرِفون بما لا يعرفون، ويلقبون أنفسهم بالفهماء وهم لا يفهمون، ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون. وإنا نشكر للمنار الزاهر فضله في تبديد حزبهم، وتمزيق شملهم، والإِجْهَاز على مذهبهم حتى أصبحت كلمة الحق هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، وازداد إيماننا بما قال الله في كتابه: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد: 17) . والله يحفظك لحماية دينه والدعوة إلى سبيله، والسلام.

الانقلاب العثماني

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ الانقلاب العثماني طبعت رسالة الانقلاب بمطبعة المنار في كتاب مستقل [1] وهذا نص المقدمة التي كتبها له شقيقنا السيد حسين وصفي رضا: بسم الله الرحمن الرحيم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) {َأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) {وَالْقُرْآنِ الحَكِيمِ} (يس: 2) كانت الدولة العثمانية منذ أسسها السلطان عثمان، ذلك الرجل المدبر العصامي، إلى نهاية أيام السلطان عبد المجيد العاقل الأبي، دولة حربية بحتة، شادت بناءَ عظمتها على أسس الإقدام والشجاعة والغلب، فلم يمض زمن كبير حتى أصبحت من الدول ذوات البأس اللائي يتقى غضبهن، وتخطب مودتهن، فأمعنت في الفتوحات، واسترسلت في الغزوات، وقلما كانت ترجع من غزوة إلا وبنود الفلج تخفق فوق رأسها، ورايات الظفر تتمايل في أيدي رجالها الكماة صلفًا وفخرًا، فعز مكانها، وتطاول بنيانها، واتسع ملكها، حتى تغلغلت في أحشاء أوربا، بعد أن استحوذت على آسيا الصغرى وجزء كبير من إفريقيا. كانت سريعة الخطى في هذه السبيل، فسادت وشادت، وبنت على أطلال الدولة السلجوقية دولة عظيمة قوية، وما كان العظم في تلك العصور التي يسمونها العصور المظلمة إلا بقوة المِرَاس، وثبات الجأش، والنشوء بين صليل السيوف، ومزاحف الصفوف. أخذ بعضدها فاتح القسطنطينية وكان تقيًّا صالحًا، فأناف بها على اليفاع، وتوقل بها سَنِيّ المراتب، ناهيك بمالك القسطنطينية إذا كان خَيِّرًا عادلاً، ومازالت تتدرج في منازل العظمة، ومواطن السؤدد، حتى كانت أيام السلطان سليمان القانوني، وفيها بلغت آخر مدى ووقفت عند منتهى الغاي، وهو صاحب الفضل في جعلها حكومة نظامية قانونية، بعد أن كانت تجري على تقاليدَ محفوظةٍ، لا غناء بها، ولا نظام لها، ومن ذلك الحين دب الضعف في جسمها، وكان إهمال أولي الأمر وجهلهم وسومهم الرعية سوء العذاب مساعدًا على نماء الضعف، وسريانه في جسم الدولة، إلى أن تولى السلطان محمود الثاني، ذلك المحب للإصلاح، والدولة على شفا جُرُف هارٍ ينذرها بالاضمحلال والفناء، ألفاها وقد فقدت تلك القوة التي كانت تباهي بها، ولم تضرب بسهم في العلم الذي أصبح السلاح القاطع والقوة الكبرى في ذلك الحين وهذا الحين، فقوم منآدها بما في وسعه، وأصلح فاسدها بما في طوقه، ومما يذكر له بالثناء عليه تنكيله بالإنكشارية الذين كان زمام الملك في يدهم لذلك العهد، وكانوا من أشد العوامل في إفساد الدولة وإضعافها. ثم تولى الملك السلطان عبد المجيد، والدولة في قلاقل داخلية، ومشكلات خارجية، تضعف الرجاء في إقالتها من عثرتها، وإنهاضها من كبوتها، بله إرجاعها إلى سابق عزها، وسالف مجدها، فأخذ بضبعها، وحدد للحكومة وظائفها، وبيَّن للرعية حقوقها، ويكفيه فخرًا أنه هو الواضع لخط (كلخانه) المعروف. لم يكد عبد المجيد يوارى في رمسه حتى قام السلطان عبد العزيز، وهو الذي زين له حب الشهوات، وأولع بحب السيطرة، وأشرب قلبه القسوة، ينكث فتل سلفه، ويصدع رأب سابقه، وكان عونًا له على هذا التخريب وزيره محمود نديم باشا، حبيب (أغناتيف) السفير الروسي في ذلك العهد، ومنفذ غايه ومقاصده. ثم جلس على سرير الملك السلطان عبد الحميد الثاني، بعد أن تولى الملك السلطان مراد مُدَّةً لم تتجاوز ثلاثة وتسعين يومًا، ولم يكد يستقر على السرير حتى أحاط به جمهور من الأحرار، وزينوا له أن يسير على سنن أوربا، فتكون حكومته دستورية حرة، وكان مدحت باشا هو الرأس المدبر لهذه الحركة، واليد العاملة فيها، ولم تكد تقر عيونهم بتحقيق الرغيبة، حتى فوجئوا بالنفي والإبعاد، وإلقائهم في غيابة السجون، وإغراقهم في لجج البوسفور! ! ! ابتدأت المظالم منذ ذلك الحين تحارب الأمة في جميع مقومات الحياة، والتف حول السلطان فريق من الجواسيس {يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} (النساء: 77) فطفقوا يرضون المخلوق بما يسخط الخالق، وافترعوا ضروبًا من الظلم، وأفانين من الإرهاق والتضييق، كانوا يصولون بها على الأمة صيال الوحوش الضارية، والطيور الكاسرة ذوات المخالب، وامتد بهم الإفساد إلى أن سلطوا بعض رجال الأمة على بعض، ففتوا في عضدها، وأفسدوا أخلاقها، حتى بات الابن يخشى أن يأتيه الضر من قبل أبيه، والأخ يتوقع أن يحيق به البلاء من ناحية أخيه، وكان العلم أخوف ما يخافونه، فنكلوا برجاله شر تنكيل، ففر منهم من أفلت من ظلمهم إلى أوربا وأمريكا ومصر. كان الأحرار في غضون هذه الملمات والكوارث النازلة بأمتهم قد أجمعوا أمرهم سرًّا وأنشأوا الجمعيات السياسية في بلاد الحرية التي تبوءوها، ونشروا الجرائد والكتب والرسائل، وكلها تنديد بالحال الحاضرة، وغلا في ذلك قوم واستخذى آخرون، حتى قام فريق من الشبان في الآستانة - ومعظمهم من طلاب المدرسة الطبية والمتخرجين فيها - فأسسوا جمعية الاتحاد والترقي منذ ثماني عشرة سنة، ثم نمت وعظمت بعد ذلك، وانتظم في سلكها كثيرون من كبار الأحرار وخيار العقلاء. وقد كان لرجالها تكتم غريب، وتحفظ شديد، وحزم عظيم، كانت بدايته السلامة من صولة الجواسيس، ونهايته ذلك الفوز الكبير والنصر المبين، إذ قاموا بقلب أعرق حكومة في الاستبداد إلى حكومة دستورية حرة، من دون أن تُرَاقَ في سبيل ذلك نقطة دم، مع أن المسطور في التواريخ أن مثل هذا الانقلاب لم تصل أمة إلى ساحله إلا بعد خوضها في بحر لجي من الدم. لم تكن دهشة الأمة العثمانية وإعجابها بهذا الانقلاب بأكثر من دهشة سائر الأمم الأخرى، فقد تجاوزت صيحات (نيازي) و (أنور) بلاد الدولة العلية إلى مدن أوربا وغيرها، فالتفتت مذعورة حائرة من هذا المصير العجيب الذي ما كان يخطر لها ببال، ولا يزال الناس فيها وفي غيرها من بلاد الدنيا معجبين بهذا الانقلاب الذي لم يع التاريخ في صدره له ضريعًا، حائرين في أسبابه ومقدماته، حتى قام اليوم الكاتب السياسي، والأديب الألمعي، صديقنا محمد روحي بك الخالدي، عضو القدس الشريف في مجلس النواب العثماني - بتأليف رسالة جليلة في هذا الموضوع، أماط فيها اللِّثَام عن الأسباب المجهولة، والحقائق المخدرة، وقد بحث فيها بحثًا فلسفيًّا في أصل الاستبداد ونشوئه، وشكل الحكومة العثمانية في بدء تأسيسها، وبيان تقاليدها الموروثة ونظاماتها المكتسبة، وشيوع الخلل في إدارة الدولة واستبداد أولي الأمر فيها، مما أدى بها إلى شر حالة، وكان سببًا في قيام الأحرار ومطالبتهم بالإصلاح، وأفاض القول في شئون الأحرار وتاريخ ظهورهم، وبيان الطرق التي سلكوها ليصلوا إلى مقاصدهم، مع تراجم لمشهوريهم. جال المؤلف في ذلك جولة المؤرخ الواقف على الحقائق، واستنتج من الحوادث التي سردها أن الانقلاب هو النتيجة التي لا بد منها لتلك المقدمات التي سبقته، فكان ما كتبه جديرًا بأن يكون رائدًا لمن يأنس في نفسه شغفًا إلى اسْتِكْنَاه تلك الغوامض التي أدهشت العالم، وقلبت كيان السياسة، وأي قارئ ليس شغوفًا بذلك؟ نشرت الرسالة في مجلة (المنار) فكانت موضع استحسان العلماء العقلاء، والكتاب الأَبْيِنَاءِ، وكان بدا لي أن أستأذن مؤلفها في طبعها على حدة لتكون كتابًا مستقلاًّ تلذ مطالعته، وتسهل مراجعته، فكتبت إليه راغبًا في ذلك، فرجع القول ملبيًا الطلب، سامحًا بتنقيح ما لا تسلم منه كتابة المتسرع، ولا سيما إذا كان كمؤلفنا لم يتح له أن يعيد النظر على ما كتب. وإني أزفها اليوم إلى الناطقين بالضاد مطبوعة طبعًا صحيحًا، رجاء أن يستفيدوا من تحقيق مؤلفها، ويقفوا على أسباب ذلك الانقلاب العجيب. وخليق بأهل هذا القطر الذين شغفوا بالدستور، وقد ضلوا طريقه، ولم يهتدوا إلى بابه، أن يمعنوا في معانيها، ويتبينوا مراميها، عسى أن يتأسوا بأولئك الأحرار، ويكونوا من خير المحتذين لهم في هذه الديار. ... ... ... ... ... القاهرة في سلخ ذي القعدة سنة 1326 ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا

التقريظ والانتقاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ والانتقاد حالت كثرة المواد في أجزاء المجلة الأخيرة دون التنويه بالكتب التي أهديت إلينا، وذكر المجلات والجرائد التي صدرت في هذه الفترة، ولما كان هذا الجزء هو آخر أجزاء السنة التي أهديت إلينا فيها تلك المطبوعات، رأينا أن ننوه بها على سبيل الاختصار، وربما نعود إلى الكلام على ما يستدعي منها الكلام في السنة الثانية عشرة: الكتب (تاريخ مشروع السكة الحجازية) ألّفه صديقنا الشيخ محمد إنشاء الله، صاحب جريدة (وطن) الهندية الشهيرة في ثلاث لغات: الأوردية والعربية والإنكليزية، وهو تاريخ مفصل لهذا المشروع الجليل. (إتمام الوفاء) مؤلفه الشيخ محمد الخضري، المدرس في مدرسة القضاء الشرعي، وهو يحتوي على سيرة الخلفاء الراشدين، وقد جعله مؤلفه قسمين: قسمًا سماه عصر اتحاد الكلمة، وقد ذكر فيه الفتوحات ونبذة من نظامات الأمة الإسلامية في ذلك الحين، وقسمًا سماه عصر الفتن، وهو ما كان في أيام الخليفتين عثمان وعلي (رضي الله عنهما) . والكتاب يقع في 339 صفحة بالقطع الصغير، ويباع بخمسة قروش في جميع المكتبات. (تاريخ إسلاميت) مؤلفه الدكتور. ر. دوزي الهولاندي، أحد علماء المشرقيات الأعلام، ومن أعضاء المجامع العلمية في أوربا، وهو كتاب جليل ترجمه باللغة التركية الدكتور عبد الله بك جودت، منشئ مجلة (اجتهاد) وصفحاته 334. (المنهج المسلوك) ألّفه الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله، من علماء القرن السادس للملك الناصر صلاح الدين يوسف، وقد طبع على نفقة أحمد زكي أفندي أبو شادي ومحمد رشدي أفندي الخبير بالمحاكم الأهلية، وهو يطلب منهما، وصفحاته 140 بقطع المنار. (تأويل مختلف الحديث) هذا الكتاب من نفائس الكتب، وضعه الإمام ابن قتيبة الدينوريّ، من أهل القرن الثالث (في الرد على أعداء أهل الحديث والجمع بين الأخبار التي ادّعوا عليها والاختلاف والجواب عما أوردوه من الشبه على بعض الأخبار المتشابهة أو المشكلة بادي الرأي) ، وقد طبعه الشيخ زكي فرج الله الكردي بعد أن صححه بقلم الشيخ جمال الدين القاسمي الشهير، وحَسْب الكتاب ثقة أن يكون مصححًا بقلم هذين العالمين، ويطلب من طابعه بمصر. (ثمار القلوب) مؤلفه الإمام أبو منصور الثعالبي، صاحب يتيمة الدهر وفقه اللغة، وهو من كتب الأدب التي يرغب فيها، ومن ذا الذي لا يرغب في كتب الثعالبي من الأدباء؟ والكتاب يقع في 560 صفحة، مطبوع طبعًا نظيفًا على ورق جيد، ويطلب من طابعه أحمد زكي أفندي أبو شادي بمصر. (الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده) تأليف صديقنا سليمان أفندي البستاني، العضو في مجلس المبعوثان عن ولاية بيروت، والكتاب يحتوي على فصول كثيرة من آراء المؤلف ومروياته ومرثياته، وهو مطبوع طبعًا نظيفًا على أجود ورق، وصفحاته 203، وثمنه 12 قرشًا صاغًا، وهو يباع في جميع المكتبات، ويطلب من أسعد أفندي البستاني بشارع صندوق الدين بمصر. (تركيا الجديدة) مؤلفه جميل أفندي معلوف، من مشهوري كُتَّاب السوريين في أمريكا، وقد قسمه إلى ستة كتب: (1) أسباب الانحطاط في الشرق. (2) تفرنج الشرقيين. (3) التعليم. (4) القانون الأساسي. (5) الديانة السياسية. (6) أبقاء أم فناء، وختمه بفصل في حقوق الإنسان وملاحظات متفرقة. (عفة الأولاد) كتاب صغير يحتوي على نصائح وعظات يجدر بالنابتة أن تُعْنَى بتلاوتها وتدبرها، ترجمه بالعربية سليم أفندي خوري (بقلم سكرتير مالي السودان) وهو يطلب منه. (جواهر الحكماء) هو مجموع رسالتين، إحداهما لابن المقفع؛ والأخرى للحافظ ابن عبد البر الأندلسي، جمعهما في كتاب واحد عوض أفندي واصف صاحب مجلة المحيط، ويطلب منه، وثمنه ثمانية قروش. * * * الدواوين الشعرية والرسائل والقصص (ديوان أحمد نسيم) أحمد أفندي نسيم من شعراء مصر المشهورين، وقد جمع شعره في كتاب بلغت صفحاته 139، مطبوع طبعًا نظيفًا على ورق صقيل. (ديوان الحمويات) نظم هذا الديوان السيد محمد الحسن الحموي، وهو يحتوي على موضوعات شتَّى وكثير من المقاطيع، وقد طبع بالقطع الصغير، وصفحاته 208، ويطلب من ناظمه بحلوان. (رسالة العطور) ترتيب محمد توفيق أفندي عطار الدمشقي، نزيل الآستانة، وهي رسالة في علم الفرائض، سهلة العبارة، حسنة الترتيب. (تاريخ الحرمين وبيت المقدس) كراسة لأحمد حافظ أفندي هداية، وتطلب منه بطنطا. (المبادئ النحوية) رسالة في النحو مختصرة سهلة للشيخ مصطفى بكري الأسيوطي (مدرس اللغة العربية بالمدارس الحرة) . (فتح القيوم) وهي ختمة مقدمة ابن آجروم للسيد محمد بن سودة، من علماء فاس. (في سبيل الدستور الفارسي) كراسة تحتوي على خطب وكلمات جمعها حسين أفندي إبراهيم الإيراني، نزيل مصر. (يوم الحساب) هو الجزء الأول من مجلة حدائق الظاهر لصاحبها أحمد زكي أفندي أبو شادي ومحمود أفندي عباسي، وثمنه 3 قروش. (ربة الجمال) قصة ترجمها باللغة العربية إسكندر أفندي خوري، وتباع بستة قروش في المكتبة الشرقية. * * * المجلات والجرائد (الشرق الأدنى The Near East) مجلة إنكليزية مصورة تبحث في شئون الشرق الأدنى خاصّة، وتطبع على أجود ورق، وتنشر صورًا للبلاد الشرقية ورجالها ومجالسها وغير ذلك في غاية الإتقان، وموضوعها سياسي مالي أدبي، وهي تصدر في لندرة، وثمن الجزء منها نصف شلن، ولم يكتب عليها اسم صاحبها أو أصحابها. (الجنس اللطيف) مجلة (أدبية اجتماعية لصاحبتها ومحررتها ملكة سعد) تصدر في مصر مرة في الشهر باثنتين وثلاثين صفحة، وطبعها في غاية الجودة، وورقها صقيل وموضوعها جليل، فخليق بالشبان والشواب التوفر على مطالعتها، وقيمة اشتراكها أربعون قرشًا صاغًا في السنة. (بيان الحق) مجلة تركية تصدر في عاصمة السلطنة العثمانية، وتنشر أفكار الجمعية العلمية الإسلامية ثمة، وهي دينية علمية سياسية أدبية، تصدر مرة في الأسبوع، وقيمة اشتراكها في السنة 95 قرشًا صاغًا عثمانيًّا، وثمن النسخة قرش ونصف. (المباحث) صدرت هذه المجلة التي أشير إليها في (ص 636 م 11) وهي كما كان ينتظر من منشِئَيْها صديقَيْنَا جرجي أفندي يني وأخيه صموئيل أفندي، فهي تدل على علم وبحث واضطلاع، ويقع الجزء منها في 48 صفحة، وقيمة اشتراكها في طرابلس الشام 15 فرنكًا و17 في الخارج. (روضة المعارف) (مجلة علمية أدبية تاريخية فكاهية إخبارية تصدر في كل خمسة عشر يومًا مرة) في بيروت لمديرها محمد علي بك القباني، ورئيس تحريرها الأستاذ عبد الرحمن أفندي سلام، من علماء بيروت. جاءنا الجزء الأول منها منذ شهرين، وهو مُصَدَّر بصورة السلطان!! وقيمة اشتراكها ريالان في بيروت , و12 فرنكًا في خارجها. (المنتقد) (مجلة عمرانية اجتماعية انتقادية فكاهية) تصدر في بيروت مرتين في الشهر بالقطع الصغير، لمنشئها محمد أفندي باقر، ومديرها كمال أفندي بكداش، وقيمة اشتراكها 35 قرشًا في بيروت , و10 فرنكات في خارجها. (الأعمال اليدوية للسيدات) مجلة ذات رسوم لصاحبتيها فاسيلا وأختها، وقيمة اشتراكها ستون قرشًا صاغًا في مصر. (القرطاس) (مجلة علمية أدبية مدرسية تصويرية) تصدر في آخر كل شهر إفرنكي في الإسكندرية لمديرها أحمد أفندي فائق، وقيمة اشتراكها 20 قرشًا صاغًا. (الجامعة المصرية) مجلة نصف شهرية مصورة تنشر محاضرات أساتذة الجامعة المصرية، لأصحابها محمود أفندي شاهين ومحمد كامل أفندي فيضي وعبد الله أفندي أمين، وقيمة اشتراكها مائة قرش في مصر لغير طلبة الجامعة. (المدرسة) (مجلة علمية أدبية تاريخية يقوم بتحريرها نخبة من كبار الأدباء والكتاب) تصدر في الشهر مرة باثنتين وثلاثين صفحة، وقيمة اشتراكها 40 قرشًا في مصر. (فرعون) مجلة تبحث في شئون القبط المِلِّيَّة، وتصدر في الشهر مرتين، لمديرها توفيق أفندي حبيب، واشتراكها 20 قرشًا في مصر. (صحيفة) مجلة أوردية تصدر في حيدر أباد الدكن (الهند) لمنشئها مولوي محمد أكبر علي معتمد مجلس المعارف ثمة. (أبو قشة) جريدة إصلاحية أسبوعية تنشر الجد في قالب الهزل، يصدرها في تونس السيد الهاشمي، أحد الكتاب المشهورين، وقيمة اشتراكها في السنة عشرة فرنكات. (الحكيم) جريدة أسبوعية (حرة تبحث في كل شيء) يصدرها في كوردوبا (الأرجنتين) عزيز أفندي حكيم، ولها عناية خاصة بالأبحاث الفلسفية. (شمس العدالة) جريدة أسبوعية (سياسية فنية أدبية) أنشأها فريق من الكتاب باللغة العربية في الآستانة، وقد سموها في هذه الأيام (شمس الحقائق) وقيمة اشتراكها ليرة عثمانية في السنة. (الاتحاد العثماني) (جريدة يومية سياسية أدبية عمرانية) يصدرها في مدينة بيروت صديقنا الشيخ أحمد حسن طباره، من مشهوري أرباب صناعة القلم، وهي من مثليات الجرائد الراقية في سورية، وقيمة اشتراكها أربعة ريالات في بيروت، وليرة عثمانية في سائر الجهات. (كلمة الحق) جريدة عربية تصدر في الآستانة ثلاث مرات في كل أسبوع، أنشأها فريق من الكتاب وعهدوا في رياسة تحريرها إلى ج. حرفوش، وقيمة اشتراكها 25 فرنكًا في مصر والبلاد الخارجية، وأربعة ريالات في الآستانة. (أوقيانوس) جريدة فارسية تصدر في طهران تحت مراقبة ميرزا عبد الرحيم آلهي، وقيمة اشتراكها 15 فرنكًا. (الحجاز) هي جريدة الحكومة الرسمية، تصدر باللغتين التركية والعربية، ولقد سررنا بإنشائها سرورًا عظيمًا؛ لأنها أول جريدة أنشئت في أم القرى مكة المكرمة، وقيمة اشتراكها 15 فرنكًا في الخارج. (الطلبة) (جريدة عمومية تصدر مرة كل أسبوع) مديرها عبد الحميد أفندي حمدي، وقيمة اشتراكها 50 قرشًا في مصر. (الرغائب) (جريدة عثمانية علمية أدبية سياسية تجارية أسبوعية) لمديرها ومحررها حكمت بك شريف، من مشهوري الكُتَّاب في طرابلس الشام، وقيمة اشتراكها ريالان في طرابلس , و15 فرنكًا في الخارج. (المقتبس) (جريدة يومية سياسية اقتصادية اجتماعية) لمنشئها ومديرها صديقنا محمد أفندي كرد علي، الكاتب المشهور، والمقتبس من الجرائد الممتازة بتحري الصدق والتزام النصح، والبعد عن سخيف القول ورذيلة التملق، وهي تصدر في دمشق الشام، وقيمة اشتراكها أربعة ريالات ثمة , و25 فرنكًا في الخارج. (المحروسة) (جريدة يومية سياسية علمية أدبية تجارية) , والمحروسة من الجرائد القديمة التي أبطلت منذ زمن، فأعاد إصدارها في مصر إلياس أفندي زيادة، وعهد في رياسة تحريرها إلى الأستاذ إبراهيم أفندي الحوراني، من مشهوري علماء سورية، وقيمة اشتراكها مائة وخمسون قرشًا صاغًا في السنة.

جواب مجلس المبعوثان عن خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جواب مجلس المبعوثان عن خطاب السلطان في افتتاح مجلس المبعوثان [*] يا صاحب الشوكة: إن أدوار الفتور التي حدثت على إثر أدوار الفتوحات العثمانية وتوالي ظهور الغوائل الخارجية من جهة وسوء الاستعمالات الداخلية التي هي أشد تأثيرًا في التخريب من جهة أخرى - كانت نتيجتها استياء جميع العناصر العثمانية، وكان من ذلك أن والدكم المعظم قد وضع خط (كلخانه الهمايوني) الضامن للحقوق الشخصية، والقاضي بالمساواة بين جميع العناصر العثمانية المختلفة، وبهذه الوسيلة قد اكتسبت الدولة العثمانية حياة جديدة ملائمة للحال العصرية. بَيْد أنه لما كان من اللازم تأمين الحقوق البشرية وضمانتها بصورة راسخة ثابتة وكان من الضروري - صيانة لهذه الضمانة - تبديل شكل الحكومة القديم وقبول الأصول الدستورية المستندة على حكم الأمة الأصلي - صدرت في زمن جلوسكم السعيد إرادتكم السنية بوضع القانون الأساسي ونشره وفتح مجلس النواب إجابةً لآمال خواص الأمة التي هي خلاصة آمال الأمة كافة. على أن طريقة الشورى هي أصل في إدارة الحكومات، وأن صور الحكومات التي تغاير هذا الشكل المشروع ناتجة عن تغلب الباطل على الحق والاستبداد على العدل بصورة مؤقتة. ثم إنه مع تصريح جلالتكم في الخط السلطاني بأن استعداد الأمة وأهليتها في ذلك الحين مسلم بهما ومع اعترافكم بأن القانون الأساسي وضع موافقًا لذلك الاستعداد قام بعض رجال حكومتكم وأحدثوا مشاكل وهمية متناقضة جعلوا بها مستقبل قوة هذه الأمة العظيمة عرضةً للخطر , مدعين أنها غير أهل لصورة ولا شكل من الأشكال التي عينها (القانون الأساسي) وعليه تفرق مجلس الأمة أيدي سبا! ! . إن أولئك المخادعين الذين خدعوا جلالتكم بالمشكلات الوهمية التي أحدثوها، لم يكتفوا بالتعدي على أحكام القانون الأساسي، الذي هو مناط سعادة الأمة وحريتها، بل قد تجرءوا على بهتان آخر وهو زعمهم عدم استعداد أدمغة الأمة لهذا القانون، فحسنوا لجلالتكم إرجاء تنفيذه مستخفين بقوة إدراك الأمة. ولكن نشكر الله، فإن الأمة رغمًا عن المساعي التي بذلها من نِيطَ بهم نشر العلم والمعارف في سبيل تعطيل الأدمغة وتغطية العيون، قد أدركت بحسب استعدادها الفطري وقابليتها الطبيعية أن هذه الحال ستئول إلى الانقراض، وأنها إن لم تَنَلْ حقوقها السياسية فلا تستطيع أن تحفظ مركزها في عالم السياسة والمدنية، وعليه عرضت لجلالتكم الآمال العامة. ونحمد الله على أن جلالتكم قد أدركت كل الإدراك الخطر المحدق بالدولة الذي لم يستر إلا عن أبصار الرؤساء ورجال الحكومة، فعرفتم ما ينتج للدولة والمملكة بسبب اطمئنان الأفكار العامة من السعادة في الحال والاستقبال، فأصدرتم الأمر السلطاني القاضي بالدعوة إلى افتتاح مجلس الأمة وإعادة الانتخاب، موافقةً لأحكام القانون الأساسي بالرغم عن آراء المخالفين لفتحه؛ ولذلك فإن الأمة تشكر لجلالتكم هذا الشعور الذي كان سببًا لإنقاذ الدولة العثمانية من انقراض محقق , وسَوْقها إلى طريق الترقي والسعادة. ولو أنكم تغلبتم قبلاً على خداع أرباب الغايات لكانت الأراضي الغامرة الموجودة في أطراف المملكة قد أصبحت في خلال الثلاثين سنةً الماضية أراضيَ عامرةً، ولَكُنَّا في ارتقاء وعلاء بدل التدني والانحطاط، ولما كانت الشرذمة القليلة التي استفادت من الاستبداد فتحت في قلب الأمة جرحًا كاد يصير قرحًا، ولكان الوطن نال الرفاهة والسعادة من كل الوجوه، ولكانت الدولة العثمانية استقرت في مركزها السياسي اللائق بها أمام الدول منذ زمن مديد. إن الأمة العثمانية تشارك جلالتكم في الأسف الذي أظهرتموه بسبب إعلان إمارة بلغاريا استقلالها، وضم النمسا ولايتي البوسنة والهرسك إلى أملاكها، وهما الولايتان اللتان كانت تديرهما مؤقتًا بموجب ميثاق دولي؛ لأن الأمة العثمانية كانت في دور انقلابها السعيد تقطع الطرق السياسية بصورة سلمية، وتربي صميم الآمال لتكون مظهرًا لمؤازرة الدول المتمدنة وأهلاً لانعطافها في حياتها الدستورية الجديدة. إن هذه الحوادث السياسية التي هي إرث مشئوم من سيئات الماضي المديد سيبذل مجلسنا النيابي كل الوسائل التي يحفظ بها شرف حقوق الدولة لحلها، وسيقوم بجميع المساعدات اللازمة لمجلس الوكلاء المحرز ثقة الأمة والمسئول أمام مجلسها النيابي. إن خطة مجلسنا ستكون دائرةً على إدامة حسن العلاقات بين الدولة العثمانية وجميع الدول، وإن الأمة التي أحدثت في الدولة هذا الانقلاب السلمي الداخلي ستُرِي العالم أجمع بأن سياستها الخارجية مؤيدة للسلم. وإن آمالنا معقودة بأن دولتنا سترتقي بفضل خطتها السلمية إلى الدرجة التي تليق بدولة عظيمة الشأن أمام الهيئة الدولية، وأنها ستكون جديرةً بالاستفادة من الحقوق الدولية على وجهها، كما أنها ستكون مرعية الجانب أهلاً لمحبة الدول كافة، وإنا نتوقع أن تنتهي المسائل السياسية الحاضرة على وجه حسن بمؤازرة الدول المعظمة التي ثبتت لها خطتنا السلمية ونيتنا السليمة. إن مجلسنا سيبذل الجهد بتنظيم الأمور المالية التي هي من أهم المسائل الداخلية، وسيكون رقيبًا صادقًا على الواردات، ومسيطرًا غيورًا على الصادرات، وسيمنع بتةً إعطاء درهم واحد من الخزانة على غير وجهه، كما أنه سيمنع أيضًا أخذ بارة واحدة من أفراد الأمة بغير وجه مشروع، مقتحمًا في هذه السبيل كل المصاعب التي سيلاقيها في أمر ضبط الواردات والصادرات، وذلك بسبب النتيجة الأليمة التي أنتجها الإسراف والتبذير في الماضي بصورة لم يعهد لها نظير في تاريخ الأمة، حتى يتسنَّى لدولتنا أن تكتسب لقب دولة مقتصدة تدير أمورها على القواعد المالية، وترفع عنها لقب دولة سفيهة مبذرة! ! وإننا نرى من الأمور الهامة الواجبة بذل الجهد بتوطيد الأمن وتأييد رفاهة العناصر المختلفة المؤلفة منها دولتنا، وصيانة الحقوق العامّة بإجراء العدالة مجراها، والمحافظة على جريان القضاء بكل استقلال، وفتح المدارس في جميع أنحاء المملكة، وإصلاح حال الموجود منها، وتربية أبناء الوطن تربيةً وطنيةً دستوريةً، وتزييد الوسائل النقلية وفتح الطرق والمعابر لتسهيل نقل الصادرات والواردات، وترقية حال الصناعة والزراعة وتوسيع نطاق التجارة. ومن الضروريات تعزيز القوتين البريّة والبَحْرِيّة لِتكونا بدرجة مناسبة لموقعنا الجغرافي، ولِيتسنّى لنا بهما المحافظة على حقوقنا المشروعة وحكومتنا المقيدة، لا للتعدي على حقوق الغير. ولهذه الأمور الحيوية المذكورة سنبذل الجهد بتدقيق التقارير التي قدمت من الحكومة لمجلسنا، ونضع القوانين الموافقة لبلادنا وأمتنا. وإنا مع الشكر لجلالتكم على عزمكم القطعيّ الثابت على إدارة المملكة بموجب أحكام القانون الأساسي، الكافل الحقيقي لسعادة الأمة نؤكد لجلالتكم بأن عزم الأمة الحقيقي على صيانة القانون الأساسي ثابت راسخ لا تزعزعه أيَّةُ قوةٍ مهما عظمت، كما أننا نعرض لجلالتكم ما خالج أفئدتنا من الابتهاج والسرور برؤية شخصكم الكريم ماثلاً أمام نواب الأمة، مما جاء دليلاً على رفع الحواجز والحوائل بينكم وبين الأمة. إن قلبنا لا يشعر بغير محبة الأمة والوطن، وكل آمالنا الاشتغال لخير الملك والأمة، ورائدنا في ذلك مصباح المساواة والاتحاد، وغايتنا الحق والعدل، وقد عاهدنا ثلاثين مليونًا من العالم على المحافظة على حقوقهم ولا نخاف في القيام بعهد وكالتنا غير توبيخ الوجدان وخوف الرحمن، ومن جعل الحق وجهته فالله يعينه ويؤيده. جواب مجلس الأعيان يا سُلْطَانَنَا: كانت أعضاء الأعيان كلها آذانًا مصغية , وقلوبًا واعيةً لذلك الخطاب الذي فُهْتُمْ به يوم افتتاح مجلس الأمة المؤلف من الأعيان والمبعوثين. انقضى ذلك الزمن الذي أصيبت فيه الحكومة بأدواء الخلل، فزالت بزواله تلك البرازخ التي كانت حائلةً دون اختلاط السلطان بالشعب، وتوثيق الروابط بينهما، وكانت تلك الحوائل لأغراض شخصية، فالشعب اليوم يرى نفسه مغبوطًا برؤية سلطانه وسماع خطابه بواسطة المبعوثين والأعيان، ذلك الخطاب الذي ضمن فيه الدستور، فلنا الشرف أن نرفع لجلالتكم واجبَ الشكر الصادر عن هذا الأمر السارّ. والحكومة الشورية تقوم على هذا الأسّ المتين الكافل لجميع الحقوق وليس هناك ضامن لتثبيت السلطة العليا وتنزيهها عن التبعة إلا حفظ ذلك الأساس المتين. لذلك تحقق العزم الوارد في الخطاب، والموجه إلى الشعب والعالم بأسره، وهو الإشارة إلى حفظ القانون الأساسي بالميثاق البات، وإنا نقابل ذلك بالحمد والثناء الجميل. إن ما ورد في الخطاب السلطاني من الأمل في بذل الهمة والمساعي لإنجاح المداولات بين الدول الموقعة على عهدة برلين بشأن البوسنه والهرسك والبلغار - ذلك كله - من مهمات السلطة التنفيذية، ولنا الأمل الوطيد بقيام الوزارة خير قيام بمهماتها، وإنا نضيف إلى ذلك الأمل النظر في مسألة كريد. نحن في حاجة عظيمة إلى الثقة بنا، ولا يتم لنا ذلك إلا بنجاح حقيقي في النظام الإداري والعسكري، ويعوزنا بذل المساعي العظيمة لنحفظ مؤازرة الحكومات، ولتكون لنا مدنيةٌ صحيحةٌ ثابتةٌ. إن المساواةَ بين الأفراد والعدل بين أفراد الأمة وجماعاتها وتعليم الشعب وتهذيبه حسب حاجات الزمان على نمط الشعوب المتمدنة والاعتماد المالي الصحيح وضمانة حال البلاد مِن حيثُ الاقتصادُ وتعزيزُ القوة العسكرية - كل ذلك من الأمور الضرورية التي لا تقبل التسويف والتأجيل. وإن ثقتنا كلها موضوعةٌ في مجلس الأمة (المبعوثان) وآمالنا بمساعيهم الحكيمة محققة، وسنرى منهم مشروعات وقوانين تضمن لنا وتسهل بلوغ الأماني المشار إليها، وبذلك يكون للأمة والبلاد مستقبل زاهر سليم من كل شائبة. ومن الضروري ألا تقصر السلطة التشريعية التي هي مؤلفة من الأعيان والمبعوثين في العناية بالمسائل الحقيقية لوضع قوانينَ تسير البلاد بسببها في سبيل التقدم والنجاح، ولا ريبَ عندنا بأن مساعي الوزارة التي يناط بها التنفيذ ستنضم إلى هذه المساعي، وحينئذٍ ننال السعادةَ التامةَ التي نطلبها، وهي ذلك الغرض الذي يرمي إليه المصلحون من أبناء الوطن. وإنا نختم عريضتنا هذه بتكرار الشكر لجلالتكم لتعهدكم وعزمكم الأكيد على حفظ شكل الحكومة الشورية، ونؤكد لجلالتكم أن مجلس الأعيان يبذل جهده في قيامه بواجب حفظ الدستور الذي يرى حفظه من أقدس الواجبات. وإنا نعرض لجلالتكم بأن مجلس الأعيان يقوم نحوكم ونحو الأمة بكل ما يجب عليه من الإخلاص التام.

رحلة صاحب المنار في سوريا ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة صاحب المنار في سوريا (3) (دمشق الشام) عدت في 23 رمضان إلى بيروت، وفاءً بوعدي لأصدقائي وللوالي، فأقمت فيها أربعة أيام، كنت ألقي في كل يوم منها درسًا دينيًّا بعد العصر في أحد المساجد، وفي اليوم الأخير استبدلت بالدرس خطبةً سياسيةً في حظيرة الموقع العسكري، إجابةً لطلب الكثيرين. وفي صبيحة الخميس 27 منه، ركبت القطار الحديدي إلى دمشق، وهو قطار رديء، الدرجة الأولى منه دون الدرجة الثانية من القطار الذي بين رياق وحِمْص، فبلغ بنا محطة دمشق قبيل المغرب، فإذا بانتظارنا صديقنا الكريم عثمان بك العظم وجمهور ممن نعرف ومن لم نعرف من المحبين العلماء والوجهاء، نخص منهم بالذكر أعلم علماء الشام الأستاذ الأكبر بركة الوقت بقية السلف الصالح الشيخ عبد الرزاق البيطار والأستاذ العامل المجد الذي يقتل وقته كله في التدريس والتصنيف وتصحيح الكتب النافعة الشيخ جمال الدين القاسمي، أدام اللهُ النفعَ بعلمهما وعملهما. نزلنا في دار عثمان بك، فأقبل للسلام علينا فيها كثير من الوجهاء، فرأينا من أدبهم وحسن محاضرتهم ما ينطبق على ما هو مشهور عنهم، وسمعنا منهم مذ الليلة الأولى أخبارًا سيئة عن جمعية الإخاء العربي، التي أسست في الآستانة، فقال بعضهم: إنها أسست بإيعاز من السلطان لتكون عضدًا له وعونًا على جمعية الاتحاد والترقي، وقال آخرون: إنها (ضد الترك) , وقالوا: إن ندره بك المطران جاء الشام ليدعو إلى هذه الجمعية، وهو يذم الترك ويدعو الناس إلى العصبية الجنسية العربية , وينفر من جمعية الاتحاد والترقي. وذكروا أن سيرة بعض أعضاء هذه الجمعية غير محمودة , وأن بعض أفرادها يحتقرون وجهاء البلد، ويفطرون في رمضان جهرًا، وأن هذا مما يمهد السبيل لندره المطران ويجعل دسائسه مقبولةً عند كثيرين. هذا ملخص ما سمعته من أكثر من واحد، وكنت أبيِّنُ لهم ولغيرهم أن تنفير العرب من الترك مفسدة من أضر المفاسد، وأننا في أشد الحاجة إلى الاتحاد بالترك والإخلاص لهم؛ لأن مصلحتنا ومصلحتهم في ذلك، على أننا أحوج إليهم منهم إلينا، فمن يسعى إلى التفرقة بيننا وبينهم فهو عدوٌّ لنا ولهم، فإن كان سعيه لهواه فهو شر الشياطين، وإن كان سعيه لغيره فهو شر الأُجَرَاء الخائنين، ولا عجب في صدور ذلك من بني المطران المفسدين. نعم يجب على العرب أن لا ينسوا في اتحادهم بالترك أنفسهم ويتكلوا على غيرهم، بل يجب عليهم مباراة إخوانهم في التربية التي تقتضيها حال العصر وتحصيل العلوم والفنون التي عليها مدار العمران؛ ليكونوا يدًا واحدةً في إحياء الدولة، وليقدروا على ترقية شأن بلادهم واستخراج خيراتها العظيمة، ثم ليكونوا أهلاً لإدارتها بأنفسهم إذا غلب في المستقبل حزب صباح الدين أفندي، ابن أخت السلطان، على غيره من الأحزاب التي ينتظر أن تتكون في الدولة، وهو - أي رأي صباح الدين - أن تكون كل ولاية من ولايات الدولة مستقلةً في إدارتها الداخلية، ويعبر عن ذلك بعدم المركزية (Décentralisation) ويرى بعض علماء السياسة أنه لا بد في المستقبل من استقلال كل جنس بنفسه، ويروي هذا الرأي عن نابليون، وإذا صح هذا في المستقبل البعيد، وكان الجنس العربي غير أهل للإدارة التي تقتضيها حال مدنية ذلك العصر الذي سيكون أرقى من عصرنا هذا - وإن قرب - وغير أهل لمشاركة سائر الأمم في السياسة العامة والحقوق المتبادلة بين الأجناس على أصول المساواة، فكيف تكون حاله يومئذ؟ ألا تكون (لا قدَّرَ الله) تحت وصاية غيرنا من الأجناس المرتقية في العلوم والأعمال؟ ومن هو الجنس الذي يتولى هذه الوصاية؟ وكيف تكون سيرته فيها؟ يجب علينا أن نفكر في حالنا الحاضرة وفي مستقبلنا القريب ومستقبلنا البعيد، وأن نعلم أن حسن المستقبل متوقف على ما قبله، والنهاية أثر البداية، ويجب أن يكون الأساس الذي نبني عليه في حاضرنا ومستقبلنا الإخلاص لدولتنا والاتحاد بالترك وسائر العناصر العثمانية، مادامت هذه العناصر متحدةً بالدولة مخلصةً لها، وأن نكون الآن من أشد الأعوان لجمعية الاتحاد والترقي على بث روح الدستور في جميع الطبقات، ورقباء على الحكومة في سيرها وأعمالها، حتى ترسخَ فيها الديمَقراطيةُ، وتسير بعد اجتماع المبعوثان على الأصول الدستورية. هذا ما كنت أبثه من الأفكار في مثل هذا المقام، وأستطرد منه إلى بيان وُجُوب العناية بتأسيس المدارس لنشر التعليم الأهلي في جميع طبقات الأهالي، وإن ذلك يتوقف على تأسيس الجمعيات الخيرية في كل لواء من ألوية كل ولاية؛ لأجل تعليم أولاد الفقراء بغير أجرة، وتعليم أولاد الأغنياء بالأجرة. ثم أُنَوِّه بالتعليم العالي، والرحلة إلى حيثُ توجد إلى أن يوجد في كل ولاية مدارس عالية يُسْتَغْنَى بها عن الرحلة. وهذا ما كنت أقوله في كل بلد. ومما سرني بدمشق وأهلها سرورًا عظيمًا حياة كثير من الصناعات فيها. وكيف لا ينشرح صدري لذلك وقد رأيت ذلك الجامع الفخم الذي كان هو الأثر العظيم في هذه العاصمة لأول دولة عربية تأسست فيها، فدمره عصر الظلم والاستبداد بالنار، فأعاده أهل دمشق إلى ما كان عليه، لا ينقصه إلا ما كان فيه أولاً من زينة الفسيفساء التي يعجز عنها حتى الإفرنج من أهل هذا العصر، ثم إنني رأيت معظم أثاث البيوت ورياشها من صنع أهل البلد، حتى في بيوت الكبراء، كبيت عبد الرحمن باشا اليوسف، أمير الحج، الذي هو أوسع أهل دمشق ثروة، وأعلاهم جاهًا ومنزلة، فقد تأملت أثاث بعض الحجرات ورياشها في داره، فلم يقع نظري على شيء فيها من غير صنع الشام، إلا السجاجيد العجمية، حتى إن القناديل الكهربائية النحاسية التي فيها هي من صنع الشام، فلنا أن نفتخر بصناعات الشام في النسج والحفر والبناء والتجارة وغير ذلك، وأن نجتهد في توسيع دائرتها بالطرق الحديثة. رغب إلي بعض الفضلاء أن أقرأ درسًا في الجامع الأموي، كما فعلت في بيروت وطرابلس، فأجبتهم إلى ذلك لرميهم فيه عن قوس عقيدتي وموافقتهم لرغبتي، واستحسنت أن يكون ذلك بعد صلاة الجمعة، فقيل: إن هذا هو الوقت الذي يختم فيه المدرسون الرسميون دروسهم، فيرونك فيه مزاحمًا لهم فيثقل عليهم، فالأولى أن يكون درسك بعد العصر، فوافقتهم على ذلك. وقد صلينا الجمعة في الجامع الأموي، ورجونا أن نسمع فيه خطبة تناسب في حسنها المعنوي ما في ذلك الجامع من الحسن الحسي، ولكن خاب رجاؤنا، فسمعنا ما مَلَّتْهُ أسماعُنا من عهد الحداثة، وهو مدح رمضان وتغرير العامة بحديث العتق فيه الذي بيَّنا في المنار من قبل ما قيل في وضعه. وشهدنا بعد الصلاة دروس المدرسين، فجلسنا زهاء ثلث ساعة في درس الكزبري الذي حضره الوالي والمشير، حسب العادة المتبعة، وخلق كثير. ووقفنا هنيهة على درس الشيخ بدر الدين، فإذا هو رجل يسرد الأحاديث الشريفة بأسانيدها بالضبط الصحيح، ويورد في معناها كل ما قاله بعض العلماء في شرحها أو جله، وينقل من المسألة إلى ما يناسبها من غير تلعثم ولا مكث. (درسنا الأول في الأموي) ثم خرجنا من المسجد وعدنا إليه في وقت العصر، وبعد صلاة الفريضة تلا بعض القراء آيات من الكتاب العزيز، فجعلتها موضوع الدرس، واستطردت منها إلى غيرها من الآيات الواردة في صفات المؤمنين، وما وعدهم الله تعالى به في الدنيا والآخرة مع تنبيه الأذهان إلى عرض أنفسنا في هذا العصر على هذه الآيات لنعلم هل هي منطبقة علينا أم لا.. . وذكرت ما يطلب من المسلمين في هذا العصر ليحافظوا على دينهم الذي يرشدهم إلى ما فيه سعادة الدارين، ويعدهم بذلك جزاء على نصره والقيام بحقوقه، وكون ذلك يتوقف في هذا العصر على العلوم والفنون التي يرتقي بها الاجتماع البشري وتعتز بها الأمة ويرفع شأن الدولة، ألا وهي العلوم والفنون الرياضية والطبيعية والاقتصادية. ومما قلته وكررته: إنني أرفع صوتي قائلاً: إننا لا تقوم لنا قائمة إلا بالأخذ بهذه العلوم والفنون التي يتوقف عليها امتثال قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ، فإننا نستطيع أن ننشئ المدرعات البحرية، ونعمل المدافع والبنادق وقذائف الديناميت؛ لأجل حماية حقيقتنا وتعزيز دولتنا، وأن نعمل السكك الحديدية وغيرها من الأمور التي ترقي مدنيتنا وتحفظ ثروتنا، وكل ذلك يتوقف على العلوم الرياضية والطبيعية التي لا حياةَ لأمة في هذا العصر بدونها، إن علماءنا السابقين الذين كانوا يذمّون العلوم الطبيعية وينهون عنها لم يكونوا يعنون بها إلا تلك النظريات اليونانية التي تبحث في الإِلَهِيَّات بحثًا يخالف أصول الدين وقواعده، والعلوم الطبيعية في هذا العصر مباينة لتلك النظريات وناقضة لها، لأن أساسها التجربة والاختبار والعمل، فمن فروعها علم الكهرباء الذي ترون من آثاره النور الذي يتألق في مسجدكم هذا ليلاً، والمركبات التي تجري في شوارعكم وأسواقكم، ومنه علم البخار الذي تسير به قطارات السكة الحجازية من بلدكم إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. فهل يمكن أن يكون هذا العلم معارضًا للدين؟ كلا، إنه لا يضر الدين وأهله؛ ولكن يمكن أن يستخدم لحفظ الدين ورفعة شأن أهله، فكل من يصد المسلمين عنه فهو إما صديق جاهل بحقيقة هذا العلم وفائدته، وإما عدو غاشّ للمسلمين. ثم بينت لهم أن الإسلام على جمعه بين مصالح الدنيا والآخرة دين يسر لا عسر، ولا حرج فيه، وإنه يمكن للمسلمين أن يجمعوا بينه وبين جميع العلوم والفنون العصرية التي نوهت بفائدتها إذا أحسنوا التربية الدينية وأصلحوا طرق التعليم، وإن ذلك إنما يكون بإنشاء المدارس الأهلية، وهذه المدارس لا يقوم بها حق القيام إلا الجمعيات، فالذي يجب أن يبدأ به أهل بلادنا في هذا العصر هو تأسيس الجمعيات التي تنشر التعليم في جميع طبقات الأمة، وذكرت لهم موقع دمشق ومكانها من جزيرة العرب، وما ينبغي من السعي في جعلها ينبوعًا للمعارف والمدنية فيها، ثم قلت في آخر الدرس: إنه يمكنني أن أبين لكم في مجلس آخر كيف يمكن الجمع بين الإسلام تربيةً وتعليمًا، وبين تحصيل العلوم العصرية الكثيرة التي تقوى بها الأمة وتعتز الدولةُ، إن شئتم، فأظهر الرغبةَ في ذلك الجمهورُ. وقد حضر الدرس عدد كثير من الناس يبلغ المئات على ما قدره بعض الحاضرين. ومنهم العلماء الرسميون الذين أقبلوا عَلَيَّ بعد الدرس بالتحية والثناء وإظهار الإعجاب بالدرس والدعاء بأن ينفع الله بي وبه، والوجهاء كأحمد باشا ومحمد باشا العظم وعلي باشا الأمير وعبد الرحمن باشا اليوسف وشكروني على ما أبديته، وألحُّوا عَلَيَّ بأن أعيده في اليوم الثاني. (درسنا الثاني في الأموي والحادثة المشهورة) تحدث الناس في الدرس الأول في ليلتهم تلك، وأنه على غير ما يعهدون في الموضوع، وهو الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، والاستناد إلى آي القرآن - وفي الأداء، وهو أسلوب الخطابة، فرغب الناس بعضهم بعضًا في حضور الدرس الثاني، فلم نكد نصلي العصر في اليوم الثاني وننفتل إلا وقد تَحَلَّقَ الناس في مكان الدرس الأول (تحت القبة) وصار يلزّ ويزحم بعضهم بعضًا، فلما اتسعت مساحة القاعدين طفق الناس يتحلقون حولهم وقوفًا ثم ازدحموا فصاروا كالقاعدين على غير نظام حتى صاروا يقدرون بالألوف، فرأى بعض المهتمين بأمر الدرس أنه لا يمكن إسماعهم إلا بال

تصحيح وقعت أغلاط في الجزأين 11 و12 وهذا بيانها فتصحح بالقلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصحيح وقعت أغلاط في الجزأين 11 و12 وهذا بيانها فتصحح بالقلم صفحة ... ... سطر ... ... خطأ ... ... صواب 802 19 ... ... لوصفهم ... ... فوصفهم 803 2 ... ... المعتدلين ... ... المعتدين 805 17 ... ... نزرع ... ... تزرع 808 24 ... ... في وعيد ... ... من وعيد 810 7 ... ... له ... ... ... إلى 812 22 ... ... يستوي ... ... تستوي 815 6 ... ... الذين ... ... وهم الذين 836 11 ... ... كأن ... ... ... لها 837 12 ... ... حال ... ... مال 864 16 ... ... دونها ... ... دونهما 864 24 ... ... الحرب ... ... من الحرب 865 ... ... 19 ... ... عدد قليل ... ... عدد غير قليل 867 9 1 ... ... التي يفرضها ... التي لا يفرضها 869 14 ... ... تقدم ... ... تقوم 870 12 ... ... أو أننا ... ... وأننا 870 14 ... ... من ... ... ... في 871 14 ... ... منه ... ... ... مناجي 871 12 ... ... قال ... ... ... قال له 872 6 ... ... ولا يراعي ... ولا يجوز أن يراعي 875 25 ... ... وسبعون ... ... وتسعون 883 5 ... ... هذا المتبادر ... هذا هو المتبادر 883 14 ... ... تتقوى ... ... نتقوى 884 15 ... ... دخلت ... ... خلت 885 20 ... ... وقاتلوا ... ... قاتلوا 886 15 ... ... ظاهر ... ... ظاهراً 886 16 ... ... الواجب ... ... لوجب 887 5 ... ... التنزيه ... ... التنزيل 887 11 ... ... قالوا وفي ... ... قالوا الواو في 888 16 ... ... ويدل على ... ويدل أيضا على 892 22 ... ... البشرى أو ... البشرى 896 15 ... ... فألحق ... ... فالحق 897 ... ... 21يكتب بعد كلمة: ويجمع هذه الفقرة (بينه وبين القول الأول) 913 ... ... 1 ... ... بها فكان ... بها ثم جعلناها ذيلا لها، فكان 915 8 ... ... لحقيقة ... ... لحقِيَّة 915 ... ... 9 ... ... العالية التي تتصل العالية تتصل

خاتمة السنة الحادية عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الحادية عشرة بحمد الله وشكره نختم السنة الحادية عشرة من سني المنار، فهي وله الشكر الأسنى، والثناء الأوفى، خير سنة مرت بنا، نعدها فاتحة حياة جديدة لنا ولأمتنا، فكأن تلك السنين العشر غير معدودة من العمر، وكأن هذه السنة الأولى من العقد الثاني للمجلة هي اللؤلؤة الأولى من العقد الأول لها وللملة، كيف لا وهي سنة حكومة الشورى والدستور، ومحو آية ليل الظلم بآية العدل والنور، فيرى القارئ هذا المجلد من المنار طافحًا بأخبار الدستور العثماني، ومجلس المبعوثان والقانون الأساسي، وأسباب ما حدث في الدولة العثمانية من الانقلاب، وما كان من ضروب الاحتفال، وذكر سياحة صاحب المنار في البلاد السورية، وبعض ما ألقاه فيها من الدروس والخطب الدينية والسياسية، بعد أن كان ذكر اسم المنار أو صاحب المنار، يعد من أكبر الأخطار، حتى كان بعض محبيه يشيرون إليه بلفظ النار. وسنلم في فاتحة السنة القابلة، بتاريخ المنار في تلك السنين الخالية، بما يفسر بعض الإشارات، التي تقدمت في فواتح بعض السنوات، ونشير فيها إلى مستقبله في البلاد العثمانية، ولا سيما في الولايات العربية، حيث كان لا يقرؤه إلا بعض المستعذبين لمشربه، إذ كانت الأخطار تواثب من يطلع عليه أو يتصل بصاحبه، فصار شرعًا بين المصلحين والجامدين، والمنصفين والحاسدين. * * * (ما انتقد على المنار في هذه السنة) لا أذكر وأنا أكتب هذه الخاتمة في مدينة بيروت - أنه انتقد على المنار شيء لم ينشر فيه، إلا ما كتبه إليَّ بعض طلاب مدرسة الحقوق الخديوية، ينكر فيه علَيَّ ما كتبته في الرد على من اقترحت بناء مدفن خاص بعظماء الرجال بمصر، من إنكار نصب التماثيل للموتى، وما زعمته جريدة طرابلس الشام من أني طعنت في أهل طرابلس فيما كتبته عن سياحتي. * * * (نصب التماثيل للموتى) احتج علَيَّ طالب الحقوق بما كتبه الأستاذ الإمام، في رحلته إلى صقلية، من حكمة تحريم التصوير واتخاذ الصور والتماثيل، وأنها قلع جذور الوثنية وسد الذريعة المفضية إليها. ويرى المنتقد أن هذا هو رأيي في المسألة، وأنني ما تشددت فيها أخيرًا إلا تثبيطًا للذين دعوا المصريين إلى الاكتتاب لنصب تمثال لمصطفى كامل، لما كان بيني وبينه من الخلاف السياسي. ويرى هو أن إقامة تمثال لمصطفى كامل ولغيره مما يبيحه الإسلام، إذ ليس فيه شبهة دينية. هذا مجمل ما كتبه المنتقد كما أتذكر. فأما ما ذكر من حكمة تحريم الصور والتماثيل، فقد صرحنا به في المنار قبل نشر رحلة الأستاذ الإمام (بلرم صقلية) بسنين. ولو تأمل المنتقد ذلك الرد الذي بنى عليه انتقاده حق التأمل لَمَا كتب إلينا حرفًا مما كتبه، فإن ما ذكر من حكمة التحريم أو علته لا ينقض شيئًا مما كتبناه، وكذلك ما كتبه الأستاذ الإمام في رحلته، لا ينقض قولنا، بل يؤيده، فقد صرح بأن المفتي لا يفتي بجواز التصوير ونصب التماثيل مطلقًا وههنا نبين للمنتقد وأمثاله مسألةً مهمةً يغفل عنها أكثر الناس، وهي أن ما كان يقوله الأستاذ الإمام من الآراء الاجتهادية، وما ننشره من ذلك في المنار، إنما نقصد به بيان حكم الإسلام وموافقته لمصالح الناس، وإفضاءه إلى سعادتهم ما تمسّكوا به، ودفع الشبهات التي ترد على أحكامه دون جعله مذهبًا يقلدنا الناس فيه، إلا من ظهر له الدليل على شيء فأخذ به لاعتقاده أنه هو الحق، فأولئك لا يكونون مقلدين لنا، وإنما يكونون متبعين للدليل الذي قام عندهم، لا يخرجهم عن ذلك كَوْنُنَا سبقناهم إلى ذلك الدليل وهديناهم إليه. فإذا فرضنا أن ما ذكرناه من حكمة تحريم التصوير ونصب التماثيل يقتضي إباحة نصب تمثال لمصطفى كامل - وهو لا يقتضي ذلك - وكان المنتقد معتقدًا ذلك، فهل يقول: إن مسلمي مصر الذين دعوا إلى هذه البدعة قد اعتقدوا مثله إباحتها شرعًا؟ كلا. إنه ليعلم أنهم يعتقدون حرمة ذلك، إلا نفرًا ربما كان اعتقادهم كاعتقاده، ومن دونهم آخرون قد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة، فهم لا يبالون: أكان ما وافق هواهم حلالاً أم حرامًا! المسلمون قسمان: الأول المقلدون للفقهاء، وهم السواد الأعظم، وفقهاء المذاهب الأربعة، وهؤلاء يحرمون نصب التماثيل، أفليس من امتهانهم أن يدعوا دعوة عامة لعمل محرم عندهم؟ والثاني المتبعون للدليل، وإنما يعمل الواحد منهم بما يقوم عنده من الدليل فيما يتعلق بخاصة نفسه، وليس له أن يفتات على الجمهور بالعمل، كأن يهدم المساجد التي على القبور لحظرها في الأحاديث الصحيحة، ولا أن ينصب لهم تماثيل، فإن ما يتعلق بالجمهور من شأن الحكام، ولكن له أن يبين رأيه بالدليل، وأن يدعو إليه ويناظر المنكر عليه، فإن أقنعت دعوته الجمهور عمل بها، وإننا نحتج على المنتقد بنفس ما احتج علينا به، وهو حكمة تحريم التصوير ونحت التماثيل، فنقول: إن نصب تمثال لمصطفى كامل لا يخلو من المعنى الوثني الذي يعترف المنتقد بأنه علة حظر نصب التماثيل، فإن أخاه وبعض محرري اللواء غلوا في تعظيمه بالوطنية كما كان (رحمه الله وعفا عنه) يطري نفسه بذلك، فلما لم يلق غلوهم نقدًا ولا اعتراضًا جعلوه بعد موته قطبًا من أقطاب الدين، وغلوا في وصف صلاحه ومزاياه وتبعهم على ذلك بعض الشعراء الذين لا يَزِنُونَ الكلامَ بميزان عقل ولا شرع اكتفاءً بموازين العروض، وتبع هؤلاء من يتبعهم عادةً، فلم يمضِ على موت الرجل أيام معدودات إلا وصار له مثال ديني خيالي غريب، وصار بعض المارقين والجاهلين يقرنونه بالأنبياء أو يفضلونه عليهم، وذكر أخوه في ترجمته أنه ولد على غير الصفة التي يولد عليها البشر عادةً! وأنه ظهر له في طفولته شيء من خوارق العادات، كما ذكرنا ذلك في الرد على (باحثة بالبادية) التي اقترحت بناء مدفن لعظماء الرجال بمصر. أفرأيت من غلا حزبه فيه هذا الغلو، وجعلوه في هذا الأفق الخيالي من العلو، أيستغرب افتتان العامة بتمثاله في بلاد تلتمس فيها البركات، ودفع المضارّ وقضاء الحاجات، من نعل الكلشني وباب المتولي وشجرة الحنفي وعمود الرخام الذي في المسجد الحسيني وغير ذلك من الجمادات، وكذا المائعات كزيت مسجد نفيسة وبعض الآبار العتيقة! ! ؟ لا أرى وجهًا في ذلك التعليل لنصب تمثال لرجل خلق له أخوه صورة دينية كصور أصحاب الآيات والخوارق، وأنشأ بعض الشعراء يخلع على هذه الصورة من حلل الخيالات الوهمية والخرافية ما تجود به أقلامهم، وناهيك بجود الشعراء في الكلام! إن كثيرًا من الأصنام التي عبدت كانت تماثيل لأناس عظمهم قومهم تعظيمًا دنيويًّا، ولما طال عليها العهد عبدت وصار يتوسل بها إلى الله أو تطلب منها الحاجات، فسد الدين هذا الباب سدًّا محكمًا، فهو لا يأذن لأحد بأن يتخذ صورة ولا تمثالاً لأجل تعظيم صاحبه. ولا يقاس نصب مثل هذا التمثال على الصور والرسوم التي يستعان بها على العلوم كالطب والتشريح وعلم وظائف الأعضاء (Physiologie) أو على اللغة لِيَعْرف الحيوانات التي وُضِعَتْ لها الألفاظ مَنْ لم يكن رآها، معرفة صحيحة لا شبهة فيها، فإن إحالة الكثير من كتب اللغة العربية في تفسيرها على المعرفة لا يفيد، فإذا قيل: النسر طائر معروف، والعقاب طائر معروف، ولم يكونا معروفين عندك، وأن هذا هو النسر وهذا هو العقاب لا يفيدك قول اللغوي شيئًا، ولا يقاس أيضًا على الصور التي يستعين بها الحكام على حفظ الأمن وتربية المجرمين. فأمثال هذه الأغراض الصحيحة من التصوير هي التي كان يقول الأستاذ الإمام: إن الإسلام يجل عن تحريمها، وأذكر أنني ناظرت بعض علماء طرابلس فيها قبل هجرتي إلى مصر، وذكرت له خمسة مقاصد صحيحة للتصوير فوافقني على ما ذكرت من كون علة تحريم التصوير دينيةً، وكون هذه المقاصد صحيحة لا يحرمها الشرع. * * * (انتقاد جريدة طرابلس) قرأ كثير من المنصفين ما كتبناه عن طرابلس، فقالوا: إنه بيان صحيح لحالها، واعتذار عما رُمِيَ به أهلها من اللوم والذم لذنب أتاه شقي يوجد مثله في كل بلد. ولكن تلك الكتابة ساءت نفرًا من الطرابلسية، فهموا أنهم هم المقصودون بمن أثروا من الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، فأرادوا أن ينتقموا من الكاتب بتهييج أهل طرابلس عليه وإيهامهم أنه أهانهم أجمعين، وبلغني أنهم كانوا يطوفون على الأدباء ويطلبون منهم أن يكتبوا في الرد على المنار، ووعدت جريدة طرابلس بأن تنشر ما يَرِد عليها من الرد. واتفق أن رأيت مدير جريدة طرابلس بالقرب من المحكمة الشرعية، فأخبرني بما ينكره المنكرون من عبارة المنار عن طرابلس وبأنه رد عليهم واعتذر عن المنار بقدر استطاعته مع أنه موافق لهم في بعض ما انتقدوه، لعدم اعتياد أهل هذه البلاد أن يسمعوا في الجرائد نقدًا إلا بقصد الذم والإيقاع. وعلمت منه أن أَنْكَرَ ما نكروه هو حكاية قول من كتب إلينا (اتْرُكْ فيحاء الأشقياء) إلخ، وقال: ما كان يجوز أن يكتب مثل هذا، وإن كان حكاية. فقلت: لكننا نقلناه لنرده، ونقولَ: إنه في غير محله. قال: إنهم يقولون: إنه طعن على كل حال لا يصح أن يذكر. فقلت: وماذا تقولون في حكاية القرآن الحكيم للطعن فيه وفي النبي صلى الله عليه وسلم بمثل قوله عز وجل: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) ، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ} (الفرقان: 4) ؛ إلخ؟ فسكت. قلت ثم ماذا؟ فذكر ما كتبته عن الجمعية الخيرية العثمانية. قلت: وهذا حكاية أيضًا لم أقله من عند نفسي، بل لم أكن حين كتبته أعرف من أعضاء هذه الجمعية غير من أشرت إليهم. وإن ما كتبته عنها هو أقل ما سمعته، وبلغني أن جمعية الاتحاد والترقي ترى أن هذه الجمعية مقاومة لها وللحكومة الدستورية، فكتابتي هذه وأنا من أنصار جمعية الاتحاد تصلح أن تكون دفاعًا عن جمعيتكم، أو تلطيفًا لما يقال عنها عند اللجنة العليا لجمعية الاتحاد والترقي في الآستانة. قلت ثم ماذا؟ فذكر أن ما كتبناه عن الذين أقاموا المباني الجديدة في جهة التل، يُشْعِرُ بأنهم ما قدروا على ذلك إلا بما أكلوه من الرشوة. فقلت: إن هذا غير مقصود، فأنا أعلم أن ثروة أكثر أصحاب هذه المباني قديمة وليست من جهة الحكومة. فإذا كانت عبارة المنار تدل على أن الذين بنوا القصور في جهة التل هم الذين أثروا من الرشوة في الحكومة، فأنا أعترف بأنها لم تؤد مرادي، إذ لم أرد ربط مسألة عدم وجود موارد جديدة للثروة في طرابلس غير الرشوة لبعض رجال الحكومة بمسألة العمارات في جهة التل والقبة على هذا الوجه، وإنما ذكرت ذلك بالمناسبة وسأراجع المنار. ثم ذكر مسألة عدم تقدم طرابلس في العلوم والتجارة، وأنه كتب في المنار بأسلوب فيه مبالغة وشدة في النقد لم تتعوده سوريا كما تعودته مصر. قلت: إنه نقد صحيح والغرض منه صحيح، وهو أن يتنبه أهل بلدنا إلى ما يجب عليهم، لتدارك ما أصابهم في الأيام الماضية. وإن ما كتبته الآن غير كافٍ؛ لأنه إشارة جاءت بطريق العرض ولا بُدَّ أن نُعوِّد قومنا على الانتقاد الشديد في المصالح العامة، ولا خير في الجرائد التي لا يكتب فيها إلا المدح والإطراء، لأجل الاستمالة والاسترضاء، أو الذم والهجاء، لأجل التشفي أو الإيذاء، وإذا كان الناس هنا يشكون من مقال كتب لأجل الدفاع عنهم، والرد على من أساء الظن في

فاتحة السنة الثانية عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة الثانية عشرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجًا، ولا جعل علينا فيما شرعه لنا من الدين حرجًا، بل جعل مع العسر يسرًا، ومع الشدة فرجًا، ومن يتق الله بإقامة سنته يجعل له مخرجًا إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرًا. والصلاة والسلام على من بعث إلى الأبيض والأحمر، وقام بأمر ربه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) ، فمكر به قومه؛ ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه، فهاجر من وطنه ووطنهم فتتبعوه وحاربوه، حتى شجوا رأسه، وكسروا سنه، وعذبوا من اتبعه من ضعفاء المؤمنين، فصبر وصبروا حتى كانت العاقبة للمتقين، {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الغَالِبِينَ} (الصافات: 116) . وبعد؛ فإنا نَقُصّ في فاتحة منار هذه السنة وهي الثانية عشرة له، نبأ من تاريخه الصريح، الذي كنا نشير إليه بالتلويح؛ تذكيرًا وتفصيلاً للقراء السابقين، وعبرة للقراء اللاحقين، وأخص العثمانيين الذين طالما ارتعدت فرائصهم عند ذكر المنار، حتى ربما كنى عنه محبوه بلفظ النار. أنشئ المنار في أواخر شوال سنه 1315، وكان صحيفة ذات ثمانِ صفحات، وقد بينت في العدد الأول منه الغرض من إنشائه، ومذهبه في الإصلاح الديني والاجتماعي، وسكتُّ عن بيان مناهجه في الإصلاح السياسي، مع التصريح بنزعته العثمانية، وخدمته للدولة العلية. وإنما أسكتني عن ذلك الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى) فقد كنت استشرته في إنشائه، وقرأت له تلك الفاتحة قبل طبعها، وكان فيها أن من مقاصده بيان حقوق الأمة على الإمام، وحقوق الإمام على الأمة، فاستحسن كل ما أودعته تلك الفاتحة إلا هذه الكلمة، فاقترح عليَّ أن أحذفها، ولم يراجعني في شيء غيرها، وكان مما قاله في ذلك: (إن المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن) وإن الخوض في السياسة العثمانية فتنة يخشى ضررها ولا يرجى نفعها، وإن الناس ها هنا لا يحبون أن يسمعوا في السلطان والدولة إلا ما يشتهون، ومصر ليس فيها سياسة، والمسلمون لا ينهضون إلا بالتربية والتعليم، فلا تخلط السياسة بمقاصدك الإصلاحية؛ لئلا تفسدها عليك، فإنها ما دخلت في عمل إلا وأفسدته. هذا معنى ما قاله، وقد حذفت تلك الكلمة استجابة له، وليت السياسة تركتني، أو سالمتني كما سالمتها؛ ولكن أَبَى عليها الخرق والعتوّ، إلا أن تجاهد مني غير عدو، فآذنتني بالحرب وآذتني في الأهل والصحب، حتى ألجأني اعتداؤها على حقيقتي إلى التقصي في استعراف ظلمها لأمتي، ثم إلى الدخول في زمر المجاهدين لرؤسائها وأعوانها الظالمين، {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} (الذاريات: 45) جئت مصر وأنا أحسن الظن بالسلطان، دون من يحيط به من الوزراء والقرناء والخصيان، وأسيء الظن بطلاب الإصلاح من الأحرار، وأعتقد أنهم إنما يطلبون الرتب والأوسمة والدينار، وقد كنت أصرح بهذا وذاك في السنة الأولى مع المطالبة بالإصلاح، والشكوى من عاقبة الظلم والإفساد، وما كنت لأقول إلا ما أعتقد، وأبث إلا ما أعلم وأجد. منع رشيد بك والي بيروت (أحد أركان الإفساد في حكومة الاستبداد) توزيع العدد الثاني من السنة الأولى، وأرسل البرقيات إلى جميع أنحاء الولاية بوجوب جمع ما وزِّع منه وإحراقه، ولم يكن فيه شيء مما كانت تنكره الحكومة في ذلك الوقت، وإنما فعل ذلك مرضاة للشيخ أبي الهدى أفندي الصيادي الذي كان يعلم أني من حزب السيد جمال الدين الأفغاني، فهو الذي أوعز إلى الوالي بأن يصادر المنار، كما أوعز بذلك إلى بدري باشا متصرف طرابلس الشام، فصار كل منهما يمنع بعض الأعداد التي يؤذن بتوزيعها في الآستانة وغيرها من البلاد، حتى هبطت الإرادة السنية، وصدرت الأوامر العليا، بمنعه من جميع الولايات العثمانية، وذلك قبل أن يتم له نصف سنة! لم يشف هذا غيظ أبي الهدى أفندي، فأوعز إلى بدري باشا وأعوانه بأن يؤذوا والدي وإخوتي، وينذروا عشيرتي وذوي مودتي، ولما رأى بدري باشا أن مجلس إدارة اللواء لا يوافقه على ما يقصد من الإيذاء، وأن الإيذاء بغير يد الحكومة لا يشبع تلك النفس الضارية المنهومة، أبدى هو وشيعته للسيد الوالد (رحمه الله تعالى) نواجز الشر، ثم أشخصوه إلى مصر؛ ليحملني على مشايعة أبي الهدى، وعدم المبالاة بمن دونه من الورى. وبعد طول المذاكرة رضي مني بأن أكتب إليه كتابًا مني أبين له فيه أنه ليس من مقصدي الطعن فيه، وأنني لا أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وكتب هو إليه كتابًا آخر، فما عتم أن جاءنا منه الجواب، وهذا نص ما كتبه إليَّ بخطه: الحمد لله وحده. من الفقير إليه محمد أبو الهدى الصياد الرفاعي عُفِيَ عنه، إلى جناب الأديب الكاتب الشيخ رشيد رضا أفندي كان الله لنا وله وللمسلمين. وصلني قُبل كتابكم، وفي هذه المرة أخذت كتابًا من والدكم وكتبت له الجواب في بريد اليوم، فكن ريض الخاطر طيب البال، نعم إني أرى جريدتكم طافحة بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به إلى الحسينية التي كان يزعمها زورًا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميًّا أنه مازندراني من أجلاف الشيعة بعد المخابرة مع سفارة إيران بدار السعادة والسفارة السنية في إيران، وهو حي وما قدر على الدفاع، وهو مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية، وأراك تملأ جريدتك كل يوم بانتقاد الصوفية بأبحاث جلها ما هي من طريقهم وكذا أولتها، وفي بعضها أنت محق بلا شبهة، إلا أنك تعلم أن العلماء الآن ما هم كالشافعي وأبي حنيفة وعظماء السلف تمسكًا بالشرع، ولا عامة الأمة كالعامة الأول، فلو أنصفت وخدمت دينك بغير هذه المواضيع، وإذا ألزمك طورك وقلمك بالتطرف، فهنالك تنتقد أعمال الأمم السائرة من غير الإسلام انتقادًا عقليًّا يستميل لك القلوب ويرضي عنك ربك - لكان أولى، ولما طاب قلبنا لك نصحناك، والموعد الله في كل غاية، والسلام 19 رجب سنة 1316. ومن هذا الكتاب يعلم أن ما كان يؤلمه من المنار محصور في أمرين، أحدهما: التنويه بالسيد جمال الدين الأفغاني وذكره بلقب (السيد) . ولم أكن أمنح أبا الهدى هذا اللقب؛ لأنني لا أعتقد شرفه. وثانيهما: انتقاد خرافات أهل الطريق التي جعلها أساس مجده. ولكنه كان يوهم السلطان أن المنار لم ينشأ إلا لأجل الطعن فيه، كما يعلم مما يأتي. فكتبت إليه كتابًا بيَّنت فيه أنني لم أكتب ولا أكتب إلا ما أعتقد أنه نافع، وذكرت له رأيي في السيد جمال الدين الأفغاني، فلم يلبث أن أجابني بهذا الكتاب بخطه: ولدنا الروحاني الأديب الأريب الفاضل الشيخ محمد رشيد أفندي آل رضا المحترم: أدعو لكم ولوالدكم بالخير والعافية ودوام التوفيق، وجدًّا صرت ممنونًا من تحريراتكم المرسلة، والمأمول من عناية الله وفضله أن يديم لكم التوفيقات فيما يرضيه، وقد حصل الآن قيد رؤوس أدرنه من مراتب العلمية الشريفة لك، فهي إن شاء الله أول الفيوضات، ولا يجنحن لبالك أن ذلك لغوائش هذه الدنيا، بل إني أعجبني قولك واطمأن قلبي لصدقك ولبراءتك، وأرجو الله إصلاح شأنك في الله كما هو مطوي في كل من له للجناب الرفيع نسبة. وأوصي رفيقك بالثبات والاستقامة على ما يبيض الوجه حالة القدوم على الله ورسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم [1] وبحوله تعالى عند مجيئكم إلينا وانفكاكم عن هذه العوارض الحاضرة الزائدة التي لا تنطبق على مجد النسبة نوعًا ما، وإن كان قصدكم حسنًا، فهنالك تنبلج فيكم أنوار نسبتكم بالتحقق في الطريق الأقوم وتحت نظر سر الوجود صلى الله عليه وسلم، إذن خدمتكم للدين وللمسلمين على النهج الشرعي الصحيح الأمين، ومني لكم الدعاء وهو المطلوب منكم والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... 16 شعبان سنة 1316 ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه محمد أبو الهدى ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنه قرأت هذا فبادرت إلى إرسال كتاب إليه جزمت فيه بأنني لا أقبل الرتبة العلمية التي طلبها لي، وإنني من الذين يرغبون عن الرتب والأوسمة، فيجب الرجوع عن طلبها، وإنني لا أستبدل بخدمة المنار للملة خدمة أخرى مهما كان مظهرها وفائدتها، وإنني لا أطلب من الآستانة إلا الإذن بدخول المنار لسوريا وغيرها من ولايات الدولة. واعدته في هذا الكتاب أو فيما قبله بترك التنويه بالسيد جمال الدين؛ مادام المنار مأذونًا له بدخول بلاد الدولة، وسكت على ذلك وسكتنا. وبعد ثلاثة أشهر وأيام من هذه المكاتبة، كتب ناظر خارجية إنكلترا إلى لورد كرومر عميد دولته في مصر يقول: إن سفيرها في الآستانة كتب إليه يخبره أن رئيس كتاب السلطان جاءه، وقال له: إن في مصر جريدتين معاديتين لشخص السلطان، وهما: المنار والقانون الأساسي، وإن الخديوي ومختار باشا الغازي يساعدانهما، وإن السلطان يرغب إليه بأن يسعى لدى حكومته بإبطال هاتين الجريدتين، ويتخذ ذلك يدًا يكافئه السلطان عليها! ! فأخبر اللورد الأمير بذلك، فعجب أشد العجب؛ لأنه لم يكن هو ولا مختار باشا بمساعد للمنار ولا للقانون الأساسي، بل لم يكن يعرف من مشرب المنار إلا ما أخبره الأستاذ الإمام من أنه جريدة دينية أدبية. سألني الأمير عن ذلك سرًّا في يوم عيد الأضحى (سنة 1316) عندما أردت الخروج مع العلماء من مقابلة التهنئة له بالعيد، وأمرني بأن أذهب إلى مقابلة أحمد شفيق بك وكان رئيس القلم التركي (وهو اليوم أحمد شفيق باشا رئيس الديوان الخديوي) ، فذهبت من حضرة الأمير إلى غرفته، وكان يقرأ المنار ويعلم أنه ليس فيه تحامل على السلطان، بل لا يخلو من مدح له، ورأيته جازمًا بأن أبا الهدى هو الذي سعى عند السلطان هذه السعاية، وضرب سهامًا فيها إلى عدوين من أعدائه: الأمير ومختار باشا الغازي. فأخبرته بأن بيني وبين أبي الهدى سلمًا، وذكرت له هذين الكتابين فطلبهما مني؛ لأجل أن يحتج بهما، فقلت له: إن المراسلة بالأمانة، وإنني لا أجيز لنفسي أن أظهرهما مادمت أعلم أن إظهارهما يؤذيه بتغيير السلطان عليه، واستدلاله بهما على خيانته له إذ يجعله ترسًا يدافع به عن نفسه , وأما اللورد فقد جرى في المسألة على ما تعود من المحافظة على حرية الصحافة , ولكن بعد البحث ومعرفة الحقيقة. كرَّ أعوان أبي الهدى على أهلي كرة ثانية، وكانت الدولة دولتهم فضربوا أحد إخوتي وهو خارج من طرابلس إلى القلمون ليلاً، وسرقوا فرسًا لنا، وحاولوا أخذ مسجدنا منا، وأغروا جريدة طرابلس الشام بالطعن في المنار، والتمسوا لها المساعدة من كل من يكتب في طرابلس حتى أصدقائي، فاضطررت إلى كتابة مقال عنوانه (مؤاخذة العلماء) (39ص و51 م2) أسكتها به عن التمادي في الطعن. ولكن ألسنتهم لم تسكت عن السب واللعن، إلا بعد أن أديل منهم، وخضدت شوكتهم وذهبت ريحهم، وخرج بدري باشا من طرابلس مذءومًا مذمومًا، وبدلنا به عبد الغني باشا العابد وكان لنا وليًّا حميمًا، بل غلب نفوذ عزت باشا العابد على نفوذ الشيخ أبي الهدى في جميع البلاد السورية، فازداد انتشار المنار فيها وإن لم يرسل إلا في البرد الأجنبية، وأمن الأهل والقراء على أنفسهم طائفة من الزمان حتى كان منذ أربع سنين ما كان. ذلك ما كان في السنة الأولى والثانية من سني المنار. وفي أواخر الثانية وأول الثالثة صار يتردد علينا بعض جواسيس ممدوح باشا ناظر الداخلية في الآستانة، ويعرض علينا الرتب والوظائف اللائقة إذا نحن تركنا المنا

خطاب صاحب المنار على طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب صاحب المنار على طلاب الكلية الأمريكانية المسلمين في بيروت أيها الأخوة الكرام: إنكم أنتم محل رجاء البلاد بتربيتكم وما تتلقون من العلوم العالية؛ لذلك أحب في هذا الوقت القصير أن أذكركم بما ينبغي لطالب العلم أن يكون عليه؛ ليتحقق رجاء أمته فيه. إن العلوم تُطْلَب لغرضين صحيحين: أحدهما تكميل النفس وترقية العقل. وثانيهما العمل بالعلم، وللعمل به مسلكان: أحدهما جعله حرفة ومُسْتَغَلاًّ للعامل، والآخر جعله وسيلة لترقية الأمة وإعلاء شأنها، ويمكن الجمع بينهما. الغرض الأول لا بد منه لكل عاقل، وهو العون الأكبر على الغرض الثاني، فإن من استنار عقله بالعلوم، وصار صحيح الحكم فيها، تعلو همته، ويكون جديرًا بالإحسان في العمل والإتقان للصنع، فيجب إذًا أن يكون هو أول شيء تتوجه إليه همتكم، وتعظم فيه رغبتكم. يظن بعض ضعفاء العقول وصغار النفوس أن طلب العلم لأجل ترقية شأن الأمة به، ينافي ما أودع في الغرائز من كون منفعة الإنسان لنفسه هي العلة الغائيَّة لكل عمل من أعماله، وأن من توجه إلى ذلك وجعله همه من حياته، تفوته مصالحه ومنافعه التي لا بد له منها. تلك خديعة الطبع اللئيم، ووسوسة شيطان الخسة والصغار لصغار الهمم، فقد رأينا بأعيننا وسمعنا وروينا عن التاريخ أن الذين يقفون حياتهم على خدمة أمتهم لا يعوزهم الطعام واللباس اللائق بهم، بل كانوا يفضلون عيشتهم على كل عيشة سواها؛ لما لهم من الكرامة ورفعة الذكر، إن لم يكن في بداية أمرهم ففي نهايته. إن من يسلك في طلب العلوم مسلك الاحتراف، قصده منه أن يجعله دكانًا يتجر به أو بستانًا يستغله؛ ليعيش منه لا يرتفع به إلى ما هو أعلى من هذا القصد، فإن قيمته في الوجود لا تعلو قيمة غيره من أصحاب الحرف والصناعات العملية: كالنجارة والحدادة والزراعة. لا أقول: إن هؤلاء لا قيمة لهم، وكيف أقول ذلك وأعمالهم لا بد منها للمجتمع الإنساني، وإنما أقول: إن هؤلاء هم أهل الطبقات الدنيا من الناس الذين لم يرتقوا في أفق الإنسانية. ويسهل على طلاب العلوم لأجل الكسب والاحتراف أن يكونوا في أفق أعلى من أفقهم بأن يوجهوا أنفسهم إلى إعلاء شأن الأمة بكسبهم وأعمالهم. أيها الإخوة: إن استعداد البشر للكمال لا حد له يعرف، ولا طرف له يوقف عنده، وإن الإنسان قد فطر على طلب الكمال، فلا يصل إلى شيء منه إلا ويطلب ما فوقه، وإن أفراده يتفاوتون في ذلك تفاوتًا لا نظير له في غيره من المخلوقات، فمنهم من يكون وجوده بمقدار محيط جسمه، لا يكاد يهمه شيء وراء توفية مطالبه كبعض الحيوانات الدنيا، ومنهم من يتسع وجوده حتى يملأ بلدًا كبيرًا أو مملكة عظيمة، وربما تعلو ببعض الناس همتهم إلى جعل وجودهم المعنوي ساريًا في أمم كثيرة، مالكًا للأرض التي يعيش فيها الإنسان. ولا نتكلم في هم الإنسان واستشرافه لما هو وراء ذلك من عالم الغيب، إذا كان فضل الإنسان وسعة وجوده الإنساني على قدر نفعه بعلمه وعمله، فلا شك أن من تتوجه نفسه إلى نفع جميع البشر، يكون أفضل وأكمل ممن لا يتوجه إلا إلى نفع أمة واحدة أو شعب واحد. ولكن كيف يتأتى للفرد من الناس أن يخدم أممًا كثيرة؟ الجواب على هذا السؤال يعرف من القاعدة المعقولة التي جاء بها الحديث النبوي، وجرى عليها الشرع الإسلامي، وهي (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول: الأقرب فالأقرب) ، وقد قال فقهاؤنا: إن من وجد من القوت زيادة عن كفايته قدمه للأقرب إليه من ولد وزوج ... إلخ، فإن وجد فضلاً أنفق منه على غير الأقربين من ذوي الحاجات، حتى قالوا: إنه يجب على المسلم أن ينفق على المضطر من غير المسلمين، ما لم يكن محاربًا لنا، وإنه يقدم الجار على غيره؛ لقربه! فعلى هذا يجب علينا أن نبدأ بنشر العلم، والقيام بالأعمال النافعة في أمتنا ومملكتنا، وأن يقدم أهل كل بلدة خدمة بلدهم الذي يقيمون فيه على غيره من بلادهم ثم نفيض بعد ذلك من علومنا وأعمالنا النافعة على غيرنا من الأمم على الوجه الذي سبقتنا إليه الأمم الحية في هذا العصر، وأمامكم العبرة في المدرسة التي تتعلمون فيها. أليس منشئو هذه المدرسة يقصدون بها جعل العلم الذي ينفع الناس وسيلة لنشر لغتهم، وبث تعاليم مذهبهم الديني في نفوس من يُعلِّمونهم؟! بلى، وإن في حالهم هذه لعبرة لنا، يجب علينا أن نعتبر بها، وأن نرفع أنفسنا لتكون أولى بهذه الثقة منهم. يجب عليكم أن تتعاونوا وتعتصموا بعروة الاجتماع، وأنكم ربما تلقون كيدًا وإحراجًا؛ لتشذوا وتتنكبوا جادة الاعتدال في استمساككم بدينكم وحرصكم على الاجتماع والتعاون، فيجب أن تتسع صدوركم لجميع ما تنكرون من معاملة من معكم، وأن تقابلوهم بالأدب في القول والفعل؛ لأن الأدب من الفضيلة وهي مطلوبة لذاتها؛ ولئلا يكون لهم عليكم حجة بعد أن ثبتت لكم الحجة عند دولتكم ودولتهم. إنكم لم تقصدوا بما كان منكم إلا إرضاء ضمائركم، والمطابقة بين عقائدكم وأعمالكم، فحسبكم أن يتم لكم ذلك بالهدوء والسكينة والأدب. وإني أُجِلُّكُمْ عن قصد العناد لرؤسائكم وأساتذتكم أو الجنوح للاستعلاء بالظفر لذاته. وأوصيكم بالمحافظة على الصلوات الخمس ولو منفردين في حجراتكم، وبالحرص على صلاة الجماعة كلما تيسر لكم ذلك ولو على أرض حديقة المدرسة، فقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) . إنكم قمتم بواجب ديني سلبي وهو الامتناع من دخول الكنيسة؛ لسماع تعاليم دين غير دينكم، فعليكم بهذا العمل الإيجابي الذي هو عماد الدين، {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) .

المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسلمون في مدارس الجمعيات النصرانية المدرسة الكلية الأمريكانية المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت كسائر مدارس الجمعيات النصرانية في الشرق، غرض مؤسسيها منها جعل العلم وسيلةً إلى الدين، ولبعضها غرض سياسي أيضًا، فهي طريق من طرق الدعوة إلى مذاهب مؤسسيها في دينهم , ولهم وسائل أخرى: كالمستشفيات والمكتبات وحجرات القراءة يبثون فيها دعوتهم، وينشرون بها مذهبهم، إلا أن المدارس الأمريكانية أحسن من غيرها تعليمًا، وأعلى تأديبًا، وأشد استقلالاً، وأقل تعصبًا على المخالفين في الدين والسياسة؛ إذ ليس لأمريكا مطمع في هذه البلاد؛ ولكن قد تؤيد هذه المدارس سياسة إنكلترا. إن عقلاء المسلمين يقدرون غيرة مؤسسي هذه الجمعيات الدينية حق قدرها، ويعرفون مقدار المستخدمين فيها لنشر دينهم، والتوسل إليه بالوسائل النافعة للناس في أجسامهم وعقولهم، ويتمنون لو يوجد في أمتهم الإسلامية أسخياء أجواد، يبذلون المال لنشر الإسلام مع العلم النافع الذي هو أساس بنيانه، والعمل الصالح (كالمستشفيات) الذي هو أقوى أركانه , وإن عامة المسلمين يشعرون بشدة الحاجة إلى هذه المدارس التي أسست على دعوة النصرانية؛ لما فيها من العلم، ويعلمون بما فيها من الضرر لأولادهم في الدين , فالعلم يقتضي الإقبال عليها، والخوف على عقائد النشء الجديد يمنع من الثقة بها، والجمهور مختلفون في الترجيح بين المانع والمقتضي. فمنهم من يرجح المقتضي من غير تفكير في عواقب المانع؛ لأن الشعور بالحاجة إلى العلم قد استحوذت على فكره، حتى حال بينه وبين سلطان قلبه , ومن يرجحه لاعتقاده أن المسلم لا يكون نصرانيًّا؛ لأن الدين قد سار على سنة الارتقاء تبعًا لاستعداد البشر، فكان الإسلام منتهى ارتقائه، وهو الدين المعروف تاريخه، المتواتر كتابه، المحفوظ سند سنته، ومن وصل إلى الدرجة العليا في شيء لا يرضى لنفسه أن يهبط إلى ما دونها , ولذلك يبذل دعاة النصرانية الألوف المكررة من الدنانير في دعوة المسلمين إلى دينهم بالأساليب العجيبة، ويقضون السنين الكثيرة في البلد من بلادهم، ولا ينجحون باستمالة رجل واحد وإرجاعه عن الإسلام! وإن كانوا يوهمون جمعياتهم التي تمدهم بالمال، فيكتبون إليها في كل عام أنه قد تنصر في هذه السنة على أيدينا فلان وفلان، ويذكرون أسماءً سموها بأقلامهم لم يعرف مسمياتها الزمان , ولكن الإسلام يجذب إلى رحابه الفسيح في كل سنة ألوفًا من الناس بغير دعوة ولا ترغيب , كترغيب دعاة الإنكليز والأمريكان، ولا ترهيب كترهيب دعاة الروس في بلادهم! . نعم ربما يقذف الفقر في كل حقبة من الزمن برجل من المسلمين جنسيةً لا حقيقةً، فيلقيه في ملجأ من ملاجئهم، أو فناء من أفنيتهم، فيسهل له العوز انتحال اسم من أسمائهم، أو لقب من ألقابهم، وربما أغراه المال بأن يكون داعيًا من دعاتهم كما فعل (أرميا الحزين) الذي استجاب لرقيتهم بمصر، ثم فضحهم وهو يبشر لهم في الجزائر؛ إذ كتب مقالات في المؤيد بيَّن فيها أنهم يدَّعون في كل بلد إسلامي نجاح دعوتهم في غيره، ويدعون في تقاريرهم التي يرسلونها إلى جمعياتهم أنهم ناجحون في كل بلد، والغالب فيمن يجنح لهم أن يعود إلى الإسلام ولو بعد حين. وقال السيد جمال الدين الأفغاني في بيان سبب إخفاق دعوة المبشرين بين مسلمي الهند: إن المسلم لا يمكن أن يكون نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة، فإنه يقرر الإيمان بعيسى وبما جاء به من عند الله - تعالى - دون ما زاده الغلو على ذلك، ويزيد على ذلك الإيمان بمحمد - عليهما الصلاة والسلام - وبما جاء به مصدقًا لما قبله. وحدثني شاكر بك الذي كان رئيسًا للجزاء بطرابلس الشام من بضع عشرة سنة، أنه كان في بلدة ليس فيها مدرسة للبنات إلا جمعية للراهبات، فوضع بنتًا له فيها فرأتها أمها يومًا ترسم شكل الصليب على وجهها أو صدرها، فوجمت وامتعضت، وشكت وبكت، وقالت: لا بد من إخراجها من هذه المدرسة , قال: فهونت عليها الأمر، وكنت أقول لها: جانم إن ابن المسلم لا يكون نصرانيًّا أبدًا، ولم أقبل توسلها إليَّ بإخراجها، وقد تعلمت حتى أتمت تعليمها عند الراهبات، وهي الآن تقرأ القرآن الشريف وتصلي وتصوم، ولم يضرها حرص الراهبات على تنصيرها. هذا ما يراه بعض الذين يعلمون أبناءهم وبناتهم في هذه المدارس الدينية، ومنهم من يرجح المانع على المقتضي، كما هو المعتمد في المسألة عند أهل الأصول، كما أشار إلى ذلك الشاعر بقوله: قالوا فلان عالم فاضل ... فأكرموه مثلما يرتضي فقلت لما لم يكن عاملاً ... تعارض المانع والمقتضي ومبلغ حجة هؤلاء أن مذاهب الفقهاء المتبعة تحظر على المسلم المتمكن في دينه أن يدخل مع النصارى وغيرهم من المخالفين لنا في أصل الدين معابدهم بهيئتهم الدينية التي يدخلون فيها، وصرحوا بأنه إذا تشبه بهم في ذلك بحيث يظن أنه منهم صار مرتدًّا، وإن بقي متميزًا عنهم بحيث لا يشتبه بهم لا يكون مرتدًّا إلا إذا قال أو فعل أو اعتقد ما يخالف ما هو مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة , ويقولون: إن من الخطر على دين غير المتمكنين في دينهم: كالأولاد الذين يوضعون في هذه المدارس، أن يسمح لهم بهذه الأعمال التي يغلب أن تكون عندنا كفرًا وردةً، وأهونها أن تكون معصيةً، فإذا علق النوع الأول في ذهن التلميذ منا، ومات قبل أن يصحح اعتقاده بمعاشرة المسلمين العارفين، أو مراجعة العلماء الراسخين مات مرتدًّا، لا نرثه ولا نعامله معاملة موتانا إذا كنا عالمين بحاله، وإذا مات أبوه أو أمه أو غيرهما من الأقربين في حياته لا يرث هو منهم شيئًا. ويقولون أيضًا: إن بعض فقهائنا صرح بأن الرضا بالكفر كفر، فإذا رضينا بشيء من ذلك نكون نحن مرتدين أيضًا. وهذا الذي يتخوفونه على دينهم ليس ببعيد عن مدارس الكاثوليك والأرثوذكس ولا سيما مدارس الجزويت، كما بلغنا من مصادر كثيرة تصل إلى درجة التواتر المعنوي؛ من أنهم يلزمون أولاد المسلمين بجميع تقاليدهم الدينية حتى تعظيم الصور، والتماثيل، والاستغاثة بالقديسين، وذلك في حكم الإسلام شرك نعتقد أنه طرأ على النصرانية بعد المسيح - عليه السلام - وحوارييه عليهم الرضوان بعدة قرون , وإن كان القرآن لا يدخلهم في لقب المشركين ولا نحن نخاطبهم به؛ لأنهم يتبرأون منه ويتأذون به، وإيذاؤهم محرم علينا سواء كانوا ذميين أو معاهدين، وقد بينا ذلك في المنار أكثر من مرة , أما ما ذكرناه في هذا المقال فبيان لما يعتقده المتساهلون وغير المتساهلين منا، نرجو أن يكون سببًا لحسن التفاهم بيننا وبين العقلاء المعتدلين منهم: كعمدة المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت. قد قلنا في أول المقال: إن مدارس الأمريكان أقل تعصبًا على المخالفين، وقد جرى بيني وبين أحد أساتذة المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت حديث في الخلاف الذي جرى بين تلاميذ المسلمين وعمدة المدرسة على دخول الكنيسة؛ لسماع الوعظ الديني. إذ امتنع التلاميذ من الدخول بعدما صارت الحكومة العثمانية دستوريةً حرةً، وأصرت المدرسة على إلزامهم أحد الأمرين: إما الاستمرار على دخول الكنيسة كما كان الأمر على عهد الحكومة الاستبدادية، وإما الخروج من المدرسة وترك التعلم فيها , فاجتمعوا وتقاسموا لنثبتن على رأينا: لا ندخل ولا نخرج، حتى رفع الأمر إلى الآستانة، وبعد مراجعة حكومتنا هناك لسفير الولايات المتحدة، تقرر بينهما ما بلغته نظارة الداخلية لوالي بيروت وهو أنه لا يلزم المسلمين دخولُ الكنيسة، بل يجب أن يبنى لهم مسجد يصلون فيه , وأن السفير بلغ معتمد (قنصل) حكومته في بيروت ذلك؛ ليبلغه المدرسة الكلية , وقد كان الحديث بيني وبين ذلك الأستاذ قبل ورود هذا البلاغ من الآستانة، وحضره جماعة من فضلاء النصارى. قال الأستاذ ما معناه: إن المدرسة الكلية لا تعلم التلاميذ التقاليد والأعمال الدينية التي يقررها بعض مذاهب النصرانية، ولا تطعن في أديانهم ولا مذاهبهم التي تخالف مذاهب مؤسسيها، وإنما تلقي عليهم مواعظ عامة تتفق مع كل دين، وإن كانت من الكتاب المقدس؛ لأجل أن تغرس في نفوسهم تقوى الله وحب الفضيلة، وتبعدهم عن الإلحاد والتعطيل، فإن المؤسسين لها من أهل الدين والمحافظة عليه أهم مقاصدهم , وإن المكان الذي تلقى فيه المواعظ الدينية ليس كنيسة مؤسسة لأجل العبادة، بل هو مكان تلقى فيه الخطب العلمية والأدبية وغيرها، ويعزف الحسان فيه بآلات الموسيقى. (قال) : فهل يحرم الدين الإسلامي على المسلمين دخول هذا المكان، ويوجب عليهم مخالفة نظام المدرسة؟ قلت: إن المسلمين فريقان: منهم من يأخذ بالدليل، ومنهم من يتبع فقهاء مذهبه، والمشهور عن فقهاء المذاهب التي عليها هؤلاء التلاميذ أن الدخول إلى معابد المخالفين لنا في الدين ومشاركتهم فيما هو خاص بهم من أمور الدين فيها وكذا في خارجها: إما محرم وإما كفر، في تفصيل لهم في ذلك , فلعل تلاميذكم يعتقدون أن دخول المكان الذي ذكرته من هذا القبيل، وحينئذ يجب احترام اعتقادهم، وإن كان لا يقوم دليل في الإسلام على تحريم دخول مكان مثل الذي ذكرت، ليس معبدًا دينيًّا، ولا يلقى فيه شيء مخالف للإسلام. (ثم قلت) : إن احترام النظام في المدارس والبيوت وكل مكان ركن عظيم من أركان التربية، ومن لم يتربَّ على احترام النظام والتزامه لا يكون رجلاً عظيمًا نافعًا لأمته ووطنه , ولكن احترام الاعتقاد والضمير أقدس وأعلى من احترام النظام، فإن من لا يحترم اعتقاد نفسه يكون منافقًا لا يوثق به في شيء من الأشياء. وإن إكراه التلميذ في ذلك أشد إفسادًا لأخلاقه من كل ما يخطر في البال أنه يفسد الأخلاق؛ إذ لا يرجى ممن لا يحترم اعتقاده أن يحترم أسرته ولا أمته، فضلاً عن احترامه لمن لا يتصل به في وشيجة رحم ولا مصلحة وطن. (قلت) : إنني إذا رأيت إنسانًا يعتقد بأن هذه البلاطة من الرخام (وأشرت إلى بلاطة في الأرض) تنفع وتضر، ورأيته يعبدها ويحترمها، فإنني لا أجيز لنفسي أن أكرهه على دوسها والوطء عليها، ولا أن آمره بذلك إلا بعد أن أقنعه ببطلان اعتقاده فيها , وقد وقع لي واقعة في ذلك: وهي أن رجلاً أخبرني بأن خصمًا لي في محاكمة شرعية حمله كتابًا إلى آخر، وسألني ماذا يفعل فيه، وأنا أعلم أنه يطيعني في كل ما آمره به، وأن في الكتاب حجةً لي على خصمي تصلح فصلاً للنزاع، وتوفر عليَّ وقتًا طويلاً ونفقةً كثيرةً، ولو شئت لأخذت الكتاب فإن حامله لا يخالف أمري، ومع هذا لم أستحل أن آمره بالخيانة. ولما حدثت مشكلة القضاء الشرعي بمصر من زهاء عشر سنين، وعزم الإنكليز على إلزام الخديوي بعزل القاضي المولى من السلطان، وتولية قاضٍ مصري مكانه كره الخديوي ذلك , ولكنه لم يهتد إلى المخرج منه، فطلب أن يجيء الأستاذ الإمام من القاهرة إلى الإسكندرية (وكان الخديوي في مصطافه فيها) ، فجاء - رحمه الله - ليلاً، وقابل الأمير في الصباح، فقال له: إنني طلبتك بلسان البرق؛ لأستشيرك في مشكلة القاضي، وبعد خروجك من هنا سيدخل لورد كرومر؛ لأجل أن يكلمني في وجوب عزل جمال الدين أفندي، وتولية أحد علماء مصر منصب قضاء مصر الشرعي , وسيجتمع بعد ذهابه مجلس النظار هنا؛ لتقرير ذلك، فبماذا أدفع اللورد بحسب رأيك؟ فقال الأستاذ: إن الإنكليز من أشد خلق الله احترامًا لحرية الضمير والاعتقاد؛ ح

الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح الأهم المقدم في المملكة العثمانية كثر حديث الناس في الحكومة العثمانية الجديدة، وما يُنتظر منها من الإصلاح بعد أن قضى أحرار الأمة وجيشها على الحكم الشخصي الاستبدادي، وأدالوا منه حكم الشورى الدستوري، وكثرت أقوال الجرائد في ذلك، ولكننا نرى أكثر الحديث في الأمور الكمالية التي لا يكون إصلاحها إلا في السنين الطوال: كالمالية والمعارف والحربية والبحرية والعدلية (الحقانية) والزراعة، وقلما نرى أحدًا يذكر أهم المهمات الذي يجب تقديمه على كل شيء بلا استثناء، ألا وهو تنظيم الشرطة (الضابطة والبوليس) لأجل حفظ الأمن العام، وتنفيذ الشرع والقوانين بالعدل والمساواة. أعلن الدستور وأعيد القانون الأساسي، فصاح الصائحون بالناس في كل بلد أنِ احتفِلوا به، فاحتفَلوا، وقيل لهم: اخطبوا واهتفوا، فخطبوا وهتفوا،وقام الأحرار والمستعدون للحرية في وجوه أعوان الاستبداد والعبودية فأنزلوا أناسًا عن مراتبهم وعزلوا أفرادًا من مناصبهم وأنذروا آخرين بلاء يحل بهم وبشروا العامة بالخير القريب والعز العتيد، والنعيم المقيم، فذهبت النفوس في فهم ذلك مذاهب، ووردت منه مشارب، حتى فسَّره بعضهم بإباحة الحقوق وإلغاء الإتاوات والضرائب، وقد انقسم الناس في فهم الدستور إلى أقسام ليس من غرضنا بيانها في هذه المقالة، وإنما نقول: إنه يوجد في البلاد العثمانية كثير من المستخدمين في الحكومة، والذين عزلوا بعد الدستور أو استقالوا، ومن أصحاب النفوذ والجاه يمقتون الحكومة الحاضرة، ويحنون إلى الاستبداد السابق؛ لاعتقادهم أنه ينمي مالهم ويوسع دائرة جاههم؛ لأنهم يتبعون هوى رؤسائه مهما كان فيه من خراب ذمتهم ودينهم، وخراب بيوت معظم الأمة، والقضاء العاجل على الدولة. فهؤلاء يوسوسون للعامة ماذا استفدنا من الدستور والحرية؟ كان يستبد بنا في البلد رجل واحد فصار يستبد بنا جميع الأشقياء. ومثل هذا الكلام يروج عند العامة التي تنتظر الراحة والسعادة من الحكومة الجديدة، إذا لم تكذبه هذه الحكومة بالعمل في أقرب وقت. ماذا يجب على الحكومة قبل كل شيء؟ الجواب عن هذا السؤال بديهي، وهو أن الواجب قبل كل شيء، حفظ الأمن العام والحرية الشخصية، ولا يتم هذا على وجهه إلا بتنظيم الشرطة (الضابطة) ولذلك نرى الولاة والمتصرفين يتململون من كثرة الاعتداء بالضرب والقتل، فإذا طولبوا بتربية المجرمين يقولون: إننا ننتظر التعليمات الجديدة في إصلاح الشرطة من الآستانة في أول السنة المالية القادمة. هكذا قالوا لنا عندما تكلمنا معهم، ورأيناهم يعلمون كما نعلم أن من في البلاد من الشحنة والشرطة، قد أفسد أكثرَهم حكمُ الاستبداد الماضي فصاروا أعوانًا للأشقياء والمجرمين، وقد اقترحنا عليهم أن يستبدلوا شرطة لواء بشرطة لواء آخر فاعتذروا عن ذلك بقلة الرواتب، وقالوا: إن من ينقل من بلد إلى بلد يحتاج إلى نفقات جديدة لا يفي بها راتبه، وستزاد الرواتب في أول العام القابل، فيتيسر نقل هؤلاء إلى بلاد لا صلة لهم بأشقيائهم، ويكونون تحت مراقبة شديدة. هذا ما ينتظره والي الشام وجميع ولاة المملكة؛ لأجل حفظ الأمن وحماية الحرية الشخصية. ويحسبهم الجمهور غير مبالين بما يقع حينًا بعد آخر من الجنايات والمظاهرات التي تنبئ باحتقار العامة للحكومة. لولا أن الأجل المضروب للبدء بالإصلاح المطلوب قريب، لخشينا أن يفضي إهمال الحكومة للعامة إلى الفوضى، وإن كان أكثر أهالي بلادنا لا يزالون على حظ عظيم من حب السلامة وحسن الأخلاق، على ما أفسد الاستبداد من أخلاقهم، فقد رأينا مثال ذلك في مصر، فإن الجنايات وإهلاك الحرث والنسل في القطر المصري أشد وأكثر مما هو في القطر السوري على كون الحكومة المصرية أرقى من الحكومة العثمانية. والسبب في ذلك ما أعطته الحرية للعامة من احتقار الحكومة والأمن من سطوتها، إلا أن تثبت تهمة على متهم في المحاكم مع جهل أكثر الأهالي وإفساد الاستبداد السابق لأخلاقهم، ولا تزال الحكومة المصرية في حيرة من أمر الأمن العام على كثرة بحثها وبحث أصحاب الجرائد وغيرهم من الكتاب وأهل الاختبار، في وسائل ذلك منذ سنين. لو أخذ ولاتنا بالحزم في أوائل العهد بإعلان الدستور، وساعدتهم جمعية الاتحاد والترقي التي أخذت بيدها صولجان السلطة عدة أشهر لدى حكومة الآستانة بأمرها، فقبضوا على كل من يرتكب جناية وعجلوا بمجازاته حتى بالقتل، إن قتل لأراحوا أنفسهم وأراحوا الأمة في الحال مما تشكو منه، والحكومة في المستقبل مما سوف تشكو منه، إذا كانت تريد أن تبقي على سياسة الرقة واللطف (النزاكة) التي اتبعتها منذ أعلن الدستور إلى اليوم، وتقيد الحكام بظواهر القوانين. رأى زعماء سياسة الرقة واللطف أننا قد أخذنا الدستور نظيفًا غير ملوث بالدم فيجب أن نتقي سفك الدم في دور الانقلاب، ونداري المفسدين والمجرمين إلى أن يستقر الدستور في نصابه وهو على نظافته؛ ولكن هذا الرأي إنما يصح في بلاد خشي فيها من الفتن والثورات الداخلية، إذا فوجئ أهلها بما يكرهون كبلاد الحجاز لا في بر الشام الذي ليس فيه استعداد للثورة، ولا خطر في بال أحد من أشقيائه؛ أنه يمكنه أن يقف في وجه الحكومة بنفسه أو بعصبته، إذا هي حاولت أن تسلط العدل على الأخذ بناصيته! ! ألا إن أكثر زعماء سياستنا ليجهلون حال الأمة في جميع الولايات، ويولون عليها من الولاة والمتصرفين من لا وقوف لهم على حقيقة حالها، حتى إنني أحسب أن ناظم باشا لا يزال غير محيط علمًا بحال ولايتي بيروت وسورية على ذكائه واختباره لهما في سني الاستبداد وشهور الدستور، فما ظن القارئ بأدهم بك والي بيروت الجديد الذي كان عائشًا في أوروبا فانتقل منها بعد الدستور إلى الآستانة فبيروت! ثم بمثل متصرف طرابلس جاويد بك؟ ولقد يعز على هذا المتصرف وذاك الوالي أن يعرفا حال البلاد وأهلها في زمن قريب لعلتين فيهما: عدم التكلم بالعربية والعزلة. فإنهما يكادان لا يكلمان أحدًا في غير أمور الحكومة الرسمية في دار الحكومة، ومن كان هذا شأنه فكيف يقف على حقيقة حال البلاد، ومن لا يقف على حقيقة حالها، كيف يسوسها على وجه الحكمة والسداد؟ ! . يظن أمثال هؤلاء أنه لا يطلب من الوالي أو المتصرف الدستوري إلا أن يكون عفيفًا مستقيمًا مراعيًا في سيرته للقوانين، وفاتهما أن معرفة حال الناس الذين وضع القانون لأجل إصلاح شأنهم مقدمة على معرفة القانون، والحرص على تنفيذه؛ لأن العدل في التنفيذ لا يكون إلا بتطبيق المواد على الوقائع، وهذا التطبيق يتوقف على معرفة حال المتلبسين بالوقائع التي تطبق عليها تلك المواد وإن وراء ذلك من الاجتهاد في حسن الإدارة، ما لا تغني عنه القوانين وإن نفذت بالعدل. يتوهم بعض الولاة والمتصرفين أن للأشقياء الذين اشتدت جرأتهم في عهد الدستورعصائب تشد أزرهم، وأن الحكومة لا تقدر على تربيتهم إلا بعد تنظيم الشرطة، وأنها إذا حاولت الآن أن تقبض على المشهورين منهم، أو تلزم الشرازم الذين يفتاتون عليها حدهم، وتحفظ هيبتها في نفوسهم - يثورون عليها ويقاومونها بقوة السلاح! وأن تركهم على ما هم عليه هو الواجب الآن؛ عملاً بقاعدة ارتكاب أخف الضررين، وهذا وهْم باطل بالنسبة إلى ولايتي بيروت وسورية، فإن هذه البلاد وإن ساءت حالها وكثر اختلالها في أواخر عهد الاستبداد، فهي لم تصل في الشر والهمجية إلى هذا الحد الذي قد يتوهمه بعض حكامها. هذا التوهم هو الذي كف أيدي الحكومة الجديدة عن تربية المجرمين، فامتدت أيديهم إلى ما لم تكن تمتد إليه في عهد الاستبداد، حتى صار العقلاء يخشون أن يفضي احتقار الأشقياء للحكومة إلى الفوضى، وهم لا يعذرون الولاة على إهمالهم، ولا يعرفون سبب هذا الإهمال؛ إذ لو عرفوه لاجتهدوا في إقناعهم بأن البلاد ليس فيها عصائب ذات قوة ولا جمعيات سرية، وأن الوالي إذا شاء أن يقبض على مجرم وينفذ القانون على أي معتدٍ، فعل، إلا أن يفر الشقي الذي تأمر الحكومة بالقبض عليه قبل أن تصل يدها إليه، وأنه لا يوجد في مدن سورية كلها شقي تحدثه نفسه بأن يعصي على الحكومة جهرًا، أو يغري الأهالي بعصيانها سرًّا، على أن إفهام هذا لوالي بيروت؛ لأجل حمله على القيام بعمل لحفظ الأمن، قد يعد من العبث؛ فإنه لا يتوجه إلى عمل ما في ذلك إلا بعد ورود ما ينتظر من تنظيم الشرطة والشحنة في أول السنة المالية القادمة وما هي ببعيد. يجب أن يعد الولاة ومن دونهم من رجال الإدارة لهذا الإصلاح عدته، فإنه هو الإصلاح الذي يتوقف عليه كل إصلاح، يجب أن يستخرجوا من المحاكم أسماء المحكوم عليهم بالإعدام وما دونه من العقوبات، وينفذوا ذلك كله بمنتهى الجد والحزم، ثم يمنعوا الافتئات على الحكومة بالمظاهرات التي لا يبيحها القانون أو يطلب بها، ما لا يبيحه القانون، ومن أصر على غيِّه يؤخذ منة باليمين. ويجب على الآستانة أن لا تقيد الولاة بقيود كثيرة، وأن لا تجعلهم عيالاً على نظارة الداخلية في كل شيء، ولا في أكثر الأشياء، بل فيما لا بد منه، ولا غنى عنه من الأمور الإجمالية , فيجب أن يباح لرؤساء الحكام من الولاة، وغيرهم الاجتهاد في فهم القوانين، وتنفيذها بالمشاورة، كل فيما يختص به مع تشديد التبعة (المسئولية) عليهم، وجعلهم تحت مراقبة المجالس العمومية التي يجب توسيع اختصاصها، وكذا اختصاص مجالس الإدارة. وإذا أعيد التفتيش على الولايات، يكون للأمة أربعة أنواع من الضمان الذي يحول دون استبداد الولاة ومَن دونهم مِن رؤساء الإدارة: مجالس الإدارة في كل لواء ومركز وناحية، والمجلس العمومي في الولاية والتفتيش، وشدة التبعة يضاف إليها من قبل الأمة نفسها انتقاد الجرائد، وما وراءه من إثارة سخط الرأي العام. وكذا يقال في المحاكم مع ما يجب من استقلال القضاء، وجعل المحاكم الشرعية المؤلفة من عدة أعضاء، يحكم فيها بالاتفاق أو أكثر الآراء، وإيجاد محاكم استئنافية شرعية في كل ولاية. هذا ما عنَّ لنا أن نكتبه الآن، ويغلب على ظننا أن حكومتنا تحتاج في تنظيم الشرطة والشحنة إلى الاستعانة بالأجانب، كما تحتاج إلى ذلك في كثير من الأعمال فإن الرجال القادرين على الإصلاح عندنا قليلون كما سيظهر بالعمل، وندعو الله أن يوفق مجلس الأمة إلى خير الإصلاح المنتظر.

تنبيه الجرائد السورية إلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنبيهُ الجرائد السورية إلى الاعتبار بتاريخ الجرائد المصرية [*] إذا كانت تربية الأطفال فنًّا من أدق الفنون، وهو لما يبلغ درجة الكمال على عناية العلماء والفلاسفة به، فماذا نقول في تربية الأمم؟ يوجد ألوف كثيرة من المربيات والمربين في كل أمة من الأمم المتمدنة. ولكن الذين يربون الأمم قليلون في كل أمة وكل زمان. إن للأمم أطوارًا كما أن للأفراد أطوارًا، ولا يحتاج المربي للأفراد في طور من أطوارهم إلى العلم الواسع، والخبرة الدقيقة، والعناية العظيمة؛ كطور الانتقال من المراهقة إلى البلوغ، أو من التقليد والإلزام إلى الرشد والاستقلال، وإن المربي للأمم يكون عند انتقالها من حكم الاستبداد والعبودية إلى حكم الشورى والحرية؛ أحوج من مربي الأفراد إلى العلم والخبرة والبصيرة والحكمة. إن خطباء الأمم والقائمين على تربيتها بالإرشاد والتعليم، وانتقاد الحاكمين والعاملين هم أصحاب الجرائد، وقد كانت الجرائد العثمانية في مأزق لا تستطيع فيه حِراكًا، فخرجت إلى مجال فسيح وميدان واسع. ولكن الجولان في هذا المجال أو الجري في هذا الميدان لا ينبغي إلا للفرسان المهرة، فإن الأرض على رحبها غير ممهدة، والطرق على سعتها غير معبدة، فأمام من يريد الجولان عواثير يُخشى عليه من التردي فيها، وعقبات يصعب اقتحامها، وأعلام مشتبهة لا يؤمن الضلال بينها. فنون الكلام في الجرائد كثيرة، والانتقاد أدقها مسلكًا، وأصعبها مركبًا، وأشدها على النفوس وقعًا، وأكثرها ضرًّا ونفعًا، فمن وظائف الجرائد: نقد الحكام والأحكام، ونقد العمال والأعمال، ونقد العلماء، وكتب العلوم، فلا شيء إلا وهو معرض لنقدهم. فإن أحسن كتابها النقد كانوا خير العون على الإصلاح، وإن أساءوا كانوا من عوامل الفساد والإفساد، لا سيّما في مثل الطور الذي دخلت فيه الأمم العثمانية الآن. لا يعرف أحد كنه تأثير الجرائد في مثل هذا الطور، كما يعرفه أهل البصيرة الذين خبروا بأنفسهم أمة كان الاستبداد يسومها سوء العذاب، فانتقلت إلى الحرية فجأة، ووجد فيها جرائد كثيرة مرخية العنان مطلقة من القيود، ورأوا بأعينهم ما كان لها من التأثير في تلك الأمة. وإن هذا الوصف ليصدق على بعض العثمانيين الذين أقاموا في القطر المصري زمنًا طويلاً موجهين عنايتهم إلى اكتناه أحواله الاجتماعية، فإذا اشتغل هؤلاء بالصحافة العثمانية رجونا أن يفيدوا الأمة جميعًا. لقد نفعت الجرائد في مصر كثيرًا وأضرت كثيرًا، وأذكر على سبيل العبرة للجرائد السورية مثالاً من نفعها، ومثالاً من ضررها: إن للجرائد المصرية أحسن الأثر في النهضة العلمية في القطر المصري، حيث صار الموسرون يتبارون في دفع ألوف من الجنيهات؛ لإنشاء المدارس، ويقفون عليها وعلى الجمعيات التي تقوم بإدارتها الأراضي الواسعة ذات الريع العظيم، وقد كان اشتراك الجمعية الخيرية الإسلامية لا يخرج من كيس الغني الكبير منهم إلا نكدًا بعد مطالبات كثيرة، وما ذلك الاشتراك إلا جنيهان أو أربعة جنيهات في العام. ولم يكن الحث على إنشاء المدارس والدعوة إلى التربية والتعليم غرضًا خاصًّا لجريدة من تلك الجرائد، ومذهبًا ملتزمًا تدعو إليه وتجعله مدارًا لنهضة الأمة وسعادتها؛ إلا مجلة المنار التي صرّح في فاتحة العدد الأول منها بهذه الكلمة: (وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين) ثم كنا نستطرد من كل موضوع يكتب فيها إلى الحث على التربية والتعليم، ولا أريد بهذا الاستثناء أن أنيط المنار ما ذكرت من النهضة العلمية، فأدعي أنه هو روحها الذي به حياتها ونماؤها؛ بل لا أنكر أن الجرائد اليومية أعم تأثيرًا منه في ذلك، ناهيك بنشرها لأسماء المتبرعين بما قل أو كثر مع الحمد والثناء. ولو أنها جعلت الدعوة إلى ذلك مذهبًا متبعًا ومشربًا موردًا لكان النفع أعظم. ولكن شغلتها السياسة عن ذلك وهو أنفع لهم في سياستهم. فهل للجرائد العثمانية أن تعتبر بهذا، فتجعل الدعوة إلى التربية والتعليم ديدنها، والحث على التبرع لذلك وتأسيس الجمعيات لأجله، مذهبها الذي توجه إلى نشره جل عنايتها؟ فإذا كان للجرائد المصرية العذر في جعل جل همها في السياسة، فإن جرائد سورية لا نصيب لها من هذا العذر؛ لأنه ليس في بلادها سلطتان متعارضتان: إحداهما أجنبية؛ بيدها الحل والعقد بالفعل، والأخرى رسمية لها الاسم وما لا يعارض سياسة الأولى من الفعل، على أننا قد نبهنا أصحاب الجرائد السورية إلى تقصير الجرائد المصرية في الدعوة إلى التربية والتعليم على الوجه الذي هو أرجى لتكوين الأمة، وجعلها أمة عزيزة مستقلة في نفسها استقلالاً يفضي إلى استقلالها في أحكامها وسياستها. هذا: وأما المثال لضرر الجرائد المصرية؛ فهو طريق انتقادها ولا سيّما للحكومة، فقد سلك أكثرها فيه مسلكًا أسقط هيبة الحكومة من النفوس، بعد ما كان لها من هياكل العظمة في كل خيال، وشعور الخشية والبأس في كل قلب، فوثبت الجرائد بالشعب المصري من طرف إلى طرف، من غير أن تمر به على الوسط أو ما يقرب من الوسط 0 ذلك المسلك هو اتهام الحكومة بمشايعة الإنكليز على ما يريدون من السوء بالبلاد، فكان أولئك الكتاب ينحون بقدحهم وطعنهم على الوزارة (مجلس النظار) في الجملة وعلى رئيسها وأفرادها وعلى المديرين وغيرهم من رؤساء الأعمال في التفصيل، فذلك الانتقاد أو الطعن كان الغرض منه تأييد سياستهم في مقاومة الاحتلال، والتشفي من الإنكليز وبيان أن الأمر كله في أيديهم وتبعته عليهم، وإن النظار وسائر الموظفين المصريين آلات صماء تحركها هذه الأيدي كما تشاء؛ ولكن فيما يضر البلاد ولا ينفعها، وفيما يسلب السلطة الشرعية من أميرها، وهو الذي يريد لها الخير لولا أنه عاجز عنه. وكان يقوم في وجه هذه الجرائد الكثيرة جريدة أو جريدتان أو ثلاث تندد بالأمير وبطانته، وتلزم ذلك المقام بما يخفض من قدره فبذلك كله زالت هيبة الأمير وحكومته الرسمية من النفوس، فتجرأ الأشقياء على السلب والنهب، وإهلاك الحرث والنسل، وكثرت الجنايات في الأرياف حتى إن الحكومة لا تزال في حيرة من حفظ الأمن إلى هذا اليوم. نعم، إنه قد استقر في أذهان جميع المصريين أن الأمر كله للإنكليز، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا ما أرادوا، من حيث لا تستطيع الحكومة المصرية من دونهم شيئًا. ولكنهم علموا مع هذا أن الإنكليز لا يحفلون بالمسائل الجزئية التي تتعلق بأفراد الأهالي، وإنما يكلون الأمر فيها إلى الحكومة المصرية، تنظر فيها بحسب القوانين، فلا يستطيع المأمور، ولا المدير، ولا رئيس النيابة (المدعي العمومي) ولا القاضي، أن يعاقب جانيًا إلا إذا ثبتت جنايته في المحكمة، وقلما يقدم الجناة على عملهم إلا هم آمنون من ثبوته عليهم! . فاختلاف الأمن في القطر المصري نشأ من سقوط هيبة الحكومة من نفوس العامة، والتطرف في الحرية، والانتقال من حكومة استبدادية عرفية إلى حكومة قانونية حرفية؛ أي: يجري فيها الحكام على ظواهر ألفاظ القانون من غير تطبيق على المصلحة العامة التي وضع لأجلها القانون. وما كان لأكثر الجرائد من عمل في ذلك إلا ما ذكرنا، فما كان من خطأ يقع، كانوا يحملونه على سوء النية من الحكومة، وما كان من صواب يسكتون عنه ويحملونه على غير محمله، حتى كانوا ربما يطعنون في أنفع الأعمال: كإنشاء الخزان في أسوان - فلهذا ولغيره من الخطأ الذي لا يتسع هذا المقال لشرحه، كان الأستاذ الإمام يقول: (جرائدنا إحدى بلايانا) . فيجب أن تعتبر الجرائد السورية بخطأ الجرائد المصرية التي سبقتها في الاستقلال والحرية كما تعتبر بصوابها، فكما يجب عليها أن تتخذ لها مذاهب في الإصلاح الاجتماعي لا تشغلها عنه السياسة، يجب عليها أن تتخذ لها أسلوبًا حكيمًا في انتقاد الحكومة، يرجى نفعه ولا يخشى ضرره، ويجمع بين هيبتها في نفوس العامة من حيث هي أمينة على مصالحها، ومنفذة لشريعتها وقوانينها التي أقرها نوابها ووكلاؤها، وبين تكريم الأمة وإعلاء شأنها، وغرس مبادئ الحكم الذاتي في نفوسها. كيف تُنتقد الحكومة تُنتقد أعمال الحكومة لغرضين شريفين أحدهما - وهو الأصل - صيانة الحقوق وحمل الحكام على العدل، وأداء الأمانة بالتزام الشريعة وتطبيق القانون على المصلحة العامة. وثانيهما: عرضي تمس إليه حاجة الأمة أو ضرورتها في مثل الطور الذي نحن فيه الآن في بلاد الدولة عامة والقطر المصري خاصة، وهو بث مبادئ الحكم الذاتي في نفوس الأمة (أي حكم نفسها بنفسها) . أما الأول: فطريقه أن يبحث الكتاب عن الأعمال والأحكام، ويبينون ما يجب بيانه في انطباقها على الشرع والقوانين وعدمه من غير بذاءة، ولا استعلاء، ولا طعن يسقط المهابة، ويذهب باحترام الحكومة من نفوس العامة. وإنما نعني بالأعمال؛ أعمال الحكومة دون الأعمال الشخصية التي لا دخل لها ولا تأثير في المصالح العامة. ومن كان مخلصًا في انتقاده يتحرى الحق فيه، فإذا ظهر له أنه أخطأ فيما كتبه، رجع عنه رجوعًا صريحًا، وبيَّن سبب خطئِه الأول، ومشرق انبلاج الصواب له. وبذلك يكون كلامه مؤثرًا في القلوب ذا سلطان على النفوس، فيقدره قدره الحاكمون، فإذا لم يرجع به المسيء عن غيه، آخذه رؤساؤه على سوء فعله. ومن آيات الإخلاص: أن يسعى مريد الانتقاد إن تيسر له؛ كأن يراجع الحاكم فيما يرى أنه يسيء أو يجور فيه، فإن تم له ذلك وإلا لجأ إلى الانتقاد. وينبغي أن يبدأ بالرمز والتلويح، ثم يترقى في سلالم التصريح، فإذا استقام الجائر، وعدل الظالم، وجب أن يقف الناقد عند الدرجة التي ارتقى إليها في نقده، ثم يثني على العمل الذي يستحق الثناء. ومما يتحتم مراعاته أن تكون الفقرة التي ينتقد بها القضاة ورؤساء الإدارة بحيث يفهمها الخاصة دون العامة، كأن تورد بضروب من المجاز والاستعارة، وتستعمل فيها الألفاظ الغريبة؛ لئلا تزول مهابة الحكومة من نفوس العوام، وتقل ثقتهم بالقضاء، ويعتقدوا أنه لا سبيل إلى قضاء مصالحهم إلا بالرشوة، ويطمع المبطلون منهم بهضم الحقوق، ويطمع الأشقياء بالتعدي على الضعفاء؛ اعتمادًا على ضعف الحكام أو ظلمهم. وإنما تجب مراعاة ما ذكر في انتقاد من يسيء مستخفيًا، وأما من يجهر بالسوء، ويعرف عنه الظلم، فأولئك هم الذين لا تحفظ لهم حرمة، ولا ترقب فيهم ذمة، فيجهر الكتاب بانتقاداتهم، ويحرضون الأمة على الشكوى منهم، إذا لم يبادر رؤساؤهم والمفتشون عليهم إلى النظر في أمرهم، ولتكن الشكوى إلى المجالس العمومية في الولايات، ثم إلى مجلس المبعوثان في الآستانة بعد مراعاة ما اشترطه القانون الأساسي في ذلك. أما الطعن في الحكومة على الإطلاق فضرره عظيم جدًّا في مثل بلادنا، ولا سيما في أول العهد بالانقلاب كهذا الزمن. مثال ذلك طعن المتقهقرين أو الرجعيين (على الخلاف بين كتاب العرب وكتاب الترك في لقبهم) في حكومة الشورى الحاضرة من حيث شكلها، والاستدلال على ذلك بالخلل والفساد الذي أظهرته الحرية في الأمة والحكومة جميعًا بزعمهم، وما هو إلا من رزايا الحكومة السابقة التي يتعذر تطهير الأرض من نتنها في بضعة شهور أو بضع سنين. ومن أمثلته استبطاء كثير من المحبين للحكومة الحاضرة لأعمال مجلس الأمة وإظهارهم قلة الثقة به، وشكهم في أنفسهم، وتشكيكهم للناس في قدرته على القيام

شيخ الإسلام ابن تيمية وما قيل فيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شيخ الإسلام ابن تيمية وما قيل فيه غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار المنير بمصر. سلام الله عليكم ورحمته، ولا زلتم في نعيم مقيم. سيدي: من العجب أنكم لم تتعرضوا لما قاله ابن حجر الفقيه في فتاويه الحديثية من الطعن على ابن تيمية بالتفصيل الشافي المعهود من حضرتكم، ومحاكمة ابن حجر فيما قاله، حتى يتبين الرشد من الغي. وهنا تجد أكثر الجامدين من أصحاب العمائم يتمكنون بتنفير البسطاء عن مطالعة المنار؛ لكونه ينقل عن ابن تيمية، وإن المنار يلقبه بشيخ الإسلام ناسيًا ما قاله ابن حجر في فتاويه، حيث يقول: (عبد خذله الله تعالى وأضله وأعماه وأصمه وأذله) . وتجد محب المنار الغير المطلع على أقوال ابن تيمية التي أوجبت خذلانه وانحرافه عن الطريق الجادة يلتجئ إلى السكوت. نعم، ربما أنه سبق لحضرتكم كلام في بعض أجزاء المنار السابقة بخصوص هذه المسألة (لأن مثل هذا مما لا يحسن سكوت حضرتكم عنه كل هذه المدة) . ولكن يتجدد قراء كثيرون في المنار في كل عام، وكثير منهم لم يطلعوا على ما سبق نشره في ذلك مع حاجتهم للاطلاع، وذلك يلجئكم أن توضحوا المسألة ثانيًا وقد بلغني أن كثيرًا من العلماء العظماء انتقدوا كلام ابن حجر. فهل لسيدي نقل بعض أقوالهم؟ ولكم من الله جزيل الفضل، ومنا الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. س ... ... ... ... ... ... ... ... ... (دلي - سمطرا) (المنار) لا غرابة ولا عجب في عدم تعرضنا لما ذكرتم قبل أن نُسأل عنه على أننا كنا عازمين على كتابة ترجمة لابن تيمية بعد إتمام ترجمة الغزالي. ويغلب على ظننا أن الفقيه ابن حجر الهيتمي - رحمه الله تعالى - لم يطلع على كُتب ابن تيمية، وإنما رأى ما انتقده عليه بعض معاصريه كالشيخ تقي الدين السبكي وغيره، فأنكر ذلك عليه، ولا يبعد أن يكون بعض المفسدين قد دس في كلام ابن حجر ذلك السباب والشتم الذي يجل مثله عن مثله، وذلك مما حدث كثيرًا كما بيَّنه الشعراني في كتاب اليواقيت والجواهر وغيره، حتى ذكر أن بعض كتبه نسخ في عصره ودست فيه ضلالات كثيرة، ولم يقتنع العلماء بأن تلك الضلالات من دسائس المفسدين؛ إلا بعد أن أبرز لهم ما كتبه بخطه. ويظهر أنه لم يطلع أيضًا على ما قاله حفاظ الحديث والعلماء والمؤرخون في الثناء على ابن تيمية، بما لم يثنوا بمثله على أحد، حتى شهد له معاصروه ومناظروه بالوصول إلى رتبة الاجتهاد المطلق، ومن كان كذلك لا بد أن يخالف غيره من المجتهدين في بعض المسائل. ويعز على الفقهاء المقلدين أن يوجد في عصرهم من يخالف أئمتهم، بل مَن دون أئمتهم ممن يجلون من الميتين، حتى كأن الموت يجعل العالم معصومًا! . ولذلك ترى أن سبب قيام الشيخ كمال الدين الزملكاني والشيخ نصر بن المنجى على ابن تيمية؛ هو إنكاره على الشيخ محيي الدين بن عربي، وسبب قيام أبي حيان عليه هو إنكاره على سيبويه وتخطئته له , فهؤلاء الثلاثة والشيخ تقي الدين السبكي هم أعظم العلماء الذين أنكروا عليه في عصره ومن أسباب حنقهم عليه تشدده في الإنكار عليهم هم فيما انتصروا به لابن عربي وسيبويه , ولكن كل واحد منهم قد أثنى عليه ثناءً عظيمًا قبل وقوع النفور بينهم، كما سيأتي. وقد ألَّف بعض العلماء كتبًا خاصة في الثناء على ابن تيمية والانتصار له، منها (القول الجلي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية الحنبلي) للعلامة المحدث السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس. ومنها (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين) أي: أحمد بن تيمية وأحمد بن حجر، وإننا ننقل عن كل منهما طائفة من النقول عن العلماء في ترجمة ابن تيمية، قال صاحب القول الجلي في أول كتابه ما نصه: (ولد - رحمه الله تعالى - في عاشر ربيع الأول سنه إحدى وستين وست مائة، وقرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وبرع في التفسير وأفتى ودرَّس، وله نحو العشرين، وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراسة وأكثر، وفسر كتاب الله - تعالى - مدة سنين. وكان يتوقد ذكاء، وسمع من الحديث أكثره، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظ الحديث ورجاله وصحته وسقمه فما يلحق فيه. وأما نقله للفقه ومذاهب الصحابة والتابعين فضلاً عن المذاهب الأربعة فليس له فيه نظير. وأما معرفته بالمِلَل والنِحَل فلا أعلم له فيها نظيرًا، ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدًّا، ومعرفته بالتفسير والتاريخ فعجب عجيب. انتهى ملخصًا من كلام شيخ الإسلام أبي عبد الله الذهبي فيما نقله عنه الحافظ الكبير ابن ناصر الدين الدمشقي الشافعي. قال الحافظ الذهبي الدمشقي الذي قال فيه الحافظ ابن حجر: هو من أهل الاستقراء التام في نقده الرجال، وتبعه على ذلك الحافظ السيوطي فيما نقله الحافظ ابن ناصر الدين: ابن تيمية أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله هو ما رأى مثل نفسه في العلم. وقال الحافظ شمس الدين السخاوي الشافعي في فتاواه في حديث (كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين) ، وفي حديث (كنت نبيًّا ولا آدم ولا ماء ولا طين) ، حيث أجاب باعتماده كلام ابن تيمية في وضع اللفظيين، وناهيك به اطلاعًا وحفظًا، أقرَّ له بذلك المخالف والموافق، قال: وكيف لا يعتمد كلامه في مثل هذا؟ وقد قال فيه الحافظ الذهبي: ما رأيت أشد حفظًا للمتون وعزوها منه، وكانت السنة بين عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة. وقال حافظ الإسلام، الحبر النبيل، أستاذ أئمة الجرح والتعديل، شيخ المحدثين جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن الركن عبد الرحمن المزي الشافعي فيما نقله عنه الحافظ ابن ناصر الدين: ما رأيت مثله - يعني ابن تيمية - ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أتبع لهما منه.ا. هـ. وقد تقدم عن الحافظ الذهبي نحوه، وناهيك بهذا الكلام من الحافظين العدلين المستوعبين: أبي الحجاج المزي وأبي عبد الله الذهبي. وقال الشيخ الإمام بقية المجتهدين تقي الدين بن دقيق العيد الشافعي لما اجتمع به وسمع كلامه: كنت أظن أن الله تعالى ما بقي يخلق مثلك , وقال أيضًا: رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد. ذكره الحافظ المذكور. وقال الحافظ عماد الدين بن كثير الشافعي: وبالجملة كان - رحمه الله تعالى- من كبار العلماء، وممن يخطئ ويصيب. ولكن خطأه بالنسبة إلى صوابه كنقطة في بحر لُجِّيٍّ، وخطؤه أيضًا مغفور له لما صح في صحيح البخاري (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) . وقال الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وآله وسلم. وما قاله في غاية الحسن، والحافظ المذكور ثقة حجة باتفاق، وقد ترجمه الحافظ ابن حجر بترجمة جليلة جدًّا فلا التفات إلى ما نقله عنه الشيخ تقي الدين الحصني. نعم، كان يقول: يقول الشيخ ابن تيمية في مسألة الطلاق، فأوذي بسببه ومع أنه خالف الأئمة الأربعة في ذلك، فلم يتفرد به كما هو مبين في موضعه، وهو وإن كان خطأ فاحشًا فلا يوجب التفسيق فافهم. (فإن قلت) : ما ذكره الإمام الحافظ ابن كثير مبني على أن الشيخ قد بلغ رتبة الاجتهاد، وأنى له بهذه المرتبة، وقد انقطع الاجتهاد من زمان طويل! ! (قلت) : وقد نص على أنه بلغ رتبة الاجتهاد جمع من العلماء منهم الإمام أبو عبد الله الذهبي فيما ذكره ابن ناصر والحافظ ابن حجر، كما سيأتي، والحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ فيما أحفظ، ولم يتفرد بمسألة منكرة قط، وإن كان قد خالف الأئمة الأربعة في مسائل فقد وافق فيها بعض الصحابة أو التابعين، ومن أشنع ما وقع له مسألة تحريم السفر إلى زيارة القبور، وقد قال به قبله أبو عبد الله ابن بطة الحنبلي في الإبانة الصغرى وسنذكره عن قريب، إن شاء الله تعالى. وقال الحافظ ابن حجر فيما كتبه على الرد الوافر لشيخ الإسلام الحافظ الهمام ابن ناصر الدين الدمشقي ما نصه: ولقد قام على الشيخ تقي الدين جماعة مرارًا؛ بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعقدت له بسبب ذلك عدة مجالس بالقاهرة وبدمشق، ولا يحفظ عن أحد منهم أنه أفتى بزندقته، ولا أفتى بسفك دمه مع شدة المتعصبين عليه - رحمه الله - من أهل الدولة، حتى حبس بالقاهرة، ثم بالإسكندرية، ومع ذلك فكلهم معترف بسعة علمه وورعه وزهده ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام والدعاء إلى الله في السر والعلانية، فكيف لا ينكر على من أطلق عليه أنه كافر، بل من أطلق على من سماه بشيخ الإسلام الكفر، وليس في تسميته بذلك ما يقتضي ذلك، فإنه شيخ الإسلام بلا ريب، والمسائل التي أنكرت عليه ما كان يقولها بالتشهي، ولا يصر على القول بها بعد قيام الدليل عليه عنادًا، وهذه تصانيفه طافحة بالرد على من يقول بالتجسيم والتبرئ منه، ومع ذلك فهو بشر يخطئ ويصيب، فالذي أصاب فيه وهو الأكثر يستفاد منه ويترجم عليه بسببه، والذي أخطأ فيه لا يقلد فيه؛ أي كمسألة الزيارة والطلاق، بل هو معذور؛ لأن أئمة عصره شهدوا بأن أدوات الاجتهاد اجتمعت فيه، حتى كان أشد المتعصبين عليه، والقائمين في إيصال الشر إليه وهو الشيخ كمال الدين الزملكاني يشهد له بذلك، وكذا الشيخ صدر الدين ابن الوكيل الذي لم يثبت لمناظرته غيره. ومن أعجب العجب أن هذا الرجل كان أعظم الناس قيامًا على أهل البدع من الروافض والحلولية والاتحادية، وتصانيفه في ذلك كثيرة شهيرة، وفتاواه فيهم لا تدخل تحت الحصر، فياقرة أعينهم إذا سمعوا تكفيره وياسرورهم إذا رأوا من يكفر من لا يكفره. فالواجب على من تلبّس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشتهرة أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، فيفرد من ذلك ما ينكر، فيحذر من ذلك على قدر قصد النصح، ويثني عليه بقضائه فيما أصاب من ذلك كدأب غيره من العلماء، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين من المناقب إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية، صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف - لكان غاية في الدلالة على عظمة منزلته، فكيف وقد شهد له بالتقدم في العلوم والتمييز في المنطوق والمفهوم أئمة عصره من الشافعية وغيرهم فضلاً عن الحنابلة، فالذي يطلق عليه مع هذه الأشياء الكفر أو على من سماه شيخ الإسلام، لا يلتفت إليه ولا يعول في هذا المقام عليه، بل يجب ردعه عن ذلك إلى أن يراجع الحق، ويذعن للصواب، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، حسبنا الله ونعم الوكيل. وقال شيخ الإسلام صالح ابن شيخ الإسلام عمر البلقيني - رحمه الله تعالى - فيما كتبه على الكتاب المذكور: ولقد افتخر قاضي القضاة تاج الدين السبكي في ثناء الأئمة عليه بأن الحافظ المزي لم يكتب لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه، وللشيخ تقي الدين بن تيمية، وللشيخ شمس الدين أبى عمر، فلولا أن ابن تيمية في غاية العلو في العلم والعمل، ما قرن ابن السبكي أباه معه في هذه النقبة التي نقلها، ولو كان ابن تيمية مبتدعًا أو زنديقًا، ما رضي أن يكون أبوه قرينًا له. نعم، وقد ينسب الشيخ تقي الدين لأشياء أنكرها عليه معارضوه، وانتصب للرد عليه الشيخ تقي الد

الحجاز بعد الدستور

الكاتب: لأحد فضلاء المسلمين في سنغافورة

_ الحجاز بعد الدستور [*] بُعِثَ الدستور بعد أن قُبر، بذلك كذَّب الله أعداء الإسلام الزاعمين أن الشورى غير ملائمة لروح الإسلام، فهل سبق أن رأوا أمة قد أكل عليها الاستبداد وشرب زمنًا طويلاً، فما هي إلا عشيةً أو ضحاها حتى استحالت الصهباء، فأصبح أفرادها بحمد الله إخوانًا، لا فضل لأحمرعلى أسود إلا بتقوى الله، قد ألف الله بين قلوبهم، {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} (لأنفال: 63) . كذَّب الله بقيام الدستور زَعْمَ أولئك، كما أيد به قول القائلين بسداد نية مولانا السلطان وفائق حكمته، ووافر عقله، وقوة إدراكه - زاده الله توفيقًا - إذ لم يكن من أحد من قادة الأمم ما كان منه، فله الشكر والدعاء؛ إذ صان كيان الأمة ودماءها وأموالها وشرفها، فالمملكة مَدِينة له بما فعل. وقد شرق الأعداء بما رأوا من اتحاد عناصر المملكة، ولم يرُق في أعينهم فقاموا بما قاموا به، إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، أبدت ظبابها النافقاء وما تخفي صدورهم أكبر. قل موتوا بغيظكم. ولكن قل لي أين هم أصدقاء الإسلام؟ أين ما قاموا به؟ أين مواساتهم في هذه الأزمة، أين من مد لنا يده في طور انتقالنا المخيف؟ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟ شاهت الوجوه، وقبح اللكع ومن يرجوه. نعم قد سمعنا عن الإنكليز جعجعة ولم نر طحنًا، فشكرًا لهم على ذلك، إن لم يك استدراجًا ومكرًا. ولقد كانت نعمة الدستور عامة على كل الممالك العثمانية، وكان حظ الحجاز منها غير قليل، لو لم يكن غير تطهيره من ذلك الطاغية وأبالسته، فكيف وغير ذلك كثير؟ ولكن الحجاز لكونه أول ولاية عثمانية، وهو قبلة المسلمين كلهم، ومحل أحق بلاد الله بالإصلاح والمصلحين، وإصلاحه يفيد الدولة فائدة عظمى، وهو أوجب عليها من إصلاح غيره بحكم الشرع والعقل. لست أحتاج إلى إقامة الدليل الشرعي لبداهته. ولكني أشير إلى العقلي السياسي. وذلك أن الحجاز هو المكان الذي تحشر فيه وفود المسلمين، وجلهم في هذه العصور محكوم بالأجانب، وقل من يقصد منهم من بلاد المسلمين غير الحجاز، فإذا لقوا فيه أصناف الشقاء وأنواع التعاسة مع ما يعلمون له من المكانة الدينية والسياسية، وكونه الأنموذج المعروض لوفود كل الأمم، وكون السلطان - حفظه الله - ينعت كل جمعة على كل منبر في الدنيا؛ افتخارًا بخادم الحرمين الشريفين وحاميهما، فإذا كانت حاله كما هي الآن، فكيف يكون الحكم على باقي المملكة وعلى ساستها؟ لو قلت: لا يجد أعداء الدولة معولاً يهدمون به نفوذها في المسلمين، وصابونًا يغسلون به حبها من قلوب الأمة، وحجة يقيمونها للأمم على أن الترك أعداء الإنسانية والإسلام والعرب خصوصًا - أكبر وأوضح من الحال التي كان بها الحجاز، ونرجو أن لا تعود إلى ما يقاربها - لو قلت هذا، لم يفند قولي عاقل عالم منصف. إن الإصلاحات التي يجب إجراؤها في الحجاز كثيرة جدًّا، ولندع ما كان منها فنيًّا أو قانونيًّا لمن هو أقرب عهدًا منا بها، وأوسع اطلاعًا منا. ولكنا نلمح إلى شيء قليل مما لا يجوز السكوت عنه: إن الحرم الشريف وهو المسجد الوحيد المشترك بين أكثر من ثلاث مائة وأربعين مليونًا من البشر، على حال يتأفف منها العقل، وقد أحاطت به بيوت يسمونها المدارس، يسكنها ألوف من الناس، وكلها فيها كنف (مراحيض) ذات بلاليع في الأرض تختزن بها الأقذار، فإذا سالت السيول امتلأ الحرم بتلك النجاسات، وبقي عفنًا عدة أسابيع، وقد تكرر وقوع ذلك. وإذا نزلت الأمطار تشربتها الأرض فيتصاعد حينئذ منها بخار منتن من كل أرض المسجد، فلا يقدر أحد أن يضع جبهته للسجود إلا كاتمًا نفسه كأنه واضع أنفه على ثقب كنيف مسدود ولو كان ثخن سجادته شبرًا! ! هذا أمر عرفته بنفسي، ويعرفه كل من أقام هناك، مع أن تلك المدارس (البيوت) واجب إزالتها؛ إذ هي قائمة على أرض لا يجوز تملكها ألبتة. ولكن أقامها الجور، ودعمتها الرشوة! ثم إن المياه التي تشربها الأرض تنحدر إلى المنخفضات، ولا ريب بأنه يصيب بئر زمزم حظ من تلك النجاسات السائلة؛ فلذلك صار ماؤها كثير الديدان والجراثيم الضارة! فإذا كنا لا نقوم بتطهير ما يقارب تلك البئر المقدسة، ولا نبعد عنها السوائل النجسة القذرة السامة، ولا نعيد الحرم كما كان في العصور الصالحة كامل النظافة؛ إذ كانت مواضع الأقذار بعيدة عنه، وعلى ظهر الأرض فأي حجة لنا على الأجانب، إذا حكموا بإراقة ما تزوده الحجاج من ذلك الماء المبارك كما تراق المستقذرات! ومنعوا إدخاله إلى بلادهم حرصًا على حفظ الصحة! ! ! إننا لو قمنا بالنظافة المطلوبة التي هي من الإيمان، وطهرنا ما جاور البيت من الأنجاس والأدران، لكان لنا من ماء زمزم المبارك مورد عظيم، ولوجدنا مئات الشهادات من نطس الأطباء فيما له من الخواص العجيبة الحسية، فضلاً عن الخواص المعنوية، وإذ ذاك يمكننا أن نبيع منه في أقطار العالم ملايين من القوارير. فمتى نرى تلك الأراضي المغتصبة من المسجد الحرام، ومن حواشي المسعى قد أعيدت؟ ولو أرادت الحكومة أن تبذل لأصحابها الظالمين بدل تلك البنايات الغير محترمة، فإنها تجد من كرام المسلمين تلبية تسرها ببذل الأموال؛ حبًّا في تطهير الحرم الطاهر من آثار الاستبداد والجور. ثم إنه لا بد من إنارة الحرم الشريف بالنور الكهربائي؛ لوفور ضوئه وحسنه وبهائه، وبذلك يتوافر أكثر من نصف ما يصرف الآن عبثًا للإسراج بتلك القناديل الوسخة التي لا يتجاوز نورها زجاجها! ويستغنى عن جيوش السرَّاجين. ويمكنهم استخدام تلك الآلات نهارًا في جلب الماء من زمزم، وإجرائه في مواسير إلى خارج المسجد، فيسلم من بلل قِرَب السقَّائين المخرقة ونحو ذلك. ولا غناء عن هدم مقامات الأئمة؛ لأنها مبتدعة، فيكتفى بإمام واحد يرضى فضله وعلمه ودينه، ولينزه البيت وصحنه من خدمة الأغوات الذين هم تركة العصور المظلمة الظالمة، وخدمة الجبابرة من الملوك الذين لجهلهم بالدين أحبوا أن يجعلوا خدمة الكعبة وحجرة النبي صلى الله عليه وسلم من جنس ما يستخدمون في بيوتهم! وهيهات هيهات، ويمكن أن يوظف بدلهم نحو ثلث عددهم من الأخيار الأتقياء الحَسَنِي السيرة، المعروفين لدى العدول، ولا شك بأنه يكفي لمن ذكرنا قليل مما يذهب ضياعًا مع أولئك الأغوات. إنني كنت في بعض جهات أوربا، فزعم بعضهم أن الخصاء مما يأمر به الإسلام، وأنه من الحتم عند المسلمين أن لا يخدم السلطان، ولا يعمل في الكعبة، ولا يتولى سدانة الحجرة المنيفة إلا الخصيان! وقد أفدت محدثي بتحريم الشريعة المحمدية للخصاء، وبراءتها من تلك البربرية، فلم يقتنع، ولم تكن له حجة إلا هذه النقط المحزنة المسيئة سمعة الإسلام، ولعمر الحق إن التغالي في أثمانهم لمما يغري النخاسين الطماعين، فالواجب حسم الداء من أصله. وأرى أن يمنع من رمي الحبوب للحمام، حتى تضطر إلى مفارقة الحرم بحدوده وهناك تقنص، فلقد جلبت كثرتها أذية للمسلمين، وتنجيسًا وتوسيخًا للمسجد ونشأ عن ذرقها الكثير أمراض ضارة، ولكثرة الحمام يسهل اقتناصه على الهررة فتأكل بعضه، وتدع البعض يتعفن فتنبعث منه أمراض كثيرة إلى نحو ذلك. ومن الواجب طرد الكلاب من الحرم كله، ثم تسميمها بعد ذلك، فلقد صح أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتلها إلا ما استثني، والموجود بمكة جله من المرضى المجرّحة، فيقع عليها الذباب الكثير، فينقل عنها مواد التلقيح لجملة أمراض إلى بني الإنسان صغارًا وكبارًا. ويمكن أن يصرف لطلبة العلم الشريف جميع ما يصرف الآن على الحمام والكلاب، فإن ذلك خير وأبقى، ونحن نرغب إلى مشايخنا الأجلاء أن لا يجعلونا مضغة في الأفواه، وهزؤًا لدى العقلاء، وأن لا يلصقوا بديننا النقي ما برأه الله منه من النقائص والسفاسف، وعلى الله الاعتماد وحده. هذه أمور نلفت إليها أنظار رجال الدولة، وأعضاء مجلسي الأمة والشورى ومولانا الشريف الحسين وصاحب الدولة والي الحجاز، كاظم باشا ليعملوا ما يرونه أقرب للتقوى.

العام الهجري الجديد

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ العام الهجري الجديد (سنة 1327) [*] أطلَّ على الأكوان والخلق تنظر ... هلال رآه المسلمون فكبروا تجلى لهم في صورة زاد حسنها ... على الدهر حسنًا أنها تتكرَّر فبشَّرَهم من وجهه وجبينه ... وغُرته والناظرَين مبشر وأذكرهم يومًا أغر محجلاً ... به توّج التاريخ والسعد مسفر وهاجر فيه خير داعٍ إلى الهدى ... يحُف به من قوة الله عسكر يماشيه جبريل وتسعى وراءه ... ملائكة ترعى خطاه وتخفر بيسراه برهان من الله ساطع ... هدى وبيمناه الكتاب المطهر فكان على أبواب مكة ركبه ... وفي يثرب أنواره تتفجر مضى العام ميمون الشهور مباركًا ... تعدد آثار له وتسطر مضى غير مذموم فإن يذكروا له ... هناتٍ فطبع الدهر يصفو ويكدر وإن قيل أودى بالألوف أجابهم ... مجيب لقد أحيا الملايين فانظروا إذا قيس إحسان امرئ بإساءة ... فأربى عليها فالإساءة تغفر ففيه أفاق النائمون وقد أتت ... عليهم كأهل الكهف في النوم أعصر وفي عالم الإسلام في كل بقعة ... له أثر باق وذكر معطر سلوا الترك عما أدركوا فيه من منى وما بدلوا في المشرقين وغيروا وإن لم يقم إلا (نيازي) و (أنور) ... فقد ملأ الدنيا نيازي وأنور تواصوا بصبر ثم سلوا من الحجى ... سيوفًا وجدُّوا جدَّهم وتدبروا فسادوا وشادوا للهلال منازلاً ... على هامها سعد الكواكب ينثر تجلى بها عبد الحميد بوجهه ... على شعبه والشاه خزيان ينظر سلام على عبد الحميد وجيشه ... وأمته ما قام في الشرق منبر سلوا الفرس عن ذكرى أياديه عندهم ... فقد كان فيه الفرس عميًا فأبصروا جلا لهم وجه الحياة فشاقهم ... فباتوا على أبوابها وتجمهروا ينادون: أن مني علينا بنظرة ... وأحيي قلوبًا أوشكت تنفطر كلانا مشوق والسبيل ممهد ... إلى الوصل لولا ذلك المتغشمر أطلّي علينا لا تخافي فإننا ... بسرك أوفى منه حولاً وأقدر سلام عليكم أمة الفرس إنكم ... خليقون إن تحيوا كرامًا وتفخروا ولا أقرئ الشاه السلام فإنه ... يريق دماء المصلحين ويهدر وفيه هوى عبد العزيز وعرشه ... وأخنى عليه الدهر والأمر مدبر ولا عجب إن ثُل عرش مملك ... قوائمه عود ودف ومزهر! ! فألقى إلى عبد الحفيظ بتاجه ... ومرَّ على درَّاجة يتعثر! وقام بأمر المسلمين موفق ... على عهده مُرَّاكش تتحضر وفي دولة الأفغان كانت شهوره ... وأيامه بالسعد واليمن تزهر أقام بها والعود ريان أخضر ... وفارقها والعود فينان مثمر وعوَّذها بالله من شر طامع ... إذا ما رمى (إدوارد) أو راش قيصر وفيه نمت في الهند للعلم نهضة ... أرى تحتها سرًّا خفيًّا سيظهر فتجري إلى العلياء والمجد شوطها ... ويخصب فيها كل جدب وينضر وفيه بدت في أفق (جاوة) لمعة ... أضاءت لأهليها السبيل فبكروا ويا ليته أولى الجزائر منة ... تفك بها تلك القيود وتكسر وفي تونس الخضراء يا ليته بنى ... له أثرًا في لوحة الدهر يذكر وفيه سرت في مصر روح جديدة ... مباركة من غيرة تتسعر خبت زمنا حتى توهمت أنها ... تجافت عن الإبراء لولا كرومر تصدى فأوراها وهيهات أن يرى ... سبيلاً إلى إخمادها وهي تزفر مضى زمن التنويم يا نيل وانقضى ... ففي مصر أيقاظ على مصر تسهر وقد كان (مورفين) الدهاء مخدرًا ... فأصبح في أعصابنا يتخدر شعرنا بحاجات الحياة فإن ونت ... عزائمنا عن نيلها كيف نعذر شعرنا وأحسسنا وباتت نفوسنا ... من العيش إلا في ذرى العز تسخر إذا الله أحيا أمة لن يردها ... إلى الموت قهار ولا متجبر رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى قادة تبني وشعب يعمر رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى مصلح يدعو وداعٍ يذكر رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى حكمة تملي وكف تحرر رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إلى عالم يدري وعلم يقرر رجال الغد المأمول إنا بحاجة ... إليكم فسدوا النقص فينا وشمروا رجال الغد المأمول لا تتركوا غدًا ... يمر مرور الأمس والعيش أغبر رجال الغد المأمول إن بلادكم ... تناشدكم بالله أن تتذكروا عليكم حقوق للبلاد أجلها ... تعهد روض العلم فالروض مقفر قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم ... يدًا تبتني مجدًا ورأسًا يفكر فكونوا رجالاً عاملين أعزة ... وصونوا حمى أوطانكم وتحرروا ويا طالبي الدستور لا تسكنوا ولا ... تبيتوا على يأس ولا تتضجروا أعدوا له صدر المكان فإنني ... أراه على أبوابكم يتخطر ولا تنطقوا إلا صوابًا فإنني ... أخاف عليكم أن يقال تهوروا فما ضاع حق لم ينم عنه أهله ... وما ناله في العالمين مقصر لقد ظفر الأتراك عدلاً بسوءلهم ... ونحن علي الآثار لا شك نظفر هم لهم العام القديم مقدر ... ونحن لنا العام الجديد مقدر ثقوا بالأمير القائم اليوم إنه ... بكم وبما ترجون أدرى وأخبر فلا زال محروس الأريكة جالسًا ... على عرش وادي النيل ينهى ويأمر ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حافظ إبراهيم

خطبة السلطان في ضيافته للمبعوثين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة السلطان في ضيافته للمبعوثين [*] أيها المبعوثون الأفندية: إني أصبحت في الحقيقة ممنونًا؛ لتناولي الطعام هذه الليلة مع سائر وكلاء أمتي العثمانية ورعيتي الشاهانية، فكأنني مع جميع أفراد أمتي العزيزة! ! زاد حضرة الحق تعالى عددها وسعادة حالها. إن هذه الليلة لمباركة وسعيدة، وأظن أنها أول ليلة من نوعها في تاريخ دولتنا العلية؛ ولذلك فإني أبارك عليها، وأسال الله أن يشرفنا جميعًا بدوام وقوع أمثالها. إن هذا الاجتماع المسعود، هو مبدأ دليل الآثار الفياضة التي منحها القانون الأساسي لدولتنا وأمتنا ووطننا، والتي سيمنحها في المستقبل إلى ما شاء الله تعالى فهو إذًا جدير بالتبجيل. أيها المبعوثون الأفندية: كونوا على علم بأن الله هو حامي حقوق السلطنة والمملكة والدولة أولاً، ثم الأمة ومجلس نوابها! لذلك كانت وظيفتكم هامة ومقدسة، غاية مطلوبي أن تجعلوا سعيكم وغيرتكم وقصدكم ونيتكم بنسبة تلك المكانة وهذه القدسية. وإني أؤكد لكم بأني نصَّبتُ نفسي بعناية الكريم؛ للمحافظة على أحكام القانون الأساسي الضامن والكافل لهذه الحقوق المقدسة أؤكد لكم بأنه لكم إذا وجد من يخالفه، فإني خصم وأول عدو له، أيا كان بصفتي خليفتكم وسلطانكم. نضرع إلى الله - تعالى - أن يكون معينًا وظهيرًا لنا في سعينا وغيرتنا في سبيل دولتنا وأمتنا وسلامة وطننا المقدس [1] .

جواب رئيس مجلس المبعوثان عن خطبة السلطان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جواب رئيس مجلس المبعوثان عن خطبة السلطان إن التاريخ الذي ينقل الوقائع الماضية للخلف، لم يسجل إلى الآن في حياتنا السياسة يومًا عظيمًا بهذا المقدار. إن السلطان والأمة اللذين كان يتحسر أحدهما على رؤية الآخر من زمن طويل، يأكلان اليوم على مائدة واحدة، ويشربان من إناء واحد! ولم يعرف مثل هذا الائتلاف والاتحاد إلا في عصر السعادة [1] . مرت ثلاثة عشر قرنًا والشرق محروم من رؤية السلطان مع الأمة وجودًا واحدًا. إن العرب قد أظهروا للوجود مدينة عظيمة، وكذلك العثمانيون سيكونون متمدنين قلبًا وقالبًا مع سلطانهم، وبذلك يكونون موفقين لإعلاء شأن الوطن، والتوفر على حفظه وصيانته، ويكسبون موقعًا ممتازًا في عالم المدينة. ونواب الأمة يعرضون لذاتكم السلطانية تعظيمهم واحترامهم؛ لقاء ما نالوه في هذه الليلة من جلالتكم من الإعزاز والالتفات.

نهضة الأزهريين

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ نهضة الأزهريين عسير على المفكر أن يحيط علمًا بكل ما يقع تحت نظره، وعزيز عليه أن يجهل أسباب أمر واقع؛ ولهذا كان الفكر كثير الدأب والتجوال، لا يقر له قرار حتى يكون له إدراك صحيح لما يرى ويشاهد، وإذ ذاك يرى أنه إذا حكم على شيء كان ذلك الحكم مدعمًا بالاستقراء، ناتجًا عن مقدمات لا تنتج غيره. إن فيما يتفق عليه جمهور المفكرين كثيرًا مما يكون موضعًا للشبهة، والأفكار فيه مسارح ومذاهب؛ لطموس معالمه وخفاء كنهه؛ ولذلك لم يتحقق الإجماع على ما لا يعد من البديهيات إلا فيما ندر وقل، وإن مما اتفق عليه العلماء استحالة وقوف عمل ما عند حد محدود، لا يتنزل إلى هبوط، ولا يتوقل إلى صعود. لا يبعد أن يذهب قصار النظر إلى إمكانية ذلك، وإنني لا أوجه كلامًا إلى هؤلاء، بل أخاطب به أرباب العقل، أريد بهم أولئك الذين لا يهملون أمر الفكر، بل يستعملونه فيما خلق له، ولكل وجهة ومنحى. تأمل في أي عمل من الأعمال تأمُّل نافذ البصر ثاقب البصيرة، ثم ارجع إلى نفسك، وأنا ضمين بأنك تحكم: إما بترقيه وإما بتدليه، ولا وسط بينهما. كل هذا مما أثبتته المشاهدات، واستفاضت بتفصيله النظريات، حتى بات من المقررات التي لا نزاع فيها بين من يعقل ويفكر؛ ولذلك كان في حال الأزهر وبقائه في نقطة محدودة لا يتجاوزها قيد شبر لمن ينظر إليه بادي الرأي، حيرة للعقول ومضلة للإفهام! ! أفرغ ذلك العاقل الحكيم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده جهده في سبيل إصلاح الأزهر، وقضى دائبًا على ذلك سنين لو أمضاها في التأليف والكتابة لملأ الخزائن حكمة وعرفانًا. صاح بالأزهريين صيحة صُمَّت منها آذان وفتحت بصائر، فأصاخ قوم لقوله وثار آخرون ينبزونه باللقب، ويعرقلون مساعيه العظيمة، فريق منهم عانده عن غي وجهل، وآخرون كانوا يمنون ويوعدون، وكثيرون منهم حملوا على ذلك وهم كارهون! ! ولكن الإمام كان في أول الأمر مؤيدًا من الأمير، فلم تؤثر في عمله صيحاتهم، ولم تصدف به سعة سعاياتهم، فأسس للأزهر مجلس إدارة على نمط ديمقراطي، لا يدع لكبير نفوذًا فيه، ولا لأمير سلطة عليه، ونفخ روح الاستقلال في رجاله، بما كان يريهم من جلائل أعماله، وجلس من الطلاب مجلس مفيض الحكمة على العقول، ومربي الأخلاق والنفوس. ولم تكن العقبات والعواثير الأولى صادة له عما انتدب له وصمم عليه، بل كان لا يأبه لها - وذلك شأن أرباب النفوس الكبيرة - إلى أن ظهرت له بشكل جديد يمدها نفوذ قوي، ويؤيدها مقام عَلِيٌّ، فتنكر لها كما تنكرت له، ووثبها حينًا كما واثبته، حتى كانت تلك الوقفة المشهورة للأمير، وفيها نطق بما كان أكنَّه، وأظهر ما أخفاه وأجنَّه، قال: (ولقد كنت أود أن يكون هذا شأن الأزهر والأزهريين دائمًا. ولكن من الأسف رأيت أنه وجد فيه من يخلطون الشغب بالعلم، ومسائل الشخصيات بالدين، ويكثرون لذلك من أسباب القلاقل، حتى إنه لما بدا شيء من بعض المغاربة المجاورين فيه عند إسكانهم في المحال التي خصصت لهم في الأروقة التي عمرت حديثًا على نفقة ديوان الأوقاف، كان من أهل الأزهر نفسه من يهددهم بالعساكر، ويتوعدهم بالنفي، ويستفز نفوسهم بمثل ذلك للقيل والقال، والاضطراب والهياج، إلى أن قال: وأول شيء أطلبه أنا وحكومتي، أن يكون الهدوء سائدًا في الأزهر الشريف والشغب بعيدًا عنه، فلا يشتغل علماؤه وطلبته إلا بتلقي العلوم الدينية النافعة البعيدة عن زيغ العقائد وشغب الأفكار؛ لأنه هو مدرسة دينية قبل كل شيء) . نطق الأمير بخطبته تلك، ففهم الإمام من بواطنها أكثر مما فهم الناس من ظواهرها، فاستيقن أن العراقيل التي تقف في سبيله إن لم تقدر على زحزحته عن مكانه، فإنها كفيلة بتعطيل عمله وإصلاحه، فخرج من حضرة الأمير والأسف مشتمل على نفسه، ورأى أن الخروج من مكان أراد أن يجعله كعبة للإصلاح، فحيل بينه وبين ما يريد أصبح واجبًا محتمًا، فاستقال من إدارة الأزهر هو وصديقه العامل الشيخ عبد الكريم سلمان، ولقد كان لتركهما الأزهر اضطراب وحزن، شاركت مصر فيه سائر أنحاء العالم الإسلامي؛ لأن الرجاء بالإصلاح الإسلامي كان معقودًا بهذين الرجلين الزعيمين به ثم مضى الإمام إلى ربه ولسانه يتلجلج بقوله: ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم استحوذ اليأس على النفوس من إصلاح الأزهر بعد ذلك، وحكم الناس بأنه يصير طللاً دارسًا؛ لأن طريقين يسير الناس فيهما في هذه الدنيا: فإما فناء وإما ارتقاء، ولا ثالث لهما، ولا وسط بينهما، كما مر من قبل، وأجمع الكثيرون على أن الأزهر سائر في الطريق الأولى، وصادف عن الأخرى، وكان أناس في حيرة من أمر الأزهر، ظانين أنه واقف ساكن لا يسير إلى تدلٍّ ولا إلى رقيٍّ! ! وهذا هو المحال بعينه , وقد كان الأستاذ الإمام يقول: يستحيل أن يبقى الأزهر في هذا العصر على ما هو عليه، فإن لم يعمر ويرتقِ فلا بد أن يخرب ويزول. رأى الأمير بعد ذلك أن يصرف عنايته في سبيل إصلاح الأزهر، وتغير رأيه في حظ الحكومة منه، وإدخال العلوم الجديدة عليه، حتى أصبح يراها من الفروض المحتمة، فألف له مجلسًا عاليًا هو رئيسه في بعض الأحيان، فقرر المجلس وضع نظام جديد للأزهر، ودأب أعضاؤه يجمعون نظاميات المدارس الأميرية، وما كان وضعه المرحوم الأستاذ الإمام، ولخصوا من كل ذلك نظامًا جديدًا وضعوه ليسير عليه الأزهر، فكان من عيوبه الكثيرة أن الأساتذة أنفسهم لا يستطيعون السير عليه، فقد وضعوا فيه علومًا جديدة أوجبوا على الطلاب ممارستها، وأكثروا فيه من العلوم والفنون التي يستحيل على طالب لم يتوفر على تحصيلها من قبل أن يلم بها، وحتموا على من أوشكوا أن ينتهوا من الامتحان تأدية الامتحان فيها، مع علمهم بأن هذا من الإرهاق الذي لا يستطاع حمله، فإن الطالب الذي بلغ الثلاثين أو ما فوقها، يعسر عليه أن يرجع إلى مدارسة كتب السنة الأولى وبينه وبين الامتحان سنة أو سنتان! ! على أنه لا يوجد من الأساتذة من يحسن تدريسها، بل لا يوجد من ألم بها أو زاولها! . سألني أستاذ عهد إليه تدريس تاريخ آداب اللغة، ماذا أفضل من التواريخ لإقرائها؟ ابن خلكان أم ابن الأثير! ! ! وجاءني أستاذ آخر يسألني ما هي المحاضرات؟ ! وربما كان السائلون لغيري أكثر على أنهم يسألون عن موضوعات ليست غريبة عنهم، فما بالك بعلوم الطبيعة والرياضة ونحوهما؟ جاء البرنامج الذي وضعوه حاويًا أكثر من عشرين فنًّا، ما بين قديم وجديد، وأوجبوا على طلاب السنة الثانية عشرة أن يمتحنوا فيها، فكأنهم بهذا فرضوا عليهم أن يعودوا إلى السنة الأولى! ووزعوا العلوم على من لا يحفظ حتى أسماءها، فمن ذلك أنهم فرضوا على ضرير أن يقوم بتعليم الإملاء! وأرادوا على تدريس الرياضة من لا يحسن القواعد الأربع! وهكذا كان توزيع سائر العلوم على المدرسين، فكانوا كلما توغلوا في تطبيق النظام ازداد التهويش والاضطراب. رأى الطلاب أنهم مسوقون في طريق غير معبدة ونهج غير سوي، فاستيقنوا أن النهاية ستكون شرًّا من البداية، وكان كثيرون منهم ممن حضروا دروس الأستاذ الإمام عرفوا منها أن للإنسان أملاً في هذه الدنيا يسعى إليه، وغاية يقصدها بعلمه وعمله، ورأوا أنفسهم أنهم ليسوا من ذلك في عير ولا نفير، فاضطربت أفئدتهم وحزنت نفوسهم. أطلوا على مستقبل مظلم، مسبوق بالنكد والإرهاق، ورأوا الأهوال تصرفهم وبؤس العيش يؤذيهم، فهبوا من رقدتهم، واستيقظوا من غفوتهم، ونهضوا نهضة من نفخت فيه نسمة من الحياة، كانت ساكنة ولا محرك لها، فحركتها حرارة هذا النظام وبرودة تنفيذه من جهة، فصارت ريحًا عاصفةً. ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد من ذا الذي كان يظن أن طلاب الأزهر سيخرجون من الأزهر بقضهم وقضيضهم وهم بضعة آلاف؛ ليعلنوا للملأ أن ما هم فيه لا يرضى به من كان إنسانًا، وإن ما أوتوا من النظام الجديد إنما هو نتيجة أفكار تستطيع أن تحشر المؤتلف والمختلف معًا؛ ولكنها لا تحسن النظام، بل لا تعرف طرقه؟ خرج الطلاب من أزهرهم حذر ما أريدوا عليه؛ وابتغاء الوصول إلى خير منه، فطوفوا في الشوارع، وذهبوا إلى الجزيرة فخطبوا، وكان مظهرهم من أجمل ما تقع عليه العين، وكان أحسن ما هم فيه نظامهم وأناتهم، فقد كانت صفوفهم متوازنة، وأبصارهم خاشعة، تأدبًا بأدب الدين، وتخلقًا بأخلاق حملة العلم. سُرَّ الناس بهذا المظهر الجميل أو المظاهرة كما يقول الكتاب، وارتاحت نفوسهم إلى الأزهريين، بعد أن حكموا عليهم بالموت الزؤام. ولكن القيمين عليهم من المدرسين والمفتشين ريعوا وغضبوا، وصوروا الحال للأمير بعكس ما وقع، فأوهموه أن فريقًا أو أفرادًا حقيرين (وكلمتهم الحقيقية: هلافيت!) ، قاموا يصخبون ويصيحون، وأن تأديبهم من السهولة بمكان، فلم يحفل الأمير نداءهم، ولم يستجب لقولهم. ولكن ظهر بعد ذلك غشهم لأنفسهم وللأمير، ورأوا من اتحاد الأزهريين وصدق عزيمتهم، أكثر مما عندهم من القسوة والصلف، وأن الأمر واقع ما له من دافع، فلم يزدهم ذلك إلا تشددًا وعنتًا، ظنًّا منهم أن الشدة تفرق جمعهم، وتحل عرى اتحادهم، فجاؤهم برجال الشرطة وركبانها، فأحاطوا بالأزهر من كل جهة، وسدوا من دون طلابه كل منفذ، حتى إن فريقًا منهم لم يرض بما دون التحرش بقاله وأعماله، فأين من هذا تهديد المغاربة الذي عده الأمير بدعًا؟ ولكنهم ألفوا الطلاب مدرعين بالأناة والصبر، معتصمين بحبوة التوءدة والسكينة، فما استطاعوا حملهم على ما يكره من مثلهم، ولا إرادتهم على غير ما أرادوا أنفسهم عليه. لم تقف الحكومة موقف الحكمة إمام حركة الأزهريين، بل وقفت شاخصة ببصرها؛ كمن تعرض أمامه أنواع من الصور المتحركة! ولم تحفل بمطالب الأزهريين الذين أضربوا عن حضور دروسهم؛ رجاء نيلها. على أنه لم يكن من العسير أجابتهم إلى بعضها، ولو أنهم أجيبوا لرضوا وشكروا، وتنازلوا عن المطالب الأخرى واعتذروا. طلبوا المساواة بين المعاهد الدينية في حقوق الطلاب ورواتب المدرسين، حتى لا يكون راتب المدرس في الأزهر مائة قرش، وراتب ضريعه في الإسكندرية ثمان مائة قرش، كما هي الحال الآن، مع أن الأزهر رأس المعاهد الدينية. فمن ذا الذي لا يقول إنهم طلبوا حقًّا، والتمسوا مساواة وعدلاً؟ طلبوا مدرسين من أرباب الكفاءة والاضطلاع، ولا سيما الذين يعهد إليهم تدريس العلوم الجديدة التي لا يقدر غير الضليع بها على تدريسها، وأن تلقى إليهم على نحو إلقائها في المدارس النظامية، وأن ينفذ النظام الذي وضع لهم بالتدريج اتباعًا لسنة الارتقاء الطبيعي، لا أن يدفعوا به في صدورهم مرة واحدة، ويحملوا على الجري عليه كلمة كلمة، أفليسوا بهذا المطلب محقين، وبه جديرين؟ طلبوا أن يكون لحملة الشهادة الابتدائية والثانوية منهم حظ من الاستخدام في المحاكم الشرعية والأوقاف، والخطابة والوعظ، وغير ذلك من الوظائف الحقيرة فهل هم بذلك مخطئون بما طلبوا؟ طلبوا أن لا يحمل الطالب الذي يؤدي الامتحان في هذا العام على تأدية الامتحان في العلوم الجديدة التي لم يدرسها، ولم يعرف من أمرها شيئًا؛ لأن حمله على أداء الامتحان فيها من الإرهاق والظلم البين، فهل أساءوا وظلموا؟ ! طلبوا أن يكون لهم احترام أمام ذوي السلطة، وأن يسمح لهم بالسفر بنصف أجرة في السكك الحديدية ولشيوخهم من دون أجرة

ندوة العلماء الهندية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ندوة العلماء الهندية تأسيسها دارًا للعلوم إن لندوة العلماء في الهند مساعٍ في خدمة الدين الحنيف، وسعيًا في خير النوع الإنساني مبرورًا، وقد اتجه عزمها إلى إنشاء مدرسة كبرى للعلوم (جامعة) دعتها (دار العلوم) ، واحتفلت في أول شهر ذي القعدة الماضي بوضع الحجر الأول من أساسها، وقد قالت في ذلك مجلة البيان التي تصدر في مدينة لكنؤ (الهند) : (عقدت حفلة ندوة العلماء في 28، 29، 30 نوفمبر الفارط في مدينة لكنؤ فأمها المسلمون من كل الأصقاع من الأمراء والعلماء والوجهاء، وكانت الحفلة بهيجة لم ير الناس مثلها في حسن انتظامها، وبلاغة ما ألقي فيها من الخطب الداعية إلى نشر المعارف وإعادة مجد العربية في بلاد الهند، ومحو المراسم والبدع التي تجري عليها العامة باسم الدين، ورفع الخصام الملي، وإصلاح ذات البين، وتوطيد الإخاء والوئام بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وآرائهم، وتمت الحفلات، ولم يحدث فيها ما يريب ذوي الألباب أو يشين الجمعية المعروفة بندوة العلماء. وقد اجتمع في هذا الاحتفال جمهور كبير من صنوف الناس، فيهم المسلمون والإفرنج والهنود، وكان بين المسلمين أهل السنة وعلماؤهم، والشيعة ومجتهدوهم والمقلدون والمستقلون، والصوفية والأحناف والوهابية والمتفرنجة. وهو أول اجتماع ديني حفل أهل المدن المختلفة، كأنما هو طاقة رياحين مختلفة نفحاتها وألوانها. ولما حانت الساعة المعينة أتى الوالي السرجون هويت وقرينته، فاستقبلهما أعضاء الندوة، وأتوا بهما إلى الدكة المقامة لجلوسهما، فجلسا على كرسيين من الفضة، وافتتح الاحتفال بعد أن تلا القارئ آيات من القرآن الحكيم، وقدمت إلى الوالي عريضة الحال، فأجاب بخطبة مسهبة أثنى فيها على الخطة التي سارت عليها الندوة؛ من رفع الخصام، ونشر المعارف الحديثة ممزوجة بعلوم الدين، وعد أعضاء الندوة من مخلصي دولته، وقام بعد ذلك مع جماعة من وجهاء المسلمين، ووضع حجر أساس المدرسة) . وهذا نص العريضة التي قدمت إلى الوالي، نقلناها عن المجلة الخاصة التي تصدرها الندوة باسمها: مولاي الأكرم: نحن أعضاء ندوة العلماء، نرحب بكم من حيث كونكم نائب الحكومة في هذه الإيالة، ونشكركم على إجابتكم دعوتنا؛ لوضع حجر أساس دار علوم الندوة، فيشكركم على ذلك كافة المسلمين، فإن الندوة كأنها لسان حال الأمة، ولا يوجد قدر شبر من الأرض إلا وفيه أنصار الندوة وحماتها، وقد استبان بهذا منا للدولة من التسامح الديني الذي هو من مزايا الأمة الإنكليزية خاصة، والذي هو ملاك الحكومة وعمودها، فإن الندوة ليست إلا جمعية دينية. مولاي الأكرم: نحن نستدعي من حضرتكم أن تسمحوا لنا بإبداء مطالب الندوة وطوارئها التي من أحد مظاهرها الجلية دار علومنا هذه. مولاي الأكرم: إن المسلمين منذ وجدوا إلى يومنا هذا، لم تزل فيهم طائفة تلقب بلقب العلماء، وهم قادة الحزب الإسلامي في أمور الدين وأحكامه، والأمة كانت تقفو أثرهم، وتتبع هداهم في كل ما يمس بالدين ولو في أمور الدنيا، وكانوا أنموذجًا لتمدن الإسلام ومكارم أخلاقه. والأمر الذي استوجب وجود هذه الطائفة؛ هو أن ما تتقوم به جنسية المسلمين ليست خصوصية الإقليم، ولا الشعب، ولا الأسرة، كما هي للأمم الأخرى، بل كل من اعتنق دين الإسلام، يحصل له كل ما كان للمسلمين قاطبة على اختلاف جنسيته وعشيرته ومبدئه. ولما لم يكن للمسلمين حزب يختص بدعوة الدين، كانت الأمة تحتاج إلى مثل هذه الطائفة؛ لكي لا يحيدوا عن قصد المحجة. وهذا الأمر دعا إلى أن نشأت طائفة كبيرة من العلماء لا يقل عددهم عن أمثالهم في الأمم الأخرى، ومن مزية أمة الإسلام أن العلم كان فيها يكتسب لأجل العلم فقط، مع صرف النظر عن كل مرمى وغاية - وما في هذه الأمة من احترام العلم، والخضوع له والتفاني أمر لا تشاركها فيه أمة، حتى إن الرؤوس المتزينة بالتيجان كانت تخضع لها كرامة. والحق أن تأخر الأمة ما كان إلا بعد ما فقدت هذه الطائفة مزاياها، فذهب ما كان لها من المكانة عند القوم، وحينئذ حرمت الأمة من قيادتها وتبدد نظامها، وعند ذلك اشتغلت هذه الطائفة بمحقرات الأمور، وبلغ الحال إلى أن رفعت الشكاوي إلى المحاكم السلطانية، فقام حينئذ حزب من العلماء لسد الخلل وإقامة معالم الإصلاح، وكان من أول مظاهره هذه الجمعية المسماة بالندوة، انعقدت حفلتها الأولى في كانفور سنة 1893م، وفي سنة 1898م صادقت الحكومة عليها رسميًّا، وبلغت حفلاتها اثنتي عشرة حفلة، اجتمع فيها العلماء وعامة الناس على اختلاف أهوائهم وأذواقهم - أما مطالب الندوة فتحصر مهماتها في أربعة أمور: (1) ترقية المدارس العربية وإصلاحها. (2) رفع المخاصمات الدينية. (3) إصلاح أمور المعاشرة والأخلاق. (4) نشر الإسلام وكل ما يتعلق بالمنافع العمومية. في بدء الأمر ظهر الترحيب بالندوة من جميع الأمة كافة، فتوسعت حينئذ مطالبها، وكان من أول مساعيها أنها اجتهدت في رفع الخصام الحادث في أحزاب الأمة، وإصلاح ذات البين، وفازت في ذلك إلى حد لا يستهان به، وكذلك سعيها بتخفيض نفقات عوائد الفرح والألم لِمَ يذهب أدراج الرياح، ثم إن الندوة أقامت دار الإفتاء في لكنوء، ومحلاًّ للأيتام في كانفور. ولكن كان أهم مطالبها أمر التعليم، بإصلاح ما فسد منه؛ ليكون سببًا لوجود شرذمة تهدي الناس في الأمور الدينية. ومن البَيِّن أن التعليم الصحيح هو الذي يزيل كل داء اعترى الأمة، وحجزها عن سبيل رقيها. ونظرًا إلى ذلك أسست الندوة في سنة 1898 م مدرسة سمتها بدار العلوم، كانت في أول الأمر مدرسة ابتدائية، ثم تحولت إلى كلية في سنة 1901 م وصارت كأنها أساس لجامعة دينية، ولما كان أمر التربية أعظم خطرًا من التعليم أسست دار إقامة للطلبة. ولكن كان من شؤم الحظ أن الأمة لم تقدر مسعى الندوة حق قدره، فالفئة القديمة أساءت الظن أن إدخال الفلسفة الجديدة في نصاب التعليم، يورث وهنًا في الدين! حتى ألَّفت كتب ورسائل في تكفير حزب الندوة. وفوق ذلك أن الناشئة الجديدة أيضًا كانت تتقاعد عن الأخذ بناصرنا، فإنها كانت تحسب أن الندوة تقيد حرية الأفكار، وكانوا عاجزين عن فهم منافع إحياء العلوم العربية أصلاً ومع أن الندوة كانت هدفًا لسهام كلتا الطائفتين، لم تزلَّ لها قدم، ولزمت محجتها واختارت لنفسها جادة وسطًا، فرتبت نصابًا جديدًا رجح فيه جانب الأدب والعلوم الدينية، ومع أن دار العلوم لم يمض عليها ردح من الزمان، أنشأت تلاميذ يقدرون على ارتجال الخطب من غير روية، وهذا شيء لم يسبق له مثيل! وكان يُعد أمرًا نادرًا في إبان الحكومة الإسلامية أيضًا، وقد أضفنا إلى نصاب التعليم الفلسفة الجديدة، وكانت هذه بدعة تعد، وكفرًا في المدارس القديمة، ومما زاد الطين بلة، أنا أدخلنا في نصابنا تعليم اللسان الإنكليزي لزومًا، فكان من ثمرته حرمان الندوة من بعض المساعدات المالية، حتى إن بعضًا منهم استرجع أرضًا كان وقفها على دار العلوم! ولم نأل جهدًا في الاستفادة مما لأهل الغرب من الاكتشافات الجديدة في العلوم العربية، وخزانتنا تحتوي على أكثر ما كتبه المستشرقون في أمثال هذه المسائل، وعلى كتب غير هذه تصلح أن تكون زينًا لكل متحف علمي، وتلامذتنا لهم مزيد شغف في الاستفادة من تلك الخزانة، ويوجد فيهم من يكتب في مجلة الندوة مقالات علمية يستحق التنويه بها. والآن أردنا أن ننشئ لجنة، يكون أعضاؤها تلامذة مدرستنا الذين يقفون حياتهم على الفحص عن المسائل العلمية المهمة. وبناء على ما توارثنا من آبائنا لا نأخذ للتعليم أجرة، ونريد أن نوسع نطاق التعليم حسبما تعيننا على ذلك المساعدات المالية. ومن أهم مزايا مدرستنا أن الذين بقوا على الحيادة عن المدارس الدولية؛ لأجل التعصب الديني؛ أو لأجل عدم الثروة، لا يجنحون إلا إلى مثل التعليم الذي اختارته الندوة، فإنها جعلت تعليمها تحت سيطرة التعليم الديني. ونحن نجترئ على أن نعرض على مسامعكم أن دار علومنا مع قلة بضاعتها وقصر باعها، أربت على أمثالها من كلا النوعين بنوع خاص، فإنهم أبعد ذيلاً عن التقشف، وبراء من الفخفخة الفاسدة. ومع أن مدرستنا لا تقدرعلى إحداث طائفة يصلحون للتوظيف في أعمال الدولة. ولكن نحن على ثقة أن مدرستنا تنشئ رجالاً يقدرون على إطفاء الثورات الحالية التي تريد إمحاء سيطرة الخالق والمخلوق معًا، رجالاً يكون من شيمتهم الاستكانة للإكبار، والمؤاساة للجار، والتواضع للعامة، وفوق كل ذلك: الانقياد للحكومة والخضوع. فمدرستنا تنفخ في طلبتها روح المسامحة الدينية التي فتحت أبوابها لكل حزب فلم يتعين طلبتنا ولا أساتذتهم بالمشاجرات التي حدثت اليوم بين الفئتين العظيمتين من المسلمين، وعلماء لجنتنا لا يزالون يدعون الناس إلى الخير والصلاح فنرجوا من دار علومنا والمدارس التي تتبع سبيلها أنها تخرج طلبة سيسودون الأمة ويملكون أزِمَّتها مرة أخرى، ويحسمون التشاق، ويشقون عصا النفاق، ويصبحون لتوسعهم في المعارف الحديثة والقديمة واسطة موصلة بين الفئة الناشئة وحزب التقهقر العتيق ونحن على يقين من أن المسلمين كما يسلم إذعانهم لحكومتهم يزيدون من هؤلاء العلماء الناشئين طاعة وانتقادًا للحكومة. والآن نقدم إلى جنابكم أزكى التشكرات حيث تفضلتم علينا بقطعة من الأرض؛ لترفع عليها قواعد مدرستنا، وبعد ذلك نحن نشكر الذين بلغنا من مساعدتهم ومساعيهم إلى هذا الحد، ونخص من بينهم أولاً سمو النظام أمير (حيدر آباد) الذي نستغرف من وجود إمارته من نعومة أظفارنا، وإن لم نرزق زيارته حتى الآن. وبعد ذلك نؤدي مفترض الولاء إلى سمو الملكة أميرة بوفال التي تمنحنا وظيفة إعانة سنوية، ونبث أيادي إمارة هماوبالفورالتي رفدت أميرتها غير ما تسمح به إمارتها سنويًّا بمنحة تساوي خمسين ألف روبية، هيأتنا لنتشرف بأن تضع سعادتكم حجر أساس كليتنا، ونرى من واجباتنا أن نذكر من غير هؤلاء الكرماء الذين أخذوا بأيدينا، وساعدونا بما توخينا من الخير كرنل خان بهادر عبد المجيد خان وزير خارجية إمارة بلياليه ونحن نشكر المستر أي - ال- ساندرس والمستر اس ايج بطلرسي 0أي0أي0 والمستر ال ام جابلتك الذين نصرونا بتحصيل القطعة التي أنعمتم بها علينا. وفي الختام نشكر جنابكم من صميم أفئدتنا، حيث نصرتمونا مما ثنيتم إلينا من أعنة فضلكم، ونعيد مرة أخرى تشكرنا الذي نقدم إلى جنابكم، حيث قبلتم أن تضعوا بيدكم الكريمة حجر الأساس , والآن نسألكم أن تأخذوا بهذا العمل الخطير الذي يبقى على كر الدهر.

لقب حاكم المسلمين

الكاتب: لأحد فضلاء المسلمين من سنغافورة

_ لقب حاكم المسلمين لصاحب الإمضاء رأيت في بعض جرائد الآستانة كلامًا عن الخلافة، واتهام خديوي مصر بالسعي في التلقب بها، إلى نحو ذلك، ولا أدري أي عقل صبياني يقبل تلك المفتريات الباردة! إن لقب الخلافة لقب شريف، وله شروط، والخلفاء الحقيقيون الذين هم خلفاء بدون شك، قد مضوا - رحمهم الله تعالى - كما في الحديث المشهور (الخلافة بعدي ثلاثون ثم يكون ملكًا عضوضًا) وفي رواية (ملكًا وجبريةً) انتهى باللفظ أو بالمعنى، فمن كان بعد ذلك من عُلُوج أُمَيَّة، أو فُسَّاق بني العباس، فليسوا خلفاء بل هم ملوك، ولم يستثن إلا من استقام على الطريقة المُثلى، ولم تغن عنهم قرشيتهم شيئًا، ولا ديلمتهم. ثم ماذا جنى المسلمون من لقب الخلافة؟ إنهم لم يجنوا غير الافتراق والقلاقل ومنذ استشرى سلاطين آل عثمان لهذا اللقب، فتحوا على أنفسهم أبوابًا من التعصب بدون مقابل، قل لي: أي فائدة حازوها بهذا الاسم الضخم؟ أي مملكة افتتحوها بهذا اللقب؟ أي حق استحقوا بهذا المنصب؟ إنني لا أعرف شيئًا، وما أراهم استفادوا غير نفرة مجانين الملوك، وزيادة التفريق الذي أودى بنا. السلطان مفروضة طاعته في المعروف، حرام الخروج عليه لغير سبب مسوغ. كل هذا معلوم، فماذا يجب غير هذا له، لو كان خليفة مستكمل الشروط؟! إننا لو أردنا أن نقتصر لأقل ملوك المسلمين الآن، على ما كان لأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم شكوا في استحقاقهم له وأرجعوه، لم يقبل أحد منهم ذلك، مع أن أعلاهم كعبًا لا يقوم للمسلمين بعشر معاشر ما قاما به. لا أقول: إن ذلك الأوان مساوٍ للوقت الحاضر، يكفي فيه ما كفى في ذاك، لا بل أقول بعد مراعاة الأزمنة والأحوال. إذًا يجب النصح والمساعدة لسلطان المسلمين، على كل أحد منهم بما قدر عليه، سواء سماه أمير المؤمنين أو الخليفة أو السلطان كذا، أو إمبراطورًا أو ملكًا أو فلان بن فلان بلا فرق. ومن المحسوس أنه ليس للمسلمين سلطان أحق وأولى بالاعتبار من السلطان عبد الحميد خان - زاده الله توفيقًا - فالنصح له بعد النصح لله وكتابه واجب، وكذا الدعاء له. لكن لا على نحو ما يفعله الجهلة، وخطباء المنابر في الدعاء، أو بأن يقدموا أمامه ما يكون سببًا لعدم قبوله من المبالغات والنعوت الكاذبة، وما يدل على الخيلاء والأبهة والكبرياء، فكل ذلك بدعة، روجها الوسواس الخناس عليهم، وعمل بها علماء السوء عباد الدرهم والدينار. والتواضع والخضوع والصدق في الدعاء، والاتباع فيه لما جاء عن سيد المرسلين من أعظم أسباب قبوله. هذه آرائي أعرضها للتمحيص، وأقترح على خطباء المنابر أن لا يزيدوا على قولهم عبدك الفقير إليك فلان، وكأني بهم إذا عملوا بإخلاص، وقد رأوا علامات الإجابة، والله الهادي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سنغافورة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... س. س. ي

التاريخ الهجري الشمسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التاريخ الهجري الشمسي عندما شرعت بوضع النظام أو القانون للجمعية الخيرية الإسلامية في طرابلس الشام، خطر لي أن تكون سنيها هجرية شمسية، وأن يكون أول سنتها شهر مارس (آزار) كالسنة المالية العثمانية، وذكرت ذلك في القانون، ثم خطر لي أن أذكر هذا التاريخ في المنار؛ إحياء له مع ذكر السنة القمرية التي عليها المعول في الأمور الدينية؛ للاستغناء فيها عن الفلكيين والحاسبين. وقد جاء في حسابي أن سنة 1909 الميلادية توافق 1285 هجرية شمسية؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولد سنة 571 بعد ميلاد المسيح صلى الله عليه وسلم، وبعث على رأس الأربعين، وأعلن بعثته بعد ثلاث سنين من نزول الوحي عليه أول مرة، وهجر بعد عشر سنين من إعلان الدعوة فتلك 53 سنة، تجمع إلى سنة الولادة، فتكون معها 624 تطرح من 1909، فيبقى 1285. ولكن رأيت بعد ذلك أن الدولة العلية عزمت على أن تجعل حسابها المالي على السنة الهجرية الشمسية، وأن سنة 1909 وافقت على حسابها 1288 هجرية، وكأن الحاسبين الذين قاموا بذلك لم يحسبوا سني الفترة بين أول الوحي وإعلان الدعوة وهي ثلاث على المشهور، فيجب أن يتقوا مثل غلط النصارى في تاريخ الميلاد، فقد أخطأوا فيه بعده سنين، ثم لم يمكنهم الرجوع إلى الصواب؛ بعد أن ملئت الكتب والدفاتر بالخطأ. *** أهم ما نطلب من مجلس المبعوثان (1) إصلاح نظارة الأوقاف، وجعل أموال الأوقاف التي تراعى شروطها والتي جهلت شروطها والتي وقفت على الخير مطلقًا - كلها لإحياء العلم والدين ونشرهما في جميع البلاد، وسنفصل ذلك في وقته. (2) إصلاح المحاكم الشرعية، وأهم أركان هذا الإصلاح جعل المحاكم الشرعية كالنظامية، مؤلفة من رئيس وأعضاء، وتأليف كتاب لها كالمجلد، وجعلها درجات ابتدائية واستئنافية وتمييزية (محاكم نقض وإبرام) ، وترتيب رواتب شهرية كافية للقضاة والكتاب، ومنعهم من أخذ الرسوم. (3) جعل اللغة العربية محتمة في جميع مدارس الحكومة، وإنشاء مدارس معلمين ومدارس زراعة.

ذيل لكشف الظنون

الكاتب: جميل العظم

_ ذيل لكشف الظنون كنت شرعت منذ ست عشرة سنة بتأليف ذيل لكتاب (كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون) تصنيف العلامة منلا كاتب جلبي المعروف بحاجي خليفة المتوفى سنة 1067، جمعت فيه ما فاته ذكره من أسماء الكتب والمصنفات، مع أسماء المؤلفات التي حدثت بعد عصره في اللغات الثلاث الشرقية إلى يومنا هذا. رجعت في ذلك إلى كتب التراجم، وفهارس المكاتب العمومية، وبعض المكاتب الخصوصية، وضممت إلى ذلك الكتب التي وقفت علي أسمائها في أثناء مطالعتي لكتب شتى مختلفة المواضيع، وأسماء كتب كثيرة دخلت في يدي مع ما وقفت عليه من أسماء المؤلفات التي أعلنت الجرائد والمجلات طبعها، وقد أحببت أن أطبع هذا الذيل الحافل أجزاء متتابعة، كل جزء مائة صحيفة بقطع الأصل، بحيث يصدر في كل شهرين جزء منها , وبما أنني قد ذكرت في كتابي هذا كثيرًا من مؤلفات المعاصرين، أحببت أن لا تفوتني ذكر كثير منها مما لم أطلع عليه؛ لتعذر الإحاطة، فأرجو من فضلاء العصر وكتابه وأدبائه أن يتحفوني في مدة شهرين ونصف بأسماء مؤلفاتهم ومؤلفات أسلافهم؛ كآبائهم وأقربائهم مع ذكر شيء من خطبة الكتاب، ونبذة من ترجمة مؤلفه وتاريخ ولادته، وإن كان متوفى فتاريخ وفاته، ومحل طبع الكتاب إن كان مطبوعًا وسنة طبعه. وبما أنني رتبت هذا الذيل على حروف المعجم كالأصل، فإذا أخَّر أحد إرسال أسماء مؤلفاته إلى ما بعد الأجل المعين، وكان فيها كتاب يدخل في الحرف الذي تم طبعه، فاتني ذكر ذلك الكتاب. وأرجو أيضًا من أصحاب الجرائد والمجلات: أن يتحفوني بأسماء جرائدهم ومجلاتهم وتاريخ إنشائها، وبيان وصفها إجماليًّا، حيث أجعل ذكرها والتنويه بشأنها خاتمة للكتاب، وإنني أسلف كل من تفضل علي بآثاره كل شكر جزيل، وثناء جميل. يخابرني من شاء بهذا العنوان: (محاسب المعارف في بيروت جميل العظم) .

أوراق اليانصيب وسندات المصارف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أوراق اليانصيب وسندات المصارف (س1) من بورت سودان لصاحب التوقيع حكيم الإسلام، وفيلسوف الأنام، مربي الأمة ومرشدها، وغرة عصرها وعالمها، سيدي المرشد السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، نفعني الله بعلومه آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد جمعني وجماعة من نبغاء بورت سودان وفضلائها مجلس انعقد بمنزل فضيلة قاضيها الشرعي؛ لسماع درس التوحيد، وبعده أخذنا نتجاذب أطراف الحديث الذي وصل بنا إلى تحليل أو تحريم أوراق اليانصيب، وطال الجدال في هذا الموضوع، وانقسمنا إلى قسمين: قسم منا حرمها من أولها لآخرها، سواء في ذلك سندات سكة حديد تركيا (الرومللي) والبنك العقاري، جديدها وقديمها. والقسم الآخر فصَّل في الموضوع حيث حرَّم كل الأوراق ما عدا سندات البنك العقاري وسكة حديد تركيا، فقال بالحِل فيهما إلا أنه لم يجزم بهذا القول، واشترط في أوراق البنك العقاري عدم أخذ (الكبون) أي الربح السنوي. وبالنسبة لكوننا لم نوفق للفصل في هذا الموضوع نهائيًّا، قَرَّ القرار على الاستعلام من حضرتكم، وأخذ رأيكم في هذا الموضوع؛ للاهتداء بهداكم وكلفوني أن أسألكم. لذلك ولعلو مقامكم وكرم أخلاقكم، جئت إليكم بهذا راجيًا إرشادنا في هذا الموضوع - أرشدكم الله - والفصل فيه ليحق الحق، ويبطل الباطل، إن الباطل كان زهوقًا. كما إني أرجوكم إن كان سبق لسيادتكم التكلم عنه في مجلدات غابرة؛ أن تجيبوني عليه، وأكون ممنونًا لو تفضلتم بالإجابة في أول عدد لأهميته عندنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد كريم ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار (ج) أفتينا في المنار من قبل (ص47م10) بأن اليانصيب من القمار المحرم؛ لما فيه من الضرر الظاهر، فإن المقامر يضيع ماله لتوهم الربح، وقد فصلنا القول في ضرر الميسر في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219) فليراجع في (ص 329 ج2) من التفسير. وأما مثل سندات البنك العقاري: فهي نفسها ليست من (اليانصيب) وإن كان يعمل لها (يانصيب) ، بل هي ضرب من ضروب التجارة؛ لأن لها أثمانًا كأثمان سهام الشركات المالية، تزيد وتنقص، وتشبه من جهة أخرى الدين بربح قليل؛ لأن صاحب المال يأخذ عليه كل سنة ربحًا (كوبون Coupon) . ولكنها خالية من ضرر القمار؛ لأنه ليس فيها إضاعة مال محقق لربح متوهم، ومن ضرر الربا، المعبر عنه بقوله تعالى في خاتمة آيات الربا {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) وهي من ذلك مشكلة، والظاهر من أقوال الفقهاء وقواعدهم أنها غير جائزة لذاتها , ولكن بعضهم يجيز ذلك في غير دار الإسلام أو مع الحربيين؛ لأن التزام العقود الإسلامية إنما يجب في البلاد التي يحكم فيها الإسلام، ولهم في ذلك تفصيلات كثيرة (راجع ص 639 م7 وص 268 و 291و 590م8) . ثم إن الفقهاء قد جعلوا الشرع العملي قسمين: عبادات ومعاملات، فالمعاملات ليس فيها أمور تعبدية، بل كلها معقولة المعنى، منطبقة على مصالح الناس ومنافعهم، ودفع المضار عنهم، فلا يحرم منها إلا ما هو ضار بفاعله أو بغيره، وما يتراضى به الناس من المعاملات من غير غش، فلا يحرم عليهم إلا أنه إذا كان من شأنه أن يضر، لا يلزمهم القاضي ما كانوا تراضوا به إذا هم اختلفوا بعد ذلك، وتحاكموا إليه، ولا يفتيهم المفتي بوجوبه شرعًا، فقد جاء في الآثار الصحيحة عن البخاري وغيره: أن المقترض إذا أعطى أفضل مما أخذ أي كيفًا أو كمًّا، فلا بأس بذلك ما لم يشترط ذلك؛ أي يجعل حقًّا شرعيًّا. وهذا في الربا الذي هو أغلظ المحرمات المتعلقة بالمعاملات المالية، فإذا أعطى صاحب سندات البنك العقاري مالاً من البنك، قد ربح بالسحب برضى أصحاب البنك، فإنه لا يظهر لي أن أخذه محرم عليه، ولا سيما إذا كان أصحاب البنك من الأجانب الذين لا يلتزمون أحكام شريعتنا من أنفسهم، ولا توجد حكومة إسلامية تلزمهم العمل بها، ولا يظهر لي أن هذا من القمار إلا بالنسبة لمن يشتري أوراق السحب التي تباع في الأسواق؛ لأن هؤلاء يضيعون أموالهم على التوهم، وأما أصحاب السندات فإن أموالهم محفوظة لهم لا يضيع منها شيء، والله أعلم وأحكم.

دين المستقبل وهل يكفر من له رأي فيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دين المستقبل وهل يكفر من له رأي فيه (س2) من بغداد لصاحب التوقيع الذي عهد إلينا بكتمان اسمه. حضرة سيدي المحترم محمد رشيد رضا أفندي، أدام الله مجده: أما بعد فقد جئت طالبًا من فضلكم نشر سؤالي هذا على صفحات (المنار) الأغر، وسرد جوابه بما يتراءى لكم؛ لأن الأمر أشكل في بغداد، والأقوال تضاربت، فجئت طالبًا فتواكم ولكم الأجر. إن أحد الكتاب نشر مقالة في جريدة بغداد في عددها الأول، ونقل فيها: أن حضرة السيد البكري نقيب أشراف مصر قال: سألت الشيخ جمال الدين الأفغاني عن دين البشر في المستقبل فأجابني بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) [1] فقام بعض المدعين للعلم وقال: إن هذا الناقل الذي نشر المقالة قد كفر، وخرج من دين الإسلام، وطلب من الحكومة مجازاته، وهو القتل كفرًا لا حدًّا والعياذ بالله، ثم وكل الأمر إلى أربعة من المدرسين وهذا المكفر معهم خامس، فأما أحدهم فقال: إن الرجل ناقل وليس عليه شيء، من دون أن يعمق البحث في أصل الموضوع، فرفضوا قوله، واجتمع الأربعة على أنه يجب تعزير هذا الناقل تعزيرًا شديدًا، وقدموا قرارهم هذا للعدلية، ولا ندري ما سيكون منه، فنرجوكم تدقيق هذا البحث بأطرافه بحق قائله وناقله، والحاكمين فيه؛ ليتضح الحال خدمة للوطن والدين والأمة دامت أفضالكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... غيور اغتار للدين (ج) لا وجه للقول بكفر هذا الناقل، ولا ذلك القائل، ولا بتعزير من يرى ذلك الرأي، سواء كان خطأ أم صوابًا، والظاهر أن أولئك العلماء لم يفهموا معنى سؤال البكري ولا جواب الأفغاني؛ لأنهم لم يفكروا في مثل هذا البحث، ولا في سببه، لا لبلادة في أذهانهم، ولا لجهلهم باللغة التي عبر بها القائل والناقل. نعم، إن المشتغلين منا بالفقهيات، الجامدين على التقليد والعادات، كثيرًا ما يتجرأون على التكفير بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وأظن أن من ذكرتم من علماء بغداد، لو فهموا معنى السؤال والجواب، لما خطر في بالهم أن يعدوا القول به ذنبًا فضلا عن أن يعدوه كفرًا. يقول كثير من علماء الاجتماع: إن البشر في مجموعهم يسيرون إلى الكفر والإلحاد عامًا بعد عام، وإن هذا السير ينتهي بترك الأمم كلها للتدين بعد قرون كثيرة أو قليلة، ومن هؤلاء القائلين بهذا الرأي من هو متدين بالإسلام، ومنهم من هو متدين بغيره، ومنهم من هو ملحد لا يدين بدين. ويقول آخرون: إن البشر لا يمكن أن يستغنوا عن الدين، ولا عبرة بما نراه في هذا الوقت من كثرة الكافرين، فلا بد أن يبقى الناس متدينين، وأن يبقوا مختلفين في الدين، ويذهب آخرون إلى أنه لا بد أن يسود في المستقبل دين يكون عليه أكثر البشر، وهل يكون ذلك دينًا جديدًا أم أحد الأديان الحاضرة بعد تنقيحه وتطبيقه على حال الناس في المدنية المستقبلة؟ إنهم مختلفون في هذا، وسمعت الأستاذ الإمام يقول أكثر من مرة: إنني أعتقد منذ عشرين سنة أن دين المستقبل هو الإسلام، ولي على ذلك أدلة اجتماعية، وأدلة نقلية: كالوعود الإلهية بإظهاره على الدين كله، وهو عندي في مرتبة اليقين. ولا يخفى أن أصول الدين الإلهي الحق التي دعا إليها جميع رسل الله هي: الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، والكتاب والسنة تفصيل لهذه الأصول. وعبارة السيد جمال الدين مجملة، فلا يدرى أرأيه كرأي تلميذه الأستاذ الإمام، ويريد بالأصول المجملة في الآية ما هو مفصل في غيرها من الآيات، أم يريد أن البشر لا يتفقون على تفصيل الإسلام ولا غيره، وإنما يستقر رأيهم على تلك الأصول المتفق عليها، ويتركون لكل فرد رأيه واجتهاده في تفصيلها؟ الله أعلم بتفصيل رأيه. ولكن الذي يجب الجزم به أنه لا يجوز أن نكفره، ولا أن نفسقه برأيه؛ لأنه لا علاقة بين مثل هذا الرأي، وبين قوة الإيمان وصحة الإسلام، بل لا يجوز أن نقول بكفر من يرى أن البشر يتركون كل دين، ولا بتعزيره أو لومه على ذلك. فليتق الله علماؤنا في المسلمين، وليعلموا أن عاقبة هذا التشديد والجراءة منفرة عن الإسلام، وأنها يوشك أن تفضي إلى ما لا يحبون لأنفسهم ولا لدينهم. أما العدلية فلا أدري ما هي علاقتها بآراء الناس وأفكارهم، فإذا كان رجال العدلية في بغداد كمن ذكرتم من العلماء فهمًا لهذه المسألة، وكان رأيهم في العقوبات القانونية كرأي أولئك الفقهاء في العقوبات الشرعية، فياحسرة على بغداد، فإنها لا تزال ترسف في قيود الجهل والاستبداد.

تعدد صلاة الجماعة في وقت واحد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعدد صلاة الجماعة في وقت واحد (س3) من بغداد لصاحب التوقيع. حضرة السيد الفاضل صاحب مجلة المنار دام فضله: اتفقت أقوال العلماء على أن لا فرق بين أقوال الأئمة الأربعة المجتهدين - رضوان الله عليهم - وأنهم تجمعهم السنة والجماعة. ولكن مع الأسف نرى في أغلب جوامع بغداد تقام للصلاة جماعتان: حنفية وشافعية في آنٍ واحد، وكل يصلي بصلاته بحيث لا يكاد يميز السامع بين تكبير إمام وآخر، فما القول في ذلك؟ وأغرب منه أن يقوم مع وجود الإمامين إمام ثالث حنفي ويصلي بالناس مع أن صف الجماعة المقتدين به متصل كمال الاتصال بصف المصلين خلف الشافعي بحيث لا يمكن معرفة الحد الفاصل بين الجماعتين قط. وبعد تمام صلاتهما تقام جماعة حنفية أخرى! فما القول في الإمامين الأولين على أن الشافعي راتب، والحنفي فضولي، والحنفي الذي يصلي أخيرًا راتب؟ أرجوكم دفع هذا الالتباس ولكم الأجر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء ... ... ... ... ... ... ... مسلم لا يحب تفرقة الإسلام (ج) إن تعدد الجماعة في وقت واحد بدعة مذمومة؛ لا سبب لها فيما نعلم إلا جعلها وسيلة للمرتبات التي يأخذها أئمة المساجد من الأوقاف أجرة على الإمامة، وفي هذه الأجرة ما فيها. ولا التباس في المسألة فنحتاج إلى إزالته؛ لأن هؤلاء المفرقين لا يقولون: إن إقامة جماعتين فأكثر في مسجد واحد في وقت واحد مشروع فنرد عليهم. ولا يرجى أن يترك هؤلاء الأئمة ذلك باختيارهم إلا بأحد أسباب ثلاثة: (ا) علم أولئك الأئمة بالسنة والحرص على اتباعها. (2) رغبة المأمومين عن التعدد، كأن يقيض الله لهم من يعلمهم أن أمتنا أمة واحدة، وديننا واحد، حرم الله علينا التفرق فيه بمثل قوله: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا} (الشورى: 13) ، وإن سلفنا الصالحين ما كانوا يقيمون جماعتين أو جماعات في وقت واحد مع مخالفة بعضهم لبعض في بعض الفروع الاجتهادية، كما عليه الشافعية والحنفية وغيرهم، وإن هؤلاء الخلف ما تفرقوا عن الجماعة إلا لأجل الدنيا. فإذا علم العامة ذلك لا يلبثون أن يصلوا مع الجماعة الأولى في كل وقت؛ ولكن هذا أبعد مما قبله؛ لأن علماءنا أهملوا تعليم العامة دينهم، وصار أكثرهم يكتفي من خدمة الدين بتكفير من يخالف رأيه أو هواه من المسلمين، فحسبنا الله ونعم الوكيل. (3) أن يصير للمسلمين رياسة دينية محترمة عند الحكومة وعند الناس، يوكل إليها الفصل في أمثال هذه المسائل، كأن يجعل ذلك من شأن المفتي، فإن قيل: إن الدين الإسلامي لا رياسة فيه كغيره من الأديان، قلنا: لا نعني أن يكون له رؤساء يسيطرون على الناس في دينهم، بل رؤساء يحترمون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وغير ذلك من أمر الدين المتفق عليه.

منع غير المسلمين من سكنى الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منع غير المسلمين من سكنى الحجاز (س4) من الخواجه إلياس لطف الله أبي سليمان بتينوغستا (الأرجنتين) . حضرة العلامة العامل، والأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا: أدامه الله بخضوع واحترام، أقدم كامل الواجبات لشخصكم الشريف وأرجو من سيادتكم الإفادة، إذا كان منع غير المسلمين من الدخول إلى أرض الحجاز المقدسة هو أمر ديني مقرر في الكتب الشريفة المنزلة أو في الحديث الشريف أم هذه عادة، وفي الحالين أرجوكم إذا لم يكن من مانع أن تتكرموا بالإيضاح في أحد أعداد مناركم المنير، ولكم جزيل الفضل والمعروف 0 قال سعادة الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر في عدد 5567 ما معناه: إن المهندسين العثمانيين في سكة حديد الحجاز انفردوا بالعمل كله من العلا إلى المدينة؛ لعدم جواز دخول غير المسلم أرض الحجاز. أختم بتكرار رجائي، والله يديمكم مرجعًا في جميع الأمور؛ كي تستنير منكم ومن مناركم العمومُ، سيدي. (ج) روى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وَجعُه يوم الخميس، وأوصى عند موته بثلاث: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة) . والذي نسي الثالثة هو سليمان الأحول وهي النهي عن اتخاذ قبره وثنًا أو تجهيز جيش أسامة. وروى أحمد ومسلم والترمذي وصحيحه عن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا) . وروى أحمد من حديث عائشة قالت: آخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. وروى أحمد أيضًا والبيهقي من حديث أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب) . وذكر الحافظ ابن حجر في كتاب الجهاد من شرحه للبخاري: أن الجمهور على أن الذي يُمْنَعُ منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، قال وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها، مع أنها من جملة جزيرة العرب. أقول: قال في القاموس: جزيرة العرب ما أحاط بها بحر الهند وبحر الشام، ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولاً، ومن جدة إلى ريف العراق عرضًا. والذي جرى عليه العمل هو إخراج غير المسلمين من الحجاز، ففي صحيح البخاري أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وذكر يهود خيبر فقال: أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء , وجعل بعضهم حديث أبي عبيده مخصصًا؛ لتصريحه بلفظ (أهل الحجاز) ، وقال بعضهم: إنه لا يصلح مخصصًا. وليس من غرضنا هنا تحقيق الخلاف وتحرير الدلالة، وإنما نقول: إن الحجاز هو الذي نفذ فيه الأمر وجرى عليه العمل، فهو عند المسلمين كالمسجد، ولا يشاركهم في مساجدهم إلا من دان بدينهم، وشاركهم في عبادتهم , وهذا التخصيص على كونه دينيًّا يتعلق بسياسة الإسلام، فإنه لما فيه من التساهل مع المخالفين لا يستغني أهله عن بقعة خاصة بهم، لا يزاحمهم فيها غيرهم، يأرزون إليها عند إلجاء الحوادث ومطاردة الكوارث. وليس الحجاز مما يصلح لكسب الدنيا والتمتع بزينتها. فما منع غير المسلمين إلا من مكان لا حظ لغير المسلم فيه، إلا أن يريد مزاحمته أو الافتيات عليه في خاصة دينه. وقد تبين المحققون أن حكم الإسلام في مكة أنها وقف للمسلمين عامة. قال ابن القيم: وأما مكة فإن فيها شيئًا آخر يمنع قسمتها، ولو وجبت قسمة ما عداها من القرى (أي التي تفتح عُنْوة) وهي أنها لا تملك؛ فإنها دار النسك، ومتعبد الخلق وحرم الرب تعالى الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، فهي وقف الله على العالمين، وهم فيه سواء، ومنى مناخ من سبق قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج: 25) إلى أن قال: فالحرم ومشاعره كالصفا والمروة والمسعى ومنى وعرفة ومزدلفة، لا يختص بها أحد دون أحد، بل هي مشتركة بين الناس؛ إذ هي محل نسكهم وتعبدهم، فهي مسجد من الله وقفه ووضعه لخلقه ... إلخ. ثم إن لسائر الحرمين أحكامًا خاصة، فلا يحل صيدها، ولا يختلى خلاها، فمن هنا يعلم أن منع غير المسلمين من سكنى بلاد الحجاز، ليس هو الحكم الذي تختص به وحده هذه البلاد. وأما دخولها لغير السكنى ففيه أقوال، أصحها عندي قول الشافعي أنه لا يُمَكَّن غير المسلم من دخول أرض الحرم إلا بإذن الإمام؛ لمصلحة المسلمين، على أن المشهور في مذهبه أنه يجوز لغير المسلم دخول مساجد المسلمين بإذن أيّ مسلم، لا يختص بالإمام الأعظم، ولا يقيد بالمصلحة العامة. وقال بعض العلماء: يجوز دخولها ما عدا المسجد الحرام والحجاز.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الزكاة في القراطيس المالية الأنواط (س5) من الشيخ محمد بسيوني في (سمبس برنيو) . حضرة الأستاذ الحكيم، الشيخ العظيم، سيدي السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، متعني بوجوده، آمين. وبعد، أهديكم أزكى التحية والاحترام، أرجو من فضيلة -سيدي- الجواب عن هذا السؤال. لا زلتم مشكورين. ما قولكم في الأنواط هل تجب فيها الزكاة أو لا؟ وما العلة في وجوبها أو عدمه، أفتوني سيدي بالقول الصحيح المعتمد مأجورين. (ج) بينَّا في الفتوى 28 من المجلد العاشر (ص539) أن القراطيس المالية التي تسمى (بنك نوت وأنواط) من قبيل النقود الذهبية. وفي الفتوى الأولى من المجلد الخامس كلام في الخلاف فيها، واعتماد كونها من قبيل النقد لا عروض التجارة، وكون الزكاة تجب فيها، والربا يحصل بها، فليرجع إلى ذلك. ولو قلنا: إن الزكاة لا تجب في هذه القراطيس؛ لأمكن للغني الذي يملك ألوف الألوف من الذهب أن لا يؤدي زكاة قط؛ ولأبيح الربا بسهولة في أكثر معاملات المصارف (البنوك) . *** حديث من آذى ذميًّا (س6) من محمد أفندي أحمد شمس الإسكندرية. ملخص السؤال أنه اطلع على خطبة للشيخ بشير الغزي العالم الحلبي الشهير فرأى حديثًا لم يطرق سمعه وهو (من آذى ذميًّا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) وسأل عن تخريجه؛ ليباهي بتساهل الإسلام فيه. (ج) الحديث أورده السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه إلى معجم الطبراني الأوسط، وأشار إلى أنه حديث حسن. وفي معناه أحاديث أخرى في الوصية بالذميين والمعاهدين، منها حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجه (من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من ميسرة أربعين عامًا) وحديث علي عند الحاكم (منعني ربي أن أظلم معاهدًا ولا غيره) والإسلام يأمر بأكثر من ذلك، فقد قالوا: إنه يجب على المسلمين إطعام الذمي عند الضرورة، ويستحب مع غير الضرورة، كما تجب حمايتهم والدفاع عنهم ولو بمحاربة المعتدي عليهم. *** شرب الدخان في مجلس القرآن (س7) من الشيخ إبراهيم حسين بهوارة عدلان (الفيوم) . حضرة العلامة الكامل، والأستاذ الفاضل، صاحب مجلة المنار الغراء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدي ومولاي: جرى الخلاف بين طائفة من أهل العلم في حكم التدخين - أي شرب الدخان- في مجلس تلاوة القرآن الشريف فمنهم من حرَّمَه، ومنهم من جوَّزه مع الكراهية؛ مراعاة للآداب، ولم يذعن أحد الطرفين لقول الآخر؛ وحيث إن سيدي ممن يُرجع إليه في فصل الخلاف، فقد حررت هذا لفضيلتكم؛ راجيًا التفضل بالجواب مبسوطًا في العدد الآتي في مجلتكم مؤيدًا بالحجج الإقناعية بدون إحالة على ما نشرتموه سابقًا في المجلة؛ لإجماله ولصعوبة العثور عليه الآن على مثلنا، ولفضيلتكم جزيل الشكر. (ج) قد بسطنا الكلام في هذه المسألة في الفتوى 71 من المجلد السابع (ص 537) ، وحاصل رأينا أن شرب الدخان في مجلس القرآن يعد محظورًا، إذا كان العرف العام يعده من إساءة الأدب، والأوجب على كل امرئ مراعاة ما يعتقده، وتطمئن إليه نفسه مع الاحتياط في التزام الأدب. وإن الجرأة على التحريم من أكبر الجنايات على الدين، إذا لم يكن الدليل عن الشارع واضحًا نصًّا أو دلالة، ولا نص في مسألتنا ولا دليل، إلا ما يقال في مسألة الأدب، وهو شيء يتعلق إما بالعرف، وإما باعتقاد الشخص، وهو ما اعتمدنا عليه من قبل، وما نقوله الآن. والله أعلم. *** استعمال ساعة الذهب ولبس خاتمه (س8) من كتاب الشيخ عبد اللطيف أبي عوف بدنقلة (السودان) . أرجو إفادتي بوجه السرعة على صفحات مجلتكم الغراء؛ عن حكم لبس الساعة التي داخلها شيء من الذهب، وكذا الخاتم، ومقدار ذلك الذهب أعني عيار 12 أو أقل، ولكم الشكر. (ج) في الفتوى 57 من فتاوى المجلد السابع (ص419) تفصيل لمسألة التحلي بالذهب واستعماله، ومنه بعد ذكر الأحاديث الواردة في المسألة والبحث فيها (وجملة القول أنه ثبت في الصحيح النهي عن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، مع الوعيد والنهي عن التختم بالذهب، وفي حديث مسلم أنه شبهه بجمرة من نار، ولم أره في المنتقى. وأما مذاهب العلماء فيها: فقد حمل الأقلون النهي على التنزيه دون التحريم، وذهب داود إلى تحريم الشرب في أواني النقدين، وإباحة ما عداه من أنواع الاستعمال، وقاس كثير من الفقهاء غير الأكل والشرب عليهما، حتى حرّم الشافعية اتخاذ الأواني وإن لم تُستعمل) ثم بحثنا في علة ذلك واختلافها باختلاف الزمان. وذكرنا في آخر الفتوى أن الاحتياط أن يتجنب المسلم ما ورد به النهي الصريح، ويراعي المصلحة فيما وراء ذلك بحسب اجتهاده مع الإخلاص، وراجع التفصيل إن شئت (في ص 421 - 424م7) . والظاهر أن المراد بالذهب في النهي ما يعم التبر الخالص، والمزيج من الذهب وغيره ما سُمِّي ذهبًا، ويحتمل أن يقاس الذهب على الحريرعند من يقولون: إن الثوب المحرم منه هو ما كان إبريسمًا خالصًا، أو ما كان الإبريسم هو الغالب فيه وزنًا أو نسيجًا. وإنني أعتقد أن استعمال الساعة الذهبية إنما تحرم إذا كان فيها إسراف أو مخيلة، وكذا غيرها مما لا نص في النهي عنه، وإلا فهو مباح أو مكروه في الأكثر، والله أعلم. *** رابطة النقشبندية (س9) من ع0ب0ح في سنغافورة. حضرة الفاضل صاحب المنار بمصر: نحن معاشر أهل الطريقة بهذه الجهات، قد عثرنا على فتواكم في رابطة أهل الطريقة، فحمدنا الله على صنيعكم، وما أيدتم طريقتنا بقولكم: (يمكن للمريد العارف بعقيدة الإسلام أن يجمع بين التوحيد وبين تخيل شيخه، إلى أن قلتم: فمثل هذا لا يعد مشركًا لشيخه مع ربه) ، ونحن ولله الحمد عرفنا بعقيدة الإسلام، وأن إحضارنا صورة شيوخنا عند ذكر الله؛ لأنه من آكد الآداب، والاستمداد منه هو استمداد من النبي صلى الله عليه وسلم، وقلبه يحازي قلوبنا إلى صاحب الطرق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقلبه صلى الله عليه وسلم دائم التوجه إلى الحضرة الإلهية، كما هو مقرر في كتب الطريقة، وقد عمل بالرابطة أولياء الله الصالحين، ونحن من متبعيهم ومتبعي النبي صلى الله عليه وسلم، وسلسلة طريقتنا متصلة إليهم وإلى حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقول محرر الإمام بسنغافورة: إن الرابطة بدعة لم يعمل بها النبي، ولا أصحابه، ولا التابعون، بل قال الرجل: إن اختراع الرابطة لم يكن في عهد الإمام الغزالي، وعبد الوهاب الشعراني، وعبد القادر الجيلاني، فهل يتصور أن كبار العلماء القائلين بالرابطة أخطأوا فيها. وهذا المدعي وأضرابه مصيبون فيتركهم الناس ويتبعون المدعي وأضرابه كلا ثم كلا، وقد تجرأ المدعي على أهل الطريقة، قال ما معناه: من قال إن الدين الإسلامي يأمر بالرابطة فهو أكذب من خطيب سمبس؛ لأن ذلك الخطيب وغيره قد نشروا ردودًا على مجلة الإمام بالجرائد، ومن قول ذلك الخطيب ما معناه حيث إن الإمام قد أنكر الرابطة وقال: إنها بدعة لم يأمر بها الدين، بل هي ممنوعة وجبت عليه التوبة، ووجب عليه إعلان توبته بمجلته وبالجرائد التي كتب فيها مسألة الرابطة؛ لئلا يغتر الناس بقوله في الدين. اهـ أرجو من المنار بسط الجواب، هل هي بدعة ممنوعة أم لا؟ (ج) قد علم من جوابنا السابق أن الرابطة لم يرد فيها شيء من كتاب ولا سنة نبوية، وإنها ليست من أعمال الدين، فيطالب كل مسلم بها، ويعد مقصرًا في دينه إذا تركها، وينكر عليه إذا أنكرها، كما يعد مبتدعًا إذا فعلها. وإنما هي طريقة في تربية النفس كغيرها من الطرق التي استخدمها الناس في التربية والتعليم، واستفادوا منها بالتجربة ما كان عونًا لهم على مقصدهم، فمن قال: إن الدين يثبتها أو ينفيها لذاتها فهو مخطئ؛ لأنه ليس فيها نص ديني، ومثله كمثل من يقول: إن طريقة كذا في التعليم مطلوبة أو ممنوعة دينًا. نعم إن ما يستحدثه الناس من طرق التربية والتعليم قد يخل عرضًا بأمر من أمور الدين، فيكون محظورًا دينًا لذلك العارض، كما إذا اعتقد المريد أن شيخه يملك بالرابطة نفعه أو ضره، وهدايته أو غوايته وضلاله. واعلم يا أخي في الدين والطريقة، أنك لا تستطيع أن تدافع عن الرابطة إلا إذا قلت: إننا لا نتخذها دينًا، وحينئذ لا يسرك كونها بدعة؛ لأن البدعة إنما تكون ضلالاً إذا كانت في الدين. وأما البدعة في غير الدين فمنها الحسن ومنها القبيح، كما يؤخذ من حديث مسلم (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) ومن البديهي أنه ليس لأحد بعد انقطاع الوحي أن يسن في الدين شيئًا، وإنما هي السنن المتعلقة بأمور الناس في تربيتهم وتعليمهم وسياستهم، وسائر مصالحهم التي تنفعهم في دينهم ودنياهم. ولكن ما ينفعهم منها في دينهم لا يعد حكمًا دينيًّا يطالب به الناس على أنه دين؛ لأن شارع الدين هو الله تعالى على لسان رسله - عليهم الصلاة والسلام -، ولا شرع بعد انقطاع الوحي وختم الرسالة. ثم اعلم أن عمل بعض الصالحين بالرابطة لا يدل على أنها من الدين؛ لأنه لم يقل أحد من أئمة المسلمين وعلمائهم أن عمل الصالحين حجة في الدين، وقد وقع كثير من الصالحين في البدع أو المعاصي عن جهل بالحكم الشرعي، ويجوز عقلاً أن يخطئ بعض أولئك الصالحين في مسألة، ويصيب فيها مثل صاحب مجلة الإمام من المعاصرين. ولو شئت لأفشيت سر الطريقة وزدت بيانًا. ولكن لا محل لذلك هنا ولا حاجة إليه. وجملة القول: أن صاحب مجلة الإمام قد أصاب في قوله: إن الرابطة ليست من الدين. ولكن يظهر لي أنه بالغ في الإنكار، حتى جعل الدين محرِّمًا لها لذاتها وإن لم يترتب عليها محظورًا أو تجعل شرعًا ودينًا، كما بالغ المنتسبون إلى الطريقة فجعلوها دينًا؛ كأنه وقع بها التكليف من رب العالمين على جميع المسلمين حتى صار المنكر لها كالمنكر بعض ما ورد في الكتاب والسنة من أمور الدين. وهذا مما ننكره على الفريقين. وأوصي أهل الطريقة بترك المراء والجدل والنبز بالألقاب، وأن يجعلوا ذلك سببًا للتفريق والخلاف في الدين، فإن ذلك يخرج صاحبه من حضرة الدين {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) .

تذكير مجلس المبعوثان ببعض شؤون الإصلاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تذكير مجلس المبعوثان ببعض شؤون الإصلاح [1] المحاكم الشرعية مازال حظ المحاكم الشرعية في البلاد العثمانية دون حظ المحاكم النظامية وسائر دواوين الحكومة ومصالحها، فإننا لم نسمع حتى الآن صوتًا قويًّا من المبعوثين في مجلس الأمة بطلب ما يجب من إصلاحها، فهل تتهيب حكومتنا إصلاح هذه المحاكم أو تتقاعس عنها، كما فعلت الحكومة المصرية؟ ! إن المحرك للحكومة المصرية والمرسل لها إلى الإصلاح أو الممسك لها عنه، إنما هو الاحتلال الإنكليزي، وكان الرؤساء من الإنكليز يقولون: إننا لا نمس الأمور الدينية؛ لأنها لا تقبل الإصلاح؛ أو لأن المسلمين لا يريدون إصلاحها؛ أو يتهموننا فيها تهمة نحن في غنًى عن التعرض لها، ثم محاولة تبرئة أنفسنا منها. وقد ضج مسلمو مصر بعد ذلك بطلب إصلاح هذه المحاكم، فكانوا مع الإنكليز كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء. إن المحاكم الشرعية في القطر المصري، أمثل منها في سائر الولايات العثمانية من بعض الوجوه، على أن اختصاص هذه أوسع من اختصاص تلك، وليس لمجلس الأمة في الآستانة أن يتعلل بمثل ما يتعلل به الإنكليز عند مطالبتهم بإصلاح هذه المحاكم، فمتى نسمع صيحة أهل العلم المحبين للإصلاح في المجلس ببيان ما يجب من إصلاحها؟ أينسى أولئك المبعوثون أصحاب الغيرة على الشرع أن هذه المحاكم كادت تكون حجةً على الإسلام، وفتنةً للمسلمين؟ أينسى أولئك الأحرار الواقفون للاستبداد بالمرصاد؛ أنه لا يوجد معهد من معاهد الحكومة يباح فيه الاستبداد بغير تبعة ولا مسئولية إلا في المحاكم الشرعية؛ حيث يحكم القاضي برأيه بلا مشاورة في الأمر، ولا مشاركة في الرأي، ولا معرفة للمتقاضين بالمسائل التي يجب بها الحكم! ! . فهل يرضى مجلس الأمة أن تبقى هذه المحاكم على هذه الحال، وهي منسوبة إلى الشرع الذي بُني على الشورى، وأمر الرسول المعصوم بالمشاورة صلى الله عليه وسلم، وجرى الخلفاء الراشدين على الحكم بها؟ ألا يعلم نوابنا الكرام أن فساد هذه المحاكم مفسد لكثير من البيوت (العائلات) التي هي مرجعها في مسائل الطلاق والنفقات وغير ذلك من أمور الزوجية؟ أيستهينون بأمر الأوقاف، وما لها من العلاقة بالأمور الدينية والأعمال الخيرية التي لها شأن كبير في صلاح الأمة وفسادها؟ أول شيء يجب الالتفات إليه في إصلاح هذه المحاكم هو إدخال الشورى فيها بجعلها مؤلفة من أعضاء يحكمون بأكثر الآراء، كما هو الشأن في المحاكم النظامية، حتى ما يحكم فيها بالشرع الشريف؛ كمحاكم الحقوق التي يحكم فيها بالمجلة , وقد سبقت مصر إلى هذا الإصلاح في محكمة القاهرة التي يرأسها القاضي الأكبر الذي يرسل إليها من دار السلطنة العثمانية. فإقامة هذا الركن الإسلامي في المحاكم الشرعية، يبطل استبداد القضاة في الأحكام، ويقلل ارتكابهم لجريمة الرشوة، ويجعل القضية سريعة الإنجاز، فيصل الناس إلى حقوقهم في وقت أقرب مما يصلون الآن، إن وصلوا! . يلي هذا الركن وضع كتاب في الأحكام التي تختص بها هذه المحاكم؛ ككتاب مجلة الأحكام العدلية، في سهولته، وترتيبه، وتقسيمه إلى مواد معدودة، ومسائل محدودة، تلزم الحكم بها وبيان عدد المسألة التي يستند في الحكم إليها. ولا حاجة إلى التذكير بفوائد هذا الكتاب التي (منها) كون المتقاضين يعلمون منه الأحكام التي يحكم بها في دعاواهم، فيطبقونها عليها، ويطلبون الحكم بها. (ومنها) توحيد الأحكام في الدعاوى التي موضوعها واحد، لا كما يقع الآن كثيرًا من حكم المحاكم المختلفة، بل المحكمة الواحدة في مثل هذه القضايا بأحكام مختلفة، يؤخذ فيها مرة بقول فلان، ومرة بقول غيره. ناهيك بما في كتب فقه الحنفية من الخلاف في التصحيح والترجيح، وما يكون في هذه الأحكام المتعارضة من الفضائح وضعف الثقة بالدين وأهله , (ومنها) سهولة تناول الحكم وتضييق مسالك الخلاف فيه بين أعضاء المحكمة. وبوجود مثل هذا الكتاب تتحقق قاعدة كون الجهل ليس بعذر , وإنه ليعسر الآن على من زاول كتب الفقه عدة سنين؛ أن يعرف الحكم الذي يحكم به القاضي الشرعي في قضية ما، فما بالك بمن لم يزاول هذه الكتب، وأكثر المسلمين لا يستطعون ذلك. ولا بد من تعزيز هذين الركنين بثالث؛ وهو وضع نظام لسير هذه المحاكم في أعمالها وكتبها وسجلاتها، ويجب أن تغل فيه يد رئيسها عن الاستبداد في الأعمال؛ كعزل الكتاب، ومتولي الأوقاف، وموظفي المساجد , واستبداد غيرهم بهم أو تقديم بعض القضايا على بعض، بل يجب أن يكون كَتَبَة المحكمة كسائر عمال الحكومة، لا يُعزلون إلا بمحاكمة يثبت فيها عليهم ما يوجب عزلهم , وإننا لننتظر من حكومتنا الجديدة قانونًا عادلاً لمجالس أو محاكم التأديب التي يحاكم فيها جميع عمالها. أما الرسوم التي تؤخذ في هذه المحاكم وتقسم بين القاضي والكتبة، فيغلب على ظني أن المالية تبطلها، إن لم تكن قررت إبطالها بالفعل في الميزانية الجديدة وحددت مرتبات القضاة ورؤساء الكتاب وسائر الكتبة، فإن في أخذ المحكمة للرسوم مفاسد كثيرة لا تخفى على أُولي الأمر، وما هم لها بمهملين. الركن الرابع من أركان الإصلاح: جعل هذه المحاكم ابتدائية واستئنافية في كل ولاية؛ كالمحاكم النظامية، وإبقاء التمييز في الآستانة ما بقي تمييز الأحكام العدلية فيها، وإن كان في ذلك مشقة على أهل الولايات البعيدة، وتعويق للأحكام النهائية، يُرجى أن تتلافاها الحكومة أو يتلافاها مجلس الأمة. وأقترح على باب المشيخة الإسلامية وعلى مجلس الأمة: أن يعهد إلى اللجنة التي تنظر في إصلاح المحاكم الشرعية بمطالعة تقرير الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) الذي قدمه لنظارة الحقانية في شأن محاكم القطر المصري، وما يلزم لإصلاحها، ومطالعة لائحة محاكم ذلك القطر القديمة، والنظام الجديد الذي وضع أخيرًا؛ فإن في ذلك عونًا كبيرًا، والله الموفق.

خطبة على أعضاء المجلس العمومي ببيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة على أعضاء المجلس العمومي ببيروت دعا كامل بك الأسعد كبير عشائر جبل عامل رفاقه أعضاء المجلس العمومي بولاية بيروت إلى داره فيها، وأعد لهم مأدبة حضرها صاحب هذه المجلة وبعض وجهاء بيروت. وبعد الفراغ من الطعام، وقف دعاس أفندي جريس أحد الأعضاء وأثنى على رب الدار، وأطرى صاحب المنار، وأشار إلى رغبة الحاضرين في استماع شيء منه في موضوع المجلس العمومي، ورأيت الأنظار موجهه إليّ تنتظر الإجابة، فشكرت، وقلت بعد مقدمة فكاهية ما ملخصه: إن للمجلس العمومي فائدتين: فائدة اجتماعية وفائدة عملية، أما الفائدة الاجتماعية فهي تنشئة الأمة وتربيتها على الحكم؛ أعني حكمها لنفسها بنفسها. إن أمر هذه المجالس العمومية من أفضل ما في القانون الأساسي من الإصلاح فلو لم يكن للأمة أحد من قبلها ينظر في مصالحها إلا المبعوثون في عاصمة السلطنة لأمكن أن يبقى أهل الولايات ولا سيما البعيدة عن العاصمة جاهلين لمعنى مشاركة الأمة للحكومة في إدارة مصالحها؛ ولكن وجود أفراد من كل قضاء بكل ولاية في مجلس قريب منهم، يشرف على أعمال حكومتهم، وينظر في مصالحهم ومنافعهم هو الذي يعلمهم بالعمل معنى الحكومة الديمقراطية، ويجعلهم واثقين بأن حكامهم عمال مخلصون لا سادة قاهرون، وأنهم لا يستطيعون أن يستبدوا فيهم أو يظلموهم إلا إذا ظلموا هم أنفسهم. إن المبعوثين يشتغلون بأمور الدولة الكلية، فمصالح الأهالي لا تتعلق بهم مباشرة، وإنما تتعلق بحكومتهم المحلية، فذلك المجلس ينظر في القوانين العامة. ولكنه لا ينظر في كيفية العمل بها في كل قضاء بحسب حاجته. ولكن هذه المجالس العمومية هي التي تنظر في ذلك، فتقرر إصلاح كذا من الطرق، وإنشاء كذا من المكاتب والمدارس في الأماكن التي تعنيها الأهالي، يرون ذلك بأعينهم، ويعلمون أنهم نالوه برأي نوابهم ونفوذهم في حكومتهم، فبذلك يتربون على الحكم النيابي ويعرفون قيمته، فلا يرجعون عنه، ولا يرضون بالحكم الشخصي بعده. إن مجلسكم هذا صورة مصغرة لمجلس المبعوثان، فإذا قمتم بما عهد إليكم كما يرجى من غيرتكم وخبرتكم، إنكم تكونون أولى من غيركم بالترجيح في الانتخابات القابلة؛ لأن الأهالي يكونون قد وثقوا بكم عن تجربة وخبرة، كما يكونون أكثر عناية بالانتخاب، وأكبر أملاً في المنتخَبين. إن ما ذكرت في معنى تربية الأمة على الحكم النيابي أمر عظيم، يجب أن يكون نصب أعينكم، فإن له علاقة عظيمة بمستقبل البلاد وعظمة الدول. إن الدولة لا تكون دولة دستورية إلا إذا استقر الحكم الدستوري في كل ولاية من ولاياتها، وعمرت به البلاد، وارتقى أهلها. إن كل ولاية من الولايات تعد عضوًا من أعضاء جسم الدولة، ولا يمكن أن يكون الجسم حيًّا قويًّا سويًّا إذا كان بعض أعضائه صحيحًا، وبعضها مصابًا بالفالج. ثم إنني أذكركم بما لا تنسونه من أن في الأمة حزبًا يرى وجوب استقلال كل ولاية من ولايات الدولة في إدارتها الداخلية كالولايات الألمانية والولايات المتحدة، فإذا كانت البلاد العثمانية غير مستعدة لذلك الآن، وإذا كان هذا الحزب الآن ضعيفًا لا يستطيع تنفيذ رأيًا، فما يدرينا ماذا يكون في المستقبل البعيد أو القريب من أمره وأمر البلاد؟ ألا يجوز أن يقوى، بعد أن تكون الوزارة في يوم ما من أعضائه، والرأي الغالب في مجلس الأمة هو رأيه؟ (يجوز يجوز) إذًا كيف يكون حال ولايتنا هذه، وسائر الولايات العربية التي هي دونها، ودون سائر ولايات الدولة في الاستعداد للاستقلال الإداري؟ إننا نعترف بأننا عاجزون الآن عن إدارة شؤون ولايتنا بدون استعانة بإخواننا من الترك، مع أن ولايتنا أرقى الولايات العربية، وقد قلت من قبل، وكتبت في المنار: إن الولايات السورية تعد وسطًا في الاستعداد والارتقاء، بين ولايات الروملي وبعض ولايات الأناطول، وبين سائر الولايات العربية كالعراق والحجاز واليمن. فيجب أن نرقي أنفسنا، وأن نكون مصدرًا أو عونًا لسائر الولايات العربية على الارتقاء، بل أقول: إن إخواننا الترك الذين نعترف لهم بأنهم أرقى منا، لا يستغنون الآن عن الاستعانة بالأجانب؛ لترقية ولاياتهم، كما نحتاج نحن إليهم وإلى الأجانب. وهذا الرأي عندي قديم، وقد كاشفت به متصرف طرابلس والوالي أيضًا، فمن المحتم أن نوجه جل عنايتنا للحكم الذاتي، والاستغناء بأنفسنا عن الأجانب. أيها الأعضاء الكرام: إن هذا الغرض الذي تطالبون به عظيم. ولكن قوة الإرادة في الإنسان تصغر كل عظيم، وتسهل كل عسير، فإذا وجَّهتم عزائمكم إلى ذلك بالإخلاص، فإنكم تصلون إلى الغاية بإذن الله. وقلَّ من جد في أمر يحاوله ... واستعمل الصبر إلا فاز بالظفر يري بعض الفلاسفة أن الإنسان لا يجزم إرادته بأمر ممكن إلا وينفذ، وكان الأستاذ الإمام على هذا الرأي، وقد قال أكثر من مرة: إنه لم يجزم إرادته بطلب شيء جزمًا تامًّا لا تردد فيه إلا وحصل، وقد كان حكماء الصوفية على هذا الرأي، وعبر عنه بعضهم بقوله: (إن لله عبادًا إذا أرادوا أراد) أي: إذا صح توجه إرادتهم إلى شيء تعلقت به إرادة الله، وما تعلقت به إرادة الله نفذ حتمًا، فعلى الإنسان أن يعرف قيمة نعمة الإرادة، فيوجهها إلى خدمة وطنه جازمًا بأنه أهل لأن يرقيه، وهو بهذا يكون أهلاً له مهما كانت معارفه، فإن تفاضل الناس بالإرادة فوق تفاضلهم بالمعرفة فما كل عالم ينفع كل من أراد أن ينفع، فإنه ينفع على قدر استعداده. هذا ما أحببت أن أذكر به من أمر الفائدة الاجتماعية في المجالس العمومية. وأما الفائدة العملية فهي قسمان: مادية، وأهمها إصلاح الزراعة، وتسهيل المواصلات، وتعديل الأموال الأميرية. ومعنوية وهي التربية والتعليم، والبحث في هذه المسائل يطول، وأنتم أعلم بحاجة البلاد وطرق عمرانها من رجل مثلي ليس له مثل اختباركم؛ ولكنني أذكركم بثلاث أمور تتعلق بالتعليم، هي أهم المسائل في رأيي: مراقبة التعليم والتربية في المدارس، وإنشاء مدرسة للمعلمين، وإحياء لغة البلاد. إن مدارس الحكومة ليس فيها تربية ولا تعليم نافع، بل ربما كان ضررها أكبر من نفعها، وإنما كان حظ الحكومة المستبدة السابقة منها هو التمتع بصورة الملك دون التربية التي تكوِّن النفوس الفاضلة، والتعليم الذي يربي العقول الكبيرة. إن الدولة تؤلَّف في هذا العصر من عدة وزارات، منها وزارة المعارف. وهذه الوزارة لا تكون بغير مدارس، فكان بقاء المكاتب والمدارس في عهد الاستبداد الماضي لدولتنا؛ لأجل استكمال صورة الملك والتمتع بها، فإن التمتع بالمظاهر الصورية له لذة كما ترون في تمثيل القصص، وإلا فإن الاستبداد كان يحارب العلم حربًا عوانًا، فإن أردتم أن يكون التعليم نافعًا في مدارس الحكومة فيجب أن تبدؤا بالأمر الأول؛ وهو مراقبة التعليم: بأن تطلبوا تعيين مفتشين ممن يرضى الأهالي معرفتهم وغيرتهم وصدقهم، يتعاهدون هذه المدارس، ويراقبون سيرة مديريها ومعلميها في التربية والتعليم , ثم إن فساد التعليم في الزمن الماضي، قضى بأن يكون المعلمون الأكفاء فينا أندر من الكبريت الأحمر، فالإصلاح الحقيقي للتعليم يتوقف على إنشاء مدارس؛ لتخريج المعلمين القادرين على التربية والتعليم بالطرق العصرية القريبة. يجب أن يكون الأستاذ المعلم على علم بالفن الذي يعلمه مهذبًا؛ ليكون قدوة للمتعلمين في الفضيلة؛ فإن فاقد الشيء لا يعطيه. ويجب أن يكون مع ذلك عارفًا بطرق التربية والتعليم، فما كل مهذب يعرف كيف تتكون ملكات الفضائل في النفوس، ولا كل عالم يعلم كيف ترسم مسائل العلوم في الأذهان فلا بد من إنشاء مدرسة للمعلمين في مركز الولاية. وأما إحياء لغة البلاد وأعني بها اللغة العربية، فالذي نطالب به الحكومة من وسائله؛ هو جعل تعليمها في مدارسها كلها إلزاميًّا كأختها التركية، وجعل دراسة العلوم في الولايات العربية بلغة أهلها، وفي سائر الولايات بالتركية، كما كان بحسب القانون، والذي يقرر هذا هو مجلس الأمة في الآستانة، وإنما على المجالس العمومية المطالبة به. لا يقال: إن هذا يفتح علينا باب تعصب الجنسيات في الدولة، وإننا في أشد الحاجة إلى الاتفاق والتئام الأجناس، فإن الفرق بين العرب وبين ماعدا الترك من الأجناس واضح جدًّا. إن الشعب العربي يعد نحوًا من ثلثي نفوس الدولة، ويقل فيه من يعرف التركية. وأما سائر الأجناس - الألبانيين والأكراد والأرمن والروم - فكلهم يعرفون اللغة التركية. فلا يحتاج الحكام والموظفون فيهم إلى معرفة لغاتهم؛ ليحسنوا القيام بأعمال الحكومة فيهم، بل إن أكثرهم ليس لهم لغات علمية ذات فنون ومعاجم تصلح للتعليم، فالأرمن قريبو عهد بتدوين لغتهم وجعلها تعليمية، والألبان والأكراد لما يتم لهم ذلك. قرأنا بعض جرائد هذا الشهر أن الألبان قد عزموا على اختيار الحروف العربية للغتهم التي يشتغلون بتدوينها، ومن المقرر أن غرض الحكومة الأول من مدارسها هو تخريج الموظفين الأكفاء، فإذا كان المتخرجون فيها جاهلين باللغة العربية التي هي لغة أكثر العثمانيين، يتعذر عليهم أن يقوموا بوظائفهم كما يجب في أكثر بلاد الدولة، فإن من يجهل لغة قوم يتعذر عليه أن يعرف حقيقة حالهم، وما ينبغي لهم وما يتظلمون منه. ولا يقول عاقل: إنهم يستغنون بالمترجمين؛ لما في ذلك من العسر والنفقات، وأين يتعلم المترجمون؟ على أن العربية ركن للتركية، فتعلُّمها يزيد المتعلم كمالاً فيها. أما جعل اللغة العربية هي لغة العلوم، والاكتفاء من التركية في بلادنا بالقراءة والكتابة؛ فذلك أن الأمة التي لا تتلقى العلوم بلغتها لا تكون أمة علم، وإنما يكون مبلغها من العلم؛ أن يوجد فيها بعض المترجمين لبعض ما يقرره العلماء المستقلون، ولا يوجد فيها المحققون والمخترعون والمكتشفون. إن لغة الأمة صفة مقومة لها، واللغات التي يتعلمها بعض أفرادها أعراض تعرض لها وتفارقها، فإذا تلقت العلم بلغتها، يصير صفة لها حية بحياتها نامية بنمائها، وإذا تلقته بلغة أجنبية فقصاراه أن يكون زينة عارضة لبعض أفرادها، ولا ارتقاء للأمم في هذا العصر إلا بالعلم، فيجب علينا أن نبذل جل عنايتنا في تحصيل العلوم العصرية ونقلها إلى لغتنا، ولا حياة لنا بغير ذلك، وإننا في عملنا هذا لا نبعد عن إخواننا الترك، بل نكون إخوة متساوين في المزايا والحقوق، كما يجب أن يكون الإخوة. والمساواة الحقيقية لا تكون مع التفاوت في العلم والعرفان (فليس سواء عالم وجهول) . أرجو عفوًا؛ فقد أطلت عقب الأكل ووقت طلب الراحة، فإن خلطت في الكلام؛ فربما كان سبب ذلك الخلط في الطعام، وتوجه أكثر الدم إلى المعدة، وأقله إلى الدماغ، والسلام.

الحرية واستقلال الفكر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرية واستقلال الفكر آخر خطبة لي ببيروت دعيت إلى حضور الاجتماع الشهري لجمعية الجامعة العثمانية ببيروت في أوائل هذا الشهر (آذار) فاقترح عليَّ رئيسها أن أخطب فيهم بما يفتح الله به، حاكيًا عن رغبة الجمهور، فقمت وقلت ما ملخصه بحسب ما أتذكر: أيها الإخوان الكرام إن المسائل التي نحتاج إلى البحث فيها واستجلاء غوامضها، كثيرة جدًّا، فمن الناس من إذا اقترح عليه أن يخطب، يبادر إلى الكلام في الموضوع الذي يتبادر إلى ذهنه، سواء كان مطابقًا لمقتضى الحال، يرجى أن يستفيد منه السامعون ما يصحح أفكارهم أو يقوِّم أعمالهم أو لا. ومنهم من يرى هذه الطريقة منتقدة، وأنه لا بد أن يخاطب الناس بما يتعلق بحالهم، وما ينبغي أن يكونوا عليه في أفكارهم وأعمالهم، فلا يحثهم على ما لا سبيل إليه، ولا يقرر لهم ما لا يفهمون حقيقته. مثال من ذلك: أن بعض الخطباء يقف فيقول: أيها العثمانيون، عليكم بالاتحاد، عليكم بالائتلاف. إن الاتحاد هو مفيض العمران، ومرقي الأوطان، ورافع شأن الإنسان، ويكتفى بمثل هذه الخطابيات المجملة التي لا يعلم السامعون كيف يمكن العمل بها، فإن اتحاد المختلفين في التربية والتعليم والعقائد والأفكار والأخلاق والتقاليد والعادات من الأمور، لا يمكن أن تحصل بمجرد الحث عليها ومدحها، وإنما يجب بيان ما يشترك فيه من يراد حثهم على الاتحاد وإقناعهم بأن منافعهم ومصالحهم مرتبطة به، وأنها إنما تحفظ وتنمو باتحادهم واتفاقهم، وتذهب أو تضعف بتخاذلهم وتفرقهم. أما أنا فأقول: إن كل كلام صحيح المعنى لا يخلو من فائدة، والفكرة الإجمالية لا تخرج إلى حيز التفصيل إلا بإبرازها بالقول أو الكتابة، ومن لم يستفد اليوم من الكلام الصحيح فائدة تامة، يُرجى أن يستفيد غدًا، فليقل كل أحد ما يرى أنه حق نافع، وليُقَدم الأهم على غيره، وهو ما كانت حاجة الناس إليه أكثر. وإذا قيل لنا: ما هو أهم ما نحتاج إليه الآن؟ قلنا: إنَّا محتاجون إلى أشياء كثيرة من العلوم والأعمال؛ لأجل أن ننهض لما نكون به أمة عزيزة؛ ولكن نهوضنا يتوقف على أمر عظيم لا يحصل بدونه. فما هو هذا الأمر الذي هو شرط للارتقاء في كل علم وكل عمل، بحيث يلزم من عدمه العدم؟ إلا أنه هو الحرية الشخصية واستقلال الفكر. قد قلت في بعض الخطب التي تكلمت فيها عن الحرية: إن استعداد البشر للارتقاء ليس له حد ولا غاية تحدد، فإذا عاشوا ملايين من السنين يمكن أن يكونوا في ارتقاء مستمر لا ينقطع، إذا كانت حريتهم في العلم والعمل مصونة من عبث المستبدين، فهكذا ترتقي الأمم على قدر صيانتها واحترامها للحرية، وتتخلف عن الارتقاء بل ترجع إلى الوراء، على قدر عبثها بالحرية، وتحكمها في الباحثين والعاملين. مضت سُنَّة الله في البشر بأن الفكر يسبق العمل، فإذا كانت أفكار العقلاء والأذكياء مضغوطة ممنوعة من الحركة والنمو، فإنها لا تكون مستقلة، والأمة لا تخطو خطوة واحدة إلى الأمام، إلا إذا أطلقنا العنان لجياد الأفكار تجول في ميادين الكتابة والخطابة، بلا حجر، ولا ضغط، لا فرق في ذلك بين المسائل الدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها. يجب علينا أن نحترم رأي من يخالفنا، كما نحترم رأي من يوافقنا؛ لأن الفلاح متوقف على ظهور الحقائق، وظهورها يتوقف على استقلال الأفكار وحرية البحث والكتابة والخطابة، ولا يخاف على دينه من حرية البحث إلا من لا ثقة له بدينه، ومن كان واثقًا بأنه على حق، فإنه يعلم أن مخالفته فيه لا تزيده إلا قوة وظهورًا، فقد نطق الكتاب العزيز بما هو ثابت عقلاً واختبارًا من أن الحق يعلو ولا يعلى، وأنه ما تصارع الحق والباطل إلا وصرع الأول الثاني {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) . علينا أن نبحث بعد هذا عن أنفسنا؛ لنعلم هل نحن نحترم استقلال الفكر وحرية القول والعمل؟ هل قمنا بحق هذا الشرط الذي يتوقف عليه كل مقومات الحياة: الاجتماعية والسياسية، وأسبابها؟ إن حكومتنا تركت الضغط على عقولنا وأفكارنا، والحجر على ألسنتنا وأقلامنا؛ لنكون أحرارًا في أقوالنا وأعمالنا، فهل صرنا أحرارًا بالفعل؟ نعم، إن الحكومة تركت الاستبداد والاستعباد، وأباحت لنا الحرية طوعًا أو كرهًا. ولكننا ما قبلناها، فإن الأفكار لا تزال مضغوطة محجورًا عليها أن تبرز من مضيق الدماغ إلى فضاء الوجود الخارجي، والحرية الشخصية مهددة لا من الحكومة بل منا أنفسنا. في البلد حوادث حيوية كثيرة، لا يكتب أحد من أصحاب الجرائد رأيه فيها بالحرية. ولماذا؟ أيخاف من (المراقب) أن يُرَمِّجها له؟ لا إن الجرائد لا تعرض الآن على المراقبين، كما كانت تعرض في زمن استبداد الحكومة. ولكن ما سقط مراقب الحكومة إلا وتقاسم مثل عمله من لا يُحْصى من دهماء الأمة يفتاتون على أصحاب الجرائد وكُتَّابها، وعلى الحكومة نفسها، وربما كان هذا الاستبداد أشد وطأة، وأثقل ضغطًا من استبداد الحكومة. إنَّ جرائد بيروت كان لها مدير واحد لسياستها هو المراقب، وكانت نسبة أصحابها ومحرريها إليه كنسبة محرري الجرائد الكبيرة في البلاد الحرة إلى رئيس التحرير أو مدير السياسة. فكانوا إذا أرادوا كتابة شيء يتحرون أن يكون بحيث يرضيه، وقد عرفوا ما يرضيه ويجيزه، فلم تكن مراعاته متعذرة عليهم. ولكن يتعذر عليهم الآن أن يعرفوا ما يرضي هؤلاء المراقبين الذين حلوا محله؛ لأن عقولهم وآراءهم ليس لها قاعدة ترجع إليها، ولا ميزان توزن به. فهل يمكن أن ترتقي الصحافة أو الأفكار في بلاد يفتات على حملة الأقلام وأرباب الأفكار فيها كل أحد، حتى البحار والحمال وبائع الحمص والفول! ! . إننا قد تغنينا باسم الحرية في أيام إعلان الدستور، وألقينا الخطب الكثيرة في وصفها، وأنشدنا القصائد العديدة في مدحها والتغزل بها، وكان هتاف الجماهير للخطباء والشعراء يعلو في الجو حتى يبلغ عنان السماء، وكتبنا ذلك الاسم الجميل (الحرية) بالخطوط الجميلة، وزينا به البيوت والمعاهد العامة والخاصة والحدائق فظهرنا بمظهر العاشق الولهان لهذه الحرية الجميلة. ولكنني أخشى أن نكون في عشقنا لها كعاشق أم عمرو؟ ولعل بعض الحاضرين لا يعرف خبر هذا العاشق، فأذكره إعلامًا له، وتذكيرًا لغيره: مر بعض الناس بصديق له مرة، فرآه غير ما يعهد، رآه قلقًا مضطربًا، فسأل عن حاله، فقال: إنني عاشق ولهان، لا يقر لي قرار، ولا يطيب لي اصطبار، ولا يهنأ لي طعام، ولا يزور جفني منام قال له صاحبه: من عشقت؟ قال: عشقت أم عمرو أجمل نساء العصر، قال: من هي أم عمرو؟ ومتى رأيت وجهها المليح؟ فبرح بك هذا التبريح؟ قال: لا أدرى من هي ولا لمحتها عيني، وإنما سمعت رجلاً ينشد في الطريق: يا أم عمرو جزاك الله مكرمة ... ردي عليّ فؤادي أينما كانا فقلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه أبرع النساء جمالاً وحسنًا، وأوفرهن من القسامة قسمًا. لما قال الشاعر فيها هذا القول! فعشقتها. وقد طال على هذا العاشق الأحمق تلك المعشوقة المجهولة، حتى مر به صاحبه يومًا فإذا هو يبكي ويندب، قد ساورته الأحزان، وواثبته الأشجان، فسأله ما دهاك؟ فصاح أواه واويلاه، لقد بليت بأشد المصائب وأعظم النوائب، فقد ماتت أم عمرو. وغلبه النشيج، وأخذ في النحيب، ولما سكت عنه الروع، قال له: ومن أخبرك بموتها فهل رأيتها؟ قال لا؛ ولكنني سمعت الشاعر ينشد في الطريق: لقد ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار فقلت: لولا أنها ماتت لرجعت، ولما قال الشاعر هذا القول. نعم إنني أخشى أن تكون حريتنا المعشوقة هي أم عمرو المجهولة، فإن الحرية الحقيقية قد تعرفت إلينا فنكرناها، ورغبت فينا فرغبنا عنها، وأحبت القرب منا فاخترنا البعد عنها، وإلا فما بال الكثيرين منا يسلطون العامة على من يبدي رأيًا يخالف رأيهم، أو هوى أنفسهم: يهددونه ويهينونه، فإذا لم يوجد له عصبة تمنعه منهم فإنهم يضربونه، ومتى كانت الحكومة المستبدة تضطهد حرية الفكر والعلم أشد من هذا الاضطهاد، وتحاول استعبادًا أقبح من هذا الاستعباد، أي العبودتين أذل: العبودية للحكومة أو العبودية للعامة؟ كان الخطباء والشعراء يقولون في أيام عيد الحرية في مدح الأمة نحوًا مما يقولونه في مدح الحرية نفسها؛ لإظهار التناسب بينهما، ولا يزال كثيرون منهم يسمعوننا مدح أنفسنا، ويشيدون بفضلنا وفضل سلفنا، ويتمثلون بقول شاعرنا: (نبني كما كانت أوائلنا ... إلخ) ، أما أخوكم هذا فيقول: إن ما كان يقال في أيام عيد الحرية، لا ينبغي أن يقال اليوم، ولا في كل يوم إن الأعياد في عرف الناس هي أيام السرور والابتهاج، فيحسن أن يتناسى فيها ما يسوء بالتحري فيها ما يسر هذه أيام الجد والعمل، فيجب أن نعرف فيها ما نحتاج إليه من هذا العصر؛ لنجاري الأمم العزيزة القوية، الراتعة في بحبوحة المدنية، لا أن نمني النفس بالأقوال التي يلذ سماعها، ونترك السنن التي نرقى باتباعها. يا قوم، إننا مرضى، ومن كتم داءه قتله، إننا مرضى ويجب علينا أن نداوي أنفسنا، إن الأدوية لا يقصد بها اللذة، بل يقصد بها المنفعة، فهل سمعتم أن الأطباء يداوون المريض المدنف بإطعامه اللحوم المعالجة بالبقول والأفاوية والكنافة والبقلاوة والأشربة المثلجة؟ لا لا، إنهم يداوونه بالمسهلات البشعة الطعم والكينا المرة، وربما داووه بالسكين ينال شيئًا من بدنه. وكذلك تكون أدوية الأمراض النفسية. وإنه ليسوءني أن أصرح لكم بما يؤلمكم. ولكنها الحقيقة لا بد منها، وإن كانت مرة كالدواء: (أخوك من صدَقك لا من صدَّقك) إن من فَضْل الحرية علينا أن صرنا قادرين على البحث عن مرضنا، وعلى الاجتهاد في معالجته، فيجب أن نعرف قيمة هذه النعمة، وأن نشكر الله - تعالى - عليها بالعمل الذي نستفيد به منها. أعود فأقول: إننا لا يجوز لنا أن ندعي أننا عرفنا الحرية، وإننا نقدرها قدرها إلا إذا كنا نحترم استقلال الفكر، فلا نعارض أحدًا في إبداء رأيه، وإظهار علمه باللسان أو القلم، ولا يمكن أن نخطو خطوة واحدة إلى الأمام بدون هذا. فعليكم أيها الفضلاء المحبون لخير أمتكم وتقدم بلادكم، أن تنصروا الاستقلال الذاتي والحرية الشخصية، وأن تبذلوا جهد المستطاع في بث هذا الفكر في طبقات الأمة، وتقنعوا أولئك الذين نسمع أخبار افتياتهم على الكتاب وأصحاب الجرائد، بأن عملهم هذا ضار ببلادهم، وأن الذين يغوونهم بذلك هم أهل الأهواء الذين يتبعون حظوظ أنفسهم، ولو فيما يضر بلادهم. انصروا حرية البحث والطباعة؛ لكي تتجلى للأمة الحقائق، فتعرف ما يضرها وما ينفعها؛ ولكي تتربى فيها العقول الكبيرة بعد رفع الضغط عنها. إن تعلموا هذا تخدموا بلادكم أجل خدمة. وأراني أطلت عليكم في هذا الكلام الحار مع حرارة الجو بكثرة الأضواء وازدحام الناس، فحسبي هذا، والسلام.

خوارق العادات في الإسلام

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ خوارق العادات في الإسلام [*] (أطوار البشر والمعجزات - المعجزات العقلية والحسية - علم الغيب - التنويم المغنطيسي - استحضار الأرواح - الكهانة - الأحلام - السنن الكونية والمعجزات - جرائم الأمم والأفراد والعقوبات الإلهية عليها) . أتى على الإنسان حين من الدهر، كان في طور أشبه بطور الطفولية، فسادت الأوهام والخرافات على العقول البشرية، وكثر بين الناس الدجالون والمحتالون، والسَّحرة والمشعوذون، وملكوا نواصي الناس بإفكهم وكذبهم، وصاروا يتصرفون في جميع أمورهم، فما كان أحد يقدم على عملٍ ما إلا بعد مشاورتهم والاسترشاد برأيهم، فكان الناس في أيديهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً عقول فاسدة، وأراء كاسدة، وأفهام ساذجة، وبصائر قاصرة، وجهل وأوهام، وخرافات وخزعبلات تقيمهم وتقعدهم، وتفرحهم وتحزنهم، فإذا برق بارقٌ من السماء ارتجفوا واضطربوا، وإذا نزلت صاعقة من السحاب ماجوا وارتعبوا، وإذا أصابهم مرض ما، علقوا لدفعه الأوراق أو استنجدوا براقٍ، وإذا نظر إلى بنيهم ناظر حوطوهم بالتمائم، وأطلقوا حولهم بخور المباخر، إذا كسفت الشمس أو خسف القمر، صاحوا ودقوا الدفوف وقرعوا الطبول؛ لإرضاء آلهتهم على ما يزعمون، إلى غير ذلك من الأوهام والأباطيل. هذا كان شأن الجماهير إلا من شذ منهم وندر، وأضاء الله عقله بشيء من نور العلم، ومع ذلك ما كان يسلم عقله من جميع ترهاتهم. سار الله - تعالى - مع تلك الأمم في هذا الطور سير الأب الحكيم مع أبنائه في طفوليتهم، فأكثر فيهم الهادين والمرشدين، والأنبياء والمرسلين، فأكثروا من وعظهم ونصحهم وإنذارهم ووعدهم ووعيدهم , وخذلوا من كانوا متسلطين على عقولهم من السحرة والمشعوذين؛ بما أجراه الله على أيديهم من المعجزات، وأظهره لهم من الآيات البينات التي تركت السحرة مغلوبين على أمرهم حيارى في شأنهم، ولولا تلك الآيات لما قدر الأنبياء على تخليص أممهم من حبائل الدجالين والمحتالين، بل الأبالسة والشياطين، فكانوا إذا ظهرت تلك المعجزات بهرت منهم العقول، وحيرت الأفكار، وأعجزت السحرة، وأدهشت الناس، فيخضع المستعد منهم لهيبة من ظهرت على أيديهم. فيؤمنون له ويتبعونه، ويطيعونه فيما يأمرهم به {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} (الإسراء: 59) ، ثم يأخذ الله المعاندين الذين خالفوا ضمائرهم، وكابروا عقولهم وأبصارهم، ولم يميزوا بين الغالب والمغلوب، والصادق والكذوب، بأنواع من العقوبات تناسب أحوالهم جزاء لهم وعبرة لغيرهم؛ لعلهم يرشدون. مضت الأيام والأعوام، وتوالت القرون والأجيال، وانتقل البشر من حال إلى حال، وارتقوا من طور إلى طور , فأخذت العقول تستنير، والأفكار تضيء والسحر يضمحل، والأنبياء من بينهم تقل، حتى ختمت النبوة ببعثة سيد الأنبياء والمرسلين، وأكبر الهادين والمصلحين. كان البشر في عهد البعثة المحمدية، قد خرجوا من طور الطفولية إلى سن الرشد، فأصبحوا لا يناسبهم من الدلائل والبراهين ما كان يناسبهم في القرون الأولى، وقل فيهم تأثير المحتالين والدجالين والسحرة والمشعوذين 0 وصاروا يرجون الهداية من طريقها، فساعدهم الإسلام على ذلك، ونهج بهم منهجًا لم يسبقه به دين من قبل، فجعل الحجج العملية والدلائل العقلية رائده في جميع دعاويه، وعليها معتمده في كل مبانيه، وقلل من شأن المعجزات الحسية بقدر الإمكان، حتى لا تكون عقبة في رقي عقل الإنسان في مستقبل الزمان، {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 38-39) فإن البشر في عهد النبوة المحمدية، أخذوا يدركون قيمة المعجزات الحسية، وأنها لا علاقة بينها وبين دعوى النبوة، وأنها لا يسهل تميزها عن غيرها من أعمال السحرة والمشعوذين، والصناع الماهرين، وأنها إن أقنعت تلك العقول القديمة، وأرهبت تلك النفوس وهي صغيرة وحملتها على الإيمان، فإنها أصبحت لا تغني العقل فتيلاً، ولا تزيد الأمور إلا تعقيدًا، وإن الدليل إن لم يكن له من العقل أكبر نصير، فهو أضعف ضعيف. ومن كان يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم تلك المعجزات، فما كان يريد بها إلا الإعنات والإعجاز، والسخرية والاستهزاء، وإلا فإن أمامه من البراهين والآيات ما يشفي علة النفوس، ويروي غلة العقول {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 51) وأما ما أظهره الله - تعالى - على يديه من المعجزات الحسية، فلم يكن يراد به إلا إفحام المعاندين المستهزئين، والزيادة في تثبيت المهتدين. وقد كان جل اعتماد النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات دعوته على القرآن وحده. كما يتضح ذلك لمن تدبر آياته. فإنه هو المعجزة التي تلتئم مع الدعوة، وتعلو بالعقل إلى مستوى العلم والفهم، وتناسب حال الأجيال من بعده، فلا تقف عقبة في سبيل نظرياتهم وتفكيرهم، ومعلوماتهم واختراعاتهم، ولا تلتبس عليهم بحيل الدجالين وتدليس المحتالين، ولا بكذب القصاصين وإفك الراوين، وتخيل الواهمين، واختراع الكاذبين، بل تساعدهم على البحث، وتحضهم على التفكير والنقد، والتمحيص والاستدلال والاستنتاج. فببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ختم عصر العجائب والغرائب، وبدأ عصر العلم والعقل، فهو الحد بين العصرين، فلذا كانت معجزاته تشمل هذا وذاك، وكان أجلها وأكبرها والباقي منها وهو القرآن مناسبًا لزمنه-عليه السلام -، ولكل ما أتى بعده من الأزمان فلا يناسبها غيره. وكما ختم عصر المعجزات، وتمت النبوات، كذلك أغلق باب الكهانة، فكأن الله - تعالى - في العصر الأول والبشر في طور الطفولية كان يتجلى لأبصارهم، وفي العصر الثاني وهم في طور الرجولية صار يتجلى لبصائرهم أكثر مما يتجلى لأبصارهم. فإن بصائرهم في العصر الأول كانت ضعيفة لصغرها فلا تتحمل أن تراه، فلذا كان يظهر لأبصارهم بأنبيائه ورسله الكثيرين، وآياته ومعجزاته، وبعض مخلوقاته: كالجن الذين كانوا يسترقون السمع من الملأ الأعلى فيخبرون به بعض البشر؛ وذلك لأن الأب مع أطفاله يكثر التكلم معهم، وتأديبهم، وتهذيبهم، وترغيبهم، وترهيبهم، ومكافأتهم بالماديات، أو معاقبتهم على حسب ما يبدو منهم. فإذا صاروا رجالاً كف عن ذلك، واكتفى بإبداء بعض تعاليمه العامة وإرشاداته المكتسبة من طول التجربة والاختبار، وتركهم يستعملون عقولهم فيما يرونه صالحًا لهم، كذلك فعل الله تعالى (وله المثل الأعلى) بعد أن بلغ الإنسان رشده، أعطاه الشريعة العامة والقواعد الثابتة، وأباح له التصرف في الأمور بحسب ما يرشده إليه عقله، فبعد أن كان يوحي للأمم السابقة كبني إسرائيل مثلاً في كل جزئية من جزئيات الأمور، اكتفى الآن بما في القرآن الشريف من القواعد العامة والأصول الثابتة، فإنها - مع ما يوحيه إلينا العقل - كافية لهدايتنا في جميع الأمور بعد أن بلغنا رشدنا. لذلك أغلق الله - تعالى - باب الوحي والمعجزات والكهانة، وأخبرنا بذلك كله صريحًا في الكتاب العزيز، فلم يبق لمحتال علينا ولا لمشعوذ أدنى وسيلة، وبذلك خلص العقل البشري من الأوهام والخرافات والترهات، وأصبح طريق العلم أمامه واضحًا لا يحجبه عنه حاجب، ولا يقف أمامه فيه واقف. ولكي لا يبقى هناك ثلمة في نفس أحد من المؤمنين، يصل إليه منها شيطان من الشياطين، نَصَّ الكتاب العزيز نصًّا صريحًا لا يقبل التأويل على أن الغيب علمه عند الله لا يعلمه إلا هو، وأن الأمور كلها بيد الله، يصرفها كما يشاء لا يراعي فيها مجاملة أحد من عباده، فقال مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف: 188) ومثل ذلك في القرآن كثير يصعب أن يستقصى في مثل هذه المقالة. يقول واهم: إذا كان الغيب لا يعلمه أحد إلا الله، فما بال التنويم المغنطيسي واستحضار الأرواح، والأحلام الصادقة تكشف كثيرًا من الغيب، وكانت الكهانة تكشف كثيرًا منه من قبل؟ فاعلم أن الشخص في حالة التنويم المغنطيسي لا يمكنه أن يعلم شيئًا مما لم يوجد، فلا يمكنه أن يطلع على الغيب؛ أي: لا يمكنه أن يعرف شيئًا مما لم يكن له وجود، وهو في تلك الحالة المخصوصة، وغاية الأمر أنه لا يحجبه عن رؤيا بعض الموجودات حاجب؛ لصفاء روحه عن كدورة المادة إذ ذاك، ومن هنا تتسع دائرة معلوماته عن بعض الموجودات، فيمكنه أن يخبر بالقياس أو الاستنتاج مما علم عن بعض أشياء قبل وقوعها: كالأمراض التي ستصيبه مثلاً بعد وقوفه على حالته الجسمية، كما يخبر الطبيب عن بعض الأشياء المرضية قبل حصولها؛ لمعرفته الأمراض وأسبابها ومسبباتها وأعراضها، وكما يخبر الفلكي عن الكسوف والخسوف قبل وقوعهما؛ أي: إن الشيء إذا لم يكن موجودًا فلا يمكن العلم بوقوعه إلا قياسًا أو استنتاجًا واستنباطًا من موجود، وإلا فالغيب (وهو ما غاب عن الإنسان لعدم وجوده مطلقا أو لعدم وجود ما يستدل به عليه) علمه عند الله لا يعلمه إلا هو، ولا يعلمه أحد من عباده إلا إذا أطلع هو (جل شأنه) أحدًا على شيء منه فيخبر به، ويفشو بين الناس، كما أطلع الله رسله (الملائكة والأنبياء) على بعض الغيب، فعلموا وعلمه الناس منهم، وكما كان يعلم بعض ذلك بعض الجن قبل إبطال الكهانة، واستراق السمع من الملأ الأعلى فيخبرون به بعض البشر، فيخيل للناس أنهم يعلمون الغيب، والحقيقة أنهم أُخبروا بما أخبروا به، ولنا الآن في مسألة استحضار الأرواح دليل قاطع حسي على إمكان اتصال البشر (ومنهم الكهنة) بالعوالم الأخرى الروحية (ومنهم الملائكة والشياطين) ، وبذلك يمكن البشر الاطلاع على بعض المغيبات من هذه الطريق، كما يمكنهم أن يطلعوا على بعضه في طريق الأحلام الصادقة، فإنها من بقايا الوحي إلى بعض النفوس الصافية، وفيها يُري الله - تعالى - بعض عباده شيئًا مما سيكون بإرادته، كما كان يوحي إلى الأنبياء من قبل، وليس للبشر في معرفة شيء من ذلك اختيار، بل هو شيء يفعله الله متي شاء، وكيف شاء. أمَّا عِلم أحد من تلقاء ذاته (أي: بدون وحي أو سماع من غيره) وبغيب حقيقي (أي: لا يستدل عليه من موجود) فهو محال، إلا على الله الفاعل المختار الذي يفعل ما يشاء متى شاء، وكما شاء. ودعوى معرفة أحد غيره الغيب دعوى باطلة كاذبة، لا يمكن لأحد الجزم بوقوع شيء من الغيب باليقين، وما يقع منه مطابقًا للخبر، فلا يكون إلا اتفاقًا ما لم يكن موحى به. فالغيب المنفي علمه في القرآن الشريف هو هذا الذي ذكرناه، أي: الغيب الحقيقي لا مطلق الغيب. فإن الغيب أمر اعتباري، فما غاب عنك لا يغيب عن غيرك، وما لم تعرفه لجهلك بشيء ما، يعرفه غيرك ممن علم هذا الشيء أما مسألة إنكار المعجزات بسبب مخالفتها لما اعتاد الناس، فهي من السخافة بمكان نعم، إن سنن الله - تعالى - في هذا العالم لا تتبدل ولا تتغير، كما نطق به القرآن الشريف في عدة مواضع منه. ولكن خرق العادة ليس خرقًا

رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين ـ 1

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين [*] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فإني قد وقفت على الكلمات التي كتبها في الرد عليَّ حضرة العلامة والمفضال الفهامة الدكتور محمد توفيق صدقي - وفقنا الله وإياه للهداية والتوفيق آمين - وحيث إني رأيته لم يأت بدليل جديد، وإنما كرر كتابة ما قد بينت للقارئين فساده في رسالتي السابقة. أردت اختيار السكوت، وأن أفوض إلى قراء المنار وغيرهم من علماء الإسلام تولي ترجيح أحد القولين، والحكم بتخطئة أحد الخصمين بعد الفحص عن أدلة الطرفين. ولكن ألح عليَّ في كتابة جواب الجواب من يعز عليَّ من أهل البيت الأطهار نخبة الأخيار سيدي أحمد بن حسين العطاس باعلوي - سلمه الله وحفظه - وكذلك كثير من حزب الله المفلحين المصلحين الصادقين محبي المنار الأغر، فاستخرت الله واستعنت على كتابة هذه الجملة المختصرة؛ لأنبه أخانا الفاضل على أن ما كتبه في هذا الرد هو نفس ما كتبه سابقًا مما قد بينا -ولله الحمد- خطأه، وأيضًا هو لم يبطل شيئًا مما كتبناه في رده لا بنص نقلي ولا بدليل عقلي. وأما ما ذكر من شبهات غير المسلمين: فهي مما لا قيمة لها إذا عرضها الفاحصون على معيار التحقيق، وغاية محصلها أن تكون من أضعف الشبهات التي ربما تعرض وتعلق بخيالات غير الواقفين على حقيقة دين الإسلام، وها أنا ذا أقدم للواقفين بيان قيمة كل شبهة أوردها العلامة الممدوح عنهم ووجه دلالتها، ثم أتبع ذلك بردها، وألتمس من حضرة سيدنا شيخ الإسلام، ومرشد الأنام مولانا السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار، أن يصلح ما فيها من القصور والخطل، وأن ينبه أحدنا على زلته، ويدل على محل عثرته، ولولا أن بذل النصيحة في الدين واجب لم أكتب ولا حرفًا واحدًا. ولكن امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (تناصحوا في العلم، فإن خيانة أحدكم في علمه أشد من خيانته في ماله، وإن الله مسائلكم) ، ولنشرع في المقصود بعون الجواد المعبود فأقول: قال العلامة الفاضل، سلمه الله ووفقنا وإياه للصواب (الكلمة الأولى في تقرير بعض شبهات غير المسلمين على مسألة النسخ في القرآن) إلى آخر ما نقل عنهم، وحاصله أنهم اعترضوا على صحة دين الإسلام ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بوجود النسخ الذي يسلمه المسلمون في القرآن؛ لأنه - أي النسخ - لا يكون إلا إذا كان المنسوخ ناقصًا ومعيبًا، إما في مغزاه أي غاياته أو معناه أي مدلول لفظه، أو بلاغته المخل بإعجازه، أو أن الحكم لا يرضاه الناس، أو أنه لا ينفعهم، أو أنه قد يضر بمصلحتهم. فمحصل ما ذكروه أن النسخ لا يكون إلا لذلك، وكأنهم يريدون أن صدور ذلك من الرب واجب الوجود محال، واستنتجوا من ذلك استحالة أن يكون دين الإسلام منزلاً من الرب؛ أي لوقوع ذلك فيه، واعتذروا عن قبول العقلاء لذلك؛ بأن سببه كمال محمد صلى الله عليه وسلم في الدهاء والتحيل، بحيث صار يلعب بعقول الصحابة. وذكر عنهم ما ملخصه وحاصله أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يتم له ما أراد من التشريع إلا بعد إصلاح ما وقع في دينه من العيب والنقص، وإبدال ما انتقده عليه المنتقدون، أو عارضه المعارضون، أو عرف أنه يكون كذلك ولو بعد حين؛ ولذلك تعلق بدهائه إلى إخفاء عيبه وعيب دينه، بتجويز وترويج مسألة النسخ في قرآنه، ونقل عنهم أنهم قالوا: وقد ضاع بسبب ذلك مما أتى به من القرآن آيات كثيرة، جاء ذكرها في أحاديث المسلمين، وكأنهم يريدون بذلك أنه كما أنه يستحيل بزعمهم أن يكون القرآن منزلاً من الله، فهو أيضًا غير محفوظ، ولم ينقل إلينا كله. ودعوى المسلمين أن ذلك مما نسخ الله لفظه تحكم غير مقبول؛ إذ لم يقدر المسلمون على تعليل ذلك بعلة معقولة - ونقل عنهم أيضًا أنهم يزعمون: أن ما بقي من القرآن في أحكامه شطط، وأن عباراته متناقضة مختلفة وذكر عنهم اعتراضًا على بعض أجوبة المسلمين التي ذكرناها في رسالتنا السابقة؛ لتسوغ نسخ لفظ القرآن، حيث قلنا: ما أدَّى وظيفته لا يلزم بقاؤه، فنقل عنهم في معارضة ذلك: أن القرآن مشتمل على مسائل خاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، ولا فائدة منها لأحد سواه. قال: فإذا صح عند المسلمين نسخ ألفاظ الآيات التي أدت وظيفتها، وانقضى زمنها، وما حكمة آية الرجم مثلاً مع بقاء حكمها في شريعة المسلمين! ! انتهى. أقول: والكلام على ما أورده عنهم من وجوه: (أحدها) أن نقول: إن بعض هذه الشبهات كقوله: وما بقي من القرآن بعد هذا التصحيح والتنقيح، تجد شططًا في كثير من أحكامه، فضلاً عما في عباراته من المتناقضات والاختلافات إلى آخره، لا ترد علينا ولا على من يقول إن القرآن الموجود فيه ناسخ ومنسوخ، وإنما ترد على خصوص مذهب الدكتور وهو لا ينفصل عن هذه الإيرادات، ولا يستقيم مذهبه إلا إذا سلك مسلك التأويل المتناقض لظاهر الدلالات في هذه المواضع، والتأويل إذا صار لا يصح إلا بحيث يكون المعنى المؤول إليه، إنما يدل عليه بألفاظ غير ما عبر الله به عنه، فهو يكون لا محالة من باب التبديل والتحريف للذين ذم الله أهلهما ونهى عنهما، وكما أن مثل هذا التأويل مردود عند أهل الحق من المسلمين، فغير المسلمين أيضًا لا يقتنعون به، وهو أعظم منفر لهم عن الإسلام؛ لجواز أن يعتقدوا أن ذلك إصلاح خلل، وتكميل نقص في القرآن والدين - فاعتراضاتهم السابقة على النسخ هي واردة على مثل هذا التأويل، وقبولهم تكذيب ما نقله المسلمون فيما تقدم ضرب من المحال. أما نحن القائلون بجواز النسخ في الأديان، ووقوعه في القرآن، فلا ترد علينا هذه الشبهات لا في الدين، ولا في خصوص القرآن. وإنما يلزمنا الاستدلال على جواز النسخ عقلاً، ويحسن منا إذا بينا حسنه وحكمته في المورد المعين، ومن قصر عن إدراك ذلك، فلا يضره ذلك ولا يضر الدين أيضًا - لأن جهلنا بالشيء لا يستلزم عدمه في الواقع - وإنما يضر لو كان بعض ما علمنا أنه من الدين مخالفًا للحقيقة في نفس الأمر، وليس في الإسلام شيء من ذلك. وفضلاً عن الإيرادات والشبهات الواردة على دين أو مذهب مؤلف من هذه التأويلات المنفرات لمن يريد انتحاله؛ التي لو أردنا إيرادها لطال بها الكلام، فإن مدلول النسخ الذي يمكن أن ينكر وقوعه المنازعون، أو يورد الشبهات عليه الزائغون، والتأويل الذي يوكل القرآن إليه حضرة الفاضل الدكتور متحد لا فرق بينهما؛ إلا أن هذا الأخير يكون من الرب الذي يفعل ويأمر بالحكمة والعدل. فليتأمل الناظرون ولينصفا أخونا الدكتور الفاضل، ثم ليدلنا على مورد شبهات غير المسلمين الصحيح: أهو على من يقول بوقوع النسخ في القرآن للمصلحة الراجحة والحكمة العادلة، أم على من يعترف بصحة شبهتهم، ثم يعدل إلى التأويل المذموم الذي لم يأذن الله به، ولا دل عليه نبيه صلى الله عليه وسلم. وليعلم القراء الكرام أن ما اعترض به علينا في نسخ الأحكام غير المسلمين، هو وإن كان فاسدًا كما سيأتي، إلا أنه وارد عليه أيضًا؛ لأنه قائل بوقوع ذلك في السنة، بل السنة القولية منسوخة عنده كما صرح بذلك مرات، وناسخ ذلك احتمال تقدير سبب من جملة احتمالات؛ لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - المختلف في رفعه ووقعه، المعارض بما هو أصح وأصرح منه ومتأخر عنه كل ذلك، مع ترك العلة والسبب المنصوص في ذلك، كما سيأتي بيان ذلك في الكلام على وجوب العمل بالسنن القولية النبوية، فانتظره. فإذا عرفت ذلك، لم يبق مما ذكرته من شبهات غير المسلمين ما يخصنا الجواب عنه دونه؛ إلا ما يورد على نسخ اللفظ فقط. (الوجه الثاني) أن مثل هذه الشبهات فاسدة في نفسها، لا يصح أن يوردها إلا من كان لا يجوِّز النسخ في الشرائع مطلقًا؛ أي ولا يجوز نسخ شريعة نبي متأخر لشريعة نبي متقدم عنه مطلقًا، حتى ولا من بعض الوجوه في حكم من الأحكام؛ لأن مَن جوَّز ذلك في شيء مخصوص، لزمه تجويزه فيما سواه إذا وجدت العلة أو نظيرها، وبالأولى فيما هي به أولى. فإذا جاز نسخ شريعة نبي لشريعة نبي قبله، فمن باب أولى جواز نسخ بعض شريعة لبعضها الآخر؛ لأن نسخ دين النبي المتقدم وشريعته الثابتة المقررة عند أمته وأتباعه أشق وأبعد من كل بعيد عن معتقداتهم الموروثة، لا سيما إذا كان قد تدين بها أنبياء كثيرون؛ لأن ما جاء به العدد الكثير، قد تستبعد بعض العقول نسخه بما جاء به الواحد - فما يسلمه الدكتور الفاضل من النسخ هو أولى بإيراد الشبهات مما ينكره - ولما كان نسخ بعض الشريعة لبعضها الآخر، يكون منوطًا بمناسبة الأحكام لأفراد معتنقيها المعينين كان كلما كثروا تتجدد الأحكام، وتعدل على الحد الوسط المشترك بين أكثر مجموع الأمة؛ ليكون الدين شريعة عامة، فلهذا ونحوه كان النسخ في الشريعة الواحدة لطفًا حسنًا، وعليه فالنسخ في شريعة أي نبي من الأنبياء حين حياته أبعد عن اعتراض المعترضين عليه منه فيها بعد ثبوتها، فثبت أن حكم نسخ شريعة لشريعة أو بعضها لبعضها سيان مطلقًا، إن لم نقل جواز ذلك في الأخير أظهر والله أعلم. ثم نقول لمن يجوز النسخ مطلقًا: إنا لا نسلم أن النسخ لا يكون إلا لنقص أو عيب في المنسوخ، بحيث يستلزم نقص الشارع - ومعاذ الله من ذلك - لأنا نقول: إن النسخ في الأديان لازم ومساوق لترقي نوع الإنسان، فلنا: ترقٍّ ديني، وترقٍّ طبيعي. ولا يكون الأول إلا لحكمة ومصلحة راجحة. فالحكم الثاني الناسخ يوجد عندما تكون الأمة مستعدة له، وتخطو إلى التقدم من المقام الأول الذي يحسن أن تنتهي مدة الحكم المنسوخ بجوازها له؛ لأن ما يناسب البشر في أول نشأتهم قد لا يناسبهم، بل قد يجب أن لا يكلفوه في أوان كمالهم، وما كانت الأمم السالفة محجور عنه لمصلحة سد الذريعة، قد يجب في هذه الأزمان رفع حجرهم عنه؛ إذ لو كلف الجهال ونحوهم ما يتسع له العلماء، للزم وضع الشيء في غير موضعه المناسب له، وهذا من لازمه قلب الحقائق، ولو حجر على العقلاء البحث في الحقائق المستعدين لإدراكها وتقديرها قدرها لكان في ذلك الظلم المنزه ربنا عنه، ولو كلف الضعيف عقلاً أو جسمًا ما لا يطيقه هو، أو ما لا يطيقه إلا من هو أكمل منه لكان كذلك، وإذا استحال كل ذلك، فلا شك أن حالات الأمم السالفة واستعداداتهم، تخالف حالات الأمم واستعداداتهم اليوم، فتكليف بني الإنسان اليوم بشرائع أولئك أو العكس، أقل حالاته أن يكون تكليفًا بما لا يناسب النشوء الفطري والترقي التعليمي، وحينئذ لو كان ذلك، تكون أحكام الدين من باب تكليف ما لا يطاق، أو من باب الحجر على المستعد عما هو مستعد له، فيكون الدين سدًّا دون العلوم والمعارف. ولو أطلق للأولين الحرية، وأذن لهم بولوج أبواب هي مجهولة لديهم، أو لم يستعدوا لمعرفتها، لكان ذكر تعزيرًا لهم وتكليفًا لما لا يطيقونه، وما كان كذلك فالله لا يرضى بقاءه، بل لا بد من تغيير وتبديل فيه مساوقين لترقي معارف البشر، وهذا هو حقيقة النسخ، وما ذكرناه هو سببه وحكمته في الشرائع، فالنسخ لا يكون لعيب ونقص في المنسوخ، ولا جهل الشارع - تعالى عما يقول الظالمون - ب

التربية والأمهات

الكاتب: معروف الرصافي

_ التربية والأمهات أنشدنا الشيخ معروف الرصافي شاعر العراق الاجتماعي لنفسه ببيروت في المحرم سنة 1327 هي الأخلاق تنبت كالنبات ... إذا سقيت بماء المكرمات تقوم إذا تعهدها المربي ... على ساق الفضيلة مثمرات وتسمو للمكارم باتساق ... كما اتسقت أنابيب القناة وتنعش من صميم المجد روحًا ... بأزهار لها متضوعات ولم أر للخلائق من محل ... يهذبها كحضن الأمهات فحضن الأم مدرسة تسامت ... بتربية البنين أو البنات وأخلاق الوليد تقاس حسنًا ... بأخلاق النساء الوالدات وليس ربيب عالية المزايا ... كمثل ربيب سافلة الصفات وليس النبت ينبت في جنان ... كمثل النبت ينبت في الفلاة فيا صدر الفتاة رحبت صدرًا ... فأنت مقر أسنى العاطفات تراك إذا ضممت الطفل لوحًا ... يفوق جميع ألواح الحياة إذا استند الوليد عليك لاحت ... تصاوير الحنان مصورات لأخلاق الصبي بك انعكاس ... كما انعكس الخيال على المرآة وما ضربات قلبك غير درس ... لتلقين الخصال الفاضلات فأول درس تهذيب السجايا ... يكون عليك يا صدر الفتاة فكيف نظن بالأبناء خيرًا ... إذا نشأوا بحضن الجاهلات وهل يرجى لأطفال كمال ... إذا ارتضعوا ثدي الناقصات فما للأمهات جهلن حتى ... أتين بكل طياش الحصاة حنون على الرضيع بغير علم ... فضاع حنو تلك المرضعات أأُمَّ المؤمنين إليك نشكو ... مصيبتنا بجهل المؤمنات فتلك مصيبة يا أم منها ... (نكاد نغص بالماء الفرات) تخذنا بعدك العادات دينًا ... فأشقى المسلمون المسلمات فقد سلكوا بهن سبيل خسر ... وصدوهن عن سبل الحياة بحيث لزمن قعر البيت حتى ... نزلن به بمنزلة الأداة وعدُّوهن أضعف من ذباب ... بلا جنح وأهون من شذاة وقالوا شرعة الإسلام تقضي ... بتفضيل (الذين) على (اللواتي) وقالوا إن معنى العلم شيء ... تضيق به صدور الغانيات وقالوا الجاهلات أعف نفسًا ... عن الفحشا من المتعلمات لقد كذبوا على الإسلام كذبًا ... تزول الشم منه مزلزلات أليس العلم في الإسلام فرضًا ... على أبنائه وعلى البنات وكانت (أمُّنا) في العلم بحرًا ... تحل لسائليها المشكلات وعلمها النبي أجل علم ... فكانت من أجل العالمات لذا قال ارجعوا أبدًا إليها ... بثلثي دينكم ذي البينات وكان العلم تلقينًا فأمسى ... يحصل بانتياب المدرسات وبالتقرير من كتب ضخام ... وبالقلم الممد من الدواة ألم نر في الحسان الغيد قَبلاً ... أوانس كاتبات شاعرات وقد كانت نساء القوم قدمًا ... يرُحن إلى الحروب مع الغزاة يكن لهم على الأعداء عونًا ... ويضمدن الجروح الداميات وكم منهن من أسرت وذاقت ... عذاب الهون في أسر العداة فماذا اليوم ضر لو التفتنا ... إلى أسلافنا بعض التفات فهم ساروا بنهج هدًى وسرنا ... بمنهاج التفرق والشتات نرى جهل الفتاة لها عفافًا ... كأن الجهل حصن للفتاة ونحتقر الحلائل لا لجرم ... فنؤذيهن أنواع الأذاة ونلزمهن قعر البيت قهرًا ... وتحسبهن فيه من الهنات لئن وأدوا البنات فقد قبرنا ... جميع نسائنا قبل الممات حجبناهن عن طلب المعالي ... فعشن بجهلهن مهتكات ولو عدمت طباع القوم لؤمًا ... لما غدت النساء محجبات وتهذيب الرجال أجل شرط ... لجعل نسائهم مهذبات وما ضر العفيفة كشف وجه ... بدا بين الأعفاء الأباة فدًى لخلائق الأعراب نفسي ... وإن وصفوا لدينا بالجفاة فكم برزت بحيهم الغواني ... حواسر غير ما متريبات وكم خشف بمربعهم وظبي ... يمر مع الجداية والمهاة ولولا الجهل ثَمَّ نقلت مرحى ... لمن ألفوا البداوة في الفلاة

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان) أهدانا المعلم عبد الحميد الفراهي (من العلماء في الهند) بضع رسائل في تفسير سور متفرقة من القرآن العزيز، سماها بما ذكر في العنوان , وهي: سورة التحريم والقيامة والشمس والعصر والكافرون والمسد أو (تبت) ، وقد ألقينا على بعض هذه الرسائل لمحة من النظر، فإذا طريق جديد في أسلوب جديد من التفسير يشترك مع طريقنا في القصد إلى المعاني من حيث هي هداية إلهية، دون المباحث الفنية العربية. ولكنه لا يفسر كل آيات السورة وكلماتها، ولا يتكلم على ما يفسره بالترتيب، وإنما يتكلم عن المسائل الكلية والمقاصد التي تهدي إليها الآيات كلامًا عامًّا مبسوطًا مفصلاً معدودًا بالأرقام. فمن فصول تفسير سورة التحريم: (1) نظام السورة وموقع آياتها (2) سنة الله في الاحتساب (3) عمود السورة هو الاحتساب والتشمير له (4) دين الفطرة هو الاعتدال بين الفسق والرهبانية (5) تفرق الفسق والرهبانية (6) نزول القرآن حسب أحسن المواقع (7) شأن نزول هذه السورة حسب الكليات (8) شأن نزول آيتين 1 -2 حسب جزئيات الواقعة والفوائد الكلية منها وهي ست ... إلخ. وإن للمؤلف لفهمًا ثاقبًا في القرآن، وإن له فيه مذاهب في البيان وطرائق في الاستطراد، منها القريب والبعيد، وإنه لكثير الرجوع باللغة إلى مواردها والصدور عنها ريان من شواهدها، فقد كتب في تفسير كلمة (صَغَت) من قوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (التحريم: 4) أكثر من صفحة، على أنه قد صنف كتابًا في مفردات القرآن كما فعل الراغب الأصفهاني 0 وإن أدري أفسر القرآن كله على هذا النمط إذ هو يشتغل بذلك الآن، ويريد طبع تفسير كل سورة عند إتمامها. وقد رأيت فيما قرأت ذكر كتب أخرى له في القرآن والدين: كالمفردات وتاريخ القرآن والأمثال الإلهية وأصول الشرائع، فعسى أن يتفضل بإخبارنا عنها، أهي تامة أم لا؟ أطبع منها شيء أم لا؟ . هذا، وقد أرسل إلينا عدة نسخ من تفسير بعض السور؛ لأجل بيعها عندنا، وهي مطبوعة طبعًا حجريًّا عن خط فارسي حسن، فمن أحب أن يطلع عليها فليطلبها من إدارة المنار، وثمن تفسير سورة التحريم قرشان، وما عداه فثمنه قرش أو قرش ونصف. *** (رحلة الحبشة) هذه الرحلة من أحسن الرحلات أسلوبًا وفائدة وفكاهة، ألفها بالتركية صادق باشا المؤيد العظم الفريق الأول بالجيش العثماني للسلطان عبد الحميد بأمره، وهو الذي أرسله إلى نجاشي الحبش بكتاب منه، فكتب ما رآه وشاهده في طريقه وفي البلاد والمواقع التي نزل بها لا سيما الصومال، وما ارتآه واستنبطه من المسائل العسكرية والاجتماعية وما علمه من التقليد والعادات، مع شيء من كل فن، وذكر في آخرها الوقائع الحربية بين إيطاليا والحبشة مفصلة، وختمها بذكر من نال شرف صحبة النبي صلى الله عليه وسلم من الحبش رجالاً ونساء وقد ترجمها بالعربية رفيق بك العظم وحقي بك العظم , وطبعتها شركة طبع الكتب العربية على النسق الذي طبعت به في التركية، مزينة بالصور والرسوم ومنها صورة النجاشي بلباسه الرسمي، ومتصلاً بها خريطتان: إحداهما رسم فيها الطريق الذي مر به، والثانية رسمت فيها بلاد الحبش , وقد زادت صفحات هذه الرحلة على 320، وثمنها اثنى عشر قرشًا صحيحًا. وإننا ننقل شيئًا من كلامه عن مسلمي الصومال وتعلقهم بالدولة العلية. قال في سياق كلامه عن جيبوتي حاضرة مستعمرة الصومال الفرنسية ما نصه: (ومنذ خرجنا إلى البر، أخذ الأهالي وكلهم من المسلمين، يفدون علينا أفواجًا مرحبين بنا بعبارات الاحترام والتعظيم، ولم يكتفوا بذلك، بل انتظرونا بينما كنا عند الوالي (آتو يوسف) خارج المحل، وعندما خرجنا رافقونا مهللين مكبرين، واستمروا كذلك كلما نخرج يرافقوننا من محل إلى آخر، وينتهزون كل فرصة لإظهار سرورهم العظيم من ورودنا لثغرهم، فإذا طلبنا مركبة يجري العشرات منهم لإحضارها، واذا سألناهم الطريق يقدم مئات أنفسهم للقيام بخدمتنا، وما كنا نحتاج لهم؛ لأن الوالي كان عقب وصولنا عين سكرتيره ليكون (مهما ندارا) لنا مدة إقامتنا في جيبوتي. ولكن اعتذرت عن ذلك شاكرًا إنسانيته، واكتفيت بجنود الشرطة الذين خصصهم لخدمتنا. وبعد قليل من وصولنا الفندق، تكأكأ المسلمون بعضهم على بعض في الردحة الكائنة أمام الفندق، وأخذ يزداد عددهم كثيرًا، فكانوا لا يقتنعون برؤية الوفد المرسل من قبل خليفة الإسلام مرة واحدة، بل كانوا يريدون أن يروه كثيرًا على قدر استطاعتهم، واستمر الزحام على هذا المنوال أمام المنزل إلى ما بعد العشاء) . ثم ذكر أنه قبل السفر من جيبوتي، آذنه خادم الفندق بقدوم رؤساء بعض القبائل لزيارة الوفد السلطاني، قال: هذا، وقد غاب الخادم قليلاً ثم جاء ومعه الزائرون، وكان عددهم ثمانية، وهم رؤساء قبيلتي عبسا ودانجالي، وهم سمر الوجوه، لون البعض منهم يميل للجوزي، وكلهم طوال القامة متناسبو الأعضاء، تجللهم سمات الوقار والمهابة، ويلبس البعض قميصًا طويلاً، وعلى رأسه طاقية، والبعض ليس عليه سوى (فوطة) وهو مكشوف الرأس. وشعرهم الكث فوق رؤوسهم يشبه العمامة المدورة الكبيرة، يضعون في خلاله سهمًا طويلاً مصنوعًا من أغصان الأشجار مثل: (الدبوس) الذي يربط به السيدات الغربيات قبعاتهن على شعورهن. ويستعملون هذا السهم لحك جلد رؤوسهم عند اللزوم؛ لأنه لا يمكن وصول أصابعهم لجلد رؤوسهم بسبب كثافة الشعر. وكان بعضهم وهم الذين كانوا يترددون على الحجاز يتكلم اللغة العربية جيدًا، والباقون لا يعرفون منها إلا قليلاً. وبعد المصافحة والسلام، أخذوا يدعون وهم وقوف على الأقدام للحضرة العلية السلطانية، وأبلغني أنه سيصل مساء وفود من طرف القبائل القريبة من جيبوتي؛ للتسليم على الوفد السلطاني، ثم جلسوا فصاروا يسألون عن أحوال الآستانة؛ مستفسرين عن عدد سكانها، وعن مساجدها الجامعة، والمحلات المباركة فيها، وعن الوجهة التي أقصدها وسبب سفري إليها. (وكسوة هؤلاء الرؤساء بسيطة جدًّا، والبعض منهم حافي القدمين، والبعض يلبس في رجله نعلاً مثل النعال الحجازية. ومع كل ذلك ترى الإنسان يشعر بهيبتهم ووقارهم حال رؤيته لهم. وسمات الشجاعة والبسالة الظاهرة على وجوههم تجعل كلاًّ منهم شبه تمثال للحرب والكفاح صنع من (البرونز) . بينما كنا نتجاذب أطراف الحديث، إذا جاء الموسيو بونهور والي الصومال الفرنسية؛ لرد الزيارة ومعه حاشية، والكل مرتدون أرديتهم الرسمية، وكان يمشي أمام مركبة الوالي فارسان من جنود الشرطة فلما رأى الوالي المومأ إليه رؤساء القبائل الصومالية، هش في وجوههم وصافحهم جميعًا يدًا بيد، وسأل عن أحوالهم وصحتهم، ولم يمض قليل من وصول الوالي، حتى جاء أيضًا (آتو يوسف) قنصل الحبشة في جيبوتي، وبعد أن مكث الوالي برهة استأذن بالذهاب مذكرًا إياي بالاجتماع عنده في دار الحكومة مساء؛ لحضور المأدبة التي أعدها كرامًا للوفد السلطاني، وقد كان الوالي دعاني ومن كان معي لهذه المأدبة يوم وصولنا إلى جيبوتي) . ثم قال بعد كلام في حال البلد وشؤونها: (في الساعة العاشرة على الحساب الشرقي، سمعت أنغامًا وأصواتًا آتية من بعيد، وبينما أنا أتفكر في ما عسى أن يكون ذلك، إذ أخبرت بورود وفد قبائل عبسا، فخرجت إلى شرفة الفندق، فرأيت جمهورًا من الناس نحوًا من خمسمائة ذوي ألوان نحاسية، كبيري الأجسام، متناسبي الأعضاء، مسلحين بالحراب والهراوات، ويكبرون مرة، وينشدون الأناشيد الحربية مرة أخرى، وجماهير الناس تمشي معهم محتاطين بهم للتفرج عليهم، وبعد أن وصلوا أمام الفندق، أخذوا يسلمون علينا بلسانهم، ولما انتهوا من السلام تحلقوا، وصاروا يغنون ويرقصون، والبعض منهم كانوا يتبارزون داخل تلك الحلقة، ويمثلون حروبهم بأصوات خشنة مدهشة بأوضاع خفيفة وسرعة عجيبة، مما يدل على أنهم أقوام حربيون أولو بأس شديد وميل للحرب والطعان، وبعد ذهاب هذا الوفد أتى وفد الدانغاليين، وبعدهم وصلت وفود العرب الوطنيين بطبولهم وزمورهم، ثم انصرف الجميع شاكرين لما لقوه منا من الإكرام، وكانت قد دنت الساعة الثامنة على الحساب الإفرنجي، فارتديت الكسوة الرسمية البيضاء، وذهبت أنا ورفيقي؛ لحضور المأدبة التي دعينا إليها) اهـ المراد. وفيه من العبرة أن للدولة العلية وسلطانها نفوذاً معنويًّا في نفوس جميع المسلمين، لم تحسن الانتفاع منه ولا النفع به في الماضي، فعسى أن تنتفع به في هذا العهد الجديد الذي دخلنا فيه، وهو آخر الرجاء في حياة هذه الدولة، فعسى أن لا يقطعه أصحاب النفوذ بالمنازعات الجنسية والأهواء الشخصية. وفيه أيضًا أن الوالي الفرنسي يعامل أولئك الناس الذين يعدهم متوحشين بالاحترام؛ ليؤنسهم بحكمه، ويأمن جانبهم، ويكسب مودتهم، ودولتنا تحتقر أمثالهم في اليمن والحجاز والعراق، فيتبدل حبهم لها بغضًا، وميلهم إليها نفورًا وإعراضًا، فعسى أن لا تعود إلى ذلك في هذا الزمان. وقد انتقدنا على الرحلة ذكر الشهر الذي سافر فيه المؤلف (وهو نيسان) دون ذكر السنة في أولها، وجريانه على ذلك في أثنائها، حتى انتهت في 12 تموز (يوليو) , ولكن يعرف القارئ أن الرحلة كانت سنة 1896 م من ترجمة براءة الوسام الذي أهداه النجاشي إلى صادق باشا، وترجمة المكتوبات التي أرسلها إليه نظار النجاشي وآل بيته. *** (عقود الجوهر في تراجم من لهم 50 تصنيفًا فمائة فأكثر) نشرنا في آخر الجزء الماضي إعلانًا لجميل بك العظم محاسب المعارف ببيروت عنوانه (ذيل لكشف الظنون) علم منه أنه يعني منذ 16 سنة بجمع ما فات صاحب كشف الظنون من أسماء الكتب، وما حدث بعده منها. وقد استحسن في أثناء بحثه أن يضع كتابًا في تراجم المكثرين من التصنيف الذين لهم خمسون مصنفًا فمائة فأكثر، وقد أتم الجزء الأول من هذا الكتاب وسماه (عقود الجوهر) وطبعه، وهو يذكر للعالم ترجمة مختصرة ثم يذكر مصنفاته مرتبة على حروف، فجزاه الله خيرًا , وقد اقترحت عليه في بيروت أن يجعل الذيل رأسًا، فيؤلف كتابًا مستقلاًّ في أسماء الكتب والفنون، فعسى أن يلقى من المساعدة ما يرجح ذلك عنده. *** (الاشتقاق والتعريب) قد علم قراء المنار في العام الماضي، ما كان من أعضاء نادي دار العلوم من المناظرات في مسألة التعريب , وقد عنى الشيخ عبد القادر أفندي المغربي أحد محرري جريدة المؤيد في أثناء ذلك، بوضع كتاب مستقل في المسألة، وطبعه في هذا العام، فبلغ زهاء 150 صفحة بقطع كتاب الإسلام والنصرانية. وقد ترجم المؤلف كتابه بقوله فيه: يبحث في ما يعرض للغة العربية من تكاثر كلماتها بواسطتي الاشتقاق والتعريب، وأن هذا الأخير طبيعي في لغتنا وفي غيرها من اللغات، وأن استعمال المعرب لا يحط من قدر فصاحة الكلام والاستشهاد على ذلك، فهو إذًا مؤيد الرأي القائلين بجواز التعريب والتصرف في اللغة بحسب الحاجة، بل توسع في ذلك بما لا يوافقونه كلهم عليه فيما يظن، ودعم كلامه بضروب من الأمثلة والشواهد والدلائل، لم يسبقه إليها الباحثون، وقال في أواخر الكتاب ما نصه: نتائج وملاحظات قد تحصل معنا أن الكلمات التي تستعمل اليوم في اللغة، وينطق بها المتكلمون بتلك اللغة - قسمان: قسم عربي محض، وقسم دخيل , والدخيل أنواع منه ما أدخل أهل اللغة أنفسهم إلى لغتهم قبل الإسلام

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (نصيحة لمسلمي بيروت عامةً وفتيانهم الشجعان خاصةً) إنني في كلامي عن البلاد السورية قد فضلتكم على غيركم، ورجوت منكم لخير البلاد ما لم أرجُه من سواكم، وإنما كتبت ما اعتقدت، بحسب ما رأيت واختبرت؛ تنشيطًا للعاملين، وتنبيهًا للخاملين، ذلك بأنني رأيت من احترام الحرية عندكم، ما لم أر مثله في طرابلس ولا دمشق ولا غيرهما من البلاد، ورأيت فيكم حركة إلى العلم والتربية، لم أر نظيرها - على ضعفها - في غير بلدكم، فحمدت الله - تعالى -على ذلك وحمدتكم. ثم إنني أقمت في بلدكم سبعة أسابيع متصلة بعد تينكم الزيارتين المتعاقبتين، فرأيت فيه أمرًا استنكرته وحزنت لأجله حزنًا شديدًا، فأحببت أن أنصح لكم فيه كتابة، كما نصحت فيه لكثير منكم مشافهة وخطابة؛ عسى أن تكون الكتابة أعم وأنفع، ولا أقول: إن هذا الأمر المنتقد خاص بكم، وإنما أرجو أن ترجعوا عنه بمجرد النصيحة، وربما بقي عند غيركم إلى أن تتكون الحكومة الجديدة وتستقر، فترجعهم عنه بالقوة القاهرة، إن لم يرجعوا خوفًا منها. ذلك الأمر المنكر: هو ما ذكرته في آخر خطاب ألقيته في نادي الجامعة العثمانية عندكم (ونشرت محصله في هذا الجزء) ؛ وأعني به إزعاج الحرية الشخصية في بعض الأوقات لا سيما حرية أصحاب الصحف. وقد حمدكم العقلاء؛ لاستنكاركم حادثة الشام، وحملكم على المفسدين الذين أثاروا الفتنة فيها؛ كراهية لحرية العلم والاستقلال في فهمه ونشره. ولكن جرائد الشام الآن أوسع حرية من جرائدكم، كما يعلم ذلك جميع القراء منكم، فهل ترضون بهذا الانقلاب؟ كاد يقع الخصام بل الالتحام بين طائفتين منكم؛ لأن شيطانًا من شياطين الإنس وسوس إلى بعضهم: أن جريدة كذا نشرت آية من القرآن الكريم، ونشر القرآن في الصحف إهانة له، فيجب أن يهان صاحبها حتى لا يعود إلى ذلك. ذكر ذلك في مجتمع فيه كثير من العامة والخاصة، فاشتد في الإنكار بعض الشبان، فانبرى للدفاع عن صاحب الجريدة آخرون من أبناء حيه، فتساهل الأولون، وانتهى الكلام بانتداب رجلين لسؤال صاحب الجريدة عن حقيقة الأمر، ولما جاءهم للسؤال كنت عنده، وكان هو قد خرج لحاجة، فراجعنا جريدته أولاً، فلم نجد فيها شيئًا من القرآن، وأقنعتهما بأن الإهانة لا تكون إلا بالقصد، وأن من يقصد إهانة القرآن بعمل عمله يصير به مرتدًّا لا عاصيًا فقط، ولا يقع هذا من مسلم، وإنما يكتب الآيات من يكتبها؛ لأجل أن يكون في كلامه روح ربانية مؤثرة ينفع بها القارئين. وقلت لهما: إن جميع جرائد المسلمين في مصر وفي بيروت وغيرها من البلاد تزين بعض كلامها بالآيات الكريمة وتناولت من جرائد كانت بجانبي نسخة من المؤيد، فأطلعتهما على عدة آيات فيها، بعضها في خطبة لأحد الأساتذة بنظارة المعارف المصرية، ومازلت بهما حتى خرجا مقتنعين بأن من من حرك هذه الفتنة لم يكن مخلصًا في قوله، وقبَّلا يدي بعد أن كان حديثهما معي حديث الخصم مع الخصم، فدل ذلك على حسن نيتهما. ثم إن صاحب جريدة أخرى كتب في جريدته أن المسلمين مقصرون فيما يجب عليهم من العناية بالتربية والتعليم، وما تقتضيه حال العصر من سعة الثروة، وأن جيرانهم وخلطاءهم من النصارى قد سبقوهم في هذا المضمار. فوسوس شيطان التفريق إلى بعض الفتيان المتحمسين قال: إن صاحب جريدة كذا قد أهان المسلمين وفضل النصارى عليهم، فاضطربوا وغضبوا، وأخذ بعضهم نسخًا من بائع تلك الجريدة فمزقها، وحاول طائفة منهم إهانة الكاتب بل أهانه بعضهم بالفعل، وطاف آخرون على بعض المشتركين بالجريدة، فرغبوا إليهم أن يقطعوا اشتراكهم فيها. وقد رأيت شابًّا يتأثر صاحب هذه الجريدة في بعض الشوارع، فلما رآني استوقفته وتحدثت معه، ثم تركته تبعني، وسألني عما كتبه عن المسلمين فقلت له: كتب كيت وكيت؛ ليحث المسلمين على إنشاء المدارس والعناية بتربية أولادهم، حتى يكونوا أرقى الأمم وأعلمها، وعلى تحصيل الثروة؛ ليكونوا من أغنى الناس وأعزهم. وأقنعته بأنه لا يعقل أن يكون قصد إهانة أهل دينه الذين يهان بهوانهم، ويعتز بعزتهم، ويشرف بشرفهم، من غير أن يكون له فائدة في ذلك، ولا مجال للقول بأن له فائدة أو ربحًا من الإهانة، ثم ذكرت له شيئًا من مفاسد هذا الشقاق الذي يلقبه بعض أهل الأهواء بين المسلمين، وهو أضر عليهم لا سيما في هذا الوقت من كل ما يتصور أن يضرهم. فانثنى مقتنعًا شاكرًا. هذا ما تركت عليه بيروت يوم سافرت منها، وقد دخلت القاهرة ليلة الخميس وفي اليوم الثاني من وصولي إليها صليت الجمعة في أحد المساجد، فإذا بالخطيب فيه يصدع الناس بوعظ يقول فيه ما معناه: إنكم قد تركتم الإسلام، وأين الدليل على إسلامكم وأنت تعملون كذا وكذا، حتى قال: وتشبهت نساؤكن بالعاهرات، فقلت في نفسي: لو كان هذا الخطيب في بيروت لأنزلوه عن المنبر بالقوة، ومنعوه من إتمام الخطبة. مع هذا كله أقول الآن كما قلت من قبل: إن مسلمي بيروت أقرب إلى الخير والاستعداد للترقي من غيرهم، وأبعد عن الفتن التي تحول دون الأعمال النافعة، وأكثر ما ينتقد عليهم مما ذكر يقع منهم بحسن النية غالبًا، لا أعرف فيهم رجلاً واحدًا يحب إثارة الفتن بسوء نية، ولعلة يندر أن يوجد له أقتال ونظراء في ذلك. فالذي ننصح به لهم ولغيرهم هو: أن يعلموا أنه لا شيء أضر على الأمم من التفرق والشقاق لأجل الخلاف في الفهم والرأي، سواء كان في أمر الدين أو أمر الدنيا، فضرر أكبر الكبائر - كالقتل والزنا وشهادة الزور - هو دون ضرر التفرق والشقاق في الأمة؛ لأن هذا الجرم هو المانع من وحدة الأمة وعزتها وقوتها، وهي متى قويت تقدر على منع سائر الجرائم، ومتى كانت ضعيفة بالتخاذل لا تقدر على منع شيء من المفاسد، ولا على إقامة شيء من المصالح. ولذلك توعد الله - تعالى- على التفرق والخلاف بما لم يتوعد على غيره، بل جعل المتفرقين في الدين براء من النبي صلى الله عليه وسلم ومن دينه فقال {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وأنزل يوم تلاحى نفر من الأوس والخزرج، وذكروا ما كان من مشاقة بعضهم لبعض يوم بعاث {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 103-105) . فالمتدبر للقرآن يرى أنه تعالى ينهانا ويحظر علينا التفرق والخلاف، ويحتم علينا أن نكون إخوة متحابين، ويفرض علينا مع ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن أهان أخاه واحتقره أو آذاه؛ لأنه قال أو كتب ما يخالف رأيه، لا يكون آمرًا بالمعروف، وهل يوجد أحد من الناس يقول: إن الإهانة والإيذاء من المعروف؟ ؟ وإذا كان الله تعالى قد أمر نبيه بأن يجادل المشركين بالتي هي أحسن، فهل يرضى منا أن نجادل إخواننا المؤمنين بالتي هي أسوأ وأقبح؟ أما ما قال الله - عز وجل - {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) أما قال مع ذلك: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) . إن الله تعالى ما ذكر فرضية الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع النهي عن التفرق والاختلاف؛ إلا لأن هذه الفريضة هي سياج وحدة الأمة وحفاظها، فإقامتها تمنع التفرق، كما قال الأستاذ الإمام: فإذا جعلنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سببًا للتفريق والخلاف والعداوة بين المسلمين، نكون قد قلبنا مقصد الدين، ونقضنا ميثاقه، وقطعنا ما أمر الله به أن يوصل، وأفسدنا في الأرض {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: 25) . للأمر بالمعرف والنهي عن المنكر شروط وآداب، فصلناها في التفسير المنشور في الجزئين الثامن والتاسع من مجلد المنار العاشر، ولا يصلح لها على الإطلاق إلا أهل العلم والعرفان فأي إفساد في الدين والدنيا شر من إغراء العامة بالافتيات على أهل العلم، وحملة الأقلام، والتصدي لأمرهم ونهيهم. بل وجد من شياطين الإفساد والتفريق من إغراء العامة بمنع بعض خطباء المساجد من خطبة الجمعة! ! حدثني بذلك بعض شبان بيروت، فقلت له: إن الخطبة فريضة دينية كالصلاة، فهل يجوز لنا أن نمنع مسلمًا من أداء الصلاة؛ لأننا غضبنا منه بحق أو بباطل؟ إذا جاز لنا هذا، جاز لنا أن نمنع كل من أذنب ذنبًا من أداء الصلاة والصيام والزكاة والحج، وأن نشترط العصمة في كل طاعة من الطاعات. ولا يبيح لنا ديننا أن نقول بعصمة أحد بعد الأنبياء، وقد ختم الله تعالى ببعثة نبينا صلى الله عليه وعليهم أجمعين وسلم، ولم يقل أحد من المسلمين الذين يعتد أحد من بعده؛ إلا ما قاله الإمامية من الشيعة في الأئمة الاثني عشر من آل بيت النبي بإسلامهم بعصمة عليه وعليهم السلام. فعلم مما بيناه: أن التصدي لإهانة الناس الذين يظن أو يعلم أنهم أخطأوا هو من المفاسد المحرمة شرعًا، والقبيحة عقلاً، وكل من يغري بها شيطان رجيم يجب عصيانه، والبعد عنه، والاستعاذة بالله من شره. والاجتماع لأجل هذه الجريمة والتعاون عليها يزيد في قبحها وإثمها قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (المائدة: 2) . بعد هذا كله، أقول لفتيان بيروت الذين يعرفون بلقب (الأبضايات) : إنكم أيها الشجعان البواسل، قد عطَّرتم الأرجاء بمحمدة عظيمة، ظهرت منكم في أيام إعلان الدستور، ولا تزالون تحافظون عليها، حتى أثنى عليكم العقلاء في غير بلادكم، بما لم يثنوا به على سواكم؛ ألا وهي محاسنة خلطائكم وعشرائكم في وطنكم من المشاركين لكم فيما عدا الدين من شؤون الحياة. فهل يليق بكم بعد فضيلة مسالمة هؤلاء أن تتلوثوا برذيلة معاداة من يشاركم في كل شيء حتى في الدين، فتكونوا كمن نزل فيه قوله تعالى: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) ؟ حاشاكم أن ترضوا بذلك عالمين به، وإنما يغشكم الغاشون، فلا تكونوا آلة لهم في أهوائهم. لا أقول: إنه ينبغي أن تخدموا بلدكم بإتقان كل واحد منهم

رحلة صاحب المنار في سورية ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة صاحب المجلة في سورية (4) حمص وحالها الاجتماعي: سافرت في اليوم الثاني من شوال من بعلبك إلى حمص، والمسافة بينهما في القطار الحديدي ثلاث ساعات، وقد وصل القطار إلى محطة حمص الساعة 8.45 دقيقة مساء، فإذا بالصديق الكريم والولي الحميم السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي ينتظرني فيها مع طائفة من أهل العلم وكرام البلد في مقدمتهم الشيخ أحمد نبهان الذي حببه إلينا على البعد ما نمي إلينا من عقله وحبه للإصلاح مع علمه وحسن سيرته. أقمت في حمص أربع ليال وثلاثة أيام في دار الزهراوي، ولقيت فيها أكثر أهل العلم والمكانة من المسلمين والنصارى، إذ كانت الدارغاصَّة بهم ليلاً ونهارًا، وقد رأيت في هذه البلد من الوفاق بين الفريقين وحسن الألفة، ما لم أر له نظيرًا في سائر البلاد السورية ولا بيروت، فإن جل ما مدحناه من أهل بيروت هو ترك التقاتل والتسافك، ولا يزال كل فريق بعيدًا عن الآخر في المعاشرة والمعاملة إلا ما لا يخلو منه مكان بحكم طبيعة الاجتماع وحاجة بعض الناس إلى بعض، حتى إنني قلت لكثيرين منهم: إنني أرى الوفاق الذي حمدناه لكم على البعد سلبيًّا لا إيجابيًّا، وصرحت بذلك في نادي الجامعة العثمانية، ودعوت الناس في خطبة خطبتها في ذلك إلى التزاور والتعامل وغير ذلك من أعمال الوفاق الإيجابي. وقد كنا توهمنا ونحن بمصر أن الشقاق بين مسلمي حمص ونصاراها شديد؛ لحادثة جرت في الاحتفال بعيد الحرية كبرتها الجرائد، فوجدنا الأمر على ضد ما كتب في ذلك. فإنني ما رأيت في بيت من بيوت طرابلس ولا بيروت مثلما رأيت في بيت الزهراوي من اجتماع الفريقين كل ليلة من ليالي الشتاء للسمر ومبادلة الآراء. ثم إنني لم أر في حمص ما رأيت في غيرها من الاضطراب والاعتصاب والافتيات على الحكام، والتبرم من جمعية الاتحاد والترقي. ومن أسباب ذلك أن أعضاء لجنة الجمعية المركزية كانت مؤلفة من أناس مؤتلفين متعارفين، لا ينقم الناس منهم شيئًا، ولا يشكون منهم إهانة ولا شذوذًا، وقلما اتفق هذا للجنة أخرى كما يعلم مما نكتبه بعد عن الجمعية. نعم إنه ينتقد على أهل حمص ما ينتقد على أهل طرابلس من الخمول والسكون، فهم لم يشرعوا في عمل مفيد للبلاد , وقد حثثت طائفة من الوجهاء على تأليف جمعية خيرية إسلامية؛ لأجل إنشاء المدارس الأهلية، ومساعدة الفقراء على تربية أولادهم وتعليمهم، فألفيت منهم ارتياحًا واستحسانًا، وقد مرت الشهور ولم يشرعوا في العمل. ولكننا لم نيأس من همتهم وغيرتهم، فعسى أن يسمع منهم عن قريب ما تقر به العين. هذا وإن عمران حمص ينمو نموًّا عظيمًا، والزراعة والصناعة تتقدم فيها تقدمًا مبينًا. ولكنها متخلفة عن طرابلس في ترف الحضارة، وإن كانت سابقة لها في مضمار العمران، بل هي وسط من التأنق في الأطعمة بين مثل طرابلس وبيروت ودمشق، وبين القرى الكبيرة التي يوجد فيها أغنياء يعيشون في بلهنية، فالظاهر أن التأنق في حمص خاص ببعض أهل السعة والبيوت المطروقة، وإن الفقير في طرابلس ليتنوق في طعامه ما لا يتنوق الأغنياء في كثير من المدن. وإني لأعلم أن المصري المقيم في القاهرة نفسها الذي يزيد دخله في الشهر على دخل الطرابلسي في السنة، لا يأكل من الحلوى في السنة كلها بقدر ما يأكل الطرابلسي منها في شهر واحد، فقلة التنوق في الأطعمة بحمص محمدة لها عندي إذا كانت تحفظ ثروتها من التلف في غير ذلك من ضروب السرف، وتجعل حظًّا منها عظيمًا للتعليم والتربية. طرابلس أيضًا سافرنا من حمص قبيل الفجر من يوم السبت سادس شوال (31اكتوبر) في مركبة من مركبات (شركة الشوسة) فوصلنا إلى طرابلس بعد العصر، وطفقت أتهيأ للسفر إلى مصر، وكنت عازمًا على السفر في يوم السبت التالي لهذا السبت (13 شوال و7 نوفمبر) . ولكن عرض ما حال دون ذلك. جمعية خيرية إسلامية بطرابلس وفي يوم الأربعاء (10 شوال) رغبت إلى مفتي طرابلس أن يقوم بتأليف جمعية خيرية إسلامية كالجمعية التي بمصر، وذكرت له موضوعها وأعمالها ووجوه الحاجة إلى مثلها في طرابلس، وأهمها إنشاء المدارس لتعليم أولاد الفقراء على نفقة الجمعية، وأولاد الأغنياء بالأجرة. فأجاب بأنه مستعد لذلك بماله وحاله واستحسن أن أدعو الوجهاء والأغنياء إلى ذلك، فقلت له: أنت كبير البلد وزعيمها وأنا قد صرت غريبًا أو كالغريب؛ لأنني مسافر بعد ثلاث، فإذا لم تقم أنت بهذا العمل لا ينجح. ثم رضي بأن يكون هو الداعي لهم إلى الاجتماع، على أنهم متى اجتمعوا أخطبُ فيهم، فإن أجابوا الدعوة التي أوضِّحُها لهم، أُبَيِّن وجه الحاجة إليها كان هو أول العاملين والمساعدين في التنفيذ. وأقول ههنا: إن رشيد أفندي كرمي مفتي طرابلس على كونه سيد بلده، وأوسع أهلها ثروة وجاهًا؛ هو أقرب وجهائها وأغنيائها إلى الخير، وأبعدهم عن كل شر، وأطيبهم نفسًا، وأبسطهم مع القصد والروية يدًا، كما يظهر ذلك لمن يعاشره، وخلافًا لما عليه أكثر الأغنياء في بلادنا، فهو لا يدع لطالب الإصلاح في العلم أو العمل حجة عليه، بل يجيب كل داعٍ إلى خير كعبد الرحمن باشا اليوسفي في دمشق. ولكن لا يقدم واحد منهم على ابتكار العمل والنهوض به، بل يقولان مثلما كان يقول هنا حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى -: أوجدوا العمل وطالبوني بالمساعدة أجبكم إليها. وإنما كان هذا يساعد بالعمل، وذانك يساعدان بالمال فهما خير أغنياء بلادهم. وكان عذر حسن باشا عاصم في عدم الإقدام على الابتكار وإيجاد (المشروعات) : هو عدم الثقة بإجابة الناس وثباتهم على العمل. ولابن اليوسف في دمشق وابن كرامي في طرابلس مع مثل هذا العذر أعذار أخرى؛ ككثرة أعمالهما، وما لا حاجة إلى بيانه الآن من حال البلاد وغير ذلك. ذهبت في ذلك اليوم (الأربعاء) إلى القلمون، فهيأت ثيابي وحاجي وأرسلتها إلى الميناء في يوم الجمعة، وعدت إلى طرابلس مع كثرة الأمطار مساء؛ لأن المفتي كان وعدني بجمع الوجهاء ليلة السبت؛ لأجل تأسيس الجمعية الخيرية، فألفيته قد أرجأ دعوتهم؛ للاشتغال بانتخاب المبعوث عن طرابلس؛ لأن الولاية أمرت بإتمام الانتخاب يوم السبت، ولكثرة الأمطار التي كان يظن أنها تحول دون عودتي من القلمون على قرب المسافة، وقال: إن أقرب وقت يمكن أن يجتمعوا فيه، إذا نحن دعوناهم بعد انتخاب المبعوث غدًا هو ليلة الثلاثاء، فرأيت أن أرجئ السفر أسبوعًا؛ لأجل إتمام هذا العمل الشريف. ملخص خطبته وفي ليلة الثلاثاء اجتمع في دار عمر باشا المحمدي نحو من عشرين رجلاً؛ إجابة لدعوة المفتي، وهم من وجهاء لواء طرابلس لا المدينة نفسها فقط. فخطبت فيهم خطبة بينت فيها فوائد الجمعيات وأنواعها وتأثيرها في ترقية البشر في العلوم والأعمال الدينية والدنيوية، وكون الخيرية منها من الضروريات التي لا يخلو منها بلد من البلاد المرتقية، حتى إن الرجل الإفرنجي إذا مر في سياحته على بلد وأراد أن يبذل شيئًا من ماله لمساعده فقراء أهله، فإنه إنما يرسله إلى الجمعية الخيرية في ذلك البلد، وربما وضع أحدهم حوالة مالية في كتاب وكتب عليه (الجمعية الخيرية) ووضعه في صندوق البريد؛ من غير أن يسأل هل يوجد في هذا البلد جمعية خيرية أم لا؟ كأن الجمعيات الخيرية من الأمور الضرورية التي لا يمكن أن يخلو بلد منها. وذكرت ذلك المشعوذ الذي جاء القاهرة، وأراد بعد أن ربح بألعابه فيها ربحًا عظيمًا؛ أن يخصص ليلة يجعل دخلها للجمعية الخيرية الإسلامية فيها، فكان ذلك سبب تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية. ثم قلت: أيها السادة، إن حكومتكم قد دخلت في طور جديد، فصارت ديمقراطية أمرها بيد الشعب بعد أن كانت استبدادية شبه الأرستقراطية؛ بما للأغنياء والشرفاء من النفوذ فيها. واعلموا أن كثيرًا من الأحرار الذين انقلبت السلطة الاستبدادية بسعيهم متطرفون في الديمقراطية، وأن معظم الأحكام ستكون في أيديهم عاجلاً أو آجلاً، وأن الشعب سيشعر بهذا، فندب إليه كراهية الكبراء والأغنياء فيكرههم، وتنفخ فيه روح الاشتراكية فيهيج عليهم بالفعل، فإذا جاء طرابلس متصرف متطرف من الديمقراطيين الذين أشرت إليهم، وكان والي الولاية منهم أيضًا، فاعلموا أن ما تعودتموه من الجاه والكرامة في وطنكم لا يبقى لكم؛ إلا إذا كان الشعب يحبكم بتحببكم إليه قبل ذلك، وإلا دهوركم أسقطكم كما فعلت قبله الشعوب الإفرنجية بأولئك النبلاء الذين كانوا يملكون أوروبا؛ ويتصرفون فيها تصرفًا لم تصلوا إلى مثله من كونت ودوق ومركيز، ثم يقوم من طبقات الشعب الدنيا من يتولى الزعامة في البلاد بحق أو بغير حق. وما أظن أن صدوركم تنشرح لتلك الحال، ولا أن أعينكم تبتهج برؤيته. وإنني أحب أن تكونوا أنتم زعماء بلدكم في زمن الحرية وتحت ظل الدستور؛ بأن تتحببوا إلى الشعب مذ اليوم بنشر التربية والتعليم فيه، ومواساة الفقراء والمساكين من أهله. إنني لا أحب الأرستقراطية وإن كنت من بيت شريف، وإنني مازلت من دعاة الديمقراطية بلسان السياسة ولسان الدين، وإنما أميل إلى بقاء زعامة وطني في وجهائه وإياكم أعني؛ لاعتقادي أنه لا يوجد في دهمائه من يصلح للزعامة كما وجد في فرنسا عندما صارت ديمقراطية. الفرق بيننا وبين فرنسا بعيد، إن فرنسا كانت قبل ثورتها المشهورة قد استعدت ما لم نستعد بمثله نحن اليوم، حتى نبغ فيها من دهماء الشعب من يصلحون للزعامة: بعلومهم وأعمالهم وآرائهم وأخلاقهم. إنني لعلمي بهذا الفرق، ولما رأيت في بلاد مصر التي تمتعت بالحرية قبل بلادنا من العبر وهبوط قوم وصعود آخرين، أقول ما أقول عن خبرة وبصيرة وأحب أن نعتبر نحن العثمانيين بحال الأمة الإنكليزية التي هي أعرق الأمم في الحرية وأكثرهن استفادة منها، فهي الأمة التي حافظت على كرامة النبلاء وحرمة البيوتات فيها بعد الديمقراطية الراسخة، واستفادت من ذلك كثيرًا. ورأى أن إسقاط الشعب لكرامة أصحاب البيوتات منا، وتسلق أفراد الطبقات الدنيا للزعامة فينا مع ما هم عليه من الجهل يقف في طريق نهضتنا، وإن عناية وجهائنا بحفظ كرامتهم وحرصهم على أن يكونوا هم زعماء الشعب، يكون أسرع في تقدمه إذا هم أتوا البيوت من أبوابها، فإنهم في الغالب على شيء من الأخلاق والعلم أو الاختبار. ثم قلت: إن خدمة الأمة والتحبب إليها، إنما يكونان بالتعاون على تربية أولادها، وتعليمهم ما به قوام حياتهم، ومواساة المنكوبين والمعوزين من فقرائها، وذلك لا يتيسر إلا بتأليف جمعية خيرية، يجعل معظم ريعها لإنشاء المدارس وباقية لإعانة المنكوبين والمعوزين، وهذا ما أدعوكم إلى الاكتتاب له بلسان فضيلة المفتي الحريص على هذا العمل المبرور، الراغب في هذا السعي المشكور، وسيجمعكم في ليلة أخرى؛ لأجل المذاكرة في القانون الذي يوضع لذلك، وانتخاب الأعضاء العاملين. ثم شرعنا في الاكتتاب، وافتتحه المفتي في ورقة كتبت في أعلاها ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) . هذا بيان ما تبرع به الذوات المذكورة أسماؤهم بخطوطهم أدناه؛ لتأسيس جمعية خيرية إسلامية في طرابلس الشام؛ لنشر التعليم الديني والدنيوي على الطريقة العصرية؛ ولإعانة المصابين والمنكوبين المعوزين بمقتضى قانون يجري العمل بموجبه بعد إقرار المكتتبين له في اجتماع خاص، وقد جرى هذا في ليلة 16 شوال سنة 1326

قانون المطبوعات وتقييد الصحافة بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قانون المطبوعات وتقييد الصحافة بمصر لم تكد تستقر قدمنا بمصر بعد عودتنا من سورية (في الأسبوع الأخير من هذا الشهر) ، حتى صخ سمعنا نبأ عزم الحكومة على العمل بقانون المطبوعات الذي وضع عقب الثورة العرابية؛ لئلا تعيد الجرائد ذلك التهييج سيرته الأولى، ثم سمعنا أن هذا كان عن اتفاق بين الإمارة المصرية والحكومة الإنكليزية، وأن نظار الحكومة المصرية لم يكن لهم به من علم إلا أن يكون رئيسهم الجديد بطرس باشا غالي، وأنهم عندما فوجئوا بطلب تقرير ذلك القانون أَبَوا، وفضلوا الاستقالة على ذلك، وروت بعض الجرائد الإفرنجية أن سعد باشا زغلول ناظر المعارف، ومحمد سعيد باشا ناظر الداخلية، هما اللذان عارضا وكادا يستقيلان، ثم أُقنعا فلم يستقيلا، وأن الوزارة لم ترض أخيرًا بتنفيذ ذلك القانون إلا بعد تعديل ما واتفاق على عدم التضييق به على المطبوعات، ولا المراقبة على الكتب التي تطبع، ولا المطابع التي تطبعها، وإنما نخص المراقبة بالجرائد؛ لتمنعها من الإسراف في الطعن والهجاء الذي لم يسلم منه الأمير ولا رجال الحكومة فضلاً عن غيرهم، ومن تهييج الناس على الأعمال التي قد تحدث الاضطراب، وتثير السخط العام على الحكومة. لقد كان وقع نبأ هذا القانون أليمًا شديدًا على رجال الصحافة وغيرهم، ويخشون أن يكون مبدأ لشر أعظم منه إلا من هم على رأي السلطة التي أعادته. كان للإدارة الإنكليزية في مصر مزيتان عظيمتان لا نزاع فيهما، ويقول الكثيرون: إنه لم يكن لها من مزية سواهما، ألا وهما يسر البلاد المالي وحرية الطباعة، وقد ذهبت العسرة المالية منذ سنتين بالمزية الأولى، وكانت إنكلترا قادرة على تفريجها كما فرجت عسرة أمريكا التي هي أعظم منها بكثير من الأضعاف، فإذا زالت المزية الثانية بقانون المطبوعات القديم الجديد، فأية مزية تبقى لهم في مصر، يمنون بها على البلاد، ويفاخرون بها الأمم، وكلا الأمرين حدث بعد مغادرة لورد كرومر لمصر وهو الذي كان صاحب المزيتين، على أن الحزب الوطني وجرائده وأكثر الجرائد الأخرى ومنها المؤيد، كادوا يحصرون شكواهم من الاحتلال في شخصه، فصار أكثرهم اليوم يتمثل بقول الشاعر: رب يوم بكيت منه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه

مسألة خلق القرآن وقدمه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة خلق القرآن وقدمه (س10) من جدة (الحجاز) لصاحب التوقيع. حكيم الإسلام بحر العلوم العقلية والنقلية، تاج رأس السنية سيدي محمد رشيد رضا أفندي منشئ مجلة المنار الغراء، لا زال في مقام كريم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. من العجب أني لم أعثر في مجلدات المنار على مبحث في القرآن المجيد المكتوب في المصاحف ... إلخ، تكونون كتبتموه أو سُئِلتم عنه؛ لنكتفي عن أن نسألكم، فنروم من غيرتكم على الدين الإسلامي أن تفيدونا بما هو الحق الذي يجب اعتقاده في مسألة القرآن الواقع فيها الخلاف بين الحنابلة وأتباع الحنفية والمالكية والشافعية الآن، بالبيان الشافي الكافي بأدلة الفريقين، وترجيح أي الاعتقادين على الآخر؛ لأن لكم القدح المعلى في هذا الفن، ولكم الأجر والشكر في الدنيا والآخرة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حسين (ج) اعلم يا أخي قبل كل شيء، أنه ما أضر الإسلام والمسلمين شيء كالخلاف والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب، يوجه كل باحث منهم قواه إلى تأييد أقوال مذهبه الذي ينتسب إليه، وتفنيد كل ما يخالفه؛ ولذلك وردت الآيات والأحاديث الشريفة في حظر الخلاف والتشنيع على المختلفين، حتى قال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، وقال للمسلمين: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) , ولعل الجهل بمسألة من المسائل مع الوفاق والاجتماع، يكون أحيانًا خيرًا من العلم بها مع الخلاف فيها والتفرق؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يبين شيئًا فيترك بيانه؛ لأجل خلاف المسلمين في الحاجة إليه، كما فعل يوم أراد أن يكتب لهم كتابًا لن يضلوا بعده أبدًا كما في صحيح البخاري , وقريب من ذلك ما كان حين أراد أن يبين لهم ليلة القدر كما في الصحيح أيضًا , وغرضنا من هذا تذكير السائل الكريم بأنه لا ينبغي له ولا لغيره أن يسأل عن شيء؛ لأجل تأييد ما يراه هو فيه وبيان خطأ المخالف له من المسلمين. واعلم يا أخي ثانيًا أن المحاكمة بين المذاهب؛ لأجل ترجيح بعضها على بعض، هي من أقوى أسباب الحمل على تعصب أهل كل مذهب لمذهبهم، وملاحاة المخالفين لهم ومعاداتهم، وقلما يوجد منتسب إلى مذهب ينظر في قول المخالف وفي دلائله نظر المستجلي للحقيقة، بل ينظر إليه بعين النقد والبحث عن مواضع الضعف ولو في التعبير؛ ليهجم عليه من موضع ضعف، فينتقض بنيانه ويبين بطلانه. إذا علمت هذا وذاك، وأنت تعلم أن المنار أنشئ للجمع والتوفيق لا للخذل والتفريق، تبين لك العذر في عدم الإجابة إلى ذكر أدلة المذاهب في المسألة والترجيح بينها، مكتفيًا ببيان الحق فيها، وهو ما كان عليه السلف الصالح من غير جدال ولا نضال، ولا ما كره لنا الله من القيل والقال. إن هذا القرآن المكتوب في المصاحف، المحفوظ في الصدور، المتلو بالألسنة، هو كلام الله المنزل على قلب رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والرسول المبلغ له عن الله - تعالى - ليس فيه صنع ولا عمل. والقول بأنه مخلوق على الإطلاق، أو باعتبار قراءته أو كتابته من البدع المذمومة التي لم يأذن بها الله، ولا قال بها رسوله، ولا أصحاب رسوله، ولا التابعون لهم في هدايتهم، ولا هي مما تحتاج إليه الأمة في حفظ دينها ولا مصلحة دنياها. من البدع أيضًا أن يقال: إن حروفه مخلوقة، وإن قراءتي له مخلوقة، وربما كان ذريعة إلى ما هو شر منه مع عدم الحاجة إليه، وضرر إضاعة الوقت في مثله. إننا لم نخض في مسألة الخلاف في خلق القرآن اتباعًا للسلف. ولكننا بينا في تفسير أول آية من الجزء الثالث من القرآن معنى كلام الله وتكليمه، وكون كلامه عز وجل شأنًا من شؤونه قديمًا بقدمه. واتباع مذهب السلف يمنعنا من الخوض في الخلاف، فنحن نبين الحق الذي نعتقده وندين الله به، وندعو إليه، ولا نزيد على ذلك. وقد كان الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - كتب في رسالة التوحيد جملة في مسألة هذا الخلاف، ثم اعترف بأنه أخطأ مذهب السلف في ذلك، وأمر بحذف تلك الجملة من الرسالة في الطبعة الثانية، ولما وفقنا لطبع الرسالة ثانية مصححة بتصحيحه حذفنا تلك الجملة منها. ومن المعلوم أن فتنة القول بخلق القرآن حدثت في أول القرن الثالث، فخير لنا أن نجعلها نسيًا منسيًّا، ونكون في ذلك كأهل القرن الأول والثاني. فإن قيل: كان يكون هذا حسنًا لو رضي الناس به وجروا عليه. ولكن المسألة لا تزال تقرأ في الكتب، فتعلق شبهة البدعة ببعض الأذهان، فوجب إبطال تلك الشبهة التي يزعم أصحابها أنهم جاءوا بحقائق الفلسفة؛ إذ جعلوا القرآن عضين: منه كلام نفسي وكلام لفظي، وقالوا: هذا حادث وذاك قديم. قلنا: إن المجادلات النظرية تحيي تلك النظريات الفلسفية، وإنما نميتها بالنهي عنها وبيان الحق الذي كان عليه السلف لا نرى غير ذلك، وبالله التوفيق.

جعل الدية على العاقلة وحكمة ذلك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جعل الدية على العاقلة وحكمة ذلك (س 11) من بيروت لصاحب الإمضاء. حضرة العالم الفاضل، والغيور الصادق، معتمد الأمة الإسلامية السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الأغر. هل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلة الجاني (كما ثبت في الصحيحين) جناية على الإنسان، وإجحاف بحقوق المدنية، كما يظهر ذلك من مقالة سطرت في جريدة - لبنان - الصادرة في 16رمضان سنة 1326 عدد 777 تحت عنوان (مجلس الإدارة وجريدة لبنان) ، أو هو نهاية في العدالة ومحض خير الأمة، وغاية في حفظ دماء البشر، وتعليم للناس ليعين بعضهم بعضًا إذا أخطأ، وتربية لهم حتى لا يُمَكِّن أحدُهم ابنَ حيه باللعب بمسدس مثلاً، أفيدونا الجواب، ولكم من الله الثواب. سبب المقالة فيما يظهر أن بعض اللبنانيين يود انتخاب أناس من مجلس الإدارة، وبعضهم يروم انتخابهم من مشايخ الصلح ومنهم صاحب الجريدة. حجة الفريق الأول أن بعض مشايخ الصلح أخطأ في أمر ما، فلزم لهذا الإعراض عنهم، وتيمم رجال مجلس الإدارة لذلك، قال كاتب المقالة ما نصه (بلا زيادة حرف) . (على أنه إذا صح لنا تبديل النظام، ونزع ذلك الحق من أيدي مشايخ الصلح؛ لخطأ ارتكبه واحد منهم، صح استبدال نظام كل حكومة عندما يرتكب أحد رجالها جريمة من الجرائم، ومجازاة كل مأموريها. وكان مثلهم مثل العاقلة في الشرع الشريف. فإنه إذا قتل أحد الصاغة مثلاً في قرية، وما أمكن معرفة قاتله وجبت الدية على جميع أبناء حرفته، وهكذا مشايخ صلح وجب بحسب تلك القاعدة إلقاؤهم جميعًا تحت تبعة ما يرتكبه أحدهم) اهـ ثم رد على من يبتغي الانتخاب من مجلس الإدارة اللبنانية، وحض على الانتخاب من مشايخ الصلح. اهـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كامل الغلايني (ج) جعل الدية على العاقلة وهي عصبة العشيرة (العائلة) خاص بقتل الخطأ، وحكمته تكافل العشيرة وتعاونها في المصيبة، فهو من قبيل إيجاب النفقة للمعسرين من الأقربين على الموسرين منهم، على ما في هذا وذاك من التفصيل والخلاف. وهذا يرد زعم بعض الجاهلين بالشريعة أن الإسلام لم يقرر في أمر العائلات شيئًا، كأن العائلة لا وجود لها في الإسلام، على أنه لا يوجد في شريعة إلهية ولا وضيعة من أقدم الشرائع إلى أحدثها مثل ما يوجد في الشريعة الإسلامية الغراء من إحكام روابط القرابة ووشيجة الرحم من الأحكام والآداب، ومن أهمها مسائل النفقات، ومسألة جعل دية قتل الخطإِ على عاقلة القاتل (وربما كان لفظ العائلة محرفًا عن العاقلة) ؛ لأنه لما كان معذورًا بخطأ، وكانت الدية ربما تذهب بثروته لا سيما إذا تكرر الخطأ منه، جعلتها الشريعة في عاقلته يتعاونون عليها، وقد تقدم في التفسير من هذا الجزء وفي غيره كلام في تكافل الأمة، فما بالك بتكافل العشيرة. وحكم العاقلة ورد في الحديث لا في القرآن، وقال العلماء في شرح بعض الأحاديث الواردة في ذلك: إنه مخالف لظاهر قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) وأجابوا عن ذلك بجعل الأحاديث الواردة في ذلك مخصصة لعموم الآية؛ بناء على قول جمهور أهل الأصول بتخصيص القرآن بأحاديث الآحاد، ونقلوا عن بعض العلماء والمذاهب خلافًا فيها. قال في نيل الأوطار: وعاقلة الرجل عشيرته، فيبدأ بفخذه الأدنى، فإن عجزوا ضم إليهم الأقرب فالأقرب المكلف الذكر الحر من عصبة النسب ثم السبب، ثم في بيت المال. وقال الناصر: إنها تجب على العصبة ثم على أهل الديوان يعني جند السلطان. وقال أبو حنيفة: إنها تجب على أهل الديوان دون أهل الميراث، ولم ينكر هكذا في البحر. ولا يخفى ما في ذلك من المخالفة للأحاديث الصحيحة، وقد حكى في البحر عن الأصم وابن علية وأكثر الخوارج: أن دية الخطإ في مال القاتل ولا يلزم العاقلة، وحكى عن علقمة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والبتي وأبي ثور: أن الذي يلزم العاقلة هو الخطأ المحض وعمد الخطأ في مال القاتل اهـ. أقول: وورد في بعض الأحاديث المتأخرة ما ظاهره نسخ العاقلة كحديث عمر بن الأحوص أنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجني جانٍ إلا على نفسه، لا يجني والد على والده، ولا مولود على والده) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ابن ماجه وحديث أبي رمثة قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيت برأسه ردع حناء وقال لأبي (هذا ابنك؟ قال نعم، قال: أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه) ، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) رواه أحمد وأبو داود والنسائي، والترمذي وحسنه وصححه ابن خزيمة وابن الجارود والحاكم وفيه روايات أخرى وحديث الرجل من بني يربوع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكلم الناس، فقالوا: يا رسول الله، هؤلاء بنو فلان قتلوا فلانًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجني نفس على نفس) رواه أحمد بسند رجاله رجال الصحيح والنسائي. وقد أدخل الفقهاء الأحاديث في باب التخصيص، فأخرجوا الوالد والولد من العاقلة والنسخ فيها أظهر. ولكن العمل جرى على الإحكام. وكما أن العاقلة مخالفة لظاهر الآية التي استدل بها الرسول في الحديث السابق، هي مخالفة للقياس أيضًا، وقد أجاب الفقهاء عن الأول بما علمت من التخصيص، وفَصَّل الجوابَ عن الأمرين الإمام ابنُ القيم في كتابه (إعلام الموقعين) فقال: (فصل) ومن هذا الباب قول القائل: حمل العاقلة الدية عن الجاني على خلاف القياس ولهذا لا تحمل العمد، ولا العبد، ولا في الصلح، ولا الاعتراف، ولا ما دون الثلث، ولا تحمل جناية الأموال، ولو كانت على وفق القياس لحملت ذلك كله. (والجواب) أن يقال: لا ريب أن من أتلف مضمونًا كان ضمانه عليه {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) ولا تؤخذ نفس بجريرة غيرها وبهذا جاء شرع الله - سبحانه - وجزاؤه، وحمل العاقلة الدية غير مناقضٍ لشيء من هذا كما سنبينه، والناس متنازعون في العقل، هل تحمله العاقلة ابتداء أو تحملاً على قولين، كما تنازعوا في صدقة الفطر التي يجب أداؤها عن الغير كالزوجة والولد، هل تجب ابتداء أو تحملاً على قولين؟ وعلى ذلك ينبني ما لو أخرجها من تحملت عن نفسه بغير إذن المتحمل لها، فمن قال هي واجبة عليه ابتداء قال: لا تجزي، بل هي كأداء الزكاة عن الغير. وكذلك القاتل إذا لم تكن له عاقلة، هل تجب الدية في ذمة القاتل أو لا بناء على هذا الأصل؟ والعقل فارق غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاص بالحكم، وذلك أن دية المقتول مال كثير، والعاقلة إنما تحمل الخطأ ولا تتحمل العمد بالاتفاق ولا شبهه على الصحيح، والخطأ يعذر فيه الإنسان؛ فإيجاب الدية في ماله فيه ضرر عظيم عليه من غير ذنب تعمده، وإهدار دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثته، فلا بد من إيجاب بدله 0 فكان من محاسن الشريعة وقيامها بمصالح العباد أن أوجب بدله على من عليهم موالاة القاتل ونصرته، فأوجب عليهم إعانته على ذلك، وهذا كإيجاب النفقات على الأقارب وكسوتهم وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاح، وكإيجاب فكاك الأسير من بلد العدو، فإن هذا أسير بالدية التي لم يتعمد سبب وجوبها، ولا وجبت باختيار مستحقيها، كالقرض والبيع وليست قليلة فالقاتل في الغالب لا يقدر على حملها، وهذا بخلاف العمد فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة، ليس أهلاً أن يحمل عنه بدل القتل وبخلاف شبه العمد؛ لأنه قاصد في الغالب، لا يكاد المتلف يعجز عن حمله، وشأن النفوس غير شأن الأموال؛ ولهذا لم تحمل العاقلة ما دون الثلث عند الإمام أحمد ومالك لقلته واحتمال الجاني لحمله، وعند أبي حنيفة لا تحمل ما دون أقل المقدار كأرش الموضحة وتحمل ما فوقه، وعند الشافعي تحمل القليل والكثير طردًا للقياس، وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد؛ فإنه سلعة من السلع، ومال من الأموال، فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان والمتاع. وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنًى آخر؛ وهو أن المدعي والمدعى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية، ويشتركان فيما تحمل العاقلة، ويتصالحان على تغريم العاقلة، فلا يسري إقراره، ولا صلحه، فلا يجوز إقراره في حق العاقلة، ولا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة، وهذا هو القياس الصحيح فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودعواه على العاقلة بوجوب المال عليها، فلا يقبل ذلك في حقهم، ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره فيتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين، كأبناء السبيل والفقراء والمساكين، وهذا من تمام الحكمة التي بها قيام مصلحة العالم، فإن الله - سبحانه وتعالى - قسم خلقه إلى غني وفقير، ولا تتم مصالحهم إلا بسد خلة الفقير، فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد خلة الفقراء، وحرم الربا الذي يضر بالمحتاج، فكان أمره بالصدقة ونهيه عن الربا أخوين شقيقين؛ ولذا جمع الله بينهما في قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276) ، وقوله: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم: 39) ، وذكر سبحانه أحكام الناس في الأموال في آخر سورة البقرة، وهي ثلاث: عدل وظلم وفضل، فالعدل البيع والظلم الربا، والفضل الصدقة، فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم، وذم المرابين وذكر عقابهم، وأباح البيع والتداين الي أجل مسمى، والمقصود أن حمل الدية من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض العباد على بعض: كحق المملوك والزوجة والأقارب والضعيف، ليست من باب عقوبة الإنسان بجناية غيره، فهذه لون وذاك لون، والله الموفق اهـ. فتبين مما تقدم كله أن جعل الدية على العاقلة بشروطه؛ هو من باب إعانة من يقع في مصيبة وتلزمه غرامة، لم يتعمد سببها، وأنه من أسباب تكافل الأسر والعشائر (العائلات) وتضامنها، وإحكام روابط المودة وتقوية وشائج الرحم بينها، وأن من كتب ما كتب في جريدة لبنان، لم يفهم معنى كون الدية على العاقلة جملة ولا تفصيلاً، فكيف يفهم حكمته؟ . وهكذا نرى شأن الذين ينتقدون أحكام الإسلام تصريحًا أو تلويحًا، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، فيجنون على العلم من جهة، ويؤرثون الأضغان الدينية من جهة أخرى، وما كان أغناهم من الحالين إذا لم يكونوا متعمدين للإفساد، كما هو شأن الكثيرين منهم.

القضاء والقدر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القضاء والقدر (س12) من مشترك بالسودان جناب مدير المنار الأغر: بعد التحية، ذكرتم في صحيفة 723 (ج10 م11) كلمة بخصوص مسألة القضاء والقدر. ولما كان المنار هو المجلة الوحيدة في العالم الإسلامي التي يهمها البحث في فلسفة الدين وشؤون الاجتماع والعمران. وكانت مسألة القضاء والقدر هي الأمر الذي اعترف به الصديق والعدو أنه السبب الوحيد في تأخر المسلمين. رأيت أن ما ذكره المنار في هذا الجزء والأجزاء السابقة، لم يشف غليل العقول ولا هو أخرج شيئًا من أساس المبدأ الثابت في أدمغة العام والخاص القائل عنه (تقي الدين ابن تيمية) من سنين مضت: فمن كان من أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة ومن كان من أهل الشقاوة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة وإذا كانت العباد مقسومة هذا للشقاء وذاك للسعادة، وإن هذا الاعتماد مستولٍ على العقول، فَهِمَّة المسلمين التي تتوجه للإصلاح والتقدم، ليست إلا ضربًا من التقليد والتشبه للأمم الحية التي لا تعرف شيئًا من هذه العقيدة المقيدة للهمم والعقول فتزول منهم إذا زالت عنهم الأسباب الاضطرارية الداعية لهذا التشبيه؛ لأن الدين أرسخ في الأذهان من مبدأ وقتي أثره تقليدي. اللهم إلا إذا ضرب صفحًا عن هذه العقيدة من الدين، وتشبعت تدريجيًّا بالمبادئ الطبيعية التي تسير مع تقدم الأمم، أو تكون هذه المسألة على خلاف ذلك، إذًا إن ما ذكرتموه في المثال (عن ولي عهد ألمانيا وأخيه بمصر) لا يبرهن للأوربي الذي يتبرأ من هذه العقيدة؛ أنه كان من الأزل مقرر إصابة أحد الأخوين بالحمى؛ ليتأخر عن الميعاد الذي حدده لسفره، وأنه لا بد أن يصاب به حتمًا. بل هو يقول لك كما يقول العقل والعلم: إنه لو لم يتعرض للأسباب التي أوجبت هذا المرض؛ لسبب عدم علمه بها لسافر في ميعاده المحدد، إنه كان في إمكانه أن يتجنبها لو علم بها. فإذًا مسألة إصابته بالمرض ليست محتمة له من الأزل. ولا كان الله - تعالى - مخصصها إليه بالذات. ولكنها تخصصت له منه تعالى بسبب جهله تلك الأسباب ليس إلا.. ونقول (منه تعالى) تخصصت لعلة هو خالق كل الأسباب التي يتعرض لها الإنسان بإرادته سواء علم بنتائجها أو جهلها فإذا قلتم حسب مبدأكم ومبدأ (ابن تيمية) السالف: إن ولي العهد مقدر له من الأزل أن يحضر مصر، وكان لا بد أن يمرض بمرضه هذا، لقلت لكم: إن اللص الذي قطعت يده بسبب ما سرق كان لا بد أن يسوقه الله - تعالى - للسرقة للزوم قطع يده الحتمي، وتكون هنا إرادة الإنسان ومسئوليته في الدنيا والآخرة عما يفعل ضرب من ضروب السخرية، وتتميم رواية ليس لها نتيجة ... ونكون كما قال (ابن تيمية) : وحكمته العليا اقتضت ما قضت من الـ ... ـفروق بعلم ثم أيد ورحمة يسوق أولي التعذيب بالسبب الذي ... يقدره نحو العقاب بعزة ويهدي أولي التنعيم نحو نعيمهم ... بأعمال صدق في خشوع وخشية وما دامت الأسباب التي هي حجة للنتائج مقدرة حتمية ... فالنتائج بالطبع تابعة لهذا الإلزام. وعليه فالتقاضي والحساب في الآخرة ليس إلا لتتميم رواية كلامية، وإذا كان هذا مبدأ المنار، فلا يلومن الأمم الإسلامية الماضية وما كانت فيه من الاضمحلال.. ولا داعي لاستخراج نتائج فلسفية أو عمرانية للزوم الأخذ بأسباب الترقي والهروب من القديم ... ولا عيب على حكومات الاستبداد ... ولا مانع من البقاء في الجهل ... إلخ. إذ إن الداعين للزوم تغيير المناهج لتتغير معها النتائج، ليسوا إلا معترفين بلزوم التسلط وتحرير القدر الإلهي القابض على الأسباب بيد حديدية. وعلى هذا.. هل أقول مع (المنار) للذين يعتقدون من غير المسلمين أن عقيدة القضاء والقدر بهذا الشكل هي السبب في تأخر المسلمين: (إن ما ينتقد على المسلمين من ذلك، لا يرجع منه شيء إلى الإسلام الخالص، فما قدره فهو الحق الواقع في نفسه الذي لا يمكن لمؤمن ولا ملحد إنكاره) أم ماذا نقول إذا كان ما سبق هو ما يريد المنار تقريره؟ وأشكركم سلفًا. (ج) لكل مقام مقال، فلتحرير النزاع ولرد الشبه مقال غير مقال التذكير بأمر مقرر، واعتقاد محرر، وقد كان ما ذكر في (ص 723ج 10م11) من المنار من القسم الأخير. ونحن اتباعًا لهداية القرآن نكرر المسائل المهمة لا سيما في التفسير، فنذكرها تارة بالإيجاز وتارة بالإطناب، وما أشرتم إليه هو قول الأستاذ الإمام، والغرض منه التذكير بأن الإنسان ليس مستقلاًّ في عمله تمام الاستقلال؛ لجهله وعجزه، والنظريات التي ذكرتموها لا تنقض شيئًا من قوله، بل تؤيده، وحكم القضايا الممكنة غير حكم القضايا المطلقة كما هو مقرر في المنطق، فقولك: إنه كان في إمكان ولي عهد ألمانيا أن يتجنب أسباب المرض لو علم بها، إذًا لأنفذ الترتيب الذي وضعه لسفره، فمسألة إصابته بذلك المرض لم تكن محتمة له من الأزل ... إلخ. قول ظاهر البطلان؛ لأن قضية مرضه جهتها الإطلاق لوقوعها بالفعل، والإمكان لا يناقض الإطلاق , وبعبارة عامية: إنه كان لا بد من مرضه بدليل وقوعه، وليكن ذلك لجهله بأسباب المرض , على أن هناك أمراضًا لا تعرف أسبابها كالسرطان، وأمراضًا تعرف أسبابها، وقد يتعذر اجتنابها كالسل. نكتفي بهذه الإشارة، ولا نضيع الوقت في المناقشة الطويلة ببيان بطلان كل نظرية من النظريات الباطلة التي أوردتموها نقلاً أو رأيًا؛ وهي مشهورة لأن الإطالة في ذلك لا تزيد المسألة إلا تعقيدًا كما صرحنا بذلك منذ سنين، فقد قلنا في الدرس الرابع عشر من الأمالي الدينية التي كنا نلقيها بمصر الذي نشرناه في جزء المنار الذي صدر في غرة جمادى الثانية سنة 1318. (هذه المسألة من توابع البحث في العلم والإرادة؛ وهي الفتنة التي ابتليت بها الأمم، فوقعوا في بحار الحيرة تدافعهم أمواج الشكوك، ويتلقاهم أذى الشبهات (أي موجها) ، حتى غرق فيها أكثر الخائضين، ونجا الأقلون، ومن عجيب أمرها أن العامة أعلم بها من الخاصة، وأن الأميين أقرب إلى اليقين بها من الكاتبين، وإن شئت فقل إن الجهل بحقيقتها تابع لسعة العلم بمبحثها، فكلما زاد الإنسان نظرًا فيها زاد عماية عنها؛ لأن الخفاء كما يكون من شدة البعد، يكون من شدة القرب ... إلخ. ما قلناه تمهيدًا للقول: (بأن المسألة في نفسها بديهية عوملت معاملة النظريات، والبديهي كلما زاد البحث فيه بَعُد عن الإدراك) ... إلخ. لقد فتن علماء اللاهوت من النصارى في هذه المسألة كما فتن المسلمون، وقد صنف المسلمون فيها مصنفات خاصة، فما أغنت عنهم من شيء. وكانت تعد من المشكلات العقلية، فألبسها أهل هذا الزمان ثوب المشكلات الاجتماعية، وزعموا أنها سبب ضعف المسلمين، وللأستاذ الإمام مقالة طويلة في إبطال هذا الزعم وبيان أن هذه العقيدة من أسباب التقدم والارتقاء، تطلب من المنار (ص 265 م3) ومن الجزء الثاني من تاريخه (ص 263) . إن الناس يأخذون من دينهم في كل عصر من الأعصار ما يناسب حالتهم الاجتماعية، حتى إن العقيدة الواحدة تكون في الأمة الواحدة مصدرًا لآثار متناقضة في زمنين مختلفين كعقيدة القدر، كانت في زمن من الأزمان مصدر الشجاعة والإقدام والفتح والعمران والكسب للمسلمين، وفي زمن آخر مصدر: الجبن والكسل والتواني والتواكل والإهمال. وأكثر الذين يتكلمون في ضعف المسلمين وأسبابه غافلون عن هذه القاعدة وجاهلون حقيقة الدين، فهم يجعلون المسلمين حجة على دينهم والدين حجة عليهم، بدليل أثره في سلفهم أيام كانوا بدينهم سادات العالم في كل علم وكل عمل، ومن البديهي أن الناس يتمسكون بالدين في أول ظهوره أشد مما يتمسكون به بعد أن يطول عليهم الأمد، وتكون معرفتهم بحقيقته في أول العهد به أصح وأقوى منها بعد ذلك. إن السائل أو المنتقد لم يطلع فيما يظهر لنا على ما كتبناه في هذه المسألة بقصد إيضاحها في السنين الأولى للمنار، وإننا وإن أطلنا القول فيها من قبل، نذكر فيها الآن جملاً وجيزة، يتجلى بها الحق لمن يطلب الحق بذاته لذاته بعد الإعراض عن النظريات الفلسفية المشهورة في المسألة، وهاك ما نريد بيانه الآن: (1-القضاء) كان السلف يسمي هذه المسألة (مسألة القدر) ، ثم صار الناس يقولون مسألة القضاء والقدر , وقد ورد لفظ القضاء ولفظ القدر في الكتاب العزيز بمعان مختلفة؛ لأنهما من الألفاظ المشتركة في اللغة العربية. ورد القضاء بمعنى: الفصل والحكم في الشيء قولاً وفعلاً، وبمعنى الإعلام به، وبمعنى إتمام الشيء وإنهائه، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 23) أي حكم بذلك قولاً في الكتاب المنزل على رسوله. وقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ} (يونس: 93) أي يحكم ويفصل بالفعل، وقال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} (الإسراء: 4) ... إلخ وقال: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} (الحجر: 66) وكلاهما بمعنى: الإعلام بذلك والإخبار بوقوعه، وقال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 12) أي أتم خلقهن. وقال {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ} (القصص: 29) أي أتمه. وأكثر ما ورد من هذا اللفظ قد جاء بهذا المعنى. ولم يرد في القرآن لفظ في القضاء يظهر فيه معنى المشيئة، ويكون أصلاً فيما نحن فيه إلا قوله {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (البقرة: 117) - {قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 47) ومثله في 36: 19 و 40: 68 فالآية الأولى في مقام خلق السماوات والأرض، والثانية والثالثة في مقام عيسى عليه السلام، والرابعة في مقام ذكر الإحياء والإماتة. وقد ورد هذا المعنى نفسه بلفظ الإرادة قال تعالى {أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس: 81-82) والمعنى في التعبيرين واحد، وهو مما لم تختلف فيه الأديان: فاليهود الذين سأل سائلهم المسلمين مستشكلاً معنى القضاء بتلك الأبيات التي أولها: أيا علماء الدين ذِميُّ دينكم ... تحير ردوه بأوضح حجة إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ... ولم يرضه مني فما وجه حيلتي يقولون بذلك , وقد أجبنا عن سؤاله في (ص 512 م3) وأجاب قبلنا غير واحد منهم ابن تيمية الذي أورد السائل بعض أبياته. وكذا النصارى الذين منهم الأوربيون، لا ينكرون كون الله - تعالى - إذا قضى أمرًا وأراده ينفذه بقدرته حالاً كما هو مفهوم العبارة (ويراجع تفسيرها في المنار وفي ص 319 من ج 3 تفسير) لأنه لو عجز عن إيجاد ما يريد لم يكن إلهًا، والإشكال في مسألة القضاء الإلهي فرع الإيمان بوجود الله؛ إذ لا معنى للبحث في الفرع مع إنكار الأصل. فحاصل معنى القضاء في هذا المقام: أن الله - تعالى - إذا أراد شيئًا أو أنفذه وأتمه، فإنما يكون ذلك على نحو أن تقول للشيء: كن فيكون، بلا إمهال ولا تمكث، ولا إشكال في هذا عند من يؤمن بالله، مهما كان دينه. (2- القدر) القدر (بفتح الدال وسكونها) والمقدار والتقدير ألفاظ وردت في القرآن بمعنى: جعل الشيء بقياس مخصوص، أو وزن محدود، أو وجه معين يجري على س

رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين ـ 2

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين لليافعي (2) (الوجه الخامس) أن نقول: إن عدم معرفة حكمة النسخ لا تضر مَنْ جَهِلَهَا، بعد أن يعرف صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم علمنا بالشيء لا ينفيه، وذلك أمر ضروري لكل أحد ولنكتف في الجواب الإجمالي عن شُبَه غير المسلمين بما ذكرناه؛ خوف الإطالة الذي لا تحمله المجلات في نشراتها، وإلا فالمقام بما له وعليه يجمل فيه الإسهاب والتنقيب عن النكات والأسباب، على أن ما ذكرناه هو اللباب وبه فصل الخطاب لمن يريد الصواب. أما إذا كان المعترضون من غير المسلمين متعصبين؛ لا يريدون الحق ولا يقصدونه، فسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. ومثل هؤلاء أناس كثيرون في هذا الزمان، فرحوا وبطروا بما عندهم من العلوم المادية والسياسية والاجتماعية، وهؤلاء هم الذين كفروا بالنعم، وقابلوا الإحسان بالإساءة؛ إذ لم يدركوا ما أدركوه إلا من الأنبياء، عليهم السلام، فما وافقوا فيه ما جاء به الأنبياء - عليهم السلام - يراه العقلاء صحيحًا، وما خالفوا فيه الأنبياء فهو النقص والخطأ، حتى إنهم أنفسهم صاروا يعرفون ما في هذا الأخير من الويلات والبليات شيئًا فشيئًا. هؤلاء المغرورون تارات يستعجلون، فيتبعهم قاصرو الهمم، وضعفاء العقول، أو أسراء الشهوات، فيظنون أن أوضاعهم تغني عن الشرائع الإلهية مع استبعادهم لصحة النبوة والرسالة، فهم لا يفرقون بين الإنسان والحيوانات إلا بالصورة التي هي في زعمهم انتخاب الطبيعة في ترقيها غير المقصود بعلم عليم، وقدرة قادر، وإرادة مريد، ويقولون: ما في الإنسان وغيره من الأسرارالغرائب والغايات والعجائب، إنما وجدت فترتب عليها بعد وجودها ما يليق بها بالاستعداد الطبيعي، وبالقصد الثاني من المنفعل بداعي الضرورة، ودام ذلك بناموس الإرث إلى غير ذلك من خرافاتهم التي تخجل ناقلها وحاكيها، فضلاً عن أن يعتقد صحتها من يوسم بعقل، وهم لم يحملهم على ذلك إلا زهوهم ببعض العلوم التي ذكرناها مع جهلهم بحقائق تلك المعلومات، كما اعترف بذلك كبارهم، حيث قالوا: إنما عرفنا بعض آثار المادة، وبعضها لم يزل محجوبًا مستورًا عنا وعليه، فهم لا يمتازون عن العوالم إلا بمزيد معرفة في الآثار فقط، أما الكنه والحقيقة فلم يدركوها ألبتة. نحن لا ننكر النشوء الطبيعي مطلقًا، وإنما ننكر نشوءًا مخصوصًا، وننكر استقلال الطبيعة والمادة بهذا النشوء الذي ليس هو ذاته لها، وفاقد الشيء لا يعطيه على أن هذا النشوء الداروني يقابله الانحطاط، وبمجاراتهم على مذهبهم، ليس اعتناء الطبيعة بأحدهما بأولى من الآخر إلا بمرجح. وأبطل كل باطل، وأفسد كل فاسد إنكار أن يكون ما في الموجودات كالإنسان وغيره من الأسرار والغايات غير مقصودة بالقصد الأول لغاياتها؛ لأن نقولهم ناطقة بأن القابل الطبيعي لا يجوز أن يتخلف عن وجود ما هو قابل له؛ لأن القابل لا يكون قابلاً طبعًا إلا إذا اندفعت الطبيعة في مجراها التكويني إليه؛ لتؤدي وظيفتها الطبيعية التي لا تمكن طبعًا إلا منه وبه: كالبارود المسدود عليه مثلاً في صخرة ونحوها، إذا ذعر بالنار مثلاً يفجر الصخرة بشق أو خرق. ذلك الخرق والشق هو مجرى البارود المتفرقع ونتيجة تفرقعه الطبيعي، ولا يجوز عقلاً أن يتقدم أو يتأخر ذلك الخرق أو الشق عن سببه الطبيعي. فهل آلة الذكورة والأنوثة ونحوها مما أودع في الإنسان، كانت نتيجة مجرًى طبيعي حين تكون في الرحم، وهل هذا المجرى مقارنًا للتكون غير متقدم ولا متأخر عنه؛ بأن تكون الطبيعة قد أخذت أعمالاً طبيعية من تلك الأعضاء في الرحم، على نحو ما تتأدى بها الأعمال بعد وجود الإنسان؟ إن كان عندهم علم بهذا فليخرجوه لنا، وإلا فقولهم بَيِّن البطلان بنفسه على ما تنصه قواعدهم المقررة عندهم فلا يبقى إلا أن يقولوا مثلنا: إن هذه الأعضاء تكونت بقدرة عالم الغايات مقصودة بالقصد الأول حين التكون، وحينئذ لا يلزم محذور. على أن ما يستدلون به على المذهب الداروني إنما هي احتمالات ملفقة وخرص بعيد لا يتعين بها دلالة على خصوص ما ذهبوا إليه، كما أقر بذلك كبيرهم، وهي مع ذلك لو أخذت بالمأخذ الصحيح لا تُنافي ما جاء به المرسلون - عليهم السلام - في بيان بدء الخلق، بل تكون مؤيدة له، وليس هذا محل الرد عليهم. وإنما المقصود تعريف الناظرين والقراء: أن مثل هؤلاء قد يوردون الشبهات على الأديان، ولا يريدون الرجوع عنها إذا وقفوا على الجواب الصواب، وإنما قصدهم التشكيك بما يناسب طريق أهل الأديان، فإن لم يفلحوا في هذا الافتراء زوروا غيره؛ لما عرفت أنه ليس في معتقداتهم إلا استحالة الرسالة والنبوات [1] ، ونحن نجيب - إن شاء الله - عن كل ما يذكرون؛ لئلا يظفروا بأحد من المسلمين فتروج عليه شبهاتهم فيخسر الدنيا والآخرة. ولنعد إلى المقصود، فنقول: ما قدمناه هو الجواب الإجمالي مع غاية الاختصار، وهو كافٍ وافٍ في رد هذه الشبهات؛ إذ لم ترد على محل معين في واقعة معينة، وما كان منها كذلك فإليك جوابه، والله المستعان وعليه التكلان. أما قولهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الدهاء إلى آخره. فجوابهم الذي نقوله: إن هذا اختلاف بحت، وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرته مزبورة ونعوته وأخلاقه وشمائله معروفه مشهورة، فهل رأى الراءون، أو سمع السامعون أن أحدًا ممن عرفه حتى ولو كان من أعدائه، قد وسمه بهذه السمة أو وصفه بمدلول هذه الكلمة؟ لا. وإنما المعروف عن أعدائه - قبحهم الله وخذلهم - إطلاقهم عليه ضد ذلك، فقالوا: إنه أُذُن - ومنهم من قال مجنون ومنهم من قال: شاعر، وإذا رأوا آية من آيات صدقه وهي المعجزة قالوا: ساحر نتربص به ريب المنون - وهكذا الأعداء إذا عجزوا عن المعارضة، وأرادوا الإصرار والتعصب لمذاهبهم بعد قيام الحجة عليهم. والمؤمنون الذين صاحبوه وعاشروه وعرفوهم، قد عرفوا صدقه وكماله، وأنه رحمة للعالمين وعلى خُلُق عظيم، قد بلغ الرسالة حين كان وحيدًا عن الأنصار والأعوان، ولم تأخذه في الله لومة لائم، ولو خالف ما جاء به الثقلان، فقول هؤلاء الذين هم من الناس كسقط المتاع، إنه إذا أتاهم بحكم واتضح له بعد التجربة أنه لم يرض الناس عدل عنه، والتجأ إلى حيلته المشهورة، وهي دعوى النسخ في الأحكام إلى آخره، نقول في جوابه: سبحانك هذا بهتان عظيم، والواقع يكذبهم فإنه صلى الله عليه وسلم لم يراع ولم يمالئ فيما أمره الله بتبليغه أحدًا من الناس كائنًا من كان، ولم يبال بمن لم يرض بذلك وقد آذوه في ذلك أشد الإيذاء، فهل احتال في التخلص من إيذائهم له بحيلة ولو مرة واحدة؟ لا والذي أرسله بالحق، بل كان يفعل كل ما أمره الله به، ولا يبالي بمانع، فلما نزلت عليه {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) جاهرهم بالعداوة حتى حقر آلهتهم في المجامع والمحافل علانية، وكان بأبي هو وأمي إذ ذاك وحيدًا عن الأعوان، فصبر على مقاساة المصائب ورموه بالحجارة، حتى خضبت بالدماء نعلاه صلى الله عليه وسلم، فهل يصح أن يقال: إنه كان يعدل عن أحكام دينه إذا رأى أن ذلك لا يرضي الناس، وهو بالحالة التي عرفت وهو هو صلى الله عليه وسلم، كما أنه لا يمالئ الكفار ولا يصانعهم في دين الله، كذلك هو في ذلك مع أصحابه لا يمالئهم ولا يصانعهم في دين الله، وقد دل على ذلك وقائع كثيرة صحيحة، فمنها صلح الحديبية: فإنه أمضاه بعزم لا يعتريه تردد، وقد استاء لذلك أصحابه وكرهوا ذلك غاية الكراهية، ولم ينقل أنهم استاءوا بشيء كاستيائهم بذلك، حتى إن بعضهم - رضي الله عنهم - قال له: (ألست رسول الله، ألسنا على الحق) . فلم يبال باستيائهم في مخالفة ما أمره الله به. هذا ونحوه أعظم برهان، وأكبر دافع ومكذب لمثل هذه الشبهة التي هي مخالفة لما هو الواقع في نفس الأمر. فلعمر الحق إن إيراد مثل هذه الشبهات لأدل دليل على تعصب هؤلاء المعترضين، وأنهم لم يعدلوا إلى إيراد مثل هذه الشبهات الواهية الضعيفة إلا حيث لم يجدوا غيرها، والمسلمون لا يعتبرونها إلا دليلاً على سخف عقول قائليها، وأنهم معاندون للحق والحقيقة، وبدلاً عن تكون مثل هذه الإيرادات شبهات؛ إنما تكون بمنزلة الحجج الدالة على صحة رسالة سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس بعد ظهور ضلال الخصم إلا ثبوت الحق لدينا. ونقول لهؤلاء: إنكم لا تستطيعون أن تدلونا على حكم واحد جاء به الإسلام لا منفعة فيه، أو أنه مضرة لا منسوخًا ولا محكمًا، بالله العجب، أيصح أن يقال ذلك في دين لم يعرف الحق من عرفه إلا من تعليماته، ولم تبزغ أنوار المعارف إلا من مشكاته، ولم تقم ميادين العدل إلا بتلاوة آياته. فدين الإسلام لم ينسخ منه شيء لأجل مضرة أو عدم مصلحة، وإنما يكون ذلك فيه لأجل زيادة في الخير تارةً، وتسهيل على الأمة أخرى، ويكون تارةً تنشيطًا لها، وتارة لتوحيد جامعتها، وتارةً لتقويتها في إظهار الحق على الباطل ودمغه ودمغ أنصاره؛ مع مراعاة ما يليق ويناسب الجمهور الأكبر كلما كثر عدد الأفراد، ومع ملاحظة أحوال الزمان وقوة الأعداء وكثرتهم، وما يلزم أن يكونوا عليه بإزاء ذلك معه وبعده، فالعدد القليل الخائفون من المسلمين، قد تناسب حالتهم أحكام هي أعظم كل خير بالنسبة إليهم، أو لا يمكنهم إلا الإتيان بها فقط، فالعدل أن تكون التكاليف والتعاليم كذلك بالنسبة إليهم وإلى ما احتفَّ بهم من الأحوال. إن التشريع والحالة هذه يكون بالسنة كما يكون بالقرآن، لا ينكر ذلك إلا مكابر؛ ولذلك كان النسخ فيهما سِيَّين، فإذا كثر المسلمون وكانت قوة الإيمان والتصديق فيهم متناسبة متقاربة وضعف بعض ما يحذرون، فلا يشك عاقل في حسن أن يشرع لهم أحكام تناسب ذلك مع مراعاة المصلحة الراجحة، وسواء في ذلك القرآن والسنة، فإذا صلحوا لمقاومة المهاجم أيًّا ما كان وهم بتلك الصفات التي تكاد أن تكون متساوية، فلا يبعد أن يكلفوا ما يرونه سهلاً في اعتقادهم والواقع ومثال الأول: كون الصلاة أول ما فرضت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشية، فإنه يمكن إخفاؤها إذ ذاك مع ضعفهم وقوة العدو. والمثال الثاني: إيجاب الخمس حين وقع بعض اختلاف بين الكفار، حيث وجد فيهم من يؤمن المسلمين، وكف بعضهم عن إيذاء المسلمين، ومن بقي من الكفار حريصًا على الإيقاع بهم، فإنما كان يكون منه السب والضرب بالكف والعصي ونحو ذلك، والمسلمون قد زاد عددهم بعض الزيادة، فكانوا قادرين على المدافعة في بعض الأحيان ولم يؤمروا بالهجرة ولا القتال، فلما أمروا بالهجرة إلى طيبة (المدينة المنورة) حين اشتد عليهم أذى الكفار مرة أخرى وظهر لهم المأوى ونصرهم الأكفاء، وكان المسلمون تتشابه صفاتهم في صلابة الدين والنخوة والقوة البدنية والدينية فلا غرو أن يوجب الله عليهم قتل المبطلين الظالمين، وهذا القتال هو الذي سماه الإسلام والمسلمون بالجهاد؛ وهو قتال أهل الإصلاح لأهل الفساد الذي ينكره عقل عاقل؛ لأن غايته أن تكون كلمة الله هي العليا. والنصارى أنكروا على المسلمين هذا القتال، وليتهم عملوا بما قالوا حتى لا يكونوا من الذين يقولون ما لا يفعلون. فرض الجهاد على المسلمين، وكان الواجب عليهم إذ ذاك - وهم كما عرفت - أن لا يفروا من عشرة أضعافهم من المبطلين؛ لأن الاستشهاد ونحوه لا تخور به عز

الدولة العثمانية بعد الدستور وجمعية الاتحاد والترقي

الكاتب: كامل باشا

_ الدولة العثمانية بعد الدستور وجمعية الاتحاد والترقي تصريحات كامل باشا في سبب سقوط وزارته نشر كامل باشا مقالاً طويلاً في سبب إسقاط الجمعية إياه من الصدارة؛ بعد إخراجه هو ناظر الحربية، واستعفاء ناظر البحرية من الوزارة وهما من أعضائها وإننا ننشر ترجمته برمته للبيان في الحال والتاريخ في الاستقبال، قال: كان يوم السبت الموافق 31 كانون ثاني (يناير) في مجلس المبعوثان يومًا عبوسًا قمطريرًا؛ لهبوب إعصار الأفكار، حتى إن بعض الأعضاء ويبلغ عددهم زهاء السبعين تركوا المجلس وانصرفوا؛ حذرًا من نتائج هذه الزوبعة التي كانت منحصرة بين جدران دائرة المجلس المذكور، وبينما كان الذين يبلغهم خبرها في الخارج لا يصدقون بصحة وقوعها، كان الذين داخل المجلس في غاية القلق والتأثر من السطوة التي يرونها من بعض أناس كانوا يتخللون صفوفهم، ومما كان يلقى على مسامعهم: من أن تسكين هذا الهياج الذي دام نحو ساعتين، لا يتأتى إلا بإسقاط الوزارة التي كانت قد ضعفت باستعفاء ثلاثة من أعضائها، وهذا لا يكون إلا بقرار المجلس على عدم الثقة بها. فلما رأى الأعضاء الحاضرون ذلك، بادروا لحسم الأزمة على الوجه الذي أريد منهم، وأقروا على عدم الثقة بالوزارة ظنًّا منهم أنهم خدموا بذلك سلامة الوطن والمملكة، ولم يكن مبعث هذا الهياج إلا المساعي العظيمة التي بذلت في سبيل إحداثه؛ إذ بعثت البعثات الخصوصية قبل ذلك إلى أدرنه وسلانيك، فأذاعوا هناك أن الحكومة تقصد إعادة الحكم الاستبدادي، وبذلك حركوا بعض ضباط الفيلق الثاني والثالث وأهاجوا سخطهم. ثم أرسلوا باسم هؤلاء الضباط رسائل برقية إلى بعض أنحاء السلطنة، تشير بأنهم (أي الضباط) مستعدون للوقوف أمام كل حركة تبدر من الحكومة يقصد بها إرجاع الحكم الاستبدادي، كما أنهم أوعزوا إلى بعض ضباط الأسطول بإرسال رسالة برقية إلى مجلس المبعوثان، يطلبون فيها عزل ناظر البحرية الذي تعين بالوكالة، ويبلغون المجلس أنهم لا يعرفون رئيسًا لهم سوى مجلس الأمة العثماني، وقد تُلي هذا التلغراف في المجلس، وتم لهم بذلك ما يقصدونه: وهو إظهار المملكة في حالة فوضى أمام الناس. لذلك كنت أردت وقتئذ أن أبين ما بالمملكة من الأضرار من جراء هذه الأزمة المفتعلة والمقصودة قصدًا، وإن أذيع المسائل المهمة والأسرار السياسية التي لا ضرر من إفشائها، وإنما رأيت أن أؤجل إيضاح ذلك إلى وقت آخر أكثر مناسبة منتظرا زوال هياج الأفكار المارّ ذكره، وها قد أتيت الآن بالإيضاح الموعود مقرونًا بالأدلة الواضحة بقدر ما تسمح لي به الظروف في الحال؛ وما يفرضه على حب تجنب المحاذير السياسية: لا يخفى أني كنت قد ذهبت بالذات إلى المجلس النيابي في أوائل انعقاده، وأوضحت أمام الأعضاء برنامج الوزارة السياسي الذي حاز وقتئذ قبول الهيئة المحترمة ورضاها، ووعدت الوزارة بأنها تسير على مبدأ هذا البرنامج؛ مع أن القانون السياسي لم يصرح بشيء عن دعوة الصدر الأعظم وشيخ الإسلام للاستيضاح منهما عن بعض الأمور وإنما فعلت ذلك بقصد خالص من كل الشوائب؛ تطبيقًا لمصالح البلاد على الحكم الشوروي الحقيقي، ومراعاة للإدارة الدستورية، ولوضع مثال للمستقبل، ولا يؤخذ من ذلك أنه يتحتم على الصدر الأعظم أن يحضر إلى المجلس في الساعة واليوم اللذين يطلب فيهما، كما أنه لا يفهم من طلب تأخير الصدر ميعاد الإيضاح بضعة أيام أنه يريد بذلك إلغاء هذا الاختصاص الذي أعطاه القانون الأساسي للنظار؛ بناءً على حكمة كبيرة، والوارد في جميع قوانين الدول الدستورية الأساسية. أن الإصرار في هذا الباب يعد خرقًا صريحًا لأحكام القانون الأساسي. وقد كنت عزمت عندما وصلتني رسالة الدعوة من رئاسة مجلس المبعوثان في مساء يوم الخميس الموافق 29 كانون الثاني (يناير) أن أذهب في اليوم المطلوب إلى المجلس؛ للإجابة على الاستيضاح حذرًا من إخلال الأحوال الموضوعة. ولكنه جاء في اليوم التالي (الجمعة) رسول من قبل سفير روسيا يخبرني بأن السفير سيحضر يوم السبت إلى الباب العالي؛ لمقابلتي وللمذاكرة معي في المسألة البلغارية حسب تلغراف ورد عليه من بطرسبرج، وفى الحقيقة حضر السفير المشار إليه في اليوم المذكور. فلأجل ذلك ولاشتغالي ببعض مسائل سياسية مهمة، كتبت إلى رئيس المجلس بإرجاء موعد الإيضاح يوم الثلاثاء المقبل. وبعد عصر يوم السبت المذكور وردت عليَّ رسالة من رئيس مجلس المبعوثان، يقول فيها: إنه بناء على بعض إشاعات وصلت إلى مسامع المجلس، هاجت أفكار الأعضاء، وهو يرى من الضروري ذهابي في الحال إلى البرلمان لإعطاء الإيضاح اللازم، فكتبت إلى الرئيس جوابًا قلت فيه: إن الإشاعات التي بلغت المجلس عارية عن الأهمية، وإن لا أصل بالمرة لما قيل من حدوث هياج في المدينة، وإني سأحضر إلى المجلس يوم الأربعاء. وكان قصدي من هذا الإرجاء: (أولاً) أن نتوصل بما عندنا من الزمن إلى ربط المسائل السياسية المهمة الماسة بمرافق الدولة الحيوية؛ بالأصول التي كنا نتصورها إلى هذا اليوم. (ثانياً) أن أتمكن من استخراج الوثائق الرسمية من محافظها (دوسياتها) ؛ استعدادًا للإيضاح أمام المجلس، ولتقديمها لهيئة المبعوثان بصورة غير علنية، حتى يقتنع الأعضاء بصفة قطعية بما سأقوله: ورد بعد قليل رسالة ثانية من رئاسة المجلس، فأعدت جوابي الأول بإيضاح أكثر فلم يأت بفائدة، بل أرسل أحمد رضا بك بضرورة حضوري إلى المجلس؛ لبيان الإيضاح المطلوب نظرًا لهياج الأمة والمجلس الناشئ من تبديل بعض النظار وما عقبه من إشاعة الخلع الكاذبة (أي خلع السلطان) واستعفاء بعض النظار، مما جعل سياسة الدولة في الخارج والداخل في حالة غموض وإبهام. فلما رأيت هياج الأفكار الذي كان منحصرًا فقط في أعضاء المجلس دون الأهالي؛ أي لا أثر له في الخارج، باشرت التحقيق في الحال؛ لأقف على الطرق والمساعي التي بذلت في سبيل إحداث هذا الشغب، وعلمت أنه ازداد عدد الحزب المعارض لي في المجلس وما تقرر لديهم من أمر معاملتي في حالة ذهابي، مما يسبب حدوث أمور غير مرضية تحط بقدر مجلس المبعوثان. فتجنبًا لذلك كله كتبت إلى الرئيس أعلمه بأني مستعد لتقديم الاستقالة من منصبي إلى الحضرة السلطانية، إذا لم يراع نص المادة 38 من القانون الأساسي، ملقيًا تبعة ما ينشأ من الاضطراب داخلاً وخارجًا على عاتق الذين كانوا السبب في حدوثها. فلم يأت الجواب، وحصل ما حصل في المجلس من الأمور الغريبة، وقد جذبت الأحوال المذكورة أنظار الأجانب الذين كانوا موجودين وقتئذ في دائرة المجلس، واستوقفت أبصارهم الطرق والوسائل غير القانونية التي اتخذت للوصول إلي إجبار الأعضاء على التصويت ضدي، وإعطاء قرار بعدم الثقة بي، كما أن شيوع هذه الأمور التي هي بمكان من الغرابة قد شغل أفكار الجمهور. وزد على هذه الحالة المخلة بالقانون بصفة خصوصية ذهاب رئيس مجلس المبعوثان مساء اليوم المذكور؛ وبرفقته بعض أعضاء المجلس إلي القصر السلطاني، وطلبه من الحضرة السلطانية فَصْلي من منصبي قبل أن أستقيل منه، وتعيين خلفي الذي رشحته الجمعية (جمعية الاتحاد والترقي) من قبل. ومن الأمور التي تستدعي دقة النظر المنشور السلطاني الذي استصدره بتوجيه منصب الصدارة العظمى على حسين حلمي باشا، والذي تلي في الباب العالي، إذ ورد فيه هذه الجملة بحروفها: بناء على انفصال كامل باشا حسب الإيجاب من منصب الصدارة، وهو مثل ما كان يحصل في الزمن الاستبدادي عند فصل الصدور من مناصبهم بناء على دسائس أصحاب الأغراض، مع أنه كان يجب أن يبنى انفصالي على استعفائي. وسبب هذا الهياج الذي لم يكن ليوجد لو لم يحدثه البعض عن قصد؛ هو تعيين ضياء باشا في منصب نظارة المعارف التي كانت شاغرة من قبل، وتعيين حسن باشا من أمراء الجند البحري في منصب نظارة البحرية بالوكالة بدلاً عن عارف باشا الذي استقال وترك الخدمة بصفة رسمية، وتعيين علي رضا باشا ناظر الحربية مندوبًا ساميًّا للدولة في القطر المصري؛ نظرًا لبعض الإجابات السياسية الواردة فيما بعد، وتعيين ناظم باشا قائد الفيلق الثاني في منصب نظارة الحربية بدلا عنه. ولما كان تأليف الوزارة من حقوق الصدر الأعظم الذي يرفع إلى الحضرة السلطانية أسماء من يعتقد قدرتهم وكفاءتهم لتولي مناصب النظار، كنت أرى وجهًا للاعتراض على التبديل الذي حصل في الوزارة وقتئذ، كما وقع قبله تبديل نظار الداخلية والمعارف والأوقاف والعدلية ورئيس شورى الدولة حسبما ظهر أنه المصلحة، ولم ينبس أحد ببنت شفة اعتراضًا على ذلك. وقد ظهر فيما بعد أن سهم الاعتراض في التبدلات الوزارية الأخيرة، كان مصوبًا بوجه خاص إلى تعيين ناظم باشا في منصب نظارة الحربية، حتى إنه مساء اليوم الذي كان فيه تعيين المشار إليه ناظرًا لوزارة الحرب، حضر إليَّ رجل يدعى ناظم بك من جمعية الاتحاد والترقي، وكانت أمارات القلق واضطراب البال بادية على وجهه، وقال: إن الجمعية تستغرب تبديل بعض الوكلاء (النظار) ، وتستوضح منكم جلية هذا الأمر الذي حدث من غير أن يكون عندها علم به، فأجبته بأن ليس في الأمر ما يوجب كل هذا الاستغراب، وفي اليوم التالي اجتمع مجلس الوكلاء، واشتغلنا برؤية الأمور حسب العادة وزدنا عليها المذاكرة في الأحوال المهمة السياسية، وافترق أعضاء الوزارة في الساعة 2 ونصف (بالحساب العربي) ، وكلهم على اتفاق تام، ولم ينتصف الليل إلا ووردت استقالة حسين حلمي باشا من نظارة الداخلية، وفي اليوم التالي استقال رفيق بك ناظر العدلية، وعقبه ورود استقالة حسين فهمي باشا ويظهر أن استعفاء هؤلاء الوزراء من مناصبهم لم يكن نتيجة اتفاق بينهم؛ إذ لا يعقل أن يكونوا اجتمعوا في تلك الليلة ليتفقوا على الاستقالة؛ لبعد الشقة بين مساكنهم التي يحول بينها البحر. ولكن كان حسب مشورة ونفوذ رجال الغيب (أي جمعية الاتحاد والترقي) ، ولقد بذلت المساعي في حمل توفيق باشا ناظر الخارجية على الاستقالة أسوة بزملائه المستقيلين، ولكن الرجل رفض الاستقالة غير متأثر بنفوذ أصحاب هذه المساعي، ويروى أن سبب استعفاء الوزراء المشار إليهم؛ هو تبديل وزيري الحرب والبحر، على أن وزير البحرية استقال من تلقاء نفسه، وكتاب الاستعفاء الذي رفعه إلى الصدارة محفوظ في قلم الأوراق، والذي سُمِّي بدلاً عنه لم يعين إلا بالوكالة فقط. إذن لا وجه ألبتة للقيل والقال في هذه المسألة. وأما مسالة تعيين علي رضا باشا مندوبًا في القطر المصري، وإقامة ناظم باشا ناظرًا للحربية بدلاً عنه، فسأوضحها فيما بعد مقرونة بالأسباب التي أوجبت هذا التبديل. وفي الحقيقة إنه لم يكن هناك موجب لاستعفاء النظار الثلاثة كل على حدته وهم خارج المجلس، بل لو كان زملائي النظار ارتأوا أثناء المذكرات وهم في المجلس؛ أن تبديل ناظر الحربية مخالف لقواعد الشورى والدستور ومضر بمرافق الدولة، لكنت أقدم استقالتي في الحال؛ هربًا من الوقوع تحت تبعة التهلكة والخطر اللذين كنت أراهما يتخللان تيارات الأحوال الحاضرة. ولكن الحقيقة لم تكن كذلك، بل كان القصد من إجبار هؤلاء النظار على الاستقالة (من قبل رجال الغيب) إنما هو إظهار الحالة الحاضرة بمظهر الاضطراب، وأن يعدوا بذلك وسيلة لإحداث الهياج المط

الدستور وجمعية الاتحاد والترقي وسائر الجمعيات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدستور وجمعية الاتحاد والترقي وسائر الجمعيات أعلن الدستور العثماني منذ بضعة أشهر فهتفنا له مع الهاتفين، ورحبنا به مع المرحبين، وهمنا به سرورًا وشغفًا، وملأنا ديار مصر وسورية مقالات فيه وخطبا. ولكن سرورنا به لم يكن سالمًا من كل شائبة، ورجاءنا فيه لم يكن خلوًّا من كل مخافة، فقد أودعنا المقالة الأولى التي أنشأناها في الأسبوع الأول من إعلان الدستور؛ ترحيبًا به هذه الجمل (راجع ص17م11) . (1) (فالواجب على هذه الجمعيات المدبرة، والقوى المنفذة، أن تكفل الدستور الذي نالته الأمة، حتى تأمن عليه من دسائس أعوان الاستبداد الذين قاموا بتنظيم حكومة الجواسيس أعظم قيام، وأول عمل يجب عليها هو السعي لإبعاد أعوان الاستبداد عن دار السلطنة - لا عن دار السلطان فقط - ومحاكمة من يمكن أن يسترد منهم العدل ما وهبهم الجور والظلم، وتشكيل وزارة حرة تقوم بأعباء السلطنة، وتنتقي الولاة والمتصرفين والقضاة ورؤساء العدلية من أخيار الأحرار، الذين يرجى أن تصلح بهم الإدارة ويستقيم القضاء، ويحفظ الأمن، ويستقر العدل لتندفع الأمة إلى الأعمال النافعة في ظل الدستور الظليل، ثم العناية بأمر انتخاب النواب) ... إلخ (2) (إذا نحن كفينا شر المستبدين الأولين، ونلنا وزارة من الأحرار المستقلين، فالواجب علينا أن نقف عند هذا الحد من المطالب في العاصمة، وأن تعود السيوف إلى أغمادها، وتنصرف الضباط إلى سابق شأنها، مع إحكام الروابط الخفية بينها وبين الجمعيات السياسية، ويتوجه الأحرار إلى إصلاح حال المملكة، بجميع الوسائل الممكنة، والحذر والحذر من عواقب نشوة الظفر، الحذر الحذر من إهانة شخص السلطان والتسلق إلى عرشه بالبغي والعدوان، فما دام السلطان مستويًا على عرشه فهو رئيس الأمة، ومرجع سلطتها، ومنفذ قوانينها وشريعتها، والوزارة هي الواسطة بينها وبينه، فاعتداء المرءوس على الرئيس بإدلال القوة، دون القانون والشريعة، مجلبة للفوضى ومدعاة للخلل، ويخشى في مثل الحال التي نحن فيها أن يفضي إلى الخطر) ... إلخ (3) (إن أفضل ما نفاخر به الآن هو أننا نلنا الدستور من غير إراقة الدماء، ولا إيقاع للبلاد في فوضى الثورة، ولا غير ذلك مما يذم ويكره، فيجب أن نحافظ على هذه الفضيلة، وأن لا نرتكب في طلب الفرع، ما عصمنا الله في طلب الأصل، عسى أن يكون تاريخنا في هذا الطور أنظف من تاريخ جيراننا فيه) . (4) (إن أمامنا عقبات كثيرة منها ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام الظالمين للحرية؛ التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا، ويهيمون بها شغفًا، ومنها ما هو أقرب إلى الوقوع: كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين المتعصبين والمقلدين، ومنها مسألة تكون الجنسية العثمانية، وما يقع في طريقها من جنسيات الشعوب التي يتألف منها جسم الدولة العلية) . (5) (الحق أقول: إنه لا يخشى علينا من سلب الحرية، وإنما يخشى علينا من سوء استعمال الحرية، ومن الجهل بطرق المحافظة على الحرية، يخشى أن تدفع الحمية بعض الأحرار الظافرين إلى مثل عمل المستبدين، وأن تهبط العبودية الموروثة بكثير من الجاهلين إلى أن يكونوا عونًا على أنفسهم للحكام الظالمين) . هذا بعض ما كتبناه في حال السرور بإعلان الدستور في الأسبوع الأول من إعلانه، وقد وقع جميع ما توقعناه وخفناه. أخذت جمعية الاتحاد والترقي على نفسها كفالة الدستور وحفظه، فألفت لها لجانًا، وأحدثت لها شعبًا في جميع بلاد السلطنة، وأبعدت أعوان السلطان عنه، وسعت في محاكمة بعض المعروفين بالظلم منهم، وتداخلت في انتقاء الحكام والعمال وانتخاب المبعوثين، انتدبت للقيام بكل ما قلنا إنه لازم واجب - لا لأننا قلنا، بل لأنها تعلم ما علمنا - ولكنها لم تحسن العمل في كل ما تشبثت، فيتم سرورنا بعملها. سافرنا إلى الديار السورية، وزرنا أهم مدن الولايتين، ورأينا تصرف جمعية الاتحاد والترقي فيها، وما كان من عمل (اللجنة المرخصة) التي أرسلتها من سلانيك، فرأينا خللاً وخطلاً وسوء تصرف، كنا نعتذر عنه للناقمين عليها، حتى إنه لم يوجد لديها من دافع عنها كما دافعنا، وليس تفصيل تصرفها في سورية من موضوع هذا المقال الذي وضع لبيان الحال العامة. ثم عدنا إلى هذه البلاد التي يعرف من فيها، ما لا يتيسرعرفانه لمن في سورية فسمعنا ممن كانوا في الآستانة من العثمانيين الأحرار ومن غيرهم أمورًا منتقدة فوق ما كنا نعلم، بل رأينا أكثر العثمانيين لاسيما الترك متغيرين عليها. وإننا نذكر مجموع ما ينتقده الناس في مصر وسورية في موضوع مطالبنا التي أشرنا إليها آنفًا وهو: (1) إن سلوك الجمعية مع أعوان الاستبداد، لم يكن سلوك من يريد القضاء على الاستبداد بإزالة نفوذ أهله وإخضاعهم للدستور، بل سلوك من اغتنم الفرصة للاستفادة منهم، فقد كانت تأخذ المبالغ الكبيرة منهم، وتدعهم وشأنهم أو تضمهم إليها، وقد حدثني الثقات من أهل الشام أن اللجنة المرخصة التي ذهبت لأجل تحقيق في الحادثة التي جرت لي في آخر شهر رمضان، قد أخذت مبلغًا عظيمًا من النقود باسم الإعانة للجمعية من رؤساء الفتنة وزعماء الاستبداد، الذين بلغ من جنونهم في محاربة الدستور؛ أنهم تحدثوا بنصب خليفة في الشام يبايعونه ويقاومون به الحكومة الدستورية. (2) إنها لم تحسن في انتقاء العمال والحكام، فقد ساعدت كثيرين من أعوان الاستبداد حتى على الترقي في الوظائف، وأهملت شأن كثير من الأحرار والمجربين، وقد كان أكبر رجاء لي في حكومتنا الجديدة: الإنصاف في اختيار الموظفين من الأكفاء لاسيما المجربين في مثل مصر، ويتهمون الجمعية بأنها كانت تبيع الوظائف العالية بالمال، والله أعلم بحقيقة الحال. (3) إنها جعلت هم لجانها في جميع البلاد النفوذ في الحكومة، لا مجرد المراقبة عليها؛ لئلا تخرج عن القوانين، ولا مساعدتها على حفظ الأمن الذي اختل بعد إعلان الدستور في جميع الولايات، كل ولاية بحسب درجتها في الأخلاق وحال الاجتماع. (4) إنها لم تحسن الانتقاء والاختيار في تأليف شعبها ولجانها، فأدخلت فيها كثيرًا من المتقهقرين أو الرجعيين، وعادت آخرين، ظهر في بعض لجانها التعصب للجنس التركي، حتى كأن يكون الأعضاء من الترك هم أصحاب الشأن، ومن معهم من غيرهم كالآلات. وقد سمعت كثيرًا من الشكوى في ذلك، فكنت أدافع بالتي هي أحسن. (5) حمل الضباط في جميع البلاد على الاشتغال بالسياسة، وجعل نفوذهم هو الأعلى في لجان الجمعية، وهذا خطر على الدولة، كان يجب التشديد في منعه والاكتفاء بأن يكون بين الجمعية وبين الضباط صلة خفية كما قلنا، وانصراف كل إلى عمله: الضباط إلى العمل العسكري المحض الذي لا شائبة فيه للسياسة، والجمعية لمراقبة سير الدستور من غير مشاركة للضباط في ذلك، فإن ظهرت قوة تسعى لإلغاء الدستور وإبطال مجلس الأمة أو الاستبداد والظلم، جاز حينئذ استنجاد الجمعية بالضباط لمقاومة ذلك، وأنه لا يختلف عاقلان من علماء الاجتماع في وجوب منع الضباط من الاشتغال بالسياسة والإدارة، حتى إذا أبوا أخرجوا من الجيش، وفي كون الجند الذي يدخل في الثورة يكون خطرًا على الأمة، فإذا لم يتيسر إصلاحه حالاً، وجب إخراجه من الجندية أو قتله. (6) تصرفها مع السلطان. انتقد عليها شيء منه، لا نحب الخوض فيه. ولكننا نقول: إن الذين يرون أن السلطان هو روح الحركة التي وجهت في هذه الأيام إلى إسقاط الجمعية، يقولون: لولا أنها أحرجته لما كان شيء من ذلك. (7) سيرتها في حمل الناس على انتخاب المبعوثين: رأيت بعيني ذلك في طرابلس، وقد كنت أدافع عن الجمعية بقدر الإمكان؛ لئلا تشتد الفتنة ويستشري الفساد. (8) طريقة تأييد نفوذ الجمعية في مجلس (المبعوثان) ؛ بما كاد يكون مهددًا لسائر الأعضاء، سالبًا لاستقلالهم. (9) اتهمت الجمعية أيضًا بالتعصب للجنسية التركية، وينقلون عنها أمورًا كثيرة في ذلك، وهو أخوف ما نخافه على مستقبل الدولة، وربما شرحنا ذلك في مقال خاص. (10) العبث باستقلال الوزارة، بحيث كانت الجمعية مانعة من وجود وزارة مستقلة مسئولة أمام مجلس الأمة وحده عن عملها. (11) الجهل بمداراة الشعور الديني في الأمة، قد أظهر بعض أعضائها المشهورين أمورًا منكرة في نظر الدين، جعلت لأعدائها مجالاً واسعًا للتنفير منها، وقد اعترفت هي اليوم بهذا التقصير. (12) ظهورها بمظهر السلطة المستبدة غير المسئولة، حتى صرت تسمع من العثماني الحر والمتقهقر، ومن الأجنبي المتطرف والمعتدل، هذه الكلمة التي أذاعتها الجرائد: إن جمعية الاتحاد والترقي قد أزالت استبداد المابين، وأدالت منه استبدادها هي، وتفرع عن هذه الكلمة كلام كثير منه قول الكثيرين: إن استبداد السلطان ابن السلطان ابن السلطان أهون علينا من استبداد أوشاب من الناس، لا يُعرفون، فإن السلطان أشرف منهم، والذل له أقل عارًا من الذل لهم، وإرضاءه أسهل من إرضائهم؛ لأنه شخص واحد يمكن أن يعرف ما يرضيه، ولا يعرف ما يرضي هؤلاء الكثيرين. هذا مجمل ما خطر في بالنا الآن؛ من أقوال الناس في جمعية الاتحاد والترقي بعد ذلك الإجماع على الثناء في أول العهد بإعلان الدستور، فهل يعقل أن يكون كله كذبًا واختراعًا من الجماهير المتفرقين في ولايات وممالك كثيرة؟ وإلا فما سبب شيوعه، واللهج به في البلاد والممالك. لم يحصل بعد الدستور شيء من السلطة يحمد إلا: هدوء الآستانة، وحسن السير في حل مشكلتي البوسنة والبلغار، كان الفضل الأكبر في ذلك لكامل باشا. ولكن الجمعية لم تلبث أن أسقطت كامل من كرسي الصدارة وغيرت وزارته؛ لأنه كان معارضًا لنفوذها الفعلي في الحكومة، فانتقد ساسة أوربا هذا العمل، وعدوه استبدادًا من الجمعية في الحكومة، وقال بمثل قولهم كثير في الدولة؛ لأنهم لم يصدقوا أنه كان مضادًّا للدستور كما ادعت. ثم قتل حسن بك فهمي رئيس تحرير جريدة سربستي غيلة، ففهم السواد الأعظم في الآستانة وغيرها أن الجمعية هي التي قتلته؛ لأنه كان ينتقد أعمالها، فامتد السخط عليها وانفجر بركانه، وكان بعض أعضاء الجمعية اقترح في مجلس الأمة تقييد حرية المطبوعات، ونشر في أثناء ذلك مقال كامل باشا الذي بين فيه سبب إسقاط الجمعية لوزارته، وما كان من شأنه وشأنها قبل ذلك، ولم تحسن الجمعية التصرف في شأن حادثة قتل حسن فهمي؛ الذي عد قتلاً للحرية الشخصية واستقلال الفكرة، فثارت الآستانة على الجمعية، وكان وراء هذه الثورة يوم دفن حسن بك فهمي، فسقطت وزارة حسين حلمي باشا التي هي وزارة الجمعية، بعد أن أهين لمروره بمركبته من حيث تشيع الجنازة، وعدم حضورها تبعًا لزعماء الجمعية الذين لم يحضروها، وفر أعضاء الجمعية هاربين من الآستانة، وقتل كثيرون من البرآء وجرح آخرون، ودمرت أندية الجمعية، وإدارات بعض جرائدها، واستحوذ الرعب على أهل العاصمة، وخافوا من سوء العاقبة. سواء صح ما قيل في الجمعية كله أم صح بعضه، فإن حسنتها التي لا ينازعها فيها أحد: هي أنها هي التي أخذت الدستور باليمين فلا تهبه بالشمال، فهي أحرص على حفظه وبقائه من جميع العثمانيين، وهو الآن كالطفل يحتاج إلى تربية وكفالة، وله أعداء فيحتاج إلى دفاع وحماية، فإذا قيل: إن الحكومة المسئولة ومجلس الأمة يقومان بتربيته، فهل يستطيع أحد أن ينكر اختصاص الجمعية بالقدرة على كفالته؟ وهل جاءتها هذه القدرة إل

أسئلة من جاوه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من جاوه (س13-16) من صاحب الإمضاء في مالاغ (جاوه) نؤمل من فضلكم، متع الله الوجود بوجودكم، وأفاض من بحر علومكم وجودكم: أن تفيدونا عن حكم الله ورسوله في نكاح الرجل المسلم المرأة غير المسلمة، هل يجوز أم لا، إذا وعدته بإسلامها بعد عقد النكاح، كما هو جارٍ عندنا لاسيما من الصينيات؟ فهل يجوز له الهجوم على نكاحها وهي على دين قومها؛ أملاً في إسلامها بعدُ؟ وهل تستثنى من غير المسلمات الكتابيات، ومن هن الكتابيات؟ فهل الإفرنج اليوم على اختلاف مذاهبهم في النصرانية وعقائدهم وتبديلهم يعدون كتابيين؟ تفضلوا يا سيدي أفيدونا بحكم الله - تعالى - في هذه المسألة، فهي وإن كانت واضحة لديكم، فهي لدينا من المعضلات، فلا تهملوها وأخواتها لوضوحها لديكم ولعله سبق كلام فيها، فالمأمول الإعادة؛ لتعم الإفادة، فنحن في قلق حتى يفد إلينا جوابك الشريف؛ لأن السؤال من الوقائع الحالية عندنا اهـ. ونسألكم أيضًا أطال الله بقاءكم: عن إجماع الهيئة في هذا العصرعلى كروية الأرض ودورانها حول نفسها وغيرها. إني يا سيدي لم أكد أفهم التوفيق بين هذا الإجماع وبين قول الله - سبحانه وتعالى - في قصة ذي القرنين {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} (الكهف: 86) ] وحَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ [وأين يكون المطلع والمغرب إذا كان هناك للأرض كروية ودوران؟ وإذا قلنا: إن المطلع والمغرب هنا بحسب مرأى العين لنا، فما ينثلج الصدر بهذا؛ لأن المطلع إذا كان بنسبة مرأى العين لنا فهو بالنسبة لقوم آخرين هناك يسمى مغربًا، وكذلك المغرب، كيف هذا والأخبار للعموم من غير نسبة لقوم دون آخرين، وكروية الأرض أظنها تمنع أن يكون للشمس مطلع أو مغرب في محل الخصوص. تفضلوا بينوا لابنكم المخرج من هذا الإشكال؛ لأني يا سيدي لسوء فهمي وسقم قريحتي حاولت التوفيق بينهما بنفسي، ولم أظفر به، وكثيرًا ما حصل الخوض بين جماعة عندنا في هذه المسألة، وما استطاعوا الخروج من ربقة الإشكال، وكلهم أشاروا على الحقير برفع هذا السؤال لحضرتك، والمأمول أن تجبروا خاطرنا بالإفادة متع الله بكم آمين. ونسألكم لا زلتم سراجًا للمهتدين عن الحضور في معرض إدارة الصور المتحركة للتفرج عليها، هل هناك في الشرع الشريف ما يحظر علينا ذلك، تفضلوا بينوا لنا حكم الله - سبحانه - فإن عثرتم على ما يعذرنا بين يدي الباري (جل وعز) في حضورها، بينوه لنا، وما الأصل فيها التحريم أم الحل؟ بينوا الجميع لنا على صفحات مناركم. ونسألكم لا برحتم ملجأ لحل المعضلات في الخبر المبلغ بواسطة البرق، هل يعتبر به عندنا في الشرع كالصلاة على الغائب المبلغ خبره بواسطة البرق، وما يترتب على ذلك في الأمور الشرعية كالهلال في الصوم أو الإفطار، هل يجوز الأخذ بذلك؟ تفضلوا وضحوا لنا الجميع، ولكم من الله جزيل الأجر ودمتم. ... محمد بن هاشم بن طاهر أجوبة المنار زواج المسلم بغير المسلمة وهل الأوربيون نصارى ذهب بعض السلف إلى أنه يجوز للمسلم أن يتزوج بغير المسلمة مطلقًا. لكن الجمهور من السلف والخلف على حِل الزواج بالكتابية، وحرمة الزواج بالمشركة، ويريدون من الكتابية اليهودية والنصرانية، وأحل بعضهم المجوسية أيضًا، وبالمشركة الوثنية مطلقًا، بل عدوا جميع الناس وثنيين ما عدا اليهود والنصارى، ومن الناس من قال: إنهم من المشركين. ولكن التحقيق أنهم لا يطلق عليهم لقب المشركين؛ لأن القرآن عندما يذكر أهل الأديان يعد المشركين أو الذين أشركوا صنفًا، وأهل الكتاب صنفًا آخر، يعطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة كما هو مقرر. وكذا المجوس في قول، وسيأتي بيان ذلك. والذي كان يتبادر إلي الذهن من مفهوم لفظ المشركين في عصر التنزيل مشركو العرب؛ إذ لم يكن لهم كتاب، ولا شبهة كتاب بل كانوا أميين. والأصل في الخلاف في المسألة آيتان في القرآن، إحداهما في سورة البقرة وهي قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (البقرة: 221) ، الآية الثانية في المائدة؛ وهي قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (المائدة: 5) ، وقد زعم من حرم التزوج بالكتابيات: أن هذه الآية منسوخة بتلك، وردوه بأن سورة المائدة نزلت بعد سورة البقرة، وليس فيها منسوخ، فإن فرضنا أن أهل الكتاب يدخلون في عداد المشركين، يجب أن تكون آية المائدة مخصصة لآية البقرة مستثنية أهل الكتاب من عمومها، وإلا فهي نص مستقل في جواز التزوج بنسائهم. وقد سكت القرآن عن النص الصريح في حكم التزوج بغير المشركات والكتابيات؛ من أهل الملل الذين لهم كتاب أو شبهة كتاب: كالمجوس والصابئين ومثلهم البوذيون والبراهمة وأتباع كونفوشيوس في الصين، وقد علمت أن علماءنا الذين حرص بعضهم على إدخال أهل الكتاب في عداد المشركين، لا يترددون في إدخال هؤلاء كلهم في عموم المشركين، وإن ورد في الكتاب والسنة ما هو صريح في التفرقة والمغايرة. فكما غاير القرآن بين المشركين وأهل الكتاب خاصة، في مثل قوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: 1) وقوله {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً} (آل عمران: 186) وذكر أهل الكتاب بقسميهم في معرض المغايرة في قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} (المائدة: 82) الآية، كذلك ذكر الصابئين والمجوس وعدهم صنفين غير أهل الكتاب والمشركين والمسلمين، فقال في سورة الحج: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِين َوَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج: 17) ، فهذا العطف في مقام تعداد أهل الملل، يقتضي أن يكون كل من الصابئين والمجوس طائفتين مستقلتين ليسوا من الصنف الذي يعبر عنه الكتاب بالمشركين وبالذين أشركوا. وذلك أن كلا من الصابئين والمجوس عندهم كتب يعتقدون أنها إلهية. ولكن بعد العهد وطول الزمان جعل أصلها مجهولاً، ولا يبعد أن يكون من جاؤوا بها من المرسلين؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: 24) ، وقال: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7) ، وإنما قويت فيهم الوثنية؛ لبعد العهد بأنبيائهم على القاعدة المفهومة من قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ومعلوم أن فسق الكثير من أهل الكتاب عن هداية كتبهم ودخول نزغات الوثنية والشرك عليهم، لم يسلبهم امتيازهم في كتاب الله على المشركين، وعدهم صنفًا آخر، كما أن فسق الكثيرين من المسلمين عن هداية القرآن ودخول نزغات الوثنية في عقائدهم لا يخرجهم من الصنف الذي يطلق عليه لفظ المسلمين ولفظ المسلمين ولفظ المؤمنين، وإن كانوا هم الذين يعنيهم الخطباء على المنابر بقولهم: (لم يبق من الإسلام إلا اسمه) ، ويطبق العلماء عليهم حديث الصحيحين: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن) وبهذا يرد قول من حاولوا إدخال أهل الكتاب في المشركين وتحريم التزوج بنسائهم؛ مستدلين بقوله تعالى بعد ذكر اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله: (319 سبحانه وتعالى عما يشركون) ، فإن إطلاق اللقب على صنف من أصناف الناس، لا يقتضي مشاركة صنف آخر له فيه إن أسند إليه مثل فعله، كما بيناه في تفسير آية {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ} (البقرة: 221) ، لاسيما إذا كان الفعل الذي أسند إلى الصنف الآخر ليس هو أخص صفاته، وليس عامًّا شاملاً لأفراده: كاتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابًا، يتبعونهم فيما يحلون لهم ويحرمون عليهم، فإن وصفهم الأخص اتباع الكتاب، وإن كثيرين منهم يخالفون رؤساءهم في التحليل والتحريم، ومنهم الموحدون كأصحاب آريوس عند النصارى وقد كثر في هذا الزمان فيهم الموحدون القائلون بنبوة المسيح؛ بسبب الحرية في أوربا وأمريكا، وكانوا قلة باضطهاد الكنيسة لهم. والظاهر أن القرآن ذكر من أهل الملل القديمة الصابئين والمجوس، ولم يذكر البراهمة والبوذيين وأتباع كنفوشيوس؛ لأن الصابئين والمجوس كانوا معروفين عند العرب الذين خوطبوا بالقرآن أولاً؛ لمجاورتهم لهم في العراق والبحرين، ولم يكونوا يرحلون إلى الهند واليابان والصين فيعرفوا الآخرين، والمقصود من الآية حاصل بذكر من ذكر من الملل المعروفة، فلا حاجة إلى الإغراب بذكر من لا يعرفه المخاطبون في عصر التنزيل من أهل الملل الأخرى، ولا يخفى على المخاطبين بعد ذلك أن الله يفصل بين البراهمة والبوذيين وغيرهم أيضًا. ومن المعلوم أن القرآن صرح بقبول الجزية من أهل الكتاب، ولم يذكر أنها تؤخذ من غيرهم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء (رضي الله عنهم) لا يقبلونها من مشركي العرب، وقبلوها من المجوس في البحرين وهجر وبلاد فارس، كما في الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث. وقد روى أخذ النبي الجزية من مجوس هجر أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم، من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه شهد لعمر بذلك عندما استشار الصحابة فيه. وروى مالك والشافعي عنه أنه قال: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (سُنُّوا بهم سُنة أهل الكتاب) وفي سنده انقطاع، واستدل به صاحب المنتقى وغيره على أنهم لا يعدون أهل كتاب، وليس بقوي فإن إطلاق كلمة (أهل الكتاب) على طائفتين من الناس؛ لتحقق أصل كتبهما، وزيادة خصائصهما لا تقتضي أنه ليس في العالم أهل كتاب غيرهم، مع العلم بأن الله بعث في كل أمة رسلاً مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط، كما أن إطلاق لقب (العلماء) على طائفة معينة من الناس لها مزايا مخصوصة، لا يقتضي انحصار العلم فيهم وسلبه عن غيرهم. وقد ورد في روايات أخرى التصريح بأنهم كانوا أهل كتاب، قال في نيل الأوطارعند قول صاحب المنتقى: واستدل بقوله (سنة أهل الكتاب) على أنهم ليسوا أهل كتاب. ما نصه: لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن عليٍّ: (كان المجوس أهل كتاب يدرسونه وعلم يقرءونه، فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته، فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم، وقال: إن آدم كان ينكح أولاده بناته فأطاعوه، وقتل من خالفه، فأسري على كتابهم وعلى ما في قل

أسئلة من الجبل الأسود

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من الجبل الأسود (س من 17-20) من ح. ح. في نقشيك ما قولكم دام فضلكم، ونفع المسلمين بعلومكم فيمن يخطب بالعربية في أرض الترك، ثم يترجم بعض ألفاظ الخطبة باللسان التركي ليفهمها الحاضرون؛ لأنهم لا يفهمون إلا باللسان التركي، ولا سيما بعض الأحكام اللازمة كصدقة الفطر مثلاً، فهل يمنع من هذه الترجمة المذكورة وإدخال الألفاظ التركية خلال الخطبة؟ وفيمن يفتي الناس بجواز الجهر بالتكبير في الأسواق عند تشييع الحجاج في سفرهم إلى الحج من بلادهم، مع ما يترتب على الجهر المذكور من المفاسد التي منها: امتهان الاسم الشريف في محل القاذورات وذلك مناف للتعظيم، ومنها أن يكون سببًا لاجتماع النساء والرجال، ومنها ضحك الكفار واستهزاؤهم بذلك الذكر الشريف، فيكون سببًا لهذا الاستهزاء، وربما وقعت الفتنة بين القبيلين بسبب ذلك وهل العمامة المسنونة يلزم فيها تغطية جميع الرأس، حتى لا يبقى من القلنسوة شيء أم السنة هو الوجه المعتاد عند أهل الحرمين وغيرهم من استدارتها على الرأس، وترك أعلى القلنسوة من غير تغطية. وهل الإعلان بموت الميت على المنابر: بالصلاة والسلام عليك يا رسول الله جائز أم مكروه؟ أفتونا مأجورين. أجوبة المنار ترجمة الخطبة بالأعجمية لا يمنع الخطيب في مثل الحالة المسؤول عنها من ترجمة أحكام الخطبة؛ لأن الضرورة تلجئ إلي ذلك، ما دام المسلمون مقصرين في تعلم لغة دينهم، وإلا كانت الخطبة عند أولئك الترك وأمثالهم من الأعاجم رسمًا صوريًّا، لا تحصل به الفائدة المقصودة من الخطبة، وبعض الأعاجم يحتاط فيترجم الخطبة ويشرحها بعد صلاة الجمعة، وبلغني أنهم يفعلون ذلك في الصين. *** التكبير عند تشييع الحجاج التكبير عند تشييع الحجاج ليس مطلوبًا شرعًا، ولا يمنع إذا لم يتخذ شعارًا دينيًّا، ولم يترتب عليه مفسدة، فإن اتخذه قوم شعارًا دينيًّا، يرون أنه لا بد منه شرعًا أو ترتبت عليه مفسدة منع منه. ولو كان مطلوبًا شرعًا كما يطلب في الأيام المعلومات؛ لما صح أن يكون من موانعه اجتماع النساء والرجال، ولا ضحك الكفار {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} (المطففين: 29-30) والامتهان لا يتحقق إلا في نحو الحانات أو الكنف، وما يعد في العرف العام إهانة. وأما الفتنة، ويعني بها السائل فيما يظهر التخاصم الذي ربما يؤدي إلى الضرب أو القتل، فهي محل النظر لا في موضوع السؤال، بل في شعائر الدين الثابتة: كالأذان والصلاة والتكبير في العيد، فإذا كان الكفار يؤذون المسلمين لقيامهم بشعائر الإسلام وفروضه، وجبت عليهم الهجرة من دار الكفر والتعصب إلى حيث يكونون في أمان وحرية في دينهم، وقد زدنا هذه الفائدة في الفتوى؛ عملاً بالسنة من جواب السائل، بل كثر مما سأل عنه عند الحاجة إلى ذلك. *** العمامة المسنونة العمامة (بكسر العين) هي كما قال بعضهم: كل ما يعقد على الرأس سواء كان تحت المغفر أو فوقه، أو لما يشد على القلنسوة أو غيرها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس العمامة فوق القلنسوة تارةً، ويلبسها بغير قلنسوة تارة أخرى، كما لبس القلنسوة بغير عمامة، وفي حديث عمرو بن حريث في صحيح مسلم قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفيها بين كتفيه) وفي حديث جابر عند مسلم أيضًا: أنه دخل مكة وعليه عمامة سوداء، ولم يذكر أنه كان لها ذؤابة بين كتفيه، قال ابن القيم: فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائمًا، وكان يلتحي بالعمامة تحت الحنك أحيانًا، ومن فوائده أنه يمنع السقوط. ويحصل الغرض من لبسها بأية كيفية كانت وورد في العمامة عدة روايات ضعيفة واهية , وهي من العادات لا من أمور الدين ولكنها زي المسلمين الأولين، ومفيدة في حفظ الرأس من الحر. *** إعلان الموت على المنارة هذا العمل بدعة، لم يأذن بها الله - تعالى - ولا مضت بها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما نقول: إنه بدعة إذا أتى به على أنه مطلوب دينًا بهذه الصفة؛ أي جعله في مكان أداء شعيرة الأذان وقرنه بأذكار مخصوصة. أما الإعلام بالموت لأجل أن يسعى من يعلمون به إلى تجهيز الميت ودفنه والصلاة عليه فذلك مشروع، وإن ورد في بعض الأحاديث النهي عن النعي، وهو في اللغة الإعلام بالموت وإذاعته، فالمراد به نعي الجاهلية. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إنما نهى عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، وكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت، على الدور والأسواق، ومن ذلك أنهم كانوا يرسلون راكبًا فيقول: (نعاء فلان) ويطلق النعي على أخذ الثأر، فقد كانوا نعوا القتيل، ويحرضون على الثأر له وقال ابن الأثير: إن النعي الإعلام بالموت والندب وقال أبو بكر العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: (الأولى) إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح فهذا سنة. (الثانية) الدعوة للمفاخرة بالكثرة، فهذا مكروه. (الثالثة) الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك؛ فهذا حرام اهـ. نقل ذلك عنه الشوكاني وقال بعده وبعد نُقُول أخرى: فالحاصل أن الإعلام للغسل والتكفين والصلاة والحمل والدفن مخصوص من عموم النهي؛ لأن إعلام من لا تتم هذه الأمور إلا به مما وقع الإجماع على فعله في زمن النبوة وما بعده، وما جاوز هذا المقدار فهو داخل تحت عموم النهي اهـ. فعلى هذا يكون الإعلام المسؤول عنه منهيًّا عنه، فأقل حالاته أن يكون مكروها , وعندي أنه يباح للناس أن يُعْلِمُوا مَن لا يتولون ما ذكر من الأعمال، ولو للتباهي بكثرة المشيعين والمعزين بشرط أن لا يجعلوا ذلك من الدين.

الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر أرسل إلينا السؤال الآتي من بعض البلاد العربية؛ لنعرضه على علماء الأزهر، فأفتى فيه من اطلع عليه بما ترى في الجواب، وهذا نص السؤال. بسم الله الرحمن الرحيم ما قول العلماء الأعلام السادة الكرام في قوم عوامّ يجتمعون وينشدون بالألحان المحدثة، والنغمات المطربة، ويصفقون بالسبح، ويتمايلون بتكسر وتثن هل فعلهم جائز أيضًا، وإذا قلنا بكراهة ذلك في أحد المذاهب الأربعة؛ هل يجوز للإنسان التقليد ليرقص مثلهم , وما الحكم في مذهب الإمام مالك بالرقص إذا كان بتكسر وتثن؛ كرقص المخنثين، هل هو حرام أو مكروه فقط، أفيدونا بالجواب الشافي لا خلت منكم الديار في جميع الأقطار. الجواب الحمد لله أما بعد، فقد سُئل الطرسوسي - رحمه الله - في مثل ذلك، فقال مذهب الصوفية: إن هذا بطالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إن الرقص والتواجد أحدثهما أصحاب السامري، لما اتخذ لهم عجلاً جسدًا له خوار فأتوا يرقصون حوله ويتواجدون، والرقص دين الكفار وعباد العجل، فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم لا يعينهم على طلبهم. وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم. قال العلامة ابن حجر الشافعي: هذا هو الحق وغيره هو الباطل، وأن الرقص بتكسر أو تثن حرام على الرجال والنساء. وقال العز بن عبد السلام: أما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشابهة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا أرعن أو متصنع جاهل، إن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة، ولا فعل ذلك أحد من الأنبياء. وإنما يفعله الجهلة السفلاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء، وأما نشيد الأشعار بتلك الألحان المحدثة والنغمات المطربة فهو حرام؛ لا يفعله إلا أهل الفسق والضلال. إن هذا الغناء المنهي عنه. قال القرطبي في نحوه: أفتى الإمام مالك بالحرمة؛ وهو مذهب أهل المدينة والنخعي والشعبي وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأهل الكوفة ولكل من الشافعي وأحمد قول بمثل ذلك، ونص على الحرمة الإمام الرافعي في (الشرح الكبير) ، والنووي في (الروضة) ، وقال الإمام الأذرعي: إنى أرجح تحريم النغمات الملحنة وسماعها. قال عليه الصلاة والسلام: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل) . وقال أبو العباس القرطبي: الغناء لم يكن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم , ولا فعل بحضرته ولا اعتنى بمن يفعله، فليس ذلك من سيرته ولا سيرة خلفائه من بعده، ولا من سيرة أصحابه، ولا عترته، ولا هو من شريعته بل هو من المحدثات التي هي بدعة وضلالة، وقد يتعامى عن ذلك من غلب عليه الهوى قال عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . وإن رجلاً استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الغناء من غير فاحشة، فقال: (لا آذن لك) ، ثم توعده إن عاد إليه بالضرب الوجيع، وحلق رأسه تمثيلا به تعزيرًا، وبالنفي عن أهله، وبإحلال سلبه لفتيان المدينة. ثم قال عنه وعن أمثاله: (هؤلاء العصاة) . ثم توعدهم بأن من مات منهم بغير توبة حشره الله يوم القيامة كما كان في الدنيا مخنثًا عريانًا، كلما قام صرع. ومن أدلة التحريم قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ} (الإسراء: 64) فسره مجاهد بالغناء والمزامير، ومنها قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} (النجم: 59-61) أي مغنون على لغة حمير، كما قال عكرمة وابن عباس وقال مجاهد: هو الغناء بلغة أهل اليمن. من هذا كله تعلم أن المذاهب كلها على تحريم ما يصنع أمثال هؤلاء، وأن فعلهم هذا ممقوت عند الله وعند العلماء والعقلاء , وأن مجلسهم مجلس الشيطان لا مجلس الرحمن , ولا يجوز إفشاء السلام عليهم؛ لأن بينهم وبين الشريعة حربًا عوانًا، والمحارب لا سلام ولا أمان له , فيترك السلام خوف أن يظنوا أنهم محقون مكرمون مرضي عنهم، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يقلدهم في هذه الأباطيل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الغني محمود المالكي ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالأزهر ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... حسين والي الشافعي ... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بالأزهر *** العمل المذكور بالسؤال غير مشروع عند الحنفية ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الباقي المغربي الحنفي ... ... ... المدرس بالأزهر (المنار) هذا التشديد في الغناء خاص بمن يفعله على أنه عبادة ودين كبعض المتصوفة وكذا شدد فيه بعضهم مطلقًا، وقد فصلنا القول فيه تفصيلاً في الجزأين الأولين من المجلد التاسع , وخبر الذي استأذن الرسول بالغناء لا يصح؛ وإنما ذكره تقوية للتنفير.

إحدى الكبر وكبرى العبر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إحدى الكبر وكبرى العبر خلع عبد الحميد خان. نفيه من دار السعادة. وضعه تحت المراقبة العسكرية ضبط أمواله وذخائره وعقاره. إباحة يلدز للأمة. تولية مولانا السلطان محمد الخامس. {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) . جلت قدرة الله ونفذت مشيئته، وغلب قدره وعلت كلمته، جعل الأيام دولاً، وجعل للدول نواميس وسننًا، فلا مبدل لسننه ولا محول لنواميس خلقه، فلا يغرنك إملاءه للظالمين، واستدراجه للمفسدين {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذَابُ} (إبراهيم: 42-44) . لا ينفع من قدره حذر، ولا ينفذ من محيط سننه سلطان البشر، فلا يهولنك ما ترى من رسوخ الاستبداد، ولا يويئسنك ما تشاهد من غلبة الاستعباد، ولا يفزعنك ما ترى من الحصون والأجناد، فقد مضت سنة الله بأن الشيء إذا جاوز حده جاور ضده، وأن شدة الضغط توجب شدة الانفجار، وأن الأعمال بالخواتيم {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) ، {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (الرعد: 25) . ألا وإن مشيئته في إيتاء الملك ونزعه، وخفض الملك ورفعه، واعتزاز السلطان وإذلاله، ليست مشيئة استبدادية مغيرة لسننه الاجتماعية، وإنما جعل لكل شيء سببًا، ولكل أمر مقادير وسننًا، فما من أمة تفرقت كلمتها، وغلب عليها الجهل بحقوقها، واعتقاد وجوب التقديس لأمرائها وملوكها، وكثر فيها المنافقون، وقل فيها الصادقون، إلا وابتليت بالمستبدين ومنيت بالظالمين، يسومونها سوء العذاب، ويقطعون بها الأسباب، فيأكلون الأموال، ويستذلون الرجال، ويجعلون الحرائر إماء، ليتمتعوا بالمئات من النساء، ويعبثون بالشريعة والقانون، ويجنون على الأخلاق والآداب، فيذلون أمتهم ويضعفون دولتهم، فإذا استيقظت الأمة من سباتها، واجتمعت بعد شتاتها، وعرفت حقوقها، وغيرت ما بأنفسها من تقديس السلاطين، وأرادت أن تجعل الحكم فيها للشريعة والقوانين , فإن الله يغير ما بها من الذل والعبودية، فتستبدل بهما العز والحرية، من حيث يذل ظالميها، ويهلك مذليها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) . لقد صدقنا وعده ووعيده، وأرانا بأعيننا مصداق كتابه، فهذا عبد الحميد خان وأعوانه وقرناؤه وخصيانه وجواريه وغلمانه قد بغوا في الأرض، وتركوا السنة والفرض، وعطلوا الشريعة والقوانين، واستبدوا بجميع العثمانيين، وجمعوا القناطير المقنطرة من الأموال، وحشدوا لحمايتهم الألوف المؤلفة من الرجال، وأقاموا حولهم المعاقل والحصون؛ ليمنعوا أنفسهم أن يصول عليها المظلومون، {وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) . نعم.. إن في ذلك لكبرى العبر، لمن يعقل ويتدبر {كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 32-37) فقد أدبر ليل الظلم والاستبداد، وأسفر صبح الدستور، فميز بين الإصلاح والإفساد، وذهب الغي وجاء (الرشاد) ، وكانت هذه الحركة العثمانية إحدى الكبر، نذيرًا للمستبدين من البشر، تعلمهم أنه لا ينفع حذر من قدر، كما تعلم من شاء أن يتقدم أو يتأخر من الأمم؛ كيف يكون السير في الطريق الأمم، وإنما مدار التقدم والتأخرعلى العدل والاستبداد، ورسوخ جذور إحدى الكلمتين في البلاد، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 24-27) . لقد ذهبت هذه العبرة بأعذار اليائسين من روح الله، وتعلات القانطين من رحمة الله الذين يتركون العمل، ويتفيئون ظلال الكسل، إذا غلقت في وجوههم الأبواب، وتقطعت بهم الأسباب؛ جهلاً بعناية الله بالإنسان وسننه في نظام الأكوان فها نحن أولاء قد رأينا عبد الحميد خان قد غلق جميع الأبواب التي يتصورالتوصل منها إلى خلعه، وقطع جميع الأسباب التي يتخيل أنها تفضي إلى أخذه، حتى إنه منع الاجتماع والجمعيات، وحجرعلى كثير من الألفاظ والاصطلاحات، فأبطل من المحاكم الشرعية لفظ الحجر والجنون، وأن يحكم بالحجرعلى مجنون، ومنع لفظ المخالعة والخلع [1] منها، ومما يطبع من كتب الشرع؛ لأنه يذكر بلفظ الخلع (بالفتح) ، كما أبطل من جميع المطبوعات أمثال هذه الكلمات؛ عبد الحميد، سلطان. (إلا عند ذكره) مراد. رشاد. ثورة. حرية. جمعية. مبعوثان ... إلخ إلخ، وكان لمراقبي الجرائد في ذلك من الأمر والنهي والإثبات والمحو، ما يضحك الثكلى، ويبكي اليائس الذي جاءته البشرى، وأمر بحذف دعاء القنوت من كتب التعليم، وكلمة خلع النعلين مما يطبع من كتب الفقه والحديث؛ لئلا يخطر خلعه في البال، عند ذكر خلع النعال، أو يسبق فهم المتعلمين أو المصلين، أن كلمة (ونخلع من يفجرك) في القنوت، توجب خلع الفجارمن السلاطين، هكذا رأيناه قد اتقى كل شيء إلا الله {فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ} (القصص: 81) ، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (البقرة: 270) . عز عليه أن يسلب بالدستور والحرية ما كان ينتحله من صفات الربوبية؛ ككونه يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ولا حدود لأمره ونهيه، يحمد على السراء والضراء: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويصل ويقطع ويفرق ويجمع، ويخفض ويرفع، يسلب من يشاء ما يشاء، ويقتل من أراد متى أراد، ويبعد من يكره، ويقرب من يحب، فرأى بعد الدستور أن أمر الشريعة والدستور فوق أمره، وأن نفوذ جمعية الاتحاد والترقي فوق نفوذه، وأن الألسنة والأقلام التي كانت مكرهة على ترتيل آيات إطرائه ترتيلاً، والتسبيح بحمده بكرة وأصيلاً، صارت تسمي أعماله ووقائع عصره بأسمائها، بعد أن كانت تطلق عليها أسماء أضدادها، إذ كانت تسمي الظلم عدلاً، والنقص فضلاً، والجهل علمًا، والسفاهة حلمًا، والباطل حقًّا، والكذب صدقًا، والإفساد إصلاحًا، والخسر فلاحًا والتخريب عمرانًا، والإساءة إحسانًا، إلى غير ذلك. راعه أن يكون بشرًا يوصف بصفات البشر، وأن تكون رعيته من جنسه لا من الغنم والبقر، فضاق بهذا الدستور صدرًا، وعجز عن مبارزته جهرًا، فلجأ إلى الكيد والاحتيال، وفتح ما ادخره لمثل هذا اليوم من كنوز الأموال، فألف بها الجمعية المحمدية، وبث دعاتها في العاصمة وجميع الولايات العثمانية، فطفقوا يوسوسون لعامة المسلمين: أن الدستور مناف للدين، وأن جمعية الاتحاد تريد بث التعطيل والإلحاد، وتحويل الحكومة الإسلامية إلى حكومة أوربية، بل بثوا فتنهم في الجيش فشقوه نصفين، ودبروا مكيدةً لإيقاع المذابح بين العنصرين: (المسلمين والنصارى) ، {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ} (إبراهيم: 46) أما لو وقعت الواقعة، وقرعت الدولة هذه القارعة؛ لرجت الأرض رجًّا، وبست البلاد بسًّا [1] فكانت هباء منبثًّا [2] ولكن لطف الله بهذه الأمة، وأراد إنقاذ هذه الدولة فانهتك الستر، وانكشف السر، وظهرت بوادر الثورة على الدستور في القسطنطينية، قبل أن تصل دعاتها إلى جميع الولايات العثمانية، فقتل الثائرون بعض أعضاء مجلس النواب، ودمروا على نادي جمعية الاتحاد، فتبروا ما علوا تتبيرًا، وكادوا يدمرون المعاهد تدميرًا، فأرز [3] أهل التدبير إلى سلانيك وهي مصدر الدستور، ومطلع هذا النور، واستصرخوا ذلك الجيش المنصور، فلباهم سليل الفاروق، مبادرًا إلى فتح فروق، والقضاء الأخيرعلى الاستبداد، واصطلام آخر جرثومة له في البلاد، والتنكيل بما له من الأحزاب والأنصار {سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (الرعد: 10) [4] . عبأ (محمود) الأمة، و (شوكة) الملة، تلك الكتائب الشعواء، وهي كالقضاء المنزل من السماء، فكان هو منها كما قال شوقي من قبل في مدح جيش عبد الحميد تبعًا لمدحه: يقود سراياها ويحمي لواءها ... سديد المرائي في الحروب مجرب يجيء بها حينًا ويرجع مرةً ... كما تدفع اللج البحار وتجذب ويرمي بها كالبحر من كل جانب ... فكل خميس لجة تتضرب وينفذها من كل شعب فتلتقي ... كما يتلاقى العارض المتشعب ويجعل ميقاتًا لها تنبري له ... كما دار يلقى عقرب السير عقرب فظلت عيون الحر حيرى لما ترى ... نواظر ما تأتي الليوث وتغرب تبالغ بالرامي وتزهو ما رمى ... وتعجب بالقواد والجند أعجب أو كما قال اليوم يخاطب هذا الجيش، مفتخرًا بعمله في أخذ عبد الحميد وخلعه: يا أيها الجيش الذي ... لا بالدعيّ ولا الفخور يخفى فإن ريع الحمى ... لفت البرية بالظهور كالليث يسرف في الفعا ... ل وليس يسرف في الزئير الخاطب العلياء بالـ ... أرواح غالية المهور عند المهيمن ما جرى ... في الحق من دمك الطهور يتلو الزمان صحيفة ... غراء مذهبة السطور في مدح (أنورك) الجري ... وفي (نيازيك) الجسور (ياشوكت) الإسلام بل ... يا فاتح البلد العسير وابن الأكارم من بني ... (عمر) الكريم على (البشير) القابضين على الصليـ ... ـل كجدهم وعلى الصرير هل كان جدك في ردا ... ئك يوم زحفك والكرور فقنصت صياد الأسو ... د وصدت قناص النسور وأخذت (يلدز) عنوة ... وملكت عنقاء الثغور نعم.. كرَّ الفاروقي بجيشه وعيون الأمم الأجنبية شاخصة إليه، وقلوب الشعوب العثمانية محومة عليه، وزحف على الآستانة مصوبًا مدفعه ممتشقًا حسامه ، فلقيته جنود عبد الحميد، وكانت الحرب كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود، فطل الأخ دم أخيه، وخرق القريب صدر قريبه، فكانت جنودنا كما قال البحتري: إذا اشتجرت يومًا ففاضت دماؤها ... تذكرت

رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين ـ 3

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين لليافعي (3) تتمة بحث النسخ ولنعد إلى ما كنا بصدده فنقول: قد بينا في رسالتنا السابقة بعض حجج ما ذهبنا إليه، وسنزيد ذلك إيضاحًا، فنقول: إن الكلام إذا سيق، فإنما يساق بمناسبة المتأخر لما تقدمه وابتني عليه، ودونك ما قبل هذه الآية؛ لتعرف دلالة السياق، وأن الكلام مسوق في أي شيء؛ أهو في ذكر المعجزات، كما قال الدكتور الفاضل أم في ذكر الدين وشرائعه وأحكامه، ومن هنا تعرف أن ما ذكرناه عن السلف في تفسير هذه الآية هو المناسب لسياقها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ * مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: 104-105) ففي أول هذه الآية حذر المؤمنين من موافقة الكافرين في إطلاق الألفاظ الموهمة؛ كقولهم راعنا، ثم أخبرهم في آخرها بشدة عداوة الكفار لهم، وأنهم يكرهون نزول الخير إليهم، وذلك الخير الذي تفضل الله به على عباده المؤمنين: هو الشرع التام الكامل [*] الذي شرعه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، واختصه وأمته به، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (البقرة: 105) - وعلى مناسبة ذلك قال: {مَا نَنْسَخْ} (البقرة: 106) من هذا الخير: وهو الشرع المحمدي {مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) فليس من باب تفويت أو إحرامكم بعض هذا الخير الذي تفضلنا به عليكم، بل نفعل ذلك؛ لنأتيكم بخير منه إذا نسخناه، أو بمثله إذا قصرتم في حفظه ونسيتموه. أما قوله: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 106) إلى آخره، فإنما ذكره في عقب هذه الآية؛ كالدليل بالشيء على نظيره، وذلك مثل استدلاله جل شأنه على البعث وإمكانه بالخلق الأول، وبإحيائه الأرض بعد موتها، وقد ذكرنا في رسالتنا السابقة مناسبات أخرى فارجع إليها، وليتأمل الفاضل في هذا المقام، وليعطه حقه من النظر. ونقول أيضًا: نحن قد قدمنا وقلنا غير مرة: إنه قد علم من ديننا بالضرورة أن القول بالرأي في الدين؛ وبالأخص تفسير القرآن، لا يجوز مطلقًا، فما بالك برأي مخالف لما قاله السلف ولما نقلوه [1] . ثم نقول لحضرة الدكتور الفاضل: هب أن السلف لم يتكلموا، ولم ينقل عنهم في تفسير هذه الآية شيء، أفليس الواجب أن نرد كل لفظ إلى أصله، ونحمله على معناه الحقيقي؟ ولا نقدم على القول بالمجاز ولا نعدل إليه؛ إلا إذا تعين بقرينة، فإذا عرفت ذلك، نقول: قال في القاموس نسخه: كمنعه أزاله وغيَّره وأبطله، وأقام شيئًا مقامه، والشيء مسخه، والكتاب كتبه عن معارضة؛ كانتسخه واستنسخه، المنقول منه نسخة بالضم وما في الخلية حوله إلى غيرها , انتهى. والمعنيان الأخيران لا يصح حمل الآية المتنازع في تفسيرها عليهما اتفاقًا، فلا يبقى إلا الإزالة والتغيير والإبطال، فإذا كان المراد بالآية في قوله تعالى: ما ننسخ من آية المعجزة، كما يقول حضرة الفاضل، فما معنى إزالتها أو إزالة مثلها فإنه لا يزال ولا ينقل إلا ما كان ثابتًا في الخارج , وأما ما يعدم ويفوت بفوات وانقضاء زمنه، فلا يقال: أزاله ولا يزيله، نعم.. يقال في مجاز اللغة: أزلت حجته بمعنى بينت كذبها وعدم صحتها، فإذا أريد بالآية المعجزة، فلا يجوز حملها على معنى الإزالة حقيقة ولا مجازًا، بقي التغيير والإبطال، والقول فيهما كالقول في الإزالة، وهل يصح أن يقال: إن الله غيَّر وأبطل معجزات الأنبياء السابقين، فإذا فسد التفسير بحمل الآية على المعجزة، تعين حملها على آيات الإحكام ونحوها من آيات القرآن؛ لصحة قولنا حكم كذا، وأقمت مقامه حكمًا آخر، أو أزلت الكلمة وأقمت مقامها كلمة أخرى، فما ذكرناه في تفسير الآية هو الحقيقة التي لا يصلح إرادة غيرها، بذلك قال السلف كما عرفت ذلك عنهم فيما سلف، ولو جوزنا العدول عن الحقيقة إلى المجاز بلا قرينة، ولا مرجح للعدول، وسلمنا ما قال: بأن النسخ قد يكون بمعنى الترك، فكذلك لا يصح إرادة ما قاله الفاضل، ولا يجوز أيضًا؛ لأن ترك الشيء لا يكون إلا إذا أمكن فعل ذلك الشيء نفسه، والمعجزة الفعلية التي وقعت وانقضى زمنها: كانقلاب عصا موسى عليه السلام حية مثلاً، لا يمكن أن تعاد نفسها لا سيما مع عدم وجود العصا، فإن قيل: المراد مثلها، قلنا: وهذا مجاز بتوسط تأويل، ولو سلمناه أيضًا فإنه لا يصح حمل الآية عليه؛ لأنه لا يصح؛ إلا بعد أن يثبت أن الله قدر وكتب في الكتاب الذي كتبه لكل مدة مضروبة بأن سيؤيد محمدًا صلى الله عليه وسلم بمثل تلك المعجزات الماضية مماثلة من كل الوجوه، فإذ قدر أنه عدل عن ذلك إلى ما يماثلها من بعض الوجوه، جاز أن يقال: ترك هذا المثل لهذا المثل، ولا يخفى أن الهجوم على ذلك بلا توقيف جراءة واستبداد على الله. فإن قيل: لا نقول إنه ترك ما كتب، وقدر أنه يؤيد به محمدًا صلى الله عليه وسلم كما ذكرتم، قلنا: إن تنظير الدكتور للنسخ في هذه الآية بقوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) صريح فيما ذكرنا فساده. ونقول أيضًا: إن ما هو نحو المعجزات من الأفعال التي مضت وانقضت هي الآن معدومة، فإن قيل: المراد مثالها الموجود في بعض الأذهان، فيجوز تركه، قلنا ذلك ممنوع؛ لأن الموجود في الأذهان المذكورة، إنما هو التصديق بتلك المعجزات ونسخه إنما يكون بنقضه وتكذيبه وهو محال أيضًا ما في أذهانهم، لو أوجده الله في الخارج؛ فهو لا يكون إلا نفس المعجزات الماضية التي قد عدمت، والأفعال التي قد وقعت لا يمكن أن تعاد نفسها، وما كان كذلك فلا يقال: إنه تركه، وعليه فالنسخ بمعنى الترك، لا يمكن أن يفرض إلا فيما يماثل من بعض الوجوه ما حفظه بعض الناس من معجزات الأنبياء، وحينئذ لا يكون المنسوخ في الآية ما قد وجد، ولا مثاله الموجود في أذهانهم، بل هو ما يماثل مثاله من بعض الوجوه، وهذا إنما هو معدوم؛ لأنه غير موجود في الأعيان ولا في الأذهان، ومعلوم أن الله لم يرد أنه نسخ أو ترك المعدوم المطلق، أو أنه أيد نبينا صلى الله عليه وسلم بخير منه أو مثله؛ لأن الخيرية والمثلية لا يوصف بها المعدوم، فظهر بذلك أن المعنى الذي حمل الآية عليه حضرة الفاضل لا يصح إلا فرضه في المعدوم المطلق وسياق الكلام ومعناه يأبى ذلك، وإلا للزم وصح أن يقال: إن كل ما أوجده الله فهو بدل ومثل ومسبب عن ترك معدوم مطلق، لم يقدر في كتاب، وهذا لم يقله أحد. هذا بعض ما نقوله في المنسوخ الذي ذكره الله في قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) وقد عرفت أنه لا يصح أن يفرض شيئًا مما قدمنا بيانه. أما معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم: فلا شك أنها قد وفت وقامت بتأييد رسالته صلى الله عليه وسلم، كما قد وفت معجزات الأنبياء السابقين بتأييد رسالاتهم وزيادة. لكن إطلاق أن هذا ناسخ لهذا لا يصح في تفسير قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) وقوله (فكل آية من آيات الأنبياء السابقين إلى قوله: قد أتى الله بمثلها في الإقناع والهداية أو بخير منها، قلت: نعم.. والأمر كذلك إلا أنا قد قدمنا فساد فرض المنسوخ بمعنى المعجزة، وعليه فما أتى الله ومنَّ به على نبينا من المعجزات، فليس بدلاً عن معجزات الأنبياء السابقين؛ على معنى أن تكون ناسخة لتلك، ولو كان كل معجزة لنبي متأخر ناسخة لمعجزات من تقدمه، لكانت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لمعجزات عيسى عليه الصلاة والسلام، ومعجزات عيسى عليه السلام ناسخة لمعجزات من تقدمه، وهلم جرًّا , وعليه فما أتى به محمد من المعجزات؛ لا تكون بدلاً لكل معجزات الأنبياء السابقين وإلا للزم نسخ المنسوخ حين هو منسوخ [2] . ونقول أيضًا: يلزم الفاضل المذكور في الأدلة المتعددة المختلفة الحقائق على صحة المدلولات المتماثلات، والمدلول الواحد تصحيح إطلاق أن كل واحد منها ناسخ للآخر، فليتأمل الناظر وليحكم بما شاء بشرط الإنصاف. أما قول الفاضل الممدوح: وإذا كان المراد آيات الأحكام لا المعجزات، فهل أتى تعالى بدل الآيات المنسوخة بآيات خير منها؟ إن كان ذلك صحيحًا، فكيف نسخ كثيرًا من أحكام القرآن بالسنة على قول بعضهم؟ وأقول: قد عرفت أنه لا يمكن حمل ذلك على غير آيات الأحكام، ونقول: نعم.. إنه قد عوضنا بدل كل آية نسخها ورفعها بما هو مثلها وأفضل منها، وذلك موجود في هذا القرآن الذي بين أيدينا. أما قوله: فكيف نسخ كثيرًا من القرآن بالسنة على قول بعضهم؟ فجوابه أنه لم يفضل أحد أحكام القرآن على أحكام السنة؛ لأن الكل من الله، والحكم الناسخ سواء كان في القرآن أو في السنة، هو أكثر خيرًا من المنسوخ، ولا تفاوت في نفس الحكم إلا أن هذا يكون أصح من هذا، كما سيأتي بيانه. نعم ألفاظ القرآن هي أفضل من ألفاظ الأحاديث، ولم يقل أحد أن لفظ الحديث ناسخ للفظ القرآن، فما أراد إيراده غير وارد، فتأمل. ونحن قدمنا الكلام في اختلاف العلماء في النسخ فارجع إليه، فمن يجوز نسخ القرآن بالسنة، بعضهم يقول: إن ذلك جائز لكنه لم يقع، وأما من يقول منهم بوقوعه فلهم أن يفرقوا بين نسخ الآية ونسخ حكمها؛ بأن يقولوا: إنه من المعلوم بالضرورة أن الدين كله سواء كان قرآنًا أو وحيًا غير قرآن - وهو السنة - إنما عرفناه بتوسط محمد صلى الله عليه وسلم، الذي عرفنا صدقه وصحة نبوته ورسالته، فلا يجوز لنا أن نقبل بعض ما جاء به، ونترك البعض الآخر؛ إذ لو فعلنا ذلك لكنا مكذبين له صلى الله عليه وسلم في ذلك البعض، وذلك كفر في دين الله، وبه كما قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) بناء عليه يجوز أن يكون بعض أحكام السنة خيرًا من الحكم المنسوخ الذي كان في القرآن، وإذا كان المراد بالخيرية أن يأتي بخير منها أي ببدل ذي مصلحة راجحة، فلا قباحة في أن يقوم الحديث النبوي بدلاً عن لفظ آية وحكمها معًا. أما الوصية للوالدين والأقربين الوارثين فالجمهور يقولون: إن الناسخ لها إنما هي آية المواريث، والسنة مبينة وشارحة لذلك الناسخ. هذا بعض أجوبتهم، وهو مانع ودافع لكل إيراد، قلت الإيراد الصحيح في الآية: إنما يتوجه على مذهب حضرة الدكتور الفاضل؛ لأنه إذا منع النسخ في القرآن مطلقًا به أو بالسنة، لزمه أن الواجب للوالدين الوصية، والنصيب الذي فرضه الله لكل واحد منهما في آية المواريث، وحينئذ يعترض عليه، ويقال: إنه إما أن يكون ما فرضه لها وافيًا بحقها، أو ليس بواف بحقهما وعلى كل تقدير. إما أن يلزم النقص أو الظلم [**] لا يقال: إن الوصية إنما ندب إليها ولم يوجبها؛ لأنا نقول: إن الاعتراض وارد على الاستحباب أيضًا، على أن في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} (البقرة: 180) في أول الآية وقوله: {حَقاًّ عَلَى المُتَّقِينَ} (البقرة: 180) في آخرها دلالة ظاهرة لا يعتريها شك، ونص في الوجوب فالاعتراضات الواردة الصحيحة إنما ترد على مذهب الفاضل الدكتور. قال الفاضل: وأين البدل للآيات التي نسخ لفظها وحكمه

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الانقلاب العثماني الميمون بخلع عبد الحميد) (رأي جرائد مسلمي الهند فيه) أرسل إلينا صديقنا مولوي محمد إنشاء الله، صاحب جريدة (وطن) الغراء التي تصدر باللغة الأردية في (لاهور) مقالتين في الانقلاب: أحدهما من قلمه نشرها في فاتحة أول عدد صدر من جريدته بعد العلم بالانقلاب الأخير وخلع عبد الحميد، ثم ترجمها بالعربية والثانية نشرت في جريدة (أبزرور) باللغة الإنكليزية، وسألنا رأينا فيهما، فنحن ننشرهما ثم نبدي رأينا فيهما، وهذه هي الأولى؛ ننشرها مع إصلاح قليل لبعض الألفاظ يحدد المعنى، ولا يضيع منه شيئًا (وعنوانها الانقلاب المشؤوم في الدولة العلية) . لقد طير البرق إلينا اليوم النبأ المشئوم الذي فتت الأكباد، وألبس القلوب ثوب الحداد، وقد ساد الأسف بمجرد سماعه على العالم الإسلامي في الهند وسائر أقطار المعمورة، ومن التألم الناشئ منه تنفثت الصدور، وذلك النبأ العظيم الذي آلم العالم الإسلامي بأسره؛ هو نبأ عزل جلالة السلطان عبد الحميد الثاني عن عرش الخلافة والسلطنة العثمانية بقرار مجلس الأمة إجماعًا على عزله، ولا أدري هل انعزل جلالته من عند نفسه، أو اعتزلته جمعية الاتحاد والترقي التي كانت عند أول ظهوره في بدء إحياء الدستور العثماني أخيرًا، مظهرة عزمها على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء؛ لكون أعضائها من الناقمين من جلالته، أو الخائفين من ذاته على الدستور , ولكن علمنا بعد صدور الإرادة الشاهانية بإعلان الدستور، وانقلاب الوزارة، وتفويض مسند الصدارة إلى سماحتلو (؟) كامل باشا الصدر الأسبق أن المعتدلين والعقلاء من حزب تركيا الفتاة، لا يرون لزوم عزل جلالة عبد الحميد، بعد أن صار محبًّا للدستور، وحلف على حفظه، وصرح بعزمه على تقوية الحزب المذكور، ولا سيما الجمعية الاتحاد والترقي التي لعبت دورًا مهمًّا في ملعب إحياء الدستور وترقية البلاد، حتى صار جلالته لا يبرم أمرًا ولا يصدر إرادة من غير استشارة الجمعية، ويطيع لها في كل الأمور، وقبل صدارة شرف الجمعية، وفاه بها علنًا. وقد مال بكليته إلى الجمعية حتى عاداه حزب الأحرار من تركيا الفتاة، وعيره بالتخلف عن فرائض الملك الدستوري؛ بوضعه نفسه تحت يد جماعة غير مسئولة عن صلاح البلاد والعباد، وبعدما ترك استبداده بالحكومة، قد وقع نفسه تحت نير الاستبداد الأشأم والأشر من الاستبداد الأول , ولكن كل هذه الملاينة والانقياد لم يجد لجلالته نفعًا، وصارت الجمعية تلهو تلعب به كما تلعب الهرة بالفارة التي تريد افتراسها وقد أخذت الجمعية تمهد السبيل لعزله، فأبعدت عساكر الآستانة وأرسلتها إلى الولايات، ووضعت دار الخلافة تحت حماية العساكر الموالية للدستور، والتي جاءت بها من سلانيك وغيرها، وطلبت من جلالة السلطان عبد الحميد أن يرضى بوضع فيلق الحرس الهمايوني أيضًا تحت أمرة نظارة الحربية، وقد رد جلالته هذا الطلب غير مرة. لكن لما رأى الجمعية مصرة على ذلك أجاب طلبها (وإن كانت الإجابة خطأ) كما ظهر الآن؛ لأن جلالته أراد أن يبرهن للعالم (أصالة) وللجمعية تبعًا، حسن نيته وميله إلى جهة الدستور. إن جمعية الاتحاد والترقي؛ كانت لا تزال تعتمد على الجيش في حفظ الدستور؛ ولذلك لم تكن تسمح بإبعاد العساكر الموالية للدستور إلى الولايات، وإن كانت نار الفتن الداخلية متأججة في جميع الجهات، والضرورة داعية لإرسال العساكر إلى الخارج؛ كي يمكن إخمادها وإعادة النظام إلى البلاد؛ ولما أراد الصدر الأسبق والرجل المحنك كامل باشا استعادة النظام العسكري والطاعة في الجيش، امتنعت الجمعية عن ذلك، وأخذت تعرقل مساعي الصدر الممدوح وحكومته في إصلاح المملكة الداخلي؛ ظنًّا منها أن خروج الجيش من يد الجمعية يضعف قوتها، ويحرج مركزها، ويكون خطرًا على الدستور - لا قدر الله -، وصارت الجمعية تأخذ على مجاري أمور الحكومة بالقوة القاهرة، كأنها حكومة في حكومة بل وفوقها، معتمدة على الجيش، وقد شوهت الدستور بسيطرتها على الحكومة ومجلس الأمة، حتى انقسم حزب تركيا الفتاة إلى حزبين: حزب الجمعية وحزب الأحرار، ولما غلب حزب الجمعية بفضل الجيش وكثرة أعضائها في مجلس الأمة، وانهزم حزب الأحرار شر هزيمة في عدة مواضع، اندفع في انتقاد أعمال الجمعية بصدق اللهجة، وكشف الغطاء عن نيتها المشوهة للدستور، وانتشر بغض الجمعية بين الأنام، بعد أن كانوا محبين لها، لهجين بشكرها في إعادة الدستور، وهاج أهالي الآستانة وعساكر دار الخلافة مشهرين سيف عدائهم في وجه الجمعية، وقلبوا لها ظهر المجن، وفر جميع أنصار الجمعية من أعضاء مجلس الأمة تاركين مراكزهم في الآستانة إلى مقر مركز الجمعية في سلانيك، وأخذت الجمعية تجند الجنود لكبح جماح الخارجين عليها والباغين؛ بدعوى المحافظة على الدستور، وأخيرًا قد فازت الجمعية على مخالفيها، وأجرت الأحكام العسكرية في دار الخلافة، وأخذت تبحث عن الذين سعوا في محو الدستور وإعادة الحكم المطلق (بزعمها) . وكلما ننظر في خلال هذه الحادثة المؤلمة من أولها إلى آخرها، نجد جلالة السلطان عبد الحميد محافظًا على الدستور ومواليًا للعامة والوطن، لم يتعرض لمجلس الأمة قط، بل صرح في مثل هذه الحالة الحرجة أيضًا عند تعيينه لعلي كمال بك (كذا) صدرًا لمجلس الأمة، إن مستقبل البلاد لا يقوم إلا بالمحافظة على الدستور، وهذا دليل بيِّن وبرهان عظيم، على كون جلالته محبًّا للدستور، ومحافظًا عليه، بارًّا بيمينه، مجتنبًا إراقة دماء الأبرياء، ونرى المبعوثين أو حزب تركيا الفتاة تائهين في تيه الضلالة، وناسين واجبات صلاح الدولة والمملكة؛ بإسراعهم في عزل عبد الحميد عن عرش الخلافة، وعدم تبصرهم في غوائل الأمور خاصة عاقبة مثل ذلك الفعل القبيح؛ لأنهم لو تأملوا بحوادث انقلاب السلطنة الأخيرة، لوجدوا أنه لم يكن لجلالة عبد الحميد يد فيها؛ لأنه كان قادرًا على أن لا يسمح بإبعاد حرسه الخاص قبل أسبوعين من تلك الكارثة أو جمع عدد عظيم من العساكر لحفظ مركزه -وعلى الأقل - حض العساكر الموجودة في الآستانة الذين بغوا وطغوا على الجمعية (وأغرائهم) بالثبات والاستقلال في الحرب، وجنود قصره على عدم قبول طاعة المهاجمين من غير مدافعة - بل وإسلامهم للأعداء - كما صرح ضباطهم عند التسلم: (إن نسلم أسلحتنا بأمر من جلالة السلطان؛ لأنه أبى إراقة الدماء، وقال لنا: إن المهاجمين أيضًا من أولاده، وهو لا يرضى أن يصيبهم مكروه) وغير هذا، كان من الممكن لجلالته أن يأخذ لنفسه حماية أقوى دولة من الدول الأجنبية. لكنه لم يفعل ذلك، بل سلم نفسه للملة، وأثبت للملأ أنه محب مخلص للأمة والوطن، لا يريد محو الدستور أبدًا وإراقة قطرة دم في سبيل حفظ مركزه على طريق الواجب أيضًا فكان من واجبات الجمعية وحزب تركيا الفتاة؛ أن يحترم عواطف ذلك السلطان الشفيق، والسياسي المحنك، الذي عند قبضه على صولجان الملك كانت السلطنة في أسوأ الحال من الإفلاس، وعدم قوة الحربية، وخلل نظام الداخلي، وهجمات الأعداء الخارجي، وكانت الأمة جاهلة عارية من العلوم الحديثة، منقسمة على نفسها أي انقسام، أدى ذلك الانقسام إلى ضعفها واضمحلالها إلى حد حكم العالم بموتها، فشمر على ساق الجد، وقوى مركزها بين الدول، وأصلح الخزانة وعمرها، حتى جعل لها اعتبارًا ماليًّا في أسواق أوربا موازيًا لاعتبار أقوى الدول في العالم، ودرب الجيش على قواعد الحرب الحديثة، وأكمل تسليحه بأحدث الآلات، حتى صار الجيش نفسه اليوم عليه بعد أن كان له، وكل فضل الجيش في التربية والعدة والعدد من بركات عبد الحميد لا غير، فانظر يا أيها القارئ، كيف انقلب الحال! ! سعى في انتشار التعليم والعلوم الحديثة في البلاد وأقلع صدأ الجهل عن مرآة قلوب العباد، إلى أن صاروا يفهمون معنى الوطنية والاتفاق والاتحاد، فالذين علمهم الوطنية والاتحاد صاروا اليوم يرمونه بعدم محبة الوطن ومخالفة الدستور، إن هذا لشيء يراد. قضى ثلاثًا وثلاثين سنة يجد ويجتهد وراء سعادة الأمة والملة، وعمل أعمالاً أثمرت رفاه البلاد والسلطنة: وعمَّر الطرق، وبنى السكك الحديدية، وأجرى الترع والقنوات، وأخصب المفاوز والقفار، وأوصل الأقطار بالأقطار، وحفظ السلطنة من الضياع أمام أعداء أشداء، حتى أقر العدو والصديق أنه من أمهر السياسيين في السياسة، وداهية العصر في الدهاء، وفاز في كل المواقع السياسية المشهورة بهمته الشماء، غير مضيع نفسه ومضعف مركزه، وكان في كل زمان عاملاً نشيطًا، وسلطانًا حازمًا، لا يعرف الملل، ولا يعتريه الكلل، كان من عادته أن يعمل ثماني عشرة ساعة في كل يوم، ويشتغل في مهام السلطنة كأدنى خادم للملك والملة، ولم يكن له شغف بالراحة، ولا كان يعرف الاستراحة، فبعد ما عانى من المشاق ما عانى، وعمل لصلاح البلاد ما عمل، لما رأى أن غراسه أينعت وأثمرت، والملة لحكم الدستوري اشتاقت، أعطاها هذه النعمة مرتاح البال وصار يغذيهم بلبان الأفضال، يقوم بإقامتهم، ويقعد بإقعادهم، كأنه ترك حمل القوم على غاربهم؛ ليظهروا استعدادهم ومعارفهم، عادت الأمة عليه ورمته بالسعي في إعادة الحكم المطلق من غير بينة ولا برهان، حتى إذا لم تجد مسوغًا لتجريحه، استعانت بفتوى الشرع من شيخ الإسلام، وصوبت إليه سهام الملام، وأنزلته من عرش آبائه الكرام، وهو في هذا الحال أيضًا راضٍ عن الأمة غير منكسر البال بما فعلت به؛ لأنه يعرف أن القوم مخطئون، وهم لا محالة يومًا على صنيعهم سيندمون. فارحم الله بلطفك هذه الأمة الخاطئة التي كفرت بنعمتك الجزيلة، ولم تعرف قدر ذلك السلطان الجليل، الذي كان خير سلطان لها في مثل هذه الحالة الحرجة، والموقع الصعب، واهدها اللهم بجاه نبيك؛ أن تكافئ سيئتها بحسنة إعادة السلطان عبد الحميد على سرير الملك، وإن لم تفعل ذلك، فتحفظ حياته، وتحترمه احترامًا يليق به، وتنتفع من آرائه وتجاربه وحنكته، من حيث هو مشير مخلص، خبير في نظم المملكة، وترقية السلطنة. إن لم تنتفع به من حيث سلطان قابض على زمام الملك، وكن يا مولانا له ولخلفه وأمته خير نصير، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. حضرة الرصيف الفاضل بعد السلام والاحترام؛ نرسل إليكم اليوم مقالتنا الافتتاحية التي سطرناها في جريدتنا، في أمر عزل السلطان عبد الحميد. ومعهما مقالة أخرى المنشورة في جريدة أوبزرور؛ وغرضنا أن تنشروهما في جريدتكم الغراء؛ لتعلم الأمة العثمانية بأفكار المسلمين الهنديين في ذلك الباب، وإن كان ما كتبناه عن عدم العلم بالأحوال الموجودة أو خلافا للوقائع، فلكم أن تفندوا أقوالنا؛ لنكون على بصيرة في المستقبل فيما نكتب بأمور الدولة العلية، ولكم الفضل هذا، واقبلوا فائق احتراماتي أفندم - ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... ... 6 مايو سنة 1909 ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد إنشاء الله ... ... ... ... ... ... ... محرر ومدير جريدة (وطن) ... ... ... ... ... ... ... ... (لاهور بنجاب) الهند (المنار) وهذه ترجمة جريدة أبزرور، وهي مفتتحة ببيتين لشكسبير شاعر الإنكليز في مصرع يوليوس قيصر الروماني قال: خلع السلطان عبد الحميد لقد خلع السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني سلطان تركيا، وخليفة الإسلام، وأ

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار استعمال الورق النشاف في الاستنجاء والمقوى في الحذاء (س 21 و22) من ص0م0في كرموس (السودان) . سيدي الفاضل ترددت كثيرًا في كتابة هذا لحضرتكم ولكني أقدمت لعلمي أنكم تسرون لنشر التعاليم الدينية لهداية المسلمين، ووقوفهم على خلاصة الدين الحنيف. جمعني مجلس مع لفيف من إخواني الضباط، وقد لاحظ أحدهم أني أضع في حذائي فرشة من الورق المقوى؛ لأن به اتساعًا، فانتقد عليَّ بقوله: إن استعمال الورق مثل هذا الاستعمال مخالف للدين الذي تدين به. وقد تناول كل منا البحث في هذا الموضوع، حتى استدرجنا البحث والكلام في: (1) هل الورق المخصوص الذي يوضع في البواخر مطهر، و (2) هل يجوز للمسلم استعماله، و (3) إن كان جاز للضرورة، هل تعاد الصلوات التي يكون صلاها المسلم المسافر في مثل هذه البواخر؛ لأنه يمنع من حمل الماء لمحلات الخلاء، و (4) هل الورق (الذي يسمى ورق النشاف) مطهر؛ لأنه يلتقط ويمتص السوائل. ووقف بنا البحث لهذا الحد، ولم نجد جوابًا شافيًا، وانتقلنا لمواضيع أخر، كما هي عادتنا عند وجود عقبات لا نجتهد في إزالتها. انفض المجلس، وأنا مشغول في إيجاد نص صريح يحل لي هذه الألغاز، ولما لم أجد أمامي غير من أوقف نفسه لهداية العالم الاسلامي، طرقت بابكم بعد التردد الكثير، عشمي أن أستفيد من حضرتكم لأفيد إخواني، ولكم الفضل علينا ومن الله الأجر. (ج) استعمال الورق الذي يوضع في مراحيض البواخر والورق النشاف في الاستنجاء جائز، ولو مع وجود الماء وإمكان استعماله، فلا يتوقف جوازه على الضرورة، ولا تجب إعادة صلاة من استنجى به؛ لأنه أحسن تنقية من الحجارة التي ورد النص بالاستنجاء بها، ومن كل ما في معناها مما ذكر في كتب الفقه، وليس هذا محل خلاف يذكر، فلا يكن في صدر أحد منكم حرج منه. ثم إن ما قاله لكم صاحبكم في تحريم وضع المقوى في الحذاء خطأ، وفيه جرأة على الدين بتحريم ما لم يحرمه الله، والأصل في الأشياء الإباحة، فلا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق. *** لعب الشطرنج (س 23) من كورتي (السودان) لصاحب الإمضاء بنصه. سيدي الفاضل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية المسلم لأخيه، وبعد، فراجيك التكرم بالرد على السؤال الآتي على صفحات جريدتكم الغراء: هل لعبة الشطرنج المعروفة محرمة أو مكروهة في عموم المذاهب الأربعة أو بعضها يقول بالحرمة أو بالكراهة أو الإباحة، مع العلم بأن الشيخ الدرديري ذكر في (الشرح الصغير) على أقرب المسالك في باب جمل في الجزء الثاني، قال في (المتن) : (واللهو حرام) وذلك كاللعب بالنرد المسمى في مصر بالطاولة، فيحرُم كان بعِوَض أو بدونه؛ لأنه يوقع العداوة، ويصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وكالشطرنج والشجة والطاب والمنقلة، واستظهر بعض كراهة المنقلة والطاب، ومحله بدون عِوض وإشغال على محرم وإلا فيحرم اتفاقًا. اهـ. ثم قال الشيخ العدوي في حاشيته على الرسالة عند قول المتن في باب جمل: عَلَّقَ على الأفعال المحرمة (ومنه القمار) قوله: ومنه القمار ... إلخ، وقال في المصباح: قامرته قمارًا منه باب قاتل، وقمرته من باب قتل، انتهى. أي: إذ في لعب الشطرنج ونحوه مغالبة، فقوله: ونحوه كالنرد والطاب ونحو ذلك حرام وإلا بدونه شيء، انتهى. فيؤخذ منه ذلك كله: أنه هذه اللعبة محرمة في مذهب الإمام مالك، فإذا قلتم: بالحرمة أو بالكراهة، فما هو السبب في ذلك، وإذا كان السبب كونها تورث العداوة كما ذكر أعلاه، فالمسابقة بالخيل تورث العداوة أيضًا مع أنها جائزة في مذهب الإمام مالك، أفيدوناعلى ذلك مأجورين، ولكم الشكر. وفي الختام تفضل بقبول تحياتي واحتراماتي ... ... ... ... ... ... ... ... يوزباشي مأمور كورني ... ... ... ... ... ... ... ... عثمان عارف الرفاعي (ج) صرح الإمام مالك في بعض أجوبته بكراهة الشطرنج وأطلق، فحمل أكثر أصحابه ذلك على كراهة التحريم، وقال الإمام الشافعي فيه: إنه لهو يشبه الباطل أكرهه ولا يتبين لي تحريمه. فحمل أصحابه ذلك على كراهة التنزيه، واشتهر بين الناس أن الشافعي أباح الشطرنج، والصواب ما قلنا، ولا نعرف نصًّا عن الشارع في تحريم الشطرنج ولا غيره مما ذكر من اللعب إلا النرد (الطاولة) ، ولنا في ذلك فتوى مفصلة في المجلد السادس (راجع ص 373 - 378 منه) . **** معاوية بن أبي سفيان (س 24) من سنغافورة سأل سائل من سنغافورة عن معاوية، هل ثبت موته على الإيمان، وهل يجوز لعنه. وقال: إن بعض السادة الحضارمة ألف كتابًا يثبت فيه جواز لعنه، وكيت وكيت ... إلخ، فطعن الناس فيه. نقول: قد سأل بعض هؤلاء الحضارمة عن مسألة اللعن من قبل، فأجبنا بما نراه. وأما مسألة موته فهي مما يفوض إلى الله - تعالى - من جهه الباطن، ونحن لنا الظاهر؛ وهو أنه مات مسلمًا ودفن بين المسلمين , وقد علمنا أن القوم مختلفون ومتعادون في ذلك، فنوصيهم بترك الكلام فيه؛ لأنه يخشى شره، ولا تُرجى منه فائدة، بخلاف تحقيق بَغْيه على علي - كرم الله وجهه - فتلك من أهم مسائل تاريخنا.

الانقلاب الميمون وأثر السلطان عبد الحميد في الدولة ومقاومته للدستور

الكاتب: رفيق بك العظم

_ الانقلاب الميمون وأثر السلطان عبد الحميد في الدولة ومقاومته للدستور (استدراك على المنار) صديقي الأستاذ الحكيم نشرتم في العدد الماضي رسالة الفاضل مولوي إنشاء الله ورسالة جريدة أبزرور الهندية في الانقلاب العثماني، وفيها ما يدل على أن نبأ خلع السلطان عبد الحميد أثر تأثيرًا سيئًا في الأقطار النائية الإسلامية، وأنهم يرون أنه قد افْتِيتَ عليه بالخلع؛ لما له من المآثر الكثيرة في الدولة، وقد عدد الكاتب تلك المآثر الموهومة وعقبتم عليها برأيكم في الخلع، وتفنيدكم لأقوال الكاتب، وبسطتم الكلام بسطًا وافيًا؛ إلا أنه يمكن أن يستدرك عليكم في الأدلة على بيان خطأ الكاتب في الدعاوى التي استخلصتموها من مقاله، ورددتم عليها، فرأيت أن أكون متممًا لمقالكم مع زيادة في الإيضاح؛ إقناعًا لإخواننا مسلمي الهند ومن حذا حذوهم في الاعتقاد الحسن بالسلطان عبد الحميد، فأقول: إن النقط الست الأولى التي تتعلق بسيرة عبد الحميد بعد الدستور، لا أريد أن أكتب على كل نقطة منها بمفردها زيادة عما كتبه المنار الأغر، بل أقول فيها كلها كلمة إجمالية، وأكتب على النقط الأخرى التي تتعلق بحياته بعد الدستور، كل نقطة بمفردها. أما كلمتي الإجمالية: فهي أن السلطان عبد الحميد لم يكن يومًا قط مخلصًا للدستور، والدليل على ذلك أنه أعطاه مكرها، كما ذكر ذلك المنار الأغر، ومن طالع كتاب خواطر نيازي يتضح له ذلك، وأنه لم يأل وحواشيه جهدًا في غضون الحركة الأولى في استنباط الوسائل التي تفت في عضد الأحرار في سلانيك؛ لما طالبوه بإعادة القانون الأساسي وهددوه بسوق الجيش إلى الآستانة، فأصر على رفض طلبهم ومقاتلتهم بقوة جنود الأناضول، وفعلاً استدعى عدة توابير من رديف أزمير وأمر بسفرهم إلى سلانيك، وقبل أن تتحرك هذه الجنود من أزمير، اطلعت على كتاب ورد لبعضهم من صديق له ثمة يقول له فيه: إني أسافر متطوعًا مع جنود أزمير إلى سلانيك لا لقتال الجيش المطالب بالحرية بل للانضمام إليه مع جنود أزمير والتوجه إلى الآستانة؛ لإكراه ذلك الجبارعلى رد حرية الأمة التي سلبها إياها، والضباط هنا في منتهى التحمس للوصول إلى هذه الغاية، فليطمئن بال الأحرار في مصر، فاستودعكم الله، ولا أدري هل أراكم بعد اليوم أم لا. ولما وطئت أقدام الجنود أرض سلانيك، أعلن الضباط في الحال انضمامهم بجنودهم إلى جيش الحرية، وانعكس هذا الخبر بالسلك البرقي إلى الآستانة، فسقط في يد السلطان وأعوانه، وكانوا طلبوا جنودًا أخرى من جهات الأناضول، فأوقف سفرها ناظر الحربية، وأقنع السلطان بلزوم العدول عن هذا الرأي؛ لما فيه من الخطر، فلم يسعه بعد ذلك إلا التسليم بمطالب جيش الحرية؛ ليتسع له الوقت في التفكير والتدبير خصوصًا في تفريق وحدة الجيش المتواطئ على نصرة الدستور. أخذ بعد ذلك في تدبير المكايد، فبث جواسيسه وأتباعه بين الجنود المعسكرة في الآستانة، يغرونهم بالمال، وألف بواسطة درويش وحدتي جمعية الاتحاد المحمدي، وأعطاها هو وأعوانه هذا الاسم الشريف؛ ليكون آلة للتمويه على البسطاء والتغرير بهم باسم الدين؛ اذ ليس في الأمة فرد واحد ينتقد على الحكومة الدستورية مادامت قائمة باسم العدالة والمساواة، فلا يستطيع السلطان وأعوانه تحريض الجنود على الأحرار الدستورين، لمطلق أنهم أعوان الدستور؛ لذلك جاءوهم من جهة الوتر الحساس فيهم، فجسوه باسم الدين وحرضوهم على المطالبة بأحكام الشرع، والشرع في عرف العامة هو السلطان، والسلطان هو الشرع؛ لأنه الآمر المطلق المطاع، فالنتيجة بالضرورة هي محو الدستور، ومحو كل من يقول به في تركيا، وإعادة السلطة الاستبدادية إلى السلطان. ثبت ذلك بالبينات القاطعة والأدلة المحسوسة، وهي النقود الكثيرة التي وجدت مع الجنود الثائرة، ثم التقارير السرية التي وجدت في يلدز من جواسيس السلطان وأعوانه، وفيها بيان عن نجاح الخطة الموضوعة لإثارة خواطر الجنود؛ كتقارير علي كمال بك وطيار بك وغيرهما التي نشرتها جرائد الآستانة بالحرف ونشرت مجلة (ثروت فتون) ، بعضها مصورة بالفوتوغراف إثباتًا للحقيقة وقطعًا للشبه، ثم ثبت ذلك بإقرار كثير من أعوان السلطان وحواشيه المقبوض عليهم؛ كجوهر أغا وحقي بك ويوسف سكه زان باشا الذي قبض عليه وهو يحمل نقودًا تبلغ الأربعين ألف جنيه، فأقر أنه كان يريد أن يغري بها جنود الفيلق الثالث، وغير هؤلاء كثيرون ممن أقروا بتدبير هذه المكيدة، أو ثبت عليهم الاشتراك فيها بالأوراق التي وجدت معهم، وأهم من ذلك إقرار درويش وحدتي صاحب جريدة (وولقان) ومؤسس جمعية الاتحاد المحمدي، فإنه أقر لمخبر جريدة (اعتدال) الأزميرية لما قبض عليه هناك من عهد قريب؛ إذ قال له: إن السلطان هو الذي دبر هذه المكايد، وإن لديه أسرارًا كثيرة سيذكرها في المجلس العسكري. وزد على هذا ما ظهر من اتساع نطاق هذه المؤامرة بواسطة أشياع السلطان وأتباع صاحب جريدة (وولقان) بحيث كان المراد بها تحريض المسلمين في كل الولايات على فتك بعضهم ببعض؛ ليستوجب ذلك تداخل أوروبا، واقتناعها بعدم استعداد الأمة العثمانية للحكم الدستوري. بدأت هذه الحركة المشؤومة في ولاية أدنة وأطراف ولاية حلب، ثم ظهرت في أرضروم بين الجنود، وظهرت في ديار بكر فأطفئت في الحال، ولم يقف دون شبوب هذه النار في كل الولايات العثمانية إلا سرعة حركة جيش الحرية ودخوله الآستانة، ثم مبادرته إلى خلع السلطان عبد الحميد. ولو نجحت هذه المؤامرة الخبيثة، لما بقي في تركيا حجر قائم على حجر، ولدمرها السلطان كما دمرت مدينة أدنة التي أصبحت أطلالاً بالية، ولو أردنا أن نأتي على تفصيل هذه الحوادث لاحتجنا إلى مجلد من المنار، فهل يقال بعد هذا: إن السلطان عبد الحميد كان مخلصًا للدستور، وإنه أعطاه برضاه؟ وهل وجد في تاريخ العالم ملك تنزع من صدره الرحمة، وينزل بالنفس الأمارة بالسوء إلى هذا الحد من حب الانتقام لنفسه، ولو بتخريب المملكة التي تأسست على دماء مئات الألوف من المسلمين، ثم يلصق مثل هذه الجناية بالإسلام وشرائعه الطاهرة؛ إذ يثير مثل هذه الفتنة باسم الدين الإسلامي، وتحت ستار الشريعة؟ إنا نعتقد أن إخواننا المسلمين في الهند وغيرها أرفع عقولاً، وأبعد عن التصديق بكل ما كان يقال في جرائد المنافقين عن مزايا السلطان التي تكاد تماثل مزايا آلهة اليونان الواردة في أساطير القوم، وأنه كان من أنصار الدستور، مع أنه هو الذي قتل واضعي الدستور مدحت باشا وإخوانه، وعطل القانون الأساسي مدة ثلاث وثلاثين سنة، قتل في غضونها ألوفًا من شبان الأمة المائلين إلى الحرية، منهم من ماتوا في السجون، ومنهم من ماتوا في المنفى؛ لكثرة ما عانوه من شظف العيش، ومنهم من ماتوا إغراقًا في البحار، وآخر من كادوا يموتون تعذيبًا في السجن من أولئك الأحرار صديقنا الحر الغيور حسين بك طوسون، وطائفة من أهل أرضروم وفيهم مفتيها الذي مات في السجن شهيد الحرية والإنسانية. وجريمتهم أن حسين بك طوسون الذي قضى أكثر أيام حياته بعيدًا عن وطنه مجاهدًا في سبيل الحرية، ذهب بصفة خفية إلى أرضروم، وبث في طائفة من أفاضل أهلها فكرة المطالبة بالقانون الأساسي والتخلص من الاستبداد، فأجابوا نداء الضمير والحقيقة، وقاموا بالحركة الدستورية التي كانت في أرضروم منذ سنتين، فقضي عليهم جميعًا وجيء بهم إلى الآستانة فزج بهم في سجونها، ولولا قيام جيش الحرية في سلانيك، وإعلان الدستور، لماتوا في التعذيب عن آخرهم، كما مات من قبلهم. وكذلك كان مع الشاب المهذب المرحوم محمود فائز أفندي [1] الذي كان يحرر جريدتنا (الشورى العثمانية) ، وسافر إلى أزمير قبل إعلان الدستور بستة أشهر مضحيًا حياته في سبيل الحرية، فقبض عليه وعلى عدد غير قليل من أفاضل أهل أزمير، وزج بهم في السجون، ولاقوا من أنواع العذاب ما لا يوصف، وبعد هؤلاء الخمسة والعشرون الضباط الذين جيء بهم من سلانيك وسجنوا في الآستانة قبل إعلان القانون الأساسي ببضعة عشر يومًا. كل هؤلاء كانوا عرضة للموت في السجون كما مات من قبلهم، لولا أن تداركهم الله بقيام الجمعية في سلانيك، وظهور قوتها المتحدة بقوة الجيش، وإرغامها السلطان عبد الحميد على إعلان القانون الأساسي، وخروج هؤلاء المظلومين من غيابة السجن وأسر التعذيب. هذا ما أردت إضافته على ما كتبه المنار الأغر؛ ردًّا على القسم الأول من كلام الكاتبين. (1) وأما القسم الثاني والدعاوى الست التي لخصها المنار الأغر: فالأولى منها المالية؛ ويكفي أن نضرب له مثلاً أو مثلين على مبلغ خللها وضعفها في عهد السلطان الماضي؛ إذ وجوه الضعف والخلل مما لا يمكن إحصاؤه في هذه العجالة، فالمثل الأول أن الحكومة الدستورية وجدت فيما وجدت من الخلل في المالية عدة ملايين من الجنيهات دينًا على الدولة لجهات متعددة، لم يجدوا لها قيودًا رسميةً فسموها الديون السائرة، واضطروا أن يعلنوا في الجرائد عنها، وكلفوا كل من في يده مستند من أصحابها أن يراجع الحكومة في غضون مدة محدودة، وعلى هذا فقس كل أحوال المالية , وما سبب هذا الخلل فيها إلا استئثار السلطان بواردات الدولة، مما لا تستطيع حصره نظارة المالية؛ لتناوله لتلك الواردات مباشرةً بغير واسطتها؛ ولأجل هذه الغاية كان ألّف منذ بضع سنين لجنة في يلدز من حواشيه سماها اللجنة المالية؛ لمراقبة مالية الدولة في الظاهر وسلبها في الباطن، فكان أول قاعدة وضعتها تلك اللجنة أن لا يُنفق قرش واحد من خزائن الولايات إلا بعد استئذانها، حتى مرتبات المأمورين ونفقات الجنود التي هي طبيعية في كل ولاية داخلة في ميزانيتها الخصوصية، وكان من ذلك أن صارت هذه اللجنة كلما اجتمع مبلغ من المال في ولاية، تطلب إرساله إليها في الحال، وهذه تضعه تحت أمر السلطان ينفق ما شاء منه على جواسيسه ومقربيه ومصالح الدولة، ويستأثر لنفسه بما شاء، حتى تعطلت أمور الولايات الإدارية، وفشت الرشوة في المأمورين؛ لكي يعتاشوا بما يحصل لهم منها من النقود، وحتى صارت الفيالق العسكرية إلى حالة من الفقر والضعف وفقد الحاجيات العسكرية، لا يمكن أن يصورها كاتب بقلم ولا يصدقها إلا من شاهدها بعينه من العثمانيين، وإليك مثالاً منها. لما حدثت مسألة العقبة، وتصدى الإنكليز في مصر إلى التداخل فيها، ورأت الحكومة العثمانية وجوب إرسال الجنود إلى العقبة، وأوعزت إلى الفيلق الخامس الذي مركزه دمشق، بإرسال تابورين من المشاة وبطارية مدافع إلى العقبة، لم يوجد في الفيلق كله عشرون حصانًا لأجل المدافع؛ لأن خيل السواري والطوبجية الخاصة بالفيلق الخامس انقرضت عن آخرها، ولم يشتر غيرها، فاحتيج للإتيان بها من الآستانة، وترتب على ذلك تأخير الحملة العسكرية، وعزل والي سورية ناظم باشا يؤمئذ؛ لأن قائد الفيلق ألقى عليه تبعة الإبطاء؛ لعدم تعجيله بدفع نقود تكفي لتجهيز خيول هذه الحملة ولوازمها الأخرى، مع أن خزينة الولاية كانت خالية من النقود. هذا مثال من الأمثلة المحسوسة التي يحتاج استقصاؤها إلى كتاب ضخم، يبين ماذا أصاب الدولة من الضنك المالي والاضطراب الإداري في عصر السلطان الماضي، مع تنوع الضرائب والجبايات وتوالي طلب الإعانات المستحدثة، ومن

الذكر ورابطة النقشبندية

الكاتب: محمود أفندي شكري الآلوسي

_ الذكر ورابطة النقشبندية لما اطلع السيد محمود شكري أفندي الألوسي عالم العراق المصلح الشهير على ما كتبناه في رابطة النقشبندية - استحسنه وفضله على جميع ما كتبه العلماء في ذلك، وأرسل إلينا القصيدة الآتية، وقال: إنها للشيخ عثمان بن سند النجدي نزيل البصرة - رحمه الله - وكان من رجال أواسط القرن الثالث عشر في إبطال الرابطة التي يقول بها المتصوفة. أخل الفؤاد إذا ما كنت ذاكره ... تكن فتى بسلاف الذكر قد سكرا فكيف يدعو لإخلاء الفؤاد من الـ ... ـأغيار طرًّا ليصفو الذكر للفقرا فكيف يدعو إلى تصوير صورته ... في خاطر فيه نور الله قد سفرا فأصقل فؤادك بالذكر اللذيذ وكن ... ممن عن الغير في أذكاره نفرا لم يحل قط شهود الله في خلد ... إلا إذا لم يكن فيه سواه يرى وإن يكن من أناس من يشاهدهم ... مولاه يذكر ما أنوارهم نظرا إذ صورة المصطفى صحت بها كتب ... وما بتصويرها أصحابه أمرا لو كان من ديننا تصوير مشيخة ... لكان أجدر لكن تقتفي الأثرا فحسبنا باتباع المصطفى شرفا ... إن مال نحو اتباع غيرنا وجرى فيا مريد الهدى استمسك بعروته ... وقل إذا السالك استهداك معتبرا دع التوجه إلا للذي فطرا ... واسلك على الشرع واترك ما سواه ورا فسالك لسبيل المصطفى ثبتت ... أقدامه ومريد غيره عثرا إن الطريق إن عرفتها عمل ... بالشرع فاعمل به وانظر لما نظرا وبعد تخلية فاعمل بتحلية ... وإن تحلية أخذ بما أمرا من سار لله نقى السر من كدر ... لا ينظر الله سرًّا أشرب الكدرا وأخرج عن النفس والأغيار تحظ به ... لم يحظ بالله مملوء الحشا غيرا ولا تظن اشتغالاً بالعلوم شقى ... إن الشقاء لمن غير العلوم يرى فالعلم يحمله من كل ما خلف ... عدو له فهم من غيرهم أمرا ينفون تحريف ذي الأبطال عنه فكم ... مدقق منهم دين الهدى نصرا لاتحتقر سالكًا علمًا فسالكه ... سام وتاركه بالجهل قد حقرا وارج الحوائج من مولاك لا بشر ... وإن سما من مقام الصالحين ذرى لو كان مستلبًا منه الذباب ولم ... يقدر الله إنقاذًا لما قدرا فافزع إلى الخالق المعبود معتصمًا ... في كل ما حدث إن جل أو صغرا واعبد كأنك مولى العالمين ترى ... فإن تكن لا ترى مولاك فهو يرى واحذر دسائس نفس ربما قتلت ... ففي الدسائس منها دقق النظرا الذكر ركن عظيم من طريقتهم ... وخيره ما عن المختار قد أثرا جد في السير للرحمن مقتفيًا ... آثار من فات كل الخلق حين سرى وكل مؤمنة أو مؤمن فله ... حق عليك فأحبب منهما الأثرا واخش احتقارك للعاصي لمعصية ... فرب عاص تعدى ذنبه غفرا فمكر ربك لا تأمن وكن رجلاً ... مستمسكًا أبدًا من شرعه بعرى لا ناظرًا عملاً لكن لرحمة من ... كل الأنام اليه دائمًا فقرا معلقًا منك آمالاً بذيل ندى ... من فضله الجم ذرات الورى غمرا اذكره في خلوة أو جلوة لترى ... مما له عند أملاك سموا ذكرا وبالنواجذ فاعضض شرع مرسله ... ودع أقاويل أقوام جرت هذرا ما خالف الشرع مردود وقائله ... بذا روينا عن الهادي لنا خبرا والدين أكمله المولى فليس به ... نقص فيكمله من نقصه ظهرا إن الأطبا أساة الدين هم علما ... قد دققوا في معاني السنة النظرا حامون حوزتها عن كل مؤتفك ... مزين في طريق الله كل فرا لا توقعن نظرة يومًا على عمل ... إن رمت إخلاص أقوام بدوا غررا إخلاصهم عرف الرفاق زاد على ... أن لا يكون لإخلاص له نظرا لا مثل من حقروا أعمال غيرهم ... واستعظموا كل فعل منهم صدر

النساء والحجاب والتعليم

الكاتب: محمد بن الشيخ الطاهر الحلي

_ النساء والحجاب والتعليم وردت إلينا هذه القصيدة من بغداد في معارضة الشيخ محمد بن الشيخ الطاهر الحلي لقصيدة الشيخ معروف الرصافي التي نشرناها في الجزء الثاني: لنعم مؤدب الخفرات بيت ... يقمن به إلى يوم الممات يقرن به كواكب في بروج ... ولا يعدونه متبرجات فما لك ياغيور نظمت شعرًا ... نثرت به عقود البينات تعرض في نساء القوم قدمًا ... وتعرض عن أوامر صادعات فقد قال الإله (وقرن) أمرًا ... يؤدب فيه خير الأمهات فإن تفهم سوى المعنى فبين ... وإن تزعم له نسخًا فهات نشدتك هل قصدت بذا بيانًا ... على حسن اقتدار والتفات أو استنبطت ذا من فعل خير النـ ... ـساء العالمات العاملات فإن تك آمنًا في العلم بحرًا ... تحل لعائليها المشكلات فقد كان المعلم خير زوج ... بحجرة بيته لا المدرسات وقد كان الأولى سألوا علومًا ... بنيها لا البعيد من العدات فمن تغدو على القسيس كيما ... تعلم ضرب عود أو كرات وتأتيها الرجال تنال منها ... فتؤتى في منازلها وتأتي كمن أخذت عن المختار علمًا ... وعلمت البنين أو البنات قياس لا ينسم في هواء ... ولا ينساغ في ماء فرات فهل هذا لعمر أبيك إلا ... كتسوية الذين مع اللواتي وما ذكر كأنثى نص فيها الكتـ ... ـاب لقول إحدى العالمات ونقصان النساء حجى ودينًا ... صحيح في مسانيد الروات أأم المؤمنين إليكِ نشكو ... مصيبتنا بهتك المؤمنات يريد الله أن يغضضن طرفًا ... ويدنين الجلابب ساترات ولا يبدين زينتهن إلا ... لطفل ليس يعلم بالهنات ويُسألن المتاع ورا حجاب ... ويلقين الرجال محجبات فكيف يليق أن تلقي حجابًا ... وتبرز للعيون الشاخصات ونرضى أن تلوح بكشف وجه ... ولو بين الأعفاء الأبات فتلك مصيبة يا أم منها ... نكاد نغص بالماء الفرات

خطبة خطيبة مصرية على النساء

الكاتب: باحثة البادية

_ خطبة خطيبة مصرية على النساء نشرت الجريدة مقالات مفيدة في شؤون النساء والبيوت لكاتبة مصرية مسلمة لقبّت نفسها بهذا اللقب (باحثة بالبادية) ثم إنها دعت بلسان الجريدة النساء إلى سماع خطبة لها في شؤونهن مع الرجال فأجاب دعوتها مئات منهن فاجتمعن يوم جمعة في نادي حزب الأمة، وسمعن منها هذه الخطبة. أيتها السيدات: أحييكن تحية أخت شاعرة بما تشعرون، يؤلمها ما يؤلم مجموعكن، وتجذل بما تجذلن به، وأحيي فيكن كرم النفس؛ لتفضلكن بتلبية الدعوة لسماع خطبتي. إن أطلب بها إلا الإصلاح ما استطعت، فإن أصبت كان ما أرجو، وإن أخطأت فما أنا إلا واحدة منكن، والإنسان يخطئ ويصيب. فمن رأت في خطبتي رأيًا مخالفًا لما تعتقد، أو أحبت المناقشة في نقطة ما فلتتفضل بإبداء ما يعِنّ لها بعد انتهاء كلامي. أيتها السيدات: ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف، أو لعرض مختلف الأزياء ومستحسن الزينات. وإنما هو اجتماع جدي أقصد به تقرير رأي لنتبعه، ولأبحث فيه عن عيوبنا فنصلحها , فقد عمت الشكوى منا، وكثرت كذلك شكوانا من الرجال. فأي الفريقين محق في دعواه؟ وهل نكتفي من الإصلاح بمجرد التذمر والشكوى؟ لا أظن مريضًا طاوع أنينه فشفاه، يقول المثل العربي: (لا دخان بلا نار) ، ويقول الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر: (إن الآراء التي تظهر لنا خطأ، لا يمكن أن تكون خطأ محضًا، بل لا بد أن يكون فيها نصيب من الصحة والصواب) إذن فنحن والرجال متساوون في صحة الدعاوى وبطلانها، كلنا متظلمون، وكلنا على حق مما نقول، بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة وما سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم. فهم يعزون هذه الحالة؛ لنقص في تربيتنا وعوج في طريقة تعليمنا، ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم، وهذا الاختلاف في إلقاء المسئولية زادنا اختلافًا في العيش، وأوسع هوة الجفاء بين الرجال والنساء في مصر، وهو أمر لا ننظر إليه بعين الارتياح، وإنما نأسف له ونتوجس منه، لم يخلق الله الرجل والمرأة ليتباغضا، ويتنافرا، وإنما خلقهما الله ليسكن أحدهما إلى الآخر فيعمر الكون؛ إذ في ائتلافهما بقاؤه ولو انفرد الرجال في بقعة من الأرض وانعزلت النساء إلى أخرى، لانقرض الحزبان وحقت عليهما كلمة الفناء. تُدركن معنى قولي هذا من صعوبة الرد على هذا السؤال: أي الجنسين أصلح للبقاء في الدنيا النساء أم الرجال؟ فإذا أجابت إحداكن: الرجال؛ لأنهم يقومون بشاق الأعمال من بناء واختراع وزرع وغيره - لعارضتها بقولي: ولأجل من تُتجشم تلك الصعاب، ولا نساء يتسلسل منهن النسل لعمار هذا الكون؟ إذا قلنا النساء لأنهن مدبرات البيوت وأمهات النشء؟ لقلت: ومن أين يأتي النشء، ولا أب له؟ هذا قياس على نظام الطبيعة الحالي، ولا نتوسع بالافتراضات والمتوهمات، فقد كان الله قادرًا على خلق نظام آخر للتوالد، وهو قادر على خلق مثله. ولكنا للآن لم نسمع إلا بمثال واحد لهذا الشذوذ هو: مثال سيدنا عيسى عليه السلام. فالمرأة والرجل للكون كالخبز والماء للجسم، أو الشمس والماء للزرع، ولو استعاضت إحدانا باللبن عن الماء، فإن اللبن بالتحليل يحتوي الماء، فالكتب السماوية كلها مجمعة على أن أصل البشر من آدم وحواء، والقائلون برأي دارون لم ينكروا ضرورة لزوم الذكر والأنثى للتوالد من الحيوانات الأولى التي زعموا أنها ارتقت بالتدريج إلى مصاف الإنسان، كذلك الحال في كل جسم حي نامٍ، فإن النباتات كلها فيها الذكورة والأنوثة، والزهرة على لطافتها وصغر حجمها تحتوي شكلين مختلفين من العروق: أحدهما لقاح للآخر، كذلك جعلهما الله لينتج منهما الحب الذي فيه بقاء النوع، وسلط عليه الريح تسفيه إلى الأرض، فإذا ما جاده الغيث أو لقي ريًّا نبت ونما وصار شجرًا مما وقع منه، فنظام التوالد هذا مطرد في كل الأجسام الحية من حيوانات ونبات، لا شك فيه ألبتة، وإذا راجعنا إحصائيات العالم كله، وجدنا أن عدد الذكور والإناث فيه يكاد يكون واحدًا أو بفرق قليل جدًّا، هذا دليل على أن الله خلق رجلاً لكل امرأة، هذا بقطع النظر عن الحروب وغيرها مما قد يخل بهذا التوازن الطبيعي الدقيق، إذن فمحاولة الاعتزال بين الرجال والنساء مستحيلة، وعليه فلا فائدة من هذه الغارات القلمية الشعواء بيننا وبينهم، والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا، ونُزيل سوء التفاهم والتحزب؛ لتحل بدلهما الثقة والإنصاف؛ ولنبحث أولاً في نقط الخلاف. يقولون: إننا بتعلمنا نزاحمهم في أشغالهم، ونترك أعمالنا التي خلقنا الله لها فليت شعري، ألم يكونوا هم البادئين بمزاحمتنا، كانت المرأة في العهد السابق؛ تغزل الخيط وتنسج ثيابًا لها ولأولادها، فاخترعوا آلة الغزل والنسيج فأبطلوا عملها من هذا القبيل، كانت المرأة المتقدمة تغربل القمح وتهرسه وتطحنه على الرحى بيديها، ثم تنخله وتعجنه فتهيئ منه خبزًا، فاستنبطوا ما يسمونه (الطابونة) واستخدموا فيها الرجال، فأراحونا من ذلك العمل الكثير. ولكنهم عطلوا لنا عملاً ثانيًا. كانت كل امرأة من السالفات تخيط لنفسها ولأفراد بيتها فتفننوا لنا آلة للخياطة، يشتغل في استخراج حديدها وصناعتها الرجال، ثم جعلوا منهم خياطين يخيطون لرجالنا ولأولادنا، فأدوا لنا بذلك عملاً ثالثًا، كنا نكنس حجرنا أو تكنسها الخادمات بمكانس من القش، فاستنبطوا آلة الكنس التي يكفي أن يلاحظها خادم صغير، فتنظف الرياش والأثاث، كانت الفقيرات والخادمات يجلبن الماء لبيوتهن أو لبيوت سادتهن، فاخترع الرجال القُصب (المواسير) والحنفيات تجلب الماء بلا تعب، فهل ترى عاقلة الماء يجري عند جارتها في أعلى طبقات منزلها وأسفله وتذهب لتملأ من النهر، وقد يكون بعيدا؟ أو هل يعقل أن مدنية ترى خبز (الطابونة) نظيفًا طريًّا لا تتكلف له سوى ثمنه، تتركه لتغربل وتعجن، وقد تكون ضعيفة البنية لا تتحمل تعب تجهيز القمح وعجنه، أو فقيرة لا تستطيع تأجير خدم له، أو وحيدة لا مساعدة لها عليه، أظن الرجال لو كانوا محلنا لما فعلوا سوى ما فعلناه، وما من امرأة تقوم بهذه الأعمال كلها إلا القرويات اللاتي لم يدخل قراهن التمدين، بلى إنهن يستعضن عن الرحى بوابور الطحين، وبعضهن عن الملء من البحر (بطلومبات) يضعنها داخل دورهن. ولست أريد من قولي هذا أن أذم الاختراعات المفيدة التي اخترعها الرجال؛ لتسد كثيرًا من أعمالنا، أو لأقول: إنها زائدة عن حاجتنا، وإنما كان هذا الشرح ضروريًّا؛ لبيان أن الرجال هم البادئون بالمزاحمة، فإذا ما زاحمناهم اليوم في بعض أشغالهم، فإن الجزاء الحق من جنس العمل. على أن مسألة المزاحمة هذه ترجع للحرية الشخصية، فزيد راق له أن يكون طبيبًا، وعمرو ارتأى أن يكون تاجرًا، فهل يصح أن نذهب للطبيب ونقول له: لا تحترف هذه الصناعة بل كن تاجرًا، وهل يمكننا أن نجبر التاجر على أن يصير طبيبًا؟ كلا، فكل له حرية يفعل ما يشاء، ولا ضرر ولا ضرار، أو هل يجوز أن يمنع مهندس قديم من يحترف هذه المهنة من غيره؛ لأنه كان يكتسب ربح بلد بأكمله، فجاء له هؤلاء المهندسون الجدد يقتسمون أرباحه؟ ولو جاز ذلك قوة لما صح أن يجوز شرعًا وحرية، ولما قامت من أجله الشحناء بين الرئيس روزفلت وشركات الاحتكار، فإذا كان المخترعون والصناع أبطلوا جزءًا كبيرًا من أعمالنا، فهل نقتل الوقت بالكسل، أو نبحث عن عمل يشغلنا؟ لاغرو أننا نفعل الثاني، ولما كانت أشغال منزلنا قليلة، لا تشغل أكثر من نصف النهار، فقد تحتم أن نشغل النصف الآخر بما تميل إليه نفوسنا من طلب العلم، وهو ما يريد أن يمنعنا عنه الرجال؛ بحجة أننا نشاركهم في أعمالهم. لا أريد بقولي هذا أن أحث السيدات على ترك الاشتغال بتدبير المنازل وتربية الأولاد، إلى الانصراف لتعلم المحاماة والقضاء وإدارة القاطرات، كلا. ولكن إذا وجد منا من تريد الاشتغال بإحدى هذه المهن، فإن الحرية الشخصية تقضي بأن لا يعارضها المعارضون، يقولون: إن الحمل والولادة مما يجبرنا على ترك الشغل؛ ويتذرعون بذلك إلى جعلها حجة علينا. ولكن من النساء من لم تتزوج قط، ومنهن العقيمات اللاتي لا ينتابهن حمل ولا ولادة، ومنهن من مات زوجها أو طلقها، ولم تجد عائلاً يقيم أوَدَها، ومنهن من يحتاج زوجها لمعونتها، وقد لا يليق بهؤلاء أن يحترفن الحرف الدنيئة، بل ربما يملن إلى أن يكن معلمات أو طبيبات حائزات لما يحوزه الرجال من الشهادات، فهل من العدل أن يمنع مثل هؤلاء عن القيام بما يرينه صالحًا لأنفسهن قائمًا بمعاشهن؟ على أن الحمل والولادة إذ كانا معطلين لنا عن العمل الخارجي، فهما معطلان لنا عن الأعمال البيتية أيضًا وأي رجل قوي لم يمرض، ولم ينقطع عن عمله أحيانًا؟ يقول لنا الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش فليت شعري، أي فرمان صدر بذلك من عند الله؟ من أين لهم معرفة ذلك والجزم به، ولم يصدر به كتاب؟ نعم.. إن الاقتصاد السياسي ليأمر بتوزيع الأعمال، ولكن اشتغال أفراد قلائل منا بالعلوم لا يخل ذلك التوزيع، وما أظن أصل تقسيم بين الرجال والنساء إلا اختياريًّا بمعنى أن آدم لو كان اختار الطبخ والغسل، وحواء السعي وراء القوت، لكان ذلك نظامًا متبعًا الآن، ولما أمكن أن يحاجنا الرجال بأنا خلقنا لأعمال البيت فقط، وها نحن أولاء لا نزال نرى بعض الأقوام كالبرابرة مثلاً، يخيط رجالهم الثياب لأنفسهم ولأفراد بيتهم، ويتجشم نساؤهم مشقة الزرع والقلع، حتى إنهن ليتسلقن النخل لجني ثمارها. وهاهم نساء الفلاحين والصعايدة يساعدون رجالهم في حرث الارض وزرعها، وبعضهم يقمن بأكثر أشغال الفلاحين؛ كالتسميد، والدراس، وحمل المحصولات، ودق السنابل والبراعم (الكيزان) وسوق المواشي، ورفع المياه بما يسمونة بالقطوة، وغير ذلك من الأعمال التي ربما شاهدها منكن من ذهبت إلى الضِّياع (العِزب) ورأت أنهن يقدرن عليه تمام القدرة كأشد الرجال، ونرى مع ذلك أولادهن أشداء وأصحاء فمسألة اختصاص كل فريق بشغل مسألة اصطلاحية لا إجبار فيها , وما ضعفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقة؛ إلا نتيجة قلة الممارسة لتلك الأعمال، وإلا فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدة وبأسًا. أليست المرأة القروية كأختها المدنية؟ فلماذا تفوق الأولى الثانية في الصحة والقوة؟ هل ترْتَبن في أن امرأة من المنوفية تصرع أعظم رجل من رجال الغورية لو صارعته؟ فإذا قال لنا الرجال: إننا خلقنا ضعيفات، قلنا: لا، وإنما أنتم أضعفتمونا بالمنهج الذي اخترتم أن نسير فيه. حدثتني سيدة عالمة أنها في سياحتها بأميركا رأت بعينها هنودها الحمر تتحرك آذانهم من تلقاء نفسها تجاه الصوت الذي يترقبونه كآذان الخيل والحمير. ذلك نتيجة استعمالهم لها، وقد توارثوه أيضًا وهم في حاجة إليه؛ لتستمع زئير السباع وعواء الوحوش التي ربما تهاجمهم في فلواتهم. كذلك نجد حواس الوحشيين أقوى من حواسنا بكثير؛ فهم يشمون رائحة الوحوش من بعيد. أما نحن فلا ولم يكذب من قال: إن الوظيفة تُكوِّن العضو. هؤلاء العميان يعتمدون كثيرًا على حاسة السمع بعد فقد حاسة البصر، فتقوى فيهم بالتدريج تلك الحاسة إلى أن تبلغ غاية قد تعد من الخوارق عندنا، فهل بعد أن استبعدنا الرجال قرونًا طوالاً حتى خيم على عقولنا الصدأ، وعلى أجسامنا الضعف. يصح أن يتهمونا بأنا خلقنا أضعف منهم أجس

رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين ـ 4

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين لليافعي (4) بحث أحاديث الآحاد وهل هي من أصول الدين قال الفاضل حفظه الله: الكلمة الرابعة بيان أسباب أن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين. ونحن نقول: هذه دعوى قد سبقه بها كثير ممن لم يبعد غوره في طلب هذه المسألة، وكان الأجدر بهؤلاء الباحثين أن يبحثوا عن جري الإنسان النظري الطبيعي، أهو مفطورعلى الصدق والتصديق، أم على الكذب والتكذيب؟ إن من أمعن النظر وحققه، وجرب الواقع ومحصه، يرى أن الانسان مجبول على قول الصدق، ومفطورعلى تصديق كل ما سمع. هذه هي حالته الطبيعية؛ لما نرى أن الصغار الذين هم في حالة السذاجة وعلى الجري الفطري الطبيعي الذين لم تملهم الحوادث والطوارئ والأحوال المكتسبة - لا يكادون يكذبون خبرًا ولا يكذبون في خبر. نعم، قد نرى من بعضهم في بعض الأحيان ما يشوش هذا الخلق الطاهر؛ كالذهول والنسيان؛ ولكننا إذا اعتنينا بهذه النكتة السوداء المكدرة لصفاء هذا المجراء الطاهر المستقيم، نرى ذلك مرضًا من الأمراض العارضة المختلفة باختلاف أسبابها، وباختلاف المتأثر والقابل، فالنسيان بأقسامه؛ قد يظن بعض الناس أنه لازم طبيعي للبشر، وليس الأمر كذلك، وإنما هو مرض أو أشبه بالمرض، ويصح أن يقال: إن كل ما انتقش في الحافظة لا يزول ويمحى بالكلية، وإنما إذ صرفت همة الإنسان وقصده الشواغل، فهو يذهل عن بعض ما انتقش في حفظه، فإذا استعجل وترك التفتيش عما في الخزانة المحكمة المصونة، ولم يميز ما يأخذ منها، فربما ركبت له هذه الحركة الفكرية الخفية الغير المنتظمة صورة بدل صورة، أو صورة مركبة مما في هذه الخزانة لما قدمنا أو لأنه ضعف أخذه لها حين حفظها لضعف قصده ونحوه، وحينئذ إذا أراد أن يخبر عن ذلك وقع في خبره الخلل. ودواء ذلك صدق القصد ابتداء واستمرارًا وانتهاء أي: وحينما يريد أن يحدث بذلك. وذلك يكون بالمراجعة والمذاكرة مع من يشاركه في ذلك، وعلى الأقل بالرجوع إلى نحو كتاب؛ دفعًا للطوارئ التي تتناوبه وتشوش استمرار شعوره بما حفظ. يوضح ذلك أن الإنسان كثيرًا ما يتذكر ما نسيه، والوجدان شاهد ذلك 0 وكما أن الذهول يكون فيما حفظه الإنسان، كذلك يكون فيما يتلقاه ويشاهده في الخارج والواقع. وانتقاش الأشياء في الحفظ يختلف قوة وضعفًا باختلاف الاستعداد والتوجه، وقوة الاكتساب حين الأخذ. فظهر بذلك أن النسيان ليس بوصف ذاتي لكل إنسان لا ينفك عنه؛ إذ لو كان كذلك لم تحفظ شيئًا؛ لامتناع قيام الشيء الذاتي ونقيضه بمحل واحد، فالقوة التي تحفظ بها ليست هي قوة النسيان ولا سببه، وإنما النسيان ذهولنا عن تمييز ما حفظناه لسبب ما - مما قدمناه- وإذا كان الصدق والتصديق هو أصل الفطرة، فما يعارضه من نسيان وكذب، فإنما يكون لأسباب طوارئ وعوارض لمن انحرف ومال عن مقتضى الفطرة الطبيعية، وقد عرفت دواء النسيان ودواء الكذب الذي لا يضاهيه دواء: هو استشعار خوف الله المطلع على كل خفية. وعليه فلا يبعد أن يقول: يمكن أن يكون مضى على البشر زمان لا يعرفون فيه غير الصدق والتصديق؛ لعدم أسبابه أو ضعفها 0 وعليه فما نراه من تصديق بعضهم بعضًا في جميع شؤونهم هو إرث بقاء، ولذا نراهم يستهجنون الكذب والكذابين، حتى رسخت قباحته وصارت من الضروريات، واستحسنوا الصدق حتى صار من المستحسنات وبما قررناه يثبت: أن الاصل في أخبار الآحاد هو إفادة العلم واليقين. إلا إن فساد الأخلاق قد غير من ذلك كثيرًا ممن خرج عن الفطرة وعن الدين. لكن لا يجب أن لا يبقى من ذلك شيء يفيد الصدق، إذا كان المخبر والمخبر ممن تهذبت فطرتهم، وقوي تمكنهم بالدين مع استعمالهم لجميع الأدوية المانعة لطروّ مرض النسيان، فليتأمل الناظر. فقول الفاضل: (إن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين) إن أراد أن بعضها لا تفيد ذلك لضعف حامله؛ إما لأنه عُرف بالخلط والخبط في أخباره، أو لأنه كان مظنة لذلك؛ فهو صحيح في بعض الحالات لا في بعضها الآخر، حيث يعلم أنه يشارك المخبر في مضرة الكذب، وأنه لا غرض له فيه، أو أنه يخاف عقاب المخبر إن كذب عليه، ففي هذه الصورة قد يفيد خبر الواحد الفاسق الظن الراجح أو العلم لبعض الناس؛ ولذلك لم يأمر الله برد خبره ولا قوله إلا بعد التبين , وإن أراد حضرته أن كل فرد فرد من أخبار الآحاد وأحاديثهم لا تفيد كل فرد فرد من المخبَرين (بفتح الباء) العلم، فالواقع والعقل يكذب هذه الدعوة. ولا عبرة بقول من تقدمه بهذا الإطلاق كائنًا من كان. نقول ذلك إيثارًا للحق والحقيقة غير طاعنين في ذواتهم وفضلهم. إنه مهما قال من خالف ما ذهبنا إليه، ومهما جهد في التشكيك والتشويش مما يظن أنه تحقيق، فإنه لا يستطيع أن يغير الفطرة التي لا يكاد أن يخرج عنها فرد من البشر مختارًا أو ملجأ، وإن من خالفنا فإنه لا وجود لخلافه لا في الواقع ونفس الأمر، ولا في الاعتقاد، وخلافه لا يتحقق بأكثر من الوجود في القول والعبارة؛ لأن الإنسان ملجأ بالضرورة في أكثر شئونه إن لم نقل في كلها إلى من يعتمد عليه في التعاون، ولا واسطة لذلك تقوم مقام الإفهام والتفاهم في الأمر والأخبار. ولما كان الإنسان مدنيًّا بالطبع، كان التصديق في الإفهام والتفاهم طبيعيًّا له. ولما كان الارتفاق والاجتماع البشري يشتمل على كثير من العلوم أكثرها ضروري له، فمن اشترط لهذه العلوم غير طرقها، كان محصل قوله ونتيجته إنكار هذه العلوم وإهمالها الذي من لازمه تفكيك هذا الاجتماع البشري، ومحو علوم هذا الارتفاق وهو غالط. ومنشأ هذا الغلط أخذ المتأخر قول من تقدمه أصلاً ثابتًا بدون نقد، وتثبت فيه كما يقال: إن العلم واحد لا يكون بعضه أقوى من بعض، أو إنه لا يقبل الزيادة والنقصان، أو إنه لا يتفاوت في جزئياته أي: لا يتفاوت في من قام به من الأشخاص، أو أن الطرق المؤدية إليه شرائطها واحدة، وإن مقدماتها لا تقبل احتمال التغير، حتى بفرض المانع الذي لم يتحقق وجوده، ونحن لا نقبل هذه الأقوال ونحوها على إطلاقها، لكن بعد التفصيل والتقييد. فمن اشترط في علم المعلوم تحقق علته وسببه في نفس الأمر، وصفاته ولوازمه كذلك، وعدم الموانع كذلك، فقد كلف نفسه ما لا تطيقه، وطمع فيما يكاد أن لا يكون للبشر فيه مطمع، والعبرة عندنا في ذلك اطمئنان النفس، فإن كان ذلك كسبيًّا فلا بد من بذل الجهد في الدليل بحسب الاستطاعة. والحاصل أن العلوم كثيرة والطرق المؤدية إليها كذلك؛ وهي مختلفة وطرقها كذلك، ولكل شرائط لا يمكن التزامها في الأخرى، فعلوم الاجتماع والارتفاق: كاللغات ومتعلقاتها، وعلوم الشرائع والأديان وملحقاتها، وكذلك علوم الآثار والتاريخ والطب، ونحو ذلك، لا يمكن كل أحد أن يكتسبها بالعقل أو بالحواس مباشرة ودائمًا، فلا بد من الواسطة، فنشترط فيها أن تكون مما تطمئن النفس إليها لا مطلقًا، بل بعد بذل الجهد المستطاع، وبناء على ذلك فمن بلغه حديث ولم يقصر عادة ثم اطمأنت إليه نفسه، فقد حصل له العلم واليقين، ولا عبرة باحتمالات لم تشوش جزمه، واطمئنان نفسه، والمسلمون تطمئن أنفسهم إلى هذه الأحاديث المكتوبة عن الثقات الضابطين والأئمة العارفين، فهي تفيد أكثرهم العلم. ونقول لحضرة الفاضل ومن قال بقوله: ما دليلكم على أن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين؟ فإذا قال: إن كل فرد فرد من البشر يجوز منه وعليه الكذب والذهول والنسيان، وكل من جاز عليه ذلك جاز أن ينسى الخبر ويكذب فيه، واستنتج أن كل فرد فرد من البشر يجوز أن ينسى خبره أو يكذب فيه. فإذًا ترتب على ذلك كبرى وهي: كل من كان كذلك فخبره يحتمل أن يكون منسيًّا أو محفوظًا، وكذبًا أو صدقًا، فالنتيجة أن كل فرد من البشر يحتمل أن يكون خبره منسيًّا أو محفوظًا، وكذبًا أو صدقًا. هذا غاية ما يمكن أن يقولوه في الاستدلال، وهو كما تراه يفيد أن خبر كل فرد فرد يحتمل الصدق والكذب. ونحن لا نسلم صحة الكبرى التي أسس عليها، وأهل المنطق لم يقولوا بذلك، بل قالوا: القضية قول يصح أن يقال لقائله: إنه صادق فيه أو كاذب. ولم يتعرضوا لنسبة ذلك إلى المخبر فتفكر. وما ذكره الفاضل - حفظه الله - فإما أن يكون مراده: أنها لا تفيد اليقين في حد ذاتها أعم من الواقع والذهن، وإما أن يريد أنها لا تفيد ذلك في أحدهما. وعلى كل تقدير فهو ترجيح لأحد الاحتمالين بلا مرجح؛ لأن لا دليله يفيد ولا ينتج إلا أنه يمكن أن تفيد اليقين، ويمكن أن لا تفيده، كما أن صريحه أنه يحتمل أن تكون الأخبار صادقة ويحتمل أن تكون كاذبة فالاقتصار على أحد الاحتمالين مغالطة، وهذا إن سلم إنما يكون قبل الاختيار والفحص في المعنيات الخارجية. أما إذا نظر في ذلك وفرضناها في الخارج فهي لا تكون إلا صادقة أو كاذبة. فإن قال: مرادنا أن ما كان محتملاً للصدق والكذب لا يفيدنا أحدهما اليقين بذاته، فصح قولنا: خبر الآحاد لا يفيدنا اليقين، كما أنه لا يفيدنا نقيضه. قلنا: هذا لا يصح إلا بعد ثبوت وتسليم أشياء كثيرة: فمنها ثبوت أن كل فرد من المخبرين (بفتح الباء) يجب أن يستشعر احتمال النسيان والذهول والكذب وجوازه في كل أخبار المخبرين (بكسر الياء) ودون القول بوجوب ذلك ووجوده في الواقع كذلك خرط القتاد، لجواز أن يكون فيهم من لا يستشعر ذلك أصلاً أو يستشعرها. لكنها تكون عنده ضعيفة بحيث لا تمنعه عن التصديق بخبر الآحاد؛ لأن الواقع والمشاهد أن أكثر الناس يجزم بخبر الآحاد ويصدقون بها. وما ذلك إلا لما ذكرناه وأنه دليل على صحة ما قدمناه؛ من أن من فطرة الإنسان وطبيعته الصدق والتصديق، وأن ما يعرض لذلك من احتمال النسيان والكذب طوارئ عارضة نادرة، والنادر قل أن يلتفت إليه في أكثر أمور العامة وأكثر الناس عامةً. وأيضًا هذه الطوارئ العارضة، قد عرف الناس أنها لا تكون إلا لأسباب: إما أعراض للكاذب، أو تقصير في الضبط والحفظ، وما لم يقو احتمال وجودها لا تقوى أن تكون مانعة للجزم والتصديق بالخبر إلى غير ذلك. فإن أبى إلا المناقشة، وقال: لا عبرة بالعوام إذا كان التحقيق عند المحققين أن هذه الاحتمالات عارضة ومانعة عن التصديق بأخبار الآحاد. قلنا: يلزمك أولاً - أن كل ما يجزم به العوام من كل ما أدركوه كذلك أن لا يكون علمًا في حقهم، وثانيًا - أنا لا نسلم اتفاق المحققين على ما ذكرت، بل أكثرهم يعطون كل خبر مما يوجد في الخارج ما يستحقه، وهم يعلمون أن بعض المخبرين صادقون وبعضهم كاذبون وكذلك أخبارهم إن سلمنا أن بعضهم يقول: إن خبر الآحاد يفيد الظن الراجح أو إنه لا يفيد العلم، فإنما يقول: إن ذلك شأنه في حد ذاته لا بالنظر إلى حال المخبرين والواقع في نفس الأمر. وإن أراد بعضهم غير ذلك فقوله عندنا ركيك، ولا بد أن يكون فعله وعمله يكذب قوله، ولا خير في قول يكذبه فعل قائله. ونقول أيضًا: إنا لا نسلم الصغرى التي أسست عليها دليلك لا كلية ولا دائمة بيانه أن الكاذب لا يجب أن يكذب دائمًا، ونحن يمكن أن نميز كذبه في بعض الأحيان، وإذا كان يجوز أن نعرف ما يحتمل أن يكون كذبًا وما لا يحتمل، لم تصح أن تصدق الصغرى كلية دائمة، وإذا كان يوجد كثير من الناس أهل كمال وفضائل لا يكذبون، ونحن نعرفهم بسيماهم وبالتجربة الصحيحة، بطل صدق الكذب في أخبار الآحاد كلية، فالأخبار التي لا تؤخذ إلا من مثل هؤلاء لا يصح أن يفرض فيها احتمال كذب الراوي، فهي صادقة وسالمة عن أن يشو

التقريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ (كتاب دلائل التوحيد) لقد مَنَّ الله تعالى على دمشق الشام بالشيخ محمد جمال الدين القاسمي؛ ليكون فيها واسطة من وسائط الانتقال، وحلقة من حلقات الاتصال، بين الماضي الذي قد تدهور فيه المسلمون من عدة قرون، وبين المستقبل الذي ينشده المتبصرون، ويسعى إليه المصلحون، فهو بصير في العلوم الإسلامية المتداولة في العصر، متطلع إلى ما يتجدد من المطبوعات العربية في كل مصر، مجيد في الانتقاء من رديئها والانتقاء من جيدها حريص على الاستفادة منها والإفادة بها، وهو يدرس ويطالع وينسخ ويصحح ويصنف وينشر. وآخر ما وصل إلينا من مؤلفاته المطبوعة كتاب (دلائل التوحيد) في الكلام، ألفه في سنة 1325 وطبع في سنة 1326، وهو في أسلوبه ومباحثه مصدق لما قلناه آنفًا في وصف مؤلفه، لم يقلد فيه المتكلمين كالسنوسي، وواضعي الشروح والحواشي لعقائده، ومن حاكاهم من المتأخرين الذين صارت كتبهم كالمتعبَّد بتلاوتها على علاتها وعدم كفايتها، ولم يستقل بجميع مسائله بنفسه، ويجعله خلوًا من كلام غيره، بل أورد فيه زبدة مما طالعه في كتب أساطين المتقدمين من الفلاسفة والمتكلمين: كابن مسكويه والنصير الطوسي والفارابي وابن رشد والراغب والغزالي والعز بن عبد السلام وابن حزم وابن تيمية وابن القيم والقاضي عياض والماوردي وجمال الدين الخوارزمي والمرتضى اليماني صاحب إيثار الحق، والمتأخرين كالأستاذ الإمام، ولكنه لا يذكره باسمه ولا بهذا اللقب الذي اشتهر به، وإنما يشير إليه بكلمة (حكيم) أو حكيم من المتأخرين، وقد نقل أيضًا عن المنار ولم يسمه ولا ذكر اسم صاحبه، بل يشير إليه ببعض الألقاب كما فعل في هذا الهامش بعد سوق الدليل العشرين. وما ذلك إلا لأن اسم الشيخ محمد عبده أو محمد رضا أو المنار، كانت في زمن السلطان عبد الحميد تخرب الديار، وتسوق إلى البوار، أما مقاصد الكتاب بالإجمال فهي كما كتب المؤلف في طرته: (الخطبة في فضل إقامة البراهين؛ لتأييد أصول الدين، ثم تمهيدات في سر معرفة التوحيد، وما يتقاضاه الإيمان من الإيقان، وفي تمثيل انمحاء الباطل لظهور آية الحق، وفي أن النظر قانون الاستدلال وفي غير ذلك، ثم مطالب الكتاب وهي أربعة: المطلب الأول في الأدلة الواضحة على (وجود الله تعالى) وهي خمسة وعشرون دليلاً وفي طيها فوائد جمة، المطلب الثاني في تحقيق مسائل من العلم الإلهى: كاستحالة اكتناه ذات الخالق تعالى وبطلان الحلول والاتحاد وغيرهما، المطلب الثالث في المادة، وشبه الماديين وإبطالها جميعها بالحجج القاطعة، وفيه مقالات من الطبيعيين تقرب من الثلاثين، المطلب الرابع في مسائل من علم النبوات: كآيات النبوة وإثبات الخوارق علمًا، وبيان المنة على العالمين ببعثة خاتم النبيين، وكون القرآن أعظم الخوارق، وبيان خصائصه عليه السلام وفضائله وشرف أخلاقه وشمائله المؤيدة لنبوته والمبرهنة على عموم رسالته، ثم الخاتمة في فائدتين) اهـ. وصفحات الكتاب مائتان بل تزيد، ولم يتيسر لنا إلا مطالعة القليل منه؛ فعسى أن يكون مزلزلاً لتقليد المقلدين، ومرقاة لاستقلال المستعدين، وثمن النسخة منه ثمانية قروش. *** (العقائد الدينية للناشئة الإسلامية) كتيب وجيز للشيخ محمد عبد اللطيف خضير من علماء دمياط طبعه في هذا العام، وأهدانا نسخة منه، ورغب إلينا فيه شيئًا من المعنى الذي أشرنا إليه في تقريظ الكتاب الذي قبله؛ من حيث عدم التزام أسلوب وترتيب العقائد المتداولة: كسرد الصفات العشرين (التي جعل السنوسي مدار عقيدته عليها) ونحو ذلك، ولكنه على عدم التزام ذلك لم يخرج عنه بالمرة، راعى السهولة فيما استقل فيه، فسدد وقارب، وجاء ببعض مسائل ودلائل نظرية تعلو على أفهام الناشئين الذين وضعه لهم، ولولا رجوعه في ذلك إلى بعض الكتب المتداولة لكان يسهل عليه أن يأتي بما هو أسهل منها وأنفع، أو ليت اقتباسه من كتب المتقدمين كان كله: كاقتباسه من رسالة التوحيد، وجملة القول: إنه من أحسن ما كتب لتعليم المبتدئين، وثمن النسخة منه قرش واحد، وهو يطلب من المكتبة العمومية بدمياط؛ فعسى أن ينال ما يستحقه من الرواج والانتشار. *** (تحفة الأنام في مختصر تاريخ الإسلام) ألف هذا التاريخ في أواخر حياته الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت رحمه الله، تعالى. وهو يشتمل على مقدمة وجيزة في أصل العرب وجزيرتها وظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أربعة أبواب في الخلفاء الراشدين، وفي الأمويين والعباسيين والعثمانيين، وفي الكلام على سلطنة محمود الثاني يذكر حادثة إبراهيم باشا المصري وغيرها من الحوادث الكبيرة ومسألة الوهابية، كما يذكر في أخبار سلطنة عبد المجيد حرب القرم، وحادثة جدة، وحادثة لبنان، وهو مختصر ليس في الأيدي مثله ولا ما يغني عنه، فعسى أن يعم نشره، ويباع في مصر بمكتبة المنار مجلدًا تجليدًا بيروتيًّا بثمانية قروش مصرية، ومن أراد عددًا كثيرًا منه فليطلبه من المكتبة الأهلية ببيروت. وإننا ننقل ههنا كلامه في الوهابية، قال رحمه الله تعالى ما نصه: (ثم في غضون ذلك ظهرت الطائفة الوهابية في بلاد نجد، واستولوا على مكة المكرمة والمدينة المنورة وباقي بلاد الحجاز، حتى قاربوا بلاد الشام من جهة دمشق. وهم قوم كثيرون من عرب نجد؛ اتبعوا طريقة الشيخ عبد الوهاب (؟) وهو رجل ولد في الدرعية بأرض العرب من بلاد الحجاز، طلب أولاً العلم على مذهب أبى حنيفة في بلاده، ثم سافر إلى أصفهان وأخذ من علمائها، حتى اتسعت معلوماته في فروع الشريعة وتفسير القرآن الكريم، ثم عاد إلى بلاده سنة (1170) ، ثم أدته ألمعيته إلى الاجتهاد، فأنشأ مذهبًا مستقلاًّ وقرره لتلامذته، وشاع أمره في (نجد) و (الإحساء) و (القطيف) و (عمان) و (بني عتبة) من أرض (اليمن) ، ولم يزل أمرهم شائعًا، ومذهبهم متزايدًا، وجماعتهم تكثر، إلى أن صدرت الإرادة السنية إلى محمد علي باشا عزيز مصر بقتال وردع هذه الطائفة؛ خوفًا من انتشار شرهم في البلاد الإسلامية، فأطفأ سراجهم، وبدد شملهم، وأخفى ذكرهم، وقد توفي زعيمهم سعود سنة (1229) فساد الأمن في طريق الحج، وبهذه السنة حج محمد علي باشا بعد أن لم يكن أحد يتمكن من أداء هذه الفريضة. وهاك رسالة من كلامهم تدل على مذهبهم واعتقادهم: اعلموا - رحمكم الله - أن الحنيفية ملة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصًا له الدين، وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم له، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فإذا عرفت أن الله - تعالى - خلق العباد للعبادة، فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد؛ كما أن الصلاة لا تسمى صلاة إلا مع الطهارة، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (التوبة: 17) . فمن دعا غير الله؛ طالبًا منه ما لا يقدر عليه إلا الله من جلب خير أو دفع ضر، فقد أشرك في العبادة، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5-6) وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13- 14) فأخبر تبارك وتعالى: أن دعاء غير الله شرك، فمن قال يا رسول الله، أو يا ابن عباس، أو يا عبد القادر؛ زاعمًا أنه باب حاجته إلى الله، وشفيعه عنده، ووسيلته إليه - فهو المشرك الذي يهدر دمه وماله إلى أن يتوب من ذلك، وكذلك الذين يحلفون بغير الله أو الذي يتوكل على غير الله، أو يستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهو أيضًا مشرك، وما ذكرنا من أنواع الشرك؛ هو الذي قاتل رسول الله المشركين عليه، وأمرهم بإخلاص العبادة كلها لله تعالى، ويصح ذلك أي: التشنيع عليهم بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله في كتابه. (أولها) أن يعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله يقرون أن الله هو: الخالق الرازق المحيي المميت المدبر لجميع الأمور؛ والدليل على ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: 31) ، وقوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84- 89) إذا عرفت هذه القاعدة وأشكل عليك الأمر، فاعلم أنهم بهذا أقروا، ثم توجهوا إلى غير الله يدعونه من دون الله فأشركوا. (القاعدة الثانية) أنهم يقولون: ما نرجوهم إلا لطلب الشفاعة عند الله، نريد من الله لا منهم، ولكن بشفاعتهم. وهو شرك، والدليل على ذلك قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) وإذا عرفت هذه القاعدة فاعرف: (القاعدة الثالثة) وهي أن منهم من طلب الشفاعة من الأصنام، ومنهم من تبرأ من الأصنام وتعلق بالصالحين مثل: عيسى وأمه والملائكة والدليل على ذلك قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 57) ورسول الله لم يفرق بين من عبد الأصنام ومن عبد الصالحين في كفر الكل، وقاتلهم حتى يكون الدين كله لله، وإذا عرفت هذه القاعدة فاعرف. (القاعدة الرابعة) وهي أنهم يخلصون لله في الشدائد وينسون ما يشركون، والدليل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) ، وأهل زماننا يخلصون الدعاء في الشدائ

رسالة المحجوب ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة المحجوب (من باب الانتقاد على المنار) أرسل إلينا بعض علماء تونس رسالة، كان كتبها رجل اسمه السيد عمر المحجوب التونسي في الرد على الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي في زمنه، وطلب منا أن نبين رأينا فيها، فتصفحناها هي وما ألحق بها في نحو من نصف ساعة، فلم نجد فيها شيئًا يزيد على ما تلوكه العامة في هذه المسائل، وعلمنا من الذيل الذي ألحق بها أنها طبعت معه بعد الحادثة التي وقعت معنا بدمشق في آخر رمضان من السنة الماضية؛ لتكون ردًّا علينا فيما شاع من أن سبب تلك الفتنة تأييدنا لمذهب الوهابية، فيارحمتا لهؤلاء الجهلاء المساكين الضعفاء الذين تهيجهم الأكاذيب إلى إظهار جهلهم، وطاعة انفعالاتهم العدائية لمن هو لهم صديق غير عدو، وإن كانوا لا يميزون. قد علم الخاص والعام أن حادثة الشام لم تكن مقاومة لمذهب الوهابية ولا انتصارًا للسنة السنية، وإنما كانت انتصارًا للاستبداد على الدستور، وإيثارًا للظلمات على النور، وإن خطيبي فتنتها الشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ صالحًا التونسي قد حاولا مع رؤسائهما من مدبري تلك الفتنة إثارة فتنة أعظم منها باسم الإسلام؛ إذ نشروا تلك الجمعية الفسادية التي أطلق عليها (تمويهًا وخداعًا) اسم الجمعية المحمدية؛ لذلك اختفيا عن الأنظار ووليا الأدبار لما نصر الله الدستور، وخذل الغرور، وأنشأت الدولة العلية تحاكم زعماء الفتنة الذين كانوا يحرضون على الثورة، ثم ظهر الخطيب فاستنطق ورفع أمره إلى الآستانة. ومعلوم أن صالحًا التونسي من دعاة أبي الهدى دجال عبد الحميد اللذين كفى الله المسلمين شرهما (والعاقبة للمتقين) . وإننا ندعو صاحب الذيل الطويل لتلك الرسالة، هو وجميع من على رأيه من علماء تونس إلى المناظرة جهرًا فيما يزعمون أن المنار أخطأ فيه، بأن يذكروا المسألة التي يزعمون أنها خطأ والدليل من الكتاب والسنة، وكذا الإجماع والقياس على ذلك، مع التصريح بأسمائهم، ونحن نجيب عن أقوالهم ونجعل أهل العلم والفهم في المشرق والمغرب حكمًا بيننا وبينهم. وإنما نشترط أن يصرحوا بأسمائهم لتعلم قيمة المحق منهم والمبطل في الحال، ويحفظ التاريخ ذلك لأعقابهم في الاستقبال. على أن صاحب الذيل المشار إليه لم يذكر وراء مسألة الاجتهاد من خطأ المنار إلا مسألة طهارة العطر الإفرنجي والكحول، وكذا ما سماه تحليل مفتولة العنق، والمضروبة على الرأس، ولبس القبعة الإفرنجية. المسائل الثلاث التي كانت موضوع فتوى الأستاذ الإمام منذ سنين، فإن فرضنا أن ما كتبه المنار فيها كان خطأ؛ فليدلونا على كتاب من كتب الفقه أو الحديث أو التفسير ليس فيه مسائل كثيرة منتقدة؛ لمخالفتها للكتاب أو السنة، أو لما رجحه العلماء الآخرون المخالفون لأولئك المؤلفين لها في اجتهادهم أو فهمهم. إذا كان صالح التونسي وعبد القادر الخطيب الدمشقي قد تصديا للفتنة بدمشق بباعث السياسة، وهما يعلمان أنهما باغيان مخطئان، فيحتمل أن يكون أحمد جمال الدين صاحب ذيل هذه الرسالة حسن النية له شيء من العذر بجهله، وهل يرجى من مثله أن يفهم دقائق مباحث المنار الاجتهادية، وهو إلى اليوم لم يفهم معنى العبادة، بل اتبع فيها الشيخ المحجوب الذي لم يعرف كيف كان أساس دعوة الإسلام النهي عن عبادة غير الله تعالى إلى عبادته وحده، كما نبينه قريبا؟ فكيف يتكلم في مثل شيخ الإسلام ابن تيمية الذي لم يسمح الزمان له بنظير. أما رسالة الشيخ المحجوب فليس فيها شيء إلا وقد سبق لنا تحريره في المنار، ولا يفهم العامة ورؤساؤهم من أصحاب العمائم من إعادة القول في بيان مواضع الخطأ فيها إلا أن المنار ينتصر للوهابية، على ذلك الشيخ الذي ينتسب إلى ما لا يفهمه من السنة السنية، وما كان لينتصر لمذهب من المذاهب أو يتعصب لفئة الفئات، إنما يؤيد الكتاب والسنة ويحكمهما في أقوال المتقدمين والمتأخرين. وأما أمثال هذا المعترض المسكين فإن قصارى علمه أن يحفظ كلمات من بعض شيوخه المعاصرين أو المؤلفين المتأخرين الذين ليس لأكثرهم من العلم إلا نسخ كتب القدماء؛ مع زيادات يستميلون ببعضها العامة وببعضها الآخر الملوك والأمراء، يظهر أن الشيخ المحجوب كان ممن يعبر عنهم بالأدباء، ولم يكن من العلماء، فقد ظهر في رسالته تشميره في الهجاء والشتم، وقصوره في مسائل الدين والعلم، وهو لم يذكر في رسالته كلام خصمه، فيوازن بينه وبين رده، فنكتفي إذًا بالإشارة إلى بعض خطئه وضعفه؛ ليعلم أنه لا يوثق بعلمه مع عدم التعرض لخطأ خصمه وصوابه. قال في (ص4) في رد إنكار خصمه ما تفعله العامة عند قبورالأولياء والصالحين من: الاستغاثة والتوسل والتعظيم (معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد أو أن يأتي إليها معظمًا لها تعظيم العابد، أو أن يخضع لها خضوع الجاهلية للأصنام، وأن يعبدها بركوع أو سجود أو صيام) ونقول: إن هذا القول يدل على أن المحجوب لم يكن يعرف الواقع الذي عليه الجمع الغفير من العامة، أو أنه يعرفه ويقول غير ما يعلم، وأنه لا يفهم معنى العبادة، بل يتوهم أنها عبارة عن الصلاة والصيام وسائر التكاليف الشرعية فقط، كما قال صاحب الذيل في (ص19) في تقوية رده: (وما درى - أي ابن عبد الوهاب - أن العبادة الشرعية هي التكاليف التي اشتملت عليها الشريعة، سواء كانت معقولة المعنى أو تعبدية) وقد جهل صاحب الذيل كصاحب الأصل: أن أول شيء دعا إليه النبي صلى اله عليه وسلم هو أن يعبد الله وحده وأن لا يعبد سواه، دعا إلى ذلك قبل أن تشرع التكاليف العملية من: الصلاة والزكاة والصيام، فهل يصح أن يقال: إن المراد بالنهي عن عبادة غير الله تعالى هو أن تكون التكاليف التي ستشرع بالتدريج خاصة بالله تعالى؟ هل يصح أن يكون معنى العبادة شيئًا لم يكن معروفًا ولا مشروعًا؟ ؟ يا حسرة على المسلمين الذين ابتلوا بأمثال هؤلاء المؤلفين. على أن أمثال هؤلاء الضعفاء يعذرون إذا جهلوا معنى العبادة؛ لأن من كانوا يستطيعون تحديد الحقائق من العلماء عدوا معنى العبادة من البديهيات، فلم يهتموا ببيانه؛ ولذلك لم يشتهر عنهم نقل في تحديده. وأما الأقوال المشهورة فيه عن اللغويين وغيرهم فليست حدودًا، بل لا يبلغ بعضها أن تكون رسومًا تامةً أو ناقصةً ذلك مرات كثيرة، ومنه أن أعظم مظاهر العبادة الدعاء، وفي حديث البراء عند أحمد وابن أبي شيبة وأصحاب السنن (الدعاء هو العبادة) وفي رواية ضعيفة للترمذي من حديث أنس (الدعاء مخ العبادة) وهل يكابر أحد في دعاء الألوف والملايين من عامتنا للموتى من الصالحين، إلا إذا كان لا يخجل من إنكار المحسوسات؟ ألا إنهم لا ينكرونه ولكنهم يؤولونه لهم: بأنهم لا يقصدون به العبادة، وإنما يقصدون التوسل! ! ألفاظ يلوكونها ولا يفهمونها، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الدعاء هو العبادة أي: هو الفرد الأعظم من أفرادها، والركن الأكمل من أركانها، كقوله: (الحج عرفة) فتجويز دعاء غير الله؛ كتجويز الصلاة لغير الله بدعوى عدم قصد العبادة، وتسميتها توسلاً أو ما يشاء أهل التأويل من الأسماء، قال المحجوب (ص4) : (دوامًا ما جنحت إليه، وعولت في التفكير عليه من التوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على العدا، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، التي لا يقدر عليها إلا رب الأرضين والسماوات، إلى آخر ما ذكرته مواقدًا به نيران الفرقة والشتات، فقد أخطأت فيه خطأ مبينًا، وابتغيت فيه غير الإسلام دينًا، فإن التوسل بالمخلوق مشروع ووارد في السنة القويمة، ليس بمحظور ولا ممنوع، ومشارع الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة تضيق المهارق عن استقصائها، ويكل اليراع إذا كلف بإحصائها) ثم ذكر أثر استسقاء عمر بالعباس - رضي الله عنهما -، وحديث طلب عمر الدعاء من أويس القرني، ومسألة الشفاعة، والوهابية لا ينكرون أثر الاستسقاء، ولا الدعاء، ولا الشفاعة، وكتب ابن تيمية التي هي عمدتهم في هذا الباب مثبتة لهذه المسائل مبينة لها أتم بيان، وهم يحتجون بها على الذين يدعون أصحاب القبور، فيقولون: إن عمر والصحابة لم يدعوا العباس أن يسقيهم الغيث، كما يدعو جمهور عامتنا الأموات: أن يقضوا لهم حاجاتهم، وإنما كان توسلهم بالعباس هو جعله إمامًا لهم في الاستسقاء، فصلى بهم ودعا وهم أمنوا على دعائه، ويقولون: إنه ورد فيه أن عمر رضي الله عنه قال: (اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا) وهذا دليل على أن الميت لا يتوسل به وإن كان حيًّا عند الله تعالى. وأقول: إن المسألة ليست من باب ما يسمونه اليوم بالتوسل؛ وهو أن يدعو غير الله - تعالى - ويطلب منه شيئًا ما، وإنما هو استسقاء كما تقدم، ويحتجون به من وجه آخر، وهو دعاء العباس الذي ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح وهو: (اللهم، إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يكشف إلا بتوبة) وهو نص في أن كشف الضر لا يكون بسبب الأشخاص؛ وإنما يكون بالتوبة إلى الله والرجوع إليه وحده، وفي الحديث روايات لا تصح. ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (جمعية الاتحاد والترقي) استحسن العقلاء في سورية ما كتبناه في الجزء الثالث من مجمل ما ينتقده الناس على هذه الجمعية، وكتب إلينا غير واحد يقول: إن المعتدلين من أعضاء الجمعية أنفسهم استحسنوه، وعدوه من النصح الخالص، وقد استنكره آخرون مع ما عهدوا من تأييدنا للجمعية في المناظرات والخطب زيادة عما يكتب في المنار، وقد يعذر المستنكر لذلك؛ إذ لم يكد يصل ذلك الجزء إلى سورية إلا وقد ظهرت خفايا ثورة الآستانة، وعلم الناس أنها دبرت في يلدز لمحو آية الدستور وإعادة استبداد عبد الحميد إلى شر مما كان عليه، وفر أعضاء الجمعية إلى سلانيك مستنصرين مستصرخين ينفضون غبرة الموت قتلاً وغيلةً عن رءوسهم. نعم.. إننا كتبنا ما كتبنا قبل ظهور تلك المكيدة. ولكننا قبل طبع الكراسة الأخيرة من ذلك الجزء، علمنا ببعض بوادر الفتنة فأشرنا إليها بما هو صريح في الميل إلى الجمعية والدعاء لها بالانتصار , ومع هذا كله نرى أن التعريف بما ينكر الناس عليها، وما يقولون فيها ضروري، لاسيما من يحمد سعيها ولا ينكر فضلها. إننا لخصنا الكليات التي يرجع إليها انتقاد المنتقدين من غير موافقة لهم على كل ما ينتقدونه، وسكتنا عن بعض الجزئيات الفظيعة التي هي من قبيل تعيين بعض الأشخاص والأعمال المنكرة. وهل تؤمن عاقبة أشخاص يعملون بقوة في مملكة واقعة في أشد الحرج، وهم لا يسألون ولا ينتقدون؟ وقد كان الصحابة يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم في بعض رأيه في السياسة والحرب، حتى يرجع عنه، فهل كانت الجمعية أجدر بالتقديس منه؟ إننا صرحنا هناك بفضل الجمعية علينا في الانقلاب، وإنما ذلك الفضل لأفراد ربما كان العمل الآن في أيدي غيرهم ممن لم يكن لهم عمل قط في الانقلاب، وقد دخل في الجمعية خلق كثير منهم من لا خلاق لهم؛ ولكنهم أصحاب دهاء أو حظ على ما يقال، وقد ينتخب بعضهم للجنة العليا، كما أن اللجان المركزية في بعض البلاد فيها من نعرف ومن لا نعرف، ممن لا خلاق لهم، ولا عرفان، ولا إخلاص فهل يقول عاقل: إن مصلحة الأمة أو مصلحة الجمعية أن تعد الجمعية مقدسة في جميع أعمالها؟ وقد أيدناها أيضًا في ذلك المقال من حيث الحاجة إلى بقائها، وتأييد الجيش لها، إذا حدث ما يخشى منه على الدستور مع اعتزاله للسياسة في عامة أحواله، فهل فوق هذا التأييد من تأييد؟ على أنه تبين أن الجيش حام للدستور على حال. إنه وايم الحق، قد راعنا عندما عدنا من سورية إلى مصر ما سمعناه من أحرار الترك وسائر العثمانيين: من الإنكار على الجمعية في تصرفها، وعلمنا أن الإنكار والاستياء في الآستانة أشد، فخشينا أن ينتج ذلك مما لا تحمد عاقبته إذا لم تتداركه الجمعية، فكان ذلك هو الباعث لنا على كتابة ما كتبنا وما كنا إلا ناصحين. *** (طعن المؤيد في الدولة العلية الدستورية) ظهر المؤيد بمظهر الساخط الماقت للحكومة الدستورية في الدولة العلية، وقد كادت تنقضي السنة الأولى لها وهو يكتب عنها بقلمه وأقلام بعض محرريه ومكاتبيه شر ما يسمع وما يقرأ، وشر ما يتخيل ويتصور، وقد أرضى بذلك بعض الأغرار من المصريين المخدوعين بما كانوا يقرؤون في الجرائد من إطراء عبد الحميد , ولكنه أسخط العقلاء وخواص الأمة المصرية، حتى إننا سمعنا بعض الكبراء الذين يعرف صاحب المؤيد صدقهم واستقلالهم يقول: إنني لم أر أحدًا من الخواص يعذر المؤيد على خطته هذه. وقد اختلف رأي أهل التعليل في سبب اختيار صاحب المؤيد لهذه الخطة، فقال بعضهم: إنه قد أسخط في سنيه الأخيرة جمهور أهل بلاده من جميع الطبقات حتى الأزهريين، وهو يعلم أن حسن الظن بعبد الحميد خان غالب فيهم، فأنشأ يدافع عنه ويطعن في الحكومة الجديدة؛ ليستميل بذلك الجمهور الساخط، ومن هؤلاء من يقول: إن الجمهور سخط على المؤيد؛ لتذبذبه واتباعه لهواه دون مصلحة الأمة، ومنهم من يقول: بل لاعتداله في الكلام عن الحكومة والمحتلين، وهذا هو الأقل. ويقول آخرون: إن سبب اختيار المؤيد لهذه الخطة؛ هو اتفاقه مع عزت باشا العابد وغيره من أعوان عبد الحميد على إسقاط الحكومة الدستورية وإعادة الحكم الحميدي السابق، ولما خلع عبد الحميد وأخرج من عاصمة السلطنة، كان الإصرار على الانتصار له دعوى الثبات على الرأي. ومن الناس من يقول: إن المواطأة بين عزت العابد وحزبه، إنما هي على تأسيس دولة عربية وخلافة جديدة، وقد تنصل المؤيد من هذا، ولعن من يسعى إليه ومنهم من يظن أن صاحب المؤيد يخدم بذلك إنكلترا التي تحب أن تمحو نفوذ الدولة الديني من مصر والهند وإن جاملتها في أوربا، وإن لها يدًا في تحريك سخط مسلمي الهند على الحكومة العثمانية الجديدة، وهذا إغراق في سوء الظن. ومنهم من يرى أن صاحب المؤيد لما كان يعلم أن جمعية الاتحاد والترقي تعتقد أنه من جواسيس الحكومة الحميدية وشيعة عزت العابد، لاسيما بعد أن أظهر ضلعه في أول العهد بالانقلاب وميله إلى الماضي، وأنها لا بد أن تتخذه خصمًا وعدوًّا هاجمها هي وحكومتها بقوة؛ لعلها تخافه فتسعى إلى استمالته، فلا يحرم من الكرامة في الآستانة وسورية في كل مصيف. ومنهم من يرى أنه لعلمه بما كان من فتك عبد الحميد خان بالدولة والأمة، اعتقد منذ حدث الانقلاب أن الدولة لم يبق فيها رمق فتنهض بحكومة دستورية، فإما أن يعود عبد الحميد إلى استبداده، وإما أن يسقط الدولة بتدميره الماضي وكيده الحاضر، فصار يكتب ما يكتب وهو يظن أن الأيام ستصدقه بفشل الدولة وسقوط الدستور أو ما هو أعظم من ذلك، فيظهر بمظهر السياسي الخبير والمحب الغيور. ويظن أنه لا يبعد أن يكون سمع من كبار الأجانب أو عنهم بنفسه أو بواسطة عزت العابد شيئًا من هذا المعنى؛ لأن الأجانب شعروا بالدسائس التي كان يدبرها عبد الحميد وأعوانه، واعتقد الكثيرون منهم أن قوة الدولة ستكون قسمين يتصادمان فيتساقطان، وقد أعدوا لذلك عدته، ونحمد الله أن كذب هذا التشاؤم. لماذا تضاربت الظنون، واختلفت الآراء في إنحاء المؤيد على الحكومة الدستورية في الدولة العلية؟ أليس لأنه كان في زمن عبد الحميد يدافع عنها بالحق وبالباطل، فيخفي عيوبها ويجعل سيئاتها حسنات؟ نعم.. ومن العجب أن يعكس الأمر الآن، فينحي عليها بالحق وبالباطل، ويجعل حسناتها سيئات. يقول: إنه يعتقد حقية ما يكتب، ونقول: لماذا لم يختر من الحق إلا ما يسوء ويضر نشره، ومتى كان السياسي صوفيًّا صديقًا يقرر العقائد كما هي مهما ترتب عليها؟ أليس عند هؤلاء الصديقين من الأسرار الباطنة ما لا يجوزون نشره لأنهم يخشون ضره؟ يقول: إنه يقصد بهذه الشدة النفع؛ بإرجاع جمعية الاتحاد والترقي عن غرورها الذي يراه ضارًّا، نقول: ولماذا يخفى عليه غروره في هذه الدعوى، فيتوهم أن هذه الجمعية تنتظر جريدته العربية لتترجمها وتعمل بنصائحها، وهي لم تحفل بما قام في وجهها من الأحزاب والكتاب الذين هم أبلغ منه قلمًا، وأعلم بمكان الانتقاد، ولماذا خفي عنه الآن عما كنت أعده كغيري عذرًا له في دفاعه عن الحكومة الحميدية؛ وهو أن إظهار سيئات الدولة وعيوبها يسقط منزلتها من نفوس المصريين وغيرهم من قراء المؤيد، فيكون ذلك ضعفًا لها على ضعف؟ أليس إسقاط نفوذ الدولة الآن أشد ضررًا من إسقاطه في العصر الماضي؛ عصر الظلم والتخريب والتدمير؟ بلى.. إن خطة المؤيد الجديدة يخشى ضررها، ولولا أن الجرائد التي تناقضها في القطر المصري نفسه أوسع منها انتشارًا لأضلت وأضرت الجمهور، وما يرجوه صاحب المؤيد من التأثير في نفوس لجنة جمعية الاتحاد والترقي، لا يوازي هذا الضرر لو حصل على أنه يطعن الدولة لا الجمعية وحدها. إن خطته هذه قد سلبته أنفس حلية كانت له في أنفس المسلمين، لا سيما مسلمي الدولة العلية الذين يهتم لهم سائر مسلمي الأرض؛ وهي أنه صاحب الجريدة الإسلامية العربية الكبرى التي تدافع عن الخلافة والسلطنة وتؤيد نفوذها، والآن نرى الجرائد العثمانية في عاصمة الدولة وولاياتها تنطق بلسان واحد صائحة أن المؤيد عدو الدولة والخلافة، عدو الدين والملة، وقد أحرقه جماهير الناس في بلاد كثيرة حتى بلاد الحرمين، ونادوا بإسقاطه، وما كان أغناه عن التصدي لهذه العاقبة التي لم تكن في حسبانه. نعم.. إن صاحب المؤيد صار من عدة سنين على غير ما كنا نعهد منه؛ صار لا يبالي برأي أحد ولا بنصحه، ولا يحسب للعواقب حسابًا، ويرى أن الدنيا كلها إذا قامت عليه اليوم؛ فإنه يسهل عليه أن يستميلها إليه غدًا، ولكننا رأينا هذه الشاكلة قد أضرته ولم تنفعه. هذا هو رأينا إن كان يقبله، وهو يعلم أننا لا نقول إلا ما نعتقد، ونتمنى لو يقدر بالفعل على استمالة الدولة العلية والأمة العثمانية بما يكتبه بعد، فيرجع عن اجتهاده ذاك إلى ضده، والله الموفق.

الهجرة وحكم مسلمي البوسنة فيها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهجرة وحكم مسلمي البوسنة فيها (س25) من صاحب الإمضاء في البوسنة [1] بعد السلام عليكم يا فضيلة الأستاذ الأكبر، والعلامة الفهامة الهمام الأوحد، حجة الإسلام، وإمام أهل الحق وفخر الأنام، العالم العامل، الفاضل الكامل المحقق، والبحر النحرير الفيلسوف الحكيم المدقق، الأديب اللبيب، وفريد العصر، ووحيد الدهر، سيدنا ومولانا ومرشدنا الشيخ: محمد رشيد رضا، عمره الله وحياه بأحسن الحياة. أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ذي العظمة والكبرياء، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا وقرة أعيننا رسوله الداعي إلى سبيل الهدى سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين المهتدين بهداه، والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الحشر والجزاء. أما بعد: فقد أخبرني بعض المصاحبين بأن واحدًا من علماء الآستانة قد اتفق أن ألقى وعظًا في جامع بمدينة عندنا، فمن جملته أن قال فيه بوجوب الهجرة علينا، وعدم صحة النكاح ونحوه؛ بعدما ألحقت النمسا وضمت (ولاية البوسنة والهرسك) إلى أملاكها وملكها، وشدد أيضًا فقال بعدم صحة أركان الإسلام تحت حكومتها مطلق الصلاة، فالجمعة داخلة في ذلك، ونحو الصيام والحج والزكاة، فاضطرب منه أكثر من سمع ما قال اضطرابًا شديدًا؛ ظنًّا منهم بأن حقيقة الأمر كما قال. فيا سيدي ومولاي وقرة عيني، ويا ناصر الحق والسنة، ويا قامع البدع الدينية الذليلة الشنيعة، ويا كاشف الغمة عن هذه الأمة المرحومة، ويا مقتدى الأمة، وقدوة الأئمة، ويا رحمة الله لهذه الأمة الحنيفية، أرجو من حضرتكم أن تتفضلوا بالجواب الواضح الشافي عن قول ذلك العالم، على نحو ما اهتديتم بالكتاب والسنة السنية، مع البراهين والأدلة الشرعية المرضية القوية، كما هو دأب جنابكم على صفحات المنار المنير، أدام الله ضياءه إلى يوم الحشر والقرار، وبارك في عمر سعادة صاحبه، وعامله نحو ما عامل المقربين من عباده المتقين، وجزاه نحو ما يجزي المحسنين من عباده المخلصين، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، الداعي والمستدعي. قارئ المنار المنير، وصديقكم المطيع الخالص، وصديق أصدقاء المنار المنير وصاحبه ومحبهم، وعدو عدوهم ومبغضهم، العبد الضعيف النحيف الحقير الفقير إلى رحمة ربه العلي القدير، تراب أقدام أنصار الحق محمد ز. هـ. د. تارابار من طلبة المدرسة الفيضية بمدينة تراونيك (بوسنة) . (ج) لا شك أن ذلك التركي قد أخطأ في جملة ما قاله، والصواب أنه لا تجب الهجرة وجوبًا عينيًّا على من كان متمكنًا من إقامة دينه، آمنًا من الفتنة فيه، وهي الإكراه على تركه، أو المنع من إقامة شعائره والعمل به، وهو نحو مما قالته عائشة، ففي البخاري أنها سئلت عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر بدينه الى الله ورسوله؛ مخافة أن يفتن، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء. والأصل في المسألة آية {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ} (النساء: 97) وستأتي، وفيها أحاديث وآراء للعلماء نذكر أهمها: فأصح ما ورد فيها حديث ابن عباس عند أحمد والشيخين وأصحاب السنن الثلاثة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) ، وروي مثله عن عائشة في الصحيحين، وروى أحمد والنسائي وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن عبد الله بن السعدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) ، وهو يوافق حديث ابن عباس في وجوب النفر على من استُنْفِرَ للجهاد الشرعي وترك وطنه لأجل ذلك، وهذا لا وجود له الآن. وأما حديث جرير بن عبد الله عند أبي داود والترمذي: (أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين) وتعليله ذلك بقوله: (لا تتراءى ناراهما) ، فقد صحح البخاري وأبو حاتم -مخرجاه- وغيرهم إرساله إلى قيس بن أبي حازم، وفي الاحتجاج بالمراسيل الخلاف المعروف في الأصول، ورواه الطبراني موصولاً وهو لا ينطبق على أهل (بوسنة) ؛ لأنهم ليسوا بين أظهر المشركين، وقد كان للإسلام سياسة خاصة في مشركي العرب، وفي الباب حديث عن معاوية رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقد أشرنا إليه في الجزء الماضي؛ وهو أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها) وهذا الحديث قال الخطابي: (إسناده فيه مقال) . أما أقوال العلماء في أحكام هذه الأحاديث، فنذكر منها ما أورده الشوكاني في شرح المنتقى في الجمع بينها قال: وقد اختلف في الجمع بين أحاديث الباب، فقال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضًا في أول الإسلام على من أسلم؛ لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين أفواجًا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو. انتهى قال الحافظ (ابن حجر) : وكانت الحكمة في وجوب الهجرة على من أسلم؛ ليسلم من أذى من يؤذيه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم نزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) الآية. وهذه الآية باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها، وقال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر، فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة عنها؛ لما يترجى من دخول غيره في الإسلام. ولا يخفى ما في هذا الرأي من المصادمة لأحاديث الباب القاضية بتحريم الإقامة في دار الكفر، وقال الخطابي أيضًا: إن الهجرة افترضت لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إلى حضرته؛ للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات، حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} (الأنفال: 72) فلما فتحت مكة، ودخل الناس في الإسلام من جميع القبائل، انقطعت الهجرة الواجبة وبقى الاستحباب. وقال البغوي في شرح السنة: يحتمل الجمع بطريق أخرى، فقوله: (لا هجرة بعد الفتح) أي من مكة إلى المدينة، وقوله: (لا تنقطع) أي: من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الإسلام، قال: ويحتمل وجهًا آخر؛ وهو أن قوله: (لا هجرة) أي: إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن، فقوله: (لا تنقطع) أي: هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الأعراب ونحوهم، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار؛ أي: ما دام في الدنيا دار كفر، فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن لا يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها، وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة، وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بغيرعذر كان كافرًا، قال الحافظ: وهو وإطلاق مردود. وقال ابن العربي: الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، واستمرت بعده لمن خاف على نفسه، والتي انقطعت أصلاً هي القصد إلى حيث كان. وقد حكى في البحر أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعًا حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الإمام بقوته لسلطانه، وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض الهادية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق؛ قياسًا على دار الكفر، وهو قياس مع الفارق، والحق عدم وجوبها من دار الفسق؛ لأنها دار إسلام، وإلحاق دار الإسلام بدار الكفر بمجرد وقوع المعاصي فيها على وجه الظهور ليس بمناسب لعلم الرواية ولا لعلم الدراية، وللفقهاء في تفاصيل الدور والأعذار المسوغة لترك الهجرة مباحث، ليس هذا محل بسطها. اهـ. ما أورده الشوكاني وهو زبدة ما قيل في شرح الأحاديث من علمائه. أقول: إنك تجدهم قد اختلفوا في كل وجه من وجوه المسألة إلا اثنين: أحدهما: عدم التمكن من إقامة الدين بالفتنة؛ وهي حمل المسلم على الكفر أو مخالفة دينه في فعل أو ترك أو بالجهل. وثانيهما: الجهاد الديني؛ أي: المتعلق بحماية دعوة الإسلام وأمن أهله على دينهم وحقيقتهم. ففي هاتين الحالتين تجب الهجرة بلا خلاف؛ أي: على من عجز عن إقامة دينه، سواء كان واحدًا أو جمعًا، وعلى من احتيج إلى جهاده، وكان نفره مما يعزز المسلمين ويفيدهم في الدفاع المطلوب شرعًا، فأما هذا الوجه فمن البين الظاهر أنه لا يتحقق في أهل بوسنة الآن كما تقدم، وما أظن أن الوجه الأول متحقق فيهم أيضًا، وهم أعلم بأنفسهم. ويدخل في باب الوجه الأول الهجرة إلى طلب العلم الواجب عند الحاجة إلى ذلك، فإن لم يهاجر من يتعلم ويعود ليعلم أثم جميع المسلمين الذين فقدوا هذا العلم في وطنهم، وكذلك الهجرة من المكان الذي فشا فيه الفسق والمجاهرة بالمنكرات، وصارت التربية على التقوى والصلاح متعذرة فيه، وقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: تهجر الأرض التي يصنع فيها المنكر جهارًا ولا يستقر فيها. واحتج بصنيع أبي الدرداء في خروجه من أرض معاوية حين أعلن بالربا، فأجاز بيع سقاية الذهب بأكثر من وزنها، رواه أهل الصحيح، وقال مالك في موضع آخر: إذا ظهر الباطل على الحق، كان الفساد في الأرض. وقال: لا تنبغي الإقامة في أرض يكون العمل فيها بغير الحق. اهـ أقول: وإنما يكون هذا من الأفراد الذين يتعذر عليهم إزالة المنكر، فإن وجد جمع يقدر على إزالة المنكر، وجب عليه دون الهجرة. ومن قال: إنه لا يظهر له دخول هذا في الوجه الأول، قلنا: لك أن تعدّه وجهًا آخر وهو ظاهر. ولا حاجة إلى قياس الفسق على الكفر؛ ليصح ما ذكرمن الهجرة من حيث يفشو الفسق ويتعذر الصلاح أو يتعسر إلى حيث الصلاح والخير. وجملة القول أن المسلم يجب عليه أن يقوم بالحق والخير كما يرشده دينه، فإن عجز عن ذلك في بلاد، وجب أن يهاجر منها إلى حيث يقدر عليه، وإلا كان ظالمًا لنفسه، وقيل له يوم الحساب إذا اعتذر باستضعاف الكفار أو الفساق له ومنعه من العمل بدينه: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها؟ أما ما زعمه ذلك الواعظ التركي؛ من عدم صحة النكاح وأركان الإسلام في بوسنة بعد إلحاقها بالنمسا، فهو باطل، لا يصدر مثله إلا من جاهل، ولولا إباحة ما حرم الله على المسلمين من التقليد لما كان لهذا الجاهل من سبيل لتشكيك أولئك المسلمين الذين سمعوا وعظه في عبادتهم وعقود زوجتهم؛ إذ الوعظ ببيان كتاب الله وسنة رسوله لا يأتي فيه شيء من هذه المزاعم والأباطيل، فمتى تستنير بصائر جماهير المسلمين ويعتصمون بحبل الله، حتى إذا حاول أن يعبث بدينهم عابث طالبوه بما عنده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءهم بهديهما قبلوه، وإلا ردوا ما جاء به ورفضوه. لا فرق في العبادة والنكاح بين المسلم في دار الكفر والمسلم في دار الإسلام، وإنما هنالك أحكام تتعلق بالمعاملات السياسية والمدنية والحربية، وأ

خطبة جمعة في سوء حال المسلمين في هذا الزمان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة جمعة في سوء حال المسلمين في هذا الزمان (س26) من م. ا. ص في سنغافورة سنغافورة في 7 جماد الأول 327 حضرة العلامة الفاضل السيد: محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنيرة بمصر، قد أتى على المسلمين بهذه الأصقاع حين من الدهر وهم لا يسمعون الخطبة في مساجدهم غير خطب ابن نباتة أو نحوها، فتعودوا سماع فضائل الشهور، وبيان قرب الساعة والحث على ترك الدنيا إلى غير ذلك، ولما كان الزمان في تقلب دائم، حصلت الفرصة في الجمعة الماضية للغيور الأديب الشاب المحبوب عباس بن محمد طه فأنشأ خطبةً تناسب الأحوال الحاضرة بهذه الجهات تمام المناسبة، ثم رقى المنبر بالجامع الكبير المسمى: (مسجد سلطان) فخطب خطبة تؤثر في نفوس الغيورين، وإن خطيب المسجد لم يخطب في ذلك اليوم؛ نظرًا لما كان عليه من العذر، ثم طفق الجامدون بعد فراغ الصلاة يشيعون أن الخطبة لا تليق أن تكون خطبة للجمعة؛ لأن فيها تكفير المسلمين وذمهم ومدح الكفار، مع أن خطبة الجمعة دينية محضة، وما في هذه الخطبة من أمور الدنيا وتقبيح أحوال المسلمين ورفع شأن الكافرين مُخل لنظر الدين؛ ولذلك قال هؤلاء: إنهم لا يريدون أن يصلوا الجمعة في هذا الجامع إذا أعيدت تلك الخطبة، حتى بالغ بعض الناس في سب ذلك الخطيب، وسمعت ذلك أنا والشيخ عبد القادر وغيره، فعلمنا أن كره المغفلين هذه الخطبة قد بلغ الغاية، وإننا قد اطلعنا على الخطبة عند بعض معارفنا، فنقلت منها عدة نسخ، نسخة منها لتقديمها إلى مجلتكم المنيرة، وهذه هي الخطبة: (الحمد لله الذي جعل الجمعة من أسباب الاجتماع. تُقرأ فيه المواعظ لتمزق غشاء الأسماع، فتتأثر منها القلوب والطباع، وتفتح بذلك أبواب الخير والانتفاع، أحمده سبحانه وتعالى على جزيل الفضل والإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنان، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالبيان، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه في كل وقت وأوان، أما بعد، فيا عباد الله: إن ما حل بنا من ضعف وهوان , وفساد في الأعمال وخسران , من سوء تربية في الصغر تولد منه في الكبر فساد وطغيان , وتهاون بالصلاة وتجاهر بالعصيان، وموت شعورعند سماع أوامر ونواهي القرآن , وكثرت الخرافات والأوهام. أدخلها الجاهلون وصبغوها بصبغة دين الإسلام , ومعظم أهل زماننا هذا هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان , والمصيبة في الأعمال والأديان , أعظم منها في الأموال والأبدان , ونحن نعلم كل ذلك علم اليقين , وأهملنا شعائر الدين , فوقعنا في شدائد متراكمة , ونظرت إلينا الأجانب نظر تحقير وملامة , وإن التباعد عن الاهتداء بهدى الشرع الكريم وعدم التمسك بعروة الدين القويم، قد أدى بنا ذلك إلى الإهمال، والانحطاط وشر المآل، وديننا يأمر بالتعاون والاتفاق، ونحن نسعى إلى التنافر والافتراق، حتى ذهبت أعمالنا أدراج الرياح، وضاعت أوقاتنا بين الجد والمزاح، ولا نقدر على القيام بمهام الأعمال، ولا على مثابرة الأشغال، فآلت أمورنا إلى أسوء الحال، وخابت الآمال، وإننا لو اتحدت كلماتنا، وصرنا حزبًا متعاونًا ساعيًا في مصالح أمورنا، في ديننا ودنيانا، لكان أكبر الأعمال هينًا، ونجح نجاحًا مبينًا، وإذا نظرنا إلى حال الأمة الغربية، ذات السعادة والرفاهية، وجدنا أنها تدرجت على أصول الإسلام، وبذلت الجهد في التعاون والاتحاد والالتئام؛ كان أكبر المشروعات عندها من أسهل الممكنات، وإن كان عندنا يعد الناس نجاحه من المستحيلات، وهم يعقدون الشركات وينشئون الجمعيات؛ ليعود ذلك على أبناء ملتهم بالنفع والفضائل، ونحن ننشئ الجمعيات للتلوث بأدران الخمول والرذائل، ويعود ذلك علينا بضعف الديانة، وتضييع الصيانة، كانت المواعظ عندهم داعية إلى التقدم السريع، وعندنا قد صارت سلمًا إلى تأخرنا الشنيع، فيا ذوي الأبصار؟ أين التبصر والاعتبار؟! وما هذه الغفلة والاغترار؟! فليت شعري ما اعتذاركم بعد الإنذار، أما علمتم أن الله لم يخلق الدنيا عبثًا؛ بل جعلها دار سعي واختبار، يعقبها بدار جزاء وقرار، وجعل لنا العقول؛ لنميز بها النفع والأضرار، وأمرنا بفعل الخيرات ونهانا عن الأوزار، ومن أطاعه أدخله الجنة ومن عصاه أدخله النار، وليس لنا عليه بعد ذلك حجة ولا أعذار. عباد الله، تعاونوا واتفقوا , واعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا تفرقوا (الحديث) قال صلى الله عليه وسلم: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لأخراك كأنك تموت غدًا) . إلى آخر الخطبة. وما دعاني إلى إفادتكم بهذه الواقعة إلا لنصرة الحق وحضرتكم أهل لذلك. (المنار) وجاءنا سؤال آخر عن خطبة هناك الظاهر أنها هذه بعينها، وهذا نصه: سنغافورا 13 جماد الأول (؟) سنة 1327. (س27) من س. ح. س. حضرة العلامة الفاضل السيد: محمد رشيد رضا صاحب المنار بمصر، لا يخفى أن من طبيعة الإنسان حب الفخر والشهرة، ويوجه كل قوته إلى الوصول إليه بأي وجه كان، ولا يجول بخاطره أنه أمام الملأ من الأكابر كالذبابة، لولا ذلك لما تجرأ بعض الناس على تلاعب بعض أمور العبادة، فقلب الخطبة على غير وجهتها التي شرعت لأجلها، فخطب على منبر أكبر الجوامع هنا خطبة تقشعر من سماعها الأبدان؛ يكفر فيها المسلمين ويقبح أعمالهم، ويستحسن أعمال الكافرين، وذلك بمسمع من العباد والعلماء؛ ظنًّا منه أن ذلك مما يوجب فخره، ولا يدري أن الأمر بالعكس، وقد أفتى العلماء بمنع أن تخطب خطبة الجمعة مثل تلك الخطبة؛ ولذلك جئتكم بهذه الرقعة سائلاً عن رأيكم الصائب في ذلك. (ج) إن المصريين ليعجبون من استنكار بعض مسلمي سنغافورة لهذه الخطبة؛ التي يسمعون كل جمعة في مساجدهم ما هو أشد منها إنكارًا لحال المسلمين وتركهم لهداية دينهم، وإضاعتهم لمصالح دنياهم، وتقدم سائر الأمم عليهم، ومن ذلك عبارة يكررها في الخطبة الثانية الشيخ (خالد النقشبندي) خطيب مسجد (الست الشامية) المشهور بالصلاح وحسن الخطبة، وهي (اتقوا الله، فقد تقدم الأجانب وتأخرنا. اتقوا الله، فقد نشطوا وكسلنا) .. إلخ، وهو نحو مما قاله خطيب سنغافورة، فلماذا استنكر هناك ولم يستنكر هنا؟ لا سبب لذلك إلا أن العلماء والعوام هنا أعلم ممن هناك بالإسلام والمسلمين وما يحتاجون إليه، وهذه هي الخطب التي يسمونها الخطب العصرية، ويرجون فائدتها ونفعها، وينتقدون الخطب القديمة التي معظمها: مدح للشهور، والمواسم بالباطل، وذم للدنيا وتزهيد فيها، على أن تلك الخطب القديمة المشهورة في جميع البلاد الإسلامية لا تخلو من وصف المسلمين بترك الإسلام، وإضاعة الكتاب والسنة، والضراوة بالمعاصي والمنكرات، وناهيك بتلك العبارة المشهورة التي حفظناها من الخطباء لأول عهدنا بالصلاة في صغرنا وهي: (لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه) ومهما أكثر المكثرون من الإنكار على المسلمين، ووصفهم بإضاعة الدين، فهم لا يأتون بأبلغ من هذه العبارة، ولا يكونون إلا شارحين لها. ماذا ينتظر السائلون عن هذه الخطبة من المنار وهو نبه منذ سنته الأولى إلى وجوب إصلاح الخطابة في المساجد الجامعة، وترك تلك الخطب المحشوة بالأباطيل المميتة للهمم، وقد كتبت قبل إنشاء المنار فصلاً طويلاً في الخطابة أودعته كتابي (الحكمة الشرعية) فهل ينتظرون مني أن أجيز تلك الخطب السخيفة المألوفة، وما فيها من الأحاديث الموضوعة، وأنكر ما يجيء به أذكياء الخطباء من المنبهات التي تزلزل ذلك الجمود القديم. يظهر أن أنكر ما استنكروه من هذه الخطبة هو اقتباس الخطيب قوله تعالى {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} (آل عمران: 167) يريد أن الذين تلبسوا بتلك المنكرات التي نهى عنها هم يوم إذ أدخلت عليهم الخرافات والأوهام وتلبسوا بها أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان، وليس هذا تكفيرًا صريحًا، ولا هو في قوم معينين بذواتهم، وإنما هو في قوم يأتون ما نهى عنه الإسلام ويتركون ما أمر به، فماذا يريدون أن يقول الواعظ فيهم؟! أخرج ابن أبى شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي داود وابن أبي حاتم عن مقاتل، أن الصحابة أخذوا في شيء من المزاح، فأنزل الله فيهم: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ومن المعروف عند أهل القرآن أن الفسق والظلم والكفر كثيرًا ما ترد فيه على مورد واحد، كما بيناه في تفسير {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254) وروى مسلم والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين إن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ} (الحديد: 16) ... إلخ إلا أربع سنين، وعنه قال: لما نزلت هذه الآية، أقبل بعضنا على بعض: أيُّ شيء أحدثنا، أيّ شيء أضعنا؟ فإذا كان رب العزة يعظ أفضل المؤمنين من السابقين الأولين بمثل هذه الآية، فهل يستنكر في مسلمي زماننا مثل تلك الخطبة؟ ما هذا الغرور الذي أصابنا؟! نسيء ونطلب الشكر على إساءتنا! وليراجع السائلون تفسير {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ} (البقرة: 214) في الجزء الثاني من تفسير القرآن الحكيم (311 ص- 311) ولينظروا ما هي النسبة بين أولئك المخاطبين بالآية عند نزولها، وبين أهل عصرنا هذا وهم مخاطبون بها أيضًا، ومثلها كثير ننبه دائمًا في التفسير عليه، ونحث مسلمي زماننا على وزن أنفسهم بميزان القرآن، ثم سيرة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة أصحابه عليهم الرضوان، ولو شئنا أن نعزز ذلك بالأحاديث والآثار لفعلنا، ولكن المنصف يكتفي بما ذكرناه، والمغرور أو صاحب الهوى لا يقنعه شيء يخالف هواه. أما إذا كان السائل الثاني يعني بما ذكره خطبة غير التي أرسلها السائل الأول منهما، وفيها تكفير للمسلمين صريح، وتحسين لأعمال الكفار التي هي من كفرهم، فلا مندوحة لنا عن إنكار ذلك بشدة، أما الأعمال التي ليست من كفرهم فمنها الحسن والقبيح، قال تعالى في اليهود: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة: 66) .

أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أم كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم (س28) من خليل رشدي أفندى ملحس التلميذ بمكتب نابلس الإعدادي. الحمد لله وحده: حضرة الفيلسوف العظيم، والأستاذ الحكيم، الإمام العلامة بحر فهامة سيدي المرشد السيد: محمد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار) الإسلامي، نوَّر الله قلبه، وأدام مجده على مدى الدوران آمين. بعد إهداء ما يليق بحضرتكم من التحيات الذاكية، أعرض لجنابكم بأن تتكرموا على هذا العاجز بنشر سؤالي الآتي على صفحات مجلتكم (المنار) الأغر، وسرد جوابه بما يتراءى لكم، ولحضرة فضيلتكم الشكر والمنة سلفًا: لا يخفى على جنابكم أحوال تلامذة المدارس من جهة المباحثة مع بعضهم البعض، فيوم من الأيام اجتمعت أنا وبعض رفقائي للمباحثة، وسرنا نتباحث إلى أن وصل بحثنا عن السؤال الآتي: (1) ما هو أصل اسم بنت النبي صلى الله عليه وسلم الملقبة به (أم كلثوم) ؟ (2) لأي سبب لقبت به (أم كلثوم) ؟ وطال بنا الجدال في هذا الموضوع، وانقسمت أفكارنا إلى آراء كثيرة، وحيث إنه لم نوفق لمعرفة السؤالين المرقمين أعلاه، قر بنا القرار بالتفسير من فضيلتكم، وأخذ رأيكم في هذا الموضوع، فكلفوا هذا العاجز بالسؤال من جنابكم. ولأجل ذلك حررت لفضيلتكم هذا التحرير؛ راجيًا إرشادنا في هذا البحث، والله الملهم إلى الحق والصواب، ولكم الأجر والثواب، والسلام على من اتبع الهدى ودين الحق ودمتم. (ج) لا أدري، كيف وجدتم ذلك المجال الواسع للخلاف وانقسام الأفكار في هذه المسألة، وهي لا تحتمل عندنا خلافًا، فالعرب كانت تسمي أيمن وأم أيمن، وسلمة وأم سلمة، والمعروف أن بنت النبي صلى الله عليه وسلم سميت أم كلثوم ابتداءً ولم يكن كنية كنيت بها بعد أن سميت باسم آخر، وفي الصحابيات كثيرات سمين بهذا الاسم، وكلثوم من الكلثمة وهي استدارة الوجه.

عهد (موضوع) زعموا أنه من النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عهدٌ موضوعٌ زعموا أنه من النبي صلى الله عليه وسلم للنصارى (س29) من أحد العلماء في حمص. إن مجلة (روضة المعارف) التي تصدر في بيروت، أدرجت في عددها الثالث عشر من هذه السنة صورة عهد للنبي صلى الله عليه وسلم، تزعم أنه أملاه على سيدنا معاوية رضي الله عنه لأهل الذمة، ولدى البحث في كتب الحديث والسير والتاريخ ما وجدت هذا العهد بهذا اللفظ الطويل الذي نقلته هذه المجلة، ونقلته عنها جريدة لسان الحال، فأرجوك أيها الفاضل أن تفيدني عن درجة هذا العهد من الصحة والحسن، وعمن خرجه منه المحدثين، وفي أي كتاب هو، وهل هذا اللفظ المنقول كله مروي محفوظ عن أئمة هذا الشأن الموثوق بهم الذين يعول على نقلهم، فيكون حجة في العمل، لقد رأيت في هذا طولاً كبيرًا وألفاظًا لا تشبه ألفاظ صاحب الرسالة في عهوده، ورأيت بعض الصحابة المدرجة أسماؤهم بصفة شهود كان قد مات قبل هذا التاريخ، وبعضهم لم يكن أسلم، فأرجو إيضاح الجواب على كل جملة؛ ليكون الإنسان على بصيرة، لا زلت مرجعًا لحل الإشكالات وتحقيق المسائل، وليكن الجواب على صفحات مجلتكم؛ ليطلع عليه القراء الكرام. (ج) قد اطلعنا في مجلة روضة المعارف على هذا العهد الملفق الموضوع، فساءنا اندفاع قومنا في تيار المجاملة إلى هذا الحد الذي يتهجم فيه على نشر هذه الأكاذيب الموضوعة على النبي صلى الله عليه وسلم، على حين نحن في غنى عنها بما عندنا من الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة وسيرة السلف المعروفة. إن هذا العهد المكذوب لم يروه أحد من المحدثين، ولا يحتاج من له أدنى شمة من علوم الدين إلى اطلاع واسع ليعرف أنه مصنوع موضوع، فذلك واضح من: عبارته في أغلاطها، وأسلوبه في ركاكته، وما فيه من الاصطلاحات الحادثة ومن المبالغة والتكرار، ومن مسائله التي توهم أن الإسلام وجد في الأرض؛ لأجل تعزيز النصرانية، وخدمة أهلها والدفاع عنهم، والخضوع والذل لهم، وإعانتهم على المعاصي والجنايات إذا ارتكبوها، فإن مما جاء فيه: (وان جر أحد من النصارى جريرة أو جنى جناية، فعلى المسلمين نصره ومنعه - أي حمايته - والذب عنه، والغرم عن جريرته) فهل يعقل من شم رائحة الإسلام أن النبي الذي يقول كما في صحيح البخاري: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) يأخذ العهد على أمته بأن ينصروا مرتكبي الجرائم والجنايات من النصارى، ويحموهم ويدفعوا عنهم؟! وهل يتفق هذا مع قوله تعالى في الآية التي أذن فيها للمسلمين بالجهاد والدفاع عن أنفسهم: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) . وفي هذا العهد كثير من أمثال هذه المسائل الباطلة بالإجماع التي لا يبيحها الإسلام لأحد، بل يعد استباحتها كفرًا وردة عن الإسلام. أما ما يدل على كذب هذا العهد مما يتوقف العلم به على الإلمام بالتاريخ، فربما يعذر ناشروه بجهلهم له، ولكنهم لا يعذرون بجهل المسائل المعلومة من الدين بالضرورة ثم إن هنا مسألة تاريخية تكاد تكون معروفة عند العامة وقد جهلها ناشرو هذا العهد؛ وهي مسألة التأريخ بالهجرة ففيه: (كتبه معاوية بن أبي سفيان بإملاء رسول الله يوم الإثنين في ختام أربعة أشهر من السنة الرابعة من الهجرة بالمدينة) فمن المشهور أن هذا التأريخ قد حدث في خلافة عمر بن الخطاب بمشاورة الصحابة - رضي الله عنهم - ولم يفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أبو بكر رضي الله عنه. وما ذكر مختلق العهد هذا التاريخ إلا ليُظهر كذبه علمُ التاريخ، فالمروي في صحيح البخاري: أن معاوية أسلم في عام الفتح، أي: في السنة التاسعة للهجرة، فكيف كان يكتب للنبي في السنة الرابعة؟! ثم إن ختام الشهر الرابع للهجرة وهو شهر جمادى الآخرة، لم يكن يوم الإثنين وإنما كان يوم الجمعة؛ وذلك أن الهجرة كانت في شهر ربيع الأول، ولما أراد الصحابة في عهد عمر التأريخ بالهجرة جعلوه من أول السنة القمرية التي حدثت فيها، فكان في ذلك زيادة شهرين كما هو مشهور، ثم إنه أكثر من الشهود؛ ليظهر كذبه أيضًا، وهاك البيان بالإيجاز. في ذكر هؤلاء الشهود أربعة أنواع من الغلط: أحدها وأهونها: الأسماء المحرفة والمصحفة: كالفضيل بن العباس صوابه الفضل، وحسن بن ثابت صوابه حسان، وأبو درداء صوابه الدرداء، ويزيد بن ثابت صوابه زيد. والثاني: من لم يكن أسلم كمعاوية. والثالث: من كان قد مات أو استشهد كحمزة. والرابع: من لا وجود لهم في الصحابة كداود بن جبير، والعاصي أبو حنيفة، وإساف بن يزيد وكعب بن كعب، ولو استقصينا كل ما في هذا العهد المكذوب من الخطأ، لأفضى بنا ذلك إلى تطويل نحن في غنى عنه بهذا القول الوجيز.

رسم المصحف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسم المصحف (س28) من صاحب الإمضاء في قزان (روسيا) في 6 جمادى الآخرة: بسم الله الرحمن الرحيم حضرة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا حفظه الله، ومتعنا وسائر المسلمين بعلومه الشريفة، أما بعد: فإن من المسائل التي تدور بيننا الآن مسألة رسم المصاحف المطبوعة في بلدة قزان، حيث إن العلماء صرحوا بأن رسم المصاحف يجب فيه الاتباع لرسم المصاحف التي كتبت بأمر سيدنا عثمان رضي الله عنه، وفي رسم المصاحف القزانية مخالفة كثيرة لرسم تلك المصاحف، فتشكلت بقزان لجنة من العلماء والقراء؛ لتفتيش رسم هذه المصاحف ونصوص العلماء فيه، وتكلموا في وجوب الاتباع وعدمه، فذهب كثير منهم إلى أنه ينبغي اتباع رسم المصاحف العثمانية، وأن الرسم سنة متبعة على ما نص عليه أبو عمرو الداني والشاطبي والجزري والسيوطي والزمخشري وغيرهم، وبعضهم قالوا: إنه لا يجب اتباع الرسم؛ محتجين بقول شيخ الإسلام العز بن عبد السلام حيث قال: (أما الآن فلا يجوز كتابة المصاحف على المرسوم الأول؛ خشية الالتباس ولئلا يوقع في تغيير من الجهال) ويجيب الفريق الأول عن هذا: بأن المواضع التي يتوهم فيها الالتباس يمكن التخلص منها بالنقط والإشكال، ثم فتشوا المصاحف المطبوعة في الديار الإسلامية من الآستانة ومصر والهند وغيرها، فوجدوا فيها أيضًا مخالفة كثيرة لرسم المصاحف العثمانية، فما ندري ما سبب عدم اعتنائهم في هذا الباب؟ أأهملوا في رسم كتابنا المقدس، أم لا يقولون بلزوم الاتباع. وإذا كان الاتباع واجبًا كما يقول به أكثر الأئمة، فما ينبغي أن نصنع لنقرأ برواية حفص المعروفة في بلادنا في مثل كلمة (آتان) في سورة النمل آية 36، فإنه كتب في مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه كلها بغير ياء بعد النون، والحال أن حفصًا يقرأه آتاني بياء مفتوحة بعد النون، فكيف يكون زيادة ياء بعد النون في مثل هذه المواضع؛ تخلصًا من الالتباس والتلفيق في القراءة. وهل يجوز مخالفة الرسم لأجل الضرورة في مثل تلك الضرورة، وما نصنع في الكلمات التي حذفت فيها الألفات في بعض المصاحف المطبوعة والمكتوبة القديمة مثل: كلمة الأعلام والأحلام والأقلام والأزلام والأولاد، وتلك الكلمات كتبت في بعض المصاحف (الأعلم والأحلم والأقلم) بحذف الألف بعد اللام، والحال أن قاعدة الخط العربي تقتضي إثبات الألف في مثلها، وليس فيها نص صريح من علماء الرسم في حق الحذف أو الإثبات، هل ينبغي فيها اتباع قاعدة رسم الخط العربي وإثبات الألفات، أم نقول: إنهم كانوا يعتبرون الظهور وعدم الالتباس؛ ولهذا كانوا يحذفون الآلفات فيما ظهر المراد منه مثل الكلمات المذكورة، فنحذف الألفات فيهن. ورسم المصاحف المطبوعة هنا ليس على نسق واحد، في بعضها تلك الكلمات مكتوبة بألفات بعد اللام، وفي بعضها بحذف الألفات، وإن المصحف الذي يحفظ في بلدة بترسبورغ عاصمة الروسية في المكتبة الإمبراطورية، ويظن كونه واحدًا من مصاحف سيدنا عثمان رضي الله عنه، قد حذف فيه الألفات في مثل هذه المواضع، والعلامة شهاب الدين المرجاني القزاني الذي أفنى عمره في خدمة العلم وصنف كتابًا مفيدًا في رسم المصحف، وكان مأمورًا بتصحيح المصاحف المطبوعة من جهة الحكومة، قد حذف الألفات قصدًا في مثل هذه الكلمات، ولزيادة الاطمئنان ولكون المسألة عامة مهمة ومتعلقة بعموم أهل الإسلام اتفقنا على المراجعة إلى (؟) جنابكم المحترم بالاستفسار في تلك المسألة؛ رجاء أن تتفضلوا بإبداء ملاحظاتكم العالية في صفحات المنار، والسلام والإكرام. رئيس اللجنة المتشكلة لتفتيش رسم المصاحف المطبوعة ببلدة قزان ... ... ... ... ... ... ... ملاّ صادق الإيمانقولي القزاني (ج) إن ديننا يمتاز على جميع الأديان بحفظ أصله منذ الصدر الأول، فالذين تلقوا القرآن عمن جاء به من عند الله صلى الله عليه وسلم حفظوه وكتبوه، وتلقاه عنهم الألوف من المؤمنين، وتسلسل ذلك جيلاً بعد جيل، وقد أحسن التابعون وتابعوهم وأئمة العلم في اتباع الصحابة في رسم المصحف وعدم تجويز كتابته بما استحدث الناس من فن الرسم، وإن كان أرقى مما كان عليه الصحابة رضوان عليهم؛ لأنه صنعة ترتقي بارتقاء المدنية؛ إذ لو فعلوا لجاز أن يحدث اشتباه في بعض الكلمات باختلاف رسمها وجهل أصلها، فالاتباع في رسم المصحف يفيد مزيد ثقة واطمئنان في حفظه كما هو وبعد الشبهات أن تحوِّم حوله، وفيه فائدة أخرى وهي حفظ شيء من تاريخ الملة وسلف الأمة كما هو. نعم إن تغير الرسم واختلاف الإملاء يجعل قراءة المصحف على وجه الصواب خاصة بمن يتلقاه عن القراء، ولذلك أحدثوا فيه النقط والشكل وهي زيادة لا تمنع معرفة الأصل على ما كان عليه في عهد الصحابة. ثم إنه يجعل تعليم الصغار عسرًا؛ ولذلك أفتى الإمام مالك بجواز كتابة الألواح ومصاحف التعليم بالرسم المعتاد كما نقل. قال علم الدين السخاوي في شرحه لعقيلة الشاطبي: قال أشهب رحمه الله: سئل مالك رضي الله عنه: أرأيت من استكتبته مصحفًا، أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتْبة الأولى. قال مالك: ولا يزال الإنسان يسألني عن نقط القرآن فأقول له: أما الإمام من المصاحف فلا أرى أن ينقط، ولا يزاد في المصاحف ما لم يكن فيها , وأما المصاحف الصغار التي يتعلم فيها الصبيان وألواحهم فلا أرى بذلك بأسًا. ثم قال: (أشهب) والذي ذهب إليه مالك هو الحق؛ إذ فيه بقاء الحال الأولى إلى أن يعلمها الآخر، وفي خلاف ذلك تجهيل الناس بأوليتهم. وقال أبو عمر الداني في كتابه المسمى (المحكم في النقط) عقيب قول مالك: هذا، ولا مخالف لمالك في ذلك من علماء الأمة. اهـ. فالذي أراه هو الصواب أن تطبع المصاحف التي تتخذ لأجل التلاوة برسم المصحف الإمام الذي كتبه الصحابة عليهم الرضوان؛ حفظًا لهذا الأثر التاريخي العظيم الذي هو أصل ديننا كما هو، لكن مع النقط والشكل للضبط. ولو كان لمثل الأمة الإنكليزية هذا الأثر، لما استبدلت به ملك كسرى وقيصر ولا أسطول الألمان الجديد الذي هو شغلها الشاغل اليوم. وأما الألواح والأجزاء وكذا المصاحف التي تطبع لأجل تعليم الصغار بها في الكتاتيب، فلتطبع بالرسم المصطلح عليه اليوم من كل وجه؛ تسهيلاً للتعليم، ومتى كبر الصغير وكان متعلمًا للقرآن بالرسم المشهور، لا يغلط إذا هو قرأ في المصاحف المطبوعة برسم الصحابة مع زيادة النقط والشكل، وكذلك يكتب القرآن في أثناء كتب التفسير وغيرها بالرسم الاصطلاحي؛ ليقرأه كل أحد على وجه الصواب. وبهذا نجمع بين حفظ أهم شيء في تاريخ ديننا، وبين تسهيل التعليم وعدم اشتباه القارئين. أما ما احتج به العز بن عبد السلام على رأيه فليس بشيء؛ لأن الاتباع إذا لم يكن واجبًا من الأصل، فلا فرق بين الآن الذي قال فيه ما قال وبين ما قبله وما بعده، بل يكتب الناس القرآن في كل زمن بما يتعارفون عليه من الرسم، وإذا كان واجبًا في الأصل وهو ما لا ينكره، فترك الناس له لا يجعله حرامًا أو غير جائز لما ذكره من الالتباس، بل يزال هذا الالتباس على أنه لا يسلم له. وأما ما طبعه المسلمون من المصاحف في الآستانة وقزان ومصر وغيرها من البلاد، غير متبعين فيه رسم المصحف الإمام في كل الكلمات؛ فسببه التهاون والجهل والاعتماد على بعض المصاحف الخطية التي كتبت قبل عهد الطباعة، فرسم فيها بالرسم المعتاد الكلمات التي يظن أنه يقع الاشتباه فيها، إذا هم كتبوها كما كتبها الصحابة: كلفظ (الكتاب) بالألف بعد التاء، وهو في المصحف الإمام بغير ألف؛ ليوافق في بعض الآيات قراءة الجمع فكتبوه بالألف , ولم أر مصحفًا كتب أو طبع كله بالرسم المعتاد. ونحمد الله تعالى أن وفق بعض الناس إلى طبع ألوف من المصاحف برسم الصحابة المتبع، وأحسن المصاحف التي طبعت في أيامنا هذه ضبطًا وموافقة للمصحف الإمام المتبع هو المصحف المطبوع في مطبعة محمد أبي زيد بمصر سنة 1308؛ إذ وقف على تصحيحه وضبطه الشيخ رضوان بن محمد المخللاتي، أحد علماء هذا الشأن، وصاحب المصنفات فيه، وقد وضع له مقدمة بين فيها ما يحتاج إليه في ذلك، فالذي أراه أنه ينبغي للجنة القزانية أن تراجع هذا المصحف، فإنها تجد فيه حل عقد المشكلات كلها - إن شاء الله تعالى - ككلمة الأقلام وأمثالها وهي بغير ألف، وكلمته (ءاتاني) التي رسمت في المصحف الإمام (اتن) ، فيرون أن هذا المصحف وضع فوق النون ياء صغيرة مفتوحة هي من قبيل الشكل؛ لتوافق قراءة حفص، فهي فيه هكذا (ءاتنىَ) . وجملة القول: إننا نرى أن الصواب الذي ينبغي أن يتبع ولا يعدل عنه هو أن تطبع الأجزاء والمصاحف التي يعلم فيها المبتدئون بالرسم الاصطلاحي؛ لتسهيل التعليم، وهو ما جرت عليه الجمعية الخيرية الإسلامية هنا بإذن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، فهي تطبع أجزاء القرآن كل جزء على حدته بالرسم الاصطلاحي وتوزعها على التلاميذ في مدارسها. وأما سائر المصاحف فيتبع في طبعها رسم المصحف الإمام، كالمصحف الذي ذكرناه آنفًا، وإذا جرى المسلمون على هذا في الآستانة ومصر وقزان والقريم وسائر البلاد الإسلامية، فلا يمضي جيل أو جيلان إلا وتنقرض المصاحف التي طبع بعض كلماتها بالرسم الاصطلاحي وبعضها برسم الصحابة. ولا ضرر من وجودها الآن؛ إذ هي مضبوطة بالشكل كغيرها، فالاشتباه والخطأ مأمونان في جميع المصاحف ولله الحمد.

بحث في خطبة العقيلة المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بحث في خطبة العقيلة المصرية (باحثة بالبادية) نشرنا في الجزء الخامس هذه الخطبة، ووعدنا بأن نبين رأينا فيها في هذا الجزء، وكنا نريد أن نطيل القول فيه، فكثرت علينا المواد العارضة فسامتنا الاختصار فكان ما لابد منه. إن الخطيبة تساهم بعبارتها وأفكارها كتاب الطبقة الثانية من الرجال بمصر، ولكني رأيت عبارة مقالاتها النسائيات في الجريدة أصح من عبارة الخطبة، فيظهر أنها لم تعن بتحرير الخطبة عنايتها بتحرير المقالات، كما يفعل الذين يكتبون الخطب قبل إلقائها، ولابد لذلك من سبب ينهض عذرًا. أودع في الخطبة من الحكم ما هو جدير بأن يحفظ ويضرب به المثل، ولا تخلو من الملح والأفاكيه التي تستملح في الخطب؛ لما فيها من تجديد النشاط وذود الملل، ولم أر فيها على طولها شيئًا تمنيت لو لم يكتب- وإن نطق به - إلا كلمة واحدة في نساء الإفرنج. ورأيت مسائلها المستمدة من الصحف، أكثر من مسائلها المستمدة من الكتب، فليت نساءنا يكثرن من قراءة الصحف، فإنها دروس تكرر فتثبت مباحثها في الذهن. ينتقد بعض الناس من الخطبة كثرة المباحث النظرية والمسائل البديهية، ككون الزوجين الذكر والأنثى خلقا للموادة لا للمباغضة، وكون العالم لا يعمر بدونهما، وكونهما سواء في القوة والاستعداد أو متفاوتين، وغير ذلك من المسائل الفلسفية والاجتماعية، كمسألة تعليم أحد الصنفين كل ما يتعلمه الآخر أو عدم تعليم البنات، ومسألة خلق النساء للبيوت والعمل فيها والرجال لكسب المعاش، ومسألة الحجاب، ويرى هؤلاء المنتقدون أن القسم الأول من الخطبة لو كان كالقسم الثاني؛ في الأمور العملية الواقعة من العادات والمعاملات بين الرجال والنساء، لكان خيرًا وأنفع. ونقول: إن ما ذكرته الخطيبة من هذه المباحث نافع ولابد منه، وإن كان بعضه خطأ في نظرنا وبعضه يعلو أفهام كثيرات من حاضرات الخطبة، وإنما نفعه أنه يحرك أذهانهن وينبه أفكارهن، فتخرج به عقول بعضهن من مضيق ليس فيه إلا صور الزينة والأثاث والرياش إلى فضاء واسع فيه كل شيء، ومتى فكرت الواحدة منهن في مسألة من تلك المسائل، يكون لها فيها رأي خاص قد يخالف رأي الخطيبة وقد يوافقه، وذلك ضرب من ضروب ترقية الفكر التي يطلبها المحبون لإصلاح الأمة. نعم ... إن القسم الآخر الذي يبحث فيه عن العادات والأخلاق والآداب التي هي مناط السعادة بين الصنفين هو أنفع وأولى بالعناية، وقد أجادت الخطيبة وأفادت بما ألقته على المستمعات لها من النصائح والمباحث، وذكرتهن بما يغفل عنه أكثرهن من أمر الصلة بينهن وبين الرجال، وما يجب أن تكون عليه، ولكنه قلما يفيد الرجال فائدة جديدة؛ لأنهم يعرفونه في الغالب لما سبق لكتابهم من الخوض فيه، وهم ينتظرون أن يستفيدوا من كتابة المرأة في النساء أكثر مما يستفيدون من كتابة الرجال عنهن، وعسى أن تكثر الفوائد لكل منهما فيما تجود به الخطيبة من الخطب والمقالات من بعد، فإن أول الغيث قطر، وقليلها لا يقال له قليل. لقد قربت الخطيبة مسافة التفاوت بين الرجال والنساء في العقل والفهم، كما قربت مسافة التفاوت بين المرأة المصرية والمرأة الغربية، وما قالته أشبه بكلام السياسيين الذين يراعون المصلحة فقط منه بكلام الفلاسفة الذين يتحرون الحقيقة فقط. أرادت أن ترفع من شأن صنفها في أنفسهن وأنفس الرجال، وأن ترغب رجال وطنها في الوطنيات وتنفرهن عن الأجنبيات، فجاءت من الخطابيات في هذا المقام بما يناسبه. ونرجو أن تعيد الكرة فتبحث في مسألة التفاوت بين الرجال والنساء فيما يتعلق بالبيوت والخطبة والزواج والحياة الزوجية بحث المؤرخ الحكيم، والاجتماعي الخبير، وأن تكون مستقلة في ذلك غير مقلدة لمن كتب من الرجال في هذه المسائل، ولا مستمدة منهم شيئًا، بل من البحث في العادات والاختبار للأحوال لعلها تستطيع أن ترشدهن إلى ما يرقق حجاب جهلهن، فيجعله كبراقع وجوههن، فيبصرن ما بين الرجال وبينهن، مما يحول دون ما يجب من الألفة والود بينهم وبينهن، إذا كانت المشاكلة في الأخلاق والعادات، والمساهمة في الأهواء والرغبات معيارًا للمساواة بين النساء والرجال، فلا مندوحة لنا عن القول معها بأن السواد الأعظم من أهل هذه البلاد لا يزال ذكرانهم وإناثهم في مستوى واحد؛ ولذلك يرضى جماهير الرجال بما يفتحره نساؤهم كل يوم من بدع التبرج والتهتك، فقد مسن الرجال وفنكت النساء، فصار جمهور الفريقين في المجانة سواء؛ ولذلك نرى الزواج لا يزال كثيرًا. وإذا نظرنا في المسألة من وجه آخر؛ نرى أن الرجال مهما فسدت أخلاقهم أرقى من النساء عقولاً وأفكارًا، وأن المتعلمين والمهذبين منهم أكثر، وأنه يوجد عدد كثير ينمو عامًا بعد عام قد تغير رأيهم ووجدانهم في الزواج، فهم يطلبون فيه حياة إنسانية عالية، لا تحصل بمجرد دواعي النسل ومقدماته ولا بالنسل نفسه؛ وهو الغاية الطبيعية الشرعية له، وإنما هي عبارة عن حاسة زائدة على الحواس الخمس، يدرك بها كل من الزوجين من الأُنس وسكون النفس وشعور الود والرحمة والإخلاص ما لم يكن يدرك حقيقته قبل الزواج، وإنما يشعر كل أحد باضطراب في نفسه يصاحبه علم ضروري بأنه لا يزول إلا بالسكون الذي يكون بالزواج بعد إحكام عقد الزوجية (كما بينا ذلك في مقالات الحياة الزوجية من المجلد الثامن) . ولكن المرتقين يعرفون من أركان ذلك وشروطه ومن قيمته مالا يعرفه من دونهم. يعلم هؤلاء المرتقون في مراتب الإنسانية أن تلك الحياة التي تتلمسها فطرتهم لا تنال إلا إذا اقترنوا بمن هن على مقربة منهم في الفهم والخلق ومعرفة قيمة الحياة الزوجية، فهل يوجد كثيرات من هذا الطراز في نسائنا؟ إن الشاب من هؤلاء ليبحث السنين الطوال عن فتاة مهذبة الأخلاق، ذكية الفؤاد، وإن لم تكن ذات جمال بارع ولا رزق واسع، بل منهم من يشترط عدم ذلك، ثم هو لا يظفر بمطلبه، على أن المعرَّضات (أي للخطبة والزواج) كثيرات في البيوت وفي الشوارع والأسواق، وقد تعرف الفتاة هي وأهلها الخاطب فيرضون مقامه وعيشته ودينه وأخلاقه، ثم يصدهم عن قبول خطبته عادة من أسخف العادات، وإن كانوا يظنون أنهم لا يكادون لا يجدون صهرًا مثله، ومنهم من يرد خطبته لأن الفتاة لا يعجبها زي ثيابه. ومن هؤلاء من تزوج بعد التحري الطويل في السنين الطوال، فلم يكن في زواجه إلا شقيًا. أعرف شابًّا من هؤلاء رغب عن الزواج زمنًا طويلاً، عرّض له فيه بعض رؤسائه الأغنياء في الحكومة برغبتهم في مصاهرته، فتجاهل ذلك وسعى في الخروج من دائرة رياستهم؛ لخجله من العمل فيها مع رد رغبتهم، ثم تعاونت عليه الفطرة والعفة، فلم ير بدًّا من طاعتهما في طلب الزوجة، فكان من رأيه أن يقترن بفتاة متعلمة تكون دونه جمالاً، ومثله أو دونه مالاً؛ حتى لا يحجبها الإدلال عليه بجمالها ومالها عن معرفة قيمته، والغبطة بالاقتران به، وماذا كان بعد الظفر بهذا القران؟ كان أن تلك الدميمة عاملته بالصلف والزهو، وحاولت استعباده لهواها، وألحت في ذلك إلحاحًا، ولجت في عتو ونفور، حتى عيل صبره، ولم ينجح فيها وعظه ولا هجره، ولم يلق من أهلها إلا ناصرًا لها عليه، ومغريًا لها بسوء معاملته، والتهكم بصلاته وديانته، فأنشأ يستشيرني في طلاقها، وأنا أقول له: اتق الله وأمسك عليك زوجك {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) ثم طلقها، ولو شاء أن لا يعطيها شيئًا لفعل؛ فإنها رضيت بأن تبرئه من حقها، ولكنه أعطى الحق وزيادة. لست أحكم على المرأة وأهلها بقول أحد الخصمين، فإنني كنت واقفًا على جميع وقائع القضية؛ إذ كان الرجل يستشيرني في كل شيء، فآمره بالحلم والصبر وحسن الخلق مع الثبات على مطالبه الشرعية، كستر الرأس والصدر والساعدين والعضدين في حضرة غير المحارم من الأقارب الذين اعتادوا زيارتهم؛ امتثالاً للشرع لا اتباعًا للظنة , ولو شئت لذكرت غير هذه الوقعة من أمثالها. أليس عجيبًا أن يجهل قدر أمثال هؤلاء الرجال مع حرص زوجاتهم على تحبيب أنفسهن إليهم، والاستعانة على ذلك بالعزائم والطلسمات والبخور والتناجيس والتولات؟ وهم يقولون لهن: غير هذا أولى لكن، وأدنى إلى حظوتكن، تبذلن بعض عنايتكن، في تدبير أمر بيوتكن؛ لتكون العيشة فيها راضية والحياة معكن هنيئة، واعلمن أن الخرافات التي يعبر عنها بالروحانيات، لا سلطان لها على نفوس العقلاء، فاستمالتنا بها كاستمالتنا بالإسراف في الزينة مما تمجه أذواقنا، وتشمئز منه نفوسنا، وأنَّى لهن بفهم هذا الكلام وتصديقه؟ إنهن لا يفهمن منه إلا أنه احتقار لهن، وميل عنهن إلى غيرهن. ليس الغرض من هذا إثبات كون الرجال كلهم مظلومين مع النساء، كلا.. إن منهن من لا ترى بعلها إلا محمولاً في السحر من حانات الأزبكية ومواخيرها إلى بيتها، فيلقى فيه كأنه ميت لا يعي ولا يتحرك، إلا أن يقول هجرًا أو يأتي نكرًا، وإنما الغرض منه بيان أن المهذبين لا يكادون يجدون مهذبات يعرفن قيمتهم، وإن خير النساء عفة وأدبًا ليفضلن في الغالب المجان الفاسقين من الرجال؛ لتصيبهم إياهن بالتطرز والتطرس والتورن [1] على أن حظهن منهم بعد الزواج يكون في الأكثر دون حظ فواجر الأجنبيات والوطنيات؛ لأنهم في الغالب من الذواقين. ليس بين الرجال والنساء عندنا الآن خلاف كبير في مسألة توسعهن في العلوم، ولا في مسألة مزاحمتهن لهم في الأعمال، فما ذكرته الخطيبة في ذلك جاء قبل أوانه، وإنما أكبر الخلاف في كون جمهور عظيم من المتعلمين يطلبون حياة جديدة في البيوت فلا يجدونها؛ لذلك قل التزوج في هذا الصنف، وأكثر المتزوجون من أفراده الأغنياء من استخدام الأوربيات؛ ولذلك يتزوج بعض المتفرنجين بهن حتى صار في مصر احتلالان أجنبيان - كما قالت الخطيبة - أحدهما في المواقع العسكرية، وثانيهما وهو أشأمهما في البيوت. قالت: إن الرجال يخطئون في إناطة فساد النساء بالتعليم، وحقهم أن ينيطوه بالتربية. وقالت: إنه لا صلة بين التعليم والتربية إلا في تعلم الدين. قد أحسنت في جعلها أمر التربية أهم من أمر التعليم، ولكنها افتأتت علينا بما نسبته إلينا؛ فإننا نشكو من فساد التربية أكثر مما نشكو من فساد التعليم وقلته، وليس الانفصال بين التربية والتعليم بالمقدار الذي ادعته، فإن التعليم الصالح يمد التربية الصالحة ويغذيها، وهي الأصل في الصلاح، فيمكن أن يكون الأمي صالحًا بحسن التربية، ولكنه لا يبلغ مرتبة من ربي وتعلم. وأما من تعلم ولم يترب على الأعمال الصالحة فيكون شرًّا من الجاهل الذي لم يؤخذ بالتربية؛ لأنه يكون أعلم بوجوه الشر وأجرأ على العمل بها. إذًا لابد من تربية البنات وتعليمهن؛ ليحسنَّ إدارة بيوتهن، ويكنَّ قرة عين لأزواجهن في أنفسهن وأولادهن {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .

الجزية وتجنيد أهل الذمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجزية وتجنيد أهل الذمة جرى الصحابة في فتوحاتهم على جعل الجزية التي يفرضونها على أهل الذمة جزاء على حمايتهم والدفاع عنهم وعدم تكليفهم منع أنفسهم وبلادهم - أي حمايتها- والدفاع عنها؛ ولذلك كانوا يفرضونها على من هم أهل للدفاع دون غيرهم، كالشيوخ والنساء، فكان ذلك منهم تفسيرًا وبيانًا لمراد الكتاب العزيز منها، وكأن العثمانيين سموها لأجل ذلك بدل عسكرية. ولما كان من مقتضى الدستور العثماني تجنيد جميع العثمانيين، وتكليفهم تَعَلُّم الفنون العسكرية وأعمالها؛ لأجل الاشتراك مع المسلمين في الدفاع عن أنفسهم وبلادهم التي هي بلاد جميع العثمانيين، كان من لوازم ذلك وضع الجزية أو بدل العسكرية عنهم. وههنا مسألتان يظن الجاهل بحقيقة الشريعة الإسلامية وأصولها أن الدستور مخالف لها فيها: إحداهما أنه لا يجوز تكليف أهل الذمة الدفاع عن أنفسهم ولا عن البلاد التي يقيمون فيها؛ ما دام للمسلمين ولاية عليها. والثانية أن الجزية فرض لازم، لا يجوز وضعه بحال. فأما المسألة الأولى: فيصح أن يقال فيها: إننا لا نسلم أنه لا يجوز تجنيد أهل الذمة إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك برأي أهل الشورى، فإن المصلحة العامة هي الأصل والأساس للحكومة لا تترك لغيرها، وإنما يترك غيرها لها، وقد سبق لنا تقرير هذا الأصل وإثباته غير مرة، على أننا إذا سلمنا جدلاً أنه لا يجوز إكراههم على مساعدتنا على الدفاع عن أنفسنا وأنفسهم، وبلادنا وبلادهم، فلنا أن نقول: إن أمر التجنيد لا ينفذ إلا بعد أن يقرره مجلس النواب العام الذي اشتركنا نحن وإياهم في انتخاب أعضائه، وجعلناهم وكلاء عنا؛ ليقرروا ويضعوا القوانين التي تقوم بها مصلحة الجميع، وهذا ينافي كون التجنيد بالإكراه، وإن كره بعض رؤساء الدين المتعصبين منهم، فإن هؤلاء الرؤساء ليسوا نوابًا عن أهل دينهم في وضع القوانين. وأما المسألة الثانية: فيدلك على الحق فيها هذه النصوص التي ننقلها عن رسالة الشيخ (شبلي النعماني) العالم الشهير، نشرت في أواخر السنة الأولى من المنار، حقق فيها ما ذكرناه من كون الجزية جزاء الحماية والدفاع وأورد في الاستدلال على ذلك هذه النصوص المروية، فقال: ولعلك تطالبني بإثبات بعض القضايا المنطوية في هذا البيان؛ أي: إثبات أن الجزية ما كانت تؤخذ من الذميين إلا للقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم، وأن الذميين لو أدخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعفوا عن الجزية، فإن صدق ظني فأصغ إلى الروايات التي تعطيك الثلج في هذا الباب، وتحسم مادة القيل والقال. (فمنها) ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل فيها، وهذا نصه: (هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه: إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة، وما منعناكم (أي حميناكم) فلنا الجزية، وإلا فلا، كتب سنة اثنتي عشرة في صفر) (ومنها) ما كتب نواب العراق لأهل الذمة وهاك نصه: (براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليه خالد والمسلمون، لكم يد على من بدل صلح خالد ما أقررتم بالجزية وكنتم. أمانكم أمان وصلحكم صلح، ونحن لكم على الوفاء) . (ومنها) ما كتب أهل ذمة العراق لأمراء المسلمين وهذا نصه: (إنا قد أدينا الجزية التي عاهدنا عليها خالد، على أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم) . (ومنها) المقاولة التي كانت بين المسلمين وبين يزدجرد ملك فارس حينما وفدوا على يزدجرد وعرضوا عليه الإسلام، وكان هذا في سنة أربع عشرة في عهد عمر بن الخطاب، وكان من جملة كلام نعمان الذي كان رئيس الوفد: (وإن اتقيتمونا بالجزاء قبلنا ومنعناكم، وإلا قاتلناكم) . (ومنها) المقاولة التي كانت بين حذيفة بن محصن وبين رستم قائد الفرس، وحذيفة هو الذي أرسله سعد بن أبي وقاص وافدًا على رستم في سنة أربع عشرة في عهد عمر بن الخطاب، وكان في جملة كلامه: (أو الجزاء ونمنعكم إن احتجتم إلى ذلك) . فانظر إلى هذه الروايات الموثوق بها، كيف قارنوا بها بين الجزية والمنعة، وكيف صرح خالد في كتابه بأنا لا نأخذ منكم الجزية إلا إذا منعناكم ودفعنا عنكم، وإن عجزنا عن ذلك فلا يجوز لنا أخذها. وهذه المقاولات والكتب مما ارتضاها عمر وجُلُّ الصحابة فكان سبيلها سبيل المسائل المجمع عليها. قال الإمام الشعبي وهو أحد الأئمة الكبار: أُخذ (أي سواد العراق) عنوة وكذلك كل أرض، إلا الحصون فجلا أهلها، فدعوا إلى الصلح والذمة فأجابوا وتراجعوا، فصاروا ذمة وعليهم الجزاء ولهم المنعة، وذلك هو السنة، كذلك منع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدومة) . ولا تظن أن شرط المنعة في الجزية إنما كان يقصد به مجرد تطيب نفوس أهل الذمة وإسكان غيظهم، ولم يقع به العمل قط، فإن من أمر النظر في سير الصحابة واطلع على مجاري أحوالهم، عرف من غير شك أنهم لم يكتبوا عهدًا ولا ذكروا شرطًا إلا وقد عضوا عليها بالنواجذ، وأفرغوا الجهد في الوفاء بها، وكذلك فعلهم في الجزية التي يدور رحى الكلام عليها، فقد روى القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن المكحول، أنه لما رأى أهل الذمة وفاء المسلمين لهم وحسن السيرة فيهم، صاروا أشداء على عدو المسلمين، وعيونًا للمسلمين على أعدائهم. فبعث أهل كل مدينة رسلهم يخبرونهم بأن الروم قد جمعوا جمعًا لم ير مثله، فأتى رؤساء أهل كل مدينة الأمير الذي خلفه أبو عبيدة عليهم فأخبروه بذلك، فكتب والي كل مدينة ممن خلفه أبو عبيدة إلى أبي عبيدة يخبره بذلك، وتتابعت الأخبار على أبي عبيدة فاشتد ذلك عليه وعلى المسلمين، فكتب أبوعبيدة إلى كل وال ممن خلفه في المدن التي صالح أهلها؛ يأمرهم أن يردوا عليهم ماجبي منهم من الجزية والخراج، وكتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم، فلما قالوا ذلك لهم وردوا عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا: (ردكم الله علينا ونصركم عليهم، فلو كانوا هم لم يردوا علينا شيئًا، وأخذوا كل شيء بقي حتى لا يدعوا شيئًا) . وقال العلامة البلاذري في كتابه (فتوح البلدان) : حدثني أبو جعفر الدمشقي قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم إليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: (قد شُغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم فأنتم على أمركم) ، فقال أهل حمص: (لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم. ونهض اليهود فقالوا: والتوارة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نغلب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها. وكذلك فعل أهل المدن التي صُولِحت من النصارى واليهود، قالوا: إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا على ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد. وقال العلامة البلاذري في كتابه (فتوح الشام) يذكر إقبال الروم على المسلمين ومسير أبي عبيدة من حمص: (فلما أراد أن يشخص دعا حبيب بن مسلمة، فقال: اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم؛ فإنه لا ينبغي لنا إذ لا نمنعهم أن نأخذ منهم شيئًا، وقل لهم: نحن ما كنا عليه فيما بيننا وبينكم من الصلح ولا نرجع عنه إلا أن ترجعوا عنه، وإنما رددنا عليكم أموالكم؛ لأنا كرهنا أن نأخذ أموالكم ولا نمنع بلادكم) فلما أصبحَ أَمَرَ الناسَ أن يرتحلوا إلى دمشق، ودعا حبيب بن مسلمة القوم الذين كانوا أخذوا منهم المال، فأخذ يرد عليهم، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة، وأخذ أهل البلد يقولون: (ردكم الله إلينا، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم ما ردوا إلينا، بل غصبونا وأخذوا مع هذا ما قدروا عليه من أموالنا) ، وقال أيضًا يذكر دخول أبي عبيدة دمشق: (فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين، وأمر سويد بن كلثوم القرشي أن يرد على أهل دمشق ما كان اجتبى منهم الذين كانوا أمنوا وصالحوا، فرد عليهم ما كان أخذ منهم، وقال لهم المسلمون: نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم، ونحن معيدون لكم أمانًا) . أما ما ادعينا من أن أهل الذمة إذا لم يشترطوا علينا المنعة أو شاركونا في الذب عن حريم الملك، لا يطالبون الجزية أصلاً. فعمدتنا في ذلك أيضًا صنيع الصحابة وطريق عملهم، فإنهم أولى الناس بالتنبه لغرض الشارع، وأحقهم بإدراك سر الشريعة، والروايات في ذلك وإن كانت جمة، ولكن نكتفي هنا بقدر يسير يغني عن كثير: (فمنها) : كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر بن الخطاب لرزبان وأهل دهستان، وهاك نصه بعينه: (هذا كتاب من سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان، أن لكم الذمة وعلينا المنعة، على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حالم، ومن استعنا به منكم فله جزاؤه في معونته عوضًا عن جزائه، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، ولا يغير شيء من ذلك، شهد سواد بن قطبة، وهند بن عمر، وسماك بن محرمة، وعتيبة بن النهاس، وكتب في سنة 108) اهـ (طبري ص 2658) . (ومنها) الكتاب الذي كتبه عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب، وهذا نصه: (هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان، سهلها وجبلها، وحواشيها وشفارها، وأهل مللها كلهم؛ الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم، ومن حشر منهم في سنة وضع عنه جزاء تلك السنة، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك) اهـ (طبري صحيفة 2262) . (ومنها) العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر بن الخطاب وبين شهربراز، كتب به سراقة إلى عمر فأجازه وحسنه، وهاك نصه: (هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهربراز وسكان أرمينية والأرمن - من الأمان، أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وملتهم، أن لا يضاروا ولا ينقضوا، وعلى أرمينية والأبواب الطرّاء منهم والتّناء [1] ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة، وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحًا، على أن توضع الجزاء عمن أجاب إلى ذلك، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء، فإن حشروا وضع ذلك عنهم. شهد عبد الرحمن بن ربيعة، وسلمان بن ربيعة، وبكير بن عبد الله، وكتب مرضي بن مقرن وشهد) . اهـ (طبري صحيفة 2665 و2666) . (ومنها) ما كان من أمر الجراجمة، وقد أتى العلامة البلاذري على جملة من تفاصيل أحوالهم، فقال: حدثني مشايخ من أهل أنطاكية: أن الجراجمة من مدينة على جبل لكام عند معدن الزاج، فيما بين بياس وبوقا يقال لها الجرجومة، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وأنطاكية إلى بطريق أنطاكية وواليها، فلما قدم أبو عبيده أنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم وهموا باللحاق بالروم؛ إذ خافوا على أنفسهم، فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم، ثم إن أهل أنطاكية نقضوا وغدروا، فوجه إليهم أبو عبيده من فتحها ثانية، وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلم الفهري فغزا الجرجومة، فلم يقاتله أهلها، ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا

التعصب الديني في أوربا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعصب الديني في أوربا تتهم أوربا أهل الشرق عامةً والمسلمين خاصةً بالغلو في التعصب الديني، الذي يفضي إلى إيذاء المخالف في الدين أو المذهب، وغمط حقوقه. وقد كتبنا في المجلد الأول من المنار مقالات بينا فيها أن مهد التعصب هو أوربا، وأن الشرقيين عامة والمسلمين خاصة لا يبلغون مُدّ أوربا ولا صاعها، ولا يردها ولا مترها في التعصب. وحسبك أنها أكرهت جميع من كان فيها من الوثنيين ثم من المسلمين على النصرانية، إلا من هاجر وترك أرضه وماله. من حيث بقيت جميع الأديان في الشرق لا سيما الممالك الإسلامية منه. ثم إنها سفكت من الدماء الغزيرة؛ لأجل الخلاف في المذاهب النصرانية نفسها، ما لم يعرف له نظير في الشرق. وقد انقلبت فيها طبيعة الاجتماع بالعلوم والأعمال الدنيوية وكثر الملحدون، وأعطت أكثر الحكومات الأوربية الحرية حقها في كل شيء، ولم يقو ذلك كله على التعصب الديني، لا من مثل روسية التي لا تزال حكومتها نفسها متعصبة فقط، بل من مثل إنكلترا العريقة في الحرية. وقد نقل إلينا البرق والبريد في هذا العام أن الحكومة الإنكليزية لم تمكن الكاثوليك من القيام بتقاليدهم الدينية في عيد الفصح. وجاء البرق في هذه الأيام بأن تلاميذ المدارس البروتستانت والكاثوليك في ليفربول، قد تشاجروا فيها تشاجرًا أدى إلى إقفال الحكومة خمسين مدرسة منها، وأن أمهاتهم شاركنهم في هذا الجهاد الديني، وقد نشر في جريدة الأخبارأحد الكتاب مقالة في ذلك فكهة، هذا نصها: التعصب الديني الإنكليزي هل الصغار غير الكبار جاء في نبأ برقي من لندن أنه أقفلت خمسون مدرسة في ليفربول؛ لوقوع مشاجرات بين أولاد البروتستانت والكاثوليك، اشتركت أمهاتهم فيها. فإذا فرضنا أن في كل مدرسة من هذه المدارس 100 تلميذ نصفهم متساهلون والنصف متعصبون، فيكون عدد الذين اشتركوا في هذه المعركة على أقل تقدير: ألفي تلميذ من صميم الناشئة الأنكلوساكسونية. أما أسلحتهم، فأولها: (البوكس) الإنكليزي. وثانيهما: (الرفس) بالجزم الإنكليزية. وثالثها: (المضاربة) بأدوات المدارس، من ألواح الإردواز والبراجل والمقاشط والمساطر، وغيرها مما لا تخلو منها جعبة تلميذ. ولا بد أن حضرات الأمهات المتدينات المتعبدات المتقيات من طائفة البروتستانت حملن معهن إلى هذه المعركة ما وجدنه أمامهن من أحذية قديمة، وأرجل كراسي، ومقشات، وزجاجات فارغة، كما حملت بعض الكاثوليكيات الأيقونات والصلبان تبركًا وذخيرة لهذه الحرب الدينية المقدسة. ومع أن النبأ البرقي لم يأتنا بتفصيل واف عن أسباب هذه الحركة الصبيانية الملّية التعصبية، فإنه لا شبهة في أنها نشأت إما عن نفار مذهبي، أو عن جدال ديني احتدم بين هؤلاء الصغار، فازدرى به المدرسون؛ لما هو مشهور عن أكثرهم من التباعد عن التداخل في كل أمر غير الفرض المدرسي. أما الأمهات المصونات؛ فالراجح أنهن أتين لمساعدة أولادهن وإنقاذهن من خطر الملاكمة، ثم رأين الحاجة داعية إلى المداخلة الفعلية فتضاربن. ولو لم يكن الخطب جللاً لما أقفلت 50 مدرسة دفعة واحدة، حتى لا يعود التلاميذ إلى المخاصمة فالمقاتلة، وربما كانت العودة داعية إلى اشتعال نيران الحقد الديني بين غيرهم من تلاميذ المدارس التجهيزية، فالجامعة الذي يبلغ عدد طلبتها 790 طالبًا؛ لأن الكل منقسمون إلى: بروتستانت وكاثوليك، وما أثر في التلاميذ الصغار يؤثر فيهم، وبذلك يعيد الإنكليز أيام الحروب الدينية، ويبرهنون لنا على أن ذاك الرقي المدني الهائل، وحفظ أشعار شكسبير، وامتلاك المستعمرات التي لا تغيب عنها شمس، لم ينفع في تربية الأخلاق. وأن دعوى اللورد كرومر بأن بلاد الشرق عامة ومصر خاصة مهبط التعصب الديني دعوى يكذبها اليوم فعل أبناء ليفربول الذين تجمعهم الجامعة الوطنية، وتضمهم مدرسة واحدة، ولم يحضر منهم أحد إلى مصر؛ ليتلقى دروس التعصب من المسلمين والأقباط. وإذا كان صغار الأمة عنوان كبارها وصورة لأخلاقهم، فلا مراء في أن هؤلاء الإنكليز يحملون لبعضهم من الأحقاد الدينية أثقالاً مثقلة؛ لأن تربيتهم البيتية والمدرسية متشابهة، وما يتعلمونه مع شاي ليبتون ووسكي بوكانان هنا وهناك مساو تمامًا لما يتلقنه صغار ليفربول الذين لم يكادوا يشبون عن الطوق، حتى عرفوا كيف يتعصب فريق منهم للوثير، وفريق للقديس بطرس، والفضل في ذلك راجع إلى السيدات المهذبات اللائي لا يكتفين بحقوقهن، بل يطالبن بأن يكن مساويات للرجال في حق الانتخابات السياسية. ولا يقتصر التعصب على هؤلاء الإنكليز من الأمم التي نظنها أرقى منا طبائع، وأفضل أخلاقًا، بل يشترك فيها الفرنسوي والإيطالي والألماني والروسي - بنوع أخص - فإذا درست أخلاق أحدهم، تجده يقطر تعصبًا دينيًّا جنسيًّا، وإن لم يكن متدينًا؛ وذلك بحكم المعاشرة والروابط الاجتماعية والبيتية. فالتعصب صفة من صفات الإنسانية، لم يقو العلم ولا التربية على استئصال شأفتها من النفوس. وربما متنا ومات أبناؤنا وأحفادنا قبل أن نصل إلى درجة ننسى فيها التعصب. ... ... أحد المتعصبين

رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين ـ 5

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين لليافعي 5 بقية بحث أحاديث الآحاد وكونها من أصول الدين قال في الاعتراض الثالث من هذه الكلمة: فكأنهم يثبتون صحة الروايات بعدالة الرجال، ثم يثبتون عدالة الرجال بالروايات، مما لا يخفى على أحد فساد ذلك. إلى قوله: وربما أدَّانا ذلك إلى التسلسل أو الدور في البرهان. وأقول: إن هذه مغالطة من الفاضل أيضًا؛ إذ لا يلزم ذلك، اللهم إلا إذا كان المعدِّل والجارح لغيره هو المعدل لنفسه. أما إذا كان المعدل والجارح قد عرفت عدالته بالإجماع، ونقل هذا الإجماع بالإجماع أو بما يقاربه كالتواتر، بل لو نقلت عدالته بأسانيد أخر - فلا فساد، ولا يلزم شيء مما ذكر الفاضل. وقوله: إن أكثر هذه الروايات مقتضية إلى آخره. فجوابه أنهم (رحمهم الله) يروون ما تلقوه على نحو ما يسمعون، فما كان له سبب ذكروه وهو كثير، إنما قد يترك بعضهم ذلك لسبب ومناسبة؛ حيث لم ير لذلك ضرورة؛ ولذلك تراه في موضع آخر يذكر السبب والمناسبة، وقل أن يهملوا ذلك. وأما ما كان يلقيه عليهم صلى الله عليه وسلم بما يشبه التعليم والتشريع العام، فلا يلزم أن يطلب له سبب، وأكثر الأحاديث وآيات الأحكام كذلك فلا محذور. أما قوله: وقد أيدنا فيه الأستاذ الكبير العلامة المحقق صاحب المنار الأغر فنقول فيه: إن كان يعني ما كتبه شيخ الإسلام المذكورعلى إثر ما كتبه أخونا العلامة خاتمة المحققين: رفيق بك العظم - حفظهما الله - فنحن قد رأينا ذلك، ولم نر فيه تأييدًا لحضرة الدكتور الفاضل، وغايته أن يكون رجح أن ما كتبه المجيبون لم يدفع الشبهة تمامًا على أن حضرة العلامة المحقق رفيق بك العظم - حفظه الله - إنما ذكر تاريخ الكتابة عند العرب، وبين بعض حالاتها في الإسلام وذلك في خطبة ألقاها، والخطب لا تحتمل الاستقصاء في الاستدلال أو أن يغاص فيها وراء عويصات المسائل. ونقول أيضًا: قد عرفت مما كتبناه سابقًا وما قدمناه حال الصحابة - رضي الله عنهم - في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأنهم كيف يروون عنه صلى الله عليه وسلم، وعرفت أنه كيف كان يبين لهم، وعرفت أن حفظهم لما روينا عنهم ليس بالمستبعد، وأن المكثرين منهم وغير المكثرين قد كتبوا في حياته أو استكتبوا، وهم لم يزالوا يكتبون بعد وفاته ما فات بعضهم عن البعض الآخر، والفاضل الدكتور هو إن قدر أنْ يثبت كراهية بعضهم، فهو لا يستطيع يبين علة منصوصة لذلك غير ما ذكرناها عنهم في رسالتنا السابقة. وقلنا: إن من كره ذلك؛ فإنما كره أن يكتب رأيه. أما أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فقد كتبها كثير منهم بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، ومنهم - رضي الله عنهم - فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك ولا هم أنكروا ذلك، ولم يتلف بعضهم ما عند البعض الآخر بالإحراق، وغايته أن بعضهم أتلف مكتوبات نفسه ورأيه، وهذا بخلاف فعلهم بالقرآن الذي كان عند بعضهم غير ما أجمعوا عليه. وبذلك يظهر ظهورًا لا غبار عليه أن كتابة الحديث لم تكن في معتقدهم مكروهة مطلقًا وحاشاهم من ذلك. فقد كان الخلفاء الأربعة - رضي الله عنهم - وغيرهم من كبار الصحابة؛ - رضي الله عنهم - إذا وقعت واقعة ووجدوا فيها حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدلون به سواه؛ بل يحكمون بمقتضاه ويحفظونه ويكتبونه في رسائلهم إلى عمالهم، فكتابة الحديث بالصفة التي ذكرناها كانت من عملهم ومما أجمعوا عليه: فعلاً وتقديرًا. وغاية ما يثبت عن بعضهم أنه كره كتابته في كتاب واحد لا يرجع إلى سواه، ويكون مرتبًا كما كتب القرآن، يعمل به الناس ويتركوا ما لم يكن فيه، على أنهم قد عزموا على ذلك، وكان ميل أكثرهم إلى الفعل، ومن كره ذلك؛ فإنما كرهه رجوعًا بعد الموافقة على الكتابة، ومع ذلك هو لم يكرهها ويتركها لأجل أن الحديث شريعة مؤقتة، ولم يستدل على الترك بما يدل على أنه فهم أن الأحاديث شرعية موقتة - كما بينا ذلك في رسالتنا السابقة - وهم صرحوا بأنهم لم يتركوا كتابة الحديث بالصفة المذكورة؛ إلا خوف الالتباس بالمصحف، وبعضهم لم يقل: إلا جردوا القرآن. فالأصل الذي بنى عليه الفاضل الدكتور مذهبه إنما هو احتمال من عنده وظن توهمه، لم يسبقه إلى تخيله أحد من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بل قولهم وعملهم وأمرهم يناقضه مناقضة النقيض لنقيضه، وما هذا حاله لا يصح فرضه - على أنه لو لم يوجد عنهم ما يناقضه فلا يصح أن يجعل مثل ما هذا حاله أصلاً؛ لمخالفته نصوص القرآن - بل لو لم يوجد في القرآن ما يناقضه، فلا يصح كذلك لمخالفته ما يوجبه العقل للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولو تغاضينا عن ذلك كله، فغايته أن يكون احتمالاً من جملة احتمالات قاله غير معصوم وخالف إجماع المسلمين، والله جل شأنه قد ذم من يتبع غير سبيلهم وتهدده، فما رأيك باحتمالٍ هذا حاله، كيف يعول عليه، أم كيف يسوغ للمنصفين الاعتماد عليه والمفاضلة دونه وهو على كلِّ تقدير ومهما فرض فاسد مدفوع. فهذا بعض ما نقوله في شبهة الفاضل في عدم كتابة الحديث، وقد ذكرنا بعض أدلته في رسالتنا السابقة والمقام جدير بالإطالة، ولكن فيما ذكرناه كفاية لمن يريد الله له الهداية. أما من بعد الصحابة من رجال الأسانيد والأئمة المحدثين الذين رووا عن الصحابة - رضي الله عنهم - وروى عنهم من بعدهم من الأئمة كذلك، فهم الذين كتبوا الأحاديث وأجمعوا على كتابتها، وكانوا كلهم رحمهم الله يكتبون، وكان المحدثون - رحمهم الله - يكتبون كل مروياتهم عن الشيخ حين الدرس، يكتب ذلك الطلبة كلهم، ويقابلون ويصححون على الشيخ أو من كتابه، كل ذلك يكون بغاية الاحتياط مع كمال الفحص والتنقيب عن كل ما يحدث به. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك، لِمَ لَمْ تكن جميع الأحاديث بنقل الجموع والتواتر، قلنا: إن الأحاديث الصحاح هي هكذا في نفس الأمر ودليله تلقيهم ذلك بالقبول، وسبب كونها آحادًا إنما هو لأن أهل الكتب المعتبرة لا يثبتون إلا ما يرويه الأثبات الضابطون ومن سواهم لا يروون عنه؛ لئلاّ يغتر به من لم يعرف حاله تقليدًا لمن روى عنه؛ ولأنهم يختارون الاختصار، فلذا وذاك يختارون في مصنفاتهم الأمثل من الأسانيد ويتركون ما سواه، ونحن قد قلنا: إنهم لو اختاروا طريقة التواترية لكان كل حديث أو أكثر الأحاديث متواترة في أكثر الطبقات، فليتأمل الناظر. وإن أراد مصداق ما ذكرنا، فليفرض أي حديث مما اتفقوا على صحته، ثم ليتتبع طرقه في كتبهم، فلا نشك أنه حينئذ يوافقنا على ما قلناه على أنه إن وجد في أثناء سنده تفرد راوٍ، فذلك الراوي لا بد وأن يكون ممن أجمع على حفظه واعتباره وكماله وضبطه بالكتابة، ورُبَّ رجل يعدل رجالاً فتَفَكَّرْ. قال حضرة الفاضل في الكلمة الخامسة ما مؤداه: إن المسلمين خالفوا القرآن بإيجابهم العمل بالأحاديث إلى آخره، واستدل ببعض آيات في ذم الظن الذي أجبنا عنها في رسالتنا السابقة، وزيادة على ذلك نقول: قد قدمنا في هذه الجملة المختصرة الأدلة القطعية على أن أخبار الآحاد ليست مما تفيد الظن فقط؛ بل هي تفيد اليقين أيضًا، فلا بد للفاضل أن ينقض ذلك أولاً بأدلة أصح مما سقناها، ثم لا بد له من أدلة جديدة تدل على أن جميع أحاديث الآحاد الثقات الضابطين الذين تنطبق عليهم شرائط أهل الحديث لا تفيد العلم، ولو لبعض الناس. ثم لا بد له من دليل يدل على أن المراد بالظن في هذه الآيات ما يرى أنه الظن الراجح، وبدون ذلك لا يصح ولا يتم له الاستدلال بهذه الآيات على رد العمل بالأحاديث، نحن لا نرى أن هذه الآيات مما تدل على ذم العمل بالأحاديث، ومن أراد ذلك منها فقد حمَّلها ما لا تحمله؛ لأن من تفكر في هذه الآيات وأمعن النظر فيما اشتملت عليه مما سماه الله ظنًّا فيها يراه لا محالة، إنما هو مما يسميه الناس في زماننا هذا بالشك. فالقرآن إنما يذم ما يكون بمرتبة الشك، بل بمرتبة الوهم والخرص فقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) هو استدلال منهم بالمشيئة والقضاء والقدر الذي لم يعرفوا سره ولا ما هو، ولا آمنوا به على رد وإنكار دين الله وشرعه، وعلى تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، فكأنهم يقولون: إن كل ما فعلناه هو حَسَن ودين مقبول عند الله، حتى الغصب والسرقة وقتل النفس التي حرم الله إلى غير ذلك مما يقوله إخوانهم الجبرية اليوم، فهل يصح هذا الاستدلال؟ وهل هو ظن راجح؟ وما المرجح؟ وهل أخبار الثقات الضابطين مثل ما ذمه الله عن المشركين في هذه الآيات؟ وما لم تتحد العلة ويُعلم انتفاء المانع لا يصح القياس. والفاضل - حفظه الله - كثيرًا ما يستدل بهذه الآية ونحوها على رد وذم العمل بالأحاديث الصحاح في زعمه. وقد سبقه إلى الاستدلال بها على ذلك الخوارج، واستدل بها بعض العلماء على رد القياس المساوي والأولوي، وبعضهم على رد وجوب الأخذ بالعمومات القرآنية مطلقًا، أو الذي قد وقع فيها تخصيص أو احتمال، وعلى رد الأخذ بالاستصحاب، وعلى رد الاجتهاد بترجيح أحد الاحتمالين الراجح. واستدلالهم على ذلك أظهر من استدلال الفاضل على ما نحن بصدده، فليسلم بما هو أولى من استدلاله، فإن سلم لزمه القول بأن ما سوى المنصوص في القرآن ليس من الدين مطلقًا، ولا يجوز العمل به، وعليه فلا ندري ماذا يقول في الوقائع التي لم ينص عليها القرآن. إنه مهما يريد أن يقول فيها؛ فالحديث أولى من قوله ورأيه، وأقرب إلى العلم واليقين منه، وإلا لزمه أن الدين ناقص غير كاف لفصل كل ما وقع. ونقول: إن ما استدل به هؤلاء المشركون قد سماه الله ظنًّا وذمهم عليه، وإذا كان الظن يطلق على الراجح من الاحتمالين، وعلى المتردد بينهما على السواء وهو الشك، وعلى ما هو دون ذلك؛ كالوَهْم والحزر والخرص ونحوه، فهو مشترك لفظي؛ إنما يدل على ما يراد منه بقرينة على الراجح، ولما كانت هذه المعاني متفاوتة ومختلفة الحقائق فلا يصح أن يقاس هذا منها على ذاك، إلا إذا استكملت شروط القياس؛ كاتحاد العلة، وأن لا يكون في المقيس أو المقيس عليه وصف يصلح أن يناط به حكم غير الحكم الذي يراد أن يطرد فيها مع عدم المانع كذلك. ومن صحح النظر فيما ذمته هذه الآية؛ يرى أنه لا يصح قياس الأحاديث الصحيحة عليه بوجه من الوجوه مطلقًا، وكذلك العمومات والقياس والاستصحاب ونحوه، كل ذلك لا تدل الآية على ذمه. وهذه لا تتعارض بل هي مرتبة، وأعلاها نص القرآن ثم نص الحديث. وهذا الثاني مقدم على العموم مطلقًا، وقيل على العموم الذي قد تطرقه الاحتمال، وليس شيء من هذه الأشياء من الظن المذموم، حتى عند من يجعل كل ذلك من الظن؛ لأن كل ما ذمه الله - تعالى - من الظن في غير هذه الآية من كتابه؛ فإنما هو شقيق ما ذمه في هذه الآية؛ ولئلا يدخل في ذلك الظن الراجح، كالقياس، وما ذكرناه بعده ونحو ذلك أيضًا قوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) أي: بعض الظن الذي هو بمثابة ظن المشركين غير المستند إلى حجة تُرجّحه فهو إثم؛ لأنه من ظن ضعفاء العقول الذين ليس لديهم علم وبصيرة، وإنما هم يخرصون بالحرز والوهم الكاذب، ومفهوم الآية أن البعض الآخر أي: كالظن الراجح ونحوه ليس كذلك، وحينئذ نقول: إما أن يجعل الظن مراتب لا يتناول حكم إحداها الأخرى. وذلك م

الانقلاب العثماني الميمون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانقلاب العثماني الميمون ورأي صاحب جريدة وطن الهندية فيه وفي عبد الحميد خان أرسل إلينا صديقنا الغيور مولوي محمد إنشاء الله صاحب جريدة (وطن) الهندية ما يأتي، فننشره مع تصحيح قليل لبعض الألفاظ من جهة اللغة والنحو ونجيبه عنه وهو: حضرة الصديق الفاضل: استلمت كتابكم الخصوصي مع العدد الرابع من مجلة المنار، وشكرت فضلكم وقد وصلني في نفس ذلك البريد أعداد من جريدة اللواء أيضًا خلاف المعهود وقد نشرت هذه الجريدة كتابي في أحد أعدادها، وردَّت عليه في العدد الآخر حسب ما رأت، فأشكره على لطفه أيضًا. وجنابكم تعلمون أني أظن حضرتكم محبًّا مخلصًا للإسلام والمسلمين؛ فلذلك أكلفكم في بعض الأحيان تكليفًا ما، وأطالع مقالاتكم وكل ما تسطرون في أمر الإسلام والمسلمين بمزيد العناية والتبجيل؛ بل وأسعى في إشاعته جهد طاقتي وحسب استطاعتي؛ ليستفيد العالم الإسلامي الهندي من آرائكم الحكيمة، وكذلك لا أشك في كون حضرة علي فهمي كامل بك أيضًا محبًّا غيورًا للملة والوطن. ولكن اعذروني يا سيدي بأني لا أرى بدًّا من أن أقول لكم كلمة صادقة؛ وهي أنني كنت دائمًا لا أرى رأيكم صحيحًا في أمر السلطان المخلوع، وإن ما كتبتم في العدد الأخير من مجلة المنار فقد قرأته بكمال الأسف والحيرة، وليكن في علم حضرتكم أني لا أظن عبد الحميد ملكًا معصومًا؛ بل أرى فيه من حيث هو إنسان من التقصيرات ومواقع الضعف البشري ما يجب أن يؤخذ عليها، ولا يخفى عليكم وعلى الذين طالعوا كتابنا تاريخ مشروع السكة الحجازية، بأنني أول مَن كتب بالصراحة التامة في ذم عمال عبد الحميد وعدم كفايتهم؛ حين لم تكن في استطاعة أي جريدة من جرائد مصر وسوريا أن تكتب في هذا الباب بمثل تلك الصراحة؛ لأني كتبت ذلك في شهر يناير سنة 1908، وأظنكم غير ناسين مجريات مشروع السكة الحجازية، فإنه لما شاع اقتراحي هذا أول مرة خالفه السلطان عبد الحميد أشد الخلاف، وكتبت جريدته الرسمية (المعلومات) : أن هذا المشروع يكون أشد ضررًا للدولة العلية، ولكن يغفر الله للمشيرين المرحومين شاكر باشا وعثمان باشا غازي؛ فإنهما بعد أن تأثرا من مكتوباتي المتوالية أيّدا المشروع حق تأييده، وكانت نتيجته ما كان. إن حضرتكم وحضرة محرر جريدة اللواء تقولان: إن مخلصكم هذا (محرر جريدة وطن) ومسلمي الهند لا يعلمون من الحالات الأصلية للدولة شيئًا، فأقول بكل الأدب: إن قياسكما هذا ليس بصحيح، فإن سوء إدارة ولاية الحجاز والحالة السقيمة التي كانت لاحقة للجيش العثماني المرابط في الولايات البعيدة، والمظالم التي كانت تجلبها يد الجاسوسية على البلاد والعباد، كانت حديث كل ناد من أندية القوم في الهند والسند وأفغانستان، ولم يكن الفرق غير أننا خبيرين بذلك، والعثمانيون هم واقعون تحت نير هذا الاستبداد عملاً يذوق بعضهم من طعمها المر ويتأوه من شدائد هذه المظالم والآلام، وتعلمون حضرتكم حق العلم أن مسلمي الهند لم يكونوا بوجه ما منعمًا عليهم من السلطان المخلوع، ولا مرهونين بهمة من الأمة التركية. إن الأتراك أو الخليفة لم تُعْطِ ولا درهمًا واحدًا في إعانة مسلمي الهند حين ما ابتلوا ببلاء أو انتابتهم نائبة، مع أن مسلمي الهند لم يقصروا قط في مدِّ يد الإعانة للعثمانيين، حتى إن محرر جريدة وطن غير كونه مقترحًا لمشروع السكة الحجازية والبغدادية، جمع لها من أموال الإعانة زهاء مليون قرش، وأرسلها إلى اللجنة العليا في الآستانة، ولم تستطع جريدة من جرائد العالم الإسلامي أن ترسل مثل هذا المال لإعانة ذلك المشروع العظيم من الاكتتاب العام، وكذلك أرسلت في إعانة منكوبي جزيرة أقريطش آلافًا من الروبيات - احتسابًا وخالصًا لوجه الله - ما أردت أن أمن بها على أحد، ولما تشفع لي دولتلو ذهني باشا في حضرة السلطان بعطاء امتياز منذ سنتين، وصدرت الإرادة بإعطائي الوسام العثماني من الدرجة الرابعة، كتبت إلى حضرة الباشا المشار إليه؛ إنني لم أر من المناسب أن أرد عطاءكم، مع أنني لا أحسبه شيئًا بمقابلة الأجر الذي يحصل لي من الله الكريم؛ لأن تلك الصلة الدنيوية لا يمكن أن تفيدني فائدة ما، ولا يفوتكم أن هذا الامتياز لم يكن ليعتد به؛ لأن الذين زاروا الآستانة العلية من الأجانب من أي صنف وطبقة كانوا تَحَصَّلوا على امتيازات أجلَّ وأفضل من ذلك الامتياز، وغير ذلك فإني لم أكن أخدم هذا المشروع رغبة في صلة. يظنون بأن السلطان عبد الحميد هو الباني والمحرك لفكرة اتحاد الإسلام. ولكني أعلم حق العلم أنه لم يَسْعَ قط لإشاعة هذه الفكرة في مسلمي الهند ولا أحد من أعوانه، ولو كان كذلك، لكان لا بد أن أكون أول من يعلم به، وكيف كان من الممكن السعي في نشر أفكار اتحاد الإسلام بين مسلمي الهند؛ حينما لم يكن قنصل الدولة العلية في ثغر بمبي عالمًا بأسماء الجرائد الإسلامية التي كانت مشغولة في جمع الإعانات للسكة الحجازية أيضًا، وإني أعلم وأكثر مسلمي الهند مثلي في العلم: بأن الوسائل الأصلية لترقية المملكة العثمانية لم توجد في عهد عبد الحميد إلى حد يجب أن نفتخر به، حتى قلت بنفسي في تأليفي كتاب (تاريخ خاندان عثمانية) الصادر في سنة 1897 ما مفهومه: (لعلي أرى بجنب الجامع الحميدي وحميدية خسته خانه، وأمثال ذلك من المشروعات ترعة أو سكة حديدية أيضًا يفتخر بها العصر الحميدي إلى الأبد. ولعلكم تتعجبون من سماع هذا الأمر: إن جريدتي (وطن) كانت ممنوعة الدخول في الآستانة وبعض الممالك المحروسة كجريدة (وطن) المصرية، وإن كانت جريدتي لا يكون فيها غير مدح عبد الحميد وتأييد الخلافة العثمانية شيئاً، بل هي مخصوصة لذلك الأمر. ولكن مع ذلك كله، أعتقد أنا وجميع مسلمي الهند بوثوق تام أن تركيا الفتاة أو الأمة العثمانية قد ارتكبت خطأ جسيمًا في عزل عبد الحميد، بل كفرت نعمة الله تعالى، وقد علمتم من صاحبزاده عبد القيوم عظيم الأفغان؛ أن الصدمة التي أحَسَّ بها مسلمو أفغانستان والهند من عزل عبد الحميد، كيف كانت شديدة عليهم، وكل يوم يرد عليَّ من الكتب من أقطار الهند ما لا أستطيع نشره في الجريدة، وفيها ما فيها من إظهار التألم والتأثر في النفس، وأخاف لو نشرت أفكار المنار واللواء في جريدتي أن تأتي غالبًا بما هو عكس المقصود، واسمحوا لي أن أقول لكم بكل الأسف: إن ما كتبتم حضرتكم تعلقيًا على مقالتي أو في مكان آخر من مجلتكم هو خارج عن حد الاعتدال يشف عن ميلكم إلى الاتحاديين؛ ولذلك ترموني وجميع مسلمي الهند بالجهل بأحوال الدولة العلية، إن حضرتكم أو حزب تركيا الفتاة أو الرجعيين من العثمانيين الذين يرومون عود عصر الاستبداد، كلكم من المناظرين أو فريق من المتخاصمين، لا تستطيعون أن تبدوا أو تقيموا رأيًا صحيحًا. وأما نحن معاشر المسلمين في الهند ففي وسعنا أن نقيم الرأي الصحيح؛ لأننا لسنا من فريق، ولا واسطة لنا بهم غير الأخوة الإسلامية والتعلق الأدبي الذي هو روح الإسلام، وإنكم مثل الجندي الذي يكافح ويناطح الأعداء في ميدان القتال، لا يرى غير ما يكون حواليه، ولا يكون همه إلا قتل مبارزيه. ونحن كالمتفرجين من بعيد، نرى كل ما يجري بين الفريقين المتحاربين، وإنكم من الذين آذاهم العصر الحميدي حتى اضطروا لترك الأهل والوطن، فلا بد أنكم تسرون بزوال السبب الذي جر عليكم هذه البلاد، وإن يكن هو السبب البعيد والقريب غيره، وإلا فلم يكن يليق بحضرتكم أن تصوبوا سهام آيات الإنذار من القرآن الكريم إلى عبد الحميد الذي لم يبق له (شيء من) الحول ولا الطول، وهو الآن تحت رحمة أعدائه الذين لا تُشفى غلتهم إلا بشرب دمه. إن ما فعلوا بعبد الحميد هو ليس غير عزله من سرير السلطنة. ولكن ترون مئات من الملوك والخلفاء والقواد العظام الذين دالت دولتهم، قد صار مصيرهم أسوأ من عبد الحميد: إيش مضى على نابليون؟ وما جرى على مدحت باشا؟ قد قتل السلطان عبد العزيز وعزل السلطان مراد. بل الفاروق (رضي الله عنه) وذو النورين (رضي الله عنه) والإمام علي (رضي الله عنه) ، كلهم فازوا بالشهادة وإن لم ينزلوا من دست الخلافة، وأراد القاتل اغتيال معاوية (رضي الله عنه) وقتل الحسين (رضي الله عنه) مع رفقائه رضوان الله عليهم في أشد المصيبة، ولقد نجد التاريخ مملؤًا من أمثال هذه الحوادث الجسام، فما لنا أن نخص مفهوم الآيات القرآنية بعبد الحميد وحده، بل يجب علينا أن نحترز من مثل ذلك الخطأ. واعلموا أن ظنكم وظن جريدة اللواء؛ بأن الإنكليزفي الهند يسعون في إلقاء بذور الشقاق بين مسلمي تلك الأقطار والعثمانيين؛ للقضاء على الاتحاد الإسلامي والخلافة، فأقول لكم بكل الاحترام: إن ظنكم هذا ليس في محله بل أسأتم حيث ظننتم هذا؛ لأن الأمة الإنكليزية أمة حرة عادلة عاقلة، لا تتداخل أبدًا في مثل تلك الأمور. إن مسلمي الهند كانوا يجلون عبد الحميد؛ لكونه سلطان المملكة العثمانية وأحبوه؛ لأنه في رأيهم كان حافظ هذه السلطنة من المخاطرات الجسيمة لا غير. فكان تبجيلهم له ومحبتهم منه لأجل خدماته الجليلة التي خدم بها السلطنة والخلافة الإسلامية، وإن كان عطل الحكومة الدستورية السابقة فلأنه يحسبها مضرة أشد الضرر في حق الدولة والملة. إن المسلمين الهنديين يعلمون بأنه ليس من أحد في هذه الدنيا غير فان وباق غير الله الواحد القهار، إن الحجز على بسمارك ما صار سببًا لخراب ألمانيا، وعزل عمر بن الخطاب خالدًا - رضي الله عنه - عن القيادة العامة لجند المجاهدين؛ لئلا يحسبه المسلمون سببًا للفتوحات، ويتركوا الاتكال على الله تعالى وعلى شجاعتهم، وقد هلك آلاف من الصحابة الكرام بطاعون عمواس وفازوا بالشهادة في ميدان القتال، ومع ذلك لم تقطع سلسلة الفتح الإسلامي، كذلك عبد الحميد أيضًا لم يكن ليعمر إلى الأبد إن كان يموت فكان لا بد من مشي الأمور كما كانت تمشي قبل أيامه وفي عصره. ولكن مع كل هذه المُسلِّمات لن نتصور نحن المسلمين الهنديين عزله طاعة كبرى للدولة؛ لأن في آرائنا أن الدولة العلية فقدت بهذا الأمر إحدى يديها وعينيها، وصارت ذات يد واحدة وعين واحدة فقط بعد أن كانت ذات يدين وعنينين. نحن نقول: إن عبد الحميد لما أخذ كل أمور المملكة في قبضة يده قد أحسن نظرًا إلى الحالة الطارئة على البلاد في تلك الأيام؛ لأنه لو كان القوم كلهم أو جزء قويٌّ من أجزائهم يرى مثل رأي مدحت باشا، لكان من المحال سقوط ذاك الرجل المصلح، ولا يذهب من خاطركم ما فعله القواد العثمانيون العظام في حرب الروسية الأخيرة من أخذ الرشوة، وكيف كان حال العمال في ذلك العهد، فكان كل تبعة الجور والاستبداد على الوزراء والولاة. هذا هو حلمي باشا الصدر الأعظم الحالي لما كان واليًا في اليمن، أي شيء فعل في تلك البلاد التعسة؟ لذلك رأى السلطان عبد الحميد أن العافية في أن يأخذ كل أمور المملكة في يده، ويقبض عليها بيد من حديد، ومن الظاهر أن ترقية القوم الذين قد خيم الإدبار بجرانهم، لا يكون ممكنًا إلا بالحكم المطلق. كان حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقًا، وكان حكم الصديق (رضي الله عنه) والفاروق (رضي الله عنه) أيضًا كذلك. لا ننكر أن اجتماع الاختيارات في يد رجل واحد أعني عبد الحميد، قد صار في آخر الأمر موجبًا للخراب أيضًا؛ لأن الرجل الواحد لا يستطيع

رسالة المحجوب ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة المحجوب (من باب الانتقاد على المنار) (2) وقد ادعى المحجوب أن الأحاديث التي تدل على جواز دعاء غير الله تعالى - كما يفعله العوام - كثيرة مشاريعها، مفعمة تضيق المهارق عن استقصائها، ولم يأت منها بشيء قط، فإن أثر الاستسقاء ليس حديثًا مرفوعاً، وطلب الدعاء من أويس ليس محلاًّ للنزاع، فإن الدعاء يطلب من الأعلى للأدنى؛ إذ لا خلاف في فضل عمر على أويس، وكل ما ورد في الشفاعة خاص بالدار الآخرة، والوهابية يعترفون به كله ويفرقون بينه وبين الشفاعة التي أنكرها الله تعالى على المشركين، كما فرق ابن تيمية بينهما في كتبه المتداولة، وفد بينا ذلك في التفسير وغيره مرات. قال المحجوب: (وأما ما جنحت إليه من هدم ما يبنى على مشاهد الأولياء من القباب، من غير تفرقة بين العامر والخراب، فهي الداهية الدهيا، والبلية العظمى، من الظلم الذي أضلك الله فيه على علم) ثم إنه بعد سرد جمل وأسجاع من هذا السباب أوَّلَ الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على المقابر بقوله: (إن محل ذلك الزجر، ومطلع ذلك الفجر، في البناء على مقابر المسلمين المعدة لدفن عامتهم لا على التعيين؛ لما فيه من الحجر على بقية المستحقين، ونبش عظام السابقين) ثم جعل محل الإباحة كون البناء في ملك الباني وأنه لا حرج فيه، ثم ذكر أن المسألة محل خلاف بين النظار، وأن هذا المنكر ليس متفقًا عليه! ! أقول: ما أفسد الدين في أمة من الأمم إلا مثل هذا التحريف للنصوص ممن يلبسون على الجهل لباس العلماء، فتتبعهم العامة على تحريفهم فتضل عن دينها، ولمثل هذه الغاية الرديئة منعوا العلم بالكتاب والسنة زاعمين بجهلهم أنه لا يفهمهما أحد بعد قرن كذا. ألا يكفي لمن له أدنى إلمام بالعربية وإن كان عاميًّا أن يضرب بتأويل المحجوب وتحريفه عرض الحائط، إذا سمع الأحاديث الشريفة الواردة في ذلك، وقد ذكرناها ونشير هنا إلى بعضها. فمنها حديث أنس في الصحيحين وغيرهما، وحديث عائشة وابن عباس عند أحمد والشيخين وغيرهم، وحديث أسامة عند أحمد في لعن أهل الكتاب؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة: (يُحذِّر ما صنعوا) أي: يحذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من مثل ذلك، وفي رواية لأحمد والشيخين والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا) الحديث. وفي رواية لابن سعد: (ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد. فإني أنهاكم عن ذلك) والروايات في ذلك كثيرة، وهي تدل في جملتها وتفصيلها على أن مدار النهي والحظر تعظيم قبور الصالحين وجعلها في مواضع العبادة؛ كراهة أن يحدث ما حدث فينا حيث اتبع الجماهير منا سنن أولئك الذين لعنهم الرسول صلى الله عليه وسلم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع. فعظموا أصحاب القبور تعظيمًا وصل إلى حد العبادة، إذ صاروا يخشعون ويضرعون إليهم بالدعاء وطلب الحاجات. أما إن العلماء لو كانوا يعظون الأمة بهذه الأحاديث لما بنت على قبور الصالحين القباب والمساجد وتعرضت للعنة الله ورسوله , ولكن قصَّرالكثيرون من المطلعين على هذه الأحاديث، ثم خلف من بعدهم خلف لا يعرفون الحديث ولا يفهمونه، فصاروا يحرفون ما يسمعون، ويؤولون للعوام والخواص ما يعملون، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه مع وجود الأحاديث بنصوصها وتفسير المحققين لها. أورد ابن حجر الفقيه جملة من هذه الأحاديث في بيان الكبيرة الـ (93 -98) من كتابه (الزواجر) وهي: (اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها، واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها) ثم قال: (عَدُّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، وكأنه أخذ ذلك مما ذكرته من هذه الأحاديث. ووجه أخذ اتخاذ القبر مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية (يحذر ما صنعوا) أي: يحذر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك فيلعنوا كما لعنوا. واتخاذ القبر مسجدًا معناه: الصلاة عليه أو إليه، وحينئذ فقوله - أي: قول ذلك الإمام الذي نقل ابن حجر قوله في كون هذه الأمور الستة من الكبائر - مكرر، إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط، نعم.. إنما يتجه هذا الأخذ إذا كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه رواية (إذا كان فيهم الرجل الصالح) ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا، فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم، وأن يقصد بالصلاة إليه ومثلها الصلاة عليه التبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت، وكأنه قاس على ذلك كل تعظيم للقبر؛ كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به، والطواف به كذلك، وهو أخذ غير بعيد، سيما وقد صرح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من اتخذ على القبر سرجًا، فيحمل قول أصحابنا بكراهية ذلك على ماذا لم يقصد به تعظيمًا أو تبركًا بذي القبر [1] . (قال) وأما اتخاذها أوثانًا، فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد بعدي) أي: لا تعظموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود أو نحوه [2] ، فإن أراد ذلك الإمام بقوله: (واتخاذها أوثانا) هذا المعنى، اتجه ما قاله من أن ذلك كبيرة بل كفر بشرطه، وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن فيه كبيرة ففيه بعد. نعم.. قال بعض الحنابلة: قصْد الرجل الصلاة عند القبر تبركًا بها عين المحادة لله ورسوله وإبداع دين لم يأذن به الله؛ للنهي عنها ثم إجماعًا، فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها، والقول بالكراهية محمول على غير ذلك؛ إذ لا يظن ظان بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن صاحبه، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نهى عن ذلك وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره) . انتهى. (المنار) ذكرنا هنا ما قاله ابن حجر نقلاً وتفقهًا لا لأن ما جاء به أظهر من الأحاديث الشريفة، بل ليعلم من لم يطلع عليه وعلى أمثاله من أقوال العلماء المدققين أن التحريف الذي جاء به ذلك المحجوب تنبو عنه النصوص النبوية الشريفة، ويخالفه كلام العلماء المحققين في شرحها، وأن خصمه ما ضل في هذه المسألة - كما زعم - على علم. ولكنه هو ضل على تحريف وجهل، وهكذا كل كلامه منبئ بجهله أو تعمده التحريف. ولعل من طبع هذه الرسالة لو استشار كبار علماء تونس كالشيخ سالم أبي حاجب لأشاروا عليه بعدم طبعها؛ لأنهم يرون من العار نسبتها إلى واحد منهم. ثم ذكر المحجوب مسألة زيارة القبور، فجاء فيها بما هو مشهور على ألسنة العامة، وخصمه لا ينكر الرخصة في زيارة القبور , ولكنه ينكر أن تزار لغير ما صرح به في الحديث من سبب الزيارة، وهو العبرة وتذكر الآخرة، وما غلط به الغزالي من مسألة الاستمداد لا يقوم حجة عليه؛ لأنه لا يدخل في مفهوم الحديث بل يخالفه، على أن الغزالي لا يبيح تعظيم القبور ودعاء من دفن فيها، وغير ذلك مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك حرَّف حديث (لا تشد الرحال) فألحق به قيد (نذر الصلاة فيها) ولو جاز لنا أن نقيد الآيات والأحاديث بما لا تدل عليه عبارتها لما سلم لنا من ديننا شيء، ومن جهله بالحديث أنه جعل غاية الاحتجاج وعمدة البراهين على زيارة قبر النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم حديث: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) (كما في ص 11) وأهون ما قال المحدثون في هذا الحديث: إنه ضعيف، كما ترى في الجامع الصغير للسيوطي، وكأن المحجوب قد حجب والعياذ بالله تعالى عن جميع كتب السنة حتى مثل الجامع الصغير. ثم احتج (في ص 12) ببناء سليمان لقبر الخليل عليهما السلام، وببعض روايات حديث المعراج: أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عند قبر جده إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيصلي ركعتين ففعل. وزعم أن هذا حديث صححه المحدثون الثقات وهو كاذب في ذلك، بل قال شيخ الإسلام في تفسير سورة الإخلاص: إنه موضوع، ولم يكن لإبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم قبر مبني قبل الإسلام ولا في العصر الأول له. على أنه إذا صح لا يكون حجة على خلاف ما قلناه؛ لأنه لا يعارض الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها؛ إذ لا يدل على أن القبر كان عليه مسجد، ولا على أنه صلى الله عليه وسلم صلى إليه أو عليه معظمًا له، بل به تصدق كلمة (عنده) بالصلاة في مكان هناك، وإن بعد عن القبر. فإن فرضنا أنه هذا الحديث يعارضها والجمع بينه وبينها متعذر، وجب القول بنسخه دونها؛ لأن أحاديث المعراج كانت في أول الإسلام وأحاديث النهي عن القبور كانت قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه كان يقولها قبل الموت بخمس ليال ويقول: (اللهم إني بلغت) ثلاث مرات، ثم قال: (اللهم اشهد) 3 مرات كما في حديث كعب بن مالك عند الطبراني , وأنى للمحجوب أن يطلع على هذا؟ وحرَّف أيضًا النهي عن وضع السرج على القبور، فقال (في ص 13) بحمله على تقدير صحته على فعل ذلك للتعظيم المجرد عن انتفاع الزائرين، قال: (وأما إذا كان القصد به انتفاع اللائذين والمقيمين، فهو جائز بلا مَيْن) وهذا من التحكم في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالهوى، وقد علم مما مر عن ابن حجر فساد تحريفه. وبناؤه التحريف على فرض صحة الحديث من دلائل جهله بالرواية. وحرف أيضًا وأوَّل النذور والذبائح لأصحاب القبور، وزعم أن تلك النذور لا تفعل على أنها من باب الديانات. وبطلان هذا بديهي لكل مختبر، إلا أنه يجوز أن يكون لم يطلع على ما اطلع عليه من تلك البدع، فأطلق النفي كعادة أمثاله من الذين يكيلون جزافًا. وحرف أيضًا الأحاديث الواردة بطمس القبور وتسويتها؛ زاعمًا أن المراد طمس ما كان من ذلك للجاهلية، وأنه لا بأس باتباع المسلمين لسننهم، بل زعم أن المسلمين إنما يحفرون القبور تحت البناء وهذا لا دليل على منعه، والجاهلية يبنون على القبور (انظر: ص 15) ، وهذه سخافة لا يكاد يرضاها لنفسه عاقل، فإذا كانت الأحاديث صريحة في منع تعظيم القبور بالبناء عليها، فهل يعقل أن يكون هناك فرق بين تقدم بناء المسجد على لا قبر أو تأخره عنه؟ ؟ على أن المسلمين يفعلون الأمرين معًا كما هو مشاهد في مصر وغيرها. أما صاحب الذيل لتلك الرسالة (أحمد جمال الدين) فهو أجهل من المحجوب وأكثف حجابًا، فلا يستحق أن يقام له وزن فيرد عليه، وبماذا يخاطب من يرمي شيخ الإسلام ابن تيمية بالانحراف عن السنة وتحقير السلف، وهو الذي امتاز على جميع علماء الإسلام بنصر السنة وخذل البدعة والدعوة إلى اتباع السلف، وإظهار خطأ من خالفهم من المتكلمين والصوفية والفقهاء بالحجج والبينات النقلية والعقلية، ولولا هذا لما تكلم فيه أحد كما علم مما نشرناه من ترجمته في المجلد الماضي، وإن له رحمه الله كتابًا في المسألة التي يعبرون عنها بالتوسل، جمع فأوعى، سيطبع وينشر فنرى ما يقول عباد القبور فيه. أرسل إلينا هذا الكتاب لأجل طبعه، ونحن نكتب هذا الرد على المحجوب فاختصرنا فيه؛ لأن البيان المطول في مسألة ا

الاحتفال بعيد الدستور العثماني ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بعيد الدستور العثماني قرر مجلس الأمة العثمانية المؤلف من المبعوثين والأعيان أن يكون مثل اليوم الذي أعلن فيه الدستور من كل عام عيدًا وطنيًّا للعثمانيين، تحتفل فيه الحكومة رسميًّا، وصدرت إرادة السلطان الدستوري الأول مولانا محمد الخامس بذلك، وقد علم من صحف عاصمة السلطنة أن الاحتفال الأول فيها سيكون ذا بهجة وفخامة لم يعهد لهما نظير، يشترك فيه الأهالي مع الحكومة بمحض أريحيتهم واختيارهم راضين مسرورين، لا كاحتفالات عيد الجلوس الحميدي التي كان عبد الحميد ينفق على الرسمي منها وغير الرسمي، حتى إنه كان يرسل مقدار الزينة من يلدز إلى دور الكبراء؛ لعلمه أنه لا يكاد يوجد فيهم من ترتاح نفسه إلى إنفاق شيء مما ملكته يده على ذلك، وإن كان مما نهبه بجاه عبد الحميد من مال الأمة، أو ما باعه للأجانب من مصالحها. سبق لنا بحث في فلسفة هذه الاحتفالات في المجلد الرابع من المنار في مقالة عنوانها (الشعور والوجدان، وشعائر الأمم والأديان) (في ص 641) وفي استدراك عليها (في ص 675) ، وقد بينا هنالك أن الأعياد من الشعائر التي تحيي شعور الأمم بالمعنى الذي وضع العيد لأجله، سواء كان دينيًّا أو اجتماعيًّا، ومما قلناه في المقالة: (إن أهل الغرب اتخذوا لملوكهم أعيادًا لإحياء الشعور الوطني الذي يمثله رئيس الدولة في الملكية، وللدول الجمهورية منهم أعياد باسم الحكومة التي يعتزون بها ويعززونها. وقد قلدهم الشرقيون في الاحتفال بأعياد ملوكهم وأمرائهم لإرضائهم، إذ كانوا لا وطن لهم ولا وطنية، ولا دول عزيزة بحكومتها قوية، ولا شك أن هذه الأعياد شعائر تبعث الشعور بحب السلطان أو الأمير في نفوس الذين يعتقدون النفع فيه للدولة والأمة، فينتفع بهذا المستبدون، ويغتر به المغترون، حتى يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون. وقد مزجنا في هذا بين ما هو مقصود من هذه الاحتفالات بأعياد الملوك والأمراء إلفًا، وما كان ينبغي أن يقصد، ثم استدركنا على ذلك في الجزء الذي نشرت فيه المقالة بعد ذكر الاحتفال بقدوم الأمير من أوروبا، فبينا أن الشرقيين لم يتبعوا الغربيين في ذلك، وإنما يحتفلون بالملوك والأمراء لذواتهم لا لمعنى وطني عام، قلنا: (الصواب أن الشرقيين أشد الناس تعظيمًا لملوكهم منذ القدم، وحسبك أنهم عبدوهم من دون الله، وأنهم لا يزالون يقدسونهم بقدر ما لهم من السلطة والاستبداد. وأما مسألة إحياء الشعور، فنرى بعض الجرائد تنوه بضدها ذاهبة إلى أن هذه الاحتفالات منبعثة عن الشعور بعظمة من احتفل لأجله وحبه، وربما يصح هذا من بعض المحتفلين الذين لهم فيه منافع تولد هذا الشعور، وإنما الظلم في إسناده إلى الأمة مع أن القائمين به أفراد معدودون معروفون) . اهـ. المراد منه هنا. وأقول الآن: إن الاحتفال لذكرى جلوس السلطان عبد الحميد قد كانت من أسباب انتشار الشعور بعظمته في نفوس من لم يذوقوا ظلمه، ونفوس من ذاقوه من حيث لا يعلمون أنه منه، وكذا من عرفوا. ولكن شعورهم هؤلاء بعظمته في أمتهم كان يزيدهم شعورًا بمقته وبغضه، ولم يحل دون ذلك الشعور كله كون النفقة على الاحتفال الرسمي منه كانت من مال الحكومة، وعلى غير الرسمي من أموال المرائين في الغالب. إن تقوية الشعور بعظمة الأمراء والسلاطين في نفوس الأمة، يضعف فيها الشعور باستحقاقها للسلطة وأهليتها للحكم الدستوري فتبقى ذليلة مهينة، ويقابل هذا كون الاحتفال بعيد الدستور يقوي في الأمة الشعور بكرامتها واستحقاقها للحكم الذاتي، وإذا كان سلطانها راضيًا لها بذلك مشتركًا معها فيه - كما هو شأن سلطاننا محمد الخامس أيده الله تعالى - كان ذلك مما يحببه إليها ويرفع مكانته في نفوسها، مع العلم بأن عزته بعزتها وعظمته بعظمتها دون العكس. لهذا المعنى وضع عيد الدستور للأمة العثمانية، وتعلقت به الإرادة السلطانية ولهذا المعنى يحتفل العثمانيون بهذا العيد الوطني حيثما كانوا، وأينما حلُّوا، وستكون عنايتهم بذلك على قدر فهمهم لقيمة الدستور، وشعورهم بفائدته. ألفنا نحن العثمانيين المقيمين بمصر لجنة لجمع المال، والقيام بما يحسن من الاحتفال، وشاركنا في ذلك إخواننا المصريون، وما هم إلا مثلنا عثمانيون (وإذا قوبل الخاص بالعام، يراد بالعام ما وراء الخاص) وسيكون احتفالنا في حديقة الأزبكية بكيفية لم يعهد لها نظير في الأعياد القومية ولا الرسمية، تتجلى فيها الحديقة متلالئة بالأنوار الكهربائية، وأبدعها ما يمثل منها الشارات العثمانية، وتأتلف فيها أصوات أشهر المطربين بنغمات أحسن آلات الموسيقيين، وتعرض فيها الصور المتحركة البديعة، ولا سيما صور حوادث الآستانة الأخيرة، وغير ذلك من أسباب الأنس التي تتوخى في هذه المراسم. وقد ألف أهل الإسكندرية لجنة لإقامة احتفال عمومي أيضًا، وسيكون هنا وهناك زينات خاصة يقيمها الأفراد على بيوتهم أو أمكنة أعمالهم، فتتجلى بهذه الاحتفالات عثمانية المصريين وإخلاصهم للدولة العلية، كما يتجلى فيها حبهم للدستور ومعرفتهم لقيمته. يذهب بعض رجال الدين إلى أن هذه الأعياد الوطنية والسياسية محظورة في الإسلام؛ لأنه لم يأت إلا بعيدين فقط هما: عيد الفطر وعيد النحر، فالزيادة عليهما بدعة. وقد سمعنا هذا القول من أحد العلماء فقلنا له: إن البدعة الدينية إنما هي فيما يعمل على أنه من الدين، فقولك هذا إنما يصدق على الموالد التي صبغت بصبغة الدين، دون هذه المواسم المشتركة بين أهل الأديان المختلفة التي لا صبغة للدين فيها. نعم.. يتجه أن يقال: إن الدين يحظر من المواسم الدنيوية ما وضع منها لمقصد ضار؛ كتعظيم الملوك الظالمين وتقوية سلطتهم دون ما وضع لمقصد نافع؛ كتعزيز الأمة ورفعة شأنها. *** المشتركون الماطلون بعض الماطلين في القطر المصري معذور بما أصابه من العسرة المالية، وبعضهم يعتذر بها بغير حق، ولكن ما بال أهل سنغافورة وجاوة وروسيا الذين كنا نعدهم أحسن المسلمين وفاء، كادوا يكونون كأهل تونس مطلاً وهضمًا.

التعصب الديني عند الإفرنج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعصب الديني عند الإفرنج كتبنا في الجزء الماضي نبذة في التعصب الديني عند الإفرنج، بينَّا فيها أن مهد الغلو فيه أوروبا لا آسيا، وقبل أن ينشر الجزء ظهر في الجرائد الإفرنجية المصرية ما يؤيد رأينا ويثبته. أشاعت هذه الجرائد أنه وقع خلاف في لجنة الاحتفال بعيد الدستور العثماني سببه الاختلاف في الدين، وأن صاحب المنار قال في اللجنة: إنه لا يقبل أن يكون رئيسها نصرانيًّا. وطفق محررو تلك الصحف يشنعون على هذا التعصب الإسلامي الشرقي الذي تخيلوه فخالوه، فشنعوا عليه كدأبهم وعادتهم وقياسهم على أنفسهم. ويقال: إن بعض محرري تلك الصحف من السوريين، وكأنهم لما تلقوا لغات الإفرنج وآدابهم تفرنجوا، فأخذوا منهم محضاء التعصب يحركون به ناره كلما سنحت السوانح أو عنت البوارج، وهاك ما قاله في ذلك جريدة (النوفل) نقلاً عن ترجمة الأخبار لها: (قلنا في عدد سالف: إن الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار ارتأى أنه يجب أن لا يرأس نصراني جمعية الاحتفال بالدستور العثماني، والشيخ رشيد هذا كان إلى اليوم يعد حرًا مريدًا للدستور، عدوًّا لحكم السلطان عبد الحميد، وقد حارب الخليفة السابق بصفته مسلمًا باذلاً جهده في سبيل تقويض حكمه المبني على الظلم والاعتداء والنهب والسلب والفتك بعباد الله، وقد كان شديد اللهجة في كتاباته إلى حد أنه ألزم أن يفر من تركيا ويلجأ إلى القطر المصري. والآن قد تغيرت الأحوال واعتقل عبد الحميد في سجنه الحالي في سالونيك، محجوبًا نظره عن الإشراف على ما يجري في البلاد، وأصبح تحول بينه وبين الحياة، وبينه وبين الطبيعة سيوف الحراس، فقد هذا الظالم الذي طرده العالم من بينهم قوته، ولكن أولاً هل سقط مع عبد الحميد كل ما كان قائمًا في أيامه؟ إننا لنشك في ذلك؛ لأنه إذا كان مثل الشيخ رشيد رضا يجعل بين المسلم والنصراني فارقًا، فماذا يفعل غيره؟ أفلا يجوز أن نعتقد أن أحرار الأتراك ما كادوا يستولون على كرسي السلطة حتى تناسوا مطالبهم القديمة بإقامة العدل وتأليه الحرية. إن الشيخ رشيدًا سيندم على ما جاهر به، غير أن ندمه لا ينفي أنه قال ما قال، ولقد أصبح الآن يجوز للنصارى العثمانيين أن يشكوا في إخلاص إخوانهم المسلمين) . اهـ (المنار) لما اطلع أعضاء لجنة الاحتفال بعيد الدستور على هذه الكتابة، كتبت اللجنة إلى هذه الجريدة وسائر الجرائد التي ذكرت الخبر المختلق تكذيبًا له. ونحن نزيد على هذا التكذيب كلمة نقولها لكاتب تلك النبذة في جريدة النوافل وهي: قلتم: إنه يجوز للنصارى العثمانيين أن يشكوا في إخلاص المسلمين لهم، بعد أن نقلت لهم صحفكم تلك الكلمة عن صاحب المنار دون صحفهم العربية، وكان من مقتضى التساهل الذي تدعونه أن لا يصدقوها عنه؛ لما يعلمون بالاختبار الطويل من تساهله، وكتابته في الدعوة إلى الوفاق اثنتي عشرة سنة حتى باسم الإسلام، وسعيه مع بعض أصدقائه المسلمين في تأليف جمعية سياسية سرية مؤلفة من جميع العناصر العثمانية؛ لأجل جمع كلمتهم وتوحيد مصلحتهم، أو كان ينبغي لهم مع تصديقها أن يحملوها على غرض صحيح غير التعصب كأن يكون مراده - لو صح الخبر - أن جعل الرئيس من كبراء المسلمين كأمراء البيت الخديوي مثلاً، يجعل للجنة من النفوذ والاحترام وقبول الدعوة إلى الاكتتاب ما لا يرجى مثله، لو كان الرئيس نصرانيًّا؛ لأنه ليس في نصارى العثمانيين من له مثل هذا النفوذ. هكذا شأن المتساهل يتروى ويتثبت في الخبر الذي يثير الخلاف وينافي الائتلاف، فإن أيقن بصدقه التمس له مخرجًا صحيحًا. فإذا كان النصارى يعذرون على رأيكم بعدم الثقة بإخلاص أحد من المسلمين لخبر يحتمل الصدق والكذب، والقرائن تدل على كذبه، ويحتمل على تقدير صدقه أن يكون قيل لغرض صحيح لا للتعصب، أفلا يعذر المسلمون بالأولى إذا كانوا يرون الرجل من علماء دينهم وسلالة نبيهم والدعاة إلى الإصلاح الديني فيهم. يقضي السنين الطوال وهو يدعوهم إلى التسامح والائتلاف مع النصارى وغيرهم بالقول، ويجعل نفسه قدوة في ذلك بالعمل، ثم يرميه النصارى بالتعصب ويجعلونه حجةً على عدم ثقتهم بأحد من المسلمين. بلى، ولكن نحمد الله تعالى أن كان أهل الشرق من المسلمين والنصارى لم يصلوا إلى هذا الحد من التعصب الذي ينفثه فيهم كتاب الإفرنج والمتفرنجين منهم؛ ولذلك رأينا الفريقين قد هزءوا بما كتب في تلك الجرائد الإفرنجية عن صاحب المنار، حتى قبل تكذيب اللجنة له.

الجنسيات العثمانية واللغتين العربية والتركية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجنسيات العثمانية واللغتين العربية والتركية إن من شؤون مدنية هذا العصر المحافظة على أجناس الموجودات حسية كانت أو معنوية، فترى الغربيين أئمة هذه المدنية إذا رأوا نوعًا من الحيوانات الأرضية أو الجوية أو المائية أخذ في النقص حتى خيف من انقراضه، حرموا صيده إن كان مما يؤكل، وقتله إن كان مما لا يؤكل، وإن كان ضارًّا كما يحافظون على العاديات والآثار القديمة جميعًا، ونراهم أيضًا يرغبون في بقاء نموذج من الأديان والمذاهب الدينية وغير الدينية، واللغات المستعملة وغير المستعملة، حتى إنهم أحيوا بعض اللغات التى ماتت وبقي أثرها، وجعلوا يتدارسونها ويتنافسون في معرفتها. ما كان لهذه المدنية أن تحافظ على أجناس الحيوان والجماد وتسمح بانقراض بعض أجناس الناس [1] ، بل هي أشد محافظة على أجناس الناس ومقوّمات جنيستهم من اللغة وغيرها، واعْتَبِرْ ذلك بالأجناس المكونة لمملكة النمسا (الإمبراطورية) تَلْقَهُ واضحًا جليًّا. كان الجنس في العصور الماضية ينقرض بانقراض أفراده كلهم أو جلهم بالموتان والأوبئة أو بالحرب، وما يعقب الأغلب فيها من العبودية والذل الذي يقلل النسل رويدًا رويدًا، حتى لا يبقى منهم أحد أو يبقى منهم حثالة ممزقة في الأرض، لا تسمى شعبًا ولا تعد قبيلة. وهنا ضرب من ضروب انقراض الجنس يتحقق بانحلال رابطة الجنسية وزوالها، لا بانقراض الأشخاص وانقطاع الأنساب وهو أن يدخل الجنس في دينِ جنسٍ آخر أو لغته فيمتزج به ويلابسه في تقاليده وعاداته، حتى يذوب فيه ويصير من عناصره المكونة لذاته، كما امتزجت الأجناس السورية في الجنس العربي باللغة في جميع الأفراد وبالدين في أكثرهم، ونسيت جنسيتهم النسبية وزالت جنسيتهم اللغوية، وصاروا كلهم عربًا. هذا النوع من زوال الجنس أو الجنسية هو من الترقي والكمال في الإنسانية لا من النقص أو المرض الذي يعرض لها؛ لأن الإنسان عالم اجتماعي فكلما اتسع نطاق الاجتماع وقل التفرق والانقسام فيه زادت الإنسانية كمالاً، ولهذا يرى حكماء الاجتماع أن منتهى الكمال البشري في هذه الحياة أن يكون الناس كلهم أمة واحدة لا يفرق بينهم نسب ولا لغة ولا وطن ولا دين، ويستحيل أن يتحولوا إلى هذا دفعة واحدة، وإنما يكون مثل هذا باندغام بعض الأجناس في بعض بالتدريج البطيء، وإن الأمم الكبرى التي تجتهد بنشر لغاتها وآدابها في أرجاء العالم تطمع كل واحدة منها في أن تكون لغتها هي لغة البشر كلهم في المستقبل البعيد؛ لكي يكون لها الإمامة وبقاء التاريخ والذكر في الزمن المستقبل على ما يكون لها من السبق إلى الاستفادة من توسيع دائرة جنسيتها في الحال. ولا ينافي هذا ما نشاهد عليه الإنكليز - وهم أطمع الأمم في هذه الغاية - من شدة محافظتهم على جنسيتهم وغلوهم في أثرتهم لما عليه الإنسان من الحرص والبخل بمميزاته وخصائصه، سواء كانت شخصية أو قومية، وإن هذا البحث ليتسع لتفصيل ليس هذا المقال بموضعه، وإنما ذكرناه فيه تمهيدًا ومقدمة لا مقصدًا. وعندي أن الإسلام يرمي إلى هذه الجامعة العامة [2] . ومن فروع هذا المبحث التي لا مندوحة عن ذكرها في باب التمهيد؛ أن هذا النوع الكمالي من زوال الجنسيات أو تحول بعضها إلى بعض، لا يكاد يرضى شعب من الشعوب بأن يكون هو المدغم في غيره لأجل تحقيقه، فضلاً عن أن يرضى بذلك إيثارًا لمقومات جنس آخر على مقومات جنسيته، وسبب ذلك ما ذكرناه آنفًا من حرص الإنسان على خصائصه ومميزاته؛ وإن كانت ضارة كبعض التقاليد والعادات، وإنما له طريقان: أحدهما الغلب والقهر، وطبيعة المدنية الحاضرة تأباه؛ لما ذكرناه في فاتحة الكلام. وثانيهما التحالف والاتحاد في المصالح والمنافع، بحيث يأخذ كل جنس من الآخر أمثل ما عنده بمقتضى سنة الانتخاب الطبيعي، إلى أن تغلب مقومات جنسية أحدهما في مجموعها على مقومات جنسية الآخر، ويصيران جنسًا واحدًا وهو ما يطمع فيه بعض الغربيين في مستعمراتهم: كفرنسا في الجزائر، والشعوب العثمانية أحوج إليه ولن يكونوا أمة واحدة بدونه. ينتج ما تقدم من المقدمات أن الدولة العثمانية لا تستطيع في هذا العصر أن تحل رابطة جنس من الأجناس التي تتكون منها أمتها بالقهر والإكراه، ولا بالخلابة والإقناع، بل سبيلها اللاحب أن تؤلف بينها في المنافع والمرافق، والمصالح والوظائف، وتوحدها بجنسية الشريعة والقانون، دون جنسية اللغة والدين، حتى يتمازج منها ما هو مستعد للمزج، وينبذ مزاج وحدتها الجديدة من لا يقبل ذلك من الأجناس كما ينبذ مزاج الجسم المعتدل ما عساه يدخل فيه من الأجسام الغربية. أعني بهذا النبذ - واللبيب يفهم - ما تقتضيه طبيعة الاجتماع من ذلك، لا أن الدولة نفسها تنفي من بلادها الآن بعض الأجناس. ذلك أن الجنس الذي لا تقبل طبيعته الوحدة العثمانية التي ذكرناها (كجنس الروم فيما يظهر) ؛ لجذب جنسية أخرى هي أقوى منها في حقه، يتسلل أكثر أفراده في بلادها بالهجرة أو سبب آخر، ويتصلون بجنسهم الذي تربطهم به عدة روابط؛ لكونه أقوى على جذبهم من الجنس الذي يرتبطون فيه برابطة واحدة. أما تنازع البقاء بين الجنسيات اللغوية في الشعوب العثمانية الذي ينتهي باستيفاء طوره الاجتماعي إلى تغلب الأمثل، فسيكون على أشده بين العربية والتركية؛ لأنهما اللغتان الحيتان للشعبين الكبيرين في الأمة، والأولى منهما لغة الدين يكفله منصب الخلافة. والثانية لغة السلطنة الرسمية، وليس للغات سائر الشعوب شركة في هذه المزايا. إن الأرمن شعب صغير وعهده قريب بتدوين لغته وجعلها لغة علمية، ولا يطمع أحد من عقلائه بنشر هذه اللغة في شعب آخر، فهي لغة قاصرة محصورة غير قابلة لحياة النشر والامتداد؛ لعدم الحاجة إليها عند غير أهلها. واللغة التركية مزاحمة لها فيهم أنفسهم، فهي أملك لألسنتهم من لغتهم. وأما الألبان والأكراد: فهم حتى اليوم لم يدونوا لغتيهم، ويجعلوهما لغة علم، ولا يطمعون في نشرهما وتحويل أحد من الشعوب الأخرى إليهما، والتركية مزاحمة لهما في الشعبين وكذا العربية لا سيما في بعض بلاد الأكراد؛ كالسليمانية وغيرها، ثم إن الدين يجذبهم إلى هذه، والإرادة تجذبهم إلى تلك، فزيادة عناية كل شعب من هذين الشعبين بلغته ومحاولته إحياءها تقليدا لما ذكرناه من طبيعة المدنية الغربية لهذا العهد، لا يفيده إلا أثقالاً تعوقه عن تحصيل العلوم، ومجاراة غيره بالترقي فيها؛ لأنه إن ترك العربية قصر في دينه الذي هو أعز شيء عليه، وإن ترك التركية قصر في عثمانيته وما يترتب عليها من الفوائد، فلم يبق إلا أنه يضيع بعض زمن التحصيل في دراسة لغته القومية، ولا أرى العقلاء منهم يطمعون في تأسيس دولة؛ لأنهم يعلمون أنه لا فرق في ذلك بين شعبيهما وبين الشعب الأرمني؛ من حيث إنه طمع في غير مطمع يضر الطامع ويضر الدولة، فيقوى عليهما الطامعون فيهما، ولَضرر الشعب الصغير من أكبر ضرر الأمة الكبيرة. على أنَّ محاولة تمزيق السلطة محرم في الإسلام، فالشعب الإسلامي الذي يفارق الجماعة يجني على دينه وعلى دنياه، فالتنازع الحقيقي في لغات الشعوب العثمانية إنما هو بين العربية والتركية. يرى بعض الترك الغالين في عصبية الجنس أنه ينبغي للدولة أن تجعل اللغة التركية وحدها لغة التعليم، وتلزم جميع العثمانيين بتعلمها، وتجعلها اللغة الرسمية في جميع معاملات الحكومة حتى التقاضي والمرافعة في المحاكم، إلى أن تحول العرب فمن دونهم من العثمانيين إلى الجنسية التركية. ويظنون أن هذا أمر ممكن حتى في عصر الدستور وما ظنهم هذا إلا إثم وغرور. ويرى بعض العرب بنزعة دينية وبعضهم بنزعة جنسية أنه ينبغي للدولة أن تجعل اللغة العربية هي لغة العلم، ثم تجعلها بعد انتشارها اللغة الرسمية؛ لأنها لغة الشعب الأكبر من الشعوب العثمانية ولغة الدين لجميع مسلميها ومسلمي سائر الآفاق الذين يرتبطون معها برابطة الخلافة، ويغفلون عما بيناه في القسم التمهيدي من هذا المقال من شأن المحافظة على الجنسية، لاسيما في شعب يرى لنفسه حق السيادة، فإن تنازل عنها بالدستور فإنه يصعب عليه أن يترك من مميزاته ما حفظ لنفسه الحق في استبقائه بنص القانون الأساسي، وهي جعل لغته هي اللغة الرسمية للدولة. إن غوائل اختلاف اللغة في الدولة لا تنكر، وإن فوائد توحيدها ووحدة الأمة بها لا تجهل، وإن رجحان العربية في الدين والعلم والسياسة لَهو أوضح وأظهر، فإنها هي التي تتوفر الدواعي على تعميمها؛ لأن الناطقين بها أكثر من الناطقين بغيرها، وإرجاعُ القليل إلى الكثير أسهل من عكسه؛ ولأن للترك والكرد والألبان باعثًا نفسيًا يبعثهم على تعلمها؛ وهو الحاجة إلى فهم كلام ربهم - عز وجل - وحديث نبيهم صلى الله عليه وسلم وحكم سلفهم الصالح - رضي الله عنهم - وكتب أئمتهم في التفسير والحديث والفقه وغيرها من علوم الدين - رحمهم الله - والوقوف على تاريخ دينهم. ومن الجهل أن يقال: إنهم يستغنون عن ذلك كله بالترجمة لما سنبينه في فرصة أخرى، ولأن جعلها اللغة الرسمية هو الذي يزيل خطر تفرق الأجناس، فإذا اتفق عليها المسلمون الذين يشاركون فيها غيرهم من الملل في البلاد العربية، لا يبقى للروم والأرمن سبيل لطلب تعليم لغتهم في مدارس الدولة، ولا يكون لتعليمهم لها في مدارسهم خاصة تأثير في إضعاف الوحدة؛ ولأنها لغة حضارة سابقة وعلوم وفنون؛ ولأنها اللغة المشتركة بين جميع المسلمين ولأنه يمكن أن توسع دائرة نفوذ الدولة بنشرها في الممالك الشرقية التي يكثر فيها المسلمون: (الصين وجاوه والهند) من غير نفقة توازي عشر معشار ما تنفقه الأمم الغربية لنشر لغاتها، وتوسيع دائرة نفوذها وتجارتها في الشرق؛ ولأن الدولة تأمن بذلك من قيام دولة عربية تدعي الخلافة وتنازعها النفوذ في العالم الإسلامي بنفسها وبمساعدة بعض دول أوربا؛ ولأن في ذلك تحقيقًا لمقصد من مقاصد الإسلام العالية وهو محو العصبيات الجنسية وتوسيع دائرة الأخوة الإنسانية. هذه المرجحات لا تعزب عن علم أذكياء المفكرين من الترك، ولو كان أمر الأقوام والشعوب مما يُتّبع فيه البرهان إذا ظهر لكان حل هذه المسألة من أهون الأمور. ولكن الأقوام والجماعات تتبع الشعور والوجدان دون العقل والبرهان بل يقول الفيلسوف الاجتماعي جوستاف لبون: إنها لا تعقل ولا تطيق سماع الدليل، فلا مطمع إذًا في رضاء الشعب التركي بجعل العربية لغة العلم في الدولة كلها مهما كان في ذلك من الفوائد وأمن الغوائل؛ لا سيما في هذا العصر الذي اشتدت فيه العصبيات الجنسية في أوربا من عهد نابليون إلى اليوم، وسرت عدواها إلى البلاد المجاورة لها. إذا كنا لا نجد سبيلاً إلى توحيد اللغة؛ لاجتناء فوائده فكيف السبيل إلى اتقاء غوائل التنازع بين اللغتين السائدتين، وما يتبعه من تحريك عصبية الجنسين الذي هو أشد الأخطار على الدولة في العهد الذي يجب الإنفاق فيه على تعزيزها وإعلاء شأنها، والتأليف بين أجناسها وعناصرها جهد المستطاع. يقول أكثر الباحثين المستقلين من الأجانب والعثمانيين: إن لحل هذا المشكل طريقًا معبَّدًا ومثالاً متبعًا لا يحتاج معه إلى النظر والاستدلال؛ وهو ما عليه سلطنة النمسا، فينبغي أن يكون العرب والترك في الدولة العثمانية كشعبي النمسا والمجر، وأن يك

تقرير عن امتحان مدرسة المعلمين الناصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير [1] عن امتحان مدرسة المعلمين الناصرية في العام الدراسي 1908 الداخل في سنة 1909 صاحب السعادة سعد زغلول باشا ناظر المعارف العمومية حضرتاري. قبل كل شيء أقدم إلى سعادتكم أكمل الشكر والامتنان على أن جعلتموني موضع الثقة، فاخترتموني لرئاسة امتحان هذه المدرسة التي هي في نظري من أهم المدارس وأفيدها لهذا القطر، ولهذا قد دققت البحث واختبرت كل شيء في الامتحان بنفسي، وإني عارض ما علمته بالتفصيل. (أ) رأيت أن وقت الامتحان الذي حدد لهذه المدرسة غير ملائم لحالتها؛ لأنه قد زاحمه قبله امتحان الشهادة الثانوية، وشاركه في زمنه امتحان مدرسة الحقوق الخديوية، ونشأ عن ذلك تعطيل في العمل؛ لأن من انتقتهم النظارة للامتحان فيها كان أكثرهم مشتغلاً بامتحان الشهادة وتلاوة أوراقه، واضطررنا لتأجيل الامتحان في التربية العملية عن وقته المعين في الجدول، وهو أول مايو سنة 1909 إلى ما بعد 16 منه، وأجهد الممتحنون أنفسهم في أول النهار وبعد الظهر، حتى أتموا عملهم بمشقة عظيمة في أوقات هذا الحر الشديد. فلهذا ولقلة العمال الذين يوثق بعملهم، أرى أن يجعل موعد امتحان هذه المدرسة في الأعوام المقبلة من أول مايو كما وقع ذلك في بعض السنين. (ب) لاحظت أن كون الامتحان بنمر سرية، قد أوجب زيادة العمل على العمال، واستدعى إيجاد عمال في حين الاحتياج إلى عملهم في موضع آخر؛ لتزاحم الامتحانات في وقت واحد، ولو كانت الفائدة من جعله سريًّا توازي هذه الأتعاب وتلك المضايقة في إيجاد العمال لهان الخطب. ولكني وزنت النفع والضر في ذلك فوجدت الثاني أكثر بكثير، وغاية ما يقال في النفع: إن كون الامتحان بالنمر السرية يجعل النظارة في اطمئنان من عدم وجود الغرض فيه؛ إذ يقرأ الممتحن ورقة لا يعرف كاتبها، فيقدر لها درجتها بالضبط، وهذا النفع وإن كان يكون حقيقيًّا في بعض الأوقات ليس بمطرد؛ لأنه ليس كل ممتحن يعمل فيه الغرض، وفضلاً عن ذلك فقد يوجد شيء من التساهل مع الامتحان بالنمر السرية يقوم مقام الغرض أو يفوقه؛ لأن الممتحن كلما قرأ ورقة ووجدها غير صالحة، سأل عن النمرة التي يمكن أن يمر بها الطالب، ولا يكون ساقطًا فيعطيها للورقة وهو جازم بأنه لا يستحقها؛ لأجل أن ينجو الطالب من السقوط، وذلك استعمالاً للشفقة، وإذا أسأنا الظن قلنا: إن الممتحن تحت نظره أشخاص، يجب أن يمروا، فيخاف أن يكون صاحب الورقة الساقطة منهم، فيمر الكل حتى يمر صاحبه بسلام وهذا أكبر في الضرر من استعمال الغرض لشخص مخصوص بالرجاء المعتاد في هذه البلاد، وبين أوراق الامتحان في كل علم أوراق منحطة جدًّا، وضع لها الممتحنون الدرجات التي تقتضي مرور كاتبها فقط: كنمرة (عشرين) فيما نمرته الحقيقة (40) ، و (25) فيما نمرته (50) ، و (15) فيما نمرته (30) ، وهكذا ولسعادتكم أن تأخذوا نموذجًا من تلك الأوراق المكتوبة عليها مثل هذه النمر، فتجدوها على ما وصفناه، وأيضًا فإن الامتحان بالنمر السرية في هذه المدرسة؛ وهي من المدارس المخصوصة العالية تفرقة بينها وبين أختها مدرسة الحقوق الخديوية، ولا فرق بينهما في الواقع، ونفس الأمر فلم يكون الامتحان في الحقوق جهريًّا وفي المعلمين سريًّا، على أننا لم نسمع بأن طالبًا في الحقوق مع الامتحان الجهري نجح للغرض، ولا بأن طالبًا تأخر بقصد الإضرار به. ولهذا فإني أرى أن يكون الامتحان في هذه المدرسة أيضًا جهريًّا، فيقل التعب وتزول تلك الأضرار ويسهل وجود العمال، ويعرفون أنهم موضع الثقة فيعملون على ما يزيدها، وأنهم ليسوا موضعًا للريبة، فيعتادوا النزاهة والتخلي عن الغموض، وهذا من حسن التربية وإعلاء النفوس بمكان عظيم. (ج) لاحظت أثناء تأدية الامتحان الشفهي في علوم: النحو والصرف والطبيعيات وتقويم البلدان ما لا يكاد يصدق، وذلك أن الشخص الواحد يكون شخصين متبايني الصفات والإدراك في وقتين مختلفين أمام ممتحنين في علمين، وهذا وإن كان وجد في قليل من الأشخاص. ولكنه مما يستدعي النظر والالتفات والبحث عن الأسباب، رأيت بنفسي أحد الطلبة يؤدي الامتحان الشفهي أمام الشيخ حمزة فتح الله؛ فإذا سأله عن تطبيق قاعدة، أو إعراب جملة، أو تعيين محل اسم من الإعراب، أو عن أصل الكلمة وما صارت إليه بعد القلب أو الإبدال، بحث عن الجواب في جوانب السماوات وشاسع الآفاق، فإذا نبه إلى أن الجواب قريب منه اعتراه ذهول، حتى صار لا يدرك البديهي من القول، ورأيته بعينه وهو أمام علي بك بهجت يؤدي الامتحان في تقويم البلدان، فوجدته رجلاً ثابت الجنان منطلق اللسان يعبر عما يريد بقوة، ولا يعتريه انزعاج. رأيت هذا في أكثر من واحد ومن اثنين، وإني أحقق بعد أن أطلت الأخذ والرد والبحث؛ أن هذا الداء كان متأصلاً في بعض أولئك الأشخاص من أصل التعليم؛ لأن قاعدته في الأزهر كثرة الاحتمالات في العبارة الواحدة، واستعمال المعلم للتشكيك والإكثار من الاعتراضات اللفظية، وقد تعودوا أن لا يعرضوا فكرهم على أحد سواهم، فإذا سئل هذا المتعلم على هذه الطريقة حار في أمره , فلا يدري أي الاحتمالات يذكر، وأيها يكون موافقًا لذوق السائل فيترك كما قدمناه. وأما العلوم الأخرى: فإنها خلو من هذه العلة الثقيلة؛ علة الاحتمالات والتشكيك، فإذا سئل فيها قال ما يعلمه منها جازمًا بما يقول والجزم في العلم هو قاعدة كل خير، وهو الأساس المتين في نجاح التعليم. ولا يقال: إن هذا الفرق بين هذا الطالب وهو أمام الشيخ حمزة وبينه وهو أمام بهجت بك جاء من عوارض أخرى مثل: وجود من يهابه زائدًا على من يمتحنه، فإنني كنت موجودًا مع هذا الطالب أمام الاثنين، وإذا قيل: إن الفرق جاء من كيفية توجيه الأسئلة، فإنني كنت أبسط السؤال له وهو عند الشيخ حمزة بطريقة هي غاية في السهولة والوضوح، وقد لاحظ حضرة الشيخ حمزة فتح الله هذا المعنى من بعض الطلبة، فأشار إليه في تقريره المقدم إليّ منه حيث قال: (ولذلك لا أجد بدًّا من سرد نموذج مما طغى به من كثير منهم بنانه وبيانه، ويراعه ولسانه، مما لا تعقل نسبته لأمثالهم إلا لفرط ذهول استحكم. فأما في الشفوي فكما سمعتم من البعض حتى عذرتموه بحصر الهيبة في معترك الامتحان؛ ولذا أقتصر على ما خطه بنانهم في الأوراق التي صححتها) . ظهر مما تقدم أن العيب في هذا الموضوع إنما هو في كيفية التعليم وفي بعض الكتب، لا في شخص المتعلم، والنظارة مسؤولة عن إصلاح هذا العيب. والطريقة التي أراها نافعة في هذا الباب هي انتقاء الطلاب حين الدخول انتقاء كاملاً في: نباهتهم ومعلوماتهم وسيرتهم، وليس من الضروري أن نتوسع في العدد فبدلاً عن أن نأخذ ستين منهم أربعون ناقصون، نأخذ عشرين كاملين إذا تخرجوا تخرجوا رجالاً ذوي قدرة على العمل، وقدوة للمتعلمين في كمال الأخلاق. أما إذا تخرج من الستين خمسون وكان منهم ثلاثون ناقصين، فقد أدخلنا في عداد المعلمين أشخاصًا غير صالحين، وكانت النتيجة مساواة الصالح بالطالح، والخلط بين الضار والنافع، وعندي أن يقال: إننا لا نخرج كل سنة إلا عشرين كاملين خير من أن يقال: إننا نخرج كل سنة طائفة كبيرة لا يمكنها في مجموعها القيام بوظيفتها حق القيام، على أنه قد مضى وقت الاحتياج إلى الإكثار من المعلمين بقطع النظر عن الكامل والناقص، وجاء الوقت الذي يجب فيه التقليل من المعلمين حتى نصادف الخيرين منهم. ويمكن أن تجمع النظارة لجنة؛ لتقرر مقدار الحاجة إلى المعلمين في كل سنة وتقرر بناء على ذلك انتقاء الطلبة وشروط الدخول، وأرى أن يكون في أول ما تنظر إليه اللجنة؛ أن الطالب لا يكون قد أمضى زمنًا طويلاً في الأزهر بين تلك الاحتمالات والشكوك [2] ، ولا بُدَّ حينئذ أي: إذا تقررت هذه القاعدة أن تطيل النظارة زمن وجودهم في المدرسة، حتى يتغير وضعهم بالمرة، ويسبكوا سبكًا جديدًا، فيكون المتخرج منهم مفكرًا مستنتجًا، تَرَبَّتْ فيه ملكةُ القيام بالنفس، فيمكنه العمل بما تعلم، وأن يفيد المتعلمين، ويبثَّ فيهم روحَ العلم الحقيقي وروح التربية الحقة، فإن الذي ينقص المعلمين اليوم هو التفكر والاستنتاج، فإذا أخذنا الطلبة من الآن فصاعدًا ممن لم يمضوا مدة طويلة في الأزهر، وعوضنا عليهم تلك المدة في المدرسة، وصلنا إلى نتيجة حسنة قطعًا، وتخرج من هذه المدرسة العدد المجيد لعمله وإن كان قليلاً، فهو خير من عدد كبير جله ممن لا يجيد العمل ولا يحسن التعليم. على ذكر هذا الذي تقدم أقول: إنني امتحنت طلاب السنة الرابعة من مدرسة الحقوق كما امتحنت مدرسة المعلمين، فإذا مدرسة الحقوق في موضوعها متقدمة وفي طلابها جرأة على القول أمام أي ممتحن، وبالطبع لم تكن لهم هذه الجرأة إلا من أصل التعليم، فلو أصلح التعليم في مدرسة المعلمين لوجد من خرجيها من يفوق متخرجي الحقوق؛ لأن في مدرسة المعلمين تتوفر العلوم العربية والمنطقية، وكلها مما يوجب القوة في الحجة، والطلاقة في اللسان، والتوسع في البيان. (د) لاحظت أن بعض العلوم كآداب اللغة والتاريخ تتفق فيها كتابات الطلبة عند الامتحان اتفاقًا يكاد يكون تامًا من كثير من الوجوه، فعلمت من ذلك أنهم لا يعتمدون على قوة الكتابة والإنشاء، ولو كانوا كذلك لاختلفت العبارات، فإن المنشئ يمكنه أن يعبر عما علم في موضوع واحد بعبارات مختلفة الأسلوب، وإن كانت متفقة الموضوع، وهذا العيب يكاد يكون عامًّا في المدارس التي امتحنتها، وإن اختلفت التلامذة في ذلك بعض الاختلاف، ولاحظت أيضًا في أمر التطبيق ما يصح أن ألفت النظارة إليه، ويقول حضرات الممتحنين كلهم في الاعتذار عن بعض النقص الذي يوجد فيه. إن علته إنما هي تضييق الزمن، وهذه تقاريرهم مجمعة على كثرة العلوم وقلة الزمان، وبعضها يشير إلى قلة الزمن المحدد للعلم بالنظر لموضوعه وفائدته كعلوم العربية وعلوم الشريعة التي هي المقصود الأصلي من تأسيس هذه المدرسة، وكأنهم يرمون إلى النظر في أمر البروجرام ولزوم تعديله على مقتضى وضع المدرسة وما يناسبها من العلوم. إني بما قدمته في فقرة (ج) من الكلام في أمر الانتقاء للدخول وشروطه، والأخذ ممن قلَّ زمنهم في الأزهر وتعويضهم زمنًا في المدرسة أستغني عن الذهاب مع حضرات الأساتذة الممتحنين إلى النظر في أمر البروجرام، فإنه بعد أن يتقرر الأمر على ما تقدم، يستغنى موقتًا عن التعديل فيه، ومع ذلك فلو رأت النظارة أن تنيط اللجنة التي تؤلف للغرض المتقدم بالنظر أيضًا في تحديد العلوم على الوجه المناسب لموضوع المدرسة، ومدة الدراسة، وعدد الدروس في كل علم وما يبقى من العلوم وما يحذف، لكان ذلك خيرًا ومفيدًا للعلم والتعليم. يدخل في باب التطبيق وجودته صناعة الإنشاء، وحيث إني كنت ممتحنًا فيه هذا العام أيضًا، فإني أقدم هذه الملاحظة بمثابة تقرير مني على إفراده في امتحان الإنشاء. رأيت السنة كلها وعدد طلابها (56) نفسًا، لم يجز ولا واحدًا منهم الدرجة العليا، ولم ينل القريب منها إلا عدد قليل. أما الباقون فمنهم كثير أخذ نصف الدرجات المقررة، وهذا فيه ما فيه على ما قلناه، ومنهم من زاد عليه زيادات تتردد بين (26) و (39) . وقد قال لي الشيخ أحمد السكندري مدرس هذا الفن (وهو الذي كان يقرأ لي ما كتبوه) : إن هذه الفرقة كلها كانت عندي في طول السنة متوسطة لا عالية، وقوله هذا هو قول العارف المم

رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين ـ 6

الكاتب: صالح بن علي اليافعي

_ رد الشبهات على النسخ وكون السنة من الدين لليافعي (6) بقية بحث أحاديث الآحاد وكونها من أصول الدين قال في الأحاديث ما خلاصته: إنه لا يبعد أن يكون بعضها موضوعًا، وإن ما غلب على الظن أن يكون له أصل صحيح، كان شريعة خاصة بأحوال خاصة وظروف مخصوصة في مبدأ الإسلام ... إلى قوله: وما جاء في القرآن هو الشرع العام لكل زمان ومكان؛ ولذلك لم يأت أمثال هذه المسائل الخاصة فيه، ثم قال: ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن تدوينها؛ كي لا تكون خالدة بينهم كالقرآن الشريف ... إلى قوله: لم يحسن المسلمون الجمع بين هذه الأحاديث وبين نصوص الكتاب العزيز. وأقول: إن ما كان موضوعًا، فقد بينه النقاد بُدور العلم ونجوم الهدى - رحمهم الله - ومن سلك الطرق المؤدية عرفه، والصحيح قد بينوه على اختلاف مراتبه وهو كثير، وشريعة الله ودينه هو ما في الكتاب والسنة والنبوية، والعجب أن الدكتور الفاضل قد ذكر في رسالته هذه أن في الكتاب كثيرًا من الأحكام الخاصة ثم هو ينكرها هاهنا، ونحن نعلم أن فيه: المخصوص والمقيد، والمجمل والمبين. والأحاديث وإن كان قد يوجد فيها بعض ذلك إلا أن ما فيها من ذلك هو أقل مما في القرآن، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تدوينها قد قدمنا الكلام عليه، والمسلمون قد أحسنوا التوفيق بين الأحاديث وآيات الكتاب، وما اعترض به حضرته قد عرفت الجواب عنه. أما قوله: وإني لأعجب من أهل الحديث، وقوله: فكأنه يجب على كل مسلم بمجرد ما يسمع أقوالاً منسوبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يفني حياته في معرفة أحوال رجالها، والوقوف على أمورهم ... إلى قوله: فأي حرج في الدين أكبر من هذا، وخصوصًا كلما طال العهد إلى آخره. وأقول: الأمر أيسر وأسهل مما ظن الفاضل، فالمتأهل للنظر قد سهل الله له الأمر بما قد صنفه العلماء من الأصول وما جمعوه من الصحاح التي قد هذبت، ونقيت، وقربت، واختصرت، على أن الجد والاجتهاد في تحصيلها هو من أفضل الطاعات وأولى ما أنفقت له نفائس الأوقات: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل: 96) فسد الزمان، وتركت الأديان، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلتكن منكم أمة يدعون إلى الخير. أما العوام فلا حرج عليهم ولا تضييق، وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) أي: اسألوهم عن دين الله لا عن آرائهم المخالفة له، فمن أجاب بغير ما شرعه الله أو بما يخالف ما شرعه فليس هو من أهل الذكر الذين أحال الله عباده إلى سؤالهم، بل هو من أهل الرأي المذموم، ولا ندري ما مراد الفاضل بهذا والله المستعان. قال حضرة الفاضل - حفظه الله - في الكلمة السابعة من رسالته: السنة في اللغة وفي اصطلاح السلف هي الخطة والطريقة المتبعة، إلى أن قال: وهناك فرق عظيم بين لفظ السنة ولفظ الأحاديث، ويجب على كل باحث أن يدرس هذا الفرق جيدًا، حتى لا يقع في الخلط والخبط، وقال: أما تسمية الأحاديث مطلقًا بالسنة فهي من اصطلاح المتأخرين، إلى أن قال: والسنة لا تكون إلا عملية. وأقول: إن الله قد أمر باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن الاتباع يدل على امتثال أمره فيما قال صلى الله عليه وسلم، ونحن لا ننكر أن الاتباع لغة يكون في الفعل أكثر منه القول. أما كون ذلك هو العرف الشرعي فلا نسلمه، وإذا كانت السنة هي الخلطة والطريقة كما قال حضرته فلا شك أن الخطة يكون أصلها القول، والطريق والطريقة والسبيل معناها واحد، وقد قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) والدعاء قول وقد سماه سبيلاً، والفاروق الخليفة الثاني - رضي الله عنه - قال: أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يردوها فاستبقوا الرأي، وفي رواية واستحوا حين يسألون أن يقولوا لا نعلم فعارضوا برأيهم فإياكم وإياهم، وفي رواية أخرى إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. قلت: وهذه الآثار سواء كانت موقوفة حقيقة، أو قد سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه - رضي الله عنه - قد سمى الأحاديث سننا، وبذلك يظهر أن تسمية الأحاديث سننًا ليس هو اصطلاح متأخر، وقد روي وصح عن غيره نحو ذلك، وهو كثير، على أنَّا نقول أيضًا: إن الله كما أمر باتباعه في سننه صلى الله عليه وسلم، كذلك قد أمر ورغب وأكد بطاعته، والطاعة إنما تكون في أمره القولي حقيقة، وقد ذكرنا ذلك وما يقاربه ويضارعه بما لا مزيد عليه في رسالتنا السابقة. قال: ولو كانت واجبة الاتباع لعلمها الناس جميعًا في عصره - صلى الله عليه وسلم - وجروا عليها في أعمالهم، وقال: وهذا أدل دليل على أنها لم تكن دينًا عامًّا لجميع البشر إلى آخره، وأقول: لا يلزم ذلك لأن جميعهم لم يعلموا القرآن أيضًا، ولم يجروا في فهمه على طريقة واحدة في كل مسألة مسألة وواقعة واقعة، وهذا الخليفة عمر - رضي الله عنه - من كبارهم، قد خفي عليه أمر الصداق وهو موجود في القرآن، فلما قرأت عليه المرأة قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} (النساء: 20) قال: (رجل أخطأ وامرأة أصابت) فاشتراط استوائهم في العلم والعمل، واتفاقهم على جميع الأحكام شرط لغو لم يقل به أحد من المسلمين كلهم، ولم يكن لحضرة الدكتور- حفظه الله - فيه سلف، لا في العمل، ولا العلم بالقرآن، ولا في السنة وإذا كان الأمر في القرآن كما عرفت، وقد امتاز بأنه كلام الرب بلفظه، وهم مأمورون بتبليغ لفظه للإعجاز ومتعبدون بتلاوته في الصلاة ونحوها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأه عليهم في الصلوات الجهرية ونحوها وهم كذلك، كل ذلك وهم لم يتفقوا على جميع أحكامه، ولا على العمل بجميعها كما عرفت، فكيف يصح أن يشترط ذلك في الحديث، وهو إنما هو في المرتبة الثانية؟ أفليس من الجائز أن يقول - صلى الله عليه وسلم - قولاً ويُحدّث بحديث أو يحكم بحكم فلا يسمعه ولا يحضره إلا بعضهم، فيخفى على الآخرين؟ على أن بعض الأحاديث قد عمل بها واتفق عليها أهل الحل والعقد منهم - رضي الله عنهم -، وقد حدثت أمور وقائع فرجعوا فيها إلى العمل بالحديث، وإذا صح عندهم الحديث فلم يكونوا يتأخرون عن العمل به، وأيضًا أقول بلا مجازفة: قَلَّ أن يوجد حديث يصلح للاحتجاج به إلا وقد عمل به منهم عدد، ومن لم يعمل به فنحن نعلم ونقطع بأنه لم يبلغه، أو لم يصح عنده، وذلك بديهي مدة عملهم فلا إيراد ولا شبهة، فيتأمل فيما قدمناه من الحجج والله أعلم. فالأحاديث الصحيحة قد جرى عليها العمل بلا انقطاع إلى يومنا هذا. أما الخلاف في الدلالات والترجيح وتقديم بعض الأدلة على بعض في موارد الخلاف والتعارض فهو واقع في القرآن والحديث، يعرف ذلك من اختبره، وعليه فلا يصلح ذلك دليلاً على أن الشرع موقت بزمان دون زمان، وحال دون حال. ونحن قد قلنا في رسالتنا السابقة: إن جميع الأحاديث المتفق على صحتها أو التي صححها أو احتج بها أهل الكتب المشهورة، قد تلقتها الأمة بالقبول فلا نعيد الكلام خوف الإطالة. قال الفاضل - حفظه الله - في الكلمة الثامنة من رسالته: (1) قال الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - ما معناه: إن الأحاديث الواردة في تفسير عبارات القرآن الشريف لا أصل لها، وأقول: أولاً: إن الدكتور الفاضل إذا أخذ هذه المقالة عن الإمام أحمد - رحمه الله -، وضم إليها أن جميع السنن لا تقبل ولا يجب العمل بها، فماذا يبقى بين أيدي المسلمين من بيان الدين ومجملات القرآن، وعليه فلا يبقى إلا العمل بالرأي، وقد عرفت ما فيه: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61) قلت: والذين عرفوا الإمام أحمد وأقواله، إنما حملوا قوله على أنه لم يصح عنده في ذلك شيء مرفوع؛ لأن عامة ما يروى إنما هي المراسيل، وقد قال غيره من الأئمة: إن حكم أكثر الموقوفات في ذلك الرفع، وعدم علمه لا ينفي أن يكون هناك شيء كثير مرفوع لم يبلغه، على أنه قد نقل عنه في الإتقان؛ أنه قال أي الإمام أحمد: بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبى طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا. وما قاله الإمام أحمد - رحمه الله - لا يفيد الدكتور الفاضل شيئًا، وفرق بين ما ذهب إليه الدكتور وما يدل عليه قول الإمام أحمد رحمه الله آمين، ولو أردنا أن نورد عن الإمام ما قال في وجوب اتباع الأحاديث لاستدعى ذلك مجلدًا كبيرًا، وكذلك الإمام الشافعي - رحمه الله -، كلاهما على نقيض مذهب الفاضل الدكتور، وقول الإمام الشافعي - رحمه الله - في النسخ إنما هو من نوع الكلام، فيما إذا تعارضت الأدلة ? أما ما نقل عن أهل الظاهر فليس كما قال، ولم نَرَ من نَقَلَ عنهم عدم وجوب العمل بها، كيف ومذهبهم إنما اشتهر بالعمل بالقرآن والحديث فقط؛ ولذا يقال لهم أهل الظاهر، إنما ينقل عن بعضهم أنه منع تخصص الكتاب بالكتاب وهو مبني على اصطلاح متأخر اعتمدوه، والحق خلافه. نعم؛ نقل عن إمامهم داود - رحمه الله - أن المتواتر من السنة يعارض الكتاب، ولا يخصص أحدهما الآخر؛ أي: فهو يتوقف حتى يعلم التاريخ، وحينئذ يكون ذلك عنده من مسائل النسخ لا التخصيص. وأما آحاد السنة الصحاح فلا نعرف لهم خلافًا منقولاً نقلاً موثقًا أنهم منعوا تخصيصها للقرآن. وبذلك تعرف أن قولهم إنما هو مخالف ومناقض لمذهب الأخ الفاضل الدكتور- حفظه الله. قال: قال جمهور الأصوليين: إنها ظنية، وأقول: قد قدمنا الكلام على ذلك وأن الحق غير ذلك، على أنهم مجمعون على وجوب اتباعها. قال: وقال جمهور المسلمين: إنه لا يجوز الأخذ بها في العقائد. وأقول: كونهم الجمهور غير مسلم. بل الجمهور من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا على خلاف ذلك، على أنه لا يجب أن نعتمد ونتدين بأقوال الرجال، إلا إذا وافقت الصواب من السنة والكتاب. قال: قال كثير من الأئمة كالقاضي عياض: إنه لا يجب الأخذ بها في المسائل الدنيوية المحضة، وأقول: قد سبقهم إلى ذلك سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - فيما صح عنه. لكنه لا يدل ما زعمه حضرة الفاضل ولا يؤيد مذهبه. قال: وقال جميع المحدثين: إن الموضوع منها كثير، وتمييزه عسير جدًّا، وفي بعض الأحوال مستحيل. قلت: أمّا أنَّ أحدًا منهم قال: إن تمييزه مستحيل فغير مُسلَّم. وأما الكثير فلا بأس وهم قد ميزوا ذلك وظهر أمر الله. وأما ما نقل عن الإمام أبي حنيفة فإن صح ذلك كان بحسب اطلاعه، لا إنه في نفس الأمر كذلك، وإمام الأحناف - رحمه الله - قد استفاض عنه وجوب تقديم الحديث الضعيف على الرأي، فهو وأتباعه الصادقون على نقيض ما يذهب إليه الفاضل الدكتور. وما نقل عن الإمام مالك - رحمه الله - فليس مما نحن بصدده، وإنما هو من باب ترجيح أحد الدليلين إذا تعارضا، وهو لا يدل على ما ذهب الفاضل الدكتور حتى ولا من باب الإشارة، ومذهب الإمام مالك - رحمه الله - معروف في إيجاب العمل بالأحاديث الصحاح. قال: أجمع المسلمون على عدم تكفير من أنكر أي حديث منها. قلت: إن من أنكر ذلك؛ لأنه لم يصح لديه فالأمر كذلك، ونحن نقول بذلك. وأمَّا مَنْ رَدَّ ما عَرَفَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله بلا مسوغ، فهو كافر

إيضاح وانتقاد

الكاتب: أحمد بدوي النقاش

_ إيضاح وانتقاد جاءتْنا هذه الرسالة من صاحب الإمضاء فننشرها ونجيب عنها وهي: العلاَّمة المفضال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر: (1- تحيةً وسلامًا) وبعد فيظهر أن المنار في جوابه على سؤالي الانتقادي المُدْرَجِ في صحيفة (189 ج3م 12) لم يتمكن من معرفة قصدي من الانتقاد أو السؤال، وأنا بغاية الإيجاز أعيد عليه تفصيل مقصدي وما أنتقده عليه. لا يخفى أن كل إنسان يهمه مستقبله، وإن شئت قل تهمه الآخرة أكثر من الدنيا، ولا يمكننا أن نجد واحدًا مهما كان دينه يقول: إنه يريد لنفسه الشقاء، إذا فهمنا هذا، فالأستاذ يعلم أن جمهور المسلمين ومنهم المرحوم ابن تيمية الذي تنطبق آراؤكم على آرائه، يقولون: إن الله تعالى قبل أن يوجد الخلق، قد قسَّمهم قسمين: فريق للجنة وفريق للسعير، وإن شئت قل فريق للهناء وفريق للشقاء.. أما هذه العلة المدهشة في مثل هذا التعميم فهي غير معلومة للمنار أو لابن تيمية الذي يقول: وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة نترك ذلك، ونؤمن معكم بهذا التقسيم الذي عمل قبل وجود الخلق مُؤَقَّتًا (وإن كنا نعتقد بفساده) ونتأمل لِما (?) يَتْبَعُ ذلك من النتائج في الحياة الحاضرة والعمل الإنساني.. هل الأسباب الدنيوية الموصلة إلى النتائج الأخروية تعتبر علة لهذه النتائج؟ أم النتائج الأخروية المقررة نفسها علة للأسباب الدنيوية؟ .. . أقصد إذا كان رجل كُتِبَتْ له السعادة في الآخرة عند الخالق.. هل يوفقه الله تعالى لأسباب السعادة في هذه الحياة حتى يُنيله في الآخرة، ما قد تخصص إليه (?) من قبل ليكون كما هو (?) سعيدًا؟ .. أما جواب ابن تيمية وإن شئت قل جوابكم أيضًا؛ إن العلة في أن يتوفق (?) لأسباب السعادة هو كونه مكتوبًا سعيدًا من قبل أي: إن النتيجة كانت علة للسبب وليس العكس كما يقول ابن تيمية: فمَن كان مِن أهل السعادة أثرت ... أوامره فيه بتيسير صنعة ومَن كان مِن أهل السعادة لم ينل ... بأمر ولا نهي بتقدير شقوة ومختصر المعنى أن المكتوب سعيدًا عند الله قبل أن يخلق يتأثر بطبيعته بأوامر الله فيتبعها؛ ليكون كما لابد أن يكون، والمكتوب من قبل للشقاء (?) لا تفيده المواعظ ولا الأوامر ولا النواهي، بل يسير بطبيعته إلى حيث يتوصل إلى قسمته القديمة أيضًا. إذا علم المنار كل ما تقدم ووافق عليه، فأنا من جهة أخرى أقول له: لا يهمني الآن فرقة القدرية ولا فرقة الجبرية الذين يقولون: إن الإنسان كالريشة في الهباء، كما أني لا أنكر أن القرآن الحكيم أمر بالعمل والنظر في الأسباب ونظام الكون ... إلخ. وكل الكلام الحلو الجميل الذي ذكره المنار في تفسير معنى القدر، وما ذكره في (8- حكم الإسلام في عمل الإنسان) مسلَّم به، بل القرآن ما هو أكثر وأحكم وأمتن. (2- العقيدة) العقيدة من حيث هي: إما تكون فاسدة فتضر، وإما أن تكون صحيحة فتنفع، والقرآن الحكيم أول الكتب السماوية الذي طلب تحكيم العقل في كل عقيدة وفند كثيرًا من المعتقدات الفاسدة. فكيف وإني أعتقد جازمًا أن تقسيم الخلق على الشكل السالف من أول العقائد الفاسدة، بل المضرة المهلكة أيضًا. ولا يخافن المنار من ادعائي هذا بلا برهان، فإني أجيبه عند السؤال بشرط أن لا أتعدى القرآن والعقل، فلنترك ذلك أيضًا مؤقتا. (3- اعتقاد المسلم في دينه) ماذا يعتقد المسلم في دينه؛ من حيث كونه مسلمًا آمن بالله وحده وباليوم الآخر؟ لا شك أنه أفضل الأديان، بل أيّد القرآن أنَّ مَن لم يكن في بواطنه (?) مخلصًا وخارجًا عن مبادئ الإسلام كانت له النار حتمًا كالآية: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) فضِفْ اعتقاد المسلم هذا؛ بأن له الجنة وحده وأن غيره له النار للأسباب المتقدمة إلى الاعتقاد السالف؛ بأن الله تعالى قسم الناس قسمين: قسم للجنة وقسم للنار بلا علة تجد منها (?) إن المسلم هو الوحيد الذي كتب الله له الجنة من الأزل وغيره له النار من الأزل. وإن المسلم موفَّق من الله بأعماله إلى السنن التي تؤول به إلى الجنة وغيره إلى السنن التي تؤدي إلى ضدها أو إلى الشقاء. (4-الكلام بحسب الواقع) إن بكلامي هذا للمنار أتكلم بالأغلبية العظمى (؟ ؟) الظاهرة عند المسلمين وما عليه إجماع حال الأمة الباطني الحقيقي. فإن المتنورين النوادر الذين يمكنهم أن يُحَوِّلُوا المعاني بسحر بيانهم وقوة عارضتهم لتحليل (؟) أي فرض عسر حله؛ مثل صاحب المنار هم قليلون، وقد تواجد (؟) مثل الشيخ محمد عبده (رحمه الله) وصاحب المنار مثل الغزالي وابن خلدون، ممن ملؤوا الدنيا بفصاحتهم وقوة بيانهم ما لا يُطلب بعده المزيد. ولكن كل ذلك ما كان يفيد تقريبًا، ولا قدم شيئًا للأمة محسوسًا ولا وضع الأمة في صفها الحقيقي كما طلب الغزالي ويطلب صاحب المنار، ولم تزل ساقطة كما كانت تقريبا (؟) لو أردنا أن نعمل بينها وبين غيرها نسبة؛ وغرضي أن تتوصلوا لتأصل هذا الداء الذي هو أصل البلاء، حتى يكون إصلاحكم المنشود للأمة فعَّال مؤثر؟ لا يزول، وليس كمَن يكتب على الماء، لماذا؟ لأنه إذا كانت الغاية النهائية التي يطلبها الإنسان والتي هي نهاية آماله ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل. فالواسطة إن حسنت أو ساءت لا تهم كثيرًا، ما دامت الغاية الأبدية المُعَوَّلُ عليها مقررة ومعلومة. (5- مثال عن حال تقسيم الناس في اعتقاد أغلب المسلمين) اسمع مني تكرمًا يا صاحب المنار مثلا: رجلان وقفا أمام إدارة المنار أحدهما يسمى مسلمًا والثاني غير مسلم، والأول أعلن؟ من إدارة المنار أنها ستحمله إلى حديقة الأزبكية ليتمتع بما فيها من الجنات والمسرات، والثاني أعلنته أنه سيكون خارجها محرومًا من كل شيء. ولكن أخبرتهما معًا في آن واحد أن الطريق ما بين إدارة المنار والحديقة مملوء بأنواع المسرات، وهو لهما معًا، فمَن سار بقدميه وتأمل بعقله ولسنن الكون والنظاميات الإلهية إلى ما في الطريق (؟) تمتع وتنعم أيُّ تَنَعُّمٍ، ومن وقف منتظرًا مركبة المنار فليس له شيء مما في الطريق مطلقًا، ولا يجد في المركبة غير الحرمان.. غير أنه على كل حال سيصل إلى مركزه المعين. الأول سيكون داخل الحديقة والثاني خارجها، بلا سبب وبلا جواب، إن سأل. أفتكر أن المنار عَرِفَ مقصدي من هذا المثال؛ فداخل الحديقة التي عُدَّتْ (؟) للمسلم هي الجنة، وخارجها لغير المسلم هي النار. والطريق الموصل إلى الطرفين مشترك بين الاثنين ولهما معًا؛ هي الحياة الدنيا الموجود فيها المسلم، وبها معترك الحياة بين الجميع. (6- المسلمون في تمدنهم وانحطاطهم) سار بعض الأمم الإسلامية في الطريق على السنن الطبيعية من غير أن ينتظروا مركبة الآخرة؛ ليحملوا عليها إلى مقرهم، فتحصلوا على كل شيء في الطريق، ونالوا كل شيء بكدهم وعملهم كما كان الأمر في صدر الإسلام، فتقدمت الأمم الإسلامية وسادت في الأرض، فكانت سعيدة وسيدة في الدنيا غير سعادتها المضمونة لها في الآخرة حسب اعتقادها، ثم جاء قوم مسلمون آخرون منهم وقالوا: ما لنا وَلِكَدِّ الحياة، بل ما لنا ولهذا المتاع الفاني، فلنتزهد ونتقشف في الحياة، ولا نبحث على أكثر من قوت يومنا، فإن يقين الإيمان بالآخرة ودوام التعبد كاف؛ لسعادة الروح بحسن المآل (ولا شك أن العقل الذي يجعل أساس السعادة بالعقيدة من السهل عليه تجويز هذا الوهم) ولقد تتابع التقاعد وعدم الاهتمام للحياة بين الأمم الإسلامية، حتى لو سألت بعض المتفقهين الذين تغلب أفكارهم بين أكثر الناس عن أفكار مثل صاحب المنار النيرة، عن سبب تقدم الأمم الغير إسلامية الحالي والماضي. أجابوك: هؤلاء لهم الدنيا ولَهْوُهَا وزينتها، والعبرة بالأواخر والحياة الأبدية، ولقالوا لك في آن واحد: إذا كانت توجد آيات قرآنية تدل على لزوم الأخذ بالأسباب، والتأمل للنتائج الطبيعية العالمية والسنن الإلهية، فإن كثيرًا من الآيات ما يدل على التقشف وترك الدنيا، وإن كان صاحب المنار له في ذلك تأويلاً لا يهمهم سماعه؛ لوجود عقيدة التقسيم المذكورة أو ما يسمونه (بالقسمة) . ومن جهة أخرى إذا تأملنا لعلل تأخر المسلمين الدنيوي وانحطاطهم، نجد أن الأسباب التي ارتكنوا عليها في طبيعتها فاسدة؛ ولذا كان الانحطاط ملازمًا لها. ولكن العقل المُؤَسَّسَ على العقيدة والمؤيد حتمًا لضرورة (وجود الأسباب الدنيوية للعلة الأخروية) يحتم بوقوع تلك الأسباب قبل وجودها؛ لوجوب نتائجها ولزوم وقوعها أيضًا.. فكان كلامي (في صحيفة 191 ج 3 م 12) عن العقل المُؤَسَّسِ على العقيدة ما يأتي: (وما دامت الأسباب التي هي حجة للنتائج (؟) مقدرة حتمية فالنتائج (أي الدنيوية خلاف الأخروية أيضًا) بالطبع تابعة لهذا الإلزام (؟) وعليه فالتقاضي والحساب في الآخرة؛ ليس إلا لتتميم رواية كلامية.. وإذا كان هذا مبدأ المنار، فلا يلومن الأمم الإسلامية الماضية، وما كانت فيه من الاضمحلال، ولا داعي لاستخراج (؟) نتائج فلسفية أو عمرانية للزوم الأخذ بأسباب الترقي والهرب من القديم، ولا عيب على حكومات الاستبداد.. ولا مانع من البقاء في الجهل إلخ إذ إن الداعين للزوم تغيير المناهج؛ لتتغير معها النتائج ليسوا إلا معترفين بلزوم التسلط، وتحوير القدر الإلهي القابض على الأسباب (حسب وهمهم) بيد من حديد (وهناك إذا اعترفوا بذلك، كانت العقيدة في التقسيم المذكور فاسدة ولا أصل لها) ويكون الحكم العقلي على كل ما يحدث جائزًا فقط، بحيث يمكن وقوع غيره بأسباب أخرى، ولا يكون حتمًا مع الأسباب المذكورة التي وقع بها. (7-انتقاد المنار لكلامي) لمَّا أراد المنار أن ينتقد بعض كلامي المُدْرَج في السؤال، وجدت أنه لم يُصِبِ الغَرَضَ الذي أرمي إليه، من حيث كون القرآن أو العقل والعلم يُجَوِّزُ إمكان عدم وقوع حادث وقع فعلاً أم لا.. أما أنا فقلت بالجواز وأقول به أيضًا. أما المنار فأجاب عن وقوع الفعل من حيث كونه وقع فعلاً فقط ولم يَزِد، فترى في أول صحيفة (192 ج 3 م 12) (أما قولكم في مسألة إصابة ولي عهد ألمانيا بذلك المرض: لم تكن محتمة له من الأزل ... ) إلخ قول ظاهر البطلان؛ لأن قضية مرضه جهتها الإطلاق لوقوعها بالفعل، والإمكان لا يناقض الإطلاق، وبعبارة عامية: إنه كان لابد من مرضه بدليل وقوعه؛ وليكن ذلك لجهله بأسباب المرض ... هذا ما قاله المنار، والحقيقة إني لم أقصد المسألة بذاتها من حيث كونها مطلقةً ووقعت فعلاً، بل من حيث حكم العقل والقرآن والسنن الطبيعية في كل ما يحدث، وذلك مثلما يقال: فلان سرق قرطًا من الذهب، وجازته الحكومة لجنايته.... هل كان يمكنه أن لا يسرق قبل أن تقع منه السرقة فعلاً. أما جوابي وجواب العلم والقرآن، فنعم.. كان يمكنه أن لا يسرق، وكان في الإمكان تبعًا لذلك عدم مجازاته. أما جواب المنار السالف في مسألة ولي العهد أشبه بقوله.. نعم ما دامت وقعت السرقة فهو لا بد أن يسرق، ولا بد أن يقع الجزاء، وهذا لا يعد جوابًا عن المقصود مع أن ما جاوب به المنار لم ننكره، بل أيدناه في نفس السؤال؛ لأنه مفهوم وبديهي لا يحتاج لأن يقول عنه المنار.. ظاهر البطلان. إذ قلنا كما قال المنار في (صحيفة 190 سطر 19) . ولكن مسألة إصابة ولي العهد بالمرض تخصصت له من الله تعالى؛ بسبب جهله لتلك الأسباب ليس إلا، وهي نفس الجملة التي قالها المن

خطبة في عيد الدستور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة في عيد الدستور تلاها في الاحتفال العام بطرابلس الشام الشيخ إسماعيل أفندي الحافظ الشهير لم يمر على الأمة العثمانية يوم هو أوفر جمالاً، وأكثر إقبالاً، من مثل هذا اليوم المجيد الذي أشرقت فيه كواكب سعدها، في أفق مجدها، باهرة الأضواء، ساطعة اللأَلاء. في مثل هذا اليوم هبت نسمة قدسية، من أفق العناية الإلهية، ترنحت لها أعطاف أبطال الحرية، من جمعية الاتحاد والترقي الفادية المفدية، فنهضوا لاسترداد المفقود، وإصلاح الموجود، بقلوب تمثل أقصى مراتب الحمية الملية، وعزائم تناهض الدهر حزمًا، وتغالب الأيام ثباتًا، فأنقذوا الأمة من براثن الظلم، ووضعوا عنها أغلال الغلبة والقهر، وأطلقوا العقول من قيودها، ونشروا الأفكار من لحودها. في مثل هذا اليوم شعر العثماني أنه عضو عامل في أمة حية، يسعد بسعادتها ويشقى بشقائها، فهب من سبات غفلته، وشمر يدأب في مصلحة أمته، فرأى أن لا سبيل إلى سعادته إلا بالاتحاد، وأن لا تحقق للاتحاد إلا بالإخاء والمساواة، فتآخت ملل الأمة وأديانها، وتساوت شعوبها وعناصرها، وتضامت أجزاؤها، وتماسكت أعضاؤها، وأقبل المسلم يعانق المسيحي، واليهودي يصافح الأرمني، والتركي يفدي أخاه العربي بنفسه، والكردي يدافع عن الألباني بمهجته، والكل موقن أن لا غنى له عن الآخر في حياته الاجتماعية، وسعادته القومية، في شكل يسحر الألباب بهاؤه، ويأخذ بالقلوب بهجة ورواؤه. في مثل هذا اليوم؛ تفجرت ينابيع حياة الأمة، فسرت في أجزائها المفرقة، ودبت في أعضائها الممزقة، فاتحدت أفرادها، وتوحدت أعدادها، وصدرت عنها أعمالها بإرادتها الكلية، وحركتها الاختيارية، فتوجهت متحدة نحو سعادتها الحقيقية متملصة من ظلام الباطل إلى نور الحق، ناهضة من حضيض التأخر إلى يفاع الترقي، معلنة بأطيب ألحان الحرية آيات العدل والإنسانية، تحت لواء الإخاء والمساواة. في مثل هذا اليوم أُعْلِنَ القانون الأساسي، فقضى للأمة بنيل حريتها، ووهبها نعمة الاستقلال، وخوَّل لأفرادها أن يكون لهم رأي مقبول في إدارة شؤون مجموعها، وهى نعمة تعد أساسًا مكينًا لسعادة مستقبلها، ورقي حقيقي تنهض إليه فتنال ما قدر لها من الكمال، وما استعدت له بفطرتها من مظاهر الإقبال. نعمة دلنا الاستقراء وعلمنا التاريخ أن الأمم التي تكون محرومة منها لا يكون لها اجتماع حقيقي ولا سعادة صحيحة، وإن ظفرت باليسير من ذلك فما هو إلا صورة خيالية تظهر بمظاهر وهمية؛ لأسباب توجدها المصادفة والاتفاق، ثم لا تلبث أن تذهب بذهاب أسبابها، شأن الحوادث الناشئة عن أسباب مؤقتة. نعمة قَيَّضها الله لبعض الأمم، فنالت بها من العز والمنعة والمجد والعظمة ما نشاهد آثاره ونسمع أخباره، وحرمها بعضها فبقيت راسفة في قيود الجهل تائهة في بيداء الغباوة لا يرعى لها جانب ولا يحفظ لها حق، فلا غَرْوَ أن تحتفل جميع الأمة العثمانية بيومها السعيد احتفالاً يتجلى في أبهج مظاهر الزينة، وأهنأ مجالي الفرح، ولا غَرْوَ أن تشرئب العقول؛ لتعرف معنى هذه النعمة ونسبتها إلى الهيئة الاجتماعية: اختلف فيها أنظار الباحثين، وتنوعت منازع الناظرين، فذهب بعضهم إلى أن حرية الأمة أو حكم نفسها بنفسها ليس هو حقًّا طبيعيًّا لها، بل هو حالة اجتماعية يقتضيها طور من أطوار الأمة، وينبذها طور آخر، وإن الأمم لا تستحقها إلا إذا بلغت مرتبة مخصوصة من مراتب الاجتماع، وإنها قبل أن تصل في اجتماعها إلى هذه المرتبة، فلا حق لها بنيل حريتها ولا بالمطالبة بها، كما أنه ليس لحكامها أن يفوضوا لها شيئًا من شؤون نفسها؛ خشية أن تتصرف تصرفًا يفسد حالها، ويوجب طرؤ الخلل في إدارتها. وزعموا أن حالة الأمة إذ ذاك كحالة الصبي قبل بلوغه، فإنه لا يجوز في نظر العقل السليم أن يطلق له التصرف في شؤون نفسه؛ لئلا يفسد عليه أمره ويضطرب حاله، وإن ما هو للشيء بطبعه لا يتخلف عن ماهيته، مع أن كثيرًا من الجمعيات البشرية عاشت أزمانًا متطاولة وهي مملوك عليها أمرها، مستبد عليها في شئونها، فكيف يكون حكم الأمة نفسها بنفسها حقًّا من حقوقها الطبيعية، ومميزًا من مميزاتها الفطرية. وذهب أهل البصيرة منهم إلى أن حكم الأمة نفسها بنفسها حق طبيعي، ثبت لها يوم صح أن يطلق عليها لفظ أمة، فهو وصف لازم لذاتها غير منفك عن ماهيتها، وإن من عمد إلى سلبها هذا الحق فردًا كان أو جملة، فهو كمن عمد إلى سلب إنسان حقه في استنشاق الهواء وتناول الغذاء، أو كمن قيد إنسانًا عن حركته الطبيعية التي يهم بها بإرادته ويباشرها بقدرته. واستدلوا على ذلك بأن العقول السليمة متفقة على أن كل فرد من بني الإنسان هو بحسب فطرته حر مستقل في: حركته وسكونه وإقدامه وإحجامه وأخذه وتركه، وإن الشرائع السماوية والقوانين الوضعية قد حكمت؛ بأن له حقًا طبيعيًا في أن يتصرف بشؤون نفسه، كيفما شاءت إرادته ومال إليه اختياره، وإن الباحثين في تعريف ماهيات الأشياء وتحديد طبائعها قد عرَّفوا الإنسان؛ بأنه الحيوان الناطق بطبعه المتحرك بإرادته. وإن الأمة لما كانت عبارة عن جملة أفراد مجتمعة بروابط من المصالح المشتركة والصفات الشاملة، فقد وجب أن يثبت لمجموعهم من الحق ما ثبت للفرد الواحد منهم. إذا كان العدوان على حرية شخص واحد يعد شذوذًا عن قواعد العدل، وفسوقًا عن أوامر الله، وخروجًا عن حدود الإنسانية، وهو لم يتعد أن أضر فردًا بعينه، لا تتوقف عليه سعادة ولا يناط به شقاء، فما بال العدوان على حرية أمة كبيرة؛ قد تكون مؤلفة من ملايين من مثل ذلك الفرد لا يعد شذوذًا عن منهج العدل؟ بل كيف يعد ذلك من نتائج الصواب، وحكمة أولى الألباب، لعمري ليس هذا المذهب إلا من وساوس المستبدين الذين لا يروق لهم إلا الأثرة بحقوق الضعفاء، والتلاعب بعقول الأغبياء، وإن الحكم على أمة مجتمعة بأنها غير جديرة أن تحكم نفسها بنفسها؛ لأبعد عن الصواب من الحكم على الرجل العاقل أنه غير أهل للتصرف بشئونه الخصوصية. هل يبلغ الجهل والقصور بمجموع يستقل أفراده بشؤون أنفسهم أن يعجزوا جميعًا عن تدبر شؤون مجتمعهم؟ إن حد التمييز والرشد في الأمة هو أن تكون بحيث يتهيأ لها الاجتماع بأبسط معانيه، فإنها متى بلغت هذه المرتبة، حكم لها بأنها بالغة رشدها قادرة على إدارة نفسها، وكل جمعية بشرية فهي بالغة هذه المنزلة لا محالة؛ ضرورة أن الإنسان خلق على أن يعيش مجتمعًا، فهو لا ينفك عن الاجتماع، والأمة المجتمعة لا تنفك أن تكون مستحقة للاستقلال بطبعها، وإنما تحول دون ذلك أطماع المستبدين أحيانًا فإذا اتفق لأمة أن صرفت همة المستبدين من رجالها عن العبث باستقلالها، فقد قضي لها أن تباشر السير إلى كمالها. لا يشترط في نيل الأمة حريتها واستحقاقها لذلك بطبعها أن تبلغ في اجتماعها مبلغ الأمم الراقية، كما لا يشترط في بلوغ الرجل رشده أن يكون كأصوب الرجال رأيًا وأكملهم رشدًا؛ لأن الرقي والرشد يقالان بالتشكيك، فيكونان في بعض الأشخاص وفي بعض الأمم أرقى منهما في غيرهما، ولا يوجب ذلك نقصًا بالمقصر عن درجة المتقدم يؤدي إلى حرمانه من حقوقه الطبيعية. إذا نالت الأمة حقها في حكم نفسها انفسح لأفرادها مسرح الفكر، واتَّسع لهم مجال العمل، ودَبَّتْ فيهم حياة جديدة شعروا بها أن لإرادتهم وميولهم تأثيرًا في رقي مجتمعهم، فترفَّعت بذلك نفوسهم عن الدنايا، ونهضت إلى معالي الأمور، وانصرفت من هنا إلى الشعور بأن الفوز بالمصلحة الخاصة متوقف على تأييد المصلحة العامة، فاندفعوا بسائق محبة الذات إلى التماس مصلحة أفرادهم في ضمن مصلحة مجموعهم. ومن ثَمَّ تخرج العقول من مضايق أشخاصها إلى متسع الأمة، وتنصرف الأفكار عن البحث في الكليات، فتتمرن على الاستنتاج الصحيح من المقدمات اليقينية، فتستقيم الأفكار وتصان الأعمال عن الخلل. ويتبع ذلك صحة في العزائم، ونهوض في الهمم، ومسابقة إلى الأعمال الشريفة، وتنافس في إصابة المفيد منها للأمة. هكذا يتسنى للأمم أن ترتقي في مدارج اجتماعها مبتدئة بالفكر الصحيح، ومتنقلة من ذلك إلى الصالح لها الموافق لمصلحتها، ثم تتدرج من هناك في مراتب الكمال مرتبة بعد مرتبة! ومن أين للأمم التي ليس لها حظ من الحرية أن تنال هذه المزية؟ إذا تقرر هذا، علم أن نيل هيئة اجتماعية لحريتها يعد مهيأ لرقيها ومقدمة لتقدمها، أو مرتبة أَوْلى من مراتب كمالها، فإذا توقف نيل حريتها على بلوغها مرتبة القدرة التامة على إرادة شؤونها، فقد كلفناها أن تأتي النهاية في البداية، وتصل في مبدأ سيرها إلى الغاية، وهو باطل في نظر العقل، ومحال بحكم الواقع. (يرد هنا نبوغ الأمة الإسلامية بعد الخلفاء الراشدين إلى زمن المعتصم، ورقيها وفيها من المستبدين مثل يزيد وعبد الملك والمنصور والرشيد، ونبوغها أيضًا في دولة بني عثمان من زمن مؤسسها إلى زمن السلطان سليمان القانوني والجواب عن هذه يستغرق بحثا طويلاً لا يتسع الوقت له الآن، فنرجئه لفرصة أخرى) . ومهما يكن الأمر، فلا مراء في أن حرية الأمة هي مبدأ حياتها الاجتماعية، وأن الناهضين في كل أمة لإيصالها إلى هذا الحق هم صفوة رجالها، والنوادر من أبطالها، بل هم القبيل الذين رآهم الأقدمون فحسبوا أنهم ممتارون عن البشر، فأقاموا لهم التماثيل وشيدوا لهم الهياكل، وأفردوهم بالعظمة والكرامة، حتى وضعوهم بمصاف الألهة، فلا عجب أن تحتفل الأمة العثمانية اليوم بنيل حريتها، وتترنم بآيات الثناء لأولئك الأبطال العظام من جمعية الاتحاد والترقي، فلتحيا الجمعية، فليحيا السلطان الدستوري، فليحيا المنقذ الثاني للوطن محمود شوكت باشا، فليحيا الجيش المظفر.

عيد الدستور بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عيد الدستور بمصر أنشدنا محمد حافظ أفندي إبراهيم لنفسه في ليلة الاحتفال بهذا الموسم في حديقة الأزبكية بمصر هذه القصيدة: أجل هذه أعلامه ومواكبه ... هنيئًا لهم فليسحب الذيل ساحبه هنيئًا لهم فالكون في يوم عيدهم ... مشارقه وضاءةٌ ومغاربه رعى الله شعبًا جمع العدل شمله ... وتمت على عهد الرشاد رغائبه تحالف في ظل الهلال إمامه ... وحاخامه بعد الخلاف وراهبه خذوا بيد الإصلاح والأمر مقبل ... فإني أرى الإصلاح قد طرَّ شاربه وردوا على الملك الشباب الذي ذوى ... فإني رأيت الملك شابت ذوائبه فمن يطلب الدستور بالسوء بعد ما ... حمته يد الفاروقي فالله طالبه إذا شوكت الفاروق قام مناديًا ... إلى الحق لباه نيازي وصاحبه ثلاثة آساد يجانبها الردى ... وإن هي لاقاها الردى لا تجانبه يصارعها صرف المنون فتلتقي ... مخالبها فيه وتنبو مخالبه روت قول بشار فثارت وأقسمت ... وقامت إلى عبد الحميد تحاسبه (إذا الملك الجبار صعَّر خدّه ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه) وسار على أعقابها كل سابح ... على متنه برج مشيد يداعبه يصيح به (لا ريّ) أو نبلغ المنى ... و (لا شبع) أو يرجع الحق غاصبه هنالك فانهل واتخذ ثم مربطًا ... بيلدز واحمد في الوغى مَن تصاحبه رجال من الإيمان ملأ نفوسهم ... وجيش من الأتراك ظمأى قواضبه صوالجه سمر القنا وكراته ... رؤوس الأعادي والحصون ملاعبه إذا ثار دكت أجبل وتخشعت ... بحار وأمضى الله ما هو كاتبه وثلت عروش واستقرت ممالك ... ولو أن ذا القرنين فيها يناصبه فمن لم يشاهد يلدزًا بعد ربها ... وقد زال عنه الملك واندك جانبه وأسلمه أحبابه لقضاته ... وفر لم يخش المعرة كاتبه وقلمت الأقدار أظفار بطشه ... ودل على ما تجهل الجن حاجبه فما شهد الدنيا تزول ولا رأى ... بلاء قضاء الله في مَن يحاربه أبيح حماها وانطوى مجد ربها ... وقامت على البيت الحميد نوادبه ولم يغن عن عبد الحميد دهاؤه ... ولا عصت عبد الحميد تجاربه ولم يحمه حصن ولم ترم دونه ... دنانيره والأمر بالأمر حاز به ولم يخفه عن أعين الحق مخدع ... ولا نفق في الأرض جم مسار به أقام عليه مهلكًا عند مهلك ... يمر به روح الصبا فيوائبه تحاماه حتى الوهم خوف اغتياله ... فلو مسه طيف لدارت لوالبه وأسرف في حب الحياة فحاطها ... بسور من الأهوال لم ينج راكبه ففي كل قفل للمنية مكمن ... وفي كل مفتاح قضاء يراقبه وفي كل ركن صورة لو تكلمت ... لما شك في عبد الحميد مخاطبه تماثيل إيهام أنيمت وأقعدت ... تراءى بها أعطافه ومناكبه تمثله في نومه وجلوسه ... وتخدع فيه الموت حين يقاربه أقام عليه ألف موت محجب ... ليغلب موتًا واحدًا عز غالبه سلوه أأغنت عنه في يوم خلعه ... عجائبه أو أحرزته غرائبه وقد نزل المقدار بالأمر صادعا ... وضاقت على شيخ الملوك مذاهبه وأخرجه من يلدز رب يلدز ... وجرده من سيف عثمان واهبه وأصبح في منفاه والجيش دونه ... يغالب ذكرى ملكه وتغالبه يناديه صوت الحق ذق ما أذقتهم ... فكل امرئ رهن بما هو كاسبه هم منحوك اليوم ما أنت مشتهٍ ... فرد لهم ما أنت بالأمس سالبه ودع عنك ما أملت إن كنت حازمًا ... فلم يبق للآمال فضل تجاذبه مضى عهد الاستبداد واندك صرحه ... وولت أفاعيه وماتت عقاربه لك الله يا تموز إنك بلسم ... لجرحى الأسى والدهر تعدو نوائبه فكم رعت جبارًا وأرهقت ظالمًا ... وأنصفت مظلومًا توالت مصائبه فديناك من شهر أغرَّ محجل ... أوائله ميمونة وعواقبه تقابله الأعياد في الأرض كلما ... تجلى هلال الشهر أو لاح حاجبه ففي الغرب عيد ينظم الغرب حسنه ... فتهتز من وقع السرور جوانبه وفي الشرق عيد لم ير الشرق مثله ... تدفق في دار السلاح مواكبه يطفون بالعرش الكريم وربه ... تطيف بهم آلاؤه ومناقبه لتهنئ أمير المؤمنين محمدًا ... خلافته فالعرش سعد كواكبه ستملك أمواج البحار سفينة ... كما ملكت شم الجبال كتائبه ممالكه محروسة وثغوره ... ركائبه منصورة ومراكبه وأرسل إلينا إسماعيل بك عاصم المحامي المصري هذه القصيدة من الآستانة: عيد عز الدستور بالأمن أسفر ... نوره الأنام الله أكبر آل عثمان هاكم اليوم يوم ... هلل القلب فيه بشرًا وكبر يوم عيد الحرية التي كم بتـ ... ـنا زمانًا لبعدها نتحسر كل حرية بغير حماة ... لا يراعى زمامها من تجبر ولهذا جاء الرشاد ليحميـ ... ـها فكانت لعصره خير مظهر يا أميرًا للمؤمنين وسلطا ... ن جميع الشعوب لا فرق يذكر كل هذي الأقوام ترجوك في تعويض ... ما فات أنت بالعدل أقدر أنت أدرى يا صاحب الملك بالما ... ضي فأدرك بحزمك الملك تشكر يا رجال الوزارة الصيد هذا الـ ... ـوقت في هوله كيوم المحشر دققوا في الحساب بالقسط ترتا ... ح البرايا فطالما الظلم كدر فالمليك المحبوب رأس وأنتم ... منه أعضاؤه به تتأثر والكرام النواب أوردة الجسـ ... ـم وماء الحياة منها تفجر آل عثمان إن سلطاننا أعـ ... ـظم ملك بنوره نتبصر هو حامي الدستور حامي الرعايا ... حافظ العهد للعدالة أظهر فتفانوا في حبه فهو بالإخـ ... ـلاص منا وبالمحبة أجدر أيها النائبون عن هذه الأمة ... أنتم لها العماد الأكبر أنتم عارفو البلاد وحاجا ... ت الأهالي وما به تتعمر أعين الناس نحوكم ناظرات ... فاظهروا للورى بأشرف منظر لا نريد استرداد ما راح لكن ... حفظ ما عندنا فلا نتقهقر ثلث قرن مضى ونحن من الإر ... هاق كانت أعصابنا تتخدر ثلث قرن ونحن في ظالمات ... بعضها فوق بعضها تتكرر فجلا تلكم الدياجي نور ... من سنا قادة الجيش مظفر أنقذونا وكاد الروح تدنو ... للتراقي وصائح الموت زمجر فسجدنا لربنا وشكرنا ... هؤلاء الأبطال والحر يشكر يا ليوث الوغى ويا خير من أحـ ... ـيا نفوساً كادت من الظلم تقبر يا أسود الشرى ويا خير من قوَّ ... م ملكا قد كاد أن يتدمر قد جلوتم لنا عروسًا تجلت ... تتجلى بدر السماء وأزهر وهي حرية أضأت ودستو ... ر بحفظ الحقوق في الملك بشر فعليك السلام يا شوكت ... منا تليه تحية تتعطر أنت أدركت ذي الخيانة فانقضـ ... ـيت حتى ظفرت والملك عمر وعلى الفرقدين أزكى سلام ... بطلي تركيا نيازي وأنور لا تقولوا قد راح مدحت عنا ... كلكم مدحت إذا ما تدبر فاتركوا ما مضى وجدوا لما يأ ... تي بحزم النهى وعزم الغضنفر واستعينوا بالحق دومًا ومبعو ... ثانكم فالنجاح في ذاك أكثر خير ما ينفع الشعوب ثبات ... واتحاد بعزمه تتحرَّر فهنيأ يا آل عثمان هذا ... يوم عيد للناس عيد مكبر دام سلطاننا ونوابنا والجيش ... والشعب في الهناء الأوفر هذه غادة من النيل وافت ... بسناها ودلها تتبختر غادة زانها حلي المعاني ... ومن اللفظ عقد در وجوهر أقبلت في بشائر أرختها ... عيد عز الدستور بالأمن أسفر سنة 1327 ... ... ... ... ... 84 77 701 124 341 * * * ضاق هذا الجزء عن باب الفتاوى وفيه بيان معنى كون الدستور موافقًا للشرع وغير ذلك من المسائل فأرجأناه إلى الجزء الآتي.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الهرج والقتل في أطنه) أشرنا في آخر الجزء الثالث إلى هذه الحوادث وكانت في بدايتها، وقلنا: إنه لا ثقة بأخبار شركة روتر أن الترك هنالك تصدوا لذبح الأرمن عدوانًا، ثم إن الجرائد في الآستانة وسورية ومصر، جاءت بتفصيل لتلك الحوادث، جاء في بعضها أن الأرمن كانت هي المضرمة لنار الفتنة وأن مبدأ ذلك تمثيل الأرمن لقصة سياسية في أدنه، يصفون فيها ظلم الترك لهم، وقيام ملك منهم ينقذهم من ظلمهم ويقيم لهم دولة جديدة. ثم إنهم لم يكتفوا بهذا، بل طفقوا يستحضرون السلاح الجديد، فتنكر لهم المسلمون إلى أن انفجر البركان، وفاض الطوفان، واقتتل الفريقان، وروي أن أول واقعة من وقائع الاعتداء كانت من الأرمن. ومن الناس من لا يصدق هذه الروايات، بل يرجح أن المسلمين هم المعتدون، ومنهم من يقول ويكتب غير ما يعتقد، وللهوى سلطان على القلب وعلى القلم واللسان. ومن رأينا أن يُرجأ الحكم في الأسباب والمبادي إلى أن يتم تحقيق الحكومة في ذلك، وينشر رسميًّا. مهما كانت الأسباب والمبادي، وأيًّا ما كان المعتدي والبادي، فلا شك في كون الفريقين قد عملا ما لا يبيحه الدين الذي ينتسبان إليه، ولا يتفق مع مصلحة الوطن الذي يقيمان فيه، فقد هدمت الدور، وأحرقت الأسواق، وقتل النساء والأطفال، وحملت الأمة عبئًا من العار، ولحق الحكومة ما لحقها من الخسار، وتألمت الإنسانية الفاضلة في جميع الأقطار. قد أكثر أهل الأهواء وأفرط مقلدة التفرنج من القول بأن سبب ذلك هو التعصب الديني، ولو كان ما زعموا لما كان الهرج بين الترك والأرمن دون سائر المسلمين والنصارى، فقد ثبت أن أبناء العرب هناك كانوا يحمون الأرمن ويواسونهم، وأن الأرمن لم يعتدوا على غير الترك، والترك لم يعتدوا على غيرهم. فالمسألة إذا أثر من آثار الأحقاد الجنسية، ومن جعل سببها التعصب الديني فهو - إن لم يكن جاهلاً- متعصب أو منافق يتزلف للمتفرنجين، وإن ادعى أنه من الأحرار أو المسلمين. دعا بعض فضلاء العثمانيين الناس إلى الاجتماع في حديقة الأزبكية؛ لسماع الخطب والقصائد في شكوى الإنسانية؛ من ذبح أبنائها بعضهم لبعض، والحث على مواساة المنكوبين وإعانة اليتامى والأرامل من الفريقين- المسلمين والأرمن- فلبى الدعوة جماهير أهل الخير من جميع الطوائف ما عدا الأرمن. وخطب صاحب هذه المجلة - على أنه كان مريضًا والحر شديدًا- خطبة ارتجالية بناها على بيان التفاوت العظيم بين الإنسانية الراقية والإنسانية السافلة، التي يكون أصحابها شرًّا من الوحوش الضارية والحشرات السامة، وكون هذا الاجتماع احتجاجًا من أهل الأولى على أهل الثانية وإرشادًا وتعليمًا. وبينت فيها مشروعية البر والإحسان في الإسلام بجميع البشر مؤمنهم وكافرهم، بل بجميع الأحياء (في كل كبد حرى أجر) ورمى بعض الخطباء إلى كون المسلمين هم المعتدين الباغين باسم الإسلام، فرددت عليه بلطف وقلت: إن المقام مقام استعطاف لا محاكمة ولا تاريخ، وإن التحقيق الرسمي سيظهر الحقيقة، إن المسألة جنسية لا دينية. ذلك ما كتبناه للجزء الماضي من المنار، فلم يتسع له ثم قرأنا في جريدة لسان الحال البيروتية المؤرخة في 15 الشهر (رجب) ملخص تقرير المجلس العرفي، فنحن ننشره بنص هذه الجريدة وهو: (تقرير المجلس العرفي في أطنه) وضع المجلس العرفي في أطنه تقريرًا مفصلاً بحوادث أطنه. ولكن جرائد دار السعادة العلية لم تنشر إلا خلاصة منه. وهو يذكر أن الحوادث التي جرت هناك إنما يصعد تاريخها إلى أيام بحري باشا الوالي الذي كان قبل جواد باشا؛ فإنه ظلم الناس ظلمًا فاحشًا، وأوقع بهم خسفًا وجورًا، وهم لا يبدون ولا يعيدون، بل كانوا كالموتى لا يتحركون ولا يشكون، وكان رجال الوالي كثيرين، وهم ينتفعون من توسيع نطاق تلك الاختلالات، ويتمنون إلى الله أن تدوم؛ لأن أكثر تلك المظالم التي تشمئز منها النفوس الأبية، كانت واقعة على الأرمن، وكان هؤلاء بها راضين صابرين، حتى يمن الله بالفرج ولما ثقلت الوطأة وشعروا بشدة الشكيمة، فضلوا الموت على الحياة. ولكن الذين كانوا يعللون النفوس بأمل الانفصال في الاستقبال، كانوا يُسَكِّنُونَ رَوْعَهُمْ وَيَحُضُّونَهُمْ على الصبر، وقد أتوا بكثيرين من هؤلاء المظلومين من أنحاء الولاية وأقاموهم في مركز الولاية، وقالوا: إنَّ هذا المركز يعتبر ثغرًا بحريًّا، وقد استجلبوا له كثيرًا من الأسلحة لا سيما بعد إعلان الدستور، فإنها كانت ترد إليهم من بيروت كميات عظيمة بالسفن والبواخر، وكانت توزع عليهم في أطنه وضواحيها، حتى زادوا طمعًا بالانفصال عن الحكومة. وبعد إعلان الدستور، كان المسلمون يتقربون من جميع أبناء الطوائف، ويظهرون لهم المودة والمسالمة. ولكنهم ما كانوا يخفون احتقارهم للجمعيات الأرمنية الموجودة في البلاد؛ لاعتقادهم بأن أعضاءها يسعون في الانفصال والاستقلال، وقد زادهم ثقة بذلك؛ كونهم رأوهم يقيمون الشُّعَبَ والفروع لجمعياتهم في كل الجهات، ولا ننكر أن الحكومة أظهرت ضعفًا شديدًا في كل الأحوال التي مرت بالبلاد، فإنها لم تسع في قمع الفتن ولا في إخماد المشاغب، حتى إنه بلغ مسامعها أن الأرمن يسعون سعيًا متواصلاً في الوصول إلى الاستقلال الإداري، وأن رفاقهم في أوربا يكاتبونهم بذلك. ولكن الحكومة لم تلتفت إلى هذه المسألة، واعتبرتها كأنها لم تكن. وقد اتصل بالحكومة أن الجمعيات الأرمنية وزَّعَتْ رسومًا وجرائد وشارات مخصوصة على الأرمن، وجعلت لكل منهم علامة فارقة يعرف بها، ومع ذلك فإنها لم تهتم للأمر، ولا سَعَتْ في إيقاف تياره، حتى إن المطران موشاخ الذي هرب، كانت له يد سوداء في كل هذه الأعمال المغايرة، وما زال الأمر يزداد استفحالاً، ونطاق الخلاف يزداد اتساعًا بين المسلمين والأرمن، حتى صارت الحوادث تتوالى من مدة إلى أخرى، وكثيرًا ما كانت تتفاقم وتتجسم حتى امتلأت القلوب بالضغائن، ووقع ما وقع بين الفريقين من أسباب القتال الذي قضى بذهاب الأنفس، ووقائع الحرق والنهب وغيرها [1] . وكانت الحكومة تنظر إلى هذه الأحوال بعين لا يخامرها كلل، وفكر لا يعتريه وجل ولا حسبان لشيء، وكان الخَطْبُ يتفاقم ويتعاظم بين المسلمين والأرمن، وفي كل يوم يطلق الرصاص هنا وهناك من الفريقين، والحكومة لا تكترث له، حتى جنت بذلك جناية لا تغتفر، ولما قبضت على بعض المشاغبين من الأرمن، توسط البعض في آمرهم فتركتهم وشأنهم. أما المسلمون فأبقتهم في الحبس فكثرت إذ ذاك الإشاعات، وتراكمت المخاوف والترهات، فراج السلاح رواجًا عظيمًا، وكان تجاره وباعته ينذرون الفريقين بقرب اشتباك القتال، وإن الواقعة ستكون عظيمة يتخللها مذابح هائلة، حتى بلغ ما دخل أطنه من الأسلحة بطريق بيروت وإسكندرونه ومرسين أكثر من 13 ألف بندقية عدا البنادق والمسدسات وغيرها مما لم يعلم به أحد. واتفق أنْ قَتَلَ رجلٌ من الأرمن مسلمًا، فتعقبته الحكومة ولكن الأرمن خبأوه وأخفوه عنها، ولما أقروا به قالوا: إنهم لا يسلمونه ما لم تقتص الحكومة من مسلم ادعوا عليه بكونه كان قتل أرمنيًّا. وفي 13 نيسان أطلق رجل اسمه محمود طلقًا ناريًّا في محلة من البلدة، فقبضت عليه الضابطة. ولكن اجتمع أكثر من خمسمائة نفس من المسلمين وأنقذوه منها؛ بحجة أنها لم تقبض على الأرمن الذين أطلقوا النار، وليس ذلك فقط، بل إنهم اجتمعوا ثاني يوم مع رفاقهم وحضروا إلى السراي، وبالاتفاق مع مدير البوليس أطلقوا سراح كل إخوانهم المحابيس، ومنذ ذلك اليوم أخذ المسلمون يطوفون في المدينة شاكي السلاح، ويبدون مظاهرات تدل على أنهم لا يعبأون بالحكومة، ولا يأتمرون بأمرها، وفي أثناء ذلك قتل أرمني مسلمًا، فعارضه المسلمون، فخرج الأرمن عليهم متحمسين شاكي السلاح حتى ملأوا الشوارع والطرقات، فاستدعت الحكومة رجال الرديف فحضروا وطافوا في الأسواق بملابسهم المدنية، فكانوا كسائر الأهالي لا فرق بينهم في اللباس، فقام عليهم الأرمن. ولكنهم أشاعوا فيما بينهم أن الحكومة هدرت لهم دماء الأرمن، ورخصت لهم بالفتك بهم، وعند ذلك هجموا على المستودعات العسكرية، وأخذوا الأسلحة وما يلزمهم من الذخيرة، وفعلوا ما فعلوه، مما أوجب على أعضاء ديوان الحرب أن ينكروه ويذرفوا من أجله الدموع، ولما حمي الوطيس أخذ رجال الحكومة يفوزون بأنفسهم، فهربوا وتواروا عن العيان، ثم سجن عدد كبير من الأرمن. ولما عقد الديوان الحربي حكم على 15 نفسًا من الأرمن والمسلمين بالإعدام، فأعدموا، ويوجد الآن من 700 إلى 800 نفس كلهم مجرمون مذنبون كالذين شنقوا وإذا أردنا محاكمة كل الذين دخلوا في هذه الحوادث كان هناك من 10 إلى 15 ألف نفس، وإذا كان لابد من عقاب كل الذين ارتكبوا المخالفات والجرائم، كان لابد من عقاب كل سكان الولاية. وقد طلب في ذلك التقرير العفو عن مرتكبي الجرائم والصفح عما مضى. اهـ (المنار) ذكر اللسان بعد هذا أن بطرك الأرمن اعترض على هذا التقرير، وزيف أكثر كلامه. وقد ذكر مثل هذا في بعض جرائد مصر , وإنا لنعلم أكثر من ذلك؛ نعلم أن الأرمن اجتمعوا في الكنيسة في الآستانة، فحثهم البطرك على الثبات على طلب الاستقلال، وقرروا هناك وفي كل مكان عدم مشاركة العثمانيين بالاحتفال بعيد الدستور، ولا تزال جمعية الاستقلال الأرمني العليا في الروسية مجدة في عملها، وساسة الروس يغرونها، وسيكشف لهم الزمان أن اتحادهم بالعثمانيين خير لهم وأبقى. *** (فقيد العلم والصحافة الشيخ حسين الجسر) نعت إلينا جرائد طرابلس الشام وبيروت عالم الديار السورية، بل أحد أفراد علماء المسلمين في هذا العصر، أستاذنا الشيخ حسين أفندي الجسر صاحب الرسالة الحميدة التي طار بها ذكره في الأقطار، واشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار، ولما كانت مواد هذا الجزء قد تمت، أرجأنا ترجمته إلى الجزء الثامن. سائلين الله - عز وجل - أن يحسن عزاء أنجاله، وعزاء الوطن عنه، وأن يتغمده برحمته ورضوانه. آمين. *** (الدستور في فارس) ثبت الشعب الفارسي في محاربة الاستبداد، كما ثبت الشاه الجاهل محمد علي على رفض الدستور، حتى نصر الله الحق على الباطل، فدخل المجاهدون طهران فاتحين، وخلعوا الشاه، وجعلوا ولده وولي عهده مكانه وهو ابن إحدى عشرة؛ ولذلك جعلوا له نائبًا من كبار رجال الدولة.

البلاغ المبين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البلاغ المبين الذي بلغ من قبل المشيخة الإسلامية إلى النواب والقضاة والعلماء الراسخين والمشايخ العارفين [1] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فلما قضت إرادة الله تعالى في الأزل أن تصلح الأرض للعمران، استخلف في مهابطها الإنسان القادر على تدبير أموره الشخصية والاجتماعية بعقله الذي وهبه إياه، كما دل عليه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: 165) الآية، وجعل ما تحتويه أرضه التي تقله وسماؤه التي تظله خاضعًا لمنافعه، كما قال جل من قائل: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) الآية، وجعله مكلفًا؛ لأنه ذو عقل وإرادة، هما قوتان فعّالتان يقدر بهما أن يستعمل القوى الطبيعية؛ لقضاء حاجاته، وتحسين أعماله في حياته الدنيا. ولكن أعماله مرتبطة بأعمال غيره، لا يستطيع أن يأتي بنظمها، ما لم تتحد الآمال وتتبادل المنافع، فقد علم الله - تعالى - أن الإنسان ألعوبة لهوى نفسه الأمارة، لا يتملص من أشراكه التي نصبته له بالسهل، وأن العقل الابتدائي قاصرعن استنباط الشرائع الكافلة لسعادة البشر، فأرسل بفضله أنبياءه يوضحون له أحكام المصالح العامة وقواعدها التي يعجز العقل الابتدائي وحده عن استنباطها، ويعلمونه أن السعادة كل السعادة في الإيمان واتباع طريق العقل، وقد تمت حجة الله البالغة، وظهرت حكمة التكليف، فالحائدون بعد ذلك عن المنهاج المستقيم الذي أضاءه لهم الهادي الأمين مطرودون من رحمته، ومبعدون عن دائرة الهدى، كما وصفهم تعالى بقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) الآية، نعم.. قد تمت حجة الله بخلقه العقول فينا وإرساله الأنبياء الهادين إلينا، فإن ضللنا بعد ذلك كنا من الظالمين، ومن هنا يعلم السر في اتفاق الأئمة على أن إصلاح العالم ليس بواجب على الله [2] ، وتقريرهم أن نصب الإمام واجب على الأمة. ولما كانت المطالب الاجتماعية مما لا يكلفها الواحد المعين، بل الجماعات كما دلت عليه صدور بعض الآيات القرآنية، كقوله تعالى: (يا أيها الناس) (يا أيها الذين آمنوا) الآية، فلا تصح الإمامة التي هي من أهمها إلا بالبيعة الشرعية العامة، وبيعة الناس لرئيس حكومتهم بالطوع والرضا مشروط صحتها بتمسك ذلك الرئيس بحبل الله المتين، واتباع شرائعه، وقوانين عباده المرعية. مما يدل على أن كل أحد من المسلمين مكلف بمراقبة ما يأتيه ومسئول عن حكومته، يجب عليه أن يشرأب إلى استطلاع أعمال رجالها ويراقبهم، حتى إذا رأى معروفًا قد غفلوا عنه ذكرهم به، أو منكرًا كاستعمال نفوذهم خلاف الشرائع الربانية ومنافع العباد نهى عنه وِفْقَ وصفه تعالى في قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) الآية، وحديث نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) الحديث [3] . كان الخليفة بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام هو الصديق الأكبر بإجماع الأمة، وبعده باتفاقها على العمل بوصية الصديق هو الفاروق الأعظم، وأحال الفاروق أمر نصب الخليفة على الشورى، فوقع اختيار أهل الشورى على ذي النورين عثمان رضي الله عنهم، وبعد شهادته، اتفق جمهور الصحابة في المدينة على استخلاف عليّ كرم الله وجهه فبايعوه، وقد امتدت الفتوح الإسلامية في زمن هؤلاء الأربعة الموسومين لطهارة سيرتهم بالخلفاء الراشدين إلى مشارق الأرض ومغاربها. ولكن الأغراض المتصادمة واختلاط الأقوام العربية بالطوائف الأعجمية بعدهم بدل الطوع والرضا في أمر البيعة بالكره والجبر، فلم تنتخب رؤساء الحكومة على النحو الذي أمرت به الشريعة المطهرة إلا الشواذ منهم، حتى ظهرت سلاطين آل عثمان. فلما ظهرت شجرة آل عثمان التي يصدق عليها قوله تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) وجعلت هذه تحمي في وارف ظلها عرش السلطنة والخلافة، اقتفى سلاطينها في حكومتهم خطوات الخلفاء الراشدين، ومشوا على آثارهم يهدمون صروح الظلم ويحيون ما انطمس من معالم الدين، وكانوا - والحق وضَّاح - يستحبون الرضا، فلم يكرهوا الناس على بيعتهم، وقد أرسلوا إلى البلاد قضاة من العلماء، ففرقوا بين القضاء والتنفيذ، ورعوا معاهد العلم حتى نبغ فيها عدد كبير من الأعلام، وسعوا بإشاراتهم قضية الفتوى؛ لفصل المصالح حسب ما تقتضيه الأحوال العصرية، مطبقين بذلك قوى الحكومة الثلاثة على حكمتي الشرع والعقل؛ ليكون حملة القدرة التشريعية ناسًا من أهل العلم والتقوى المالكين لمراقبة الحكومة التي هي نتيجة هذا التآلف المشروع الطبيعية، وأحالوا التنفيذ والإجراء على الوزراء والأمراء، وحل الخصومات وفصلها بالحكم والقضاء على القضاة والنواب الفضلاء، والمراقبة والإفتاء على المفتين من فطاحل العلماء المظهرين لقابلية الاستقلال في شعب الاجتهاد، فقويت حكومتهم، واستحكمت عراها، حتى انقادت لها طوعًا عناصر الأمة العثمانية المختلفة كافة. هذا ما كانت عليه الحكومة العثمانية في عصورها الغابرة. ولكن الدهر قُلّب، فإنَّ وَضْعَ دولتنا الجغرافي، وسعة بلادها، وظهور المفسدين من الطوائف الجلالية وأطماع الدول المجاورة، كلها أسباب ولدت في سني حكومتنا الأخيرة محاربات دامية، واختلافات داخلية شاع من جرائها الفقر وعم الوهن، فوق ما أورثت الأمراض الوبائية المتعاقبة من فتور العزم، حتى انطمست معاهد العلم شيئًا فشيئًا وانطفأ سراجه الوهاج، وشاع مكانه الجهل الأسود، والضلال المبين، وكادت دولتنا تنقرض المرة بعد الأخرى - لا سمح الله. تبين مما قدمناه من وجوب نصب الإمام شرعًا على الأمة، وكون الخطاب الرباني عامًّا لكل الناس، وكون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مكلفًا بهما كل أحد من المسلمين، إن الأمة هي الحاكمة [4] وإن صنوفها المؤلفة لها متضامنة بالتسلسل، بحيث يجب على كل صنف منها أن يرقب غيره من الصنوف، وإذا تكاسل صنف عن أداء وظيفته الخاصة به، قَوَّمَتِ الصنوف الأخر المعوج؛ لأنها هي المكلفة مما هو نتيجة الارتباط المتسلسل الشرعية، ولذلك قال الشارع: (لا طاعة للمخلوق عند معصية الخالق) [5] ، وقال: (إنما الطاعة في المعروف) الحديث [6] ، ومما يؤيد وجوب ذلك التضامن أمره تعالى العام في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25) الآية، وعليه فإذا أبدينا أقل غفلة عن الائتمار بأمره هذا، اختل نظام الإدارة، وانحلت روابطها. ولا يستنبطن أحد مما أوردناه أن لكل صنف من الناس أن يتداخل في مصالح الحكومة، فذلك غير صحيح، بل الواجب أن تكون الحكومة الدستورية التي تراقب أعمالها من قبل جماعة مصطفاة من عموم الأمة مصونة من كل يد تمتد للمداخلة فيها، إذا أمرت الناس وجب عليهم أن يلبوا فيجيبوها بقولهم: سمعنا وأطعنا. ولما كانت الدولة العثمانية التي بنت قوانينها على أساس الشرع الرصين، وركبت قوى حكومتها من سياسة التوفيق بين الحكمة الشرعية والعقلية، لا يتطرق إلى أصلها الزلزال بسهولة. حافظت حتى في أزمنة الجهل المطبق على شكلها بفضل رجال من أهل العلم والتقوى، راقبوها ولم يطأطئوا من خشية الله رؤوسهم لسلطان الجبابرة الظالمين، فهي وإن كانت في كل زمن معرضة للاضمحلال الذي نبهنا الله تعالى لاجتناب أسبابه، بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) الآية، ستبقى مدى الدهور مضمونة بالاستقامة التي هي جزء من الضمان الإلهي، حسب قوله تعالى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} (الجن: 16) الآية. كان لَعَمْرُ الحق عهد الاستبداد المنصرمة أيامه السود، قد شوه وجهي الدولة الأصلي والفرعي مدة ثلث قرن، حتى أفل من كل آفاقها العدل، وانْحَلَّ ما أبرمه الشرع، واختل النظام، وشاع الظلم والجبر والفوضى، وتَنَفَّرَتْ قلوب الرعايا من الحكومة، ونجم الشقاق والنفاق بين العناصر المختلفة، واستحالت الأودَّاء الأجانب أعداء يعملون للإيقاع بها، ويضيقون عليها، يريدون بذلك تمزيقها، وكادت جامعتنا العثمانية تتهور بسرعة في حفرة اضمحلالها. هنالك هبت من مكامن حفظ الرحمن فئة هم الفرقة الناجية؛ حزب الله الغالبون، استقتلوا في سبيل الحرية وقوفًا في وجوه الجبابرة المعاندين يكبرون ويجاهدون وفي أيديهم راية {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) الآية، فأنقذوا بما أتوه من السعي المحمود ذكره المملكة من الخطر المحدق الذي كان يهددها، والوطن من الخراب الملم، وفكوا أغلال الحيف من أيدي [7] الأمة، وكسروا قيود الاستعباد وسلاسلها من أرجلها، وسروا فؤادها ببشارة قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} (الفتح: 1) الآية، مثبتين بأعمالهم هذه التي سيحمدها التاريخ، وتغني بنشائدها الأحفاد صدق حديث المخبر الصادق (لا تجتمع أمتي على الضلالة) [8] شكر الله سعيهم، والحمد لله على دين الإسلام، ولم يكن عفو الأمة العثمانية المتبعة لحكم قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} (المائدة: 95) وقول نبيه الكريم: (العفو زكوة الظفر) [9] عن طواغي الاستبداد أولي الصحف السود؛ ليثبطهم في مواقفهم، بل جرأهم على إبداء ما انطووا عليه من الفطرة السيئة، كلما وجدوا فرصة تساعدهم، حتى تمكنوا بما بثوه من الدسائس وزينوه من الحيل أن يورطوا المملكة في ورطة؛ هي والعياذ بالله أعظم من كل الورطات الغابرة، فكانوا مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) الآية. ولكن أبطال الحرية أولياء الله المقسمين بكتاب الله المبين على نصر شريعته، وإحياء سنن سيد رسله، والمحافظة على قوانين عباده، ثاروا كالأسود من مرابضهم، يستصحبون في زحفهم الشرعي الفيلقين المنصورين الثاني والثالث، مدججين بسلاح الجهاد ومقدمين أمام صدقهم أمراء الحماسة، يأمون مقر الخلافة بسرعة محيرة حتى قهروا بسيوف بسالتهم جماعة الفئة الباغية مقاوميهم، وردوا كيدهم في نحورهم، وحفظوا بيضة الإسلام من أن تعبث بها أيدي الآثمين، فاستحقوا بذلك أن يسموا بمؤسسي الدولة ثانية، كما استحقت الفئة الباغية أن تلقى جزاءها، حتى صح فيهم قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} (المائدة: 33) الآية. وحينئذ اجتمعت أساطين الأمة الذين اصطفتهم عنها نوابًا يترجمون عن آمالها، وقرت آراؤهم الحرة على أن يطلبوا إلى المشيخة الإسلامية تذكيرهم بما ينطق به الشرع في مثل هذه الأحوال؛ لقمع الفساد الساري في جسم الدولة، فجمع شيخ الإسلام السالف علماء العاصمة الأعلام، وأصدر باتفاق أصواتهم فتوى شرعية خلع بها السلطان السابق، واستخلف مكانه بالبيعة الصحيحة العامة جلالة السلطان ا

اعتبار المصلحين بهذا البلاغ المبين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اعتبار المصلحين بهذا البلاغ المبين إن في هذا البلاغ من آيات العلم الصحيح، وهداية الدين القيم، والاعتصام بالكتاب والسنة دون التقليد الأعمى ما تنشرح له صدور المؤمنين، وتشتد به عزائم المصلحين؛ لصدوره من أرفع مقام في علماء الإسلام الرسميين. ما أضاع الإسلام إلا ترك الكتاب العزيز والسنة السنية إلى كتب جماعة من مقلدة المذاهب المختلفة، تقيد بها علماء الرسوم من القضاة والمفتين وغيرهم من أعوان الحكام الجاهلين الظالمين، وقيدوا بها الأمة، حتى حل بها ما نعلم، وقد شرحناه مرارًا، وفصلنا القول فيه تفصيلاً. لقد بعث الله في القرون الخالية علماء أصفياء يجددون لهذه الأمة أمر دينها، فكانوا فيها كأنبياء بني إسرائيل منهم مَنِ اهتدى بدعوته النفر والرهط والجماعة، ومنهم مَنْ حالَ الاضطهادُ وضعفُ الاستعداد دُونَ الاهتداء به، وكانت العامة المسكينة تغتر بمقاومة علماء الرسوم وسادتهم الحكام لأولئك المصلحين المجددين، وتتبعهم في تضليلهم؛ لأن الناس على دين ملوكهم، حتى إن صوت شيخ الإسلام أحمد بن تيمية قد خفت في هذه الأمة المسكينة، وهو أندى أصوات المصلحين، وكتبه خفيت فيهم عدة قرون وهى أقوى وأظهر حجة من سائر كتب المسلمين. هذا ما كان من الجهاد بين الحق والقوة، وهكذا كان يعادي الكتاب والسنة كل من له بالحكام علاقة رسمية، فللعلماء الرسميين نفوذ عظيم إذا أيدوا به الإصلاح ينتشر بسرعة عظيمة. ولكن الحكام المستبدين لا يمكنونهم من ذلك، فالعالم الرسمي في الحكومة المستبدة لا يوثق بما يقول ولا بما يكتب إفتاء ولا تصنيفًا، بل إذا اشتد الاستبداد في بلاد كان للعاقل أن لا يعتد بكلام أحد من علمائها وزعمائها في الأمور العامة، إلا مَن كان مضطهدًا من حكومتها. نقول هذا بصرف النظر عن تحكيم الدليل في الكلام لمَن كان من أهله. طال الزمان على قوة الباطل وضعف الحق؛ لأن أهل الحق منعهم الاستبداد من إظهار حقهم، وإنما يغلب الحق الباطل إذا وُجِدا معًا بلا معارض، ولهذا غلب الجمود ودخل جماهير المشتغلين بالعلوم الدينية جحر الضب، وطاب لهم المقام فيه حتى صاروا ينفرون من فضاء الحنيفية السمحة المضيئة بنور الكتاب والسنة، فوصلوا إلى ذلك الدرك الأسفل من الضلال الذي عبر عنه بعض شيوخ الأزهر في ملأ منهم فقال: مَن قال: إنني أعمل بالكتاب والسنة فهو زنديق. نحمد الله تعالى أنه لم يسلب جميع المشتغلين بعلوم الإسلام نور كتابه وسنة رسوله، بل صدق رسوله بأنه لا يزال طائفة منهم قائمين على الحق حتى تقوم الساعة [1] ؛ ولكن حرية الأمم بخروجها من رق الاستبداد هي التي تظهر علم هؤلاء وهدايتهم. فلما لاح شعاع الحرية في مصر ظهر فيها المصلح العظيم الشيخ محمد عبده - رحمه الله تعالى - وكان صوته ضعيفًا إلى أن صار له صفة رسمية بتقلده إفتاء الديار المصرية، فحينئذ علا صوته حتى صار شرق البلاد الإسلامية وغربها يلهجان بلقبه الذي اشتهر به (الأستاذ الإمام) ، وتعلقت به آمال طلاب الإصلاح الإسلامي في كل مكان. ثم أشرقت شمس الحرية في المملكة العثمانية فظهر من أعلى مقام علمي فيها - وهو مقام مشيخة الإسلام - كلمتان كبيرتان في الإصلاح: (إحداهما) الفتوى بخلع السلطان عبد الحميد؛ فإنها فتوى بنيت على أساس من كتاب الله عز وجل لا على شفا جرف مِن آراء زيد أو عمرو، فهي أقوى وأصح فتوى صدرت في هذا العصر، كما بينا ذلك من قبل، وقد زادنا سرورًا بها ما جاء في هذا البلاغ من جمع شيخ الإسلام الذي أصدرها للعلماء الأعلام واستشارتهم في المسألة، وإصداره الفتوى باتفاقهم. (الكلمة الثانية) هذا البلاغ المبين، المتألق نوره بالاقتباس من القرآن الحكيم، والاستنباط منه ومن الحديث الشريف، فقد قرت عيوننا بما رأينا فيه من الفهم الثاقب، وتطبيق الآيات والأحاديث على الوقائع والحوادث، ناهيك باستنباط وجوب سيطرة الأمة على الحكومة من آية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أيد به الحكومة الدستورية، وباستنباطه من آيات وأحاديث أخرى مشروعية الجمع بين الدين والعقل، والانتفاع بما خلق الله في السماوات والأرض، ووجوب التضامن والتكافل العام في الأمة، وبيان سنة الاجتماع في تغيير أحوال الأمم، والتصريح بكون الحكام إنما تجب طاعتهم في المعروف لا في المنكر والمحرم، وغير ذلك من الأحكام والحكم. إن شيخ الإسلام لم ينقل هذه المعاني من كتب التفسير نقلاً، وإنما فهمها من كتاب الله تعالى فهمًا، وإن فهمه (حفظه الله) للآيات من قبيل فهم الأستاذ الإمام (رحمه الله) لها، فهذا الإجمال موافق لما سبق تفصيله في المنار في التفسير وغير التفسير مرارًا، وهو لم يكن قبل هذا العام ممن يرون المنار، وإنما هو الاستقلال وعدم التقليد. يتفق أصحابه في كل ما تتوفر الدواعي على العلم به. فنحمد الله أن وجد فينا مثل هذا الإمام الجليل، وإن كان شيخًا للإسلام في هذا العصر المنير، ونسأل الله - تعالى - أن ينفعنا وسائر المسلمين بعلمه وهديه، ويوفق جميع العثمانيين بإرشاده إلى التعاون والاتفاق على ما به عمران البلاد وتعزيز الدولة آمين. (فصل - أو- وصل) إننا نذكر في هذا المقام للشيخ سليم البشري شيخ الأزهر ورئيس لجنة الدعوة إلى المؤتمر الإسلامي: إجازته لقانون المؤتمر الذي فيه أن المباحث الدينية في المؤتمر تكون اجتهادية؛ تبنى على الكتاب والسنة والإجماع والقياس لا على نصوص المذاهب , نذكر له هذا ونثني عليه عودًا على بدء. وننتصر بتقرير هذا وبالبلاغ الذي نشرناه في هذا الجزء؛ وهما من أكبر شيوخ الإسلام الرسميين في أكبر عواصم المسلمين؛ على الجامدين البلداء الذين كانوا ينكرون علينا من بضع سنين دعوتنا إلى الاهتداء بالكتاب والسنة وجمع كلمة المسلمين عليهما , والله خير الناصرين.

الدستور والحرية والدين الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدستور والحرية والدين الإسلامي (س 29 و30) من صاحب الإمضاء في سواكن (السودان) : حضرة الأستاذ المرشد السيد محمد رشيد رضا دام فضله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد؛ فقد ألجأني فهمي القاصر وذهني الفاتر لرفع هذه الأسئلة لجنابكم؛ ملتمسًا حلها وشرحها شرحًا وافيًا يفهمه الخاص والعام؛ لأن ظروف الأحوال تقتضي ذلك بالنسبة لما هو حاصل الآن في دار الخلافة الإسلامية صانها رب البرية وهى: الأول: ما هو الدستور وما حقيقته، وهل هو موافق للدين الإسلامي تمام الموافقة؟ وما الدليل عليه من الكتاب والسنة؟ الثاني: ما هي الحرية - القولية والفعلية - وما حقيقتها؟ وهل هي موافقة للشريعة الإسلامية؟ وما الدليل عليها شرعًا وعقلاً؟ وهل هي كما علق بأذهان العامة بأنها الفوضوية التامة التي لا رادع لها؛ كأن تذهب المرأة من بعلها وتفعل ما تشاء؛ وهو لا يقدر على منعها. ويذهب الولد خارجًا من طاعة الوالد، ولا يقدر على تأديبه ومنعه من ارتكاب المحظور، أم هي بخلاف ذلك؟ نرجو من حضرة الأستاذ إجابتنا على صفحات المنار الأغر في أول عدد منه لا زال خضم علمه زاخرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر ملا قلندر البخاري الدستور والدين الإسلامي (ج) تنقسم الحكومة في عرف أهل العصر إلى قسمين أصليين: حكومة مطلقة وتسمى شخصية واستبدادية، وحكومة مقيدة أو دستورية ويعبر عنها الترك والفرس بالمشروطة أي: المشروط فيها العمل بالدستور. فالحكومة الشخصية المطلقة هي التي يكون فيها حق التشريع والتنفيذ للحاكم العام والرئيس الأكبر الذي يلقب بالملك أو السلطان أو غير ذلك من الألقاب، فهو الذي يضع لبلاده من القوانين ما يشاء متى شاء، وينسخ منها ما شاء متى شاء، غير مقيد برأي أحد ولا مكلفًا أن يستشير أحدًا، وهو الذي ينفذ الأحكام التي يحكم بها في بلاده بإرادته أي تنفذ باسمه، على أن له أن يوقف تنفيذ ما يشاء منها ويعفو عمن يشاء، سواء كان الحكم من نوع القانوني الوضعي أو من نوع الديني الشرعي فهو فوق الشريعة والقانون، لا تجوز محاكمته إذا خالفهما. ومثال هذه الحكومة ما كنا فيه قبل سنة وشهرين من حكم عبد الحميد، فقد كان بما له من السلطة المطلقة يمنع من الأحكام الشرعية ما يشاء؛ كمنعه شهادة التواتر والحكم بمقتضاها، والحكم بالحجر على المجانين، وتنفيذ أحكام الإعدام الشرعية وغير ذلك، كما كان يمنع من كتب الدين والعلم ما شاء، ويصادر منها ما شاء بمحض الهوى والوسواس. فهذا النوع من الحكم يُحَرِّمُهُ الدين الإسلامي، بل تحكم الشريعة الإسلامية بكفر مستحله؛ لأن من استحل الحرام المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة؛ كإبطال الأحكام الشرعية، ومصادرة الناس في أموالهم ودمائهم كان مرتدًّا. وأما الحكومة الأخرى أي: المقيدة أو المشروطة أو الدستورية فهي التي يكون فيها الحاكم العام ومَن دونه مِن الحكام والعمال مقيدين كلهم بالدستور، والدستور عبارة عن شريعة البلاد وقوانينها التي يضعها أهل الرأي الذين تعهد إليهم الأمة ذلك بالتشاور بينهم؛ ليس للحاكم العام فيها أن يستبد بشيء، بل عليه أن يتقيد بالشريعة والقانون الذي رضيه وقرره أهل الشورى. فهذه الحكومة موافقة للدين الإسلامي في أساسها وأصلها؛ هذا لأن أحكام الإسلام قسمان: أحكام دينية جاء بها الوحي، وأحكام دنيوية جاء ببعضها الوحي؛ إرشادًا وتعليمًا، ووكل سائرها إلى أهل الشورى من أُولي المكانة والرأي الذين عبر عنهم القرآن العزيز بأولي الأمر، فهم الذين يضعون برأيهم واجتهادهم ما تحتاج إليه الأمة لإقامة المصالح ودرء المفاسد التي تختلف باختلاف الزمان والمكان. دليل ذلك قوله تعالى في المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، وقوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) وقد بينا معنى هاتين الآيتين أكثر من مرة، وليراجع السائل تفسير قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) - (ص 726 م11) وعلى هذا جرى النبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا، والخلفاء الراشدون من بعده. هذا هو معنى موافقة الدستور للشرع الإسلامي في أصله وأساسه بالإجمال , وأما التفصيل فهو موكول في دولتنا الآن إلى أولي الأمر الذي انتخبتهم الأمة لوضع القوانين التي يطلق على مجموعها لفظ (الدستور) ، فإذا كانت مسائل هذه القوانين مطابقة للنصوص الثابتة وللأصول والقواعد الشرعية المستنبطة منها: كالعدل ورفع المضار وجلب المنافع وغير ذلك من القواعد والأحكام، كان الدستور موافقًا للدين الإسلامي في جزئياته التفصيلية، وإن كان بعض تلك المسائل مخالفًا لها، يكون الدستور مخطئًا فيما خالف فيه كما أخطأ كثير من الفقهاء في بعض الأحكام في كتبهم وللأمة حينئذ أن تنبه مجلس نوابها على ذلك؛ ليتداركه إذا تبين له. ويرد هاهنا اعتراضان يتحدث بهما الناس: أحدهما مستمد من التفسير وهو أن أولي الأمر الذين فوض كتاب الله تعالى إليهم استنباط الأحكام والقوانين يجب أن يكونوا من المسلمين، ومجلس النواب العثماني الذي يضع القوانين الدستورية مؤلف من المسلمين وغيرهم , والجواب عن هذا أن استشارة المسلمين لغيرهم ومشاركتهم في الرأي غير ممنوعة، وقد تكون مطلوبة إذا كان ذلك من مصلحة الأمة؛ لأن المصلحة هي الأصل في جميع الأحكام الدنيوية، حتى قال بعض علمائنا: إنها تُقَدَّمُ على النص إذا عارضته كما نقلناه عن الطوخي في المجلد التاسع (ص 745) على أن المسلمين هم الأكثرون في مجلس الأمة المكون من المبعوثين والأعيان، وهم العارفون بمصالح الأمة ومنافعها، فلا ينفذ إلا ما قرروه. والاعتراض الثاني مستمد من أصول الفقه؛ وهو أن الذين يستنبطون للمسلمين ما يحتاجون إليه من الأحكام غير المنصوصة في الكتاب والسنة؛ يجب أن يكونوا من أهل الاجتهاد الذين استوفوا شروطه التي ذكرها الأصوليون، وقد يجيب المشتغلون بالسياسة عن هذا؛ بأن الأحكام الشرعية المحضة لا يتعرض لها المجلس، بل هي لا تزال تؤخذ من كتب الفقه بالتقليد، وإنما يضع المجلس القوانين المتعلقة بأمور الدنيا؛ كجباية الأموال وطرق إنفاقها ونظام المحاكم وغيرها من مصالح الحكومة، وهي لا تحتاج إلى ما ذكروه من الشروط للمجتهد. ولكن هذا الجواب لا يقنع المتفقهة، فإنهم يقولون: إن جميع الأحكام المالية والسياسية والحربية والإدارية يجب أن تكون مستمدة من الشرع وموافقة له. وإنني أجيب بجواب آخر؛ وهو أن ما ذكره الأصوليون من شروط المجتهدين ليست نصوصًا تَعَبَّدَنَا الله - تعالى - بها فيما أوحاه إلى نبيه، وإنما هي آراء لأولئك الأصوليين. وقد بينا الحق في ذلك، وما يجب من الإصلاح من الأمور الدينية والدنيوية بالتفصيل في مقالات محاورات المصلح والمقلد، فليرجع إليها السائل ومن شاء في المجلد الثالث والرابع من المنار [1] . ونقول هنا أيضًا: إن الله - تعالى - قد جعل لجماعة أولي الأمر من الأمة؛ أن يستنبطوا برأيهم واجتهادهم من الأحكام ما تمس حاجتها إليه وأطلق ذلك، فإن كان هنالك أدلة تدل على أنه يشترط فيهم ما قاله علماء أصول الفقه في المجتهدين، فلتكن تلك الشروط كالشروط التي اشترطوها في الخليفة، وفي القاضي من حيث إنه يجب تحصيلها، ويقدم من توفرت فيه على غيره، ولكن لا تتعطل الأحكام بفقدها. فكما أجازوا خلافة الخليفة من غير استيفاء جميع شروطه للضرورة، وأجازوا أن يكون القاضي غير مجتهد للضرورة، يجب أن يُجيزوا استنباط الأحكام المالية والسياسية والإدارية والقضائية لمَن لم تتوفر فيهم شروط المجتهد لأجل الضرورة؛ إذ لا فرق بين هؤلاء المستشارين والمستنبطين وبين الحاكمين والمنفذين. لا بد للأمة في كل وقت من الحكام، ولا بد أن يكون هؤلاء الحكام مقيدين بالشورى، ولا بد أن يكون أهل الشورى من أولي الرأي والمكانة؛ لتثق بهم الأمة، فعليها في كل زمن أن تختار أمثل أهله للقيام بذلك الركن الشرعي، فإن لم يوجد في زمن ما من هم متصفون بصفات الكمال التي تدل عليها الدلائل الشرعية، فعلى الأمة مع اختيار الأمثل للضرورة أن تُعِدَّ أُناسًا منها بالتربية والتعليم للكمال المطلوب. يقول حملة الفقه: إننا نستغني بما استنبطه المجتهدون السابقون عن استنباط أحكام جديدة، فيجب أن نعمل بما دُوِّنَ في كتب الحنفيةِ أو غيرهم من فقهاء المذاهب الأربعة، ولا نزيد على ذلك شيئًا، ويجيبهم الحكام وغيرهم من العارفين بحال العصر: أولاً: إن ما دُوِّنَ ونُقِلَ عن الأئمة الأربعة، لم يكف الأمة في زمن ما؛ ولذلك زاد عليه أتباعهم غير المجتهدين أضعاف أضعافه، حتى صار العمل بكتب هؤلاء المقلدين، وفقد أكثر كتب الأئمة المجتهدين، وما عساه يوجد منها لا يقرأ ولا يفتي به ولا يرجع إليه. واتباع المقلد وتقليده باطل بحسب أصولكم، وأعذاركم عن ذلك غير مسموعة. ثانيًا: إن الزمان قد تغير وتغير العرف الذي بني عليه كثير من الأحكام، وحدثت للدولة والأمة مصالح وحاجات كثيرة، لم تكن في زمن الأئمة ولا زمن مدوني الفقه المنسوب إلى أصولهم ومذاهبهم في الاستنباط، وصارت عرضة لمضار ومفاسد لم تكن في زمنهم فنعرف من كتبهم طرق درئها. فاضطررنا إلى أحكام تناسب حال زمننا، وإننا ما صرنا أضعف الأمم بعد أن كنا أقواها؛ إلا بعد جرينا في درء المفاسد وجلب المصالح في هذه الأزمنة الأخيرة بحسبها. هذا، وإن أساس هذا الدستور هو أن تنتخب الأمة نوابًا عنها يكونون هم أصحاب الشأن في الأحكام التي تساس بها، فعليها أن تختار أمثلهم وأعلمهم بالشرع أحكامه ومقاصده، والرأي الراجح في مجلس الأمة للمسلمين كما قلنا آنفًا، فإذا قرروا ما يخالف الشرع القطعي ولم تستبدل الأمة بهم من يعود إليه كان الإثم عليها وعليهم، ولم يكن الدستور مانعًا لها ولهم من إقامة شرعهم. وأما في زمن الحكومة المطلقة فلم يكن لها أن نقول ولا أن تعمل، وإن ضاع دينها كله وضاعت دنياها معه. وجملة القول: إن الأمة يمكنها بهذا الدستور أن تُحيي دينها ودنياها، فإن لم تفعل كان الإثم عليها. نعم.. إنها لا تستطيع ذلك إلا بالتدريج كما نشأ الإسلام وترقى بالتدريج. فكان شأنه إلى عهد صلح الحديبية سنة ست غير شأنه بعد فتح مكة سنة ثمان، فلا ينبغي أن ننسى هذا. الحرية والدين الإسلامي الحرية تطلق على عدة معان بحسب العرف والاصطلاح، ولعل ما تسألون عنه هو ما قرره القانون الأساسي الذي هو أصل الدستور وأساسه في المادتين 9 و10، والمراد منهما أنه ليس للحكومة - ولا لغيرها بالأولى - أن تعتدي على أحد لقول يقوله أو عمل يعمله، أو تكلفه شيئًا من ذلك إلا ما يعينه القانون؛ لحفظ الحقوق العامة والخاصة، فمَن كان في بلد حكومته دستورية يكون حرًّا غير مستعبد لحكومتها ولا لأصحاب النفوذ والجاه فيها، آمنًا على نفسه من الاعتداء؛ ما دام محافظًا على القانون الذي يحظر عليه الاعتداء في حريته على حرية غيره وحقوقه فحماية الناس من التعدي عليهم موافق للشريعة الإسلامية كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص ل

استشارة غير المسلمين والاستعانة بهم في الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استشارة غير المسلمين والاستعانة بهم في الحرب س 31 (من صاحب الإمضاء في بيروت سيدي الأستاذ الشيخ محمد رشيد أفندي رضا الحسيني منشئ مجلة المنار المحترم. بعد التحية إليكم؛ إنه قد اطلعت في عدد (263) من جريدة الاتحاد العثماني الأغر، فرأيت في طليعته منشورًا لشيخ الإسلام، كان من ضمنه هذه الجملة (وقد استشار نبينا في ظروف عديدة خطيرة أناسًا لم يكونوا يدينون بالإسلام وطلب صلى الله عليه وسلم في الحروب معاونتهم ومساعدتهم) فأرجو أن تبينوا لنا مَن هم المشاوَرون؟ وما هي تلك الحوادث التي وقعت فيها الاستشارة، كما أرجو بيان مَن هم الذين طلب النبي (صلى الله عليه وسلم) معاونتهم ومساعدتهم في الحروب؟ أخذًا للحكمة وبيانًا لمن انتحل لنفسه التعصب الذميم، فتطهر بذلك نفسه، واتباعًا للحق مولاي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... خادم العلم الشريف ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... راغب قباني (ج) خرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الطائف في أول الإسلام، وطلب من رؤساء أهلها حمايته من قريش؛ ليبلغ دعوة ربه فردوه. وكان يخرج في المواسم إلى أسواق العرب يعرض نفسه على القبائل؛ ليحموه حتى يُبَلِّغَ دعوة ربه، فكان بعضهم يرد ردًّا حسنًا وبعضهم يرد ردًّا سيئًا. ثم إنه بعد أن قوي الإسلام استعان في الحديبية بعُيينة الخزاعي، فاتخذه عينًا على المشركين وكان يومئذ مشركًا، ومن المعروف أن قصة الحديبية كانت في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم من المؤمنين ألف وأربع مائة أو وخمس مائة، واستعان بصفوان بن أمية يوم حنين , وأخذ في خيبر برأي عزَّال اليهودي فقطع مشرب القوم؛ ليخرجوا من حصنهم لمناجزته. وفي مراسيل أبي داود عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في خيبر فأسهم لهم، وهو ضعيف. وفي حديث ذي مخبر (رضي الله عنه) عند أحمد وأبى داود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستصالحون الروم صلحًا وتغزون أنتم وهم قومًا من ورائكم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم محالفًا لخزاعة، وكانت قريش محالفة لبكر، فاعتدى بنو بكر على بني خزاعة وساعدتهم قريش بعد عهد الحديبية، فانتقض عهدهم وحاربهم النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه لأجل ذلك، حتى فتح مكة عنوة، وخرجت خزاعة معه على قريش. لكن ورد في حديث عائشة عند أحمد ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج قبل بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كانت تذكر منه جرأة، ونجدة قال: جئت لأتبعك فأصيب معك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تؤمن بالله ورسوله؟) قال لا، قال (فارجع فلن أستعين بمشرك) ثم ذكرت أنه عاد مرتين بعد ذلك، فقال له مثل ما قال في المرة الأولى. وفي حديث خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده أنه استأذن النبي هو ورجل آخر من قومه في الغزوة معه، فقال: (أسلمتما) ، قالا، لا.. فقال: (إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين) رواه الشافعي وأحمد والنسائي وغيرهم. ومن هنا جاء الخلاف بين العلماء في جواز الاستعانة وعدمه، فنقل الجواز عن الحنفية، وعن الشافعي منع الاستعانة بهم على المسلمين وجواز الاستعانة بهم على أمثالهم. أما الجمع بين الروايات المختلفة فقد قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: إن أقرب ما قيل فيه أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها، قال: وعليه نَصَّ الشافعي، وأنت ترى أن جميع ما نقلناه من روايات الاستعانة كان بعد غزوة بدر التي قال فيها: (لن أستعين بمشرك) والعمدة في مثل هذه المسألة اتباع ما فيه المصلحة وهي تختلف باختلاف الأحوال. وأما استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لغير المسلمين، فلعل شيخ الإسلام - نفعنا الله بعلمه - يريد بها ما كان في أول الإسلام من استشارته - صلى الله عليه وسلم - لعمه أبي طالب، ومن استشارة المنافقين بعد الهجرة؛ كاستشارة عبد الله بن أُبِيّ في غزوة أحد، ومراجعته لحلفائه من اليهود في بعض المسائل المتعلقة بالمحالفة؛ إن صح أن يسمي هذا استشارة. أما كونه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عرض أمر يستشير فيه المشركين أو أهل الكتاب؛ ليستبين بمشاورتهم الرأي فهو ما لا أعرفه ولا أظن أن شيخ الإسلام يريده. وقد علمت مما تقدم في الكلام على الدستور أنه لا مانع من المشاورة، وإن مصلحة الأمة هي المحكمة في مثل هذه المسألة , ولا شك أن مصلحة دولتنا في هذا العصر تقتضي إشراك جميع شعوبها في المشاورة ووضع جميع القوانين , لا تقوم المصلحة بدون ذلك، وهذا وحده كاف للجواز شرعًا.

أنصار البدع والتقاليد وكتبهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنصار البدع والتقاليد وكتبهم (س 32) من صاحب الإمضاء في بتاوى (جاوه) مولاي الأستاذ المصلح فضيلتلو أفندم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت، والمسؤول منكم إيفاء لما التزمتم به من النصح لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين؛ أن تفيدونا عن أسئلتنا هذه، فقد عرفنا منكم الصدق وقوة الحجة وقطع ألسنة أئمة البدعة - أدامكم الله وزادكم توفيقا -: إنها قد نبغت في هذه السنين رجال يدعون إلى الكتاب والسنة، ويؤثرون ما كان عليه السلف الصالح على كثير من المنقول عن المتأخرين، وقد كثر أصحابهم وعلت أصواتهم، ونرى على أقوالهم جلالة الحق ومسحة الصدق. وقد غاظ أمرهم هذا أُناسًا عاشوا بترويج الرابطة والتوجه. وآخرين جمدوا على ما قاله بعض مصنفي المتأخرين كابن حجر المكي، فاتخذوهم أربابًا من دون الله، يحلون ما أحلوا ويحرمون ما حرموا، ويقدمون أقوالهم على قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وأقوال كبار أصحابه، ورجالات التابعين بإحسان، مع صحة النقل وانتفاء المعارض. وقد زعموا أن الواجب علينا هو الأخذ بما قاله أولئك المصنفون، وأنه لا تجوز لنا مخالفتهم ولا نسبة السهو والغفلة إليهم فضلاً عن الغلط، وأن خلاف ما قالوه بدعة وضلالة وفسوق مهما قويت صحته، وكذا القائلون به من سلف الأمة وخلفها، وأن شيخ الإسلام ابن تيمية كبير الفسقة، وأن من يسميه شيخ الإسلام فاسق أيضًا، بل حرموا الاستدلال من الكتاب والسنة مطلقًا، وقالوا: لا يقرأهما أحد إلا بنية التبرك أو نحو الاستسقاء وإلا فهو ضال مجرم! ! ! وإلى سيدي نبذة طبعها مصنفها حديثًا , عكف عليها عباده وفيها همز ولمز لا نسأل عنهما، ولكن نرجوكم عدم غض النظر عما فيها من، التغرير، والتضليل، وإطلاق المقيد، وتعميم الخاص، وإيراد الأحاديث الموضوعة، والتحكم في الدين والافتراء على الله بالقول؛ هذا حلال وهذا حرام بدون حجة؛ ليكون ما تكتبونه زاجرًا له ولأمثاله من الجهال المتعصبين، ومنفذًا لمن يقع في حبالتهم من العوام والسذج من المؤمنين؛ ولتعلموا أن قصده من الكتابة الرد لما جاء في المنار من نحو الفتيا في الغناء ومن المدح لشيخ الإسلام، ومن الإنحاء على البدع والتقليد، ثم لغيركم بعد من الرسالة فصولاً أخرى، ولربما سكت عن الجواب لعذره ولا عذر لجنابكم، ومع تلك الرسالة نموذج من فتاوى ذلك البعض في منع الترجمة للقرآن، لم يأت على ما قاله فيها ببرهان، فنرجوكم بيان الحق في حكم الترجمة، والتفصيل بين ما يترجم لبيان معناه للاستدلال به على مَن لا يفهم العربية، وما يترجم ليقرأ به العاجز عن القراءة بالعربية، وما يترجم ليكون كالتفسير، وما يشترط لذلك، وأن تشيروا بمَن كتب ترجمة بيان آي القرآن في كتبه بالفارسية وغيرها كالغزالي والبهوبالي والدهلوي وغيرهم، ولكم منا جزيل الشكر، ومن الله وافر الأجر، والسلام. ... ... ... ... سائل خائف يحب إظهار الحق ويخشى السجن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. م (المنار) قد أرسل إلينا صاحب هذا السؤال رسالتين مطبوعتين في جاوه؛ مؤلفهما عثمان بن عبد الله بن عقيل المستشار الديني لحكومة هولندا في جاوه , إحداهما في النهي عن ترجمة القرآن، والثانية في مسائل المجتهدين والمقلدين والصوفية والأولياء والصحابة والنصيحة والحب والبغض في الله، والورع وحفظ اللسان. يكلفنا هذا السائل كما كلفنا غيره أن نقرأ هاتين الرسالتين، ونبين ما فيهما من الخطأ ومخالفة الشريعة، كما كلفنا غيرهم من قبل مطالعة بعض كتب النبهاني والرد عليها. وإن الكتب الحديثة وكذا القديمة المحشوة بالأباطيل والقول في دين الله بغير علم؛ ككتب النبهاني وأمثاله أكثر من أن تحصى، فهل يكلف مثلي أن يقرأها ويبين ما فيها من الخطأ والباطل؛ مهما كثر ذلك وتكرر؟ إن هذا من تكليف ما لا يطاق، فحسبنا أن نبين الحق في مسائل الدين، ومنه يعلم أن كل ما خالفه باطل , وإن أكثر المسائل التي نسأل عنها من هاتين الرسالتين وكتب النبهاني قد بينا الحق فيها بالدلائل الواضحة، فهل نكلف أن نعيد كل ما كتبناه، كلما تكرر السؤال عنه؟ على أن الرد على هؤلاء المقلدين المُتَهَوِّكِينَ مُشْكِلٌ؛ لكثرة تناقضهم ولضيعة البرهان عندهم، كما قال الشاعر: أقلد وجدي فليبرهن مفندي ... فما أضيع البرهان عند المقلد فتراهم يحرمون الاهتداء بالكتاب والسنة والاستدلال بهما على المطالب، ويدَّعون أن الله تعالى ما كلفنا إلا العمل بأقوال بعض الفقهاء المتأخرين؛ كابن حجر الهيتمي والسبكي في دين عثمان بن عقيل مؤلف هاتين الرسالتين، ثم إنهم يستدلون بعد ذلك بالكتاب والسنة، ويخالفون إمامهم ومقلدهم فيما اشترطه في نقل الأحاديث بلْه الاستدلال بها. فقد ذكر ابن حجر في (ص 32) من فتواه الحديثية أنه لا يجوز لغير المحدث رواية الأحاديث ونقلها بمجرد رؤيتها في الكتب، بل لا بُدَّ من نقلها من كتب أهل الحديث الذين يميزون بين الصحيح وغيره , وابن عقيل هذا ينقل في رسالته أحاديث من غير الكتب المعتمدة ولا يعزوها إلى أحد من الحفاظ ولا إلى كتبهم، وفيها الموضوع والواهي الذي لا يحتج به والمحرف وهو لا يعرف أصلها. ومن غرائب التهافت أنه عقد في رسالته فصلاً للأحاديث الموضوعة، وذكر أنها أشد الأشياء خطرًا على الدين. وممن يعدهم عمدة وحجة في الدين الغزالي، وقد شنع في الإحياء وما بعده من كتبه على التقليد، والفقهاء الذين أعلى من ابن حجر مرتبة، فهل يأخذ برأيه في ذلك وهو يحمد اتباع السلف، ويأمر بعد ذلك بالبدع التي تخالف سنتهم، ويعتمد على أقوال الخلف وأعمالهم التي لم تكن في زمنهم. كذلك تراه يعظم الصوفية ويأمر باتباعهم، والصوفية كلهم يتبرءون من التقليد ويقولون: إنهم لا يأخذون دينهم إلا من عين الشريعة وهو كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نقل في رسالته شيئًا من أقوالهم في ذلك، ولهم في ذلك ما هو أصرح مما نقله وأوضح. فبماذا نحتج على مثل هذا المؤلف وهو ليس من أهل الحجة والدليل؛ لأن هؤلاء هم الذين يسميهم هو وأمثاله المجتهدين، ويقولون: إنهم قد انقرضوا، ولا يأتي الله بمثلهم، يقولون هذا افتياتًا على الله وعلى الوجود بما لا يعلمون؟ ؟ ومن غريب تناقضهم أنهم على تبرؤهم من الاستدلال الذي هو الاجتهاد، تراهم يحكمون في المسائل والوقائع حكم المجتهدين بمحض الجهل والهوى، فيقولون: هذا حلال وهذا حرام، وهذا كفر وهذا إيمان، وهذا العالم على هدى فيؤخذ بقوله، وهذا على ضلال فيرد قوله، فالأئمة المجتهدون لم يكونوا يجيزون لأنفسهم أن يقولوا مثل هذا إلا بدليل، فكيف صار هؤلاء المتأخرون الجاهلون فوق الأئمة؛ يقولون في دين الله تعالى بغير دليل، حتى كأن الله تعالى أَذِنَ لهم أن يُشَرِّعُوا للناس من الدين ما شاؤوا. إن مناقشة هؤلاء عبث، والرد عليهم قليل الجدوى في الغالب، ولا يمنع إضلالهم للعامة التي تثق بهم؛ لموافقتهم لأهوائها في البدع والعادات الحاكمة عليها، وإنما السبيل إلى ذلك أن يكثر العلماء الراسخون العارفون بدين الله تعالى، ويتولون أمر التعليم والإرشاد، فمن أراد أن يسعى في إنقاذ المسلمين مما هم فيه من الجهل والبدع ويردهم إلى أصل دينهم، فليسع في هذا، وهو ما يهتم به بعض أصحاب الغيرة المصلحين اليوم، وسيظهر أثره إن شاء الله تعالى عن قريب. على أن المؤلفين الذين يفسدون بمصنفاتهم ولا يصلحون قسمان: قسم طبع الله على قلوبهم، وجمدوا على ما اعتادوه وألفوه باسم الدين، وصار لهم به حظ من المال والجاه حتى تودع منهم، ووقع اليأس من رجوعهم إلى الحق. وقسم آخر لا يزال على شيء من نور الفطرة وسلامة القلب، فهؤلاء وإن سدوا على أنفسهم باب الاستدلال لا يزالون محل رجاء، فهم يعودون إلى الحق إذا ظهر لهم نوره. فلهؤلاء أقول: إننا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى عليه وآله وسلم، فإن الله تعالى لم ينزل عليكم غير هذا القرآن، ولم يرسل إليكم غير هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال في كتابه: إنه أكمل لكم دينكم، فكل من زاد في الدين شيئًا فهو غير مذعن لقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ، ولا قول نبيه صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة الذي حسنه النووي في الأربعين وصححه ابن الصلاح (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وَحَدَّ حدودًا فلا تعدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) . ندعوكم إلى معرفة الكتاب والسنة والاهتداء بهما، وأن تستعينوا على فهمها بما كتبه خدمتهما من أئمة الفقه والحديث والتفسير واللغة، لا نتهاكم عن الاستهداء والاستعانة بكلام هؤلاء الأئمة بل ندعوكم إليه , ولكن لا تجعلوا كلام هؤلاء العلماء شرعًا مقصودًا لذاته وتتركوا الأصل الذي كتبوا ما كتبوا لأجل خدمته وبيانه، حتى يصير نسيًا منسيًا فيصدق عليكم ما نعاه القرآن على من قبلكم؛ بأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. أجمع سلف الأمة ومنهم الأئمة الأربعة على تحريم التقليد، ونصوصهم في ذلك مشهورة، ذكرنا كثيرًا منها في (محاورات المصلح والمقلد) ، ثم جاء المصنفون المقلدون فقالوا بوجوب التقليد للعاجز عن الاجتهاد. ولكنهم أجمعوا على أنه لا يجوز تقليد المقلد، وإنما يجب تقليد الأئمة المجتهدين , ثم جاء المتأخرون يقولون بوجوب اتباع مثل ابن حجر وغيره من المقلدين، فإذا كان قول مثل ابن حجر بوجوب التقليد ليس حجة عند أحد، فهل يكون كلام مقلديه مما يعتد به وهو كلام مقلد المقلد الذي لا يفهم الكتاب والسنة، ولا يعرف كلام مَن يقول إنهم هم الذين فهموهما وبينوهما وهم الأئمة المجتهدون؟ ؟ يدعي الشيخ عثمان بن عقيل وأمثاله في جاوه وحضرموت أنهم متبعون للإمام الشافعي رضي الله عنه. ولكن الشافعي نص في كتبه على منع التقليد، فكيف يكون المقلد متبعًا له! ؟ طبع في هذه الأيام كتاب الأم له مع رسالته في الأصول، وطبع على هامشه مختصر صاحبه إسماعيل بن يحيى المزني فلينظروا كيف بدأ المزني مختصره بقوله بعد البسملة: (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله لأُقَرِّبه على من أراده مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه وبالله التوفيق) . فالأئمة رضي الله عنهم ما تصدوا لبيان الكتاب والسنة؛ إلا ليعينوا الناس على فهمهما، ولم يقصدوا أن يكون كلامهم شرعًا يعمل به ويترك الكتاب والسنة؛ استغناء به عنهما، فهم معلمون للكتاب والسنة لا شارعون، فينبغي أن نستعين بكلامهم على الفهم ونعمل بما فهمنا. ذكر الشيخ عثمان في الفصل الثالث أن الأئمة أهل الاجتهاد المطلق مبينون للكتاب والسنة، والعلماء أهل الاجتهاد في مذاهب الأئمة مبينون لكلام الأئمة كالغزالي، وأهل الترجيح والفتوى كابن حجر مبينون لكلام أهل الاجتهاد في المذهب، فهو يعترف بأن أصل الدين وأساسه كتاب الله، وأن السنة مبينة لما أُجمل فيه، وأن الأئمة مبينون للسنة ... إلخ، ويرى هو وأمثاله أن الواجب على جميع المسلمين الآن اتباع أصحاب الطبقة الأخيرة من المبينين كابن حجر، فلنا مع هؤلاء أسئلة: (1) إن علماء الأصول قالوا: إن الوجوب هو حكم الله المقتضي للفعل اقتضاء جازمًا، فمن أين أخذتم هذا الحكم الإلهي با

نموذج من كتاب التوسل والوسيلة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من كتاب التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي طبع في هذه الأيام. قال بعد بحث وتحقيق ما نصه: إذا عرف هذا، فقد تبين أن لفظ الوسيلة والتوسل فيه إجمال واشتباه، يجب أن تُعْرَف معانيه، ويعطى كل ذي حق حقه، فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه، وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك، ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ ومعناه، فإن كثيرًا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) وفي قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 56-57) فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغى إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، سواء كان محرمًا أو مكروهًا أو مباحًا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب أو استحباب، وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول، فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلا ذلك. الثاني لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة، فإنها درجة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة) ، وقوله: مَن قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد، حلت له الشفاعة فهذه الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وقد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة، وأخبر أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله، وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول، وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما دعوا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يدعو هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرًا. وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به في كلام الصحابة، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به والسؤال به، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح. وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة، فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام؛ وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته، والثاني دعاؤه وشفاعته كما تقدم، فهذان جائزان بإجماع المسلمين، ومِن هذا قول عمر بن الخطاب: اللهم، إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا , أي: بدعائه وشفاعته وقوله تعالى: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ} (المائدة: 35) أي: القربة إليه بطاعته، وطاعة رسوله طاعته، قال تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأما التوسل بدعائه وشفاعته كما قال عمر فإنه توسل بدعائه لا بذاته؛ ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس. ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس؛ علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له فإنه مشروع دائمًا. فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان: أحدها: التوسل بطاعته؛ فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به. والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته؛ وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. والثالث: التوسل به؛ بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته، ولا بعد مماته، لا عند قبره، ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم , وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عن من ليس قوله حجة كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز ونهوا عنه، حيث قالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة , قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك , وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشه هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام. قال القدوري المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقًا , وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه مِن أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان: أحدهما هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى. وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته كالليل إذا يغشى، والنهارإذا تجلى، والشمس وضحاها، والنازعات غرقًا، والصافات صفًّا، فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها، كما في السنن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك) وقد صححه الترمذي وغيره وفي لفظ (فقد كفر) وقد صححه الحاكم، وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من كان حالفًا فليحلف بالله) وقال: (لا تحلفوا بآبائكم؛ فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم) وفي الصحيحين عنه أنه قال: (من حلف باللاتي والعزى فليقل لا إله إلا الله) وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته؛ كالعرش والكرسي والكعبة، والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والملائكة والصالحين والملوك، وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين، وإيمان السدق، وسراويل الفتوة وغير ذلك، لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك. والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك , وقيل هي مكروهة كراهية تنزيه، والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليَّ أن أحلف بغير الله صادقًا؛ وذلك لأن الحلف بغير الله شرك والشرك أعظم من الكذب , وإنما نعرف النزاع في الحلف بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتان: أحدهما لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور: مالك وأبي حنيفة والشافعي، والثانية ينعقد اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه , وابن المنذر وافق هؤلاء. وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وعدّى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء , وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق، وإن كان نبيًّا قول ضعيف في الغاية مخالف للأصول والنصوص، فالإقسام به على الله والسؤال به بمعنى الإقسام هو من هذا الجنس. (المنار) ثم حقق المصنف مسألة سؤال الله بما ليس سببًا للإجابة؛ كسؤاله بخلقه، وسؤاله بما هو سبب شرعي للإجابة؛ كالإيمان والطاعة. وقد أودعنا بعض كلامه في تفسير الجزء الماضي (السابع) ، ثم قال من فتوى أفتاها بمصر ما نصه: فأما التوسل بذاته في حضوره أو مغيبه أو بعد موته مثل الإقسام بذاته أو بغيره من الأنبياء أو السؤال بنفس ذواتهم لا بدعائهم، فليس هذا مشهورًا عند الصحابة والتابعين؛ بل عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان ومن بحضرتهما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان لما أجدبوا استسقوا وتوسلوا واستشفعوا بمن كان حيًّا؛ كالعباس وكيزيد بن الأسود، ولم يتوسلوا ولم يستشفعوا ولم يستسقوا في هذه الحال بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا عند قبره، ولا غير قبره بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد، بل كانوا يصلون عليه في دعائهم، وقد قال: عمر: اللهم، إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنَّا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فَاسْقِنَا , فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك؛ لما تعذر أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه، وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره ويتوسلوا هناك، ويقولوا في دعائهم بالجاه ونحو ذلك من الألفاظ التي تتضمن القسم بمخلوق على الله عز وجل أو السؤال به، فيقولون: نسألك أو نقسم عليك بنبيك أو بجاه نبيك، ونحو ذلك مما يفعله بعض الناس. وروى بعض الجهال عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي، فإن جاهي عند الله عظيم وهذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث، ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث مع أن جاهه عند الله تعالى أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين، وقد أخبرنا سبحانه عن موسى وعيسى عليهما السلام أنهما وجيهان عند الله فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب: 69) . وقال تعالى: {إِذْ قَالَتِ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ} (آل عمران: 45) فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل، فكيف بسيد ولد آدم صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود الذي آنيته عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، ومَن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر عنها آدم وأولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ويتقدم هو إليها، وهو صاحب اللواء؛ آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل، وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله. ولكن جاه المخلوق عند الخالق تعالى ليس كجاه المخلوق عند المخلوق،

الدكتور شبلي شميل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدكتور شبلي أفندي شميل اطلعت في مجلة الهلال شهر حزيران سنة 1909 على مقالة للدكتور المومأ إليه، بحث بها بحثًا فلسفيًّا، يخال للمطالع من أول وهلة أن الدكتور قصد به محاربة الأديان السماوية على الإطلاق؛ بما توخاه من نفي الخلق وإثبات النشوء، وقد عجبت بعد إطالته لتأييد هذا المذهب الجديد من قوله: (لا حياء في الدين) ، وهذا مما يدل أن للدكتور دينًا، فما هو دينه يا ترى؟ سعى إخوان الدكتور المومأ إليه لأخذ توقيع بعض الناس؛ لانتخابه عضوًا في مجلس الأعيان العثماني بصفة أنه عالم مسيحي، والعالمية والمسيحية صفتان مرتبطتان بنواميس وقواعد توجب السلامة لكل بني البشر، باعتبار أن للمسلم أصولاً تقضي بإحقاق الحق، كما أن الدين قانون لمكارم الأخلاق يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وكنت أستغرب عدم تعيين المومأ إليه بعد ذلك الانتخاب. ولعل الذين رفضوا قبول تعيينه عضوًا في المجلس الآنف الذكر؛ عرفوا أن الدكتور على مذهب دارون، وأنه ليس بمذهب معقول ولا مشروع ولا له أتباع في البلاد العثمانية؛ ليكون نائبًا عنهم؛ لأن أصحاب الأديان المعروفة هم المسلمون والنصارى واليهود. كنت أقف مبهوتًا كلما نظرت إلى مصور الإنسان: (أطلس رسوم هياكله على اختلاف أشكالها) وما احتوت عليه من تراكيبه الكلية والجزئية الظاهرة والخفية التي لا تدون ولن تدون؛ لانطواء كل شيء في العالم الكبير العظيم ضمن هذا الجرم الصغير، وكنت أكرر تمجيد قدرة الخالق سبحانه كلما تأملت في الأوعية والأوردة والأدوات والمصانع وأسبحه وأقدسه؛ لإعطائه كل شيء خلقه، وهدايته إلى استعمال وظيفته. وأنشد قول الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر سيدي محيي الدين ابن العربي - رضي الله عنه - في توجيه الخطاب إلى الإنسان. وتحسب أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر وأقول في نفسي: إن الأطباء يلزم أن يكونوا أكثر الناس اعتقادًا بتوحيد الخالق سبحانه؛ لوقوفهم على حقائق ودقائق ولطائف في تركيب الإنسان لا يعرفها غيرهم، كما أنه لا زلنا نسمع عن أساطين الأطباء أنهم كلما اكتشفوا شيئًا جديدًا يقولون: إن الطب لم يزل طفلاً {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء:85) . وبالنظر إلى الدقائق واللطائف والرقائق المنطوية في العالم الإنساني، قال بعض علماء الصوفية (من عرف نفسه فقد عرف ربه) . وإذا قلنا - وهو الواقع -: إن الأطباء أكثر الناس علمًا بنظام العالم الإنساني فهل يسلم العقل أنهم ينسبون إلى الطبيعة الجامدة غير المتصفة بالعلم والقدرة والإرادة؛ أنها أوجدت هذا الإنسان العاقل بالنشوء {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) . الكون موجب للحيرة أو هو بعجائبه محل الحيرة؛ ولذلك قال بعض شيوخ علماء التصوف: (العجز عن درك الإدراك إدراك) . وإذا كانت علوم مدنية أوربا لبواعث نقف تأدبًا عن إيرادها، قد احتوت على الإلحاد، فقد احتوت أيضًا على علوم ذات فوائد عظيمة: اجتماعية وأخلاقية واقتصادية وسياسية إلى غير ذلك، والشرق بحاجة إليها وخصوصًا بدورنا الدستوري؛ ذلك الدور السعيد الذي يقضي بتوحيد مشارب عناصر الوطن وتماسكهم لكي يسعدوا بالوطن ويسعد بهم، وذلك يستلزم أن ينقل إلى الوطن من علوم مدنية أوربا ما يعود عليه وعلى أبنائه بالخير وأسمى المطالب، وخصوصًا لجهة البحث عن أحوال بلاد النمسا والمجر المشابهة من حيث تعدد العناصر للبلاد العثمانية , وبيان البواعث التي قضت بوحدة تلك العناصر واتفاقها وقيامها شعبًا واحدًا يؤيد مصلحة الوطن ويعزز قوته. ألم يكن البحث بمثل ذلك خيرًا وأعم نفعًا من تأييد مذهب دارون، ذلك المذهب الذي قضاياه تخيلات افتراضية صورها الوهم وقربها الاعتقاد بها، وهي لا يمكن أن تحل في محل دين من الأديان مطلقًا. نعم.. إن من يميل إليها يكون حجر عثرة في سبيل العفاف والإنسانية والعدالة، تأخذ بيد من مال معها إلى الأهواء، وتجسره على فك ارتباطه من قيود الدين الأدبية فتسوء عاقبته، ويتحمل صاحب هذه البدعة مثل وزر ذلك المسكين الذي مرق من الدين بالإغواء وزخرف القول المموه. ومن المؤكد أن الاعتقادات الفاسدة التي تناقض الدين؛ فضلاً عن أنها تبعد الإنسان عن خالقه، فهي توجب شرورًا تؤخر الوطن بأدبياته ومادياته، فنرجو من أفاضل الشرقيين الذين وهبوا العلم أو تحصلوا عليه بجدهم أن يتحفوا الشرق بغرر فوائد أوربا وحسناتها، ويدعونا من إلحاد الملحدين؛ لأن الحسن في نفسه حسن ويوجب حسن الأحدوثة، والسيء في نفسه سيء ويوجب سوء العاقبة، أجارنا الله من ذلك، وأن يهبنا الصدق في القول والإخلاص في العمل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر قباني (المنار) صاحب هذه الرسالة يعرفه كثير من قراء المنار، ومنهم من لا يعرفه. هو شيخ رجال الصحافة وكبيرهم عبد القادر أفندي القباني صاحب جريدة ثمرات الفنون التي عاشت أكثر من ثلث قرن وأوقفت في العام الماضي، وكان مديرًا للمعارف ببيروت إلى ذلك العام. وقد جرى في دفاعه عن الدين في رسالته هذه على ما تعوَّد، فجزاه الله عن نفسه ودينه خيرًا. ولكنه جاء بشيء من المبالغة في الكلام عن مذهب دارون ومخالفته للدين وإفضائه إلى الشرور، حتى جوَّز أن يكون هو الذي منع جعل الدكتور شميل عضوًا في مجلس الأعيان كما طلب الكثيرون من السوريين! وعجيب مِن مثل القباني أن يخطر هذا في باله! وهل يظن أنه لا يوجد في رجال المجلس العمومي من المبعوثين والأعيان مَن يقول بصحة رأي دارون في تباين الأنواع؟ وهل كان الكاتب نفسه يمنع كتب دارون وكتب مَن على رأيه مِن المدارس وغير المدارس؛ لو بقي مديرًا للمعارف بعد الدستور أو صار ناظرًا للمعارف العمومية؟ أؤكد لصديقي الكاتب أن مذهب دارون لا ينقض - إن صح وصار يقينًا - قاعدة من قواعد الإسلام، ولا يناقض آية من آيات القرآن، وأعرف من الأطباء وغيرهم مَن يقولون بمثل قول دارون؛ وهم مؤمنون إيمانًا صحيحًا ومسلمون إسلامًا صادقًا، يحافظون على صلواتهم وسائر فرائضهم، ويتركون الفواحش والإثم والبغي التي حرم الله تعالى عملاً بدينهم. على أن هذا المذهب علمي ليس من موضوع الدين في شيء. ثم إنني أعلم أن الدكتور شميلاً لم يكتب ما كتب ردًّا على صاحب مجلة الهلال؛ إلا إنكارًا لبعض ما قاله في الاستدلال على صحة الدين من طريق العلم، ولم يقصد بذلك التعرض لإبطال الدين نفسه، أعني أن بحثه كان في الدليل لا في المدلول , وهو وإن كان غير متدين لا يستجيز الكتابة في إبطال الدين والتنفير عنه بل أنكر قولاً وكتابة على جماعة من إيطاليا أنشأوا مدرسة في الإسكندرية ظهروا فيها بمقاومة الدين , ولو كانت كتابته للهلال في الاعتراض على الدين لكنا ممن عني بالرد عليه. لا فرق بين الدكتور شميل وبين الكثير من أهل بلادنا الذين يرون رأيه في الدين وأكثرهم من النصارى المتعلمين (أي من النصارى جنسيةً لا اعتقادًا) إلا أنه هو يصرح برأيه؛ لأن ظاهره وباطنه سواء لا نفاق عنده ولا جبن ولا مصانعة والذين يجلون علمه واختباره لم يسعوا إلى جعله عضوًا في مجلس الأعيان للمدافعة عن مذهب دارون، فإنهم يعلمون أن مجلس الأعيان لا يعرض عليه هذا المذهب ليبدي رأيه فيه، وإنما أحبوا أن يكون في ذلك المجلس عضو عربي سوري هو من أوسع العثمانيين علمًا واختبارًا، وأشدهم حرية واستقلالاً، وحرصًا على عمران البلاد، وارتقاء أهلها في العلوم والآداب. أما قول الكاتب الغيور: إن الأطباء يلزم أن يكونوا أكثر الناس اعتقادًا بتوحيد الخالق، فهو صحيح، وهو يعني أنهم جديرون بأن يكونوا أشد اعتقادًا وأقوى توحيدًا، وما أرى إلا أن المؤمنين منهم بالله تعالى موحدون، لا شرك في إيمانهم ولا وثنية كما في إيمان أكثر الناس {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) وليس للكاتب أن يعجب من حرمان بعضهم من الإيمان، وهو قد صرح بأن الكون موجب للحيرة أو هو بعجائبه محل الحيرة. والكلمة التي عزاها في هذا المقام لبعض شيوخ الصوفية يعزونها إلى الصديق الأكبر، وهل يظن أن أحدًا من علماء الكون- الطب وغيره - الكافرين موقن في كفره؟ كلا.. إن هم إلا حائرون. ولكن الحائرين فريقان: فريق نشأ على دين وتربى عليه فظل لابسًا له، وفريق نشأ وتربى في مهد الحرية والاستقلال كالإفرنج ومن تلا تلوهم، فهم في حيرتهم هذه لا يلبسون لباس الدين. أما سبب فشو الكفر في هؤلاء الناس؛ فهو أنهم يتعلمون العلوم الكونية بأحسن الأساليب وأقرب الطرق إلى الأذهان، ولا يتعلمون معها دينًا يتفق معها، ويرون فيما عليه أهل الأديان كلها أباطيل ينقضها العلم نقضًا ويهدمها هدمًا , ولا يوجد الآن في الأرض دين يتفق مع العلم إلا دين الإسلام الذي هو دين القرآن، لا دين جماهير المسلمين الذين يلتمسون الخيرات والحسنات، ويدفعون الشرور والسيئات بالاستغاثة بالألوف من الأموات، والطواف بقبورهم والتمسح بما ينسب إليهم من قبر حجري أو خشبي، وقفص من نحاس أو حديد، وباب من الخشب، وعمود من الرخام، وشجرة من الأشجار، وحجر من الأحجار، وبئر من الآبار، وجلد من النعال، وخرقة من القماش؛ الذين يضيق دينهم عن قلنسوة أو كمة تلبس للوقاية من الشمس، فما بالك بما لا يحصى من مكتشفات العلم ونتائج العقل. فهلمَّ أيها الكاتب الغيور، نتعاون على جهاد البدع والخرافات والتقاليد والعادات التي ألصقت بهذا الدين فجعلته كغيره أو أشوه من غيره في نظر العالمين، ونجاهد أنصار هذه الضلالات من أرباب العمائم، الذين هم أضر على الدين من مذهب دارون، لعله يتيسر لنا إنقاذ الإسلام من هؤلاء الجاهلين وإخراجه من جحر الضب الذي وضعوه فيه، ونبين لأهل العلوم والعرفان أنه بريء من هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، واتخذوه هزوًا ولعبًا، وأنه هو الحنيفية السمحة وهم الماثلون المضيقون، وأنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهم عن الفطرة ناكبون، وأنه موافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان وهم لا يوافقون، فإذا نجحنا في هذا، فأنا الضامن لك على الأطباء والكيماويين، والطبيعيين والفلكيين، والاجتماعيين والاشتراكيين، والقانونيين والسياسيين، أن يفضلوه على جميع الأديان، ويرجحوا جعله دين المدنية في هذا الزمان. أرأيتك هذا الدكتور شميل الذي ترد عليه، إنه يقول في كل ناد وسامر، وعلى مسمع من المؤمن والكافر: إنه لا يوجد دين اجتماعي إلا دين القرآن، فهو بهذا القول يدعو إلى نصف الإسلام وهو النصف الدنيوي منه. ولكن يوجد فينا كثير من أصحاب العمائم ينفر عنه بقسميه الدنيوي والأخروي! ! وأما ما أشار إليه الكاتب الغيور من حث أمثال الدكتور شميل على وضع المؤلفات في الفنون والعلوم العصرية النافعة للأمة في هذا العصر، فهو أفضل ما ينبغي الحض عليه والترغيب فيه؛ لتكون لغة البلاد غنية بعلمائها، وسيكون هذا على قدر عناية الأمة والحكومة بالعلم، والله الموفق وبه المستعان.

المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المدرسة الكلية الأمريكانية في بيروت (مقدمة رسالة) قد كان من سيئات الحكومة الاستبدادية لا سيما الحميدية منها؛ أن يذل المسلمون لكل خسف ينالهم حتى العبث بدينهم؛ لأن السلطان عبد الحميد كان قد منع المسلمين من جميع أنواع الاجتماع، ومن الحديث والكتابة فيما يتعلق بالأمور العامة، ومن تقديم الشكاوى للحكومة في المظالم العمومية: دينية كانت أو دنيوية، فلم يكن للأمة أن تقدم محضرًا، وإنما كانت الشكوى خاصة بالأفراد! ولما سقطت سلطته- لا سقى الله عهدها- كان مما شكا منه التلاميذ المسلمون في المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت وشايعهم عليه الرأي العام؛ إلزام المدرسة إياهم بتعلم الديانة النصرانية، وحضور عبادتها في الكنيسة، كما علم مما نشرناه في العام الماضي. وقد انتهى الأمر الآن بما يعلم، ويعلم مقدار السخط منه من الكتاب الآتي: سيدي رجل الإسلام والمسلمين السيد رشيد أفندي رضا -حفظه الله: عرفتم بالتفصيل ما صار إليه أمر الاعتصاب الإسلامي في الكلية، وكيف أن العمدة تلافت الخطر المحدق بها؛ بإعفائها التلامذة من حضور الكنيسة مؤقتًا، والآن وقد أوشكت السنة المدرسية أن تنتهي لم نشعر إلا والرئيس يستقدم التلامذة من مسلمين ويهود لغرفته؛ طالبًا منهم التوقيع على صك، تعهدًا منهم بالقيام بالواجبات الدينية في السنة المقبلة؛ من دخول كنيسة، ودرس توراة وإنجيل حسب الشروح والتعاليق البروتستانتية التي ينفر منها المسلم، ويشك في صحتها كل من له مسكة من العقل، وإذا آنس من أحدهم رفضًا أو ترددًا ينبئه بعدم قبوله في السنة الثانية، حتى ولو لم يبق له إلا سنة أو سنتان لنيل الشهادة، وقد وقع هذا فعلاً مع أحد العثمانيين الإسرائيليين. فيا ركن الإسلام المتين، أطلب منك أن تحمل بقلمك وعملك وفتاويك الحملة الشعواء على خطة الكلية، وتظهر للملأ سوء نيتها، وتعدد لهم الأضرار الناتجة عن تساهل المسلمين في أمور دينهم، حتى لا يبقى عذر للآباء ولا حجة للأبناء، وإن الكلية لفي خوف من المسلمين، ولا سيما إذا وجد من يحركهم تحريكًا لا تعمله القوة الكهربائية؛ ليفسد ما بنوه من الأوهام منذ اثنتين وأربعين سنة. عرفتك فيما مضى تحض المسلمين على إيجاد مدرسة للاستعاضة عن الكلية، قبل مناقشتها الحساب أو قبل الرغبة إليها بإصلاح نظاماتها، فنعم الرأي رأيك، والنصيحة نصيحتك، وقد عرف كل مسلم ما لك من القدم الراسخة وبعد النظر في الأمور العقلية والنقلية. ولكن يا سيدي ما عسانا نفعل، وقد دفع المسلمون إلى الاعتصاب بتأثير من القوى الطبيعية وقوانينها التي سنها الله، وأهم تلك القواعد هي أن كثرة الضغط تستوجب الانفجار. فيا مَنِ اتَّخَذَكَ الكبيرُ أخًا والصغير أبًا، مُدَّ يَدَ المساعدةِ إلى مسلمي الكلية، وحَرِّضِ المصريين بجرائدهم اليومية ومجلاتهم للاعتراض على الكلية، فلقد عرفنا أن ليس للمدرسة من حجة تستند عليها، ولقد أقر كاتب العمدة أمامي بأن المدرسة عثمانية تتبع كل أمر مصدره الآستانة، وذكرهم أن ما علينا إلا أن نصب الشكوى من جميع الجهات، واعلم أن كل ما تفعله الكلية لتأييد مركزها هو من باب السياسة وليس له ظل من الحقيقة، واعلم أن ليس كل كلام يصدر عن كاتب له تأثير ككلامك. فكأني بالأسد الآن، وقد ثار من مَرْبَضِهِ مدافعًا عن الأشبال؛ خيفة أن يصيبهم أذى من الأغرار، ليظهر أن للإسلام صوى (ومنارًا) يستضاء بنوره، إذا اشتد حالك الظلام، فلا زلت للإسلام عضدًا وللمسلمين مرشدًا، مقر بفضلك. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر الغندور (المنار) هذا الذي عملته المدرسة الآن هو الذي كنا نحسبه، فإن هؤلاء الإفرنج أشد خلق الله تعصبًا للدين، وهم الذين نفخوا روح التعصب الذميم في الشرق كما بينا ذلك مرارًا. ولكنهم هم ومن ربوه على تعصبهم يشيعون في بلادنا أن الشرق هو مهد التعصب؛ (رمتني بدائها وانْسَلَّتْ) حتى راج تزيفهم هذا على الجمهور زمنًا ولا يبعد أن يعدوا كراهتنا لإكراههم إيانا على دينهم تعصبًا منا وتساهلاً منهم! ! ! ! إنهم علموا أن الحكومة العثمانية الآن تمنعهم من إكراه غير النصارى على التعاليم والأعمال النصرانية، ولا يمكنهم أن يعبثوا بها كما كانوا يعبثون في زمن عبد الحميد، فلجأوا إلى هذه الحيلة التي ليس أمامهم سواها، ولا يرجعون عنها بحملة الجرائد عليهم؛ لأن بث دينهم هو الغرض الأول لهم من مدارسهم، لا سيما في الشرق، فلا يثنيهم عنه شيء إلا أن يكون قوة الحكومة، والحكومة لا تمنع إلا الإكراه. فالرأي إما ترك التلاميذ المسلمين لهذه المدرسة إن كانوا يستغنون عنها بغيرها وإما البقاء فيها مع تلافي ضرر التعاليم المخالفة لدينهم، وجعل ذلك ذريعة إلى منافع أخرى دينية ودنيوية. أما الاستغناء عن المدرسة بمثلها أو خير منها فلا سبيل إليه؛ إذ لا يوجد في بلادنا مثلها في تعليمها وتربيتها. وأما الثاني فهو ميسور والذي ننبه إليه منه أمور: (1) مطالعة الكتب الإسلامية التي تبين حقيقة الإسلام؛ ككتب الأستاذ الإمام وأقواله في التوحيد والتفسير والنسبة بين الإسلام والنصرانية، وكتاب روح الإسلام للقاضي أمير عليَّ. (2) مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم التعليمية الدينية؛ ككتاب أضرار تعليم التوراة والإنجيل لأحد علماء الإنكليز، وهو يوجد بالعربية والإنكليزية وغيره من الكتب الإنكليزية التي يمكن أن يرشدهم إليها سليم أفندي التنير. (3) المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة إذا أمكن، وغير ذلك من الأعمال الإسلامية؛ كالصيام في هذه الأيام. (4) ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ومنه التواصي بإعداد النفوس لمسابقة القوم إلى مثل عملهم في الجمع بين العلم والدين، وإنشاء مثل هذه المدرسة في بيروت وغيرها من البلاد، فإن عملهم هذا مما يحمد. قد بيَّنا فيما كتبناه عن مسألة هذه المدرسة في العام الماضي؛ أن المسلم لا يكون نصرانيًّا كما قال السيد جمال الدين وغيره من العارفين، وقلنا هناك أيضًا: إن هذا التعصب من هؤلاء الإفرنج لاسيما القائمين بأمر هذه المدرسة، هو الذي يحيي الشعور الديني في نفوس غير النصارى من التلاميذ في هذه المدرسة، فعمل رجال المدرسة يأتي بنقيض ما يريدون منه، ويصدق فيه على المسلمين قوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) . إن المسلم البصير بدينه لا يمنع من النظر في كتب أي دين من الأديان، ولا من سماعها. ولكن علماء الإسلام متفقون على أنه لا يجوز للمسلم أن يتلبس بعبادة أهل دين آخر، ويعدون تلبسه بها الذي يكون به كأهلها لا يميزه الرائي عنهم من الردة، فإذا ثبت عند القاضي ذلك في دعوى إرث مثلاً، فإنه يحكم بأن مَنْ هذا شأنُهُ لا يَرِثُ مِنْ أبيه المسلم. وما أظن أن تعصب عمدة المدرسة يصل إلى هذا الحد، فإن هم وصلوا إليه رفع الأمر إلى الحكومة، فإنها تمنعهم منه بلا شك سواء تعهد التلميذ به أم لا، نعم.. ما كل ما يحكم به في الظاهر يوافق الباطن، وما كل ما يسميه النصارى صلاة دعاء ممنوع عندنا. ولكن التشبه بهم فيما هو خاص بهم من أمر الدين ممنوع قطعًا. *** غلط فاحش يجب إصلاحه بالقلم في السطر 23 من صفحة 578، وفي السطرين 3 و4 من صفحة 579 من مجلد المنار الحادي عشر: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 152) أي فضل خاص لا يشاركهم فيه غيرهم، وهو عناية بهم وتوفيقهم. وصوابه هكذا: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (آل عمران: 155) لا يعجل بتحتيم العقاب، ومن آياته مغفرته لهم وحلمه بهم توفيقهم. وفي السطر الأول من صفحة 528 من الجزء الماضي: كلمة (السابع) وصوابها التاسع.

أبو حامد الغزالي ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أبو حامد الغزالي [1] (6) رأيه في إثبات مذهب أهل الحق من المسلمين وفي مذهب الباطنية أهل التعليم وفيه رأيه في آيات النبوة وفي خروج المسلمين من الخلاف تمهيد كان الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الخلفاء الراشدين دينًا واحدًا، والمسلمون أمة واحدة، لا فِرَق فيهم ولا مذاهب، ثم حدثت المذاهب في الأصول والفروع، ووقع المسلمون فيما نهاهم الله تعالى عنه من الاختلاف والتفرق إلى شيع متعددة، كل شيعة منها تنتحل مذهبًا، ولم يضر المسلمين في دينهم ودنياهم شيء كهذا التفرق؛ ولذلك لم يشدد القرآن في النهي عن شيء كما شدد في النهي عن الخلاف والتفرق، كما بينا ذلك في تفسير القرآن الحكيم، وفي مواضيع كثيرة من المنار. وكان شر المذاهب وأشأمها في هذه الأمة مذهب الباطنية الذين ذهبوا إلى أن للدين ظاهرًا وباطنًا، وأن الباطن منه هو الحق المراد لله تعالى وأنه لا يمكن أن يعرف من النظر في الكتاب والسنة بطرق النظر المعروفة في الأصول وقوانين اللغة التي للألفاظ والمعاني، بل لا بد في كل عصر من إمام معصوم يؤخذ عنه الدين بالتسليم الأعمى، حتى إذا قال: إن الشمس والقمر في القرآن لا يراد بهما هذان الكوكبان المعروفان وإنما يراد بهما فلان وفلان - وجب تصديقه، فلا يعارض شيء من تعليمه بمخالفة اللغة ولا العقل ولا النص! ! ! وإن لهذا المذهب - بل الدين - الذي ظهر بمظهر المذهب درجات في الاعتقاد، ودرجات في الدعوة، ليس هذا المكان بمحل لبيانها. والدرجة الأخيرة منها هي اعتقاد أن إمامهم هو الله الذي خلق الخلق وأرسل الرسل وأنزل الكتب (تعالى الله عما يقولون) . وقد ظهروا في أطوار وتسموا بأسماء أشهرها في زمن الغزالي الإسماعيلية، وكان رئيسهم يومئذ حسن بن الصباح الشهير. وآخر فرقهم المشهورة في زمننا هذا فرقة البابية، أو البهائية من البابية. ما ظهرت بدعة ولا ضلالة قام بها أهل مذهب إلا ووصل إلى غيرها من المذاهب شرها، وسرى إلى أهلها ضرها، وكان أقرب الفرق إلى الباطنية فرقة الشيعة؛ لقولهم بعصمة الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم الرضوان والسلام) بل كانت الباطنية في الزمن الماضي والحاضر من الشيعة كالعبيدين بمصر، والبابية في فارس، وهم ليسوا في الحقيقة من الشيعة ولا من المسلمين، والشيعة تقول بكفرهم كغيرها. كذلك يشتبه مذهبهم بمذهب الصوفية الذين يقولون: إن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وإن للدين أسرارًا لا يفهمها إلا الخواص. ولكن فَرْقًا عظيمًا بين الصوفية والباطنية فالغزالي الذي كان أشد العلماء على الباطنية حتى إنه صنف الكتب في الرد عليهم كان صوفيًّا، يقول: إن للدين أسرارًا، كما سيأتي عنه في هذه الترجمة مع بيان الفصل فيه بين الصوفية والباطنية. بل إن مقلدة المذاهب الأربعة في الفقه، والمذهبين الأشعري والماتريدي في الكلام، وهم مِن أتباع أئمة أهل السنة، قد سرت إليهم دعوة الباطنية الأولى، فعملوا بها في الغالب، فجعلوا أئمتهم معصومين وإن لم يسموهم معصومين، فمبدأ التقليد عند أكثرهم أن الواجب اتباع ما ثبت في المذهب من غير بحث ولا دليل، وأنه لا يجوز رد شيء من المذهب لما يظهر أنه مخالف له من آية قرآنية وسنة نبوية، بناء على أن إمام المذهب وعلماءه أعلم بالكتاب والسنة، فالقول ما يقولونه وهو الدين الواجب اتباعه على كُلِّ أحدٍ! . والفرق بينهم وبين الباطنية أن الباطنية تقول بإمام واحد يُتَّبع في كل شيء من الأصول والفروع، وهم يقولون بإمامين في العقائد هما الأشعري والماتريدي وأربعة في فروع الأعمال، كل مَن خالفهم يكون ضالاًّ خارجًا عن هداية الإسلام، إما إلى الكفر أو البدعة، وإما إلى الفسق؛ بل أوجبوا اتباع مَن لا يحصى عددهم من علماء هذه المذاهب، وإن لم يسموهم كلهم أئمة فهؤلاء مقلدة سنغافورة وجاوه يقدسون أحمد بن حجر الهيتمي ويوجبون اتباعه دينًا في كل ما دوَّنه في كتبه، وإن خالف نص الشافعي الذي هو إمامه (ولكل قوم ابن حجر) . إذا تمهد هذا، فاعلم أن أبا حامد الغزالي قد أبطل في رده على الباطنية مذهبهم والنزعات التي سرت منه إلى غيرهم من أهل المذاهب الإسلامية، أو ما وافقه منها وإن لم يكن بالسريان، وأبطل التقليد مطلقًا كما أبطله كتاب الله وسلف الأمة، حتى أئمة الفقه الأربعة ومن أخذ عنهم، وأثبت أنه ليس في البشر إمام معصوم يجب اتباعه غير محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني منذ بعثته إلى آخر الزمان. أحسن ما وصل إلينا من كتب أبي حامد في إبطال مذهب الباطنية، ويسمى مذهب التعليم كتاب: (القسطاط المستقيم) ، وهو يشرح فيه مناظرة دارت بينه وبين أحد دعاة الباطنية، وسماه بهذا الاسم؛ لأن الباطني لما سأله بماذا يزن معرفته أبالرأى والقياس الذي جرى عليه المسلمون في الاستنباط من النصوص وهو مثار الخلاف بين الناس؛ لما فيه من التعارض والالتباس. أم بميزان التعليم باتباع الإمام المعصوم؟ أجابه أبو حامد بأنه يزنها بالقسطاس المستقيم كما أمر الله في كتابه. ثم استنبط له من القرآن خمسة موازين يعرف بها الحق من الباطل في كل علم. ثم بين له أن الشيطان له موازين تضل الناس، وهى طرق الوساوس والأوهام ومسارب خطأ الناس في الفهم والعلم، ثم شرح له المقصد الذي أشرنا إليه فقال: (القول في الاستغناء بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبعلماء أمته عن إمام معصوم آخر) . (وبيان معرفة صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - بطريق أوضح من النظر في المعجزات) . (وأوثق منه وهو طريق العارفين) . فقال (أي الباطني) : لقد أكملت الشفاء، وكشفت الغطاء، وأتيت باليد البيضاء. لكن بنيت قصرًا وهدمت مصرًا، فإني إلى الآن كنت أتوقع أن أتعلم منك الوزن بالميزان، وأستغني بك وبالقرآن عن الإمام المعصوم، فالآن إذ ذكرت هذه الدقائق في مداخل الغلط، فقد أيست من الاستقلال به، فإني لا آمن أن أغلط لو اشتغلت بالوزن، وقد عرفت الآن لِمَ اخْتَلَفَ النّاسُ في هذه المذاهب؛ وذلك لأنهم لم يتفطنوا لهذه الدقائق كما فطنت، فغلط بعضهم وأصاب بعضهم، فإذا أقرب الطرق لي أَنْ أُعَوِّلَ على الإمام المعصوم حتى أتخلص من هذه الدقائق. فقلت: يا مسكين معرفتك بالإمام الصادق ليست ضرورية، فهي إما أن تكون تقليدًا للوالدين أو موزونة بشيء من هذه الموازين، فإن كل علم ليس أوليًّا فبالضرورة يكون حاصلاً عند صاحبه بقيام هذه الموزاين في نفسه، وإن كان هو لا يشعر به، فإنك عرفت صحة ميزان التقدير بانتظام الأصلين في ذهنك: التجريبي والحسي، وكذلك سائر الناس وهم لا يشعرون به. ومَن يعرف مثلاً أن هذا الحيوان غير حامل لأنه بغل، عرفه بانتظام الأصلين الذين ذكرناهما في صدر الكتاب، وإن كان لا يشعر بمصدر علمه، وكذلك كل علم في العالم يحصل للإنسان فيكون كذلك، فأنت إن أخذت اعتقاد العصمة في الإمام الصادق بل في محمد صلى الله عليه وسلم تقليدًا للوالدين والرفقاء، لم تتميز عن اليهود والنصارى والمجوس، فإنهم كذلك فعلوا، وإن أخذته من الوزن بشيء من هذه الموازين، فلعلك غلطت في دقيقة من دقائقه، فينبغي على زعمك أن لا تثق به. فقال: صدقت، فأين الطريق، فلقد سددت عليّ طريق التعليم والوزن جميعًا قلت: هيهات راجع القرآن، فلقد علمك الطريق؛ إذ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201) ، ولم يقل سافروا إلى الإمام المعصوم فإذا هم مبصرون، فأنت تعلم أن المعارف كثيرة، فلو ابتدأت في كل مشكلة سفرًا إلى الإمام المعصوم بزعمك، طال عناؤك وقل علمك. لكن طريقك أن تتعلم مني كيفية الوزن وتستوفي شروطه، فإن أشكل عليك شيء عرضته على الميزان، وتفكرت في شروطه بفكر صاف وجد واف، فإذا أنت مبصر. وهذا كما لو حسبت ما للبقال عليك أو لك عليه، أو قسمت في مسألة من مسائل الفرائض وشككت في الإصابة والخطأ، فيطول عليك أن تسافر إلى الإمام المعصوم. ولكن تُحَكِّم علم الحساب وتتذكره ولا تزال تعاوده مرة بعد أخرى حتى تستيقن قطعًا أنك ما غلطت في دقيقة من دقائقها، وهذا يعرفه من يعرف علم الحساب وكذلك مَن يعرف الوزن به كما أعرفه، فينتهي به التذكر والتفكر والمعاودة مرة بعد أخرى إلى اليقين الضروري بأنه ما غلط، فإن لم تسلك هذه الطريق لم تفلح قط، وصرت تشكك بلعل وعسى، ولعلك قد غلطت في تقليدك لإمامك بل للنبي الذي آمنت به، فإن معرفة صدق النبي صلى الله عليه وسلم ليست ضرورية (أي ليست بديهية معلومة بالضرورة) . فقال: لقد ساعدتني على أن التعليم حق، وأن الإمام هو النبي صلى الله عليه وسلم. واعترفت بأن كل واحد لا يمكنه أن يأخذ العلم من النبي صلى الله عليه وسلم دون معرفة الميزان، وأنه لا يمكنه معرفة تمام الميزان إلا منك، فكأنك ادعيت الإمامة لنفسك خاصة، فما برهانك ومعجزتك؟ فإن إمامي إما أن يقيم معجزة، وإما أن يحتج بالنص المتعاقب من آبائه إليه، فأين نصك وأين معجزتك؟ فقلت: أما قولك إنك تدعي الإمامة لنفسك خاصة، فليس كذلك، فإني أرجو أن يشاركني غيري في هذه المعرفة، فيمكن أن يُتعلم منه كما يُتعلم مني، فلا أجعل التعليم وقفًا على نفسي. وأما قولك تدعي الإمامة لنفسك، فاعلم أن الإمام قد نعني به الذي يتعلم من الله بواسطة جبريل وهذا لا أدعيه لنفسي، وقد نعني به الذي يتعلم من الله بغير جبريل ومن جبريل بواسطة الرسول، ولهذا سُمِّيَ علي رضي الله عنه إمامًا، فإنه تعلم من الرسول لا من جبريل، وأنا بهذا المعنى أَدَّعِي الإمامة لنفسي. أما برهاني عليه فأوضح من النص ومما تعتقده معجزة، فإن ثلاثة أنفس لو ادعوا عندك أنهم يحفظون القرآن، فقلت: ما برهانكم؟ فقال أحدهم: برهاني أنه نصَّ عليَّ الكسائي أستاذ المقرئين إذ نصَّ على أستاذي، وأستاذي نص عليّ، فكأن الكسائي نصَّ عليّ، وقال الثاني: إني أَقْلِبُ العصا حية فَقَلَبَ العصا حيَّةً، وقال الثالث: برهاني أني أقرأ جميع القرآن بين يديك من غير مصحف. فليت شعري أي هذه البراهين أوضح عنك، وقلبك بأيها أشد تصديقًا؟ فقال بالذي قرأ القرآن فهو غاية البراهين؛ إذ لا يخالجني فيه ريب. أما نَصُّ أستاذِهِ عليه ونَصُّ الكسائيِّ على أستاذه، فيتصور أن تقع فيه أغاليط لا سيما عند طول الأسفار. وأما قلب العصا حية فلعله فعل ذلك بحيلة وتلبيس، وإن لم يكن تلبيسًا فغايته أنه فعل عجيب، ومن أين يلزم أن من قدر على فعل عجيب ينبغي أن يكون حافظًا للقرآن. قلت: فبرهاني إذًا أيضًا أني كما عرفت هذه الموازين، فقد عرفت وأفهمت وأزلت الشك عن قلبك في صحته، فيلزمك الإيمان بإمامتي، كما أنك إذا تعلمت الحساب وعُلمته من أستاذ، فإنه إذا علمك الحساب حصل لك علم بالحساب وعلم آخر ضروري بأن أستاذك حاسب وعالم بالحساب، كذلك فقد علمت من تعليمه علمه وصحة دعواه أيضًا في أنه حاسب، وكذلك آمنت أنا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وصدق موسى عليه السلام، لا بشق القمر ولا بقلب العصا حية بمجردهما، فإن ذلك يتطرق إليه حينئذ التباس كثير فلا يوثق به، بل من يؤمن بقلب العصا حية يكفر بخوار العجل، فإن التعارض في عالم الحس والشهادة كثير جدًّا. لكني تعلمت الموازين من القرآن ثم وزنت بها جميع المعارف الإلهية، بل أحوال المعاد وعذاب القبر وعذاب أهل الفجور وثواب أهل الطاعة، كما ذك

النسخ وأخبار الآحاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النسخ وأخبار الآحاد وعَدنا في الجزء السابع بأن نبين رأينا في المناظرة التي دارت في المنار بين الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي والشيخ صالح اليافعي، ورجونا أن يكون ذلك في الجزء التاسع، (وكتب " السابع " غلطًا وصححناه في الجزء الثامن على أنه غلط بديهي؛ إذ هو في الجزء السابع) . وقد عرض لنا من كثرة المواد ومن الشواغل ما حال دون تحقق الرجاء بالتفصيل الذي كنا نريده، فرأينا أن نقول الآن كلمة مجملة ونرجئ التفصيل المراد إلى جزء آخر، فتكون كلمتنا هذه كحكم المحكمة بدون ذكر الأسباب التي يسمونها الحيثيات، وكلمتنا الموعود بها كبيان حيثيات الحكم فنقول: النسخ قد سبق لنا القول بأن النسخ المصطلح عليه الذي هو محل النزاع، لم يرد به نص في القرآن ولا في الحديث المرفوع، يعلم منه أن آية كذا أو حديث كذا قد نسخ وبطل معناه أو ترك لفظه أو اللفظ والمعنى جميعًا، وما أورده اليافعي في تفسير {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} (البقرة: 106) ليس نصًّا ولا ظاهرًا فيها بل الظاهر ما قاله الأستاذ الإمام وجرى عليه الدكتور صدقي، ولكن الأستاذ كان يرى أن الظاهر في قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} (النحل: 101) في آيات القرآن خلافًا لما قاله الدكتور فيها، وهي ليست نصًّا قاطعًا في هذا ولا ذاك، وقد ورد في كلام الصحابة والتابعين وأئمة الفقه ما يدل على أن للنسخ الاصطلاحي أصلاً , ولكنه كما قال اليافعي في بعض المواضع: إنه أعم من النسخ الذي عليه الأصوليون. وإن نسخ حكم في الشريعة بحكم آخر هو كنسخ شريعة بشريعة أخرى معقول المعنى، موافق لحكمة التشريع في انطباقها على مصالح الناس التي تختلف باختلاف الزمان والأحوال، لا شبهة فيه على أصل الدين , وإن أكثر ما قاله العلماء في نسخ أحكام القرآن بديهي البطلان، وما هو محل نظر منها قد جعله السيوطي عشرين وغيره سبعًا، والصواب أنه لا يوجد في القرآن آيتان لا يتفق معنى إحداهما مع معنى الأخرى، بحيث يقطع بالتعارض الذي لا يمكن التفصي منه إلا بحمل إحداهما على النسخ المعروف عند الأصوليين. أما النسخ بالمعنى الذي يعم التخصيص والتقييد وبيان المجمل فهو واقع في القرآن ونقول به. وأما نسخ التلاوة فلم تظهر لنا حكمته، ولم يأت اليافعي ولا مَن قبله مِن العلماء الذين اطلعنا على أقوالهم بحكمة مقنعة لمن كان مستقلاًّ في فهمه غير مقلد فيه، لا سيما نسخ اللفظ مع بقاء حكمه. وأما الدليل على وقوع ذلك فهو بعض الروايات عن الصحابة، وهي وإن صحح مثل البخاري أسانيدها محل إشكال في متنها كأحاديث أخرى في الصحيحين وغيرها، منها نص علماء هذا الشأن على عدها مشكلات وعدم الاهتداء إلى حل معقول لها إلا الجزم بغلط الرواة فيها؛ كحديث شريك في المعراج عند البخاري، وحديث (خلق الله التربة يوم السبت) الذي رفعه مسلم وغيرهما. وسنشير إلى غير هذين الحديثين مما هو مشكل في الصحيحين قريبًا. أحاديث الآحاد والدين إن كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من قول أو فعل أو تقرير، يتعلق بأمر الدين على أنه منه فهو حجة على من ثبت عنده، يجب عليه الإذعان لما يدل عليه، ولا يقال: إن شيئًا منه خاص بوقت دون وقت، أو قوم دون قوم، أو شخص دون شخص من المكلفين إلا بدليل يُثْبِت ذلك. فإن عارض هذا الحديث بعد ثبوته آية من القرآن أو حديث آخر أو دليل حسي أو عقلي، كان الحكم في ذلك لما تقتضيه قواعد التعادل والترجيح والجمع والتأويل، وهي معروفة في مواضعها. وقد قال المحدثون: إن من علامة كون الحديث موضوعًا؛ مخالفته لنص القرآن، والمسائل القطعية في الدين، واليقينيات الحسية والعقلية. هذا إذا كان الجمع بينه وبين القطعي أو التأويل متعذرًا. ولم يقل أحد من سلف الأمة وأئمة الفقه: إن معرفة الدين تتوقف على الإحاطة بجميع ما رواه المحدثون من الأحاديث ولا بأكثرها، ولم يكن الأئمة الأربعة الذين يتبعهم أكثر المسلمين في الأحكام العملية مطَّلعين على ذلك كله، لا سيما الإمام أبو حنيفة الذي لم يرحل في طلب الحديث للقاء الرواة المنتشرين في بلاد الإسلام، ولم يكن الحديث مدونًا في الأسفار فيأخذه منها، وهو مع ذلك معترف بإمامته واجتهاده عند أتباعه وغيرهم من أهل السنة. فما جرى عليه سلف الأمة وخلَفها هو أن من بلغه حديث وثبت عنده، وجب عليه العمل به، ومن خالف بعض الأحاديث لعدم ثبوتها عنده أو لعدم العلم بها فهو معذور، فالعمدة في الدين كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى والسنن العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية، وما ثبت من السنن وأحاديث الآحاد المختلف فيها رواية أو دلالة في الدرجة الثالثة، ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلمًا ناجيًا في الآخرة مقربًا عند الله تعالى، كما نرى بيان ذلك في ترجمة الإمام الغزالي من هذا الجزء. أحاديث الآحاد تفيد اليقين أم الظن ذكرت هذه المسألة أكثر من مرة في المنار، وقد حققنا في تفسير قوله تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} (آل عمران: 173) أن للظن إطلاقين: أحدهما اعتقاد أن هذا الشيء ثابت، وأنه يحتمل احتمالاً ضعيفًا أن لا يكون ثابتًا , وهذا هو الظن الذي جاء في القرآن أنه {لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) . ثانيهما اعتقاد أن هذا الشيء ثابت مع عدم ملاحظة الطرف المخالف. ولكن من غير برهان على منع الطرف المخالف، وهذا قد يسمى في اللغة والشرع يقينًا وعلمًا. ولكنه لا يسمى يقينًا عند علماء المنطق والكلام والفلسفة لأنهم يطلقون اليقين على مرتبة أعلى من هذه المرتبة في العلم؛ وهي ثبوت الشيء بالبرهان، وثبوت امتناع مقابله. وراجع التفصيل في التفسير (1 ص 898 م 11) . فيُعلم مما حققناه أن بعض أخبار الآحاد يفيد العلم واليقين لغة وشرعًا وعادة، وبعضها لا يفيد ذلك. ولكن لا يفيد شيء منها العلم البرهاني واليقين المنطقي، والدكتور توفيق صدقي لا ينكر أن له من الأصحاب من لو أخبره بشيء يصدقه ويطمئن قلبه لخبره، فلا يشك ولا يتردد فيه، كما أنه يصدق المؤذن في دخول وقت الصلاة والفطر في هذه الأيام، لا يشك فيه ولا يتريث في العمل به. فهل هو في هذا عامل بالظن الذي ذمه القرآن؟ لا لا. وقد صرح الأستاذ الإمام في الدرس بأن الصحابة والتابعين كانوا موقنين بصدق الأحاديث التي عملوا بها عندما سمعوها ممن رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يعقل أن يحدث مثل الصديق أحدًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ويتردد السامع في صدقه. ولا شك في أن كثيرًا من الأحاديث المروية في دواوين المحدثين المشهورة تفيد هذا النوع من العلم واليقين، ولا يعقل أن يكون كل ما رواه المسلمون عن النبي صلى الله عليه وسلم غير موثوق به؛ بل لا يعقل أن تكون أكثر روايات التاريخ التي اتفق عليها المؤرخون كاذبة، فكيف يكون أكثر ما رواه المحدثون واتفقوا على تصحيحه كاذبًا؛ وهم أشد تحريًا وضبطًا من المؤرخين. واحتمال خطأِ بعض الرواة العدول ووقوع ذلك من بعضهم لا يمنع الثقة بكل ما يروونه. كما أن مجرد تعديل المحدثين لهم، لا يقتضي قبول كل ما رووه بغير بحث ولا تمحيص. فالجامعان الصحيحان البخاري ومسلم هما أصح كتب الحديث متنًا وسندًا؛ لشدة تحري الشيخين فيهما - رضي الله عنهما وجزاهما خيرًا - ومع هذا لم يتلقهما المحدثون بالقبول تقليدًا لهما وثقة مجردة بهما، بل بحثوا ومحصوا وجرحوا بعض رواتهما، وبينوا غلط بعض متونهما؛ كتغليط مسلم وغيره لرواية شريك عند البخاري في حديث المعراج، وتغليطهم لمسلم في حديث خلق الله التربة يوم السبت (وتقدم ذكرهما) وفي حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات، وفي حديث طلب أبي سفيان بعد إسلامه أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أُمَّ حبيبة ويتخذ معاوية كاتبًا. ومن دقق النظر في تاريخ رجال الصحيحين ورواية الشيخين عن المجروحين منهم، يرى أكثرها في المتابعات التي يراد بها التقوية دون الأصول التي هي العمدة في الاحتجاج. ثم إذا دقق النظر فيما أنكروه عليهما مما صححاه من الأحاديث، يجد أن أقوالهما في لغالب أرجح من أقوال المنازعين لهما لا سيما البخاري، فإنه أدق المحدثين في التصحيح. ولكنه ليس معصومًا من الغلط والخطأِ في الجرح والتعديل. وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء الحديث لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها، والقليل منها مختلف فيه، وما من إمام من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها. فإذا جاز رد الرواية التي صح سندها في صلاة الكسوف؛ لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز ردُّ رواية خلق الله التربة يوم السبت ... إلخ؛ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة أيام وللروايات الموافقة لذلك، فأَوْلى وأظهر أن يجوز ردُّ الروايات التي تتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ التلاوة) ، لا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي وأمثاله كثيرون. ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، ردها الأستاذ الإمام، ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها؛ لأن نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها؛ ولأنها مؤيِّدة لقول الكفار: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وهو ما كذبهم الله فيه بقوله بعده: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: 48) . ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد؛ كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب بعد الغروب؟ والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله تعالى بالطلوع ... إلخ وقد سألنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه؛ لأننا لم نجد جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه. فإذا قلنا: إنها يصدق عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش؛ لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى؛ ولأن كل مخلوق هو تحت عرش الرحمن؛ إن لم تكن التحتية فيه حسية؛ لأن الجهات أمور نسبية لا حقيقية فهي معنوية , إذا قلنا هذا أو إنه تمثيل لخضوعها في طلوعها وغروبها وهو أقرب، فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا لا مراء فيه؟ اللهم لا. ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح، قد يخرج بعضه على أنه من باب الرأي في أمور العالم، والأنبياء لا تتوقف صحة دعوتهم ونبوتهم على العلم بأمور المخلوقات على حقيقتها، ولم يقل أئمة الدين: إنهم معصومون فيها، كما يدل عليه الحديث الصحيح في تأبير النخل. ولكن يستثنى الإخبار عن عالم الغيب، فهم معصومون فيه. أما الأحاديث المخالفة للقرآن في خبره أو معناه أو أي نوع من أنواع المخالفة الحقيقية، فلا يمكن أن تكون صحيحة في الواقع، وإن وثَّق المحدثون رجالَ أسانيدِها. ولكن يجب التدقيق في ذلك قبل الحكم به، فما رآه الدكتور محمد توفيق صدقي من أن تحريم الأكل والشرب في أواني النقدين مخالف لآية إباحة الزينة والطيبات، هو في غير محله؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم استنبط ذلك من قوله تعالى في الآية التي قبل آية الزينة: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ال

الانقلاب العثمانى الميمون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانقلاب العثماني الميمون (لاهور في 19 أغسطس 1909) حضرة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا أدام الله فضلكم ونفعنا بعلومكم آمين. أما بعد السلام والاحترام، لا أستطيع أن أفي بحق شكركم على ما أبديتم من اللطف في نشر مقالتي والرد عليها ردًّا مسهبًا، وسأنشر ترجمة ردكم هذا في جريدتى تمامًا، إن شاء الله تعالى. ولا أكتب بعد ذلك في هذا الأمر شيئًا بقصد استطلاع الآراء، بل نترك للدهر يقضي كيف يشاء، فإنه خير قاض، ولكني أرى بنفسي أن الذين هم اليوم أعداء لعبد الحميد مثل: شوكت باشا والغازي مختار باشا وغيرهم، يحسون عاجلاً بضرورة رجوعهم إلى عبد الحميد؛ إن لم تأخذهم الحمية حمية الجاهلية، وسلكوا مسلك الإنصاف والسداد. وأما أمر التحاشي من نشر ردكم الأول فكنت على الصواب فيه؛ لأنه صدق ظني حين نشرته جريدة (علي كده أنستي تيوت غازت) فاستاء منه العالم الإسلامي الهندي أشد الاستياء، حتى اضطر محرر هذه الجريدة لتقديم الاستقالة من خدمته في أواخر شهر يونيو الخالي؛ وساءت سمعة مجلة المنار أيضًا؛ فرأيت أن أدافع عن المجلة، ونشرت ردكم في جريدتي مع جوابي الذي أرسلته إليكم بعد التعريب كما نشرتموه في العدد السادس من مجلة المنار الأغر؛ ولقد أثر ذلك الأمر تأثيرًا حسنًا في تسكين ثائرة نفوس المسلمين الهنديين، وإطفاء ثائرة غيظهم على (المنار) . وليكن في علم حضرتكم أن الجرائد التي وافقت آراءكم من مائة جريدة إسلامية في الهند لا يربو عددها على اثنتين فقط؛ إحداهما جريدة (علي كده أنستي تيوت غازت) ، والأخرى جريدة (وكيل) (أمر تسر) فما الذي جرى للأولى؟ هو أن النواب وقارالملك ناظر الكلية الإسلامية في (علي كده) طلب من المحرر أن يصلح آراءه، ويكتب ردًّا لأقوال مجلة المنار، ولكنه أبى الرد واستقال من وظيفته؛ ورد أقواله حضرة النواب المشار إليه في الأعداد التالية من الجريدة، واضطر إلى التسليم بأن عبد الحميد هو (عبد الحميد الأعظم) لا محالة؛ وقد ندمت جريدة (وكيل) أيضًا من سلوكها ذلك المسلك الصعب المخالف للرأي العام لمسلمي الهند، واعتذرت عما فرط منها. وظنكم أن آراء جريدة (وطن) موافقة لقرائها، وهم عدد قليل في الملايين من مسلمي الهند فليس في محله؛ لأن شيوع هذه الجريدة في الأقطار الهندية وإشاعتها أكثر بكثير من جميع الجرائد الإسلامية الهندية، فإن جريدة (علي كده) جميع إشاعتها خمسمائة في الأسبوع، وجريدة (وكيل) إشاعتها ألف وخمسمائة؛ وبقية الجرائد الإسلامية لا تزيد إشاعتها عن الألف ألبتة , ولكن جريدة (وطن) إشاعتها الآن خمسة آلاف وثلاثمائة في كل أسبوع , ولا ريب في أن قراءه لا يكونون أقل من خمسين أو ستين ألف رجل من المسلمين، بل ربما يكونون مائة ألف أو يزيدون، ولا يخفى على حضرتكم أن جريدة (وطن) تجد مشتركين معاونين لها في كل مكان فيه عدد ولو قليل من المسلمين الذين يعلمون لسان (الأردو) مثل إفريقيا الجنوبية والمشرقية، وأمريكا الشمالية والجنوبية، وجزائر غرب الهند، والصين، وإستراليا، وزنجبار، وتونس، وطرابلس الغرب، ونيجريا، وملايا، وسومترا، وتركستان، وعرب (?) وبغداد وغيرها من البلاد النائية الأطراف من العالم الإسلامي. فإن جريدة (وطن) لتصل إلى كل هذه البلاد دائمًا، وإنكم تعلمون أن وظيفة الجريدة ليست هي هداية قرائها إلى جادة الصواب فقط، بل إنها يجب أن تكون مرآة ترى فيها آراء الأمة والقراء جميعًا. وتكون مظهرة لميلاتهم (?) وإني أقول بكل الثقة: إن آراء جريدة (وطن) في هذه المعاملة مطابقة لآراء قرائها وآراء الجمهور من المسلمين ولا عبرة للشواذ. وأما قولكم بجهل مسلمي الهند بالحقائق في أول الأمر، واقتناع منصفهم بعد ما ظهر لهم من الحق بواسطة نشر الحقائق في الجرائد التركية والعربية، حتى تتعجبون من إصراري على ما كنت عليه، فالمطلوب من حضرتكم إمعان النظر في مكالمة مراسل جريدة (باونير) الإنكليزية (التي تصدر في بلدة إله آباد بالهند) مع محمود شوكت باشا، وقد أدرجت هذه المقالة بعددها الصادر في 13 أغسطس سنة 1909، فاعترف شوكت باشا بأنه ليس عنده الرجال الأكفاء ذوو سطوة واقتدار، حتى يقدر على حفظ السلطنة من التورط في الهلاك والخراب. وإننا مسلمي الهند مع وقوفنا على كون العهد الحميدي محفوفًا بالأخطار ومملوءًا من السيئات، لا نلقي تبعة هذه المفاسد على عبد الحميد وحده كما تلقون حضرتكم، بل ننسبها إلى جهل الملة وخمولها، ونعلم أن عبد الحميد سعى جهد طاقته في تخفيف ذلك الجهل والخمول (! !) وإني لا أدعي الأولية في كتابة ذم عبد الحميد وعماله على جميع جرائد العالم بل قصدي أنه أول من كتب بهذه الصراحة في الجرائد الإسلامية الهندية لا غير وهذا صحيح لا ريب فيه، وقلتم: إن الاختلاف في مشروع السكة الحجازية لم يكن من جهة السلطان السابق، فإني لا أسلمه؛ لأن عندي كتبًا خصوصية من أصدقائي في الآستانة وهم يكتبون أن الجرائد التركية حظرت عليهن الحكومة ذكر مشروع سكة بغداد والحجاز، وسبب نشر آرائي في جريدة المعلومات العربية؛ هو قلة انتشارها في المملكة العثمانية، وإن لم أنس فأذكر أن الذين كتبوا منهم صديقكم وصديقى السيد عبد الحميد الزهراوي أيضًا. والمؤرخون الذين ينحازون إلى أحد الطرفين، لا يعد قولهم صحيحًا، بل العبرة بما قاله مؤرخة أولي الدراية في الأزمنة التالية، وكذلك الذين ليس لهم علاقة بأحد من الفريقين المتخاصمين، وأنا كما تعلمون ليس لي واسطة بعبد الحميد ولا بتركيا الفتاة، بل كل ما أقصده هو خير الدولة العلية وسلامتها، حفظها الله ووقاها من جميع الآفات والمهلكات، آمين. وعجبت من احتجاجكم باعترافي أن الوسائل الأصلية لترقية المملكة العثمانية لم توجد في عهد عبد الحميد ... إلخ (فأقول لكم بكل أدب: إن فيلسوفًا مثلكم لا يلزم أن يكون ناسيًا الفرق بين الترقية وبين حفظ مركز السلطنة وسد الخلل، ومقصودي هو أن عبد الحميد لا يجب أن نأخذه بجريرة أسلافه ونترك ما أصلحه هو ولا نشكره عليه، فإن العقل لا يسلم لأحد أن لا يكون فيه حسنة غير السيئات؛ ولذلك لا يخلو عبد الحميد أيضًا من حسنات، ويشهد على حسناته ما كتبته جرائد مصر العربية وجرائد أوروبا في أكثر الأوقات في أعمدتهن من مدائحه وإصلاحات عصره بالصراحة التامة، والتاريخ يحفظ ذكرها. وأما مدحت باشا فإنه عزل من منصب الصدارة في سنة 1822 ونفي. ولكن القوم لم يكترثوا لحالته، وبعد ذلك لما عين واليًا على عدة ولايات؛ فلم يكن سببه خوف عبد الحميد منه أو من جماعته، بل رأى ذلك السلطان العظيم أن يستفيد من أهلية الرجل وكفاءته في إصلاح شؤون المملكة، وما كان سبب العزل والنفي لمدحت باشا؛ إلا قلة مواليه ومشاركيه في حب الدستور (!) . أنكرتم عليّ قولي: إن حكم النبي صلى الله عليه وسلم والصديق والفاروق - رضي الله عنهم - وغيرهم من الخلفاء الراشدين كان مطلقًا، وأوجبتم عليّ أن أستغفر الله من هفوتي هذه، فأعوذ بالله وأستغفره من كل ذنب وأتوب إليه، وبعد ذلك أسألكم: إن ضمير (هم) في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) هل مرجعه جميع أفراد الملة الإسلامية أو بعض سراتها وذوي الرأي منها؟ إن كان المقصود منه ذوي الرأي من سادات القوم ووجهائهم، فلم تنسون مجلس شورى الدولة الذي كان موجودًا في عهد عبد الحميد إلى آخر أيامه، وأعضاؤه من أهل الخبرة والجاه والسياسة وسراة الأمة؟ ؟ وإن كان الضمير راجعًا إلى كل فرد من أفراد الأمة، فمتى حصلت الاستشارة لجميعهم، وكيف السبيل إلى حصولها أيضًا؟ هل كان صلح موقع الحديبية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقتال أهل الردة والممتنعين من أداء الصدقات، وتزحيف جيش أسامة - رضي الله عنه -، وعدم مؤاخذة خالد بن الوليد - رضي الله عنه -، من أعمال الصديق - رضي الله عنه - كل هذه الأمور بمشورة القوم وغير مناقض لأراء الجمهور من الصحابة - رضي الله عنهم - ? ومتى أظهر المسلمون رضاهم من عزل خالد - رضي الله عنه - حينما عزله الفاروق - رضي الله عنه -؛ لأن الجمهور كانوا يحبونه ويفضلون أن يكون هو قائدًا عليهم ? وإن كانت هذه الأمور بالاستشارة، فالمرجو من كرمكم أن أفيدوني بإعلامها، واذكروا لي أسماء الصحابة الذين استشيروا في تلك الأمور. وعلمت اطلاع عبد الحميد على النوايا السيئة للغازي مختار باشا إليه من نشر تقارير الجواسيس في جرائد الآستانة في هذه الأيام. وظهر أنه كان عالمًا بسوء نية الرجل، وإنعامه عليه وإكرامه كان بسبب لطفه الطبيعي وحسن سياسته في تأليف قلوب النافرين منه بواسطة المال والإكرام (!) . إنكم تقولون: إني عاشق لعبد الحميد , ولا أعرف الحقيقة التي عرفتها الأرض والسماء من أنه كان السفاك المبيح للدماء وقاتل الأبرياء وغيره. فقولكم هذا لا يعتد به من غير بينة. وإن الجرائد التركية مع كونهن تجاوزن حد الآداب في ذم عبد الحميد، لم تستطعن أن تثبتن شيئًا حقيقيًّا من التهم الموجهة إليه في أمر إفساد الدستور وشركته في الحركة الارتجاعية يوم 13 إبريل الماضي؛ غير الظنون والشكوك، فإن العاقل لا يعبأ بها , ومن الذي لا يعلم أن جرائد أوروبا لم تكن لتقصر في إذاعة سيئات عبد الحميد ومظالمه لو وجدن إليه سبيلاً. والحمد لله خابت آمالُهنَّ من هذا القبيل، ولم تستطع جريدة من جرائد أوروبا أن تكتب كلمة واحدة تدل دلالة صريحة على شركة عبد الحميد في الحادثة الارتجاعية. ولكنكم تضربون على هذه النغمة عبثًا، وتحاولون إقناعي بمثل هذه الخزعبلات (!) . ومعصيتي الكبيرة التي جنيتها في زعمكم هي قولي الحق في شأن مولانا السلطان محمد خان الخامس - أدام الله ملكه وسلطنته - إنه كآلة صماء في يد جماعة (ودعوتموني إلى التوبة من هذه المعصية. ولكن ما تقولون في إشاعات جمعية الاتحاد والترقي وأقوال شوكت باشا نفسه؛ بأنه لم يترك حول جلالته أحدًا من أنصار عهد القديم، لا من رجال المعية، ولا من الخدم والحشم، حتى لم يتركوا حوله من خُدَّامه القدماء أحدًا , وقد قاله شوكت باشا في مكالمته مع مراسل جريدة باونير المذكور سابقًا في هذا المكتوب) . وبالجملة فإني أتعجب من شدتكم في أمر عبد الحميد وسبكم له، مع كونكم من العلماء الأعلام وحكماء الإسلام. يغفر الله زلتكم هذه ويهديكم سبيل الرشاد؛ لأن السبَّ والشتم ليس من شيم الكرام , والسلام. ولا أبغي نشر مكتوبي هذا في المجلة، ولا أكلفكم الرد عليه بغير رضاكم؛ لأني علمت من الردَّين ما قد كفاني , وإني عرضت عليكم بعض ما جال في خاطري عند قراءة ردكم , وخفت أن لو أكتب في جوابه شيئًا فيطول الكلام؛ لذلك اكتفيت بعض الأمور التي يجب اطلاع قرائكم عليه، فإن رأيتم من المناسب نشره نشرتموه وإلا فلا , فأطلب منكم العفو من تكليفكم مرتين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد إنشاء الله ... ... ... ... ... ... ... محرر ومدير جريدة (وطن) ... ... ... ... ... ... ببلدة لاهور (بنجاب - الهند) (جواب المنار) إن هذه الرسالة تشعر بإخلاص صديقنا فيما كتبه أولاً وآخرًا في مسألة الانقلاب في الدولة؛ لنشره بعض ردنا، ووعده بنشر الباقي , وهذا هو ظننا فيه الذي بيناه في ردنا عليه من قبل؛ خلافًا للجرائد التركية والعربية التي جعلته من صنف (الارتجاعيين) الذين يتبعون الهوى في نصر عبد الحميد؛ حبًّا في ماله

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (ذيل للرد يدخل في باب الأخبار والآراء) فيما نشر في عدد 866 من جريدة بيروت الرسمية التي صدرت في 28 المحرم سنة 1324 بالتركية والعربية في اتهامنا بالجناية، وجلبنا بالقوة أحياء أو ميتين لمحكمة الجزاء بطرابلس، كما هو معنى (اخذ وكرفت) وهو: طرابلس شام بدايت محكمه سي جزا دائره سندن مصره فرار والمنار هذيا ننامه سنده نشريات خائنانه وملعنتكارانه يه إجتسار إيتمك ماده سند تطولايى مظنون وفرارده بولنان طرابلس شام سنجاغنه تابع قلمون قرية سي أهاليسندن وهذياننامة مذكوره صاحب ومحرري محمد رشيد رضا إيله وهذياننامه مذكوره يه دخالت ونشريات ملعنتكارانه يه اشتراك ايلد كلري إدعا سيله مظنون ومرقوم رشيدك برادري أولوب موقوف بولنان إبراهيم أدهم وينه مصره فرار وأرباب فساده التحاق إيدن ديكر برادرلري أحمد حمدي وحسين وصفي أيله طرابلس شاملي عبد القادر مغربينك حركات خائنانه وملعنتكارانه لرندن طولابى أصول محاكمات جزائيه نك مواد مخصوصة سي أحكامنه توفيقا طرابلس شام جنايت محكمه سنده محاكمة لرى أجرا قلنمق اوزره جزا قانوننامة هما يونتك اللى سكرنجي مادة سي موجبنجه بيروت ولايتي هيئت اتهاميه سنجه جنايتله أنها مرينة قرار وير لديكندن متهمون مرقومونك هر نره ده كوربلورلر ابنه طوتيلوب محكمه مذكوره توقيفخانه سنه تسليملري لازم كله جكى بالجمله ضابطه عدليه مأمور لرينك معلومى أولمق أوزره اشبواخذ وكرفت مذكره سنك خلاصه سي بيروت وسي غزته سنه درج وإعلان أولنمق أوزره تنظيم أولندي. من دائرة جزاء محكمة البداية في طرابلس الشام بما أن محمد رشيد رضا من أهالي قرية القلمون التابعة للواء طرابلس الشام، الفار إلى مصر، وصاحب ومحرر جريدة المنار الهذيانية، والمظنون عليه بالتجاسر على نشر مواد الخيانة، والملعنة في الورقة المذكورة، وكلاًّ من أخيه إبراهيم أدهم الموقوف والمظنون عليه باشتراكه في تلك النشريات اللعينة، وأخويه أحمد حمدي وحسين وصفي وعبد القادر المغربي من أهالي طرابلس الشام، الفارين إلى مصر أيضًا، والملتحقين بأرباب الفساد - قد اتهمتهم الهيئة الاتهامية في ولاية بيروت بالجناية توفيقًا للمادة 58 من قانون الجزاء الهمايوني؛ ليحاكموا في محكمة الجناية في طرابلس الشام؛ توفيقًا لأحكام المواد المخصوصة من أصول المحاكمات الجزائية، وذلك بالنظر لحركاتهم الجنائية اللعينة، فعلى جميع مأموري ضابطة العدلية أن يلقوا القبض عليهم أينما وجدوا، ويسلموهم لمحل توقيف المحكمة المذكورة، ولأجل أن يكون ذلك معلومًا عند المأمورين المذكورين، جرى تنظيم هذه المذكرة جرى (أخذ وكرفت) لتنشر خلاصتها في جريدة بيروت الرسمية. *** (الطبيب محمد إسماعيل الأجميري الهندي) زارنا في أوائل هذا الشهر المبارك هذا الطبيب، فعلمنا منه أنه جاء من القدس الشريف، وأنه جاء في العام الماضي مع أهل الحجاز، فأدوا الفريضة، وأقاموا في مكة المكرمة ثم في المدينة المنورة عدة أشهر، ثم سافروا إلى القدس فأقاموا فيها مدة، ثم عادوا منها في أواخر الشهر الماضي محرمين بالعمرة، وسيعودون بعدها إلى بمبي وهو موطنهم وبلد إقامتهم. وقد كان هذا الطبيب يعالج جميع المرضى في البلاد المقدسة بغير أجرة؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى، وقد كتبوا له شهادات في الحرمين ختمها الجم الغفير من العلماء والشرفاء وغيرهم، وصدَّقت عليها الحكومة لا سيما في المدينة المنورة، فنسأل الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء، ويجعله قدوة صالحة للأطباء. وقد علمنا منه أنه ما جاء القاهرة إلا لأجل زيارتنا، فنشكر له ذلك، وقد سألناه عن أفكار مسلمي الهند في الانقلاب العثماني، وهل يصح ما قيل: إن أكثرهم يسيئون الظن بالدولة الآن؛ لحسن ظنهم في السلطان عبد الحميد المخلوع. فقال: إن في الهند كذا مليونًا من المسلمين، أكثرهم لا يعرف السياسة ولا يهمهم من أمرها شيء قط. ولكن الذين يقرأون الجرائد وقليل ما هم، يتبعون رأي جرائدهم في ذلك.

كتاب التوسل والوسيلة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب التوسل والوسيلة طبعنا الآن في هذه الأيام كتابًا خاصًّا في مسألة التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام وهو الذي نقلنا نموذجًا منه في الجزء الثامن، ونبذة وجيزة منه في تفسير الجزء السابع، طبعنا أكثره على نفقة السيد محمد حسين نصيف وكيل إمارة مكة في جدة، وطائفة منه على نفقتنا؛ ليكون سلاحًا في أيدي أنصار السنة، يفرون به ضلالة أهل البدعة، وإننا ندعو أولياء البدعة المنكرين على شيخ الإسلام (كالشيخ النبهاني) إلى قراءته والرد عليه إن استطاعوا، وندعو جمهور الأمة الذين يحبون السنة ولكن يخفيها عن بعضهم الجاهلون، ويكرهون البدعة ولكن يزينها لأعينهم المبتدعون، أن يقرأوا هذا الكتاب، ويوازنوا بينه وبين ما اطلعوا عليه من كتب المبتدعين، ثم ليتبعوا ما يرونه موافقًا لكتاب ربهم عز وجل، وسنة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرة سلفهم الصالحين، وأئمتهم المجتهدين. بيَّن شيخ الإسلام في كتابه هذا معنى الوسيلة في القرآن، ومعنى التوسل في لغة الصحابة وعُرْفِهم، ومعناه في عُرْفِ المتأخرين الذين أدخلوا فيه معنى البدعة، وما هو مشروع منه وما هو مبتدع، وما هو نافع وما هو ضار. وحقق مسألة السؤال ومسألة الدعاء، وما يُشرع منهما وما لا يشرع مع الدلائل من الكتاب والسنة وأقوال السلف، وحكمة التشريع، وبيَّنَ ما يُشرع في زيارة القبور، وما يمنع، ومسألة الكرامات وشرطها، والخوارق التي ينخدع بها الناس فيعدونها كرامة، وما هي كرامة. وتكلم عن الأحاديث الواردة في زيارة قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام، وفي النهي عن اتخاذه وثنًا، وعن اتخاذه عيدًا، وعن اتخاذ المساجد على القبور، وحقق مسألة رواية الحديث الضعيف والعمل به في الفضائل والمناقب، وتكلم عن الشفاعة والاستشفاع والاستغاثة بغير الله، وبيَّن ما يصح من ذلك وما لا يصح. ولما كان حديث الأعمى الذي استشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم، فشفع له ودعا الله أن يرد عليه بصره فاستجاب دعاءه , هو الحديث الوحيد الذي صح سنده في هذا الباب تكلم عنه في عدة ورقات، فجمع طرقه وبين جميع رواياته، وما صح منها وما لم يصح، وحقق أن الصحيح لا يدل إلا على ما هو ثابت مشروع من التوسل والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته بطلب الدعاء منه، وبيَّن في هذا المقام وفي مواضع أخرى أن ما كان يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لا يطلب منه بعد موته، وإن كان حيًا عند الله تعالى في عالم الغيب، كما أنه لا يطلب منه غير ذلك مما كان يطلب منه في حال حياته؛ كالدعاء والاستسقاء. والعلم واستدل على ذلك بعدم طلب الصحابة ذلك عند قبره أو مع البعد عنه وبعدولهم عن التوسل به في الاستسقاء إلى التوسل بالعباس وغيره، وذكر مسألة الاستسقاء في عدة مواضع واجتهاد الصحابة، وما انفرد به بعضهم وخالف الجمهور، وكونه خطأ لا يؤخذ به. وتكلم عن مسائل الشياطين وإضلالها للناس، وتمثلها لهم وخدمتها لهم، واشتباه ذلك بالكرمات. وكذا عن الاستغاثة والتعوذ بهم، والرقية والعزائم بأسمائهم وعن وسوستهم وإغوائهم وسلطانهم على غير المؤمنين. وإن القارئ ليجد في هذا الكتاب من دقائق التفسير، ومعاني الأحاديث، وأسرار التشريع، ما لا يجده في غير كلام المؤلف من العلماء، ويجزم بأن ما انفرد به من البيان والتحقيق فيها هو الحق. مثال ذلك كلامه في الدعاء والسؤال والحلف وكيفياتها، والفرق بينها وحكمها وحكمة ما يجوز منها وما لا يجوز، ومن ذلك معنى كون الدعاء عبادة، فلا يدعى غير الله، والسؤال بالمخلوق وسؤاله، والسؤال بما هو سبب للإجابة؛ كالرحم والعمل الذي يقتضي الإجابة، والسؤال بما ليس كذلك كالأمور الأجنبية التى ليست أسبابًا، وكالذوات والأشخاص التى لا دخل لها في السببية، وسؤال الله بحق بعض خلقه، وهل لأحد حق عليه أم لا , وبجاه الأنبياء، وهل الجاه الذي منحه الله لبعضهم يكون سببًا لإجابة غيرهم إذا ذكره أم لا، والفرق بين حلفنا وإقسامنا بالمخلوقات، وبين إقسامه تعالى بها في القرآن، وذكر أنواع هذه الأقسام وحكمتها إلخ. وفي الكتاب تكرار لبعض المسائل، يذكر المسألة ثم يعيدها بالمناسبة، والمصنف يتعمد لذلك؛ لعلمه أن هذه المسائل التي أخطأ فيها كثير من الناس، حتى أدى ببعضهم إلى الشرك الأصغر أو الأكبر، لا تنجلي وتستقر في الأذهان إلا بذلك. صفحات الكتاب مائتان، وثمنه سبعة قروش صحيحة، وأجرة البريد قرش صحيح.

فتن رمضان في دمشق الشام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتن رمضان في دمشق الشام يقول أحد الدمشقيين العارفين: إن لأهل دمشق في كل رمضان فتنة يلهون بها، فإذا أوشك الشهر أن ينقضي بغير فتنة حَاصَ محبو الفتن ثم يسعون في إثارة فتنة صغيرة أو كبيرة بقدر الإمكان. ونقول: إن كبرى فتنهم الرمضانية ثلاث متشابهة في ثلاث: في تدبير أكابر الحشوية المستبدين لها، وفي جعل مبدأها الانتقام من بعض الأحرار طلاب الإصلاح، وفي كون الغاية منها التنكيل بجماعة معروفة ذنبها عند أولئك الأكابر أنها تكره الاستبداد وأهله، وتحب الإصلاح وتعمل له. (الفتنة الأولى) هي التي أثاروها على السيد عبد الحميد أفندى الزهراوي من بضع سنين؛ لأنه ألف رسالته المشهورة (الفقه والتصوف) وكانوا يريدون قتله، وقَتْلَ من أشرنا إليهم من محبي الإصلاح. ولكن الحكومة الحميدية سبقت رعيتها المخلصة إلى الانتقام منه، وأمره مشهور. (الفتنة الثانية) هي التي أثاروها على كاتب هذه السطور في أواخر رمضان السنة الماضية وهي مشهورة، وقد ضعفت الحكومة الدستورية عن مداركتها بما يربي مثيري الفتن؛ ولذلك نشروا بعدها جمعية (ولقان) التى قامت على الدستور، ولو نجحت تلك الجمعية في الآستانة، لكانت دمشق آستانة ثانية لها بتدبير أكابر المجرمين في الباطن وأصاغرهم في الظاهر؛ كالشيخ صالح المغربي والشيخ عبد القادر الخطيب اللذين كانا يقولان: اقتلوا هؤلاء الدستوريين أو الوهابية فإنهم 50 رجلاً. (الفتنة الثالثة) ما أثاروه في هذا العام على محمد أفندي كرد علي صاحب جريدة المقتبس أولاً، ثم على سائر أعدائهم الذين أشرنا إليهم، وقد علمنا أنهم ألفوا جمعية للانتقام من الأحرار والمصلحين، وأنهم بدأوا بصاحب المقتبس؛ لأنه شدد النكير في جريدته على أعداء الدستور ومثيري فتنة رمضان الماضي، فاتهموه أولاً بمشايعة جمعية (ولقان) على الدستور، ففتشت الحكومة مطبعته وإدارته، ولم يثبت عليه في التحقيق شيء، فعلموا أن هذه التهمة لا تُسمع في مثله، فاتهموه وسائر الأحرار ومحبي الإصلاح الذين كانوا يضطهدونهم في زمن الاستبداد بالسعي إلى (الخلافة العربية) وهي الكلمة التي كانوا هم وأضرابهم ينتقمون بها ممن شاؤوا في العصر الحميدي. أما كرد علي فَرَجُلٌ كان وما زال يكره الاستبداد، وقد أصابه شره ففر إلى مصر، وكان فيها بعيدًا عن السياسة وأهلها، وقد دعوناه أكثر من مرة للدخول في جمعية الشورى العثمانية فأبى، وهو لا يخلو من غرارة وسذاجة، فما هو والله بأهلٍ للسياسة، ولذلك يسقط من قلمه وينشر لغيره ما يمكن أن يَعُدَّه العدوُّ شبهة على سوء قصده، وما هو بالسيئ القصد، ومن ذلك أنه كتب عن بلاغ شيخ الإسلام عبارة فهمها من بعض الناس، تشعر بأن الدولة العثمانية ليست دولة خلافة، فأخطأ بذلك واعترف بخطأه في اليوم الثاني. ولكن الحكومة بادرت إلى الحكم عليه بالجناية وبإبطال جريدته ومطبعته، فجرأ ذلك مثيري الفتن في كل زمن على سائر الأحرار، فوشوا بهم واتهموهم. المتهمون الآن بالخلافة العربية الوهمية هم أخلص المخلصين للدولة والملة في الشام، فمنهم أفضل العلماء كالبيطار والقاسمي، وأشهر الأحرار كعبد الرحمن بيك اليوسف، وكرد علي، ومنهم جمعية النهضة السورية، وهم أحداث لا يعرفون السياسة. فإذا كانت حكومة الدستور تهين أمثال هؤلاء بإغراء الرجعيين مثيري الفتن. أفلا تكون الحكومة الحميدية خيرًا منها وأعدل؛ إذ كانت تعلم أنهم أعداؤها، ولم ينلهم منها إلا المراقبة وتفتيش الكتب، اعقلوا أيها الحكام وتبصروا وأقيموا الدستور بالقسط وإلا كانت العاقبة خطرًا على الدولة والأمة، وقد قال الرسول: صلى الله عليه وسلم: (إذا ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم) رواه أبو داود.

الصوفية والفقراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصوفية والفقراء [*] فتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مسألة عن الصوفية وأنهم أقسام، والفقراء أقسام، فما صفة كل قسم، وما يجب عليه ويستحب له أن يسلكه؟ الجواب: الحمد لله. أما لفظ الصوفية فإنه لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقد نقل التكلم به عن غير واحد من الأئمة والشيوخ: كالإمام أحمد بن حنبل وأبي سليمان الداراني وغيرهما، وقد روي عن سفيان الثوري أنه تكلم به، وبعضهم يذكر ذلك عن الحسن البصري، وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي؛ فإنه من أسماء النسب كالقرشي والمدني وأمثال ذلك، فقيل: إنه نسبة إلى أهل الصُّفَّة، وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صُفِّي، وقيل: نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله وهو أيضًا غلط، فإنه لو كان كذلك لقيل: صَفِّي، وقيل: نسبة إلى الصفوة من خلق الله وهو غلط؛ لأنه لو كان كذلك لقيل: صفوي، وقيل: نسبة إلى صوفة بن بشر بن أَدّ بن طابخة قبيلة من العرب، كانوا يجاورون بمكة من الزمن القديم، ينسب إليهم النساك، وهذا وإن كان موافقًا للنسب من جهة اللفظ فإنه ضعيف أيضًا؛ لأن هؤلاء غير مشهورين ولا معروفين عند أكثر النُّسّاك؛ ولأنه لو نسب النساك إلى هؤلاء لكان هذا النسب في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم أولى، ولأن غالب من تكلم باسم الصوفي لا يعرف هذه القبيلة، ولا يرضى أن يكون مضافًا إلى قبيلة في الجاهلية لا وجود لها في الإسلام، وقيل - وهو المعروف - إنه نسبة إلى لبس الصوف، فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بين دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن. وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ما لم يكن في سائر أهل الأمصار؛ ولهذا كان يقال: فقه كوفي وعبادة بصرية. وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن محمد بن سيرين أنه بلغه أن قومًا يفضلون لباس الصوف، فقال: إن قومًا يتخيرون الصوف يقولون: إنهم متشبهون بالمسيح ابن مريم، وهدي نبينا أحب إلينا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس القطن وغيره، أو كلامًا نحوًا من هذا؛ ولهذا غالب ما يحكى من المبالغة في هذا الباب إنما هو من عبادة أهل البصرة، مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن ونحوه، كقصة زرارة بن أد في قاضي البصرة، فإنه قرأ في صلاة الفجر {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} (المدثر: 8) فَخَرَّ ميتًا؛ وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المرّي فمات، وكذلك غيره ممن روى أنهم ماتوا باستماع قراءته، وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن، ولم يكن في الصحابة من هذا حاله، فلما ظهر ذلك أنكر ذلك طائفة من الصحابة والتابعين كأسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن الزبير ومحمد بن سيرين ونحوهم، والمنكرون لهم مأخذ أن منهم من ظن ذلك تكلفًا وتصنعًا: يذكرعن محمد بن سيرين أنه قال: ما بيننا وبين هؤلاء الذين يصعقون عند سماع القرآن؛ أن يقرأ على أحدهم وهو على حائط فإن خر فهو صادق، ومنهم من أنكر ذلك؛ لأنه رآه بدعة مخالفًا لما عرف من هدي الصحابة كما نقل عن أسماء وابنها عبد الله. والذي عليه جمهور العلماء أن الواجد من هؤلاء إذا كان مغلوبًا عليه لم ينكر عليه، وإن كان حال الثابت أكمل منه؛ ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن هذا فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه، ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، فما رأيت أعقل منه ونحو هذا، وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة، وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه. لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن، وهي وجل القلوب ودموع العين واقشعرار الجلود، كما قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) ، وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23) ، وقال تعالى {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياًّ} (مريم: 58) ، وقال: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ} (المائدة: 83) ، وقال: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} (الإسراء: 109) وقد يذم حال هؤلاء من فيه من قسوة القلوب والرّين عليها والجفاء عن الدين ما هو مذموم، وقد فعلوا. ومنهم من يظن أن حالهم هذا أكمل الأحوال وأتمها وأعلاها، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم. بل المراتب ثلاث: إحداها: حال الظالم لنفسه الذي هو قاسي القلب لا يلين للسماع والذكر، وهؤلاء فيهم شبه من اليهود، قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 74) ، وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) . والثانية: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه، فهذا الذي يصعق صعق موت أو صعق غشي؛ فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا فيمن يفرح أو يخاف أو يحزن أو يحب أمورًا دنيوية، يقتله ذلك أو يمرضه أو يذهب بعقله. ومن عباد الصور مَنْ أمرضه العشق أو قتله أو جننه وكذلك في غيره. ولا يكون هذا إلا لمن ورد عليه أمر ضعفت نفسه عن دفعه بمنزلة ما يرد على البدن من الأسباب التي تمرضه أو تقتله، أو كان أحدهم مغلوبًا على ذلك، فإذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه، فلا وجه للريبة كما سمع القرآن السماع الشرعي، ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك، وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والنشا ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها، فإنه إذا لم يكن السبب محظورًا لم يكن السكران مذمومًا بل معذورًا، فإن السكران بلا تمييز. وكذلك قد يحصل ذلك بتناول السكر من الخمر والحشيشة، فإنه يحرم بلا نزاع بين المسلمين، ومن استحل السكر من هذه الأمور فهو كافر، وقد يحصل بسبب محبة الصور وعشقها كما قيل: سكران سكر هوى وسكر مدامة ... ومتى إفاقة من به سكران وهذا مذموم؛ لأن سببه محظور، وقد يحصل بسبب سماع الأصوات المطربة التي تورث مثل هذا السكر، وهذا أيضًا مذموم، فإنه ليس للرجل أن يسمع من الأصوات التي لم يؤمر بسماعها ما يزيل عقله؛ إذ إزالة العقل محرم، ومتى أفضى إليه سبب غير شرعي كان محرمًا، وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية ولو بأمور فيها نوع من الإيمان فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل، ولم يأذن لنا الله أن نمنع قلوبنا ولا أرواحنا من لذات الإيمان ولا غيرها مما يوجب زوال عقولنا، بخلاف من زال عقله بسبب مشروع أو بأمر صادفه لا حيلة له في دفعه، وقد يحصل السكر بسبب لا فعل للعبد فيه؛ كسماع لم يقصده، يهيج قاطنه ويحرك ساكنه ونحو ذلك، وهذا لا ملام عليه فيه، وما صدرعنه في حال زوال عقله فهو فيه معذور؛ لأن القلم مرفوع عن كل من زال عقله بسبب غير محرم؛ كالمغمي عليه والمجنون ونحوهما. ومن زال عقله بالخمر فهل هو مكلف حال زوال عقله؟ فيه قولان مشهوران، وفي طلاق من هذه حالة نزاع مشهور، ومن زال عقله بالبنج يلحق به كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعى وأحمد، وقيل: يفرق بينه وبين الخمر؛ لأن هذا يشتهي وهذا لا يشتهي؛ ولهذا أوجب الحد في هذا دون هذا، وهذا هو المنصوص عن أحمد ومذهب أبي حنيفة. ومن هؤلاء من يقوى عليه الوارد حتى يصير مجنونًا , إما بسبب خلط يغلب عليه وإما بغير ذلك , ومن هؤلاء عقلاء المجانين الذين يعدون في النساك، وقد يسمون المولهين، قال فيهم بعض العلماء: هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولاً وأحوالاً، فسلب عقولهم الهم وأسقط وأبقى أحو ما فرض لما سلب، فهذه الأحوال التي يفترق بها الغشى أو الموت أو الجنون أو السكر أو الفناء حتى لا يشعر بنفسه ونحو ذلك، إذا كانت أسبابها مشروعة وصاحبها صادقًا عاجزًا عن دفعها كان محمودًا على ما فعله من الخير وما ناله من الإيمان، معذورًا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره، وهم أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم؛ لنقص إيمانهم وقسوة قلوبهم ونحو ذلك من الأسباب التي تتضمن ترك ما يحبه الله أو فعل ما يكرهه الله. ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله وأكمل منه فهو أفضل منهم [1] ، وهذه حال الصحابة رضي الله عنهم، وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أسري به إلى السماء، وأراه الله ما أراه، وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله، فحاله أفضل من حال موسى صلى الله عليه وسلم الذي خر صعقًا؛ لَمَّا تجلى ربه للجبل، وحال موسى حال جليلة علية فاضلة. لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلى وأفضل. والمقصود أن هذه الأمور التي فيها زيادة في العبادة والأحوال خرجت من البصرة؛ وذلك لشدة الخوف، فإن الذي يذكرونه من خوف عتبة الغلام وعطاء السليمي وأمثالهما أمر عظيم، ولا ريب أن حالهم أكمل وأفضل ممن لم يكن عنده من خشية الله ما قابلهم أو تفضل عليهم، ومن خاف الله خوفًا مقتصدا يدعوه إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكره الله من غير هذه الزيادة، فحاله أكمل وأفضل من حال هؤلاء، وهو حال الصحابة رضي الله عنهم، وقد روي أن عطاء السليمي رضي الله عنه رؤي بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: قال لي: يا عطاء، أما استحيت مني أن تخافني كل هذا، أما بلغك أني غفور رحيم. وكذلك ما يذكر عن أمثال هؤلاء من الأحوال من الزهد والورع والعبادة وأمثال ذلك، قد ينقل فيها من الزيادة على حال الصحابة رضي الله عنهم، وعلى ما سنه الرسول أمورًا توجب أن يصير الناس طرفين: قوم يذمون هؤلاء وينتقصونهم وربما أسرفوا في ذلك، وقوم يغلون فيهم ويجعلون هذا الطريق من أكمل الطرق وأعلاها. والتحقيق أنهم في هذه العبادات والأحوال مجتهدون كما كان جيرانهم من أهل الكوفة مجتهدين في مسائل القضاء والإمارة ونحو ذلك، وخرج فيهم الرأي الذي فيه من مخالفة السنة ما أنكره جمهور الناس وخيار الناس؛ من أهل الفقه والرأي في أولئك الكوفيين على طرفين: قوم يذمونهم ويسرفون في ذمهم، وقوم يغلون في تعظيمهم ويجعلونهم أعلم بالفقه من غيرهم. وربما فضلوهم على الصحابة، كما أن الغلاة في أولئك العباد قد يفضلونهم على الصحابة، وهذا باب يفترق فيه الناس. والصواب للمسلم أن يعلم أن خير الكلام كلام الله،

الشيعة والمسلمون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيعة والمسلمون سُئِلْنا عن قولنا في البابية: إنهم ليسوا من الشيعة ولا من المسلمين، ألا يفيد هذا القول أن الشيعة أيضًا ليسوا بمسلمين؟ فقلنا: لا.. بل هذا من باب المقابلة بين العام والخاص؛ لما هو معلوم عند قراء المنار وغيرهم من كون الشيعة مسلمين، والقاعدة أنه إذا قوبل الخاص بالعام يراد بالعام ما وراء الخاص، فإذا قلت: إن فلانًا ليس بسوري ولا عثماني، كان المراد بلفظ العثماني ما يشمل غير السوريين من العثمانيين، ولا يدل على أن السوري ليس بعثماني. فلما كانت الشيعة فرقة من المسلمين، ونفينا أن تكون طائفة البابية منهم، وإن ظهرت فيهم، كان لظان أن يظن أن البابية ربما خرجت من مذهب الشيعة بمخالفته في المسائل التي كان بها مذهبًا خاصًّا فقط، وبقوا على أصل عقائد الإسلام التي لا خلاف فيها بين الشيعة وغيرهم، فبينا أن ذلك أيضًا غير صحيح، وأنهم ليسوا من المسلمين مطلقًا.

مكة المكرمة والجرائد العربية

الكاتب: نقلا عن جريدة المفيد

_ مكة المكرمة والجرائد العربية [*] إن لدينا اليوم حكومة مهمة مالكة لجميع حقوقها المدنية، ومركزنا السياسي وموقعنا الجغرافي لا يضاهيه مركز ولا يضارعه موقع، وفي يدنا نعمة عظيمة تقدر بنعم الدنيا كلها، وهي نعمة (الخلافة) على الأمم الإسلامية كلها. نحن أرقى الجميع في العلم والعرفان، فلماذا لا نتأثر من الذل الذي يلحق إخواننا في بخارى؟ لماذا نظل فاقدي الشعور أمام المصائب التي تنزل بإخواننا في مراكش؟ ألم يكفنا أننا تسفلنا إلى درجة كدنا نضمحل فيها؛ بالتعلل بلفظ (لا يصير) و (ما يعنينا) ? ألم يكف بأننا قد جعلنا تحت الأرض قيد الذل والأسر مئات الملايين من إخواننا في الدين بسبب عدم التفاهم؟ هل نحن واقفون على الحالة السياسية والضغطية الموجود فيها إخواننا المسلمون في أوستراليا وفي جاوة ? هل نحن مطلعون على طرز إدارة المسلمين في الصين وأحوالهم المعاشية؟ لا نذهب بعيدًا، هل نحن على علم تام بمصائب متاخمينا ومجاورينا الإيرانيين ? أو على إلمام بذل القفقاسيين؟ أو سفالة القريميين؟ أو سياسة الصربيين؟ أو سائر أحوال غيرهم من المسلمين؟ لنترك هؤلاء أيضًا، هل تذرعنا لإنقاذ جزيرة العرب التي تبلغ ثلاثة أضعاف بلاد البلغار من الجهل المخيم عليها منذ قرون؟ أليس ذلك عارًا علينا؟ إن إهمالنا لهذه الدرجة مما تحار له عقول ذوي العقول؟ أيها المؤمنون، ما هذه الغفلة؟ أيها المسلمون، ما هذا الإهمال؟ لماذا بقينا متخاذلين متشتتين؟ لماذا وصلنا إلى هذه الدرجة من الحيرة؟ إن سكوتنا هذا يحمله الجاهلون على المسكنة المتأصلة بفطرتنا والمفسدة الموجودة في ديننا (حاشا ثم حاشا) . قد وصلنا إلى درجة من الجهل، أصبحنا بها نسمع ألفاظ العداء من لسان الأوداء، لا من لسان الأعداء، حتى أصبحنا عرضة لأمثال هذه الأقوال اللئيمة: (أي شيء رقاه المسلمون ? بل أي شيء أمكن للمسلمين أن يرتقوا به) ؟ هنا يتهافت إخواننا وبنو قومنا بدون أن يعملوا فكرتهم إلى القول بأن أوربا تحارب الدين، غير عالمين كيف تحارب أوربا الدين، وأي دين تحارب! فيعلقون بإشراك الشبهات والأضاليل غير متفكرين بمرامي كلامهم، وما يجره من الرزايا والكوارث، ومتخيلين أن الترقي الحاضر لم ينشأ إلا عن محاربة الدين! أليس القول: بأي شيء ارتقى المسلمون؟ يرمي إلى أن الإسلام مانع من التمدن؟ ؟ تالله، إن البلاهة الموجودة عندنا هي من الغرابة بمكان، إن قائل هذا القول يعلم يقينًا أن الأندلس وبغداد كانتا منبعًا للتمدن الأوربي الحالي، ومصدرًا للعلم الحاضر، فهل كان الدين الإسلامي في ذلك الحين غير الدين الإسلامى اليوم؟ فما هذا التناقض! كيف يمكن أن تكون شريعتنا الإسلامية وهي جامعة لقواعد الارتقاء والتمدن حاجزًا في طريق الترقي؟ إن نظرة سطحية إلى أحكام الدين الإسلامي، تكفي لأن يتبين منها بأنها أساس متين للارتقاء ونظام مكين للعلاء. نعم.. نحن نعترف بأن المسلمين لهذا العهد قد وصلوا إلى درجة من الامتهان والازدراء، بحيث لو ادعوا - وهم على حالتهم الحاضرة - بأنهم مرتقون لأصبحوا سخرية. لكن في هذه الحالة لا يجب أن نلقي الذنب عليهم لكونهم مسلمين، بل يجب أن نلقي الذنب عليهم لكونهم غير مسلمين حقيقة؛ وما ذاك إلا لأنهم لم يعملوا بالأحكام الإسلامية على وجوهها، بل خالفوا الشرع ونبذوا الأمور الإلهية وراء ظهورهم، وإلا فإن الاندفاع إلى إنكار سماحة الدين الإسلامي وتساهله مع العلم والارتقاء استنادًا على جهل بنيه؛ هو أشبه بالاستدلال على حسن رجل أو قبحه من خيوط شعره الموجودة في اليد. إن الدين الإسلامي يأمرنا بالاجتماع في محل واحد خمس مرات في النهار، ولا ريب أن هذا الاجتماع يرمي إلى كثير من المعاني الدقيقة والإشارات الرقيقة، شأن الأوامر والنواهي الإسلامية كلها. أيها القوم! يجب علينا أن نجتمع، يجب علينا أن يرى بعضنا بعضًا، يجب على كل منا أن يبحث عن الآخر، يجب علينا أن نسأل عن المتخلف عن الحضور يجب أن نعلم ما هي حالته، أو ما الذي دعاه إلى التخلف، فإذا كان ثمة من كرب أو كارثة، فلنجتهد بإزالة كربه. فإننا بهذا العمل نكون متعاونين على البر، بل نكون جددنا اتحادنا واتفاقنا في كل وقت، وإلا فلو كانت الغاية من الصلاة جماعة هي نفس الصلاة، لكانت صلاة الإنسان في أي محل يستسهله ممدوحة ومباحة؛ عملاً بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) . إن صلاة الجماعة كما تكون وسيلة حسنة لاجتماع أهالي محلة واحدة، وسببًا لتعارفهم واتفاقهم في كل يوم خمس مرات، تكون لأهل البلدة كلها في جامع واحد في الاجتماع لصلاة الجمعة؛ ولذلك اختلف في جواز صلاة الجمعة في جامعين في بلدة واحدة. واجتماع الناس في صعيد واحد، يتسنى به للخطيب أن يلقي عليهم المواعظ والنصح، ويطلعهم على الشئون الإسلامية بصورة إجمالية. ثم إن الدين الإسلامي قد أمر باجتماع آخر أعم وأشمل وأكثر تأثيرًا، وهو اجتماع أغنياء المسلمين في العالم في صعيد واحد كل سنة. وعليه فإن أغنياء المسلمين النافذي الكلمة من كل مملكة وكل بلدة، يجتمع بعضهم ببعض مرة في العمر على الأقل في محل عينه الشارع، وجعل شد الرحال إليه فرضًا، وهناك يتفاوضون مع سفراء إخوانهم في الدين، ويتعارفون ويتعرفون شئون إخوانهم النائين، ومن الحكمة في هذا الفرض أنه جعل فرضًا على الآباء والأبناء على السواء، فإذا حج الوالد فلا يسقط عن الولد. يجتمع المسلمون في هذا الموقف في الوقت المعين، فيمتزجون ويتباحثون فيما يعود عليهم بالنفع، ويتفكرون في الوسائل التي تجعلهم جسدًا واحداً، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد، بل يجعلهم يقرون على خطة يسيرون عليها؛ سعيًا وراء كل ما يرمون إليه من الآمال الكبيرة. الاجتماع في الحج واقتداء مئات الألوف بإمام واحد وقت الصلاة، يصور للمسلمين الاتحاد مجسمًا. الاجتماع في الحج يجعل المسلمين مطلعين على شؤون مجموعهم في كل حين. الاجتماع في الحج يجعل أمل المسلم في طنجة هو نفس أمل المسلم في كشمير، ويجعل ما يشعر به (أحمد) في القزان يشعر به (محمد) في الترنسفال. أيها القوم! أليس من الأسف أن تكون أوامر ديننا بهذه الدرجة العالية من الحكمة؛ ونحن نعد أداء الصلوات الخمس فضلا عن أداء فريضة الجمعة والحج أشبه بعمل زائد؟ ؟ من منا يهتم بشأن الصلاة ? على أننا وإن صلينا فإنا نعد الذهاب إلى الجامع عملاً لا لزوم له! أيها القوم! لنفكر بإنصاف: إذا كنا نحن لا نهتم بأمر الاجتماع الذي يأمر به الدين، فهل يكون الذنب على الدين أم على أهل الدين؟ ؟ نعم.. إن دور الاستبداد كان يمنعنا عن التصريح بأمثال هذا الكلام، بل كان يمنعنا عن التفكر به. أما اليوم فإنه لا يقف بوجهنا حاجز عن التصريح بكل حقيقة، كلنا نتمنى أن نرى الدولة العثمانية دولة عزيزة الحمى، منيعة الجانب موهوبة الشبا، لكن يا ترى، لماذا لا تتذرع بالوسائل التي تقوي العنصر الأصلي للإسلام (وهو العنصر العربي) بل لماذا لا تقوي الإسلام نفسه! ? أول عمل يجب الشروع به في رأي هذا العاجز؛ هو توثيق روابط الاتحاد وتحكيمها كما نحن مأمورون شرعًا، والاتحاد لا يؤيد ولا يوثق إلا بإنشاء جرائد عربية خاصة، تنشر وتعمم. اللسان الفرنسوي يعده الأوروبيون اللسان الرسمي العمومي بينهم، واللسان العربي يعده المسلمون اللسان الرسمي الديني العمومي بينهم؛ أية بلدة أو مملكة إسلامية تعد اللسان العربى غريبا؟ أية جمعية إسلامية تعد الكتاب العربي أجنبيًّا؟ وعليه فأي شأن من الشؤون الناقلة تقصر الجرائد العربية عن القيام بأدائه. إننا وايم الله لنأسف كل الأسف؛ لأننا لم نتذرع حتى الآن بشيء من هذا القبيل، بل إنى أعد عدم تذرعنا بذلك عارًا، نعم.. يجب علينا لتحويل حركة الرأي العام إلى هذه الجهة أن نعقد المجتمعات والمؤتمرات. ولكن في أي مكان نعقدها؟ إنه يوجد لهذه الغاية الشريفة محل مبارك؛ هو أهم من الآستانة ومصر، ويمكن أن يتخذ مركزًا وهو مكة المكرمة، كرمها الله إلى يوم القيامة. إذا كان صوت الشريعة الغراء يجمع كل سنة مئات الألوف من الحجاج، وإذا كان كثير من ذوي الثروة والكلمة النافذة من كل أرجاء الأرض مكلفين أن يعرفوا هذه الجهة المقدسة، أفلا نستفيد نحن شيئًا؟ إننا مع الأسف لم نعمل شيئًا حتى الآن لكن مادامت غايتنا الآن العمل على ترقية الأمة الإسلامية، فإن تلك الخطة هي أحسن وسيلة للوصول إلى ما نرمي إليه. وا أسفاه! إن حجاجنا الذين يجتمعون في تلك الأرجاء، تراهم بسبب رزية جهلهم، وسيئة عدم وجود مرشد لهم، يكتفون بمواجهة بعضهم لبعض فقط، فلا يتطرقون إلى البحث في أحوالنا؛ لا الديني منها ولا الدنيوي. عقد في الأيام الأخيرة في مدينة (موسكو) مؤتمر مؤلف من جميع أرجاء بلاد السلاف. إن تصور هذا المؤتمر وحده كاف لأن يصور لنا مقدار الفوائد العظيمة التي نالها أصحابه منه، وما نتج لنا من الضرر الذي لحقنا منذ زمن قريب بسببه. إن هذا المؤتمر لا يمكن أن يجتمع به أكثر من مائة أو مائتي شخص، وإذا بلغ الغاية فإنه يجمع ألف نفس ليس إلا. ومع ذلك فإنهم قد حلوا بواسطته عدة مشاكل، ونالوا ما كانوا يطمحون إليه. أما نحن فما الذي صنعناه؟ نعم.. ما الذي صنعناه نحن؟ إننا إلى الآن لم نقدر أن نمدن ما حوالي مكة. بل إننا نحن إلى الآن لم نقدر أن نفهمهم بأننا مسلمون مثلهم. العربان في تلك الأرجاء لم يزالوا حتى اليوم يعدون قتل المسلم الحاج حلالاً مباحًا؛ طعمًا بسلب ثلاث أو خمس ليرات منه! العربان في تلك الأرجاء؛ لم يزالوا حتى اليوم يعدون كل من لا يحسن التكلم بالعربية من حجاج بيت الله الحرام مشركًا. نعم.. إن التأسف على الماضي لا يجدي، بيد أن الذي يجدي هو أن نجد ونجتهد؛ لكى نجعله ماضيًا، وبعبارة أوضح هو أن نجدّ ونجتهد لكي لا نجعل الآتي كالماضي. أقول بكل صراحة: إننا إذا أردنا أن ننهض بالأمة الإسلامية، يجب علينا أن نوجه كل اهتمامًا إلى مكة؛ لأن الوسائل التي تنهض بالدولة العثمانية وتجعلها في عداد الدول القوية التي تأبى أن تغلب إنما تنالها بتلك الأرجاء. يجب علينا أن نجعل لتلك الأرجاء أهمية سياسية، كأهمية العاصمة نفسها؛ لأنها منبع علومنا المدنية، ومقر سياستنا الإسلامية. يجب أن ننشر بتلك الأرجاء جميع الجرائد والكتب التي تطبع باللغات الإسلامية. يجب أن تلقى الخطب الاجتماعية بتلك الأرجاء. يجب أن تفتح أهم مكاتبنا (المدارس) في تلك الأرجاء. يجب أن توزع من تلك الأرجاء بذور الاتحاد على جميع أنحاء العالم. يجب أن نجعل تلك الأرجاء بدرجة إذا رأى بها أحد مكة المكرمة، يظن أنه رأى الممالك الإسلامية، ويعتقد بأنه اطلع على زيادة آمال الأمة. يجب أن يقتنع المسلم الذي يحب الوقوف على الشئون الإسلامية؛ بأنه إذا رأى مكة المكرمة أصبح واقفًا على أنموذج أحوال الأمة لدرجة كافية. يجب علينا أن نجعل هداتنا (أهالي مكة) يتخرجون من كلية علمية منظمة. يجب أن يدخل أهالي مكتنا المكرمة في دور عمراني مهم , إن هذا المقام مقدس، وكل يوم نوجه وجوهنا إليه خمس مرات. إذا كانت الآستانة وجهتنا في المعاملات فمكة وجهتنا في العبادات. إذا كانت الآستانة مركز خلافتنا فمكة مركز ديانتنا. إني أعتقد أن المسلمين لا يستفيدون استفادةً حقيقيةً من

إيضاح وانتقاد

الكاتب: أحمد بدوي النقاش

_ إيضاح وانتقاد العلامة المفضال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير. (13- السلام عليكم ورحمة الله) وبعد: فقد اطلعت على جوابكم بالمنار (صحيفة 537 ج 7 م12) ، وإني أشكركم على كل حال، وأرجو أن تفسحوا للضعيف مجالاً في صدر حلمكم؛ فإن الكمال لله وحده وإنَّ خوفي من التطويل مع رقة جسم المنار هو الذي جعلني أقصر عن زيادة الإيضاح في أول الأمر، بل كثرة اشتغالي بمصالح الحكومة تجعلني أختلس القليل من وقت راحتي لأكتب ما أرى، ذمتي تطالبني ببيانه إجمالاً مع اعترافي بالعجز؛ وإن كان فيما أكتب شيئًا من العسلطة، فما زلت أقول: (رب زدني علمًا) حتى تتمكنوا من فهم قصدي الحسن، وإني باسم الله الأكبر أبتدئ في بيان المقصود فأقول: (14- القسمة في الآخرة) ذكرتم في صحيفة 544 ج 7 م 12 أن الناس ينقسمون في الآخرة إلى قسمين: شقي وسعيد، وأنهم فيها فريقان: {فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) فهذا لا أخالفكم فيه في شيء. (15- مساواة الناس في بدء الخلقة) قلتم في صحيفة 544 (وإنه بدأهم على هذا ويعيدهم عليه) ففهمت من ذلك أن الله تعالى بدأ خلق الناس قسمين: شقيًّا وسعيدًا، وأنه تعالى أخرجهم في هذه الحياة على هذه القسمة، وأنه سيعيدهم في الآخرة على نفس هذه القسمة بلا تغيير ولا تبديل، حيث أيدتم ذلك بقولكم: (إنه كما قسمهم إلى شقي وسعيد في الدنيا والآخرة قسم بينهم) ... إلخ وهذا ما أخالفكم فيه، ولا أوافقكم عليه من بعض الوجوه؛ للأسباب الآتية: أولاً - خلق الله الناس في بدء خلقتهم متساويين (?) لغرض واحد، فلا شقيًّا بينهم ولا سعيدًا، ثم أخرجهم في الحياة الدنيا لعبادته كالآية {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فحصر الغرض من الخلقة في العبادة وحدها يدل على تساوي أصل الناس في بدء النشأة. ثانيًا - قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} (البقرة: 213) وهذا يدل صريحًا على أن الناس كانوا كواحد في بدء الخلقة، لا تمييز بين إنسان وآخر، ولا وجود لشقي بينهم ولا لسعيد. ثالثًا - قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (الأعراف: 172) فهذه الآية تدل على أن ذرية بني آدم بلا استثناء وهم في ظهور آبائهم، كانوا مطبوعين على تأليه الخالق وتوحيده بلا شرك، فيدخل في ذلك بالطبع ذرية اليهودي والمجوسي، والبوذي والبرهمي، والمسيحي والمسلم، والمادي والدهري، والكافر والمؤمن، مما يثبت توحيد الناس ومساواتهم في بدء الخلقة، وقد ولدوا من بطون أمهاتهم بالبداهة على هذه الطهارة، فكيف تقولون: إنه بدأهم قسمين ويعيدهم عليهما! رابعًا - قال النبى عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) والولادة على الفطرة كما لا يخفى عليكم؛ هي الولادة على الأصل الطاهر الخالي من نزعات الشرك وخلافه، فلا يوجد إذًا في بدء الخلقة تقسيم. (16- سير الناس على نظام ذي (?) وجهين) لعلكم تتساءلون بعد ذلك وتقولون: إذا سلمنا بأن الناس متساوون في بدء الخلقة، لا شقيًا ولا سعيدًا، فكيف ينقسمون في الآخرة إليهما.. وكيف يتفق علم الله الأزلي الثابت على ذلك في الحياتين؟ فأقول لكم: إن الله تعالى أخرج الناس إلى الحياة الدنيا على الفطرة طاهرين، وجعل لهم بإرادته نظامًا يسيرون عليه بعد أن منحهم الاستقلال الذاتي والحرية، غير أن هذا النظام ذو وجهين متضادين كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) أي: الطريقين المتضادين: طريق الخير وطريق الشر في آن واحد، ولما كانت الطبيعة الإنسانية متركبة بكيفية تلائم الطريقين المذكورين، غير أنها لا يمكنها أن تسير إلا في طريق واحد فقط منهما ولو بالتناوب مرة هنا ومرة هناك تبعًا لحرية الإنسان واستقلاله كالآية {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإِنسان: 3) فكان ذلك داعيًا لانقسامهم أنفسهم مع أن الله تعالى لم يقسمهم من قبل ذلك.. فتجد واحدًا يسير في طريق الخير دفعة واحدة، وآخر في طريق الشر دفعة واحدة، وثالث (?) ينتقل بين طريق الخير والشر، مع العلم أنهم جميعًا في إمكانهم أن يسيروا من طريق واحد دون أن يروا الثاني ولا يعلمون به، فتقسيمهم في الأصل غير موجود بالمرة، ولكن النظام الموضوع أمام حريتهم هو المقسوم فقط، وفرق بين قسمة النظام وقسمة النفوس التي تسير بحريتها على أي شكل كان، مما في هذا النظام المعلوم لله من قبل خلق الناس أجمعين. (17- علم الله الأزلي وسير الناس في الطريق) ربما تقولون مما ذكرته آنفًا: إنه مادام الناس غير منقسمين من قبل سيرهم في أحد الطريقين. وإنهم يمكنهم جميعًا أن يسيروا في طريق واحد من غير أن يروا الثاني. إن علم الله تعالى الأزلي فيما يختص بسيرهم هذا غير ثابت من جهة الواقع منهم ونفس الأمر، وإنَّه تعالى لا يعلم مَن مِن هؤلاء الناس سيكون في الطريق الأيمن، أو من منهم سيكون في الطريق الأيسر، وجوابي على ذلك: أنَّ كل ما يحدث مهما كان من عمل الإنسان الحر، كان معلومًا لله أزلاً قبل وقوعه فعلاً بصفة عامة، لا تخصيص فيها لزيد من الناس، وأنَّه تعالى خلق الناس؛ ليسيروا في أحد طريقين متضادين أو في كل منهما على التناوب {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) مع كونه يراقبهم بنفسه كل المراقبة {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: 33) فالمراقبة هي أساس العلم بالتخصيص بأحد الطريقين أو المختار منهما في أي وقت بواسطة أي إنسان بتمام حريته. ومن هذه المراقبة يعلم الله تعالى في أول وهلة ما خصص كل فرد لنفسه من أحدهما مع كونهما وكل ما فيهما من أنواع الأعمال المختلفة معلومين لله تعالى من الأزل كما مر. وكل هذا بالبداهة لا يزيد علم الله تعالى شيئًا ولا ينقصه ما في شيئا وغاية الأمر أن الله تعالى خلق الناس في الأصل طاهرين وأخرجهم في هذه الحياة الدنيا لغرض هو: ليعلم منهم من يسير في الطريق الأيمن بحريته ومن منهم يسير في الطريق الأيسر؛ ولذا كانت المراقبة لازمة كالآية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1) ويؤيد ذلك ما يأتي. أولاً - ما ذكره الله تعالى في الكتاب العزيز من أمر الفتنة أو الامتحان؛ لاختبار كل من يؤمن به تعالى حتى يعلم منه؛ إما الثبات نهائيًا على الإيمان أو الزعزعة عنه عند الامتحان أو الفتنة المذكورة، كالآية: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3) فالله تعالى يصرح في القرآن بنفسه بأنه تعالى لا يعلم الصادق من الكاذب في الإيمان إلا بعد أن يفتنه ويجربه ويمتحنه؛ ليعلم منه قوة الخيار للإيمان والثبات عليه، أو التزعزع عنه بمطلق حريته الممنوحة له منه. أما قولكم: إن ذلك علم انكشاف، فهو مردود؛ لأنه لا يوجد لله علم مكشوف؛ لأن المعدوم والموجود في علم الله سواء. ثانيًا - قال تعالى عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (سبأ: 21) أى: إنَّه تعالى لم يجعل للشيطان على الإنسان سلطة ما؛ ليحور (?) إرادته الحرة الخصوصية من الإيمان إلى الكفر، بل هي وسوسة ضعيفة {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} (النساء: 76) أمرها بسيط، ولا تأثير منها، وممكن لكل إنسان بحريته أن يتجنبها بما خلق الله تعالى فيه من عقل، وجعل له من إلهام. والله تعالى لم يمنع الشيطان عن تلك الوسوسة للإنسان؛ إلا ليجعلها في من الفتنة أو اللازم المقرر في نظام الله؛ ليعلم منها من يؤمن بالآخرة ممن هو في شك منها. وأَنَّ هذا العلم لا يكون إلا بالمراقبة المذكورة؛ إذ بغير ذلك لا يكون معنى للمراقبة التي مدلولها التأمل لانتظار وقوع فعل من شخص معلوم في أحد (?) جهتين متضادتين. ثالثًا - قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القِبْلَةَ الَتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 143) فهو تعالى يصرح هنا أنه لا يعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه منهم، قبل الفتنة بالانقلاب عن القبلة ببيت المقدس إلى الكعبة إلا بعد حصولها. وهنا لا يتوهم القارئ أن الله تعالى كان يجهل شيئًا أو يعزب شيء عن علمه. كلا بل هو بكل شيء عليم؛ لأن الله تعالى كان يعلم أن ما خلقهم عليه من نفس كاملة وعقل، يمكنهم بهما أن يتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم بمطلق حريتهم التي منحها لهم بلا أي مانع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى بحسب الوضع الذي شكل به الخلقة الإنسانية كان يعلم عنهم في آن واحد أنهم يمكنهم جميعًا أن لا يتبعوه صلى الله عليه وسلم بمطلق حريتهم، وفي الوقت نفسه كان يعلم بالنتيجة التي سيجازيهم بها وتصيبهم في الحياة الدنيا والآخرة إن لم يتبعوه، ويعلم من قبل أيضًا بالنتيجة التي سيجازيهم بها في الحياتين؛ إن لم يتبعوه. غير أن هذا العلم المطلوب ليس انكشاف الفعل الواقع المطابق وحده للعلم السابق دون غيره؛ كما يقول المنار. كلا.كلا بل هو علم تنقل إرادة كل منهم إلى أي جهة يرغب السير بحريته في أحد الطريقين المتضادين المعلومين لله من قبل، وهما مفتوحان معًا في كل وقت أمام كل إنسان، حتى يمده الله بعد ذلك بجزاء ما أراد , وهذا العلم بالطبع لا يكون إلا بالمراقبة، كالآية {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} (الرعد: 33) . رابعا: أن خلق الله متساويين (؟) في بدء الخلقة وخروجهم إلى الدنيا للتنافس في عبادة الخالق بحريتهم؛ هو كل الحق الذي كان الغرض منه وجود العالم، كالآية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} (ص: 27) ، وكالآية: {أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} (الروم: 8) .. فهل يعرف المنار ما هو هذا الحق؟ هذا الحق هو منح المخلوقات ومنها الإنسان (الحرية) الكاملة في عبادة الله؛ وللسير في أحد الطريقين المتضادين متحملاً نتائج أحدهما أو كل منهما بالتناوب على عاتقه بما وهبه الله من عقل وشعور وإلهام مع تمام الاستقلال في الإرادة {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} (الأنعام: 164) . فإذا كان الناس مقسومين كما قلتم من الأصل وفي الدنيا، وإنَّهم سيعودون على هذا التقسيم نفسه في الآخرة.. فإن الحياة الدنيا والخلق في الأصل والمبدأ يصيران بذلك عملاً من الله باطلاً كل البطلان، لا علة ولا حكمة منه أصلاً.. بل يكون أشبه بتسخير القادر للعاجز، ورحمة أناس وتعذيب آخرين بالاستبداد والقوة دون غيرهما، مع أن الكل (إنسان) ومن نفس واحدة يشعر الواحد وي

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (غاية الأماني، في الرد على النبهاني) كتاب مؤلف من سفرين كبيرين لأحد علماء العراق الأعلام المكنى بأبي المعالي الحسيني السلامي الشافعي. رد فيهما ما جاء به النبهاني من الجهالات، والنقول الكاذبة، والآراء السخيفة، والدلائل المقلوبة في جواز الاستغاثة بغير الله تعالى، وما تعدى به طوره من سب أئمة العلم وأنصار السنة؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية. بين المؤلف في كتابه هذا الحق في مسألة الاستغاثة وما يتعلق بها، وأطال فيما لابد من الإطالة فيه من تكذيب ما عزى إلى ابن تيمية كذبًا وبهتانًا من الأقوال الباطلة، وما عزى إليه مما ظن الناقلون لجهلهم أنه انفرد به، وهو لم ينفرد به، وما زعموا أنه باطل لعدم الوقوف على دليله، وجاء بالنقول الصحيحة من كتبه وكتب غيره من العلماء التي تفند أقوال المعترضين الكاذبين والجاهلين تفنيدًا، وتقذف بالحق على الباطل فيدمغه فيكون زهوقًا. وفي هذا الكتاب ما لا أحصيه من الفوائد العلمية في: التوحيد والحديث والتفسير والفقه والتاريخ والآداب والتصوف، وما انفرد به بعض المشاهير فأنكره العلماء عليه، كالإنكار على الغزالي وابن العربي الخاتمي وغيرهما. فعلى هذا الكتاب نُحيل الذين يكتبون إلينا من الشرق والغرب، يسألوننا أن نرد على النبهاني، وكذا من اغتروا بقوله ونقوله، وظنوا أن قولنا في الاعتذار عن عدم قراءة كتبه والرد عليها (أنه لا يوثق بعلمه ولا بنقله) هو من قبيل السب. وحاشا لله ما هو إلا ما نعتقده فيه وفي كتبه، بعد النظر في بعضها ورؤية ما فيها من الأحاديث الموضوعة، والقول المكذوبة، والاستنباطات الباطلة، ممن جعل نفسه بالاستنباط مجتهدًا، وهو ينكر الاجتهاد، ويعترف بأنه ليس أهلاً له. وقد قرظ هذا الكتاب طائفة من العلماء تقاريظ حسنة، فكأنهم كلهم ردوا على النبهاني ما جمعه كحاطب ليل , وقد طبع بحروف واضحة في مصر، ولكن جاء فيه كثير من غلط الطبع، فجمع في جدول في آخره، فينبغي لمن يقرؤه أن يراجعه، ويصحح الكتاب عليه قبل القراءة , وهو يطلب من الشيخ أحمد رزق بشارع الفحامين بمصر، وثمنه خمسة وعشرون قرشًا. *** (إعلام الموقعين. وحادي الأرواح) سبق لنا التنويه بكتاب (إعلام الموقعين) والنقل عنه، فأكثر قراء المنار يعرفون قيمته، يعلمون أنه لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع، ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى، وما يتعلق بذلك؛ كبيان الرأى الصحيح والفاسد والقياس الصحيح والفاسد، ومسائل الحيل، وغير ذلك من الفوائد التي لا يستغني عن معرفتها عالم من علماء الإسلام. وأما (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) فهو كتاب للإمام أبي عبد الله محمد بن القيم صاحب إعلام الموقعين، جمع فيه ما ورد في الكتاب والسنة وآثار السلف في الجنة، مع بيان معانيها وما يتعلق بها، بما عهد من قلم المصنف الجوال في ميدان البيان، بما يعجز عن مثله فرسان هذا الشأن، وقد طبع الكتابان معًا بحرف جميل في مطبعة النيل بمصر في ثلاثة مجلدات. *** (الأجوبة المرضية) (عما أورده كمال الدين بن الهمام على المستدلين بثبوت سنة المغرب القبلية) كتاب صفحاته 36، وإذا كان يعد صغيرًا في ورقاته فهو كبير في موضوعه بل يقال بادي الرأي: إنه أكبر من المسألة التي وضع لبيانها؛ وهي سنية ركعتين قبل فريضة المغرب، وربما يظن الذكي الذي لم يقرأه أنه ككثير من الكتب التي وضعت لبيان شيء لا يتسع القول فيه، فَأَكْثَر واضعوها من الاستطرادات والمباحث التي ليست من الموضوع في شيء؛ ليرضي أحدهم هواه، ويظهر فضله بتأليف كتاب كبير في مسألة صغيرة. وقد يظن من له حظ من علم الحديث أن هذا الكتاب لا حاجة إلى مثله؛ لأن سنة المغرب القبلية ثابتة في الصحيحين، فلا ينبغي أن يكتب فيها أكثر من سطرين؛ حرصًا على الوقت أن ينفق إسرافًا فيما لا فائدة فيه. وأما المقلد فلا يبالى أصح الحديث في المسألة أم لا؛ لأنه يتبع ما وجد عليه آباءه، وإن كانوا لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون. وهذا الظن أيضًا لا يصح ولا يرتضيه صاحبه لنفسه، إذا هو اطلع على كتاب الأجوبة المرضية، ولو كان الأمر كما يظن قبل قراءته لما أطلت في تقريظه وتنبيه الأذهان إليه. الكتاب صغير في حجمه كبير في معناه وفائدته، فهو كالمعول الصغير يهدم به البناء الكبير. هو يهدم لك تلك الشبهة الباطلة التي كبرت واتسعت حتى أحاطت بأذهان أكثر الناس، وهم الذين يقولون: إن علماءنا الذين سبقونا هم الذين أحاطوا بعلوم ديننا، فيجب أن نأخذه منهم لا من كتبه المقدسة؛ لأننا لا يمكن أن نفهمها كما فهموها. هذا ما كان يقوله المقلدون في كل دين، حتى قاله المسلمون الذين امتاز كتابهم المنزل بإبطال التقليد وذم فاعليه. يقول أتباع كل مذهب منهم: إن فقهاء مذهبنا هم أعرف الناس بكلام ربنا وسنة نبينا، فإذا قلدناهم كنا متبعين للكتاب والسنة من غير أن ننظر فيهما، ولا أن نفهم شيئًا منهما، بل يجوز لنا ذلك. ويقول لهم أهل البصيرة: بل عليكم أن تصيبوا حظًّا من النظر فيهما، وأن يكون أصل اهتدائكم بهما، وأن يكون كلام العلماء من المفسرين والمحدثين والفقهاء عونًا لكم على ذلك فلا يسمعون (وما أضيع البرهان عند المقلد) وقد يزيد طالب العلم منهم جمودًا وتعصبًا؛ ما يراه في بعض كتب مذهبه من الاستدلال والترجيح والرد على المخالفين الذين لم يطلع على أدلتهم، فيظن أن ذلك هو التحقيق الذي ليس وراءه غاية، فيتيه بذلك عجبًا، ولو رجع إلى أصول تلك الدلائل وكلام أهل الشأن فيها لرأى ما لم يكن يرى، وتغير حكمه على كثير منها، وهذا كتاب الأجوبة المرضية يمثل لقارئية نموذجًا من ذلك. الكمال بن الهمام أعلم الحنفية في عصره، ولم يجئ بعده مثله، بل يقل وجود مثله فيمن تقدمه منهم، حتى قيل: إنه وصل إلى رتبة الاجتهاد المطلق، وكتابه الفتح القدير هو أمثل كتبهم المتداولة وأقواها استدلالاً وبحثًا في الحديث وتخريجًا له، ولكنه لما كان بحثه واستدلاله لأجل تأييد المذهب، لا لأجل بيان الحق في نفسه؛ سواء وافق مذهبهم أم وافق غيره من المذاهب كان كثير الغلط والخطأ في الاستدلال، فإذا فحص العالم المستقل أدلته التي يرجح بها مذهبهم على مذهب الشافعي وغيره، يرى الكثير منها خلابة وجدلاً، وكتاب الأجوبة المرضية يشرح لك ذلك في مسألة سنة المغرب القبلية، فإن الكمال - عفا الله عنه - يعارض الأحاديث المتفق عليها والمروية في أحد الصحيحين وغيرهما من كتب الصحاح بأثر عند أبي داود، لم يرتق به إلى مرتبة الصحة، فيقول في ترجيحه أقوالاً ينقضها ما هو مقرر في علوم الحديث والأصول حتى إنك لتعد من خطئه فيه العشرات. فكتاب الأجوبة المرضية على صغره، يبين لكل ذي بصيرة أن المسلمين لا يستغنون بكتب فقهاء المذاهب، مهما جل مؤلفوها عن القرآن والسنة وكتب الحفاظ في الحديث وعلومه، وأنهم لا يكونون مهتدين بكلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا إذا جعلوا العلم بهما مقصودًا لذاته في الاهتداء، لا لتأييد مذهب على مذهب. أما مؤلفه فهو الشيخ محمد جمال الدين القاسمي المنقطع في دمشق الشام للتأليف وتصحيح الكتب المفيدة والتدريس، مع الاستقلال في الفهم والإخلاص في العمل، والإعراض عن زينة الدنيا؛ وما يرغب فيها علماء السوء من المال والجاه ومع هذا كله يتهمه الحشوية والمفسدون في الأرض بأنه مشتغل بتأسيس مملكة عربية، ويغرون به الحكومة الدستورية، كما كانوا يغرون به الحكومة الحميدية فله أن يقول: أنا في أمة تداركها الله ... غريب كصالح في ثمود *** (الحرية في الإسلام) ألقى الشيخ محمد الخضر أحد علماء تونس المدرسين في جامع الزيتونة الأعظم منذ ثلاث سنين وشهور مسامرة في نادي قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية بتونس، موضوعها الحرية والإسلام، شرح فيها معنى الحرية والشورى والمساواة، وقسم الحرية إلى أقسام: حرية في الأموال، وحرية في الأعراض، وحرية في الدماء، وحرية في الدين، وحرية في خطاب الأمراء، وختمها بالكلام في آثار الاستبداد. طبعت هذه المسامرة في هذا العام، فبلغت صفحاتها 64 صفحة، وتفضل صاحبها بإهدائنا نسخة منها منذ أشهر، وكتب عليه بخطه، وقد أرجانا تقريظها؛ راجين أن نجد وقتًا نطالعها فيه ولما نجده، فرأينا أن ننوه بها الآن تنويهًا إجماليًّا، وسننقل في جزء آخر نموذجًا منها. ومن وجوه العبرة في هذه المسامرة أن علماء تونس الرسميين، يخطبون في الأندية حتى في المسائل السياسية وحكم الإسلام فيها، وبهذا يفضل علماء جامع الزيتونة علماء جامع الأزهر؛ ومنها أن الشيخ محمد الخضر كان في الوقت الذي ألقى فيه مسامرته قاضيًا لمدينة بنزرت، وهذا يدل على أن عمال الحكومة التونسية يتمتعون بحرية أوسع من حرية عمال الحكومة المصرية الممنوعين من الكتابة - بله الخطابة - في السياسة ولو من الوجهة الدينية، أو أن فرنسا أوسع صدرًا من إنكلترا في ذلك. *** (شرح المعلقات للزوزني) المعلقات السبع لفحول شعراء العرب في الجاهلية مشهورة، وفائدتها لطلاب ملكة الشعر وأدب هذا اللسان معروفة، وشرح الزوزني لما هو عمدة المتأدبين في فهمها، وقد طبع أكثر من مرة، ولعل أحسن طبعاته هي الطبعة الأخيرة بمطبعة دار الكتب العربية بمصر، فهي تفضل غيرها بمعارضة المعلقات فيها على النسخة التي اعتمدها الشيخ محمد محمود الشنقيطي إمام اللغة والأدب في هذا العصر (رحمه الله تعالى) ، وبإثبات الأبيات الزائدة على ما في شرح الزوزني كما وجد في نسخة الشنقيطى، وبضبط الأبيات بالشكل وبضم معلقتين أخريين إليها إحداهما للنابغة الذبياني والثانية لأعشى بكر وائل، وقصيدتي النابغة الدالتين الشهيرتين اللتين يصف في إحداهما المتجردة زوج النعمان بن المنذر، ويعتذر في الأخرى له عما بلغه من السعاية فيه. ويطلب الكتاب من دار الكتب العربية الكبرى للحاج مصطفى الحلبي وإخوته بمصر. *** (الوطن - أو - سلستره) هي القصة التمثيلية الشهيرة لكاتب الترك وخطيبهم، وأحد زعماء الأحرار السياسيين فيهم، وإمام النهضة الحديثة في ترقية اللغة العثمانية وتكوينها: نامق كمال بك (رحمه الله) ، وهو يمثل في هذه القصة حب الوطن يغالب العشق فيغلبه، ويصور فيها الوجدان والوجد والشعور المتغلغل في أعماق النفس، والهوى المستتر في زوايا القلب، حتى تكاد تكون هذه المعاني الروحية أشباحًا مرثية، ولكنه يسرف في ذلك أحيانًا، فلا يراعي فيه ما تعهد مثله الطباع، وتعرف طعمه الأذواق، فينتبه الذهن إلى كونه خياليًّا لا حقيقيًّا، وقد اشتهرت هذه القصة في أوروبا، حتى ترجمت باللغات الفرنسية والألمانية والروسية، ولكنها كانت محجورًا عليها في عهد الحكومة الحميدية، كسائر آثار مؤلفها، وجميع ما ينبه الأذهان من أمثالها، حتى إذا ما جاء الدستور، فأباح ما حرمه الاستبداد من الآداب والعلوم، بادر الأحرار العثمانيون إلى تمثيل هذه القصة بالتركية ? ثم مثلت في بيروت بعد ترجمتها بالعربية، ترجمها بالعربية الشيخ محي الدين الخياط وأجدر بمثله أن يحسن ترجمة مثلها، ويجعل فرعها وارثًا لمحاسن أصلها، وقد أودعها بعض الأناشيد والقصائد من نظمه، فزاد ذلك في معناها وحجمها، وطبعها سليم أفندى هاشم وكمال أفندى بكداش وهي تطلب من المكتبة الأهلية ببيروت، ومكتبتي هندية والمل

الديار السورية في عهد الحكومة الدستورية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الديار السورية في عهد الحكومة الدستورية (بيروت) جعل ناظم باشا الشهير واليًا على بيروت بعد طلوع فجر الدستور، وكانت الولاية لا تزال سكرى بخمرة الانقلاب، وأهلها من احتقارالحكومة والافتيات عليها في هياج واضطراب، فكانت سياسته فيها كسياسته في عهد الاستبداد: سياسة مداراة للأهالي، حتى كان نفوذ كثير من البحارة والحمالين (الشيالين) في بيروت أقوى من نفوذه، وجوارهم أعز من جواره، بل ظهر للناس كافة أنه أحوج إلى حمايتهم منهم إلى حمايته، وقد وافينا بيروت في تلك الأثناء ورأينا منه هذا الضعف، فتلطفنا في الإشارة إليه بالنصح، مبينين له أن الأهالي مهما ظهر من اعتصابهم واعتصامهم فيما ليس من شأنهم، لا يقفون في وجه الحكومة إذا أخذت بالحزم، وعنيت بما هو أول واجب عليها من حفظ الأمن، بل قلنا له: إن الوالي يجب أن يكون في مثل هذا الطور الذى نحن فيه منفذًا للدستور؛ بضرب من الاستقلال يشبه الاستبداد، حتى يكون الأهالي معه كمن ورد فيهم أنهم يقادون إلى الجنة بالسلاسل أي: يلزمون الأعمال التي تقودهم إليها إلزامًا لا محيص عنه. وقد أشرنا إلى هذا فيما كتبناه عن رحلتنا في مجلد السنة الماضية ولكن هذا النصح لم يؤثر في نفس الوالي؛ لأنه جرى في المداراة على ما تعود؛ ولأنه كسائر كبار الحكام قد شعر بثقل مسئولية الدستور، من حيث شعر أكثر الأهالي بضد ذلك، وظنوا أن الحكومة لم يبق لها عليهم من سيطرة ولا قوة، فكان حفظ الأمن وإضاعته في بيروت في يد عصائب أولي القوة من عامة الأهالي الذين يطلق عليهم لفظ (الأبضايات) ، ونحمد الله أن كانت حكومتهم على ما فيها من الخطر حافظة للأمن العام. ثم نقل ناظم باشا إلى دمشق الشام بعد إخراج شكري باشا منها؛ وسيجيء ذكره - وبقي فيها إلى الشهر المنصرم، فأعيد إلى بيروت، وعسى أن تكون حاله فيها خيرًا من حاله السابقة في بيروت، ومن حاله في الشام، وسنشير إليها. ثم ولي ولاية بيروت أدهم بك وهو رجل قلم وفكر، لا رجل إدارة وعمل، بارد المزاج لا يبالي أن يعرف حال البلاد وأهلها، ولا يهمه ما وقع فيها، وإنما يرى كل الواجب عليه أن ينظر في الأوراق التى تلقى إليه، فيوقع عليها التوقيع الرسمي الذى كان يتعلمه؛ إذ لم يكن من قبل يعلمه. قد بينا في المنار من قبل أننا نصحنا له بأن يعيد نفوذ الحكومة إلى نصابه، ويوقف افتيات عصائب العوام عند حده، ويعني بحفظ الأمن والحرية الشخصية، وأنه أجابنا بأن هذا لا يمكن ولا يتيسر إلا بعد أن تصلح حكومة الآستانة نظام الشرطة والشحنة (الضابطة والبوليس) وتنفذه في جميع الولايات، ولم يكن يعقل معنى قولنا: إن ذلك في استطاعة كل حاكم، وإنه لا يفتقر فيه إلى إصلاح القوانين ولا تجديد النظام، وإنما يحتاج فيه إلى الحزم ومعرفة حال الأهالي ونفوذ الحاكم الحازم، وبينا أيضًا أننا نصحنا بمثل ذلك لمتصرف طرابلس جواد بك، وأنه كان يجيبنا بمثل ما أجابنا أدهم بك الوالي؛ لأن كلا منهما من أصحاب النظر لا من أصحاب العمل، ولكن المتصرف كان يحيل على الوالي كما يحيل الوالي على الآستانة. ظهر بعد ذلك صدق ما قلناه لهما أو لهم، فقد ولي قيادة الشرطة ببيروت أمير الالاي نجيب بك ففل عصائب المفتاتين، ومنع حمل السلاح، وما كان من إطلاق الرصاص في الليل والنهار، وقبض على من لم يفر ويغادر البلاد من المحكوم عليهم، وأرهب جميع الأشقياء، فعرف الأهالي ما لم يكونوا يعرفون من سطوة الحكومة واحترامها، وكان خير عون له على هذا نافذ بك رئيس الشحنة (مدير البوليس) . وولي متصرفة طرابلس الأمير أمين رسلان فعني في أول الأمر بحفظ الأمن، فتيسر له مع سوء حال الشرطة والشحنة ما كان يراه سلفه متعسرًا، بل مستحيلاً من منع إطلاق الرصاص، والظهور بحمل السلاح، وإرهاب الأشقياء، والقبض على كثير من المحكوم عليهم منهم وإلقائهم في السجون، ثم فترت همته في آخر العهد، وقيل: إنه صار يقبل شفاعة بعض الوجهاء أو المنتسبين إلى بعض الجمعيات، ولعله لا يدرى أنهم أنصار الأشقياء وأعوان السفهاء وشركاء اللصوص وسالبي الأمن. وقد انتخب مبعوثًا عن متصرفة اللاذقية وولي مكانه آخر، فهل يعتبر الولاة والمتصرفون ورؤساء الشرطة والشحنة في سائر البلاد بفعل نجيب ونافذ وأمين في حفظ الأمن واحترام الحكومة؟ *** (دمشق الشام) كان والي الشام عند إعلان الدستور شكري باشا، ولعله أضعف ولاة الدولة عقلاً وفهمًا، وأسوأهم إدارة وأقلهم حزمًا، ناهيك بسوء تصرفه في حادثة آخر رمضان من العام الماضي، فقد كان فيها آلة في أيدي أعداء الدستور ومثيري الفتنة ابتغاء قلب الحكومة الدستورية وإعادة العبودية الحميدية، وقد أشرنا إلى ذلك في سياق رحلتنا السورية في منار العام الماضي فلا نعيده، وقد عزل بتلك الحادثة شر عزلة. ثم ولي الشام من بعده ناظم باشا، فلم يأت فيها بإصلاح جديد، بل انتشرت في دمشق على عهده جمعية (ولقان) الإفسادية؛ التي أطلقوا عليها اسم (الجمعية المحمدية) تمويها وخداعًا لعوام المسلمين. نشرها مثيرو فتنة آخر رمضان؛ كالشيخ عبد القادر الخطيب والشيخ صالح التونسي وأعوانهما من الوجهاء، ولو لم يصطلم محمود شوكت باشا بجيش الحرية تلك الفتنة في الآستانة بتلك السرعة التي أدهشت العالم؛ لظهرت الفتنة في دمشق الشام في أقبح مظاهرها، ولقام عشرات الألوف الذين دخلوا جمعية الإفساد ينادون بإبطال الدستور وإعادة السلطة الحميدية باسم الشريعة المحمدية، على حين لم يخذل الإسلام من السلاطين كما خذله وأضعفه السلطان عبد الحميد، لا سقى الله عهده ولا أرى المسلمين مثله بعده. *** (حادثة رمضان الماضي في دمشق) أشرنا في الجزء الماضي إلى هذه الحادثة المشئومة، وقد ظهرت بوادرها في آخر مدة ناظم باشا، وشاع أن له يدًا فيها، وَأَنَّ ضلعه مع الفاتنين الذين أثاروها، ولهذه الإشاعة سئل عن ذلك في بيروت فأنكره، وقال: إنه دافع عن كرد عليّ لما اتهم أولاً بمشايعة جمعية (ولقان) ، وكتب إلى الآستانة؛ إن كان كرد عليّ ارتجاعيًّا فأنا ارتجاعي، فكيف يتهمه بعد هذه الشهادة بالارتجاع، وشاع أيضًا أن حسين عوني بك مدير المعارف بالشام، قد مهد لهذه الفتنة في الآستانة تمهيدًا قربها به من تصور الحكومة، وإن السبب في ذلك حملات المقتبس الشديدة في الانتقاد عليه وبيان ما في إدارته من الخلل والتقصير. ويغلب على ظني أنه لو بقي ناظم باشا في الشام لتلافي الفتنة، ولأنقذ من مخالبها مثل الشيخ عبد الرازق البيطار والشيخ جمال القاسمي وعبد الرحمن بك اليوسف؛ لأنه يعرف من إخلاص هؤلاء للحكومة الدستورية ما لا يعرفه غيره، ويعرف ما كان يكيده أكابر المجرمين ودعاة الفتنة من أتباع أبي الهدى وغيره للشيخين البيطار والقاسمي في عهد الحكومة الحميدية، وأنهم يكيدون لهما الآن بمثل ذلك، ويريدون أن يجعلوا الحكومة الدستورية كالحميدية؛ آلة لنفوذهم والانتقام ممن يبغضون من الأخيار والأحرار ومحبي الإصلاح. ناظم باشا يعرف هذا كله، وكم منع أمثال هذه الفتن والشرور في زمن الاستبداد، وهو قادر الآن على مساعدة الأبرياء؛ كالشيخين وعبد الرحمن اليوسف، وإن لم يكن واليًا فقوله مقبول عند الوالي الذي خلفه وفي الآستانة. أما كرد عليّ فقد أخطأ خطأ لا يبرئه منه أحد، بل رأينا أصدق أصدقائه يلومه، فالحكومة أجدر بلومه على ما كتب وإن كان بسوء فهم لا بسوء قصد، ولكن ليس من العدل أن يجعل الرجل جانيًا خارجًا على الدولة، هادمًا للقانون الأساسي الناطق بأن سلطان العثمانيين هو خليفة المسلمين. لو كان هذا الأمر مقصودًا لصاحب المقتبس كتبه ليدعو إليه لما أسنده إلى بلاغ شيخ الإسلام، الذي أرسل ليطلع عليه الخاص والعام، وهو نفسه يتمنى لو يسبق جميع الجرائد السورية إلى نشره في جريدته، فمن البديهي الذي لا يماري فيه عاقل منصف أن نشر تلك الفقرة قد كان زلة قلم، لا زلة قدم، وكثيرًا ما تزل أقلام الكاتبين لكلام الله وكلام رسوله، وآية ذلك أنهم إذا نبهوا أو تنبهوا إلى خطئهم يبادرون إلى إصلاحه، وكذلك فعل كرد عليّ؛ فأصلح في غده خطأ أمسه، ونحن قد أصلحنا في الجزء الثامن من هذا المجلد خطأ في آية من كتاب الله وفي تفسيرها تبعًا لها، وقع في منار العام الماضي، وكتاب الله أعظم من بلاغ شيخ الإسلام، فهل تعاقبنا حكومة الخلافة على ذلك الخطأ؟ ؟ هل يرضى النبي عليه الصلاة والسلام أن تعاقب حكومة الخلافة النائبة عنه من يخطئ في خبر معاقبة الجناة في شخصه وعمله، ومورد رزقه، وهو القائل رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه , رواه الطبراني عن ثوبان (رضي الله عنه) بسند صحيح. أي الفريقين يكون طاعنًا في كون الحكومة العثمانية حكومة خلافة؟ أمن يخطئ في خبر لا يؤاخذه الله ولا رسوله عليه، ولا سيما بعد أن تاب ورجع عنه، أم من يعاقب من منع الله ورسوله عقابه؟ {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة : 286) . لقد قرت في دمشق الشام عيون أعداء الدستور الرجعيين، وما زالت راجفة فيها قلوب الأحرار المصلحين، فليهنأ الرجعيون في رمضان هذا العام بفتنة صاحب المقتبس، كما هنئوا في رمضان العام الماضي بالفتنة التى أثاروها على صاحب المنار، وكما هنئوا في عام سابق بالفتنة التي أوقعوا فيها السيد عبد الحميد الزهراوي، وليقولوا إن شاؤوا: لكل حر عندنا في رمضان فتنة، وإننا نعد لكل طالب للإصلاح محنة، وإنا لنحن الظافرون في عهد الدستور وعهد الاستبداد، وإنا لنحن العابثون بحكومة عبد الحميد وحكومة رشاد، ونحن نقول: إن العاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وإن الأعمال بالخواتيم. وما الهنا منكم بمشف نقبًا ... وطالما أشفى الهناء النقبا فإذا لم ينصف الوالي الجديد القوم فستنصفهم المحكمة العرفية، وإن لم تنصفهم المحكمة العرفية فسينصفهم الخليفة محمد رشاد بنفسه، ويكون حزب الحق هم الغالبين، وحزب الفساد والاستبداد هم الخاسرين. * * * (مظالمنا في طرابلس الشام) نحن أقل الناس تعجبًا مما أصاب كرد علي من الظلم؛ لأننا من أوسعهم علمًا بحظ بلادنا السورية القليل من الدستور؛ لسوء حال الحكام وجريانهم على ما تعودوا من الاستبداد، وجهل جمهور الأمة بطرق مراقبتهم ومطالبتهم بالعدل، والتظلم من كل هيئة حاكمة إلى ما فوقها، على ضعف هذه الهيئات كلها في هذا النوع من الحكم. وعلمنا هذا بعضه نظري مبني على قواعد علم الاجتماع والسياسة، وبعضه اختباري بالاطلاع على أحوال الحكام، وبالدخول في المحاكمات بأنفسنا: ظلمنا في عهد الاستبداد ظلمًا بينًا لا يجهله أحد من حكام بلادنا ولا من الأهالي، ظلمنا في أنفسنا، وفي أموالنا، وفي أوقافنا، وسبب هذا الظلم هو أن أحدنا صاحب مجلة المنار، وقد نشرنا في الجزء الماضي ما كتب في جريدة بيروت الرسمية من اتهام صاحب المنار هو وإخوته بالجناية؛ ليعرف الأجنبي كما عرف الوطني سبب ظلمنا والاعتداء على حقوقنا. وقد حال الحول على الدستور، ولم ترجع الحكومة الدستورية إلينا شيئًا مما سلبته الحكومة الحميدية منا فضلاً عما سلبه الأشقياء؛ لعلمهم برضاها بظلمنا وعدم الانتصاف لنا ممن يعتدي علينا. توفي والدنا وجنود الاستبداد محيطة بداره، فمكنت الحكومة الاستبدادية بعض المتهجمين على الحقوق؛ مما كان في تصرفه من حصة الأموا

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الصلاة بعد صلاة الجمعة (س 33) من صاحب التوقيع بالسودان سيدي الفاضل صاحب المنار الأغر، نفعنا الله به أمين. السلام عليكم ورحمة الله: أما بعد؛ فلما كانت مجلتكم الغراء هي المجلة الوحيدة الدينية الإسلامية التي أخذت على عاقتها خدمة الدين والأمة واتباع منهج الحق، والتي انتشر ذكرها في مشارق الأرض ومغاربها، حتى حازت ثقة الخاص والعام، حماها الله وحفظكم لخدمة الملة والدين آمين؛ جئنا بالآتي: نحن يا سيدي في بلدة حديثي العهد بالعمران، يسكنها من المسلمين ما يبلغ ثلاثة آلاف نفس ما بين سوداني ومصري وجداوي ويماني وبعض من الهنود والمغاربة، وليس فيها مرشد ديني إلا قاضيها الشرعي السابق الذي أرشدنا للمنار صاحبه، وعرفنا كيف نقصده عند الشدائد، والذي بسعيه وجده وبما جمعه من المسلمين أسس زاوية من الخشب؛ كأغلب أبنية البلدة، وهي المسجد الوحيد الذي تقام فيه الجمعة والجماعة، ومازال - حفظه الله - يجدّ ويجتهد بإلقاء دروس الفقه والتوحيد على العامة، حتى نوَّر الله بصائرهم نوعًا، حتى رزئنا بنقله إلى محكمة مركز سواكن عقب نقل المديرية منها إلى السودان (بلدتنا) ، وجاء قاضي محكمة المديرية، فتأملنا خيرًا خصوصًا وأنه أكبر سنًّا ومرتبة من سابقه، ولما أقبلت أول جمعة بعد وصوله، وحضر المصلون، وأزف وقت الخطبة والصلاة، وصرنا في انتظار الإمام، ولم يتقدم أحد، دعي فضيلة القاضي للخطابة، فادعى أنه لم يعل المنابر في عمره، ولم يتعود الخطابة، فخير فيمن يندبه فندب إمام الأورطة المعسكرة هنا؛ ليخطب ويصلي بالمسلمين بالنيابة عن فضيلته، فأجاب المذكور وصلى، وإنه وإن كان في لسانه عقدة وفي إلقائه بعض تعقيد؛ غير أنا حمدنا الله تعالى الذي لم يحرمنا ممن يقوم بالإمامة والخطبة. صلى الإمام الجمعة وعقبها بأربع ركعات الظهر أو نفل (لا أدري) ، فظن بعض المالكية أن صلاة الإمام الظهر بعد الجمعة تبطل صلاة المالكية، والمسجد واحد لا تقام الجمعة في غيره، فسئل الإمام عن ذلك، فما كان جوابه إلا أن انفعل وحسبل، وكبُر عليه أن يسأله أحد من العوام ويخطئه في صلاته (وما كان إلا مستفهمًا) وتخلص بقوله: أنا ما باخدشي أجرة، ومذهبي حنفي، وماليش دعوه بمالك؛ لأني ما حضرتوشي في الأزهر، وإللي يصلي ورايه يصلي وإِللِّي ما يصليشي عنه ما صلى! ! {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الهُدَى} (العلق: 9-11) . لم يكتف حضرة الإمام بما أبداه من الاستياء من سؤال العامي الذي أراد أن يذكر فتنفعه الذكرى، بل أعاد الكرة في الجمعة التالية، وأظهر عظيم استيائه، وجعل خطبته طعنًا وذمًّا وشتمًا لمن يتجرأ على العلماء ويسألهم ويخطئهم، حيث قال بعد الحمدلة والاستغفار والتشهد ما نصه: (عباد الله: قال الله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة: 114) وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب : 69) عباد الله: النبي أوذي من قبلي من المنافقين ولي في رسول الله أسوة حسنة! عباد الله: وسوس شيطان من شياطين الإنس لبعض المصلين وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا أن يخطئني في صلاتي أو أن صلاتي باطلة حيث صليت أربع ركعات نفلاً، وقالوا إني صليت الظهر، وأقسم بالله العظيم إني ما صليت الظهر ولا تَنَفَّلْتُ وإنَّ صلاتكم صحيحة وصلاة الذين صلوا الظهر باطلة، ولم أدر كيف يتجرأ هؤلاء الشياطين على تخطئة علماء الله هم وكلاء الله في أرضه! ! عباد الله: قال الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112) ، {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} (الأحزاب: 60-61) ً عباد الله: إني سأخطب وما اغتصبت الوظيفة من صاحبها وما خطبت إلا بعد الإذن منه، فاختاروا الخطيب الذي يعجبكم. هذا وإن لم ينته المنافقون، فسوف يخرجهم الله من هذه البلدة مدحورين خاسرين الدنيا والآخرة كما أخرج الذين من قبلهم، عباد الله، إن شعبان قد مضى، هل فيكم من قدم فيه شيئًا ينفعه؟ هل فيكم من عمل صالحًا؟ هذا هو ملخص الخطبة وآياتها وألفاظها؛ والتي لم تخرج عن السب للذي سأله ومن وافق عليه من (الشياطين) ، وياليته ما سأل. انتهت الصلاة وقام المصلون وانصرفوا، فمنهم من قال بفساد الخطبة وعدم جواز الصلاة خلف هذا الإمام، وآخرون قالوا بفساد الخطبة فقط، ولازال الهرج والمرج بين الناس مع اختلاف جنسيتهم، وفيهم من عاهد نفسه بعدم الصلاة خلف هذا الإمام. فأغيثونا وأفيدونا عن الصواب عن كلٍّ وما يتَّبع، وعن صلاح الخطبة وفسادها، وصلاة الظهر للإمام بعد الجمعة أو التَّنَفُّل، هل يفسدان صلاة المالكية مع نشر هذا السؤال برمته، حتى لا يقال: تجاوزوا الحق أو كتبوا غير الحقيقة، والمسلمون يطلبون هذه الخدمة الدينية لله وللنفع العام، ولكم منا الشكر ومن الله الأجر. ولما كان خير البر عاجله، فنرجوكم نشره بأول عدد، وأن تفسحوا له صدركم الرحيب وصدر مجلتكم الغراء، ودمت يا سيدي. ورحم الله الأستاذ الإمام؛ حيث يقول: إن طول الإقامة في الأزهر تضعف الاستعداد للعلم، حتى قد تذهب به؛ لأن من فكر حضرة الإمام أن علم الجغرافيا وما فيه من تغلب الفصول والبروج والعلوم الحديثة الأخرى هو من الكفر الذي جلبه الشيخ محمد عبده. ... ... ... الفقير ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ... بهجت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالكمارك السودانية (ج) ليس فيما ذكرتم من الخطبة ما يقتضي عدم صحتها أو عدم صحة صلاة الجمعة المرتبطة بها، وصلاة الإمام بعد الجمعة أربعًا أو أكثر أو أقل لا يبطل صلاة الجمعة على نفسه ولا على المصلين من المالكية ولا غيرهم، وما علمنا أن أحدًا من علماء المسلمين قال: إن عملاً من الأعمال يصدر من رجل يبطل عبادة غيره أو عبادة نفسه إلا الردة أي: الكفر بعد الإيمان، فإنها تحبط العمل وتبطل ثوابه. فيا أيها المسلمون، لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق. بذلك وصى الله من قبلكم وأعلمكم به لعلكم تتقون. نعم.. إن صلاة الظهر بعد الجمعة ليست مطلوبة عندكم في مذهب من المذاهب، وإن من لا يقول بسنية صلاة قبل الجمعة وبعدها كالمالكية، ليس له أن يعترض بمذهبه على مذهب غيره ممن يقول بذلك، والنظر في التعادل والترجيح بين أدلة المذاهب شيء آخر، لكل أحد من المشتغلين بالعلم أن يبحث فيه بشرط أن لا يجعل سببًا للتفرق بين المسلمين باختلاف الاجتهاد الذي لا مندوحة عنه. وعندي أن مذهب المالكية في هذه المسألة أرجح، ولكنني لا أعترض على غيرهم لمخالفة اجتهادهم لاجتهادهم. وإذا كان ما ذكرتم عن الخطيب منصوصًا على غره، فإنني أعظه أن لا يعود إلى مثله، وأذكره بما يجب على الواعظ من الحلم والصبر وعدم الانتصار لنفسه، ولا سيما بمثل تلك الشدة التي هي من السب والشتم، وفي حديث الصحيحين: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره) وفي حديثهما أيضًا: (المسلم من سلم المسلمون من شر يده ولسانه) ، وفي رواية لغيرهما: (من سلم الناس) ... إلخ وليعتبر بعاقبة تلك الحدة، فإنها غيرت قلوب كثير من الناس، وأطلقت ألسنتهم فيه، ولو عاملهم بالحلم لجمع قلوبهم عليه؛ فأفادهم واستفاد من إقبالهم عليه، وتعلمهم منه كثرة الأجر وحسن الذكر، كما شأنهم مع القاضي السابق، ولا شيء يعين على الحلم واللين وحسن السياسة وعدم الدعوى والانتصار للنفس كالإخلاص، وعسى أن يوجه قاضي المديرية همته إلى إصلاح ذات البين والعناية بإرشاد أهل هذا البلد، وقراءة درس لهم في الحلال والحرام وآداب الدين؛ وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالحين، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. *** إطلاق لفظ مولانا على الناس (س 34) من محمد علي أفندي من موظفي كمرك (يافا) حضرة العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أعرض أنني قد اطلعت على كتاب يدعى (صيانة الإنسان عن وساوس ابن دحلان) فرأيته قد فسر كلمة (مولى) بما معناه: أن كلمة مولى مشتقة من اسم الجلالة، فلا يجوز - والحالة هذه - إطلاقها على بني الإنسان، كأن يقال مثلاً (مولانا فلان) فكل إنسان قالها لإنسان غيره يشرك بالله! قرأت هذا وأنا بين الشك واليقين في كلامه؛ لأنني كثيرًا ما أسمع هذه الكلمة يقولها الناس لأناس غيرهم، فلم أر أحدًا يهديني للصواب سواكم، فأتيت برسالتي هذه مستفتيًا إياكم عن هذه الكلمة ودرجها مع الجواب بأول عدد يصدر من مجلتكم الغراء، فلا زلتم الملجأ لحل المشكلات، والوحيد في فك المعضلات آمين. (ج) لقد غلا صاحب ذلك الكتاب في قوله الذي نقلتموه غلوًّا كبيرًا، وأخطأ خطأ ظاهرًا؛ فلفظ المولى ليس مشتقًّا من لفظ الجلالة الذي هو من مادة (وله) ، بل هو مشتق من مادة الولاية أو الولاء، وقد بين الله تعالى في كتابه أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وما كل ما أطلق على الله عز وجل من الأسماء يحرم إطلاقه على غيره، كما هو معلوم من إطلاق لفظ (رؤف رحيم) على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن، ومن تسمية المسلمين أبناءهم بالحكم والرشيد وغير ذلك مما جاء في أسماء الله الحسنى. وقد استعمل المسلمون لفظ (المولى) من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذا العهد، وهو بمعنى السيد، وشاع عندهم إطلاقه على المعتوق، فكانوا يقولون: زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونافع مولى ابن عمر (رضي الله عنه) . ومن استعماله بمعنى السيد قول الخنساء رضي الله عنها في أخيها صخر. وإن صخرًا لمولانا وسيدنا ... وإن صخرًا إذا نشتو لنحار *** السماء والزرقة التي نراها فوقنا (س 35) من السيد محمد حسين نصيف (بجدة - الحجاز) حضرة العلامة الفاضل، والسيد الكامل، من طار صيته حتى ملأ الأقطار، بأعلا المنار، مولانا السيد محمد رشيد رضا، حفظه الله وأدامه. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أرجوكم حل هذه العقدة التي أبرمها أمامنا أحد طلبة العلم مدعيا أن الزرقة التي نراها فوقنا ليست بالسماء المرادة بقوله تعالى {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) وإنما تلك الزرقة هي الجو محتجًّا علينا بالحديث (ما بين كل سماء خمس مائة عام) وأنَّ تلك المسافة لا يدركها البصر عقلاً، فهل السماء التي

العرب والترك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العرب والترك [*] ] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[1] (1) التغاير بين الإخوة الأشقاء، والتنافس بين الجيران والخلطاء، هما من الأخلاق المعهودة بين الناس في جميع الشعوب والأجناس، وكثيرًا ما يفضي التغاير إلى التنافر، والتنافس إلى التحاسد، فإذا اقترن ذلك بالتقاطع والتدابر، ولم يفض كل من المتنافسين بما في نفسه إلى الآخر، اشتعلت بينهما نار العداوة والبغضاء، وإن كان الخير لكل منهما في الموادة والوفاء، وإن ما يقع من الشقاق بين البشر بسوء الفهم، أكثر مما يقع بسوء النية والقصد. تلك قوانين الأخلاق وسنن الاجتماع التي تسير عليها الأفراد والأقوام، فالعرب والترك هما الصنوان في شجرة الملة الحنيفية، والأخوان الشقيقان في الجامعة العثمانية، والركنان الركينان لبناء الخلافة الإسلامية، فالرابطة بينهما جديرة بأن تبقى دائمًا كما وصفها كمال بك نامق زعيم النهضة الأدبية في الترك بقوله: (إن كان يطمع أحد في حلها فهو الشيطان، وإن كان يقدر عليه أحد فهو الله) . هذا ما كان، وهذا ما يجب أن يكون إلى ما شاء الله. ولكن وجد شيطانان لا شيطان واحد يطمعان في حل الرابطة المتينة بين العنصرين اللذين امتزجا كامتزاج الأكسجين والإدروجين في تكون الماء، أو الأكسجين والنيتروجين في تكون الهواء زانك الشيطانان هما شيطان السياسة الأوربية وشيطان الجهل في كثير من أفراد العنصرين، ولكل واحد من هذين الشيطانين شر من شيطان الجن الذي ذكره كمال بك رحمه الله، وسأبين ذلك تبيينًا. إن هذا العاجز كاتب هذا المقال ربما كان من أعلم الناس بقوادم هذه المسألة وخوافيها وهزلها وجدها؛ لأنني جئت مصر منذ اثنتي عشرة سنة، فكنت أشتغل فيها بالدعوة إلى الإصلاح الإسلامي جهرًا، من حيث أشتغل بالسياسة العثمانية سرًّا، وإن مصر في هذا العصر لهي مرآة الشرق والغرب، بما فيها من الحرية المطلقة، والشعوب المختلفة، والجرائد الحرة، والاجتماعات المباحة، فالمقيم فيها يسهل عليه أن يعرف من أحوال البلاد العثمانية وسياسة الدول فيها ما لا يعرفه أهل الآستانة ولا غيرهم من المقيمين في الولايات، حتى في هذا العصر عصر الدستور، فماذا نقول في عصر الاستبداد القريب: عصر الحجر على المطبوعات والختم على الأفواه، والمنع من الاجتماع والرعب من ذكر بعض الأسماء والألقاب، والعقاب الشديد على فلتات اللسان، وزلات الأقلام! ! ؟ ؟ إنني ما تركت مصر وجئت الآستانة في هذا الوقت؛ لأمتع النفس باستنشاق هوائها وعذوبة مائها ومناظر بوسفورها، وإنما جئت باحثًا ومختبرًا أو ساعيًا في الإصلاح، فأنا أعرض ما عندي من المعرفة والاختبار والرأي على أولي الأمر وأهل الحل والعقد، بعضه بالمشافهة والمسارة، وبعضه بالكتابة في الجرائد، فإن صادف آذانًا واعية، وأعينًا بصيرة متأملة، فذلك ما أرجوه، وإن صدق ما قيل لي بمصر من أن أولي الأمر، وكذا أصحاب الصحف في الآستانة لا يبالون بقول أحد ولا برأيه، وما أظن أن الأمر كما قيل، فحسبي أنني أديت الواجب عليّ، وعملت بالنصيحة الواجبة لأئمة المسلمين وعامتهم كما ثبت في الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما. قضيت أكثر من أسبوع في هذه العاصمة لا أقابل أحدًا من أولي الأمر ولا من أصحاب الجرائد، وإنما كان همي فيها محصورًا في اكتشاف الآراء، واستخراج مخبآت النفوس، ومكنونات الصدور، في الأمور العامة، ومسألة سوء التفاهم بين الترك والعرب خاصة، فرأيتني بعد أن وقفت على كثير من المسائل والآراء، وما فيها من الأغراض والأهواء، لم أزدد علمًا بأصل المسألة، وإنما أضفت إلى ما عندي جزئيات جديدة من الحوادث والوقائع تؤيد الأمر الكلي، ولا تنقض منه شيئًا. فالأمر الذي يجب التصريح به بالإجمال، قبل بيان الأسباب والنتائج بالتفصيل، والذي يجب أن يعلم وأن يعمل به، هو أنه يوجد شيء من سوء التفاهم بين العنصرين تخشى عاقبته إن لم يتدارك في الحال، وأَنَّ كبراء الدولة وقادة الأفكار في العاصمة ليسوا على بينة منه، وأستشهد على ذلك شهيدين قريبين: أحدهما: فتنة الشام في هذا العام، وثانيهما: ما نشر في جريدة (أقدام) من خبر اتحاد أمراء جزيرة العرب لأجل تكوين دولة عربية! أما الأول الذي استدل به على أن حكومة العاصمة ليست على بينة من أحوال الولايات العربية، فهو أن بعض الوشاة في دمشق الشام، بلغوا هذه الحكومة بتقرير من تقاريرهم التي اعتادوها في زمن الحكومة الحميدية بأن أفرادًا معينين يكونون دولة عربية وخلافة جديدة! ! فبادرت الحكومة الدستورية إلى التحقيق واستنطاق المتهمين بهذه الجناية جهرًا، وكانت الحكومة الحميدية تفعل ذلك في شأنهم وشأن أمثالهم سرًّا، وهم أفضل علماء الشام وأخلص المخلصين من أحرارها للحكومة الدستورية. هم الذين كانوا مضطهدين في الدور الماضي، فلما جاء الدستور ظنوا أن زمن اضطهادهم قد مضى، وجاء الزمن الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم، ويعرف فيه للمخلصين إخلاصهم، وكانوا هم السابقين إلى مقاومة الرجعيين؛ إما ببذل نصائحهم وعلومهم كالشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال الدين القاسمي، وإما ببذل أموالهم ونفوذهم كعبد الرحمن بك اليوسف. والسبب في وقوع هذا الغلط عدم الوقوف على حقيقة الأحوال؛ ودليل ذلك أن ناظر الداخلية لم يلبث أن أصدر أمرًا حين علم بالحقيقة من مدة قريبة؛ بترك التحقيق عن المتهمين بالباطل، وجعل المسألة كأن لم تكن شيئًا مذكورًا. ولكن تلك الإهانة التي أصابت أولئك المخلصين؛ بسبب ما ذكرنا من عذر الحكومة قد تنسب إلى سوء القصد أو تضعف الثقة بالحكومة الدستورية - لو لم تتداركها - وسنبحث في طريق معرفة الحكومة والجرائد في العاصمة لأحوال الولايات في نبذة أخرى من هذا المقال. وأما الأمر الثاني: وهو ما أستدل به على عدم معرفة الجرائد وقرائها هنا بأحوال البلاد العربية، فهو تصديق ما نشرته جريدة (إقدام) مترجمًا عن جريدة (الاتحاد العثماني) : من اتحاد أمراء العرب وشيوخهم في الجزيرة، واهتمام الناس هنا بذلك، وهذا ما حملني على زيارة هذه الجريدة ومكاشفة مديرها الفاضل بحقيقة الأمر في ذلك الخبر، والاتفاق معه على كتابة مقال في بيان ما عندي من الصواب في هذه المسألة، وفي المسألة الكبرى التي تعد هذه فرعًا من فروعها؛ وهي مسألة سوء التفاهم بين العرب والترك، وما يجب من طرق تلافيه بعد معرفة أسبابه، وقد شكرت للرصيف الكريم قبوله مني ما أكتب وترجمته ونشره في جريدته. لمسألة اتفاق أمراء الجزيرة أصل عرفته من أوثق المصادر وأصحها؛ وهو أن شيخ لحج (ويلقب هناك بسلطان لحج) قد كتب كتابًا إلى بعض أمراء العرب وشيوخهم، كإمام الزيدية في اليمن، والشريف أمير مكة في الحجاز وغيرهما، وأرسله مع رسل من قبله يحملون بعض الهدايا، وهي تتضمن الدعوة إلى المذاكرة في الاتفاق على حفظ جزيرة العرب من العبث باستقلالها ولو من قبل الدولة العلية! ولكن لم يجبه أحد إلى دعوته، ولا حصل اتفاق بين أولئك الأمراء، ولا اتفاق على الاتحاد، ولا ذلك من المتيسر، ولا شيخ لحج ممن يسمع له أولئك الأمراء قولاً، أو يحترمون له رأيًا، أو يعتقدون فيه إخلاصًا، بل هم يسيئون الظن فيه؛ لما بينه وبين إنكلترا من الولاء، وما يأخذ منها من العطاء. علمت بهذه المسألة من عدة أشهر، ولم أنشرها في (المنار) ولا في غيره من الصحف؛ لاعتقادي أنها لا ضرر فيها، وإنما الضرر في نشرها وخوض العامة بذكرها، لما سأبينه بعد. ولكن لما كان علم الدولة بها واجبًا ولا سيما أن كانت بدسيسة أجنبية، بادرت إلى إخبار بعض من يثق بي من كبراء الدولة بها في كتاب أرسلته إليه من مصر، على أنه بلغني أن أمير مكة المكرمة أخبر حكومة العاصمة بها أيضًا. بعد ذلك سمع بعض التجار في عدن وغيرها بالخبر، ولكن على غير وجهه، فتناقلوه حتى وصل إلى طرابلس الشام، فتلقفه مكاتب جريدة (المؤيد) المصرية هناك، وكبره وأضاف إليه ما جرت عادة مكاتبي الجرائد بالتوسع في مثله وأرسله إلى المؤيد، وبعد أن نشره المؤيد بزمن غير طويل، نشرته جريدة (الاتحاد العثماني) فوصل إلى الآستانة العلية في هذه الأيام، وكان له من سوء التأثير ما كان، ونحمد الله. إن كانت الحكومة هنا أعرف بحقيقة هذا الأمر من الجرائد؛ إذ لولا ذلك لخشي أن تحشر الزحوف، وتنفق الألوف، وتسير الأسطول، لدرء هذا الخطر الموهوم، فإن اتفاق أولئك الأمراء، لا يتلافى بمثل ما يتلافى به اتفاق الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ جمال القاسمي، وهما شيخان ضعيفان، يقيمان في مركز فيلق من فيالق الدولة العلية! ! أكتفي بهذه النبذة اليوم، وسأكشف الغطاء في النبذة الثانية عن أسباب سوء التفاهم، وأجعل هذا وذاك مقدمة لما أدعو إليه من الوحدة والاتفاق. *** (2) قلت: إن العرب والترك يجب أن يكونا متحدين، كالعنصرين المكونين للماء أو الهواء، بحيث يكون الناظرون إليهما كالناظرين إلى الماء، يرون شيئًا واحدًا لا شيئيين، والشاعرون بمقاومتهما كالشاعرين بمقاومة الهواء، وهو قوة واحدة لا قوتان منفصلتان، وقلت: إن شيطاني السياسة الأجنبية والجهالة الداخلية، يطمعان في حل رابطتهما القوية، وتحليل وحدتهما الدينية الاجتماعية بمحلل العصبية الجنسية، وإننا نبين ذلك بشيء من التفصيل. سياسة أوربا في الأجناس وضعت في أوروبا قاعدة من قواعد السياسة من عهد نابليون وهي: وجوب استقلال كل جنس بنفسه، فهذه القاعدة يعمل بها رجال السياسة الاستعمارية حيث توافق مصلحتهم فقط، ويوجد من رجال الاجتماع من يقول بوجوب اطرادها لمصلحة البشر، وإن كان استقلال بعض الأجناس ينافي مصلحة جنس آخر سائد عليه أو متعذر به. لهذه القاعدة فروع كثيرة تتعلق بالدولة العلية لا خير لها في شيء منها؛ لأنها مؤلفة من أجناس كثيرة، لا قوة للدولة إلا باتحادها كلها أو جلها بالإخلاص، فإن شذ منها جنس صغير هو فيها كالكربون في الهواء، لم يكن ذلك ضارًّا لها ضررًا يضعف كيانها، فإن خلو الهواء من الكربون لا يبطل كونه هواء، وإن كان لا يخلو في الغالب منه. وإنني لا أبحث هنا في هذه الفروع، وإنما أقول: إنه لا يغبن أحد من الأجناس العثمانية في سياسة الجنسية كما يغبن الترك العثمانيون؛ لأن من مقتضاها أن يحصر استقلالهم في بلاد الأناضول التي هم فيها أكثر عددًا، ولا تسمح لهم أوربا بالاتحاد بأهل تركستان ولا هم يقدرون على ذلك بالقوة، فاتهام بعض العرب وغيرهم لساسة الترك بأنهم يريدون استخدام قوة الدولة؛ لتمييز جنسهم على سائر الأجناس العثمانية، هو اتهام لهم بالجهل بمصلحة الدولة وبمنفعة جنسهم، فوق الجهل بما يحظره عليهم دينهم من عصبية الجنسية. سياسة أوربا الجنسية في البلاد العربية قلت: إن القائلين بهذه السياسة في أوربا فريقان: رجال الاستعمار الذين يستخدمونها لمصلحتهم بقدر مصلحتهم، ورجال الاجتماع الذين يسعون لها سعيها على الإطلاق؛ عملاً بما يعتقدون من خير البشر. فالأولون يبثون في البلاد العربية العثمانية فكرة الاستقلال العربي مخادعة للعرب؛ ليساعدوهم على الانفصال من جسم الدولة العَلِيَّة، وماذا تريد أوربا بعد ذلك؟ تريد أن تضع هذه البلاد العربية تحت حمايتها أو تضمها إلى مستعمراتها، وتقطع عليها طريق الاست

أبو حامد الغزالي ـ 7

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أبو حامد الغزالي [*] (7) رأيه في التوحيد والتوكل ويدخل فيه بيان وحدة الوجود والجبر والكسب بيان حقيقة التوحيد الذي هو أصل التوكل اعلم أن التوكل من أبواب الإيمان، وجميع أبواب الإيمان لا تنتظم إلا بعلم وحال وعمل، والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل، وعمل هو الثمرة، وحال هو المراد باسم التوكل، فلنبدأ ببيان العلم الذي هو الأصل، وهو المسمى إيمانًا في أصل اللسان؛ إذ الإيمان هو التصديق، وكل تصديق بالقلب فهو علم، وإذا قوي سمي يقينًا، ولكن أبواب اليقين كثيرة، ونحن إنما نحتاج منها إلى ما نبني عليه التوكل، وهو التوحيد الذي يترجمه قولك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والإيمان بالقدرة التي يترجم عنها قولك: له الملك، والإيمان بالجود والحكمة الذي يدل عليه قولك: وله الحمد. فمن قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، تم له الإيمان الذي هو أصل التوكل، أعني أن يصير معنى هذا القول وصفًا لازمًا لقلبه غالبًا عليه. فأما التوحيد فهو الأصل، والقول فيه يطول، وهو من علم المكاشفة، ولكن بعض علوم المكاشفات متعلق بالأعمال بواسطة الأحوال، ولا يتم علم المعاملة إلا بها، فإذًا لا نتعرض إلا للقدر الذي يتعلق بالمعاملة وإلا فالتوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له، فنقول: للتوحيد أربع مراتب: وهو ينقسم إلى لب وإلى لب اللب، وإلى قشر وإلى قشر القشر، ولنمثل ذلك تقريبًا إلى الأفهام الضعيفة بالجوز في قشرته العليا، فإن له قشرتين، وله لب وللب دهن، هو لب اللب. فالرتبة الأولى من التوحيد: هي أن يقول الإنسان بلسانه: لا إله إلا الله، وقلبه غافل عنه أو منكر له؛ كتوحيد المنافقين. والثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام. والثالثة: أن يشاهد ذلك بطريق الكشف، بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة، ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار. والرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدًا وهي مشاهدة الصديقين، وتسميه الصوفية الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إلا واحدًا، فلا يرى نفسه أيضًا، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقًا بالتوحيد، كان فانيًا عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فني عن رؤية نفسه والخلق. فالأول موحد بمجرد اللسان، ويعصم ذلك صاحبه في الدنيا عن السيف والسنان، والثاني موحد بمعنى أنه (معتقد بقلبه مفهوم لفظه، وقلبه خال عن التكذيب، بما انعقد عليه قلبه، وهو عقدة على القلب ليس فيه انشراح وانفساح، ولكنه يحفظ صاحبه من العذاب في الآخرة؛ إن توفي عليه، ولم تضعف بالمعاصي عقيدته، ولهذا العقد حيل يقصد بها تضعيفه وتحليله تسمى بدعة، وله حيل يقصد بها دفع حيلة التحليل والتضعيف، ويقصد بها أيضًا أحكام هذه العقدة وشدها على القلب وتسمى كلامًا، والعارف بها يسمى متكلمًا، وهو في مقابلة المبتدع، ومقصده دفع المبتدع عن تحليل هذه العقدة عن قلوب العوام، وقد يخص المتكلم باسم الموحد من حيث إنه يحمي بكلامه مفهوم لفظ التوحيد على قلوب العوام حتى لا تنحل عقدته، والثالث موحد بمعنى أنه لم يشاهد إلا فاعلاً واحدًا؛ إذ انكشف له الحق كما هي عليه، ولا يرى فاعلاً بالحقيقة إلا واحدًا، وقد انكشفت له الحقيقة كما هي عليه، إلا أنه كلف قلبه أن يعقد على مفهوم لفظ الحقيقة، فإن تلك رتبة العوام والمتكلمين؛ إذ لم يفارق المتكلم العامي في الاعتقاد، بل في صنعة تلفيق الكلام الذي به يدفع حيل المبتدع عن تحليل هذه العقدة، والرابع موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث إنه كثير، بل من حيث إنه واحد، وهذه هي الغاية القصوى في التوحيد. فالأول كالقشرة العليا من الجوز، والثاني كالقشرة السفلى، والثالث كاللب، والرابع كالدهن المستخرج من اللب، وكما أن القشرة العليا من الجوز لا خير فيها، بل إن أُكِل فهو مر المذاق، وإن نظر إلى باطنه فهو كريه المنظر، وإن اتخذ حطبًا أطفأ النار وأكثر الدخان، وإن ترك في البيت ضيق المكان، فلا يصلح إلا أن يترك مدة على الجوز للصون ثم يرمى به عنه، فكذلك التوحيد بمجرد اللسان دون التصديق بالقلب عديم الجدوى، كثير الضرر، مذموم الظاهر والباطن , لكنه ينفع مدة في حفظ القشرة السفلى إلى وقت الموت، والقشرة السفلى هي القلب والبدن، وتوحيد المنافق يصون بدنه عن سيف الغزاة، فإنهم لم يؤمروا بشق القلوب، والسيف إنما يصيب جسم البدن وهو القشرة، وإنما يتجرد عنه بالموت، فلا يبقى لتوحيده فائدة بعده، وكما أن القشرة السفلى ظاهرة النفع بالإضافة إلى القشرة العليا فإنها تصون اللب وتحرسه عن الفساد عن الادخار، وإذا فصلت أمكن أن ينتفع بها حطبًا لكنها نازلة القدر بالإضافة إلى اللب، وكذلك مجرد الاعتقاد من غير كشف كثير النفع، بالإضافة إلى مجرد نطق اللسان ناقص القدر، بالإضافة الكشف والمشاهدة التي تحصل بانشراح الصدر وانفساحه، وإشراق نور الحق فيه، إذ ذاك الشرح هو المراد بقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} (الأنعام: 125) , وبقوله عز وجل: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) . وكما أن اللب نفيس في نفسه بالإضافة إلى القشر وأكله المقصود، ولكنه لا يخلو عن شوب عصارة بالإضافة إلى الدهن المستخرج منه، فكذلك توحيد العقل مقصد عال للسالكين. لكنه لا يخلو عن شوب ملاحظة الغير والالتفات إلى الكثرة، بالإضافة إلى من لا يشاهد سوى الواحد الحق، فإن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحدًا وهو يشاهد السماء والأرض وسائر الأجسام المحسوسة وهي كثيرة فكيف يكون الكثير واحدًا؟ فاعلم أن هذه غاية علوم المكاشفات، وأسرار هذا العلم لا يجوز أن تسطر في كتاب، فقد قال العارفون: إفشاء سر الربوبيه كفر، ثم هو غير متعلق بعلم المعاملة، نعم.. ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن، وهو أن الشيء قد يكون كثيرًا بنوع مشاهدة واعتبار، ويكون واحدًا بنوع آخر من المشاهدة والاعتبار، وهذا كما أن الإنسان كثير إن التفت إلى روحه وجسده وأطرافه وعروقه وعظامه وأحشائه، وهو باعتبار آخر ومشاهدة أخرى واحد؛ إذ نقول: إنه إنسان واحد، فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، وكم من شخص يشاهد إنسانًا، ولا يخطر بباله كثرة أمعائه وعروقه وأطرافه، وتفصيل روحه وجسده وأعضائه، والفرق بينهما أنه في حالة الاستغراق والاستهتار به مستغرق بواحد ليس فيه تفريق، وكأنه في عين الجمع، والملتفت إلى الكثرة في تفرقة. فكذلك كل ما في الوجود من الخالق والمخلوق اعتبارات ومشاهدات كثيرة مختلفة، فهو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد، وباعتبارات أخر سواه كثير، وبعضها أشد كثرة من بعض، ومثاله الإنسان وإن كان لا يطابق الغرض، ولكنه ينبه في الجملة على كيفية مصير الكثرة في حكم المشاهدة واحدا، وتستفيد بهذا الكلام ترك الإنكار والجحود لمقام لم تبلغه وتؤمن به إيمان تصديق، فيكون لك من حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب، وإن لم يكن ما آمنت به صفتك، كما أنك إذا آمنت بالنُّبوة، وإن لم تكن نبيًّا كان لك نصيب منه بقدر قوة إيمانك، وهذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق، تارة تدوم وتارة تطرأ كالبرق الخاطف هو الأكثر والدوام نادر عزيز، وإلى هذا أشار الحسين بن منصور الحلاج حيث رأى الخواص يدور في الأسفار، فقال: فيما ذا أنت؟ فقال: أدور في الأسفارلأصحح حالتي في التوكل، وقد كان من المتوكلين، فقال الحسين: قد أفنيت عمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد؟ فكان الخواص كان في تصحيح المقام الثالث في التوحيد، فطالبه بالمقام الرابع. فهذه مقامات الموحدين في التوحيد على سبيل الإجمال، فإن قلت: فلابد لهذا من شرح بمقدار ما يفهم كيفية ابتناء التوكل عليه، فأقول: أما الرابع فلا يجوز الخوض في بيانه، وليس التوكل أيضًا مبنيًّا عليه، بل يحصل حال التوكل بالتوحيد الثالث، وأما الأول وهو النفاق فواضح، وأما الثاني وهو الاعتقاد فهو موجود في عموم المسلمين، وطريق تأكيده بالكلام، ودفع حيل المبتدعة فيه مذكور في علم الكلام، وقد ذكرنا في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) القدر المهم منه، وأما الثالث فهو الذي يبنى عليه التوكل؛ إذ مجرد التوحيد بالاعتقاد لا يورث حال التوكل، فلنذكر منه القدر الذي يرتبط التوكل به دون تفصيله الذي لا يحتمله أمثال هذا الكتاب، وحاصله أن ينكشف لك أن لا فاعل إلا الله تعالى، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وغنى وفقر إلى غير ذلك؛ مما ينطلق عليه اسم، فالمنفرد بإبداعه واختراعه هو الله عز وجل لا شريك له فيه، وإذا انكشف لك هذا، لم تنظر إلى غيره، بل كان منه خوفك، وإليه رجاؤك، وبه ثقتك، وعليه اتكالك، فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، وما سواه مسخرون، لا استقلال لهم بتحريك ذرة من ملكوت السماوات والأرض. وإذا انفتحت لك أبواب المكاشفة، اتضح لك هذا اتضاحًا أتم من المشاهدة بالبصر، وإنما يصدك الشيطان عن هذا التوحيد في مقام يبتغي به أن يطرق إلى قلبك شائبة الشرك؛ لسببين: أحدهما الالتفات إلى اختيار الحيوانات، والثاني الالتفات إلى الجمادات , أما الالتفات إلى الجمادات فكاعتمادك على المطر في خروج الزرع ونباته ونمائه، وعلى الغيم في نزول المطر، وعلى البرد في اجتماع الغيم، وعلى الريح في استواء السفينة وسيرها، وهذا كله شرك في التوحيد وجهل بحقائق الأمور؛ ولذلك قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) قيل معناه أنهم يقولون: لولا استواء الريح لما نجونا، ومن انكشف له أمر العالم كما هو عليه، علم أن الريح هو الهواء، والهواء لا يتحرك بنفسه ما لم يحركه محرك، وكذلك محركه، وهكذا إلى أن ينتهي إلى المحرك الأول الذي لا محرك له، ولا هو متحرك في نفسه عز وجل، فالتفات العبد في النجاة إلى الريح يضاهي التفات من أخذ لتحز رقبته فكتب الملك توقيعًا بالعفو عنه وتخليته، فأخذ يشتغل بذكر الحبر والكاغد والقلم الذي به كتب التوقيع، يقول: أولاً القلم لما تخلصت فيرى نجاته من القلم لا من محرك القلم، وهو غاية الجهل، ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه، وإنما هو مسخر في يد الكاتب لم يلتفت إليه، ولم يشكر إلا الكاتب، بل ربما يدهشه فرح النجاة وشكر الملك والكاتب من أن يخطر بباله القلم والحبر والدواة، والشمس والقمر والنجوم، والمطر والغيم والأرض، وكل حيوان وجماد مسخرات في قبضة القدرة؛ كتسخير القلم في يد الكاتب، بل هذا تمثيل في حقك لاعتقادك أن الملك الموقع هو كاتب التوقيع، والحق أن الله تبارك وتعالى هو الكاتب، لقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) . فإذا انكشف لك أن جميع ما في السماوات والأرض مسخرات على هذا الوجه، انصرف عنك الشيطان خائبًا، وأيس عن مزج توحيدك بهذا الشرك، فأتاك في المهلكة الثانية، وهي الالتفات إلى اختيار الحيوانات في الأفعال الاختيارية، ويقول: كيف ترى الكل من الله، وهذا الإنسان يعطيك رزقك ب

تعصب أوربا الديني والحج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعصب أوربا الديني والحج تمهيد لمقالة من سنغافورة أثبتنا في السنة الأولى من المنار أن الغلو في التعصب الديني ولد في أوربا، ثم أعدنا الكرة في هذا مرة بعد أخرى، حتى في بعض أجزاء هذه السنة. ومن العجيب أن نرى جرائدنا السياسية غافلة عن تنبيه أهل الشرق إلى هذا أو وجلة من ذلك، وأصحابها يرون ويسمعون ويقرءون كل يوم ما يؤيده، حتى إن بعض الجرائد الإفرنجية التى تصدر في مصر تسمعنا آنا بعد آن من آيات تعصبها عجبًا، فهم على جهلهم بالإسلام يطعنون في أحكامه الحكيمة العادلة، ويحرفون بجهل أو بسوء قصد بعض آيات القرآن، كما فعلت أكثر من واحدة منهن في الصيف الماضي، بتحريف قوله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد: 4) الآية، إذ أَوَّلُوهَا بأن الإسلام يوجب على المسلمين أن يقتلوا كل من لقوه من الكفار في كل مكان وكل وقت، سواء كان محاربًا لهم أم لا، ولو كان هذا معناه لما عاش أحد من الكفار في الممالك الإسلامية وقد كان المسلمون قادرين على إبادة مخالفيهم من الشرق الأدنى، ومن بعض بلاد أوربا أيضًا، ولكنهم كانوا يعاملونهم بأفضل مما تعاملنا به أوربا اليوم في جاوه وسنغافورة والهند وتونس والجزائر. وإنما الآية في كيفية القتال مع الكفار المحاربين، فهي تأمرنا أن نجعل قتل عدونا في الحرب مغيًّا بالإثخان، وأن نكف عن القتل إذا أثخنا وظفرنا، ونكتفي عند ذلك بأسرهم، فكأنه يقول: اقتلوا في المعركة من يقاتلكم ما دمتم خائفين على أنفسكم، فإذا ظفرتم فكفوا عن القتل، واإسروا المقاتلين أسرًا، أفليس هذا منتهى الرحمة ? بلى.. وهو يقول بعد ذلك في الأسرى من هذه السورة {فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ} (محمد: 4) فهل بعد هذا من رحمة ورأفة في الحرب؟ وهل يعترض على تلك الآية إلا كل غال في التعصب؟ وهو ما عليه الأوربيون، وأفعالهم أدل على التعصب من أقوالهم. إن الإنكليز لم تستقر أقدامهم بمصر إلا وحاولوا أن يثبتوا في مؤتمر طبي؛ كون الحجاز هو مهد الهيضة الوبائية، وقد ضغطوا على الخديوي توفيق باشا؛ ليكره طبيبه سالم باشا سالم بإقرار ذلك، فأمره بأن يوافقهم فلم يفعل، حتى أظهر توفيق باشا مغاضبته إرضاء لهم، ثم إنهم لما باعوا البواخر المصرية لشركة إنكليزية بثمن لا يزيد على ثمن ما فيها من الأثاث والماعون (الموبيليات) ؛ وإن شئت قلت: وهبوها البواخر وأرصفتها، حملوا الحكومة على إلزام حجاج المصريين السفر في هذه البواخر دون غيرها، وكانت الشركة تسيء معاملة الحجاج الذين يركبون بواخرها، ولكن الظلم الذى يكون في مصر ليس كالظلم الذى يكون في مثل جاوه أو سنغافورة، بل يكون ظلمًا مفضوحًا فيها وفي أوربا؛ فلذلك ولما بذل من السعي في تحسين معاملة الشركة للحجاج، اتفق لورد كرومر مع الحكومة المصرية على وضع نظام معتدل لنقل الحجاج المصريين في هذه البواخر، وكان أنفع تلك المساعي ما قام به مستر ويلفرد بلنت المستشرق الشهير، وما كتبه في ذلك إلى لورد كرومر، وما نشر في الجرائد الإنكليزية، فهذا التحسين لم يكن من رحمة لورد كرومر ورأفته، ولا من عدله وعدل حكومته، ولكن كان أمرًا اضطراريًّا لابد منه، ولو كان ذلك من رحمة الحكومة أو عدلها لكان عامًّا في سنغافورة، وفي كل بلاد لها سلطان عليها. هذا ما نقوله تمهيدًا لرسالة جاءتنا من سنغافورة، ورغب إلينا أن ننشرها في عدة جرائد إذا أمكن، وقد شدد الكاتب النكير فيها على الأوربيين، وسمى تعصبهم الحامل لهم على إهانة المسلمين وهضم حقوقهم تعصبًا صليبيًّا، يعني أنه تعصب لأجل المسيحية، نعم.. إن المسيحية تتبرأ من مثل هذا العمل الذى يصفه صاحب الرسالة، بل هي تتبرأ من هؤلاء الإفرنج عباد المال والقوة، وأعداء الضعفاء من غير أبناء جنسهم، ولكن ماذا يعتقد، وماذا يقول مثل هذا الكاتب الذي رأى بعينيه، واختبر بنفسه تضييق هولاندا وإنكلترا على الحجاج دون غيرهم، وهو يعلم كما يعلم كل أحد أنه لا عذر لهم في ذلك ? أليس يعد معذورًا في كل ما قاله؟ بلى وهذا نص رسالته: الحج (أوربا والإسلام) ماذا تريد أوربا من الإسلام وأهله؟ إنها لم تزل تُحَارِبُنَا حَرْبًا صليبية كأشد ما يكون من الحرب، متحدة متناصرة من حيث ندري ولا ندري، فإنها لا تسنح لها فرصة إلا ووثبت على قطر، فافترست استقلاله، والتهمت ثروته، واستعبدت أهله، ونشرت فيه الجراثيم الضارة المهلكة للعقول والأبدان والأموال (الخمر والزنا والقمار) ، كل ذلك باسم الإنسانية، وتأييد الحقوق، وتأمين التجارة، وحب الخير و. و. و. وما هو إلا الكذب والخداع والغدر والاحتيال، ولقد رابها ما ترى من عطف المسلمين بعضهم على بعض، ذلك العطف الذى يوجب الإسلام أن يكون على أقوى ما يتصور، ولكنه ويا للآسف لا يوجد منه الآن إلا اسم بدون مسمى، ومع ذلك لم يرق لدى أوربا الرحيمة، فصاحت الصيحات المزعجة، وسمته التعصب الديني، ونسبت إليه ما شاءت، ولونته بما أحبت، وصورته غولاً يبتلع الإنسانية ويعيد الهمجية، ولقد نجح مسعاها، فأصغى إلى زورها من تربوا في أحضانها من شبابنا، وَمَنْ تخرج في مدارسها المحشوة بالرهبان والقسوس وبالملاحدة، فكانوا طليعة الأعداء وسلمًا لهم، وحبالة يصطادون بها سخاف العقول والجهال منا، فلا حول ولا قوة إلا بالله. كبر على أوربا المتمدنة أن تكون للمسلمين ندوة عامة وهو الحج، يلتقي فيه أهل الغرب منهم بأهل الشرق، وأهل الجنوب بأهل الشمال، فقامت لمحاربته، فقالت: إن الحجاز ينبوع الأمراض، ولو أنصفوا لعلموا - وما أخالهم جاهلين - أن الهند منذ ربع قرن لم يفارقها الطاعون، وهفكوغ منذ 15 سنة كذلك، وغيرها كثير، فلماذا لا تنظر أوربا إلى تلك الجهات وتقيم عليها الحجر (الكورنتينات) ، بل تغض عنها النظر، ولكنها في مقابل ذلك تشدد على من يأتي الحجاز أو رجع منه، كأنما هو ميكروب مجتمع، سواء كانت الصحة هناك معتلة أو في أحسن حال، حتى صار مفهوم لفظ الحج ملازمًا لمفهوم الحجر الصحي والتطهير! إذ لا انفكاك عنه ولا سلامة منه، مهما كانت صحة الحجاج جيدة. سبحان الله! لماذا كل هذه العناية، ومزيد الرعاية من أساطين التمدن الرحماء؟ كلنا نعرف ونعتقد أنها أحقاد وسخائم صليبية، قلبت أسماؤها تغريرًا للبسطاء، وسترًا عن أعين العمش، وما كفاهم هذا، حتى اجتمعوا فكادوا للإسلام وأهله، وخصوا سفر الحج بقانون مخصوص! أترى الحامل على ذلك كثرة المحبة والشفقة على الحجاج واختصاصهم بمزيد العطف؟ هكذا قال أولئك الساسة وادعوا: والدعاوي ما لم تقيموا عليها ... بينات أبناؤها أدعياء لو كان ما يقولونه مما يمكن أن يكون صدقًا، لما خص أولئك الحجاج وحدهم بهذه النعمة، وحرم منها جميع المسافرين في أقطار الأرض كلها، أترى ساسة أوربا؛ هان عليهم جميع الناس وأشفقوا على الحجاج فقط؟ زه زه! ! إننا نسألهم لماذا يكون الإنسان حرًّا في سفره إلى الأقطار الأربعة، بل وإلى القطب الجنوبى أو الشمالى ومجاهل أفريقية وغيرها بلا شرط ولا قيد، حتى إذا ما قيل: إنه يريد الحج قيد بالسلاسل والأغلال، وسيق إلى المحاجر، واحتاج إلى اجتياز عقبات وتحمل صعوبات، أترى ذلك رحمةً وعدلاً ? بخ بخ! ! لو كان الحامل لهم على عملهم هذا هو الرحمة؛ لكان المجلوبون كالأغنام من الهند وجاوة للعمل في أفريقية وأستراليا في أعماق الأرض أحق برحمتهم من الحجاج؛ لأنهم أكثر وأسوأ حالا منهم. قالوا إن كثيرًا من الحجاج جهال مغفلون، فهم عرضة للضياع، وقد صدقوا، وقالوا: إنهم لذلك خصوهم بقانون مفرد غريب رحمة بهم وقد كذبوا، ولو كان الأمر كذلك لكان الأحق بهذه الرحمة فلاحي روسيا والحبشان، فلماذا لم يرحموهم ويجربوا هذه القوانين النحسة فيهم؟ مع أنا نرى أوربا تسوق الجيوش وتجهز الأساطيل، إذا أصاب النصارى من غيرهم أذى بحق أو أو بغير حق، ولا نراها ترحم المسلمين، اللهم إلا في سفرهم إلى الحج، ولكن رحمة مقلوبة! فهل بلغ من استخفاف أوربا أن ظنت أننا نصدقها في هذا؟ عجب عجب! ! هذه هولاندا تقتل أهل سمترا ظلمًا منذ أكثر من أربعين سنة، ولم ينبس أحد من وزراء أوربا ببنت شفة! أتراهم لم يعلموا أنه لم يبق ملايين فيها إلا نحو الربع، كلا إنه من المستحيل أن يعلم بذلك كل أهل الدنيا، ويجهله وزراء الدول المتمدنة الرحيمة، بل الحقيقة أن أولئك المقتولين المضطهدين مسلمون، والقاتلين الظالمين لهم نصارى. قالوا: إن الحجاز محل الاستبداد والنهب والظلم، وقد علموا أن وجود ذلك مسقط لوجوب الحج أو مانع من دخول الحجاز وقد صدقوا، ولكن ذلك كان في أيام الطاغية راتب باشا، وقد طار الاستبداد معه، وقالوا: إنهم لذلك احتاطوا للمسافر إليه , ولو رفعوا تلك الحواجز الآن ونسخوها، لقلنا: إنهم صدقوا، فكيف وقد كذبوا أنفسهم بأنفسهم بثباتهم على العدوان، والتشديد مع سبق الإصرار على ذلك! ولسان الحال أفصح من لسان المقال. إنهم بما سنوه من القوانين وأوجبوه من الشروط، قد جعلوا الحجيج من الأصناف المحتكرة؛ كالأفيون والخمر، فاختص بهم بعض الشركات القاسية تسومهم الخسف وتنهب أموالهم، فلقد كانت أجرة الذهاب من سنغافورة مثلاً إلى جدة، يتراوح بين 17 ريالاً إلى 20 ريالاً، وهو الآن 110 ريالات ذهابًا وإيابًا! ولو لم يقيدوه بالشروط المخصوصة لم يزد على ما كان إن لم ينقص؛ لأن المراكب التى تذهب من الصين إلى أوربا لا تعد كثرة، وسطوحها فارغة، وكذا كمراتها إن لم تكن مراكب بريد، ولا يكلفها أخذ الحجيج شيئًا إلا ساعات قليلة، تنحرف بها عن سبيلها حين إدخالهم جدة، فيكون جل ما تكسبه من الحجاج أو كله ربحًا , ولكن كيف وأنى، وقد احتكروا بفضل رحمة الرحماء من صليبي أوربا، وصاروا من حقوق بعض الناس، وبعض الشركات يورثونها من بعدهم! ! أفلا تكون هذه نخاسة من مخترعات القرن العشرين؟ فهنيئًا مريئًا للأقوياء ما استحلوا من ظلم الضعفاء، إذ لا راحم للمسلم الضعيف ولا معين. أما المراكب التى اختصت بأخذ الحجاج من سنغافورة وجاوة، فلا كمرات فيها، ولقد رأيت أمراء هذه البلاد وأبناءهم يركبون ظهور تلك المراكب الوسخة بين الفحم والبهائم مضطرين، وقد اعتادوا صنوف النعم والرفاهة والنظافة، فيمرضون ويسقمون وكثيرًا ما يهلكون، ويقاسون من العذاب والنكيل ما يرحمهم عليه زبانية جهنم، ولا يرحمهم محبو الإنسانية من الأوربيين! وما هو ذنبهم؟ هو ذنب عظيم ألا إنه هو قصدهم الحج وذهابهم إلى الحجاز، وأوربا لا تحب ذلك، فهي تعاقبهم وتحجزهم في تلك المراكب العفنة، ثم تسوقهم إلى المحاجر حيث تعرى أبدانهم ويهانون، ويتلف من أموالهم ما أبقته أيدي السراق والأمطار والأنواء، ولقد لقيت أحد كبراء هذه الجهات بعد خروجه من المحجر، فرأيته كأنما نشر بعد ما قبر، ولو أراد أن يذهب بأحد مراكب البريد أو بمركب من غير مراكب الشركة المحتكرة للحجيج، لأقامت الحكومة عليه وعلى الباخرة التي تقله الدعوى، وحكم عليه وعليها بأشد أنواع العقوبات رحمة وشفقة! ! لو فرضنا أن الحكومات الأوربية تحب أن تخدم الحجيج، وأنها تعتقد أنهم في منزلة القصار وعديمي الرشد، لعملت معهم ما تعمله، لو أرادت نقل قطيع من البقر للذبح، فإنها تعلن ذلك ال

الشيعة وتعدد الزوجات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيعة وتعدد الزوجات كتابي إلى مولاي الأستاذ الحكيم، بعد السلام عليه ورحمة الله وبركاته، كتاب معجب بِمَا لَهُ من الأيادي البيضاء في إصلاح الأمة، ورفع (منار) الإسلام، وإرشاد المسلمين إلى الطريق الأقوم والصراط السوي، بيد أني أعتقد أنه لابد للجواد أن يكبو، وللصارم أن ينبو، فقد رأيت في الجزء الثامن من مناركم (صفحة 591) ما يشعر بالنسبة إلى الشيعة ما هم منه براء، وما نسبة ذلك إليهم إلا محض وهم وافتراء، وهي أنهم يجوزون الزواج الدائم بأكثر من أربع؛ لأنهم أوَّلوا الآية الكريمة بخلاف ظاهرها، وفهموا منها ما لم يفهمه سائر المسلمين، بل ادعيتم إجماعهم على ذلك، مع أن إجماعهم على عدم حل التزوج بأكثر من أربع كما ستعلم. ولما قرأت ما كتبتموه عجبت أشد العجب؛ لعلمي بعدم صحة ما نسب لهم، قلت: لعلي لم أطلع تمام الاطلاع على دخيلة الأمر، فعرضت ذلك على فريق من علماء الشيعة، فاستنكروا ما عزي إليهم غاية الاستنكار، وعجبوا كيف يصدر هذا الخطأ من فاضل نظير صاحب المنار، ثم استحضرت الكتب الفقهية التي عليها اعتماد الطائفة الشيعية؛ لعلي أعثر لذلك على أثر، أو أقف له على خبر، فلم أجد ضالتي المنشودة، بل وجدت خلافها، وها أنا أنقل لكم عباراتهم بالحرف الواحد؛ لتعلموا صدق ما أقول، وتكونوا على بينة من الأمر، وتزيلوا هذا الغشاء عن البصائر والأبصار. قال في تذكرة الفقهاء لمؤلفها الحسن بن المطهر الحلي المعروف بالعلامة، وهو من أعظم علماء الشيعة وأجلهم قدرًا، عاش في القرن السابع والثامن ما نصه: (مسألة أجمع علماء الأمصار في جميع الأزمان والأقطار على أنه يجوز للحر المسلم أن يتزوج بالعقد الدائم أربع حرائر، ولا يجوز له الزيادة عليهن؛ لما روي عن غيلان بن مسلمة الثقفي أنه أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمسك أربعًا وفارق سائرهن) . وأسلم نوفل بن معاوية فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمسك أربعًا وفارق الأخرى) ، ورواية زرارة ابن أعين ومحمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: (لا يجمع ماءه في خمس) ، وفي الحسن عن جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام في رجل تزوج خمسًا في عقد، قال يخلي سبيل أيهن شاء ويمسك الأربع، وحكي عن القاسم بن إبراهيم أنه أجاز العقد على تسع، وإليه ذهبت القاسمية من الزيدية قال الشيخ رحمه الله: هذه حكاية الفقهاء عنهم، ولم أجد أحدًا من الزيدية يعترف بذلك، بل أنكروها أصلاً واستدلوا بقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) والواو للجمع؛ ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات عن تسع، والواو ليست للجمع بل للتخيير، كما في قوله تعالى: {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (فاطر: 1) ولم يرد به الجمع؛ إذ لو كان المراد الجمع لقال تسعة ولم يكن للتطويل معنى، قال الشيخ رحمه الله: لو كان المراد الجمع لجاز الجمع بين ثماني عشرة؛ لأن معنى قوله مثنى: اثنين اثنين، وكذلك قوله ثلاث معناه: ثلاثًا ثلاثًا، وقوله رباع معناه: أربعًا أربعًا، كما في قوله: جاء الناس مثنى وموحدًا؛ أي: اثنين اثنين وواحداً واحدًا، وهو باطل إجماعًا، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مخصوصًا بذلك فإنه جمع بين أربع عشرة امرأة، فثبت ما قلناه) اهـ. وجاء في اللمعة الدمشقية لمؤلفها محمد بن مكي المعروف بالشهيد الأول، وشارحها زين الدين المعروف بالشهيد الثاني، وهما من أعظم علماء الشيعة، عاش الأول في القرن الثامن، والثاني في القرن الألف، ما نصه: (السابعة لا يجوز لحر أن يجمع زيادة على أربع حرائر، أو حرتين وأمتين أو ثلاث حرائر وأمة، بناء على جواز نكاح الأمة بالعقد بدون الشرطين، وإلا لم يجز الزيادة على الواحدة لانتفاء العنت معها، وقد تقدم من المصنف اختيار المنع، ويبعد فرض بقاء الحاجة إلى الزائد عن الواحدة، ولا فرق في الأمة بين المؤمنة والمدبرة والمكاتبة بقسميها حيث لم تؤد شيئًا وأم الولد، ولا للعبد أن يجمع أكثر من أربع إماء، أو حرتين، أو حرة وأمتين، ولا يباح له ثلاث إماء وحرة، والحكم في الجميع إجماعي) اهـ. وكلا الكتابين اللذين ننقل عنهما مطبوعان في طهران عاصمة بلاد فارس، وقال في مجمع البيان وهو التفسير المعتمد عند الشيعة في معنى الآية {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم} (النساء: 3) إلخ، وطريقه أن يذكر الآية أولاً ثم القراءة فالحجة فالإعراب فالنزول فالمعنى، وهذا من جملة ما ذكره في معناها: وقوله مثنى وثلاث ورباع معناها: اثنين اثنين، وثلاثًا ثلاثًا، وأربعًا أربعًا فلا يقال: إن هذا يؤدي إلى جواز نكاح التسع، فإن اثنين وثلاثة وأربعة تسعة لما ذكرناه، فإن من قال: دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول؛ ولأن لهذا العدد لفظًا موضوعًا وهو تسع، فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي، جل كلامه عن ذلك وتقدس، وقال الصادق عليه السلام: (لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر) اهـ. ولو أردنا استقصاء كلام علماء الشيعة لضاق المقام وطال الكلام، وأظن فيما أوردناه مقنعًا، ومنه تعلم أن إجماع الشيعة على عدم حل التزوج بأكثر من أربع في العقد الدائم، وأزيدك على هذا أني رأيت في أثناء مراجعتي للكتب الفقهية، ما لم أكن أعهده وهو استشكال لبعض علمائهم في الزيادة على أربع، حتى في المتعة مع أن الأكثرين منهم ذهبوا إلى عدم الحد بها. ومن المعلوم لدى الأستاذ أن العصر عصر دليل وبرهان، فلا يجمل بصاحب مجلة معتبرة أن يورد أمرًا لم يسبره بمسبار التحقيق، ثم يعده من المسلمات البديهيات، وعندي أن عدم التثبت في نقل الأخبار أوصل الأمة الإسلامية إلى هذه الحالة، وجعل كل فرقة تسيء الظن بالأخرى، وكل هذا راجع على ما أعتقد إلى عدم مراجعة كتب الفرقة المنسوب إليها تلك المقالة التى تتبرأ منها، والاعتماد على كتب مناظريها، فإني رأيت كثيرًا ما ينسب علماء السنة إلى الشيعة ما يتبرأون منه، وما لم يوجد في كتبهم المعتبرة، وكذلك يفعل علماء الشيعة، وخذ لذلك مثالاً ما ينسبه أغلب المسلمين إلى الوهابية من المقالات الشنيعة، والاعتقادات الفاسدة، ولو راجعنا كتبهم لألفيناهم يتبرأون منها، ولم تكن علاقتهم بها إلا كقول الشاعر. إنما أنت من سليمى كواو ... ألحقت في الهجاء ظلما بعمرو ولا أظنكم اعتمدتم فيما كتبتم إلا على كتب أمثال ذلك (العالم الغيور) ، مع أنكم لو أمعنتم النظر وأعملتم الفكر، لألفيتم أولئك يخبطون في بعض الأمور خبط عشواء؛ لأنهم لا يعتمدون على المصادر الموثوقة، بل يتكلمون على السماع وهو ما لا يجوز أن يتخذ حجة يتمسك بها، كما فعل ذاك العالم الغيور في رسالته التي بعث بها إليكم عن أحوال العراق ونشرتموها في الجزء الأول من المجلد الحادي عشر، وكل مطلع على أحوال العراق يقهقه ضاحكًا من عدم التثبت في أسانيدها، والأغرب من ذلك تذييلكم لها، وقولكم: إن مجتهدي الشيعة يبيحون لأمراء العرب التمتع بعدة نساء، مما يصادف هوى في فؤادهم، مع أن أولئك الأعراب يأنفون أشد الأنفة من المتعة، ولا يفعلونها قطعيًّا، وهي مع حلها عند الشيعة لا ترى عربيًا يفعلها، بل لا ترى عربية تقبل بها إلا في النادر، وربما كانت شائعة عند الفرس لا غير، وهذا ما حمل بعض علماء الشيعة من العارفين بأحوال العراق على الرد على ذلك العالم الغيور في مجلتنا (العرفان) ، ولما كنت أعلم منكم الإنصاف، وأجلكم عن عدم التثبت ودعم ما تنقلونه بالدليل، مع أن مبدأكم المطالبة بالبرهان، جئت بكتابي هذا كي تنشروه على صفحات مجلتكم الحرة؛ إحقاقًا للحق وإعلاء لمنار الصدق، حتى إذا كان لكم دليل من كتب الشيعة على مدعاكم أتيتم به، وإني على يقين بأنه لا يوجد بتاتًا، وبقي أمر آخر لابد من استطلاع طلائعه واستجلاء حقيقته منكم، وهو قولكم لا يعتد بإجماع الشيعة؛ لأن المسلمين أجمعوا قبلهم، فلعمري هذا من الغرابة بمكان؛ لأن الشيعة أقدم من بقية المذاهب المستحدثة في الإسلام، كما يعلم ذلك كل من له مسكة من علم التاريخ، واطلاع على نشأة القوم، وإني أنبهكم قبل ختام الكلام إلى أن كتب الشيعة أصبحت منتشرة ومطبوعًا أكثرها في بلاد فارس والهند، والحصول عليها متيسر، فيمكنكم استجلاب شيء منها، حتى إذا نقلتم شيئًا عنهم يكون على ثقة وتثبت والسلام. ... ... ... ... ... 30 رمضان سنة 1327 ... ... ... ... ... منشئ العرفان ... ... ... ... أحمد عارف الزين (المنار) أُرْسِلَتْ إليَّ هذه الرسالة وأنا في سياحتي بالآستانة فأنا أعلق عليها بالإيجاز وأنا جالس في أحد المطاعم بعد الغداء، وأبدأ كلامي بالبراءة من التعصب للمذاهب، ثم أقول: أشكر للكاتب بيانه وأعده له يدًا يمنها على المنار؛ إذ لا نحب أن ينشر فيه شيء من الخطأ، ولا يعقب ببيان الصواب، ولكني أنكر عليه ما ذكره من الكلمات الجارحة التي اعتادها الذين ينكر بعضهم على بعض انتصارًا لمذهب على مذهب، والتشيع لقوم وإهانة آخرين، كقوله: (محض وهم وافتراء) فإن الافتراء تعمد الكذب، ويبعد جدًّا أن يكون الذين عزوا هذا القول إلى الشيعة قد تعمدوا الكذب في نسبته إليهم، بل لا يعقل أن يقع هذا من عاقل؛ إذ لا فائدة فيه ولا هو من المسائل التى يرجح بها مذهب على مذهب، والخطأ في فهم آيات القرآن جائز على كل أحد، وقد وقع من بعض الصحابة وهم أهل اللسان وشهداء البيان، وممن دونهم من أئمة الفقه وعلماء المذاهب المنسوبون إلى السنة، كثيرًا ما يخطئ بعضهم مذهب بعض، فنقلهم مثل ذلك القول عن الشيعة لا وجه لأن يكون من الافتراء عليهم أو انتقاصهم لأنهم شيعة، بل لابد أن يكون له أصل، وإن لم يكن هو المعتمد في مذهب الإمامية أو الزيدية، ونسبة الأقوال الشاذة في المذهب إلى أهل المذهب معهود، وغاية ما يقال فيه: إن نقل المخالف لا يعتد به. وأنت تقول: إن القاسم بن إبراهيم أجاز العقد على تسع، وإليه ذهبت القاسمية من الزيدية, وهم من الشيعة في عرف أهل السنة. ولا يبعد أن يكون أولئك الناقلون عن الشيعة ما ذكر قد سمعوا منهم أو قرءوا عنهم قولاً آخر من الأقوال الشاذة، فظنوا أنه هو المعتمد في المذهب، ويكفي في بيان مثل هذا الخطأ أن يقال: إن ما نقل عن الشيعة في مسألة كذا غير صحيح أو غير معتمد عندهم، والمعتمد هو كذا ولا حاجة إلى مثل هذا التطويل والتهويل والتذكير بالإنصاف والدليل. وأما القول بأنه لا يعتد بخلاف الشيعة في مسألة كذا؛ لأن المسلمين أجمعوا قبل ذلك عليها، فلا ينقض بدعوى أن مذهب الشيعة أقدم من بقية المذاهب؛ لأن المراد بإجماع المسلمين قبلهم هو إجماع الصحابة لا إجماع أهل المذاهب المستحدثة أو القديمة، وجميع المذاهب حادثة في الإسلام، وقد كان الإسلام على أفضل ما كان عليه في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعصر الصحابة والتابعين، ولم يكن فيه مذاهب، ثم حدثت المذاهب ففرقت كلمة المسلمين، وما زادت الإسلام إلا ضعفًا ووهنًا، ولا نبحث في قدم بعضها على بعض إلا من باب التاريخ؛ إذ لا علاقة لذلك بالحق والباطل والخطأ والصواب، فكون مذهب المعتزلة سابقًا لمذهب الأشعرية، لا يقتضي كونه أصح منه، وكون مذهب الجهمية متأخرًا عن مذهب الخوارج لا يستلزم أن يكون أقرب إلى الصواب منه

الصديق وميراث النبي صلى الله عليه وسلم

الكاتب: أحمد أفندي الألفي

_ الصديق وميراث النبي صلى الله عليه وسلم [*] سيدى الدكتور مرجليوث: إليك ما وعدتك في جواب عن تذكرتك من الملاحظة على بعض ما جاء في انتقادك لكتاب بلاغات النساء الذي شرحته وطبعته. (1) جاء في انتقادك أن الكتاب لم يذكره ياقوت في مؤلفات ابن أبي طاهر وأنه قد يكون هو كتاب المستظرفات. وأفيدك: أنَّ بلاغات النساء هو الجزء الحادي عشر من كتاب المنظوم والمنثور لابن أبي طاهر، أسماه باسم خاص به هو اسم بلاغات النساء.. إلخ، وقد اخترت نشره بهذا الاسم؛ لأنه خير عنوان لمشتملاته، وأدعى لإلفات النظر إليه، فإن غرضي من نشره هو مساعدة الحركة العاملة عندنا لترقية المرأة، وترى عقب المقدمة التي وضعناها للكتاب إشارة إلى ذلك فلتراجع هذا، وإن كتاب المنظوم والمنثور ذكره ياقوت في مؤلفات ابن أبي طاهر (راجع معجم الأدباء) . (2) ثم جاء في الانتقاد: أنَّ إخراج أبي بكر لفاطمة من ميراث أبيها، كان يقينا بتحريض عائشة التى لم تسامح عليًّا قط؛ فيما كان له من اليد في حديث الإفك! ! أقول: إن أنباء الحوادث لا تثبت إلا من طريق النقل، وهذه كتب التاريخ كلها خلو من ذكر ما حسبته يقينًا، ولم يشر إليه في واحد منها لا تصريحًا ولا تلميماً، فتفردك بقول في حادثة مضى عليه 13 قرنًا موضع نظر! إن الفكر لا يلجأ إلى الاستنتاج العقلي لمعرفة السبب في حادثة تاريخية، إلا إذا خلت روايتها من ذكره على وجه صريح معقول، وليس ذلك في حادثتنا فإن أبا بكر لم يخرج فاطمة من الميراث إلا أخذًا بقول أبيها صاحب الشريعة الإسلامية: (لا نورث ما تركناه فهو صدقة) وقد اقتنعت فاطمة وَآلُهَا وأشراف الأمة حينئذ بصحة هذا القول، وأقروا العمل به وقبلوه. إن مثلك لا يند عنه معرفة قوة سلطة الدين على منتحلين في إِبَّان نشأته، كما كان ذلك في عهد تلك الحادثة حينئذ، والعرب على فطرتهم البدوية وسذاجتهم الطبيعية، فلا يمكن أن يلتئم مع ذلك أن يجنح أبو بكر إلى هضم إنسان حقه بتحريض محرض، وأنْ يقره على ذلك الباطل أعيان الأمة، وأن يخفي كل ذلك على رواة التاريخ فيغفلوه. إن العيان يكذب أنَّ الموجدة الشخصية تكون سببًا في أن يمنع الإنسان غيره من حقه، فإن كثيرًا من المتعاملين، يجني بعضهم على بعض، ومع ذلك فقل أن يكون ذلك سببًا للجسارة على أن يهضم إنسان حق آخر خصوصًا، إذا كان صريحًا كما في مسألة الميراث في تلك الظروف. إن عليًّا لم تكن له يد في حديث الإفك، وإنما صدر عنه رأي في تخفيف وقعه على محمد، وإليك ما نسبته عائشة نفسها إلى علي في هذا الشأن، وقد نقلته عن كتاب البخاري أصح كتب الرواة الإسلاميين بالإجماع، قالت: (ثم أصبحت فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد يستشيرهما في فراقي؛ فأما علي فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك، فدعاها رسول الله فقال لها: يا بريرة، هل رأيت فيها شيئًا يريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيت منها أمرًا أغمصه عليها قط وقد طُوي حديث الإفك بأسبابه ونتائجه؛ لما تحققت براءة عائشة حتى إن أبا بكر أعاد صدقته على مسطح أحد القائلين فيه، وكان قطعها عنه أثناءه. إن عائشة لم يكن لها في حياة أبي بكر وعمر إلى أواخر زمن عثمان دخل في شئون الأمة العامة، وبعيد أن يحصل منها تحريض في مسألة الميراث يخفى خبره على رواة الأخبار، حتى لا يذكره منهم ذاكر؛ ويجوز باطله على أعيان الأمة في ذلك الحين، لا يجهر بالحق منهم جاهر. إن الميراث لم يكن راجعًا إلى علي، حتى تندفع عائشة بدافع موجدتها منه، فتحرض أباها عليه فيه، بل الميراث ميراث فاطمة والعباس عم النبي وأزواج الرسول ومنهن عائشة. جاء في تاريخ الطبري رواية عن عائشة نفسها: أن فاطمة والعباس أتيا أبا بكر يطلبان ميراثهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: أما إني سمعت رسول الله يقول: لا نورث ما تركناه فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإني والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته. لو لم تقتنع فاطمة والعباس بحجة أبي بكر، أو لو أحسا بأن الدافع إليه حقد يضم جوانحه عليه، لأبت لهما أنفتهما العربية وهما هما صفوة بني هاشم، وعزتهما الإسلامية وهما هما آل الرسول وبجانبهما علي وشيعته؛ أن يستخذيا للباطل، ولأثارا على أبي بكر غارة شعواء لا قبل له بها. قد كان علي ينفس على أبي بكر منصب الخلافة، ولكن منعه دينه أن يتعرض لخليفة سلك مسلك الحق، ولو وجد علي في عمل أبي بكر منفذًا يدخل عليه منه لما ونى، وقد أراده أبو سفيان رأس بني أمية (راجع الطبري) على مناوأة أبي بكر، فاستعصم علي لعدم المسوغ، وأي مسوغ كان أدعى من أن يجبر أبو بكر على منع فاطمة بنت رسول الله والعباس عم رسول الله ميراثهما بتحريض عائشة؟ إن أبا بكر في حسن سياسته وقوة إيمانه أجل قدرًا، وأرجح رأيًا، من أن يندفع بالباطل لمنع آل الرسول حقهم الصريح، وسيرته تترفع بقارئها عن أن يظن به ذلك؛ خصوصًا أن أبا بكر لما ولي الخلافة تخلف عن بيعته من تخلف، وارتد عن الإسلام من ارتد، فكان إزاء نارين فارتأى بحكمته مداراة المتخلفين، حتى سكتوا عنه وراجعوه، وعزم بحزمه حرب المرتدين حتى انصاعوا إليه، فكيف مع هذه الظروف يجسر على منع رؤوس بني هاشم وآل الرسول حقهم بالباطل؟ وبعيد جدًّا أن يغلبوا على حقهم الصريح بغالب الباطل والغرض، مع قدرتهم على المقاومة لو أرادوا، وبعيد جدًّا أنْ يقر العرب أجمع أبا بكر على باطل ارتكبه بدافع التحريض، وهم الذين أنكروا على عثمان توليته بعض مناصب الدولة لأحداث قومه حتى قتلوه. لو أن حادثة الميراث غير معلومة السبب، وكان لابد من تلمس العلة فيها، لكان خير رأي يتفق مع طبيعة ذلك العصر وظروف هؤلاء الناس ? أن يقال: إن أبا بكر أراد بتقرير أن النبي لا يورث؛ توهين اعتماد علي في أحقيته بالخلافة على قرابته من النبى؛ لأنه إذا كان النبي لا ترثه قرابته في عقار وهو ملك خصوصي، فبالحري، أو بالأولى أن لا تتخذ قرابته وصلة للأحقية في أمر عمومي. (3) أما إسناد خطبة فاطمة فإن ملاحظتك عليه صحيحة، والصواب أن زيدًا الذى سأله ابن أبي طاهر ليس هو زيد بن علي المتوفى سنة 122، بل هو زيد حفيده كان معاصرًا لابن أبي طاهر المتوفى سنة (280) . وقد روى ابن أبي طاهر عنه غير هذه الخطبة كما ورد في صفحة 162 من الكتاب ذاته؛ إذ قال: حدثني زيد بن علي بن حسين بن زيد العلوي , فزيد العلوي هذا هو المتوفى سنة 122، وهو من أجداد زيد المعاصر لابن أبي طاهر. وعليه فيكون قد سقط من إسناد خطبة فاطمة ثلاثة رجال خطأ من الناسخ للنسخة الخطية التى طبعت عنها هذا الكتاب. هذه ملاحظاتي أقدمها مع الثناء الجميل لك، وإعجابي الزائد بفضلك، وأود أن تنشرها في المجلة التى نشرت فيها تقريظ الكتاب، حتى يطلع عليها قارئو التقريظ، فلا يفوتهم ما جاء فيها من التصحيحات والملاحظات، أرجو أن ترسل لي نسخة من العدد الذى تنشر فيه، وعلى كل حال أحب أن تتفضل بإفادتي عن رأيك فيها، فإن الحقيقة بنت البحث، وهى ضالتنا المنشودة جميعًا.

حركة الإصلاح في جاوه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حركة الإصلاح في جاوة سيدي الإمام، الداعي إلى سبيل السلام، بعد التحية والسلام: قد وصلنا العدد التاسع من المنار المنير، وكله فوائد تهش لها أفئدة المؤمنين ? وحجة قاطعة لألسنة الجامدين، وقد انتعش بها قوم أحبوا الهدى، وغص بها آخرون أخلدوا إلى زينة الحياة الدنيا، ولقد أحسنتم كل الإحسان فيما انتقدتم به رسالتي الفاضل السيد عثمان، ونحن نوافقكم عليه حرفيًّا، وإنه لكما ذكرتم حري بأن تحسنوا به الظن؛ لأنه قد بلغ من الكبر عتيًّا، وله خدم مشهورة ومآثر حسنة، وإن كانت له هفوات معدودة. ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه وإنني أكاد أجزم أنه سيرجع إلى الصواب، ويضيف بذلك لنفسه منقبة - إن شاء الله - إن لم يكن أدركه الخرف؛ لأنه في العقد التاسع من العمر، نسأل الله أن يوفقنا وإياه وإياكم لرضاه، آمين. وكيف لا أرجو له الرجوع إلى هدي الكتاب، ونبذ تقديم آراء الرجال عليه، وجده الأدنى السيد عقيل بن عمر كان من المجتهدين الذين لا يحتقبون الناس دينهم، فلقد عطل ابن سعود دروس المقلدين من الحرم الشريف لما استولى على مكة المكرمة، ولكنه لم يتعرض لحلقة السيد عقيل المذكور، بل كان علماء نجد يجتمعون فيها، كما أنه منع جميع المفتين بمكة عن الإفتاء، ولكنه لم يمنع السيد عقيل؛ لأنه كان يفتي بما يظهر له من محكم الكتاب وصحيح السنة. وها هي فتاوى السيد عقيل وكتبه موجودة، وهو شيخ مشايخ العلويين في علوم الشريعة والطريقة، وطريقتهم الأخذ بالكتاب والسنة، ومن أحق الناس بسلوك طريق السيد عقيل حفيده السيد عثمان بن عبد الله بن عقيل. ولقد ظهرت بشائر نفع دعوة المنار ودعائه، ومن يدعو إلى ما يدعو إليه بهذه الجهات، فصار الناس يتأففون من حالتهم الحاضرة، ويثنون مما أصابهم من الجهل، وابتدؤوا في تأليف جمعيات، وجمع نقود لفتح مدارس إسلامية تعلم النابتة اللغة العربية والعلوم الدينية وطرفًا مما ينفعهم في أمورهم الدنيوية، وبالفعل قد فتحت مدرسة في بتاوي، وأخرى في فاليمباغ وثالثة في سورابايا، ورابعة في قرسي أستاذها الشاب الغيور الفاضل السيد محمد بن هاشم بن طاهر سبط الفاضل السيد عثمان، وقد جعلوا لتلك المدارس نظامًا وترتيبًا نؤمل مع الزمن أن يكون مرقاة إلى بلوغ الكمال، وقد امتحن منذ شهرين تلاميذ مدرسة قرسي للسنة الأولى، فنجحوا نجاحًا يكاد يعد من المعجزات بفضل اجتهاد وذكاء أستاذها وجميل صبره، فلا أعد مبالغًا إن قلت: إنها أفضل مدرسة في هذه الجهات، وإن ستين في المائة من تلاميذها أعلم من آبائهم ولمَّا يمض عليهم بها 18 شهرًا، وإن الهمة مبذولة من رجال النهضة في هذه البلدان في طلب مدرسين من الخارج؛ ليستفيدوا من تجاربهم ومعرفتهم بالنظام والترتيب. نعم.. قد صنف حضرة السيد عثمان رسالة سماها جمع النفائس، ونشرها وصدر لكم منها مع هذا نسخة لا عذر لكم عن تصفحها، وهي أقل من 12 صفحة وأراها (وربما أكون مخطئًا) ستعرقل هذه النهضة الشريفة، إن لم تقض عليها في بعض البلدان؛ لما لصاحبها من الصيت والجاه، وإنني لا أشك في حسن نيته، ولكني أقول: إنه أراد أن ينفع فضر، فعسى أن تلاحظوا ما كتبه، وتنشروا رأيكم فيه؛ لتشدوا من همة الدعاة، وتكسروا شرة الجامدين، وتقووا هذه النهضة قبل أن يجهز عليها أصحاب العمائم، وهي في سن الطفولية. أدامكم الله نفعًا للعباد، وشجى في حلوق أهل الفساد. آمين آمين لا أرضى بواحدة ... حتى أضيف إليها ألف آمينا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... س. م. م ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بتاوي (جاوة) (المنار) نثني على القائمين بنشر التعليم أطيب الثناء، ونحثهم على المضي في عملهم بدون مبالاة بأرباب النزعات والأهواء، وسنذكر رأينا في رسالة (جمع النفائس) في الجزء الثاني عشر إن شاء الله تعالى.

مدافعة صاحب جريدة (وطن) عن نفسه

الكاتب: محمد إنشاء الله

_ مدافعة صاحب جريدة (وطن) عن نفسه حضرة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا أدام الله فضلكم، ونفعنا بعلومكم آمين. أما بعد السلام والاحترام: أثني عليكم ثناء جميلاً؛ لحسن ظنكم بهذا العاجز ومعاناة الرد على شبهاتي العديدة بالحسنى، ودفع التهم الموجهة إليّ من جرائد الآستانة الآخذة بالظن والغير المبالية بالحقائق، وأشكر فضلكم. إن أقوال جريدة (يني غزته) وغيرها في اتهامي بالطمع بإحراز المال والجاه، وتوقع الإنعامات الحميدة؛ لا أجد حاجة لتفنيدها، وكل من يرجع إلى وجدانه الصحيح يرى بطلانها عيانًا؛ لأن الدولة التي أجدها محتاجة لإعانة المسلمين، وكنت أجتهد جهد طاقتي في جمع الإعانات المالية لهاحينًا بعد آخر، وآخذ من أهل البر من المسلمين من بضعة أعشار القرش إلى القرش فصاعدًا وأحفظها عندي، ومتى اجتمع مبلغ من المال أرسله إلى الآستانة، لا يعقل إنسان أني كنت أؤمل من مثل تلك الدولة منفعة مالية؛ لأن ذلك الأمل يجب أن يكون من الغني لا من المعوز! وعدا ذلك فإني لو كنت أنوي الفوز بالوسامات والأنماط من الدولة العلية، وكاتبت بهذا الأمر رجال المابين، لما كنت أجد جسارة في ذم القابضين على زمام الاقتدار فيه ورجاله المشهورين مثل عزت أفندي العابد وغيرهم، ومدح الحكومة الدستورية في تأليفي (تاريخ السكة الحجازية) ? والحاصل أني لم أكتب قط إلى المابين كتابًا، أنَّى لمثلي أن يكاتبه ويجد منه أذنًا صاغية، ويتشرف بالرد الجميل منه. اللهم إني كتبت مرة إلى سعادة السيد مصطفى ذهني باشا ناظر النافعة الأسبق؛ لكونه مشرفًا على إدارة السكة الشريفة حوالي موعد الاحتفال بافتتاح السكة الكريمة إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأسماء بضعة من أكابر الملة الإسلامية وأصحاب الجرائد؛ لدعوتهم إلى حضور الاحتفال رسميًّا ودعوة رجل أو رجلين من صحافيِّي الإنكليز أيضًا لذلك الغرض، ولا أذكر الآن؛ هل كان اسمي أيضًا في تلك القائمة أم لا؟ وكان ذلك الكتاب كمشورة نافعة لجمع الإعانات للسكة الحجازية من مسلمي الهند وغيرها من الأقطار الإسلامية؛ لأن الكبراء والصحافيين الذين يدعون إلى الاحتفال ويشتركون فيه، لا شك في أنهم يصيرون بعد العودة من الاحتفال ساعين في بني قومهم بترغيبهم وحثهم على إعانة ذلك المشروع الإسلامي العظيم، وتستفيد الدولة بحصول حبهم الخالص أيضًا، ولا أظن أنكم ترون في مشورتي هذه غير الإخلاص والحب الصادق لدولة إسلامية عظيمة، وكثيرًا ما كنت أقترح على سعادة الباشا الممدوح ما أراه مفيدًا من أسباب توفير الإعانة والإصلاحات الضرورية لهذه السكة المباركة. وأما أمر الوسام والنيشانات، فأكرر قولي في ذلك الباب كما قلت لكم قبلاً بأني لم أؤمل قط حصولها، بل لما أرسل إليّ سعادة مصطفى ذهني باشا النيشان العثماني من الطبقة الرابعة، كتبت إلى سعادته (لو كنتم أخذتم رأيي في ذلك الباب قبل إرسال النيشان، فلم أكن أقبله. وأما الآن وقد أرسلتموه إلي فأرى رده من سوء الأدب) . وأرجو من كرمكم نشر كتابي هذا في (المنار) الأغر وإلفات رصيفاتنا الجرائد التركية وبالأخص جريدة (يني غزته) إلى نشر كتابي الذي وجد في المابين، والذي بنت هذه الجريدة قولها عليه بنصه مع الترجمة باللغة التركية؛ لينصف العالم هل أنها صادقة أم لا، وإلا فالواجب الصحافي والإسلامي يحتم عليها نفي قولها الغير الصادق باتهامي بما لست فاعله أبدًا. والرجاء من غيرتهن الإسلامية قبول دعوتي هذه؛ ليثبتن طهارة ذمتهن بتبرئة البريء من التهم الباطلة الموجهة إليه، وإلا فلا أكون مخطئًا في ظني بحزب تركيا الفتاة أنه بعيد عن الإنصاف والحق كل البعد؛ ولذلك أرسل نسخة من كتابي هذا إلى رصيفي المؤيد أيضًا أرجو منها نشره. هذا، واقبلوا فائق احتراماتي أفندم، ودمتم سالمين ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه المخلص ... ... ... ... ... ... ... محمد إنشاء الله ... ... ... ... ... ... ... صاحب جريدة (وطن) الهندية ... ... ... ... ... ... ... لاهور - بنجاب (الهند)

الأخبار والآراء

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ الأخبار والآراء (افتتاح مجلس المبعوثان) كان يوم غرة ذي القعدة الحرام يومًا مشهودًا في الآستانة العَلِيّة، تطالت إليه أعناق العثمانيين، وحدَّجت أبصار الشاهدين منهم له والغائبين؛ إذ هو يوم من أيامهم المشهودة، وعيد من أعيادهم المعدودة، ألا وهو افتتاح مجلس الأمة الذي استردت به الأمة حياتها، وحفظت كيانها، وأصبح أمرها بيدها. ولئن كان يوم إعلان الدستور هو العيد العام لجميع العثمانيين، والحد الفارق بين عصر ترقب العدل وزمن سلطة الجائرين؛ فجدير بهذا اليوم أن يكون عيدًا مثله عظيمًا؛ إذ به تتحقق مباشرة الأمة للقبض على أزمة الحكم عملاً، وذلك بسن القوانين العادلة، والتصديق على إنفاذ المشروعات النافعة. لقد كان هَمُّ (المبعوثان) في العام الماضي محصورًا في تقرير طرق المحافظة على الدستور، والسعي في حمل الحكومة على التنازل عن واسع سلطتها؛ لتكون في يد المجلس، وبَيْنَا هُمْ يكافحون ويناضلون، ويتحاجون ويتحاورون، إذ نجمت تلك الفتنة الهائلة، والبلية النازلة، التى كادت تلتهب جذاها في جميع أنحاء السلطنة، فانقضت على الدستور بغية زعزعة أركانه، ونقض بنيانه، وصدت المجلس عن عمله، وحالت دون تحقيق أمله، وكان من فضل الجيش وقائده العظيم محمود شوكت باشا اجتثاث تلك الفتنة من أصولها، والقضاء على السلطة الجائرة، فكانت بحمد الله صفقتنا رابحة، وصفقة ربها عبد الحميد خاسرة. انقضى ذلك العام بخيره وشره، وقطعت قبل مغيب شمسه ألسنة الفتنة، وأخمدت نار المحنة، وقد هل هلال هذا الشهر، وهو أول العام الثاني للمجلس؛ ونوابنا الكرام جالسون على مقاعدهم، مترقبون لطلعة سلطانهم وخليفتهم ليفتتح مجلسهم، ثم ينصرفون بعد ذلك إلى ما تمحضوا له. هذا: ولم تكد تبتسم شمس نهار افتتاح المجلس، إلا وقد برزت العاصمة في لبوس من الزينة يروق الأبصار ويسر البصائر، وما كان خفقان الأعلام على الدور والقصور والحوانيت والفنادق، إلا دون خفقان القلوب واهتزازات النفوس! ثم أقبل الخليفة بموكبه الجليل، والنهار في مستوى شبابه يحيط به أمراء الأسرة المالكة كالنجوم حول القمر، ولما بلغ القصر بصر بوزراء الدولة وقوادها واقفين أمام باب القصر؛ لاستقباله إجلالاً وتعظيمًا. بعد أن جلس الخليفة على كرسي السلطنة وأخذ كل واحد مكانه؛ وكان المجلس حفيلاً بالوزراء والقواد والسفراء وحملة الأقلام، ناول مولانا السلطان خطابه للصدر الأعظم وأمره بقراءته فتلاه بصوت جهوري دوى له المجلس، حتى وعاه كل سامع عارف بالتركية، وإنه لخطاب حكيم، إني أنشره على القراء مترجمًا ترجمة صحيحة، وهاؤم الترجمة: * * * (خطاب السلطان) أيها الأعيان و (المبعوثان) المحترمون أحمد الله جل جلاله الذي جعل جلوسي على أريكة السلطنة العثمانية في دور الدستور السعيد، ووفقني في السنة الأولى منه أن أحضر افتتاح الاجتماع الثاني للمجلس العمومي، وأهنئ أعضاءه جميعًا بقدومهم المأنوس. إن الشرع الشريف يأمر بالحكومة المقيدة الشورية عقلاً ونقلاً، ويعدها لنا كطريق نجاة وسلامة، فإذا داومنا مسيرنا في هذه السبيل، وصلنا إلى الاتحاد والقوة اللازمين لحياتنا الاجتماعية والسياسية. إن من أكبر أمانيَّ المحافظة على الدستور، وتأييد مبادئه، وتطبيق قواعده، وسأشتغل بمنتهى مقدرتي مع رعيتي مستعينًا بمعونة الله، وروحانية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لتحقيق هذه الأماني الشريفة والوصول إلى هذه الغاية المجيدة. إن امتناني كان عظيمًا جدًّا عندما رأيت الإخاء عامًّا شاملاً بين عموم أبناء الوطن أثناء سياحتي في بورصه وأزميدو، كنت سعيدًا جدًّا باقترابي من أفراد الأمة الصادقة. إن الخدمة العسكرية التي تشمل اليوم جميع رعايانا بلا استثناء هي من نتائج ما يأمر به القانون الأساسي؛ الذي يضمن لهم المساواة بالحقوق والواجبات، وإنني أعد وضع هذه الخدمة العامة المعلية لقوة الدولة وعظمتها موضع التنفيذ، من أهم الحوادث التى سينقلها تاريخ نهضتنا الوطنية؛ لأن من طبائع هذه الخدمة في الجيش تحكيم عرى التآخي الصحيح بين أبناء هذا الوطن. إن الرقي والانتظام اللذين أظهرهما أفراد جيوشنا أثناء المناورات البرية والبحرية التى جرت لأول مرة في هذا العام، يحملان على أن نقدرهم حق قدرهم، وأن نصرف مساعينا لإيصال هذه القوى إلى درجة الكمال؛ إذ عليها يتوقف الذب عن حوزة الوطن والمحافظة التامة على السلم العام. إن أحوالنا الداخلية - ولله الحمد - لا توجب القلق، وإن الحوادث التي وقعت في قضاء الزيدية التابع لمتصرفية الحديدة، وفي متصرفية عسير من ولاية اليمن، وفي قضائي بارزان ولوما من ولايتي الموصل وقوصوه، أخذت تزول بالتدابير الرشيدة التى اتخذتها الحكومة المنفذة، حتى إن القبائل الثائرة جنحت للطاعة والسكون، والآمال معقودة على أنها لا تتكرر فيما بعد ولا سيما متى تعممت المعارف، وفهمت الأهالي عامة القواعد الدستورية، فيجب علينا في الوقت نفسه أن نعمل باهتمام وسرعة في سبل إنهاض المعارف، وترقية الأحوال الزراعية والصناعية والتجارية في ممالكنا الواسعة، وكل عمل من شأنه أن يعود على العموم بالراحة والرفاه، وعلى البلاد بالثروة والعمران. الأوان أكبر آمالي حصول التوازن المالي الذي هو أس أساس الإصلاحات، وستقدم ميزانية سنة 1326 العمومية لمجلسكم، فعليكم أن تدققوا فيها أصلاً وفرعًا وإذا كان واضعوها لم يتمكنوا من الوصول بها إلى هذا التوازن المنشود بالرغم عما أنفقوه من الحكمة، والاقتصاد في وضع النفقات المعقولة اللازمة، فإنهم سيتوصلون بلا شك إلى سد عجز الميزانية العمومية المقبلة، متى استوفيت الزيادة التي ستجبى من الرسوم الجمركية، ووضعت الاحتكارات المنوي وضعها، وتحسنت طرق جباية الأموال الأميرية، وعندئذ تزداد الثقة المالية بنا، وقد أثبتت أعمالنا المالية الأخيرة لنا ذلك. لقد أقمتم الدستور باجتماعكم الأول على قواعد متينة لا تزعزع، وأيدتم النظامات الكافلة للأمن والراحة في البلاد، وستنظرون في اجتماعكم الثاني لوائح القوانين والنظامات التي وضعتها الحكومة المنفذة، مجددًا فيما يتعلق بحياة المملكة الاجتماعية والاقتصادية، وتأييد النظام والراحة بقوة القانون، ومن هذه المشروعات التي تستحق الذكر نظام التجارة البرية والبحرية، وحقوق الملكية، ونظم قضاة المحاكم المتنقلين، وإدارة الولايات وقانون الجزاء. إن علاقاتنا مع الدول كافة ودية محضة، وبما أننا نراها جميعها متحدة على السعي في سبيل المحافظة على السلم العام، فلذلك ترى حكومتي من واجباتها أن تكون عنصرًا شريفًا ساعيًا معها في سبيل تأييد السلم. إنني مع بيان فائق امتناني من المساعي الوطنية التي صرفت من قبل هيئتيكما في الاجتماع الأول، أعلن لكما افتتاح جلساتكما اعتبارًا من هذا اليوم، باسطًا أكف الدعاء إليه تعالى أن يوفقكما ويسهل أعمالكما إلى ما فيه خير الدولة والأمة، إنه سميع مجيب) اهـ. بعد أن أتم الصدر الأعظم قراءة الخطاب السلطاني، هتف الحاضرون للسلطان، وصافحه السفراء، ثم غادر قصر النواب والقلوب هاوية إلى طلعته الغراء، والأبصار شاخصة إلى موكبه ذي الجلال والرواء، والألسنة منطلقة بالهتاف له والدعاء، أدامه الله رافلاً في مطارف الصحة والهناء. وبعد فإن أعمال (المبعوثان) في هذا العام ستتناول شؤونًا جمة، تتوقف على إنفاذها على وجهها حياة الأمة وعزة السلطنة، وهي النظر في القوانين المسنونة والنظامات الموضوعة؛ لتأييد الحق وشمول الأمن والعدل، ومن أعظم تلك الشؤون وآكدها؛ مشروع تعميم العلوم والمعارف بين طبقات الشعب، ومشروع التجارة وإنشاء نظارة خاصة لها، والنظر في توسيع سلطة الولايات، وتهذيب قانون الجزاء (الجنايات) ، وغير ذلك من الأعمال التى تجعل أعمال المجلس في هذا العام إيجابية، وقد كانت في العام المنصرم سلبية. ولنا الرجاء بأن يقوم أعضاء المجلس بما انتدبوا له خير قيام، ولا سيما بعد أن تمرنوا على نسق السير في المجلس، وسمعوا كثيرًا من الصيحات والانتقادات بحق وبغير حق، والله المستعان. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا *** (خطاب رئيس المبعوثان) خطب أحمد رضا بك رئيس (المبعوثان) إخوانه الأعضاء بعد انتخابه رئيسًا خطبة حفيلة، نورد منها هذه الكلمات الحكيمة: إن أول واجب على النائب الشريف النفس بعد اجتماعنا تحت سقف قصر ذي شهرة بالتاريخ؛ هو شكر جلالة مولانا السلطان الذي تفضل علينا بهذا القصر، ولي الأمل أنكم تنيبونني عنكم في القيام بتأدية هذا الواجب، ولا شك بأنكم تشتغلون بهدوء وسكون ونظام؛ لتخدموا الأمة الخدمة التي تنتظرها منكم، ولكنكم لا تبلغون هذا القصد إلا إذا حاذرتم تجاوز حدود الاعتدال إلى التطرف. والواجب أن تكون الشرائع والقوانين والمطالب مما تتطلبه حالة البلاد، وينطبق على تقاليد الأمة وأخلاقها حتى يسهل تنفيذها. فقبل أن نصوغ القوانين، يجب أن نعد معدات التنفيذ التي تعمم نفع تلك القوانين لكل عناصر الأمة على حد المساواة. ولابد للوزارة التي تتولى التنفيذ من المساعدة والعون داخلاً وخارجًا أكبر من مساعدة مجلس النواب لها بالأماني والتمني. والعون الأول هو بلا جدال ما يكون من ناحية العاطفة الدينية قبل كل شيء، ثم من آداب الأمة ودرجة تعلمها. والنجاح والمدنية يشبهان مركبة تدفعها قوة ذكرى العهد الماضي، فإذا لم يكن وراء هذه المركبة روح قوية تدفعها إلى الأمام، وقوات أدبية ومادية تؤيد الدافع. فإما أنها تقف، وإما أنها تتقهقر. وبما أن أعمال المجلس ومجهوداته لم تأت حتى الآن بالنتيجة التامة، فهم يظنون أن هذا المجلس لا نفع له، وقد جسموا بعض الهفوات، ومن عادة الشعب أن يعد الخير الذي لا يدركه أو الأعمال التي لا تعود عليه بالنفع المادي والأعمال الحسنة بنفسها؛ إذا هى مست مرافق الأفراد من الشر. وليس ذلك غريبًا في فهم الشعوب للأمور على هذا الوجه، فإن الإصلاحات التي تقلب كيان الأمة إذا كانت فجائية، قد تعود غالبًا بالضرر على الأفراد، فالناموس الطبيعي يقضي بأن يكون الانقلاب تدريجيًّا وعلى مهل، فليس من الواجب علينا وحدنا العمل فقط , بل من الواجب على كل عثماني أن يأخذ بيد أخيه العثماني للسعي وراء نجاح الوطن، متحاشيًا البحث أو التفتيش عن سيئات أخيه ليعيبه بها. وإذا كان نقد الأمور حقًّا ومنحة من الحرية، فإن من الفضيلة الشريفة للضمائر الحرة الطاهرة أن لا ترى الشيء من جهته السيئة، وبأن لا تثق بكل فكر يقال، دون تحقيق أقوال هذا معربًا عن أملي بأن تكون الروح التي أشرت إلى فضائلها هي الروح السائدة في هذا المجلس.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار مدة حمل النساء شرعًا وطبًّا (س 38) من صاحب الإمضاء في قفصه (بتونس) الحمد لله وحده مشكلة واقعية حضرة العلامة فيلسوف الإسلام سيدى السيد محمد رشيد رضا الحسيني منشئ مجلة المنار، دامت سعادته، وتوالت مسراته. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فمن المعلوم أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، أقصاها خمس سنين عند مالك، وأربعة عند الشافعي، وسنتان عند أبي حنيفة؛ القائلين بجواز رقاد الجنين في بطن أمه ثم يفيق في خلال هذه المدة المحدودة، ويلحق بأبيه بعد إتمام الموجبات الشرعية. وروى مالك في الموطأ أن امرأة هلك عنها زوجها، فاعتدت أربعة أشهر وعشرا، ثم تزوجت حين حلّت، فمكثت عند زوجها أربعة أشهر ونصف شهر ثم ولدت ولدًا تامًّا، فجاء زوجها إلى عمر بن الخطاب فذكر له ذلك، فدعا عمر نسوة من نساء الجاهلية قدماء، فسألهن عن ذلك، فقالت امرأة منهن: أنا أخبرك عن هذه المرأة، هلك عنها زوجها حين حملت، فأهريقت عليه الدماء، فحشر ولدها في بطنها، فلما أصابها زوجها الذي نكحها وأصاب الولد الماء، تحرك الولد في بطنها وكبر. فصدقها عمر بن الخطاب وفَرَّقَ بينهما. وقال عمر: أما إنه لم يبلغني عنكما إلا خير، وألحق الولد بالأول اهـ، وقال ابن سينا في الشفاء: بلغني من جهة من أثق به كل الثقة؛ أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولدًا نبتت أسنانه اهـ. وعلى هذا جرى عمل الفقهاء والمفسرين في مشارق الأرض ومغاربها قديمًا وحديثًا، إلى أن ارتقى علم الطب والتشريح، وأجلاه للعيان علم الطبيعة الذي انتفع بمواهبه وأسراره بنو الإنسان، ورأوا ما كان جوازه مستحيلاً واقعًا لا غبار عليه. فقام من بين أطباء الإفرنج عندنا جماعة حكموا بمنع رقاد الجنين في بطن أمه، ونسبوا إلى من ادعت رقادها زناها، واعتذروا لما عليه علماء الإسلام في هذا الشأن؛ بأن علم الطب لم تنكشف أسراره في الأزمنة الغابرة انكشافها في زمننا الحاضر. وها هي (ذي) واقعة حال صورتها: أن امرأة فارقها زوجها منذ أربعة أعوام بريئه الرحم، والآن ظهر به حمل نسبته لمفارقها الذي ناكرها فيه، وزعمت رقاده في هذه الأعوام، واعترفت بعدم مسيس مفارقها لها بعد الطلاق، ونشرت معه النازلة لدى المحكمة الشرعية من حيث لحوق الولد أو نفيه، كما نشر معها النازلة لدى المحكمة العدلية من حيث رميها بالحمل من زنا، وإن أدري أيحكم لها أم عليها في المحكمتين؟ بيد أن النفوس على حيرتها تتطلع إلى معرفة هذه الحقيقة الشرعية الطبية، ولما كانت لمقامكم العلمي قدم راسخة في العلوم الشرعية، ولصديقكم النطاسي سيدي محمد توفيق صدقي معرفة عالية في علم الطب؛ جئتكم بهذا السؤال ألتمس إدراجه قريبًا على صفحات المنار مع الجواب عنه بما يقنع النفوس، ويرفع الالتباس، ويزيح الإشكال، وربما كان أنموذجًا راجحًا عند تعارض الأدلة. لازلتم ملجأ للسائلين، وقدوة للمسترشدين، والسلام من معظم حضرتم. ... ... ... ... ... ... ... ... حموده بوتيتي ... ... ... ... ... ... رئيس مجلس عدلية قفصه (تونس) (ج) إذا قلنا: إن مسألة مدة الحمل دينية، يجب العمل فيها بما جاء في الدين من غير زيادة ولا نقصان، فالواجب حينئذ أن نعمل بقوله تعالى في سورة الأحقاف عن الإنسان: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) فإذا كانت مدة الحمل والفصال ثلاثين شهرًا وهي سنتان ونصف، فكيف نجعل مدة الحمل وحده عدة سنين من سنتين إلى خمس، ونقول: ذلك هو حكم شرعنا في المسألة؟ فإذا كان المعلوم لكل الناس أن مدة الحمل تسعة أشهر، فمدة الرضاعة التي يكون الفصال بانتهائها 21 شهرًا، هذا هو أقلها الذي لابد منه شرعًا وأكثرها سنتان كما في آية 233 من سورة البقرة، ولذلك قال فيها: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (البقرة: 233) وقد ذكرنا في تفسيرها قول بعض المفسرين: إنه يستنبط من مجموع الآيتين أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنها هي التي تبقى بعد طرح 24 شهرًا مدة الرضاعة التامة من 30 شهرًا مدة الحمل والفصال (راجع ص 408 ج 2 تفسير) ، فإذا عاش الولد الذي تلقيه أمه بعد تمام ستة أشهر من حمله كالشهر السابع أو الثامن، فينبغي أن يكون حظه من الرضاع أكثر من حظ من يولد لتسعة أشهر؛ ليكون غذاؤه من اللبن عوضًا عما فاته من التغذي بالدم في رحم أمه، فلا تقل مدة الحمل والفصال عن ثلاثين شهرًا وهي حكمة ظاهرة، فإن زادت ثلاثة أشهر كان ذلك من تمام العناية بالولد. وإذا جرينا على ذلك في جميع الأحكام الشرعية المتعلقة بالحمل، نكون موافقين لأقوال أطباء هذا العصر واستقرائهم واختبارهم؛ لأن تحديد القرآن الحكيم لمدة الحمل والرضاعة لم ينقصه من أقوالهم شيء، بل لا يزداد القرآن بازدياد علوم البشر إلا قوة وظهورًا. وإذا قلنا: إن هذه مسألة دنيوية، وما يتعلق منها بالمعاملات الشرعية لا يكتفى فيه بظواهر الكتاب أو السنة، وما يتبادر من معنى النصوص، بل يجب أن يضم إلى ذلك اختبار الناس، وما يصلون إليه من معرفة الواقع بطريق الاستقراء والبحث، قلنا حينئذ: إن ما قاله العلماء الذين بحثوا في المسألة من قبل كالأئمة الثلاثة الذين ذكرت أقوالهم في السؤال، ليس نصًّا دينيًّا يجب التعبد به وعدم اعتبار بحث غيرهم واستقرائه، بل يعمل أهل كل عصر بما يصل إليه علمهم واستقراؤهم، وقد وقفنا على طريقة بحث الأوائل في مثل هذه المسألة؛ وهو أنهم كانوا يسألون العجائز ويصدقونهن، كما سأل عمر - رضي الله عنه - العجائز الجاهليات في واقعة المرأة التي نقلت في السؤال عن الموطأ، وكما كان الشافعي - رحمه الله يسأل العجائز عن مدة الحيض والطهر، ومن الجائز أن يكذب بعضهن، ويجيب بعضهن عن جهل. وثقة بعض أئمة الفقه بما سمعه من عجائز زمانه لا يوجب أن يكون ذلك دينًا متبعًا لكل من يعمل بفقهه، وإن ظهر له استقراء أتم وعلم أصح. نعم.. إن ما قاله الفقهاء غير محال عقلاً ولا طبعًا، فإذا فرضنا أن ما نقل إليهم من مكث الجنين في الرحم أربع سنين أو خمسًا قد وقع شذوذًا، كما نقل مثل ذلك إلى ابن سينا، فهل يصح أن يجعل قاعدة مطردة تبنى عليها الأحكام الكثيرة لمجرد احتمال تعدد ذلك الشذوذ الذي يسميه أهل هذا العصر فلتة طبيعة؛ كولادة حيوان أو إنسان برأسين؟ أم القواعد تبنى على الغالب المألوف. وما جاء على خلاف الأصل وخلاف الغالب لا يقاس عليه. إذا نحن بنينا أحكام الحمل على ما صدقه بعض أولئك الفقهاء من أقوال النساء، نكون قد خالفنا إطلاق القرآن، وقيدناه بقيد لا ثقة لأحد من المتعلمين به في هذا العصر، وخالفنا الثابت المطرد في مدة حمل المرأة؛ وهي أنها لا تكاد تبلغ سنة واحدة فضلاً عن عدة سنين، وخالفنا القياس الفقهي على تقدير صدق أولئك العجائز فيما أخبرن به الأئمة من أن ذلك قد وقع شذوذًا، فكيف إذا لم نصدقهن، وخالفنا ما قرره أطباء هذا العصر من جميع الملل والنحل على سعة علمهم بالطب والتشريح، وعلم وظائف الأعضاء (PHYSIOLOGIE) ، واستعانتهم في بحثهم واختبارهم بالآلات، والمجسات، والمسابير، والأشعة التي تخترق الجلد واللحم فتجعل البدن شفافًا يظهر ما في داخله يرى بالعينين، وعلى بناء علمهم على التجربة والاستقراء، واستعانة بعضهم في ذلك ببعض على اختلاف الأقطار بسهولة المواصلة البريدية والبرقية، وعلى كثرة النساء اللواتي على حرية القول وعدم الخجل من إظهار ما لم يكن يظهره أمثالهن في بلادهن أو غيرها من قبل، وما لا يظهره غيرهن من سائر البلاد التي لا حرية فيها كحرية بلادهن. ثم إننا نكون مع هذه المخالفات، اللواتي نحملها لتصديق أولئك النساء المتهمات، قد تعرضنا لمفاسد كثيرة: منها طعن الأجانب في شريعتنا طعنًا مبنيًّا على العلم والاختبار لا على التحامل والتعصب، وذلك منفر عن الدخول في ديننا، ومانع من ظهور حقيته لمن لا يعرف منشأ هذه الأقوال عندنا. ومنها تشكيك الكثير من المسلمين في حقية شريعتنا وكونها إلهية، وأعني بالكثير جميع الذين يتعلمون الطب، والذين يقفون على أقوال أطباء وعلماء هذا العصر، وتطمئن قلوبهم بأقوالهم في مدة الحمل مع مخالفته لما يظنون أنه هو الشريعة المقررة الثابتة بالكتاب أو السنة. ومنها إلحاق الأولاد بغير آبائهم؛ وهي مفسدة يترتب عليها مفاسد كثيرة في الإرث، والنكاح، وغير ذلك. ومنها أنه يجرئ المرأة الفاجرة إذا طلقها زوجها أو مات عنها أن تدعي أنها حامل منه، وأن الولد راقد في بطنها، ويكون لديها وقت واسع تستبضع فيه ولدًا من غيره بالزنا، ثم تلحقه وتستولي على جميع ماله إن لم يكن له وارث آخر أو على أكثره. ومنها أن تصدق من يغيب زوجها عنها من سنة إلى خمس سنين فيما تأتي به من ولد في هذه المدة أنه منه، وللفقهاء في أمثال هذه المسألة كلام لا محل هنا لذكره ولا للإشارة إليه باحتراز أو غيره، فمنهم من يقول: إن هذه المرأة تصدق في إلحاق ما تأتي به من ولد بزوجها الغائب، وإن كانت غيبته أطول من أكثر مدة الحمل، مهما كانت المسافة بعيدة؛ كأن تكون هي في تونس وهو في داخل بلاد الصين التي ليس فيها سكك حديدية، وذلك الاحتمال أن تطوى له الأرض كرامة، فيجيء من الصين إلى تونس فيغشاها، ويعود إلى مكانه في ليلة واحدة! ! . أكثر مثل هذا بعض الحنفية الذين قال بعضهم: بأن مدعي طي المسافة يكفر! وإذا نحن بينا أحكام الحمل على الظاهر من إطلاق القرآن الحكيم المطابق للواقع المعروف عند كل الناس، ولما يقرره الأطباء، وقلنا: إذا ثبت غير ذلك في حق بعض النساء، يكون من الشاذ النادر الذي لا يبنى عليه حكم، فإننا نسلم من كل تلك المخالفات والمفاسد، ولا نكون قد خرجنا عن هدي أئمتنا، فإنهم إنما كانوا يتبعون الدليل القوي إذا ظهر لهم، ولكن المقلدين المنسوبين إليهم يفضلون العمل بما في هذه الكتب التي بين أيديهم مهما ترتب على ذلك، فلا فائدة من مخاطبتهم بالدليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. *** أسئلة من جاوه (س 39) من (وطني) في تلو سماوي جنوب آسية (سمترا) مولاي الأستاذ الحكيم نرى أمراء وأغنياء هذه البلاد الوطنيين منهم، يتهافتون تهافت الفراش على إدخال أولادهم مدارس الحكومة؛ لتعليمهم لغة أوربا. ولم يفكروا يومًا أن تعليم اللغة العربية من الأمور المطلوبة شرعًا؛ لأنها لغة القرآن. وأنَّ من المصلحين من يرى أن لا رجوع للإسلام إلى مركزه الأول إلا بعد تعميم هذه اللغة الشريفة بين أتباعه. وإذا جئت تقول لهم: إن الواجب الأهم على المسلمين القادرين إقامة مدارس عربية؛ لتعليم أولادهم وأولاد الفقهاء العاجزين لغة القرآن قبل تعلم أي لغة كانت. قالوا: ليس المطلوب شرعًا هذا، وإنما المطلوب هو تعلم الأولاد ما يجب عليهم من مبادي الدين فقط! ! . واستشهد بعضهم بدولة الخلافة الجديدة؛ من أنها لم تجعل لهذه اللغة مقامًا في بروجرام مدارسها، واشتهر أنها جعلت التركية إلزامية، ثم بعض لغات أوربا كالإنكليزية والفرنسية. ولو كانت دولة الخلافة مع وجود كثير من رجال الإصلاح الإسلامي في مجلسها؛ ترى بعض ما يراه رجال الإصلاح من ضرورة تعميم هذه اللغة بين المسلمين، لكانت دولة الإسلام الكبرى هي القدوة للمسلمين في المعمورة فماذا تقول أيها الأستاذ في هؤلاء؟ وهل توجد طريقة لإقناعهم ? وهل عندكم علم بما قررته الدولة ا

العرب والترك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العرب والترك [*] ] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[**] (4) قد انشق ليل الاستبداد عن صبح الدستور، والعثمانيون الذين في بلادهم نيام يَغُطّون: بعضهم يرى أحلامًا مخيفة، وبعضهم يرى أحلامًا سخيفة. والذين في بلاد الحرية قيام يرقبون: بعضهم يتعلل بالآمال القوية، وبعضهم يلهو بالأماني الضعيفة، فاستيقظ بصوت مؤذنه النائمون، وحمد غِبّ سُراهم المجدون، وعاود الرجاء نفوس اليائسين، وغادر العداء قلوب المتدابرين، وأقبل المسلم بوجهه على النصراني، والتركي على الأرمني، وعانق الشيوخ القسوس، وصافحت الشعوب الشعوب، وأذن مؤذن بينهم {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (المائدة: 95) . هكذا كان العثمانيون في نشوة من السرور العام، الذي كاد يكون من أضغاث الأحلام، أو من خوارق العادات، بعد انقضاء زمن المعجزات، لتأليف الدستور بين الشعوب الكثيرة المختلفة في الأديان والمذاهب والمشارب والعادات واللغات والبقاع والتربية والتعليم، وهي ضروب من الاختلاف لم تعهد في أمة ولا مملكة، وبعضها كاف لاستمرار الاختلاف والافتراق، ومنع الاتحاد والاتفاق، وإنهم لكذلك وإذا بنبأة من بعض الترك بمصر، ونبئات من كتابهم بالآستانة، قد أجفلت الوادعين الساكنين، وروعت الآمنين المستبشرين. كتب أحد شبان الترك المقيمين في القطر المصري مقالات في جريدة الأهرام يفاخر فيها العرب بقومه وجنسه معبرًا عنهم بالملة المالكة، متبجحًا بزعمه أنهم هم وحدهم الذين أزالوا الحكومة الاستبدادية، وأدالوا منها الدستور والحرية، وأنهم هم وحدهم الذين لهم الحق بالتمتع بثمرات الدستور الكاملة، وليس للعرب ولا لغيرهم من الأجناس أن يطمعوا في مساواتهم في مناصب الدولة وأعمالها؛ لأن ولاياتهم مستعمرات أو مستملكات للترك! فيجب أن يكون قصارى حظ العرب من الدستور أن يستريحوا من أعباء الظلم، ويتذوقوا طعم العدل، فيكونوا من الترك كأهل الجزائر من فرنسا، أو أهل الهند من إنكلترا. هذه المعاني العالية كانت تصخ مسامع العرب أحيانًا في عصر الاستبداد، وقلما كانت تكتب، ولا سيما في مثل مصر التي هي أرقى من جميع الولايات التركية علمًا وعملاً وثروة وحرية، وفيها الأقلام المرهفة والألسنة الذلقة، والقلوب الجريئة، نعم.. كانت كتبت منذ بضع سنين في جريدة (ترك) التي كانت تصدر في القاهرة، محررة بأقلام نفر من أذكياء الترك؛ كعلي كمال بك وجلال الدين بك عارف أسرفت تلك الجريد في الفخر بجنس الترك معبرة عنهم بالملة المالكة، وحقرت العرب في سياق الكلام عن مراكش، ونصبت الميزان للترجيح بين الترك والعرب والخلافة العربية، فجعلت العرب كلهم بمنزلة قبائل المغرب الأقصى، وفاخرتهم بالترك في مدارسهم ودواوينهم وقصورهم وجيوشهم، وملأت مواضعها بالفخر والتبجح، ناسية ما يكتب فيها وفي غيرها من الجرائد العثمانية في البلاد الحرة في وصف مظالم خليفتهم عبد الحميد خان وإفساده للمملكة، وتخريبه للولايات التركية والعربية والكردية والألبانية والرومية، ومنعه للعلم، وعيثه حتى في الجيش، وفرار كتاب جريدة: (ترك) وغيرهم من ظلمه إلى مصر العربية. ولا أقول: إن كاتب تلك التبجحات الغثة الباردة، نسي عدل الخلفاء الراشدين وعلوم العباسيين في الشرق، والأمويين في الغرب، بل أقول: إنه عمي عن البلاد التي أوى إليها، والمدينة التي يطبع جريدته فيها، وهو يرى العرب فيها أرقى من قومه علمًا وثروة ومدنية، ولكنني ذكرت تلك الجريدة يومئذ بخطئها: في تحريك العصبية الجنسية التي أماتها الإسلام، وبوجوب اتحاد العرب والترك وضرر تفرقهم باختلاف الجنس، وبأن العرب إذا فاخروا أي جنس بجنسهم فإنهم يفخرونه ويبذونه: هم الأولى إن فاخروا قال العلا ... بفي امرئ فاخركم عفر الثرى هم الأولى جوهرهم إذا اعتزوا ... من جوهر منه النبي المصطفى وإنما كتبت ذلك الرد في المنار على جريدة ترك؛ لئلا يغريها السكوت عنها بالتمادي في ذلك التبجح، الذي يولد الأضغان، ويؤرّث الأحقاد، وينفر المصريين وغيرهم من الدولة العلية، ويفتح في المسلمين باب الشقاق باختلاف الجنسية، ولكن كتاب تلك الجريدة صاحوا بعد ردي صيحة أخرى، ثم خفت صوتهم لأنني لم أشأ أنْ تستمر المناظرة في ذلك. ثم قام أحدهم جلال الدين بك عارف يوم احتفالنا بإعلان الدستور خطيبًا، فقال: إننا اليوم قد تنازلنا عن كلمة (ترك) وهي محبوبة لنا، فكلنا عثمانيون لا فرق عندنا بين الترك والعرب والروم والأرمن وغيرهم، فصفقت الجماهير المختلفة لقوله هذا تصفيقًا، وكذلك قال غيره من سائر الخطباء العثمانيين، ونادى لسان الحال والمقال؛ الدستور يجبُّ ما قبله كما ورد في الحديث الشريف: (الإسلام يجبُّ ما قبله) . فلما انبرى ذلك الكاتب التركي بعد ذلك لكتابة ما ذكرنا، تذكر الناس ما كان كتب من قبل وما كان يقال، وأقبل العثمانيون بعضهم على بعض يتساءلون: قال أكثر من واحد منهم: إن القوم لا يتركون ما يألفون، وإنهم سيستبدون مجتمعين كما استبد آحادهم (كعبد الحميد) منفردين، وربما كان استبداد الجماعة أشد وأبقى من استبداد الواحد. وقال الأكثرون: إن هذا إلا شاب مغرور، لا يزال جذعًا في السياسة، وإن القرّح والبزَّل من ساسة الترك المحنكين لا يقولون بقوله، ولا يدينون برأيه، ولكن لم يلبثوا أن سمعوا تلك النبئات الأخرى من جرائد العاصمة (الآستانة) ورأوا أعمالاً من الحكومة الجديدة، استدلوا بها على التحامل على العرب، وهضم حق العربية، فنفرت القلوب، وساءت الظنون. قامت بعض جرائد الآستانة تضرب على نغمة التغاير بين الترك والعرب، وتلغط بتلك الكلمات المنفرة (ملة مالكة، مستملكات، استقلال العرب، الخلافة العربية، بُغْض العرب للترك، فَضْل الترك على العرب، عَجْز العرب عن تدوين لغتهم، ونشر الإسلام خارج جزيرتهم) إلى غير ذلك من الكلم الدال على الجهل بالتاريخ، أو تعمد العبث به فيما يضر ولا ينفع. وكان من أشهر هذه المباحث التي حركت التغاير، وأحدثت التنافر، ما نشر في جريدة (إقدام) من اقتراح تنقية اللغة التركية من الألفاظ العربية، وما أودعه بعض الكتاب في مقالات نشرت فيها عن السنوسية، ومنها طعن بعض الجرائد في المصريين وفي الدمشقيين خاصة، أهل هذين المصرين هم أعظم العرب حضارة، وأوسعهم مدنية وفيهما السراة والأباة والعلماء والكتاب. رب قول يصدر عن حسن نية، ويكون جديرًا بأن يحترم وإن كان خطأ، يحدث من الأثر السيء ما لم يكن يراد به، ويتفاقم ذلك بمقتضى الحال وطبيعة الزمان، وطريقة الأداء والتعبير، وكذلك كان حظ اقتراح صاحب (إقدام) بدعواه في تنقية التركية من الألفاظ العربية - يقول هو: إنَّ هذا بحث فني محض، وإن الغرض منه الاستغناء عن الألفاظ العربية التي يوجد في التركية ما يقوم مقامها. ولكن لماذا طلب هذا المصلح اللغوي تطهير لغته من العربية دون الفارسية والفرنسية، ونقول: إن هذه الفلسفة مبتسرة، كان يجب عدم الخوض فيها الآن، وإن الكلام عندما ينقل من لغة إلى أخرى، ويتحدث به الخاص والعام، يعرض له التحريف والتبديل، ويفسر بحسب الحال الغالبة، فقد شاع في بلاد سورية ومصر وغيرهما من البلاد أن بعض كتاب الترك يدعون قومهم إلى الابتعاد عن العرب، حتى في ترك الألفاظ العربية المستعملة في لغتهم، وإنهم يعبرون عن ذلك بلفظ التطهير، كأنهم يرون اللغة العربية نجسة، قد تدنست بها التركية! ! وانتقل بعض الناس من الملزوم إلى اللازم، فقالوا: إن هذا الكلام يعد طعنًا في كتاب الله عز وجل وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن هذه الدعوى قد تكون مقدمة لدعوة أخرى تترتب عليها، إذا أجيبت وعمل بها، وهي الدعوة إلى الارتداد عن دين الإسلام؛ لأن أصله وأساسه من الكتاب العزيز والسنة السُّنِّيَّة، وإنما هما باللغة العربية، والرسول الذي جاء به عربي صلى الله عليه وسلم. إلى هذا الحد البعيد وصل سوء تأثير ذلك الاقتراح الفني؛ لنشره في هذا الوقت النحيف (أو النازك كما تقول الترك) الذي يجرحه مر النسيم، ويدميه لمس الحرير، وقد ردت بعض الجرائد العربية على هذا الرأي، فعرفه الناس وعدوه ذنبًا للترك، ولم يعلم السواد الأعظم منهم أن من كتاب الترك أنفسهم من رد على مقترحه، بأوسع مما رد به كتاب العرب. وقد سمع أيضًا من جريدة طنين كلام في غمط العرب، لم يكن كطنين الذباب فيناسب اسم الجريدة، بل كان كدوي المدافع وقصف الرعود؛ لاشتهار هذه الجريدة بأنها لسان جمعية الاتحاد والترقي ومظهر سياستها، ومكان الجمعية من سياسة الدولة معروف، ولا سيما في أوائل العهد بالانقلاب، فهذا من الأسباب القولية في سوء التفاهم والتنافر بين الترك والعرب، الذي نجم قرنه بعد الدستور، فزلزل الآمال الجميلة، وأساء تعبير الأحلام اللذيذة، وقد سمع شيء منها من بعض رجال الحكومة الدستورية؛ كطعن سليمان بك نظيف والي البصرة في الحزب الوطني المصري، وهو في مصر أثناء مروره بها في سفره إلى البصرة، وقد اشتهر هذا لرد جريدة الواء عليه، ولكنه قال قولاً آخر شرًّا منه وأسوأ تأويلاً؛ قال في سياق الكلام على الفتن التي تحدث في جزيرة العرب ما مآله: إن الدولة مستعدة لسحق أولئك العرب بالقوة القاهرة، فإن عندها سبعة فيالق من الأبطال! ! ! فهل يصح أن يقال مثل هذا القول بمصر أو بغير مصر؟ وهل تدرب الدولة الجند من أبناء الأمة لأجل سحقها وتدميرها! ؟ أم لأجل حمايتها وتعزيزها؟ أما كان ينبغي له أن يقول: إن أولئك العربان وغيرهم كانوا مرهقين بالظلم وسوء الإدارة، وسنريهم العدل والنظام، فنجعلهم بذلك يتفانون في حب الدولة وطاعة الحكومة. ومن أسباب سوء التفاهم أن كثيرًا من أحرار العرب الذين جاهدوا في سبيل الدستور حق الجهاد؛ (ومنهم من هو معروف الاسم أو الشخص عند أكثر أحرار الترك) وكثيرًا من الفضلاء والكتاب الذين أظهروا الاحتفال بالدستور بخطبهم ومقالاتهم، جاءوا الآستانة زائرين ومختبرين، وأكثرهم كانوا ممنوعين منها ومحرومين، فلم يعبأ بهم أحرار الترك، ولا رأوا منهم عواطف الإخاء، كما رأى الأرمن مثلاً! وأما الأسباب المتعلقة بحكومة العاصمة؛ فمنها إسرافها في عزل أبناء العرب من وظائفهم، حتى إنها عزلت في وقت قصير زهاء بضعة عشر متصرفًا منهم، ومنها بخلها بالوظائف على طلابها منهم، وجودها بها على غيرهم من العناصر الأخرى، ومنها تعجلها بأمور تشعر بتعمد إضعاف اللغة العربية؛ كجعل المرافعات في محاكم الولايات العربية باللغة التركية، مع علمها بأن الناس يجهلونها في الغالب، حتى وكلاء الدعاوي (المحامين) ، وكجعل الكشوف (البياننامه) التي يقدمها التجار من أبناء العرب في بلادهم إلى إدارة المكس (الجمرك) باللغة التركية أو الفرنسية، مع تعسر ذلك أو تعذره عليهم، واقتضائه نفقات كانوا في غنى عن بذلها؛ وكعدم قبول عرائض الشكوى بالعربية، حتى في مجلس الأمة مع أن المشتكين من الأمة، وهي ذات لغات متعددة، للعربية منها مكانة خاصة من حيث هي لغة الدين الرسمي الذي يكفله مقام الخلافة، كما سنبين ذلك بعد. ومنها ما يتعلق بنظارة المعارف خاصة؛ كإلغاء الدروس العربية من المكتب الملكي في العام الماضي (ول

أسباب سقوط الدولة الأموية

الكاتب: رفيق بك العظم

_ أسباب سقوط الدولة الأموية [*] سادتي: وعدتكم يوم الخطبة الغراء التي خطبها فينا الأستاذ الخضري في ترجمة أبي مسلم الخراساني؛ أن أقول كلمة ألمُّ فيها بشيء من الأسباب التي دعت إلى ضعف الدولة الأموية، وتيسر قيام الدعوة العباسية، وانتشارها في المملكة الأموية بواسطة أبي مسلم وأضرابه من رجال الدعوة، ثم نجاحهم في الأمر، وقلبهم الدولة الأموية، وثل عرشها، وقيام الدولة العباسية مقامها. ولما هممت بتتبع التاريخ من أجل هذه الغاية، عذرت الأستاذ الخضري لاكتفائه بإيراد سيرة أبي مسلم، وما كان من انتشار الدعوة العباسية؛ لأنه لو أراد أن يطرق هذا البحث، ويتبسط في مناحيه لاحتاج إلى الوقوف أمامكم ساعات، وأنا بعده كذلك، ومع هذا فلا نكون وَفَّيْنَا هذا البحث حقه من البيان؛ لذا ألتمس من حضراتكم المعذرة فيما سأتلوه عليكم مختصرًا في هذا الباب، ولو أضعت وقتًا ما في تمهيد الكلام ببحث في الخلافة؛ لارتباط هذا البحث بسقوط بني أمية وقيام دولة العباسيين. تمهيد تعلمون أيها السادة أن السلف اختلفوا في: هل الخلافة واجبة شرعاً أو عقلاً؟ والذين قالوا: إنها واجبة عقلاً، قالوا: إنها وجبت بالعقل؛ لما في طباع العقلاء من التسليم لزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم، إلى آخر ما قالوه. وتعلمون أن ما وجب بالعقل وجب تحكيم العقل فيه، ولما كان تعريف الخلافة أنها حمل الكافة على الشرع، وإنما تحمل الكافة على الشرع بمن تتوفر فيه شروط اللياقة لتولي أمور الأمة أيًّا كان من المسلمين، فقد ترك الشارع صلى الله عليه وسلم أمر الخلافة لرأي الأمة، تحكم فيه ضمائرها وعقولها دون أن ينص على شخص بعينه. ومما يدلنا على أنه ليس هناك نص ديني من قبل الشارع على تخصيص الخلافة بعلي أو العباس وآلهما أو غيرهم من المسلمين؛ أن أبا بكر لما احتج على الأنصار يوم السقيفة، لم يحتج عليهم بخبر عن الرسول، بل بالكفاءة والاستحقاق ورضا الأمة فيمن تختاره أميرًا عليها، حيث قال: (يا معشر الأنصار: إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل، وإن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش؛ هم أوسط العرب دارًا ونسبًا، قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين) وأخذ بيدي عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح , فكثر اللغط بين الأنصار حتى بادر عمر بن الخطاب وقال: ابسط يدك أبايعك , فبسط يده، فسبقه بشير بن سعد من الأنصار فبايعه، وبايعه سائر الناس. ولو كان هناك نص على علي، لما فات أبا بكر وسائر الناس، ولما قال الأنصار منا أمير ومنكم أمير، وهم أول من نصر رسول الله في حياته، فلا يعدلون عما أمر به بعد وفاته، وعلي نفسه اعترف بصحة خلافة أبي بكر، ولم ينازعه عليها باسم الدين؛ إذ خطب مرة فقال: (لقد أمر النبي أبا بكر أن يصلي بالناس، وإني شاهد وما أنا بغائب، وما بي مرض، فرضينا لدنيانا ما رضي به النبي لديننا) . توفي أبو بكر، فولي الخلافة بعهد منه عمر بن الخطاب ثم توفي عمر، فصرفتها الشورى إلى عثمان، وعلي معروف المكانة من الدين والقرابة من رسول الله، فلم يقل فريق منهم بصرفها إليه باسم الدين، وكل ما قيل وكتب بعد ذلك من المغامز التي غمزت بها الشورى، أو غمزت بها ولاية أبي بكر وعمر ليست بصحيحة، وما جاء من أخبار الخلاف على الخلافة بين الصحابة، لا يحمل على غير ما يقع عادة من النزاع بين المتنافسين على الإمارة في كل أمة وجيل، لكن صَوَّرَهُ الإمامية بعدُ بالصورة التي توافق مذاهبهم السياسية والدينية، حتى تمكنوا من صبغه بصبغة الدين، والقول بوجوب الإمامة شرعًا لعلي وآله، وسوقها بعد ذلك في بنيه أو بني عمه العباس باسم الدين. علمتم أيها السادة من هذه المقدمة؛ أن الخلافة صارت إلى أبي بكر ثم إلى عمر ثم إلى عثمان رضي الله عنهم، ولم يقم بين العرب من أجلها أدنى نزاع باسم الدين، بل كان العقل هو المحكم والمصلحة رائد جمهور العقلاء من الأمة بقطع النظر عما إذا كان علي (رضي الله عنه) حقيقًا بالخلافة، فإنه حقيق بلا شك ولا ريب، وإنما كانت هناك ظروف وأحوال، إذا وصل إلينا خبر بعضها، فإنا نجهل بعضها الآخر بتاتًا، وقد راعى جمهور الصحابة تلك الظروف والأحوال مماشاة لسنة الطبيعة والعقل، فقدموا عليه الثلاثة الكرام، ولو كان للدين حكم باستخلاف علي لما عدلوا عنه إلى العقل، ومكانتهم من الدين سامية، شهد لهم بها القرآن الكريم والنبي العظيم. إذًا فمن أين دخلت السياسة في الدين، فجعلت الخلافة حقًّا شرعيًّا من حقوق آل البيت، ومتى ظهر النزاع عليها باسم الدين، وظهرت مقالة الإمامية التي تلتها بدع كانت آفة المجتمع الإسلامي، ومنها مسألة المهدوية التي عانى ويعاني المسلمون مضضها إلى اليوم؟ الجواب عن هذا يعرفه كل مطلع على التاريخ وكلكم مطلع عليه: دخلت السياسة في الدين، وظهرت مقالة الإمامية لما دخل الأعاجم في الإسلام، وظهر هذا الدين وأهله على الأمم، وذلك بعد مضي صدر خلافة عثمان. وأول من قام بهذه الدعوة عبد الله بن سبأ وإخوانه من الموالي وأبناء الملل الأخرى الذين دخلوا في الإسلام، وابن سبأ هذا هو من الذين أحرقهم علي (رضي الله عنه) لغلوهم فيه. تلك البذرة الصغيرة التي بذرها ابن سبأ وإخوانه من جمعية الدعوة العلوية، أنبتت ذلك النبات العظيم الذي قوي فيما بعد على ما حوله، فأكل دولة الأمويين في المشرق أكلاً بعد أن دخلها الضعف من جهات أخرى، وهذا موضوع البحث، وها أنا ذا متكلم فيه. الموضوع تولى عثمان (رضي الله عنه) الخلافة بانتخاب أهل الشورى، وعمل فيها ست سنين لا ينقم المسلمون منه شيئًا، وإنما اضطرب أمره في السنين الست التالية من خلافته، حيث اتسعت دائرة الفتح، وكثر الموالي اللاجئون إلى المدينة من الأطراف، ودخل في الإسلام أو تحت سلطته أقوام لم يكن لهم ما للعرب يومئذ من العصبية والقوة والأخلاق الحربية العالية، فخضعوا لجيوش العرب طوعًا أو كرهًا، وكان استغراقهم في الحضارة، جعل فارقًا عظيمًا بينهم وبين العرب الذين كانوا على جانب عظيم من سلامة الفطرة والأخلاق الثابتة المستقيمة، فكان ذلك من الوسائل التي جعلت أولئك الأقوام يأتون العرب من جهة العقائد تارة والسياسة أخرى، فألقوا بينهم أول بذرة من بِذار التفريق في الدين والسياسة بواسطة الدعاة منهم؛ كعبد الله بن سبأ المذكور وحمران بن سودان، والأول لم يترك مصرًا من الأمصار الكبيرة كالشام ومصر والبصرة والمدينة إلا دخله؛ لأجل بث الدعوة، وزرع هذه البذار الجديدة في النفوس. والأرض البكر الصالحة سريعة الإنبات بالضرورة، ولا سيما أن العرب محبون بطبعهم للتحزب ميلاً مع العصبيات التي كانت تتنازعهم في عصر الجاهلية فتقبلوا الدعوة إلى نصرة عليّ، وأنه أحق بالخلافة دينًا بشيء من القبول، وأخذت تتمكن من نفوس بعضهم هذه المقالة الجديدة، حتى أفضت إلى انقسامهم إلى حزبين ينتصر أحدهما لعلي والأخر لعثمان. قامت الفتنة من ثم على الوجه الذي عرفناه في التاريخ، وانتهت بقتل عثمان (رضي الله عنه) ، وقيام علي ومعاوية يتنازعان إمارة المؤمنين، وانقسم يومئذ هذان الحزبان إلى أحزاب أخرى سياسية ودينية، كانت الغلبة فيها للقسم الذي شايع معاوية باسم القوة والعصبية لا باسم الدين والشريعة؛ لأن الشريعة نفسها تحتاج في تنفيذها واستمرارها إلى القوة كما تعلمون. لما تطاحن العرب من أجل النزاع على الخلافة، بتلك الروح الدينية التي بثها بينهم دعاة الفتنة، ورأى فريق منهم أن عاقبة هذه الحرب الآكلة، ربما أتت على العرب ودينهم وملكهم من أجل الإمارة , أجمعوا رأيهم على الخروج عن جماعة المتقاتلين، وألفوا لأنفسهم حزبًا سياسيًّا برئاسة عبد الله بن وهب الراسبي، غايته نسف الخلافة وطلابها من قريش نسفًا، وأن يقام الإمام من غير قريش على شرط أن يحكم برأيهم، وعلى ما يشيرون به أو ينتهجون له من طرائق العدل وإلا عزل ونصب غيره، وإلا فلا لزوم لإمام أصلاً. ومعناه أن تكون الحكومة جمهورية بالضرورة، وإليكم ما قاله عن هذا الحزب صاحب الملل والنحل قال: (إنهم جوزوا أن تكون الإمارة في غير قريش، وكل من ينصبونه برأيهم، وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إمامًا، ومن خرج عليه يجب نصب القتال معه، وإن غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله، وهم أشد الناس قولاً بالقياس، وجوزوا أن لا يكون في العالم أمام أصلاً، وإن احتيج إليه فيجوز أن يكون عبدًا أو حرًّا أو نبطيًّا أو قرشيًّا) . هذا رأيهم الذي أورده صاحب الملل والنحل، ومنه تعلمون أن مبدأهم جمهوري بحت لا سيما في التشريع، يظهر لنا ذلك كل الظهور من قوله: من ينصبونه برأيهم، وعاشر الناس على ما مثلوا له أي: على ما سنوا وشرعوا له بالضرورة. وقوله: وكانوا أشد الناس قولاً بالقياس. وكلكم يعلم ما هو القياس بالنسبة لمن يريد التوسع في الأحكام بما يدور مع الزمان والحاجة؛ ولذا فقد جاز لنا أن نسمي هذا الحزب؛ أول حزب جمهوري في مباديه ومراميه ظهر في الإسلام، ولو لم يعجل باستعمال السلاح لتأييد مباديه، وحمل الأمة عليه بالقوة، وانتظر ريثما تسأم جماعة معاوية الحرب القائمة من أجل الخلافة كما سئمتها جماعة علي، لكانت مباديه هي السائدة إلى ما شاء الله في الأمة الأمية، ولا نقطع النزاع على الخلافة منذ ذلك الحين. ولكن من الأسف، أن ذلك الحزب لما عجل باستعمال القوة بعد مؤتمرهم الذي عقدوه في حروراء خارج الكوفة، ودعوا من أجله بالحرورية، اضطر أمير المؤمنين علي لقتالهم، وقاتلهم في النهروان، وكانوا نحو عشرة آلاف فقتلهم جميعا إلا عشرة منهم أفلتوا من القتل، وتفرقوا في البلاد، وأخذوا يبثون دعوتهم سرًّا فكان من ذلك ماذا؟ كان من ذلك أن انقلبوا إلى جمعية سرية، أقرت على الفتك بعلي ومعاوية وعمرو بن العاص قائلة: فلنرح البلاد منهم، كما ذكر ذلك المؤرخون؛ لتبقى إمارة المؤمنين شاغرة للأمة من المتنازعين عليها من قريش، وتختار الأمة أميرًا عليها من شاءت من عامة المسلمين أو خاصتهم، كما هو من مقتضى مباديهم التي مر ذكرها. انتدب لهذا الغرض ثلاثة منهم هم عبد الرحمن بن ملجم المرادي للفتك بعلي، وعمرو بن بكر التميمي لعمرو بن العاص، والبرك بن عبد الله الصريمي لمعاوية، واتعدوا لسبع عشرة من رمضان، فقتل ابن ملجم عليًّا، ولم يتمكن الاثنان الآخران من معاوية وعمرو، كما هو معروف في التاريخ. وكانت هذه الجمعية السرية ثانية جمعية تألفت في الإسلام بعد الجمعية السبئية التي تأسست في خلافة عثمان؛ للدعوة إلى علي كما تقدم في صدر البحث، ومباديهما متباينة بل متضادة كما تعلمون. بعد ذلك استصفى معاوية الخلافة لنفسه، وأدالها عن آل علي باستنزال الحسن (رضي الله عنه) عنها، وأن يترك منازعته عليها، فتم له الأمر بهذا وجمع كلمة العرب عليه واستمالهم إليه، فكانت له منهم عصبية كبيرة احتمى عنها بها، وضرب ضعيفها بقويها، وقبض على زمام الخلافة بيد من حديد، وحماها بلسان من سكر، واستمال بدهائه بني هاشم والمهاجرين وأبناء المهاجرين وجلة الصحابة، تارة بالترغيب وتارة بالترهيب، حتى ملك ألسنتهم وقلوبهم، فانفرط عقد الناس إلا عن بني أمية، واجتمعت كلمتهم على تأييد هذه الدولة أيما تأييد. لكن هل زالت تلك الروح التي بثها دعاة ال

المطبوعات الجديدة

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ المطبوعات الجديدة كانت كثرة مواد أجزاء المنار في هذا العام، تحول دون ذكر المطبوعات التي أهديت إليه، وإن سنة المنار في هذا الشأن عسى لا تتفق مع سنة الصحف الأخرى، فالمنار لا يبدي رأيه في المطبوعات إلا بعد تلاوتها، وإذا لم يتسن له ذلك، أشار إلى موضوعاتها بالجملة. ونحن اتباعًا لهذه السنة، وجريًا على هذا السَّنَن، نذكر الكتب المهداة بالاختصار، والرجاء أننا نوفق لقراءة ما يستحق العناية والاعتبار، فنكتب عنه في العام القابل للمنار. الكتب (بلاغة الغرب) يكاد يكون هذا الكتاب جديدًا في موضوعه، فلقد عمد محمد كامل أفندي حجاج من موظفي المحكمة المختلطة بمصر، إلى اختيار قطع وفقرات من أحاسن كلام مشهوري رجال القلم في فرنسا كهوجو (Hugo) ولامارتين (Lamartine) وراسين (Racine) وأضرابهم، وترجمها بالعربية ترجمة ممتازة بالأسلوب البليغ مع المحافظة على الأصل جهد الطاقة، فجاء ذلك كتابًا شعريًّا في مائتي صفحة، مطبوعًا طبعًا متقنًا على ورق جيد، وهو يطلب من مؤلفه، ومن المكتبات المشهورة في مصر. (تاريخ الفنون الجميلة عند قدماء المصريين) هذا الكتاب فريد في بابه، فريد في طبعه والعناية به، جميل بصوره ورسومه، جمع فيه مؤلفه شكري أفندي صادق ناموس نادي الفنون الجميلة المصرية، ما وعاه التاريخ لقدماء المصريين من العناية بالنقش والحفر والموسيقى، وأثبت فيه رسوم كثير من الآثار التي لم تقو عوادي الأيام على محوها، فجدير بعشاق الفنون الجميلة اقتناء هذا الكتاب، والتوفر على مطالعته، وهو يباع بمكتبة المعارف بالفجالة وثمنه 15 قرشا. (روح الاجتماع) مؤلفه الدكتور جوستاف لوبون من مشهوري علماء فرنسا وقد عني بترجمته بالعربية أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية المشهور بتأليفاته النافعة، وحسن اختياره لترجمة الكتب المفيدة، وهذا الكتاب يعد منها، ومثل هذا الكتاب جدير بأن يفرد له فصل خاص، وهذا ما سنقوم به في أحد أجزاء السنة القابلة للمنار. وما رأيت فيما رأيت من المطبوعات العربية كتابًا أتقن منه طبعًا أو أجود ورقًا، فكان بذلك طابعه خليل بك صادق صاحب مسامرات الشعب خليقًا بالشكر والثناء , ويباع بمكتبة الشعب وإدارة المنار وثمنه عشرون قرشًا وأجرة البريد قرشان. (فك التقليد) كتاب في علم الصرف، يقع في نيف ومائتي صفحة، مطبوع طبعًا نظيفًا، مضبوط كلمه بالشكل، وهو تأليف صديقينا جبر أفندي ضومط وبولس أفندي الخولي من أساتذة كلية الأمريكان في بيروت، المشهورين بخدمتهما للغة العربية. والأول منهما معروف عند قراء المنار بما ذكر له فيه من التأليفات المفيدة، وقد تصفحنا صفحات من هذا الكتاب فوجدناه من أحكم كتب هذا الفن وضعًا، وأجمعها مادة، وأسهلها أسلوبًا، ونتمنى أن يتاح لنا قراءته، فنكتب فيه كلمة نقد، كما رغب إلينا مؤلفاه الفاضلان. (كتاب الفوائد) هذا الكتاب (المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان) من تأليفات الإمام ابن قيم الجوزية، وكفى بذلك تعريفًا بمكانة الكتاب ودلالة على نفعه، وقد طبعه محمد أفندي الخانجي الكتبي، وهو يطلب منه بشارع الحلوجي بمصر. (الإسعافات الطبية) كتاب يقع في 270 صفحة بالقطع الصغير، يصف فيه مؤلفه الأدوية اللازمة للأدواء الطارئة بأسلوب سهل، ورسوم كثيرة تعين على الفهم، وقد استهله بكلام في وظائف الأعضاء (PHYSIOLOGIE) والتشريح، وهو من خيرة الكتب في هذا الموضوع، بل إنه لا نظير له في بابه، وهذا النوع من الكتب من الضروريات لكل منزل، فنثني على مؤلفه الدكتور محمد بك رشدي رئيس حكماء محافظة مصر أطيب الثناء، ونحث قراء المنار على اقتنائه. (زهرة الصبا) مجموع مقالات وقصائد لعبد العزيز أفندي صبري من شبان مصر الأذكياء، أكثرها في الوصف وبيان بعض وظائف الأعضاء، وما ينتابها من الأعراض، والإلمام بذكر أسباب ذلك، وصفحات الكتاب 221 بالقطع الصغير، وهو يباع بخمسة قروش في سائر المكتبات. (أثر حسن) هو مجموع تأبين ورثاء في الدكتور سليمان الخوري الحمصي المتوفى من بضع سنين، مع ترجمة حفيلة له، وإثبات شهادات رجال الطب والحكومة بحذقه ومكانته من الأطباء، لجامعه رزق الله أفندي نعمة الله عبود أحد أساتذة المدرسة الأرثوذكسية بحمص، وهذا العمل من أسطع دلائل البر، وأحسن الوسائل لتخليد الذكر. *** الدواوين الشعرية والقصص والرسائل (خمسة دواوين العرب) عنيت المكتبة الأهلية في بيروت بطبع المأثور من شعر النابغة الذبياني وعروة بن الورد والفرزدق وحاتم الطائي وعلقمة الفحل، وجمعت شعرهم في كتاب واحد سمته خمسة دواوين العرب. وكل واحد من هؤلاء غني بشهرته عن التقريظ، ولا سيما بعد أن طفحت كتب الأدب - منذ اشتغل مؤلفو العرب بوضعها - بذكرهم، وتخليد مقدرتهم في شعرهم، ومنهم مثل النابغة الذي فضل شعره كثير من أئمة الأدب على كل شعر قيل، في كل زمن وجيل، وهو زعيم سوق عكاظ الذي كان يجلس فيه من الشعراء مجلس الرئيس المقدم والعليم المحكم، ومنهم مثل الفرزدق وهو من فحول الشعراء الإسلاميين الذي قيل فيه (لولا شعره لذهب ثلث لغة العرب) . وديوان النابغة أثبت في طبعه شرح البطليوسي المشهور فزاد ذلك في حسنه، وكذلك ديوان عروة قد طبع بشرح ابن السكيت، وكلا الشارحين من أئمة الأدب، ويباع الكتاب بثمانية قروش صحيحة بإدارة المنار وبالمكتبة الأهلية في بيروت، وأجرة البريد قرش ونصف، وثمن كل ديوان على حدة قرشان إلا ديوان الفرزدق والنابغة، فثمن كل واحد منهما ثلاثة. (بدائع الشعر في الحماسة والفخر) كتاب يقع في 254 صفحة بالقطع الصغير لجامعه بشير أفندي رمضان من مشهوري أدباء بيروت، وهو مجموع القصائد التي وقع عليها اختياره مما قبل في الحماسة والفخر من الشعراء الجاهليين والإسلاميين والمحدثين، وقد علق عليه الشيخ عبد الرحمن سلام حواشي حل بها غريبه وأوضح مبهمه، فجاء كتابًا جديرًا بالإقبال عليه من الأدباء، دالاًّ على ذوق جامعه في الشعر، وحسن اختياره للحماسة والفخر، والمرء يعرف باختياره، كما يعرف بنظيمه ونثاره، كما قال الشاعر: قد عرفناك باختيارك إذ كا ... ن دليلاً على اللبيب اختياره وثمنه ثمانية قروش صحيحة، ويطلب من جميع المكتبات المشهورة. (مناجاة الحبيب في الغزل والنسيب) هذا الكتاب هو صِنْو (بدائع الشعر) في حجمه وعدد صفحاته، وكون جامع ذاك هو جامع هذا، إلا أن هذا خاص بالنسيب والغزل، وإذا كان ذاك ممتازًا بالبلاغة والجزالة، فإن هذا ممتاز بالرقة والسلاسة، ومن دلائل الإقبال عليه أنه صار مطبوعًا خمس مرات، وهو يباع بخمسة قروش بسائر المكتبات. (ديوان عبد الرحمن شكري) طبع عبد الرحمن شكري شعره في كتيب، بلغت صفحاته الثمانين بالقطع الصغير، وهو في أغراض مختلفة أكثرها في الغزل والوصف، وقد قال فيه حافظ أفندي إبراهيم مقرظًا: شهدت بأن شعرك لا يجارى ... وزكيت الشهادة باعترافي! (كشف الغمة في مدح خير الأمة) كان المرحوم محمود سامي باشا البارودي أمير الشعراء في هذا العصر غير منازع، وأقدرهم على التفنن في مناحي الشعر غير مدافع، ولقد كان الأدباء ومازالوا آسفين لحرمانهم من مأثور ومنظومه وبدائع آياته، متمنين أن يمثل ديوانه للطبع؛ لتعم به الفائدة والنفع، ولقد طبع له في هذا العام قصيدته الميمية المشهورة) راجع (ص 289 م7) من المنار، وهي تتضمن سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذًا عن سيرة ابن هشام وإنها لمن الشعر الذي لا يطاول بلاغة وجزالة، ولا يتحدى أسلوبًا ومنحى، وقد عني بتصحيحها وحل غريبها الشيخ ياقوت المرسي (كاتب يد الناظم في سنيه الأخيرة) والقصيدة تطلب من إدارة الجريدة بمصر وصفحاتها 48. (مقالات النديم) انتخب ابن منتصر بضع مقالات من مجلة (الأستاذ) ، التي كان يكتبها فقيد الصحافة المرحوم عبد الله النديم، وطبعها في كتيب صغير، والمقالات في أغراض شتى سياسية واجتماعية، ولابد أن يقبل على هذه المقالات عشاق أدب النديم. (كلمة حول الشورى) رسالة ضمت بضع مقالات وقصيدتين للدكتور أيوب ثابت كان نشرها في جريدتي (الوطن) و (الثبات) البيروتيتين، وقد جمعها منهما صديقه نجيب أفتدي شوشاني. والدكتور صاحب هذه المقالات معروف بتحري النفع والإفاضة فيما يكتب. (برنامج جمعية الأعمال الخيرية الإسلامية في بيروت) أصدرت هذه الجمعية النافعة برنامجا أودعته مقاصدها ونظامها وأعمالها، وذكر رئيسها وأعضائها والمتبرعين لها، وقد بلغ مجموع نفقات ما قامت به من الأعمال الخيرية 12545 قرشا و35 بارةً في تسعة أشهر، وهذا المبلغ أنفق على تطبيب المرضى، ودفن الموتى، وإطعام المعدمين، وتسفير المنقطعين، وغير ذلك من صنائع البر والخير، فنشكر لرئيسها صديقنا الشيخ محيي الدين الخياط ولأعضائها الكرام تمحضهم لهذه الخدمة العظيمة، جزاهم الله أفضل ما يجازي به المحسنين. *** الجرائد (لسان الشرق) جريدة يومية أصدرها في مدينة حماه الشيخ أحمد أفندي الصابوني، وهي من الجرائد المثليات في سورية، ولها عناية خاصة بالإلفات إلى تاريخ الشرق المجيد، والحث على التربية والتعليم، وقيمة اشتراكها أربعة ريالات في حماه، وليرة عثمانية في الخارج، فنتمنى لها النجاح والفلاح. (الإصلاح) جريدة أسبوعية لمنشئها الشيخ كرامة يلدرم في سنغافورة ولم تصدر قبلها جريدة عربية هنالك فيما نعلم ولذلك جعلها الأدباء ميدانًا تتسابق فيه قرائحهم، ولقد سررنا سرورًا عظيمًا بصدور هذه الجريدة العربية في تلك الأصقاع، فعسى أن يكثر مشتركوها وينمي قارئوها. (الحرية) جريدة أسبوعية أنشأها في بيروت صديقنا داود أفندي مجاعص، وقد دلت أعدادها التي صدرت منها على أنها حرية باسمها، وما أقل الحريات بين الرصيفات! ونحن نقول: إننا عرفنا داود أفندي حرًّا من صميم الأحرار في الزمن الذي كان كثير من أحرار اليوم يتجسسون علينا أو يفرون منا! فلا غرو إذا أقبل على الكتابة فيها الأدباء، وتهافت على طلابها القراء، وقيمة اشتراكها ثمانية فرنكات في الخارج. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا *** (جمع النفائس) لم يتسع هذا الجزء لإبداء رأينا في هذه الرسالة وموعدنا (ج 1م13) .

التفرق والخلاف بين المسلمين في سنغافورة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التفرق والخلاف بين المسلمين في سنغافورة الحمد لله، إلى حضرة أخي العلامة السيد رشيد رضا المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، قد قرأت بمناركم الأغر في العدد الأخير المحرر آخر شعبان رسالةً مصطنعةً من بتاوى يقول كاتبها في أثنائها: إنها نبغت في هذه السنين رجال يدعون إلى الكتاب، إلى أن قال: وقد غاظ أمرهم هذا أناسًا عاشوا بترويج الرابطة والتوجه، وآخرين جمدوا على ما قاله بعض مصنفي المتأخرين كابن حجر المكي، فاتخذوهم أربابًا من دون الله إلى آخره. فيا أيها السيد رشيد، إني سأخبرك بالحق. والواقع أن ذلك الكلام لا وجود له مطلقًا بهذه الديار، والناس في جهل لا يعرفون معنى التقليد ولا الاجتهاد، وإنما ظهر واحد جاهل مبتدع فجعل يتذرع بذكر الكتاب والسنة كذبًا وما ذلك إلا ليطعن على المصلحين. إني لا أعرف أحدًا بهذه الديار يعرف الشيخ ابن تيمية، وأولئك الذين يدعون بفضل ابن تيمية هم أول من يرمون بقوله عرض الحائط فيما إذا لم يوافق هواهم، وإني شارع في جمع رسالة اعتمدت فيها على ما يقوله ابن تيمية مما هم مجاهرون بأقوال لا يرضى ابن تيمية بها، وها هنا المحك، فإن أذعنوا واعترفوا وسلموا لأقوال ابن تيمية وحفظه ونقله عرفنا أن ضالتهم المنشودة الحق، وإلا فإليك ما يقولونه واستمع به. تأمل أيها الأخ، أولئك الذين يدعون أنهم يذبون عن ابن تيمية، ونحن نعترف بجلالة ابن تيمية، والذي أعتقده أنهم جعلوا ذبهم عن ابن تيمية ذريعة للطعن على من يذب عن معاوية، وكل منهما جدير بأن يذب عنه، ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - أولى بالذب إن كانوا عبيدًا للحق، ونحن لا نرضى لهم أن يلبسوا على صاحب المنار، فإن السائل أسير المسئول (؟) . ليس هنا شيء مما يزعمونه إلا الطعن على معاوية وجواز لعنه وسبه بل كفره، ولم يعرضوا بالشيخ ابن حجر إلا لأجل كتابيه: تطهير الجنان والصواعق المحرقة. هذا هو الحق الذي ندين الله به ونرفعه إلى صاحب المنار؛ لينشره على صفحات المنار إعلاء للحق، وإن لم يكن ما أقوله فليتفضلوا وليبينوا ما هي المسائل التي اتخذنا فيها ابن حجر ربًّا - سبحانك هذا بهتان عظيم - وأنه لا يجوز التلاعب بالدين والتغرير بالمسلمين؛ ليطعنوا على ابن حجر، ولا ابن تيمية ولا غيرهم والكل ليسوا بمعصومين من الخطأ، ولو عرف حقيقة مغزى ذلك الكاتب أخونا السيد محمد رشيد لما أجابه مطلقًا، وأنى له أن يعرف ذلك، وها أنا أشرح باسمي أسفل ما أكتبه لمعرفتي ببضاعتي. ... ... ... ... ... ... ... ... حسن بن علوي بن شهاب (المنار) جاءنا من هذا الكاتب رسالة أخرى في هذا الموضوع أيضًا، أسهب فيها بما لا يخرج عن معنى رسالته هذه، فاخترنا المختصرة. ومما صرح به في الأخرى أنه لا غرض لمن كتبوا إلينا ما كتبوا إلا الاحتجاج بقول المنار على عدم الاعتماد على كلام ابن حجر؛ لأجل كتابيه اللذين ذكرهما لا لأجل الانتصار للكتاب والسنة، قال: (وقد أطال صاحب المنار في الرد ظنًّا بأن الحرب قائمة على قدم وساق في المباحث العلمية العملية النافعة المفيدة، وأضاعوا عليه وقته، وإن كان كلامه لا يخلو من فائدة) ثم قال: (إن تطويله وتعريفه في محله، ولكن أولئك يتخذونه حجة على لعن معاوية وسبه فقط، فلا علم ولا بحث، ولا خالد ولا بكر إلا معاوية فقط) وطلب أن يبينوا مسألة غلط فيها ابن حجر فخالف الكتاب أو السنة وقلدوه فيها. فظهر أنه من الذين يعرضون فيهم، وطلب منا فصل النزاع في ذلك، وذكر أن الذي قوى الخوض في هذه المسألة: كتاب النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، الذي ألفه ونشره صديقه وصديقنا السيد محمد بن عقيل. أما ما كتبناه في منار شعبان، فلا وجه فيه للاحتجاج على لعن معاوية، وهو يعلم أنهم كانوا استفتونا في لعن معاوية، فلم نفت بالجواز، ولم ترض تلك الفتوى السيد محمد بن عقيل، وربما كانت من أسباب تأليفه لذلك الكتاب الذي لم نفرغ لقراءته لكثرة الأعمال والأسفار، ونحن من أولياء علي - عليه السلام والرضوان - لا من أولياء معاوية وفئته الباغية عليهم من الله ما يستحقون. ولكننا لسنا بسبابين ولا لعانين كما ورد في وصف المؤمن، وقد ذكرت في ترجمة الوالد - رحمه الله تعالى - من المجلد الثامن أنه كان يقول: (لا نحب معاوية ولا نسبه) وكيف نحب من بغى على جدنا وخرج عليه، وكان سببًا في تلك الفتن التي كانت نكتة سوداء في تاريخ عصر النور، وهو القرن الأول لنور الإسلام. وبه تحول شكل الحكومة الإسلامية عن القاعدة التي وضعها لها الله - تعالى - في كتابه بقوله في المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) إلى حكومة شخصية استبدادية، جعلت مصالح الأمة كالمال يرثه الأقرب فالأقرب إلى المالك، وإن كرهت الأمة كلها. فكان هذا أصل جميع مصائب الأمة الإسلامية في دينها ودنياها. وأما الذي أنصح به الآن لإخواني المسلمين في سنغافورة وجاوة وحضرموت، كما أنصح به لسائر الناس: فهو أن لا يتفرقوا ولا يتعادوا لأجل الاختلاف في هذه المسألة، ولا في غيرها، وأن يتأدب بعضهم مع بعض في الخطاب والكتاب، وأن يعلموا أن التفرق والتعادي أشد ضررًا في الدين والدنيا من الخطأ الذي يتفرقون ويتعادون لأجله، وأنَّ المخلص في بحثه عن الحق وبيانه له، لا يعادي إخوانه الذين لم يظهر لهم ما ظهر له، بل يعذرهم ويرفق بهم، وإنما يؤذي ويعادي صاحب الهوى، وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكره التفرق والخلاف أشد من كراهته لسائر المعاصي، حتى إنه كان يريد أن يرشد أصحابه إلى شيء فيتركه إذا رآهم تماروا واختلفوا، كما فعل يوم خرج ليعين لهم ليلة القدر، ويوم أراد أن يكتب لهم كتابًا لا يضلون بعده، والحديثان في صحيح البخاري. وإني لا أخشى أن تزيد الرسالة التي يؤلفها أخونا السيد حسن بن شهاب هذا الخلاف والشقاق؛ لأن الغرض منها هو الإفحام والإلزام. وقد ذكر السيد حسن في هامش رسالته السيد عثمان بن عقيل، وأثنى عليه بالدين والتقوى وحسن النية على كونه من المقلدين. وهذا ما أشرنا إليه في جزء شعبان، فإننا شممنا رائحة الإخلاص مما رأيناه من رسائله، فرجحنا حسن الظن فيه على ما كتب إلينا مرارًا منذ سنين؛ من الطعن فيه بكونه آلة في يد الحكومة أو حسامًا تقابل به المسلمين من طريق الإسلام نفسه؛ ولذلك لم ننشر شيئًا من تلك المطاعن الكثيرة , ولكن لا يجوز لنا السكوت عنه إذا هو قاوم دعوة الإصلاح، ونفر المسلمين من المنار ومن كتب ابن تيمية على الإطلاق، ولو كان يخطئنا أو يخطئ ابن تيمية في مسألة أو مسائل معينة؛ بأن يطلع على المسألة في كلامنا أو كلامه وعلى دليلها، ثم يقرع الدليل بالدليل، لاحترمنا قوله مطلقًا، فإن رأيناه صوابًا أذعنا له، وإن رأيناه خطأ بينا ذلك بالدليل مع الأدب والثناء.

رحلة القسطنطينية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة هذا العام إلى القسطنطينية (1) رحلت في العام الماضي - وهو العام الأول للدستور - إلى الديار السورية؛ لصلة الرحم التي قطعها الاستبداد عليّ إحدى عشرة سنة، ولاختبار حال البلاد، بعدما عاثت به فيها حكومة الاستبداد، وللوعظ والإرشاد، والحث على الاتفاق والاتحاد، وبيان مزايا الدستور وفوائده، وما يجب على الأمة من العمل للتقدم في عهده، وقد نشرت في المنار ملخص تلك الخطب والدروس فعرفها قراؤه. ورحلت في هذا العام - وهو العام الثاني للدستور إلى القسطنطينية عاصمة الدولة، لأسعى في أمرين عظيمين: أحدهما: وهو أجلهما خدمة للدين الإسلامي ولجميع المسلمين، وثانيهما: خدمة للدولة العلية من حيث هي حكومة الدستور القائم على أساس العدل والمساواة ولعنصري الأمة العثمانية الكبيرين. أما الأول: فهو إنشاء معهد ديني علمي في العاصمة للتربية الإسلامية الصحيحة الكاملة؛ بالتزام آداب الإسلام العالية، وأخلاقه الفاضلة، وعبادته المطهرة للأرواح من الفرائض والنوافل كالقيام والصيام، وكثرة ذكر الله - عز وجل - والجمع بين هذه التربية والتعليم الإسلامي الذي يكون وسيلة لسعادة الدنيا والآخرة، كالتفسير والحديث، والتوحيد وحكمة التشريع، والأخلاق والسيرة النبوية الشريفة وتاريخ الإسلام وأصول الفقه وفروعه، ووسائل ذلك من اللغة وفنونها؛ وكالفنون الرياضية والطبيعية والصحية والاقتصادية التي هي وسائل عمران الدنيا، وتقوية الملة والدولة. من منافع المعهد الإسلامي تعزيز دولة الخلافة وتأييدها؛ بجعل عاصمتها ينبوعًا للإسلام، وكعبة معنوية لطلاب علومه وآدابه. ومنها تخريج العلماء الذين يقدرون على الدفاع عن الدين على النحو الذي كان يدافع به الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده رحمه الله) مثل (رنان) و (هانوتو) ، وما أشد الحاجة إلى مثل هذا الدفاع في عهد الحرية والدستور، ومنها تخريج الدعاة إلى الخير والمرشدين للأمة الذين يقومون بما فرضه الله تعالى على المسلمين من الدعوة والإرشاد، وحرمه عليهم من التفرق في مثل قوله عز وجل: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 104-105) وأقرب فوائد المرشدين إرسالهم إلى البلاد التي فشا فيها الجهل وكثرت المشاغب (كاليمن والعراق والأناضول) ؛ للوعظ والإرشاد الذي ينفر عن الشرور والفتن، والفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويرغب في البر والتعاون بين جميع أهل الوطن، والإخلاص للدولة العلية في السر والعلن، وتعليم أحكام الدين بأسلوب يكون في منتهى السهولة، مع مبادئ حفظ الصحة والثروة، فهؤلاء الوعاظ الذين يمكن تخريج طائفة منهم في مدة أربع سنين أو خمس سنين، هم الذين يطهرون البلاد بتأثير الدين من الثورات والقلاقل، ويؤلفون بين جميع الطوائف والعناصر، ويفعلون بالتصرف في القلوب والسرائر، ما يعجز عن بعضه من لا تأثير لهم إلا في الظواهر، كأصحاب الجرائد والحكام والعساكر. ليس الغرض الذي أسعى إليه أن تكون الحكومة العثمانية؛ هي التي تنشئ هذا المعهد الإسلامي، فإن الحكومات تعجز عن مثل هذه الأعمال، وان كانت قادرة على بذل المال واستخدام الرجال؛ لأن الحكام رسميون فأعمالهم كلها رسوم، لا يمس شيء منها سواد القلوب. ولأن ما تقوم به الحكومة تدخل فيه السياسة. والسياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته كما قال الأستاذ الإمام، وإنما الغرض أن تقوم بهذا العمل جمعية من محبي الإصلاح العلماء الصلحاء، وأن تساعدهم الحكومة بما يمكن من الأوقاف الخيرية، وبغير ذلك كاستثناء طلاب العلم من الخدمة العسكرية، واتخاذ الوعاظ منهم بالمرتبات الشهرية. عرضت هذا المشروع على رئيس حكومتنا الصدر الأعظم حسين حلمي باشا، وعلى بعض أعضاء وزارته، وعلى بعض الكبراء والعلماء هنا ومنهم محمود شوكت باشا، وعلى بعض أعضاء مجلس الأمة العمومي من الأعيان والمبعوثين، وعلى أشهر رجال جمعية الاتحاد والترقي، فكلهم أظهروا الإعجاب والاعتراف بفوائده ومنافعه وشدة الحاجة إليه، وقال بعضهم: إنه فكر في مثله من قبل، وكذلك قال من ذاكرتهم فيه بمصر وسورية، وقد وعدت بالمساعدة الممكنة من كثيرين، وسأبين ذلك في وقته، إن شاء الله تعالى. وأما الأمر الثاني الذي سعيت إليه: فهو إزالة ما وقع أخيرًا من سوء التفاهم بين عنصري الدولة الأكبرين- العرب والترك - وقد شرحت هذا في مقال مطول مؤلف من ست نبذ أو فصول، نشرت في جريدة (إقدام) مترجمة بالتركية، فصادفت استحساناً عند فضلاء الترك، وسيراه قراء المنار مجموعًا في الجزأين الأخيرين 11 و12. المشهور عندنا عن ساسة الترك أنهم يخافون، ويحذرون من قيام العرب بتكوين دولة عربية أو خلافة عربية في جزيرتهم، وأنَّ هذا الخوف قديم فيهم. ولكن، أليس قد مرت القرون ولم تظهر من زعمائهم الدعوة إلى ذلك، حتى في الأزمنة الأخيرة التي كاد اليأس من الدولة يستولي فيها عليهم؟ بلى! فأي حجة لهم على استمرار هذا الخوف والحذر، وبناء الأعمال عليه، وكثرة الكلام فيه؟ يقول بعضهم: إن هذا غير ممكن ولذلك لم يتشبثوا به، ولم يحاولوا تنفيذه، ونرد عليهم بأن العرب إذا كانوا يعلمون أن هذا غير ممكن، فكيف يريدونه والإرادة لا تتعلق بالمحال كما هو معلوم، وإذا كانوا لا يعلمونه، فلماذا لم يسعوا إليه سعيه؟ هذه وساوس وأوهام يجب أن لا تذكر، ولا يبنى عليها قول ولا عمل في هذا العصر؛ لئلا يصير الوهم حقيقة، وإن جميع من أعرف من عقلاء العرب متفقون معي على وجوب تدارك ما قوي الآن من سوء التفاهم، ولما جئت الآستانة رأيت كثيرًا من عقلاء الترك يميلون إلى هذا، ولكن العقلاء من الفريقين يرتابون في سياسة بعض الزعماء في العاصمة. بلغ من سوء ظن بعض ساسة الترك بالعرب ما أشرنا إلى بعضه في المقالات التي نشرناها هنا مترجمة بالتركية، ولا سيما مسألة الشام. وهناك أمور كثيرة لم نكتب فيها شيئًا؛ كاهتمام الكثيرين بحج الخديوي، وبما يتعجب المصريون من إدخاله في باب السياسة؛ كحضور عزت العابد دعوة الشيخ علي يوسف اليوم الأربعين لابنته الجديدة، وبلغ من سوء ظن العرب بالترك أن قال لي أكثر من واحد من أذكيائهم وأهل الرأي فيهم بمصر والآستانة: إن وزراء الدولة ورجال جمعية الاتحاد والترقي لا يقدرون مشروعيك الاصطلاحيين حق قدرهما، ولا يعرفون لك قيمة إخلاصك وغيرتك فيهما؛ لأنك عربي.. فلما رأيت من عناية بعض الوزراء ولا سيما رئيسهم الصدر الأعظم، وعناية كبراء رجال الجمعية ما رأيت وسمعت من الوعود المؤكدة منهم ما سمعت، ذكرت ذلك لبعض الظانين ظن السوء فقالوا: إن الأعمال بالخواتيم، وسترى هل أنت المخطئ أم نحن المصيبون، وإني لأرجو أن تطيش هذه الأوهام بما أنتظر من محاسن الأعمال، وعلى الله الاتكال في تصديق الآمال. *** صاحب جريدة وطن الهندية وتفسير القرآن جرى ذكر صاحبنا (مولوي محمد إنشاء الله) صاحب جريدة (وطن) الهندية في بعض المجالس، فرأيت القوم يسيئون به الظن، فذكرت لهم ما أعرف من فضله وغيرته على الإسلام ودولته وأهله، حتى إنني ذكرت للصدر الأعظم ولبعض الكبراء وأصحاب الجرائد أنه لم يدفعه إلى جمع تلك الأموال الكثيرة للسكة الحجازية إلا غيرته، وأنَّ من دلائل غيرته الدينية أنه كتب إليَّ قبل الدستور كتابًا قال فيه: إن هذا التفسير الذي تنشرونه في المنار هو أنفع ما كتب للمسلمين، وإنه لا شيء يرشدهم إلى ما يحييهم مثله، فأقترح عليكم أنْ تتركوا كل عمل، وتصرفوا همتكم إلى إتمامه، وأنا أرتب على نفسي مساعدة مالية أقدمها لكم في كل شهر إلى أنْ يتم التفسير. هذا معنى ما كتبه، فأجبته بأنني لا أقبل على خدمة الدين مالاً من أحد، وإنني أجتهد في إتمام التفسير ما استطعت. فكتب إلي ثانيًا يشكر لي ذلك، ويطلب الاشتراك بمائة نسخة من كل جزء يصدر من التفسير، يجلد ويوزع على المساجد في البلاد العربية؛ لأجل أنْ يرشد الخطباء والمدرسون الأمة به، ويطلب أيضًا أنْ يرسل إليه عدة نسخ من كل جزء؛ لأجل أنْ ينشرها في الهند ويبيعها لنا. وقد أرسل عدة حوالات مالية من ثمن النسخ التي اشترك فيها. ذكرت هذا للصدر الأعظم ولغيره فأعجبوا بفضل الرجل وغيرته، وترجح عندهم صدق قولي في إخلاصه فيما كتبه بشأن الانقلاب العثماني، وستريهم الأيام أكثر من ذلك متى ظهر للناس كلهم إصلاح الحكومة الدستورية للدولة العلية، مع محافظتها على الدين الذي يكفله مقام الخلافة الإسلامية على ما قرره القانون الأساسي. ((يتبع بمقال تالٍ))

خاتمة السنة الثانية عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الثانية عشرة قد تمت السنة الثانية عشرة للمنار بتوفيق الله - تعالى - وعنايته، فله الحمد والشكر والثناء الحسن أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، ونسأله - تعالى - أن يوفقنا دائمًا لإتمام عملنا؛ ويلهمنا الحكمة والسداد فيه. كان من قضاء الله وقدره أن كتبت الأجزاء الأوائل والأواخر من منار هذا العام في السفر، ففي أوله كنا في سورية، ويرى القارئ في جزئي المحرم وصفر شيئًا يتعلق بأهلها وحكومتها، وفي آخره صرنا إلى القسطنطينية، ويرى القارئ في جزئي ذي القعدة وذي الحجة كلامًا في سياستها وحكومتها، والكلام في سياسة الدولة وشؤونها كثير في سائر الأجزاء؛ لما تقتضيه من النصيحة طبيعة الانقلاب. (المشتركون) لا يزال المئون من المشتركين يلوون ويمطلون كما تعودوا، وقد بينا درجاتهم في المطل والوفاء من قبل، فلا يزال جمهور أهل القطر التونسي أشد مطلاً من غيرهم، بل زادهم تماديًا فيه عدم وجود وكيل يتقاضاهم، على أننا ما وكلنا وكيلاً منهم ووفانا الحساب، حتى الوكيل الأخير على مكانته في الآداب، ومنهم أفراد هم خير الناس وفاءً، وأحسنهم أداءً (كالأفاضل عبد الجليل الرَّاوش ومحمد بن الخوجه في الحاضرة ومحمد المزيو في سفاقس وحموده بوتيتي في قفصه) . ولا يزال العرب في جزيرتهم وفي جاوة وسنغافورة والجزائر والمغرب الأقصى في الذروة العليا من الوفاء، فالماطل منهم قليل، ولكن مسلمي روسيا قد نزلوا إلى الدرجة الثانية فكثر فهم الماطلون , وأما أهل البلاد السورية فكان أحسنهم وفاءً في هاتين السنتين أهل حمص، فأهل دمشق وللوكلاء الكمبلة الفضل الأول في ذلك، وسنبين درجات سائر البلاد في ذلك بعد. (الانتقاد على المنار) نشرنا ما انتقده بعض القراء على المنار، ومنه ما كان الانتقاد موجها إلينا، كانتقاد أحمد بدوي أفندي، ومنه ما كان موجهًا إلى كلام نشرناه لغيرنا، كانتقاد الأستاذ اليافعي على الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي. وبقي منه شيء لم ننشره فقد بعثت إلينا إدارة المجلة بانتقاد لبعض أصدقائنا من علماء تونس، على ما كتبناه في تفسير الآية الأولى من سورة النساء في أبوة آدم عليه السلام، وبانتقاد لبعض أصدقائنا في مكة المكرمة على ما كتبناه منذ بضع سنين في مسألة المتعة. فأما هذا الانتقاد فقد أودع في رسالة طويلة جدًّا، والمسألة لا تحتمل ذلك كله، نجزم بذلك وإن لم نجد وقتًا لقراءتها؛ لكثرة شغلنا في الآستانة، ونحن قد أشرنا إلى ما ينتقد به على هذه المسألة في هامش الصفحة 128 من الكتاب الذي طبعنا فيه تلك المحاورات، وسنريد ذلك بيانًا في تفسير {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ} (النساء: 24) الآية، وقد قرب مجيئها في التفسير، فإن لم يكتف المنتقد بذلك فليختصر رسالته ويجعلها صفحة واحدة إن أمكن وإلا فصفحتين من صفحات المنار بأن لا يزيد على دليل تحريم المتعة شيئًا , ولا سيما إذا كانت تلك الزيادة في بعض كلام المقلد مطلقًا أو كلام المصلح في موضع آخر. وأما رسالة الانتقاد على مسألة أبوة آدم فقد بحثت عنها فيما عندي من الأوراق أكثر من مرة فلم أجدها حتى ظننت أنها فقدت ثم تذكرت اليوم أنني كنت أطلعت عليها صديقي الشيخ محمد مكي بن عزوز في اليوم الثاني من أيام التشريق، وظننت أنها بقيت معه ولم أره بعد ذلك، ولا هو أعادها إلي، ثم وجدتها بعد كتابة هذه الخاتمة , وقرب سفر البريد بها , وسننشرها مع الجواب عنها إن شاء الله - تعالى - في الجزء الأول من سنة 1328 وإننا نشكر للمنتقدين فضلهم عسى أن يكون الشكر مدعاة المزيد , وأن يكون صاحب المنار وقراؤه أسوة حسنة للناس في انتقاد بعضهم على بعض من غير مراء ولا تحامل بل مع ازدياد المحبة والاعتصام برابطة الأخوة. ونسأل الله - تعالى - أن يوفقنا في المستقبل إلى خير ما وفقنا لمثله في الماضي وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وكتب في القسطنطينية في 25 ذي الحجة سنة 1327

فاتحة السنة الثالثة عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة الثالثة عشر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى جعلنا أمة التوحيد، وجعل ديننا دين التوحيد، وسياستنا سياسة التوحيد، وأعز من استقاموا منا على التوحيد، وأدْل من انحرف عن محجة التوحيد، ليعيدنا كما بدأنا إلى التوحيد {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ * ذُو العَرْشِ المَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (البروج: 13-16) . والصلاة والسلام على محمد خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته من خلقه، الذى بعثه بتوحيد الألوهية، ليحرر الخلق من رِقِّ العبودية، للعوالم السماوية أو الأرضية وبتوحيد الربوبية، ليعتقهم من رق التقاليد الدينية، التي ألحقها رؤساء الأديان بالشرائع الإلهية، وبتوحيد السياسة ليكون الشعوب والقبائل أمة واحدة، تضمها شريعة عادلة واحدة، وتتعارف بلغة واحدة، ليطلقهم من قيود الحكومة الشخصية الجائرة، ويفكهم من أغلال العصبة الجنسية الخاسرة فاهتدى بكتابه العقلاء المستقلون، وضل به السفهاء المقلدون، فعز باتباعه المؤمنون وذل بإعراضهم المعرضون، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ * مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 41-44) . وبعد فقد تم للمنار اثني عشر عامًا، كان له منها اثني عشر سفرًا كبيرًا فهي في هذه الأمة كنقباء بني إسرائيل، تجوب الأقطار داعيةً إلى ذلك التوحيد، مذكرةً آخرها بما صلح به أولها، وإنها كالمطر ربما كان الخير الكثير في آخرها، وقد وعدها الله تعالى بالاستخلاف في الأرض، وإظهار دينها على الدين كله، فلا يعذر في الإسلام اليائسون، {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) ، {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ} (الشورى: 28) . (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود كما بدأ) [1] ومن تمام التشبيه أن يكون على غربته شديد القوى، فيوحد بهداية القرآن المتعددين، ويجمع بإرشاده المتفرقين، فيعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم باتباع السنة، ويعيد إليهم ما فقدوا من استقلال العقل والإرادة، فيخرجون من جحر الابتداع والتقليد، ويظهرون في حُلَّتَيِ المجد الطارف والتليد، {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} (ق: 15) . صادفت الدعوة مقاومةً من قوم وارتياحًا من آخرين، كما بينا ذلك في فواتح ما سبق من السنين، ومن أكبر الآيات المبشرات، بأننا في إقبال حياة لا في إدبار ممات، إن الورقات الخضراء، في شجرة الأمة الجرداء [2] تزداد خضرةً في كثرة، لا سقوطًا ولا صفرةً، فيا لها من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، حفظت حياتها على طول العهد بانقطاع الماء، فكأنك بها وقد أصابها الوابل فآتت أكلها ضعفين، وأُتي أهلها أجرهم مرتين، {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ} (التوبة: 52) ، وهل نتربص بأنفسنا إلا ما وُعِدْنا من سعادة الدارين، {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الغُيُوبِ * قُلْ جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} (سبأ: 48-49) قد تمهد طريق الإصلاح، ونادى مؤذن حيَّ على الفلاح، فسمعه العربي والتركي والفارسي والهندي، والتتري والصيني، والملاوي والزنجي، الحضري منهم والبدوي، فأقبل كثير من المعرضين، وعرف كثير من المنكرين، ونطق كثير من الساكتين، ودعا كثير من المثبطين، وادعى كثير من الكاذبين، فإن كان قد آن لمن تمهد لهم الطريق أن يقولوا؛ فقد آن للممهٍّدين أن يسيروا، ولمن قالوا من قبل أن يفعلوا، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ} (الحج: 24) . هذا ما أعد الله له الأمة، بعد أن طال عليها أمد الغمة، رأى أهل البصيرة من عقلائها ما أصابها من الأدواء، وشعروا بشدة الحاجة إلى الدواء، كان مرضها واحدًا، فكان شعورهم كذلك واحدًا، ذلك بأن الإسلام قد جعلها أمةً واحدةً في صحتها، وواحدةً في مرضها، لم يقو على توحيده إياها اختلاف المذاهب واللغات ولا تباعد الجهات وتعدد الحكومات، فكما كانت صحتها بالاهتداء بكتابه وسننه، كان مرضها بالإعراض عن هدايته، التي جمعت بين حقوق الروح وحقوق الجسد، واستقلال العقل والإرادة في العلم والعمل، ورابطتي الأخوة والفضل والبر والعدل بين جميع الملل والنحل [3] وإنما العلاج أن يرجعوا من دينهم إلى خير ما فقدوا، ويأخذوا لمصلحة دنياهم أحسن ما وجدوا، وكذلك فعل المنعم عليهم، الذين كلفوهم التأسي والاهتداء بهم، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} (الممتحنة: 6) . لقد رحضت النوازل هذه الأمة رحضًا، ثم مخضتها النوائب مخضًا، وقد آن أن تخرج زبدها محضًا، فقد ظهرت نقطة من زمن بعيد، وكثرت ذراته من عهد قريب، ولم يبق إلا أن ينجذب بعضها إلى بعض، وتتكون في جانب من الزق، هنالك يظهر خير الإسلام، ويعرف فضله في جميع الأنام، وإن ذلك لواقع ماله من دافع، إنهم يرونه بعيدًا، ونراه قريبًا، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) . فالمنار يذكر مريدي الإصلاح في هذا العام، بوجوب التعاون على الاستمداد من هذا الاستعداد العام، فبادروا إلى اغتنام فرص الزمان، وتعانوا على البر والتقوى، ولا تعانوا على الإثم والعدوان، وما ذاك إلا أن تجتمعوا على حقكم، وتتعارفوا أنتم ومن يشعر شعوركم ويرى رأيكم، وتوحدوا طريق التربية والتعليم، في الجمع بين علوم الدنيا والدين، قبل أن يغلبكم على الأمة أهل التربية المادية المضطربة، والتعاليم التقليدية المذبذبة، الذين تحولوا عن التقاليد الإسلامية، إلى التقاليد الإفرنجية الصورية، فهم يدحرجون الأمة من تقليد إلى تقليد، {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (سبأ: 53) ، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} (الحج: 3) . لقد وقف سلفنا العقار والأراضي الواسعة، وبذلوا الدثور والأموال الكثيرة، على معاهد العلم كالمدارس والمكاتب، ومعاهد التربية والإرشاد كالرباطات والتكايا والزوايا، وها نحن أولاء نرى الخلف، قد أنشأوا يحيون سنة السلف، فهم يبذلون الأموال الكثيرة للأعمال العلمية والخيرية، والأحزاب والجمعيات السياسية، أفحسبتم أن الأمة تسخو في نهضتها على الحظوظ والمنافع العاجلة، وتبخل على الإصلاح الإسلامي الجامع بين سعادة الدنيا والآخرة، تلك إذا كرّة خاسرة، وإنا لمردودون في الحافرة، كلا إننا أمة قد كمنت فيها وما فارقتها الحياة، وإن الإسلام نائم في قلوب العامة فيحتاج إلى إيقاظ، وقد كثرت صيحات الموقظين، إلا أنهم لا يزالون متفرقين ومختلفين، وقد أذّن اليوم بينهم مؤذن التوحيد، {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ} (ق: 21-22) . إن المجتمعين أجدر بالفلاح من المتفرقين، وإن المتفقين أحق بالنجاح من المختلفين، وإن المستقلين أولى بالثبات من المقلدين، وإن الثابتين أقوى في الجلاد من المتزلزلين، على أننا لا نجالد أعداء الإصلاح بسيف ولا سنان وإنما نجادلهم بالحجة والبرهان، ونحاكمهم إلى السنة والقرآن، ونصبر على ما آذونا، ونحسن إليهم وإن أساءوا إلينا، ولكن لا نترك أمر الأمة في التربية والتعليم، يتنازعه التفرنج الحديث والجمود القديم، فلهم دون ذلك ما يشاؤون، وليعملوا على مكانتهم إنا عاملون، ولينتظروا إنا منتظرون، {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) . يا أهل القرآن: إن القرآن كان حجةً لكم فصار اليوم حجةً عليكم، أخبركم الله فيه أن الأرض يرثها عباده الصالحون، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن حقًّا عليه نصر المؤمنين، وأنه وعد الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض، وقال {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: 141) ، وبين ذلك بقوله ( {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: 91) ، {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْض} (الشورى: 42) ، فما بال الناس يرثون أرضكم، ويخلفونكم في ملككم، وأنتم لا ترثون أرضًا، بل لا تحفظون إرثًا، وما بالهم يسلكون كل سبيل للافتيات عليكم، وما بالكم تخربون بيوتكم بأيديهم وأيديكم، كيف ذهبت عزتكم، وكيف خَضّدت شوكتكم، وكيف كنتم تأخذون فتحمدون، فصرتم تعطون فتذمون، هل رضيتم بأن تكونوا من الظالمين الباغين بَعْد أنْ كنتم خير العادلين المحسنين؟ أليس منكم رجل رشيد؟ أترضون أن تكونوا ممن نزل فيهم {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} (الحشر: 14) ألا تتدبرون قوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) . يا أهل القرآن: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) ، وجعلكم الله أمةً وسطًا لتكونوا شهداء على الناس من أفرط منهم ومن فرَّط، ولكنكم غيرتم ما بأنفسكم، فغير الله ما بكم، فتنبه الوثنيون وأنتم غافلون، واجتمع اليهود وأنتم متفرقون، وسبق النصارى وأنتم متخلفون، وها أنتم أولاء تستيقظون، فإن سرتم الهوينا فالناس مجدون، وإن كنتم لا تزالون تختلفون فهم يتفقون، فلا يفرقن بينكم جنس ونسب، ولا لغة ولا مذهب، ولا سياسة ولا مشرب، فإن تفرقتم فهى القاضية، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، واعتبروا بتأريخ من قبلكم، وبأحوال الأمم في عصركم، وتدبروا القرآن، وما بينه من سنن الله في نوع الإنسان، فقد آن الأوان واستدار الزمان، واتصل القريب بالبعيد، وامتاز الغوي من الرشيد، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) .

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار نعيد الاقتراح على العلماء المخلصين بأن يكتبوا إلينا بانتقاد ما يرونه مُنتَقَدًا في المنار من مسائل الدين وغيرها عملاً بما أوجب الله تعالى من التواصي بالحق والتعاون على الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكننا نشترط أن تكون الكتابة مختصرة بقدر الإمكان وأن تذكر المسألة المنتقدة، ويبين المكان الذي نشرت فيه بأن يقال هي في جزء كذا من مجلد كذا وإذا ذكر عدد الصفحة يمكن أن يُستغنى عن عدد الجزء، وأن لا يحتج علينا في المسائل الدينية بأقوال بعض العلماء؛ بل بالكتاب والسنة، وكذا الإجماع والقياس فيما هما حجة فيه، وأنْ لا يكون في الكلام استطراد إلى مسائل أخرى لا تفيد في بيان المراد من الانتقاد، فمن خالف شيئًا من هذه الشروط فلنا الخيار في نشر ما يكتبه وتركه أو نشر ملخصه، ولو بالمعنى؛ لأنه لا يمكن أن نَشْغِلَ كثيرًا مِن صفحات المنار بالجدل والقيل والقال. انتقاد أحمد بدوي أفندي وليعتبر القراء ذلك بانتقاد أحمد بدوي أفندي النقاش عليه وعلى جميع المسلمين في مسألة القضاء والقدر انتقادًا مبهمًا على غير شرطنا فقد نشرنا كلامه على عِلاَّتِهِ وأجبنا عنه فانتقل إلى الانتقاد علينا وعلى سائر المسلمين في عقيدة القسمة {فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) وفي علم الله تعالى بأعمال الناس قبل وقوعها فنشرنا كلامه على علاته أيضًا وأجبنا عنه، فأرسل إلينا ردًّا آخر يزيد على ثلاثين ورقة، أرسلها إلى إدارة المنار، وأرسلتها الإدارة إلينا في القسطنطينية فقرأنا جُملاً مِن مواضع منها فإذا هي مملوءة بالتناقض والعسلطة والأغلاط اللغوية حتى في بديهيات النحو، وقد لامنا كثير من القراء على ما نشرنا له مِن قبل، فماذا يقولون إذا نشرنا له هذه الرسالة الطويلة العريضة؟ وما وعد بإرساله بعدها لتوضيح مسائلها؟ يقول أحمد بدوي أفندي إننا ظلمناه فيما كتبناه عن إنكاره لعلم الله بجزئيات أعمال الناس كلها قبل وقوعها وجاء بفقرات من رسالته يحتج بها علينا في ذلك ثم إنه أهاننا بفقرات كثيرة وعيَّرنا بتقليد الغزالي كما عيَّرنا مِن قبل بتقليد ابن تيمية فليقل في ذلك ما شاء سامحه الله تعالى نحن نتمنى لو يكون مصيبًا ونكون مخطئين فيما فهمناه مِن كلامه، وللقراء حكمهم في ذلك. قد انطبع في ذهن أحمد بدوي أفندي مسائل في فلسفة الدين مخالفة لما فهمه المسلمون ولما جروا عليه من الصدر الأول إلى اليوم وهو يريد بثها في المنار والمناضلة عنها فيه على كونه عاجزًا عن بيانها، وعن فهم ما يرد عليها لضعفه في اللغة العربية وعلى إعجابه بها، بحيث لا يطيق قبول شيء يخالفها فنحن لا ننشر له بعد الذي نشرناه شيئا منها لأسباب: (منها) أن المنار لم ينشأ لنشر فلسفة الأفراد الشاذة التي تهوش بعض الأذهان، ولا تنفع أحدًا لما فيها من البطلان في بعض المسائل والعسلطة والخطأ في العبارة. (ومنها) عدم الرجاء في إرجاع صاحبها عن خطئه لإعجابه برأيه وكونه لا يفهم ما يوجه إليه من الكلام العربي الصحيح فهمًا تامًا، وأوضح الآيات على ذلك أنه فهم من قراءة المنار في الزمن الطويل أن منشئ المنار مقلد لبعض العلماء كالغزالي. (وهذا ما جزم به في رسالته الأخيرة التي لم ننشرها) وأنه مع ذلك يدعو الناس إلى تقليد نفسه! (ومنها) إضاعة كثير من صفحات المنار فيما نعتقد أنه يضر ولا ينفع، فلأحمد بدوي أفندي أن ينشر فلسفته في مجلة ينشئها أو كتب ورسائل ينشرها أو يبحث عن مجلة غير المنار. هذا وإننا بعد هذا كله نحترم استقلال الرجل بفهمه ونعذره من بعض الوجوه على ما نراه مخطئا به، ونقول: إنه يجوز أن تكون تخطئتنا له في بعض المسائل لضعف عبارته وكونها لا تؤدي مقصده، ولكننا نجزم بأنه على استعداده للفلسفة الدينية قد أخطأ ويخطئ كثيرًا في فهم القرآن وفي النظر والاستدلال، ولعلَّه لو أتقن اللغة العربية واطلع على كتب التفسير والحديث، وترك الإعجاب برأيه يجيء منه خير كثير والله الموفق.

آدم أبو البشر

الكاتب: محمد البشير النيفر

_ آدم أبو البشر جاءنا من السيد محمد البشير النيفر المدرس بجامع الزيتونة في (تونس) ما يأتي: بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الزاهر، أقامنا الله وإياه على الطريقة المثلى. إنا نقرأ في فاتحة كل مجلد من مناركم وخاتمته الدعوة إلى انتقاد ما يهم انتقاده من مسائل الدين أو السياسة وذلك - والحمد لله - من أمتن البينات على طهارة نيتكم، وكنا نود لو يرزقنا الله سعة في الوقت حتى نكتب إليكم في شأن ما أشكل علينا من مسائل قليلة جاءت في التفسير وغيره إحياء لشعيرة من شعائر الدين أماتها الجهل بأصوله، وقد رأينا في باب التفسير من العدد السابع من مجلد هذه السنة (سنة 1327) رأيًا في أبوة آدم للبشر لا يرتضيه القرآن فيما نرى فبادرنا إلى الكتابة إليكم في ذلك، ونحن في يقين من نزاهة ضميركم عن التعصب والله الموفق. قلتم: إن للأستاذ الإمام رأيين في تفسير آية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) . أحدهما: أن ليس المراد بالنفس الواحدة آدم لا بالنص ولا بالظاهر. ثانيهما: أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع ينطق بأبوة آدم للبشر أجمعين ويظهر لي من جانبكم الرضا عما ذهب إليه - تغمده الله برحمته - ولكن العبد أشكل عليه الرأيان لِمَا سأُبَيِّن. أما الأول: فلأن حمل النفس الواحدة على أصل من أصول العرب لا يرضى به التعبير بالناس، والروايات المستفيضة في مَدَنيَّة السورة تقعد في طريق من يحمل الناس على أهل مكة، فالظاهر الحمل على العموم، وليست الآية الكريمة كآية الأعراف {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) الآية لوجهين: الأول: أن سورة النساء مدنيّة، وسورة الأعراف مكيّة. ثانيهما: أن في حمل آية الأعراف على العموم مسًّا لمقام النبوة فما أبعد ما بين الآيتين! وأما الثاني: فلأن القرآن الشريف، والسنة السنية ناطقان بأبوة آدم للبشر أجمعين وإخراج ما جاء في ذلك عن ظاهره رعيًا لمذهب دارون يشبه أن يكون من تفسير القرآن بالرأي الذي كان يشنؤه الإمام - رحمه الله - وجريتم حفظكم الله على طريقته في ذلك. نداء القرآن للناس ببني آدم في مقام الوصية بأخذ الحذر من وسوسة إبليس وفتنته ومقام التشريع العام ظاهر في أن المكلفين عن بكرة أبيهم أبناء آدم عليه السلام، وما نقلتموه عن الأستاذ الإمام في تأويل ذلك بعيد كما يتجلى لفضيلتكم بقليل من التدبر وأية نكتة في توجيه الخطاب إلى بني آدم إذا كان التكليف يشملهم وغيرهم. أما السنة السنية فمن أظهر ما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم من آدم وآدم من تراب) وما جاء في حديث الإسراء من الأسودة عن يمين آدم وشماله، وأنها نسم بنيه أفكانت أرواح غير الآدميين في مقر آخر أم كانت في ذلك المقر ولكن لم يهتم بها آدم - عليه السلام - ولا النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يسأل عنها لأنها ليس لها في الآخرة مقام معلوم، وأصرح من ذلك وهذا حديث الشفاعة (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس) الحديث، وفي سعة علمكم بالسنة ما يغني العبد عن حشر أكثر من هذا إن لم تكن الآيات والأحاديث نصوصًا قاطعة في الموضوع، فهي ظاهرة فيه، (والظواهر إذا اجتمعت أفادت القطع) - كما يقول الأصوليون - ولو ذهب ذاهب إلى أنها لا تفيد أكثر من الظن كان القائل بأبوة آدم للناس أجمعين أن يسأله عن الوجه في إيثار ذلك الظني على هذا الظني، فإن كان الوجه عنده درء ما عساه أن يرد على القرآن من شبهات العلماء القائلين بذلك فالذين لا يؤمنون بالغيب أكثر من أولئك عددًا وأقوى شبهًا فهل نُؤِّول الآيات الواردة في عالم الغيب بما لا يكدر مشربهم وينقض مذهبهم؟ أما قولكم حفظكم الله تعالى: (إن المسألة علمية لا دينية وقولكم إن المتبادر من النفس بقطع النظر عن الروايات والتقاليد المُسلَّمات هي تلك الحقيقة الجامعة التي يُعبَّر عنها بالإنسانية أو قريب من هذه العبارات) فللعبد فيهما نظر. أما الأول فلأن ما بين دفتي المصحف دين لا شيء منه بجائز مخالفته وهل يأذن الدين لأحد أن يذهب إلى ما لا يصادق عليه القرآن في تكون الجنين باسم علمية هذا البحث، أم هل يأذن لأحد أن يقول بما ينقضه القرآن في تأريخ فرعون باسم أن المسألة تاريخية؟ وأما الثاني فلأن تلك الحقيقة الجامعة التي يعبر عنها بالإنسانية أو البشرية أمر اعتباري لا يصح أن يكون منشأ الخلق والإيجاد هذا ما يتسع له الوقت من البحث وفيما آتى الله فضيلتكم من البسطة في العلم والاستقامة في الرأي ما يغني عن التذكير بأقل من هذا والسلام عليكم أولاً وآخرًا. ... ... ... ... ... ... كُتِبَ في 27 رمضان عام 1327 هـ (المنار) نشكر لأخينا في الله انتقاده وتذكيره وغَيْرَته على الدين والعلم ونجلي ما أَلَمَّ به من المسائل بما يأتي: (1) إن الأستاذ الإمام لم ينف كون آدم أبا البشر كلهم ولا قال: إن القرآن ينبغى أن يؤول ليوافق دارون أو غيره ولا قال إنه قد ثبت رأي الذين ينفون كون آدم أبًا لجميع البشر ثبوتًا قطعيًا، حتى نؤول لأجله كما صرحنا بذلك في تفسير الآية ولم يتكلم أيضًا في تحقيق المسألة في نفسها (مسألة أبوة آدم) وإنما قصارى رأيه أنه إذا ثبت ما يقولون لم يكن ذلك مخالفًا للقرآن فيكون شبهة على الإسلام، ونحتاج إلى التأويل، فعلى هذا يكن فهمه -رحمه الله - للآية ليس من تفسير القرآن بالرأي سواء كان فهمه صوابًا أم خطأً، لأنه لم يحاول أن يرجع القرآن إلى رأي رآه أو وافق عليه غيره وإنما فهم الآية وأمثالها فهمًا لا يرد عليه اعتراض ولا مجال معه للطعن في القرآن في هذه المسألة. (2) قلتم إنه ظهر لكم أنني راضٍ عما ذهب إليه قلتم هذا بعد نقل المسألتين فعلم منه أنكم فهمتم أنني راضٍ عنهما كلتيهما، وقد رأيتم في كلامي الجواب عما استدل به من تنكير ما بثه في النفس الواحدة من رجال ونساء وتفسير النفس الواحدة بغير ما فسرها به رحمه الله تعالى وغير ذلك، وفيه الوعد بتحقيق مسألة ما يفيده مجموع آيات القرآن المنزلة في خلق الإنسان عند تفسيرما ورد من ذلك في سورة الحجر أو سورة (المؤمنين) ، فعلم من هذا الوعد أننا لما نبين رأيًا فيما يدل عليه مجموع القرآن في خلق الإنسان وإنما كلامنا محصور في تفسير تلك الآية بحسب ما فهمه الأستاذ الإمام وفهمه هذا العاجز من تلاميذه المستقلين الذي لا يقلدونه تقليدًا في شيء ما وما كان يرضى أن يقلده أحد في شيء، وإنما كان يحث على الاستقلال، وبعد هذا كله أقول: إن ما استظهرتموه صحيح في الجملة وتسرون وجهه فيما يلي هذا من الوجوه والمسائل. (3) ذكرتم أن للأشكال عندكم مثارين: فأما المثار الأول وهو كون السورة مدنية لا يجوز أن يراد بالناس فيها أن يراد بالناس فيها أهل مكة فالخطب فيه سهل فإنكم قد رأيتم أننا اعتمدنا كون السورة مدنية وكون الخطاب فيها ليس لأهل مكة خاصة ولكن هذا لا يقضي كون القول بهذا شاذًا فإنه معزو إلى إمام المفسرين ومعولهم وهو ابن عباس - رضي الله عنه - وعبر الرازي عن مقابله بالأصح ومقابل الأصح هو الصحيح، فإن لم يكن الخطاب لأهل مكة جاز أن يكون للعرب عامة ولا يقعد في طريق هذا كون السورة مدنية، ولا كون الإسلام دينًا عامًا كما أنه لا يقعد في طريق غيره من الخطاب الذي وجه إلى العرب أو إلى بعض الأقوام أو الأشخاص، فإن عموم الأحكام الشرعية معتبر فيما كان مورده خاصًا ولو شخصيًا مالم يقم دليل على الخصوصية، مثال ذلك في العرب قوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (التوبة: 128) فإن تفسير أنفسكم بالعرب لا ينفي كون الرسالة عامة لجميع البشر، ومثاله في الأمور الشخصية ما ورد في الإفتاء عقب استفتاء بعض المؤمنين وأسئلتهم المعبر عنها بمثل يسألونك ويستفتونك كما هو مكرر في سورة البقرة وسورة النساء، وكأن يكون المخاطب بالجواب هو السائل والحكم عام بالإجماع، على أننا لم نجعل كون الخطاب لأهل مكة هو العمدة في الاستدلال على ما فسرنا به النفس الواحدة ولا كونه للعرب وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة: (4) وأما المثار الثاني للأشكال وهو ما ورد من الكتاب والسنة في أبوة آدم لجميع البشر فهو على تقدير تسليمه فيهما معًا لا يقتضي كون النفس الواحدة في الآية الأولى من سورة النساء هي آدم، إذ يجوز أن يثبت ذلك في آيات غيرها وأحاديث ولا يكون هو المراد منها، ولم يقل الأستاذ الإمام - ولا قلنا- إن هذا الآية تنفي كونه أبا البشر، ولكم أن تحتجوا بذلك على قوله رحمه الله: إنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع على أبوة آدم لجميع البشر وستعلمون ما فيه. (5) أنكم قد ذكرتم أن حمل آية الأعراف على العموم لا يصح لأنه يمس مقام النبوة، فإذا امتنع هناك أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم فلم لا يجوز أن يمتنع هنا وهو ليس متبادرًا من اللفظ العربي بحد ذاته، حتى نقول: إننا أَوَّلْنا آية الأعراف لتطابق القول بعصمة الأنبياء ولا حاجة إلى تأويل آية النساء، فالصواب أنَّ عدم حمل النفس الواحدة على آدم في الآيتين ليس تأويلاً لهما؛ لأن لفظ النفس ليس مرادفًا لكلمة آدم؛ يوضح ذلك الوجه الآتي: (6) إن ما يراد في تفسير مبهمات القرآن لا يجعل اللفظ المبهم نصًّا ولا ظاهرًا في المعنى الذي فسر به في الحديث ولا في القرآن نفسه إنْ وُجِدَ، ولكننا نقبل ذلك التفسير إذا صح عندنا، مثال ذلك أن يصح في حديث أن المراد بقوله تعالى {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى} (القصص: 20) هو فلان بن فلان، فإننا نقبل هذا التفسير على الرأس والعين ولكننا لا نقول: إن لفظ رجل في الآية هو نص أو ظاهر في ذلك الرجل المعين؛ لأن العربي الذي لا علم له بذلك الحديث لا يفهم هذا المعنى من اللفظ، ولم يَرِدْ في الكتاب ولا في الحديث تفسير للنفس في آية النساء بآدم ألبتة، فكيف نقول: إن ما ورد في ذلك يجعلها نصًّا أو ظاهرًا، وهو لم يرد تفسير لها؟ وهذا هو مرادنا مما قلناه في (ص486م12) إن الذين فسروا النفس الواحدة بآدم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها، بل من المسألة المسلمة عندهم، وهي أن آدم أبو البشر. (7) استدل صديقنا المنتقد على كون جميع الناس من بني آدم بنداء الله تعالى في القرآن لبني آدم في مقام الوصية بالحذر من فتنة الشيطان ووجه الاستدلال عنده أنه إذا لم يكن المراد ببني آدم جميع المكلفين لا يكون في توجيه الخطاب إليهم نكتة. ويمكن أن يجاب بأن نكتة ذلك في الآية التي أشار إليها هي إقامة الحجة عليهم بما كان من عاقبة وسوسته لأبيهم والعبرة في ذلك لسائر المكلفين الذين لا يعتقدون أنهم من ذرية آدم كأهل الصين؛ هي أن الشيطان يردي من أطاعه فيجب أن يجتنبوا طاعته كما يجب أن يجتنبها أبناء آدم، ونظير ذلك اعتبار المسلم بمثل قوله تعالى {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (المائدة: 68) فيعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من الإسلام حتى يقيم القرآن، وقد أشارت عائشة إلى هذا المعنى في حديث لعن أهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فقالت (يحذر ما صنعوا) وقد بين

قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام

الكاتب: رفيق بك العظم

_ قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام [1] أيها السادة: كلمتي اليوم في قضاء الفرد وقضاء الجماعة في الإسلام، وحيثما قلت قضاء الجماعة فإنما أريد مدلوله العام أي القضاء والإفتاء والتشريع أو التفريع. تعلمون أن كفالة العدل الذي هو مناط الراحة والسعادة في كل مجتمع إنما هو القانون أو الشريعة التي تُصَان بها الحقوق، وتُرَد المظالم، ويعاقب المجرمون المجترءون على انتهاك حرمة الراحة والأمن في الهيئة الاجتماعية، وهذه القوانين إما أن تكون وضعية أو شرعية، وقد عرَّفها ابن خلدون بقوله: (اذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسية عقلية؛ وإذا كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسية دينية) ، وتعلمون أن الفقه الإسلامي، وأريد به قسم المعاملات لا العبادات هو قانون المسلمين الشرعي مناط الأحكام التي يفصل بها في المنازعات والخصومات التي تقع بين الناس. أقول القانون الشرعي تجوزًا؛ إذ أن أحكام الشريعة الإسلامية وقانونها الجامع إنما هو الكتاب والسنة وهما الأصل، أما الفقه فإنما يسمونه شرعًا باعتبار أن مأخذه من الكتاب والسنة وعمل الصحابة والإجماع والقياس فإذا انطبق عليه تعريف ابن خلدون فإنما ينطبق عليه من هذه الجهة؛ أي أن تلك القوانين لها أصل في الشرع؛ لأ انها هي بعينها المفروضة من الله. وبما أن أساس التفريع أو التشريع عند الفقهاء هذه الأصول الخمسة فقد سموا الأحكام الفقهية شرعًا، وخالفهم في ذلك كثير من أئمة العلم والمحدثين، فقالوا: كل حكم لا يستند إلى دليل أو لا يعرف دليله من الكتاب أو السنة فليس بشرع. وليس من غرضي في هذا البحث الحكم بين الفريقين، وإنما الغرض منه تقديم مقدمة تساعدنا على الانتقال إلى النظر نظرًا صحيحًا في سير القضاء وتأريخه وكيف كان القضاء والإفتاء في الإسلام؟ وما هو ضمان العدالة فيهما؟ وما منزلة قضاء الفرد وقضاء الجماعة من الصواب والخطأ؟ ونستطرد من ثَمَّ إلى ما تخلل التشريع والقضاء من الشؤون التي لا يخلو بيانها من فائدة وإن كنت لا أستطيع من البيان غير جهد المقل. علمنا أن أساس الشرع وأصله في الإسلام هما الكتاب والسنة؛ بمعنى أن الأحكام الدينية أي العبادات والقوانين الدنيوية أو السياسية كما يسميها ابن خلدون وهي أحكام المعاملات والعقوبات التي وردت في الأصلين المذكورين قد قرّرها الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم فصارت شرعًا، وهذا الشرع لا يدخل تحت مدلول قضاء الجماعة المراد به جعل قوة التشريع لا في يد واحد، بل جماعة إلا من حيث لزوم فهمه على وجوهه التى أرادها الشارع اى إنّ تفهم الحكم من هذا الأصل، وتقريره هو الذي يلزم أن يناط بالجماعة دون الفرد تفاديًا من الخطا والإثم0 وتعلمون بالضرورة أن الأحكام التي شرعها لنا الشارع كانت تشرع تدريجًا فكلما عرضت له حادثة، أو سئل عن حكم شرع له شرعًا حتى كان من ذلك في الكتاب والسنة نحو ست مائة وخمسين حكمًا أو تزيد اعتبرها أئمة الفقه بعد ذلك أساسًا للتشريع فوضعوا لنا كتب الفقه التي كانت في الممالك الإسلامية، ولم تزل في بعضها مدار الأحكام الشرعية في المعاملات والعقوبات، وما يتبعها من قضاء المظالم والحسبة وسياسة الرعية وغير ذلك إلى اليوم. ويبدأ تدوين الأحكام الفقهية من أواخر العصر الأول وأوائل الثاني فالتشريع إذًا له في الإسلام تأريخان: تأريخ تقرير أصول الشريعة والعمل بهذه الأصول، وتأريخ التفريع أو الفقه والعمل به. يتخلل ذلك أيضًا تأريخان: تأريخ حفظ الشريعة في الصدور، وتأريخ قيدها في الدفاتر والسطور. ولبيان ذلك وبيان كيف كان يقضي الصحابة والتابعون أقول: علمنا أن أساس الأحكام ومدارها ومعوَّل القضاء في الصدر الأول كان على الكتاب والسنة، أما الكتاب الكريم فقد كتب متفرقًا في عهد النبوة في خلافة أبي بكر كما هو معروف مشهور، وأما السنة السنية فقد بقيت محفوظة في الصدور إلى أواخر عهد التابعين أو كتب منها في غضون هذه المدة شيء يسير. فكان القضاء في عهد الخلفاء الراشدين ملازمًا للإفتاء بالضرورة؛ لأن القضاء كان إلى الخليفة وهو لا يحفظ الأحكام التي وردت عن الشارع كلها؛ بل كان كثير من الصحابة يحفظ كل واحد منهم شيئًا منها فاستفتاؤهم في معرفة الحكم ضروري وإليكم ما روي عن قضاء أبي بكر وعمر. أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعَلِمَ من رسول الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله في ذلك الأمر سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين، وقال أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر من رسول الله قضى في ذلك بقضاء، فيقول أبو بكر: الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ من نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإن أجمع رأيهم على أمر قضى به وكان عمر يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء، فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر قضى به) . هذه رواية البغوي عن قضاء أبي بكر وعمر، ومنها يتضح أن القضاء في عهدهما قضاء الجماعة، وعليه يقاس قضاء من بعدهما من الخلفاء الراشدين في الدور الأول لتأريخ القضاء في الإسلام أي إلى العهد الذي بدأ فيه التدوين والعمل بالفروع؛ بدليل أنه كان في كل مِصْرٍ من الأمصار الإسلامية نفر من الصحابة ثم التابعين يسمون الفقهاء لحفظهم الأحكام، وتفقههم في الدين، وكان يُسْتشارون في النوازل عند القضاء فيها؛ لأنهم حُفَّاظ الشريعة والراوون للأخبار الصحيحة، فلا مندوحة عن الرجوع إليهم في القضاء. ومن الفقهاء الكبار في الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وأنس بن مالك ومعاذ بن جبل ومن في طبقتهم ممن يحفظ عن رسول الله قليلاً أو كثيرًا. وقال ابن القيم: إن عدد من حفظت عنهم الفتوى من الصحابة مئة ونيف وثلاثون نفسًا ما بين رجل وامرأة، وكان أكثر هؤلاء موزعين في الأمصار بالضرورة، وهم شورى القضاء حيثما وجد منهم جماعة يستشارون كما أثبت ذلك التأريخ، وتلى هؤلاء طبقة أخرى من أصحابهم وهم التابعون صارت إليهم الفتوى في الأمصار فكان في المدينة سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخارجة بن زيد إلى غير هؤلاء , وتليهم طبقة أخرى منهم محمد بن شهاب الزهري المشهور وأضرابه وطبقة أخرى فيهم الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب في المدينة، وكان من المفتين في مكة عطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان ومجاهد بن جبر وغيرهم وتليهم طبقة ثم طبقة إلى قيام الإمام محمد بن إدريس الشافعي صاحب المذهب في مكة. وكان من المفتين في البصرة عمرو بن سلمة الجرمي وأبو مريم الحنفي والحسن البصري وغيرهم وتليهم طبقة فطبقة، وعلى هذا تقاس بقية الأمصار كالكوفة ومصر والشام وغيرها، وكلها كان فيها العدد الجم من التابعين يستشارون في الأحكام ويتناقلون الشريعة حفظًا في الصدور إلى أن دونت في السطور. إذا أضفنا إلى هذا أن رسول الله شرع لهم الاجتهاد عند عدم وجود النص، وأن أبا بكر وعمر كانا لا يجتهدان في مسألة إلا إذا جمعا رؤوس الناس وخيارهم لاستشارتهم، وحكمنا أن بقية الخلفاء الراشدين كانوا كذلك وقسنا على ورعهم ورع من بعدهم من التابعين وتابعيهم واتباعهم سنن من قبلهم خوفًا من تبعة التفرد بالرأي واعتصامهم بالشورى مع أهل العلم والحديث بدليل ما رواه عن قضاة الجماعة في عصرهم ابن عبد البر في جامع بيان العلم عن المسيب بن أبي رافع الأسدي المتوفى سنة 105هـ قال: كان إذا جاء شيء من القضاء ليس في الكتاب ولا السنة سمي (صوا) في الأمراء فيرفع إليهم فجمع له أهل العلم فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق إذا أضفنا هذا كله إلى ما سبق بيانه نتج لنا منه أن القضاء في العصر الأول كان قائمًا بالشورى أو هو قضاء الجماعة الذي فيه كفالة الحقوق وتحري العدل والحق وهو خير من قضاء الفرد وأبقى لسعادة الأمة وأضمن لبقاء الدول بلا ريب. ليس المراد بقضاء الجماعة هو قضاء هيئة مؤلفة من أكثر من واحد فقط كما قد يتبادر إلى الذهن؛ بل هي بالمعنى المشترك أيضًا جعل قوة التشريع القضائي مصونة عن رأي الأفراد وتفردهم بالتشريع منوطة بالجماعة تثبتًا من الحكم واطمئنانًا للدليل واعتمادًا على ما هو الأصلح عند الجماعة؛ إذا تعذر وجود النص. إن مراعاة الأصلح قاعدة من أهم قواعد الشرع الإسلامي التي يُدفع بها الحرج وتُدرأ المفاسد عن المجتمع حتى لقد كان كبار الصحابة يراعون قاعدة الأصلح عند الضرورة مع وجود النص كما يأتي بيانه بعد، ويتنازعون على المسألة الواحدة يجيء بها النص من عدة روايات، أو يحتاج إلى التفهم الدقيق تثبتًا من الحكم ورغبة بمحض الخير للأمة، والعدل بين المتقاضين وبذلاً للجهد في بيان الحقيقة للمستفتين، وقد قال ابن القيم: (تنازع الصحابة في كثير من الأحكام، ولكن لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، أي المسائل التي تتعلق بالإيمان) . قلنا: إن المراد بقضاء الجماعة قوة التشريع القضائي في حياز جماعة لا فرد؛ لأن ذلك أسلم وأبعد عن الخطأ، وأضمن للعدل، وسببه أن الأحكام التي يرجع فيها إلى الرأي والاجتهاد والقياس عند تعذُّر وجود النصر أو عند لزوم ترجيح رواية من الروايات تحتاج إلى شروط قلَّما تتوفر في الفرد الواحد، وإن توافرت له فربما لا يتيسر له تحري المصلحة وتطبيق الحكم عليها من وجهه بحيث لا يخالفه فيه غيره ممن هو في طبقته من أهل العلم. اعتبروا ذلك في أئمة المذاهب المجتهدين فإنه مع بذل كل واحد منهم في تقرير فروع المذهب وأصوله متنهى الجهد في تحري صحيح الآثار والأخبار، وتتبع أصول الشريعة، فقد اختلفوا في كثير من المسائل واختلف أتباعهم بعد ذلك اختلافهم أيضًا فكان من ذلك انقسام القضاء الإسلامي على نفسه حتى وجد في بعض العصور أربعة قضاة لأربعة مذاهب في مِصْرٍ واحد من الأمصار الإسلامية هذا فضلاً عن اختلاف فقهاء كل مذهب أيضًا في المسألة الواحدة، حتى أصيب الإفتاء بما أصيب به القضاء من التشتت والانقسام واضطراب أمر العدالة أيما اضطراب، مع أن الأصل لهذه المذاهب واحد وهو الدين الإسلامي المبين. لهذه العلة الخطرة كان الصحابة الكرام لا يستنكفون عند الاستفتاء من أحدهم أن يحيل بعضهم إلى بعض في تقرير الحكم كما ثبت ذلك في كتب السنة خوف الوقوع في خطأ يجر إلى مظلمة أو إثم، ولا سيما فيما يحتاج إلى الاجتهاد ما يستشير خاصة المسلمين. قلت - فيما سبق -: إن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم شرع لنا مراعاة المصلحة، ولو مع وجود النص واقتدى به الصحابة الكرام في العمل بهذه القاعدة وبيانًا لهذا أقول: لما كانت الشرائع مبنية على درء المفاسد وجلب المصالح، والشريعة الإسلامية أحرى الشرائع برعاية هذين الأمرين فقط سن الشارع إيقاف العمل بالنص مراعاة للمصلحة، ولكن عند الضرورة القصوى وثبوت الم

تصنيف كتب عصرية فى الكلام ملائمة لحاجة العصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ... ... تصنيف كتب في الكلام ملائمة لحاجة العصر توحيد المذاهب الإسلامية إصلاح نظام التعليم في المدارس الدينية ألقى أستاذنا الفاضل موسى كاظم أفندي العضو في مجلس الأعيان، والأستاذ في مدرستي الحقوق والقضاة محاضرة في هذه الموضوعات الثلاثة، فضبطها عنه حضرة الأديب حسين أشرف بك أديب صاحب مجلة (صراط مستقيم) التركية، فرأيت أن أترجمها لقراء مجلة المنار النافعة بما يأتي: كان الراسخون في العلم من أهل الصدر الأول للإسلام يكتفون بظاهر المعنى الذي دل عليه الكتاب والسنة ويرجعون إلى صاحب الرسالة في كل ما يشتبهون به من المسائل على عهده، ولهذا لم تضطرهم الحاجة إلى وضع المصنفات ومراجعة الأسفار. ثم ظهر الاختلاف على عهد التابعين، فرأوا أن يُدوِّنوا الكتب احتفاظًا بوحدة الدين من وقوع التفرقة، وبُعدًا بها عن مزالق الانشقاق وفقدان القوة إذا تَشَتَّتْ آراء ذوي الرأي، واختلفت أنظار أهل النظر، وهنالك الطامة الكبرى، والخسران العظيم. فأخذوا يدونون العلم، وأكثر ما دونوا كان في علم الكلام، لأنه هو منشأ الخلاف، فكان لذلك فائدة عظيمة. على أن الفلسفة لم تكن قد دخلت بادئ بدء في المصنفات الأولى؛ لأن الأمة لم تكن قد عانتها بعد، بل كانوا يبرهنون على مذاهبهم بنص من الكتاب والسنة، وهي طريقة علماء السلف، ولم يكن ذلك العصر في حاجة أكثر من ذلك. ثم انتقلت علوم الفلسفة إلى العربية، فتشعبت الآراء طرائق ومذاهب، وعرف أبناء هذه اللغة لأول مرة ماهية مذهب (الفلاسفة المشائين) وآراء (الفلاسفة الطبيعيين) ، وأخذوا يدخلون فيها، ويقولون بقول أصحابها على قلة عددهم، لولا أن المشائين تغلبوا على الطبيعيين من حيث إقبال الطالبين على كتبهم حتى اضطر علماء الدين إلى مناهضتهم جميعًا وإنقاص ما لهم من السلطة والنفوذ في قلوب الدارسين والمفكرين، ومن الردود على المشائين والإشراقيين تألف علم الكلام ممتزجًا بالفلسفة كما قضت الحاجة؛ لأن علماء الكلام كانوا يدرسون كتب الفلاسفة أولاً، ثم يردون عليها، إلى أن كسدت سوق (الفلسفة الإشراقية) وكثر انتقاد أقوال المشائين فدالت دولتها وانقرضت سلطتها، ولم يبق لها ولي ولا نصير. لم تكد تُلقي هذه الحرب أوزارها حتى كان لعلماء الكلام من ظهور (الماديين) في هذا العصر ميدان آخر للنضال والكفاح، فبهؤلاء يجب أن نشتغل اليوم كما كان أسلافنا يشتغلون بالطبيعيين والمشائين والإشراقيين بالأمس. ورب قائل يقول: كيف يجوز لنا أن تزيد من عندنا في علم الكلام ما لم ينص عليه من قبلنا أو ليس من الواجب علينا أن نتبع الأولين في ما قالوه ونسلك السبيل الذي انتهجوه. فنجيبه بأن الفلاسفة الذين عني السابقون من المتكلمين بتزييف أقوالهم لم يبق في زماننا من يذهب إلى صحة نحلهم وإذا كانت براهين أسلافنا سلاحًا قاطعًا لتلك المزاعم فأين من يحاربنا لنصده بها وهذا الميدان خال منهم على حين نرى جهة أخرى غاصة بأعداء آخرين لا يعمل فيهم ذلك السلاح، أو هو لا يقابل الأسلحة التي يستعملوها، والحاجة ماسة إلى اختراع سلاح آخر يصلح أن نقابلهم به. لا يوجد اليوم علماء معروفون يقولون إن العالم ثلاث عشرة طبقة كرية: الأولى تراب، والثانية ماء، والثالثة هواء، والرابعة نار، والأفلاك بعد ذلك تسعة متواليات بعضها فوق بعض، وإنها أزلية أبدية في نوعها وفي جنسها، وهي بهذا الاعتبار قديمة. فإذا قلنا للفلاسفة اليوم: إنكم كنتم تزعمون قبل عصور أن الأرض وما عليها قديم ولدينا حجج تدحض مُدّعاكم وتبرهن على حدوث الأرض وما عليها؛ أجابونا قائلين: كلا نحن لا نقول بقدم الأرض بل نذهب إلى ما تذهبون إليه من أنها حادثة. ومَن منهم يُصغي إلينا إذا قلنا له: إنك تقول برأي بطليموس مِن أن الأفلاك تسعة متداخلة أزلية أبدية وهو يرى: (أن هذا الفضاء لا نهائي، ولا نهاية لما فيه من الأجرام، وهي حادثة من حيث صورها، ولا قديم فيها إلا أجزاؤها الفردة) ، وربما سخر منا عندما نبرهن له على فساد مالا يعتقد صحته. فمن الواجب علينا إذًا إصلاحُ الدروس الكلامية وفقًا لحاجة هذا العصر وأهله، ووضع مصنفات جديدة في دحض مذاهب هذه الأزمان، وأن نعلم أن الدين لا يُناضَل عنه اليوم بسلاح الأمس لِمَا بين العدوين من البَوْنِ الشاسع والفرق العظيم. كان المشاؤون يعترفون بوجود الله تعالى، وأنه العلة الأولى، وواجب الوجود، ولكنهم كانوا يقولون: هو فاعل مضطر لا فاعل مختار. أما الماديون في هذه الأيام فلا تنفعهم براهيننا على ذلك لأنهم لا يُسَلِّمون بوجود الله سبحانه، وكان الحكماء يقولون: إن الله واحد حقيقي وباطل وصفه بتلك الصفات المتعددة لأنها تنافي الوحدة فهو قائم بذاته، عالم بذاته، قادر بذاته، مريد بذاته، والعلم عين الذات، والقدرة عن الذات إلى غير ذلك من الصفات الأخرى، وبهذا قالت المعتزلة. أما الماديون فهم يضحكون منا إذا برهنا لهم على أن الله عالم بعلمه قدير بقدرته مريد بإرادته: لأننا متخالفون معهم من حيث المبدأ الذي يجب علينا أن نقربهم إلينا فيه بوضع كتب حديثة تصلح لإقناعهم، ولا يتسنى لنا ذلك إلا بدرس فنونهم، وإلزامهم بأقوالهم وآرائهم. وبعد؛ فإن الإسلام قد مني باختلافات ذهبت بأهله مذاهب كثيرة باد أكثرها وبقي بعضها، فالشافعية والحنبلية والمالكية يخالفوننا نحن معشر الحنفية بالفروع وإن كانوا كلهم أهل السنة، فمن الواجب علينا أن لا ننزل هذا الاختلاف بمنزلة الخصومة فنعد الشافعي خَصمًا لنا، بل الصواب أن نرى لنا ما لنا، ويرون لهم ما لهم، وربما كان الحق في جانب أحد الطرفين مرة، وفي الجانب الآخر تارةً أخرى، لأن المسألة مسألة اجتهاد، والاجتهاد يبنى على الأدلة الظنية التي يَستدل بها كلا الطرفين ولا فرق في ذلك بينهما ولذلك نصوا على أن الاجتهاد لا يُنقض بالاجتهاد. كانت هذه الحال مدعاة للتفرقة وانشقاق القوة، ومباينة لما أمر الله به من الاعتصام بحبل الاتحاد والاجتماع، وما أشد ضرر التخاصم في المذاهب والفروع؟ وفي الإسلام اليوم غير هذه المذاهب مذهب آخر وهو مذهب الشيعة، والعداوة بينهم وبين السنيين شديدة، وفي نظري أن هذا العداء أمر منكر يجب إزالته ليتسنى للمسلمين أن يتحدوا وإلا التهمهم الغرب قبل مرور نصف عصر، وكانت القاضية على المسلمين أجمعين. أجل يجب علينا أن نعتصم جميعًا بحبل الله ونتحد مع كل قائل بوحدة الله ونبوة رسول الله ونحاول بعد ذلك تقويم الأود، وإرجاع المنحرفة إلى أصلها ومجادلة أهل المذاهب الأخرى لا كما يُجادِل العدوُّ العدوَّ، بل بالتي هي أحسن، وذلك بأن يجتمع العلماء من كل فريق ويقول بعضهم لبعض تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم نتجنب ما تقوم الحجة على بطلانه ونعمل بما تبرهن الأدلة على صحته وفي يد كلا الفريقين كتاب الله يؤمنان به وبمن أنزله وبمن نزل عليه وبهذا ينجو المسلمون مما مُنوا به من التفرقة والانشقاق، وأنا الكفيل بأن المسلم لا يلبث أن يذعن للحق مهما بعد عنه. وإني أقص عليكم هنا تفاصيل مناظرة دارت بيني وبين أحد علماء الشيعة وكان متعصبًا، وعلى مكانة من الجَّد في وقت واحد، فبادرته أنا سائلاً: أين هو موضع النزاع بيننا وبينكم، وفيما ترتابون من عقيدتنا فأجابني: الخلافة هي موضع النزاع … قلت له: إن هذه المسألة في رأيي ليست مما يستحق النزاع، قال: كلا، بل هي ذات شأن عظيم لا ينكر فهي التي قضت على الإسلام وشتت شمل المسلمين وقلبت بالدين رأسًا على عقب.. . إن الخليفة بعد النبي كان يجب أن يكون عليًا، فأجبته: تلك دعوى لا نسلم بها مالم يقم على صحتها برهان ساطع، فما هو برهانكم على ذلك. وهاهنا عدة أشياء كثيرة كانت كلها واهية في نظري وبعد أن أصغيت إليه كثيرًا قلت له: ليس كل هذا مما يتألف من دليل واحد؛ لأن ما قلته لا يفيد إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، أنت سردت على مسامعي قضية هي من المطالب اليقينية وأنى لمثلها من مسائل الاعتقاد أن يُبرهَن عليه بشيء من الظن الذي ربما كان مقنعًا في مسائل الفروع. فترك صاحبنا هذه السبيل وانتهج منهًجا آخر تكلم فيه أكثر مما تكلم من قبل، ولكن هذا أيضًا كان واهيًا، فقلت له حينئذ: إني أدعي أنه لم يؤثر عن النبي قول يستدل به على تعيين خليفة باسمه، وبرهاني على ذلك أنه لو كان ثمة قول صريح في هذا الباب لما اختلف الصحابة في ذلك الأمر، وهو على ما هم عليه من التمسك بسنته، والخنوع لطاعته. أجل، لم يصرح النبي بذلك؛ لأن المهاجرين والأنصار وقع بينهما على الخلافة اختلاف كان من نتيجة أن قال الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير) فدحض الصديق ما طلبوا بحديث (الأئمة من قريش) فأجابوه: إذًا لم يبق بيننا مدعاة للخلاف بعد هذا، ومن ذلك تعلم أنه ليس ثمة صراحة قوله يستدل بها على تعيين خليفة بشخصه، وإنما هم رجحوا الصديق لتوليه الصلاة بالناس في مرض النبي ولم يرجحوا عليًّا، وهذا ما أداهم إليه اجتهادهم. وكان أبو بكر قد سَمَّى عمر لولاية العهد قبل وفاته، فلم يبق مجال للنزاع وجعلها عمر شورى من بعده، فوقع الاختيار على عثمان، ثم تولى منصب الخلافة من بعدهم عليّ، هذا كل ما في الأمر، فأين ما تذكره من أن هذا المسألة هي التي قضت على الإسلام، وقلبت الدين رأسًا على عقب.. . هل سلك أبو بكر غير منهج الرسول؟ كلا، إنه لم يفعل ذلك باعترافكم، وهكذا فعل عمر وهو الذي افتتح الأقطار وعلى يده دخلتم في الإسلام، وأصبح المسلمون يحكمون بلادًا فيها مائة مليون من النفوس، ومع كل ما كان له من النصر، وللإسلام من المجد، بقي في آخرته كما كان في أولاه يضن على قدميه بحذائين يخرج ثمنهما من بيت المال فما هو معنى (القضاء على الإسلام) حينئذ؟ وهنا سكت صاحبنا ولم يفه ببنت شفة، فواصلت كلامي قائلاً: نحن نقدس هؤلاء؛ لأنهم لم يحيدوا عن خطة النبي قيد أُنملة، ومن الواجب على كلِّ مَن في قلبه ذرة من إيمان أن ينظر إليهم بالنظر الذي ننظر به إليهما، فأجابني: إن عليَّا كان على سعة من العلم والفضل، وواقفًا على سر الكتاب، قلت له: ذلك مما لا ريب فيه. قال: فلماذا إذًا لم يجعلوه خليفة؟ أجبته: أنت الآن تخرج عن الصدد، فقد عدلت عن زعمك الأول أن الإسلام قد قضى عليه، ورحت تقول الآن: كان الأولى تولية عليّ لأنه كان أعلم وأفضل، فقال لي: إنك يا أخي لا تدع لي مجالًا للإفصاح عن رأيي، إنني أقول: إن عليًّا واقف على سر الكتاب ولو كان أول خليفة في الإسلام لخدمه خدمات جلى، ولتعالى الدين أكثر مما شهدنا. قلت له: أنت غيرت دعواك، ومع ذلك فإني أقول لك: كان من الواجب عليه إذا كان الأمر كذلك أن يبين تصوراته في إعلاء شأن الإسلام أنَّ تَوَلِّي أمر الخلافة من قِبَلِهِ، وفي كل حال إنه صار خليفة بعد ذلك، وكان في وسعه أن يقوم بالخدمات التي تذكرها. وبعد أن أَفَضْتُ البحث في هذا الباب أذعن مناظري للحق ورجع إلى إنصافه ثم قال: الحق أقول: إن هذه المسألة مسألة سياسية، لا مسألة دين، وما هي إلا وسيلة جعلت في القديم لإحداث التفرقة بين فريق وفريق. فترى من هذا أنه مهما كان بين المسلم والمسلم من الاختلاف، يرجع أحدهما إلى الحق بعد ظهوره له؛ لأن المسلم منصف على كل حال. ويا ليت شعري كيف يجوز لنا أن نجعل الاختلاف في المذهب سببًا للعداوة ونحن كلنا مسلمون، في حين أن من المحظ

رسالة جمع النفائس لتحسين المدارس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة جمع النفائس لتحسين المدارس يقول الذين أرسلوا إلينا هذه الرسالة إن السيد عثمان بن عبد الله بن عقيل كتبها ليقاوم بها نهضة المسلمين الحديثة لإنشاء المدارس وطلبوا منا أن نبين لهم رأينا فيها كما ذكرنا ذلك في الجزء الحادي عشر، وقد تصفحنا معظم الرسالة فظهر لنا أن كاتبها قد كتب ما يعتقد أن النافع كما هو ظننا في سائر مكتوباته وأنه لم يقصد تثبيط المسلمين عما هو نافع لهم إرضاء للحكام أو لغير الحكام، ولكن الذين فهموا منها تثبيط المسلمين عما ينفعهم معذورون ولا يسوغ لنا أن نقول إنهم متحاملون. الرسالة مؤلفة من ثلاثة فصول أولها في العلم والتعليم والمدرسة وبذل المال لهذا الأمر ونتيجة العلم، وقد جاء في ذلك بفوائد ونصائح لا بأس بها، وإن كان فيما استدل به أحاديث ضعاف لا يحتج بمثلها، ولا نطيل في ذلك لما جرى عليه المؤلفون من التساهل في إيراد مثل هذه الأحاديث في فضائل الأعمال ولا سيما الغزالي - رحمه الله تعالى - ورأيته يذكر في هذا الفصل كغيره السلف الصالح ويحث على اتباعه ويعد من ذلك قراءة رسائل وكتب أحمد بن زين وسالم بن سمير وعبد الله بن عاوي الحداد وغيرهم ممن ليسوا من سلف الأمة، وهم أهل القرون الثلاثة على المشهور فكأنه يعد المتأخرين من أهل حضرموت وغيرهم من السلف ولا أدري ما هي مزيتهم على علماء هذا العصر في الهند ومصر وتونس، وعندي أنه لا يعتد برأيه في الكتب النافعة ولا في طريقة التدريس، والفصل الثاني عشرة أسطر في الاتفاق على العمل وبذل المال له، ولا بأس به، وأما الفصل الثالث فهو الذي يثبط همّة مَن تَلقَّاه بالقبول على علاَّته لأنه ينفّر المسلمين من كل ما عليه الأجانب في علومهم وأعمالهم الدنيوية التي بها صاروا أقوى وأعز من المسلمين، حتى إن دولة صغيرة في شمال أوربا تستولي على أكثر من ثلاثين ألف ألف مسلم في جنوب آسيا وتتصرف فيهم تصرف السيد في عبيده الضعفاء، ولو عملت الدولة العثمانية بمثل هذه الآراء لاستولى عليها الأجانب من زمن بعيد ولم تبق للمسلمين حكومة مستقلة. ومن بلايا تناقض هؤلاء المقلدين أنهم يحرمون الاستدلال بالكتاب والسنة على مَن هم أهل له ويبيحونه لأنفسهم مع اعترافهم بأنهم ليسوا من أهله ومن ذلك استدلالهم بحديث ابن عمر (من تشبه بقوم فهو منهم) على تحريم كل شيء نافع سبقتنا إليه أوربا، والحديث لا يدل على ذلك على أن سنده ضعيف عند رواته وهم: أحمد وأبو داود والطبراني في الكبير، وتصحيح ابن حبان له لا يعتد به لتساهله في التصحيح، ومعناه أن من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم فإن التكليف يصير خلقًا بعد تكرار العمل فيصير بذلك من القوم فيما تشبه بهم فيه فإن تشبّه بهم في الكتب من أمور الصناعة صار صانعًا مثلهم وإن تشبه بهم في الأعمال الحربية صار كواحد منهم في ذلك وإن تشبه بهم في كل شيء صار مثلهم في كل شيء، ولكنه إذا تشبه بهم في بعض الأزياء أو العادات لا يصير منهم في أمور الصناعة أو الحرب أو الدين، وإذا تشبه بهم في أعمال الدين فقط لا يصير منهم في السياسة أو الإدارة ولا في الصناعة والزراعة. فالمسلمون في العراق موافقون لمسلمي مصر في الدين لا متشبهون وهم ليسوا مثلهم في إتقان الزراعة فمن الجهل الفاضح أن يقال إن من تشبه بآخر في شيء يصير مثله في غيره، ويتفرع على هذا أننا نحن المسلمون إذا تشبهنا بالإفرنج في الأمور الحربية والسياسية والصحية وطرق الكسب فإننا لا نكون معدودين منهم في دينهم، وإنّ في بلادنا مَن هم موافقون لهم في دينهم، وكثير من عاداتهم، وهم مع ذلك ليسوا مثلهم ولا يعدون منهم في الأمور السياسية والحربية مثلاً. وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس الجبة الرومية والطيالسة الكسروية (من لباس المجوس) ، ولما أخبره سلمان الفارسي - رضي الله عنه- إن المجوس يحفرون الخنادق حوْل بلادهم إذا هاجمها العدو أعجبه ذلك، وأمر بحفر الخندق حول المدينة في غزوة الأحزاب وعمل فيه بنفسه (بأبي هو وأمي) صلى الله عله وآله وسلم، فبهذا البيان يظهر خطأ السيد عثمان بن عقيل في منعه أن يكون في مدارس المسلمين شيء ما يشبه ما في مدارس الأجانب، وخطأ ما أطالت به مجلة (دين ومعيشت) الروسية في بعض المسائل التي جعلت تكأتها فيها حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) وهذه المدارس النظامية في مصر والآستانة والشام على طراز المدارس الأجنبية ولم ينكر ذلك أحد من العلماء في هذه البلاد وما أظن أن السيد عثمان يعد نفسه في طبقة علماء الأزهر. وقد أورد السيد عثمان في هذا المقام حديثًا آخر وهو (من أحب قومًا حشر معهم) ، وهذا الحديث أورده الحاكم في المستدرك بلا سند فلا يحتج به ولو كان الرجل عالمًا بالحديث لأورد ما صح بمعناه وهو حديث أنس عند الشيخين (المرء مع من أحب) وفي المعنى حديث (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة وهو ضعيف ولكن حسنه الترمذي وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، والمراد بالحب هنا ما يحمل المحب أن يتقرب إلى من يحبه ويطيعه ويقتدي به، وما كل نوع من أنواع الحب يحمل على ذلك، وقد أباح تعالى للمسلم أن يتزوج باليهودية والنصرانية والزوج يجب زوجه فلو كان معنى الحديث أن كل محب يكون مع مَن أحبه في الدنيا والآخرة لاستلزمت إباحة نكاح الكتابية كفر المسلم الذي يتمتع بهذا المباح، ولاستلزم ذلك الترجيح بلا مرجح فيما إذا أحب كلّ مِن هذين الزوجين الآخر كما هو الغالب وهو محال، وأبلغ من ذلك أن الله تعالى قال في خطاب المؤمنين مع اليهود الذين كانوا أشد الناس عداوة لهم {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} (آل عمران: 119) فراجع تفسير الآية في ص88ج4 تفسير القرآن الحكيم. ومع هذا كله نقول: إن الذين ينظمون مدارسهم على طريقة الأوربيين ويتعلمون علومهم لا يقتضي ذلك أن يحبوهم، بل نرى من المتعلمين في أوربا مَنْ هم أشد تعصبًا من غيرهم؟ وقد ذَكَرْتُ هذا لبعض العثمانيين هنا (في الآستانة) فقال والمتعلمون منا على الطريقة الأوربية كذلك، فالسيد عثمان ليس مختبرًا ولا عارفًا بهذه المسائل، وقد علمت أن الحديثين اللذين أوردهما لا يدلان على مراده إن قلنا بأنه يحتج بهما، وما كتبه ضار جدًا وإن أراد به النفع بحسب اجتهاده، وما هو بأهل الاجتهاد سامحه الله تعالى. ومِن تهافته أنه بعد أن استدل بالحديثين على مالا يدلان عليه لقلة بضاعته في العربية على كونها بضاعة مزجاة شَرَعَ يحذر تَرْكَ قراءة كتب السلف الصالحين والاستعاضة عنها بقراءة كتب التأريخ والجرائد، وذكر من مضارها أنها تورث العقائد الفاسدة ودعوى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنة، وإذا جاز لمثله أن يأخذ من الكتاب والسنة فعلى من يمتنع ذلك؟ وإنني أنقل شيئًا من كلامه بنصه لئلا يتوهم بعض قراء المنار أننا نرد على عالم مؤلف أخطأ فكبرنا خطأه أو بالغنا في استهجانه أنه حصر عيوب المكاتب والمدارس في ثلاثة أشياء وذكر الأولين منها وهما في المعنى أمر واحد هو التشبه بالأجانب، ثم قال ما نصه وصورة رسمه: (والثالث من تلك الفواقر والخساير ترك قراءة الكتب التي يقرؤونها السلف الصالحون التي يكتسبون منها العلوم النافعة وخشية الله والأعمال الصالحة وتبديل تلك الكتب بكتب التواريخ المختلفة والجرائد المعتنقة التي يُورِثُ في اللسان اللقلقة وفي القلب العقايد الفاسدة وفي الدين التساهل وتتبع الرخص بل تورث دعوى الاجتهاد المشبه بخرط القتاد وذم التقليد بلا تقييد ودعوى استقلال الأخذ من السنة والقرآن مخالفة لما عليه المفسرون الأعيان فما هي إلا كراكبة التان تظن أنها تسابق الفرسان ومضادًّا لسيرة السلف الصالحين بل استخفافًا بهم بأنواع التنقيص وعنادًا بالمكابرة والمغالطة والأدلة الساقطة) اهـ. ولا يحسبن القارئ أننا اخترنا هذه العبارة اختيارًا لركاكتها وكثرة غلطها ووضوح دلالتها على تجرد صاحبها من الفنون العربية كلها بل جميع عباراته كذلك وهو مع هذا يستنبط الأحكام من الآيات والأحاديث فيحرم على الناس ما أحل الله لهم، ويحل لهم ما حرم الله عليه، ولاسيما القول في الدين بغير علم ثم ينكر على العلماء الراسخين مثل هذا الاستدلال. هذا وإننا ننصح لأولئك الأبرار الأخيار الذين ينشئون المدارس أن لا يلتفتوا إلى هذه الرسالة ولا إلى شيء من رسائل هذا الرجل ولْيختاروا لمدارسهم المعلمين الأكفاء الذين يجمعون لهم بين علم الدين وما يلزم لهم من علوم الدنيا وأنْ يكون لسان حالهم ومقالهم هو لسان القائلين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ} (البقرة: 201- 202) .

خديجة أم المؤمنين ـ 7

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين (7) الفصل الخامس عشر [*] (بيت خديجة بعد الزواج) وبدأت السيدة (خديجة) بعد هذا القران السعيد تزداد معرفة بهذا الجوهر الكريم الذي أتاحه الله إليها، فألقت إلى يد هذا الأمين بكل ما تملك ولم يرعها أن الكرم المستحكم في سجاياه سيحمله على إخراج نصيب كبير من هذا المال إلى الضعيف والعائل، فإن سيدتنا لم تكن مع تدبيرها بالشحيحة الكاظة على المال الفاني، بل كانت قد خلقت لتكون مساعدة على الجود، وهل بعد معرفتها بهذا الكُفُؤ الشريف ترى لنفسها معه أمرًا ينافي أمره، أو رأيًا يغاير رأيه، وهي تلك العاقلة الحكيمة المستعدة أن تزداد كمالاً كلما أشرق لها من سماء الفيض الإلهي نور منه. وأصبح هذا البيت مثابة للمضطرين وأمنا فقصدته الأيامى، وشبعت فيه اليتامى، وخففت فيه أحمال كثيرين ممن حُنَيت ظهورهم بكثرة الآل، وقلة المال. كانت تلك البلاد أحيانًا تُصاب بعسر بل كل بلاد العالم لا تسلم من العسر على الدوام فمساعدة الموسرين في زمن العسر للمعسرين أمر تقضي به الإنسانية، ولكنْ قليل من الناس من يكون لهم حظ بالتغلب على شياطين الشكوك والأوهام التي تنهى عن الإنفاق خشية الإملاق، أما سيدتنا فكانت ترى إنفاق زوجها ومساعدته للمعسرين وأخذه بيد العائلين من جملة المزايا العالية التي تقرُّ بها عينها. وفي إحدى الأزمات كانت ملائكة الرحمة تحوم في ذلك البيت حول أحد الصبيان، وتطوف في آفاق نفسه لتطهرها من كل شر حتى لا يخرج من هذا البيت إلا وهو إمام للناس في الخير والصلاح. وكان هو لاهيًا عما أُعِدَّ له، وعابثًا بمثل ما يعبث به أترابه، ولم يكن هذا الصبي يتيمًا بل كان أبوه حيًّا ولكن أبناء السعادة أبناء المجد الأبدي، أبناء المجد السرمدي، تستأثر العناية الأزلية بكفالتهم وتربيتهم بصورة خاصةً وظاهرة يراها من استعدت بصائرهم للاطلاع الجيد. لم يكن أبو هذا الصبي ليسمح وهو حي أن يتربى كالأيتام في غير بيته؛ لأنه هو ذلك الشهم الشهير والشريف الخطير (أبو طالب) ولكن اشتداد الأزمة في إحدى السنين اضطره أن يقبل رجاء أخيه العباس وابن أخيه (محمد الأمين) بأن يأخذ كل واحد منهما ولدًا من أولاده تخفيفًا عنه فكان هذا الأسعد الذي أخذه الأمين هو عليًّا الذي صار الإمام أبا الأئمة، وبدر سماء السيادة في الأمة. كانت تربية عليّ في البيت من جملة المكتوب للسيدة خديجة من حسن الحظ فإن الغيب كان يعده لأمر جليل له علاقة بهذا البيت. لعله لم يخطر على بال أهل هذا البيت إذ ذاك أن هذا الصبي الذي يدرج أمامهم فيسرون به سيكون الواسطة الوحيدة لحفظ نسلهم، ومن أين كانت تعرف السيدة خديجة، أنه لا يعيش لها من الذكور ولد، وأن هذا الصبي الصغير قد أعده الغيب ختنًا كريمًا وبعلاً صالحًا لبنتها الصغيرة، وكيف تعلم أنه لا يتسلسل لها عقب إلا من تلك الكريمة (فاطمة الزهراء) وأنّى يخطر في بالها أنها إنما كانت تربي هي وزوجها جدًّا لعترة تتصل بهذا البيت سَيَعُدُّهَا العالم من أشرف العِتَر وستبقى مباركة في الأرض دهورًا طويلة عالية المنار، عظيمة الشأن. نعم، كل ذلك لم يخطر في البال إذ ذاك، ولم يكن الذي في القلب إلا القيام بالواجب الذي يقضي به التضامن. نعم! نعم كل ذلك لم يخطر في البال ولا نوى سيد هذا البيت مكافأة عمه على تربيته التي سبقت له، فإن بين ذوي القربى لا توجد المكافأة بل يوجد التضامن ولكن كان هذا البيت المملوء نعمًا يتقاضى وجود نفوس كثيرة تشاركه في تلك النعم لأن لأهله نفوسًا لا تعرف الاستئثار، بل تراه من العار والشنار، لا سيما إذا بئِس الجار. وقد استفاد من مادة هذا البيت كثيرون كما أشرنا إليه، أما عليّ فإنما خصصناه بالذكر ليَعرف مَن عرفه أو سمع بمناقبه العالية وفضائله الزاكية كيف كان هذا البيت السعيد مسعِدًا للأرواح، كما كان مسعِدًا للأشباح، وليعرف القارئ بسهولة أن البيت الذي أخذ ابن أبي طالب آدابه فيه منذ كان صبيًّا قد كان مهدًا لأكرم الآداب وأعلاها فإن عليًّا المرتضى هو من عرفه العالم كله، هو ذلك الإمام الأكبر الخليق أن يكون مثال القدس وزكاء النفس، هو مجمع المعالي وملتقى الأسرار العظمى ومظهر الولاية الكبرى. فما أكرم هذا البيت السعيد وما أعظم بركاته وقد رأينا الأمين يجد فيه مجالاً للتخفيف عن المثقلين، والتنفيس عن المكروبين، وفيه وجد القصاد صدورًا رحبة، وأيدي مبسوطة، ولديه خيمَّ الوجود والسخاء، كما خيم العدل والوفاء، ومنه أشرقت الآداب العالية، والتربية الكاملة، وماذا ترى من بركات هذا البيت بعد ذلك يا ترى؟ *** (العمل الروحي) أشرفنا الآن على بحر كثيرة لججه، صعبة مسالكه، وصلنا إلى ساحل هذا البحر ولا بد من جوزه، وأكثر السفن لا يوثق بها في غمراته. ولابسو ثوب الهداية رأس مالهم الدعوى، وما حيلة الحائرين غير الرجوع إلى الله في الجهر والنجوى. ههنا نبأ جليل تحار العقول المستقلة بفهمه، وتشتاق أن تقف على روحه وحدّه ورسمه، هنا قد بلغْنا من سيرة هذه السيدة الجليلة أن بعلها كان من دأبه أن يتعبد بعض الأوقات في غار من جبل قرب مكة اسمه (حِراء) فما هو هذا التعبد وكيف هو، وما الذي ساق نفسه إليه، وأيُّ دين فرضه عليه؟ هذا هو النبأ العظيم الذي تتمسك بنا العقول المستقلة إذ نسمعه ولا تدعنا نجوزه إلى غيره من غير أن نوضحه، وإذا أخذنا بإيضاحه نخشى أن نبعد بالقارئ عن سياق السيرة، ولكن يقوي عزمنا على هذا الإيضاح ظنُّنا بأن الراوي الذي يشرح كل دقيقة فيما يمر به من حكايته قد يفيد القراء أكثر ممن يسرد الأخبار سردًا. إن الأديان كلها رسمت أعمالاً اسمها عبادات، ولكن بعل السيد خديجة لم يكن تابعًا إذ ذاك لدين؛ لأن دين قومه كانت عبادته عبارة عن تمجيد بعض الأحجار التي هي عندهم تماثيل أشخاص مقدسين ولم يكن هو قد تعود هذه العبادة التي لهم. العبادة التي عرفت في الأديان كلها هي بحسب الظاهر أعمال وحركات يرسمها رؤساء الدين من أنبياء وغيرهم، أما لبُّها فأشواق روحية تقوم في نفس العابد أمام معبوده ويصح أن نسميها عملاً روحيًا حينئذ. كان بعل هذه السيدة يأتي في غار حِراء بعمل روحي تتوجه فيه روحه تلقاء بارئ السماوات والأرض، ومشرف مكة وسائق نفوس العرب إذ ذاك إليها، ولم يكن مقيمًا أعمالاً رسميةً. إن البحث عن سبب تسمية تلك الأعمال الرسمية عبادة في لغتنا يكلف به مشرح اللغة، والبحث عن أسباب اختيار الأقوام السالفين هذه الصور والأعمال المخصوصة تحت اسم العابدة يكلف به مشرح التأريخ، أما البحث عن الأشواق الروحية أو التعبد المحمدي في (حِراء) فمكلف به كاتب سيرة السيدة خديجة. العبارة لا تشفي الصدر في تجلية هذه المعاني ولكن شدة ارتباط هذا الموضوع بهذه السيرة داعية إلى السير في هذا البحر العظيم. قد سمعنا في سيرة زوج هذه السيدة أن روحه كانت من أعلى الأرواح، ونحن نؤمن بهذا، ولكن إذا نحن لم نتعرف بالروح ولو قليلاً فماذا يكون معنى إيماننا بهذا؟ لا جرم أن تعرفنا بالروح ضروري في هذه المقامات وهو أمر يشتهيه كل امرئ لأن كل واحد منا تخطر في باله هذه المسألة: ما نحن؟ هذا سؤال قد علم الذين بعُدَ نظرهم في ماضي البشر أنه من جملة فضل الله عليهم وهو أساس ما يسمى في لغتنا دينًا وديانة وملة وأحد الأصول والأسباب في ترقي هذا النوع الإنساني وتكمله. هذا سؤال تحيط به محارة طال وقوف العقل فيها، ههنا مرسى سفينة العقل الذي يحاول معرفة نفسه ومنها يبتدئ مجراه لأجل إدراك هذا الجوهر. مواقف الباحثين كادت تتساوى أمام صعوبة هذا السؤال، إذ لا براهين عقلية قطعية في نفي شيء أو إثبات شيء في جوابه، ولكن إذ عزَّت هذه البراهين لا يعدم عشاق هذا المطلوب آيات كثيرة في الوجودات، ومن فضل على أهل هذه الصورة البشرية جعل قلوبهم مستعدة لقبول ما تأتي به هذه الآيات من ضياء ولا يُحْرَمه إلا قليل تُزمن فيهم الحيرة لأسباب محسوسة وغير محسوسة. هذه الوجودات قد ملئت آيات، فإذا حال دونها الحجب لجَّ العقل في محارات أو عمايات، وإذا بدت لا يحجبها حاجب نهج في هدايات أنها لمن تأمَّل مراتب وصفوف، ولكل وجود قوة، ولكل قوة أثر، واختلاف القوى وآثارها، هو على مقدار أشكال الوجودات وصورها وحيِّزها، ولما رزق الإنسان هذا النطق الواسع وضع أسماء لكل ما لاح له من وجودٍ، وظن المسكين أنه بوضع الأسماء أحاط بالحقائق وهي لم تزده عنها إلا بعدًا. الإنسان بعض هذه الوجودات وفيه قوى تحتاج حسب عادته إلى أسماء، فالروح للإنسان اسم للقوة العظمى التي فيه، اسم لما يكون به الإنسان مستقلاًّ متميزًا يقول أنا ويقال عنه هو وإن عفا أثره. آمن الناس بهذا الاسم متفقين، ولكن فيما يدل عليه قد اشتد تباينهم، وحار نظرهم في إدراك حقائق هذه القوى التي في الإنسان وفي كيفية علاقتها بهذا الجسم البشري الذي متى برحته أصبح لا فرق بينه وبين كثير من صفوف الجمادات، والذي يزيد حيرتهم شدة تسامي بعض الأرواح كروح من سعدت بقربه سيدتنا صاحبة هذه السيرة. بحثت كالباحثين، وحرت كالحائرين، ثم وجدت كالواجدين، فما ألذها على القلب من حيرة عقباها بلوغ الغاية، والحمد الله رب العالمين. إليك حديث نفسي بشأنها: (أفقت اليوم من النوم ونصل حسي وشعوري من غلافه، كما نصل هذا الفجر من غمده، فوجدتني كأنني وليد هذه الساعة، لأنني قبل هذه اللحظة لم أكن أرى هذه الأكوان، ولم أحس بما فيها من الأصوات والألوان، ولم أكن اشعر بملائماتي ومؤلماتي، فكأنني كنت غير هذا الموجود الجديد. أين كانت لذتي برؤية هذه القبة، وأُنْسي بما على هذا البساط، وأنَّى كان ابتهاجي بزواهر هذه الزرقاء، وزواخر هذه الغبراء ... ومِن حولي الآن أغاني طيور، ورقص غصون، وأريج زهور، وبدائع نقوش، وترتيب صنوف، وحركات نور وتجليات سكون، وفيّ أنا آثار انفعال من كل هذا قد تحرك بها ما اسمه فكري ثم تحرك بها ما اسمه لساني فسمعتني أقول: (سبحانك ربنا ما خلقت هذا باطلاً) . سبحانك يا فاطر يا بارئ يا مصور ولك الحمد، أنا متذكر الآن أنني أبصرت هذه المرائي، وسمعت هذه الآمالي أمس لما بزغ الفجر بزوغه هذا، فأين ذهب إبصاري وسمعي بين ذينك الأبصار والسمع اللذين كانا أمس وبين هذين الأبصار والسمع اللذين أتياني الآن وأنا متذكر أن هذا الأمر وقع لي مرارًا كثيرة ألوفًا من المرات فما هذا الاحتجاب ثم الظهور، وأين كان الإحساس محتجبًا قبل أن عرفته أول مرة. رباه، من أسائل عن هذا ... ؟ إن هذه الصوامت التي من حولي لا تجيب، لعلها لا تسمعني، أو لعلي لا أسمعها، أو لعلها لا ذكر لها في هذه المسائل، وكيف أصب على جهلي بشيء يتعلق بي، كيف لا أبحث عن أصل إحساسي وعن احتجابه، ألا يهمني أن أعرف هل أمره كأمر هذه الشجيرات يتحاتُّ ورقها ثم يعود ثم تيبس مرة واحدة فتصير حطبًا ثم رمادًا؟ أم أمره كأمر هذه الشمس يظهر نورها على جهة ثم يغيب عنها ثم يعود إليها وهو لا يزول أبدًا، كيف أقنع للنفس الإنسانية بحالة هذه الشجيرات، وهي لها من الخواص والآثار ما ليس لشيء غيرها في هذه الأرض. كلا سأسائل، ثم كلا سأسائل. رفعت رأسي إلى السماء فألقيت بواهر ولا مجيب، وأهويت به إلى الأرض فألقيت بواهر ولا مجيب. فضاء أمامي، لا أعرف له ساحلاً وحدًّا، تارة يفيض نورًا، وأخرى يحتجب بالظلمات، أراني و

الكشف الطبى على الموتى وتأخير الدفن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكشف الطبي على الموتى وتأخير الدفن س1 من صاحب الإمضاء الرمزي بالجبل الأسود؟ إلى حضرة الأستاذ الفاضل والفيلسوف الكامل السيد محمد رشيد رضا. في هذه الأيام صدر الأمر من نظارتنا (الجبل الأسود) : إذا مات إنسان أنْ لا يدفن قبل أربعة وعشرين ساعة مُسْلِمًا كان أو غيره ومن أراد دفنه ينبغي أن يأتي بحكيم (دوقتور) يجري المعاينة للجنازة ذكرًا كان أو أنثى (وهذا لا يجوز لنسائنا) وإلا فالسجن من يوم إلى عشرة أيام أو الجزاء في حق النقدي من خمسة إلى مائة كورون في أول مرة. فنحن المسلمين مضطرون من هذا الأمر لأن نعتقد أنَّ تأخير الجنازة 24ساعة لا يجوز شرعًا فإنا على قدم الخروج والهجرة مِن بلادنا وترك أوطاننا بسبب ذلك. فأرجو من حضرتكم أن تبينوا رأيكم العلي في أسرع وقت يمكنكم الجواب لا زلتم هادين مهديين خادمين للشريعة المطهرة المحمدية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ح. ح ج - فقد سبق لنا الإفتاء في هذه المسألة (ص 358م10) فليراجعه السائل على أن الظاهر من السؤال أنه يعلم أن السنة تقتضي بتعجيل الدفن بعد تحقق الموت فإذا كان هناك ارتياب في الموت وجب تأخير الدفن إلى أن يتحقق الموت، والشرع لا يمنع الاستعانة بالطبيب على ذلك، وإذا جاز كشف الطبيب على المرأة المريضة إذا لم يوجد طبيبة تُغْني عنه فإنه يجوز أيضًا أن يكشف على المرأة الميتة لأجل العلم بتحقق الموت إذا كان هنالك أدنى ارتياب فيه لئلا تكون مُغْمًى عليها فتدفن ثم يزول الإغماء بعد الدفن فتموت أشنع ميتة، وقد وقع مثل هذا كثيرًا ولولاه لما عنيت الحكومات التي ارتقى فيها علم الطب وكثرت فيها التجارب بالكشف على الموتى وتأخير دفنهم، وهبْ أن بعض المسلمين علم أنَّ مَيِّتَه قد توفاه الله حتمًا بحيث صار تأخير دفنه عدة ساعات مخالفًا للسنة فهل إكراه الحكومة إياه على هذا التأخير لأجل المصلحة التي تعتقدها لا لأجل مصادرته في دينه يوجب عليه الهجرة مطلقًا وإن كان يترتب عليها إضاعة ماله وذهاب شيء من عقاره وترك ذلك لغير المسلمين كما هو الغالب فيمن يهاجرون الآن من مثل الجبل الأسود؟ المسألة فيها نظر. فإن لم يكن في الهجرة ضرر على المهاجرين الآن من مثل تلك البلاد فليهاجروا إلى البلاد العثمانية فإن فيها أرضًا واسعة تحتاج إلى مثلهم تتعزز بهم ويسهل عليهم إقامة دينهم في بلادها الآن ولم يكن يسهل في زمن الاستبداد إذ كان المسلم مضطهدًا أكثر من غير المسلم، وإنما أريد بهذا القيد أن لا يستفزهم الغيظ من الكشف الطبي فيحملهم على ترك أرضهم وعقارهم أو بيعها بثمن بخس لأجل التعجيل بالهجرة. قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل

غروب الشمس والإفطار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ غروب الشمس والإفطار س2- مِن صاحب الإمضاء في سنغافوره إلى مطلع النور المنير حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا متّع الله المسلمين بحياته. سيدي: اختلف أهل طرفنا فيما إذا غربت الشمس رأي العين في البحر فأفطر من بالساحل وصلى المغرب ثم صعد في منطاد (بالون) إلى علو بعيد ورأى الشمس من ثَمَّ بيضاء نقية لم تغرب، هل يبطل صومه؟ وبغروبها في نظره تجب عليه الصلاة ثانيًا للمغرب، ولو كان لم يصلّ العصر فصلاَّها حينئذ في منطاده هل تقع أداءً أم قضاءً؟ وفيما إذا كان على الساحل بناء شامخ (كبرج إيفل) بفرنسا أو بنايات نيويورك فإن الشمس ترى من أعلاها بعد تحقق الغروب عند من هو بالحضيض فهل لكلٍّ حكم أو حكمها واحد؟ أم يختلف الحال فقبل وجود تلك العلالي نحكم بالغروب بمجرد اختفاء قرص الشمس تحت الأفق في نظر من بالساحل وبعد وجودها لا نحكم بالغروب إلا بعد اختفاء قرص الشمس عن نظر من يكون بأعلى تلك القنن، وإذا كان بقطر واحد ساحل غربي يجاوره جبل عال كجبال هملايا فهل يتحد وقت الغروب عند مَن بالساحل ومَن بالقنن أم يختلف ويكون اختلاف العلو كاختلاف المطالع وهل لذلك من ضابط؟ أفيدونا بما ترونه الصواب. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بن سالم الكلالي ج - المعتبر في غروب الشمس شرعًا هو أن يغيب قرصها تحت الأفق ويذهب شعاعها عن جدران المباني والجبال، ولكل أحد حكمه بحسب ما يشاهده في ذلك، ومن أفطر وصلى المغرب بعد غروبها ثم ارتفع في المنطاد فرآها لا يفسد صوم يومه ذاك ولا تجب عليه إعادة المغرب فيما يظهر لنا، لأنه لا يكلف في يوم واحد تكرار فريضة واحدة، وقد مضت الأولى على الصحة فلا يؤثر في صحتها ما يطرأ بعدها، وقريب من ذلك الشك في الصلاة قبل السلام يؤثر ويترتب عليه حكمه وبعده لا حكم له؛ لأن الصلاة انتهت على الصحة وإذا فاتته صلاة العصر بغير عذر يكون عاصيًا ولا يرفع عنه المعصية رؤية الشمس في المنطاد بل تجب عليه التوبة وإن حسبت له صلاتها في المنطاد أداء كما أن الذي يفطر يومًا من أثناء رمضان ثم يسافر إلى بلد تختلف مطالعه عن مطالع بلده، فيجد أهله قد صاموا بعد أهل بلده بيوم وأكملوا عدة رمضان ثلاثين يومًا فوافقهم وصام الحادي والثلاثين فكان هو الثلاثين له.

عدة الوفاة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عدة الوفاة س3- من صاحب الإمضاء في (حماه - سورية) . الأستاذ الشيخ رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي المنير أمتع الله بعلومه المسلمين، نظرًا لعلمنا أنكم وقفتم حياتكم على خدمة الدين وتمحيص الحقائق وحل المعضلات، جئت بالسؤال الآتي أرجو منكم جوابه على صفحات المنار الأغرّ ولكم الفضل. امرأة كانت تحيض ثم انقطع حيضها وبعد شهرين من انقطاعه توفي زوجها ومضى عليه بعد وفاته سبع سنين، ولم تحض وهي الآن لا تزال فَتِيّة وتريد أن تتزوج، والمشايخ يمنعونها من الزواج بحجة الاستبراء قائلين لها لا يصح أن تتزوجي إلا بعد أن تبلغي سن اليأس فهل يجوز في الدين الحنيف أن تبقى هذه الفتاة المسكينة بحسرة النكاح مدة عمرها وهي لم تأت ذنبًا، وإذا كان ما أفتاها المشايخ به صحيحًا فما هي الحكمة التي يترجح بها جانب الظلم على كفة العدالة في هذه المسألة، أفتونا مأجورين ولكم الفضل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جمال ج - عدة من يموت عنها زوجها أربعة أشهر وعشر ليال بنص القرآن، فإن كانت حاملاً فعِدّتها أن تضع حملها بالنص أيضًا، وتقدم بيان ذلك في تفسير سورة البقرة وقد مضى على المرأة المسؤول عنها الزمن الذي علم فيه أنها لم تكن حاملاً منه على جميع أقوال الفقهاء في أكثر مدة الحمل، فلا مانع يمنع من زواجها على ذلك والحكم لله العلي الكبير.

الأئمة الأربعة ومقلدوهم واجتهاد العامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأئمة الأربعة ومقلدوهم واجتهاد العامي س 6- مِن صاحب الإمضاء الرمزي في سورا كاراتا (جاوه) . حضرة سيدي الأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا المحترم حفظه الله تعالى آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أقدم إلى سعادتكم سؤالاً خطر ببالي وليس يجيبني غيركم عنه وهو هذا: ما قولكم - رضي الله عنكم - في الأئمة الأربعة ومقلديهم من عصرهم إلى هذا الزمان هل ما دوَّنوا في كتبهم وتبعهم عليه أتباعهم؛ هل أخذوه عن الكتاب والسنة أم من تلقاء أنفسهم؟ وهل مقلدوهم في الأحكام الشرعية على هدي أو في ضلال؟ وهل الأئمة المتأخرون مثل ابن حجر المكي ومَن هم في طبقته دوَّنوا كتب الفقه على ما جاء به الكتاب والسنة أو مخالف لهما؟ فإن كانوا وضعوها على خلاف السنة والكتاب فالمطلوب من فضلكم بيان ما يخالف الكتاب والسنة؟ لأجل أن نجتنبه ونعمل بما يوافق الكتاب والسنة ونعلم بخطئهم لأن كتبهم معتبرة في الأحكام الشرعية ويحكمون بما قرروه فيها في المحاكم الإسلامية. أفيدوني بالجواب الشافي لأني رجل عامّيّ أخذتني الحَيْرة لما وقفت على السؤال الذي ورد إليكم من بتاوى، وجوابكم عنه في الجزء الثامن من المجلد 12 سنة 1327 صفحة 614 من المنار فلهذا رفعت إليكم هذا السؤال أرجو من فضلكم الجواب الشافي، ولكم من الله الأجر والثواب ولا تقدموا عذرًا في ذلك، وهذا سؤال آخر ملحق بما تقدم. ما قولكم في العامي المقلد، هل يجوز له الاجتهاد المطلق ويترك مذهب إمامه أم لا؟ وكيف يبلغ رتبة الاجتهاد مَن لا يعرف قواعد مذهب إمامه أفيدوني مأجورين؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ب. ر س ج - كان الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى على هدًى من ربهم يتبعون ما فهموه من كتاب الله عز وجل وهدي نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما أجمع عليه سلف الأمة الصالحون من علماء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وما لم يجدوا فيه نقلا يُتَّبَع قاسوه على نظيره مما ورد من آية أو حديث فهم مجتهدون مأجورون على ما أصابوا فيه مرتين وعلى ما أخطأوا فيه مرة واحدة كما ورد في الحديث، ومن حذا مِن أتباعهم حَذْوَهم هذا وجرى على طريقتهم في اتباع الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، كمحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة والمزني من أصحاب الشافعي (مثلاً) فهم مثلهم على هدًى من ربهم. وأما المتأخرون كابن حجر المكي فهم ليسوا من الأئمة الذين ينظرون في الكتاب والسنة ابتداءً ويقدمون ما يفهمون منهما على قول كل أحد ورأيه وإنما هم ينظرون في كتب السابقين من أهل المذهب الذي انتموا إليه ويأخذون مؤلفاتهم منها إما بتلخيص واختصار، وإما ببسط وإيضاح كل بحسب فهمه وقدرته على الكتابة وما يذكرونه فيها من الأدلة منقول من تلك الكتب أيضًا فالواحد منهم لا يتحرى في المسألة كل ما ورد في الكتاب والسنة وهدي السلف فيأخذ بالراجح، بل منهم من يظهر له الدليل على خلاف مذهبه فلا يكتبه في كتابه، بل ربما تمَحَّل في الرد على من أخذ بذلك الدليل الراجح من أهل المذاهب الآخر انتصارًا لمذهبه، بل يفعل هذا مَن هم في طبقة أعلى مَن طبقة ابن حجر كالنووي فإنه في كتبه الفقهية يستدل على صحة المسائل التي يعلم أنها مرجوحة من مسائل المذهب؛ إذ وزنت بميزان الكتاب والسنة، وقد يصرَّح هو نفسه بذلك في غير كتب الفقه كما يقول النووي - رحمه الله تعالى - في شرحه لصحيح مسلم أحيانًا، الأصح من حيث الدليل كذا ومن حيث المذهب كذا، وقد يقول في بعض مسائل المذهب: إنه لا يقوم عليها دليل، ومن ذلك - إن لم أكن واهمًا فيما أتذكره وأنا بعيد عن الكتب - مسألة الغسل من نجاسة الخنزير سبع مرات إحداهن بالتراب، وقد نقل الغزالي عن بعض الفقهاء الذين وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد المطلق أنهم كانوا يفتون على مذهب الأئمة الذين اشتهروا بالانتماء إليهم ويعملون بخلاف ما أفتوا به، ويعتذرون عن ذلك بأن السائل إنما سألهم عن الحكم في مذهب الإمام فأجابوه عما سأله من باب الأمانة في النقل، وأنه لو سألهم عن مذهبهم لأفتوه به. تلك الكتب التقليدية لا يقال إنها وضعت على أصل الكتاب والسنة كما يقال في مثل (كتاب الأم) للإمام الشافعي - رضي الله عنه - لأنها وإن كان الغرض منها بيان أحكام مذهبه لم تؤخذ من الكتاب والسنة مباشرة، ولم يلتزم مؤلفوها ذلك لأنهم يعتقدون في أنفسهم أنهم ليسوا أهلاً للأخذ من الكتاب والسنة، ولا يقال إنها وضعت على خلاف الكتاب والسنة لأنه لم يقصد بها ذلك الخلاف، ومطالبتنا ببيان ما فيها من مخالفة الكتاب والسنة لأجل أن يجتنب من الإعنات فإن مَن يريد ترك تقليد تلك الكتب واتباع الكتاب والسنة مباشرة لا يحتاج إلى قراءتها على طولها وصعوبتها وبيان ما يوافق الكتاب والسنة منها وما لا يوافقه، بل الأَوْلى والأسهل له أن يقرأ الكتاب والسنة ابتداءً ويعمل بهما، فإن كان لا يفهمهما بنفسه ويقول أريد أن أستعين على فهمهما بكلام العلماء، يقال له: اقرأ التفسير وشرح الحديث ولا سيما تفاسير السلف كابن جرير ومثل شرح الشوكاني لأحاديث الأحكام، وكتاب (الهدي النبوي) لابن القيم واستعن بها على ذلك فإن اختلف المفسرون والشارحون فاعمل بما يظهر لك أنه الحق من كلام المختلفين، ومَن لا يريد ترك تقليدها فلا يسمع لك فيها قولا وإن أقمت له عليه ألف دليل. وأما العامي المقلد فلا يجوز له أن يتصدى للاجتهاد المطلق ما دام عاميًا ليس له من العلم ما يؤهله لذلك، بل عليه أن يستفتي في المسائل التي يجهل حكمها أهل العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فمتى رووا له في المسألة نصًّا صحيحًا وجب عليه العمل به، فإن لم يفهم النص استعان بهم على فهمه، وإن العوام الذين يسألون في الوقائع التي تعرض لهم عن قول مثل ابن حجر فيها لا يفهمون أقوالهم بل يعتمدون على المفتي في إفهامهم إياها، فإذا كانوا محتاجين للمفتي في كل حال فلماذا يستعينون به على فهم قول مقلد قد تبع في كتبه أمثاله ولا يستعينون به على فهم كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وحديثه؟ الجواب عن هذا السؤال سهل على المقلدين مشهور بينهم يقولون: إنه لا يوجد في هذه العصور من يقْدِرُ على فهم الكتاب والسنة بنفسه وإنما قدر على ذلك في القرون الأولى أفراد معدودون وفهم كلام هؤلاء أفراد دونهم وهكذا كان أهل كل عصر يفهمون كلام من قبلهم مباشرة فيجب على المتأخر أن يأخذ بكلام مثل الباجوري الذي أخذ من مثل الرملي وابن حجر اللذين أخذا من مثل الشيخ زكريا الذي أخذ عن مثل النووي الذي أخذ عن مثل الغزالي إلى أن يصلوا إلى الشافعي، ويجيبهم أهل السنة بأن كلام الله ورسوله أفصح الكلام فهو أسهله فهمًا، وأن الأئمة المجتهدين حرموا الأخذ بكلامهم من غير معرفة مأخذه من الكتاب والسنة، وبغير ذلك مما بيناه في محاورات المصلح والمقلد وفي مواضع أخرى من المنار وهي تبلغ مئات من الصفحات فلا يمكن تلخيصها في هذا الجواب، والله الهادي والموفق للصواب.

طريقة الشاذلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طريقة الشاذلية س4- من أحد علماء سرنديب (سيلان Ceylan) . ما قولكم يا علماءنا الأعلام شيّد الله بكم مباني الإسلام. إن بعض أقوام يذكرون الله بالرقص والتواجد ويسمون هذه طريقة شاذلية؛ فهل هذا القول صحيح أم لا؟ أفتونا مأجورين. ج - إننا رأينا كما رأيتم أقوامًا يأتون ما ذكرتم وأكثر مما ذكرتم من البدع وينسبون أنفسهم إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي ولو رآهم أبو الحسن لتبرأ منهم. وقد سبق لنا في المنار إنكار هذه البدع مرارًا كثيرة، ونشرنا في مجلد السنة الماضية (ص 237م12) فتوى لطائفة من علماء الأزهر في الإنكار الشديد على ذلك فلتراجع.

عذاب القبر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عذاب القبر س5- مِن الشيخ حسن أبو أحمد مأذون الشرع بنقيطه (المنصورة) . في مطرية المنزلة خلاف بين طائفتين في عذاب القبر هل هو ثابت بصريح القرآن والسنة الصحيحة أم لا؟ أرجو التكرم بإيفاء هذا الموضوع حقَّه من غير إحالة على أعداد مضت لأني وعدتهم بذلك وعرفتهم بقولك الفصل ولكم الفضل. ج - قد سبق لنا بيان هذه المسألة في المنار، ونقول الآن: إنها لم يصرح بها في القرآن، ولكن ورد فيها أحاديث صحيحة مشهورة وليراجع ما كتبناه من قبل (ص 946 م 5) و (ص 256 م 8) .

أسئلة من سنغافورة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من سنغافوره س 7، 8، 9 من س. س. ي. في سنغافوره. سيدنا الرشيد المرشد صاحب المنار الأغر أفدنا أدامك الله نفعًا للأنام. 1- ما حكم مجلة طوالع الملوك، وما حكم الإعلان عنها، وإلفات الناس إلى تُرّهاتها، وهل ذلك من خدمة الدين والوطن، ولماذا سَكَتَ عنها وعن ما يقال فيها علماء مصر؟ ألقولهم بنفعها أم لعدم اكتراثهم بما يتعلق بالدين والمصالح العامة أم لجهلهم بحالها؟ 2- بينوا لنا حال الشيخ ابن حجر الهيتمي ومنزلته في العلوم ومنزلة كتبه فإني رأيتها كثيرة التعقيد وعباراتها سيئة التركيب وكثير منها يسهل على طالب العلم المتوسط الحال أن يجمع ما حوته من المعاني في أقصر منها وأسلس وأوضح، ويظهر لي أنه شديد التعصب للصوفية يتعسف في تأويل طامّات بعضهم ثم هو يذم ويسب شيخ الإسلام ابن تيمية وينبزه بتكفير المسلمين ولعل مَن كفّره ابن حجر في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) أضعاف مَن كفّره ابن تيمية ويظهر لي أيضًا أنه سامحه الله يتعصب ضد أهل البيت مع تظاهره بحبهم ويتأول لأعدائهم بما هو بديهي البطلان أو قريب منه حتى خِلْت أنه مقلد محض وآل حضرموت يقدسونه. 3- إن سيدي له إلمام ومعرفة بأحوال الصوفية فما هي حقيقة التجزي الذي يزعمونه، وهل له شاهد أو دليل عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وهل عرفه الصدر الأول أم لا؟ . حكم مجلة طوالع الملوك والترغيب فيها بالإعلان (المنار) جاءتنا هذه الأسئلة في العام الماضي فلم ننشرها بل قدمنا عليها بعض ما عندنا من الأسئلة الكثيرة عملاً بتقديم الأهم على المهم، وقد أعاد السائل علينا أسئلته من عهد قريب وألح في طلب الجواب فنقول: أما مجلة طوالع الملوك فإننا لم نقرأها لنرى ما فيها فلا ترسل المنار إلى صاحبها ولا هو يرسلها إلينا، ومن البديهي أننا لا نشتريها، ولكننا سمعنا بعض من اطلع عليها من أهل الفضل يقولون: إنها مجلة عرافة وكهانة وتنجيم وروحانيات وطلسمات، ورأينا في بعض الجرائد وصفًا لها بنحو من ذلك في باب الإعلان ولا عجب فإن الجرائد لا تتنزه عن التكسب بإعلان المنكرات وترويجها، كترغيب الناس في الخمور ورقص النساء المتهتكات وبعض ضروب القمار؛ فإذا صح ما سمعناه من وصف هذه المجلة فحكم قراءتها كحكم قراءة الكتب المشتملة على مثل ما تشتمل عليه وهو يختلف باختلاف قصد القارئ فإنْ كان يقرأها ليأخذ بأقوالها ويعمل بما فيها مما يحظره الشرع فقراءته إياها محظورة حظرًا شديد، وقد بينا من قبل بعض ما قاله العلماء في هذا الباب، وممن شدد فيه ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الحديثية، ويقرب أن يكون تصديق ما فيها من الأخبار عما وقع أو سيقع كتصديق العرافين والكهان في حديث مسلم (مَن أتى عرافًا فسأله وهو يصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد) صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان يقرأها ليعرف ما فيها ويُحذّر الناس مما فيه من مخالفة الشرع فهو مثاب على قراءتها، ولا يخفى حكم سائر المقاصد. وسكوت علماء مصر عنها يحتمل أن يكون سببه عدم الاطلاع عليها؛ لأنه قلما يوجد فيهم مَن له عناية بالوقوف على أمثال هذه المطبوعات، ولكن هذا الاحتمال بعيد، والغالب أن يكون قد اطلع عليها بعضهم دون بعض، فيوشك أن يكون منهم من اطلع على جزء أو أجزاء لم يستنكر منها شيئًا، وأن يكون المستنكر لبعض ما فيها قد نهى عن قراءتها أو عن نشرها بالقول دون الكتابة في الجرائد، وأن يكون منهم من لم ينه صاحبها عن نشرها ولا الناس عن قراءتها مع اعتقاده بطلان ما فيها وتحريم نشره وتصديقه؛ لأن المنكرات قد كثرت وأَلِفَ العلماء وغيرهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا قليلاً منهم، ولاسيما الإنكار بالكتابة أو النشر في الجرائد، ولكن هذا الذنب لا يصح إسناده إلى علماء مصر كافة لما ذكرناه من الاحتمال والغالب في المسألة. ابن حجر الهيتمي وكتبه وأما ابن حجر الهيتمي فحاله في العلم قد بيناها في الفتوى السادسة من هذا الجزء، فهو مقلد لفقهاء الشافعية في مرتبة الذين يرجحون بعض أقوالهم على بعض، وكتبه من أحسن كتب متأخريهم ولكنها لا تبلغ كتب النووي في انسجامها وسلامة عبارتها، ولا كتب الماوردي في أسلوبها وبلاغتها، ولا كتب الغزالي في بسطها وفصاحتها، ومع هذا نرى السائل قد بالغ في هضمها إذِ ادعى أنه يسهل على طالب العلم المتوسط الحال جمع ما حوته من المعاني في كتب أخصر منها وأسلس وأوضح، وقد بينا رأينا فيما شُنّع به على شيخ الإسلام ابن تيمية في (ص622م12) فليراجعه السائل، نعم إنه يتعصب للصوفية لأنه تربى من صغره على الخضوع والتسليم للمنتسبين إلى التصوف المعروفين بالصلاح والتأويل لهم فيما يخالفون فيه الفقه الذي هو عنده فوق كل علم لقوله في فتاويه: (إن أقوال الفقهاء إذا تعارضت مع أقوال المفسرين أو المحدثين فالمرجح الذي يجب العمل به هو ما يقوله الفقهاء) ، ولكن لا يظهر لي ما ظهر للسائل من تعصبه على آل البيت وإن تأوَّل لأعدائهم كما قال، ولكنه مقلد كما خال، ومن شأن الذين يضعون الكتب في المسائل الجزئية أن يتمحلوا ويتعسفوا ويأتوا بالضعيف واللغو الذي لا يفيد المراد ولا يؤيد المقصود، فهذا أحد سببين في تهافت ابن حجر في كتابه (تطهير اللسان والجنان) الذي يشير إليه السائل، والسبب الثاني هو الانتصار لقوم على قوم، ومن كان كذلك لا يظهر له الحق في المسائل كما هو لأنه لا ينظر إليها من كل جانب، بل يوجه كل قواه المدركة إلى البحث عما يوافق غرضه من تأييد رأي وتفيند آخر فيُكبّر الأول ويصغر الثاني إنْ هو أدركه، وتقديس أهل حضرموت له سببه أنهم مقلدون لعلماء الشافعية وقد جعلوا كتبه عمدتهم في المذهب كما اشتهرت كتب الشمس الرملي من أهل طبقته في مصر. التجزي عند الصوفية واصطلاحاتهم لا نكتب في المنار شيئًا من حقيقة التجزي إلا إذا علمنا أنّ في الناس من يفهمونه فهمًا ضارًّا في الدين وترجى هدايتهم بالمنار، ولكننا نقول: إنه ليس من الأمور الدينية، وإنما هو من قبيل الاصطلاحات الفنية، وهكذا نقول في أكثر اصطلاحات الصوفية كالفرق والجمع والسكر والصحو. فالقوم قد استعاروا لأنفسهم ألفاظًا من اللغة أخرجوها عما وضعت لأجله وعبَّروا بها عن أذواقهم ومعارفهم كما فعل غيرهم من أهل الفنون اللغوية والشرعية والعقلية والطبيعية فلا يشترط في إباحة ذلك لهم أن يكون كل ما يقولون به قد نطق به الشرع من قبل، وغاية ما ينكر عليهم في ذلك أمران: أحدهما: أن يجعلوا بعض عُرْفهم واصطلاحهم من الدين والشرع بغير دليل شرعي، وثانيهما: أن يكون في ذلك ما ثبت بالدليل أنه مخالف للكتاب والسنة الثابتة بلا نزاع وذلك أنه فلاسفة يدينون بالإسلام، مع الاجتهاد والاستقلال، إذ الصوفي الحقيقي لا يكون مقلدًا إلا في بداية سلوكه فإنه حينئذ يقلد أستاذه ومربيه دون غيره.

تزيين شعر الرأس والزي الأوربي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تزيين شعر الرأس والزي الأوربي س 10، 11 من صاحب الإمضاء في تلمسان - الجزائر حضرة الأستاذ الحكيم الشيخ العظيم سيدي السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته تَعُمكُّم وتَعَمُّ جميع دائرتكم. ثم أطلب من فضلكم فتواكم في العدد الآتي في مجلتكم عن تزيين شعر الرأس واللحية مثل الأوربيين أيجوز شرعًا أم لا؟ وكذلك اللباس الأوربي أيجوز أم لا؟ أرجوكم الإيضاح عن هذين السؤالين ولكم جزيل الفضل والمعروف والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره تلميذكم ... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى أباجي ج - ورد في السنة طلب تزيين شعر الرأس واللحية بالمشط والدهن والطيب وفي الشمائل النبوية الشريفة أحاديث في فَرْق النبي - صلى الله تعالى وآله وسلم - لشعره وسدله له، فمن زيّن شعره من المسلمين فليقصد بذلك اتباع السنة السنية سواء وافق ما عليه الأوربيين أم خالفهم ولا يبالي بأقوال الجاهلين الذين يخوضون في عرض كل مَن يفعل شيئا يوافق ما عليه الإفرنج وإن كان من المحاسن التي سبق الإسلام إلى طلبها وعلم النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح - رضي الله عنهم - بها فإننا لا نترك محاسن دين الفطرة إذا أخذ بها غيرنا، بل نُسَرّ باتباع الناس لآداب ديننا وفضائله، وإن لم يدينوا به وفي ذلك فوائد كثيرة ليس هذا المقام بمحلٍ لشرحها، وأما من يقصد بتزيين شعره تقليد الإفرنج فهو وضيع ضعيف العقل والنفس؛ لأنه مقلد لمن يراهم لخسته أشرف منه وأكمل، وهكذا شأن كل تقليد؛ فإن من يثق بمعرفته للحق أو الفضيلة أو الأدب الصحيح لا يقلَّد في شيء مِن ذلك غيره تقليدًا، فالتقليد هو شأن الأطفال مع الكبار والاستقلال هو شأن العقلاء المستقلين والعاقل إنما يعمل ما يعتقد أنه الأَوْلى بالدليل العقلي في الأمور العقلية والدليل الشرعي في الأمور الشرعية وهكذا، والجاهلون يتمسكون بالعادات ويجعلونها دينًا ينكرون على مخالفهم فيها. وأما المسألة الثانية فيعلم حكمها مما تقدم فمن المعلوم أن الإسلام لم يحرم على أهله زيًّا، ويفرض عليهم زيًّا آخر بل ترك الأزياء لاختيارهم وفي السنة السنية ما يدل على ذلك فقد ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبس الجبة الرومية من أزياء الروم والطيالسة الكسروية من أزياء المجوس ولم يقصد تقليد القوم، وإنما جيء بذلك فلبسه، وإنما نهى عمر - رضي الله عنه - جيشه في بلاد الفرس عن زي الأعاجم لئلا يغرهم ما غنموه من اللباس النفيس فيمتعوا بنعمته ويغلب عليهم الترف فيضعفوا عن الجهاد وحفظ البلاد، ولذلك أمرهم في كتابه ذاك إلى القائد عتبة بن غرقد بأن يخشوشنوا ويتمعددوا ويداوموا على التمرن على رمي السهام ويبرزوا للشمس فقال: (عليكم بالشمس فإنها حمام العرب) ولهذا اختلفت أزياء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وخليفة المسلمين وأكبر أمرائهم يلبسون زي الإفرنج في هذا العصر لاستحسانه.

الرضاعة من كتابية، لبس البرنيطة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرضاعة من كتابية لبس البرنيطة حديث (من تشبه بقوم) الزنار وأربطة الرقبة. س12، 13، 14، 15 من صاحب الإمضاء الرمزي في (سمبس برنيو الغربية جاوه) . 1- هل يثبت الحرمة رضاع بين الكافر والمسلم مع مراعاة الشروط المدونة في كتب الفقه؟ كما لو رضع مسلم لكافرة أو كافر لمسلمة. 2- هل يجوز لمسلم لبس البرنيطة - القبعة- لحاجة كالاتقاء من الشمس أو لغيرها؟ 3- ما حكم التشبه بالإفرنج في الملبس وغيره بحيث لا يمكن التمييز بعلامة ما، فهل يجوز أم لا؟ لأن ذلك مما عمَّت وطمَّت به البلوى خصوصًا عند الطبقة العليا فإنهم يلبسون البرنيطة فوق الكوفية المعتادة لهم. فمن الناس من قال: إنه حرام وحجته قوله عليه السلام: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، وبعضهم قال إنه جائز لا بأس به وحجته أنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنن رسله وأنبيائه أمر لأمتهم باتباع ملابسهم أو تغييرها بزي معلوم أو نهي عن ذلك بل ربما ورد أنَّ بعض الصحابة لبس شيئًا من ملابس الكفار في الصدر الأول للإسلام ولم ينكره أحد من الصحابة. 4- الزنار - أربطة الرقبة - فالمشهور من بعض الأفاضل المتقدمين أن لبسه حرام باتفاق؛ ولكن المشاهد في عصرنا هذا شيوع استعماله في مسلمي الدنيا. هل هو حرام أم لا؟ بينوا لنا رأيكم ورأي علماء مصر العصري ليسكت الهرج والمرج فلكم منا جزيل الشكر والامتنان. ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ج. م. ع ج - أما الجواب عن الأول فنَعَم، فمن رضع من كتابية حرم عليه أن يتزوج أحد من أصولها أو فروعها وقد رأيتم التفصيل في أحكام الرضاعة في تفسير هذا الجزء، وأما الأسئلة الثلاثة الأخرى فمعناها واحد وتعرفون حكمها في الفتوتين العاشرة والحادية عشرة في هذا الجزء ومما كتبناه عن حديث (من تشبّه بقوم فهو منهم) في الجزء الماضي؛ ولكن الزنار غير (أربطة الرقبة) التي فسرتموه بها وما ذكر منه في كتب الفقه يراد به زنار الرهبان والقسيسين الذي هو من تقاليدهم الدينية ولا يجوز للمسلم أن يتبع تقاليد دين من الأديان، بل يتبع في الدين كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، وأما الأزياء والعادات التي ليست من أديانهم فهي التي يتبع الناس فيها مصالحهم إن لم تخالف نصًّا شرعيًّا، ولا نص في تحريم أزياء المخالفين لنا في الدين التي هي من العادات لما علمت من لبس النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أزياء الروم والمجوس.

الكلام وقت خطبة الجمعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكلام وقت خطبة الجمعة س16: مِن صاحب الإمضاء الرمزي في (سمبس برنيو) حضرة العالم العلامة سعد الملة وفخر الأمة سيدي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر متّعني الله بشريف وجوده آمين. بعد؛ أهديكم أطيب التحية والاحترام، أرجو أن تفيدوني بالإجابة عن هذه الأسئلة وأشكركم سلفًا. إنه قد جرت عادة في بعض بلاد جاوه يقرأ المؤذن أو المرقي عند صعود الخطيب على المنبر لقراءة الخطبة آية: {ِإنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ} (الأحزاب: 56) الآية أو شيئًا من الأحاديث كقوله صلي الله عليه وسلم (إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت) اهـ الجامع الصغير، فهل يسن ذلك أم لا؟ ومما قاله (المؤذن أو المرقي) روي عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن يوم الجمعة سيد الأيام وحج الفقراء وعيد المساكين والخطبة فيها مكان الركعتين، فإذا صعد الخطيب على المنبر فلا يتكلمن أحدكم ومن يتكلم فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له) اهـ. فهل صح أن هذا الحديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه أو غيره، أو هو من أقوال العلماء؟ وفي أي كتاب يذكر؟ هذا والمرجو لسيدي من فضيلتكم أن تجيبوني وأكون ذاكرًا لكم جميل الذكر وحسن الثناء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب ج - هذه العادة معروفة في مصر وسورية أيضًا وما هي بسنة مأثورة تتبع، وإنما هي عادة كما ذكرتم والحديث الأول متفق عليه في الصحيحين ولا بأس بذكره قبل الخطبة بقصد النصيحة والتذكير، ولكن لا ينبغي أن يداوم عليه بكيفية مخصوصة تُوهِمُ أنَّ تلاوته سُنّة مأثورة وأما الحديث الثاني (يوم الجمعة سيد الأيام) ... إلخ فلا يصح، وأوله ذكر في بعض كتب الموضوعات.

إباحة الغناء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إباحة الغناء س- 17، 18 مِن صاحب الإمضاء في روسيا. سيدي متّع الله الأنام بطول بقائكم وأنفعهم بأفيد كلامكم، إن لي مسألتين نشتاق إلى بيانهما ونحتاج إلى إيضاحهما، أرجو توضيحهما في أحد أجزاء مجلة المنار ولكم الأجر إن شاء الله. 1- قال في التفسيرات الأحمدية في تفسير الآيات المتعلقة للأحكام في سورة لقمان: ومن الحجج الدالة على إباحته - أي التغني - ما ذكر في العوارف فمن الآيات ما ذكر في العوارف قوله تعالي {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ} (المائدة: 83) وقوله {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 17-18) وقوله تعالي {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} (الزمر: 23) الآية. ومن الأحاديث ما قال: أخبرنا الشيخ الطاهر بن أبي الفضل عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو بكر القاسم الحسن بن محمد الخوافي قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف قال: حدثنا أبو بكر بن وثاب قال: حدثنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: حدثنا الأوزعي عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بدفين ورسول الله متسجٍ بثوبه فانتهرهما أبو بكر فكشف رسول الله عن وجهه وقال (دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد) ، وسقط هنا في البين حديثان أسقطتهما قصدًا وفيه أيضًا قال: أخبرنا أبو زرعة طاهر عن والده أبي الفضل الحافظ المقدسي قال: أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفري السرخسي قال: أخبرنا أبو علي فضل بن منصور بن نصر الكاغذي السمرقندي إجازة قال: حدثنا الهشيم بن كليب قال: حدثنا أبو بكر عمار بن إسحاق قال: حدثنا سعد بن عامر عن شعبة عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أنزل جبرائيل عليه السلام فقال: يا رسول الله إن فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمس مائة ففرح رسول الله عليه السلام فقال: أفيكم من ينشدنا؟ قال بدوي: نعم أنا يا رسول الله، قال: هات، فأنشد البدوي: قد لسعت حية الهوى كبدي ... فلا طبيب لها ولا راق ... إن الحبيب الذي شغفت به ... فعنده رقيتي وترياقي فتواجد رسول الله صلى الله وسلم وتواجد الأصحاب معه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فلما فرغوا أوى كل واحد منهم مكانه قال معاوية بن أبي سفيان: ما أحسن لعبكم يا رسول الله، فقال: يا معاوية ليس بكريم من لم يهتز عند سماع ذكر الحبيب ثم قسم رداءه صلى الله عليه وسلم على من حَاضَرَهُمْ بأربعمائة قطعة، وهذا الحديث أوردناه مسندًا كما سمعنا ووجدناه) اهـ. أرجوكم أن تفيدوني عن هذه الآيات التي ذكرت هل هي دالة على ما ادعاه وما وجه الدلالة ونحن لا نصلح ولا نفهم وجه دلالته عليه، وما الأحاديث التي أوردها وسردها، هل هي معتبرة ومأخوذة عند المحدثين؟ أم من الخرافات التي أنشدها وأحدثها المخترعون؟ أفيدوني يا سيدي ولكم الأجر إن شاء الله. 2- ولو دفع الفقير من مال حرام شيئًا يرجو الثواب يكفر ولو علم الفقير بذلك الحرام فدعا للمعطي كفر (خادمي شرح الطريقة في المجلد الأول في النوع الثالث من الكفر الحكم منه 445 في نسختنا) . أقول: من المقرر في كتب الفقهاء والفتاوى كالمحيط وابن عابدين وغيرهما أن مَن كان عنده مال خبيث حرام كالمظالم وكربح المغصوب والأمانة والمبيع بيعًا فاسدًا يجب التصدق به، فيكون مأمورًا بالتصدق، فمن أتى بالمأمور به كيف يكون كافرًا؟ وأيضًا الداعي إنما يدعو لمن أتى بالمأمور به فكيف يكون كافرًا بالدعاء له؟ بينوا ياسيدي تؤجروا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمام الديني ... ... ... ... ... ... ... أحسن بن شاه أحمد الكاتبي ج- ليس في القرآن شيء يدل على التغني وصاحب (العوارف) إنما يستدل بما ذكر من الآيات على السماع المعروف عندهم وهو يكون سماع قرآن وسماع شعر أو غناء لأجل تحريك شعور النفس من خشوع أو حزن أو وجد لا على مطلق التغني والاستدلال بالآيات على سماع الشعر أو الغناء تكلف مردود. وأما الحديثان فأولهما وهو حديث عائشة صحيح لا نزاع فيه، وثانيهما وهو حديث سماع النبي صلى الله عليه وسلم وتواجده موضوع لا نزاع في كذبه ترونه في كثير من كتب الموضوعات والمشهورات على ألسنة العامة. وقد بينا أحاديث إباحة السماع وحظره بالتفصيل في أول المجلد العاشر , وأما ما ذكره الخادمي مِن كفر مَن يتصدق بالمال الحرام وكفر من يدعو له تشديد ظاهر البطلان لا حاجة إلى الإطالة في بيانه وسنكتب في المكفرات شيئًا نافعًا إن شاء الله.

علم الهيئة والسنة النبوية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ علم الهيئة والسنة النبوية س 19- مِن أحد المشتركين في دمشق الشام. إلى حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ محمد أفندي رشيد رضا متّعنا الله بطول بقاه. لدينا كتاب مخطوط عنوانه (هيئة الإسلام وحكمة أهل الإيمان) لمؤلفه إبراهيم القرماني الآمدي؛ افتتحه بمقدمة قال فيها بعد البسملة والحمدلة ما ملخصه: (لما طالعت كتاب الهيئة على اعتقاد أهل السنة والجماعة للمولى العلامة أبي الفضل جلال الدين السيوطي، وجدت مباني مباحثها مطابقًا لمضمون الأحاديث والآثار موافقًا، لمفهوم كلام التابعين الأخيار، انتخبت منه ومن الكتب المعتبرة نحو تفسير الإمام أبي الليث السمرقندي وتفسير الإمام القرطبي وتفسير الإمام البغدادي وتفسير الإمام الثعلبي والقشيري وعثمان الداري وابن الجوزي وابن أبي طالب المكي وابن كثير والكرماني و (الوسيط) والسمرقندي والصنهاجي والسمرقندي والفتاوي الكبرى والشفا وشرح العقائد للتفتازاني ما هو لازم اعتقاده مرتبًا على أبواب وفصول) . ثم يلي ذلك كلام في تقديم الكتاب إلى السلطان محمد خان ابن السلطان إبراهيم العثماني ثم أبواب الكتاب وفصوله وهي بوجه الاختصار: في عدد السماوات والأراضين. في المسافة بين كل اثنتين منها، في الثخن والكثافة في مادة السماء. في العرش والكرسي واللوح والقلم، بعض عجائب السماء، مكان الجنة والنار، مستقر الأرواح، مستقر الشمس بعد الغروب، جبل قاف كون الأرض بسيطة، بيان بعض عجائب الأرض، بيان الصخرة المذكورة في القرآن. أحوال الشمس والقمر، الخسوف والهلال والليل والنهار والكواكب، الرياح والأمطار والقوس والرعد والبرق والصاعقة ... إلخ إلخ، ويلي ذلك أحاديث يستشهد بها المؤلف على ما تضمنه الباب أو الفصل أو أكثر هذه الأحاديث إذا لم نقل كلها لا ينطبق على الحقيقة، ونحن لعدم تضلعنا من علم الحديث لا نعلم مكانها من الصحة ولذلك ننقل هنا شيئًا منها لتقفوا عليه، قال تحت عنوان أحوال الشمس ما نصه: قال العلامة السيوطي أخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشمس والقمر وجوههما إلى العرش وقفاهما إلى الناس) وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (وُكِّلَ بالشمس سبعة أملاك يرمونها بالثلج كل يوم ولولا ذلك ما أصابت شيئًا إلا أحرقته) وقال في الكلام على الرعد: أخرج أحمد والترمذي عن ابن عباس: أن اليهود قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال (ملك من الملائكة موّكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله (قالوا: فما الصوت الذي نسمعه؟ قال: زجره حتى ينتهي إلى حيث أمره) قالوا: صدقت. والكتاب كله على هذا النمط وقد بلغني أن هذا الكتاب ترجم إلى اللغة التركية وطبع في الآستانة منذ عشرين سنة تحت اسم (هيئت إسلاميان) فضل به كثيرون من تلامذة المكاتب وغيرهم؛ لأنه مخالف لما تلقوه من المبادئ المقررة في علم الهيئة والأحداث الجوية التي لا يشكون فيها لقيام الأدلة عندهم عليها فما قولكم - رحمكم الله - في هذا الكتاب وأمثاله؟ تكرموا بالجواب ولكم الأجر والثواب. (ج) أكثر ما ورد في هذا الباب من الأحاديث يدخل في باب الموضوعات المكذوبة قطعًا، أو الواهيات التي تقرب منها، وسنبين ذلك في مقال خاص بعد إلقاء عصا التسيار والاستقرار في مقام العمل إن شاء الله تعالى.

حركة الأرض ودورانها والاستدلال على ذلك من القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حركة الأرض ودورانها والاستدلال على ذلك من القرآن س20- مِن الشيخ عبد القادر نور الله معلم مدرسة (بانياس) الابتدائية. سألنا عن دليل حركة الأرض ودورانها، وعن استدلال بعض الناس على ذلك بقوله تعالى {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} (النمل: 88) . وقد سبق لنا بحث طويل فى هذه المسألة فليراجعه السائل في (ص260م7) إذ لا سبيل إلى إعادته والأدلة العلمية في ذلك مبسوطة في كتب الجغرافية ومَن يرى الآية التي أشار إليها دالة على دوران الأرض يرد على مَن يقول: إن المراد بها حركتها عند خراب العالم بقيام الساعة بقوله تعالى بعد ما تقدم آنفًا {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) وإتقان الصنع يناسب الإنشاء والتكوين لا ضدهما، وهناك آيات أخرى ذكرناها في الموضع المشار إليه. وسألنا أيضًا عن مسألة مشكلة في كتاب (تنبيه الأفهام) لرفيق بك العظم وسنجيب عنها عندما يتيسر لنا مراجعة ذلك الكتاب بعد انتهاء سفرنا.

المشورة

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ المشورة [1] قضت سنة الله في خلقه أن سلطة شرع الأحكام وتصريف الأوامر والزواجر لا تستقل وحدها بردع الخليقة وقيادتهم إلى سابلة العدالة، فكثير من الناس من يجري مع أهوائه بغير عنان، ولا يدخل بأعماله الاختيارية تحت مراقبة العقل على الدوام، ألا ترى إلى جملة من أحكام الشريعة كيف بنيت على رعاية الوازع الطبيعي وتغلبه على الوازع الشرعي كرد شهادة العدو على عدوه وعدم قبول شهادة الرجل لابنه أو لأبيه وإقراره في حال مرضه لصديق ملاطف أو وارث قريب، فلا بد إذًا من سلطة أخرى لتنفيذ تلك الأحكام المشروعة بالوسائل المؤثرة (وإن كره المبطلون) كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالة القضاء لأبي موسي الأشعري: (وأنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وتسمى هذه السلطة بالسلطة القضائية، وكان زمامها في عهد نزول الوحي بيد النبي صلى الله عليه وسلم يتولى الحكومة على الجاني ويباشر فصل النوازل بنفسه من غير أن يدور في حسبان مسلم مطالبته بإعادة النظر في القضية أو استئنافها لدى غيره وما كانوا يرون قضاءه إلا حكمًا مسمطًا يتلقونه بأذن واعية وصَدْر رحيب لعلمهم يقينًا كعمود الصبح أنه حُكْم الله الذي لا يقابل بغير التسليم قال تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) وإن تعجب فلا عجب لهذا، فإن الوازع الشرعي قد يتمكن من النفوس الفاضلة إلى أن يصير بمنزلة الطبعي أو أقوى داعيًا، وسهل انقياد العرب على ما كانوا عليه من الأنفة وصعوبة المراس وانصاعوا إلى قانون الشريعة مجملاً ومفصلاً من جهة أن الدين معدود من وجدانات القلوب فالانقياد لأحكامه من قبل الانقياد إلى ما يدعو إليه الوجدان وليست الشرائع الوضعية بهذه الدرجة فإن الناس إنما يساقون إليها بسوطِ القهر والغلبة، ويحترمونها اتقاءً للأدب والعقوبة، ولا يتلقونها بداعية مِن أنفسهم إلا إذا أدركوا منها وجه المصلحة على التفصيل. وإنما ورد من فصل قضائه صلى الله عليه وسلم قدر يسير بالنسبة إلى مدة حياته لما كانت عليه حالة المسلمين يومئذ من الاستقامة والتئام العواطف القاضية بأن تكون معاملاتهم خالية من الدسائس خالصة من المشاكل، وهكذا ما ساد الأدب وانتشرت الفضيلة بين أمة إلا اتبعوا شِرْعة الإنصاف من عند أنفسهم والتحفوا برداء الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة والموعظة الحسنة فيخفت ضجيج الضارعين وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهم في أجواف المحاكم حسيسًا. وضم صلى الله عليه وسلم إلى السلطة القضائية فيما يخص الحق المدني سلطة التنفيذ فيما يختص بحقوق الأمم كإشهار الحرب وإبرام الصلح وتلافي أمر الهجوم ولم يكن مع يقينه باستماتة أصحابه في طاعته وتفاني مهجهم في محبته لينفرد عنهم بتدابير هذه السلطة بل يطرحها على بساط المحاورة ويجاذبهم أطرافها على وجه الاستشارة عملاً بقول تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) وقد يترجح بعض الآراء بوحي سماوي كما نزل قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} (الأنفال: 67) مؤيدًا لرأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أسارى بدر. أذن له صلى الله عليه وسلم بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء تطييبًا لنفوس أصحابه وتقريرًا لسنة المشاورة للأمة من بعده. أخرج البيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه وسلم (أما إن الله ورسوله لغنيان عنها (أي المشورة) ولكن جعلها الله رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدًا، ومن تركها لم يعدم غَيًّا) . وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من العلم بقوانين الشريعة والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء، ومع هذا لا يبرم حكمًا في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة، وإذا نقل له أحدهم نصًا صريحًا ينطبق على الحادثة قال: (الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا) . وعهد بأمر الخلافة إلى عمر بن الخطاب بعد استشارة جماعة من المهاجرين والأنصار مثل عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وأسيد بن حضير وسعيد بن زيد وغيرهم، وإنما لم يبق الأمر شوري بينهم كما صنع الخليفة الثاني أو يتركه لآراء المسلمين عامة كما فعل النبي صلي الله عليه وسلم اعتمادًا على ما تفرسه في عمر من الكفاءة والمقدرة وحذرًا مِن أنْ يتنازعها ذوو الأهلية فتثور ثائرة الفتنة ويرتخي حبل الأخوة في أيدي المسلمين. ونحا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هذه الجادة شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، قال مِن خطبة أرسلها في هذا الغرض: كذلك يحق على المسلمين أن يكونوا وأمرهم شورى بينهم وبين ذوي الرأي منهم، ثم قال ومن قام بهذا الأمر فإنه تبع لأولى رأيهم ما رأوا لهم ورضوا به لهم، وهذا إيماء إلى الحكم النيابي ويدل له من كتاب الله قوله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وضع الإسلام أساسه وبنى عليه الخلفاء سياستهم ثم انتقض بناؤه في دولة بني مروان، ومذ شعرت الأمم الآخذة بمذاهب الحرية بأنه الضربة القاضية على السلطة الشخصية طفقوا يهرعون إلى إقامة حكوماتهم على قاعدته المتينة. وأخذ عمر بقاعدة الشورى في أمر الخلافة من بعده، ففوض أمرها إلى ستة من كبراء الصحابة ليختاروا رجلاً منهم، وقال لهم: ويحضركم عبد الله بن عمر مشيرًا وليس له من الأمر شيء، وضمه عبد الله بن عمر إلى الستة وتشريكه لهم في الرأي وارد على ما ينبغي في مجالس الشورى مِن جعْل نظامها مُؤلفًا من العدد الفرد ليمكنهم ترجيح جانب الأكثر عند الاختلاف ويُلَوِّح إلى هذا بطرْف خفي قوله تعالى {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ} (المجادلة: 7) فذكر العدد الفرد صراحة والاقتصار عليه دون الزوج في ضمنه إشارة إلى ما ينبغي مراعاته في المجالس المؤلفة للمناجاة. هذا هو الأصل في الشورى، وقد تؤلف من عدد زوج ويعتبر أحد أفراد اللجنة بمنزلة رجلين اثنين ويسمى رئيسًا لها فيرجح به الجانب الذي ينحاز إليه عند التساوي والدليل على صحته شرعًا قول عمر بن الخطاب لأبي طلحة الأنصاري: (إن الله أعز بكم الأنصار فاختر خمسين رجلاً من الأنصار وكنْ مع هؤلاء حتى يختاروا رجلاً منهم، ثم قال له وإن رضي ثلاثةٌ رجلاً ثلاثةٌ رجلاً فحكِّموا عبد الله بن عمر فإن لم يرضوا بعبد الله فَكُونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف) . والمشورة سنة متبعة عند بعض الأمم من قديم الزمان، وردت في قصة بلقيس حين دعاها وقومها رسول الله سليمان عليه السلام أن لا يعلوا عليه ويأتوه مسلمين قال الله تعالى {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل: 32-34) . ووردت الشورى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون وملائه قال الله تعالى {قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي المَدَائِنِ حَاشِرِينَ} (الأعراف: 109-111) وكأن قاعدة الشورى بين فرعون وملائه لم تطرد على أساس صحيح بدليل ماسام به بني إسرائيل من العذاب المبين. وقطع مجلس الشورى عند فرعون رأيه وأبرم في النازلة حكمة لأنه فوَّض إليهم ذلك بقوله {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} (الأعراف: 110) وليس له من الأمر شيء سوى تنفيذ أعمالهم، والعمل بما يشيرون بخلاف مجلس الشورى عند ملكة سبأ فلم يزيدوا على أن عرضوا عليها رأيهم بطريق التلويح حين {قَالُوا نَحْنُ أُوُلُو قُوَةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} (النمل: 33) يشيرون إلى اختيار الحرب ثم أوكلوا الأمر إليها بقولهم {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} (النمل: 33) لأنها لم تفوض إليهم الحكم في القضية وإنما طلبت منهم أن يصرَّحوا بآرائهم ويبوحوا بأفكارهم فقط بدليل قولها {مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} (النمل: 32) أي إلا بمحضركم وقولها {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} (النمل: 32) أي اذكروا ما تستصوبون فيه، ولأنها زيفت رأيهم وأشعرتهم بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان عليه السلام حدودهم فيسرع إلى إفساد ما يصادمه من أموالهم وعماراتهم فقالت {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا} (النمل: 34) . لا تكون قاعدة الشوري من نواصر الحرية وأعوانها إلا إذا وُضِعَ حجرُها الأول على قصد الحنان والرأفة بالرعية، وأما المشاركة في الرأي وحدها ولا سيما رأي من لا يطاع فلا تكفي في قطع دابر الاستبداد. وأهم فوائد المشورة تخليص الحق من احتمالات الآراء وذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى وتمثيله في النفوس إلى مذاهب شتّى قال بعضهم: إذا عنَّ أمر فاستشر فيه صاحبا ... وإن كنت ذا رأي تشير على الصحب فإني رأيت العين تجهل نفسها ... وتدرك ما قد حلَّ في موضع الشهب وقال غيره: أقرن برأيك رأي غيرك واستشر ... فالحق لا يخفى على الاثنين والمرء مرآة تريه وجهه ... ويرى قفاه بجمع مرآتين وقال آخر: الرأي كالليل مُسْوَدٌّ جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بمصباح فاضمم مصابيح آراء الرجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح ولا يدخل في وهم امرئ سمع قولهم (إنما العاجز مَن لا يستبد) إنَّ اقتداءه بسنة الشورى يشعر الناس بعجزه وحاجته إليهم فتسقط جلالته من أعينهم ويفوته الفخر بالاستغناء عنهم؛ فإن الناصح الأمين لا تجده يجعل الفخار محورًا يدير عليه سياسته فيلقي له بالاً وإنما يبني أعماله على مصالح يجلبها أو مفاسد يدرؤها ومَن كان يريد التمجيد والثناء فنعته بعدم الانفراد بالرأي أفخر لذكره وأشرف لسياسته من وصفه بصفة الاستبداد، قال تعالى في الثناء على الأنصار {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) أي لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه، وروى أن هذا دأبهم من قبل الإسلام ولعله هذا هو الوجه في مخالفة أسلوب الوصف به لما قبله وما بعده حيث أورد في جملة اسمية للدلالة على الثبوت والاستمرار. ومن فوائدها استطلاع أفكار الرجال ومعرفة مقاديرها فإن الرأي يمثل لك عقل صاحبه كما تمثل لك المرآة صورة شخصه إذا استقبلها.

الإسلام فى البلاد المسيحية

الكاتب: صنعة الله أفندى ييكبولاط

_ الإسلام في البلاد المسيحية [*] كان المسلمون في الأزمنة الغابرة لا يقصدون البلاد المسيحية إلا للفتح والاستيلاء عليها. وكان يندر جدًّا من يقصدها لغير هذا الغرض. والسبب في ذلك أن حوائج المسلمين الدينية والاجتماعية والاقتصادية كانت تُقْضَى على ما يرام في غير بلادهم. ولذلك كان القاطنون في الديار المسيحية من المسلمين أندر من الكبريت الأحمر مع وجود ملايين من المسيحيين في البلاد الإسلامية. إن كثيرًا من المسلمين أجلوا في العصور الماضية عن أوطانهم إلى البلاد المسيحية جزاء لمطالبتهم بالاستقلال: من ذلك أن حكومة هولاندا أجلت في القرن السادس عشر من آسيا الشرقية (من جزائر جاوه وبورنيو وصوماتره) عدة آلاف من المسلمين المنتمين لجنس (ملايو) إلى كابلانده في جنوب إفريقية، وفي ذلك العصر نفسه أرغمت الحكومة البولونية كثيرًا من التتر على المهاجرة إلى بولونيا، فبقايا هؤلاء وإن أضاعوا قوميتهم بمعناها الأوربي أي وإن نسوا لغتهم الأصلية واستبدلوا بها لغة البلاد التي استوطنوها فإنهم لا يزالون يحتفظون بدينهم ويتمسكون به شديد التمسك. وأما اختلاط المسلمين بالمسيحيين بحسن اختيارهم وإرادتهم فقد بدأ منذ زمن غير بعيد، ففي بادئ الأمر أخذ الطلاب المسلمون يقصدون أمريكا وإنكلترة وفرنسا بقصد التعلم بمدارسها العالية، ثم اضطرت بعض الأحوال السياسية والاقتصادية المسلمين أن يغادروا بلادهم ويهاجروا إلى أوربا أفواجًا، فكان هذا الاختلاط هو السبب الرئيسي لانتشار الإسلام في الممالك الغربية. ويوجد الآن في ألمانيا رجل يسعى سعيًا متواصلاً إلى نشر الإسلام فيها ألا وهو محمد عادل بك (اشميتس - دورمولين) ، وكان مِن أمره أنه قضى عشرين عامًا مهندسًا في الشرق ثم انتحل الإسلام، وتزوج فتاة مسلمة من أسرة كبيرة، فلما عاد إلى وطنه (ألمانيا) طفق يدأب على نشر الإسلام بين أهل وطنه والدفاع عنه وعن المسلمين، فألَّف في ذلك مؤلفات عديدة من أشهرها (الإسلام) ، (في الحرم) (الآستانة - بلدة الإسلام) وقد أثبت عادل بك في مؤلفاته هذه أن الإسلام قريب جدًّا من النصرانية الحقيقة، وأن ما عليه العالم المسيحي الآن من التقاليد والعادات مفسدة كبيرة ومدعاة إلى الشهوات البهيمية والفقر المدقع وغير ذلك من المصائب والأمراض الاجتماعية. ومن مشهوري الذين يجِدُّون في نشر الإسلام في أوربا غير عادل بك عمر رشيد بك وقرينته مادام (يلينافولاو) في مدينة مونخين. وقد أسست في فرنسا في هذه الأيام الأخيرة جمعية (الأخوة الإسلامية) ومن أعضائها الآنسة الفرنسية (عزيزة روشة لرون) التي انتحلت الإسلام منذ أربعة أشهر، وهي تخدم في هذه الجمعية من غير مللٍ ولا ضجر، وقد أنشأت هذه الآنسة مجلة سمتها (النظر إلى الشرق) مبدؤها تفهيم الإسلام للفرنسيين ومعاونة المسلمين علي ارتقائهم وحضارتهم. وأما البلاد الإنكليزية فإن انتشار الإسلام فيها أظهر وكلمته أعلى، وتوجد فيها الآن جمعيات عديدة أشهرها (الأُخوَّة الإسلامية) و (الهلال) و (اتحاد الإسلام) أسسها المهاجرون إليها من مستملكات إنكلترة والذين انتحلوا الإسلام من الإنكليز أنفسهم، وقد شيد باجتهاد هؤلاء جوامع فخمة في لندره وليفربول وغيرهما من المدن الإنكليزية وأسست دواوين وملاجئ للأيتام وكتاتيب لتعليم الصبيان وأنشئت عدة من الجرائد والمجلات. وأعظم الجمعيات المتقدمة الذكر جمعية (اتحاد الإسلام) وهي تعد مركزًا لجميع مسلمي إنكلترة، ومن أهم مقاصدها معاونة المسلمين في ترقية شؤونهم الاقتصادية وتهذيب أخلاقهم وترقية العلوم والمعارف في العالم الإسلامي، وهي تتخذ التدابير اللازمة لمنع المعلومات الكاذبة عن المسلمين والإسلام في بلاد الغرب. ومن أشهر أعضائها العاملين، محمد بن عبد الله المأمون السهروردي المحامي الشهير وهو هندي الأصل، وقد ألَّف هذا الرجل مع حداثة سِنِّه مؤلفات عديدة في الإسلام باللغة الإنكليزية منها (أحاديث محمد) ، (أساس الحقوق الإسلامية) ، (شكسبير وأدبيات الشرق) ، (لا إكراه في الإسلام) وغيرها، وهو يصدر الآن مجلة تبحث في شؤون الإسلام والمسلمين. ويمكنني أن أعد من الذين انتحلوا الإسلام وهم ينتسبون إلى الدوائر الكبيرة هؤلاء: لورد استينلي عبد الهادي باركنيوسون من أعضاء مجلس أعيان إنكلترة، مازوريا المحامي الشهير براونينغ، كاليت شالدراك، وغيرهم، ومن النساء: ما دام ولباست من مشهورات عالمات الموسيقى، ومادام شاورنيت الرسامة، وميسس بيبس، وغيرهن. ومن أشهر هُؤليا النساء مدام " كويليام " التي انتحلت الإسلام هي وأبناؤها وبناتها جميعًا، وقد عين أحد أبنائها وهو أحمد كويليام معتمدًا سياسيًا للدولة العَلِيّة في ليفربول والآخر وهو عبد الله كويليام شيخ الإسلام في إنكلترة وهو ينشئ الآن جريدة ومجلة أسبوعية، وله مؤلفات عديدة أشهرها (الدين الإسلامي) (التعصب والمتعصبون) وغيرهما. وهل كان يدور في خَلَد أحد أن الإسلام تخفق أعلامه في ربوع أمريكا؟ مع أنه ليس فيها بأقل انتشار منه في أوربا وأن شيخ الإسلام في تلك البلاد محمد إسكندر روفيل ووب، يدأب دائمًا في توسيع نطاق الإسلام هناك ويبذل نفسه ونفيسه في هذا الشأن، وهو يرمي في خطبه ومحاضراته ومؤلفاته إلى غرض واحد وهو تفهيم الإسلام للأمريكيين وتعريفهم سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وجريدته المسماة (ته مسلم وورلد) في غاية الرواج والانتشار. وقد أخذ مسلمو نيويورك في تشييد جامع فخم جدًّا في الأيام الأخيرة وليس أمر الإسلام في أوستراليا مما يستهان به فقد أخذ في تشييد جامع ثان في مدينة (آديلانيد) . وخلاصة القول: إن الأمر الذي كنا نعده من قبيل المستحيل من قبل صار من أقرب الممكنات، والذين كانوا يزعمون أن الإسلام لا يصلح أن يوضع في ميدان الحياة أخذوا يتمسكون به ويقدمون النفس والنفيس في الذَّوْد عنه ونشره بين الأنام فهذه الأمور هي أكبر برهان وأعظم دليل على أن الإسلام أكبر مساعد للحياة وأن له قابلية عظيمة للانتشار.

المطلقة

الكاتب: معروف الرصافي

_ المطلقة [*] معروف الرصافي بدت كالشمس يحضنها الغروب ... فتاة راع نضرتها الشحوب منزهة عن الفحشاء خود ... من الخفرات آنسة عروب نوار تستجد بها المعالي ... وتبلى دون عفتها العيوب صفا ماء الشباب بوجنتيها ... فحامت حول رونقه القلوب ولكن الشوائب أدركته ... فعاد وصفوه كدر مشوب ذوى منها الجمال الغض وجدًا ... وكاد يجف ناعمه الرطيب أصابت من شبيبتها الليالي ... ولم يدرك ذؤابتها المشيب وقد خلب العقول لها جبين ... تلوح على أسِرّته النكوب ألا إن الجمال إذا علاه ... نقاب الحزن منظره عجيب حليلة طيب الأعراق زالت ... به عنها وعنه بها الكروب رعى ورعت فلم تَرَ قَطَّ منه ... ولم يَرَ قط منها ما يريب توثق حبل ودهما حضورًا ... ولم ينكث توثقه المغيب فغاضب زوجها الخطاء يومًا ... بأمر للخلافة به نشوب فأقسم بالطلاق لهم يمينًا ... وتلك أليّة خطأ وحوب وطلقها على جهل ثلاثًا ... كذلك يجهل الرجل الغضوب وأفتى بالطلاق طلاق بتٍّ ... ذوو فتيا تعصبهم عصيب فبانت عنه لم تأت الدنايا ... ولم يعلق بها الذام المعيب فظلت وهي باكية تنادي ... بصوت منه ترتجف القلوب لماذا يا نجيب صرمت حبلي ... وهل أذنبت عندك يا نجيب ومالك قد جفوت جفاء قالٍ ... وصرت إذا دعوتك لا تجيب أبِنْ ذنبي إليّ فدتك نفسي ... فإني عنه بعدئذ أتوب أما عاهدتني بالله أن لا ... يفرق بيننا إلا شَعوب لئن فارقتني وصددت عني ... فقلبي لا يفارقه الوجيب وما إدماء ترتع حول روض ... ويرتع خلفها رشأ ربيب فما لفتت إليه الجيد حتى ... تخطفه بآزمتيه ذيب فراحت من تحرقها عليه ... بداء مالها فيه طبيب تشم الأرض تطلب منه ريحًا ... وتنحب والبغام هو النحيب وتمزع في الفلاة لغير وجه ... وآونة لمصرعه تؤوب بأجزع من فؤادي يوم قالوا ... برغم منك فارقك الحبيب فأطرق رأسه خجلاً وأغضى ... وقال ودمع عينيه سكوب نجيبة أقصري عني فإني ... كفاني من لظى الندم اللهيب وما والله هجرك باختياري ... ولكن هكذا جرت الخطوب فليس يزول حبك من فؤادي ... وليس العيش دونك لي يطيب ولا أسلو هواك وكيف أسلو ... هوى كالروح فيّ له دبيب سلي عني الكواكب وهْي تسري ... بجنح الليل تطلع أو تغيب فكم غالبتها بهواك سهدا ... ونجم القطب مطَّلع رقيب خذي من نور (رنتجن) شعاعًا ... به للعين تنكشف الغيوب وألقيه بصدري وأنظريني ... تري قلبي عليك به ندوب وما المكبول القي في خضمٍّ ... به الأمواج تصعد أو تصوب فراح يغسطه التيار غطا ... إلى أن تم فيه له الرسوب بأهلك يا ابنة الأمجاد مني ... إذا أنا لم يعد بك لي نصيب ألا قل في الطلاق لموقعيه ... بما في الشرع ليس له وجوب غلوتم في ديانتكم غلوًا ... يضيق ببعضه الشرع الرحيب أراد الله تيسيرًا وأنتم ... من التعسير عندكم ضروب وقد حلت بأمتكم كروب ... لكم فيهن لا لهم الذنوب وهي حبل الزواج ورق حتى ... يكاد إذا نفخت له يذوب كخيط من لعاب الشمس أدلت ... به في الجو هاجرة حلوب يمزقه من الأفواه نفث ... ويقطعه من النسم الهبوب فدى (ابن القيم) الفقهاء كم قد ... دعاهم للصواب فلم يجيبوا ففي (إعلامه) للناس رشد ... ومزدجر لمن هو مستريب نحا فيما أتاه طريق علم ... نحاها شيخه الحَبْر الأريب وبيّن حكم دين الله لكن ... من الغالين لم تَعِهِ القلوب لعلَّ الله يحدث بعدُ أمرًا ... لنا فيخيب منهم مَن يخيب

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (غرائب الاغتراب، ونزهة الألباب) تأليف السيد محمود أفندي الآلوسي الحسيني، صفحاته 451 طبع بمطبعة الشابندر ببغداد سنة 1327. لا نرى حاجة لتعريف قراء المنار بالمؤلِّف الجليل، وهو صاحب تفسير (روح المعاني) الشهير، الذي يندر من لم يستفد منه من ممارسي العلوم الإسلامية، وللمؤلف كثير من المصنفات كانت ظلمات الاستبداد الحالكة مانعة من انبلاج نورها، حتى إذا أشرقت شمس الدستور عقد العزم آل الآلوسي الفضلاء على نشر تلك الآثار ومنها كتاب (غرائب الاغتراب) . الكتاب هو مجموع محاضرات أدبية، وفقرات وصفية، ومقالات في التراجم ومناظرات في علم الكلام والفقه والتصوف، كتبها المؤلف فيما رأى ومن رأى في رحلته من بغداد إلى القسطنطينية. تصفحنا صفحات من الكتاب فتمثلت لنا روح المؤلف نقية طيبة كأرواح أسلافنا الأولين: نزَّاعةً إلى الحق، وثَّابةً على الباطل، لا تطبي أنصار ذاك بزخرف القول، ولا تداهن أرباب هذا بقول الزور، أما أسلوب الكتاب أو الكاتب فقد طبع على غرار أهل القرون الوسطى، سجع تحتف به الصنعة البديعية، ولكن يخال قارئه أنه لا تعمّل فيه ولا تكلف، وقد يغلو من يستنكر هذا النمط في الإنشاء فإن لكل عصر أسلوبًا، وإنما الكلم الطيب البليغ هو ما أدَّى المراد بدون تعسف ولا تكلف، ولا ضير على قائله بعد هذا سواء أكان مترسّلاً أم جانجًا للسجع. قلت هذا لأنني أرى أكثر أدباء عصرنا يستنكرون السجع كثيرًا، حتى لا يبعد أن تكون أذواقهم صارت تمجه في مثل كلام إمام البلاغة جدنا المرتضى عليه السلام وهذا من غرائب انتكاس الطباع ومرض الأذواق. *** (الفَرْق بين الفِرَق) تأليف الإمام أبي منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي من أهل القرن الخامس، وقد وقف على طبعه وضبطه وتعليق حواشيه محمد بك بدر المتخرج في جامعة (بُن. ألمانيا) صفحاته 354 طبع بمطبعة المعارف بمصر ويباع بها وبمكتبة المنار بعشرين قرشًا صحيحًا. لقد سررنا سرورًا عظيمًا بنشر هذا الكتاب، لا لأن الأمة محتاجة إلى الاطلاع على آثار أسلافنا العاملين بل لأن واحدًا من سراة أبنائها أهل الثراء اختار أن تكون حياته حافلة بالعلم والعمل، هازئًا بسير أترابه المنقطعين إلى اللهو والترف، فبعد أن ابتعد عن أسرته وخلطائه أعوامًا قضاها ينتاب فيه دور العلوم بأوربا عاد وهو صحيح العزيمة على أن يعمل بما علم و (ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) . وغرض المؤلف من كتابه بيان مذاهب الفرق الثلاث والسبعين التي ورد ذكرها في الحديث، وقد أفاض في ذلك كثيرًا فذكر فِرَقًا مزقتها عوادي الأيام، ولولا ذكر مثل المؤلف لها لَمَا عرف أهل هذا العصر أنها وجدت في هذه الدنيا، لأنها لم تترك أثارة من علم ولا نبأة من حالها. والكتاب مفيد في بابه، بليغ في أسلوبه، قوي الحجة، وطبعه في غاية الجودة، ومن محسناته فهرسان للأعلام والكنى وضعهما له ناشر الكتاب، ورتبهما على حروف المعجم، وقد كتب له مقدمة متينة التركيب بَلِيغَةِ الأسلوب فنثني عليه أطيب الثناء. *** (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان) تأليف الإمام شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية، وقد عني بتصحيحه وتخريج أحاديثه وتعليق حواشيه الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي. صفحاته 48طبع بمطبعة المنار بمصر ويباع بمكتبة المنار بثلاثة قروش صحيحة. الطلاق من ضرورات الاجتماع التي لا بدًّ منها، ولا مندوحة عنها، وقد اعترف كثيرون من عقلاء الفرنجة والأمريكان بذلك، بل إن بلاد أمريكا أصبح الطلاق فيها أكثر شيوعًا منه في سائر البلاد الإسلامية، والسبب في ذلك تفريطهم وإفراطهم، فقد أحكموا في الأول عقد النكاح إحكامًا، صيَّروا به حلها جناية وأثامًا وقد بالغوا في الثاني في حلها حتى صارت أَوْهَى مِن بيت العنكبوت. أما المسلمون فيرون الطلاق رخصة من الرخص التي يصار إليها عند الاضطرار كما أرشدهم إلى ذلك دينهم، وهكذا يكون شأن الأمة الوسط: (لا تفريط ولا إفراط) وهذه هي الخطة التي تحوم حولها القلوب، وتهفو إليها النفوس، لأن تحريم الطلاق تحريمًا قطعيًا من الحرج الذي لا يطاق ولا تستقيم معه حال الاجتماع وإباحته إباحة عامة من دون شرط أو قيد من العبث المخل المفسد لنظام الأسر والبيوتات. ولقد يظن كثيرون من الفرنجة والمتفرنجين الذين ينظرون إلى الإسلام بعيون حَول أن الطلاق يقع بالكلمة تقذفها بادرة غضب فتصبح عقد النكاح المحكمة مفككة محلولة، وتمسي الزوج التي لم تجن ذنبًا أجنبية غير حليلة، ويرون أن ذلك ليس مما يلتئم مع الحكمة، أو يتفق مع المصلحة، وقد يكونون معذورين في هذا القول الذي يتفق مع أقوال كثير من الفقهاء، ولم أنهم أطلعوا على الكتاب الذي نقرظه اليوم لآبوا معترفين للإسلام بأنه دين المدنية والفضيلة والعمران. استهل الإمام المؤلف كتابه بالحديث الشريف (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) ثم بيَّن معني الإغلاق أو الغلاق من كلام الأئمة، وأنَّ معناه الغضب أو من معانية ثم طفق المؤلف يدلي بالحجة تلو الحجة ويأتي بالدليل بعد الدليل من الكتاب والسنة والمأثور عن أئمة السلف الناطقة كلها بعدم وقوع طلاق الغضبان، وأفاض المؤلف في ذلك أيما إفاضة شأنه في كل الموضوعات التي كتب فيها، ونصب ميزان التعارض والترجيح، فأظهر أثابه الله الرغوة من اللبن الصريح، قال في استدلا له من السنة على أن طلاق الغضبان لا يقع: (فأما دلالة السنة فمن وجوه [1] أحدها حديث عائشة المتقدم وهو قوله: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) وقد اخْتُلِفَ في الإغلاق؛ فقال أهل الحجاز هو الإكراه، وقال أهل العراق هو الغضب، وقالت طائفة هو جمع الثلاث بكلمة واحدة، حكى الأقوال الثلاثة صاحب كتاب (مطالع الأنوار) ، وكأن الذي فسره بجمع الثلاث أخذه من التغليق وهو أن المطلق غلَّق طلاقه كما يغلق صاحب الدين ما عليه، وهو من غلَّق الباب فكأنه أغلق على نفسه باب الرحمة بجمعه الثلاث فلم يجعل له الشارع ذلك ولم يملكه إياه رحمةً به، إنما ملكه طلاقًا يملك فيه الرجعة بعد الدخول، وحجر عليه في وقته ووضعه وقدّره فلم يملكه إياه في وقت الحيض ولا في وقت طهر جامعها فيه، ولم يملكه أن يبينها بغير عوض بعد الدخول فيكون قد غير صفة الكلام وهذا عند الجمهور، فلو قال لها: أنتِ طالق طلقة لا رجعة لي فيها أو طلقة بائنة لغا ذلك وثبتت له الرجعة، وكذلك لم يملكه جمع الثلاث في مرة واحدة بل حجر عليه في هذا وهذا وكان ذلك من حجة من لم يوقع الطلاق المحرم ولا الثلاث بكلمة واحدة [2] لأنه طلاق محجور على صاحبه شرعًا وحجر الشارع يمنع نفوذ التصرف وصحته كما يمنع نفوذ التصرف في العقود المالية فهذه حجة من أكثر من ثلاثين حجة ذكروها على كلام وقوع الطلاق المحجور على المطلِّق فيه. والمقصود هاهنا أن هؤلاء فسروا الإغلاق بجمع الثلاث لكونه أغلق على نفسه باب الرحمة الذي لم يغلقه الله عليه إلا في المرة الثالثة (وأما الآخرون) فقالوا: الإغلاق مأخوذ من إغلاق الباب وهو إرتاجه وإطباقه فالأمر المغلق ضد الأمر المنفرج والذي أغلق عليه الأمر ضد الذي فرج له وفتح عليه فالمكره [3] الذي أكره على أمر إنْ لم يفعله وإلا حصل له من الضر ما أكره عليه - قد أغلق عليه باب القصد والإرادة لما أكره عيه فالإغلاق في حقه بمعنى إغلاق أبواب القصد والإرادة له فلم يكن قبله منفتحًا لإرادة القول والفعل الذي أكره عليه ولا لاختيارهما فليس مطلق [4] الإرادة والاختيار بحيث إن شاء طلّق وإن شاء لم يطلق وإن شاء تكلم وإن شاء لم يتكلم بل أغلق عليه باب الإرادة إلا للذي قد أكره عليه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ولكن ليعزم المسألة فإن الله لا مُكْره له) [5] فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الله لا يفعل إلا إذا شاء بخلاف المكره الذي يفعل ما لا يشاؤه فإنه لا يقال يفعل ما يشاء إلا إذا كان مطلق الدواعي وهو المختار، وأما من ألزم بفعل معين فلا، ولهذا يقال: المكره غير مختار، ويجعل قسيم المختار لا قسمًا منه، ومَن سمَّاه مختارًا فإنه يعني أن له إرادة واختيارًا بالقصد الثاني فإنه يريد الخلاص من الشر ولا خلاص له إلا بفعل ما أكره عليه فصار مريدًا له بالقصد الثاني لا بالقصد الأول. والغضبان الذي يمنعه الغضب من معرفة ما يقول وقصده فهذا من أعظم الإغلاق وهو في هذا الحال بمنزلة المُبَرْسَم والمجنون والسكران بل أسوء حالاً من السكران لأن السكران لا يقتل نفسه ولا يلقي ولده من علوٍّ والغضبان يفعل ذلك، وهذا لا يتوجه فيه نزاع أنه لا يقع طلاقه والحديث يتناول هذا القسم قطعًا. وحينئذ فنقول: الغضب ثلاثة أقسام [6] : أحدها: أن يحصل للإنسان مبادئه وأوائله بحيث لا يتغير عليه عقله ولا ذهنه ويعلم ما يقول ويقصده، فهذا لا إشكال في وقوع طلاقه وعتقه وصحة عقوده ولا سيما إذا وقع منه ذلك بعد تردد فكره. القسم الثاني: أن يبلغ به الغضب نهايته بحيث ينغلق عليه باب العلم والإرادة فلا يعلم ما يقول ولا يريده فهذا يتوجه خلاف في عدم وقوع طلاقه كما تقدم. والغضب غول العقل؛ فإذا اغتال الغضب عقله حتى لم يعلم ما يقول فلا ريب أنه لا ينفذ شيء من أقواله في هذه الحالة، فإن أقوال المكلف إنما تنفذ مع علم القائل بصدورها منه ومعناها وإرادته للتكلم بها. (فالأول) يخرج النائم والمجنون والمبرسم والسكران وهذا الغضبان. (والثاني) يخرج من تكلم باللفظ وهو لا يعلم معناه ألبتة فإنه لا يلزم مقتضاه. (والثالث) يخرج من تكلم به مكرهًا وإنْ كان عالمًا بمعناه. (القسم الثالث) من يتوسط في الغضبان بين المرتبتين فتعدى مبادئه ولم ينته إلى آخره بحيث صار كالمجنون فهذا موضع الخلاف ومحل النظر والأدلة الشرعية تدل على عدم نفوذ طلاقه وعتقه وعقوده التي يعتبر فيها الاختيار والرضا، وهو فرع من الإغلاق كما فسره به الأئمة، وقد ذكرنا دلالة الكتاب على ذلك من وجوه. وأما دلالة السنة فمن وجوه، أحدها: حديث عائشة وقد تقدم ذكر وجه دلالته. الثاني: ما رواه أحمد والحاكم في مستدركه من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين) [7] ، وهو حديث صحيح وله طرق، وجه الاستدلال به أنه صلى الله عيه وسلم ألغى وجوب الوفاء بالنذر إذا كان في حال الغضب من أن الله سبحانه وتعالى أثنى على الموفين بالنذور وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناذر لطاعة الله بالوفاء بنذره، وقال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصِه) [8] ، فإذا كان النذر الذي أثنى الله على مَن أوفى به وأمر رسوله بالوفاء بما كان منه طاعة قد أثرَّ الغضب في انعقاده لكون الغضبان لم يقصده، وإنما حمله على بيانه الغضب فالطلاق بطريق الأَوْلى والأحرى (فإن قيل) فكيف رتَّب عليه كفارة اليمين. (قيل) تَرَتُّبُ الكفارة عليه لا يدل على ترتب موجبه ومقتضاه عليه والكفارة لا تستلزم التكليف ولهذا تجب في مال الصبي والمجنون إذا قتلا صيدًا أوغيره وتجب على قاتل الصيد ناسيًا أو مخطئًا، وتجب على من وطئ في نهار رمضان ناسيًا عند الأكثرين فلا يلزم من ترتب الكفارة اعتبار كلام الغضبان، وهذا هو الذي يسميه الشافعي نذر الغلق، ومنصوصه على عدم وجوب ال

رحلة القسطنطينية ـ 2

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ رحلة صاحب المنار إلى القسطنطينية حسين وصفي رضا (2) ذكرت في النبذة الأولى التي كتبتها لتنشر في (ج 11 م 12) فنشرت في (ج 12 ص 956) أنني رحلت إلى عاصمة الدولة للسعي في أمرين عظيمين: إنشاء معهد علمي إسلامي، وحسن التفاهم بين عنصرَي الدولة الأكبرين العرب والترك، وأشرت إلى ما صادفته من الارتياح للعملين كليهما عند وزارة حسين حلمي باشا ولكن استقالت تلك الوزارة قبل أن يتم على يدها ما وعدتني به من المساعدة على إنشاء المعهد العلمي الإسلامي والعناية باللغة العربية وأهلها. وكنت أظن أن وزارة إبراهيم حقي باشا تنجز ما كانت عزمت عليه وزارة حسين حلمي باشا لوجود بعض أعضاء الوزارة الأولى في الثانية فكنت أراجع بعض هؤلاء الأعضاء فأسمع كلامًا حسنًا ووعودًا جميلة وعناية شخصية بالدعوة إلى الطعام والسمر كما لقيت من الصدر الأول، ولكن طال الأمر على ذلك فرأيت أن أرفع المساعدة على إنشاء المعهد الإسلامي لتخريج المرشدين إلى الصدر الأعظم رئيس هذه الوزارة ففعلت ووجدت أن عنايته بالمشروع ليست دون عناية سلفه بل أعظم، نعم، قال لي: إن ما كان من السعي على عهد الوزارة السابقة قد ذهب بذهابها وإنه ينظر في ذلك من جديد ولكنه ما أرجأ ولا سوّف بعد ذلك بل أحالني على شيخ الإسلام وناظر المعارف ووعدني وعدًا جازمًا بتنفيذ ما يتفقان معي عليه وكنت قد مهدت السبيل إلى ذلك أمام هذين الركنين العظيمين لعلوم الدين والدنيا في الدولة فلما لقيتهما بعد أن عهد إليّ وإليهما الصدر الأعظم بالمذاكرة شرحت المشروع لكل منهما فصادفت منهما منتهى الإصغاء والارتياح. كنت ذكرت المشروع لمولانا شيخ الإسلام بالإجمال فاهتم به وقال لا بد لنا من تخصيص ليلة للبحث التفصيلي فيه ثم إنه دعاني إلى الطعام والسمر عنده قبل أن يعهد إليه الصدر الأعظم بالبحث معي في المشروع، ثم تكلمنا في ذلك واتفق أن قابلت الصدر يوم موعد دعوة الشيخ فأخبرني بما عهد إليه وذكر ذلك بلفظ الرجاء وكان الشيخ قد دعا في تلك الليلة خالص أفندي وكيل الدرس في المشيخة ليشاركنا في البحث، والمراد بوكيل الدرس مدير المدارس الدينية الذي ينظر في شئونها بالوكالة عن شيخ الإسلام الذي هو الرئيس العام لهذا القسم ولغيره من أقسام باب المشيخة، وقد كان سبق لي الاجتماع بوكيل الدرس أكثر من مرة فرأيته في مقدمة علماء الترك علمًا وفضلا وهمة ومروءة وسعة اطلاع في الآداب العربية، بل لم أر في علماء العاصمة مثله في هذا ولما لقيته للمرة الأولى قال لي بعد التحية والثناء في حضرته الغاصة بالعلماء: لا نقول في مناركم كما قال أبو الطيب المتنبي: على لاَحِب لا يهتدي بمناره ... بل نقول إن مناركم يهتدي به العالَم الإسلامي كله، وقد ذكرت الآن ما تفضل به مولانا شيخ الإسلام عندما لقيته أول مرة في المنار، قال: رفع الله منار العلم والدين على يده ولسانه، إنني أتمنى لو كان كل أحد يعرف العربية ليقرأ المنار، ولسان الشيخ حفظه الله قد صقل اللغة العربية بإقامته زمنًا طويلاً في بلاد اليمن، وقد استنسخ منها كتبًا نفيسة في العلوم الشرعية واللغة والتأريخ والأدب لا يوجد لها نظير في الآستانة ولا في مصر فضلاً عما دونهما من الأمصار، وله عناية عظيمة بنفائس الكتب فهو قد انفرد باطلاع لم يشاركه فيه أحد ممن نعرف من علماء هذه البلاد ولا علماء مصر والشام. كان بدء سمرنا بالفكاهات الأدبية ثم انتقلنا إلى البحث في المشروع فشرحت لهما ولمن حضر السامر وسائله ومقاصده، ومقدماته ونتائجه، فرأيت الوجوه تندى تهلُّلاً، والأسارير تبرق بشرًا وسرورًا، ووافقني الشيخان حياهما الله تعالى، وزادهما إنصافًا وكمالا، على كل رأي رأيته، وكل اقتراح اقترحته، حتى خروج مدرسة (دار العلم والإرشاد) من دائرة المدارس التي تحت رياستهما، بحيث لا تكون تحت إدارتهما ولا مراقبتهما، على أننا لا نستغني في ذلك عن الاستضاءة برأيهما المنير، والاستفادة من علمهما الغزير، ولكن بصفاتهما الشخصية، لا مكانتهما الرسمية، ومن ثَم وعدتهما بإطلاع خالص أفندي على نظام المدرسة الإداري وترتيب الدروس التي تقرأ فيها وعلى قانون الجمعية أيضًا. وقد حدثني خالص أفندي أنه كان منذ سنين سمع من بعض فضلاء مسلمي روسية أنني عازم على إنشاء هذه المدرسة الإسلامية العليا في مصر فسُرّ بذلك سرورًا عظيمًا ولما سافر إلى الحجاز في آخر زمن الاستبداد عرَّج على مصر وأراد أن يزورني متنكرًا ليتحدث معي في ذلك ولكنه بصر عن جنب بعين من عيون عبد الحميد (السلطان المخلوع) يتبعه أينما سار فكان هذا هو المانع له من الزيارة فهذه آية من آيات اغتباط هذا الأستاذ بهذا المشروع الذي هو خدمة عامة للإسلام والمسلمين تقوي وجاءنا في دوام مساعدته الثمينة له، وأذكر له على سبيل الاستطراد خلقين آخرين من أعلا الأخلاق ولا سيما العلماء وهما الإنصاف والشكر وآيتهما أنني زرته فرأيته ساخطًا على ناظر الأوقاف خليل حماده باشا لتأخير إصلاح بعض المدارس التي يريد تنفيذ النظام الجديد للمدارس الدينية فيها، فقلت له إن هذا الناظر محب للإصلاح ولا يرضيه هذا التأخير، وأنا ذاهب الآن لمراجعته في ذلك وأضمن على همته أن يأمر في الحال بإنجاز العمل، وقمت مِن حضْرته فركبة مركبة أوصلتني إلى نظارة الأوقاف وذاكرت ذلك الناظر الحازم في ذلك فأمر من ساعته بإنجاز إصلاح تلك المدارس وبلغ المشيخة ذلك، وإنني لم أر خالص أفندي بعد ذلك في مكان إلا وكان يشكر لي ذلك ويحدث به الناس قائلاً: إن فلانا قد ساعدني في مسألة المدراس مساعدة عظيمة ... وذكر هذا لمولانا شيخ الإسلام وغيره، فما أثمن وأجل مساعدة من كان متخلقًا بهذه الأخلاق مُتصفًا بهذه الآداب. وممن اطلع على حقيقة المشروع من أركان المشيخة الإسلامية الشيخان الجليلان ومن أصحاب الدرجة العليا في علماء العاصمة ولا سيما علوم المعقول محمد أسعد أفندي ناظر الدفتر الخاقاني وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي وموسى كاظم أفندي كلاهما من الأعيان والمدرسين في المكاتب العالية؛ كل واحد من هؤلاء الأساطين قد أقرّ المشروع بل أعجب به كل الإعجاب فهو يعد من خير الأعوان والمساعدين عليه فإن مشروعًا دينيًا كهذا المشروع لا يمكن تنفيذه في عاصمة السلطنة والخلافة إذا كان رؤساء العلماء وأساطينهم معارضين له أو غير راضين عنه. هؤلاء هم العلماء الأعلام الذين أسعدني التوفيق بلقائهم ومذاكرتهم في المشروع وصادفت عندهم من العناية والقبول فوق ما كنت أظن وأكثرهم قد كلم ولاة الأمور ورغبهم في إنفاده في الوزارة السابقة والوزارة الحاضرة. وممن ساعدني في هذا العمل بجد وإخلاص الصديقان الفاضلان أحمد نعيم بك بابان مدير المكاتب الرشدية بنظارة المعارف ويوسف ضياء بك في قلم الترجمة بنظارة الخارجية فهذا كان الترجمان بيني وبين الصدر الأعظم وغيره من الوزراء، وله سعي آخر يشكر وإن لم يذكر، وأما أحمد نعيم بك فمساعدته لا تقدر قيمتها، ولا يستغنى عنها بسواها، وإن ما يرجى منه في المستقبل من المساعدة على التأسيس لأجلّ وأكبر مما كان في الماضي من المساعدة على التمهيد، فأسأل الله عز وجل أن يكافئ بكرمه وجوده جميع المساعدين، ويوفقنا جميعًا لخدمة الملة والدولة والدين. ما له حيلة سوى حيلة العا ... جز إما توسل أو دعاء وإنني أبشر قراء المنار في جميع أرجاء العالم الإسلامي بأنه سيشرع في شهر ربيع الأول، الذي ولد فيه المصلح الأعظم صلى الله عليه وسلم، بتأسيس مدرسة (دار العلم والإرشاد) العالية التي يتربى فيها المرشدون الذين يقفون نفوسهم على خدمة الدين من الطريق الذي يجمع بينه وبين العلم والمدينة الصحيحة ويدفع عنه الشبهات بحيث يجمع المسلمون بين حقوق الروح والجسد وحسنتي الدنيا والآخرة وربما ننشر في الجزء الآتي نظام هذه المدرسة العليا، وأسرع الآن بذكر شيء منه. يتربى ويتعلم في هذه المدرسة طائفة من الطلاب على نفقة المدرسة فهي تنفق عليهم لا يكلفون طعامًا ولا شرابًا ولا لباسًا ولا كتابًا، ومما يشترط فيهم أن يكون لهم إلمام باللغة العربية والنحو والفقه، وأن تكون سيرتهم حسنة في أخلاقهم وآدابهم وعبادتهم، وسيكون من الشدة في المحافظة على الأخلاق بالفضائل في المدرسة أن الكذب يكون موجبًا للطرد منها، ويشترط فيها أيضًا حفظ القرآن ولكن يتسامح في هذا الشرط الآن ويكون للمدرسة سنة تمهيدية لحفظ القرآن ولبعض العلوم والفنون التي تقرأ في المدارس الابتدائية، وإدارة المدرسة هي التي تختار هذا القسم الداخلي من طلاب المدرسة وتفضل بعضهم على بعض بالامتحان. *** اللغة العربية في البلاد العثمانية وأما مسألة العناية باللغة العربية وتقوية الرابطة بين الترك والعرب التي سعيت لها سعيها منذ قدمت دار السلطنة فقد بلغني من الثقات أن رئيس الوزارة الحاضرة إبراهيم حقي باشا يقدرها قدرها، ووعد بأن يهتم بها وإنني لم أوافق إلى مذاكرته في ذلك بنفسي ولكنَّني ذاكرت غيره من أولي الشأن. وقد ذكرت جريدة العرب التي نشرت حديثًا في العاصمة أنه تقرر أن تكون اللغة العربية رسمية في الدولة كاللغة العثمانية بحيث يكون للدولة لغتان رسميتان وسمعت أكثر من واحد من الناس هنا يقولون: إن هذا صحيح واستدل عليه بعضهم بوضع مبلغ من المال في ميزانية المعارف للسنة المالية القادمة لمعلمين للعربية وهو لا يدل عليه وإنني متتبع لهذه المسألة وواقف على أطوارها فقد كانت النظارة تذاكرت في توظيف عشرة معلمين ثم في خمسة عشر معلمًا للغة العربية ثم استقر الرأي على خمسة فقط سيعهد إليهم تعليم اللغة نفسه على أسهل الطرق الحديثة لصنفين من الناس أحدهما بعض المرشحين للتعليم في المدارس، وثانيهما بعض عمال الحكومة الذين يراد إرسالهم إلى البلاد العربية لأن الحكومة اقتنعت بأن من لا يعرف لغة قوم لا يستطيع أن يقيم العدل أو النظام فيهم وأكثر المرشحين لأعمالها من الترك الذين لا يعرفون العربية فهي تريد أن تعلم هذه اللغة لمن تريد أن ترسلهم إلى البلاد العربية، نعم إن في تعليم هذه اللغة لطائفة من المرشحين للتعليم في نظارة المعارف تمهيدًا لتعليمها على وجهها وقد كانت تعليمها مقررًا رسميًا من زمن الاستبداد ولكنه لم يكن ينفذ بل كان ولا يزال يعهد إلى من لا علم لهم بهذه اللغة أن يكونوا مدرسين لها في مكاتب الدولة حتي في البلاد العربية فترى المعلم التركي أو الأرمني يعلم النحو العربي لأبناء العرب باللغة التركية. *** المدارس الدينية في الآستانة تألفت في العام الماضي لجنة من العلماء للنظر والبحث في إصلاح التعليم في المدارس الدينية الإسلامية وقد رغب إليَّ الصدر الأعظم للوزراة الماضية أن أكون عضوًا فيها، وقال: إنه يكلم شيخ الإسلام في ذلك فاعتذرت لأسباب منها أنني لم أكن أريد المكث في الآستانة أكثر من شهر، وقد أتمت هذه اللجنة عملها بهمة خالص أفندي وكيل الدرس وكان من الإصلاح الجديد التوسع في اللغة العربية وفنونها وزيادة الفنون الرياضية والحكمة الطبيعية، والتأريخ وتقويم البلدان، وقد سر أهل الآستانة سرورًا عظيمًا بهذا الإصلاح، وقد احتفل بالشروع في هذا الإصلاح احتفالاً حضره الصدر الأعظم وشيخ الإسلام وكثير من العلماء والوزراء والأعيان وال

الأسطول العثماني

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ الأسطول العثماني [*] بالذي أجراك يا ريح الخزامى ... بَلِّغي (البوسفور) عن (مصر) السلاما واجمعي من كل روض زهرة ... واجعليها لتحايانا كماما وانشري رياك في ذاك الحمى ... والثمي الأرض إذا جئت (الإماما) ملك للشرق في أيامه ... همة الغرب نهوضًا واعتزاما أيها القائم بالأمر لقد ... قمت في الناس فأحسنت القياما جرد الرأي فكم رأي إذا ... سلّ في غمد النهي فلَّ الحساما وابعث (الأسطول) ترمي دونه ... قوة الله وراء وأماما يكلأ الشرق ويرعى بقعة ... رفع الله بها (البيت الحراما) وثغورًا هن أبهى منظرًا ... من ثغور الغيد يبدين ابتساما خصها الله بأفق مشرق ... ضم في اللآلاء (مصرا) و (الشآما) حي يا مشرق أسطول الأولى ... ضربوا الدهر بسوط فاستقاما ملكوا البر فلما لم يسع ... مجدهم نالوا من البحر المراما بجوار منشآت كالدمى ... أينما سارت صبا البحر وهاما كلما أوفت على أمواجه ... سجد الموج خشوعًا واحتشامًا كان بالبحر إليها ظمأ ... وعجيب يشتكي البحر الأواما فهي في السلم جوار تجتلي ... تبهر العين رواء ونظاما وهي في الحرب قضاء سابح ... يدع الحصن تلالأ ورجاما ما نجوم الرجم من أبراجها ... أثر عفريت من الجن ترامى من مراميها بأنكى موقعا ... لا ولا أقوى مراسًا وغراما وهي بركان إذا ما هاجها ... هائج الشر عداء وخصاما جبل النار لقد رعت الورى ... أنت في حاليك لا ترعى ذماما أنت في البر بلاء فإذا ... ركب البحر غدا موتا زؤاما فاتقوا الطود مكينًا راسيا ... واتقوا الطود إذا ما الطود عاما حملت حربًا فكانت حقبة ... نذرًا للموت يجتاح الأناما خافها العالم حتى أصبحت ... رسلاً تحمل أمنًا وسلاما بُعِثَ المشرق من مرقده ... بعد حين، جل من يحي العظاما أيها الشرقي شمر لا تنم ... وانفض العجز فإن الجد قاما وامتط العزم جوادًا للعلى ... واجعل الحكمة للعزم زماما وإذا حاولت في الأفق منى ... فاركب البرق ولا ترض الغماما لا تضق ذرعًا بما قال العدى ... رُبَّ ذي لُبٍّ عن الحق تعامى سابق الغربي واسبق واعتصم ... بالمروءات وبالبأس اعتصاما جانب الأطماع وانهج نهجه ... واجعل الرحمة والتقوى لزاما طلبوا من علمهم أن يعجزوا ... قادر الموت وأن يثنوا الحماما وأرادرا منه أن يرفعهم ... فوق هام الشهب في الغيب مقاما (قتل الإنسان ما أكفره) ... طاول الخالق في الكون وسامى أحرج الغيب إلى أن بزّه ... سرّه بزا ولم يخش انتقاما قوة الرحمن زيدينا قوى ... وأفيضي في بني الشرق الوئاما أفرغي من كل صدر حقده ... أملأ التأريخ والدنيا كلاما أسأل الله الذي ألهمنا ... خدمة الأوطان شيخًا غلاما أن أرى في البحر والبر لنا ... في الوغى أنداد (توجو) و (أوياما)

كتاب النصائح الكافية لمن يتولى معاوية

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ كتاب النصائح الكافية لمن يتولى معاوية يلح علينا المتناظرون والمتعادون في هذا الكتاب من أهل سنغافوره وجاوه بأن نبدي رأينا فيه ويقولون في كتبهم إلينا إنهم ينتظرون ذلك عاجلاً، وظن بعضهم أن ما كتب عنه على غلاف المجلة لنا وأنه رأي غير صريح فطلبوا ما هو أصرح منه. وجوابنا للجميع أننا لم نجد فراغًا نقرأ فيه الكتاب لنبدي رأينا فيه، وإننا قد سافرنا إلى دار السلطنة في أواخر رمضان لأجل خدمة الإسلام بما هو أجل وأنفع من قراءة ذلك الكتاب وشغلنا بذلك عن كل شيء إلا كتابة ما لا بد منه للمنار وأن ذلك التقريظ أو الإعلان ليس لنا وإنما هو كسائر الإعلانات التي تنشر على غلاف المجلة يكتبها مدير مكتبة المنار، وإننا ننصح المختلفين أن يتقوا العداء واتباع الأهواء لأجل اختلاف الآراء، فتعادي المسلمين ذنب أكبر وأضر من جرح معاوية وتعديله، وكنا تنسمنا أن سيكون لهذا التأليف فتنة عندما أعلن المؤلف عزمه عليه بعد أن وقع الخلاف هنالك بينه وبين آخرين في لعن معاوية واستفتينا في المسألة فأفتينا بعدم اللعن، فإن المؤلف يومئذ كتب إلينا يقول: إنه مخالف لنا فيما أفتينا به وأنه سيبين رأيه في كتاب حافل يؤلفه ويطبعه، وأتذكر أنني كتبت إليه أن من رأيي أن لا يفعل ولكنني ما عاديته ولا أعاديه لأنه خالفني في هذه المسألة وهو لا يعاديني كذلك، وهذا هو الواجب على كل مسلم، فقد نهينا عن التحاسد والتباغض والتدابر؛ وأمرنا أن نكون إخوانا، ولم يشترط المرشد الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأوامر والنواهي أن نكون متفقين في كل مسألة لأن هذا من المحال، فاتقوا الله أيها المسلمون في أنفسكم وليعذر بعضكم من يخالفه وإن جادله فليجادله بالتي هي أحسن ولا يجعله أقل من أهل الكتاب الذين نهينا أن نجادلهم إلا بالتي هي أحسن إلا إذا ظلموا بالحرب والقتال، ولا كلام لنا مع أهل السفه والطيش والضلال.

إلى مشتركي المنار

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ إلى مشتركي المنار كلمة شكوى لقد رأينا من مطل كثير من المشتركين في السنين الأخيرة عجبًا! ولئن كان قولنا يشمل كل بلد فيه مشتركون للمنار فإنه موجه بنوع خاص إلى مشتركي القطر التونسي إلا قليل منهم، وإلى معظم مشتركي الجزائر، هؤلاء وأولئك نكتب لهم في المجلة التذكير تلو التذكير فلا يبالون ولا يتذكرون! حتى إننا في الآونة الأخيرة وضعنا لهم فقرة دائمة على غلاف المجلة وكتبنا لهم كتابات خاصة فيها بيان لما عليهم فلم يحقق أحد منهم لنا أملا، وما كنا نحس أن قارئًا يقرأ المنار وكله عظات ونذر وحث على التأسي بأسلافنا الكرام بأعمالهم - يسهل عليه أن يكون من أهل الليّ والمَطْل، والإعراض عن التذكير بأداء الحقوق. إننا نعيذ أهل هذين القطرين أن يكونوا متعمدين لهذا السكوت الطويل الذي لم نستطع له تأويلا، وحاشاهم أن يكونوا ممن يأكلون أموال الناس بالباطل وفيهم العلماء والقضاة والمحامون وكبار موظفي الحكومة، وهؤلاء هم عنوان ارتقاء الأمة وأنموذج المجد فيها، وإنه ليسهل علينا أن نتلمس لهم في كل يوم عذرًا دون أن نرميهم بمرجمات الظنون، فعسى أن يكونوا عند حسن ظننا بهم وأن تكون هذه الفقرة أخرى كلمات الشكوى منهم، وأن يكون ما بعدها أولى كلمات الشكر لهم. وإننا لنأسف أن يصبح مشتركو روسيا ممن يُشتكى منهم وهم الذين لم يُذكَروا في الماضي إلا بالشكر والثناء، فلقد مرت سنين ثلاث وكثيرون منهم لم يبعثوا إلى إدارة المجلة بما عليهم، هؤلاء هم الذين كنا نباهي بهم ونعد مسارعتهم إلى أداء الحقوق عنوانًا على احتفاظهم بكثير من الفضائل الإسلامية ولقد يعز علينا أن يتزلزل اعتقادنا فيهم فإننا بتنا في حيرة من أمرهم ولا سيما بعد أن كتبنا لهم تذكيرًا في جريدة (وقت) التي تصدر في أورنبورغ مرتين فلم يزد ذلك أكثرهم إلا إعراضًا وتصاممًا. وكذلك كانت الحال مع مشتركي جنوبي إفريقية والبرازيل والصين وبلاد فارس وفريق من مشتركي جاوة والهند وسنغافورة فلقد كتبنا إليهم مُذكِّرين مبينين لهم ما عليهم فلم تنفع الذكرى إلا الأقلين منهم. ثم ما بال مشتركي السودان ارتضوا لأنفسهم في العهد الأخير ما كنا نجلهم عنه؟ فقد كانوا من أفضل المشتركين وفاء، وأحسنهم أداء، حتى إننا في السنين الماضية ما كنا نبعث لأحد منهم بتذكير خاص، بل كان من عادهم المبادرة إلى الإرسال في أول شهر من شهور السنة، وكنا نعد من جملة الشواغل الكثيرة في المحرم التوقيع علي حوالات مشتركي السودان، ولكنهم في هذا العام وفي العام الماضي خالفوا سنتهم المحمودة، فبعثنا إليهم بمكتوبات خاصة مطالبين لهم بما عليهم فلم يستجب لنا إلا القليلون. أما مشتركو مصر فما زلنا نحمدهم على اعتدالهم فقد كانوا ولا يزالون على وتيرة واحدة، يتذكرون إذا ذكروا ويعطون إذا طولبوا، ولكننا نشكو من بعضهم ومن أهل الأقاليم ولا سيما مشتركي الوجه القبلي ومديريتي البحيرة والشرقية ومحافظات دمياط والسويس وبورسعيد، فلقد مرت سنوات وهو لم يؤدوا إلى المجلة حقًّا، فعسى أن يكون لهم أسوة حسنة بأهل العاصمتين مصر والإسكندرية. وأما مشتركو سورية وفلسطين فهم من أحسن الناس وفاء، وإننا نشكر لوكلاء مدنهما الكَمَلَة، فإنهم قد خدموا المنار أجلَّ خدمة، وعسى أن يكون مشتركو بيروت وطرابلس الشام وحصن الأكراد وبغداد وجبل عامل أدوا ما عليهم للوكلاء، ومن ليس لديهم وكلاء فليبعثوا إلينا بما عليهم مباشرة فنكون لهم من الشاكرين. هذا وإن في كل ما ذكرناه من البلاد ناسًا سبّاقين إلى الخيرات يبعثون بقيمة اشتراك كل سنة قبل دخولها، فإلى هؤلاء نوجه عاطر الثناء ونخصهم بالتقريظ والإطراء. حسين وصفي رضا *** (التأريخ الهجري الشمسي) طبعت الكراسة الأولى من هذا الجزء وبقي فيها هذا التأريخ على ما كان عليه خطأ لأن سنة 1285 تصرمت ودخلت سنة 1286.

خديجة أم المؤمنين ـ 8

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين (8) الفصل السابع عشر [1] (بين روح وروح أو بدء الوحي) (1) في (حِراء) حدثت الحادثة الأولى من التأريخ الجديد الذي سنرى فيه بعل السيدة (خديجة) فائقًا فواقًا عظيمًا مدهشًا، وهذه الحادثة العظمى التي هي مبدأ هذا التأريخ هي أن روح محمد صلى الله عليه وسلم، اجتمع هناك في (حِراء) بروح غير بشري وأبلغه هذا الروح الغريب رسالة شأنها عظيم. نحن في الفصل السابق ذكرنا من أمر الروح ما فيه كفاية، ذكرنا فيه ما لعل القارئ ينشرح به صدره إلى القول بوجود موجودات ذات حياة على أنواع شتى ولا يشترط في بعضها أن تكون لها أشباح كالأشباح البشرية، وهذا قد سبقنا البشر كلهم إلى القول به ولم يشذّ عنه إلا قليل وهو كلهم قائلون أن بين الروح الذي هو إنسان وبين الأرواح الأخرى اتصالات، فأنا كاتب هذه السطور لست بمبتدع خبرًا ليس له مثال بذكر هذه الحادثة التي قد يراها غريبة من يحبون التباعد عن الروحيات، ومن يؤمنون بها أحيانًا ويكفرون بها أحيانًا من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون. هذه حادثة عظيمة في السيرة التي نحن آخذون بتحريرها، ونحن مقتنعون بوقوعها، ولا يدعونا إلى استماع هواجس المنكِر إلا الحرص على القيام بحسن المرافقة، فإن كان المنكِر ينكر عالم الروح من حيث هو فالحق أنَّ حيلتنا البيانية معه قليلة، ولكني أظن أنَّ محادثتنا إياه بهذه المسألة في الفصل السابق قد تجديه، وإن كان ينكر العلاقة بين الروح الذي هو الإنسان والأرواح الأخرى فليس لنا ما نتوسط به إلى إبلاغه هذا المشهد غير نفسه، فليرجع إليها كثير وليدقق في حديثها جيدًا، وإن كان ينكر صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، في تحديثه بهذه الحادثة مع أنه لا ينكر وقوع مثلها لغيره فالخطب في مذاكرته سهل. كان محمد صادقًا شديد الحرص على الصدق واشتهر منذ حداثته بلقب الأمين، قد عرفنا صدقه كما عرف الناس شجاعة أناس من الشجعان، وكرم أفراد من الكرماء، وعِلم جماعة من العلماء، وكما عرف بنو إسرائيل صدق الإنسان موسى الذي كان قد سمع الكلام الإلهي، وظهرت له الأرواح العلوية، وكما عرف النصارى صدق الإنسان عيسى الذي كان روحًا من الله، وكما عرفوا صدق تلاميذه وأنصاره الذين حكوا حكايته وبثوا بشارته. هذا الصادق الأمين رجع ذات يوم من حراء منتقع اللون، مرتجف الصدر، يعلوه اضطراب الوجل الحائر، وخشوع المخبت الصابر، فما وقع نظر السيدة خديجة عليه حتى عرفت أنَّ أمرًا عظيما قد ألمَّ به، فخفق لأول وهلة قلبها، وساءلت بسرعةِ البرق نفسها: ماذا أصاب حبيبي؟ ما خطب ذلك القلب الذي لا تفزعه الرجال، ولا تجزعه الأهوال؟ ما بال ذلك الصدر المبسوط تثنيه الرجفات، وما بال ذلك الطرف القرير تكاد تبادره العبرات؟ رباه رباه ماذا أصاب حبيبي؟ قل لي أيها الحبيب ماذا اصابك؟ حنانيك قل لي قل لي. دثروني، دثروني. لا صبر لي عن معرفة الأمر الآن فقُصَّه عليَّ. بينا أنا في حِراء إذ جاءني روح فقال لي اقرأ، قلت له: ما أنا بقارئ، فأخذني وغطني غطة [2] وقال لي (اقرأ) قلت: ما أنا بقارئ، ثم غطني الثانية وقال لي: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ، قال لي: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) . ألم تسأله من أنت، من جاء بك، وماذا تريد مني. سمعته يقول أنا جبريل جئت أبلغك رسالة ربك. هذه هي الأولى من الكلمات التي سمعها محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الروح الذي ظهر له باسم جبريل وهو من النوع المسمى ملائكة، والآن قد فُتِح لصاحب حِراء بابان: باب حَيْرة جديدة وباب هدى، فأما الحيرة فظاهرة يكاد يراها كل من سمع هذه الحادثة فإن ظهور الأرواح غير البشرية لأفراد النوع الإنساني ليس من المألوف، فإذا صادف أحد الأفراد شيئًا من هذا القبيل لا يقوى طبعه البشري لأول وهلة على تحمل مواجهته والأنس به، كل واحد منا يعرف هذا من مفاجأة الأمور التي لم تكن تخطر في باله مع أنها من الأمور التي تقع كثيرًا فكيف الحال بالأمور التي وقوعها نادر إلى حد أنَّ بعض الناس لا يصدق بوقوعها. إنه ليخيل إلينا أن صاحب (حِراء) قد دهش لمَّا سمع صوت ذلك الروح يناديه (اقرأ) يخيل إلينا أنه قال في نفسه: رباه ما هذا الذي أسمع؟ رباه ليس ههنا من بشر فهل يتكلم غير البشر؟ رباه ماذا يراد بي؟ إنني أعلم أني في يقظة لا في منام، وأنني أسمع كلامًا لا ريب فيه، وإنني أحس بضاغط يضغطني ولا عهد لي بمثل هذا من قبل، رباه إن هذا أمر يدهش فكُنِ اللهم عوني، وخذ بيدي، وثبت فؤادي وقوّني على مواجهته إذا عاودني. نعم إنه ليخيل إلينا أن المفاجَأ بذلك الروح هكذا كان يتناجى في نفسه ويناجي ربه بمثل هذه الكلمات وهو ذاهب إلى خديجة فلما لقيها قال (دثروني دثروني) واختصر لها الحديث اختصارًا. دثرته خديجة وجعل العرق يتصبب منه، وقد عاوده الروح بعد ذلك، وقال له {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} (المدثر: 1-7) . إن من يفاجأ بمثل هذا جدير بالحيرة وهذا ما أشرنا إليه هنا، ولكن مع هذه المفاجأة قد أونس باسم ربه فكان هذا الاسم الجليل حريًّا أن يكون دواءً شافيًا من تلك الحيرة، وكافيًا أن يفتح باب الهدى والطمأنينة. الروح جبريل يقول له أنا من عند ربك، جئت أبلغك رسالته، جئت ألقي عليك وحيًا من عنده، وفي هذا الوحي الذي جاءه به مفتاح لتلك المغالق التي أشرنا إليها آنفًا التي كانت تقف أمامه دائمًا.. في هذا الوحي مبدأ إرشاد وتعريف له بربه خالق الإنسان. في هذا الوحي إهابة بفكره لتناول معارف عليا، وتعاليم عظمى، في حقائق الوجود. كانت الحيرة تردفها الحيرة، وأما هذه الحيرة فإن الهدى يردفها لأن العناية الإلهية ظهرت أتم ظهور، والعطاء الرباني سُلِّم جليًّا لتك اليد التي كانت مرفوعة في حِراء تلقاء السماء. وكان أول معراج عرض بصاحب هذه اليد عليه إلى تلك الحضرات القدسية هو إعلامه علم اليقين بأرواح عالية تتكلم هي غير الأرواح الإنسانية الحالّة في هذه الصور البشرية وذلك بجعل واحد من هذه الأرواح وساطة بينه وبين مفيض الحياة والعلم والإرادة. هذه عناية كبيرة جدًّا لم يَرْوِ التأريخُ وقوعَ مثلها إلا لقليلين: منهم النبي إبراهيم، والنبي موسى والنبي عيسى عليهم السلام. يقول له الروح جبريل {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 1-2) فهذا القول العربي الجليل يصور له من النشأة المادية في خلق الإنسان صورة يتجلى فيه عظيم قدرة البارئ المصور، وعظيم ضعف هذه الصورة البشرية لولا روح الله الممد له. يقول له الروح جبريل: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 3-5) وهذا القول المجيد يصور له من النشأة الروحية في كون الإنسان صورة يدهش الألباب فيها عظيم صنع الله في ترقية الإنسان بواسطة قصبة لا يؤبه لها لدى النظر، نعم بواسطة قصبة نعني بها القلم كان الرُّقي العظيم العقلي لهذا الكائن الذي خصت العناية الأزلية نوعه بمزيد خصائص. وغريب في الأمر أن المواجَه بهذا الخطاب لم يكن من أرباب اليراعة بل كان أميَّا لا يعرف القراءة ولا الخط بالقلم فما معنى أن يكون أول وحي يوحى إليه هو الأمر بالقراءة والتنويه بالقلم. لا بدع، لا بدع، إن معنى ذلك هو تكرم الله عز وجل على البشر بإعطائه آية أخرى يفقهون بها أنه قادر أن يعلم من لدنه بغير ما عرفوا من الوسائط من شاء ما شاء إذا شاء، وأن يجعل غير القارئ قارئًا ولكن يقرئه بالروح صحفًا ربانية قد أنزلها الله على البشر بأساليب شتى أجلها وأعلاها هذا الأسلوب. ما أجلّ هذه العناية وما أجدر خديجة بالسرور الذي ليس فوقه بها ولكن هل عرفت هذا السر الرباني تمامًا؟ نعم كان قلبها القوي خليقًا أن لا يفزع أمام هذه الحادثة التي هي غريبة في ظاهرها بيد أنها كانت محتاجة أن تطرق تفسير هذا السر وهذا المظهر الجديد من أبوابه. ((يتبع بمقال تالٍ))

العمل بخبر التلفون والتلغراف في الصوم والفطر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العمل بخبر التلفون والتلغراف في الصوم والفطر س21 - من السيد محمد بن الخوجه رئيس قلم المحاسبة بالوزارة في (تونس) سيدي الأخ الكريم العلامة الجليل. حدث عندنا تناقض بسبب هلال الفطر في رمضان الماضي فإن بعض البلاد التونسية أفطروا يوم الخميس الموافق الرابع عشر من أكتوبر، وحيث تأخر ورود صك الرؤية على قاضي الحاضرة إلى ما بعد عصر الخميس فإن الإعلان بالفطر لأهالي مدينة تونس لم يقع إلا مع غروب الشمس بحيث إنهم صاموا يوم العيد كله لأن القواعد الشرعية التي عليها عمل فقهاء تونس لم تجوّز للمسلمين بهذه البلاد أن يعتمدوا ما يبلغهم من مشاهدة هلالي الصوم والفطر على طريق التلغراف أو التلفون لأن التلغراف بيدِ غير المسلمين والتلفون يرد عليه (أن الصوت يشبه الصوت) كما أن (الخط يشبه الخط) ومن أجل هذا طلبنا لعلمائنا أن يلتمسوا لنا من وجوه الفقه ما يساعد على العمل بالتلغراف لا سيما وأن الريبة في التبليغ تنتفي إذا جعلنا الإشعار بالرؤية في أطراف المملكة لا تكون إلا بالطريقة الرسمية أي بواسطة تلغراف يرد من الحكومة المحلية أي الجهة التي شوهد فيها الهلال إلى مركز الحكومة بتونس وأن يكون المخاطب بالتلغراف مأمورًا مسلمًا كما أن المخاطب به من المسلمين. وعسى أن فضيلتكم تتوفق للتأمل في هذه المسألة العويصة وتنشر لقراء المنار ما يعينهم على الاهتداء لحل عقالها سواء كان ذلك بتونس أو بالبلاد الأخرى. ج - أرسل هذا السؤال إلى مصر ومنها إلينا في القسطنطينية والخطب عندنا في المسألة سهل لولا أن أكثر المسلمين صاروا لا يحبون السهولة واليسر في الدين وهو من أصول الإسلام بنص الكتاب والسنة فالعمدة في الشرع على ما يحصل به التصديق والاطمئنان من الأخبار أو العلامات التي تدل على ثبوت أول الشهر وكل من التلغراف والتلفون طريق من طرق التصديق والاطمئنان من الأخبار أو العلامات التي تدل على ثبوت أول الشهر وقد بينا ذلك في المنار غير مرة وقد اطلعنا في هذه الأيام على فتوى في المسألة لشيخ الأزهر وهو أكبر علماء المالكية وأشهرهم بمصر وأكثر أهل تونس من المالكية فنحن نورد لهم الفتوى بنصها وهي: (صاحب الفضيلة مولانا الأكبر شيخ الجامع الأزهر حفظه الله) . أتشرف بأن أقدم لكم دام النفع بعلمكم فيما يسأل عنه أهل السودان المالكيون وهو أنه قد جرت العادة عندهم في هذه السنين أن يرسل إليهم بواسطة التلغراف من الديوان الخديوي باسم بعض رؤسائه أنه قد ثبت شرعًا أن أول رمضان يوم كذا، وربما لم ير أحد منهم الهلال مع الصحو فمنهم من يعتمد على التلغراف ويصبح صائمًا ومنهم من يزعم أن الصوم منوط برؤية الهلال فيصبح مفطرًا، وإذا مضى بعد وصول الخبر إليهم ثلاثون يومًا ربما لا يرى أحد منهم هلال شوال ليلة إحدى وثلاثين من الصحو ولا يأتيهم فيها خبر بالتلغراف عما ثبت شرعًا بمصر، وأيضًا ربما كان حكم الحاكم المخالف بثبوت الصوم مبنيًا على شهادة عدل واحد أو كان حكمه بالصوم مبنيًا على رؤية عدلين، وإذا لم ير هلال شوال ليلة إحدى وثلاثين مع الصحو لا يرى تكذيبهما، بل يرى تكميل العدد ثلاثين بعد رؤيتهما هلال رمضان وكذلك حكمه بثبوت الصوم بناء على تمام شعبان الذي ثبت أوله برؤية عدلين ولم ير غيرهما هلال رمضان ليلة إحدى وثلاثين من منذ رؤيتهما هلال شعبان، وكل ذلك مخالف للمذهب المالكي فماذا يصنع أهل السودان في صومهم وإفطارهم حتى يكون عملهم موافقًا للشرع والحال كما ذكر في السودان أفيدونا مأجورين. كاتبه الفقير إليه، أبو القاسم أحمد هاشم. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قد نص فقهاؤنا على أن يكون الصوم عند الحاكم وإن لم يحكم بالفعل وحكمه بالثبوت كل منهما يوجب الصوم على كل من نقل إليه سواء نقل بعدلين أو جماعة مستفيضة ولو كان الناقل عدلاً واحدًا لأن هذا من الخبر الصادق لا الشهادة ولو كان المنقول إليهم ممن يعتنون بأمر الهلال. ونصوا أيضًا على الاكتفاء في الثبوت بالأمارات التي جرت العادة بها في إشهاد الثبوت كتعليق القناديل الموقدة على المنائر حيث جرت العادة أنها لا توقد إلا بعد الثبوت الشرعي، وكضرب المدافع كما هي العادة عندنا بمصر ومن هذا القبيل إرسال الخبر في السلك التلغرافي بل هو في زماننا أدل وأقوى وعليه اعتمدت الملوك والحكام في تبليغ أحكامهم ومخاطباتهم وأفتى العلماء بكفايته في ذلك وهو في أيامنا هذه لا يرسل إلا بإذن الحاكم الشرعي بإشهار حكمه في جميع الجهات فهو كرسول أرسله لتبليغ حكمه فيجب الصوم على كل من بلغه من أول رمضان كما يجب الفطر على من بلغه به ثبوت رؤية هلال ومن خالف بعد بلوغه بصوم وإفطار فهو مخالف للحق. والصواب الذي أفتى به العلماء؛ ولا عبرة باختلاف المطالع على ما هو المذهب إلا أن يبعد جدًّا كخراسان من الأندلس فإن كل قوم يعملون بما عندهم لا يجري عليهم حكم الآخرين كما حكى ابن عبد البر الاتفاق عليه، واحتمال أن الحاكم المخالف بنى الحكم على رؤية شاهد واحد في الغيم نادر جدا، وعلى فرض من حصوله وتحقيقه ففي المذهب قولان في لزوم الصوم وعدم لزومه يجوز العمل بكل منهما أو تقليد مذهب الحاكم والعمل عليه. وأما البناء على تمام العدد من ابتداء رؤية العدلين ولو لم ير الهلال ليلة إحدى وثلاثين مع الصحو لكون المخالف لا يرى التكذيب فإن كان قد حكم بالفطر لزم الإفطار، وإن كان لم يحكم إلا بثبوت الصوم برؤية العدلين فليس ذلك حكمًا بالإفطار إلا أن يحكم حين الرؤية بموجب لزوم الصوم فيجب العمل به في الإفطار وأيضًا كما يجب العمل بكمال العدد إن كانت ليلة إحدى وثلاثين مغيمة، ومثل ذلك حكم بالصوم بكمال شعبان الذي ثبت أوله برؤية عدلين ولم ير غيرهما هلال رمضان ليلة إحدى وثلاثين من الصحو لكونه لا يرى التكذيب فيجب به الصوم قطعًا أو كان قد حكم بموجب ثبوت أول شعبان حين حكمه بثبوته فإنه يتضمن الحكم باعتبار تمام العدد من ابتداء الرؤية. وأما مسألة عدم رؤية هلال شوال مع الصحو ليلة إحدى وثلاثين مع عدم ورود خبر من مصر إليهم فإنهم يصومون يوم الحادي والثلاثين احتياطًا للخروج من العبادة، والغرض عدم الرؤية مع الصحو فإن كان غيم اكتفوا بكمال العدد وإذا جاءهم خبر الإفطار أثناء النهار أفطروا ولهم أن يقلدوا الحاكم في مذهبه ويعملوا على الكمال دون التكذيب ويعملوا على رؤيتهم إن تباعد جدًا كما سبق عن ابن عبد البر حكاية اتفاق أهل المذهب عليه والذي أراه أن الأيسر في مثل هذه الأمور تقليد مذهب الحاكم المخالف أو اعتبار البعد جدًّا إن تحقق والله تعالى أعلى وأعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم) . ... ... ... ... ... ... ... ... الفقير إليه تعالى ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر ... ... ... ... ... ... ... ... ... سليم البشري

رسالة النبي إلى الناس كافة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة النبي إلى الناس كافة س22 مِن صاحب الإمضاء في فاقوس. حضرة الفاضل الأديب مَن شاع صيته في حل المشكلات صاحب الدراية التامة الشيخ رشيد أفندي رضا لا زال مصدرًا لفك المعضلات. مما ينهى لفضيلتكم أنه حصل في ناحية فاقوس البحث بين طائفة ممن يعتنون في البحث عن أمور الدين وتجولوا في مسألة التبليغ، وهل دعوة نبينا عليه السلام بلغت إلى كافة الأقاليم التي من ضمنها قارة أمريكا أم لا، وهل هذا الاسم كان لتلك القارة قديمًا أو حدث فيما بعد؟ فقال بعض الحاضرين: إن دعوة نبينا بلغت كافة الأمم مستندًا إلى قوله تعالى له: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} (سبأ: 28) فعموم هذه الآية يشمل أمريكا وغيرها من كافة الأقاليم. وحيث إنه عليه السلام مرسل لكافة الناس فيجب عليه تبليغ العموم ولا شك أنه عالم بكافة المرسَل إليهم وإن بعدت جهاتهم. وقال البعض الآخر إن أمريكا اكتشفت حديثًا، وإنه لم يوجد تأريخ من التواريخ يدل على أن أحدًا من الصحابة ذهب إلى تلك الأقطار لتبليغ الدعوة، وأن عدم اكتشاف القارة المذكورة في زمن المصطفى لا ينافي كون النبي صلى الله عليه وسلم أرسل للناس كافة؛ لأن حكمها كحكم من كان في جبل ولم تبلغه الدعوة في زمن المصطفى وبلغته بعد وفاته، فيكون ممن دخل في حكم الآية الشريفة. ولثقتنا بأن فضيلتكم ممن يعتني بمثل هذه الأمور نطلب كشف هذا الأمر وتوضيحه على وجه تام ولكم مزيد الشكر. علي محمد الصواف، الكاتب بمحكمة فاقوس. ج- ليس الأمر بالمشكل الذي يحتاج إلى الإيضاح فإن بعثة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة أمر مجمع عليه معلوم من ديننا بالضرورة، ومن المعلوم بالضرورة عقلاً مؤيدًا بالنقل أن تبليغ الدعوة للعرب كان بالتدريج وهم قومه وأهل لغته وسكان بلاده، فهل يمكن أن يكون مكلفًا أن يبلغ البشر كلهم دعوته دفعة واحدة، ثم إنه بلّغ من يقرب من بلاده كالروم والفرس والقبط وما أرسل بلاغًا إلى أهل الهند والصين ولا أهل أوربا وغيرهم من الأمم التي كانت معروفة حتى يقع الإشكال في أهل أمريكا التي لم تكن معروفة وقد أمره الله تعالى أن يقول: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} (الأنعام: 19) فكل من بلغه القرآن فقد بلغته الدعوة وتجب على المسلمين دعوة من لم يتسع عمر النبي صلى الله عليه وسلم لدعوتهم وكذلك فَعَلَ السلف الصالحون، وقصَّر الخلف الطالحون.

طريقة الشاذلية الدرقاوية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طريقة الشاذلية الدرقاوية س 22 من السيد مصطفى منصور في (السلمية: دسوق) حضرة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فأرجوك أن تفيدنا عن الفتوى الآتية: انتشر عندنا في أنحاء البلاد طريق من طرق الصوفية وسمي طريقة الشاذلية الدرقاوية نسبة إلى مولاي العربي الدرقاوي وهذه الطريقة من شعائرها الاجتماع صباحًا ومساء على تلاوة الأوراد والأذكار إلا أن من أعمالهم في حال الذكر من قيام، التأوه بقولهم (آه آه) معتقدين أن هذه الكلمة اسم من أسماء الله تعالى. وقد رفع هذا السؤال إلى حضرة الشيخ عبد العزيز جاويش، فأنكر ذلك في لواء يوم15ذي القعدة سنة 1327 قائلاً بأنه ليس من أسماء الله تعالى ولم يرد في كتاب ولا في سنة صحيحة وأسماء الله توقيفية وليس لله إلا الأسماء الحسنى وسفّه رأي القائلين بأنه من أسماء الله. فرد عليه أحد شيوخ تلك الطريقة الأستاذ الشيخ محمود حجاري بقوله: (إنه من أسماء الله تعالى مستندًا في ذلك على حديث وارد في الجامع الصغير في حرف الدال (خ) للبخاري (ت) للترمذي عن أبي هريرة قال الشارح الغريزي وكذا رواه مسلم) (دعوه) أي المريض (يئن) أي يقول (آه) (فإن الأنين اسم من أسماء الله تعالى يستريح إليه العليل) وسبب هذا الحديث كما في الكبير عن عائشة رضي الله عنها قالت (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندنا مريض يئن فقلنا له اسكت فقال: دعوه) ... إلخ، رواه الرافعي في تاريخ قزوين عن عائشة وهذا الحديث مرتبته الحسن كما قال بذلك سيدي محمد السعراني الشهير بالواعظ ومستندًا في ذلك أيضًا بما كتبه الباجوري والأمير كلاهما على (جوهرة اللقاني) عند قوله: (حتى الأنين في المرض) كما نقل، وقال وأما دعوى الشيخ جاويش بأنه ليس لله إلا الأسماء الحسنى فمردود بإجماع المسلمين على أن لله أسماء كثيرة غيرها منها الرب وهو وارد في القرآن في مواضع كثيرة ومنها (مليك) وهو وراد في القرآن عند قوله تعالى {عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) ومنها الحنان المنان، وستار وسيد، وكلها ثابتة بالسنة وما يؤخذ من حديث (إن لله تسعًا وتسعين اسمًا) لا يفيد الحصر وحيث إننا في حاجة إلى بيان ما عليه هذه الطائفة فنلتمس منكم الفتوى الشرعية في ذلك جعلكم الله منارًا للحق ونبراسًا للهدى. ج- ظهرت الطريقة الدرقاوية في أوائل هذا القرن في بلاد سورية أخذها خلق كثير عن شيخ مغربي كان في عكا اسمه الشيخ علي نور الدين فقامت عليه وعليهم قيامة العلماء ونسبوا إليهم القول بالحلول والاتحاد، وبعض المنكرات العملية كالجمع بين النساء والرجال، بل قيل إن بعضهم مرقوا من الدين وصاروا إباحيين، وجعلوا شيخهم علي نور الدين اليشرطي مثار هذه الضلالات كلها، ولكنني رأيت بعض الشيوخ الصالحين يثني على شيخه ويقول (إنه بريء من كل ما خالفوا الشرع فيه ومن هؤلاء المبرئين له شيخان الشيخ محمد القاوقجي الشهير وقد نشر هذه الطريقة في طرابلس الشام الشيخ نجيب الحفار أحد علمائها المشهورين فلم نر من تلاميذه من الفسق ولم نسمع عنه أو عنهم القول بالحلول والاتحاد، فالظاهر أن هذه الطريقة كغيرها من الطرائق المشهورة يتبع تأثيرها حال المشايخ الذين يتصدون لنشرها فإن كان جاهلين ضالين أضلوا العامة بها وإن كان على علم وهدى نفعوا من ينتمي إليهم بقدر ما يصل إليه علمهم وإخلاصهم، وقلما تسلم طريقة في هذا العصر من البدع، وبعض الشر أهون من بعض، والشيوخ هم العمدة، والذكر بالأسماء المفرد لم يرد في الشرع الأمر به ولا العمل كما بينا ذلك من قبل، على أن الخطب فيه سهل.

الوصية المنامية المكذوبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوصية المنامية المكذوبة س 24 من صاحب الإمضاء في، دمشق الشام حضرة الأستاذ الكامل السيد رشيد رضا رافع منار الحقيقة في الإسلام رعاك الله. ما قول الأستاذ الرشيد في الشيخ أحمد الداعي نفسه: - خادم الحرم الشريف - وما يذيعه في أنحاء البلاد الإسلامية في كل سنة منذ بضع سنين غير قليلة - من الرسائل التي يدعي بها كل مرة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤى الشبيهة بالوحي، وعنها يروي الوصايا الجمة التي يرى فيها المطَّلع عليها من الأنباء المعين وقوعها من زمن مخصوص، والمغيب أمرها عن الخلق، وإسقاطه فروضًا من الدين عن كاتب وصيته أو مستأجرها وغفر ذنوبه ووو…! وإتيانه على لعن من لم يصدقها ويؤمن بها، إلى غير ذلك من الفظائع باسم الدين كما يتضح لكم ذلك في رسالته هذه الأخيرة التي بعثنا بها إليكم، أفيدونا ذلك أدامكم الله نجمًا للهداية ورجمًا لأرباب الغواية وسيفًا قاطعًا لرقاب المبتدعين وكهفًا للمستهدين والسلام عليكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ياسين قضماني ج - أتذكر أنني رأيت في صغري وصيةً مثل هذه الوصية أرسلت إلى والدي رحمه الله تعالى وقد سألت بعض الحجازيين هنا في (القسطنطينية) عن الشيخ أحمد الذي ينشر هذه الوصية منذ عشرات من السنين فلم يعرفه أحد ويجوز أن يكون مفتجر الوصية الأولى قد مات، وأن الذين ينشرونها في هذه السنين قد أعجبهم ذلك فهم يعيدونه بتصرف فيه معزو إلي اسم الشيخ أحمد وهذه الوصية ينطبق بعضها على الشرع دون بعضها الآخر وعندنا من كتاب الله وصحيح أحاديث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما يغني عن وصايا الرؤى إن صدق الرائي فيها فكيف إذا قام الدليل على عدم صدقه كمدعي هذه الرؤيا التي تشهد مخالفة بعض ما فيها للثابت من الشرع وغلط ألفاظها على براءة الرسول صلى الله عليه وسلم منها.

الكبريت المسوكر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكبريت المسوكر س 25 من صاحب الإمضاء في فوه. سيدي حضرة العلامة الفاضل السيد محمد رشيد رضا الحسيني صاحب مجلة المنار الغراء. بعد السلام والتحية نبدي لفضيلتكم أنه الآن حصل خلاف بين بعض علماء بندر فوه بخصوص مسألة الكبريت ولا سيما المسوكر فمنهم من قال بنجاسته، وأن الحامل لشيء منه لا تصح صلاته، ومنهم من قال بطهارته، وقد انضم لكل من هؤلاء أحزاب وضاعت الحقيقة بين الطرفين. نلتمس الإفادة ولسيادتكم من الأمة الإسلامية مزيد الشكر والثناء. ... ... ... ... ... ... أمين صندوق جمعية الإصلاح بفوه ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الحميد ج - بيّنا غير مرة في المنار أن النجس هو الشيء القذر الشديد القذارة والذي يؤخذ من مجموع كلام فقهاء المذاهب أن الشيء المتنجس يطهر بما يزيل القذارة كالماء والنار والشمس والدبغ والاستحالة. وكل ما قالوه في ذلك حق ومجموعه هو حكم الشرع في طهارة المتنجس وإن كان بعضهم لا يعترف بما يخالفه به الآخر ولا يلتفت إلي دليله فيه لأنه مقلد. والكبريت ليس قذرًا في نفسه، ولا نعلم أن فيه شيئًا من الأقذار النجسة، وسمعت بعض الناس يقول: إنه نجس لأن فيه شيئا من مادة السبيرتو أو الكحول وقد بينّا من قبل في المنار (ص 500 و 821 و 866 م 4) أن الكحول أو السبيرتو لا يقوم دليل على نجاسته والحاصل أن الأصل في الأشياء لا سيما إذا كانت لا قذارة فيها ولم يقم في الكبريت دليل ينقض هذا الأصل، فلماذا نضيق على المسلمين ونوقعهم في الحرج بما لا يزيدهم صلاحًا في نفوسهم ولا نظافة في أبدانهم مع علمنا بأن الشرع ما حثنا على الطهارة وأمرنا باجتناب النجاسة إلا لأجل أن يكون المؤمن دائمًا نظيفًا، ومَن زَعَم أنه كلفنا ذلك لأجل إعناتنا وإحراجنا فكتاب الله حكم بيننا وبينه قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) .

إصلاح الخط العربي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح الخط العربي مزية الخط العربي الكبرى التي يمتاز بها على الخط الإفرنجي وغيره هي الاختصار فالكلمة الإفرنجية تأخذ من مساحة الصحيفة مثل ما تأخذه الكلمة العربية مرتين أو مرات كما ترى في اسم (محمد) ويرسم هكذا بحروف الطبع عندهم (mohammad) ولكن في الخط العربي نقصًا ولا تشفع له هذه المزية ولا أضعافها من المزيا لو وجدت وهو أن معرفته لا تكفي لصحة قراءته؛ بل يحتاج عارفه إلى عدة علوم وفنون وحفظ الكثير من المفردات لأجل أن يصحح قراءته فكلمة (ملك) على صغرها تقرأ على وجوه كثيرة: مَلَكَ مَلَكٌ مَلَكٍ مَلْكُ مَلْكٍ مُلِكَ مُلْكٌ مُلْكٍ مِلْكُ مِلْكٍ مَلَّكَ مُلِّكَ مُلَّكٌ مُلُكٌ مُلُكٍ مُلُكٌ مُلُكٍ ولهذه الصيغ كلها معان وتقرأ على وجوه أخرى ليس لها كلها معان مستعملة في هذه اللغة لأن الميم فيها ثلاثة أوجه: الفتح والضم والكسر، واللام فيها هذه الثلاثة مع التخفيف ومع التشديد وفيها السكون، والكاف فيها الوجوه الثلاثة مع التنوين والتشديد وعدمها فيحصل من ضرب وجوه الميم وهي ثلاثة في وجوه اللام وهي سبعة 21 صورة تضرب في وجوه الكاف وهي 12 يحصل 252 ولك أن تضيف إليها السكون مع التشديد وعدمه فتلك ستة تضربها في 21 يحصل لك 126 فالمجموع زهاء 400 صورة ويكفي في الخلل أن تشتبه الكلمة بوجهين فقط كالمنتخَِب بكسر الخاء وفتحها بأن لا يخطر في بال قارئها ضبط آخر لها. ترتب على هذا الخط مفاسد كثيرة أهمها جعل اللغة العربية وعلومها عسرة التحصيل وكتبها عرضة للغلط والتحريف، وكون قرائها كثيري الغلط واللحن حتى إنه لا يكاد يوجد الآن في علمائها من يقرأ بدون لحن ولا غلط قط فما بالك بغير العلماء؟ ! ولولا هذا العيب في خطنا لكان أكثر العامة الذين يتعلمون القراءة والكتابة قويمي اللسان بهذه اللغة وإن لم يتعلموا النحو والصرف ويكثروا المراجعة في المعاجم، ولكانت ملكتها قوية فيهم وفهمها يسيرًا عليهم، فكيف يكون شأن العلماء منهم. وفي هذا الخط عيب آخر ضار وهو تشابه حروفها الذي كان سبب كثرة التصحيف والتحريف في كتبها حتى إنك ترى الألوف من أسفارها المكتوبة في القرون الخالية لا يوثق بها أولا يستفاد المراد منها أو يحتاج فيها إلى المراجعة وإطالة النظر ليعرف الأصل الصحيح منها. قد اهتدى بعض الأذكياء من أوائلنا إلى هذين العيبين في خطنا فوضعوا النقط للتفرقة بين الحروف المتشابهة، وكانت تكتب من غير نقط، ووضعوا الشكل لأجل ضبط الكلمات لتكون القراءة صحيحة لا لحن فيها ولا غلط، ولكن هذين العلاجين لم يشفيا العلة، ولم يرويا الغلة، فأما النقط فمع التزام أكثر المتقدمين وجميع المتأخرين له يكثر التصحيف في مخطوطاتهم فإن نقطة الفاء إذا جاءت كبيرة ولو بغير تعمد تقرأ قافًا، ونقطتي القاف إذا كتبتها صغيرتين أو ذهب جزء منهما بسبب ما قرئ القاف فاء، ويقال مثل ذلك في الباء مع الياء والتاء مع النون , وكثيرًا ما يؤخر الكاتب النقطة عن مكانها من الحرف أو يقدمها قليلا فتشتبه الكلمة بكلمة أخرى ولا سيما في الحروف التي تكون في أول الكلمة أو وسطها نبرة دقيقة وهي الباء والتاء والثاء والنون والياء فكلمة يبني من البناء تصير بتقديم وتأخير قليل لنقطتي النون والباء (ينبي) من الإنباء , وبمثل ذلك تشتبه الإنباء بالأبناء وعلي ذلك فقِسْ. وأما الشكل فيحصل فيه مثل هذا التقديم والتأخير الذي يكون في النقط لدقته وقرب الحروف بعضها من بعض فيترتب على ذلك الخطأ القطعي أو الاشتباه وكلاهما شر، وهو مع ذلك عسير كأن الكاتب يكتب الكلمة مرتين مرة بحروف كبيرة ومرة بحروف دقيقة جدًا ولذلك تركه الناس في غير المصاحف إلا قليلاً. وهو يعسر في الطبع كما يعسر في الخط ولذلك تكون أجرة طبع المشكول مضاعفة وأدوات الشكل يسرع إليها الكسر في المطابع لدقتها فيفسد الشكل أو يزول في أثناء الطبع، وقلّما تجد نساخًا يضبط لك شكل كتاب ينسخه لك فيجيء صحيحًا، وأندر من ذلك من يستطيع أن يشكل كتاًبا لم يكن مشكولاً فإن هذا عمل لا يقدر عليه إلا المتمكنون من فنون اللغة كلها مع التمكن من العلم الذي يتضمنه ذلك الكتاب وفهم كلامه بالقرائن والاستعانة على ذلك بمراجعة كتب اللغة وغيرها. إذا أصلح الخط العربي بكتابته مضبوطًا غير متشابه الحروف يكون ذلك مزيدًا في أعمار العرب والمسلمين الذين يكتبون بحروفهم لأنهم يتعلمون في أقل من نصف المدة التي يتعلمون فيها الآن، ومزيدًا في ثروتهم لأنهم لا ينفقون حينئذ على التعليم ونسخ الكتب وطبعها إلا بعض ما ينفقونه الآن، ويكون سببًا لسرعة ارتقائهم في العلوم والفنون والمَدنيَّة لأن هذا يتوقف على سهولة التعليم وتعميمه، وبذلك تنتشر اللغة العربية بين المسلمين من الأعاجم بسرعة عظيمة فيقوى فيهم الإسلام نفسه فتنمى به آدابهم وفضائلهم ويأمنون من نزغات الإلحاد التي تدخل عليهم الآن من كل باب من أبواب التعلم على منهاج الإفرنج فتحل روابطهم الاجتماعية وتفسد آدابهم الملية فيفشو فيهم الفسق والخيانة؛ إذ لا يكون لهم هَمّ إلا في الاستكثار من المال لأجل التمتع بلذات الدنيا التي ليس وراءها حياة عندهم. إن المسلم الذي لا يفهم القرآن فهمًا صحيحًا ولا يعرف السيرة النبوية معرفة حقيقية يسهل تحويله عن الإسلام بالتعليم الإفرنجي وإن كان من العرب الذين فسدت ملكتهم العربية كأهل بلادنا كلهم فكيف إذا كان أعجميًّا، كنت في مجلس فرأيت أحد الضباط الشبان يحادث طبيبًا صديقًا لي بجانبه فكان مما قاله أنه يعجب أن يراه متدينًا مما تلقيه للعلوم العالية وأصل هذا الدين وأساسه القرآن، (قال) وهو كتاب لم أرَ مثله كتابًا ركيكًا معسلطًا يسرع الملل إلى قارئه، قال لي الطبيب يقول هذا وهو لا يفرق بين الاسم والفعل في العربية ولا يفهم آية فهمًا صحيحًا، فقلت له إن هذا أحد السببين في ملله من القرآن، والسبب الثاني هو كفره المادي التقليدي الذي حَبب إليه الشهوات والانطلاق من قيود التقوى وكرّه إليه الإيمان والعمل الصالح، ومثل هذا القول لا يصدر عن عربي مؤمن ولا كافر فمهما كان حظ العربي من اللغة ضعيفًا يفهم في الجملة علوَّ القرآن على سائر الكلام، قال الدكتور شبلي شميل - وهو فيلسوف مادي مشهور - في النبي صلى الله عليه وسلم: إني وإن أك قد كفرت بدينه ... هل أكفرنَّ بمحكم الآيات أو ماحوت في ناصع الألفاظ من ... حجج روادع للهوى وعظات وشرائع لو أنه عقلوا بها ... ما قيدوا العمران بالعادات وأثبت الأستاذ جبر ضومط معلم البلاغة في المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت في كتابه (الخواطر الحسان في المعاني والبيان) أن القرآن معجز ببلاغته وأسلوبه. وما يؤثر عن مشركي العرب البلغاء في ذلك مشهور لا محل لشرحه هنا وإنما نقول إن أشهر وُصف وُصِف به القرآن هو كونه لا تمل تلاوته (ولا يخلقه عند أهل التلاوة كثرة الترديد) ويظن بعض الناس أن اعتقاد حقيته والأجر على تلاوته هو السبب في عدم الملل فإننا نعتقد حقية الأحاديث الصحيحة، والأجر في مدارستها ولكننا إذا قرأنا صحيح البخاري كما نقرأ القرآن دائمًا على تمادي الأيام والسنين نمل من قراءته ولا نستطيع أن نواظب عليها مع النشاط واللذة كما نواظب على تلاوة القرآن. والسبب الحقيقي لعدم المَلَل من تلاوة القرآن هو أسلوبه الغريب في مزج الحكم والأحكام والقصص والأمثال والعظات والبيّنات ووصف محاسن المخلوقات وسنن االسور فى عبارات بليغة عالية مؤثرة كما بينت ذلك في العقيدة التي وضعتها للمتوسطينمن طلاب العلوم والفنون وإنما أطلت في هذا الاستطراد لأنبه على أن الجهل بالعربية وعدم فهم القرآن هو الذي يمهد طريق الإلحاد ومنه يعلم خطأ الذين يقولون بترجمة القرآن كعبيد الله أفندي من علماء الترك وصاحب جريدة العرب التي يبث فيها هذا الفكر ليقنع به قراءها وما هم بالذين يقتنعون. ونعود إلى أصل الموضوع فنقول: إن أذكياء المسلمين من العرب والترك وأذكياء نصارى العرب من السوريين قد فكروا في مسألة إصلاح الخط العربي في أواخر القرن الماضي وأتذكر أن شيخنا الجسر رحمه الله تعالى قد أطلعني في أيام الطلب على حروفٍ رسمها بعض الأذكياء قد جعل الشكل فيها متصلاًّ بالحرف فيكون للحرف عدة أشكال مع حفظ صورته الأصلية ولم يكن هذا مرضيًا لمن اطلع عليه من الباحثين، وبحثت مجلة المقتطف في هذه المسألة فكان من رأي الباحثين فيها أن يكتب العرب لغتهم بالحروف اللاتينية التي يكتب بها الإفرنج واستحسن أصحاب المجلة هذا الرأي إن لم تكن ذاكرتي مخطئة، ولكن لم يستحسنه ولن يستحسنه المسلمون. وقد تصدّى بعض الإفرنج كالانكليزي ويلمور الذي كان قاضيًا في مصر لترويج هذا الأمر والإقناع باختيار اللغة العامية على اللغة الفصيحة، ويرى المطلعون على المجلد الأول من المنار مقالاً طويلاً منشورًا في موضعين (ص101 و120) في مقاومة هذا الرأي عنوانه: (صدمة جديدة على اللغة العربية) سببه أن بعض الدعاة إلى إقناع العرب باختيار الحروف اللاتينية قد نشر مع بعض الجرائد اليومية بمصر منشورًا يدعو فيه إلى كتابة اللغة العامية بهذه الحروف، وعين جوائز مالية لمن يفعل ذلك، ومن البديهي أن غرض هؤلاء الدعاة هدم اللغة العربية والإسلام جميعًا وما ذلك بالأمر المستطاع لو أنفقوا في سبيله جميع ما في أوربا من الذهب. واخترع جميل أفندي الزهاوي من أذكياء بغداد خطًّا جديدًا هو أمثل من الخط العربي ومن الخط الإفرنجي وعَرَضَه على الناس في مجلة المقتطف فلم يحفل به أحد لأن المسلمين هم أصحاب الشأن في هذا الأمر ولا يرضون بأن يتغير الخط الذي هو من مقوماتهم الملية، وقد كتبت به مصاحفهم وأسفار سلفهم ولا سيما إذا كان التغيير بالانتقال إلى خط أعدائهم السياسيين الذين يريدون إزالة سلطانهم من الأرض وجعلهم أُجَراء مسخّرين لخدمتهم وهم الإفرنج. ذاكرت أحمد مختار باشا الغازي في هذه المسألة بمصر منذ سنين فكان مما قاله لي: إننا فكرنا في هذه المسألة من قبل وتذاكرت أنا وناظر المعارف وغيره من كبار رجال الدولة في وجوب إصلاح خطنا ليقرأه صحيحًا كل قارئ فإن ضرر هذا الخط علينا عظيم ولا سيما في العسكرية فإننا نرسل الضباط من أركان الحرب لخرت بعض المواقع وضبط أسماء معاهدها وطرقها وقراها فيكتبون لنا أسماء لا نقرأها صحيحة وقد يكون الغلط والاشتباه فيها سببًا للفشل في الحرب إذا وقعت فيها فكان من رأيي أن تكون نظارة الحربية أول من يستعمل الخط المضبوط في جغرافيتها فذلك لا يؤثر في التعليم الديني والأدبي ولا يهيج علينا المتعصبين من العلماء لكل قديم ولكن لم يكد ينتشر بين الناس خبر مذاكرتنا في ذلك حتى لغط به الناس وعدوه جناية على الإسلام وبلغني أن بعضهم قال نحن لا نعتب على فلان باشا وفلان باشا إذا قالوا مثل هذا القول لقلة مبالاتهم بالدين، ولكن نعتب على أحمد مختار باشا - أو قال مختار بك لأنه لم يكن يومئذ باشا - الذي كنا نظن أنه مسلم متدين ثم قال لي بهذه المناسبة: (إن الإصلاح لا يمكن أن يأتي من تحت الطربوش بل لا بد أن يكون من تحت العمامة فإذا لم يوجد في علماء المسلمين من يقوم بالإصلاح فلا يصلح حالهم حتى إن الخليفة الذي هو إمام المسلمين ورئيسهم الديني لا يمكنه وقد خرج من الهيئة العلمية الدينية أن يأتي بإصلاح جديد للمسلمين

أطوار اللغة العربية

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ أطوار اللغة العربية [*] لم يأت الباحثون عن مبدأ اللغة في أدلتهم بما تطمئن إليه النفوس ويحل منها محل القطع أو الظن القريب منه، على أن اختلافهم في تعيين الواضع هل هو الله تعالى أو البشر مما لا تترتب عليه فائدة في العمل تقتضي العناية بترجيح أحد المذهبين، ومِن ثَمّ صحح المحققون أن إدخال هذه المسألة في علم الأصول من الفضول، وزعم بعضهم أن قلب الألفاظ التي يؤدي تغييرها إلى فساد في أحكام الشريعة كتسمية الثوب فرسًا والفرس ثوبًا يرجع حكمه إلى أصل ذلك الخلاف فيمتنع القلب على القول بأن اللغة كلها وقعت بتعليم مِن الله ويجوز على القول بأنها وضعت باصطلاح البشر وليس هذا البناء بمستقيم فإن مجرد إسناد الوضع إلى الله تعالى، وإن ثبت بالحجة القاطعة لا يقتضي الوقوف عند حد ما ورد منه والإمساك عن تغييره باصطلاح جديد. وأقصى ما ثبت في التأريخ أن هذه اللغة كانت في قبائل مِن ولد سام بن نوح عليه السلام وهم: عاد وثمود وجرهم الأولى ووبار وغيرها وقد انقرضت أجيال هؤلاء إلا بقايا متفرقين في القبائل، ولا يصح شيء مما يُروى عنهم من الشعر، وقد أنكر العارفون على مَن كتب في السيرة أشعارا كثيرة ونسبها إلى عاد وثمود، ثم انتقلت إلى بني قحطان وكانوا يتكلمون باللسان الكلداني لسان أهل العراق الأصليين وأول مَن انعدل لسانه إلى العربية (يعرب بن قحطان) وبعد أن نشأت منها الحميرية لغة أهل اليمن انتقلت إلى أولاد إسماعيل عليه السلام بالحجاز، ولم تكن لغة إسماعيل عربية بل كان عِبرانيا على لسان أبيه إبراهيم عليه السلام، ثم انخرط في شعوب العرب بمجاورتهم ومصاهرته لجرهم الثانية حين نزل بمكة فنطق بلسانهم وورثه عنه أولاده؛ فأخذوا يصوغون الكلام بعضه مِن بعض ويضعون الأسماء بحسب ما يحدث مِن المعاني إلى أن ظهرت اللغة في كامل حسنها وبيانها وصار لها شأن عظيم وتأثير بليغ. ويدلك على عنايتهم بأمر الفصاحة ما وصل إلينا من نتائج أفكارهم وبدائع خُطَبِهم وقصائدهم في سوق عُكَاظ وسوق مُجنة؛ إذ يَفِدون عليها في موسم الحج ويقيمون في عكاظ ثلاثين يومًا وفي مجنة سبعة أيام يتناشدون ما وضعوه في الشعر ويتفاخرون بجودة صناعة الكلام وعند احتفالهم يضربون قبة للشاعر العظيم في وقته كالنابغة الذبياني ويعرضون عليه منتخبات أشعارهم، وكان بعضهم يهدد بعضا بنظم الهجاء وتسييره في ذينك الموضعين قال: أمية بن خلف يهدد حسان رضي الله عنه. ألا مَن مبلغ حسان عني ... مغلغة تدب إلى عكاظ وقال حسان في جوابه: أتاني عن أمية زُورَ قول ... وما هو في المغيب بذي حِفاظ سأنشر إن بَقِيتُ له كلامًا ... يُنشر في المَجنة مع عُكاظ ومِن شواهد هذا أن الحارث بن حِلزة اليشكري كان شاعرًا حكيمًا ولكنه ابْتُلِيَ بوضح (بَرَص) ومن أجله كان عمرو بن هند ملك الحيرة يكره النظر إليه ويأبى أن يستمع إلى خطابه إلا مِن وراء ستار، فدخل عليه يومًا وأنشد بين يديه قصيدته المعدودة في المعلقات: آذَنَتْنا بِبَيْنِهَا أسماء ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّواء وتعرض فيها إلى شيء من الصلح بين بكر وتغلب فبهرت عمرًا برائع نظمها واستولت على لبه بسحر بيانها فأخذته هِزة وارتياح ولم يتمالك أن أمر برفع الستار ما بينهما. واقتضت عناية العرب لذلك العهد بالإبداع في القول والتنافس في مقام الفصاحة أن ظهرت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في بلاغة ما أُنزل عليه من القرآن، كما جاء عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله لمّا أُرْسِل إلى قومٍ توفرت عندهم العناية بعلم الطب، وكما بُعث موسى عليه السلام إلى أمة انتهى السحر فيها إلى غاية فأتاهم في مقام المعجزة بأبدع ما يكون في قلب الأعيان وإراءتها في غير صورتها الأولى. ثم ارتقت اللغة في صدر الإسلام إلى طورها الأعلى ودخلت في أهم دور يحق علينا أن نسميه عصر شبابها فنمت عروقها وأثمرت غصونها بألوان مختلفة من الأساليب. ومِن مآثر هذه الحياة الراقية أَنْ كان كلام الناشئين في الإسلام من العرب أحلى نسقًا وأصفى ديباجة من كلام الجاهلية في شعرهم وخطبهم ومحاوراتهم. والأسباب التي ارتقت بها اللغة حتي بلغت أشدها وأخذت زخرفها أمور ثلاثة: أحدها: ما جاء به القرآن الحكيم من صورة النظم البديع والتصرف في لسان العرب على وجه يملك العقول؛ فإنه جرى في أسلوبه على منهاج يخالف الأساليب المعتادة للفصحاء قاطبة - وإن لم يخرج عما تقتضيه قوانين اللغة - واتفق كبراؤهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه اللائق به وإنْ تفاضل الناس في الإحساس بلطف بيانه تفاضلهم بسلامة الذوق وجودة القريحة. ومن النحاة من يحكم على بعض استعمالات يَردُ عليها القرآن بعدم القياس عليها كما قصروا حذف حرف المصدر ورفع المضارع بعده على السماع بعد أن أوردوا في مثاله قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} (الروم: 24) الآية، ولا أدري كيف يتفق لهم هذا مع علمهم بأنه صاحب البلاغة التي ليس وراءها مطلع، وإنَّا لنعلم قولهم في أصول العربية أنَّ ما قل في السماع إنْ كان مقبولاً في القياس صح القياس عليه، وإن وُجِدَ ما يعارضه في القياس يُوقَفُ على السماع فنسلم لهم إجراء هذه القاعدة في كلام العرب لاحتمال أن تزيغ ألسنتهم عن القصد فيحرفون الكلمة عن أصل استعمالها غلطًا، ولا نسلم لهم تحكيمها في كتاب الله الذي أخرس بفصاحته لسان كل منطيق. ثانيها: ما تفجر في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من ينابيع الفصاحة وما جاء في حديثه من الرقة والمتانة والإبانة عن الغرض بدون تكلف، رُوي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: لقد طُفْتُ في أحياء العرب فما رأيت أحدًا أفصح منك يا رسول الله، قال (وما يمنعني وأنا قرشي وأرضعت في بني سعد وبنو سعد أفصح قبيلة في العرب بعد قريش) . وإنما أغضى علماء اللسان النظر عن الاستشهاد بالحديث لأن رواته لم يَجْمعوا عنايتهم على ضبط ألفاظه كما كانوا يتثبتون في نقله على المعنى، ولو تحقق أهل العربية من رواية حديث بلفظه كالأحاديث المنقولة للاستشهاد على فصاحته صلى الله عليه وسلم لاستندوا إليه في وضع أحكامها يقينًا. ثالثها: ما أفاضه الإسلام على عقولهم بواسطة القرآن والحديث من العلوم السامية وبما نتج عن تعارف الشعوب والقبائل والتئام بعضها ببعض من الأفكار ومطارحة الآراء، ومعلوم أن اتساع العقول وامتلائها بالمعار مما يُرَقَّي مداركها ويزيد في تهذيب ألمعيتها فتقذف بالمعاني المبتكرة وتبرزها في أساليب مستحدثة فإن، كثرة المعاني ودقتها تبعث على التفنن في العبارة والتأنق في سياقها ويُوَضِّح لكم هذا أن الناشئين في الحواضر نجدهم في الغالب أوسع غاية في اجتلاب المعاني الفائقة وأهدى إلى العبارات الحسنة مِمَن يعادلهم في جودة القريحة وفصاحة المنطق بفطرته لاشتمال المدن على معانٍ شتى ينتزع الذهن منها هيئات غريبة لا طريق لتصورها إلا المشاهدة. ولما فارقت العرب الحجاز لإبلاغ دعوة الإسلام وبث تعاليمه بين الأمم اقتضت مخالطتهم لِمَن يُحسن لغتهم ضعف ملكاتها على ألسنتهم ودخول التغيير عليها في مبانيها وأساليبها وحركات إعرابها وابتدأ التحريف يسري إلى اللغة في عهد الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأشار على أبي الأسود الدؤلي بوضع علم النحو ولم يزل أئمة العربية يحوطونها باستنباط القواعد حتى ضربوا عليها بسياج يقيها عادية الفساد، ويحول بينها وبين غوائل الضياع والاضمحلال وحين انتشرت المخالطة وتفشى داء اللحن أمسك العلماء عن الاستشهاد بكلام معاصريهم من العرب ويعدون أول المحدثين الذين لا يستشهد بأقوالهم بشار بن برد المتوفى سنة 167 واحتج سيبويه بشيء مِن شعر بشار بدون اعتماد عليه وإنما أراد مصانعته وكف أذايته حيث هجاه لتركه الاحتجاج بشعره كما استشهد أبو علي الفارسي في كتاب (الإيضاح) بقول أبي تمام: مَن كان مُرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا وليس مِن عادتهم الاستشهاد بشعر أبي تمام لأن عَضُد الدولة كان يُعجب بهذا البيت وينشده كثيرًا. واستشهد صاحب الكشَّاف عند قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (البقرة: 20) ببيت من شعر أبي تمام، وقال وهو وإن كان محدثًا لا يُستشهد بشعره في اللغة فهو مِن علماء العربية فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، فيؤخذ من صريحه أنه يرى صحة الاحتجاج بكلام المحدث إذا كان من أئمة اللغة وليس مذهبه هذا بسديد وقياس ما يقوله أبو تمام على ما يرويه غير صحيح فإن التكلم بالعربية الصحيحة لعهد أبي تمام ناشيء عن ملكة تُستفاد مَن تعلم صناعتها ومدارسة قوانينها فعلى فرض أن لا تفوته معرفة بعضها قد يذهل عن ملاحظة تلك القوانين فلا يأمن أن يَزِلَّ به لسانه في خطأ مبين، وأبو تمام نفسه صدرت عنه أبيات كثيرة خرج فيها عن مقاييس العربية قال ابن الأثير لم أجد أحدًا من الشعراء المُفْلَقين سَلِمَ مِن الغلط فإما أن يكون لَحِنَ لَحْنًا يدل على جهله بمواقع الإعراب، وإما أن يكون أخطأ في تصريف الكلمة ولا أعني بالشعراء مَن تقدم زمانه كالمتنبي ومَن كان قبله كالبحتري ومَن تقدمه كأبي تمام ومَن سبقه كأبي نُوْاس. أما العربي القَح فإنه يطلق العبارة بدون كُلفة في اختيار ألفاظها أو ترتيب وضعها فتقع صحيحة في مبانيها مستقيمة في إعرابها، ولا يكاد يَلْحِن في إعراب كلمة أو يُزيلها عن موضعها إذا ترك لسانه وسجيته ومن ثم كان قَرضُ الشعر كالخطابة على الارتجال والبديهة شائعًا عند العرب نادرًا في عصر المولدين، ولا يعترض هذا بأن كثيرًا من العرب يطيل المدة في عمل القصيدة كما فعل زهير في حولياته لأنه يستوفيها في أمد قريب ويتمها على شرط الصحة ولكنه لا يخرجها للناس إذا فرغ من عملها إلا بعد التروي وإعادة النظر في تقويم معانيها وحسن النسق في بنائها وإحكام قوافيها لا ليخلصها من اللحن ويطبق عليها أصول العربية كما هو شأن المُحْدَثِينَ. ثم نشأ بهذا التحريف الذي طرأ على اللغة مرض آخر انجر إليها بسبب من أسباب حسنها هو أن مسلم بن الوليد وأبا تمام أمعنا النظر في أشعار الفصحاء وخطبهم وحسروا اللثام عن وجه بيانها فأبصروا فيها محاسن من فنون البديع كالاستعارة والجناس والتورية فَشُغِفوا بها وثابروا على إيرادها في منظوماتهم توفيرًا لحسنها واستزادة من التأنق فيها فكان الناس يقولون: إن أول مَن أفسد الشعر مسلم بن الوليد وسمع أعرابي قصيدة أبي تمام التي يقول في طالعها: طلل الجميع أراك غير حميد ... فقال إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا أفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه، وما تعاصى فهمها على الأعرابي إلا لكونه سمع شعرًا حُشِي بوجوه من البديع خرجت به عن الأسلوب المألوف فثقل تأليفه وبَعُد عن الأفهام تناوله. واتبع طريقهما كثير من الأدباء وربما انتهى بهم الإعجاب بمحاسن البديع إلى مخالفة قانون العربية وتغيير بنية الكلمة من أجلها كقول بعضهم: انظر إليَّ بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلافِ قبل تلافي فكأنه زاد في مصدر تلف ألِفًا يتم له الجناس مع قوله تلاف ولا نعرف في كتب اللغة من ذكر التلاف مصدرًا لتلف وإنما يوردون ف

السائل والمسئول

الكاتب: فوزان بن سابق

_ السائل والمسؤول كلمة مولى بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة الشيخ المكرم ناصر السنة وقامع البدعة العالم العامل السيد محمد رشيد رضا المحترم أدام الله بقاءه آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد قرأت في المنار الأغر لا زالت راياته منشورة، وآياته ظاهرة منصورة، في (ص814 جزء11من المجلد12) سؤالاً ورد من محمد علي أفندي من موظفي كمرك يافا ذكر فيه أنه قد اطلع على كتاب يُدعي صيانة الإنسان عن وساوس ابن دحلان قال (فرأيته فسر كلمة مولى بما معناه: إن كلمة مولى مشتقة من اسم الجلالة فلا يجوز والحالة هذه إطلاقها على بني الإنسان كأن يقال مثلاً مولانا فلان فكل إنسان قالها لإنسان غيره يشرك بالله، إلى آخر السؤال فأجبتم على هذا السؤال بقولكم: الجواب قد غلا صاحب ذلك الكتاب في قوله الذي نقلتموه غلوًّا كبيرًا وأخطأ خطأ ظاهرًا إلى آخر الجواب، وحيث أن الداعي لتحريري هذا هو التنبيه لا طلب التخطئة فأرجوكم أن تسمحوا لي من حيث اني أنبه على غلط السؤال والجواب ليتبين وجه الصواب، فأقول: مِن الواجب أن يتنبه المسئول لمورد السؤال فلا يعتمد نقل السائل إذا كان يعزو إلى كتاب معين سواء كان حكى اللفظ أو المعنى كهذا السائل الذي لا يفهم منهما شيئًا إن لم يكن عنده سوء قصد فحيث إن موضوع الكتاب المسمى بصيانة الإنسان رد علي ما افتراه دحلان على الشيخ محمد بن عبد الوهاب من الكذب والبهت في رسالته التي سماها (بالدرر السنية في الرد على الوهابية) فقد أقام الله تعالى لرد باطله ذلك العالم الجليل صاحب صيانة الإنسان الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السندي حتى زيف ما لفقه من الزور والبهتان، وأبدى عوراته لكل إنسان، فجزاه الله عن نصرة الحق وأهله خير الجزاء، وهذا ما قاله دحلان مما وقع في صفحة511 من الكتاب المذكور (ويزعم أن من قال لأحدنا مولانا وسيدنا فهو كافر إلى آخر ما هذي به) ، فهذا جواب صاحب صيانة الإنسان ننقله بالحرف الواحد قال في صفحة 513: (وأما مسألة قولنا لأحدنا مولانا وسيدنا فنذكر ما ورد في الباب، منها ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا يقولن أحدكم عبدي فكلكم عبيد الله ولكن ليقل فتاي ولا يقول العبد ربي ولكن ليقل سيدي) - وفي رواية له - (ولا يقل العبد لسيده: مولاي) . وزاد في حديث أبي معاوية: (فإن مولاكم الله عز وجل) - وفي رواية له - (ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي ومولاي ولا يقل أحدكم عبدي أمتي وليقل فتاي فتاتي غلامي) ، وأخرج هذا الحديث أبو داود أيضًا وأخرج أبو داود عن مطرف قال: قال أبي: (انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا فقال: السيد الله، قلنا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا قال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستحرينكم الشيطان) ، وأخرج أبو داود عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقولوا للمنافق سيد فإنه إن يك سيدًا فقد أسخطتم ربكم عز وجل) انتهى. فقد عُلم مِن تيك الأحاديث أن النبي صلي الله عليه وسلم نهى عن إطلاق لفظ السيد والمولى على أحدنا ورخص فيهما أيضًا ووجه التوفيق بأن للسيد والمولى معاني فالنهي باعتبار بعض المعاني والرخصة باعتبار البعض الآخر، قال في النهاية في مادة السود: السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومتحمل أذى قومه والزوج والرئيس والمقدم، انتهى، وقال في مادة الولي: وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو الرب والمالك والسيد والمُنْعِم والمعتق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتق والمُنْعَم عليه انتهى. فالنهي عن إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله محمول على السيد والمولى بمعنى الرب، والرخصة محمولة عليهما بمعنى آخر مِن سائر المعاني فإن ثبت أن الشيخ قد منع مِن إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله فمراده السيد والمولي بمعني الرب، وأما بالمعني الآخر فكيف يتصور أن يمنع الشيخ منه فإنه عقد بابًا في كتاب التوحيد بهذا العنوان باب (لا يقول عبدي وأمتي) وأورد فيه حديث أبي هريرة المروي في مسلم الذي تقدم ذكره آنفا وفيه هذا اللفظ: وليقل سيدي ومولاي، فهذا اللفظ صريح في جواز إطلاق لفظ السيد والمولى على غير الله بالمعني الآخر، انتهي المقصود منه. وله تتمة ساق المصنف فيها أحاديث كثيرة في جواز إطلاق السيد والمولي بمعنى غير الرب على الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين لا وجه للمنع منه، فانظر حفظك الله من أين فهم السائل أن صاحب الكتاب فسر كلمة مولي بأنها مشتقة من اسم الجلالة إلى آخر ما ذكره حينئذ تعلم أن السؤال والجواب، قد حادا عن طريق الصواب، وختام كتابي تقديم أزكى سلامي ولائق احترامي ودمتم محروسين دمشق الشام، كاتبه، فوزان بن سابق. (المنار) لا نسلم للكاتب قوله إنه يجب على المسؤول أن لا يعتمد على نقل السائل فكلام الناس ونقلهم يُحمل على الصدق ما لم يتبين كذبه أو يدل عليه شيء وإذا كان الجواب مبنيًّا على السؤال وكان حًقا علي تقدير كون السؤال في محله فلا لوم على المجيب إذا كان السؤال غير منطبق علي الواقعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجيب، بل يحكم للناس بحسب الظواهر كما هو معلوم.

إلى الأمة العربية

الكاتب: معروف الرصافي

_ إلى الأمة العربية هو الليل يغري بي الأسى فيطول ... ويرخي وما غير الهموم سدول أبِيتُ به لا الغاربات طوالع ... عليّ ولا للطالعات أُفُول وينشر فيه الصمت لبدا مضاعفًا ... فتطويه مني رنة وعويل ولي فيه دمع يلذع الخد حره ... وحُزن ما امتد الظلام طويل بكيت على كل ابن أروع ماجد ... له نسب في الأكرمين جليل يليح من الضيم المذل بغرة ... لها البدر ترب والنجوم قبيل مِن العرب أما عرضه فموفر ... مصون وأما جسمه فهزيل له سلف عزّوا فبزوا نباهة ... ولم تعتورهم فترة وخمول وساروا بنهج المكرمات تقلهم ... قلائص من سعي لهم وخيول وكانوا إذا ما أظلم الدهر أشرقت ... به غرر من مجدهم وحجول أولئك قوم قد ذوى روض مجدهم ... فلم تسر فيه نسمة وقبول وقد أعطشته السحب حتى لقد علت ... على الزهر منه صفرة وذبول رعى الله من أهل الفصاحة معشرًا ... لهم كان فوق الفرقدين مقيل ترامى بهم ريب الزمان كأنما ... له عندهم دون الأنام ذحول فأمست من العمران خلوا بلادهم ... فهنَّ حزون قفزة وسهول وعادت مغاني العلم فيها دوارسًا ... تجر بها للرامسات ذيول وقوَّضَت الأيام بنيان مجدها ... فربع المعالي بينهن محول نظرت إلى عرض البلاد وطولها ... فما راق لي عرض هناك وطول ولم تبد لي فيها معاهد عزها ... ولكن رسوم رثة وطلول نظرت إليها من خلال ذوارف ... من الدمع طرفي بينهن كليل فكنت كراءٍ من وراء زجاجة ... بعينيه كيما يستبين ضئيل ولم أتبين ما هنالك من علي ... لكثرة ما قد دب فيه نحول هناك حنيت الظهر كالقوس رابطًا ... بكفي على قلب يكاد يزول وأوسعت صدري للكآبة فاغتدت ... بإرجائه تحت الضلوع تجول وأرسلت دمع العين فانهل جاريًا ... له بين أطلال الديار مسيل أأمنع عيني أن تجود بدمعها ... على وطني؟ إني إذًا لبخيل! فإن تعجبوا أَنْ سال دمعي لأجله ... فإنَّ دمي من أجله سيسيل! وما عشت أني قد تناسيت عهده ... ولكن صبري في الخطوب جميل وإن امرأ قد أثقل الهم قلبه ... كقلبي ولم يلق الردى لحمول أفي الحق أن أنسى بلادي سلوة ... ومالي عنها في البلاد بديل أقول لقومي قول حيران جازع ... تهيج به أشجانه فيقول: متى ينجلي يا قوم صبح ظلامكم ... وتذهب عنكم غفلة وذهول وينطق بالمجد المؤثل سعيكم ... فيسكت عنكم لائم وعذول؟ تريدون للعليا سبيلاً وهل لكم ... إليها وأنتم جاهلون سبيل! أناشدكم أين المدارس إنها ... على الكون فيكم والحياة دليل؟ وأين الغنيُّ المرتجى في بلادكم ... يجود على تشييدها ويطول! بلاد بها جهل وفقر كلاهما ... أكول شروب للحياة قتول أجل إنكم أنتم كثير عديدكم ... ولكن كثير الجاهلين قليل ولو أن فيكم وحدة عصبية ... لهان عليكم للمرام وصول ولكن إذا مستنهض قام بينكم ... تلقاه منكم بالعناد جهول! وأى فريق قام للحق صده ... فريق طلوب للمحال خذول! وإن كان فيكم مصلحون فواحد ... فعول وألف في مداه قؤول! على أن لي فيكم رجاء وإن أكن ... إلى اليأس أحيانا أكاد أميل ألستم من القوم الأولى كان علمهم ... به كل جهل في الأنام قتيل لهم همم ليس الظباة تفلها ... وإن كان منها في الظباة فلول ألا نهضة علمية عربية ... فتنعش أرواح بها وعقول ويشجع رعديد ويعتز صاغر ... وينشط للسعي الحثيث كسول فإن لم تقم بعد الأناة عزائم ... فعتبي عليكم والملام فضول! ... ... ... ... ... ... ... ... ... معروف الرصافي

رعاية الأطفال

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ رعاية الأطفال محمد حافظ إبراهيم شبحًا أرى أم ذاك طيف خيال؟ ... لا بل فتاة بالعراء حيالي أمست بمدرجة الخطوب فما لها ... راع هناك وما لها من وال حسرى تكاد تعيد فحمة ليلها ... نارًا بأنّات زكين طوال ما خطبها عجبًا وما خطبي بها ... ما لي أشاطرها الوجيعة ما لي! دانيتها ولصوتها في مسمعي ... وقع النبال عطفن إثر نبال وسألتها: مَن أنت؟ وهي كأنها ... رسم على طلل مِن الأطلال! فتململت جزعًا وقالت: حامل ... لم تدر طعم الغمض منذ ليال قد مات والدها وماتت أمها ... ومضى الحِمام بعمها والخال وإلى هنا حبس الحياء لسانها ... وجرى البكاء بدمعها الهطال فعلمت ما تخفي الفتاة وإنما ... يحنو على أمثالها أمثالي ووقفت أنظرها كأني عابد ... في هيكل يرنو إلى تمثال ورأيت آيات الجمال ... تكفلت بزوالهن فوادح الأثقال لا شيء أفعل في النفوس كقامة ... هيفاء روّعها الأسى بهزال أو غادة كانت تريك إذا بدت ... شمس النهار فأصبحت كالآل قلت انهضي، قالت أينهض ميت ... مِن قبره ويسير شن بالي؟ فحملت هيكل عظمها وكأنني ... حملت حين حملت عود خلال! وطفقت أنتهب الخطى متيممًا ... بالليل دار رعاية الأطفال أمشي وأحمل بائسين فطارق ... باب الحياة ومؤذن بزوال أبكيهما وكأنما أنا ثالث ... لهما مِن الإشفاق والأعوال وطرقت باب الدار لا متهيبًا ... أحدا ولا مترقبًا لسؤال طرق المسافر آب مِن أسفاره ... أو طرق رَبُّ الدار غير مبال وإذا بأيد طاهرات عودت ... صنع الجميل تطوعت في الحال جاءت يسابق في المبرة بعضها ... بعضًا لوجه الله لا للمال فتناولت بالرفق ما أنا حامل ... كالأم تكلأ طفلها وتوالي وإذا الطبيب مشمر وإذا بها ... فوق الوسائد في مكان عال جاؤا بأنواع الدواء وطوَّفوا ... تسرير ضيفهم كبعض الآل وجثا الطبيب يجس نبضًا خافتًا ... ويرود مكمن دائها القتَّال لم يدر حين دنا ليبلو قلبها ... دقات قلب أم دبيب نمال ودعتها وتركتها في أهلها ... وخرجت منشرحًا رخيّ البال وعجزت عن شكر الذين تجردوا ... للباقيات وصالح الأعمال لم يُخجلوها بالسؤال عن اسمها ... تلك المروءة والشعور العالي خير الصنائع في الأنام صنيعة ... تنبو يحاملها عن الإذلال وإذا النوال أتى ولم يهرق له ... ماء الوجوه فذاك خير نوال مَن جاد مِن بعد السؤال فإنه ... وهو الجواد يعد في البخال لله درهم فكم مِن بائس ... جم الوجيعة سيئ الأحوال ترمي به الدنيا فمِن جوع إلى ... عُري إلى سقم إلى إقلال عين مسهدة وقلب واجف ... نفس مروعة وجيب خال لم يدر ناظره أعريانا يرى ... أم كاسيًا فى تلكم الأسمال فكأن ناحل جسمه في ثوبه ... خلف الخروق يطل مِن غربال! يابرد فاحمل قد ظفرت بأعزل ... يا حر تلك فريسة المغتال يا عين سِحّي يا قلوب تفطَّري ... يا نفس رقي يا مروءة والي لولاهم لقضى عليه شقاؤه ... وخلا المجال لخاطف الآجال لولاهم كان الردى وقفًا على ... نفس الفقير ثقيلة الأحمال لله در الساهرين على الألى ... سهروا مِن الأوجاع والأوجال القائمين بخير ما جاءت به ... مدينة الأديان والأجيال أهل اليتيم وكهفه وحماته ... وربيع أهل البؤس والإمحال لا تهملوا في الصالحات فإنكم ... لا تجهلون عواقب الإهمال إني أرى فقراءكم في حاجة ... - لو تعلمون - لقائل فعال فتسابقوا الخيرات فهي أمامكم ... ميدان سبق للجواد النال والمحسنون لهم على إحسانهم ... يوم الإثابة عشرة الأمثال وجزاء رب المحسنين يجل عن ... عَدٍّ وعن وزن وعن مكيال

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (العرب والترك) قد علم قراء المنار أن السعي في حسن التفاهم بين العرب والترك قد كان أحد القصدين الجليلين من رحلتنا إلى دار السلطنة في آخر الخريف حيث يعود المصريون منها ومن سائر البلاد التي يصطافون فيها لقضاء فصل الشتاء بمصر التي لا يَفْضُل شتاءها شتاء؛ وعلموا أيضًا أنه كان مِن السعي زيارتنا لصاحب جريدة (إقدام) ومعاتبته على ما كتب في شأن العرب وعرض مقالات عليه في حسن التفاهم بين العنصرين اللذين هما قوام الدولة العثمانية ووعده بنشرها ولكن أكثرهم لا يعلمون أن صاحب (إقدام) نشر ثلاثًا مِن تلك المقالات وامتنع عن نشر ثلاث: نشر المقدمات وامتنع عن نشر المقصد الذي فيه بيان أسباب سوء التفاهم وطرق تداركها وتلافيها، ومنها مسألة تنقيح اللغة التركية وحذف الألفاظ العربية منها وما سمع عن جريدة (إقدام) من سوء التعبير فيها، قال في بيان سبب امتناعه عن نشر المقالة الرابعة إن هذه أمور ملية تتعلق بنا (أي الترك) فليس له حق في البحث فيها! ! وقد استمر على نغماته الجنسية بقلمه وقلم أعوانه حتى نشر مقالة من مقالات عن اليمن بإمضاء (خليل حامد) وهو إمضاء مستعار لأحد الضباط هنا وقد جاء في هذه المقالة من الطعن في العرب أنهم - في زعم الكاتب - بمقتضى طبيعتهم يبيعون بالمال كل شيء حتى أعراضهم! ! وقد قامت لهذه العبارة قيامة العرب الذين هنا حتى إن بعض الشبان استفزتهم حمية الغيرة على العرض التي لا يداني العرب فيها شعب مِن شعوب الأرض فدفعتهم عند قراءة هذه العبارة والدم العربي يتبيغ في أجسامهم إلى إدارة جريدة إقدام وإهانة صاحبها وتحقيره على نشر هذه السفاهة حتى قيل إنهم بصقوا في وجهه ولا عجب فصاحب الغيرة على العرض قد يقتل مَن يطعن في عرضه عندما يفاجئه ذلك، والقوانين تعذر مَن تدفعه الحدة العارضة للدفاع عن عرضه إذا أطاعها مِن فوره ولا يعد هذا الدفاع منكرًا قبيحًا كسائر أنواع الإهانات إلا مَن لم يعرف للغيرة على العرض معنى. نحن لا نقول: إن الاعتداء أو الافتيات على الحكومة في القصاص أمر حسن مشروع وإنما نقول ويقول العقلاء كافة: إن فرقًا عظيمًا بين اعتداء مبتدأ لا يدفع له الطبع وبين مؤاخذة فورية لم توطن عليها النفس. وكيف يستنكر من فتيان العرب مثل هذه الغيرة التي لا رأي لهم فيها ولا روية وقد اضطربت لهذا الطعن أعصاب الكهول والشيوخ من المبعوثين كغيرهم حتى إن بعضهم أصابه الصداع ولم يستطع في ذلك المساء تناول الطعام وذهب وفد منهم إلى الصدر الأعظم وكان في مجلس الوكلاء فأرسلوا إليه فخرج إليهم ووعدهم هو وناظر العدلية بتدارك الأمر وإحالة أحمد جودت بك مدير إقدام على ديوان الحرب العرفي لتعطيل جريدته ثم محاكمته في العدلية وقد حكم الديوان بتعطيل جريدة إقدام إلى أجل غير مسمى ولكنه لم يلبث أن أصدرها وكتب فوق كلمة اسمها كلمة (يكي) أي جديدة أو الجديدة، وناهيك بهذا من عقوبة!! وحكم عليه أيضًا بمائة ليرة غرامة غرمها. وقد علم ديوان الحرب أن الناس صاروا يسخرون من تعطيل الجرائد لأن من عطلت جريدته صار يصدرها بإضافة لفظ (يكي) إليها فقرر أنه لا يجوز لمن يحكم هو بإلغاء جريدته أن يصدر جريدة ما إلا بإذن منه ولكن هذا القرار لم ينفذ على جريدة إقدام! وقد كتب أحمد بك جودت مدير إقدام عندما عطلت جريدته مقالة نشرها في جريدة (طنين) اعتذار فيها عن نفسه ولكن كان عذرًا أقبح من ذنب فإنه نفث فيها سموم التغاير والتدابر بين العرب والترك بإيهامه القارئين لها أن العرب يتهمونه بأنه مندفع لعداوة العرب بجنسيته التركية ويرون أن الترك أعداء العرب وانتقل من هذه الدسيسة إلى الامتنان على العرب بفضل الترك عليهم وذكر من هذا الفضل ما يعلم هوانه في غير محله فالظاهر أنه يريد بذلك أن يقوم كتاب العرب للرد عليه وإنكار ما قاله مخالفًا للتأريخ ليتسنى له ولأمثاله حينئذ أن يوسعوا الخرق ويقولوا: إن العرب يحتقرون الترك. ونحن لم نسمع أحدًا من العرب يقول: إن مدير إقدام يذم العرب بإغراء الترك أو رضاهم. ادعى صاحب (إقدام) في مقالته هذه أن جريدته هذه ليست جريدةً عنصريةً ولا ترجح الترك على غيرهم من العثمانيين وأن جميع الأجناس يعترفون له بذلك، والمشهور خلاف ذلك. وإنه ما وجدت جريدة تركية أساءت إلى العرب أو أغضبتهم كما أغضبتهم جريدة إقدام فهي أشهر الجرائد في التعصب الجنسي، ولأجل هذا التعصب لم تنشر مقالاتنا التي طالبنا فيه بإنصاف العرب وحسن التفاهم بينهم وبين إخوانهم الترك وإلا فما هو عذره، ولماذا أخلفنا وعده؟ قال بعد تلك المقدمة التي مدح بها نفسه وبرأها كما شاء (فالقول بأن التركية هي التي دفعت جريدة إقدام لكتابة تلك الفقرة هو اتهام للترك كلهم) فانظر إلى هذه النتيجة الخاطئة من تلك المقدمات الباطلة. ثم قال: (نعم إن الترك فدوا في اليمن وغيرها مئات الألوف من أولادهم فهذا الفداء ليس لأجل أن يفترقوا عن العرب بل بالعكس يقتضي محبة الاتحاد معهم!! والتأريخ يشهد لنا بأن الذي خلص جزيرة العرب من استعمار الأجانب لها في أيام الصليبيين إنما هي دماء الترك وذلك خدمة للإسلام، والعرب لا تنسى ذلك إلى يوم القيامة. ونقدر أن نقول بعبارة عامة: إن الترك بذلوا أرواحهم في سبيل العرب!! بناء على ذلك كيف يكون الترك خصماء للعرب وسالكين سبيل الحاكمية العنصرية فهل هذه التهم هي مكافئة على الدماء التي أراقها الترك في سبيل العرب؟ وهل بعد هذا يكون القول بأن صاحب إقدام عدو للعرب موافقا للمنطق؟ اهـ. الترك أخوة العرب في الدين وفي تكوين هذه الدولة التي هي تراث الإسلام في الحكم والسلطان فإذا قلنا إن صاحب إقدام جنى على التأريخ بزعمه أن الترك أنقذوا جزيرة العرب من الصليبيين لا نكون بإبطال الباطل ناكثين للفتل الذي جعلنا مع الترك أمة واحدة، وكل مَن يعرف التأريخ يعلم أن جزيرة العرب كانت طول الزمان في أمان من الإفرنج وأما ما أخذوه من سواحل سورية فقد أنقذه منهم المسلمون كافة لا الترك خاصة. وإذا قلنا إن سوء سياسة الدولة في سفك دماء العرب في اليمن لا يعد مِنَّة للترك على العرب لا نكون مخلين بحقوق هذه الإخوة لا لأن الدماء التي سفكت هناك بأمر قواد الترك وحكامهم هي دماء العثمانيين من الترك والعرب والأرناؤط والكرد، بل لأن سفكها كان من جهل أولئك القواد بالسياسة وحسن الإدارة، وقد خربت بلاد العرب ولم تعمر بلاد الترك، على أن الترك بعد أن تشرفوا به لم يكونوا يعملون لأجل عنصرهم ولا لأجل عنصر العرب، وإنما يعملون لأجله كما أخذوا من أساتذتهم العرب حتي قام أمثال (صاحب إقدام) من متفرنجي هذا العصر يصخوب الآذان كل يوم بما يثير العصبية الجنسية ويضعف الرابطة الإسلامية وهم يجنون على دولتهم من حيث يدرون أو من حيث لا يدرون، ويخشى أن يعلموا سائر العناصر العصبية الجنسية، وقد ظهرت بوادر ذلك وهو أكبر خطر على هذه الدولة فنسأل الله تعالى أن ينقذها من شرور هؤلاء الأشرار بمَّنِه وكرمه. ثم إن (صاحب إقدام) أورد بعد بيان هذه المنن التي في رقاب العرب للترك موازنة بين ما نشره عن ذهول (كما ادعى) من الطعن في أعراض العرب ماضيهم وحاضرهم وآتيهم وبين إهانة بعض طلاب العرب له في إدارة جريدته وزعمه أنهم أهانوا عند ذلك الأمة التركية كلها إهانة لم يُسمع بأن مِلَّه من الملل أُهينت بمثلها ولم يقع من عنصر من العناصر العثمانية إهانة لعنصر آخر بمثل ذلك! وكَبَّر هذه الدعوى وهوَّل فيها ما شاء وأشار بالنقط هكذا.... إلى أن ما طواه من ذلك وأغضى عنه هو فوق ما قاله تصريحًا وتلويحًا، ولو كان يجب الاتحاد والاتفاق بين العنصرين كما ادعى في هذه المقالة لما نشر خبر هذه الإهانة المزعومة بين الترك في جريدة هي أوسع من جريدته انتشارًا، لأن ذلك يوغر صدور مَن يصدقون هذه الدعوى مِن الترك فتنفرج مسافة الخلف، فمقالته هذه شَرٌّ مِن مقالة (خليل حامد) وأضر، وأدهى وأمر، ولا يظهر لنا علة لنشر هذه الدعوى والتهويل بها غير تعمد إلقاء الشقاق بين الأختين الشقيقتين: الترك والعرب، فإن ادعى أنه يريد بذلك تربية المعتدين عليه يُقال له كان يكفي في ذلك أن تذكر ما وقع للمحكمة العرفية أوالعدلية من غير أن تنفث في جريدة طنين سموم التفرق والخلاف وما أنت بالمقصر في الشكوى وتعقيب الدعوى. ثم إنه بعد إثارة هذه الفتن، وإيقاد نار الشقاق والإحن، أخذ يسخر من العرب بطريقة أخرى غير الامتنان عليهم بمذابح اليمن وتخريبها في عصور الاستبداد التي نرجو أن يبد لنا الله تعالى بها عصر العمران والنور في ظل الدستور، تلك الطريقة هي استدلاله على إخلاصه وحبه إرضاء العرب بدليلين هما من أغرب ضروب الاستدلال التي لم يبين مثلها في باب السفسطة من علم المنطق: (أحدهما) إنه قال لناظر الداخلية عندما بلغه خبر تعطيل جريدة إقدام، إن عنده رخصة باسم (يكي إقدام) ولكنه لا يصدرها لأجل أن يرضي العرب وتطمئن نفوسهم لحسن نيته. قال: لأن تعطيل الجريدة لا يُقصد به ورقة مخصوصة أو اسم مخصوص وإنما الغرض منه إبطال هذه الإدارة أو تخريبها، وأنا أتحمل هذه الخسارة لأجل أن تطمئن قلوب العرب وترضى خواطرهم! وذكر أن ناظر الداخلية قد أعجب بهذه الأريحية وسُر وشَكر، وإنه يظن أن سائر الوكلاء مثله في ذلك. لو صدق في قوله لناظر الداخلية ولم يصدر جريدته باسم (يكي إقدام) لما شك أحد من العرب في صدقه بما ذكر من السبب، وهو ابتغاء رضاهم واستمالتهم ولكنه قال هذا القول ولم يلبث أن خالفه وأصدر الجريدة فظهر أنه قال ذلك ليسخر من العرب وينبه الغافل منهم إلى أن حكم ديوان الحرب بإبطال جريدته لم يكن عقوبة ولا خسارة وإنما كان عبارة عن زيادة كلمة (يكي) في الجريدة! . وأما الدليل الثاني: فهو أنه كان عزم على إصدار جريدة عربية واستحضر أشهر شعراء العرب وأكبرهم من بغداد لأجل تحريرها وكلمه كلامًا حسنًا ثم لم يصدرها. وهذا الدليل الثاني أغرب من الدليل الأول وإن كان يشابهه ويقابله في كون كل منهما عبارة عن وعد وُعِدَ به، وأخلف وقول قاله ولم يَصدُق فيه ويختلفان على تقدير الصدق في القولين والوفاء بالوعدين إذ لو وَفَّى بالأول لكان دليلا على حبه للترضية كما قال وإن لم يكن دليلا على التأليف بين العنصرين، ولو وَفَّى بالثاني لما كان مجرد الوفاء به دليلا على حب العرب ولا على التأليف بينهم وبين إخوانهم الترك، بل كان يجوز أن تكون جريدته العربية أشد تنفيرًا للعرب من جريدته التركية فالعرب يعتقدون الآن بأن جريدته متعصبة هاضمة لحقوقهم مهينة لهم ويقل مَن يراها منهم أو يعلم بما يُنشر فيها فلو نشر جريدة عربية، وقال فيها إنه يجب على الترك تطهير لسانهم من الألفاظ العربية، أو نشر فيها تلك المقالات عن السنوسية، أو مقالات (خليل حامد) أو غير ذلك مما ينُشر أحيانا في إقدام من العبارات التي ترمي إلى العصبية الجنسية، لَمَا كانت الإشر آلات التحليل لهذا الجسم الواحد الذي يحيا بروح واحد وإن كان مركبًا من عنصرين يسمى أحدهما العرب والآخر الترك. لَمَّا ظهرت في العام الماضي أسباب سوء التفاهم بين العرب والترك كان من أقواها ما ينشر في جريدة إقدام واشتهر ذلك في سورية ومصر ولكنني على سماعي هذا من الكثيرين لم أكن أسيء الظن بصاحب (إقدام) ولذلك سعيت إليه، وأحببت أن أنشر في

خديجة أم المؤمنين ـ 9

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين (9) الفصل الثامِنَ عَشَرَ [*] (عظم المِنَّة باتساع المنَّة) كان محمد صلى الله عليه وسلم قويّ القلب جدًّا تدل على ذلك سيرتُه كلها من أولها إلى آخرها، ولكن مهما قوي القلب أمام الحوادث المعتاد وقوع أمثالها بين الناس فلا يدل ذلك على أنه لا تأخذه روعة أمام صوت غير بشري، يهيب به إلى أمْر غير حسي؛ لذلك لا ينبغي أن تستغرب الروعة التي أخذت لأول وهلة ذلك القلب القوي العظيم , فإنه دعي من لدن الحق بواسطة الروح إلى وظيفة تَنُوءُ بِحَمْلِها المنن، ويجب بِحَسَبِ حدودها قلب السنن. إي لَعَمْر الحق لا غرابةَ في روعة تنفض الظهر، إذا حدثت لمن نودي هذا النداء بهذا الأمر، وبديهي احتياج هذا المأمور إلى شرح الصدر، والتأييد ورفع القدر، ولا بدع إذا ضمن له كل تأييد من أراد أن يكون قلبه محلاً لتنزلات وحيه الأعلى. نعم ألمت الروعة بقلب صاحب (حراء) لما نزل عليه الروح بما نزل به عليه وقد صرح لخديجة بذلك وقال لها: (لقد خشيت على نفسي) ولكن التأييد حافٌّ به، والإيناس صافٌّ من حوله، وناهيك أن في منزله الذي إليه يثوب روحًا شريفًا كأن الله قد أوجده خاصة لتأييده وشرح صدره بادئ بدء هو روح السيدة (خديجة) . لم تكن هذه السيدة أقوى مُنَّه من بعلها الكريم ولكن هو واجهته روائع الجلال مواجهة، فأخذته بين حيرة وشوق وخشية عجز عن القيام بالوظيفة، وأما هي فسمعت بالأمر سماعًا، ووجدت للتفكير فيه مجالاً، ولإيناس الرفيق مقالاً. ولو بُدهت امرأة بما بُدهت به هذه السيدة من هذا النبأ العظيم وكان ينقصها ما حلاَّها الله به من الفطنة وبُعد الإدراك وسلامة الفطرة وما أعطاها من قوة التمييز في وزن الأمور ومعرفة مقاييسها لتراخت مفاصلها ووهت قوتها أمام هذا الحادث الغريب، ولكن العناية الأزلية التي لها اليد في إظهار هذا المظهر الأعلى قد أتمت العمل من أوله إلى آخره ونسقته على أحسن منوال فلا بدع بما نراه في هذه السيدة من الصفات التي تساعد على استقبال أمور عظيمة لأنها خلقت لتكون زوجة لذلك الرجل الذي سيأتيه أعظم الأمور ويأتي به. تفكرت (خديجة) في هذا الأمر وأخذت تسائل نفسها بنفسها وللأمل ههنا وجه وللخوف وجه: فالأمل يقول لها: (إن الأمين لصادق وإن روحه لزكية قوية لا سلطان لروح الشر عليها والروح الذي جاءه إنما بلغه باسم ربه أنه اصطفاه رسولا والله على هذا قدير، وباختصاص من شاء بما شاء جدير، وأي شيء يمنع رب العالمين إذا أراد أن يتكرم على هذا البيت بإنزال وحيه فيه فيغدو بعد الآن مشرقًا لا تضاهيه المشارق، يفيض النور على القبائل والشعوب، أنت اللهم على هذا قادر إذا أردت ولا مانع لما أعطيت، والوجل يقول لها ما هذه الحال التي أخذت حبيب قلبي فراعته، إني لأخشى أن يكون أمرًا جسمانيًا بحتًا كما قد يعرض للأفراد، إني لأخاف أن يصبح هدفًا لرمي الأضداد، ولكن سرعان ما غالب الأمل على الوجل، والمِنَّة على الضعف، ووشكان ما تبدَّت لها وجوه الأدلة على أن ما أتى بعلها الكريم هو بريد خير عظيم، ومقدمة فلاح عميم، وكانت أدلتها على ذلك عقلية ونقلية تقدمت العقلية منها على الثانية. الفصل التاسع عشر (الأدلة العقلية) لما قال: محمد صلى الله عليه وسلم لخديجة (لقد خشيت على نفسي) قالت له: (كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتَصْدُق الحديث، وتؤدي الأمانة) . إن هذا الكلام الذي صدر منها على الفور هو نتيجة معرفة سابقة، هو نتيجة تفكر جميل قد أعطى الثمرة سريعًا، هذا الكلام الوجيز يؤلف استدلالاً عقليًا من أعظم الاستدلالات فإنه قد أتى ساذجًا نظيفًا لا غبار عليه من التكلف، ولا شيء منه بواقف أمام الذهن، هو قياس باهر النتيجة، مطوي بعض الحواشي، ومن أبدع الأقيسة نظمًا، ومن أجملها وقعًا، بيد أن الأفهام كدأبها في التفاوت، وعلى سنتها في التخالف، لا يستغني كثير منها عن تشريح هذا القياس لتطلع على قلبه وأعضائه واحدًا واحدًا، فحينئذ يلوح لها انطواء الإفادات الغزيرة، في هذه الكلمات الوجيزة، وتعلم من قريب أن الحكمة بيد الله يؤتيها من يشاء. (1) يخرج من كلام هذه السيدة أن النوع الإنساني محل لعظيم تجليات رب الأنواع كلها، ولذلك يحب كل ما يؤدي إلى تسامي هذا النوع ويخلق الأسباب لذلك ويأخذ بيدها لتتغلب على ما أظهره بحكمته التي لا نعلمها من أضدادها. (2) ويخرج من كلامها أن الله عز وجل مطلع على أعمالنا ومجاز عليها، وأنه يحب منا أعمالاً ويكره أخرى وأن الذي يحبه منا على حسب تفكرها هو الاستقامة ومساعدة بعضنا لبعض ولا سيما مساعدة الضعفاء. (3) ويخرج منه أن من يفعل الخير لا يأتيه إلا الخير، والخير الذي نعبر عنه بهذا اللفظ قد جاء في عبارة السيدة بتفصيل أعمال كلها من باب مساعدة الإنسان للإنسان فهذه المساعدة في نظرها كل خير أو هي كل الخير فهل يكافئ الله فاعل الخير بغير الخير؟ إن هذا لا يكون على حسب تفكرها. (4) ونتيجة قياسها أو أقيستها أن هذا رسالة ربانية فيها الخير لا الضير، وأن الله عزوجل سيتفضل بتأييد هذا المأمور في حمل هذه الأمانة على ثقلها وصعوبة تأديتها لقوم ينكرونها ولا يعرفونها. الفصل العشرون (شرح حكمة السيدة خديجة) إن محيط جلال الله الذي ليس له حد لا تبلغ سَفن العبارات شيئًا من سواحل التعريف به حق التعريف، وإنما هي لتستعين النفس على بث حبها له عزوجل وتمجيدها إياه وليزداد شوق النفوس إلى الكمال، وتعبدها لذلك الجلال، لقد عزت صفات واجب الوجود عن أن ترسمها اللغات، كما عزت ذاته عن أن تحدها الجهات وأن حقيقته لهي فوق المجاز والاستعارات. لكن الإنسان خلق عظيم الشوق إلى تصور ربه، وغير صبور عن الإشارة إلى وصفه، وليت شعري أنَّى يبلغ الواصفون صفة من كُنْهِهِ مُحْتَجَبٌ في خزائن الغيب الأعظم! لقد نفد صبر الإنسان في هذا الأمر من قديم الأزمان وأقدم على وصف ربه فلم يجد غير الاستعارة حيلة فوصفه بما يتصف به الإنسان نفسه ولذلك وقع تناقض كثير في أوصاف الواصفين لأن رب العالمين غير حادث ولا تشبهه الحوادث تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا. ولقد ظهر بين البشر رجال منهم أتتهم الأرواح وكلمتهم من عند الله فأيد كلام الله بواسطة الروح ما درج عليه الناس من الاستعارة فأصبح هذا الأمر عامًا لا فرق بين الناس فيه إلا فيما اختلفت فيه عباراتهم. والأفكار المستقلة تؤدى إلى قبول هذا الأسلوب أيضًا لأن التفاهم في هذه الأبواب لا يستغني عنه ولا يمكن إلا بالعبارة. إلى الله سبحانه يرجع كل شيء فهو أنشأ الإنسان على هذا المثال، وهو علمه ما قد عرفه إلى الآن، وخلاصة ما عرفنا من ظواهر التكوين أن البارئ المصور عز وجل لما أراد أن يكون هذا الإنسان مميزًا عليمًا أظهر الأشياء أمامه مبنية على التضاد وجعل تميز الأشياء بأضدادها، وأودع فيه ضدين جعل عليهما مدار سيرته كلها في حياته هما الاستحسان وضده، وجعل مع الاستحسان الشوق والحب، ومع ضده النفرة والبغض. واقتضى ناموس التضاد الذي عليه مدار تمييز الإنسان أن تتخالف أفراد هذا النوع في الاستحسان وضده فكثرت أسباب تخالفهم فنشأ بينهم الضدان المسمى أحدهما خيرًا والآخر شرًا، واحتاجوا إلى جواذب تجذب الخير ودوافع تدفع الشر فرجعت كل معارفهم إلى معرفة هذه الجواذب والدوافع، ومن نمي منهم علمه بها وسما عمله على موجب هذا العلم سمّوه حكيمًا. وهل جائز أن يكون بعض أفراد الإنسان حكيما والبارئ غير حكيم؟ كلا ثم كلا، بل ليست حكمة الإنسان إلا من الله، والله هو العليم الحكيم، نعم بيد أننا نفقه معنى حكمة الإنسان لأننا نميزها بضدها وليس لعلم الله وعمله وإرادته جل جلاله من ضد. انظر تجدنا نعرف الأسرار في كل دقيقة من الدقائق التي يؤلف الإنسان منها شكلاً من الأشكال لأن الإنسان إنما يصنع ما يصنع للاحتياج والاستفادة وأما الذي أراد ظهور الأشياء بهذا التنوع فلم يرد هذا لحاجة أو جدوى تعود عليه، ثم انظر تجد أننا نسمي ما يصنعه الإنسان لا لفائدة عبثًا ولا نسمي عمل المستغني عن الفائدة عبثًا مع أننا لا نرى فائدة في عمله لا له لاستغنائه وتقدسه، ولا للمصنوع من معدن ونبات وحيوان وغيرها. فإذا أمعنت النظر يظهر لك أننا لا نستطيع أن نعلم ما هي حكمة الله في ظهور الأشياء على ماهي عليه ولكن نقص هذا العلم لم يمنعنا عن القول بأن له حكمة في كل شيء ونعلم من هذا وضوح عجز العبارة في كشف خدور هذه الحقائق مع عدم الاستغناء عنها. ثم إذا رجعنا النظر إلى علاقة هذه الظاهرات بالإنسان يبدو لنا أمر يحمل على مزيد التفكير والتذكر ذلك أن كل شيء منها يفيد الإنسان حكمة إذا تصدى لقراءته على صفحات الاعتبار، إن الإنسان ليرى إذا تأمل نظامًا بديعًا في هذه الظاهرات ويرى له نصيبا في كل شيء منها. فمن هذا الوجه قد يصح لنا القول بأن من جملة حكم الله تعالى في هذه الظاهرات تجلي آلائه وكرمه بجعل علاقة النفع، والانتفاع بين هذه الأنواع والصنوف التي لا تحصى وبين هذا الكائن الصغير الجُرم. هذه العلاقة ظاهرة يكاد يراها كل من تأمل في استفادتنا معشر البشر من كل هذه الظاهرات، أما محبو الحكمة فيعمقون نظرهم ويتلمسون الأسرار في تشكلاتها وتألفاتها على هذه الوجوه والأوضاع، ولو فرضنا أنها جاءت على غير هذه الوجوه لتوجهت أنظارهم إلى استجلاء فوائدها ثمة أيضًا لأنها كلها من الله، وما مِن الله لا يكون عبثًا بل يستفيد منه الإنسان حكمة أو شيئًا آخر فكأن الإنسان أكرم من كل هذه الظاهرات وكأنه هو المقصود بأن تتكشف له الحكم والأسرار الربانية. هذا هو الأساس الذي أقيمت عليه قواعد حكمة الإنسان، وهو مبدأ سيره لمعرفة حكمة الله الحكيم الأعلى جل وتقدست أسماؤه. حِكمة الإنسان في الحقيقة هدية ربانية يختص بها مرجع الأشياء من أراد إظهاره سليم الفطرة، حادِ الفكرة، فهو يكون كثير الذكر، قليل النسيان، والكائنات كلها عِبَر وتعليم لمن تذكر، وليست حكمة الإنسان تلقينا يُقَدَم له كل مرء، ويؤتاه كل أحد من كتاب يُكتب، أو خطاب يُخطب، لكن مع أنه لم يكن أحد مستعدًّا أن ينال الحكمة نجد الحكمة ذات بركة شاملة تزور بيوت غير الحكماء أيضًا فتملأها فوائد كثيرة من غير أن يشعر أربابها بحركتها وحركة حاملي لوائها. كانت السيدة خديجة ذات نصيب من هذه الهدية العليا الربانية هدية الحكمة، وقد رأى القارئ آنفًا شيئًا من حكمتها وجميل تفكرها وتذكرها ونحن في هذا نشرح ذلك الإجمال وتزيد المقام حظا من ذلك الجمال: (1) فهي رأت أن النوع الإنساني محل لعظيم تجليات رب الأنواع وأنه سبحانه يحب كل ما يؤدي إلى تسامي هذ النوع، وحق ما رأت فإن إظهار هذا النوع على هذا المثال هو أوضح ضياء يرى به المدلج أن الله سبحانه أحب أن يُعرف فاقتضت إرادته ظهور هذا النوع مستعدًا للمعرفة وعظيم الشوق إليها، والإنسان في ظهوره جسمًا وروحًا وتفاوت أفراده بالأرواح تفاوتًا عظيمًا قد أصبح دون ريب من أكبر الآيات في هذا الباب على ذلك الشأن العظيم من المراد الإلهي، وأضحى مجمع أسرار وكنز حقائق لا يمارى فيها إلا من جعل النسيان بينهم وبين الملكوت الأعظم حجبا. ومن المُشاهد أن البارئ عز وجل يخلق الأسباب المساعدة على ترقي هذا النوع ويأخذ بيد

الاتحاد الشامل والتعليم الشامل أيهما يتوقف على الآخر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاتحاد الشامل والتعليم الشامل أيهما يتوقف على الآخر س26 من الشيخ كرامه يلدرم صاحب جريدة الإصلاح بسنغافوره. ما قول مولانا المرشد أدام الله فضله: فيما قاله السيد محمد بن هاشم من أنه لا علم شاملاً لأفراد الأمة إلا باتحادها وتعاونها في جمع المال لبذله في سبيل تحصيله. وفيما قاله السيد حسن بن شهاب من أنه لا اتحاد شاملاً لأفراد أمة ما لم يتعلموا فيجب نبذ الدعوة إلى الاتحاد والاقتصاد على الدعوة إلى التعليم فقط. وقد تداول الكتابة هذان الرجلان في هذا الموضوع كما ترون بأعداد الإصلاح المرسلة إليكم فنلفت نظركم العالي إليها وعلى الخصوص العدد 43 من الإصلاح وهو الذي كتب بعد الاطلاع على ما في الصفحة 817 من المجلد12 من المنار فنرجوكم نشر ما هو الصواب أدام الله بقاءكم. ... ... ... ... ... ... محبكم صاحب الإصلاح في سنغافوره ج - وصلت إلينا أعداد الإصلاح ونحن في القسطنطينية وأتفق أن العدد 43 لم يكن فيها بل وُضع بدله عدد آخر ولا شك أن ذلك كان خطأ فلم نطلع على شيء مما كَتب المتناظران وأظن جدالهما كان في الآراء النظرية. والذي أراه أن الدعوة إلى العلم لا تعارض الدعوة إلى الاتحاد والدعوة إلى الاتحاد لا تعارض الدعوة إلى العلم بل يمكن الجمع بينهما، ثم إن الاتحاد العام الشامل لجميع أفراد الأمة غاية لا تكاد تدرك، إلا أن يسمى تمني دفع الشر المطلق أو البديهي والضروري كالوباء وجلب الخير المطلق كالصحة والغنى اتحادا، وإنما يراد بالاتحاد الذي يبحث عليه السياسيون أن تكون الأمة متعاونة على المصلحة العامة بأن يكون الجمهور الأكبر منها متفقًا على تلك المصلحة مساعدًا عليه بدون مقاومة تحبط العمل أو تعرقله وتثبط عنه، وهذا الاتحاد لا يتوقف على شمول التعليم الذي يراد به عند الإطلاق في كل أمة ما يُلَقَّن في مدارسها عادة، ولكن التعليم إذا انتشر وكثر على طريقة واحدة مع التربية على طريقة واحدة يكون أقوى أسباب الاتحاد، ولنورد بعض الأمثلة التي يتضح بها المراد. التعليم المنتشر الآن في البلاد العثمانية هو المانع الأعظم للعثمانيين من الاتحاد لاختلاف طرقه ولو كان عامًّا شاملا لكان اليأس من اتحادهم أشد وأقوى لاختلاف طرقه ومقاصد الناشرين له، وإن التعليم في فرنسا عام يكاد يشمل الأفراد كلهم وهم غير متفقين على الحكومة الجمهورية بل يؤيدها السواد الأعظم. إن أهل الولايات المتحدة هم أعرق الأمم في الاتحاد ولم يكن التعليم شاملاً لجميع أفرادهم عندما قاموا بدعوة الاتحاد وأيدوها بالسيف والنار في الحرب الأهلية المشهورة، وإن قبائل المرته في الهند من أشد الناس اتحادًا والتعليم ليس غالبًا فيهم، إن دولة الروسية قد احتلت بلاد الفرس ولا شك أن السواد الأعظم منهم كارهون لهذا الاحتلال ويودون لو أمكنهم مقاومته وأكثرهم غير متعلمين، وربما كان المتعلمون من البابية راضين بهذا الاحتلال ومؤيدين له لظنهم أن دعوتهم تكون في ظل الدولة الروسية أشد حرية وأكثر انتشارا وقد يقال إن هؤلاء قد خرجوا من الأمة بخروجهم من الإسلام، إن الاتحاد الجرماني لم يحصل إلا بعد انتشار التعليم الذي أعد أمراءهم وعقلاءهم له إذ علموا أن به عزتهم ومنعتهم وارتقاءهم ولكن التعليم لم يكن شاملاً لأفرادهم. هذه أمثلة واقعية بها الأمر وأظن أن المتناظرين لو تأملا فيها أو في مثلها ولم يجعلا كلامهما نظريًا فقط لاتفقا من أول وهلة ولاسيما إذا كانا قد حررا موضع النزاع كما نبهناهما إلى ذلك في جوابنا الأول الوجيز، ثم إنني أذكر بعض الأمثلة لتصوير اتحاد يمكن أن يحصل في أمة قبل تعميم التعليم فيها، وتعليم عام يمكن أن يحصل بدون اتحاد سابق عليه من الجزم بأن الاتحاد على شيء بالقصد لا يمكن إلا بعد علم المتحدين بأن مصلحتهم في ذلك الشيء كما أشرت إلى ذلك في جوابي الأول وهذا ليس موضعًا للنزاع. يمكن أن يؤلف أغنياء الحضرميين في جاوه وسنغافورة جمعية خيرية لجمع المال وإنشاء المدارس في بلادهم لتعليم الفقراء مجانًا والأغنياء بالأجرة التي يستعان بها على توسيع دائرة التعليم الذي يثمر الاتحاد ويمكن أن يتم لهم ذلك وأن ينجحوا فيه نجاحًا يُفضي إلى تعميم التعليم هنالك من غير أن يتحد أهل البلاد كلهم عليه، ولكن لا بد من اتحاد الذين يجمعون المال وينشئون المدارس على ذلك وهو لا يكون إلا إذا علموا أن هذا التعليم الذي يريدونه هو الذي يُحيي بلادهم ويسعدها في دينها ودنياها، فإذا اختلفوا في ذلك، كأن قام بعض العقلاء العارفين بأحوال الأمم وسنن الله تعالى في ترقيها وتدليها يحثونهم على الجمع في تعليم قومهم بين علوم لغتنا وديننا وبين العلوم الدنيوية التي لا نرتقي في ديننا ودنيانا بدونها كالرياضيات والكونيات التي منها علم الزراعة والمعادن ومباديء الصناعة التي يمكننا بعد تعلمها أن نحيي أرض بلادنا ونستخرج معادنها، وكعلوم التجارة والاقتصاد والتأريخ وتقويم البلدان فقام في وجه هؤلاء المصلحين مثل الشيخ عثمان بن عقيل عدو الإصلاح المبين فقال: (لا حاجة لكم أيها الحضرميون أو أيها المسلمون بشيء من العلم الرائج عند الكفار) وإن ملكت به دولة صغيرة كهولندة وهي في أقصى الشمال؛ مملكة إسلامية عظيمة في الجنوب استعبدت فيها أكثر من ثلاثين ألف ألف مسلم وإنما يجب عليكم أن تتعلموا ما أعلمه أنا فقط من علم الدين والعربية وإن كانت عربية مملوءة بالأغلاط النحوية واللغوية في المفردات والأساليب ولا يميز بين الصحيح والموضوع من الأحاديث!! ، فإذا اختلف أغنياء الحضرميين في جاوه فتبع بعضهم عثمان بن عقيل اغترارا برسائله التي تحارب هولندة بمثلها المسلمين حربًا معنوية وتصدهم عن الترقي وتبع آخرون دعاة الإصلاح فربما لا يتم لهؤلاء نشر التعليم النافع لعدم استطاعتهم القيام به مع عدم الاتحاد والتعاون بينهم وبين الآخرين. ويمكن أيضًا أن تتألف جمعية من الحضرميين العارفين بأحوال بلادهم وبسنن الاجتماع وأخلاق الأمم وشئونها فتضع قانونًا لجمع كلمة السادة الشرفاء والأمراء على المصالح والمنافع التي تحفظ نفوذهم تُنفع بلادهم وتسعى في إقناعهم بتنفيذه بينهم فيكون ذلك اتحادا على ترقية البلاد، يمكن أن يكون وسيلة لتعميم التعليم، فإن قيل إن العمل بهذا القانون متعذر أو متعسر لأن أولئك الشرفاء والزعماء لا يقتنعون بما يراد إقناعهم به لعدم العلم الاجتماعي الذي يفقه صاحبه طرق حفظ المصالح العامة ودرء المفاسد العامة فلا بد من هذا العلم قبل الدعوة إلى الاتحاد، نقول: وإن العلم الاجتماعي الذي يثمر الاتحاد لا تجاب الدعوة إليه ما دام أهل النفوذ الروحي كعثمان بن عقيل يقولون: إنه ضار مخالف للدين، ويصدقه أكثر الناس لأنهم جاهلون. لعل كل واحد من المتناظرين حصر فكره في صعوبة أحد هذين الطرفين دون الآخر في إصلاح حال أهل بلاده (حضرموت) فكيف إذا فكر كل منهما في إصلاح البلاد العربية العثمانية بالفعل والتي نود أن تكون عثمانية كبلادهما، وأراد أن يسعى في توحيد التعليم وتعميمه في حضرموت واليمن والحجاز ونجد وسورية والعراق أو أن يدعو إليه أو إلى الاتحاد عليه وعلى تعزيز الدولة ورفعة شأنها به، ألا يتمثل أمام كل منهما من الصعوبات والعقبات ما يُرى معه إصلاح حضرموت وحدها أمرًا ميسورًا؟ إذ ليس فيها من اختلاف المذاهب الذي هو بلاء المسلمين الأكبر مثل ما في سائر البلاد العربية كما أنه ليس فيها من الاستعداد الحربي مثل ما يوجد في اليمن ونجد والعراق ولا من اختلاف التربية والتعليم مثل ما يوجد في سورية والعراق على ما فيهما من الأديان والمذاهب. ثم كيف بهما إذا فكرا في أمر التعليم والاتحاد في البلاد العثمانية كافة على ما فيها من اختلاف الأجناس والعناصر، إلى اختلاف الأديان والسياسات والمذاهب أو إذا فكروا في اتحاد المسلمين كافةً من وقوع أكثرهم تحت سلطة الأجانب؟ أيقول أحدهما لا يمكن نشر التعليم فيمن ذكر إلا بعد الاتحاد العام الشامل، أو لا يمكن هذا الاتحاد إلا بعد العلم العام الشامل، فيلزم من مجموع قولهما الدور الحقيقي وأن كلا من الأمرين متعذر لا ينال، والدعوة إليه من لغو الكلام؟ الصواب ما قلناه في أول الجواب من عدم التعارض بين الدعوتين فيجب الجمع بينهما والسعي إليهما وكل خطوة في العلم تكون عونًا على الاتحاد وكل خطوة إلى الاتحاد تكون عونًا على العلم، فكل منهما يمد الآخر ويستمد منه، وقد تكون الدعوة إلى الاتحاد أقوى تأثيرًا وأقرب نفعًا في الأمم التي سلبت استقلالها كله أو بعضه والأمم التي يهددها الأجانب بهذا السلب بالقول أو الفعل، فإذا قلت للفارسيين وقد تغلغلت الجيوش الروسية في بلادهم عليكم بالدعوة إلى العلم فقط وبعد أن يصير عاما شاملا لأفرادكم تتحدون على مدافعة الاحتلال الأجنبي لا يكون كلامك مؤثرًا ولا مفيدًا لأنهم يقولون إذا لم نتحد مذ الآن على المدافعة والمقاومة لا يتم لنا التعليم، لأن الأجانب يمنعوننا منه كما يمنعون إخوانا في بلادهم فيجب أن نسعى إلى الأمرين جميعًا ويكون سعينا إلى الاتحاد في المرتبة الأولى. هذا ما عَنَّ لنا أن نوضح به هذه المسألة ولعل ما حققناه يكون هو الحكم الفصل بين المتناظرين وإن لم نطلع على كلامهما فتكون نتيجة اختلافهما الاتفاق، وعاقبة افتراقهما التلاق.

المرأة المصرية والمرأة الغربية

الكاتب: ملك حفني ناصف

_ المرأة المصرية والمرأة الغربية [*] المولودة، دور الطفولية، المراهقة (الملابس، والأزياء) الخطبة والزواج، الاقتصاد المالي والمنزلي، العمل البيتي، الأخلاق والعادات، دور الأمومة. بسم الله الرحمن الرحيم أيتها السيدات: إذا كان لفئة ما أن تجتمع وتبحث في شؤونها فلا أحق منا نحن نساء مصر وفتياتها أن نكون تلك الفئة فإننا على درجة من التأخر تؤلم نفس المتفكر فيها وترجع بالوطن خطوات واسعات عن سبيل التقدم، من دلائل تأخرنا، إن أكثرنا أخذ يقلد المرأة الغربية بغير نظر إلى موافقة عادتها للشرع الإسلامي والآداب الشرقية وبعضنا الآخر ظل على تقاليده القديمة سواء كانت صحيحة أو فاسدة، فما هذا الجمود بمستحسن ولا ذاك الاندفاع بممدوح، وإني شارحة الآن عادات المرأتين في كل أدوار حياتهما مقارنة إحداهما بالأخرى مستخلصة زبدتيهما لنعمل بها. (1) الدور الأول: المولودة إن حالنا الآن عند تبشير إحدانا بالأنثى شديد المشابهة جدًّا لحال الجاهلية الأولى ولم أرنا نقصنا عنهم شيئا في ذلك إلا الوأد قال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَداًّ وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ القَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 58-59) ، وإن الانقباض الذي نظهره عند مستهل الأنثى يؤثر في الطفلة خنوعًا للذلة ورؤومًا إلى الضعة فتشب الفتاة واجدة الفرق العظيم بينها وبين أختها فتعتقد في نفسها أنها أحط شأناً وأدنى مرتبة فلا تطلب من المعالي ما يطلبه أخوها ولا تنبسط نفسها إلى ما يرفع شأنها وجنسها وتضع نفسها حيث نضعها. وليت شعري لم نكره ولادة الأنثى وهي نصف الإنسان وأمه وزوجه وابنته، ألا يصح أن تكون الفتاة نافعة كالفتى؟ ألا يرجع الفضل في تدبير عيش الرجل لها؟ ألم تكن في كثير من الأحيان سبب سعادته وموضع أمله؟ وكيف نهمل تعاليم ديننا الحنيف في هذه المسألة ويتبعها أكثر الغربيين فإن أممهم ولا سيما الشمالية منها يتساوى عندها الذكر والأنثى وقد يملكون عليهم فتاة فيهم مَن بفضلها علما وتجربة وحذقا، يبرر الشرقيون ومَن حذا حذوهم جزعهم هذا بأن الذكر يحفظ اسم العائلة ويرث مالها ولقبها، ولكن كم من والد مات ذكره بموته وإن العمل وحده عليه حياة الذكر أو فناؤه، هل رفع الله الأنبياء عليهم السلام درجات على الناس بأعمالهم أم بأبنائهم؟ ومنهم من لم يتزوج قط ومنهم من عقه أبناؤه، أم كان أبو العلاء المعري أبا ذرية أحيت اسمه وهو الذي يعد الزواج والذرية جناية؟ وهل يغني الولد عن الأبوين شيئا إذا كان لا يخفف حشرجة الموت؟ فالبنت والصبي سيان وكلاهما قرة عين الوالد في حياته ولا يدري ماذا يفعلان بعد مماته، وهل إذا ورث الفتى ثروة بددها يعد حافظا غنى أسرته أم إذا ولد لأحدهم ذكور ضمن لهم الحياة مخلدين؟ (2) الدور الثاني: دور الطفولية في هذا الدور نميز الصبي عن البنت في أمور شتى مع أن الغربيين لا يفرقون ألبتة بينهما فضلاً عن أنهم يوفونهما حقهما من التربية والعناية ونحن إذا فضلنا الذكر قليلا فلا نزال مقصرين نحو العناية به فما بالكن بالأنثى؟ ترضع المرأة الغربية طفلها بنفسها وتنظفه اللهم إلا فئة العاملات اللاتي يضطرهن الفقر إلى الاشتغال في المصانع والحوانيت وترك أطفالهن في مربى الأطفال بالأجرة، أما نحن فنعد إرضاع أطفالنا عيبا لا يغتفره لنا ادعاء الغنى أو الغنى نفسه ونهمل أمر نظافتهم للخدم ونكل ترويضهم وتربيتهم إليهم وهم من تعلمن من فساد الذوق والجهل القبيح فيشب أطفالنا أشبه أخلاقًا بهم ونجد بيننا وبينهم جفاء وصلة منقطعة، وكيف تعرف الأم طباع طفلها وهي لا تتعرفها بنفسها؟ ولو مرت الأمهات يومًا بالمراضع جالسات على حافة الطرق ليراقبن حالتهن الأخلاقية لما تأخرن لحظة عن حماية أطفالهن من جيش المراضع الهازم لمكارم الأخلاق. أما عنايتنا بصحة أطفالنا فليست بأكثر من عنايتنا بأخلاقهم فبينا المرأة الغربية تغذي طفلها غذاء خفيفًا سريع الهضم وتتحفظ عليه من هجمات البرد والحر وتَريننا نطعمه أثقل الغذاء ونبادر بإعطائه اللحم وما يتعسر هضمه فتختلّ معدة الطفل ويصاب بالإسهال والنزلات المعوية وقد يُفضي به سوء الحالة إلى الموت أخيرًا ولا نكترث بنظافته لئلا يُحسد، ونتركه يلعب به النقيضان القر والحر فلا يلبث أن يمرض ولا علاج له عندنا إلا الرُّقى والتمائم نثقل بها حمائله وإذا بكى متوجعًا نظن بكاءه جوعًا فنلقمه الغذاء فوق الغذاء إلى أن يلقى حتفه، هنالك تتهم أمه صاحبتها أو قريبتها بأنها حسدته وتركت فيه سهمًا من عينيها فتبغضها وتتشاءم من رؤيتها! وإذا ابتدأ الطفل يتكلم ويمشي فأول ما ينطق به عندنا لعنة الآباء والأجداد ومن الغريب أننا نجعل ذلك منه موضوع ضحك واستحسان فيظن أنه مصيب في قوله فيتمادى في الإكثار منه وإذا مشى فإننا نحجر عليه إلا أن يمشي وسط الحجرات المزدحمة بالأثاث والأواني فإذا لم يكسر شيئا فإنه يتهشم بصدمة أو بوقوع وإذا تأخر في الخطو قليلا نساعده عليه بالممشاة (المشاية) وهي علة تشوية كبيرة لا نشعر بها فإن عظام الطفل اللينة بإجهادها على المشي حين لا قدرة لها تلتوي فيشب الطفل أعوج الساقين منحني السلسلة الفقرية أو الصدر كذلك لا نلتفت لموضع سرير الطفل وتأثير النور في عينيه فيكثر فينا الحول والعمى، فما أعظم الفرق بين طفلنا الشاحب اللون البذئ اللسان وبين الطفل الغربي الصحيح البدن بالاعتناء! ما أجمله حين يذهب في الصباح والمساء ليقبل والديه وحين يستغفر أيَّا كان لأقل هفوة ويشكر لإبداء الجميل! وإذا حرم تلك القبلة الوالدية لهفوة أتاها فلا تَسَلْنَ عن حُزنه وبكائه إلى أن يتوب، بمثل هذا تعلم المرأة الغربية طفلها ورضى الوالدين أعظم نعمة للأولاد وتربي فيه الضمير الحي والاعتراف بالشكر لِمَن وجب له فلا تصغر نفسه بالضرب كما نعود أطفالنا، ما المراد من ضرب الطفل؟ المراد هو نهيه عن إتيان شيء لا نستحسنه لا إيذاء جسمه بأنواع التعذيب البدني، وفي طرق التأديب النفسية ما يكفل تلك الغاية بغير الشتم والضرب اللذين يضعفان همة الطفل ويخفضان من عزته صغيرًا ويزيدان تحكمه واستبداده كبيرًا. وبقدر ما نعطي الطفل حرية في البذاءة والإتلاف نحرمها عليه في الرياضة المفيدة لنمائه فنمنعه الجري والتنزه ومشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة مع أن الطفل الغربي يعد عضوًا مهمًا في البيت كسائر أعضائه من أب وأم فيذهب به إلى بلاد بعيدة لاستنشاق الهواء واجتلاء المناظر ويفرد له أدوات خاصة لنومه ولعبه وسائر لوازمه ويعامل الإكرام ويُعَوَّد الاستقلال من نعومة أظفاره إلى أن يترعرع، وإذا لحن في كلامه بادرت أمه بتصحيح خطأه والنطق أمامه نطقًا صحيحًا حتى يحاكيها فيه، أما أطفالنا البائسون فإننا نلثغ لهم لنرضيهم ونكلمهم بلغتهم المضطربة بدل تعليمهم لغتنا العامية لا الفصحى. نحن نبادر بإرسال أولادنا للمدارس وهم صغار لا يدركون ماهية العلم ولا يألفون حجر حريتهم فيضايقهم المعلمون بتدريسهم الممل الغير الجذاب، ويلزمون أعضاءهم المخلوقة للحركة بالسكون التام فيتربى في الطفل نفور من المدرسة والدرس فتجبره أمه على الذهاب للمدرسة فيزيده الإجبار نفورًا، وقد يكون خطؤنا في إرسال أولادنا صغارًا جدًّا للمدرسة ومضايقة المعلمين لهم بأساليبهم العقيمة ما ينقص من استعداد الطفل لتلقي العلم ويفسد عليه ملكاته، أما الطفل الغربي فهو أسعد حظًا إذ تعلمه أمه في البيت طرق الملاحظة والمشاهدة وتلقنه فوائد الأشياء والأسرار البسيطة لما يحيط به من نبات وحيوان ومطر وغيره، وتعلمه الإحسان والشفقة بما تفعله أمامه من ضروبهما، وكذلك تعلمه القراءة والكتابة الأوّلِيّة بأسلوب مشوق ولا ترسله للمدرسة إلا وفيه ميل إليها واستعداد لما سيلقى عليه بها، وقد جربت ضرر إرسال الأولاد للمدرسة صغارًا في نفسي وفي إخوتي وفيمن شاهدته من التلميذات فإني ظللت حوالي الثلاث سنين لا أفقه معنى للمدرسة ولا أكاد أفهم الغرض من إرسالي إليها، وكذلك شاهدت النابغات من التلميذات هن اللاتي أُرسلن للمدرسة في سن الثامنة أو العاشرة أما المرسلات صغيرات فأكثرهن لم يستفدن شيئًا غير ضعف البنية وخسارة ما أنفق عليهن، إذا كان ولا بد من إرسال الأطفال للمدرسة صغارًا فيجب أن تُجعل لهم فرقة مخصوصة كفرقة بستان الأطفال (garten kinder) التي تلقى إليها الدروس مزيجًا من التعليم والرياضة ويراعى فيها مدارك الطفل وتمر حواسه وأعضاؤه بغير إجبار يخافه أو تكرار يمله، ولو كانت الأمهات معتنيات بأطفالهن تمام العناية فإن مثل تلك الفرقة كان يجب أن تكون في كل بيت أنعم الله عليه بنعمة الأولاد. للتربية عندنا إحدى طريقتين: إما القسوة أو التدليل وكلاهما ضار، فالقسوة ترهق الطفل وتعلمه الذل، والتدليل يطوح به في مهواة الغرور، فمن دلائل قسوتنا تخويفنا الأطفال وتصوير صور مخيفة لهم من الظلمة وملء أذهانهم بتُرَّهات لا أصل لها (كالبعبع والمزيرة إلخ) وضربهم عند مخالفتهم لنا، ومن تدليلنا إياهم أن نعلمهم الأنانية وتعطيهم ما يشتهون عند بكائهم بعد منعهم إياه قبل البكاء فيتعلمون من ذلك أن الصياح ميسر العسير ومقرب البعيد فلا يتأخرون عن البكاء عند أي شيء نمنعه عنهم وقد رأيت كثيرًا أن طفلا ينصح أخاه أو أخته الأصغر منه سنًا بأن يبكي حتى يأخذ كيت وكيت مما كان منع عنه، أما الإفرنج فطريقتهم في تربية الأطفال خير من طريقتنا أضعافا فيعاقبون الطفل الذي يبكي لطلب شيء بالحرمان منه فيعلم أن البكاء لا يجدي ويطلبه بالطرق المشروعة وأن منع منه فلا يعود يتشبث به، ويعدون في المنزل ما تمس إليه حاجة الأولاد من الحلوي واللعب خوفا عليهم من قذارة ما في الأسواق واقتصادًا للمال والزمن. 3- الدور الثالث دور المراهقة. هذا هو الدور الذي تتجلى فيه صفات الفتاة حسنة كانت أو سيئة وإن كانت الأخيرة فمن الصعب تغييرها، في هذا الدور يهتم الأهلون بإرسال أولادهم الذكور للمدرسة ولا يهتمون كثيرًا بتثقيف عقل الفتاة على أنهم قد أخذوا يقلدون الغربيين أخيرًا في تعليم الفتاة وإنما لم يجئ التقليد نافعًا لنا ولا محكمًا في ذاته، فالفتاة الغربية تتعلم العلوم إلى أن تحصل منها على درجة عالية أو درجة محمودة، أما فتاتنا المصرية فلا تكاد تقرأ وتتعلم قشورا بسيطة من العلم حتى تستغني بها عن الاستمرار في الاستفادة فهي لا تقلد الغربية في التعلم النافع وإنما تقلدها باستماتة في تعلم البيانو والرقص، ولا أدري لماذا أخذت البيوت الشرقية تبطل العود والقانون وتتعلم البيانو مع أن الأولين فضلا عن كونهما شرقيين فإنهما ألطف صوتًا وأشجى نغمة وأقل جلبة وأرخص ثمنًا وأخف حملا، إن البيانو لازم جدًّا في الغرب لتحية الجموع في المراقص والكنائس لأنه بنغماته العالية يسمع إلى مكان بعيد أما في بيوت المسلمين حيث لا مراقص ولا كنائس فلا أجده من الضرورة بالدرجة التي يتهافت عليه فتياتنا، نعم إن تعلم الموسيقى من الكماليات المدوحة ويقولون إنها مهذِبة للطبع مرققة للشعور ولكن ألم يكن أولى تعلمها على الآلات الشرق

العمران العربي وصف دار الخلافة أو القصر الحسني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العمران العربي [*] وصف دار الخلافة أو القصر الحسني حين وفد رسول ملك الروم على الخليفة حدثني أبو الحسين هلال بن المحسن قال كانت دار الخلافة التي على شاطئ دجلة تحت نهر مُعَلّى قديمًا للحسن بن سهل ويسمى [1] القصر الحسني فلما توفي صارت لبوران بنته فاستنزلها المعتضد بالله عنها فاستنظرته أيامًا في تفريغها وتسليمها ثم رمّتها وعمّرتها وجصصتها وبيضتها وفرشتها بأَجَلِّ الفُرُش وأحسنه وعلقت أصناف الستور على أبوابها وملأت خزائنها بكل ما يخدم الخلفاء به ورتبت فيها من الخدم والجواري ما تدعو الحاجة إليه، فلما فرغت من ذلك انتقلت وراسلته بالانتقال، فانتقل المعتضد إلى الدار ووجد ما استكثره واستحسنه ثم استضاف المعتضد بالله إلى الدار مما جاورها كل ما وسَّعها به وكبرها وعمل عليها سورًا جمعها وحصنها، وقام المكتفي بالله بعده ببناء التاج على دجلة وعمل وراءه من القباب والمجالس ما تناهى في توسعته وتعليته، ووافى المقتدر بالله فزاد في ذلك وأوفى مما أنشأه واستحدثه وكان الميدان والثريا وحبر [2] الوحوش متصلاً بالدار [3] كذا ذكر لي هلال بن المحسن أن بوران سلمت الدار إلى المعتضد وذلك غير صحيح؛ لأن بوران لم تعش إلى وقت المعتضد وذكر محمد بن أحمد بن مهدي الإسكافي في تأريخه أنها ماتت في سنة إحدى وسبعين ومائتين وقد بلغت ثمانين سنة ويشبه أن تكون سلمت الدار إلى المعتمد على الله، والله أعلم. حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال حدثني أبو الفتح أحمد بن عليّ بن هارون المنجم قال حدثني أبي قال: قال أبو القاسم عليّ بن محمد الجوَّاري [4] في بعض أيام المقتدر بالله وقد جرى حديثه وعظم أمره وكثرة الخدم في داره، وقد اشتملت الجريدة إلى هذا الوقت على أحد عشر ألف خادم خصي وكذا من صقلي ورومي وأسود وقال هذا جنس واحد ممن تضمه [5] الدار فدع الآن الغلمان الحجرية وهم ألوف كثيرة والحواشي من الفحول، وقال أيضًا حدثني أبو الفتح عن أبيه وعمه عن أبيهما أبي القاسم علي بن يحيى أنه كانت عدة كل نوبة من نوب الفراشين في دار المتوكل على الله أربعة آلاف فراش، قالا فذهب علينا أن نسأله كم نوبة [6] كانوا. حدثني هلال بن المحسن قال حدثني أبو نصر خواشاذة خازن عضد الدولة قال طفت دار الخلافة عامرها وخرابها وحرمها [7] وما يجاورها ويتاخمها فكان ذلك مثل مدينة شيراز، قال هلال وسمعت هذا القول من جماعة آخرين عارفين خبيرين. ولقد ورد رسول لصاحب الروم في أيام المقتدر بالله ففرشت الدار بالفروش الجميلة وزينت بالآلات الجليلة ورتب الحجاب وخلفاؤهم والحواشي على طبقاتهم على أبوابها ودهاليزها وممراتها ومخترقاتها وصحونها ومجالسها ووقف [8] الجند صفين بالثياب الحسنة وتحتهم الدواب بمراكب الذهب والفضة وبين أيديهم الجنائب على مثل هذه الصورة وقد اظهروا العدد الكثير [9] والأسلحة المختلفة فكانوا من أعلا باب الشماسية إلى قريب من دار الخلافة وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخواص الدارية والبراينة إلى حضرة الخليفة بالبزة الرائقة والسيوف والمناطق المحلاة وأسواق الجانب الشرقي وشوارعه وسطوحه ومسالكه مملوءة بالعامة النظّار [10] وقد اكترى كل دكان وغرفة مشرفة بدراهم كثيرة وفي دجلة الشذاءات والطيارات والذباذب والزلالات والسمريات [11] بأفضل زينة وأحسن ترتيب وتعبئة وسار الرسول ومن معه من المواكب إلى أن وصلوا إلى الدار ودخل الرسول فمر به [12] على دار نصر القشوري الحاجب ورأي ضففا [13] كثيرًا ومنظرًا عظيمًا فظن أنه الخليفة وتداخلت له هيبة وروعة حتى قيل له إنه الحاجب وحمل مِن بعد ذلك إلى الدار التي كانت برسم الوزير وفيها مجلس أبي الحسن عليّ بن محمد الفرات [14] يومئذ فرأى أكثر مما رآه النصر الحاجب ولم يشك في أنه الخليفة حتى قيل له هذا الوزير وأُجْلِس بين دجلة والبساتين في مجلس قد علقت ستوره واختيرت فروشه ونصبت فيه الدسوت وأحاط به الخدم بالأعمدة والسيوف ثم استدعى بعد أن طيف به في الدار إلى حضرة المقتدر بالله وقد جلس وأولاده من جانبيه فشاهد مِن الأمر ما هاله ثم انصرف إلى دار قد أعدت له. حدثني [15] الوزير أبو القاسم عليّ بن الحسن المعروف بابن المسلِّمة قال حدثني أمير المؤمنين القائم بأمر الله قال حدثني أمير المؤمنين القادر بالله قال حدثتني جدتي أم أبي إسحاق بن المقتدر بالله أن رسول ملك الروم لما وصل إلى تكريت أمر أمير المؤمنين المقتدر بالله باحتباسه هناك شهرين، ولما وصل إلى بغداد نزل [16] دار صاعد ومكث شهرين لا يُؤْذن له في الوصول حتى فرغ المقتدر بالله من تزيين قصره وترتيب آلته، ثم صف العسكر من (دار صاعد) إلى (دار الخلافة) وكان عدد الجيش مائة وستين ألف فارس وراجل، فسار الرسول بينهم إلى أن بلغ الدار، ثم أُدْخِلَ في أزج [17] تحت الأرض فسار فيه حتى قبل بين يدي المقتدر بالله وأدى رسالة صاحبه ثم رسم أن يطاف به في كل الدار وليس فيها من العسكر أحد ألبتة وإنما فيها الخدم والحجاب والغلمان السودان، وكان عدد الخدم إذ ذاك سبعة آلاف خادم منهم أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود وعدد الحجاب سبع مئة حاجب وعدد الغلمان السودان غير الخدم أربعة آلاف غلام قد جعلوا على سطوح الدار والعلالي وفتحت الخزائن، والآلات فيها مرتبة كما يفعل بخزائن العرائس وقد علقت الستور ونظم جوهر الخلافة في قلابات [18] على دَرَجٍ غُشِّيَتْ بالديباج الأسود. مطلب دار الشجرة ولما دخل الرسول إلى دار الشجرة ورآها كثر تعجبه فيها [19] وكانت شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم وعليها أطيار مصوغة من الفضة تصفر بحركات قد جعلت لها فكان تعجب الرسول من ذلك أكثر من تعجبه من جميع ما شاهده، قال لي هلال بن المحسن [20] ووجدت من شرح ذلك ما ذكر كاتبه أنه نقله من خط القاضي أبي الحسين بن أم شيبان الهاشمي وذكر أبو الحسين أنه نقله من خط الأمير وأحسبه الأمير أبا محمد الحسن بن عيسى ابن المقتدر بالله؛ قال كان عدد ما علق في قصور أمير المؤمنين المقتدر بالله من الستور الديباج المذهبة بالطرر [21] المذهبة الجلية المصورة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع والطرر [22] والطيور الكبار البصنائية [23] والأرمنية والواسيطة والبهنسية السواذج والمنقوشة والدبيقية المطرزة ثمانية وثلاثين ألف ستر منها الستور الديباج المذهبة المقدم وصفها اثني عشر ألفًا وخمس مئة ستر وعدد البسط والنخاخ [24] الجهرمية والدرابجردية والدورقية في الممرات والصحون التي وطئ عليها القواد ورسل صاحب الروم من حد باب العامة الحديد [25] إلى حضرة المقتدر بالله سوى ما في المقاصير والمجالس من الأنماط الطبري والدبيقي التي لحقها النظر [26] دون الدوس اثنان وعشرون ألف قطعة وأدخل رسل صاحب الروم من دهليز باب العامة الأعظم إلى الدار المعروفة بخان الخيل وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام وكان فيها من الجانب الأيمن خمس مائة فرس عليها خمس مائة مركب ذهبًا وفضة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمس مائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال وكل فرس في يد شاكري بالبزة الجميلة ثم أدخلوا من هذه الدار إلى الممرات والدهاليز المتصلة بحير الوحش وكان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجنا إليها من الحير قطعان تقرب من الناس وتشممهم [27] وتأكل من أيديهم ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشي على كل فيل ثمانية نفر من السند الزراقين بالنار فهال الرسل أمرها ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع: خمسون يمنة وخمسون يسرة كل سبع منها في يد سباع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد. ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث وهي دار بين بساتين [28] في وسطها بركة رصاص قلعي حواليها نهر رصاص قلعي أحسن من الفضة المجلوة طول البركة ثلاثون ذراعًا في عشرين ذراعًا، فيها أربعة طيارات لطاف بمجالس [29] مذهبة مزينة بالديبقي المطرز وأغشيتها ديبقي مذهب وحواليّ هذه البركة بستان بميادين فيه نخل قيل إن عدده أربع مائة نخلة وطول كل واحدة خمسة أذرع قد لبس جميعها ساجًا منقوشًا من أصلها وإلى حد الجُمَّارة [30] بحلق من شبة مذهبة وجميع النخل حامل بغرائب البسر الذي أكثره خلال لم يتغير، وفي جوانب البستان أترج حالم ودستنبو [31] ومقفع وغير ذلك ثم أخرجوا من هذه الدار إلى دار الشجرة وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة مدورة فيها ماء صاف وللشجرة ثمانية عشر غصنًا لكل غصن منها ساحات كبيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب وهي تتمايل في أوقات ولها ورق مختلف الألوان يحرك كما يتحرك الريح ورق الشجر وكل من هذه الطيور ويصفر ويهدر وفي جانب الدار يمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارسًا على خمسة عشر فارسًا قد ألبسوا الديباج وغيره وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد في الناورد خببًا وتقريبًا [32] وفي الجانب الأيسر مثل ذلك. ثم ادخلوا إلى القصر المعروف بالفردوس فكان فيه من الفرش والآلات ما لا يحصى ولا يحصر كثرة، وفي دهاليز الفردوس عشرة آلاف جَوْشَن [33] مذهبة معلقة، ثم أُخرِجوا منه إلى ممر طوله ثلاث مئة ذراع قد علق من جانبيه نحو عشرة آلاف درقة وخوذة وبيضة ودرع وزردية وجعبة محلاة وقِسِيّ، وقد أقيم نحو ألفي خادم بيضًا وسودًا [34] صفين يمنةً ويسرةً ثم أخرجوا بعد أن طيف بهم ثلاثة وعشرين قصرًا إلى الصحن التسعيني وفيه الغلمان الحجرية بالسلاح الكامل والبزة الحسنة والهيئة الرائعة وفي أيديهم الشروخ والطبر زينات [35] والأعمدة ثم مروا بمصاف من عليه السواد من خلفاء الحجاب والجند والرجَّالة وأصاغير [36] القواد ودخلوا دار السلام وكانت عدة كثير من الخدم الصقالبة [37] في سائر القصور يسقون الناس الماء المبرد بالثلج والأشربة الفقاع ومنهم من كان يطوف مع الرسل فلطول المشي بهم ما [38] جلسوا واستراحوا في سبعة مواضع واستسقوا الماء فسقوا. وكان أبو عمر عدي بن أحمد بن عبد الباقي الطرسوسي صاحب السلطان ورئيس الثغور الشامية معهم في كل ذلك وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة، ووصلوا إلى المقتدر بالله وهو جالس في التاج، مما يلي دجلة بعد أن لبّس بالثياب الدبيقية المطرزة بالذهب على سرير أبنوس قد فرش بالدبيقي المطرز بالذهب وعلى رأسه الطويل ومن يمنة السرير تسعة عقود مثل السبح معلقة، ومن يسرته تسعة [39] أخرى من أفخر الجواهر وأعظمها قيمة غالبة الضوء على ضوء النهار وبين يديه خمسة من ولده ثلاثة يمنة واثنان يسرة ومثل الرسول وترجمانه بين يدي المقتدر بالله فكفّر له وقال الرسول لمؤنس الخادم ونصر القشوري وكانا يترجمان عن المقتدر لولا أني لا آمن أن يطالب صاحبكم بتقبيل البساط لقبلته ولكنني فعلت ما لا يطالَب رسولكم بمثله لأن التكفير من رسم شريعتنا ووقفا ساعة وكانا شابًّا وشيخًا؛ فالشاب: الرسول المتقدم والشيخ: الترجمان، وقد كان ملك الروم عقد الأمر في الرسالة للشيخ متى حدث بالشاب حدث الموت، وناوله المقتدر بالله من يده جوابَ ملك الروم وكان ضخمًا كبيرًا فتناوله وقبله إعظامًا له، وأُخرجا من باب الخاصة إلى دجلة وأقعدا وسائر أصحابهما في شذًا من الشذاوات الخاصة وصاعدا إلى حيث أُنزلا فيه من الدار المعروفة بصاعد وحمل إليهما خمسون بدرة

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة حسين وصفي رضا (تدبير صحة الحامل والنفساء والطفل أثناء العامين الأولين) ألّفه بالفرنسية الدكتور أده الإخصائي بفن الولادة وأمراض النساء، وترجمه بالعربية الدكتور فرا، صفحاته 277 وعدد رسومه 74 وقد طبع بمطبعة المعارف بمصر ويباع بمكتبة المعارف ومكتبة المنار بعشرة قروش. من أفضل محاسن المدنية الحديثة توزيع العلوم والأعمال وهو ما يصح أن يطلق عليه في اللغة العربية الأَخِصّاء، فإن المرء إذا انقطع لممارسة فن واحد من فنون العلم برع في ذلك الفن وأخصى، وأمكنه أن ينفع وينتفع، وما كانت الاختراعات والاكتشافات في الماضي والحاضر إلا بنت الأخِصّاء، وإن الارتقاء العظيم الذي وصل إليه الطب بفروعه - ولا سيما فن الجراحة - لم يكن لولا الأخصاء فهو سبب كبير من أسباب عظمة مدينة هذا العصر، وما من أحد ينكر أن الطب هو ملاك العلوم العملية وتاج مفرقها؛ ناهيك بعلم تتوقف عليه حياة الجسوم التي بحياتها تكون حياة الأرواح، ومن ذا الذي ينكر مقاومة الطب للأمراض الوافدة كالجدري والهيضة (الكوليرا) والطاعون وغيرها كالسل ونحوه، حتى أصبحت مدينة القاهرة مرتاحة من ذنيك المرضين الفتَّاكين اللذين كانا ينتابانها مناوبة وهما الهيضة والطاعون مع أن القاهرة ليس فيها من العناية بالوسائل الصحية عشر معشار ما في باريس وغيرها من مدائن أوربا وأمريكا بتلك البلاد التي بلغ من الاحتياطات الصحية فيها أنه أصبح من المحظور على الناس أن يلفظوا بصاقهم على الأرض حذرًا من جراثيم مرض قتَّال فيه يستنشقها المعافى السليم. ألا بارك الله في هذا العصر وبنيه العاملين النافعين، فإن تكاليف الحياة بفضلهم أصبحت خفيفة الحمل على من كانوا مثقلين بها، وإنَّ مِن أنبل أعمالهم وأنفعها هذه الكتب التي ينشرونها هَدْيًا للناس وإرشادًا، وأمامي الآن كتاب من أجلّ تلك الكتب وأنفعها لقومي وهو كتاب تدبير صحة الحامل والنفساء والطفل. هذا الكتاب يجب أن يدخل كل دار من دُورِنا بل كل بيت وكل كوخ إن أمكن ليكون قيد نظر كل امرأة تحمل وتلد، ليكون لها مرشدًا يهديها إلى الطريقة المثلى في تدبير معيشتها، والعناية بصحتها وصحة جنينها وطفلها، فتسلم من ويلات الحمل والنفاس الكثيرة، وتقي طفلها مصارع الأدواء الوبيلة وتربيه على الأصول الصحية، ومَن ليست بقارئة أَفْهَمها زوجها ما يجب عليه؛ فالخطب سهل والأمر يسير غير عسير والكتاب سهل العبارة حسن الطبع. *** (ديوان الرصافي) نظمه معروف أفندي الرصافي الشاعر البغدادي الشهير، وعني بترتيبه وتبويبه والوقوف على طبعه الشيخ محيي الدين الخياط، وعني بتفسير ألفاظه الشيخ مصطفى الغلايني منشئ مجلة النبراس، صفحانه 225 وعدد قصائده وقطعه 91 طبع بالمطبعة الأهلية ببيروت، ويباع بمكتبة المنار بتسعة قروش صحيحة وأجرة البريد قرش. معروف أفندي الرصافي شاعر سليقي مطبوع، قدير على التبسيط في مناحي الكلام وأساليب النظم، ولو أن حظه من الصنعة وازى حظه من القدرة لقَلّ في هذا العصر مضارعوه، وقد امتزجت في شعره تطرية الحضارة بمسحة البداوة فكثرالتفاوت في شعره، وليس التفاوت مما يزري بالشاعر فإننا لم نعرف شاعرًا من الماضين أو الحاضرين لا تفاوت في شعره. وللرصافي طريقة خاصة به في النظم وهي إبداع الغرض في قصة محكية أو حكاية مروية، وقد تفرد في هذا النمط من النظم حتى أصبح شعره فيه لا يطاول أسلوبا ومنحى، ومن جيد شعره في ذلك قصيدته (أم اليتيم) و (أبو دلامة والمستقبل) . قال في الأولى يصف شقاء أم اليتيم (ص 108) . كأن نجوم الليل عند ارتجافها ... تشير إلى ذاك الأنين المجمجم فما خفقان القلب إلا لأجلها ... وما الشهب إلا أدمع النجم ترتمي لقد تركتني موجع القلب ساهرًا ... أخا مدمع جار ورأس مهوم أرى فحمة الظلماء عند أنينها ... فأعجب منها كيف لم تتضرم وقال في الثانية يستنكر الحروب (ص 146) . قضت المطامع أن نطيل جدالا ... وأبين إلا باطلاً ومحالا في كل يوم للمطامع ثورة ... باسم السياسية تستجيش قتالا ما ضَرَّ من ساسوا البلاد لو أنهم ... كانوا على طلب الوفاق عيالا أمن السياسة أن يَقْتل بعضُنا ... بعضًا ليدرك غيرُنا الآمالا لا درَّ دَرُّ أولي السياسة أنهم ... قتلوا الرجال ويتموا الأطفال غرسوا المطامعَ واغتدوا يسقونها ... بدم هريق على الثرى سيالا نثروا الدماء على البطاح شقائقا ... وتوهموها الروضة المحلالا والموضوعات التي في ديوان الرصافي كلها شريفة تتناول جميع شئون الاجتماع والعمران، ومن أحسن قصائده موضوعًا، وأنبلها مقصدًا، وأصفاها ديباجة، وأحكمها أسلوبًا، تائيته الشهيرة التي عنوانها التربية والأمهات (راجع ص 133م12من المنار) ، وبائيته التي انتصر فيها لمذاهب أهل السنة في كون طلاق الغضبان لا يقع، وعنوانها المطلقة (راجع ص 128من هذا المجلد) وغير ذلك من القصائد النافعة التي كان بها شعر الرصافي ممتازًا جديرًا بأن يُعَدَّ من وسائل النهضة في البلاد العربية. وقد جَعل الديوان صديقنا الشيخ محيي الدين الخياط أربعة أقسام: الكونيات الاجتماعيات، التأريخيات، الوصفيات، وقد أحسن في الترتيب والتبويب وكتب له مقدمة وَصَفَ فيها الشعر بكلام شعري، ثم قسم الشعراء إلى أطوار، ووازن بين الرصافي وشعراء عصره، فكانت آراؤه آراء البصير بالفن، القدير في الشعر. ولقد آلمنا أننا عثرنا على أغلاط مطبعية كنا نتمنى أن لا تقع في هذا الديوان النفيس، وياليت صديقنا منشئ النبراس أتم تفسير جميع المفردات الغريبة في الديوان. *** (ديوان المصري) ناظمه عبد الحليم حلمي أفندي المصري، عدد صفحاته 135 بالقطع الصغير وعدد قصائده 28 وبضع قطع، طبع بمطبعة النظام بمصر ويباع بعشرة قروش صحيحة بالمكتبات الشهيرة. نظم عبد الحليم حلمي أفندي المصري الشعر بالأمس وهو تلميذ حزوّر فكنا نقرأ له الأبيات فنستحسن شعره ونحمد أسلوبه، متأبين أن نرى منه في المستقبل شاعرًا مجيدًا، وأصدر اليوم الجزء الأول من ديوانه وهو شارخ طرير، فكان به معدودًا من شعراء العصر المشهورين، ولا أعرف شارخًا قبله في عصرنا بلغ مبلغه من الشعر، ولئن كانت ديباجة شعره اليوم لم يتم صفاؤها وكان سَبْكُه غيرَ مُحكَم الرصانة فإنَّ قلق خاطر الشباب شفيع له بذلك. ولقد أحببت من أخلاق هذا الشاعر أنه لم يصب بداء الشعراء (الغرور والعُنْجهية) فقد كتب فقرة مختصرة شعرية الأسلوب جعلها مقدمة لديوانه تدل علي ذلك قال فيها: (إلى قالة الشعر وقراء العربية من مشارق الأرض إلى مغاربها أزف شباب شعري وشعر شبابي بقدر ما تزودت من الأدب، ونشرت من برود العرب، حتى إذا امتد حبل العمر، واشتد أزر الشعر، كان الفرق بين شعر الطفولة وشعر الكهولة مرآة للناظرين، ودرسًا للمبتدئين وأعجبني منه أنه لم يتلو تلو غيره من الذين يكتبون مقدمات لدواوينهم يعرفون بها الشعر ويتعسَّفون في ذلك ويتمحَّلون، حتى جعلوا الشعر بتعريفاتهم من النظريات التي لا شأن للأذواق فيها، ومَن يتوهم أنه بوصفه للشعر يزيد من عرفته روحه بصيرة فيه، أو يقربه من أرواحٍ جاهلية، فهو لا يعرف من الشعر إلا أنه قانون صناعي نظري) ، على أن المصري قد نشر لغيره مقدمة من نوع تلك المقدمات الموصوفة. ومن جيد شعر المصري قصيدته النونية التي عنوانها خلع عبد الحميد (ص 63) وقصيدته التي عنوانها (السنة الهجرية) (ص 49) إلا أنه لم يحسن التخلص في هذه من موضوع إلى موضوع، وهذا من عيوب الشعر، قال من قصيدته الأولى مخاطبًا عبد الحميد: شاهدت حولك أسوارًا تفيض دمًا ... كأنما قد بناها بالدم الباني مدججًا إذا قيل القتال سعت ... مقرونة السير بنيانًا لبنيان تظلها ساريات قطرها عجب ... من أنسر وشواهين وعقبان لم تبسم الناس في (تموز) من جذل ... إلا وقد عبسوا في شهر (نيسان) نبا بك الملك واستعصت قيادته ... عليك فانزل فأنت الراقد الهاني ولم أر قولاً أبلغ في وصف سفَّاح من قوله (أسوار تفيض دما) ولو أن في المنار متسعًا لنشرت لهذا الشاعر مختارات كثيرة، وعسى أن يتجنب المدح في شعره ولاسيما الملوك والأمراء، فإن العصور التي ظلم فيها الشعر بالأماديح قد طواها الدهر. *** (ديوان الأثر) ناظمه رشيد أفندي مصوبع البناني، عدد صفحاته 120 بالقطع الوسط (طبع بمطبعة الهلال بمصر) . عرف رشيد أفندي مصوبع من مشهوري شعراء لبنان بشغفه الزائد في قرض الشعر، وهيامه في شعابه وفجاجه، وتحليقه في أجوائه وفضائه، حتى أصبح صبًّا به مغرمًا، ومن عرف الشاعر لا يزال في مقتبل العمر وريعان الشباب، وهو مع ذلك قد أصدر من شعره أربعة أجزاء ضرب فيها بكل سهم، وطرق كل موضوع استيقن أن الشاعر إنما أحرز شهرته وهو بها جدير. وقد أهدي إلينا ديوان (الأثر) الذي أصدره في هذه الآونة فألفيناه حافلا بالقصائد والمراثي والأماديح والغزل والنسيب والتشبيب والحنين إلى مصر إذ كان مفارقا، ناهيك بشعر يخاطب قائله إسماعيل باشا صبري حكيم الشعراء بهذين البيتين كما روت جريدة الأهرام: قل يا رشيد أفديك قل ... يا شاعر المشرق والمغرب شعرك هذا كله طيب ... أجدت فيه يا أبا الطيب ومن جيد شعره قصيدته (ص 63) التي يقول منها: وكم لغات تريد الناس تحفظها ... حتى يكون لهم باب ليكتسبوا وهل سوى لغة الأعراب تؤنسنا ... وهل لآذاننا من غيرها طرب واللهِ حين جرت في مسمعي نشعت ... روحي وأشجت كعود فوقه ضربوا يا طول شوقي لوادي النيل أسمعها ... فيه ويا حر شوقي حين يلتهب وطول شوقي لسوريا متى صدحت ... فيها ومالت سرورًا تحتها القضب والديوان كله على هذا النسق. *** (الجامعة المصرية) أصدرت الجامعة المصرية تقريرها السنوي الثاني وقد ألمت فيه بخلاصة أعمالها وأحوالها وذكر نفقاتها وحركة العلم فيها، وفي كل ذكر دليل بَيِّنٌ على تقدمها وارتقائها زادها الله تقدمًا وارتقاء. ومما جاء في هذا التقرير أن ريع الجامعة بلغ في السنة الماضية 7665 جنيهًا ونفقتها 9000 جنيه فسد العجز من المال المقتصد سنة 908 وهو 2300 جنيه، وأن الهبات المالية التي يتبرع بها أهل الأريحة والسخاء بلغت 2700 جنيه، وأن عدد طلابها كان إلى منتصف فبراير الماضي 403 ما بين ذكران وإناث، إلى غير ذلك من الدلائل على توقلها في مراتب النجاح، ولكنها لا تزال في حاجة كبرى إلى بدر الأموال ليتسنى لها مضارعة الجامعات الكبرى في أوربا وأمريكا، وليس بكثير على أهل الثراء في هذه البلاد أن يقيموا لأبنائهم جامعة تغنيهم عن انتياب الجامعات في البلاد الأخرى لا سيما وأن أقتالهم وأضرابهم في تلك البلاد قد قام على أفراد منهم بتأسيس كثير من الجامعات. وقد أصدرت الجامعة أيضًا تقريرًا عن مكتبتها ومحتوياتها والهدايا التي أهديت إليها وهو مطبوع باللغة الفرنسية، كتب الله النجاح والفلاح لهذه الجامعة ولطلابها. *** (رسالة في أدب اللغة وملكة الذوق) رسالة لإبراهيم أفندي نسيم الكاتب الأول لمشيخة الجامع الأحمدي ألقاها محاضرة في نادي موظفي الحكومة بالإسكندرية، وقد ألم فيها بأصل التدوين وتأريخه وحكى الأقوال في أصل الخطوط ووضع العلوم ونفى مزاعم القائلين بأن التدوين في الإسلام لم يكن إلا في القرنين الثاني والثالث، قال في ذلك: (أمَّا أنَّ العلوم الإسلامية لم تدوَّن إلا في القرنين الثاني والثالث للهجرة فمردود بما ثبت من شيوع الكتابة بين الصحابة وما كان من اتخا

البدع والخرافات

الكاتب: كاتب من البحرين

_ البدع والخرافات والتقاليد والعادات عند الشيعة رسالة من البحرين بسم الله الرحمن الرحيم أستاذنا ووالدنا حضرة فيلسوف الإسلام جعلني الله فداك، ورزقني بِرَّكَ ولقاك، بينما أطوف في البلاد وأنظر ما حل بالمسلمين من عالم سوء يضلُّهم بالبدع والخرافات، أومتفرنج يقول انبذوا الدين فليس إلا تُرَّهاتٍ، أسائل عن منار الإسلام كل غاد ورائح، كأني أمّ الحَوَار على فصيلتها تحن، أوالهيماء على ندى الماء تئن، فلم أجد له أثرًا في مشرق خليج فارس وجزائره حتى عرجت على مغربه ونزلت البحرين فوجدت ضالتي فوالذي فلق الحبة إني لأشد فرحًا به من الغواص حين يجد الدر، تشرفت بقراءة الجزء الأول فاتحة السنة الحادية عشرة حتى وقفت على كلمة عن العراق وأهله لعالم غيور (ص45) . ولما كنت جُبْت العراق وعرفت أهله سُنِّيهم وشيعيهم، حاضرهم وباديهم، أحببت أني أُطْلِعُ والدي على شيء عرفته منهم حتى يعلم الوالد - جعلني الله فداه - إنما عده الكاتب بلاء نازلاً من مذهب الشيعة ووعاظهم هو كما ذكر الكاتب حفظه الله بلاء نازل وصاعقة محرقة ليس على مذهب السنة فقط، بل على مذهب الشيعة نفسه، وأنا أذكر ما يبثه الوعاظ في أهل القرى والأكواخ وما يعلمونهم من تقرير علمائهم حالا وتأليفاتهم. حتى يعلم فليسوف الإسلام أن الوعاظ لا يعلمونهم الفرائض وأحكام الحلال والحرام أو مسألة الخلافة التي هي عند أهل السنة من فروع الدين وعند الشيعة من أصوله، ثم أذكر اعتقادات الشيعة في القرن الرابع نقلاً من كتبهم المؤلفة في ذلك العصر لعل أحد قراء المنار من علماء الشيعة يقف على هذا الفصل فيتنبه ويسعى في إصلاح ملته وإن كان من المظنون أنه لا يوجد في إيران والعراق من علماء الشيعة من له إلمام بالإصلاح الديني. *** سبب اجتماع علماء العجم في النجف وكربلاء كان محل ومأوى علماء الشيعة أواخر سلطة بني العباس الحلة في العراق وفيها يتخرج مجتهدوهم ثم ينتشرون في بلاد العجم إما للدعوة أو لالتماس دولة تأويهم وتنصرهم، لا لرفع التقييد عنهم فقط بل لحصد أهل السنة، يدل على ذلك حين قدم هلاكو خان إلى قومسين قاصدًا بغداد وفد عليه يوسف الحلي والد ابن المطهر الشهير عندهم بالعلامة، وكربلاء إذ ذاك قرية صغيرة والنجف لا يبلغ سكنته عدد الأصابع وإنما هو عبارة عن رباط يسكنه الزوار أو يلجأ إليه الدراويش والزهاد كما فعل الطوسي، والغالب في بلاد إيران ذلك الوقت مذهب أهل السنة إلا مدينة قم وكاشان وبعض بلاد طبرستان فإنها كانت تسكنها الشيعة. ظهرت دولة الصفوية في القرن التاسع وأبادت السنيين من إيران إلا بقايا منهم بعيدين عن مقر السلطنة مثل كوهستان جيلان المسماة بطالش وفيها من السنيين حالا زهاء 15ألف نسمة، وبرفارس وبنادره مثل لنجة وبندرعباس فيها من السنيين 50 ألف نسمة وأيالة كردستان الإيرانية أجمع ومقر حكومتها (سنندج) وأهلها كلهم سنيون وكذلك بلوجستان أهلها كلهم سُنيَّون، وبادية ججان من التركمان كلهم سنيون، فكان علماء الشيعة من سائر الأقطار ينتقلون إلى مقر السلطنة أصفهان وفيها يتخرج مجتهدوهم كما فعل بهاء الدين العاملي والكركي وأضرابهم، وقد تلقاهم الصفوية بالاحتفاء والترحيب فشيدوا لهم المدارس العظيمة والمساجد الفخمة وآثارهم باقية إلى الآن مع أن أكثرها قد خربه ظل السلطان نجل ناصر الدين شاه حين كان واليًا على أصفهان، حدثني بعض علمائهم أنه كان يوجد في أصفهان في ذلك العصر أربعمائة مدرسة. لعل القارئ إذا رأى قولي مقر السلطنة أصفهان يظن أني جاهل بتاريخ الصفوية لِما يعلم من أن أوائل دولة الصفوية كان مقر سلطنتهم قزوين فإنهم حين إقامتهم في قزوين كانوا لا هَمَّ لهم إلا الفتح أو بناء التكايا ليتخرج فيها الدروايش ويبقونهم في البلاد لمدح علي وأولاده، وسب … ضعفت الدولة الصفوية فاستولى عليها العلماء بحيث لم يكن يقدر أحدهم أن يتصرف في شيء بدون إجازة العلماء فَقلَّ وثوق عامة الإيرانيين بعلمائهم لما عهدوا من العلماء الأُول من التقشف والزهد ورأوا من هؤلاء الترف والبذخ واستدرار الدراهم والدنانير بأي وجه كان، فمن ذلك الحين شرع طلابهم بالمهاجرة إلى كربلاء لا للتحصيل، ثم الرجوع كما يفعل علماؤهم حالا بل لتحصيل الدرس والمجاورة هناك ومن رؤسائهم الأردبيلي. قدم الأفغان وفعلوا ما فعلوا، ثم ظهر نادر شاه ونفى العلماء والطلاب وتصرف في الأوقاف أجمع فهاجروا إلى كربلاء فصار يجمع كبير له شهرة عند أهل إيران في ذلك الوقت ورئيسهم الآغا البهبهاني الشهير في أوائل سلطة القاجار ثم انتقل إلى النجف ثم إلى (سر من رأى) (سامرًا) في أوائل هذا القرن ثم عاد إلى النجف فكان هؤلاء يكتبون لهم الرسائل التقليدية ويبعثون تلاميذهم بها إلى إيران لرواجها والشيعة يبعثون إلى علمائهم ومقلدتهم الدراهم بقصد الخمس والزكاة وشيء يسمونه رد المظالم؟ وما هو ردُّ إذا ذهب حاكم مثلاً إلى ولاية ومص دم أهلها ثم عزل وأراد أن يذهب لزيارة أحد أئمتهم أو إلى مكة أعطى للمجتهد جزءًا من ألف جزء وطهر له ماله، وقد شاهدت علاء الدولة في كرمان شاه بقومسين أهدى لابن الحاج ميرازا حسين خليل ما يبلغ ألف ريال مجيدي فأحل له ما يملك وهو يملك أربعة ملايين من الفرنكات وأمثال ذلك كثير فإذا وصلت هذه الدنانير إلى المجتهد فلا بد من تفريق بعضها على طلبته والمتخرجين عليه حتى إذا ذهبوا إلى إيران روجوا رسالته. قد قلت إن عامة أهل إيران قلَّ وثوقهم بعلماء إيران أجمع فانحصر تقليدهم في علماء العراق وكانت الرسائل تخرج إليهم منه فكان علماء العجم بعد تحصيلهم العلوم العقلية يذهبون إليه أفواجًا إما للمجاورة أو لطلب الرزق أو للإقامة مدة ثم الرجوع إلى إيران بالإجازة [1] وهو يتعهد بترويج رسالة الشيخ وإيصال الحقوق إليه، والشيخ يتعهد بالكتابة إلى الشاه والحكام في التوصية به، وهؤلاء الذين تخرجوا في العراق واختاروا الرجوع إلى إيران لا هم لهم إلا معارضة الدولة وأخذ الرشى من الحكام والولاة أوتكفيرهم وشكواهم على مجتهدي العراق، ولما لم يكن للناس اعتقادهم فيهم لما يرونه من أفعالهم فهم لا يبالون بجمع الدنيا من أي وجه أتت، وهذا الشيخ تقي الأصفهاني هو وأخوته وأنجاله تبلغ غلتهم في كل يوم عشرة آلاف فرنك أو ما يقرب منه، وطغام أهل إيران إذا ذهبوا إلى العراق لزيارة مشهدي علي والحسين وأولادهم، ورأوا من علماء هذه البلاد الانزواء وعدم التردد إلا لصلاة الجماعة والزيارة والدرس وإذا خرجوا من بيوتهم متلثمين جاعلا واحدهم عباءته على رأسه وسبحته في يده وقد شاهدوا من علماء إيران ركوب العربات واتخاذ الحدائق والجنات وكثرة التزوج حتى إن أحدهم ليبلغ زواجه حد المئة من النساء ازدادوا محبة لهم ورغبوا في حمل الدراهم إليهم وحسبوا أفعالهم من الزهد والتدين، ولم يعلموا المساكين أن هؤلاء مثل أولئك إلا أن عادات وأخلاق أهل البلاد تختلف ولو انتقل علماء العراق إلى إيران لفعلوا كما شاهدنا. وقد شاهدت علماء العراق يبعثون خدام قبر علي وأولاده إلى خان قين لاستقبال الزوار من العجم والترك والالقاء إليهم بأن فلانا هو الأعلم الأتقى، وبالجملة فظن الكاتب حفظه الله لم يخالط الشيعة في العراق ولم يعاشرهم فظن أن هذا المجمع العلمي يُرسل منه رسلا للدعوة، أو رأى أن أكثر قرى العراق شيعة فظن أنه من فضل علمائهم وأنهم يرسلون الدعاة حالا ولو قال من سنين خلت لأمكن تسليمه مع أن التأريخ يأبى ذلك فإنه قبل إرغام الرعية عبد الحميد على المساواة لم يتمكن الشيعة من بناء المساجد والنداء فيها بولاية علي، يعلم ذلك كل عراقي دع إرسال دعاة منهم إلى البادية، وأظن أن الفضل في ذلك عائد إلى الصفوية ومن في زمنهم من العلماء كالاردبيلي، وهجمات دولة الصفوية على العراق وقتلهم علماء أهل السنة وإلزام العامة بالتشيع أو القتل معروف مشهور، لذلك فإنك لا تجد من أهل بادية العراق أعني بادية غربي الفرات من فيه رائحة التشيع اللهم إلا قليلا من العرب لا يبلغ عدد فرسانهم المئتين يدعون بالخراعل وأناسا من الشطين يدعون بشمر الجرباء، وأريد بقولي بادية أهل العراق أهل الخف والحافر الذين لهم قدرة على النجعة ولهذا سلموا من ضغط الصفوية وإلزامهم لهم بالتشيع. تأتي منحدرًا من الشام على ضفاف الفرات قاصدًا العراق فترى عرب عنزة كالجراد المنتشر إلى أواسط العراق ثم ترى شمَّر على أفخاذهم عبده فسنجاره حتى تنتهي إلى نصف الفرات الآخر فترى عرب المنتفك وعرب الظفر إلى قرب البصرة، ثم تنحدر فترى مطير الدوشان فعريب دار، ثم تنحدر من الكويت فتري العجمان المناصير آلا مرة بني هاجر وعربًا لاحصيهم إلا خالقهم، فهذه القبائل من العرب الذين عددتهم معاملتهم مع أهل النجف وكربلاء فزبالاء سوق الشيخ والسماوة الخميسية فبغداد منحدرًا إلى البصرة ثم الزبر والكويت فالحساء والقطيف وقطر وليس يوجد فيهم شيعي ولا قدرة له على إظهار مذهبه عندهم مع أن أكثر بيعهم وشرائهم مع الشيعة وأكثر أهل البلاد التي يقتاتون منها شيعة ولاسيما العراق. وقد قلت الوعاظ ولم أقل الدعاة لأن هؤلاء لا يذهبون للدعوة وليسوا أهلاً لذلك لأنهم لا يعرفون معنى دينهم فضلا عن أن يدعو إليه ولم يذهبوا إلى بادية السنة أبدًا اللهم إلا للبيع والشراء كما ذكرت، وعند ذكر الوعاظ لا بأس بالإشارة إلى شيء من ذكر عزاء الحسين عند الشيعة. مستند الشيعة على استحباب إقامة عزاء الحسين خبر يروونه عن دعبل الشاعر أنه وفد على علي بن موسى فصادف وفوده أيام المحرم فقال له اتل علينا من مراثيك لجدنا وأحضر نساءه وراء الستر.. . ولا يوجد في كتب الشيعة المروية عن أئمتهم ما يدل على إقامة العزاء المعروف عندهم وفي كتب متأخريهم بل لم يذكروا عن علمائهم الأقدمين شيئًا من ذلك حتى في زمن آلا بويه زمن حريتهم ولا يوجد لهم تأليف في ذلك سوى مصادر عربية موضوعة يعلم من تصفحها ذلك، وأول من ألف في ذلك ملا حسين الكاشفي ألف كتابًا سماه روضة المحبين بالفارسية والعربية في القرن التاسع فكان ملا العجمي يقرأ منه فصلاً فيبكي الحاضرون ولا يعرف أنهم يقرؤنه بعد الصلاة أو في سائر السنة مثل الشيعة حالاً اللهم إلا في سابع المحرم إلى العاشر، والعجم يسمون قراء عزاء الحسين (روضة خان) ومعناه قارئ الروضة وشيعة العراق يدعونه قارئًا نسبة إلى الكتاب المعروف. ويظهر أن عزاء الحسين المعروف حالاً عند الشيعة لم يكن يعرف قبل الصفوية اللهم إلا جلسات خفيفة، فدولة الصفوية رتبت الجلوس في العشر المحرم كلها كما أحدثت دولة آل بويه قبلهم الديالمة الجلوس في اليوم العاشر، والشيعة حالاً زادوا في الطنبور نغمة المحرم صفر جمادي الأولى رمضان لا يبعد أن يقال ثلث السنة أسواقهم مغلقة، وبيوتهم بالشمع محرقة، لا بسين السواد وأظنه حدث في أواخر أيام دولة الصفوية على زمن عالمهم المجلسي. ذكرت قبلاً أن أهل الخف والحافر من بادية العراق لا يوجد فيهم رائحة التشيع، نعم إن الشاوية، والبقارة أهل بيوت القصب والأكواخ الذين لا قدرة لهم على النجعة كلهم شيعيون إلا القليل، يذهب إلى هؤلاء القارئ أو الواعظ، أو الروضه خان لطلب الرزق لا للدعوة كما يظن الكاتب ثم يجمعهم وينصب منبرًا أو يعل

رحلة القسطنطينية ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة القسطنطينية (3) حال الآستانة العمرانية والاجتماعية موقع هذه المدينة مشهور في جماله ومحاسنه الطبيعية ولو كانت هذه الدولة التي استولت عليها من عدة قرون دولة عمران ومدنية لجعلتها زينة الأرض ومثابة الأمم، ولكان لأهلها من السائحين مورد من أغزر موارد الثروة، ولكنك لا تجد فيها أثرًا من آثار العمران القديم للسلاطين السابقين الذين دوخوا الدول إلا المساجد، ولا شيئًا يُعْتد به من آثار العمران الحديث إلا المعسكرات من الثكنات والمدارس، فصوفية عاصمة البلغار وأثينا عاصمة اليونان والقاهرة عاصمة مصر، كل أولئك أرقى من عاصمة الدولة عمرانًا، فالآستانة موقع جميل، ومعسكر كبير، لا تغيب الجنود عن عينيك فيها دقيقةً من الزمان، فعسى الله أن يسخر لها الرجال الذين يعمرونها بعمران المملكة، لا بالاستقراض من الأجانب بالربا الذي يجعلها تحت سيطرتهم، وعرضة عند الحوادث لمداخلتهم، أما العمران المعنوي وهو العلم والأدب فلها حظ منه تفضل به مصر وسورية، وهو أن التعليم فيها أعم وأشمل، وتربية النساء أسمى وأنبل، ذلك بأن أموال المملكة كانت تجبى إليها حتى لا يبقى في كل ولاية إلا الضروري الذي لا يمكن الاستغناء عنه مع إباحة الرشوة والسلب والنهب فكثرت فيها المدارس للذكور والإناث، على أن الآداب الإسلامية الموروثة لا تزال أقوى في بيوت هذه المدينة منها في بيوت مصر فلا ترى امرأة في نافذة ولا على سطح إلا أن تكون مستورة البدن والرأس كما تكون في السوق، ولا تسمع من البيوت ولا في الأسواق والشوارع صخبًا ولا هجرًا من القول كما تسمع في أسواق القاهرة وشوارعها، ولا يتبرج فيها النساء كما يتبرجن بمصر إلا في بعض المواسم كآصال أيام رمضان في جهة الشاه زاده، وإلا في بعض الضواحي حيث يسرحن ويمرحن في متنزهات مظهرات لزينتهن، على أن الكثيرات منهن يسفرن عن وجوههن في الأسواق والشوارع ولكنهن مع ذلك يغضضن من أبصارهن كما أمر الله تعالى، وإذا خرجن في الليل من دار إلى دار يخرجن بالجبة أوالعباءة العربية المعروفة وبالقناع الأبيض وذلك يكون زيهن الغالب في المتزهات. فجملة القول: أن آدابهن حسنة في خروجهن إلى حاجهن في الأسواق والشوارع وبيوتهنَّ نظيفة مرتبة ولأولادهن حظ عظيم من النظافة والآداب، ويقول المختبرون من أهل البلد ومن الغرباء المقيمين فيه أن آداب غير المتعلمات أو المتعلمات على الطريقة القديمة منهن أعلى أخلاقًا وأقوى عفةً وأبعد عن الريبة من المتعلمات على الطريقة الحديثة الإفرنجية، وهن أشد عناية بالنظافة أيضًا فالتفرنج في البيوت هوالخطر الأكبر الذي ينذر البيوت الإسلامية بالفساد، في هذا البلد وغيره من البلاد ويقال إن أحمد رضا بك رئيس مجلس المبعوثين يريد أن يربي بنات المسلمين في المدرسة التي يسعى في إنشائها مع بنات الإفرنج والروم والأرمن تربية ليس لها من صبغة الدين شيء، فإذا تم هذا المقصد فبشِّر بيوت هذا البلد بالخراب المعنوي والفساد الذي لا يفوقه فساد. إن علم النساء المسلمات في الآستانة دون علم الأوربيات ولكن تربيتهن الدينية والأوربية أعلى من تربية الأوربيات كما شهد بذلك غير واحدة من هؤلاء بعد الاختبار التام ومنهن من صرحت بأن التفرنج آفة مفسدة لنساء الترك، نعم إنه يمكن أن تترقى معارفهن وآدابهن ولكن يجب أن يكون الدين هوأساس التربية، وأن تكون العناية به فوق العناية بالعلم وليس في أوربا شعب يربي البنات على الإلحاد أو ترك الدين، وإن أثبت الشعوب الأوربية مدنية هو أشدها عناية بتربية النساء والأطفال تربية دينية. إن بين إستانبول وقسم غلطه وبك أوغلي تباينًا عظيمًا في العادات ونظام المعيشة وحالة العمران على أن المسافة بينهما تقطع بدقيقتين إذ الفاصل بينهما هو الخليج المشهور وعليه جسران للمشاة والركبان ومنهم من يقطعه بالزوارق. تشبه إستانبول في عاداتها بلاد المشرق الإسلامية القديمة كطرابلس الشام فأزياء النساء فيها كأزياء النساء في مدن سورية إلا ما امتزن به وقد ذكرناه آنفًا، وأزياء الرجال فيها كأزياء الرجال في مدن سورية، الطربوش، والعمامة البيضاء، والعمامة المطرزة والعمامة الخضراء والمناديل الملونة كل ذلك من أزياء الرؤوس وكله كثير، وأما سكان قسم غلطه فتكثر فيه مزاحمة الكمم والقلانس للطرابيش المجردة ويقل فيه غير ذلك. يتعشى أهل إستانبول بعيد المغرب كأهل سورية وتقفل أكثر المطاعم بعد العشاء بقليل على حين يبتدئ أهل القسم الآخر بالطعام وتظل مطاعمهم مفتوحة إلى قرب منتصف الليل ويسهرون كثيراً ولا يسهر أولئك إلا قليلاً. ويكثر الفسق العلني والسري في قسم غلطه والفسق العلني ممنوع في إستانبول. وآداب الرجال العمومية حسنة كآداب النساء فلا تكاد تنكر على رفيع ولا وضيع قولاً خشنًا ولا كبرًا وترفعًا ولكنك كثيرًا ما تنكر عليهم إخلاف الوعد وما في معنى الإخلاف حتى يقلّ أن يثق المختبر بقولٍ يسمعه وسبب ذلك تأثير الاستبداد الشديد، وما كان من الضغط والمراقبة على عهد عبد الحميد، فذاك هوالسبب الطبيعي لفشو الكذب والإخلاف والتقلب في كل الأمم، ولهذه العلة كثر الكذب والإخلاف والتقلب وعدم الثبات في جميع البلاد العثمانية كما كثر ذلك من قبل في مصر ولاسيما على عهد إسماعيل باشا. كنت كتبت في المنار وقلت في بعض الخطب التي ألقيتها في العام الماضي بالبلاد السورية إن أرقى البلاد العثمانية الآستانة وما يقرب منها من ولايات الرومللي وأوسطها سورية وأدناها العراق والحجاز واليمن. وقد تبين لي أن هذا القول خطأ فالآستانة لا تفوق سورية إلا بكثرة عدد المتعلمين من الرجال والنساء وبالآداب الاجتماعية كما تقدم؛ فهي ليست أرقى في العمران الحديث من بيروت ولا في العمران القديم من دمشق، وليس النابغون من أهلها كالنابغين من سورية في العلوم الإسلامية، ولا في الفنون، والعلوم الأوربية، ولا في الأدبيات، ولا في التجارة والزراعة , ولا أهل الإدارة والقضاء منهم أرقى ممن تسنى لهم أن يشتغلوا بهما من السوريين بمصر، وكذا في بلاد الدولة على قلتهم وليس الضباط المتعلمون في المدرسة الحربية من أهل الآستانة بأرقي في الفنون الحربية من الضباط السوريين ولا العراقيين إلا أنهم أكثر وأما ولايات الرومللي وكذا الأناضول فهي دون الولايات السورية في الجملة. وأما النسبة بين الآستانة ومصر فهي أن عامة أهل الآستانة أرقى من عادة أهل القاهرة وخاصة أهل القاهرة النابغين أرقى من خاصة أهل الآستانة النابغين إلا في الجندية، وأما من جهة الثروة والعمران فمصر أغزر ثروةً وأرقى عمرانًا، وقد تقدمت النسبة بين البلدين في النساء وتربية الأولاد. هذا ما تبين لي في هذه الشهور نصصته على غره، غير متحرف إلى جهة، ولا متحيز إلى فئة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ((يتبع بمقال تالٍ))

انتشار الإسلام في إفريقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتشار الإسلام في إفريقية نشرت جريدة الديبيش كولونيا مقال للدكتور كارل كوم الذي قام بسياحات كثير في إفريقية وأحدثها سياحته فيما بين نهر النيجر والنيل قالت [1] : (إن الدكتور كارل كوم يرى أن إفريقية ستكون في يوم قريب قارة إسلامية محضة ما عدا بعض الجهات التي ينتسب أهلها إلى المسيحية اسمًا كجنوب إفريقية وأوغنده والحبشة ولقد عاقت طبيعة البلاد في أواسط إفريقية دون أن يكتسحها سيل الإسلام الجارف في طريقه عدة قرون فلما وطأتها أقدام الأوربيين وانتهت تلك المنازعات القديمة بينهم على الحدود، وانفسح المجال أمام التجار المسلمين أخذوا ينشرون نفوذهم ويوسعون دائرة سلطانهم فتوغلوا في الغرب والشرق والجنوب حتى انتشر الإسلام بين أهالي هذه الجهات بسرعة غريبة ومدهشة بنتيجة مساعي الأوربيين أنفسهم الذين ذللوا تلك العقبات باكتشافاتهم الجغرافية وبتقويم شؤون البلاد وتحسين وسائل الثروة بها وأحوالها الاقتصادية. وقد شعر بحرج هذا المركز الصعب وكلاء فرنسا وبريطانيا وأخذت هذه المسألة تتعقد أمامهم فلا يعرفون لهم منها مخرجًا بعد أن تغلب الإسلام على الجنوب. وبعد أن طعن الدكتور كوم تعصبًا وتمحلا على تعاليم الإسلام زاعمًا بأنها تلقي بذور التعصب في قلوب المتدينين به استنتج أنه يجب على كل مسلم مقاتلة الكفار إلى أن يأسرهم أو يقتلهم وقال لا توجد ذريعة أنجع من إدخال القبائل الوثنية في الدين المسيحي لتكون حصنًا متينًا للدفاع. ثم قال: ولا يوجد الآن غير طريقين لنجاة الرقيق: أولهما في السودان العربي إلى مكة مارًا بالسودان المصري وقد حاولت القوة الفرنسية في بحيرة تشاد بقياد الكولونل مول أن تقطع هذا الطريق حتى تمكنت من ذلك ولكن الطريق الثاني لا يزال مفتوحًا ويمر ببنغازي ولا يمكن إغلاقه إلا إذا استولت بريطانيا العظمى على درافور. وقد نشرت مجلة المستر فول مقالة وجهت فيها أنظار ولاة الأمور الإنكليز لوجود ثلاثة عشر ألف شاب مسلم على بعد خمسة أيام من مقر الإنجليز قد أجمعوا أمرهم على أن يجوبوا أنحاء البلاد الإفريقية للدعوة إلى الإسلام. ولاحظت أن الوثنيين يقبلون الدين الإسلامي بسهولة ورغبة، ومن انتحل منهم المسيحية لا يلبث إلا قليلاً ثم يعلن إسلامه مثل رفاقه، واستنتجت على دعواها بسهولة مبادئ الدين الإسلامي بزيادة المسلمين المضطردة في الهند فقد بلغ عدد الذين ينتحلون الإسلام من أهلها نحوعشرة آلاف شخص في كل سنة وكذلك الحال في الصين حيث يَنْمي عدد المسلمين كل يوم بنسبة ظاهرة تدعو لمزيد الدهشة والاهتمام) .

الإسلام في الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام في الهند جاء في مجلة العالم الإسلامي الفرنسية مقال عن الإسلام في الهند أحببنا ترجمته لما فيه من الحقائق التي يجهلها إخوانهم المسلمون قال الكاتب [*] : انتشر الإسلام في الهند سنة 1001 ميلادية وقد ازداد عدد أتباعه حينما تقلصت سلطة الإسلام في تلك الديار وامتدت سلطة الاحتلال الإنكليزي خلافًا للمأمول وهو يمتد اليوم على صورة مدهشة فقد كان عدد أهله في الهند سنة 1897 واحدًا وستين مليونًا ونصف مليون فأصبح عددهم سنة 1901 ثلاثة وستين مليونًا منهم 97 في المئة من أهل السُّنة وإليك تفصيل العدد. 54 مليونا في الولايات الهندية الشرقية الإنكليزية كبمباي ومدراس. 8 ملايين ونصف في الولايات التابعة كحيدر آباد. 270 ألفًا في المستعمرات الإنكليزية كسيلان. 730 ألفًا في البلاد التي لم تدخل تحت الإحصاء كولايات أوريسا. وقد يوجد من المسلمين في المقاطعات الفرنسية الهندية 20 ألفا وفي المستعمرات البرتغالية 8 آلاف ونصف ألف، وفي المستعمرات الأومانية 10.000 آلاف من الهنود والفرس والعرب والإفريقيين. أما عدد المسلمين في الولايات المستقلة فإليك بيانه: في ولاية نابل ثلاثة ملايين ونصف مليون، وفي ولاية بوتان أربع مئة، وفي ولاية أفغانستان 6ملايين وأما بحسب المذاهب فعدد المسلمين في الهند ينقسم إلى أهل سنة وشيعة فأهل السنة 66مليونا و222ألفا و507والشيعة مليونان و577ألفًا و429 والمجموع 68.799.936 فإذا اعتبرنا زيادة مليونين في الولايات الهندية الإنكليزية فيكون عدد المسلمين في الهند سبعين مليونًا. أما حركة هذه الملايين الاجتماعية والسياسية فقد كانت بطيئة إلا أنها ابتدأت تؤثر في الدولة الإنكليزية فلا تمضي مدة إلا ويحدث حادث لهذه الدولة من هذه الجموع ولو كان المسلمون متّحدون الاتحاد المطلوب لما أقام الإنكليز ساعة في تلك البقاع على أن التكافل بينهم قد بدا طلعه فاتحد فريق كبير منهم وبدأوا بإعداد القوة وسيجتازون عما قريب كل عقبة وصعوبة وقد ظهر للناس أخيرًا أنهم يميلون زلفى إلى الدولة العثمانية. فلسوف يقوى الإسلام في الهند ويمتد بواسطة العلم الذي ينتشر بينهم بسرعة ولا غَرْو فإن هذا الدين من مطالبه العلم، وسوف يسود على كل تلك الديار على أن الإنكليز هم الذين علموهم لغتهم فتسلحوا بها وأصبحوا يطالبون بحقوق الإنسان الحرة ويتقاضون من الإنكليز مراكزهم الاجتماعية ومناصبهم السياسية.

صدى العلم من الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صدى العلم من الحجاز جاءتنا كراسة بهذا الاسم فيها تفصيل عن (حفلة توزيع الجوائز على التلامذة الفائزين في الامتحان السنوي في المدرسة الصولتية بمكة المكرمة تأسيس العلامة المرحوم الشيخ رحمة الله الهندي صاحب كتاب إظهار الحق) ، وهي مفتتحة بخطاب من مدير تلك المدرسة موجه إلى كل قارئ يستفز به الهمم ويحدو العزائم إلى مساعدة هذه المدرسة الفذة في نوعها المفيدة في الجملة بالتبرعات المالية؛ لأن قيامها بها وهي لا تزال قائمة بتبرعات الهنود الأسخياء الذين عرفوا قوة التعاون والتكافل أكثر من غيرهم من مسلمي الأرض، وإنه ليجدر بمسلمي هذه البلاد أن يمدوا إليها يد السخاء وما نرى أنهم يرضون كما رضيت دولتهم بأن يكون الجهل ضاربًا أطنابه في مكة المكرمة ذلك البلد الحرام الذي كان ينبوع سعادتهم ومهيع العلم والحكمة من قبل. ألا وإنه ليحزننا أن تبقى البلاد التي نزل بها الوحي وانبثق منها نور الإسلام الذي قلب كيان العالم وقتل الوثنية ونفخ روح العلم وأشرع سبيل استقلال الفكر إنه ليحزننا أن تبقى متسكعة في دياجير الجهل موثقة بأغلال التقاليد، فهلا عناية من دولتنا الدستورية التي يفتخر سلطانها بلقب (خادم الحرمين) بتلك البلاد بعض عنايتها ببلد من بلاد الرومللي، على أنه قد آن للمسلمين وقد مضى زمن التفكير أن يدأبوا على العمل، وعلى الله قصد السبيل.

الإكراه على الإسلام بالسيف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإكراه على الإسلام بالسيف س 27 من س. ع التلميذ في مدرسة الحقوق بالآستانة. إلى فليسوف الإسلام وفخر الأمة سيدي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الأغر مَتَّعَنِي الله بطول بقائه آمين. رأينا في الجريدة التي يصدرها مجد عبيد الله مبعوث آيدين في الآستانة مسألة عجبنا من صدورها من مسلم وازداد عجبنا ضعفين؛ إذ سمعنا أن كاتبها صاحب تلك الجريدة يعد من علماء الترك، ثم ازداد عجبنا أضعافًا مضاعفة؛ إذ بلغنا أن تلك الجريدة تصدر بمساعدة الحكومة ونفقتها وهي هي الحكومة الدستورية المؤلفة من هيئتين: إحداهما تسمى التشريعية، وأخرى تسمى التنفيذية وكل منهما مؤلفة من المسلمين وغير المسلمين. تلك المسألة هي التي جعلها أعداء الإسلام أشد مطعن وهي ادعاء أن الإسلام قام بالإكراه والإجبار لا بالدعوة والحجة، وأنه يجب على المسلمين الآن أن يكرهوا الناس على الإسلام بقوة السيف فقد قال في العدد الحادي عشر من تلك الجريدة المسماة باسم (العرب) ما نصه: (إن أكبر مرشد في الإسلام هو النبي عليه الصلاة والسلام كان يحمل كتاب الله في يد والسيف في اليد الأخرى، فكان إذا رأى من لا يقبل الحق الذي يدعوه إليه في الكتاب أرغمه بالسيف، فأنتم يا معشر المرشدين المكلفين بوظيفة الإرشاد {َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) . (ثم إن الخلفاء الراشدين والأمراء المرشدين الذين جاؤوا بعد النبي عليه الصلاة والسلام قد اقتفوا كلهم هذا الأثر الجليل) اهـ بحروفه إلا كلمة أسوة في الآية الكريمة فكان مكانها في تلك الجريدة كلمة (قدوة) وهي بمعناها، ولكن لا يجوز نقل القرآن بالمعنى وما أظن أن صاحب الجريدة تعمد ذلك وإن كان يوجب ترجمة القرآن، لأنه لا يخفى عليه أن تعمد تغيير ألفاظ القرآن بمعناها في العربية كفر وردة مقررة عن الإسلام. فما قول المنار في هذه الدعوى؟ أحق ما يقول محمد عبيد الله أفندي وبعض الطاعنين في الإسلام من الإفرنج في هذه المسألة أم هو باطل؟ إن قلتم بالأول فهل تقولون أيضًا بما فرعه عليه محمد عبيد الله أفندي من وجوب قيام خليفة المسلمين وجميع أمرائهم ومرشديهم بإكراه غير المسلمين بقوة السيف (وما معناه من المدافع والبنادق) على قبول القرآن واتباعه أم لا؟ إن قلتم: نعم فلماذا يترك الخليفة وغيره من الأمراء والمرشدين حكم دينهم والتأسي بنبيهم صلى الله عليه وسلم؟ وهل يجب على مجلس المبعوثين في الدولة العلية أن يلزم الخليفة بذلك أم لا؟ وإذا كان يجب ذلك على المجلس وتركه فهل يكون أعضاء المجلس من المسلمين فاسقين بترك هذه الفريضة أم ماذا يكون حكمهم؟ وإن قلتم: لا يجب ذلك فكيف تقولون بالأصل دون التفريع عليه؟ أفتونا وعلمونا مما علمكم الله. ج - الحمد لملهم الصواب ونقول وبالله التوفيق: (إن تلك الدعوى التي ادعاها صاحب تلك الجريدة باطلة بأصولها وفروعها ولا يقول بها من يعرف حقيقة الإسلام إلا إذا تعمد الكذب والبهتان بقصد إيقاع الفتن بين المسلمين وغير المسلمين وإلجاء دول أوربا إلى الاتفاق على الإيقاع بالدولة العلية، ولا يعقل أن يأتي هذا من رجل عاقل له صفة رسمية في هذه الدولة، فنحن لا نبحث في قصد كاتب تلك الجمل التي نقلها السائل ولا في التأثير السيئ الذي يخشى أن يثيره صدورها من مثله، ولا في صحة ما شاع من إعانة الحكومة على نشر جريدته، وإنما نخص كلامنا فيما هو اللائق بباب الفتوى من بيان الحقيقة فنقول: بينا الحق في هذه المسألة في مواضع متعددة من المنار والتفسير خاصة ولا سيما تفسير آيات القتال في سورة البقرة وكذا تفسير {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) منها فراجع تفسير {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (البقرة: 190) الآيات من ص 203 إلى 212من جزء التفسير الثاني، وتفسير {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) من ص 35- 40 من جزء التفسير الثالث، ولا يذهبن ظنك إلى أن حكمنا على من يذهب إلى هذا الرأي بالجهل أو سوء القصد حكم بدا لنا الآن نريد أن نلصقه بهذا الرصيف الجديد، كلا إن هذا هو رأينا منذ سنين طويلة فراجع إن شئت ص 205ج2 تفسير تجد فيها أن المسلمين لم يكونوا في قتالهم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلا مدافعين وإننا قلنا بعد هذا البيان ما نصه: (وهل يصح أن يقال فيهم: إنهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة، دون الإرشاد والدعوة، كلا لا يقول ذلك الأغر جاهل، أو عدو متجاهل، ولا تنس ما نقلناه بعد ذلك عن الأستاذ الإمام في ص 210، 211 من هذا الجزء وكذا في ص 39 من الجزء الثالث من التفسير ومنه قوله في آخره: (ولا التفات لما يهذي به العوام، ومعلموهم الطغام؛ إذ يزعمون أن الدين قام بالسيف وأن الجهاد مطلوب لذاته فالقرآن في جملته وتفصيله حجة عليهم) ، وإذا راجعت الجزء الرابع من التفسير تجد فيه بيانًا لهذه المسألة أيضًا، والأصل في هذه المسألة قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) وهي مدنية وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) ومثل قوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) وقوله عز وجل: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} (ق: 45) وكذلك تقييد آيات القتال بجعله دفاعًا والنهي عن الاعتداء فيه كآية (190 من سورة البقرة) التي ذكرنا معظمها آنفًا والراجح في علم الأصول أن المطلق يحمل عليه المقيد وعليه الشافعية. والسنة العملية تؤيد هذه النصوص الواضحة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يأذن أحدًا من المسالمين له بحرب أبدًا، وإنما كانت غزواته كلها دفاعًا فكان المشركون قبل فتح مكة حربًا له وللمؤمنين؛ آذوهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، وكانوا يجهزون الجيوش فيسوقونها إليهم في دار الهجرة؛ ليستأصلوهم كما فعلوا في بدر وأُحُد والخندق فهم معهم في حرب دائمة يصيب منهم ويصيبون منه، فلما رضوا منه بالصلح عشر سنين فرح بذلك ورضي منهم بأشد الشرائط وأثقلها على المؤمنين وهو في قوة ومنعة منهم قادر على الحرب وسبق له الظفر فيها، ثم كان المشركون هم الذين نقضوا الميثاق. وقد بلغ من تقرير الإسلام للسلام أن شدد في المحافظة على عهوده إلى درجة ليس وراءها غاية وهي أن المشركين الذين عاهدوا المسلمين المهاجرين إذا وقع قتال بينهم وبين المسلمين الذين لم يهاجروا وطلب هؤلاء المسلمين من إخوانهم المهاجرين أن يعينوهم على المشركين المعاهدين لهم فإنه يحرم نقض عهدهم بمساعدة المسلمين عليهم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ} (الأنفال: 72) . كنت أظن أن محمد عبيد أفندي من أوسع علماء الترك اطلاعًا على السيرة النبوية الشريفة؛ لأنه من أعلمهم باللغة العربية نفسها لإقامته الطويلة في البلاد العربية فكيف راجت عليه هذه الدسيسة الأوربية والأوهام العامية؟ ليأتنا بحديث واحد في إثبات دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ القرآن في يد والسيف في أخرى ويعرض القرآن على من يلقاه فإن آمن وإلا أنحى بالسيف على هامته ففلقها. ما رأينا حديثًا في ذلك صحيحًا ولا حسنًا ولا ضعيفًًا بل لم نر ذلك في الموضوعات التي كذبوها عليه صلوات الله وسلامه عليه! هل يمكن أن يقول مثل عبيد الله أفندي إنه استنبط ذلك من حرب الصحابة؛ إذ كانوا يعرضون على من يتصدى لحربهم الإسلام فإن لم يجيبوا فالجزية فإن لم يقبلوا كان السيف حكمًا بينهم وبينهم؟ ! ما أراه يجرؤ على القول بأن هذا يؤيد قوله ذاك وإن سلمنا له أنه من السنة المتبعة. إن اتباعهم لهذه الطريقة إنما كان بعد تقرير الحرب والتصدي لها وإنما كان سبب الحرب بين الخلفاء الراشدين وبين الروم والفرس اعتداء الروم والفرس لا اعتداء الصحابة العاملين بقوله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) والذين صاروا بمقتضى هذه الآية وأمثالها يكرهون القتال وإن فرض عليهم لضرورة المدافعة عن أنفسهم ودينهم وتأمين دعوته كما شهد الله لهم بذلك في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) . ذلك بأن الروم والفرس كانتا أمتي حرب وقد ضريتا بما جاورهما من جزيرة العرب فأظلت سلطة كل منهما بعض العرب المجاورين لهما، لذلك وللعصبية الدينية ساءهما دخول أكثر العرب في الإسلام وتجدد دولة لهم تابعة لدين مبين فكان كل منهما يهدد دعوة الإسلام في جواره ويعتدي على المسلمين فلم يكن للمسلمين بد من محاربتهم، ولما كان المسلمون يجوزون قبل الشروع في كل قتال أن يمتنع بأحد السببين: إسلام المحاربين لهم أو الخضوع لهم بدفع شيء من المال لا يثقل دفعه إلا على من وثق بقوته على الحرب؛ لمنع دعوة الإسلام الجديدة من الانتشار في الأرض، فكانوا يعرضون أحد هذين الأمرين والحرب مقررة قبل ذلك بما سبق من الاعتداء، ولم يكن عرضها هو السنة المتبعة في الهداية والإرشاد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا كسرى وقيصر وغيرهما إلى الإسلام ولم يهددهما بالسيف وإنما دعاهما بالحكمة والموعظة الحسنة اتباعًا لما أمره الله تعالى به في قوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) . لو ذكر محمد عبيد الله أفندي عبارته تلك في سياق الكلام عن الجهاد وأحكامه. لتيسر لنا أن نتمحل لها تأويلا ولكنه ذكرها في سياق الإرشاد وذكر العلماء المرشدين في صحيفة قال: إنه أنشأها لإرشاد العرب وحثهم على إرشاد العالم فما هي المناسبة لذكر السيف والإرغام على قبول الحق وإنما موضع الحق القلوب وهي لا يصل إليها السيف، بل السيف وذكر السيف مما يزيدها نفورًا، ويجعل بينها وبين الحق حجرًا محجورا. ليست هذه المسألة هي التي شذ فيها وحدها هذا الرجل فإن له شذوذًا في مسائل أخرى دينية وتأريخية كادعائه أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ما تمت ولا تتم إلا بترجمة القرآن إلى جميع اللغات، وكادعائه أن غير العرب من المسلمين يمكنهم الاستغناء في دينهم عن معرفة اللغة العربية وعن القرآن العربي المنزل من عند الله تعالى آية للعالمين معجزًا للبشر على مر السنين، بترجمته إلى التركية والفارسية وغيرهما من اللغات. وإن كان المترجم يترجم بحسب فهمه فيختلف مع غيره فيكون لكل أهل لغة قرآن، وإن كانت الترجمة لا يمكن أن يتحقق فيها الإعجاز كالقرآن المُنزل من عند الله ولا يصح التعبد بتلاوتها ولا يتحقق فيها غير ذلك من خصائص القرآن، وقد سبق لي مناظرة معه في هذه المسألة بمصر منذ سنين، وكإنكاره أن للبشر أرواحًا مستقلة هي غير الجسم المحسوس وأعراضه. وق

حديث منع الدين بنصارى من ربيعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حديث منع الدين بنصارى من ربيعة س 28: من الشيخ محمد سالم الكلالي بسنغافورة. سيدي الأستاذ المحدث السيد محمد رشيد رضا المحترم متع الله المسلمين بحياته. بعد السلام: قد أشكل على العبد الفقير ما جاء في الصفحة الـ 333 من الجزء الخامس من كتاب تهذيب التهذيب، لابن حجر في ترجمة عبد الله بن عمر القرشي حديث: (إن الله يمتنع (كذا) هذا الدين بنصارى من ربيعة) انتهى فما هو صواب عبارة هذا المتن؟ ثم ما معناه وهل هو صحيح أم لا؟ أفيدونا لا زلتم مصدرًا للإفادات في المشكلات والسلام. ج - صواب متن الحديث: (إن الله سيمنع هذا الدين بنصارى من ربيعة) فالتحريف من الطبع فيما يظهر والنسخة المطبوعة عندي بمصر ولا أعلم أنها توجد هنا - في الآستانة - ومعنى المنع الحماية ومنه منع الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم مما يمنعون منه نساءهم وأهلهم في حديث الهجرة؛ أي: حمايته، وهو يحمل على من أسلم منهم، وأما سنده فقد رواه عن سعيد بن عمرو بن سعيد ابن العاص وأخرجه عنه النسائي ورجاله كلهم في تهذيب التهذيب لديكم فراجعوا تراجمهم فيه وفي غيره مما لديكم. وما أراه يصح عنه، ولكن ليس لدي الآن وأنا في السفر ما أراجع فيه، ولا الحديث من المشهورات فيحفظ ولا هو مما يتعلق به عمل فيضر تأخير البيان فيه.

قوة الاجتماع والتعاون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قوة الاجتماع والتعاون الاجتماع والتعاون قوة لا تغلب إلا بقوة مثلها، قوة بها ترتقي أمم وتعتز، وبها يسود قوم على قوم، وبها تنمي الثروة، وبها يتغير شكل الحكومة والدولة، وبها كان كل شيء ويكون كل شيء. عشرة مجتمعون متعاونون، يغلبون المئين والألوف من المتفرقين المتخاذلين إذا ألفوا شركة مالية قطعت أسباب الكسب على أضعاف أضعافهم في العدد من التجار، وإذا كونوا عصبة للبغي والعدوان سلبوا راحة الألوف من الناس، وإذا قاموا بالأعمال الاجتماعية أحدثوا تغييرًا عظيمًا في العمران، وإذا نشروا العلوم والفنون أفادوا ما لا يفيده الكثيرون من العلماء الأعلام. لماذا كانت الحكومة الاستبدادية القليل أفرادها أقوى من الأمة الكثير عددها؟ أليس لأن الحكومة جماعة متعاونة، والأمة أفراد متفرقة؟ ولماذا كانت الأمة الدستورية أقوى من حكومتها؟ أليس لاجتماعها على رأي واحد في شكل الحكومة وكيفية سيرها؟ فإلى متى يظل المنحطون من الأمم والشعوب غافلين عن هذه الحقيقة جاهلين طريق هذه القوة - قوة الاجتماع والتعاون - التي بها يرتفع شأنهم، ويعلو قدرهم، ويساوون تلك الأمم التي ينظرون إليها كما ينظر أهل الأرض إلى الكواكب اللامعة في جو السماء، ويحسدونها على ما أوتيته من السناء والبهاء، وهذه أخبار التأريخ الماضية، وحوادث الأجيال الحاضرة، تعلمهم أن الاجتماع مع التعاون هو القوة التي تذهب بشقائهم، وتشفيهم من أدوائهم، وتحقق لهم أمانيهم التي يتمنون، وتعبر لهم الرؤى الصالحة التي يرون. لو أردت أن أبين فوائد الاجتماع والتعاون بطرق الخطابة أو الشعر لاحتجت إلى إنشاء الدواوين، ولو أردت أن أجمع الشواهد والوقائع في فضلها لصنفت الأسفار الكثيرة في التواريخ، ولكنني لا أريد هذا ولا ذاك، إن أريد إلا تذكير القارئين بمسألة صارت من الضروريات، لا يحتاج فيها إلى نظم الأدلة وترتيب المقدمات، أريد أن أذكرهم ليعملوا، لا ليعلموا ما لم يكونوا يعلمون، ولا لأجل أن يتسلوا عند الفراغ بما يقرؤون، أريد أن أقول لهم: يا قوم إنكم ضعفاء في العلم وأنتم أذكى الناس أو من أذكاهم، وإنكم فقراء وأنتم أقدر البشر على الكسب أو من أقدرهم، وإنكم مهضومون مستضعفون لغير ذنب تجنون، إلا تفرقكم وتخاذلكم، إنه لا ينقصكم إلا الاجتماع والتعاون فاجتمعوا وتعاونوا، ولا يفرقن بينكم اختلاف ديني ولا جنسي مع العلم بأن الحاجة أو الضرورة تقضي باجتماعكم على ما به قوام مصلحتكم المشتركة. لا أدعوكم إلى اجتماع مبهم أو خيالي، ولا إلى تعاون مطلق أو إجمالي، بل أدعوكم إلى الاجتماع لإزالة موانع الاجتماع، ثم للتعاون على ترقية شأن الاجتماع بالعلم والثروة، وإعلاء شأن الأمة والدولة، بأن تكونوا أصحاب القدح المعلى الذي يؤهلكم له ذكاؤكم الفطري وأخلاقكم الموروثة التي ينوء بها التأريخ؛ إذ يفاخر بأجدادكم جميع الأمم والشعوب: يا قوم إن لكم من مجد أولكم ... إرثًا قد أشفقت أن يفنى ويتقطعا يا قوم بيضتكم لا تفجعن بها ... إني أخاف عليها الأزلم الجذعا إن الدولة لا ترتقي ولا تعتز إلا بالأمة، وإن الأمة بأخلاقها وعلومها وثروتها، وإن الوراثة أكبر عون للمرء على التربية والعلم والعمل، فتعاونوا على نشر التعليم والتربية، تعاونوا على ترقية الزراعة والصناعة والتجارة، فقد آن لكم أن تخرجوا من مأزق الأعمال الفردية، إلى فضاء الأعمال الاجتماعية، فلو صار واحد منكم أغنى من قارون، وأعلم بالحكمة من لقمان، وأخطب في العلوم الإلهية والحكمة الأدبية من علي بن أبي طالب، وأعدل من عمر بن الخطاب، وأدهى في السياسة العصرية من بسمرك، وأنشط من غليوم؛ لما اعترف لكم أحد بحق، ولا مكنكم أحد من الإصلاح في الأرض، إلا بعد أن تجتمعوا وتتعاونوا. يجب أن تؤلفوا الشركات المالية ولا تنسوا بها المعنى الاجتماعي الأدبي، لا تنسوا أنكم إذا خلطتم أموالكم بعضها ببعض تختلط أرواحكم بعضها ببعض فيزول سوء تأثير الاختلاف الطبيعي بينكم سواء كان اختلافًا في الدين والمذهب، أو الجنس والمشرب. يجب أن تؤلفوا الجمعيات العلمية والخيرية لتعميم التربية والتعليم بين جميع الطبقات ليكون أفراد الأمة كسلسلة إذا تحركت حلقة منها تحركت سائر الحلقات. يجب أن تطالبوا الأغنياء ببذل الإعانات العظيمة لنشر العلم وإنشاء المدارس فمن بخل على الأمة بفضل ماله فعليكم أن تبينوا للأمة أنه عدوها وأنه يجب عليها أن تمقته وتحتقره، وأما من يجود عليها بما يرفع شأنها فعلموها كيف تعظم شأنه وترفع قدره، استعينوا على هذا بالكتاب والشعراء، فهم الذين يربون لكم الأغنياء. يا أصحاب الأقلام: إن في أيديكم قوة تعمل ما لا تعمل السيوف والمدافع، إن من تعظمونه بالحق يكون قدوة وإمامًا في الخير لأهل عصره، ولمن يأتي من بعده وإن من تحتقرون ولو بالباطل يكون محتقرًا في زمانه ومحتقرًا في التأريخ حتى تستحي ذريته أن تنتسب إليه، فاعرفوا قيمة أنفسكم كما عرفها بشار؛ إذ قال: أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم أن أغضبا أبني حنيفة إنني إن أهجكم ... أدع اليمامة لا تساوي أرنبا اعرفوا قيمة هذه السلطة المعنوية التي لا تظهر قوتها على كمالها إلا في الجرائد، واستعملوها في إصلاح حال الأمة فبذلك يعلو قدركم، ويرتفع ذكركم، وتنالون من الناس أحسن الشكر، ومن الله تعالى أكبر الأجر. وأنتم يا أصحاب الجرائد أولى أصحاب الأقلام بهذا العمل؛ لأن صحفكم تجعل لكلامكم من التأثير ما ليس لكلام غيركم الذي لا تقبلون نشره فيها؛ فحرضوا الكُتَّاب والشعراء على هذا الإصلاح، ونوهوا بفضل من يساعدكم عليه، ولا تبالوا بمن عداه بل أدبوه كما تؤدبون بخلاء الأغنياء. يا أصحاب الجرائد: لا تفتننكم سياسة الحكومة فتجعلوا عنايتكم محصورة في أعمالها وأقوالها، اجعلوا جل عنايتكم في إصلاح حال الأمة، فلن تصلح دولة أمتها جاهلة متخاذلة، فبإصلاح الأمة يتم لكم ما تريدون من إصلاح الحكومة، فهي كل شيء، ويجب أن يكون لأجلها كل شيء.

كيف تنال الأمة حقوقها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كيف تنال الأمة حقوقها إن للأمم حقوقًا طبيعية وشرعية، وإن حقوقها كحقوق الأفراد تغصب منها وتغلب عليها، وإن الغاصب لها قد يكون واحدا منها أو واحدًا من غيرها وقد يكون جماعة منها أو من غيرها، وأعني بالفرد الذي يغصب حق الأمة: الحاكم المستبد المطلق، الذي يرجع إليه الأمر كله في سياستها، إن شاء عدل، وإن شاء ظلم، وإن شاء أشرك غيره بالحكم، وإن شاء انفرد، وأعني بالجماعة: الحكومة المقيدة كيفما كان شكلها ونوعها. إذا ظلم الأفراد وغصبت حقوقهم يختصمون إلى الحكام، فإما أن ينصفوهم وإما أن لا ينصفوهم، وأما الأمم فليس لها محاكم تختصم إليها؛ لأن حكامها هم الذين يغصبون حقوقها، وماذا تفعل وخصمها هو الحكم، وكيف تنتصف منه إذا جار وظلم؟ ومتى تسترد حقوقها منه إذا اعتز وغلب؟ لا تنال حقوق الأمم بنظم الأقيسة وترتيب المقدمات، وإقامة الحجج وإيراد البينات، ولا بالرجاء والتعليل، ولا بالبكاء والعويل؛ لأن الغاصب لا يكون فاضلاً عادلاً فيقنعه البرهان، ولا رؤوفًا رحيمًا فيؤتى من ناحية الوجدان، وإنما يكون فظًّا غليظ القلب، لا يخضع إلا للقوة والبأس، فيعطي بالقوة كما يأخذ بالقوة. كيف تصير الأمة المغلوبة على أمرها ذات قوة تسترد بها حقها، إذا كان الحاكم واقفًا لها بالمرصاد، مانعًا إياها بقوته من إيجاد قوة لها؟ أنقول: إن اليأس من قوة أمة هذه حالها أقوى من الرجاء فيها؟ أم نقول: يجب أن تثور على حكومتها ثورة تشيب النواصي، وتزلزل الرواسي، وتجعل الرفيع وضيعًا، والذليل عزيزًا؟ أم هنالك حيلة أخرى يكتفى منها بالقوة المعنوية، عن القوة المادية؟ هذه المعاني قد انتقلت من أوربا إلى الشرق، وكثر الحديث بها في هذا العصر ولا سيما بعد الانقلاب العثماني والانقلاب الفارسي، وربما تكون قد جالت في أدمغة زعماء الأرنؤوط الذين أوقدوا نار الفتنة في هذه الأيام، وكانوا عونًا على الدولة وعلى أنفسهم، لأولئك الأعداء الذين أجمعوا كيدهم على إسقاط هذه الدولة بل على محوها واقتسام تراثها بدون حرب طحون تسفك فيها دماؤهم، وتغتال بها أموالهم، فهم إنما يحاربونها حربًا معنوية، يغرون عناصر أمتها بالعداوة والبغضاء ويضربون بعض أعضائها ببعض حتى تقضي على نفسها قضاء وشيكًا أو بطيئًا. يقول لسان حال هؤلاء الساسة أو لسان مقالهم للترك: إنكم أنتم الفاتحون وأصحاب السيادة القادرون، ولا حياة لكم ولا شرف، بل لا بقاء لكم ولا وجود إلا بتعصبكم لجنسكم، وجعل زمام الأمة في أيديكم، فإن هذا المزية إذا فاتتكم تكونون وراء سائر العناصر المنسوبة إلى دولتكم؛ لأنهم أقدر منكم على الكسب، ولا تقدرون أن تسبقوهم بالعلم، فاعتمدوا على هذه الكتائب قبل الكتب، فهي التي تحفظ لكم السيادة على العجم والعرب. ويقولون للعرب: إنكم العنصر الأكبر في هذه الدولة، ولكم الحق الأول في السلطة والخلافة، وبلادكم قلب الأرض، وموطن الدين ومهبط الوحي، ولغتكم لغة القرآن الذي يدين به فيتعبد بها ثلاث مائة مليون من الناس ولكم من السلف في المدنية والعلم ما يدل على أن استعدادكم أعلي من استعداد الترك، بل ومن غير الترك من شعوب الأرض، وهو قد خربوا بلادكم بعد عمرانها، وحالوا بينكم وبين الاستفادة من كفاءتكم ومزاياها، وقد آن أوان طلب الحقوق، والمؤاخذة على العقوق. ويقولون للأرنؤوط: إنكم شعب مجيد، وإنكم أولو قوة وأولو بأس شديد، وإنكم أقوى من الترك استعدادًا للمدنية؛ لأنكم من الشعوب الأوربية، وبلادكم قابلة لذلك إذا هي استقلت بالحكم، وألقت عن كاهلها أثقال سلطة الترك، فدونوا بلغتكم الحروف اللاتينية، ولتتحد البلاد الشمالية بالجنوبية، وستنالون كل أمنية، بمساعدة أوربا عاشقة الإنسانية. ويقولون للأرمن: إنكم أذكى العثمانيين أذهانًا، وأطلقهم لسانًا، وأجرؤهم جنانًا، وأقدرهم على الكسب والأعمال، وأسبقهم إلى الاتحاد على طلب الاستقلال، وقد جمعتم من المال، وركبتم في عصر نيرون الترك ما ركبتم من الأهوال، حتى اقتحمتم العقاب، وذللتم الصعاب، فلا تهنوا ولا تنوا في الأمر، ولا يصدنكم ما تنالون من الدولة عن طلب الملك، وإن أوربا المسيحية، لزعيمة لكم بتحقيق هذه الأمنية، فخذوا الأهبة وانتظروا الفرصة، وأعدوا لها الشعب كله، بتعليم المدارس، ووعظ الكنائس، ووضع صور ملوككم، وصور يتامى وأرامل المقتولين منكم، في بيوت عامتكم وخاصتكم، مع تحريك الأشجان، وإثارة الأضغان، بالأناشيد والألحان. ذلك ما يوسوس به شيطان السياسة الجنسية، في إغراء الشعوب العثمانية، وما هو إلا كيد وخداع، جدير بالعصيان لا بالاتباع، وأما ملك الإلهام، الداعي إلى الوفاق والسلام، فإنه يصبح بهؤلاء الأقوام: لا تستحبوا العمى على الهدى، واستجيبوا لداعي العقل دون داعي الهوى، واعلموا أن تفرقكم وانقسامكم، وعداءكم وخصامكم، وإلجاء الدولة إلى تفريق قوتها في بلادكم، لمقاومة فتنكم وثوراتكم، هو الذي يحول دون ارتقائها وارتقائكم، ويفضي - والعياذ بالله - إلى هلاكها وهلاككم، وإرث الدول الأوربية لأرضكم ودياركم، ووالله إنكم لتكونن حينئذ أبعد عن الاستقلال، وأقرب إلى الخزي والنكال، إنكم تملكون اليوم في حجر هذه الدولة جميع أسباب الارتقاء ولا تملكون غدًا في حجور أوربا إلا أسباب التدلي والاستخذاء: لا مرحبًا بغد ولا أهلاً به ... إن كان (تفريق العناصر) في غد لا أقول: إن الدولة نفسها ترقيكم. بل أقول: إنه لا يرجى أن ترقيكم، لا لأنها لا تريد، بل إنها إن أرادت لا تقدر، وإنما يجب عليكم أن ترقوا أنفسكم، وترقوها بترقيتكم، فقد صار أمرها في أيديكم، نعم إن العنصر التركي هو الذي يدير اليوم أمر الحكومة؛ لأن له الكثرة في مجلس الأمة، وإن منكم من يسيء الظن به، ويعده غاصبًا لحق غيره ومانعًا له من الوصول إلى مطلبه، وإن هؤلاء ليكبرون الصغير، ويغفلون عن الأمر العظيم. الخطب سهل والأمر طبيعي ولا ضرر في كون الغلبة في الحكومة لعنصر يرجح قومه على غيره من الأعمال، وإنما الضرر أن يكون أمر الحكومة في أيدي العاجزين عن الإصلاح، وإن القادرين عليه من جميع العثمانيين لقليلون، وإننا الآن في دور تجربة فندعهم يجربون، ولا يجوز لنا أن نتمادى في سوء الظن، ولا أن نؤاخذهم على كل ذنب، فنجعل ما يقترفه الشخص ذنبًا للعنصر والشعب، بل يجب على العقلاء المحبين للإصلاح العناية بأمرين أحدهما يتعلق بإصلاح الحكومة والآخر يتعلق بإصلاح الأمة. أما إصلاح الحكومة فله طريقان لا بد من الجمع بينهما؛ أحدهما: حسن اختيار المبعوثين، وأعضاء المجالس العمومية. وثانيهما: مراقبة العقلاء وأصحاب الجرائد للحكام والعمال في النظارات عامةً، ونظارة المعارف خاصةً، والانتقاد على الظالمين والمفسدين منهم، والسعي في زلزالهم، ولا يتم شيء من ذلك إلا بالاجتماع والتعاون. وأما إصلاح الأمة فله طريقان أيضًا لا بد من الجمع بينهما، أحدهما: نشر التعليم الأهلي مع التربية الصالحة، وثانيهما: الأعمال المالية التي تنمي ثروة البلاد، ولا يتم شيء منهما إلا بالاجتماع والتعاون. قد أشرت في مقالة (الاجتماع والتعاون) إلى شيء مما يتعلق بالتربية والتعليم والاستعانة على ذلك بالأغنياء، وإنما قصدت بذلك تنبيه الأذهان، وتوجيه الهمم وتحريك الأقلام، دون التفصيل والاستقصاء، وعسى أن أبين في مقال أو مقالات أخر كيفية الاجتماع والتعاون على كل من إصلاح الحكومة وإصلاح الأمة بشيء من التفصيل، وأحوج العثمانيين إلى ذلك العرب والترك والكرد والأرنؤوط، وأما الأرمن والروم والبلغار واليهود فلهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، وطرق معبدة هم فيها يهرعون، فلا يحتاجون إلينا، ولا إلى معرفة طرق تعليمنا وسعينا، بل نحن المحتاجون إلى معرفة سعيهم، وطرق تربيتهم وتعليمهم. إن الاجتماع والتعاون على ذينك الإصلاحين هو الأمر العظيم الذي غفل عنه الذين يتحدثون ويكتبون في مسألة حقوق العناصر، هو القوة المعنوية التي تغني عن الثورة، وتنال الأمة به من حقوقها ما لا ينال بالسيف والمدفع، مع أمن الخطر على الدولة، التي يجب الاتفاق على حفظ كيانها، وتعزيزها ورفعة شأنها، قبل كل سعي، ومع كل سعي، وبعد كل سعي. يسمع في البلاد العربية قليل من الكلام، ويوجد في بلاد الأرنؤوط كثير من السلاح، وكذلك في صحاري الجزيرة والعراق، ولا يصلح البلاد بهذا ولا ذاك، على أن السلاح هنا وهناك لم يقتن للاستعانة به على الإصلاح، وإنما يقتنى ليكافح ويدافع به الناس بعضهم بعضًا، وقد يَسُلُّونَهُ في وجه الحكومة إذا أحسوا بالظلم، وكانت الحكومة ولا تزال بشؤم الماضي عاجزة عن تأمين تلك البلاد وحماية الأعزل فيها من عدوان شاكي السلاح، وأما البلاد التي يشكى فيها من الحكومة ويطالب بعض العناصر فيها بحقوقه فهي أشد البلاد إخلاصًا للدولة، وأبعدها عن الخروج والفتنة. أما العرب فقد خرج صوتهم من عاصمة الملك، ورددت صداه سوريا ومصر، وهل يوجد أحد أعرف من العاصمة وسورية ومصر بقيمة الدولة وأغير عليها وأحرص على عزتها ورفعة شأنها؟ كلا وإنما ذكرت هذه الجملة استدراكًا على كل ما تقدم لأبين أن الباحثين في حقوق العرب أكثرهم في هذه البلاد، وإنهم أعرق العثمانيين في الغيرة والإخلاص، على ما كان من سوء التفاهم بينهم وبين القابضين على أزمة الأمور كما بينا ذلك بالتفصيل في مقالاتنا (العرب والترك) بحسب ما أدانا إليه اجتهادنا إلى ذلك الوقت. نحن نعتقد أن الإسلام قد حرم العصبية الجنسية، وجعل المسلمين إخوة على اختلاف أجناسهم وعناصرهم، وكنا نعتقد أن أشد التعصبات الجنسية ضررًا على المسلمين في هذا العصر تعصب العرب والترك للعربية والتركية، ولذلك سعينا هنا (في الآستانة) جهد طاقتنا بالقول والكتابة، لسد هذه الثغرة التي فتحتها السياسة، وقد قلت ولا أزل أقول: إن الإسلام قد أبعد العرب عن النعرة الجنسية حتى صاروا أبعد الأمم عنها، وإنه لا يقدر أحد على إعادتها إليهم أو إعادتهم إليها اللهم إلا من يتحاملون عليهم من الترك فهم وحدهم القادرون على هذا الأمر، وقد عجز عنه الإفرنج إذ حاولوه من قبل. إن سيرة ساسة الترك ومتولي أزمَّة أمورهم وكتَّاب أشهر جرائدهم هي سيرة من يريد تحريك الجنسية العربية لا مفر من ذلك إلا بادعاء كونهم لا يعلمون ماذا يعملون، فإذا تحقق هذا؛ فإن نهي مثلي عن نهوض العرب باسم العرب ما عاد له فائدة، فما عليَّ إذًا إلا أن أذكرهم في جنسيتهم بأمرين لا مندوحة عنهما، ولا يمكن أن يحل محل العرب سواهم فيهما: أحدهما: جعل أساس نهضتهم تعزيز الدولة العلية. وثانيهما: أن يكونوا حلقة التعارف والاتصال بين جميع الشعوب الإسلامية، فالأمر الأول يجب على المسلم وغير المسلم منهم؛ لأنهم العنصر الأكبر لهذه الدولة، والأمر الثاني يجب على مسلميهم خاصة؛ لأنهم أولى بالإرشاد الإسلامي وأقدر عليه من غيرهم، فحقوقهم أعظم، والواجبات عليهم أثقل، وأمامهم الصراط المستقيم، فليتبعوه إن كانوا فاعلين، والله الموفق والمعين.

النهضة المصرية والدستور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النهضة المصرية والدستور مصر بلاد ممتازة في إدارتها الداخلية، تابعة للدولة العلية العثمانية، فكل مصري عثماني، وما كل عثماني مصريًّا، فبينهما العموم والخصوص المطلق كالمهندس والمتعلم مثلاً، فكل مهندس متعلم، وما كل متعلم مهندسًا. مر على العثمانيين والمصريين زهاء ثلث قرن وهما على طرفي نقيض، أو حرفي تباين؛ إذ هؤلاء يرسفون في قيود العبودية، وأولئك يرفلون في حلل الحرية، ثم تحول شكل الحكومة العثمانية فجأة فَطَرَفَتْ من هاوية الاستبداد المطلق إلى قنة الحكم النيابي المقيد، فأحدث هذا الطفور شيئًا من رد الفعل فقامت الحكومة العرفية تحوط وتحمي حمى الحكومة الدستورية، فلولا الجند العثماني لما ذكر الدستور جهرًا في هذه البلاد، ولولا الجيش لما طمع أحد في استقرار الدستور فيها. وأما مصر فكانت تنطق؛ إذ كانت البلاد العثمانية صامته واجمة، وكان العثماني الحر لا يستطيع أن يتكلم في بلده، فالمصريون قد طلبوا الدستور بصوت أندى من صوت العثمانيين وأصرح، هم طلبوه جهرًا؛ إذ كنا نطلبه سرًّا، ولكن لم يكن لهم جيش كجيشنا يلبي نداءهم ويجيب دعاءهم، ولم تكن بلادنا كبلادهم محتلة بجيش أجنبي، ولا حكومتنا كحكومتهم محاطة بنفوذ دولة أجنبية قوية، فوجب أن يكون طلبهم بالحجة، وتربية الإحساس وجمع الكلمة، فكل من الفريقين قد سعى إلى مطلبه في محيط الإمكان، ولم يطمع في تجاوزه إلى المحال. قويت حجة المصريين بعد إعلان الحكومة الدستورية في بلاد الدولة العَلِيّة التي هي أمهم وهم أقدر أولاد هذه الأم على رفع بلادهم، وترقيتها بجدهم واجتهادهم وقد انتشر فيهم التعليم ونمي في نفوسهم شعور القومية، واتسعت دائرة التكافل والتعاون على المصالح العامة، فأنشأوا بأموالهم ألوفًا من الكتاتيب الابتدائية وأنشأوا مدرسة الجامعة المصرية، وعندهم عدة جمعيات خيرية وعلمية، وكثر قراء الجرائد والمجلات فيهم، وبلادهم متصل بعضها ببعض بالسكك الحديدية فلا يحدث في زاوية من زواياها حادثة ذات بال إلا ويطوف خبرها جميع أرجائها في يوم أو يومين، فأنى للبلاد العثمانية أن تشاركها بهذه المزايا كلها؟ فمن أنكر على المصريين استحقاق الحكم النيابي الذي يتمتع به العثمانيون زاعمًا أن استعدادهم دون استعداد إخوتهم له فهو إما جاهل مليم، وإما ظالم مبين. أنا أشهد أن مصر قد صارت أقوى استعدادًا للحكم النيابي بفضل النابغين من أبنائها وأبناء أختها سورية الذين جذبتهم إليها جامعات اللغة والجوار والعادات، وبما استفادته من مشاركة أبناء الشعوب الأوربية، وبما ساقه إليها الاحتلال الإنكليزي من ضروب العبر في سيطرته على حكومتها، وتصرفه في إدارتها وماليتها، وبما نفحه استثقال السلطة الأجنبية في نفوس أهلها من حب الخلاص مع بقاء سيادة الدولة العلية عليها ودوام ارتباطها بها في السياسة الخارجية. مع هذا كله أقول: إن مصر لا تزال مقصرة في أمر عظيم هو الركن الأعظم والبرهان القاطع لشبهات الاحتلال، ولو اهتمت أحزابها وجرائدها به كالاهتمام بالسياسة؛ لكانت أقرب إلى النجاح والفلاح، إلا أن هذا الأمر العظيم هو ما يدل عليه بالإيجاز لفظ (الاقتصاد) وبيانه بالتفصيل والإطناب، تدخل فصوله في كثير من الأبواب، وما من باب منها إلا وقد دخله كثير من المصريين، فالأفراد منهم يعرفون جميع الجزئيات، ولكن الأحزاب والجماعات لما تقم بما يجب من الكليات. نريد من الاقتصاد أن تكون رقبة البلاد لأهلها خالصة لهم من دون الأجانب وأن يكونوا أحرارًا في تصرفهم بها، نريد أن يقف سريان امتلاك الأجانب للأرض عند الحد الذي وصل إليه، وأن نضع عن الوطنيين إصرهم وأغلال الديون التي غلوا بها أيديهم إلى أعناقهم، وقيودها التي قيدوا بها أرجلهم، ثم نريد أن تكون ثروة البلاد قوة في أيدي أبنائها يوادون بها من شاؤوا من الأمم ويحادون بها من شاؤوا فيعملون بها ما لا يعمل السيف ولا القلم فتكون هي العون والنصير لهم في مقاصدهم السياسية والاجتماعية. المال هوالقطب الذي تدور حوله أفلاك السياسة في جو هذه المدنية؛ فلولاه لما زحف أهل الشمال على أهل الجنوب في الشرق والغرب واستولوا على بلادهم باسم الفتح والاستعمار، أو النفوذ والاحتلال، وإن أصحاب الأموال في أوربا لهم الذين يتصرفون في سياستها كما يشاؤون، وبيدهم ميزان الحرب والسلم فهم الذين يزنون ويرجحون. ما كان لأهل الشمال أن يكونوا أقوى من أهل الجنوب استعدادًا للأعمال المالية، إن زعامة المال فيهم ليست إلا بأيدي رجال منا، إنها كما يعلم الخبيرون في أيدي اليهود، وهم منا (نحن الشرقيين) نسبًا وموطنًًا وإنما ظهرت براعتهم في أوربا باستقرار العدل والحرية فيها، ويلي اليهود في الاستعداد سائر إخوانهم السوريين والفلسطينين، وإن سورية ومصر لأختان شقيقتان، وقد تمازج أبناؤهما منذ القرن الماضي فكانا كمزاج الماء بالراح، فاستفاد كل من الآخر ولولا أن قام بعض الكتاب بما قام به من سياسة التحليل، وإضافة ذنوب الأفراد إلى الشعب والقبيل، لكان الاتحاد أقوى والاستفادة منه أتم. كل سوري بل كل عربي يجيء مصر ويقيم فيها يحسبها وطنه ويرى أهلها قومه وإخوته، لسانهم لسانه، وعاداتهم عاداته، ومحاكمهم محاكمه، فإذا أثرى فيها كان هو التابع لثروته، ولم تكن ثروته هي التابعة له إلى بلاده، تجذبه مصر إليها فيكون عضوًا من أعضائها، أو مادة من مواد غذائها، ولا يجذب هو شيئًا من ثروتها إلى بلاده لتكون غذاءً لها، فالمالي من السوريين أو العرب يمد حياة مصر المادية بكده وكدحه، كما يمد العالم والأديب منهم حياتها المعنوية بلسانه وقلمه، فينبغي للمصريين أن يحكموا روابط الاتحاد بينهم وبين من يتصل بهم من إخوانهم المشاركين لهم في جميع مصالحهم ومنافعهم ويستعين بعضهم ببعض على ما تجب العناية به من النهضة الاقتصادية. إن حوادث الزمان قد أعدت النفوس لإحكام هذا الاتحاد وتوثيق روابطه فاستعدت له، وقد ترجم عن هذا الاستعداد مدير (الجريدة) في السنة الماضية بمقالة له اقترح فيها إخراجه من حيز القوة إلى حيز الفعل، وإن وراء ذلك لقوة أخرى لمصر هي غافلة عنها، وما رأيت أحدًا نبه إليها، وهي زعامة ارتقاء الأمة العربية بأسرها، ولا سيما الولايات العثمانية منها، فقد دبت الحياة إلى هذه الولايات بفضل الدستور، وتوجهت وجوه العقلاء إلى إحياء اللغة العربية بالقول والكتابة والعلوم والفنون، وإن عاصمة دار السلطنة لهي التي تحفز همتهم إلى ذلك، وإن سورية لمبسوطة الذراعين لعناق مصر وناشزة الشفتين لتقبيلها. فالذي أقترحه على مصر الآن هو أن تبادر إلى تأليف جمعية أو لجنة اقتصادية أعضاؤها من جميع الأحزاب والعناصر الخاضعة للقوانين المصرية ومن أصحاب الجرائد لأجل القيام بما أشرنا إليه آنفًا، ويجب أن يكون أول عملها إحصاء ديوان الأهالي، والنظر في الطرق القريبة لوفائها وتحويل مدها إلى جزر لا تفيض بعده ثائبةً، ثم النظر في مسائل المضاربات والشركات وتلافي ضررها العظيم، ولا أحاول الإحاطة ببيان كل ما يجب أن تعمله لمنع اغتيال الأجانب لثروة البلاد ولتنمية هذه الثروة وتثميرها، بل لا يستطيع ذلك مثلي، فإنما أنا مذكر بالأمور الكلية التي أرى البلاد قد استعدت لها أو يجب أن تستعد لها، وإن وراء ما ذكرته من المبادئ غايات لا تحصى فوائدها. إنني قد ذكرت إخواني المصريين بمثل هذا غير مرة، ذكرتهم به منذ ثلاث عشرة سنة أول مقدمي إلى مصر في خطب خطبتها ومقالات كتبتها في المنار والمؤيد، ثم أعيد التذكير {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9- 10) . إذا كانت السياسة قد شغلت قلوبهم وأفكارهم، وملكت عليهم ألسنتهم وأقلامهم، فهم يعلمون أن هذا العمل لا يعارض سياستهم بل يدعمها ويعززها، فإذا لم يكن الآن وسيلة عاجلة للحكم النيابي فربما يكون غدًا أرجى الوسائل وأقربها، فإن نالت البلاد ما تطلبه من هذه الحكم بالوسائل التي يراها الأحزاب أقرب فليس بضارهم أن يجمعوا بين حكم أنفسهم بأنفسهم وبين حفظ ثروتهم من اغتيال الأجانب، وقد يضرهم أن لا يكونوا جامعين لهما، فإنا نرى الحكومة العثمانية - وقد صارت دستورية - مغلولة الأيدي دون ما تبتغي من الإصلاح لقلة المال، وقد كان دينها قبل الدستور قريبًا من دين الحكومة المصرية، ولكن الأمة العثمانية على فقرها وتأخر عمرانها ليست مدينة للأجانب كالأمة المصرية على سعة ثروتها وعمران بلادها. لا بد لكل من يتصدى لأمر عظيم أن يرجو الفوز ويخاف الخذلان وأن يعد لكل أمر عدته، وحجة المصري على وجوب حكمه لبلاده لا تزال ناهضة ما دامت رقبة البلاد في يده لا حقوق فيها للأجانب، والآن قد صار زهاء خمسها ملكًا للأجانب أفلا يخشى أن يطغى هذا السيل الآتي حتى يغمر نصف أطيان القطر أو أكثر من النصف في زمن قريب إذا لم تقم في طريقه السدود التي تصد طغيانه؟ ألا يخشى أن يتحد يومئذ أصحاب الأطيان من الأجانب وأصحاب الديون على الفلاح الوطني كما هي عادتهم ويقولوا: إن هذه البلاد ليست لكم وحدكم أيها المصريون فيصح قولكم: نحن أولى بحكمها وإنما هي لنا ولكم، ونحن أقدر على الحكم منكم، أو يجب أن يكون مشتركًا بيننا وبينكم كما قال لورد كرومر. يومئذ لا تنفع الحجج ولا تفيد المظاهرات ولا يغني الاغتصاب شيئًا إلا غناء قد يكون إثمه أكبر من نفعه. قد رأيتم العبرة في العسرة المالية التي صدمت البلاد في هذه السنين الأخيرة , رأيتم كيف أصبح أصحاب الأراضي الواسعة أحير من الضب، وأعجز من أسير الحرب، هذا ولم يكن أصحاب الأموال في أوربا متّحدين على تعمد حربكم حربًا اقتصادية، وهل يعجز دهاة السياسة الإنكليزية أن يحملوهم على هذا الاتحاد في يوم من الأيام. لكل قطر طبيعة واستعداد والقوة الطبيعية أنفع من القوة المتكلفة، والأمة المصرية مستعدة لمغالبة كل أمة من أمم الأرض، بقوتي الثروة والعلم، وليست مستعدة لمقاومة دولة كبيرة بالحرب، ولا سيما في هذا العصر، فليكن اعتمادها على ما هو قريب من استعدادها، وعناية الله كافلة لها نيل مرادها.

تأريخ التجنيد العثماني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأريخ التجنيد العثماني [*] كان قانون أخذ العسكر موضوع جلسة يوم السبت في مجلس الأمة كما يراه المطالع في باب هذه المذاكرات من هذا العدد، وقد صدَّره قومسيون العسكرية في المجلس بمقدمة تأريخية باحثة عن طرق التجنيد في الدولة منذ تأسست إلى يومنا هذا فأحببنا اقتطاف المهم منها لمحبي التأريخ: (إذا استثنينا الرومان فقلَّ أن نصادف في تأريخ عسكرية الأمم إشارة لوجود أجناد دائمية منتظمة، وفي القرون الوسطى كان هذا الامتياز للعثمانيين وبعد قرن من ذلك أسس شارل السابع ملك فرنسا أجنادًا دائمية. كانت أجناد العثمانية إلى سنة 730هـ، مؤلفة من المتطوعين وعبارة عن جيش مؤقت يقبل فيه كل راغب من الشبان، لم يكن لباس الجند واحد بل كان يلبس كل واحد ما يشتهي ويحمل السلاح الذى يريد، وكان الفرسان أسمى مقامًا من الرجّالة، والأسلحة يومئذ عبارة عن الحسام والسنان والترس والقوس، وكان هذا الجيش المتطوع يدعى (آقينجي) (معناه السيل الجارف) ويوجد غير هذا الجيش جند يدعون العساكر الخاصة يقيمون دائمًا في قاعدة الحكومة. فلما اتسعت الفتوحات لم يبق من الممكن الاكتفاء بذلك الجيش القليل الصعب جمعه وترتيبه ومست الحاجة إلى إيجاد صنوف الرجالة ففي عهد السلطان أورخان ائتمر أخوه الوزير الأعظم علاء الدين باشا وخليل باشا الجاندارلي ورتبا خطة لإيجاد عسكر دائمي فوضعوا أساس الجند المسمى (يكيجرية) (معناه العسكر الجديد وقد عربها العرب بكلمة إنكشارية) وأوجبوا أن يكون الزي العسكري مطردًا ولموا في هذا الجيش من أولاد النصارى الذين أدخلوهم في طاعتهم. قد نشأ بين الإنكشارية هؤلاء كثير من القواد البرية والبحرية الذين لا يبلى ذكرهم ولم يكن في ذلك العهد جيش يضارعه عند أمة من الأمم. وكان كبيرهم الأعظم يلقب آغا وهو في مقام ناظر الحربية، ومن عاداتهم تقديس القدور التي يطبخ بها وهي تعطى لهم من قبل السلطان ويجتمعون حولها. وكان من يبرز على أقرانه في الحرب والطعان من الرجالة والفرسان يكافأ على ذلك متى بلغ الأربعين أو الخامسة والأربعين من العمر فيعطى من البلاد المفتوحة خراج مقاطعة مثل لواء أو قضاء أو خراج قرية واحدة فقط، فما كان من الإقطاع تبلغ وارداته من 3000 إلى 20000 أقجة يسمى تيمارا، وما كانت وارداته من 20000 إلى 100000 أقجة يسمى زعامة فكل ذي تيمار عليه أن ينفق عن حساب كل 3000 أقجة على فارس قادر تام اللأمة، فإذا وقعت حرب كان هؤلاء مع رجالهم المكلفين بنفقاتهم حاضرين مع الملك، ويسمى هؤلاء بالفرسان ذوي الأطيان (الأراضي) وقد بلغ عددهم في عهد السلطان سليمان القانوني مائة وخمسين ألفًا وفي عهد محمد الرابع بلغ عددهم مائة وتسعة وسبعين ألفًا ومائتين. أما عدد العساكر في تلك الأمصار فكان هكذا: القبوقولي 74148 والفرسان أولو الأطيان مع فرسان الألايات الممتازة 174192 والعساكر البحرية 5572 المجموع 263912 وأما القول بأن القانوني دخل بلاد المجر بثلاث مائة ألف مقاتل معهم 300 مدفع فهو من روايات المؤرخين الأجانب. فى بدء أحداث الإنكشارية كان الواحد منهم يعطى في اليوم أقجة واحدة والأقجة سكة عثمانية فضية وزن ثلث درهم فضة من عيار التسعين ثم تنزل عيارها فاقتضى ذلك أن يزاد لهم إلى ثلاث أقجايات وفي أواخر القرن العاشر زيد لهم إلى خمس وفي القرن الحادي عشر زيد لهم سبع ثم زيد لهم في أواخر أمرهم إلى سبع وعشرين أقجة، في اليوم ولم يكن من مساواة في العطاء بل كان بعضهم يأخذ أكثر من بعض، أما آغاهم فكان يأخذ خمس مائة أقجة في اليوم. كان هذا الجيش أسمى جيش في الدنيا ولم يكن يؤب من فتح إلا إلى فتح آخر حتى رفع مركز السلطنة العثمانية إلى الذروة العليا التي امتازت بها بين الدول ولكن أمر الزمان عجيب فإن هذا الجيش الذي كان سبب هذه النعم العظيمة ما لبث أن طغى واستكبر، واستولى عليه الغرور والأشر، فدخل عليه الفساد من كل باب وتوصل إليه المكروه بجملة أسباب، فعاد شؤمًا على الدولة بعد أن كان يمنًا , وبؤسًا بعد أن كان نعمى، حتى بلغ بعد القرن الثاني عشر مبلغًا من تفكك الروابط وشيوع الفوضى وقلة الطاعة وكثرة عدم المبالاة ليس ورائه مبلغ فأصبح بعد تلك البسالة العظيمة التي امتاز بها يكثر فيه الفارون من مواطن الزحف حتى من أمام الجيوش التي هي أقل منه عددًا. وكانت العسكرية في أوربا قد بدأت تخطو خطوات واسعة في درجات الكمال فيومئذ صرفت وجوه الآمال عن مغالبة الخصوم بالهجوم والفتوح وبقيت الأفكار مشغولة بأمر الدفاع عما في اليد؛ لأن القوة العسكرية أصبحت على وشك الاضمحلال ألبتة. جال هذا الأمر في فكر سليم الثالث ونظر إلى عاقبة أمر الدولة إذا ظل زمام المدافعة بيد هؤلاء الإنكشارية الذين كثر فيهم الفشل واستولى عليهم الخطل فتبدى له رأي ونهض له بقوة: ذلك أنه أحدث عسكرًا على قواعد تناسب الزمان والمكان وجعل له عنوان (نظام جديد) وجمع من هذا النظام الجديد ثلاثين ألفًا وعزم على إلغاء الإنكشارية، ولكن هذا النظام الجديد لم يستطع الوقوف أمام بأس الإنكشارية إلا نحو ست سنين ولم يتمكن سليم الثالث من تلك الأمنية العظيمة التي كان يتقاضى الظفر بها بقاء الدولة. لكن الذي لم يتيسر لسليم الثالث تيسر لمحمود الثاني الذي رأى أن إلغاء هذه العساكر العظيمة بإصدار الأوامر ليس من الممكن، وأن هذا الأمر لا يتم إلا بالتنكيل والتشريد بهم فاستفتى في قتلهم على إثر تمرد وبغي وطغيان فأفتي فيه وتوسل إلى اجتثاث هذه الشجرة من أصلها بما هدته إليه الفطنة المتوقدة وكان ذلك في يوم السبت في 11 ذي القعدة من عام 1241 هـ - 17 حزيران 1826م. أما آغا الإنكشارية حسين آغا فإنه كان مقتنعًا بفوائد النظام الجديد فأعطي لقب باشا ونصب سر عسكرًا ولقبت العساكر الجديدة بالعساكر المحمدية المنصورة هكذا وضع أساس النظام الجديد لعسكريتنا وعلى هذا يكون عمر جيشنا الجديد سبعًا وثمانين سنة. ينقسم تأريخ الجيش الجديد إلى ثلاثة أدوار: الأول دور اللّم، والثاني دور القرعة، والثالث دور التكليف العسكري، فالدور الأول من 1241 إلى 1260؛ أي: عبارة عن تسع عشرة سنة كانوا يلمون العسكر ممن صادفوه من الشبان الأقوياء لم يستأنس الناس في بدء الأمر بهذه الطريقة؛ لأنهم كانوا قد تعودوا رؤية هيبة الإنكشارية وأنكروا من هذه الطريقة أنها من سنن الإفرنج. ولم تكن مدة التجنيد معينة أيضًا وفي 1244- 1245وقعت الحرب بين الدولة والروس (التي انتهت بمعاهدة أدرنه) فكان من البديهي أن لا تظهر الثمرات المنتظرة من النظام الجديد لقصر المدة وفي تلك الأثناء أخذ بخدمة الدولة المارشال مولتكه الذي ظفر في محاربة ثلاث دول في بحر ست سنين واطلع من إمارة بروسيا الصغيرة إمبراطورية ألمانيا العظيمة ولكن حالت الحوائل دون الاستفادة من خدمة هذا الرجل العظيم، فإن الدولة في تلك السنين كانت قد شغلتها حوادث وحروب المورة والبوسنة والهرسك والتيه دلنلي ومحمد علي وكان عدد الجيش الجديد هكذا: العساكر المنتظمة 80000 والرديف 130000 والعساكر البحرية 5000 الجميع 215000 وكان سوى هؤلاء نحو من عشرة آلاف من الخيالة المنتظمة ونحو أربعة ألايات من الخيالة العتق. وأتوا بعد ذلك بمعلمين من ألمانيا فحصل إصلاح في ترتيب الجيش ولكن طريقة اللّم كانت لا تزال على حالها فلذلك لم تصل الإصلاحات إلى الدرجة المطلوبة ودام الأمر على هذا المنوال إلى 1260 ففي هذه السنة وضع أساس جديد للدولة بمعرفة رشيد باشا الكبير وقرئ خط كلخانة الذي يتضمن هذا الأساس فدخلت عسكريتنا الجديدة في دورها الثاني. من هذا التأريخ ألغيت طريقة اللّم، ووضعت طريقة القرعة، وحددت مدة العسكرية، ووضع قانون لأخذ العسكر على هذه الطريقة من قبل ضباط بروسيانيين جعلت بموجبه خدمة العسكر الموظف خمس سنين والرديف سبعًا ومن دخل في أسنان العسكرية تسحب قرعته فإن أصابته القرعة تلك السنة يؤخذ وإن لم تصبه يترك إلى السنة التي بعدها، فإن لم تصبه مدة السنين الخمس يعفى من الخدمة، وقد قسمت البلاد العثمانية إلى دوائر رديفية فأصبح للعسكرية نظام حقًّا، وفي حرب القريم ظهرت ثمرات عظيمة من هذا النظام، وقسمت الأجناد كلها إلى ستة كان كل جند (أردو) فيه حين السلم ستة ألايات رجالة وأربعة ألايات خيالة وألاي واحد مدفعي سيار فكان عدد الأجناد حين السلم هكذا: النظامية 150000 ونحو من ذلك عدد الرديف بحيث يتكون من النظامية والرديف وقت الحرب 300000. وفي خط كلخانة يوجد نص على أنه يؤخذ للعسكر من غير المسلمين ولكن اقتضاءات الزمان منعت من ذلك. وفي عام 1286 حدث تحوير في ترتيب العسكرية فجعلت مدة الخدمة ثلاثًا للعسكر الموظف، وسنتين للخدمة الاحتياطية، وستًّا للخدمة الرديفية، وثمانيًا للمستحفظية وكان عدد الأجناد في ذلك العهد هكذا: النظامية والاحتياطية 237000 والرديف 350000 أو يزيد على هذا المقدار، وكان عدد أجناد الدولة كلها في زمن محاربة روسية 759000 ولكن لاستمرار الحرب ثلاث سنين وضياع كثير من الأرواح تضعضع هذا الجيش ومست الحاجة بعد ذلك لتحويرات فيه ففي عام أربع وتسعين حول اسم السرعسكرية إلى نظارة الحربية وقسمت اللوازم والاستعدادات العسكرية إلى شعب ودوائر وأخذت الأجناد شكلاً آخر جديدًا وفي عام ثمان وتسعين أتي بجماعة من ضباط الألمان من صنوف مختلفة في الجيش الألماني وأخذت آراؤهم في الإصلاح العسكري وكان يرأسهم كيلر باشا، وبعد سنة جيء بالبكباشي فوندرغولج باشا فأرشد هذا إلى طرق كثيرة للإصلاح العسكري بالرغم عما كان يحول بينه وبين الإصلاح من الموانع التي هي معهودة ومعروفة في ذلك العهد. إلى هذا الرجل يُعزى النظر في ترتيب الدروس أحسن ترتيب في المدرسة الحربية، وإليه يعزى السبب في تغيير طريقة القرعة ووضع قانون أخذ العسكر المعمول به إلى عهدنا هذا. أما حرمان أبناء وطننا غير المسلمين من خدمة العسكرية مع أن لهم حقًّا بالشرف الذي يحصل من خدمة الأوطان فكان خطأً من حكومتنا لا يعفى عنه، وكان من دواعي انكسار خاطر هؤلاء الشركاء في الوطن، والأغرب من ذلك حرمان أهل هذه العاصمة من هذا الشرف أيضًا. فمن موجبات الشكر أن أول شيء تفكرت فيه حكومتنا بعد التغير الجديد السعيد في الوطن هو الإسراع لدفع هذا الخطأ المنافي للقانون الأساسي. هذا هو تأريخنا العسكري ومنذ الآن سينال أبناء وطننا من غير المسلمين نصيبهم من شرف الدفاع عن حياض الوطن، ويقفون مع زملائهم المسلمين صفًّا واحدًا أمام كل عدو معرّضين حياتهم للمقاومة في سبيل مقصد واحد هو إعلاء شأن الرابطة الوحيد التي تضم قلوب جميع العثمانيين حول وطنهم العزيز.

العمران العربي وصف الجامع الأموي

الكاتب: عن رحلة ابن جبير

_ العمران العربي [*] وصف الجامع الأموي هو من أشهر جوامع الإسلام حسنًا وإتقان بناء وغرابة صنعة واحتفال تنميق، وتزيين وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه، ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف، انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك - رحمه الله - ووجه إلى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشر ألفًا من الصناع من بلاده وتقدم إليه بالوعيد في ذلك إن توقف عنه فامتثل أمره مذعنًا بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتب التواريخ فشرع في بنائه وبلغت الغاية في التأنق فيه وأنزلت جدره كلها بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة قد مثلت أشجارًا وفرعت أغصانًا منظمومة بالفصوص ببدائع من الصنعة الأنيقة المعجزة وصف كل واصف فجاء يغشي العيون وميضًا وبصيصًا وكان مبلغ النفقة فيه حسبما ذكره ابن المعلى الأسدي في جزء وصفه في ذكر بنائه مائة صندوق في كل صندوق ثمانية وعشرين ألف دينار ومائتا ألف دينار فكان مبلغ الجميع إحدى عشر ألف ألف دينار ومائتا ألف دينار، والوليد هذا هوالذي أخذ نصف الكنيسة، الباقية منه في أيدي النصارى وأدخلها فيه؛ لأنه كان قسمين قسمًا للمسلمين وهو الشرقي وقسمًا للنصارى وهو الغربي؛ لأن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه دخل البلد في الجهة الغربية فانتهى إلى نصف الكنيسة وقد وقع الصلح بينه وبين النصارى ودخل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - عنوة من الجانب الشرقي وانتهى إلى النصف الثاني وهوالشرقي فاختاره المسلمون وصيروه مسجدًا وبقي النصف المصارع عليه وهو الغربي كنيسة بأيدي النصارى إلى أن عوضهم منه الوليد فأبوا ذلك فانتزعه منهم قهرًا، وطلع لهدمه بنفسه وكانوا يزعمون أن الذي يهدم كنيستهم يجن فبادر وقال: أنا أول من يجن في الله، وبدأ الهدم بيده فبادر المسلمون وأكملوا هدمه. ذرعه في الطول من الشرق إلى الغرب مائتا خطوة وهما ثلاثمائة ذراع وذرعه في السعة من القبلة إلى الجوف مائة خطوة وخمس وثلاثون خطوة هي مائتا ذراع فيكون تكسيره من المراجع الغربية أربعة وعشرون مرجعًا وهو تكسير مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن مسجد رسول الله صلى الله عليه من القبلة إلى الشمال، وبلاطاته المتصلة بالقبلة ثلاثة مستطيلة من الشرق إلى الغرب سعة كل بلاط منها ثمان عشرة خطوة والخطوة ذراع ونصف، وقد قامت على ثمانية وستين عمودًا منها أربعة وخمسون سارية وثماني أرجل جصية تتخللها، واثنتان مرخمة ملصقة معها في الجدار الذي يلي الصحن وأربع أرجل مرخمة أبدع ترخيم مرصعة بفصوص من الرخام ملونة قد نظمت خواتيم وصورت محاريب وأشكالاً غريبة قائمة في البلاط الأوسط تقل قبة الرصاص مع القبة التي تلي المحراب سعة كل رجل منها ستة عشر شبرًا، وطولها عشرون شبرًا، وبين كل رجل ورجل في الطول سبع عشرة خطوة وفي العرض ثلاث عشرة خطوة فيكون دور كل رجل منها اثنين وسبعين شبرًا، ويستدير بالصحن بلاط من ثلاث جهاته الشرقية والغربية والشمالية سعته عشرة خطى وعدد قوائمه سبع وأربعون منها أربع عشرة رجلاً من الجص وسائرها سوار فيكون سعة الصحن حاشا المسقف القبلي والشمالي مائة ذراع وسقف الجامع كله من خارج ألواح رصاص. وأعظم ما في هذا الجامع المبارك قبة الرصاص المتصلة بالمحراب وسطه سامية في الهواء عظيمة الاستدارة قد استقل بها هيكل عظيم هو غارب لها يتصل من المحراب إلى الصحن وتحته ثلاث قباب: قبة تتصل بالجدار الذي إلى الصحن، وقبة تتصل بالمحراب، وقبة تحت قبة الرصاص بينهما، والقبة الرصاصية قد أغصت الهواء وسطه فإذا استقبلتها أبصرت منظرًا رائعًا ومرأى هائلاً يشبهه بنسر طائر كأن القبة رأسه والغارب جؤجؤه ونصف جدار البلاط على يمين نصف الثاني على شمال جناحاه وسعة هذا الغراب من جهة الصحن ثلاثون خطوة فهم يعرفون هذا الموضع من الجامع بالنسر لهذا التشبيه الواقع عليه، ومن أي جهة استقبلت البلد ترى القبة في الهواء منيفة على كل علو كأنها معلقة من الجو، والجامع مائل إلى الجهة الشمالية من البلد وعدد شمسياته الزجاجية المذهبة الملونة أربع وسبعون منها في القبة التي تحت قبة الرصاص عشر وفي القبة المتصلة بالمحراب مع ما يليها من الجدر أربع عشرة شمسية. وفي الجامع ثلاث مقصورات مقصورة الصحابة رضي الله عنهم وهي أول مقصورة وضعت في الإسلام وضعها معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه - وبإزاء محرابها عن يمين مستقبل القبة باب حديد كان يدخل معاوية - رضي الله عنه - إلى المقصورة منه إلى المحراب وبإزاء محرابها لجهة اليمين مصلى أبي الدرداء - رضي الله عنه - وخلفها كانت دار معاوية رضي الله عنه وهي اليوم سماط عظيم للصفارين يتصل بطول جدار الجامع القبلي ولا سماط أحسن منظرًا منه ولا أكبر طولاً وعرضًا، وخلف هذا السماط على مقربة منه دار الخيل برسمه وهي اليوم مسكونة وفيها مواضع للكمادين وطول المقصورة الصحابية المذكورة أربعة وأربعون شبرًا وعرضها نصف الطول، ويليها لجهة الغرب في وسط الجامع المقصورة التي أحدثت عند إضافة النصف المتخذ كنيسة إلى الجامع - حسبما تقدم ذكره - وفيها منبر الخطبة ومحراب الصلاة وكانت مقصورة الصحابة أولاً في نصف الخط الإسلامي من الكنيسة، وكان الجدار حيث أعيد المحراب في المقصورة المحدثة فلما أعيدت الكنيسة كلها مسجدًا صارت مقصورة الصحابة طرفًا في الجانب الشرقي وأحدثت المقصورة الأخرى وسطًا حيث كان جدار الجامع قبل الاتصال وهذه المقصورة المحدثة أكبر من الصحابية. وبالجانب الغربي بإزاء الجدار مقصورة أخرى هي برسم الحنفية يجتمعون فيها للتدريس وبها يصلون، وبإزائها زاوية محدقة بالأعواد المشرجية كأنها مقصورة صغيرة، وبالجانب الشرقي في زاوية أخرى على هذه الصفة هي كالمقصورة كان وضعها للصلاة فيها أحد أمراء الدولة التركية وهي لاصقة بالجدار الشرقي، وبالجامع عدة زوايا على هذا الترتيب يتخذها الطلبة للنسخ والدرس والانفراد عن ازدحام الناس وهي من جملة مرافق الطلبة. وفي الجدار المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات القبلية عشرون بابًا متصلاً بطول الجدار قد علتها قسيٌّ جصية مخرمة كلها على هيئة الشمسيات فتبصر العين من اتصالها أجمل منظر وأحسنه. والبلاط المتصل بالصحن المحيط بالبلاطات من ثلاث جهات على أعمدة وعلى تلك الأعمدة أبواب مقوسة تقلها أعمدة صغار تطيف بالصحن كله، ومنظر هذا الصحن من أجمل المناظر وأحسنها، وفيه مجتمع أهل البلد، وهو متفرجهم ومتنزهم كل عشية، تراهم فيه ذاهبين وراجعين من شرق إلى غرب من باب جيرون إلى باب البريد؛ فمنهم من يتحدث مع صاحبه ومنهم من يقرأ لا يزالون على هذه الحال من ذهاب ورجوع إلى انقضاء صلاة العشاء الآخرة ثم ينصرفون، ولبعضهم بالغداة مثل ذلك، وأكثر الاحتفال إنما هو بالعشي فيخيل لمبصر ذلك أنها ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم لما يرى من احتفال الناس واجتماعهم لا يزالون على ذلك كل يوم، وأهل البطالة من الناس يسمونهم حراسين. وللجامع ثلاث صوامع: واحدة في الجانب الغربي وهي كالبرج المشيد تحتوي على مساكن متسعة وزوايا فسيحة راجعة كلها إلى أغلاق يسكنها أقوام من الغرباء أهل الخير، والبيت الأعلى منها كان معتكف أبي حامد الغزالي رحمه الله، ويسكنه اليوم الفقيه الزاهد أبو عبد الله بن سعيد من أهل قلعة يحصب المنسوبة لهم وهو قريب لبني سعيد المشتهرين بالدنيا وخدمتها، وثانية بالجانب الغربي على هذه الصفة، وثالثة بالجانب الشمالي على الباب المعروف بباب الناطفيين. وفي الصحن ثلاث قباب: إحداها في الجانب الغربي منه وهي أكبرها، وهي قائمة على ثمانية أعمدة من الرخام مستطيلة كالبرج مزخرفة بالفصوص والأصبغة الملونة كأنها الروضة حسنًا، وعليها قبة رصاص كأنها التنور العظيم الاستدارة، يقال: إنها كانت مخزنًا لمال الجامع، وله مال عظيم من خراجات ومستغلات تنيف - على ما ذكر لنا - على الثمانية آلاف دينار صورية في السنة وهي خمسة عشر ألف درهم مؤمنية أو نحوها، وقبة أخرى صغيرة في وسط الصحن مجوفة مثمنة من رخام قد ألصق أبدع إلصاق قائمة على أربعة أعمدة صغار من الرخام وتحتها شباك حديد مستدير، وفي وسطه أنبوب من الصفر يمج الماء إلى علو فيرتفع وينثني كأنه قضيب من لجين يَشْرَهُ الناس لوضع أفواههم فيه للشرب استظرافًا واستحسانًا ويسمونه قفص الماء، والقبة الثالثة في الجانب الشرقي قائمة على ثمانية أعمدة على هيئة القبة الكبيرة لكن أصغر منها. وفي الجانب الشمالي من الصحن باب كبير يفضي إلى مسجد كبير، في وسطه صحن قد استدار فيه صهريج من الرخام كبير، يجري الماء فيه دائمًا من صفحة رخام أبيض مثمنة قد قامت وسط الصهريج على رأس عمود مثقوب يصعد الماء منه إليها، ويعرف هذا الموضع بالكلاسة، ويصلي فيه اليوم صاحبنا الفقيه الزاهد المحدث أبو جعفر الفنكي القرطبي ويتزاحم الناس على الصلاة فيه خلفه التماسًا لبركته واستماعًا لحسن صوته. وفي الجانب الشرقي من الصحن باب يفضي إلى مسجد من أحسن المساجد وأبدعها وضعًا وأجملها بناء يذكر الشيعة أنه مشهد لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وهذا من أغرب مختلقاتهم، ومن العجيب أنه يقابله في الجهة الغربية في زاوية البلاط الشمالي من الصحن موضع هو ملتقى آخر البلاط الشمالي مع أول البلاط الغربي مجلل بستر في أعلاه، وأمامه ستر أيضًا منسدل يزعم أكثر النساء أنه موضع لعائشة - رضي الله عنها - وأنها كانت تسمع الحديث فيه وعائشة - رضي الله عنها - في دخول دمشق كعلي - رضي الله عنه - لكن لهم في علي - رضي الله عنه - مندوحة من القول وذلك أنهم يزعمون أنه رؤي في المنام مصليًا في ذلك الموضع فبنت الشيعة فيه مسجدًا، وأما الموضع المنسوب لعائشة - رضي الله عنها - فلا مندوحة فيه، وإنما ذكرناه لشهرته في الجامع. وكان هذا الجامع المبارك ظاهرًا وباطنًا مُنَزَّلاً كله بالفصوص المذهبة مزخرفًا بأبدع زخاريف البناء المعجز الصنعة، فأدركه الحريق مرتين فتهدم وجدد وذهب أكثر رخامه فاستحال رونقه، فأسلم ما فيه اليوم قبلته مع الثلاث قباب المتصلة بها. محرابه من أعجب المحاريب الإسلامية حسنًا وغرابة صنعة يتقد ذهبًا كله، وقد قامت في وسطه محاريب صغار متصلة بجداره تحفها سويريات مفتولات فتل الأسورة كأنها مخروطة لم ير شيء أجمل منها وبعضها حمر كأنها مرجان، فشأن قبلة هذا الجامع المبارك مع ما يتصل بها من قبابه الثلاث وإشراق شمسياته المذهبة الملونة عليه، واتصال شعاع الشمس بها وانعكاسه إلى كل لون منها حتى ترتمي إلى الأبصار منه أشعة ملونة يتصل ذلك بجداره القبلي كله عظيم لا يلحق وصفه ولا تبلغ العبارة بعض ما يتصوره الخاطر منه، والله يعمره بمنه. وفي الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان - رضي الله عنه - وهو المصحف الذي وجه به إلى الشام، وتفتح الخزانة كل يوم إثر الصلاة فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله ويكثر الازدحام عليه. وله أربعة أبواب: باب قبلي ويعرف بباب الزيادة، وله دهليز كبير متسع وله أعمدة عظام، وفيه حوانيت للخرزيين وسواهم، وله مرأى رائع، ومنه يفضي إل

تربية البنات

الكاتب: حافظ إبراهيم

_ تربية البنات [*] كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ... في حب مصر كثيرة العشاق إني لأحمل في هواك صبابة ... يا مصر قد خرجت عن الأطواق لهفي عليك متى أراك طليقة ... يحمي كريم حماك شعب راق وأديب قوم تستحق يمينه ... قطع الأنامل أو لظى الإحراق كَلِف بمحمود الخلال متيم ... بالبذل بين يديك والإنفاق إني لتطربني الخلال كريمة ... طرب الغريب بأوبة وتلاق ويهزني ذكر المروءة والندى ... بين الشمائل هزة المشتاق ما البابلية في صفاء مزاجها ... والشَّرب بين تنافس وسباق والشمس تبدو في الكؤوس وتختفي ... والبدر يشرق من جبين الساقي بألذّ من خلق كريم طاهر ... قد مازجته سلامة الأذواق فإذا رزقت خليقة محمودة ... فقد اصطفاك مقسم الأرزاق فالناس هذا حظه مال وذا ... علم، وذاك مكارم الأخلاق والمال إن لم تدخره محصنًا ... بالعلم كان نهاية الإملاق والعلم إن لم تكتنفه شمائل ... تعليه كان مطية الإخفاق لا تحسبن العلم ينفع وحده ... ما لم يُتَوّج ربُّه بخلاق كم عالم مدّ العلوم حبائلاً ... لوقيعة وقطيعة وفراق وفقيه قوم ظل يرصد فقهه ... لمكيدة أو مستحلّ طلاق يمشي وقد نصبت عليه عمامة ... كالبرج لكن فوق تلّ نفاق وطبيب قوم قد أحلّ لطبه ... ما لا تُحِلّ شريعة الخلاق قتل الأجنة في البطون وتارة ... جمع الدوانق من دم مهراق أغلى وأثمن من تجارب علمه ... يوم الفخار تجارب الحلاق ومهندس للنيل بات بكفه ... مفتاح رزق العامل المطراق [1] متعنت تَنْدَى وتَيْبَس كفه ... بالماء طوع الأصفر البرَّاق لا شيء يلوي من هواه فحدّه ... في السلب حد الخائن السرَّاق يلهو ويلعب بالعقول بيانه ... فكأنه في السحر رقية راق في كفه قلم يمجّ لعابه ... سمًّا وينفثه على الأوراق يرد الحقائق وهي بيض نصّع ... قدسية علوية الإشراق فيردها سودًا على جنباتها ... من ظلمة التمويه ألف نطاق عريت عن الخلق المطهَّر نفسه ... فحياته ثقل على الأعناق لو كان ذا خلق لأسعد قومه ... ببيانه ويراعه السباق من لي بتربية النساء فإنها ... في الشرق علة ذلك الإخفاق الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبًا طيب الأعراق الأم روض إن تعهّده الحيا ... بالري أورق أيما إيراق الأم أستاذ الأساتذة الأولى ... شغلت مآثرهم مدى الآفاق أنا لا أقول دعوا النساء سوافرًا ... بين الرجال يجلن في الأسواق يدرجن حيث أردن لا من وازع ... يحذرن رقبته ولا من واق يفعلن أفعال الرجال لواهيًا ... عن واجبات نواعس الأحداق في دورهن شؤونهن كثيرة ... كشؤون رب السيف والمزراق كلا ولا أدعوكم أن تسرفوا ... في الحجب والتضييق والإرهاق ليست نساؤكم حلًى وجواهرًا ... خوف الضياع تصان في الأحقاق ليست نساؤكم أثاثًا يقتنى ... في الدور بين مخادع وطباق تتشكل الأزمان في أدوارها ... دولاً وهن على الجمود بواق فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا ... فالشر في التقييد والإطلاق ربوا البنات على الفضيلة إنها ... في الموقفين لهن خير وثاق وعليكم أن تستبين بناتكم ... نور الهدى وعلى الحياء الباقي

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (فلسفة النشوء والارتقاء) وهو الجزء الأول من مجموعة الدكتور شبلي شميل الشهير، صفحاته 367 بقطع المنار وحروفه، طبع بمطبعة المقتطف بمصر سنة 1910 ويطلب من مؤلفه بمصر. أهدى إلينا صديقنا الدكتور شبلي شميل هذا الكتاب الذي أعاد طبعه مرة ثانية في هذه الأيام لنفاد الطبعة الأولى ولرغبة الكثيرين من أصدقائه في ذلك وقد أثبت على صفحته الأولى هذه الفقرة: (طالع هذه الكتاب بكل تمعن ولا تطالعه إلا بعد أن تطلق نفسك من أسر الأغراض لئلا تغم عليك وأنت واقف تطل على العالم من شرفة عقلك تتلمس الحقيقة من وراء أستارها) ونحن لم نتمكن من التوفر على مطالعته لنبدي رأينا فيه بحرية وإخلاص، ولكن هذا لا يمنعنا أن نقول: إن فلسفة النشوء والارتقاء لا تنافي الإسلام بجملتها كما أنها لا تلتئم معه ومع العقل في تفصيلاتها، ولم يكن لصديقنا الدكتور ولا لواضعيها؛ إذ وضعوها مطمع في أن تكون قضية مسلمة بكلياتها وجزئياتها. ولو أن الدكتور شميل اقتصر في كتابه هذا على شرح فلسفة دارون وهكسلي وآرائهما في أصل الأنواع وأدلتهما على تحولها وارتقائها وتأييد مذهبهما بآرائه الخاصة دون التعرض للشرائع الإلهية والأديان المتبعة؛ لتقبله أهل الاستعداد له بقبول حسن، أما محاولة الدكتور لإرادة القراء على الأمرين فطمع في غير مطمع، وهذه الحكومة الفرنسية على تشددها في محاربة زعماء الدين بقوتي الدليل والإكراه لم تتمكن من نزع الدين من النفوس على كونه دينًا تسليميًّا بحتًا لا يسوغ للعقل أن ينكر منه شيئًا، وإن كان غير معقول فما بالك بدين الإسلام الذي ينبذ كل منكور عقلاً، بل هو الدين الذي فك العقول من عُقلها، وأشرع سبيل استقلال الفكر، وأرشد إلى النظر في أسرار الكون والحكم على الأشياء بالعقل دون الهوى؛ لا جرم أن دينًا هذا مكانه من أفئدة أهله لا يقوى على زلزاله منها شبهات مرجعها آراء ومرويات لرجال الدين ربما يكون الدين بريئًا منها. لو أتيح للدكتور شميل أن ينظر في الإسلام نظرة تنفذ إلى صميمه على الشرط الذي وضعه لقراء كتابه؛ لآب اليوم وهو مسلم قلبًا ولسانًا، وهاهو اليوم على كونه لم يعن بفهم فلسفة الإسلام بعض عنايته بحل طلسمات مذهب دارون نراه وهو المنصف المستقل الفكر يقول: إن القرآن هو أحكم الشرائع التي يتبعها البشر، وإن محمدًا أعظم رجل في التأريخ. حتى إنني قلت له مرة: إذًا أنت مسلم. فقال: بل محمدي. بل هذه كلمته في خاتمته الحفيلة التي هي صورة مصغرة للكتاب قال: (ص352) . (خذ مثالاً شريعة القرآن فإنها بين الشرائع الدينية الشريعة الوحيدة الاجتماعية المستوفاة [1] التي ترمي إلى أغراض دنيوية حقيقية بمعنى أنها لم تقتصر على الأصول الكلية الشائعة بين جميع الشرائع، بل اهتمت اهتمامًا خاصًّا بالأحكام الجزئية فوضعت أحكام المعاملات حتى فروض العبادات أيضًا، وهي من هذه الجهة شريعة عملية مادية حتى إن الجنة نفسها لم تخرج فيها من هذا الحكم من أشجار وأثمار وأنهار إلى آخر ما هنالك، وطالما جرى أتباعها عليها صلحت أمور دنياهم على سواهم ... إلخ) ثم ذكر بعد ذلك مزج علماء المسلمين لنظريات الفلسفة اليونانية في كلامهم حتى صرفوا بذلك الدين عن حقيقته وحولوه عن غايته (إلى المرامي المجردة والمنازع النظرية وسائر علوم الجدل الأدبية المقامة عليه حتى إلى ما لا علاقة له بالدين مطلقًا [2] ) . إلى غير ذلك من الأقوال التي تدل على أن الدكتور الفاضل إنما هو منكر للغواشي التي علقت بالدين ساخطًا على تقاليده وخلط كثير من أهله بين جوهره ونظرياتهم. ونحن نقر الدكتور على هذا الرأي بل نحن إنما نكتب ونخطب سعيًا وراء هدم تلك التقاليد التي تتبرأ منها ومن المصرين عليها. والكتاب مطبوع طبعًا متقنًا على ورق جيد ويطلب من مؤلفه بميدان توفيق بمصر. *** (إرشاد الأريب، إلى معرفة الأديب) وهو القسم الأول من الجزء الثالث من الكتاب، تأليف ياقوت الرومي الشهير المتوفى في القرن السابع وعني بنسخه وتصحيحه الدكتور مرجليوث الأستاذ بجامعة أكسفورد، صفحاته 215 بقطع المنار، طبع بمطبعة هندية بمصر سنة 1910. أهدى إلينا الدكتور مرجيلوث الجزء الذي أصدره في هذا الشهر من هذا المعجم الجامع النافع وهو يتضمن تراجم اثنين وأربعين واحدًا من أعلام الأدب أولهم حبشي بن محمد بن شعيب الشيباني، من أهل واسط المتوفى في منتصف القرن السادس وآخرهم الحسن بن ميمون النصري، ولبعضهم تراجم مطولة تحتوي على عشرات الصفحات كترجمة السيرافي النحوي المعروف، فهي زيادة على أربعين صفحة، ولآخرين منهم تراجم مختصرة جدًّا لا تبلغ إلا أسطر قليلة كترجمة الحسن بن علي المدائني النحوي، والتراجم مرتبة على حروف المعجم ومن يلاحظ أن هذا الجزء أو القسم لم يتم به حرف الحاء يعلم أن هذا الكتاب من أحفل موسوعات الأدب في تراجم مشهوري أدباء العرب. وأحفل مترجمي هذا الجزء سيرةً هم من أعلام النحاة وربما يتعجب أدباء هذا العصر؛ إذ يسمعون هذا؛ لأنهم يرون نحاتهم صارفين أيام حياتهم في تتبع المناقشات العقيمة، وتفهم الاختلافات السقيمة، وإن واحدهم ليحار حيرة الضب؛ إذ عرض له أن يكتب كتابًا إلى أحد خلطائه أو رهطه ولو اطلع مطلع على ما يكتبون لسخر منهم واستهزأ بهم ولأخذته الحيرة؛ إذ يرى كثرة اللحن والتراكيب السخيفة والخروج فيما يكتبون عن الحدود والرسوم التي أفنوا أعمارهم في تفهمها وتفهيمها ولكن لا عجب في ذلك فإن أئمة النحاة في الماضي كانوا يعدون النحو أداة أو مرقاة تتوقل فهومهم بها إلى الوقوف على (أسرار البلاغة) و (دلائل الإعجاز) حتى تصير البلاغة ذوقًا لهم فيتمكنون من فهم كلام الله فما دونه في البلاغة ويتمرنون على احتذاء الكلام البليغ في المكتوبات والخطب، ولكن نحاة هذا العصر حسبوا أن النحو غاية لا وسيلة على تمحلهم في الكلام على الغايات والوسائل فصرفوا الأشياء عن أوضاعها وحرفوا الكلم عن مواضعه فأصبحوا لا قيمة لهم ولا احترام وقد كانوا أجلاء مكرمين وصناعتهم من أشرف الصناعات. وقد أعجبتني طريقة المؤلف في التراجم فهو يذكر اسم الرجل ونسبه وموطنه وتحصيله، وما تفرد به، وما نقم الناس منه، وما وقع له مع أدباء عصره، ويثبت له ما يؤثر من شعره، كل ذلك بأسلوب سهل حسن الإنشاء. ولعلنا ننشر في المنار المناظرة التي جرت بين متّى بن يونس القنائي الفليسوف وبين أبي سعيد السيرافي النحوي في تفضيل النحو على المنطق. وهي مثبتة في هذا الجزء عسى أن يكون في نشرها عظة بالغة لنحاة عصرنا. وياقوت الرومي هذا أعرف من أن يعرف وهو مؤلف هذا المعجم، ومعجم الشعراء وغير ذلك من الموسوعات التي تعجز عن تأليفها الجماعات، وهو من الشعراء المجيدين، ومن أحسن ما يروى له قوله: تنكر لي مذ شبت دهري فأصبحت ... معارفه عندي من النكرات إذا ذكرتها النفس حنت صبابة ... وجادت شؤون العين بالعبرات إلى أن أتى دهر يُحَسِّنُ ما مضى ... ويوسعني من ذكره حسرات فكيف ولما يبق من كأس مشربي ... سوى جُرَعٍ في قعرها كدرات وكل إناء صفوه في ابتدائه ... ويرسب في عقباه كل قذاة والكتاب مطبوع طبعًا نظيفًا على أجود ورق، ومجلد تجليدًا متقنًا وكنا نتمنى أن يضع الناشر أرقامًا للمترجمين تدل على عددهم في كل جزء فإن ذلك من المحسنات، وأن يعنى بوضع فهارس لجميع الأعلام والبلدان التي في الكتاب، ولعله يفعل بعد طبع جميع ما لديه من الأجزاء، وإننا نشكر له عنايته بنشر هذا السفر العظيم فلقد خدم بذلك لغتنا الشريفة أجل خدمة. *** (النظرات) كان الشيخ مصطفى لطفي المنفلوطي كتب قطعًا ومقالات في جريدة المؤيد عُني بانتقاء ألفاظها وجملها ومعانيها مما يحفظ ويقرأ فاستحسنها فريق من الناس الذين يحبون التنميق والتزويق وتبهرهم زخرفة اللفظ، وغر الكاتب تلك النعوت التي كانت تنعته بها جريدة المؤيد فسارع إلى جمع تلك القطع وطبعها في كتاب مصدر برسمه وبترجمة له ملأت قسمًا كبيرًا من الكتاب!! قرأنا لهذا الكاتب الجديد والشاعر القديم بعض قصائده وبضع مقالات فلم نعرف له منحًى خاصًّا يتوخى القصد إليه فيما يكتب وينظم، وظهر لنا أن هذا الشاعر أو الكاتب أو الجامع للصنعتين ليس من سراق الشعر فقط بل هو من سراق النثر أيضًا، ومن قرأ مقالته (مدينة السعادة: ص38) التي يدل بها ويفخر وكان قارئًا قصة (الكوخ الهندي) لفرح أفندي أنطون؛ علم أن بضاعة الكاتب مزجاة، وآراءه قد اغتصبها من سواه، وأنه ليس له في مثل هذه المقالة إلا التغيير والتبديل في نسق الكتابة وأسلوب الكاتب، وكذلك مقالته (غرفة الأحزان: ص 143) فإنها ملخصة من قصة (حواء الجديدة) لنقولا أفندي الحداد، ومقالته (أين الفضيلة: ص 15) مأخوذة من قصة الكوخ الهندي لفرح أفندي أنطون أيضًا ومقالته (الكأس الأولى: ص 5) أخذ موضوعها من قصيدة للشيخ نجيب الحداد عنوانها: (في الجرعة الأولى البلاء: ص 57ج1) من القسم الشعري من كتاب (مجالي الغرر) وغير ذلك من القطع الكثيرة التي سرق بعضها معنى، وبعضها معنًى ولفظًا كما سيأتي بيانه. مثال ذلك سرقته لكلمة زوج صخر أخي الخنساء: (إني أصبحت لا حيًّا فأرجى ولا ميتًا فأنسى) ص 28، وسرقته لبيت البكري المعروف: أشعرة في الرأس أم ... أول خيط الكفن أخذه فقال عن الشعرة البيضاء في رأسه: (أو خيط من خيوط الكفن ص 115) . ولقد كنت نصحت للمنفلوطي يوم كان شاعرًا أن يتجنب السرقة في شعره، وذلك في مقالة في (ص 859م31) من المقتطف بعنوان (نقد الشعر) بعد أن نشر فيه المنفلوطي قصيدة عنوانها (من القصر إلى القبر) (ص25) من مقدمة النظرات أغار بها على أربعة أبيات من قصيدة المعري التي مطلعها (أحسن بالواجد من وجده) وحشرها بين بيوت قصيدته، ولكنه لم يستطع أن يعمل بنصحي؛ لأنه لو عمل به لكان اليوم فقرًا من النعوت التي جاد بها عليه المؤيد فهو شاعر وكاتب ولكن بأفكار غيره وأساليب سواه. وأريد أن أنبه هنا إلى أمر ربما خفي على أولئك المخدوعين بلفظ المنفلوطي: وهو أن كتابة المنفلوطي خالية من كل فكر للكاتب. خذ مثلاً مقالة (الغد) ص1 وهي من أشهر مقالاته فإنك تجده جال فيها في دائرة ضيقة لم يخرج بها عن قول زهير: وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي وأية فائدة يجني القارئ من حكاية أقوال في الغد خلاصتها أنه أمر غيبي لا يعلم ما سيكون به إلا الله تعالى، على أنه قد سرق أكثر معانيها من مقالة لفيكتور هوجو في نابليون الثاني راجع ص10، من كتاب بلاغة الغرب، ومقالة (المستقبل لله) ص 98 من منتخبات الشيخ نجيب الحداد، وإن مقالة (العلماء والجهلاء) ص 323 التي يفضل فيها خلط السوقة الذي يسميه علمًا على تحقيق العلماء الفلاسفة دليل على أنه لا يعرف من العلم إلا تمحلات الأزهر اللفظية التي عرفها فألفها ومن ذا الذي يستسهل الزعم بأن اختراع التلغراف واكتشاف الكهرباء والراديوم وغير ذلك مما لا محل لذكره هو دون ما يقع من الكلمات الصحيحة في هذيان الدهماء ولغطهم. وكذلك مقالته (يوم الحساب: ص 106) فإنها لا تخرج عن فحوى قصة من كتاب قصص الأنبياء وغيره من الإسرائيليات المدسوسة على الإسلام وأئمته من حكاية العجائب عن يوم الحساب ونجاة كثير ممن ران على قلوبهم لحسنة فذة مع أن الله يتوعد هؤلاء بأشد العقوبات، ويقول في شأنهم: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّم

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء إيقاظ الفتن في البلاد العثمانية (مناجاة ودعاء) اللهم الطف بهذه الأمة وبدولتها، واحفظها من فتن المفسدين في الأرض، اللهم إنك تعلم أن المخلصين قد بذلوا جهد طاقتهم في النصح وإصلاح ذات البين وسعوا إلى ذلك من كل طريق يرونه نافعًا، اللهم إنا لا نملك بعد حسن القول والسعي إلا الاستغاثة بك ودعاءك فلا يغلبن مكرهم السيء ما يرجو من لطفك وعنايتك، اللهم إنه لا يخفى عليك كيد الذين يفسدون في الأرض وينبزون المصلحين بلقب الإفساد، ويلقون العداوة والبغضاء بين عبادك، ويعيبون بعملهم السيئ من يعملون الصالحات بالتأليف بين القلوب وجمع الكلمة على الخير، اللهم إنك تعلم أن من هؤلاء من يفوّق سهام كيده ومكره للأمة العربية التي شرفتها وفضّلتها بخاتم أنبيائك ورسلك وخير كتبك المنزلة لهداية خلقك، وخاطبت سلفها الصالح بقولك الحق: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) ولكل من تبع ذلك السلف من الخيرية بقدر اتباعه لهم. اللهم إنهم حسدوها أن جعلت كتابها عربيًّا مبينًا فهم يريدون ترجمته ليكون عرضة لتحريف المحرفين، واختلاف المتفقين، اللهم إنك أنزلته لتجمعهم عليه، وهم يحاولون ترجمته لكل شعب من المسلمين ليتفرقوا فيه، اللهم إنه حبلك المتين الذي أمرتنا أن نعتصم به ولا نتفرق عنه بقولك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) وهو بيناتك التي قلت فيها: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} (آل عمران: 105) اللهم إنهم يزعمون أن رسالتك خاتم رسلك ما تمت إلى الآن، وأنها لا تتم إلا بترجمة القرآن، وأنت قلت وقولك الحق: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) اللهم إنهم يزعمون أن دينك لم يقم بالحجة والبرهان، وأن نبيك صلى الله عليه وسلم كان يكره الناس عليه بالسيف والسنان، وأنت قلت وقولك الحق: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) . * * * (المقصد) بينا في أول مقال كتبناه عن الانقلاب العثماني واستبدال الحكم النيابي بالحكم الشخصي المطلق أنه يخشى في هذا الطور الجديد الذي دخل العثمانيون فيه من عاقبة اختلافهم في الأجناس واللغات والأديان وجددنا في التأليف بينهم سعيًا جديدًا غير ما كنا نسعى إليه سرًّا في جمعيتنا (الشورى العثمانية) المؤلفة من جميع العناصر العثمانية. ظهرنا بالتأليف الجهري فخطبنا في كنيسة الأرمن في القاهرة خطبة جعلها الإخلاص مؤثرة في نفوس حاضريها من العثمانيين المختلفين في الأديان والمذاهب، حتى قال لنا فارس أفندي نمر محرر المقطم يومئذ: إن هذه الخطبة وحدها تضاهي عملك في التأليف والوفاق مدة عشرة سنين، ثم سحنا في البلاد السورية وخطبنا مرات عديدة في ذلك وتكلمنا وكتبنا كثيرًا ورأينا لعملنا وعمل غيرنا تأثيرًا حسنًا أعان عليه في تلك البلاد ذكاء الأهالي وأخلاقهم الحسنة. بينا نحن نرى الولايات السورية أهدأ الولايات العثمانية وأشدها اغتباطًا بالحكومة الدستورية، ونرى من البلاد العربية كاليمن والحجاز وقد هدأ ما كان يقع فيها من الكفاح والغارات فصارت أشد خضوعًا للدولة من ولاياتها الأوربية التي هي مهد قوتها وعظمتها فالعاصمة نفسها مكمومة بديوان الحرب العرقي والدماء تخضب ولايات الأرنؤوط، ومقدونيا تتمخض بما تتمخض به، بينما نحن على ذلك وإذا بغراب ينعب من أول هذه السنة الهجرية بصوت عربي غربي غريب يُخشى شره ولا يرجى خيره. صاح الغرور يغر العرب ويغريهم بإخوانهم الترك، يقول: إن العرب هم الحاكمون والترك هم الخادمون، ويطرئ الأمة العربية بالشعريات التي تحفز النفوس إلى طلب ما لا يطلب ونيل ما لا ينال، ولم يفهم أحد من العرب معنى كونهم هم الحاكمين والترك هم الخادمين إلا أن الكاتب يفهمهم أن الأمر يجب أن يكون كذلك وأنه عليهم أن يطلبوا هذا الواجب؛ لأن الأمر في الواقع ليس كذلك، ولكن هذا التغرير لم يؤثر في إغراء العرب لا لأن قائله متهم عندهم ببغضه إياهم بل كان له دافع آخر من نفوسهم وهو اعتقادهم أن الترك إخوتهم في الدين وحكامهم الذين رجعوا بإعلان الدستور إلى هدي الإسلام بمشاركتهم إياهم في الحكم فلا خادم في العناصر ولا مخدوم، وما القول بذلك إلا من نزغات الشياطين ووساوس المفسدين. تهافت قول هذا الناعق وتناقض فهو تارة يطرئ العرب ويغلو في مدحهم، وطورًا يعرض أو يصرح بالطعن في جميع الطاهرين منهم كأمير مكة المكرمة والمبعوثين وطلاب المناصب والخدمة في الدولة والكتاب الخادمين للدولة من طريق خدمة العرب؛ إذ يكتبون بالعربية، وتارةً يدعي أنه خادم الإسلام وناشر دعوته ومبتغي ارتقائه بارتقاء العرب، ثم يدعو إلى ترجمة القرآن بلغة المسلمين ليستغنوا عن القرآن المنزل من عند الله تعالى، ويزعم أن الإسلام قام بالإكراه كما أشرنا إلى ذلك في المناجاة التمهيدية. وهذا أشد مطعن يسدده الأوربيون إلى قلب الإسلام، ويذكر سيدنا عيسى (عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا وسائر النبيين) بلقب رجل يهودي، وبعد هذا كله يخص بطعنه الصريح من قضى زهرة عمره في خدمة الإسلام والدفاع عنه. هنالك ما هو شر من ذلك وهو السعي في مقاومة المشروع الأعظم لخدمة الإسلام وهو إنشاء مدرسة دار العلم والإرشاد التي يتربى فيها الوعاظ والمرشدون ليقوموا بما أوجبه الله تعالى من فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العامة عقائد الإسلام وآدابه وأحكامه مع التنبيه إلى مصالح الدنيا كترقية الزراعة وكل ما ينمي ثروة الأمة ويعزز الدولة، فقد حدثني الثقة أن شيطان الفساد بعد أن مدح المشروع قبل أن يتقرر عاد إلى التنفير منه بعد أن علم بأنه تم أو كاد فهو ينفر كل من يظن أنه يساعده على هذه المقاومة بما يرى أنه يصيب موقع التأثير من وجدانه والإقناع من فكره. يقول للملاحدة: إن تأسيس مدرسة إسلامية عربية في الآستانة يجعل للدين قوة معنوية (جزويتية) تقضي على حريتكم وتذهب بجميع مقاصدكم. ويقول للمتعصبين مثله للجنسية: إن هذه المدرسة تقوي اللغة العربية وتحييها فتزاحم التركية في عرشها الأعلى. ويقول للمتدينين الجامدين: إن هذه المدرسة تحيي علوم التفسير والحديث والفلسفة فتفسد عليكم التعليم المقرر في مذهب الإمام الأعظم. وينفر بعضهم عنها بالطعن في شخص الداعي إلى تأسيسها، وكأنه لا يدري أننا نطلب أن تؤسسها جمعية من الفضلاء والعلماء وأن يكون التعليم فيها بما يرضونه ويختارونه، ويكون أيضًا بمراقبتهم الدائمة، فهل يضر المدرسة مع هذا أن يصدق الكذوب ويكون الطعن في شخص الذي نبه إلى هذا العمل النافع صحيحًا؟ إذا كان خذلان مفسدي المسلمين لمصلحيهم قد وصل إلى هذه الغاية فهل يستبعد بعد ذلك شيء مما ذكرنا عن غراب التفريق والتنكيث؟! ما ذكر مشروع (العلم والإرشاد) لعالم ديني أو غير ديني، ولا عاقل عربي أو أعجمي، مسلم أو غير مسلم، مستمسك بدينه أو متهاون فيه إلا وأعجب به وأعترف بفائدته ونفعه وبأنه لا يحل محله سواه في فائدته ومنفعته حتى إن بعض الملحدين قال: إننا نحب أن يتعلم الإسلام على وجهه؛ فإن المسلمين يكونون بذلك أقرب إلى الترقي الذي يصدهم عنه المتعصبون باسم الدين، كما يكونون بذلك أقرب إلى الترقي الذي يصدهم عنه المتعصبون باسم الدين، كما يكونون أبعد عن إيذاء المخالفين، وأما سائر الوساوس فظاهرة البطلان. بلغني خبر هذه السعاية فكان أول شيء سبق إلى ذهني عند سماعه فاتحة كلام نشر في جريدة العروة الوثقى وهو على ما أتذكر: (أسف يصهر الجسم وحسرة تذيب الأكباد على قبيل من أمة، أو شخص منها ذي همة، يستخير الله في عمل ينقذ أمته من ضعة، أو يعود عليها بمنفعة، ثم يعرض له في أثناء عمله من ينجم كقرن المعز ليفقأ عين العامل، ويعرقل عليه عمله) ... إلخ. وتلا هذه الذكرى في خاطري ما كنت سمعته من الأستاذ الإمام محرر تلك الجريدة (العروة الوثقى) في هذا المعنى - رحمه الله تعالى -: (والله إنني ما تشبثت بخدمة للإسلام أو المسلمين وقاومني فيه أحد من غير المسلمين، ما قاومني في شيء من ذلك إنكليزي ولا قبطي ولا سوري مسيحي، وإنما لقيت مقاومة كثيرة من المسلمين أنفسهم في خدمة الإسلام والمسلمين) ، نعود من هذا الاستطراد إلى أصل الموضوع وهو إيقاظ الفتن في البلاد العثمانية فنقول: إن ناعق الفتنة لم يكتف بتغرير العرب وإغرائهم بإخوانهم الترك بل عمد إلى إلقاء الشقاق بين المسلمين والنصارى منهم فنفخ روح العصبية الدينية في الفريقين فجرح كل واحد في دينه جراحًا داميًا، وأغرى كلاًّ منهما بالآخر، ومزق نسيج الوحدة الجنسية بينهما بإيهامه من يقرأ كلامه من النصارى أنه بتهكمه بدينهم يتكلم باسم الإسلام ويرضي المسلمين، وبإنكاره أن يكون النصراني عربيًّا مع علمه أن النصرانية كانت في العرب قبل البعثة المحمدية كاليهودية، ويرى القارئ في فتاوى هذا الجزء سؤالاً عن حديث: (إن الله سيمنع هذا الدين بنصارى من ربيعة) ؛ أي: يحفظه ويؤيده، وما رأيت ولا رأى الراؤون أسخف من اختراع هذه العلة للتفريق؛ أي: جعل العربية والنصرانية ضدين لا يجتمعان، وناهيك بسخافة ينقضها العيان. اطلعنا على ما كتبه في ذلك موقظ الفتن فبادرنا إلى مقابلة الضد بضده، ومقاومة الشر بالخير، والقذف بالحق على الباطل، فكتبنا مقالة في تذكير أهل سورية وبيروت بما فيه خيرهم وخير دولتهم من الوفاق والوئام، ونشرناها هنا في جريدة الحضارة وسيراها القراء في المنار السادس، ونرجو أن تكون دامغة لباطل موقظ الفتن؛ لأنها حجة داحضة لشبهته التي اخترعها خياله، وناهضة في بيان أن مسلمي العرب يتبرؤون من كل وسوسة تفرق بينهم وبين إخوتهم في الوطن والجنس واللغة والمصلحة والتابعية العثمانية كما يتبرأ الخير من الشر، والنفع من الضر، وأن موقظ الفتنة لم يترجم عن ضمائرهم ولا قال ما قال بالنيابة عنهم وهو ليس منهم، وإن كان يحزننا أن وجد منهم من يترجم عنه ويكتب له ما يريد باسمه واسم نفسه، وهو لم يقل ما قال أيضا باسم الإسلام وقد علموا أنه جنى على الإسلام أكثر مما جنى على النصرانية، وينبغي أن يبرؤوا الحكومة الدستورية من الإقرار والإعانة على هذا الفساد وإن شاع أنها تساعد هذا المفسد على عمله، فإن صح ما يقال من مساعدتها إياه؛ فلا بد أن تكون المساعدة لزعمه أنه يعضد الإصلاح ودعواه، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) . كل من اطلع على ما كتبه المفسدون يعرف من يقصد منهم بهذا الكلام؛ إذ لا ينطبق على كثير من المفسدين ولو كان كل الفاتنين كمن ذكرنا لفسدت الأرض وهلك الناس، ومن لم يطلع عليه ولا وصلت إليه وسوسته فخير له أن لا يعرفه، على أنه إذا ظل سادرًا في إفساده، سادلاً أذيال غروره وعناده، فسننقل الكلام من حيز الإبهام، ونأتي بالشواهد والنصوص من كلامه المؤيدة لما قلنا تحذيرًا من كل ما يكتبه وما يقوله، ولعل ديو

خديجة أم المؤمنين ـ 10

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين الفصل الحادي والعشرون [1] (الدليل النقلي) اقتداء الناس بعضهم ببعض أمر قد ألفته طباعهم عظيم الألفة. وربما كان من سنخ غرائزهم، ومن مادة تصورهم؛ إذ رأيناه عريقًا في مرافقة الأجيال، والتنقل في الأنسال، وموغلاً في الرسوخ والاستقرار، والدوام والاستمرار، لا يزحزحهم شيء عنه، ولا يفصل بينهم وبينه فاصل. هذا الاقتداء نفع البشر كثيرًا، وأضر بهم كثيرًا، فأما نفعه إياهم؛ فلأن الأكبر سنًّا، والأكثر فهمًا، والأشد قوة، والأغزر تجربة، يجعلون المقتدين بهم يبتدئون حيث انتهوا هم، ويمهدون لهم ما لا يستطيعون أن يمهدوا لأنفسهم، ولو بقي الطفل والغبي والضعيف والغر خالين من طبيعة الاقتداء لراحت أكثر التجارب والاختراعات والتفكيرات والأعمال العظيمة سدى، ولولا الاقتداء لما تعددت الأعمال والصناعات، ولا كثرت البدائع، ولا ارتقى التمدن، ولا نمي العمران، ولا سما النظام , وأما إضراره بهم؛ فلأنه ساق أحيانًا إلى الاقتداء بالجاهلين والمفسدين، ووقف أحيانًا بأقوام مع ما سن لهم أسلافهم وقفة الصخور، وجعلهم يحرمون مما يأتي على أيدي الحكماء من الهدى متى خالف ما عرفوا من قبل، وإن أصبح ما عرفوا منكرًا لدى أهل زمانهم أجمعين. البحث عن نفعه وأضراره، ووضع الموازين للدرجات فيه، ولا قرابة بينه وبين موضوعنا، ولكن اتخاذ الناس بعض كلام الآخرين من جملة الأدلة هو الذي حملنا أن نقدم هذه الكلمات في وصف عراقته، وبيان أن بعضه نافع كما وقع للسيدة (خديجة) . كان للسيدة (خديجة) ابن عم قد شبع من الأعوام، وارتوى من حديث الأنام وقد تعلم العبرانية وقرأ بها الأسفار، وعرف بها الأديان ورضي بدين ابن مريم - عليه السلام - دينًا وهو (ورقة بن نوفل) . هذا الشيخ الجليل كان جديرًا أن يكون إمامًا لخديجة تتخذ قوله حجة، وهديه معتصمًا؛ لأن هناك وجوهًا كثيرة تدفع عن نفسها الريب بأن هذا الرجل أعلم منها بهذه الأمور، وأنه لا يصدر عنه إلا النصح لها، فهو بالدرجة الأولى ابن عمها، بل بحسب السن مع القرابة هو في مقام أبيها، فلو أن ورقة غشاش مخادع لما كان منه الغش والخداع لبنت عمه فكيف وهو مستمسك إذ ذاك بدين ذلك الإنسان المملوء قدسًا الذي كان أكبر همه حث الناس على التحاب ونفع بعضهم لبعض، ونهيهم عن التشاحن وإيذاء بعضهم لبعض، وهو مع قرابته وسمو التعاليم التي تزكت بها نفسه كان في نظر خديجة سامي الهمة جدًّا. ذلك ما حملها على الإسراع إليه لتقص عليه الخبر وترجع في هذا الأمر إلى علمه، وأخذت معها بعلها ليقص هو نفسه على سمعه ما رأى. كان ورقة بحسب ما قرأ وعرف مصدقًا بأن ليس هذا الهيكل البشري إلا مظهرًا لشيء يحمل فيه هذه المدة القصيرة بإذن الله وهو الروح، وأن للروح ظهورات غريبة في بعض الهياكل، وأنه توجد أرواح من شأنها الاجتنان عن الحسن والعيان تتمكن من الإنسان من حيث لا يشعر، صنف منها يحب جذبه إلى سبل التكمل، وصنف منها يحب بقاءه في حضيض البهيمية، يقال في العربية للأول: ملائكة. وللثاني: شياطين. كان مصدقًا بكل هذا ومؤمنًا أيضًا بأن بعض الأوراح الذين هم الملائكة يختصهم الفاطر المصور بمزيد خصائص ويجعلهم نواميس؛ أي: وسطاء الوحي الأعلى للذين يريد سبحانه أن تكون ظهورات الروح فيهم ساميةً جدًّا. كان قد قرأ الأنبياء وعرف مجيء الأرواح إليهم وعرف أنه يقوم أنبياء كذبة وأنبياء صادقون، وأن لهؤلاء وهؤلاء علامات، فنحن لما سمعنا ذهاب خديجة إلى هذا العالم المسيحي خطر ببالنا أنه لا يكون سهلاً تصديقه بقدسية الروح الذي أتى محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ لأن يوحنا الرسول يقول في رسالته الأولى: (أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله؛ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم، بهذا تعرفون روح الله، كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله) ، ولكن الذي خطر ببالنا أن وقوعه صعب قد رأيناه أمرًا واقعًا، فإن ورقة بعد أن سأل بعل ابنة عمه بضع مسائل قال له: هذا هو ناموس موسى؛ أي: الروح الذي جاءه. والظاهر أنه لم يقل هذا القول ولم يصدق هذا التصديق إلا بعد أن عمل الامتحان الذي أوصى به يوحنا الرسول وظهرت له العلائم الدالة على أن هذا الروح من الله على حسب ما تعلم من الكتب. نحن لا ندعي العلم بتفسير هذه الكلمات التي ليوحنا ولا طريقة الامتحان التي أشار بها ولكن نظن أن ذلك العالم القريب من ذلك العهد بالنسبة إلى زماننا هذا كان لا يجهل هذا التفسير - وكذلك لا ندعي العلم بتفسير قول موسى لبني إسرائيل: (إن نبيا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم) ولا تفسير الإصحاح الثاني والأربعين من (أشعياء) ولكن يظهر لنا أن ورقة قد فهم من قول موسى هذا ومن أشعياء أنه سيكون نبي من العرب يكون مقامه حوالي سلع ذلك الجبل المعروف في البلاد العربية. وهذا نص ما في أشعيا: (1 هو ذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته 3 قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ، إلى الأمان يخرج الحق 4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته 5 هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها، باسط الأرض ونتائجها، معطي الشعب عليها نسمة، والساكنين فيها روحًا 6 أنا الرب قد دعوتك بالبر، فأمسك بيدك، فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم 7 لتنفتح عيون العُمي، لتخرج من الحبس المأسورين، من بيت السجن الجالسين في الظلمة 8 أنا الرب هذا اسمي ومجدي، لا أعطيه لآخر، ولا تسبيحي للمنحوتات 9 هو ذا الأوليات قد أتت، والحديثات أنا مخبر بها، قبل أن تنبت أعلمكم بها 10 غنوا للرب أغنية جديدة، تسبيحة من أقصى الأرض، أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها 11 لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا 12 ليعطوا للرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر) . قد قلت وأعيد قولي: إنني لا أدعي العلم بتفسير هذه الكتب ولكني لما رأيت ورقة قال لزوج بنت عمه: هذا هو ناموس موسى. بحثت عن منشأ قوله هذا فوجدت فيما ذكرت آنفًا من قول موسى وأشعيا ما يشبه أن يكون مأخذًا، فمن أراد أن يقول لي: لا يفهم من قول موسى وأشعيا ما فهمت. لا تجدني آسفًا على عدم إصابة ظني بخصوص ما حمل ورقة بن نوفل على قوله هذا، فإنه يجوز أن يكون قد عرف ذلك بغير ما ظننته، ولست في هذا المقام بذي حجاج ومناظرة. إن أنا ههنا إلا كاتب سيرة أجتهد باستقصاء فروع حوادثها وتفسيرها على قدر فهمي ومبلغ ما وصلت إليه من النقول. وههنا مسألة جليلة لا نستطيع مفارقة هذا المقام من غير أن نوضحها ونسهل فهمها على القارئ وهو أن الأرواح قد تعلم بعض الأشياء قبل وقوعها إذا كشف الله تعالى لها عنها بواسطة النواميس أو واسطة غيرها. هذا المعنى كان بنو إسرائيل يقولون به، كما كان كثير من الأمم الأخرى تذهب إليه، وقد جاءت كتبهم حاملة سلسلة من أخبار هؤلاء البشر الذين كان الروح الإلهي ينزل عليهم فينبئهم بما سيكون، وتبتدئ هذه السلسلة المهمة في كتبهم بحديث نوح الذي أُنْبِئ فأنبأ بأنه سيكون طوفان ويموت كل من على وجه الأرض، وهُدي إلى صنع الفلك فصار الطوفان ونجا هو وأولاده ونساؤهم وتناسلوا بعد الطوفان، ثم تفرقوا، ثم اصطفى الله من هذه الأنسال إبراهيم [2] وكان ينزل عليه روحًا من عنده، وشاخ إبراهيم وزوجته سارة من غير أن يصير لهما نسل، ولكن حبلت منه أخيرًا هاجر جارية زوجته، ونزل عليها الروح وقال لها: سيكثر نسلك فلا يعد من الكثرة. فولدت له إسماعيل، ثم أنبئ أن زوجته سارة ستحبل وتلد بعد هذه الشيخوخة وطول هذا العقم فولدت له إسحاق، وأنبئ أن نسل إسحاق سيكون كثيرًا أيضًا، وغضبت سارة على هاجر فطردتها وغلامها، فنزل على هاجر الروح وقال لها: لا تخافي لأن الله قد سمع صوت الغلام وسيجعله أمة عظيمة. وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية برية فاران التي قال عنها موسى: إن الله سبحانه تلألأ فيها. وتأخذ كتب بني إسرائيل بعد ذلك بسرد أخبار مَن تناسل مِن إسحاق بن إبراهيم، وأما أخبار مَن تناسل مِن أخيه إسماعيل فلا تذكرها، فابن إسحاق يعقوب وهو إسرائيل كان الروح ينزل عليه، ويوسف بن يعقوب كان الروح يجيء إليه. ويوسف هو سبب مجيء بيت يعقوب إلى مصر، وهناك تناسلوا وكثروا حتى ولد فيهم موسى صاحب الشريعة الشهيرة، هذا أيضًا كان يُنَبَّأ وينزل عليه الروح وهذا قال لقومه: (إن نبيًّا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم) . وأسس موسى لبني إسرائيل مُلكًا على الوحي الروحي، وخلفه بعد موته تلميذه يوشع بن نون، وبعد موت يوشع بدأ الفساد والضعف يحل بهم ثم انتشلهم داود وسليمان، وتعاظم الملك في أيام سليمان، ثم طرأت عليه بعده الطوارئ حتى زال، ولم يخل زمان من أزمنة ملوكهم وبعدها من نبي أو عدة أنبياء، حتى نزل الروح أخيرًا على مريم أم عيسى وبَشَّرها بأنه يكون لها ولد من غير أن يمسها بشر، وقد ولدت مريم عيسى على هذه الصورة التي بشرت بها وصار نبيًّا أيضًا، ولكن قومه كذبوه، ولم يصدقه إلا قليل، وقد كذبوا من قبله أكثر الأنبياء الذين كانوا ينذرونهم بزوال الملك إذا ظلوا على الفساد. أنا لا أعرف لماذا يكذب بعض الناس بأشياء هم مصدقون بمثلها، أو يصدقون بأشياء هم مكذبون بمثلها، هذا أمر وقع كثيرا ويقع دائمًا أمام أعيننا وأسماعنا فهل التصديق والتكذيب بحسب وزن الأشخاص؟ وما هو الميزان في الأشخاص؟ أم بحسب وزن العقل؟ وما هو سبيل العقل في التصديق والتكذيب بمثل هذا؟ أنا أرى أن من آمن بسعة قدرة الله، وبعجائب صنع الله، ونفذت بصيرته لرؤية آثار روح الله، وآمن بمجيء ناموس الله لعبده موسى لا ينبغي له أن ينكر قدرة الله في إخراج عيسى ابن مريم بغير واسطة بعل، ولا يجدر به أن يكذب نزول روح الله عليه كما نزل على أخيه موسى، ومن آمن بعجائب موسى وعيسى ابني إسحاق وبنزول روح الله عليهما لا ينبغي له أن يستبعد نزول هذا الروح على أخ لهما من بني إسماعيل. هذا أقوله للذين صدقوا بما هنالك من العجائب والغرائب الموسوية والعيسوية، وأما الذين لا يصدقون بهذي وتلك، ولا يُحَكِّمون إلا الحس والعقل فهؤلاء أمضي بهم إلى التجارب والمشاهدات، وأنا واثق أنَّا لا نعدم في خزائنها كثيرًا مما يؤيد أن بعض البشر يخبرون عن بعض الحوادث قبل وقوعها. فإن قال لي هؤلاء: نعم قد يوجد أناس على هذا النحو ولكن ليس هذا سبب إخبار من روح كما تقولون: قلت لهم: إذا توافقنا في ثبوت الأصل فلا ضير علينا بعد ذلك بالاختلاف في الأسباب وأسمائها. وإن قالوا لي: ما الفرق بين هؤلاء الذين قد نراهم في أزمنتنا هذه من هذا القبيل وبين من تحدثوننا عنهم؟ قلت له: إن هذا الفرق ظاهر؛ لأن الاختصاص كله من الله فهو يعطي إنسانًا معرفة بعض الوقائع الآتية ويجعله شارعًا وقائد أمم ومؤيدًا بتأييد عظيم لا تحيط به العبارة، ويعطي إنسانًا آخر مثالاً صغيرًا من هذه المعرفة من غير أن يجعله شارعًا وقائد أمم ومؤيدًا بتأييد عظيم، فالأول يقول: أنا نبي. أو: أنا رسول. ويظهر الله صدقه فيما يقول، والثاني لا يستطيع أن يقول هذا، وإن قاله لا يظهر قوله حقًّا، فهل ينكر هذا الفرق الكبير ذو

رسالة التوحيد للأستاذ الإمام وصالح التونسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة التوحيد للأستاذ الإمام وصالح التونسي س 29 من أحد طلاب العلم بدمشق الشام. سيدي الأستاذ الإمام العلامة فيلسوف العصر ونادرة الدهر ناصر السنة وقامع البدعة من ذكرنا بمناره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) . بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبره وإحسانه نطلب من فضيلتكم كما عودتمونا نشر الحقائق وإبانة الحق والصدع به بالحكمة والموعظة الحسنة أن تشرحوا لنا معنى كلام حكيم الشرق الأستاذ الإمام: (هذا النوع من العلم علم تقرير العقائد وبيان ما جاء في النبوات كان معروفا عند الأمم قبل الإسلام ففي كل أمة كان القائمون بأمر الدين - إلى قوله: وتآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدس على لسان نبي مرسل) .... إلخ. حيث إن جاسوس أبي الهدى وصاحب الفتنة السورية الرمضانية.. . بدأ بقراءة هذه الرسالة وتتبع ما تشابه منها ابتغاء الفتنة، ولأجل أن يطعن في الأستاذ الإمام، وصار يحرف الكلم عن مواضعه فأخذ الآن يتبجح ويتكلم عليه ويحرف كلامه على غير مراده؛ ذلك أنه أَوَّلَ القائمين بأمر الدين بأنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مستدلاًّ على ذلك بقول الإمام: وتآخى العقل والدين لأول مرة ... إلخ فقال: قوله: لأول مرة دليل على أن الأنبياء السابقين جاؤوا بدين غير مؤاخ للعقل وهذا ينافي اعتقاد الإسلام.... إلخ، مع أنه - على ما يظهر من قول الأستاذ الإمام - القائمون هم رؤساء الأديان الذين حرفوا وابتدعوا. ولما بلغ صاحب المقتبس محمد أفندي كرد علي هذه الترهات أخذه الغضب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عله وسلم فذكر في مقتبسه اليوم عدد 374: أن شيخًا من مشايخ الجمود فعل كذا وكذا. ليحذر الناس عامة والدمشقيين خاصة من ضلاله وإضلاله وفساده وإفساده ... ثم سيدي تعلمون أنه كما أن للحق أنصارًا كذلك للباطل أنصار، ولكن العاقبة للحق كما قال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) وقال عز وجل:] وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً [والآن جئنا راجين كشف مراد الإمام رضي الله عنه لينجلي الحق لطالبه وأدام المولى النفع بكم. (ج) أنتقد قبل الجواب ما جاء في السؤال من الطعن في شخص الشيخ صالح بما لا حاجة إليه في إيضاح السؤال ولا سيما ما حذفته من ذلك الطعن وإن كنت جريت في السنين الأخيرة على نشر الأسئلة بنصها ثم أقول: إن مراد الأستاذ من القائمين بأمر الدين رؤساء الأديان كما فهمتم وصرح بذلك رحمه الله تعالى في الجامع الأزهر عندما كان يقرأ الرسالة درسًا يحضره الجم الغفير من المجاورين والعلماء والمدرسين الذين لا يبلغ الشيخ صالح مد أحدهم ولا نصيفه. والسياق يأبى حمل الكلام على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه بحث في تأريخ علم الكلام الذي يسمى عند النصارى بعلم اللاهوت، وهو علم استحدث بعد الأنبياء عندنا وعند أهل الكتاب، ناهيك بما قال علماء السلف في ذم هذا العلم عندما ظهر في أمتنا، وقد ذكر مؤلف الرسالة في درسها بالأزهر بعض مذاهب أهل الكتاب في المسائل الكلامية المعروفة عندنا ومذاهبهم فيما لا نظير له عندنا كطبيعة المسيح (عليه السلام) ومشيئته، كل ذلك في شرح هذه العبارة التي حرفها هذا الرجل بسوء النية والنظر بعين السخط وحملها ما لا تحمل. ومن دلائل سوء النية إذا صح ما روي لي عنه أنه ضلّل مؤلف الرسالة؛ لأنه بدأها بسورة الفاتحة دون ما اعتاده أكثر المؤلفين من الحمدلة والتصلية، وهذه العادة وإن كانت حسنة ليست واجبة ولا سنة نبوية متبعة، وحديث (كل أمر ذي بال) على ما في روايته من المقال، يتحقق العمل به بالقول ولا يتوقف على الكتابة، ولذلك رأينا كثيرًا من أساطين العلماء لم يذكروا في أول كتبهم حمدلة ولا تصلية بل بدؤوا بعد البسملة بالمقصود كمختصر الإمام المزني لمذهب الشافعي بل رأينا كتاب (الأم) للإمام الشافعي لم تذكر التصلية في أوله استقلالاً. فيا حسرة على الشبان الأذكياء الذين يبتلون بمعلمين يشغلون أذهانهم بمثل هذا الجهل، ويوهمونهم أنه من دقائق العلم، ويربونهم على استنباط ما يلقي الشقاق والفتن بين المسلمين، ويغشونهم بأن هذا هوالنصر للدين, ألا يخطر ببال أولئك الطلاب أن رسالة التوحيد طبعت منذ ثلاث عشرة سنة وقرئت درسًا في الأزهر على أكثر من ألف أزهري من الطلاب والعلماء، وأعيد طبعها مرتين، وانتشرت في جميع أقطار الأرض، ودقق النظر فيها كثير من العلماء الذين كانوا يحسدون مؤلفها ويتمنون لو يجدون له عثرة ينتقدونها، وكثير من العلماء المحبين له الذين يحرصون على تذكيره إذا نسي وتنبيهه إلى خطئه إذا أخطأ، وأنه لم يسمع من أحد من أولئك ولا هؤلاء انتقاد على شيء منها إلا ما ذكرناه في السنة الأولى للمنار في انتقاد الشنقيطي، وأشرنا إليه في مقدمتنا للطبعة الثانية، فلو رأوا فيها غير ما ذكر شيئًا منتقدًا لما سكتوا عنه مع توفر الدواعي لذكره؛ فإن ما كان يؤثر عن هذه الرجل لم يكن كالذي يؤثر عن غيره من حيث العناية به وعدمها. لا أقول: إن إجازة الجماهير من العلماء لشيء هي دليل على كونه صوابًا في نفسه. وإنما أقول: إنها بالقيد الذي ذكرناه دليل على كون ذلك الشيء موافقًا لاعتقادهم. فإذا أمكن لأحد أن يماري فيه فلا يكون مراؤه ظاهرًا مقبولاً عند المستقلين المنصفين. فليتأمل أولئك الطلاب هذا، وليعلموا أنه لا يوجد كلام قط لا يمكن حمله على غير المراد منه حملاً يقبله الكثير من الناس المشتغلين بالعلم. وليطالعوا كتاب حجج القرآن، ويتأملوا كيف استدل جميع أصحاب المذاهب المبتدعة في الإسلام بآياته التي هي في منتهى البلاغة في البيان على تلك المذاهب المتناقضة {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} (البقرة: 26) . هذا، وإن للأستاذ الإمام منزعًا عاليًا في تآخي الدين والعقل في الإسلام لا يدرك مثل الشيخ صالح مرماه فيه، وقد بينه رحمه الله في سياق حكمة كون الإسلام آخر الأديان، وكون نبيه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، لا يفهمه مثل الشيخ صالح؛ لأن فهمه يتوقف على المعرفة أو الإلمام بتأريخ الأمم والأديان وعلم الاجتماع البشري، وسنن الله تعالى في الترقي، وحكمته في نسخ الشريعة المتقدمة بخير منها، وبما عند الله أهل الكتاب من كتب الأنبياء عليهم السلام، وبمسألة تحريفها هل هو لفظي أم معنوي فقط كما يقول أئمة الحديث كالبخاري، على أنه لو قرأها بحسن النية والإخلاص؛ لاستفاد منها في دينه ما لا يستفيده من كتاب آخر من كتب العقائد المعروفة، ولكنه ينوي بقراءتها تلمس عبارة يمكن حملها بالتحريف والتأويل على غير ما وضعت له ولكل امرئ ما نوى، لا أعجب لتصديه للإنكار على رسالة التوحيد دون الكتب الكثيرة المؤلفة في الطعن في الإسلام نفسه، والكتب التي نشرها بعض الجاهلين من المسلمين ومحشوة بما يتبرأ منه الإسلام، ومنها ما هو منسوب لطائفته الرفاعية التي فيها أن الشيخ أحمد الرفاعي وصل إلى درجة صارت السموات السبع في رجله كالخلخال، وأن الله تعالى وعده أن لا تحرق النار جسدًا يمسه هو أو أحد خلفائه إلى يوم القيامة!! لا أعجب له بعد أن ترك دروسه في الشام وجاء الآستانة ليسعى في إبطال ما قام به بعض العلماء والفضلاء هنا من تأسيس جمعية إسلامية لأجل إنشاء مدرسة إسلامية عربية عالية لتربية العلماء والمرشدين الجامعين بين التقوى وعلم الدنيا والدين والاستعانة بهم على تعميم التعليم الإسلامي، وهي أول جمعية أسست في الإسلام للقيام بهذه الفريضة أو الفرائض الكثيرة. شبهته في مقاومة هذا العمل الإسلامي العظيم على ما بلغني عنه أن الداعي إليه وهابي يخشى أن يبث في المدرسة مذهب الوهابية، ولماذا لم يسع في إبطال جميع مدارس الحكومة التي تقرأ فيها العلوم الطبيعية التي يرى هو كفر جميع الذين يقرؤونها وإنا على كوننا لا نرى رأيه هذا نعلم أن الكثيرين يخرجون من هذه المدارس بغير دين؛ لأن الدين لا يعلم فيها على وجهه الصحيح المعقول، ومنها ما لا دين فيها ألبتة، ولماذا لم يسع في إبطال مدارس الجمعيات النصرانية التي تعلم أولاد المسلمين مع العلوم الطبيعية دين النصارى وتجبرهم على حضور عبادتهم في الكنائس؟ ألم يجد خدمة يخدم بها الإسلام إلا السعي في مقاومة جمعية إسلامية غرضها إغناء المسلمين عن مدارس غيرهم ورفع هذه الشبهات الهاجمة عليهم من تعليم العلوم والفنون الدنيوية لا ترى الدولة ولا الأمة لها غنى عنها؟! أما شبهته تلك فمدفوعة من وجهين: (1) إن الداعي إلى هذا العمل لخدمة الدين والدولة والأمة ليس وهّابيًّا؛ لأنه ليس مقلدًا في عقيدته بل هو ناصب نفسه للدفاع بالبرهان عن عقائد الإسلام المثبتة في كتابه وسنته وسيرة سلفه الصالح، ويقبل انتقاد كل منتقد ومناظرة كل مناظر فلماذا لم يكتب إليه ببيان ما يزعم أنه أخطأ فيه؟ (2) لو فرضنا أنه وهابي فماذا تضر وهابيته هذا العلم الذي يقوم به جمهور من العلماء ويكون تحت مراقبة جمعية علمية مؤلفة من جميع علماء الأرض؟ إن الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر قد كان سبب تأليفها مشعوذ روسي فهل نقص ذلك من قدرها أو حال دون انتفاع المسلمين بها؟ يا حسرة على مسلمي هذا الزمان أصبح بأسهم بينهم شديد وضعفوا أمام جميع الأمم فهم يخربون بيوتهم بأيديهم ولا يقاومون إلا من يسعى لخيرهم ورفعة شأنهم وحفظ دينهم ودنياهم، ولا يقنطنا هذا من رحمة ربنا والسعي فيما أوجبه علينا فالله لا يصلح عمل المفسدين، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) .

إنفاق ريع الوقف على العلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إنفاق ريع الوقف على العلم س 30 مِن صاحب الإمضاء الرمزي في (فلفلان) سيدي الأستاذ الجليل يوجد في أحد بلداننا مسجد له أوقاف تغل غلة وافرة تزيد عما يلزم له لنحو إمام وخطيب ومؤذن وقد اجتمع له أكثر من ثلاثة آلاف ليرة إنكليزية. وقد اختلف في إنفاقها فقال بعضهم: يعمر وينفق منها على ما في ذلك البلد من المساجد الأقرب إلى المسجد الغني. وقال آخرون: بل يفتح بها مدرسة لتعليم العلوم الشرعية بجوار المسجد الغني؛ لأن عمارة المساجد بالعبادة لا بالتزويق. وقال غيرهم: بل يؤخذ بها كتب نافعة للقراءة والمطالعة وتعمل مكتبة بجوار المسجد. فماذا يرى حضرة الأستاذ في هذه المسألة لتقطع جهيزة قول كل خطيب؟ ودمتم نافعين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م ع ج - إن الإفتاء في مسألة هذا الوقف يتوقف على معرفة شرط الواقف إن كانت معروفة، فإن لم يكن هناك شروط تتبين بها جهة ما زاد عن مصالح المسجد أو كان الشرط أن يصرف الزائد في الخير مطلقًا فأفضل الخير وأنفعه العلم، وهل تنفع المساجد وتصح الصلاة إلا بالعلم؟ فالرأي إذًا أن تبنى بجوار المسجد مدرسة يعلم بها المسلمون أحكام الدين وآدابه وتأريخه وما يتوقف ذلك عليه من علوم اللغة العربية وآدابها، وكذا ما يعينهم على أمر معاشهم كالحساب ومسك الدفاتر وعلم التجارة والزراعة وغير ذلك من العلوم والفنون النافعة إن تيسر، على أن بعض العلماء المحققين (كابن القيم) قد أقاموا الدلائل على جواز بل تفضيل صرف ريع الأوقاف الخيرية المعينة بشرط الواقف فيما هو أنفع مما نص عليه الواقف فمن شاء الوقوف على ذلك فليراجع هذا البحث في كتاب (أعلام الموقعين عن رب العالمين) المطبوع في الهند ومصر.

سبب فرض الصلاة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سبب فرض الصلاة س 31 مِن عبد القادر أفندي جبر بفاقوس (شرقية) مولانا الفاضل صاحب مجلة المنار الأفخم بعد تقبيل الأيدي نرجو من فضيلتكم إفتاءنا عن الصلاة: لأي سبب فرضها الله على الإسلام؟ وما سبب نزولها؟ والله يبقيكم، وما سبب الركوع والسجود؟ وما المراد منهما؟ (ج) شرع الله الصلاة وفرضها علينا، لنتحقق بها بالعبودية له التي تطهر بها نفوسنا من الميل إلى الفواحش والمنكرات والإقدام على ارتكابها وتقوى على الهلع والجزع، وتتحلى بالشجاعة والكرم والسخاء، وقد بين الله لنا ذلك في آيات من كتابه كقوله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) وقوله: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ المُصَلِّينَ} (المعارج: 19-22) وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (المؤمنون: 1-2) فصلاة الخاشعين ولا صلاة إلا لهم تكون لها كل تلك الفوائد بما تتضمنه من مراقبة الله تعالى وتزكية الروح بذكره وتغذية الإيمان. كما بينا ذلك بالتفصيل في تفسير {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (البقرة: 238) فراجعه في المنار أو في (ص431 440من جزء التفسير الثاني، وكذا في ص 37 و128منه) وهنالك ترى حكمة الركوع والسجود أيضًا.

بحث التحسين والتقبيح ـ 1

الكاتب: أحمد المقبلي

_ بحث التحسين والتقبيح [*] أحمد المقبلي (1) اختلف الناس هل للأفعال في نفس الأمر حقائق متقررة في نفسها، هي أهل لأن ترعى وتؤثر على نقائضها وتستتبع الرفع من شأن المنصف بها كالصدق والإنصاف وإرشاد الضُّلاَّل مثلاً، وحقائق هي في نفسها أهل لأن يُعدل عنها وتستتبع الوضع من شأن من اتصف بها من تلك الحيثية كالكذب والظلم مثلاً، فقالت المعتزلة وأكثر العقلاء وجماعة من الحنفية: نعم. والمراد بالحنفية هم المعروفون بالماتريدية نسبة إلى أبي منصور الماتريدي وكذلك أفرد من غيرهم كالإمام المحقق الشهير ابن تيمية، حتى عدها عليه السبكي مما خالف فيه الإجماع أو الأكثر. وقد دل ذلك على نزول درجة السبكي فإن دعوى الإجماع كاذبة وكذلك الكثرة مع أن مخالفة الأكثر غير ضائرة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} (يوسف: 103) وللسبكي هذا مع فضله نوادر نحو هذا تنادي على من سبكه مع ابن دقيق العيد وابن تيمية، فإن هذين الرجلين لا يُلز بهما قرين، ولم ينفرد ابن تيمية فكم من الحنابلة مَنْ صنف في الحط على الأشعري وأتباعه كما تجده في التراجم للذهبي وغيره ومن جملة ما ينقم عليه هذه المسألة، فيقل القائلون بها؛ لأن المذاهب المشهورة بين مطبقة على خلاف الأشعري أو مختلفة مع تهجين المخالف له هذه المقالة، فلا يغرنك شيوعها في هذه المقلدة كالسبكي وولده، فلهم حوامل قد كررنا أسبابها إن كنت موفقًا، ومن عدل بالله غيره فقد شابه الكفار {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1) والحمد لله على العصمة. وقال سائر الأشاعرة: لا، إنما تلك الحقائق معناها أن الشارع أمر بها ونهى عنها ولو عكس لانعكس معانيها. هذا تحرير محل النزاع، وأما ذكرهم العاجل والآجل عند المعتزلة فمن أكياسهم، والمعتزلة لا ينظرون إلى عاجل ولا آجل؛ لأنهم يحكمون بلزوم الرفع الذي منه المدح وكونه معرضًا للثواب، والوضع الذي منه الذم وكونه معرضًا للعقاب للطاعة والمعصية من حال فعلهما، وإنما منع الاتصال التكليف؛ لأن المكلف يصير باتصال الثواب والعقاب ملجأ إلى فعل الطاعة وترك المعصية وعدم الإلجاء عندهم شرط في التكليف، وهذا أيضًا عندهم في التكليف وهو أخص مما نحن فيه، وأما ما نحن فيه فلا يقولون بلزوم الثواب والعقاب فيه، فالغلط عليهم من جهتين: ذكر الثواب والعقاب وهما من لوازم التكليف لا من لوازم التحسين والتقبيح، والتكليف أخص. وذكر العاجل والآجل وسيأتي تتمة لهذا قريبًا. ومن المغالطة والخلط لمحل النزاع بغيره قولهم في هذا المقام: الحسن والقبيح يطلقان لمعان منها موافقة الغرض ومخالفته. وحينًا يقولون: ملائمة الطبع ومخالفته ومنها كذا ومنها كذا. وهذا اصطلاح لهم ليس بلغة كما صرح به السعد وغيره، وليس باصطلاح للخصم حتى يذكر في مقام تلخيص محل النزاع، وقد أنكر هذا ابن الملاحمي وقال: ينبغي لهم صرف فطنهم إلى محل النزاع ثم المحاجة فيه، والعجب أن ابن الحاجب وتبعه العضد أهملوا محل النزاع وذكروا هذه الأمور وأخذ السعد في الترميم والأمر أجلى من ابن جلا، والحق أبلج، والباطل لجلج، وكذلك سائر المعتزلة ينكرون هذا الاصطلاح. وإدخاله في تحرير المسألة ورد مراد الخصم إليه وشدد النكير في الغايات على الرازي في ذكر ذلك، فتنبه لهذا وإن رأيت في كتب الأشاعرة قولهم: يطلق الحسن والقبح لثلاثة معان اتفاقًا، فإنما مستندهم كلام أسلافهم من دون معرفة كلام الخصم كما مضى نظيره، وهم في كل المذاهب يجعلون نقل أسلافهم حجة على خصمهم في أنه يقول القول مع أنه يتبرأ منه، وهو مثل ما يقال في الحمصيات: (شهد عليك من هو أعدل منك) وقول قراقوش: (أندفن؟ لو نفتح على نفوسنا هذا لما اندفن أحد) كما حكاه السيوطي في رسالة صنفها لحكاياته قال: لئلا تنكر مع تطاول الزمان مع أنها محققة عنده لقرب عصره أو معاصرته له. والذي أظن أن الأشاعرة وضعت هذا الاصطلاح لئلا يتعطل معنى الإحسان والإساءة لغة؛ لأنهما من ألفاظ العرب وقد نفوا عنهما وهذا لا ينفعهم مع اعترافهم أن تلك المعاني ليست بلغوية ولكنه يكسر من سورة الاستهجان بإثبات اللاغية في اللغة لأشهر اللفظيين منها في أشهر معنيين فى إشارة لقولهم: (ما أحسن ما فعل فلان مع فلان، وما أقبح فعله مع فلان) ؛ إذ معناه الإحسان والإساءة قطعًا لا تلك المعاني التي تذكر الأشاعرة سترًا لهذه العورة. ولهذا نظائر مع كثير ممن أوقعته زلته في لازم شنيع فتبينه لذلك تقف عليه. نعم، ههنا شيء مما ينبغي صرف النظر إليه: وهو اعتراف الأشاعرة والاتفاق منهم ومن سائر الناس أن التحسين والتقبيح بمعنى الكمال والنقص ثابت في نفس الأمر وهذا يكاد يلحق الخلاف بالوفاق فإن الكمال يستتبع الرفع من شأن من اتصف به والنقص يستتبع الوضع من شأن من اتصف به، ولا شك أن من الرفع المدح للمتصف بالكمال ومن الوضع الذم للمتصف بالنقص، بل إطلاق الكمال والنقص مدح وذم، فقولنا: كامل لا يمدح وناقص يذم. مثل قولنا: كامل لا كامل، وناقص لا ناقص ويمدح لا يمدح ويذم لا يذم. ومعنى الاستتباع أنه يناسب العقول وتقبله ولا تأباه وتفرق بينه وبين نقيضه فترى ذم المحسن مناقضًا لما ينبغي عند العقل وفي نفس الأمر، ومدح المسيء كذلك كما ترى أن الذم والمدح متناقضان. وهذا هو معنى الاستحقاق عند المعتزلة ولا يريدون بالاستحقاق الوجوب والحتم وما زادوه من قيد الحتم في أي موضع فلموجب آخر لا بالنظر إلى هذا المحل وهذا صريح في كتبهم وسيأتيك إن شاء الله قريبًا زيادة إيضاح لمذهبهم. فإن أنكرت الأشاعرة الاستتباع بهذا المعنى فقد رجعت عن الإقرار بالكمال والنقص وعطلت معناهما خلصنا من محارات تحقيق مذهبهم فإنا تارة ننظر إلى هذا المعني فنحكم عليه بالوفاق، وأخرى إلى تصريحهم بنفي الحكمة بأبلغ ما يمكنهم من العبارة فيتبين بالحقيقة الشقاق، هكذا يذكر جماعة من الفريقين كالعضد وابن تاج الشريعة كما يأتي وغيرهما , وفيه عندي وقفة فإنهم إنما يثبتون الوصفين فيما هو من قبيل الغرائز كالعلم والجهل وكالصدق والكذب؛ أي: كونه شأنه الصدق وشأنه الكذب. وأما في مثل: صدق وكذب، وحصل الصدق وحصل الكذب وحصل العلم وحصل الجهل المركب مثلاً فيحتاج كونهم يقولون ذلك إلى نقل صحيح عنهم والمتتبع من كلامهم خلافه فيسلمون من المناقضة ويقرون على الخلاف وإنما التبس على الناظر ما كان بمعنى الثبوت وما كان بمعنى الحدوث فصادف بمعنى ذي صدق كمال عندهم لا بمعنى حصل الصدق وأوجده. وكيف وقد أنكروا هذا المعنى الأخير في مطلق الفعل وقالوا: معنى آكل أنه ذو الأكل لا أنه فعل كما يأتي تحقيق ذلك وهذا تحقيق بليغ قد فات العضد وأضرابه من الفريقين والحمد لله على العثورعلى الحقيقة. واعلم أن هذا محل النزاع بتمامه، ثم النزاع هل أدرك العقل شيئًا من تلك الأمور الثابتة في نفس الأمر؟ ثم هل هذه الحقيقة بعينها مما أدركه؟ نزاع آخر [1] لا ينافي الكلام في النزاع الأول خلافًا ولا وفاقًا، أما إنه لا ينافيه مع فرض الوفاق هناك فظاهر، وأما مع فرض استقرار الخلاف؛ فلأن المخالف هناك قد يتنزل ههنا. فتيقظ لهذا تسلم من الزلل إن شاء الله تعالى. وقد تضمن تصحيح التحسين والتقبيح أن البارئ تعالى مبين للحكم فقط إما بالفعل أو بالسمع وليس الحكم في ثبوته واقفًا على اختيار مختار، بل هي كسائر الماهيات المجردة، والعجب ممن أقر بهذا ثم شغفه مدح الأسلاف، وإيثار الخلق على الحق ففرع فروعًا تنادي عليه بعدم الإنصاف، ولقد أغرب في ذلك ابن تاج الشريعة، ولم يتمسك من الإنصاف بأدنى ذريعة، فإنه نصر التحسين والتقبيح نصرًا مؤزرًا، وسجل على المخالف فعل من استمسك بأوثق العرى، ومن نظره المحقق الموفق، وكلامه المنمنم المنمق، على أثر البحث (قوله) على أن الأشعري يسلم الحسن والقبح عقلاً بمعنى الكمال والنقصان. ولا شك أن كل كمال محمود وكل نقص مذموم، وأن أصحاب الكمالات محمودون لكمالاتهم وأصحاب النقائص مذمومون بنقائصهم وإنكاره الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم الموصوف بهما في غاية التناقض، وأن إنكارهما بمعنى أنه لا يوجد في العقل شيء يثاب الفاعل أو يعاقب لأجله، (فنقول) : إن عنى أنه لا يجب على الله الإثابة أو العقاب لأجله فنحن نساعده على هذا، وإن عنى أنه لا يكون في معرض ذلك فهذا بعيد عن الحق؛ وذلك لأن الثواب والعقاب آجلاً وإن كان لا يستقل العقل بمعرفة كيفيتهما لكن كل من علم أن الله عالم بالكليات والجزئيات فاعل بالاختيار قادر على كل شيء، وعلم أنه غريق نعمة الله في كل لمحة ولحظة ثم مع ذلك كله ينسب من الصفات والأفعال ما يعتقد أنه في غاية القبح والشناعة إلى الله تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا فلم ير بعقله أنه يستحق بذلك مذمة، ولم يتيقن أنه في معرض سخط عظيم وعذاب أليم فقد سجل على غباوته ولجاجه، وبرهن على سخافة عقله واعوجاجه، واستخف بفكره ورائه، حيث لم يعلم بالشر الذي في ورائه، عصمنا الله تعالى عن الغباوة والغواية، واهدنا هداية المعداية) , انتهى بحروفه. ثم أخذ في الخبط فقال: لما أثبتنا الحسن والقبح العقليين وفي هذا القدر لا خلاف بيننا وبين المعتزلة أردنا أن نذكر بعد ذلك الخلاف بيننا وبينهم وذلك في أمرين: (أحدهما) أن العقل عندهم حاكم مطلق بالحسن والقبح على الله تعالى وعلى العباد، أما على الله تعالى فإن الأصلح واجب على الله تعالى بالعقل فيكون تركه حرامًا على الله تعالى به فالحكم بالوجوب والحرمة يكون حكمًا بالحسن والقبح ضرورة، وأما على العباد؛ فلأن العقل عندهم يوجب الأفعال عليهم ويبيحها ويحرمها من غير أن يحكم الله تعالى بشيء , وعندنا الحاكم بالقبح والحسن هو الله تعالى وهو متعال أن يحكم عليه غيره، وعن أن يجب عليه شيء وهو خالق أفعال العباد على ما مر جاعل بعضها حسنًا وبعضها قبيحًا، وله في كل قضية كلية أو جزئية حكم معين وقضاء مبين، وإحاطة بظواهرها وبواطنها، وقد وضع فيها ما وضع من خير أو شر وهو نفع أو ضر، ومن حسن أو قبح. (وثانيهما) أن العقل عندهم موجب للعلم بالحسن والقبح بطريق التوليد بأن يولد العقل العلم بالنتيجة عقيب النظر الصحيح وعندنا العقل آلة لمعرفة بعض من ذلك أو كثير مما حكم الله تعالى بحسنه أو قبحه، لم يطلع العقل على شيء منه بل معرفته موقوفة على تبليغ الرسل، لكن البعض منه قد أوقف الله عليه العقل على أنه غير مولد للعلم بل أجرى عادته أنه خلق بعضه من غير كسب وبعضه بعد الكسب؛ أي: ترتيب العقل المقدمات المعلومة ترتيبًا صحيحًا على ما مر أنه ليس لنا قدرة إيجاد الموجودات. وترتيب الموجودات ليس بإيجاد، انتهى. ولنتبعه شيئًا فشيئًا حتى يتبين غلطه ولغطه في مذهب المعتزلة ومذهبه. والتصدي لقول فرد إبطالاً وتصحيحًا لا ينبغي، إلا أن هذه المذاهب قد استقرت والرجل يتكلم فيها على أهل ذلك المذهب جميعًا فيكون تخصيص كلام معين أقرب إلى الإنصاف، وإيضاح الاهتداء من الاعتساف، فإذا انضم إلى ذلك كون الرجل من مشاهير ذلك المذهب، ثم كون ذلك الكلام في كتاب متداول معروف بالكمال متلقًّى بالقبول من الفحول كهذا الكتاب الذي ذكر هذا الكلام فيه وهو (التنقيح) وشرحه (التوضيح) كلاهما له كان أفضى إلى مطلوب طالب الحق فنقول: (قوله) : أحدهما أن العقل حاكم

ذكرى للسوريين عامة وأهل بيروت خاصة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذكرى للسوريين عامة وأهل بيروت خاصة [*] البلاد السورية من أرقى البلاد العثمانية استعدادًا في العلم والعمران، وإن بيروت أرقى هذه البلاد بل هي من أثمن الدرر في تاج آل عثمان. قد زادت قيمة بيروت في نفوسنا بعد الدستور أضعافًا مضاعفة، وصرنا نباهي بها ونفاخر بعد أن كنا نشكو من تلك المَعَرّة الفاضحة: معرة العصبية الجاهلية باسم الدين التي كانت حجابًا دون محاسنها الكثيرة، ومزاياها الجمة، فقد كانت تتلفع بذلك الثوب المنكر وتتدجج بسلاح البغي والعدوان، فكلما سمعت هيعة جردت سلاحها هذا، وقالت به هكذا وهكذا، تتوهم أنها تجاهد في سبيل الله، وتفتك بعدو لها ولله، وإنما كانت تجاهد في غير عدو، بل كانت تحارب نفسها وهي لا تدري، فيطعن بعض أبنائها صدور الأبناء الآخرين وهو لا يرى ولا يبصر، حتى إذا ما لاح صبح الدستور ألقى الإخوة السلاح من أيديهم وطفق بعضهم يعانق الآخر ويقبله وهو يبكي على ما فرط في ذلك الليل البهيم، ويبسم لما يرجو في هذا النهار المنير. كان بعض عقلائنا يقولون: إن علة تلك الأحقاد والإحن هي الحكومة الاستبدادية التي لا تجد حفاظًا لسلطتها إلا التفريق بين رعيتها، ولا سيما أهل الذكاء والعلم منهم. وكان بعضهم يقول: إن علة ذلك التدابر والتباغض هي دسائس أصحاب المطامع من الأوربيين. وهناك فريق ثالث يجمع بين القولين، ويثبت كلتا العلتين، ولا خير لبيروت ولا لما يجاورها من البلاد في فوز هاتين السياستين، وإنما خيرها في اتحاد أبنائها على ترقيتها وعمرانها ورفعة شأنها، وكل من السياستين عقبة كؤود في طريق سعادتها هذه. فرحنا بعد إعلان الدستور من خلع بيروت ذلك الثوب الذي كانت تتلفع به أحيانًا في تلك الظلمات ونبذ ذلك السلاح الخاطئ الذي كانت تحزبه مفاصل أعضائها فتبيين بعضها من بعض، وأشبعناها ثناء وتقريظًا، وأرويناها حمدًا وشكرًا، راجين أن يكون الشكر مدعاة المزيد، وذلك أثر الشكر الطبيعي في نفوس أهل النجدة وعلو الهمة كأهل بيروت. تلك المحمدة التي عكس لنا البريد صوتها وأرانا البرق نورها ونحن في مصر قد هاجت شوقنا لرؤية بلادنا ترفل في حللها الزاهية، في نور شمس الدستور الضاحية، بعد أن تركناها منذ سنين دخلت في جمع الكثرة وهي تتعثر في ذلك الثوب الخلق، في ذلك الطريق الذي في مثله يقول الراجز: وقاتم الأعماق خاوي المخترق ... مشتبه الأعلام لمَّاع الخفق تسير على غير الهدى، إلى حيث تقع في مهاوي الردى، في تلك الحنادس، بما يخفق من بروق الوساوس، التي تغريها بإعانة المستبد فيها على استمرار استعبادها، أو تمكين الطامع فيها من ازدرادها (لا سمح الله) . زرت بيروت وغيرها من البلاد التي أعدها كلها وطني الخاص فكنت على تفضيلي بيروت على سائر أخواتها من المدن بنات سورية أرى أن الوفاق السلبي وحده لا يثمر ما نحب من عمران البلاد وارتقائها. وأعني بالوفاق السلبي ترك ما كان من التنازع والتخاصم، والتشاتم والتلاحم، وإنما تعمر البلاد وتسعد بالوفاق الإيجابي، وهو إنما يكون بالاختلاط وكثرة التزاور والاشتراك في الأعمال المالية، والجمعيات العلمية والأدبية. بذلت لهم نصحي وهم قومي الذين أفخر بهم إذا صلحوا وأصلحوا، وتصيبني معرتهم إذا أساؤوا وأفسدوا، راجيًا أن يكون ذلك الوفاق الإيجابي بالتدريج وأنا لا أزال مع سائر العقلاء من إخوانهم البعيدين عنهم في مصر والآستانة وأمريكا وأوربا ننتظر أن يكونوا هم السابقين إلى رفع قواعد بيت الاتحاد على أساس الدستور ليكونوا في مقدمة زعماء الارتقاء في تلك الديار في هذا الطور الجديد، ولتكون مدينتهم ينبوع مدنية تلك الأوطان في ظل الدولة العلية أيدها الله تعالى. بينا نحن على ذلك الانتظار إذا بجرائد بيروت نفسها تعيد على أسماعنا في هذه الأيام شيئًا من حوداث ليالي الاستبداد الحالكة: بعضها صريح، وبعضها جمجمة وتلويح، وقد جاء العاصمة أناس منها فإذا هم يتشاءمون ويتطيرون ويرون أن بعض علل التفرق السابق أو كلها قد عادت جذعة أو كادت.. . فالله الله يا بيروت في نفسك، وفي أبناء جنسك، فإن أعداء قومك وأعداء دولتك يتربصون بك الدوائر ويكيدون لك المكايد. اسمعي يا بيروت وعي فإذا سمعت سمعت سورية كلها وإذا وعيت وعت، وإذا لم تلقي السمع، ولم تفرقي بين الضر والنفع، فعليك إثمك وإثم سورية كلها. إنك ترين في بعض صحف المفسدين الذين يلبسون لك ثياب الناصحين كلامًا في التفرقة بين المسلمين والنصارى فإياك أن تغتري بهم، أو تنخدعي لهم، نعم إن الكريم ينخدع ولكن في الخير، ولا عذر له في الانخداع لدعاة الشر، إنهم يقولون: لا حق للمسيحي من السوريين أن يتكلم في شؤون المسلمين. ونحن مسلمي السوريين وعلمائهم وكتابهم نقول: إن لهم أن يتكلموا في شؤوننا كلما رأوا الفائدة للبلاد في كلامهم معنا فيها، ولا نسيء الظن فيهم؛ لأن المصلحة مشتركة بيننا وبينهم. إنني لا أسيء الظن بكم أيها الإخوة الأذكياء الفضلاء، ولا ببلدكم وإن لم تخل كغيرها من الجهلاء وإنما المحب مولع بسوء الظن في كل أمر يتعلق بمحبوبه، فهذا ما يدعوني إلى هذا التنبيه. إن رجائي في عقلاء الطائفتين وفضلائهم لعظيم، وإن مما زاد هذا الرجاء قوة ورسوخًا تأسيسهم لنقابة الصحافة في بيروت، وعسى أن يشترك معهم جميع أصحاب الصحف اللبنانية. والمنتظر من هؤلاء الكتاب النبهاء - وقد اجتمعت كلمتهم - أن يجمعوا كلمة قومهم على الوفاق ويجتثوا شجرة الخلاف الخبيثة من أصولها، ويردوا بالإجماع على كل من ينبز بلدهم بلقب التعصب الذميم وإن كان من آبائهم أو إخوانهم المهاجرين أو المقيمين، فإنني أرى بعض جرائدنا في أمريكا لا تزال تركب متن هذا الخطأ: خطأ الاتهام بالتعصب الديني وهو هو الذي يثير كوامنه، ويحرك سواكنه، ويقوي ضعيفه، ويحيي ميته، فما لهم لا يذكرون. اذكروا أيها الأذكياء الألباء ما يجمع، وتناسوا ما يفرق، إلى أن تنسوه ببركة التعاون والإخلاص، اذكروا أن لكم جامعة كبيرة وهي اللسان، وجامعة أخرى وهي الديار، وكل منهما جامعة شريفة لها ذكر مجيد في التأريخ، وجامعة أخرى وهي العثمانية التي تصل حبلكم بحبل كثير من إخوانكم الشرقيين، وما أعز من يكثر إخوانه ويتعدد أعوانه (وإنما العزة للكاثر) . ومن أكبر خطأ بعض الجرائد في المهاجر التنفير من هذه الحكومة التي يرجى لكم في ظلها ما لا يرجى لغيركم إن أنتم أتفقتم على تعزيزها بترقية بلادكم وجمع كلمتكم، ولا حجة لتك الجرائد إلا سوء سيرة رجال الدولة في أدوار الاستبداد البائدة وقياس الآتي على الماضي، وهل يقاس الضد على ضده؟! كلا إن السوريين لم يذوقوا من بأس الاستبداد ما ذاق الأرمن ونرى هؤلاء يسارعون اليوم إلى اقتطاف ثمار الدستور ويشاركون في الواجبات ليشاركوا في الحقوق. نراهم يعلمون ولدانهم في المدارس النظام العسكري كل يوم ترغيبًا لهم في هذه الخدمة الجلية، وما نصارى السوريين دون الأرمن ذكاءً وعلمًا بل هم في هذا العنصر العربي ركن عظيم، تبًّا لمنكريه بأقوالهم، ومحاولي تقويضه بإفسادهم، فتذكروا وتدبروا، ولا تنازعوا ولا تدابروا، واتحدوا وتعاونوا على ترقية البلاد بالعلم والثروة؛ لتكونوا كما يؤهلكم استعدادكم الركن الأعز الأكرم في هذه الدولة، وما ذلك على الله بعزيز، وهو إذا شاء يهبكم اجتماع الكلمة وكفى.

الفطرة وأسباب الترقي في الكون

الكاتب: حسين سليمان

_ الفطرة وأسباب الترقي في الكون حسين سليمان كان الله ولا شيء معه إلهًا في ذاته منزهًا بألوهيته، فليس بكم ولا كيف محتجبًا في أزله منزهًا عن التحديد فليس بالجسم التعليمي الذي تحده الأبعاد، ولا بالشيء المفروض الموهوم الذي تكيفه الأفكار تخيلاً وافتراضًا، وإنما هوالكائن في ذاته لا تحيط به العقول ولا تصل إليه الحواس، وكيف والحواس لا تدرك إلا أعراضًا لا تلبث أن تزول، سبحانه لا يعلم شأنه إلا هو. كان الله ولا شيء معه فلا سماء ولا أرض، ولا طول ولا عرض، كان مصدر الخير ومفاض النعمة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (كنت كنزًا مخفيًّا لا أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني) أراد الله أن يُعرف بنفسه ويمتاز بألوهيته التي يظهر فيها مظهر الكمال المطلق من قدرة غالبة وإرادة حكيمة وعلم واسع فأبدع من الخلق ما شاء وكون مملكة متأثرة بتلكم الصفات الثلاث: فالإرادة رتبتها، والقدرة أبرزتها، والعلم حفظها من عبث الجهل الذي هو سبب الفساد في كل شيء. نعم فطر الله الكون على قواعد ونواميس كلية وأقام عليه هذا العالم الأكبر: عالم الحياة الحادثة والحركة المتجددة، فأوجد مقوماتها قوًى وكتلاً مختلفة التركيب والعناصر، وقد أثبت العلم أن خلقه البارئ سبحانه وتعالى ينقسم إلى قسمين: مادة ونفس، فالمادة عبارة عن الأجسام، والجسم عبارة عن كل كتلة أشغلت فراغًا سواء أمكن النظر إليها أم لا كالهواء والماء فإنهما لا لون لهما فلا تدركهما الأبصار. والنفس عبارة عن معانٍ مجردة لا تشغل فراغًا ولا تتزاحم مع غيرها من أنواعها، ولا يزاحمها أيضًا غيرها، والدليل على ذلك قريب وهو أنه يوجد في الإنسان طريقان: طريق خاص بالأشياء الجسمانية هو الفم يوصل الغذاء إلى قاعة جسمانية أيضًا هي المعدة بحيث لا يمكن أن يشغل فراغها شاغل لا يصح أن لا يقف عند حد محدود في كميته، وذلك كالغذاء النازل فيها فمتى امتلأت دفعت، وطريق نفساني مورده الحس المشترك، وقاعه الحافظة تقبل من المعلومات ما لا يتناهى لا تضيق بعلم دون آخر بل هي قابلة لأن تتناول كل المعلومات التي تصل إليها مهما بلغ مبلغ كميتها. وقد قيل في النفس آراء كثيرة لا حاجة بها هنا، ومن المادة والنفس كان التكوين، فكانت هذه المجموعة وأودعت السلطة أرقى نفس فيها أفيض عليها من لدن البارئ جل وعلا صفة العلم فكان الإنسان بها خليفة وملكًا سخر له غيره من عالم المخلوقات. وانقسمت المادة باعتبار مميزاتها إلى ثلاثة أقسام: حيوان، ونبات، وجماد، وهي مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا يقتضي أن يكون وجود الثلاثة في آن واحد؛ إذ لا غنى للحيوان عن النبات ولا للنبات عن الحيوان، والكل تقلّه الأرض وتعطيه من خواصها ما يحتاج إليه، ويظهر من ذلك أن الكائنات كلها لم توجد دفعة واحدة كما هو رأي الفلاسفة، وإنما وجدت بترتيب حيث كانت العوالم العلوية الفياضة، ومنها سار التأثير في العالم السفلي ومن ذلك ربما يصدق قول بعض المنجمين الذين يرصدون الأفلاك فيستنتجون من أشكالها حوادث جوية ووقائع أرضية [1] . قد يظن إنسان أن النبات ليس محتاجًا إلى الحيوان، كلا فإن النبات محتاج في حياته إلى الحيوان؛ فإنه يتنفس كالحيوان وبينهما في هذه الصفة ارتباط شديد فالحيوان ينقي الهواء للنبات والنبات ينقي الهواء للحيوان. وإليك الغابة دليل وهي المكان الطبيعي الذي لا يخلو من وجودهما فهما يتبادلان منفعتهما، والغرض من هذا الارتباط العظيم بقاء ذلك الكون إلى أجله المحدود تتوارد عليه عوامل الترقي كلما كشف العلم عن أسراره، وأبان البحث والتنقيب خفاياه {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) . أيها السادة: الترقي في الكون لا يقتضي تغييرًا ولا تبديلاً في نواميسه {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (الروم: 30) وإلا لانقلبت الحقائق، وذلك ضرب من المحال وإنما ترقي الكون عبارة عن تحسين مادة اجتماع العناصر التي تتآلف منها كتناسب الأوضاع وتوفيق الألوان واتحاد المشارب، واقتراب ما تنافر منها بالمعالجة بالعلم والتربية، انظروا إلى الإنسان الأول واحتياجاته فكم علم حتى عمل حتى وصل إلى ما هو عليه الآن من المدنية الباهرة، والذي يكفل ذلك إنما هو العلم الصحيح، هذا مبدأ صحيح وقاعدة يجب الاعتماد عليها وإلا ساءت الحال وقبح المآل، فإذًا يجب على المتعاونين والمتعاقدين قبل دخولهما في التعاون والعقد الاتحاد والائتلاف، وما أحرى الزوجين أن يكونا كذلك، فهما إن لم يأتلفا كانا مدرسة شقاء لأبنائهما ومهيع فساد لذريتهما، فتعارف الرجل وامرأته قبل الاقتران بها أمر ضروري طبيعي حتى يتم ذلك التقسيم الشرعي في قوله تعالى: {الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} (النور: 26) فالخبيث يرى الخبث فضيلة في غيره، والطيب لا يرى فضيلة في غير الطيب، وإلا وجب حل العقدة وفك الشركة، وقد جاء في الحكم عن العرب (إن لم يكن وفاق ففراق) فمهما تغيرت تلك المبادئ الطبيعية أو تنكرت فعلى ممر الزمان يضطر إلى الرجوع إليها. هذا ما حدا بالأوربيين الآن إلى أن يحلوا عقدة الزواج بمجرد اختيار أحد الزوجين وقد بلغ التنافر بعضهم إلى حد مدهش هو ما روته بعض الصحف من طلاق امرأة زوجها لكون لون شعره لم يأتلف بصبغ أثاث منزلها الذي أنفقت فيه مبلغًا طائلاً! وما أظلم تلك المرأة التي لم تر بيع أثاثها أولى من بيع بعلها! بل ما أظلم الشريعة أو القانون الذي يقرها على صنعها، فعقدة الزواج عندنا يا حضرات الإخوان عقدة ذنب عقدت مصالح أسرية كثيرة يجب أن نضعها دائمًا على خارتة البحث والتفكير. والترقي في الكون له أسباب كثيرة، وأول أساس فيه المال وما ورد في شريعتنا الغراء من مقال الزهد في المال والتحذير من فتنة الدنيا، فإنما الغرض منه البعد عن أكبر رذيلة تلصق بالإنسانية ألا وهي الحرص الذي هو عبارة عن حب المال لذاته، وهذا أقبح ما يكون في الإنسان. ومن الترقي في الكون الاقتصاد في المادة للمحافظة على قوتها النامية؛ لأن الاقتصاد هو التوسط، فإذا أضعف الأرض نبات ضروري كالقطن مثلاً وجب أن يستنبت فيها عامًا بعد عام حفظًا لحياة الأرض ويمكننا أن نقيس على هذا المثال الكبير غيره حتى نصل إلى أقل الخلائق. النملة تدخر قوت شتائها من صيفها فمخالفة هذه القاعدة عصيان للترقي وجفاء للتقدم، والفلاح الذي يزرع الأرض قطنًا عامين متواليين طمعًا في سعة الرزق جاهل غبي يختار كثيرًا ينقطع عنه على قليل يدوم عليه، وقد قالت العقلاء: (قليل تدوم عليه خير من كثير تنقطع عنه) . ومن الترقي في الكون المدنية العلمية وذلك بإيجاد الصناعات والصعود بها إلى مدارج الترقي حتى تصل إلى تسخير الجماد ليأخذ عن الحيوان ما يجهده كاستخدام البخار والكهرباء لإراحة الحيوان واتجاه قوى الإنسان الجسمانية إلى مساعدة القوى العقلية، وهذا سبب صحيح لترقي العمل والصناعة، فإن الصانع المفكر لا يشك في أنه يأتي بصناعة متقنة لا يوفق لها الصانع المسخر وشتان بين من يعمل بواسطة عقله ومن يعمل بما اعتادت عليه يداه، إني لا أغلو في هذه المكان إذا قلت: إن في خبايا الكون إلى الآن أسرار تستخرجها العقول على مدى الأيام، وقد أثبت العلم أن عقول أهل الطينة الحارة أذكى من عقول أهل الباردة. فأحتسب على الشرق إن استعمل عقله أن يأتي بما لم تستطعه الأوائل. ومن الترقي في الكون العمران، والإنسان وإن كان مكلفًا بهذه الوظيفة السامية إلا أنه من العجيب أنه إذا اتسع به الفضاء أدركته الوحشة ومال إلى الأنس فانضم إلى غيره من بني جنسه ليعاونه أولاً على مصالحه، وليأتنس به ثانيًا فإذا ضاق به المكان كره الزحام ومال إلى الأثرة وحب النفس وتنازع البقاء مع أقرب الناس إليه، وود لو كان هو كل الإنسان فما أعجب هذا الإنسان، نعم يوجد في المزاحمة كبير فائدة من حيث العمران، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرزق عند تزاحم الأقدام) إلا إنه يلزم أن يكون الناس على نظام يكفل لكل حقه فيقف الأجشع عند حده، ويساق العالة إلى العمل متى قدر عليه، وذلك بحرمانه من الصدقة والإعانة. وقد ورد عن أبي مسلم الخراساني زعيم الدعوة العباسية أنه مما أوصى به أولاده عند قرب منيته: أن لا يعينوا كلاَّ ولا يعطوا عالة فيكون في جسم الأمة أعضاء تألف الكسل في العمل وحتى لا يوجد دجال ولا ذو عرافة وشحاذ قادر على العمل. هذا القانون هو النظام الذي يسنه الله لعباده إما بطريق الوحي وإما بإلهام حكماء الأمة وعقلائهم وضعه لذلك، تجد عالم الوثنية قائمًا في بعض الجهات على قواعد وقوانين وضعها الرؤساء لا تخرج عن النظام والترتيب في المعيشة بل قد تكون أشد في التكليف من الأوضاع الإلهية وقد أكد لي خبير أن اليابان على ما هم عليه من الوثنية على كعب عالٍ في الأخلاق، ويؤيد ذلك بزوغ شمس الحكمة من الهند من قديم الزمان؛ أي: قبل أن يصل إليهم الإسلام وعلى أثر ذلك نقول: إن فطرة كل مخلوق هي قيامه بالعمل لنفسه أولاً، ولما خلق لأجله ثانيًا فالمعادن متى أخذت قسطها من خواص الأرض وظلت نافعة كان ذلك لفائدة غيرها، وكذلك النبات. ترى النخلة تبحث بجذورها على الماء فقد تدركه على بعد مائة ذراع أو أكثر وذلك بجهد لو قام به حيوان لأَنَّ أنين التعب الكادح. وكثيرًا ما شوهدت جذور النخلة تساقط من بين جدران الآبار إلى الماء وبينها وبين تلك الآبار مسافة واسعة، كل ذلك الغرض منه حفظ حياتها لتؤدي وظيفتها التي خلفت لأجلها، ألا وهي تقديم الرطب الجني لبني الإنسان. وكذلك الحيوان يعمل أولاً لقوام حياته ومنه ما يبذل تلك الحياة الثمينة التي تعب في نموها ويتقدم بها إلى غيره ضحية لينتفع بها ذلك الغير كدودة القز المعلومة التي تظل تعمل لتقدم لنا مادة من أنفس المواد لطافة وأغلاها قيمة؛ ألا وهي الحرير، ومنه ما يتفضل علينا بما يخرجه من بطنه شرابًا مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس كما أخبر بذلك خالق النحل وموفقها إلى هذا العمل الكبير الذي لا يطابق بنيتها حيث قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 68-69) . أيها السادة ما الذي ترونه في هذا الترتيب؟ هل في هذا الترتيب خرق؟ حاشا. هل في هذه الفطرة ظلم وشر؟ كلا، فمن أين يجيء الشر ومتى يكون المخلوق شريرا؟ انظروا إلى الترتيب الآتي أيضًا: تتكون المعادن من مادة الأرض فتنقصها، وكذلك النبات والحيوان ثم تعود تلك الأشياء إليها ولو باستحالة الصورة فتسد موضع النقص منها، وهذا سر البقاء للكون، فإذا أراد الله إذهابه اختلفت هذه النسب فيحصل الفساد، ذلك ما جنح له كبار علماء التفسير في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ

أسماء عربية لمسميات إفرنجية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسماء عربية لمسميات إفرنجية عني أعضاء نادي دار العلوم بمصر بالتنقيب عن أسماء عربية لبعض المسميات الإفرنجية وما لم يجدوا له أسماء عربية وضعوا له اسمًا جديدًا أو عربوه. والاشتقاق والتعريب ليسا جديدين في اللغة بل هما جائزان وواجب أن يصار إليهما عند الحاجة. ونحن ننقل للقراء ما وقع عليه الاختيار في الاجتماع الأول لأعضاء النادي، وسنثبت كل ما يختارونه على أن كثيرًا من هذه الكلمات قد استعملت من قبل وأقر الأعضاء على استعمالها إقرارًا وهذا هي الكلمات: استمارة: يرى أعضاء النادي استعمال (استئمارة) ، وقد وجدت هذه الكلمة في الكتب القديمة بلفظ استيمار بالتسهيل، وحذف التاء، ولكنهم رأوا إثبات التاء لالتزامها في الاستعمال الحاضر وعدم المانع منه والكلمة مرة من استأمر؛ أي: أخذ أمره. أنفيتياترو: ترجمت بلفظة (مُدرَّج) منذ زمان وقد كاد اختيار الأعضاء يجمع عليها. بلوك نوت: تعريبها (إضمامة) ومعناها الأوراق منضمة. بُويه: نظرت اللجنة فيما يستعمل التلوين فوجدته على نوعين: نوع يتخلل أجزاء الأجسام فاختارت له كلمة (صبغ) كصبغ الثياب والورق وما أشبه، ونوع يعلو السطوح فاختارت له كلمة (طِلاء) كطلاء المباني والأواني وغير ذلك. تخته بوش: وهو ما يسميه الإفرنج veranda وتعريبه (نجيرة) فقد جاء في لسان العرب أن النجيرة سقيفة من خشب ليس فيها قصب ولا غيره. ترابيزه أو طاولة: رأت اللجنة من هذا المسمى أنواعًا: فمنها ما هو للأكل وهذا (خِوان) ويسمى حين وضع الأكل عليه (مائدة) ، ومنها ما توضع عليه الأشياء المختلفة وهذه (منضدة) مشتقة من النضد وهو جعل المتاع بعضه فوق بعض ويخصصه بعض اللغويين بحر المتاع وخياره، ومنها ما هو للكتابة خاصة وهذا يطلق عليه كلمة (مكتب) المستعملة. ترسينة: إن ما يخرج عن البناء منه ما هو مغطى وهذا يسمى (كُنّة) ومنه ما هو مكشوف وهذا (طَنَف) والكلمتان في العربية موضوعتان لما يخرج من الأجنحة في الدار، على أن هناك لفظة تؤدي المعنى وهي (شرفة) وقد كثر استعمالها، وقد ورد في الأغاني بهذا المعنى كلمة (مستشرف) . جول: اختارت لها اللجنة لفظة (مرمى) على أن كلمة (محج) الشائعة في سورية تؤدي نفس المعنى. خارطة: وصحيحها (خريطة) . دوسيه: تعريبها (ملف) . شماعة أو تعليقة: وجدت اللجنة لما تعلق عليه الملابس نوعين: أولهما ذو عمود متوسط وشعبات بارزة فاختارت له كلمة (غِدان) وهو في اللغة (قضيب تعلق عليه الثياب) والثاني يثبت في الحائط فاختارت له لفظة شجاب. طابور: الكلمة عربية حُرفت وصحيحها تابور. كارت فيزيت: سبق اختيار (بطاقة الزيارة) ولا مانع من الاستغناء عن المضاف إليه فيقال: (بطاقة) كما يقول الإفرنج: (كارت) . وقد رأت اللجنة أيضا استبدال (سينماتوغراف) بكلمة (خيالة) [1] وهي كل ما تراءى لك من الصور. (وفونغراف) بـ (الحاكي) وميموغراف (بمطبعة النضح) و (تيب ريتر) بمطبعة الأزرار؛ لأنها اتخذت قاعة عامة في تسمية المطابع وهي أن تستعمل كملة مركبة من مطبعة مضافة إلى أكبر مميز لتك المطبعة. على أن كلمة (الآلة الكاتبة) أو (الكاتبة) فقط أقرب من مطبعة الأزرار.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (تقرير السر ألدن غورست سنة 1909) أصدرت إدارة جريدة المقطم هذا التقرير منذ أكثر من شهر مترجمًا بالعربية حسب عادتها وقد أهدت إلينا نسخة منه ضاق المنار الخامس عن الكتابة عنها، وهذا التقرير حافل بالتفصيلات عن إدارة القطر المصري وروح الأعمال فيه، وقد سرنا من هذا التقرير الفصل المعقود عن حال المعارف في القطر المصري ونماء حركة التعليم ووفرة عدد الطلاب وكثرة الكتاتيب والعناية بتعليم العلوم باللغة العربية بالتدريج مما يدل على أن هذا القطر السعيد ستكون بحار العلم فيه زاخرة وثماره يانعة إن شاء الله تعالى. تَقَدُّمُ العلم في هذه البلاد نَامٍ سريع، ولا نريد بتقدم العلم توفيق قومنا للاختراعات المفيدة والاكتشافات الجيدة، وإنما نريد كثرة سواد طلاب العلم والراغبين فيه، فإننا لسوء الحظ لا نزال بعداء عن الوصول إلى هذه الغاية على أننا سائرون في الطريق وعلى الله قصد السبيل، وإنه ليحزننا أن تكون التربية في ارتكاس وانتكاس وتَدَلٍّ وانحطاط، وليس العلم بملبغ إيانا أملاً إذا لم نتربَّ تربية صحيح تغرس في نفوسنا عشق الفضيلة وحب الخير لكل البشر وغير ذلك من الشيم التي تنطوي تحت هاتين الكلمتين الكبيرتين، وإنه ليؤلمنا أن تكون مدارس الحكومة والمدارس الأهلية شرعا في إهمال أمر التربية وعدم العناية بشأنها اللهم إلا مدارس الأجانب التي تخلق تلاميذها بأخلاق يخرجون بها من قوميتهم ونحلهم فيكون الخسار بذلك عليهم وعلينا. ولا حول ولا قوة إلا بالله. فتن قومنا بالسياسة فصرفتهم أكاذيبها عن العمل النافع لهذه الأمة التعسة وصدفت بهم عن الطريق المعبد والسبيل اللاحب، فتاهوا في بيداء طامسة الصوى والأعلام، وأوغلوا في تأويل الرؤى والأحلام، وخدعوا الناس بزهوالقول وزخرف الوعود دون الحث على القيام بالأعمال الجسام، اللهم عونًا وغفرًا، هل جنى من قبلنا من السياسة ما كان يطمحون إليه حتى تكون لنا أسوة حسنة بهم فَنَجِدّ في السير على آثارهم ونقتفي سيرتهم فتكون متابعتنا لهم حذوالقذة بالقذة؟! اللهم لا. فنهضة أيها القوم وأوفضوا سراعًا وانسلوا من كل حدب إلى مهيع العلم الصحيح والتربية الصالحة، ولا يتم ذلك إلا بنشر التعليم الأهلي، وإن أهل الثراء وعاضدي العلم كثيرون بحمد الله في هذه البلاد، ولا نرى أنهم يرتضون لأنفسهم أن يكونوا دون جمعية الغسالات في فرنسا التي أنشأت مدارس كثيرة، أو دون تلك الفتاة الأمريكية التي أسست إحدى عشرة مدرسة كلية. ولعلنا ننشر الفصل الذي في التقرير عن المعارف في المنار السابع. *** (مبادئ الفلسفة القديمة) مجموعة فيها كتاب (ما ينبغي أن يقدم قبل تعليم فلسفة أرسطو) وكتاب (عيون السائل في المنطق ومبادئ الفلسفة) تأليف أبي نصر الفارابي الفيلسوف الإسلامي الشهير من أهل القرن الرابع عنيت بنشرها المكتبة السلفية لصاحبيها محب الدين أفندي الخطيب وعبد الفتاح أفندي القتلان، طبعت بمطبعة المؤيد بمصر سنة 1328 وعدد صفحاتها 35 وثمنها قرشان ونصف قرش، وتباع بمكتبة المنار وبالمكتبة السلفية بمصر. أهدت إلينا المكتبة السلفية هذا الأثر القديم لأحد فلاسفة الإسلام الأعلام مُصَدَّرًا بترجمة حفيلة للمؤلف فيها بيان أصله ومنبته وطلبه للعلم، وحكاياته مع معاصريه من العلماء والأمراء، وذكر ملخص تأريخ الفلسفة في زمانه ومنحاه في الفلسفة، وبيان مصنفاته، وغير ذلك من الأشياء التي تعرف بالمؤلف تعريفًا تامًّا ومما جاء فيها بعنوان (فلسفته) ؛ أي: فلسفة المؤلف ما نصه: (ولم يكن للفارابي فلسفة خاصة به، أومذهب فيها أُثِرَ عنه، وغاية ما يمكننا التوسل به للوصول إلى معرفة آرائه ومبادئه هو مصنفاته التي كان أكثرها في الرقاع والكراريس المبعثرة والفصول والتعاليق كما ذكرنا. ومن أهم ما صنفه كتاب في (إحصاء العلوم) والتعريف بأغراضها لم يسبق إليه، ولا ذهب أحد مذهبه فيه، وقد قسم الفارابي العلوم في هذا الكتاب المختصر إلى ستة أقسام: 1- علوم اللغة 2-علم المنطق وفيه الخطابة والجدل 3- الرياضيات وتشمل الهندسة والحساب ومبحث النور وفن النجوم والموسيقى وجر الأثقال والأحجام، ويدخل في علم النجوم مباحث الفلك والتكهن والأحلام وعلم الجو والهواء. 4-العلوم الطبيعية وهي عشرة. 5- العلوم المدنية وتشمل القضاء والخطابة. 6- علم الكلام وما وراء الطبيعية. وهذا التقسيم كثير أوجه الشبه بتقسيم العلوم الذي اصطلح عليه علماء أوربا في العصور الأخيرة، والفارابي كما ترى يقدم المنطق والرياضيات وأكثر العلوم الطبيعية المحضة فالعلوم الاجتماعية، ويلاحظ قراء كتب الفارابي أنه قد ألم بالتمييز بين الأصول والفروع وذلك ما أسس عليه خطته في تقسيم العلوم ثم هذبه هربرت سبنسر ونقحه. نقلنا هذه الفقرة؛ ليطلع عليها أهل الجمود الذين باتوا يحرمون ممارسة هذه العلوم والتوفر على دراستها؛ عسى أن يتزحزحوا عن مواقف جمودهم فيخرجوا من مأزق مناقشاتهم وتمحلاتهم النظرية إلى فضاء العلوم الصحيحة الدينية العلمية والدنيوية العملية، وإذا كان يعز عليهم احتذاء الأوربيين فلهم أسوة حسنة بأسلافهم العاملين. والكتاب مفيد في بابه بل لا نظير له فهو كفهرس جامع لتعريفات الفلسفة القديمة وشرح وجيز لأصولها وله فهرس حاوٍ لأسماء الأماكن والأعلام الواردة في الكتاب. وهذا من محسنات الكتاب، ومنها جودة الطبع والترتيب. فنحث الراغبين في تعرف الفلسفة القديمة على اقتنائه. *** (القطار السريع لعلم البديع) رسالة مختصرة في علم البديع ألفها حفني بك ناصف القاضي بالمحاكم الأهلية ومدرس علم الأدب بالجامعة المصرية تحقيقًا لرغبة بعض طلاب مدرسة الحقوق. وقد اختار المؤلف شرح بديعية تقي الدين لمكانتها من الشهرة ومنزلتها بين الأدباء؛ ولأن في أبياتها ذكر الأنواع البديعية، مثال ذلك قوله في مطلعها مشيرًا إلى حسن الابتداء وبراعة الاستهلال: لي في ابتدا مد حكم يا عرب ذي سلم ... براعة تستهل الدمع كالدِّيم وقد أعجبنا هذا الكتاب أكثر من كل كتب البديع التي رأيناها فهو مختصر مفيد (إن لم يحفظ على الغيب، فإنه يوضع في الجيب) كما قال مؤلفه، ويمكن للطالب أن يضرب بسهم في علم البديع إذا قرأ هذا الكتاب فهو يغنيه عن الأستاذ. أنا من كارهي علم البديع لا من محبيه ومع ذلك فإني أرى معرفته ضرورية لممارسي العلوم العربية؛ لأنه حلقة من سلسلتها فلا يحسن أن يبقى طالب هذه العلوم في محارة من فقدان هذه الحلقة ويصبح كمنتحلي مذهب دارون مضطربًا متلمسًا لحلقته المفقودة، على أن حفني بك قد أشرع السبيل للرُّغَّاب في علم البديع وأدناهم من هذه الحلقة، ولكن من أين للدارونيين بحفني بك آخر يدينهم من منتآهم الواسع. وقد نشر هذه الرسالة السيد حسين رافع وطبعها طبعًا متقنًا وجعل ثمنها قرشًا ونصف قرش. وتطلب من المكتبات المشهورة. *** (الاستمناء) ماذا يقول الملاحدة والكافرون بالله تقليدًا في أمراض الأفراد والأمم الأدبية، وما رأيهم في علاجها يا ترى؟ هل يستسهلون الزعم أن تبيين أضرار هذه الأمراض وسوء عاقبتها للمبتلين بها يأخذ بشكائم نفوسهم ويزجرهم عنها؟! إن كانوا يزعمون هذا - وهم زاعمون - فلا مُشَاحّة في أنهم مكابرون للحق مدابرون. لا ريب في أن الاستمناء من أفتك تلك الأمراض الأدبية في عقول الشبان وجسومهم، ولئن انتهى عن ممارسته منتهٍ بتبيين ضرره في جسمه وعقله فقد يزدجر بإزائه مائة ممن تأدبوا بآداب الدين وتخلقوا بأخلاقه فالدين وحده هو العلاج الشافي من هذه الأمراض الوبيلة، لا سيما وأن الشبان يؤتون من ناحية الوجدان لا من ناحية الإقناع والبرهان وهم المبتلون بهذه العلة التي تتأصل في كثيرين منهم تأصلاً ينتهي بموته أو جنونه، لذلك كان حقًّا على مؤلف هذا الكتاب (الاستمناء) الدكتور هـ. فورنيه، أو مترجمه بالعربية الدكتور مقصود أن يشير إلى نهي الدين عن الاستمناء وإيعاد مزاوليه بأشد العقوبات، والنصوص مستفيضة في الدين الإسلامي على تحريم الاستمناء وعده من الموبقات الكبائر، ولا يصح الاعتذار عن ذلك بأن الكتاب فني صحي؛ فإن الغرض منه الفائدة لا الدراسة. وفي الكتاب فوائد كثيرة أبلغها عظة ذكر مصير ممارسي الاستمناء، وما مصيرهم إلا الموت بالسل أو بعد الجنون المطبق وهم في زهرة الشباب ونضارة العمر، وقد انتقدنا في هذا الكتاب ذكر طرق الاستمناء الكثيرة التي يتعلم منها الشبان ما كانوا يجهلون، هذه غائلتها فما فائدتها؟! وهو يباع بعشرة قروش صحيحة في جميع المكتبات. *** (القضاء والنواب) كراسة صغيرة تقع في 18 صفحة بحجم المنار لمؤلفها شكري أفندي العسلي الدمشقي (قائمقام) الناصرة. ألم فيها بتأريخ القضاء في الإسلام وأدواره وأقسامه بعد بحث ودرس. قال: (وقد أنشأت هذه المقالات بعد أن طالعت مقدمة ابن خلدون وحاشية ابن عابدين وتكملته والأشباه والنظائر والأحكام السلطانية وتاريخ الطبري وتاريخ الكامل لابن الأثير ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة والميزان للشعراني وسراج الملوك وغيرها) . وهي مفيدة في بابها فنشكر للمؤلف صنعه ونحمده على هديته. *** (معنى الحياة) كتاب لطيف الحجم والشكل يقع في 150 صفحة بالقطع الصغير تأليف اللورد أفبري من أعضاء مجلس الأعيان الإنكليز وقد عني بترجمته بتصرف وديع أفندي البستاني، أودعه مؤلفه نصائح لنابتة قومه؛ ليكونوا باتباعها سعداء في الحياة الدنيا، ومن آكد تلك النصائح وأجلها تربية قوة الإرادة وصدق العزيمة والشجاعة والثبات وغير ذلك من كرائم الأخلاق وفضائل الشيم التي يستفيد ذووها ويفيدون، وقد أرشد إلى فوائد مراعاة الاقتصاد واحتجان الأموال وكون هذين هما أساس مجد الأمم، وقد أنكرنا على المتجر ترجمته لبعض الفصول بالشعر، وتمنينا لو كان أحكم إنشاءً وأصح عبارة، ويطلب من مكتبة المعارف بمصر وثمنه ثلاثة قروش صحيحة. *** (النصيحة الإحسانية) قصيدة طويلة للسيد عبد الله بن علوي بن عبد الله العطاس يحث فيها على ممارسة العلوم والأعمال العمرانية، وحبذا هذا الصنع من الأستاذ الناظم وعسى أن يكثر من هذا النصائح نظمًا ونثرًا. *** (الاتحاد الإسلامي) جريدة إنكليزية أصدرها في طوكيو عاصمة اليابان أحمد أفندي فضلي الضابط بالجيش المصري قبلاً ومحمد بركة الله أفندي الروسي. وقد أخذا على عاتقهما تفهيم اليابانيين حقائق الإسلام، فنعم العمل عملهما، وحبذا الصنع صنعهما. وقيمة اشتراكها شلنان في العام أوعشرة قروش صحيحة، وهي قيمة تافهة لا تكاد تفي بنفقات البريد فنحث القراء على الاشتراك فيها ومساعدتها بما في الإمكان. حسين وصفي رضا

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (جمعية العلم والإرشاد) قد عرف القراء موضوع هذه الجمعية العلمية الخيرية التي رحلنا إلى دار السلطنة لأجل السعي لتأسيسها فيها، وقد طال الأمد على منتظري خبر تأسيسها حتى يئس أشدهم غيرةً وحرصًا، وكتبوا إلينا ينصحون لنا بترك السعي لها في هذه العاصمة، ولو يئسنا كما يئسوا؛ لعدنا أدراجنا كما اقترحوا، ولكن اليأس مرض صار وبائيًّا في بلادنا، ونحمد الله تعالى أن نجانا منه فلم يجد إلى قلبنا سبيلاً. نعم إنني كدت أيأس من بعض من كنت أرجو مساعدتهم من الكبراء، ولكن رجائي في الله وثقتي بتوفيقه لم يزد في مظنة اليأس إلا قوة ورسوخًا. بعد السعي الطويل مدة ثمانية أشهر وقع الاتفاق من أصحاب الشأن على تأسيس الجميعة؛ لتكون هي التي تؤسس المدرسة العالية التي نوهنا بها من قبل ووقع الاختيار على أن يكون المؤسسون اثني عشر وهم: 1- الشريف جعفر باشا حفيد الشريف عبد المطلب أحد أمراء مكة المكرمة السابقين. 2- مصطفى أفندي مستشار المشيخة الإسلامية. 3- مصطفى عاصم أفندي الرئيس الثاني لمجلس المبعوثين وأحد علماء الآستانة. 4- موسى كاظم أفندي من العلماء وأعضاء مجلس الأعيان. 5- محمود أسعد أفندي من العلماء وناظر الدفتر الخاقاني. 6- حسن فهمي أفندي مبعوث سينوب وأحد علمائها. 7- سني الدين أفندي معاون مشاور الحقوق بنظارة الأوقاف. 8- فؤاد بك أحد أعضاء مجلس شورى الدولة ورئيس كتابه. 9- إسماعيل حقي بك مدير قسم الإلهيات والأدبيات في دار الفنون ومدرس الأصول والكلام فيها. 10- أحمد نعيم بك بابان أحد أعضاء مجلس المعارف. 11- تحسين بك أحد أعضاء ديوان المحاسبات. 12- محمد رشيد رضا صاحب المنار. وتقرر أن يكون شيخ الإسلام رئيس شرف لهذه الجميعة دائمًا. هذا وقد دعي الأعضاء إلى الاجتماع الرسمي الأول لانتخاب رئيس لهم في 27جمادى الأولى بدار الفنون، فأما فؤاد بك وتحسين بك فهما في أوربا مع حاشية ولي العهد، وأما الباقون فمنهم من كان له مانع فكتب ورقة بانتخابه أو وكل من ينتخب عنه، فالذين حضروا هم الشريف جعفر باشا ومستشار المشيخة وموسى كاظم أفندي وإسماعيل حقي بك وأحمد نعيم بك وكاتب هذه السطور. وقد اتفقنا جميعًا على انتخاب الشريف جعفر باشا رئيسًا لهذه الجمعية. وعقدت الجلسة الأولى برياسته فقرئ فيها النظام الرسمي الذي وضعه هذا العاجز فتقرر أن ترسل نسخ منه إلى جميع الأعضاء ليدققوا النظر فيه وإن استحسنه كل من قرأه منهم، وأن يصدق عليه بعد المذاكرة في الجلسة الثانية التي تنعقد يوم الأحد الآتي ثم يقدم إلى نظارة الداخلية. وتقرر أيضًا أن يجتمع الأعضاء في ضحوة كل يوم أحد، فالحمد لله أولاً وآخرًا، وإياه نسأل تمام التوفيق. (تنبيه) ما ذكر في بعض جرائد العاصمة العربية من أن الجمعية قررت أن تكون مدرسة دار العلم والإرشاد مؤلفة من صنفين كل صنف 20 طالبًا لا صحة له فالجمعية لم تقرر في أمر المدرسة شيئًا. (النظام الأساسي لجمعية العلم والإرشاد) بسم الله الرحمن الرحيم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 103-104) . الفصل الأول (في تأسيس الجميعة ومقصدها) المادة الأولى: تأسست في دار السعادة جمعية باسم (جمعية العلم والإرشاد) المادة الثانية: مقصد هذه الجمعية الجمع بين التربية الإسلامية وتعليم العلوم الدينية والدنيوية والتصنيف فيها، وتتوسل إلى ذلك بإنشاء مدرسة كلية في دار السعادة باسم (دار العلم والإرشاد) لتخريج العلماء والمرشدين. المادة الثالثة: لا تشتغل الجمعية بسياسة الدولة العلية الداخلية ولا الخارجية ولا بسياسة غيرها من الدول، ولكنها تراعي القانون الأساسي وتؤيده. الفصل الثاني (في أعضاء الجمعية ومجلس إدارتها) المادة الرابعة: للجمعية رئيسان: رئيس شرف ورئيس عامل، فرئيس الشرف هو صاحب المشيخة الإسلامية، والرئيس العامل ينتخب من أعضاء مجلس إدارة المركز العمومي. المادة الخامسة: أعضاء الجمعية ثلاثة أقسام: أعضاء عاملة، وأعضاء معاونة، وأعضاء شرف. فالعاملون هم الذين يقومون بأمور الجمعية بالفعل، والمعانون هم الذين يشتركون فيها بمبلغ معين من المال يؤدونه في كل سنة أو كل شهر بالأطراد، وأعضاء الشرف هم عظماء الأمة الذين ينفعون الأمة بمالهم أو مكانتهم من الفضل والكمال نفعًا عظيمًا. المادة السادسة: مركز الجمعية العمومي دار السعادة ويكون لها في الخارج شعب، لكل شعبة منها مجلس إدارة. المادة السابعة: أعضاء مجلس الإدارة في المركز العمومي اثنى عشر عضوًا وهم المؤسسون للجمعية ما داموا، فإذا استقال أحدهم أو خلا موضعه بسبب ما فانتخاب بدله ومجازاة من يخل من الأعضاء بنظام الجمعية الأساسي كل منهما يكون بمقتضى مواد النظام الداخلي للجمعية. الفصل الثالث (في الهيئة العمومية) المادة الثامنة: تجتمع الهيئة العمومية للجمعية كل سنة مرة في وقت معين بدار السعادة، وتتألف هذه الهيئة من أعضاء مجلس الإدارة من المركز العمومي ومن مندوبي الشعب الخارجية. المادة التاسعة: الهيئة العمومية رقيبة على مجلس الإدارة وهي تدقق النظر في ميزانية الجمعية وفي أعمال مجلس الإدارة مدة السنة وتقرر ما تراه في ذلك، وما تقرره يكون نافذًا بالأكثرية المطلقة فيما عدا ما اشترط أكثرية ثلثي الآراء. الفصل الرابع (في أموال الجمعية) المادة العاشرة: تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات الموقوتة والإعانات والتبرعات والوصايا والهدايا والأوقاف الخيرية التي توقف عليها ومن ريع رأس مالها ومن أجور التعليم في المدارس التي ستنشئها، والمبلغ الاحتياطي يحفظ وينمى بحسب ما تراه الهيئة العمومية. المادة الحادية عشرة: مجلس إدارة الجمعية ليس له أن يقرض من مال الجمعية ولا أن يقترض لها إلا بقرار من الهيئة العمومية. المادة الثانية عشرة: تنشر الجمعية في كل سنة كراسة في بيان ميزانيتها ودخلها وخرجها وأسماء الباذلين ومقدار ما بذلوه لها، ومن ينهى عن التصريح باسمه يذكر بلقب (فاعل خير) . الخاتمة المادة الثالثة عشر: يجوز تعديل أحكام هذا النظام عند الحاجة بقرار من الهيئة العمومية بأكثرية ثلثي الآراء من أعضائها المرتبة. (رأي محمد عبيد الله أفندي في صاحب المنار ومشروعه) نشره في العدد الرابع من جريدته الذي صدر في 14صفر سنة 1328، وهو: (المدرسة العربية) مشروع الأستاذ الفاضل صاحب المنار إن الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا صاحب المنار الأغر أشهر من أن ننوه بفضله للقراء؛ إذ عرفه وانتفع بعلمه كل منور العقل من الأمة الإسلامية، وقد قدم الآستانة هذا الفاضل منذ أشهر لمقصد شريف ومشروع جليل يدل على مزيد اهتمامه بإصلاح الأمة الإسلامية وغيرته عليها، وذلك أنه ينوي فتح مدرسة عربية في دار الخلافة يدرس فيها كل علم نافع ولا سيما العلوم العربية. وهو لم يزل مقيمًا في العاصمة يقابل رجال الحكومة من حين إلى آخر ويفاوضهم في هذا المشروع طلبًا للمعونة من الحكومة بما يلزم لمشروعه من المال ونحن وإن لم نعلم بالتفصيل ما هي العلوم التي تدرس في هذه المدرسة، وكيف تكون طريقة التعليم فيها، وكم مدة التحصيل إلا إننا نعتقد اعتقادًا جازمًا أن مدرسة عربية يرأسها مثل الأستاذ، ويقوم بتدبيرها وترتيبها؛ لجديرة بأن تكون كثيرة المنفعة كبيرة الجدوى، خصوصًا والعلوم العربية اليوم في أشد الحاجة إلى مجدد كهذا العربي الصريح يسعى في نشرها وإصلاح طريقة التعليم فيها، فقد أصبحت يضرب بصعوبة تعلمها المثل عند الناس، وعليه فنحن ننادي أولي الأمر من رجال الحكومة بأندى صوتنا أن يلتفتوا إلى مشروعه بكل اهتمام، ونسترعيهم السمع إلى ما ينزع إليه من الأمر النافع. وليس ذلك ببعيد من الحكومة التي هي اليوم تضرب على نغم الإصلاح في كل أمر من أمور الأمة. *** (المنتدى الأدبي) أسس بعض النجباء من طلبة العرب في المدارس (المكاتب) العالية في الآستانة ناديًا سموه (المنتدى الأدبي) وساعدهم على ذلك كثيرون من أهل الفضل والسعة إعانة لهم على ما قصدوا من أمر التربية والتعليم. كانوا قبل ذلك متفرقين قلما يعرف أحد منهم أحدًا أو يستفيد من علمه وأدبه أو تجربته إلا ما يكون بين المتجاورين في مواضع الإقامة من التلاقي والاجتماع في الملاهي العامة التي تسمى في مدن البلاد العربية بالقهاوي، ويسمى الملهى منها في الآستانة (قراء تخانة) ؛ أي: بيت القراءة تسمية لها بخير ما يكون فيها وهو قراءة الجرائد فقط، ولا يحسبن القارئ أنها كحجرات المطالعة أو غرف المطالعة المعهودة في بعض البلاد التي يوجد فيه كتب كثيرة تقصد لأجلها لا لأجل اللهو بلغو الحديث أو اللعب بالنرد وشرب المنبهات. قام أعضاء إدارة النادي بشؤونه قيامًا يحمدون عليه فأحسنوا الإدارة ونشطوا في تحصيل مبالغ الاشتراك، وضبطوا الدخل والخرج، واقتصدوا في النفقة بقدر الاستطاعة، حتى كان عملهم - وهم متبدؤون فيه - موضع الإعجاب، ولكن رأى بعض إخوانهم من أعضاء النادي أنه كان من الإمكان أن يحسنوا ويقتصدوا أكثر مما فعلوا، واستحسن هؤلاء أن يستبدل بهم غيرهم ليجربوا كما جربوا، ورأى الآخرون أن هذا مخالف للقانون فيجب أن يتموا مدتهم التي عينها قانون المنتدى، فقال المعارضون: نعدل مادة القانون ونعيد الانتخاب. فاجتمعت الجمعية العمومية للمنتدى وبعد المناقشة وأخذ الآراء تقرر برأي الأكثرين أن يبقى القانون على ما هو عليه، وأن لا يعاد إلا انتخاب من نص فيه على انتخاب بدل عنهم أو إعادة انتخابه. وكان صاحب هذه المجلة وكاتب هذه السطور حاضرًا تلك الجلسة وكذلك حضرها صديقنا عبد الحميد أفندي الزهراوي فنشهد أن الخلاف بين الأعضاء فيما ذكر لم يكن بدعًا من الخلاف في الأندية والجمعيات أو مجالس النواب، ولا كان مزلزلاً لرجائنا في نابتتنا الجديدة في مدارس دار السلطنة. نؤدي هذه الشهادة وقد سئلناها؛ لأن بعض الجرائد العربية نشرت مقالة بإمضاء (سائح متلهف) أسرف بها في انتقاد المنتدى الأدبي إسرافًا لم نشك عند قراءتها في تعمده للتحامل لغرض ليس لنا أن نفتات عليه فيه، ولا نرى فائدة في بيان ما نرى من قوادمه وخوافيه، وقد تكون له نية حسنة، استجاز أن يتوسل إليها بتلك الوسيلة السيئة، ومن كان حسن النية لا يصر على خطئه وهو يعلم، ولا يدافع عن نفسه إذا ظهر له الحق وتبين، وقد أساء بعض أعضاء المنتدى الظن ببعض إخوانهم الذين يرجى خيرهم، ولا يخشى أن تضر مثل تلك البادرة إن صح عزوها إليهم، فأنصح لهم جميعًا أن يغفروا الهفوات، ويجذب كل منهم أخاه إليه بخير ما يراه من جاذب الفضيلة فيه، فالكيس من استكثر من الأصدقاء، والأحمق من استكثر من الأعداء. * * * (خليل حمدي حمادة باشا) فجعت المملكة العثمانية في هذه الشهر بوفاة هذا الرجل المصلح الإداري القدير، و

خديجة أم المؤمنين ـ 11

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين عبد الحميد الزهراوي الفصل الثاني والعشرون [*] (الإيمان والآيات وخوارق العادات) قال بعض الناس في تلك الأيام: لا عجب إذا آمنت خديجة ببعلها فإن رابطة الزوجية تستدعي مثل ذلك ولكن ذا القدرة العظيمة قد أتى هؤلاء القائلين بما يعارض مزاعمهم؛ إذ طفق بعض من سمع هذا النبأ يؤمن به، ولم يبق المصدق به خديجة وحدها فاضطروا أن يخترعوا أسبابًا أخرى للإيمان به. حرب فكرية قامت أمام هذا النبأ الجديد عند شيوعه، ارتجّت له مكة وما حولها، انقسمت الأفكار، تباينت الأنظار، وفي مثل هذه المواقف يعرف الراجحون بحسن الفطرة، وقوة الفطنة؛ إذ يكونون من السابقين في رؤية الدقائق، والوصول إلى الحقائق. قال نفر منهم: (لقد عرفنا محمد طول هذه السنين فما عرفنا الكذب صاحبًا له، ولا عرفناه صاحبا للخداع، وقد قام اليوم يخبرنا بأمر وقع له ليس هو بدعًا من الأمور، ولا هو بضارنا شيئًا، أتانا يخبرنا بأمر يشبه ما نسمعه عن أمر موسى نبي بني إسرائيل، ولم يكن أمر موسى إلا نافعًا لقومه فلعل الله سبحانه يريد أن يهدي إلينا نفعًا بواسطة هذا الرجل الصادق الأمين منا) . قالوا: (يقول صاحبنا: إن روحًا أتاه وأوحى إليها ما أوحى، ولا شيء من هذا ببعيد عن العقل إذا تأدب العقل ووقف أمام بحر القدرة الأزلية الأبدية وقفة العارف أن هذا بحر لا حد له، ويقول: إنه أمر بتبليغ الناس هذا الوحي وما سيتلوه) . قالوا: (إن هذه الدعوى عظيمة فإن كان ما ادعاه حقًّا كان من العار العظيم والضرر الكبير أن نرد هدية ربنا عز وجل الذي أهدى إلينا العقل من قبل، وهو يعزز اليوم تلك الهدية بهدية أخرى ربما كانت من نوعها وربما كانت من نوع أعلى. وهل يرد حامل العقل مثل هذه الهدية بعد أن يذيقه العقل طعم الرشد والمعرفة ويأتيه بروائح ما يهب الفاطر جل وعلا من صنوف المعارف؟! وإن كان ما ادعاه غير حق فإن حبله سيكون قصيرًا؛ لأن لدينا عقولاً ولا يضرنا حينئذ ظهور أمره) . وقال نفر: (لماذا يدعي الصادق الأمين هذه الدعوى إن لم تكن صحيحة، هل فقد عقله؟ كلا، فإنا لا نزال نرى صحته واعتداله على أتمها، هل تغيرت أخلاقه؟ كلا فإن من الأخلاق ما يرسخ مع كثرة الأعوام وقل أن يئيض الصادق مائنًا، كلا، بل الأمر جد، والدعوى صدق، وإن لهذا الأمر لناصرًا من قوة ساقته بعد أن عاش أربعين سنة إلى الإتيان بهذا الأمر الغريب الصعب عليه، وإن الإيمان بقدرة الله تعالى ليدعونا إلى إجابة هذه الداعي من لدنه، وإن الإخلاص ليدفعنا إلى إعلاء الكلمة التي تنزلت إلينا فضلاً من ربنا ورحمة، إنا به مؤمنون) . كان في مقدمة هذا النفر أبو بكر ذلك الرجل الذي لم يعرف إلى ذلك الوقت بعيب عند قومه، وليت شعري لماذا تجول الظنون وتحوم في تلمس الأسباب لإيمان أمثال هؤلاء الأفاضل مع اتفاق العقلاء على أن الذي رسمنا صورته من تفكراتهم هو المطابق لحكمة المعتدلين؟! القائل: إن خديجة إنما آمنت ببعلها؛ لأنه بعلها هو في سعة من ظنه هذا إذا شاء ولكن بما مهدنا له من المثل بإيمان أبي بكر نتمنى أن يكون انتفع بمعرفة أن طريقة إيمان خديجة كانت أعلى مما يظن. إن الذي آمن به أبو بكر ثم مئات ثم ألوف غيره لا يجوز للعاقل المنصف أن يحرم زوجته العاقلة من شرف الطريقة التي آمن بها هؤلاء الأفراد ثم الجماعات. إن ظنون الناس تكون على حسب أخلاقهم وطباعهم وتصوراتهم، فالذين يصرون على ادعاء أن السيدة خديجة لم تؤمن بهذا الروح الجديد إلا لأن صاحبه هو بعلها، هم إما جامدون في معرفة الأخلاق البشرية على شيء يستعيذ العاقل بالله من تفاهته وهو القسم الرديء منها، وإما هم مجبولون على العناد، وإما هم مستعظمون لتصديق الإنسان بالأمور العظيمة من غير أدلة وآيات. نحن لا نسوغ لأنفسنا أن نعيب أحدًا ممن كان حظهم قليلاً من علم أخلاق الناس، ولا ندعي أن نستطيع بالكلمات القليلة التي نقولها الآن بمساعدة وإذن من الصدد أن نودع في أفكارهم علمًا جديدًا واسعًا، ولكنا نستطيع أن نذكرهم بأن أخلاق الأفراد ليست على شاكلة واحدة بل منها ما هو في أسفل السفل ومنها ما هو في أعلى العلى، ومن الناس من يغلب عليه من الصدق والإخلاص ما يملك قلوبهم ويجعلها بعيدة عن التصنع والرياء، وعن الارتياب بالأمور التي ليست غريبة عن محيط القدرة والحكمة والعناية الأزليات إذا حدث بها المعروفون عندهم بالصدق والأمانة، ويجعلها قريبة من كل ما فيه تمجيد اسم الفاطر جل وعلا، وتعظيم مظاهر أمره وسره، وبعد هذه التذكرة نستطيع أن نقول لهم: إن سيدتنا هذه كانت من أهل هذا الخلق الجليل كما تشهد سيرتها، ومتى زحزح هؤلاء عن مركزهم في علم الأخلاق سهل عليهم أن يشتركوا معنا في معرفة أنه ليس محكومًا على خديجة بالحرمان من الإيمان الصحيح المبني على أسباب صحيحة، لا على كونه بعلها. وأما المجبولون على العناد، والغرور والإعجاب، فلا نتعبهم بسماع أقوالنا؛ إذ ربما أتت ثقيلة عليهم، ولا نتعب أنفسنا بمخاطبتهم إذ قد تأتي علينا ثقيلة، فلهم دينهم فيما توقفهم فيه جبلتهم، ولي ديني فيما يمشي معه قلبي. وبقيت لي كلمة مع الذي يستعظم تصديق الإنسان بالأمور العظيمة من غير أدلة وآيات كثيرة، إن هذا معذور في نظري والتفاهم بيني وبينه سهل؛ لأني لا أطلب أن يترك ما بيده من النظريات بل أمشي معه في الحديث - وهي في يده - فنبلغ معه غاية حسنة تصلح أن تكون ملتقى لنا، مهما تشعبت حولها آراء أخرى لكل واحد منا. أنا أقول معك يا صاحبي: إن الذي يطالبه غيره بالتصديق له أن يطالب هو بالأدلة والآيات، ولكن إذا سمعت بمصدق ولم تسمع قصة طلبه للدليل والآية؛ فلا تحكم بأنه آمن من غير دليل وآية إلا إذا كنت تعرفه من قريب وتعرف أن بضاعته كلها تقليد الآباء والمعلمين. أنت تعرف أن أبا بكر وأمثاله ممن صدقوا محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يكن لهم آباء سبقوهم في تصديقه، ولا معلمون حملوهم على تأييده، وتعرف أنهم كان لهم حلوم راقية رائقة، وألباب زكية فائقة، فهل تظن أنهم صدقوه بغير آيات بينات وأدلة ساطعات. المشارب في الاستدلال مختلفة، وأخشى أن يكون مشربك فيه كمشرب الذين لا يعدون الآية إلا الأمر الخارق للعادة؛ ولذا رأيت أن لا أودع هذا المقام من غير أن أحادثك بالآيات والخوارق بعد أن أسلفت طريقة خديجة على النحوين لتعلم كيف يمكن أن يكون إيمان كل مؤمن بمحمد عليه الصلاة والسلام. إذا وقع شيء خارق للعادة لا يستطيع أحد حينئذ أن ينكر أنه آية عظمى، ولكن ما هي العادة؟ وهل يمكن أن تخرق؛ أي: تخالف؟ وهل وقع شيء من هذا؟ يعنون بالعادة عادة الأشياء وطبيعتها، ويعبر بعضهم عنها بسنة الله تعالى في الكوائن، والذين بحثوا في إمكان خرق العادة لم يفرقوا بين شيء وشيء بل جعلوا الكلام في هذه الموضوع على إطلاقه، ومن هنا اشتد خلافهم. والذاهبون إلى وقوع الخوارق لم يذكروا في الأمثلة التي أوردوها من صور هذه الخوارق إلا شيئًا يسيرًا جدًّا لا يصلح أن يلتفت إليه خصومهم فضلاً عن أن تكون به قناعتهم. إن لله عز وجل سننًا في كل موجود، أو نقول: إن لكل موجود عادة وطبيعة. والشمس مثلاً من جملة الموجودات، فهل يقول الذين يعتصمون بالخوارق: يمكن أن تصير هذه الشمس برغوثًا وتبقى هذه الأرض على حالها ويظل الناس يبصر بعضهم بعضًا بغير نور ويحيون هذه الحياة عينها متمتعين بحدائق وفواكه ولحوم وشحوم، ومياه جارية، وأزهار زاهية، وصيف وشتاء وربيع وخريف ... إلى آخره ... إلى آخره؟ أنا لا أعرف ماذا يقولون، ولكني مع إيماني كإيمانهم أو أكثر بعظيم قدرة الله تعالى يجدونني إذا قالوا في هذه المسألة: (نعم) مفارقًا لهم وقائلاً: إذا تغيرت سنة الله سبحانه في الشمس فصارت هي برغوثًا تتغير سنته في أيضًا فأصير أنا غير إنسان وغير باحث عن الخوارق. الذكي يفهم من هذا المثال: أن بحث الخوارق المدون في كتب جميع الملل لا يقف أمام نفخة من روح الله الحكيم إذا أراد عز وجل إعلان الغيرة على حكمته وسنته، ويفهم أيضًا أن الدين الذي هو من أكبر هدايا العناية الأزلية لا يتوقف عليها؛ إذ لو توقف عليه وكان لا بد في ظهور صدق المأمور بتبليغه من ظهور خارقة لما تيسر تصديق أحد؛ لأن كل واحد حينئذ يخترع فيقترح صورة من الخوارق لسنن الله، وناظم الكون سبحانه لم يشأ إلى الآن نثره على ما يهواه المقترحون. الاقتراحات لا حد لها ولا عد ولا نظام، هذا يقترح مثلاً أن تصير الشمس برغوثًا، وآخر يقترح أن يصير المشتري عصفورًا، وآخر يقترح أن يكون المريخ طرطورًا، وآخر يقترح أن يصير القمر قمريًّا، وآخر يقترح أن يكون عطارد عطارًا، وآخر يقترح أن تكون الزهرة زهرة لا تذبل أبدًا، وآخر يقترح أن ينضب البحر كله وتظل الأنهار جارية، وآخر يقترح أن يصير البحر كله برًّا أو البر بحرًا والناس كلهم سمكات مؤمنات مصليات صائمات، وآخر يقترح أن يكون التراب كله ذهبًا، وتنبت عليه أشجار التفاح والليمون والأعناب والزيتون، وآخر يقترح أن يصير الوقت كله ليلاً وتحبس الشمس في حجرة من حجرات الملوك، وآخر يقترح أن يصير الوقت كله نهارًا ويذهب النوم إلى الشجرات الدائمة اليقظة.. إلى آخره.. إلى آخره. نعم إن مبدع منظومات الكون لم يشأ إلى الآن نثرها، ونستطيع أن نقول: إنه ينثرها على حسب الاقتراحات لتأييد الرسل. فما معنى مباحثاتنا معشر البشر بأنه هل يستطيع ذلك أم لا يستطيع بعد إيماننا بعدم تحدد قدرته، وبعد سماعنا وحيه يرشدنا بهذا الكلام العالي {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) . بعد تقرير هذا أقول: إن البشر لا يستطيعون أن يعرفوا كل سنن الله تعالى أو عادات الأشياء وطبائعها. بل لا يستطيعون أن يعرفوا جميع أسرار كائن من الكائنات وجميع طبائعه بالتمام، ثم هم لا يعرفون أيضًا مقدار عنايته عز وجل بالإنسان، وأنه مازال يمده بصنوف الهدايات، وأنه قد يشاء إعلان آية له لإظهار عنايته به فيريه شيئًا مثلاً على خلاف ما تعلمه من عادات بعض الأشياء التي لا يترتب على تخلف المعروف من عادتها نثر المنظومات. ومن أمثلة ذلك أن النار شأنها الإحراق وقد تقتضي سنته تعالى لإعلاء معارف الإنسان وهدايته أن يريه النار غير محرقة لسبب تتعلق القدرة بإخفائه. إن مثل هذا يقع ونعده من جملة سنن الله تعالى؛ لأن من جملة سننه إبداع هذا الإنسان وإطلاعه على واسع القدرة، وبديع الصنعة، واحتجاب الحكمة واختصاص العناية. ومن هذا التفصيل يتبين للقارئ أنا مؤيدون للآيات لا منكرون لها، وقصارى ما نقول: إن الدين لا يتوقف على الخوارق بقدر ما يقترح المقترحون ويظن الظانون، ويخترع المخترعون. وإنما يؤيده الله تعالى بآيات تنشرح لها البصائر المستعدة، ولا نقول: إن هذه الآيات فيها تحويل لسنة الله تعالى أو عادة الأشياء وطبائعها؛ إذ لا تبديل لسنته سبحانه، وإنما فيها معونة ربانية نعرفها بآثارها. وربما كرهنا التعبير بالخوارق الذي اصطلح عليه المدونون، وإن كانت المناقشة على الألفاظ بغيضة إلينا وبعيدة عن رأينا، ونحب التعبير بالآيات كما عبر القرآن الحكيم. ويالله ما أكثر الآيات على أن ما أتى به هذا المختار هو فضل رباني وأمر روحاني!! لقد أنبته الله نباتًا حسنًا، وشمله بالعناية منذ كان في الصبا ثم الشباب و

بحث التحسين والتقبيح ـ 2

الكاتب: أحمد المقبلي

_ بحث التحسين والتقبيح [*] أحمد المقبلي (2) احتجت المعتزلة بوجوه: (الأول) أن استحقاق المدح على العدل، والإحسان والذم على الظلم والعدوان ضروري، والمنازع مباهت ولا يرتاب منصف آثر الحق على الخلق في صحة هذه الحجة، وأما تسليم الخصم لها [1] ثم يقولون: هو ليس محل النزاع، إنما محل النزاع بمعنى استحقاق المدح عاجلاً والثواب آجلاً إلى آخره. وقد عرفت غلطهم على المعتزلة، وأنهم إنما يقولون: الثواب والعقاب من لوازم التكليف الذي هو أخص من الحسن والقبح، وأعجب منه ذكرهم العاجل والآجل كما مضى. ومن نازعنا في هذه التخطئة فهذه كتب المعتزلة والحمد لله فليأتنا بشيء من كتب أبي الحسين وغيره من المعتزلة، أعني كتبهم المعتمدة، لا ممن أخذ النقل عن المعتزلة من كتب الاشاعرة وإن كان من أتباعهم كصاحب الفصول. بل كتبهم مشحونة بالتفصيل الذي أسلفناه وهو شاهد صدق على خطأ هذا النقل. فإن أبيت الاحتجاج [2] بما حكاه الدامغاني عن بعض الإمامية وقد نوظر فانقطع ثم قال: الحجة إجماعنا أيتها العصابة الإمامية. وأنت فتقول: الطريق إلى رد ما قلت اتفاق هذه الجماعة من الأشاعرة أهل التحقيق. قلنا: نزاعنا ليس في التحقيق إنما في صحة الرواية وهي تنبني على التحري وعدم المجازفة، ولهذا ترى ابن الصلاح والنووي وابن حجر العسقلاني وغيره ممن غلب عليهم علم الحديث لا يكادون يقيمون لهؤلاء المشار إليهم بالتحقيق هنا ميزانًا لما كان صناعة أولئك عمدتها الرواية، ثم إن الطريق الذي عرفنا به كون الأشاعرة ناقلين عن المعتزلة هو الطريق الذي عرفنا به كون المعتزلة قائلين بالمقالة فما ترى لو حضرك أشعري ومعتزلي وقال المعتزلي: هذه مقالتي. وقال الأشعري: بل مقالتك هذه. على أيهما كنت تعتمد؟ وارجع إلى الحمصية وحكاية قراقوش لعمرو. أما من دفع هذه الضرورة وقال: لا نعرف بين تعذيب زيد بأنواع العذاب، والتلعب به بأشنع ما يستهجنه أولو الألباب، وبين إكرامه بأنواع النعم ومرافق الارتفاق، بل بين سب الله تعالى بعد معرفته بصفات الكمال وجلائل النعم، وبين حمده وشكره على ذلك الجود والكرم. وقال: إنما الفرق بين هذه الأشياء ونحوها بميل الطبع ومرون الإنسان عليها للتعارف عليها أو للتأديبات الشرعية أوغير ذلك، فالجواب عن هذا: أنَّا نفرق بين تلك الأمور التي ذكرتم وبين كون الفعل يترتب عليه حسن المدح والذم، فأنتم قد سلمتم لنا هذا الفرق وسميتم ما سميناه تحسنًا وتقبيحًا كمالاً ونقصًا. وأما إنكاركم بعد هذا الإقرار وقضاؤكم بأن المدح والذم لا ينشآن عن فعل ألبتة، وإنما يمدح على الشيء ويذم؛ لأن الشارع أمرنا بذلك وما بين ذلك الفعل والمدح الذي رتبه عليه الشارع بالنظر إلى ذاتيهما إلا ما بين الضب والنون، ولم يكن أمره أيضًا المرجح بل بمحض الاختبار، ولو عكس وأمر بالعكوف على سبه وكفران نعمته وعبادة الشيطان وأوجب الكفر وحرم الإيمان، وقال: أنا أحق باللعن والشيطان بالعبادة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا؛ لكان ذلك عندكم كنقيضه لا فرق بينهما. فلعمري ما أنتم أحقاء بعد ذلك بالمناظرة ولا بمن يرتجى منه الإنصاف ولا جئتم بأقرب مما جاء به السوفسطائية، ولا أدليتم بأمتن مما أدلوا به، وما نقول لمن أقر على نفسه بذلك إلا: قد قلب فؤادك وبصرك كما لم تؤمن بالحق أول مرة، ولم تبال أين يقع قدمك في نظرك أول خطوة ولو سرنا معه على نمط الجدل لقلنا له: قد ادعينا نحن وأكثر الفرق كما عرفت أنَّا أدركنا هذا المعنى المتنازع فيه بضرورة عقولنا، وفرقنا بينه وبين تلك الأمور التي لم يبلغ فهمك إلى غيرها فنحن نصادقك على اعترافك على نفسك بالجهل بهذا الأمر الذي هو الهدى كل الهدى، فمن أين سنح لك الحكم علينا بعدم العلم بما ادعينا العلم به ضرورة حتى زعمت أننا ظننا أحد تلك الأمور التي ذكرت أمرًا خارجًا عنها، وحكمك إنما هو جهل مركب فإنك في الحقيقة قد شككت في صحة عقولنا لما ادعينا العلم بما جهلت. وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى المبصرون عن الضياء *** الحجة الثانية إذا لم يقبح من الله شيء جاز كذبه الصادق وتصديقه الكاذب، فلا يعلم صدق نبي قط ولا يوثق بخبر من أخباره تعالى، واعترضها ابن الحاجب وقرره العضد. ولنعتمد تقريره ليقوم مقام ما هو في معناه من ألفاظ غيره ولفظه: لا نسلم امتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب والكذب على الله تعالى امتناعًا عقليًّا وإن كنا نجزم بعدمه عادة؛ لأنهما من الممكنات، وقدرته شاملة، ولو سلم امتناعه فلا نسلم أن انتفاء القبح العقلي يستلزم انتفاءه لجواز أن يمتنع لمدرك آخر أو لا يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء العلم بالمدلول) والجواب، قوله: لا نسلم امتناع إظهار المعجزة على يد الكاذب، والكذب على الله امتناعًا عقليًّا. قلنا: إنما يلزمكم سد باب النبوة وعدم الوثوق بالشرائع مع عدم التسليم. قوله: وإن كنا نجزم بعدمه عادة. قلنا: أتريد أن التجربة أفادتك أن المعجزة لا تظهر إلا على صادق، وأن الله تعالى لا يخبر إلا بالصدق، والسؤال وارد على نبوة كل نبي وعلى كل خبر من جهته تعالى. ومن قد سلم لك إمكان فرد على أصلك الفاسد؟! أم تريد أنه عند المعجزة وعند سماعنا بخبر من أخباره تعالى يخلق الله لنا علمًا ابتدائيًّا أجرى عادته بذلك؟! وحاصله: أن العلم الحاصل لمن عرف المعجزة حاصل عندها لا بها. فهذا قول بأن المعجزة في نفسها لا دلالة لها على نبوة النبي. والذي علمناه من نفوسنا أن هذا العلم الضروري لم يحصل لنا إنما عرفنا وجه الإعجاز، وأنه من فعل الله تعالى فقلنا: هذا صدقه الله تعالى، ومن صدقه الله تعالى فهو صادق كسائر الاستدلالات، ولو اختلت إحدى مقدمتي الدليل لبطلت، فإن قلت: نحن ننظر في المعجزة فيحصل العلم بخلق الله تعالى لغيرها من الأدلة. قلنا: إنما يكن حصول العلم بعد صحة كل من المقدمتين، وها هنا الكبرى غير صحيحة فإن من صدّقه الله فهو صادق؛ لا دليل على صحتها على أصلكم، هي وقولنا: ومن صدقه الله فهو كاذب. سواء. ويقال لهذا القائل: متى تزعم أن الله يخلق هذا العلم الضروري؟ أبعد معرفة وجه دلالة المعجزة فهو لا يتم حتى تعرف أن من صدقه الله تعالى فهو صادق؟ أم تزعم أنه من رآها أو سمعها حصل له هذا العلم؟ فهذا معلوم كذبه ضرورة، إن قلت: خلق الله علمًا بصدق نبيه ممكن فمن أين لك القطع بعدمه؟ قلنا: كم ممكن نحن قاطعون بعدمه لا عن دليل، كقطعنا بأنه ليس في حضرتنا رجل له ألف رأس، وقطع أحدنا بأنه لا يثبت جثمانه في الملأ الأعلى بأن الله يقدر على قطع ما بيننا، وأن الجبل الذي رأيناه في اللحظة الأولى لم يتحول بعد خطيبًا، وغير ذلك من العلوم العادية.. حقًّا فهذا العلم الذي تدعونه نرده بالعلم الابتدائي. ولقد تجاسر من ادعى هذا العلم على أهل السماوات والأرض، ولو قال أحد قولاً يحتمل الصدق والكذب وقال للمخاطبين: معكم علم قد خلقه الله لكم بصدق قولي. لكان تكذيبه من أهون شيء مع استواء الأمرين في الإمكان فكيف بهذا الذي يدفعه كل عاقل؟! فإن ادعيتم أن هذا العلم الضروري بصدق المعجزة وصدق الله تعالى لا عن دليل حاصل لنا بعد سماع لفظ الخبر ورؤية المعجزة أو سماعها من دون نظر وإن دعوانا كذبكم مخالفة للضرورة. كان للسوفسطائية أن يردوا تكذيبنا لهم بذلك حين ادعوا أن لا علم عندهم ألبتة في أي شيء، فقلنا: هم بعد إدراكهم لماهية العلم وإدراكهم لاتصافهم به منكرون للضرورة، فلهم على هذا أن يقولوا: تكذيبكم لنا كذب. إلا أنهم يدعون على الناس عدم العلم وأنتم تدعون عليهم العلم فادعوا ما هو الأصل، فكان دعواهم أقرب من دعواكم وكنتم أكثر منهم لجالجًا، وأقبح اعوجاجا، وأدركتم ما كان فاتهم؛ لأنهم لا يمكنهم دعوى العلم الضروري؛ لئلا يثبتوا العلم، فانقطعوا وأنتم أثبتموه ثم صرتم تدعونه على من خالفكم فيما أعياكم فكنتم كمن قال، فأدركتم ما تمنى وأحال. وكنت فتى من جند إبليس فارتقى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي فلو مات قبلي كنت أدركت بعده ... دقائق فكر ليس يدركها بعدي قوله: لأنهما من الممكنات وقدرته شاملة. قلنا: مسلم، والذي قصد خصمك وهو عدم وثوقك بالنبوة وصدق خبر الشارع مبني على ذلك، قوله: ولو سلم امتناعه فلا نسلم أن انتفاء القبح العقلي يستلزم انتفاءه بجواز أن يمتنع لمدرك آخر إذ لا يلزم من انتفاء دليل معين انتفاء العلم بالمدلول. قلنا: أما خصمك فقد كفاه هذا الدليل المعين، وأما أنت فقد فاتك هذا الدليل على أصلك الفاسد. فقال: خصمك جوز على الله تعالى الكذب وتصديق الكاذب ولم يقل. فاقطع على تصديق الله تعالى الكاذب وعلى كذبه سبحانه في إخباره، فجوابك بجواز دليل يدل على امتناع ذلك في حقه تعالى؛ لا ينافي ما ألزمك من عدم الوثوق بالشريعة، والذي يدفع الإلزام هو وجود دليل لا جوازه. واعلم أن الدليل الذي يذكرونه هنا هو العادة وقد عرفت سقوطه. وقد يقول بعضهم: هو صادق لذاته؛ لأنه متكلم لذاته. وجوابه بعد تسليم الكلام القديم وتنوعه؛ لئلا ينتشر البحث: أنه لا فرق عندكم بين الصدق والكذب بالنظر إلى البارئ تعالى، فلعله كاذب لذاته ويلزمكم أن تتعلق قدرته بالكذب بمعنى أنه يقدر على أن يخبر بالشيء لا على ما هو به؛ لأن ما بالذات لا يتناقض كما أنه لما كان قادرًا لذاته؛ أي: قدرة واجبة لا يحتاج في ثبوتها إلى غير ثبوت الذات، لم يكن من الممكن أن يعجز، لا يقال: قد علم من ضرورة دين الأنبياء صلوات الله عليهم وصفه بأنه صادق أبدًا؛ لأنا نقول: صدقهم لا يمكن الجزم به مع بقاء هذا الإشكال فليتأمل هذا البحث فلم يجد المحققون فيه إلا المغالطة والتلبيس. انظر هذا المحقق الذي صار المحقق كالعلم له كيف ألزم أنه يجوز كذب الشرائع فقال: يجوز أن يكون هناك دليل يدل على الصدق، وهل لغير هذا المضيق يعد الدليل؟ يا هذا، لا مخبأ بعد بوس، ولا عطر بعد عروس، ثم نقول: هب أن هناك مدركًا هو مستندكم، لكن هذه كتبكم قد طبقت البسيطة، وقد بالغنا في التتبع لها فما وجدناكم ذكرتم شيئًا إلا هذه الأعذار الباردة، والمغالطات التي لا طمع في الاعتماد عليها والمساعدة، وما هذه حال من تصدى لنصيحة الأمة، وزعم أنه كفاها مُهِم الملاحدة وكشف الغمة، متى يدرك هذا المدرك الناظرون، ويهتدي به الحائرون، فإنا قد شارفنا تمام ألف عام وألف شهر من موت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كأنكم أودعتم ذلك المدرك إمام الإمامية فلا يظهر إلا بظهوره، واستعملتم في تبيينه رموز الباطنية التي لا يبدونها إلا لمن يثقون بغروره. وأعجب من هذا جواب الإمام الرازي فإنه قال في النهاية ما معناه: صدق النبي متوقف على مقدمتين: إحداهما: أن المعجزة نازلة منزلة قول الله له: صدقت. والثانية: أن من صدقه الله فهو صادق، فنحن وإن كنا لا يمكننا القطع بالثانية إلا مع القول بالتحسين والتقبيح العقليين، لكن المعتزلة قطعوا بصحة الأولى مع أنها خبر يحتمل الصدق والكذب ولم يضرهم ذلك فلم يضرنا القطع بالثانية مع الاحتمال. انتهى. ولم يحضرني الكتاب المذكور حتى أنقل صورة لفظه، فإن تيسر لي ذلك ألحقته، وإلا فعلى الناظر استيعاب ذلك؛ فإن هذا الفعل محل ريبة، أو لا يقول هذا القول مسلم: كيف من هو من أعلام المسلمين؛ إذ هو كالصريح أن المتشرعة على غير يقين من صحة الشرائع، سبحان الله العظيم، وما أظهر ركة قوله: إن الأولى

أبو حامد الغزالي ـ 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أبو حامد الغزالي [*] (8) تكفير المقلدين له ورأيه في الردة والكفر الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، والإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلاً. هكذا فسّرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صدق عليه هذا التفسير كان مؤمنًا مسلمًا لا يخرجه من الإسلام إلا تكذيبه لشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الدين عالمًا أنه جاء به غير متأوّل فيه، وما عدا ذلك من مخالفة أحكام الدين بالقول أو الفعل أو الاعتقاد يعد خطأً، وسببه الغالب الجهل ومن الجهل ما يعذر صاحبه فيه كجهل الدقائق والأمور الخفية ومنها ما لا يعذر فيه إلا إذا كان قريب العهد بالإسلام كتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق والقول على الله بغير علم، والحساب على الله تعالى. وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه رضي الله عنهم بتحامي تكفير أحد ممن يُظْهِر الإسلام ويصلي إلى القبلة وإن ظهرت عليه آيات النفاق، وكانوا يعذرون من أخطأ في شيء من أمر دينه ويتلطفون في تعليمه وما زال أمر المسلمين على هذه السنة حتى ظهر فيها الابتداع وصار لأهله فرق وشيع يدعون إليها ويناضلون دونها، فكان منهم أن كفروا من يخالفونهم فيما انفردوا به، وإن كان المخالفون هم السواد الأعظم الذين نقلوا الدين بالقول والعمل وحافظوا عليه قبل ظهور تلك البدعة. وقد كان من أمر أمير المؤمنين عليّ كرم الله وجهه أن قاتل الخوارج المبتدعين وصلى على قتلاهم ولم يكفرهم ببدعتهم، فكان مما امتاز به أهل السنة والجماعة على أهل البدعة والفرقة أن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة، لأنهم يجمعون الكلمة ويتقون التفرق في الدين لشدة نهي كتاب الله عنه ووعيده لمن يقترفه، ولم تكن السنة مذهبًا ولا مذاهب لبعض المسلمين فيتعصبون لها على غير أهلها، بل كان كبار العلماء كأئمة الفقه الأربعة وشيوخهم من السلف يعذرون كل من خالفهم في اجتهادهم ويصلون معه كما كان يفعل الصحابة - رضي الله عنهم -. ثم حدثت المذاهب في الجماعة المنسوبة إلى السنة فكانوا شيعًا كل شيعة تنتمي إلى إمام من العلماء الذين كانوا على السنة وتتعصب لما نقل عنه وعن أتباعه وكل من انتسب إليه ثم تدرجوا من التعصب لما سموه مذهبهم، ثم إلى التضليل، ثم إلى التكفير لهم وللعلماء والمستقلين إذا خالفوا مذهبهم وهم مع هذا يعترفون بأنهم مقلدون وليس من شأن المقلد أن يبحث في تخطئة أحد؛ لأنه تابع لغيره ولا علم له في نفسه وقد حدث من جراء هذه العصبات فتن كثيرة سودت بها صحائف التاريخ. إن ظهور فتنة التكفير التي أحدثها أهل البدعة في المنتسبين إلى السنة جعل مصابها عامًّا في المسلمين حتى كانت السبب في وقوف حكمة العلم دون بلوغ غايته المرجوة فيهم بل في رجوعه القهقرى؛ لأن الاشتغال به صار محصورًا في تفهم كل جيل بعض كتب الأجيال التي قبله دون أن يكون له حكم مستقل في المسائل ومن لا يكون له حكم لا يكون له علم وهذا هو معنى ما نقل من إجماع سلفنا على أن المقلد لا يسمى عالمًا وعلى إطلاق أهل القرون الأولى لفظ العالم بمعنى المجتهد، ولفظ الجاهل على المقلد وإن قتل الكتب بحثًا وفهمًا، وكيف لا يرجع العلم القهقرى إذا كان من أنعم الله عليهم بالقرائح الذكية والأذهان اللوذعية لا يستطيعون أن يشكروا الله عليها باستعمالها في استنباط مسائل العلوم إما خوفًا من تكفير أناس إياهم إذا هم جاؤوهم بغير ما وقف جهلهم عنده، وإما لاعتقادهم أن ذلك من العبث؛ لأنه لا ينتفع به أحد، وإن هم استعملوا عقولهم والحال ما ذكر فإنها لا تأخذ حظها من الاستقلال، ولا تبلغ الغاية في حلبة السباق، ومن تصباه جمال العلم فجعله عاشقًا مستهترًا، لا يجد له من غرامه مهربًا، تمتع به في خلواته، وحجب محاسنه عن أصدقائه وعداته، فإن اضطر إلى الكلام، لاذ بالكنايات والإشارات والألغاز أصبو إلى الشرق إن كانت منازلها ... في جانب الغرب خوف القيل والقال أقول في الخد خال حين أنعتها ... خوف الوشاة وما في الخد من خال فمتى تستنير عقول عامة المسلمين بمبادئ العلوم التاريخية فتعلم أن أصحاب العمائم من المقلدين الجاهلين، قد اتخذوها عسكرًا لمحاربة العلم والدين بتضليلهم وتكفيرهم للعلماء المستقلين المصحلين، وأنهم بذلك مخالفون لهدي السنة التي كان عليها الأئمة الذين يدعون اتباعهم والانتساب إليهم؛ لأن أولئك الأئمة متفقون على عدم تكفير أحد يشهد بوحدانية الله تعالى وبصدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به عن ربه عز وجل وإن خالف في مباحثه ما هو المشهور عنهم، بل وإن خالف النصوص متأولاً لا جاحدًا، وقد صرح بعض فقهائهم بناءً على ذلك الأصل المجمع عيه عند السلف (عدم تكفير أحد من المسلمين) بأنه إذا وجد منه قول قوي بكفر أحد وقول واحد ضعيف بإيمانه فيجب أن يفتى بهذا القول ويحكم بإيمانه. بعد هذا التمهيد أقول: إن أبا حامد الغزالي رحمه الله تعالى كان من أصحاب تلك اللوذعية والفطانة التي لا يرضى من أوتيها بكفر نعمتها وعدم استعمالها، وإن بدعة التكفير كانت قد انتقلت في زمنه من المبتدعين إلى المنتسبين إلى السنة، وإنه جبن في أول عهده بالاستقلال في العلم عن إظهار ما خالف فيه اجتهاده ما عليه جمهور أهل عصره ثم أظهر بعض ذلك في الإحياء مع المداراة، ونوع من المجاراة، ثم قوي دينه وكمل يقينه فصرح في بعض كتبه المختصرة (كالقسطاس المستقيم) بما لم يصرح بمثله في الإحياء الذي ذم فيه التقليد في مواضع كثيرة، وجرى فيه على تقليد الشافعي في أكثر الأحكام أو جميعها. هاج ذلك منه أصحاب العمائم، وسكنة الأثواب العباعب، وعجزوا عن مناظرته فجردوا عليه سلاح الجهل والابتداع، ورموه بالكفر والإلحاد، كما يفعل أقتالهم وأضرابهم، إلى الآن، فلم يعبأ بجهلهم، ولم يرجع إلى باطلهم، ولا سكت عن إنارة الأذهان، بما وصل إليه من العلم والعرفان، وهكذا كان المصلحون وهكذا يكونون، إلى أن تستنير العامة فتميز بين الأدعياء الجاهلين، فيعود للأمة الإسلامية مجدها، وتطلع بعد الأفول شمس سعدها، والعاقبة للمتقين، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) . فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة كتاب وجيز كتبه في هذه المسألة أبو حامد رحمه الله تعالى جوابًا لمن بلغه تكفير بعض المتعصبين إياه، قال في أوله بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله وآله وأصحابه ما نصه: (أما بعد، فإني رأيتك أيها الأخ المشفق، والصديق المتعصب، موغر الصدر منقسم الفكر، لما قرع سمعك من طعن طائفة من الحسدة على بعض كتبنا المصنفة في أسرار معاملات الدين، وزعمهم أن فيها ما يخالف مذهب الأصحاب المتقدمين، وأن العدول عن مذهب الأشعري، ولو في قيد شبر كفر، ومباينته ولو في شيء نزر ضلال وخسر، فهوّن أيها الأخ المشفق المتعصب على نفسك، لا تضيق به صدرك، وفل من غر بك قليلاً، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} (المزمل: 10) واستحقر من لا يحسد ولا يقذف، واستصغر من بالكفر والضلال لا يعرف، فأي داع أكمل وأعقل من سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم وقد قالوا: إنه مجنون من المجانين، وأي كلام أجل وأصدق من كلام رب العالمين، وقد قالوا: إنه أساطير الأولين، وإياك أن تشتغل بخصامهم، وتطمع في إفحامهم، فتطمع في غير مطمع، وتصوت في غير مسمع، أما سمعت ما قيل: كل العداوات قد ترجى مودتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد ولو كان فيه مطمع لأحد من الناس، لما تلي على أجلهم رتبة آيات الياس، أوما سمعت قوله تعالى: {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ} (الأنعام: 35) وقوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} (الحجر: 14-15) وقوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} (الأنعام: 7) وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: 111) اهـ. أقول: يريد أبو حامد رحمه الله تعالى أن مثل هؤلاء الشيوخ الحاسدين المتعجبين على تقليدهم للأشعري كمثل أولئك المشركين لا في الشرك والكفر بل في الحسد والتعصب، وجعل همهم كله في إهانة من حسدوه وإظهار أنه على باطل، وعدم توجيه أذهانهم إلى فقه ما هو عليه والنظر في دليله، لتوجيهها إلى مكابرته أو تأويله، وهكذا يفعل أشباههم في الحسد والتعصب اليوم، ندعوهم إلى الكتاب والسنة، ونطالبهم بالآية والحجة، فيأبون إلا النبز بالألقاب، والهجر والسباب، ثم ذكر أبو حامد أن هؤلاء لم يبق فيهم استعداد لمعرفة الحق في الإيمان والكفر وعلل ذلك بقوله: (وأنَّى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعونتهم، وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم، وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه حشمتهم، فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان؟) ثم ذكر أن جل بضاعتهم في العلم البحث في النجاسة، وما أشبه ذلك مما لا يجلو بصيرة، ولا يطهر سريرة. زلزال المقلدين وشأنهم بعد تلك الفاتحة ذكر أبو حامد فضلاً في حال المقلدين موجهًا الكلام إلى مخاطبه قال: (فصل) فأما أنت إذا أردت أن تنتزع هذه الحسكة من صدرك، وصدر من هو في حالك، ممن لا تحركه غواية الحسود، ولا تقيده عماية التقليد، بل تعطشه إلى الاستبصار لحزازة أشكال، أثارها فكر وهيجها نظر، فخاطب نفسك وصاحبك، وطالبه بحد الكفر؛ فإن زعم أن حد الكفر ما يخالف مذهب الأشعري أو مذهب المعتزلي أومذهب الحنبلي أوغيرهم فاعلم أنه غر بليد، قد قيده التقليد، فهو أعمى، من العميان، فلا تضيع بإصلاحه الزمان، وناهيك حجة في إفحامه، مقابلة دعواه، بدعوى خصومه؛ إذ لا يجد بين نفسه وبين سائر المقلدين المخالفين له فرقًا وفصلاً، ولعل صاحبه يميل من بين سائر المذاهب إلى الأشعري، ويزعم أن مخالفته في كل ورد وصدر كفر من الكفر الجلي، فاسأله من أين ثبت له أن الحق وقف عليه؟ حتى قضى بكفر الباقلاني إذا خالفه في صفة البقاء لله تعالى، وزعم أنه ليس هو وصفًا لله تعالى زائدًا على الذات؟ ولم صار الباقلاني أولى بالكفر بمخالفته الأشعري من الأشعري بمخالفته الباقلاني؟ ولم صار الحق وقفًا على أحدهما دون الثاني، أكان ذلك لأجل السبق في الزمان؟ فقد سبق الأشعري غيره من المعتزلة فليكن الحق للساب

التعاون والتخاذل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعاون والتخاذل [*] نحن في زمن فاز فيه المتعاونون، وهلك فيه المتخاذلون، سعد فيه أمم بأعمال الجماعات، وشقيت أمم بأسرة الأفراد، فالأمم فيه درجات بعضها فوق بعض فأعلاها ما كثرت فيه الجمعيات، المتعاونة على الخير بقدر كثرة الخيرات، ويليها ما قلت فيه الجمعيات فقاتها من الخيرات والمنافع ما فضلها به ما فوقها، ويعبر عن هذه الأمم بالأمم الحية العزيزة، والحياة والعزة فيها متفاوتة - أو مقولة بالتشكيك كما يقول المنطقيون - فلذلك يخاف ويرجو بعضها بعضًا، وأية أمة عاقلة تأمن سنة الله في تنازع البقاء، وطمع الأقوياء في الضعفاء. وأما الأمم الذليلة التي تقابل هذه الأمم فهي في دركات متفاوتة أيضًا أدناها منها في القسمة العقلية ما ليس فيها جماعات تتعاون على الخير ولا على الشر، ولا يخذل بعض أفرادها بعضًا في الأعمال النافعة، يليها في السفل الأمة التي يتخاذل أفرادها في الخير فلا ينبري فيها أحد لعمل نافع لها إلا ويتصدى بعض الأفراد لمناهضته وخذله، وأما الأمة التي تعد في الدرك الأسفل فهي التي تتألف فيها الجماعات لتأييد الباطل وعمل المنكر، ولخذلان الحق ومقاومة المعروف. لا يخذل فرد من الأفراد، ولا جماعة من الجماعات، عملاً من أعمال الخيرلأمته مع الاعتراف بأنه خير، وإنما يخذلونه ادعاء أنه شر ما أو يشتمل على الشر أو يترتب عليه شيء من الشر. ومنهم من يعتقد صحة ما يدعي لجهله كنه العمل، أو لأن بغضه أو حسده للعامل يقلب صورة العمل في مخيلته ويلونه بغير لونه، فهو ينظر إلى ما في خياله ويحسب أنه عين ما في الخارج، ومنهم من يضل على علم ويتعمد الفرية والبهتان، إرضاء لحسده أو حسد من يغريه بالمقاومة والخذلان، أو اعتذارًا عن الامتناع عن المساعدة التي تنتظر من مثله، وهو يبخل بها ولا يعترف ببخله. الحسود الذي يبغي بحسده، والشحيح الذي يطيع شحه، وصاحب الهوى الذي يتبع هواه بالباطل لا مطمع في اتقاء شرهم إلا بإصلاح نفوسهم أو مقابلتهم بقوة لا قبل لهم بها فإن كان الأول متعذرًا على العامل فالثاني مما يتيسر له، إلا إذا فقدت الأمة استعداد الخير وكانت في حكم سنن الله في عدد الهلكى، وأما من يخذل العمل النافع لاعتقاده أنه ضار؛ فعلاجه سهل وطبه حاضر إذا كان مخلصًا تقيًّا سواء كان سبب اعتقاده الجهل المطلق، أوالسخط الذي أراه العمل بغير صورته الحقيقية، ولكن قد يعسر التمييز بينه وبين سيء النية، أو تجهل الطريق لإيصال العلاج إليه. ليس بيني وبين معالجة المخلص الحسن النية إلا أن يصل صوتي إلى أذنه أو يلقى كتابي بين عينيه، فيقرأ أو يسمع الحجة التي أدلي بها إليه، وكأني به وقد زال عنه الغشاء، وانكشف له الغطاء، فاستبق باب المتاب، واستغفر ربه وأناب. أقول له: الخلاف بين البشر سنة غريزية فيهم لا مطمح في تبديلها فإذا جعلنا الخلاف في الرأي والفهم سببًا للتنازع والتخاذل، نكون سجلنا على أنفسنا الفشل الدائم والهلاك البطيء أو العاجل، ولا يختلف الناس في شيء كاختلافهم في الأمور الاجتماعية وما به تترقى الأمم أو تتدلى؛ لأن كل واحد يدعي العلم بذلك وإن كان يقل في الناس ذو العلم الصحيح التفصيلي بمسائل الاجتماع البشري وإصلاح أحوال الأمم يقل ذلك في الشعوب التي استبحر فيها العمران وارتقت علومه، ويكون أندر من الكبريت الأحمر في سائر الشعوب، فإن وجد فيها كان مجهول القدر، غير متمكن من كل ما يقدر عليه من النفع، بل ربما كان علمه سبب بلائه ومحنته، واضطره إلى الهجرة من وطنه، وكأين من نبي كريم، وعليم حكيم، وصوفي كبير، وسياسي خبير، كفاه قومه على ما تصدى له من إصلاحهم بإهراق الدم، أو النفي من الأرض، أو الضرب أو السب ثم ظهر في حياته أو بعد مماته أنه كان هو المصيب وكل من ناوأه من المخطئين الخاطئين. إذا تذكر المخالف هذا ووعاه انتقل إلى البحث في ضعفنا، وحاجتنا إلى دفع الخطر عن أنفسنا، وكون ذلك لا يتم لنا إلا بالتعاون والتناصر، مع ترك التخاذل والتدابر، فإن لم نفعل ذلك كان ما بقي لنا من القوة الممسكة ممزقًا، وكنا نحن الممزقين. فإذا هو فقه هذا وتدبره؛ أقول له: إننا أقوام نجتمع في أمور وتتفرق في أمور فإذا نظر كل منا إلى ما يخالفه فيه غيره دون ما يوافقه فيه وجعل ما به الخلاف قاضيًا على ما به الوفاق تمزقت قوانا، وإذا نظر كل منا إلى ما به الوفاق فعززه وقواه تتحد قوانا ويستفيد كل منا ويفيد. المختلفون منا في المذاهب متفقون في أصل الدين، فلماذا يضع أهل كل مذهب مسائل الخلاف بينهم وبين أهل المذهب الآخر نصب أعينهم فيجعلونها سببًا لإضعاف كل منهم للآخر ولا يجعلون ما به الوفاق من أصل الدين سببًا لتقوية كل منهم للآخر وذلك لا يمنع كلاًّ منهم أن يتفق مع من يوافقه في المذهب على أعمال أخرى تنفعهم ولا تضر غيرهم. لماذا يختصم السني والشيعي في بخارى مثلاً؟ ولا نفع لأحد منهما في اختصامهما وإنما الخسار عليهما معًا، والربح كله للروسية السالبة لاستقلالهما والمستعبدة لهما معًا. ولماذا يتقاتل الزيدي وغير الزيدي في اليمن؟ وهو مما يضعف كلاًّ منهما، ولماذا لا يتحدون فيما هم متفقون فيه كأصل الدين والوطن فيقوى كل منهما بقوة الآخر ويبقى حرًّا في مذهبه لا يجادله أحد فيه إلا بالتي هي أحسن، فلا يعامل المسلم أخيه المسلم الذي يوافقه في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بشر مما أمره الله تعالى أن يعامل به أهل الكتاب الذين يخالفونه في الإيمان بخاتم النبيين والمرسلين، وما أنزل عليه من الكتاب المبين، فإن استكبر مخالفته إياه في فهم بعض النصوص حتى فهم كلمة التوحيد فليعلم أن آفة المخطئ الجهل وإنما يعالج مرض الجهل بالعلم والحلم دون العدوان والبغي. والمختلفون منا في الدين متفقون في أمور أخرى يقوى كل منهما بالارتباط مع الآخر بها، كالوطن واللغة والجنسية السياسية، فلا ينبغي أن يشتغل كل من المسلم والنصراني بمقاومة الآخر بما به الخلاف، بل على كل منهما أن يشتغل بالتعاون مع الآخر بما به الوفاق، فينهضان معًا بعمارة البلاد وتنمية الثروة وكل ما يتم به تعزيز الدولة، وهناء المعيشة. والمختلفون منا على اللغات متفقون على واحدة أو أكثر من الجامعات العظيمة التي أشرنا إليها كالدين واللغة والوطن والجنسية، فليعمل كل قوم في هذه الدولة مع كل من يشاركهم في جامعة ما لتقوية تلك الجامعة ناظرين دائمًا إلى جهة الوفاق، متسامحين فيما لا عدوان فيه من جهة الخلاف، ومن يعب منهم أخاه أو يخذله فيما يخالفه فيه من غير عدوان ولا بغي من ذلك المخالف فذلك إما غِرٌّ مفتون، وإما أحد الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. إذا كان من المصلحة العامة أن يكون الأقوام والجماعات أحرارًا فيما يخدمون به الجامعة الخاصة والجامعة العامة فمن المصلح أيضًا أن يكون الأفراد أحررًا فيما يخدمون به اللغة والوطن والدين والدولة ومن يكيد لأحد منهم ليحبط عمله، فهو من المفسدين كالذين يكيدون لمدرس؛ لكيلا ينتفع بدرسه، أو مؤلف ليصرفوا الناس عن تأليفه، أو لصاحب صحيفة ينشرها أو خطبة يخطبها، أو مدرسة يؤسسها؛ فينبذونهم بالألقاب، ويصدون عنهم الناس. سيقول المحرفون: إن في هذا القول منعًا لحرية الانتقاد، وإبطالاً لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كلا، ثم كلا، ليس هذا من المنع لما ذكر وإنما هو عين الانتقاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهكذا فليكن الانتقاد والأمر والنهي، بيان لبطلان الباطل ولحقية الحق من غير تهييج للعصبية، ولا إغراء بالإصرار على الخطية، ألا وليحاسب أنفسهم المغرورون الذين يدعون القيام بهذه الفريضة، ثم يخذلون العاملين بالسعاية والغيبة، ولا يوجهون إليهم الانتقاد فيما بينهم وبينهم، ويا عجبا لماذا يسكتون عن كثير من المنكرات المجمع عليها، ويعنون بتحمل الإنكار في المسائل المجتهد فيها!! ألا إن الحاسد المكابر لا علاج له، يبدأ به حسده فيقتله، ألا وإن فيما قلناه مقنعًا للمخلصين، وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين.

نابتة المدارس والمكاتب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نابتة المدارس والمكاتب [*] أناخ الصيف بكلكله، وضرب الحر بجرانه، فأنشأت المدارس والمكاتب توصد أبوابها، وتنثر على البلاد أزاهر طلابها، وتهدي إليهم جَنَى جناتها، فمن طلابها من يغادرها موقتًا لزيارة الوطن، وصلة الرحم، ويعود إليها جم النشاط، وافر الاغتباط؛ ليتم المدة، ويكمل العدة، ومنهم من يودعها الوداع الأخير، بقلب الحفيظ ولسان الشكور، وهم المتخرجون الذين تم فصالهم، وبلغوا في هذه المعاهد رشدهم، وآن لهم أن يخدموا الملة والأمة بالاستقلال، ويطلبوا بالثبات في خدمتهم درجة الكمال. يرى الكثيرون من الناس أن الطالب الذي يغادر معهد العلم لأجل صلة الأهل ومودة القربى لا يطلب منه في مدة الصلة إلا الراحة من تعب الدرس، وترويض الجسم وترويح النفس، بما يباح له من اللعب والهو، وأن المتخرج قد استراح من عهد التحصيل والتعلم، ودخل في طور الاستلال والتنعم، فما عليه إلا أن يهتم بجمع المال، والتمتع بما يقدر عليه من الحلال، ومنهم من لا يرى قيد الحلال ضروريًّا، ولكنه ربما يشترط المحافظة على عرف الكبراء، وعادات الأغنياء، فما عرفوه من المنكرات كان عنده معروفًا، وما أنكروه من الفضائل والخيرات كان عنده منكرًا. لهذا كان سيرة الكثيرين من طلاب العلوم والفنون سيئة في اعتقاد الأمة، وصورتهم المعنوية مشوهة في نظرها العقلي، فهي تتهم نابتة العلوم الدنيوية بتهمة ونابتة العلوم الدينية بتهمة أخرى، وقد يكون لكل من الفريقين أنصار من الأهل والأصدقاء، وأصحاب الحاجات والخلطاء، يعتزون بهم، ويقتنعون من الجاه بعصبيتهم، فينصر أحدهم الآخر ظالمًا كان أو مظلومًا، ويؤيده لائمًا ومُليمًا، فيسري بذلك دود الفساد في جسم الأمة حتى تكون من الهلكى، ويتعارض الجاه بين رجال الدين ورجال الدنيا، فيتصادم حزباهما، ويقع الشقاق بينهما. أيها النابتة الجديدة، قد آن لهذا التباين أن يزول، قد آن للمتعلمين أن يتجردوا من الأهواء والحظوظ، قد آن لهم أن يعلموا أن للعلم فائدة فوق فائدة الحرفة، وثمرة أشرف من ثمرة الكسب والتجارة، قد آن لهم أن يعلموا أن المدرس والحاكم، (عامل الحكومة) والطبيب والمهندس، ووكيل الدعوى ومحرر الجريدة منكم إذا لم يكن لهم غرض من عملهم إلا الكسب الذي يعيشون به؛ فلا فرق بينهم وبين الصائغ والحائك والحداد والنجار والحمال، كل أولئك يعملون ما لابد للأمة منه لأجل أن يعيشوا بثمرة عملهم. تذكروا أن لكم وراء الكسب بعلمكم وعملكم عملاً تقدرون عليه ولا يقدر عليه غيركم، ومقامًا عاليًا يسهل عليكم العروج إليه دون سواكم، تذكروا أنكم أنتم المطالبون بإخراج أمتكم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ورفعها من حضيض الفساد إلى أوج الرشاد، وإنقاذها من مضيق الفقر والفاقة، إلى بحبوحة الغنى والثروة، أنتم المطالبون بذلك بمعرفتكم قيمة أنفسكم، وبحسن سيرتكم في خاصة أنفسكم، وبتعارفكم وتآلفكم وتعاونكم فيما بينكم، وبهدايتكم وإرشادكم لغيركم، وعلى كل من الراحلين إلى البلاد منكم واجبات، أذكركم بها بهذه الكلمات. ينبغي أن يوطن كل واحد منكم نفسه على خدمة الأمة ورفع شأنها وأن يراها أهلاً لذلك بما منحها الله من القوى إذا هو شكر الله عليها باستعمالها في ذلك، فمن يوطن نفسه على ذلك ويحملها على الاستعداد له تعل همته، وتعظم مروءته، وتتعلق آماله بمعالي الأمور، ويتنزه عن سفسافها، ومن لم يرج عن نفسه الإصلاح كان جدير بأن لا يرجوه غيره منه، وأن لا يكون مصلحًا بعلمه ولا عمله، ومن لم يكرم نفسه لا يكرم. يشتبه على بعض الناس تكريم النفس وحملها على معالي الأمور بالعجب والغرور، والفرق بينهما كالفرق بين الظلمات والنور، والظل والحرور، فالأول يكون عالي الأخلاق حسن الأعمال مع التواضع والنزاهة والبراءة من التبجح والدعوى فهو قدوة حسنة في أخلاقه وآدابه وأعماله، وأما الثاني فهو يدعي ما ليس فيه، ولا تهمه إلا حظوط نفسه، ويحب أن يحمد بما لا يفعل، ويحتقر العاملين، ويغمط الحقوق، فيكون قدوة سيئة في أخلاقه وأقواله وأفعاله. إن المعجب المغرور يرى نفسه في مرآته جميلاً ولكنه في مرآة غيره دميم مشوه، فهو لا يغش ولا يخدع إلا نفسه الخبيثة، وأما عالي الهمة وكبير النفس فإنه يراها دائمًا مقصرة؛ لأنه لا يعمل عملاً إلا وهو يرى أن الواجب عليه والمستطاع له أكثر منه وأكمل، ولا يحجبه عن اعتقاده هذا حمد الحامدين له، ولا ثناء الراضين عن عمله، المعجبين بعلمه وأدبه، فإذا فطنتم أيها الأخوة لهذا الفرق فاجعلوه ميزانًا لكم في محاسبة أنفسكم؛ لئلا تكونوا حسانًا في مرآة أنفسكم قباحًا في مرآة غيركم. إن من الناس من يكون استعداده لمعالي الأمور والقيام بالمصالح العامة قويًّا، ومنهم من يكون استعداده لذلك ضعيفًا، منهم من تحرك هذه الذكرى همته للعمل الذي يقوي الاستعداد، ومنهم من لا يقيم لها وزنًا، ولا يفهم لها معنًى، فمن رأى أنها هدته إلى كنز ما كان يعرفه، أو زادته شوقًا إلى شيء كان يحن إليه ويألفه، فليحمد الله تعالى، وليبشر بأن سيكون ممن ترتقي بهم أمتهم، وتعتز بهم دولتهم، وتعمر بهم بلادهم، ومن رأى أنها من لغو القول، أو من قبيل تكليف المشي على الماء، أو العروج إلى السماء؛ فليعلم أنه خلق ليكون أجيرًا يعمل ليأكل فلا يغشن نفسه بدعوى ما لم يخلق له. ألا وإن العمل يقوي الاستعداد الضعيف، فمتى وضعتم هذا الغرض الشريف (ترقية الأمة) نصب أعينكم ووطننتم أنفسكم على السعي له في طريقه والدخول عليه من بابه، فإنكم في كل يوم تزدادون فضيلةً وهمةً وإقدامًا. ألا وإن التخلية مقدمة على التحلية، فينبغي أن تطالبوا أنفسكم بأن يراكم قومكم في منصرفكم هذا اليوم خيرًا مما فارقوكم عليه خلقًا وأدبًا ورأيًا وعملاً وقولاً، يجب أن لا يروا منكم ما ينكرون، وأن لا يسمعوا منكم ما يكرهون، يجب أن يروا منكم العفة والنزاهة والتقوى والصدق والغيرة والحماسة والفتوة، يجب أن لا تدعوا لهم مجالاً للشك في دينكم، ولا إخلاصكم لأمتكم ودولتكم، فإن ارتفعت همتكم إلى ذلك فأبشروا؛ فإن فوزكم فيما تريدون من إيقاظ الأمة وعزة الدولة سيكون قريبًا. لا تظنوا أن من كان فاقدًا لشيء من تلك الفضائل، أو مبتلى بشيء من المعايب، وتكلف إخفاء عيبه، وإظهار فضيلة ليست خلقًا له، يعد مرائيًا منافقًا، فإن الرياء والنفاق هو أن يصر المرء على عيبه، ويرضى بالبقاء عليه، ويحاول أن يوصف بضده، أو أن يعمل العمل أمام الناس ليقولوا: فلان عمل. وهولا يرغب في ذلك العمل ولا في أن يكون من أهله، ولست في هذا أرغبكم بالرياء وإنما أرغبكم في التكلف الذي هو طريق التخلق، فالحلم بالتحلم، كما أن العلم بالتعلم، والترك داعية النسيان والهجر وسيلة السلوان، على أن من يتكلف الخير رياءً، أقرب إلى الخير والكمال ممن يعمل السوء جهارًا، وقد قالوا: الرياء قنطرة الإخلاص. أراني أطلت عليكم في مسألة واحدة ما كنت أريد الإطالة فيها؛ كيلا يفوتني القصد فيما يبنى عليها، وهو ما ينبغي أن تحثوا الناس عليه، وترغبوهم فيه، وإنني أذكر منه ما خطر ببالي من المهمات. أول ما تعنون به الترغيب في العلم في المكاتب والمدارس الرسمية والدينية الأهلية على حسب الرغبة والميل وتيسر الأسباب. لا حديث كحديث العلم والتعليم يجب التوسع فيه، والتبسط في أرجائه ومناحيه، فبينوا للأمة فوائد التعليم الأهلي الوطني وأقنعوهم بأن ترقي الأمة لا يكون إلا به، ورغبوهم أيضًا في مكاتب الحكومة، وبينوا لهم كيف يتوقف ترقي الدولة على نابغي المتخرجين في مكاتبها الملكية والعسكرية والعلمية والقضائية وكيف تتزاحم العناصر العثمانية فيها؛ لأن هذا العصر هو عصر المباراة بين العناصر. من فروع أحاديث العلم أو أصوله مسألة اللغة فبينوا للأمة وجه الحاجة إلى إتقانها لغتها، وجعلها هي القطب لترقيها في نفسها وبينوا لها وجهة توقف ترقية الدولة على إتقانها لغتها، وجعلها هي القطب لترقيها في نفسها، وبينوا لها وجه توقف ترقية الدولة على إتقان لغتيها: لغتها الرسمية المنسوبة إلى مؤسسها وهي العثمانية، ولغتها الدينية من حيث هي أكبر دول الإسلام وهي العربية، التي تستمد منها الدولة علوم الدين والأدب والقضاء. ويحسن الانتقال من الترغيب في التعليم العسكري إلى الترغيب في الجندية نفسها، حببوا هذه الخدمة الجليلة للأمة، بينوا لها الفرق العظيم بين الجندي البائس الحقير الجائع العاري الحافي في زمن عبد الحميد، وبين الجندي العزيز الكريم الشبعان الكاسي الذي خصص له في ميزانية الحكومة الدستورية أكثر من أربعة آلف قرش في السنة؛ ليبين كل من العرب والأرنؤود لأهل بلادهم أنه لا يليق بهم أن يكونوا أشد العناصر تقصيرًا في هذه الخدمة الشريفة من حيث هم أجدر العناصر بالسبق إليها والتبريز فيها لما هم عليه من الشجاعة والحمية والإقدام. أخبروا أهل كل مدينة وكل قرية وكل حلة وكل دار تحلون فيها عن همة أبناء وطننا الأرمن أنهم يمرنون جميع أولادهم في جميع مكاتبهم ومدارسهم على التعليم العسكري بلغتهم فسيكون جميع أفراد هذا الجيل الجديد من الأرمن جنودًا، سواء منهم الغني والفقير والرفيع والوضيع، يقولون: من دخل من أبنائنا في جندية الدولة كان متعلمًا متمرنًا لا يلقى تحكمًا ولا إهانة بل يكون سابقًا مقدمًا سريع الترقي، ومن لم يدخل منهم لا يضره هذا التعليم الذي يروض بدنه ويعلي همته ويزيد نشاطه وقد يفيد في يوم ما، فإذا رضي بعض قومكم بأن لا يكون للتعليم الأهلي عين في بلادهم ولا أثر بعد العلم بأن التعليم عام في الأرمن شامل لجميع ذكرانهم وإناثهم، فهل يرضون أيضًا أن يسبقوهم في ميدان الشجاعة والإقدام، كما سبقوهم في حلبة العلم والعرفان، إن كانت قد مرضت عقولهم ولقست نفوسهم حتى رضوا بالأولى فهل خمدت حميتهم وتضاءلت شجاعتهم فيرضوا بالأخرى؟ هذا ما لا يعترفون به أبدًا بل لا يعترفون بالأولى أيضًا، وإنما يعتذورن عنها، فطالبوهم بإزالة العذر بالقول والعمل. من هذا الباب أدخلوا على قلوبهم، من هذه النافذة أشرفوا على خفايا الغيرة من زوايا سرائرهم، بهذا الأسلوب من القول حركوا سواكن النجدة والحمية من نفوسهم، ثم أقنعوهم بأن الإحصاء الدقيق لنفوسهم هو الوسيلة الأولى من وسائل الخدمة العسكرية الشريفة، وأن للإحصاء فوائد أخرى أهمها تكثير عدد المبعوثين. على ذكر المبعوثين أقول: إنني أعلم أنه لا بد لكم من الخوض في أمر المبعوثين، وأعلم أن كثيرًا منكم يغلون أو يغرقون في تنقدهم فأوصيكم في هذا المقام بثلاث: 1- أن يكون جل كلامكم في ذلك علميًّا كبيان معنى الحكومة النيابية، وما ينبغي أن يكون عليه النواب المبعوثون من العلم بالمصالح العامة ومن الصفات والأخلاق كاستقلال الرأي والإخلاص والشجاعة وحسن البيان وقوة العارضة، وما يترتب على ذلك من ترقية الأمة وعمران بلادها، ومن إصلاح حال الدولة ورفعة شأنها، فالبحث في هذا هو الذي يعد الأمة إلى حسن الاختيار في الانتخاب الآتي. 2- أن تذكروا المحسن من المبعوثين بإحسانه والهمام بهمته؛ لتعرف الأمة قدره وتكرمه؛ فيكون الشكر مدعاة المزيد من حسن خدمته والارتقاء فيها، وما وجب شكر المحسن في الشرع وحسن في نظر العقل إلا ليكون مدعاة المزيد من الإح

البهتان العظيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البهتان العظيم كنت سامرًا مع ناظر الداخلية بداره في أوائل المحرم فذكرنا سوء التفاهم بين العرب والترك فذكر أن عبيد الله أفندي مبعوث آيدين سينشئ جريدة عربية في العاصمة لأجل هذه المسألة، وفهمت منه أن ذلك برأي الحكومة ومساعدتها قلت: يخشى أن تزيد هذه الجريدة في سوء التفاهم فإن مديرها مشهور بالتعصب على العرب فلا يثقون بقوله ولا بنيته فهلا اخترتم لهذا العمل غيره. قال الناظر: إنه يظهر لنا أنه محب للعرب غال فيهم ولعلكم سمعتم ما ذكرتم عنه من بعض مناظريه من مبعوثي العرب. قلت: لا وإنما أنا أعرفه بنفسي فإنه كان بمصر وكان يصرح في المحافل العامة بما يستنكره العرب، وبأنه ينبغي للترك أن يستغنوا عن اللغة العربية حتى عن القرآن العربي بأن يترجموه بلغتهم وقد جرت بيني وبينه مناظرة في ذلك. قال الناظر: أما الاستغناء عن القرآن العربي بترجمته فلا أوافقه عليها ولكنني أعرفه محب للعرب. وفي ذلك الشهر نفسه أصدر عبيد الله أفندي جريدته وكان من أمرها ما عرف الخاص والعام فقد قامت عليها قيامة الجرائد العربية في مصر وولايات سورية كلها، وفي أمريكة تفضح مقاصد صاحبها وفي إلقاء الشقاق والبغضاء والتعصب الذميم الجنسي والديني بين العرب وشكوه إلى الحكومة وطعنوا في الحكومة، ولا سيما نظارة الداخلية؛ لما شاع وذاع من مساعدتها له وصار يضرب باسمه المثل في التفريق والإفساد بين جميع الناطقين بالضاد. ونحمد الله أن جاء ما سعى إليه في جريدته من إثارة الفتن بين المسلمين والنصارى في بيروت وسائر البلاد السورية بضد ما سعى إليه فقد تمكنت الألفة والوحدة الوطنية بين الفريقين واتفقت جرائدهما على ذلك. من غرائب هذا الرجل أنه يجمع في جريدته بين الأضداد والنقائض فيمدح الشيء ويذمه مطلقًا، ويثبت الشيء وينفيه كذلك، ويحث على الأمر وينفر عنه فإذا اعترض عليه في بعض ما يكتبه أمكنه أن يدعي لنفسه الطرف الآخر ويستدل عليه ببعض ما كتبه، فهو في مشربه وحاله وعقله وأخلاقه ليس أهلاً لأن يناظر أو يجادل، وإنما اهتمت الجرائد العربية بشأنه لاعتقادها أن الحكومة هي التي دفعته إلى هذا العمل ولأجل أن تتخذ فتنته ذريعة لجمع الكلمة بين أبناء الوطن العربي لمقاومة من اتفقوا على أنه عدو لكل عربي. ومن غريب أمره أنه لا يستحيي من مكابرة الحس، وإعطاء الضد حكم الضد، فهو يصرح بأن العرب كلهم مسلمون وأنه لا يعقل هو ولا أحد من الترك أنه يوجد في العرب نصراني , ومثل هذا في المكابرة ما بهتني به، ويا له من بهتان عظيم قلما يوجد في المخلوقين بشكل الإنسان من يرضى لنفسه التصريح بمثله!! وهو بهت الإنسان جهرًا في كتابة تطبع وتنشر بضد ما هو مشهور به وتحريف كلامه المعروف عندهم والإصرار على ذلك بعد إنكار الجماهير عليه في الأقطار المتفرقة والبلاد الكثيرة. أحمد الله تعالى أن عرف لي كل من يعرفني إخلاصي في الدعوة إلى الوفاق والاتحاد بين المتفرقين في الأديان والمذاهب والأجناس والمشارب، فكم دعوت المسلمين إلى الاتحاد وكم سعيت في هذه السبيل , ولما حدث ما حدث بعد الدستور من سوء التفاهم بين العرب والترك سعيت إلى تلافي ذلك بالقول والكتابة والسعي عند أولي الأمر في العاصمة، لكن لم يظهر لي أحد من أولي الأمر العناية بما سعيت إليه إلا حسين حلمي باشا في وزارته ولكن سر به كثيرون من الفضلاء، وكنت نشرت عدة مقالات في ذلك بجرائد العاصمة التركية والعربية قبل ظهور جريدة الحضارة وعدة مقالات في هذه الجريدة. حدق عبيد الله نظره في هذه المقالات ودقق النظر ليجد فيها عبارة تقبل التحريف بمراد ظاهر؛ ليجعله تكأة له في هجوي وذمي والتنفير عني وعن مشروعي فلم يجد، فعمد إلى البهتان المبين فنقل من إحدى مقالاتي في جريدة الحضارة جملاً محكية عن ساسة أوربا الذين يريدون القضاء على هذه الدولة بتفريق عناصرها مع الرد على أولئك الساسة وتحذير العثمانيين من الإصغاء إليهم وحثهم بالبراهين على الاتحاد الذي فيه خيرهم أجمعين. فزعم أولاً أنني كتبت تلك العبارة عن لسان الأوربيين لأجل تفريق العثمانيين وأنه لا يوجد في الأوربيين من يغرينا بالتفرق، وإنما هم يدعوننا إلى الوفاق!! ثم سكت مدة وصار ينقل تلك العبارة ويعزوها إليّ مباشرة، وترجمها إلى التركية غير مرة لينفر إخواني الترك مني، ولم يخجل من ادعائه أنني أنا الذي أقول تلك الأقوال وأدعو العثمانيين إلى التفرق والانفصال، فمثله كمثل من يعمد إلى مثل قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان: 4) الآية وقوله: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) فحذف من الآيتين لفظ (قالوا) وزعم أن القرآن يطعن في القرآن وفي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم - سبحانك هذا بهتان عظيم - وقد روينا في الصحيحين والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت) . أنكر عليَّ عبيد الله أولا أن في الأوربيين من يرى في ترويج سياسته تفريق العثمانيين بعضهم من بعض ولا سيما الترك والعرب، أنكر ذلك وهويعرفه كما هي عادته وفي كلامه ما يشعر به صرح به في العدد الأخير من جريدته الذي أعلن فيه إيقاف إصدارها الآن، ولكن الغافلين من قرائها الذين ينسون عند قراءة كل عدد ما كتب في غيره بل عند كل جملة ما يناقضها من الجمل قبلها قد يصدقونه فيما بهتني به ومن الأخلاق التي رسخت في هذه العاصمة، وفي رجال هذه الحكومة خلق التسليم والتصديق بالشر والارتياب في الخير طبع هذا الخلق في نفوس الكثيرين منهم العهد الحميدي الذي لم يكن لهم فيه من شاغل إلا الوسوسة والتجسس والاتهام بالشر. هذا وإننا نحن الذين عشنا في شر أيام العهد الحميدي في مصر بعيدين عن استبداده وعن وساوسه أعرف بسياسته من الذين عاشوا فيه وأعرف بسياسة أوربا أيضًا وقد أشرت في مقالات (العرب والترك) إلى بعض سعي الإفرنج من استقلال العرب وعبيد الله يعرف شيئًا من هذا ولكنه يتعمد كتم الحق واظهار الباطل لما له من الهوى في ذلك. ويمكنني أن أنقل كلمة وجيزة في هذا الباب من الكتاب المسمى (الدول المعظمة أمام الانقلاب العربي) الذي ألفه أوجين جونغ الذي كان واليًّا لفرنسا في الهند الصينية وهي قوله في ص 228 ما ترجمته: (إن العناصر التي تتكون منها الدولة العثمانية وهي الألبان والمكدونيون في أوربا والروم في جزائر الأرخبيل والأرمن والأكراد والعرب في آسيا كلها أصبحت منذ زمن تتحرى طريق الانفصال من هذه الشجرة التي نخرها دود الفساد، فلو نظرنا إلى كل من هذه العناصر نجد العنصر التركي أدناها (أدونها) إلا أن السبب الذي ساعده على استبقاء نيره على عاتق هذه العناصر إلى اليوم إنما هي معونة العنصر العربي له الذي هو في نفسه أكثر عددًا من جميع تلك العناصر وفي جملتها العنصر التركي، وما وفق الترك إلى ضمان إخلاص العرب لهم وارتباطهم بهم على كونهم يظلمونهم كسائر العناصر إلا باستنجادهم الديني لشعورهم الديني وجعل المصلحة التركية عين المصلحة الإسلامية. فالعرب اليوم قد شعروا بوجودهم وصاروا يأنفون أن يخدعوا بعد ذلك وأن يحافظوا على سلاسل أسرهم وأغلال استعبادهم، فيكفي أن يمد العرب إمدادًا قليلاً حتى تتهدم الدولة العثمانية من نفسها كما ينهدم القصر المبين من ورق اللعب) اهـ فهذه كلمة وجيزة من أحد الكتب الكثيرة التي ألفها الأوربيون لإغراء أوربا بفصل العرب من الترك وإسقاط هذه الدولة - لا سمح الله - وقد صدق في قوله: إن العرب مخلصون لهذه الدولة ولإخوانهم الترك وإن سبب ذلك الإسلام. وكذب إيهامه لقومه أننا تحولنا عن إخلاصنا، ولكن إذا بقيت جريدة عبيد الله تنفث سموم التفريق والإفساد حتى أنست العرب ما كتبته (إقدام) وغيرها من قبل، ولم تتدارك هذه الحكومة ذلك وسائر ما نصحنا لها بتداركه فلا يعلم إلا الله مصير الأمور، ونحن قد نصحنا قومنا ونصحنا حكومتنا كما أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله: (الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.

خديجة أم المؤمنين ـ 12

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ خديجة أم المؤمنين عبد الحميد الزهراوي الفصل الثالث والعشرون [*] (إعلان الدعوة، واحتمال الأذى، والثبات) لم تقف فضائل السيدة خديجة، عندما ذكرناه إلى الآن من سيرتها بل هي كالينابيع الثرورلا تغيض. والآن يشرف القارئ معنا على مجلى من أعظم المجالي لفضائل هذه السيدة الجليلة. جاء الآن دور الثبات في سبيل الحق، وهذا الثبات لا نجده في كل عصر إلا في صحائف أفراد ندرتهم بين بني آدم أعظم من ندرة الياقوت بين الحجارة، وكثرة فوائدهم أعظم من قطرات الغيث. لقد مر على بني آدم ألوف من الأعوام، وفي كل عصر وجد منهم ألوف الألوف ومن كل هذا العدد العظيم لا نعرف مائة ثبتن في سبيل الحق مع شدة المعارضة ثبات (خديجة) أما ثبات بعلها الكريم فلا ينبغي أن نقيس به بعدما قدمناه ثبات أحد، فإنا قد وصلنا في الفصول السابقة إلى بيان أنه مؤيد أعظم تأييد، وأنه سمع الوحي الإلهي آمرًا إياه أن يقوم بأعباء الرسالة والتبليغ، فأصبح الفرق بينه وبين غيره عظيمًا جدًّا منذ أتاه هذا الوحي، وعندنا معشر المؤمنين به أنه هو المختار الأعظم والمصطفى الأكبر، فلذلك لا نرى ثباته في سبيل الحق يعادله أو يقاس به ثبات. ظل هذا المختار ثلاث سنين يدعوا سرًّا ثم أمر أن يجهر بالأمر فلم يجد إلى جانبه زوجة تثبط وتخوف أو يضعف قلبها فتؤثر الراحة وطمأنينة البيت على النصب واحتمال الأذى، بل وجد قرينة صالحة القلب للوقوف معه بالصبر والسكينة أمام المعارضين والمعارضات وما أشد ما كان أمام هذا الداعي إلى غير ما عرف القوم! وما أحوج هذه الحالة إلى قلوب كلما كبر المعاندون كيدًا تقول: الله أكبر! الله أكبر، كنا المعاندون أفرادًا وجماعات قد امتلكت الأنفة والعزة نفوسهم، واجتذبت قلوبهم، وامتصت من أفئدتهم النداوة فأصبحت نسمات الهدى تزعجها، وحرارة الإنذار تكاد تحرقها. قريش وما قريش؟! قبيلة ترى لنفسها السبق بكل فضيلة والشرف على كل فصيلة، ولها أنوف شامخة كأنها تطاول السماء، وأعناق متلعة كأنها تتصيد كل علياء تعاد كل قوم بالنجباء فتكْثُرُهم، وتفاخر من تشاء بالعظماء فتفخرهم، مثلها بين القبائل كالشمس مكانة، وكالروضة نضرةً وعبيرًا، هذه القبيلة التي حالها ما وصفنا من قوى الشكيمة وشدة الإباء ومزيدا التعالي كانت قد أصيبت من الاقتداء بمضرته إذا كانت بعض العقائد التي صادفتها في موردها ومصدرها في البلاد المجاورة قد التصقت بعقولها حتى أصبحت ترى التصدي لاقتلاعها منها اعتداء على حقوقها، وانتهاكا لحرماتها. هذه القبيلة كان لها من نور الذكاء ما يبهر الناظرين ولكن قد تراكمت على أفكارها سحائب من آثار التقليد حالت بين ذكائها وبين الحقائق العالية حتى رأيناها تدرج مع البلداء في مدرج واحد من تأليه صور صماء عمياء بكماء جامدة قد صنعتها الأيدي فقامت تحسب أن هذه الصور تضر وتنفع وتجلب وتدفع وتقرب إلى الخالق الأعظم وتشفع، وراحت تعلن أن لهذه الصور مجدًا، وتستحق شكرًا وحمدًا، وظلت تصنع لها ما تصنع الأمم لآلهتها من ذبح القرابين، ونذر النذور، وتوجه القلوب، وإخبات الصدور، وتعلق القلوب. نعم ساورت تلك العقائد قلوبها حتى صارت الأنفس فيها لا تنبسط لشيء انبساطها لتمجيد تلك الآلهة ولا تقبض لشيء انقباضها للطعن فيها أو النقص من تكريمها. هذه حال القوم الذين أمر هذا الرسول أن يقوم فيهم منذرًا وداعيًا إلى معرفة الله تعالى وتوحيده، وكانت قريش تعرف هذا الاسم الجليل الدال في هذه الأمة على واجب الوجود موجد السماوات والأرض ولكن لم تكن تعرف ما ينبغي أن يكون عليه جلال الذي يعبر عنه بهذه الكلمة من الكمال والبعد عن مشابهة الحوادث، وقد جرها الجهل بالله تعالى وسننه وآياته إلى ما جر كثيرًا من الأمم إليه من جهل كثير من الحقائق. وإني ما أشبه نتائج الجهل به عز وجل إلا بسلسلة طويلة يستدرج بها ذلك الجاهل إلى أسوأ النهايات إذا لم تتداركه الأسباب من عناية الرؤوف الرحيم جلت آلاؤه، وتعالت أسماؤه. ولقد كاد حظ قريش من هذه السلسلة - سلسلة الجهل - يصل بها إلى مستقر لا تغنيها فيه الرفعة على أمثالها ممن يضرب الجهل خيامه عند خيامهم، ولا تجديها القوة اليسيرة التي كانت تجدها في اجتماعها ذلك. كاد الاتكال على الأصنام يعفّي كل آثار الفطرة منها، ويطمس كل رسوم الذكاء، ويذهب بما تركه فيها من المحاسين بعض فضلاء الأسلاف قبل عهدهم بهذه الآلهة التي فتنوا بها، أصبحت لا تعي ما هو فضل الله، وما هي رحمة الله، وما هي عناية الله، وغدت بعيدة عن معرفة ما هو الروح، وما هي خصائص الروح، وما هي عبادة الروح للأحد المحيط بكل شيء، وراحت معرضة عن العلم بمراقي الأمم واتساع دائرتها، وعن معرفة وظيفتها من تتميم إرادة الفاطر بإظهار البدائع على يدها، وظهور آلائه وآثار عنايته عليها، وأصبح قصارى ما يجول بفكر الواحد من هؤلاء القوم أحد شيئين يشيلان في ميزان العقلاء: شيء يرضي به وهمه في التزلف إلى تلك الحجارة التي اتخذها آلهة، وشيء يرضي به وهمه في الكبرياء، ولم يدر مغرورهم أن التزلف إلى تلك الحجارة وأمثالها هو منتهى التسفل العقلي، وأن تلك الكبرياء لا تجديهم شيئًا إذا دهمهم داهم خارجي كما وقع لهم يوم أبرهة. هذه السلسة الطويلة من نتائج الجهل بالله تعالى وسننه وآياته أصبحت قيدًا لمداركهم قد أحكمت حلقاته فهم لا يستطيعون ما دام موجودًا أن يبرحوا ما هم فيه لأن جاذبًا منه يجذبهم من حيث لا يرونه كلما تحركوا. هذه هي السلسلة التي اقتضت عناية البارئ أن تظهر آية عظيمة في قدها وتخليص تلك الفطرة من قيدها، واقتضت الحكمة البالغة والتدبير الأسمى أن يكون ذلك بواسطة من أنفسهم، وأن تجري الهداية على سننها في الأولين فيلاقي الواسطة ما يلاقي، ويصبر ما يصبر، ويتم الله ما يريد. ولذلك لما قام هذا المصطفى يعلن هذه الدعوة لقي تلك الصوادم، وما تلك الصوادم؟ جهل وغرور، وكبرياء وعتو، وقسوة وفظاظة، وتعصب للمألوف، ونفرة من الوعظ والنصح، وإباء أمام الإنذار، وطغيان وبهتان وعدوان، وإقدام على قتل الذي يذكر آلهتهم بما يكرهون. أي قلب لولا التأييد الرباني يجد إلى الصبر سبيلاً أمام هذه الصوادم؟ وأي ناصية لولا العون الرحماني تظهر للقاء هذه الصوادم؟ وأي امرأة غير (خديجة) ترى بعلها في جوف هذه الغوائل ثم لا تزيده إلا حمدًا على القيام بوظيفته وإيناسًا بوقوفها معه في وجه كل خصم لدود؟ أوذي (عليه صلوات الله وتسليماته) بأنواع الأذى لما أسمعهم الدعوة، تكاثر المفتاتون عليه والمفترون، وظاهر سوادهم الجاحدون والممترون، من أقرب أقربائه ظهر الجافون المتباعدون عنه، والهازئون به والساخرون منه، دع عنك البعداء، ومن أكل قلبهم حسد أو بغضاء، قال المفترون: هو يطلب الملك علينا. وقالوا عن الوحي الآلهي: هو شعر جاء إلينا. وقد حشروا ما عرفوه من الغيوب، وأرادوا عزوها إليه؛ لينفروا الناس منه وينتقموا لآلهتهم التي بدههم يجحودها، وكشف لهم عوار جمودها، وأيسر ما فعلوه سبهم إياه والهزء به والافتراء عليه ومجافاته، ثم مجافاة من لم يجافه. فعلوا كل هذا وهو متدرع بالصبر، مثابر على الصدع بالأمر، وفي هذا كانت معه هذه الدرجة الشريفة الفاضلة تعلم محبي الحق كيف يكون الصبر من أجله، وتهدي إلى الأجيال الآتية أجمل صورة لثبات الجأش أمام الصعوبات. ويا ما أحلى الصبر إذا كانت عاقبته كعاقبة صبر هذا الرسول الكريم! فقد كانت العقبى ذلك الفوز العظيم الذي يقل في الدنيا من لم يسمع خبره. ولنعم عقبى الصابرين. خلاصة الدعوة أما الدعوة الشريفة التي أعلنها فهذه أصولها: 1- العلم بأن لا شيء يستحق التأليه إلا الله الخلاق العظيم الذي لا يشبه الحوادث ولا يشبهه شيء منها. 2- العلم بأن هذا البارئ المصور ذو عناية خاصة بالنوع الانساني، ومن عنايته به إتحافه بصنوف الهدايات ومنها الهداية بواسطة وحي أعلى للرسل المصطفين. 3- العلم بأن هذا الداعي الجديد إلى الله هو رسول مصطفى قد أرسله الله بدين يدعو إلى السعادة في هذه الحياة وحياة أخرى يوم الجزاء. 4-العلم بأن الإيمان بهذا الرسول يقتضي الإذعان والتسليم إلى كل ما جاء به. هذه أصول الدعوة التي كان مأمورًا أن يبدأ بها الناس. وهي ملخصة بهاتين الجملتين الشريفتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فمن قالهما مطمئنًا بهما قلبه دخل تحت اللواء المحمود لواء المحمدية الذي يظل مئات الملايين في يومنا هذا. والرسالة المحمدية لم تكن لقريش ولا للعرب خاصة بل هي للناس كافة ولكن البدء بالعشيرة الأقربين كان هو الذي تقتضيه الحكمة حتى إذا أجابوا كانوا عونًا للدعوة لا عونًا عليها. *** الفصل الرابع والعشرون (بعد عشر سنين) بعد عشر سنين من عهد الرسالة كان المؤمنون قد كثروا وأخذ العناد من الخصوم يزيد، وجعل الحسد يلتهب في قلوبهم لهذا النجاح الذي كانوا يحسبونه محالاً وكم يحسب أمثالهم مثل هذا الحسبان. كان الجاحدون في نار من ذلك الحسد، والمؤمنون في جنة من الفرح بنعمة الله ورحمته، كان الجاحدون يفكرون كيف يزهقون هذا الروح الجديد، والمؤمنون ينتظرون من مولاهم إعلاء شأنه، كان الجاحدون حيارى في هذا الداعي، فطورًا يسبونه وطورًا يهزؤون به، وأحيانًا يرجعون إلى أنفسهم ويحاسبون حسهم وعقلهم فيه؛ فيجدونه بعيدًا عن المين وسائر المظان التي كانوا يظنون. وكان المؤمنون من يقينهم في حظ عظيم من الطمأنينة وانشراح الصدر وفرح الضمير. كان الجاحدون يرجعون إلى تلك الحجارة فيشكون إليها المحمديين وما أتوه من مخالفة قومهم وتأييد ذلك الرجل الذي لا يذكر آلهتهم إلا بسوء. وكان المؤمنون يرجعون إلى من لا تدركه الأبصار متوجهة إليه وجوههم، مسلمة إليه قلوبهم لا يتوكلون إلا عليه ولا يأخذون إلا بسننه. كان الجاحدون عكوفًا حول تلك الأصنام الجامدة، وكان المؤمنون يقولون: سبحان الله، سبحان الله عما يصفون، تعالى الله علوًّا كبيرًا. كان الجاحدون كثيري الغم والهم، وكان المؤمنون مع شدة ما لاقوه من الأذى فرحين مستبشرين قد أبدل الله لهم مرارة الصبر حلاوة، وذلة القلة عزة. وفي أواخر تلك السنين العشر الشداد كان على سرير الاحتضار شخص عزيز جدًّا عند المؤمنين. ولم يُشَمِّت الجاحدين في تلك الأيام شيء مثل مغادرة هذا الشخص لذلك العالم الإسلامي الذي نشأ وترعرع بينهم بالرغم منهم. كان في هذا الشخص العزيز روح ترفرف في هذا المحيط الصغير، تارة ترفع البصر إلى مقرها الأقدس عند المحيط الأعظم فتحاول الطيران إليه، وتارة تلقي به على هذا المحيط الذي أنست به فتظل مرفرفةً عليه، وجانحة إلى العكوف لديه، وكان جاذب من قلوب هذه العالم الإسلامي يتمنى بقاءه، وجاذب من أمر الله وسنته يقضي بطيرانه، وأمر الله أعلى وإليه المصير. هل عرف القارئ من هذا المودع العزيز ذلك كان شبح سيدتنا (خديجة) فقف أيها القلم خاشعًا، لقد ماتت من تركت للفضائل حياة لا تفنى، لقد انتهى هذا العمر الذي أمدك بهذه المواد السامية، ولن تجد لك أيها القلم شرفًا بعد هذه السيرة إلا إذا سرت بنقل التاريخ المحمدي. سبحان رب الكون هذا حكمه ... في الروح سيمت بهذا الواقع مرآتها هذا الشخوص بها ترى ... زمنًا وترجع للمحيط الواسع لقد مرت روح سيدتنا خديجة بهذه الدار فرأينا منها ما نقلناه

محاربة المنار للتقليد ومذهبه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاربة المنار للتقليد ومذهبه س32 من صاحب التوقيع بسمبس (برنيو) حضرة العلامة المفضال العظيم، الفهامة الأستاذ الحكيم، سيدي السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر شيد الله بوجوده منار الإسلام، واهتدى بهديه الأنام. وبعد إهداء كل تحية واحترام، فلقد كان المنار منذ سنين حارب فيها التقليد والمقلدين، ودعاهم إلى الاهتداء بالسنة وكتاب رب العالمين، وحسم بسيف الدليل والبرهان ألسنة المبتدعين، وعنى توحيد المذاهب الإسلامية المختلفة طبقًا للكتاب والسنة النبوية، إن ذلك لحق. ولكن رأيت في ذلك داء يجب تداركه بالعلاج حيث توهم كثير من الناس أن صاحب المنار لم يتمسك بمذهب من مذاهب الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم بل هو مستقل بمذهبه، حتى قال بعضهم: إذا كان هو قد خرج من مذاهب الأئمة ورفض كتب المتقدمين , وأخذ يجتهد فإني لا أتبعه بل أتبع العلماء المتقدمين وأَطَّلِعُ على كتبهم وأقرأ فيها فإن للاجتهاد شروطًا كثيرة بل نقل ابن حجر عن بعض الأصوليين أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد؛ أي: مستقل فما رأيكم في هذا الوهم؟ فهل تستحسنون أن تزيلوه وتبينوا مقاصدكم بالاستقلال أم تسكتون عليه؟ هذا والسلام نِعْمَ الختام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ع (ج) قد تكرر بيان هذه المسألة في المنار، وصرحنا غير مرة بأننا لم نقصد قط أن ندون لنا مذهبًا نحمل الناس على اتباعه، وأننا لا ندعو أحدًا إلى تقليدنا بل لا نجيز له ذلك وإنما ندعو المسلمين إلى البصيرة في دينهم اتباعًا لقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فنحن باتباعه صلى الله عليه وسلم ندعو إلى الله - عز وجل - بفهم كلامه والتأسي برسوله مع البصيرة؛ أي: الدليل والحجة، فمن ظهرت له الحجة والبصيرة فيما نكتبه فاتبعها لا يكون مقلدًا لنا، وإنما يكون متبعًا للبصيرة التي يرضاها الله له، ولا ننهى أحدًا عن طلب البصيرة في الدين من كتب الأئمة المتقدمين بل نأمر بذلك ونحث عليه، ونحب لكل الناس أن يستفيدوا منها كما استفدنا ونستفيد دائمًا. وإنما نذكرهم بأن يطلبوا منها البصيرة بفهم كلام الله وكلام رسوله واستبانة سنته، لا لأن يجعلوا كلام العلماء هو المقصود لذاته. فقد ذكر الإمام المزني صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنهما في أول مختصره لمذهب الشافعي أنه نقله ليستعين به الطالب له. قال: مع إعلامه بأنه؛ أي: الشافعي لا يجيز له ولا لغيره أن يقلده به. فنحن نستعين بالمفسرين على فهم القرآن ولا نقلد أحدًا منهم في فهمه وإنما نتبع البصيرة متى استبانت ونستعين بكتب المحدثين والفقهاء على فهم السنة ولا نقلد أحدًا منهم في رأيه وإنما نتبع البصيرة، ونحث إخواننا على طلب البصيرة في الكتاب والسنة بقدر الاستطاعة وإن كانوا متبعين لبعض المذاهب فهي لا تمنعهم أن يكون لهم حظ من الاعتداء والبصيرة. وليعلم السائلون وغيرهم أن الأصل في التقليد هو الثقة فقد جرت عادة الناس باتباع من يثقون به، ولهذا راجت بين المسلمين بدع وضلالات كثيرة باسم الإسلام كطوائف الباطنية، فمتى انقطع الناس عن فهم الكتاب والسنة انقطعت الصلة الحقيقية بينهم وبين دين الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم وحرموا البصيرة التي هي سبيل الله واتبعوا السبل المختلفة مخالفين لقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153) ولذلك نهى أئمة الفقه الأربعة وغيرهم من أئمة السلف عن التقليد الذي هوالأخذ بكلام من يثق المقلد بهم من غير بصيرة في الكتاب والسنة، وكيف لا ينهون عن ذلك ويعلمون أنه يصد الناس عن سبيل الله ويحملهم على الاستغناء بكلام غير المعصومين الذين لا يسلم أحدهم من الخطأ مع حسن القصد فكيف إذا وثق الناس بفساد السريرة المتعمد لهدم الشريعة كالباطنية، وقد كان أحدهم يرجع عن كلامه بعد أن يكون نقل عنه. وقد رجع الشافعي بمصر عن مذهبه الذي وصل إليه اجتهاده قبل ذلك فصار الناقلون لعمله يقولون: المذهب القديم والمذهب الجديد وقد رأيت قول صاحبه المزني في عدم إباحته تقليد أصوله. وخلاصة القول:إننا ندعو المسلمين إلى الاهتداء بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كل بقدر استطاعته. وإن طالب الاهتداء من العامة يمكنه أن يسأل العلماء عن ذلك عند الحاجة إليه لا عن رأيهم وفهمهم لكلام المقلدين فقط كمتأخري الفقهاء، وقد فصلنا القول في ذلك من قبل تفصيلاً، ولا يتم هذا الاهتداء إلا بالعناية باللغة العربية. ولا شيء أضر على الإسلام في هذا العصر ممن يدعو إلى ترجمة القرآن إلى اللغات المختلفة؛ ليستغني المسلمون بالترجمة عن القرآن المنزل من عند الله عز وجل بلسان عربي مبين، فالغاية من هذه المفسدة إذا وقعت لا سمح الله أن يكون الأعاجم من المسلمين عرضةً لترك الدين وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى.

هل يعتد بإيمان أهل الكتاب بعد الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هل يعتد بإيمان أهل الكتاب بعد الإسلام س33 من أحد علماء تونس المستقلين صاحب الإمضاء. مقام حجة الدين وإمام أئمته المصلحين سيدي محمد رشيد رضا صاحب المنار الزاهر أعلى الله به كلمة الحق. علمت بما اطلعت عليه من مجلدات المنار الأغر رأيكم في معنى الإسلام وهو ما هدتني الفطرة إلى فهمه من قوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ} (الحج: 78) ولم أكن أقرأ المنار، ولكن أشكل عليّ - حفظكم الله تعالى - ما يلوح من كلامكم في هذا الغرض من أن الإسلام الذي تكون به النجاة في الآخرة هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح من أي أمة كان صاحبه وفي أي زمان وجد ومكان فهل رأيكم - رفع الله بكم قواعد الدين - أن الذين هادوا والنصارى اليوم يفوزون يوم الجزاء برضوان الله تعالى؛ إذا هم آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا الصالحات وإن كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، والذي كنت أفهم من معنى الإسلام ولن أزال أفهم أنه الإيمان بالله واليوم الآخر وتصديق الرسل، فمن آمن بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم مُسلم عندي بلا شك، كتبت إليك؛ لأكون على بينة من رأيكم فإني لا أدين بالظنون واللوائح، ولا أسكن إلى ما تمليه عليَّ الظواهر، وقد استفدت هذا الخلق من قراءة ما تكتبون والله يحفظكم. ... ... ... ... ... ... ... ... (أحد القراء بتونس) ج - لكل مقام مقال ونحن قد صرحنا من قبل في بعض المقامات بأن الإيمان هو كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره من الله تعالى، وفسرنا الإسلام في التفسير بما علمه السائل الفاضل ورضيه، وقال: إن الفطرة هدته من قبله إلى فهمه وهو ما يتبادر من القرآن الحكيم، ونفسره في مقام آخر بما جاء في الحديث من الأعمال أو الأركان الخمسة، وفي مقام آخر بأنه الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مجموعه ونحن نرى السائل هنا فسر الإسلام بالإيمان بالله واليوم الآخر وتصديق الرسل. وهذا التفسير ليس هو الذي فهمه من القرآن، ولا هو الذي ورد في الحديث في جواب جبريل، ولا هو الذي يفسره به العلماء، وهو يعرف ما ورد في الحديث وما قاله علماء العقائد في تفسيره كما يفهم المراد من استعمال القرآن، وإنما غرضه هنا أن يبين أن الإيمان بالرسل من أصول الدين الإسلامي وهو كذلك. ثم إننا بيَّنَّا في مقام آخر أن المقصد من الدين الذي جاء به جميع الرسل من عند الله هو الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات؛ لأن هذا هو ما تتزكى به الأنفس وترتقي به الأرواح وتستعد لمنازل الكرامة في الآخرة والنجاة من العذاب. والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الوسيلة لتعليم البشر هذه المقاصد وهل يمكننا أن نقول غير ذلك في مقام تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) وفي تفسير {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء: 123-124) . وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السُّدِّيِّ قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم ولن يدخل الجنة إلا من كان هودًا. وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا صلى الله عليه وسلم بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم؛ نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا فأنزل الله تعالى {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ} (النساء: 123) إلى قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125) فأنت ترى أن القرآن الحكيم قد ناط دخول الجنة وسعادة الآخرة بالإيمان والعمل الصالح في مقام إنكار المفاخرة بين أهل الكتاب والمسلمين. وذلك أن أهل الكتاب جعلوا مقصد الدين وقطبه الذي يدور عليه أم النجاة والسعادة في الآخرة هو الانتماء إلى أنبيائهم وأنهم إنما ينجون بجاههم لا باتباعهم وإقامة ما جاؤوا به من الهداية فكان مثلهم ومثل من اتبع سننهم من المسلمين كمثل عبيد جعلهم سيدهم في مزرعة؛ ليعمروها وينتفعوا بها ويستعينوا بما فيها من ثمرات على إصلاح شأنهم وإعداد أنفسهم لمقام خير منها في جوار السيد وأرسل إليهم عبدًا آخر من عبيده المتعلمين المهذبين بكتاب بين لهم فيه ما يوجبه عليهم من الأعمال فبلغهم هذا العبد الرسول رسالة سيده وسيدهم فصدقوه وأقام بينهم عاملاً بالكتاب حتى مات، ثم لم تكن فتنتهم إلا أن تركوا العمل بالكتاب واتباع ذلك الرسول الفاضل في أعماله وآدابه واعتقدوا أن ذكر اسمه بالخير والمبالغة في تعظيمه وتعظيم كتاب السيد بالقول يغنيان عن العمل الذي تعمر به المزرعة ويرتقي به أهلها ويكونون أهلاً لما وعدهم به السيد من المقام الكريم إذا هم أقاموا كتابه. أرأيت إذا كان أهل المزرعة فريقان: فريق منهم صدقوا الرسول ولم يعملوا بما جاء به من عند السيد. وفريق آخر لم تبلغهم رسالته أو بلغتهم على وجه لا يحرك إلى النظر ولا يؤدي إلى الاقتناع ولكنهم علموا بالنظر العقلي أو بتعليم رسول سابق كان أرسله السيد من قبل أن الذي يرضيه من عمران المزرعة هو كذا وكذا، وأن الذي يحب أن يكونوا عليه من العلم والآداب فيما بينهم هو كذا وكذا وعملوا بذلك بقدر طاقتهم على حسب اجتهادهم أيكونون مرضيين عند سيدهم أم لا؟ وهل يعقل أن يكذب العبد الطائع الخاضع رسول سيده ومولاه ويرفض دعوته ويرد رسالته؟ كلا إنه لا يعقل أن تبلغ المؤمن بالله واليوم الآخر القائم بالأعمال الصالحات دعوة رسول من عند ربه فيردها ويجحدها وإنما يفعل ذلك من فسد إيمانهم وساءت أعمالهم فاتبعوا أهواءهم. فأنا لا أصدق أن المؤمن بالله واليوم الآخر العامل للصالحات من أهل الكتاب تبلغه دعوة نبينا صلى الله عليه وسلم على وجهها ويردها؛ لأن من كان على شيء من العِلم والخير، وتبين له علم أعلى من علمه وأكمل، وخير أرقى مما هو عليه وأفضل؛ يرى نفسه مضطرة إلى قبول ذلك ولا يصرفه عنه وهو من مقتضى فطرته إلا حسد وعتو وكبر ملكن على نفسه أمرها ويندر أن يكون ذلك من المؤمنين الصالحين، فأنا أحكم على من بلغته دعوة الإسلام بشرطها وردها بقوله عز وجل: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) وفي القرآن دلائل كثيرة على ما قلنا. بعد كتابة هذا راجعت كتاب (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) لأبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى فرأيته يشير إلى أن من بلغته الدعوة بدليلها تنبعث نفسه بطبعها إلى النظر إن كان من أهل الدين والخير، قال بعد بيان حكم الضالين من هذه الأمة ما نصه: (وأما من سائر الأمم فمن كذبه صلى الله عليه وسلم بعدما قرع سمعه على التواتر خروجه وصفته ومعجزته الخارقة للعادة كشق القمر وتسبيح الحصى ونبع الماء من بين أصابعه والقرآن المعجز الذي تحدى به أهل الفصاحة وعجزوا عنه فإذا قرع سمعه ذلك فأعرض عنه وتولى ولم ينظر ولم يتأمل ولم يبادر إلى التصديق فهذا هو الجاحد الكاذب وهو الكافر ولا يدخل في هذا أكثر الروم والترك - كان الترك في زمن الغزالي وثنيين - الذين بعدت بلادهم عن بلاد المسلمين بل أقول: من قرع سمعه هذا فلا بد أن تنبعث به داعية الطلب ليتبين حقيقة الأمر إن كان من أهل الدين ولم يكن من الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فإن لم تنبعث هذه الداعية؛ فذلك لركونه إلى الدنيا وخلوه عن الخوف وخطر أمر الدين وذلك كفر، وإن انبعث الداعية فقصر في الطلب فهو أيضًا كفر بل ذوالإيمان بالله واليوم الآخر من أهل كل ملة لا يمكنه أن يفتر عن الطلب بعد ظهور المخايل بالأسباب الخارقة للعادة فإن اشتغل بالنظر والطلب ولم يقصر فأدركه الموت قبل تمام التحقيق فهو أيضًا مغفور له ثم له الرحمة الواسعة. فاستوسع رحمة الله تعالى ولا تزن الأمور الإلهية بالموازين المختصرة الرسمية) اهـ. هذا وإن السائل الكريم يعلم أن المسلمين لا يعنون بالدعوة إلى دينهم ولا سيما على الوجه الذي يحرك إلى النظر في هذا العصر - ولكل عصر من المحركات النظرية ما هو خاص به - بل هم لا يبالون بتعليم المنسوبين إلى الإسلام حقيقة الإسلام فقد أهمل هذا الدين حتى صار علماؤه على قلتهم جاهلين بكتابه وسنته وعاجزين عن النهوض بحجته إلا أفرادًا شذاذًا يظهر الواحد منهم بعد الواحد في بعض الأقطار بالمصادفة والاتفاق بل باستعداده الخاص وحوادث الزمان، وأكثر هؤلاء الملايين من المسلمين لم يلقنوا شيئًا من أمر دينهم حتى إن منهم في بعض أنحاء الهند من لا يعرف من الإسلام إلا جواز أكل لحم البقر الذي يخالفون به جيرانهم الوثنيين، ومنهم في روسية من هم أجهل من هؤلاء بل أخبرني أحد أئمة العسكر البحرية أمس أنه كان يسأل الجماهير من أفراد العسكر الأناطوليين عن دينهم ونبيهم فيقولون: ديننا العسكرية البحرية ونبينا السلطان عبد الحميد. ولولا الأوقاف التي وقفها السلاطين والأمراء وأهل الخير من الأمة على العلماء الذين يشتغلون بعلوم الدين وبعض المناصب الشرعية التي يقصد بها الرزق لما رأيت في الآستانة ومصر وتونس وفاس وغيرها من البلاد عشر معشار من تجد من المعممين الذين يذيبون أدمغتهم في حل رموز هذه الكتب المعقدة أو المعسلطة التي اختاروها من تصانيف المسلمين بعد ضعف العلم فيهم حتى كأنها كتب منزلة يتعبد بها، وما هي - والله - بالكتب التي يمكن لقارئها أن يظهر بها حقيقة دعوة الإسلام وحجة الله به على العالمين، بل نرى أكثر الممارسين لها قد نفروا المسلمين عن الإسلام فما بالكبغيرهم. هذا ما حملنا على بذل النفس والنفيس في السعي إلى تربية إسلامية وتعليم إسلامي تظهر بهما دعوة الإسلام وحجته وتنقذ الملايين المسلمين من الجهل بدينهم ودنياهم الذي صاروا به حجة على الإسلام تنفر عنه الأنام، وفتنة للكافرين، تبعدهم عن حقيقة الدين {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الممتحنة: 5) .

الصلاة مواقيتها وجمعها وغايتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصلاة مواقيتها وجمعها وغايتها س 34 - من كاتم لاسمه في مصر القاهرة حضرة الفاضل الشيخ رشيد رضا المحترم بعد التحية والإكرام أرجوالإجابة على ما يأتي: 1- ما هي الآيات الشريفة التي تؤيد إقامة الصلاة في مواعيدها المقررة؟ 2- هل الجمع بين صلاتين جائز وفي أي ظروف؟ 3- ما رأيكم في موظف بمصلحة تقضي عليه وظيفته أن لا يقيم صلاته أثناء تأديته أعماله فهل عليه من حرج إذا جمع بين صلاتين مثلاً ليؤديهما أثناء خلوه من العمل؟ 4- إذا كانت الغاية من الصلاة هي الإخلاص للخالق بالقلب مما يؤدي إلى تهذيب الأخلاق، وترقية النفوس، وكان من المحتم على كل مسلم أن يقيم صلاته بمواعيد فكيف يعقل - والناس على ما ترى - أن كل الصلوات التي تقام في المساجد والبيوت، هي بإخلاص عند كل المسلمين؟ وإذا كان الجزء القليل منها هو المقصود من الدين، والمبني على الفضيلة، فلماذا لا تترك الحرية التامة للناس في تحديد مواعيد إقامة صلواتهم؟ وإلا ما الفائدة التي تعود على النفس من الركوع والسجود بلا إخلاص ولا ميل حقيقي للعبادة بل اتباعًا للمواعيد واحترامًا للتقاليد؟ (ج) 1- أما الجواب عن الأول فحسبك في التوقيت المطلق منه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103) ؛ أي: فرضًا مكتوبًا مقيدًا بأوقات محددة، وفي التفصيل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ} (الإسراء: 78) , وقوله سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (الروم: 17-18) وكانوا يعبرون عن الصلاة بالتسبيح وبالذكر. 2- أما الجواب عن الثاني فالجمع إنما يكون عند جماهير العلماء في السفر وكذا في المطر عند الشافعية لأجل المحافظة على الجماعة، وقد تأول بعض العلماء بذلك حديث ابن عباس الثابت في كتب الصحاح والسنن المشهورة (صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء) ؛ أي: الظهر والعصر ثمانيًا؛ لأن كل واحدة منهما أربع ركعات، والمغرب والعشاء سبعًا؛ لأن الأولى ثلاث والثانية أربع فالنشر فيه غير مرتب على اللف , وفي رواية عنه في صحيح مسلم وسنن الشافعي: (صلى الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا من غير خوف ولا سفر) روي عن مالك أنه قال: أرى ذلك في المطر. وعليه العمل عند الشافعية، ولكنهم اشترطوا له شروطًا لا يدل عليها الحديث بل ظاهره أنه رخصة تؤتى عند عروض شاغل قوي ويدل على ذلك ما قاله راويه ابن عباس في تعليله كما في سنن الشافعي: (لئلا يحرج أمته) ولو فرضنا أن ذلك كان في وقت المطر لكان المطر مثالاً لنفي الحرج لا شرطًا للرخصة على أن ذلك لو كان في جماعة وقت المطر كما يرى الشافعية لتوفرت الدواعي على نقله فرواه كثيرون. فالظاهر من هذه العبارة أن الجمع في الإقامة رخصة لمن كان يلحقه في أداء الصلاة في وقتها مشقة، والحرج والعسر مرفوعان بنص القرآن العزيز. فحمل بعض الفقهاء لها على وقت المطر أو وقت المرض كأن كان يعلم أنه يصيبه دور الحمى في وقت الثانية فيجمعها مع الأولى كل ذلك من قبيل المثال لمن ينظر في الأمر نظرًا عامًّا غير مقلد فيه، والشيعة تجيز الجمع مع الإقامة كما هوالمشهور عنهم. ولا أدري أيعدون ذلك رخصة كما هو ظاهر هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أم يعدونه عزيمة لكثرة ما يأتونه كما يروى عنهم؟ 3- وأما الجواب عن الثالث فقد علم مما قبله وملخصه أن الأصل في الصلاة أن تؤدى في أوقاتها المعروفة وذلك ثابت بالكتاب والسنة وعمل جماهير المسلمين سلفًا وخلفًا، وأن للرخصة وجهًا لمن شق عليه أداء بعض الصلوات في وقتها وما أظن أن عملاً من أعمال مصالح الحكومة وما في معناها كالشركات الكبيرة يمنع العامل فيه من أداء الصلاة في وقتها دائمًا إنما يكون ذلك نادرًا؛ فإن صلاة الفريضة تؤدى في خمس دقائق أوأقل، ورأيت كثيرًا ممن خبرت حالهم من هؤلاء العمال يستثقلون الصلاة لأجل الوضوء، وإنما يشق عليهم منه غسل الرجلين غالبًا، فإن كوبًا من الماء يكفي لغسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ويسهل ذلك على المرء أينما كان. ولكن غسل الرجلين قد يشق على العامل في أحيان كثيرة، والمخرج من هذه المشقة أن يمسح ولو على جوربيه، فالحنابلة وغيرهم من علماء السلف يجيزون المسح على كل ساتر للرجلين كاللفائف، ودليلهم أقوى. ولما أفتيت في المنار بهذا صار كثير من تاركي الصلاة يحافظون على صلاتهم في أوقاتها يتوضؤون في الصباح فيسبغون الوضوء، ويغسلون أرجلهم ويلبسون جواربهم وفوقها الخفاف فالأحذية أو الأحذية فقط ثم يذهبون إلى أعمالهم، فإذا أراد أحدهم أن يتوضأ في أثناء العمل وهو في عمله يمسح على الساتر كائنًا ما كان، ويحسن هاهنا أن نذكر القارئ بما ختمت به آية الوضوء وهو بعد ذكر طهارة الرجلين {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) . 4- وأما الجواب عن الرابع فهو يتضح لكم إذا تدبرتم تفاوت البشر في الاستعداد وكون الدين هداية لهم كلهم لا خاصة بمن كان مثلكم قوي الاستعداد لتكميل نفسه بما يعتقده أنه الحق وفيه الفائدة والخير بحيث لو ترك إلى اجتهاده لا يترك العناية بتكميل إيمانه وتهذيب نفسه وشكر ربه وذكره. وقد رأيت بعض المتعلمين في المدارس العالية والباحثين في علم النفس والأخلاق ينتقدون مشروعية توقيت الصلوات والوضوء وقرن مشروعية الغسل بعلل موجبة وعلل غير موجبة على الحتم ولكن تقتضي الاستحباب، وربما انتقدوا أيضًا وجوب غير ذلك من أنواع الطهارة بناءً على أن هذه الأمور يجب أن تترك لاجتهاد الإنسان يأتيها عند حاجته إليها والعقل يحدد ذلك ويوقته!! هؤلاء تربوا على شيء وتعلموا فائدته فحسبوا لاعتيادهم واستحسانهم إياه أنهم اهتدوا إليه بعقولهم ولم يحتاجوا فيه إلى إيجاب موجب ولا فرض شارع، وأن ما جاز عليهم يجوز على غيرهم من الناس، وكلا الحسابين خطأ فهم قد تربوا على أعمال من الطهارة (النظافة) منها ما هو مقيد بوقت معين كغسل الأطراف في الصباح (التواليت) وهو مثل الوضوء، أو الغسل العام، ومنها ما هو مقيد بعمل من الأعمال، وتعلموا ما فيه من النفع والفائدة، فقياس سائر الناس عليهم في البدو والحضر خطأ جلي. إن أكثر الناس لا يحافظون على العمل النافع في وقته إذا ترك الأمر فيه إلى اجتهادهم ولذلك نرى البيوت التي لا يلتزم أصحابها أو خدمها كنسها وتنفيض فرشها وأثاثها كل يوم في أوقات معينة عرضة للأوساخ، فتارة تكون نظيفة وتارة تكون غير نظيفة، وأما الذين يكنسونها وينفضون فرشها وبسطها كل يوم في وقت معين وإن لم يصبها أذى ولا غبار فهي التي تكون نظيفةً دائمًا، فإذا كانت الفلسفة تقضي بأن يزال الوسخ والغبار بالكنس والمسح والتنفيض عند حدوثه وأن يترك المكان أوالفراش أوالبساط على حاله إذا لم يطرأ عليه شيء فالتربية التجربية تقضي بأن تتعهد الأمكنة والأشياء بأسباب النظافة في أوقات معينة؛ ليكون التنظيف خلقًا وعادةً لا تثقل على الناس ولا سيما عند حدوث أسبابها، فمن اعتاد العمل لدفع الأذى قبل حدوثه أو قبل كثرته فلأن يجتهد في دفعه بعد حدوثه أولى وأسهل. وعندي أن أظهر حكمة للتيمم هي تمثيل حركة طهارة الوضوء عند القيام إلى الصلاة ليكون أمرها مقررًا في النفس محتمًا لا هوادة فيه، وقد قال لي متشل أنس وكيل المالية بمصر في عهد كرومر: إنه يوجد إلى الآن في أوربا أناس لا يستحمون مطلقًا وإننا نحن الإنكليز أكثر الأوربيين استحمامًا وإنما اقتبسنا عادة الاستحمام من أهل الهند ثم سبقنا جميع الأمم فيها. فتأمل ذلك وقابله بعادات الأمم في النظافة التي هي الركن العظيم للصحة والهناء واعتبر هذه المسألة في الأعمال العسكرية كالخفارة عند عدم الحاجة إليها لئلا يتهاون فيها عند الحاجة إليها وجعلها مرتبةً موقوتةً مفروضةً بنظام غير موكولة إلى غيرة الأفراد واجتهادهم. وإذا تدبرت ما ذكرنا فاعلم أن الله تعالى شرع الدين لأجل تكميل فطرة الناس وترقية أرواحهم وتزكية نفوسهم ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد الذي يعتقهم من رق العبودية والذلة لأي مخلوق مثلهم وبشكر نعم الله عليهم باستعمالها في الخير ومنع الشر، ولا عمل يقوي الإيمان والتوحيد ويغذيه ويزع النفس عن الشر ويحبب إليها الخير ويرغبها فيه مثل ذكر الله عز وجل أي: تذكر كماله المطلق وعلمه وحكمته وفضله ورحمته وتقرب عبده إليه بالتخلق بصفاته من العلم والحكمة والفضل والرحمة وغير ذلك من صفات الكمال. ولا تنس أن الصلاة شاملة لعدة أنواع من الذكر والشكر كالتكبير والتسبيح وتلاوة القرآن والدعاء فمن حافظ عليها بحقها قويت مراقبته لله عز وجل وحبه له؛ أي: حبه للكمال المطلق وبقدر ذلك تنفر نفسه من الشر والنقص وترغب في الخير والفضل، ولا يحافظ العدد الكثير من طبقات الناس في البدو والحضر على شيء ما لم يكن فرضًا معينًا وكتابًا موقوتًا، فهذا النوع من ذكر الله المهذب للنفس وهو الصلاة تربية عملية للأمة تشبه الوظائف العسكرية في وجوب اطرادها وعمومها وعدم الهوادة فيها، ومن قصر في هذا العمل القليل من الذكر الموزع على هذه الأوقات الخمسة في اليوم والليلة فهو جدير بأن ينسى ربه وينسى نفسه ويغرق في بحر من الغفلة، ومن قوي إيمانه وزكت نفسه لا يرضى بهذا القليل من ذكر الله ومناجاته، بل يزيد عليه من النافلة ومن أنواع الذكر الأخرى ما شاء الله أن يزيد، ويتحرى في تلك الزيادة أوقات الفراغ والنشاط التي يرجو فيها حضور قلبه وخشوعه وهو الذي استحسنه السائل. وجملة القول: إن الصلوات الخمس إنما كانت موقوتة لتكون مُذَكِرةً لجميع أفراد المؤمنين بربهم في الأوقات المختلفة؛ لئلا تحملهم الغفلة على الشر أو التقصير في الخير. ولمريدي الكمال في النوافل وسائر الأذكار أن يختاروا الأوقات التي يرونها أوفق بحالهم. وإذا راجعت تفسير {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} (البقرة: 238) في الجزء الثاني من تفسيرنا تجد بيان ذلك واضحًا وبيان كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر إذا واظب المؤمن عليها، ومن لا تحضر قلوبهم في الصلاة على تكرارها فلا صلاة لهم فليجاهدوا أنفسهم.

جمع القرآن وعدم ضياع شيء منه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمع القرآن وعدم ضياع شيء منه س 35 صاحب الإمضاء في الإسكندرية قال السائل في كتاب خاص: إنه عرضت له شبهة في مسألة جمع القرآن. ثم شرح ذلك بقوله: (تعلمون أيها السيد أن القرآن الكريم جمع في خلافة الصديق رضي الله عنه كما تعلمون بل تتيقنون عدم حفظ واحد له جميعه وإلا لما كان هنالك معنًى لتلقفه من صدور الرجال - على ذلك لا أتردد في ضياع شيء منه خصوصًا وأنهم لم يجدوا حافظًا لآية {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} (التوبة: 128) ... إلخ السورة , إلا خزيمة بن ثابت فإذا صح هذا وهو الواقع أستنتج من ذلك جواز موت صحابي آخر قبل الجمع انفرد على الأقل بما انفرد به خزيمة هذا إن لم نقل: اثنين أو ما فوق العشرة. فما قول السيد في ذلك؟ وما الدليل على عدم الضياع وطريقة الجمع يتسرب إليها الشك في كل مكان بالدليل العقلي؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ع. م ج - أعجب ما في هذا السؤال زعم السائل أنني أتيقن عدم حفظ أحد من الصحابة - رضي الله عنهم - للقرآن كله واستدلاله على هذه المسألة بتلقفه من صدور الرجال، فأما أنا فإني أوقن أنه قد حفظ القرآن كله جمع كثير من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرح المحدثون إلا بعدد أفراد معروفين منهم فقد صرحوا بأنه قتل في حرب أهل اليمامة سبعون من القراء وكان ذلك سبب اقتراح عمر جمع القرآن على أبي بكر رضي الله عنه، وبأن أهل الصفة من فقراء الصحابة كانوا منقطعين في المسجد لحفظ القرآن والعبادة ويعرف السائل أن العرب كانوا من أجود الناس حفظًا على أن البدو في جميع الأمم أجود حفظًا من الحضر والعرب أذكى الأمم بدوًا وحضرًا حتى إنه كان من حاضريهم من يظن أن من شأن الإنسان أن يحفظ كل ما سمع كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه وقد رأى رجلاً استكبر حفظه لرائية عمر بن أبي ربيعة حين سمعها مرة واحدة فقال: وهل يسمع الإنسان شيئًا ولا يحفظه؟ فقد كانوا يحفظون ما يسمعون من حسن وقبيح ما يعجبهم منه وما لا يعجبهم؛ فكيف تكون عنايتهم بحفظ كلام الله عز وجل وهم يؤمنون بأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة، وأنهم يتقربون به إلى ربهم وينالون رضاه؟ وقد تعمدوا ذلك وحرصوا عليه وعنوا به أشد العناية وقد رغبهم الله ورسوله بحفظه. على أن حفظه أن يضيع شيء منه لا يتوقف على حفظ الكثيرين له كله بل يكفي فيه حفظ الكثيرين لكل سورة من سوره وهل يعقل أن تنزل سورة ولا يحفظها الجم الغفير من أهل الصفة المقيمين في المسجد لأجل حفظ القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وكذا من غيرهم من المقيمين في المدينة وكان أكثرهم يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم لا يتخلف عنه أحدهم إلا لعذر عارض وكان يقرأ القرآن كله في الصلاة كما كان يدارسهم إياه سورة سورة على النحو الذي يتدارسه مع جبريل عليه السلام؛ إذ ورد في الصحيح أنه كان يعارضه القرآن في رمضان كل سنة مرة أي كل ما نزل منه وفي آخر رمضان من عمره الشريف عارضه جبريل القرآن مرتين وكان قد تم نزوله أو كاد فعلم من ذلك أنه حان أجله الشريف صلى الله عليه وآله وسلم. إن الذين تولوا جمع القرآن في المصحف بأمر أبي بكر ثم بأمر عثمان كانوا يحفظونه وإنما كانوا يجمعون المكتوب في الصحف والعظام وغيرها ويراجعون القراء الحافظين لأجل أن لا يبقى مجال لدعوى أحد من المنافقين أو غيرهم أن عنده شيئًا منه يخالف المجموع في المصاحف فيشكك به بعض الضعفاء أو الجاهلين، ولو رأى المنافقون أن في جمع القرآن شبهةً ما لأذاعوا بها وأكثروا الإرجاف ولم يقع شيء من ذلك ولو وقع لقامت له القيامة وعرفه كل الناس. أما آخر سورة التوبة فقد كان يحفظها الجم الغفير ومنهم جامعو القرآن وقد التمسوها ممن كتبها وهم بها عالمون فوجدوها عند خزيمة أو أبي خزيمة الأنصاري كما رواه البخاري والترمذي عن زيد بن ثابت الذي كان يتولى الجمع، وكذلك آية {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} (الأحزاب: 23) ... إلخ فقد روى البخاري والترمذي عن زيد رضي الله عنه أنه قال: فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها فالتمستها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين وذكرها فألحقتها في سورتها من المصحف. فأنت ترى أنه التمس شيئًا كان يعرفه، كيف لا وهو أحد الحفاظ المشهورين الذين جمعوا القرآن كله عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي الله عنه قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد ابن ثابت، وأبو زيد، قيل لأنس: من أبو زيد. قال: أحد عمومتي. وقد قال علماء الأصول: إن العدد لا مفهوم له. أقول: ولا سيما في مثل هذا الخبر الذي يخبر صاحبه عما علم أو بعض ما علم عن قومه، وكان أكثر الحفاظ من فقراء المهاجرين أهل الصفة رضي الله عنهم. نكتفي الآن بهذا الجواب المجمل الموجز الذي كتبناه في مركب يجري بنا في زقاق (بوسفور) القسطنطينية، ونظن أنه يكفي السائل فإن لم يكفه؛ فليراجع ما كتبناه من قبل في أحد مجلدات المنار وما كنت أظن أنه لم يقرأه وهو على ما أعهد ولوع بالمنار حريص على تتبعه، وسنفصل هذه المسألة تفصيلاً فيما سنكتبه من أصول الدين لطلاب مدرسة (دار العلم والإرشاد) ثم ننشره على سائر الناس إن شاء الله تعالى.

هدايا الجرائد إلى مشتركيها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هدايا الجرائد إلى مشتركيها س 36 - من صاحب الإمضاء الذي رغب إلينا كتمان اسمه من بيروت سيدي الأستاذ المرشد الشيخ محمد رشيد رضا منشئ المنار دام مجده. بعد التحية، إلى السيد المفضال أرجو من سيادته وإحسانه الجواب عن سؤالي الآتي بيانه في جزء المنار القادم في رجب وله الثناء الجميل وذلك: ما قولكم - دام نفعكم - في البند الرابع من (البيان) الذي أذاعته جريدة الحقيقة البيروتية وهو (تقدم إدارة الجريدة لكل خمس مائة مشترك من مشتركيها هدية بالاقتراع تبلغ قيمتها خمسة وعشرين ليرة أفرنسية في كل سنة موزعة على عشر نمر منها حسبما هو مبين أدناه: 1- ورقة بنك عقاري. 1- ساعة ذهبية. 2- ساعة فضية. 2- ليرة أفرنسية. 4- نصف ليرة أفرنسية. 10- الجمع. وتضاعف هذه الهدايا بزيادة المشتركين على نسبة خمسة وعشرين ليرة لكل خمس مائة مشترك اهـ. فهل يجوز لجريدة الحقيقة أن تعطي مشتركيها المذكورين (الهدية) على الوجه المرقوم؟ وهل يجوز لمشتركيها قبول هذه الهدية؟ أفيدوني ولكم مزيد الفضل (مستفيد) . ج - لا أعرف ما يمنع جواز إعطاء هذه الهدية ولا قبولها.

بحث الكلام فى الاختلاف

الكاتب: عن كتاب العلم الشامخ

_ بحث الكلام في الاختلاف [*] قد نوه الله سبحانه بالاختلاف في الدين وكرر ذلك في كتابه العزيز تكريرًا كثيرًا؛ لعلمه سبحانه وتعالى بضرره في الدين، وكم كرر ذلك في بني إسرائيل قائلاً: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) ونحوها فكأنه يقول: أحذركم مثل فعلهم مدلين بالشبه وعدم تبين ذلك في دينكم، فإنكم إن فعلتموه فعلتموه بعد قيام الحجة عليكم ولا يحملكم عليه إلا البغي لا التدين وأن من أراد الله واتبع رضوانه؛ فإنه يهديه سبل السلام ويخرجه من الظلمات إلى النور. فصدق الله تعالى ما وجدنا الخلاف إلا في محل قد تبين الحق فيه، وأدلى المخالف للحق بشيء لا ينبغي الاستناد إليه، فهو إنما جعله صورة والحامل الحقيقي البغي لنيل حظ دنيوي. وقد يكون البلاء من النظر في شيء النظر فيه تكلف ما لا يعنى، وقد تمم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنهى عن مظان الخلاف وحذر منها كالجدل في القدر. وقال الله تعالى: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (اتركوني ما تركتكم) وكَمَّل الله سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فلم يبق شيء يقربنا إلى الجنة إلا بينه لنا، ولا شيء يقربنا إلى النار إلا بينه، وما عفا الله تعالى عنه وسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا يريد الله سبحانه أن نبحث عنه بمجرد عقولنا القاصرة فإنها إنما جعلت الدنيا في قدر محدود في علم الله سبحانه. وجاءت الرسل بتتميم ما تتم به النعمة وتؤكد الحجة فما عدا ذلك فضول يخاف ضرره ولا يرجى نفعه، وقد قام بمراد الله تعالى في ذلك خير القرون فكانوا يحاذرون الاختلاف أشد المحاذرة ويصرحون بذلك وما فرط منهم تلافوه أشد التلافي، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون، كما كان من طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم. ولقد صبر من بقي من الصحابة بعد خلافة النبوة على أمراء الجور أشد الصبر وأقبلوا على صلواتهم وصيامهم وجهادهم وسائر القرب يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويحاذرون شق عصا المسلمين وكل ما يجر على الخلاف وهو المانع والله أعلم لسيوفهم الباترة، التي استولت على أبطال العرب والأكاسرة والقياصرة، من أن تجتمع على الملك الجائر حتى يقعد مكانه عادلاً. ثم مضوا الأمثل فالأمثل إلى أن ظهرت البدع بسبب التنقير عما سكت الله عنه ورسوله ولو كان لهم من ذلك خير لوقفهم الله على تلك المطالب على لسان رسوله ولم يتركهم يتخبطون، لكن النفوس طماحة والدعوى عريضة فتكلم بعض الناس على ما سكت الله عنه وبحثوا في كلام الفلاسفة واختلطوا بهم في أيام الدولتين وناظروهم فاحتاجوا إلى تحرير الجواب على شبههم ورأوا أن تلاوة القرآن التي كانت جواب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجواب أصحابه رضي الله عنهم لا تقنع الخصم ولا تنصفه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوصي أمراء الأجناد أن يدعوا إلى إحدى ثلاث: الدخول في الإسلام، أو الجزية، أو الحرب. لم يجعل منها أن تنتشر أخبارهم وصحفهم وحكمتهم وشبههم وفلسفتهم ثم يناظرهم فقهاء الصحابة بهذا الاتصاف المولد بعد الصحابة هو الداهية الدهياء. ثم حدثت بين المسلمين أنفسهم نوادر كالكلام في القدر ومسألة خلق القرآن والتعرض لما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم واتصل بذلك المناظرة عند الملوك والأمراء وصارت عصبية، والدعوى من الجانبين أن ذلك تدين وما هو إلا إنهم لما تعدوا طورهم ولم يقفوا على حدهم الذي وقفهم الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم عليه، تركهم الله وشأنهم ولبسهم شيعًا وأذاق بعضهم بأس بعض فكان خليفة يوافق هؤلاء فيذيق مخالفيهم العذاب الأليم، ويخلفه الآخر وينقض ما فعله الأول وينكل هؤلاء ويوطيء شأن هؤلاء حتى استحكم الشر وصار الناس شيعًا، يولد المولود في قوم فلا يسمع من الإنصاف شيئًا بل يجد شيعته مطبقين على أن مخالفهم ليس على شيء وإنما هي فتنة وحادثة في الإسلام ويمدحون نفوسهم بكل خير وينزهونها من كل شر ويعزون إلى المخالف نقيض ذلك. ترى المعتزلة يقولون في كتبهم: كان الناس على دين واحد فحدث الجبر في إمارة معاوية والمروانية ثم حدث القول بتكليف ما لا يطاق من فلان وقت فلان ثم حدث القول بعدم خلق القرآن ثم حدث كذا من فلان في وقت كذا مع ذكر أسباب وروايات، فيأتون على جميع مذاهب مخالفيهم أنها حوادث. تجد ذلك في حكاية الملل والنحل وأفراد المقالات لا في كتاب ولا في ألف كتاب ثم تنظر كتب المتسمية بالسنية يقولون: كان الناس جميعًا قبل حدوث القدرية على أن الله خالق أفعال العباد ليس للعباد منها إلا النسبة المسماة بالكسب ومجمعون على كذا وكذا بجميع مذاهبهم كل على ما يراه ويعتقده، ثم حدث رأي المعتزلة بأن العبد ممكن وحدث كذا وكذا إلى آخر مذاهب المخالف، كذلك وتسمى المعتزلة نفسها بالعدلية، وأهل العدل والتوحيد وأهل الحق، والفرقة الناجية، والمنزهون لله عن النقص، وغير ذلك. وتسمى خصومها بالمجبرة القدرية المجوزة المشبهة الحشوية المرجئة وغير ذلك. والأشاعرة وسلفهم مثل ابن كلاب والمحاسبي وغيرهم يسمون نفوسهم بأهل السنة ويسمون المعتزلة المبتدعة القدرية، وقس على هذا. فترى الضعيف الرأي والدين بل القوي الذي لم يتداركه الله سبحانه بفضل عناية وتوفيق يرى تطبيق من نشأ فيهم ولقنوه كتبهم وقد ملأت الأرض مع شحنها بالتحذير من كتب المخالف والجلوس إلى المبتدع؛ فكما فعلته قريش فيملأ قلبه ويطرق سمعه ذلك في كل ما كرر النظر والجم الغفير قد رأيت ما فعلوا، ومن يرد الله هدايته يتهم هذا ويبعده عقله، لكن قليل ما هم إنما تراه يشيب على ما شب عليه، ويمضي عمر المتدين بالقيام والصيام، وطالب العلم بالتصنيف والكلام على الخلاف والوفاق، وربما يعرف المذاهب خيرًا من أهلها ويعلم أنه قد صار بينه وبين من لقنه مراحل، ثم همه كله مصروف إلى ما نشأ عليه يثبته ويهدم مقابله، ما نجد خلاف هذا إلا في الندرة من النادر من المباحث؛ ولذا تجده يقول في المبحث إذا أراد مخالفة شيعته: الله يحب الإنصاف يتبجح بأنه قد أنصف، وهذه الكلمة دليل عدم الإنصاف وأنه لو كان ديدنه الإنصاف كما يدعي لما استغرب هذه النادرة التي وقعت؛ لأنه طول عمره بزعمه جار على الإنصاف فهذا مثل من قال: فرسي والحمد لله. وإنما يفعلون ذلك فيما لا ينفر عنهم. بلى قد تجد أحدهم ينتقل من مذهب إلى آخر بسبب شيخ أو دولة أو غير ذلك من الأسباب الدنيوية والعصبية الطبيعية؛ ولذا تجده ينتقل من مذهب برمته إلى آخر برمته كما رووا أن ابن عبد الحكم أراد مجلس الشافعي بعد موته فقيل له: قال الشافعي: الربيع أحق بمجلسي. فغضب وتمذهب لمالك وصنف كتابا سماه: الرد على محمد بن إدريس فيما خالف فيه الكتاب والسنة. هكذا ذكر ابن السبكي. وقد علم الله سبحانه والراسخون في العلم أن الحق لم يكن برمته عند فرقة والباطل عند البواقي، وإن كان كل منهم يدعي ذلك، بل عند كل قوم حق وباطل لكن الحق والحمد لله لا يخرج عن مجموعهم وما الحق كله إلا عند من بقي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا بد له من الخطأ في اجتهاداته أيضًا في المسائل المعفوعن الخطأ فيها لا في المهمات فالمفروض أنه وقف على ما وقفه عليه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فلا خطأ، وقل لي: من ذا الذي وقف على ما وقف، وقنع بما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يتمذهب ويؤثر الأسلاف على الكتاب والسنة، ويترك هذا الداء الدوي ويتمسك بالإنصاف في ما يأتي ويذر؟ لا والله ما أعرف أحدًا في هذه الكتب التي قد طبقت البسيطة إلا وقد تخبط وخلط، وتعسف لمذهبه وما أنصف، ورد كتاب الله تعالى إلى عقيدته وحرف. أما المتكلمون فهو صنيعهم وإن كان في تضاعيف كلامهم ما ينفع في الجملة وصنعتهم بدعة، وما ابتدع قوم بدعة إلا وتركوا سنة، ولا يخلص من الخير إلا الشيطان لعنه الله. ولكن هؤلاء المحدثون الذين يزعمون الثبوت على السنة وينهون عن الكلام قد سرت فيهم المفسدة أكثر منها في غيرهم؛ لأنهم قاعدون في طريق الشريعة والمفسدة والحرب والفتك والحيات والعقارب والسموم والسباع في الجادة أعظم ضررًا منها في ثنيات الطريق مع أنهم دائهم [1] جاء من الخوض في الكلام وصاروا أشد عصبية من المتكلمين؛ لأن المتكلمين بنوا أمرهم على التفتيش وأن لا يلام الطالب على المباحثة وإيراد الأسئلة واختراع التعليلات، بل يعدون ذلك ظرافة وكمالاً فربما انكشف للمتأخر مع تعاقب الأنظار تقارب كلام الفريقين ونحو ذلك كما انكشف لأتباع الأشعري بطلان الجبر، ثم تشبثوا بالكسب، ثم تبين عواره فصاروا إلى مذهب المعتزلة من حيث المعنى، كما مضى. وليس ثبوت الاختيار يختص بالمعتزلة حتى ينفر عنه إنما هو دين الله وحجته فمن حقق من المتأخرين هون ما عظم سلفه ولانت عريكته، وأما المحدثون فإنما أخذوا شيئًا بأول رؤية ثم لم ينفّروا كأن ذلك بدعة وصدقوا ولكنه بدعة من أوله إلى آخره فما لهم دخلوا فيه، كان دخولهم من غير نية لكن دس لهم الشيطان: أنتم أهل السنة فمن يذب عنها إن تركتم هؤلاء؟ فلا اقتصروا على ما هم عليه، ولا هم بلغوا إلى مقاصد القوم ليتمكنوا من الرد عليهم.

التربية القويمة والسياسة الحكيمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التربية القويمة والسياسة الحكيمة [*] الثقة والظنة إظهار الثقة بالإنسان مجلبة لما تحصل به الثقة، وابتغاء الظنة فيه مدعاة لما تتحقق به الظنة، فالمعاملة بالثقة أصل الصلاح والإصلاح، والمعاملة بالظنة أصل الفساد والإفساد. رب ولدك مراعيًا هذين الأصلين تحل بينه وبين الرذائل، بما تطبعه في نفسه من ملكات الفضائل، لا تذكر له الرذيلة ولا تنهه عنها ولم يأتها؛ لأنه لا ينهى عن الشيء إلا من جعل عرضة لإتيانه، ولا تتهمه بفعل شيء ولا تجعله في موضع المراقبة ليتقي السوء، بل اشغله بالصالحات عن السيئات، وحل بينه وبين أسبابها وطرقها حتى لا تخطر بباله إن استطعت، فإن علمت أنه سمع بشيء منها ورآه فاذكر له مضار ذلك الشيء ومهانة أهله وسوء أحدوثتهم وما ينتظر من العاقبة السوءى لهم، اذكر له ذلك من باب بيان الواقع، وإظهار الحقائق، مُؤيدًا بالدلائل والشواهد، واجعل نفسك وإياه من طبقة شريفة عالية لا يليق بشرفها أن تعاشر أولئك المسيئين ولا أن تجعلهم موضوع أحاديثها إلا قليلاً تقصد به العبرة بأحوال البشر والشفقة عليهم من ظلم الظالمين منهم الذين يكونون بفساد تربيتهم قدوة سيئة لفاقدي العلم وفاسدي التربية. إذا علمت أن ولدك يعرف ولدًا أو رجلاً غير مؤدب وأنه عُرضة لمحادثته ومعاشرته، فلا تنهه عن ذلك نهيًا صريحًا يشعره بأنك تمنعه منه بسيطرتك عليه، بل أشعره بأنك تعلم أنه يحتقره في نفسه ولا يرضى لها أن تتخذه صاحبًا ولا عشيرًا وابن على هذا نصحه بأن لا يظهر له الإهانة والاحتقار في وجهه ويكتفي من ذلك بالإعراض عنه كما أمر الله تعالى بقوله: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وإذا تعرَّض ذلك الذي لا أدب له وبدأه بالحديث فليكن جوابه جواب مسالمة وتخلص يفهم مخاطبه منه - مع الأدب - أنه لا يجب مجاراته والاسترسال في الحديث معه، كما وصف الله الكملة من عباده بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: 63) أي: قالوا قولاً يسلمون به من الإثم، ولا يقارعون الجهل، ولا يُنجي من شر الشرير مثل البُعد عنه وترك الإساءة والإحسان إليه. إن نفس الولد تشبه الصحيفة البيضاء النقية، وإن سمعه وبصره هما القلمان اللذان يكتبان فيها أنواع العلوم ويرسمان فيها صور الأخلاق والآداب، فينبغي أن لا يسمع إلا حسنًا ولا يرى إلا حسنًا، يتحتم هذا في طور التقليد الذي يسلم فيه بكل ما يروى ويحاكي كل ما يرى، وكلما قويت فيه ملكة التمييز بنفسه بين الحق والباطل والحسن والقبيح يذكر له بالتدريج كل ما هو معرض له من سيئات العالم وشروره بالأساليب التي تنفره من الباطل والشر وترغبه في الحق والخير. ألم تر إلى علماء التربية كيف يتحامون في كتب التعليم ذكر ألفاظ الجرائم والشرور والفحش والرفث لكيلا تشتغل نفوس النشء بها قبل أن تقوى بالحق والفضيلة وحب الخير؟! دخل في الإسلام بيت من بيوت الأمريكيين: رجل وامرأته وأولادهما ومنهم ابنة معصر ذكية الفؤاد وكانوا في مصر فرغبوا إلى بعض معارفهم من المصريين أن يدلهم على عالم من علماء الإسلام يأخذون عنه ما يحتاجون إليه من أحكام الإسلام فدلهم صاحبهم على الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى -؛ لأنهم كانوا يعرفون اللغة الفرنسية ولا يعرفون من العربية إلا قليلاً والأستاذ كان يحسن هذه اللغة، ولأن الأستاذ هو الرجل العارف الكامل الذي يُرجى أن يُمَثِّل الإسلام الأعلى لأمثال هؤلاء الإفرنج الذين تربوا تربية عالية وأخذوا حظًّا عظيمًا من العلوم، فكانوا يلقونه ويسألونه ويسرون بما يجيبهم ويتلقونه بالإذعان. كانوا يتذاكرون يومًا فجرى لفظ اليأس على لسان الأستاذ فقالت له تلك البنت الشابة منهم: أتأذن لي يا سيدي أن أسألك عن أمر اشتبه عليّ في قولك؟ قال: نعم. قالت: كيف يذكر مثلك لفظ اليأس وأنت تعلم أن الألفاظ التي لها مدلولات ضارة إذا أُلقيت واستعملت فلا بد أن تؤثر في نفوس السامعين تأثيراً ما، أليس هذا صحيحًا؟ قال: بلى، وإنني قلت مرة كلمة في تصوير تأثير الكلام، قلت: إنني إذا ألقيت الكلمة وأنا وحيد ببيتي في حندس الظلام فلا بد أن تبقى تلك الكلمة معلقة في الهواء حتى تصادف نفسًا مستعدة فتؤثر فيها. قالت الفتاة: أتأذن لي أن أفسر قولك هذا بما فهمته؟ قال: نعم. قالت: إن الإنسان يكون علمه بالشيء قبل أن يتكلم به إجماليًّا مبهمًا فإذا تكلم به انتقل إلى حيز التفصيل والتجلي ويستدعي ذلك إعادته وسماع الناس له فيؤثر في نفوسهم، - أو ما هذا معناه -. قال: أحسنت. وغرضنا من ذكر هذه الواقعة أن أرباب التربية العالية يتحامون ذكر الألفاظ التي تُذكِّر بالمعاني الضارة إلا عند الضرورة. ألا وإن حب الخير وإيثاره من مقتضى الفطرة وهو الغالب على الناس ولولا ذلك لفسدت الأرض، وإنما يقع الشر في الغالب لعدم تربية فاعله على التمييز الصحيح بينه وبين الخير له في عاجله وآجله، فهو عرض يعرض من الجهل وسوء التربية. من آيات هذا أنك ترى الطفل من ابتداء عهده بالتمييز يسر إذا وصفته بالخير، ويزداد رغبة فيه، ويمتعض إذا وصفته بضده وربما بكى وانتحب. وهذا أعون صفات الفطرة السليمة على التربية القويمة. إذا رأيت من وليدك أمارة الكسل وأردت أن تنشطه على العمل؛ فصفه بالنشاط وأظهر له أنك تثق به وترى أنه أهل للقيام بالعمل الذي توجهه إليه، وإذا أتى شيئًا منه فاحمده عليه، فبذلك يتجدد له من الهمة والنشاط ما لم يكن له من قبل. صفه بالجرأة والشجاعة؛ يكن جريئًا شجاعًا. صفة بالصدق والأمانة؛ يكن صادقًا أمينًا. اجعله محلاًّ لثقتك في حب العلم والعمل؛ تجده أهلاً لها. لا تتهمه برذيلة من الرذائل؛ فإنك بذلك تُسَهِّل عليه ارتكابها (فإن اللوم إغراء) ومن يهن يسهل عليه الهوان. فالمرء يشق عليه بمقتضى الفطرة أن يعرف بالباطل ويوصف بالشر ولو بحق؛ ولذلك يخفي عيبه. وإخفاؤه إياه يكون عونًا للمربي على تنفيره منه وحمله على تركه؛ فإذا فضح أمره؛ هان عليه التهتك والمجاهرة بالمنكر، بل ربما يتهم المرء ببعض المنكرات اتهامًا باطلاً فيحمله ذلك على إتيانها، وقد يعزى إليه ما لم يفعل من المعروف والخير؛ فيحمل نفسه على تحقيق الظن به، كما روي عن بعض السلف أنه سمع بعض الناس يقول: إن هذا الرجل يقوم الليل كله. فعز عليه أن يوصف بما ليس فيه ويكذب من أحسن الظن به فصار يقوم الليل كله وكان قبل ذلك لا يقوم إلا بعضه، ومن أمثال العامة في بلادنا (من ائتمنك لا تخنه وإن كنت خوانًا) . نعم إن هذه الطريقة لا تطرد في الكبار كما تطرد في الولدان، ولكنها تفيد في سياسة الرجل، كما تفيد في تربية الأطفال، بل تفيد في سياسة الأمم والشعوب فإنك إذا أردت أن تحث قومًا على عمل من الأعمال النافعة؛ فلا ينبغي أن تصفهم بالبعد عنه والكراهة له والجهل بمنافعه وفوائده وضعف الهمة عن القيام به وشح النفوس وبخلها أن تجود بالمال في سبيله، إنك إن تصفهم بذلك؛ تزدهم إعراضًا وضعفًا وخمولاً وإذا أنت وصفتهم بالمروءة والنجدة وعلو الهمة وسخاء النفس وبسط الكف؛ ترى نصحك مسموعًا وإرشادك مقبولاً. كانت السياسة الحميدية في دولتنا شر سياسة أخرجت للناس؛ لأنها بنيت على أساس الظنة والريبة في الأمة ولا سيما في المتعلمين من أفرادها، وقد ورد في الحديث الشريف: (إذا ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم) رواه أبو داود. وكذلك فعل عبد الحميد أفسد أمته عليه حتى صار أكثر المقربين منه المتمتعين بالسلطة والثروة في ظله يتمنون زواله، فما بالك بمن كان يطاردهم، ويضيق عليه مسالك الحياة ولا نذكر من نفاهم من الأرض، أو زجهم في غيابة السجن. إنه اتهم جماهير المتعلمين بعدم الإخلاص له وبتمني زواله فصاروا كذلك، ولماذا يكون الناس غير مخلصين لملكهم وأميرهم ولحكومتهم ودولتهم؟ إن الإخلاص هو الأصل ولا يتحول الناس عن الأصل إلا لسبب موجب يعرض لهم، أفلم يكن من العقل والحكمة أن يبحث ذلك الجبار عن سبب ما كان يتهم به عقلاء الأمة والعارفين بمصالحها من كراهتهم إياه وعدم إخلاصهم له، ويستعين على ذلك ببطانته وخاصته، ثم يزيل ذلك السبب العارض، ويرجع بخيار أمته إلى الأصل الثابت؟! بلى، ولكنه ما كان يثق بأحد ثقة تامة فيستعمله في ذلك، فكانت قاعدة سياسته السوءى أن يبحث دائمًا عن عيون الناس ومفاسدهم ويصدق كل ما يلقى إليه في ذلك أو يأخذه بالتسليم احتياطًا ويبني عليه ما يبنيه على ما يصدقه ويوقن به، ولا يبحث عن محاسن الأخيار وفضائل الفضلاء ليستعين بهم على إصلاح الفاسد وتقويم المائل، بل لا يصدق ما يبلغه من ذلك، فكان كل واحد عنده ظنينًا مريبًا، فكيف يستطيع مع ذلك أن يصلح عملاً، أويتقي زللاً؟ استعمل في ذلك الألوف من عمال الحكومة في جميع أعمالها ومصالحها، والمئين من الجواسيس في عاصمتها وولاياتها، وكذا في مصر وعواصم أوربا وأشهر مدنها، واشتهر أمر سياسته هذه حتى بلغ إفسادها من الأمة أن صار أبناء الرجل وبناته العذارى يتقربون إلى السلطان بالوشاية والسعاية فيه؛ فيصب عليه سوط العذاب، أو يسام النفي من البلاد، ويأخذ أولاده الجَعْل على ذلك وهم فرحون، - إلى هذا الحد وصل فساد سياسة عبد الحميد في هذه الأمة ولا سيما في العاصمة فهو ما أفسد الناس عليه فقط بالتهمة والريبة وإنما أفسدهم أيضًا في أنفسهم حتى قطع أقوى صلات الصلاح وأمتنها بينهم وهي صلة الأولاد بالوالدين. كان الأستاذ - رحمه الله تعالى - يقول: أخوف ما أخافه من استبداد عبد الحميد وظلمه هو إفساده لأخلاق العثمانيين لا لإدارتهم، فإن إصلاح الإدارة من بعده يسهل إذا كانت الأخلاق صالحة، ولا يحتاج إلى زمن طويل إذا كانت الأخلاق سليمة، ومتى فسدت الأخلاق؛ فإن إصلاحها لا يسهل إلا بعشرات من السنين كما جربنا في أنفسنا - يعني المصريين - فإن إسماعيل باشا أفسد الإدارة وأفسد الأخلاق، فلما وجدنا ريح الحرية وأردنا أن ننهض بالإصلاح، كان فساد الأخلاق هو الذي عاقنا لا فساد الإدارة، ولولا ذلك لكانت هذه المدة التي أبيح لنا فيها ما نشاء من التربية والتعليم والكتابة والخطابة والاجتماع كافية لأن نرتقي فيها ونكون أمة. وقع ما كان يتوقع ذلك الإمام الحكيم فقد أفسدت السياسة الحميدية السوءى أخلاقنا حتى صار الإصلاح عسيرًا علينا مع الحرية على مقربة مما كان في زمن الاستبداد فإن الذي كان يتصدى للإصلاح في عهد عبد الحميد كان يتهم بعدم الإخلاص له، والذي يتصدى له الآن قد يتهم بعدم الإخلاص للدستور ولرجاله، أو العثمانية وعناصرها، ولا يزال كثير من الكبراء على ما تعودوا في العهد الحميدي يصدقون التهم وإن كانت سعاية إفك وبهتان، ويرتابون في طالب الإصلاح وإن قام على صدقه الدليل والبرهان، وكذلك شأن الأمم والشعوب في طور الضعف والجهل. أخطأ كثير من المصريين بإساءة الظن بإخوانهم المخالفين لهم في الرأي، واتهامهم بخيانة الوطن ويقع كثير من العثمانيين في مثل هذا الخطأ وضرره عظيم. أنا لا أقدر أن أصدق بوجود أحد يريد بأمته أو دولته سوء، ولكن يوجد في كل أمة أفراد قلائل تغلب عليهم الأثرة حتى إنهم لا يبالون في طلب حظوظهم بالمصلحة العامة، ويوجد أفراد قلائل يضادونهم فيغلب عليهم الإيثار حتى إنهم لا يبالون بمصلحتهم الخاصة إذا عارضت المصل

الحق للقوة والقوة بالحق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحق للقوة والقوة بالحق كن قويًّا بالحق يعرف لك حقك كل أحد: العلم قوة، والعقل قوة، والفضيلة قوة، والاجتماع قوة، والثروة قوة، فاطلب هذه القوى بالحق؛ تنل بها كل حق مفقود، وتحفظ كل حق موجود. الوالدان يفضلان العالم من أولادهما على الجاهل، والغني على الفقير، والقوي على الضعيف؛ يكرمانه بذلك بالمكالمة والمعاملة؛ فيكون بين إخوته الذين هم دونه كأنه من طبقة غير طبقتهم، فهل يلام غيرهما على مثل هذا التفضيل والتكريم؟ الإخوة أنفسهم يعتزون بأخيهم القوي بالعلم أو المال أو العقل أو الأخلاق أو العصبية ويفضلونه على أنفسهم وإن كان أصغر منهم سنًا ولا يوجد أفراد من الناس بينهم من المساواة مثل ما يكون بين الإخوة ولا سيما إذا كانوا أشقاء أفلا يكون غيرهم أجدر بتفضيل القوي وتكريمه؟! الجماعات كالأفراد في احترام القوة وحفظ حقوق أهلها وتكريمهم وتفضيلهم على أمثالهم سواء كان أهلها أفرادًا أم جماعات، فالعشائر في القبيلة الكبيرة، والعناصر في الأمة العظيمة، تتفاضل فيخضع ضعيفها لقويها ويعترف له بحق التقدم عليه، وبغير ذلك من الحقوق ومكان كل منهما من الآخر كمكان الأخ من أخيه، فما قولك في القبائل والشعوب الأجنبية بعضها مع بعض وكل منها غريب عن الآخر يرى مصلحته غير مصلحته وربما كانت قوته آفة عليه لا منفعة له؟ . القوي بأي نوع من أنواع القوى أكثر حقوقًا من الضعيف؛ لأنه أقدر على كسب الحقوق. فإنما يكسب الناس ما يكسبون بصفاتهم ومواهبهم التي يكونون بها أقوى استعدادًا ممن عداهم. المباراة والتنازع بين الأقوياء والضعفاء من السنن الاجتماعية في البشر، وأعدل أحوال القوي مع الضعيف: أن يرضى بحفظ حقه الذي يكسبه بقوته من الطرق المشروعة فلا يبغي على الضعيف بغير حق مشروع، وأفضلها: أن يكون إمامًا له ومرشدًا، وحاميًا له من اعتداء غيره وعضدًا، وشرها: أن يبغي عليه ويهضم حقوقه {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} (ص: 24) . إنما كانت المباراة والمنافسة سنة من سنن الفطرة؛ لأن الله أودع في نفس الإنسان حب الكمال والسبق والتفوق فهو بذلك يزكي نفسه ويطهرها من أدران النقائص التي تشينها عند المعاشرين والأقران، وبه يحملها على ما بعد في بيئته من معالي الأمور وكرائم الشيم، وبه يوسع دائرة وجوده بالنعرة والتعصب والترقية لكل ما ينسب إلى نفسه كالأهل والعشيرة والقوم والأمة والدولة والوطن والمذهب الديني والعلمي والسياسي والصناعة، يباري في كل ذلك من يخالفه وينافسه، ويلح في ذلك ويبالغ بقدر ما يرى من المزاحمة والمعارضة من المخالفين، فإذا فترت المزاحمة من المخالف؛ فترت الهمة، وضعفت العزيمة، وانحط شأن الأفراد والجماعات والأقوام. فمن استطاع أن يجعل جماعة أو قومًا بمعزل عن المباراة والمنافسة مع غيرهم؛ فقد استطاع أن يقضي عليهم بالضعف والخمول وإضاعة الحقوق الموجودة، واكتساب المزايا والفواضل المفقودة. المباراة والمنافسة من الفضائل، ومعارج الارتقاء للشعوب والقبائل، لولا ما يعرض فيها من البغي، واعتداء حدود الحق والعدل، فلو أن الناس يتبارون في المسابقة إلى الخير والفضل متحريًا كل فريق منهم أن يكون أكمل من الآخر من غير بغي عليه ولا عدوان؛ لكان ارتقاء البشر أسرع وأقرب، ولكن القوة تغري صاحبها بالطغيان، وتجمح به في البغي والعدوان، فالحق يكتسب بالقوة ويحفظ بالقوة. وأنواع القوة كثيرة - كما أشرنا إلى ذلك في صدر المقالة - ولبعض القوى من الغناء والفائدة في بعض المواطن ما ليس للأخرى. وأعلى القوى وأشرفها وأغناها قوى النفس: العقل والعلم والأخلاق، فإذا وجدت؛ تبعها غيرها إلا الكثرة، وإذا فقدت؛ لا يغني عنها غيرها حتى الكثرة، وإن القوي ليقوي الضعيف بمباراته ومعارضته ويقضي عليه بإهماله ومحاسنته، بأهون مما يقضي عليه بسحقه وإبادته. الأمثلة لما ذكرنا من الأصول والقواعد الاجتماعية كثيرة تراها بين يديك في سائر الأقوام وتقرؤها في تاريخهم: إنما نسخ الإسلام بعض الأديان وأضعف البعض الآخر في البلاد التي دخلها بعدم معارضتها وترك أهله لمنازعة أهلها. وقد حدث في الإسلام مذاهب كثيرة ما بقي منها إلا ما جرى بين أهلها التعارض والتنافس، ولولا بادرة العصبية التي بدرت من المأمون في مقاومة اللغة الفارسية؛ لذابت وتلاشت في اللغة العربية بقوة الإسلام كما زالت اللغة القبطية من مصر. واضطهدت اليهود في أوربا قوى الكثرة والسلطة، فلجأ هؤلاء إلى قوة الرأي والحيلة، فقلبوا سلطة الملوك وصار لهم مكانة عالية في أعظم الممالك الأوربية وأرقاها. تزاحمت الشعوب الأوربية وتنافست فارتقت وعزت وصار بعضها قريبًا من بعض في القوى الكسبية كالعلوم والفنون والصناعات والأخلاق والاجتماع والاتحاد وبقي التفاوت عظيمًا في قوتي الكثرة والثروة، اتفقوا على تأمين الشعوب الضعيفة بالقلة - كسويسره - من بغي القوة بالكثرة، وتحالف المتقاربون في القوى الحربية؛ ليأمن القوي من بغي الأقوى، فالقاعدة التي بني عليها هذا التحالف هي أن المزاحمة والمنافسة في السبق والتفوق في كماليات الحياة تقضي بطبعها إلى المناصبة والمقاومة وهذه تفضي إلى البغي والعدوان ولا يحول دون البغي والعدوان إلا تكافؤ قوى الأقران. علينا - نحن معاشر العثمانيين - أن نكون على بصيرة في حياتنا الجديدة التي نستقبلها للدستور، ولا بصيرة للجاهل بمثل ما أشرنا إليه من سنن الاجتماع، ومن لا يعتبر بأحوال الأمم والشعوب في هذه السنن. نحن أمة مؤلفة من شعوب شتى لا جامعة لها كلها إلا اعتقادها أن ارتباط بعضها ببعض يكون لها قوة عامة يعتز بها كل واحد منها وتكون مباراته ومنافسته للآخر من غير بغي ولا عدوان سببًا لقوة الوحدة العامة بقوة أفرادها. يجب أن تتبارى عناصرنا في تقوية أنفسها بالعلم والثروة وأن يعلم كل عنصر منها أنه إذا بقي متخلفًا عن إخوته؛ فإن أمه الدولة تفضل عليه إخوته من العناصر الأخرى في جميع أعمالها كما تفضل أم الأولاد ولدها العالم على الجاهل. إن مباراة العناصر العثمانية بعضها لبعض مع الاتفاق على البر بوالدتهم الدولة العَلِيّة والإحسان بها ورفع شأنها هو الذي يسرع ترقيهم وترقي الدولة، فعليها أن ترغبهم في المباراة والمنافسة وتمنعهم من البغي والاعتداء فيهما فقط، وأن لا تحابي عنصرًا منهم محاباة لا يأذن بها شرعها ودستورها. بل أقول: إنه ينبغي للولايات وللألوية وللأقضية أن تتبارى وتتنافس في العمران، بل ينبغي للمدن والقرى وللشركات والأفراد في البلد الواحد أن تتبارى في ذلك. فالمباراة هي السائق القوي للارتقاء السريع مع ارتقاء البغي من بعضهم على بعض. أعجبني اهتمام أهل بيروت والشام بأمر السكة الحديدية التي يقال: إنها ستكون بين طرابلس والعراق ومذاكراتهم في جعل طريقها من بلديهم. وإن كنت أرى أنهم غالطون في رأيهم وحسبانهم أن تلك السكة تضر بتجارتهم أو تنقصها وفي حسبانهم أن إيثار بيروت والشام على طرابلس أمر ميسور. والصواب عندي أن وجود هذه السكة يزيد جميع البلاد السورية والعراقية عمرانًا فتنموالثروة فيها كلها ومنها بيروت والشام، ولكن الزيادة النسبية في طرابلس تكون أكثر منها في بيروت وذلك لا يضر بيروت بل يفيدها؛ ولا سيما إذا اتصلت بطرابلس بخط عريض وذلك من أيسر الأمور. وجملة القول: إن هذا العصر هوعصر المباراة والمنافسة: من سبق فيه ساد وعلا، ومن تخلف فيه خاب وخسر، وامتهن واحتقر، فعلى العقلاء من كل عنصر وفي كل ولاية وكل بلد أن يحثوا قومهم على ذلك، وأن تكون وجهتهم فيه ترقية الأمة والدولة بترقية أنفسهم ليكونوا بعلومهم ومعارفهم وثروتهم واجتماعهم حصنهما الحصين، وركنهما الركين.

الإسلام في نيازالاند ـ قول لحاكمها

الكاتب: السر ألفرد شارب

_ الإسلام في نيازالاند [*] قول لحاكمها لما رزت نيازالاند منذ 20سنة لم يكن الإسلام موجودًا إلا في بقعة أوبقعتين جاءهما به بعض العرب ومن ذلك الحين انتشر الإسلام انتشارًا عظيمًا لا سيما في السنوات الأخيرة، وقد امتازت قبيلة (الياوس) بالميل إلى الإسلام ونشره وأما القبائل المقيمة غربي بحيرة نيازا فليس بينها مسلم وقد تغلبت البعثة الإسكوتلاندية الدينية هناك فمال القوم إلى النصرانية، أما الإسلام فقد كان انتشاره من ساحل إفريقية الشرقي وليس من السودان. والفضل الأعظم في نشره للعرب جاؤوا من زنجبار وقد نمت هذه النهضة الإسلامية بدون مساعدة وليس فيها شيء من قبيل الدعوة الجامعة، وفي جميع بلاد (باو) من بحيرة نيازا إلى الساحل الشرقي يوجد في كل قرية تقريبًا جامع وإمام، وليس في هذه النهضة شيء من التعصب أو العداء فإن جماعة الياوس يميلون إلى الحكومة، ولا تزال هذه النهضة حتى الآن خالية من كل أذى، على أنه مما لا ريب فيه دائمًا أن الإسلام معارض للنفوذ الأوربي، أما الحكومة فقد جرت على خطة النزاهة فلم تفضل دينًا على دين آخر، ولا خوف من هذا القبيل ما دامت هذه خطة الحكومة، ولا أظن أن النهضة الإسلامية تنتشر إلى جنوبي (زمباسي) نظرًا لقوة النفوذ الأوربي هناك اهـ. وقد نشرت هذا القول جريدة الدايلي تلغراف من كبريات جرائد لندرة، وقَفَّت عليه بهذه المقالة. (إن نهضة الإسلام لجديرة من إنجلترا بعناية أكثر من العناية المبذولة الآن في سبيلها نظرًا لاتساع ملك إنجلترا على المسلمين، ولأن لها منهم رعايا أكثر من رعايا سلطان الدولة العثمانية، ولقد قلنا مرارًا: إن كثرة عدد المسلمين في المملكة الإنجليزية جعل واجباتها نحو الإسلام ذات صفة خاصة. على أنها فرطت في إهمال هذه الواجبات وإذا بأمة أخرى تغتنم الفرص السانحة وتدرك ما جهله الإنجليز وتفعل ما لم يفعلوه. (فالواجب الأول المفروض على إنجلترا نحوالإسلام هو أن تفهم هذا الشعب ولا سبيل إلى هذا التفاهم إلا بتعليم جميع الإنجليز الذين يختلطون بالمسلمين لغات الشعوب الإسلامية وطريقة فكرتهم وشرائعهم، إلا أن الدولة لم تقتصر على إهمال هذا الواجب إهمالاً تامًّا ولكنها لم تعين له النفقات ولم تبذل في سبيله من الاهتمام ما هو جدير به، على أن مراسلنا في برلين يقول في رسالته الأخيرة: إن ألمانيا تهتم كثيرًا بما أهملناه فقد أنشؤوا في ألمانيا مجلة تأريخ ومدنية الشرق الإسلامي، وفي أكثر من مدرسة جامعة ألمانية يوجد قسم خاص لتعليم لغات الشرق وآدابه، وقد سعى الألمان بواسطة هذه المباحث وراء التدخل بين المسلمين لمصلحته الخاصة، وقد أشار مراسلنا في برلين إلى وجود مدارس ألمانيا في مراكز عديدة في المملكة العثمانية، وإنهم ينوون إنشاء مدرسة جامعة ألمانية في آسيا الصغرى أو ما بين النهرين، وهي مساع سلمية تبذلها ألمانيا في سبيل تعزيز روابط العلاقات بينها وبين الدولة العثمانية، فهل سعت إنجلترا السعي الواجب في سبيل تعزيز روابط الصلات بينها وبين الشعوب الإسلامية التي تتولى أمورهم؟ . وأهم هذه البلاد هي الهند ومصر، نحن نرسل إليهما نخبة من رجالنا لتولي أمورهم وهم ما بين إنجليزي وإسكوتلاندي وأرلندي، ولكننا لا نبذل الجهد لإفهام قومنا في إنجلترا بالذات هذه الحقيقة بحيث يدركون ما يفعله رسل دولتنا هناك، فإن مدارسنا الجامعة لا تحفل بالدروس الشرقية كما أن المدارس العامة لا تتعرض لها، والذين يعرفون اللغة العربية في إنجلترا أو يعلمون شيئًا من الإسلام وحياة المسلمين هم أندر من الكبريت الأحمر، إن من مصلحة حكومة الهند وسلطتنا في مصر أن نعد بعض رجالنا ليقفوا على حركة الإسلام وسيره، لا يفهم من قولنا هذا أنه لا يوجد في إنجلترا من يعلم ذلك. والحقيقة أن فيها عددًا غفيرًا من هؤلاء العالمين الذين يهتمون بهذا الأمر. فعندنا الجمعية الآسيوية الملوكية وجمعية آسيا الوسطى وعندنا بعض أساتذة جامعاتنا ولهم اهتمام تام باللغة العربية والإسلام، على أن الدروس في تلك المدارس ليس فيها ما يحفز الإنسان إلى السعي والاهتمام، وكان يجب على الحكومة أن تعين مبلغًا كبيرًا إعانة لمعهد شرقي عظيم يدفع بكثير من شباننا إلى الانقطاع لنقل حقيقة الشرق إلى الغرب، وهذا النقل ضروري لمصلحة الغرب، وإلا فإن الغرب لا يمكن أن يدرك حقيقة الشرق؛ لأن إدراكه له يؤدي إلى سقوطه، ومنذ خمسين سنة زعم (رانك) أن الإسلام يضعف كلما أثرت فيه المؤثرات الغربية، ومع ذلك فقد تواترت النهضات الإسلامية من ذلك الحين، ففي إفريقية ظهر المهدي وأمثاله والسنوسي، وانتشرالإسلام جنوبًا فجرف كل دين آخر في سبيله وأوجد وراء بحيرة تشاد المدن الكبيرة وهي ذات نظام وشرائع تختلف كثيرًا عن الهمجية السابقة ولم يؤثر في الهنود اختلاطهم بالإنجليز. وهذه الدولة العثمانية التي سميت قبلاً (بالرجل المريض) قد نهضت نهضة وطنية على قاعدة لا تختلف عن الإسلام في شيء، وكل هذا هو من قبيل وضع خمر جديدة في زجاجات قديمة، ولا نعلم حتى الآن ماذا تكون النتيجة، على أن حالة مصر تفيدنا أن الغرب كان عجولاً وكان الأولى به أن بتدبر الأمر طويلاً، فدراسة هذه المسائل من مقتضيات المصلحة الوطنية الإنجليزية وجدير برجال سياستنا أن يعتنوا به عناية خاصة اهـ. (المنار) عسى أن يكون لمحاربي العربية عظة بهذا الكلام، وأن يعلموا أن محاربة العربية محاربة للإسلام.

الدعوة إلى التعليم في حضرموت

الكاتب: علي بن شهاب

_ الدعوة إلى التعليم في حضرموت لصاحب الإمضاء ليس مشروع الدعوة حديث العهد عند الأمة الحضرمية؛ فإنه من المشروعات التي اهتمت بها منذ ثماني حجج لكونه من الحاجيات الضرورية لحياة الأمة ونمائها ولذلك لا يألو جهدًا بعض ذوي الهمم العالية في استنهاض همم أبناء جلدتهم إلى القيام بتأسيس مدرسة في إحدى مدن حضرموت جامعة لأنواع العلوم تشرق من جوانبها أنوارها عسى أن يحيوا ما اندثر من مجد أسلافهم القديم، ويقتدوا بإخوانهم من أبناء ملتهم سيرًا في سبيل النهضة. ولكن يا للعجب! إن هذا المشروع لم يتم إلى الآن مع أن الحضرميين الموجودين الآن في هذه الجزائر ينيفون على أربعين ألف نسمة غالبهم في سعة من الرزق لو فرضنا أن عشرة آلاف منهم - أعني ربعهم - في الدرجة الأولى ونصفهم متوسطون والربع الأخير مقلون وجعلنا نصف الربع الأول - أعني ثمنهم - ممن تبلغ ثروتهم الملايين ومئات الألوف ووزعنا المطالب عليهم لجاءت النتيجة كما يأتي: ... ... عدد ... ... ... على كل واحد ... الجملة الثمن الأول ... 5.000 ... ... ... 5.000 روبية 250.000 روبية الثمن الثاني ... 5.000 ... ... ... 2.500 روبية 125000 روبية النصف المتوسط 20.000 ... ... 1.000 روبية 200.000 روبية المقلون ... 10.000 ... ... ... 1 روبية ... 10.000 روبية ... ... ... ... ... ... ـــــــــــــــــــ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 585.000 حاصل الجمع ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فتكون هذه دفعة واحدة فيشترون بها عقارات من هذه الأراضي ذات ريع كثير ويكون الريع على قدر ما تحتاج إليه المدرسة. فهذه الأمة الموجودة في هذه الجزائر هي بالنسبة إلى الموجودين في الجهة الحضرمية الذين أنهكهم الفقر المدقع والجهل المظلم أقل عددًا. أليس لنا في أغنيائنا في هذه الأقطار رجل كريم يظهر الغيرة العربية والحمية الإسلامية والشفقة الإنسانية والرأفة الأخوية؛ فينهض بأمته ويجبر كسرها؟ أليس فينا من يبرهن أننا من سلالة أولئك الرجال الماضين الذين بذلوا جهدهم حتى ملؤوا الكائنات نورًا؟! فمتى نرى إخراج هذا المشروع وإبرازه إلى الوجود؟ وأَنَّى لنا ذلك؟! ومن لنا والأمة غارقة في غياهب الغفلة ودياجير التقليد والأوهام؟! والله إنهم لاهون بغناهم، لا يفكرون فيما أصاب هذه الأمة ولا يبالون بها ترقت أم تدلت، اعتزت أم ذلت، بل كل ذلك لديهم سواء. فيا للخجل! أليس عارًا أن نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا ما حل بقومنا من السقوط إلى الدرك الأسفل والانحطاط والتدلي في الهيئة الاجتماعية ولا تستفز أحدًا منا الغيرة ولا الحمية لإنقاذها من ربقة الذل وانتياشها من وهدة الجهالة؟! فإذا عرفنا هذا؛ علمنا أننا بعيدون عن أوامر ديننا، منحرفون عن سبيل الإسلام السوي. لقد شوهنا وجهه وأضررنا بسمعته عند بقية الأمم ولو كان فينا قطرة من دم آبائنا الكرام وذرة حمية للجامعة القومية؛ لتآزرنا واتحدنا على إحياء الشعور وإيقاظ النائمين وإنارة الأفكار والحث على الإنفاق. فتداركوا أيها الحضرميون الوقت قبل فواته وقبل أن يتخطفكم الداء الغربي ويضع الأغلال في أعناقكم كما وضعها في أعناق الهنود والمصريين والجاويين ولسوف تندمون ولا ينفع الندم. تفكروا واعملوا قبل نزول البلاء ولا تتهاونوا مثلما تهاون إخواننا التونسيون والجزائريون والمراكشيون متكلين على الخرافات حتى دهمهم البلاء ولم تغنهم خرافاتهم ونحن الآن محتذون مثالهم وسائرون في طريقهم نتخبط كأن بنا مسًا من الشياطين! أشفقوا أيها الحضرميون على دينكم وقومكم ووطنكم وسمعة سلفكم ومستقبل أيامكم وأولادكم فإننا لفي غرور عظيم. وإذا نظرنا بعين الحق والإنصاف ونفي الحماقة والتعصب الأعمى نرى ما يوجب الاضطراب واليأس من تكاسلنا وتنافرنا في جانب بقية الأمم التي تسابق إلى تنازع البقاء. ناشدتكم الله أيها الرجال المخلصون في خدمة الوطن والأمة. ما الفائدة في فتح المدراس في جاوه وحدها لأبناء العرب؟ هل تعود على الوطن وأهله بكل ما نرجوه له من الفوائد؟ لا أظن؛ لأن أبناء العرب هنا لم يعرفوا معنى الوطن بل هم يكرهون ذكر أرض العرب! وإن قلت: يكرهون العرب أنفسهم ولا يحبون إلا من نشؤوا بينهم.. لما كنت مبالغًا! فالفائدة عائدة لشخصيتهم فقط لا لمجموع أهل وطنهم كما توهم الأغرار.. إذا فرضنا أن ابن العرب المستعجم حاز القدح المعلّى في لغة الأجانب والكتابة والحساب ونال الشهادة المدرسية في الهندسة وما أشبه، فهل تظنون أن الحكومة الأجنبية تمنحه رتبة وتعطيه راتبًا يوازي نصف أو ربع ما تعطيه لأحد الأوربيين؟ كلا. فرضنا أنه صار كاتبًا في الحكومة أو عند أحد التجار الإفرنج براتب شهري قدره عشر روبيات إلى خمس عشرة روبيه فيعيش بهذه فيبقى مدة حياته في هذه الجزائر. فهل للوطن إذًا فائدة أو لأبناء وطننا التعيس الحظ؟ كلا. فحينئذ لا يكون في فتح المدارس هنا كل الفائدة لأبناء العرب الذين يولدون هنا إلى تلك المدارس فتكون العاقبة محمودة لهم ولوطنهم وملتهم جميعًا. فهل تليق بنا هذه الغفلة مع أن للعرب خصوصًا وللمسلمين عمومًا علماء وأغنياء في غالب مستملكات الأجانب؟ فبأي شيء تعاملهم الأجانب؟ هل أحد منهم نال رتبة والٍ أو حاكم أو أعطته راتبًا يوازي راتب أقل واحد من الأوربيين؟ أو هل نظرت إليهم بعين الشرف والعز والاحترام؟ كلا، وإنما هم ينظرون إليهم بعين الاحتقار كما ينظرون إلى أرذل حيوان ولسان حالهم يقول: لو كان هؤلاء يُعَدّون من بني الإنسان لكان لهم سلطة على بلادهم ولأصلحوا ذات بينهم. فكيف تريدون الأجانب على إكرامكم وأنتم لم تكرموا أنفسكم، فمن أي باب تطلبون الشرف؟ فالشرف هو في ترقية الوطن، ولمِّ شعث أبنائه، والأخذ بناصر المظلوم، وانتياش الجاهل من حمأة الغفلة، وبذل العلوم المفيدة وبذل المال لتأسيس المدارس. وفقنا الله إلى ما فيه صلاحنا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... بتاوى (جاوه) ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي بن شهاب

قانون حق التأليف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قانون حق التأليف [*] المادة الأولى: لكل نوع من النتائج الفكرية والقلمية حق لصاحبها يسمى (حق التأليف) . المادة الثانية: النتائج الفكرية والقلمية هي جميع أنواع الكتب والمؤلفات والرسوم والألواح والخطوط والمحكوكات والهياكل والخطط والخرائط والمسطحات والمجسمات المعمارية والجغرافية والطوبوغرافية وكل المسطحات والمجسمات الفنية والترانيم والتواقيع (نوطة) الموسيقية. المادة الثالثة: إن حق التأليف يتضمن طبع ونشر هذه الآثار والاتجار بها وترجمتها للسان آخر أو إفراغها لرواية تمثيلية، ويشمل الدروس والمواعظ والخطب والمسامرات التي تلقى لأجل التعليم والتربية أو الفكاهة. أما الخطب التي تلقى في مجلس المبعوثان والأعيان والمحاكم والاجتماعات العمومية؛ فلكل إنسان أن يضبطها وينشرها، وإنما جمع خطب خطيب أو دروس أستاذ وتدوينها وطبعها هو حق من حقوق صاحبها. المادة الرابعة: المقالات والرسوم التي تنشر في الجرائد اليومية والموقتة إذا كانت مقيدة بعبارة مثل (حقها محفوظ) و (نشرها وترجمتها ممنوع لغير صاحبها) ؛ فحقها محفوظ. ولكن المقالات والرسوم والأخبار اليومية غير المقيدة بمثل هذا القيد لا يعتبر فيها حق التأليف على شرط أن يبين مأخذها. المادة الخامسة: لا يجوز استعمال أسماء الجرائد والمجموعات والرسائل والكتب الموجودة من قبل أحد وإنما لكل إنسان أن يضع لمؤلفاته أسماءً وعنوانات عمومية. المادة السادسة: إن حق التأليف عائد للمؤلف في حياته، أما بعد وفاته فهو عائد أولاً لأولاده وأزواجه لمدة ثلاثين سنة من تأريخ وفاته، ثانيًا: لآبائه وأمهاته، ثالثًا: لأحفاده بالتساوي. وعليه؛ لا يجوز طبع ونشر هذه المؤلفات أوترجمتها للسان آخر في هذه المدة من قبل أحد غير مؤلفها أو ورثته. المادة السابعة: إن حق التأليف في الألواح والخطوط والنقوش والرسوم والأشكال والخرائط وجميع المسطحات والمجسمات المعمارية والجغرافية والطوبوغرافية بعد الوفاة هو ثماني عشرة سنة، أما حق التأليف في الترانيم والتواقيع الموسيقية فهو كالكتب والمؤلفات (ثلاثون سنة) . المادة الثامنة: ليس في القوانين والنظامات والأوامر والتعليمات الرسمية والإعلانات التجارية والصناعية حق للتأليف ولكن للذين يعلقون عليها ويشرحونها حق محفوظ في هذه التعاليق والشروح. المادة التاسعة: إن مدة حق التأليف للآثار التي لم تنشر في حياة المحرر تبتدئ اعتبارًا من تأريخ نشرها. المادة العاشرة: لا يجوز تمثيل رواية منثورة أو منظومة أو تمثيل قسم منها من غير إذن المؤلف، ولا يتضمن حق طبع هذه الآثار ونشرها حق تمثيلها. المادة الحادية عشرة: إن تمثيل الروايات المنثورة والمنظومة في المسامرات التي ترتبها المكاتب والجمعيات الخصوصية لا لمقصد الانتفاع غير تابعة لحق التأليف. المادة الثانية عشرة: يجوز أخذ بعض القطع من أي أثر كان لضرورة أو لفائدة من الآثار الأدبية والعلمية والكتب المخصوصة بالمدارس وفي الانتقادات على شرط أن يذكر اسم المؤلف. المادة الثالثة عشرة: لا تنشر المكاتيب إلا برخصة من صاحب تلك الآثار إذا كان حيًّا أو من عائلته إذا كان متوفًى. المادة الرابعة عشرة: يمكن ترجمة أثر من الآثار من قِبل واحد أو أكثر ضمن أحكام هذا القانون، وحق كل مترجم من ترجمته كحق التأليف اعتبارًا من وفاة المترجم. المادة الخامسة عشرة: إن حق التأليف في الآثار التي تنشرها الدوائر الرسمية والجمعيات المعروفة لدى الحكومة بصورة رسمية عائد لتلك الدوائر والجمعيات. المادة السادسة عشرة: إذا ألف أو ترجم أثر من قبل أشخاص متعددين من غير مقاولة؛ فحق التأليف أو الترجمة عائد إليهم كافة على التساوي، وإذا توفي أحد الشركاء؛ فحق استفادته من الأقسام التي نشرت لتاريخ وفاته والمسودات التي أعدت للنشر ينتقل لورثته، وتعتبر مدة الثلاثين سنة في حق التأليف، ومدة الخمس عشرة سنة في حق الترجمة اعتبارًا من وفاة آخر شريك في التحرير. وإذا كان يوجد مقاولة مخصوصة بين الشركاء؛ فيجري حكم المقاولة تمامًا، وإذا حدث خلاف ما؛ يرجع إلى المحكمة. المادة السابعة عشرة: إذا لم يبق لأثر صاحب ما، كأن توفي مؤلفه بلا وارث أو انقطعت الوراثة أو حدثت أسباب أخرى؛ فكل إنسان له الحق بطبع ذلك الأثر وترجمته. المادة الثامنة عشرة: يمكن لكل أحد أن يطبع الآثار المطبوعة قبلاً والتي لا صاحب لها وفقًا للمادة السابقة، وأما الذين يودون طبع أثر لم يطبع حتى الآن؛ فيعطى لهم بناءً على استدعائهم امتياز من قبل نظارة المعارف لمدة عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة، وحينئذ لا يجوز لغير صاحب الامتياز أو ورثته طبع هذا الأثر في ظرف هذه المدة. وإنما إذا لم يباشر طبع الأثر في مدة سنة أوعطل سنة بعد مباشرة طبعه؛ فيعد الامتياز كأن لم يكن. المادة التاسعة عشرة: إذا نفدت بعد وفاة المؤلف نسخ أثر من الآثار المعتبرة التي يرجى منها فائدة للعموم ولم يتيسر طبعه لسبب من الأسباب كفقر ورثة المؤلف أو إهمالهم أو عدم اتفاقهم؛ فنظارة المعارف تستكمل أسباب طبع هذا الأثر مع مراعاة حقوق الورثة. المادة العشرون: على مؤلفي الآثار أن يعطوا ثلاث نسخ مطبوعة من أثرهم لنظارة المعارف في الآستانة ولمديرية المعارف في الخارج ويقيدوه ويسجلوه؛ ليحفظوا بذلك حق تأليفهم. أما الآثار التي ليس لها إلا صورة واحدة كالألواح والتماثيل والتعاليق (المدليات) فهي مستثناة من هذه المعاملة. المادة الحادية والعشرون: يقيد في الدفتر المخصوص الذي ينظم في نظارة المعارف ومديرياتها لحق التأليف ماهية المؤلف واسم الأثر وموضوعه وتاريخه ومحل طبعه وعدد صحائفه، ويوضع له رقم بالترتيب، وبعدها يوقع عليه من صاحب الأثر أو وكيله الرسمي. المادة الثانية والعشرون: يؤخذ في دوائر محاسبات المعارف ربع ليرة عثمانية فقط خرجًا للقيد والتسجيل، ويعطى بمقابله من قبل نظارة المعارف أو مديرياتها علم وخبر يعتبر بمقام سند للتصرف يكون معمولاً به إلى أن يثبت عكسه بالمحاكمة. المادة الثالثة والعشرون: تجري معاملة قيد المطبوعات الموقتة في كل آخر سنة عند إراءة النسخ التي نشرت وتسجيلها. المادة الرابعة والعشرون: لا تسمع دعوى حق التأليف في المؤلفات غير المسجلة إلى حين تسجيلها، تعلن في آخر السنة الآثار التي قيدت وسجلت في ظرف السنة وأسماء مؤلفيها رسميًّا بواسطة الجرائد. المادة الخامسة والعشرون: لصاحب الأثر أو المترجم أو صاحب الامتياز أو ورثتهم أن يبيعوا أو يتركوا في ظرف المدة النظامية حق التأليف أوالامتياز تمامًا أو موقتًا أو بتعيين عدد النسخ لآخر بموجب مقاولة بمقابل بدل أو بلا بدل، ويكون المشتري أو الآخذ حينئذ قائمًا مقام أصحابها ضمن شروطها. حتى إنه إذا توفي قبل إكمال المدة تعد ورثته متصرفة في المدة الباقية. المادة السادسة والعشرون: يجب تسجيل مقاولة البيع أوالترك في نظارة المعارف في الآستانة وفي مديرياتها في الخارج ويؤخذ نصف ليرة عثمانية خرج قيدية ولدى إبراز المقاولات التي لم تقيد على هذه الصورة إلى المحاكم يؤخذ ثلاثة أضعاف الخرج المذكور جزاءً ويرسل إلى صندوق المعارف. المادة السابعة والعشرون: المحررون وأصحاب الصناعة الذين يشتغلون لاسم غيرهم يعتبرون بائعين حق تأليفهم إذا لم يوجد مقاولة خصوصية. المادة الثامنة والعشرون: ليس للطابع أن يحدث تغييرًا ما في الأثر بدون إذن المحرر، وإذا جرى ذلك؛ منع نشر الأثر بواسطة المحكمة وتعلن صورة الإعلام بالجرائد وليس للطابع أن يسترد الأجرة التي أعطاها للمحرر. المادة التاسعة والعشرون: إن طبع كتاب وتمثيله في المدة الحقوقية من غير إذن صاحبه يعد تقليدًا، وكذلك تمثيل رواية منثورة أومنظومة في المدة الحقوقية من غير رخصة أصحابها وطبع التواقيع (نوطة) الموسيقية أو استنساخ الخرائط والألواح والرسوم وأنواع الخطوط بالفوطوغراف أو بوسائط أخرى وإعمال قوالب للآثار القلمية والموسيقية بالوسائط الصناعية وإعمال الألواح لها (بلاكات) هو بحكم التقليد يجازى المقلدون توفيقًا للمادة الثانية والثلاثين. المادة الثلاثون: إن نسبة الآثار في التأليف والفنون النفسية لغير أصحابها يعد انتحالاً وكذلك من قدم وأخر عبارات كتاب أو أناشيد موسيقية، أو حرف طرز إفادتها كله بصورة يفهم منها الأصل وأسندها لنفسه يعد بحكم المنتحل. المادة الحادية والثلاثون: التنقيدات والشروح والحواشي لا تعد انتحالاً وكذلك إذا نقل المؤلف بعض جمل وفقرات من أثر آخر لأثره، ونوه بأنه أخذه من محل آخرلا يكون منتحلاً. المادة الثانية والثلاثون: من طبع الآثار التي لها حق التأليف بدون رخصة من أصحابها أو توسط بطبعها أو مثل رواية منثورة أو منظومة يغرم بخمس وعشرين ليرة عثمانية إلى مائة ليرة جزاءً نقديًّا ويحبس من أسبوع إلى شهرين، وتضبط منه الآثار التي طبعها، وتعطى إلى أصحابها. وكذلك من طبع مثل هذه الآثار في الخارج، ومن أدخلها إلى الممالك العثمانية يغرم بخمسة وعشرين ليرة عثمانية إلى مائة ليرة جزاءً نقديًّا، والذين يبيعون هذه المطبوعات وهم عارفون بها أو يعرضونها للبيع يغرمون بخمس ليرات عثمانية إلى خمس وعشرين ليرة جزاءً نقديًّا. المادة الثالثة والثلاثون: إذا أقيمت دعوى الضرر والخسارة من قبل صاحب الأثر المتضرر يعطى بحقها قرارًا من المحكمة نفسها مع أساس الدعوى. المادة الرابعة والثلاثون: يعامل الطابعون الذين يطبعون كتبًا زيادة عن المقاولة التي عقدوها مع المؤلف معاملة الذين خالفوا الأمانة، وتضبط النسخ الزائدة التي طبعوها، ويؤخذ منهم بدل ما باعوه منها ويعطى كل ذلك لصاحب الأثر. المادة الخامسة والثلاثون: تطبق أحكام المادة الثانية والثلاثين التي بحق المقلدين بحق المنتحلين أيضًا. المادة السادسة والثلاثون: لأصحاب الأثر المشترك أن يراجعوا المحكمة على الانفراد، ويطلبوا الضرر والخسارة التي لحقتهم بسبب التجاوز على حقوقهم التصرفية من قبل الغير. المادة السابعة والثلاثون: لا يجوز للدائنين حجز آثار المؤلف التي لم تطبع. وإذا صدر حكم في بيع الآثار والمؤلفات التي حجز عليها؛ يعتنى كثيرًا بعرضها للبيع ووقاية أصحابها من الغدر. المادة الثامنة والثلاثون: النظام المتعلق بطبع الكتب والمؤرخ في 8 رجب سنة 289 و 30 آب سنة 288 منسوخ بهذا القانون مع الفقرات المذيلة عليه. المادة التاسعة والثلاثون: إن الذين طبعوا أثرًا قبل نشر هذا القانون بدون أن يحصلوا على رضى صاحبه أو ورثته عليهم مراجعة صاحبه أو ورثته واستحصال رضائهم. وإذا استمروا على بيع الآثار المقلدة من غير رضى أصحابها؛ يجازون بمقتضى هذا القانون. المادة الأربعون: إن تنفيذ الأحكام القانونية على الجرائم المعينة بهذا القانون متوقفة على شكاية شخصية. المادة الحادية والأربعون: إن حق التأليف في الآثار التي نشرت بلا إمضاء أو بإمضاء مستعار راجعة إلى ناشرها إلى أن يظهر محررها نفسه. المادة الثانية والأربعون: ناظر المعارف والعدلية مأموران بإجراء هذا القانون. ... ... ... ... ... ... في 10 جمادى الأولى سنة 1328 ... ... ... ... ... ... ... ... وفي 6 مارس سنة 1326

تعارض العقل والنقل في الإسلام

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ تعارض العقل والنقل في الإسلام [*] جمال الدين القاسمي (نص السؤال) بسم الله الرحمن الرحيم إلى جناب المكرم الأخ في الله مفيد السائلين وقدوة الناسكين، إمام المحدثين، سالك منهج الراشدين: شيخنا الفاضل الأمجد محمد جمال القاسمي سلمه الله من كل شر وجعلنا وإياه من أتباع سيد البشر آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومرضاته. أما بعد، فإنه وصل إلينا عزيز كتابكم، تلوناه مسرورين بسني خطابكم، وحمدنا الله على ما أولاكم، أصلح الله أحوالنا وأحوالكم، وأحسن عواقب الجميع إنه ولي التوفيق. وبعده، إني نظرت في أماكن من كلام الشيخ محمد عبده رحمة الله عليه مثل توسطه في ذم السياسة وذم التقليد ومحبته لطريق السلف وحثه على النظر فيه في أصول الاعتقاد وحثه على مآخذ الأئمة من الكتاب والسنة واحترام أهل الحديث وأهل الإثبات وتمييزه طريقهم عن غيره، فحق لي أن أقول: هو العالم الحبر الذي ينبغي أن تشد إليه الرحال. وودت أني سألته في حياته إيضاح قاعدة في أصل الاعتقاد قد رسمها في كتاب الإسلام والنصرانية في تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض، قال في كتابه: (اتفق أهل الملة الإسلامية - إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه - على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل، وبقي في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، وتفويض الأمر إلى الله في علمه. والطريق الثانية: تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل. (وقال) وبهذا الأصل الذي قام على الكتاب وصحيح السنة وعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهدت بين يدي العقل كل سبيل) اهـ كلامه. فقسمها ثلاثة أقسام: الأول: التقديم عند التعارض مطلقًا، والثاني: التفويض، والثالث: التأويل، فالأول: لولا ذمه لتقليد الفقهاء فضلاً عن الآراء الفلسفية؛ لقلنا هذا تقليد لهم بناءً على أصلهم، والثاني: التفويض وفيه ما فيه، والثالث: لولا تمييزه وإعلاؤه طريقة السلف؛ لقلنا: عنى بالتأويل اصطلاح المتفلسفة الذي حقيقته التبديل. وكذلك (قال) وهذا الذي عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم. ففهمنا من ذلك أنه بنى تلك الأصول على وجه يمكن أنه من السنة لكن لم نحط به علمًا خلاف ما يتوهم؛ ولأنه بعيد من الغباوة والتقليد بغير الوقوف على الحقائق. وإني لعلى نظر بل على قدم أن العقل عقلين: عقل صحيح وعقل فاسد، وأن النقل نقلين: نقل صريح صحيح، ونقل غير صحيح. فالعقل الصحيح، موافق للنقل الصريح، لا تعارض ولا تنازع بينهما وما حصل من التنازع فهو من سوء الأفهام ليس هو اختلال في العقل الصحيح، ولا قصور من النقل الصريح، ومع هذا لم يرتفع عني وجه الإشكال بالكلية، بل على هنية، لما في ذلك من الإجمال واحتمال التفاصيل؛ ما يحتاج إلى فهم سيَّال، وفكر وقاد، فاستشكلت ذلك جدًّا. وطلب التسليم لقاعدة صاحب الإسلام والنصرانية أعوذني إلى أن أنظر في كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية المسمى بـ (الجمع بين العقل والصحيح والنقل الصريح) وهو بهامش كتابه (منهاج السنة في الرد على الرافضة) فسرحت نظري في أول الكتاب واسترسلت به نحو فصلين؛ فعسر علي التسليم للتقديم مطلقًا؛ فأوقفني ذلك الكتاب على نثيل أبحاث موارد طرق شتى متباعدة الأعماق، متخالفة المساق، متبانية المذاق، فمنها ما هو ملح أجاج آسن كدر، ومنها ما هوعذب صاف فرات سائغ للشراب، وما بينهما في الأقل والأكثر مزج من الجانبين. فصوبت نظري مليًّا في ذلك؛ فإذا الناس في تنوع طرقهم إلى مواردهم يهرعون سراعًا أقطاعًا وأرسالاً وأشتاتًا، لا يصدهم وذح قذى ما في مواردهم، فسبحان الله! لقد استعذب كل أناس مشربهم. ثم علوت أعلى نثيل تلك الموارد، دنف البدن من زواعج التفكير، شعث القلب لهفًا، متفطر الكبد ظمأً، مرتجف الأعظم وجلاً، مفتقرًا للم شعث قلب، وضم فطرة كبد، ونعش ظمأ، وسكون أعظم، وتمريض طبيب، فاستجرت بذلك إليكم؛ كي أستضيء بنور علمكم، وأستصبح بمشكاة فهمكم، وأستعين بباسق فضلكم، إلى معرفة أصول الإيمان الذي أنزلت به الكتب، وأرسلت به الرسل، وما يتوقف وجود الإيمان على وجوده، وما يعدم من عدمه، ولكم في ذلك إن شاء الله الأجور الوافرة، والمقامات الفاخرة في الدنيا والآخرة، وفقنا الله وإياكم السداد، وألهمنا وإياكم الرشاد، إنه رؤوف بالعباد، هذا ما يلزم. وأبلغ سلامي فريد عصره، نابغة دهره، مفيد المستفيد، إمام وقته، بركتي ومحبتي الشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ الأخ محمد ديب وإخوانكم السادة الأبرار، وأولادكم الأطهار، ومحبيكم الأخيار. ومن لدينا مخدومكم محمد وابن عمه أحمد والمشايخ أهل النهى السادة الفضلاء كافة بيت الآلوسي: علي أفندي ومحمود شكري أفندي وكافتهم، والشيخ عبد الرزاق الأعظمي وكافة من تلامذة هؤلاء وأساتذة تصحبهم، فعند ذكركم يودعونا السلام عليكم ومن يحبكم، وأنتم في أمان الله وحسن رعايته والسلام. ... ... ... ... ... ... غرة ربيع ثاني سنة 1324 هـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحب الداعي ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز بن محمد السناني ثم ذيله بقوله: صاحب هذه القاعدة المذكورة [1] أقواله في الحث على التمسك بالدين الحق وإيضاح مآثره وتقديمه وتقديسه لأصوله في سائر أقواله في كتبه ومجالسه ومحافله يخالف ما تتخيله من التناقض فيها اللهم إلا وهمًا وليس العصمة لغير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه أجمعين. (جواب الشيخ جمال الدين القاسمي) باسمه تعالى وبحمده إلي الشيخ الإمام الرباني، الشيخ عبد العزيز السناني، أبقاه الله مفيدًا للطالبين، وداعيًا للحبل المتين، وقائمًا بنصر السنة القويمة، والمحجة المستقيمة، سلام الله عليكم ورحمته وبركته ورضوانه. أنهي إليكم أنه وصلني عزيز خطابكم، وكريم كتابكم، فحمدت المولى على صحتكم، ودعوت لكم بدوام إفادتكم، وعموم النفع بمباحثتكم. تضمن كتابكم الجميل، أهم بحث جليل، ومسألة جديرة بالتحقيق، وإعارتها النظر الدقيق، مسألة اضطربت فيها الأنظار، وأعملت فيها من عهد السلف الأفكار، وصنفت فيها المصنفات، وتنوعت فيها المذاهب والمقالات، مسألة هي أشهر المسائل الكلامية، ومحك أفهام الفئة السلفية والخلفية، مسألة من وقف منها على الصواب، بعد اجتيازه عقبات الارتياب، فقد فاز فوزًا عظيمًا، وكان في الأمة إمامًا حكيمًا. قبل أن نتكلم في هذ البحث أريد أن أذكر أمرًا أراه من أوجب الواجبات، وأهم المهمات، ألا وهو: إطراح العصبية المذهبية، والحمية القومية، والالتفات في كل مسألة إلى دليلها، والبحث مع برهانها، فإنا عن الحق نبحث، وإليه نسعى، والحق ما قوي فيه الدليل واتضح معه البرهان، فمن أدلى ببرهان ناصع وحجة قويمة فهو المحق الواجب اتباعه، المتحتم اقتفاؤه، من أي مذهب كان، ومن أي فرقة وجد، وفي أي جيل نشأ. والحاصل أنا أبناء الدليل، وأتباع البرهان، أقول هذا أولاً. ثانيًا: في الآداب التي يفترض - فيما أراه - سلوكها والأخذ بها، والدعوة إليها، وهي من لوازم التمهيد الأول: رفع التنافر من الفرق، ومحوالتضليل والتفسيق من النفوس، وإقامة الأعذار، لسائر أهل الأنظار، ما داموا داعين إلى الدين، متمسكين بشرعه المتين، يصلون صلاتنا، ويستقبلون قبلتنا، وأن يتحقق أن الكل طالبون للحق، جادون للحصول عليه، ساعون وراءه، فيعذرهم بذلك ويرحمهم، ثم من أخطأ منهم الدليل، ونكب عن سواء السبيل، فيما يعتقد خصمه؛ فإنه بعد بذله جهده معذور بالاتفاق ومأجور بنص الشارع، وعلى خصمه أن يحمد مولاه، على ما هداه، ويشكره على ما أولاه، ويقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. لا أنكر أن المرء إذا بحث وفحص وجد ما يقوله المتكلمون من التأويل الذي يخالفون به أهل الحديث كله انحرافًا، ووجد أن الحق مع أهل الحديث باطنًا وظاهرًا، ولكن آسف لأن تكون هذه المسائل مدعاة للتفرق، سائقة للتحزب والتعادي، باعثة على التنابز بالألقاب، مثيرة أحيانًا للطعن بإنسان إثر الترامي بشظايا اللسان، هذا وديننا واحد، وكتابنا واحد، وقبلتنا واحدة، وأصول إيماننا واحدة، من أين أتينا ومن أي صوب رمينا؟ أتينا من نبذ الوحدة، والزهد في التآلف، والرغبة عن التضام، من دخلاء أفسدوا جامعتنا، أو من غلاتنا، أو من مقصرين عن فهم روابط الدين، فإنا لله! ! نحن في عصر أحوج إلى الرجوع إلى المتفق عليه، والدعوة بالحكمة إليه، فمن انقاد، واعتنق سبيل السداد، وإلا فلا تفسيق ولا تضليل، ما دام على قانون التأويل، وقد صرح بذلك حجة الإسلام عليه الرحمة. إنما عجلت بهذا التمهيد أنا لسنا من قوم يتحزبون لفريق دون آخر، ولا ممن يعادي المخالف عداوة قلبية، بل ممن يبين الحق الذي يراه، ويجادل بالحكمة والموعظة الحسنة من يأباه، فإن اهتدى فلنفسه، وإن أصر معتقدًا حجية ما لديه وصحة ما ينتحله فيكشف له غلطه، فإن رجع (فذاك) وإلا بأن عاد إلى مشربه، وقد استحكم في قلبه قواعد مذهبه، فما عليك إلا إبانة الرشاد، والله الهاد. (مبحثنا في دعوى تعارض العقل والنقل) ماذا يقول العاقل من هذه الجملة التي دبت على الألسنة، ومشت مع الزمان، وصقلها مرور الأيام، وامتزجت بكلام أهل النظر وتآليفهم قرنًا بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، حتى أصبحت أصلاً أصيلاً، وغدت ركنًا ركينًا، يتحاكم أهل النظر إليها ويعولون في مشكلاتهم عليها. لعمر الحق إن بثها في أسفار العلم، وتلقينها لرواد الفهم، لمما يندهش له الفكر، ويتألم له القلب السليم، لا يعده ذوالفطنة الوقادة، والفطرة الصحيحة، إلا من الدخائل على أصول الدين، دخائل الخلف المبتدعين. من ينكر أثر هذه الجملة على أصول الدين؟ ومن لا يألم لما جنته على قواعد اليقين؟ يكاد ينخلع القلب مما ترمي إليه من إمكان تعارض العقل والنقل، وتباين الأمرين، ومعاذ الله أن يوجد تعارض أو شبه تعارض أو إمكان تعارض بين العقل والنقل، بل العقل في النقل والنقل في العقل، وما هما لتعرف الحق إلا كالرؤية المشروطة بسلامة البصر وانبساط الضياء، فلا عقل بدون نقل، ولا نقل بدون عقل. العقل والنقل متآخيان في هذه الملة الحنيفية، وممتزجان في أصولها وفروعها، كلياتها وجزئياتها، امتزاج الماء في العود والروح في الجسد، ومتلازمان تلازمًا لا يقبل الانفكاك بوجه ما كلزوم نظام الكواكب لسيرها المقدر. (شهرة هذه القاعدة) حدثني تحرير إمام أن حشويًّا من بيروت نقم على الأستاذ عليه الرحمة هذه القاعدة بدعوى تفرده بها، وعدم سماعه لها، فأسِفت لأن يصل الحال بالحشوية إلى إنكار المشهورات سيما مثل هذه القاعدة التي هي أصل للمتكلمين أجمعين، وما بنا من حاجة إلى التعريف بشهرتها من الأسفار الموجودة وتأييدها، فإنها بديهية، إلا أن البديهي قد ينبه عليه، لغشاوة تحول دون النظر إليه، قال السيد الزبيدي في كتابه (إيثار الحق على الخلق) : تقديم العقل على السمع أولى عند التعارض؛ لأن السمع عُلم بالعقل فهو أصله ولو بطل السمع والعقل معًا. وهذه من قواعد المتكلمين. وقال الإمام ابن فورك في كتابه (تأويل المتشابه) : ما صح من الخبر المروي في باب الصفات فهو مرتب على دلائل العقول ليجمع بين الدليلين، ويوفق بين الحجتين. وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) : ما قضى

التقاريظ

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ التقاريظ صالح مخلص رضا (ديوان الخطيب) للشعراء تأثير في إيقاظ الأمم معروف لا ينكره إلا من أنكر التأريخ. وأنت تعلم منزلة حسان بن ثابت وتأثير شعره في أوائل الدعوة الإسلامية، ثم إنك لا تجهل مقام مثل الشاعر فيكتور هوغو في أمته، ولقد طلع في هذه الأثناء هلال في فلك شعراء العربية جاء بمثال من الشعر لم نجد غيره حذاه، ذلك الشاعر هو فؤاد أفندي حسن الخطيب أحد موظفي المعارف في حكومة السودان المصري، جاء ببدايات من نظمه برز فيها على كثير من نهايات غيره، انتهج بالشعر العربي منهجًا جديدًا وصدر ديوانه هذا بمقدمة في تأريخ اللغة العربية والشعر لم ينسج على منوالها الشعراء والكتاب وإليك مثال من قوله في العتاب: أإخواننا الأتراك مدوا لنا يدًا ... من الود إنا قد مددنا لكم يدا أخذنا بأهداب العتاب وإنما ... أتينا به من كل ضغن مجردا فقلتم وقلنا غير أن قلوبنا ... على العهد ترعى حرمة العهد سرمدا وما نتقاضى ثورة دموية ... فلسنا عطاشا نطلب الدم موردا ولكننا نرجو إخاء موطدًا ... يعز علينا أن يكون مهددا ومن قوله في الغزل: بعد موتي عناصر الجسم تنحل ... فيمتصها النبات طعاما فاذكريني إذا تكللت بالزهـ ... ـر ففيه هباء جسمي أقاما وانشقيه فإن فيه أريجًا ... عاطرًا كان في فؤادي غراما والديوان قد طبع طبعًا حسنًا على ورق جيد بمطبعة المنار، ويباع في مكتبتها بثلاثة قروش صحيحة، ولتلامذة المدارس العالية بقرشين. *** (كتاب الكلية العلمانية الفرنسوية) أهدت إلى إدارة المنار الكلية العلمانية الفرنسوية في بيروت كتابها السنوي وفيه بيان فروعها وشروطها وقوانينها. وهي أربع دوائر: دائرة التعليم العام، ودائرة الإعداد للمدرسة الطبية، والدائرة الصناعية، والدائرة التجارية. وتنوي إنشاء فرع زراعي في نواحي البقاع حيث الخصب وسعة الأرض، ولا صبغة دينية لهذه الكلية، ولعلها أول بعثة علمية غربية جاءت إلى الشرق باسم العلم عاريًا عن اسم الدين. فإنها ذكرت أنها لا تتعرض لدين التلامذة كما أنها لا تعارض أحدًا بدينه وربما سهلت له الطريق كما تقول. وقد ذكر في مقدمة كتابها هذا أن غاية هذه البعثة العلمانية إنما هي خدمة فرنسا خارج فرنسا في مستعمراتها وفي البلاد الأجنبية ونشر لغتها ومبادئها، إلخ. فهل يعتبر أهل البلاد ومن بيدهم زمام الأمور؟ ويعلمون بأنهم أولى من أولئك الفرنسيين بترقية لغة البلاد وآداب الشرق، وأنهم إن لم يسبقوا إلى ذلك سبقهم القوم العاملون، وأن إهمال المعارف واللغة والآداب مضيعة للجامعة القومية وتفريق للعناصر الوطنية ولو أنشئ في كل بلد وكل قرية نواد باسم اتحاد العناصر أو الاتحاد والترقي.

مقدمة خديجة

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ مقدمة خديجة [*] عبد الحميد الزهراوي بسم الله الرحمن الرحيم ذكر الله تعالى والثناء عليه والشكر له قبل كل شيء دخل هذه الدار عدد لا يحصى من بني آدم بمجموعهم عمرت القرى والأمصار، وتحركت أفلاك العلوم والأعمال، وتعاقبت أسلاك الاجتماع والأحوال، وإذا فتحت كتب السير والتاريخ لا تجد ذكرًا لعشر من دخلها ولا لعشر عشرهم ولا للواحد في ألف الألف منهم، فلماذا يعنى المؤرخون بهذا القليل من بني آدم ويهملون الكثير منهم؟ ليس بعجيب ما صنع المؤرخون، فإن الأكثرين من بني آدم متشاكلو السيرة، متشابهو الحالة والغاية، على ما بين سيرهم من التغاير، وبين أحوالهم من التفاوت، وذلك أن حاصل أمرهم تعب وكد ومزاحمة وحيرات وحسرات في تحصيل ما اشتهوا أو تعودوه من المطالب جل أو حقر، فماذا عسى أن يذكر المؤرخ من حكايات هؤلاء التي يمكن أن تكتب كلها هكذا: (جاؤوا إلى هذه الدنيا فاشتغلوا بأسباب معايشهم وعاشوا خاضعين للغالب وذهبوا غير تاركين أثرًا في هذه الدار إلا إن كان ولدًا على شاكلتهم) . وأما أولئك الأفراد القليلون الذين لهم بعد مماتهم وجود ظاهر بالآثار فإن في سيرهم للتاريخ ذخرًا من غرائب الاستعداد الإنساني، وبدائع مظاهره وجلائل مآثره، وأمثلة التفاوت بين أفراده، والارتقاء والتكامل في مجموعه، بواسطة آحاد من جملته، بذلك يستمد التاريخ جدته كل يوم، ويأخذ المزيد لرونقه عند كل فرد وكل قوم. وأولئك الأفراد صنوف: فرسول مبشر، وحكيم مبصر، وكاتب مفكر، وشاعر مذكر، وفاتح مغير، ومخترع محير، وكاشف منور، وباحث مصور، واجتماعي محور، وشرعي مقرر، ونصاح مبرر، ولساني مفسر، ومفضال ميسر. هؤلاء الصنوف أقطاب التاريخ على أخبارهم يدور، ومآثرهم مشرقة منها يستمد النور، ووراءهم في الذكر يأتي من اشتهروا بخلق من الأخلاق، ومن عرفوا في عشيرة بطيب الأعراق، ومن هنا يظهر لنا أن الشهرة ليست بشيء عند التاريخ إذا لم تؤيد بمآثر، ولولا هذا لتعب المؤرخون في سرد أسماء كثيرة لا يستطيعون أن يبيضوا وجوه دفاترهم بشيء من أعمال أصحابها ممن كانوا كبارًا في العيون؛ لأنهم أبناء أماجد مثلاً وهم لم تمجد لهم همة، ولم تؤثر عنهم منقبة، ويظهر لنا أيضًا أن إعراض التاريخ عن ذكر من لم تبهر مآثرهم هو أحسن درس في الأخلاق ألقاها علينا المؤرخون عن عمد أو بالتصادف وذلك لأن النفوس إنما يغريها بالباقيات الصالحات تذكار أهلها وتمداحهم، وإنما ينهنهها عن الخمول سرعة انطفاء الخاملين وطول إشراق الباقي ذكرهم في العالمين. نعم إن مَن لهم الباقيات الصالحات التي يبقون ويذكرون بها هم أفعل الحداة بالنفوس وأنهض بها إلى المكرمات؛ فحكاية أحوالهم هي أفضل مآخذ الأخلاقيين الذين يجتهدون في أن يفهموا قارئهم كيف يتكمل الإنسان وكيف يصير من الأقطاب أقطاب التاريخ. اللهم إني أستسقي جودك وإحسانك لأرواح المؤرخين الذين تركوا كنوزًا كثيرةً لنفوسنا من سير الأقطاب من آبائنا، وأستغفرك عن زلة زلها أكثرهم من حيث لا يشعرون وهي: إهمالهم كثيرًا من سير الأقطاب من أمهاتنا. لقد علمنا أن الفرق ليس بكبير في الفطرة بين الرجل والمرأة، وليست المرأة بمحرومة من المزايا التي يعلو قدر المتحلي بمثلها من الرجال، ذلك أننا نرى لهن عقولاً سليمةً، وقلوبًا كريمةً وهممًا عظيمة، وهل للرجال ينابيع للمكارم غير هذه العقول والقلوب والهمم؟ ، ونرى الأديان اعتبرت المرأة كالرجل في التكليف بالعقيدة والعبادة والآداب، ونرى الاجتماع اعتبر المرأة كالرجل في التكليف بالعمل وما زال نصيبها منه كبيرًا وتابعًا لتقسيم الأعمال على حسب مرتبة محيطها من العالم ثم على حسب مرتبتها من محيطها. وهذا غير ما نعلمه من فضل بعض الفاضلات الماضيات اللاتي تصلح سيرهن أن تكون هدى للرجال قبل النساء، ولولا تلك الزلة التي ذكرناها للمؤرخين؛ لكان اللاتي نعلمهن أكثر وما اللاتي نعلمهن الآن من الفاضلات بقلائل. من هؤلاء سيدة قد سمع بفضلها العالم كله ولكن العارفين بتفاصيل فضائلها ومزاياها قليلون، الشرق سمع بهذه السيدة والغرب، الترك يعظمون اسمها والعرب وفارس والهند، والأفغان والسند، وفي أرض الصين تعظم، وفي الدنيا الجديدة تكرم، وإذا فتحت دفاتر المؤرخين - عفا الله عنهم - لا تجد فيها تحت اسم هذه السيدة الجليلة إلا كلمات يسيرة في ترجمة حالها، وشرح خلالها، ولكنا نحن شاكروهم على هذه الكلمات التي يملأ سناها العقول والقلوب فتهتدي بها على قلتها إلى عظيم أمرها كما يدرك المبحرون عظمة المنار إذا كانت أشعته عظيمة السطوع. ولقد كنت تفكرت في أن أكافئ والدتي بعض المكافأة فتبينت بعد طول التفكير أن عظيم فضلها عليَّ هو أبعد من أن يوفى شيء من حقه ولكن تراءى لي أنه يسرها أن أعلن للملأ فضل جنسها وأذكرهم بما نسوه من احترام حقوق هذا الجنس. ولم أجد أحسن طريقة إلى هذه الغاية الجليلة من شرح سيرة هذه السيدة التي هي إحدى جدَّاتها. فمن مدد تلك الكلمات القليلة التي تركها لنا المؤرخون في ترجمة حال هذه السيدة أؤلف هذه القصة الحقيقية، وإلى روح والدتي أرفعها هدية على راحة خشوعي وضعفي، ومن خزائن رحمة الله ورضوانه أستنزل تحية طيبة مباركة لهذه الروح البارة. ومن راقه هذا المؤلف الصغير وحصلت له به لذة وفائدة؛ فلي حق أن أرجوه شيئًا، ولا أرجوه إلا أن يكون مساعدًا في إقامة حقوق المرأة وكرامتها وآدابها. إن النساء أمهاتنا معشر الرجال وعلى حسب تربيتهن نكون، فلنطلب من محيطنا أن يهذب بالعلم الأمهات، ويسعى لترقية مداركهن وآدابهن.

بحث في الخلاف

الكاتب: عن كتاب العلم الشامخ

_ بحث في الخلاف [*] ولنوضح لك صورة من كثير صور من شطارة أهل وقتنا الذين هم كما ذكرنا خير الناس [1] سيرة اليوم فيما علمنا وكيفية تصرفهم فإنه إنما تعد معائب من غلبت عليه مناقبه. (كفى المرء نبلاً أن تعد معائبه) وضعوا عن زكاة الغنم على كل شاة أربعة دراهم من ضَرْبهم وستسمع الآن قدرها فتؤخذ على مئتي شاة مثلا ثمان مئة درهم مع أن الواجب شاتان ولم يكونوا قَبْلُ يعتدّون بنصاب الشاة والبقر ثم ذكروا النصاب لكن تؤخذ قيمة نحو ما ذكر كالمتعينة لا من عين المال وهذا حق المال الشرعي بزعمهم ولا ندري بأي وجه تعين ما ذكر من الصورتين ولا كيف تكون الثالثة وكثير من المآخذ له نحو ذلك من المداخل هذا ما سمعنا في بعض الجهات ويزيد قليلا وينقص كذلك في بعض الجهات والمقصود التقريب. هذا حين يريدون الأخذ وأما حين يريدون إنصاف المظلوم من الظالم فيأمرون بأخذ الدية ألف حرف والحرف عبارة عن أربعين درهمًا في ضربهم وهي تخرج الدية تقريبًا من الذهب مئة دينار وستين أو سبعين دينارًا فيسقطون نحو أربعة أخماس الدية، وعلى هذا فَقِس حال خير الناس الذين يجب شكر الله على أن أنعم بهم نظرًا إلى سائر الأرض، وسألت بعض قضاتهم حسن الخيمي ما هذه الدية التي تحكمون فيها؟ فقال: قال الإمام: يعني المتوكل إسماعيل بن القاسم إمام العصر: تكون هذه الدراهم قيمة عن نوع آخر من أنواع الدية يعني لأن أنواعها عندهم كلها أصول من أهل الإبل والذهب وغيرها على السواء ويخير الجاني عندهم أيضًا، فقلت للقاضي: تعال ننظر في قيمة تلك الأنواع فنظرنا فما رأيناها إلا متقاربة بالنظر إلى الأرض التي كنا فيها صنعاء وما والاه وعلى الجملة فإنما ذلك الجواب ترميم والمسألة مائلة عن السنن كأخواتها في جميع الفرق إنما الغرض التمسك للتنبيه. صورة أخرى قليل نَفْعُها لهم كثير ضررها بل بليّة عظيمة على جميع الناس في وقتنا هذا ضَرْبة فضة من عمل الكفار يسمَّى القروش فأخذت هذه الدولة منها وضربتها دراهم وخلطوا فيها نحاسًا نحو الربع تقريبًا ليكثر عدده فيربحوا بزعمهم ذلك القدر الزائد وهي سُنّة اقتدوا بها عن من مضى من الأتراك وغيرهم الذين يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، لكن لم تر الناس إذ ذاك المصارفة وزنا لأنه لا يصلح لهم بيع الفضة بالنحاس وهو ربا أيضًا فصارت الضربة كسائر السلع يرتفع عنها تارة وينخفض أخرى ويبيعون الدراهم بالقروش بالعد لا بالوزن ففعلوا هذا الباطل وهم يعلمون حين دَعَتْهم الضرورة إلى الصرف ثم نهاهم الإمام عن الصرف مع إصراره على الضربة وشدة حاجتهم إلى المُصَارفة فكان عملهم معهم كما قال: أَلقاه في اليمّ مكتوفًا وقال له ... إياك إياك أن تَبتلّ بالماء ومن مفاسد الخلاف استحلال الأعراض وهو واضح فانظر ما في هذه المصنفات من العياط والهتور والتكفير بلا دليل، حتى إن الأشاعرة أصلوا أنه لا يُكفّر أحد من أهل القبلة وإنما الكفر البواح ولا كفر بالتأويل ثم تجد في تضاعيف كُتبهم المناقضة وكذلك الماتريديّة في كلام إمامهم الأعظم أن لا يُكفَّر أحد من أهل القبلة، ولم أر التكفير أسهل على أحد ولا أكثر منه في متأخري الحنفية كأنهم يكفرون بكل إلزام ولو في غاية الغموض، ومنع بعض الناس قريبًا من بعض مُتفقِّهتهم نعله فقال: كفرت لأنك هوَّنت العلماء وهو تهوين للشريعة ثم للرسول ثم المرسل ونحو هذا يفعلون في كل شيء، وفعل بعضهم شيئًا من مُنْكرات الدولة فقال المظلوم: هذا ظلم وحاشى السلطان من الأمر والرضى به، فقال أنا خادم الدولة المنتمية إلى السلطان فقد نسبت الظلم إلى السلطان فهوَّنْتَ ما عظَّمَتْ الشريعة من أمر السلطان فكفرت فأخذوه وجاءوا به إلى القاضي وحكم عليه بالردة ثم جدد إسلامه وفعل ما يترتب على ذلك، وهاتان الحكايتان في مكة عصرنا مجرد مثال ولا تزال ألسنتهم رطبة بذلك وهو في رسائل المتأخرين وفتاويهم وسائر كتبهم وهي عظيمة هونها عموم الجهل وكساد الإنصاف، ونَفاق النِّفاق والاعتساف، نسأل الله حسن الخاتمة لنا ولجميع أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ثم رأيت كتاب التمهيد لأبي شكور السالمي من الحنفية وإذا هو لم يكد يسلم منه أحد من التكفير لأن من أول الكتاب ... إلخ، يقول: قال أهل السُّنة والجماعة كذا، وقالت الأشاعرة، وقالت الفلانية ولا يزال يحكم بالكفر، كقوله قال أهل السنة والجماعة إن الله تعالى لم يزل كان خالقًا [2] موصوفًا بهذه الصفة وقالت الأشعرية والكرامية: ما لم يَخْلق الخلق لم يكن خالقًا وهذا كفر. انتهى صورة لفظه ومن العجب أن يسمي نفسه أهل السنة والجماعة في كل محل ثم يعد أفراد الفرق الذين يتسمون بذلك كالأشعريه وغيرهم، وغيره لم يبلغ هذا الحد بل يقع منهم ذلك نادرًا يقول بعض الأشاعرة: قال أهل السنة وخالفت الماتريدية أو الحنابلة أو نحو ذلك على أن ذلك شائع باعتبار التسمية بذلك إنما اخترعها صاحبها ولم يوافقه عليها الخصم ولكل أن يدَّعي (ولَيْلَى لا تقرّ لهم بذاكا) وهذا المذكور لا أدري ما أقول فيه فإنه يحكى الأقوال ويجيء بما لا يوجد في أي كتاب ولا هو مما يتركب على الناقل ولا هو نادر وأما المعتزلة فإنما مدلول المعتزلي عنده من يصح أن ينسب إليه كلما ألقته الشياطين، أو جالت به وساوس المجانين، فلْيُطالع وعلى الجملة فإكثار الاطلاع سيما على الكتب المشهورة في كل فرقة يزيد المهتدي بصيرة وطمأنينة في الهدى مع التوفيق والتسديد، وإخلاص النية للعزيز الحميد. وأما المعتزلة فهم فريقان وليسوا كلهم يُكَفِّرون بالتأويل كما تراه في كتب الأشاعرة ولكن صار كل من الفرق يحكى الشر عن مخالفه ويكتم الخير بل يروي الكذب والبَهْت كما قدمنا وكما تذكر الأشاعرة أن المعتزلة تنكر عذاب القبر ترى ذلك فاشيًا بينهم حتى القُشيري في التخيير شَرَح الأسماء الحسنى وكأنه استند في ذلك إلى الكشف، وأما النقل فباطل وهو شبيه قذف الغافلات فإن المعتزلة لا يكاد يظن قائلا يقول هذا إلا شذوذًا مثل المِرِّيسِيّ وضرار وهما بيت الغرائب مع أن ضرارًا ليس من المعتزلة في روايتهم لأنهم رَوَوْا عنه القول بالرواية بحاسة سادسة ورووا عنه القول بخلق الأفعال وأنه رجع عن الاعتزال بسبب شبهة أن يكون فِعْل العبد أَشْرَف من فعل الله تعالى وعلى الجملة فليس شذوذ عن الفريقين بغريب وإنما المنكر إلزام المعتزلة قوله وإنما هذه المسألة كسائر المسائل بل لا بد فيها من شذوذ كشذوذات العنبري والظاهرية وهذا شيء كبير يطالعك عليه كتب المقالات ودَعْ عنك المتكلمين. ومن المضحكات عند المحدثين أنهم ينقمون على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى يُجرِّحون من يقول ودَّ أنه معه في كل المواطن كشُرَيْك القاضي ومن لا يحصى [3] ثم تراهم يفتون بكفر من لا يساعدهم على نوادر ما عليها معرَّج ويرون ما المعلوم خلافه لكل من عرف ذلك بلا حياء كما حَكَى الذهبي أن ابن دِحْيَة قال في يحيى بن نعمان: ضالّ مضلّ عَجَّزَ الله وقال: (نحن أقدر منه) وهو قول القدرية جميعهم وهذه الجملة الأخرى الظاهر أنها من قول ابن دِحْيَة ويحتمل أنها من قول الذهبي مع أنه لم يعترضها ومن قال: إنه أََقْدَر من الله فهو كافر تصريح لا من باب التأويل، ونحو هذا ما حُكي في ترجمة عمر بن إبراهيم العلوي أنه جاروديّ لا يرى الغُسْل من الجنابة فلو صدق لكان قد أنكر ضروريًّا من الدين ولم يعاملوه بذلك وكلماتهم متناقضة إذا تكلموا في غير فنهم وهكذا كل دخيل وليس لهم في ذلك العناية مع أن قوله جاروديّ لا يرى الغُسْل من الجنابة يفهم من هذه العبارة أنها وصف كل من كان جاروديّا فيتسع الخَرْق على الراقع، وكما مضى ذكره من قولهم من قال: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى فهو كافر وغير ذلك، وكمن قال في صالح بن حي ذاك الأواه: إنه قد استَصْلَبَ منذ زمان ولم يجد من يصلبه يعني لأنه يرى الخروج على أهل الجور كرأي الحسين بن علي ثم حفيده زيد بن علي ومن تبعهم من الزيدية بل وابن الزبير ومن تابعه من فضلاء الصحابة والتابعين بل طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم إلا أن خطأهم كان واضحًا لأن إمامهم لم يكن يتشبث به الريب ولقد كانوا فتنة لهذه الأمة كما قال عمار رضي الله عنه: (واللهِ إنها لزَوجة نبيكم في الدنيا والآخرة ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم إياه تطيعون أم هي) فرضي الله عنها وعن طلحة والزبير وعن علي ومن هو من ذلك القَبِيل كالحسين السِّبْط وزيد بن علي وأبعد الله مَرْوَان وابن جرموز، وابن ملجم والحجاج ويزيد وابن زياد ومن هو من ذلك القَبِيل أميرهم ومأمورهم. ولعَمْري لمقاصد أئمة الزيدية في قيامها وسيرها أشبه بالصالحين من السلف لولا دَغَل من الهوى وغلو فيما يعود على الرياسة وداؤها كمين ما يظهر إلا بعد أن يستحكم وبعد الاستحكام لا يمكن علاجه كالكلب ولقد دخل داؤها في كل ذي مقصد حتى في الوعَّاظ الذين رأس مالهم التحذير من الدنيا التي قُطْبها الرياسة، فتيقظْ من الأحوال لما ذكرنا وغير ما ذكرنا مما يطلعك عليه كتب الجرح والتعديل وكتب السير والأخبار والحكايات والآثار مع التيقظ في كل باب لزواياه وخباياه. وليْتهم شفاهم ما في الكتب أعني المختلفين حتى يختص هذه المفاسد من له اطلاع على الكتب ويسلم مِن ذلك العامة. ولكن استولى عليهم الشر فصاروا يكررونه على المنابر كل جمعة كأنه الذي وصّاهم الله بالتذكير به لينفعوا المؤمنين وأمرهم بالسعي إليه فالخارجي يلعن أمير المؤمنين والرافضي يلعن الخلفاء الراشدين والسُّنِّيّ يسب الشيعي والشيعي يسب الباغي والجبري وهذه سنة سنية سنّها مَن سنّها في سب علي رضي الله عنه فيالها من شنيعة ما أخزاها، وفضيحة عمّ بلاها، ولولا أَنْ عَمَّهم الوهن في دينهم لقام أهل كل جامع حين سمعوها والعجب ممن يُحْسِن الآن لواضعها كأنه يريد أن يشارك فيها لما تأخر عن وقتها فأخزى الله المحاباة في الدين، والضِّنَّة بالأنفس والأموال والبنين، ولقد ضاهت هذه الأمة أهل الكتابَيْنِ في قولهم {وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ} (البقرة: 113) وبعضهم يقول في بعض فوق ما ذكرنا والإنصاف أن الحق لم يخرج عن أيديهم جميعًا والحمد لله فعند كلهم كل الحق، وكل قد ابتدع وإن اختلف قلة وكثرة وصغرا وكبرا ومن يطلب الحق وقد هيَّأه الله ويسَّره يعرف هذا من ذلك {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) . ومن مفاسد الخلاف سدّ باب الجهاد لأعداء الإسلام مع أنه فرض كفاية وهو سَنام الدين، ولا انقطاع له إلى يوم الدين ولما استحكمت العداوة بين فرق المسلمين تركوا الكفار وصرفوا هممهم في حرب بعضهم بعضا، وإنما استحكم ذلك من حين استحكم التفريق وصاروا أجنادًا مجنَّدة وقد كان في الدولتين حين كان السلطان واحدًا جهاد الكفار مستمرًّا مع عدم استقامة الخلفاء على الحق، ولكن كم بين تلك الأحوال وهذه الأحوال لو يستطيع أحدهم اليوم أن يستعين على خصمه من المسلمين بالكفار لَفَعَلَ [4] وليتهم تصالحوا على أن يأمن

الفسق العلني والدستور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الفسق العلني والدستور [*] حدثنا غير واحد من الفضلاء الذين جاؤوا العاصمة من طرابلس الشام أن بعض سماسرة الفسق جاءها بثُلَّة من النساء الروميات العاهرات اللواتي يتَّجِرْن بأعراضهن فأنشأن يرقصن كل ليلة في بعض الملاهي وهن في هيئة منكرة من التبذل والتبرج والتهتك تغري من رآها بالفسق ثم يعدْنَ إلى منازلهن وقد جذبن إليهن من جذبن من الفسَّاق يختلفون إليهن جهرًا فيبذلون لهن أموالهم وصحتهم وشرفهم ودينهم ويخرجون حاملين منهن جراثيم داء الزهري (الحب الإفرنجي) وسُمّه القتال المعدي فيلقونه في بيوتهم وبيوت من يؤاكلونهم ويشاربونهم حتى إن الدكتور ماريا أحد أطباء البلد المشهورين قال لبعض محدثينا: إنه عرض عليه كثيرون من المصابين بهذا الداء بعد استقرار هؤلاء العاهرات في طرابلس وكان ذلك نادر الوقوع فيها فكم يكون عدد الذين عُرِضوا على غيره وعدد الذين لم يعرضوا على الأطباء لجهلهم وإهمالهم. وأخبرنا أولئك المخبرون أن علماء طرابلس وأهل الدين والشرف فيها حرجت صدورهم واضطربت قلوبهم وضاقت عليهم نفوسهم وشكَوْا الأمر إلى حكومته فلم تُشْكِهم ولا أجابتهم إلى إزالة المنكر القبيح الذي لم تتعوّده بلدتهم، وظن الجماهير من الناس أن المجاهرة بالفسق من لوازم الحكومة الدستورية فهو بلاء واقع ما له من دافع لأن رجال الدستور هم الذين يحمونه، وأطلعني أحد هؤلاء على كتاب جاءه من صديق له وكلاهما من مستخدمي الحكومة وأعضاء جمعية الاتحاد والترقي يقول فيه إن عدد الارتجاعيين يكاد ينمو ويزداد في طرابلس وقاها الله وسائر البلاد من شر الارتجاع وأهله، وسنبين لهم بالبرهان خطأهم في سوء ظنهم هذا بالدستور ورجاله. إن طرابلس الشام قد امتازت منذ القرون الماضية والأيام الخالية بمزايا قلما توجد بلدة في الدنيا تفوقها أو تضارعها فيها وهي المحافظة على شعائر الدين وآدابه الاجتماعية، والخلوّ من مَواخِير الفسق ولو سرية، وحانات السكر العلنية، وبيوت القمار الخصوصية، ولا أذكر أنني رأيت في السنين التي عشتها فيها أحدًا من السكارى إلا رَجُلين أحدهما زنجي كبير السن كان يجول في حارة النصارى فيتجمع له الصبيان يعبثون به ويسخرون منه، وقد اعتاد السكر في خدمته لبعض النصارى في أيام شبابه، والثاني شاب من أولاد الصناع كان يشرب سرًّا وربما خرج مترنحًا ثملاً فكان لافتًا لأعناق الناظرين المتعجبين، ومحرِّكًا لألسنة المحوقلين والمسترجعين، وأذكر أمر مدرعة فرنسية وقفت في ميناء طرابلس فخرج بعض ضباطها إلى البلد فجعل يجول فيها فطلب من التُّرْجُمان أن يذهب به إلى ماخور النساء أو يأتيه بامرأة يتمتع بها فلما سمع أهل السوق هذا هَمُّوا بالضابط فأنذرهم بعض الأذكياء مَغبَّة الأمر وأسرع بإعلام الحكومة فأرسلت إليه من رجال الشحنة والشرطة من حافظ عليه إلى أن عاد إلى البحر بعد ما أفهمه الترجمان أن هذه البلدة ليس فيها نساء للفسق. إن بلدة هذا وصفها وقد كانت ولا تزال من أكثر البلاد اشتغالاً بالعلم الديني بالنسبة إلى عدد السكان جديرة بأن تضيق ذَرْعًا بالفسق العلني يفاجئها شر مفاجأة وقد كان لحكومتها سلطان من الدستورعلى منع هذا المنكر المخالف لآداب القوم العمومية ولكن مُتَصَرِّفها السابق كان جاهلاً خاملاً بليدًا وأما المتصرِّف اللاحق فلم يبلغنا أنهم شكوا إليه ذلك ولعلهم لم ييأسوا من الحكومة ولعل المتصرِّف الجديد لا يقصر في تلافي هذا الأمر الأمرّ، وإزالة هذا العمل المنكر، وهو قد رأى بعينيه، وسمع بأذنيه، وعمل بيديه ورجليه، في منع ما هو دونه من المنكرات في العاصمة كمنع تبرج النساء واختلاطهن بالرجال في مثل يوم عيد الدستور ومنع الصبيان من الحمامات، كل ذلك عناية من الحكومة الدستورية العليا بالآداب الإسلامية، ولا يتوهَمَّن أن الأمر قد استقر فهو يدوم بحركة الاستمرار، وإنه يُغْتفر في الدوام ما لا يُغْتَفر في الابتداء، فالأمر لا يزال في أوله ولا تزال أخطاره محصورة في دائرة ضيقة، فيجب أن يُرَقَّع قبل اتساعه، وتداوى العلة قبل إعضالها. قد استفظع هذا المنكر أهل العلم والدين والغيرة على العرض وهم السوادُ الأعظم في طرابلس الشام وأكثرهم لا يعرف من شره إلا أنه عَمَلٌ محرم في الشرع فماذا يقولون وماذا يعملون؛ إذا علموا بما وراءه من الشرور والرزايا في هتك الأعراض واغتيال الأموال وفُشُوّ الأمراض وفساد داخلية البيوت وهو ما سنشرحه في مقالة أخرى. يجب على أهل العلم والدين أن يعيدوا الكَرَّة بمطالبة الحكومة المحلية بمنع هذا المنكر من بلدهم المخالف لآدابهم العمومية التي نص القانون على وجوب احترامها وذلك يكون في كل مكان بحسبه، وجمهور أهل العلم والدين والمروءة هم المحكمون في عرف بلدهم وآدابه، ولأنه هتْك لحرمة الدين الذي كفل القانون الأساسي حفظه واحترامه بل لم يقبل إلا لبنائه على أساسه، واقتباسه من نبراسه، فإن لم تبادر الحكومة المحلية إلى إجابة طلبهم فليرفعوا الأمر إلى حكومة العاصمة ولو بلسان البرق. لا تصدقوا وسوسة شيطان الارتجاع بتفضيل تلك الحكومة الاستبدادية البائدة على الحكومة الدستورية الدائمة إن شاء الله تعالى في حفظ الشرع وآداب الدين، فإنا قد رأينا من هذه الحكومة أكثر مما كنا نتوقع من اتقاء ما يخدش الشعور الديني، ولم يكن أحد يستطيع أن يحتج بالدين على شيء في العصر الحميدي المظلم فاعلموا الآن أنكم أقدرعلى حفظ دينكم وعرضكم إذا عرفتم كيف تحفظونه فحكومة الدستور هي حكومة الأُمة وحكومة الاستبداد هي حكومة رجل واحد لا قيمة فيها للأمة ولا لدينها ولا لعرضها ولا لشرفها. ألم يبلغكم أن أهل البصرة أرادوا أن يصبوا تمثالا لأبي الدستور (مدحت باشا) فمنعتهم الحكومة العليا من ذلك لأنه مخالف للشرع الإسلامي، ألم تعلموا أن مجلس الوكلاء قرر منع انتشار كتاب تحرير المرأة إذ طبع مترجمًا بالتركية لئلا يكون سببًا لكثرة الخوض في مسألة رفع الحجاب عن النساء، حتى عدّ بعض الناس الحكومة مغالية في ذلك، أَفترَوْن أن هذه الحكومة ترضى بأن يثْلمَ أولئك الروميات الفواجر شرفكم ويهتكن آدابكم الدينية والقومية ويسلبن أموالكم في زمن يقاطع العثمانيون فيه تجارة اليونان المباحة - ويفسدن أمر الصحة العمومية، ويزدن في أسباب التعدي والجنايات، حاش للحكومة أن ترضى بذلك إذا كنتم أنتم تكرهونه وتمقتونه، فاطلبوا المقاصد بأسبابها، وَأْتُوا البيوت من أبوابها، واتقوا الله لعلكم تفلحون.

مضار البغاء ومفاسده

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مضار البغاء ومفاسده للزنا مضار ومفاسد كثيرة في الصحة والأخلاق والروابط الزوجية والحياة الاجتماعية والاقتصادية والإنتاج؛ لأجلها كان محرمًا في الأديان فإن الله تعالى لم يحرم على الناس شيئًا إعناتًا للناس ولا منعًا لهم من التمتع باللذات التي لا ضرر فيها وإنما حرم عليهم كل ما هو ضارّ وأباح لهم كل ما هو نافع وما كان فيه نفع وضَرّ فالترجيح في الشريعة لما فيه دفع المفسدة وحفظ المصلحة والمنفعة جارٍ على الطرق الموافقة لنظام الفطرة وقوانين المنطق المعقولة، وأشدُّ الزنا ضررًا وأكثر مفاسد البغاء المستباحُ الذي يتخذه العواهر حرفة تكون معروفة في البلد فكل مَنْ شاء ذلك تيسر له متى شاء ما دام يملك أجرة البغي. هذا الضرب من الفسق هو الذي يسرع إفساد الصحة والآداب وتقليل النسل وإيقاع الشقاق في البيوت حتى تصل إلى درجة يستباح فيها أكثر الأعراض وتفشو القيادة والدياثة حتى لا يوثق بنسل أحد إلا النادر من الناس وأكثر الشبان الجاهلين لا يعرفون من أمر هذه المفاسد شيئًا فيقضي الفسق على حياتهم الجسدية والأدبية والمنزلية من أول النشأة ولا يعرفون من أين جاءهم البلاء بل لا يدرون به إلا بعد وصوله إلى حد اليأس ولا سيما في البلاد الصغيرة - كطرابلس الشام التي سرى إليها البغاء الآن - التي ليس فيها مستشفيات تداوى فيها الأمراض والأدواء التي تتولد من الزنا كالزُّهْرِي والسَّيَلان، ويَعتبر بما يرى فيها من العبر من كان لا يعرف ذلك من الشبان. أول رزايا البغاء وأسرعها حصولاً انتشار المرض الزُّهْرِيّ القتال ويا لَيْتَ هؤلاء الشبان المساكين يعرفون شيئا من عواقب الزهري وما ينتهي إليه لَيْتَهم يدخلون المستشفي في مثل الآستانة ومصر فيشاهدون بأعينهم بعض المصابين بهذا الداء ومنه الذي فقد بصره وسمعه ومنهم من سقطت أسنانه وتآكل لسانه، ومنهم من استؤصلت منه أعضاء التناسل، وأهونهم حالا من كان قريب عهد بالمرض وقد انتشرت البثور على جسده ولم تصل سمومها إلى أعضائه الرئيسة، ويا لها من مناظر تَشْخَص لها الأبصار وتَرْجُف لهولها القلوب. يا ليت هذا الداء الخبيث لم يكن مُعْدِيًا إذًا كان يكون وباله على أولئك الفساق وحدهم، وهم له مستحقون، ولكنه من الأدواء التي تسْري بضروب من العدوى لا يعرف طرق التوقِّي منها إلا من لهم إلمام بعلم الصحة وهم في بلادنا قليلون، فيا حسرة على أهل بيت يُغْوي الشيطان أحدهم فيقوده إلى تلك المواخير النجسة فيعود حاملاً إلى أهله الأبرياء المساكين ذلك السم القتال فيلقح به امرأته وأولاده وإخوته وأخواته وربما أصاب به والديه فإنه قد ينتقل بفضل الطعام وسؤر الشراب وبالتقبيل واللمس إذا كان هناك جرح أصابه ذلك السم ولو جرح الخِلال في اللثة. ومن رزايا هذه الفاحشة ومصائبها أن من افْتُتِنَ بها يصير يؤثر الحرام على الحلال فإن كان أعزب تضعف داعية الزواج الشرعي في نفسه ولذلك يقل الزواج في جميع البلاد التي يفشو فيها الزنا ومضار ذلك كثيرة منها قلة النسل ومنها الأيامَى من النساء وذلك مدعاة لخروجهن من حظيرة العفة والصيانة حتى إن العوانس والعذارى الأبكار يلجأن أحيان يلتمسن الأخدان في البيوت السرية، فكيف يكون حال الأرامل؟ وإن كان متزوجًا يهجر امرأته ولو جميلة ويأوي إلى بَغِيّ دونها جمالاً وفَتاءً وإن شاركه فيها من لا يحصى من أسافل الناس وبذلك يضعف غيرته على العرض ويضيق ذرع امرأته ويخونها الاصطبار فتنتقم منه والجزاء من جنس العمل. يتوهم بعض المغرورين بأنفسهم أنه يسهل عليهم الجمع بين التهتُّك في الفسق وبين صيانة نسائهم عنه وإن قل نصيبيهن منهم، وإنما ذلك هو الجهل والغباوة وعدم الخبرة والتجربة فما ذكرناه من إفضاء تهتك الرجال في الفسق إلى فساد نسائهم هو من القضايا المعقولة الثابتة بالتجربة المؤيدة بحديث (عِفّوا تَعِفّ نساؤكم) فإن استبْعَدَتْه عقولهم الضعيفة فليعلموا أن المشاهدة والتجربة أقوى حجة من نظريات الفلاسفة الحكماء، أفلا تكون أقوى من نظريات الجهلة الأغبياء؟ ، ولو كانت النظريات المتبادرة إلى الرأي أقوى من علم المختبر للشيء والعالم به من المشاهدة أو خبر التواتر عن المشاهدين والمجربين لكان من المردود بادئ الرأي ادعاء رغبة الفاسق عن زوجته الجميلة الطاهرة المقصورة عليه إلى عاهرة دونها في كل شيء ولكنه واقع، ومن أغرب وقائعه أن امرأة في مصر بحثت عن سبب هجر زوجها لمضجعها زمنًا طويلاً فعلمت أنه يأوي إلى بعض مواخير الفسق الخفية فذهبت إلى قوَّادة الماخور وأعطتها صورتها ورغبت إليها أن تعرضها في الصور اللواتي عندها على فلان (الذي هو زوجها) فلما عَرَضت الصورة عليه جذب بصره حسن صورة امرأته ولم يفطن لها لأنه لم يخطر في باله أن تعرف ذلك المكان أو تميل إلى الفاحشة مثله وكانت أجمل من جميع النساء اللواتي يختلفن إليه فلما طلبها من القوادة طلبت منه مالاً كثيرًا فوق ما كانت تطلبه عادة فبذله وبعد أن اجتمع بامرأته وهو لا يعرفها وأظهر لها أنه كان أسعد الناس بلقائها وأنه ما سُرَّ في حياته بامرأة كسروره بها تعرفت إليه ووبخته وقالت له: كيف تكون أسعد الناس بقربي في الحرام مع الخسارة وبذل المال لهذه القوَّادة الملعونة ولا تكون أسعد الناس في الحلال مع حفظ المال. ألا فليعلم أهل طرابلس الشام ومن على شاكلتهم من المتعرضين لإنشاء البغاء في بلادهم أنهم إذا لم يتداركوا هذا الأمر قبل ثباته واستقراره فإن أعراضهم على خطر وأن ما عندهم من الغيرة والحماسة الآن سيكون في أول العهد بهذا البلاء سببًا لسفك الدماء ثم تضعف الغيرة رويدًا رويدًا حتى تكثر القيادة والدياثة كما في جميع البلاد التي فشا فيها البغاء والبشر متشابهون في الاستعداد لذلك والعلل مربوطة بمعللاتها والأسباب موصولة بمسبباتها. إن الغيرة على الأعراض في مثل طرابلس الشام شديدة عند جميع طبقات الناس حتى إن أجهل الجاهلين وأفسقهم ليندفع إلى قتل من يعلم أنه اعتدى على عِرْض أيَّة امرأة من عشيرته بلا مبالاة ولا حذر من العاقبة فإذا استقر أمر هؤلاء المومسات اللواتي فتحْنَ باب البغاء في هذه البلدة وترتب على ذلك أثره الطبيعي من فساد البيوت وابتذال الأعراض فلابد أن يكثر سفك الدماء فيها، فهل تفكر العلماء والفضلاء وأهل الغيرة والنجدة في هذه العواقب ولم يبالوا بها أم هم عنها غافلون؟ يغلب على ظني أنه لو جمع بعض العقلاء فتيان البلد الشجعان (الأبضايات) وبين لهم أن هذه الفتنة ستكون سببًا لتهتك الأعراض وسفك الدماء وفساد الصحة وإضاعة الأموال لسبقوا العلماء إلى السعي في منعها وتلافي شرها قبل تمكنها ورسوخه. إنما أخرت الإشارة إلى ذهاب المال لأنه في نظر أهل وطننا دون العرض والنفس ولكنهم إذا اعتادوا هتك العرض يرجحون المال فإن البلاد التي فشا فيها الزنا كلها قد كثرت فيها القيادة والدياثة لأجل المال حتى إن الرجل لَيَتّجر بعرض امرأته وبناته، وهذا مما يعده أكثر بلادنا من المحال الذي لا يتصور وقوعه منهم لظنهم أن شدة الغيرة صفة من صفاتهم الطبيعية التي لا تتغير وكان غيرهم يظنون هذا الظن الباطل ولم يشعروا ببطلانه إلا بعد موت الغيرة بفشو الفسق على أن المال عزيز عند كل الناس في كل مكان وزمان والمحافظة على الثروة هي أساس قوة الأمم وعِزَّتها في هذا العصر، ولست أعني بإضاعة الفسق للثروة وذهابه بالأموال ما يتبادر إلى أذهان الأكثرين الذين أوجه إليهم هذا الخطاب من الشفقة على الشاب الفقير الذي يضيع معظم كسبه بجعله من نصيب هؤلاء المومسات وإنما أعني ما هو أعظم من الشفقة على هؤلاء الظالمين لأنفسهم أعني أن هذا البغاء يذهب بحظ عظيم من مال الأمة إلى جيوب الأجانب الذين أذلوها وبَزّوا دولتها باستعلائهم عليها بالثروة فإن معظم المومسات في الشرق من اليونان والرومانيات والنمساويات والفرنسيات ... إلخ، وهن يرسلن معظم ما يسلبنه من فساقنا إلى بلادهن فيكون نقصًا من ثروتنا ومزيدًا في ثروة أممهن ودولهم ولولا ما يأخذه اليونانيون واليونانيات من مصر وغيرها من البلاد الخارجية لاضمحلت دولتهم وضعفت أمتهم بالفقر المدقع. إن مفاسد البغاء في بلاد إسلامية صغيرة مثل طرابلس الشام ستكون أعظم وأكثر من هذه في البلاد التي آدابها غير إسلامية وفي البلاد الإسلامية الكبيرة التي يسهل فيها إخفاء الفسق قبل أن يخِفّ وَقْعه على الجمهور بالاعتياد الذي يضعف الدين ويفسد الفطرة، فلا يمكن بيان تلك المفاسد بالتفصيل في مقالة أو مقالات قليلة وإني لأعجب من سكون حَمَلَة الأقلام في طرابلس عن ذلك وعن حفز الهمم لمقاومته وحثها على تلافيه كما أعجب من ضعف العلماء والفضلاء في المطالبة بمنع هذا المنكر. هذا وإنني قد بلغت خبر ما حل بطرابلس مولانا شيخ الإسلام وهو الذي عرفت منه النجدة والغيرة فإذا شكا أهل هذه البلدة إلى الحكومة الإدارية ولم تُشْكِهم فليرفعوا الأمر إليه وأنا الضمين لهم بأنه يأخذ بيدهم ولعله عهد إلى نِظارة الداخلية بوجوب الاهتمام بسماع شكوى الأهالي في مثل منع هذه المنكرات فيجب على أهل طرابلس أن يكونوا قدوة صالحة لغيرهم في الخير ولا يكونوا قدوة سيئة لهم بالسكوت على مثل هذا المنكر الذي سيحل بهم مثلهم والله الموفِّق والمعين.

حجاب المرأة في الإسلام ـ 1

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ حجاب المرأة في الإسلام محمد أفندي توفيق صدقي (1) تباينت آراء الناس في مسألة الحجاب في هذه الأيام، وكثرت فيها مناقشات الكتاب، فمنهم من ضلّ الطريق، ومنهم من هدي إلى سواء السبيل، ولما كانت هذه المسألة من أكبر مسائلنا الاجتماعية الحاضرة، رأيت أن أفيض القول فيها وأمحِّصها تمحيصًا ينبلج به الحق، وينقشع به الباطل، مؤيدًا قولي بالحجة العقلية والبرهان ومعززًا له بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم وآي القرآن الكريم فأقول: الحجاب عادة قديمة موجودة قبل الإسلام وبعده وعند أمم لم تعرف من هذا الدين الكريم شيئًا فلم يكن الإسلام موجده ولا مؤيده، وهو الآن عند المسلمين يكاد يكون قاصرًا على نساء الطبقة الوسطى والعالية، وقد خرج في هذه الأيام الأخيرة عن معناه الحقيقي، وأصبح ضربًا من ضروب الزينة والتبرج، تظهر به النساء كاسيات عاريات، مظهرات لمحاسنهن مخفيات لعيوبهن، فهن يخدعن به الرجال، ويغررن الناظرين بتلك المظاهر المرونقة الكاذبة التي لولاها ما بالى أحد بالنظر إلى تسعة أعشارهن ولا وجه مفتون عينه إليهن. ولا أعلم أن أحدا من العقلاء يستحسن هذا الحجاب الكاذب أو ينتصر له، ولا أظن أن غيرة الرجال تلتئم معه، أو تقنع به فليس الخلاف بين العقلاء في أمر هذا الحجاب الحالي، وإنما خلافهم في الحجاب الحقيقي، وهو ستر المرأة وجهها وكفَّيْها عن الأجانب عنها، فيقول قوم: إنه نافع ومفيد وإن الدين يأمر به، ويقول آخرون: إنه ضارّ لا فائدة فيه وإن الدين بريء منه، وكلا الفريقين يؤيد رأيه بالأدلة، والحق يقال: إن دلائل الفريق الأول سفسطة باطلة، ودلائل الفريق الثاني يقينية قاطعة، ولولا خوف التطويل لسردنا دلائل الأولين، وأدحضناها بالبرهان المبين، ولكنا نكتفي بذكر دلائل الآخرين، فإنها هي الحق اليقين، وليس بعد الحق إلا الضلال المبين. أما مضار الحجاب فهي كثيرة متنوعة تأتي هنا على بعضها: أولاً: إن الحجاب يحول دون انتخاب الرجال لأزواجهم، فيجعل الزواج تابعًا للصدفة والاتفاق بدلاً من الاختيار والانتخاب، فمن أسعده حظه صادفته امرأة حسناء توافق مشربه وهواه، ومن أشقاه وقع في قبيحة شوهاء، لا يمكنه أن يقيم معها إلا على البغضاء والشحناء؛ فيكثر بينهما الشقاق، المؤدي إلى الطلاق، أو تعدد الزوجات، ولا يخفى ما يجرّه علينا ذلك من المصائب الاجتماعية والأخلاقية والدينية؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لأحد الأنصار وكان قد خطب امرأة: (أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: انظر إليها فإنه أحرى أن يُؤْدَم بينكما) والنظر إلى النساء لأجل الزواج لا يتفق بحال من الأحوال مع الحجاب؛ فإننا إذا كشفناه عنهن لمن يريد الزواج لعرَّضناهن للخجل والاستحياء والسخرية والازدراء، ولأصبحن كالسلع في الأسواق تتناوبهن أعين المشترين، وهو أمر تنفر منه الطباع السليمة وتأباه المروءة، ولا يتفق مع كرامة المرأة في شيء فتقع في حضيض الذل والإهانة وتتعرض لهزء الهازئين. وسخرية الساخرين العابثين بالأعراض، وللعب الشبان الفاسقين ولا دواء لهذه الأمراض سوى سفور النساء للرجال في جميع الأحوال، واتخاذ ذلك عادة لهم حتى تتقي أمثال تلك المعائب والمضارّ التي تنشأ للمتزوجين والمتزوجات من الحجاب، ولا يخفى أن إصلاح مسألة الزواج عليها إصلاح البيوت وإصلاح الأمة بأسرها. ثانيًا: إن الحجاب يكثر من حوادث التزوير في سائر العقود كما لا يخفى، وهو عقبة كَؤُود في سبيل صحتها وفي الشهادة والمحاكمة، فكم من امرأة سُلِبَتْ أموالها بسبب الحجاب؟ وكم من فتاة عقد عليها بدون إذنها وكان المتكلم غيرها من وراء ستار؟ وكم من نساء رُمِِينَ بالإفك والبهتان من غير علمهن وهن مُحْصَنات غافلات؟ وكم من شاهدة زورًا تخفي خجلها أمام أعين القضاة بالبرقع والنقاب، وتفتري الكذب ولا يُعْلم من أمرها شيء، إلى غير ذلك من الرزايا والمصائب التي جرها علينا الحجاب، وإني والله لأعْجَب غاية العجب؛ كيف يصح العقد على فتاة لم ترها ولم ترك، وربما إذا نظر أحدكما للآخر اشمأز منه ونفر، فكيف بعد ذلك يمكننا أن نقول: إن الرضى حصل بين الطرفين مع أنه رضى باللسان فقط، وكل منهما يوجس خيفة من منظر الآخر، على أن الرضى اللساني أيضًا في كثير من الأحوال لا يحصل من جانب الفتيات، ويكون صادرًا من إحدى قريباتهن كما هو معروف. ثالثًا: إن الحجاب يفسد صحة النساء ويمنعهن من الرياضة البدنية، ومن استنشاق الأَهْوية النقية في الأماكن الصحية، فتسوء بِنْيتهن، وتكثر أمراضهن وتعتلّ صحتهن، ويلدن المعلولين والمعلولات. رابعًا: إن الحجاب لا شك أنه أكبر مانع لإتمام التربية والتعليم والتهذيب، وعائق لتثقيف عقل المرأة وتوسيعه وتكبيره بالتجربة وممارسة الأعمال ومخالطة الرجال في بعض الأحيان في اجتماعاتهم الصالحة؛ كالتي تحصل في المساجد للصلاة ولتعليم الدين، ومانع لها من مشاهدة المناظر الطبيعية، وبدائع الاختراعات الصناعية، فيبقى عقلها ضيقًا، وذهنها فارغًا، ومخّها خرقًا خاويًا، فلا تبثّ في أذهان بنيها وبناتها سوى الأضاليل والتُّرَّهات، والخرافات والخزعبلات، فتفسد عقولهم وآدابهم وأخلاقهم. ولا يخفى أن التعليم في الصغر كالنقش في الحجر؛ ولذلك يصرف الواحد منا وقتًا طويلاً وتعبًا كبيرًا؛ لتطهير عقله مما زرعته فيه أمه الغبية الجاهلة منذ طفوليته ونشأته، ومن كان في شك مما أقول فما عليه إلا أن يقارن بين عقول نسائنا وأبنائنا ليتضح له صِحّة ما أقول. وقد علمتُ بالاختبار أن جمهور البنات اللاتي يأخذن الشهادات من مدارسنا لا تمتاز عقولهن بعد الحجاب عن البنات الجاهلات إلا شيئًا يسيرًا، فإن مَدارك أكثرهن تجدها قاصرةً ضيقةً مفعمةً بالأباطيل والتُّرَّهات والأوهام والخرافات، معجبةً بما تعلمنه من القشور الفارغات. خامسًا: إن الحجاب يمنع الفقيرات أو غير المتزوجات من الحصول على أقواتهن إلا بشق الأنفس، ويضيق عليهن أنفسهن ويعسر عليهن الأعمال أو الاشتغال بأي عمل يكتسبن منه رزقهن؛ من نحو خدمة أو صناعة أو زراعة أو تجارة، لا يخفى ما يجلبه البرقع على التاجرات مثلاً (والتجارة أخف شيء يمكن عملهن به) من الضيق والحرّ والعَرَق والإضرار بالصحة وعسر الحركة، والله تعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) . سادسًا: إن الحجاب كثيرًا ما يحرم الرجل لذة الخروج مع زوجه وأولاده واصطحابهم في رياضاته وأوقات فراغه، ويمنعهم من مشاركته في أنسه ولذاته، وهي أمور ضج منها المجربون؛ فنشأ عن ذلك كثرة هجران الرجل لزوجته وأولاده وعدم اجتماعه بهم إلا وقت نومهم، وهو يقضي معظم وقته في الأماكن العمومية (كالقَهْوات) بين الميسر والخمر والفسق والسعي في اصطياد الغواني، مع أنه لو خرج مع زوجته لتمتع كل منهما بالآخر، ونال كل منهما حظه من لذة الحياة والائتناس برفيقه ومشاهدة المناظر الطبيعية والصناعية، واكتفى كل منهما بالآخر واستفاد من حديثه، وامتنع الرجل من النظر لغير امرأته، وامتنعت هي من النظر إلى غير زوجها؛ لحياء الواحد منهما من الآخر وخشيته ومراقبته لوجوده معه، ولا يخفى على أحد فوائد ذلك من الوجهة الأدبية والاجتماعية، وقد كان صلى الله عليه وسلم يخرج مع بعض نسائه إلى الأماكن الخلوية؛ لاستنشاق الهواء النقي ولمسابقتهن جريًا والمزاح معهن بالقول الحسن. سابعًا: إن البرقع أو النقاب المستعملين الآن مما يشوق النفوس لرؤية ما تحته فإن ألذ شيء إلى الإنسان ما مُنِعَ عنه، فهو يحمل أهل الفسق والفجور على التعرَّض للنساء في الطريق ومغازلتهن، والسعي في كشف سترهن كما هو حاصل الآن بكثرة، فإن أنواع البراقع تظهر عادة الأعين والحواجب، وهي في أغلب النساء جميلة؛ فيغترّ الناظر ويظن أن باقي الوجه جميل مع أنه قد يكون منفرًا إذا كشف جميعه؛ لذلك قيل في أمثلة العامة: (إن البرقع غشاش) وقد سمعت من بعض الشبان الفاسقين أن أحدهم يسعى وراء المرأة المتبرقعة زمنًا طويلاً، ويصرف مالاً كثيرًا في الحصول عليها وتعبًا كبيرًا، حتى إذا نجح معها وقادها إلى إحدى دور الفسق وكشفت عن وجهها نفر منها وندم على ما فعل، وحاول أن يخلص منها بكل وسيلة، ولولا الحجاب ما اغتر هذا الغرور بكل واحدة؛ ولذلك تكثر مداعبة النساء المتبرقعات في الطرق من الرجال وتقل مداعبة السافرات؛ لأن الجمال الحقيقي قليل جدًّا، والنقاب يزين جميع النساء للرجال، ويوهمهم أنهن كلهن جميلات، فهو كالشيطان يغري الإنسان ويحمله على الفسوق والفجور. هذا، وإن تعود الرجال لرؤية جمال النساء يقلل من التأثر بهن والافتتان بحسنهن، والإنسان المتعود على ذلك يملك نفسه أكثر ممن لم يتعود، والخلاصة أن الحجاب منبع الرذائل، والسفور أصل الفضائل، ولا شك أن الحجاب هو السبب الوحيد في أكثر ما وقعنا فيه من المصائب والرزايا والبلايا. ولا أعلم له من فائدة واحدة سوى غيرة الرجال الكاذبة من رؤية غيرهم لوجوه نسائهم، مع أن الرؤية لا ضرر فيها ولا ضرار، والقول بأن الحجاب الحقيقي يقلل من الزنا إذا سلم، فهو مدفوع بأن الزنا يمكن تقليله بوسائل أخرى؛ كالتي أتى بها الدين الإسلامي الحنيف (وسيأتي بيانها) من غير أن يكون لها من المضار ما للحجاب مما سبق بيانه، وهي إذا اتبعت تمامًا فإن الزنا يكاد يمحى من الوجود، وهذه الوسائل تنحصر في ثلاث مسائل، وهي: 1- التربية الدينية. 2- وإقامة الحدود مع الترغيب في الزواج وتيسيره. 3- والإتيان بآداب للرجال والنساء. وسيأتي ذكرها تفصيلاً، وليس من بينها الحجاب؛ لأن ضرره أكثر من نفعه ويمكن الاستغناء عنه بأشياء أخرى غيره، وإليك الدليل: أجمع علماء المسلمين وأئمتهم على أن الوجه والكفَّين ليسا بعورة في الصلاة وأن كشفهما غير مبطل لها، وعلى ذلك جرى عملهم من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وقال ابن جرير في تفسيره (إن للمرأة أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورةً كما أن ذلك للرجال؛ لأن ما لم يكن عورةً فغير حرام إظهاره) ، وحكى القاضي عياض عن العلماء أنه لا يجب على المرأة ستر وجهها وكفَّيْها في طريقها وعلى الرجال غض البصر عنها، وقال: إن ذلك إجماع المسلمين، وروي عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رِقاق فأعرض عنه، وقال: (يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا) وأشار إلى وجهه وكفيه، ولذلك أبيح لنساء المسلمين أن يحضرْنَ صلاة الجماعة في المساجد وهن مكشوفات الوجوه في زمن رسول الله وزمن أصحابه وأتباعهم. وأوجب الدين الإسلامي على المرأة أن تكشف وجهها في الحج مدة الإحرام كلها، بحيث يبطل حجها إذا هي غطت وجهها، والإحرام مدته طويلة فتبقى فيه النساء مختلطات بالرجال في سائر مواقف الحج وهن كاشفات لوجوههن، فلو كان في ذلك مفسدة لما أوجبه الإسلام وقرره، ولو فتشت القرآن من أوله إلى آخره والأحاديث الصحيحة، لَمَا وجدت فيهما أمرًا واحدًا يوجب ستر المرأة وجهها وكفيها بل بالعكس، نجد أن القرآن يستثنيهما في قوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) كما عليه إجماع المفسرين. وقد عدل عن الأمر بتغطيتها إلى تغطية غ

كتاب الخمسة والمئة وكتاب الهمسة في الأصول الخمسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب الخمسة والمئة وكتاب الهمسة في الأصول الخمسة ألّف حضرة العالم الفاضل السيد محمد طيب العلوي المكي مدرس درجة التكميل في مدرسة دار العلوم بلكنو (الهند) التي أنشأتها ندوة العلماء كتابين سمى أحدهما: (كتاب الخمسة والمئة، في نصر الفئة) ، ويحتوي هذا الكتاب على خمسة ومئة من الأدلة عدا الممهدات والتنبيهات. والكتاب الآخر سماه (الهمسة في الأصول الخمسة) جعله كالمدخل إلى التوغل في علوم البلاغة، وقد تقرر تدريسه في مدرسة دار العلوم المذكورة، والكتابان لم يطبعا بعد، وقد بعث لإدارة المنار بأنموذجين من الكتابين المذكورين؛ لينُشرا في المنار وها هما: أنموذج من كتاب الخمسة والمئة الأول: أن الله أرسل الرسل ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، وليجمعوهم على كلمة واحدة، ويعلموهم كيف الطريق إلى مرضاة الله، وما هي الأسماء التي يرضاها الله لنفسه فيُدْعا بها، فلو وُكِلُوا بعد إرسال الرسل إلى عقولهم لكان إرسال الرسل فضلاً؛ لأن دليل العقل قد كان، وكيف يرسل الرسل لرفع الخلاف ثم يَحْكم على ما يأتون به ما هو منشأ الخلاف، وإنما قلنا: إن العقل هو منشأ الخلاف لثلاثة أوجه: (الأول) أن الحاجة إنما وقعت عند الاختلاف، والاختلاف إنما وقع بين العقلاء لاختلاف عقولهم، فكانت عقولهم هي منشأ الخلاف. (الثاني) أن العقل مختلف في ذاته قوة وضعفًا وغفلة وتنبيهًا وباعتبار ما يقارنه من العوائد والمعارف، وإذا كانت العقول مختلفة اختلفت آراؤها ومتى اختلفت الآراء وقع التشاحّ والتحزُّب، فكيف يقول من أرسل لرفع هذا الخلاف: إن كلامي إن خالف عقولكم فلا تقبلوه، بل أَوِّلوه بحسب ما ترون، فإن هذا ليس رفعًا للخلاف بل هو أمر زائد؛ إذ لكل أحد أن يقول: إن هذا الكلام لا يقبله عقلي؛ لأنه يخالف مألوفي أو يخالف دليلي أو هذا الكلام يقوي رأي فلان وهو خصمي. (الثالث) أن العقول لو لم تكن مختلفة لم يُحْتَجْ إلى حَكَم؛ لأن الناس إنما يرجعون إلى الحَكَم عند الاختلاف، فإذا ثبت أن العقول هي منبع الخلاف امتنع أن تكون هي الحَكَم؛ فالحَكَم ما سواها، فإذن ثبت أن كلام الشارع هو الحكم، فلا يُؤوَّل إذا خالف بعض أدلة المعقول ولا سيما والرسل جاءت لتبين للناس ما لا تصل إليه عقولهم، وليَكْفُوهم مَؤُونة البحث بعقولهم وليكفُّوهم عن الخلاف فيما بينهم، فلو ردوهم إلى عقولهم لزادوا الطين بلة. قال: فهذا دليل واحد من الخمسة والمئة ليس بأعلاها ولا أدناها، ثم قال: أنموذج من كتاب الهمسة في الفنون الخمسة (لو) يستعملها الناس في الإخبار عن سبب عدم الخبر الذي هو الجزاء، تقول لو جئتني لأكرمتك؛ يعني أن سبب عدم إكرامي هو عدم مجيئك، وقد تخبَّط الناس هاهنا مدة إلى أن حقق ذلك العلامة التفتازاني في شرحيه المطوَّل والمختصر، إلا أنه جوز وقوع الشرطية في الكلام موافقًا لاصطلاح المناطقة، فإن معنى الشرطية عندهم هو الإخبار بأن بين المقدم والتالي تصاحُب، فمعنى إن جئتني أكرمتك ليس الوعد بالإكرام بل هذه القضية كاذبة أو محتملة عندهم أي معناها لأن الاحتمال من معناها (أنْ جاء زيد) مصاحب لأكرم زيد، ومعنى مصاحبتهما أنهما مجتمعان على الصدق في الواقع، والظاهر أنهما لا يجتمعان وإن احتملا الاجتماع فمعناها عندهم محتمل، وعند أهل اللسان متعيَّن، حتى إنه يقول: إن فلانًا وعدني، ثم إن المصنف حقق معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) ، وبين أنه لا يصح مجيئه على اصطلاح المناطقة، فإن العرب لاتعرف ذلك بل ولا علماؤها، فإن أبا هلال حين ذكر المذهب الكلامي نص على أنه لا نظير له في كتاب الله، ثم أيد ما قدره من أن المراد ليس نفي الآلهة المستقلة الذي يجزم به الناس فطرة، ودليلكم هذا بأقداركم لا يثبت به لعلم، فكيف يستدل على المعلوم بما لا يثبت به العلم بل المراد أن الله تعالى لو كان معه من يتداخل في أمره لفسد نظم السماوات والأرض؛ وذلك لأن الشفاعة لا تكون إلا للمدافعة عمن أوجبت عليه القاعدة أمرًا لا يحبه، وهذه المداخلات مخلة بالانتظام قطعًا، ولهذا عقبها بقول {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (الأنبياء: 23) ثم بقوله {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} (الأنبياء: 27) .

تنبيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنبيه كتاب الدارس في المدارس هو كتاب خَطِيّ لم يطبع بعد، والموجود منه نسخة واحدة قديمة عند حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرازق أفندي البيطار من علماء دمشق الأعلام، وقد نقل عنه نسخة حضرة العالم المؤرِّخ رفيق بك العظم، وهو الكتاب الذي أُلْقِيَ عليه ذلك الدرس في دمشق، وتراه منشورًا بهذا الجزء من المنار ص681، وقد فاتنا هذا التنبيه عَقِيبَ نشره.

الأخبار والآراء

الكاتب: حسين وصفي رضا

_ الأخبار والآراء (درس على كتاب الدارس في المدارس) [1] أيها السادة: إن تاريخ كل أمة سواء كان مجيدًا أو غير مجيد، لا يخلو مستقبله من ارتباط بماضيه، لا من حيث التشابه بين طرفيه بل من حيث النتائج التي تترتب عليها نهضة الأمم أحيانًا وتغير مجرى الحياة الاجتماعية بأن تسرع بخطى الشعوب إلى مراقي الصعود. معناها إذا كان ماضي الأمة عظيمًا محترمًا في التاريخ، تحرص على أن يكون أعظم احترامًا في حاضرها، أو على أن تسترد ذلك الاحترام إذا فقدت شيئًا منه. وإذا كان ماضيها سيئًا غير محترم في التاريخ تَدْأب على التخلص منه وتطلب لنفسها حاضرًا أسعد منه، فالنتيجة واحدة في الحالين ولكن لِمَنْ؟ ومن يتحصل على مثل هذه النتيجة من الأمم؟ تتحصل عليه أمة تعلم أن لها تاريخًا فتدرسه وماضيًا فتبحث فيه وترجع إليه لا سيما إذا كان تاريخًا مجيدًا له آثار معروفة في الوجود، وأثر محقق في الاجتماع والأمة كالفرد فخورة بالماضي الجميل، إذا تمثل لها نَفَخَ فيها من روحه فملأها نشاطًا ودفعها إلى الأمام أشواطًا. وإن أمة لا تعرف تاريخها فأَحْرى بها أن يتنكر لها الزمان، وتذري بها الشعوب؛ لجهلها بماضيها وأن تنكرها الإنسانية وتنكرها السماء والأرض. إن المدنية الإسلامية التي رفع منارها أسلافنا الطاهرون، وغيرت شكل الأرض ومجرى الاجتماع، كان لمدينتكم هذه حظ وفير منها ولا سيما في التوفر على إنشاء معاهد العلم ودور التربية والتهذيب. هذا أيها السادة، ما دعاني لأن أقف بينكم خطيبًا؛ أفتح صحيفة من ماضي التاريخ فيما يتعلق بأسلافكم الغابرين ومدينتكم الفيحاء، وفيها ذكرى للذاكرين، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) . إن هذه الذكرى ما ترونه في هذا الكتاب الضخم المشتمل على ألف وثلاث مئة وستين صحيفة؛ وهو كتاب (الدارس في المدارس) تأليف المؤرخ العلامة الشيخ محمد بن محيي الدين النعيمي وهو خاص بما أنشئ من معاهد العلم والمساجد ودور العجزة (التكايا) في دمشق، وقد بلغ عدد ذلك مئتين وبضعًا وثمانين، لو وزعت المدارس منها على السنين منذ إنشاء أول مدرسة في القرن الخامس أي سنة ثلاث وتسعين وأربع مئة إلى عهد المؤلف في أوائل القرن العاشر؛ لأصاب دمشق كل سنتين مدرسة تنشأ أو دار للعجزة والمرضى تُشاد، هذا فضلاً عما أنشئ من المدارس بعد ذلك التاريخ، ولم يدركه المؤرخ المذكور، وهذا فهرست الكتاب نتلو عليكم بعضًا من أسماء المدارس التي جاءت فيه، ولا أطيل خوفًا من ضيق الوقت. أما تواريخ إنشاء هذه المدارس بالضبط، والأوقاف التي حبست على الطلبة فيها، والعلماء الذين نبغوا منها ودرَّسوا فيها، كل هذا مذكور في صلب الكتاب، وليس في الوقت متسع لتلاوته عليكم كما ترون من حجم الكتاب، وحسبكم أن ممن درسوا في هذه المدارس وتولَّوْا رياستها أو نبغوا فيها من علماء الشريعة مثل: الحافظ الذهبي صاحب التاريخ المشهور، الإمام ابن تيمية صاحب التآليف المشهورة، وقاضي القضاة صدر الدين الأوْزاعيّ صاحب الجامع الصغير وغيرهم من مشاهير العلماء، ومن علماء الطب مثل الرؤساء ابن أبي أصيبعة صاحب تاريخ الأطباء، ومهذب الدين بن الحاجب ونجم الدين اللبودي وموفق الدين ابن المطران ومهذب الدين الدخواز وعماد الدين الدنيسري وأضرابهم. ومن علماء العقليات والرياضيات والموسيقى مثل محمد بن أبي الحكم الباهلي وعز الدين السويدي وأبي الفضل الحارثي المهندس الذي كان باب البيمارستان النوري القائم إلى اليوم من عمل يده وأضرابهم. وها أنا ذا أقرأ لكم مثالاً واحدًا من ترجمة هؤلاء الرجال؛ فاسمعوا ما قال تاريخ الدارس هذا في ترجمة أفضل الدين ابن أبي الحكم نقلاً عن الصفدي قال: (محمد بن عبد الله بن المظفر بن عبد الله الباهلي) ؛ هو أفضل الدين أبو المجد ابن أبي الحكم من الحكماء المشهورين، كان طبيبًا حاذقًا، وله يد طولى في الهندسة والنجوم (أي علم الفلك) ، وله في سائر الآلات المطربة يد عمّالة وعمل أرغنا وبالغ في إتقانه، وقرأ على والده وغيره في الطب، وكان في دولة نور الدين بن الشهيد ولمَّا عُمِّرَ البيمارستان والمستشفى النوري بدمشق، جعل أمر الطب فيه إليه، إلخ ما قال. هؤلاء الرجال الذين ذكرتهم لكم، وهذا الفاضل الكبير منهم، وعدد كثير مثلهم من أهل الشهرة بالعلم والفضل، درسوا في هذه المدارس أو تخرجوا على رؤسائها ومشايخها، ثم ملؤوا المكتبة العربية بالمؤلفات النافعة في كل فن، ومن راجَع منكم كتاب الكواكب لابن عروة الحنبلي في أكثر من مئة مجلد، وتاريخ الحافظ ابن عساكر في أكثر من عشرين مجلدًا، وهما موجودان اليوم في المكتبة العمومية في مدرسة الملك الظاهر بدمشق، وقاس عليهما ما ألفه علماء تلك القرون الأفاضل؛ وما قبلها من الكتب في علوم الشريعة والأدب واللغة والتاريخ والتراجم والفلك والطب والرياضيات كالهندسة والحساب وغير ذلك من العلوم، يعلم مقدار ما لهذه المدارس ومؤسسيها من الفضل على الأمة، وما للنابغين فيها من الأثر العظيم في الوجود بما سهروه من الليالي الطوال في التحرير والتحبير، وما عانوه من النَّصَب في وضع كتاب العلم لإفادة الناس، حتى ملؤوا بها المكاتب ونشروا العلم، وما قولكم في أن عالمًا واحدًا من علماء الطب؛ وهو موفق الدين بن المطران المتوفَّى سنة سبع وثمانين وخمس مئة، ترك في مكتبته عشرة آلاف مجلد في الطب والعلوم الحكمية كما ذكر ذلك ابن أبي أصيبعة في ترجمة ألموما إليه. ولا يظننَّ أحدكم أن هذه المدارس كانت مدارس دينية فقط، وأن أكثر علمائها وطلبتها من طلبة العلوم الشرعية وآلاتها. كلا، فإن فيها مدارس لغير العلوم الشرعية كالطب مثلاً، ومن هذه المدارس المدرسة الدخوازية والدنيسرية واللبودية كما سترون ذلك فيما يأتي إن شاء الله. فضلاً عن هذا، فقد أخبرنا التاريخ أن معاهد العلم كانت مشاعًا بين طلابه من كل فن، وأن الطبيب أو الفلكي مثلاً، كان يلقي دروسه في أي مدرسة كانت من مدارس العلم له فيها وظيفة، بل في الجوامع والمساجد أيضًا لأنها كانت قبل أن توجد المدارس على شكلها المعهود؛ أي قبل القرن الرابع أشبه بمدارس للعلم، بل هي المدارس عينها، ومازالت كذلك معاهد للعبادة والعلم معًا إلى اليوم كما تعلمون. وأذكر لكم مثلاً واحدًا على أن المدارس، كانت شائعة لطلاب كل علم ما نقله ابن أبي أصيبعة في ترجمة رفيع الدين الجيلي قال: (وكان مقيمًا بدمشق وهو فقيه في المدرسة العذراوية داخل باب النصر، وله مجلس للمشتغلين عليه في أنواع العلوم والطب، وقرأت عليه شيئًا في العلوم الحكمية) . واعلموا أيها السادة أن كثيرًا من علماء الشريعة مثل الجيلي، جمعوا بين العلوم الشرعية والعقلية والطب والفلك والرضيات، وكلهم من خريجي هذه المدارس بالضرورة، وممن جاء ذكرهم من هؤلاء في هذا التاريخ وأذكره مثالاً للباقين: أحمد بن الحسين الدمشقي، وإليكم ما جاء من ترجمته في هذا الكتاب نقلاً عن ابن كثير قال: (الجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي) اشتغل على مذهب الشافعي، وبرع فيه وأفتى وأعاد، وكان فاضلاً في الطب، وقد وَلِيَ مشيخة الدخوازية (مدرسة طبية) ؛ لتقدمه في صناعة الطب على غيره، وعاد المرضى بالبيمارستان النوري على قاعدة الأطباء، وكان مدرسًا بالشافعية بالمدرسة الفروخشاهية ومعيدًا بعدة مدارس، إلخ ما قال. هذا يدلكم على أن العلوم كانت مشاعًا بين العلماء، وأن العالم بالشرع قد يكون عالمًا بعلوم أخرى من العلوم النظرية والعملية؛ كالفلسفة والطب والموسيقى والفلك والرياضيات، وغيرها من العلوم التي قامت على دعامتها المدنية الإسلامية، وكانت الحلقة الوسطى بين المدنية القديمة والمدنية الحديثة حتى اعْتَرَفَ بفضله على التمدن الغربي كثير من علماء التاريخ؛ كدربي ومنتسكيو وكوستاف لوبون، وأفردوا للمدنية الإسلامية كتبًا خاصة، أتوا فيها على ذِكْرِ ما تركه التمدن الإسلامي من آثار الترقي والعلم التي يجهلها أهله لهذا العهد يا للأسف وللعار. نحن الآن أيها السادة بصدد علماء دمشق في القرون الوسطى، وإنما هم حلقة من سلسلة ذلك التمدن الإسلامي الذي أَخْنَى عليه الزمان، وإذا سمحتم لي فإنني أختم كلامي بنبذة من تاريخ تلك السلسلة بعد استبقاء الكلام على كتاب الدارس هذا إن شاء الله. (2) علمنا مما سبق عدد المدارس ودور العَجَزة التي أنشئت في دمشق، ولكن من الذي أنشأ هذه المدارس ورفع بنيانها، وأدرّ الخيرات عليها وأنفق من ماله على طلابها، أهي الحكومة أو الأفراد أو الجماعات؟ . بلغ بنا الضعف أن صرنا كالأطفال؛ نطلب كل شىء من الحكومة كما يطلب الطفل كل شيء من والديه، أما أسلافنا فلم يكونوا كذلك، بل كانوا استقلاليين أكثر منهم اتِّكاليين، يعرفون قيمة الاعتماد على النفس، فكان الفرد الواحد يقوم بما تقوم به الجماعة، ولا يطلب من الحكومة أمرًا، ولهذا فإن كل ما جاء ذكره في هذا الكتاب من المساجد والتكايا والمدارس إنما أنشأه الأفراد، وقام بماله أهل السخاء والجود من أسلافكم الطيبين لمحض الخير وإرادة نشر العلم وخدمة الوطن والدين. لم يختص بهذا العمل الجليل والشرف الرفيع الملوك والأمراء وذوو السلطة كما قد يتوهم البعض، كلا بل كان الأفراد من كل الطبقات من أهل اليسار يتسابقون إلى تشييد المعاهد العلمية؛ حِسْبة لله وحبًا بعمل الخير واستبقاء للذكر الحسن في الوجود. فالتجار والعلماء والسيدات هم الذين أسسوا هذه المدارس، كل مدرسة يؤسسها شخص بمفرده، ويحبس عليه من ملكه ما يكفي ريعه لبقائها، بل أقول لكم والخجل يكاد يمنعني من التكلم، والحزن يوشك أن يعقل لساني أن العُبْدان عُبْدان أسلافكم، أيها السادة شيدوا بأموالهم بعض هذه المدارس ورفعوا منار العلم، فيا للفضيلة كم ترفع العُبْدان إلى منزلة السادة في حين ينحطّ السادة إلى منزلة العبدان. إن العُبدان كانوا أرفع نفوسًا وأَسْخى كفوفًا منا الآن، يا للخجل والخسران. إن الكلام وحده لا يغني عن برهان، وإنكم تنتظرون مني الدليل على هذا البيان، وإليكم أمثلة من عمل العلماء والتجار والسيدات والعبدان. قال المؤرخ في فصل عَقَده لمدراس الطب: (المدرسة الطبية الدخوازية) المدرسة الدخوازية بالصاغة العتيقة بقرب الخضراء قِبْليّ الجامع الأموي، أنشأها مهذب الدين عبد المنعم بن علم بن حامد المعروف بالدخواز في سنة إحدى وعشرين وست مئة بالصاغة العتيقة كما تقدم، وأول من درس فيها وَاقِفُها، ثم من بعده بدر الدين محمد بن قاضي بعلبك ثم عماد الدين الدنيسري وهو بها إلى الآن إلخ. (المدرسة الدنّيسرية) غربي البيمارستان النوري والصلاحية بآخر الطريق من قبله، قال الذهبي في العبر في أخبار سنة ست وثماني وست مئة. (عماد الدين أبو عبد الله محمد بن عباس الربعي، الرئيس الطبيب ولد بدنِّيسر سنة ست مئة وسمع بمصر من علي بن مختار وجماعة وتفقَّه للشافعي، وصَحِبَ البهاء زهيرًا وتأدب به وصنف، إلى أن قال نقلاً عن الآسدي (العماد محمد بن عباس الحكيم البارع في الطب، صاحب المدرسة للأطباء بالقرب من بيمارستان نورالدين الشهيد) إلخ. (المدرسة اللبودية) اللبودية النجمية مدرسة خارج البلد ملاصقة لبستان الفلك المشيري، أنشأ

الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده

الكاتب: محمد عاكف أفندي

_ الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده [*] كنت كتبتُ رسالةً بيّنت فيها فساد زعم الذين يتَّهمون الشيخ جمال الدين الأفغاني بالمروق، وأوضحت بطلان هذا البهتان بأجلى بيان، وطبعت تلك الرسالة ونشرتها فتداولتها الأيدي، واشتهرت بين الناس، وبعد ذلك سمعنا ببهتان جديد؛ وهو أن الأستاذ لم يكن مارقًا ولكنه كان وهّابيًّا. عجبًا هل يعرف هؤلاء الذين يَهْرفون بما لا يعرفون معنى رَمْيهم الناس بالمروق تارة وبالوهّابية تارة أخرى؟ أم هل درى أولئك الخرّاصون الأفّاكون ناشرو الإفك والبهتان أنهم بعملهم هذا يدخلون تحت طائلة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (النور: 19) إلخ؟ وأما الوهّابية فهي بالحقيقة اسم للذين اعتنقوا هذا المذهب وهم معظم سكان بلاد العرب، ومذهبهم ليس بينه وبين مذهب الحنبلية فرق كبير. عجبًا أَصَار من الدين عندنا أن نثق بكل كلام يراد به إيذاء أي شخص والطعن عليه؟ وكيف يجوز أن نعمد إلى رجل صحيح العقيدة صالح الأعمال، ونقول: إنه رجل صالح لكنه مارِق من الدين، ثم يتلقّى الناس هذا القول وينتشر من دون تروّ ولا نظر في أعمال وأحوال مَنْ نسب ذلك إليه، فلا يمضي قليل زمن حتى يشيع بين الناس بأن فلانًا مارق وأن فلانًا زنديق. ثم كيف يجوز لنا الحكم بمجرد نقل قوم لا يعرفون من أحوال من يحكمون عليه بهذه الافتراءات، ولا من كلامه شيئًا يصحح حكمهم؟ إننا نعلم أن أكبر جُرْم في الإسلام هو أن يحكم الإنسان على عقيدة إنسان آخر ويتحكّم فيها، وينسبه إلى الزندقة تارةً وإلى الوهّابيّة تارةً أخرى؛ بمجرد اختلاف في المشرب أو لأقل سبب، مع أن الواجب الإسلامي يأمرنا باحترام عقيدة مطلق إنسان، ما دام يوجد دليل واحد على إسلاميته ضد تسعة وتسعين دليلاً على الكفر، وأنه لا يجوز الحكم بالكفر مع وجود ذلك الدليل. إن اتهام كبار المصْلِحين بالوهَّابية في بلاد العرب، وبالفرماسونية في بلاد الترك، وبالبابية في بلاد العجم، وبالدهرية والمروق في بلاد الروسيا، صار أمرًا معروفًا ومشهورًا جدًّا. وإن تَعْجَبْ فعَجَب نعت خيرة رجال الإسلام بتلك النعوت مثل جمال الدين الأفغاني، مع أنهم هم وحدهم المعروفون بالمدافعة عن الدين الإسلامي، وهم أنفسهم المجتهدون في ترقية بنيه بتربيتهم تربية صحيحة، وهم الذين أفْنَوْا عمرهم الثمين بإنشاء المدارس؛ ليجعلوا لأبناء أُمتهم حظًّا من العلوم التي تنهض بهم من حضيض الذلّ إلى أَوْج العزّ، وتؤهلهم للجهاد في معترك هذه الحياة ليخرجوا من أسر المغلوبية. إذا اعترض علينا معترض من أهل الملل الأخرى قائلاً: إنكم تتهمون أفضل رجالكم وأَعْلمهم وأَعْقلهم وأَعْلاهم قدْرًا وأشدهم غيرة على ملتكم بالمروق والدهرية والفرماسونية والوهابية، مع أنهم لا يريدون لكم إلا الخير والرقي والسعادة فلماذا؟ ألأن دينكم لا يجتمع مع العقل والعلم والفضل والأدب والحمية وحسن الخلق؟ فماذا يكون جوابنا ترى؟ . إذا بحثنا في تاريخ الرجال الغيورين في القطر المصري الذين يدأبون على منفعة الإسلام، ويخدمون المسلمين خدمة صادقة، نجد أنهم تلامذة جمال الدين الأفغاني، وأنهم إنما نبغوا بفضل تربيته القويمة. ولو كان الرجل مارقًا من الدين كما يقولون؛ لَمَا قدر أن يُوجِد رجالاً ممتلئين غيرة على الدين وأهله، يخدمونه أجلّ الخِدَم (لأن فاقد الشيء لا يعطيه) ولا هَمَّ لهم سوى ترقي الإنسانية بكل همة ونشاط. إن جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى، ضاقت عليه الأرض بما رحُبت، سواء كان في الأفغان أو العجم أو تركيا أو أوربا، ولم يُسْمح له أن يقيم في إحدى هذه البلاد ناعم البال منشرح الصدر، ولو كان من محبي المال والجاه والمناصب العالية لترك ما اضطهد لأجله، وهو خدمة الإسلام الجلية وإلقاء الدروس النافعة للعالم الإسلامي، ولمّا حاول إيقاظ المسلمين من نومهم العميق المؤدي إلى النوم الأبدي؛ إن لم يُسْعف بالمنبِّهات من مثل إرشاد جمال الدين. نعم.. لو أن جمال الدين ترك خدمة الإسلام، واشتغل ببث أفكاره في العالم، ولم يعمد إلى إيقاظهم، لانهالت عليه سُحُب الدنانير، ولكان موضع الاحترام، وصاحب المقام الذى لا يرام في جميع البلاد. ولكن تلك الروح العالية والإرادة القوية والنفس السامية، لم تنزل به في هذا الحضيض حضيض المجد الزائل، فما زال مشمِّرًا عن ساعد الجِدّ، مجتهدًا بترويج مقاصده الخيرية، يصارع الأيام ويكافح النوائب غير هيّاب، ولا وجل وثَبَتَ في موقف يتعذر على غيره الوقوف فيه، حتى صح أن يقال عنه: إنه كان شهيدًا في حياته، وصدقت عليه عبارة كمال بك التركي (أحسن شيء وأفضله في هذه الدنيا أن يكون الإنسان شهيدًا في حياته) . هذا وإن الذين يفترون على جمال الدين الأفغاني بالمروق والوهابية، تراهم لا يألون جهدًا برمي الشيخ محمد عبده بأكثر مما رَمَوْه به (كان الكفر والمروق على نسبة النفع للأمة) ، نعم.. إن لهؤلاء الأّفاكين مصنع كفر، لا يفتأ يصوغ من حُلي الكفر أجودها لهؤلاء الرجال العظام، فأنا أرجو منهم بعد النظر في مؤلفات الشيخ محمد عبده أن يثبتوا لي علامات الوهابية التي ينكرونها عليه، ولو بأي صفة كانت ويظهروها للملأ. إن بعض الناس يقول: (إنه لا موازنة بين زهد الشيخ محمد عبده وبين علمه) [1] ، وربما كان كذلك، وهل إذا مضى الشيخ محمد عبده عمره معتكفًا بالمساجد، مواظبًا على صلاة النافلة، أكان يفيد الإسلام أكثر مما أفاده؟ إننا لا نظن ذلك، بل إن رَدّه على عالم إفرنجي مثل هانوتو ومُدافَعته عن حقوق الملايين من المسلمين؛ هي في نظرنا أحسن عملاً، وأكثر ثوابًا من الاعتكاف وصلاة النافلة. انظروا إلى قول عمر رضي الله عنه لأبي قلابة التابعي (إن اكتسابك الرزق لعيالك أحسن عندنا من إقامتك في المسجد) وهل يعجز أبو قلابة عن تربية عياله وأولاده في زمن يعيش فيه الناس بقليل من النفقة عيشة الرفاهية من غير تجشم مشاق الكسب؟ ومع ذلك فقد أمره عمر رضي الله عنه بالكسب ونهاه عن الإقامة في المسجد. أما محمد عبده فإنه لم يكن مثل أبي قلابة، ولا هو في زمن مثل زمنه، بل هو في زمن يُحتاج فيه أن يشمر عن ساعد الجدّ؛ لأجل تربية عائلة تبلغ الملايين من الأشخاص. ها نحن اليوم معشر المسلمين ليس لنا مثل جمال الدين ومحمد عبده، وقد مَضَيا إلى خالقهما، وتركانا كالماشية بلا راع، بل إننا أصبحنا واقفين موقف الحَيْرى، لا ندري ماذا نعمل، ولا نهتدي طريق النجاة. فالواجب عليها أن نذكر مثل هذين الأستاذين بالخير؛ لأنهما خدما الدين، وكانا من حُماته، وأن نسأل لهما من الله الرحمة والغفران؛ لكي ينالا جزاء عملهما الصالح. نعم.. ويجب أن نعترف بفضلهما وإرشادهما؛ لئلا تجهلنا الأجيال المقبلة وتعيينا، حيث إننا لا نعرف لأهل الفضل فضلهم ولأجل أن يعلم القوم الآخرون أننا أناس نعرف فضل المصلحين وأننا لسنا ممن يَكْفرون بالنعم، ويحسن أن أورد هنا حكاية صغيرة، وأجعلها ختامًا لهذا الموضوع، وهو أنه قابلني قبل خمس سنوات رجل إفرنجي، وقال لي: (إنكم قوم محرومون من معرفة الصناعة، وأنتم معذورون في هذا، أما في عدم تفكّركم في معرفة قدر الرجال فلستم بمعذورين، بل إن هذا ذنب لكم لا يغتفر وهو من أشنع الذنوب {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية ـ 1

الكاتب: علي أفندي فهمي محمد

_ الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية [*] (1) ] أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [[**] إن الدين أعظم مهذب للنفوس، وآثاره تظهر في الناس بقدر استعدادهم للخير أو الشر، وبهذا كان التدين الذي لولاه لَمَا ثبت دين؛ إذ لو توحدت الفكرة الدينية لزالت الصعوبات؛ لأن كل فريق مضطر أن يناضل الآخرين؛ ليثبت لهم أنه على حق، وما هي البراهين التي تحمله على تصديق فريق وتكذيب آخر؟ لماذا نعتبر والد إبراهيم مخطئًا في عبادة الأصنام، ولماذا نحبذ فعل إبراهيم عليه السلام؛ لتحطيمه تلك الأصنام وعبادته الحي القيوم الذي لا يغفل، ولا ينام؟ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118 - 119) الآية. يتأمل الإنسان فيما حوله من الكائنات، فيجدها سائرة بنظام واحد ميسرة لما خلقت له {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} (الملك: 3) ، وما الطبيعة إلا ذلك الناموس الذي يخضع له كل شيء في الوجود، وإني بقدر ما وصل إليه بحثي أعتقد اعتقادًا راسخًا أن الإسلام هو الدين الطبيعي، أو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ذلك هو الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وإن جميع مبادئه موافقة للنواميس الطبيعية، وإني أؤمل أن كل محب للحقيقية يسلّم معي بهذا الاعتبار، ويعترف بما للإسلام من المزايا النافعة والمبادئ الشريفة. طَرَق كثير من كُتاب الغرب باب الكلام في الإسلام، ونبيه عليه الصلاة والسلام، ومن سوء حظي أني لم أتمكن من الوقوف على آراء السابقين، وإن فزت ببعض آراء اللاحقين مثل دانيل ولوثر وملانشون وهربولت، ولكن أرى هؤلاء الناس يتطاولون على ما ليس لهم به خبر، شأن كثير من بني الإنسان في كل زمان ومكان، ليست دهشتي من الذين يذمون الإسلام مثل هانوتو ولورد كرومر بأكثر من دهشتي لمارتين لوثر وهو ذلك الحرّ الأبيّ، المفكر الذي كون المذهب البروتستاني بالرغم من سلاسل وأغلال الفاتيكان في العصور الوسطى، ولكن الأغراض السياسية تسربت إلى نفوس هؤلاء الكتاب فأعمت بصيرتهم، فلم يَخُطّوا إلا ما توحيه إليهم أغراضهم. إلا أن الحق لا يعدم أنصارًا، وإنا لذاكرون هنا في مقدمة هذه الرسالة بعض آراء المصنفين من كُتَّاب الغرب في الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم ليرى كل منصف أن الإسلام لا يعدم من الأعداء ظهيرًا، وكفى بالله وليًّا ونصيرًا. كتب مستر جون ويغنبورت الرحالة الشهير في كتابه (تاريخ محمد) : (هل في الإمكان إنكار فضل رجل (يعني النبي صلى الله عليه وسلم) قام بإصلاحات عظيمة خالدة لبلاده؛ بأن جعل جميع أهلها يعبدون الله الواحد القهار، ويهجرون عبادة الأصنام، ذلك الذي منع قتل الموءودة وحرم شرب الخمر ولعب الميسر) , وكتب إدوارد جيبون (إن دين محمد خال من الشكوك والظنون، والقرآن أكبر دليل على وحدانية الله، بعد أن نهى النبي عن عبادة الأصنام والكواكب. وهذا الدين أكبر وأجلّ من أن تدرك أسراره العويصة عقولُنَا الحالية) . وكتب مستر ديفونويت في كتابه (اعتذار إلى محمد والإسلام) : (إنه لَمِن الحماقة أن نظن أن الإسلام قام بحد السيف وحده؛ لأن هذا الدين الذي يهدي للتي هي أَقْوم، يحرم سفك الدماء ويأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. ويجب أن نعترف هنا بأن علوم الطبيعة والفلك والفلسفة والرياضيات التي أنعشت أوربا منذ القرن العاشر مقتبسة ومقتطفة من القرآن، بل إن أوربا مدينة للإسلام بأكثر من ذلك؛ لأنه الدين الذي أمر بالدستور والديموقراطية وينهى عن الاستبداد في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) ، منح الإسلام الإنسان جميع حقوقه المدنية، ولتتذكر أوربا أنها مَدِينة للمسلمين أنفسهم بحفظ آداب الغرب القديمة حينما كانت هي في ظلام دامس، فحفظوا آثار فلاسفة اليونان، وأنشؤوا علوم الطب والهندسة وغيرها، وبعبارة أخرى إن المسلمين هم أساتذة أوربا أثناء همجيتها من القرن التاسع إلى القرن الثالث عشر) . وكتب كاتب مقالة تحت عنوان (الشرق والغرب) جاء فيها: (لقد ساوى الإسلام بين جميع الناس في الحقوق السياسة، ورفع عن كواهلهم الضرائب الفادحة في قديم الزمان، وحفظ لهم جميع حقوقهم، وذم استعباد الإنسان للإنسان) ومع ذلك فإن ساسة أوربا وخصوصًا الإنجليز منهم، لا يدخرون وسعًا في التطاول على الإسلام ورميه بكل نقيصة، وأنه داعية للتأخر بمناسبة وبغير مناسبة، من ذلك أنه عندما حصل اعتصاب طلبة الأزهر، قالت (التيمس) والجرائد التي على شاكلتها إن الأزهريين ميالون للتأخر، وهذه الافتراءات تنافي ميل علماء الإسلام وتعاليمه على خط مستقيم، قال أحد فضلاء الإنجليز في إحدى الجرائد بهذه المناسبة: (إننا نعتقد أنه إذا كان ثمة دين خال من مبادئ التقهقر؛ فما هو إلا الدين الإسلامي الحنيف) ، وهل يقدر إنسان على نسيان ما قام به علماء الأزهر وشيخ الإسلام نفسه في أثناء تلك الحركة الدستورية التي قامت سنة 1882، مَن غير العلماء أصدر قرارًا ضد توفيق باشا، ألم يكن شيخ الإسلام في الآستانة هو الذي قال للسلطان: (إن الشورى ليست من روح الإسلام فقط بل إنه يأمر بها أمرًا، ومن قام في مجلس المبعوثين وخطب الخطب العصماء بوجوب مساواة جميع العناصر العثمانية بصرف النظر عن الملل والنحل في مصالح الوطن غير العلماء؟) . ولقد قام العلماء بمثل هذا العمل في روسيا، فإنه لما كان الأرمن والتتر يفتك بعضهم ببعض سنة 1905على مرأى من البوليس الروسي في باكو، كان رجال الدين المسلمون أول من نهض لحسم النزاع بين الطوائف والعشائر، وها هم رجال الدين الإسلامي يبذلون جهدهم في سائر البلاد، ويحثون التتر على تشييد المدارس؛ لنشر العلوم الحديثة لترقية أبنائهم وإلقاء المحاضرات التي تعصمهم عن ارتكاب الآثام. ولكن الحكومة لسوء الحظ، تحاول إيقافهم عن مساعيهم الحميدة؛ خوفًا من أن يستنير الأهالي، فيسعوا لإسقاطها أو يتوسعوا بطلب حقوقهم منها. ومن عجيب ما يلاحظ أن مسيحيي تلك الجهة ومعظمهم من الفلاحين، قد تأثروا بإرشاد رجال الدين الإسلامي وسعيهم وراء العلوم والمعارف، فدخل الكثيرون منهم في دين الله أفواجًا، واضطرت الحكومة أن ترسل إلى تلك النواحي مرسلين خصوصيين؛ لمقاومة تلك الحركة الضارة في نظرها. هذا هو الإسلام وهؤلاء هم رجاله، ومع ذلك فإن سواس الإنجليز لا يخجلون من أن يَصِمُوه ويَصِمُوا رجاله بالتأخير والتقهقر. ولا شك في أن آراء أولئك المنصفين من رجال الغرب أكبر حجة عليهم؛ إذ أقروا بأن هذا الدين القويم لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فتم بذلك قوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . ولا عجب أن يقر أولئك الناس بفضل النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن أقروا بعجزهم عن معارضة فَحْوى آيات الذكر الحكيم القائل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) ، {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) وهذه الآيات مِصْداق للحديث الشريف (أدبني ربي فأحسن تأديبي) أو كما قال. يدّعون أن الإسلام خال من الوطنية، فهل يقتنع أولئك المفترون بما جاء في الذكر الحكيم {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} (إبراهيم: 35) ألا يخجلون من حكاية أبي رئبال الذي دل صاحب الفيل على طريق وطنه وخان بلاده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجم قبره، كما فعل هو ذلك بيده الشريفة، ألم يأتهم نبأ الحديث المتداول (حب الوطن من الإيمان) . يدعون أن الإسلام دين تواكل وتقاعد لا عمل ولا نشاط فيه، وهذا قول مردود، ودعوى كاذبة بنص الذكر الحكيم {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) والحديث المتداول على الألسنة أيضا (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) والحديث الشريف (ليس بخيركم من أخذ من هذه وترك هذه إنما خيركم من أخذ من هذه وهذه) يدعون أن الإسلام لا يلائم بعض العلوم الحديثة، مع أنها في الحقيقة ونفس الأمر فِرْية يدحضها ما حواه القرآن الشريف أصل هذه الدين الحنيف؛ من الحث على العلم والسعي واكتشاف أسرار الطبيعة، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101) ، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) ، {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} (الأعراف: 185) ، {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 21) . يزعمون أن الإسلام استعبد المرأة؛ ويستدلون على ذلك بالحجاب أو النقاب، ولا يفقهون أن ذلك يُعْزى إلى العوائد التقليدية أكثر مما يعزى إلى الأصول الدينية، ولقد ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة، فلم يجعلها متاعًا له كما يزعمون؛ نظرًا لإباحة الطلاق وتعدد الزوجات، ولا يدرون أن هذه التصرفات تكون لأسباب غير عادية، وأنه إذا فرط فيها المسلمون فذلك راجع لأخلاقهم الشخصية، وليس إفراطهم هذا من الدين في شيء , قد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} (النساء: 3) إلى قوله تعالى {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} (النساء: 3) ثم جاء بعد ذلك {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} (النساء: 129) وفي حديث شريف (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وفي قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) فمن ذلك يرى المنصف أن تعدد الزوجات والطلاق، أمران يكادان يكونان محرمين في الإسلام. لقد أباح الإسلام للمرأة حتى القضاء، فماذا منحها غيره من الأديان من هذه الجهة. ينكر هؤلاء القوم على المرأة مطالبتها بحقوقها بصفتها حقوقًا لا هبةً، كما هو الحاصل الآن في أمريكا وأوربا، ثم يطنطنون باستعباد المرأة في الإسلام، وهي تطالبهم ببعض ما منَحه الإسلام لها فيسخرون منها، جاء في الذكر الحكيم: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) وهي ميزة لا تكاد تذكر، والسبب فيها أن الرجل بناء على النظامات الكونية هو الذي يسعى ويكد، وهي أكثر منه راحة في خدرها بوجه العموم، وهي معرضة للتأثيرات القلبية والنفسانية التي قد تتغلب على العقل، فكان الرجل في هذا المعنى كشكيمة لتطرف النفس والعقل. يدعون أن الإسلام دين حرب وعداء، لا سلام وصفاء، ويقيمون على ذلك دليلاً معكوسًا من الفتوح

أسئلة من باريس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من باريس أرسلها منها محمد مختار أفندي إلى أخيه محمد سليم أفندي المسلمي أحد قُرّاء المنار بمصر. (س 37-48) (س1) ما هو الرِّقّ، (2) كلمة عمومية على الحقوق التي يَفْضُل الحُرُّ فيها العبد (مقارنة) ، وتكفي الإشارة للفروق ولو البعض. (3) كيف أن الشريعة الإسلامية أباحت الرِّقَّ، مع أنها شريعة العدل والمساواة. (4-6) كيف يَحلّ استمتاع السيد بمملوكته، وكيف يتزوج المسلم أربع حرائر، ويتمتع بالإماء بلا حصر (لأن ذلك تَوحّش) . (7) ما سبب زيادة أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) على أربع، اللاتي أباحتهم (كذا) الشريعة. (8) لِمَ لا يحكم القاضي بمذهب المتخاصمين بمصر، ولو فعل ماذا يكون الحكم. (9) كيف كان الزواج في الجاهلية عند العرب، وهل تعدّد الزوجات كان الغالب أم الغالب واحدة. (10 - 11) ما هي الكفاءة المشروطة للزوجة في الجاهلية، وما هي حقوق المرأة في الجاهلية. سيدي الأستاذ الجليل: السيد رشيد رضا أرجو أن تقتطع من وقتك الثمين بُرْهة تردّ فيها على هاته الأسئلة بطريق الاختصار، أو مشيرًا إلى الكتب التي ينبغي الاطلاع عليها للاستعانة بها على دَرْء العنوان الموضَّح أدناه، وفي الختام تَفضّلوا بقبول احترام وتسليمات. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... محمد سليم المسلمي (أجوبة المنار) 1- ما هو الرِّقّ: الرق والاسترقاق هو مِلْك الإنسان، ويسمَّى المملوك رقيقًا، وكان ذلك مشروعًا عند الأمم قبل الإسلام، فأقرَّ الإسلام الناس عليه مع الإصلاح الذي يذكر في جواب السؤال الثالث. 2- ما يفْضُل الحُرُّ به العبْدَ: يفضل الحر العبد في الولاية والقضاء، فالرقيق لا يكون إمامًا ولا سلطانًا للمسلمين ولا قاضيًا عليهم والعِلّة ظاهرة، ويفضله بأنه يملك ويتصرف بملكه، والعبد لا يملك؛ ولذلك لا يرث أهله، وخفَّفت الشريعة عن العبيد بعض الأحكام، فلا تجب عليهم صلاة الجمعة، وعليهم نصف ما على الأحرار من عقوبات الحدود فالحر يجلد على قذْف المحصنات ثمانين جلدة والعبد يُجْلد أربعين، ويجلد الحر على الزنا مائة جلدة والعبد خمسين جلدة. وهناك أحكام أُخَر في عدد الأزواج وعدد الطلاق، والقَوَد من السيد وغيره من الأحرار، وليست كلها متَّفقًا عليها في حديث سَمُرَة عند أحمد وأصحاب السنن الأربعة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (مَنْ قتل عبده قتلناه، ومن جَدَع عبده جَدَعْناه) حسَّنه الترمذي، وفي رواية لأبي داود والنسائي (ومن خصى عبده خصيناه) . 3- إباحة الرق: إنما أقرت الشريعة الإسلامية الناس من المشركين وأهل الكتاب على الرِّقّ؛ لأنه كان من الأمور الاجتماعية الراسخة التي لا يمكن تركها بمجرد تحريمها، ولا يكون تركها فجأة خيرًا للسادة ولا للأرقاء أيضًا؛ لأن الأولين قد ناطوا بالآخرين كثيرًا من أعمالهم الزراعية والتجارية والصناعية والمنزلية، حتى صاروا عاجزين عن القيام بها بأنفسهم، وجرى العمل على ذلك قرونًا كثيرة، حتى ضعُف استعداد السادة لهذه الأعمال، وصار من المحقق أن العتق العامّ دفعة واحدة يُفْضي إلى فساد اجتماعي كبير. وأما كونه لا خير فيه للعبيد أنفسهم، إذا هو حصل دفعة واحدة بتكليف شرعي، فهو أن هولاء صاروا بطبيعة الاجتماع عَالَة على سادتهم، حتى إنهم إذا تركوهم لا يعرفون كيف يعيشون، ولا كيف يعملون، فكان من حكمة هذه الشريعة الفِطْرية الاجتماعية أن تُقرّ الناس على ما جروا عليه في أصل الرق، وتضع لهم أحكامًا تكون تمهيدًا لإلغاء الرق بالتدريج، فأمرت السادة أن يُساوُوا العبيد في الطعام واللباس، وأن لا يكلفوهم ما لا يطيقون، وأن يعينوهم على أعمالهم ويساعدوهم فيها، وأوجَبتْ عليهم العتق بأسباب متعددة؛ فجعلته كفارة لبعض الخطايا؛ كالظِّهار وملامسة النساء في نهار رمضان للصائمين والحِنْث باليمين. وجعلت للعتق أسبابًا كثيرة؛ منها أنه إذا مثَّل بعبده عَتَقَ عليه وصار حرًّا، وورد هذا في الأحاديث المرفوعة، وكذلك التعذيب الخفي كالذي أَقْعَدَ أَمَتَه في مقلي حارّ فأحرق عَجُزها، فأعتقها عمر بذلك وعاقبه، بل قال صلى الله عليه وسلم (من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يُعْتقه) رواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه من حديث ابن عمر، وعن سويد بن مقرن قال: كنا بني مقرن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: (أَعْتِقوها) رواه مسلم وأبو داود والترمذي، وفي رواية أنه قيل للنبي (صلى الله عليه وسلم) : إنه لا خادم لبني مقرن غيرها، قال (فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها) وروى مسلم وغيره عن أبي مسعود البدري من حديث قال فيه: كنت أضرب غلامًا بالسوط فسمعتُ صوتًا من خلفي إلى أن قال: فإذا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (إن الله أَقْدَر عليك منك على هذا الغلام) ، وفيه قلت يا رسول الله: هو حرّ لوجه الله فقال: (لو لم تفعل لفحتك النار أو لمستك النار) ولو اتبع المسلمون هذا الإرشاد وحده أو لو كان حُكامهم بعد الخلفاء الراشدين نفذوا أحكام الشريعة كما كان ينفذها الراشدون؛ لبطل الرق في القرن الأول في بلاد الإسلام على أن الفقهاء الذين اختلفوا فيما تدل عليه هذه الأحاديث من وجوب عتق العبد الذي يُضْرب ويهان، قد صرحوا بأن العتق ينفذ، ولو كان المُعْتِق هازلاً أو سكران، وأن حكم القاضي به ينفذ مطلقًا، ولو كان ظالمًا في حكمه، وأن الإقرار بالرق لا يمنع دعوى الحرية بعده، وأن الرقيق إذا ادَّعَى أنه حرّ يُصَدَّق ويحكم بحريته، إلا إذا أثبت سيده ملكه له، وإن من أعتق جزءًا من عبد عَتَقَ كله، ثم إن الشريعة قد جعلت جزءًا من مال الزكاة المفروضة؛ لأجل فك الرقاب من الرق ومع هذا كله رغَّبت المسلمين في العتق ترغيبًا عظيمًا، والآيات والأحاديث في هذه كثيرة جدًّا، فهذه عدة طرق عملية لإبطال الرق بالتدريج بحيث لا يشقّ ذلك على المالكين، ولا يبطل مصالحهم ومنافعهم، ولا يجعل أمر المعتوقين فوضى، ويوقعهم في مَهْمَه الحيرة في أمر معاشهم، ومن قرأ أخبار تحرير العبيد في أمريكة، ظهرت له حكمة الإسلام فيما شرعه للناس في هذه المسألة. ولكن المسلمين لم يقيموا دينهم كما أُمِرُوا، ولا سيما في المسائل التي هي من شأن الحكام؛ ولذلك قال بعض حكماء الإفرنج: إن لمعاوية الفضل الأكبر على أوربا؛ إذ هو الذي حفظ لها استقلالها بجعل الحكومة الإسلامية حكومة شخصية موروثة، ولو سار هو ومن بعده سيرة الراشدين لَمَلَك المسلمون أوربا كلها وسائر العالم القديم. وقد سبق لنا بحث في هذه المسألة من قبل فلا نطيل فيها الآن. 4-6 - التسَرِّي وتعدُّد الزوجات وعدم حَصْر السَّرَارِي. بينا غير مرة أن إباحة التسرِّي قد كان رحمة من الله بالإماء المملوكات، فقد كانوا في الجاهلية يرون أن الإماء يباح لهن الزنا ولا يباح للحرائر، وكانوا يتخذونهن للبغاء؛ لأجل الكسب بأعراضهن، فحرَّم الإسلام الزنا تحريمًا باتًّا وأباح للناس أن يستمتعوا بما ملكت أيمانهم؛ ليصونوا عِرْضهن؛ وليكون ذلك وسيلة لتحريرهن، فإن الأَمَة إذا صارت أُمَّ ولد بَطَلَ رقّها، وصارت حرّةً كالزوجة، فما أَعْدَل هذا الحكم وما أحكمه. ولو لم يبح التسرِّي بالمملوكة في أُمَّة حربية كالأمة الإسلامية يكثر فيها النساء ويقل الرجال؛ لثقل على النساء المملوكات الرِّق بمنعه إياهن من أعظم وظائف الفطرة؛ ولأغراهن ذلك بالفسق الذي لا يبيحه الإسلام بحال من الأحوال. وأما حكمة تعدد الزوجات وما يشترط فيها، فقد بيناها بيانًا كافيًا في نحو من 30 صفحة من تفسير الجزء الرابع، فتراجع فيه من ص 344-374 أو في المنار. وأما كون التمتُّع بالإماء لا يشترط فيه العدد، فقد علَّلُوه بكون الأَمَة ليس لها حقوق على السيد كالقَسْم والمساواة، فلا يضر الاستكثار منهن لذلك، والأصل الصحيح فيه أن الحرب يُقتل أو يُفنى فيها الرجال ويبقى النساء لا كافل لهن، فيكون من المصلحة العامة وكذا من مصلحتهن الخاصة في بعض الأحوال، ولا سيما في القرون الأولى للإسلام أن يوزَّعْن على الرجال الغالبين لكفالتهن وكفايتهن أمر معيشتهن، والخير لهن حينئذ أن تكون معاملتهن كمعاملة الأزواج لِمَا تقدَّم آنفًا، ولا ضرر في الصحة لا في الهيئة الاجتماعية أن يكون للرجل الواحد نسل من نساء كثيرات يعوض على الأمة ما خَسِرَتْه في الحرب , وإنما الضرر ما عليه أوربا الآن من إباحة الزنا، واختلاف الرجال الكثيرين على المرأة الواحدة، فإن ذلك يقلل النسل كما هي الحال في فرنسة، ويُحدث أمراضًا كثيرة، ولولا ارتقاء فن الطب في أروبه لأفنتها الأمراض الزُّهْرية وغيرها، ولم يكن في التسرِّي وتعدُّد الزوجات مفاسد منزلية كثيرة في أول الإسلام؛ لِمَا كانوا عليه من العدل ومكارم الأخلاق وسلامة الفطرة وقلة الحاجات، وأما مسلمو هذا الزمان فإن لتعدد الزوجات فيهم مفاسد كثيرة كما بينا ذلك في تفسير آية التعدد، وجملة القول أن منع الزنا ووجوب كفالة النساء وإحصائهن والحاجة إلى كثرة النسل، والتوسل إلى عتق المملوكات بصيرورتهن أمهات أولاد؛ هو الذي كان سبَبَ إباحة الاستمتاع بهن وعدم التقيد بعدد فيهن، ولا سيما في حال كثرتهن، وذهب الأستاذ الإمام إلى أنه لا يجوز للرجل أن يستمتع بأكثر من أربع منهن؛ قياسًا على زواج الحرائر، بل قال: إن آية إباحة تعدد الزوجات بشرطه تدل على ذلك، والاسترقاق غير واجب في الإسلام، وإنما أبيح للضرورة ولأولي الأمر من المسلمين منعه، إذا رأوا المصلحة في ذلك. 7 - حكمة تعدَّد أزواج النبي (صلى الله عليه وسلم) : إن النبي صلى الله عليه لم يتزوج في سن الشباب والفراغ إلا بخديجة، وكانت رضي الله عنها ثيبًا، وبعد الكهولة والقيام بأعباء النبوة ومكافحة المشركين وغيرهم من أعداء النبوة تزوج عدة زوجات ثيبات، ومنهن أمهات الأولاد وكبيرات السن، ولم يتزوج فتاة بكرًا إلا عائشة بنت الصديق (رضي الله عنه) ، وأسباب ذلك بعضه سياسي كتوثيق الروابط بينه وبين القبائل كتزوجه بجُوَيْرِيَّة وهي بَرَّة بنت الحارث سيد بني المُصْطَلَق، فقد كان المسلمون أسروا من قومها مئتي بيت بالنساء والذراريّ، فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يعتقوهم وكره أن يكرههم على ذلك إكراهًا فتزوج سيدتهم، فقال المسلمون: أصهار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا ينبغي أسرهم فأعتقوهم، ومنها ما كان لأجل كفالة بعض المؤمنات السابقات إلى الإيمان المهاجرات بعد قتل أزواجهن أو وفاتهم؛ كتزوجه أم سلمة (هند) على كبر سنها وما عندها من الأولاد، ومنها ما كان لأجل الإصلاح وحمل الناس على الشريعة بالقدوة؛ كزواجه بزينب بنت جحش؛ لإبطال التبني وأحكامه الضارة الفاسدة، ومنه مكافأة صاحبَيْه ووزيرَيْه أبي بكر وعمر، وتشريفهما بمصاهرته إياهما، وهناك مصلحة عامة هو أن يوجد في بيت النبوة عدة من النسوة يتعلمْنَ الأحكام الشرعية الخاصة بالنساء ويعلمْنَها للمسلمات، وقد كان (صلى الله عليه وسلم) لشدة حيائه يستحي أن يخاطب النساء بكل الأحكام المتعلقة بهن إذا لم يسألْنَ عنها، فكان أزواجه الطاهرات خير واسطة لذلك، وهذه حكمة ما كانت تحصل لو اكتفى بزوج واحدة، لا يدري أتعيش بعد فقهها كثيرًا أم لا، وإن شئت مزيد بيان وتفصيل فارجع إلى

رحلة القسطنطينية ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رِحْلة القسطنطينية أو إقامة عام في عاصمة الإسلام علم قرَّاء المنار كافَّةً سبب رحلتنا في أواخر رمضان من العام الماضي إلى هذه العاصمة، وشيئًا من خبر عملنا وسعينا فيها، أَمَا وقد عدنا منها إلى مصر في أوائل هذا الشهر، فإننا نذكر لهم ملخص ما بلغ إليه السعي. مسألة العرب والترك: أشرنا في أول مقالة كتبناها عن الانقلاب العثماني عند حدوثه إلى العقبات التي يُخْشَى أن تعوق سير الدستور، ومنها تعصُّب العناصر العثمانية لجنسياتها، وقد وقع ما توقعنا، فقد قام كل عنصر يسعى لتقوية عنصره. فأما اليونان والبلغار والأرمن فلا تسأل عما قالوا أو فعلوا، ولا تعجب مما اقترحوا وطلبوا، على أن الأرمن أُعْطُوا حتى رضوا، ولا سبيل إلى مرضاة قوم لهم دولة تنازع الدولة العلية في أملاكها، وتطمع حتى في عاصمة ملكها، وأما الأَرْنَؤُود والكرد والجركس فقد قاموا يسعون لتدوين لغاتهم، وترقية أجناسهم، ولكل منهم في العاصمة أندية وجمعيات، وأما العرب فأسسوا عقب الانقلاب جمعية سمَّوْها جمعية الإخاء العربي، فكنت أنا وكل من أعرف من العرب والعثمانيين في مصر وسورية كارهين لتأسيسها، ولما زرت سورية كنت أنفر الناس منها , ثم ألغيت؛ لأن الرأي العام العربي لم يأخذ بيدها؛ لأنه لم يكن يحب أن يعمل عملاً ما في الدولة باسم العرب، ذلك بأن رأينا أن بقاء الدولة يتوقف على اتحاد الترك بالعرب فيها. ولكن قام بعض أصحاب الجرائد التركية في الآستانة بالدعوة إلى الجنسية التركية وحفظ السيادة للعنصر التركي، والتنفير من العرب ودعوة الترك إلى الاستغناء عن اللغة العربية، حتى عن القرآن العربي بترجمته إلى اللغة التركية، وبتطهير التركية من الألفاظ العربية، فتألم العرب من هذه الأقوال، وزادهم تألمًا أفعال أخطأت فيها الحكومة، بيناها في مقالات (العرب والترك) التي نشرناها في جرائد الآستانة التركية والعربية، فلا نحب إعادتها. رأينا الحديث قد كثر في هذه المسألة، وتناولتها أقلام الكتاب والشعراء، فخِفْنا أن تعم وتصير مقررة عند العامة؛ فيصعب نزع سوء التفاهم، ويتعسر ما نحب من الاتحاد والاعتصام، فكان أول سعينا في الآستانة موجهًا إلى إزالة سوء التفاهم بين العنصرين، فكتبنا تلك المقالات الست، واخترنا لنشر ترجمتها بالتركية جريدة إقدام؛ لأنها كانت من الجرائد التي آذت العرب بعصبيتها الجنسية، عسى أن يزول ذلك بما ننشر فيها، ثم كان أول من كلمناه في ذلك هو الصَّدْر الأعظم، فاعترف لنا بأن الحكومة والجمعية أخطأتا في بعض تلك الأمور، قال: ولكن ليس هنالك سوء نية وأنه سيتدارك ذلك بالفعل، وكلمت في ذلك أيضًا محمود شوكت باشا وناظر الداخلية وغيرهما من الكبراء، وقد اتهمني بعض النابتة العربية في أول الأمر بمصانعة الترك أو الحكومة، ثم بَلَوْني وخَبَرُوني وعلموا أني مخلص فيما أوافقهم وفيما أخالفهم فيه؛ وبذلك تيسر لي أن أقنعهم بما اقتنعت به بعد طول اختبار الآستانة ورجالها، وهو أن العرب والترك عنصران يكوِّنان حقيقة واحدة؛ كالعنصرين المكوِّنين لحقيقة الماء أو الهواء، وأن الإسلام قد ألف بينهما هذا التأليف، وزادته مصلحة بقاء هذه الدولة بهما، والخطر عليها من تفرقهما، وأن الذين تحاملوا على العرب واللغة العربية من المتفرنجين مختلفو الأصول؛ فنمنهم مَنْ أصله تركي ومنهم من أصله عربي، ولعلنا لو بحثنا عن أنسابهم لوجدنا أكثر آبائهم من الروم والأرمن واليهود والنور، وأنه لا يجوز لأحد من العرب أن يجعل ذنبهم ذنبًا للعنصر التركي، ولا أن يحمل سعي الترك لترقية شعبهم منافيًا لأخوة العرب، ما دام خاليًا من العصبية الجنسية، كما لا يجوز لطلاب ترقية العرب أن يقصدوا بذلك إلا التمهيد للاتحاد بالترك، والقيام معهم بتأييد الدولة وإعزازها، هذا هو رأيي الذي وافقني عليه العقلاء من الترك والعرب في العاصمة وإن كان يوجد فيها من المتعصبين المبغضين للعرب الذين يسترون بغضهم بأماديح النفاق من يحرِّف كلامنا في التوفيق والتأليف عن مواضعه؛ لينفروا إخواننا الترك منا، والله من ورائهم محيط وقد تداركت الحكومة بعض خطئها بإلغاء ما كانت أمرت به من وجوب جعل المرافعات في محاكم البلاد العربية باللغة التركية، وعدم قبول ما يقدم إلى الحكومة من شكوى وغيرها باللغة العربية، كانت شرعت في هذا وذاك، ثم علمت بتعذره وبسوء أثره فمنعته، ثم إنها عينت في مدارسها الإعدادية عشرة معلمين للغة العربية وذلك فاتحة خير إن شاء الله تعالى. مشروع العلم والإرشاد: هذا هو المشروع الأعظم الذي هو المقصد الأول لي من الرحلة، بل من الحياة كلها، وهو إذا نفذ يقوي الرابطة والأخوة بين العرب والترك وبين غيرهم من المسلمين كالأرنؤود والكرد، بل يؤلف بين المسلمين وغيرهم من الملل كما يقتضي الإسلام؛ لأن كل ما أتصوره وأدركه من إصلاح حال المسلمين محصور فيه؛ ولذلك كان جل السعي أو كله في هذه السنة لهذا المشروع، وبعد العناء الطويل والمراجعات الكثيرة واللجان المتعددة التي عقدت للمناقشات فيه وُفِّقنا لتأسيس جمعية العلم والإرشاد كما عرف القراء، وقد وافقت الحكومة على تأسيسها رسميًا، وعرف القراء مما نشرنا في الجزء السادس أن من أعضائها المؤسسين موسى كاظم أفندي الذي صار بعد التأسيس شيخ الإسلام للمملكة ورئيس الشرف للجمعية، ومنهم مستشار المشيخة والرئيس الثاني لمجلس المبعوثين، ورئيس كتاب مجلس الشورى وغيرهم من خيار رجال العاصمة، فليراجِعْ مَنْ شاء أسماء وقانون الجمعية في ذلك الجزء من منار هذه السنة. بعد التصديق الرسمي على نظام الجمعية توسلنا بمولانا شيخ الإسلام إلى الحكومة؛ لتقرر لنا ما وعدتنا به من المساعدة المالية لتأسيس مدرسة (دار العلم والإرشاد) . فكتب أحسن الله جزاءه مذكرة للصدر الأعظم بعد مذاكرته في ذلك والاتفاق معه، طلب فيها: أن تُعْطَى جمعية العلم والإرشاد ثلاثة آلاف ليرة؛ لأجل تأسيس المدرسة المذكورة في نظامها الأساسي، وأن يقرر مجلس الوكلاء جعل نفقات هذه المدرسة بالغة ما بلغت في ميزانية نظارة الأوقاف من ابتداء السنة المالية القابلة، فوضعت مذكرة الشيخ موضع المذاكرة في مجلس الوكلاء الخاص، فقرر المجلس قبول المذكرة والموافقة على المبلغ المطلوب، واستحسان نظام الجمعية، إلا أنه ذكر في صورة القرار الذي بلغ مقام الصدارة إلى المشيخة ونظارتَيْ الأوقاف والمعارف؛ أن المجلس استحسن أن يعبر عنها (بانجمن علم وإرشاد) بدل (جمعية العلم والإرشاد) ، وأن تكون المدرسة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام. بلغنا شيخ الإسلام قرار مجلس الوكلاء، فاجتمع مجلس إدارة الجمعية يوم الجمعة (19رمضان -23سبتمبر) للمذاكرة فيه، فقرر الاعتراض على جعل المدرسة تحت مسئولية شيخ الإسلام؛ لأنها تكون بذلك رسمية، وقد بلغ الكاتب العام للجمعية شيخ الإسلام ذلك كتابة، وتكلم معه في وجوب جعل المدرسة خاصة بالجمعية خالية من الصفة الرسمية، فوافق الشيخ على ذلك ووعد وعدًا مؤكدًا بالكتابة إلى الباب العالي بوجوب تعديل قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة مما يطلقون عليه اسم (المكاتب الخصوصية) ، وكذلك قال ناظر المعارف ووعد بعض أعضاء الجمعية بالكتابة إلى الباب العالي بذلك، وصرح بأن جَعْل المكتب ذا علاقة بالحكومة ضار، وأنه خلاف ما كان اتفق عليه، ولماذا يكون ضارًّا؟ صرحنا في المادة الثالثة من نظام الجمعية الأساسي؛ بأن هذه الجمعية لا تشتغل بسياسة الدولة العلية الداخلية ولا الخارجية ولا سياسة غيرها من الدول، ولكنها تراعي القانون الأساسي وتؤيده، ونص المادة الثانية المبينة مقصدها هو: (المادة الثانية: مقصد هذه الجمعية الجمع بين التربية الإسلامية وتعليم العلوم الدينية والدنيوية والتصنيف فيها، وتتوسل إلى ذلك بإنشاء مدرسة كلية في دار السعادة باسم (دار العلم والإرشاد) لتخريج العلماء والمرشدين) . فالمراد من الجمعية ومدرستها الكلية هو الإصلاح الديني الاجتماعي؛ أي إنارة عقول المسلمين النافعة بالعلوم النافعة، وتربية نفوسهم تربية صالحة؛ ليعلموا كيف يعمروا دنياهم، مع حفظ دينهم ذي الآداب العالية أن ينال منه الخراب، ويدخل في ذلك اقتباسهم لِمَا لا بد لهم منه من المدنية العصرية وفنونها وأعمالها، فإذا دخلت السياسة في مثل هذا العمل أفسدته، ولا شك أن الدول الأوربية تعدُّ جعله تحت إدارة شيخ الإسلام عين السياسية، وتتهم الدولة بأنها تريد به تهييج التعصب الإسلامي؛ لأن شيخ الإسلام هو العضو الأول في مجلس وزراء الدولة، وإذا قاومت أوربا هذا المشروع لا يثمر الثمرة المطلوبة، ولا تُتَّقى مقاومة أوربا إلا بجعله في معزل عن السياسية والحكومة ظاهرًا وباطنًا؛ لأن الذين اكتشفوا الأشعة التي تخترق الكثائف حتى يُرى ما وراءها، ووضعوا المناظير المكبرة التي يرى بها ما لم تكن تَرى مثله زرقاء اليمامة، لا يسهل على أمثالنا في ضعفنا وجهلنا أن نخدعهم، وإذا كان هذا العمل في أيدي جمعية مخلصة ليس لها صفة رسمية؛ لا يمكنهم أن يعترضوا عليها اعتراضًا رسميًّا، وإذا كان هذا العمل في أيدي جمعية مخلصة ليس لها صفة رسمية لا يمكنهم أن يعترضوا عليها اعتراضًا رسميًا، وإذا اتهموها بالسياسة باطلاً سهل عليها مع الصدق والإخلاص إقناعهم ببراءتها، كما وقع للجمعية الخيرية الإسلامية بمصر، اتهمت بالسياسة ومساعدة مَهْدِيّ السودان على الحرب ولكن لم تلبث أن ظهرت براءتها بإخلاص رجالها. هذا هو رأيي ورأي محمود شوكت باشا، ذكره لي قبل أن أذكره له، ووافق عليه شيخ الإسلام وناظر المعارف، وهو رأي أعضاء الجمعية المؤسسين أيضًا؛ ولأجل هذا يسعون في تعديل قرار مجلس الوكلاء، ولولا هذا لوافقت ناظر الداخلية أولاً وشيخ الإسلام أخيرًا على جعل نفقات المدرسة من المالية دون الأوقاف، ولكنني ما زلت أراجع في ذلك من أول السعي إلى آخره؛ إذ قال لي شيخ الإسلام في يوم الإثنين 16أو 17شعبان (22أغسطس غ) : إن الوكلاء الفخام يرون من المناسب أن تكون نفقات المكتب السنوية في ميزانية العلمية (التابعة للمشيخة الإسلامية) وأنا أرى ذلك؛ لأن هذه خدمة دينية من جنس خدمة المشيخة، فيحسن أن تكون نفقتها تابعة لها، فما تقول أنت يا عزيزي؟ (قلت) : ما ترونه حسنًا فهو حسن، ولكني لا أزال أرى أن تجعل نفقات مكتبنا في ميزانية الأوقاف؛ حتى لا يكون للمشيخة وجه للتداخل في أمره؛ إذ الأَولى أن يكون مستقلاً تمام الاستقلال دونها إلخ ما قلته ووافقني عليه، بل قلت لغيره من العظماء: لولا أنني خشيت أن تسيء الدول الظن بالمشروع لاقترحت أن يكون في الحجاز أو في مصر، وأقول: الآن إذا لم يعدل مجلس الوكلاء القرار كما وعد شيخ الإسلام وناظر المعارف، فالمسلمون لا يستغنون عن جمعية أخرى كهذه الجمعية، يكون مركزها مصر؛ لأن جمعية الآستانة لا تأتي بالفائدة المطلوبة إذا كانت رسمية أو شبه رسمية.

الجمعية العلمية في الآستانة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجمعية العلمية في الآستانة كان تأليف الجمعيات ممنوعًا في البلاد العثمانية في العصر الحميدي المظلم، بل كان لفظها ممنوعًا أيضًا، حتى كاد يمنع الاجتماع للعبادة بغير مراقبة، كما منع لغيرها ألبتة، وقد بينا ذلك في المجلد الثاني عشر، ولهذا اندفع العثمانيون بعد الانقلاب إلى تأليف الجمعيات كما هو شأن الناس في الممنوع إذا أبيح بعد التشديد في منعه، فألفوا جمعيات كثيرة بأسماء مختلفة لمقاصد مختلفة، ولبعض تلك المقاصد أصل ثابت، وبعضها نشأ عن وَهْم عارض، ولما زرتُ سورية بعد الانقلاب، رأيت في كل من بيروت وطرابلس ودمشق جمعية تسمى (الجمعية العلمية) ، ألفها أفراد من صنف العلماء المسلمين، ولم يكن بينها صلة، وربما كان بعضها تقليدًا، وقد سمعت يومئذ عن جمعية دمشق؛ أن الغرض منها حفظ جاه مؤسسيها ومقاومة رجال الدستور؛ ولذلك لم يُدْخلوا فيها خيار العلماء الأحرار العاملين، مهما قيل فيها وفي غيرها وسواء صح أو لم يصح، فلا يمكن أن يدعي أحد أنها عملت شيئًا لخدمة العلم أو الدين. ولما زرت الآستانة في العام الماضي، سمعت أخبارًا متعارضة عن الجمعية العلمية التي أُسست فيها، وكنت قد سمعت قبل ذلك أنها جمعية جمود؛ تعارض كل إصلاح ديني أو غير دنيي، إذا لم يقم عندها دليل من فقه الحنفية عليه، وأن مجلتها (بيان الحق) أُنشئت لهذا الغرض، فهي ترد على المجلة التركية الإصلاحية (صراط مستقيم) التي يكتب فيها محبو الإصلاح كموسى كاظم أفندي (شيخ الإسلام الآن) وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي وأضرابهما من شيوخ الآستانة وشبانها المحبين للإصلاح، وبلغني أيضًا أنها ردت على المنار في مسألة الاستقلال والتقليد، بل كان شاع أن علماء الآستانة هم الذين أوقدوا نار فتنة 31 مارث أو 13 إبريل، المشهورة، وأن الحكومة الدستورية قتلت كثيرين منهم. لهذا الاختبار والإشاعات كانت صورة الجمعية العلمية في ذهني غير جميلة عندما جئت الآستانة، واتفق أن سمعتُ من بعض أكابر رجال السياسة هناك شكوى من جمود العلماء وتعصبهم، حتى قال لي من لا أسمي منهم: إن مشروعك الذي جئت لتأسيسه هنا لا يخشى عليه إلا من العلماء، فإنهم هم العقبة في طريق الإصلاح، ولهم نفوذ عظيم لاتباع العامة لهم، ثم إنني علمت بعد طول الاختبار أن كثيرًا مما كنت أسمعه عنهم باطل، وبعضه مبالغ فيه، وأنهم لم يكن لهم يد ولا أُصْبُع في الفتنة بل كان لهم الأثر الصالح في إطفاء نارها، وحَمْل الناس مع العسكر وغيرهم على طاعة الحكومة الدستورية، ولكن بعض رجال الفتنة قد لبسوا لها لباس العلماء، حتى قيل: إنهم اشتروا نسيج العمائم الأبيض من خارج الآستانة. لما عرضت مشروعي على الصدر الأعظم أول مرة، عقد له بالاتفاق مع عميد جمعية الاتحاد والترقي لجنة علمية مؤلفة من أمين الفتوى أسعد أفندي، ومستشار المشيخة مصطفى أفندي أوده مشلى وإسماعيل حقي أفندي المناسترلي، وموسى كاظم أفندي من الأعيان، وكلهم من كبار شيوخ العاصمة، فلما اتفقوا على استحسان المشروع كما ذكرت ذلك في وقته في رسائلي من الآستانة، حمدت الله على وجود أمثالهم، واعتقدت أنه لا بد أن يوجد كثير من العلماء على رأيهم ومشربهم ولا سيما من الشبان والكهول، وصرت أمدح علماء الآستانة، فيقول لي بعض أهلها: لا تَقِسْ على هؤلاء فالأكثرون متعصبون غلاة في مقاومة كل إصلاح والجمعية العلمية هي بؤرة التعصب. ثم أسعدني التوفيق بلقاء بعض رجال العلمية في مجلس المبعوثين وغيره، فرأيت فيهم من آيات الغيرة والإخلاص والميل إلى الإصلاح ما حمدت الله عليه، واعتقدت أنه لا خوف على مشروعي منهم، بل رجوت أن يكونوا من خير المساعدين عليه، إذا هو تم بمساعدة جمعية الاتحاد والترقى، وأن يقوموا هم به إذا لم تساعدني تلك الجمعية من جهة الحكومة، ولكنني لم أطالبهم بذلك؛ لأنني لم أكن أسمع من الحكومة إلا الوعود الجميلة، حتى تم المشروع على الوجه الذى بيناه. ولمَّا عزمت على السفر من الآستانة إلى مصر، كتبت في جريدة الحضارة ذلك الخطاب إلى علماء الإسلام في الآستانة وسائر البلاد الإسلامية؛ (وهو ما ستراه قريبًا في هذا الجزء) ، وأحببت أن أجعله تمهيدًا لزيارة الجمعية العلمية في ناديها، وإبداء شيء من التفصيل في الإصلاح الإسلامي لجمهور رجالها، فرأيت للخطاب من التأثير فيهم فوق ما كنت أحسب، حتى كنت ألقى الواحد منهم في الطريق أو في بعض الدور أو المعاهد العامة كالمساجد والمدارس فأجده حافظًا لبعض جملها، يتلوها عليّ معجبًا مُثْنيًا، وقال لي بعضهم: إن رجال الجمعية العلمية قد أعجبوا بهذه المقالة، واقترح بعضهم ترجمتها بالتركية، ونشر الترجمة في مجلة الجمعية (بيان الحق) ، فعلمت أن ما كنت أسمعه من أنباء الدنيا في علماء الآستانة من التعصب والجمود؛ ناشىء عن سوء فهم أو سوء قصد كما يقال ورغبت في زيارة الجمعية في ناديها، وذكرت ذلك لبعض أعضائها، فأخبرني أنه قد تقرر أن لا يجتمعوا فيما بقي من ليالي رمضان القليلة، (قال) : فلابد أن نرسل إلى من يوجد منهم في الآستانة دعوة خاصة، ولا شك أنهم يُسرّون بذلك، وموعدنا ليلة الإثنين 29رمضان، ولما جئت النادي لميقاتهم ألفيته حافلاً بجمهور عظيم منهم غص به النادي، وبعد التحية واستراحة قليلة ألقيت عليهم خطابًا ارتجاليًا طويلاً لا تقل مدته عن ساعتين، فتلقوه بالقبول والارتياح التام، وسألتهم هل انتقدوا منه شيئًا؟ فلم أجد عندهم انتقادًا، بل إجماعًا على جميع مسائله وثناءً. لا أتذكر جميع ما قلته في الخطاب من المسائل والدلائل، ولكن لم أنس مقاصد الكلام وأقطابه، وهى ثلاث: 1- وجوب تعارف العلماء وتعاونهم على خدمة الأمة والدولة، فإن هذا العصر عصر الجمعيات، لا يستطيع أحد أن يعمل عملاً لأمته؛ إلا ويتوقف نجاحه التام على قوة جمعية تظاهره وتعاونه عليه. 2- تساهل العلماء في خلاف المذاهب في الأصول والفروع؛ والاكتفاء في عقد الأخوة الإسلامية بين جميع المسلمين بالمسائل المجمع عليها. 3- إحياء هداية الكتاب والسُّنة في المسلمين، وبث دعوتهما والذبّ عنهما. فمما قلته في المقصد الأول أن علماء الإسلام في عهد نهضتهم العلمية الأولى في بلاد العراق والفرس ومصر وإفريقية والأندلس كانوا يتعارفون بالسياحة وبنقل الكتب من قطر إلى قطر، حتى كان المعاصرون في الشرق والغرب ينقل بعضهم عن بعض، كما ترى في كلام ابن خلدون عن كتب سعد الدين التفتازاني وابن هشام. ثم ذكرت ما بين علماء المسلمين من التقاطع بين المسلمين في هذه العصور الأخيرة على سهولة المواصلات وكثرة المطابع، وبينت أن علماء الآستانة من أجدر العلماء بخدمة الإسلام، والتعارف بين سائر علماء الأقطار، ولكنهم على كثرتهم وجِدّهم واجتهادهم في العلوم الإسلامية لا يكاد يُسمع لهم صوت في قطر من الأقطار كمصر والغرب والهند، وقد كان لذلك سببان: أحدهما: سياسي؛ وهو ظلم السلطان عبد الحميد ومنعه لمثل ذلك وقد زال. وثانيهما: عدم التكلم والكتابة باللغة العربية، وكان من غلطتهم قراءة كتب الفنون العربية والعلوم الشرعية بالترجمة ولا سيما التفسير والحديث والأصول، فإن هذا يضيع عليهم زمنًا طويلاً في التحصيل، ولو كانوا يتقنون اللغة العربية نفسها قراءة وتكلمًا وكتابة، ثم يدرسون فنونها وعلومها لكان يكون تحصيلهم أسرع وأكمل، وتعبهم فيه أقل، ولكان لهم آثار كثيرة يعرفهم بها علماء الأقطار الإسلامية كلها، وهذا السبب يسهل عليهم تداركه في زمن قليل، وينبغي أن يكون في مجلتهم (بيان الحق) قسم عربي؛ لتكون وسيلة لاتصالهم بسائر علماء المسلمين الذين يعرفون هذه اللغة مهما كان جنسهم ولغتهم. وبينت في المقصد الثاني ما دل عليه العلم بأخلاق البشر وطباعهم، وما أفادته التجارب من اقتضاء رد الفِرَق بعضهم على بعض، ثباتَ كل على رأيه ومذهبه وحرصه عليه، وإغرائه بعداوة المخالف، والنظر إلى كلامه بعين السخط لا بعين الروِيَّة والإنصاف، ومن اقتضاء التساهل التناصف والمودة والنظر إلى الأشياء بقصد استبانة الحقيقة، وعاقبة ذلك ظهور الحق على الباطل، وأستشهد على هذا ما كانت عليه الأمم الأوربية من التنازع والتعادي في الدين والسياسة؛ لاختلاف المذاهب والمطامع وما آل إليه أمرها من عقد الدول المحالفات والموالاة السياسية بعضها مع بعض، ومن حَذْو الجمعيات الدينية حَذْو الدول في الاتفاق على المخالفين ووضع الحدود للدعوة الدينية كحدود النفوذ السياسي، وكان بين فرقهم الثلاث الكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت نزاع شديد ومعارضات قوية بعد تلك الحروب المعروفة، فضعف ذلك واتفقت جمعياتهم كما اتفقت دولهم على اقتسام البلاد الإسلامية والوثنية؛ كاقتسام روسية وإنكلترة لبلاد الفرس، فعلينا أن نعتبر بأحوال الأمم، ونجتهد في إدالة الوفاق من الخلاف والحب والائتلاف من العداوة والبغضاء، والخلاف بين الفرق الإسلامية الكبرى؛ السنية , والشيعة الإمامية , والزيدية والأباضية أهون من الخلاف بين المذاهب النصرانية؛ التي يحكم كل فريق منها بكفر الفريق الآخر. وذكرت أيضًا ما اتفق عليه أئمة أهل السُّنة من عدم تكفير أحد من أهل القبلة ومن إفتاء الفقهاء بترجيح القول الضعيف بعدم التكفير على مئة قول قوي بالتكفير، ومقابلة ذلك بما عليه الجامدون من أدعياء العلم المتأخرين؛ إذ يكفِّرون من يخالفهم حتى في الفروع الظنية، بل في الأمور العادية التي ليست من الدين في شيء، وبذلك شتّتوا شمل الإسلام ومزقوا نسيجه، وذكرت لهم جمعية ندوة العلماء في الهند وأن من مقاصدها التأليف بين أهل المذاهب الإسلامية والدعوة إلى الإسلام، والحكومة الإنكليزية مساعدة لهم على ذلك، وما ذكره لي بعض علماء الشيعة من ميل علماء النَّجَف وإيران إلى الوفاق، وتَرْك بعضهم تدريس الكتب التي تشتمل على الردِّ على أهل السُّنة، وما أعلمه من ميل علماء الأباضية إلى مثل ذلك، وإن حوادث الزمان وعبره قد أعدت المسلمين للاتفاق والاتحاد الديني، فعلى العلماء أن يغتنموا هذه الفرصة في كل البلاد ولا سيما في الآستانة، فإذا قصروا فاتتهم الفرصة وخرج الأمر من أيديهم , وأشرت إلى ما قاله الغزالي في القسطاس المستقيم من كفاية المتفق عليه في الدين للهداية وقلة من يعمل به، فإن المذاهب كلها متفقة على توحيد الله وتنزيهه وسائر أصول الإيمان، وعلى تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعلى أركان العبادات وأصول جميع الخيرات، فأين من يعمل بما اتفقوا عليه. وذكرت في بيان المقصد الثالث أن الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي وترقية المسلمين في دينهم ودنياهم لا يمكن أن تكون إلا بهداية الكتاب والسُّنة؛ لما فيهما من التأثير في النفوس بإسنادهما إلى الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ؛ ولما فيهما من الحِكَم والعبر التي لا توجد في كتب الكلام والفقه؛ ولأنها الأساس المتفق عليه عند كل المذاهب، وقلت: قد علمت أن بعض الناس هنا كانوا يظنون أن (المنار) قد سلك هذه الطريقة؛ لأجل أن يدون مذهبًا جديدًا، ويحمل الناس على ترك مذاهبهم إليه، وقد صرحت بنفي هذه الشبهة غير مرة، فأنا لا أريد أن أحدث مذهبًا جديدًا، ولا أجيز لنفسي ذلك، وإنما سلكتها لأسباب: (1) أن المنار عام لجميع المسلمين لا لأهل مذهب

حول خطبة رشيد رضا أفندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حول خطبة رشيد رضا أفندي خطب رشيد أفندي رضا أحد علماء طرابلس الشام وصاحب مجلة المنار التي تصدر في مصر؛ خطبة شائقة في مركز الجمعية العلمية الإسلامية ليلة 29رمضان بحضور جمّ غفير من العلماء، ألقى هذه الخطبة التي نحن بصددها باللغة العربية، وقد فصّل القول فيها تفصيلاً استمر ساعتين من الزمن. أبان في موقفه هذا ما رمى إليه في مقالته التي وجّهها إلى جميع علماء المسلمين؛ المنشورة في جريدة الحضارة بعددها 24 الصادر في 8أيلول سنة 1326 مالية، وأثبت بالأدلة والبراهين القاطعة أن جمود علماء الإسلام الآن باعث على تأخر الأمة الإسلامية وعدم سعادتها، وبعد أن أقنع جميع الحاضرين بأنه إذا ظل العلماء على ما هم عليه، ولم يحافظوا على علو مركزهم، تظهر فيهم إذ ذاك أعراض الانقراض والملاشاة، ثم ذكر ما تصادفه الجمعية العلمية من الموانع والمشاكل إذا بقيت منحصرة في لجان محدودة، وأنه يجب أن يُؤسس لها فروع في جميع المملكة العثمانية، ثم تُؤسس لها أيضًا فروع ولجان عمومية في كافة أقطار الأرض المعمورة بالأمم الإسلامية، وبين فائدة ارتباط شعب هذه الجمعية بعضها ببعض، وما ينجم عنها من الفوائد العظيمة إذا سارت هذه اللجان بطريقة جدية في الاتصال بمركز الجمعية العمومي؛ في الأمور الدينية المهمة والمباحث المعضلة الدقيقة، فهي تساعد على خدمة الإسلام خدمة حقيقية، وتوسع دائرة نظامه في العالم المعمور. ثم ذكر ما كان بين علماء الإسلام في المشرق والمغرب من الارتباط في زمن سعد الدين التفتازاني، يوم كانت وسائط النقل والسفر صعبة شاقة، فقد كان حينئذ علماء الإسلام يتبادلون المخابرات والمباحثات في دقائق الأمور، وإن آثارهم الموجودة الآن لأعظم شاهد على إلمام كل فريق منهم بمؤلفات الفريق الآخر. وأما اليوم فإنه من المعلوم عند الجميع أن وسائط النقل تقدمت تقدمًا عظيمًا. ولكن من المحزن أن علماء المسلمين لم يوجد بينهم أقل اتفاق ولا تعارف، وقال: إنه مع الفخر في هذه الخدمة الجليلة يسعى بتأسيس وتشكيل جمعية علمية إسلامية في مصر وسائر البلاد العربية. ثم تكلم عن شكل الجريدة التي ستكون ناشرة لأفكار الجمعية العلمية، فقال: إن من المتعسر نشر هذه الجريدة بلغات مختلفة، ولكن من الأمور المقررة أن علماء الإسلام مهما اختلفت لغاتهم، وإلى أي عنصر نُسِبُوا، وبأي لسان تكلموا فلابد أن يكونوا متضلعين في اللغة العربية؛ ولذلك استصوب أن تنشر الجريدة باللسان العربي، وتعمم بين علماء الصين والهند وجَاوَا والترك والأفغان والعجم وجميع البلاد الإسلامية، وبهذه الطريقة المثلى يحصل التعارف بين كافة علماء هذه البلاد، وتدور المباحثات في المسائل المهمة، وعندها تظهر هذه الجريدة حافلة بالمقالات العظيمة التي تكون سببًا لخدمة الدين والأمة الإسلامية؛ بما يُورد فيها من الأسئلة والأجوبة التي تمحص الحقائق للمسلمين. ثم انتقل مؤخرًا في خطابه إلى الكلام عن اختلافات المذاهب وتعدد الفرق، وبين أن هذه المجادلات والمناقشات التي تحصل بين الفرق المتخالفة عقيمة لا فائدة فيها، بل إنها كانت سببًا لتفريق كلمة المسلمين، فقد ظهر بالاختبار أن هذه الاختلافات لم تولد إلا الضرر العام، وأوضح في عرض حديثه ضرورة الاحتراس من المجادلات والمباحثات التي تحصل من بعض الفِرَق باسم الدين الإسلامي؛ لأن كل فريق من هؤلاء المخالفين يكفِّر ويضلِّل الفريق الآخر؛ لمخالفته له في أمور ليست من الأهمية بمكان، فيجب على من يكون صحيح الرأي في هذه المسائل أن يؤيد آراءه وأفكاره بالأدلة والبراهين الناصعة، ثم انتقل أيضًا إلى البحث في أحواله الخصوصية، فذكر أنه شافعي المذهب ومقلِّد، وما ينسبه إليه بعض الناس من الدعوة إلى الاجتهاد (كذا) هو ناشئ عن سوء التفاهم فقط، وتكلم أيضًا عن المذاهب الأربعة، فقال: إن ظهور مجتهد بعدهم متعسر، ولا ينكر أحد أن الأحوال تغيرت تغييرًا محسوسًا بعد زمانهم، فيجب إذًا أن تتغير بعض الأحكام. وذكر لنا أنه يرد في مجلته على المقالات التي تنشر في جرائد أوربا اعتراضًا على الإسلام؛ مستدلاً بالآيات والأحاديث؛ ولذلك حلت كتاباته واستدلالاته محل الدقة والاعتبار، وقال: إنه يجب لإقناع الخصم الاستدلال من الكتاب والسنة، وختم كلامه بأن ما ينشره في مجلة المنار يؤيد كل ما ذكره [1] .

إلى علماء الإسلام الأعلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إلى علماء الإسلام الأعلام [*] (في الآستانة وسائر الولايات العثمانية ومصر وتونس والمغرب والنجف وفارس والقوقاس وقزان والهند وسائر البلاد الشرقية) . كنتم وكانت الأُمة الإسلامية بكم خير أُمة أخرجت للناس؛ تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، فيخضع لكم الملوك والأمراء، وتهتدي بكم الدهماء، كنتم فبِنْتم أو كدتم، وبعدتم عن الأمة وبعدت الأمة عنكم، فسرى الإلحاد إلى خواصها؛ لأنكم لستم أنتم الذين تتولَّوْن تعليمهم، واستشرى الفسق والفساد في عوامّها؛ لأنكم تركتم وعظهم وإرشادهم، فأنتم مسئولون في الدنيا والآخرة عن أُمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فبما تجيبون، وماذا تقولون؟ إذا أضعتم الأُمة أضعتم أنفسكم، ولا تغرنكم هذه البقية الضئيلة من احترام الحكام لكم، واعلموا أن كل ما لكم الآن من بقايا الشرف والرزق يكون حينئذ على شرف الزوال، وإن منكم من حمله الشعور بذلك على تعليم أولاده في مدارس الحكومة أو مدارس الجمعيات النصرانية؛ ليكون آمنًا مطمئنًّا على رزقهم وكرامتهم في مستقبل أيامهم، وإن أحدكم ليصوم وأولاده في الدار مفطرون، ويصلي وهم لا يصلون ولا يتطهرون، أرضيتم لكم ولهم بالحياة الدنيا من الآخرة، أم تزعمون أنكم قمتم بما يجب عليكم في هذه التربية الخاسرة. إنكم حُرِمْتم في بعض البلاد من جميع أعمال الحكومة إلا القضاء في بعض الأمور الشخصية، ولَلقاضي منكم بالشريعة الأحمدية أقلُّ قيمة وراتبًا من القاضي بالقوانين الوضعية، وحرمتم في بعض البلاد من أكثرها، وستُحرَمُون فيها إذا بقيتم على حالكم من باقيها، بل سُلبتم ما هو خير من ذلك؛ وهو التعليم العام في مدارس الحكومة ومدارس الأمة، فلم يبق لكم إلا قليل منها في بعض البلاد التي للتعليم الديني فيها بقية رسمية؛ هي كالعضو الأَثري الذي لا عمل له ولا تأثير في المصلحة العامة. ما ظلمكم أحد ولكنكم ظلمتم أنفسكم أولاً؛ فأَغْرَيْتم الناس بأن يظلموكم، فإن كانوا لما يفعلوا في بعض البلاد فسيفعلون وسيفعلون، وإن كانوا قد فعلوا فما فعلوا لا يذكر في جنب ما سيفعلون، وفي أيديكم الآن أن تمنعوا أنفسكم، وتحفظوا كرامتكم، وتَستحْيوا الزعامة الروحية الاجتماعية لكم في أمتكم، وإن لكم الآن في عهد حكم الشورى في الدولتين العثمانية والفارسية لَفرصة إن اغتنمتموها كانت القاضية لكم، وإلا فهي القاضية عليكم، وعلى الأمانة التي في أيديكم، فكونوا ركن هذا الحكم الركين، وحصنه الحصين، تستعيدوا في ظله مجدكم ومجد ملتكم وأمتكم. ظلمتم أنفسكم أنكم لم تنظروا فيما تجدَّد للأمة والدولة من الحاجات في هذا العصر، وما ساقتها الضرورة إلى اقتباسه من العلوم والفنون، وما يجب عليكم من حفظ مرتبة التعليم والتربية لأنفسكم، فإنكم لو نظرتم في ذلك لسارعتم إلى تعلم جميع العلوم والفنون التي لا بد للأمة والدولة منها؛ لتحفظ نفسها في هذا العصر، ثم لاحتكرتم تعليمها إياه مع التربية الدينية التي تحفظ عليها آدابها وأموالها وصحتها وجامعتها الملية، إنكم لم تفعلوا ذلك، ولو فعلتموه لكان خيرًا لكم ولأمتكم ودولتكم، ولماذا لم تفعلوا؟ رأيت منكم من يعتذر عن إهمال العلماء لمثل هذا الأمر الجليل؛ باستبداد الحكام، ورأيت منكم من يعتذر بجهالة العوام، وعدم معرفتهم لقيمة العلماء الأعلام ورأيت منكم من يدعي أن العلماء لم يقصروا في شيء؛ وأنهم قائمون بما يجب عليهم، ولكن الزمان قد فسد خلافًا لقول الشاعر: يقولون الزمان به فساد ... وهم فسدوا وما فسد الزمان ورأيت منكم الحائر الذي لا يدري كيف يعتذر، ورأيت وسمعت ما لا يتسع هذا المقال لشرحه، وإني أذكر السبب الذي أراه أبًا لجميع الأسباب، والعلة التي أراها هي أم جميع العلل. ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم، ولا وقع فساد في أمتكم أو حكوماتكم، إلا وسببه تفرقكم واختلافكم، وعلته تخاذلكم وشقاقكم، وما شدد دينكم في شيء كما شدد في حظر التفرق والخلاف، ولا أكد شيئًا كتأكيده وجوب الاجتماع والاتفاق، فإن كان الشيطان قد سوّل لكثير من المختلفين منا أن في الخلاف قوام عصبيتهم، وحفظ رياستهم، فقد آن لعقلائنا اليوم أن يعلموا أن هذا التفرق سينتهي بالانقراض والزوال، إذا لم نتداركه بالاعتصام والالتئام، فاعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وكونوا أنتم الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأعدوا أنفسكم لزعامة هذه الأمة بحق، واهدوها إلى مصالح الدين والدنيا بالحكمة والرفق، كما هو شأن الإسلام في الجمع بين مصالح الدارين. ألم تروا أن أهل الملل الذين لم يُؤمروا بمثل ما أمرتم به من الاجتماع والتعاون، ولم يُنهوا مثلما نُهِيتم عن التخاذل والتباين، قد ألفوا جمعيات دينية، تضاهي ثروتها ثروة الدولة الغنية، فجعلوا أزمة التربية والتعليم في أيديهم، فحفظوا جامعة دينهم في أقوامهم، ثم جذبوا إليه كثيرًا من أهل الأديان الأخرى حتى في غير بلادهم، ألستم أًوْلى منهم باحتكار تعليم أبناء دينكم، وبتعميم الدعوة إليه في غير قومكم، فما لكم لا تنشطون إلى ما فيه عزكم وشرفكم، وفي تركه ذلكم وضِعَتكم، حماكم الله تعالى ووقاكم. يخطر في بال ضعفاء العزيمة منكم أن المسلمين لا يبذلون من المال للجمعيات الدينية مثل ما يبذله النصارى في الغرب والوثنيون في الهند، وهذا خطأ عظيم سببه عدم التجربة، فلو أنشأتم جمعية إسلامية وأريتم الناس ثمرتها، وأقنعتموهم بفائدتها وجئتموهم في ذلك من أبواب مصالحهم، وأشرفتم عليهم من يفاع منافعهم، لرأيتم أنهم أسبق من غيرهم إلى الخير والتعاون على عمل البر، فما المسلمون الحاضرون، إلا سلائل أولئك السلف الصالحين؛ الذين وقفوا تلك الأوقاف الكثيرة على المدارس والملاجئ والمستشفيات، وجميع ما كان يخطر في البال من أنواع البر والإحسان، حتى إن بعضهم وقف على الكلاب، وبعضهم وقف على ضمان المتلفات والضائعات، إلخ. هذا، وإن لكم من الأوقاف الخيرية التي ضبطتها الحكومة كنزًا عظيمًا، وإن في أيديكم رفع يدها عنها، وجعل إدارتها إليكم بمساعدة مجلس الأمة، فإن أوقاف جميع الملل في تصرف رجال الدين، فهل تبقى حقوق المسلمين مسلوبة في عصر الشورى كما كانت في عصور الاستبداد، إننا إذًا لنحن المغبونون، وإنا إذًا لنحن الخاسرون، كلا إن لنا في نجدتكم أيها العلماء ما يجعلنا أسعد الناس في هذا العصر وآمنهم في بلادنا من الغبن والخسر. سارعوا إلى تأليف الجمعيات في كل قطر، ولتكن جمعياتكم متعارفة متآلفة لا يصدنكم عن ذلك اختلاف المذاهب ولا اختلاف الألسنة ولا اختلاف الحكومات، ولا وجود بعض المنافقين فيكم؛ الذين يُوضِعون خلالكم يَبْغونكم الفتنة وفيكم سمّاعون لهم، فيد الله على الجماعة فاجتمعوا، والاتحاد قوة فاتحدوا، واجعلوا أساس الارتباط والاعتصام بينكم الأصول المتفق عليها والتسامح (والتعاذر) في مسائل الخلاف، وقد فَتَح لكم هذا الباب المبارك إخوانكم علماء الهند؛ بتأسيس جمعية ندوة العلماء، وساعدتهم الحكومة الإنكليزية على عملهم؛ ومنه التأليف بين أهل المذاهب الإسلامية وتخريج الدعاة إلى الإسلام، فهل يليق بكم أن تنكلوا في ظل الحكومة الإسلامية، عن مثل ما فعله إخوانكم في ظل الحكومة الإنكليزية. يجب أن تستعينوا على خدمة مِلتكم وأمتكم في دولتي الإسلام- العثمانية والإيرانية - بالنواب المبعوثين، وإن لكم في الاجتماع قوة لا يردّ معها طلب عادل ولا يخيب معها قصد نافع، بل يجب أن تجتهدوا في جعل المبعوثين في الانتخاب الآتي منكم، وممن يساعدكم على خدمة ملتكم، وإن الحكومة النيابية لا تكون إسلامية حقيقية إلا إذا كانت الغلبة في مجلسها النيابي لعلماء الإسلام؛ أعني العارفين بسياسته العالية، وعدالته العامة، ومساواته بين الناس في الحقوق، وإعلائه لشأن الاجتماع، ومحافظته على الفضائل والآداب، وتحقيق هذه المقاصد كلها سهل عليكم في هذه الحكومة، فاحْمَدوا الله أن أنقذكم من الاستبداد، وجعل الدولة للأمة التي أنتم زعماؤها، واشكروا له ذلك بالقيام بحقوق هذه الزعامة لعلكم تفلحون.

رمضان في عاصمة السلطنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رمضان في عاصمة السلطنة [*] لهذا الشهر في هذه العاصمة مظهر غريب؛ لا نعرف له نظيرًا في غيرها من بلاد الإسلام؛ وهو يرى على أكمله وأتمه في قسم إستانبول منها أما في النهار فترى أكثر المطاعم والمشارب والملاهي والمجامع العامة مقفلة لا يختلف إليها أحد، وترى أمارات الصيام ظاهرة على أكثر الناس، فلا تكاد ترى أحدًا يدخن، وترى المساجد الشهيرة عامرة بالمصلين والواعظين والمستمعين والمتفرجين الطوافين، ولهذا كله نظير في البلاد الإسلامية الأخرى، وإنما رَوْنقه هاهنا بجمال المساجد وزينتها واختلاف الناس من جميع الطبقات إلى المشهور منها ولا سيما جامع أيا صوفيا العظيم، ويبتدئ هذا من وقت صلاة العصر إلى قرب المغرب، فمن الناس من يسمع الوعاظ، ومنهم من يسمع الحفاظ وفي الآستانة كثير من حفاظ القرآن؛ بعضهم من حملة العمائم وبعضهم من حملة الطرابيش، ومنهم المرتلون المجيدون الذين يخشع المستمع لتلاوتهم ما لا يخشع لتلاوة الحفاظ أمثالهم في مصر؛ لخشوع جوارحهم واجتنابهم التطريب والتكلف والحركات التي اعتادها أكثر قراء المصريين نعم، إن أئمة المساجد هنا يقرءون القرآن في الصلاة ولا سيما صلاة الجمعة، كما يلقون خطبتها بالنغم الموسيقي الذي يشبه نغم القسيسين في الكنائس ومنهم المسرفون في ذلك والمقتصدون. وبينا يكون الخلق الكثير من الناس في المساجد بين العصر والمغرب، يكون شارع (شهزاده) مكتظًا بالرجال والنساء الذين يؤمونه من جميع أرجاء المدينة، فيكون كالمعرض العام لهم، حتى إن كثيرًا من أفراد الأسرة السلطانية يجيئونه كل يوم في هذا الوقت، وفي الخامس عشر من الشهر وهو يوم زيارة البردة النبوية الشريفة التي يسمونها (خرقة سعادت) ، رأينا نساء القصر السلطاني ذاهبات في مركباتهن الكثيرة إلى جهة شارع (شهرزاده) ، وليس لهذا الشارع مَزِيَّة في السعة أو الجمال على غيره الآن؛ ولعله كان في وقت ما أوسع الشوارع وأجملها، على أن السكان في تلك الجهة جُلّهم أو كلهم من المسلمين، وكان يكون فيه في هذا الوقت من تبرج النساء بزينتهن ومغازلة الرجال لهن ما لا يكون في مكان آخر في وقت آخر إلا في معاهد النزهة في أزمنتها الخاصة؛ كالكاغدخانة ومروج (قاضي كوي) و (حيدر باشا) و (بكقوز) ، وغيرها من المروج والوديان والغدران وموارد المياه والشواطئ والغابات، وكل ذلك كثير في ضواحي هذه العاصمة التي لا نظير لموقعها في الدنيا، ولكل معهد من معاهد نزهتها موسم من أيام الربيع والصيف والخريف، يؤمه فيه الرجال والنساء بحللهن الزاهية الألوان متبرجات بزينتهن الخاطفة للأبصار، حاسرات عن وجوههن المميلة للأعناق، ولا تَسَلْ عما يكون هنالك من المغازلة، ولكن مع الوقوف عند حدود الأدب قلما يَعْتدُونها إلا في المجامع الكبير التي يجتمع فيها عشرات الألوف من النساء والرجال؛ كمجمع عيد الخضر في الكاغدخانة. وفي هذه السنة عنيت الحكومة بالمحافظة على الآداب الإسلامية في شهر رمضان؛ ومنها منع الخلاعة والتهتك في معرض شارع الشاهزاده في أصيل النهار كمنع إظهار الفطر؛ وسبب ذلك أنها علمت أن من تدبير الجمعية الخفية التي شاع أمرها، وانكشف سرها، أنها كانت تريد أن تكيد للحكومة الاتحادية الحاضرة؛ بإغراء بعض الفواجر من النساء بالإسراف في رمضان بصفة لم يسبق لها نظير؛ ليهيج على الحكومة أهل الدين والغيرة على العرض، ولولا هذا لتركت الحكومة الأمر على حاله، ولو تركته لَمَا وقف عند الحدود المعتادة من قبل؛ لأن الناس قد شعروا بما لم يكونوا يشعرون به من الحرية والإطلاق في شئونهم الشخصية، ودليل ذلك ما جرى من المنكرات والفواحش في كثير من البلاد التي لم يكن فيها ذلك، وعدم سماع الحكومة لشكوى أهل الدين والأدب والغيرة على العرض، بل قبضت الحكومة على بعض أهل العلم والفضل؛ لمناهضتهم نساء الإفرنج اللاتي جئن بلدهم للرقص والفحش، وأرسلتهم إلى ديوان الحرب العرقي لمحاكمتهم على ذلك العمل الذي سمته حكومتهم المحلية ارتجاعًا. ولكن قيل: إن شيخ الإسلام لما بلغه ذلك، كتب إلى ديوان الحرب العرقي بوجوب إطلاقهم؛ لأنهم عملوا ما هو الواجب عليهم وقد أمسكهم ديوان الحرب أيامًا للتحقيق ثم سرحهم إلى بلدهم، وجملة القول: أن الحكومة المركزية عنيت بحفظ آداب الدين الظاهرة في العاصمة وحكومة بعض الولايات بإضاعتها. طال بنا الاستطراد، فنعود إلى بيان ما يتعلق برمضان خاصة، فنقول: إن وعظ بعض وعاظ الترك هنا يشبه وعظ بعض الشيوخ الدجالين بمصر في خلط المسائل الدينية بالخرافات والأباطيل، وقد وقفنا على واحد منهم في جامع أيا صوفيا فإذا هو يقول في وعظه: إن الدين يأمرنا بالذل والمسكنة والانكسار، ورأينا بعض الواقفين للاستماع من الشبان المتعلمين يتبرم ويتأفف منه فقلت له: الواعظ يقول هذا، والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) ، ولعله لو راجعه أحد في قوله وذكره بالآية الكريمة؛ لذكر له أنه أخذ هذا القول من بعض كتب الفقهاء أو الصوفية كالشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى، وقال: إنما الواجب علينا أن نهتدي بأقوال العلماء والصلحاء لا بالقرآن؛ لأنهم أعلم منا بالقرآن، ولجعل الاحتجاج بالآية ضلالاً مبينًا؛ لأنه يتضمن دعوى الاجتهاد وتَخْطِئة العلماء، فهذا ما تعوَّدْنَا من مثله، وما أَجْدَرَ أُمة تروج فيها هذه التعاليم الباطلة، وهذه الحجج الداحضة، بأن تُضْرب عليها الذلة والمسكنة، وتكون بها راضيةً مغتبطةً، لا تسعى إلى العز سعيه، أو ترفض أمر الله ونهيه، وهذا ما حل بالمسلمين من جراء تعليم هؤلاء الجاهلين المقلدين، فقد أعرض المستعدون لإدارة أمر الأمة عن تعاليمهم إلى تعاليم مبنية على أساس الكفر والإلحاد وقالوا: إننا إذا بقينا على هذا الدين فنحن سائرون إلى العدم والانقراض؛ لأن الأمة الذليلة المسكينة، لا يمكن أن تحفظ استقلالها بين الأمم العزيزة الغنية، فهكذا يوجد فينا من يهدم الدنيا والدين، وحجته على المصلحين تحريم الاجتهاد ووجوب تقليد جميع المؤلفين الميتين. هذا، وإن هنا وعاظًا لا يوجد لهم نظير في مصر ولا في سورية وأمثالها من الأقطار الإسلامية، وهم وعاظ السياسة وأكثر وعاظ هذا العام يخوضون في السياسة بإيعاز الحكومة الاتحادية، وقد سهل عليها هذا الإيعاز بأن شيخ الإسلام نهى أن يتصدى أحد للوعظ إلا من يأذنه مقام المشيخة به، وهو لا يأذن إلا لمن يعلم أنه يتبع رغبة الحكومة في تأييد سياستها، حتى إن الجمعية العلمية عينت واعظَيْنِ من قبلها، وآذنت شيخ الإسلام بذلك فأمر شيخ الإسلام بمنعهما من الوعظ، فهاج ذلك سخط الجمعية وجماهير العلماء، وأظهروا ذلك في مجلتهم (بيان الحق) ، وما يقولونه أكثر مما كتبوه، ومنه أن شيخ الإسلام ليس له حق في منع العلماء من الوعظ والإرشاد، وهو فرض عليهم إلا إذا كان له حق في منعهم ومنع غيرهم من سائر فروض الكفاية كصلاة الجنازة مثلاً، وزادهم سخطًا وحنقًا ما نقل إليهم من كتابته إلى نظارة الداخلية بوجوب منع هذين العالمَيْنِ من الوعظ بالقوة، إذا هما تصدَّيا له، ونحمد الله أنهما لم يفعلا؛ لأنهما لو فعلا ومنعتهما الحكومة بالقوة؛ لكان لذلك من سوء التأثير في الأمة ما لا خير فيه. من هؤلاء الوعاظ السياسيين المعمَّمُون ومنهم غير المعممين؛ ولعله لا يوجد في المعممين القدر الكافي للقيام بالوعظ، وبلغني أن بعض الضباط وعظ الناس في أول جمعة من رمضان في (يكي جامع) - الكاف هاهنا تركية تقرأ نونًا - فقال في وعظه: إن من الأمور المنافية للحكومة الدستورية وجود إمارة مكة المكرمة؛ لأنها عبارة عن حكومة مستبدة في ضمن الحكومة (المشروطية) فيجب إلغاؤها، وأن لا يكون في الحجاز أمر ولا نهي لغير الوالي، ومَنْ تحت إدارته من المأمورين، ومن هؤلاء الوعاظ مَنْ حث الناس على أن يدفعوا ما عليهم من الزكاة لخزينة الحكومة مع علمه بأن مال الزكاة خاصّ بالمسلمين وله مصارف متفق عليها لا تصرفها الحكومة فيها، بل تضعها مع سائر أموالها، وربما تنفق منها على بناء الكنائس التي قررت بناءها للروم والبلغار، ومنهم من استنبط من إكرام النبي (صلى الله عليه وسلم) لكعب بن زهير (رضي الله عنه) ببردته الشريفة، وجوب تعظيم العسكر وطاعتهم؛ لأن سبب إكرامه هذا بعد أن كان أهدر دمه قوله في قصيدته: إن الرسول لسيف يستضاء به ... مهند من سيوف الله مسلول قال: والمراد بالسيف العسكر، فهذا هو وجه الدلالة على ما استنبطه، ومنهم الذين يدور وعظهم على طلب الإعانة للأسطول، فهم يفسرون الآيات الآمرة بالبذل يستوكفون بها الأكفّ، ومنهم من يجمع الدراهم والدنانير في درسه، رأينا إسماعيل باشا مبعوث طوقات يفعل ذلك، وهو الذي قال في درسه: إن الإسلام عبارة عن الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، أي فمساعدة الأسطول أحد شطري الإسلام، وقد وقفنا على درسه؛ فأعجبنا منه حثه على الاهتداء بالقرآن وتصريحه بأنه لا حياة لنا إلا به، ومما قال: إن هذا القرآن أنزل علينا؛ لأجل أن نكون به سادات العالم ومالكي الممالك كلها، وبلغنا عنه كلام غريب في تأييد جمعية الاتحاد والترقي وكذا من غيره ولا نخوض في ذلك، وإن قال بعضهم: إن كلمة التوحيد معناها الاتحاد والترقي، فالجمعية عين الإسلام، وواضعها هو الله تعالى، وكل مسلم هو من أفرادها. وعلى هذه القاعدة يكون مَن فيها مِن اليهود والنصارى مسلمين. ولكنهم لم يعلموا بذلك. ووقفنا في مجلس أحد العلماء في جامع أيا صوفيا، فإذا هو أحسن مَن رأَينا في هذه المدينة وعظًا، وهو يدافع عن الإسلام وعن علمائه بعقل، ويعرض بالشبان المتفرنجين المارقين، يقول: يظن بعض شباننا أن الإسلام يحول دون الترقي، وأن العلماء هم الذين يمنعون المسلمين من وسائله، وهؤلاء يهرفون بما لا يعرفون فإن الإسلام هو دين الترقي والمدنية والعمران وحملته من العلماء هم الأدلاء على ذلك، وما أصاب المسلمين من خير وسعادة فمنهم (قال) : أرأيتم هذه المدينة: إن فاتحها السلطان محمدًا هو (خوجة) من أصحاب العمائم وهكذا كان جميع الفاتحين الذين أسسوا ملك الإسلام. يمتاز علماء الآستانة على علماء مصر بالإلمام بالسياسة علمًا وعملاً، وسبب ذلك أن الكثير من أبواب أعمال الحكومة مفتّحة لهم، ويكون منهم الوزراء ورؤساء المحاكم وغير المحاكم، وناهيك بمنصب القضاء الشرعي في الدولة، فإن القاضي الشرعي يكون رئيس محكمة الحقوق والعضو الأول في مجلس الإدارة وله وظائف أخرى في الحكومة، ولو كان العلماء مستعدين كما يجب لكان زمام القضاء كله والإدارة بأيديهم، وسيسلب القضاة الشرعيون بعض ما كان لهم في هذا الدور من الحكومة، والحق أن ما كان لهم هو كثير جدًّا. *** ليالي رمضان في إستانبول ذلك ما أحببنا بيانه في أيام رمضان، وأما لياليه فهي ليالي سرور ولهو وعزف وقصف ورقص، وتسمع المعازف الوترية كالعود والقانون والكمنجا؛ وغير الوترية في أكثر الملاهي التي تُدعى في البلاد العربية بالقهاوي وفي البلاد التركية ببيوت القراءة (قراءتخانة لر) وفي غير هذه الأماكن أيضًا، فيتعجب الإنسان من كثرة المعازف في هذه العاصمة؛ وسبب ذلك أن لأهلها نساء ورجال

حجاب المرأة في الإسلام ـ 2

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ حجاب المرأة في الإسلام [*] (2) أما ما ورد في القرآن والسُّنة في هذه المسألة من الآداب فهو قاصر على ما يأتي: 1- الأمر للرجال بغضّ النظر عن النساء بعض الغض وكذلك للنساء، فقال تعالى: {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30) و {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (النور: 31) فإن الواجب أن لا يطيل الإنسان النظر إلى وجه جميل يُخشى منه الفتنة، فإن له النظرة الأولى وليس له الثانية، وقد سوَّى الله تعالى في أمر الغض الرجال بالنساء، وهو يشعر بأن كلا الطرفين مكشوف للآخر. 2- نهى الله سبحانه وتعالى النساء عن كثرة الخروج من بيوتهن، فإن طبيعتهن تقتضي ذلك؛ بسبب ما يصيبهن من حيض وحمل وولادة ونفاس ورضاعة وتربية الأولاد وإدارة المنازل، وملاحظة خدمها وجميع شؤونها وأعمالها فالطبيعة في الحقيقة تلزمهن بالقرار في البيوت في أغلب الأوقات؛ لأن أعمالهن وشؤونهن لا تسمح لهن بكثرة الخروج؛ ولذلك قال الله تعالى: مخاطبًا نساء النبي صلى الله عليه وسلم {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 33) فإن كثرة خروج النساء مذموم ومضيعة لأعمالهن وشرفهن، فلا يجوز لهن الخروج إلا لضرورة (والضرورات تبيح المحظورات) ، فإن كان ثمَّ موجب للخروج جاز ذلك وإلا فلا، فمن موجبات الخروج قضاء بعض المصالح أو الحاجات إذا لم يوجد من يفعل ذلك لهن، والسعي وراء العيش كذلك، والسفر للحج والرياضة البدنية والعقلية في الأماكن الخلوية، والتمتع برؤية المناظر الطبيعية والصناعية المباحة {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101) ذلك في بعض الأحيان لا في أكثر الأوقات، كما تفعل نساء الإفرنج في الملاهي (والتيترات) ، فإن ذلك من الإفراط المذموم في الإسلام. قال بعض أهل النظر: إن الأمر بالقرار في البيوت هو خاص بنساء النبي؛ لعدم حاجتهن للخروج في تلك الأزمنة؛ ولوجودهن في بيوت خاوية إذ ذاك قليلة السكان؛ مستشهدًا على صحة رأيه بسياق الآية في سورة الأحزاب وبإفرادهن بالخطاب في هذه الآية مع إشراكهن بغيرهم في آية {قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ} (الأحزاب: 59) حينما أراد أن يكون الأمر فيها عامًّا للجميع وهو قول وجيه، ولكننا نحن لا نرى مانعًا يمنع من كون المراد بأمر القرار جميع نساء الأمة، وإنما اختصاص نساء النبي (صلى الله عليه وسلم) بالخطاب هو لأنهن أولى الناس بذلك كما سبق بيانه؛ ولشدة الرغبة في حسن سمعتهن وتطهير أعراضهن من كل شائنة، كما قال تعالى في آخر الآية: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) فالأمر بالقرار في البيوت هو لنساء المسلمين واجب عندنا، ولكنه لنساء النبي أوجب، ويصح أن يقال أيضًا: إن هذا الأمر للجميع هو للإرشاد والندب لا للوجوب، ونساء النبي بهذا الإرشاد أولى من غيرهن؛ ولذلك قال في أول هذه الآية {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} (الأحزاب: 32) . 3- حرم الإسلام الخلوة بالأجنبية تحريمًا باتًّا لا هوادة فيه، ونهى القرآن الشريف عن الدخول على النساء في خدورهن ومخاطبتهن في منازلهن إلا من وراء حجاب؛ لأن استباحة حرم النساء والدخول عليهن في بيوتهن ومخاطبتهن من غير حائل يؤدي إلى الخلوة بهن أو مغازلتهن أو رؤية شيء من زينتهن أو عوراتهن؛ لأنهن في البيوت يكشفن منهن ما لا يكشفنه في الخارج، ويبدين فيها لأزواجهن من زينتهن ما لا يبدينه لغيرهم، ولا يجوز الاطلاع على شيء من ذلك قال الله تعالى: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) وقال: {لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} (النور: 58) إلى قوله {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: 53) أي فخاطبوهن من وراء ستار، ولا تدخلوا عليهن، فأين هذا المعنى المفهوم من السياق من دعواهم؛ أنها تدل على تبرقع النساء وانتقابهن في الطرقات، فشتان ما بين هذا وذاك، وإذا وجد داع للدخول عليهن في خدرهن وجب الاستئذان وتنبيههن لذلك، حتى يُخْفين زينتهن وعوْراتهن واصطحاب أحد محارمهن قال عليه الصلاة والسلام: (لا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم) فهذه الآداب هي خاصة بالبيوت. وللطرقات آداب أخرى غيرها والآية السابقة هي الآية الوحيدة التي ذكر فيها الحجاب كما قلنا، وهي مع ذلك لا تدل على شيء مما زعموا. 4- ومن آداب الإسلام اصطحاب المحارم في الخروج، وعدم السفر إلا معهم والخروج إلا بإذنهم وعلمهم، فلا يجوز لامرأة أن تخرج إلا بإذن زوجها، أو تسافر إلا مع ذي محرم، وقد جرى عمل المسلمين على ذلك من عهد الرسول، وورد في ذلك كله أحاديث كثيرة، منها قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا مع ذي مَحْرَم) ، وقال: (لا تسافر المرأة إلا مع ذي مَحْرَم ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها مَحْرَم) وقال: (لا تسافر المرأة بَرِيدا إلا ومعها مَحْرَم يَحْرُم عليها) . 5- نهى القرآن الشريف عن التبرج بقوله: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 33) ، وعن إبداء أي شيء من زينتهن في الطرقات سوى الوجه والكفين {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) وأمر بضرب الخُمُر: (وهي أغطية الرأس) على الجيوب وهي الشقوق التي تكون في ملابس المرأة فوق صدرها، ومنها تظهر النهود؛ فقال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور: 31) ، وألزمهن إطالة أثوابهن من جميع أطرافها حتى لا يظهر منها العنق ولا الذراعان ولا الساقان، فقال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59) وهي الثياب التي تسمى الآن بالجلاليب؛ أي أنه يجب على المرأة أن تطيل أطرافها وتمدها عليها، حتى لا يظهر منها سوى الوجه والكفين، أما الرأس فإنه عندهن مغطى بالخمار لعدم جواز كشف الشعر، وهذه الملابس المذكورة في القرآن هي أشبه شيء بملابس نساء الفلاحين في مصر الآن، ويمكن عملها بطرق أخرى كثيرة (مودات) بحيث لا يظهر من المرأة إلا ما أباح الدين ظهوره وهو الوجه والكفان، فهذه هي آداب الطرقات. ومما تقدم تعلم أن البرقع أو النقاب ليس له في الإسلام أثر ولا عين، ولا ندري من أين أتوْا به في الدين؛ إن هو إلا عادة ورثوها عن الأمم الأخرى، وهي لا خير فيها بل فيها كل الضرر كما بينا ذلك؛ ولذلك لم يرد لها ذكر في الإسلام، فلو التزمت نساء المسلمين ما أتى به دينهم القويم من الآداب المذكورة هنا؛ لفُقن نساء العالم في العفة والفضيلة والكمال والاحتشام بدون أدنى احتياج للحجاب، وإلا فقل لي بأبيك أي ضرر يلحق بنا إذا تركنا الحجاب واكتفت نساؤنا بما أمرن به في الدين، فأظهرت المرأة وجهها وكفيها فقط وغضت من نظرها (وكذلك الرجال كما أمر القرآن) ، وسارت في طريقها غير متبخترة ولا متبرجة ولا مزينة، وأقلت من الخروج من بيتها إلا لموجب، وإذا خرجت اصطحبت أحد محارمها، ولا تخرج إلا بإذن زوجها وبعلمه، ولا تسافر إلا مع ذي محرم، ولا تخلو بأجنبي عنها، ولا يخاطبها رجل في بيتها إلا من وراء حجاب، فقل لي بأبيك إذا عمل المسلمون بهذه الآداب الشريفة، فأي ضرر يحصل لنا؟ وأي حاجة لنا بالبرقع والنقاب وهما قد جَرّا علينا من المصائب ما قد جرّا؟ فهل إذا التزمت نساؤنا آداب هذا الدين أفلا يَفُقْنَ نساء العالمين. على هذه الآداب الإسلامية جرى نساء سلفنا الصالح، فكن يأتين المساجد ويحججن ويغشين الأسواق، ويسعفن الجرحى في ميادين القتال، ويخرجن في الفلوات للرياضة ولاستنشاق الهواء، ويخطبن على الرجال ويحضرن مجتمعاتهم، ويناقشن الأمراء وهن في كل هذا الأحوال مكشوفات الوجوه، وكن يفقن نساء العالمين في العفة والفضيلة، ولم يكن هذا الحجاب معروفًا بينهن، وإنما هن أخذنه بعد طول اختلاطهن بالأمم الأخرى، وتقليدهن في جميع أمورهن. وقد كثر بحث الفقهاء في الحجاب بعد القرن الثاني، حينما امتدت الحضارة بين المسلمين وتعلقت الأمراء به؛ لبغضهم أن يرى نساءهم وجواريهم أحد من عامة المسلمين، وقد قلدهم في ذلك أهل الطبقة الوسطى والعليا من سكان المدن، ووجدوا من الفقهاء من يفتيهم بأنه من الدين وهو ليس منه في شيء. أما نساء المسلمين الآخرين البعيدات عن المدن وعن قصور الملوك والأمراء فبقين على ما ورثنه عن أسلافهن من السفور إلى يومنا هذا، ولو كان الدين الإسلامي هو الآمر بالحجاب لوجدته بين الأمم الإسلامية في سائر الطبقات وفي سكان المدن والفلوات وفي سائر الأوقات، ولَمَا وجدته عند الأمم الأخرى غير الإسلامية قبل الإسلام وبعده؛ كقدماء اليونانيين (الروم) ، والحق يقال: إن الإسلام بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، وجميع ما قيل فيه ليس له أصل في الكتاب والسنة، وإنما هو من اجتهادات الفقهاء المحدثين بعد القرن الثاني وفتاويهم، ولسنا ملزمين باتباع آرائهم وأفكارهم الزائدة عن الدين، بل يجب رفضها رفضًا باتًّا، وخصوصًا إذا أدت إلى ما أدى إليه الحجاب الآن بين المسلمين مما سبق بيانه، فالعاقل من اكتفى بأوامر الدين ولم يعبأ بهوس المخرفين ولا بآراء الجاهلين، وترك الابتداع في الدين أو تحريفه عن معناه القويم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) . (المنار) البرقع معروف عند العرب قبل الإسلام وفي كتب اللغة؛ أنه كان خاصًّا بالدواب ونساء الأعراب؛ كأنهن لكثرة بروزهن في الشمس كن يقين به وجوههن منها، ثم صار من آيات الحياء، قال توبة بن الحمير: وكنت إذا ما جئتُ ليلى تبرقعَتْ ... وقد رابني منها الغداة سفورها وينسب إلى ذي الرُّمة: إذا بارك الله في ملبس ... فلا بارك الله في البرقع يريك عيون الدُّمَى غرة ... ويسفر عن منظر أشنع وقد بينا في المجلد الثاني من المنار؛ أن الخلاف في هذه المسألة في مصر إنما سببه العادات لا المحافظة على الشرع وعدم المحافظة عليه، فلا يوجد أحد ممن شم رائحة الشرع، يقول: إن ما يشكو منه أعداء الحجاب من الملاءات والبراقع هو شرعي، وما كنت أحب أن تشن الغارة على هذه العادات باسم الحجاب الشرعي، والآية التي ذكر فيها الحجاب خاصة بنساء النبي (صلى الله عليه وسلم) حتمًا كما بينه المحدثون، ولا سيما الطحاوي في شرح الآثار، ولكن أطلق على عادات نساء المدن المسلمات في الستر اسم الحجاب، فلأجل هذا ينتقدها الكتاب في هذا العصر بهذا الاسم. كثر خوض الكاتبين والكاتبات بمصر في هذه المسألة في هاتين السنتين، وكذلك يفعل الكاتبون والكاتبات في الآستانة وقزان والقريم والهند؛ أي في البلاد التي سرت إليها عادات المدنية الحديثة، فأكثر المهاجمين للحجاب أو للعادات التي تسمى حجابًا من المتفرنجين الذين يرون

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك) العبادات العملية الظاهرة لا مجال للخلاف في أركانها وواجباتها؛ لأنها نقلت بالعلم الذي لا يحتمل التأويل؛ ولذلك ترى صلاة السنيين على اختلاف مذاهبهم والشيعة الإمامية والزيدية والخوارج الإباضية وغير الإباضية كلها واحدة، وإنما وقع خلاف بينهم في بعض الأعمال غير المرفوضة؛ كرفع اليدين عند الركوع والقيام، والقنوت في صلاة الفجر؛ وسبب هذا الخلاف أن النبي (صلى الله عليه وسلم) فعل ذلك في بعض الأوقات وتركه في بعضها لسبب أو لغير سبب يعرف، فأخذ بعضهم دائمًا برواية الفعل وبعضهم برواية الترك أو عدم الفعل، وكان الأظهر فيما عرف سببه أن يناط به، وما لم يعرف سببه أن يفعل تارة ويترك أخرى، ولا يختلف طوائف المسلمين فيه، فإن الاختلاف في الأعمال من أسباب اختلاف القلوب كما يعلم من أحاديث الأمر باستواء الصفوف في الصلاة، ومن التجربة الدالة على كون ذلك من سنن الله تعالى في خلقه، وقد اهتدى إلى هذه السنة الأمم العليمة بطبائع النفوس وأخلاقها وسنن الاجتماع، فاجتهدوا في جعل أفرادهم متفقين في الأخلاق والآداب المنزلية والاجتماعية والعادات في اللباس والطعام والشراب وغير ذلك، وكان هذا من أسباب اتحادهم وقوتهم واستيلائهم على البلاد الإسلامية وغيرها، وهذه هي الحكمة في تشديد النبي (صلى الله عليه وسلم) في تسوية الصفوف بقوله: (لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين قلوبكم) أو قال بين وجوهكم رواه الشيخان في صحيحهما، وأصحاب السنن من حديث النعمان بن بشير (رضي الله عنه) ، والوجوه يراد بها القلوب، فهل قدرنا هذا القسم حق قدره، وبحثنا عن حكمته وسره؟ ، إنما حكمته وسره ما ذكرنا، وفي معناه التشديد في رفع الرأس قبل الإمام، ولكن وُجد في خَلَف المسلمين أقوام فُتنوا بحب الخلاف فصاروا يتعلقون بأوهى الروايات وأضعفها؛ ليخالفوا سائر إخوانهم في عمل ما ولاسيما إذا كان دينيًّا، وكنا نرى أن أغرب خلاف بين المسلمين في صلاتهم هو إرسال اليدين في الصلاة الذي جرى عليه إخواننا المالكية؛ لا لأنهم خالفوا سائر المسلمين فيه، بل لأننا لم نعرف له أصلاً في كتب السُّنة: لا في موطأ مالك ولا في غيره، فكنا نقول: كيف قال بذلك عالم دار الهجرة، ولم يَرْوِ هو ولا غيره فيه شيئًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا عن أحد من أصحابه (رضي الله عنه) . وقد كشف الغُمَّة في هذه المسألة صديقنا الشيخ محمد المكي بن عزوز في رسالة له سماها: (هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك) ، فبيَّن بالنقول الكثيرة من أشهر علماء هذا المذهب أنه لا خلاف بين المسلمين في هذه المسألة، فمذهب المالكية كسائر المذاهب فيها، وأن سبب ما جرى عليه المالكية منذ قرون هو رواية لابن قاسم في المدوَّنة عن مالك معناها الذي أوضحه المحققون أنه يكره القبض بوضع اليمنى على اليسرى إذا قصد المصلي الاعتماد والاستناد لأجل الاستراحة وخَصَّ ذلك بصلاة الفريضة، والمراد أنه يكره لمصلي الفريضة أن يقصد الاعتماد والاستناد بقبض يديه، وإنما ينبغي أن يقصد بذلك السنة، ونقل عن كثير من فقهائهم التصريح بأنه لو فعل ذلك لا للاعتماد بل تَسنُّنًا لا يكره، وأنه لا يكره في النفل ولو قصد به الاعتماد، وإن في هذه المسألة لعبرة يتبين بها الفرق بين المقلدين العُمْيان الذين لا بصيرة لهم في دينهم؛ وبين أهل البصيرة من المستقلين والمتبعين للأئمة والفقهاء. قلنا مرارًا: إنه يجب على جميع المسلمين أن يهتدوا بالكتاب والسنة، وأن ذلك لا يمنعهم من اتباع أئمة العلم والانتفاع بكتبهم، فالمتبع لهم حقيقة لا تنقطع صلته بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما المقلد الأعمى الذي يتبع آباءه ومشايخه من حيث لا يعلم وجه صلتهم بالكتاب والسنة؛ فهو منقطع عن تلك الهداية غير معتصم بحبل الله كما أمر عز وجل، فهو يأخذ عنهم الحكم الموافق لا من حيث إنه موافق، ويأخذ عنهم الحكم المخالف وقد يدري أنه مخالف وشبهته وشبهة من قلدهم أن أولئك الأئمة أعلمنا بالكتاب والسنة، فيجب أن نعتمد على فهمهم لهما دون فهمنا، ونحن على تقدير تسليم أن الله يكلف كل إنسان بما يفهمه من يظن هو أنه أجود منه فهمًا، نقول أولاً: إن معنى اتباعنا لهذا الجيد الفهم هو أن نتلقى عنه الكتاب والسنة، ونعمل بما يلقيه إلينا من فهمه لهما وما عليه جماهير المقلدين من الخلَف الجاهلين ليس كذلك، فإن أحدًا منهم لم يتلق شيئًا عن إمام مجتهد، وإنما يتلقى دينه من آبائه ومشايخه المقلدين كما فهموا من مشايخهم المقلدين ومن كتب أمثالهم عصرًا بعد عصر، وقد يكون مشايخنا مخطئين وهكذا كما أخطأ الملايين من المالكية قرنًا بعد قرن في ترك سنة قبض اليدين، وعزوا ذلك إلى مالك خطأ في فهم رواية ابن قاسم عنه: فما جاز في هذه المسألة عليهم ووقع منهم، يجوز مثله على غيرهم ويقع منهم بل هو واقع لا محالة، فإن المسائل الخلافية الكثيرة لا يعقل أن يكون المصيب فيها دائمًا واحدًا، وإنما يكون كل منهم مصيبًا في بعضها ومخطئًا في البعض الآخر، وحكم الله في مثلها أن ترد إلى الكتاب والسنة فإنها هي المسائل المتنازع فيها، وقد قال عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي ردوه إلى كتاب الله ورسوله في عصره وإلى سنته بعد وفاته. فلو جرى الخلَف منا على سنة سلفنا الصالح؛ في جعل علم الدين بيانًا للكتاب والسنة دائمًا؛ لَمَا استمر الجمهور منا على الخطأ في شيء زمنًا طويلاً؛ ولَمَا تفرقت كلمتنا، ولو جعلنا الواسطة بيننا وبين الكتاب والسنة كلام الأئمة المجتهدين الأولين وحدهم؛ لَمَا بعدنا عنهما هذا البعد الشاسع لا سيما إذا اتبعناهم فيما أمروا به من رد كلامهم إلى كلام الله وسنة رسوله دون العكس، ولكن الوسائط كثرت بيننا وبينهم جدًّا، فنحن مخدوعون بدعوى اتباع الأئمة، ولم نتلق عنهم ولم نقرأ ما كتبوه بأيديهم، وليس لأكثر ما نعزوه إليهم أسانيد متصلة كأسانيد السنة، نميز بين صحيحها وضعيفها وموضوعها بالرجوع إلى تاريخ رجالها. وجملة القول: أن هذه الرسالة (هيئة الناسك) قد جاءت حجة ناصعة على المقلدين العميان؛ الذين يزعمون أنهم باتباع آبائهم ومشايخهم آخذون بما فهمه الأئمة المجتهدون عليهم الرحمة والرضوان من الكتاب والسنة، ومستغنون به عن دراستهما وفهمهما والاهتداء بهما مباشرة أو بواسطة ما فسرهما به الأئمة فقط. هذا وإن أكثر الناس يُؤْثرون ما اعتادوه على ما يصح عن الأئمة، كما يُؤْثرونه على الكتاب والسنة، وسترى هؤلاء يصرون على سَدْل أيديهم في الصلاة ولا يرجعون عنه بعد ما بين لهم هذا العالم الواسع الاطلاع أن مذهب مالك وأساطين علماء مذهبه؛ هو مذهب سائر المسلمين الثابت بالسنة الصحيحة قولاً وعملاً، وإنما يَرْجع إلى ذلك بعض الأنقياء الذين يؤثرون الحق على العادات والتعاليم الموروثة، وههنا يظهر فضل علماء المالكية، فإن رجعوا بالعامة إلى العمل بهذه السنة وموافقة المنتمين إلى سائر الأئمة، فذلك مما يحمد لهم ويُحْمَدُ الله على توفيقهم للحق والإنصاف. وإننا نذكر عناوين أبواب الرسالة؛ ترغيبًا للناس في مطالعتها والاعتبار بها وهي عشرة: 1- في نصوص الفقهاء على مشروعية القبض وكراهة السدل. 2- في تأويل رواية ابن القاسم كراهة القبض. 3- في احتجاج الفقهاء المحققين لسنة وضع اليد على اليد في الصلاة. 4- في اتفاق جميع شرائع الأنبياء على سُنِّية ذلك. 5- في أن القول المشهور لا ينحصر في المدونة. 6- في الفرق بين المشهور والراجح. 7- في محل اليدين عند الوضع. 8- في تكميل مهم قاطع للنزاع في المسألة. 9- في عذر الأفاضل الذين كانوا قائلين بالسدل. 10- في جواز الإفتاء بالسدل لمن علم كراهته وكونه بدعة. فجزى الله المؤلف الجزاء الأَوْفَى؛ فإنه لم يؤيد السنة على البدعة فقط، بل أيد الإصلاح الإسلامي بتأييد هذه السنة، وكشف شبهة البدعة عن وجهها، وهكذا يكون نفع العلماء المستقلين الذين لا يكتفون بما ورثوه عن الآباء والمعاشر، بل يطلبون بأنفسهم الحق اليقين. *** (حسن الصحابة في شرح أشعار الصحابة) الشعر ديوان العرب، ومادة الأدب، وخير أشعار العرب وأنفعها شعر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ فإن فيه ما في شعر الجاهلية من الفوائد وزيادة فإنه يشارك شعر الجاهلية في ضبط متن اللغة، وجواز الاستشهاد به في بيان فنونها من النحو والصرف والبلاغة، والاستعانة به على فهم القرآن والحديث وغير ذلك من الفوائد؛ كتاريخ العرب وأنسابهم وسائر شؤونهم، ويزيد عليه بما فيه من النزاهة والآداب وبيان نشأة الإسلام ومبدأ تاريخه، وشيء من فضائله وآدابه، فالرغبة في تحصيله يجب أن تكون أقوى، والعناية به ينبغي أن تكون أتم وقد كان متفرقًا في كتب السير والتاريخ والأدب، فوفق الله لهم من عُنِيَ بجمعه وشرحه؛ ليسهل تحصيله ودرسه وحفظه وفهمه، ذلك الذي ادخر الله له هذه المنقبة هو الشيخ علي فهمي بن شاكر الموستاري المعروف بلقب (جابي زاده) الذي كان مفتيًا في هرسك، ثم هاجر إلى القسطنطينية، وصار معلمًا للأدبيات العربية في دار الفنون أعلى مدارسها وأرقاها. لقيت هذا الرجل الصالح، فألفيت عنده من العناية بأشعار العرب وأنسابها ما لم أجده أو مثله عند أحد في دار السلطنة؛ إلا أن يكون الشيخ محمد خالص أفندي وكيل الدرس في المشيخة الإسلامية، على ما عند علماء هذه الديار من الضعف في هذه اللغة؛ لتقليهم علومها الآلية والشرعية بالترجمة؛ لأن السياسة قضت بأن لا تُقَوى اللغة العربية في العنصر التركي، بل أقول قلما يوجد في مصر وسورية من له عناية بأنساب العرب وأشعارهم وآدابهم كهذا العالم الموستاري الهرسكي، الذي نشأ في ظل حكومة النمسا نشوءه العلمي. رتب المؤلف ما جمعه من أشعار الصحابة على حروف المعجم، وقد طبع الجزء الأول من شرحه لها، فبلغت صفحاته 362 وهو من قافية الهمزة إلى قافية الدال. ومن طريقته في هذا الشرح أنه يترجم كل صحابي له شعر عند ذكر أول شِعْر له، وهو يعزو كل شعر إلى الكتب التي نقله منها، وما كان مختلفًا في عزوه إلى صاحبه ذكر الخلاف في ذلك، ومن طريقته في الشرح أنه يفسر المفردات، ويبين معاني الجمل، ويشرح الوقائع التاريخية التي تشير إليها الأبيات، ويأتي عليها بالشواهد والأمثلة أحيانًا، ويبين إعراب بعض الجمل عند ما يرى حاجة إلى ذلك. والكتاب يباع في مكتبة المنار، وثمن النسخة منه اثنا عشر قرشًا ما عدا أجرة البريد، فنحث طلاب الأدب على مطالعته؛ فإنه من خير الكتب التي تطبع مَلَكَة اللغة في النفس، وتعين مطالعها على إجادة النظم والنثر؛ وعسى أن يُقَرر في مدارس الحكومة؛ فإنه من أفضل كتب الأدب التي ترغب في مثلها نظارة المعارف. *** (طَلِبَة الطالب في شرح لامية أبي طالب) هي رسالة لطيفة، شرح بها صاحب هذا الكتاب قصيدة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكافله وناصره اللامية الشهيرة، وقد سبق لنا نشر هذه القصيدة البليغة في المنار، وياليت كل طالب للأدب يحفظ هذه القصيد

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (حفلة وداع البستاني) وصلت إلى القاهرة ظهر يوم الإثنين لستّ أو سبع خَلَوْن من شوال، فأخبرني من لقيني من أصدقائي السوريين أنهم سيجتمعون بعد المغرب في فندق كونتننتال؛ للاحتفال بوداع صديقنا سليمان أفندي البستاني مبعوث بيروت؛ وأنه يحسن أن أحضر الاحتفال إن لم يمنعني مانع؛ فأجبت وجئت المكان متأخرًا، وكان رفيق بك العظم واقفًا يتكلم في مسألة سوء التفاهم بين العرب والترك ويعهد إلى البستاني بتلافي ذلك؛ عسى أن يُرتق الفتق قبل اتساعه. لم أسمع كلام الخطيب كله ولكني أعرف رأيه وحرصه على الاتحاد العثماني فقد قضينا السنين الطوال في العمل لذلك سرًّا وجهرًا، والبستاني يعرف لنا ذلك حتى قال لي في الآستانة وكنا نتكلم في هذه المسألة: إنني لا أعرف أحدًا من إخواننا السوريين أو قال العرب موافقًا لرأيي مثلك ومثل رفيق بك أو قال غيركما. ثم قام يعقوب أفندي صروف فرد على رفيق بك بعد الاعتراف له بما اشتهر به من الغيرة على الدولة والإخلاص لها، وقال: إنه لا يوجد شيء من سوء الظن بين الترك والعرب، وإن الترك يفضلون العرب على أنفسهم، وإن القابضين على زمام الأحكام يعملون بالإخلاص التام؛ لتوحيد العناصر، ومتى وجد الإخلاص لا يضر الخطأ إن وجد، وإن سبب عدم نيل العرب لنصيبهم من الوظائف؛ هو عدم تمرنهم وتدربهم على أعمال الحكومة وإدارتها كالترك. ثم قام البستاني فأثنى على رفيق بك وغيرته وإخلاصه، وذكر أن سوء التفاهم الواقع بين العنصرين سببه عدم الاطلاع على حقيقة الحال في الدولة، فأكثر المناصب العسكرية في أيدي العرب وذكر منهم محمود شوكت ناظر الحربية، ومحمد هادي باشا قائد الفيلق الثالث، وسامي باشا قائد حملة حوران، قال: والعسكرية هي كل شيء الآن، ثم ذكر الشريف حيدر بك ناظر الأوقاف ووالي البصرة الجديد، وأن عمال الحكومة من الترك ببيروت لا يزيدون على سبعة في المائة، وأن الترك يشتغلون لخدمة لغتنا أكثر منا، والحكومة تعد مشروعًا لجعل تعلم العربية إجباريًّا في المملكة، ومن البراهين على ترقيتها للغة العربية مساعدتها لمشروع السيد رشيد رضا صاحب المنار، فإنه اقترح إنشاء مدرسة كلية عربية في العاصمة، فتلقت الحكومة مشروعه بالقبول وقررت مساعدته عليه بالمال. قال البستاني: هذا كما قال هو وغيره من البعوثين مثله في بيروت والشام، ولم يكن عالمًا بأنني جئت من الآستانة، وأنني في المجلس أسمع لأنني جئت في أثناء الخطابة، فلم يرني إلا من جلست بالقرب منهم، فقيل له: ها هو ذا السيد رشيد فحياني، واستشهدني فأرجأت شهادتي إلى أن يتم كلامه، وبعد أن أتمه قامت فتاة سورية عذراء فوقفت تحت العلم العثماني المحبوب وحيته بخطاب منثور مؤثر صفقت له أيدي الحاضرين في هذه الحفلة، ورقصت له قلوبهم. ثم قمت فقلت كلامًا حاصله أن العثمانيين الحاضرين في هذه الحفلة هم من أرقى العثمانيين إن لم يكونوا أرقاهم في علومهم وأفكارهم، وأنهم مستمسكون بعثمانيتهم، متحدون تحت علمهم الذي تهتف له ألسنتهم وقلوبهم، ويحييه حتى العذارى منهم. قلت: فقد سمعتم ما فاهت به هذه العذراء العربية العثمانية في تحية العلم العثماني بالكلام الفصيح البليغ الصادر عن وجدان، يتدفق غيرة وحمية وإخلاصًا لا يوجد أرقى منه في نساء الآستانة نفسها، على أن نساء الآستانة أرقى من نساء سائر الولايات العثمانية تربية وتعليمًا، ولكن لدينا في النساء السوريات من هن في الذروة التي لا تعلوها ذروة أخرى في الآستانة ولا في غيرها من هذه المملكة. إن المرتقين من الأمة يجب أن يعرفوا كل شيء من أحوالها، فإذًا يجب أن يعرف هذا الجمع أن ما نعبر عنه بسوء التفاهم بين العرب والترك واقع حتمًا، وأن رفيق بك مصيب فيما خاطب به مبعوثنا العاقل المتروي من وجوب السعي في تدارك ذلك وتلافيه، وكيف نكابر أنفسنا وننكر أمرًا لهجت به الجرائد في العاصمة والولايات ومصر، وتناوله خيال الشعراء، وعرفه العامة والخاصة، وشكا منه العقلاء، حتى قال أحد كبراء الحكومة في العاصمة لأحد مبعوثي العرب: إننا وصلنا بسياسة الأطفال إلى درجة من سوء التفاهم، صار يخيل إليَّ فيها إذا رأيتك مقبلاً لمعانقتي أنك واثب عليّ لتفتك بي، وأنت يخيل إليك مثل هذا. المسألة وصلت إلى العامة، فإذا تغلغلت فيها صعب نزعها؛ لذلك كان من حرص رفيق بك مخاطبة سليمان أفندي بما خاطبه به؛ لعلمه بأنه على رأيه في ذلك وإنني قد بذلت جهدي في الآستانة لتلافي خطر هذه المسألة، وكلمت فيها أولياء الأمور الصدر الأعظم وغيره (وأشرت إلى ذلك أيضًا في نبذة الرحلة في هذا الجزء) ، والبستاني كان يسعى مثل هذا السعي، وجرى الحديث بيننا ثمة في ذلك غير مرة، فإذا كان يقول لكم ههنا كما كان يقول في سورية: إنه لا خلاف ولا تغاير , وما ثمَّ إلا الاتحاد والتآزر، فما ذاك إلا أنه يجري على ما تعود من الدعوة إلى الوفاق، فهو يريد أن يسكب الماء البارد على هذه القلوب الحرى ليبرد حرارتها، ولكنه كان يخاطب إخوتنا الترك في العاصمة بغير ما خاطبكم به، كان ينكر عليهم كل ما يبلغه من الأمور التي تحرك العصبية الجنسية والتنافر بين العنصرين، فهو يقول في كل مكان ما ينبغي أن يقوله مثله من دعاة الوفاق والائتلاف، فأنا أشكر له ذلك، وأفاخر به أنه عربي سوري. ثم بينت لهم رأيي وما وصل إليه سعيي في هذه المسألة، وهو ما تقدم في نبذة الرحلة من هذا الجزء، وما بينت من قبل في مقالات (العرب والترك) وغيرها من المقالات التي نشرتها في الآستانة، وملخصها أن الترك والعرب إخوة في الإسلام وفي المصلحة العثمانية، لا يستطيع أن يفرق بينهما أحد، فهما كالعنصرين المكونين للماء أو الهواء، وإن ما كان من سوء التفاهم فسببه أفراد من المتفرنجين في العاصمة، فهناك ولدت هذه المسألة، ومن هناك دبت ودرجت وهناك تتلافى. ثم ذكرت أيضًا ما وصل إليه مشروع العلم والإرشاد (وتقدم بيانه في نبذة الرحلة فلا نعيده) ، ولكن زدت أن نظام المدرسة (دار العلم والإرشاد) مبني على أن العلم كله بالعربية، وأن التركية إلزامية فيها، وأن بعض أعضاء الجمعية يقترحون أن تعلم بعض الفنون التركية، والنظام الداخلي لها لما تصدق عليه الجمعية. بعد هذا قام البستاني فتكلم كلامًا وجيزًا لم ينقض فيه شيئًا من كلامي، ولكنه صرح بأن أحسن ما قلته هو أن سوء التفاهم جاء في بعض الأفراد، فلا يجوز أن ينسب إلى الترك أنفسهم، وأنه يعلم أن رفيق بك مخلص فيما اقترحه، وأنه هو أعلم الناس بغيرته وإخلاصه، قال: إلا السيد رشيدًا، فلا أدعي أنني أعلم منه بذلك. ثم تكلم خليل أفندي مطران فأيد رفيق بك، وذكر فضل العرب ومكانتهم وحقوقهم، وقال وَليّ الدين بك يَكَن كلمة وجيزة في وجوب مزج العنصرين، وجعل العرب تركًا والترك عربًا، وهذا ما كان صرح به حقي باشا الصدر الأعظم، ثم انفضت الحفلة والجميع متفقون على وجوب إزالة الخلاف، فلله درُّ العرب ما أشد إخلاصهم. وقد بلغني بعد أيام أنه نشر في جريدة العلم مقالة لكاتب مجهول في تخطئة رفيق بك وتخطئتي فيما قلناه، وأن من ضرره أنه يحرك سائر العناصر العثمانية على المطالبة بحقوقهم؛ إذا رأوا العرب يطالبون بحقوقهم، وأن الذي حمل رفيق بك على هذا الكلام هو طمعه في الوظائف، بل زعم الكاتب أنه طلب لنفسه وظيفة فلم ينلها، فقام ينتقم لنفسه ويخدم الإنكليز بمقاومة الدولة وتهديدها، واستدل بكلام البستاني على خطئه. لم أر ما كتبه هذا الأرعن المفتات، ولكن رأيت لرفيق بك ردًّا عليه وعلى العلم في الأهرام ومثله لا يردّ عليه؛ لأنه سيئ النية بدليل كذبه في دعواه، أن رفيقًا طلب وظيفة، والبستاني يعلم كما نعلم أن رفيقًا لو عرضت عليه الصدارة لما قبلها؛ لأن صحته تمنعه من العمل حتى إنه لم يقبل أن يكون مبعوثًا؛ ولأنه (أي الكاتب) جاهل بحال الدولة، لا يدري ماذا طلبت العناصر الأخرى من الدولة بحق الدستور وبغير حقه أيضًا، ولا يدري أن هذه العناصر لا تنتظر الكلام الذي دار في حفلة وداع البستاني لتبني مطالبها عليه بل لا تعلم به، وإن نشر في الجرائد المصرية، وأن كلامه هو لا يصل إليها ولا إلى أولي الأمر في الآستانة، فهو تملق ضائع، ونحن لم نطالب بحقوق العرب في الاحتفال، وإنما طالبنا بوجوب الاتفاق؛ ولذلك لم نتعرض لبيان الحقائق فيما قاله البستاني وغيره، بل كتبنا في المنار من قبل أنه لا يضرنا أن تكون أكثر الوظائف في الترك، وإنما يضر أن تكون في غير الأكفاء. * * * (عباس أفندي البابي البهائي) البهائية فرقة من البابية، رئيسها الآن عباس أفندي بن ميزرا حسين علي الملقب بالبهاء أو بهاء الدين دفين عكا، وهم آخر طوائف الباطنية يعبدون البهاء عبادة حقيقية، ويدينون بألوهيته وربوبيته، ولهم شريعة خاصة بهم، وكان عباس أفندي محجورًا عليه في عكا، فلما صارت الحكومة العثمانية دستورية تسنى له أن يخرج من عكا، وقد جاء الإسكندرية في هذا الشهر، وكتب مدير المؤيد نبذة عنه، وصفه فيها بالعالم المجتهد، وبالتضلع من العلوم الشرعية، والإحاطة بتاريخ الإسلام، وقال: إن أتباعه يعدون بالملايين وأنهم (يحترمونه إلى حد العبادة والتقديس، حتى أشاع عنه خصومه ما أشاعوا) ، ثم قال مدير المؤيد: (ولكن كل من جلس إليه يرى رجلاً عظيم الاطلاع، حلو الحديث، جذابًا للنفوس والأرواح، يميل بكليته إلى مذهب (وحدة الإنسان) وهو مذهب في السياسة يقابل مذهب (وحدة الوجود) في الاعتقاد الديني، تدور تعاليمه وإرشاداته حول محور إزالة فروق التعصب للدين أو الجنس أو الوطن أو لمرفق آخر من مرافق الحياة الدنيوية) . أقول: إن عباس أفندي رجل عظيم سياسي جذاب الحديث، يخاطب كل أحد بما يرى أنه يرضيه ويعجبه، وكان منذ ثلاثين سنة يجيء بيروت فيصلي الصلوات الخمس مع المسلمين، وكذلك كان يعامل المسلمين في عكا، يجتمع بالعالم السني فيوهمه أن فرقتهم لم يكن همها من الإصلاح إلا إزالة تعصب الشيعة وتقريبهم من أهل السنة، والتوفيق بين الطائفتين كما سمعت ذلك عنه من شيخنا الشيخ حسين الجسر (رحمه الله) ، وهو في الحقيقة زعيم دين جديد في بعض تعاليمه ومسائله، وإن كان مبنيًّا على أصول الباطنية الذين منهم الإسماعيلية والقرامطة والدروز والنصيرية، وهم يدعون المسلمين إلى دينهم بدعوى أنهم منهم، ويريدون أن يجعلوهم على بصيرة في دينهم: أي وثنيين يعبدون البشر فيالله من هذا الارتقاء والتقدم بالرجوع إلى الوراء، وكذلك يدعون النصارى بتسليم ألوهية المسيح وادعاء أنه هو البهاء، وقد جعل قدماؤهم للدعوة أصولاً وأساليب حكيمة بيّنها المقريزي؛ وغيره من المؤرخين كالتشكيك في آيات القرآن وتأويلها بما تتبرأ منه اللغة والدين كتأويل البهائية السموات السبع بالأديان، واختصام الملأ الأعلى باختصام أولاد البهاء عباس وإخوته، وتفسير {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: 210) بظهور البهاء وأتباعه، فهو إلههم وأتباعه ملائكته، وعندهم أن القيامة قد قامت بظهور الباب والبهاء. ولما كان ما ذكره المؤيد عن عظيم القوم يوهم أنه من علماء الإسلام المجتهدين في الدين كالأئمة الأربعة مثلاً، وأن سياسته كسياسة الماسون، وكان هذا مما يسهل عليه نشر دعوته ف

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (س 49- 50) من صاحب الإمضاء حضرة أستاذنا العالم المفضال السيد محمد رشيد رضا الحسيني حفظه الله وأدامه، نرجوكم الإجابة على الأسئلة الآتية بلسان منار الإسلام، ولكم الفضل، هي: 1- ما هو تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) . 2- أحقيقي ما قاله ابن خلدون من أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم من العجم. 3- هل يجوز لعربي الجنس أن يتزوج بشريفة أو قرشية؟ وهل يجوز لأعجمي أن يتزوج بأعرابية؟ أفتونا مأجورين ولكم الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الأنور قريط ... ... ... ... ... ... ... ... ... من قبيلة أولاد علي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بناحية فراشة غروب الشمس في عين حمئة (ج1) المعنى أن ذا القرنين لمَّا وصل إلى نهاية بلاد المغرب المعروفة في عصره بالنسبة إلى بلاده، وجد الشمس تغرب في ماء كدر؛ لكثرة ما فيه من الحمأة أو الحمَأ ومعناهما الطين الأسود، وقد ذكر الراغب في مادة (وجد) من مفرداته أن الوجود أنواع، فيطلق على ما يُدرك بإحدى الحواس الخمس وبالعقل وبالوجدان الباطن كالغضب والشهوة، فيقال: وجدت الشيء أو الشخص، ووجدت طعمه حلوًا ووجدت رائحته طيبة، ووجدت صوته حسنًا، ووجدت خشونتة شديدة، ووجدت الشبع والسرور، ووجدت برهانه صحيحًا، وقال في تفسير: {حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (النساء: 89) حيث رأيتموهم، وفي تفسير {وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} (النمل: 23) ، وقوله: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ} (النمل: 24) : إنه وجود بالبصر والبصيرة، فلقد كان منه مشاهدة بالبصر، واعتبار بالبصيرة. فقوله تعالى: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ} (الكهف: 86) بمعنى رآها، وذلك كما نراها ونحن مسافرون في البحر تطلع منه وتغرب فيه، وكذلك نراها في السواحل، ويرى بعض الناس أن المراد بهذه العين الحمئة البحر المحيط الغربي المعروف بالأتلانتيك، وكانت العرب تسميه بحر الظلمات، ويجوز أن يراد بها بعض البحيرات التي جفت أو الباقية، فإن ذا القرنين قديم لا يُعرف في أي عصر كان، وليس هو الإسكندر المكدوني المشارك له في اللقب، وقد كانت الأرض مغمورة بالمياه وظهرت اليابسة منها بالتدريج البطيء، كثيرًا ما حصل في الأقاليم الاستوائية أن توجد البحيرة ثم تجف في مدة قصيرة. زعم ابن خلدون أن أكثر حملة العلم في الإسلام من العجم (ج2) أخطأ ابن خلدون في هذه المسألة، فقد كان للعلم في الإسلام دول أو مناطق متعددة؛ واحدة في الشام والحجاز، وثانية في العراق وبلاد فارس، وثالثة في مصر وما وليها من إفريقية، ورابعة في الأندلس وما جاورها. وكان في كل منطقة من هذه المناطق العلمية ألوف من العلماء، برعوا في العلوم والفنون الدينية واللغوية والأدبية والعقلية والنظرية والعملية، ولم يكن العجم كثيرين إلا في واحدة منها؛ وهي منطقة البلاد الفارسية وما جاورها، على أن الذين نبغوا في العلوم هنالك، لم يكونوا كلهم من العجم، ولا يمكن الحكم على أكثرهم أيضًا؛ لأن الإسلام بمؤاخاته بين العرب والعجم، ومَزْجه بعضهم ببعض، صار علماء العرب ينسبون إلى البلاد التي يقيمون فيها من بلاد العجم، وهي بلادهم مذ صارت دار إسلام، فيقال في صاحب القاموس المحيط هو (مجد الدين الفيروزبادي الشيرازي) ، فيظن الجاهل لنسبه أنه عجمي النسب وهو عربي صدِّيقي، كان يرفع نسبه إلى أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) ، قال الحافظ ابن حجر: ولم يكن مدفوعًا فيما قاله، ويقال في صاحب الأغاني أبو الفرج الأصبهاني، فيظن أنه عجمي النسب وهو عربي أموي. ومن الناس من يحكم في النسب بدلالة الاسم واللقب، فإذا وجد اسم الرجل أو اسم أبيه أعجميًّا قال: إنه من العجم، وليس هذا بدليل، ولو صح دليلاً لحكمنا بأن أكثر العجم المسلمين من العرب؛ لإطلاق الأسماء والألقاب العربية عليهم، ولا يمكن أن يتصل قوم بقوم إلا ويأخذ بعضهم الأسماء والعادات من بعض ولكن الأدنى يكون أكثر أخذًا عن الأعلى، فهذا عبد القادر الجيلي لم يخرجه تلقيب أبيه أو جده (بجنكي دوست) عن كونه عربي النسب عَلويّه، وإنا نعرف الآن عدة أعلام فارسية وتركية، قد استعملها العرب كلفظ أرسلان ونازلي، بل نرى العرب حرفوا كثيرًا من الأعلام وغير الأعلام من لغته؛ اتباعًا للترك، ولعنا نوفي هذا الموضوع حقه في مقال خاص؛ خدمة للتاريخ وإلا فالعرب والعجم في الإسلام سواء. المصاهرة بين العرب والعجم (ج 3) يجوز للعربي أن يتزوج القرشية والشريفة العلوية الفاطمية، وللعجمي أن يتزوج الأعرابية (البدوية) والعربية وإن كانت شريفةً، إذا هي رضيت ورضي أولياؤها. وإنما تَرِد مسألة الكفاءة إذا لم يتفق الأولياء والزوجات على ذلك، فليس للولي وإن كان أبًا أو جدًّا أن يزوج بنته بدون رضاه لرجل ليس كفؤًا لها، حتى عند من يرى أن الأب ولي مجبر كالشافعية، وليس للمرأة أن تزوج نفسها من غير كفؤ إذا لم يرضه أولياؤها، حتى عند من يقول: إن أمرها في الزواج لنفسها كالحنفية، على ما للفريقين من الشروط في ذلك، والكفاءة تعتبر في النسب عند بعض الفقهاء، وصرح بعضهم بأن غير الشرفاء ليسوا أكفاء للشرفاء، وأن العجم ليسوا أكفاء للعرب؛ ولا نص على ذلك في الكتاب ولا في الأحاديث التي يحتج بها، وإنما العبرة في ذلك بالعرف، فكل من يعدّ تزويجه في عرف قوم عارًا عليهم، لا يكون كفؤًا لمن يلحقهم العار بين قومهم بمصاهرته. ولكن العادات الضارة والعرف الضار ينبغي للعقلاء أن يقاوموهما، وقد حررنا هذه المسألة في المجلدين السابع والثامن، فراجع في الأول لفظ الزواج حرف الزاي من الفهرس، وفي الآخر لفظ كفاءة الزواج من حرف الكاف في فهرسه.

حديث إن شريعتي جاءت على 360 طريقة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حديث إن شريعتي جاءت على 360 طريقة (س 52) من م. م الجاوي في بتاوى ما قولكم دام فضلكم في حديث رواه الطبراني مرفوعًا؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إن شريعتي جاءت على ثلاث مئة وستين طريقة فمن سلك طريقة منها نجا) فما معنى الطريقة التي مُيزت بها الشريعة إلى ذلك العدد وكلها على هدى وصواب؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن سلك طريقة منها نجا) وكل واحدة منها على خلاف الأخرى؛ بدليل قوله: (منها) ، الذي يشير إلى التبعيضية ذكر ذلك الحديث الولي الرباني الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه ميزان الخضرية، وقال قُبيل ذلك الحديث، وسمعت سيدي عليًّا الخواص رحمه الله يقول: إياكم والإنكار على كلام أحد من العلماء إلا بعد الإحاطة بجميع طرق الشريعة، ولم تجدوا ذلك الكلام فيها، ثم عقب واستنبط بهذا الحديث بقوله: (فقد روى الطبراني مرفوعًا) ، فتفضلوا يا سادات الكرام بالجواب بهذا، وقد سألنا عنه مشايخ الجاوه مرارًا، ولم يكشف أحد على ذلك فبقينا متألمين. (ج) هذا الحديث لا يصح بل يمكن الجزم بوضعه؛ لما يأتي من الدليل، ولم يذكر في أي كتب الطبراني هو وسليمان الطبراني، قد أورد في معجمه الأوسط عن كل شيخ من شيوخه ما له من الغرائب والعجائب في روايته، قال الحافظ ابن حجر: (وفيه كل نفيس وعزيز ومنكر) ، والظاهر أن هذا من منكراته وصنف المعجم الصغير وهو عند كل شيخ له حديث واحد، ومتى أطلق المحدثون ما أنفرد به الطبراني عنَوْا: أنه ضعيف، ونقْل الشعراني للحديث واحتجاجه به، لا يدل على صحته ولا على كونه صالحًا للاحتجاج به، وهذا الحديث مخالف لما ورد في الكتاب والسنة؛ من كون سبيل الحق وطريقه واحدة، كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153) وما فسره به النبي (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه ابن مسعود قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خطًّا ثم قال: (هذا سبيل الله) ثم خط خطوطًا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: (وهذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه) ثم قرأ هذه الآية، رواه أحمد وابن حميد والبزار والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه، والآية والحديث المفسر لها موافقان للآيات والأحاديث الكثيرة الناهية عن تفرُّق المسلمين في دينهم إلى الشيع والطرائق، وحديث الطبراني هذا يخالفها، ومنها قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} (الجن: 11) ثم قال في هذه السورة سورة الجن {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} (الجن: 16) ، فعلم من ذلك أن الطريقة المعرَّفة هي طريقة الحق التي كان عليها الصالحون، وأن الذين كانوا على سائر الطرائق القِدَد ليسوا على الحق، ويخالف حديث تفرق الأمة على 73 فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهو مع ذلك لا ينطبق على حديث شعب الإيمان كما ظن بعض أصحابنا؛ لأن تلك الشعب تجمعها طريقة واحدة هي طريقة الكتاب والسنة على الوجه الذي كان عليه النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فإنَّ أَعْلاها شهادة التوحيد وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، ولا يمكن أن يكون التوحيد طريقة، والصلاة طريقة أخرى، وإماطة الأذى عن الطريق شعبة أخرى، فالحديث موضوع قَطْعًا.

مسافة القصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسافة القصر س 53 من م. ب. ع في سمبس برنيو (جاوه) حضرة فخر الأنام، سعد الملة وشيخ الإسلام، سيدي الأستاذ العلاَّمة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، أدام الله بعزيز وجوده النفع آمين. وبعد إهداء أشرف التحية وأزكى السلام، فيا سيدي وعمدتي، أرجو منكم الالتفات إلى ما ألقيه إليكم من الأسئلة؛ لتجيبوني عنها، وهي: هل تُحدّ مسافة القصر بحديث (يا أهل مكة لا تَقْصروا في أدنى من أربعة بُرْد من مكة إلى عسفان وإلى الطائف) أم لا؟ وهل أربعة البُرُد هي ثمانية وأربعون ميلاً هاشمية؟ وعليه فكم يكون قدر المسافة المعتبرة شرعًا بحساب كيلومتر؟ أفتونا فتوى لا نعمل إلا بها ولا نُعوّل إلا عليها، فلا زلتم مشكورين، وكنا لكم ذاكرين. (ج) الحديث الذي ذكره السائل رواه الطبراني عن ابن عباس، وفي إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير قال الإمام أحمد: ليس بشيء ضعيف، وقد نسبه النووي إلى الكذب، وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه، ولكن مالكًا والشافعي روياه موقوفًا على ابن عباس، وإذ لم يصح رفعه فلا يحتج به، وفي الباب حديث أنس أنه قال حين سئل عن قصر الصلاة، فقال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين) رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن طريق شعبة، وشعبة هو الشاكّ في الفراسخ والأميال، قال بعض الفقهاء الثلاثة الأميال داخلة في الثلاثة الفراسخ فيؤخذ بالأكثر، وقد يقال الأقل هو المتيقَّن، وفيه أن هذه حكاية حال لا تحديد فيها، والعدد لا مفهوم له في الأقوال، فهل يعد حجة في وقائع الأحوال، وهناك وقائع أخرى فيما دون ذلك من المسافة، فقد روى سعيد بن منصور من حديث أبي سعيد قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة) وأقره الحافظ في التلخيص بسكوته عنه، وعليه الظاهرية، وأقل ما ورد في المسافة ميل واحد، رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر بإسناد صحيح، وبه أخذ ابن حزم وظاهر إطلاق القرآن عدم التحديد، وقد فصلنا ذلك في (ص 416و649من المجلد السابع من المنار) . والمشهور أن البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، وأصل الميل مدة البصر؛ لأن ما بعده يميل عنه فلا يرى، وحددوه بالقياس فقالوها هو ستة آلاف ذراع، والذراع 14أصبعًا معترضة متعدلة، والأصبع ست حبات من الشعير معترضة معتدلة، وقال بعضهم: هو اثنا عشر ألف قدم بقدم الإنسان، وهو أي الفرسخ 5541 مترًا.

صلاة الظهر بعد الجمعة احتياطا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صلاة الظهر بعد الجمعة احتياطًا س 54 من صاحب الإمضاء في (أكراجي من ولاية ويانقا - روسية) . حضرة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فأرجوك أن تفيدنا عن الفتوى الآتية: ما قولكم دام فضلكم في قول رجل يَدَّعي أن الصلاة المسماة باحتياط الظهر بدعة، والنبي (عليه السلام) ما صلاها، وليس فيها رواية من الصحابة والتابعين والعلماء المجتهدين: (أول من بيّن في القرآن بدعية هذه الصلاة الشيخ شهاب الدين الجرجاني) ، ومذهب أبي حنيفة والباقي من الأئمة فرضية الجمعة فقط، ما عندهم شيء خفي عنا، فمن ادعى مشروعية احتياط الظهر، فليثبت لنا بالكتاب أو السنة وإلا فما يقنعنا مجرد كتابة الألفاظ العربية. إن كان مَنْ ترك الجمعة بالعذر جزاؤه من الشارع صدقة ربع دينار أو صاع ونصف من الحنطة، وليس مأمورًا بأداء الظهر بدلاً عن الجمعة، فإن كان الأمر كذلك فادعاء بدعية الظهر عن الجمعة ليس بصحيح، والقول بوجوب الاحتياط للمصلي بعيد جدًّا. محسوبكم بعد ما فهمت بدعيّة الاحتياط ما أصليها منذ عشرين سنة، وأنبه أيضًا سامعي كلامي، وبعد ما يسلم الإمام أخرج من المسجد وأرجع إلى بيتي وأصلي فيه ركعتين، وهذا فِعْلي موافق لقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا} (الجمعة: 10) ومطابق لسنة رسول الله (بخاري 2جزء14 ص) ، وسبّ الجهال لفعلي هذا بالاعتزال وغيره ليس بشيء عندي ولا أبالي به، وفتاوى التاشكند أنّ نظرنا بمقتضى الوجدان والإنصاف ليست بشيء، وقولهم رد الفتوى كفر أيضًا كذلك، الحاصل عند القول بوجوب الاحتياط شيء كبير لا جرأة لي عليه؛ لأن الشارع (صلى الله عليه وسلم) ما صلى هذه الصلاة في عمره ولا مرة انتهى. ... ... ... ... ... ... المترجم من مجلة الشورى عدد33 ... ... ... ... ... ... ... ... ... السياح الحجازي ... ... ... ... ... ... ... ... أبو أديب حافظ حلمي (ج) تراجع ص 729 و938 من مجلد المنار السابع، فهناك بيان نافع، ثم إنا نعلم أن نية السائل في تركه لِمَا جرى عليه بعض الناس في تركه من صلاة الظهر بعد الجمعة، ونية أولئك المصلين لها كلتاهما حسنة، المسألة متنازع فيها، وقد قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي وأحسن عاقبة ومآلا في الدنيا لأنه يزيل النزاع والتفرق ويجمع الكلمة وفي الأخرة لأنه المرضِيّ عند الله تعالى. وإذا رددنا المسألة إلى الله تعالى بعرضها على كتابه، وإلى رسوله (صلى الله عليه وسلم) بعرضها على سُنته، لا تجد فيهما دليلاً على مشروعية صلاتين مفروضتين في وقت واحد بل على عدمه، وهو الأصل، فمن كان يعتقد أن صلاة الجمعة لا تصح منه حَرُم عليه أن يصليهما، ووجب عليه الظهر وحده، ومن صلاها معتقدًا صحتها منه أجزأته، ولم يجب عليه غيرها في وقتها إلى العصر، ومن اعتقد أن صلاته للجمعة صحيحة ولكنها ناقصة نقصًا لا يقتضي بطلانها، فله أن يجبرها بالنوافل الرواتب وغير الرواتب، وقد صح في حديث ابن عمر المتفق عليه أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم وأصحاب السنن الأمر بصلاة أربع ركعات بعده وورد بلفظ: (من كان منكم مصليًا بعد الجمعة فليصل أربعًا) أي إن شاء، والأفضل أن تكون في البيت كسائر النوافل. ولا يتوهمن الذين يصلون الظهر بعد الجمعة أن الخطب في ذلك سهل؛ لأنه زيادة من الخير الذي هو الصلاة، فإن فيه خطرًا عظيمًا؛ من حيث إنه شرع عبادة لم يأذن بها الله، والشارع هو الله وحده، فمن أحدث في الشرع شيئًا، فقد جعل نفسه شريكًا لله في ألوهيته أو ربوبيته، ومن وافقه فقد اتخذه شريكًا كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) ، وقد بيّنا مرارًا تفسير النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ لاتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابًا؛ بأنهم كانوا يضعون لهم أحكام الحلال والحرام فيتبعونهم فيها، وهم ما كانوا يضعون تلك الأحكام إلا بمثل الشبهات التي حدثت بها البدع الدينية في الإسلام، من حيث إنها زيادة في الخير أو العبادة أو احتياط في ترك ما لا يرضي الله تعالى، كما هو معروف في تاريخهم. فيا أيها المسلمون لا تغلو في دينكم، وإن لكم في الفرائض والمندوبات الثابتة في الكتاب والسنة بالنص الصريح غنية عن سواها، وقد قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في الأعرابي الذي حلف أنه لا يزيد على المكتوبات الخمس وسائر الفرائض من أركان الإسلام ولا ينقص: (أفلح إن صدق) ودخل الجنة إن صدق، وياليت السوادَ الأعظم من المسلمين يأتون جميع الفرائض القطعية، ويتركون جميع المحرمات القطعية، وفي النوافل المشروعة ما يستغرق العمر. وما قاله السائل في رد الفتوى صحيح، وإنما عنى أولئك المشددون المكفرون مَنْ يرد الفتوى يحتقرها، وهو يعتقد أنها من دين الله تعالى، ويقصد بذلك احتقار الدين لا من اعتقد خطأ المفتي.

الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية (1) قلنا في الجزء الماضي: إن البابية البهائية فرقة من الباطنية، وإن الباطنية قد وضعوا تعاليمهم السرية منذ القرن الأول؛ لإفساد دين الإسلام وإزالة ملكه، فهم ما وضعوا شيئًا يعتقدون حقيته وهداية الناس بدعوتهم إليها، ونقول الآن: إنهم لما انتشرت دعوتهم وكثر عددهم، وصار لهم قدرة على الحرب، أضرموا نيران الفتن والحرب بخروجهم على الدول الإسلامية مرارًا، وقد خابوا، ولم ينالوا ما طلبوا بالمكيدة ولا بالقوة، ثم صار لبعض رؤسائهم قناعة بعبادة أتباعهم لهم، وبذلهم أموالهم في سبيلهم كأئمة الإسماعيلية المتأخرين، وضعفت دعوتهم حتى جددها البابية في هذا العصر، وإننا ننقل لقراء المنار شيئًا مما حفظه التاريخ من أخبارهم وطرق دعوتهم وتأويلهم للقرآن، ثم نبين حقيقة دعوة فرقة البابية منهم. قال أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي في كتابه (الفرْق بين الفِرَق) وهو من علماء القرن الخامس، توفي سنة 429 أي منذ تسعة قرون ما نصه: الفصل السابع عشر من فصول هذا الباب أي الخامس في ذكر الباطنية وبيان خروجهم من جميع فِرَق الإسلام اعلموا أسعدكم الله أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان؛ لأن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا هذا أكثر من الذين يضلون في وقت ظهوره؛ لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يومًا، وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمال والقطْر. وقد حكى أصحاب المقالات أن الذين أسسوا دعوة الباطنية جماعة منهم؛ ميمون بن ديصان المعروف بالقداح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق وكان من الأهواز، ومنهم محمد بن الحسين الملقب بذيذان، وميمون بن ديصان في سجن والي العراق أسسوا في ذلك السجن مذهب الباطنية. ثم ظهرت دعوتهم بعد خلاصهم من السجن من جهة المعروف بذيذان، وابتدأ بالدعوة من ناحيته، فدخل في دينه جماعة من أكراد الجبل مع أهل الجبل المعروف بالبدين، ثم رحل ميمون بن ديصان إلى ناحية المغرب وانتسب من تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب وزعم أنه من نسبه، فلما دخل في دعوته قوم من غلاة الرفض والحُلولية منهم، ادعى أنه من ولد محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فقبل الأغنياء ذلك منه، على أن أصحاب الأنساب صرحوا بأن محمد بن إسماعيل بن جعفر مات ولم يُعْقِبْ. ثم ظهر في دعوته إلى دين الباطنية رجل يقال له حمدان قرمط؛ لقب بذلك لقرمَطَة في خطه أو في خطوه، وكان في ابتداء أمره أكَّارًا من أكرة سواد الكوفة وإليه تنسب القرامطة. ثم ظهر بعده في الدعوة إلى البدعة أبو سعيد الجنابي، وكان من مستجيبة حمدان، وتغلب على ناحية البحرين، ودخل في دعوته بنو شنير. ثم لما تمادت الأيام بهم؛ ظهر المعروف منهم بسعد بن الحسين أحمد بن عبد الله بن ميمون بن ديصان القداح فغير اسم نفسه ونسبه، وقال لأتباعه: أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق. ثم ظهرت فتنته، وأولاده اليوم مستولون على أعمال مصر. وظهر منهم المعروف بابن كرويه بن مهرويه الدنداني من تلامذة حمدان قرمط وظهر مأمون أخو حمدان قرمط بأرض فارس، وقرامطة فارس يقال لهم المأمونية لأجل ذلك. ودخل أرض الديْلم رجل من الباطنية، يعرف بأبي حاتم، فاستجاب له جماعة من الديْلم منهم أسفار بن شرويه. وظهر بنيسابور داعية لهم يعرف بالشعراني فقتل بها في ولاية أبي بكر بن محتاج عليها. وكان الشعراني قد دعا الحسين بن علي المروروذي، قام بدعوته بعده محمد بن أحمد النسفي داعية أهل ما وراء النهر، وأبو يعقوب السجزلي المعروف ببندانه، وصنف النسفي لهم كتاب كشف الأسرار، وقُتل النسفي والمعروف ببندانه على ضلالتهما. وذكر أصحاب التواريخ أن دعوة الباطنية ظهرت أولاً في زمان المَأْمُون، وانتشرت في زمان المعتصم، وذكروا أنه دخل في دعوتهم الأفشين صاحب جيش المعتصم، وكان مراهنًا لبابك الخرْمي مستعصيًا بناحية البدين، وكان أهل جبله خُرّمية [1] على طريقة المزدكية، فصارت الخرمية مع الباطنية يدًا واحدة. واجتمع مع بابك من أهل البدين، وممن انضم إليهم من الديلم مقدار ثلاث مائة ألف رجل. وأخرج الخليفة لقتالهم الأفشين، فظنه ناصحًا للمسلمين، وكان في سره مع بابك وتَوانَى في القتال معه، ودله على عورات عساكر المسلمين وقتل الكثير منهم، ثم لحقت الأمداد بالأفشين، ولحق به محمد بن يوسف الثغري وأبو دلف القاسم بن عيسي العجلي، ولحق به بعد ذلك قواد عبد الله بن طاهر، واشتدت شوكة البابكية والقرامطة على عسكر المسلمين، حتى بَنَوْا لأنفسهم البلدة المعروفة ببير زند؛ خوفًا من بيان (كذا) البابكية، ودامت الحرب بين الفريقين سنين كثيرة إلى أن أظفر الله المسلمين بالبابكية، فأُسر بابك وصُلِب بِسُرّ مَنْ رَأَى [2] سنة ثلاث وعشرين ومئتين ثم أُخذ أخوه إسحاق وصلب ببغداد مع المازيار صاحب المحمرة بطبرستان وجرجان، ولما قتل بابك ظهر للخليفة غدر الأفشين وخيانته للمسلمين في حروبه مع بابك، فأمر بقتله وصلبه فصلب لذلك. وذكر أصحاب التواريخ أن الذين وضعوا أساس دين الباطنية كانوا من أولاد المجوس، وكانوا مائلين إلى دين أسلافهم، ولم يجسروا على إظهاره خوفًا من سيوف المسلمين، فوضع الأغْمار منهم أساسًا مَنْ قَبِلَها منهم، صار في الباطن إلى تفضيل أديان المجوس وتأولوا القرآن وسنن النبي عليه السلام إلى موافقة أساسهم. وبيان ذلك أن الثنوية زعمت أن النور والظلمة صانعان قديمان، والنور منهما فاعل الخيرات والمنافع، والظلام فاعل الشرور والمضارّ، وأن الأجسام ممتزجة من النور والظلمة، وكل واحد منهما مشتمل على طبائع هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والأصلان الأولان من الطبائع الأربع مدبرات هذا العالم. وشاركهم المجوس في اعتقاد صانعَيْنِ، غير أنهم زعموا أن أحد الصانعين قديم وهو الإله الفاعل للخيرات، والأخر شيطان محدث فاعل للشرور، وذكر زعماء الباطنية في كتبهم أن الإله خالق النفس، فالإله هو الأول والنفس هو الثاني، وهما مدبرا هذا العالم. وسمَّوْهما الأول والثاني، وربما سموهما العقل والنفس، ثم قالوا إنهما يدبران هذا العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأُوَل. وقولهم: إن الأول والثاني يدبران العالم؛ هو بعينه قول المجوس بإضافة الحوادث إلى صانعين أحدهما قديم والآخر محدث، إلا أن الباطنية عبرت عن الصانعين بالأول والثاني، وعبر المجوس عنهما بيزدان وأهرمن، فهذا هو الذي يدور في قلوب الباطنية، ووضعوا أساسًا يؤدي إليه، ولم يمكنهم إظهار عبادة النيران؛ فاحتالوا بأن قالوا للمسلمين: ينبغي أن تُجمّرَ المساجد كلها، وأن يكون في كل مسجد مجمرة يوضع عليها الند والعود في كل حال، وكانت البرامكة قد زينوا للرشيد أن يتخذ في جوف الكعبة مجمرة يتبخر عليها العود أبدًا، فعلم الرشيد أنهم أرادوا من ذلك عبادة النار في الكعبة، وأن تصير الكعبة بيت نار، فكان ذلك أحد أسباب قبض الرشيد على البرامكة. ثم إن الباطنية لمَّا تأولت أصول الدين على الشرك، احتالت أيضًا لتأويل أحكام الشريعة على وجوه تؤدي إلى رفع الشريعة أو إلى مثل أحكام المجوس، والذي يدل على أن هذا مرادهم بتأويل الشريعة؛ أنهم قد أباحوا لأتباعهم نكاح البنات والأخوات وشرب الخمر وجميع اللذات، ويؤكد ذلك أن الغلام الذي ظهر منهم بالبحرين والأحساء بعد سليمان بن الحسين القرمطي سنَّ لأتباعه اللواط، وأوجب قتل الغلام الذي يمتنع على من يريد الفجور به، وأمر بقطع يد من أطفأ نارًا بيده، وبقطع لسان من أطفأها بنفخه وهذا الغلام هو المعروف بابن أبي زكريا الطامي، وكان ظهوره في سنة تسع عشرة وثلاث مائة، وطالت فتنته إلى أن سلط الله تعالى عليه من ذبحه على فراشه. ويؤكد ما قلناه من ميل الباطنية إلى دين المجوس، أن لا نجد على ظهر الأرض مجوسيًّا إلا وهو مُوَادّ لهم منتظر لظهورهم في الديار، يظنون أن الملك يعود إليهم بذلك، وربما استدل أغمارهم على ذلك بما يرويه المجوس عن زرادشت أنه قال لكتاسب: إن الملك يزول عن الفرس إلى الروم واليونانية ثم يعود إلى الفرس ثم يزول عن الفرس إلى العرب ثم يعود إلى الفرس، وساعده جاماسب المنجم على ذلك , وزعم أن الملك يعود إلى العجم لتمام ألف وخمس مئة سنة من وقت ظهور زرادشت. وكان في الباطنية رجل يعرف بأبي عبد الله العردي؛ يدعي علم النجوم ويتعصب للمجوس، وصنف كتابًا ذكر فيه أن القرن الثالث عشر من مولد محمد صلى الله عليه وسلم؛ يوافق الألف العاشر وهو نوبة المشترى والقوس، وقال: عند ذلك يخرج إنسان يعيد الدولة المجوسية، ويستولي على الأرض كلها، وزعم أنه يملك مدة سبع قرانات. وقالوا: قد تحقق حكم زرادشت وجاماسب في زوال ملك العجم إلى الروم واليونان في أيام الإسكندر، ثم عاد إلى العجم بعد ثلاث مئة سنة ثم زال بعد ملك العجم إلى العرب، وسيعود إلى العجم لتمام المدة التي ذكرها جاماسب، وقد وافق الوقت الذي ذكره أيام المكتفي والمقتدر؛ وأخلف موعدهم وما رجع الملك فيه إلى المجوس. وكانت القرامطة قبل هذا الميقات يتواعدون فيما بينهم ظهور المنتظر في القرن السابع في المثلثة النارية. وخرج منهم سليمان بن الحسين من الإحساء على هذه الدعوى، وتعرض للحجيج وأسرف في القتل فيهم، ثم دخل مكة وقتل من كان في الطواف، وأغار على أستار الكعبة، وطرح القتلى في بئر زمزم، وكسر عساكر كثيرة من عساكر المسلمين، وانهزم في بعض حروبه إلى هَجَر، فكتب للمسلمين قصيدة يقول فيها: أغركم مني رجوعي إلى هَجَر؟ ... فعما قليل سوف يأتيكم الخبر إذا طلع المريخ في أرض بابل ... وقارنه النجمات فالحذر الحذر ألست أنا المذكور في الكتب كلها ... ألست أنا المبعوث في سورة الزمر سأملك أهل الأرض شرقًا ومغربًا ... إلى قيروان الروم والترك والخزر وأراد بالنجمين زحل والمشتري، وقد وُجد هذا القِرانُ في سني ظهوره، ولم يملك من الأرض شيئًا غير بلدته التي خرج منها، وطمع في أن يملك سبع قرانات وما ملك سبع سنين بل قتل بهيت، رمته امرأة من سطحها بلبنة على رأسه فدمغته وقتيل النساء أخس قتيل وأهون فقيد. وفي آخر سنة ألف ومئتين وأربعين للإسكندر، تم من تاريخ زرادشت ألف وخمس مائة سنة، وما عاد فيها ملك الأرض إلى المجوس، بل اتسع بعدها نطاق الإسلام، وفتح الله تعالى للمسلمين بعدها بلاد بلاساغون [3] أرض التبت وأكثر نواحي الصين، ثم فُتح لهم بعدها جميع أرض الهند من لمغان إلى قنوج، وصارت أرض الهند إلى سيترسيقا بحرها من رقعة الإسلام في أيام أمين الدولة أمين الملة محمود ابن سبكتكين رحمه الله. وفي هذا رغم أنوف الباطنية والمجوس الجاماسبية الذين حكموا بعَوْدِ الملك إليهم، فذاقوا وبال أمرهم، وكان عاقبة أمانيهم بورًا بحمد الله ومنّه. ثم إن الباطنية خرج منه عبيد الله ابن الحسين بناحية القيروان، وخدع قومًا من كتامة، وقومًا من المصادمة، وشرذمة من أغنام بربر بحيل ونيرنجات، أظهرها لهم كرؤية الخيالات بالليل من خلف الرداء والإزار، وظن الأغمار أنها معجزة فتبعوه؛ لأجلها على بدعته، فاستولى بهم ع

جميل صدقي أفندي الزهاوي مهاجمته بشعرياته للشرعية الإسلامية في حقوق النساء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جميل صدقي أفندي الزهاوي مهاجمته بشعرياته للشرعية الإسلامية في حقوق النساء نشرت جريدة المؤيد في شهر شعبان من هذه السنة مقالة لجميل صدقي أفندي الزهاوي الشاعر البغدادي المشهور، ينتصر فيها بتخيلاته الشعرية للناس على الشريعة الإسلامية الحكيمة، ومقالة أخرى يدعو فيها العرب إلى ترك اللغة العربية الفصيحة واستعمال اللغات العامية التي يتخاطبون بها على سخفها وعسر ضبطها، وما تحتاج من العناء والزمن الطويل لتدوينها ووضع الفنون لها لتحفظها، وتجعل لتعلمها طريقة فنية، وعلى ما في ذلك من تمزيق شمل العرب وجعلهم أممًا مختلفة في اللغة، فردّ عليه الكُتَّاب المسلمون في مصر وسورية والعراق، ويقال إن أهل العلم والدين هاجوا عليه في بغداد، ورفعوا أمره إلى الحكومة فعزلته من عمله في نظارة المعارف، وكان معلمًا للشريعة في مدرسة الحقوق. كنت علمت بما كتبه جميل أفندي وأنا في الآستانة، فلم أر كتابته هذه أهلاً لأن تقرأ أو يرد عليها، ولكنني رأيت نصير الحرية الفيلسوف شبلي شميل قام ينتصر له في هذه الأيام، ويدعو الكُتَّاب إلى ذلك، فكتب في المقطم يستفتي الرأي العامّ العثماني والمصري في حادثته، وقد بنى استفتاءه هذا على رسالة جاءته من بغداد، يستنكر فيها كاتبها ولعله جميل أفندي نفسه عزله في عهد الدستور؛ بواسطة مبعوث دستوري هو مصطفى أفندي مبعوث الحلة وحاكم دستوري هو ناظم باشا والي بغداد، ويقول: إن فريقًا من الثائرين يريدون أن تفصل الحكومة بين الرجل وزوجته؛ لأنه كفر، وفريقًا يطلب إبعاده عن البلاد الإسلامية، وفريقًا يريدون قتله. وقد عقب المقطم على استفتاء شبلي شميل بكلام في منتهى الشدة والإنكار؛ مع اعتراف المعقب بأنه لم يقرأ مقالة الزهاوي، ولكن الظلم الفظيع الذي أصاب الزهاوي أضرم نار السخط في صدره، وجعل دمه يغلي في عروقه. طالبني الدكتور شميل بأن أكتب رأيي في المسألة، فرجعت إلى مقالة الزهاوي في المؤيد؛ لأتثبت وأتبين حقيقة الذنب الذي ترتّبَتْ عليه العقوبة، فرأيته يعترض فيها على ما ثبت في القرآن العزيز وينسبه إلى خطأ المسلمين وجهلهم، يشير بذلك إلى أن القرآن من أوضاعهم، بل هو يصرح بذلك بقوله في الجنة (التي وصفوها بقولهم فيها ما تشتهي الأنفس) ، وهاك جملة من تلك المقالة بنصها. (وليست المرأة مهضومة من جهة واحدة، بل هي مهضومة من جهات عديدة) : ولو كان رمحًا واحدًا لاتقيته ... ولكنه رمح وثانٍ وثالث (فهي مهضومة لأن عقدة الطلاق بيد الرجل يحلها وحده، ولا أدري لماذا يجب رضاء المرأة في الاقتران، ولا يجب رضاها بالفراق الذي تعود تَبعته عليها وحدها. (وهي مهضومة لأنها لا ترث من أبويها إلا نصف ما يرثه أخوها الرجل) . (وهي مهضومة لأنها تعدّ نصف إنسان، وشهادتها نصف شهادة) . (وهي مهضومة لأن الرجل يتزوج عليها بثلاث أُخَر؛ وهي لا تتزوج إلا به وحده) . (وهي مهضومة لأنها وهي في الحياة مقبورة بحجاب كثيف يمنعها من شم الهواء؛ ويمنعها من الاختلاط ببني نوعها والاستئناس بهم والتعلم منهم في مدرسة الحياة الكبرى) . (وليست المرأة المسلمة مهضومة في الدنيا فقط، بل هي مهضومة كذلك في الأخرى؛ لأن الرجل المصلي يُعطى من الحُور العِين من سبعين إلى سبعين ألفًا وأما المرأة المصلية فلا تعطى إلا زوجها وربما اشتهته [1] في الجنة التي وصفوها قائلين: (فيها ما تشتهي الأنفس) على حين يشتهي هو غيرها من الحوُر العِين اللاتي أُعطينه) اهـ. فهذه الجملة الوجيزة من تلك المقالة كلها تهكم بالشريعة واعتراض على القرآن العزيز، ولا يمكن أن يصدر مثلها من مسلم يؤمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) ، وسمعت من كثير من الذين عرفوا جميل صدقي أفندي في الآستانة أنه ملحد لا يدين بدين، وما كان يجوز لي أن أكتب ذلك جازمًا به اعتمادًا على شهادتهم وإن لم أتهمهم بالكذب؛ لأنني عهدت من الناس تكفير من أعلم بالاختبار قوة دينهم، ولكن هذه العبارة كافية للجزم بأن قائلها ليس مسلمًا، ومن يقولها لا يختلف أحد من فقهاء المسلمين في ردّته؛ لأن جميع هذه المسائل التي ذكرها ثابتة بنص القرآن إلا الحجاب على الوجه الذي ذكره وإلا مسألة عدد الحور العين لكل مصلّ؛ فإنه عزاها إلى الشريعة لجهله بالكتاب والسنة، فلا أصل لها في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة، وإنما ورد من السبعين واثنتين وسبعين حَوْراء فمن روايات الضعفاء والمتهمين بالمنكرات والموضوعات. هذه الأحكام التي اعترض عليها الكاتب اعتراض تهكم وازدراء، هي من القوانين الشرعية التي يُحكم بها في محاكم الدولة الدستورية، وهي من دين الإسلام الذي هو الدين الرسمي للدولة العثمانية بمقتضى قانونها الأساسي، وقانون المطبوعات الذي وضعه وأقره مجلس الأمة، لا يبيح الاعتراض والتهكم بدين الحكومة الذي تجب عليها حمايته، بل ولا بغيره من الأديان التي أقرتها الحكومة الدستورية في بلادها، فالدستور العثماني لا يبيح إذًا نشر مثل تلك المقالة التي نشرت باسم الزهاوي، فالذي يَنتصر له بعد العلم بحقيقة ذنبه في نشرها، يكون جانيًا على الدستور؛ خارجًا عن محيط الحرية التي يُشترط عند جميع الأمم أن لا يتعدى بها حدود القوانين التي عليها العمل. لو أن الزهاوي اتبع سبيل الحكمة والعقل، في اعتدائه حدود القانون والشرع لقال كثير من العقلاء: إنه يستحق الرأفة في الحكم، وأين الحكمة والعقل ممن يزعم أنه يريد إصلاح قوم، فينكر عليهم ما هو ثابت في أصل دينهم وكتاب ربهم لأنه هو لا يفقهه ولا يدري حكمته. كان من مقتضى الحكمة والعقل أن يفكر في عاقبة نشر هذا القول، ويعلم أن عدم قبوله وهو الأرجح إن لم يكن القطعي المحتم يُهيج عليه الناس، فيتأذى هو ولا ينتفعون هم على فرض أن ما دعاهم إليه نافع، وأن قبوله لا يكون إلا ببطلان الثقة بالدين من أصله، وإذًا يقعون في فوضى تستباح فيها الأعراض والأموال، فيكون إثمه أكبر من نفعه. إن كان الزهاوي يرى أنه لا يمكن إصلاح حال المسلمين ما دموا متمسكين بدينهم، وكان حريصًا على إصلاحهم، فالذي كان يُعقل منه أن يعمله هو أن يدعوهم إلى ترك هذا الدين، إما تركه إلى إلحاد وكفر مطلق وإما إلى دين آخر يراه يتفق مع الإصلاح، وإن كان يرى أنه يمكن إصلاح حالهم مع محافظتهم على دينهم فالذي يُعقل منه أن يدعوهم إلى ترك ما لا يحصى من المفاسد التي فعلوها والمصالح الكثيرة التي تركوها مخالفين للإسلام في فعهلم وتركهم، وأما هذه الذبذبة وقوله تارةً، قال الله تعالى ويذكر آية من القرآن وإشارته تارةً أخرى إلى بعض الآيات بقوله: (وصفوها قائلين) ، فليست من العقل ولا من الحكمة في شيء. بعد هذا كله أقول فيما ذُكر من عزله واضطهاد الناس له، كان ينبغي أن يسأل أولاً عن هذه المقالة، فإن اعترف بأنه هو الكاتب لها، فللحكومة أن تعزله قائلة: إنه لا ينبغي أن يدرس الشريعة من ينكر أصلها الأَحْكم وسراجها الأنور، وللناس أن ينكروا عليه ذلك؛ إذ لا يأمن آباء التلاميذ على أولادهم مَنْ يشككهم في عدل شريعتهم وحقيتها، ويجب عليهم شرعًا أن يطالبوا الحكومة بمنعه من التدريس، ويجب على الحكومة أن تجيبهم إلى ذلك، وإذا رُفع أمره إلى القاضي الشرعي وثبت عنده أنه هو الذي تهكم بالشريعة ونسبها إلى الجَوْرِ والظلم؛ من أحكام الإرث والطلاق وتعدد الزوجات بشرطه، فعليه أن يحكم برِدّته ويفرق بينه وبين امرأته إن كانت مسلمةً. هذه هي شريعة الدولة ليس لعاقل أن ينكر عليها تنفيذها، ما دامت هي شريعتها، وإن كان هو لا يدين الله بها ولا يرى أنها عادلة، كما أن بعض رجال القانون بمصر يرون أن في القانون المصري أمورًا منتقدةً ضارةً يجب تنقيحها أو تغييرها، ولكنهم لا يجيزون تقصير الحكومة في تنفيذها، ما دامت مقرَّرةً في القانون. نعم، إننا لا نفتي الناس بجواز الاعتداء عليه بقتل ولا ضرب ولا سب ولا على ماله بغصب ولا سلب، فإن إجازة اعتداء الناس على من يرونه مذنبًا بالكفر أو المعصية، يوقع البلاد في الفوضى والفتن، ويسلب منها الأمن على الأنفس والأموال والأعراض ويبطل سلطة الحكومة، ولكن لهم أو عليهم أن يظهروا له السخط والإنكار، فإن إنكار المنكر فرض محتّم، وهو الركن الأقوى لحفظ الآداب العامة والفضيلة، فكل أمة تكرم أهل المنكر تهبط وتفسد، وكل أمة تحتقرهم تعلو وتصلح، وقد علمنا أن بعض سراة الإنكليز ارتكب فاحشة اللواط، فلما عُرف ذلك عنه فضّل بخْع نفسه (الانتحار) على الظهور بين قومه مهينًا محتقرًا، ومَنْ يُعظم ويُكرم مَنْ يعتقد أنه لا يستحق التكريم فهو منافق، ويستحيل أن ترتقي أُمة يَفْشو فيها النفاق ما لم تتركه. نعم، إن احترام استقلال الفكر من أعظم أسباب ارتقاء العقل والعلم، ولكن مسألة الزهاوي لا تدخل في هذا الباب؛ لأنه لم يبد رأيًّا دينيًا في ضمن دائرة الدين مخالفًا لبعض المذاهب بالدليل، ولا رأيًا علميًّا في ضمن دائرة العلم بعيدًا عن مس كرامة الدين، بل أهان الأمة بالتهكم بدينها، والحكومة بالخروج على شريعتها وقوانينها، ويعتقد كل من الأمة والحكومة أن ما كتبه يضر؛ لأنه يبطل ثقة العامة بدينها، وما رأَينا الدكتور شميلاً استباح لنفسه مثل هذا؛ وهو أشهر كُتَّاب العرب استقلالاً في رأيه وعمله؛ ولذلك يحترم استقلاله المسلمون كغيرهم، ويكرمونه تكريمًا، وما أراه يُرضيه ما كتبه الزهاوي - وقد علمه - بل يرضيه منه، إما أن يكون مسلمًا يذعن لكل ما يعتقد أنه من دينه، وإما أن يصرح بأنه ليس مسلمًا ويظهر رأيه المخالف للإسلام؛ على أنه رأي له من التزام الأدب واجتناب جَرْح قلوب القوم الذين يخالفهم، وما أراه يُستحسن منه في هذه الحال أن يكون مدرسًا، يقرر شريعة يعتقد أنها ظالمة، بل لعله يحتم عليه أن يرفض هذا الدرس من نفسه كما رفض الفيلسوف سبنسر الوسام الذي أهداه إليه عاهل الألمان؛ لأنه هو يرى وجوب ترْك الحرب، وذلك الملك أشد الملوك استعدادًا لها. وأما الحكومة فيجب عليها أن تحمي الزهاوي من اعتداء الناس عليه، ومن إهانته بما يعاقب عليه القانون، وأن لا تعاقبه هي إلا بعد المحاكمة وثبوت الجرم والحكم به، ولتعلم أن اتباعها لأهواء العامة أو الخاصة في معاقبة الناس؛ هو قلب لمعنى السلطة وإضاعة الحكومة، فإن أهواء الناس لا تقف عند حد الشرع والقانون ولا العقل والمصلحة، فإذا لم تُعْنَ الحكومة في كل مكان بحفظ الحرية الشخصية أشد العناية، فإن الدستور لا تقوم له قائمة، وتظل البلاد هاوية في الشقاء والخراب، وقد قصّرت حكومتنا الدستورية بهذه المسألة في كل الولايات حتى إن الناس يشعرون بأن النفوذ الأعلى لا يزال لأصحاب العصبية ولعصابتهم من الأشقياء، ويلي هذا تأمين عمالها الموظفين على وظائفهم، وعدم عزل أحد منهم بغير محاكمة، والمُطالب بهذا عاصمة البلاد في هيئتيها النيابية والتنفيذية، فليس الأمر خاصًّا بالعراق، بل مصدره عاصمة المملكة، فيجب على الأحرار المحبين للإصلاح أن يطلبوه من هناك. وليس هذا المقام مقام الردّ على شبهات الزهاوي، ومن راجع مجلدات المنار والتفسير يجد فيها الرد الكافي. بعد هذا ننصح لجميل صدقي أفندي فنقول: إن ما حصل هو نتيجة طبيعية لتك المقالة تكاد تكون بديهية، وإن أهل بلادنا العثمانية لا يطيقون الجهر بمخالفة عاداتهم، فيشغبون ع

النظام الجديد للجامعة الأزهرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النظام الجديد للجامعة الأزهرية نفخ الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في الأزهر روح الإصلاح، وشوّق طلابه إلى النظام والعلوم والفنون، وقال: يستحيل أن يبقى الأزهر على حاله بعد؛ فإما أن يصلح وإما أن يسقط ويزول، وقد ظهر صدق رأيه بعده، فقام طلاب الأزهر وكثير من شيوخه؛ يطالبون بإصلاح التعليم، وإدخال العلوم والفنون الطبيعية والرياضية التي تدرس في مدرسة القضاء الشرعي في الأزهر، وهاج الأزهريون في العامين السابقين، واعتصبوا لأجل ذلك حتى انفضت حِلَق الدروس كلها من الأزهر، ووضعت لهم الحكومة في أثناء ذلك نظامًا جديدًا لم يقبلوه، بل طالبوا أمورًا أخرى لم تجبهم إليها الحكومة، وسنبين ذلك في مقال آخر، بعد ذلك عهدت الحكومة إلى أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية، أن يضع نظامًا جديدًا للأزهر بمساعدة إسماعيل صدقي باشا وكيل نظارة الداخلية وعبد الخالق ثروت باشا النائب العمومي، وقد عُني رئيس هذه اللجنة أحمد فتحي باشا بالأمر واشتغل به مدة صيف هذه السنة، وراجع لأجله جميع القوانين والنظامات التي وضعت للأزهر من 1288 إلى الآن؛ أي منذ أربعين سنة، وبعد وضع النظام الجديد طبعته اللجنة وطبعت معه القوانين والنظامات التي أشرنا إليها في دفتر خاص، فكان سِفْرًا كبيرًا قدمته للحكومة، وإننا ننشر في هذا الجزء من المنار المذكرة التي بيّن فيها ما يشتمل عليه النظام الجديد بالإجمال، وسننشر بعدها قانون هذا النظام كله. مذكرة ببيان مشتملات المشروع لما كانت المعاهد الدينية الإسلامية آخذة في النمو، وكان من الواجب أن يكون نظامها وحالة التعليم فيها موافقًا لرقي الأمة وحاجتها، وجب الاهتمام بأمر هذه المعاهد وتوحيد بروغراماتها، وتنظيم إدارتها بما يكفل الحصول على الفائدة المطلوبة منها؛ ولذلك وضع مشروع القانون المرفق بهذه المذكرة شاملاً للقواعد والأحكام التي تناسب حالة المعاهد المذكورة، وخلاصته ما يأتي: 1- اعتبرت المعاهد الدينية الإسلامية الموجودة الآن بالقطر المصري مجموعًا تتكون منه جامعة واحدة سميت (الجامعة الأزهرية) نسبة إلى الجامع الأزهر الذي هو أكبرها وأقدمها، وذكرت المعاهد الأخرى وهي الموجودة في الإسكندرية وطنطا ودسوق ودمياط، وذكر على وجه الإجمال الغرض من هذه الجامعة؛ وهو تعلم العلوم الدينية وتعليمها على وجه يفيد الأمة. ويدخل في الجامعة كل معهد يؤسس في القطر المصري بإرادة سنية، ثم لوحظ أن هناك معاهد أهلية يطلب منشئوها إلحاقها بالجامع الأزهر، وقد يوجد مثل ذلك في المستقبل فتقرر أن مجلس الأزهر الأعلى يضع لائحة ببيان الشروط التي يجوز بمقتضاها إلحاق المعاهد التي من هذا القبيل بالجامعة الأزهرية، وأن يصدق على اللائحة المذكورة بإرادة سنية (راجع المادتين 1و2) . أما الرئاسة الدينية بالنسبة لأهل العلم ومن ينتمي إلى الجامعة، فقد جعلت لشيخ الجامع الأزهر جريًا على ما كان معروفًا من قبل، كما صار بصفته رئيسًا لمجلس الأزهر الأعلى المنفذ العام لجميع القوانين واللوائح والقرارات المختصة بالجامعة الأزهرية (المادتين 3و4) . 2- فُوضت الإدارة العليا في الجامعة الأزهرية إلى مجلس أعلى؛ يتألف تحت رئاسة شيخ الجامع الأزهر من مفتي الديار المصرية، ورؤساء المذاهب، ومدير عموم الأوقاف المصرية، وثلاثة يُختارون من ذوي المكانة والدراية، ممن تستفيد منهم إدارة هذه الجامعة؛ نظرًا لخبرتهم ومعارفهم في المسائل النظامية والإدارية. وجُعل لكل معهد شيخ تُناط به إدارته، وشُكّل تحت رئاسته مجلس إدارة في الجامع الأزهر ومعهدَيْ الإسكندرية وطنطا؛ للنظر في المسائل التي تقتضي المشورة؛ وليكون ذلك ضامنًا لحسن سير المعاهد، وكفيلاً لأهلها فيما لهم من الحقوق، وفيما عليهم أداؤه مما هو مطلوب منهم من الواجبات. وأباح القانون تعيين وكلاء المشايخ في المعاهد، إذا اقتضت حالة الإدارة ذلك. وأما بقية المعاهد فجعل أمر إيجاد مجالس الإدارة فيها مَوْكولاً إلى أحوالها الخصوصية، فإذا ارتقت وأصبح ذلك لازمًا لها، فللمجلس الأعلى أن يقرره بقيود وشروط مخصوصة. وحددت اختصاصات كل ركن من أركان هذه الإدارة بما يناسبه على وجه يضمن حسن سير النظام ورقي التعليم. ولما كان التعليم في الجامع الأزهر يحتاج إلى مراقبة كبيرة نظرًا لكثرة طلابه أنشئت فيه ثلاث إدارات للتعليم، لكل قسم من أقسامه الثلاثة إدارة خاصة به تحت رئاسة شيخ مخصوص؛ ومعه ما يلزمه في ذلك من المراقبين والعمال (راجع المواد 5 إلى 20) . 4- أما العلوم التي تدرس بالجامعة؛ فهي العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية يضاف إليها ما يلزم من العلوم والفنون الأخرى التي تلزم لمثل هذه الجامعة، مما يكون فيه لطلابها عَوْن على التضلُّع من علومهم الأصلية التي هي المقصد الأول من وجودها. وقُسّم التعليم إلى ثلاثة أقسام أولي وثانوي وعالي، وخصصت مواد كل قسم كما حددت مدة التعليم فيه. ووضعت البروغرامات، بحيث ينتهي تعليم العلوم التي من النوع الأخير في نهاية القسم الثانوي، حتى بذلك يتفرغ الطلبة إلى العلوم الأساسية في الجامعة (راجع المواد 24 إلى 31) . 5- تكفلت (المواد 37 إلى 36) ببيان مبدأ الدراسة السنوية ونهايتها؛ وأيام العطلة في المواسم المخصوصة لكل معهد بحسب أحوال المدينة التي هو موجود فيها. 6- وضعت في الباب الثالث قواعد الامتحان والشهادات، وتقرر أن الامتحانات تكون نصف سنوية وسنوية، والامتحان الأولي والامتحان الثانوي والامتحان العالي، وفصلت طريقة إجرائه، وحددت الدرجات التي يُعتبر الطالب التي يحوزها ناجحًا في الامتحان (راجع المواد 38 إلى 53) . واعتبرت الشهادات ثلاثًا؛ شهادة للقسم الأولي وشهادة للقسم الثانوي وشهادة للقسم العالي، وحددت الامتيازات التي تكون لحامل كل واحدة منها بحسب العلوم التي يكون قد تلقاها. وأهم ما في هذا القسم هو إلغاء درجات العالمية الثلاث، واعتبار الحاملين لشاهدة العالمية الجديدة متساوين في الامتيازات المترتبة عليها، مع ترتيبهم بحسب متوسط درجات الامتحان (راجع المواد 54 إلى 55) . 7- وفي الباب الرابع بيان شروط الانتساب في الجامعة الأزهرية بالنسبة للمصريين والغرباء، والشروط التي يمكن قبول الطلبة بها في غير السنة الأُولَى. وذكرت واجبات الطلبة والمدرسين على وجه الإجمال مما تتكفل اللائحة الداخلية بتفصيله (راجع المواد 61إلى 75) . 8- واشتمل الباب الخامس على بيان الإجازات الاعتيادية والاستثنائية والمَرَضية التي يجوز الترخيص بها للطلبة والمدرسين وبقية الموظفين (المواد 76 إلى 86) . 9- وذُكر في الباب السادس الأحكام المختصة بتأديب الطلبة والمدرسين والموظفين، وخُولت السلطة فيها لمجالس الإدارة بصفة ابتدائية بالنسبة لغير الطلبة وللمجلس الأعلى بصفة مجلس استئناف. وحُددت العقوبات، وكلها مما هو معروف عند الأزهريين وفي بقية المصالح واختصت هيئة كبار العلماء بالنظر في أمر من يأتي من العلماء بما لا يناسب وصف العالمية، وأجيز الحكم عليه من ثلثَيْ الهيئة بإبطال شهادة عالميته راجع (المواد 87 إلى 111) . 10- ونُصّ في الباب السابع على إيجاد هيئة من كبار العلماء، يكونون من الاختصاصيين في الفنون الأزهرية بشروط وقيود مخصوصة (المواد 103 إلى 115) . 11- وفي الباب الثامن بيان الأحكام المختصة بميزانية الجامعة الأزهرية واستقلالها، وفيه إبطال توزيع النقود المعبر عنها ببدل الكساوي، وكذلك مثمن الغلال القابل للانحلال، ومرتبات أولاد العلماء على النحو الذي كان معروفًا من قبل. وتقرر إيجاد لائحة خاصة بالتقاعد، وما يعود من ذلك على أولاد العلماء المشار إليهم (المواد 116 إلى 120) . وشُكلت لجنة للحث على تأليف الكتب النافعة لأهل الجامعة، وجعلت لمؤلفيها مكافآت مخصوصة، وكذلك جُعلت مراقبة الأوقاف التي للجامعة الأزهرية نصيب فيها حالاً أو مآلاً لشيخ الجامع الأزهر ومجلس الإدارة ومجلس الأزهر الأعلى، مع المحافظة على ما لديوان الأوقاف من الحقوق والاختصاصات في ذلك. وشُكلت لجنة لحصر الأوقاف المذكورة، والنظر في توحيد المرتبات المأخوذة من ريعها، وللنظر في إبدال الجرايات بنقود (المواد 121إلى 133) ، وبينت الأحكام المختصة بمنح كساوي التشريف العلمية والمظهرية المواد (134 إلى 137) . 12- واشتمل الباب التاسع على الأحكام العمومية؛ وهي ترجع إلى بيان مَنْ هو العالم، وإلى وجوب مراعاة شروط الواقفين، وإلى ما يجب على مجلس الأزهر الأعلى أن يضعه من اللوائح المختصة بالمكاتب التحضيرية واللائحة الداخلية للجامعة الأزهرية، ونظام الأروقة والحارات وترتيب درجات المدرسين والموظفين والتقرير السنوي العام (المواد 138 إلى 146) . 13- أما الباب العاشر فيشتمل على الأحكام الوقتية، وهي نوعان عامة وخاصة، فالأولى تختص بأرباب المرتبات الحاليين وبما للأزهر من المرتبات التي كانت خرجت من الأزهر بأحكام سابقة؛ وبأولاد العلماء من ذوي المرتبات، وبإبطال التمييز بين المال الذي يأتي للجامعة الأزهرية من ديوان الأوقاف العمومية وبين المال الذي يأتيها من قِبَل الحكومة وبالعلماء الغير الخصيصين بالجامعة الأزهرية. وأما الأحكام الوقتية الخاصة؛ فإنها تتعلق بكيفية سريان هذا النظام، وأنه خاص بالمنتسبين للجامعة الأزهرية ما عدا طلبة الجامع الأزهر، الذين انتسبوا فيه قبل وجوب العمل بذلك النظام. أما هؤلاء، فوضعت لهم أحكام مخصوصة تلائم أحوالهم، وتناسب التعليم الذي كان متبعًا في الجامع الأزهر قبل ذلك. (المنار) إننا لم نكن نظن أن ينال الأزهر هذه المنح الجليلة، في هذه المدة القصيرة، ومن السنن الإلهية المطردة في الاجتماع والعمران أن الإصلاح والترقي لا ينجح ويثبت إلا إذا تدرج أهله فيه تدرجًا، وقد قلنا في مقدمة العدد الأول من سنة المنار الأولى فيما بيّناه من مذهبه وخطته وترشد (أي الصحيفة) العاملين إلى أن محاولة الطفور غرور، وأن طلب الغاية في البداية عجز وحرمان، وأن مراعاة السنن الإلهية، ومسايرة النواميس الطبيعية، كافية بفضل الله تعالى لبلوغ كل مقصد ونيْل كل مرام، فعملا بهذه القاعدة ننصح لإخواننا الأزهريين أن يتلقوا هذا النظام بالقبول والشكر، والعناية بتنفيذه؛ فإنني أخشى وأنا لا أراه منتهى الكمال أن نعجز عن تنفيذه، وأن يكون ما روعي فيه من سُنة التدرج تدرجًا سريعًا. إن المنار عني بالحث على إصلاح التعليم وتوسيع دائرته في الأزهر منذ أنشئ منذ 13 سنة، وكنا ننكر تلك الحالة، فيغضب منا الكثيرون؛ إذ يسمون الشكوى من تعليم الأزهر إهانة لعلمائه، ثم اتفق سوادهم الأعظم على الشكوى مثلنا فاتفقنا ولله الحمد، وعسى أن يكون مما نتفق فيه قبول هذا النظام والعناية بتنفيذه، فقد أعطاهم من السلطة الدينية الرسمية ما لم يكن لهم، ووسع عليهم الرزق الذي يعينهم على أن يفرغوا للعلم، وأباح لهم تنقيح النظام والتصرف فيه عند الحاجة إلى ذلك، وما أظن أنهم يغلون فيطلبون الطفرة ويدعون أن ما نراه كثيرًا قليل. وقد كان مما طلبه الأزهريون إلغاء مدرسة القضاء الشرعي، وكان هذا أشد ما أنكرته عليهم؛ فهذه المدرسة ستكون أم الإصلاح للجامعة الأزهرية بتخريجها المعلمين القادرين على تدريس العلوم والفنون التي يسم

جمعية المبشرين في روسية

الكاتب: أحد قراء المنار

_ جمعية المبشرين في روسية أَنشأت مجلة الشورى التي تصدر في أرينبوغ من روسية في عددها السابع عشر الصادر في سنة 1910 مقالة عنوانها (نحن والمبشرون) بقلم هادي أفندي أطلاسف؛ الذي كان عضوًا في مجلس (الدوما) الأول، فاستحسنَّا نقلها لقراء مجلة المنار الأغر، وتصرفنا فيها تصرفًا قليلاً. بعدما بيّن حضرته في مقالته معنى التبشير لأبناء جنسه، قال: ما يأتي بعد. إننا نعرف من الجمعيات جمعية تدعى (جمعية مبشري الكاثوليك) المقصد الأساسي لها؛ هو التبشير بالنصرانية والاجتهاد في تنصير المجوس والوثنيين وغيرهم من أصحاب الأديان، وهذه الجمعية المذكورة تجتهد في ذلك الصدد، وتجدّ فيه منذ أمد غير قريب، فهي قصدت بمطلبها هذا ممالك الهند والصين من القرن الخامس عشر بل الثالث عشر، وأخذت تنصر من أهالي تَيْنِك المملكتين بقدر ما تستطيع، فتيسر لها أن تنصر من المجوس ما بلغ عددهم الآلاف بل الملايين، وكما بينا عدد هؤلاء الذين تنصروا باجتهاد تلك الجمعية، يلزم علينا أيضًا أن نبين ما صرفته في هذا الصدد؛ أي في تنصيرهم، ولا نكون مخطئين إذا قلنا: إن هذه الجمعية لم تحظ بذلك الحظ الموفور، إلا بإتعاب نفسها القوية وصرف جهدها، وبصرف المبالغ الكثيرة التي تعدّ بالملايين من الأصفر الرنان في سبيل ذلك. وهؤلاء الضيوف الذين جاءونا من غير دعوة (أي المبشرون) ، ما اقتصرت دعوتهم إلى النصرانية على البلاد التي أهلها من المجوس، بل تصرف جهدها الجهيد الآن باتخاذ الوسائل؛ لنشر دعوتها في الممالك الإسلامية مثل سورية ومصر وتركية وإيران. كان عيسى عليه السلام رؤوفًا رحيمًا بجميع الناس، ووعظ أُمته بقوله هذا: (لا تقتلوا نفسًا وأحبوا أعداءكم) ، ولكن كيف كانت سيرة هؤلاء الذين يدعون أنهم ناشرو دينه عليه السلام لو كان حيًّا؟ الحق أن هؤلاء الذين يدعون أنهم ناشرو دين عيسى عليه السلام، قد سلكوا مسلكًا يخالف تعليمه وهديه أشد المخالفة. منذ أمد بعيد أُسست في روسية جمعيات كثيرة لأجل التبشير بالنصرانية، وتنصير من لم يتنصر في هذه البلاد إلى الآن. وكثرت في الأماكن التي يكثر فيها المسلمون (بل يصح لنا أن نقول في بلاد المسلمين كقزان وقوقاز وقرغيز وغيرها. أسسوا تلك الجمعيات بين المسلمين , ولكن كيف كان حظهم منهم؟ هل نالوا الحظ الموفور مثل ما نالوا من المجوس؟ لا لا إنهم ما نالوا ذلك قط، بل كان حظهم منهم الأقل في الأقل، مثلاً في سنة 1893 صرفت جمعية أكتاي جهدها المستطاع في هذا الصدد، فنصَّرت ثلاث مائة واثنين وخمسين نسمة. ولكن لم يتيسر لها أن تنصر في هذا العدد الكبير غير ثمانية أشخاص فقط من المسلمين، وفي سنة 1906 لم يقع أحد في شركهم، وأما في سنة 1907 فنصّروا مائة وأربعًا وستين نسمة منهم ثلاث من المسلمين لا غير. قلنا: كثرت تلك الجمعيات في الأماكن التي يكثر فيها المسلمون، فنذكر الآن من عمل تلك الجمعيات (جمعية مبشري القرغيز) ، وكم تنصر من القرغيز بهمة تلك الجمعية؟ إنه تيسر لها في سنة 1906 أن تنصّر 19 منهم، ولكنها لم يتيسر لها تنصير أحد في سنة 1907 من أبناء القرغيز غير اثنين من أرذال الناس (كان أحد هذين الاثنين مسلمًا قبل تنصّره) . ولو جعلنا نفقات تلك الجمعية من الدنانير في هذه المدة من أجل ذلك أمام أعيننا، لوجدناها تبلغ أربعة عشر ألفا من الروابل (كل روبل عشرة قروش مصرية) ووجدنا أيضًا هذين الشخصين من رَغام القرغيز وأرذالها، قد بلغت قيمة كل واحد منهما على الجمعية (سبعة آلاف روبل) ، ولوجدنا ربح هذه الجمعية أنقص من ربح تلك التي تصدت لتنصير المجوس بكثير. أُسست في غضون هذه الأسابيع فقط في (أيركوتسكي) جمعية تدعى أيضًا جمعية المبشرين، فأسرعت جريدة (الربيج) (جريدة روسية تصدر في بطرسبورج) باللوم عليها في مقالتها التي نشرتها في عددها الموفي مئتين، قالت فيها: إن مبشرينا لا يعرفون ما يجب عليهم؛ لأنهم كُسالى من جهة وجهلاء من أخرى، ولا يَقدرون أن يؤدوا وظيفتهم التي أخذوها على عاتقهم حق التأدية، ولكني لا أوافق فكرة جريدة (الربيج) ، بل أريد أن أخالفها، أريد أن أمدح هؤلاء المبشرين ولا أعيبهم، ولكن مدحي لهم يكون كأضحوكة كما أنهم كذلك، وإني وإن لم أستحسن أن أمدحهم من حيث إنهم يحاولون دائمًا أن ينصّروا المسلمين، ويجتهدون في ذلك بالتشمير عن ساعد جدهم، لا أرى بأسًا بمدحهم من جهة أخرى، فإني أفهم من محاولتهم هذه أنهم بذلك ينبهون أُمة التتر التي طال مُكْثها في سياستها العميقة وانغماسها في بحر الغفلة سنين طويلة. وكأني بهم أي بالمبشرين يعينون بعلمهم هذا أمة التتر إعانة تذكر، ويوقظونها إيقاظًا لا يطرأ عليها النوم بعده أبدًا، والذي لا شك فيه عندي: أن الذين بثوا روح الملية وحسّها وغيرة الدين في روسية الوسطى؛ أي (في أطراف قزان وسمبر وستارانوف وأرينبورغ إلى آخره) ليسوا إلا أولئك المبشرين. والحمية الدينية وغيرتها التي يستفيدها الذي يقرأ ويطالع مؤلفات المبشرين مطالعة جيدة، مما لا يمكن تحصيلها من مؤلفات (الإيشان) وهم (رؤساء طرق الصوفية) ، هذا معلوم لكل إنسان، والذي لا أشك في نفعه في بث روح الملية وحسّها وغيرة الدين للأمة؛ هو المكاتيب المشهورة (لأيمينسكي) الذي كان من أكبر المبشرين في زمانه، وأعلمهم وأكثرهم دعاء (ولبوبيدونسف) ، وهذا أيضًا كان كذلك، حتى إنني أعد تلك المكاتيب أنفع وأفيد من مكاتيب الإمام الرباني كرات عديدة. الآن تصدر في مدينة مسكوف مجلة تدعى مجلة (فيرنوست) من قِبل المبشر (واسترغوف) المشهور في مجلس (السناتو) ، ويكتب في هذه المجلة أشياء كثيرة في شأن المسلمين، وعلى الخصوص المقالات التي تكتب بقلم (واسترغوف) نفسه وقلم كاتب آخر يدعى (ميدفيدسكي) ، تكون عائدة للملل غير ملة الروس وفي هذه المجلة مجلة (فيرنوست) من تنبيه الأفكار وإحياء الشعور الإسلامي لمن يُعْنَى بقراءتهما ومطالعتهما مطالعة جيدة، ما ليس في قراءة مجلة (دين ومعيشت) التي من شأنها أن تكون دائمًا عقبة كأداة أمام العلوم والمعارف، ولا أثر لها في المحافظة على الدين ولا المعيشة وإن ادعت ذلك، بل لا يمكن لأحد تحصيل تلك التيقظات والتنبيهات من مجلة دينية محضة أيضًا. ولو كان الأمر لي في قراءة المجلات المنبهة للإنسان من سباته العميق كما أريد، لأمرت كل مشايخ التتر بقراءة مجلة (ففيرنوست) ؛ لكي يعتبروا بما فيها ويكونوا بعد ذلك أثبت قدمًا في الدين الإسلامي المبين. نرى في بادئ النظر أن المبشرين أشد الناس ضررًا للمسلمين، وإذا أمعنا النظر لا نجدهم كذلك، بل نجدهم عكس ما نعتقد فيهم، نجدهم مما لا بد منهم في تزييد محبة أبناء التتر لملتهم، وتثبيت جرثومة الاتفاق والاتحاد فيما بينهم، نعم، إنهم ينصرون منا عدة أشخاص، فلينصَّروا!! وهم لا يضروننا بذلك شيئًا بل العكس يفيدوننا لأن الذين يعتنقون النصرانية بسببهم لا يكونون إلا من الذين لا يعرفون من الدين والشريعة شيئًا، بل يكونون من الفسقة والجهلة وشياطين الناس ولا من المسلمين حقيقة ماذا يحصل علينا إن طهروا ملتنا النجيبة التترية وشذبوها من مثل هؤلاءالرغام الأراذل؟ وإني لا أرى مِنْ تنصّر مثل هؤلاء أقل ضرر للإسلام، بل أرى أنه ليست فيهم أهمية للإسلام. إن الضرر الذي يطرأ على الإسلام من اجتثاث تلك الأعضاء الفاسدة فيه وتشذيبه وتنقيته منها، ليس شيئًا يذكر بالنسبة إلى ما يحصل في الإسلام من المتانة، وفي المسلمين من القوة والغيرة على الدين، وهذه الفائدة التي تحصل من ذلك مما لا تقاس بشيء، ومن أجل ذلك نحن نعدّ أنفسنا مجبورين على مدح هؤلاء المبشرين، ونقول فيهم: إنهم منبهو التتر من سباتهم العميق، بنداء لطيف جدًّا يعادل نداء المؤذن (حي على الفلاح) .

الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية ـ 2

الكاتب: علي أفندي فهمي محمد

_ الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية [*] (2) تنبأ المستر غلادستون مرة على ما يقال فقال: (إن الإسلام لا يطول عمره أكثر من 200 سنة ثم يتلاشى) فقال خليل بك خالد ردًّا عليه في كتاب (الهلال والصليب) : (إن ذلك المتنبئ، يريد بنبوءته أحد أمرين: إما أن تفني الدول المسيحية بالقوة القاهرة كل مسلم على وجه الأرض كما تفعل روسيا، أو يتنصر جميع المسلمين بعد مائتي سنة، ولكنا نقول ولا نخشى لومة لائم: إنه إذا تلاشى الإسلام في ذلك الزمن فلن تكون النصرانية أطول منه عمرًا) . وبالرغم من هذه التخرصات، لا يزال للإسلام مكانته وسعة انتشاره وتمسك أهله به؛ مع ما بيد النصارى من قوة المال والرجال التي ليس للإسلام شيء منها، ولكي يقف القارئ على ما عند المبشرين المسيحيين من معدات التبشير بدينهم، ننقل له هنا شيئًا من دعاة النصرانية من الإنسكلوبيديا البريطانية: (إن عدد جمعيات التبشير 78 جمعية، وعدد عمالها 5440 مرسلاً، ومجموع دَخْلها السنوي 399.779.1 جنيها) . يدعون مع هذا أن الإسلام دين اعتداء مذموم وتعصب وهجوم؛ تمهيدًا لأعمالهم؛ وإمالة للرأي العام في العالم المدني. وهل يجحد أولئك القوم ما جاء في القرآن: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) ، فمن ذلك يرى المنصف أن محكمة التحكيم الدولي أو مؤتمر الهاي، الذي بذلت أوربا مجهوداتها في تكبير شأنه وتأثيره؛ دون أن تفلح بعد الذي بلغته من الرقي المدني، لم يأت بما قد جاء به الإسلام منذ ثلاثة عشر قرنًا. وفي حديث شريف: (لا يضيق سمّ الخياط عن متحابين ولا تتسع الدنيا بمتباغضين) وفي حديث آخر (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنون حتى تحابّوا) . (ثم أورد الكاتب آيات من القرآن على تسامح الإسلام، واعتباره لأديان الأنبياء السابقين وعدها مع الإسلام دينًا واحدًا، وذكر حرية الإسلام وعدله ثم قال) . إذا وجدت حرية دينية أو سياسية أو اجتماعية أو مساواة أو إخاء، فكل ذلك مقتبس بل مقتضب من القرآن والإسلام، قال بوسرت سميث المؤلف الإنجليزي الشهير في كتابه (محمد والإسلام) : (إن مسيحيًّا في العصور الماضية اعتنق الإسلام، وجعل يقذف المسيح عليه السلام؛ ظنًّا منه أن ذلك يسر المسلمين، فساقه الذين كانوا معه منهم إلى القاضي فحكم عليه بالقتل) ، وقد حصل مثل ذلك في تركيا منذ 400 سنة، كما هو مدون في سجلات محاكمها؛ فإن يهوديًّا أهان مسيحيًّا بمسه كرامة السيدة مريم العذراء، فساقه الذين سمعوه من المسلمين إلى القاضي، فحكم عليه بالقتل كما ورد في كتاب (فتاوى علي أفندي) ، ومع ذلك لا يدخر ساسة أوربا وسعًا ورجال الدين أيضًا في رمي الإسلام بالتعصب والاعتداء، جاء في أنسكلو بيديا شمبرس: لا شيء أغرب من ذم قسوس من النصارى، وتطاولهم على الدين الإسلامي واتهامهم إياه بالقسوة: من هم الذين طردوا المغاربة من أسبانيا؛ لأنهم لم يقبلوا دين النصرانية، ومن هم الذين فتكوا بالملايين في بلاد المكسيك وبيرو؛ لعدم اعتناقهم المسيحية، وما الذي فعله المسلمون في اليونان من هذا القبيل؟ لقد عاش المسيحيون قرونًا عديدة بجانب المسلمين غير مضغوط عليهم، ولم يجبروا في يوم من الأيام على ترك عقيدتهم أو التخلي عن قسوسهم أو كنائسهم. ولكننا لا ننكر أن بعض المسلمين أتوا أفعالاً شائنة، ولا يعزى عملهم هذا إلى عقيدتهم الدينية بل لأخلافهم الشخصية، وإلا وجب علينا أن نبحث هل الدين يأمرهم بتلك الأعمال أم ينهاهم عنها، فيتضح لنا جليًّا أن الإسلام يذم كل معتد أثيم غير أننا إذا قارنا ما ارتكبه أمثال هؤلاء الأفراد بما كانت تأتيه حكومات أوربا المسيحية البروستانتية وغيرها ضد مذاهبها المختلفة لهان علينا كل شيء، وها هي إنجلترا البروستانتية؛ كانت منذ 300 عام فقط تذيق الكاثوليك أنواع العذاب والذل؛ لتحملهم على ترك مذهبهم القديم واعتناق المذهب الجديد. ولكي يقف القارئ على مقدار توحش أوربا في تعصبها الديني، ذلك التعصب الذي كان يصدر رسميًّا من الحكومات لا من الأفراد، ننقل هنا ما كتبه الأسقف (جودمان) عن معاملة البروتستان وهم الغالبية للكاثوليك وهم الأقلية في إنجلترا. (إنهم أي الكاثوليك ظنوا أنفسهم أتعس حظًّا مما كانوا في زمن اليصابات؛ لأنهم كانوا يؤملون خيرًا بعد وفاتها، كما أن الذين اضطهدوهم لم يفرطوا في ظلمهم؛ خوفًا من أن تدور عليهم الدوائر، وكانوا يتحملون أشد عقوبات القانون بكل نفس ذائقة الموت، فلم تحفظ أرواحهم قوانين البلاد، وكان إحضار قسيس كاثوليكي إلى إنجلترا خيانة كبرى عقابها الإعدام، فقد شُنق رجل ذو وجاهة لاستقباله قسيسًا، وأُعدم غيره لمجاهرته بالانتماء لكنيسة رومية، وكانت العقوبات تنفذ على الفور، والبروتستان يسلبون ما يباع ويشترى في السوق من أيدي الكاثوليك، وقد أكد لي أحدهم أن الثلث الذي بقي له من أملاكه لم يَقُم بحاجته إلا بشق النفس، حتى عجز عن دفع المظالم عن نفسه بالرشوة، وكان أولاد الكاثوليك يؤخذون صغارًا ليشبوا على المذهب الآخر، وكانوا لا يعاملون بالقانون الأساسي، ولا يوظفون ولا يربون أولادهم، ولا يزوجون بناتهم اللاتي لم يكن لهن أديرة راهبات يلجأْنَ إليها. أما من كانوا خارج إنجلترا فلم يصرح لهم بالعودة إلا بعد دفع مبلغ يعجزون عن أدائه لفقرهم المدقع، ولم تقف المحاكم عند هذا الحد، بل كانت تسجن كل من وصل إليها ولم تصرح لأحد بالدفاع عن نفسه. كانت حالة الكاثوليك في بدء حكم جيمس الأول وكان قد سنّ قانونًا في عهد اليصابات خلاصته تغريم من لم يكن من المذهب الجديد 20جنيهًا كل شهر قمري وذلك هو الذي حزب الكاثوليك على خلعها وإجلاس غيرها على العرش، وفي زمن الملك الذي خلفها أعيد ذلك القانون، وأنت ترى أن هذا القانون يشتمل على جملة عقوبات أخرى؛ منها أن من حرّض أو سعى في تحريض أحد من أهل المذهب الجديد على تركه عُدّ جانيًا، وعوقب على ذلك بغرامة قدرها 100مارك وسُجن سنة كاملة، ومنها أن من قابل قسيسًا متستّرا تحت اسم معلم عوقب القسيس بالسجن سنة والآخر بغرامة عشرة جنيهات في الشهر) . وقال أينسورث مؤلف (جاي فوكيس) عن الثورة الإنجليزية الدينية: (كان إذا صاح أحد الناس بأحد المارة (كاثوليكي) فلا يكاد يلفظ الكلمة، حتى يكون هذا التعس تمزّق إربًا إربًا، وكانت الحكومة تقبض على كل من تشتبه في أمره وتذيقه أنواع العذاب، يستوي في ذلك الرجال والنساء؛ ليدلوها على أسماء الكاثوليك ولو زورًا، فكانت درجات التعذيب أولاً: سحق أصابع اليدين بوضعهما بين مخالب حديدية، ثانيًا: تعليق الشخص من رجليه في السقف وبتر أصابعهما، وثالثًا: شد وثاقه وربطه في بلاطة تشوي ظهره حيًّا كالسمكة، ورابعًا: وضعه في حفرة أرضية مملوءة ماء، فتخرج إليه الجرذ وتنهش لحمه حتى لا تبقي إلا العظام. ومن العجيب أنهم كانوا يطببون المسكين بعد كل نوبة حتى يشفى، ثم يجيء دور العذاب التالي وهكذا) . ومهما تقوّل المتقولون وادعى المدعون، فإن الإسلام على سمو مكانته يسابق الأديان الأخرى عند ذويها، وهي المزية التي خلت منها جميع المذاهب المسيحية ويخشون منها نجاح دعوته؛ ولذلك يجيزون كل واسطة توصلهم إلى عرقلة مساعيه والفوز عليه عملاً بأمر دينهم (أن يذهبوا ويبشروا جميع الأمم) ، ولما كان هذا الأمر إلزاميًّا، تراهم متى فشلوا بالطرق السلمية عمدوا إلى نشر عقدتهم اعتمادًا على قوات الدول المسيحية ومدافعها؛ التي تعلي شأن مدنيتها المسيحية بهذه الوسائل الممقوتة , ولكن الإسلام بالرغم مما يحيط به من الظروف السيئة، لا يزال أهله يعتقدون حقيته اعتقادًا راسخًا، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وله تأثير في نفوس أهله وغيرهم على السواء، ومما يدحض فِرْية كل همّاز مشَاء بنميم ما كتبه (دينالي) في وصف عبادة المسلمين في كتابه (الإسلام والعلم) ، قال: (ما دخلت مسجدًا إلا واعتراني تأثير شديد، بل كنت آسف أني لم أُخلق مسلمًا) وما كتبه (كوست) الذي قام بخدمات جليلة للنصرانية في الشرق الأقصى في كتابه (تنصير غير النصارى) قال: (لا يدخل الإنسان إلى مسجد إسلامي إلا وتدهشه مظاهر الإخلاص والولاء والوقار والتشبع والجلال البادية على وجوه المصلين) . ذلك مجمل القول على الدين الإسلامي الحنيف، فمن يلومنا بعد ذلك إذا صِحْنا بملء أفواهنا {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19) . ولا يحسبن إخواننا غير المسلمين أننا نحتقر الأديان الأخرى، كَلاّ بل نحن على رسوخنا في ديننا، نعرف لأهل كل دين حقهم، ولكنا نقول لمن يريد منا نبذ ديننا: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 135-136) ، ويعجبني قول بعض كُتاب الإفرنج: (إن الإسلام مسيحية هرطوقية أو أن المسيحية إسلام قرطوقي) ، على أن دين الله واحد في كل زمان ومكان، ولكنها الأهواء والسلطة فرقت بين الناس، هذا مجمل القول من الوجهتين الدينية والاجتماعية؛ لنبحث الآن عما نرمي إليه من الوجهة السياسية. إن أول من استعمل لفظ الجامعة الإسلامية (بانستلامزم) بمعناه المقصود الآن أعني إزالة سوء التفاهم واستبدال الأمور السياسية والاجتماعية ونحوها به، وأن يكون المسلمون بعضهم لبعض ظهيرًا في الحق لا في التعصب الممقوت؛ أول من استعمل هذا الاسم هو عبد الله كويلم، عندما أسس جمعية الإسلام في لندن [1] هي التي يطلق عليها الآن اسم جمعية الجامعة الإسلامية، ففي سنة 1903 ظهرت هذه الجمعية إلى عالم الوجود، فقابلها أنصار الإسلام وأعداؤه هاشّين باشّين، وإنا لموردون هنا المبادئ التي ترمي إليها هذه الجمعية؛ ليرى إخواننا المسلمون وغيرهم أنه ليس القصد من هذه الحركة الإيقاع أو التنكيل بالغير وإنما هو تحسين أحوال المسلمين الاجتماعية والأدبية وتَتْبعها السياسية، وذلك نقلاً عن كتاب أصدره بالإنجليزية المشير حسين قدواي سكرتير شرف جمعية الجامعة الإسلامية) . {سَلامٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} (يس: 58) . 1- ترقية العالم الإسلامي في شؤونه الدينية والاجتماعية والأدبية والعقلية. 2- إيجاد حسن تفاهم بين جميع مسلمي العالم في المسائل الاجتماعية. 3- تنمية شعور الإخاء بين المسلمين وغيرهم وتبادل مصالحهم. 4- إزالة سوء التفاهم الحاصل الآن بين المسلمين وغير المسلمين. 5- مساعدة المسلمين بقدر المستطاع في سائر أنحاء العالم. 6- إيجاد معاهد علمية إسلامية في غير الأقطار الإسلامية. 7- إيجاد فروع لجمعية الجامعة الإسلامية في أنحاء العالم، وإنشاء مناظرات ومحاضرات، وطبع و

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (كتاب الأربعين في أصول الدين) هذا الكتاب قسم من كتاب جواهر القرآن لحجة الإسلام الغزالي، وقد أجاز أن يكتب مستقلاًّ كما قال في كشف الظنون، فكتب وطبعه في هذه الأيام الشيخ محيي الدين صبري الكردي في قطع كقطع كتاب الإسلام والنصرانية، فكانت صفحاته زهاء 360، ويبيع النسخة منه بخمسة قروش. وإنما سماه الأربعين؛ لأنه جعله أربعين أصلاً؛ عشرة في العقائد، و10 في الأعمال الظاهرة: وهي العبادات وكسب الحلال وآداب الصحبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع السنة، و10 في تزكية النفس من الأخلاق المذمومة، و10 في تحليتها بالأخلاق المحمودة، فهو ملخص من كتابه الإحياء، وفيه من التحقيق لبعض المسائل ما لا نظير له في الإحياء، وهاك نموذجًا منه: *** (تحقيق مسألة القضاء والقدر وفيه وصف الساعة الدقاقة في زمنه) قال: والقضاء هو الوضع الكلي للأسباب الكلية الدائمة، والقدر هو توجيه الأسباب الكلية بحركاتها المقدرة المحسوبة إلى مسبباتها المعدودة بقدر معلوم لا يزيد ولا ينقص؛ ولذلك لا يخرج شيء عن قضائه وقدره. ولا تفهم ذلك إلا بمثال، ولعلك شاهدت صندوق الساعات التي بها تعرف أوقات الصلوات وإن لم تشاهده، فجملة ذلك أنه لا بد فيه من آلة على شكل أسطوانة تحوي مقدارًا من الماء معلومًا، وآلة أخرى مجوفة موضوعة فيها فوق الماء، وخيط مشدود أحد طرفيه في هذه الآلة المجوفة. وطرفه الآخر في أسفل ظَرْف صغير موضوع فوق الآلة المجوفة، وفيه كرة وتحته طاس، بحيث لو سقطت الكرة وقعت في الطاس وسُمع طنينها، ثم تثقب أسفل الآلة الأسطوانية ثقبًا بقدر معلوم ينزل الماء منه قليلاً قليلاً، فإذا انخفض الماء انخفضت الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء، فامتد الخيط المشدود بها، فحرك الطرف الذي فيه الكرة تحريكًا يقربه من الانتكاس إلى أن ينتكس، فتتدحرج منه الكرة وتقع في الطاس، وتطن وعند انقضاء كل ساعة تقع واحدة، وإنما يتقدر الفصل بين الوقعتين بتقدير خروج الماء وانخفاضه؛ وذلك بتقدير سعة الثقب الذي يخرج منه الماء، ويعرف ذلك بطريق الحساب، فيكون نزول الماء بمقدار مقدّر معلوم بسبب تقدير سعة الذي يخرج منه الماء ويعرف ذلك بطريق الحساب. فيكون نزول الماء بمقدار مقدر معلوم بسبب تقدير سعة الثقبة بقدر معلوم، ويكون أعلى الماء بذلك المقدار به ويتقدر، وانخفاض الآلة المجوفة وانجرار الخيط المشدود بها، وتولّد الحركة في الظرف الذي فيه الكرة وكل ذلك يتقدر بتقدّر سببُه لا يزيد ولا ينقص، ويمكن أن يجعل وقوع الكرة في الطاس سببًا لحركة أخرى، وتكون الحركة الأخرى سببًا لحركة ثالثة، وهكذا إلى درجات كثيرة حتى يتولد منها حركات عجيبة مقدرة بمقادير محددة، وسببها الأول نزول الماء بقدر معلوم، فإذا تصورتَ هذه الصورة، فاعلم أن واضعها يحتاج إلى ثلاثة أمور. أولها: التدبير وهو الحكم بأنه ما الذي ينبغي أن يكون من الآلات والأسباب والحركات، حتى يؤدي إلى حصول ما ينبغي أن يحصل وذلك هو الحكم. والثاني: إيجاد هذه الآلات التي هي الأصول وهي الآلة الأسطوانية لتحوي الماء والآلة المجوفة لتوضع على وجه الماء، والخيط المشدود بها، والظرف الذي فيه الكرة والطاس الذي تقع فيه الكرة وذلك هو القضاء. الثالث: نصب سبب يوجب حركة مقدرة محسوبة محدودة، وهو ثقب أسفل الآلة ثقبة مقدرة السعة؛ ليحدث بنزول الماء منها حركة في الماء، تؤدي إلى حركة وجه الماء بنزوله، ثم إلى حركة الآلة المجوفة الموضوعة على وجه الماء بنزوله، ثم إلى حركة الخيط، ثم إلى حركة الظرف الذي فيه الكرة، ثم إلى حركة الكرة، ثم إلى الصدمة بالطاس إذا وقع، ثم إلى الطنين الحاصل منها، ثم إلى تنبيه الحاضرين واستماعهم، ثم إلى حركاتهم إلى الاشتغال بالصلوات والأعمال عند معرفتهم بانقضاء الساعة، وكل ذلك بقدر معلوم ومقدار مقدر بسبب تقدّر جميعها بقدر الحركة الأولى، وهي حركة الماء. فإذا فهمتَ أن هذه الآلات أصول لا بد منها للحركة، وأن الحركة لا بد من تقديرها ليقدر ما يتولد منها، فكذلك فافهم حصول الحوادث المقدرة التي لا يتقدم منها شيء ولا يتأخر إذا جاء أجلها أي حضر سببها، وكل ذلك بمقدار معلوم {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) . فالسموات والأفلاك والكواكب والأرض والبحر والهواء، وهذه الأجسام العظام في العالم كتلك الآلات، والسبب المحرك للأفلاك والكواكب والشمس والقمر والكواكب إلى حصول الحوادث في الأرض كإفضاء حركة الماء إلى حصول تلك الحركات المفضية إلى سقوط الكرة المعرِّفة لانقضاء الساعة، ومثال تداعي حركات السماء إلى تغيير الأرض هو أن الشمس بحركتها إذا بلغت إلى المشرق فاستضاء العالم تَيسّر على العالم الإبصار، فيتيسر عليهم الانتشار في الاشتغال، فإذا بلغت المغرب تعذر عليهم ذلك فيرجعون إلى المساكن، وإذا قربت من وسط السماء وسامتَتْ رؤوس أهل الأقاليم، حمي الهواء واشتد القيظ وحصل نضج الفواكه، وإذا بعدت حصل الشتاء واشتد البرد، وإذا توسطت حصل الاعتدال فظهر الربيع، وأنبتت الأرض وظهرت الخضرة، وقس بهذه المشهورات التي تعرفها الغرائب التي لا تعرفها. فاختلاف هذه الفصول كلها مقدرة بقدر معلوم؛ لأنها منوطة بحركات الشمس والقمر و {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) ، أي حركتها بحساب معلوم- فهذا هو التقدير، ووضع الأسباب الكلية هو القضاء والتدبير الأول الذي هو كلمح البصر هو الحكم، وكما أن حركة الآلة والخيط والكرة ليست خارجة عن مشيئة واضع الآلة، بل ذلك هو الذي أراد بوضع الآلة؛ فكذلك كل ما يحدث في العالم من الحوادث شرها وخيرها نفعها وضرها غير خارج عن مشيئة الله تعالى، بل ذلك مراد الله تعالى ولأجله دبر أسبابه، وتفهيم الأمور الإلهية بالأمثلة العرفية عسير، ولكن المقصود من الأمثلة التنبيه، فدَعْ المثال وتنبّه للغرض، واحذر من التمثيل والتشبيه) اهـ. (المنار) يرى القارئ أن هذا التحقيق لمسألة القدَر، هو عين ما ذهبنا إليه وحققناه في المنار غير مرة، ولم نكن قد اطلعنا عليه لأحد، ولكننا رأيناه صريحًا من آيات القرآن الكثيرة عند تتبعها وتدبرها، ومنه يعلم أن الجمهور يفهمون القدَر الآن بضد معناه، ونحمد الله أن وفق أبا حامد وهداه إليه من قبل، وآخر ما كتبناه في ذلك نشرناه في المجلد الثاني عشر (راجع ص 189- 200منه) . وما كتبه في الساعة الدقاقة التي كانت مستعملة إلى زمنه، مما كان يتوق الناس إلى معرفته بهذا التفصيل، وقد ارتاب الشيخ أحمد فارس في تسمية هذه الآلة (ساعة) ؛ أن يكون تسميته عربية قال في ص 218 من كتابه (كَشْف المُخَبّا عن فنون أوربا) : قال مؤلف كتاب (المخترعات العجيبة) : ذكر المؤرخون من الفرنسيس أن أول ساعة عُرِفَتْ في بلادهم، كانت الساعة التي أهداها الخليفة هارون الرشيد إلى شارلمان ملك فرنسة وذلك في سنة 807م، وكانت بدعًا في ذلك العصر حتى إنها أورثت رجال الديوان حيرة وذهولاً، والظاهر أنها كانت من الآلات التي يديرها الماء المنحدر، وكان لها اثني عشر بابًا صغيرًا تقع على جرس فيطن بعدد الساعات وتبقى الأبواب مفتوحة، وحينئذ تخرج صورة اثني عشر فارسًا على خيل وتدور على صفحة الساعة، وقلت: بودي لو أعرف اسم الساعة في ذلك العصر، فإني أنكر هذه اللفظة، وأهل الغرب يقولون (منكالة) وهي أنكر اهـ. وقد عرفت من كلام الغزالي أنهم استعملوا لفظ الساعة، وفي الكتاب فوائد كثيرة ومعظمه من الإحياء له، وفيه من التساهل في إيراد ما لا يصح من الأحاديث مثل ما في الإحياء، وكان يرى أن العلم بكل ما ورد من الأحاديث أولى من تركه. *** (ميزان العمل) للشيخ أبي حامد الغزالي أيضًا وهو مختصر في علم النفس والأخلاق على طريق الفلاسفة والصوفية والمتكلمين جميعًا، وهو مختصر لطيف حسن الترتيب والتمثيل، وفيه فوائد كثيرة وتحقيقات مفيدة، وأنفع ما فيه خاتمته، وهي في اختلاف الناس في المذاهب وهذا نصها: بيان معنى المذهب واختلاف الناس فيه لعلك تقول كلامك في هذا الكتاب انقسم إلى ما يطابق مذهب الصوفية وإلى ما يطابق مذهب الأشعرية وبعض المتكلمين، ولا يفهم الكلام إلا على مذهب واحد، فما الحق من هذه المذاهب؟ فإن كان الكل حقًّا فكيف يتصور هذا؟ وإن كان بعضه حقًّا فما ذلك الحق؟ فيقال لك: إذا عرفت حقيقة المذهب لا تنفعك قط؛ إذ الناس فيه فريقان: فريق يقول المذهب اسم مشترك لثلاث مراتب: أحدها ما يتعصب له في المباهاة والمناظرات، والأخرى ما يسار به في التعليمات والإرشادات، والثالثة ما يعتقده الإنسان في نفسه مما انكشف له من النظريات، والكل كامل ثلاثة مذاهب بهذا الاعتبار؛ فأما المذهب بالاعتبار الأول فهو نمط الآباء والأجداد ومذهب المعلم، ومذهب أهل البلد الذي فيه النشؤ؛ وذلك يختلف بالبلاد والأقطار ويختلف بالمعلمين فمن ولد في بلد المعتزلة أو الأشعرية أو الشفعوية أو الحنفية، انغرس في نفسه منذ صباه التعصب له والذب دونه والذم لما سواه، فيقال: هو أشعري المذهب أو معتزلي أو شفعوي أو حنفي، ومعناه أنه يتعصب أي ينصر عصابة المتظاهرين بالموالاة، ويجري ذلك مجرى تناصر القبيلة بعضهم لبعض. ومبدأ هذا العصب حرص جماعة على طلب الرياسة باستتباع العوام، ولا تنبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر، فجعلت المذاهب في تفصيل الأديان جامعًا، فانقسم الناس فرقًا، وتحركت غوائل الحسد والمنافسة، فاشتد تعصبهم واستحكم به تناصرهم. وفي بعض البلاد لما اتحد المذهب، وعجز طلاب الرياسة عن الاستتباع، وضعوا أمورًا وخيلوا وجوب المخالفة فيها والتعصب لها؛ كالعلم الاسود والعلم الأحمر، فقال قوم: الحق هو الأسود، وقال آخرون: لا بل الأحمر، وانتظم مقصود الرؤساء في استتباع العوام بذلك القدر من المخالفة، وظن العوام أن ذلك مهم، وعرف الرؤساء الواضعون غرضهم في الوضع. المذهب الثاني: ما ينطبق في الإرشاد والتعليم على من جاءه مستفيدًا مسترشدًا وهذا لا يتعين على وجه واحد، بل يختلف بحسب المسترشد فيناظر كل مسترشد بما يحتمله فهمه، فإن وقع له مسترشد تركي أو هندي أو رجل جلف بليد الطبع؛ وعلم أنه لو ذكر له أن الله تعالى ليس ذاته في مكان، وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً عنه، لم يلبث أن ينكر وجود الله تعالى ويكذب به، فينبغي أن يقرر عنده أن الله تعالى مستو على العرش، وأنه يرضيه عبادة خلقه ويفرح بها، فيثيبهم ويدخلهم الجنة عوضًا وجزاء، وإن احتمل أن يذكر له ما هو الحق المبين يكشف له، فالمذهب بهذا الاعتبار يتغير ويختلف، ويكون مع كل واحد على حسب ما يحتمله فهمه. المذهب الثالث: ما يعتقده الرجل سرًا بينه وبين الله عز وجل، لا يطلع عليه غير الله، ولا يذكره إلا مع من هو شريكه في الاطلاع على ما أُطْلِعَ أو بلغ رتبة (من) يقبل الاطلاع عليه ويفهمه، وذلك بأن يكون المسترشد ذكيًّا، ولم يكن قد رسخ في نفسه اعتقاد موروث نشأ عليه وعلى التعصب له، ولم يكن قد انصبغ به قلبه انصباغًا لا يمكن محوه منه، ويكون [*] مثاله ككاتب كتب عليها ما غاص فيه، ولم يكن إزالته إلا بحرق الكاغد وخرقه، فهذا رجل فسد مزاجه ويُئِسَ من صلاحه، فإن كل ما يذكر له على خلاف

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الإسلام والمسلمون.. رأي المسيو مونتيه ناظر المدرسة الجامعة بجنيف فيهما) بدأ المسيو أدموند مونتيه ناظر مدرسة جنيف الجامعة بإلقاء محاضرات ست في مدرسة فرنسا (كوليج ديفرانس) عن حالة الإسلام الحاضرة والمستقبلة , ذلك في كل يوم اثنين وخميس في الساعة الثانية والنصف مساء ابتداء من يوم 7 الجاري، وينتهي منها يوم 24 الجاري، أما مسائل بحثه فهي: (صالح المسائل الإسلامية، إحصائيات الإسلام، انتشار الديانة الإسلامية، التمسك الشديد بالدين الإسلامي، التغييرات التي طرأت عليه، الانشقاق والاختلافات والمذاهب، عبادة الأولياء المسلمين، أرباب الطرق الإسلامية، تصوفهم ومحافظتهم على الأصول، تأثيرهم الاجتماعي والسياسي، محاولة إصلاح الإسلام، البابية والبهائية، مستقبل الأمم الإسلامية، الأميال نحو الحرية والمجهودات التي تبذل في سبيل التخلص من الأجانب في الإسلام. ولما كان المسيو أيدموند مونتيه كاهنًا بروتستانتيًا حر الأفكار، كانت أفكاره وآراؤه في هذا الشأن من الأهمية بحيث لا يستهان بها. لذلك أرسلت جريدة (السبيكل) إلى جنابه من يسأله عن آرائه في شأن الموضوعات التي سيجعلها موضوع بحثه، فصرح له بالتصريحات الآتية: أما آرائي فيها فهي كثيرة جدًّا، وإن السؤال الذي ألقيته عليّ سؤال مركب كثير الفروع، فاسمح لي أن أحييك عليه بعده أجوبة؛ لأن الإسلام يظهر أمامنا في مظاهر شتى. وأول ما يبدو أمام نظر الذي يرقب حركات الإسلام ويهمه وشأنه حاله الحاضرة فالعالم الإسلامي الذي يشاع عنه خطأ أنه في سبات عميق لا يتحرك، هو في الحقيقة اليوم في حركة شديدة، فهو عالم يسير ويتقدم، فالترك ومصر وفارس من جهة، يظهر فيها الشوق إلى الرقي ونور العلم ظهورًا جليًّا، ومن جهة أخرى ترى في المستعمرات الإنجليزية والفرنسية والمستعمرات الأوربية الأخرى تلك الحاجة بعينها، تدفع جمهور المؤمنين على طلب الزيادة في التربية والحرية. ولكن رب قائل يقول لي: ألا تظن أن تركيا التي كانت الثورة فيها على النسق اللاتيني سببًا في وجود مذهب سياسي جديد، ليست كسائر الجهات التي ليس فيها إلا مجرد آمال مبهمة في الوصول إلى حالة خير من الحالة الحاضرة من الوجهة الاجتماعية أو السياسية. وإنني لا أذهب هذا المذهب، وفي رأيي أن العالم الإسلامي كان كأنه محقون بسم نافع يفتك به وينتشر في جميع أعضائه، أما هذا السم فهو سم المدنية الحديثة سم مدنيتنا التي يتحتم على كل أمة أن تعتنقها مهما يكن ماضيها، ومهما تكن مدنيتها الخاصة بها قديمة كانت أو حديثة، وبمجرد سريان هذا السم في أي جسم يكون من المستحيل إخراجه منه، فإن فتكه يستمر فيه ولا مناص، ويقتاد هذا الجسم مع مرور الزمن إلى الانقلاب التام. أما الموقف الذي سيقف فيه الإسلام حيال مدنيتنا، فينبغي أن ينظر إلى الإسلام من وجهتين مختلفتين؛ الأولى: أن يُنظر إليه من حيث هو مجموع الأمم الإسلامية وسكان البلاد منهم، والأجناس المختلفة التي تعتنق دين محمد صلى الله عليه وسلم والثانية: أن يُنظر إليه من حيث هو دين الإسلام نفسه. وإنه ليخيل لي أن الأمم الإسلامية يزداد دخولها في حظيرة المدنية الحديثة شيئًا فشيئًا، وذلك ما يفعله أكثر الأمم الإسلامية. بعضها بقصد والبعض الآخر بلا قصد؛ لأن الأمر في نظرهم ينحصر في مسألة إما الحياة وإما الممات؛ لأن تيار المدنية الحديثة لا يُستطاع مقاومته، والذي يريد أن يهرب من وجهه لا بد أن يكتسحه، والذي يريد أن يقاومه لا بد أن يسحقه. ذلك ما يعتقده كثير من المتنورين منهم اليوم، وكثير من أبناء وطنهم يتبعون أثرهم بحكم التقليد في سبيل التقدم الحديث. أما من الوجهة الدينية؛ فإن الموقف يختلف عن ذلك كل الاختلاف، فإن الإسلام بصفته دينًا كانت له غايات شبيهة بغايات النصرانية، وقد وجد فيه التصوف والمذاهب والميل إلى المحافظة على القديم وإلى التخلص من ربقة القيود ولا يزال كل ذلك موجودًا فيه إلى الآن، وإذا كانت المسيحية قد ضمنت لها مستقبلاً في الرقي وفي البقاء غير محدود، فإن شأن الإسلام في ذلك شأن النصراينة تمامًا؛ فإن الإسلام إحدى ديانات التوحيد الكبرى، وإن التوحيد في الديانة لا يمكن أن يزول، بل تبقى مبادئه بقاء أبديًّا ولو تغير في أعراضه. إني شديد اعتقاد الخير في الإسلام نفسه بصفته دين توحيد، اعتنقته - على الخصوص - أمم آسيا وأفريقية والمسلمون على وجه العموم. ولطالما كانت لي علاقات شخصية مع المسلمين وأكثرهم من أصل عربي أو بربري مغربي، وإنني لأحفظ لهذه العلاقات جميل الذكرى، وإنني شديد الاحترام للأتراك والمصريين المتنورين الذين لقيتهم، بل إن لي من بينهم بعض الأصدقاء المخلصين إخلاصًا تامًا، ولكني أتمسك على الخصوص بالصداقة التي نشأت بيني وبين المتواضعين الخاشعين من المسلمين، وهم على الخصوص في مراكش؛ فإن هؤلاء المسلمين الذين يعيشون عيشة في غاية البساطة والغرابة في نظرنا بالنسبة لطرائق تفكيرنا - قد حافظوا على أجلّ الفضائل التي نحترمها نحن ولا شك، ولكننا نهمل العمل بها، وإني أريد بذلك فضيلة حسن الضيافة والكرم، وفضيلة الوفاء التام في الصداقة والأخلاق، وهم يصح أنه يقال عنهم: إنهم الأمثلة الصالحة في هذه الفضائل، ولقد كان في خدمتي بعض المراكشيين، فأظهروا لي في كثير من الظروف الحرجة دليلاً على إخلاصهم المتناهي، ولعمري إنني ما نسيتهم قط، وإني على يقين من أنهم لم ينسوني أيضًا وماذا كنت أنا بالنسبة لهم؟ كنت رجل غريبًا مسيحيًّا، ولكنني كنت مسيحيًّا غربيًّا وأصبحت صديقًا لهم. ولي كلمة قبل أن أختم معك هذا الحديث لا يسعني إلا أن أقولها، وهي: إن روح الإسلام (وأريد روح الديانة الإسلامية) صعب على الغريب عنها أن يقف على سرها. ولكن الذي يقف على كنهها ويفقهها، يرى أن هذه الروح جميلة جذابة ومتى فقهها المرء فليس في قدرة أي شيء أن يمحو من فؤاده التأثير الذي تحدثه فيه وليس في استطاعة المرء أن ينفصل عنها. اهـ من ترجمة المؤيد بتصحيح قليل. * * * (الترك والعرب) دليل على ما سميناه سوء التفاهم وشهادة كاتب تركي للعرب كان يجب على جرائد الآستانة أن تحمد سعي الشريف أمير مكة المكرمة في نجد، ولا سيما إخضاع أكبر أمرائها ورئيس عشائرها الأمير عبد العزيز آل سعود للدولة العلية، وحمله على الثقة بها، ولكنه لم يسلم من اللوم والمؤاخذة حتى قالت بعض تلك الجرائد: إن سعيه كان حسنًا ولكنه كان مخطئًا فيه؛ لأنه ليس له صفة ولا سلطة تجيز له أن يحل ويعقد، وقد كانت جريدة (يكي تصوير أفكار) خاضت في مثل هذا الإنكار والتجاهل، ثم اقترحت على سليمان بك نظيف - الذي كان إلى عهد قريب واليًا للبصرة - أن يكتب إليها شيئًا مما وصل إليه اختباره عن عرب الجزيرة، فكتب إليها مقالاً ترجمته جريدة المفيد، فنقلناه عنها لما فيه من الإنصاف واستقلال الرأي [1] هو: قال الكاتب: إن السلطة العثمانية في جنوب العراق وجزيرة العراق لا تتأيد؛ ما لم تتأيد العدالة وحسن الإدارة، ففي كل وقعة من الوقائع خطر يتطاير شرره. إن هذه البقاع المباركة بقاع بائسة؛ وقعت عصورًا متطاولة في زوايا الإهمال من قبل الحكومة إلا في عهد مدحت باشا. ارتكز فَيْلَقُنَا السادس، ودق وتاده حيث كانت تجوس جيوش بابل وأشور بسطوتها وهيبتها، فرأيناه اليوم يندحر أمام بعض القبائل البدو أيما اندحار. كانت (الجزيرة) في الغابر بمثابة أكبر مستغل، يستمد منه العالم بأسره مؤنته، ونراه اليوم يموت أهله جوعًا، على حين أن الأرض لم تفقد قوة النمو ولا الخصب. وبعد، فليس ثمت من سبب لهذه المصائب إلا سوء إدارتنا التي اشترك بها هذا العاجز مدة أحد عشر شهرًا. كنت أعتقد قبل قدومي البصرة اعتقادًا ولدته في نفسي الأقوال المتضاربة؛ أن الأمة العربية عنصر ينقبض من الجامعة العثمانية، ولكن إقامتي بينها ومحاولتي كشف النقاب عن الحقائق أثبتت لي أن هذا الاعتقاد وهم محض، فَسُرِرْتُ ما شاءت حميتي العثمانية، إذا صرفنا النظر عن عائلة واحدة في البصرة مكروهة منفور منها لا يتجاوز أفرادها عدد الأربعة، فإنا نشعر بحس واحد راسخ في نفوس عرب الولاية كافة من بدويهم إلى حضريهم ألا وهو حب الجامعة العثمانية. ولكن ينبغي لنا أن نعترف ونقر بأنا أسأنا المعاملة بجانب عرب البصرة في جميع الأحايين، وقسمنا أراضيهم إلى مقاطعات تحت اسم أميرية وسنية، ودعونا المتغلبين إلى أن يمدوا إليها أيديهم الجائرة الظالمة وعززناهم بقوة من الحكومة ووقارها، حتى بلغنا إلى درجة التحكم بالقوت اليومي الذي كان يتناوله كل عربي بجده وسعيه. كل ذلك كان، وكان هذا الشعب الصادق الجليد يتلقى من الحكومة تلكم الصدمات بصبر وثبات كأنما هي من الأقدار، ولم يك ينبس ببنت شفة. حادثة (شطرة المنتفك) بسيطة جدًا أي إنها فاجعة بسيطة؛ سببها أن فريقًا عسكريًّا مأمورًا بالإصلاح، ظن أن سلطته تخوله فسخ إحالة (إبطال عقد التزام أعشار) مقاطعة برمتها. فإن عشيرة (عبوده) التي هزمت الفريق يوسف باشا قائد أربعة عشر تابورًا وحاصرته، والتي تركت قوة أمير اللواء محيي الدين باشا جامدة لا حراك فيها، كانت حتى في أوقات ظفرها تبرق البرقيات إلى الولاية، تعرض إطاعتها للحكومة، وتبين أنها مضطرة لمحاربة الفريق المسوق بسائق المطامع الشخصية؛ دفاعًا عن نفسها وذودًا عن شرفها، ولقد أثبت رجال هذه العشيرة صدق دعواهم بالفعل؛ فإن القوة العسكرية البالغة واحدًا وعشرين تابورًا، تخلصت من ربقة الحصار الشديد بأمر واحد تلقاه المحاصرون من الحكومة، وليس ثمت دليل أكبر من هذا الدليل على صدق عثمانية هؤلاء وإطاعتهم للحكومة. (أهداني قنصل روسيا في البصرة الموسيو (طوخولفا) كتابًا افرنسيًّا عنوانه (الثورة العربية والدول) أثناء سيري إلى المنتفك، فوجدت صاحبه يملأ الكتاب بحوادث المنتفك، ويتحرى في جميع أبحاثه أن يعثر على أمارات الانفصال والاستقلال، فعظم الوهم لدي، ولكن حينما شهدت عائلات المنتفك، أيقنت اليقين التام أن ذلك الكتاب مجموع نفاق وبهتان، وأنا اليوم على ثقة تامة أنه ليس في البصرة أزمة سياسية ما، ليست تلك الأصوات التي تمتد أحيانًا إلى العاصمة، فتنبهها من غفلتها إلا صعقات متصاعدة من أفئدة عضها الجوع بأنيابه، ولو كنا مكان هؤلاء العرب لأتينا أشد مما يأتونه، وإذا تدبرنا وعقلنا الأمر وانقلبت تلكم الصرخات إلى سكوت ينم إلى الأبد عن شكر) . (المنار) بَيَّنَّا في المقالات التي نشرناها في جرائد الآستانة، ونحن فيها أن العرب كلهم مخلصون للدولة، لا يخطر في بال أحد منهم أن بينهم وبين إخوانهم الترك أدنى فرق، وأن اتهام بعض رجال السياسة فيها إياهم، وما تكتبه الجرائد التركية عنهم وفي العصبية الجنسية وما يسمعه أبناؤهم في مكاتب الدولة يخشى أن يغير قلوبهم ووعظنا رجال حكومتنا بالحديث الشريف: (وإذا ابتغى الأمير الريبة بالناس أفسدهم) فلم يغن النصح شيئًا، فعسى أن يقبلوا شهادة هذا الشاهد منهم، ويزيلوا أسباب التفرق وسوء الظن، ويعلموا أنا كنا لهم ولا نزال من أخلص الناصحين. * * * (الاحتلال الأجنبي في إيران) هذا الأسلوب الأوربي من أساليب الفتح، صار معروفًا عند الباحثين والمستبصرين من أهل الشرق، ومعناه فتح البلاد

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ باب الانتقاد على المنار وصاحبه انتقد صاحب جريدة البريد التي تصدر في (ريو دي جانيرو) ما كتبناه في خطاب علماء الإسلام؛ الذي نشرناه في جريدة الحضارة ونحن في الآستانة، وفي المنار انتقد منه حثنا العلماء على الاستعانة بالمبعوثين؛ لأجل الوصول إلى حقوقهم في التعليم والمناصب الشرعية، وعلى الاجتهاد في جعل المبعوثين في الانتخاب الآتي منهم، وممن يرجى أن يساعدهم على خدمة ملتهم. انتقد هذا لأنه فهم منه أنني أريد جعل أكثر النواب من صنف العلماء الذي يجهل أكثرهم حاجات الأمة، وإنني أريد أن يكون في المجلس نواب من غير المسلمين، وجعل هذا منافيًا للدستور القاضي بالمساواة، قال: (وكأنه استكثر وجود مسيحي واحد بين نواب العرب، فقام يدعو الأمة المسلمة إلى حرمان المسيحيين علية كرسيًّا واحدًا في مجلس المبعوثين العثمانيين) . (أساء سمعًا فأساء إجابة) رويدك أيها الرصيف الكريم، إنني كنت أول مساعد لانتخاب المسيحي العربي الذي تشير إليه، فقد كنت أيام الانتخاب في بيروت، ورأيت جماعة من المسلمين أصحاب النفوذ يعارضون في انتخابه؛ لا لأنه مسيحي بل لأنهم لا يعرفونهم معرفة تفيدهم الثقة به، فقلت لهم: إنني عرفته بمصر وعاشرته وأثنيت عليه بما أقنعهم وحملهم على انتخابه ومساعدته. إنني عندما كتبت ما كتبت في تلك المقالة، لم يخطر في بالي المسيحيون ولا نوابهم، وإنما خطر في بالي وملأ قلبي عند الكتابة ما علمته من حيلولة بعض الملاحدة من المسلمين الجغرافيين (أي الذين يعدون مسلمين في كتب الجغرافية) دون خدمة رجال الدين الإسلامي لدينهم، وما علمت أحدًا من النصارى يعارضهم ولا يقاومهم في ذلك، وأن المبعوثين من النصارى يدافعون عن امتياز طوائفهم وكنائسهم، أفليس للمسلمين حقوق دينية في الدولة يجب أن يدافع عنها العلماء؟ وسأبين رأيي في المبعوثين من غير المسلمين، وأذكر ما أقنعت به المسلمين وأزلت به شبهتهم على منافاة وجودهم في مجلس المبعوثين ومجلس الوكلاء؛ لكون الحكومة إسلامية فقد ضاق عنه هذا الجزء.

افتراق الأمة الإسلامية والفرقة الناجية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ افتراق الأمة الإسلامية والفرقة الناجية (س 55) من صاحب الإمضاء الرمزي في (شانكين - سومطرا) . سلام الله عليكم , والرجاء من سيادتكم إيضاح ما أبهم، ولكم من الله الأجر؛ يزعم بعضهم أن افتراق الأمة إلى شيع أمر لازب، أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. في حديث (ستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة) رواه الطبراني. وبناءً عليه، فلا مطمع في توحيد كلمتهم وإصلاحهم، بل لا يزالون مختلفين وقد سألناهم عن الفرقة الناجية، فقالوا: هي المتبعة لمذاهب الأئمة الأربعة المشهورة، فمن حاد عن أحد هذه المذاهب فهو ولا شك - بزعمهم - في الدنيا من المغبونين وفي الآخرة من المخذولين، (هذا ما تقوله حماة التقليد والأقرب أنه آخر سهم في الكنانة) . فما قولكم سيدي في الحديث، هل هو صحيح متواتر أم مطعون في الزيادة الأخيرة؛ كما أشار إليها الأستاذ الحكيم السيد أبو بكر بن شهاب من أبيات نشرت في الـ م7 ص 426 من المنار وهي: وحديث تفترق النصارى واليهود ... وأمتي فرقًا روى الطبراني لكن زيادة كلها في النار إلا ... فرقة لم تخل عن طعان فتفضلوا علينا بالبيان الشافي المعهود من حضرتكم، لازلتم خير خلف لخير سلف. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ح. م. ... ... ... ... ... ... ... ... ... في شاكين سمترا (ج) أما افتراق الأمة الإسلامية فهو واقع بالفعل، ولكن لا يوجد دليل من القرآن ولا من الحديث؛ يدل على اليأس من اتفاقهم في الأمور العامة والإخوة الإسلامية والتعاون على مقاومة من يعاديهم كلهم، وعلى ما ينفعهم كلهم، وإن ظلوا مختلفين في كثير من المسائل؛ بأن يكونوا في اختلافهم على هدي السلف الصالح في عذر بعضهم لبعض واتقاء التكفير والعدوان. وأما الحديث الوارد في الافتراق، فقد رواه غير واحد من الحفاظ منهم أحمد وأبو داود والترمذي، وهو في الجامع الصغير بلفظ (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين) رواه أحمد عن أبي هريرة. أقول: ورواه الترمذي عنه بلفظ (تفرقت) ، ثم قال: في الباب عن سعيد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك حديث حسن صحيح، حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود الجفري عن سفيان عن عبد الرحمن بن زياد الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل؛ إلى أن قال (صلى الله عليه وسلم) وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: (ما أنا عليه وأصحابي) هذا حديث حسن غريب، مفسر لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه , اهـ كلام الترمذي. فهذه الرواية التي تعين الفرقة الناجية بشيء من القوة في إسنادها عبد الرحمن ابن زياد الإفريقي راويها؛ وهو قاضي إفريقية، قال فيه الإمام أحمد: ليس بشيء نحن لا نروي عنه شيئًا، وقال النسائي ضعيف في الثقات، ولما نقل الذهبي عنه هذا القول قرنه بقوله: (فأسرف) ، وروي بأسانيد أضعف من هذه وأوهى، فالرواية إذًا لم تخل من طعن فيها. ورواه الحاكم في صحيحه، وما انفرد الحاكم بتصحيحه لا يسلم من مقال أيضًا، ولكن قال في المقاصد: إن الحديث حسن صحيح يعني: بزيادة كلهم في النار إلا فرقة واحدة. ورُوي بلفظ كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة، فسئل عنها فقال: الزنادقة والقدرية، رواه العقيلي والدارقطني، وهو موضوع وضعه ابن الأشرس. وفي شرح عقيدة السفاريني ما نصه: ذكر أبوحامد الغزالي في كتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (ستفترق أمتي نَيِّفٌ وسبعين فرقة، كلهم في الجنة إلا الزنادقة وهي فرقة) هذا لفظ الحديث في بعض الروايات، قال: وظاهر الحديث يدل على أنه أراد الزنادقة من أمته؛ إذ قال: (ستفترق أمتي) ، ومن لم يعترف بنبوته فليس من أمته، والذين ينكرون المعاد والصانع فليسوا معترفين بنبوته؛ إذ يزعمون أن الموت عدم محض، وأن العالم كذلك لم يزل موجودًا بنفسه من غير صانع، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وينسبون الأنبياء إلى التلبيس، فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة , انتهى. (قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الإسكندرية: أما هذا الحديث فلا أصل له بل هو موضوع كذب باتفاق أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ بل الذي في كتب السنن والمسانيد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من وجوه أنه قال: (ستتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار) وروي عنه أنه قال: (هي الجماعة) ، وفي حديث آخر: (هي من كان على مثل ما أنا اليوم عليه وأصحابي) وضعفه ابن حزم، لكن رواه الحاكم في صحيحه، وقد رواه أبو داود والترمذي وغيرهم، قال: وأيضًا لفظ الزندقة لا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يوجد في القرآن، وأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في توبته قبولاً وردًّا؛ فالمراد به عندهم المنافق الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر) اهـ. (قلت) : وقد ذكر الحديث الذي ذكره الغزالي الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات، وذكر أنه رُوِيَ من حديث أنس ولفظه (تفترق أمتي على سبعين أو إحدى وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة) قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: (الزنادقة وهم القدرية) أخرجه العقيلي وابن عدي ورواه الطبراني أيضًا قال أنس: كنا نراهم القدرية، قال ابن الجوزي: وضعه برد بن أشرس، وكان واضعًا كذابًا، وأخذه عنه ياسين الزيات فقلب إسناده وخلطه، وسرقه عثمان بن عفان القرشي وهؤلاء كذابون متروكون. (وأما الحديث الذي أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، فروي من حديث أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي الدرداء ومعاوية وابن عباس وجابر وأبي أمامة وواثلة وعوف بن مالك وعمرو بن عوف المزني، فكل هؤلاء قالوا: واحدة في الجنة وهي الجماعة، ولفظ حديث معاوية ما تقدم، فهو الذي ينبغي أن يعول عليه دون الحديث المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم) اهـ أورده السفاريني. أقول: حديث معاوية الذي أشار إليه، رواه عنه أحمد والطبراني والحاكم بلفظ (إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة سنفترق على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة) ، وفيه زيادة عزاها السفاريني إلى أبي داود فقط، وهي: (وإنه ستخرج في أمتي أقوام، تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه، فلا يبقى منهم عرق ولا مفصل إلا دخله) وهذا أمثل ما رواه الحاكم من ألفاظ هذه الحديث، وسنده لا يسلم من مقال، ورواه بغير هذا اللفظ عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، وكثير هذا طعنوا فيه حتى قال الشافعي وأبو داود: إنه ركن من أركان الكذب، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، وذكر الذهبي أن العلماء لا يعتمدون على تصحيح الترمذي؛ لأنه روى عنه حديث (الصلح جائز بين المسلمين) وصححه. وجملة القول أن تعدد طرق الحديث، يقوي بعضها بعضًا على طريقتهم المتبعة في ذلك، وأظن أنه لا تسلم رواية منها عن طعان أو مقال، كما قال ابن شهاب خلافًا لمن اعتمد تصحيح الحاكم لبعضها، وكلها مشكلة مخالفة للأحاديث الصحيحة كما يأتي. وأما معنى الحديث بصرف النظر عن سنده؛ فهو أن الفرقة الناجية هي الفرقة التي تتبع السنة التي كان عليها النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه؛ أي سنة السلف الصالح قبل ظهور البدع، وهؤلاء هم الجماعة قلوا أم كثروا، وهم لا ينحصرون في هذا الزمان بأهل مذهب معين من المذاهب المعروفة، على أن أهل الأثر والحنابلة أقرب من غيرهم إلى السنة وأبعد عن البدعة، وذلك أن المسائل التي اختلف فيها أهل المذاهب، لا ينحصر الحق فيها في مذهب دون غيره، فتارة يكون الصواب مع الأشعرية وتارة مع الماتريدية فيما يختلفان فيه، وقل مثل هذا في خلاف المعتزلة والشيعة وغيرهم، وفي الفروع وسائر المذاهب، ثم إن المنتمين إلى هذه المذاهب ليسوا متبعين لائمتها حق الاتباع، فيكون أتباع المصيب هم الفرقة الناجية، فالظاهر أن الناجين في كل زمان هم أهل الاتباع الذين يتقون الابتداع، ولا يخلو المنتسبون إلى مذهب من المذاهب المعتد بها في الإسلام عن طائفة أو أفراد منهم يؤثرون السنة على كل بدعة، ومجموعهم طائفة واحدة بجمعهم الاعتصام بالكتاب والسنة {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14) . وقد عد بعضهم هذا الحديث مشكلاً، وتوسع الشيخ صالح المقبلي في بيان هذا الإشكال، وحله في كتابه العلم الشامخ، وإننا نلخص منه ما يأتي: قال: (والإشكال في قوله كلها في النار إلا ملة، فمن المعلوم أنهم خير الأمم وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة، مع أنهم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض حسبما صرحت به الأحاديث، فكيف يتمشى هذا؟ فبعض الناس تكلم في ضعف هذه الجملة، وقال: هي زيادة غير ثابتة، وبعضهم تأول الكلام بأن الفرقة الناجية صالحوا كل فرقة، وهو كلام منتقض؛ لأن الصلاح إن رجع إلى محل الافتراق، فهم فرقة واحدة لا أفراد من الفرق، وإن رجع إلى غير ذلك فلا دخل له؛ لأن الكلام أنهم في النار لأجل الافتراق، وما صاروا به فرقًا) . (ثم إن الناس صنفوا في هذا المطلب، وأخذوا في تعداد الفرق؛ ليبلغوا بها إلى ثلاث وسبعين، ثم يحكم كل منهم لنفسه ومن وافقه بأنه الفرقة الناجية، وإنما يصنعون ذلك لإدعاء كل منهم أنه على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ثم صرح به صلى الله عليه وسلم ثم اتفق عليه جميع الفرق الإسلامية، إنما ينحصر النظر فيمن الباقي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ومن المعلوم أن ليس المراد أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد كان في فضلاء الصحابة، إنما الكلام في مخالفة تُصَيِّر صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها) . (وإذا حققت ذلك، فهذه البدع الواقعة في مهمات المسائل، وفيما يترتب عليه عظائم المفاسد لا تكاد تنحصر، ولكنها لم تخص معينًا من هذه الفرق التي قد تحزبت، والتأم بعضهم إلى قوم وخالف آخرون بحسب مسائل عديدة، حتى أدخلوا نوادر المسائل وما لا ضرر في مخالفته، فربما لم يكن من مهمات الدين أو لم يكن من الدين في شيء، ولكن كل تسمى باسم مدح اخترعه لنفسه، وصاروا يجعلون المسائل شعارًا لهم من دون نظر في مكانة تلك المسألة في الدين، والخوارج يسمون نفوسهم الشراة، والأشاعرة يسمون نفوسهم أهل السنة، والمعتزلة يسمون نفوسهم العدلية أو أهل العدل والتوحيد؛ لأن خصمهم يثبت الصفات أمورًا مستقلة فليسوا بموحدين أو لأنهم مشبهة إما صريحًا أو إلزامًا، ونحو ذلك مما تخبرك به كتب المقالات والكلام، والإنصاف أن كلاًّ منهم قد اخترع ما لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة رضي الله عنهم، واختلفت البدع فمن كبير وأكبر وصغير وأصغر، وما بينهما أعنى الكبر والصغر اللغويين لا الاصلاحيين، فذلك مما لا سبيل إليه إلا بالتوقيف، والمفروض أن هذه أشياء مخترعة، فكيف التوقيف على ما لم يذكر بنفي ولا إثبات إنما غايته أن يكون دخل في عموم نهي أو نحو ذلك، فتعين الفرق، وتعدادها فرق

القرآن في الفونغراف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القرآن في الفونغراف (س 56) من صاحب الإمضاء في روسية أرجو يا حضرة الأستاذ أن تفيدنا عن السؤال الآتي: قد انفتح البحث بطرفنا في جواز استعمال القرآن في صندوق الفونوغراف الذي حدث في هذا الزمان، وهل يعد قرآنًا؟ وهل إذا كان قرآنًا يجوز استعمال الصندوق للقراءة، ويجوز سماعها منه؟ وعندنا في هذه المسألة فريقان يختصمان: فريق يحرمونه بالكلية، ويقولون: إنه استعمال للقراءة في محل اللهو واللعب، وإن الصندوق لا يستعمل للعبادة، وفريق يجوزونه والمحسوب من جملتهم؛ لأن أهل بلاد القزان محتاجون لإصلاح قراءة القرآن الكريم بالأنغام العربية، ولا يتيسر لكل أحد منهم أن يذهب إلى مصر أو الحجاز، حتى يتلقى من أفواه المشايخ، وإن قلنا بجواز استعماله كنا نتعلم ونأخذ ما في الصندوق من الأنغام العربية المطربة والأصوات المدهشة، وكنا كأبي سلامة الحجازي وغيره من القراء. ولا شك أن استعماله بهذا القصد؛ يكون عبادة أفيدونا ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... أبوأديب حافظ حلمي (ج) إذا كانت علة تحريم استعمال هذا الصندوق في القراءة؛ هي أنه استعمال له في محل اللهو؛ فالتحريم غير ذاتي عندهم، ولا هو تحريم لإيداع القرآن في ألواح هذه الآلة أو أسطواناتها ولا لإداراتها؛ لأجل أدائها للتلاوة، وإنما تحريم لأجل هذا الأداء في محل اللهو واللعب الذي ينافي احترام القرآن، وإذا كان الحكم يدور مع العلة، فيمكن أن يقال: بانتفاء الحرمة عند انتفاء تلك العلة والسماع من الصندوق؛ لأجل العظة أو ضبط القراءة أو غير ذلك من المقاصد الصحيحة، فإن قيل: إنه ينبغي القول بِاطِّرَاد الحرمة؛ لأجل سد ذريعة إهانة القرآن يمكن أن يجاب بمنع كون هذه الإهانة محققة أو غالبة في استعمال المسلمين لهذه الآلة في التلاوة، وعلى تقدير التسليم يقال: إن ما حُرِّمَ لسد الذريعة يباح للحاجة كإباحة رؤية المرأة الأجنبية عند القائلين بتحريم رؤية وجهها؛ لسد ذريعة الفتنة إذا احتيج إلى ذلك؛ لأجل توكيل أو شهادة، وجواز رؤية الطبيب لأي جزء من بدنها المحرم إبداؤه بالإجماع لأجل المداواة، فالصواب أن استعمال هذه الآلة في التلاوة لا يحرم إلا إذا كان فيه إخلال بالأدب الواجب في الاستعمال والسماع، والعمدة في ذلك النية والعرف، وقد يكون مستحيًا إذا كان فيه عظة أو ضبط للقراءة، وربما كان واجبًا كأن يتوقف عليه ضبط وحفظ ما تجب تلاوته في الصلاة كالفاتحة، وقد انتقدنا على السائل تعبيره عن الأداء الصحيح والتجويد لتلاوة القرآن بلفظ الأنغام المطربة؛ فالتطريب الذي يكون من بعض القراء بمصر محظور؛ لأنه ينافي الخشوع، وإذا كان يعني بأبي سلامة الحجازي الشيخ سلامة حجازي المصري المشهور، فليعلم أنه ليس من القراء ولكنه من المطربين. والحاصل أن الإقدام على التحريم ليس بالأمر السهل؛ لأنه تشريع جديد بخلاف القول بالحل؛ فإنه الأصل في الأشياء، والنيات في القلوب، والعرف العام ليس مما يخفى فيختلف فيه الناس، ولا أنكر أن في مصر من لا يراعي الأدب الواجب في هذا الاستعمال فالحذر الحذر.

مشروع إحياء الآداب العربية تقاومه جريدة قبطية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع إحياء الآداب العربية تقاومه جريدة قبطية [*] عزمت الحكومة المصرية على طبع بعض الآثار العربية من المصنفات النافعة النادرة بالمال الخاص بدار الكتب المصرية (الكتابخانة الخديوية) ، وكان لديها في الميزانية ألف جنيه؛ لتنشيط الآداب العربية، فقررت إضافته إلى المحبوس على دار الكتب والاستعانة به على طبع تلك الآثار. عَزْم شَرِيفٌ على عمل صالح يحمده كل أديب عربي، ولا ينتقده عاقل أعجمي؛ لأن هذه الحكومة عربية والأمة الذي تحكمها عربية، وهي حكومة غنية تعد الألف الجنيه قليلة منها على مثل هذا العمل التي تنفق حكومات أوربة وشعوبها في سبيله ألوفًا كثيرة من الجنيهات، حتى صارت دور الكتب في بلادهم كباريس ولندن وليدن وبرلين أغنى من دار الكتب المصرية بمصنفات سلفنا العرب من المصريين وغيرهم، وصاروا يطبعون من نفائسها ما نضطر إلى ابتياعه منهم بل صرنا نرسل أولادنا ليتعلموا الآداب العربية في أوربا وهذا عار علينا عظيم. لم تكن العناية ببذل المال على جمع الكتب العربية ونشرها قاصرًا على الحكومات ورجال العلم من الأوروبيين، بل رأينا بعض الجمعيات الدينية النصرانية تفعل ذلك كجمعية اليسوعيين، فقد رأينا مكتبتها في بيروت جامعة لنفائس الكتب العربية التي يعز نظيرها في مكتبتنا المصرية، وقد طبعت لنا كثيرًا من هذه النفائس. لا ريب في أن العمل الذي شرعت فيه الحكومة المصرية العربية جليل، ولا ريب في أن المال الذي خصصته له في هذه العام من ميزانيتها قليل، فهي تتفق أكثر منه في ضيافة أحد ضيوف الأمير يومًا واحدًا، وتتفق أكثر منه في مساعدة التمثيل الإفرنجي الذي يرى جمهور الأمة أن إثمه أكبر من نفعه، وتتفق أكثر منه في البحث عن أسماك النيل والوقوف على أنواعها، وهو عمل قلما يوجد مصري ينتفع به، وإنما يُعَدُّ مثله من كماليات فروع العلوم في أوربا، وأين نحن من مبادئ أصول هذا الفرع الآن. على هذا كله حمد العقلاء والأدباء مشروع الحكومة الجديد، وهم يرجون منها المزيد، ولم يكن يخطر في البال أن يلقى هذا المشروع اعتراضًا، ولا أن يصادف امتعاضًا، حتى سمعنا نعاب صاحب جريدة الوطن القبطية يدعو بالويل والثبور، وينعي على الحكومة المصرية عملها، ويندب الشعب المصري مدعيًا أن الحكومة تريد بهذا العمل إفساد آدابه ومنعه من العلوم والمعارف والآداب الصحيحة التي ترقيه وتجعله من الشعوب العزيزة الراقية، وزجه في ظلمات (الخرافات والسفاهات والسخافات والجهالات العربية) وزعم الكاتب أنه لا يوجد في الكتب العربية غير تلك المضار التي استفرغ كل ما في جوفه، وجعله وصفًا لها وكل إناء ينضح بما فيه. رأيت في بعض الجرائد بعض عبارات جريدة الوطن البذيئة في هذه المسألة وأطلعني بعض الناس على عدد منها، رأيت الكاتب فيه لم يكتف بتحقير جميع العرب، والقدح في كل ما كتبوا وصنفوا، حتى صرح بذم دينهم في ضمن ذلك، فقال في سياقه البذئ: (وهل أصبح كل ما في مصر آداب العرب وتاريخ العرب وحضارة العرب ودين العرب وكتب العرب وخرافات العرب وغلاطات العرب، وحرم علينا أن نلم بالمفيد، وأن ينفق مالنا فيما يرقي الآداب والمعيشة، ويرفعنا من هذا الحضيض القذر إلى مقام الذين تطهروا من سخفافات الأجداد) .. إلخ. يعني الكاتب بدين العرب دين الإسلام، وهو يريد أن يمحى الإسلام ولغته وآدابهما في مصر وتحل محلها القبطية، وهذا هو السبب الذي جعل مشروع طبع الكتب العربية ينقض عليه انقضاض الصاعقة، كما قال في مقالة يوم السبت 8 ذي الحجة، التي نقلنا هذه الجملة منها آنفًا، وهي أهون ما كتب وأقله بذاء، وما هو بالمصاب الكبير في نفسه الذي يصعق له الناس، فيصرعون فيقومون كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس لا يدرون ماذا يقولون. صاحب الوطن جاهل بلغة العرب وآداب العرب وحضارة العرب، وتاريخ العرب ودين العرب لا يعرف من ذلك ما يجيز له الحكم في نفعها وضررها , لكن الجهل وحده لا يستطيع أن يهبط بصاحبه إلى الدرك الأسفل الذي وقع فيه صاحب الوطن ومن عاونه على تلك الكتابة، وإنما ذلك الغلو في التعصب الديني وبغضه لمسلمي وطنه جعله يصعق من كل شيء يستفيدون منه في دينهم، وإن كان نافعًا للبلاد المصرية. لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها في هذه المسألة بإعلامه أن اللغة العربية ليست خاصة بالمسلمين، وإنما هي مشتركة بينهم وبين غيرهم في نفس جزيرة العرب لا في مصر وحدها، وقد كانت لغة لليهود والنصارى فيها قبل ظهور الإسلام، وقد صارت بعده اللغة الطبيعية لجميع العراقيين والسوريين والمصريين وسائر القسم الشمالي من أفريقية، وأنه ليس في استطاعة صاحب جريدة الوطن وصاحب جريدة مصر القبطيتين، ومن على رأيهما من المتعصبين نسخها واستبدل القبطية بها، وإذا كان الأمر كذلك وكان من البديهيات أن ارتقاء أمة بدون ارتقاء لغتها وآداب لغتها من المحال، وكان يجب ارتقاء المصريين عامة في العلوم والفنون والمدنية كما يدعي، فالواجب عليه أن يشكر للحكومة عملها في خدمة آداب لغتها ولغة أمتها لا أن يصعق عند علمه بذلك. لو كانت علته هي الجهل وحده؛ لأمكن مداواتها بإعلامه بما قال منصفو علماء الإفرنج في بيان فضل لغة العرب وآدابهم وحضارتهم كغوستاف لوبون صاحب كتاب مدنية العرب، وسديو صاحب تاريخ العرب، ودرابر وغيرهم، وقد سئل أحد علماء الإنكليز إذا أراد البشر أن يوحدوا لغتهم، فأي اللغات تختار أن تكون لغة جميع البشر؟ قال اللغة العربية. وقد قال لي مرة مستر: (متشل أنس) الإنكليزي الذي كان وكيلا لنظارة المالية: ما أظن أنه يوجد في العربية شعر أرق كالشعر الإنكليزي، فقلت: وأنا أظن العكس ولا عبرة برأي ولا برأيك في ذلك، فيجب أن نرجع إلى بالعارف باللغتين، صاحب الذوق في الشعرين، ثم لقيت مستر (بلنت) الكاتب الشاعر الإنكليزي المشهور، والذي نظم المعلقات السبع العربية بالإنكليزية، فذكرت له ذلك فقال: قل (لمتشل أنس) : إن العرب كانوا ينطقون بالحكمة في شعرهم عندما كان الإنكليز مثل الوحوش يطوفون في الغابة عراة الأجسام. لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن الأمم الحية تبحث عن الكتب القديمة في لغتها وكذا في لغة غيرها؛ لأجل الوقوف على سير العلوم والفنون والآداب فيها توسعًا في التاريخ وتحقيقًا لمسائله، ولا سيما إذا كانت كتب تلك اللغات من حلقات سلسلة المدنية والحضارة كاللغة العربية التي هي الحلقة الموصلة بين المدنية الأوربية الحاضرة، والمدنيات القديمة بإجماع العارفين. لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه بما في الكتب العربية من الآداب والفضائل ولو بالإجمال، وبوجه حاجة الأمة التي تسير في طريق الارتقاء من معرفة تاريخ لغتها وآثار سلفها فيه، وبأن تكونها من شعوب كثيرة لها سلف آخرون في النسب والدين أو المدنية، لا ينافي حاجتها إلى إحياء آثار سلفها في اللغة؛ لأن رابطة اللغة هي التي تربط هذه الشعوب بعضهم ببعض، وتجعل ارتقاءهم بها وحياتهم العامة بحياتها. لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن البشر متشابهون في الصفات والأعراض البشرية، وأن ذلك خيره وشره يظهر في لغاتهم، فإذا كانت عين التعصب أرته في بعض الكتب العربية طعنًا من مسلم في دين النصارى فيعلم أن في الكتب العربية القديمة والحديثة طعنًا من النصارى في الإسلام مثل ذلك أو أشد، إذا كان قد عمي عما يكتبه هو وغيره من قومه في هذا العصر من الطعن في الإسلام، وحسبه منه العبارة التي نقلناها آنفًا التي جعل فيها دين العرب وآدابهم من الأقذار التي قاءها في جريدته، ويوجد في كتب الإفرنج من الطعن في الدين الإسلامي والمسلمين ما هو أشد من ذلك وأقبح، وكله بهتان لم يخطر على بال أحد من أجهل جهلاء المسلمين بالإسلام، وإذا كان قد رأى أو سمع أن في بعض الكتب العربية مجونًا؛ فليسأل المطلعين على اللغات الأوربية، يخبروه أن في بعضها من فنون المجون ما لم يكن يخطر على بال أحد من العرب، ولا يجري على لسانه ولا على قلمه، وهل أنتنت الدنيا إلا بفواحش بغايا أوربة، وبقيت لغاتهم منزهة عن التعبير عن ذلك. لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإعلامه أن طبع الحكومة لبعض الكتب العربية؛ لا تقصد أن تستغني به عما تستفيده من الإفرنج مما لا بد لنا منه من الفنون الصناعية والزراعية والاقتصادية، ولا أن تبطل به نظام التعليم في المدارس، فتعلم تلاميذها الجغرافيا والقديمة بدلاً من الجغرافية الحديثة مثلاً، بل لا نظن أن هذا مما يخفى عليه. لو كانت علته هي الجهل وحده لأمكن مداواتها بإطلاعه على نظام التعليم في مدارس الحكومة التي يدعي أنها تريد قتل الأمة بجهالات العرب، وإخباره بأن نظارة المعارف قد أنشأت قلمًا جديدًا لترجمة الكتب المفيدة، فهي إذا التفتت إلى ترقية لغتها بإحياء تاريخها الماضي لفتة واحدة، فقد نظرت إلى ترقيتها بإدخال العلوم الأوربية فيها قبل ذلك، ولك مدارسها شاهدة على ذلك، وإنما قلم الترجمة الجديد حسنة من حسنات الناظر الجديد أحمد حشمت باشا. ليست علة صاحب جريدة الوطن هي الجهل فنداويها بما ذكرنا، وما لم نذكر من العلم الصحيح، فإن الجهل وحده لا يستطيع إلى أن يهبط به إلى هذه الدركة من الخذلان، وإنما علته هي الغلو في التعصب القبطي وكراهة كل شيء ينفع الإسلام والمسلمين وإن نفع غيرهم ولم يضرهم، وقد بلغني وأنا في الآستانة أن التعصب قد لج به وبزميله صاحب جريدة مصر في هذا العام، حتى أنكر ذلك عليهما قومهما، وهذه العلة لا علاج لها ولا دواء ولكن يمكن تخفيف أعراضها بحكمة الحكومة وعدلها أو بإظهار جمهور القبط السخط عليها إن كانوا يفعلون. نشرنا هذه المقالة في المؤيد، ثم إن الحكومة أنذرت صاحب جريدة الوطن بهذا الذنب وكان قد أُنْذِر من قبل، فإذا أتى بعد هذا بأي ذنب يعاقب عليه القانون تقفل جريدته. وأما القبط فقد ظهر من جمهور كبير منهم أنهم راضون من وقاحة جريدة الوطن وتهجمها؛ ولذلك ساعدتها جريدتهم الثانية (مصر) على ذلك، وأيدتهما جريدة (الأخبار) أيضًا، والظاهر أن القوم يريدون بهذا التهجم الذي لا يعقل له سبب إحداث فتنة بين المسلمين والقبط، يظنون أن ذلك يكون سبب البطشة الكبرى من إنكلترا، فلا تبقى للمسلمين في هذه الحكومة باقية.

الدين والإلحاد والاشتراكية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدين والإلحاد والاشتراكية نصر المقتطف الإيمان على التعطيل يظن الكثيرون أن صاحبي مجلة المتقطف من الملاحدة المعطلين، وكنت أنا أظن ذلك، حتى اتفق من بضع سنين أن جرت بيننا مناظرة خاصة جر إليها الكلام العادي، وكنت أنا الموجب المثبت بالطبع، وكان آخر قولي المقبول فيها وصفوته أن هذه الكائنات في جملتها حادثة، لم يكن شيء منها كما نعرفه الآن، وفيها من الإبداع والنظام ما يستحيل أن يكون حصل بالمصادفة، أو يكون مصدره العدم المحض، بل يجب عقلاً أن يكون لهذا الإبداع والنظام العجيب في العوالم العلوية والأرضية مصدر وجودي، ولكن حقيقة هذا المبدِع المُوجد للنظام والحافظ له مجهولة، فنحن نسميه (الله) فإذا اعترف الماديون بما قلناه وسموا ذلك المبدع (المادة) ، فالاختلاف إنما يكون بالتسمية والألفاظ، إلخ ما دار بيننا يومئذ ووافقني فيه مناظري أو محدثني على إثبات وجود البارئ عز وجل، وأن من كفر من علماء أوربا بإله الكنيسة لا يمكنه أن يكفر بإله الطبيعة، وأعني بإله الكنيسة الموصوف بما تصفه به من الأقانيم والصفات، وكنت أقول في نفسي بعد ذلك: هل الدكتور يعقوب صروف مادي حقيقة؟ وهل كانت مناظرته لي استرسالاً في هذا البحث العلمي أم انتصارًا لاعتقاده أم اختبارًا لي. ذكرت في كتابي (الحكمة الشرعية) الذي كان أول شيء ألفته أو كتبته في المسائل العلمية الدينية والاجتماعية أن أجدر الناس بقوة الإيمان بالله تعالى علماء الطبيعة الواقفون على ما لا يعرفه غيرهم من علماء الدين بنظام الكون وآيات الله تعالى فيه وهم العلماء المشار إليهم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: 27-28) فلا ريب أن المراد بالعلماء هنا العلماء بآياته تعالى، وحكمه في نظام هذه الكائنات المذكورة في الآيات. ثم رأيت في فاتحة جزء المقتطف الذي صدر في هذا الشهر مقالة علمية لمحرر المقتطف، يرد فيها على أحد المعطلين الاشتراكيين، ويستدل على وجوده تعالى بآياته في خلقه على طريقة القرآن لا على طريقة المتكلمين النظرية، ويشرح هذه الآيات شرحًا علميًا على طريقة علماء الكون في هذا العصر، وقد أشار في هذه المقالة إلى سبب كتابتها؛ وهو ما نشره بعض المتعطلين في باب المراسلة والمناظرة منه. راجعنا باب المناظرة، فرأينا فيه رسالة بإمضاء (سلامة موسى) ؛ يرتأي فيها أن الحكومة المصرية لا يصلح حالها إلا بالسير على مذهب الاشتراكيين الذي عنوانه (لا رب ولا سيد) ؛ أي لا دين ولا سلطة، وقال الكاتب في رسالته ما نصه: (ما هي اعتراضاتكم على الاشتراكية وعلى الالحاد؟ ماتت بالأمس زوجة لصديق اشتراكي لي، فشيعناها إلى القبر بلا صلاة، وكان على عربة المائتة علم كبير مكتوب عليه بحروف واضحة، يكاد يقرأها الأعمى (لا رب ولا سيد) ، ولم أر العالم اختل بذلك ولا الطريق تغيرت ولا الله ظهر ليثبت وجوده) . وقد علق المقتطف على هذه الرسالة تعليقًا وجيزًا، ثم أيده بتلك المقالة، فرأينا أن ننقل في المنار كل ما كتبه تذكيرًا للعالم، وعبرة للمقلدين في الكفر الذين يقولون: لو كان أصل الدين حقًا لما أنكر وجود الله تعالى العلماء العارفون بنظام الكائنات، وقد كثر عندنا هؤلاء المقلدون الذين قال في مثلهم الشاعر العربي: عُمْيُ القلوب عَمُوا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدًا وقد رأينا أن ننقل ما كتبه المقتطف في التعليق على رسالة ذلك الملحد أولاً، ثم ننقل مقالته التي أيد فيها الإيمان، ثم نعقب ببعض ما كنا كتبناه في العام الماضي في مسألة من المسائل التي ألم بها المقتطف، وهي حال المتدينين في الفضيلة، وكون العمران مبنيًا على أساس الدين، والكفر داعية الفساد والخراب، وهذا نص تعليقه على الرسالة. (المقتطف) نشرنا هذه الرسالة على جاري عادتنا من نشر رسائل المرسلين ومناظرات المناظرين، ولو كانت على غير رأينا، والغرض من نشرها إطلاع القراء على كيفية نظر الاشتراكيين في المسائل الاجتماعية، ولا شبهة أن في الاجتماع البشري مساوئ كثيرة يجب نزعها، وأمراضًا مزمنة يجب علاجها، وأن الاشتراكية أفادت فائدة كبيرة في التنبيه إلى هذه المساوئ وهذه الأمراض، ولكن سير العمران لم يتوقف على الاشتراكية والمصلحون الذين لهم اليد الطولى في إصلاح حال المجتمع لم يتبعوا خطة واحدة وطريقة مقررة؛ فبعضهم أفاد المجتمع بنشر المبادئ الأدبية، وبعضهم أفاده بنشر المبادئ الدينية، وبعضهم بالثورة على المستبدين: ولا تفلح طريقة من الطرق ما لم تتهيأ وسائلها وتستعد الأمم لها، وإلا كانت كالضرب في الحديد البارد، وعلمنا واختبارنا يدلاننا على أن الأمة المصرية سائرة في الطريق الذي يكن سيره في هذا القطر للبلوغ إلى نزع المساوئ القديمة. قلنا الأمة المصرية ولم نقل الحكومة المصرية؛ لأن الحكومة جزء من الأمة، والموظفون الأجانب الذين فيها من الإنكليز وغيرهم، لا يقلون عن الوطنيين اهتمامًا بإصلاح البلاد، والإصلاح المالي مقدم على الإصلاح العلمي دائمًا، كما يشهد تاريخ الاجتماع، فلم يخطئ لورد كرومر في سياسته المالية؛ أى تقديم الإصلاح المالي على الإصلاح العلمي؛ لأن الإنسان إذا أصلح ماله سهل عليه بعد ذلك تعليم أولاده وإلا فلا، والحكومة الغنية يسهل عليها إنشاء المدارس ونشر التعليم، وأما الحكومة الفقيرة فيصعب عليها ذلك أو يتعذر. والتعطيل أي إنكار وجود الله ونسبة الإنسان إليه من مقوضات دعائم العمران ولا عبرة بثبوت العمران الآن بين الأقوام الذين شاع التعطيل عندهم؛ لأنهم تربوا تربية دينة؛ فرسخ في نفوسهم عمل الواجب وكراهة الكذب، والاعتداء على الغير ونحو ذلك من الشرور. ولكن إذا نزع مبدأ الحلال والحرام الديني تعذر وضع مبدأ آخر يقوم مقامه ويرسخ رسوخه؛ ولذلك يوجس المفكرون شرًّا مما ستصير إليه حال أوربا وأميركا في أواخر هذا القرن إذا انتشر التعطيل فيهما، هذا فضلاً عن أن التعطيل غير معقول لذاته، ففرضه خطأ علميًا كما هو ضرر اجتماعيًّا، والمجاهرة به تفضي إلى أكبر المضار على نوع الإنسان) اهـ. وهذه مقالته الافتتاحية: آياته في خلقه في باب المراسلة في هذا الجزء رسالة لكاتب يرى أن التعطيل: أي إنكار وجود الخالق لا يضر أحدًا، ونحن نرى أنه يأتي بأكبر المضار. ولكن هب أنه لا يضر فهل هو معقول؟ في إدارة المقتطف مطبعة أو آلة طباعة، يديرها سير من الجلد تحركه الكهربائية، فتسحب الورق من لفتين كبيرتين وتمرَّه فوق حروف الطباعة بعد أن تحبرها، وتطبعه من وجهيه وتقص منه صفحتين بعد صفحتين، وتضع إحداهما داخل الأخرى، وتلصقها بها وتطويهما طولاً وعرضًا أربع طيات، فيخرج المقطم منها مطبوعًا مقصوصًا ملصوقًا مطويًا. وهي تطبع كذلك اثني عشر ألف نسخة في الساعة، وتقصها وتلصقها وتطويها وتعدها تفعل ذلك كله من غير أن تساعدها يد أو يرشدها عقل، ولكن لقد اشتغلت عقول مئات العلماء وعملت أيادي ألوف من العمال مدة سنين كثيرة إلى أن صارت هذه الآلة تعمل هذا العمل، وحتى الآن لا يخرج منها عدد واحد من المقطم إلا بعد أن تشتغل العقول وتعمل الأيادي في بلدان كثيرة في عمل الورقة والحبر، واستخراج الفحم الحجري وتوليد الكهربائية، ناهيك بما يلزم للآلات الكهربائية من المواد والعمال، وبما لزم لسبك الحديد والنحاس والرصاص والنيكل ونحو ذلك من المعادن التي دخلت في عمل آلة الطباعة، وعمل الحروف وعمل الآلات الكهربائية. ولو أحصينا جميع الذين اشتغلوا في عمل كل ما يلزم لطبع جزء واحد من المقطم؛ لبلغ عددهم ألوفًا وعشرات الألوف، فمن يقول: إن المطبعة تطبع الجريدة لذاتها، وينكر كل ما وراءها من العقول يخالف كل معقول. يزرع القمح في هذا القطر في نحو مليون وربع مليون من الأفدنة، ومساحة الفدان أربعة آلاف ومئتي متر مربع، ولا يقل عدد السنابل في المتر المربع من مئتي سنبلة، فعدد السنابل كلها التي تنبت كل سنة في القطر المصري وحده لا يقل عن مليون سنبلة: أي أكثر من عدد كل سكان الأرض ست مئة ضعف، وفي كل سنبلة بل في كل حبة من حبوبها من الدقة في التركيب، والحكمة في النوع والصفات الموروثة والمكتسبة، والاستعداد للنمو والتوليد ما لا يوجد عشر معشاره في آلة الطباعة المشار إليها آنفًا، فمن يستطيع أن ينكر وجود العقل الموجد لها والمتولي شئونها؛ ولو بإيجاد القوى التي تحرك كل دقيقة من دقائقها وكل ذرة من ذراتها. وإذا استنرت بنور الكيمياء، وحللت دقائق حبة القمح، رأيت أن كل دقيقة منها مؤلفة من ملايين وملايين الملايين من الذرات الصغيرة كلها متحركة ولا تحرك أجزاء آلة الطباعة، وفيها من الصفات والخواص ما يميز القمح الصعيدي عن البحيري والهندي عن البلدي. ثم إذا علمت أن ما يزرع من القمح في هذا القطر ليس جزءًا من مئة مما يزرع في الأرض كلها، ولا جزءًا من مئة ألف جزء مما ينمو من سائر الحبوب والبزور، رأيت أن عالم النبات وحده يذهل العقول، حتى لا ترى لها مندوحة عن الاعتراف بالقوة الخارقة المدبرة. وعالم الحيوان لا يقل عن عالم النبات في غرائبه، ترى في هذا الرسم حيوانًا من أصغر الحيوانات الدنيا السابحة في الماء؛ طوله جزء من ثلاثة آلاف جزء من العقدة: أي لو جمع ثلاثة آلاف حيوان منه، ونظمت طولاًَ في سطر واحد، ما بلغ طولها أكثر من عقدة بوصة، فلا يرى إلا بالميكروسكوب (المجهر) ، راقب بعضهم هذا الحيوان في العام الماضي ودرس طبائعه وكتب عنه يقول: رأيته أولاً كما في الشكل الأول، ومستطيلاً وله ذنب دقيق طويل، وعند مغرز هذا الذنب في بدنه ذنب آخر غليظ قصير فيسبح في الماء بتحريك هذين الذنبين، وبعد أن يسبح مدة تختلف من بضع دقائق إلى بضع ساعات، يسكن ويصير كرويًا كما ترى في الشكل الثاني، ويبقى ذنبه الطويل متحركًا متمعجًا كالأفعى، وحركته تجعل أمواجًا في الماء تندفع إليه بما فيها من الميكروبات. وحينما تدنو هذه الميكروبات منه ينحني عليها ذنبه الطويل، وتنفتح لها فتحة بين الذنبين فتبتلعها، على هذه الصورة يلقم هذا الحيوان غذاءه، وقد يلتقم حيوانات صغيرة من نوعه كما ترى في الشكل الثالث والرابع؛ فهو من الحيوانات المفترسة على صغر جسمه وحقارة قدره، وقد التقم واحد أمامي خمس حيوانات صغيرة من نوعه في تسع ساعات وقبض على ثلاثة أخرى ليبتلعها. لكنها تملصت منه وهربت بعد أن كاد يفترسها، وفي باطنه سائل حامض يهضم ما يفترسه كما تهضم معدنا الطعام، ثم يسكن مدة بعد ما يتغذى الغذاء الكافي، ويعود جسمه مستطيلاً كما كان أولاً، وتكثر المادة الحبيبية فيه، ويحدث له حينئذ أمر من أمرين: إما أن يستدق من وسطه كما ترى في الشكل الخامس، ثم ينقسم إلى حيوانين مستقلين كما ترى في الشكل السادس، كل منهما مثل الحيوان الأول. وإما أن يتغير شكله وتضعف حركته ويأتي حيوان آخر يشبهه وهو في شكله الأول، ويلتصق به كما ترى في الشكل

الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [*] (2) وقد اختلف المتكلمون في بيان أغراض الباطنية في دعوتها إلى بدعتها، فذهب أكثرهم إلى أن غرض الباطنية الدعوة إلى دين المجوس بالتأويلات التي يتأولون عليها القرآن والسنة، واستدلوا على ذلك بأن زعيمهم الأول ميمون بن ديصان كان مجوسيًا من سبي الأهواز، ودعا ابنه عبد الله بن ميمون الناس إلى دين أبيه، واستدلوا أيضًا بأن داعيهم المعروف بالبزدهي قال في كتابه المعروف بالمحصول: إن المبدع الأول أبدع النفس، ثم إن الأول مدبر العالم بتدبير الكواكب السبعة والطبائع الأربع، وهذا في التحقيق معنى قول المجوس: إن أليزدان خلق أهرمن، وإنه مع أهرمن مدبران للعالم غير أن أليزدان فاعل الخيرات وأهرمن فاعل الشرور، ومنهم من نسب الباطنية إلى الصابئين الذي هم بحران، واستدل على ذلك بأن حمدان قرمط داعية الباطنية بعد ميمون بن ديصان كان من الصابئة الحرانية، واستدل أيضًا بأن صابئة حران يكتمون أديانهم ولا يظهرونها إلا لمن كان منهم، والباطنية أيضًا لا يظهرون دينهم إلا لمن كان منهم؛ بعد إحلافهم إياه على أن لا يذكر أسرارهم لغيرهم. قال عبد القاهر: الذي يصح عندي من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة، يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها؛ لميلها إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع، والدليل على أنهم كما ذكرناه ما قرأته في كتابهم المترجم بالسياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأعظم، وهي رسالة عبد الله بن الحسن القيرواني إلى سليمان بن الحسن بن سعيد الجناني أوصاه فيها بأن قال له: ادع الناس بأن تتقرب إليهم بما يميلون إليه، وأوهم كل واحد منهم بأنك منهم، فمن أنست منه رشدًا فاكشف له الغطاء، وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به؛ فعلى الفلاسفة معولنا، وإنا وإياهم مجمعون على أن نواميس الأنبياء (كذا) ، وعلى القول بقدم العالم ما يخالفنا فيه بعضهم من أن للعالم مدبرًا لا يعرفه. وذكر في هذا الكتاب القول بالميعاد والعقاب، وذكر فيه أن الجنة نعيم الدنيا، وأن العذاب إنما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد، وقال أيضًا في هذه الرسالة: إن أهل الشرائع يعبدون إلهًا لا يعرفونه ولا يحصلون منه إلا على اسم بلا جسم، وقال فيها أيضا: اكرم الدهرية؛ فإنهم منا ونحن منهم، وفي هذا تحقيق نسبة الباطنية إلى الدهرية. والذي يؤكد هذا أن المجوس يدعون نبوة زرادشت ونزول الوحي عليه من عند الله تعالى، والصابئين يدعون نبوة هرس وواليس ودوروتيوس وأفلاطون وجماعة من الفلاسفة، وسائر أصحاب الشرائع كل صنف منهم مقرون بنزول الوحي من السماء على الذين أقروا بنبوتهم، ويقولون: إن ذلك الوحي شامل للأمر والنهي، والخبر عن عاقبة الموت، وعن ثواب وعقاب، وجنة ونار يكون فيهما الجزاء عن الأعمال السالفة. والباطنية يرفضون المعجزات وينكرون نزول الملائكة من السماء بالوحي والأمر بالنهي، بل ينكرون أن يكون في السماء ملك وإنما يتأولون الملائكة عن دعاتهم إلى بدعتهم ويتألون الشياطين على مخالفيهم والأبالسة على مخالفيهم. ويزعمون أن الأنبياء قوم أحبوا الزعامة فساسوا العامة بالنواميس والحيل؛ طلبًا للزعامة بدعوى النبوة والإمامة. وكل واحد منهم صاحب دور مسبع إذا انقضى دوره سبعة تبعه في دور آخر، وإذا ذكروا النبي والوحي قالوا: النبي هو الناطق والوحي أساسه الفاتق، وإلى الفاتق تأويل نطق الناطق على ما نراه يميل إليه هواه، فمن صار تأويله الباطن فهو من الملائكة البررة، ومن عمل بالظاهر فهو من الشياطين الكفرة، ثم تأولوا لكل ركن من أركان الشريعة تأويلاً يورث تضليلاً، فزعموا أن معنى الصلاة موالاة إمامهم، والحج زيارته وإدمان خدمته، والمراد بالصوم الإمساك عن إفشاء سر الإمام دون الإمساك عن الطعام، والزنا عندهم إفشاء سرهم بغير عهد وميثاق، وزعموا أن من عرف معنى العبادة سقط عنه فرضها، وتأولوا في ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} (الحجر : 99) ، وحملوا اليقين على معرفة التأويل، وقد قال القيرواني في رسالته إلى سليمان بن الحسن: إني أوصيك بتشكيك الناس في القرآن والتوراة والزبور والإنجيل، وبدعوتهم إلى إبطال الشرائع، وإلى إبطال المعاد والنشور من القبور، وإبطال الملائكة في السماء، وإبطال الجن في الأرض. وأوصيك بأن تدعوهم إلى القول بأنه قد كان قبل آدم بشر كثير، فإن ذلك عون لك على القول بقدم العالم. وفي هذا تحقيق دعوانا على الباطنية أنهم دهرية؛ يقولون بقدم العالم ويجحدون الصانع، ويدل على دعوانا عليهم بالقول بإبطال الشرائع. وأن القيرواني قال أيضًا في رسالته إلى سليمان بن الحسن: وينبغي أن تحيط علمًا بمخاريق الأنبياء ومناقضاتهم في قوله كعيسى ابن مريم قال لليهود: لا أرفع شريعة موسى ثم رفعها بتحريم الأحد بدلاً من السبت، وأباح العمل في السبت، وأبدل قبلة موسى بخلاف جهتها؛ ولهذا قتلته البلاد لما اختلفت كلمته، ثم قال له: " ولا تكن كصاحب الأمة المنكوسة حين سألوه عن الروح فقال: {الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} (الإسراء: 85) [1] لما لم يحضره جواب المسألة، ولا تكن كموسى في دعواه التي لم يكن له عليها برهان سوى المخرقة بحسن الحيلة والشعبذة، ولما لم يجد المحق في زمانه عنده برهانًا، قال له: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي} (الشعراء: 29) ، وقال لقومه: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} (النازعات: 24) لأنه كان صاحب الزمان في وقته، ثم قال في آخر رسالته: وما العجب من شيء كالعجب من رجل يدعي العقل، ثم يكون له أخت أو بنت حسناء، وليست له زوجة في حسنها، فيحرمها على نفسه، وينكحها من أجنبي، ولو عقل الجاهل لعلم أنه أحق بأخته وبنته من الأجنبي؛ ما وجه ذلك إلا أن صاحبهم حرم عليهم الطيبات، وخوفهم بغائب لا يعقل وهو الإله الذي يزعمونه وأخبرهم بكون ما لا يرونه أبدًا من البعث من القبور والحساب والجنة والنار، حتى استعبدهم بذلك عاجلاً، وجعلهم له في حياته ولذريته بعد وفاته خولاً، واستباح بذلك أموالهم، بقوله: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) [2] فكان أمره معهم نقد وأمرهم معه نسيئة، وقد استعجل منهم بذل أرواحهم وأموالهم على انتظار موعود لا يكون، وهل الجنة إلا هذا الدنيا ونعيمها؟ وهل النار وعذابها إلا ما فيه أصحاب الشرائع من التعب والنصب في الصلاة والصيام والحج؟ ثم قال لسليمان بن الحسن في هذه الرسالة: وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتم نعيمها ولذاتها المحرمة على الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس، فهنيئًا لكم ما نلتم من الراحة عن أمرهم، وفي هذا الذي ذكرناه دلالة على أن غرض الباطنية؛ القول بمذاهب الدهرية واستباحة المحرمات وترك العبادات. ثم إن الباطنية لهم في اصطياد الأغنام ودعوتهم إلى بدعتهم حيل على مرات يسمونها التفرس والتأنيس والتشكي والتعليق والربط والتدليس والتأسيس والمواثيق بالأيمان والعهود وآخرها الخلع والسلخ. فأما التفرس فإنهم قالوا: من شرط الداعي إلى بدعتهم أن يكون قويًا على التلبيس وعارفًا بوجوه تأويل الظواهر؛ ليردها إلى الباطن، ويكون مع ذلك مميزًا بين من يجوز أن يطمع فيه، وفي إغوائه وبين من لا مطمع فيه؛ ولذا قالوا في وصاياهم للدعاة إلى بدعتهم: لا تتكلموا في بيت فيه سراج، يعنون بالسراج من يعرف علم الكلام ووجوه النظر والمقاييس. وقالوا أيضًا لدعاتهم: لا تطرحوا بزركم في أرض سبخة: وأردوا بذلك منع دعاتهم عن إظهار بدعتهم عند من لا تؤثر فيهم بدعتهم؛ كما لا يؤثر البذر في الأرض السبخة شيئًا. وسموا قلوب أتباعهم الأغنام أرضًا زاكية لأنها تقبل بدعتهم. وهذا المثل بالعكس أولى، وذلك أن القلوب الزاكية هي القابلة للدين القويم والصراط المستقيم وهي التي لا تصدأ بِشُبَهِ أهل الضلال؛ كالذهب الإبريز الذي لا يصدأ في الماء ولا يبلى في التراب ولا ينقص في النار، والأرض السبخة كقلوب الباطنية وسائر الزنادقة الذين لا يزجرهم عقل ولا يردعهم شرع، فهم أرجاس أنجاس {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} (النحل: 21) ، {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 44) ، وأقل حويلاً قد قسم لهم الحظ من الرزق من قسم رزق الخنازير في مراعيها، وأباح طعمة العنب في براريها، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (الأنبياء: 23) . وقالوا أيضاً: من شرط الداعي إلى مذهبهم أن يكون عارفًا بالوجوه التي تدعي الإنصاف. فليست دعوة الإنصاف من وجه واحد، بل لكل صنف من الناس وجه يدعى منه إلى مذهب الباطن، فمن رآه الداعي مائلاً إلى العبادات، حمله على الزهد والعبادة، ثم سأله عن معاني العبادات وعلل الفرائض وشككه فيها. ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له: العبادة بله وحماقة، وأن الفطنة في نيل اللذات وتمثل له بقول الشاعر: من راقب الناس مات هما ... وفاز باللذة الجسور ومن رآه شاكًّا في دينه أو في المعاد والثواب والعقاب، صرح له بنفي ذلك، وحمله على استباحة المحرمات، واستروح معه إلى قول الشاعر الماجن: أأترك لذة الصهباء صرفًا ... لما وعدوه من لبن وخمر حياة ثم موت ثم نشر ... حديث خرافة يا أم عمرو ومن رآه من غلاة الرافضة؛ كالسبائية والبيانية والمغيرية والمنصورية والخطابية، لم يحتج معه إلى تأويل الآيات والأخبار؛ لأنهم يتأولونها معهم على وفق ضلالتهم، ومن رآه من الرافضة زيديًا أو إماميًا مائلاً إلى الطعن في أخبار الصحابة، دخل عليه من جهة شتم الصحابة، وزين له بغض بني تيم؛ لأن أبابكر منهم، وبغض بني عدي لأن عمر بن الخطاب كان منهم، وحثه على بغض بني أمية لأنه كان منهم عثمان ومعاوية، وربما استروح الباطني في عصرنا هذا إلى قول إسماعيل بن عباد: دخول النار في حب الوصي ... وفي تفضيل أولاد النبي أحب إلى من جنات عدن ... أخلدها بتيم أو عدي قال عبد القاهر: قد أجبنا هذا القائل بقولنا فيه: أتطمع في دخول جنات عدن ... وأنت عدو تيم أو عَدِيّ وهم تركوك أشقى من ثمود ... وكم تركوك أفضح من دَعِيّ وفي نار الجحيم غدًا ستصلى ... إذا عاداك صديق النبي ومن رآه الداعي مائلاً إلى أبي بكر وعمر مدحهما عنده، وقال: لهما حظ في تأويل الشريعة؛ ولهذا استصحب النبي أبابكر إلى الغار ثم إلى المدينة، وأفضى إليه في الغار تأويل شريعته. فإذا سأله الموالي لأبي بكر وعمر عن التأويل المذكور ولأبي بكر وعمر أخذ عليه العهود والمواثيق في كتمان ما يظهر له، ثم ذكر له على التدريج بعض التأويلات، فإن قبله منه أظهر له الباقي وإن لم يقبل منه التأويل الأول ربطه في الباقي وكتمه عنه، وشك الغر من أجل ذلك في أركان الشريعة. والذي يروج مذهب الباطنية أصناف: أحدهما العامة الذين قتلت بصائرهم بأصول العالم والنظر؛ كالنبط والأكراد وأولاد المجوس. والصنف الثاني الشعوبية الذين يرون تفضيل العجم على العرب، ويتمنون عود الملك إلى العجم , والصنف الثالث أغنام بني ربيعة من أجل غضبهم على مضر لخروج النبي منهم، ولهذا قال عبد الله بن حازم السلمي في خطبته بخرسان: إن ربيعة لم تزل غضابًا على الله مذ بعث نبيه من مضر، ومن أجل حسد ربيعة لمضر، بايعت بنو حنيفة

الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية ـ 3

الكاتب: علي أفندي فهمي محمد

_ الخلافة الإسلامية والجامعة العثمانية [*] (3) (لتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش جيشها) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حديث شريف كان المرحوم عبد الرحمن الكواكبي، وهو ذلك العالم الحر والمفكر الأبي، يشكو من حالة الدولة السابقة، فارتاح الإنجليز إلى مطالبته بالخلافة العربية هو عن حسن نية وبدون إنعام النظر السياسي، وهم عن خبث طوية؛ لأن تقهقر الدولة لم يكن قاصرًا عليها فقط بل كان ماسًّا بمصالحهم، ألف المرحوم كتابه (أم القرى) ولو أنعم نظره السياسي لرأى الضرر الذى يلحق العالم الإسلامي بوجه عام والشرق الأدنى بوجه خاص من جراء هذا المسمى، ولم يقتصر الإنجليز عند حد استغواء هذا العالم من الذين لا يلمون كثيرًا بالاعتبارات السياسية والظروف الخصوصية، بل إن جرأتهم فاقت حد التصور واللياقة؛ إذ كانوا لا يعترفون بالقاضي الشرعي في الصومال إلا إذا أقره شريف مكة، وبمثل هذا التغرير كادوا يضعون غشاوة على بصيرة بعض أمراء الشرق، لا يقدر أحكام وضعها إلا السياسة الإنجليزية. وإني آتي هنا على مثالين أثبت بهما جليًا؛ كيف أن الإنجليز يحاربون الخلافة الإسلامية ثم يستفيدون بادعائهم صداقة (أمير المؤمنين) وشيخ الإسلام سياسيًّا ولو بالتزوير والتزييف. يعلم الكثيرون بالحركة الوطنية المتأججة نارها في الهند، ولما كان الإنجليز في حسن تفاهم مع العثمانيين، زوروا كتابات اسم الخليفة وسماحة شيخ الإسلام، وادعوا فيها أنهما يوصيان مسلمي الهند بالولاء والإخلاص للدولة الإنجليزية، وأقرب هذه الكتابات ذلك الحديث الذي عزاه مكاتب التيمس إلى سماحة شيخ الإسلام في الآستانة الذي نفى مغزاه رسميًّا، وفي ذلك الوقت نفسه كانوا يهربون الأسلحة إلى بلاد العرب، فضبطت أخيرًا عند الشواطئ، واتضح من التحقيق أنها من صنع يد الإنجليز، وكان لسان حالهم يقول: إنه ذلك ينافي صداقتهم للدولة العلية صاحبة الخلافة الإسلامية. هذه القوة الإسلامية السياسية التي يحللها الإنجليز لأنفسهم ويحرمونها على غيرهم ترتعد فرائصهم منها، حتى إن كثيرًا من جرائدهم الاستعمارية كالديلي تلغراف ونحوها لما هنأت جمعية الاتحاد والترقي جلالة السلطان بقولها: (إلى صاحب الخلافة والجلالة أمير المؤمنين وسلطان العثمانيين) زأرت وزمجرت وجردت قول العدوان وشهرت، وقالت: إن مراسلي التلغراف متشبعون بمبدأ الجامعة الإسلامية الشديدة الممقوتة، وهكذا السياسة الإنجليزية تلتوي علينا، وتتسقح حين ترتوي منا وتنتفخ. نحن نود إبقاء الخلافة الإسلامية في آل عثمان ونعمل لذلك بعامل المصلحة؛ وذلك لأن الدولة العثمانية هي أقوى ممالك الإسلام في الحال، وستبقى كذلك في الاستقبال، وهي التي بيدها الحرمان الشريفان، فينبغي أن تكون الخلافة في أيدي العثمانيين حقنا للدماء ومراعاة للمصلحة العامة، وليس لها منازع قوي يؤمل أو يخشى نجاحه، وإنما الدول الأجنبية تفرق بيننا، وتغري بعضنا ببعض حتى تنهك قوانا الفرعية وتضعف السلطة المركزية، والواجب على كل عاقل مخلص أن يجعل هذا السبب نصب عينيه. قال حضرة الكاتب الإسلامي الكبير محمود بك سالم: (جاء إسماعيل باشا فتتبع سعيدًا في سياسته الفرنسوية، فبالغ في مجاملة نابليون الثالث الذي أفهمه أنه سيساعده على الوصول إلى كرسي الملكية المستقلة، فأكثر من الترف والبذخ ليعلو على الأكاسرة والقياصرة وجبابرة الفراعنة، ووزع الهدايا الفاخرة على ملوك أوربا وملكاتها وعلمائها ووزرائها وأغنيائها وصعاليكها بطريقة أبكت العقلاء وأضحكت الجهلاء، ومازال كذلك حتى انكسر نابليون الثالث سنة 1870، فنبذ فرنسا وتعلق بإنجلترا، فألهم أنه لا يكون ملكًا مستقلاً إلا إذا قارب عدد رعاياه عدد رعايا السلطان نفسه، ومن هنا ابتدأت حروب السودان والصومال والحبش ودارفور وأوغنده وزنجبار على غير جدوى للمصريين، بل لفائدة الإنجليز الذين أرسلوا صموئيل بيكر باشا وغردون باشا والمرسلين لينشروا المدنية على شواطئ النيل الأبيض والنيل الأزرق؛ تمهيدًا لسياستهم الكبرى. وكل عاقل نظر إلى قوة الجيش المصري، وسعة تلك الأقطار، وإلى النفقات الباهظة التي أنفقت جزافًا، وإلى الرجال الذين ماتوا هدرًا، ويعدون بمئات الألوف، علم مقدار ما لِحُكَّامِنَا من قصر النظر وسوء التدبير) . هذا شيء قليل جدًّا من كثير جدًّا، مما يبثه الأجانب فيها من عوامل الشقاق والخلاف، فعسى أن تزول هذه البواعث النفسانية التي أدت بنا جميعًا إلى التهلكة. وإني أتذكر أنه لما زار المرحوم مظفر الدين شاه إيران الآستانة في أواخر أيامه، ذكرت جرائدها أنه لما قابل السلطان قَبَّلَ يده، فلما انتهى إليه هذا الخبر قال: (إنها نَبَّهَتْنِي إلى واجب، فاتني أداؤه؛ لأن السلطان هو أمير المؤمنين شرعًا) فأين هذه الروح العالية والنفس الكبيرة من محمد علي شاه إيران السابق الذي كان يحتج بشدة على إلتجاء الأحرار إلى السفارة العثمانية، ويتغافل عن سفارتي روسيا وإنجلترا اللتين سلبتاه بلاده، ولم تنفعاه يوم أن ثُلَّ عرشه، وقد كان يقول: إن روسيا أحب الممالك إلى قلبه. اللهم إنك على كل شيء قدير تخرج الظلمات من النور. ولا أدري ما الذي يُنَفِّر العثمانيين غير المسلمين من الخلافة الإسلامية، وهي كما شرحناها لا تنافي معنى الجامعة العثمانية الوطنية ولا تضر بهم في شيء ما، بل بالعكس تجعل لهم منزلة خصوصية في سائر أنحاء العالم؛ لكونهم عثمانيين من رعايا صاحب الخلافة العثمانية وإن العثماني غير المسلم الذي يتأفف من الخلافة الإسلامية؛ إما أن يكون غير صادق في عثمانيته، وإما أن يكون قصير النظر السياسي، قال كاتب رسائل الإسلام والمدنية لم يمزق هذا الارتباط العجيب تلك الفتوحات السريعة التي قام بها المسلمون على عهد الدول العربية والتركية؛ بيد أن الدول الإسلامية الأولى حاولت أن تفصل بين تينك الصفتين المدنية والدينية، فكان عصر الانفصال مبدأ انحطاط، ولا تزال إلى اليوم خلافة السلطان الأعظم رابطة تربط الشعوب الإسلامية من غير الأتراك بالدولة العلية فتكون بهم قوتها، وإذا جردت السلطان من هذا اللقب لا تلبث أن ترى الدولة العلية تنحل وتصبح دولة ثانوية. لذلك أكرر القول بأن أنصح لجمع العثمانيين بالتآزر والتماسك، فإن يد الله مع الجماعة، ولا يهولنهم القول بالخلافة الإسلامية التي - مع احترامها لشعائرهم الدينية - تكسبهم كثيرًا من المزايا السياسية والاقتصادية، وإني أوصيهم بما أوصاهم به شاعر مصر حافظ إبراهيم في تهنئته إياهم بالدستور: فتفيأوا ظل الهلال فإنه ... جم المبرة واسع الغفران يرعى لموسى والمسيح وأحمد ... حق الولاء وحرمة الأديان فخذوا المواثق والعهود على هدى ... التوراة والإنجيل والفرقان وما قاله شوقي بك شاعر الأمير: أما الخلافة فهي حائط بيتكم ... حتى يبين الحشر عن أحواله أخذت بحد المشرفي ونالها ... لكم القنا بقصاره وطواله طمع القريب أو البعيد بنيلها ... طمع الفتى من دهره بمحاله ما الذئب مرتدًا على ليث الشرى ... في الغاب معتديًا على أشباله بأقل عقلاً وهي في أيمانكم ... ممن يحاول أخذها بشماله وإنني بما قدمته من الحجج التاريخة والنظريات السياسية، أؤمل ألا يكون لمساعي أولئك الأعداء السياسيين المتلبسين بجرمهم بوشاح الصداقة الكاذبة أدنى نصيب من الالتفات، فلا تهنوا ولا تحزنوا، ولا يغتب بعضكم بعضًا، واعملوا بنص الحديث الشريف: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) اهـ. (المنار) نشرنا هذه الرسالة كما هي، ولم نتعرض لتخريج ما ذكر من الأحاديث فيها ولا للبحث في مسائلها، ولكننا نقول: إن أفكار الكواكبي السياسية مبنية على قواعد: منها اليأس من الدولة العلية، ولم يكن يريد أن يكون الخليفة القرشي الذي يخلف الخليفة التركي سلطانًا حاكمًا سائسًا للعرب أو لغيرهم، وإنما كان رأيه أن يكون رئيسًا دينيًا، ينظر في مصالح المسلمين الروحية الأدبية ويرقيها وأكثر الذين يتكلمون عن سياسته لا يعرفون منها شيئًا، ولم يكن للإنكليز ولا لغيرهم من الأجانب رأي ولا علم بتأليفه لسجل جمعية أم القرى، فإنه كتبه في حلب وزاد فيه بمصر، ولم يكن يعلم بذلك أحد إلا أفراد من العثمانيين كصالح أفندي جمال من حزب تركيا الفتاة، وقد ذكرنا في ترجمته المجلد الخامس أننا لم نكن موافقين له في جميع آرائه السياسية.

إحياء اللغة العربية وطبع نوادر مصنفاتها

الكاتب: أحمد حشمت

_ إحياء اللغة العربية وطبع نوادر مصنفاتها كانت العلوم العربية والآداب العربية في الدول العربية في الشرق والغرب والجنوب والشمال زينة الدنيا وأساس عمرانها ومدنيتها، وعنها أخذت أوربا مدنيتها وعلومها وفنونها، وارتقت فيها بعد أن تدلى العرب وضعفوا بذهاب دولهم وتغلب الأعاجم عليها، وإنما ترتقي العلوم والفنون بتأييد الدول القوية لها. لم يقم في الشرق الإسلامي بعد الدول العربية الأصلية والمستعربة دولة قوية إلا الدولة العثمانية، ومن سوء حظ الشرق والإسلام أن كان الترك المؤسسون لها من أهل البداوة، ولم يجعلوا عاصمتهم في مدينة من مدن الحضارة العربية كبغداد والشام ومصر فيتعربوا، ولو فعلوا لتجددت الحضارة العربية الإسلامية واستمر نموها، وكنا نحن السابقين لأوربا. ولكنهم لم يفعلوا ذلك؛ جهلاً منهم لا رغبة في جعل لغتهم هي لغة العلم والحضارة؛ لأن لغتهم بقيت على بدواتها لم تدون، ولم بوضع لها نحو ولا صرف ولا بيان في عهد قوتهم وعظمتهم، وإنما حاولوا ذلك في هذا العصر، فالدولة العثمانية كانت سبب ضعف اللغة العربية بجهلها لا تعمدًا منها إذ لم تكن دولة علم ولا حضارة، بل دولة حرب وقوة. ويحاول كثير من ساستها اليوم أن يحيوا لغتهم؛ ويجعلوها اللغة الطبيعية للشعوب العثمانية كلها، ولو كان ذلك ممكنًا لكانوا معذورين في عرف السياسة الجنسية، ومعذولين في حكم الديانة الإسلامية، ويرى كثير منهم أن اللغة العربية هي العقبة الكؤد في طريق مقصدهم هذا، فهم يحاولون إماتة هذه اللغة وإن كان موتها موتًا للدين الإسلامي (وحاش لله أن يميته) ، ولهذه السياسة المبنية على العصبية الجنسية الجاهلية، يمنع بعض حكام الترك العرب من إنشاء المدارس في بلادهم؛ كما فعل متصرف نابلس في منع فضلاء وجهائها من إنشاء مدرسة فيها؛ وحجته في ذلك أنهم يحيون اللغة العربية فتضعف اللغة التركية عندهم، ولا نذكر هنا ما فعلوه في المحاكم وغيرها من مصالح الحكومة في الولايات العربية، فأوجب الشكوى واللغط. رأيت كثيرًا من العرب العثمانيين خائفين على اللغة العربية أن تموت بمقاومة بعض حكامهم لها، ويجهل هؤلاء أن الله تعالى قد سخر لهذه اللغة أمم الإفرنجة يتدارسون ويحيون موات علومها وآدابها، وإن لها دولة هي أقوى من الدولة العلية حضارة وإن كانت دونها جندية؛ وهي تحت سيادتها دون سياستها وإدراتها ألا وهي الحكومة المصرية العربية. التعليم في الأزهر وملحقاته من المدارس الدينية في هذه البلاد كله باللغة العربية، وجميع مدارس الحكومة والمدارس الأهلية فيها تدرس اللغة العربية وتعلم بعض الفنون بها؛ وبعضها بإحدى لغتي العلم في الغرب الإنكليزية والفرنسية، وقد شرعت الحكومة تستعد لجعل تدريس جميع الفنون بالعربية. وقد شعرت في هذه العام بإحياء المصنفات العربية القديمة في الفنون المختلفة بطبعها في مطبعتها المشهورة، واسترشدت في ذلك بصديقنا أحمد زكي بك الكاتب الثاني لمجلس النظار؛ لما له من الخبرة الواسعة في هذا الباب وقد جاءنا منها الرسالة الآتية في بيان هذا المشروع، وها هي ذي بنصها: الحكومة الخديوية المصرية مجلس النظار إحياء الآداب العربية اجتمع مجلس النظار بسراى رأس التين بالإسكندرية في يوم الإثنين 21شوال سنة 1328 (24أكتوبر سنة 1910) . تحت رئاسة الجناب الخديوي المعظم عباس حلمي الثاني. بحضور صاحب العطوفة محمد سعيد باشا، رئيس المجلس وناظر الداخلية. وأصحاب السعادة سعد زغلول باشا ناظر الحقانية. وحسين رشدي باشا ناظر الخارجية. وإسماعيل سري باشا ناظر الأشغال العمومية والحربية. وأحمد حشمت باشا ناظر المعارف العمومية. ويوسف سابا باشا ناظر المالية. وحضر الجلسة جناب المستر هنري بول هرفي المستشار المالي. كاتب السر الثاني أحمد زكي بك. اطلع المجلس على المذكرة المقدمة من صاحب العطوفة محمد سعيد باشا رئيس المجلس، وعلى التقرير الذي كتبه صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف العمومية عن الوسائل المقتضي اتخاذها لإحياء الآداب العربية بالديار المصرية. وبعد المفاوضة قرر المجلس الموافقة على جميع الاقتراحات التي تضمنتها تلك المذكرة، وتكليف نظارتي المعارف العمومية والمالية بتنفيذها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس المجلس ... ... ... ... ... ... ... ... ... (محمد سعيد) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتب سر ... ... ... ... ... ... ... ... ... (أحمد زكي) مذكرة مرفوعة إلى مجلس النظار كان من دأب الحكومات التي تناوبت الحكم على وادي النيل منذ الزمان القديم طلب المباراة في ميادين السبق؛ لرفع منار العلوم ونشر رايات العرفان؛ سعيًا وراء الفخر المخلد والمجد المؤبد، وكان من همها على الأخص توجيه عنايتها إلى إعلاء شأن اللغة العربية وآدابها؛ بما كانت تبذله من الرغائب لانبعاث الهمم من رقدتها، وانعقاد العزائم على خدمتها، وتعضيد أهل العلم وذوي الفضل على دوام البحث والاستنباط. غير أن نوب الزمان وطوارئ الحدثان تناولت هذه العناية فيما تناولته، فأخمدت نارها، وحجبت أنوارها، فانحلت العزائم، وتلاشت الهمم، وكادت محنة الدهر تقضي على ملكة الاختراع والابتكار بين أهل هذه الديار، وتفقدهم ميل النفس إلى التصنيف والتأليف، ثم تفرع على ذلك اندثار دور الكتب واندراس آثارها بيننا، بعد أن كانت قائمة على الدهر، تشهد للأمة المصرية بعلو كعبها وجميل أثرها في هذا الباب. وما زالت يد الزمن تعبث وتدمر، حتى سخر الله لهذه البلاد محيي مواتها، وباعث رفاتها، ذلك الرجل العظيم محمد على الكبير، رأس هذه الأسرة المالكة، فَزَاوَجَ بين ترقية الأمة المصرية ماديًّا وأدبيًّا، ومزج بين إصلاحها معاشًا ومعادًا، حتى منحه التاريخ لقبًا ينطبق عليه بكل حق وعدل وهو (محيي مصر) . ثم كانت سيرة خلفائه الفخام من بعده على نحو ما رسم وقدر، فكان من حسنات المغفور له إسماعيل باشا أن جمع من هنا وهناك ما أبقته عوادي الأيام من حطام تلك الدور النفيسة دور الكتب القيمة، فتلقف شواردها وضم أشتاتها، وأسس دار الكتب الخديوية القائمة الآن، وأفاض عليها هو وابنه توفيق على الأخص ما يضمن طول بقائها ودوام الانتفاع بها، فكانت غلة العقار المحبوس عليها كفيلة بتقدم هذا المعهد وارتقائه. ولكننا لا نزال نرى إلى اليوم أن دار الكتب هذه لم تتجاوز في مهمتها المطلوبة منها، وهي نشر العلوم والمعارف حد الاستعداد والتأهب للعمل، وقد آن الوقت الذي يجب أن تخطو فيه خطوتها الواسعة في هذا السبيل، وتبرز للملأ من جليل الأعمال ما فيه سرعة ارتقاء الآداب والعلوم. وأمامنا اليوم فرصة حاضرة، حانت لنا بالنظر في المفكرة التي وضعها حضرة أحمد بك زكي الكاتب الثاني لأسرار مجلس النظار، وَضَّمَنَها ما عَنَّ له من وجوه الإصلاح وضروب الوسائل التي من شأنها إحياء الآداب العربية بديار مصر. وقد زَيَّلَهَا بِنُبَذٍ قصيرة عن عدة كتب ومصنفات بخط اليد، توصل إلى نقل صورها بطريقة التصوير الشمسي في القسطنطينية والبلاد الأجنبية. وقد مضى على واضع هذه المفكرة زهاء عشرين سنة، وهو يوالي البحث والتنقيب عن أنواع الطرق الموصلة إلى تعميم المعارف واستنهاض الهمم لاجتياز باب العمل في فنون الإصلاح المطلوب؛ لإحياء العلوم والآداب العربية؛ ولذلك قابل أصحاب الحل والعقد ما شرحه من سديد الآراء ومحكم الوسائل بعين الرضا والقبول، وعهدت الحكومة الخديوية إلى صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف العمومية أن ينظر في الأمر؛ ويقرر فيها ما يرشدها إلى الطريق القويم في هذا الباب. ولست أرى وسيلة لشرح ما رآه سعادته في هذا الموضوع أفضل من إلفات مجلس النظار إلى نص التقرير الجليل؛ الذي يشير فيه إلى وجوب العمل على حسب الخطة التي رسمها صاحب المفكرة؛ مع بيان الوسائل الفعالة لإبراز هذا المشروع إلى حيز الوجود، ولقد بادرت بإبلاغ هذا التقرير إلى نظارة المالية مشفوعًا برأيي في الموافقة عليه من جميع الوجوه، مع تأييد كل ما أشار به سعادته من الاقتراحات النافعة لتجديد الآداب العربية. ولما درس سعادة سابا باشا ناظر المالية هذا المشروع، كتب إليّ كتابًا تاريخه 18أكتوبر سنة 1910 قال فيه: (إن نظارة المالية تشاهد بمزيد الرضا ونهاية الامتنان تلك المجهودات التي مازال يبذلها أحمد بك زكي، وإنها توافق بتمام الارتياح على الغاية التي يسعى ورائها في سبيل تجديد الآداب العربية) . وختم سعادته كتابه بأن نظارة المالية مستعدة لأن تخصص لهذا الغرض مبلغ الألف جنيه مصري المربوط في الميزانية؛ لتشجيع الأعمال الأدبية. فهذه الأريحية الكريمة تدعونا إلى تدقيق البحث في الأسباب التي يكون من شأنها استمرار هذه الحركة المباركة؛ بما يضمن ظهور آثارها بدون انقطاع. وبما أنه من الضروري النظر في تدبير الوسائل التي تكفل لهذا العمل ما يقتضيه من البقاء والاستمرار، وبما أن المصنفات التي نقلها حضرة أحمد زكي بك بالفتوغرافية؛ هي ذات قيمة عظيمة من الوجهة العلمية والتاريخية والأدبية، وبما أن معظم هذه المصنفات التي أشار إليها هي من وضع المؤلفين المصريين، ولا نكاد نرى لها أثرًا في البلاد التي تولدت فيها وظهرت بها. فلهذه الأسباب أقترح على مجلس النظار تكليف نظارة المعارف العمومية بما يأتي: أولاً - المبادرة بدون تأخير في تدبير الوسائل التي تضمن إحياء الآداب العربية؛ حسب البيانات التي أوضحها سعادة أحمد حشمت باشا في تقريره المؤرخ في 11 رمضان سنة 1328 (15سبتمبر سنة1910) . ثانيًا - تخصيص المبلغ الاحتياطي المتكون بدار الكتب الخديوية لهذا الغرض ثالثًا - الابتداء في إحياء الآداب العربية بطبع ونشر الموسوعتين الكبريين المعروفتين باسم (نهاية الأرب في فنون الأدب) لشهاب الدين النويري (ومسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري. رابعًا - الاستمرار على موالاة هذه النهضة التجديدية بطبع ونشر بقية الكتب التي أشار إليها حضرة أحمد زكي بك، حسب الكشف المرفق بهذه المذكرة، ثم سائر المخطوطات العربية الأخرى الكثيرة الندرة العظيمة الفائدة. هذا وإنني أرى من جهة أخرى أن ضمان النجاح لهذه الحركة الخصيبة، يوجب على مجلس النظار أن يسهل على نظارة المعارف العمومية القيام بمهمتها بالفلاح الذي نبتغيه لهذا الإصلاح؛ فلذلك يحسن بحكومة الجناب الخديوي المعظم أن تكلف نظارة المالية بأمرين اثنين أيضًا، وهما: أولاً - جعل مبلغ الألف جنيه تحت تصرف نظارة المعارف العمومية بصفة إعانة خصوصية؛ لطبع الموسوعتين المذكورتين قبل. ثانيًا - إصدار الأوامر اللازمة إلى مطبعة بولاق الأهلية؛ للإسراع في إنجاز أعمال الطبع بكل ما في الإمكان، وأملي وطيد في أن المجلس يتكرم بالموافقة على ما أبديته في الاقتراحات؛ ليجري العمل بانتظام وفق المرغوب، فإن إنجاز هذا المشروع على أجمل حال مما يجمل بحسنات هذا العصر ويكون غرة في جبين الدهر تشهد بارتقاء العلوم والآداب بيمن مولانا الخديو ناشر رايات العدل، ورافع أعلام العلم والفضل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس مجلس النظار ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد سعيد ... ... القاهرة في 17شوال سنة 1328، 20أكتوبر سنة 1910. كشف بأسماء الكتب المشار إليها في المذكرة السابق وهي التي ستتخذ أساسًا لإحياء الآداب

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (الهيئة والإسلام) كتاب جديد في استخراج مسائل علم الهيئة الفلكية الذي وصل إليه علماء هذا العصر من ظواهر الكتاب والسنة وأقوال آل البيت الكرام وعلماء الصحابة الأعلام عليهم السلام والرضوان، اشتغل بتصنيفه أحد علماء النجف الأعلام (السيد هبة الله الشهرستاني) ، وقد صدر جزآن منه في أكثر من ثلاثة مئة صفحة كصفحات رسالة التوحيد، وتفضل المؤلف بإهدائه إلينا ونحن في القسطنطينية مع كتاب مودة وتنبيه إلى وجه الحاجة إلى مثل هذا الكتاب في هذا العصر؛ الذي كثر فيه المشككون في الدين بشبهات منتزعة من علم الهيئة وغيره من العلوم , وقد حالت الشواغل الكثيرة هناك وهنا دون مطالعة الكتاب التي تمكننا من بيان مزيته، وتلخيص شيء من فوائده، فرأينا أن نكتفي الآن بذكر بعض مسائله المهمة من الفهرس وسننقل في جزء آخر نموذجا منه للقراء إن شاء الله تعالى. المسألة الأولى: حقيقة الفلك توافق النصوص فيها ما عليه المتأخرون وتخالف ما كان عليه اليونانيون، (المسألة 2) : شكل الأرض وحاملها، (3) حركة الأرض، (4) تعدد الأراضين، (5) في أن السيارات تسع، فكيف تكون الأرضون سبعًا، (6، 7) في حقيقة السموات السبع والأرضين وترتيبهما، (8) مركزية الشمس لحركة السيارات. (المسألة التاسعة) الصفات الخمس لجرم الشمس، (10) في أوصاف القمر (11) عدد السيارات (12) في سكنى السيارات، (13) المذنبات والشهب، (14) في تعدد العوالم، يذكر المؤلف في كل مسألة أقوال علماء الهيئة، وما ورد بمعناها في الكتاب أو السنة أو كلام الأئمة أو الصحابة رضي الله عنهم. *** (منطق المشرقيين) هو آخر ما ألفه الشيخ الرئيس أبوعلي ابن سينا في فن المنطق، فهو زبدة التحقيق عنده لهذا العلم، وقد قال فيه: (وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا؛ أعني الذين يقومون مقام أنفسنا، وأما العامة من مزاولي هذا الشأن؛ فقد أعطيناهم في منطق الشفاء ما هو كثير لهم وفوق حاجاتهم) وقد طبعه في هذا العام صاحبا المكتبة السلفية بمصر، وطبعا معه القصيدة المزدوجة في المنطق للشيخ الرئيس أيضًا. وطبعا في مقدمته ترجمة طويلة للمؤلف، وهو يطلب من مكتبتها ومن مكتبة المنار بمصر، وثمنه أربعة قروش صحيحة. *** (منتخبات البارودي) إن قوى النفس كقوى الحس، تضعف وتقوى، وتمرض وتشفى، وتهبط وترقى بل تموت وتحيا، وإنما حياتها وارتقاؤها برقة الشعور والوجدان ودقة التوسم والإدراك. يدرك حديد البصر من معارف وجه محدثه ولو على بُعْد، ما لا يدركه الكليل على القرب، ويستشف من توسيم ما يعرض لها من التأثير، ما تنقطع دون أشعة بصر الحسير، فهذا يعيا عن إدراك دقائق معارف الوجه، وحركات الطرف، فلا يعرف أمامه إلا شبحًا ماثلاً، وهيكلاً شاخصًا، وذاك يدرك ما وراء المعارف من آثار الخطاب في نفس المخاطب، فيميز بين ما عرف منه وما أنكر، وما أحب وما كره. يتوسم فيه فيوحي إليه ذلك ابنساط الأسارير وانقباضها، ولمعانها واقتتامها، واحمرار البشرة واصفرارها، وتخاوص العينين وجحوظهما، وترنيقهما ورنوهما وحركتهما وسجوهما، وتصويبهما وتصعيدهما، وسائر ضروب النظر، الحدج والشزر، والشخوص والشفن، فلكل نظر أثر باعث من نفس الناظر، وأثر حادث في نفس المنظور إليه، فمن لا يؤثر بنظر عينيه ولا تؤثر فيه نظرات العيون، فجدير به أن يعد من الأموات لا من الأحياء، أو من مرضى النفوس لا الأصحاء. في القرآن العزيز آيات كثيرة في تأثير النظر وأحوال البصر، كقوله تعالى: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} (القلم: 51) وقوله: {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ} (القيامة: 7) ، وقوله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ} (الأحزاب: 19) ، وللشعراء في ذلك رقائق هي المظهر الأعلى لدقائق صناعتهم كقول الكيواني: وانظر إلي مرنقا ... حتى أغيب من الشعور وقول علية بنت المهدي: ورابني منه أني لا أزال أرى ... في طرفه قصرًا عنى إذا نظرا وقول أبي نواس حكاية: ويُعمل الطرف نحوي إن مررت به ... حتى ليخجلني من حدة النظر والشعر في هذا المعنى كثير يدخل في فنون شتى. وإن من كان سميعًا خبيرًا بأنواع الأصوات، وضروب اللهجات، ودلالة كل جرس على كيفية خاصة في النفس، وما في لحن القول وفحواه، من إيماء إلى غير ما يدل عليه مبناه؛ ليسمع مع الكلام ما كان باعثًا عليه من نفس المتكلم، وما ينثني عليه صدره، وينطوي عليه قلبه، من حب وبغض، ووفاء وغدر، وأمن وخوف، ورضًى وكره، قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} (محمد: 30) ؛ أي فحواه ومعاريضه، ومن أعجب الكلام إليّ في استخراج خبايا السرائر من كيفية أداء القول، وجرس اللفظ، قول امرأة كعب بن الأشرف له عندما دعاه في الليل الذين يريدون قتله، مظهرين الالتجاء إلى حصنه، وقد نهته عن الخروج إليهم (إنني أسمع صوتًا يقطر منه الدم) . إن دقة الإدراك ودقة الشعور والإحساس، هما آيتا ارتقاء النفس في درجات الكمال الإنساني، ويرى الحكماء أن مظهر هذا الارتقاء يكون في ثلاثة أشياء: الشعر والتصوير والموسيقى، هي التي يعبرون عنها بالفنون الجميلة، فالتصوير هو الإشعار بالأشياء برسمها في الألواح والصحف، والشعر هو تصوير الأشياء بالقول، ومننتهي الكمال فيهما أن لا يفوت صاحبهما شيء من دقائق الصورة الظاهرة، ولا من دقائق أنواع الشعور الباطنة. لولا أن كان العرب على حظ عظيم من الارتقاء في الشعر؛ لما انتشر فيهم الإصلاح الإسلامي بتلك السرعة، ثم رقى بهم في معارض المدنية حتى صاروا الأستاذة المصلحين لجميع الأمم، ذلك بأن الإبداع في الشعر قد أعلى مداركهم، وأودع في طباعهم الرقة وقبول التأثير بالمؤثرات الشريفة، فالشعر هو ديوان حكمتهم، وكتاب تاريخهم، ودفتر آدابهم، وقد ارتقى بلغتهم الواسعة، وارتقت هي به، حتى إنك لتجد فيها من الدقائق ما يسلس لك زمام التعبير عن كل محسوس ومعقول، فتربية الخيال الشعري فيها أكبر معين على ترقيتها، وما مرضت آدابنا، إلا بما طرأ علينا من الجهل بلغتنا وآدابها وأشعارها، حتى صار يعسر على أخطب الخطباء وأشعر الشعراء أن يحفز همم الجمهور منا إلى دفع خطر نحذره، أو المبادرة إلى خير عام نرجوه. أفسدنا لغتنا فأفسدنا نفوسنا، فضعف ذوقها واعتل وجدانها، وضعف تأثيرها وتأثرها، ولم نستعض عما فقدناه من رقائق الشعر بالبراعة في الموسيقى ولا التصوير، وإن أقرب الوسائل إلى إصلاح ذوق آخرنا، هي الوسيلة التي صلح بها ذوق أولنا، ألا وهي الشعر الذي لا ترتقي آداب اللغة وذوق أهلها إلا بارتقائه، أعني أن يكون كل عربي شاعرًا وإن لم يكن ما يبلغه الكلام منه، إذا أصاب موقع الوجدان من النفس، والإقناع من العقل. جعل الأدباء شعراءنا أزواجا ثلاثة: الجاهليين، والمخضرمين الذين أدركوا الإسلام منهم، والمولدين. ولكل منهم أسلوب وفنون من المعاني تختلف باختلاف الحالة الاجتماعية التي عاشوا فيها، وقد جمعت الدواوين للمشهورين الذين منهم حفظت أشعارهم، فوصل إلينا بعضها دون بعض، وأتى علينا حين من الدهر لا يبالي جماهير المتعلمين منا بالموجود، ولا يبحثون عن المفقود، حتى كانت النهضة الأدبية العلمية الحاضرة، وطفق الناس ينشرون آثار السلف، كما ينشدون ما جدده الخلف، حتى أثروا بما لديهم من كسب وميراث، فتكاثرت الظباء على خراش، وضاقت الأوقات عن النظر في كل ما ينشر، واشتدت الحاجة إلى اختيار أحسن ما يروى منه ويؤثر. عندنا شيء من مختار أشعار الجاهليين: كديوان الحماسة لأبي تمام، وقد وفق الله تعالى نابغة هذا العصر وإمام أهله في الأدب والشعر محمود سامي باشا البارودي الشهير؛ لجمع ما اختار من أشعار ثلاثين شاعر من فحول المولدين، في الأدب والمديح والرثاء والصفات والنسيب والهجاء والزهد، ورتبها في كل باب على حروف المعجم، ووضع لها هوامش في تفسير بعض الغريب والمبهم، فكان ذلك أربعة أسفار كبار، جديرة بأن تكون ندامى للكبار وأساتذة للصغار. فأما الشعراء الذين اختار أحاسن أشعارهم، ومثل لنا بدائع خيالاتهم وأفكارهم فهم فرسان البلاغة السابقون، وفحول الشعر المقرمون، وأساتذته المقدمون؛ كبشار وأبي نواس وأبي العتاهية ومسلم بن الوليد وأبي تمام والبحتري وابن الرومي وابن المعتز والمتنبي والشريف الرضي والمعري والديلمي والتهامي والخفاجي والطغرائي.. . إلخ. وأما ذلك المنتخِب فهو صاحب الأدب الرائع، والذوق السليم، والنقد الصحيح، الذي جرى مع أولئك الفرسان في كل حلبة، وضرب معهم بكل سهم، وعارضهم في كل ضرب من ضروب الشعر، وقد طبعت بمطبعة الجريدة بحرف جديد على ورق جيد، فكان حسن طبعها لائقًا بحسن وضعها، كما تجلى غواني العرائس بمعارضها، أو كما تتجلى الشجعان بسابغتها وأسلحتها، فكان ذلك مما يبعث النشاط في قراءتها، وصححها كاتب يد منتخبها (الشيخ ياقوت المرسي) أحد علماء الأزهر. فأجدر بهذه المختارات أن تكون ذكرى حبيب، ومدد أديب، ودرسًا لطالب البلاغة والأدب، وعونًا على إحياء آداب لغة العرب.

حل مشكلة اليمن وسائر جزيرة العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حل مشكلة اليمن وسائر جزيرة العرب إن أقصى أمانينا أن تكون الدولة العلية أقوى دول الأرض بأسًا، ومملكتها أوسع الممالك عمرانًا، وشعوبها أشد الشعوب اتحادًا، ولا شيء أعز علينا من دولتنا إلا ديننا، ولا قوام لديننا إلا بلغته، فلهذا كثر الكلام في مثل سورية من بلاد الحضارة العربية بالمسألة العربية، وقد صدق ذلك الكاتب التركي الذي كتب إلى جريدة طنين؛ أنه ليس في سورية مسألة ترك وعرب إنما فيها مسألة عربية وتركية فأهم ما يطلبه العرب أهل الحضارة من الدولة هو المحافظة على اللغة العربية وترقيتها؛ بجعلها إجبارية في جميع مدارسها الرسمية، وتسهيل طريق تعليمها في المدارس الدينية والأهلية. وأما من تغلب عليهم البداوة من العرب؛ كأهل اليمن ونجد وخليج فارس وبوادي العراق وما بين النهرين، فنتمنى أن يدخلوا في الاتحاد العثماني كافةً، وترتقي بلادهم في ظل الدولة، ولكننا نعتقد أن هذا الاتحاد يستحيل أن يكون بالقوة العسكرية القاهرة، كما يرتأي المغرورون بالعاصمة، وإن إبادتهم أسهل من إخضاعهم بالقوة لشعب لا يعدونه منهم، ولا يحترم حالهم الروحية والاجتماعية، وإنما يسهل إخضاعهم بالإسلام والحكمة، فلهذا اقترحت على الحكومة الدستورية مساعدة جمعية من فضلاء الأمة على تأسيس مدرسة لتخريج المرشدين الذين يسهلون لها هذا السبيل في جزيرة العرب وبلاد الأكراد والأرنؤود. إن جزيرة العرب لم تر الدولة العلية حاكمة فيها إلا في بعض البلاد الساحلية وليس لها عند القوم هنالك أثر حسن ولا ذكر صالح في شىء من الأشياء، وإنما يوجد في اليمن والعراق آثار الخراب والدمار، وتواريخ الغدر وسفك الدماء ونهب الأموال، ويعرف عنهم هذا جيرانهم، وهم لا يفرقون بين نوع الحكم الاستبدادي الماضي والحكم الدستوري الذي وقفت الدولة ببابه الآن، فلا ينتظرون منها إلا مثل الأيام التي خلت من قبل، ومع هذا كله فإنني أعتقد أنه يمكن وضع قانون لإصلاح جزيرة العرب، يكون من أوائل مواده: أن هذه البلاد كلها تابعة للدولة العلية، وليس لأحد من أمرائها ولا زعمائها حق في معاملة دولة من الدول الأجنبية معاملة ما لا تأذن لها بها قوانين الدولة، وأن تدفع للدولة أموالاً أميرية، وأن تقر الدولة إمام اليمن على إمامته في طائفته، وكذا كل أمير وزعيم على إمارته بأن يكون هو المنفذ للنظام الداخلي فيها، وأن يترك لهم سلاحهم، ويحتم عليهم حفظ الأمن في هذه البلاد، وتكافل الأمراء والزعماء على منع الغزو، ومساعدة الدولة على نشر التعليم وتحضير الأعراب، وتتبع ذلك الجندية. إذا وفقت الدولة لمثل هذا العمل، فإنها تملك جزيرة العرب ملكًا حقيقيًّا من غير سفك دماء أبنائها، ولا إضاعة الملايين من الليرات التي تأخذها من أوربا بالربا الفاحش والذل، وتفتح لنفسها بابًا واسعًا من الثروة، وإن أبت إلا التعجيل بإزالة نفوذ كل ذي نفوذ بالقوة العسكرية، فإنني أخشى أن يكون الخطر عليها من هذه السياسة من أشد الأخطار؛ لأنها تكون سياسة سفك دماء، وتدمير بلاد، وتمزيق القوة العسكرية في بلاد لا يمكنها البقاء فيها، وما وراء ذلك إلا العذاب الواصب، أو استيلاء الأجانب.

جمعية ندوة العلماء في الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية ندوة العلماء في الهند كنا فرحين مغبوطين بفضل الله على المسلمين بتأليف هذه الجمعية وخدمتها العالية للإسلام والمسلمين، حتى جاءتنا جرائد الهند الأخيرة بما أحزن قلوبنا وأبكى عيوننا من وقوع الشقاق بين العلماء المؤلفين لهذا الجمعية، فأَوَّاه، إلى متى يفتك في هذه الأمة الحسد والخلاف؟! الفضل الأكبر في تأليف الجمعية ونجاحها للشيخ شبلي النعماني؛ فهو العالم المصلح الذي تشهد له تصانيفه وآثاره، فبسعيه وجدت، وبهمته ثبتت واستقرت ووثقت بها الأمة فأمدتها، والحكومة فساعدتها، وقد حسده على ما آتاه الله من فضله بعض العلماء الذين أعوزهم مثل عمله وعقله، وأعياهم مثل عمله وسعيه، فلجأ إلى السلاح الذي أهلك هذه الأمة؛ وهو الخلاف الذي يكبره ويمده الحسد والبغي: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) فاتهموه بالاعتزال وترك الصلاة، كما اتُّهِمَ من قبل المصلحان العظيمان في هذه البلاد، وقاوموه فيما توخاه من تسهيل أساليب التعليم الإسلامي؛ كما قاوم أمثالهم أمثاله من المصلحين، منتصرين للكتب المعقدة التي ألفوها. هذا مجمل ما بلغنا من أمر هذه الجمعية، فنسأل الله تعالى أن ينزع ما في قلوب الحاسدين من غل، ويطهرهم من الحسد والبغي، فيتذكروا أن في الخلاف والتفرق الهلاك، وفي التآلف والتعاون النجاة والسعادة، فحسب هذه الأمة ما فعل فيها الخلاف من إضعافها وتمزيقها وإزالة عزها وسلطانها، إلى متى إلى متى، إنما يتذكر أولو الألباب.

خاتمة السنة الثالثة عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الثالثة عشرة تمت السنة الثالثة عشر للمنار بحمد الله وتوفيقه، وقد كتبنا ثلاثة أرباع هذا المجلد في القسطنطينية؛ تارةً في فنادقها وتارةً في المراكب البخارية التي تجول في زقاقها (البوسفور) ، ولم يتيسر لنا تصحيح أكثر ما كتبناه فكان الغلط فيه كثيرًا، وقد وضعنا جداول للمهم مما عثرنا عليه منه ونشرناه في الأجزاء الماضية، ولشقيقنا السيد صالح والسيد حسين ما في الأجزاء الثمانية الأولى من التقاريظ، وقد ذيل كل منهما ما كتبه بإمضائه، وهما اللذان اختارا بعض الرسائل التي جاءت المنار أو وردت في بعض الصحف، ولهما بعض الهوامش؛ كالتعريف بأصحاب الرسائل أو القصائد التي نشرت في تلك الأجزاء؛ وكتفسير بعض الألفاظ، وخبران في آخر ص 392 كتب هذا باسم المنار، وتنبيه في آخر ص 696 نُشِرَ خَطَأً ولا حاجة إليه. أما الانتقاد على المنار، فلم يرد إلينا شيء منه على شرطنا في هذا العام إلا ذكرناه وبينا ما عندنا فيه، فمن أرسل شيئًا من ذلك ولم يره، فليذكرنا به أو لِيُعِدُهُ إليها لعله فُقِدَ أو أهملت إدارة المجلة إرساله إلينا ونحن في سفرنا، وندعو أهل العلم والإخلاص إلى تعاهدنا بالانتقاد والنصيحة عندما يجدون ما يوجب ذلك، ونحن على وعدنا بنشر نقدهم، فمن عاب المنار أو خَطَّأَهُ ولم يكتب ذلك إليه فهو فاسق مغتاب لا قاصد لبيان الحق والصواب. وأما المشتركون فالماطلون منهم كانوا أشد مطلاً، وأقل وفاء في هذه السنة التي غبنَّا أكثر شهورها، وقد انتدب أحد الأنجاد الأمجاد في تونس لتحصيل حقوق المنار من المشتركين، والحق أن للكثيرين منهم ومن غيرهم بعض العذر بما ألفوا وتعودوا من عدم دفع المال إلا بالإلحاح في السؤال، ونحن قد أكرمناهم أن نلح عليهم، ووكلنا الأمر إلى مروءتهم، وما كل أحد يخطر بباله هذا فالتقصير منا أكثر واللوم علينا أكبر. وفي الختام، نسأل الله تعالى دوام التوفيق والإخلاص، وله الأمر من قبل ومن بعد، وصلاة وسلام على المرسلين، وتحية ورضوان على المصلحين، والحمد الله رب العالمين.

فاتحة المجلد الرابع عشر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الرابع عشر بسم الله الرحمنِ الرحيم أحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، ولك الأمر من قبل ومن بعد، تخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي، وتخلق الضعف من القوة وتخلق القوة من الضعف، وتجعل العلم من الجهل، وتجعل الجهل من العلم، وتنصر الحق على الباطل ولا تنصر الباطل على الحق، فللحق السلطان الأعلى ما وجد من يقوم به، وإنما بقاء الباطل في نوم الحق عنه، وقد قلت وقولك الحق {إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (هود: 49) {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ} (هود: 45) . أحمدك اللهم وأصلي وأسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، النبي الأمي الذي بعثته في الأميين، فزكّاهم بالتأديب والتربية الفضلى وعلّمهم الكتاب والحكمة العليا، فكانوا بتربيته سادة العالمين، وبتعليمه أئمة العالمين، فاستجبت فيه دعوة أبيه إبراهيم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) . أحمدك اللهم وأسألك الرحمة والرضوان، والبركة والإحسان، لآل نبيك الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين، الذين ابتلوا في سبيلك فثبتوا وصدقوا وأوذوا لاتباع دينك فصابروا وصبروا، الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم فهاجروا وهجروا، الذين عاهدوا فوفوا وآووا ونصروا، ولمن اتبعهم بإحسان، على هداية السنة والقرآن، أولئك هم الصالحون المصلحون، والعاملون المخلصون (9: 101) {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيم} (التوبة: 100) . أحمدُك اللهم وأسألك أن تهدينا صراطهم المستقيم، وتقينا كما وقيتهم من كيد الشيطان الرجيم، وتعيذنا كما أعذتهم من شر الوسواس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس، من شياطين الجن المستترين، وشياطين الإنس الظاهرين، الذين يقعدون بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن ويبتغونها عوجًا، الذين قطعوا حبل الرابطة التي آخيت بها بين المسلمين، ففرقوا بينهم في الجنس والوطن ومذاهب الدين، فقالوا عربي وتركي، ومصري وغير مصري، وسني وشيعي، وأنت قلت وقولك الحق: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناَ} (آل عمران: 103) إلي قولك الحكيم: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) . اللهم، إنهم قد تفرقوا عن حقك، وفرقوا بين من جمعتهم بالتوحيد من خلقك، واتبعوا سنن من قبلهم، في أيام فسادهم وجهلهم، وقد عادوا أولئك المتفرقون إلي الاتحاد ولم يعودوا، وتابوا عن التعادي والخصام ولم يتوبوا، فغيرت ما بهم، لما غيروا ما بأنفسهم، تصديقًا لكتابك، وإنفاذًا لسنتك، غيرت تلك النعمة التي أنعمت بها على سلفهم من الملك الواسع، والعز السابغ والمال الوافر، وأدلت الدولة لسواهم، وجعلتهم في حكمهم ورزقهم عالة عليهم، ولا تزال بلادهم تنتقص من أطرافها، ويتغلغل نفوذ الأجانب في أحشائها، وقد أتى عليهم حين من الدهر يسمعون نذر الزوال من كتاب الوحي ولا يزدجرون، ويشاهدون عبر النكال في كتاب الكون ولا يعتبرون، {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر: 49) ، {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) . اللهم، إنك تعلم أن ما حل بالمسلمين بتركهم الاعتصام بكتابك، وإعراضهم عن سنتك في خلقك، قد جعله الناس شبهة على كتابك الحكيم، ووسيلة للطعن في دينك القويم، وما ظلمتهم ولكن كانوا هم الظالمين، والقرآن هو حجتك عليهم أجمعين، أمرهم بالاتحاد والاعتصام فتفرقوا، ونهاهم عن الاختلاف فيه فاختلفوا، ولا يزالون مختلفين، إلا من رحمتهم من المقربين {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13-14)) ومن أصحاب اليمين، {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 39-40) . اللهم، إنك لم تذر المؤمنين الأولين على ما كانوا عليه، ولا تدع المسلمين على ما انتهوا إليه، بل مزت وتميز الخبيث من الطيب، وزيلت وتزيل بين المفسد والمصلح، ووفقت من شئت لنشر دعوة التوحيد والاعتصام، بين جميع الشعوب والأقوام، اللهم، فانصرهم وهم حزبك على أحزاب الشيطان، المفرقين بين المسلمين في المذاهب أو العناصر أو اللغات أو الأوطان، وقهم اللهم فتن السياسة وشرور زعمائها محبي الرياسة، الذين يتبعون الظن وما تهوى الأنفس، ولقد جاءهم من ربهم الهدى، ولكنهم آثروا عليه الشهوة والهوى، فيناضل فارسهم بسهام البهتان، ولا بالدليل والبرهان، وينافح بالنميمة وقول الزور، ويدل بالمخيلة والدعوى والعجب والغرور، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: 8) ، {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي العُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الزخرف: 40) . أحمدك اللهم عودًا على بدء؛ أن وفقتني لتأييد المصلحين، والدعوة إلي الاتحاد والائتلاف بين المسلمين، فقد تم بفضلك وتوفيقك للمنار ثلاثة عشر عامًا، يدعو إلي ذلك بدليلَيْ النقل والعقل، والأساليب المتنوعة من القول الفصل، وأضرع إليك أن توفقني على رأس العام الرابع عشر في السعي إليه بالفعل، وأن تظهر هذا الدين في الآخرين، كما أظهرته في الأولين، فقد بدا غريبًا، وعاد كما بدا في غربته، فأتم اللهم التشبيه باستتباع ذلك لظهوره وقوته، وانصر دعاته الصادقين، على عداته المنافقين، الذين يلبسون لباسه ويجهلون حقيقته، فيجنون عليه ما لا يجني المنكرون له، حتى صدق عليهم ما قلته في المتفرقين قبلهم {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ} (الحشر: 2) {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} (الحشر 14: 15) . اللهم، إنك تعلم أن من هؤلاء المفرقين من أعماه الحسد وحب الظهور، ومنهم من أصمه الكبر والغرور، ومنهم من أفسده الفسق والفجور، ومنهم من أبعده الكفر بك، والصدود عن هداية رسلك، فهم أمشاج مختلفون في عقائدهم وأخلاقهم الباطنة، مختلفون في عاداتهم وأعمالهم الظاهرة، لا يجمع بين قادتهم إلا حب المال والجاه في الحياة، والطمع في نصب التماثيل والصور لهم بعد الممات، وتلك عاقبة الذبذبة، فيما ابتليت به هذه الأمة من اختلاف التعليم والتربية، نال الأجانب من نفوسهم ما يشتهون، وهم لا يشعرون، فهم لهم خادمون، ويحسبون أنهم هم المقاومون، أولئك هم المفرقون، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يفرقون بين أعضاء الأمة، ويحللون العناصر التي يتركب منها جسم الدولة، أولئك هم الأخسرون أعمالاً، والرابحون أقوالاً وأموالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16) . اللهم، قد ضاق ذرع المصلحين، بهؤلاء المفسدين المفرقين، كلما داووا جرحًا سالت جروح، وكلما رتقوا فتقًا ظهرت لهم فتوق، وكثرت الدعوة بالباطل، واختلط الحابل بالنابل، وظهر في جو السياسة العارض الممطر، واضطربت القلوب من موعد الصبح المسفر، يومئذ تظهر عاقبة الذين يعملون في السر، ضد ما يقولون ويدعون في الجهر، ويتبرأ أهل الجنوب من شياطينهم أهل الشمال؛ إذا ظهر ما يضمرون لما بقي للإسلام من سلطان وشبه سلطان، بإغراء أولئك الذين قضوا على سلطة غيره من الأديان، ويومئذ يعلم المغرورون من نوكى المسلمين، أنهم كانوا فاتنين مفتونين، ( {إِنَّ هَذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ} (الصافات: 106) ، {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) . تطلعت رءوس الفتن، واشتعلت نارها في ألبانية فحوران فاليمن، يخرب المسلمون بيوتهم بأيدهم، ويقتلون أنفسهم بسيوفهم، ويمهدون السبل للطامعين فيهم، فيكفونهم أمر الحرب، وبذل المال وسفك الدم، أهلك أهل الحضارة والترف منهم حب الشهوات، وأهلك أهل الخشونة والتقشف الجهلُ بالفنون والصناعات، وقد أفسد الرؤساء من الفريقين حب الرياسة، وما يتبعها من فتن السياسة (أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، وكل شخص يتكلم أو يتعلم أو يجن أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس) [1] فالسياسة مسار الفتن، ومصدر الإفك والكذب، ومورد السعاية والمحل، وناهيك بسياسة أهل الضعف، في مثل هذا العصر، الذين فقدوا كل شيء، ويدعي الواحد منهم كل شيء، ويجرد من لا يتبع أهواءهم من كل شيء، يلبسون الحق بالباطل، وينصرون من يتبع أهواءهم من مظلوم أو ظالم، يؤيدون المفسدين والمجرمين، ويتجرمون على البرآء الصالحين، {قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (سبأ: 25) ، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ} (سبأ: 26) . يا أيها المفتون المغرور، المختال في ثوبين من الزور، اعلم أنه ليس في طاقة أحد أن يتقن كل عمل، فيكون رئيسًا أو زعيمًا في السياسة، والعلم والدين والأدب والكتابة والخطابة، والأمور الاجتماعية والمالية، وكل ما تحتاج إليه الأمة لتكون من الأمم الحية، فعليك إن كنت من الصادقين أن تتقن عملاً ما، ثم تكون عونًا وظهيرًا للعاملين، ويا أيها المفتون بالقوة، ادخر قوتك للقاء خصمك الأقوياء، ولا تضعفها بالبغي على إخوانك الضعفاء، فرب جهاد في غير عدو، ورب ضعة في حب العلو، ورب باغ على نفسه، وهو يحسب أنه ينتقم من خصمه، والبغي مصرعه وخيم، {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الشورى: 41-42) . يا أهل القرآن، أقيموا القرآن، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان، قد غلبتم على ما فرطتم فيه من حقكم، فنزا على مصالحكم الملاحدة والفاسقون من قومكم، وكانوا هم المنافذ والكوى لدخول سلطان الأجانب في أرضكم، تركتم لهم دنياكم فطمعوا في دينكم، يريدون إطفاء نوره والإحاطة بوليه ونصيره، فأفيقوا من نومكم، واتقوا الله وأصلحوا ذا

الاشتراك في المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاشتراك في المنار (1) جرى العرف في أقطارنا كلها بأن المشترك في صحيفة مؤقتة؛ كالجرائد والمجلات، اشتراكه مسانهة، كلما جاءت سنة كان مشتركًا فيها، ما لم يؤذن صاحب الصحيفة قبل دخول السنة الجديدة أو في أولها بقطع الاشتراك. وعملاً بهذا العرف، ترسل المنار إلى المشتركين في العام الماضي، فمَنْ قَبِلَ هذا الجزء الأول كان مشتركًا إلى آخر هذه السنة، ووجب عليه أن يؤدي قيمة الاشتراك كاملة وإن بدا له في أثناء السنة قطع الاشتراك وجعله نصف سنة، فمن لم يرض بهذا الشرط، فليرد إلينا هذا الجزء. (2) من أحب ابتداء الاشتراك في المنار هذا العام، فعليه أن يرسل القيمة سلفًا مع طلب، وهي مبينة على غلاف كل جزء. (3) إذا لم يصل بعض الأجزاء إلى المشترك، فالإدارة ترسله إليه إذا طلبه بعد موعد وصوله إليه بشهر واحد، فإن طلبه بعد ذلك أو طلب بدلاً عما أضاعه من الأجزاء، فعليه أن يرسل ثمن ما يطلبه، وثمن الجزء بمصر ستة قروش، وفي الخارج فرنك ونصف.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من سومطرا (س1-3) لصاحب الإمضاء في فيلمبغ (سومطرا) . إلى حضرة الأستاذ الأكبر مرشد الأنام، ومشيد دعائم الإسلام، السيد محمد رشيد رضا. بعد التحية والإكرام؛ بناءً على واسع حلمكم، ووافر علمكم، أتجاسر على أن أقدم لحضرتكم بعض المسائل الدينية التي أعيانا حلها، وقد أصبحت اليوم بطرفنا من الوقائع الحالية، مؤملاً من حميد شيمكم أن تجيبونا عنها على صفحات مناركم المنير، ولشدة مسيس الحاجة إلى الجواب نلح على سماحتكم في المبادرة به، فالناس لجنابكم منتظرون، ولكم من الله جزيل الأجر، ومنا جميل الشكر، وهي هذه: (1) ما قولكم - لا برحتم نورًا للمبتدئين، وحسامًا مصلتًا على رقاب الملحدين - في جبانة ببلادنا تدفن فيها أموات المسلمين، وقد اشتدت في هذه الأيام إليها حاجة الحكومة؛ لجعلها رصيفًا على البحر لوقوف البواخر؛ بسبب لياقتها لذلك وقربها من الميناء، وقد أضحى من المتعذر هنا وجود غيرها من الأراضي التي تجدر بأن تكون رصيفًا، وقد أعلنت الحكومة قصدها هذا، وطلبت من المسلمين من غير إجبار أن ينبشوا موتاهم، وينقلوهم إلى مكان آخر؛ ليتسنى لها بحث الأرض المطلوبة وتسويتها؟ ولا برحت تكرر الطلب مع الإعلان بعدم الإكراه، فهل يجوز للمسلمين - والحالة هذه - نبش موتاهم نظراً للمصلحة العمومية أم لا؟ فإن قلتم لا، فهل يحصل الجواز لو فرضنا وجود الإكراه والإجبار من الحكومة أم لا يحصل؟ تفضلوا سادتي بادروا بالجواب. (2) وما قولكم لا زال مناركم شجًا في حلوق الدجالين، وشبًا ترتعد منه فرائص المحتالين، في خضاب اللحية أو حلقها، هل ورد في السنة المنيفة نص يصرح بتحريم ذلك، فإن قلتم: لا، فهل وقع الإجماع على التحريم، وما هو الحكم فيما لم يَنُص الكتاب والسنة على تحريمه، ولا انعقد عليه الإجماع، وهل للقياس مدخل في هذا الباب؟ أفيدونا مأجورين. (3) وما قولكم - حفظكم الله وأبقاكم - في ضمانة الحياة، هل يجوز في شرعنا الشريف الجنوح إليها؟ وما الدليل على عدم الجواز لو فرضنا قولكم به؟ فإن سبق لكم في هذا كلام في المنار أو غيره، فالمأمول من فضلكم عدم إحالتنا عليه، والمكرر يحلو، جزاكم الله عن هذه الأمة خيرًا، آمين. ... ... ... ... ... ... السيد جعفر بن شيخ السقاف (ج1 نبش المقابر وجعلها للمصلحة العامة) المشهور في كتب الفقه أن المقابر المسبلة يحرم البناء فيها، سواء كان المبني قبة أم بيتًا أم مسجدًا ويجب هدمه، قال ابن حجر الهيتمي: حتى قبة إمامنا الشافعي التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة، فيتعين الرفع للإمام. وقال: إنه لا يجوز زرع شيء فيها؛ لأنه لا يجوز الانتفاع بها بغير الدفن. قال الشمس الرملي: وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم ما بني فيها، ويظهر حمله على ما إذا عرف حاله في الوضع، فإن جهل ترك حملاً على وضعه بحق، كما في الكنائس التي نقر أهل الذمة عليها في بلدنا، وجهلنا حالها، وكما في البناء الموجود على حافة الأنهار والشوارع، وصرح في المجموع بحرمة البناء في المسبلة، قال الأذرعي: ويقرب إلحاق الموات بها؛ لأن فيه تضييقًا على المسلمين بما لا مصلحة ولا غرض شرعي فيه بخلاف الإحياء ا. هـ وتأمل تقييده الحرمة بالتضييق بما لا مصلحة فيه، وهل يعمل بمفهومه من أنه إذا كانت هناك مصلحة عامة وامتنع التضييق باستبدال تلك المقبرة بغيرها فإنه يجوز. وأما نبش القبور، فإن كان قبل البلى حرم إلا لضرورة وعد الفقهاء منها الدفن بغير غسل، أو في أرض مغصوبة، أو ثياب مغصوبة، أو لغير القبلة أو وقع في القبر مال، وغير ذلك، قال الرملي في النهاية أما بعد البلى عند من مر (أي أهل الخبرة بتلك الأرض) فلا يحرم النبش، بل تحرم عمارته وتسوية ترابه عليه، إذا كان في مقبرة مسبلة؛ لامتناع الناس من الدفن فيه لظنهم عدم البلى. وقال الشعراني في الميزان الكبرى: (واتفقوا على أنه لا يجوز حفر قبر الميت؛ ليدفن عنده آخر إلا إذا مضى على الميت زمن يبلى في مثله ويصير رميمًا، فيجوز حينئذ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول: إذا مضى على الميت حول، فازرعوا الموضع اهـ. والشافعية صرحوا بمنع زراعة المقبرة المسبلة والموقوفة، كالبناء عليها وتشريف القبور فيها؛ لأن ذلك يمنع من الانتفاع. وفي كتاب (كشف القناع عن متن الإقناع) من كتب الحنابلة المعتبرة؛ أن البناء على القبر مكروه، وفي المسبلة أشد كراهة، وعن الإمام أحمد منعه في وقف عام، ثم قال ما نصه: وإذا صار (الميت) رميمًا جازت الزراعة وحرثه (أي موضع الدفن) وغير ذلك؛ كالبناء عليه، قاله أبو المعالي. والمراد (أي بقول أبي المعالي) : تجوز الزراعة والحرث ونحوهما إذا صار رميمًا (إذا لم يخالف شرط الواقف لتعيينه الجهة) بأن عين الأرض للدفن، فلا يجوز حرثها ولا غرسها. اهـ. المراد منه، ثم ذكر جواز نبش قبور المشركين؛ ليتخذ مكانها مسجدًا؛ لأن موضع مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان مقبرة لهم؛ فاشترى الأرض، وأمر بنبشها وجعلها مسجدا، وكذا إذا كان فيها مال. وعبر في المنتهى من كتبهم بقوله: (ويباح نبش قبر حربي لمصلحة أو لمال فيه) . هذا ما رأيت أن أورده من كلام الفقهاء، والمذاهب فيه متقاربة، ولا أذكر نصًا صريحًا عندهم في الواقعة، وقد رأيت ما ذكره بعضهم من المصلحة، وجمهورهم على أن المقبرة الموقوفة أو المسبلة ليس لأحد أن يتصرف فيها بغير الدفن، حتى إنهم منعوا أن يحفر الإنسان فيها قبرًا لنفسه أو لغيره من الأحياء؛ ليدفن فيه عند الموت، ومن الفقهاء من يرى أنه يجوز التصرف في الوقف بالاستبدال، وبما هو أقرب إلى مقصد الواقف، والتصرف في المسبلة أهون، وروي عن الإمام أحمد جواز استبدال مسجد بمسجد للمصلحة، واحتج بأن عمر أبدل مسجد الكوفة القديم بآخر، وصار الأول سوقًا، وجوز أن يباع ويبنى بثمنه غيره للمصلحة، ولو في مكان أو بلد آخر. أما الكتاب فلا ذكر فيه لهذه المسألة، والسنة كذلك، إلا أنه ورد فيها مما يتعلق بالمسألة حديث بناء مسجد النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكان كان مقبرة، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في كلام الفقهاء، وحديث جابر عند البخاري والنسائي قال: (دفن مع أبي رجل فلم تطب نفسي حتى أخرجته فجعلته في قبر على حدة. قال بعض العلماء: وفيه دليل على أنه يجوز نبش الميت لأمر يتعلق بالحي، أي على رأي من يعد فعل الصحابي حجة، وهو خلاف ما عليه الجمهور، ولو كان لهم عناية بالاحتجاج لهذه المسألة، لقالوا: إن هذا العمل مما لا يخفى، وقد أقره الصحابة عليه، فكان إجماعًا، وكم قالوا مثل ذلك. والذي أراه أن هذه المسألة كسائر المسائل التي لا نص فيها عن الشارع ترد إلى أولي الأمر من المسلمين، وهم رءوس الناس وأصحاب العلم والمكانة فيهم، فيتشاورون فيها، ويقررون ما يرون فيه المصلحة للمسلمين، فإذا رأوا المصلحة في استبدال مقبرة أخرى بها استبدلوا، ولهم أن ينقلوا حينئذ رمم الموتى ويدفنوها في المقبرة الجديدة، وإلا فلا. وأما إذا أكرهتهم الحكومة على ذلك، فالأمر ظاهر أنهم يكونون معذورين. (ج 2 خضاب اللحية وحلقها) أما خضاب اللحية وكذا غيرها فهو مستحب، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الأمر به؛ كحديث أبي هريرة في الصحيحين: (إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم) وهناك أحاديث أخرى، وفيها تصريح بالخضاب بالحمرة والصفرة والحناء والكتم وهو - بالتحريك - نبات بالبادية خضابه أصفر، وإذا مزج بالحناء جاء لون الشعر بين السواد والحمرة. وخضب النبي صلى لله عليه وسلم كما صححه النووي والحسن والحسين وكثير من كبراء الصحابة، وكره بعض العلماء الخضاب؛ لما ورد من وصف الشيب بالنور، وقال بعضهم: يتبع عادة بلده؛ لأن هذه المسألة من العادات لا من العبادات، ولكن آداب السلف أعلى، فينبغي إيثارها. قال علي القاري في الشمائل: ثم إن القائلين باستحباب الخضاب، اختلفوا في أنه يجوز الخضب بالسواد والأفضل بالحمرة والصفرة، فذهب أكثر العلماء إلى كراهة الخضاب بالسواد، وجنح النووي إلى أنها كراهية تحريم، وأن من العلماء من رخص فيه للجهاد ولم يرخص في غيره، واستحبوا الخضاب بالحمرة أو الصفرة؛ لحديث جابر قال: أتي بأبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، ورأسه كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيروا هذا، واجتنبوا السواد أخرجه مسلم ثم قال: والثغامة بضم المثلثة وتخفيف المعجمة نبات شديد البياض زهره وثمره، ولحديث أبي ذر رفعه (إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحناء والكتم) أخرجه الأربعة وأحمد وابن حبان وصححه الترمذي، وتقدم أن الصبغ بهما يخرج بين السواد والحمرة. اهـ. أقول: حديث مسلم في أبي قحافة رواه أحمد من حديث أنس بلفظ (ولا تقربوا السواد) ، وزاد في الفردوس يعني أبا قحافة، فالنهي في الحديث خاص به، والسواد للشيخ الهرم يستقبح. وفي الباب حديث ابن عمر عن الطبراني والحاكم (الصفرة خضاب المؤمن والحمرة خضاب المسلم والسواد خضاب الكافر) . والحديث منكر كما قال الحافظ الذهبي، وقال الهيتمي: فيه من لم أعرفه. وحديث ابن عباس عند أبي داود والنسائي (سيكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد كحواصل الحمام لا يجدون رائحة الجنة) ، زعم العراقي أن إسناده جيد، ولكن قال ملا علي القاري: في إسناده مقال، ولو كان مما يحتج به لجزموا بالتحريم، وحديث أبي الدرداء (من خضب بالسواد سود الله وجهه يوم القيامة) قال علي القاري: إسناده لين اهـ. والصواب أن ضعفه أشد من ذلك، ولا يصح في هذه الحنيفة السمحة، مثل هذا الوعيد فيما لا ضرر فيه في دين ولا نفس ولا عرض ولا عقل ولا مال، وهي الكليات الخمس للمحرمات في الإسلام. على أن هذه الأحاديث الضعيفة معارضة بمثلها، وبما هو أقوى كحديث الأمر المطلق بالصبغ في الصحيح، وحديث صهيب عند ابن ماجه (إن أحسن ما اختضبتم به لهذا السواد، أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم) ؛ ولأجل التعليل الثاني، قال بعض العلماء: إن كراهة الخضاب بالسواد، تنتفي بنية الجهاد أي: لمن هو من أهله، وحملوا على ذلك ما روي عن بعض السلف من الاختضاب به، ومنهم ابن عمر وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وما ورد من تعليل كراهة السواد؛ لكونه كان من عادة الكفار، يفيد زوال الكراهية بانتفاء اختصاصهم بذلك، وتتجه الكراهية الشديدة بل التحريم إذا كان في الخضاب غش محرم. وأما حلق اللحية فهو مكروه، فإن من آداب السنة قص الشارب وإعفاء اللحية، وفي ذلك عدة أحاديث في الصحيحين والسنن، وقد علل ذلك فيها؛ بمخالفة المشركين والمجوس واليهود والنصارى، وذلك أن الأمم تتميز بآدابها وعاداتها وأزيائها، وإنما يتشبه الضعيف بالقوي، والواطئ بالعلي، وقد يفضي إسراف الضعيف في التقليد والتشبه إلى ضياع استقلاله، وتمكين من يتشبه بهم ويقلدهم من التصرف بجميع أمره، فلا يقولن قائل: إن هذا من أمور العادات لا من أمور الدين، وقد فقه حكمته وفائدته للمتبعين، وأشهر الأحاديث في ذلك حديث ابن عمر مرفوعًا (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفروا اللحى) رواه الشيخان، وإذا زال الاختصاص زال معنى التمايز، وقد صار بعض المسلمين يعفي لحيته تشبهًا بالإفرنج. وأما سؤال السائل في هذا المقام عن العمل؛ بما لم يرد فيه كتاب ولا سنة ولا إجماع، فقد أشرنا إلى جوابه بالإجمال في الجواب الأول

جمعية الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية الدعوة والإرشاد {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) . أشهد الله وملائكته والصالحين من عباده؛ بأنني سعيت إلى إنفاذ مشروع الدعوة والإرشاد في القسطنطينية، وأنا أعتقد اعتقادًا راسخًا لا زلزال فيه ولا اضطراب؛ أنه أنفع ما يخدم به دين الإسلام في نفسه، وأنه أقرب الطرق لارتقاء المسلمين في دينهم ودنياهم، وأن البلاد العثمانية ستكون هي التي تجني بواكر ثمراته، وأن سيكون من هذه الثمرات ائتلاف الشعوب العثمانية وتعاونها على ترقية البلاد في العلوم والآداب والثروة والعمران، وشدة الاتحاد بالدولة، ومنع الفتن والثورات الداخلية؛ لأن المرشدين للعامة إذا كانوا من العلماء الأتقياء الخطباء، يكون تأثيرهم أقوى من كل تأثير. سعيت إلى إنفاذ المشروع هناك، فرأيت جميع العقلاء، حتى من غير المسلمين متفقين على نفعه وفائدته، وكونه لا يحل محله سواه، حتى إن جريدة صباح ولاتوركي أثنتا عليه وهما لغير المسلمين، ولكن تصدى لمقاومته رجلان من المسلمين أحدهما من رجال الحكومة وجمعية الاتحاد والترقي والآخر من المبعوثين قاوماه في الباطن، وهما يدعيان المساعدة عليه في الظاهر. فأما رجل الحكومة والجمعية فلا أصرح باسمه الآن، ويعرفه جميع أعضاء جمعية العلم والإرشاد التي أسسناها هناك، وأكثر أهل البصيرة في الآستانة من العلماء وغيرهم. وأما المبعوث فهو عبيد الله أفندي مبعوث أزمير، وصاحب الجريدة المسماة بالعرب. أقمت في الآستانة سنة كاملة كما علم قراء المنار، ومعظم أعمالي في مصر معطلة، ثم عدت ولا زال يبلغني من بعض أصحاب الشأن في حكومتها أنهم يريدون تنفيذ المشروع الذي وافقوا عليه فيها، وعن غيرهم أنهم لا يريدون ذلك، وهذا ما حملني على السعي لتنفيذه هنا بأوسع وأكمل مما وافقوني عليه هناك. لا يختلف اثنان في أن أول ما يبدأ به في مثل هذا العمل هو مكاشفة من يرجى منهم القيام به؛ ودعوتهم إلى الاجتماع والتشاور فيه، وهذا ما بدأت به وقبل أن يتم اختيار الأفراد الذين أحببت أن يكونوا هم المؤسسين. قامت جريدة العلم التي هي لسان حال الحزب الوطني بمصر ترجف بالمشروع، وتلبس على الناس أمره، وباتفاق محمد بك فريد رئيس الحزب والشيخ عبد العزيز شاويش رئيس تحرير جريدة العلم على مقاومته، فكان مثل خذلان المسلمين لأنفسهم ولدينهم بمصر والآستانة واحدًا. كانت جريدة العلم زعمت أنه يوجد بمصر جمعية تدعى جمعية الاتحاد العربي غرضها فصل البلاد العربية من الدولة العثمانية، وإقامة خليفة عربي فيها تحت حماية الإنكليز، وأنها تعمل أعلامًا مطرزة لترسلها إلى البلاد العربية، ثم مزجت مشروع الدعوة والإرشاد بتلك الأوهام، وأطلقت القول في ذم العرب. خرق في السياسة وسعاية للإيقاع بين الشعبين الكبيرين المقومين للأمة العثمانية؛ وهما العرب والترك، عن جهل أو علم، فالشعب العربي أكثر عددًا وأوسع بلادًا، وقيمته وقيمة بلاده المعنوية في هذه الدولة أعظم من كل شيء، وهذا الطعن فيه يتضمن الطعن في الدولة نفسها، كما نعلم ذلك من العهد الحميدي المظلم الذي كان يروج فيه مثل هذه السعايات والوشايات الوهمية؛ التي كانت جريدة اللواء ترجف بها. ليس هذا المقام بمقام البحث في هذه المسألة، وإنما ذكرتها لأبين أن جريدة العلم بنت عليها الطعن والإرجاف في مشروع الدعوة والإرشاد، وجعلته تابعًا لها ووسيلة إليها، وهو المشروع المقدس من أدناس السياسة وأهلها المفسدين، وكان المغرور بما أرجف به، كان يتوهم أنه بإرجافه يقضي على هذا المشروع ويقتله وهو جنين حتى لا يطمع أحد في وجوده فيعمل له؛ وفاته أن المخلصين لا يبالون من رماهم بالريبة، وأكل لحومهم بالغيبة، ولا يثنيهم عن عملهم الإفك والبهتان، وإنما يزيدهم ذلك إيمانًا وعزمًا، ويقولون حسبنا الله ونعم الوكيل. وها نحن أولاء نسجل ما كتب في جريدة العلم مع الرد عليه؛ ليكون من مادة تاريخ هذا المشروع الجليل، وللزمان الحكم الفصل في إظهار الحقائق للعالمين، وإبطال أباطيل المبطلين، وإلى الله المصير والعاقبة للمتقين. ((يتبع بمقال تالٍ))

المقالة الأولى لجريدة العلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقالة الأولى لجريدة العلم نشرت جريدة العلم بعد الذي أشرنا إليه في المقدمة المقالة الآتية في عددها 205 الذي صدر في 8 المحرم، وهذا نصها: (مدرسة التبشير الإسلامي) ما وراء الحجاب إن فكرة إرسال مبشرين بالإسلام في أطراف الأرض؛ لنصح العامة، وتمكين عقيدة التوحيد في نفوس أهل الشرك، قد عرضت في العهد الأخير للأستاذ المرحوم الشيخ محمد عبده، ولقد سمعناه يقول: إنه لولا حكم عبد الحميد ووساوسه لعرض على الدولة العلية اتخاذ الآستانة التي هي دار الخلافة مقرًّا لتلك المدرسة الدينية. مات الشيخ محمد عبده، ودالت دولة عبد الحميد، وحل الدستور والعدل والعقل محل الفوضى والظلم والجنون، فخطر للشيخ رشيد فيما نظن تحقيق أماني أستاذنا المرحوم، فذهب إلى دار السعادة، وأفضى بمشروعه إلى ذوي الحل والعقد هناك، فرحبوا به لأنه من الضرورات اللازمة للعالم الإسلامي، وقد تمكنت الجهالة بأصول الإسلام من نفوس عامة المسلمين وخاصتهم، حتى إن أحدهم ليسمع آي كتاب الله أو شيئًا من سنة رسوله المصطفى، فلا يخيل إليه إلا أنها بدع أو مفتريات تلصق بالدين! رحب رجال الدولة بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي، بجعله تحت رعاية شيخ الإسلام الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى ذلك صاحب المشروع، وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطه في الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد تلك المدرسة، فأبوا إلا أن تلحق رأسًا بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون بإقامتها واختيار المعلمين الصالحين لها، كما أنهم مشتغلون بوضع برامجها وميزانيتها ونظامها، وربما افتتحت في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى. ولقد نقل إلينا من الآستانة العلية أن الشيخ رشيد رضا لم يكد ييأس من استقلاله بأمر تلك المدرسة حتى سارع إلى الاستعانة ببعض ذوي السلطان من العرب؛ لينشئوا مدرسة للتبشير عربية، ويدور في الأندية من الإشاعات والأقاويل ما لا يسعنا إلا استبعاده. فمن ذلك أن جمعية الاتحاد العربي هي التي تسعى وراء ذلك في الخفاء، وتريد أن توجد تلك المدرسة لتخرج في الظاهر مبشرين بالإسلام، وفي الباطل مبشرين بدعوتهم الخصوصية إلى مناهضة الأتراك والاستبداد بالوظائف، ونحو ذلك من الأغراض الحقيرة. ومن الأقاويل أن الموعز بذلك هم الإنكليز، يردون أن يبلغوا بذلك ما يتمنونه من تفويض دعائم المملكة العثمانية - خلَّدها الله - ليقيموا بدلها خلافة عربية، يضعونها في أيدي عباد الشهوات والأموال، حتى يتم لهم الاحتكام المطلق في العالم الإسلامي - لا قدر الله - كما تم لدولة المماليك، الذين سخَّروا الخلفاء في عهدهم لبلوغ مآربهم، وقصورهم على الخطبة والصلاة على الجنائز، والتصدر في المواكب والمجالس. ولقد ظلت الخلافة الإسلامية في ذلك التعس والانحطاط، حتى قيَّض الله لها آل عثمان فرفعوا من شأنها، وأعلوا من كلمتها، ودافعوا عن بيضتها. فالإنجليز يريدون اليوم بتشجيع تلك العصبة الغوية الغافلة؛ أن يعيدوا للخلافة الإسلامية ذلك العهد الذي كان شرًّا ووبالاً على العالم الإسلامي جميعه، فيتخذوا من تلك العصبة خليفة، يقيمون به دولة سلطانها الأعظم وخاقانها الأفخم الملك جورج الخامس، ويؤسسون ملكًا يكون حاكمه العامل السير إدوارد جرتي وكعبته المقدسة لندن. ومن الإشاعات المتناقلة أيضًا أن القائمين بهذا المشروع مخلصون، لا يريدون إلا الخير للعالم الإسلامي، ولكنهم مع ذلك يخطئون في عدم أخذهم بالحزم من الأمور؛ إذ استهانوا بما يحف بعملهم هذا من الشبهات، وما يعتوره من الشكوك، ويقول هؤلاء: إنه كان الأجمل أن يتربص بالأمر قليلاً حتى تقيم الدولة العلية مدرسة الآستانة، فتلحق مدرسة القاهرة بها، أو أن يكتفى بتلقين تلاميذ الأزهر جميع ما يلزم المبشرين من فنون الوعظ وأساليب الإرشاد، وإذا علمنا أن برنامج الأزهر أمثل الأشياء وأشبهها بما يرمي إليه ذلك المشروع، نعلم أن زيادة مادة أو مادتين على ما احتواه بالفعل كافية لجعل الأزهر تلك المدرسة التي يريدونها، ويسعون إلى إقامتها، دون أن يكون من وراء ذلك مجلبة للظنون ومثار للتهم، وإذا ارتأى بعض القائمين بهذا المشروع عدم كفاءة علماء الأزهر لتدريب طلاب التبشير وتمرينهم على هذا الفن الجديد، فليتقدم بنفسه: إما متطوعًا أو مأجورًا ليقوم في الأزهر بهذا الأمر، وليكون له في العاقبة جميل الشكر وجزيل الأجر. هذا ما رأيناه أن نقدمه من النصائح للقائمين بهذه الحركة الجديدة، ناصحين للمخلصين منهم أن يتجنبوا مواطن الشبه، وألا يساعدوا العاملين على التحرش بدولتهم، المناهضين لإخوانهم العثمانيين، المساعدين للدسائس الأجنبية، المروجين للفتن الداخلية، فليتقوا الله في دينهم، وليتقوا الله في جامعتهم، وليتقوا الله في أنفسهم، فإنما هلك من قبلهم بهذا الطيش والرعونة، وبالكدح إلى نيل مآربهم السافلة الحقيرة. وإذا كان الأتراك فيما تزعمون؛ قد اغتالوا ما تسمونه بالوظائف واستبدوا بها، فإنما هم إخوانكم في الدين وشركاؤكم في الجنسية. وإذا كانوا أصابوكم بشيء من الأذى كما تتقولون، فقد قال المثل قديمًا: أنفك منك ولو كان أجدع. فاتقوا الله، واحذروا أن تنصب عليكم داهية ككسف الليل المظلم، لا تجدون منها مخرجًا، ولا ترجون بعدها فرجًا. إلا إنني لا أخاف على الدولة العلية من رعاياها البلغاريين ولا اليونانيين ولا الأرمن ولا العربي المسيحي، وإنما أخاف عليها العربي المسلم يطمح إلى الوظائف، ويعمد إلى كتاب الله، فيستفز العامة بما يؤول من آياته ويحرف من بيناته، ولولا نزعات الشياطين، لكان العالم الإسلامي كما أمره الله أمة واحدة، ولقام بدل المفرقين منهم أمة تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحفظ حدود الله، وتصلح بين الناس، حتى لا يحب أحدهم لأخيه إلا ما يحب لنفسه، ولكن {هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام: 65) .اهـ. *** (المنار) هذا أول ما كتبه الشيخ عبد العزيز شاويش في جريدة العلم، التي هي لسان حال الحزب الوطني؛ إرجافاً بالمشروع من غير مشاورة أعضاء مجلس إدارة الحزب ولا لجانه، ولكن بأمر محمد بك فريد. وقد جعل في الكلام منافذ لأجل الخروج منها، إذا اضطر إلى الرجوع عن مقاومة هذا المشروع الإسلامي الجليل، فبنى كلامه على (أقاويل) افتجرها، وقال: إنه يستبعدها، ورأيت بعدها بعض أصحابه يقصدون إلى محادثتي في المشروع، ويمزجون كلامهم بالتعريض ثم التصريح باستحسان دعوتي إياه؛ ليكون من المؤسسين، ويذكرون من الرأي في الاستفادة منه ما يذكرون، وقد ذكر بعضهم من أمره وحاله في عمله الذي هو فيه ما لا نذكره، فقلت لهم: إن هذا المشروع يجب أن يكون بعيدًا من السياسة والمشتغلين بها، فلهذا السبب ولأسباب أخرى لا يمكن أن يكون الشيخ شاويش من المؤسسين لهذا العمل والمديرين له الآن، وقد كنت عازمًا على استشارته فيه وطلب مساعدته عليه، قبل أن يتهور في الإرجاف به وتشكيك الناس فيه. أما وقد فعل فعلته، فقد أغنانا الله عن مساعدته. بنى الشيخ شاويش إرجافه على الأقاويل المتفجرة، وهو يعلم أن جماهير العامة لا يلتفتون إلى كلمة الأقاويل المستبعدة، وكلمة (إن صدقًا وإن كذبًا) وإنما يأخذون من جملة الكلام أن هذا المشروع ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب؛ لأنه سيفصل البلاد العربية من جسم المملكة العثمانية، ويؤسس فيها خلافة لمملكة إنكليزية! ! بخ بخ لهؤلاء الزعماء الخادمين للدولة بمثل هذه الدسائس التي كانت شر السيئات الرابحة في سوق السياسة الحميدية. كتب الشيخ الشاويش ما كتبه، ونحن في ابتداء دعوة الفضلاء المخلصين للإسلام إلى العمل، فعلمنا أن في الناس من ضعاف الرأي ومقلدة الجرائد الذين هم أتباع كل ناعق، من يصدق كل ما ينشر فيها لعجزهم عن تمحيص الكلام، والتمييز بين الممكن والمحال، فلأجل هذا كتبت المقالتين الآتيتين لأنشرهما في الجرائد إبطالاً لإرجاف جريدة العلم، وبيانًا للمشروع في نفسه ليعلم حقيقته من لم يعلم. ((يتبع بمقال تالٍ))

المقالة الأولى التي كتبت ردا على جريدة العلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقالة الأولى التي كتبت ردًّا على جريدة العلم التي يصدرها الحزب الوطني (مشروع العلم والإرشاد في الآستانة) (والدعوة والإرشاد بمصر) ] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [[1] ذكر هذا المشروع في بعض الجرائد محفوفًا بأوهام غريبة عنه، ونشرت جريدة (العلم) مقالة افتتاحية في العدد الذي صدر في ثامن المحرم، أرجف كاتبها فيها بالموضوع إرجافًا مبنيًّا على أقاويل لا يجزم بصحتها، وكان يسهل عليه أن يراجعني أو يراجع المنار ويرى فيه ما كتبته عن المشروع، وأنا في الآستانة بين أولي الأمر وأهل الحل والعقد، وكذا ما كتبته جرائد الآستانة التركية والعربية من المقالات في إزالة سوء التفاهم بين العرب والترك، والتأليف بينهم بحجج الإسلام القيمة، وآيات السياسة البينة. فإن كان لم يتح له الرجوع إلى صاحب المشروع، ولا مراجعة ما كتبه فإن صاحب المشروع يكتب بيانًا وجيزًا يعلم منه خطأ تلك الأقاويل التي بنى عليها كلامه، لعله يرجع عنه، وينقض تلك الشكوك التي أقامها حول أفضل وأقدس عمل ديني اجتماعي، يخدم به المسلمون دينهم وهو الدعوة إلى الإسلام، ودفع شبهات المشككين فيه والمنفرين عنه، وهو فاعل- إن شاء الله تعالى - إن كان حسن النية فيما أخطأ فيه من قبل. ليست فكرة الدعوة وبث الدعاة إلى الإسلام بالفكرة التي حدثت عندي في هذه الأيام، فيقال: إنني أريد أن أخدم بها جمعية سياسية جديدة؛ إن صح ما أذاعته جريدة العلم ولم نسمعه إلا عنها من خبر هذه الجمعية، وإنما هي أمنية قديمة، صارت رغيبة ثم اقترنت بها العزيمة بعد تمهيد طويل، وإليك البيان بالإيجاز: كنت في أيام طلبي للعلم في طرابلس الشام، أتردد بعد الخروج من المدرسة إلى مكتبة المبشرين الأمريكانيين، أقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم، وأجادل قسوسهم ومعلميهم، وأتمنى لو كان للمسلمين جمعية كجمعيتهم، ومدارس كمدارسهم، ولما هاجرت إلى مصر وأنشأت المنار، قويت عندي هذه الفكرة، وأحببت أن أنبه المسلمين لها، فكتبت في جمادى الأولى من سنة 1318 مقالتين عنوان إحداهما (الدعوة حياة الأديان) ، وعنوان الثانية: (الدعوة وطريقها وآدابها) ونشرتهما في المجلد الثالث من المنار، وكتبت مقالات أخرى في الرد على كتب وصحف دعاة النصرانية الذين يطعنون في الإسلام، عنوانها العام: (شبهات النصارى وحجج المسلمين) ، وكنت أقصد بذلك إعداد النفوس للقيام بهذه الفريضة؛ فريضة الاجتماع والتعاون على الدعوة، أي أنني بدأت بالكتابة في ذلك منذ عشر سنين أو أكثر. وفي سنة 1323 توجهت نفسي للسعي والعمل، فكتبت في المنار مقالة نوهت فيها بالدعوة، وأشرت إلى ما تحتاج إليه من الاستعداد، وبحثت فيها عن دعوة اليابانيين إلى الإسلام، وكان قد شاع أنهم يريدون عقد مؤتمر ديني للبحث عن أمثل الأديان وأجدرها بالاتباع ليتبعوه، وبدأت بالسعي لتأسيس جمعية الدعوة، يكون أول عملها إنشاء مدرسة لتخريج الدعاة، وجعلت تلك المقالة تمهيدًا لذلك، فكان لها تأثير حسن في الأقطار الإسلامية شرقيها وغربيها، وبدأت المكاتبة في ذلك بيني وبين أهل الغيرة من الصين إلى بلاد المغرب، وقد أشرت إلى ذلك في الجزء الأول من المنار الذي صدر في المحرم سنة 1324 أي: منذ خمس سنين. كاشفت يومئذ بهذا الأمر كثيرًا من أصدقائي بمصر، ورغبت إلى صاحب الدولة رياض باشا أن يكون رئيس الجمعية التي تقوم بالاكتتاب لتنفيذ العمل، وإلى محمود بك سالم أن يكون السر لها، وإلى حسن باشا عاصم - رحمه الله تعالى - ومحمد بك راسم، وغيرهما من الفضلاء أن يكونوا أعضاء مؤسسين، واجتمع بعض من دعوتهم للمذاكرة في ذلك مرارًا في إدارة المنار. وشاورت يومئذ أحمد مختار باشا الغازي في العمل فاستحسنه هو وولده محمود باشا، ووعدني ولده بالاشتراك بمائة جنيه في السنة عدا ما يدفعه من نفقات التأسيس، ولكن عرض في أثناء السعي دعوة مصطفى كامل بك الغمراوي إلى تأسيس مدرسة جامعة مصرية، وتلت ذلك العسرة المالية في مصر، فوقف الاكتتاب للمدرسة الجامعة، ووقف أيضًا سعيي إلى مشروع الدعوة. ثم حدث في سنة 1326 الانقلاب العثماني الذي كنا نسعى إليه في الخفاء، ثم خلع السلطان عبد الحميد الذي كان مانعًا في بلاده من كل علم وعمل نافع يجب على المسلمين القيام به مجتمعين، فعزمت أن أجعل مشروع الدعوة والإرشاد في الآستانة لأسباب أهمها أمران: (أحدهما) أنني أرجو من نجاحه ومساعدته والثقة به بالآستانة في ظل الدستور، ما لا أرجوه في مصر التي كنت أتوقع فيها مقاومة الحزب الوطني، كما كنت أحذر مقاومته في طلب الدستور من السلطان عبد الحميد، فاشتغل بذلك سرًّا. (وثانيهما) أنني رأيت بلاد الدولة تكثر فيها الفتن باختلاف العناصر والأديان والمذاهب، وأنني أعلم أن لكل طائفة من النصارى العثمانيين مدارس دينية تابعة لبطاركهم، على شدة إقبالهم على مدارس دعاة دينهم من الإفرنج، وأعلم أن المسلمين هم المحرومون من ذلك، فقلت في نفسي: إن تأسيس المشروع في الآستانة، تكون فائدته الأولى ترقية مسلمي الدولة العلية في دينهم ودنياهم، والتأليف بينهم وبين أبناء وطنهم، ومنع أسباب الفتن والخروج على الدولة من أقرب طرقها وهو الوعظ الديني، وبذلك يكون ارتقاء الأمة العثمانية الاجتماعي والاقتصادي سريعًا، وبه تزيد ثروة الدولة وقوتها. رحلت إلى الآستانة في أواخر رمضان من سنة 1327، بعد مكاتبة في المشروع مع بعض معارفي فيها، ومع بعض رجال جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك، ظهر لي منها ميلها إلى مشروعي، حتى إنها سألت عن سفري بلسان البرق، وتلقتني بالحفاوة في أزمير والآستانة، وقد أقمت في الآستانة سنة كاملة لا عمل لي فيها إلا السعي لهذا المشروع، ولحسن التفاهم بين العنصرين المقومين لهذه الدولة وهما العرب والترك اللذان شبهتهما بالعنصرين المكونين الماء أو الهواء، وقد كتبت في هذه المسألة الأخيرة مقالات، نشرت أكثرها هنالك بالتركية والعربية في جريدة إقدام، وجريدة كلمة الحق، ثم جريدة الحضارة، ويجدها القارئ كلها في مجلدي المنار للسنتين الماضيتين. عرضت المشروع هنالك على وزراء الدولة وكبرائها من رجال جمعية الاتحاد والترقي وغيرهم، فاتفقت كلمتهم بعد البحث معي في لجنتين: إحداهما علمية، والأخرى سياسية، على أن يصرف النظر عن البحث في مسألة تخريج الدعاة إلى الإسلام، وإن تسمى المدرسة المراد إنشاؤها (دار العلم والإرشاد) ، وجمعيتها (جمعية العلم والإرشاد) . وكان وصل المشروع في وزارة حسين حلمي باشا إلى حيز التنفيذ؛ إذ قال لي: إن العمل قد تم نهائيًا، فألف الجمعية حالاً، ونحن نصرف لكم الآن خمسة آلاف ليرة؛ لأجل الابتداء بالعمل، وفي أول السنة المالية تزيد لكم بقدر الحاجة. ولكن استقالت وزارة حسين حلمي قبل أن نتمكن من تأليف الجمعية. ثم استأنفت العمل في وزارة حقي باشا، وقد عرض عليَّ ناظر الداخلية وناظر المعارف فيها أن آخذ رخصة المدرسة باسمي، وأدع مسألة الجمعية إلى فرصة أخرى، فلم أقبل، وقلت: يجوز أن أموت بعد مدة قليلة وحينئذ تصير المدرسة لورثتي، وهم ليسوا أهلاً لهذا العمل، فلا بد من جمعية دائمة. وقد فوضت إليهم اختيار أعضاء المؤسسين، فاختارهم ناظر المعارف مع مدير شعبة الإلهيات والأدبيات في دار الفنون من صفوة رجالهم في المشيخة الإسلامية ومجلس الأمة ونظارات الحكومة، وقد ذكرت أسماءهم في الجزء السادس من المنار الذي صدر في آخر جمادى الآخرة سنة 1328، ومنهم شيخ الإسلام الحال (وكان من أعضاء مجلس الأعيان والمدرسين) ومستشار المشيخة، واقترح بعض الأعضاء أن يكون شيخ الإسلام رئيس شرف للجمعية، فقبلت. * * * قال صاحب مقالة جريدة (العلم) في مقالته التي أرد عليها بعد ذكر رحلتي إلى الآستانة، وعرض المشروع على أولي الشأن ما نصه: (رحب رجال الدولة بهذا المشروع، وأرادوا أن يحلوه محله الطبيعي بجعله تحت رعاية شيخ الإسلام الذي له دون سواه الإشراف على المعاهد الدينية، فأبى ذلك صاحب المشروع، وزادهم نفورًا منه فيما يقولون ما اتصل بهم (إن صدقًا وإن كذبًا) من إفراطه في الاشتغال بالمسألة العربية، وإغراقه في التحرش بالأتراك، لقد كان يبلغهم ذلك فيظنون بالشيخ الظنون، ويخشون مغبة تسليمه مقاليد تلك المدرسة، فأبوا إلا أن تلحق بالمشيخة، وهم الآن فيما نعلم يشتغلون بإقامتها) .ا. هـ أقول: (1) قول الكاتب إنهم رحبوا بالمشروع - يعني المشروع الذي عبر عنه بالتبشير الإسلامي - غير صحيح، وإنما رحبت وزارة حسين حلمي باشا بمشروع تربية المرشدين الذين يكونون وُعَّاظًا ومعلمين للمسلمين؛ لشدة الحاجة إليهم في بلاد الدولة العلية، وأراد أن ينفذه كما اقترحت من غير أن يكون لشيخ الإسلام رأي فيه، ولا إشراف عليه. (2) لما سقطت وزارة حلمي باشا، بقيت بضعة أشهر أراجع وزارة حقي باشا، حتى اقتنعت بوجوب تنفيذ مشروع العلم والإرشاد، لا الدعوة والإرشاد، بواسطة جمعية لا بواسطة شيخ الإسلام، وتأسست الجمعية، وصدقت عليها الحكومة رسميًّا، وقانونها أو نظامها الأساسي مطبوع في المنار (ج6م13) . (3) إن كون المشروع في يد جمعية من خيار رجال العاصمة، ينافي أن يكون بيدي، فلا محل لخوفهم مني إن صح أنهم سمعوا عني ما ينفرهم، فإن كان جعل المدرسة تابعة للمشيخة مبنيًّا على عدم الثقة، فإنما ذلك عدم الثقة بالجمعية التي ألفوها، لا بعضو واحد له فيها صوت واحد، وإن كان هو صاحب المشروع. (4) الحق الذي وقع هو أنه لم يقترح أحد من رجال الدولة جعل هذا المشروع تابعًا للمشيخة، بل كانوا كلهم متفقين على جعل المدرسة من المدارس التي يسمونها (المكاتب الخصوصية) وعلى أن فائدتها بأن لا تكون من مدارس الحكومية الرسمية (ولا أزيد على هذا الآن) . (5) إننا بعد تأسيس الجمعية وتصديق الحكومة عليها، طلبنا من شيخ الإسلام أن يستنجز الحكومة ما وعدتنا به من المال، فقال لنا بعد أن ذاكر الصدر الأعظم واتفق معه على ذلك: اكتبوا ما تريدون من المساعدة، فكتبت صورة مذكرة، وترجمها كاتب الجمعية العام بالتركية، وأعطيناه إياها، فأمر بتبييضها ثم ختمها، وأخذها بيده إلى الباب العالي، وبقيت أنا ألح بعرضها على مجلس الوكلاء؛ لأجل تقريرها زمنًا طويلاً حتى عرضت، وبشَّرني شيخ الإسلام وناظر المعارف بقبولها وصدور القرار الرسمي بمقتضاها. (6) كان هذا في شعبان من السنة الماضية، وفي الأسبوع الأول من رمضان بلغنا شيخ الإسلام صورة القرار الذي قرره مجلس الوكلاء، فإذا فيه أن المدرسة تكون لها لجنة تحت إدارة ومسؤولية شيخ الإسلام، ولم يطرق سمع أحد من أعضاء الجمعية هذا الرأي إلا في أوائل رمضان، وهو الشهر المتمم للسنة من سعيي للمشروع هناك. (7) لم أكن أنا الذي اعترضت وحدي على هذه الفقرة من القرار، بل اجتمعت جمعية العلم والإرشاد بدار الفنون بعد ظهر يوم الجمعة 19 رمضان سنة 1328، وقررت باتفاق الآراء الاعتراض على قرار مجلس الوكلاء، وبلغوا شيخ الإسلام قرارهم بالكتابة الرسمية، فقال - حفظه الله تعالى: إن الاعتراض في محله (حقكز وار) أي معك الحق، وأنه سيراجع الباب العالي، ويقترح تعديل قرار مجلس الوكلاء، وجعل المدرسة (دار العلم والإرشاد) خاصة بالجمعية التي أ

المقالة الثانية لجريدة العلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقالة الثانية وهي المقالة التي أرسلتها إلى الجرائد في بيان المشروع ووجه الحاجة إليه برأي الجماعة التي تسعى معي في تنفيذه. (مشروع الدعوة والإرشاد في مصر) {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) . {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) ، الدعوة إلى الإسلام فريضة، إذا تركها المسلمون يكونون كلهم عصاة لله تعالى مستحقين لعذابه، وإذا قام بها بعضهم سقط الحرج عن الباقين. والدفاع عن الإسلام عند ظهور الشُّبَه وإلقاء الشكوك في عقائده وأصوله فرض أيضًا، فإذا سكتوا عنه حيث يظهر كانوا عصاة لله تعالى مستحقين لعذابه، وإذا قام به بعضهم وحصلت بهم الكفاية سقط الإثم عن الباقين. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الحاجة من فرائض الكفاية أيضًا، فإذا سكت المسلمون عنه حيث يترك المعروف من الفرائض والسنن ويظهر المنكر من البدع والمعاصي، كان جميع المسلمين هناك آثمين مستحقين لعذاب الدنيا بذهاب عزهم ومجدهم، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، وإذا قام به من تحصل بهم الكفاية سقط الحرج عن الباقين. هذه مسائل مجملة مجمع عليها بين المسلمين الذين يعتد بإسلامهم، ولها تفصيل وجزئيات معروفة في مواضعها من كتب الدين بشروطها وأدلتها. وقد أهملت هذه الفرائض في زماننا هذا إهمالاً لم يسبق له نظير، كما أن الحاجة إليها قد اشتدت اشتدادًا لم يسبق له نظير في تاريخ الإسلام. فشا الجهل بين المسلمين، وكثرت فيهم البدع والخرافات، وقل الوعاظ والمعلمون الذين يتصدون لإرشاد العامة أو فقدوا (اللهم إلا الدجالين المحتالين على التجارة بدينهم) ، وانبثت دعاة النصرانية في جميع شعوبهم، يشككونهم في دين الإسلام، ويطعنون في كتابه المنزل، وفي نبيه المرسل، ويبثون مطاعنهم بالخطب في المحافل العامة، والتعليم في المدارس الخاصة، والوعظ في الملاجئ والمستشفيات، وبكتب ورسائل يطبعونها وينشرونها في الناس، وأكثر المسلمين عوام أميون، لا يميزون بين الحق والباطل ولا بين الصادق والكاذب، مما يعزى إلى دينهم وإلى علمائهم، ووراء ذلك أموال تبذل للمرتدين، تغر الطامعين الجاهلين. فصار من الواجب المحتم عليهم في كل البلاد أن يقاوموا هذه الشكوك والشبهات دفاعًا عن دينهم، وأن لا يكتفوا بالدفاع كما هو شأن الضعيف، بل يزيدوا عليه تعليم عامة المسلمين حقيقة دينهم، ويدعوا غير المسلمين ولا سيما الوثنيين إلى هذا الدين القويم، دين العقل والفطرة، المصدق لجميع الرسل، الجامع بين مصالح الروح والجسد، المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة. يجب أن تقاوم هذه القوة المهاجمة لهم بمثلها، وأنى لهم مع هذا التخاذل والتواكل والتحاسد والتباغض أن يأتوا بمثلها. إن لكل مذهب من مذاهب النصرانية جمعيات دينية غنية بالهبات والتبرعات ولهذه الجمعيات فروع، كل فرع منها موجه لتنصير شعب من الشعوب؛ فمنهم الموجهون لتنصير العرب يتعلمون العربية ويتقنونها أكثر من أهلها، يؤلفون الكتب بها، ويعلمونها في مدارسهم، وهم منبثون في البلاد العربية والآسيوية والأفريقية، ومنهم الموجهون لتنصير الفرس، والموجهون لتنصير الترك، والموجهون لتنصير الهنود، ولتنصير الجاويين ... إلخ. يشعر المسلمون في مصر بالألم والامتعاض عندما يرون جريدة من جرائد هؤلاء الدعاة، أو كتابًا من كتبهم، أو رسالة من رسائلهم، تطعن في دينهم. يتألمون لأنهم يعدون هذا إهانة لهم، وقلما يخطر في بال أحد منهم؛ أن بعض المسلمين ينخدع بها فيشك في دينه أو يخرج منه لأن ضروريات الإسلام معروفة هنا بين العامة في الجملة، ومعرفتها كافية لرفض كل ما يخالفها والإعراض عنه، ويزيدهم قلة مبالاة ما يرونه من المطاعن الجديرة بالسخرية؛ كالكتاب الذي نشرته المكتبة الإنكليزية بمصر، لقسيس إنكليزي ذكر فيه سورة زعم أنها كانت سقطت من القرآن أو كتمت، وما تلك السورة بسورة، وإنما هي كلام ركيك، تتبرأ منه الصحافة والبلاغة؛ بل اللغة العربية. إلا فاعلموا أيها الإخوة، إن هذه الجمعيات قد انتزعت في مصر نفسها أفرادًا من المسلمين ونصرتهم، ولكنكم لا تشعرون بهم لقلتهم، فماذا ترونها تفعل في غير مصر من البلاد التي لا يعرف فيها الإسلام كما يعرف بمصر، ولا يوجد فيها من يدافع عنه كما يوجد في مصر. جاءني في كتاب من سائح مسلم مشهور بسنغافورة بتاريخ 14 شوال سنة 1328 ما نصه: إني قد ترددت إلى جاوه ومتعلقاتها منذ ثلث قرن، وقد تبين لي أن دعاة النصرانية قد أضروا بالإسلام وأهله؛ لتغلب الجهل عليهم لمنع الحكومة الهولندية دخول الدعاة إلى الإسلام، وحجتها أنهم ليسوا علماء بل دجاجلة، وكل من منعته أو طردته ليس من متخرجي المدارس، ولقد هالني جدًّا ما رأيته في سياحتي هذه، فإن الداء قد تمكن وفتك بالأهالي فتكًا ذريعًا مهولاً، وبالجملة أقول: إن المتنصرين سنويًّا من مسلمي جاوه ومتعلقاتها - هندينذرلند - لا يقلون عن مائة ألف إنسان، وإذا دام هذا، عادت جاوه أندلسًا ثانية (إلى أن قال بعد لوم العرب الذين هنالك على سكوتهم عن هذا الأمر) ولو وجد عالم له إلمام بفن الدعوة، وبعض معرفة بلغة أورباوية، وكان ذا عقل واعتدال، وساح في هذه النواحي، لأوقف هذا التيار الجارف. فكيف لو وجدت بعثة كالبعثات الأوربية. ثم جاءني منه كتاب آخر جوابًا عن كتاب أرسلته إليه مبشرًا إياه بالسعي لإنشاء مدرسة لتخريج الدعاة إلى الإسلام، وصل إليَّ في 11 المحرم الحال، وقد كتب في 24 ذي الحجة الماضي، وفيه ما نصه: (أما ما ذكرته لكم من فتك دعاة النصرانية بأهل هذه النواحي فصحيح لا مرية فيه، بل الأمر أشد وأكبر ولا سيما في جزائر تيمور ويتووسليس وبندقيني وفلفاني ولا قوة إلا بالله، إلى أن قال: أما ما عرفتموه عن عدم سريان سموم أولئك الأدعياء في الأقطار التي عرفتموها فله أسباب، كلها لا توجد هنا من تصلب الأهالي، ووجود شيء من العصبية، وقليل من العلماء وبصيص من نور التمدن، وكثرة قراء المجلات ونحو ذلك) . (ولو عرفتم ما عرفته عن حال من بهذه الجهات لعجبتم من بقاء عشرات الملايين على الإسلام مع ما هم فيه من الجهل، وما يعرض عليهم من الإعانات إن تنصروا) . (وأسأل الله أن يمدكم بعونه وتوفيقه ليتم لكم إقامة جمعية الدعوة والإرشاد، ويطيل عمركم حتى تروا ثمرتها ونفعها للإسلام وأهله، وأرى أن لو كاتبتم أهل الهند ولا سيما رؤساء ندوة العلماء؛ ليمدوا لكم يد المعاونة لكان حسنا) .ا. هـ لا يوجد قطر من الأقطار الإسلامية إلا وعنده من أنباء هؤلاء الدعاة في بلاده ما يحرك غيرته الدينية، ويذكره بما يجب عليه لدينه من القيام بمثل ذلك. ولكن المسلمين أصيبوا بأمراض اجتماعية، حتى صاروا على شدة تمسكهم بدينهم وغيرتهم عليه أبعد أهل الملل عن التعاون والاجتماع لخدمته، وإذا قام فيهم من يريد خدمة الإسلام، لا يلقى الخاذلين والمقاومين له إلا من المسلمين، إما من باب السياسة وفتنها، وإما من باب الحسد، وهم يتهمون غيرهم ولا سيما الأوربيين بالمقاومة التي كفوهم أمرها، والصديق الجاهل أضر من العدو العاقل. ولكن حوادث الزمان وأحداثه قد نبهت المسلمين في جميع أقطار الأرض وحفزت هممهم إلى التعاون على إحياء دعوة الإسلام والدفاع عنه، وإرشاد عامة أهله إلى ما يجب عليهم في هذا العصر من الاستمساك بآدابه وأعماله، ومباراة الأمم الأخرى في العلم والمدنية، مع الحكمة والمودة والسلام العام بين أهل الملل. قد قطع الأوربيون حجتنا بمثل ما نقله السائح عن حكومة هولندة في جاوة، وما قاله لورد كرومر في بعض تقاريره عن دعاة النصرانية في السودان [1] فلم يبق لأحد منا حجة في تعصب الأوربيين. وأما من يخافون من حسد جهلة المسلمين والمارقين منهم، فليعلموا أن هؤلاء لا قوة لهم إلا بالأراجيف وسفه القول، وليس هذا بعذر شرعي يسقط هذه الفريضة، بل الفرائض التي بيناها في صدر المقال. هذا العمل لا يمكن أن تقوم به الحكومات؛ لما يحدث فيه حينئذ من فتن السياسة؛ ولأن الحكومات لا تربي أرواحًا بل عمالاً، ولا الأفراد لضعفهم، والشرع قد أوجب علينا أن تقوم به مجتمعين بقوله: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) الآية، ولم يوجد في دين من الأديان التصريح بمثل هذا في افتراض الاجتماع لهذا العمل، وما يعضده في القرآن الحكيم من الأمر بالتعاون والاعتصام، وقد دلت التجارب على ذلك في غيرنا من الأمم، فلهذه الأوامر الدينية والأسباب الاجتماعية استخار الله جماعة من أهل الغيرة من المسلمين المقيمين بمصر، وشرعوا في التوسل إلى إنشاء مدرسة؛ لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين للمسلمين، وإقامة تلك الفرائض، وسيعلنون الدعوة إلى التعاون على ذلك عن قريب. * * * (مدرسة الدعوة والإرشاد) نبين للناس أهم ما تقرر بين الجماعة المشتغلة بتأسيس هذه المدرسة بادئ بدء إلى أن يصدقوا على قانونها فننشره. (1) يختار طلاب هذه المدرسة من طلاب العلم الصالحين من مسلمي الأقطار ويفضل الذين هم أشد حاجة إلى العلم على غيرهم؛ كأهل جاوه والصين، وما عدا القسم الشمالي من إفريقية. (2) المدرسة تكفل لهم جميع ما يحتاجون إليه من الغذاء والمنام والكتب. (3) يعتنى بتربيتهم على آداب الإسلام وأخلاقه وعباداته، بحيث يطرد من المدرسة من ثبت عليه الكذب أو إظهار العصبية الجنسية أو المذهبية أو ارتكاب شيء من المعاصي، وعلى قيام الليل وصيام أيام من كل شهر، وعلى ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن مع التدبر. (4) يعلمون كل ما يحتاج إليه الدعاة من العلوم الدينية؛ كالعقائد والتفسير والحديث والأحكام على الوجه المؤدي إلى القدرة على إقامة الحجة ودحض الشبهة، وما يحتاجون إليه من العلوم الرياضية والكونية واللغات لأجل ذلك. (5) لا تشتغل المدرسة ولا الجماعة المديرة لها بالسياسة المصرية ولا العثمانية، ولا سياسة الدول الأجنبية مطلقًا. (6) يرسل الدعاة والمرشدون الذين يتخرجون في المدرسة إلى أشد البلاد الإسلامية حاجة إليهم؛ كجاوه والصين، ثم إلى الشعوب الوثنية، ثم إلى أمريكة وأوربة من البلاد الكتابية، ولا يرسل أحد منهم إلى الولايات العثمانية؛ لما يترتب على ذلك من اعتراض غير المسلمين وتهويشهم على الدولة، وإن كان لكل مذهب من مذاهبهم دعاة في تلك الولايات، وللعلم بأنه سيوجد في الآستانة مدرسة لأجل تخريج المرشدين لتلك دون الدعاة إلى الإسلام. (7) سيبدأ المؤسسون بجمع الإعانات للقيام بهذا العمل، ثم يفتحون باب الاشتراك الدائم لأجل استمراره، ويرجون نجاح السعي بما يجود به أهل الخير والبر من الاشتراكات والتبرعات والهدايا والوصايا، والأوقاف التي يرجى أن توقف على هذا العمل. (8) نشرت هذا البيان بعد استشارة المتعاونين على تنفيذ هذا المشروع واستحسانهم، وسينشر قانون المشروع الأساسي بعد التصديق عليه مذيلاً بأسماء المؤسسي

المقالة الثالثة لجريدة العلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقالة العلم الثالثة بعد نشر مقالتنا الثانية في بعض الجرائد اليومية، رجعت جريدة العلم عن الإرجاف بكون مدرسة الدعوة والإرشاد تنشأ لهدم الخلافة العثمانية وتأسيس خلافة إنكليزية، ونشرت في صدر عددها الذي صدر يوم الأحد 21 المحرم المقالة الآتية بنصها، وهي: (مدرسة الدعوة والإرشاد الإسلامي) نشرنا في هذا الباب ما نشرنا، وكنا نحسب أنه غنية لمن كان مخلصًا من رجال هذا المشروع، ولكننا نجد في كل يوم أفرادًا يكثرون من اللغط، ويطرحون علينا أسئلة الاستنكار والاستهجان، زاعمين أننا أتينا بدعًا من الرأي، وزورًا من القول، فلا بد لنا من كلمة ثالثة في الموضوع تزيده إيضاحًا وتبيانًا. يعلم المفكرون أن أوربا كل يوم ترمينا بتلك التهمة الباطلة تهمة التعصب الديني والجامعة الإسلامية. طالما رمتنا بذلك، وكم جنت من وراء هذه التهمة التي تختلقها لتنال بها مآربها من العالم الإسلامي، فتلزمه السكون والسكوت، وتقعده عن النشاط والعمل، وتفرق بين أجزائه حتى لا يلتئم له شمل، ولا يرتق له فتق. طالما رمتنا أوربا بذلك، وطالما جنت من وراء هذه التهمة المفتراه، فماذا كنا ندرأ به عن أنفسنا هذه الويلات لا سيما في تلك السنين التي خضدت فيها شوكة الحكومة الإسلامية، وأصبح الإسلام وأهله في أيدي الحكومات الصليبية. وهل استطاع المسلمون أن ينجوا من آثار تلك التهم إلا بما كانوا يعلنونه ويشهدون العالم عليه من أنهم أهل سلم لكل مسالم، وأرباب وفاء لكل معاهد، هل استطاعوا أن يعدوا لأعدائهم مثل ما أعد هؤلاء لهم من مدافع مدمرة، وأساطيل مصفحة، وكتائب سابغة الدروع تامة السلاح، هل استطاعوا أن ينافسوهم في ميادين الاقتصاد، فيستغنوا عن مالهم، أو يزاحموهم في أسواق التجارة فيكفوا الحاجة إليهم؟ إذًا، فماذا يبتغي أصحاب هذه المدرسة؟ قد يكونون - كما قلنا في أول كلمة لنا - حسان القصد طاهري الضمير، ولكن إلى من يعدون خريجي مدرستهم؟ أَإلَى أهل تونس والجزائر والمستعمرات الإسلامية الفرنسية، وهي تلك الدولة التي لا تغفل عن مصالحها، ولا تكاد تبيح لأجنبي عنها التوغل في أعماق مستعمراتها أو مخالطة أحد من رعاياها. أم إلى مسلمي جاوه، وتلك حكومة هولانده قد أحاطتهم بنطاق من يقظتها، وحالت بينهم وبين العلم والنور والحرية والعوالم الأخرى، فهي لا تسمح لأحد منهم بمقابلة أحد ولا معاشرته، إلا إذا كان هناك من عيونها من لا يفتر عن مراقبته، ولا تأخذه غفوة عن سكونه أو حركته. لعلهم يريدون أن يبعثوا بهم إلى أرجاء السودان؛ ليدخلوا أهله في دين الإسلام، إذًا فهل أمنوا جانب إنجلترا ونسو مآربها هنالك، ألا والله لتعتبرن أولئك الدعاة للإسلام أهل فتنة ودعاة ثورة، ولتقيمن لهم المحاكم المخصوصة ولتنصبن لهم المشانق، ولتبطشن بهم بطش الجبارين، فهل أعددتم لوقايتهم ما أعدت دول الصليب لمبشريها وحماة دينها من البأس والقوى، وهل سلكتم ما سلكه أولئك أيام كانوا جهالاً ضعفاء من الدعوة من غير جلبة ولا ضوضاء. أظننتم أن مريدي الشر للإسلام في غفلة عنّا، أو أنهم يسرهم أن تقوم على وجه البسيطة مدرسة كهذه على النحو الذي يقوله أصحاب ابتداعها. أأمنوا اتحاد دول الصليب علينا إذا علموا أننا نسعى لنشر كلمة الإسلام، وهل غرَّهم ما يرونه من إحدى الدول العظمى التي تظهر الميل والعطف على العالم الإسلامي، وكيف يغتر بها من يستقرئ خطواتها، ويدرس اضطرابها وتذبذبها، وهي تلك التي لا تكاد تستقرعلى حال واحدة عدة أيام، فكم من عهد لم توف به؟ وكم من أمة خدعت بمعسول وعودها واطمأنت لزخارف أقوالها، ثم قطعت أناملها ندمًا على ما فرط منها. اعقلوا أيها القوم، وتدبروا الأمر قبل أن تجنوا في مغبته الخيبة، وتعجلوا للمسلمين ما لا قبل لهم به، وإذا زعمتم أنكم تريدون دعوة غير المسلمين كما صرحتم بذلك، فخير لكم أن تبدأوا بالجهال من بني دينكم وكثير ما هم، ثم إذا وجدتم من أوقاتكم ومجهوداتكم متسعًا فثنوا بمن تشاءون من غيرهم، ولقد أسلفنا لكم أنكم إذا ربحتم المسلمين، وأصلحتموهم، واكتفيتم بهم، فقد ربحتم كثيرًا وخسرتم قليلاً. إننا أيها القوم لسنا أعداء الإصلاح، ولا محاربي العاملين في سبيل الإصلاح. ولكنا قد أدركنا مغبة مساعيكم، فروينا الذي رويناه، ولم ندع اعتقاد شيء منه، وإنما بسطنا لكم القول وشرحنا لكم وعورة الطريق التي تسلكونها، وأرشدناكم إلى أن أمامكم الأزهر الذي هو المدرسة الإسلامية العظمى، فأدخلوا فيه ما شئتم من مواد الدراسة، وأعدوا طائفة منهم للوعظ والإرشاد، وهداية العامة من المسلمين وغيرهم إلى الحق، والصواب من قواعد الدين الحنيف وأركانه، ولا تستمسكوا بالألقاب والأسماء، ولا تقيموا معهدًا خاصًّا لما أردتم، فقد نمتم عن قوم لا ينامون، وتجاهلتم أمر أعدائنا الذين لا يغفلون، وإذا لم يكن لكم بد من إقامة هذه المدرسة فلا تدعوها بما يجلب عليها وعلى الإسلام الشقاء من الأسماء. هذه كلمتنا للعقلاء المفكرين من المشتغلين بهذا المشروع، أما النفر المتعصب لرأيه المتنطع في قوله، فما كان لنا أن نعنيه برد ولا نصيحة، فليأت العقلاء المخلصون من الأعمال ما تحتمله الأحوال الحاضرة ولا تنافره الظروف السياسية، وليقيموا ما شاءوا من المدارس على شريطة ألا يجروا بأسمائهم الضخمة وعنوانيها الفخمة عليها شيئًا من البلاء والشقاء، وليتقوا الله في العالم الإسلامي، فلا يجلبوا عليهم بتسرعهم وعدم تحوطهم أكثر مما نزل بهم، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون. (الرد على هذه المقالة) بينت لنا هذه المقالة التي نشرت يوم الأحد 21 المحرم عدة أمور نذكرها مع التعقيب عليها: (1) إن أصحاب جريدة العلم يجدون في كل يوم أفرادًا يكثرون اللغط، ويطرحون عليهم أسئلة الإنكار والاستهجان، ويرمونهم بالبدع من الرأي والزور من القول، كل هذا صرحت به العلم، وما سمعنا من أصحاب جريدة الحزب الوطني قبل مثل هذا الاعتراف بإنكار الناس عليهم كل يوم شيئًا من الأشياء، بل ما رأينا المسلمين بمصر اهتموا بمواجهة فرد من الأفراد فضلاً عن حزب من الأحزاب بالإنكار والاستهجان، وناهيك استنكار واستهجان ما يكتب في جريدة العلم التي يتحامى الناس الجهر بالإنكار عليها؛ تكريمًا لأنفسهم وصونًا لها من هجو جريدة تكتب بمداد من السمّ، بل العادة الغالبة أن ينتقد الناس المخطئ في غيبته ويسكتون في وجهه، ولو علم رئيس تحرير العلم كل ما يقول الناس فيه، لتبين له أن مقامه لم يصل في مصر إلى درجة يقبل معها كلامه في تقبيح أفضل وأقدس خدمة يخدم بها الإسلام لا عند الحزب الوطني ولا عند الجمهور، وإنما يمكن أن يقبله بعض الملحدين المارقين من الإسلام دينًا وجنسية. ويغلب على ظني أن في المنكرين على الشيخ عبد العزيز شاويش بعض أعضاء الحزب الوطني، ولولا ذلك لما غير رأيه وناقض نفسه فيما كتبه أولاً وثانيًا. (2) تقول جريدة العلم اليوم: إن أوربا تتهم المسلمين بالتعصب الديني، وما استطاعوا أن ينجوا من آثار تهمتها بما يعلنونه من سلمهم ومسالمتهم، وإن هذه الخدمة تزيد في اتهامهم وعداوتهم للمسلمين، فلا ينبغي أن تكون. ونجيبها عن ذلك بأنه إذا كانت أوربا لا يرضيها منا إلا ترك شعائر الإسلام وفرائضه أو حتى نتبع ملتهم، أفتأمرنا جريدة العلم بأن نترك فرائض ديننا لأجل إرضاء أوربا أو دفع تهمتها. قد بينا في مقالتنا الثانية التي أرسلناها إلى العلم كغيره من الجرائد أن هذا المشروع قيام بثلاث فرائض إسلامية مجمع عليها، فكيف ينهانا أن نؤدي فرائض ديننا خوفًا من اتهام أوربة إيانا بالتعصب، وهو تحصيل حاصل؟ ؟ (3) تسألنا جريدة العلم في معرض الإنكار؛ إلى أين نرسل خريجي هذه المدرسة، وفرنسة وهولندا وإنكلترا لنا بالمرصاد في مستعمراتهن وفي السودان، وأقسم الكاتب على أن الأخيرة منهن لا بد أن تقيم لهم في السودان المحاكم المخصوصة، وتنصب لهم المشانق، وتبطش بهم بطش الجبارين. يريد الكاتب أن يوهم قراءه أن الرحمة والشفقة الفائضتين من قلبه الشريف على الذين سيتخرجون في مدرسة الدعوة والإرشاد ويرسلون إلى السودان؛ هما اللتان حملتاه على هذا الإنكار الشديد لاستعداد المسلمين لأداء هذه الفرائض الدينية، فأبرز إنكاره أولاً بزعم أن المراد من هؤلاء الدعاة إسقاط دولة الخلافة العثمانية وإنشاء خلافة إنكليزية، وآخر بأن الإنكليز سيبطشون بهم بطش الجبارين، ويجعلوهم عبرة للمعتبرين، ويكون مؤسسو المدرسة هم السبب في ظلم هؤلاء المساكين! ! ! ، ونجيبه: أولاً - بأن الناصح الغيور على المسلمين، الذي لا يعادي الإصلاح والمصلحين، لا يستحل مثل البهتان الذي أرجف به العلم في المسألة من قبل، وثانيًا - بأن الخوف من إيذاء المسلم في سبيل الله في المستقبل، لا يبيح له ترك الفرائض والاستعداد لنشر الدعوة. ثالثًا - بأن المتعاونين على هذا المشروع ومن يربونهم ويعلمونهم ليسوا ممن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (العنكبوت: 10) فهل يرضي أصحاب العلم أن يكونوا منهم. رابعًا - إن لورد كرومر قال في تقريره الرسمي عن السودان: إن الحكومة هناك تسمح للمسلمين بنشر الإسلام وتعليمه، فإذا أرسلنا إلى هنالك من يطلب منها الإذن له بهذا ولم تأذن له؛ فإنه يمكنه أن يرجع إلى مصر بحجة ناهضة لجريدة العلم أو ما يخلفها تجاهد بها الإنكليز، ولا يعرض نفسه لبطش الإنكليز. خامسًا - إن السبب في اتهام أوربا إيانا بالتعصب الديني؛ هو السياسة في الغالب، وقد امتاز مصطفي كامل باشا وأتباعه في الحزب الوطني بدعوة الوطنية على وجه ينافي الوحدة الإسلامية، ونرى أوربة وغير أهل أوربة كالقبط، يتهمون هذا الحزب وجرائده بالتعصب الديني ولم نرهم يتهمون مجلة المنار بذلك وهي دينية؛ تقيم حجج الإسلام، وتردد شبهات النصارى وغيرهم، وتقيم الحجة عليهم؛ لأنها لا تفعل ذلك لأجل السياسة، وقد قامت جمعية ندوة العلماء في الهند بعمل قريب من العمل الذي شرعنا فيه أو مثله، ولم تلق من الإنكليز بطش الجبارين، بل أعطوها قطعة أرض لتبني مدرستها فيها. وغاية ما نرجو نحن بعملنا الديني العلمي المدني الخالي من كل شائبة سياسية أن لا تعرقله وتضطهده كل حكومات أوربة في مستعمراتها عملاً بحرية الدين، وقد صرحت هولندا بأنها تأذن لعلماء المسلمين بالإرشاد في جاوه إن وجدوا، ولا تمنع إلا مشايخ الطرق الدجالين، وسيكون المتخرجون في مدرستنا أبعد المسلمين عن أهواء السياسة ومقاومة الحكومات. وسادسًا - إذا منعنا الأوربيون من مستعمراتهم الإسلامية في إفريقية وجزائر المحيط والهند فأمامنا اليابان والصين، فإذا تيسر لنا ترقية مسلمي الصين بالإرشاد، وأهل اليابان بالدعوة إلى الإسلام، نكون قد عملنا أفضل الأعمال. وسابعًا - إذا كان ذلك الكاتب في العلم يخاف على هذا المشروع من اضطهاد دول الصليب كما ادعى، فلماذا يختار إلصاقه بمشيخة الإسلام في الآستانة، ويقول: إن ذلك محله الطبيعي؟ أيجهل أنه لا يقيم قيامة أوربة عليه شيء كإلصاقه بالدولة العلية، إن كان يجهل هذا فساسة الآستانة لا يجهلونه، وليعلم أن هذا هو السبب الذي حملني على إيذان شيخ الإ

إنذار المرجفين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إنذار للمرجفين لئن لم ينته المنافقون، والذين في قلوبهم مرض، والمرجفون في مصر، بمشروع الدعوة والإرشاد لنكشفن الستار عن السر الخفي الذي آلى على نفسه ذلك الرئيس في الآستانة أن يحارب به الإسلام، وعهد باسم جمعيته السرية إلى مندوبه في مصر أن ينصره فيه ظالمًا ومظلومًا باسم الانتصار للدولة العلية ومحاربة أعدائها، فصديق الدولة الحقيقي من يخدم الإسلام، وأعدى أعدائها من يخذل أي مشروع إسلامي في أي مكان، ولا خير لها في إصلاح يضع أساسه يهود أوربا في سلانيك، ويؤيدهم فيه ملاحة الروملي والأناطول، وإن شايعهم عليه المندوب الأخرق، ومحرره البذيء الأحمق، وتضافروا على نصر الباطل وخذل الحق، نعم.. إننا نكشف الستر، ونفشي ذلك السر، الذي أشرنا إليه في فاتحة هذه السنة، ولا نخشى في ذلك لومه لائم، ولا عذل عاذل، فإننا لم نحلف عليه يمينًا، ولم نعاهد عليه أحدًا عهدًا، وإنما جاءنا من مصادر شتّى في الآستانة يتمنى رواتها لو يعرفه المسلمون؛ ولكنهم لا يأذنون الآن بذكر أسمائهم، ولا الإشارة إلى سماتهم؛ بل سمعنا بآذاننا، وشهدنا بأنفسنا في مقام الجهر لا في زوايا السر، ما لا يمكن دفعه ولا يستطاع دحضه.

نهضة التعليم الإسلامي في سملك دابل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نهضة التعليم الإسلامي في سملك دابل بعد حمد لله، والصلاة والسلام على المصلح الأعظم سيدنا محمد وآله وصحبه. نقدم تحياتنا الخالصة لحضرة الإمام العلامة الداعي إلى الله على بصيرة الغيورعلى الملة الإسلامية، حضرة الأستاذ: محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء. سيدي، إنا لما نعلمه من تفانيكم في خدمة الإنسانية عمومًا والمسلمين خصوصًا؛ الذي نرى أعظم شاهد عليه انتشار مجلتكم الغراء في أرجاء العالم وما لها من التأثير العجيب في استنهاض همم المسلمين إلى ما يعلي شأنهم، ويأخذ بهم إلى الطريق الأقوم، وتحسين حالاتهم الأدبية والمادية، ولما نعلم من شغفكم بالاطلاع على ما يتجدد من حركات التقدم بين المسلمين في هذه الجهات، والطرق التي يسلكونها للرجوع إلى أحوال دينهم القويم، وما جاء به سيد المرسلين، وما كان عليه السلف الصالح من التخلق بأخلاق القرآن العزيز، والتأدب بآدابه، والسير في حالاتهم الاجتماعية على ذلك الدستور الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، الصالح لكل زمان ومكان، الموافق لحالة أي جنس من الأجناس البشرية، إنا لما نعلم كل ذلك منكم أحببنا أن نبشركم أن حركة تقدم المسلمين في كل حالاتهم بجهاتنا لا تزال في تقدم مستمر، وقد أدرك جميع العقلاء أن لا سبيل إلى نيل ما يؤملون إلا بالعلم الذي به تتنور الأذهان، وتتثقف العقول، وقضية مسلمة تكاد تكون مجمعًا عليها عند سائر الأمم؛ ولهذا لهجت الألسن، وقامت الخطباء، وكتبت الكتاب التعليم التعليم العلم العلم، حتى أصبحت فكرة التعليم هي الشائعة هنا، وقد أنشئت في المدن الكبرى عدة مدارس وكتاتيب، وهي وإن كانت لم تبلغ الدرجة المطلوبة، إلا أنها الآن عاملة على إحداث حركة فكرية لا يستهان بها يصحبها ترق في الأخلاق والآداب، وهي سائرة على سنة النمو الطبيعي، ولا بد يومًا أن يكون لها شأن يذكر في العالم الإسلامي. ونبشركم أيضًا، وهو ما جعلنا نتجاسر على مكاتبتكم من غير سابق معرفة، أنا قد وفقنا بعونه تعالى إلى إقامة مدرسة بقريتنا المسماة (سملك دابل) التي لا تبعد عن مدينة (سورت) إلا بمسافة قريبة بجهة الهند، هذه المدرسة تعاون على إنشائها أعيان المسلمين في القرية المذكورة، وأول اكتتاب سمحت به أنفس أولئك الكرام لإنشاء هذا المعهد العلمي يقدر بأربعين ألف روبية، ثم تعاونوا على أخذ عقار تكفي غلته نفقات المدرسة، تأسست منها المدرسة منذ سنتين باسم (مدرسة تعليم الدين) . أما العلوم التي تدرس فيها، فإنما هي العلوم الدينية والقرآن الشريف والخط العربي والفارسي والأوربي والإنكليزي والقزاري مع تعليم هذه اللغات الخمس، ويدرس فيها علم التاريخ الإسلامي بوجه خاص مع بقية التواريخ بوجه أعم، وتدرس فيها أيضًا مبادئ العلوم الأخرى. أما المدرسون في هذه المدرسة فكلهم من مسلمي الهنود، وتتكفل هذه المدرسة بتعليم أولاد الفقراء مجانًا، وتقوم بكل ما يلزم لهم من السكنى والنفقة والكسوة وغير ذلك حتى من المكملات الغير الضرورية، كل ذلك رغبة في نشر العلم، وتربية الناشئين تربية دينية تهذيبية تزرع في قلوبهم حب الخير، وتقدح في صدورهم زناد الغيرة، وتحثهم على النشاط والجد والسعي إلى كل ما يعلي شأنهم وبلادهم. وقد أنشئت حتى الآن لهذه المدرسة فروع عديدة في نواحي القرية المذكورة، وكلها عامرة بالتلاميذ، وترسل هذه المدرسة إلى نواحي القرية والأماكن النائية قليلاً عنها المعمورة بالفلاحين المسلمين ترسل إليها بعثات تدعوهم إلى الدين الحق، وتعلمهم واجباته الأولية، وتعود هذه البعثات يتبعها من أولاد المسلمين الفقراء وغيرهم عدد غير قليل، كلهم يهاجرون من أماكنهم رغبة في التعليم، والمدرسة تتكفل بكل ما يلزم لهؤلاء الغرباء، وكل تلميذ يدخل في هذه المدرسة لا يكون لوليه أن يخرجه من المدرسة قبل أن يمضي عليه فيها ثلاث سنوات على الأقل. وبالجملة فنحن - بتوفيق الله - سائرون بهذه المدرسة إلى طريق التقدم؛ راجين من كل من تجمعنا معه الجامعة الإسلامية والشريعة مد يد المساعدة إلينا بالأفكار السديدة والآراء الحميدة، فالمرء كثير بأخيه، ولولا ضيق المقام لشرحنا لكم من أخبار هذه الجهة ما ربما أحببتم الاطلاع عليه، وربما بعد هذا أرسلنا إليكم الرسالة التي تطبع رأس كل سنة مبينًا فيها من تنجبهم مدرسة التعليم الديني، وفي أي العلوم، وعدد التلاميذ، والمرسلين، وقدر المصروفات والتبرعات، وكيفية إخراج ذلك ذلك، ولولا أنها مطبوعة باللغة الأوردية لأرسلنا إليكم منها نسخة الآن. لكن عسى تحصل فرصة لنترجمها إلى العربية، فنرسلها إليكم أو نرسل إليكم رسالة السنة القادمة لقرب موعدها. وفي الختام نمد يد الفاقة إلى مساعدتكم، وذلك بأن تسعفونا بإرسال مجلتكم المنار لهذه المدرسة مساعدة لإخوانكم في الدين، ولكم من الله مزيد الأجر، وفي محلنا هذا قل أن توجد المجلات والجرائد العربية، ونحن كثيرو التلهف إلى انتشارها هنا؛ لنطلع على ما عليه إخواننا بجهاتكم، وما هي المسافة التي قد قطعوها في سيرهم العلمي، ونطلع على أحوال الدول الإسلامية بتلك الجهات، ولا سيما ما يتجدد من أخبار دولتنا العلية، وما هو مركزها اليوم بين دول الأرض بعد أن أصبحت حكومتها دستورية موافقة لروح العصر، وبناء على ذلك، فنحن نطلب منكم أن تلفتوا أنظار أهل الجرائد المصرية والبيروتية والتي تصدر بالآستانة بأن يمنّ علينا من شاء منهم بإرسال جريدته، وله منا مزيد الشكر والامتنان، وكذلك المؤلفون والمتصدقون بالكتب العلمية، من سمحت نفسه منهم بإرسال كتاب أو كتب لمكتب هذه المدرسة، فنحن له من الشاكرين، ويقلدنا بذلك منة لا نستطيع القيام بحق شكرها، ويخدم بني ملته خدمة يحفظها له التاريخ. أما مجلتكم، فلا تخيبوا آمالنا بتأخير إرسالها، كما أن ثقتنا بإخلاصكم في خدمة المسلمين تجعلنا لا نشك في مساعدتكم، وإن تفضلتم بإرسال نسخة من تفسير الأستاذ الإمام فحاجتنا إليها شديدة جدًا. أكتب لكم هذا وأنا الآن بسرباية جزيرة جاوه، وأتيت إليها من مدة قريبة؛ لاستنهاض مواطني المهاجرين بهذه الديار، وحثهم على مد يد المساعدة على إحياء العلم ونشره ببلادهم. ... ... ... ... ... ... محبكم: حسن أحمد منصور ... ... ... ... ... ... خادم مدرسة تعليم الدين (المنار) نشكر للكاتب ولسائر أهل الغيرة القائمين بأمر هذه المدرسة، والمتبرعين لها حسن سعيهم، ونرغب إلى الكاتب أن يعجل بإرسال الرسالة التي وعد بها مترجمة بالعربية، وأن يبين أسماء الكتب العربية التي تدرس في المدرسة؛ لنبدي رأينا فيها، وسنرسل المنار وغيره من الجرائد للمدرسة إن شاء الله تعالى.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريط المطبوعات الجديدة (النسائيات) كنا نقرأ في (الجريدة) مقالات في شؤون النساء، عنوانها العام (النسائيات) بإمضاء (باحثة بالبادية) ، وكنت ظننت عند قراءة أول ما اطلعت عليه بهذا الإمضاء أن كاتبه رجل، ثم علمت أنه من إنشاء الكاتبة الشاعرة الأديبة ملك ناصف، كريمة صديقنا حفني بك ناصف وقرينة صديقنا عبد الستار الباسل الزعيم في قبيلة الرماح العربية التي تقيم في جهة الفيوم، وكأن الكاتبة بدأت بما كتبته للجريدة وأمضته بلقب (باحثة بالبادية) وهي في دارها التي هناك بجوار القبيلة، وإن كانت دار مقامها عامة السنة في القاهرة. تربت الكاتبة في حجر والدها، ومقامه في العلم والأدب والنظم والنثر معروف، فهو من الرعيل الأول الذين تخرجوا في مدرسة دار العلوم بعد الدراسة في الأزهر، وأخذ عن الأستاذ الإمام، ثم علم وصنف، ثم صار قاضيًا في المحاكم الأهلية، فقتل الزمان علمًا وخبرًا، وآثار علمه وأدبه مدروسة غير دراسة، وتعلمت في المدرسة السنية الأميرية حتى صارت من المعلمات، ثم اقترنت بالرجل البدوي الحضري الذي عرف أوربا كما عرف القاهرة، وخبر الأحوال الاجتماعية البادية والحاضرة، وهو من مؤسسي حزب الأمة، ولهذا خصت قرينته (الجريدة) بمقالاتها. وغرضنا من هذا البيان أن يعرف القارئ بأن صاحبة مقالات النسائيات جديرة بذكائها الفطري والوراثي، وبتربيتها المنزلية والمدرسية، ثم صيرورتها ربة بيت وقرينة بعل يعرف قيمة العلم والأدب والإصلاح، جديرة بأن تكتب ما ترجى فائدته في النسائيات التي هي أهم المسائل الاجتماعية في مصر والعالم الإسلامي المدني في هذا العصر. تغيرت حال الاجتماع في المدائن الإسلامية بقدر انتشار التعليم العصري فيها، واختلاط أهلها بالإفرنج والمتفرنجين، فتجددت لكثير من الرجال آراء ورغبات فيما ينبغي أن تكون عليه بيوتهم ونساؤهم، والنساء لا يشعرن بالحاجة إلي تغيير ما في نظام البيوت ولا في معارفهن وآدابهم وعادتهن. واقتضت تلك الرغبات في بعض الرجال أن يعلموا البنات كما يعلمون الصبيان في المدارس العصرية التي أنشأتها الجمعيات النصرانية الإفرنجية، ثم المدارس التي أنشأتها الحكومة، ثم الأهالي لمحاكاة مدارس الإفرنج وتقليدًا لهم فيها، ولما تعلم بعض البنات صار فيهن من يرغبن فيما يرغب فيه بعض المتعلمين من التغيير، ولكن الراغبات في ذلك من المتعلمات أقل من الراغبين فيه، على أن المتعلمات أقل من المتعلمين. يختلف المفكرون في هذه المسالة اختلافًا كبيرًا، فمنهم من يرى أنه ينبغي لنا تقليد الإفرنج حذو القذة بالقذة، ومنهم من يرى أن ذلك أضر علينا من جهل النساء، وبين هذين الطرفين آراء كثيرة، والحق الذي لا ريب فيه هو أنه لا يمكن أن ينتظم حال الحضارة الإسلامية إلا بتربية البنات وتعليمهن، ولذلك قلت في فاتحة العدد الأول من منار السنة الأولى عند بيان مقاصد الصحيفة: (وغرضها الأول الحث علي تربية البنات والبنين) ولكنني لم أشرح هذا المقصد كثيرًا كما شرحت غيره من مقاصد المنار؛ لأنني أرى أن التربية والتعليم لا يفيدان الفائدة التي نحتاج إليها إلا إذا قامت بهما الجمعيات الخيرية الملية دون الحكومة، ودون الأفراد الذين ينشئون المدارس لأجل الكسب، فكنت لهذا أطالب الأستاذ الإمام المرة بعد المرة بإنشاء معهد خاص لتربية البنات بالعمل وتعليمهن، يكون تابعًا للجمعية الخيرية الإسلامية، وكان - رحمه الله تعالى - يقول: إن المال الخاص بالتعليم في الجمعية لا يكفي لهذا العمل، فلا بد من انتظار فرصة لفتح اكتتاب لذلك، وكنا ننتظر هذه الفرصة ونرجئ القول في الحاجة إلى هذا التغيير في حال نسائنا، وفي طريقه وكيفيته إلى وقت الشروع في العمل، حتى لا يكون القول مثارًا للمراء والجدل. ما فتحنا باب البحث والجدل في المسألة، ولكن سخر الله له قاسم بك أمين ففتحه هنا بكتابه (تحرير المرأة) ؛ إذ كتب في مسألة الحجاب ما أسخط السواد الأعظم من الناس، فردوا عليه في الجرائد والمصنفات الخاصة، وبينوا آراءهم في التربية والتعليم النافعين لترقية النساء. ثارت الرياح في ذلك عند ظهور كتاب تحرير المرأة، ثم كتاب (المرأة الجديدة) الذي رد به قاسم على المعترضين، ثم سكتت زمنًا وكاد يغلق باب البحث فيه، لولا أن فتحت (الجريدة) مصراعيه لغير واحد من الكتاب، وفي أثناء ذلك دخلت صاحبة مقالات (النسائيات) في مضمار البحث مناضلة مناظرة للكاتبين من الرجال، ومظهرة لهم مالا يعرفون من شؤون النساء، ثم دعت النساء مرتين إلى سماع خطبتين لها: إحداهما في شؤونهن العامة، وما ينبغي أن يكن عليه في البيوت. والثانية في المقارنة بين المرأتين المصرية والغربية، وبيان ما يصلح العمل به، وأجابها إلى سماعهما المئات من المصريات. وقد نشرناهما في المنار. الحق أقول: إن ما كتبته هذه الكاتبة في بدايتها خير مما كتبه الكثيرون من الرجال عبارة ورأيًا، فأكثر الرجال جاءوا بالآراء النظرية والأهواء النفسية، أو تقليد الإفرنج والمتفرنجين، وهي قد بنت كلامها على اجتهاد واستقلال، يرجع إلى أصول ثلاثة: أحدها الدين، وثانيها الاختبار، وثالثها مصلحة المرأة المصرية، ومن فروع هذا الأصل الأخير استنكارها تزوج المصريين بالإفرنجيات والتركيات، وإنا لنقرها على هذه الأصول، وإن كنا نخالفها في بعض الفروع، ونشهد أن ما كتبته مفيد للقارئين والقارئات، ونشكرها شكر المستزيد من هذه الفوائد، ونهنئ بها بيت الزوج وبين الوالد. طبع الجزء الأول من (النسائيات) في منتصف العام الماضي، فكان 146 صفحة، وطبع معه تقريظ من أرباب القلم المشهورين بلغت 20 صفحة وافتتح بمقدمة حكيمة لأحمد لطفي بك السيد مدير الجريدة أحسن ما فيها مسألة (المرأة والدين) ، وثمن النسخة من هذا الجزء عشرة قروش صحيحة، فعسى أن ترى الكاتبة من رواج كتابها ما يبعث همتها إلى زيادة العناية، ويرغب غيرها من الكاتبات في الكتابة والخطابة والتأليف. (البرهان الصريح في بشائر النبي والمسيح صلى الله عليهما وسلم) جمع هذا الكتاب من نصوص العهد القديم والعهد الجديد أحمد أفندي ترجمان، وهو رجل واسع الاطلاع في كتب أهل الكتاب الدينية، كثير الحفظ منها، قوي الاستحضار لها، وأعانه على تحريره وترجمة النصوص من الأصل العبراني محمد أفندي حبيب صاحب مكتبة برج بابل (بموافقة عالمين من علماء الإسرائيلية على صحة النصوص العبرانية والكلدانية) وفي الكتاب فوائد كثيرة دينية وتاريخية، ومقارنات غريبة بين النصوص وتفسير بعضها ببعض، لا يستغني عنها من تعنيهم هذه المباحث. وثمن النسخة منه قرشان، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. (مصادر المسيحية وأصول النصرانية) (رسالة لاهوتية تاريخية، تبين المصادر الأصلية للدين المسيحي القديم وما ورد فيه من توحيد وتثليث واثنينية وتسبيع وتتسيع، ومقبول ومرفوض من العناصر الدينية القديمة؛ كالمصرية والبرهمية والبوذية والبابلية والآشورية والميثرايزمية لمؤلفها محمد أفندي حبيب، صاحب مكتبة برج بابل في مصر مؤسس حزب الله، وهذه الرسالة مأخوذة من الكتب الدينية والتاريخية المكتوبة باللغة الإنكليزية في الغالب، وثمنها خمسة مليمات وتطلب من مؤلفها. (الدرة اليتيمة لابن المقفع) طبعت هذه الرسالة الأدبية الطبعة الخامسة في مطبعة الرغائب بمصر، وتطلب من مكتبتها، وهي غنية بشهرتها عن الوصف. (دروس التاريخ الإسلامي) كتاب مختصر مفيد في تاريخ المسلمين، يؤلفه الشيخ محيي الدين الخياط، ويطبع في بيروت بنفقة المكتبة الأهلية، وقد صدر منه ثلاثة أجزاء أو ثلاثة أقسام كما عبر المؤلف: الأول في مجمل من السيرة النبوية، والثاني في مجمل من تاريخ الخلفاء الراشدين، والثالث في مجمل تاريخ دولة بني أمية، ويقرب الجزء من 90 أو 100 صفحة مقسمة إلى دروس، في كل درس مسائل مختصرة، لكل مسألة عنوان وفي آخره خلاصة وأسئلة، فيصلح هذا الكتاب أن يدرس في المدارس الابتدائية؛ لسهولته وحسن ترتيبه، على أنه للعارفين كالمذكرات الوجيزة التي تسمى بالأعجمية (النوتة) ، وثمن الجزء قرشان ونصف، ويباع في المكتبة الأهلية ببيروت، والمكتبة السلفية بمصر. (المشير) الجريدة جديدة أسبوعية (إسلامية إصلاحية عمومية) ظهرت بتونس في أوائل هذا الشهر، وقد كتب إلينا من نثق بعلمه ورأيه من الثناء على صاحبها (الطيب بن عيسى) والثقة بحسن قصده، ما جعلنا نتمنى لها الثبات والنفع العام، وعسى أن يعضدها أهل الغيرة والرأي.

أعظم رجل في العالم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أعظم رجل في العالم اختلف أحرار الباحثين في أعظم رجل ظهر في العالم، وقد سبق لبعض الجرائد الأوربية الاقتراح على قرائها أن يكتبوا إليها آراءهم في ذلك، وكان منهم من صرح بأن رأيه أن أعظم رجل ظهر في البشر هو سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، قد اقترحت هذا الاقتراح وآخر في معناه من عهد قريب جريدة الوطن البيروتية وصاحبها مسيحي، وكان أول من أجابه كاتب من أحرار الطائفة المسيحية، قالت الجريدة: سألنا فريقًا من الفضلاء عمن هو أعظم رجل في العالم وفي سوريا، ولماذا؟ فوردتنا الأجوبة الآتية ننشرها بحسب ورودها: (1) من هو أعظم رجل في العالم، ولماذا؟ أعظم رجال العالم على الإطلاق؛ رجل وضع في عشر سنين دينًا، وفلسفة وشريعة اجتماعية، وقوانين مدنية، وغير شريعة الحرب، وأنشأ أمة ودولة طاولت الدهر، وكان أميًّا ذلك هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي العربي نبي المسلمين. وقد تدارك النبي لمشروعه العظيم كل حاجاته، فوفر لأمته ولتابعيه وللملك الذي أنشأه أسباب الانتشار والخلود، بحيث إذا انقطع المسلم إلى القرآن والحديث وجد فيهما ما يهمه من أمور دينه ودنياه، وجعل للمسلمين مؤتمرًا ينعقد كل عام في مكة، ومن تنبه إلى فرض الحج على من يملك الراحلة والنفقة وإسقاطه عمن لا يملكها، أدرك أن الغاية من الحج اجتماع الموسرين والوجوه من الأمة للبحث في شؤون جامعتهم وأمور سياستها واجتماعها وتعاونها. وتدارك أمر الفقير بالزكاة المفروضة على كل مسلم، بحيث إذا أداها المسلمون على حقها لم يبق في الأمة فقير. وجعل نواة أبدية للإسلام بكون القرآن كتابًا عربيًّا، يتحتم على كل مسلم أن يتفهمه بلغة العرب، وإذا لم يكن في هذا غير أن فهم العربية حتم على كل عالم وإمام، يكفي به جامعة لسان للمسلمين. ومهد طريق النبوغ لأفراد الأمة بكون المسلم لا يفضل المسلم إلا بالتقوى، فكان الإسلام جمهورية حقيقية، يختار المسلون رئيسها الذي هو الخليفة، وقد ساروا على هذه السنة حينًا من الدهر، ولن تزال المبايعة بالخلافة رمزًا من رموزها. وسهل اعتناق الإسلام لغير العرب بقوله: لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي. ويسر لغير المسلمين العيش برخاء في بلاد الإسلام بقوله: (الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله) . ونظر في أمر (العائلة) ، فرتب أمور الزواج والتناسل والتوارث، ورفع من شأن المرأة، وعاد إلى الأمور المدينة، فوضع قوانين وقضاء للنظر في شؤون الأفراد. ولم يهمل مالية الدولة، بل وضع سننًا لبيت المال. وكان للعلم من همه نصيب وافر، فجعل الحكمة ضالة المؤمن، وأوصاهم بأن يطلبوا العلم ولو في الصين، فكان لهذه الوصية شأن عظيم في اقتباس المسلمين العلم من كل أبوابه وازدهاره في أيامهم. أفلا يكون الذي فعل كل هذا أعظم الرجال؟ من هو أعظم رجل في سوريا ولماذا؟ لو عرف التاريخ اسم الفينيقي الذي اخترع الكتابة بالحروف، لكان جوابي اسم ذلك الرجل. وإذا صح أن نعد صلاح الدين الأيوبي سوريًّا لموته في سورية، ولإقامة أبيه فيها، فهو أعظم رجالها لأنه انتصر في تسعين موقعة، وكان أعدل الملوك وأكرمهم خلقًا ويدًا، فقد مات ولم يخلف دارًا ولا عقارًا، ولم يكن في خزانته يوم توفي غير 47 درهمًا. أما التاريخ لا يعرف ذاك، وللناس على سورية هذا اعتراض، فإني أرى أبا العلاء المعري السوري القح الذي كان شاعراً كبيرًا، ومنشئًا بليغًا، وفيلسوفًا عظيمًا، وإنسانًا حكيمًا، ونابغة في حدة ذهنه، وفي حرية قلبه ولسانه، أعظم رجال سوريا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... داود مجاعص

اعتصام الفئتين الكبريين من المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اعتصام الفئتين الكبريين من المسلمين جاء في بعض جرائد العراق ما نصه: بسم الله الرحمن الرحيم بعد الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه المنتخبين، قد رأينا أن اختلاف الخمسة الفرق الإسلامية في بعض ما لا يتعلق بأصول الديانة، والشقاق بين طبقات المسلمين؛ هو السبب الموجب لانحطاط دول الإسلام واستيلاء الأجانب على معظم ممالكها، فلأجل المحافظة على كلمة الجامعة الدينية والمدافعة عن الشرعة الشريفة المحمدية، قد اتفقت الفتاوى من المجتهدين العظام الذين هم رؤساء الشيعة الجعفرية، ومن علماء أهل السنة المقيمين بدار السلام على وجوب الاعتصام بحبل الإسلام، كما أمر الله به، فقال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) وعلى وجوب اتحاد كافة المسلمين في حفظ بيضة الإسلام وصون جميع الممالك الإسلامية من العثمانية والإيرانية عن تشبثات الدول الأجنبية، وهجمات السلطة الخارجية، وقد اتحد الرأي منا جميعًا تحفظًا على الحوزة الإسلامية أن نبذل تمام قوانا ونفوذنا في ذلك، ولا نكف عن كل إقدام يقتضيه المقام، واثقين بكمال اتحاد الدولتين العليتين الإسلاميتين، وعناية كل منها بحفظ استقلال الأخرى وحقوقها، وقد أعلن لعموم الملة الإسلامية وجوب السكون والتعاون في حفظ استقلال دولتها العلية، وحماية مملكتها وصيانة ثغورها عن مداخلة الأجانب، فيكونوا كما قال الله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ونذكر عامة المسلمين الأخوة التي عقدها الله تعالى بين المؤمنين، ونعلن لهم وجوب التحرز والتجنب عما يوجب الشقاق والنفاق، وأن يبذلوا جهدهم في نواميس الأمة، والتعاون والتعاضد وحسن المواظبة على اتفاق الكلمة، حتى تصان الراية الشريفة المحمدية ويحفظ مقام الدولتين العثمانية والإيرانية - أدام الله تعالى شوكتهما بمحمد وآله وصحبه خير البرية. ... ... ... ... ... ... الأحقر شيخ الشريعة الأصفهاني ... ... ... ... ... الراجي إسماعيل بن الصدر العاملي (المنار) لكل عمل وحال أجل، ولكل أجل كتاب، وقد طال الأمد على التفرق والتدابر بين المسلمين، وقد بح صوتنا وحفيت أقلامنا من كثرة الدعوة إلى الاعتصام. ولكن كان المفرقون يهدمون ما نبني، حتى قام يوهم الناس بعض المفتونين بالرياسة أننا غيرنا طريقتنا؛ لأننا نشرنا تلك الرسالة المعهودة لسائح في العراق، وما كنا مغيرين، ولكن كانوا هم المفرقين، ولم ينس القراء خطابنا في العام الماضي لعلماء الطائفتين، بالقيام بما يجب من جمع الكلمة في الدولتين، ونحمد الله أن أجاب دعاءنا، وهذا أول صوت من الفريقين في تلبية طلبنا، وإنا لنرجو فوق ذلك اعتصامًا واتحادًا.

البابية البهائية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البابية البهائية ضاق هذا الجزء عن متابعة الكلام في الباطنية سلف هؤلاء البهائية، وقد جرى بيني وبين أحد كبار رجال القضاء في الإسكندرية حديث في شأن عباس أفندي زعيمهم، وكنا بدار محمد سعيد باشا رئيس النظار بمصر وقد اتفق جلوسنا في إحدى الحجرات ليلة احتفال الرئيس بعيد جلوس الأمير، وكان معنا بعض العلماء الوجهاء. افتتح محدثي الكلام بمعاتبتي على ما كتبت في شأن عباس أفندي، وأطراه أشد الإطراء، وشهد له بالإسلام الكامل علمًا وحكمة وعملاً، فقال: إنه يؤدي الصلوات الخمس وغيرها من الفرائض والنوافل، ويبين من فضائل الإسلام ما لا يكاد يستطيعه سواه، ويسعى في نشره في أمريكة وسواها، ويحاول جمع الشعوب عليه، فكان سبب دخول الملايين في هذا الدين المبين، قال: ولو سواك طعن في إسلامه، وقال فيه ما قلت وأكثر مما قلت، لما كنا نبالي بقوله، ولكن لكلامك من القيمة والاحترام ما ليس لغيره؛ ولذلك ساءني أن تتكلم في هذا الرجل العظيم وأنت لم تعرفه معرفة اختبار، بما لعلك أخذته من غمر جاهل أو ذي غمر متجاهل، وإني أدعوك إلى ضيافتي بالإسكندرية، وأجمع بينك وبين الرجل وأنا موقن بأنك تعجب بدينه وعقله وعلمه وآدابه الجذابة وفصاحته الخلابة، هذا حاصل معنى ما قاله هذا اللائم المعجب بالرجل. ومما قلته له: إنني أسلم بما سمعته منك ومن سواك عن شمائل الرجل وأدبه وفصاحته، ولم أكتب فيه إلا ما يدل على هذا، وهذا التسليم لا ينقض شيئًا من بناء اعتقادي واختباري، وإن قواعد هذا الاعتقاد ليست مأخوذة عن أعداء الرجل وأعداء قومه، بل منهم ومن كتبهم، فقد جرى بيني وبين داعيتهم هنا مناظرات متعددة، وثبت عندي أنهم من الباطنية الذين كانوا يظهرون للمسلمين وكذا لغيرهم أنهم منهم وعلى ملتهم، ولا يطلبون إلا الإصلاح فيها، وهؤلاء البهائية إذا دعوا النصارى في أمريكة مثلاً إلى نحلتهم قالوا لهم: إنا نصارى مثلكم نؤمن بألوهية المسيح وبمجيئه في يوم الدين- أو الدينونة كما تقول النصارى - وقد جاء المسيح كما وعد في ناسوت البهاء وآمنا به واتبعناه، وكذلك يقولون للمسلمين: إنا منكم ونطلب إصلاح حالكم باتباع المهدي المنتظر، والمسيح الموعود به، بل يقولون: إن دين برهما ودين بوذه ودين زردشت حق، ويقولون لهؤلاء إذا لقوهم: إنا منكم، وإن ربنا وربكم هو البهاء، أو بهاء الله دفين عكا من بلاد الشام، ولا يفصحون عن عقيدتهم كلها لأحد دفعة واحدة، وإنما يرتقون به درجة بعد أخرى، وقد وضع سلفهم الأولون هذه الدرجات وجروا عليها، وقلدهم الماسون فيها (أي الدرجات فقط) وقصارى دعوتهم الرجوع إلى نوع من الوثنية ملون بلون جديد من ألوانها. ولما بالغ محدثي بإنكار ذلك، قلت له: إنني لا أدعي معرفة الرجل والحكم عليه بما ظهر لي منه نفسه، وإنما أحكم عليه من حيث هو زعيم هؤلاء القوم باعترافهم واعترافه، وقد بلغني عنه نفسه أنه يدعي الإسلام ويجاري أهله في عباداتهم عندما يكون معهم، ونحن لا نقول لمن أظهر الإسلام: إنك لست بمسلم اتباعًا للظن، ولكننا نعلم من تاريخ هؤلاء الباطنية مثل هذا، فقد كان العبيديون بمصر يدعون أنهم مسلمون ويبثون دعاتهم في الناس لتحويلهم عن الإسلام إلى عبادة إمامهم المعصوم بزعمهم، فإذا كان عباس أفندي مسلمًا حقيقة لا بالمعنى الذي تقوله الباطنية عادة، فليكتب لنا مقالة بخطه وإمضائه يصرح فيها بالنص الصريح بأن سيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب هو خاتم النبيين والمرسلين، لا دين بعد دينه، ولا شرع ينسخ شرعه، وأن القرآن هو آخر كتب الله ووحيه لأنبيائه ورسله، وأن معانيه الصحيحة هي ما دالت عليه مفرداته وأساليبه العربية. فقال محدثي البارع: كيف يمكن أن تقول للبريء: إنك متهم بالجناية، وينبغي أن تتبرأ منها وتدافع عن نفسك؟ إننا لا نطلب أن يكتب ذلك بأسلوب الدفاع، وإنما نطلب أن يكتبه في مقال يبين فيه حقيقة الإسلام؛ إرشادًا للناس وتعليمًا أو ردًا على المعترضين، ومثل هذا يقع كثيرًا، ولذلك اكتفينا منه بذلك، ولم نكلفه أن يتبرأ مما سمعناه من أتباعه من القول: بألوهية والده، ونسخه للشريعة الإسلامية؛ كجعل الصلوات ثنتين بدل خمس بكيفية غير كيفية صلاة المسلمين، فإن كان لا يكتب من تلقاء نفسه، فإننا نكتب إليه أسئلة ونطالبه بالجواب عنها، فهل يضمن لنا ذلك المعجب بإسلامه أن يجيب عنها؟ ؟

الماسون في الدولة العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الماسون في الدولة العثمانية كان السلطان عبد الحميد عدوًّا للجمعية الماسونية؛ لاعتقاده أنها جمعية سرية، وهو يخاف من كل اجتماع وكل سر، وإن غرضها إزالة الاستبداد وهو مستبد، وإزالة السلطة الدينية من حكومات الأرض كلها وهو يفخر بالخلافة الإسلامية ويحرص عليها، وقد تنفس الزمان للماسون بعد الانقلاب الذي كان لهم فيه أصابع معروفة، فأسسوا شرقًا عثمانيًّا أستاذه الأعظم طلعت بك ناظر الداخلية، وأركانه زعماء جمعية الاتحاد والترقي، وأنصارها من اليهود وغيرهم، ولأجل هذا نرى طلعت بك لا يبالي بسخط الأمة ولا برضاها في إدارته التي استغاثت منها المملكة بألسنة ولاياتها كلها إلا ولاية سلانيك وكذا أدرنة فيما أظن، وألسنة مبعوثيها حتى بعض الاتحاديين، وسلانيك هي الآن مركز السلطة الحقيقية في المملكة، وإنما الآستانة مركز التنفيذ، كأن حظ عبد الحميد أن تكون السلطة الحقيقية حيث يكون ما دام حيًّا، وإن لم تكن في يده الخاطئة. وإنا نتمنى أن لا يكون تصرف طلعت بك في الماسونية كتصرفه في نظارة الداخلية، فإنني والله لم أسمع من أحد في الآستانة ولا في غيرها شهادة له بحسن التصرف، ولا أحصي عدد الشهادات التي سمعتها عن سوء تصرفه الذي ظهر أثره في اضطراب أكثر ولايات المملكة، فسوء تصرفه في مسألة الأرنؤد قد عرف الآن، وإن لم تظهر عواقبه السيئة كلها. وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت عواقبه السيئة كلها، وأما سوء تصرفه في مسألة اليمن فقد ظهرت بوادره ونعوذ بالله من أواخره. نتمنى أن يكون تصرفه في الماسونية أحسن حتى لا يجني عليها ولا على الملة والدولة، فإن الفرق بيننا وبين فرنسة والبورتغال بعيد جدًّا، وإن كان يراه هو والدكتور ناظم بك وبعض الزعماء قريبًا، فليتدبروا ولا يغتروا بقوة الجمعية ولا بغيرها فطبيعة الاجتماع أقوى من تدبير الجمعيات، وقد يكون مع المستعجل الزلل.

الذكر بالأسماء المفردة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الذكر بالأسماء المفردة (س4) من صاحب الإمضاء بطوخ القراموص حضرة الفاضل صاحب المنار المنير الأفخم: اطلعت على ما جاء في جوابكم على سؤال في الطريقة الشاذلية الدرقاوية المنشور في ج3 م13 ص 194 من المنار؛ من أن الذكر بالأسماء المفردة لم يرد في الشرع الأمر به ولا العمل ... إلخ. وحيث إن هذا المذهب، وإن سبقكم إلى القول به العز بن عبد السلام وابن تيمية الحنبلي وغيرهما ممن حذا حذوهما؛ مخالف للسنة ولإجماع الصوفية وجمهور الفقهاء والمحدثين، رأيت أن أرسل إليكم بهذه العجالة؛ لتنشروها في المنار، فإن الحقيقة بنت البحث وإليكم البيان. (1) في الجوهر الخاص للعلامة الغمري أن الذكر ما أتى قط مقيدًا بشيء، فليس في الكتاب ولا السنة اذكروا الله بكذا، بل اذكروا الله مطلقًا من غير تقييد بأمر زائد على هذا اللفظ. وفيه أيضًا: هل قول الذاكر: الله الله، يحتاج إلى تأويل خبر أم لا؟ الجواب: أما من حيث الأكمل فيحتاج إلى خبر ليتم المعنى لا من حيث إنه يسمى ذكرًا فإنه يسمى ذكرًا بدون ذلك؛ لأن صيغ الذكر وضعت للتعبد بها، ولو من غير تأويل خبر. ونقل العلامة العسقلاني في شرحه على البخاري في الكلام على حديث: (إنما الأعمال بالنيات) أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها، وأما ما يتميز بنفسه فإنه يتصرف بصورته إلى ما وضع له: كالأذكار والأدعية والتلاوة؛ لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة. (2) مما يدل على الذكر بالاسم المفرد من السنة، ما ورد في الحديث الشريف عن ثابت عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله) ، وعن علي كرم الله وجه من حديث طويل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول: الله الله) ، وفي رواية حميد عن أنس: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله) ، وفي الأنوار السَّنِيَّة أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا قال العبد: الله - خلق اللهُ من قوله ملكًا مقربًا لا يزال يصعد حتى يغيب في علم الله وهو يقول: الله الله ... ) إلى آخر الحديث. (3) في ذيل الرسالة القشيرية: كان رجل يكثر أن يقول الله الله، فوقع يومًا على رأسه جذع فانشج رأسه فقطر الدم فاكتتب على الأرض: الله الله. وذكر ابن العربي أن هذا الذكر ذكر الخاصة من عباده الذين عمر الله بأنفاسهم العالم. وقال اليافعي ذكر الأقطاب: الله الله الله بسكون الهاء وتحقيق الهمزة، كما في شموس الآفاق. وكان العارف بالله تعالى سيدي أبو الحسن الشاذلي قدس الله روحه، يقدمه في التلقين على لا إله إلا الله. وقال في رسالة القصد: يقول المريد: الله الله، وكما تلقنا لقنا وعمل بها واختارها هو وجمع من الصوفية لا يحصون، واختار الغزالي في كتاب الميزان الإكثار من ذكر الله، وذكر أنه تلقن عن بعض مشايخه: الله الله، وقال: إنها متضمنة لمعنى الشهادتين، وفصل أخو الإمام الغزالي فقال: للمبتدئ: لا إله إلا الله، فقال: وهو ذكر ينفي الحظوظ ويبقي الحقوق، ويسرع ذهاب الأغيار بالأنوار، وللمنتهي هو هو، وصنف في ذلك كتابه. وذكر العلامة العدوي على كفاية الطالب عند قول الرسالة: وليقل الذابح عند الذبح بسم الله والله أكبر لا يشترط بسم الله، إلى أن قال: لو قال: الله مقتصرًا على لفظ الجلالة أجزأ ولو لم يلاحظ له خبرًا؛ لأن الواجب ذكر الله، وفي بعض حواشي الخرشي: لو لم يلاحظ له خبرًا لكفى، وإما بالصفة كالخالق والرازق فإنه لا يكفي اهـ. هذا ما حضرني الآن على مشروعية الذكر بالاسم المفرد والعمل به، ولو أردت أن أورد الشواهد من السنة وأقوال الأئمة على اختلاف درجاتهم ومنازعهم لطال بنا المقام، وفي هذا القدر كفاية. وعليه ترون أن القول بخلاف ذلك مردود بما ذكر. والله ولي التوفيق. ... ... ... ... خادم العلم الشريف أحمد محمد الألفي ... ... ... بطوخ (ج) استدل السائل على مشروعية الذكر بالأسماء المفردة بقول الغمري: إن الذكر ما أتى قط في الكتاب ولا في السنة مُقَيَّدًا بشيء، وبقوله: إنه لا يحتاج في صحة كونه ذكرًا إلى تقدير خبر، وقول الحافظ ابن حجر فيما تشترط فيه النية، ثم ببعض الأحاديث، ثم بأقوال وحكايات عن بعض المتصوفة. فأما كلمات المتصوفة وحكاياتهم فليست بحجة عند أحد من علماء المسلمين، حتى تحتاج إلى إثباتها والبحث في دلالتها، ومن السهو أن يعبر السائل الفاضل عن ذلك بإجماع الصوفية؛ إذ لا يمكنه إثبات هذا الإجماع، وهو ليس بحجة لو ثبت، ومثل ذلك قوله جمهور الفقهاء والمحدثين، وإنما الفقهاء الذين يعتد بكلامهم فهم المجتهدون، ولم يذكر كلام أحد منهم ولا من المحدثين في محل النزاع. وأما قول الغمري فهو لا حجة فيه من حيث هو قوله ولا صحة له في نفسه بل هو باطل، فقد جاء الذكر في كل من الكتاب والسنة مطلقًا ومقيدًا بذكر آلاء الله ونعمته؛ كقوله تعالى في سورتي المائدة والأحزاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (الأحزاب: 9) ، وقوله في سورة الملائكة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (فاطر: 3) ، وقوله في سورة الأعراف: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} (الأعراف: 69) ، وكل ما ورد في الكتاب والسنة من أنواع الأذكار كالتهليل والتسبيح والتمجيد فهو من الذكر المقيد، والأمر بذكر الله مطلقًا من غير ذكر الاسم ينصرف غالبًا إلى الذكر النفسي؛ كذكر الآلاء والنعم أي: تذكرها والتفكر فيها، وحيث يذكر لفظ (الاسم) يراد ذكر اللسان كقوله تعالي في سورة الأنعام: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} (الأنعام: 118) وقد حققنا هذا المبحث فيما زدناه أخيرًا في تفسير الفاتحة عند شروعنا بطبعها في الجزء الأول من التفسير، وأما ما نقله عن الحافظ في مبحث النية فليس مما نحن فيه. بقي ما ذكره من الأحاديث وهي موضع البحث دون سواها؛ لأن المسألة صارت من المسائل المختلف فيها بين المسلمين، فمثل العز بن عبد السلام من أكبر علماء الشافعية وكان يلقب بسلطان العلماء، وابن تيمية من أكبر علماء الحنابلة، يقولان بعدم مشروعية الذكر بالأسماء المفردة، وناهيك بسعة علمهما بالكتاب والسنة، وقد شهد العلماء لكل منهما بالاجتهاد المطلق. ويقول غير واحد كالذين ذكر السائل أسماءهم: إنه مشروع، فيجب أن يرد هذا الخلاف إلى الكتاب والسنة لا أن يقال: إن كلام عز الدين مردود بكلام الغمري مثلاً. السنة النبوية هي البيان الأجلى لكتاب الله تعالى، ولم نر في كتب الناقلين لها من الصحاح والسنن والمسانيد والمعاجم المعتبرة؛ أن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يذكرون الله تعالى بالأسماء المفردة، كما يفعل أهل الطريق الله الله الله أو هو هو هو (إن صح أن هذا اسم) ، أو حق حق حق، فهل يعقل أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه العبادة إذا فهم أنها مرادة لله تعالى من إطلاق الذكر في بعض الآيات، وأن يتركها أصحابه - رضي الله عنهم - إذا فهموا ذلك أو رأوا النبي صلى الله عليه وسلم فعله؟ أم يصح أن تكون هذه عبادة قد مضت بها سنتهم ولم ينقلها أحد من الرواة؟ ثم إننا روينا من أحاديث الأذكار الكثير الطيب؛ كالتوحيد والتسبيح والتجميد والتكبير والاستغفار، ولم نرو فيها أمرًا بقول الله الله، أو حي حي باللفظ المفرد. أما حديث إذا قال العبد الله ... إلخ الذي نقله عن كتاب الأنوار، فهو لا يصح ولا يحتج به بل هو موضوع، وأما حديث: (لا تقوم الساعة ... إلخ) ، فقد رويناه عن مسلم في صحيحه من حديث أنس، وكذا عن أحمد في مسنده والحاكم وابن حبان وغيرهم، وكان ينبغي للسائل عزوه إلى صحيح مسلم، وعبد بن حميد من شيوخ مسلم، وقد رواه من طريق حماد عن ثابت عن أنس بلفظ (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله) ، ومن طريق معمر عن ثابت عنه بلفظ: (لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله) ، ورواه عبد بن حميد وابن حبان عنه بلفظ: (على أحد يقول لا إله إلا الله) ، وكذا ابن جرير والخطيب وزادا (ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر) ؛ والظاهر أن المراد من الرواية الأولى ما هو بمعنى الثانية أي: لا أحد يذكر الله وحده في إسناد الأمور إليه؛ بل يكون الناس كلهم ملحدين أو مشركين، وهذا ما صح في الأحاديث عند البخاري ومسلم وغيرهما، والرواية وردت برفع لفظ الجلالة لا بسكونه، واللفظ في العربية لا يكون مرفوعًا ولا منصوبًا ولا مجرورًا إلا في الكلام المركب، وقد ذكر علماء البلاغة نكت حذف المسند والمسند إليه من الكلام، والعمدة فيها كلها القرينة المبينة للمراد، وقد وقع الحذف في القرآن كثيرًا، كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) أي خلقهن الله، وقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام: 91) أي قل الله أنزله أي: كتاب موسى إن لم يقولوه، ولو علمنا ما كان يحتف بالحديث من قرائن الأقوال والأحوال لجزمنا بالمحذوف كما نجزم به في الآيتين، ولكننا نقدره، ولم نطلع على تلك القرائن بما يتفق مع رواية على أحد يقول لا إله إلا الله وروايات غلبة الشرك والكفر على الناس الذين تقوم عليهم الساعة، فنقول المعنى لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله فعل كذا، الله قدر كذا، ولا يظهر إرادة النطق بلفظ الجلالة مفردًا، فإن المشركين والملاحدة يذكرون الاسم الشريف بمناسبات كثيرة.

أسئلة من الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من الهند (س5 11) من صاحب الإمضاء: سيدي رأيت في حاشية كتاب العلو لابن قدامة المطبوع في مطبعة المنارالأغر على القصة المروية عن عبد الله بن رواحة مع امرأته رضي الله عنها حيث رأته مع جارية له قد نال منها، فلامته فجحدها، فقالت له: إن كنت صادقًا فاقرأ القرآن، فإن الجنب لا يقرأ القرآن، فقال: شهدت ... الأبيات، فقالت: آمنت بالله وكذبت بصري، وكانت لا تحفظ القرآن. كلامًا ما نصه: لا شك عندي في أن الرواية في هذه المسألة موضوعة ... إلخ. مع أن الحافظ ابن عبد البر قال في الاستيعاب (كما ذكر ذلك ابن القيم في الجيوش الإسلامية وأقره) : رويناها (يعني القصة) من وجوه صحاح، فالمسئول إيضاح الصواب. قوله صلى الله عليه وسلم كل قرض جر نفعًا هو ربا ما هو تفصيل هذا النفع، ويفعل الغواصون عندنا أمرًا هو أن صحاب السفينة يقرض الذين يغوصون معه في سفينته؛ بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، وأمرين آخرين (وهما وإن لم يكونا من باب القرض، لكن نحتاج إلى بيان الحكم فيهما) الأول: أن يبيع صاحب السفينة من أحد رفقائه سلعة بثمن إلى أجل، على أن يغوص معه في سفينته، والثاني: هو أن يبيع رجل من آخر صاحب سفينة سلعة بثمن إلى أجل، على أن يأتي إليه بلؤلؤ ليشتريه، فإذا جاء إليه به (بعد الغوص) فهو بالخيار، إن تراضيا على ثمن حينئذ باعه منه وإن لم يتراضيا باعه صاحبه حيث شاء، وأدى ذلك الطلب الذي عليه إلى المذكور، فهل هذه الصورة من صور الرهن؟ وهل يحرم شيء من ذلك؟ . ما هي ضربة الغائص المحرمة شرعًا، هل هي كل غوصه، ويفعل الغواصون عندنا أمرًا؛ هو أن صاحب السفينة يستأجر من يغوص له مدة معلومة ( لا مرات معلومة) بأجرة معلومة، فهل ذلك جائز أم لا، وما العلة في تحريم ضربة الغائص، هل هي جهالة اللؤلؤ الذي في الصدف أم ما هي أرجوك الجواب بما يبين به الصواب، وبيان الدليل بما يشفي العليل، أثابكم الله، داعيكم حرر هذه السطور بطريق الاستعجال، فأرجوكم السماح وغض الطرف، وعلى كل حال فلسيدي إصلاح ما وقع من خطأ إن كان. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... داعيكم ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الصمد الوهبي * * * (قصة عبد الله بن رواحة مع امرأته) (ج5) إن العبارة التي قلتها ظاهرة في أنها إبداء رأي مني لا نقل عن المحدثين، وقد بنيت هذا النقل على أصول الدراية، لا على نقد أسانيد تلك الرواية، فإنني لم أطلع على إسناد ابن عبد البر لهذه القصة، وقد رأيت ما نقله ابن القيم عن الاستيعاب في الاستيعاب نفسه، ولم يغير رأيي في القصة، وإنني أعلم أنه ليس كل ما صحح بعض المحدثين سنده يكون صحيحًا في نفسه أو متفقًا على تعديل رجاله، فكأين من رواية صحح بعضهم سندها، وقال بعضهم بوضعها لعلّة في متنها أو في سندها، والجرح مقدم على التعديل بشرطه، وقد ذكروا من علامات الوضع ما ردوا به بعض الروايات الصحيحة الإسناد؛ كرواية مسلم في صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات، وروايته في حديث (خلق الله التربة يوم السبت) ؛ لأن الأولى مخالفة للروايات الصحيحة التي جرى عليها العمل، والثانية مخالفة للقرآن. من العبرة في هذا الباب حديث علي كرم الله وجهه في كون النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقرأ القرآن جنبًا، صححه الترمذي وابن حبان وابن السكن والبغوي وغيرهم، وقال الشافعي: أهل الحديث لا يثبتونه، وقال الخطابي: كان أحمد يوهن هذا الحديث، وقال النووي: خالف الترمذي، أما الأكثرون فضعفوا هذا الحديث، وعلته من عبد الله بن سلمة راويه، حكى البخاري عن عمرو بن مرة الراوي له عنه أنه قال: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، وقال البيهقي في قول الشافعي الذي ذكرناه آنفًا: إنما قال ذلك لأن عبد الله بن سلمة راويه كان قد تغير، وإنما روى هذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة. ومما يدلك على أن تصحيح ابن عبد البر لتلك القصة لم يعتد به جماهير العلماء؛ عدم ذكرهم إياه في بحث تحريم القراءة على الجنب، حتى صرح بعض المحدثين والفقهاء بأن أقوى ما روي في هذا الباب حديث علي الذي أشرنا إليه آنفًا، والقصة تدل على أن هذا كان معروفًا مستفيضًا بين الصحابة، يعرفه النساء والرجال، وما كان كذلك تكثر الروايات الصحيحة فيه. والمعروف الذي تداولوه وبحثوا فيه حديث علي وقد علمت ما فيه، وحديث ابن عمر مرفوعًا: (لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وهو ضعيف ، وفي المعنى حديث جابر مرفوعا: (لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئًا) ، رواه الدارقطني وهو واهٍ أو موضوع، وأقوى ما في الباب من الآثار ما صح عن عمر بن الخطاب أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب. لم يذكر الحافظ ابن حجر قصة عبد الله بن رواحة في ترجمته من كتابه (الإصابة) ، وهي في كنز العمال تختلف عما في الاستيعاب، فقد عزاها إلى ابن عساكر من رواية عكرمة مولى ابن عباس؛ وفيه أن امرأة عبد الله لما رأته مع الجارية رجعت، وأخذت الشفرة فلقيها، فقالت: لو وجدتك حيث كنت لوجأتك بها ( أي بالشفرة) فأنكر أنه كان مع الجارية، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب، فقالت: اقرأه، فقال: أتانا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح مشهور من الصبح ساطع أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا اشتغلت بالكافرين المضاجع قالت: آمنت بالله وكذبت بصري، قال عبد الله بن رواحة: فغدوت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك، حتى بدت نواجذه، وكأن السيوطي رجح هذه الرواية على اعترافه بضعفها على رواية ابن عبد البر فاقتصر عليها، ويعلم السائل أن ابن قدامة أورد رواية أخرى في المسألة، وفيها أنه لما أنكر على امرأته، قالت له: اقرأ القرآن؛ فأنشد: شهدت بإذن الله أن محمدًا ... رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل وقد روى هذه الرواية من طريق أبي بكر بن شيبة عن أسامة عن نافع، وسنده إليه ضعيف، فقد طعنوا في عبد العزيز الكناني وشيخه عبد الرحمن بن عثمان وقالوا في شيخه عمه محمد بن القاسم: إنه قد اتهم في إكثاره عن أبي بكر أحمد بن علي، فهذه ثلاث روايات في الشعر الذي قيل: إن عبد الله بن رواحة أنشده، الثالثة منها ما أورده ابن عبد البر وهي: شهدت بأن وعد الله حق ... وإن النار مسرى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا ولم يستدل الفقهاء بشيء منها على تحريم التلاوة على الجنب على أنها أصرح شيء فيه، وما ذلك إلا لعدم اعتمادها أو وضعها. أما وجه حكمي بوضعها فهو ما فيها من نسبة تعمد الكذب من صحابي من الأنصار الأولين الصادقين الصالحين، وتسميته الشعر قرآنًا أي نسبته إلى الله عز وجل القائل فيه: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِر} (الحاقة: 41) وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على ذلك بالضحك الدال على الاستحسان، كما صرح به في بعض الروايات، وقد صرح العلماء بأن من نسب إلى القرآن ما ليس منه كان مرتدًّا. * * * (حديث كل قرض جر نفعًا) (ج6) (حديث كل قرض جر نفعًا فهو ربا) ضعيف، بل قال الفيروزآبادي: إنه موضوع ولا عبرة بأخذ كثير من الفقهاء به، كما قال المحدثون وهم أهل هذا الشأن، وقد بينا ذلك في ص362 وما بعدها من مجلد المنار العاشر في سياق الفتوى في أمانات المصارف (البنوك) ، والنفع عندهم عام يشمل العين والمنفعة، ولا يحرم إلا إذا اشترط في العقد، وقد بينا هناك في المنار جواز أن يؤدي المدين أفضل مما أخذ. * * * (القرض بالشرط الفاسد) (ج7) من أقرض الغواصين بشرط أن لا يغوصوا مع غيره، كان هذا الشرط فاسدًا، فإنهم إذا لم يغوصوا معه لا يلزمهم إلا وفاء الدين، بل الظاهر أن هذا وعد لا شرط، والوعد يجب الوفاء به ديانة لا قضاء عند جماهير الفقهاء، أي أن الحاكم لا يجبر الواعد أن يفي بوعده، ولا يحكم للموعود بأن الموعود به حق له. * * * (البيع بشرط عمل أجنبي عن العقد) (ج8) إذا باع صاحب السفينة للغواص سلعة بثمن مؤجل بشرط أن يغوص معه فجماهير الفقهاء لا يعتدون بهذا الشرط، والقول فيه كالقول في مثله في المسألة السابقة أي أن قبول المشتري له عبارة عن وعد منه، وهو لا يجب عليه للبائع غير الثمن المسمى غاص مع غيره أم لا، نعم.. إنه يجب عليه الوفاء بالوعد ولا سيما لمن تمتع بماله بهذا القصد. (ج9) ومثل هذه المسألة ما بعدها؛ وهو أن يبيعه سلعة بثمن إلى أجل على أن يأتيه بلؤلؤ ليشتريه منه بالتراضي، فإن لم يتراضوا باع لؤلؤه حيث شاء، وأدى الثمن، وليس هذا من الرهن في شيء، فللمشتري أن يتصرف في السلعة ويستهلكها، وليس عليه غير ثمنها إلا الوفاء بوعده ديانة. * * * (ضربة الغائص) (ج10) ضربة الغائص التي ورد النهي عنها؛ هي أن يقول الغائص للتاجر مثلاً: أغوص لك في البحر غوصة، فما أخرجته فهو لك بكذا، قالوا وقد نهي عنه لما فيه من الغرر؛ ولأنه من بيع المجهول وهو يشبه القمار وهو غير جائز، ومثله ضربة القانص - أي الصائد - يرمي شبكته في البحر مرة بكذا درهمًا، والحديث في النهي عن ضربة الغائص ضعيف، رواه أحمد وابن ماجه والبزار والدارقطني عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع، وعن بيع ما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن ضربة الغائص) ؛ وشهر بن حوشب مختلف فيه، حسن البخاري حديثه، وقال ابن عدي: شهر ممن لا يحتج به ولا يتدين بحديثه. وقد صرح الحافظ ابن حجر بضعف سند الحديث، ولكنهم قووا متنه بالأحاديث الصحيحة في النهي عن بيع الغرر. * * * (استئجار الغواصين) (ج11) استئجار الغواص للغوص مدة معلومة أو مرات معدودة جائز؛ لأن كلا منهما استئجار لعمل معين بأجرة معلومة، والفرق بين ضربة الغائص والاستئجار للغوص، أن الغواص في الحالة الأولى يبيع شيئًا مجهولاً لا يملكه، وفي الحالة الثانية يعمل عملاً بأجرة، وليست الأجرة للغوص عدة مرات جائزة لأجل تعدد المرات، ولا ضربة الغائص ممنوعة لأنها مرة واحدة، بل لما ذكرنا من الفرق فالضربة والضربات سواء في ذلك البيع وفي هذه الإجارة، والأجير يستحق الأجرة بمجرد العقد كما صرح به الحنابلة، ويجوز تأخيره بالتراضي، ولأصحاب الأموال وأصحاب السفن الذين يقرضون الغواصين بتلك الشروط التي لا علاقة لها بالقرض، ولا تقيم المحاكم لها وزنًا أن يستأجروهم للغوص قبل وقته، ويعطوهم الأجرة كلها أو بعضها عند العقد أو بعده وقبل زمن الغوص بحسب الحاجة، فهذه أمثل الطرق إن كانوا يخافون غدرهم وعدم وفائهم. وأما الذين يقرضون المال لأجل أن يشتروا اللؤلؤ في موسمه، فخير لهم أن يطبقوا معاملتهم على قواعد السلم إن أمكن. هذا ما ظهر لنا في أجوبة هذه المسائل بناء على قواعد الفقه المشهورة المبنية على المعاملات القضائية، وأشرنا إلى أن المتدينين يتعاملون فيما بينهم بالصدق والوفاء بالوعود، فهم لا يختلفون إذا كان ما تعاقدوا أو تعاهدوا عليه صريحًا مرضيًّا بينهم، وقد ثبت في الكتاب والسنة وجوب الوفاء بالعقود التي يتعاقد الناس عليها برضاهم، وعمل المسلمين بشروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، والمحرم في العقود هو الغش والخداع والغرر وكل حيلة يأكل بها الإنسان مال

المسلمون والقبط ـ النبذة الأولى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسلمون والقبط (1) إنما بقاء الأمم والملل بمقوماتها التي تمتاز بها عن غيرها، فإذا قصر أفرادها في التماسك والاعتصام بالمحافظة على تلك المقومات وما يتبعها من المشخصات، زالت الأمة أو الملة بانقراض أهلها أو اندغامهم في أمة أخرى. مضت سنة الله في البشر بمحافظة كل قوم على مقوماتهم ومشخصاتهم وحرصهم عليها بقدر ارتقائهم في حياتهم الاجتماعية، فالأمة الحية المستقلة لا تتبع أمة أخرى، ولا تقلدها في دينها ولا عاداتها ولا تقاليدها، ومثلها في ذلك كمثل الأفراد، فالعالم المستقل لا يتقلد رأي غيره وإن كان مثله أو أعلم منه، وإنما يعمل بما يظهر له أنه الصواب لا بما يظهر لغيره. يتعصب بعض الشعوب لما هم عليه، وإن ثبت لهم أن المخالف لهم فيه أولى بالصواب وأجدر بالاتباع، كما يتعصب الإنكليز لمقاييسهم ويأبون اتباع الفرنسيين وغيرهم في المقاييس العشرية التي هي خير منها، فإذا ثبت لهم أن ما هم عليه ضار بهم أو مقدم لغيرهم عليهم، تبدلوا به غيره بالتدريج البطيء لكيلا تتزلزل مقومات الأمة أو مشخصاتها، فيضعف تماسكها وتشعر بعلو غيرها عليها. كان المكونون للأمم يراعون هذه السنن فيها، حتى إن رؤساء النصارى لما أرادوا فصل أتباع المصلح العظيم لليهودية (عيسى عليه السلام) من قومه اليهود، تركوا من تعاليم الناموس (التوراة) ما أقره المسيح، ولم ينقضه كالراحة في يوم السبت والامتناع عن عمل الدنيا فيه، واستبدلوا به يوم الأحد بغير أمر من المسيح ولا من حواريه، ووضعوا لهم غير ذلك من العبادات والأعياد، حتى صارت ملتهم من أبعد الملل عن اليهودية، كذلك فعل المصلح الأعظم خاتم النبيين (صلى الله عليه وعليهم أجمعين) بما كان يأمر به من مخالفة أهل الكتاب وغيرهم في عاداتهم وتقاليدهم زائدًا ذلك عما جاء به الوحي من الإصلاح في أصول دين الله وفروعه، والحكمة في ذلك تكون الأمة وامتيازها بما تكون به قدوة لغيرها لا تابعة مقلدة. كذلك مضت سنة الله في البشر بتقليد الضعيف للقوي وتشبهه به فيما يسهل التقليد، والتشبه فيه سواء ذلك في الأفراد والأمم، وإنما السنة فيه أن يكون بالتدريج والانتقال من محقرات الأمور كالأزياء والعادات إلى ما فوقها، حتى ينتهي بأعظم المقومات التي بها التمايز كاللغات والمذاهب والأديان، ولولا التعارض بين داعيتي التقليد والاستقلال، لكان أمر البشر على غير ما نعهد الآن، فإما أن يكون كل منهم مقلدًا لمن قبله فيكونون كالأنعام، وإما أن يكون كل منهم مستقلاً في كل شيء، فلا يكادون يشتركون في شيء يجمع بينهم، ويرى بعض الحكماء أنه يجب التأليف بين جميع البشر واتحادهم، وما هذا بالذي يتم، وغاية ما يرجى من الكمال أن يتعارفوا ولا يتناكروا في اختلافهم كما أرشد القرآن. كان أمر الناس في الزمان الماضي متروكًا إلى طبيعة الاجتماع، تعمل عملها بسنن الله تعالى فيهم، وهم لا يشعرون بسيرها، فيساعدوها عليه أو يقاوموها فيه بالطرق العلمية إلا ما كان من الحروب التي توقد نيرانها مطامع الأقوياء، وقد اتسع نطاق علم الاجتماع في هذا العصر، فصارت الأمم العالمة المتحدة تفضل قوة العلم على قوة السلاح في محاربة الأمم الجاهلة المتخاذلة، فتسطو على مقوماتها ومشخصاتها من الدين واللغة والتقاليد والعادات فتزلزلها، وتزيل ثقتها بها بالتدريج، وتزين لها أن تتبدل بها ما تخيل إليها أنه خير منه، فتزيدها بذلك ضعفًا ومرضًا حتى تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، إما بالاستبعاد وذهاب الاستقلال، وإما بالاندغام والاضحلال. هذا هو السبب في بث الإفرنج دعاة دينهم، وفي بنائهم المدارس في البلاد الإسلامية وغيرها، وفي اتخاذهم الوسائل إلى بث لغاتهم وآرائهم وعاداتهم في مدارسنا، حتى صارت نفوس نابتتنا في البلاد المقلدة لمدينتهم في تصرف الأساتذة من الافرنج والمتفرنجين، ينقشون فيها من الأفكار، ويطبعون فيها من الملكات ما يغير نظام الاجتماع في بلادنا، ويجذب أموالها وميولها إليهم حتى يكون أهلها عالة عليهم أو خدمًا لهم في كل شيء، إلى أن تصير ملكًا خالصًا لهم في الحقيقة دون الاسم أو في الأمرين معًا، وقد صرح لورد كرومر في بعض تقاريره عن مصر بأن الغرض من مدارس الحكومة فيها فرنجة المصريين، فهل اعتبر بهذا القول أحد من القارئين، أو نبه عليه أحد من السياسيين؟ وهو الذي ترتب عليه تقليد حكوماتنا لأوربا بغير اجتهاد ولا استقلال. لا أقول ما قلته ذمًا في الافرنج بل مدحًا لهم؛ فإن هذه الطريقة هي أرقى ما وصل إليه البشر في الفتح والاستعمار، واستيلاء الأقوياء على الضعفاء الذي هو من سنن الاجتماع، فلهم في شرع العمران والفلسفة أن يجدوا ويجتهدوا في جذب جميع الأمم إلي دينهم ولغاتهم وعاداتهم، وفي تسخيرها لخدمتهم ومنافعهم، وإنما يمكن أن تلومهم الفلسفة أنهم لا يرضون أن يساووا هؤلاء المجذوبين بأنفسهم، ولا أن يرقوهم إلى درجتهم، فالشرقي عندهم لا يمكن أن يساوي الغربي وإن اتبعه هذا في دينه ولغته وعاداته، والإسلام يفضلهم في هذه المسالة، فهو قد سبقهم إلى تلك الطريقة السلمية في جذب الناس إليه مع تقرير المساواة التامة بين المنجذبين إليه الداخلين فيه، لا فرق بين الملك العظيم كجبلة بن الأيهم والصعلوك الفقير. ولا بين السيد الشريف الفاتح كخالد بن الوليد وبين العتيق الأسود كبلال الحبشي، بل الإسلام يساوي بين المسلم وغير المسلم في الحقوق، كما ساوى أعدل أمرائه عمر بن الخطاب بين أكبر سيد فيه علي بن أبي طالب وبين رجل من آحاد اليهود، والانكليزي لا يساوي الهندي بنفسه، ولا الفرنسي يساوي الجزائري بنفسه، بل ميزوا أنفسهم علينا في عقر ديارنا وأرقى حكومتنا. الإفرنج أرقى منا في العلم والمدنية، فنحن في حاجة إلي أخذ الفنون والصناعات منهم بالاجتهاد والاستقلال، مع المحافظة على مقوماتنا الملية والقومية التي تحول دون فنائنا فيهم. ولكننا لم نأخذ منهم شيئًا مما نحتاج إليه بالشرط الذي بيناه، وإنما سرى إلينا ما سرى منهم بالتقليد لا بالاستقلال؛ لذلك كان سببًا لضعف استقلالنا أو ذهابه لا لرسوخه وثباته، اللهم إلا ما اقتبسته دولتنا العثمانية من فنون الحرب، فلها استقلال واجتهاد ما فيه، لعلمها بتوقف حياتها عليه، ولم يكن استقلالها فيه تامًّا؛ لأنها لا تزال عالة عليهم حتى في تعليم الجند، فما بالك بصنع الأسلحة والآلات والبوارج والمدرعات، ولو تواطأت دول أوربا على منع بيع السلاح وآلات الحرب للدولة لقضين على قوتها بغير مقارعة ولا مكافحة. من آية استقلال الأمة فيما تأخذه عن غيرها، وما تدعه من عاداتها التي هي عرضه لها، أن يكون ذلك رأي زعمائها وعمل جمعياتها، باسم الأمة ولمصلحتها العامة، ولسنا معاشر المسلمين على شيء من هذا الاستقلال، بل نحن مقلدون للأفرنج حتى فيما نحسب أننا نهرب به من سيطرتهم؛ كالدعوة الوطنية التي كان الخسار فيها علينا والربح لغيرنا، ومن الشواهد المحسوسه على ما ذكرنا من المقدمات ما يسمونه اليوم بالمسألة القبطية في مصر. *** سكان القطر المصري اثنا عشر مليونًا منهم أحد عشر مليونًا ونيف من المسلمين، ويزيد عدد القبط فيه عن نصف مليون والباقي من سائر الشعوب والملل، ودخل بعض القبط في حماية الدول الأجنبية، فلم يعد لهم من الحقوق ولا عليهم من التكاليف مثل ما للوطنيين وعليهم، والمشهور أن نسبة القبط إلى المسلمين في هذا القطر هي نسبة ستة إلى مئة. في هذه الفئة القليلة من الحياة الملية ما ليس في تلك الفئة الكثير العدد، صاحبة الحق في الملك والسؤدد؛ لأن الحاكم العام منهم، وهو صاحب التصرف المطلق في إدارة بلادهم التابعة في السياسة والسلطة لخليفتهم، ولغة الحكومة والأمة هي لغة دينهم، ولم تغن عنها كثرتهم، ولا سلطتهم، ولا شكل حكومتهم، ولا تبعيتهم لخليفتهم من شيء لما قامت القبط تنازعهم ما في أيديهم، فتنزعه شيئًا بعد شيء على سنة الكون ونظام الاجتماع، فما أجدر القبط في سيرتهم هذه بالفخر والإعجاب. ليس لمسلمي مصر جمعيات دينية محضة ولا مجلس ملي إسلامي كما للقبط وغيرهم، ليس لهم أندية إسلامية خاصة بهم من حيث هم مسلمون، ليس لهم جرائد ولا مجلات دينية محضة كجرائد غيرهم ومجلاتهم، لا يوجد فيهم أفراد ولا جماعات ينظرون في أمورهم الاجتماعية ونسبتهم فيها إلى غيرهم، ويعملون عملاً ما لمسابقة غيرهم أو مزاحمته في أعمال الحكومة أو الأعمال المالية أو الأدبية، الجرائد السياسية لغير المسلمين تروج عند المسلمين، وجرائد المسلمين لا تروج عند القبط. والمسلمون يعلمون ذلك ولا تحركهم نعرة عصبية، ولا غيرة ملية، وما ذلك إلا من بقايا ما ورثوا من أخلاق دينهم من صفاء القلب والتساهل. أما القبط فإنهم يعملون كل شيء للقبط باسم القبط، ويعبرون عن أنفسهم بالأمة القبطية، ويسمون البلاد المصرية بلادهم وبلاد آبائهم وأجدادهم، ولهم مجلس ملي وجمعيات وأندية وجرائد ومجلات قبطية محضة، ويطلبون ما يطلبون من المناصب والأعمال في الحكومة للقبط باسم القبط على أنها حق للقبط من حيث إنهم قبط، ويتعاونون في جميع مصالح الحكومة، فيفضل القبطي أخاه القبطي على غيره، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، ولا شيء عند المسلمين من هذا التعاون والتكافل، على أن البلاد بلادهم وليس للقبط فيها مزية على غيرهم من النصارى واليهود إلا بتمييز المسلمين لهم، ثم إنهم يتهمون المسلمين بالتعصب الذميم والتحامل وهضم حقوقهم، فمرحى للقبط المتعاونين، ويا حسرة على المسلمين المتخاذلين. إن معظم أعمال الحكومة المصرية ومصالحها في أيدي القبط، ولا يمتاز المسلمون عليهم إلا بقليل من المناصب الرئيسية التي لا حظ لهم منها غير الفخفخة والتحلي بكساوى التشريف والأوسمة، فالمديرون على قلتهم من المسلمين وكثيرًا ما يكونون من غير الأكفاء المختبرين، وينقلون من مديرية إلى أخرى، ورؤساء الكتاب وأكثر العمال الذين تحت أيديهم من القبط ثابتون في أعمالهم عارفون بقوادمها وخوافيها، متكافلون في الاستئثار بها؛ ولذلك يكون أكثر المديرين آلات في أيديهم لا يقدر أعلاهم كفاءة أن يخالف رئيس الكتاب القبطي في شيء يريده؛ لأن العمال في المديرية وأكثرهم من القبط يتعصبون حينئذ على المدير، ويعرقلون أعماله ويوقعونه في المشكلات مع نظارة الداخلية أو نظارة المالية، وينصرهم إخوانهم في النظارة عليه؛ لأنهم كلهم يد على من عداهم، وعلى هذا القياس تناصرهم في القضاء وسائر المصالح، ثم إنهم يزعمون مع هذا كله أنهم مظلومون مهضومون، وأن المسلمين هم المتعصبون الظالمون، فمرحى للقبط المتحدين، ويا حسرة على المسلمين المتفرقين. هذا ما كانت عليه الفئة الكثيرة بالعدد القليلة بالتخاذل والغفلة، والفئة القليلة الكثيرة بالتعاون والوحدة، وهذا هو الذي أطمع القبط في جعل حكومة مصر قبطية محضة في يوم من الايام، وكان من حسن حظهم أن فتن الباحثون في الأمور العامة من المسلمين بالسياسة، وجعلوا هجيراهم فيهم دعوة الوطنية، وصاروا يلهجون بهذه الكلمات: إخواننا القبط، إخواننا القبط، نحن مصريون قبل كل شيء، لا دين في الوطنية، إنما الدين في المساجد والكنائس، وبلغ من لهجم بالوطنية وإخلاصهم فيها أن صار بعضهم يقول: لا فرق عندي بي

جماعة الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جماعة الدعوة والإرشاد " يد الله على الجماعة " (حديث شريف) النظام الأساسي للجماعة اخترنا أن نوقع هذا النظام المبارك في ليلة المولد النبوي الشريف (وهي في الحقيقة تسعة ربيع الأول) ؛ تيمنًا وتفاؤلاً، وأن نذيعه في صبيحة اليوم الذي يحتفل فيه ليلته بتذكار تلك السعادة أي: 12 ربيع الأول، وقد تأخر هذا الجزء من المنار، وهو جزء صفر إلى منتصف ربيع، فرأينا أن ننشر هذا النظام فيه. *** أما أعضاء مجلس الإدارة المؤسسون الذين وقعوه فهم عشرة: (1) محمود بك سالم المحامي المشهور الذي كان يصدر مجلة عرفات باللغة الفرنسية، وهو يعرف عدة لغات غربية، انتخب رئيسًا للجمعية. (2) السيد محمد رشيد رضا صاحب هذه المجلة، وقد انتخب وكيلاً للجمعية وناظرًا لمدرستها الكلية (دار العلم والإرشاد) . (3) الشيخ حسين والي المدرس في الجامع الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي، وهو من المؤلفين، وقد انتخب كاتبًا لسر الجمعية. (4) محمود بك أنيس من وجهاء مصر، وكبار مزارعيها، وأرباب القلم فيها، وقد كان يصدر مجلة زراعية، وانتخب أمينًا للصندوق. (5) الشيخ أحمد زناتي معاون الديوان الخديوي، وهو من المؤلفين، وكان ناظر مدرسة العزبة المتمدنة. (6) الشيخ عبد الوهاب النجار المحامي الشرعي والمدرس بمدرسة البوليس. (7) محمد أفندي سعودي من موظفي المحكمة الشرعية العليا. (8) محمد لبيب بك البتانوني من أدباء مصر ووجهائها، وأرباب القلم فيها. (9) الدكتور محمد توفيق صدقي صاحب كتاب الدين في نظر العقل الصحيح. (10) الشيخ محمد المهدي الشهير، الأستاذ في مدرسة القضاء الشرعي. * * * بسم الله الرحمن الرحيم {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 104-105) . الفصل الأول (في الجمعية ومقصدها) (الأصل الأول) تألفت في مصر القاهرة جمعية باسم (جماعة الدعوة والإرشاد) . (الأصل الثاني) مقصد هذه الجماعة إنشاء مدرسة كلية باسم: (دار الدعوة والإرشاد) في مصر القاهرة؛ لتخريج علماء مرشدين قادرين على الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه، والإرشاد الصحيح، وإرسالهم إلى البلاد الشديدة الحاجة إليهم على قاعدة تقديم الأهم على المهم. (الأصل الثالث) يرسل الدعاة إلى البلاد الوثنية والكتابية التي فيها حرية دينية، ولا يرسلون إلى بلاد الإسلام إلا حيث يدعى المسلمون جهرًا إلى ترك دينهم والدخول في غيره، مع عدم وجود علماء مرشدين يدفعون الشبهات عن الإسلام ويبينون حقيقته لأهله. (الأصل الرابع) لا تشتغل هذه الجماعة بالسياسة مطلقًا، لا بالسياسة المصرية، ولا بسياسة الدولة العثمانية، ولا بسياسة غيرها من الدول. *** الفصل الثاني (في أعضاء الجمعية ومجلس إدارتها وشعبها) (الأصل الخامس) كل مسلم يبذل للجمعية مقدارًا من المال في كل سنة أو كل شهر، يكون عضوًا فيها، وأعضاؤها أربعة أقسام: أعضاء مؤسسون وأعضاء عاملون، وأعضاء معاونون، وأعضاء شرف. فالمؤسسون: هم الموقعون على هذا النظام، وكل من يدفع للجمعية عشرين جنيهًا مصريًّا فأكثر إلى مدة شهرين من تاريخ نشر هذا النظام في القطر المصري، ومدة ستة أشهر منها لسائر الأقطار، والعاملون هم الذين يقومون بالأعمال؛ كجمع المال في اللجان التابعة للمركز العام، وفي الشعب الخارجية وغير ذلك. والمعاونون: هم الذين يشتركون بالمال فقط. وأعضاء الشرف: هم الذين ينفعون الجمعية بمالهم أو مكانتهم نفعًا عظيمًا. (الأصل السادس) يتألف مجلس الإدارة في المركز العام من عشرة أعضاء، تنتخبهم الهيئة العامة فيما عدا المرة الأولى، وهم ينتخبون من أنفسهم الرئيس والوكيل وكاتب السر وأمين الصندوق. (الأصل السابع) ناظر مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) يكون من أعضاء مجلس الإدارة، وهو الذي يعينه. (الأصل الثامن) مدة مجلس الإدارة سنتان، وفي المرة الأولى فقط تكون مدته أربع سنين؛ ليتمكن أعضاؤه المؤسسون من إحكام العمل، وفي نهاية الأربع الأولى، وكل سنتين بعدها تقترع الهيئة العامة للجماعة على إبقاء خمسة من الأعضاء مع ناظر المدرسة، وتنتخب بدل الستة الآخرين أو تعيد انتخابهم. (الأصل التاسع) يجوز أن يكون للجمعية رئيس شرف، ويختاره أعضاء مجلس الإدارة باتفاق الآراء. (الأصل العاشر) المركز العام لجماعة الدعوة والإرشاد مدينة القاهرة عاصمة القطر المصري، ويكون لها شعب في سائر الأقطار الإسلامية، لكل شعبة منها مجلس إدارة، ولكل من مجلس الإدارة في المركز العام ومجالس الإدارة في مراكز الشعب أن يؤسس لجانًا في قطره لجمع الإعانات. (الأصل الحادي عشر) من أعمال مجلس الإدارة في المركز العام. اختيار المؤسسين للشعب في الخارج والإدارة العامة، واستغلال أموال الجمعية بالطرق المشروعة. والإنفاق منها في مصارفها، وإدارة مدرستها الكلية، ووضع الميزانية السنوية، وتعيين العمال وتنفيذ قرارات الهيئة العامة. (الأصل الثاني عشر) على الشعب جمع الإعانات والاشتراكات المالية للجمعية، والنظر في شؤون الدعاة والمرشدين الذين يرسلون إلى بلادهم، واختيار المندوبين لحضور الهيئة العامة السنوية. (الأصل الثالث عشر) يتألف من الأعضاء المقيمين بالقطر المصري لجنة من اثنين فأكثر؛ لمراقبة الأعمال المالية. (الأصل الرابع عشر) تشرف لجنة المراقبة المالية على الدخل والخرج وتقدم في كل سنة تقريرًا للهيئة العامة بما تراه، ولها حق حضور جلسة مجلس الإدارة إذا أرادت؛ لمذاكرته فيما يتعلق بعملها، وليس لها حق الرأي والتصويت فيه، وعليها أن تقدم نسخة من تقريرها إلى رئيس مجلس الإدارة قبل اجتماع الهيئة العامة بشهر على الأقل، وعليه عرضه على المجلس حالاً. (الأصل الخامس عشر) أعضاء مجلس الإدارة في المركز العام، يشترط أن يكونوا من المقيمين في مدينة القاهرة أو ضواحيها. (الأصل السادس عشر) إذا استقال أحد أعضاء مجلس الإدارة أو خلا مكانه بسبب ما، فالباقون ينتخبون بدله بالاشتراك مع أعضاء لجنة المراقبة للمدة الباقية لسلفه. *** الفصل الثالث (في الهيئة العامة للجمعية) (الأصل السابع عشر) تتألف الهيئة العامة من كل عضو يدفع ثلاثة جنيهات فأكثر كل سنة ومن مندوبي الشعب، وتنعقد بمن يحضر منهم، ورئيسها هو رئيس مجلس الإدارة، ولمجلس الإدارة أن يدعو رئيس الشرف إلى رياسة الجلسة العامة، ولأعضاء الشرف الحق في حضورها مع حق الرأي والتصويت كغيرهم. (الأصل الثامن عشر) تجتمع الهيئة العامة كل سنة بالقاهرة في النصف الأول من شهر ذي القعدة الحرام، وعلى مجلس الإدارة دعوة الأعضاء إليها بتذاكر بريدية والإعلان في الجرائد. (الأصل التاسع عشر) الهيئة العامة رقيبة على مجلس الإدارة، تبحث في جميع أعماله السنوية وتحاسبه على تطبيقها على النظام الأساسي والنظام الداخلي، وتنظر في الميزانية وتقرها، وتنتخب أعضاء مجلس الإدارة ولجنة المراقبة المالية، ولها أن تقرر تعيين أعضاء الشرف. *** الفصل الرابع (في أموال الجمعية) (الأصل العشرون) تتكون أموال الجمعية من الاشتراكات الموقوتة والإعانات والتبرعات والهدايا والوصايا والأوقاف التي توقف عليها، أو ما تناله من ريع أوقاف أخرى، ومن ريع رأس مالها. (الأصل الحادي والعشرون) تودع أموال الجمعية مؤقتًا في مصرف من المصارف الموثوق بها، ما عدا مقدارًا يقرره مجلس الإدارة، ينفق منه على الإدارة والمدرسة، يكون بيد أمين الصندوق وطريقة إيداع المال في المصرف والأخذ منه يبين في النظام الداخلي. (الأصل الثاني والعشرون) يجب أن يضاف ربع دخل الجمعية السنوي إلى رأس المال؛ لأجل الاستغلال، وهذا ما عدا المبلغ الاحتياطي الذي يبين في النظام الداخلي. (الأصل الثالث والعشرون) ليس لمجلس الإدارة أن يقرض من مال الجمعية، ولا أن يقترض لها. *** (أحكام عامة) (الأصل الرابع والعشرون) تنفذ قرارات مجلس الإدارة والهيئة العامة بالأكثرية المطلقة، فإن تساوت الآراء رجح من كان معهم الرئيس، ولا رأي لأحد فيما يخالف نص الشارع. (الأصل الخامس والعشرون) مجلس الإدارة في المركز العام هو الذي يضع النظام الداخلي، الذي يبين فيه كل ما يحتاج إليه في تنفيذ النظام الأساسي. (الأصل السادس والعشرون) أعضاء مجلس الإدارة متبرعون بأعمالهم ما عدا ناظر المدرسة. (الأصل السابع والعشرون) تنشر الجماعة كل سنة كراسة في بيان: ميزانيتها ومهمات أعمالها، وأسماء الباذلين ومقدار ما بذلوه لها، ومن لا يحب إظهار اسمه يذكر بلقب (محسن) . (الأصل الثامن والعشرون) يجوز تعديل ما عدا الفصل الأول من أصول هذا النظام؛ إذا اتفق على ذلك ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الإدارة ولجنة المراقبة، وأكثر من نصف من يحضر الهيئة العامة من غيرهم. ... ... ... صدر بمصر في 12 ربيع الأول سنة 1329 ((يتبع بمقال تالٍ))

أقوال الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أقوال الجرائد في الجمعية ومدرستها (مدرسة التبشير الإسلامي) كتب الشيخ عبد العزيز شاويش في هدايته تحت هذا العنوان ما نصه: عز على نفر لم يتح لهم التربع في دسوت المناصب في الحكومة العثمانية أن لا تكون هذه المناصب وقفًا عليهم، يلونها دون أولئك الذين أهلهم لها ما عهد فيهم من اختبار تام ونزاهة وافية فضلاً عن خلوص نفوسهم من شائبة الأغراض وتمسكهم بأهداب الدستور الذي ركبوا في طلبه الأهوال ولم يضنوا عليه بإنفاق الآجال. عز عليهم أن لا تكون مناصب الدولة وفقًا عليهم يلونه أو تراثًا لهم يتقاسمونه فنقموا على الدستوريين أنهم أخفقوا سعيًا وأسروا ذلك في نفوسهم ثم طفقوا يعالجون طلب الوظائف تارة بالدهان والملق وطورًا بالتهديد والوعيد، وقد فطن رجال الدولة وأرباب الحل والعقد ثمت إلى ما يضمر أولئك النفر فما أجابوا لهم مطلبًا ولا أنالوهم مأربًا. عز على أولئك النفر أن يحال بينهم وبين شهواتهم وهالهم أن يفطن إليهم رجال الدولة فجعلوا يبيتون لها الشر ويضمرون لها الكيد ناسين أو متجاهلين أن منارها هو منار الإسلام القائم وذمارها ذماره المهيب وحرمها حرمه الممنوع وعلمها علمه المرفوع. زين لهم أمثالهم من الرجعيين الذين لا وازع لهم من وجدان أو دين أن يسعوا في تمزيق شمل الجامعة العثمانية كل ممزق ويتراموا في أحضان أولئك الذين لا يريدون بدولة الخلافة الإسلامية خيرًا انتقامًا لأنفسهم مما نالهم من الفشل ولو علموا أنهم بذلك يحاربون الله ورسوله لما نقلوا لتحقيق مأربهم قدمًا ولا أجروا فيه قلما. أراد أولئك النفر وهم خارجي ورجعي ودعي أن يكيدوا للدولة خلف ستار من مشروع قبح باطنه بقدر ما حسن ظاهره وهو مشروع (مدرسة التبشير الإسلامي) . مرحبًا بالغيورين على الدين وهم أضر عليه من أعدائه؟ مرحبًا بأنصار الدولة وهم ألدّ خصومها؟ ؟ مرحبًا بالذين أدنفهم الهوى بالخلافة الإسلامية وهم أعداؤها المستترون؟ ؟ لبس أولئك الجماعة لمشروعهم لبوسه، وظهروا في مظهر من يغارون على الإسلام، ويعنيهم ألا تقوم للفتنة قائمة، والله يعلم ونفوسهم عليهم تشهد أنهم دعاة فرقة وفتنة وضلال. وإلى أولئك النفر اجتماعهم خفية غير مبالين ما تجلب مقاصدهم السافلة من الخطر على الإسلام، والويل على الدولة المؤيدة بعناية الله وقلوب المسلمين في جميع بقاع الأرض، ثم أخذوا يهمسون بمشروعهم همسًا، ويعمون على الناس تعمية، موهمين أنه لا يراد منه إلا أن يخرج للناس مبشرين يبشرون بالدين الحنيف، والذي نعرفه وإن أنكروه، وقد قلناه قبل اليوم وإن جحدوه؛ إنهم أرادوا أن يثيروا ثائرة القلوب الضعيفة إيمانها على دولة الخلافة المعتزة بآل عثمان، ويعينوا الإنجليز على تفسير ذلك الحلم الذي طالما حلموه؛ وهو إقامة خلافة عربية يختارون لها من يبغون؟ ؟ ذلك ما يبغونه وإن تظاهروا بإنكاره، وقد أراد الله تعالى أن يقرن سعيهم الخبيث بالفشل الحثيث، ويقتله فكرة في الرؤوس، فما ظهر إلا في نطاق من الشبه والريب التي لا تدفع. قد راب المسلمين أن يتسارّ من عرفوهم قبل اليوم خارجًا على الدولة الدستورية، يقلب حسناتها سيئات، ورجعيًا ينتحب على فوات عهد الاستبداد، وطامعًا لم ينل غرضًا فجعل الدولة غرضًا يصوب إليه السهام فترتد إلى نحره سراعًا، نعم.. راب المسلمين أن يتسارّ أولئك النفر الذين يعرفون بسيماهم، وقد أهاب بالأمة داعي الحق منذرًا بما يسعى إليه هؤلاء المفتونون، محذرًا مما يضمرون ويبيتون، وقد جعلوا بعد أن كشفنا الستار عن مخبآتهم يكتبون في - صحيفة النفاق - ما يظنونه ردًا علينا، ما هو إلا الخذلان على أنفسهم، يجلبونه، والخزي على ذواتهم بأيديهم يسجلونه، وقد حاولوا أن يستنفروا العرب المسلمين، ويستعدوهم علينا بدعوى أننا تهمهم جميعًا بالخروج على الدولة، وما اتهمنا منهم إلا نفرًا في مصر يعرفون أنفسهم كما يعرفهم الناس. يريدون أن يلقوا في النفوس بذرًا من الكراهية لدولة أعزت الإسلام، وجمعت أمر المسلمين؛ ليشب المفتونون بهم على البغض لدولة الخلافة المعتزة بآل عثمان - خلدها الله فيهم - ويتسنى لهم إذ ذاك فيما يزعمون أن يقيموا خليفة عربيًا يقلبه الانكليز في أيديهم فيتقلب، ويتخذونه آلة لتنفيذ أغراضهم، وما تخفى على أحد تلك الأغراض. ثوبوا أيها المضلون إلى رشدكم، وأقبلوا على أنفسكم فحاسبوها، أشرًا تدبروا للدولة أم خيرًا بها تريدون، وفتنة تلك التي تحاولون أن تثيروها أم هي خدمة للدولة أنتم مزلفوها، وقربة تتقربون بها إلى خليفة رسول رب العالمين. فكروا طويلاً أيها المقدمون على ما تجهلون خطره ولا تعرفون ضرره لقد نقلنا لكم من قبل ما يحيط مشروعكم من الريب والظنون، وقلنا لكم لا ينبغي أن يكون مثل هذا العمل الذي قدر له اثنا عشر ألفا من الجنيهات بلا كلفة، والذي تزعمون أنه أعظم خدمة خدم بها الإسلام مما يدبر خلف ستار، ولا أن يكون القائمون به من خصوم الملة والدولة، ولا أن يسبق الشروع فيه طوافكم ببعض القصور، ولا أن تأبوا إشراف شيخ الإسلام عليه، ولا أن تنشأ مثل هذه المدرسة؛ لما نعلم من سيئ الأغراض وسافلها. فقلنا لكم ذلك كله، فما خشيتم لله حسابًا، وما زدتم على أن جعلتم السباب جوابًا. أتكيدون لدولة الخلافة أيها المضلون هذا الكيد على أعين المسلمين؟ وهل ضعف إيمانكم ورشدكم إلى حد أن تعملوا على إيقاظ فتنة، وشق وحدة، وتمزيق كلمة، وتفريق شمل مجموع؟ أليست هي دولة الخلافة تلك التي تحاربونها، والرابطة العثمانية التي بالتمزيق تريدونها؟ ثم ألا تتقون الله أن تجمعوا على المسلمين كلمة دول الصليب؛ إذ توهمونها أنكم متعصبون بالمعنى الذي تفهمه الدول لا بالمعنى الصحيح؟ اللهم أرشد بصائر عن سبيل الحق عميت، وألهم السداد قلوبًا إلى ما هو شر نزغت، وزد المسلمين يقينًا بأن تلك النزغات محاربة لك ولنبيك ودينك وخلافتك وأمتك، وأفض على الدولة العلية من عنايتك ورعايتك ما يمنعها من كيد المفرقين وشر المضلين. *** (وهنا نقل الشيخ شاويش عبارة في المشروع من جريدة الحقيقة البيروتية، كتبها محرر مصري اغترارًا بما كتبه الشيخ شاويش في جريدة العلم، ولما علم أصحاب الجريدة بأن جريدة العلم تعني مشروعنا، رجعوا عما كتبوا وأثنوا على المشروع، وعلموا أن ما كتب في العلم إفك وبهتان. وسيأتي نص ما تنصلت به في ص129. ثم قال) . فعلى ما يظهر من هذا المشروع الجديد المستور بسجوف التعمية والدهاء؛ أن صاحب المؤيد يريد اليوم أن يعمل على تأييد هذه الفكرة وإعلانها في ثوب التبشير الإسلامي؛ ليتمكن هو وأنصاره من تنفيذ ما بيتوه في ضمائرهم السيئة، وذلك بإعلان رغائبهم الممقوتة في طول البلاد العربية وعرضها تحت هذا الستار بطلاء الخبث والحيلة، فينقلب كيان الدولة العلية من آثار التفريق الذي هو بيت قصيد الخوارج المعروفين في مصر لكثير من الناس. من في مصر من الأعيان وأصحاب الأموال يقدم على هذا المشروع ويرضى بالاكتتاب فيه، مع كثرة الشكوك والظنون حوله، وإجماع الناس على أنه ما وضع إلا لتمزيق الرابطة العثمانية، وتبديل وفاقها شقاقًا، وليجر عليها مالا يرضاه لها من المغبة كل عثماني تجري في عروقه قطرة من الدم، وكل مسلم في قلبه ذرة من الإيمان؟ اللهم، إنه لا يدفع مبلغ الاثني عشر ألف ليرة الذي قدر لهذا المشروع المجهول برنامجه، المجهول رئيسه وأعضاؤه ورجاله العاملون غير (العابد) وفائق المابينجي ووالخ؛ من رجال الدور السابق الذين تواطنوا مصر في هذه الأيام الأخيرة، ممن لا يهدأ بالهم ولا يستقر حالهم إلا بالتفكير فيما يكدر سلام الدولة ويوقعها في هوة المصائب والفتن، فيصطادوا بعد ذلك في الماء العكر، ويحققون وعدهم لطالب الزعامة المنتظرة! ! ! نحن لا نقول غير ذلك ما دام هؤلاء القوم ينكرون مبادئ مشروعهم، ويسترون عن الناس أغراضهم وحقيقة مقاصدهم من وضعه، وإلا فما معنى هذا الكتمان إذا كان حقيقة نافعًا للعالم الإسلامي؟ ولماذا تجهل مقدماته وتغمض أسماء القائمين به كما يقولون، والأعمال النافعة التي يراد تأييدها ونفع العالم بها، لا يجوز أن تدغم تفاصيلها، وتطمس عن عيون الناس فوائدها؟ ؟ هذا ما نقوله الآن ممسكين عن بقية ما لدينا من المعلومات حيت يتبين غث المشروع من سمينه؛ إلخ. *** (المنار) تبين بهذه المقالة أن ما كتب في جريدة العلم عن هذا المشروع الجليل، قد كان كله بقلم الشيخ عبد العزيز شاويش، ولا ندري أكتب هذه المقالة بعد أن بينا له حقيقة المشروع، حتى اضطر إلى النكوص على عقبيه وتكذيب نفسه في جريدة العلم أم كتبه قبل ذلك البيان، فإن كان كتبها بعد البيان، فهو مُصر على الإرجاف حسدًا وتملقًا لمن لا يغني عنه من الله شيئًا، ولا يفسر حينئذ رجوعه في العلم ثم سكوته إلا بإكراه أهل الغيرة الدينية من رجال الحزب الوطني إياه على ذلك، وقد بلغنا أن هؤلاء قد ضاقوا ذرعًا بقلم شاويش الذي أهان الحزب بسبابه وشتائمه، وفتح في وجهه أبواب السجون وهم يحبون إخراجه من حزبهم، ولذلك لم ينتخبوه في هذه السنة لعضوية مجلس إدارة الحزب على طمعه في الرياسة أو ما يقرب منها. وإن كان كتبها قبل ذلك البيان، كما نحب أن نرجح تحسينًا للظن، فالواجب عليه الآن أن يتوب ويتبرأ مما سجله على نفسه في صحيفته، وليتذكر يوم الحساب إن كان يخاف الله تعالى أن يقول له فيه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} (الإسراء: 14) بل عليه أن يحاسبها قبل يوم الحساب على الجزم بهذه الأباطيل التي ظهر بها مبلغ صدقه ورويته، ويكفر عنها بالرجوع إلى الحق ومساعدته، كما نصحنا له في الجزء الماضي ولا يكونن من المستكبرين. عني الشيخ عبد العزيز بمقاومة هذا المشروع الإسلامي الأكبر، وفكر في طرق ذلك وقدر، فكان منتهى شوط ذهنه الوقاد، وفكره النقاد، أن يقضي على المشروع بمقالة ومقالتين، يجمع فيهما من التهم والشتائم ما ينفر كل أحد من الإقدام على المشروع فيه، وحينئذ يصدق الناس جميع ما قال، ويكفي الكافرين والمنافقين أمر المقاومة والجدال. لو وصل عقل الشيخ عبد العزيز إلى معنى المثل العامي (الذي يكبر الحجر لا يضرب) واعتبر به لما كتب الذي كتب، فقد بنى كل ما قدره وزوره على شفا جرف هار، فانهار به في مهواة الخزي والعار، بنى كلامه على اتهام الذين اجتمعوا للتشاور في تنفيذ المشروع؛ بأنهم كانوا يريدون الاستئثار بمناصب الدولة وجعلها وقفًا عليهم، وحرمان رجال جمعية الاتحاد والترقي منها، فلما عجزوا عن ذلك أرادوا الانتقام من الدولة بإسقاطها، وأخذ الخلافة الإسلامية منها وإعطائها للإنكليز (بخ بخ) ، وقد نبهنا إلى ما في هذا على ظهروه في الجزء الماضي، على أن الشيخ شاويش قد رجع عن هذه التهمة في جريدة العلم. ولو تركنا المشروع؛ خوفًا من سعاية الشيخ شاويش وإرجافه لصدق الجمهور الغافل كلامه وإن كان غير معقول، ولكننا لا نترك ما فرض الله علينا من خدمة ديننا لمثل ذلك البهتان البديهي البطلان، وإن إظهار أسمائنا كاف لنسف بنيانه، وهدم أركانه، فإنه لا يوجد فينا أحد يتجرأ الشيخ شاويش أن يقول: إنه خطر في باله أن يطلب منصبًا من الحكومة العثمانية أو يقبله إذا عرض عليه. كتب الشيخ عبد العزيز ما كتب، وكانت الجماعة التي تبحث في تنفيذ المش

حال المسلمين والمصلحين

الكاتب: سليمان الجادوي

_ حال المسلمين والمصلحين أو هل إلى الرقي من سبيل [1] لقد أسفر حديث مضى لنا، وكان لهذا الحديث صدرًا عن حقيقتين لا مراء فيهما، بل مقدمتين لأقضية سنفيض الكلام فيهما، هما شعور عموم المسلمين بما حاق بهم من سيئات ما كسبوا واختلافهم في الرأي، أي سبيل للنجاة يسلكون؟ ولقد حدا بنا الحديث إلى الإفاضة في ولع المسلمين بالخلاف، حتى في أحرج المواقف وأضيق الأوقات، وكذلك حقت عليهم الكلمة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فإنهم يعلمون أن الرقي على ضربين: مادي وأدبي، وأن الرقي المادي نتيجة السعي والأخذ بما أخذ به الأقوام، ولا يعصم من شروره إلا التحرز بحرز الآداب الدينية التي أرشد لها الكتاب المبين. فهل بعد هذا لأحد هذين النوعين توقف على الآخر أو بالحري: هل يكون نصيب كل منهما من الاهتمام في الوقت الحاضر على السواء أو أن أحدهما الأحرى بالتقديم. ألا لا يجادل أحد في أن الأفعال مهما كانت قيمتها، لا تصدر إلا عن وجدان نفسي تابع للتربية العامة والتلقين بالتعليم، وإن التعليم ليجمع بين المختلفين في أساليب التربية، فيجعلهم أشبه ببعضهم في كل شبيه، ولما كان المسلمون قد أصابهم من سيئات الشقاق والتدابر ما أصابهم، وهم اليوم أحوج ما يكونون إلى باعث يبعثهم على سلوك سبل الارتقاء الحق متحدين، فهل لذلك من واسطة غير توحيد التعليم، وبذلك يتضح جليًا توقف أحد النوعين على الآخر وإن سلوك طرق الرقي المادي قبل الوصول إلى غاية في الرقي الأدبي عسير إن كان ممكنًا، وبعكس النتيجة إن لم يكن عقيمًا. بقي النظر في هذه القضية وهي توحيد التعليم بين المسلمين، هل للنفس في تحقيقها من طمع؟ وهل أسبابها مهيأة؟ وهل يقوم دون الوصول إليها من عائق عتيد؟ لا أتوقف في الجواب عن جميع تلك الأسئلة بالإيجاب، وشرحها بيت القصيد، ذلك بأن الله ورسوله يأمران جميع المسلمين بالائتلاف والاتفاق، وبحذرانهم مزالق الفرقة، وقد جمع الله المسلمين في اليوم وما قبله على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم وهم بضع وسبعون فرقة تدين بما ذكر، وتطأطئ الرؤوس إذعانًا، وهذان هما جماع الخير ومنبع الرشد، وإذا وصل الفكر إلى هذا الحد يرقص طربًا؛ إذ يرى فواق الناقة أبعد من رقي المسلمين، ولكن تجاوزه هذا الحد يحدث له رد فعل، يخور معه عزمه، فيسقط في اليأس واهيًا حيث يقف أمامه عائق عتيد، وذلك هو كثرة الأعداء وقوتهم الفائقة الحد وتيقظهم لكل بادرة، ينتج عنها صلاح المسلمين. إن المسلمين في سائر الأقطار قد تقاسمهم غيرهم، فهم بين استقلال مستبد أو استيلاء غريب، وكل من هذين ضنين بما غنم منهم، فلا يغفل عن أقل شيء يضعف ضغطه عليهم، حتى يستأصل شأفته، ولا يدع سببًا أوقعهم في يده، حتى يحرص على استدامته حرصه على سيادته، وما المستبد إلا حافظ أمين على تلك الغنيمة التي وقعت بين يديه، حتى يستلمها من يده الغريب، وهي على تربية العبيد. وهذه الحكومات بين مستبدة وغريبة، قد اتخذت لها أعوانًا قلدتهم أوسمة العلم ونياشين المعارف، وأبرزتهم للعامة حتى يكونوا مقام التقليد، فكان هؤلاء حربًا للمسلمين، ومانعًا من ائتلافهم، ومشنعًا على كل من جاهر بهذا القصد بأنه ملحد عدو للمسلمين، فلا تلبث الحكومات أن تؤيدهم؛ لأنهم يؤدون لها أجل خدمة، ولا تلبث العامة أن تزدري بما ألقي إليها؛ لأنه ضد إرادة سادتهم من أولي الأمر وأهل الدين، وهكذا تذهب صيحات المرشدين ونصائح المصلحين دون صدى، ويذهب جهدهم سدى، وما خصهم إلا من عرفت. وربما بحث الناظر عن سبب وقوف هؤلاء سدًا في وجه كل إصلاح وهم أحق من قام بدعوى الإصلاح؛ لمكانهم من الدين، فأقول: إن لذلك سببين: أولهما الاعتقاد بأن شكر المنعم واجب، وأن الذي أجلسهم على الوثير، وألبسهم من الحرير، ورفع منزلتهم، وجلعهم يعيشون عيش المترفين لخليق بأن يكونوا حراس عرشه الذي هو أصل عيشهم، ولعلهم برجوعهم إلى الحق يرجعون إلى العيش الضيق، والشظف الذي كان يكابده السلف، وذلك ما يرجفون لذكراه، وربما خرج بعضهم عن منصبه لسبب، فرأيت منه من الأفكار ما سرك، وتمنيت أن يكون ذا منصب، حتى يكون للإصلاح خير ظهير، هذا أضعف السببين. وأقواهما شعور أكثر هؤلاء بالقصور عن درجة العلم الحقيقي وصعوبة اعترافهم بالحقيقة، ما داموا علماء رسميين، فغالطوا أنفسهم كما غالطهم أولو الأمر، وأنفوا من ظهور ذي حجة مبين لقصورهم. أقول ما أقول غير قاصد فردًا أو جمعًا خاصًا، ولكن هو وصف لمن اتصفوا بالعلم قديمًا وحديثًا إلا أهل العلم من خير القرون، فلقد كان العلم على عهدهم رتبة يمنحها الولاة للذوات، ولكنه حكمة يختص بها الله فريقًا ممن جاهدوا في سبيل تحصيلها، وكانوا يطلقونه على أهل الرواية وأسرار التنزيل وكذلك كان العلماء أحرارًا في الاستنباط والفهوم، وكان العوام أحرارًا في الاتباع والتقليد، ولكن ملوك الاستبداد لما رأوا أن الدعاوي السياسية لم ترتكز إلا على أصل ديني، اضطروا إلى إيجاد قوة تؤيد ما هم عليه من جليل الأشياء وحقيرها، فتجعله للدين أصلاً، ويوفق بينها وبينه ولو بالتمحل في التأويل، ولن يرضى بهاته المنزلة الدنية إلا ذو البضاعة المزجاة في العلوم، فإن العالم الذي أشربت نفسه عزة العلم لا يرضى أن يخدم غرض جاهل تلقاء قليل أو كثير من الحطام، وأنه ليلقى أشد صعوبة إذا رام أن يخالف ضميره ويأتي أمرًا نهاه عنه ما تلقاه. ولم يخل قرن من الأيام الخالية من عالم يقوم بإنكاره ما يرى ويجهر لتلك الفئة أنهم على ضلال، وما هو إلا أن يرى صدى مقاله في آذان الملوك الذين يضرهم قوله، فيجردون عليه جيشًا من أولئك الذين ألبسوهم حيلة العلم وقلدوهم تاج المعارف؛ إذ كانوا يوقنون أنه لا يغني عنهم في تلك الغارة سيف ولا سنان، ولا ينفك أولئك عن مطاردة الحق حتى يخفت صوته، ويستقر في أذهان العامة أن أولئك العلماء يجاهدون في سبيل الدين، وهم يجاهدون في سبيل شهوة الحاكمين، ويقوم لديهم في بعض الأحايين الباعث الآخرعلى مطاردة أولئك المحقين، وهو خوف رجوع أولي الأمر، والعامة إلى أولئك النابغين، فيفقدون منزلتهم التي تبوؤها عن غير حق، ويظهر جليًا عليهم القصور، فأرهفوا الحد استعدادًا لتلك الطوارئ، ونصبوا الإسلام على أسنة أقلامهم، وقالوا: أما التقليد لكل ما ترون أولاً فليس إلا إلحاد وزيغ وضلال دون أن يكلفوا أنفسهم مشقة الاستدالال، ولئن سألتهم عما يقصدون عن إشهار تلك الحرب العوان ليقولن: إنا حماة الدين، وإنه ليوجب علينا تغيير كل منكر رأيناه، ما لهم لا يغيرون ما بين بأيدهم من المنكرات، بل بالعكس تراهم قائمين عليهم وبها يأمرون. ألم تر أنهم يبصرون الشموس كالأساطين، والمصابيح الأولوف تسرج، ونور السراج الوهاج يضيئ ما بين اللابتين. ألم تر أنهم يبصرون المباخر الفضية توضع في مجالس أحاديث الرسول - صلوات الله عليه - وهو ينهى عنها وهم بها راضون، ولكن هذه المنكرات الصريحة لا تسوءهم مثلما يسوءهم من ينادي بأن الخلاف بين فرق المسلمين يمكن تسويته، وأنهم لو أحسنوا المناظرة لما اختلفوا، وأن تنديد بعض هذه الفرق ببعض في غير محله، ولا ينبغي الإقرار عليه. من قام بهاته الدعوة وقرع بها أسماعهم وهي كما رأيت أقصى ما يتمنى المسلمون، لا يكون جزاءه منهم (أي من هؤلاء العلماء) سوى رميه بالاعتزال بل بالمروق والزيغ والإلحاد، والاستدلال على ذلك لديهم هين؛ إذ لا يتجاوز حكاية منامية رآه فيها مسود الوجه متغير الحال، كما بلي جمال الدين الأفغاني (بسميه) وكما بلي به الشيخ محمد عبده وبمجنون بيروت، وكما بلي من قبله الغزالي بمن لا يصلح أن يكون شراكًا لنعله، فرموا بالزندقة والإلحاد والكفر والاعتزال (لأن في عرفهم أن الاعتزال منصفة) ويطلقون كل هاته الألفاظ على شخص واحد مع علمهم باختلاف معانيها، ولكن حيث كان الباعث على قذفها الغيظ والعداء، لا يرون حرجًا في جمعها في كنانة واحد؛ إذ جعبة الغضب أوسع من جعبة الحق، ويجرئهم على ذلك مركزهم الذي يجعل كلامهم مقبولاً، ويأمنون به مناقشة الحساب. ألا لقد سار القلم شوطًا بعيدًا في هذا الميدان، حتى أشفق الفكر على القارئ السآمة والتشتيت، وما كان القصد سوى التعريف بأن السبب الذي يقف في وجه رقي المسلمين هو قوة أعداء ذلك الرقي، وبيان أن أهل الأمر هم أصحاب الفائدة من تقهقر الأمة، وهم الذين أوقفوا لسعيهم حدودًا ولأفكارهم جنودًا ممن ذكرنا، فهم المؤاخذون الأصليون. وإن جندهم من أولئك ليعملون على قدرعقولهم، لم يصلوا إلى مرتبة تعرفهم بالحق، حتى يكونوا إذا لم يأخذوا به مؤاخذين، بل ذلك مبلغهم من العلم والحياة الدنيا جل ما يطلبون، وإن منهم لفريقًا يكتمون الحق وهم يعملون، وما أولئك إلا القليل. ذلك العائق الذي شرحناه هو الذي حجز بين المسلمين وبين ما يبتغون، فهل من مطمع في زواله؟ وهل إلى الرقي من سبيل؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... سليمان الجادوي (المنار) قلما رأيت في الجرائد كتابة في حال المسلمين أو في المسائل الاجتماعية موزونة بميزان العقل، وصادرة عن روية واستقلال في الفكر كهذا المقال، وإني أجيب الكاتب الفاضل بأن السبيل إلى رقي المسلمين واحدة؛ وهي أن يكثر فيهم المصلحون من أهل العلم والبصيرة والتقوى، فيقوى حزبهم على حزب الدجالين الجامدين، الذين حالوا بين المسلمين وبين الترقي في دينهم ودنياهم معًا، ولا بد لهذا من سعي خاص، حتى لا يطول أمد الوصول إليه، وهو كائن بإذن الله طالت المدة أم قصرت، ولا يهولنك كثرة أتباع الدجالين، فما ذلك تأثير دجلهم الحادث، وإنما هي بقايا الداء الموروث، وقد يموت أكبر طاغوت منهم، فلا يشعر الذين على رأيه بأنهم فقدوا شيئًا؛ فكثرتهم إلى قلة، وقلة المصلحين وأتباعهم إلى كثرة، والعاقبة للمتقين.

الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الباطنية وآخر فرقهم البابية البهائية [1] جاء في كتاب الملل والنحل للشهرستاني تحت عنوان (الإسماعيلية) ما نصه: قد ذكرنا أن الإسماعيلية امتازت عن الموسوية وعن الاثنا عشرية بإثبات الإمامة لإسماعيل بن جعفر وهو ابنه الأكبر المنصوص عليه في بدء الأمر، قالوا: ولم يتزوج الصادق على أمه بواحدة من النساء، ولا اشترى جارية كسنة رسول الله في حق خديجة، وكسُنَّة علي في حق فاطمة، وذكرنا اختلافهم في موته في حال حياة أبيه، فمنهم من قال: إنه مات وإنما فائدة النص عليه انتقال الإمامة منه إلى أولاده خاصة كما نص موسى إلى هارون عليهما السلام، ثم مات هارون في حال حياة أخيه وإنما فائدة النص انتقال الإمامة منه إلى أولاده، فإن النص لا يرجع قهقرى، والقول بالبداء محال، ولا ينص الإمام على واحد من ولده إلا بعد السماع من آبائه، والتعيين لا يجوز على الإبهام والجهالة. ومنهم من قال: إنه لم يمت لكن أظهر موته تقية عليه حتى لا يقصد بالقتل. ولهذا القول دلالات منها أن محمدًا كان صغيرًا وهو أخوه لأمه، مضى إلى السرير الذي كان إسماعيل نائمًا عليه، ورفع الملاءة فأبصره وهو قد فتح عينه ومضى إلى أبيه مفزعًا وقال: عاش أخي عاش أخي. قال أبوه: إن أولاد الرسول كذا يكون حالهم في الآخرة. قالوا: وما السبب في الإشهاد على موته، وكتب المحضر عليه ولم يعهد ميتًا سجل على موته؟ و (أجيب) عن هذا بأنه لما رفع إلى المنصور أن إسماعيل بن جعفر رؤي بالبصرة مر على مقعد فدعا له فبرئ بإذن الله، بعث المنصور إلى الصادق أن إسماعيل في الأحياء، وأنه رؤي في البصرة أنفذ السجل إليه وعليه شهادة عامله بالمدينة. قالوا: وبعد إسماعيل محمد بن إسماعيل السابع التام وإنما تم دور السبعة به ثم ابتدأ منه بالأئمة المستورين الذين كانوا يسيرون في البلاد ويظهرون الدعاة جهراً، قالوا: ولم تخل الأرض قط من إمام حي قاهر إما ظاهر مكشوف، وإما باطن مستور. فإذا كان الإمام ظاهرًا يجوز أن تكون حجته مستورة، وإذا كان الإمام مستورًا فلا بد أن يكون حجته ودعاته ظاهرين، وقالوا: إنما الأئمة تدور أحكامهم على سبعة كأيام الأسبوع والسماوات السبع والكواكب السبع، والنقباء تدور أحكامهم على اثنا عشر، قالوا: وعن هذا وقعت الشبهة للإمامية القطعية، حيث قرروا عدد النقباء للأئمة. ثم بعد الأئمة المستورين كان ظاهر المهدي والقائم بأمر الله وأولادهم نصًّا بعد نص على إمام بعد إمام، ومذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلية، وكانت لهم دعوة في كل زمان ومقالة جديدة بكل لسان، فنذكر مقالاتهم القديمة ونذكر بعدها دعوة صاحب الدعوة الجديدة، وأشهر ألقابهم الباطنية. وإنما لزمهم هذا اللقب لحكمهم بأن لكل ظاهر باطنًا، ولكل تنزيل تأويلاً ولهم ألقاب كثيرة سوى هذه على لسان قوم قوم، فبالعراق يسمون الباطنية والقرامطة والمزدكية، وبخراسان التعليمية الملحدة وهم يقولون نحن إسماعيلية؛ لأنا تميّزنا عن فرق الشيعة بهذا الاسم وهذا الشخص. ثم إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنعوا كتبهم على ذلك المنهاج، فقالوا في البارئ تعالي: إنا لا نقول هو موجود ولا لا موجود، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، وكذلك في جميع الصفات؛ فإن الإثبات الحقيقي يقتضي الشركة بينه وبين سائر الموجودات في الجهة التي أطلقنا عليه، وذلك تشبيه، فلم يكن الحكم بالاثبات المطلق والنفي المطلق، بل هو إله المتقابلين وخالق الخصمين والحاكم بين المتضادين، ويقولون في هذا أيضًا عن محمد بن علي الباقر: إنه قال لما وهب العلم للعالمين قيل: هو عالم، ولما وهب القدرة للقادرين قيل: هو قادر، فهو عالم وقادر؛ بمعنى أنه وهب العلم والقدرة، لا بمعنى أنه قام به العلم والقدرة أو وصف بالعلم والقدرة، فقيل فيهم: إنهم نفاة الصفات حقيقة معطلة الذات عن جميع الصفات، قالوا: وكذلك نقول في القدم: إنه ليس بقديم ولا محدث بل القديم أمره وكلمته، والمحدث خلقه وفطرته، أبدع بالأمر العقل الأول الذي هو تام بالفعل، ثم بتوسطه أبدع النفس الثاني الذي هو غير تام، ونسبة النفس إلى العقل، أما نسبة النطفة إلى تمام الخلقة والبيض إلى الطير، وأما نسبة الولد إلى الوالد والنتيجة إلى المنتج. وأما نسبة الأنثى إلى الذكر والزوج إلى الزوج. قالوا: ولما اشتاقت النفس إلى كمال العقل احتاجت إلى حركة من النقص إلى الكمال، واحتاجت الحركة إلى آلة الحركة فحدثت الأفلاك السماوية، وتحركت حركة دورية بتدبير النفس، وحدثت الطبائع البسيطة بعدها وتحركت حركة استقامت بتدبير النفس أيضًا، فتركبت المركبات من المعادن والنبات والحيوان والإنسان، واتصلت النفوس الجزئية بالأبدان، وكان نوع الإنسان متميزًا عن سائر الموجودات بالاستعداد الخاص لفيض تلك الأنوار، وكان عالمه في مقابلة العالم كله وفي العالم العلوي عقل ونفس كلي، وجب أن يكون في هذا العالم عقل شخص هو كل، وحكمه حكم الشخص الكامل البالغ ويسمونه الناطق وهو النبي، ونفس مشخصة هو كل أيضًا وحكمها حكم الطفل الناقص التوجه إلى الكمال أو حكم النطفة المتوجهة إلى التمام، أو حكم الأنثى المزدوج بالذكر ويسمونه الأساس وهو الوصي. قالوا: وكما تحركت الأفلاك بتحريك النفس والعقل والطبائع، كذلك تحركت النفوس والأشخاص بالشرائع بتحريك النبي والوصي في كل زمان دائر على سبعة سبعة، حتى ينتهي إلى الدور الأخير ويدخل زمان القيامة وترتفع التكاليف وتضمحل السنن والشرائع، وإنما هذه الحركات الفلكية والسنن الشرعية لتبلغ النفس إلى حال كمالها، وكمالها وصولها إلى درجة العقل، واتحادها به ووصولها إلى مرتبته فعلاً وذلك هو القيامة الكبرى، فتنحل تراكيب الأفلاك والعناصر والمركبات، وينشق السماء وتتناثر الكواكب وتبدو الأرض غير الأرض، وتطوى السماء كطي السجل للكتاب المرقوم فيه ويحاسب الخلق، ويتميز الخير عن الشر والمطيع عن العاصي، وتتصل جزئيات الحق بالنفس الكلي، وجزئيات الباطل بالشيطان المبطل، فمن وقت الحركة إلى وقت السكون هو المبدأ، ومن وقت السكون إلى ما لا نهاية له هو الكمال. ثم قالوا: ما من فريضة وسنة وحكم من أحكام الشرع من بيع وإجارة وهبة ونكاح وطلاق وجراح وقصاص ودية إلا وله وزان من العالم عددًا في مقابلة عدد، وحكمًا في مقابلة حكم، فإن الشرائع عوالم روحانية أمرية، والعوالم شرائع جسمانية خلقية، وكذلك التركيبات في الحروف والكلمات على وزان تركيبات الصور والأجسام، والحروف المفردة نسبتها إلى المركبات من الكلمات كالبسائط المجردة إلى المركبات من الأجسام، ولكل حرف وزان في العالم وطبيعة يخصها وتأثير من حيث تلك الخاصية في النفوس، فعن هذا صارت العلوم المستفادة من الكلمات التعليمية غذاء للنفوس، كما صارت الأغذية المستفادة من الطبائع الخلقية غذاء للأبدان. وقد قدر الله أن يكون غذاء كل موجود مما خلقه منه، فعلى هذا الوزان صاروا إلى ذكر أعداد الكلمات والآيات، وأن التسمية مركبة من سبعة واثني عشر، وأن التهليل مركب من أربع كلمات في إحدى الشهادتين وثلاث كلمات في الشهادة الثانية، وسبع قطع في الأولى ست في الثانية، واثنى عشر حرفًا في الثانية، وكذلك في كل آية أمكنهم استخراج ذلك مما لا يعمل العاقل فكرته فيه إلا ويعجز عن ذلك؛ خوفًا عن مقابلته بضده، وهذه المقابلات كانت طريقة أسلافهم، وقد صنفوا فيها كتبًا، ودعوا الناس إلى إمام في كل زمان يعرف موازنات هذه العلوم، ويهتدي إلى مدارج هذه الأوضاع والرسوم. ثم أصحاب الدعوة الجديدة تنكبوا هذه الطريقة حين أظهر الحسن بن الصباح دعوته، وقصر عن الإلزامات كلمته، واستظهر بالرجال وتحصن بالقلاع، وكان بدء صعوده إلى قلعة الموت في شعبان سنة ثلاث وثمانين وأربع ومئة، وذلك بعد أن هاجر إلى بلاد إمامه، وتلقى منه كيفية الدعوة لأبناء زمانه، فعاد ودعا الناس أول دعوة إلى تعيين إمام صادق قائم في كل زمان، وتمييز الفرقة الناجية من سائر الفرق بهذه النكتة، وهو أن لهم إمامًا وليس لغيرهم إمام، وإنما يعود خلاصة كلامه بعد ترديد القول فيه عودًا على بدء بالعربية والعجمية إلى هذا الحرف، ونحن ننقل ما كتبه بالعجمية إلى العربية، ولا معاب على الناقل، والموفق من اتبع الحق واجتنب الباطل، والله الموفق والمعين. فنبدأ بالفصول الأربعة التي ابتدأ الدعوة وكتبها عجمية فعربتها. قال للمفتي في معرفة البارئ تعالى أحد قولين: إما أن يقول أعرف البارئ تعالى بمجرد العقل والنظر من غير احتياج إلى تعليم معلم، وإما أن يقول: لا طريق إلى المعرفة مع العقل والنظر إلا بتعليم معلم صادق، قال: ومن أفتى بالأول فليس له الإنكارعلى عقل غيره ونظره، فإنه متى أنكر فقد علم والإنكار تعليم ودليل على أن المنكر عليه يحتاج إلى غيره، قال: والقسمان ضروريان فإن الإنسان إذا أفتى بفتوى أو قال قولاً فإما أن يقول من نفسه أو من غيره، وكذلك إذا اعتقد عقدًا فإما أن يعتقده من نفسه أو من غيره هذا هو الفصل الأول، وهو كسر على أصحاب الرأي والعقل. وذكر في الفصل الثاني أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم، أفيصلح كل معلم على الإطلاق أم لا بد من معلم صادق؟ قال: ومن قال: إنه يصلح كل معلم ما ساغ له الإنكار على معلم خصمه، وإذا أنكر فقد سلم أنه لا بد من معلم معتمد صادق، قيل وهذا كسر على أصحاب الحديث. وذكر في الفصل الثالث أنه إذا ثبت الاحتياج إلى معلم صادق، فلا بد من معرفة المعلم أولاً والظفر به ثم التعليم منه، أم جاز التعلم من كل معلم من غير تعيين شخصه وتبيين صدقه؟ ؟ والثاني رجوع إلى الأول ومن لم يمكنه سلوك الطريق إلا بمقدم ورفيق، فالرفيق ثم الطريق هو كسر على الشيعة. وذكر في الفصل الرابع أن الناس فرقتان: فرقة قالت: يحتاج في معرفة البارئ تعالى إلى معلم صادق، ويجب تعيينه وتشخيصه أولاً ثم التعلم منه، وفرقة أخذت في كل علم من معلم وغير معلم، وقد تبين بالمقدمات السابقة أن الحق مع الفرقة الأولى، فرأسهم يجب أن يكون رأس المحققين، وإذا تبين أن الباطل مع الفرقة الثانية، فرؤساؤهم يجب أن يكونوا رؤساء المبطلين، قال: وهذه الطريقة التي عرفتنا المحق بالحق معرفة مجملة، ثم نعرف بعد ذلك الحق بالمحق معرفة مفصلة، حتى لا يلزم دوران المسائل، وإنما عنى بالحق ها هنا الاحتياج، وبالمحق المحتاج إليه، وقال: بالاحتياج عرفنا الإمام وبالإمام عرفنا مقادير الاحتياج، كما بالجواز عرفنا الوجوب إلى واجب الوجود، وبه عرفنا مقادير الجواز في الجائزات، قال: والطريق إلى التوحيد كذلك حذو القذة بالقذة، ثم ذكر فصولاً في تقرير مذهبه إما تمهيدًا وإما كسرًا على المذاهب وأكثرها كسر أو إلزام واستدلال بالاختلاف على البطلان وبالاتفاق على الحق , منها فصل الحق والباطل والصغير والكبير. يذكر أن في العالم حقًا وباطلاً، ثم يذكر أن علامة الحق هي الوحدة , وعلامة الباطل هي الكثرة، وإن الوحدة مع التعليم، والكثرة مع الرأي، والتعليم مع الجماعة والجماعة مع الإمام، والرأي مع الفرق المختلفة، وهي مع رؤسائهم، وجعل الحق والباطل والتشابه بينهما من وجه التمايز بينهما من وجه التضاد في الط

تقرير مرفوع إلى جناب صاحب الدولة الأمير أحمد باشا فؤاد حضرتلري

الكاتب: صالح علي

_ تقرير مرفوع إلى جناب صاحب الدولة الأمير أحمد باشا فؤاد حضرتلري رئيس مجلس إدارة الجامعة المصرية [1] مولاي: إن جامعة مصرية تدرس فيها آداب اللغتين الفرنسية والإنجليزية لجديرة بأن تكون فيها حلقة لتعليم تاريخ الأدبيات العربية، فإن هذا التاريخ يا مولاي على تعدد موارده وغزارة مناهله، لا يزال إلى وقتنا هذا شتيتًا، لم يقم بعد من يؤلف بين أجزائه في رسالة يعول عليها سواء بالعربية أو بأية لغة أجنبية. ما كان [2] لأحد من رجال الأدب في العالم الإسلامي على سعته أن يفكر في جمع مثل هذا المؤلف، فبقيت هذه الثغرة مفتوحة من وقت أن كانت سوق الأدب نافقة إلى وقتنا هذا. نحن لا ننكر أن بين أيدينا كثيراً من أمهات الكتب الأدبية، ولكن ليس فيها يا مولاي ما ينقع الغلة ويبرئ العلة. فإن كتاب الأغاني مثلاً ومعجم الأدباء لياقوت، ووفيات الأعيان لابن خلكان على جلالة قدرها، ليست إلا كتب تراجم. كما أن كتاب الفهرست لابن النديم، وكشف الظنون لملا كاتب جلبي وكتاب اكتفاء القنوع بما هو مطبوع للأستاذ إدوارد فان ديك Dyck Van E أولى لها أن تسمى فهارس من أن تعد في طبقة الكتب التي تبحث في تاريخ الأدبيات العربية. أخذ المستشرقون في أوربا منذ صدر القرن التاسع عشر الميلادي يكتبون عن آداب العرب كتبًا بعضها يكاد يفي بالحاجة وبعضها ناقص من كل وجه، فكتب من يدعى يوسف برلنجتن Berligton goseph رسالة صغيرة بالإنجليزية ترجمت فيما بعد إلى الفرنسية (سنة 1823) ، ثم جاء من بعده نويل ديفر جير الفرنسي Dcsvergers Noel صاحب كتاب (بلاد العرب L'arabie) فاختص بعض صحائف من كتابه بهذا الموضوع (سنة 1847) ، وحذا حذوه في ذلك سديو edillot صاحب كتاب (تاريخ العرب Arabas des L'histoire) سنة1854، وفي سنة 1890 قام أربثنوت Arbuthnot المستشرق الإنجليزي فألف رسالة عنوانها (المؤلفات العربية Authors Arabic) غير أنها لا تفي بالغرض؛ لما فيها من النقض. أما روسية وإيطاليا فقام فيهما عالمان هما فلادمير جرجاس Guirgass. V والكافالييري فيلبو دي باردي Bardi de Filippo Cav. كتب أولهما رسالته المسماة (خلاصة الآداب العربية) وألف الثاني رسالته المسماة تاريخ الآداب العربية في عهد الخلفاء (Storia della Litteratura Arape sotto il Califfato) سنة 1864 وكلتاهما على نفاستها لا تفي بالغرض. أما اللغة اللمانية (الألمانية) فقد كتبت فيها بعض رسائل في الأدبيات العربية، فقام المستشرق المجري همر برجبستال Purgstall - Hammer بتأليف رسالة عنوانها (تاريخ آداب العرب der Araber Geschichte Litteratur) ظهرت في مدينة ويانة بين سنة 1850 وسنة 1856 في ستة أجزاء، ولكن هذا العالم مع كثرة بحثه في الكتب العربية، لم يخرج كتابه للناس تامًّا، فاستحق قول الشاعر. ولم أر في عيوب الناس شيئًا ... كنقص القادرين على التمام ولكن جاء بعد العلامة بروكلمان Brokelmann الأستاذ بجامعة برسلاو Breslau فأصدر أحدث كتاب في الموضوع سماه (تاريخ الآداب العربية litteratur Arabischen der Geschichte) وهو يقع في جزئين اثنين، ظهر أولهما في مدينة ويمار Weimar سنة 1897 و1898، وطبع الثاني في برلين Berlin سنة 1902، ومما يؤسف عليه أن هذا الكتاب النفيس قد شوهت محاسنه إغلاط كثيرة في الطبع من حيث التواريخ، وفوق ذلك فإن تبويبه ليس كما يجب أن يكون، وعبارته جافية ليس عليها مسحة من العذوبة التي يرغب فيها الأديب، فهو من هذا القبيل أشبه شيء بالفهارس منه بكتب التاريخ، غير أنه كتاب لا بأس به في هذا الباب، جزى الله مؤلفه عنا خير الجزاء، هذا، ولا يفوتني يا مولاي أن أذكر أنه قد ظهر بعد كتاب الأستاذ بروكلمان بقليل مؤلف آخر لمستشرق فرنسي هو مسيو هيوار Huart الأستاذ بجامعة اللغات الشرقية الحية speciale ecole vivantes orientales des langues عنوانه (الأدبيات العربية LaLlttcratute Arabe) وهو على صغر حجمه، يكاد يكون أوفى ما ألف في هذا الفن إلى اليوم. إذا تقرر ذلك بان لنا أننا لا نزال مدينين لعلماء أوربا في تدوين تاريخ الآداب العربية، وإن كان هذا التدوين لم يصل بعد إلى طور الكمال. ظهر يا مولاي في مصر من عهد قريب كتاب صغير الحجم عنوانه (أدبيات اللغة العريبة) ، ولكنه لم يتعرض لتاريخ الأديان، بل اقتصر على ذكر مقتطفات يسيرة من الشعر والنثر العربي مرتبة على العصور؛ ليتيسر حفظها لطلبة المدارس الثانوية المصرية، فهو من هذا القبيل كتاب مطالعة أدبي أو صورة مصغرة من كتاب مجاني الأدب المشهور، لا علاقة له بتاريخ الأدبيات العربية، ذاك التاريخ الجليل. هذا، ومما لا نزاع فيه يا مولاي أنه بالرغم عن ضياع جزء عظيم من أمهات الكتب العربية، لا تزال البقية لباقية على قلتها (سواء كانت من الآداب المحفوظة أو المطبوعة في الشرق أو الغرب) كافية جدًّا؛ لإنشاء تاريخ كامل لأدبيات اللغة العربية. إن قيام العلماء المستشرقين بأوربا منذ القرن السادس عشر الميلادي بنشر المتون العربية وترجمة بعضها إلى اللاتينية أولاً ثم إلى كثير من اللغات الأوربية ثانيًا، وعنايتهم بجمع فهارس مضبوطة للمخطوطات العربية المحفوظة بخزائن الكتب في أوربا (ذاك العمل الشريف الذي تم منه جزء عظيم للآن) وكذا نشر فهارس الكتب المحفوظة في مساجد الآستانة وفي دار الكتب الخديوية بالقاهرة، كل هذا يا مولاي قد ساعد علماء الإفرنج مساعدة عظيمة في درس الآداب العربية، ومن السهل أن يساعدنا نحن أيضا على بناء هيكل بديع لتاريخ آدابنا إذا بعث الله فينا من بين أدبائنا من يقوم بهذا العمل المجيد. إن درس الآداب العربية منذ نشأتها، والبحث في أطوار نمائها ونهضتها ثم سقوطها وعثرتها ثم بعثتها من رقدتها؛ إنما هو يا مولاي درس مفيد كله عبر، وكيف لا يكون كذلك، ونحن نعرف بالبداهة أن تلكم المحاضرات النفيسة التي يلقيها الشيخ الجليل العلامة جويدي في الجامعة المصرية، لا تخرج عن كونها بابًا واحدً أو فصلاً من باب من أبواب تاريخ الأدبيات العربية، مقصورًا هذا الباب أو الفصل على علمي التاريخ والجغرافيا. إذا تقرر ذلك، علمنا أن درس هذه الأدبيات يجب أن يحل المحل الأول في جامعة مصرية؛ إذ أن مما يؤسف عليه يا مولاي أن عدد من يعنى بهذه الأدبيات بيننا معاشر المشارقة (سواء في مصر أو في سائر بلاد المشرق) لا يكاد يعدو أصابع اليدين، وإذا تصفحنا أسباب هذا الجمود رأيناها ترجع إلى أمرين: ندرة المؤلفات الكافية في هذا الفن من جهة، وانعدام المدارس الجامعة في بلادنا من أخرى. وبهذه المناسبة أورد هنا مسألة واحدة على سبيل الاستشهاد، ذلك أني لاحظت عند سماع المحاضرات الجليلة التي يلقيها الأستاذ جويدي أن معظم الطلبة (إن لم يكونوا كلهم) كانوا يجهلون أسماء مشاهير المؤلفين؛ كالمقدسي وابن واضح وابن خرداذبه وابن حوقل وغيرهم، وهي حقيقة تثبت أن ناشئتنا في حاجة كبرى إلى تعلم تاريخ الآداب العربية على طريقة منتظمة. أليس مما يؤلم يا مولاي أن يكون المصري المتعلم ملمًّا بآداب الإنجليزية والفرنسية قبل أن يعرف شيئًا من آداب أسلافه؟ هذا، وإني أتشرف يا مولاي، أن أقدم في طي تقريري هذا ملحقًا يشتمل على برنامج مختصر عن سلسلة محاضرات في تاريخ الأدبيات العربية، وهو برنامج لا بأس من إدخاله في الجامعة هذا العام، من غير أن يحدث ضررًا أو ينشأ عنه تهويش ما في النظام الحالي. فبدلاً من أن يكون عدد المحاضرات واحدة فقط في أيام الآحاد، يحسن إبلاغه إلى اثنتين: تختص أولا هما بالحضارة القديمة، وتكون الثانية للآداب العربية. ثم لا بأس من تخفيض عدد المحاضرات النفيسة التي يلقيها العلامة جويدي إلى ثنتين في الأسبوع، حتى يحصل هنالك فراغ يتسنى شغله بمحاضرة ثانية على تاريخ الأدبيات العربية. (هذا ومما تجب الإشارة إليه في هذا المقام أن تلكم المحاضرات الجليلة التي يلقيها الأستاذ جويدي، لا تستغرق (على نفاستها) في الدفعة الواحدة أزيد من ثلاثين إلى أربعين دقيقة؛ أعني أن هناك ثلاث محاضرات، مقدار كل منها أربعون دقيقة، وهو ما يساوي مائة وعشرين دقيقة أو ساعتين في الأسبوع. فلو جعلت محاضرات هذا العلامة ثنتين، مقدار كل منهما ستون دقيقة لما اختل النظام في شيء، ولكان عدد المحاضرات مضروبًا في عدد الدقائق معادلاً لمائة وعشرين دقيقة أي: ساعتين في الأسبوع وهو المطلوب) . مولاي، إذا أتيح للجامعة أن تعثر على مدرس لتاريخ الآداب العربية، أصبح عدد المدرسين ستًّا، يصيب كلاًّ محاضرتان في الأسبوع؛ أعني بذلك أيام العمل الستة بعد استثناء أيام الجمع. أنا يا مولاي، لا أعلم علم اليقين إذا كان ميزان دخل الجامعة، وخرجها في استطاعته أن يحتمل مرتب هذا المدرس الجديد، غير أني أكاد أجزم أن هناك بعضًا من الأدباء الضليعين بهذا الفن (على قلتهم في بلادنا) مستعد للتطوع في هذا السبيل الوطني الشريف عند أول نداء، ثم هو لا يريد بعد ذلك جزاء ولا شكوراً. مولاي، إنه ليس من الضروري أصلاً أن يكون انتقاء مثل هذا المدرس من بين المتعممين، فإن مجرد حذق فني النحو والصرف والإلمام بكتابين أو ثلاثة من كتب الأدب أو التاريخ، ليس كل ما يلزم توفره في هذا الباب. إنما يحب أن يكون مدرس هذا الفن أديبًا بكل معاني الكلمة، وفوق ذلك فإنه ينبغي عليه أن يكون على علم بالنهضة الأدبية القائمة سوقها الآن في أنحاء المشرق والمغرب، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون عارفًا على الأقل بلغتين أجنبيتين الإنجليزية والفرنسية، كيما يتمكن من تتبع خطى الحركة الأدبية في أوربا، ويطالع بإمعان أمهات الكتب التي تكتب من آن إلى آخر بأقلام كبار العلماء المستشرقين، أولئك الذين وقفوا حياتهم على إحياء آدابنا، بعد أن كاد يدركها العدم. مولاي، لو كان هذا العاجز من أصحاب الألقاب الضخمة، أو ممن يتربعون في دست الوظائف الكبرى في خدمة الحكومة لقدم نفسه طائعًا مختارًا جذلاً مرتاحًا لخدمة الجامعة لا كأستاذ - فمعاذ الله أن أكون مغرورًا بنفسي أو مغرورًا بها إلى حد أن تتطلع إلى ما لا تستحق - ولكن كخادم مخلص، أو بعبارة أخرى كوطني يقدم نفسه، وما ملكت يمينه فداء للوطن المحبوب. ... ... ... ... ... ... القاهرة في 30 يناير سنة 1909 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح علي ... ... ... ... بمصلحة الري بنظارة الأشغال العمومية بمصر (المنار) أحسن الكاتب في اقتراحه وبيانه لوجه الحاجة إليه وترشيح نفسه له، ولعله لم يكن يعلم أن هنا لجنة تؤلف كتابًا حافلاً في تاريخ الآداب العربية، وسيظهر الكتاب بعد زمن قريب، إن شاء الله تعالى.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (نهج البلاغة) هذا الكتاب أشهر من نارعلى علم؛ فهو غني عن التعريف به والتنويه بفائدته، في تقويم النفس بالحكمة والتقوى، وتقويم اللسان بالبلاغة والفصاحة، وقد كان كنزًا مخفيًّا في بلادنا السورية والمصرية؛ بل كان أهل السنة محرومين من فائدته، وكادت الشيعة تفضلهم في البلاغة بمدارسته، حتى شرحه الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - فانتشر بذلك واشتهر، حتى طبع بشرحه عدة مرات في سورية ومصر، وكانت الطبعة الاولى أصح تلك الطبعات، ويتفاوت ما بعدها في كثرة الغلط وقلته. وقد طبع في العام الماضي في مطبعة الحلبي الشهيرة مع شرح وجيز للشيخ محمد حسن نائل المرصفي مدرس البيان بمدرسة (الفرير) الكلية، فأما الشارح فأديب، ولكل مجتهد نصيب. وأما الأصل فيمتاز في هذه الطبعة بالشكل الكامل وهي مزية، يعرف قيمتها من علم أنه يقل في أكثر قراء العربية من يحسن قراءة مثل هذا الكتاب قراءة صحيحة، إذا لم يكن مضبوطًا، وناهيك بشدة حاجة طلاب العلوم الذين يستعينون به على ملكة البلاغة مثل هذا الضبط، ولهذا يرجى أن ينتفع بهذه الطبعة ما لا ينتفع به في غيرها. * * * (نهج البردة ووضح النهج) نظم أحمد شوقي بك (شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية) قصيدة عارض بها بردة البوصيري الشهيرة، وجعلها تذكارًا لحج الأمير الحاج عباس حلمي الثاني إلى بيت الله الحرام في عام 1327، وقد عني شيخ الجامع الأزهر (الشيخ سليم البشري) بشرح القصيدة؛ عناية بنشر مديح الممدوح الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؛ وعناية بما جعلت تذكارًا له من حج الأمير المعظم، على حين ترك ملوك المسلمين وأمراؤهم هذا الركن الديني المحتم، ثم عناية بالناظم نابغة الشعراء في مصر، ولك أن تقول نابغتهم في هذا العصر، وقد طبعت القصيدة مع شرحها في كتاب وضع له فاتحة في الشعر وضروبه محمد بك المويلحي نابغة الكتاب في هذا القطر، فتم بذلك التناسب ومراعاة النظير بالجمع بين كلام أشهر العلماء والشعراء والكُتاب، وإنها مزية قلما تجتمع في كتاب، وهاك نموذجًا من دراري القصيدة: أخوك عيسى دعا ميتًا فقام له وأنت أحييت أجيالاً من الرمم والجهل موت فإن أوتيت معجزة ... فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم قالوا غزوت ورسل الله ما بعثوا ... لقتل نفس ولا جاءوا لسفك دم جهل وتضليل أحلام وسفسطة ... فتحت بالسيف بعد الفتح بالقلم لما أتى لك عفوًا كل ذي حسب ... تكفل السيف بالجهال والعمم [1] والشر إن تلقه بالخير ضقت به ... ذرعًا وإن تلقه بالشر ينحسم [2] سل المسيحية السمحاء كم شربت ... بالصاب من شهوات الظالم الغلم [3] طريدة الشرك يؤذيها ويوسعها ... في كل حين قتالاً ساطع الحدم [4] ولولا حماة لها هبوا لنصرتها ... بالسيف ما انتفعت بالرفق والرحم [5] إلى أن قال: علمتهم كل شيء يجهلون به ... حتى القتال وما فيه من الذمم دعوتهم لجهاد فيه سؤددهم ... والحرب أس نظام الكون والأمم لولاه لم نر للدولات في زمن ... ما طال من عمد أو قرّ من دعم تلك الشواهد تترى كل آونة ... في الأعصر الغر لا في الأعصر الدهم بالأمس مالت عروش واعتلت سرور ... لولا القنابل لم تسلم ولم تصم أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة ... ولم نعد سوى حالات منقصم هذا ما قاله في مسألة عصرية أي: من المسائل التي يكثر البحث فيها في هذا العصر، وكنت أود لو كانت القصيدة كلهاعلى هذا النسق، ولكن أكثرها على الطريقة القديمة في المدح، وقال في وصف الشريعة ما أجاد فيه وأفاد: شريعة لك فجرت العقول بها ... عن زاخر بصنوف العلم ملتطم يلوح حول سنا التوحيد جوهرها ... كالحلي للسيف أو كالوشي للعلم سمحاء حامت عليها أنفس ونهى ... ومن يجد سلسلاً من حكمة يحم نور السبيل يساس العالمون بها ... تكفلت بشباب الدهر والهرم يجري الزمان وأحكام الزمان على ... حكم لها نافذ في الخلق مرتسم لما اعتلت دولة الإسلام واتسعت ... مشت ممالكه في نورها التمم وعلمت أمة بالقفر نازلة ... رعي القياصر بين الشاء والنعم كم شيد المصلحون العاملون بها ... في الشرق والغرب ملكًا باذخ العظم للعلم والعدل والتمدين ما عزموا ... من الأمور وما شهدوا من الحزم سرعان ما فتحوا الدنيا لملتهم ... وأنهلوا الناس من سلسالها الشبم [6] ساروا عليها هداة الناس فهي بهم ... إلى الفلاح طريق واضح العظم لا يهدم الدهر ركناً شاد عدلهم ... وحائط البغي إن تلمسه ينهدم نالوا السعادة في الدارين واجتمعوا ... على عميم من الرضوان مقتسم دع عنك روما وآثينا وما حوتا ... كل اليواقيت في بغداد والتوم [7] وخل كسرى وإيوانًا يدلّ به ... هوى على أثر النيران والأيم [8] واترك رعمسيس إن الملك مظهره ... في نهضة العدل لا في نهضة الهرم دار الشرائع روما كلما ذكرت ... دار السلام لها ألقت يد السلم ما ضارعتها بيانًا عند ملتأم ... ولا حكتها قضاء عند مختصم ولا احتوت في طراز من قياصرها ... على رشيد ومأمون ومعتصم من الذين إذا سارت كتابئهم ... تصرفوا بحدود الأرض والتخم ويجلسون إلى علم ومعرفة ... فلا يدانون في عقل ولا فهم يطأطئ العلماء الهام إن نسبوا ... من هيبة العلم لا من هيبة الحكم ويمطرون فما بالأرض من محل ... ولا بمن بات فوق الأرض من عدم خلائف الله جلوا عن موازنة ... فلا تقيسنّ أملاك الورى بهم من في البرية كالفاروق معدلة ... وكابن عبد العزيز الخاشع الحشم وكالإمام إذا ما فض مزدحمًا ... بمدمع في مآقي القوم مزدحم [9] الزاخر العذب في علم وفي أدب ... والناصر الندب في حرب وفي سلم هذا نموذج من أكرم درر القصيدة وأضوأ دررايها. وأما الشرح فأسلوبه أدبي لا علمي أزهري، ولكل مقام مقال، وهاك نموذجًا من أفضل ما فيه وأنفعه، قال الأستاذ في شرح بيت: (أشياع عيسى أعدوا كل قاصمة) ما نصه: عمد الشاعر في هذا البيت إلى المقارنة بين أهل الديانة المسيحية وأهل الديانة الإسلامية: فذكر أن المتشيعين اليوم إلى الدين المسيحي (دين الهدو والسلام) هم أهل القوة الحربية الدائبون على إعداد المهلكات الصاعقات في الحروب، حتى كأنهم ولم يبق لهم في شغل يشغلهم إلا استخراج الذهب من بطون الأرض وإنفاقه على مصانع الحديد والفولاذ؛ لطبع آلات الحرب في بطون الأرض وعرض البحر، وقد أفتنوا في أسباب الهلاك والتدمير، ولم يكفهم أن يدمدموا على الناس ويأخذوهم بالبلاء عن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن خلفهم ومن تحت أرجلهم، حتى قامواعلى تسخير الرياح ليرموهم من فوق رؤوسهم بكل دهياء صيلم، على حين أن أهل الديانة الإسلامية الذين يتهمهم الظالمون بحب الفتح والجهاد، ويشغون سمعتهم بحب الطعن والجلاد، والولوغ في دماء العباد، هم اليوم أهل السكينة والسلام، وهيهات أن يدانوا المسيحية في المباراة بحب الفتوح والحروب، أو يشاكلوهم في ادخار آلات الحرب واستنباط معدات الكفاح. وقال في شرح بيت (واترك رعمسيس إن الملك مظهره) : يقول: ما كان لقدماء المصريين أن يفاخروا بمدينتهم التي أسمى مظاهرها هو هذا البنيان السامق، على حين أمسى أكبر الأدلة على ظلمهم وجبروتهم، وأي مدنية هذه التي تزين لرجل واحد أن يسوق من رعيته مئة ألف رجل أو يزيدون، فيحملهم الأثقال، ويسخرهم في مشاق الأعمال، حتى إذا ما دقت أعناقهم، واختلفت أضلاعهم، وفتت سواعدهم، التقط غيرهم من أمته التي أوشكت أن تفنيها ثلاثون سنة على هذه الحال بلا أجر ولا جزاء؛ كل ذلك ليبني قبرًا لنفسه يطاول كيوان، وتبلى دونه الأزمان. ليس هذا بمظهر التمدن، إنما مظهره العدل الذي تصلح به أحوال الرعية، وتستقيم به أمروهم، فتنهض بهم الدولة ويعلو شأن الأمة، والعدل أساس الملك. * * * (لباب الخيار في سيرة المختار) مختصر وجيز في السيرة النبوية للشيخ مصطفي الغلاييني صاحب مجلة النبراس ومعلم المكتب السلطاني ببيروت، سبق لنا تقريظ الطبعة الأولى منه، وقد أعيد طبعه في العام الماضي بعد أن زيد في فوائده، وقد ختمه بطائفة من حكم الأحاديث النبوية مرتبةعلى حروف المعجم لتحفظ، وشرحها في ذيول الصفحات، وكنا وددنا لو أشار إلى مخرجيها أيضًا. وصفحات الكتاب 136، وثمنه قرشان صحيحان، فنحث الجمهورعلى قراءته، ولا سيما للنساء في البيوت، والأولاد في المدارس الابتدائية. * * * (الدورس العربية) (وهي سلسلة كتب في الصرف والنحو وفنون البلاغة والإنشاء وقرض الشعر والأدبيات واللغة، تأليف الشيخ مصطفي الغلاييني) أيضًا. وقد رتبه على الطريقة الحديثة السهلة في التعليم، فقسمه إلى دروس صغيرة، لكل درس منها أمثلة وتمرين وأسئلة، وطبع جزء منه طبعًا جميلاً، وقد قرأنا في جرائد بيروت؛ أن نظارة المعارف في الآستانة قررت تدريس هذا الكتاب في مدارسها رسميًّا، فنهنئ صديقنا المؤلف بذلك. * * * (الجاذبية وتعليلها) خلق الشيخ جميل صدقي أفندي الزهاوي الأديب البغدادي المشهور مستعدًّا للفلسفة والعلوم الكونية، ميالاً إليها، فقرأ من كتبها المترجمة بالعربية والتركية ما شاء الله أن يقرأ، استفاد من مجلة المقتطف ما شاء الله أن يستفيد، ولو تلقى هذه العلوم في أوربة وعاش مع أهلها العاملين، لكان من المكتشفين والمخترعين، وقد أهدانا كتابًا له سماه (الجاذبية وتعليلها) يؤيد رأينا هذا في استعداده، فقد خالف فيه إجماع علماء العصر في الجاذبية العامة، وبحث فيه في المادة وقواها بحث المستقل الفهم، فذهب إلى أن علة وقوع الأجسام على الأرض مثلاً؛ هو قوة الدفع من جوانب السماء لا قوة الجذب من مركز الأرض كما يثبتون، وقد طبع الكتاب ببغداد، ويباع بمطبعة الآداب فيها وثمنه ثلاثة قروش. * * * (ديوان السيد حسن القاياتي) صدر الجزء الأول من هذا الديوان، وقد ذكر ناظمه في مقدمته أنه ليس معجبًا بنفسه وشعره كما يعجب الشبان، ولكنه سمع الناس (يستحبون أن يعرض المرء ببنات فكره، وهواجس صدره، ثم يتسمع فينظر أيسمع استحسانًا وشكرًا أو استهجانًا ونكراً، فإن كانت الأولى أقدم ثم أقدم، وإن كانت الثانية أحجم ثم أحجم) ونحن نقول: إن من كان هذا غرضه لا ينبغي له أن يحجم عن شيء يستهجن منه؛ لأنه وهو يقدر الانتقاد قدره، ويرى أن يكمل نفسه به، لا يلبث أن يتقي ما ينتقد، حتى يبلغ الغاية من استحسان الناس لما يجيء منه بعد، ولا سيما إذا لم يغره الاستحسان، ولو وجعل المحسن والمسيء ممن لا يصانعون سواء، بعد هذا قرأت أبياتًا متفرقه من الديوان، فصادفت رشاقة في الأسلوب، وروحًا مؤثرة في الكلام، فعسى أن تكون سائر أجزاء الديوان أرقى في معراج الكمال. * * * (شعراء العصر) شرع أحد محبي الأدب والأدباء محمد صبري افندي من نابتة مصر المهذبة في جمع مختارات شعراء هذا العصر في ديوان واحد يصدره جزءًا بعد جزء، ويجمع إلى مختار كل شاعر منهم ترجمة وجيزة له ويطبع معها صورته ليجمع للقارئ بين صورة النفس وصورة الجسم، وقد صدر الجزء الأول وفيه مختارات من شعر البارودي وشوقي وحافظ ونسيم وبطرس كرامة وحفني ناصف وخليل مطران وعائشة اليتمورية والأخرس وعبد الله فكري والبكري ومصطفى نجيب ومصطفى صادق الرافعي والمنفلوطي وعبد الحميد المصري وفؤاد الخطيب وولي الدين يكن. وفيه صور أكثر هؤلاء الشعراء المشهورين فعسى أن يروج هذا الجزء، فيبتعث همة جامعه إلى تمام الكتاب، وثمن النسخة منه ستة قروش صحيحة. * * * (ديوان نفحات الربيع) صدر الجزء الأول من هذا الديوان لناظمه مرسي أفندي شاكر الطنطاوي وقد أهداه إلى محمد أمين بك واصف مد

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (البعث والحياة الأخرى) ((تأييد القرآن بالعلم)) كان الذين ألفوا كتب الكلام على طريق فلسفة اليونان النظرية، يرون أن الدليل على البعث لا يكون إلا سمعيًّا؛ إذ لا يمكن عندهم أن يستدل عليه العقل بأدلة علمية، ولم يفهم هؤلاء قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف: 29) وقوله: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (الأنبياء: 104) وغيرها من الآيات، وقد قرأنا في المقتطف الأخير تحت عنوان (يعيدكم مرة أخرى) ما نصه: ألف المستر كندي كتابًا عن الفيلسوف نتشه الألماني قال فيه: إن نتشه ذهب إلى ما ذهب إليه غوستاف لوبون وهين وفلاسفة اليونان من قبلهم، وهو أن القوى الطبيعية تتوالى وتعود إلى ما كانت عليه، فالعالم الذي يتم عمله تنحل عناصره، ثم تعود تتركب وتتولد فيه مخلوقات مثل المخلوقات التي كانت فيه قبلاً؛ ولذلك لا يبعد أن يكون الإنسان قد وجد على هذه البسيطة قبل الآن وانقرض منها، وأن النوع الموجود الآن سوف ينقرض ثم يعود مرة أخرى، وعناصر الشخص الواحد تعود فتتجمع بعد قرون كثيرة، كما اجتمعت قبلاً ويتكرر ذلك إلى ما شاء الله ا. هـ. أما قوله: بوجود إنسان قبل هذا الدور، فقد قال به بعض المسلمين في تفسير {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) أي ناسًا يخلفون من قبلهم، وأما كون النشأة الأخرى تفنى بعد إتمام دورها الطويل ثم تعود ويتكرر ذلك أبدًا، فيقول به بعض الصوفية * * * (الحريق في الآستانة، والإدارة فيها) ما أدهشني شيء في مدة إقامتي بدار السلطنة إلا كثرة الحريق، وتقصير الحكومة في تنظيم مصلحة المطافئ، فلا تكاد تمضي ليلة لا يروع الناس فيها بنعاب الصائحين: (يا نغين وار، يا نغين وار) أي يوجد حريق، ويذكرون مكانه ليعلم من كان له فيه دار أو لأحد أقاربه، فيبادر إليها لإخراج من فيها بما يقدرون على حمله من نفائسهم وكرائم أموالهم، فإنه قلما وقع الحريق في مكان وسلم، بل تأكله النار وتأكل كثيرًا مما يجاوره قبل أن يأتي الهادمون لهدم ما حوله، فالطريقة المثلى هنالك لمقاومة الحريق هي هدم البيوت المجاورة للمكان الذي شبت فيه النار، وقد صار لهم ضرب من المهارة في الهدم لطول المزاولة والإدمان. وأما إطفاء النيران فما لهم فيه يدان، وإنما ترى عند حدوث الحريق زعنفة من الأحداث، يعدون سراعًا حاسرين عن سوقهم، يحملون على أكتافهم أدوات، فيغيرون وينجدون، ولا يسعفون ولا ينجدون، ولا أدري كنه ما يعملون. يدعي أهل الآستانة أن العرب وغيرهم من العناصر العثمانية لا يقدرون على الإدارة، كما يقدرون عليه هم ومن يتعلم عندهم من أهل عنصرهم، وأنهم هم القادرون على ذلك دون غيرهم من العثمانيين، ويا ليت هذا كان صحيحًا، إذًا لعمرت ديارنا لأنهم هم الذين يديرون حكومتها ولم تخرب ديارهم، بل تكون أرقى عمرانًا. ولكن ليس في المملكة عمران يمكن أن ينسب إلى حسن إدارتهم، وهم يقولون اليوم: إن كل ما حل بالمملكة من الخراب أو التقصير في العمران فسببه شكل الحكومة السابق وهو الاستبداد وقد استبدلنا به شكلاً آخر، وهو ما يعبر عنه بالدستور. آمنا بتغيير شكل الحكومة بأخذه من الفرد وإعطائة لجماعة، ولكننا ما غيرنا الأشخاص بتربية ولا تعليم، ولذلك لم تظهر ثمرة تغيير الشكل بالعمل، ولا في الضروريات التي لا تتوقف على تخريج نشء جديد في التربية الدستورية والتعليم الدستوري كإطفاء الحريق. احترق قصر (جراغان) في العام الماضي، وهو أجمل قصور السلاطين وأبدعها شكلاً ونقشًا وزخرفًا، بلغت نفقاته على السلطان عبد العزيز ملايين من الليرات، احترق بعد أن سعى أحمد رضا بك ففاز بجعل مجلس الأمة فيه، وخصصت الحكومة عشرات الألوف من الليرات؛ لأثاثه ورياشه وجعله صالحًا لاجتماع المبعوثين والأعيان فيه، ومع هذا كله لم يستعدوا لإطفاء الحريق إذا وقع فيه، فلما وقع التهمته النار كله، ولم يهتد أحد من خدمه ولا من عسكر الإطفاء لإطفائها. كان العقلاء يظنون أن حريق هذا القصر (السراي) البديع الذي أحرق القلوب، سيكون هو المربي الأكبر لحكومة العاصمة في هذا الأمر، وسيحملها على العناية بمصلحة الإطفاء عناية تقي جميع بيوت المدينة من تدمير الحريق، وامتداده عند وقوعه لا معاهد الحكومة فقط، وقد رأينا الحكومة عقب هذه الحادثة تشتري آلات الإطفاء الحديثة وأدواتها وتجربها، وحضرت تجربة منها في الرحبة الشمالية من الباب العالي بمشهد الوزراء وغيرهم، بنوا هنالك بيتًا صغيرًا من الخشب، وأعدوا المطافئ وأوقدوا فيه النار، وأمطروا عليه الماء فلم تغن التجربة، بل أكلت النار البيت كله. ثم صرنا أينما جلنا في الباب العالي وغيره من معاهد الحكومة، نرى مطافئ موضوعة؛ لتستعمل في أي موضع وقع فيه الحريق قبل أن تمتد إلى غيره، ولكنهم لم يعلموا أحدًا كيفية استعمالها فيما يظهر، فإن العام لم يكد يمر على حريق قصر جراغان حتى وقع الحريق في قلب الباب العالي حيث مجلس الشورى ونظارة الداخلية، وظلت النار تأكل فيه أيامًا لم يبق من الباب العالي إلا قليل من طرفيه، وفي أحدهما مكان الصدر الأعظم وفي الآخر نظارة الخارجية، فكانت العبرة في ظهور عجز الحكومة عن الإصلاح، وضعفها في الإدارة أقوى في هذا الحريق منها في الحريق الذي سبقه، وكنا نظن أن اتقاء أسباب الحريق سيمنع وقوعه في معاهد الحكومة بعد هذه العبرة ولكننا قرأنا في الجرائد قبل صدور هذا الجزء؛ أن الحريق قد وقع في نظارة النافعة وأكلت النار بعض الغرف فيها. أول ما يخطر في بال كل معتبر بهذه الحوادث؛ أن هؤلاء الحكام لا يرجى منهم إحسان الإدارة في شيء، ما داموا عاجزين عن منع الحريق أن يدمر كل يوم في عاصمتهم؛ لأن من عجز عن منع استمرار الخراب في داره كان عن تعمير الدور البعيدة أعجز. وأما أهل العبرة والبصيرة من علماء الأخلاق وطبائع العمران، فإن أفكارهم تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك كاستبانة سبب العجز عن أمر سهل كهذا، يقول بعض الناس: إن الشعب التركي شعب حربي، ليس له ملكة في الإدارة والعمران، وإنما ملكته الموروثة هي الحرب فقط، وقد يقال: إن إطفاء الحريق قد صار في هذا العصر من فنون العسكرية، فما بال القوم لا يتقنون هذا الفن منها! ! ومما تذهب إليه أفكار هؤلاء المستبصرين؛ أن رجال حكومتنا ليسوا مستقلين أو مجتهدين فيما يأخذونه عن أوربا من نظام الإدارة والقضاء وغير ذلك، وإنما هم مقلدون للأوربيين تقليدًا، وإنما يأتي الإصلاح من المستقل دون المقلد الذي يخطئ في الفهم أكثر مما يصيب، ويخطئ في التطبيق أكثر مما يخطئ في الفهم، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في مقدمة مقال (المسلمون والقبط) في هذا الجزء، فليرجع إليه من أحب التوسع في هذه العبرة، وهي الغرض الذي نرمي إليه في هذه النبذة. وجملة القول: إننا لا نبشر أنفسنا بصلاح حال حكومتنا بالفعل إلا بعد أن تتقن هذه المصلحة اليسيرة المضطرة هي إليها في عاصمتها؛ وهي مصلحة المطافئ، فتكون في الآستانة متقنة كما نراها في مصر، وعسى أن يكون ذلك قريبًا. * * * (الفتنة في اليمن) اشتدت الفتنة في اليمن وطال عليها العهد، وقد أرسلت الدولة إلى اليمن بالخميس العرمرم، وجعلت عزت باشا رئيس أركان الحرب في نظارة الحربية هو القائد العام للجيش هنالك؛ لأنه قد سبق له الحرب في اليمن، وكان الإمام قد أسره ثم أنقذه فيضي باشا، وقد اجتمع هذا القائد في جدة بأمير مكة المكرمة الشريف حسين بأمر من الآستانة، واشتهر أنه اتفق معه على طريقة التعاون على إخضاع اليمانيين للدولة، وذلك بأن يزحف الأمير بجيش من العرب وكذا العسكر المنظم الذي في الحجاز كما قيل على عسير؛ لمحاربة الإدريسي وإخضاعه ليتمكن القائد من توجيه جيشه الزاحف كله إلى محاربة الإمام يحيى، عسى أن ينتهي أمر الفتنة في وقت قريب، وهذا هو الرأي بعد أن صارت الحرب ضربة لازب في نظر الدولة. كان قد أشيع أن بين الأمير والإدريسي عداء، وأن الأمير سيحاربه بعد عودته من نجد في العام الماضي، ويظن بعض الناس أن هذا هو السبب في استعانة الدولة بالشريف على الإدريسي؛ لأنها ترى أنه لا يدخر وسعًا في التنكيل به متى قدر، كما يظنون أن سبب إرسالها عزت باشا إلى محاربة الإمام هو أنه أشد من غيره كراهة له. ويرد عن هؤلاء الظانين ظن السوء بأن سبب اختيار عزت باشا هو معرفته بأرض اليمن واختباره البلاد بالفعل، وسبب الاستعانة بالشريف هو أن يكفيها إرسال العسكر الكثير وإنفاق المال الكثير، وهي تعلم كما علم كل الناس الذين علموا ما كان منه في نجد أنه يفضل السلم على الحرب، والحلم والعفو على الانتقام، والخير للدولة إنما هو في حل هذه العقدة حلاً مرضيًا لا دخن فيه، ولا تحذر عقباه ومغبته، ونحن نرى أن هذا الأمر ممكن لمن أراده بصدق وإخلاص، كما أنه كان ممكنًا بغير دماء تسفك، ولا قناطير من المال تبذل. ولكن هكذا كان، والواقع ينسخ الإمكان، ويتمنى كل مسلم لو تنتهي هذه المسألة عاجلاً بسلام، ويكفي الله المؤمنين القتال، والرجاء في حكمة الأمير كبير، والله أكبر، وله الأمر من قبل ومن بعد. * * * (اليهود في المملكة العثمانية) خبرنا الآستانة بإقامتنا فيها سنة كاملة، فرأينا أن نفوذ اليهود في جمعية الاتحاد والترقي عظيم، وأن ناظر المالية إسرائيلي النسب، وأنه جعل كاتب سره وكثيرًا من موظفي نظارته من اليهود، فعلمنا أن سيكون لليهود شأن أي شأن في هذه المملكة، وآمالهم في القدس وفلسطين معروفة، ومطامعهم المالية في المكان يعظم نفوذهم فيه غير مجهولة، وقد أشرنا إلى ما يخشى من مغبة ذلك في أجزاء من السنة الماضية، ثم جاءت أنباء مجلس الأمة العثمانية في هذه الأيام مصدقة لما قلناه ومثبتة ما توقعناه، فقد خطب بعض النواب المستقلين والمعارضين للحكومة خطبًا، بينوا فيها خطر جمعية اليهود الصهيونية على المملكة العثمانية، وخطبًا أنكروا فيها على ناظر المالية بيعه أحسن موقع عسكري في الآستانة لشركة أجنبية بثمن دون ثمن المثل بسمسرة بعض اليهود، وهم يرون أنه يمكن بيع ذلك المكان بأضعاف ذلك الثمن، وقد دافع الصدر الأعظم في المسألة الأولى عن الحكومة وعن اليهود، ودافع جاويد بك عن نفسه في الثانية، ونحن لا نتعرض للمحاكمة والترجيح بين المجلس والحكومة وحزبها، وإنما ننبه الناس للتأمل والاعتبار. * * * (المؤتمران المصريان القبطي والإسلامي) يرى القراء مقالة في هذا الجزء عنوانها (المسلمون والقبط) ، سيتلوها مقالات أخرى في موضوعها، وقد كان تأثير المؤتمر القبطي الذي اجتمع في أسيوط أن أيقظ مسلمي مصر من نومهم الاجتماعي، ونبههم إلى ما كانوا غافلين عنه، وفتح لهم بابًا لحفظ مصالحهم ودرء الضرر عنهم كان مغلقًا في وجوههم من قبل؛ لأن القبط كانوا أوسع حرية منهم، وأكثر انتفاعًا بالحرية مطلقًا بإجماعهم على تأييد الاحتلال، وكونهم نصارى وقليلي العدد لا يخشى المحتلون جانبهم، ولذلك لم تمنعهم الحكومة من مؤتمرهم، ولم يكن يخطر لها ولا لهم ببال أن يقوم المسلمون بعقد مؤتمر آخر على أنه نتيجة طبيعية لذلك المؤتمر، فلما أرادوا ذلك لم يكن من الممكن أن تمنعهم الحكومة، وقد اختاروا رياض باشا رئيسًا له، وهو الثقة الأمين المعروف عند الوطنيين والإف

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار فتحنا هذا الباب لإجابة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة، ونشترط على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما قدّمنا متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك لمثل هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن لم نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله. (أسئلة من المحلة الكبرى) (س12 15) من صاحب الإمضاء: حضرة العالم العلامة المفضال السيد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فأرجو من فضيلتكم الإجابة عما يأتي، ولكم منا الشكر ومن الله أعظم الأجر. (س1) ما حقيقة الماسونية، ولم أنصارها يخفونها عن الناس، ومعلوم أن الحق لا يخفى، فإن كان لِلَمِّ شعث أفراد متباينة عقائدهم الدينية والجنسية والوطنية فهذا من المستحيل طبعًا، كما لا يخفى ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة: 120) وإن كان الغرض (التساوي) كما يزعمون بين أفراد البشر في جميع أرجاء المعمورة، فهو أشد استحالة من الأول. إذ إن الدين هو الذي يؤلف بين الأفراد فقط، فإن كان هذا دينًا فلن يتحمل القلب دينين الماسونية والنصرانية، وهي والإسلام مثلاً، أو هي مع اليهودية.. إلخ فيتعين أن يكون الداخل فيها مجردًا من غيرها، وعلى ذلك فكل دين غير الإسلام باطل، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} (آل عمران: 85) وإن كانت جارية على أحكام الإسلام، فلا معنى إذًا للتفريع والتسمية بهذا الاسم. (س2) على من اللوم؛ أعلى الحكومة التي بيدها الحل والربط أم على الأمة التي لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؟ وما هي التربية الصحيحة التي تعيد للدين مجده وللوطن عزه؟ التربية في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية والإرساليات التي تذهب إلى أوربا وتعود من غير دين بالمرة؟ أم التربية على مبادئ الدين، وكيف يكون ذلك؟ ومتى يستطيع المصلحون وهل يمكن. (س3) ما هي البلاد التي يعظم فيها دين الإسلام، ويقام فيها بالعمل وأهلها أشد الناس شكيمة على أعدائه. (س4) ماذا يصنع رجل أضناه حب العلم وما بلغ عمره الخامسة والعشرين، وما ترك بابًا إلا طرقه ولا سبيلاً إلا سلكه إليه، ولم يجد من يساعده، وكلما ظن في أحد عونًا تقاصرت همة المطلوب، ورجع الطالب بخُفَّيْ حُنَيْن. ... ... ... ... ... ... ... ... أفيدوني أثابكم الله ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الظاهر محمد ... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بمدارس الجمعية ... ... ... ... ... ... ... ... الخيرية الإسلامية (الماسونية) (ج1) الماسونية جمعية سياسية، وجدت في أوربا؛ لإزالة سلطة المستبدين من رؤساء الدين والدنيا (كالبابوات والملوك) ولذلك كانت سرية، فإن أهلها العاملين الساعين إلى مقاصدها كانوا على خطر من سلطة الأقوياء الذين تقاوم الجمعية استبدادهم، وتعمل لسلب السلطة منهم وجعلها في يد الشعب، بحيث يكون في يده التشريع والمراقبة على من ينصبه من الحكام للتنفيذ، فلهذه الجمعية الأثر العظيم في الانقلابات السياسية التي حصلت في أوربة، ومنها الثورة الفرنسية الكبرى من قبل، والانقلاب العثماني والبرتغالي الأخيرين من بعد، وقد كان المؤسسون لها والعاملون فيها في أوربة من النصارى واليهود، واليهود هم زعماؤها وأصحاب القدح المعلى فيها؛ لأن الظلم الذي كانوا يسامونه والاضطهاد الذي يذوقونه كانا أشد مما ابتلي به ضعفاء النصارى من أقويائهم، وكذلك كان اليهود أكثر الناس انتفاعًا من الانقلابات التي سعت إليها الماسونية في أوربة، وسيكونون كذلك في البلاد العثمانية إذا بقيت سلطة الماسونية على حالها في جمعية الاتحاد والترقي، وبقيت أزمة الدولة في يد هذه الجمعية، وهم يسعون مثل هذا السعي في الروسية، ولكن الحكومة الروسية واقفة لليهود بالمرصاد، ولا يزالون يتجرعون في بلادها زقوم الاضطهاد. وأما الماسونية في بلاد الشرق كمصر وسورية وغيرهما من البلاد، فقد يصح ما يقوله الكثيرون من أهلها أنها لا تعمل للسياسة ولا للدين وأنها أدبية اجتماعية، وقد يصح من وجه آخر أن لعملها علاقة بالسياسة والدين، لكل قول وجه يصححه فلا تناقض بينهما، هي لا تطعن في دين من الأديان ولا تبحث في ترجيح دين على دين، ولا تدعو الداخلين فيها إلى ترك دينهم ولا إلى الإلحاد، ولا تعمل الآن في مصر لتغيير الحكومة الخديوية، ولا في سورية لتغيير الحكومة العثمانية أو مقاومتها، فهذا معنى كونها ليست مناصبة للدين ولا لسياسة البلاد. وأما علاقة عملها بالدين والسياسة فمعروفة مما ذكرناه من مقصدها الذي أنشئت لأجله، فإذا لم تشتغل بالمقصد مباشرة فهي تشتغل بالتمهيد له؛ كجمع كلمة أهل النفوذ في كل بلد، وتكثير سوادهم وتقوية عصبيتهم وإضعاف رابطتهم الدينية السياسية، والانتقال بهم في الإقناع من درجة إلى درجة، حتى يتم الاستعداد بهم إلى تغيير شكل الحكومة وإزالة السلطة الدينية والشخصية، الذي هو مقصد الأخير ولو بالثورة وقوة السلاح. فالماسونية سياسية في الأصل، وتبقى سياسية في كل مملكة فيها سلطة شخصية أو سلطة دينية إلى أن تزول صبغة الدين من الحكومة واستبداد الملوك والأمراء، فحينئذ تكون الجمعية أدبية اجتماعية يجتمع أعضاؤها في المحافل؛ لإلقاء الخطب والمحاضرات والتعارف بالكبراء من الغرباء. أما اتفاق المختلفين في الدين على هذا المقصد، فهو لا يكون عادة إلا بالتدريج والاقتناع بأن المصلحة محصورة فيه، ومن طرقه الجرائد التي ينشر فيها المرة بعد المرة بالأساليب المختلفة أن محل الدين المساجد والكنائس دون الحكومات والمصالح الدنيوية، ومنها رابطة الوطنية وهي أن يكون أهل الوطن سواء في الحكومة ومصالحها وفي جميع المصالح والمرافق، ولأجل هذا ترى رجال الدين المسيحي كالجزويت يحاربون هذه الجمعية. وأما رجال الدين الإسلامي من الفقهاء والمتصوفة فقلما يعرفون شيئًا من أمور العالم، فإذا علم السائل هذا وعرف الواقع تبين له أن ما أورده من الآيات في غير محله. *** (الحكومة والأمة) (ج2) الحكومة ملومة على ما تقصر فيه مما يمكنها أن تعمله من الإصلاح، والأمة ملومة كذلك، وقد يعذر كل منهما بالجهل، إذا عد الجهل عذرًا، وإنما كانت الأمة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا؛ لجهلها بقوتها وكيفية الانتفاع بها، وقد تجهل حكومتها ذلك مثلها، أو تعرفه وتراه مخالفًا لمصلحتها، فتحب أن تبقى الأمة على جهلها، وإنما ترتقي الحكومات والأمم بالزعماء الذين يؤثرون العمل للمصلحة العامة على كل شيء، وباستعداد الأمة للاستفادة منهم والعمل بما يرشدونها إليه، والاستعداد إنما يكون بمجموع حوادث الزمان ووقائعه، وقد يتصدى للزعامة غير أهلها فيزيد الأمة وهنًا على وهن، إذا آثرته بجهلها على الأهل، وأصحاب النفوذ الباطل يناهضون كل من يرونه أهلاً للزعامة الحقيقية والنهوض بالأمة؛ لئلا يضعف نفوذهم أو يشاركهم فيه، وقد وجد في مسلمي مصر زعيم مستوف لشروط الزعامة التي ترتقي بمثلها الأمم، فلم يؤهلهم استعدادهم لاتباعه لينهض بهم، ووجد في القبط زعيم، فاجتمعت عليه كلمتهم واستفادوا منه، فازدادوا ارتقاء. *** (التربية الصحيحة والتعليم والإصلاح) (ج3) سألتم عن التربية التي تجمع بين مجد الدين وعز الوطن، أهي التربية التي في المدارس المصرية وتربية من يرسلون إلى أوربة؟ أم التربية الدينية؟ ولا شك أنكم تريدون أن التربية الدينية هي التي تفيد تلك الفائدة، وأنكم تعلمون أن المدارس المصرية من أميرية وأهلية ليس فيها تربية دينية ألبتة. وسألتم كيف السبيل إلى التربية، ومتى تكون؟ وهل هي ممكنة؟ والجواب: أنها ممكنة لا مستحيلة، وينبغي أن تكون مسعى الجمعيات الخيرية الدينية، ولا ندري متي يكون ذلك، وها نحن أولاء قد أسسنا جمعية دينية خيرية؛ لأجل التربية الدينية وتخريج المعلمين والمرشدين الذين يقومون بذلك على وجهه إن أمدنا أغنياؤنا بالمال. ولكننا نريد أن نجعل إصلاحنا خاصًّا هذا بالدين، وعمران الدنيا من طريق الأمة لا من طريق الحكومة، أعني أننا لا نريد بعملنا إصلاح حكومة من الحكومات ولا تربية الموظفين لها، وحسبنا أن نربي مرشدين يعلمون العامة عقيدتهم وعبادتهم وآدابهم الدينية، وينفرونهم من المعاصي التي تذهب بثروتهم وصحتهم، فتغتال دينهم ودنياهم؛ كالسكر والزنا والقمار والحسد والتباغض بين أهل وطنهم، وما أشبه ذلك من المعاصي الضارة، ودعاة يقيمون الحجة على حقية الإسلام، ويدفعون شبهات الطاعنين فيه، ويزيدون عدد المهتدين به. وأما الحكومة بأشكالها ومذاهبها وسياستها فإنا عنها مبعدون، ولها أحزاب من دوننا هم لها عاملون. *** (أي البلاد تقيم الإسلام وتشتد على أعدائه) (ج4) جميع البلاد التي يغلب فيها الإسلام تعظم فيها شعائره، وما يعد فيها من شعائره، وإن لم يكن منها كالموالد والاحتفالات المبتدعة والقبور المشرفة، ويعمل جمهور أهل الحضارة منها بأكثر ما يعرفون أنه لا بد منه من أعماله، ويتركون أكثر الكبائر من محرماته، وقد ترك كثير منهم بعض أركانه وأقامها آخرون؛ كالزكاة، فإن الذين يؤدونها في جزير العرب وبلاد فارس والتتار وبخارى وتركستان هم الأكثرون، والذين يؤدونها في مصر هم الأقلون، أعني من الذين تجب عليهم. وربما كان أهل اليمن ونجد أشد المسلمين استمساكًا بالدين وشدة على من يعاديهم، ولكن عمال الدولة الفاسقين قد نشروا الفسق في المدن الكبيرة التي يقيمون فيها كصنعاء والحديدة، وأما الأشداء من المسلمين على من يعاديهم في دينهم فهم الذين تغلب عليهم شدة البداوة، ولم يسر إليهم ترف الحضارة الغربية وأفكارهم؛ كأهل الغرب وجزيرة العرب والفرس والأفغان، ولكن أكثرهم لا يلتزم في شدته أحكام الدين؛ لأنهم لا يعرفونها، ولا يعرفون كيف يحفظون شرف دينهم ولا دنياهم بها على النهج الذي سار عليه الإفرنج من العقل والحزم والحكمة والنظام، حتى إن الأجانب يسلطون بعضهم على بعض وهم لا يشعرون، فتراهم يوقدون نار الحرب فيفتك بعضهم ببعض باسم الدين؛ لمخالفة عادة أو خرافة تنسب إلى الدين زورًا وبهتانًا، وربما كانوا مدفوعين إلى ذلك من أعدائهم وأعداء دينهم؛ ليمكنوا له بذلك من أرضهم وديارهم وأموالهم رقابهم. وجملة القول: إنني لا أعرف قطرًا ولا بلدًا في الأرض يقام فيه الإسلام كما أمر الله تعالى في كتابه، وعلى الوجه الذي مضت به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين، ولا على ما كان عليه المسلمون في عصر الأمويين والعباسيين والأيوبيين، فإن الفتن التي حصلت في القرون الأولى لم تفسد دين الأمة ولا بأسها، بل كانت تدور حول السلطة العليا أي حفظها في أهل بيت معين، لا تتعدى ذلك إلا قليلاً. *** (ما يصنع عاشق العلم لا يجد المساعد) (ج5) لا ندري أي علم يعشق هذا المتيم المضنى فنرشده إلى ما ينبغي له، فإن من العلوم ما يمكن تحصيله في كل مكان، ومنها ما لا يمكن تحصيله إلا في معاهده الخاصة كالعلوم والفنون التي يتوقف تحصيلها على الأعمال والتجارب بالآلات، وقلما يصدق أحد في عشق العلم وتقوى عزيمته في طلبه، ول

جماعة الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جماعة الدعوة والإرشاد (2) رئيس الشرف للجماعة صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق الجناب العالي الخديوي لما علم صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق سمو الأمير المعظم بتأسيس هذه الجماعة سر سرورًا عظيمًا، لما حلاه الله تعالى به من الغيرة على الدين، والعلم بشدة حاجة الإسلام إليه؛ لخبرته الواسعة بأحوال المسلمين، واشتغاله بالمشروعات الإسلامية كالاكتتاب لتجديد بناء جامع عمرو بن العاص الذي هو أول مسجد للإسلام في هذا القطر، صلى فيه كثير من الصحابة رضوان الله عليهم، وما اطلع عليه من ذلك في سياحاته في الشرق الأدنى والأقصى، ولذلك تفضل بكتاب يظهر فيه ارتياحه للعمل وتبرعه له بمئة جنيه مصري. وقد قرر أعضاء مجلس إدارة الجماعة بإجماع الآراء اختيار دولته رئيس شرف للجماعة، والتشرف بزيارته في قصره؛ لعرض هذا القرار عليه وشكره على عنايته وفضله، وأنفذوا ذلك في ضحوة يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر، فقابلهم الأمير - حياه الله تعالى - بما عهد فيه من الطلاقة والحفاوة، وقبل رياسة الشرف للجماعة بالشكر والعناية، ونثر عليهم من درر الفوائد التي اقتبسها من رحلته في اليابان والصين، ما زادهم بصيرة في عملهم العظيم، فخرجوا مودعين من دولته أجمل وداع، وهم ما بين مثن وداع. إنه ليسر كل عاقل مخلص في هذه البلاد وكل محب لها ولخير أهلها أن يشارك الأمراء فيها سائر طبقات الأمة في الأعمال النافعة والمشروعات العامة؛ كالجمعيات الخيرية والعلمية والدينية وإنشاء المدارس؛ لأن هذا التعاون أرجى للنجاح وأقرب إلى الحكم الذاتي طريقًا، وقد سرنا أن كان صاحب الدولة الأمير حسين كامل باشا عم الجناب الخديوي رئيسًا للجمعية الخيرية الإسلامية، والأمير أحمد فؤاد باشا رئيسًا للجماعة المصرية، فلا بدع أن نزداد سرورًا أن صار الأمير محمد علي باشا رئيسًا للجامعة الدعوة والإرشاد، وندعو الله أن يوفقه دائمًا إلى خدمة العلم والدين، وترقية شؤون المسلمين. *** عضو الشرف الأول للجماعة (الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم) زار مصر في هذا الربيع الوجيه السري، الغني السخي، الكريم ابن الكريم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، وآل إبراهيم هؤلاء أكبر تجار العرب وأجودهم ومحل تجارتهم في بمباي ثغر الهند العظيم. كان الشيخ قاسم علم بمشروع الدعوة والإرشاد وهو في الهند، فلما جاء القاهرة كان همه الأول فيها لقاء كاتب هذه السطور؛ لأجل مساعدة المشروع، فزرته في فندق شبرد فكان جل حديثنا في ذلك، وكاشفني برغبته في المساعدة، وقال لي: إن آمالنا في خدمة الإسلام معلقة بكم، فعليكم العمل وعلينا المساعدة بالمال، وسألني إلى أين انتهيتم في المشروع؟ قلت: لا يزال في طور التكوين، وقد وضعنا له النظام الأساسي، فكان كالنظام الذي وضعناه لجمعية العلم والإرشاد في الآستانة، وزدنا فيه ما يتعلق بالدعوة إلى الإسلام، وألفنا له مجلس إدارة من خيار المصريين، وقد أقروا هذا النظام بعد مراجعة ومناقشة وتحوير كما هي العادة، ولا يمكن أن نقبل التبرعات إلا بعد إصدار النظام الأساسي، وسيكون ذلك في يوم المولد النبوي الشريف. ولما رد لي الشيخ الزيارة في إدارة المنار، راجعني في مسألة تبرعه واشتراكه فيه، فسألته عن مقدار ما يحب أن يجود به، فاقترح أن يقول ذلك لي سرًّا حتى إنه لم يصرح به أمام كاتب سره المرافق له في سياحته وهو عبد الله أفندي البسام، وبيت البسام يلي بيت إبراهيم في تجار العرب الكرام. بحثت معه في سبب إخفاء ما يجود به وعدم الإذن في ذكر اسمه، فعلمت أنه الإخلاص وابتغاء المزيد من الثواب، فأقنعته بالدلائل بأن إظهار اسمه لا ينافي الإخلاص، وأنه قد يكون نافعًا من حيث يكون قدوة في الخير، وفرقت له بين الصدقة على الفقير والصدقة في المصالح العامة، فسكت ولم يظهر ارتياحًا، ثم حضر الاجتماع الذي عقده للدعوة إلى التبرع؛ لإنشاء مسجد للمسلمين في لندره عاصمة إنكلتره وهنالك دعت الحال لخطبة وجيزة في إظهار الصدقات وإخفائها ألقيتها هنالك وسيأتي ذكرها في باب الأخبار من هذا الجزء. فازداد الشيخ قاسم اقتناعًا، وبعد ذلك كاشفت إخواني أعضاء مجلس جماعة الدعوة والإرشاد باشتراكه وبتبرعه. *** (مقدار ما تبرع واشترك به الشيخ قاسم) 2000 جنيه إنكليزي تبرع ناجز 0100 جنيه إنكليزي اشتراك سنوي بلغت إخواني أعضاء مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد ما تبرع واشترك به هذا المحسن العظيم، وكان له به فضيلة السبق والمسارعة إلى هذا الخير، فأجمعنا على عقد جلسة خاصة للمذاكرة في الشكر له، وأجمعنا في تلك الجلسة على تسمية (عضو الشرف الأول لجماعة الدعوة والإرشاد) ، وعلى أن يكون باسمه مكافأة سنوية توزع على تلاميذ (دار الدعوة والإرشاد) وعلى أن نبلغه ذلك في كتاب شكر نحمله إليه بأنفسنا، وأننا نذكر ذلك الكتاب بنصه: (كتاب جماعة الدعوة والإرشاد إلى الشيخ قاسم إبراهيم) (بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله الذي قدر فهدى، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، وجعل إنفاق المال في سبيله، أول آيات صدق الإيمان به، فقال عز وجل: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) والصلاة والسلام على إمام المصلحين، وخاتم النبيين والمرسلين، سيدنا محمد النبي العربي الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وأتم به النعمة وأكمل الدين، وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دعوته، وأقاموا سنته، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين. من جماعة الدعوة والإرشاد بمصر، إلى السابق إلى الخيرات بإذن الله، المسارع إلى المغفرة ورضوان من الله، المساعد على إحياء الدعوة إلى الله، السخي الكريم، المحسن العظيم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم التاجر العربي في بمباي من الهند، ونزيل مصر الآن، زاده الله نعمة وتوفيقًا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، فقد بلغ الجماعة وكيلها السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ما وفقكم الله تعالى له من التبرع لها بألفي جنيه ناجزة، والاشتراك فيها بمئة جنيه مسانهة، فاجتمع مجلس إدارتها اجتماعًا خاصًا للمذاكرة في كيفية الشكر لكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) . وقرر باتفاق الآراء تسميتكم (عضو الشرف الأول) في هذه الجماعة، وأن يجعل باسمكم مكافأة سنوية لطلاب مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) لتكون ذكرى دائمة؛ لسبقكم إلى المشاركة في تأسيس هذا العمل الذي يراد به خدمة العالم الإنساني، بنشر الدين الإسلامي، دين الفطرة والمدنية، الجامع بين أسباب السعادتين الدنيوية والأخروية، وقرر تبليغكم ذلك في كتاب شكر يوقع عليه أعضاء المجلس، ويحملونه إليكم بأنفسهم، وها هو ذا فتقبلوه محمودين مشكورين، ولا زلتم موفقين لما ينفع الناس ويرضي الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله. وكتب في القاهرة لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثلاث مئة وألف من هجرة الداعي إلى طريق الحق. *** عناية مولانا الأمير أيّده الله تعالى بالشيخ قاسم آل إبراهيم بلغ مولانا العزيز أيده الله تعالى أن هذا السري العربي، الكريم الغيور على الملة والدولة، قد زار مصر في هذه الأيام سائحًا، وأنه هو الذي أعطى وجمع المال الكثير لسكة الحجاز الحديدية وللأسطول العثماني، وأنه قد تبرع الآن لجماعة الدعوة والإرشاد بمبلغ كبير واشترك فيها، فارتاح سموه لذلك وسر به، وأجدر بسموه أن يرتاح لخدمة دينه القويم ونجاح المشروعات العلمية الخيرية في البلاد العثمانية وفي قطره السعيد، ومن أجدر من سموه بمعرفة قيمة كبار الرجال العاملين، وكرام الأجواد المحسنين؟ وقد أظهر الارتياح للقاء ضيف مصر الكريم، وعين الوقت لذلك فتشرف الشيخ قاسم بمقابلة سموه مقابلة خاصة في قصر القبة، وكان بصحبته كاتب هذه السطور، فمكثنا زهاء ثلثي ساعة في حضرته، لقي فيها ضيف مصر الكريم من حفاوة عزيزها العظيم وإقباله وعطفه، ما ملأ قلبه غبطة وسرورًا، وقد كرر له الأمير عبارات الشكر البليغة المؤثرة، ورغب إليه أن يبلغ سموه كل ما يريد من مساعدة، حتى قرأت في وجه الشيخ آيات تأثير كلام الأمير وتواضعه، وسأله عما رآه من آثار مصر، فعلم أنه لم ير القناطر الخيرية، فقال: إنني سآمر بإعداد باخرة من بواخر النيل الخديوية لكم، تركبونها إلى القناطر للنزهة ورؤية هذا العمل المصري العظيم الذي هو ركن من أركان ترقي الزراعة والثروة في هذه البلاد (وسموه حقيق بأن يفخر بهذه القناطر التي هي من أفضل ما عمل جده الأعلى؛ من أسباب عمران هذه القطر) ثم انصرف الشيخ من حضرة الأمير وهو يردد الدعاء والثناء. *** (الحفاوة بالشيخ قاسم آل إبراهيم) كان يوم الجمعة ثامن ربيع الآخر موعد زيارة أعضاء مجلس (جماعة الدعوة والإرشاد) للشيخ قاسم، وموعد النزهة النيلية في الباخرة الخديوية، اجتمع إخواننا الأعضاء في إدارة المنار بعد الظهر، وكان كتاب الشكر الذي نشرنا نصه آنفًا قد كتب بخط جميل فوقعوه بأيديهم، وتخلف منهم محمد لبيب بك البتنوني فقط؛ لأنه كن منحرف الصحة. ثم قصدنا فندق شبرد، فلقينا الشيخ ينتظرنا في بهو الحجرات التي يقيم فيها من الفندق، فقدمت له أخانا الرئيس محمود بك سالم وهو عرفه بسائر الأعضاء، وتلا أحدنا كتاب الشكر وأعطاه للرئيس، وقدمه الرئيس للشيخ، ثم ذكرنا للشيخ قاسم أن هذا الوقت هو موعد النزهة النيلية التي أكرمه بها الأمير، وأنه أذن للشيخ أحمد زناتي أن يبلغ إخوانه أعضاء جماعة الدعوة والإرشاد أن يكونوا معه في هذه النزهة، فأجاب شاكرًا. ركبنا السيارات الكهربائية (الأتموبيلات) من أمام الفندق إلى ساحل روض الفرج، حيث كانت السفينة الخديوية راسية، فركبنا فيها باسم الله مجراها ومرساها، ولما توسطت المسافة بين روض الفرج والقناطر، نصبت مائدة الشاي وما يتبعه من اللبن وأنواع الحلوى والفطير والمثلوجات، فأصاب كل من الضيف الكريم والجماعة ما شاء منها. وأرست السفينة أصيل ذلك النهار الجميل عند حديقة منتزه القناطر، فخرجنا وطفنا بالضيف الكريم القناطر كلها، ودخلنا الدار التي فيها مثل ونماذج أعمال الري في القطر المصري، ثم عدنا إلى السفينة عند الغروب، فعادت بنا إلى ساحل البلد. وقد رغب الشيخ قاسم إلى الشيخ أحمد زناتي عند وداعه أن يبلغ الأمير شكره ودعاءه على هذه العناية به، ونحن أولى بالشكر والدعاء، فنسأل الله تعالى أن يديم التوفيق لأميرنا، وأن يحسن جزاء هذا المحسن إلى جماعتنا. *** الرابطتان الإسلامية والوطنية (وجماعة الدعوة والإرشاد) أتى على المسلمين حين من الدهر وهم أعلى أهل الأرض حياة، وأشدهم قوة ومنعة، وأكثرهم خيرًا ونائلاً، وأوسعهم كرمًا وفضلاً، ثم قضت سنن السكون أن يكون من بعد تلك القوة ضعف، كاد يكون موتًا زؤامًا، وقد دبت فيهم الآن حياة جديدة، تتنازع رابطة الإسلام فيها روابط أخرى كالجنسية الوطنية واللغوية. من آيات هذه الحياة الجديدة تبرع الشيخ قاسم إبراهيم بألفي جنيه لجماعة الدعوة والإرشاد، استكبر هذا السخاء كبراء المسلمين بمصر وغير مصر واستكثروه، استكبروا أن يعطي مسلم مالاً كثيرًا ل

المسلمون والقبط ـ النبذة الثانية، الثالثة، الرابعة، الخامسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسلمون والقبط (النبذة الثانية) عجبنا من الحركة القبطية الأخيرة وحق لنا العجب، وأن نبحث عن العلة والسبب، شرذمة قليلة في أمّة كبيرة تأكل من ثمراتها زهاء ثلاثين من المئة، وهي زهاء خمسة أو ستة في المئة، ثم تتصاعد زفراتها، وتتعالى نبآتها وهيعاتها: قد ظلمنا المسلمون في وطننا، وهضموا حقوقنا لأجل ديننا، وتستنجد جرائد أوربة وقسوسها ليلزموا الدولة الإنكليزية أن تنصر الفئة القليلة لأنها مسيحية، على الفئة الكثيرة الإسلامية، أليس خطبها من أهم ما يبحث عنه، ويبين وجه الصواب فيه؟ ليعلم لماذا لم ترض بما كانت تأكله من حقوق غيرها بالهدوء والسلام، حتى اختارت هذا اللدد في الخصام. *** (بطرس باشا غالي) بلى.. كان لهذه الفئة زعيم عظيم يأخذ بحجزها، ويمسكها إذا هبت رياح الطيش فهمت أن تطير بها، ويحل جميع مشاكلها، ويقودها بالحكمة إلى أمانيها ومقاصدها، مراعيًا سنن الاجتماع التي أشرنا إليها في صدر النبذة الأولى من هذا المقال، فلما اخترم ذلك الزعيم العظيم، لم يكن له خلف في عقله وحكمته، ورويته وحنكته، فتصدى للزعامة مثل جندي إبراهيم وشنودة وأخنوخ فانوس ممن لا بضاعة لهم إلا شقشقة اللسان، والقدرة على إثارة الأضغان، وكانت العاصفة بفقد الزعيم شديدة فطارت بالقوم، ولم تقع بهم على ما يستقرون عليه إلى اليوم. ذلك الزعيم هو بطرس باشا غالي الذي كان صخرة القبط التي ترتد عنها قرون الوغول واهية، وتبنى عليها كنيسة مصالحهم فتكون ثابتة راسخة، وكان أكبر ما أعده من آيات ترقيتهم، معرفتهم قيمة زعيمهم وخضوعهم لزعامته، وإعلاؤهم لكلمته. بلغ من دهاء هذا الزعيم القبطي أن جمع بين الضدين، ووضع نفسه موضع الثقة من السلطتين، فكان - والأمير والعميد راضيان عنه - يقدم ما يشاء غير هياب ولا وجِل، فإذا أراد أمضى، وإذا قال فعل. كانت سهام متحمسي الوطنية من المسلمين تسدد إلى المسلمين من نظار الحكومة وكبار رجالها دونه، على علمهم بعصبيته لطائفته وتقديمه إياهم على المسلمين، منذ كان وكيلاً لنظارة الحقانية إلى أن صار رئيسًا للنظار. وهو الذي أمضى وفاق السودان بعد أن امتنع عنه مصطفى باشا فهمي، وقال: إنه حق الدولة العلية دوننا، وهو الذي رأس محكمة دنشواي؛ لأنه كان نائبًا عن ناظر الحقانية، ولم يحدث في مصر منذ كان الاحتلال إلى اليوم ما آلم المسلمين وهيج قلوبهم مثل هذين الأمرين، ولم تكتب أقلامهم أشد مما كتبته فيهما. وكان من عجائب سيرة بطرس باشا أنه سلم من أسنة أقلامهم، وأسلات ألسنتهم، فبقي عرضه وافرًا لم يكلم، وشرفه مصونًا لم يثلم، على حين وزراء المسلمين وكبراؤهم يفرى أديمهم، وتؤكل بالغيبة والغميزة لحومهم. يحفظ المسلمون على بطرس باشا أمورًا كثيرة في الاهتمام بطائفته وتقديمها، وقد سألت مرة صديقًا لي من كبراء الإنكليز الذين كانوا موظفين في الحكومة المصرية؛ أيتعصب بطرس باشا للقبط ويؤثرهم على المسلمين كما يقال؟ قال: نعم.. قلت: أيفعل ذلك غيره من النظار المسلمين والرؤساء فيقدمون المسلم على غيره، قال: لا.. ولكن أيهم أحسن؟ ؟ لما كانت واقعة المحاكم الشرعية، وأرادت الحكومة أن تجعل في المحكمة الشرعية العليا عضوين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، هاج المسلمون في مصر، وحملوا على الحكومة حملة منكرة في الجرائد، واجتمع علماء الأزهر أول مرة للإنكار على الحكومة، وكان من المتحمسين المشهرين بالحكومة من يتهم الأستاذ الإمام بالرضى بالمشروع وتأييد الحكومة فيه، فسألته عن ذلك، فعلمت منه أنه سعى في مقاومته سرًّا جهد طاقته؛ لأنه يضر ولا يفيد المطلوب، وقال: إن الواضع الحقيقي له هو بطرس باشا لا ناظر الحقانية الذي يلعنه الناس، ومن مقاصد بطرس باشا فيه التمهيد لإلغاء المحاكم الشرعية، وجعل الحكم في الأمور الشخصية من خصائص المحاكم الأهلية؛ لأن طلبة الحقوق يتعلمون الفقه الإسلامي، فهو يريد أن يتعود المسلمون بالتدريج حكم لابسي الطرابيش في القضايا الشرعية، حتى لا يبقى للمسلمين في الحكومة المصرية شيء من المشخصات الملية. قاوم الشيخ الباشا في ذلك بمثل سيعه إليه، وكان كل منهما صاحبًا للآخر عارفًا لقيمته. على ذلك كله، كان بطرس باشا آمنًا في سربه، عزيزًا في قومه، محترمًا من المسلمين، يزوره حتى كبار علمائهم ورجال الدين فيهم، ولم يعلم أحد ما خبأه له القدر، حتى حمي الأمر وقضي الأجل. بينا فيما سبق أن الإفرنج يعنون بفرنجة غيرهم ليجذبوهم إليهم، وأن الضعيف يقلد القوي فيما يسهل التقليد فيه أولاً ثم في غيره، وأن نغمة الوطنية في مصر هي من هذا الباب، وأن المتحمسين فيها صاروا لا يفرقون بين الوطنيين لأجل الدين، حتى كان منهم من يرضى أن يكون أمير البلاد قبطيًّا، وكان من هؤلاء الوطنيين المتفرنجين شاب عصبي المزاج اسمه إبراهيم الورداني، تعلم في أوربة، فكان من حظه في التفرنج قراءة أخبار الفوضويين الذين يجعلون أنفسهم فدية لوطنهم، ولما صار بطرس باشا رئيسًا للنظار، وكان أهم ما حدث في وزارته مشروع تجديد امتياز قنال السويس، وقامت الجرائد الوطنية تشرح ضرر المشروع وغبن مصر فيه، وفائدة الشركة منه، اندفع إبراهيم الورداني بما اقتبسه من تعاليم أوربة وتربيتها لا الأزهر الذي ربما كان لم يدخله قط، ورصد خروج بطرس باشا من نظارته، وأطلق عليه الرصاص جهرًا فأصابه، ولم يلبث أن قضى نحبه، ولم يفر الجاني ولا أنكر بل صرح بأنه تعمد قتله؛ لأنه اعتقد أنه جان على وطنه بوفاق السودان ومحكمة دنشواي المخصوصة من قبل، وأنه يريد أن يجني عليه الآن بمشروع قنال السويس. فعل الورداني فعلته، فحكم عليه بالإعدام فأعدم شنقًا، كبر الخطب على القبط وحق لهم ذلك. ولكن المسلمين لم يقصروا في مشاركتهم في كل شيء من تشنيع الجناية، وتشييع الجنازة، وتأبين الفقيد ورثائه، بما لم يرثوا ولم يؤبنوا بمثله وزيرًا مسلمًا من قبله، اشترك في ذلك أمراؤهم وعلماؤهم، وكتابهم وشعرائهم، دع رجال الحكومة من جميع الطبقات؛ فقد كان الفقيد رئيسًا لهم. كل ذلك لم يرضِ القبط، بل أرادوا أن يأخذوا مسلمي القطر كافة بذنب الورداني، فطفقوا يكتبون ويستكتبون بعض المتعصبين من المشاركين لهم في الدين باتهام المسلمين بالتعصب الديني، وجعل الجناية اعتداء من الدين الاسلامي على الدين المسيحي وأهله؛ لاعتقادهم أن هذا هو محل الضعف من المسلمين، وموضع التأثير في تهيج الإنكليز وسائر الاوربيين عليهم؛ لاتفاق الجميع على أن لا يتركوا للمسلمين شيئًا من المقومات ولا من المشخصات الملية، لما بيناه في فاتحة النبذة الأولى من الأسباب الاجتماعية. قابل المسلمون كل هذا العدوان بالحلم، فاستضعفهم القبط وأسرفوا في الطعن والقدح في جرائدهم، وأوفدوا إلى إنكلترة من ينوب عنهم في إقناع الجرائد الإنكليزية والنواب الإنكليز ورجال الدين والحكومة في لوندرة؛ بأن القبط مظلومون مغبونون في مصر لأجل دينهم ووالوا ذلك، وأدمنوه سنة كاملة، احتفلوا في خاتمتها بذكرى فقيدهم العظيم، وكان يظن أن المسلمين لا يشاركونهم في هذا الاحتفال بعد تلك الغارة الشعواء في جريدتي الوطن ومصر على الكتب العربية والآداب العربية والديانة العربية (الاسلامية) ، ولكن المسلمين كذبوا الظن، فهرع علماؤهم وكبراؤهم الى مدفن الفقيد وكنيسة طائفته، وأبنوه بالنثر والنظم وأطروه أشد الإطراء، فكان من اللائق المعقول أن تقف القبط عند هذا الحد من الظفر، وتواتي طلاب الصلح من المسلمين الذين اعتذروا عما كتبه القبط من سوء القول؛ بأنه رأي أفراد منهم لا يؤخذونهم بشذوذهم فيه. *** (المؤتمر القبطي وتأثيره) لو كان للقبط زعيم عاقل كذلك الزعيم الذي فقدوه، لما سمح لهم بذلك التقحم الذي تقحموه، ولو كان لهم زعيم له نصف عقله وحكمته، لأوقفهم عند الحد الذي انتهى به الحول بعد مصرعه، عملاً بتحديد لبيد لمدة الحزن والرثاء ولكنهم بعد انتهاء الحول، وبعد تلك المجاملة من المسلمين في الاحتفال التي عدها المتزاحمون على الزعامه فيهم ضعفًا ومهانة، انبروا إلى تصديق أقوال جرائدهم بالعمل، فألفوا مؤتمرًا قبطيًّا عامًّا في أسيوط التي سماها بعضهم (عاصمة القبط) ؛ لإثبات الغبن الذي أصابهم وبيان المطالب القبطية التي يريدون بها مساواة المسلمين، وأولها: أن تسمح الحكومة للموظفين منهم بترك العمل يوم الأحد، وتسمح للتلاميذ منهم في مدارسها بترك الدراسة فيه أيضًا؛ لأن دينهم يحرم عليهم العمل فيه، وقد تقدمت الإشارة إلى غير ذلك من مطالبهم التي يسمونها حقوقًا لهم، وليس من غرضنا شرح ذلك وبيان حقه من باطله بالتفصيل، وإنما مرادنا بيان هذه المسألة الاجتماعية بالإجمال. توالى الوخز والطعن على جسم الشعب الإسلامي مدة سنه كاملة، فلم يكد يشعر به ولا استيقظ من منامه، فلما سمع صيحة المؤتمر القبطي الشديدة المؤلفة من أصوات الألوف من الشاكين، هب من نومه مذعورًا، فرأى أن الجسم الصغير الذي كان يعده عضوًا منه قد انفصل وصار حيًّا بنفسه، ممتازًا بمقومات ومشخصات خاصه به، سماها (قبطية) ، وسمى ما بقي للجسم الكبير من المقاومات والمشخصات (إسلامية) ، وهو يريد أن ينتزعها كلها منه، ويجعله تابعًا له عملاً بقاعدة {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً} (البقرة: 249) فعز عليه ذلك، واستعد للدفاع عن نفسه. نعم.. رأى المسلمون أن البلاد بلادهم، والحكومة حكومتهم، والشريعة شريعتهم، وأن غيرهم لم يكن له في مصر وجود حتى يكون له حقوق يؤبه لها؛ لأن هؤلاء الأغيار كالنقطة السوداء في الثور الأبيض أو النقطة البيضاء في الثور الأسود. ولكنهم بتساهلهم وإهمالهم قد شاركوا هؤلاء الأغيار في حكومتهم وفي جميع مصالحهم العامة والخاصة، حتى صارت إدارة أملاكهم وعقاراتهم وأوقافهم الأهلية كلها بأيدي أولئك الأغيار. ثم أرادهم أولئك الأغيار على أن لا يذكروا اسم الإسلام والإسلامية في أمور الحكومة ولا غيرها من المصالح العامة؛ لأن ذلك ينافي المدنية العصرية، فرضوا، وصاروا يترنمون باسم الوطنية والمصرية، ويقولون: نحن مصريون قبل كل شيء، ويعدون المسلم غير المصري دخيلاً بينهم. بل رأوا أنهم قد انجذبوا إلى القبطية، وصاروا يفخرون في جرائدهم وخطبهم وأشعارهم بفرعون الذي لعنه الله تعالى على لسان موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم أجميعن، وأخبر تعالى أنه استخف قومه فأطاعوه، واستعبدهم واستذلهم، وكان من أغرب ما وقع في هذا الباب أن شاعرًا مسلمًا نظم قصيدة في عيد السنة الهجرية، وأنشدها في احتفال عظيم، فافتخر فيها بأنه هو وقومه من آل فرعون، ولم يفتخر بالنسبة إلى صاحب الهجرة الشريفة، ولا بآله وأصحابه الذين يفتخر بهم الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، فكيف تجمعون أيها المفتخرون بآل فرعون بين هذا الفخر وبين قول ربكم فيكم: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر: 46) . بل رأى هؤلاء الذين استيقظوا من المسلمين أن مقومات حياتهم المعنوية التي هم بها أمة؛ قد تزلزل بعضها وزال بعض، فصارت السلطة التشريعية في بلادهم بأيدي الأغيار والنفوذ الأدبي في أيديهم، حتى

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (الرحلة الحجازية) (لولي النعم الحاج عباس حلمي باشا الثاني خديوِ مصر) في سنة 1327 حج إلى بيت الله الحرام عزيز مصر عباس حلمي الثاني، وقد أخذ في صحبته طائفة من العلماء والأدباء والكتاب، منهم صديقنا محمد لبيب بك البتنوني الشهير صاحب (الرحلات) المشهورة، فكتب في ذلك (الرحلة الحجازية) وأودعها من الفوائد، ووصف الآثار والمشاهد، وتاريخ الأماكن والمعاهد، ونظام القوافل والمسالك، وأحكام وحكم المناسك، ما لا تجده مجموعًا في كتاب، ورتب ذلك في الرحلة أجمل ترتيب، وفصل الكلام فيه أحسن تفصيل، وجعل فيها من رسوم المعاهد المقدسة ما زادها حسنًا وجمالاً، وزاد ما فيها من الوصف والبيان إيضاحًا، ففيها بعد رسم الأمير الذي وضع قبل الديباجة رسم ميناء جدة، فرسم صلاة الجمعة في الحرم المكي ترى الألوف فيه مستديرين حول الكعبة المشرفة، ثم رسم جبانة المعلى، وباب الصفا من أبواب الحرم، ورسم آخر للكعبة والحرم في وقت الصلاة وغير وقت الصلاة، ورسم قافلة الحجاج بين منى وعرفة، والحجاج بخيامهم في عرفة، ورسم جبل عرفات ومنظر رمي الجمار، ومسجد الخيف بمنى، وموكب الخديوي ذاهبًا لزيارة الشريف، ورسمه بين حاشيته من رجال الملكية والعسكرية، ومنظر المدينة المنورة، وباب السلام بالحرم النبوي من داخل الصحن، والقبة النبوية وباب الرحمة فيه، وغير ذلك من الرسوم الشمسية، وفيها رسوم غير شمسية وعدة خرائط للبلاد المقدسة وغيرها؛ كخريطة العالم الإسلامي، وخريطة مكة، والحرم المكي، وعرفات ومنى والطرق إلى الحرمين، ومساكن المدينة، ومنظر المدينة المنورة نفسها. ومن مباحث الكتاب المهمة بحث كسوة الكعبة، والمحمل، واحترام الأحجار وتقديسها في الأمم، والحج عند الأمم المختلفة، ومنع الأجانب من دخول الحرمين، ومشاعر الحج قبل الإسلام، وأصل لباس الإحرام، وماضي المدينة وحاضرها، والكلام على المحاجر الصحية، وسكة الحديد الحجازية، والآثار القديمة بالشام، ومدينة بطره. وجملة القول أن هذه الرحلة جديرة بأن تكون ذكرى وتاريخاً لحج أمير مدني كعزيز مصر، التي هي في مقدمة البلاد الإسلامية مدنية وارتقاء، وقد طبعت طبعًا نظيفًا يليق بها. ويجدر بنا ههنا أن نقول كلمة في حج الأمير، فقد سبق لنا أن أنكرنا في المنار على ملوك المسلمين وأمرائهم ترك فريضة الحج إلى بيت الله الحرام. والظاهر من حالهم أنهم قد تركوا هذا الركن من أركان الإسلام عمدًا، وأنهم وطنوا أنفسهم على تركه لا أنهم ينوون أداءه، ويتساهلون فيه بالتراخي حتى يدركهم الموت، وإلا لاتفق لبعضهم أداؤه. وأكثرهم يعرفون أن ترك الحج عمدًا فسق واستحلاله كفر. وإن للسياسة السوءى تأثيرًا في ذلك. وقد كان من مزايا أمير مصر عباس حلمي الثاني تشوقه إلى الحج، وكان استأذن عبد الحميد في أيام سلطنته بذلك فلم يأذن له، ولم يكن من المستطاع أن يحج بدون إذنه، فلما زالت دولة عبد الحميد، وصارت الدولة دستورية لا يمكنها منعه من الحج، بادرإلى أداء هذه الفريضة. كان نبأ حج أمير مصر في عاصمة الدولة عظيمًا، حتى إنه كان مما يخطر على بال المطلع على ما هنالك أن الحكومة لو وجدت سبيلاً لمنعه منه لسلكتها، والظاهر أنه لم يحفل بالأمارات ولا بالإشارات التي علم منها كراهتها لذلك، وكان حجه حديث الآستانة وموضع بحث وتعريض في جرائدها حتى الهزلية المصورة منها، وقد سمعت هنالك حديث الوزراء وغيرهم في ذلك، وسألني الكثيرون عن رأيي فيه، بعضهم صرح بالسؤال واكتفى بعضهم بالتلويح والتعريض، وقال لي الصدر حسين حلمي باشا يقولون لي كلامًا كثيرًا عن حج الخديوِ، وأنا لا أصدق أن له مقصدًا سياسيًّا. فذكرت له وكذا لناظر الداخلية وغيرهما أنني أعتقد أنه ليس له غرض سياسي، وأعلم أنه كان ينوي الحج منذ سنين، وأنه استأذن السلطان عبد الحميد في ذلك فلم يأذن له، وأنني قد ذكرت هذا في المنار وفي تفسير القرآن قبل الدستور، وسألني غير واحد هنالك هل الخديو متدين حقيقة يحج تدينًا؟ فأجبت بأن المعروف المشهور أنه يصلي ويصوم ولا يشرب الخمر قط، وهل الحج إلا فريضة كالصلاة والصيام؟ صفحات الرحلة 266، وثمن النسخة خمسة وعشرون قرشًا ما عدا أجرة البريد. (كتاب التوحيد) يشتغل صديقنا الشيخ حسين والي المدرس في الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي بتأليف كتاب في علم الكلام سماه (كتاب التوحيد) ، وقد تم الجزء الأول منه وطبع على ورق جيد، افتتح مقدمة الكتاب ببضع آيات من أول سورة التغابن جامعة لأصول العقائد وهي: الإيمان بالله والوحي إلى الرسل واليوم الآخر، ثم قال: أما بعد فهذا (كتاب التوحيد) الذي رأيت أن أكتبه لتلاميذي الكبار في مدرسة القضاء الشرعي، أخذت في تأليفه درسًا درسًا، فكان كتابًا منجمًا، وسلكت فيه سبيل المؤمنين، وهي سبيل ِالجمهور من أهل السنة. ولكني نظرت إلي خصمهم من ستر رقيق، واطلعت على حجج الفريقين، ووزنتها بميزان النصفة والعدل، فثقلت موازين قوم وخفت موازين آخرين، وكنت على أريكة الحكم مع اليقظة والاستقلال، وذلك أشرف المناصب. وما كنت بدعًا في هذا الأمر، فقد سبقني إليه مثل القاضي البيضاوي فنزعت منزعه. ولكن على قدر حاجة التوحيد ومساغه، وذلك رأي مدرسة القضاء الشرعي؛ لأنها لم تجد خيرًا من ذلك في الحالة الراهنة، بيد أنه شعب الطرق كثيرًا وما شعبتها، ولما سار فيها أخذته الحيرة أحيانًا وما أخذتني، وهاب من يصدون عن السبيل وما هبت؛ لأني أعددت لذلك عدتي، والعدة في هذا الزمان أكمل منها في الزمان الماضي، وتلك سنة الله في الأشياء، فإن الأشياء تتقدم إلى الصلاح والكمال بتقادم الزمان، والحازم من ركب لكل حال سيساءها، ولبس لكل حرب لبوسها. إن كل طائفة من (كتاب التوحيد) تشرح صدرك، وتترك في نفسك أثرًا صالحًا، لا يعقبه مرض في القلب، ولا غشاوة على البصر، وتؤذنك بأن الذي خلق الأول خلق الآخر، وأن العقول جنس واحد، وأن الهالك فيما مضى لم يشهد الزمن الذي بعده، وأن الحي الآن قد شهد الزمنين، فهو أوسع علمًا، وأسد رأيًا. قد خلت من قبلنا أمم، وأصبحنا في جيل غير جيل، وعدوّ غير العدوّ، فاتركونا أيها الجهلاء نقاتل عدونا بمثل سلاحه، وإلا فادعوا آبائكم الأولين. {إِن تَدْعُوَهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) . هذا كتاب الله يقيم الشهادة إلى يوم القيامة، فينصفني في قوله، ويؤيد حجتي، وعما قليل يفاجئ نوره الأبصار، ويقرع وعظه الأسماع، ويسكن يقينه الأفئدة , ثم تكون له السيطرة التامة، فيرجع الناس إليه في العلم وغيره. {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) ا. هـ. هذا ما بين به المصنف غرضه من الكتاب وطريقته التي يسلكها، وحبذا الطريقة وحبذا البيان، وخير منه الوفاء به، ولما نقرأ الكتاب. ولكننا نشير إلى ملخص فهرسه. جاء بعد تلك الفاتحة بفصول وجيزة في (أطوار التوحيد) يعنى تاريخ العقائد، ثم بفصول في (مبادي التوحيد) يعنى مبادي هذا العلم كموضوعه ومسائله واستمداده، ثم بفصول في (النظر) ، والمسائل العامة عند المتكلمين، فتكلم عن الممكن والوجود، والعدم والحال، والوجوب والامتناع، والإمكان والقدم، والحدوث والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، والدور والتسلسل والماهية. هذه أمهات مسائل الجزء الأول الذي صدر من هذا الكتاب، وهو مرتب ترتيبًا حسنًا، ومطبوع على ورق جيد، وصفحاته365 من قطع رسالة التوحيد، وثمن النسخة منه خمسة عشر قرشًا. (كلمة التوحيد) عقيدة للشيخ حسين والي صاحب كتاب التوحيد، ألفها لتلاميذ السنة الأولى من القسم الأول من طلاب مدرسة القضاء الشرعي، كما ألف ذلك الكتاب المطول لتلاميذ القسم الثاني. وقد بدأ هذه العقيدة بكلام وجيز في تاريخ التوحيد وأمهات العقائد وكتبها وعقائد العوام، والحديث المتواتر فيها، وأحكام العقل الثلاثة، وأهل السنة والمعتزلة والدور والتسلسل، ثم تكلم في الصفات وتعلقها، والنبوة والإمامة، وذكر الإسراء والمعراج والرؤيا، ثم السمعيات والكلام في هذه العقيدة على الطريقة المعروفة في كتب المتأخرين من السنوسي ومن بعده، ولكن الترتيب أحسن والعبارة أجلى. *** (تمرين الإملاء، في الخلق والأدب واللغة والإنشاء) للشيخ حسين والي كتاب اسمه الإملاء في علم الرسم سبق لنا تقريظه، وقد قرر تدريس ذلك الكتاب في الأزهر وفي مدرسة القضاء الشرعي ودار العلوم وكلية غردون. ولكن ينقص ذلك الكتاب كثرة الشواهد والأمثلة التي يتمرن بها الطلاب جريًا على الطريقة الحديثة في التعليم، لهذا وضع مؤلفه كتابًا خاصًّا لذلك؛ إنجازًا لما وعد في آخر كتاب الإملاء، ولم يجعل تمرينه كلمات مفردة ولا جملاً منثورة مختصرة، بل جاء بنبذ في الأخلاق والآداب من مختار الشعر، فجمع فيه بين الفائدتين، وقد طبع على ورق جيد وصفحاته 304. (مذاهب الإعراب وفلاسفة الإسلام في الجن) توجهت همة صديقنا الشيخ جمال الدين القاسمي عالم الشام المشهور إلى جمع ما تفرق في الأسفار العربية الكثيرة من الأقوال في الجن، فجمعها من عشرات من المصنفات، ورتبها ترتيبًا حسنًا، فذكر آراء علماء اللغة، ونقولهم في مواضع الجن ومراتبها، والغول والهاتف والاستهواء والعزيف والصرع والطاعون، وما نسب إلى الجن من الأعمال، ثم ذكر أقوال المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين في الجن، وختم الكلام في تمثل الأرواح، وكون الجن من الأرواح، وما جاء من علماء الإفرنج في ذلك مترجمًا من معجم لاروس الفرنسي ودائرة المعارف البريطانية، وفي مسألة التعزيم ودعوى سكنى الجن في الخرائب وغير ذلك. وقد نشر ذلك كله في مجلة المقتبس، ثم طبعه على حدته وهو مفيد في بابه لا يستغني عنه من يريد تمحيص هذا المبحث، وفي هذه الرسالة من الفكاهة والأدب وغرائب الروايات عن الجن ما يلذ لكل قارئ، فهي رسالة قد جمعت بين اللذة والفائدة.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مسجد في لوندره) لوندره عاصمة دولة إنكلترة أكبر مدينة في الأرض، وأكثرها ساكنًا، وهى لا تخلو من عدد كبير من المسلمين؛ ما بين مقيم وزائر، ومتعلم ومتظلم ومتجر, فإن زهاء نصف مسلمي الأرض تحت سلطان هذه الدولة ونفوذها، منهم في الهند وحدها تسعون مليونًا من النفوس بحسب إحصاء هذه السنة. اجتماع المسلمين وتعارفهم في تلك العاصمة له فوائد كبيرة، ولا يتيسر لهم ذلك في مدينة سكانها ستة ملايين أو يزيدون، إلا إذا كان لهم معهد معروف يؤمونه من كل جهة، ولهذا رأى بعض المفكرين أنه ينبغي للمسلمين أن يبنوا لهم مسجدًا هنالك، ويبنوا بجانبه ناديًا للاجتماع والخطابة، ويجعلوا فيه مكتبة للمطالعة. سبق أذكياء المسلمين إلى هذا الرأي من ليس منهم، وأنفذه لمنفعته لا لمنفعتهم وأراد غيره أن يعمل مثل عمله في باريس، فقد ذكرنا في ص479 من مجلد المنار الثامن (سنة1323) أن الخواجة ليون لامبير كان رغب إلينا أن نقنع الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بأن يجعل (مشروع بناء مسجد بباريس) تحت رياسته، وكان الأستاذ مريضًا فلم نحدثه بذلك، وبعد وفاته بلغنا أنه التمس من شيخ الأزهر أن يجعل هذا المشروع تحت رياسته، فقبل ولم نعلم ماذا كان بعد ذلك. ذكرنا هذا الخبر في ذلك المكان أي منذ ست سنين، وعقبنا عليه بأننا نرجو أن لا يكون مسجد باريس كمسجد لوندره الذي حدثنا الأستاذ الإمام عنه بما يأتي، قال رحمه الله تعالى: خطر لرجل يهودي كان مستخدمًا في الهند أن يجمع من المسلمين مالاً، يبني به مسجدًا في لوندره، فجمع خمسين ألف جنيه، ثم جاء لوندره فبنى مسجدًا في خارجها على مسافة ساعة في السكة الحديدية، وهو مكان لا يصل إليه أحد من المسلمين في لوندره، فهو مغلق دائمًا لا يصلي فيه أحد، وقد اشترى الرجل أرضًا لنفسه عند الجامع، وبنى فيها بيتًا لنزهته، فإذا علم أن بعض أمراء المسلمين أو أغنياءهم زار لوندره، يبحث عنه ويدعوه إلى داره وإلى رؤية المسجد، ولما زار نجل أمير الأفغان عبد الرحمن خان لندره في عهد والده، أجاب دعوة هذا اليهودي إلى داره ومسجده، وبعد الطعام أعطاه خمس مئة جنيه، ولا يخالنَّ أحد أن الأمير كان مبسوط الكف لكل أحد يتصل به أو يخدمه، فقد كان خالد أفندي أستاذ اللغة التركية في مدرسة كمبردج (مهندارا) للأمير في لوندره لزم خدمته، وأعد له كل وسائل الراحة، وهو لم ينعم عليه إلا بجنيه واحد لم يقبله. ا. هـ ما نقلناه عن الأستاذ الإمام وقد عقبنا عليه في المنار بالتنبيه إلى افتتان المسلمين بالأجانب، حتى في أمور دينهم، فهم يبذلون لهم من أموالهم حتى باسم الدين ما لا يبذلونه لمن يخدم الدين منهم. خليل خالد بك الذي ذكره الأستاذ في هذا السياق؛ هو الذي بذل وقته مع جماعة من المسلمين رئيسها القاضي مير علي الهندي العالم المشهور، للسعي في إنشاء مسجد في لوندره نفسها، يكون مثابة للمسلمين فيها، وقد بدأ الدعوة إلى التبرع له في العام الماضي بالآستانة، فلم يتبرع له فيها إلى الآن إلا بنحو أربعة مئة ليرة، وقد جاء مصر في هذه الأيام لأجل جمع الإعانات منها، فعني به بعض أهل النجدة وألفوا له لجنة تحت رياسة رياض باشا الذي هو عدة مصر وعتادها في أعمال الخير والمصالح العامة، وقد أعد خليل بك خالد خطبة تركية للدعوة إلى المشروع، ترجمت بالعربية، ودعت اللجنة جمهور الوجهاء والفضلاء إلى الاجتماع في قبة الغوري ضحوة الجمعة؛ لسماع الخطبة باللغتين فاجتمعوا، وبعد أن قرأ بعض الحفاظ آيات من القرآن الكريم فيها ذكر عمارة المساجد، ألقى خليل خالد بك خطبته، وتلاه الشيخ عبد الوهاب النجار فتلا ترجمتها، ثم رفيق بك أحد أعضاء اللجنة بخطاب وجيز، تكلم فيه عن أول مسجد أسس في الإسلام، وهو مسجد قباء، وعن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، ثم دعي أحمد زكي بك الكاتب الأول لأسرار مجلس النظار، فألقى خطابًا ذكر فيه ما كان من عناية المسلمين في العصور الأولى ببناء المسجد أينما وجدوا، حتى في بلاد الأجانب، وذكر من الشواهد على هذا المسجد الذي بناه بعض الصحابة في غلطة من الآستانة، وحث الناس على التبرع للمشروع، وقال: إنه هو يتبرع بعشرة جنيهات على قدر حاله، واعتذر عن إظهار ذلك مع نهي الدين عن إظهار الصدقات. *** (إظهار الصدقات وإخفاؤها) بعد أن أتم أحمد ذكي بك خطابه المفيد، قام كاتب هذه السطور فألقى خطابًا وجيزًا في الاستدراك على ما قاله الخطيب في مسألة إظهار الصدقات وبيان الحق في ذلك؛ لأجل الحث على التبرع للمسجد، قلت بعد الثناء على الخطيب ما مثاله. لم يكن يخطر في بالي أن أقوم خطيبًا في هذا الجمع، ولكن ما قاله الخطيب في الصدقات يحتاج إلى استدراك وإيضاح لا بد منهما؛ لئلا يظن بعض الناس أن الدين الإسلامي يحرم الصدقات الجهرية أو يكرهها، فيقبضون أيديهم أن تجود في مثل هذه المحافل على ما تدعى إليه من البر. قال الله تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 271) فمدح إبداء الصدقات وإظهارها مطلقًا، وفضل إخفاءها فيما يعطى للفقراء منها بما يدل على أن مقابله جائز، بل محمود أيضًا. إخفاء الصدقة على الفقراء خير من إظهارها؛ لما في الإظهار من كسر قلوب الفقراء المتجملين، وما في الإخفاء من الستر عليهم والتكريم لهم. وأما وضع الصدقة في المصالح العامة، فليس فيه هذا المعنى وإبداؤها قد يكون حينئذ خيرًا من إخفائها؛ لما فيه من حسن القدوة والترغيب في التعاون على الخير، وما زالت القدوة الصالحة مصدر البركات وسببًا في كثرة الأعمال الصالحات، وقد أمرنا الله تعالى أن ندعوه بأن يجعلنا أئمة في الخيرات، بمثل قوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) . إن من يطلب المال ليضعه في مصلحة عامة، يسره أن يجاب جهرًا، كما يسر كريم النفس أن يجاب إلى ما يطلبه لنفسه سرًّا، والإخلاص موضعه القلب، ولا ينافيه أن يحب المؤمن ظهور فضله بالحق، وإنما المذموم في كتاب الله أن يحب المرء أن يحمد بغير حق، قال تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العَذَابِ} (آل عمران: 188) والإسلام دين الفطرة، فليس فيه ما يمنع المسلم أن يظهر كل ما يميل إليه استعداده من الحق والخير، ولا سيما إذا تعدى نفعه، وكان فيه قدوة لغيره.. إلخ. بعد هذا افتتح رياض باشا الاكتتاب بمئة جنيه، وتبرع الشيخ قاسم آل إبراهيم نزيل مصر بمئة جنيه، وتبرع غيرهما من الأغنياء بما دون ذلك من الآحاد والعشرات إلى الخمسين، وكان مجموع التبرعات في تلك الجلسة زهاء ست مئة جنيه، وستبلغ الألوف في وقت قريب إن شاء الله تعالى. * * * (قانون الأزهر في مجلس الشورى، والاحتفال بالمتناقشين فيه) سبق لنا ذكر قانون الأزهر الجديد، وقد نظر فيه مجلس الشورى، ونفخ بعض مواده وأقر أكثرها، وقد كان من رأي محمود باشا سليمان رئيس حزب الأمة، وعلي شعراوي باشا وفتح الله بك بركات وأحمد بك حبيب؛ أن لا يكون حق تعيين شيخ الأزهر للخديوي، واقترحوا أن يكون بالانتخاب وألا يعزل، وكذلك أنكروا أن ينعقد مجلس الأزهر الأعلى برياسة الخديوي عند الاقتضاء، وكانت المناقشة في المادتين الناطقتين بهذين الحكمين شديدة في المجلس، وكان أشد المعارضين لهؤلاء في رأيهم محمد باشا الشواربي وكيل مجلس الشورى. رأى حزب الأمة هذه المناقشة فرصة لتأسيس حزب شعبي في المجلس، يسميه الحزب الديمقراطي أو الحزب الحر، يكون أبطاله هم الذين اقترحوا أن ينتخب كبار علماء الأزهر الشيخ له، فلا يكون للأمير تعيين من شاء ولا عزل الشيخ الذي يختاره العلماء، وأن يكون شيخ الأزهر هو رئيس المجلس الأعلى دائمًا فأطلقوا على الأعضاء الخمسة اسم الحزب الديمقراطي الحر، ودعوا كثيرًا من الوجهاء إلى حفلة شاي في فندق (كونتيننتال) إكرامًا لهم، حضرها زهاء مئتي نسمة، وألقيت فيها الخطب في المعنى المقصود. عبرت الجرائد عن هؤلاء بحزب الأقلية، وقد قابلهم حزب الأكثرية باحتفال آخر، كان الداعي إليه حسن باشا زايد باسمه ونيابته عن جمهور من سراة القطر المصري، أقيم هذا الاحتفال في فندق (سفواي) وأجاب الدعوة إليه قاضي مصر وشيخ الأزهر وكبار علمائه، وزهاء مئة وخمسين رجلاً من وجهاء القطر ورجال الصحافة الوطنيين والأجانب، وكنت ممن دعي من الصحافيين وإن لم أبد رأيًا، ولم أكتب كلمة في موضوع الخلاف. ونصبت للمدعوين موائد الطعام وبعد الفراغ من العشاء، قام في القوم الشيخ حسن السرهويتي من علماء المنوفية، فشكر الحاضرين بالنيابة عن حسن باشا زايد، ثم خطب في المعنى المقصود سيف النصر باشا وحسين بك هلال وموسيو كولرا محرر القسم الفرنسي من جريدة الأيجبت، ومستر منسفيلد محرر القسم الإنكليزي فيها، ثم الشيخ علي يوسف مدير المؤيد وموسى باشا غالب. هؤلاء هم الخطباء الذين كانوا مندوبين للخطابة، ثم اقترح الشيخ علي يوسف على فارس أفندي نمر أحد أصحاب المقطم أن يقول شيئًا، فتكلم بعد الشكر لحسن باشا زايد كلامًا وجيزًا في الاتفاق بين أهل القطر، وقال: إنه لا يحق له أن يتعرض لمسائل الأحزاب، وأنه يوافق موسيو كولرا على رأيه الذي أبداه، وهو استحسان ما جاهر به الفريقان من المختلفين في الرأي في قانون الأزهر، وهو جعل مقام الجناب الخديوي فوق الأحزاب. ثم اقترح عليّ الشيخ علي يوسف أن أتكلم بعد أن سألني؛ هل يوجد عندي مانع من الكلام؟ فقلت: لا.. وهذا ما وعيته من خطابي: أيها العلماء الأعلام. أيها السراة والفضلاء الكرام: إنني بعد حمد الله تعالى، والصلاة والسلام على رسوله، أقول كلمة في حالنا العامة الآن، تعلمون أننا الآن في دور انقلاب ودور انتقال من حال إلى حال، وفي هذا الطور تكون الأمم على خطر، إذا هي طفرت إلى التقدم طفورًا، ولم تسر على سنن الكون بالتدريج، فإن ضرر التحول السريع ولو من حال إلى أعلى منها، ضرره أكبر من نفعه، والخوف منه أقوى من الرجاء فيه. في هذا الطور يكثر المقلدون الذين يميلون إلى اقتباس ما عند الشعوب القوية من خير وشر وحسن وقبيح. وفيه تكثر الاقتراحات التي يمكن تنفيذها والتي لا يمكن تنفيذها، فكل ما نسمعه بمصر من طلب تغيير القديم طبيعي لا بد منه. يطلبون الدستور ولهم أن يطلبوه، ولكن الوصول إلى المطلوب إنما يكون بالسير على سنن الكون التدريجية، كذلك ميل الكثيرين إلى المحافظة على القديم طبيعي، ولا بد منه في هذا الطور، سواء كان ذلك لتفضيل القديم على الجديد، أو للعلم بعدم إمكان الجديد أو بعدم مجيء وقته لعدم استعداد الأمة له. لا ترتقي الأمم إلا بطلب استبدال ما هو أدنى من قديمها بالذي هو خير منه، ولو مقتبسًا من غيرها، ولا تبقى الأمم إلا بالمحافظة على قديمها، والتريث في التحول عن الضار منه، حتى لا يكون طفرة تُخشى عاقبتها. وإن هذه البلاد سائرة على طريق التحول بالتدريج، والخطر عليها عظيم من العجلة والطفور، ولكنه لا يقع إن شاء الله تعالى. أمامنا مثال ظاهر على هذا وهو الجامع الأزهر. كان هذا المعهد العلمي العظيم إلى عهد قريب كأنه بمعزل عن سائر طبقات الأمة، يجري أهله فيه على ما تعودوا م

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار فتحنا هذا الباب لإجابة أسئلة المشتركين خاصة؛ إذ لا يسع الناس عامة، ونشترط على السائل أن يبيّن اسمه ولقبه وبلده وعمله (وظيفته) ، وله بعد ذلك أن يرمز إلى اسمه بالحروف إن شاء، وإننا نذْكر الأسئلة بالتدريج غالبًا، وربّما قدّمنا متأخرًا لسببٍ؛ كحاجة الناس إلى بيان موضوعه، وربّما أجبنا غير مشترك لمثل هذا، ولمن مضى على سؤاله شهران أو ثلاثة أن يذكّر به مرةً واحدةً، فإن لم نذْكره كان لنا عذر صحيح لإغفاله. (سؤال عن فتوى) (س21) من السيد عبد الله بن عبد الرحمن العطاس بسنغافوره أرسل السائل إلينا السؤال الآتي مع جواب السيد عثمان بن عقيل عليه، وكتب عليه ما يأتي: هذا جواب عن ذلك السؤال، هل المجيب مصيب في تأصيله ما ذكر في السؤال بما ذكر في الجواب أم مخطئ، وعن الأحاديث المذكورة فيه، هل هي صحيحة مروية عن سيد السادة أم لا. وعما هو الحق في هذه المسألة، أفيدونا به على صفحات المنار إحقاقًا للحق وإزهاقًا للباطل، فالله يديمكم ويرعاكم ويحفظكم. وهذا نص السؤال والجواب المسئول عنه. (هذا السؤال صدر من جماعة من المسلمين) (من بندر سنغافوره) ما قولكم فيما يعمله الناس في ليلة النصف من شعبان من قراءة سورة يس المعظمة ثلاث مرات بنية مخصوصة، والدعاء المعروف بعد كل مرة هل هو سنة وله أصل من الكتاب أو السنة أم لا؛ فإن بعض الناس يقول: إنه بدعة ليس له أصل من الكتاب ولا من السنة، بينوا لنا حكم هذا العمل، وما هي البدعة وأقسامها بيانًا شافيًا أثابكم الله، آمين. (الجواب) نسأل الله تعالى التوفيق للصواب، اعلموا وفقني الله وإياكم لمرضاته، أن هذا العمل الذي ذكرتم له أصل من السنة، وقد عمل به الخاص والعام من العلماء والصلحاء وعامة المسلمين في الأمصار والأعصار من غير إنكار، ممن يعتبر قوله أما أصله فقد قال العلامة الشيخ علي بن محمد الخازن في تفسيره لباب التأويل في معاني التنزيل في قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) إلى قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) وروى البغوي بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. انتهى. وقال العلامة السيد علي بن عبد البر الونائي في رسالته المتعلقة بفضائل ليلة النصف من شعبان، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يكتب الآجال من شعبان إلى شعبان. اهـ. وقال العلامة الشيخ سليمان الجمل في حاشيته على تفسير الجلالين، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر. اهـ. وأما قول أكثر المفسرين: إن قوله تعالى: {فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (الدخان: 3) هي ليلة القدر، وقال الشيخ الجمل في حاشيته ما معناه: إن المراد منه ظهور تلك الأمور التي قدرها المولى عز وجل في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 4) أي ظهورها للملائكة في ليلة القدر، وليس المراد أن تلك الأمور لا تحدث إلا في تلك الليلة، فقد جاءت الأخبار الصحيحة بأن الله تعالى قدر تلك الأمور في ليلة النصف من شعبان وسلمها للملائكة في ليلة القدر، انتهى. ثم قال: وهذا يصلح أن يكون جمعًا بين القولين، وقال أيضًا: وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى انتهى. وقال السيد علي الونائي في رسالته المذكورة: وعن عثمان ابن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى منادٍ هل من مستغفر فأغفر له هل من سائل فأعطيه، فلا يسأل أحد إلا أعطاه إلا زانية أو مشركة وفي رواية: ما لم يكن عشارًا أو ساحراً أو صاحب كوبة أو عطربة وفي رواية عن عائشة رضي الله عنها: إن الله يطّلع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويؤخر أهل الحقد بحقدهم، ثم أورد أحاديث كثيرة في فضل ليلة نصف شعبان إلى أن قال: ومما ينبغي ليلة النصف من شعبان أن يقرأ الإنسان بين صلاتي المغرب والعشاء سورة يس بتمامها ثلاث مرات: الأولى بنية طول العمر له ولمن يحبه، الثانية بنية التوسعة في الرزق مع البركة في العام، الثالثة بنية أن يكتبه الله من السعداء، ويأتي بالدعاء المشهور وهو: اللهم يا ذا المن ... إلى آخره. انتهى. وأما تعريف البدعة وأقسامها فهي تعتريها الأحكام الخمسة منها واجبه، وهي كل ما يتوقف فعل شيء من الواجبات الشرعية به فهو واجب أيضًا؛ للقاعدة المقررة، ومنها مندوبه كبناء الرباطات والمدارس ونحوها، ومنها مباحة كالتوسع في لذيذ المأكل، ومنها مكروهة كزخرفة المساجد، ومنها محرمة ومكفرة كبدعة الرافضة والوهابية، وعليها قول الإمام الشافعي رضي الله عنه: ما أحدث وخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا فهو البدعة الضالة، انتهى. فيما ذكر من الأحاديث ونصوص هؤلاء الأئمة يعلم أن قراءة يس في هذا السؤال له أصل وأي أصل، وأن القائل بأنها بدعة؛ لعله متمسك بالعلم الجديد، أو أنه من قسم الخامس من المبتدعة؛ لأنهم يضعفون الحديث الصحيح إذا خالف هواهم، ويصححون الحديث الموضوع إذا وافق هواهم، فمن أراد الاطلاع على هذا فعليه برسالتنا الآتية -إن شاء الله تعالى- المسماة بإعانة المرشدين على اجتناب البدع في الدين، وإلى هنا انتهى الجواب. (المنار) اعلم يا أخي قبل الجواب عن هذه الفتوى أن مصيبة الدين بالتقليد الذي ذمه علماء السلف كافة وأهل البصيرة من الخلف، ليست هي عبارة عما أجازه بعض المؤلفين من رجوع الجاهل إلى الإمام المجتهد، فيما لا يعلم حكمه من أمر دينه وأخذه بفتواه، وإن لم يذكر له دليلها من الكتاب والسنة، وإنما مصيبة التقليد السوءى؛ هي أنها صرفت المسلمين عن الكتاب والسنة، وعن كتب الأئمة المجتهدين في الفقه وغيره، وعن الثقات الأثبات السابقين إلى تحقيق كل علم، صرفتهم عن هؤلاء إلى أناس من الجاهلين المقلدين لأمثالهم، المتهجمين على الفتوى والتأليف والاجتهاد بغير علم، وإنما يأخذ الناس بأقوالهم لثقتهم بهم وثقة العامي قريبة المنال، فإننا نرى في كل بلاد أناسًا من أدعياء العلم تثق بهم العامة؛ لأنها تراهم أمثل من تعرفهم في ظاهر الصلاح أو قراءة الكتب، وهي لا تميز بين الكتب التي يعتمد عليها والتي لا يعتمد عليها، ونعرف أن كثيرًا من هؤلاء الموثوق بهم دجالون من أهل التلبيس، ومنهم من قرأوا قليلاً من مبادئ العلم، وولعوا بكتب من لا ثقة بدينهم ولا بعلمهم، ودرسوا وأفتوا بها، وهم لا يميزون بين ما فيها من حق وباطل، وصحيح وسقيم، وإنما تعجبهم هذه الكتب المحشوة بالأحاديث الموضوعة والخرافات والبدع؛ لسهولتها وعدم توقف فهمها على معرفة الاصطلاحات العلمية، كاصطلاحات علماء الحديث والأصول في نقد الحديث وما يحتج به منه، وما لا يحتج به. نعرف في بلادنا كثيرًا من الشيوخ الذين وثقت بهم العامة، حتى في المدن التي فيها كثير من العلماء الذين يعتد بعلمهم ونقلهم، وأنهم ليكونون أكثر في البلاد التي تقل فيها العلماء وفي القرى، ومما يؤكد هذه الثقة حسن السمت ومظهر الصلاح والانتساب إلى بيوت العلم والشرف، فهؤلاء هم مثار الجهل والبدع في هذه الأمة، ولا سيما في هذه القرون الأخيرة، وقد ذكر بعض أخبارهم ابن الجوزي وغيره من العلماء. يدعي هؤلاء أنهم علماء مقلدون للأئمة، ولا يعرفون من كلام الأئمة شيئًا، ولا يقفون عند حدود ما أفتى به المشهورين من الفقهاء المنتسبين إلى أولئك الأئمة رضي الله عنهم، وهم مع هذا يحاربون متبعي الأئمة بحق إذا دعوهم إلى الحق بدلائل الكتاب والسنة، بل يحاربون الكتاب والسنة باسم أولئك الأئمة، قائلين: إن فهمهم لهما أصح من فهم فلان الذي يدعوكم إليهما الآن، سلمنا أن فهمهم أصح، فليأتنا هؤلاء الجاهلون بنصوصهم في تفسيرها، وليحاربونا بها، إنهم إنما يجيئون بكلام أمثالهم من العوام الذي تجرءوا على التأليف ويلصقونها بالأئمة، والأئمة برآء منها، وماذا تفعل بثقة الجاهلين بهم، وقد انسد في وجههم باب التمييز بين الحق والباطل. من هؤلاء الشيوخ في بلاد جاوه الشيخ عثمان بن عبد الله بن عقيل، شيخ له سمت ونسب واطلاع على كثير من الكتب التي لا يعتد بها ولا تصلح للفتوى منها. يقول هذا الشيخ الوقور: إنه شافعي المذهب، وإن عمدته من كتب فقهاء الشافعية المتأخرين كتب ابن حجر الهيتمي، (أفلح الأعرابي إن صدق) ابن حجر يقول في فتاواه الحديثية: إن الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث لا يحل. ومن فعله عذر عليه التعذير الشديد، وذكر أن أكثر الخطباء كذلك، وأنه يجب على الحكام أن يمنعوهم من ذلك (راجع ص32 من هذه الفتاوى المطبوعة بمصر) فلماذا لم يأخذ الشيخ عثمان بهذه الفتوى؛ فهو يسئل عن مسألة هل لها أصل في الكتاب والسنة، فيورد أحاديث من رسالة الونائي ويقرها وهي لا تصح، وليست نصًّا في المسألة، ثم ينقل رأي هذا الرجل ويقره، ويجعل ذلك فتوى بأن للمسألة أصلاً في الكتاب والسنة، وهذا الونائي ليس إمامًا مجتهدًا ولا محدثًا حافظًا يعتد بنقله، وما نقله ليس نصًّا فيما ارتآه، فكيف جاز للشيخ عثمان بن عقيل أن يفتي برأيه، لعل هذا الونائي مثل ابن عقيل هذا، وستكون فتاوى السيد عثمان ورسائله مما يفتي به مثله من بعده، وتعارض بها نصوص الكتاب والسنة بناء على ادعائه الانتساب إلى الإمام الشافعي، وإن لم يعرف قوله ولم يفت به، هذه مقدمة لم نر بدًّا من بيانها. *** (أقوال المحدثين والثقات في عبادات ليلة النصف من شعبان) روي في الموضوعات والواهيات والضعاف التي لا يحتج بها أحاديث في كثير من العبادات منها؛ صلاة ليلة الرغائب من رجب وليلة نصف شعبان، ولكن هذا الشعار الإسلامي المبتدع المعروف الآن لم يرد فيه شيء من ذلك، ولكنه عمل به في الجملة منذ القرون الأولى، ولهذا اغتر بصلاة رجب وشعبان بعض الفقهاء والصوفية كأبي طالب المكي وأبي حامد الغزالي على جلالة قدرهما، وسبب ذلك قلة بضاعتهما في نقد الحديث، وقد بين خطأهما المحدثون والفقهاء كالإمام النووي الذي هو عمدة الشافعية، وأطال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في بيان ذلك، وقد نقل كلامه شارحه السيد مرتضى الزبيدي ثم قال: وقال التقي السبكي في تقييد التراجيح: صلاة ليلة النصف من شعبان وصلاة الرغائب بدعة مذمومة. اهـ. وقال النووي: هاتان الصلاتان بدعتان موضوعتان منكرتان قبيحتان، ولا تغتر بذكرهما في القوت والإحياء، وليس لأحد أن يستدل على شرعيتهما بقوله صلى الله عليه وسلم: الصلاة خير موضوع، فإن ذلك يختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه، وقد صح النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة. اهـ. ثم قال الزبيدي: وقد توارث الخلف عن السلف في إحياء هذه الليلة بصلاة ست ركعات بعد صلاة المغرب كل ركعتين بتسليمة، يقرأ في الركعة منها بالفاتحة مرة والإخلاص ست مرات، وبعد الفراغ من كل ركعتين يقرأ سورة يس مرة، ثم يدعو بالدعاء المشهور بدعاء ليلة النصف، ويسأل الله تعالى البركة في العمر، ثم في الثانية البركة في الرزق، ثم في الثالثة حسن الخاتمة. وذكروا أن من صلى بهذه الكيفية أعطي ما طلب، وهذه

أمير الألاي صادق بك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أمير الألاي صادق بك وجمعية الاتحاد والترقي يتساءل الناس في هذه الأيام من هو صادق بك، وما هي مكانته، وما شأنه في هذا الإصلاح الذي حصل في حزب الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين. في هذه الأيام عرف في مصر وفي كثير من البلاد اسم صادق بك، والناس واقفون في الحكم له أو عليه، وأصحاب الجرائد قد أمسكوا عن التعريف به، سواء منهم المتشيع للاتحاديين والمتتبع لعوراتهم والمعتدل في كلامه عنهم، وقد ذكرت على مسمع غير واحد من محرريها شيئًا من فضل الرجل الذي يعرفه كل الخواص في الآستانة، فكتب بعضهم جملة صالحة، ولكني أرى الناس لا يزالون يتساءلون فأحببت أن أكتب في المنار كلمة أخرى في التعريف بهذا الرجل الذي يقل مثله في الرجال. اشتهر أن الانقلاب العثماني كان بتدبير جمعية الاتحاد والترقي في سلانيك ومناستر، وعرف الخاص والعام أن الانقلاب كان من عمل الجيش، بهذا علا مقام كل ضابط عثماني، ورفع اسم نيازي بك وأنور بك على كل اسم، ولكن خفي اسم صادق بك وهو أجدر بالظهور، وصار كل من ينسب إلى جمعية الاتحاد والترقي يفخر ويسمو بأنه رب الدستور وحاميه، فتزاحم على أبوابها طلاب الشهرة ورواد المنفعة وعباد القوة. وانفض من حولها الكثيرون من العاملين المخلصين، وانبرى لمعارضة حزبها في مجلس الأمة حزبان، كان خيار رجالهما من الاتحاديين، ومن بقي في حزبها أزواج ثلاثة: (1) بعض الزعماء (كالبكوات رحمي وطلعت وجاويد) ومن استعذب مشربهم وأذعن للسري والجهري من أحكام جمعيتهم؛ لأنه يرى فيها رأيهم، وهم الأقلون. (2) طلاب المنافع، واتباع كل ناعق. (3) المستقلون المخلصون الذين يرون أن بقاءهم في الجمعية خير من خروجهم منها وأرجى لتقويم عوجها. ورد في الحديث الشريف: (إن لكل شيء شرة [1] ولكل شرة فترة، فإن صاحبها سدد وقارب فارجوه، وإن أشير إليه بالأصابع فلا تعدوه) رواه الترمذي بسند صحيح. وقد جرت سنة الله أن الشيء إذا كان في شرة إقباله يقبل الجمهور كل مدح فيه وإن كان ظاهر البطلان، ويرد كل انتقاد عليه وإن كان كالشمس في رابعة النهار، وكان يظن أن شرة إقبال الاتحاديين يطول زمنها، فكذب الظن بسوء تصرف الزعماء وقلة كفاءتهم وبمجافاة بعض مقاصدهم لمصلحة المملكة وتقاليدها، ولما تقتضيه طبيعة العصر في سياسة الشعوب المختلفة في الملل واللغات، ولاستعجالهم في حب الظهور والاستئثار بجميع الأمور، فما سددوا وما قاربوا وقد أشير إليهم بالأصابع، فلم يلبثوا أن سقطوا، وصدقت عليهم الحكمة النبوية في هذا الحديث الشريف. رفعت الأمم اسم (الاتحاد والترقي) بعمل صادق بك الخفي وإخلاصه العظيم، فتدفق الثناء على الاتحاديين في أنهار صحف الشرق والغرب، حتى صار بحرًا زاخرًا، طفت فوقه أسماء كثيرة فرآها الناس سابحة في الثناء، منها ما له قيمة كالفلك ومنها ما هو كالغثاء، ورسب في قاعه اسم صادق بك كما يرسب الدر في أعماق البحار، فلم تهتف باسمه الجرائد، ولم ينوه به في تلك الخطب والأغاني والقصائد، كما نوه باسم نيازي وأنور اللذين كانا سيفين من سيوفه تحركهما يده العاملة وتصرفهما أوامره النافذة، ألا إن صادق بك هو (قومندان) الانقلاب العثماني وموجد الدستور. واسأل عن ذلك كتاب (خاطرات نيازي) فهو يخبرك اليقين، {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 14) فصادق بك أجدر رجال الدستور بالظهور وأحقهم بالثناء، وكلهم يعرف له هذا الفضل، ولكنه هو الذي أحب الخمول وترفع عن الثناء والمكافأة على عمله من الجمعية أو الحكومة، فهو الزعيم الذي لم يأخذ مالاً ولا وسامًا، حتى إن شوكت باشا رغب إليه أن يقبل يوم عيد الدستور من السنة الماضية وسامًا مرصعًا، تقرر إنعام السلطان به عليه فلم يقبل، زرت صاحبًا لي من الاتحاديين قبل ذلك العيد بيوم واحد، فقال لي: لو جئت قبل ربع ساعة لوجدت صادقًا هنا، وقد أخبرني بكذا وكذا. وذكر مسألة الوسام ومسائل أخرى. إنني لما جئت الآستانة في عام 1327 كان صادق بك لا يزال عميد الجمعية المسئول (أي رئيسها ويسمونه المرخص العام؛ لأن من نظامها أنه ليس لها رئيس، ويشبه الخلاف أن يكون لفظيًّا) ولما عرضت مشروع الدعوة والإرشاد (أو العلم والإرشاد كما سميناه هناك) على الصدر الأعظم، قال لي: هذا مشروع نافع لا بد منه، ولا يتم هنا شيء إلا إذا رضيت به جمعية الاتحاد والترقي، وسأكلم صادق بك في المشروع ثم أخبرك هل يمكن تنفيذه أم لا، ودعا حاجبه وقال له: اذهب غدًا إلى صادق بك، وقل له: إنني أحب أن أراه، ثم أخبرني الصدر أن صادقًا اقترح تأليف لجنتين للبحث معي في المشروع: إحداهما علمية دينية والأخرى سياسية إدارية. وبرأيه تألف اللجنتان وبعد البحث الطويل أقرتا المشروع، فقال لي الصدر الأعظم: إن المشروع قد تم نهائيًّا، فألف الجمعية وتعال أخصص لك المال اللازم للتفنيذ، وقد علم قراء المنار من قبل أن وزارة هذا الصدر (وهو حسين حلمي باشا) قد استقالت قبل أن يتم لنا تأليف الجمعية، وأزيدهم الآن ما هو المقصود هنا؛ وهو أن صادق بك ترك العمل في الجمعية، ولماذا؟ كان من رأي صادق بك بعد أن استقر أمر الدستور وتألف مجلس الأمة؛ أن تترك الجمعية للحكومة الحرية في عملها، وتكتفي بالمراقبة عليها، فلا تتعرض لشيء إلا إذا رأت الدستور مهددًا بالزوال، وقد اتفق مع محمود شوكت باشا على منع الضباط من الاشتغال بالسياسة، ولما كان لا مندوحة له عن الاستمرار في خدمة الجمعية، عول على الاستقالة من الجيش، وبعد هذا الاتفاق خطب محمود شوكت باشا خطبتيه الشهيرتين في الفيلق الأول بالآستانة والفيلق الثاني بأدرنة، وصرح في الخطبة الثانية بقوله: إن أخانا صادق بك لما كان يريد البقاء في جمعية الاتحاد والترقي فسيقدم لي استقالته. كان الذين تواطئوا على الاستقلال بزعامة الجمعية والسيطرة على الحكومة، قد استمالوا إليهم قبل هذا الاتفاق كثيرًا من الضباط بضروب من الاستمالة، فصار لهم عصبية منهم. ولما صار طلعت بك ناظر الداخلية كان أقدر من غيره على هذه الاستمالة، فأدخل في الوظائف الإدارية كثيرًا من الضباط، وقد كنت مدعوًّا عنده في بعض الليالي، فجاء اثنان منهم ونحن سامرون معه في الليل، فكان الواحد منهم يجلس في مكانه ويعبث بمكتبه ويبحث في أوراقه، ورأينا أن حديثه معنا قد تلجلج، وأن من حسن الذوق أن ننصرف ليخلو لهما وجهه، وندع الحديث إلى وقت آخر، فاستأذنا وانصرفنا. كان ارتباط زعماء الجمعية بالضباط واشتغال الضباط بالسياسة من أعظم الأخطار التي تهدد الدولة، وقد انتقدته الجرائد الأوربية بأشد مما انتقدت غيره من أعمال الجمعية بعد ظهور الخلل فيها، وانتقده الجم الغفير من الضباط كما سمعت بأذني من بعض أركان الحرب منهم وعنهم، حتى كان يخشى أن يقع الشقاق في الجيش نفسه بالتنازع بين أنصارها والساخطين عليها من الضباط، وقد وافق صادق بك محمود شوكت باشا على تلافي هذا الأمر، ولم يقدرعلى تنفيذه بالفعل. كتب صادق بك استقالته من الجيش، وكتب مذكرة للجمعية المركزية اشترط فيها لبقائه عاملاً في الجمعية باسم المرخص أو المدير المسئول شروطًا منها أن يترك طلعت بك نظارة الداخلية، وجاويد بك نظارة المالية، وأحمد رضا بك رئاسة المجلس؛ لأنه لا يعني على رأيه أن يكون زعماء الجمعية من رؤساء الحكومة؛ لما لهم من القوة التي تمكنهم من الاستبداد، فكبر ذلك على هؤلاء الزعماء بعد أن مكنوا لأنفسهم في الأرض، ورأوا أنهم صاروا في هذه الدولة هم الأئمة الوارثين، وكان قد ظهر من رياستهم تنفير جميع العناصر العثمانية من إخوانهم الترك. وتقدم اليهود في نظارة المالية على غيرهم، وإعلاء كلمة الماسونية، والإسراف في نشرها، وتقديم المقدمين فيها على غيرهم في جميع المناصب والأعمال، وجعل مقام الخلافة كالمجرد من كل سلطة ونفوذ. كبرت شروط صادق بك على أولئك الزعماء، فكانوا منها في أمر مريج لأن ترك السلطة والدولة بعد التمكن منها لا تسمح به النفس، ومخالفة صادق بك ليست بالأمر السهل، فرأوا بعد الروية والتفكير أن يجتهد في إقناعه بالتنازل عن بعض تلك الشروط؛ وأهمها عندهم ترك السلطة وحرية الحكومة بعدم سيطرة الجمعية عليها، وقد بلغني يومئذ ممن أثق به من الاتحادين أن طلعت بك قصد دار صادق بك غير مرة في الليل، ولم يأذن له صادق بلقائه، ولما رأى أنه لا يسهل عليهم إجابته إلى ما طلب وأنهم خائفون منه أن يحاول تنفيذ مطالبه بالقوة، وعلم - كما قيل لي يومئذ - أنهم يراجعون من استمالوه من الضباط لتأييدهم، أمنهم من اعتماده على السيف في ذلك؛ لأن هذا هو الذي ينكره ويخشاه، فكيف يكون هو البادئ به، وآذنهم بأنه يترك لهم جمعيتهم ويسترد استقالته من الجيش وكذلك فعل، وكان هذا آيات إخلاصه الكثيرة. ترك لهم هذا الصادق كلا من الجمعية والحكومة، فبعد أن قلبوا وزارة حسين حلمي باشا؛ لأنه لم يستطع الصبر على أن يكون آلة معدنية في يدي طلعت وجاويد، جاءوا بحقي بك فجعلوه صدرًا والناس مختلفون فيه، فظهر بعد الاختبار أنه أصبر الناس على ما لم يطق قبوله كامل باشا، ولا الاستمرار عليه حسين حلمي باشا، وتفاقمت الخطوب من سياسة طلعت وجاويد حتى ضج مجلس الأمة بالشكوى، وبلغت أصوات المعارضين عنان السماء بعد أن أزعجت سكان الأرض، حتى اضطر طلعت بك إلى الاستقالة من نظارة الداخلية، فصوبت سهام المعارضة بعده إلى جاويد بك خاصة وإلى رجال الوزارة عامة، وإلى جاهد بك صاحب جريدة (طنين) الذي هو المحامي عن جمعية الاتحاد والترقي بقلمه المسموم الذي سماه بعض أدباء الآستانة من الترك (سفيه القوم) . إنني أقمت في الآستانة سنة كاملة، وقفت فيها على غوامض سياستها ومخبآت صناديق أسرارها، ووردت في ذلك موارد قلما تتيسر كلها لأحد، فقد عاشرت كثيرين من العلماء والوجهاء والأدباء والضباط والمبعوثين والأعيان ورجال الحكومة وغيرهم، ومنهم من لهم صلة بالأسرة السلطانية، ومنهم الاتحادي وغير الاتحادي، وقد استفدت من مجموعهم الجزم بعدة مسائل أذكر منها ما يفيد في هذا المقام: (1) إن مولانا السلطان متبرم من القوم وغير راض من الحال العامة، وينتظر أن تغيرها الحوادث إلى أحسن مما هي عليه، ولا أزيد على هذا في هذه المسألة. (2) إن بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي يريدون أن تبقى الدولة في أيديهم، يديرونها كما يقررون فيما بينهم بزمامي حزبهم في مجلس الأمة ورجالهم في وزارات الباب العالي وسائر المصالح، ويؤيدهم في ذلك طائفة من ضباط الجيش. (3) يجب على كل وزير أو رئيس عمل منهم أن ينفذ كل ما تقرره اللجنة العليا للجمعية في الحكومة. (4) يديرون نظام حزبهم في المجلس بطريقة تجعله آلة في أيدي من فيه من زعماء الجمعية؛ كطلعت بك ورحمي بك وجاويد بك وخليل بك، ومن يليهم في النفوذ؛ كمجاهد بك وإسماعيل حقي بك، فإذا اتفق هؤلاء مع لجنة سلانيك على أمر جمعوا حزبهم للمذاكرة فيه، وهو متفق عليه بين الزعماء ومن يقنعون به قبل الاجتماع ممن يسهل إقناعهم، ومن نظام حزبهم أنه إذا أقر الثلثان من حاضري الجلسة فيه أمرًا، وجب على الباقين اتباعهم بغير مناقشة، فكان إذا حضر الجلسة ستون وهم نصف أعضاء الحزب، واتفق أربعون منهم على المسألة تبعهم الباقي هم 120، فينفذ في المجلس على أنه رأي أكثر أعضائه، وإنما هو رأي الأقلين من حزب وا

المسلمون والقبط ـ النبذة السادسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسلمون والقبط (النبذة السادسة) (إنما نطلب حفظ حقوقنا لا إضاعة حق للقبط) إذا كنت أكتب لأجل ِإيذاء القبط أو التحريض على إيذائهم، أو لأجل محض مدافعتهم، ومنعهم مما لا أراه حقًّا لهم، فلا حملت بناني قلمًا، ولا حفظت كما أمرني الرسول صلى الله عليه وسلم ذمة ورحمًا، بل أشهد الله أنني لا أكتب إلا لأجل الخير والمصلحة دون الإيذاء والمفسدة، ولفوائد إيجابية لا لأغراض سلبية، وإذا كان المؤتمر المصري يجتمع ليأتمر بتخطئة القبط في مطالبها فقط، فلا خير في هذا المؤتمر، وأجله أن يكون عمله سلبيًّا فقط. إنني منذ خبرت حال مصر، رأيت أن للقبط روابط ملية. دون الرابطة العامة المصرية بها يتعاونون ويتناصرون، وعليها يجتمعون ويتحدون، ولها يتعلمون ويتربون، وإليها يرجعون. فهم بها أمة كما يقولون. وليسوا عضوًا من جسم الأمة المصرية، إذا اشتكى عضو من سائر الأعضاء تألموا له بل هم جسم تام مستقل بمقوماته ومشخصاته القومية. وإنما يتصل بما يجاوره؛ ليتغذى منه ويمد حياته لا ليمده ويغذيه. هذا ما رأيت عليه القبط، فأكبرته وحمدتهم عليه. ورأيت المسلمين على غير ذلك، رأيتهم يتخاذلون ويتفرقون، ويمتص غيرهم مادة حياتهم ولا يشعرون، تتعادى أحزابهم ويصفون أكثر النابغين فيهم بخيانة الأمة والوطن. وهو وصف لا ينطبق على أحد منهم، وإنما علتهم الضعف وأقتل سببيه تخاذل أمتهم، ليس لهم تربية ملية تجمعهم، ولا وحدة في التعليم تضمهم، وثروتهم عرضة للزوال بإسرافهم، لا يشعر بعضهم بمصاب بعض، وليس لمجموعهم شرايين ولا أوردة يكون به جسمًا واحدًا يمد بعض أعضائه بعضًا بالغذاء ودفع الأذى. هذا ما رأيت عليه المسلمين، وفيهم من النابغين ما ليس في القبط. ليس عندهم قضاة كقضاتنا، ولا محامون كمحامينا، ولا إداريون كإدارينا، ولا أطباء كأطبائنا، ولا كتاب ككتابنا، ولا شعراء كشعرائنا. أعني أن النابغين فينا أكثر وأرقى من النابغين فيهم. ولكنهم أرقى منا في الحياة الملية، والمقومات القومية، التي يكون بها أفراد الشعب كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكالجسم الواحد إذا اشتكى له عضو تداعى له سائر البدن بالحمى والسهر، كما وردت الأحاديث في وصف المؤمنين، وقد فقد المسلمون قوة هذه الصفات التي جعلها الله سر دينهم وآية إيمانهم فلم يغن عنهم النابغون شيئًا. هذا التفاوت بين شعبين يشارك أحدهما الآخر في جميع مرافق الحياة تحذر عواقبه، ولا تؤمن مغبته، أحدهما قوي بالاتحاد والتكافل، والآخر قوي بالكثرة ضعيف بالتخاذل دأب المتحدين الطمع في سلب مرافق المتخاذلين، وبذلك ساد بعض الشعوب على بعض، وكثيرًا ما كانت الفئة القليلة هي التي تسود الفئة الكثيرة، والطامع قد يوغل في حقوق الغافل بغير رفق، والعنف في الإيغال قد يفضي إلى العنف في الدفاع، فيكون من ذلك ما لا خير فيه للبلاد، فأحببت منذ سنين أن أنبه المسلمين على ما تصان به حقوقهم، مع حفظ المودة بينهم وبين من يعيش معهم، فكتبت في ذلك كثيرًا. ولكن المسلمين كانوا في شغل عن ذلك، فيقل فيهم من قرأ ما كتبت، ويقل فيمن قرأ من فهم، ويقل فيمن فهم من اعتبر، ويقل فيمن اعتبر من حدث غيره بما أصاب من العبرة. وهكذا شأن الغافلين المغرورين ينتبهون بالحوادث لا بالأحاديث. إنني مؤمن، والمؤمن لا ييأس من روح الله، ولا يقنط من رحمة ربه، ولو يئست من حياة المسلمين، لما رأيت شيئًا من الخطر على البلاد في استمرار غفلتهم إلى أن تصير وظائف الحكومة وثروة البلاد في غير أيديهم، سواء أوغلت القبط في ذلك برفق أو بعنف، فإن الأمراض التي تموت بها الأمم تكون كداء السكتة، يذهب بحياة المرء وهو لا يشعر بأنه يموت. ولكنني أعتقد أن في مسلمي مصر حياة ضعيفة، لم تصل إلى درجة التكافل والتضامن، وأن الخير في تقويتها بالدعوة إلى حفظ المصالح، لا بالدعوة على دفاع المهاجم، وأن هذا لا يكون إلا قبل أن يغلبوا على مصالحهم، ويروا أنفسهم مسخرين لمن كانوا دونهم، يومئذ يخشى أن لا يروا في أيديهم إلا سلاح الكثرة، فيستعملونه للضرورة فيما يضر البلاد من الاعتصابات والفتن، فتلافي ما يخشى في المستقبل مذ الآن هو الذي يحملنا على هذا البيان. ما رأيت استحسانًا عامًّا لشيء نشر في الجرائد بعد رد الأستاذ الإمام على هانونو كاستحسان ما كتبته في هذه الأيام من المقابلة بين المسلمين والقبط. يذكر لي لك كل من أراه. وكتب إليّ وإلى المؤيد غير واحد يشكرون لي ذلك ويطلبون المزيد منه، أذكر هذا تمهيدًا لقول بعض هؤلاء الحامدين الشاكرين: لماذا لم تنبهنا من غفلتنا بمثل هذه المقالات قبل اليوم؟ ولهؤلاء أقول: إنني قد فعلت، وقلما قررت حقيقة في هذه الأيام إلا وقد بينتها من قبل في المنار أو في بعض الجرائد اليومية، ولكن المسلمين كانوا في غمرة ساهين، لا يعنون بما يكتب ولا يحلفون به إلا ما يكون عند الحوادث المؤلمة، والصيحات المزعجة، ثم لا يلبثون أن ينسوا ويعودوا إلى سابق لهوهم وسهوهم، حيث خشيت أن نكون كما قال شاعرنا من قبل في مثله الذي يشبهنا فيه بالغنم الراعية، تظل غافلة متمادية في رعيها، حتى إذا ما سمعت نبأة صائح ترتاع وترتفع رؤوسها تاركة الارتعاء، فإذا سكت الصائح عادت إلى سابق شأنها، أعني بهذا القول ابن دريد في مقصورته: نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارتمى إذا أحس نبأة ريع وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها صاحت القبط منذ ثلاث سنين مثل صيحتهم في هذه السنة، فكتبت مقالة في المنار عنوانها (المسلمون والقبط) كان لها باعتدال الرأي والأدب في العبارة أحسن الوقع، فنقلها بعض أصحاب الجرائد اليومية، ولخصها بعض آخر، فلم تلبث القبط أن سكتت صيحتها، وسكنت في الظاهر دون الباطن ثورتها، فنسي المسلمون ما كان، حتى تجددت الصيحة في هذا العام، بأقوى وأدوم مما كان في سابق الأعوم. افتتحت تلك المقالة بهذه الجملة: (سبق لنا قول في هاتين الطائفتين بمصر بينا فيه أن المسلمين من حيث هم أفراد أرقى من القبط في كل علم، وأن القبط من حيث الاجتماع والتعاضد الملي أرقى من المسلمين، فلهم مجلس ملي وجمعيات وجرائد دينية تبحث دائمًا في مصالحهم العامة من حيث هم قبط، وهم يتعاونون ويتحدون في المصالح. وهذا ما حمدتهم وأحمدهم عليه، وأتمنى لو يوفق المسلمون لمثله، وإن كنت أعلم أنه لو أنشأ المسلمون جمعية للرابطة الإسلامية كجمعية الرابطة المسيحية، لما وجدوا في القبط مثل أحمد بك زكي يقوم فيها خطيبًا، ويجعل عنوان خطابته (مصريون قبل كل شيء) بل يخشى أن يقوموا كما تقوم أوربة، ويقول الجميع: إن المسلمين في مصر يحيون التعصب الإسلامي والجامعة الإسلامية، ويدعون إلى ارتباط بعضهم ببعض؛ لمقاومة النصارى في مصر بل في جميع الأرض) . ثم بينت نسبة القبط إلى المسلمين في العدد وفي أعمال الحكومة، وأنهم أكثر فيها من المسلمين، وهم يدعون على ذلك أنهم مظلومون مهضومون، ويطلبون لأنفسهم سائر أعمال الحكومة التي في أيدي المسلمين، وأنهم يسمون أنفسهم أهل البلاد، ويُدلون ويفخرون على المسلمين بالانتساب إلى آل فرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، ويجهرون بأن المسلم فيها أجنبي محتل، وأتاوي معتد، وينكرون أن يكون للمسلمين فيها حق من حيث هم مسلمون فاتحون، على ادعائهم الحقوق فيها من حيث هم قبط مسيحيون، وبينت فيها مواثبتهم للمسلمين من أضعف جانب يرونه فيهم، وهو تهييج الإنكليز وسائر الأوربيين عليهم بتهمة التعصب الإسلامي، وكون هذه المواثبة قد تفضي إلى ندم المسلمين على ما قاموا به من دعوة الوطنية، واعتقاد أنها كانت خسارًا عليهم وربحًا وفوزًا للقبط، وأنهم إذا خسروا مودة المسلمين، فلا يمكن أن يجدوا عوضًا خيرًا منها؛ فإنهم لا يقدرون على استغلال أرضهم بعد ذلك. وبينت هنالك أن القبط لا يمتازون على غيرهم من نصارى المصريين ويهودهم، وإنما ميزهم المسلمون عناية بهم، وبحثت في دين الحكومة الرسمي، وذكرت مساعدة بعض رجال الدين من الإنكليز لهم، وأن المساواة التي يطلبونها هي امتياز على المسلمين من وجه آخر. نصحت للقبط في تلك المقالة نصيحة لو عقلوها وعملوا بها ما وقعوا في السيئة التي ندموا الآن أن اجترحوها، وقد سبني في هذه الأيام كتابهم في جرائهم ولو عقلوا قولي لاستبدلوا الثناء بالهجاء، فقد بينت لهم الآن كما بينت لهم من قبل؛ أن المسلمين يغلب عليهم النسيان والتواكل، وأنه لا شيء يحول دون سلب القبط منهم كل ما في أيديهم إلا هذه الجعجعة بالقبطية والمسيحية التي تدفعهم بالرغم منهم لمقابلتها بالجنسية الإسلامية، وهذا نص نصيحتي لهم منذ ثلاث سنين: فالرأي عندي للقبط أن لا يغتروا بترجيع بعض الجرائد الإفرنجية لأصواتهم في الشكوى من المسلمين والقول بتعصبهم، ولا من سرور بعض الإنكليزية إن كان ما قيل حقًّا فإنهم مهما أصابوا من تعضيد في مشاقة المسلمين، فهو لا يكون خلفًا صالحًا لمودتهم فيما أرى. فأنصح لهم أن يتوبوا مما فعلوا، ويعتذروا عنه، ويعودوا إلى سابق شأنهم، أو إلى خير منه إن استطاعوا. والمسلمون تغلب عليهم سلامة القلب، فلا يلبثون أن يغفروا لهم، وينسوا ما كان منهم، ففي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي: (المؤمن غر كريم) أي ليس بذي نكر ولا مكر ولا خدّاع. ولولا أنني أحب الوفاق، لما نصحت لهم بهذا. فإنني أعلم أن هذه المشاقّة لا تزيد المسلمين إلا قوة في رابطتهم الإسلامية التي أدعو إليها، وحفظًا لحقوقهم التي أغار عليها، ولكنني أفضل أن يكون تنبيهي لهم بغير هذا: (أحب أن يعتصموا بحبل الله جميعًا ولا يتفرقوا، وأن يكونوا مع ذلك على وفاق ووئام مع من يعيش معهم، وأنصح للمسلمين أن لا يكتبوا شيئًا في الرد على القبط، ولو لم يكتبوا في الماضي ما كتبوا لكان خيرًا لهم وأحسن؛ إطفاء لتلك الفتنة وخذلانًا لموقظيها. ولكن لا بأس ببيان عدد الموظفين منهم في كل مديرية، وذكر الوقائع في تعصب بعضهم لبعض، وتعاونهم الملي المحض من باب بيان الحقيقة والاعتبار بها، بشرط أن يتحرى الصحيح، ولا تمزج الرواية بشيء من التأنيب والتجريح، فضلاً عن الهجر والتقبيح) . لم تعمل القبط بهذه النصيحة؛ لاعتقادها أن المسلمين قد قضي عليهم، وأنهم أمسوا مشلولين لا حراك بهم، وزادها غرورًا أن رأت المسلمين نسوا تلك الغارة الشعواء، ولم يأخذوا حذرهم من مثلها، ولا سمعوا نصيحتي بإحصاء الموظفين؛ لبيان أن القبط غابنون غير مغبونين، فها هم أولاء قد استدركوا في هذه المرة ما فاتهم في الغابرة، فكانت كرة القبط كرة خاسرة. إنني على تنبيهي للمسلمين، وحرصي على حفظ مصالحهم ومرافقهم، ورغبتي في ترقيتهم، أجري على ما تعودت من المحافظة على مودة كل من يعيش معهم، ويشاركهم في أوطانهم، ولهذا قلت: إنني أحب نصحهم بغير هذه الوسيلة؛ ولذلك أشرت عند الحركة الأولى إلى ما يسكنها، وقد سكنت وأبت القبط إلا أن تعود إلى تحريكها، وثبت لنا أن المسلمين لا ينتبهون إلا بمثل هذه الصيحات المنكرة في وجوههم. نبهت قبل هذا على النسبة بين المسلمين والقبط في مصر، وبينهم وبين غيرهم في الأقطار الأخرى بمقالات اجتماعية شخصت الحال تشخيصًا، وذكرت بما يجب تذكيرًا. وأنَّى للغافل الذكرى؟ كتبت في الجزء الأول من مجلد المنار الثامن الذي صدر في ا

المسلمون والقبط ـ النبذة السابعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النبذة السابعة هل الحكومة المصرية إسلامية أم لا؟ إنني بحثت وأبحث في مقالي هذا عن الحقيقة الكائنة لا عن الرغيبة التي أحب أن تكون، والعاقل هو الذي يحب جلاء الحقائق، وبيان الواقع الكائن، ويستفيد منه عبرة، ويزداد بصيرة، فيسلك إلى مقاصده في طريق النور لا طريق الظلمة. ولو تدبرت القبط هذا لكافأتني جرائدها بالحمد والشكر، لا بما جاءت به من السب والهجر. من هذه الحقائق التي أبينها في هذه النبذة وقد أشرت إليها من قبل أن المسلمين يعدون أنفسهم أمة جنسيتها الإسلام، وأنه يجب أن يكون لهم حكومة إسلامية، وأن جنسيتهم هذه واسعة عادلة لا تفرق في العدل بين المسلم وغيره، وذات سماحة وحرية، لا تمنع أهلها أن يشاركوا غيرهم فيها وفي جميع مرافق الحياة، كما ولوا القبط في القديم والحديث إلى هذا اليوم أكثر أعمالهم في الحكومة، وكذا في عقارهم وأرضهم وأوقافهم. بالغوا في التسامح وأسرفوا في الجود والسماحة في أيام قوتهم، وقنعوا من السلطة باسم السيادة وكونهم هم المعطين وغيرهم هو المعطى، حتى إذا ما حل بهم الضعف صار ما أعطوه للأجانب حقوقًا وامتيازات يستعملون بها عليهم، ويزيدون فيها بقوتهم ما شاءوا، ويفسرونها كما أرادوا. وقد كان هذا بتكافل الدول القوية واتحادها بالتدريج، فأذاقوا المسلمين مرارة تفريطهم لقمة بعد لقمة، وجرعة في إثر جرعة، فتجرعوه كارهين مكرهين، كما بذلوه من قبل راضين مرضيين. وأرادت القبط أن تقيس نفسًا على الدول الكبرى، فتسمي ما سمح لها به المسلمون حقوقًا واجبة، وتزيد فيها ما تشاء، فأنشأت تطلب لنفسها الزيادة فيما سمته حقوقًا وإزالة ما بقي للمسلمين من امتياز إسلامي بمشاركتها لهم فيه. وقد كان هذا مما يسيغه المسلمون المساكين جرعة بعد جرعة، كما أساغوا تلك الامتيازات مع الاعتراف لهم بأن الحكومة حكومتهم. ولكن أبت جرائد القبط ومؤتمر القبط إلا أن تنازع المسلمين اسم السلطة كما نازعتهم معناها. وأنها لإحدى الكبر التي لم يئنْ للمسلمين في مصر أن يسيغوها مختارين. مضت سنة الله في أهل السيادة الذين يضيعون سيادتهم بسوء تصرفهم أن يكون آخر ما يهتمون به الأسماء والألقاب والرسوم والشارات الظاهرة، كما هو معروف في تاريخ الشرق والغرب. دع ذكر ملوك الطوائف وأمراء المسلمين من الأندلس إلى فارس والهند، واعتبر بحال أمراء جبل لبنان من مسلمي الشيعة، تجدهم في آخر عهدهم بعد أن ملكت النصارى حتى من خدمهم وإجرائهم معظم ما كان لهم، كانوا يقنعون من الامتياز باللقب ولبس الأحذية الحمر التي كانت خاصة بهم من دون الفلاحين، حتى كان الشيخ منهم يكون له الحقل أو الكرم الواحد من الأرض والعقار، فيهدي إليه الفلاح النصراني حذاء أحمر (جزمة) ويظهر له أنه جيء به، فلم يرد أن يلبسه تأدبًا معه فيهبه الشيخ إياه، وربما كان آخر ما يملكه. أصابت القبط موضع التأثير من قلوب المسلمين بقولها: إن حكومة مصر ليست إسلامية (أو حركت الوتر الحساس من نفوسهم كما تقول الإفرنج) وقد جعل هذه الدعوى خطيبهم في مؤتمر أسيوط قضية مسلمة، فحمد الله وحمد نية المصريين أن كان الذين يقولون منهم: إن هذا البلد إسلامي لا يتجاوزون عدد الأصابع، وهذا ألطف ما قالوه في هذا الباب؛ لأنهم قالوه بعد العلم بأن المسلمين تألموا من مؤتمرهم وعزموا على إنشاء مؤتمر إسلامي. نعم إن المسلمين مفتونون بالحكومة في كل مكان، وهذا هو الواقع وإن أضر بهم في هذا الزمان، فإنه صرفهم عن ترقية أنفسهم، والاعتماد على استعدادهم ومواهبهم، ألم تروا أن المسلمين بمصر قد أهملوا أمر الأمة، وتركوها للمرابين والمقامرين والقوادين والخمارين يغتالون ثروتها، ويجنون على دينها وعرضها وصحتها، وجعل أصحاب الجرائد وغيرهم من المتصدين والمتصدرين للأمور العامة يجاهدون الحكومة والاحتلال المسيطر عليها، وقد ترك للأمة حريتها تعمل ما تشاء فلم تعمل شيئًا يذكر، ولماذا؟ لأن الزعماء شغلوها بفتنة السلطة عن نفسها، حتى إنهم كانوا يعدون من يجب أن يكون همّ الأمة الأكبر في ترقية نفسها بالتعليم والتربية والثروة خائنًا للأمة خادمًا للاحتلال؛ لأن الواجب عندهم قبل كل شيء هو إزالة الاحتلال ثم إصلاح الأمة بالحكومة المستقلة. مقاومة الاحتلال بالسهل الممكن وهو الكلام طبيعي لا اعتراض عليه، والانتقاد على الحكومة - والحرية واسعة - طبيعي لا بد منه، وإنما المنتقد هو جعل المسلمين همهم كله في ذلك، وإهمالهم أمر تربية الأمة وتكوينها، وقد سلم من هذا الانتقاد القبط، فكوّنوا أنفسهم حتى صاروا على قلتهم يقولون (الأمة القبطية) بحق، وإنما أخطأوا أخيرًا بما نازعوا المسلمين في شكل الحكومة وتصريحهم بأنها غير إسلامية. الحق الواقع أن جمهور المسلمين يرون أن حكومة مصر إسلامية وشعورهم في هذا رقيق جدًّا، يجرحه القول اللطيف؛ ولهذا كان لورد كرومر وهو ذلك الشجاع الجبار، يتحامى أن يلمس أي شيء له علاقة بالدين، وهذه هي سنة السياسة عند الفحول المقرمين من أهلها، وعليها جرى الكثيرون في إبقاء بعض أمراء المسلمين في البلاد التي ملك الإفرنج أمرها كله؛ كسلاطين جزائر جاوه وباي تونس وبعض النواب في الهند؛ لتتوهم العامة أن حكامها من أبناء دينها. هذا هو شعور الجماهير، وإني لأعرف من المسلمين من يرى أن الخير للمسلمين أن تعلن هذه الحكومة رسميًّا أنها غير إسلامية، وأن تترك للمسلمين جميع شؤونهم الملية يديرونها بأنفسهم كما تركت مثل ذلك للقبط وغيرهم؛ كالمحاكم الشرعية والأوقاف والمعاهد الدينية كلها. يرى هؤلاء أن هذا الإعلان إذا حصل، يذهب بغرور المسلمين بهذه الحكومة التي لا حظّ لهم من عنايتها، ويبد لهم من بعد اتكالهم استقلالاً واعتمادًا على عملهم، ومن بعد كسلهم نشاطًا وإقدامًا على ترقية أنفسهم، حتى إذا ما ارتقوا وتكونوا بتوحيد التربية الملية والتعليم الحر، فصاروا أمة واحدة تكون حكومتهم تابعة للرأي العام المستقل في الأمة؛ لأن هذه هي عاقبة جميع الأمم المرتقية. تقول القبط: إن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية وحاكمها العام حاكم مدني لا حاكم ديني، وقد يحتج من يرى هذا بأنها تشرع ما لم يشرعه الإسلام من القوانين، وتبيح ما لم يبحه من الفسق. وقد يرد عليهم الجمهور بأن خطأ الحكومة في هذه المسائل كخطأ الأفراد، فكما يخالف أفراد المسلمين هداية دينهم فيزنون ويسكرون، تخالف حكومتهم هذه الهداية فلا تمنع الزنا والسكر، وحكم الفقه أن المعصية لا تخرج صاحبها من الإسلام إلا إذا جحد تحريمها، وكان مجمعًا عليه معلومًا من الدين بالضرورة. وكما تكون الأمة يكون أولياء أمورها لأنهم منها. وقد عرض لهذه الحكومة من سلطة الأجانب ما جعلها غير مختارة ولا مستقلة في كل شيء إسلامي، لكن السلطة الأجنبية لم تمح منها كل ما هو إسلامي. إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تستولي على مال من يموت من المسلمين عن غير وارث، ولا تستولي على مال من لا وارث له من القبط وغيرهم من النصارى واليهود؟ إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تتولى هي القضاء الشرعي الإسلامي في الأحكام الشخصية، وتدع مثل ذلك لغير المسلمين يحكمون فيه بما يعتقدون؟ إن القاضي الأكبر الذي يتولى السلطة الشرعية العليا من قبل خليفة المسلمين، يحكم بين الناس بمذهب الخليفة والأمير وكذلك سائر القضاة. ولا يحكم أحد منهم بين المتخاصمين بأحكام المذهب الذي يتقلدونه، بل جعلوا قضاء مصر حنفيًّا محضًا كالقضاء في بلاد الترك الحنفية، وأهل مصر شافعية ومالكية إلا القليل. إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا لا تترك للمسلمين أوقافهم كما تركت للقبط وغيرهم أوقافهم، فإذا كان الخديوي كما تقول القبط حاكمًا مدنيًا فقط، ونسبة المسلمين والقبط إليه من حيث هو حاكم واحدة، فهل يرضون بكل ما يتفرع على هذا الأصل، ويجعلون له الحق أن يعطي من أوقاف القبط للمنافع المشتركة (كالجامعة المصرية) كما يعطي من أوقاف المسلمين. إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تضع هي القوانين للمعاهد الدينية التعليمية كالأزهر وغيره من جوامع العلم الديني، وتولي هي المشايخ عليه ومشايخ المذاهب، وترفع بعضه في الرتب العلمية الدينية على بعض. ولماذا تولي أئمة الصلاة وخطباء الجمعة، ولا ترى لها مثل هذا الحق في معاهد الديانة النصرانية من الأديار والكنائس وقسوسها ورهبانها وسائر رجال دينها، وإنما تكتفي ببعض الرسوم الدالة على أن هذه الديانة من الديانات التي أقرتها الحكومة في بلادها، ولها عليها حق الحماية وحفظ الحرية الدينية. وليس لكل أهل دين هذا الحق في كل حكومة، فالبابية ليس لهم حقوق دينية في بلاد الدولة العثمانية كالنصارى مثلاً. إذا كانت هذه الحكومة غير إسلامية، فلماذا تترك العمل في الأعياد الدينية الإسلامية، وتحتفل بها احتفالاً رسميًّا كما تحتفل بالمولد النبوي الشريف دون أعياد القبط وغيرهم، ودون مولد سيدنا عيسى عليه السلام، ومثل ذلك الاحتفال بمحمل الحج وكسوة الكعبة المعظمة. لست أعني بهذه الأمثلة والشواهد أنها كلها من الفرائض أو السنن في أصل الإٍسلام، أو من الأحكام التي فرضها الدين على الحكام، فالصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون لم يحتفلوا بذكرى المولد ولا المعراج، كما تحتفل الحكومات الإسلامية الآن، وإنما أعني أن هذه الخصائص من آثار كون الحكومة إسلامية. تريد القبط أن تمحو هذه الخصائص، ومن وسائلها على ذلك طلب ترك العمل في يوم الأحد، وطلب جعل أموال الحكومة المصرية شرعًا بينهم وبين المسلمين، لا يتفق شيء منها في مصلحة إسلامية إلا ويتفق مثله في مصلحة قبطية، وهذا أصل عام، يتفرع منه إذا قبل محو جميع خصائص المسلمين في هذه الحكومة. وتحتج القبط على حقيقة هذا الطلب بأن هذه الحكومة مصرية لا إسلامية، فهذا هو الأصل عندها، فإذا قبلته الحكومة ترتب عليها ما طلبوا أو أكثر مما طلبوا من الفروع. وإذا محصنا المسألة وبينا حقيقتها ترى أن المطلوب هو إخراج هذه الحكومة عن كونها إسلامية بإزالة كل اختصاص للمسلمين فيها، ولكن أبوا أن يعترفوا بهذا الأصل ويطلبوا هدمه، ورجحوا أن يهدم بهدم ما بني عليه. وهذا من الدهاء والحكمة ؛ لأن طلب إبطال الفروع أخف على النفوس من طلب إبطال الأصول، فإنه من قبيل الدعوى بالدليل، ولأن من اعترف بالأصل لزمه الاعتراف بالفروع. فما جروا عليه هو الأقوى والأنفع لهم، وهو أشد على المسلمين في باطنه وحقيقته، وأخف في ظاهره وصورته. إن الدولة العثمانية أمّ الحكومة المصرية واقفة أمام مثل هذه المسألة في بلادها، فقد قام النصارى بعد الدستور يطالبون بنحو ما تطالب به القبط. ولكنهم لا يزالون يخفون أكثر مما يظهرون، وليس موضوع كلامي إبداء رأيي أو ميلي في تخطئة هذا أو ذاك ولا تصويبه، وإنما رأيت الأمر غمة على المسلمين والنصارى كافة، وما رأيت أحدًا يتجرأ على بيان الواقع فأحببت أن أبينه كما هو لا كما يجب أن يكون. الواقع أن الحكومة العثمانية حكومة إسلامية قبل الدستور وبعده، وأن الحكومة المصرية مثلها وتابعة لها في كونها إسلامية، وإنما تختلف في شيء واحد وهو أنها مستقلة في إدارتها الداخلية بعهد (فرمان) من السلاطين. وأن الاحتلال الأجنبي مسيطر عل

المسلمون والقبط ـ النبذة الثامنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النبذة الثامنة المؤتمر المصري إن بركات هذا المؤتمر قد سبقت وجوده فإن القبط لما علموا بالعزم عليه اضطروا إلى سلوك سبيل الأدب في التعبير، وتنكب السبيل التي سار عليها كتابهم في الجرائد، وهي سبيل الغميزة والتعيير، ولكنهم لم يرجعوا عن مقصد من مقاصدهم، وأهمها إنكار كون حكومة مصر إسلامية، وادعاء أنهم أعلى كفاءة من المسلمين، وأنهم أخذوا معظم وظائف الحكومة بحق الكفاءة، ويطلبون ما يطلبون من سائرها بحق الكفاءة. غرهم اتحادهم وتخاذل المسلمين، وطعن بعض أفرادهم وأحزابهم ببعض ولا سيما بالنابغين منهم في الحكومة، فادعوا ما هو بديهي البطلان في مسألة الكفاءة الشخصية، وما يكاد يكون حقًّا ظاهرًا في كفاءة العصبية الملية لولا أن انبرى أولئك الأكفاء الفضلاء إلى تأليف هذا المؤتمر الإسلامي المصري، وكل ما هو مصري فهو إسلامي إذا عرف المسلمون أنفسهم، وتعاونوا على القيام بمصالح قطرهم؛ لأن غيرهم قليل، فيكون بالضرورة مدغمًا فيهم، وليس له وجود مدني خاص بدونهم، ولكن وجودهم المدني وقد اجتمعوا وتعاونوا لا يتوقف على وجود غيرهم. لولا غرور القبط باتحادهم، وتخاذل المسلمين وتفرقهم لما طلبوا الرياسة الإدارية بدعوى الكفاءة. وكيف تعرف كفاءة المرء في أمر ليس له فيه عمل، ولم تسبق له فيه تجربة، ومن ذا الذي يشهد لهم بهذه الكفاءة وشهادة المرء لنفسه باطلة ولم يشهد بها المسلمون ولا المحتلون وهم أبناء دينهم، فإذا كانوا يعتدون بشهادة أولياء الأمور فليتركوا الأمر إليهم، وإلا فليأتوا بشهدائهم إن كانوا صادقين. أما أنا فأقول: إن هذا المؤتمر هو الذي يشهد لهم أو عليهم. ولا أعني بشهادته ما يأتي به خطباؤه من البينات والحجج فقط، وإنما أعني شهادة الحال دون شهادة المقال، فإن لسان المقال قد يكذب وقد يختلب لب السامع بالشعريات المتخيلة، فيبرزها في صور الحقائق المقررة، كما فعل خطباء القبط في مؤتمرهم. وأما لسان الحال فهو الصدوق الذي لا يعرف الكذب، والمحق الذي لا يأتيه الباطل فنجاح المؤتمر المصري بالثبات والنظام والعدل والإنصاف والاتحاد والتعاون هو الذي يشهد للمسلمين على القبط، وشهادته لا تكون بذلك إلا حقًّا؛ لأن تلك الصفات هي روح الحق. أبطأ مسلمو مصر في هذا المؤتمر، كما أبطأ إخوانهم مسلمو الهند في مثله من قبل، سبق وثنيو الهند مسلميها في عقد المؤتمر السنوي والجمعية الملية، والمسلمون هنالك أقل من الوثنيين عددًا، وسبق قبط مصر مسلميها في إنشاء المجلس الملي وفي عقد مؤتمر قبطي، والمسلمون في مصر هم الأكثرون عددًا، فما هو سبب ذلك، ههنا وهنالك. كان المسلمون هم أصحاب العزة والسلطان الغالب في الهند كمصر، فعاش الفريقان الزمن الطويل بعد دخول الأجانب في بلادهم، مغرورين بسابق عزهم وسلطانهم، ولم يشعروا بحاجتهم إلى حياة اجتماعية جديدة في هذا العصر الجديد كما شعر الهندوس هناك والقبط هنا لعدم غرورهما، وإنما استيقظ مسلمو الهند قبل مسلمي مصر؛ لأن الغرور بالحكومة الإسلامية قد زال من نفوسهم من قبل، وإن أبقت لهم إنكلترة بعض النواب الأمراء كالتماثيل الأثرية أو المومياء في متاحف العاديّات، وبقي مسلمو مصر مغرورين متكلين على حكومتهم مشغولين بسلطة الاحتلال المسيطرة عليها، حتى زلزلت القبط هذا الغرور باتحادها وتكافلها، وفغر أفواهها لابتلاع الحكومة كلها، كما أيقظ مسلمي الهند اتحاد الهندوس وتكافلهم وتقدمهم عليهم بعد أن كانوا دونهم، فليس لقلة المسلمين النسبية في الهند ولا لكثرتهم في مصر دخل في هذه المسألة الاجتماعية، وإنما هي فتنة السياسة والغرور بشكل الحكومة، قد أذهلا الأمة عن نفسها، وصرفاها عن استعمال مواهبها، حتى كادت تفقد نفسها ومواهبها. إن الأمم الأوربية التي يجب أن تعتبر بحالها هي التي أصلحت حكوماتها، ولم تكن حكوماتها هي التي أصلحتها، فإذا ارتقت الأمة ترتقي الحكومة بالضرورة، وقد قال السيد الأفغاني الحكيم: العاقل لا يُظلم ولا سيما إذا كان أمة. يجب على زعماء الأمم أن يوجهوها إلى قواها الذاتية، وثروتها الطبيعية، وأن ينموا هذه القوى والثروة، حتى تكون مصدر سعادة الأمة، وأن يحولوا دون افتتان العامة بالسياسة، والاشتغال بأمر الحكومة، فإن ذلك يشغلها عما تحسنه وتقدر عليه بما لا تحسنه ولا قبل لها به، وقد ورد في الحديث الشريف: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) رواه الشيخان في صحيحيهما. يعني أنه ينبغي للإنسان أن يعمل ويشتغل بما يميل إليه استعداده، فإنه هو الذي يرجى أن يتقنه، ومن حكمة الله في اختلاف الاستعداد أن يتقن مجموع البشر جميع الأعمال، فمسألة الحكومة والسياسة فتنة عظيمة في كل الشعوب ولا سيما في دور الانقلاب الاجتماعي والانقلاب السياسي. إن للأمة حقوقًا على العلماء والكتاب والأغنياء الذين يهتمون بالأمور العامة ويتصدون لها. منها خدمة مصلحتها الدينية والأدبية، ومنها خدمة مصلحتها الاجتماعية، ومنها خدمة مصلحتها الاقتصادية، فإذا حصروا عملهم في السياسة أو جعلوه كله باسم السياسة أضاعوا عليها هذه المصالح والمنافع التي لا قوام لها ولا بقاء إلا بها، ولا سيما في مثل هذه البلاد التي ليس لها من أمر سياسة نفسها إلا الكلام بقدر ما تسمح به حرية الحكومة. وإني أعتقد أن الأمة لا ترتقي إذا كان همها كلها موجهًا إلى شيء واحد، وناهيكم إذا كان ذلك الشيء هو السياسة التي لا يشتغل بها في كل الأمم إلا القليلون، ولا يحسنها ممن يشتغل بها إلا الأقلون. أمرنا الكتاب العزيز أن نسير في الأرض ونعتبر بأحوال الأمم، فإذا نحن بلونا أخبار الشعوب الغربية وسبرنا غور ترقيهم، نرى أنهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من العزة والثروة إلا باهتمام النابغين منهم بترقية الأمة، والاستعانة على ذلك بالجمعيات والشركات وتوزيع الأعمال بحيث يشتغل بكل نوع منها طائفة لا تشتغل بغيرها حتى تحسنها. إذا اختبرنا حالهم في التربية وخدمة الدين نظن أنه لا هم لهم من الحياة غير دينهم، ذلك بأن لهم جمعيات دينية كثيرة قد تبرعوا لها بالأموال، ووقفوا لها الأوقاف حتى صارت تملك الملايين من الجنيهات، وقد عمت التربية الدينية عندهم ثم فاض طوفانها على جميع شعوب الأرض، فأنشأوا فيها المدارس والملاجئ والمستشفيات، وطفقوا يبثون فيها دينهم وينشرون كتبهم مترجمة بجميع اللغات، وإن الفقراء منهم ليساعدون هذه الجمعيات على قدر حالهم، حتى إن منهم من يحرم نفسه من شرب الشاي أو من سكره أو من اللحم شهرًا أو شهورًا أو سنة، ويجعل ما كان ينفقه في ذلك للجمعيات الدينية، كما يعلم ذلك من كتبهم وجرائدهم. أذكر مثالاً صغيرًا من ذلك وقع في هذه البلاد: كتب قسيس إنكليزي يقيم في شبين الكوم في جريدة دينية؛ أنه يريد أن يطوف القرى في الأرياف للتبشير بالإنجيل، وأنه يحتاج إلى دراجة (بيسكلت) لذلك ولا يملكها. فما لبث أن أمطرت عليه بلاده الدراجات الجيدة، حتى صار بيته مخزنًا لها لا يكاد يسعها، وتبع هذا من الدراهم والهدايا ما لا حاجة بنا إلى عده. وإذا دققنا النظر في أعمالهم المالية نظن أنه لا هم لهم من الدنيا إلا المال والاحتيال على جمعه، وتصريف أمور العالم كله به، وناهيكم بمصنوعاتهم التي يعيش العالم كله بها، ولا تكاد تقع عين أحد منا إلا عليها. وإذا بحثنا في العلوم والفنون كل منها على حدته، فإنه يسبق على أذهاننا عند الوقوف على عنايتهم بكل علم وحده أنهم لم يشتغلوا بغيره، ولا يحفلون إلا ببلوغ الغاية منه، حتى إنهم جعلوا لكل فرع من فروع العلم الواحد جمعيات خاصة لأجل إتقانه. فإذا أردنا الاعتبار بحالهم مع الاستضاءة بنور العقل، فعلينا أن ننظر في حاجات أمتنا ومصالحها العامة، ونختص بكل منها طائفة تشتغل بها دون غيرها؛ لأن إتقان العمل الذي هو سلم الترقي لا يكون إلا بذلك. عندنا جمعيات خيرية وتعليمية ودينية ونقابات مالية وزراعية وشركات تجارية وصناعية، وتألفت عندنا مجالس المديريات لأجل تعميم التعليم، وهذه المصالح كلها لا تزال ضعيفة ونفعها محصورًا في دائرة ضيقة، فهي الآن كالأعضاء المتفرقة يجب اتصالها؛ ليكون عمل كل منها متممًا لعمل الآخر، أو كالشرايين المنفصلة يجب اتصالها بالقلب لتستمد منه وتمده، أو كالأسلاك البرقية التي يصل كل منها بين بلدين أو أكثر من المملكة، ولا تتصل بالمركز العام الذي يصل بعضها ببعض، وما دامت مصالحنا متفرقة على هذا النحو لا نكون أمة متحدة، فيجب أن يكون لجميع مصالح الأمة العامة سمط واحد تنتظم فيه حباتها ويزاد عليها، حتى تكون عقدًا كاملاً، يجب أن تتصل هذه الأعضاء العاملة فتكون جسمًا واحدًا، يعمل كل عضو منها عمله الخاص به؛ لأجل منفعة سائر الأعضاء. فالسمط الذي نحتاج إليه لتكوين عقدنا الاجتماعي، بل الدماغ أو القلب الذي نحتاج إليه ليمد جميع أعضاء الأمة بالحياة هو هذا المؤتمر. ما سرني شيء في مصر كما سرني تأليف هذا المؤتمر، وإنما يتم السرور- إن شاء الله تعالى - بنجاحه ودوامه، وإني أقترح عليه ما يغلب على ظني أن غيري يقترحه، والحق يزيد قيمته ويعلو شرفه بكثرة طلابه، ولكن لا ينقص شرفه بقلتهم، فإن الحق كالجوهر الخالص، شرفه ذاتي له، وإنما يعلو ويغلو بمعرفة الناس لهذا الشرف وتنافسهم فيه أي: بأمر عارض غير ذاتي. كفاني قانون المؤتمر أمر اقتراح سلبي لابد منه، ولا يرجى بقاء المؤتمر ونفعه إلا به، وهو عدم الاشتغال بالسياسة؛ فالسياسة ما دخلت في شيء إلا أفسدته كما قال الأستاذ الإمام، فيجب أن تترك لنفسها ويفوض أمرها على أحزابها، وأن يشتغل المؤتمر بما دونها من مصالح الأمة فيجمع متفرقها، ويكمل ناقصها، ويوحد وجهتها؛ ليكون عمل الكل موجهًا إلى غاية واحدة. للمؤتمر عمل عارض مؤقت وأعمال دائمة مقصودة لذاتها، فالعمل العارض الموقت هو تمحيص مطالب المؤتمر القبطي، وبيان حقه من باطله. يقول الله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) الآية. ولا أحسن من بيان الوقائع وإثبات الحق بالإحصاء الصحيح، وبذلك يثبت المؤتمر أنهم طلبوا من أعمال الحكومة ما لو أعطوه لأضحت الحكومة قبطية خالصة، ويسهل على المؤتمر أن يثبت ما يعترف به بعض القبط من تعصب رؤسائهم لهم في جميع المصالح، وتقديمهم على المسلمين، ومن كان هذا شأنهم فإسناد الوظائف الرئيسية إليهم يخشى أن يفضي إلى ما لا تحمد عقباه من التعصب والغلو في الخلاف، حيث تكون الحكومة كلها في أيديهم. وليس فيما قاله القبط في مؤتمرهم وما يكررونه كثيرًا في جرائدهم أمر ذو بال إلا تصريحهم بأن هذه البلاد ليست إسلامية وحكومتها ليست حكومة إسلامية. إن القبط على احتراسهم في مؤتمرهم وتحاميهم الألفاظ التي تكبر المؤاخذة عليها، صرحوا بأنه لا يقول: إن هذه البلاد إسلامية، للمسلمين فيها ما ليس لغيرهم إلا أفراد لا يجاوزون عدد الأصابع، صرح بذلك خطيبهم توفيق بك دوس المحامي، ولجريدتيهم كلام كثير في ذلك، أوضح مما قاله خطيب مؤتمرهم. وعلى هذا بنوا وجوب تعليم الدين المسيحي في مدارس الحكومة وبطالة يوم الأحد. فيجب على المؤتمر أن يبين ما يترتب على هذه الدعوى، وهو أنه إذا كانت الحكومة الخديوية تعترف من نفسها أنها غير إسلامية أو يكرهها

اقتراح صاحب المنار على المؤتمر المصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اقتراح صاحب المنار على المؤتمر المصري بسم الله الرحمن الرحيم ] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [[1] أحيي رجال هذا المؤتمر الكرام الذين هم موضع الرجاء في ترقية أهل هذا القطر السعيد وإعلاء شأنه، وأكاشفهم بما عندي من الرأي، وإن كنت أظن أن غيري سبقني إليه كله أو بعضه. إن هذا المؤتمر هو الذي يمثل حياة مسلمي مصر الاجتماعية ودرجة ارتقائهم وما يرجى لهم من المزيد، وقد سبقهم إلى مثله مسلمو الهند. وإنما نجاحه بثباته ودوامه، ولا يثبت ويدوم إلا بما تقرر من جعله بمعزل عن السياسة، وحصر أعماله في ترقية الأمة بالتربية والتعليم والكسب والاقتصاد والتكافل والتضامن في المصالح والمرافق. وأما تمحيص مطالب القبط وبيان ما هو الحق في هذه المسألة، فهو أهون أعمال المؤتمر العارضة. فأقترح على المؤتمر أن يكون له خمس لجان دائمة، تعمل وتسعى لتحقيق مقصده العالي: (الأولى اللجنة الإدارية) يناط بهذه اللجنة كل ما يتعلق بالنظام والإدارة العامة، ويكون أعضاؤها مختارين من جميع الأحزاب والطبقات. * * * (الثانية لجنة التربية والتعليم) يناط بهذه اللجنة النظر في التربية الدينية العملية والتعليم في جميع المدارس الأهلية التي للجمعيات والأفراد، وما كان وسيكون لمجالس المديريات لتوحيد نظامها وموادها وتوسيع دائرتها، فإنه لا شيء يضر البلاد ويفرق كلمة الأمة كاختلاف التربية والتعليم، ويتألف أعضاء هذه اللجنة من أعضاء تلك الجمعيات والمجالس ومن نظار المدارس الشخصية. والجمعيات التعليمية عندنا هي الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية العروة الوثقى، وجمعية المساعي المشكورة. وأقترح أن يكون من أعمال المؤتمر التي تنظر فيها هذه اللجنة أولاًّ ثم تحوله إلى اللجنة الإدارية، مساعدة الجمعية الخيرية الإسلامية على إنشاء مدرسة كلية إسلامية للبنات، يتربى فيها البنات على عبادات الإسلام وآدابه وأخلاقه، ويعلم فيها تدبير المنزل، وكل ما تحتاج إليه ربات البيوت بالعمل، وما يعلي أفكارهن ونفوسهن من العلوم، فإن البيوت لا تصلح إلا بالتقوى والفضيلة والنظام والعلم والأدب التي تتحلى بها النساء، ويفضن منها على أولادهن. * * * (الثالثة لجنة الوعظ والإرشاد) تناط بهذه اللجنة العناية بأمر العامة في القطر كله بتعيين وعاظ في كل جهة، يطوفون البلاد والقرى، يعلمون الناس أمر دينهم، وما لا بد منه من أمر دنياهم؛ كالمحافظة على الصحة والألفة والمودة بينهم وبين من يعيشون معهم على اختلاف مللهم ونحلهم؛ وكالحذر من المرابين والغاشين والمقامرين والدجالين الذين يأكلون أموالهم بالباطل، وينفرونهم من البدع والخرافات والعادات الضارة في الاحتفالات والأفراح والأحزان وغيرها، ومن المعاصي الفاشية في الأرياف كالاعتداء على الأموال والأعراض والنفس والثمرات والزروع وغير ذلك؛ كشرب المسكر والحشيش، ويكون أعضاء هذه اللجنة من الأزهريين، ومتخرجي دار العلوم، وجماعة الدعوة والإرشاد. * * * (الرابعة اللجنة المالية الاقتصادية) يناط بهذه اللجنة النظر في ديون الأهالي، وبيان طرق الإرشاد والمساعدة على وفائها بقدر الإمكان، وفي حفظ الثروة مما يغتالها بجهل أربابها وسفاهتهم؛ كالربا الفاحش الذي أهلك الفلاحين، وفي ترقية الزراعة والتجارة والصناعة في البلاد. ويكون أعضاء هذه اللجنة من رجال النقابات الزراعية والشركات المالية على اختلاف موضوعها، ومن كبار المزارعين والتجار. وأظن أن الكثيرين من أعضاء المؤتمر يبينون هذه المسألة بالإيضاح الذي ليس وراءه غاية يصل إليها مثلي * * * (الخامسة اللجنة الخيرية) يناط بهذه اللجنة النظر في أحوال العجزة والبائسين المستحقين للإعانة على ضروريات المعيشة، أو على الكسب، أو التربية والتعليم. وتتألف هذه اللجنة من بعض أعضاء الجمعية الخيرية الإسلامية، وجمعية الملاجئ العباسية، وجمعية الإسعاف، وجمعية رعاية الأطفال، ومن غيرهم من أهل الفضيلة والفطنة. ويكون من أهم أعمالها جمع ما يمكن من مال الزكاة وصدقات التطوع وجلود الأضاحي وغير ذلك؛ وصرفها في مصارفها الشرعية بلا محاباة. وإني أعرف من الناس من يحار في البحث عن المستحقين للزكاة الشرعية، فإن أكثر المستجدين الذين يتكففون الناس في الطرق لا يوثق باستحقاقهم؛ لاتخاذهم الشحاذة حرفة وكسبًا، فإذا وجدت في المؤتمر لجنة من أهل العدالة والتقوى والعلم يضعون الزكاة في مصارفها الشرعية، فأهلها يسرون بدفع زكاتهم إليها وتوكيلهم بصرفها للمستحقين لها. وبقيام المؤتمر بهذه وظهور فائدته للناس بسعيه - يقيم هذا الركن الإسلامي الذي هدم في هذه البلاد، حتى لم يبق منه إلا أثر دارس، وهو ما امتاز به الإسلام على جميع الأديان. أقترح على المؤتمر تأليف هذه اللجان ووضع النظام لأعمالها، وأن يكون هو الصلة بين الجمعيات والنقابات والشركات والمجالس التي تخدم البلاد، فيمدها بالرأي والمال، ويستمد منها ما يساعده على توحيد المصلحة وتوجيهها إلى المقصد من ترقي الأمة المادي والمعنوي مع محافظة كل منها على الاستقلال في العمل، فتكون كأعضاء الجسم، كل عضو يعمل عمله لمصلحة البدن كله. ويكون المؤتمر كالقلب الذي يمد كل عضو بالدم النقي الذي يقوى به على عمله. وأقترح أن يكون للمؤتمر مركز عام في القاهرة، تجتمع فيه اللجان في الأوقات التي يعينها النظام في أثناء السنة، وتضع كل لجنة منها تقريرًا ينظر فيه المؤتمر في وقت انعقاده كل سنة، وينفذ ما يمكن تنفيذه إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

كيف خلق الإنسان

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ كيف خلق الإنسان [*] بينا في بعض مقالات نشرت في الصحف اليومية أن مذهب داروين؛ وإن كان من أحسن المذاهب العلمية الآن لتفسير المسائل الطبيعية، إلا أنه لم يبلغ درجة اليقين، فهو لا يزال ظنيًّا لا قطعيًّا، ويجب على أتباعه أن يعرفوا عنه هذه الحقيقة، وقد أوردنا عليه فيما نشر بعض احتمالات تقوض أهم أركانه، وتدك أكبر أسس بنيانه، حتى إن كبيرًا من أعظم أنصاره في الشرق لم يقدر على الرد علينا. وقد سألني بعض الإخوان قائلاً: إذا كنت تشك في صحة مذهب داروين، فكيف تفسر لنا علميًّا خلق الإنسان أولاً من طين؟ فأردت أن أجيبه في هذه المقالة على هذا السؤال. وقد رأيت أن أبدأ بسرد تلك الاحتمالات التي أوردتها على هذا المذهب، ثم أتبعها بالجواب، فأقول: أما الاحتمالات فهي: (1) إذا قلنا: إن بعض الأعضاء الأثرية في نوع ما من الأنواع كان مستعملاً في هذا النوع بعينه من قديم الأزمان، ولاختلاف الظروف والأحوال التي أدت إلى إهمال هذا الاستعمال فيما مضى من الأجيال، ضمرت هذه الأعضاء وصارت آثارًا للدلالة على أصولها في نفس هذا النوع لا على أنها كانت أعضاء في نوع غيره، فبماذا يا أنصار هذا المذهب تثبتون تغير الأنواع وانتقالها من نوع إلى آخر؟ ؟ مثال ذلك عضلات الأذن الظاهرة للإنسان والجسم الصنوبري (Body Pineal) الذي في مخه، وتقولون عنه: إنه كان عينًا ثالثة في الحيوانات التي ارتقى عنها الإنسان. فلماذا لا نقول: إن هذه العضلات وتلك العين الثالثة كانت للإنسان نفسه في أول الأول، خلقت ابتداءً معه لمنفعة لها إذ ذاك، ولتغير الظروف والأحوال فيما بعد أهمل استعمالها لتلك الأسباب التي تزعمونها، فضمرت حتى صارت آثارًا دلت على ما كان له في قديم الزمان لا على أنه انتقل من نوع إلى نوع؟ ومثل ذلك يقال في سائر الحيوانات التي توجد فيها مثل هذه الأعضاء الضامرة؛ أي أن كثيرًا من الحيوانات كانت لها هذه العين الثالثة ثم زالت أو ضمرت؛ لعدم الاحتياج إليها وإهمال استعمالها، وكذلك تجدها في الحيوان المسمى بالإفرنجية هاتريا (Hatteria) ؛ وهو نوع مخصوص من الأورال (جمع ورل) (Lizards) كانت له هذه العين فأهمل استعمالها، فضمرت فيه وبقيت إلى الآن مغطاة بالجلد، وبمثل هذا التعليل يمكننا أن نعلل ضمور الحوض والطرفين السفليين في الحيات؛ أي أن بعض هذه الأعضاء الأثرية المشاهدة الآن في أنواع الحيوانات كانت في قديم الزمان أعضاء نامية في نفس هذه الأنواع لا في أنواع غيرها، كانت موجودة قبلها، أما باقي الأعضاء الأخرى الأثرية فيمكن تعليلها بعلل أخرى كما سيأتي: (2) إذا سلمنا أن بعض الأنواع ارتقى عن البعض الآخر، واستدللنا على ذلك بمثل الأسنان التي تظهر في الفك الأعلى لأجنة الحيتان والحيوانات المجترة، ثم تذهب وتزول قبل أن تولد، وقلنا: إن ذلك دليل على ارتقائها من نوع غير نوعها، فبماذا نثبت ارتقاء جميع الأنواع بعضها من بعض؟ مع أن مثل هذا البرهان لا يوجد إلا في بعض الأنواع دون البعض الآخر؛ أي أننا إذا سلمنا أن الأنواع كانت أقل مما هي عليه الآن بقليل، فلا يمكننا أن نسلم أنها جميعًا كانت قليلة جدًّا (أي نحو أربعة أو خمسة مثلاً) كما ذهب إليه داروين أو واحدًا فقط كما ذهب إليه غيره ممن اتبعه، فإذا سلمنا أن الحمار والحصان من أصل واحد، فلا نسلم أن الكلب والإنسان كذلك. ومثال ذلك في اللغات: أننا إذا قلنا: إن بعض الكلمات في بعض اللغات مشتق من اللغات الأخرى؛ لوجود تشابه في حروفها ومخارجها، فلا يمكننا أن نقول: إن كل كلمة في أي لغة مشتقة من كلمة أخرى في لغة أخرى قبلها، بل إن كثيرًا من الكلمات قد وضع في اللغات وضعًا وخلق خلقًا، ولم يكن له سابق في لغة قبله، فكيف إذًا نثبت أن الإنسان - أو غيره من بعض الأنواع الأخرى - لم يخلق نوعًا مستقلاًّ عن غيره من الأنواع، وأي برهان صحيح نقيمه على ذلك سوى الظنون والأوهام، مع ملاحظة أن مثل البرهان السابق (أي ظهور الأسنان بعض أجنة الحيوانات ثم زوالها) إن صح في بعض الأنواع فلا يصح في نوع الإنسان، ولا في أكثر الأنواع الأخرى. وإلا فما هي الأعضاء الأثرية التي تثبت ذلك فيه؟ ؟ (3) لنا أن نقول: إن سنة الله في الخلق هي أن يخلق أجنة الحيوانات المتماثلة على طريقة واحدة، ثم ينوعها بحسب أنواعها المختلفة؛ أي أن أجنة بعض الحيوانات المختلفة في نوعها تكون في مبدأ الأمر متشابهة كل الشبه، ثم تتنوع شيئًا فشيئًا، حتى يختلف بعضها عن بعض، فكما أن جنين الذكر والأنثى هو في الأصل واحد، ومنه يشتق الذكر والأنثى، فكذلك أجنة كثير من الحيوانات هي في الأصل واحدة؛ لأنها خلقت في مبدأ الخلق من شيء واحد كما سيأتي بيانه، ثم اشتقت منها الحيوانات المختلفة. وكما أنه لا يصح أن يقال: إن الذكر كان أنثى وارتقى لوجود آثار الأنثى فيه، وبالعكس كذلك لا يصح أن يقال: إن الإنسان كان حيوانًا آخر وارتقى؛ لوجود آثار من الحيوانات الأخرى فيه؛ كالزائدة الدودية التي هي عبارة عن أعور طويل في الحيوانات الأخرى ذوات الثدي، وكالأقواس الخيشومية (arches Branchial) في جنين الإنسان التي تقابل خياشيم الأسماك، فإن هذه الأشياء الأثرية وجدت في الإنسان، كما وجدت آثار الأنثى في الذكر، وبالعكس لأن الجنين لكل من هذه الحيوانات المختلفة كان أصله واحدًا في شكله ومادته وخواصه، ثم تنوع فوجدت آثار بعض الحيوانات في البعض الآخر؛ لتشابه أجنتها في مبدأ الأمر ولتكونها على طريقة واحدة ومن مادة واحدة. ومثل ذلك أيضًا الجلد والعضل والعصب والعظم، فإنها خلقت جميعها من خلايا (بروتوبلاسمية) واحدة في أصلها وشكلها، ثم تنوعت أثناء نشوئها، وحافظت خلاياها على خواص الخلايا (البرتوبلاسمية) الأولى وصفاتها بدرجات متفاوتة، بحيث صار بعض هذه الخواص في بعض هذه الخلايا أصليًّا، وفي البعض الآخر أثريًّا مثل خاصية الانقباض التي توجد في الخلايا العضلية ظاهرة واضحة وفي غيرها طفيفة غير خافية، وإن كانت في الخلايا الأصلية متساوية. ويلحق بهذا الوجه وجه رابع وهو أن تقول: (4) إن بعض هذه الآثار يمكن تعليله بأنه من بقايا التكون التدريجي؛ أي مما يتخلف عنه، وذلك أننا أثناء تكون الجنين نشاهد بعض أشياء توجد ثم تزول أو تبقى آثارها، ولا فائدة منها بحسب علمنا، ولا يمكن تعليلها بما يعللون به الأعضاء الأثرية الأخرى. مثال ذلك: (1) غشاء الحدقة (membrane Pupillary) فإنه يظهر في الجنين طامسًا العين ثم يزول قبل أن يولد ببعض شهور، ولا يمكن أن يقال: إنه كان مستعملاً في حيوانات سابقة، وإلا لكانت عمياء وضاعت فائدة أعينها بوجوده. (2) غشاء البكارة؛ فإنه بقية من بقايا التكون التدريجي، وهو منتهى ما يقولونه عنه. وكذلك. (3) الحاجز المهبلي الذي يوجد في بعض النساء، وهو ينشأ من اتحاد إحدى أنبوبتي ملر (Ducts Mullerian) بالأخرى. (4) جفون العينين؛ فإنها تتكون ثم تلتحم ثم تتفتح في الجنين، ولا يعلم أحد حكمة هذه التقلبات، فكذلك يمكن أن يقال: إن ظهور الشعر في جميع جسم الجنين الإنساني مثلاً ثم ضموره من أغلبه بالتدريج، هو من هذا القبيل؛ أي أنه لا يدل على أن الإنسان كان أولاً حيوانًا ذا شعر طويل كغيره من الحيوانات، ولما ارتقى ضمر شعره. وما يقوله أنصار داروين في تعليل هذه المسائل الأربعة المذكورة هنا، نقوله نحن في تعليل وجود الأعضاء المتخلفة عن التكون التدريجي، وهذا أيضًا وجه آخر في تعليل مثل الزائدة الدودية في الإنسان. وإن اعترفوا بالعجز عن تعليل بعض هذه المسائل، وأقروا بجهلهم حكم كثير من أعضاء الجسم: كالثيموس (Thymus) والجسم السباتي (Carotid) والجسم العصعصي (Coccygeal Body) وغيره، اعترفنا نحن أيضًا بجهلنا حكمة بعض الأعضاء الأثرية، وحينئذ فلا فرق بين مذهبنا ومذهبهم سوى أنهم أكثر جرأة منا على التهجم على دعوى معرفة أسرار الكون والاغترار بما عرفوه، وإن كان كل يوم يظهر أنهم فيما يزعمون كاذبون عاجزون. وأما كيفية خلق الإنسان؛ فالجواب القطعي عنها لا يعلمه إلا الله. وأما الظني فيمكننا أن نقول: لا يخفى أن أجنة الحيوانات بعضها يتكون في الرحم والبعض الآخر خارج الرحم؛ كالتي تتكون في التجويف البطني في الإنسان وغيره، وفي بيض الطيور وفي مياه البحار: كالقنافذ (hedgehogs or Seaturchins) وغير ذلك. والذي يظهر فيها كلها أن اللازم للتكوين هو حيوان منوي غالبًا [1] وبويضة ووسط مغذ، سواء كان ذلك الوسط جدر الرحم، أو غشاء البريتون، أو زلال البيض، أو مياه البحار، أو غير ذلك. وعليه فيحتمل أن الله تعالى خلق أولاً حيوانات منوية وبويضات من مادة واحدة [2] وهما خلايا حيوانية كما خلق الأميبا (Amoeba) وغيرها من الحيوانات ذات الخلية الواحدة، ولاختلاف الوسط والظروف صارت هذه الحيوانات المنوية والبويضات مختلفة متنوعة، فمن بعضها خلق الإنسان الأول (آدم وحواء) ومن البعض الآخر خلقت الحيوانات الأخرى. وذلك بأن تلقحت البويضة بالحيوان المنوي، ثم التصقت ببعض المواد البروتوبلاسمية الأولى التي كانت توجد في البحار وعلى شواطئها، ومن هذه المادة البروتوبلاسمية صارت البويضة تمتص غذاءها كما تمتصه أحيانًا من البريتون في الحمل خارج الرحم، وصارت تنمو وتكبر الآن في بطون الأمهات، ولما تم نموها انفجرت وخرج منها الإنسان كما يخرج من الكيس الأمنيوسي. ولعل الله تعالى ساق له إذ ذاك بعض الحيوانات الأخرى؛ كالدببة المشهورة بهذا الأمر فأرضعته، أو كان يوجد مواد زلالية مغذية في البحار فصار يشرب منها، أو كان يمتص عصيرًا يسيل من بعض أشجار قريبه كان عصيرها مغذيًا، أو كان يشرب ماء فيه حيوانات دقيقة جدًّا فيتغذى بها. وما يقال فيه يقال في الحيوانات الأخرى الشبيهه به التي يجوز أن يقال في كيفية تغذيتها الأولى أيضًا: إنها وجدت بعض نباتات طرية هلامية مغذية. فازدردتها في مبدأ نشأتها، حتى كبرت وصار يمكنها أن تأكل غيرها من النباتات أو الحيوانات الأخرى. فإن قيل: وكيف يوجد ذكر واحد وأنثى واحدة، مع أنه يحتمل أن الحيوانات المنوية والبويضات كانت كثيرة. قلت: ذلك هو عين ما يحصل الآن في الإنسان وغيره، فمع وجود حيوانات منوية تعد بالملايين، وكذلك بويضات في كل جماع، فلا يتكون منها غالبًا إلا ولد واحد. وإن قيل: لم لم يخلق الآن حيوانات بهذه الطريقة من جديد، قلت: ولم لم يتولد الآن من الجمادات أحياء جديدة؟ أليس ذلك لاختلاف حال الزمان وطبيعة الأرض الآن عما كانت عليه في مبدأ الخليقة؟ أما إذا وجدت تلك الأحوال الأولى، فلا يبعد أن يتكون فيها حيوانات جديدة، كما لا يبعد أن يتكون فيها أيضًا بطريق التولد الذاتي خلايا بروتوبلاسمية جديدة. أما مسألة التذكير والتأنيث، فما يقال فيها الآن يقال نحوه أو ما يقرب منه في الخلايا البروتوبلاسمية الأولى التي صار بعضها حيوانات منوية ملقِّحة (بالكسر) ، والبعض الآخر بويضات ملقَّحة (بالفتح) . والله تعالى أعلم بأسراره في خلقه.

النسائيات

الكاتب: ملك حفني ناصف

_ النسائيات [*] (30) حرية المرأة في الإسلام يود بعض النساء المسلمات التشبه بالغربيات في زيهن وأنماط معيشتهن؛ ظنًّا منهن أن الحرية إنما ألقت مراسيها عند الغربيات، وأنهن أي المسلمات محرومات منها شرعًا. ولو تدبرن أمور دينهن، وبحثن في القوانين التي يتبعها الغرب، لرأين أن نصيبهن من الحرية الحقيقية أوفر من نصيب الغربيات. ولا يخلبهن زي الغربية وكثرة تجوالها في الشوارع والبلاد، فإنما حريتها هذه كمن يعطيك درهماً ويأخذ منك دينارًا؛ لأن ركن الحرية الأقوى أن يكون الإنسان حرًّا في التصرف بماله، حرًّا في معاشرة غيره. والإسلام يعطي هذه الحقوق للمرأة فضلاً عن أن يبيح لها السفور والسفر، وإن كان مع الاشتراط. كانت المرأة قبل ظهور الإسلام مزدرأة إلى الدرجة القصوى، ففي بلاد العرب كانت تحسب كبعض أمتعة البيت، حتى أنها كانت تورث كما يورث العقار والأنعام، وللوارث حق إبقائها لنفسه أو بيعها لمن يشاء، وكانوا يئدون بناتهم خشية العار أو الفقر، وكان تعدد الزوجات فاشيًا فيهم بغير حد محدود، وكذلك كانت الحال في بلاد الفرس وعند اليهود. هذا في الشرق، وأما في الغرب فلم تكن المرأة بأسعد حظًّا، إذا كانت كمية مهملة عاطلة من التربية والتعلم معدودة كالبهيمة، حتى إن مجامعهم المقدسة كانت تبحث في: هل للمرأة نفس كالرجل؟ وقام بينهم خلاف شديد من أجل ذلك، وحتى لعب بعض مقامري الإنجليز بامرأته بعد أن خسر ماله. انتهى بتصرف من كتاب الإسلام دين الفطرة لمؤلفه الأستاذ: عبد العزيز جاويش. ساوى الإسلام بين الرجل والمرأة في: (1) كل التكاليف الشرعية إلا النادر، وذكر القرآن المرأة بجانب الرجل في كثير من آياته. (2) في الحقوق المدنية؛ فللمرأة أن تبيع وتشتري، وتهب وتقف، وتعقد ما شاءت من العقود بغير إذن أو سيطرة، مع أن قوانين الغرب لا تبيح للمرأة شيئًا من ذلك، وتشترط أن يكون لرجل المرأة حق التصرف في أموالها بغير قيد ولا سؤال. وقد ضايق هذا الأمر النساء هنالك، فهببن في بعض الممالك يطالبن بحقهن فأعطينه ولكن اللاتي لم يطالبن لم يعطين شيئًا. (3) يتضح من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يبيح للمرأة حرية الرأي، فقد بايعه المؤمنات مع المؤمنين مرارًا، وإهمالنا هذا الأمر ليس بدليل على أن الإسلام يحرمه كما تحرمه قوانين الغرب. ولا يزال يرن في آذاننا صدى ضوضاء المطالبات بحق الانتخاب ووقوف النواب في وجوههن وإرجاعهن بخفي حنين، وقد لقين من السجن والضرب عذابًا أليمًا. (4) يبيح الإسلام للمرأة الراشدة أن تزوج نفسها بنفسها، وأن توكل من شاءت في العقد. (5) يعطي المرأة حق الطلاق إذا اشترطته في العقد. أما إذا لم تشترطه هي أو وليها فكأنها تنازلت عنه لبعلها. (6) ومن أعظم نعم الإسلام على الزوجين المتباغضين الطلاق. ولا حاجة لبيان الشقاء المقيم إذا تعاشر الزوجان على غير ألفة، أو افترقا على غير إباحة الزواج ثانية، أو أصيب أحدهما بما يكره الآخر معاشرته عليه؛ كالجنون أو البرص أو غيره، ويرشد الدين الحنيف أن لا يستعمل الطلاق إلا في الضرورة الشديدة، وقد حرمه بعض الأئمة إذا كان بلا سبب، قال ابن عابدين: (وأما الطلاق فالأصل فيه الحظر أي الحرمة، والإباحة للحاجة إلى الخلاص فإذا كان بلا سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقًا وسفاهة رأي، ومجرد كفران النعمة وإخلاص الإيذاء بها وبأهلها وأولادها؛ ولذا قالوا: إن سببه الحاجة إلى الخلاص عند تباين الأخلاق، وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى، فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعًِا يبقى على أصله من الحظر؛ ولذا قال الله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} (النساء: 34) أي لا تطلبوا الفراق) . اهـ. وقال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) وقال أيضًا: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19) وقال جل من قائل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} (النساء: 35)) ولم يقل: إن يريدا طلاقًا؛ لأن الأصل في الزواج دوام العشرة، ولكن إذا لم يفلح الزوجان أو أحدهما في إدامة العشرة فلا مناص من الطلاق. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبغض الحلال إلى الله الطلاق. (7) يوجب الإسلام تعلم العلم على كل مسلم ومسلمة، وقد كانت نساء النبي رضي الله عنهن يفتين الرجال والنساء، ويلقين عليهن دروس الحكمة ومكارم الأخلاق، ولم يهمل تعليم النساء قط إلا بعد سقوط دولة العرب، وترك الناس تعليم الدين الحنيف، ألم يشتهر النساء أيام العباسيين والأمويين بالعلم والفضل؛ حتى برعن في الفقه والأدب والغناء بما لم يبق بعده زيادة المستزيد. ولم يكن تعلم العلم مقصورًا على النبيلات منهن وبنات الخلافة، بل شمل الجواري والعامة. (8) لو اتبع المسلمون دينهم كما يجب؛ لعلموا أن من فروض الكفاية أن يكون من نسائهم لنسائهم من يكفي من المعلمات والطبيبات، حتى لا يحتجن لغير النساء في أمس الأمور بهن كالتعليم والاستشفاء. (9) يبيح الإسلام للمرأة السفور عند أمن الفتنة. والظاهر أن هذا السفور هو الغاية التي يسعى إليها أكثر النساء الشرقيات الآن، ويتخذن تقليد الغربيات في اللبس والمأكل وشكل المعيشة وسيلة إليه، ويزعمن أن ليس لهن من الحرية ما لأخواتهن الغربيات، مع أن الإسلام لم يجعل علينا في الدين من حرج، وقد كانت النساء يخرجن سافرات إلى أن عم الجهل، فمنع بعض الخاصة نساءهم من الخروج، فصارت عادة قلدهم فيها غيرهم، وقد تغالى فيه بعضهم حتى كانت المرأة لا فرق بينها وبين السجين، قال أبو الطيب المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة بعد قوله: صلاة الله خالقنا حنوط ... على الوجه المكفن بالجمال على المدفون قبل الترب صونًا ... وقبل اللحد في كرم الخلال وقال في أخت سيف الدولة الأخرى رثاء أيضًا: وهل رأيت عيون الإنس تدركها ... حتى حسدت عليها أعين الشهب وعادة الحجاب ليست قاصرة على النساء فقط، فإن في صحراء أفريقية الكبرى قبيلة اسمها قبيلة الملثمين، كل رجالها يضعون اللثام على وجوههم، ولا تفعله نساؤهم. (10) لم يبق بعد ذلك عند الغربيات أمر يفضلن به نساءنا إلا تحريم تعدد الزوجات عند المسيحيات منهن (لأنه مباح عند اليهود) . ومن المسلمين من يحرم التزوج بأكثر من واحدة، ولا يبيح الطلاق إلا إذا حكم به قاض يفصل في الدعوى، فسلام على الإسلام، وسلام على حريته الحقة، وسلام على متبعيه حق الاتباع. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (باحثة البادية)

مذكرة عن أعمال المبشرين المسيحيين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مذكرة عن أعمال المبشرين المسيحيين في السودان (أرسلها إلينا صديق عارف خبير عندما أسسنا جمعية الدعوة والإرشاد) (1) ليس للمبشرين عمل في الجهة البحرية من فاشوده إلا في الخرطوم. أما قبلي فاشوده، فلهم فيه أربع نقط على النيل الأبيض، وهي: تنجه والكنيسة وبور والمنجلة، كما أن لهم مركزًا في واو عاصمة مديرية بحر الغزال، ولا يؤذن لهم الآن في التبشير في غير العاصمة من هذه المديرية. (2) إن الطريقة الوحيدة التي يعتمد عليها المبشرون في تنصير الأهالي تنحصر في فتح المدارس التي يلقنون فيها أصول الدين المسيحي لأولاد الأهالي الذين يدخلون تلك المدارس. (3) يعتمد المبشرون في حمل الأهالي على إرسال أولادهم إلى مدارسهم على الإحسان إلى الآباء والتودد إليهم. ففي واو مثلاً يعطون لآباء التلامذة 3 أرطال ذرة يوميًّا، كما يعطونهم أيضًا بعض الأقمشة أو بعض الحلي المستعملة عندهم، ومن طرق الإحسان التي يستعملونها لهذه الغاية التطبيب، فهم يداوون كثيرين من مرضى الأهالي الذين يكونون عن مقربة من مركزهم. (4) يعلم المبشرون في مدارسهم أصول الدين المسيحي، والقراءة والكتابة بلغة إفرنجية، ومبادئ العلوم الضرورية كالحساب، وعدا هذا فهم يقسمون التلاميذ إلى جماعات يختص كل جماعة منهم بتعليم صنعة من الصناعات؛ كالتجارة والحدادة والبناء. فيبدءون عملهم بتشييد مسكن لهم وبجواره كنيسة ومدرسة، ثم يأخذون قطعة أرض ويجرون فيها تجارب زراعية، والذين يعملون لهم فيها هم الأهالي المجاورون لهم في مقابلة مكافأة تعطى لهم والتلامذة أنفسهم. وقد يوجهون همتهم إلى تجارب في كل ما يظنونه يعود على الأهالي والحكومة بالربح والرفاهية، فيربون النحل ويعملون له الخليات على الطرز الأوربي، ويستخرجون منه الشمع إلى غير ذلك من التجارب على مقدار ما تسمح به قوتهم المالية ومعارفهم العملية. (5) إن أشد القبائل استعدادًا للتدين بما تدعى إليه هي قبائل النيام نيام. هذه القبائل ليس لها تقاليد دينية تصدهم عن اعتناق أي دين يدعون إليه، ويقابل هؤلاء في سهولة انقيادهم (الدنكا) في شدة تمسكهم بعوائدهم، وهؤلاء الدنكا لهم بعض معتقدات دينية أذكر أن اللورد كرومر فصل بعضها في أحد تقاريره. * * * (مساعدة الحكومة للمبشرين) إذا صرفنا النظر عما يحصل من بعض أفراد الموظفين الإنكليز، ونظرنا إلى أعمال الحكومة العمومية وإلى أعمال الأكثرين من رجالها، صح لنا أن نصف الحكومة السودانية بالنزاهة في هذا الباب. بل إن الحكمة قد تفعل أحيانًا ما لا يرضي المتعصبين من المسيحيين. ففي بحر الغزال وغيره من البلاد الوثنية تحتفل الحكومة بالأعياد الإسلامية احتفالاً شائقًا تدعو إليه مشايخ القبائل ورجال قبائلهم، كما أنها تبطل يوم الجمعة أشغالها، وفي رمضان لا تشتغل بعد الظهر، ولعل هذا بعض ما دعا أحد زعماء المرسلين الأمريكان إلى لوم الإنكليز في خطبة ألقاها في العام الماضي. على أني قد شعرت في آخر الأمر بأن الحكومة تريد أن تظهر مجاملتها لهؤلاء المبشرين، فقد ساعد أحد مديريها إحدى الإرساليات على إحضار أولاد الأهالي إلى مدارسها بنفوذ الحكومة. عرفت ذلك من مصدر يوثق به، ولكن لست أدري هل كان هذا العمل بناء على رغبة المدير خاصة أم رغبة الحكومة الرئيسية؟ والحكومة تمنع الآن المرسلين من التبشير في داخل بحر الغزال، ولكن سبب هذا المنع إداري محض. فالحكومة تستعمل الأهالي في حمل بضائعها، وفي حمل عفش ضباطها ومستخدميها، فهي تخشى من أقلام المبشرين إذا اطلعوا على هذه الحقيقة، خصوصًا إذا شاهدوها بأعينهم. (مقدار نجاح المبشرين في مهمتهم) (7) للآن لم ينجح المبشرون في عملهم، وعدم نجاحهم هذا قد يغر قصار النظر من المسلمين فيجزمون بعدم نجاحهم في المستقبل، ولكن المرجح عندي أنه إذا طال زمن إهمال المسلمين، فالمبشرون ناجحون في المستقبل. أتاحت لي المصادفة مقابلة بعض أهالي أوغندا واستطلعت منهم حالة بلادهم، ففهمت منهم أن البلاد صارت مسيحية أو كادت؛ وذلك للمجهودات التي يبذلها المبشرون، حتى لقد نشروا كتبهم المقدسة كلها هناك مترجمة بلغة الأوغنديين، ومكتوبة بحروف إنكليزية؛ يعني أن القارئ يقرأ كتابة انكليزية، ولكنه ينطق بكلمات أوغندية. لست أجهل أن هناك بعض عبارات تستوجب وجود الصعوبات في سبيل هؤلاء المبشرين في السودان المصري مثل: وجود العساكر السودانية المسلمين بين هؤلاء الوثنيين، وأن هذه الأصقاع هي مجال واسع لتجار السودان وغيرهم من المسلمين، ولكن المتأمل في طريقة هؤلاء المبشرين في تنصير الأهالي، لا يسعه مع علمه بكل هذا إلا الحكم بترجيح نجاحهم، وإلا فما هي قوة هؤلاء الأطفال الذين يلقى بهم بين أيدي هؤلاء المبشرين، الذين يلقنونهم أصول الدين المسيحي كأنها حقائق لا نزاع فيها؟ أليس الأجدر بالمتأمل أن يحكم بأن هؤلاء الأطفال يصيرون رجالاً مسيحيين كالمسيحيين المولودين من أبوين مسيحيين؛ لأن ما يتلقاه هؤلاء الأطفال من أصول الدين المسيحي لا يجد له مزاحمًا ولا معارضًا في نفوسهم فيزعزعه، كما أنه ليس هناك رجال دين آخر يبثون أصول دينهم في نفوسهم كي تغالب ما ألقي إليهم.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (سمير الليالي) جمع أمين أفندي صوفي السكري من أدباء طرابلس الشام مسائل وفوائد كثيرة من الكتب والصحف التي طالعها، فكانت كتابًا كبيرًا يدخل في بضعة أجزاء. وقد طبع الجزء الأول منه في 1327 على نفقة الشيخ عبد الله الرفاعي الكتبي في طرابلس وهي الطبعة الثانية له. وهذا الجزء زهاء مئتي صفحة، أكثرها في جغرافية المملكة العثمانية، وأقلها في جغرافية الممالك الأوربية، فيجد قارئه كلامًا مفصلاً في وصف الولايات العثمانية لا يجده في غيره من الكتب العربية المتداولة، وليت المؤلف وقد أضاف إلى هذه الطبعة فوائد كثيرة لو صحح ما فيه من الإحصاء بمراجعة الإحصاءات الأخيرة، فهو يذكر أن مسلمي مصر تسعة ملايين؛ أخذًا من إحصاء سنة 1897 م وهم في إحصاء 1907 زهاء 11 مليونًا، وذكر أن نفوس السودان المصري 11 مليونًا، ولعله يعد من السودان المصري جميع ما انفصل منه حتى زيلع ومصوع، كما هو مقتضى سياسة الدولة العلية، ثم إنه لم يلتفت إلى ما حل به من الأوبئة والحروب. وإنني لم أراجع من الكتاب إلا إحصاء المسلمين، فنبهت إليه وإلى سببه؛ لئلا يكون منفرًا عن الكتاب صادًّا عن فوائده، وأهمها وصف الولايات العثمانية. والكتاب يطلب من المكتبة الرفاعية بطرابلس الشام. * * * (كتاب النصائح الكافية والردود عليه والانتصار له) يتذكر القراء أنه ذكر في المنار كتاب (النصائح الكافية لمن يتولى معاوية) للسيد محمد بن عقيل المقيم في سنغافورة، الذي أحدث عند طبعه وانتشاره ضجة عظيمة، فأعجب به جماهير العلويين في الأقطار المختلفة، وأنكره آخرون وعدوه ميلاً عن السنة إلى التشيع، ورد عليه بعض وانتصر له بعض. أما السيد محمد بن عقيل فهو رجل سني من حزب المصلحين حسن النية وقد كان كتب إليّ بعزمه على تأليف كتاب، يجمع فيه ما ورد في كتب المحدثين والمؤرخين من جرح معاوية بن أبي سفيان، وتخطئته في خروجه على أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، وما تبع ذلك من الفتن والسيئات، وكان الذي وجه عزمه إلى ذلك خلاف وقع في مسألة جواز لعن معاوية وعدم جوازه، واستفتيت يومئذ في الواقعة وأفتيت بعدم اللعن، فكتب إليّ هذا الصديق أنه مخالف لي في هذه الفتوى، وأنه سيبين حجته في هذا الكتاب الذي توجه إلى تأليفه، فكتبت إليه يومئذ بأنه لا ضير في مخالفته إياي، ولكنني أرى أن يترك وضع هذا الكتاب لما يترتب عليه، إذا وضع بهذا السبب وبعد هذا الخلاف من القيل والقال، واتباع الهوى في التفرق والخلاف، فلم يقتنع بصحة رأيي، وقد ظهر له صدقه بعد ذلك، ولكنه لا يزال يرى أن نفع الكتاب أرجح من ضرر ما كان من الخلاف. * * * (الرقية الشافية) كان أول من غلا في التشنيع على كتاب (النصائح الكافية) رجل من العلويين اسمه السيد حسن بن شهاب، يظهر لي أنه كان يحسد السيد محمد بن عقيل على ما آتاه الله من المكانة العلمية الأدبية في قومهم (الحضارمة) ، وغير قومهم في مهاجرهم (سنغافورة) وغيرها، فأراد وقد سنحت له الفرصة أن يرفع من قدر نفسه، ويضع من قدر محسوده، فألف رسالة سماها (الرقية الشافية من نفثات سموم النصائح الكافية) وصار يكتب إلى من يعرف من علماء الأقطار يستنجدهم بحماسة وشدة؛ للرد على هذا الكتاب، وقد كتب إليّ بإمضائه وغير إمضائه في ذلك. كان من رأيي - وأنا شديد الحرص على التأليف بين المسلمين، شديد النفور من الخلاف والتفرق - أن لا أقرأ كتاب (النصائح الكافية) حتى لا أحكم له ولا عليه، فلم أنجد ابن شهاب وحزبه فيما استنجدوني فيه، فاتخذوني عدوًّا لأجل ذلك، وما زال أهل الأهواء يحدثون العداوة بين المسلمين؛ بمعاداة من لا يتبع أهواءهم ولا يعدل آراءهم. وقد رد على كتاب الرقية الشيخ أبو بكر بن شهاب المدرس بمدرسة دار العلوم بحيدر آباد الدكن، وهو أشهر علماء الحضارمة في هذا العصر بكتاب سماه (وجوب الحمية عن مضار الرقية) قرأت عدة مباحث منه، فظهر لي تهافت حسن بن شهاب وضعفه، وأن الجهل وحده لا يهبط بصاحبه إلى مثل تلك الشتائم والدعاوى والتمويهات لولا مساعدة الحسد واتباع الهوى، وأين السيد حسن بن شهاب من السيد محمد بن عقيل. وأين الثريا وأين الثرى ... وأين معاوية من علي * * * (نقد النصائح الكافية) يظهر لك الفرق بين من يكتب ما يمليه عليه الهوى، ومن يكتب ما يمليه عليه العلم والهدى، إذا قابلت بين ما كتبه السيد حسن بن شهاب وما كتبه الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي، فقد كتب رسالة سماها (نقد النصائح الكافية) ، انتقد بها النصائح معتصمًا بحبوة الأدب، متحليًا بحلية الثناء على المؤلف والاعتراف بفضله، وكان الإمام مالك رحمه الله تعالى، يقول: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر. ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قسم القاسمي نقده إلى مقدمة و 14 مبحثًا وخاتمة، أكثرها في مسائل علمية؛ في أصول الفقه، وأصول الحديث والمناظرة والأحكام التي تتعلق بموضوع الكتاب؛ ككون التفسيق والتضليل لا يكون إلا بمجمع عليه، وكون أخوة الإيمان لا ترتفع بالمعاصي، ومنها ما يتعلق بمعاوية خاصة؛ ككون الوقيعة فيه تستلزم رفض مرويه ومروي من من أقام معه من الصحب (وهذا غير مسلم على إطلاقه) ، وكونه بلغ رتبة الاجتهاد (وما كل مجتهد يعمل دائمًا بما أداه اجتهاده إلى كونه هو الحق، وإلا لزم أن يكون كل مجتهد معصومًا من المعصية عامدًا عالمًا) . ومن مباحثه أن من عدل المؤلف إذا ذكر لأحد ما عليه أن يشفعه بماله. أي والعكس، ولا نزاع في هذا إذا أريد بالمؤلف المؤرخ والمحدث الذي يحكم بالجرح والتعديل، ويريد أن يبين حال من يترجمه لمن يقرأ كتابه. وقد يكون لبعض المؤلفين غرض من ذكر ما للمرء فقط أو ما عليه فقط؛ كتحقيق مسألة معينة أو العبرة ببعض الخطآت والخطيئات، أو التأسي ببعض المناقب والحسنات، وقد جمع صديقنا الناقد أحسن ما قيل في معاوية من الحقائق ومن الشعريات، ولم يذكر في مقابلتها ما عليه، وما نكب به الإسلام والمسلمون على يديه، فإن كان غرضه من هذا البحث أن ابن عقيل قد قصر؛ إذ ترك أحد الشقين، فهذا مشترك الإلزام؛ لأنه هو قد قصر أيضًا بترك الشق الآخر، والصواب أن كل واحد منهما قد ذكر ما يرمي إلى غرضه. وجملة القول أن كل واحد من الكاتبين في هذه المسألة وغيرها يؤخذ من كلامه ويترك، ويقبل منه ويرفض، وليس من غرضنا تحرير المسألة بما يصل إليه اجتهادنا، وإنما نود لو يكون كل ناقد كالقاسمي في أدبه وإخلاصه وتحريه ما يرى أنه الأنفع للناس، فما فرق كلمة المسلمين إلا أهل الجدل والمراء بالهوى.

جماعة الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جماعة الدعوة والإرشاد طلع الصباح وبرح الخفاء، وعلم الخاص والعام أن جماعة الدعوة والإرشاد ليس لها مقصد سياسي؛ لأن الجمعيات السياسية لا تكون جهرية عمومية، يقبل فيها كل من أراد أن يدخل فيها بحسب قانونها. وهذه هي الحجة التي دحضت كل شبهة حتى من نفوس الأحداث، وعوام الناس الذين هم أتباع كل ناعق، لا يفرقون بين معقول وغير معقول. قد يصدق الواحد من هؤلاء أنه يمكن إنشاء مدرسة لإنشاء دولة، وهو ما لا يصدقه العاقل المفكر الذي يميز بين الممكن والمحال من الأمور العادية، فإذ قيل له: إن هذه المدرسة ليست لشخص معين ولا لأفراد معينين، وإنما هي لجماعة مكونة من كل من يدفع ثلاثة جنيهات في السنة؛ لمقصد الجمعية العلني المجرد من السياسة، وهؤلاء هم أصحاب الرأي في هذه الجماعة، فلهم أن يعزلوا جميع أعضاء مجلس الإدارة ويولوا غيرهم، فهل تصدق أو تعقل أن يسمح أصحاب المقصد السياسي الخطير بدخول كل من شاء في عملهم، وجعله من أصحاب الرأي والنفوذ فيه، وأن يكون له إخراجهم من مجلس إدارته وتوسيد أمر الإدارة إلى من شاءوا؟ لقال من يقال له هذا القول: إن هذا لا يصدق ولا يعقل، فمن يتوهم بعد ظهور نظام جماعة الدعوة والإرشاد أن لمن أسسوه غرضًا سياسيًّا فهو منسلخ من العقل، قد استهواه شيطان الوهم، ولا قيمة لتوهم مثله ولا لقوله، ولا لرضاه ولا لسخطه، ومن أظهر آيات الجهل والانحطاط أن يوجد في المخلوقين بصورة البشر من يصدق الطعن في مثل هذا العمل، حتى يحتاج إلى الدفاع عنه. وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل *** (الاشتراك في جماعة الدعوة والإرشاد) علم كل من قرأ النظام السياسي لهذه الجماعة أن من اشترك فيها بثلاثة جنيهات فأكثر في السنة ودفعها، يكون من أعضاء الهيئة العامة فيها الذين لهم حق الانتخاب والمراقبة على أعضاء مجلس الإدارة. ونزيدهم علمًا بأن قيمة الاشتراك يجوز أن تدفع أقساطًا كما يشاء المشترك. ومن يشترك بأقل من ثلاثة جنيهات في السنة، يعد عضوًا من أعضاء الجمعية المعاونين، ولا يكون له حقوق أعضاء الهيئة العامة. وكل من دفع للجماعة شيئًا من المال على سبيل التبرع أو على سبيل الاشتراك، يعطى وصلاً مطبوعًا مختومًا بخاتم الجماعة وخاتم رئيسها أو وكيلها (وقسائم الوصول المستعملة الآن مختومة بخاتم الوكيل) ويزاد على ذلك توقيع المتسلم الذي يقبض النقود، وتوجد الآن دفاتر قسائم للتبرعات وللاشتراكات بيد الوكيل (صاحب هذه المجلة) وسائر الدفاتر بيد أمين الصندوق محمود بك أنيس، وقد أذن مجلس الإدارة لكل منهما بالقبض. ومتى تألفت اللجان تعطى قسائم أخرى، ويعلن ذلك في الجرائد. *** (جمعية الرابطة الإسلامية) كانت شبهة الشيخ عبد العزيز جاويش إذ طعن في مشروع الدعوة والإرشاد في بدء السعي؛ لتكوينه أنه عمل سري لا يعرف أعضاؤه ولا قانونه. وقد راجت هذه الشبهة في سوق من لا يميزون بين الشبهة والحجة، ولا بين البرهان والسفسطة، إلى أن ظهر قانون الجماعة، وعرف أعضاؤها. ثم علمنا أن للشيخ عبد العزيز جاويش جمعية اسمها جمعية الرابطة الإسلامية، ينشر دعوتها في تلاميذ المدارس المصرية، وتجبى نقودها منهم في كل شهر، ولا يعرف لها قانون، ولا أعضاء، ولا أمين صندوق، فما هو مقصدها وأين تذهب الأموال التي تجبى لها؟ وكيف يكلف أولئك التلاميذ بذل أموالهم، وهم لا يعلمون أين تذهب تلك الأموال ولا على أي شيء تنفق؟ ومن أعطى منهم ما فرض عليه في كل شهر لا يعطى وصولاً موقعًا باسم أحد ولا يختمه، وإنما يعطى ورقة صغيرة كبطاقة الثوب عليها خاتم الجمعية، فإذا كان هذا المال يجبى لغرض صحيح شرعي، فلماذا يستخفي مؤسس الجمعية به (إن كان هنالك جمعية) ؟ ولماذا جعل موردها خاصًّا بالولدان الذين يسهل أن يقادوا إلى حيث لا يعلمون، دون الرجال الذين يبحثون ويحاسبون؟ ولماذا يجعل نفسه غير مسؤول عما يأخذه من المال بعدم إمضاء الأوراق والبطائق على الأقل؟ فعسى أن تكشف للجمهور هذه الغوامض. * * * (الماسون في جمعية الاتحاد ومجلة دين ومعيشت) ذكر في الجزء الأول من هذه السنة أن زعماء جمعية الاتحاد والترقي المشهورين من الماسون، وأن الماسونية قد راجت بسعيهم، وأنهم أسسوا لها شرقًا عثمانيًّا رئيسه طلعت بك الذي كان ناظر الداخلية، وهو الآن رئيس فرقة الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين، وتمنينا لو يكون تصرف طلعت بك في الماسونية أحسن من تصرفه السيء في نظارة الداخلية، وأشرنا عن بعد إلى ما في رواج الماسونية في رجال هذه الدولة الإسلامية من الخطر، ولم نشأ أن نشرح ذلك؛ لئلا يلصق الناس عمل طلعت بك وأوليائه من زعماء جمعيته بالدولة العلية بسوء فهم أو سوء نية؛ لما لهم من النفوذ في الحكومة الحاضرة. وقد ترجمت مجلة (دين ومعيشت) الروسية ما كتبناه، وزادت عليه بسوء النية أو سوء الفهم - الله أعلم - أن أركان الدولة والقائمين بأعمالها (جميعًا من الخفير إلى السلطان) ماسونيون، وجعلت الماسونية في رجال الدولة مفضية إلى هدم الدولة الإسلامية وتأسيس دولة ماسونية، وأظهرت الريب في خبرنا، وتكهنت في استنباط الباعث عليه، وذكرت احتمال أن يكون غليان الدم العربي والعصبية الجاهلية، ثم ذكرت ما يرد هذه التهمة التي لا موجب لذكرها مع حسن النية بقولها: (إنها مخالفة لمسلكه وخطته وهو الجامعة الإسلامية) ثم قالت ما ترجمته: فإن كان في أعضاء الاتحاد والترقي وعلى الأخص طلعت بك حمية إسلامية، فليردوا وليكذبوا أقوال المنار، وإن سكتوا يكون المنار صادقًا بالطبع. (المنار) إننا نبادل مجلة دين ومعيشت، وإن كنا لا نقرأها ولا نعرف لغتها؛ لما في المبادلة بين أرباب الصحف من الفوائد والصلة المعنوية باستمداد بعضهم من بعض، كما نبادل الجرائد الهندية لأجل ذلك. وقد ذكر لنا بعض أصحابنا وتلاميذنا الروسيين بعض تهافت هذه المجلة في المسائل الدينية، والرد على المنار في بعضها، وأن غايتها تعويق إخواننا مسلمي التتار عن الترقي المدني والديني، ولم نكن نرى أن هذه المجلة مما يعنى بالرد عليها؛ لأن وجود مثلها في هذا العصر مما تقتضيه طبيعة الاجتماع، وصدها المسلمين عن الترقي، ومحاولتها إبقاءهم على الجمود، وحبسهم في مضيق أوهام بعض المؤلفين في القرون المتوسطة والأخيرة المظلمة، لا يخلو من فائدة؛ لأن من طباع البشر أن ينقسموا في كل أمر عام يدخلون فيه إلى ثلاثة أقسام: قسم يغلو في طلب الانسلاخ من القديم والإيغال في الجديد؛ وهم أهل الإفراط. وقسم يغلو في مقاومة كل جديد والمحافظة على كل قديم؛ وهم أهل التفريط. وقسم يسددون ويقاربون، فيهدون إلى ترك الضار من القديم واقتباس النافع من الجديد بالتدريج؛ وهم الأمة الوسط. ومجلة دين ومعيشت لسان حال أهل التفريط في مسلمي روسية، وفائدتها مقاومة أهل الإفراط؛ ليكون كل منهما ممهدًا لأهل العدل والاعتدال فيما يدعون إليه من الأمر الوسط الذي هو خير الأمور. كنا نظن أن أصحاب هذه المجلة يكتبون ما يكتبون من خطأ وصواب بحسن النية، ولكن لم يظهر لنا شيء من حسن النية في خوضهم بذكر مسألة العصبية الجاهلية، وهم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يجمعوا من كل ما عرفوه من الكتب والصحف في إنكار هذه العصبية والتشنيع على أهلها مقدار ما يوجد في مجلد واحد من مجلدات المنار الأربعة عشر، ولا في إيهامهم قراء مجلتهم أننا قلنا: إن رجال الدولة كلهم من الماسون من السلطان إلى الخفير (سبحانك هذا بهتان عظيم) وإنما عزونا ذلك إلى بعض زعماء الجمعية، ونعني بهم طلعت بك ورحمي بك وناظم بك وجاويد بك وجاهد بك وأضرابهم. ما أجهل أصحاب هذه المجلة بأحوال الآستانة وتلك الجمعية؛ إذ اقترحوا على طلعت بك تكذيب المنار، قد يسهل على طلعت بك أن يكذب الصحف فيما هي صادقة فيه من الأمور التي لا يعرفها كل أحد في العاصمة، كما كذب وقوع الشقاق في حزب الاتحاد والترقي أخيرًا، ثم عرف عالم المدنية كله أن ذلك حق لا ريب فيه، ولكن لا يسهل عليه أن يكذب خبر المنار في مسألة الماسونية؛ لأنه أشهر من نار على علم؛ ولأن طلعت لا يرى رأي أصحاب تلك المجلة في وجوب البراءة من الماسونية. قالوا: إذا لم يكذب طلعت بك أو جمعيته المنار في هذا الخبر، تعين أن يكون صادقًا، فها هم أولاء لم يكذبوه، بل قد صدقه طلاب الإصلاح منهم المقاومون لأولئك الزعماء، فقرروا إبطال المحافل الماسونية من العاصمة، فما يقول أصحاب (دين ومعيشت) بعد هذا؟ ألا فليعلم أصحاب هذه المجلة أن صاحب المنار مسلم، قد ربى نفسه على الصدق، حتى كان في أيام طلب العلم يقول لأشد إخوانه صحبة له: إذا حفظت علي كذبة واحدة في جد أو هزل، فلك حكمك في {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} (النساء: 9) ولا يكونوا ممن قيل فيه: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم * * * (دار السلطنة) يحسب الناس للفتن الداخلية في دار السلطنة حسابًا، ويظنون أن زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذين غُلبوا على زعامتهم بفوز المصلحين بمطالبهم العشرة، لا بد أن يجمعوا كيدهم، ويكروا على المخالفين لهم كرة شديدة بدعوة حماية الدستور مما يسمونه الارتجاع. أما نحن، فنرجو أن تكون هذه العاصمة آمن ما كانت من الفتن الداخلية، وأبعد عن المخاوف الاستبدادية والارتجاعية، ذلك بأن زعماء جمعية الاتحاد والترقي المغلوبين على زعامتهم ومقاصدهم، أولو ذكاء وفهم، واستفادوا بمصارعة الحوادث وتكرار التجارب خبرة وعبرة، فلا بد أن يكونوا قد عرفوا خطأهم كله أو بعضه، وأقله أن يكونوا قد اعتقدوا أن دولة عريقة في الإسلام وارثة لمقام الخلافة الإسلامية، لا يمكن أن تدور رحاها على قطب الماسونية، وأن العناصر العثمانية لا يمكن إدغامها في العنصر التركي. وإنما الممكن هو ائتلافها معه بإقامة الدستور، فإن لم يكونوا قد علموا هذين الأمرين، فهم يعلمون أن إخوانهم الذين قاموا بأمر الإصلاح في حزب الجمعية وأنصارهم والموافقين لرأيهم من الضباط وغيرهم، لا يمكن اتهامهم بمقاومة الدستور، إذا وكل الأمر إلى جاهد بك، فهو لا يخجل من اتهام صادق بك أبي الدستور ومثل طاهر بك المبعوث بالارتجاع، وقد علم القراء أن صادق بك أبو الدستور، وليعلموا أيضًا أن طاهر بك هذا هو صاحب العدد الأول (برنجى نومرو) في جمعية الاتحاد والترقي، ولكن رحمي بك ذا الروية والأدب العالي، والدكتور ناظم بك ذا الدهاء والتدبير الدقيق، وطلعت بك وجاويد بك صاحبي الذكاء والفطنة؛ هؤلاء الرؤساء العاملون لا يقدمون على ما يقدم عليه مثل جاهد بك ولا نظن فيهم أنهم يرضون بتعريض الدولة للخطر؛ لأجل استعادة زعامتهم والإصرار على مقاصدهم، فالعاصمة في أمان، والدستور على أحسن ما كان إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

مقدمة مقالات المسلمون والقبط

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة مقالات المسلمون والقبط اقترح علينا أن نطبع مقالات (المسلمون والقبط) في كتاب على حدتها؛ ليسهل تعميم الذكرى بها، ففعلنا وجعلنا لها هذه المقدمة. بسم الله الرحمن الرحيم {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (العنكبوت: 46) . الإسلام دين الرحمة والعدل، والعلم والعقل. فأما حكومته الإسلامية المحضة كحكومة الخلفاء الراشدين، ومن كان أقرب إلى سيرتهم كعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين، فهي حكومة لم ير البشر لها مثالاً بأعينهم، ولا في تواريخ من قبلهم في الجمع بين الرحمة والعدل وحرية الدين والعلم والعمل لمن فتح المسلمون بلادهم. وأما حكومات من دون أولئك الكملة من المسلمين التي نشكو نحن من بعض ملوكها ونصفهم بالظلم، فقد كان ظلمهم وشرهم فيها دون ما عرف من ظلم غيرهم من فاتحي الملل الأخرى، ولهذا انقرضت جميع الملل والأديان من البلاد التي غلب النصارى أهلها كأوربة، وبقيت الملل والمذاهب في الممالك التي فتحها المسلمون إلى هذا الزمن الذي تغيرت فيه طبيعة العمران، وصار من المتعذر على الأقوياء إكراه أهل الدين على ترك دينهم بالقوة القاهرة، أو إبادتهم كما عامل مسيحيو أوربة الوثنيين في عامة البلاد والمسلمين في الأندلس وفرنسة. كان المسلمون في كل أيام قوتهم وسلطانهم، ينوطون الكثير من أعمال حكومتهم بغيرهم من أهل البلاد التي فتحوها، مع السماح لهم بأن يتحاكموا إلى رؤسائهم في جميع القضايا التي لا يحبون أن يتحاكموا فيها إلى المسلمين، فكان لهم حكومة خاصة بهم في البلاد الإسلامية وحكومة مشتركة بينهم وبين المسلمين. كل هذا من فضل الإسلام وتسامحه، ولا يزال يعترف بذلك المخالفون لنا: بعضهم يعترف به عملاً باستقلال فكره واحترام اعتقاده [1] ، وبعضهم لإقامة الحجة علينا في بعض الأوقات كما وقع من بعض القبط في هذه الأيام. وكان المسلمون يبذلون المعاملة الحسنى لمن يدخل بلادهم من المخالفين، ويعبرون عنهم بالمعاهدين والمستأمنين، ويعبرون عن الداخلين في حكمهم بأهل الذمة؛ أي الذين حفظت حقوقهم بذمة الإسلام، والوصايا النبوية بالجميع كثيرة مشهورة. لولا الدين الإسلامي لما عرفت العرب الفاتحة تلك الرحمة والعدل والتسامح التي هي زينة التاريخ، فللدين الإسلامي الفضل في ذلك، ولم تكن تلك القسوة من الأوربيين (ولا سيما في أسبانية التي جعلها المسلمون جنة أوربة) خالية من حجة دينية لرؤساء الدين، فإنهم كانوا يرجعون إلى التوراة التي هي أصل المسيحية في مثل هذه الأحكام دون ظواهر بعض نصوص الإنجيل في الرحمة. جاء في الفصل العشرين من سفر تثنية الاشتراع (10 حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك، فكل الشعب الذي فيها يكون للتسخير ويستعبد لك 12 وإذا لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنمية أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة عنك جدًّا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم 16 وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبك، فلا تستبق منها نسمة ما) . ههنا تأمرهم التوراة بإبادة جميع الأحياء المغلوبة حتى النساء والأطفال والبهائم، وفي الفصل 33 من سفر العدد الأمر بطرد سكان الأرض التي يقدرون عليها، حتى لا يبقى منهم أحد. كأن هؤلاء هم الذين يعجزون عن إبادتهم بالسيف. كل ما سمح به المسلمون ومنحوه لغيرهم في أيام قوتهم فضلاً وإحسانًا صار في أيام ضعفهم حقوقًا وامتيازات للأقوياء من الأجانب، يميزون به أنفسهم على المسلمين في ديارهم، ويؤيدونه بالقوة ولا يعدونه فضلاً للمسلمين، ولا تسامحًا من الإسلام. هذا شأنهم فيما بقي للمسلمين من البلاد، وأما ما أخذوه من المسلمين فصار ملكًا لهم أو جعلوه تحت حمايتهم، فلم يبقوا لهم شيئًا فيه من النفوذ ولا المشاركة في السلطة ولا الحرية. ولكنهم أبقوا في بعض البلاد أشباحًا، حفظوا لها لقبها الأول، وجعلوها رقية لنفوس العامة الجاهلة، حتى لا يشعروا بأنهم فقدوا ملكهم كما تشعر الخاصة التي تسهل مراقبتها والسيطرة عليها، وليس لأمير منهم ولا سلطان ولا نواب أن يستقل بالأمر في شيء ما. ومنهم من لا يسمح له أن ينظر في ورقة ترسل إليه ولو من أقاربه إلا بعد أن يقرأها الرقيب الأجنبي السائد على بلاده أو الحامي لها، ولا أن يجتمع بأحد قريب ولا غريب إلا بحضرة الرقيب، وناهيك بتصرفهم في الأموال والأوقاف والمساجد في بعض تلك البلاد. ليس هذا بعجيب ولا غريب، فإن للقوة أن تتحكم في الضعف كما تشاء. ولكن العجيب الغريب هو ما جرى عليه قبط مصر في هذه السنين الأخيرة، وما وصلوا إليه في هذا العام من استضعاف المسلمين أشد من استضعاف الدول الكبرى لهم. أحسن المسلمون معاملة القبط من عهد الفتح إلى هذا اليوم إحسانًا لم يروا هم ولا غيرهم مثله من فاتح قط، حتى إنهم على شكواهم من المسلمين في هذه الأيام يقولون بألسنتهم ويكتبون بأيديهم: أن عمال الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، قد جعلوا كل أعمال الحكومة في أيديهم، وأنهم كانوا كذلك في عهد محمد علي باشا ومن بعده، وأن أكثرها لا يزال في أيديهم، ثم أنهم الآن يدعون أنهم مهضومو الحقوق؛ لأنهم محرومون من بعض الوظائف العالية التي هم أحق بها وأهلها، وأن المسلمين ممتازون عليهم بها وبأمور أخرى؛ كتعليم الدين الإسلامي في المدارس، وترك الحكومة العمل يوم الجمعة، وإنفاقها على المحاكم الشريعة. فيطلبون أن لا يكون للمسلمين مزية ما في الحكومة الخديوية؛ لأنها في رأيهم ليست حكومة إسلامية، وإنما هي حكومة مصرية فهم أحق بها؛ لأنهم أعرق في الجنسية المصرية من سائر المصريين، فما هو في أيديهم منها يجب أن يبقى لهم؛ لأنهم أخذوه بحق. وما بقي في أيدي المسلمين يجب أن يشاركوهم فيه؛ لأنهم احتكروه بغير حق. وهذا الذي بقي في أيدي المسلمين من الوظائف هو منصب المديرية ومأمورية المركز. سمحت لهم الحكومة بتعليم دينهم في مدارسها، وهو ما لم تعمله حكومة في أوربة ولا غيرها، فإذا جعلت يوم عيدهم الأسبوعي الديني (الأحد) شعارًا لها في ترك العمل، وجعلت منهم مديرين ومأموري مراكز؛ عملاً بهذه الحجة التي يدلون بها وهي أنها ليست إسلامية، فإنه يخشى أن يترتب على ذلك ما تخشى مغبته وتسوء عاقبته من تعرض السلطان للدخول في ذلك باسم الخلافة، ومن مطالبة المسلمين للحكومة برفع سيطرتها عن محاكمهم الشرعية، وأوقافهم ومعاهدهم الدينية. ومن تهيج مسلمي الهند على الحكومة الإنكليزية إذا اعتقدوا أنها هي التي أزالت الصبغة الدينية من حكومة مصر التي هي سياج البلاد المقدسة ومدخلها؛ ولذلك استنكر رجال الاحتلال مطالب القبط مع عطفهم الديني عليهم، كما استنكرتها الحكومة. أما مسلمو مصر وهم السواد الأعظم من أهلها، فكانوا غافلين عن سعي القبط وتعصبهم غير مبالين به؛ لأنهم مغرورون بكثرتهم، وإن كانت كثرة تشبه القلة أو تضعف عنها؛ لتخاذلهم وانحلال الرابطة التي توحد بينهم. وهذا هو الذي أطمع القبط، فظنوا أنهم ينالون كل ما يطلبون من جعل السيادة في هذه الحكومة خالصة لهم من دون المسلمين. ولا أضرب لهم المثل الذي ضربه لهم بعض الناس (لا تطعم العبد الكراع فيطمع في الذراع) بل أقول: هذا شأن الأقوياء بالاتحاد مع الضعفاء بالتفرق والانقسام. رأت القبط أن تهاجم المسلمين من أضعف جانب فيهم، وهو رميهم بالتعصب الديني وبغض القبط وسائر المسيحيين، وظلمهم وهضم حقوقهم، واتباع خلفهم في ذلك إثر سلفهم. جردوا هذا السلاح في وجوه المسلمين، فذعروا وصبروا على ما لم يتعودوا من إهانة القبط لهم جهرًا بما ينشر في الجرائد، فقالت القبط: إنهم ماتوا فلا خوف من مدافعتهم، فلتظهر وحدتنا في مطالبنا وقد فعلوا. ألف المؤتمر القبطي فحضره 1150 مندوبًا عن القبط، يحملون 10500 توكيلاً عن إخوانهم في القطر المصري كله، وافتتح المؤتمر مطران أسيوط التي سماها بعضهم عاصمة القبط، فأحدث هذا المؤتمر دويًّا في مصر أيقظ المسلمين ودعاهم إلى تأليف مؤتمر مصري حقيقي؛ للنظر في الحال الاجتماعية العامة، وتمحيص مطالب القبط وتحسين أمور المسلمين أو المصريين. ما كان يخطر في بال القبط أن المسلمين يتجرءون على عقد مؤتمر لهم، ولا أن الحكومة تسمح لهم به إذا شاءوه، فصرحوا بأن الحكومة هي التي أوحت إليهم بعقده، وأرادوا أن يخيفوا الحكومة بمثل ما أخافوا به الأمة، فأنشأوا يطعنون في الوزارة ويرمونها بالتعصب الديني وتحريض المسلمين عليهم، ويرجفون بأن (المسيحية تتعذب) ؛ ليحرضوا كل من في مصر من النصارى على المسلمين، وحاولوا أن يحملوا نصارى السوريين على عقد مؤتمر لهم فخابوا؛ لأن القبط يعجزون عن العبث بالسوريين واستخدامهم لأهوائهم. وأما دسائسهم في إنكلترة فقد ظهرت لكل أحد، ولكن لم تغن عنهم شيئًا؛ لأنها مبنية على التهم الباطلة التي كذبتها سيرة المسلمين الهادئة الساكنة. لقد سرتني هذه الحركة القبطية؛ لأنها وسيلة لاختبار حياة المسلمين، وسيكون المؤتمر المصري هو الذي يظهر هذه الحياة ودرجتها، فإذا نجح المؤتمر وانجلى عن حياة في المسلمين، فلا يسوءني أن تنال القبط ما يقول بعض المعتدلين: إنه هو الحق الوحيد من مطالبها؛ وهو جواز أن يكونوا رؤساء إدارة كما صار رؤساء للمحاكم ولغيرها من المصالح. وإذا خاب الأمل (لا سمح الله) في هذا المؤتمر فلا أسف على شيء آخر يفوت. كتب الناس في المسألة؛ لأنها أهم ما يكتب فيه بمصر الآن، فألقيت دلوي بين الدلاء وكتبت مقالاً طويلاً في فصول متعددة نشرتها في المؤيد والمنار. قصدت بها مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن كما أمر الله عز وجل، ولا أحسن من بيان سنة الاجتماع في هذه المسائل والتمييز بين حقها وباطلها؛ ليزداد الباحثون بصيرة في بحثهم، وتنبيه المسلمين إلى الاجتماع والتعاون على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم ولا يضر سواهم، ولأجل أن تكون مقدمة لبيان رأيي فيما يجب أن يقوم به المؤتمر من الخدمة العامة لهذه البلاد. بلغ هذا المقال من التأثير في نفوس المسلمين فوق ما كنت أظن، واقترح علي كثير من الكبراء والدهماء أن أطبعه في رسالة على حدته فأجبت، وها هو ذا ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (السموات السبع وكون الاختلاف رحمة) (س27، 28) من م. ب. ع. في الأزهر حضرة العلامة الناصر للكتاب والسنة، سيدي الأستاذ محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر، نفعني الله والمسلمين بوجوده. بعد إهداء واجبات التحية والاحترام، أرجو منكم الجواب عن الأسئلة الآتية في المنار؛ تعميمًا للنفع، ولكم الفضل والشكر وهي: (1) ما معنى سبع سموات طباقًا في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (الملك: 3) وما قولكم في قول أهل الجغرافيا: إن السموات ليست بأجرام، وإنما هي أهوية، وفسروا السماء بمعناها اللغوي وهو: (كل ما علاك فهو سماء) ، فهل هذا القول ينافي تلك الآية وآية {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) أم لا؟ وقولهم: إن الأمطار تتكون من ماء البحار. وهل يجوز لهم ولمن تبعهم اعتقاد ذلك كله اعتمادًا على علمهم وخبرتهم؟ أفيدوني بما هو الحق، وإن سبق لكم البحث عن هذه المسألة في المنار؛ لأنها منشأ لتكفير من يتجرأ به معتقدًا ذلك. (2) ما مراد قوله صلى الله عليه وسلم اختلاف أمتي رحمة عن ابن عباس مرفوعًا بلفظ: اختلاف أصحابي لكم رحمة، فهل لي أن أقول: إن في اختلاف أمته - صلى الله عليه وسلم- رحمة إنما هو اختلافها قبل مجيء البينة أو لعدم وجودها أصلاً، وإن وجدت كان اختلافها ضررًا لا رحمة، وكذا يجوز الاختلاف بين المسلمين قبل مجيء البينة، وإن اختلفوا بعد مجيئها وتبينها كانوا آثمين تاركين لهداية القرآن لقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) هذا، واقبلوا فائق سلامي واحترامي. (المنار) أما الجواب عن السؤال الأول، فقد سبق بيانه في المنار، ونقول فيه ما يفتح به الآن: السماء في اللغة ما كان في جهة العلو، وأطلق في القرآن على السقف، وعلى السحاب والمطر، وعلى مجموع ما نرى فوقنا من الكواكب في فلكها وبروجها، وسماها بناء، وقال: بناها، وبنيناها، والمعنى: ترتيب أجزائها وتسويتها كما يبنى الجيش والكلام، قال في الأساس: وكل شيء صنعته فقد بنيته. وأشار أن منها القربى التي نمتع أبصارنا بزينتها، ومنها البعدى التي لا نراها. وهو يذكر السماء بلفظ المفرد غالبًا بالمعنى الذي ذكرناه آنفًا، وهو مجموع ما نراه في الأفق فوقنا. وذكرها بلفظ الجمع وخصه بسبع في عدة آيات، فالمراد بالجمع هذه السبع، وعبر عنها بالطباق كما في آية سورة الملك المذكورة في السؤال، وبالطرائق، فقال في أوائل سورة المؤمنين: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} (المؤمنون: 17) وسمى هذه الطرائق حبكًا على التشبيه، فقال في أوائل سورة الذاريات: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7) وهي الطرائق المعهودة في الرمل، فالسبع الشداد والطباق والطرائق والحبك تنبئ عن شيء واحد معروف عند العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، وقد سمى هذه السبع سموات؛ لأن كل واحدة منها تعلو المخاطبين، ويصعدون إليها نظرهم من فوق، ووصف بها السماء المفردة في آية سورة المؤمنين؛ لأن جهة العلو أو الخليقة التي في جهة العلو تشتمل عليها، كما قال {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ} (البروج: 1) وقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} (الطارق: 11) والبروج منازل الكواكب، وهي بهذا المعنى أمور اعتبارية كالحبك والطرائق، والرجع: المطر وهو جسم مادي، يختلف التعبير باختلاف الاعتبار. ذهب بعض الغافلين الذين يظنون أن الله تعالى خاطب الناس بما لا يفهمون، وأقام عليهم الحجة العقلية بما لا يعقلون، إلى أن السماء والسموات من عالم الغيب كالجنة والنار، فلا تعرف حقيقتها وإنما يجب الإيمان بها إذعانًا لخبر الوحي، ولو كان الأمر كذلك لما ذكرت في الآيات التي يقيم الله بها حجته على عباده؛ ليعلموا أنه الخالق المتفرد بالخلق والإبداع، والعلم المحيط، والحكمة البالغة، والقدرة والمشيئة، كما استدل على ذلك بالأرض وما فيها، فقرن السماء بالأرض وبالإبل والجبال وغير ذلك من عوالم الأرض. السماء اسم جنس يطلق على جهة العلو وعلى كل ما فيها، والقرائن هي التي تعين المراد، فإذا سمع العربي قوله تعالى في سورة الحج: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} (الحج: 15) فهم أن السماء هو سقف البيت؛ لأنه هو الذي يمد السبب أي الحبل إليه، ويعلق ويربط به من يراد شنقه ثم يقطع. وإذا سمع قوله تعالى في سورة نوح: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً} (هود: 52) فهم أن المراد بالسماء المطر، وهذا الاستعمال كثير في كلامهم: إذا نزل السماء بأرض قوم وإذا سمع قوله في سورة إبراهيم يصف الشجرة: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم: 24) فهم أن السماء جهة العلو. وإذا سمع قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} (البقرة: 22) فهم أن السماء هي السحاب. لا لأن الله تعالى وضح ذلك بقوله في وصف تكوين السحاب: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (الروم: 48) أي فترى المطر يخرج من أثناء هذا السحاب بتحلله منه، بل لأن ذلك هو الذي يفهمه أهل اللغة من علم منهم بهذه الآية ومن لم يعلم. ومن قال من الجاحدين كما حكى الله عنهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ} (الأنفال: 32) {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ} (الشعراء: 187) لم يكونوا يعنون بالسماء عالمًا غيبيًّا لا يعرف إلا بالوحي، وإنما كانوا يعنون بالسماء الجوّ الذي فوقهم. ذكرت السماء في أكثر من مئة موضع في القرآن بهذه المعاني، ولم يشتبه أحد من العرب في فهم شيء منها لا مؤمنهم ولا كافرهم. ولم يفهموا من السموات السبع والطرائق والحبك والطباق إلا الكواكب السبع السيارة ومداراتها في أفلاكها التي تشبه طرق الرمل؛ يسلكها السفر في الموامي والبوادي، وخصها بالذكر لكثرة رصدهم لها واهتدائهم بمشارقها ومغاربها في أسفارهم، هذا ما كانوا يعرفونه، وما يتبادر إلى أفهامهم من إطلاق القول، ولو أريد به عالم غيبي لا يرى ولا يعرف إلا من الوحي؛ لما ذكر في سياق الاستدلال كما تقدم، ولما قال في سورة الرعد: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} (لقمان: 10) ، وما في معناها؛ كقوله في سورة ق: {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) ، بل كان يذكر ذلك في سياق الإيمان بالغيب والكلام عن الآخرة. وكانوا يسمون السبعة السيارة: الدرايء بالهمز، وقالوا: كوكب دريء بالهمز فيقال بغير همز. وقيل غير المهموز نسبة إلى الدر، يشبهونه باللؤلؤ في حسنه وصفائه وفيه نزاع. والدريء بالهمز هو الذي يدرأ من المشرق إلى المغرب، وهو مضيه ومده. ويسمونها الشهب. وأما الخنس الكنس فالمشهور أنها ما عدا الشمس والقمر من الدراري؛ لأنها هي تخنس أي تنقبض، وتكنس وتختفي كاختفاء الظبي في الكناس عند طلوع الشمس. وهي: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد، وقد اكتشف علماء الفلك في هذا العصر سيارات أخرى بما استحدثوا من مرايا المراصد المقربة للبعيد. وقال بعض الغافلين: لماذا ذكر الله تعالى تلك السيارات السبع فقط، وهو يعلم أنه خلق غيرها؟ وقد علمت حكمة ذلك مما تقدم؛ وهي إقامة الحجة على الناس بما يعرفون دون ما كانوا يجهلون، فإن المجهول لا تقوم به الحجة، وقد يكون لقوم فتنة وفي الحديث: (ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) ذكره مسلم في مقدمة صحيحه. *** (حديث اختلاف أمتي رحمة) قال الحافظ السخاوي: زعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردًا، وأشعر بأن له أصلاً عنده. ونقل تلميذه الديبع عن السيوطي أن نصر المقدسي ذكره في الحجة، والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند، وأن الحليمي والقاضي حسينًا وإمام الحرمين ذكروه في كتبهم. وقال ابن حجر الهيتمي في الدرر المنتثرة: حديث اختلاف أمتي رحمة. الشيخ نصر المقدسي في كتاب الحجة مرفوعًا، والبيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد (من) قوله، وعن عمر بن عبد العزيز قال: ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة (قلت) : هذا يدل على أن المراد اختلافهم في الأحكام، وقيل: المراد اختلافهم في الحرف والصنائع (كذا) ذكره جماعة. وفي مسند الفردوس من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعًا: (اختلاف أصحابي رحمة لكم) قال ابن سعد في طبقاته: حدثنا قيصر بن عقبة، حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم بن محمد، قال: كان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس، انتهى. (المنار) ما عزاه السخاوي إلى كثير من الأئمة هو الصواب، وكثيرًا ما نرى المتأخرين يضعفون ويجبنون أمام ما يجدونه في كتب بعض المتقدمين، مما لا يعرف له أصل فيهابون أن يردوه عملاً بالأصول والقواعد المتفق عليها في رد كل حديث لا يعرف له سند يوثق به. وهذا البيهقي يقول: إن القاسم بن محمد ذكره من قوله، فما يدرينا أن بعض الناس سمعه منه، فظن أنه يرويه حديثًا فرواه عنه، فكان هذا سبب ذكره في الكتب التي ذكروا أصحابها. وأما رواية الديلمي في مسند الفردوس عن جويبر عن الضحاك فلا تصح، قال ابن معين في جويبر: هذا ليس بشيء. وقال الجوزجاني: لا يشتغل به، وقال النسائي والدارقطني وغيرهما: متروك الحديث. وشيخه الضحاك هو ابن مزاحم البلخي المفسر، فقد اختلفوا في حديثه، ولكنهم صرحوا بأنه لم يلق ابن عباس ولا أخذ عنه، فيكون الحديث منقطعًا. وأما ما عزي إلى عمر بن عبد العزيز فهو لا حجة فيه صح عنه أو لم يصح، على أن الظاهر أنه يرد اختلافهم فيما لا بد من الخلاف فيه؛ لكونه طبيعيًّا وهو الخلاف في المشارب والعمل بالدين من الأخذ بالعزائم والرخص، فلو كانوا كلهم متشددين مبالغين في الزهد والنسك كأبي ذر، وفي العبادة وكبح الحظوظ والشهوات كعثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو، لوقعت هذه الأمة في الغلو والحرج الذي وقع فيه بعض الأحبار والرهبان من أهل الكتاب من قبل، ولو كانوا كلهم كمعاوية وعمرو بن العاص في حب النعيم والزينة والرياسة، لكان ذلك فتنة لمن بعدهم في الدنيا، يسرعون بها إلى ترك الدين، أو يجعلونه ماديًّا محضًا؛ لأن القدوة أشد تأثيرًا في نفوس البشر من التعاليم القوية. استكبر بعض العلماء أن يجعل الاختلاف في الدين أو في الإمارة والسلطان رحمة، وقد ثبت بالشرع والعقل والتجربة أنه نقمة لا تزيد عليها نقمة؛ ولذلك قالوا إن المراد بالحديث - أي على فرض صحته - الاختلاف في الحرف والصناعات، ولهم أن يستكبروا ذلك، فإن القرآن ما شدد في شيء كما شدد في الشرك وفي الاختلاف والتفرق، والآيات في هذا كثيرة تقدم تفسير بعضها وسرد الكثير منها في التفسير وغير التفسير من المنار، فليراجعه السائل في تفسير آية {تِلْكَ الرُّ

العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي (1) الدول الأوربية التي ورثت ملك المسلمين الواسع في المشرق والمغرب أربع: إنكلترا وهولندا وروسيا وفرنسا. كل دولة منهن سائدة على أكثر مما تسود عليه الدولة العثمانية من المسلمين. فمسلموا الهند من رعية الإنكليز قد بلغوا في الإحصاء الأخير تسعين مليونًا، وهم زهاء ثلث أهل الهند، وكان لهم السيادة على جماهير الوثنيين، وهؤلاء الإنكليز يسودون الملايين الكثيرة من المسلمين وغيرهم بأسماء مختلفة، فلهم مستعمرة الكاب وبلاد الترنسفال وفيهما كثير من المسلمين، وقد جعلوا لهذه مجلسًا نيابيًّا، ومثلها أسترالية وزيلاندة فسيادتهم عليها ليست كسيادتهم على مملكة زنجبار الإسلامية. وناهيك بحكمهم للسودان بعنوان الشركة مع الحكومة المصرية، وتصرفهم في مصر نفسها بسيطرة الاحتلال، وتصريحهم بأن القول الفصل في كل شيء فيها إنما هو لحكومة ملك الإنكليز، وقد تتجلى الحقيقة الواحدة في مظاهر مختلفة، وتتشكل في صور متعددة، فيكون لكل مظهر في صورة أحكام خاصة به عند الحكماء، وإن اشتركت كلها في مقومات الحقيقة الجنسية أو النوعية دون مشخصاتها، فالإنكليز أقدر أمم الأرض على الاستعمار وأبرعهم في السيادة على الأمم؛ لأنهم يراعون الحقائق في أجناسها وفصولها المقومة، وفي مشخصاتها المختلفة، ويسايرون الطبيعة في سنتها، ويحكمون العقل أكثر مما يحكمون القوة فيها، ولذلك سادوا على أمم وشعوب وقبائل كثيرة تعد بمئات الملايين، واستفادوا من ثروتها وخيراتها ما لم يستفده غيرهم من المستعمرين، ولم يمنعوا بالقوة أحدًا ممن سادوا عليهم أن يرتقوا في العلوم والأعمال، ولا هم يتعمدون ترقيتهم فيها إلا بمقدار ما يفيدهم هم من توسيع دائرة الثروة، وقد يحولون بينهم وبين ما فوق ذلك من الترقي من حيث لا يشعرون. يليهم في هذه البراعة الهولانديون، فدولتهم على صغرها تتصرف في أكثر من ثلاثين مليونًا من المسلمين تسخرهم لمنافعها، وتستعملهم في تلك الجزائر الخصبة (جزائر جاوه) كما تستعمل الأنعام، وهم أجهل من رعايا الإنكليز وأضعف عقولاً ونفوسًا، وليس لهم من الاستعداد الموروث ولا من سابقة العلم والمدنية والسلطان مثل ما للهنود والمصريين؛ ولذلك لا تحس منهم بحركة، ولا تسمع لهم ركزًا، ومن عجائب خمولهم وضعف استعدادهم أن الذين يرحلون منهم لطلب العلم يقيمون السنين الطوال بمكة أو مصر، ثم يعود من يعود منهم إلى بلاده وهو لا يعرف من أمر العالم الإسلامي ولا من أحوال هذا العصر شيئًا قط؛ لأنهم يحبسون أنفسهم على أفراد من متفقهة الشافعية، يتعبدون ببعض كتب متأخري الشافعية كابن حجر الهيتمي والرملي، فإن تجاوزوها فإلى كتب الشيخ زكريا الأنصاري والنووي. لو جردت من هذه الكتب ما يعمل به الذين يتعلمون أحكام المذهب من الجاويين وغيرهم من مسائل العبادات، وما يقرب منها من الأحكام الشخصية لأمكنك جمعه في مائة ورقة، يمكن تعلمها في شهر أو شهرين أو ثلاثة، ولتكن مئتي ورقة، وليكن تعلمها في سنة، فما بالهم يقضون السنين الطوال في مدارسة أحكام المعاملات؛ كالبيوع والشركات وأحكام الجنايات والجهاد والرقيق، وغير ذلك مما لا يعمل ولا يحكم به أحد في بلادهم، ويمر العمر ولا يحتاجون إلى معرفة شيء منه؟ ! ولا يعرفون شيئًا في هذا الزمن من علم القرآن، وسنن الله تعالى في الأمم؛ كأسباب قوتها وضعفها وعزها وذلها وسيادتها على غيرها وسيادة غيرها عليها؟ ؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (يوسف: 109) [1] بلى قد ساروا، ولكن لم ينظروا ولم يتفكروا ولم يعتبروا كما أمروا، فهم لا يعلمون من أمر عاقبة الذين من قبلهم شيئًا، لا يستقرون ولا يختبرون شيئًا من أحوال الأمم بأنفسهم، ولا يقرءون التاريخ وعلم تقويم البلدان (الجغرافية) ، ولا علم الاجتماع وحقوق الدول والأمم، بل تراهم يقيمون السنين في مصر ولا يقرءون جرائدها، ولا يعرفون طرق الإدارة وشؤون العمران فيها، والقرآن يحثهم على السير في الأرض؛ لينظروا ويتفكروا ويعتبروا لا ليتدارسوا كتب ابن حجر والرملي فقط {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) . كانت هولندة قانعة؛ وهي دولة صغيرة في أقاصي الشمال باستعمار هؤلاء الملايين في الجزائر الاستوائية من الجنوب، وتسخيرهم في استغلال أرضهم لها، وتركهم في شؤونهم الروحية والاجتماعية، لا توقظهم من نومهم ولا تدع أحدًا يوقظهم، ثم إنها تصدت في هذه السنين الأخيرة إلى تسخير أرواحهم وقلوبهم لها؛ لتأمن في المستقبل استيقاظهم على يد غيرها، فوجهت عنايتها إلى تنصيرهم وتعليمهم لغتها، أي إلى استبدال مقوماتهم الملية بغيرها. كان يروعها ما تجده من شدة تمسكهم في دينهم، وتعريضهم أنفسهم للهلاك في سبيل الحج إلى بيت الله الحرام، فظنت كما يظن بعض المغرورين من المسلمين أن تنصير المقلدين عسير؛ لأن المقلد لا يصغى للبرهان، ولكن الهولنديين يعلمون ما يجهله هؤلاء المغرورون من طباع البشر وأخلاقهم، ومنها أن الميل إلى الاستدلال طبيعي فيهم، فإذا منعوا باسم الدين من البحث في البرهان والدليل على أصول دينهم وفروعه، فإنهم لا يمتنعون من التفكر فيما يلقى إليهم من الدلائل على بطلان هذا الدين الذي لا يعرفون حقيقته، وإن هذه الدلائل تروج عند الجاهلين؛ وإن كانت مقدماتها تؤلف تارة من الجدل والسفسطة وتارة من المقدمات اليقينية على بطلان بعض التقاليد التي يسمونها إسلامًا، وما هي من الإسلام في شيء. سلك الهولنديون لتنصير المسلمين طريقًا لم يسبقهم إليه أحد فيما نعلم وقد نجحت التجربة التي جربوها في ديفو، وهي بلدة بين بتاوي وبوكر، نفوسها زهاء أربعة آلاف، بثوا فيها الدعاة (المبشرين) ومنعوا مسلمي العرب وغيرهم من المستنيرين أن يدخلوها ألبتة، وقد جمع أولئك المبشرون جميع ما يعرفون من سيئات مسلمي تلك البلاد وخرافاتهم وضلالاتهم التي راجت بينهم باسم الدين، وسعي شيوخ الطريق الدجالين، وبينوا لأهلها فسادها، وكون الدين الذي جاء بها لا بد أن يكون باطلاً مثلها، ومسخوا لهم بعض أحكام الإسلام ومسائله بتأويلها وصرفها عن حقيقتها، وأيدوا ذلك كله بسوء حال المسلمين، وكونهم أحط من النصارى علمًا وعملاً وآدابًا وثروة وسيادة، وأوهموهم أنه لا علة لذلك غير الدين، فتنصر جميع أهل تلك البلدة وبغض إليهم المبشرون المسلمين، حتى إن المسلم إذا دخلها لا يجد له فيها مأوى، ولا يسقيه أحد فنجان قهوة، ولا جرعة ماء، بل لا يجد من يقابله ولا من يكلمه. فهل بعث المسيح ليوقع العداوة والبغضاء بين الناس إلى هذا الحد، أم دين السياسة الأوربية عليها الملام شيء ودين المسيح عليه السلام شيء آخر؟ سر هولندة نجاح هذه التجربة، فبثت دعاة النصرانية في تلك الجزائر يدعون الأعرق منها في الجهل فالأعرق، والأبعد عن حقيقة الإسلام فالأبعد، وإذا دامت الحال على هذا المنوال، فستكون جاوه كما قال ذلك السائح العاقل أندلسًا ثانية، ولا عجب فمسلمو جاوه أجهل المسلمين بالإسلام وأشدهم خمولاً، وقد استيقظ أناس من المسلمين في كل قطر إسلامي كبير، وأنشأوا يوقظون غيرهم، ولا يزال مسلمو جاوه نائمين يغطون، وقد ابتلوا بأناس من العرب يدعون العلم وما هم من أهله، يبغضون إليهم العلم الصحيح الذي يعرفهم أنفسهم ومكانتهم من حكومتهم ومن سائر الناس، ويحرمون عليهم إنشاء المدارس العلمية على الطرق العصرية المعروفة في مصر، وأن يتعلموا غير تلاوة ألفاظ القرآن للتبرك وبعض أحكام الفقه، وما يتعلم ذلك إلا قليل منهم. إذا حرم هؤلاء الدجالون على المسلمين أن يعلموا أنفسهم ما يقوم به أمر دنياهم، ويحفظ به أمر دينهم في مدارس نظامية، فهل يحرمون على حكومة هولندة أن تنشئ لهم مدارس تعلمهم فيها لغتها، وما نرى فيه مصلحتها من علوم الدنيا، وعلى دعاة النصرانية أن ينشئوا لهم مدارس أخرى ينصرونهم فيها؟ كلا، إن قد شرعت الحكومة الهولندية في ضبط ما كان لرؤساء تلك الجزائر الذين يلقبون بالسلاطين (! !) من الأرض والغابات والمرافق؛ لتتولى هي استغلال ما كانوا يستغلونه، وجباية ما كانوا يجبونه، وتجعل رزقهم محصورًا فيما تجود به عليهم من خزينتها كل شهر أو سنة، وتقول: إنها ستنفق ربع ذلك على المدارس التي تنشئها لتعليم الأهالي، وقد وضعت قانونًا جديدًا لهذه المعاملة؛ وهي تحمل أولئك السلاطين المساكين على إقراره وإمضائه، فمن لم يرض منهم بترك ما كان له من امتياز وسلطة صورية، وأن يكون كعمال الحكومات الذين يعطون عند عجزهم راتب التقاعد (المعاش) ، عزلوه من سلطنته، ونصبوا مكانه شبحًا آدميًّا آخر وسموه سلطانًا، وهي خير للرعية من أولئك السلاطين الذين لا يمنعهم عن الظلم إلا العجز. (روسية) مسلمو روسية أكثر من مسلمي البلاد العثمانية، ويناهزون عدد مسلمي جاوه، وأكثرهم من التتار والترك والجركس والقرغيز والفرس، وبعضهم يعد في القانون روسيًّا محضًا والبعض الآخر من المستعمرات، ومنهم الجاهلون الغافلون الذين لا يعرفون من أمر العالم شيئًا قط، بل يعيشون كالأوابد والسوائم إلا أنهم أشداء شجعان لا ضعفاء كالجاوبين، ومنهم المغرورون بما عندهم من بقايا العلوم الإسلامية؛ كالفقه الذي يرون أنهم أغنياء به عن كل ما في العالم من العلوم الدينية والدنيوية، ومنهم الذين دبت فيهم روح الحياة الملية، وتوجهت نفوسهم إلى الارتقاء الاجتماعي وأكثر هؤلاء من التتار، وحكومتهم واقفة لهم بالمرصاد، فلا يرضيها أن يرتقوا بدينهم ولغتهم، ولا هي تستطيع أن تنصرهم ولا أن تبدل لغتهم، بل عجز دعاة النصرانية في روسية عن تنصير أعرق مسلمي بلادها في الجهل، وأبعدهم عن العلم؛ لأن حظ عامة مسلمي تلك البلاد من عقائد الإسلام وأخلاقه وآدابه أكبر من حظ أكثر المسلمين في أكثر الأقطار، فهم أرقى من الروسيين روحًا، وأزكى نفسًا، وأعلى أدبًا، وأكثر في الجملة كسبًا، وجذب الأعلى إلى الأدنى عسير. إذا دبت في الأمة روح الحياة، فلا يزيدها الضغط والاضطهاد إلا حياة وقوة؛ لأنه يلم شعثها، ويجمع متفرقها، ويزيل ما بينها من الأضغان والأحقاد والتنازع والخلاف، ويجعلها إلبًا واحدًا على من ينازعها أسباب ترقيها ومادة حياتها، فالمصلحة لروسية أن تدعهم يعملون لأنفسهم ما شاءوا، وأن تظهر لهم الرغبة في ترقيهم بشرط اجتناب السياسة والتحيز إلى دولة أخرى، ومن مصلحتهم مواتاتها على ذلك واتقاء فتن السياسة ظاهرًا وباطنًا، وحصر سعيهم في دائرة العلوم النافعة من دينية ودنيوية، والأعمال التي ترقي الثروة مع التربية الإسلامية (راجع مقالة ألمانية والعالم الإسلامي في هذا الجزء) . (فرنسة) سكان المستعمرات الفرنسية أربعون مليونًا أو يزيدون، أكثرهم من المسلمين، وقد أخطأت فرنسة في طريقة إدارتها وسياستها في الجزائر، وظهر لها أنها قد أخطأت ولما يظهر لها الصواب، وقد كتب ساستها وعلماؤها مما لا نحصي له عددًا من المصنفات والمقالات في الإسلام والمسلمين، وال

تقرير اللجنة التحضرية للمؤتمر المصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير اللجنة التحضيرية للمؤتمر المصري المنعقد في القاهرة في 29 أبريل سنة 1911 أيها السادة: تحييكم لجنة المؤتمر المصري تحية الإخوان المتضامنين، وتشكركم على أنكم لبيتم نداءها لعقد هذا المؤتمر، واجتمعتم من أطراف البلاد المصرية؛ لخدمة المصلحة العمومية والنظر في التوفيق بين العناصر المؤلفة للوحدة المصرية التي كاد يتصدع بناؤها، من جراء مؤتمر الأقباط. إن الأقباط قد اشتغلوا فيما يشبه الخفاء بتحضير ما سموه جمعيتهم العمومية، حتى لم يكن بين خبر انعقادها وبين انعقادها بالفعل إلا أيام. ولا شك في أن العمل على هذه الطريقة مريب، حتى إذا كان الغرض من جمع الجمعية العمومية؛ النظر في المقاصد القبطية الصرفة التي تتعلق بأحوالهم الشخصية، فكيف به وقد ظهر في الجمعية العمومية. إن الأقباط يستقلون ما في أيديهم من السلطة التي مظهرها الوظائف، ويستكثرون ما في أيدي المسلمين منها، يستظهرون بما سموه كفاءتهم الذاتية، ويشكون من عدم تقرير أولي الأمر لهذه الكفاءة، يتناسون التقاليد القومية ويطلبون عطلة يوم الأحد بجانب عطلة يوم الجمعة، يعتبرون أن بين مصلحة المسلم وبين مصلحة القبطي منافاة، ويريدون أن يحصلوا على امتياز خاص، يجعل لهم في الهيئات النيابية في بلدنا أعضاء من الأقباط، يدافعون عن مصلحة الأقلية، كأن الأكثرية والأقلية في الأمم مترتبة على العقائد الدينية، لا على المذاهب السياسية، يرسلون مبعوثيهم إلى الأمة الإنجليزية؛ لبث شكاوى لا تشف إلا عن تعصب المسلمين على المسيحيين في مصر. ذلك كان شكل حركتهم، وتلك كانت مطالبهم، ولا شك في أن الشكل الذي أخذته هذه الحركة القبطية مريب في ذاته، مفض إلى الظن بأن الأقباط عولوا على أن يكونوا وحدهم أمة مستقلة، وتذرعوا بهذه المطالب، حتى يصلوا بمعونة إنكلترا المسيحية إلى أن يكون لهم في مصر؛ وهم الأقلية الضعيفة حق السيادة على الأكثرية الإسلامية العظمى، ومن البديهي أن عملاً هكذا لا بد أن يؤثر في نفوس المسلمين أسوأ تأثير، وينتج نتائجه الطبيعية؛ وهي استحكام البغضاء بين الأقلية الصغيرة وبين الأكثرية الكبيرة، وذلك ليس من مصلحة الأقلية نفسها ولا من مصلحة الجامعة القومية. لهذا الاعتبار وإشفاقًا عن الوطن من أن يكون مرسحًا لمظاهر العداوات الدينية قامت هذه اللجنة بدعوة المؤتمر المصري العام؛ ليبحث في عمل الأقباط وتقديره، وليزن مطالبهم بميزان العدل، وليبين النافع منها والضار، والممكن وغير الممكن، ويقرر لهم ما يراه حقًّا من غير أن يحوجهم إلى السعي بإخوانهم وشكايتهم إلى غيرهم، فإن المصريين أولى بإنصاف المصريين. إلى ذلك دعت اللجنة بانعقاد المؤتمر أولاً وبالذات، ولكنه لما أن مؤتمرًا عظيمًا كهذا يجب أن يأتي بأكمل ما يمكن أن يأتي به من الفائدة، رأت اللجنة أن يتناول المؤتمر البحث أيضًا في المسائل الاجتماعية والاقتصادية، وكل ما له علاقة بسعادة الأمة ما عدا المسائل السياسية داخلية كانت أو خارجية؛ لأن الظروف التي فيها مصر الآن من الجهة السياسية لا تسمح بدخول هذا المؤتمر في السياسة من غير أن يضحي تضحية تامة كل الأغراض التي اجتمع لأجلها، وأن اللجنة لا تشك في أن كل مؤتمِر من المؤتمِرين، قد حضر إلى هذا المؤتمر عالمًا يقينًا بأن جميع التقارير التي لها علاقة بالسياسة عن قرب قد أهملت؛ لخروجها عن برنامج المؤتمر، كما أنها لا تسمح بأي وجه ما لأي مقترح أن يبدي اقتراحًا خارجًا عن البرنامج المنشور. * * * (الأكثرية والأقلية) لا شيء أضر على البلاد من نتائج ذلك الخطأ الذي يتسرب إلى عقول بعض المصريين على العموم وكثير من الأقباط على الخصوص. ذلك الخطأ الفاضح هو تقسيم الأمة المصرية باعتبارها نظامًا سياسيًّا إلى عنصرين دينيين: أكثرية إسلامية، وأقلية قبطية؛ لأن مثل هذا التقسيم يستتبع تقسم الوحدة السياسية إلى أجزاء دينية أي تقسيم الشيء إلى أقسام تخالفه في الجوهر. الأمة باعتبارها كائنًا سياسيًّا ونظامًا سياسيًّا إنما تتألف من عناصر سياسية، كذلك فأيما مذهب من المذاهب السياسية اعتنقه أفراد أكثر عددًا وأثرًا كان أكثرية وكان الآخر أقلية، وعلى هذا يمكن فهم الأكثرية والأقليات في كل أمة، وليس للدين في ذلك دخل غير أن لكل أمة دينًا رسميًّا، وذلك ضروري بل مشخص من مشخصاتها، ودين كل أمة هو دين حكومتها أو دين الأكثرية فيها، على ذلك يكون من السهل فيهم انقسام الأمة باعتبار المذاهب السياسية إلى أكثرية وأقليات كلها غير ثابتة، بل متغيرة بتغير المذاهب السياسية وانتشارها قلة أو كثرة، ولكن من غير المفهوم بالمرة أن يكون في الأمة أكثر من دين رسمي واحد، وعليه فلا معنى للاعتراف بأقليات دينية تعمل في السياسة بهذه الصفة، أو تكسب حقوقًا عامة أكثر من أن يخلى بينها ويبن القيام بواجباتها الدينية عملاً بحرية الاعتقاد. دين الأمة المصرية هو الإسلام وحده؛ لأنه دين الحكومة ودين الأكثرية في آن واحد. ذلك أمر بعيد بطبعه عن المناقشات في المصالح الدنيوية العامة التي تكون بين الأكثرية وبين الأقليات السياسية. ولا شك في أن العمل في السياسة بالنسبة للأفراد وبالنسبة للمجاميع لا يصح أن تكون قاعدته المنفعة. ويسرنا أن الأحزاب السياسية في مصر قد سارت على هذا النحو، ولم تلحظ في هيئة تأليفها ولا في برنامج أعمالها اختلاف المعتقدات الدينية. بعد ذلك، كيف يمكن الاعتراف بأن أقلية دينية تباشر بهذه الصفة الأعمال العمومية، ويكون لها مطالب خاصة كأنما هي أقلية سياسية. لا يمكن الاعتراف بذلك إلا إذا أمكن أن يكون للأمة دينان في آن واحد، وأن يكون أساس الأعمال في المصالح العامة هو الدين. ذلك غير ميسور التحقق ولا مسلم به في النظر. فمن الخطأ أن يكون من الأشياء المسلم بها اعتبار أن الأمة السياسية تتألف من عناصر دينية. الحقوق والمرافق في مصر، إنما هي على الشيوع بين جميع المصريين على السواء، لا امتياز لأحد منهم على أحد بسبب كونه مسلمًا أو مسيحيًّا أو يهوديًّا، ومن الظلم الصارخ أن يقع هذا الامتياز لفرد من الأفراد أو لمجموع من المجاميع؛ بسبب أنه على دين المصريين (الإسلام) أو على دين غيرهم. حسب العالم ما كان من جراء الانقسامات الدينية، فلا نأتي في القرن العشرين لنجعل الاعتقادات الدينية أساسًا للامتيازات بين الأفراد في الحقوق الوطنية. لا نغفل أن نصرح هنا بأن الأحوال في مصر كانت متمشية على هذه القاعدة من زمن غير قريب، ولكن الحكومة وبعض الصحف قد تركت الناس تفهم أن حفظ بعض المراكز للأقباط في مجلس الشورى إنما هو للدفاع عن الأقلية، فكان من نتائج ذلك أن اعتقد بعض الناس هنا أن الأقباط بصفتهم أقلية مسيحية يصح أن يكونوا بهذه الصفة أقلية سياسية لها مصالح قد تنافي مصالح الأكثرية. وكان هذا هو الأساس الذي بنى عليه كثير من الأقباط شكاواهم ومدعياتهم. تجسم هذا الفهم في العقول، واختلط بشيء غير قليل من الطمع في أن يجعل الأقباط لأنفسهم مركزًا خاصًّا، وتضامنًا خاصًّا، وأندية خصوصية، وجرائد سياسية خاصة للدفاع عن مصالحهم السياسية، وسمتهم جرائدهم الأخيرة بالأمة القبطية. وقد دل كل ذلك على أن الخطأ الذي وقعت فيه الحكومة بادئ الأمر قد غذى أطماعهم وقوى شهوتهم في أن يؤلفوا بصفتهم مسيحيين جامعة قبطية، تندرج في أطماعها من سلم إلى سلم، حتى تحوز بين يديها السلطة في مصر؛ اعتمادًا على هذا الاحتلال المسيحي، وعلى أن المصريين أخوف ما يكون من أن يرموا بالتعصب الديني. ولقد ظهرت هذه المقاصد بارزة في صحفهم بادئ الأمر ثم في مؤتمرهم الأخير. ولكن علاقتهم بالمبشرين من الأمريكان ورجال الكنائس الإنكليزية والجرائد الإنكليزية قد خدعتهم كثيرًا؛ إذ جعلتهم يظنون أن في طاقة الاحتلال أن يجعل مصر مرسحًا للعداوات الدينية، وأن يجعل للأقليات الدينية امتيازات خصوصية بوصف أنها أقليات دينية، وإلا فإن أولي الرأي من الأقباط كانوا يكرهون إلى عهد قريب أن يطالبوا بحق من الحقوق السياسية بصفتهم أقباطًا، بل كانوا في مقدمة الذين يقولون: إنهم مصريون قبل كل شيء، ولا شك في أن المصري قبل كل شيء لا يطالب بحق إلا بوصف كونه مصريًّا فقط، والمجموع المصري لا يطالب بحق إلا بوصف أنه مجموع مصري فقط، دون أن يصف نفسه بالمسيحية أو بالإسلامية. على أن وصف الأقباط مجموعهم بالأقلية القبطية أو بالجمعية العمومية للأقباط ومطالبتهم بحقوق أو شكواهم من عدم تنفيذ القوانين بهذا الوصف، واستنادهم على إخوانهم في الدين من الأمريكان والإنكليز، وبعثهم المبعوثين في إنكلترا؛ لبث شكواهم. كل ذلك لا يدل إلا على أنهم يرمون المسلمين بالتعصب الديني. ذلك صريح جدًّا على الرغم من تلطف خطبائهم في العبارات إلى حد أكثر من التلطف، بل تصريحهم في مؤتمرهم بأنهم عائشون مع المسلمين على غاية الوفاق، وليس من البعيد أن التوفيق بين تصريحاتهم في المؤتمر من محاسنة المسلمين لهم (وهذا الواقع) وبين الأشكال التي اتخذوها لأعمالهم، والوسائل التي اختاروها لإنجاح مقاصدهم، ينتج في عمومه أنهم وضعوا المسلمين في جانب، وأخذوا يساومون الإدارة الإنكليزية في مصر على الوظائف التي في يد المسلمين، وهم يظنون أن المسلمين يكفيهم في كل هذه المساومة أن لا يرموا بالتعصب الديني؛ أو أن يشهد لهم بأنهم حسنوا السلوك مع إخوانهم الأقباط. كل ذلك إنما كانت نتيجة اعتبار أن الأقلية الدينية يصح اعتبارها أقلية سياسية ويصح لها بذلك أن تقوى فتحوز السلطة ومظاهرها باسم الدين، فيجب علينا أن نصرح بأننا لا نعرف أقلية دينية بين مصالحها وبين مصالح المصريين منافاة، أو أن مصالحها في حاجة لرعاية خاصة واستثناء في القوانين العامة المطبقة في مصر على جميع المصريين على السواء. وليس لمجموع ديني أن يكون له من المطالب السياسية بهذا الوصف إلا فيما يتعلق بالأمور الدينية، وما يتبعها كتنظيم البطركخانات الملية ... إلخ. وإلا فكل مطلب سياسي من مجموع ديني لا تكون نتيجته إلا التفريق بين المصريين في المعاملة. ومع اعتبار أن الشكل الذي تمت عليه مطالب الأقباط ليس مقبولاً؛ لما فيه من جعل الدين أساسًا للتفريق في المعاملة، فإن اللجنة تقدم للمؤتمر نتيجة بحثها في تلك المطالب. (1) (مطالب الأقباط) 1- عطلة يوم الأحد: كما أن لكل حكومة دينًا رسميًّا واحدًا، كذلك لها يوم عطلة واحد في الأسبوع، سواء كان الدين يوجب عطلة ذلك اليوم أو لا يوجبها، وليس لنا أن نبحث في نصوص الأصول الدينية في هذا الموضوع، بل الذي نراه بين ظهرانينا؛ أن الإنكليز والفرنساويين والطليان وغيرهم من الموظفين في الحكومة المصرية، يشتغلون يوم الأحد ويبطلون يوم الجمعة، ولم نسمع إلى اليوم أنهم تركوا دينهم ولا أنهم طلبوا إلى الحكومة - وهم قادرون عليه - إعفاءهم من العمل يوم الأحد، ولقد أعفت الحكومة الموظفين المسيحيين من التبكير إلى مصالحهم يوم الأحد، حتى تؤدى الصلاة، ولا شك في أن المسيحيين الموظفين فيها من المذاهب المختلفة قد رأوا هذه الرخصة كافية للتوفيق بين قيامهم بأمر الدين وبين واجبهم الرسمي، ولم يطلبوا عليه المزيد، وكذلك كان الأقباط إلى هذا الشهر الفائت عند انعقاد جمعيتهم العمومية لا ير

آراء أديسون في مستقبل البشر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مختارات آراء أديسون في مستقبل البشر السعيد بالصناعة لكبراء الرجال في قياس الآتي على ما قبله، وفي سير الاجتماع البشري والعلوم والفنون والأعمال، وقد يصور أحدهم المستقبل في صور خيالية، يقول: إن حصولها من المحالات العادية، ثم يقع ما تصوره في زمن بعد زمنه. نقول هذا تمهيدًا لنشر ما نقلته إحدى الجرائد الأمريكية من آراء أديسون؛ صاحب الاختراعات الكهربائية الشهيرة في مستقبل البشر، نقلناه عن جريدة مرآة الغرب العربية التي تصدر في نيويورك قالت ما نصه: نشرت مجلة كوسوبوليتان أفكارًا منسوبة إلى أديسون أمير رجال الاختراع، والأجدر بأن ندعوها نبوات لتقدم خيرات العلم والصناعة قال ما معربه: إن الاختراع لا يزال حتى اليوم في دور الطفولية، وسينمو مع الأيام فيبلغ درجة الرجولية فالكمال، ورجوليته غير بعيدة، فسيرى بنو القرن الآتي الآلات المعدنية مثل الدماغ الصحيح دقة وسرعة وتباريه إدراكًا. ولسوف ينظر الناس أن كل الأصناف المراد نسجها وصنعها توضع أصولها في أحد جانبي الآلة، فتخرج من الجانب الآخر تامة النسج والصنع، وذلك كأصناف الأقمشة والأزرار والخيوط والورق، فإنها تصبح بدلات تامة خارجة في صناديق من ورق معدة للاستعمال. وهكذا قل عن الكتب، فإنها ستغادر الآلة مجلدة تجليدًا متقنًا. والقطع الخشبية توضع في الطرف الواحد قطعًا متفرقة، فتظهر من الطرف الآخر رياشًا ومفروشات؛ كالكراسي والمقاعد والمناضد وهلم جرا. ومن نبوات أديسون؛ أن الإكثار من معدات القتال سينتهي: إما إلى ثورة عمومية أو إلى سلام شامل، وقد يحدث قبل صحة هذه النبوة حرب واحدة أو أكثر. إن كل حكومة لا تبالي بمراعاة السنة الطبيعية القادمة تسقط بأيدي شعبها الذي تحكمه. ويعني أديسون بتلك المراعاة اعتبار مجلس الهاغ السلمي محكمة الكون العليا. ونظر أديسون أيضًا إلى المستقبل نظرة سياسية وصناعية، فقال معتقدًا أن نزاعًا صناعيًّا هائلاً سيظهر للوجود، فيهدد كثيرين من ملوك الأرض وعظمائها، ويقلق مراكزهم وهو الآن بارز في أوربا، وسيمر بعد عشر سنوات مقابل (صندي هوك) فمدخل ميناء نيويورك؛ ليحل في هذه البلاد. وسوف لا يعود من أثر للفاقة بعد انقضاء مائة سنة منذ الآن، حتى لا يعود من الممكن تحديد رخص المصنوعات بين ضرورية وكمالية لشعوب الأرض. وإن طوفًا صناعيًّا غامرًا لمحمول على قوادم الأيام القادمة، فلينتظره الناس وينعموا به، وهو على فخامة جوهره رخيص القيمة زهيدها. أنى للإنسان أن يتصور استمرار الظفر ودوام سلطانه؟ إن الفاقة إنما رافقت الشعوب التي كانت تستخدم أيديها في كل أعمالها، وحيثما يكن العمل قاصرًا على الأيدي تكن المشاق والمتاعب والأعواز موفورة، أما وقد ابتدأ الإنسان باستخدام دماغه فالفقر يتلاشى ويبيد. إن الشيء الذي عرفنا كيفية التمسك بأطرافه اليوم هو ما يجب أن نعرف كل دقائقه غدًا، وإن نحن الآن إلا موالون للدرس تعلمًا وتمكنًا من استخدام قوى الطبيعة. وعندما نتمكن من معرفة كل تلك الدقائق، يصبح لنا المقدرة على تغيير شكل الوجود. والانقلابات العظيمة والفخمة عن قريب تقرع الأبواب. وهي التي لا نستطيع الآن تخيلها إلا في الأحلام. سيفجر المخترعون على العالمين ينابيع الثروة والإسعاد، ولكن على الشعوب يتوقف حفظ الحكومات ومقامها ضنًّا بالإثراء والهناء العموميين. ومن معتقدات أديسون أن سيصبح للرجل العامل في المستقبل القريب إرادة غير اعتيادية بحيث يشير إلى حكومة إنكلترا آمرًا بالهدوء، فتصدع بإشارته، ويطلب إليها أن تقوم بخدمته فلا تتردد بالأمر، وقد بنى أديسون هذه الاعتقادات تصورًا بأن قد يطرأ على قوانين الدول وجدران كيانها بعض التشقق والتغيير، فلا تعود تقوى على التشامخ لدى رجل العمل، بل يصبح للأخير سلطة على تقويض أركان أية حكومة يأنس منها امتناعًا عن خدمته العملية. ويعتقد أديسون أن المدنية الحالية يجب تحويرها أيضًا وتصليح قواعدها؛ لأنها ليست أهلاً لتواجه بها الأمم أيام الإثراء المقبلة، وينتظر أيضًا أن سيبدأ بتمثيل هذه الرواية مع حكومات الشعوب في أثناء الخمسين سنة الآتية.اهـ بحروفه.

بيان أمير الألاي صادق بك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيان أمير الألاي صادق بك في الدستور والجيش والسياسة العثمانية والماسونية والاتحاد والترقي نشرنا في الجزء الماضي مقالاً؛ ذكرنا فيه بعض ما علمناه في الآستانة عن هذا الرجل العظيم، فنقله المقطم إلا قليلاً منه والمؤيد برمته، وعدته بعض الجرائد الإفرنجية من أحسن ما كتب في بابه، ثم جاءتنا جرائد الآستانة بمقال لصادق بك نفسه، يدل على صدق قولنا ورأينا فيه وفي أحوال الدولة، ونشرت ترجمته في بعض الجرائد المصرية، فرأينا أن ننقله عن المؤيد بتنقيح لفظي قليل، وهو هذا: ألجأتني الضرورات إلى ترك السكوت الذي حاولت أن ألتزمه حتى الآن. أنا جندي؛ ولذلك أربأ بقلمي عن زخرف القول والتفنن في إبداء الرأي، والذي دفعني إلى كتابة هذا البيان الصادق؛ رغبتي بقطع الأقاويل المبنية على إشاعات مؤسفة تتعلق بشخصي مباشرة، وليس بينها وبين الحقيقة صلة أو شبه صلة. لا أبحث هنا في مكانتي من انقلاب 10 تموز (23 يوليو) وحسبي أن أقول: إن العثمانية لا تحيا إلا بالدستور، ولا ترتقي ارتقاء صحيحًا إلا بالاتحاد، وإن اليوم الذي يعلن فيه إفلاس الدستور هو الذي تقبر فيه العثمانية، وإن العامل الأدبي الذي دفعني قبل الدستور إلى الدستور؛ هو العامل الذي يدفعني اليوم إلى حبه لغير ما غرض ولا فائدة، وإن قوام العثمانية الناهضة منوط بفكرة الاتحاد والترقي السامية، وبالجمعية التي تمثل هذه الفكرة تمثيلاً أدبيًّا. ومن الواجب على العناصر التي أضعف الاستبداد حياتها أن تتمسك أكثر من غيرها بهذا النظام، وتنزله منها بمنزلة الروح. ومن الواجب على الجمعية أن ترتقي في دائرة النواميس الطبيعية؛ بأن تكون جمعية العثمانيين من غير تفريق بين أجناسهم وأديانهم، وما دام في أندية الجمعية وفي لجانها المركزية رجال رسميون، فالجمعية تكون بمنزلة حكومة ثانية، وفي ذلك ما فيه من الضرر وقطع الأمل من المستقبل. يجب على الجيش العثماني أن يكون في معزل عن المناقشات الشخصية ومنافساتها، وما يتولد عن ذلك من المذاهب السياسية. وأن يكون للجيش مكان فوق الأحزاب، يمثل الصلة الجامعة بين العثمانيين؛ ليكون محترمًا من الجميع، وبتعبير آخر يجب أن لا يكون الجيش مرتبطًا بحياة وسياسة أشخاص معينين، بل بحياة الدستور الأساسية وهكذا يجب دائمًا أن يكون. إن فكرة الاتحاد والترقي هي روح الجيش، كما هي روح السلطنة، والضامن لتحقيق هذه الفكرة السامية هو الجيش العثماني الذي هو أشد جيوش الأرض ميلاً إلى الديمقراطية (أو قال: تمثيلاً للديمقراطية أي حكم الأمة لنفسها) . الجيش مظاهر لجميع العوامل الفكرية التي لها مساس بفكرة الاتحاد والترقي مظاهرة مطلقة لا شرط لها ولا قيد. كذلك أنا أعتقد بصفتي واحدًا من هذا الجيش وبصفتي فردًا تهمه عثمانيته. لم يكن الانقلاب العثماني نتيجة لجهاد دهاة كبار يمثلون الحياة الفكرية في السلطنة، كما هي الحال في غاريباري وكافور وأمثالهما. وإنما كان انقلابنا ثمرة قوة كبيرة، تجمعت من قوى رجال صغار، اجتهدوا في أحداث هذا الانقلاب. وكان عهدنا بهؤلاء المجددين الصغار أن يبلغوا أمانيهم بسرعة وسهولة، إذا هم لم ينقصوا من قوتهم. يزعم نفر منها؛ أنهم يمثلون قوة الانقلاب بأشخاصهم. ولكن ما أشبه هذا بحال بولونيا في وقت احتضارها. ومتى ظهرت قوة الأشخاص في مجموع الحكومة، ظهرت معها عوارض الفوضى في السلطة. وما التبدلات الأخيرة [1] التي كانت نتيجة فعلية لأقوال طلعت بك في مأدبة (بكقوز) إلا أساس الإصلاح المطلوب. ولما كان كاتب هذه السطور من الضباط الذين شغلتهم واجبات الدستور بشؤون السياسة، كنت أنظر بعين الاهتمام إلى الجيش، وضرر هذه الصلة التي يمت بها إلى الجمعية منذ زمن طويل. ظهرت العثمانية اليوم بمظهر أمة عسكرية قبل كل شيء؛ ولذلك كانت مسألة الجيش في العثمانية المؤلفة من عناصر مختلفة هي المسألة الحيوية. وسيكون اتحاد العناصر أول ثمرة لفكرة الاتحاد والترقي. على أن هذه الثمرة لا يمكن أن تلائمها جامعة الشخصيات في وقت من الأوقات؛ لأن الأشخاص معرضون للانتقاد والمؤاخذة بحسب نتائج أعمالهم، مهما كانوا من ذوي النية الصالحة، وهم أيضًا مهددون بالسقوط السياسي جزاء خطئهم في التدبير وفي الإدارة. ونتيجة ذلك أن الجيش إذا كان آلة في يد رجال السياسة أو اعتقد الناس أنه تلك الآلة، لا يلبث أن تنفصم عروته الجامعة، ويصبح في جهة الأغراض والتحزبات. (وأقول أيضًا من قبيل الاستطراد: إن دور التحزب الذي يمثله ضابط واحد، لا يقل ضرره عن دور التحزب الذي يمثله الجيش كله) . وإن قيام بعض الضباط بوظيفة مندوب عن الجمعية، أو بأي وظيفة أخرى بدون أن يستقيل من الجندية مخل بأخلاق الجيش ومفسد لنظامه. حب الوطن والغيرة القومية هما مصدر شجاعة الجيش المرابط على الحدود؛ للدفاع عن البلاد والمقيم في البلاد للمحافظة على الدستور. ومن هذه الوجهة لا يجوز أبدًا أن يكون للجيش العثماني صلة باللجان الماسونية أو غيرها. قد تكون الماسونية نافعة للإنسانية، ولكن ذلك لا يمنع وجوب بقائها في دائرتها الخاصة، وليست مقاومتي للماسونية أكثر من الاجتهاد في منعها من الانتشار في صفوف الجند، وأنا أحترم كل عامل من العوامل النافعة للإنسانية. ولكن يجب أن لا يكون لهذه العوامل علاقة بالسياسة. وقد علمتنا التجارب أن أجمل محافل الإنسانية عنوانًا، كانت تجيء نتائج أعمالها معكوسة متى لعبت بها أصبع السياسة، وأن الغرباء ملوثي الأيدي الذي يتربصون بنا الفرص، لا يتأخرون ساعة عن الاستفادة من مواضع الضعف فينا. وخلاص القول: إننا أدركنا الآن كيف يصعب على أناس مثلنا يؤلفون جامعتهم من جديد؛ أن يحلوا مشاكلهم المنزلية، ويعيدوا مياه الصفاء إلى مجاريها. على أنه ليس من الصواب في شيء أن نجاري العامة في أفكارها، من أجل خطة فلسفية ننتصر لها. وأن الذي يفسح المجال للتعصب ويجعل للعامة سلطة الحكم، هو الذي يحفر لهذه السلطنة قبرها، ومن الواجب على كل ذي رأي سليم أن يجتنب طرق الأبواب التي تروج فيها سلطة العامة، فبينا يكون المختلفون منهمكين في اختلافاتهم يتقدم المترقبون للفرص؛ ليستفيدوا من تلك الحال المساعدة لهم بطبيعتها، وعندئذ تضيع الغاية وينقلب القصد. إن في مسألتنا الأخيرة وما حام حولها من الأراجيف والسيئات عبرة للمعتبر. وما كان أسهل حل للمسألة بالسكون لولا وجود تلك الأراجيف. ومن دواعي السرور أن جماعات الحزب ائتلفت بسرعة، وأصبح ائتلافها خطوة في سبل الارتقاء. وأن كل تفرد وسلطة يظهران في بلادنا عن علم أو غير علم لا يأتيان بنتيجة غير القوة الشخصية. وإذا رأى الجيش أن رجال الانقلاب قد ضحوا أنانيتهم واتقوا التفرد والسلطة، وكانوا حول مبدئهم إخوانًا، فهو لا يتردد في القيام بواجباته المادية والأدبية نحو وطنه وما ذلك بالأمر العزيز. أنا كتبت (مذكرات) في أسباب استقالتي من وظيفة (مرخص مسؤول) لجمعية الاتحاد والترقي، وعن حالة الجمعية الآن وقبل الآن، وسأنشر ذلك متى حان حين نشره. والذي أحاوله الآن الاحتجاج على الذين اتهموني بدون إنصاف بأني رجعي، ورموني بغير ذلك من التهم، وبينما أنا أكتب هذه النشرة؛ راجيًا فيها منهم باسم سلامة الوطن أن يكفوا عن هذه السفاسف، كنت أحمل بين جنبي نفس جندي صمم على طلب التقاعد من وظيفته (الإحالة على المعاش) وأملي بكل إخواني الضباط الذين لهم صلة فعلية بانقلاب 10 تموز (23 يوليو) وامتزجت حياتهم العسكرية بحياتهم السياسية، والذين يشتركون بأعمال غير أعمالهم العسكرية أن يستقيلوا من الجندية، وينصرفوا بعد ذلك للسياسة بالشروط المشروعة، أو أن يتركوا كل علاقة بالأعمال السياسية، ويتفرغوا لواجباتهم الجندية تمام التفرغ. وفي رأيي أنه قد حل وقت انتباه أصحاب المقامات العالية؛ لتنفيذ هذا القسم من مواد القانون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الأميرآلاي ... ... ... ... ... ... ... ... ... صادق (المنار) حاصل ما كتبه صادق بك: (1) أن الانقلاب الذي نقل الدولة إلى الحكم النيابي الدستوري قد كان من عمله وعمل من كان معه من صغار الضباط؛ وأثر فكرة سارية في جماعة من دهماء الناس، ولم يكن بتدبير بعض الزعماء والكبراء كغاريبالدي الإيطالي. (2) أن إيهام الناس أن الانقلاب قد أحدثه بعض الزعماء المعينين، فيجب أن يكونوا هم كفلاء الدستور وأصحاب السلطة هو خطأ وخطر على الدولة. (3) أن فكرة الاتحاد والترقي (أي المعنى الذي يفهم من هاتين الكلمتين) يجب أن تبث في جميع الأمة؛ لأنها عنوان لكل ما نحتاج إليه في حياتنا الجديدة، وهو أن تتفق الشعوب والأقوام في المملكة العثمانية، وتتحد على القيام بما ترتقي كلها به من العلوم والأعمال. ومن الخطأ الضار أن يجعل عنوان الاتحاد والترقي اسمًا لحزب أو جماعة من الأمة يكون منهم كبار الحكام، ويكون لهم أندية خاصة يعرفون بها ويمتازون على غيرهم. (4) يجب أن لا يكون للماسونية عمل في سياسة الدولة العمومية، وأن لا يدخل فيها ضباط الجيش، ولا تنشر فيه. (5) يجب أن يكون الجيش بمعزل عن السياسة والتحيز إلى فئة معينة من رجال الأمة؛ لأن كل فئة يجوز أن تخطئ، وأن يسقطها خطؤها ويخفض مكانتها، وحينئذ يتطرق هذا السقوط إلى الجيش الذي يمثل شرف جميع الأمة، وأن وظيفة الجيش هي حفظ الحدود من العدو الخارج وحفظ الدستور في الداخل وهي أشرف الوظائف، فيجب أن لا يتعداها إلى غيرها، وأن يكون دائمًا هو أكمل المظاهر لفكرة الاتحاد والترقي. وأن يكون مظهرًا للحقيقة التي تجمع كلمة عناصر الأمة وترقيها بعدم تفرقه أو تحيزه إلى فريق من المتفرقين، بل يكون فوق الأحزاب والفرق كلها ليكون محترمًا منها كلها، وقد وضح هذا المعنى وأصاب في قوله: إن تحيز واحد من الضباط إلى فئة سياسية ضار كتحزب الجيش كله. (6) أنه يجب على الضباط الذين كان لهم عمل في الانقلاب، وعلى غيرهم من الذين يشتركون بأعمال غير أعمالهم العسكرية أن يستقيلوا من الجندية أو يتركوا السياسة ويطلقوها ألبتة، كما فعل هو بعزمه على طلب التقاعد حين اضطر إلى الاشتغال بالسياسة، وكتب هذا البيان. (7) أنه قد حان الوقت في رأيه لتنفيذ مواد القانون المتعلقة بهذه المسألة، فعلى أصحاب المقامات العالية في السلطة أن ينفذوه. يعني أن تنفيذه في أول العهد بالانقلاب وهو عسكري محض كان متعذرًا، أما وقد ثبت مجلس الأمة وتكونت الحكومة الجديدة، فلم يبق لترك تنفيذه عذر. وروح المقال أن بعض الأفراد جعلوا أنفسهم زعماء لجمعية الاتحاد والترقي، واحتكروا لأنفسهم حماية الدستور وتنفيذه، زاعمين أنهم هم الذين أحدثوا الانقلاب، وجعلوا الجمعية عصبية لبعض الأمة على سائرها، ومزجوها بالماسونية وبنوها على قواعدها، وأن بعض ضباط الجيش يؤيدونهم وينصرونهم في سياستهم الماسونية، وأن في هذا خطرًا على السلطنة. هذا، وإن أغرب أعمال احتكارهم أن يتهم من لم يكن له عمل ولا رأي في الانقلاب مثل صادق بك قطب رحى الانقلاب بأنه رجعي؛ لأنه غار على الدستور وعلى السلطنة، وأراد أن يعارض مثل ذلك المتهم في بيع المصلحة العامة بمنفعته الخاصة، ويمنع رهطه من الاستبداد والتفرد بالسلطة، وهذا عين ما كنا بيناه من قبل {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) . ((يتبع بمقال تالٍ))

شيء من مناقب صادق بك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شيء من مناقب صادق بك منقول من خواطر نيازي نشرت جريدة (إقدام) التركية في الآستانة بعد مقالة صادق بك نبذة من كتاب (خواطر نيازي) في صفة صادق بك وعمله في الانقلاب. نذكر ملخصها وهي من حديث كان بينه وبين أحد الأعضاء، وكان نيازي قبل ذلك ينفذ الأوامر التي ترد إليه من صادق بك ولا يعرف مصدرها، حتى عرفه في ذلك اليوم وتشرف بتقبيل يده ولحيته، قال: إن (صادق بك) وحيد بين الوحيدين، وهو صاحب السيف والقلم، وهو الكاتب لأهم البيانات والأوامر والمصور لأهم التدابير (في أمر الانقلاب) إن الأعضاء المبجلين في هيئة الإدارة الذين عاشرتهم مدة طويلة، يجتهدون بالآراء الصائبة الصادرة من آثار كرامات البك المومأ إليه. إن هذا الرجل المحترم شخصه جدًّا عند الهيئة المركزية في مناستر، قد سخر الأفكار العامة بكمال درايته وبأخلاقه، وكان يجذب الميول وأنواع الشعور العمومية دائمًا إلى نقطة واحدة، ويسوقها إلى إخلاص لا يطالب بمكافأة. أما حبيب بك وفخري بك وضيا بك والمصور إبراهيم شاكر أفندي فلم يتأخروا عن الامتثال (لصادق بك) المتواضع، الذي كان في زمن الاضطراب تمثالاً مجسمًا للشجاعة، وكان كالأسد المتهيج. هؤلاء الأربعة كانوا يضعون تواقيعهم على مقررات مهمة هي جرأة بين الجرآت. وإذا بدا لهم أقل إحجام في سبل الإنفاذ بادروا إلى المخاطرة في ذلك بأنفسهم. يوم قدوم شمسي باشا استولى على جميعنا اضطراب خشية؛ لأنا أمعنا النظر في مقدار جهل الباشا واستبداده وظلمه وتمرده، ولا سيما كونه محاطًا بجماعة من الألبانيين في زي الجنود لا يعرفون شيئًا ويفدون الباشا بأرواحهم. وبقينا في وجل من احتمال ظهور حرب داخلية، فأعملنا الفكر في ألف تدبير لمحو وجوده، ورأينا في إنفاذه ألف عائق. فأصر (صادق بك) وضيا بك وحبيب بك على وجوب إزالة هذا الوجود السام في أثناء تأدية وظيفته. ولكي لا نضيع الفرصة بالمناقشة والمذاكرة عرضوا أنفسهم وفي دقيقة الاضطراب، وضع كل منهم يدًا على القرآن العظيم الشأن ويدًا على مسدسه، وأحكموا الميثاق بهذه الدرجة من الجد. (ثم ذكر كيفية تنفيذ ذلك بيد ملازم فدائي وقال) : هؤلاء يا عزيزي هم الذين يقومون بوظائفهم في هيئة إدارتنا وهم مشغولون جدًّا. فلا يجدون وقتًا للأكل ولا للنوم. ولقد ظلوا كغرباء عن هذا السرور العام والفرح الملي؛ لأن الوظيفة أهم وأقدس، ولهذا لا يراهم أحد ولا يمكنون أحدًا من رؤيتهم، ولكنكم ما دمتم ترغبون كثيرًا، هلموا أذهب بكم إلى الدائرة التي يشتغلون فيها اليوم بإيفاء وظائفهم في منزل (صادق بك) . أشكركم فلنبادر سريعًا. وأخذنا نمشي ونتحادث، فأطال البحث في تمكن (صادق بك) من العلوم الدينية والفلسفية والفنون العسكرية والأدبيات، وأطنب في وصف دهائه وعشقه للحق والحقيقة وهيامه بها وبمكارم أخلاقه، وثبات طباعه واتساع قدرته، وفرط توكله وشدة شجاعته وكمال تواضعه. (وقص عليّ كيف خدم أعضاء الجمعية في حال وهنها لما انتسب إليهم أهل بيته، وما أظهرته من الإخلاص بنته العذراء وزوجته المحترمة وجعل يعد عليّ أمثالاً كثيرة من هذا الإخلاص حتى وصلنا إلى المكان المقصود قبل أن يتم كلامه، وطرقنا الباب فأدخلونا إلى حضرة الهيئة المحترمة في الغرفة المظلمة التي يجتمعون فيها، فقبلت يد المشار إليه ولحيته) . اهـ المراد منه.

بيان هادي باشا الفاروقي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيان هادي باشا الفاروقي في وظيفة الجيش ومسألة تداخله في السياسة جاء في جريدة الحضارة الشهيرة التي تصدر في الآستانة بالعربية ما نصه: على أثر الاختلاف الذي ظهر أخيرًا في حزب الاتحاد والترقي، لقي محرر جريدة رومللي القائد الباسل هادي باشا الفاروقي مفتش الفيلق الثاني في الرومللي، وسأله عن مداخلة الضباط، وعلى الخصوص ضباط الفيلق الأول في هذه الاختلافات فقال: إنه لم يكن له علم قطعي بذلك، ثم صرح بما يأتي: إن وظيفة الجيش والأشخاص الذين يتألف منهم؛ هي أن يكونوا دومًا متأهبين للمدافعة عن الوطن، وأن يواصلوا السعي بكل عزم وغيرة إلى الكمال؛ ولأجل أن يصل الجيش إلى هذه الغاية المقدسة لا بد أن يكون كتلة واحدة مهيبة، ولذا تكون مداخلة بعض الضباط بشؤون السياسة مضرة جدًّا؛ إذ إنها تولد الحرص والاختلاف، وتخل برابطة الجيش وتضر بوحدته. وأنا من جهتي أقبح هذه الأفعال. وإذا كان يوجد ثمة من يتداخلون هذه المداخلات، فهم لا شك خونة جهلاء؛ لأنهم يكونون بذلك حطوا من مقام الجيش الذي هو أرفع وأعلى من اختلافات الأحزاب ومبارزات السياسة. إن وظيفة الجيش العليا هي الذود عن الوطن والمحافظة على الدستور (المشروطية) عند الاقتضاء لا غير. وإذا ظهر خلل في إحدى شعبات الإدارة، فأمرها يكون موكولاً إلى غيره. وإني أقول مكررًا: إن إدخال فكر السياسة في الجيش أمر لا يعبر عنه إلا بالجهل والخيانة والجناية، ورغمًا من الواقع فإني موقن بأن الجيش العثماني عار عن هذه الشائبة، وأنه إذا كان يوجد ثمة شيء من هذا القبيل فالمرجع الإيجابي يتوسل لإزالتها. (وقال المحرر: إن هذا الشهم المقدام العالم العامل بوظيفته العسكرية، كان يتكلم هذا الكلام والشرر يتطاير من عينيه، كأنه واقف أمام عدو هائل) .

ألمانيا والعالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ألمانيا والعالم الإسلامي (مترجم عن جريدة الوقت التي تصدر في أرينبورغ من روسيا) إن العلاقة الودية التي وطدت بين ألمانيا والعالم الإسلامي قد أقامت الجرائد الروسية وأقعدتها، وأوقعتها في الشبهات الكثيرة، حتى إن سوء الظن جعل جريدة (نوفيه فريميه) تحسب له ألف حساب، واضطرت أن تبث ما في ضميرها؛ وهو الخوف من أن ألمانيا الآن قد أوشكت أن تضع قدميها على تركستان الشرقية المحدودة بحكومات الصين وروسيا وإنكلترا، وإذا حصل هذا فكأنها قد وضعت قدميها في وسط حبل ممتد من مسلمي الصين إلى الحكومة التركية الإسلامية الحرة، وتقول: إن مذهب كونفوشيوس المشهور في الصين سينقرض، ويقوم مقامه الإسلام، فتصير حكومة الصين حكومة إسلامية، ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى تعلن حربًا عوانًا مسلحة بالتعصب الإسلامي، فتترك العالم المتمدن في حيرة كبيرة ودهشة شديدة. وهي تستنبط هذه الأحكام الغيبية من أقوال مكاتب جريدة (التيمس) في بكين عاصمة الصين. الدكتور موريسون الذي ساح في آسيا الوسطى كلها. وله اطلاع تام على أحوال مملكة الصين. يقول هذا الدكتور: إن دين الإسلام أخذ ينتشر في الصين بسرعة غريبة، وإن اتفاق المسلمين واتحادهم فيها قوي جدًّا. ويورد على ذلك أدلة واضحة عنده، فهو يقول: إن القاطنين في الصين من تركستان في ولايات غانسو، وصي، وجو، ووان، ويون، وإلانان، كلهم مسلمون. ويقول في كلامه المؤكد عن شجاعتهم وبسالتهم: إننا لا ننسى أبدًا يعقوب خان الذي كان في تركستان، وجعلها في سنة 1886 حكومة مستقلة تمامًا، فأقامت بذلك حكومة الصين وأقعدتها، ثم جعلتها في حالة لم ترض بها حكومة الصين، ولم ينشرح لها صدرها، ثم إن حادثة قبيلة (بانتاي) المشهورة بالشجاعة التي استولت في ذلك الوقت على القسم الغربي من ولاية (يون ونان) ، وجعلت مدينة (إلافسو) مقرًّا للملك ليست مما ينسى؛ بل مما يبقى ذكره مركوزًا في الأذهان على ممر الدهور والأعوام. ثم يقول: نعم.. نحن إذا نظرنا إلى حالة المسلمين الحاضرة في تلك البقعة نجدها الآن في هدوء وسكون تام. ولكن إذا لاحظنا العلاقات والارتباطات التي حصلت الآن بينهم وبين مسلمي تركية نجدها تتزيد وتتقوى يومًا فيومًا. وهم الآن قد تنبهوا كثيرًا عن ذي قبل، فكثير منهم يقصد بلاد المدينة لأجل التعلم فيها أو للسياحة فقط، فيأتي منها لأبناء جنسه بمعلومات جمة، ويبث فيهم روح المدنية والترقي، وهو يؤيد قوله هذا بأقوال العلماء الكبار من الروسيين (فافاسييلف) (و) (آ. أيوانف) الذين لهم اطلاع كثير على مملكة الصين: وإنهم أيضًا يتشاءمون كما يتشاءم. فبناء على رأي ذلك الدكتور موريسون؛ إن ألمانيا قد علمت بتلك الأحوال، ولم يشعر بها أحد قبلها، وعزمت على أن تضع قدميها على كاشغر أي على تركستان الصيني، ومن يضع قدميه هناك يمد الحبل منه إلى الطرفين: طرف تركية من جهة وطرف الصين من الجهة الأخرى. ومما يوقع تلك الجرائد الروسية في أشد الشبهات، ويضطرها إلى اختلاق ما يسعهم أن يختلقوه هو ما كان قبل الآن من جعل تبعة الدولة العلية في الصين تحت حماية سفير فرنسا، وإقامة سفير ألمانيا مقامه في هذا الحين، يدل على ذلك أن قونصل ألمانيا نشر من مدة قريبة جدًّا إعلانًا قال فيه: بناء على القرار الذي حصل بين تركية وألمانيا، يجب على كل من يقيم في الصين وهو من تبعة الدولة العلية أن يكون تحت حماية سفير ألمانيا، وفي ولاية (كاشغر) أصدر أمرًا بإحصاء عدد تبعة الدولية العلية التي كانت تقيم في ولاية كاشغر، وتسجيل أسمائهم ومحل إقامتهم فيها. فجريدة (نوفيه فريميه) تستنتج من ذلك النتائج الآتية تقول: إن ثقة الأتراك بالنمساويين أقوى من ثقتهم بالفرنساويين، واعتبارهم لهم أيضًا أشد من اعتبارهم للفرنساويين، فالنمساويون هنا أحرزوا قصب السبق في إستامبول، ولهم القدح المعلى في الشرق الأدنى والأقصى أيضًا. ثم تشرع في تعداد الفوائد التي تحصل للنمسويين من جراء دخول تبعة الدولة العلية في الصين تحت حماية سفير ألمانيا. وفي ظنها أن النمسويين يستفيدون: أولاً - أنهم يطلعون على أحوال المسلمين هناك في الصين والهند ومسلمي روسية في آسيا الوسطى. وثانيًا - أن حكومة ألمانيا تنتهز فرصة حصول المشاجرات والمنازعات التي تصدر أحيانًا بين حكام وعمال الصين وبين تبعة الدولية العلية؛ لتتداخل في أعمال حكومة الصين. وثالثًا - أنها تجذب قلوب مسلمي الصين إلى نفسها. ورابعًا - أنها توسع تجارتها في الصين الغربي وفي تركستان بواسطة أغنياء المسلمين الذين يتجرون فيهما. وخامسًا - أن نفوذ ألمانيا يقوى بذلك في إستامبول أكثر من ذي قبل. ثم إن هذه الجريدة تنتقم في عدد آخر من ألمانيا وعالم الإسلام جميعًا فقد رسم فيها الرسم الذي أصفه بما يأتي: صورة الأرض فيها كتاب مكتوب عليه (الإسلام) وعلى ذلك الكتاب رجل محدودب في زي المسلم له أربع قوائم كالدواب، وعلى ظهره صورة رجل نمسوي الشكل راكب عليه، إحدى قدميه في طرف الكتاب والأخرى في طرفه الآخر، وفي فمه (مشتوك) يدخن به. وتحت ذلك الرسم مكتوب كذا: (ليس الآن في الدنيا شرقان يسميان الأقصى والأدنى، فالآن قرب الشرق الأقصى والأدنى واتصلا فصارا واحدًا أي شرقًا أدنى فقط) . فهذه الجريدة تمثل بذلك ألمانيا قد سخرت عالم الإسلام أجمع، وجعلته مطية لها إلى مقاصدها، والمسلمون قد اغتروا بمخادعتها لهم. ثم إن اجتماع جمهور عظيم في الآستانة منذ زمن غير بعيد، واحتجاجهم على روسية في شأن إيران، وعلى إظهار محبتهم لعاهل آلمانيا، وعلى الرجاء في حمياته لعالم الإسلام قد هيج خواطر جرائد روسية وإنكلترا تهييجًا شديدًا حتى أقامها وأقعدها. وقد تورمت منه جريدة (روسكي أصلوفا) وقالت: (إن المسلمين الآن يريدون أن يعرفوا عاهل ألمانيا خليفة لهم) واستهزأت بالمسلمين بعباراتها السخيفة الممزوجة بالمغالطات الدينية كقولها: (هل يجوز للمسلمين أن يجعلوا لهم سلطانًا بروتستاني المذهب، وهل يسمح لهم دينهم بذلك؟) كأن أصحاب هذه الجرائد يظنون أن عالم الإسلام الذي يبلغ عدده ثلاث مائة مليون نسمة، ليس لهم عقل كعقولهم يميز به صديقه من عدوه الألد، ولا لهم فكر يتفكرون به فيما يستفيدون منه، ليسوا كما تظنون يا أصحاب هذه الجرائد! بل من بينهم من يعرفون ما يضرهم وما ينفعهم، وليسوا محرومين من قوة الإدراك التي يميزون بها الجيد من الرديء والخبيث من الطيب، فإذا نظر عالم الإسلام إلى روسية بصورة غير صديق له فهذا ليس من المسلمين، بل من الجرائد المشوقات والمحاولات لتضليل الحكومة الروسية ولإثارة خواطر المسلمين وغيرهم من الملل غير ملة الروس، مثل جريدة روسكي أصلوقا ونوفي فريميه، اللتين من شأنهما أن تدوسا النعم التي أمامهما تحت أقدامها، وأن تحاولا صيد ما هو في الهواء. اهـ. (المنار) بعد أن جاءتنا جريدة (وقت) بهذه المقالة انقطعت عنا، وبلغنا أن الحكومة الروسية قد أقفلتها هي ومجلة (شورا) ، وهما خير صحف مسلمي التتار في روسية، وقد علمنا أن ما ذكر في الجرائد من شدة ضغط الحكومة الروسية على مسلمي التتار في بلادهم من إقفال جرائد ومدارس؛ فسببه سياسة الآستانة، فإن بعض المفتونين فيها بالأماني الجنسية يلغطون بإظهار الطمع في اتحاد الترك العثمانيين بتتار روسية وأهل تركستان عامة وجعلهم دولة واحدة قوية، وقد نصحنا لهم في مقالات (العرب والترك) التي نشرناها في جرائد الآستانة أيام كنا فيها أن ينزعوا هذه الأمنية من مخيلاتهم، ويحرموا ذكرها على ألسنتهم وأقلامهم؛ لأن إظهارها يضر بالدولة وبأولئك المسلمين بما يحمل روسية على العود إلى سياسة الخشونة مع الدولة، وعلى الحذر من مسلمي بلادها والضغط عليهم، وأين قوة الدولة من قوة روسية والصين الحاكمتين على أكثر من ثلث البشر. لروسية العذر في الحذر والاتهام بتلافي هذا الأمر، وكيف ترضى أن يطمع الترك في بلادها، وهي هي التي لم يمنعها من أخذ القسطنطينية إلا أوربة. وقد زاد حذرها ما هدرت به شقاشق المتهور عبيد الله مبعوث آيدين في الانتصار لدولة فارس عليها بالاستعانة بعاهل الألمان، وما كان يخشى من مساعدة ألمانية والنمسة للترك على نفوذهم المعنوي إلى تركستان؛ ليتخذوه وسيلة لترويج تجارتهم وسياستهم، فأمثال هؤلاء الجاهلين بالسياسة من رجال الآستانة، يجنون بغرورهم على دولتهم وبلادهم، وعلى إخوانهم المسلمين من غير بلادهم، وما يدرينا أن تلك الشقاشق كانت من أسباب في اتفاق روسية وألمانية في سياستهما المشرقية؛ بما كان في اجتماع القيصرين في بوتسدام وهو اتفاق علينا وعلى إخواننا الفرس. وإنني أنصح لمسلمي روسية أن يتقوا فتنة السياسة ولا ينخدعوا لبعض الأغرار في الآستانة، ويجتهدوا في ترقية أنفسهم مع تأمين حكومتهم في الظاهر والباطن من التحيز إلى حكومة أخرى، فإن تحيزهم يضرهم ويضر من يتحيزون إليه، ودولتنا عاجزة عن حفظ بلادها وإدارتها، وعن إرسال قاض شرعي إلى مسلمي جزيرة كريد التابعة لها باعتراف الدول (ولكن بالقول دون الفعل) فكيف تستطيع أن تمد نفوذها إلى بلاد دولة أقوى منها؟ ولو جعل مسلمو التتار وجهتهم العلمية مصر دون الآستانة لكان خيرًا لهم، فقد أخبرني غير واحد منهم في الآستانة أنهم هنالك في موضع الريبة عند سفارة حكومتهم، وأن جواسيس السفارة منهم منبثون بينهم، فهذا هو سبب ضغط دولتهم عليهم، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدًا. أما ألمانيا فلا نعرف لها إلا حسنة عملية واحدة في مساعدة دولتنا؛ وهي تعليم جيشها وتنظيمه، وقد سأل بعض المفتونين من رجالنا بفرنسة أن تسمح لضباطنا أن يتمرنوا في جيشها فأبت. ولو أخلصت دولة أوربية قوية لدولتنا وللإسلام، وعرفت كيف تستفيد منا، وتفيدنا بالإخلاص لبذت أوربة ودول الأرض كلها.

شعر أعراب الحجاز في هذا العصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شعر أعراب الحجار في هذا العصر لما عزم الشريف أمير مكة المكرمة على تجهيز جيش من العرب إلى اليمن؛ لمساعدة الدولة على السيد الإدريسي في عسير، أرسل هذه الأنشودة يستفز بها قومه، وقيل: إن بضعة أبيات من أولها من كلامه وباقيها من كلام الشريف زيد بن فواز أمير الطائف. كيف البصر يال حسن [1] وآل بركات ... نزالة المشرق ومن في تهامه نسمع طواريكم [2] تسوّن خيرات [3] ... ومن لا مشأ يغشاه منا ملامه وإن حامن المقدود كم جاوكم فات ... والعمر له في اللوح خط العلامه ننصا [4] معادينا على كيف ما جات ... والموت دون العز ما به ندامه من هو تمنى دارنا بالدبارات [5] ... جينا وما هي له ولا للكرامه ما دون من ينصا [6] بلدنا تعلات ... ولا نستمع من قال شور الرخامه [7] حِنّا [8] عمدناهم بخيل وسلات ... والذل ما سر الظبي والنعامه مرسا كداده [9] دونه الموت حومات ... ما يخرجه منا يكون القيامه أحيا لنا الله عزنا بعدما مات ... أحياه أبو فيصل لنا بالقرامه [10] ما عادا به مقعاد فيّه وقيلات ... وأنتم لكم عادات يهل [11] الشهامه قلته بعد ما شفت فيكم عدالات ... واللي يحسّب يدّرق فالجهامه [12] ترى مقابلكم معادي وشمّات ... يبقى عليكم دورت النهزامه [13] لا تكربون [14] من الحكايا والأصوات ... مغزا تهامه كسب ولاّ سلامه مع شيخكم فالمقديه والخطيات ... حظه جلا عنكم وعنا الغمامه حِنّا على الدين الحنيفي بالآثبات ... مراقبين الشرع بالاستقامه للخارجين عن الطريقه علامات ... تنبيه شيطان الفتن من منامه وعقول جهال العرب راحت أشتات ... فرّق شرايط دينهم من كلامه دخل عليهم بالزخارف وحيلات ... يقول أجدد دينكم عن عدامه حاشا وكلا ديننا بالحقيقات ... مازاعه أضغاث الكرا من حلامه جانا من القرآن تفصيل آيات ... نعرف بها حِلَّهُ ونعرف حرامه الدين منا منبعه بالرسالات ... نحن مقاديمه ونحن خطامه من هو تمنا عندنا للإمارات ... ياكم قصرنا رايم عن مرامه [15] *** وهذه قصيدة عقيل لما قدموا مكة المكرمة وتلقاهم الأمير؛ ليغزوا معه إلى اليمن، فتقدم شاعرهم ليحمسهم ويحمس الأمير ويجاوب الإدريسي، وقال: يا الله إنك تعز الدين والصادقين ... والمماري بدينه وإننا ناصله ربعنا للحرايب كلهم مشتهين ... مع الذي يحب العز والطايله سيدي عزنا من عزكم كل حين ... نحمد الله بعز الدين ومواصله سيدي ذكر راعي اليمن [16] لا يبين ... أشهر السيف وتأتيك العرب صايله ناض برق من القبله وبه سعين ... هل وبله على صبيا وأنا أخايله العبادل أهل الطولات في كل حين ... يا مزاعم فحول قريش ذي عايله بمشيئة الله نزوره إن كان هم منكرين ... ناصل الذي بدع بدعه وهي مايله كل ساحر تبطل سحره الذي يبين ... ناصل الذي يقول الملح ما ياكله يا الله إنك تعز أشرافنا الناصحين ... هم أهل الحكم والعليأ هل الطايله جوك الأشراف في ظل سيدنا حسين ... والسعد مشتهر في بيرقه شايله سار والنصر يتليه والله عوين ... نسألك يا رفيع السماء تأصله

المؤتمر المصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (المؤتمر المصري) في 30 من ربيع الآخر 29 أبريل انعقد المؤتمر المصري تحت رياسة شيخ وزراء مصر وعظمائها مصطفى رياض باشا في المكان الأفيح المعروف (بلونابارك) من مصر الجديدة، وهو ملعب كبير يسع بضعة آلاف رجل، وقد زين بالأعلام، وأقيم للرئيس وكبار أعضاء اللجنة التحضيرية فيه محراب واسع، وجعلت المجالس فيه أقسامًا مرتبة؛ منها مكان لوجهاء العاصمة، ومكان لأصحاب الصحف، وأمكنة أخرى لأصناف الأعضاء وفود المديريات، يعرف كل قسم منها بلوح مكتوب عليه ما يدل الداخل على مكانه. وقد افتتح الرئيس المؤتمر بالخطاب الآتي: أيها السادة، دعوناكم وكلكم من أهل المكانة وأصحاب المنافع وذوي الآراء والكتاب والمفكرين، وكلكم ممن تهمهم مصالح البلاد العليا، وكلكم من يغار على رقيها وتوثيق روابط جامعتها؛ لتتشاوروا في بعض المسائل العمومية الشاغلة للرأي العام في الحالة الحاضرة. من بين هذه المسائل مسألة ما كنا نود لها وجودًا؛ وهي ما يسمونه بمطالب الأقباط؛ لأن حالة البلاد لا تسمح بتقسيم المصالح بين أبنائها تبعًا لانقساماتهم الدينية ستعرض عليكم موضوعات أخرى أدبية واقتصادية؛ لتقرروا فيها الوسائط التي تساعد على رقي حالة التعليم، ونمو الثروة العمومية. أبنائي الأعزاء: إني وإن كنت لا أشك في أنكم ستحكمون في مداولتكم ورغباتكم رح العدل، والميل إلى تأييد الروابط الوطنية بينكم وبين سائر إخواننا وأبنائنا من أبناء الديانات الأخرى، ولكن ذلك لا يمنعني من أن أوصيكم بأن تراعوا في مباحثكم وطلباتكم فوق روح العدل والإنصاف روح التسامح والانعطاف الذي عرفت به ديانتنا السمحاء، والله أسأل أن يكلل أعمالنا بالنجاح والسلام. وقد صفق الحاضرون وهتفوا بالدعاء لدولة الرئيس عند حضوره وفي خاتمة خطابه. وبعد أن أتم الرئيس خطابه، قام أحمد لطفي بك السيد مدير (الجريدة) وشرع يتلو تقرير اللجنة التحضيرية (وهو الواضع الأول له) ، وساعده على تلاوته صديقاه أحمد بك عبد اللطيف وعبد العزيز بك فهمي المحاميان. وهؤلاء الثلاثة كانوا مع بعض إخوانهم من حزب الأمة هم الواضعين لنظام هذا المؤتمر والقائمين بأهم أعماله، وقد أتم المؤتمر اجتماعاته بحسب برنامجه الذي تراه بعد وكان النظام حسنًا والكلام معتدلاً. نشرنا في هذا الجزء طائفة من تقرير اللجنة التحضيرية الذي صادف إعجاب الجماهير من الناس، وسننشر باقيه في الجزء الآتي، ويرى القراء أن معظم ما فيه من المسائل جاءت موافقة لمقالاتنا (المسلمون والقبط) وكذلك الخطب المعتدلة الأخرى التي كانت كالشرح لهذا التقرير. ولا حاجة إلى نشرها كلها في المنار، بل نكتفي بنشر برنامج المؤتمر المبين لها وما أقره من مطالبها، وربما نختار شيئًا منها بعد. * * * (بروجرام أعمال المؤتمر المصري الأول) يوم السبت 30 ربيع الثاني سنة 1329الموافق 29 إبريل سنة 1911 (الجلسة الأولى) من الساعة 10 أفرنكي صباحًا إلى الظهر: (1) افتتاح المؤتمر بخطبة دولة الرئيس. (2) تلاوة تقرير لجنة المؤتمر. (الجلسة الثانية) من الساعة 5 مساء إلى الساعة 8 ونصف: (3) في أن عناصر الجنس المصري كلها من أصل واحد - سعادة الدكتور أباتا باشا. (4) عطلة يوم الأحد - الأستاذ محمود بك أبو النصر. (5) العوامل الاجتماعية للحركة القبطية - الأستاذ محمد حافظ رمضان. (6) تمحيص مطالب الأقباط وإزالة موجبات الشقاق - صالح بك حمدي حماد. (7) نظرة عامة حول مؤتمر الأقباط - إبراهيم بك غزالي عضو مجلس مديرية أسيوط. (يوم الأحد أول جمادى الأولى الموافق 30 أبريل) (الجلسة الثالثة) من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساء: (8) الأقلية الدينية والمجالس النيابية - الأستاذ أحمد عبد اللطيف. (9) الكفاءة في التوظف - الأستاذ إبراهيم بك الهلباوي. (10) وسائل ترقية المرأة المسلمة المصرية - باحثة بالبادية. (11) التعليم العام الأستاذ - محمد بك أبو شادي. (يوم الإثنين 2 جمادى الأولى الموافق 1 مايو) (الجلسة الرابعة) من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساءً: (12) التعليم العام وحظ المسلمين والأقباط فيما تنفقه الأمة عليه - سعادة الشيخ علي يوسف. (13) التعليم العلمي النافع للصناعة والزراعة والتجارة - علي بك الشمسي. (14) الصناع في مصر إبراهيم بك رمزي. (15) حماية وترويج المصنوعات الوطنية الأستاذ جبرائيل كحيل بك. (16) ضرورة ترك بدع المآثم والمقابر الأستاذ محمد بك يوسف. (17) إصلاح القضاء عبد الستار أفندي الباسل. (18) الوسائل المؤدية للتوفيق بين العناصر المختلفة في مصر أحمد بك لطفي المحامي. (يوم الثلاثاء 3 جمادى الأولى الموافق 3 مايو) (الجلسة الخامسة) من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساءً: (19) ضرورة مراعاة أحوال الزمان والمكان في تطبيق الأحكام الشرعية الشيخ عبد العزيز جاويش. (20) حالة مصر الاقتصادية والمالية - يوسف بك نحاس. (21) التعاون المالي والنقابات الزراعية - الأستاذ عمر بك لطفي. (22) مستودعات التأمين الأستاذ - محمود بك أبو النصر. (23) الربا الفاحش وضرورة العقاب عليه - الأستاذ هاشم محمد مهنا. (24) أضرار الربا الفاحش - الأستاذ محمد بك علي. (25) حالتنا الاقتصادية الزراعية - أحمد أفندي الألفي. (يوم الأربعاء 4 جمادى الأولى الموافق 3 مايو) (الجلسة السادسة) من الساعة 4 ونصف إلى الساعة 8 ونصف مساءً: مناقشة الاقتراحات التي وردت في تقرير اللجنة، وفي المواضيع التي تليت بالجلسات السابقة وغيرها مما ورد بالمواضيع والطلبات التي لم تصر تلاوتها. اهـ. (المنار) هذا هو النظام والبرنامج الذي سار عليه المؤتمر كما وضعته اللجنة التحضيرية. ولقب الأستاذ قد أطلق على المحامين (وكلاء الدعاوى) وهو اصطلاح وضعه مدير (الجريدة) ، وقلده فيه كثير من الكتاب، فصار معروفًا في مصر، وإنما نبهت عليه؛ لئلا يظن قراء المنار في غير مصر أن هؤلاء الأساتذة من علماء الأزهر وغير الأزهر من المعاهد الدينية، وهؤلاء لم يخطب أحد منهم في هذا المؤتمر، ولم يره أحد من شيوخهم الكبار. (الجلسة الأخيرة) حضر دولة الرئيس الساعة الخامسة والدقيقة العشرين فقابله المؤتمرون بالهتاف. وبعد أن استراح قليلاً في السرادق الخاص بدولته وكبار القوم، أعلن افتتاح الجلسة ثم وقف الأستاذ عبد العزيز فهمي، وتلا محاضر جلسات المؤتمر منذ افتتاحه إلى اليوم. وذكر أن جميع التقارير حفظت مع أوراق المؤتمر. وطلب أحد الحاضرين أن تحفظ هذه العبارة (وقد لوحظ أن الوقت يسمح بتلاوة خطبة الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش) فرد عليه الأستاذ أحمد عبد اللطيف بأن لجنة المؤتمر كانت قد عينت ميعادًا لقبول الخطب، فلم يأت خطاب من الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش في الميعاد المعين؛ ولذلك لم يذكر في بروجرام المؤتمر، وهذا هو السبب في قولنا: وقد لوحظ.. إلخ. ثم وقف الأستاذ أحمد عبد اللطيف وأخذ يتلو اقتراحات المطروحة على المؤتمر المصري فيما يتعلق بمطالب الأقباط، وهذه صورتها: (الاقتراحات المطروحة على المؤتمر المصري الأول) مطالب الأقباط: (أ) هل يرى المؤتمر إمكان قسمة الحقوق السياسية في مصر بين طوائفها الدينية المختلفة، أو أن المؤتمر يقرر أن الأمة المصرية هي في مجموعها كل لا يقبل التجزئة في الحقوق السياسية، وأنه مع ما لكل طائفة دينية من الحرية التامة في عقيدتها، فإن للحكومة المصرية دينًا رسميًّا واحدًا هو الإسلام. (ب) هل يرى المؤتمر من حقوق أية طائفة دينية في مصر؛ أن تطلب عطلة يوم الأحد أو غيره من الأيام؟ أو أن المؤتمر يرى الاقتصار على أن تكون العطلة الرسمية هي يوم الجمعة. (ج) ألا يرى المؤتمر أن تكون قاعدة التعيين في وظائف الحكومة هي الكفاءة من جميع وجوهها: علمية وإدارية وأخلاقية معًا. وألا يرى المؤتمر أن الأقباط تجاوزوا فيما نالوه من تلك الوظائف الحد المقبول، وهل يرى وجوب إلفات نظر الحكومة إلى تحقيق أسباب امتلاء الكثير من مصالحها بالموظفين الأقباط، مع وجود الأكفاء من المسلمين وغيرهم من المصريين؟ وهل يجب السعي وراء الحكومة في إعادة اللجنة المستديمة بنظارة المعارف؛ لامتحان طالبي التوظف، حتى لا يقع مثل هذا الغبن في المستقبل. (د) هل يرى المؤتمر تعديل قانون الانتخاب بما يجعل لكل طائفة دينية مصرية دائرة انتخاب خاصة، أو أن حق الانتخاب يبقى كما هو شائعًا بين جميع المصريين على السواء. وهل يوافق المؤتمر على السعي لدى الحكومة في أن تجعل للكفاءة العلمية حظًّا أوفر مما هو الآن في المجالس النيابية؟ (هـ) هل يوافق المؤتمر على إعطاء كل طائفة من طوائف الأمة المصرية ما تجبيه منها مجالس المديريات من ضريبة الخمسة في المائة؛ لتنفقه كما تشاء؟ وهل يرى المؤتمر أن الأقباط متمتعون من التعليم بجميع أنواعه بأكثر مما ينفق مع نسبتهم العددية، ونسبة ما يؤدونه من الضرائب؟ (و) هل يرى المؤتمر أن للأقباط الحق في أن يطلبوا من الحكومة بصفتهم طائفة دينية أن تنفق من خزينتها العمومية على مرافقهم الطائفية الخاصة! فوافق المؤتمرون على جميع تلك الاقتراحات بعد أن حصل جدال في بعضها وخصوصًا الاقتراح الثالث، فان بعضهم طلب أن تراعى النسبة العددية في إسناد الوظائف إلى الأكفاء، فرد عليه الأستاذ عبد العزيز فهمي قائلاً: إن تقسيم الوظائف بناء على النسبة العددية مخالف للاقتراح الأول الذي وافق عليه المؤتمرون وهو أن الأمة واحدة لا تقبل التجزئة، وأن اعتبار النسبة العددية يؤدي إلى المنازعات. ثم حض الحاضرين على التزام الهدوء والسكينة، وقال: إن العالم ينظر إلينا الآن، ثم تكلم أيضًا الأستاذ أحمد عبد اللطيف وقال: إنه لا يمكن في بلدنا ولا في أي بلد آخر أن تقسم الوظائف بناء على النسبة العددية. وقال سعادة الشيخ علي يوسف: إننا قررنا فيما تقدم أن الحكومة إسلامية، وأن دين الإسلام هو دينها الرسمي، فإذا قسمنا الوظائف على النسبة العددية، نكون قد قسمنا الحكومة إلى شطرين مبنيين على الدين، وهذا مخالف لمصلحة الأمة، على أنه يرى أن المدير لا يمكنه أن يكون قبطيًّا؛ لعدم مقدرته على إدارة شؤون المديرية التي يتولاها كما يجب من السلطة والنفوذ. فبقي بعضهم يعترض، فقام الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش وقال: إن الكفاءة الإدارية تستوجب الثقة، ولقد دلتنا التجارب على أن الأكثرية لا يمكنها أن تثق بالأقلية، واستنتج من ذلك أن المدير يجب أن يكون مسلمًا؛ لتتم تلك الثقة المطلوبة. واقترح أن يضاف إلى اقتراح المؤتمر هذه الكلمات (أن تكون الكفاءة الإدارية كفيلة باستقامة الأحوال) ، وبعد مناقشة طويلة في هذا الشأن تقرر إبقاء الاقتراح على حاله، ثم طلب الأستاذ أحمد عبد اللطيف إلى المؤتمرين أن يوافقوا على جعل اللجنة التحضيرية لجنة تنفيذية. ثم دارت المناقشة على الاقتراحات المعروضة على المؤتمر، فقبل ما قبل ورفض ما رفض منها، كما هو مبين فيما يلي: اقتراحات المؤتمرين وغيرهم (1) اللجنة التنفيذية لا بد لتنفيذ قرارات هذا المؤتمر من لجنة دائمة تباشر هذا التنفيذ. ويعلم حضرات المؤتمرين أن اللجنة التحضيرية قد انحلت حيث انتهى عملها، ولا يمكن أن تصير لجنة تنفيذية دائمة إلا إذا أقرها المؤتمر على ذلك، فهل تقرونها لجنة تنفيذية، يكون من جملة وظيفتها دعوة هذا المؤتمر للاجتماع عند الاقتضاء، وأن تنتخب لها مجلس إدارة، وأن تضم إليها من ت

اتفاق الدول والمانع لها من قبول دولتنا فيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اتفاق الدول والمانع لها من قبول دولتنا فيه ذكر المقطم في عدده الذي صدر في 18 من هذا الشهر (27 مايو) عظمة الأمة الإنكليزية والأمة الأمريكية، وخبر اتفاقهما اتفاقًا يقرب من التحالف قال: (وإن فرنسا واليابان قد تشاركانهما في هذا الاتفاق، ولا يبعد أن تشاركهما فيه روسية أيضًا حليفة فرنسا، وإذا نزعت أسباب الخلاف الجوهرية من بين إنكلترة وألمانيا سهل ضم التحالف الثلاثي إلى هذا الاتفاق، فيتفق نحو ست مائة مليون من الذين في يدهم الثروة والسلطة) . ثم بحث المقطم في حظ مصر والمملكة العثمانية من هذا الاتفاق، واستدل بدخول اليابان فيه على أن اختلاف الدين لا يمنع الدولة العلية أن تحذو حذوها (في نقض كل حاجز يمنعها من الاستفادة من الأوربيين والأمريكيين والنسج على منوالهم) ، ولكن لم يذكر لنا المقطم من مزايا اليابان في هذا المقام إلا شيئًا واحدًا، وقال: الظاهر أن الصبغة الدينية في اليابان ضعيفة جدًّا؛ لأن كثيرين من رجالها تنصروا، فلم يسمعوا كلمة لوم من أحد، وبعض الذين تنصروا صاروا وزراء وقوادًا، ولم يطعن أحد في وطنيتهم، بل زادهم تنصرهم رفعة في عيون أهل وطنهم، فهل تقابل الدولة العثمانية بالترحيب لو شاءت الانضمام إلى التحالف الأوربي أو الاتفاق الأوربي، وهل يرضى بذلك حزب المعممين الذين لا يرضون من سلطان العثمانيين أن يتنازل عن شيء من حقوقه الدينية كخليفة للمسلمين. هذه مسألة من أهم المسائل، ويظهر لنا أن كثيرين من رجال الدولة العلية الذين في يدهم الحل والعقد الآن يودون أن تزال كل الموانع التي تمنع العثمانيين من الانضمام إلى الاتحاد الأوربي مهما كانت (أي ولو كانت حقوق الخليفة الدينية ورفع شأن المتنصرين، وهم عاملون على إزالتها ولو ببطء) ، ثم ذكر أن ما يرضيهم لا يرضي غيرهم، وأن هذا هو السبب الأكبر للخلاف بين زعماء جمعية الاتحاد والترقي. هذا هو رأي المقطم، ويظهر لنا أنه غالط فيه من وجوه، ونبين ما عندنا في ذلك بالإيجاز في المسائل الآتية: (1) إن السبب الصحيح لقبول دول أوربة وأمريكة التحالف والاتفاق مع اليابان؛ هو قوة اليابان الحربية التي كسرت بها أكبر دولة أوربية، لا ضعف الدين ولا تعظيم شأن المتنصرين! فالصين أكثر تساهلاً من اليابان في الدين، ولا نرى تلك الدول راغبة في محالفتها والاتفاق معها، بل هم طامعون في بلادها يتربصون بها الدوائر، والعثمانيون أشد تساهلاً في الدين من اليونان، ولكن أوربة ترجح كفة اليونان الذين يذبحون المسلمين في كريد بغير ذنب إلا دينهم وميلهم إلى دولتهم، ولولا الدول الأوربية لما عجزت الدولة العلية عن تربية الكريديين بمثل ما كبحت به إنكلترة ثورة الهند المشهورة. (2) إن هذه المنقبة التي ذكرها المقطم لليابان في معرض حث العثمانيين على الاقتداء بهم، ليست من المناقب التي تحلت بهم الأمم الأوربية ولا سيما الذين بدأ بذكرهم وذكر عظمتهم وهم الإنكليز، فهم من أشد الناس تمسكًا بدينهم وقوة فيه، ويبذلون للدعاة إليه في كل سنة قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وإذا أسلم الرجل منهم لا يرتفع قدره فيهم، ولا يرقى إلى المناصب العالية وكراسي الوزارة، بل كانوا يرجمون مسلمي ليفربول بالحجارة، وهو يعلم أنهم لا يساوون أهل الهند بأنفسهم لا في الحقوق ولا في مراتب الشرف. وغيرهم من الأوربيين أشد منهم في هذا الأمر الأخير، ولا سيما روسية. فلماذا يحثنا المقطم على الاقتداء في هذا الباب باليابانيين دون الأوربيين، على أن تنصر المسلمين في المملكة العثمانية أندر من الكبريت الأحمر، فليس له وقائع يحتج بها. (3) نحن نوافق المقطم على القول بأن الأوربيين يرضيهم أن يضعف دين المسلمين ولا سيما العثمانيين، وأن يعظموا شأن من يتنصر ويرفعوا قدره ويولوه الوزارة وقيادة الجيش، وسبب هذا شدة عناية الأوربيين ومثلهم الأمريكيون، وبنشر دينهم وإضعاف الإسلام الذين يرونه أقوى الأديان التي تقدر على الثبات أمام هجماته التي يريدون بها تنصير البشر كلهم، بدليل ما يبذلونه من الملايين في هذه السبيل، ولأن لهم في بلاد المسلمين مطامع معروفة، ولكننا لا نوافق المقطم على أن ضعف ديننا يكفي لإدخال دولتنا في الاتحاد الأوربي، وإنما يؤهلنا لذلك شيء آخر وهو القوة، فالمصريون أشد تساهلاً في الدين من الأفغانيين؛ لأن المسلم إذا تنصر في مصر لا يضطهد ولا يهان، وإذا تنصر في الأفغان يمزق، ويكون جزرًا للنسور والعقبان، وقد تركت إنكلترة للأفغان بلادهم لقوتهم، واحتلت بلاد المصريين لضعفهم. (4) ماذا يعرف المقطم من أمر أصحاب العمائم في البلاد العثمانية عامة وفي الآستانة، حيث النفوذ السياسي خاصة، فيعرض بذكرهم في هذا المقام؟ هل يضمن لنا الكاتب الفاضل قبول دول أوربة دخول دولتنا في اتحادهم، إذا ضمنا له قبول أصحاب العمائم لذلك، أؤكد للرصيف الكريم أنهم يرضون ذلك ويتمنونه، ويرون أن من حقوق الخليفة عقد مثل هذا الاتفاق إذا كانت المصلحة العامة تقتضيه وهم لا يجهلون أنه من المصلحة العامة، ولعلهم أقرب إلى كل وفاق بين الدولة وغيرها، وبين عناصر الأمة من أولئك الذين يظن المقطم فيهم أنهم دعاة الوفاق؛ لأنهم يتبجحون بذلك قولاً، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. (5) أشار المقطم إلى أن سبب الخلاف بين زعماء جمعية الاتحاد والترقي هو الدين وما يقتضيه من حقوق الخليفة، وأن أصحاب العمائم هم الذين عارضوا أولئك الزعماء الذين يريدون أن يزيلوا كل ما يحول دون اتحاد الدولة بأوربة، مهما كان، وليس الأمر كذلك، فإن شيخ الإسلام وحزبه من أصحاب العمائم في المشيخة الإسلامية وغيرها، كلهم من أنصار الذين يظن المقطم أنهم هم الذين يزيلون تلك الموانع. وأما الحزب الآخر فزعماؤه من حملة الطرابيش لا من حملة العمائم، وليس لهؤلاء في الدولة سياسة خاصة يتولون زعامتها، وليسوا كبعض الرهبنات النصرانية إلبًا على المخالف؛ لأن الإسلام ليس فيه امتياز لبعض الأصناف على بعض. وهذا الزي الذي عليه أكثر صنف العلماء، قد ابتدعه الحكام، ولم يكن في الصدر الأول ولم يكن عامًّا في زمن من الأزمان. (6) إن المتدينين من أصحاب العمائم وغيرها يعتقدون وجوب العمل بالشريعة في حقوق الخليفة وغيرها، وليس في الشريعة نصوص تمنع من عقد العهود بين المسلمين وغيرهم، فقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبية بشروط كان لهم فيها الرجحان، حتى كره ذلك الصحابة، ولم يقبلوه بعد المراجعة فيه إلا بمحض الإذعان الذي هو شرط الإيمان، وليس في الشريعة أيضًا نصوص تمنع من استعمال غير المسلمين في أعمال الحكومة، وقد استعمل الصحابة الروم والقبط في دواوينهم، وكذا من بعدهم إلى يومنا هذا، ولم نر مثل هذا التساهل من أوربة في منتهى مدنيتها، نعم.. لا يتساهلون هذا التساهل مع المرتد جهرًا. وهؤلاء المتدينون ظاهرهم كباطنهم، فالاتفاق معهم أسهل وأثبت. على أنه ليس لهم في المملكة جمعيات سياسية؛ لتنفيذ ما يعتقدون أنه الحق والصواب، وقد خالفت الحكومة اعتقادهم في مسائل كثيرة، ولم يقاوموها بقول ولا فعل. أما غير المتدينين منا فهم منافقون، يحبون إضعاف الدين من حيث هو دين لا من حيث هو سياسة؛ لتستقر زعامتهم وزعامة أمثالهم، لا لأجل مساواة أوربة والاتحاد بها، وهم متفقون على إبقاء الدين آلة سياسية، وقد ظهر من خطبهم وقوانينهم السرية ما يدل على ذلك. وهذا هو الذي ينفر أوربة منا ويبعدها عنا دون اتباع الدين من حيث هو دين، ومن حيث هو شريعة ظاهرها كباطنها. هذا ما أحببنا بيانه للمقطم الأغر، فلعله يترك التعريض بأصحاب العمائم في مثل هذه المباحث، سواء في ذلك قلمه وأقلام أنصاره الذين عرض أحدهم بأصحاب العمائم في مقام الدفاع عن الماسونية، ولم نعهد أن أصحاب العمائم قاوموا الماسونية، ولا شهروا بها كما يفعل اليسوعيون وغيرهم من رجال النصرانية، فإن كانوا يقيسون أولئك على هؤلاء فهذا قياس مع الفارق، يعرفه من محَّص المسائل ووقف على الحقائق.

احتلال فرنسة لمملكة المغرب الأقصى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ احتلال فرنسة لمملكة المغرب الأقصى بينا غير مرة ما ارتقى إليه فتح الأقوياء بالعلم والنظام والآلات الحربية لبلاد الضعفاء بالجهل والخلل وفقد الآلات الحديثة، ذلك الفتح المبني على قواعد الاقتصاد في المال والرجال ومبادلة المنافع، مع حفظ الموازنة بين الدول الكبرى، فقد صارت الدول تقتسم الممالك فيما بينها بالاتفاق القولي، فتمكن كل منها الأخرى من اتخاذ الوسائل للاستيلاء على حصتها بما يسمونه الاحتلال أو الحماية أو حفظ النفوذ؛ وما أشبه ذلك من الأسماء اللطيفة التي يخف وقعها على القلوب، ويلوح من ورائها خيال الأمل للمغلوب، فلا تتوجه قواه كلها للدفاع. ما أبقى على كثير من الممالك الجاهلة المختلة إلا تنازع الأقوياء عليها، وهو عرض لا يدوم، وها نحن نراها قد اتفقت بعد خلافها، وكان من أثر هذا الاتفاق أن ظهرت الثورة في بلاد فارس، فاحتلت الجنود الروسية في منطقة نفوذها منها وهي الجنوبية، وبدأت إنكلترة في التمهيد لاحتلال حصتها وهي المنطقة الشمالية. وظهرت الثورة في المملكة المراكشية فاحتلتها الجنود الفرنسية في هذا الشهر، كما أشرنا على ذلك في مقالة (العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي) وهذا هو أثر الاتفاق بين فرنسة وإنكلترة على اقتسام ما بقي من القسم الشمالي من أفريقية سنة 1904م، وقد دخل في منطقة النفوذ الفرنسي في هذا الاتفاق ما بين حدود طرابلس ومصر إلى السنغال وبحيرة شاد، ومنه مملكة برنو ومملكة ودّاي، وأكثر من نصف الصحراء الكبرى بما فيها من الواحات، وقد شرعت في احتلال تلك البلاد كلها. وأما مراكش فقد جعلوا لها معاهدة خاصة جعلوا لأسبانية نصيبًا من النفوذ فيما يقرب من حدودها فيها، ونرى فرنسة قد احتلتها بجنودها. تسقط الممالك الإسلامية مملكة بعد مملكة، فلا يروع ذلك أهل الممالك الأخرى من المسلمين؛ لأن السواد الأعظم من المسلمين جاهل بالسياسة وأساليبها والنافع والضار منها. وأما الذين يشتغلون بالسياسة منهم فأكثرهم قد انحلت رابطتهم الإسلامية بتأثير التعليم الأوربي، واستبدلوا بها رابطة الجنس أو الوطن، ومع هذا كله يتهمهم المتهمون بالجامعة الإسلامية: إما للتحريض عليهم وإما لزيادة التنفير عن هذه الجامعة، حتى لا يبقى مسلم تحدثه نفسه بإمكانها أو استحسانها. كنا نعرف أخبار الثورة في البلاد المغربية من المقطم والأهرام، وقلما نرى حديثًا عنها في جريدة من جرائد المسلمين، وأما جرائد الآستانة والجرائد الفارسية فلا قيمة لمراكش عندهن، وأن سقوط ثمرة من شجرة أهون عليهم من سقوطها، وإذا ثبت بهذا أن ما يسمونه الجامعة الإسلامية لا مسمى له، فليتق الله هؤلاء الفاتحون في هؤلاء الجاهلين المساكين الذين يستولون على بلادهم وليراعوا فيهم حقوق الإنسانية. قد سمعنا من فرنسة صوتًا جديدًا، سمعناها تعترف بخطئها في سياستها الإسلامية، وتقترح إنشاء قلم مخابرات للوقوف على حقيقة أحوال المسلمين الذين دخلوا والذين يراد إدخالهم في محيط سلطانها؛ لأجل أن تتمكن من رفع الظلم عنهم وإقامة العدل والمدنية فيهم، فإن صح الخبر وسلكت مسلك إنكلترة في السودان المصري، فإنها تجد كثيرًا من عقلاء المسلمين عونًا لها، ويخف على نفوسهم احتلالها لمراكش. وسنبين مرادنا بهذا في المقالة الثانية التي تشفع بها مقالة (العالم الإسلامي) التي في هذا الجزء.

تبرع محسن بالمنار وجريدة الحضارة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تبرع (تبرع محسن باشتراك عشر نسخ من المنار) جاءنا كتاب في البريد هذا نصه: السلام عليكم ورحمة الله. وبعد، فقد خصصت مبلغ ستة جنيهات مصرية للخير، ولما كان مناركم المجلة الدينية الوحيدة في العالم التي حاربت الباطل ثلاث عشرة سنة بقوة عزيمة وثبات جأش، لم يعهدا إلا في أوديد (كذا) أمثال الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني رضي الله عنهما، فكانت في هذا الباب ركن الحق الركين، وعماد الدين المتين، أردت تعميمًا لفائدتها وزيادة في نشرها؛ أن أخصص بعض ذلك المبلغ أو كله لاشتراكات في هذا المجلة لمن لا يقدر على دفع القيمة من أفراد المسلمين الذين تفيدهم هذه المجلة أكثر من سواهم، ولذا فسيردكم المبلغ على عدة دفع، فإذا رأيتم جعله جميعه بدل اشتراكات في المجلة من أول محرم هذه السنة - فعلتم، وإلا جعلتم بعضه كذلك والبعض الآخر ثمنًا لكتب تختارونها من مكتبة المنار، ولما كنت ذا إيراد قليل، فسأرسل لكم كل شهر إن شاء الله تعالى جانبًا من ذلك المبلغ حتى ينتهي، والآن أبادر بإرسال 200 قرش فيكون الباقي لكم 400 قرش مصري، ولولا أن المدح يؤذيني كثيرًا، لأظهرت اسمي والسلام على من اتبع الهدى. لحضرتكم الخيار المطلق فيمن تهبونه اشتراك سنة في المجلة أو تهدونه كتابًا أو أكثر مما تنتخبونه من كتب إدارة المنار، بما يعادل مبلغ الستة جنيهات مصري. (المنار) نشرنا خبر هذا التبرع في المؤيد تعجيلاً بشكر هذا المحسن، وتنويهًا بإخلاص هذا المخلص، فجاءتنا الرسائل تترى من طلاب العلم وغيرهم بطلب النسخ المتبرع بها، وقد رجحت الإدارة السابقين من المستحقين. * * * (تبرع محسن بثلاثين نسخة من جريدة الحضارة) تبرع محسن غني بثلاثين نسخة من جريدة الحضارة الشهيرة التي تصدر في الآستانة باللغة العربية مدة سنة كاملة من ابتداء المحرم الماضي. وهذه النسخ توزع على من يشتركون في المنار من أول هذه السنة ويدفعون بدل الاشتراك سلفًا.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (القدر وحديث خلق الإنسان شقيًّا وسعيدًا) (س 32 و 33) من دمياط. من مصطفى نور الدين حنطر إلى المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا. سلام عليك أيها الرشيد المرشد، سلام عليك أيها القائم لله بالحجة على أهل عصرك، سلام عليك أيها الوارث لرسول الله، محيي ما أماته الناس من سنته، المصلح لما أفسدوه من شريعته، سلامه عليك وعلى أمثالك من عباد الله الصالحين المجددين لهذه الأمة في هذا القرن ما اندرس من أمر دينها، سلام عليك ورحمة الله وبركاته. أما بعد.... فإني أرجو إفادتي عن أمرين، فإنكم خير من يرجى للإفادة (الأول) إنكم قد تكلمتم على القدر وعلى حقيقة معناه في مناركم المنير مرارًا وقد عاودتم الكلام عليه في هذا المنار الأخير عند تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71) ومما قلت في هذا الشأن قولك: (ثم إنك إذا ذكرتهم يسلون في وجهك كلمة القدر ومثل الحديثين اللذين ذكرهما الرازي) أما أنا إذا ذكرتهم بهذا المعنى الصحيح أعتقده قديمًا وقلت لهم: إن القدر عبارة عن أن المسببات تجيء على قدر أسبابها لا تزيد عنها ولا تنقص، وإن أمور الكائنات جارية على نظام محكم وناموس متقن وسنة حكيمة فإنهم يشهرون في وجهي حديثًا جاء في البخاري عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكًا، ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما يكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة) . هذا الحديث أيها الأستاذ مشكل من وجوه: أولاً - أنه ينافي صريح القرآن، فإنه يفيد أن الأمور مكتوبة على وجه التحتيم والجبر على أمر بعينه لا على معنى ارتباط الأسباب بالمسببات، ولا ريب أن ذلك يخالف صريح القرآن، فإنه من أوله إلى آخره يحث على الأخذ بأسباب السعادة والبعد عن أسباب الشقاوة، ويدل على أن للسعادة أسبابًا سواء كانت دنيوية أو أخروية، وأن للشقاوة أسبابًا كذلك. ثانيًا - أن تحتيم الشقاوة الذي يستفاد من لفظ الكتابة المذكورة في هذا الحديث، يشبه أن يكون ظلمًا منه تعالى، والله منزه عن الظلم كما جاء في غير موضع من القرآن. ثالثًا - أن هذا الحديث مؤيد لعقيدة أهل الجبر التي ما كانت تعرف في الصدر الأول، وإنما فشت في المسلمين بعد ذلك، وصارت من أقوى عوامل ضعفهم وانحطاطهم. رابعًا - أن هذا الحديث معارض بحديث (كل مولود يولد على الفطرة) ، فهذا يفيد أن كل مولود يولد على الخير، وذاك يفيد أن البعض يولد شقيًّا والبعض سعيدًا. وبالجملة فإن هذا الحديث قد أشكل عليّ أمره، ولم أجد حكيمًا يشفي ما في صدري سوى حكمتكم الشافية، فأرجو أن تسعفوني بالدواء الناجح؛ لما سببه لي هذا الحديث من الأمراض والشبهات. الثاني: إني رأيت في مناركم الأغر التنويه بفضل الشيخ القاوقجي وأنه من مشايخكم، ولكني وجدت له منظومة يتعبدون بتلاوتها أرباب طريقة القادرية بدمياط، وهو يقول في أولها: يا ربنا بالهيكل النوراني ... قطب الوجود ومنجد العيان غوث الورى وغياثه وملاذه ... الباز عبد القادر الجيلاني ويقول في آخرها: أو أنشد القاوقجي يدعو راغبًا ... يا ربنا بالهيكل النوراني ولا يخفى أن قوله: (ومنجد العيان) وقوله: (غوث الورى وغياثه وملاذه) ينافي التوحيد، بل هو من الشرك الجلي، فإن القرآن يقول: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 17) ويقول: {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} (الزمر: 38) الآية، ويقول: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} (الفتح: 11) ويقول: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} (الأحزاب: 17) ؛ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدًّا، بل أكثر القرآن جاء لإثبات التوحيد ونفي الشرك. فقد حملتني الغيرة عليك وعلى شيخك فأعلمتكم بذلك؛ لتمحو عن سيرة شيخكم ما يشينها وتثبتوا لها ما يزينها، وإني كنت مصدقًا بنسبة هذه المنظومة إلى الشيخ القاوقجي رحمه الله، قبل أن أعلم من حضرتكم التنويه بفضله وأنه شيخكم، فالأمل إفادتي بما هو الحق، والحقيقة جعلكم الله ملجأ للسائلين وإمامًا للمتقين، وإن يكن عندكم مانع من إفادتي بجريدة المنار، فأرجو الإفادة بكتاب مخصوص يكون عنوانه هكذا. ... ... ... ... ... ... (دمياط. مصطفى نور الدين حنطر) الجواب (القدر وحديث: إن أحدكم يجمع خلقه) ليس في الكتابة الإلية لما يكون عليه الإنسان في مستقبل أمره شيء من معنى الجبر والإكراه الذي تبادر إلى فهمكم، وإنما هي عبارة عن ضبط الأمر الذي يجري بقدر ونظام، ومثاله من أعمال البشر (ولله المثل الأعلى) سير القطارات الحديدية بنظامها المعروف، وسير البريد في البر والبحر يكتب لهذا وذاك نشرات يذكر فيها الأيام والساعات والدقائق التي يسير فيها البريد والتي يصل فيها إلى بلد كذا وبلد كذا، وليس في هذه الكتابة ما يجعل سير القطارات والمراكب وحركات عمالها خارجة عن نظام الأسباب والمسببات في خواص النار والماء والبخار، ولا ما ينافي اختيار العمال الذين يتولون الأعمال في هذه القطارات والمراكب، ونقل البريد منها في أعمالهم. إن الكتابة عبارة عن ضبط العلم بالشيء، والعلم نفسه لا يتعلق بالأشياء تعلق إيجاد وتكوين، وإنما يتعلق بها تعلق انكشاف وإحاطة، فلا إجبار ولا تحتيم، وإنما يكتب الشيء على ما يكون عليه، ونحن نعرف بالضرورة من أنفسنا؛ أن ما نحن عليه هو أننا مختارون في أعمالنا الصالحة وغير الصالحة، وهي أسباب السعادة والشقاوة. وكونها مكتوبة لا يمنع هذا، كما أن كتابة سير القطارات والمراكب من أول الشهر مثلاً لا يقتضي أن يكون سيرها بغير الأسباب، بل هو بالأسباب، ومن العلماء من ينظم هذه الكتابة في سلك التمثيل بكون علم الله بالأشياء ثابتًا لا يتغير {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} (طه: 52) . ومن الفرق بين كتابة الناس والكتابة الإلهية؛ أن الناس يعلمون بما أوتوا من العلم بالأسباب؛ أن قوة البخار إذا كانت كذا، فإن القطار أو المركب يسير في الساعة كذا ميلاً، وأن المسافة بين مصر والإسكندرية كذا ميلاً، وبين الإسكندرية والآستانة كذا ميلاً، وأن السير يكون في ساعة كذا، فيكون الوصول في ساعة كذا، ولكنهم لا يعلمون ما عساه يطرأ من الأسباب التي تحول دون ذلك، فيترتب عليها الإخلال بهذا النظام، كما يقع ونشاهده ونسمع به؛ من تعطل آلة أو حدوث رياح أو سيول تجرف بعض الخطوط الحديدية. والله سبحانه يعلم جميع ما يطرأ على عبده مما يجري في سلسلة الأسباب الظاهرة للعبد، والأسباب الخفية عنه، ولا يخفى على الله شيء. والمسألة التي ذكرت في آخر الحديث من أدق العلم بالله وسنته؛ لأنها مخالفة بحسب الظاهر لسنة الله تعالى في كون المرء يموت على ما عاش عليه؛ لأن الأعمال تؤثر بالتكرار في النفس، فتطبعها على الحق والخير أو على ضدهما، فكيف يمكن إذًا أن يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل النار، والعكس. الجواب عن هذا لا يفهمه حق الفهم إلا خواص الغواص على دقائق المعاني، ويمكن تقريبه إلى أذهان الجمهور بالمثال، فمثل الذي يعمل بعمل أهل الجنة حتى يقرب بتزكية نفسه وتهذيبها منها، فيترك العمل لها، وينغمس في الباطل والشر الذي هو عمل أهل النار؛ كمثل رجل ضعيف البنية مستعد للأمراض القاتلة، جرى على قواعد حفظ الصحة في طعامه وشرابه وعمله ورياضته، حتى لم يبق بينه وبين المتمتعين بكمال القوة والصحة إلا فرق قليل، فاغتر بنفسه وأسرف في أمر صحته بالتعرض لمرض قاتل كالسل أو الهيضة أو الطاعون فهلك، ومثل الذي يعمل بعمل أهل النار من اقتحام الباطل واقتراف أعمال الشر، حتى تكاد تحيط به خطيئته وتصير الأباطيل والشرور ملكة حاكمة عليه، فيترك كل ذلك فجأة وينقلب إلى ضده؛ كمثل رجل قوي البنية كامل الصحة غرته قوته، فأقبل على ما يفسد الصحة كشرب المسكرات والإسراف في الشهوات، حتى إذا ساء هضمه وضعفت قواه وكاد يكون حرضًا أو يكون من الهالكين، تنبه من غفلته وثاب إلى رشده، فجرى على قوانين الصحة بغاية العناية والدقة، فنجا مما كاد يبسله ويهلكه. كل من هذا وذاك مما يقع قليلاً، والأكثر أن من يطول عليه العهد في مزوالة الأعمال النافعة أو الضارة لا يعود عنها، والأعمال البدنية كالأعمال الروحية وسنن الله تعالى فيهما متشابهة. فتبين بهذا أن الحديث لا يخالف ما في القرآن من إثبات الأسباب، واختيار الإنسان ومطالبته بالعمل، ولا يثبت عقيدة الجبر، ولا يشير إلى اتصاف البارئ تبارك وتعالى بالظلم؛ لأنه لا يفيد معنى التحتيم والجبر، بل كل ما يفيده هو أن كل ما يعمله الإنسان ثابت في العلم الإلهي على ما يكون عليه في الواقع، والواقع أن سعادة الإنسان أو شقاءه بعمله الاختياري، ولو علمت أنا أن الأمير يسافر في يوم كذا من القاهرة في ساعة كذا، فيصل إلى الإسكندرية في وقت كذا، ثم يسافر منها في ساعة كذا من يوم كذا إلى الآستانة، فيصل إليها يوم كذا إلى آخر ما يمكن أن أقف عليه من حاشية الأمير مثلاً لو علمت هذا وكتبته في دفتر عندي أو في المنار، فهل يقتضي ذلك أن يكون ذلك السفر بإجبار مني؛ لأنني علمت به، وأن يكون الأمير غير مختار فيه؟ لا لا، فإن تعلق العلم والكتابة ليس تعلق إلزام ولا إيجاد كما قدمنا، وإنما أعدناه لزيادة الإيضاح. ثم إن الحديث لا يناقض حديث: (كل مولود يولد على الفطرة) سواء كان المراد بالفطرة الخير أو الاستعداد المطلق؛ لأنه إنما يدل على علم البارئ تعالى بما يطرأ على الفطرة السليمة من التربية الحسنة والقدوة الصالحة، التي تسوقها إلى الارتقاء في الحق والخير، فيكون صاحبها تام السعادة، أو من التربية السيئة وقدوة الشر التي تفسدها وتجعل صاحبها شقيًّا. فإذا بنت شركة (كشركة واحة عين شمس) عدة بيوت بناء حسنًا محكمًا مزينًا، وقالت: إنني شدت كل بيت من هذه البيوت وأحكمت بناءه وزينته، وكانت تعلم أن الذين يقيمون فيها فريقان: فريق يزيدون بيوتهم حسنًا وزينة، وفريق يصدعون بناءها ويشوهون زينتها، وقالت في مقام آخر: إن هذه البيوت سيكون بعضها حسنًا جميلاً وبعضها مشوهًا قبيحًا، فهل يكون القولان متناقضين؟ لا لا. *** (الشيخ محمد القاوقجي) كان الشيخ أبو المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي رجلاً منقطعًا للعبادة والعلم وكان له عناية برواية الحديث واشتغال به وبالفقه والتصوف، وكان على الطريقة الشاذلية. ولما شرعت في طلب العلم رويت عنه الأحاديث المسلسلة، وهي تدخل في مصنف ليس بالصغير، وحضرت بعض دروسه في الحديث خاصة. وكنت شديد الميل إلى التصوف الحقيقي؛ لكثرة مطالعتي في إحياء العلوم للغزالي قبل أن أبدأ بطلب

العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي (2) إن دول الاستعمار دول تجارة وكسب، فهم يفتحون الممالك لتمتيع شعوبهم بخيراتها، وتمكينهم من ثروتها، ولا ينشرون من علومهم وفنونهم في الممالك التي يفتحونها إلا المقدار الذي يسخرون به أهلها، ويستخدمونهم في استخراج تلك الثروة لهم، ويقطعون به روابطهم الاجتماعية التي تربط بعضهم ببعض، ويزيلون مقوماتهم ومشخصاتهم الملية التي يكونون بإحكامها أمة واحدة متحدة في الشعور بمصلحتها العامة. أهالي المستعمرات الأوربية يجعلون فريقين: فريق الفلاحين والفعلة الذين يقومون بالأعمال الشاقة في استخراج الأقوات والنبات والمعادن من الأرض، وفريق المالكين المترفين الذين ينفقون ما يفضل لهم عن سادتهم المستعمرين في ثمن ما يجلب من أوربة من اللباس والأثاث والرياش وسائر أنواع الماعون والزينة والخمور، وما بقي من ذلك يبذلونه لبغايا تلك البلاد أو بيوت القمار الأوربية. هؤلاء المترفين الذين يجرفون معظم ثروة البلاد إلى أوربة هم الذين يتعلمون لغات هذه الدول المستعمرة، ويأخذون من قشور علومهم وفنون عاداتهم ما يشوه في أعينهم ويقبح في أنفسهم كل ما يربطهم بأمتهم من عقيدة وشعار وخلق وعادة مهما كانت حسنة ونافعة، ويزين لهم ما يرون عليه سادتهم المستعمرين وإن كان من الفواحش والمنكرات التي يشكو منها حكماؤهم وعقلاؤهم، ويكون أكثر الأغنياء الذين لم يتعلموا هذه الأساليب المدنية الخادعة مقلدين لمن تعلموها يحذونهم حذو النعل للنعل فيها. للسياسة الاستعمارية لغة خادعة كلغة التجار؛ لأن الغرض منها هو عين الغرض من التجارة (الكسب بالحق وبالباطل) ، يزيد التاجر سلعته بزخرف القول المموه، ويوهم كل من يعرضها عليه أنه يختصه بالرعاية والإكرام، ويؤثر مصلحته على مصلحة نفسه، ولا يريد أن يربح منه شيئًا أو إلا شيئًا تافهًا لا يوازي بعض تعبه في جلب السلعة ونفقته على نقلها وحفظها، ومنهم الذين يزعمون أن الأثمان محدودة، وأنهم يطرحون منها عشرين أو ثلاثين في المائة في أيام معدودة. وأهل الاستعمار، يقولون في بعض الأطوار: إننا لا نبغي فتحًا، ولا نحاول ملكًا، وإنما شغفتنا الإنسانية حبًّا، فحملتنا على بذل أموالنا، وإرهاق رجالنا؛ لأجل تعليمكم وتمدينكم لتكونوا مثلنا، هكذا كانوا يقولون لمثل السلطان عبد العزيز صاحب مراكش من قبل. ويقولون في طور آخر: إننا بما أوتينا من الرحمة والرأفة بالبشر، وحب تعميم العدل بين الأمم، نريد أن نزيل استبداد هذا الحاكم، ونطهر الأرض من ظلم هذا السلطان الغاشم؛ ليتفيأ الناس ظل العدل، ونبدلهم من بعد خوفهم نعيم الأمن، كذا قالوا في السلطان عبد الحفيظ قبل أن يظهر لهم المواتاة التي كان عليها أخوه عبد العزيز. ويقولون في طور آخر: إن الرعية قد ثارت على حاكمها وتألبت على ملكها، ونحن الكافلون لاستقلاله، المسئولون عن حفظ عرشه، فلا مندوحة لنا عن نصره والمحافظة على ملكه، حتى إذا زال الخوف، واستقر الأمن، وانتظمت الحكومة المحلية، وصارت قادرة على منع الفتن الداخلية رجعنا أدراجنا، لا نريد من صاحب العرش الذي حفظناه أن يثل، والشوكة التي منعناها أن تخضد، جزاء على عملنا، ولا شكرًا على خدمتنا؛ لأننا إنما نفعل ذلك لوجه الإنسانية؛ وحبًّا في تعميم المدنية، واستبدال الحرية بالعبودية، هذا ما قاله الإنكليز في احتلال مصر بالأمس، وهذا ما يقوله الفرنسيس في احتلال فاس اليوم. صدق حكيمنا ابن خلدون في قوله: (إن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده) نقول: ولكنه قلما يقتدي به في معالي الأمور وأسباب القوة التي بها كان غالبًا؛ لأن المغلوبين يستحوذ عليهم الخمول والكسل، ويصيرون عالة على الغالب في عامة شئونهم. وقد يخدع الغرور بعض المتفرنجين المقلدين، فيتوهمون أنهم بتقليدهم للإفرنج في أسلوب التعليم ودعوة الوطنية وشكل الحكومة، قد ساروا على طريقهم إلى الاستقلال الذاتي والكمال المدني، وهيهات هيهات، لا تجد أكثرهم إلا مخدوعين، وطريق المستقلين غير طريق المقلدين. قال بعض كبراء الإفرنج في بيان درجات الفتح الاستعماري: إن أولها فتح دعاة النصرانية (المبشرين) لبعض المدارس، ثم لبعض المستشفيات والملاجئ، ثم وقوع الشك والزلزال في نفوس بعض المتعلمين فيما كانت عليه الأمة من العقائد والمقومات الاجتماعية، ثم حدوث فكرة الرابطة الوطنية التي تنقسم بها الأمة إلى شطرين: شطر المتفرنجين الذين يهدمون أركان مقوماتها القديمة؛ تقليدًا لأوربة، وشطر المحافظين على القديم، ثم رواج تجارتنا برواج التقاليد والعادات الأوربية التي يسهل التقليد فيها، ثم حدوث أو إحداث الاحتكاك الذي يتبعه الاعتداء على بعض المبشرين أو غيرهم من الأوربيين أو النصارى الشرقيين، ثم المداخلة السياسية فالعسكرية؛ لحماية مصالحنا وأموالنا أو قومنا وأهل ديننا، ومهما كان الاسم الذي نسمي به سيطرتنا على البلاد بعد الاحتلال العسكري فالمعنى واحد، وهو أننا نكون السادة، فنفعل ما نشاء ونحكم ما نريد. ذلك قولهم بأفواههم يضاهئ لاحقهم به سابقهم، ولهم أقوال أخرى في الإسلام والمسلمين والصليب والهلال، بلغة أصرح من لغة الاستعمار التجارية، وهم يفهمون هذه اللغة؛ لأنهم هم الواضعون لها، وقد صار فينا من يفهمها، وهم الذين شعروا بأنهم يبيتون منها بليلة السليم، ومفازة من ضل عن الطريق القويم، ولكن أكثر الناس لا يفهمون الكنايات والمعميات الاستعمارية والخطابات السياسية الرسمية إلا إذا فسرتها تلك الكلمات الصريحة المأثورة عن زعماء أوربة، كقول ذلك الإنكليزي في الصليب والهلال، والفرنسي في كون الرأفة التي يجب أن يعامل بها المسلمون هي السيف والنار، والألماني في كيفية إزالة سلطة الترك من البلقان من غير حرب ولا قتال، على أن أكثر المسلمين لم يسمعوا تلك الأقوال، ومنهم أهل المغرب الأقصى الذين هم أقرب المسلمين إلى أوربة بأرضهم، وأبعدهم عنها لجهلهم. إن الفتح الاستعماري الأوربي تجاري كما قلنا، ولكن السياسة ممزوجة فيه بالدين، خلافًا لتمويهات المخادعين، ومن الأصول المتفق عليها بين الدول الكبرى في أوروبة إزالة السلطة الإسلامية من الأرض، ولذلك اقتسموا جميع الممالك الإسلامية في أفريقية، ولم يتعرضوا لمملكة الحبشة النصرانية، ويفتاتون على الدولة العثمانية إذا أخمدت بالقوة ثورة المكدونيين والألبانيين المسيحيين، ويقرونها على تنكيلها باليمانيين المسلمين، ولا أريد بما أكتب من هذا المقال الدفاع عن الحكومات الإسلامية، فإنني أعلم أن أوربة لا تستولي على دولة إسلامية بمجرد قوتها عليها، وإنما تلك الحكومات هي التي تمكنهم من مقاتلها، وتوطئ لهم المسالك للاستيلاء عليها، فهم يخربون بيوتهم بأيديهم، فلا يجدي الدفاع عنهم، وإنما أريد أن أطالب هؤلاء المستعمرين؛ بأن يراعوا حقوق الإنسانية في هؤلاء المساكين الجاهلين، وأرى أن هذا من الممكنات، وأنه خير للفريقين فيما هو آت. يوشك أن لا يوجد في المليون من أهل مملكة مراكش رجل واحد يفهم معنى احتلال فرنسة لها أو لغة الاستعمار التي ينطق بها رجال السياسة عندما يتكلمون في شأن هذا الاحتلال مع السلطان ورجاله، ولكن ما لا يفهم ولا يعقل في مراكش قد يعد من البديهيات في مصر، ولا سيما عند أرباب الصحف وقرائها، فطالما كتب هؤلاء وقرؤوا في الكتب والجرائد الأوربية، وترجموا عنها أقوال زعماء السياسة في بيان مقاصدهم من البلاد التي يستعمرونها وبيان أعمالهم فيها، وهم يعرفون حقائق كثيرة تدل على ذلك من مكاتبيهم في تلك المستعمرات، وممن يلاقونه من أهلها في مصر ذاهبًا إلى الحجاز أو إلى أوربة أو عائدًا من سفره. ومع هذا كله نسمع لسان الاستعمار الأوربي يمنّ علينا كل يوم بأنه لا غرض لأوربة من بلادنا إلا ترقيتنا وتمديننا وتربيتنا وتعليمنا، حتى تصير مثلهم أهلاً لأن نحكم في بلادنا ونستقل بأمرها؛ حبًّا بالإنسانية؛ وجريًا على ما تعودوه من الفضيلة والعدل والحرية. أنحت الجرائد الفرنسية التي تصدر بمصر على الجرائد الوطنية، ووبختها وهددتها إن استنكرت احتلال فرنسة في المغرب الأقصى، وقالت: إن هذا اللوم لفرنسا يعود بالضرر على القطر المصري! ! ومما قالته جريدة (النوفل) في هذا الشهر في هذا السياق: (إن فرنسة أبدت في مستعمراتها الإسلامية من التسامح وحسن الذوق، ما لا يجوز معه أن يوجه إليها هذا اللوم، على أنه ليس مبنيًّا على أساس صحيح، وهو أمر يعرفه المصريون، كما يعرفون أن فرنسة صديقة لهم صادقة لا تتخلى عنهم عند الشدائد) ! ! أما المصريون فيردون افتئات هذه الجريدة عليهم، ويقولون: إننا لا نعرف شيئًا من هذا التسامح كما تدعين بل نعرف ضده، وإننا كنا مخدوعين بصداقة فرنسة لنا إلى يوم حادثة (فاشودة) ، ولم يبق أحد بعدها يعتقد هذه الصداقة. وقالت جريدة (لاريفورم) بعد استنكار اهتمام الجرائد المصرية بمسألة المغرب الأقصى، وبيان الاختلاف بينها وبين مصر في الأحوال الاجتماعية ما معناه: إنه يجب على أصحاب هذه الجرائد أن لا يندبوا حظ المغرب، ويرثوا له، بل يجب أن يعدوا تداخل الأجانب في شؤونه نعمة وسعادة له لا نقمة ولا شقاء؛ لأنه يعدّ له مستقبلاً زاهرًا (إن فجر الاستقلال أخذ يبدو للمصريين، فعليهم أن يواصلوا السعي لإدراكه، وهم يحطون من قدر أنفسهم، إذا أنزلوها منزلة المغاربة الذين لم يعملوا حتى الآن إلا ما يجلب لهم الذل والهوان، وليدعوا فرنسة وشأنها، فإنها ليست بحاجة إلى من يعلمها معنى العدل والحرية) ! ! نحن نعلم علم اليقين أنه ليس في تونس والجزائر من الحرية والتسامح عشر معشار ما في الهند - إن صح أن يقال: إن فيهما حرية وتسامحًا - ونحن على ما نعرف من فضل الإنكليز على جميع المستعمرين، نسمع آنا بعد آن ما نسمع من تخوف ساستهم من يقظة أهل الهند ومطالبتهم بحقوقهم الاقتصادية، وآخره ما كتبته جريدة التيمس في هذا الشهر عن علاقة أوربة بالشرق؛ فقد ذكرت أن هناك ثلاث مسائل عظيمة تتسع وتكبر بالتدرج، وهي المسألة الهندية، والمسألة الصينية، ومسألة الشرق الأدنى. ومما قالته في الأولى هذه الجملة الجديرة بالاعتبار: (إن بريطانية العظمى لم تقرر خطتها السياسية في الهند، وستضطر إلى ذلك عاجلاً، فلا زيارة الملك ولا غيرها من المجاملات يكفي لتحويل الحركة الحاضرة في الهند عن محورها الحقيقي، والمسألة التي يتوقف عليها رضا الهند بالحكم البريطاني، تندرج في طلب رسمي قدمه بعض كبراء الهند بشأن إطلاق حرية الهند الاقتصادية والمالية، ولا يخفى أن إجابة هذا الطلب بأية صفة كانت تخفض سلطة إنكلترة ولا سيما من الجهة المالية) فتأمل. وأما مسألة الصين فهي تراها خطرًا على صناعة أوربة وتجارتها في المستقبل؛ لأن هذه الأمة صناعية، وقد أنشأت تتقدم ببطء، وما كان كذلك يكون راسخًا ثابتًا، ولا يمكن لأوربة أن تخضعها وإن اقتطعت بعض أطرافها وقتلت ألوفًا من أهلها. وأما مسألة الشرق الأدنى فالخوف منها محصور في ضعف الدولة العثمانية الذي يغري الدول بها، ويخشى أن يفضي إلى سفك الدماء، وذكرت تخبط فارس في دستورها وعجز أفغانستان عن حفظ مركزها. وقرأنا لها في العام الم

عليكم باللغة العربية سيدة اللغات

الكاتب: محمود سالم

_ عليكم باللغة العربية سيدة اللغات مقالة لمحمود بك سالم رئيس جماعة الدعوة والإرشاد (نشرها بمجلة الطلبة المصريين) {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195) (قرآن مبين) أيها الطلبة الأنجاب، أبناء مصر التي شرفها الله فذكرها مرارًا في كتابه الحكيم، عليكم بتعلم (اللغة العربية) لغة أجدادنا الأشراف الصالحين، الذين تركوا أحسن ذكر بين الأمم، وما زال تأثير أعمالهم المفيدة يعم الأقطار بفتوحات الدين الحنيف المستمرة، وانتشار الشريعة المطهرة التي أينما حلت وقوي سلطانها، أحيت طيب المبادئ وسامي الأفكار. اللغة العربية أقدم اللغات الحية. هي لغة إبراهيم الخليل وزوجته السيدة هاجر المصرية وابنهما إسماعيل صادق الوعد، الذين أكرمهم الله ببناء البيت العتيق؛ ليكون مثابة للناس وأمنًا. لا شك في أن علماء الآثار يعرفون لغات أخرى أقدم من العربية، ولكن كلها ماتت ودفن ذكرها في القراطيس، وأغلبها اندثر وانمحى من صحيفة الكون إلى يوم البعث حين يخرج أهلها من الأجداث كأنهم جراد منتشر. وجدت حديثًا أبنية شاهقة أسستها أمم راقية في أساليب العمران محفورة كتابات غريبة على جدرانها الآئلة إلى السقوط وسط الصحاري أو في أحضان الجبال. ولما قرئت أخيرًا تلك الكتابات العجيبة علم أنها تقرب من زمن عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام، وأنها بلغة عربية متينة تكاد ألفاظها وتراكيبها وقواعدها تكون كلها من مستعملات لغتنا الفصحى الحالية. وهذا ما أدهش العلماء، حتى إنهم وصفوا لغة القرآن المجيد باللغة التي ليس لها طفولة وشيخوخة؛ لأنها من يوم عرفت وهي كالغادة الحسناء في حلل الشباب والعافية، كأنها من الأبكار العرب الأتراب لأصحاب اليمين. ومما ننقله في هذا الموضوع، ما ذكره في شأن لسان العرب العلامة أرنست رينان ذاك المستشرق الطائر الصيت، الذي فاقت شهرته الأقران في كتاب (تاريخ اللغات السامية) حيث قال: من أغرب المدهشات أن تنبت تلك اللغة القوية، وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحاري عند أمة من الرحل. تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها. وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغيير يذكر، حتى إنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة. لا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى. ولا نعلم شبيهًا لهذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدريج، وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة. تجد اللغة الفرنسية لا يفهم كلام كتابها وشعرائها الذين ماتوا قبل ثلاث مائة سنة إلا من مهر في حل الطلاسم. وكذلك اللغة الإنكليزية وباقي لغات أوربة التي تتباهى الآن وتتيه فخرًا وإعجابًا. وكل تلك اللغات الحديثة في تغيير مستمر وتبديل مستديم. فبون بعيد بين لغة (موليير) مثلاً ولغة (زولا) عند الفرنسيس. وبون أبعد بين لغة (ملنن) ولغة (روسكن) عند الإنجليز. أما أمة العرب التي كرمها الله ورفع شأنها باصطفاء عبده الأكرم من بين أشراف أشرافها؛ ليكون خاتم النبيين، فقد جعلت لغتها آلة تحمل شريعتها التي ستدوم ما دامت الأفلاك؛ إذ لا نبي بعده ولا دين بعد هذا الدين. فاكتسبت تلك اللغة المشرفة بين لهجات البشر مركزًا لا يباريها فيه لسان، من وقت أن صارت منطق الملائكة أنفسهم في السماء، وامتزجت بالكتاب المجيد امتزاج الروح بالجسد. وقد أوتيت الأمة العربية أرقى هبات البلاغة، وأجمل صفات الفصاحة؛ لتتهيأ لقبول تلك المعجزة الباقية المستمرة ما دامت الصحف والكتب. تلك المعجزة التي ظهرت على يد نبي أمي لا يعرف قراءة ولا كتابة، وكانت لأئمة البيان والكلام حدًّا يقف أمامه العاقل باحترام، ويبهت أمامه المعاند بخذلان. (وصفت العرب من قديم الزمان بالبيان والبلاغة، وقد استقصى العلماء شعراءهم، فوجدوهم يربون على شعراء سائر الأمم الأخرى مجتمعة؛ لأن الشعر سليقة عند العرب، حتى لتجد رعاة الإبل يقصدون القصائد ارتجالاً) . لسان العرب له الاحترام الأكبر عند فحول علماء الأمم الأجنبية، فإنهم عرفوا مكانته فوصفوه بأعلى الصفات، وبذلك ارتفع قدر الأمة العربية نفسها عند من يقدر الأشياء حق قدرها. قال القسيس الإنجليزي س. م. تزويمر وهو من كبار البروتستانت في كتابه المشهور (جزيرة العرب. مهد الإسلام) . (يوجد لسانان لهما النصيب الأوفر في ميدان الاستعمار المادي ومجال الدعوة إلى الله وهما: الإنجليزي والعربي، وهما الآن في مسابقة وعناد لا نهاية لهما؛ لفتح القارة السوداء مستودع النفوذ والمال، يريد أن يلتهم كل منهما الآخر، وهما المعضدان للقوتين المتنافستين في طلب السيادة على العالم البشري. أعني النصرانية والإسلام) . وقال إنجليزي آخر وهو القسيس الشهير جورج بوست: (لغة العرب تفوق كل لغة في الانتشار إذا نظرنا إلى اتساع الأقطار التي لها فيها سلطان. وهي تفوق أيضًا كل لغة إذا نظرنا على التأثير في مستقبل الأعمال البشرية، ولا نستثني من كل تلك اللغات إلا لغتنا الإنجليزية) . وقال أحد علماء الإنجليز المتمكنين من علوم العرب، يصف لسانهم نقلاً عن كتاب (تزويمر) المذكور آنفًا: (إنه خالص من شوائب الدخيل، غني بنفسه عن غيره. وفيه مقدرة عجيبة على إيضاح المعاني وإظهار الأفكار، ومفرداته لا تحصى ولا تعد، وقواعده النحوية في غاية المتانة، وبالاختصار به يسهل عرض الموضوعات الدينية والفلسفية والعلمية، بطريقة لا تفوقها لغة إلا الإنجليزية وبعض لغات أخرى قليلة رقاها الدين النصراني في أوربا الوسطى) . ولنستشهد بكلمة لأحد الفلاسفة الظرفاء، أراد مدح المعارف الدنيوية عند أهل أوربا والصنائع اليدوية في الشرق الأقصى، فقال: (استوى الكمال على ثلاثة أشياء: مخ الإفرنج، وأيدي أهل الصين، ولسان العرب) . حقًّا ليس للغة العرب مثيل في كمالها إذا قارناها بأخواتها، فإن قلنا: إن (العبرية) لغة مقدسة عند أهل التوراة والإنجيل، فالعربية بالقرآن أقدس. وبجانب فرد واحد يقرأ التوراة باحترام وتجلة، نجد مائة مسلم يتلون الكتاب المجيد حق تلاوته باحترام أعظم وإجلال أظهر. وإن قلنا: إن (اللاتيني) لسان العبادة في الكنائس الكاثوليكية، فلسان الإسلام أعم في مساجد المشرقين والمغربين بين أهل التوحيد جميعًا، والصلاة به متواصلة تواصل ساعات الزمن. ألا ترى المؤذن يدعو المؤمنين إلى صلاة الفجر في جزر الفيلبين في أقصى الشرق باللسان العربي المبين، فتتبع تكبيراته تكبيرات المئات والألوف من أهلها، يتردد صداها من مئذنة إلى مئذنة، ومن جبل إلى جبل، ومن واد إلى واد. فإذا قضيت صلاته في تلك الجزر، تنقل الأذان منها إلى غيرها، تنقل الفجر في مطالعه فسمعته في الصين وسيبيريا، ثم في الهند وفارس، ثم في مكة المكرمة والمدينة المنورة، والقدس الشريف والقسطنطينية المحمية، ثم في مصر المحروسة بحماية الله، ثم في تونس الخضراء. ثم في الجزائر والسودان، ثم في المغرب الأقصى، ثم يصل هذا الصوت الرخيم إلى الأوقيانوس حتى شواطئ الأمريكان في أقصى الغرب، فهكذا كلما طلع الفجر وبزغ النور قام الناس للصلاة والفلاح؛ لعبادة الخلاق العظيم الذي يغشي الليل النهار يطلبه حثيثًا. مع دوران الشمس تسمع أمواج الأذان كأمواج البحر المتلاطم، تطرد الموجة الشرقية أختها الغربية لتوقظ العباد الصالحين من نومهم العميق، فلا تفوت لحظة من الزمن إلا وفيها لله عبادة وللقرآن ترتيل. فإن قيل: إن اليونانية القديمة ثم اللاتينية ثم الإنكليزية أو الألمانية وكانت وما زالت آلات ومبادلة الأفكار بين الإفرنج، فإن لساننا العربي كذلك آلة كاملة لمبادلة الأفكار والعلوم بين المسلمين في آسيا وأفريقيا وجهات أخرى كثيرة. وإن قيل: إن لغة الفرنسيس لغة أهل السياسة في أوربا، أجبنا أن لغة العرب رابطة أقوى منها في مثل هذه الشؤون الاجتماعية؛ لأن الأمم الإسلامية جمعاء مرتبط بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا بواسطتها، فالعالم المسكوبي مثلاً يعرف بها شؤون أهل رأس الرجا الصالح ثم يرشد أهل وطنه. والعالم البوسنوي يعرف بها أحوال القطر المصري وينبه أبناء جنسه. والعالم الجاوي يتناول بذلك اللسان العام الجامع معلوماته عن أحوال القسطنطينية والقوقاز وفارس، وهكذا تتبادل الأفكار المفيدة. لغة الكتاب العزيز تنشر في أنحاء المسكونة العلوم الأدبية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والشرعية وغيرها. فهي الرابطة القوية والعروة الوثقى التي لا انفصام لها. بها تتقارب الأجناس المختلفة وتتشابه الأضداد بالتدريج في الأحكام والأخلاق والمبادئ، وبها تتساوى الناس في معرفة الشريعة الغراء، لا فرق في ذلك بين السود والبيض، والصفر والحمر. فهي أقوى رابطة (بروح القرآن وفي ظله) وتفوق متانة كل روابط الجنسية والوطنية وغيرها. اللغة العربية لها الفضل على أكثر اللغات الجديدة في مشارق الأرض ومغاربها، فلو أخرجت من قواميس الأسبانيول والبرتغيز وسكان أمريكا الجنوبية والوسطى مثلاً جميع المفردات العربية، والحلى التي اكتسبتها رطانتهم من العرب، لما عرفت تلك الأمم أن تبدي فكرًا ساميًا، ولتاهت في مجاهل العي والبكم، ولعجزت الآن أن تتباهى بشعرائها وأدبائها. وأين تكون لغة الفرنسيس أنفسهم لو جردناها من كل ما يزينها من مختلفات فصحاء الحجاز. فما بالك باللغات الإسلامية مثل الفارسية والتركية والهندوستانية والجاوية والملايو، وغيرها من ألسنة السودان والتتار والبربر وإخوانهم. حقًّا لو أخرجنا المفردات العربية التي في تلك اللغات - كما يطلب ذلك بعض المتفرنجين من كتابها- لبقيت كهيكل الميت. عظامًا مفككة لا حياة فيها. لغة العرب هي لغة المستقبل؛ لأن النبي العربي هو خاتم النبيين، فشريعته باقية إلى يوم القيامة (كما قدمنا) ، والقرآن الكريم حامل تلك الشريعة المطهرة هو السبب في بقاء اللغة العربية حية بين الشعوب؛ لأنهم لا يفهمون دينهم على وجهه الصحيح من هذا الكتاب الكريم الأبها. فلذلك تموت جميع اللغات الأخرى أيًّا كانت وتبقى لغة العرب في بهائها وجمالها. وقد أجاد أحد علماء الإفرنج المشهورين بعلومهم الواسعة، إذ كتب قصة خيالية، فرض فيها سياحًا في أجواف الأرض تحت قعر البحر العميق وجعل هؤلاء السياح يخترقون طبقات القرى الأرضية حتى وصلوا إلى وسطها أو ما يقرب من ذلك , ولما أرادوا الرجوع إلى وطنهم فكروا في ترك أثر يحفظ ذكرهم إلى أبد الآبدين، إذا وصلت علماء الأجيال المستقبلة إلى محط رحالهم، فاتفقوا فيما بينهم أن ينقشوا على الصخور كتابة باللغة (العربية) ، هذا ولما سئل جول فرن كاتب هذه القصة، عن سبب اختياره تلك اللغة العربية، قال: إنها لغة المستقبل ولا شك في أن يموت غيرها وتبقى هي حية حتى يرفع القرآن نفسه، فتأمل أيها القارئ اللبيب، واعلم أن طعن الطاعنين في لغة أجدادك الأماجد ثرثرة لا يعتد بها. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) . اعتاد بع

تقرير اللجنة التحضرية للمؤتمر المصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير اللجنة التحضيرية [*] للمؤتمر المصري (5 - جعل الخزينة العمومية مصدرًا للإنفاق على جميع المرافق المصرية) هذا هو الحاصل بالفعل في جميع مصالح الحكومة، إن جميع المصريين من مسلمين وأقباط تنفق على مرافقهم العامة على السواء من الخزينة المصرية. ولا يجد المطلع على ميزانية الحكومة مصرفًا اختص به عنصر. فعسى أن يكون المقصود بهذا الطلب هو المحاكم الشرعية التي ورد ذكرها في مناقشة الجمعية العمومية للأقباط، ولكن هذه المحاكم مفتوحة الأبواب للمتقاضين من المسلمين ومن الأقباط؛ ولتسجيل العقود وتقسيم المواريث ... إلخ، لا فرق في ذلك بين المسلم والقبطي، فهي بهذه الصفة من المرافق العامة. على أنه لو كانت المحاكم الشرعية خاصة بالمسلمين دون غيرهم، فإنها لا تكلف الخزينة العمومية نفقات أصلاً، بل إذا عجزت إيراداتها عن مصروفاتها سنة زادت إيراداتها عن مصروفاتها سنة أخرى. ومتوسط الفرق بين الإيرادات والمصروفات لمصلحة الخزينة العمومية في الخمس سنين الأخيرة هو مبلغ 4171 جنيهًا سنويًّا، يصرف هذا المبلغ في المرافق العامة بالضرورة بين المسلمين وبين الأقباط، فلا معنى للشكوى من المحاكم الشرعية أو التعريض بذكرها في المؤتمر القبطي، بوصف أنها يصرف عليها من الخزينة العمومية، وبوصف أنها خاصة بالمسلمين. وإنه ليحسن في هذا المقام أن نذكر مثلاً لما تصرفه الخزينة العمومية على المرافق القبطية خاصة، لا لنحاسب على ذلك، ولكن ليرى الأقباط بالحس؛ أن المناقشة في أمر المحاكم الشرعية لم يكن لها محل في جمعيتهم العمومية التي كثر التصريح فيها؛ بأن مقاصدها محو الفروق الدينية والأخذ بأسباب الإخاء المصري. إن مساجد المسلمين ومعابدهم - أثرية كانت أو غير أثرية - يصرف على عمارتها وترميمها من خزينة ديوان الأوقاف الإسلامية خاصة. وأما كنائس الأقباط ومعابدهم فإن الأثري منها يصرف على عمارته وترميمه من خزائن الحكومة بمقدار الثلثين، ولا تتكلف الأوقاف القبطية إلا مقدار الثلث فقط، وحسب ذلك أن يكون ميزة للأقباط على المسلمين. وفوق ذلك، فإن أوقاف المسلمين تنفق على تعمير تلك الكنائس والأديرة؛ لأن العمال المكلفين بالقيام بهذه الأعمال إنما ينقذون رواتبهم من ديوان الأوقاف الإسلامية. وإننا لنشعر بأن إيراد هذه الأمثلة الجزئية، ليس متفقًا مع ما نحب تقريره من التسامح ومساعدة إقامة الشعائر الدينية أيًّا كانت والاحتفاظ بالآثار، إلا أن الضرورة ملجئة إلى التمثيل هذه الجزئيات؛ دفعًا لما عساه أن يتوهم من أن الخزينة المصرية تحابي المرافق الإسلامية دون غيرها. ولذلك ترى اللجنة أن هذا الطلب لا محل له. (6 - النتيجة) نقول: إن المصريين والمستوطنين في مصر من الجنسيات المختلفة، وعلى العموم كل من يهتمون بالأحوال المصرية ويرجون التقدم لهذه الأمة، بل كثير من الأقباط الذين تعلموا من التجارب، يرون أن المؤتمر القبطي لم يكن له محل من الوجود، وأن مطالبهم التي أخذت شكل الإنذارات خالية عن الأسباب التي تبررها في أعين الذين يعلقون أهمية في تأليف الأمم الناهضة؛ على تضييق دوائر الفروق بين الأفراد، وتوسيع دائرة المشابهات بينهم، ويعتقدون حقيقة أن الدين لله وأن مصر للمصريين. أيها السادة: هبوا معنا أن مواطنينا أخطأوا في تقدير الحالة الحاضرة، وما يجب أن تضحيه الأفراد والمجاميع، أيًّا كان لونها في سبيل تعضيد الوحدة القوية، فإن الطريقة الوحيدة لتصحيح هذا الخطأ هي إقناعهم به وإقناع الأمة بوجوب التجاوز عنه. إن الأمة يجب أن تبني علاقة أفرادها على التسامح من جهة وعلى التضامن جهة أخرى، ولا يتوفر ذلك إلا إذا عاملت أبناءها جميعًا بما تقتضيه المحبة والرحمة، وما يؤكد التآزر على تحصيل المنافع المشتركة. فلنطرح ظهريًّا كل ما جاء في مؤتمر الأقباط من دواعي التفريق في الوحدة القومية، ولنوسع لإخواننا صدورنا، ونستأصل من نفوس المصريين ذلك الضيق الذي لحقها من جراء ذلك المؤتمر. وإنه من الخطأ أن تتشبث العقول بتلك الفكرة التي أنتجها مؤتمر الأقباط، وهي فكرة محاسبتهم لأخذ ما في أيديهم من المصالح العامة؛ لأن في ذلك مجاراة لهم على التفريق، إنما ينبغي إصلاح ما طرأ من الفساد على الطرق المتبعة في الانتفاع بالمرافق العامة. فإن المسلم والقبطي كلاهما ابن الأمة المصرية، وكلاهما له الحق الكامل في خدمتها والاعتزاز بتلك الخدمة. وإنها لو رجعت إلى نفسها لشعرت بأنها تحن إلى المسلم والقبطي على السواء. ليست مصر قليلة الواجبات الوطنية، ولا هي يعوزها ميدان العمل لخيرها، حتى تشغلها عناصرها بما لا فائدة فيه من التنازع على المراكز أو التخاصم على شيء من الحقوق التافهة. بل على الضد من ذلك، إن لهذه الأمة الناهضة شؤونا اجتماعية واقتصادية، لا تكفي في تحقيقها مجهوداتنا الحالية ولا أضعاف أضعافها. فإن الرقي لا يجيء بالصدفة، ولكنه نتيجة متناسبة مع عمل العاملين. حقيقة كان يكون من الضرر على جامعة الأمة أن تبين ظلامات الأقباط، وتغمض الأكثرية جفونها على تلك الظلامات، مع القدرة على التذرع إلى كشفها أو كشفها بالفعل. يكون من التهاون في حقوق الإنسانية، بل التهاون في حق الوطن، بل التهاون في حق الذات؛ أن تترك الأكثرية أقلية مهما كان وصفها مهضومة في حق من حقوقها؛ لأن مثل هذا التهاون أكبر العوامل على العبث بالتضامن الذي هو أساس الوجود القومي. أما وقد ظهر بالبرهان أن أفراد الأقباط متمتعون من الحقوق بأكثر مما يتمتع به بقية الأفراد الآخرين من المصريين، فالواجب على الأقباط أن يرجعوا عن مزج المعتقدات الدينية بالمصالح القومية، وأن لا يجعلوا من جامعتهم الدينية جامعة سياسية خاصة، والواجب على المسلمين أن يعتبروا المطالب التي تشف عن هذا الغرض كأنها لم تكن. ويسر اللجنة أن تأمل بحق أنه إذا انعقد مثل هذا المؤتمر، يكون الأقباط إلى جانب المسلمين عاملين فيه؛ للبحث فيما يرقي الأمة المصرية جميعها، حتى يحق القول بأن الدين لله ومصر للمصريين. (2) (حالنا الاجتماعية) حالنا من الجهة الاجتماعية، يصفها جميعنا بأنها أقل الحالات ملائمة لتمدننا الحديث، فليس من الضروري الإطالة في شرحها، وضرب الأمثلة على مقدار الضعف السائد من معظم الوجوه في تأليف جمعيتنا المدنية. كما أنه ليس من الحكمة أن تثقل كواهلنا، ونحملها فوق طاقتها بالاقتراحات والمشروعات الاجتماعية. فإن الخير كل الخير هو في أن نترك الآن ما لا نستطيع إلى ما نستطيع، حتى نتفق في سيرنا مع قواعد التدريج الطبيعي، وقل أن يفشل الذي يقلد الطبيعة في سيرها، ويقيس قواه بمقياس مضبوط قبل استخدامها في العمل، وأنه لا ضرر على رقينا المنشود من هذا النمط؛ لأن المشروع الواحد الذي يتم هو نفسه، يكون أكبر مساعد لإتمام غيره، فحسبنا من المقاصد الاجتماعية الآن أن نهتم بالمدرسة. إننا إذا أصلحنا المدرسة أصلحنا العائلة والأمة كلها، فالمدرسة هي الأساس الذي يجب أن نبني عليه الآن، والمشروع الاجتماعي الذي يجب أن نلفت إليه النظر قبل كل مشروع اجتماعي آخر. إن نسبة القارئين والكاتبين في المصريين عمومًا قليلة أمام مطالبنا الكبيرة من التحول الاجتماعي، بل نسبة تجعل بيننا وبين أن نعيش في زمننا الحاضر بونًا بعيدًا. أيها السادة: نحن نعيش في هذا الزمن تحت سلطان العلم الذي وضع يده على كل شيء في الوجود، وضع يده على الزراعة والصناعة والتجارة وهي مصادر رزقنا، وضع يده على الأخلاق والروابط الاجتماعية وهي قوام جمعيتنا، وضع يده على السياسة وتدبير الممالك وهي مناط سعادتنا وشقائنا، وضع يده على حركات نفوسنا ووضع لكل شيء ضوابط لا مجاوزة لها. فإن لم يحسن التفاهم بيننا وبين هذا السلطان القادر، يستحيل علينا أن نعيش في زمانه، ولا واسطة لهذا التفاهم إلا المدرسة. فليس تعليم الأمة زخرفًا تزدهي به، ولا زينة تباري بها زميلاتها، ولكن تعليم الأمة ركن لحياتها، وشرك لازم لوقايتها من الفناء. قد يجد الأميون الطيبون من المتعلمين ما لا يرضيهم في السلوك والأخلاق الاجتماعية، فينسبون ذلك للعلم وبضعف إيمانهم بضرورة التعليم، إلا أنه لا ذنب للعلم ولا للتعليم، ولكن الذنب على الجهل وطرائق التعليم، فكلما رأيتم اعوجاجًا في المتعلمين، فأصلحوا المدرسة تصلح أبناؤكم وأحوالكم. من ضعف الوطنية ومن الضرر بالنظام؛ أن يفرغ كل جهده في كسب الحقوق، ولا يفكر في أداء الواجبات، كل يريد من الأمة أو من الحكومة أن تعطيه حقه، ولا يريد أن يقوم نحو الجمعية بواجبه، ومن قصر النظر أن يظن المرء بسهولة الحصول على حقه، إذا لم يكن الأفراد المتضامنون معه يؤدون واجباتهم، فإذا استمرت هذه الشهوة الفاسدة شهوة التمتع بالحقوق دون النظر إلى الواجبات، فكل إصلاح اجتماعي مستحيل، وعلى الأخص نشر التعليم وإصلاح المدرسة. نحن نطلب إلى الحكومة أن تعلم، نطلب إليها ذلك؛ لأنها تصدت لأخذ الأموال من الأمة للتعليم؛ ولأنها تسير في التعليم. ولكننا على كل حال نضيع الوقت في الطلب، نظلمها إذا طلبنا منها أن تصلح المدرسة على أنماط التربية التي تخرج الرجال. ذلك لأن الحكومة مهما كان نوعها وهيئة تأليفها، ليست اختصاصية في التربية والتعليم، بل ليست التربية والتعليم في الحقيقة من شأنها؛ لأن التعليم يجب أن يكون حرًّا بعيدًا عن كل المؤثرات؛ ولأن المدرسة يجب أن تكون أمة مصغرة مستقلة، يعلم فيها كل ما هو جار في الخارج أي: في الأمة الكبيرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالجهود الذاتية للأفراد والمجاميع الحرة غير الداخلة في نظام الحكومة، لا سبيل إلى ذلك إلا بأن يريد كل مفكر وكل مثر أن يؤدي واجباته العامة تلقاء كسبه لحقوقه، ومن الأسف أن علية المفكرين يقصرون عملهم العام على السياسة، وعلية المثرين لا يقومون إلا قليلاً بواجبات الغني نحو قومه أو نحو المدرسة. تقول اللجنة ذلك، ويسرها أن نعترف أن هذه السنين الخيرة كانت ميدانًا لتناظر المفكرين في التعليم، ومباراة الأغنياء في بر التعليم، فهي بذلك قوية الأمل في أن يزيد إدراك العلماء والأغنياء لواجبهم نحو التعليم. ومتى أضيف إلى ذلك الأمل في مجالس المديريات أمكن القول بأننا نبتدئ في سلوك خطة نحو التربية والتعليم لا تلبث أن تجني الأمة ثمارها. غير أن لنشر التعليم أصولاً مجربة. وأن لإصلاحه والاستفادة منه في تخريج الرجال أنماطًا علمية، ولا يسع هذا المؤتمر أن يبحث في هذه التفاصيل. فتقتصر اللجنة على أن تقترح على المؤتمر أن يطلب أو يشجع طلب عقد مؤتمر للتعليم والتربية في الخريف القادم، يكون الغرض منه درس الحالة التعليمية في مصر ووصف العلاج النافع لها، وإرشاد المجاميع التعليمية كمجالس المديريات وغيرها من الجمعيات الأخرى إلى أقرب الطرق وآكدها في تعليم الأمة، وبماذا تبتدئ في مشروعاتها التعليمية، وكيف يتم إصلاح المدرسة على مقتضيات الزمن الحاضر. (3) (الحالة الاقتصادية) إذا كانت حالتنا الاجتماعية داعية إلى الإصلاح، فإن حالتنا الاقتصادية إلى الإصلاح أدعى لأنها عدم. نعم أيها السادة بوصف كوننا مجموعًا ليس لنا مع الأسف وجود اقتصادي إيجابي، بل وجودنا سلبي محض؛ لأننا نتأثر بالحركات الاقتصادية في مصر من غير أن يك

المؤتمر المصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر المصري [*] (ب) التربية والتعليم: 1 - ضرورة عقد مؤتمر للتربية والتعليم في الخريف القادم؛ للبحث في أنماط التعليم والتربية واختيار الأصلح منها للقطر المصري. اقترحته لجنة المؤتمر وحضرتا عبد السلام أفندي ذهني المحامي ببني سويف، ومحمد أفندي كامل صادق المصري، وأحمد بك لطفي المحامي الذي يقترح أيضًا تخصيص مبلغ من مال هذا المؤتمر؛ للإنفاق على مؤتمر التربية والتعليم المذكور، فهل أنتم موافقون على هذا الاقتراح مع إحالته على اللجنة التنفيذية للعمل على تنفيذه؟ 2 - السعي لدى الحكومة لفصل المكاتب الأهلية ومدارس الأوقاف عن نظارة المعارف، وجعلها إدارة قائمة بذاتها، تراعى فيها شروط الواقفين. (اقترحه سعادة الشيخ علي يوسف) . وجاء أيضًا مثل هذا الاقتراح من حضرة محمود بك أنيس وحامد محمد الإسكندراني ومصطفى حسن من بني سويف. 3 - إلفات نظر الحكومة إلى جعل تعليم الدين في مدارسها قاصرًا على دينها الرسمي؛ منعًا للتنافر الذي أحدثته الطريقة الجديدة التي اتبعتها الحكومة من سنة 908؛ واقتداءً بما تجري عليه الحكومات المتمدنة التي يعلم الدين في مدارسها. (اقترحه سعادة الشيخ علي يوسف أيضًا) . فهل يوافق المؤتمرين على هذين الاقتراحين؟ 4 - إنشاء إدارة معارف أهلية، تضم شتات المدارس الأهلية، وتقوم بالتعليم الوافي بحاجات القطر. اقترحه محمد بك أبو شادي المحامي بمصر، وطلب السعي لدى الحكومة في زيادة ميزانية المعارف العمومية. واقترحه أيضًا لفيف من طلبة المدارس الأهلية والأجنبية بمصر عددهم 30 طالبًا. باحثة البادية. عمر أفندي صنوه بالإسكندرية. أحمد بك رمزي المحامي الذي يطلب السعي لدى الحكومة لزيادة ميزانية التعليم. أحمد محمد مليجي رئيس لجنة المؤتمر بمركز الصف. 5 - السعي في جعل التعليم الابتدائي إجباريًّا مجانًا للذكور والإناث. اقترحه حضرات أحمد بك رمزي المحامي. عبد السلام أفندي ذهني المحامي، السيدة باحثة البادية وهي تطلبه على الخصوص لمدارس البنات. مرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا. 6 - وجوب نشر التعليم العلمي من صناعي وزراعي في أنحاء القطر، والاهتمام بالعلوم التي تفيد الصناعة والزراعة؛ كالكيمياء الصناعية والاقتصاد الزراعي، والهندسة الميكانيكية والكهربائية وغير ذلك. اقترحه حضرة علي بك الشمسي في خطابه الذي تلاه على المؤتمر. وقد اقترح الاهتمام بالتعليم الصناعي والزراعي كل من حضرات حسن بك يونس الذي يستلفت مجالس المديريات لذلك. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي الذي يرى إنشاء مدارس زراعية في عواصم المديريات وكلية زراعية. علي بك ثروت رئيس نقابة عمال الصنائع اليدوية، ويطلب تشجيع التعليم الصناعي. حسن المسيري ببهتيم ويطلب مدرسة زراعية في كل مركز. حسين علي عيد بالفشن، وهو يطلب الاهتمام بالمدارس الصناعية. سيدة باحثة بالبادية. عبد المعطي أفندي أمين المغربي. مرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا. علي عبد السلام بالسويس. وهؤلاء الثلاثة الأخيرون طلباتهم هي المدارس الصناعية. 7 - إنشاء مدارس للمساحة والتجارة ومسك الدفاتر؛ لتخريج أناس أكفاء يشتغلون في البنوك وفي عمل الدوائر والصرافة. اقترحه حضرات أحمد بك سامي مفتش ورق التمغة بالمالية سابقًا. نقابة ناهية الزراعية. سليمان أفندي فهمي سليمان المحامي، وهو يطلب إنشاء مدرسة تجارية عالية. حسين بك هلال عن لجنة ميت غمر وهو يطلب السعي لدى الحكومة ولدى مجالس المديريات في الاهتمام بتوسيع التعليم التجاري وإنشاء مدارس له. لجنة المؤتمر الفرعية بالقناطر الخيرية التي تقترح أيضًا إدخال مسك الدفتر للسنتين الثالثة والرابعة من مدارس الحكومة الابتدائية. لجنة المؤتمر الفرعية بمديرية المنوفية، وتطلب أن يسعى المؤتمر لدى ديوان الأوقاف لهذا الغرض. أحمد بك رمزي المحامي. 8 - إنشاء مدارس متجولة؛ لتعليم المزارعين والمزارعات الوسائط الحديثة؛ لتحسين الحالة القروية صحيًّا واقتصاديًّا، وهي المسماة بالمدارس الفنية الزراعية المتجولة التي انتشرت في بلجيكا وكندا والولايات المتحدة بأمريكا وأفادت كثيرًا. اقترحه حضرات عبد الحميد سعيد والدكتور محجوب ثابت ولفيف من المصريين طلبة العلم بفرنسا وإنجلترا. 9 - وضع كتب أخلاقية سهلة يفهمها العامة، وعمل لجنة لمراقبة الأخلاق في معاهد التربية والتعليم الأهلية. اقترحه سيد بك محمد. ولجنة المراقبة على الأخلاق اقترحها أيضًا عبد السلام أفندي ذهني المحامي. 10 - إيجاد مدارس ليلية لتعليم الشعب بالقرى. اقترحه سعد الدين مصطفى رحاب من العسيرات. 11 - الإكثار من معاهد الجنباز والرياضة البدنية. اقترحه عبد السلام أفندي ذهني المحامي. اقترحه سعادة حسن باشا مدكور. 12 - توحيد برامج التربية والتعليم اقترحه حضرة أحمد بك لطفي المحامي، فهل توافقون على إحالة جميع هذه الاقتراحات على اللجنة التنفيذية؛ لكي تنفذ منها ما يمكن تنفيذه، ويكون لها أن تنتظر عمل مؤتمر التربية والتعليم والاستعانة بما يراه موافقًا لهذه البلاد من الأنماط التعليمية. السعي لدى الحكومة لتوسيع نطاق مدرسة الممرضات وتعليم الطب للنساء أسوة بالرجال، وتعليم المرأة التفصيل والتطريز وخدمة المنزل وتربية الأطفال، وإنشاء مدرسة لذلك. اقترحته السيدة باحثة البادية. قبلت هذه الاقتراحات كلها وعددها 12 بالإجماع. (ج) المسائل الاجتماعية: 1- الاهتمام بالوعظ والإرشاد؛ لترقية الحالة الأخلاقية. اقترحه حضرات محمود حسن فرويز بأسيوط. الشيخ رشيد رضا. حسن بك يونس الذي يطلب السعي لدى ديوان الأوقاف؛ لتعضيد مشروع الوعظ والإرشاد. محمود بك أنيس، وهو يرى المساعدة على ذلك بجمع ضريبة اختيارية سنوية لا تقل عن خمسين قرشًا على كل شخص، تصرف في هذا السبيل وغيره حامد محمد المليجي الإسكندراني. عدد 160 شخصًا من الأزهريين. مرسي عبد الرحمن البارودي. حسن المسيري. محمد أفندي كامل صادق الذي يرى أن الوعظ والإرشاد يكون تحت مراقبة لجنة يعينها مؤتمر التربية والتعليم. فهل المؤتمر يوافق على أن هذا الاقتراح مفيد وواجب تشجيعه أم لا؟ قُبِلَ 2 - إعطاء الحرية للنساء لسماع الوعظ في المساجد وبالصلاة فيها؛ أسوة بالتركيات وبالمسيحيات واليهوديات، وجعل التعليم الديني إلزاميًّا في مدراس البنات. وإيجاد أستاذ مسلم عاقل في كل مدرسة بنات؛ لإرشادهن لمكارم الأخلاق الدينية ومحاسن العادات القومية. اقترحته السيدة باحثة البادية. فهل توافقون على هذا الاقتراح وتشجعون عليه وتحيلونه على اللجنة التنفيذية؛ للسعي لدى الحكومة لإجراء ما يخصها من ذلك؟ رفض الشق الأول وقبل الثاني 3 - محو البدع والعادات السيئة؛ كالأذكار القبيحة والإسراف في المآتم والأفراح، وخروج النساء لتشيع الجنازات ومبيتهن في المقابر، والإسراف الزائد في تشييد القبور والأحواش. اقترح بعض ذلك حضرة محمد بك يوسف المحامي بمصر في تقريره الذي تلاه في إحدى جلسات المؤتمر، وبعضها اقترحه حضرات محمد أفندي زكي إبراهيم بالحنفي بمصر. خيري أفندي بشبين الكوم. عبد الحليم أفندي جميعي بالإسكندرية. حسن بك يونس. باحثة البادية. فهل تعضدون رأي المقترحين؟ قُبِلَ 4 - ضرورة إنشاء ملاجئ للفقراء من الأيتام والأرامل والعجزة. اقترحه حامد محمد المليحي الإسكندراني. فهل المؤتمر يستحسن هذه الفكرة ويشجع عليها، ويحض المحسنين والواقفين على أن يجعلوا لها من مبراتهم نصيبًا. قُبِلَ السعي لدى الحكومة في استصدار قانون يحدد المهور. اقترحه حضرتا عبد الحليم أفندي جميعي بالإسكندرية - حسين المسيري ببهتيم. رُفِضَ 5 - السعي لدى الحكومة لتشكيل لجنة من العلماء؛ لاستنباط أحكام شرعية من كل المذاهب، تنطبق على أحوال الزمان والمكان، حتى يمتنع الحرج على الناس من الأحكام المأخوذ بها الآن. اقترحه حضرة الشيخ عبد العزيز شاويش في خطابه الذي ألقاه بإحدى جلسات المؤتمر، فهل توافقون في إحالة هذا الاقتراح على اللجنة التنفيذية؛ لبحثه ولتتخذ نحوه ما يلزم؟ أن يطلب من الحكومة مراقبة المبشرين في مصر، حتى لا يخرجوا عن حدود واجباتهم الدينية اقترحه حضرة أحمد بك لطفي المحامي. قُبِلَ. 8 - السعي لدى الحكومة؛ لمنع تعدد الزوجات بلا ضرورة والطلاق بلا موجب، اقترحه حضرة صادق أفندي عثمان ناظر مدرسة الصادق ببني سويف، وباحثة البادية في تقريرها الذي تلي بالمؤتمر، فهل توافقون على فائدة هذا الاقتراح وعلى إحالته على اللجنة التنفيذية، لتحري ما يلزم نحوه؟ ... ... ... ... حُذِفَ مِنَ الْبُرُوجْرَام. 9 - السعي لدى الحكومة لتعيين قضاة المحاكم الأهلية من بين المتمرنين على أعمال القضاة؛ كالمحامين الذين أمضوا في المهنة عشر سنوات مثلاً، وترقية القضاة بالأقدمية فقط، وأن يكونوا غير قابلين للعزل وصرف إيرادات المحاكم في ترقية حال القضاء. اقترحه حضرة عبد الستار أفندي الباسل. فهل توافقون على إحالته على اللجنة التنفيذية؛ لبحثه وإجراء ما يلزم نحوه؟ قبل بالإجماع. 10 - السعي لدى الحكومة لاستصدار قانون، يجعل منزل العائلة وحصة معلومة من ملكها غير قابلين للبيع، وذلك حماية للأهالي من خطر التجرد من كل ملك. اقترحه حضرة عبد الرحيم حسين من ساحل سليم ومحمد أفندي كامل صادق من مصر، فهل توافقون على هذا الاقتراح وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء اللازم نحوه؟ قُبِلَ بِالإِجْمَاع. 11 - إنشاء لجان لمصالحة العائلات. اقترحه حضرتا حسن بك يونس ومرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا، والأول يرى السعي لدى الحكومة لتعين مجالس في المراكز لهذا الغرض. ... ... ... ... ... تقرر الاكتفاء بما هو موجود بتلك اللجان 12 - إيجاد المستشفيات الخيرية والصيدليات بكل مركز من مراكز المديريات وكل قسم من أقسام المدن. اقترحته باحثة البادية في تقريرها الذي تلي بالمؤتمر. واقترحه مرسي عبد الرحمن البارودي بجرجا وحسن المسيري ببهتيم، فهل تستحسنون هذا الاقتراح، وتشيرون على الأهالي بالعمل به؟ قُبِلَ بِالإِجْمَاع 13 - السعي لدى الحكومة لتحصيل تركات من يتوفى من المسلمين من غير وارث؛ لصرفها في شؤون المسلمين. اقترحه حضرة محمود بك أنيس ومحمود حمادة بالزيتون. فهل توافقون على هذا الاقتراح؟ أم توافقون على إبقاء الحالة كما هي الآن، مع إلفات الحكومة إلى الاستيلاء أيضًا على تركات المتوفين عن غير وارث من باقي المصريين. رفض الشطر الأول وتقرر الثاني بالإجماع. 14 - استلفات الحكومة لإلغاء المادة 78 من لائحة الصيارفة؛ لما تقتضيه من حصر وظائفهم في يد فئة مخصوصة، مع أن الحكومة تصرف سنويًّا على هذه الطائفة زيادة عن 90.000 جنيه. اقترحته لجنة المؤتمر الفرعية بالمنوفية وحضرة محمد بك علي المحامي بأسيوط. فهل توافقون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية؛ لإجرء اللازم نحوه؟ قُبِلَ بِالإِجْمَاع. 15 - استلفات نظر الحكومة إلى وجوب الحرص على اللغة العربية، ووضع كل محرراتها بها؛ إذ هي اللغة الرسمية للبلاد، وإن كان للحكومة الحق بعد ذلك أن تضعها فيما تشاء من اللغات الأخرى. اقترحه الشيخ عبد العزيز جاويش ومحمود بك أبو النصر. فهل توافقون على هذا الاقتراح، وتحيلونه على اللجنة التنفيذية لإجراء اللازم نحوه؟ قُبِلَ بِالإِجْمَاع. (د) المسائل

ملكة بهوبال الهندية في إنكلترة

الكاتب: نقلا عن جريدة المؤيد

_ ملكة بهوبال الهندية في إنكلترة [1] في بلاد الإنكليز تقيم الآن أميرة مسلمة؛ أتت لتشهد حفلة تتويج الملك جورج الخامس مع باقي ملوك الهند وهم كثيرون. وقد اهتمت بأمرها الصحف والمجلات الإنكليزية؛ لأنها الأميرة المسلمة الوحيدة الشرقية التي تحضر هذه الحفلة الشائقة رسميًّا، وقد حاول كثيرون من الصحافيين والصحافيات التشرف بمقابلتها، واستأذنوا فلم يؤذن لهم إلا محررة واحدة جميلة في إحدى المجلات الإنكليزية، قدرت أن تستميل بجمالها ودهائها الحاشية، فسمحوا لها بشرف المثول بين يدي الأميرة الهندية العظيمة، فلعل ذكر بعض ما كتب عنها لا يخلو من الفائدة. هي الأميرة (بيجوم [2] ملكة بهوبال) والبلاد التي تحت حكمها من أحسن بلاد الهند وأخصبها، يبلغ مسطحها مقدار مسطح الوجه البحري في بلادنا تقريبًا، ورعاياها يقدرون بسبعة ملايين من النفوس، وهي تقيم بضواحي لندرة بجهة ريدهل بمنزل أثري جميل، تحيط به حديقة غناء بين حاشيتها المؤلفة من رئيس وزارتها وأمناء أسرارها، وخادماتها الهنديات والأوربيات ووصيفاتها الوطنيات، وهن من أبكار الهند الجميلات المشهورات بشعورهن الجميلة السوداء الملقاة على ظهورهن، ووجوههن السمراء الجذابة، ومعها طبيبها الخاص، وهي متبعة في معيشتها النظام الشرقي، ومحافظة على عادات الشرقيين في الحجاب، فهي محتجبة عن الرجال ولا تقابل أحدًا من الأجانب بدون النقاب، أما النساء فإنها تقابلهن مكشوفة الوجه سواء كنّ أوربيات أو شرقيات. وهي مشهورة بولائها العظيم لحكومة الهند، حتى إنها منذ ثماني سنوات قدمت للورد كارزون حاكم الهند العام كمة (طاقية) بديعة الصنع هدية منها لجلالة ملك الإنكليز. وهذه الكمة مكللة بالجواهر الثمينة ومطرزة تطريزًا شرقيًّا بديعًا، ومعها خطاب شكر وولاء للملك، تقول فيه: بأنها ليست هي وشعبها فقط الموالين المخلصين لحكم إنكلترا لبلادها، بل إنها تريد أن تعبر بهذا الخطاب عن سرور وولاء جميع الرعايا المسلمين في الهند. وإن هذا الولاء هو مطابق لديانتها أي للشريعة الإسلامية الغراء التي تأمر بإطاعة الله والرسول وأولي الأمر! ! وهي لم تبرح بلادها قبل الآن إلا مرة واحدة في سنة 1901، عندما أدت فريضة الحج بمكة المكرمة، وهذه هي الدفعة الأولى لزيارتها لإنكلترا ولأول مرة في التاريخ لملكات بهوبال. وهي متواضعة كريمة الأخلاق مشهورة بالإحسان لفقراء بلادها ومحبة للتقدم والارتقاء، وتعتقد أن تقدم الهند لا يكون إلا إذا اعتنق الوثنيون وغيرهم من الهنود الديانة الإسلامية، فهي لهذا تكلف المستنيرين من رجال مملكتها بأن يبثوا المبادئ الإسلامية بين قبائل الهنود. وهي محافظة على الصلاة والصيام حسب الشريعة، ولا يفوتها وقت بدون أداء فريضة الصلاة، ومشهورة بالشجاعة والإقدام، ومما يذكر عنها أنها عندما كانت في طريق الحج هاجمها جماعة من الأعراب، فأمرت حشيتها بقتالهم وكانت هي تقودهم بنفسها، فأصلوهم نارًا حامية، حتى ارتدوا عنها خائبين، ولم يستفيدوا شيئًا إلا ما أصابهم من نيران رجال حاشية الأميرة الشجاعة. ولقد قابلت جلالة الملك والملكة في قصر بكنهام، فأحسنا ملاقاتها وأكرماها، ورأت منهما كل انعطاف واحترام أثر في فؤادها. وكان معها نجلها الصغير (سهل زاده حميد الله خان) ، فكان موضع رعاية خصوصية من جلالة الملكة. والإنكليز يؤدون لتحيتها الرسمية 21 مدفعًا. وقد كتبت عنها الصحف الإنكليزية والمجلات قصصًا كثيرة مختلفة، وحكايات غريبة متنوعة عن عاداتها وأخلاقها ومأكلها ومشربها، حتى إنهم قالوا: إن الأميرة مأكلها عجيب، وإنهم يأتونها بماء الشرب من الهند، وإنها لا تأكل ولا تشرب من إنكلترا شيئًا أصلاً، مع أنهم لم يطلعوا على شيء مما كتبوه عنها ولا عجب، فهذه هي عادة الأوربيين معنا معشر الشرقيين، وعن كل شيء لا يعرفون حقيقته. ولقد كذبت تلك الآنسة الإنكليزية الصحافية في مجلتها كل ما نسب للأميرة من الحكايات والخرافات، وقالت: إنها لم تجدها كما كانت تظن أنها تلك الأميرة الشرقية الأتوقراطية الحاكمة على شعبها بالطريقة الاستبدادية. ووصفتها وصفًا مقرونًا بالإعجاب؛ إذ قالت: إنها رأت فيها ذكاء نادرًا ولطفًا ورقة وجمالاً. وقالت: إن الأميرة محبة للفنون الجميلة، ووقت زيارتها كانت ترسم أحد المناظر الطبيعية البديعة بالضاحية التي تقيم فيها. وقد رأت عندها كثيرًا من الحلي الذهبية والأدوات والأواني الشرقية الثمينة التي لا تقدر بثمن. وعلمت من محادثتها لها أنها تنظر دائمًا لإنكلترا كأنها وطن لها. وهي تجتهد في البحث والتنقيب عن كل ما يرقي بلادها وشعبها، وستأخذ معها من إنكلترا وأوربا كل ما تراه مفيد لنجاح بلادها وأمتها. وقد تركت ابنها الأكبر (نصر الله خان) في بلادها؛ ليدير شؤون المملكة حتى عودتها، وتشتغل الآن في تأليف كتاب عن تاريخ حياتها، قد أوشكت أن تنتهي من الجزء الثاني منها، وستجتهد بأن تصف في الجزء الثالث زيارتها الحالية لأوربا ولإنكلترا خصوصًا وصفًا تعتقد أن سيكون فيه فائدة لشعبها المجتهد، وأن يوقظ في نفوس قومها روح النشاط ومجاراة الإفرنج. وتتبع في مأكلها قواعد وآداب الشريعة الغراء في الاعتناء بالذبح والنظافة ونحوه، فلا تأكل إلا ما ذبح بيد إمام معيتها وطبخ بإشراف أطبائها المسلمين، وتلبس رداء على الطراز الشرقي وهو برنس ذو ذيل طويل، وعلى وجهها نقاب أسود موضون بالذهب ومطرز تطريزًا جميلاً فيه ثقبان لعينيها، وعلى رأسها تاج صغير من الذهب الوهاج، وفي يديها قفازان من الحرير الأبيض، ولا يسمحون بالدخول عليها لأحد من الأجانب خصوصًا الأوربيين إلا بإذن خاص منها؛ بشرط أن يكون ذا صفة عمومية، ولا تقابل أحدًا من الأجانب إلا وفي يديها هذان القفازان، وهي كثيرة الابتسام لزائريها. حقق الله آمال الأميرة فيما ترجوه من ترقية بلادها وأمتها. (المنار) هذه المملكة عربية الأصل شريفة النسب من آل بيت الرسول عليهم السلام، وناهيك بسلفها الصالح السيد صديق حسن خان صاحب المصنفات الشهيرة التي هي من دعائم إحياء العلم والدين رحمه الله تعالى. وقد تبرعت في هذه السنة لمدرسة عليكرة بمائة ألف روبية مساعدة على ما يراد من تحويلها إلى جامعة تسمى (الجامعة الإسلامية) (وهذا اللفظ يهابه ساسة المصريين، والحكومة الإنكليزية تساعد عليه مسلمي الهند) ومائة ألف روبية تساوي 650 جنيهًا مصريًّا. واشتراكها الشهري في جمعية ندوة العلماء عشرون جنيهًا إنكليزيًّا ومبراتها كثيرة. وما نقلته عنها المجلة الإنكليزية من الاستدلال بوجوب طاعة أولي الأمر على طاعتها لملك الإنكليز لا يصح كما علم مما فسرنا به أولي الأمر من عهد قريب، ولها أن تستدل بمراعاة المصلحة العامة، وهي أساس السياسة في الإسلام.

بلاغ محمود شوكت باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بلاغ محمود شوكت باشا إلى مفتشي الفيالق ومفتشي الرديف وقواد التوابير والفرق المستقلة إن الخدمة الشريفة التي قام بها الجيش في انقلابنا الخيري الحميد الأخير هي معلومة لدى الجميع، وطبيعي أن الجيش كان مضطرًّا إلى تكوين التحول الجديد وتسكين الاضطراب الذي حدث في الأحوال العامة، وتأييد مقصد الانقلاب، فكان اشتغال أعضائه بالسياسة يومئذ أمرًا ضروريًّا، ولكن بعد الانقلاب وتأسيس الدستور (المشروطية) لم يبق محل لاشتغال الجيش بالسياسة، وأنا منذ سنة ونصف تقريبًا أوصيت الوصايا اللازمة شفاهًا بكل عزم وإخلاص في الآستانة وفي أدرنة؛ بأن يحصر الجيش همته في وظيفته العسكرية المقدسة، وإني أقول بلسان الشكر: إن هذه الوصايا تلقيت بالطاعة من قبل رفاقي الأعزاء، وإنه بهمة رفاقي الضباط الذين بطبيعتهم يقدرون سمو الوظيفة حق قدرها، حصل في هذه المدة القليلة نجاح مهم في انتظام الجيش اعترف به الصاحب والعدو، وبهذا النجاح وجدنا الجيش لم يتوان في طريق التكامل خطوة واحدة، على أنه منذ سنة ونصف وقف أمام سبع محاربات في اليمن وعسير وشمال الأرناؤوط وحوران والكرك، ثم اليمن وعسير ثانيًا، وعصيان الماليسور كل ذلك لم يثن عنان مطيته عن التقدم إلى الأمام، وأن الجيش وفقه الله ما دام يدأب على هذا الجد والاجتهاد، فهي يعلي شأنه وسطوته دومًا، وأن النقطة الوحيدة التي يعلق عليها الأمل في سبيل الوصول إلى هذا المقصد؛ هي أن يجرد الضباط رفاقي أذهانهم وأنفسهم من الأفكار والمقاصد غير اللائقة، ويقفوا وجودهم على الوظيفة العسكرية فقط. إن التكامل والانحطاط في الجيش منوط بسعي رفاقي، فكلما زاد ارتباطهم بالوظيفة تتجلى آثار التعالي بصورة جديدة كل يوم، وإن الحالة التي يولدها عكس ذلك هي السقوط ليس غير. على أن السقوط يكون سريع الوقوع لا تدريجًا كالترقي، وآثاره تظهر في الحال، وعلى هذا التقدير يكون الجيش قد أودى بوطنه ودولته التي هو مكلف بالعمل لبقاء وجودها، وهذه النتيجة تثبت أنه يجب على الجندي أن لا يتفكر في شيء غير الوظيفة، وأن لا يعيش إلا لأجلها فقط؛ لأن الوطن الذي يعزه أكثر من نفسه لا يعيش إلا بارتباطه هو بوظيفته. إن السياسة من شأنها توليد المطامع والاختلافات، فهي بالطبع موجبة لإهمال الوظائف العسكرية وداعية للتباين في الأفكار، وهذا ما يؤدي إلى خراب المملكة. وإني لمشاهداتي وتجاربي، أعلم أن جميع رفاقي الضباط قد شعروا بقدسية الوظيفة، وعدلوها بأرواحهم وضمائرهم فيجب عليهم أن ينزهوا أفكارهم ومقاصدهم عما سواها، وإني أسدي الاحترام لرفاقي الذين يمعنون النظر في الوظيفة ويتلقونها على هذا الوجه، وأحبهم أكثر من محبة الوالد لولده، كما أنه لا يجوز أن أتوانى ألبتة في معاقبة الذين لا ينظرون إلى هذه الحقائق، والنتائج التي صورتها بنظر الاهتمام، فيهملون وظائفهم في ميلهم إلى الأفكار الخارجة عن المسلك ويشتغلون بالسياسة، ومجازاتهم تنوطها بي صلاحيتي القانونية، ولأجل أن يطلعوا على هذه النصائح والوصايا نشرناها لجميع المراجع، فأوصيهم وصية خاصة بعمل ما يقتضيه الحال. (المنار) من أصول السياسة أن الجنود الذين يتصدون للسياسة ويحدثون الانقلابات بالثورة والسلاح، يكونون خطرًا على المملكة إذا بقي لهم نفوذهم في الجيش، ومن أحكام السياسة أن يقتل هؤلاء ولو بالحيلة إذا لم يؤمن جانبهم. ومن أسباب تعجيل الإنكليز بالحرب السودانية عقب الاحتلال؛ تعريض عسكر الثورة العرابية للهلاك والزوال وقد تم لهم ذلك من غير أن يشعر الناس بسببه. ونحمد الله أن كان انقلابنا سليمًا، قد قدر محمود شوكت باشا وأعوانه من القواد والضباط العقلاء (كمحمد هادي باشا وصادق بك) على تلافي الخطر، وإن كان يفهم مما كتبه هؤلاء الثلاثة أن في الضباط من لا يزال يشتغل بالسياسة؛ بإغراء أولئك الزعماء المعروفين من جمعية الاتحاد والترقي، ولا شك أن هذا من الجناية والخيانة كما قال محمد هادي باشا والفاروقي، فعسى أن يوفق محمود شوكت باشا في أقرب وقت إلى تنفيذ ما أشار إليه في هذا البلاغ من غير فتنة، وحينئذٍ نأمن من الخطر الداخلي ويستقر أمر الدستور فينا.

رأي الأمير صباح الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رأي الأمير صباح الدين سأله أحد محرري جريدة الطان الفرنسية بباريس عن رأيه في الأزمة الاتحادية، أو ما يراد وضعه من الإصلاحات في المملكة العثمانية، فأجابه بما يأتي: إن ضعف طائفة من جمعية الاتحاد والترقي لا يدل على أن الحكومة العثمانية دخلت في دور تقهقر، فإن هذه الأزمة إنما تدل على قرب دور حرية حقيقية. إن جمعية الاتحاد والترقي لما قبضت على زمام الأمور؛ بقصد أن تعلي شأن الوطن المشترك بين جميع العناصر العثمانية، أخذت ترتكب بعض خطيئات حكومة الدور السابق باسم الدستور، وذلك من أهم الأسباب التي ولدت هذا الاستياء العام، وكانت النتيجة أن بقيت أمور الإدارة على جانب عظيم من عدم النجاح بدرجة لا تقل عن إدارة الدور السابق. كنت وضعت خطة جدية هي أوفق لحاجيات الولايات، وأحفظ لعادات العناصر وتعاملهم، وأضمن للمحافظة على وحدة المملكة، وآمن لإقامة العدل، فلو أنهم أنفذوا برنامج هذه الخطة لما بقي مجال لحدوث سلسلة ثورات مشؤومة. إن الترك في أشد الحاجة على زيادة قابليتهم للارتقاء، ولا يمكنهم أن يبقوا دومًا مستهلكين، ولكنهم ويا للأسف لم يبذلوا شيئًا من السعي لإخراج هذا التجديد إلى حيز الفعل حتى الآن. وإن جمعية الاتحاد والترقي لم تكن لتكفل نجاحًا في السياسة الداخلية، ولم تظهر أثرًا من الحكمة في السياسة الخارجية. وإن مثل هذه السياسة إذا ولدت استياء عامًّا، يتزايد في كل يوم، يكون أمرًا طبيعيًّا، ولا يعجب أحد من عدم انتظام كل الأمور للحال، ولكن مما يوجب الأسف أن رؤساء الاتحاد والترقي قد أظهروا سرعة انفعال بدرجة أنهم لا يتحملون انتقادًا مهما كان معقولاً، وصادرًا عن حسن طوية.

مصاب مصر بوفاة رجلها العظيم مصطفى رياض باشا ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب مصر بوفاة رجلها العظيم مصطفى رياض باشا رئيس المؤتمر المصري قضى الله ولا رادّ لقضائه أن لا نفرغ من تلخيص أعمال المؤتمر المصري؛ بنشر خطبة رئيسه الختامية إلا ويفاجئنا من الإسكندرية نبأ وفاة هذا الرئيس العظيم، وطيّ سجل حياته الشريفة، ففي يوم السبت 20 جمادى الآخرة (17 يونيو) تغدى كعادته في داره برمل الإسكندرية، ونام لا يشكو ألمًا ولا سقمًا، وكان من عادته المضطردة أن يخرج من حجرة نومه على رأس الساعة الرابعة أو يتأخر عدة دقائق، فيشرب الشاي ممزوجًا بعصير الليمون، ويقابل من عساه يزوره ثم يركب إلى النزهة ويعود عند المغرب، فلما جاءت الساعة الخامسة، ولم يخرج كعادته افتقد فإذا هو ميت. عاش عيشة شريفة. ومات ميتة هنيئة - رحمه الله تعالى - وأشهد أنني ما رأيته يائسًا من الحياة متوقعًا للموت كما رأيته في هذه السنة فقد سألته غير مرة قبل المؤتمر وبعده عن صحته، فكان يجيب بأنه لا يشكو من شيء، ثم يستدرك بقوله: (خلاص خلاص) ويشير بيده وبرأسه إلى الذهاب وقرب الموت. هذا هو الرجل الجدير بأن يرثى ويؤبن، هذا هو الرجل الحقيق بأن يؤرخ، هذا هو الرجل الذي ينبغي أن نجعل سيرته في موضع الأسوة، وأخلاقه وأعماله في مكان العظة والعبرة، فإنه من فحول الرجال الذين تنتجهم الفطرة السليمة في بعض الأجيال، وهو حجة على أن أعظم ما يتفاضل به الناس هو جوهر النفس وصفاتها وأخلاقها، لا ما يتلقى في المدارس من مصطلحات العلوم والفنون. فإن العلم بهذه الاصطلاحات - وإن كان لا بد منه كالحرف والصناعات - ليس هو الذي يجعل الرجل عظيمًا زعيمًا بإصلاح حكومته، أو ترقية أمته، وإنما هو من الآلات التي تعين العامل على عمله إن خيرًا وإن شرًّا، فكم من عالم حافظ لأحكام الشرع والقوانين لا يقيمها، بل يستعين بها على الفساد في الأرض، وكم من عالم بالاقتصاد يقذفه إسرافه في هاوية الفقر، وإننا نرى مصداق ذلك بأعيننا كل يوم. إنني أدع للخطباء والشعراء تأبين نابغة مصر ورجلها العظيم، ورثاءه بما يمثل مقامه في نفوس أمته، وعرفانها لقدره وقيمته، وأذكر أحاسن أخلاقه، وغرر صفاته التي امتاز بها في عصره، وفضل بها جميع وزراء مصره. إنني أعد له صفات وأخلاقًا يقل أن تجتمع في رجل واحد، وقد اجتمعت فيه، وهي: سلامة الفطرة وكرم الجوهر، الاستقلال في الرأي والعمل، الابتكار والتصدي للإصلاح، والإخلاص وحسن النية، العدل، حب الحق وكارهة الباطل، الشجاعة وقوة الإرادة، العفة والنزاهة، الثبات والاستقامة، النجدة والمروءة، السخاء وعلو الهمة، الاقتصاد والنظام، إيثار المصلحة العامة على المنفعة الخاصة قوة الإيمان ومراقبة الله عز وجل وهو روح الفضائل كلها. بهذه الأخلاق والصفات كان رياض باشا كالفلك تمر عليه الحوادث، وتنتقل البلاد بحكومتها وشؤون الاجتماع والعمران فيها من طور إلى طور، وهو ثابت لا تتغير أخلاقه، وقد خدم الحكومة المصرية من عهد عباس الأول إلى عهد عباس الثاني، وذلك نحو نصف قرن. وكان خلقه مع كل واحد من هؤلاء الأمراء واحدًا على اختلافهم في الأخلاق والآراء والسلطة المطلقة من كل قيد وكل سيطرة، والسلطة المقيدة بالقوانين ومراقبة الأجانب وسيطرتهم. سن إسماعيل باشا لرجال حكومته وأغنياء رعيته سنة الإسراف في البذخ والانغماس في النعيم؛ فامتلأت القصور بالخمور والنساء الغربيات والشرقيات والشماليات والجنوبيات، حتى كان يكون في القصر الواحد منهن العشرات والمئات، وكان يتبع ذلك ما يتبعه من المعازف واللهو والطرب، وبقيت دار رياض باشا ممتازة بين دور الوزراء والكبراء؛ كامتياز نفسه بين نفوسهم لم يدنسها شيء من ذلك. ثم سنت لكبراء المصريين والواجدين منهم سنة الاصطياف في أوربة، فكانت الملاهي والحانات والمواخير مكتظة بهم، والدنانير تفيض فيها من أيديهم فيضان النيل في أرضهم. وأما رياض باشا فكان يعيش في أوربة كما يعيش في مصر عيشة الاعتدال والشرف والعفة، ومراعاة قوانين الصحة. أخبرني في سياق حديث معه أنه لم يدخل دار من دور اللهو في أوربة ولا دار التمثيل (الأوبرة) في باريس إلا قليلاً مع إسماعيل باشا بصفة رسمية، وأنه لم يدخل المعازف وآلات الطرب داره إلا مرتين: إحداهما في زفاف ولده محمود باشا فإنه جاري فيها رغبة أمه، والثانية إجابة لولي العهد لإحدى الدول الكبرى (أظنه ولي عهد إنكلترة) فإنه زاره زيارة رسمية؛ إذ كان رئيس الحكومة واقترح عليه أن يسمعه الموسيقى الوطنية، فلم تسعه إلا إجابته. ولا يحسبن القارئ أن هذا الوزير كان يعيش عيشة القشف والخشونة، كلا إنه كان متمتعًا بجميع الطيبات بالسعة مع الاعتدال وحسن النظام والشرف كما يليق بمقامه العظيم، ولهذا بلغ الثمانين وهو متمتع بصحة بدنه، وسلامة حواسه وعقله، يعرف ذلك من كان يلقاه مثلنا، وظهر ذلك للجمهور في رياسته للمؤتمر التي كانت خاتمة أعماله الطيبة، فقد كان يجلس عدة ساعات في اللجنة التحضيرية وفي المؤتمر العام لا يتحرك حركة غير عادية، وذلك ما تقصر عنه عافية كثير من الشبان. وكان هو الضابط بعقله ونفوذه المعنوي لسير المؤتمر ومناقشات أعضائه، لولاه لخشي من تنازع الأحزاب فيه أن يجر إلى الفشل، فقد تحدث الواقفون على خفايا الأمور أن بعض أصحاب الأثرة والأنانية كانوا يبغون ذلك؛ لأنهم لم يكونوا هم الداعين إلى المؤتمر والقائمين به، وقد عرف من شنشنتهم مقاومة كل خير يقوم به غيرهم، ويذمونه وينفرون منه كما نفروا الناس عن الجامعة المصرية وعن جماعة الدعوة والإرشاد، على أنه لولا قبوله لرياسة المؤتمر لكان محل الريبة عند الإنكليز وسائر الأوربيين، ولقاوموه خشية أن يجعله أصحاب الأثرة مظاهرة سياسية تخشى فتنتها، ولا تؤمن مغبتها، وقد صرحت الجرائد الأوربية بما يثبت هذا. قلنا: إن رياض باشا كان مستقلاًّ في رأيه وإرادته وعمله، لم يعبث باستقلاله نفوذ الخديويين، ونقول أيضًا: إنه لم يعبث باستقلاله نفوذ الاحتلال الذي تصرف كما يشاء في تصريف من عداه من نظار مصر فمن دونهم من الرؤساء؛ ولذلك لم يرض البقاء في الوزارة على عهدهم، بل رأى تركها أشرف من ترك استقلاله الذاتي، ولم يكن فيما عارضهم فيه من المداخلة في أعمال الحكومة الداخلية (دون الاحتلال نفسه) طالب شهرة ولا منفعة، بل كان عاملاً بما يعتقد أن مصلحة البلاد لا تقوم إلا به، مخلصًا لها فيه، ولهذا أثنى عليه لورد كرومر كغيره من رجال أوربة العارفين بالشؤون المصرية. أدركنا هذا الرجل وقد شبع من جاه الدنيا وروي، فلم يكن كثير المبالاة بمدح ولا ذم، وهو الآن أغنى عن المدح والذم وأبعد عن الانتفاع به أو التأذي منه، فغرضنا مما نكتب عنه العبرة والحث على التأسي والقدوة. لا نفعه ولا سرد مسائل تاريخه، عسى أن يستفيد منه من لهم بصيرة في تربية أنفسهم أو تربية أولادهم إن كان وقت تربية أنفسهم قد فات. يظن كثير من الناس أنهم يربون أولادهم ويعلمونهم؛ ليكونون رجالاً عظامًا، وإنما كانوا ظانين واهمين؛ لأنهم لا يعرفون ما هي العظمة الحقيقية، وما هو الطريق الموصل إليها، يظنون أن العظمة في المناصب الكبيرة ذوات الرواتب الكثيرة، وألقاب العزة والسعادة، أو العطوفة والدولة، وإن كان صاحبها عاطلاً من الاستقلال عاريًا من الفضيلة، كلاًّ على أولي السلطان والقوة، أينما يوجهوه لا يأت بخير، وإن الطريق الأدنى إليها هو أخذ ورقة الشهادة الدراسية من مدارس مصر، والطريق الأعلى أخذ ورقة مثلها من مدارس أوربة، وقد أخطأوا في الأمرين؛ فليست العظمة الحقيقية في المناصب العليا، وإن من الناس من يفضحه منصبه، ويظهر فساده ومهانته، وليس الطريق إلى هذه المناصب هو الشهادة الدراسية وإن كانت الشهادة شرطًا للاستخدام في الحكومة، وإنما يكون الإنسان عظيمًا بجوهر نفسه وعقله، وعلو أخلاقه وآدابه، فإذا نال العاقل الزكي النفس الكريم الأخلاق منصبًا كان هو الذي يشرف المنصب بالاستعانة به على الإصلاح والنفع، فإن كان مع ذلك واسع العلم، كان علمه أكبر عون له على أعماله النافعة، وإن كان لم يؤت من العلم إلا قليلاً هداه عقله وأخلاقه إلى الاستعانة بأهل العلم، فجعل علم غيره آلة له وعونًا على الإصلاح الذي يريده. على حين يبعد العالم الفاسد الأخلاق عنه أهل العلم، ويصطنع أهل الجهل، فيضر الناس ويمنع غيره أن ينفعهم، فالعلم لفاسد الأخلاق كالسلاح في يد المجنون. (للترجمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

سياحة السلطان والاستفادة من منصبه الديني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سياحة السلطان والاستفادة من منصبه الديني لما نجم قرن الفتنة في بلاد الأرنؤوط عام أول اقترح بعض المبعوثين منهم ومن غيرهم أن ترسل الحكومة إليهم جماعة من الناصحين، وقالوا: إننا نعتقد أنه يمكن استمالة زعمائهم بالنصح والإرشاد، فإذا لم يصدق اعتقادنا فالحكوة قادرة على أن تخضعهم بالقوة القاهرة بعد ذلك كما هي قادرة الآن، وإنما الحكمة تقتضي أن يكون الكي بالنار آخر العلاج. فأبى زعماء الاتحاديين يومئذ قبول هذا الاقتراح، وعدوه منافيًا لكرامة الدولة وعظمتها، كأن عظمتها عندهم لا تتحقق بالحكمة والرحمة، وإنما تتحقق بسفك دماء الأمة بأيدي جندها الذي نظم لحمايتها، وكانوا يقولون: إن إخماد نار هذه الفتنة يتم في أيام معدودات، ولكنه لم ينته في العام الماضي إلا بخسارة كبيرة، وسفك دماء غزيرة، وذهاب محمود شوكت باشا نفسه إلى ميدان القتال، واستعانته بالخطابة والإشراف على القلوب من شرفة التأثير الديني، ومع هذا كان سكون الفتنة على دخن، فعادت في هذا العام أشد ما كانت وأوسع انتشارًا، فسيرت الحكومة إليهم كما سيرت إلى اليمن جيشًا عرمرمًا، وقال بعض المتشيعين لها: إن نار الثورة ستنطفئ في أسبوع أو أسبوعين، فكذبت الوقائع قولهم، وقد مرت الشهور ولم تزدد الفتنة إلا شدة. في أثناء هذه المدة زالت سيطرة أولئك الزعماء الاتحاديين عن الحكومة، وضعفت في مجلس الأمة، فرأى من قاموا مقامهم أن فتنة الأرنؤط قد عظمت، وأن الدول الأوربية أنشأت تخاطب الحكومة في شأنها وما يتعلق بها، بدأت بذلك روسية وتلتها النمسة وإيطالية، فعدنا إلى ما كنا عليه زمن عبد الحميد من سيطرتهم علينا أو كدنا، فترجح لهم أن يلجؤوا إلى النصح ويستعينوا بنفوذ السلطان الديني في إخماد تلك الثورة، وكان سلفهم يرون وجوب إضعاف نفوذ الخلافة في الحكومة وداخلية البلاد وجعله سياسيًّا محضًا، فقررت الحكومة أن يسافر مولانا السلطان إلى بلاد الأرنؤوط بعد أن يزور سلانيك وأن يصلي الجمعة إمامًا بالناس، وأن يدعى الثائرون بأمره إلى الطاعة على أن يعفو عن المجرمين عفوًا عامًّا، ويدفع دية قتلاهم، حتى لا يتنازعوا فيها؛ جريًا على عاداتهم وتقاليدهم، وكذلك كان. مولانا السلطان محمد رشاد طيب النفس طاهر القلب يؤثر الرحمة على الانتقام؛ لهذا كان مسرورًا مغتبطًا بهذا الرأي، وقد سافر إلى سلانيك ثم سافر منها إلى مناستر وقصوه، وقد اجتمع للتشرف بالاحتفال به ألوف كثيرة، وفاض معين إحسانه على المدارس والملاجئ وجمعية الاتحاد، ونقل البرق عن السائح عبد الرشيد أفندي الروسي إلى أشهر جرائد المسلمين هنا أنه أمّ الناس في صلاة الجمعة، وكانوا زهاء ثلاث مئة ألف أي: من الجند والأهالي والوفود، فكبرت الجرائد العربية بمصر وسورية لهذا الخبر ونوهت به، وقالت: إن خليفتنا أحيا سنة الراشدين وقام بوظيفته الدينية الكبرى، ثم جاءت جريدة (صباح) من الآستانة وفيها ذكر الاحتفال وأن السلطان صلى مأمومًا. وكان الإمام صديقنا إسماعيل حقي أفندي المناسترلي. في فضاء قصوه قد انتصر السلطان مراد الأول على جيش الصرب وبوسنة وهرسك والأرنؤط والأفلاق والبغدان في ملحمة عظيمة قتل فيها ملك الصرب، ودانت تلك البلاد كلها لآل عثمان، ولكن السلطان قتل بعد الملحمة بيد جريح كان بين القتلى، وله مشهد يزار، وإن كانت جثته نقلت إلى بروسة ودفنت فيها، فزيارة السلطان لمشهده فيه تذكار تاريخي لسلفه العظام الفاتحين الذين غلبوا تلك الشعوب على أمرها هنالك، ولكننا صرنا الآن في عصر غير ذلك العصر الذي كنا نفتح فيه الممالك؛ في عصر قد صارت الصرب فيه مملكة جديدة، والجبل الأسود مملكة جديدة، والبلغار مملكة جديدة، واليونان مملكة جديدة، وصارت هذه الممالك التي كانت تحت قهر سلطاننا تهددنا فيما بقي لنا، وتغري جيرانها بالاستقلال مثلها، فالفتح المبين الذي نرجوه من سليل أولئك الفاتحين؛ هو أن يحفظ لنا البلاد الألبانية بنفوذه الديني المؤثر في نفوس مسلميها، وبالمساوه بينهم وبين سائر أهل البلاد في العدل والرحمة، وإيثارهما على سياسة أولئك المغرورين بالشدة والقسوة. ثم إننا نرجو أن تشمل سياسة العدل والرحمة بلاد اليمن التي طال العهد ومرت القرون، ولم تر من الدولة إلا السيف والنار، والظلم والعار، وإهلاك الحرث والنسل، كما صرح بذلك مكاتب جريدة (طنين) التي عطلت فظهرت باسم (سنين) ، وهي لسان أولئك الزعماء المعروفين من الاتحاديين، الذين نقضوا ما أبرمه حسين حلمي باشا من الاتفاق مع إمام اليمن على ما فيه حفظ سيادة الدولة وحقوق الإمام في قومه، وحقن الدماء وعمران البلاد، وآثروا عليه إضعاف الدولة والأمة بإزهاق الأرواح، وإضاعة الملايين من الأموال، وزيادة البلاد خرابًا على خراب. في هذه الفترة التي ضعف فيها نفوذ أولئك الزعماء، وقوي فيها نفوذ الخلافة، نرجو أن يصيب اليمن نفحة من الرحمة التي لها السلطان الأعلى في قلب مولانا محمد رشاد، فأهل اليمن أحق بهذه الرحمة من أهل ألبانية إن لم يكونوا مثلهم سواء، فإذا كان الشعبان سواء في العثمانية في نظر السلطان، من حيث هو في القانون الأساسي سلطان جميع العثمانيين، فينبغي أن يكون لأهل اليمن امتياز ما في نظره، من حيث هو في ذلك القانون خليفة المسلمين، فالحجة لم تتعد الدستور فيما يطلب للفريقين. أما هذا الامتياز؛ فلمجاورتهم للحرمين الشريفين، وكونهم سياجًا لهما، فإن بلاد اليمن إذا وقعت في يد دولة أجنبية - لا سمح الله تعالى - يزول نفوذ الدولة من الحجاز وسلطتها عليه؛ ولما ورد فيهم من الأحاديث الشريفة التي يحترمها الخليفة من حيث هو خليفة أشد من احترامه للقانون الأساسي. روى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبًا، الإيمان يمان والحكمة يمانية) وآخر الحديث في الإيمان والحكمة رواه كثيرون، وروى أحمد والطبراني وغيرهما عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاكم أهل اليمن مثل السحاب خيار من في الأرض. ثم استثنى الأنصار بإلحاح واحد منهم. وروى الطبراني عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أين أصحاب اليمن هم مني وأنا منهم، وأدخل الجنة فيدخلونها معي. أهل اليمن المطروحون في أطراف الأرض المدفوعون عن أبواب السلطان، يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يقضها) . والأحاديث فيهم كثيرة، ويدخلون فيما ورد في العرب عامة كحديث؛ أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي. رواه الطبراني والحاكم وغيرهما بسند صحيح. وحديث: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) رواه أبو يعلى بسند صحيح. لا شك عندنا في حب مولانا محمد رشاد للعرب وحبه للرحمة، فإذا لم ينل أهل اليمن حظ من عنايته، فلا شك أن علة ذلك تكون من حكومته لا منه، ويكون ذلك دليلاً على أن عنايتها بمسألة الألبانيين هي من ضغط أوربة، كما تدعي البرقيات والجرائد الأوربية، لا من إيثار الرحمة على القسوة، والله نسأل حسن العاقبة، وما فيه الخير للملة والدولة.

جماعة الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جماعة الدعوة والإرشاد (مكان إدارتها ومدرستها) استأجرت هذه الجماعة القصر الشرقي من قصري الروضة بالمنيل من وقف علي شريف باشا، الذي هو عن يمين كُبري الملك الصالح بالنسبة إلى المتوجه إلى الجيزة؛ لتنشئ فيه مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) ، ويكون مركز إدارتها، وسيجلب إليه في الشهر الآتي كل ما يحتاج إليه من الفرش والمقاعد والماعون، ثم ينشر نظام المدرسة، ويختار لها المعلمون والتلاميذ الداخليون والخارجيون، وتفتح بعد رمضان الآتي إن شاء الله تعالى. * * * (الأعضاء المؤسسون) أرسل إليّ الشيخ قاسم آل إبراهيم عضو الشرف الأول والسابق بماله إلى التأسيس حوالة من باريس على أحد المصارف بمبلغ ألف جنيه إنكليزي، وهو القسط الثاني من تبرعه، فجزاه الله أفضل الجزاء، وقد أثنت على هذا السخيّ الكريم أشهر الصحف الإسلامية في مصر وسورية والآستانة وروسية والهند وغيرها من الأقطار. وقد تبرع للجماعة فقيد القطر وزيره الأكبر المرحوم مصطفى رياض باشا بمائة جنيه مصري، وكان يرجى منه أن يوالي تبرعاته بمثل ذلك في كل عام، فرحمه الله تعالى وأكرم مثواه. وتبرع لها عبد الستار أفندي الباسل شيخ قبيلة الرماح بالفيوم بخمسة وعشرين جنيهًا مصريًّا، وتبرع كل واحد من الفضلاء الذين نذكر أسماءهم هنا بعشرين جنيهًا مصريًّا قبل مضي شهرين من إعلان نظام الجماعة الأساسي، فكانوا كلهم من الأعضاء المؤسسين وهم عبد الله بك فائق مأمور عمل كسوة الكعبة المشرفة، والدكتور عبده أفندي إبراهيم مفتش الصحة في السنبلاوين، ومحمد نجيب أفندي المعاون الأول لمركز إمبابه، وإبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير بمصر، وحنفي بك ناجي، وإبراهيم أفندي داود، كلاهما من وجهاء مصر، وإبراهيم بك غزالي من أعيان أبنوب، وحسن بك عبد الرزاق المحامي الشهير بمصر، وكذلك السيد محمد نصيف وكيل إمارة مكة بجدة تبرع بخمسة وعشرين جنيهًا إنكليزية. وتبرع لها آخرون تبرعًا لم يكونوا به من الأعضاء المؤسسين، وقد نشرت أسماء بعضهم في الجرائد اليومية، وستنشر أسماء الباقين، واشترك فيها بعض أهل الغيرة اشتراكات سنوية، وستنشر أسماءهم كلهم في الجرائد اليومية أيضًا، وتنشر أسماء الجميع في الكراسة التي تصدرها الجماعة في آخر سنتها، وقد وعد كثيرون بالتبرع والاشتراك في الخريف الآتي، وهو موعد موسم القطن جعله الله مباركًا. ((يتبع بمقال تالٍ))

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار اتخاذ بعض مسلمي جاوه الناقوس وفتاوى في ذلك (س39) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة. حضرة علامة الزمان، ونور حدقة العرفان، القائم بإحياء شريعة سيد ولد عدنان، العالم المحقق، والفاضل الكامل المدقق، الجامع بين المعقول والمنقول، والمشيد أركان الفروع والأصول، سيدي وعمدتي وإمامي وقدوتي، السيد محمد رشيد رضا، أدام الله وجوده وإنعامه وجوده آمين. (ما قولكم دام فضلكم ونفعنا الله بعلومكم) في أهل بلد يضربون الناقوس للإعلام بأوقات الصلاة المكتوبة ونحوها،ولا يكتفون به عن الأذان والإقامة، ولم يقصدوا بذلك التشبه بالنصارى، بل لإنهاض المسلمين للصلوات بسماع صوته، مع كونه صار معتادًا عندهم في بلادهم، والنصارى قد تركوه بالكلية، هل يجوز لهم فعل ذلك أو لا؟ وهل يكفر فاعله أو لا؟ بينوا لنا حكمه بالجواب الشافي، فلكم الأجر من الملك الباري، سيدي. (وقد رفعت هذه المسألة إلى بعض العلماء فأجاب بما صورته) الجواب (1) إن ضرب الناقوس لا يجوز بحال للنهي عنه، قال الشبراملسي نقلاً عن ابن حجر ما نصه في سيرة الشامي: (اهتمّ صلى الله عليه وسلم كيف يجمع الناس للصلاة، فاستشار الناس، فقيل: انصب راية، ولم يعجبه ذلك، فذكر له القنع؛ وهو البوق، فقال: هو من أمر اليهود، فذكر له الناقوس، فقال: هو من أمر النصارى، فقالوا: لو رفعنا نارًا، فقال: للمجوس، فقال عمر: أَوَلا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: يا بلال قم أنت فناد بالصلاة) قال النووي هذا النداء دعاء إلى الصلاة غير الأذان؛ إذ كان شرع قبل الأذان. قال الحافظ ابن حجر: وكان الذي ينادي بلال الصلاة جامعة. اهـ. وهو كما ترى مشتمل على النهي عن الناقوس والأمر بالذكر ا. هـ. ع.ش وقد عدّ الفقهاء ضرب الناقوس من المنكرات التي يمنع الكفار من إظهارها في بلاد المسلمين، قال في المنهج مع شرحه: ولزمنا منعهم إظهار منكر بيننا كإسماعهم إيانا قولهم الله ثالث ثلاثة، واعتقادهم في عزير والمسيح عليهما السلام، والناقوس وعيد لما فيه من إظهار شعار الكفر ا. هـ وقال في النهاية: ويُتلف ناقوس أَظْهَرُوه. اهـ. وحيث ورد النهي فيه بخصوصه، وصرح بأنه من أمر الكفار أي شعارهم، وعده الفقهاء من جملة المناكر التي يمنعون من إظهارها في بلادنا، فكيف يجوز لنا فعله وإظهاره ببلادنا وجعله من شعار ديننا، فما هو إلا مخالف للنهي وفعل للمنكر والمنهي عنه، وجعل شعار الكفار شعارًا للمسلمين، ما أقبحه من شعار نهى عنه صلى الله عليه وسلم وتركه الكفار وخلفهم فيه المسلمون، لكن مع حرمته لا يكفر فاعله؛ لأنا لا نكفر أهل القبلة بالوزر، ولم أر أحدًا من العلماء قال بجوازه فيما أعلمه من كتب المذهب، والعلم أمانة. وأما اعتياد الجاويين له مع عدم قصدهم التشبه بالكفار، ومع ترك الكفار له فلا يصيره مباحًا؛ لأن ما ورد النهي عنه بخصوصه، وصرح الفقهاء بتحريمه لا ينقلب مباحًا كما هو ظاهر، والخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع. وأما ما اعتاده المسلمون في بعض البلاد الجاوية من ضرب الطبل الكبير؛ لجمع الناس للصلاة، فلا بأس به؛ لأن كل طبل مباح إلا طبل اللهو كالكوبة، وهذا ليس منه فهو مباح كطبل الحجاج. قال الشرقاوي: الناقوس قطعتان من خشب أو نحاس أو نحو ذلك، تضرب إحداهما في الأخرى للإعلام بأوقات الصلوات مثلاً ا. هـ فيعلم منه أن ما تضربه النصارى من الصفر (أي النحاس) المجوف الكبير للإعلام بالساعات يكون من جملة الناقوس، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى. ... (2) وأجاب بعض آخر بما صورته. الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم هداية للصواب، وإليه المرجع والمآب. أما ضرب الناقوس للإعلام بدخول وقت الصلاة فحرام وإن كان لغرض جمع الناس للجماعة؛ لأن هذا الداعي لا يقتضي تجويز ارتكاب الحرام، بعد أن نهى الشارع عن الناقوس بخصوصه، وعين للإعلام الأذان المخصوص، وحينئذ يجب منع الناقوس؛ لخصوصه الإعلام، يزاد في المؤذنين بقدر الحاجة، وإلا كان في عدم المنع افتيات على الشارع، ويأثم الراضي به إن كان له قدرة على إزالته ولم يزله، لكنه لا يكفر؛ إذ كل حرام لا يوجب الكفر، كما هو مذهب أهل السنة خلافًا لما زعمه البعض من التكفير، فإنه زلة فاحشة وغلطة فاشية؛ لأن باب التكفير خطر، والإقدام على الحكم به على أحد المسلمين أشد خطرًا أو أعظم جرأة على ما حث عنه (؟) العلماء،وطوق عنان ألسنتهم عن المجازفة فيه والتعرض له، ما لم يكن لفظ صريح أو فعل كذلك يدل على التكفير، ثم إن المقتضي لتحريم الناقوس ليس هو التشبه بما هو من شعار الكفار، كما زعمه البعض الآخر المجوز له، بل المقتضي له النهي فيه بخصوصه، فلعل المخلص من ارتكاب الحرام في الناقوس هو أن يقوم الأذان على الناقوس، بحيث يصير القصد به الإعلام كما هو الغرض، فإذا ضرب الناقوس بعد ذلك لقصد جمع الناس لا الإعلام بدخول الوقت، فلا بأس به، والحالة ما ذكر والله أعلم. ... (3) وأجاب بعض آخر بما صورته: الحمد لله وحده، لضرب الناقوس نظائر كثيرة من البدع، بعضها حرام وبعضها مكروه، فالقياس أن ضرب الناقوس حرام؛ لأن فيه بدعة وشبها لدين الكفار، وأنه يجب على من له شوكة ومنزلة منع ذلك؛ لأن العوام قد يعتقدون أنه مشروع مثل: الأذان والإقامة، فتأمل بإنصاف، والله أعلم. وهذه الأجوبة التي نقلناها لكم بحروفها مما لا يشفي الغليل، وكيف لا والحديث الذي ساقه المجيب الأول، لا تكون دلالته على المعنى قطعية، لا يحتمل لفظه غير هذا المعنى، والنهي إنما يكون للتحريم إذا كانت دلالته على المعنى كذلك كما في الأصول، وقد قال ع. ش؛ وهو كما ترى مشتمل على النهي عن الناقوس والأمر بالذكر ا. هـ وهو لم يصرح بأن النهي للتحريم، ولو عمل عليه فسياق آخر كلامه من قوله والأمر بالذكر مانع عنه؛ لأن الأمر ليس محمولاً على الوجوب؛ لأنه إنما يكون للوجوب إذا كانت دلالته قطعية كما في النهي، وإن قول المجيب الثاني: ثم إن المقتضي لتحريم الناقوس ليس هو التشبه إلى أن قال: بل المقتضي له النهي فيه بخصوصه صريح في أن ذات الناقوس حرام، وقوله: فلعل المخلص إلى آخر جوابه صريح في أنها ليست بحرام، فتعارضا، وإذا تعارضا تساقطا فلم يكن في الجواب نتيجة، وإن قول المجيب الثالث: لضرب الناقوس نظائر كثيرة من البدع بعضها حرام وبعضها مكروه، فالقياس أن ضرب الناقوس حرام فيه غموض يحتاج إلى البيان، وكيف لا، وإنه لم يصرح للقياس بأنه أعلى أو أدنى أو مساو، وإنه لم يذكر المقيد حتى يعلم مما ذكر، وإن العلة التي ذكرها صريح في أن علة التحريم هي المشابهة لدين الكفر، وقد عارضه المجيب الثاني بقوله: ثم إن المقتضي لتحريم الناقوس ليس هو التشبيه إلى آخره، على أن العلة التي ذكرها فيها تساهل؛ لأنه علل البدعة بكونها بدعة، فهو من تعليل الشيء بنفسه، فحكمه لا يخفى على من له أدنى مسّ في علم الأصول، فمن فيض مولانا أن تفتونا بالجواب، فلكم الأجر والثواب، من الملك الوهاب. ... ... ... ... ... ... ... من الحقير الراجي القبول ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحافظ الجاوي (ج المنار) ما كان يخطر على بالي أننا وصلنا من الجهل بالمسائل العملية والشعائر المعلومة بالضرورة من ديننا إلى حيث صرنا نعد ضرب الناقوس في مساجدنا مسألة نظرية، يستفتى فيها المفتون، فيجعلون عهدتهم كلام مثل الشبراملسي، يستنبطون منه الحكم، ثم تكون فتواهم موضع النظر ومحل النقد والبحث. يا رباه! ما هذا التناقض في العقائد والعبادات والآداب الذي ابتلي به المسلمون منذ انحرفوا عن هداية كتابك العزيز وسنة نبيك الكريم، إنهم يتركون العلوم والفنون والصناعات الواجبة عليهم لحماية دينهم وملكهم؛ لأن غيرهم سبقهم في هذا العصر إليها، ويزعمون أنهم بتعلمها والانتفاع بها يكونون متشبهين بالكفار، ثم إنهم يتخذون نواقيس الكنائس في مساجدهم، ويعدون ذلك من المسائل الاجتهادية التي تختلف فيها الأنظار، فيترك بعضهم أخذ الحكمة التي هي ضالة المؤمن عن غير أبناء دينهم، ويأخذ بعض آخر منهم شعائر الدين نفسها عن أولئك الأغيار!! إن الله تعالى أخبرنا بأنه أتم دينه وأكمله، فلا يجوز إذًا لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه برأيه الذي يسميه قياسًا أو غير ذلك من الأسماء، والزيادة والنقص أو التغيير في الشعائر أغلظ من مثله في أعمال الأفراد في خاصة أنفسهم، وأغلظ ذلك ما كان موافقًا لعبادة غير المسلمين؛ كاتخاذ الناقوس للإعلام بالصلاة. ولا يجوز أيضًا ما ليس كذلك؛ كاتخاذ الطبل للإعلام بها. كل ذلك بدعة في الدين، وكل بدعة فيه ضلالة. وأما البدعة التي تعتريها الأحكام الخمسة فهي البدعة في الأمور الدنيوية والاجتماعية، وإن كانت مفيدة في تأييد الدين؛ كالفنون اللغوية والرياضية والطبيعية. الفتاوى التي أوردها السائل صواب في جملتها وحاصلها، ولا أدخل معه في باب مناقشة أصحابها في عبارتهم، فإن أمثال هذه المناقشات والاستنباط من كلام المؤلفين والمفتين وجعلها كنصوص الشارع؛ هو الذي جعل أكثر كتب المتأخرين مملوءة باللغو مبعدة عن حقيقة الدين. لا موضع للمراء في كون ضرب الناقوس للإعلام بالصلاة بدعة في عبادة هي أظهر شعائر الإسلام، فمثل هذا لا يحتاج القول بتحريمه إلى دليل؛ لأنه معلوم من الدين بالضرورة، والأدلة العامة عليه كثيرة، كقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أحمد ومسلم: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وتقدم المراد بالبدعة آنفًا، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصحيحين عن عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) والمراد بأمرنا أمر ديننا، فلا يرد ما قاله بعضهم في سائر الأحداث أنها تعتريها الأحكام الخمسة، بل العموم في الحديث على ظاهره. على أنه لا يمكن لأحد أن يدعي أن جعل شعار ديني للنصارى شعارًا دينيًّا للمسلمين من غير قسم الحرام. وإلا لجاز تغيير جميع شعائر الإسلام، والجمع بين الكفر والإيمان. هذا، وإن من أراد أن يأخذ من كلام الفقهاء ما يستدل به على ردة من ضرب الناقوس، مستحلًّا له في مثل واقعة السؤال، فإنه لا يعوزه ذلك من كلامهم، وقد كفر بعضهم من عمل ما هو دون ذلك. وناهيك بابن حجر الهيتمي الذي هو عمدة أهل جاوه في دينهم، فإنه شدد في المكفرات تشديد الحنفية، كما يعلم من كتابه (الإعلام في قواطع الإسلام) فإنه ذكر كثيرًا من المكفرات باللازم القريب بل البعيد جدًّا. وما لنا وللتكفير والمتوسعين فيه، حسبنا أن ننكر هذه الضلالة أشد الإنكار، ونحث كل من يصل إليه صوتنا في تلك البلاد على إزالتها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. *** (عبادة نهر في البحرين برؤيا امرأة) (س40) من صاحب الإمضاء بجزيرة البحرين بسم الله الرحمن الرحيم سيدي الفاضل صاحب المنار المنير أدام الله وجوده. ثم سلام الله عليك ورضوانه، وبعد، فقد حدث في بلادنا توًّا حادث يستحق الذكر، وذلك أن امرأة من عامة المسلمين ادعت أن أحد المشايخ أو الأولياء على زعمها، أتاها في المنام وأخبرها أنه على مسافة نصف ميل من البلاد يوجد نهر جار (وهو كذلك إذ إن هذا النهر معروف من القدم) وعلى حافة النهر يوجد صخرة كبيرة (وهذه أيضًا مشاهدة منذ حين) وإنه

بحث الاجتهاد والتقليد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بحث الاجتهاد والتقليد فصول من مختصر كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول لابن أبي شامة الفقيه الشافعي (فصل) وصح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس؛ ولكن يقبض العلماء فيقبض العلم، حتّى إذا لم يترك عالمًا، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا، وما أعظم حظ من بذل نفسه وجهدها في تحصيل العلم؛ حفظًا على الناس لما بقي في أيديهم منه، فإن هذه الأزمنة قد غلب على أهلها الكسل والملل وحب الدنيا، قد قنع الحريص منهم من علوم القرآن بحفظ سورة ونقل بعض قراءاته. وغفل عن علم تفسيره ومعانيه واستنباط أحكامه الشريفة من مبانيه. واقتصر من علم الحديث على سماع بعض الكتب على شيوخ أكثرهم أجهل منه بعلم الرواية فضلاً عن الدراية، ومنهم من قنع بزبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم، وبالنقل عن أهل مذهبه. وقد سئل بعض العارفين عن معنى المذهب، فأجاب: إن معناه (دين مبدل) ، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا} (الروم: 31-32) ألا ومع هذا يخيل إليه أنه من رؤوس العلماء، وهو عند الله وعند علماء الدين من أجهل الجهل، بل بمنزلة قسيس النصارى أو حبر اليهود؛ لأن اليهود والنصارى ما كفروا إلا بابتداعهم في الأصول والفروع، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لتركبن سنن من كان قبلكم ... ) الحديث. (فصل) والعلم بالأحكام واستنباطها كان أولاً حاصلاً للصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم، فكانوا إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من كتاب الله وسنة نبيه، وكانوا يتدافعون الفتوى، ويود كل منهم لو كفاه إياها غيره، وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع، ويقولون للسائل عنها: أكان ذلك، فإن قال لا قالوا دعه حتى يقع، ثم نجتهد فيه، كل ذلك يفعلونه خوفًا من الهجوم على ما لا علم لهم به؛ واشتغالاً بما هو الأهم من العبادة والجهاد، فإذا وقعت الواقعة، لم يكن بد من النظر فيها. قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن، ولم يمض به كتاب ولا سنة، وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع؛ لأن الاجتهاد إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة، فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، وعن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر: أحرج الله على كل امرئ مسلم سأل عن شيء، لم يكن فإنه قد بين ما هو كائن، وفي رواية: لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن، فإنه قد قضى فيما هو كائن (قلت) وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} (المائدة: 101) ... إلخ وعن عبد الرحمن بن شريح أن عمر بن الخطاب كان يقول: إياكم وهذه العضل، فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها ويفسرها. (قلت) إنما يضطر إلى الاجتهاد في الأحكام الحكّام، ولم يأتِ الاجتهاد لغير الحكام؛ لحديث معاذ: إن لم أجد في كتاب الله تعالى فبسنة رسول الله، وإن لم أجد في سنة رسول الله أجتهد برأيي. لأنه كان حاكمًا، وقوله عليه السلام: أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء وهو حاكم، وكذلك قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ} (الأنبياء: 78) لأنهما كانا حاكمين، فالاجتهاد بمنزلة الميتة، قال الثعلبي والشافعي: لا يحل تناولها إلا عند المخمصة. والذي ليس بحاكم ويجتهد برأيه، فمثله كمثل رجل يقعد في بيته ويقول: جاز أكل الميتة لفلان، ويجوز أكلها لي أيضًا. فكذلك لا يجوز لأحد أن يحتج بقول المجتهد؛ لأن المجتهد يخطئ ويصيب، فإذا كان شيء يحتمل أن يكون صوابًا وخطأ فتركه أولى مثل: الشبهات من الطعام، تركه أولى من تناوله. (وعن) الصلت بن رشد قال: سألت طاووسًا عن شيء، فقال: أكان هذا، قلت: نعم، قال: الله الذي لا إله إلا هو، قلت: الله الذي لا إله إلا هو، قال: إن أصحابنا حدثونا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم ههنا وههنا، وإن لم تعجلوا قبل نزوله، لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تستعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إذا فعلتم ذلك لا يزال منكم من يوفق ويسدد، وإنكم إن استعجلتم بها قبل نزولها تفرقتم) ، وكان إذا سئل عن الفتوى يقول: (اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلّد أمور الناس وضعها في عنقه) ؛ إشارة إلى أن الفتوى والقضايا والأحكام من توابع الولاية والسلطنة. (قلت) بهذا السبب أخذوا سنن اليهود والنصارى، وزادوا عليهم حتى صاروا ثلاثًا وسبعين فرقة، وحكم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم من أصحاب النار، كما شهد للعشرة بأنهم من أصحاب الجنة، وقال مسروق: سألت أبيّ بن كعب عن شيء، قال: أكان بعد؟ قلت: لا. قال: فاصبر حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم أحد يحدث بحديث إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ودّ أن أخاه كفاه إياه. وفي رواية يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. ثم بعد الصحابة أراد الله أن يصدق نبيه في قوله: (تفترق أمتي على بضع وسبعين فِرقة، أعظمها فرقة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيحللون الحرام ويحرّمون الحلال) ، رواه البزّار في مسنده عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك الأشجعي عنه صلى الله عليه وسلم، فكثرت الوقائع والنوازل في التابعين ومن بعدهم، واجتهدوا بآرائهم لمن اضطر ومن لم يضطر، ووصلت إلى من بعدهم من الفقهاء، ففرعوا عليها وقاسوا واجتهدوا في إلحاق غيرها بها، فتضاعفت مسائل الفقه، وشككهم إبليس ووسوس في صدورهم، واختلفوا كثيرًا من غير تقليد، فقد نهى إمامنا الشافعي عن تقليده وتقليد غيره كما سنذكره في فصل، وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكل صنف على ما رأى، وتعقب بعضهم بعضًا مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة، وترجيح الراجح من أقوال السلف المختلفة بغير هوى. ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرت المذاهب المدونة، ثم اشتهرت المذاهب الأربعة، وهجر غيرها فقصرت همم أتباعهم إلا قليلاً منهم، فقلدوا بعدما كان التقليد لغير الرسل حرامًا، بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة الأصلين، وذلك معنى قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) فعدم المجتهدون، وغلب المقلدون، وكثر التعصب وكفروا بالرسول [1] حيث قال: يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم وليًّا مجتهدًا، حتى آل بهم التعصب إلى أن أحدهم إذا أورد عليه شيء من الكتاب والسنة الثابتة على خلافه، يجتهد في دفعه بكل سبيل من التآويل البعيدة نصرة لمذهبه ولقوله، ولو وصل ذلك إلى إمامه الذي يقلده لقابله ذلك الإمام بالتعظيم، وصار إليه وتبرأ من رأيه مستعيذًا بالله من الشيطان الرجيم، وحمد الله على ذلك. ثم تفاقم الأمر حتى صار كثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث، ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه، فبدلوا بالطيب خبيثًا، وبالحق باطلاً، واشتروا الضلالة بالهدى، فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، ثم نبغ قوم آخرون صارت عقيدتهم في الاشتغال بعلوم الأصلين، يرون أن الأولى منه الاقتصار على نكت خلافية وضعوها. وأشكال منطقية ألفوها، وقال عمر بن الخطاب: اتهموا الرأي على الدين. وقال سهل بن حنيف: (اتقوا الرأي في دينكم) وقال عبد الله بن مسعود (يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام) . (قلت) ما عبدت الشمس والقمر إلا بالرأي، ولا قالت النصارى ثالث ثلاثة، ولا إن الله هو المسيح ابن مريم، ولا اتخذوا لله ولدًا إلا بالرأي، وكذلك كل من عبد شيئًا من دون الله إنما عبده برأيه، فانظر إلى قول السامري: {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} (طه: 96) وقال عبد الله بن عمر: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا. وقال الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك رأي الرجال وإن زخرفوه لك بالقول وقال أيضًا: إذا بلغك عن رسول الله حديث فإياك أن تقول بغيره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبلغًا عن الله تبارك وتعالى وقال أيضًا: العلم ما جاء عن أصحاب محمد وما لم يجئ عن أصحاب محمد فليس بعلم يعني ما لم يجئ أصله منهم. وقال الشعبي: إذا جاءك الخبر عن أصحاب محمد فضعه على رأسك، وإذا جاءك عن التابعين فاضرب به أقفيتهم وقال سفيان الثوري: العلم كله بالآثار وقال ابن المبارك: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث وقال أحمد بن حنبل: سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند الضرورات. فكان أحسن أمر الشافعي عندي أنه إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وترك قوله. وقال الشعبي: القياس كالميتة إذا احتجت إليها فشأنك بها. قلت ما أحسن قول القائل: تجنب ركوب الرأي فالرأي ريبة ... عليك بآثار النبي محمد فمن يركب الآراء يَعْمَ عن الهدى ... ومن يتبع الآثار يهد ويحمد وقول بعض المغاربة: لا ترغبن عن الحديث وأهله ... فالرأي ليل والحديث نهار وقول القائل: انظر بعين الهدى إن كنت ذا نظر ... فإنما العلم مبني على الأثر لا ترض غير رسول الله متبعًا ... ما دمت تقدر في حكم على خبر ولم يختلف المفسرون فيما وقفت عليه من كتبهم في أن قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) تقديره إلى قول الله وقول الرسول، فيجب رد جميع ما اختلف فيه إلى ذلك، فما كان أقرب إليه اعتمد صحته وأخذ به، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ردوا الجهالات إلى السنة، وفي رواية يرد الناس من الجهالات إلى السنة، وهذه كانت طريقة العلماء الأعلام أئمة الدين، وهي طريقة إمامنا أبي عبد الله الشافعي، ولهذا قال ابن حنبل: ما من أحد وضع الكتب حتى ظهر خطؤه [2] أتبع للسنة من الشافعي. ثم إن الشافعي - رحمه الله - احتاط لنفسه، وعلم أن البشر لا يخلو من السهو والغفلة وعدم الإحاطة، فصح عنه من غير وجه أنه أمر إذا وجد قوله على مخالفة الحديث الصحيح؛ الذي يصح الاحتجاج به أن يترك قوله ويؤخذ بالحديث، أنبأنا الفاضل أبو القاسم عمن أخبره الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي؛ أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: سمعت الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنته ودعوا ما قلت. وقال صاحب الشافعي المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره؛ لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه. أي مع إعلامي من أراد علم الشافعي نَهْي الشافعي عن تقليده وتقليد غيره، قال الماوردي صاحب الحاوي: قوله ويحتاط أي كطلب السلف الصالح

كلمة في السياحة المفيدة

الكاتب: محمود سالم

_ كلمة في السياحة المفيدة وفي العلم وأهله ] فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [[1] (قرآن مبين) يا أيتها الشبيبة المصرية التي عيونها كلها نور، وقلوبها كلها نار، وأجسامها كلها قوة وصلابة، لماذا تقصرين الهمة على قراءة الأوراق والصحف، ولا توجهين عنايتك بقدر الاستطاعة إلى السياحة؛ للاطلاع على ما خلق الله من الغرائب والمدهشات، وعلى ما عملته أيدي الناس من البدائع؟ الرحلة في طلب العلم أكثر بركة من القراءة في الكتب ما عدا ذلك الكتاب الحكيم. والاغتراب سنة واحدة بنية الاستفادة الحقيقية من المعارف أكثر فائدة من القعود عشر سنين على عمى بين المحابر والدفاتر. فرض الله الحج ورغب فيه كل من استطاع إليه سبيلاً. ومن فوائده العظيمة التجول من بلد إلى بلد ومن قبيلة إلى قبيلة؛ لتتسع الأفكار وتستنير العقول. وهل يقال (عالم) لمن لم يتجول في أرض الله الواسعة؛ ليعرف الحقائق؟ ! إن السياحة المقرونة بالحكمة والتبصر، تظهر عادات الأمم وأخلاقها وفضائلها وعيوبها، ومقاصدها من هذه الحياة وسياستها مع الأقوام. ورُبّ أمور لا تتأتى معرفتها في سنين من مطالعة الكتب تعلم بالتحقيق من طريق الرحلة في أقل من لمح البصر. فسيروا في الأرض، واعلموا أن الشعوب كلها سبقتكم في طلب العلم خارج حدود بلادها، حتى أهل الصين الذين كنا نظنهم أمواتًا، فها هم أولاء الآن خارجون من ديارهم؛ لاقتباس النور حتى من أوطان أعدائهم؛ لينذروا إخوانهم ويوقظوهم من سباتهم الطويل، متى رجعوا إليهم. يا أيتها الشبيبة المصرية، تريدين أن تخرجي من الظلمات إلى النور، فعليك بالعلم، والعلم كله في الكتاب العزيز، وهو مغلق على من لا يسرح نظره في عجائب المخلوقات، إن أقرب طريق لفهم كلام الله هو التأمل في صنع الله، وما خلقه في السماء والأرض. وهل يفسر كلام الله شيء كأعمال الله من الغرائب المؤثرة والفرائد العجيبة! قال الله عز وجل ردًّا على من شك في أن الكتاب الحكيم من عند الله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) . * * * ... ... ... ] قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ... ... ... ... أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [[2] ... ... ... ... ... ... ... ... ... (قرآن حكيم) العلم آلة السيادة في كل زمان. به سادت مصركم أم الدنيا على الأمصار كلها، به ساد الإسلام ويسود عن قريب إن شاء الله، وبه تتسامى الأمم اليوم أمام أعينكم. فقد كانت شعوب الألمان والطليان واليابان منحلة أكثر من انحلالكم، ومتفرقة أكثر من تفرقكم، ولكنها أصبحت بفضل العلم تتباهى على إخوانها، وتحكم في القياصرة والجبابرة. وبالعلوم دخلت في جوف الأرض، وأخرجت الكنوز من المعادن، وبها قطعت البحار ونشرت نفوذها على العالمين، وبها طارت في السماء فسبقت النسور والعقبان. إن الله سبحانه عرفناه بالعقل، فكذلك كتابه فهمناه بالعقل، ولولا هبة العقل الربانية لما تمكنا من تفسير الكتاب العزيز. والعقل يزيد كل يوم في العلوم وينميها؛ لأن كل أمة تزيد في الكنوز التي أتت بها سابقاتها. مر على المسلمين زمن كانوا يستعينون فيه على تفسير القرآن بأفكار أرسطو وأفلاطون وبقراط وفيثاغورس وجالينوس وبيدبا من فحول اليونان والهنود وغيرهم. أما نحن الآن ففي وقت لا يكفينا فيه رأي الأقدمين وحدهم، فقد استدار الزمان وحدثت حوادث، وظهرت أقضية وأمور جديدة تستوجب البحث فيما قاله أهل هذا الوقت مثل: لايبنيتس وأوجست كونت وسبنسر من فطاحل الألمان والفرنسيس والإنجليز وغيرهم. القرآن المجيد كثيرًا ما يحتاج مفسره إلى العلوم البشرية؛ لأن المعارف الدنيوية والتجارب المفيدة والمباحث الدقيقة توضح آياته، كما توضحها الاجتهادات العقلية والفيوضات الروحية، فكيف تترقى العلوم (العصرية) وتبقى التفاسير على طريقها القديم في الطب والفلك والكيمياء وباقي العلوم والفنون التي لا تحصى ولا تعد، بعد أن أفنى ابن آدم حياته فيها. ترقي العلوم العصرية يضر بالأديان الباطلة، ولكنه من أكبر الفوائد للمسلمين؛ لأن كثيرًا من الآيات القرآنية المبهمة لا تلبث أن يظهر معناها عندما تظهر حقائق علمية جديدة، كانت خفية على بني الإنسان. سمعت مرة إنجليزيًّا من المهديين إلى الإسلام يقول: هل يتأتى لجميع فلاسفة العالم أن يثبتوا غلطة واحدة في القرآن الكريم، ولو ارتكنوا على كل ما في أيديهم من العلوم العصرية؟ لا يتأتى لهم ذلك. ولو وجدوا فيه خطأ صغيرًا ما كانوا إلا مظهريه، ولكن أنى لهم ذلك، والعلوم كل يوم في تبديل وتغيير، وكل لحظة تظهر معان باهرة لآيات ما كنا لنفهم معناها إلا بعد تقدم العلوم. فلنضرب لكم مثلاً: كان الفلكيون يدعون أولاً أن الأرض ثابتة والشمس متحركة، ثم قالوا: بل الأرض متحركة والشمس ثابتة، ثم جاءوا اليوم يقولون: علمنا الآن أن كلًّا في فلك يسبحون، وأن الشمس حقيقة تجري لمستقر لها، فمن ذلك تتأكد أن العلوم تتغير وتترقى، والقرآن ثابت لا يتأثر بالحوادث، فإن وجد في الكتاب الحكيم شيء لا نفهمه، وجب علينا أن ننتظر رقيّ العلوم، ولا نشك لحظة في صحة القرآن. قصدت في سياحة من سياحاتي مدينة بونتارليه؛ لمقابلة الدكتور جرينيه المسلم الفرنساوي الشهير؛ الذي كان في السابق عضوًا في مجلس النواب. قابلته لأجل سؤاله عن سبب إسلامه فقال لي: إني تتبعت كل الآيات القرآنية التي لها ارتباط بالعلوم الطبية والصحية والطبيعية، وهي التي درستها من صغري، وأعلمها جيدًا، فوجدت هذه الآيات منطبقة كل الانطباق على معارفنا الحديثة فأسلمت؛ لأني تيقنت أن محمدًا عليه السلام أتى بالحق الصراح من قبل ألف سنة، من غير أن يكون له معلم أو مدرس من البشر، ولو أن كل صاحب فن من الفنون أو علم من العلوم قارن كل الآيات القرآنية المرتبطة بما تعلمه جيدًا، كما قارنت أنا لأسلم بلا شك إن كان عاقلاً خاليًا من الأغراض. هذا المثل أوردته لمن يريد أن يعتبر. فإن الدكتور (جرينيه) لو اقتصر في فهم القرآن على ما جاء في أغلب التفاسير القديمة المحشوة بكثير من الخزعبلات بفضل النساخ الدساسين لما اعتنق الإسلام، ولكنه عوّل على معلوماته المستنبطة من آخر اكتشافات باستور وكوخ وأقرانهما الذين وصلوا بالميكروسكوب وباقي الآلات المعظمة إلى نقط دقيقة، ما كان الجنس البشري ليحلم بها في منامه قبل عشرات من السنين. وكذلك علماء الفلك مثلاً من غير أهل الإسلام، لو بحثوا بحثًا دقيقًا في الآيات الباهرات لظهرت لهم أنوار عظيمة، ولعلموا أمورًا كثيرة خفيت عليهم حتى الآن. وإني أرى أن علماءنا الفلكيين لو فسروا الآيات الحكيمة بالمعارف التي اكتسبوها من دروس الإفرنج، لازدادوا يقينًا ولأدهشوا معلميهم وأساتذتهم وأبعدوا عن أذهانهم شبهات كثيرة. ولا يبعد شيء من ذلك على أبناء وادي النيل النبهاء؛ لأنهم ورثوا مجد آبائهم الأولين من أقوام الفراعنة الذين أفاضوا علومهم على ناشري ألوية المعارف في المشارق والمغارب؛ من كهنة الهند وحكماء الصين وفلاسفة اليونان؛ ولأنهم ورثوا في آن واحد معارف المسلمين الثمينة وخزنوها في أزهرهم الأنور؛ ليردها الطلبة العطاش من أنحاء المسكونة. فلتمكُّن أبناء العرب المصريين في أيامنا هذه من لغات الأجانب ومن لغتهم العربية المبينة، يتأتى لهم أن يرتقوا مقامًا عاليًا بين الإفرنج والمسلمين؛ كأنهم الترجمان بين الأضداد، والرابطة بين الأقران والأصفياء. والعلوم العصرية التي يسهل الحصول عليها في أقرب من لمح البصر، متى وجد التوفيق، وقصد بها الاستعانة على فهم الكتاب المجيد، لا يصعب بثها في أقطار المسلمين القدسية الطاهرة التي يؤمها المسلمون من كل فج عميق، ولارتباطنا بها بأقوى الروابط بعد رابطة الدين، وهي رابطة الجنسية ورابطة اللغة. الشبيبة المصرية التي نراها الآن ضعيفة، لا حول لها ولا قوة في أعمال القطر ستكون بعد عشر سنين أو خمس عشرة سنة متربعة في مراكز الحكومة، وقابضة على زمامها من غير شريك ومعارض، فيلزمها أن تستعد لوظيفتها هذه العالية من الآن؛ للاتفاق على نوع العمل وعلى طريق السير فيه. إنما لا يمكن ذلك إلا إذا قامت طائفة مباركة أعضاؤها على السواء من طلاب العلوم العصرية، ومن طلاب علوم الدين الإسلامي الحنيف، واستعدت تلك العصابة العصامية؛ لتتولى السيادة العلمية في مستقبل الأيام ولترأس كنقابة عامة أدبية جميع أجزاء الأمة المحمدية المشتغلين بالعلوم والفنون والمعارف. فليتضافر لذلك من الآن طلبة الأزهر وطلبة كل المدارس الأخرى، ويمزجوا علومهم وأفكارهم العالية وإحساساتهم الشريفة، فإن القوة تأتي من الاتحاد، ويجيء الضعف من الافتراق والانحلال، وعلى الأقل يجب فتح باب (الجامعة المصرية) بكل الوسائل لمن كان من فرسان العلوم الشرعية وباب (الجامعة الإسلامية الكبرى) لمن كان من فرسان العلوم (الإفرنجية) فتترعرع من اليوم الطائفة القويمة، وبعد قليل من السنين تخرج الشعب المصري إن شاء الله من الظلمات إلى النور ومعه إخوانه من عرب وعجم؛ لأن الإسلام جسم واحد، متى صلح عضو منه صلحت باقي الأعضاء. فهكذا تدرجت قبلكم الشبيبة الألمانية؛ لخلاص شعوبهم من الجهل والضعف، فسافرت واغتربت وتعبت، ثم اتحدت على مبادئ متينة أساسها خدمة الأوطان وخدمة اللغة الألمانية. فبأعمالها تكونت الوحدة الجرمانية الكبرى التي ترهب الآن كل متكبر عنيد، وقد تبعتها الشبيبة الإيطالية ثم اليابانية، فعملت عملها، فكونوا مثلهم واتصلوا إلى أرقى مما وصل إليه الجميع. فإن تحصلتم على العلوم لأجل تنوير معاني الكتاب الكريم، وطهرتم نفوسكم بمحاسن الآداب المحمدية في آن واحد، استفدتم وأفدتم، وسهل الله لكم الأعمال، وأعلى شأنكم بين العباد، وإلا فإن بقيتم على حالتكم منقسمين {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) هذا متمسك بالجمود على القديم العقيم، وذاك بالتهافت على الجديد المبني على الفاسد، فلا تلوموا إلا أنفسكم إذا أزمنتم فيما نحن فيه من الارتباك والفوضى. {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) . ... ... ... ... ... ... ... القاهرة في 22 رجب الحرام ... ... ... ... ... ... ... محمود سالم

قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

الكاتب: محمد سعيد

_ قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية نحن خديو مصر: بناء على ما عرضه علينا رئيس النظار، وموافقة المجلس المشار إليه، وبعد أخذ رأي مجلس شورى القوانين. أمرنا بما هو آت (الباب الأول) (في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وفي الرياسة الدينية العامة وفي الإدارات) (الفصل الأول) (في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى) (المادة الأولى) الجامع الأزهر هو المعهد الديني العلمي الإسلامي الأكبر، والمعاهد الأخرى هي معهد مدينة الإسكندرية، معهد مدينة طنطا، معهد مدينة دسوق، معهد مدينة دمياط، وكل معهد يؤسس في القطر المصري بإرادة سنية وكذا كل معهد أهلي يتقرر إلحاقه بالجامع الأزهر أو بأحد المعاهد الأخرى بالشروط والأوضاع التي تبين في لائحة يضعها المجلس الأعلى، ويصدق عليها بإرادة سنية. (المادة الثانية) الغرض من الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى؛ هو القيام على حفظ الشريعة الغراء، وفهم علومها ونشرها على وجه يفيد الأمة، وتخريج علماء يوكل إليهم أمر التعاليم الدينية، ويلون الوظائف الشرعية في مصالح الأمة، ويرشدونها إلى طرق السعادة. (المادة الثالثة) تكون مدرسة القضاء الشرعي قسمًا ملحقا بالجامع الأزهر، وتبقى حافظة لنظامها المقرر لها في قانون 25 فبراير سنة 1907. ويحل مجلس الأزهر الأعلى محل المعارف العمومية في جميع الاختصاصات التي له الآن؛ بمقتضى القانون المشار إليه. وتفصل ميزانية المدرسة عن نظارة المعارف، ويخصص لها باب مستقل في ميزانية الحكومة العمومية، وتجري عليها الأحكام المتعلقة بها. ويبقى موظفو المدرسة من مستخدمي الحكومة. * * * (الفصل الثاني) (في الرياسة الدينية العامة) (المادة الرابعة) شيخ الجامع الأزهر هو الإمام الأكبر لجميع رجال الدين، والرئيس العام للتعليم فيه وفي المعاهد الأخرى، والمشرف الأعلى على السيرة الشخصية الملائمة لشرف العلم والدين بالنسبة إلى من ينتمي لجميع المعاهد من أهل العلم وحملة القرآن الشريف، وكذا من كان من أهل العلم وحملة القرآن الشريف من غير المصريين. (المادة الخامسة) شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس المجلس الأعلى؛ هو المنفذ الفعلي العام لجميع القوانين واللوائح والقرارات المختصة بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى وأرباب الوظائف في جميع المعاهد تابعون له بهذه الصفة وخاضعون لأوامره؛ طبقًا لما هو مقرر في هذا القانون. * * * (الفصل الثالث) (في الإدارة العامة) (المادة السادسة) يكون لكل مذهب من المذاهب الأربعة بالجامع الأزهر شيخ، وكذا يكون لكل معهد من المعاهد الأخرى. ويحوز عند الاقتضاء تعيين وكلاء للجامع الأزهر ولباقي المعاهد، ويكون لهم جميع الاختصاصات التي للمشايخ في حال غيابهم الرسمي. (المادة السابعة) يكون لكل قسم من أقسام التعليم بالجامع الأزهر المنصوص عليها بالمادة السادسة والعشرين من هذا القانون؛ شيخ ومراقبون وكتبة. ويجوز إيجاد هذه الوظائف في المعاهد الأخرى بقرار من مجلس الأزهر الأعلى، إذا اقتضت أحوال التعليم ذلك، بعد أخذ رأي مجلس إدارة المعهد. (المادة الثامنة) يكون بالجامع الأزهر مجلس يسمى مجلس الأزهر الأعلى، وتنشأ مجالس إدارة للأزهر ولمعهدي الإسكندرية وطنطا. (المادة التاسعة) يؤلف مجلس الأزهر الأعلى من شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيسًا، ومن ثمانية أعضاء وهم: شيخ السادة الحنفية. شيخ السادة المالكية. شيخ السادة الشافعية. شيخ السادة الحنابلة. مدير عموم الأوقاف المصرية. ثلاثة ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة، لترقية التعليم وحسن انتظام إدارته؛ بشرط أن يكونوا من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى. ويكون تعيينهم بإرادة سنية بناء على قرار من مجلس النظار. وفي غياب شيخ الجامع الأزهر، ينوب عنه في الرياسة شيخ السادة الحنفية. (المادة العاشرة) يختص مجلس الأزهر الأعلى بما يأتي: أولاً - وضع الميزانية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى. ثانيًا - النظر في إنشاء المعاهد الدينية العلمية الإسلامية، وإلحاق بعض المعاهد الصغرى بالتي هي أكبر منها أو تغيير تبعيتها. ثالثًا - النظر في فصل المعاهد من تبعية غيرها، وجعلها تابعة للجامع الأزهر مباشرة. رابعًا - النظر في إنشاء مجالس إدارة للمعاهد التي ليس لها مجالس إدارة خامسًا - وضع النظامات العامة للتدريس والامتحانات. سادسًا - التصديق على تقرير الكتب التي تدرس بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى. سابعًا - النظر في ترشيح مشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء، وترقيتهم ونقلهم وفصلهم. ثامنًا - النظر في ترشيح أعضاء مجالس الإدارة. تاسعًا - التصديق على ما تقرره مجالس الإدارة؛ من تعيين المدرسين والموظفين وترقيتهم ونقلهم وفصلهم. عاشرًا - النظر في طلب منح كساوي التشريف العلمية لمستحقيها؛ بناء على قرارات مجالس الإدارة. (المادة الحادية عشرة) ينعقد مجلس الأزهر الأعلى بالجامع الأزهر مرة في كل شهر على الأقل بدعوة من الرئيس. ولشيخ الجامع عقده أكثر من ذلك إن دعا الحال. وينعقد أيضًا عند الاقتضاء، تحت رياسة سمو الحضرة الفخيمة الخديوية. (المادة الثانية عشرة) قرارات مجلس الأزهر الأعلى تكون بأغلبية الآراء وإن استوى الفريقان، فالأرجحية للفريق الذي فيه الرئيس. ولا تصح مداولته إلا إذا حضر الجلسة ستة من الأعضاء سوى الرئيس. (المادة الثالثة عشرة) يؤلف مجلس إدارة الأزهر تحت رياسة شيخ الجامع، وبعضوية ستة من الأعضاء؛ واحد من علماء الحنفية، وواحد من علماء الشافعية، وواحد من علماء المالكية، وواحد يختار كل سنتين من علماء أحد المذاهب المذكورة بالدور، واثنان ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة؛ لترقية التعليم وحسن إدارته؛ بشرط أن يكونا من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، ويكون تعيينهما بالكيفية المبينة في المادة التاسعة. وفي غياب شيخ الجامع الأزهر، ينعقد المجلس تحت رياسة وكيل المشيخة، وفي غيابه ينعقد تحت رياسة أكبر الأعضاء العلماء سنًّا. (المادة الرابعة عشرة) يؤلف كل من مجلس إدارة معهد الإسكندرية ومعهد طنطا تحت رياسة شيخه؛ وبعضوية أحد علماء الحنفية وأحد علماء الشافعية وأحد علماء المالكية بالمعهد، وواحد ممن يكون في وجودهم بالمجلس فائدة؛ لترقية التعليم وحسن انتظام إدارته، بشرط أن يكون من الحائزين للصفات الملائمة لحالة الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى. ويكون تعيينه بالكيفية المبينة في المادة التاسعة. وفي غياب شيخ المعهد ينعقد المجلس تحت رياسة وكيل المشيخة، وفي غيابه ينعقد تحت رياسة أكبر الأعضاءالعلماء سنًّا. ولشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى أن يرأس بنفسه عند الاقتضاء أيَّ مجلس إدارة في المعاهد الأخرى. (المادة الخامسة عشرة) يشترط في من يعيّن عضوًا في مجالس الإدارة من العلماء: أولاً - أن يكون من أرباب كسوة التشريف من الدرجة الأولى أو الثانية. ثانيا - أن يكون أمضى مدة أقلها عشر سنوات بصفة مدرس في الجامع الأزهر أو المعاهد الأخرى. فإن لم يوجد بالمعاهد الأخرى من يكون حائزًا لكسوة التشريف من الدرجة الأولى أو الثانية، أو من لم يكن أمضى مدة عشر سنين بصفة مدرس يكتفى بمن يكون حائزًا لكسوة التشريف من الدرجة الثالثة، أو بمن يكون أمضى في التدريس مدة أقلها خمس سنين. (المادة السادسة عشرة) تختص مجالس الإدارة بما يأتي: أولاً - تحضير الميزانية الخاصة بكل معهد. ثانيًا - تقرير تعيين المراقبين والكتبة وكذا ترقيتهم ونقلهم وفصلهم. ثالثًا - تقرير تعيين المدرسين والموظفين الغير المذكورين في الوجه السابق وترقيتهم ونقلهم وفصلهم. رابعًا - تقرير كُتُب الدراسة. خامسًا - توزيع العلوم على المدرسين وتعيين المساجد أو الأماكن التي تخصص للدراسة وتعيين عدد الدروس التي يكلف بها كل مدرس وساعة ومكان كل درس. سادسًا - تقرير القواعد التي يكون بموجبها ضبط الطلبة وحسن سير الأعمال وكل ما له علاقة بالإدارة الداخلية. سابعًا - تقرير طريقة توزيع ما يرد من النقود للمعهد من قبيل الإيرادات الدائمة للتصديق على ذلك من مجلس الأزهر الأعلى. (المادة السابعة عشرة) ينعقد مجلس الإدارة مرة في كل أسبوع على الأقل بدعوة من الرئيس، وله عقده أكثر من ذلك إن اقتضى الحال. (المادة الثامنة عشرة) تصح مداولات مجلس الإدارة متى حضر ثلاثة من أعضائه سوى الرئيس، وتكون القرارات بالأغلبية، وإن تساوى الفريقان فالأرجحية للفريق الذي فيه الرئيس. (المادة التاسعة عشرة) رئيس مجلس الإدارة هو المنوط به الإدارة العمومية في معهده، وتنفيذ قرارات المجلس، وله تعيين وترقية ونقل وفصل الخدمة الخارجين عن هيئة العمال ومباشرة جميع أحوال الضبط والنظام، مع مراعاة القوانين وقرارات مجلس الأزهر الأعلى ومجلس إدارة معهده، وهذا بدون إخلال بما لشيخ الجامع الأزهر من الاختصاصات العامة الأخرى المنصوص عليها في هذا القانون. (المادة العشرون) يعين للتفتيش بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى العدد اللازم من المفتشين، ويكونون تابعين لرئيس مجلس الأزهر الأعلى. وينشأ في الجامع الأزهر وفي كل معهد له مجلس إدارة قلم كُتّاب فيه العدد الكافي للقيام بالأعمال الخاصة به. ورئيس قلم الكتاب في كل معهد هو كاتب مجلس إدراته. وإذا غاب رئيس الكتاب، يندب رئيس المجلس منهم من يقوم مقامه، ويعين لمجلس الأزهر الأعلى كاتب خاص. (المادة الحادية والعشرون) يكون إلحاق بعض المعاهد الصغرى بالتي هي أكبر منها أو تغيير تبعيتها، وكذا فصل المعاهد من تبعية غيرها وجعلها تابعة للجامع الأزهر مباشرة، وإنشاء مجالس الإدارة بمقتضى إرادة سنية. (المادة الثانية والعشرون) انتخاب وتعيين شيخ الجامع الأزهر منوطان بنا وبأمر منا. وتعيين مشايخ المذاهب بالأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء وأعضاء مجالس الإدارة العلماء، يكون بإرادة سنية بناء على عرض شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى، مع مراعاة ما نص عنه بالوجهين السابع والثامن من المادة العاشرة وبالفقرة الثانية من المادة الآتية. ومدة العضوية في مجالس الإدارة سنتان، ويجوز إعادة تعيين الأعضاء أنفسهم. (المادة الثالثة والعشرون) يختار شيخ الجامع الأزهر من كبار العلماء المنصوص عليهم في الباب السابع من هذا القانون. ويختار شيخ كل مذهب من بين فقهائه الذين هم من كبار العلماء المذكورين. ويختار مشايخ المعاهد الأخرى والوكلاء من العلماء الحائزين للشروط المبينة في الفقرتين الأولى والثانية من المادة الخامسة عشرة. (المادة الرابعة والعشرون) علماء كل رواق وعلماء كل حارة ينتخبون شيخهم، فإن لم يكن في الرواق أو الحارة علماء، يكون الانتخاب للمستحقين، وذلك مع مراعاة شروط الواقفين وطبقًا لما يتقرر في اللائحة الداخلية. * * * (الباب الثاني) (في العلوم وفي زمن الدراسة والمساحات) (الفصل الأول) (في العلوم التي تدرس في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى) (المادة الخامسة والعشرون) العلوم التي تدرس في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى هي الآتية: (علوم دينية) : التجويد، التفسير، الحديث ومصطلح الحديث، التوحيد الفقه، أصول الفقه، السيرة النبوية، التوثيقات الشرعية، الإجراءا

هل للقول من مستمع وهل للداعي من مجيب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هل للقول من مستمع؟ وهل للداعي من مجيب؟ جاءتنا هذه الرسالة من أحد الملاويين صاحب الإمضاء الرمزي، كتبها بعد قراءة مقالتنا الأولى (العالم الإسلامي والاستعمار الأوربي) . نطقت ألسن الجرائد والمجلات، وأذن مؤذنوها على منائر الأرجاء أن سبب سقوط المسلمين وتأخرهم عن الأمم الحية هو الجهل الذي فشا بينهم، فنشأ منه ما نشأ من عدم الاتفاق والاتحاد , وانتفت به الوحدة والتراحم والتواد , وبه ورثت دولة منها ملكنا وأرضنا وديارنا وسادتنا، واستبدت فينا، فلم يشعر أحد منا بما حل بنا من سوء هذا العذاب، فلا حول ولا قوة إلا بالله , نعم.. فشا الجهل بين المسلمين على الإطلاق، ولكن ما سمعت الجرائد والمجلات وصفت أحوال المسلمين كما وصفت أحوال مسلمي جاوه في الجهل وضعف النفس والهمجية، على كونهم أكثر من ثلاثين مليونًا من المسلمين، وعابت علماءهم لعدم استعدادهم واطلاعهم على أحوال العالم , وسياحهم لعدم اعتبارهم وتفكرهم في المخلوقات وأحوال الخلق عند سيرهم في الأرض. أطلقت الجرائد والمجلات كلمة مسلمي جاوه على جميع المسلمين في هاتيك الأرجاء، على أن مسلمي ملايو (ماليزيا) غير مسلمي (جزائر جاوه) ، ولغتهم غير لغة الجاويين. كالفرق بينهم وبين الهنود في اللغة والجنس، ولا جامعة تجمع بين أولئك وهؤلاء إلا الدين الحنيف، غير أن الجاويين أكثر مخالطة للملاويين من سائر المسلمين، وقد خرجوا من جزائزهم هاربين لأرض ملايو؛ لما أحدق بهم من الضيق والاستبداد والاستعباد الذي لم يفعل ولن يفعل بغيرهم من رعايا هولندة فعله بهم. ذلك بأن الملاويين والجاويين هم سواء في الجهل، وعدم الاتفاق والائتلاف بينهم، والتباغض والتحاسد فيما بينهم، ولكن ليس في الملاويين مثل ما في الجاويين من دناءة النفس والخضوع الذميم وإن كانوا في الجهل سواء، ثم إن في أرض ملايو عدة سلاطين، فكل سلطان يتصرف في بلده كيف شاء , واتفاقهم محال , وليس في جزائر جاوه إلا سلطانان وهما الأخوان , وأهل ملايو على قلتهم وتفرقهم وتباعدهم وجهلهم كثيرًا ما قاوموا الهولنديين الذين في بلادهم، ونازعوهم وعصوا أمرهم، وأتشين (أجيه) في صومطرة تحاربها منذ أربعين سنة هولندة وهى إلى اليوم لم تخضع لها خضوعاً، هل سمعت أن أهل جزائر جاوه على كثرتهم قاوموا هولندة وعصوا أمرها؟ كلا ثم كلا؛ بل كانوا ولا يزالون خاضعين خاشعين لها فوق خضوعهم وخشوعهم لرب العالمين. والحمد لله لم يوجد فيما نعلم أحد من مسلمي ملايو تنصر أو تهود. هذا، ولا أعني بقولي هذا تفضيل الملاويين على الجاويين، فكلهم معرضون عن طلب العلم ونشر التعليم بين أبنائهم وعن إزالة التفرق والاختلاف بينهم، وما داموا في الجهل سواء فلا فرق بين الجنسين. قول (المنار) : ومن عجائب خمولهم: أي (المسلمين الجاويين) وضعف استعدادهم أن الذين يرحلون منهم لطلب العلم، يقيمون السنين الطوال بمكة أو مصر، ثم يعود من يعود منهم إلى بلاده وهو لا يعرف من أمر العالم الإسلامي ولا أحوال هذا العصر شيئًا قط؛ لأنهم يحبسون أنفسهم على أفراد من متفقهة الشافعية، يتعبدون ببعض كتب متأخري الشافعية؛ كابن حجر الهيتمي والرملي فإن تجاوزوها فإلى كتب الشيخ زكريا الأنصاري والنووي ا. هـ وأزيدك أيها القارئ علمًا بأن من يتعلم العلم منهم في مكة، إنما يتعلمه ليطفئ نور همة غيرهم من المسلمين في إحياء العالم وإصلاح الطريق الموصلة إلى سعادة الدارين , وليأمر قومه بالإفراط في الزهد، وترك الدنيا بالمرة، وتحقير النفس والخضوع الذميم , لا ليعلمهم دينهم ويبين لهم حقيقته وأصوله، ولا لينجيهم من تنصير الدعاة (المبشرين) إياهم. ذلك بأن أكثر الشيوخ الجاويين في مكة، ينفقون أوقات تلاميذهم في قراءة الكتب الفقهية كتابًا فكتابًا إلى ما لا نهاية له. وهؤلاء التلاميذ أكثرهم لم يفهموا شيئًا من اللغة العربية، وهم يعلمونهم أيضًا النحو والصرف. ولكن لعدم مراعاتهم طريقة التعليم المقربة للفهم أو لعدم علمهم بذلك، صار التلاميذ لا يفقهون ما يقولون. ولهذا نقول: إذا وجدت واحدًا في المئة يتعلم ويفهم بعد أن قضى في مكة السنين الطوال فخير كثير , وكثيرًا ما سألت إخواني الطلبة هناك الذين جلسوا عشر سنين و15 سنة عن الإعراب، فوجدتهم لا يعرفون الإعراب الظاهر فضلاً عن الإعراب التقديري والمحلي، ومع هذا يقرؤون ابن عقيل والأشموني وشرحي المنهج والمناهج. ومن أحوال أكثر هؤلاء الشيوخ أنهم يعلمون حجاج بيت الله الحرام ما يسمونه الطريقة، ويأمرونهم بشراء السبح ويزهدونهم فى الدنيا، وهؤلاء الحجاج المساكين لا يعلمون شيئًا من أحكام الدين، ولا أحكام الحج التي تجب عليهم معرفتها قبل شروعهم فى العمل، وما ذاك إلا ليتصدقوا عليهم. وإذا كان الحال كذلك، فكيف لا يكثر الدجالون هناك، وأعداء الإصلاح، ومروجو الخرافات والخزعبلات وأنصار البدع؟ يا هؤلاء الشيوخ: لا تغلو في دينكم، ولا تأمروا تلاميذكم بترك الدنيا وإخضاع أنفسكم وإهانتها للأمة المستبدة، فإن الإسلام لا يأمرنا نحن المسلمين بذلك وإنه لا ينهانا عن المأكل اللذيذ ولا الملبس الحسن، وإنه ليس فيه حرج ولا غلو ولا إفراط ولا تفريط، وعلّموا تلاميذكم كتاب الله وسنة رسوله. إنني والله لأخشى يوم يتجلى رب العالمين أن يعاقب المعلمين؛ بصد المتعلمين عن كتاب الله وسنة رسوله. بكتب أولئك الفقهاء وإن كانت دينية، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولمن اتبع الهدى ورجحه على الهوى. ... ... ... ... ... ... القاهرة في 17جمادى الآخر 329 ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ع

حضرموت

الكاتب: مقترح من حضرموت

_ حضرموت سيدي صاحب المنار أطال الله بقاءك في مراضيه في عافية. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهنيكم بما سمت إليه همتكم العالية من السعي في إقامة (جماعة الدعوة والإرشاد) تلك المكرمة البكر التي نحن الآن في أشد حالات الاضطرار إليها؛ لأن وظيفة من يخرج منها هي وظيفة الرسل الكرام عليهم السلام، حياك الله وكبت عداك، لقد أرضيت بسعيك رب العالمين، وأقررت عين سيد المرسلين، والأنزع البطين، وإني أتمثل بقول الشاعر: إذا علوي لم يكن مثل طاهر ... فما هو إلا حجة للنواصب إنني على بعد الديار، كتبت إليكم بهذه السطور؛ إعلانًا لما يكنه ضميري من حب الإسلام وأهله، وحب من يخدمه من أمثالكم، ولو كان حبشيًّا أو أرمنيًّا أو صينيًّا، فكيف إذا كان من أشرف أرومة، وأطهر جرثومة. وشاهد القول أفعال تصدقه. ولأقترح على تلك الجماعة الفاضلة بواسطة مناركم الأغر؛ أن تخصوا أول رجالها المتعلمين بمدرستها بإرساله إلى حضرموت لأن بها عددًا عديدًا من سلالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قتلهم الجهل، وفقد من بين ظهرانيهم العلم، وبعد بعض بواديهم عن الدين، وإرشادهم مما يدخل السرور الخاص على المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قبره. علاوة على أنهم عرب وفي الجزيرة، والأقربون أولى بالمعروف. ولأن بحضرموت الآن خلفاً أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وابتدعوا في الدين، وغرروا العامة، وسلبوا بعضهم البقية الباقية من دينه، وإليك نموذجًا من مقالهم في وعظهم: كنت منذ أشهر في مجلس أكبر وعاظ حضرموت المشهورين بالولاية الكبرى، فكان مما قال: إن أتان فلان؛ وسمى أحد المشهورين بالعلم والولاية من الأولين، كانت تأتي بخبر السماء كل يوم مرتين. فلما مات أتت به كل يوم مرة. فأفهم قوله هذا من يعظه ويقدم كلامه على كلام الله ورسوله؛ أن ذلك الولي خير من النبي؛ لأن النبي انقطع عنه الوحي أشهرًا وهذا أتانه، فكيف هو، يأتي بخبر السماء كل يوم مرتين، وأفهمهم أيضًا أن جبريل أقل قدرًا من تلك الأتان (أستغفر الله) ؛ لأنه انقطع عن النزول بالوحي بعد موت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتلك الأتان لم توصد في وجهها أبواب السماء صاعدة وهابطة , ولولا خوفي أن يسبق رأسي كلامي لسألتة عن صفة معراج تلك الأتان، أكان على البراق أم على أفضل منها، ومنها ما سمعته عن عظيم فيهم، وهو روايته بالسند عن بعض الأولياء أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليقظة والمدعون لهذا فينا كثير بدون نكير؛ فسأله أن يحدثه شفاهًا بحديث ينتفع به وينفع به الأمة، فقال له يعني النبي - وأستغفر الله من كتابة هذا وإن كان حاكي الكفر ليس بكافر -: (من اتخذ سبحة كان من الذاكرين الله كثيرًا ذكر أم لم يذكر، ومن شرب القهوة استغفرت له ما دام في فمه أثر منها، ومن وقف بين يدي ولي لله - وهنا محل الإشارة - حيًّا كان أو ميتًا، ولو قدر شج بيضة، كان وقوفه أفضل من عبادة الثقلين سبعين سنة إلى نحو ذلك) مما جعلني خرجت باكي العين على الإسلام موجع القلب؛ مصدقًا لقول ابن المقري رحمه الله في ضلال المتصوفة. ليتهم كانوا يهودًا ... ليتهم كانوا نصارى الأبيات. متحسرًا لأن الحاضرين على كثرتهم وتأبط العدد الجم منهم للكتب، واشتغالهم بزعمهم في طلب العلم السنين الكثيرة، لم ينتبهوا إلى فساد هذه المزاعم البديهية البطلان، فإن السيف خير من السبحة ومتخذه لا يعد من المجاهدين إلا إذا كان جاهد أو صمم عليه إذا لم يحضره. واللبن أفضل من محروق البن، وقد أمر النبي بالمضمضة منه لا بالتلمظ ببقاياه أو بخاثره فضلاً عن الإثابة على عدم النظافة، والوقوف بين يدي الله في الصلاة أفضل العبادات، ولم يأت فيه ما ذكر من الفضل، فعسى أن ينتشل الله ذلك القطر وأهله على يدكم، وفقكم الله وهداكم لما يحبه، وإني لا أصرح باسمي في هذه المقالة، وإن كنت الآن في بمباي حيث ما لعباد عليّ إمارة، ولكني أخاف على قرابتي في حضرموت من ظلم أولئك الذين عنيت أو أتباعهم (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... مقترح من حضرموت ... ... ... ... ... بمباي في غزة جمادى الأول سنة 1329 (المنار) هذه هي نتائج الغلو في الصالحين وكراماتهم، ولا أرى في مقابلة مفاسده الكثيرة مصلحة ما. وأما ما يزعمه الدجالون المتجرون في كتبهم ببث الكرامات المخترعة من أن هذا يقوي إيمان العامة، فإن أرادوا به إيمانهم بالله وكتبه ورسله، فلا نسلم لهم ذلك، بل هو الذي أفسد على الكثيرين إيمانهم ودينهم، وإن أرادوا إيمانهم بالدجل والدجالين فهذا ما نشكو منه، ونسأل الله أن يطهر الإسلام منه سؤالاً مقترنًا بالسعي والعمل، وعلى الله المتكل.

الدعاء للسلاطين في الخطب وحكمه شرعا

الكاتب: إسماعيل حقي

_ الدعاء للسلاطين في الخطب وحكمه شرعًا ذكر العلامة المحقق الفريد شهاب الدين أحمد بن محمد الخفاجي في كتاب (طراز المجالس) ما نصه: قال الإمام الغزالي في كتابه المسمى بفاتحة العلوم: لا يحل الدعاء للسلاطين إلا بأن يقول: أصلحه الله ووفقه للخيرات، وطول عمره في طاعة الله. وأما الدعاء بطول العمر واتساع النعمة والمملكة والخطاب بالمولى، فلا رخصة فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه) ، وإن جاوز إلى الثناء وذكر ما ليس فيه، فكاذب منافق مكرّم للظالم، وهي ثلاث معاص، انتهى. وأما حكمه شرعًا، فقال أعلم الشافعية الزركشي في كتاب (أحكام المساجد) قال الشيخ أبو إسحق: لا يستحب. وسئل عنه عطاء فقال: هو محدث، وإنما الخطبة وعظ وتذكير، وقال القاضي الفارقي: يكره تركه؛ لما فيه من خوف الضرر بعقوبة السلطان، انتهى. وخالفه من المالكية ابن خلدون فقال في مقدمة تاريخه: كان الخلفاء يدعون بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والرضا عن أصحابه لأنفسهم، فلما استنابوا فيها كان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويهًا باسمه، ويدعو له بما مصلحة العالم فيه؛ لأن تلك ساعة إجابة لما قاله السلف: من كانت له دعوة صالحة فليضعها في السلطان وأول من دعا للخليفة في الخطبة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو بالبصرة عامل لعلي رضي الله عنه، فقال: اللهم انصر عليًّا واتصل العمل بذلك بعده، انتهى. ومما يدل على أنه سنة بعد اتفاق الناس على العمل به ما في الإحياء قال: لما ولي أبو موسى الأشعري البصرة، كان إذا خطب حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ يدعو لعمر، فقام إليه ضبة العنزي وقال له: أين أنت من صاحبه أتفضله عليه؟ وصنع ذلك مرارًا، فكتب إلى عمر يشكوه، فكتب إليه عمر أن أشخصه فأشخصه، فلما قدم عليه ضرب بابه فخرج، فقال له من أنت قال: ضبة العنزي، فقال له: لا مرحبًا ولا أهلاً، فقال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال، بماذا استحللت يا عمر إشخاصي بلا ذنب؟ قال ما الذي شجر بينك وبين عاملي؟ قال: الآن أخبرك أنه إذا خطب أنشأ يدعو لك، فغاظني ذلك، وقلت له: أين أنت من صاحبه، فاندفع له عمر رضي الله عنه باكيًا وهو يقول: أنت والله أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر ذنبي يغفر لك الله؟ فقال غفر الله لك يا أمير المؤمنين، فبكى وقال: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر، فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه؟ قال: نعم.. قال: أما الليلة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة مهاجرًا خرج ليلاً، فتبعه أبو بكر، وجعل يمشي مرة من أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا أبا بكر) فقال: يا رسول الله: أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك؛ لآمن عليك، فمشى صلى الله عليه وسلم على أطراف أصابعه، حتي خفيت آثاره، فلما رأى أبو بكر أنها قد خفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد، حتى أتى فم الغار فأنزله وقال له: والذي بعثك بالحق لا تدخله قبلي، فإن كان به شر نزل بي قبلك، فدخل وقال له: ولم ير به شيئًا فحمله وأدخله، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع، فألقمه أبو بكر رضي الله عنه قدمه؛ مخافة أن يخرج شيء منه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيؤذيه، فنهشته حية، فجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألمه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تحزن إن الله معنا) فأنزل الله طمأنينة السكينة على أبي بكر فهذه ليلته. وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب وقالوا نصلي ولا نزكي فأتيته؛ لئلا آلوه نصحًا، فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم، فقال: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام؟ بماذا أتألفهم؟ قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي، فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتهم عليه، فكان والله رشيد الأمر، فهذا يومه. ثم كتب إلى أبي موسى يلومه انتهى. قال الشهاب: (قلت) : وقد علم من هذا أن الدعاء للخلفاء والسلاطين بصدق وحق سنة مأثورة لا بدعة مشهورة؛ لما عرفته من فعل الصحابة من غير نكير، فلا وجه لما قاله الزركشي وغيره وقول ابن خلدون: وأول من فعله ابن عباس في خلافة علي كرم الله وجهه، ليس بصحيح أيضًا لما سمعته آنفًا، وهذا من نفائس الفوائد التي لا تجدها في غير هذه المجلة والله أعلم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل حقي (المنار) قال صاحب المهذب وغيره: إن الدعاء للسلاطين مكروه، وقال بعضهم: لا بأس به، وآخرون أنه مستحب واتفقوا على حظر المجازفة في مدحهم وصرحوا بأنه يجوز الكلام واللغط عند مدح السلاطين الجائرين، والذي وقع من بعض الصحابة هو الدعاء المجرد.

الإلحاد في المدارس العلمانية

الكاتب: محمد نجيب حفار

_ الإلحاد في المدارس العلمانية [*] حضرة العالم الفاضل اللوذعي الكامل صاحب مجلة المنار الإسلامية فضيلة السيد محمد رشيد أفندي رضا أدامه الله ركنًا ركينًا لإنارة منار الدين وكهف المستغيثين. أما بعد: سلام عليكم من الله ورحمة وبركة، إن الذي حدا بي لأن أسطر لسيادتكم هذه العجالة؛ هو أنني قد اطلعت على كلام لبعض مدرسي المدرسة العلمانية اللادينية التي صار إنشاؤها حديثًا في مدينة بيروت (الموسيو أرنولد) في جريدة الخرج عدد 74 نقلاً عن جريدة البشير، وعندما فرغت من مطالعتها تخيل لي أن الإسلام قد عاد كما بدأ غريبًا كئيبًا لا ملجأ له ولا مأوى، ولا مجير يجيره ويرد عن حوزة بيضته، إلى أن استيقظت من رقدتي، وتنبهت من غفلتي، وعلمت أن الله سبحانه يرسل في رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وكنت بحسب اعتقادي أنك هو هو في هذا الزمان؛ ولذلك بادرت لأقدم لحضرتكم ما تفوه به ذلك الضال من الطعن في الدين، وفي ذات الله تقدست ذاته من أن تصل إليه أيدي المعطلين الخائنين الكافرين؛ لتعلقوا على ذلك ما يرد أباطيله وأضاليله الكاذبة ومفترياته الخاسئة، إذ ليس مثل فضيلتك من يكبح جماح مثله، كما سبق لحضرتكم ولحضرة المرحوم الأستاذ الإمام كسر رءوس هكذا وحوش ضارية، بل الوحوش خير منهم، وهذه عبارته بنصها وحروفها. قال الخائن: (يجب تحطيم الأصنام النخرة، ولا سيما أشدها ثباتًا ونخرًا أي حقيقة الله … العقل يقودنا إلى الحقيقة، الإيمان يقودنا إلى الكذب، الكذب هو الله … أمن الممكن أن يكون الله شيئًا سوى ذلك الوعيد الذي رفعه الأحبار منذ القدم فوق رءوس الشعوب، ولم يزل في أيامنا وفي وسط الحضارة والتمدن آلة القوى الشريرة، آه! فليسقط كل إله. إن كان عناية ربانية قد اجترمت على الأرض جرائم لا تحد ولا تحصى، كي يسود الخير الاجتماعي فيما بيننا، وكي تتحرر الشعوب يجب ليس فقط هدم الكنيسة ونقضها، يجب أيضًا قتل الله!) . هذه عبارته بنصها وحروفها تمامًا، فالله أسأل أن يلهمكم ردًّا كافيًا شافيًا على هذا الخائن، وخصوصًا أن كثيرًا من المسلمين من أهالي بيروت أرسلوا أولادهم للمدرسة المذكورة؛ ليتعلموا بها اللادين، نعوذ بالله من فساد الاعتقاد والدين، والسلام عليكم. طرابلس الشام في 28 جمادى الثاني سنة 327 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم الصادق محمد نجيب حفار (المنار) ليس العجيب أن يقذف ذلك الملحد تلك الأباطيل جهرًا، فتنشر في الجرائد، ولكن العجيب أن تسمح الحكومة العثمانية بنشر الكفر الصريح في المدارس والجرائد، وهي لا تكاد تسمح في الآستانة بانتقاد أحد من أصحاب السياسة السوءى. وكل ما قاله ذلك الملحد بديهي البطلان لا يحتاج إلى الرد عليه، فهو يزعم أن الإيمان يعلم الناس الكذب والله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 105) وقول الله هو الحق الذي يصدقه العقل، فإن من لا إيمان له لا حظ له من حياته إلا التمتع بالشهوات والحظوظ العاجلة، فلا يمتنع من الكذب لأجل تحصيلها. وأما المؤمن فيمنعه من الكذب خوف العقاب في الآخرة فوق الحذر من فقد الكرامة في هذا، وإن الذين جربوا هذا التعليم في أوربة بدأوا يجنون منه الحنظل والزقوم بزيادة الجنايات والجرائم فيهم، وإننا ننقل لك ما نشر في جريدة الأخبار في العدد الذي صدر في 26 جمادى الآخرة مؤيدًا لذلك وهو: التعليم اللاديني بشرنا مكاتب من الإسكندرية في المقطم بأن نخبة من الماسون ورجال الجمعيات الأخرى، شارعون في إنشاء مدارس التعليم المطلق من كل سلطة دينية، يعلمون فيها التلاميذ على مذهب ابن رشد، ورحب بهذا المشروع وأطراه وأمل فيه خيراً عظيمًا وسأل بلدية الإسكندرية أن تساعده مساعدة فعلية مادية، فرأينا والحالة هذه أن نقول كلمة في التعليم المشار إليه نذكر فيها نتائجه في البلاد التي أقبلت عليه، ونبين حقيقته عبرة لقوم يعقلون. أقبلت فرنسا على هذا التعليم منذ سنة 1882، فلم تر منه فائدة في ترقية الأخلاق، بل دلت الإحصاءات على أن الفساد زاد كثيرًا في الأجيال التي خرجت في عهده، ولا يزال يزداد في الأحداث نوع خاص فإن عدد المجرمين الأحداث في سنة 1882كان 16000، فإذا هو 41000 سنة 1892، وكان معدل المنتحرين من الأحداث الذين يتراوح سنهم بين السادسة عشرة والواحدة والعشرين 168 في سنة 1875، فبلغ 780 في سنة 1900 وبلغ عدد الفارين من الخدمة العسكرية - وهي جريمة ضد الوطن - 25787 في سنة 1909، وكان أقل من ذلك بكثير فيما مضى، وانتشر مذهب اللاوطنية أيما انتشار. وممّا يزيد هذه الأرقام جسامة أن ازدياد الجنايات؛ لا يقابله زيادة في المواليد؛ بل نقص فيها على ما هو معلوم. والعقلاء متفقون على أن ذلك نتيجة التعليم اللاديني. قال المسيو غيليو وهو من رجال القضاء: ما من رجل صادق مهما كان مذهبه إلا يضطر إلى الإقرار؛ بأن زيادة الجرائم الهائلة بين الفتيان قد بدأت بعد ما أحدثوه في التعليم العمومي. وقال المسيو بونجان وهو قاض آخر: إن فرنسا ستهبط إلى أقصى دركات الهاوية؛ بسبب هاته الذريات المتوالية التي تفوق كل واحد منها الأخرى صلفًا وكسلاً وتمردًا. وإنما سبب كل ذلك التربية اللادينية. وقال المسيو ألار أحد زعماء الاشتراكيين في مجلس النواب مخاطبًا أعضاء المجلس: … إني أسألكم، أليست طريقة التعليم التي جئتمونا بها سببًا من أسباب الجنايات؟ ويدعم هذا الرأي الإحصاء الذي أورده المسيو غيليو قال: إن من مائة ولد يحاكمون، لا يكاد يكون اثنان من تلامذة المدارس الدينية والباقون من سواها. هذا ولما كان الشارعون في التعليم اللاديني في مصر يريدون الانتساب إلى ابن رشد، فلا نرى بدًّا من أن نبدي لهم في المقام رأي ذلك الفيلسوف نفسه في هذه المسألة. جاء في الهلال عدد 2 سنة 2 صفحة 41 في ترجمة ابن رشد، وقد قال: إنه ينبغي للإنسان في حداثته التمسك بالدين، وإنه إذا توصل إلى معرفة حقائق الدين السامية نظريًّا، فلا ينبغي أن يزدري بالمبادئ التي نشأ عليها. وسئل رينان شارح فلسفة ابن رشد في هذا العصر: كيف تصلح أخلاق الأحداث؟ فقال: إني آسف كثيرًا؛ لأن ذوي الشأن لا يهتمون بغرس مبادئ الدين في صدورهم. ورأي ابن رشد ورينان يشجب المدارس اللادينية، حتى إذا صحت دعوتها الأولى؛ وهي أنها تعلم العلوم في معزل عن الدين، فكيف وهي لا تقصد حقيقة سوى مقاومة الدين ومقاتلته، وذلك بشهادة الزعماء والأركان. قال المسيو فيفياني في مجلس النواب الفرنساوي: لقد حان الوقت لأن نجاهر بأن كلمة (الحياد) ؛ لم تكن سوى أكذوبة سياسية وخدعة، قضت بها الظروف لتسكين خواطر ذوي الضمائر الضعيفة. أما الآن فالواجب أن نكشف حقيقة مقاصدنا، ونقول: إنه لم يكن في نيتنا سوى أمر واحد؛ وهو إنشاء مدرسة تقاوم الدين بنشاط وجهاد. قال المسيو أولار رئيس جمعية التعليم العلماني: كفانا ذكرى الحياد (في الأمور الدينية) في المدارس، فلا نقول بعد الآن: إننا لا نريد دك الدين بل لنجاهر أننا نريد دكه دكًّا. وجاء في مقدمة الجزء الثاني من كتاب (التعليم الجمهوري) الذي وضعته (جمعية نشر التعليم العلماني) 1905 ما يلي: (دعونا من الله، إننا لا نريد أن نهدم الكنيسة فقط، بل نريد أن نقتل الله نفسه) (قاتلهم الله ولعنهم) . وجاء في كتاب (القوى الطبيعية) للمسيو هنري أرنول أحد أساتذة المدرسة العلمانية في بيروت ما يلي: (الله هو الكذب. اقرأ بوفون وفولتر وكوفيه وداروين نفسه تجد أن كل مرة لم يتمكن يراع أولئك المفكرين العظام من جعل حقيقة تنتشر في الكون وتسير في سبيلها، كان المانع لها الله) . هذه نتائج التعليم الذي يريد أن ينفحنا به ماسون الإسكندرية وأعوانهم، كأننا في حاجة إلى عوامل جديدة لزيادة الجنايات، وتكثير حوادث الانتحار، وبث روح اللاوطنية في هذا القطر، وهذه قواعد ذلك التعليم وغايته، ولا نعلم كيف تطلب مساعدته من حكومة ذات دين رسمي تنفق على إقامة شعائره مبالغ طائلة، وتبث الأئمة والوعاظ في البلاد مستعينة بمواعظهم على تقليل الجنايات، وتشترك بثمانية آلاف نسخة من مجلة دينية؛ رغبة في إصلاح الأخلاق، وكتابها ينادون أنها دينية قبل كل شيء، ويتحاشون ذكر اسم الجلالة في الجرائد؛ حذرًا من أن يؤدي ذلك إلى امتهانه، ويقومون ويقعدون إذا فكرت بلدية الإسكندرية بإقامة تمثال لشاعر أهان نبيهم، ألا يرى الكاتب أن هذه الحكومة إذا أجابت طلبه تقع في التناقض؛ إذ أنها مخطئة: إما في تعزيز الدين وإما في المساعدة على مقاومته، وإن طلب المساعدة من مثل هذه الحكومة لمثل هذه الغاية منتهى السذاجة أو غاية الوقاحة. اهـ. (المنار) سبق لنا كلام في انتشار الإلحاد في فرنسة، وأنها ستكون أول دول أوربة هلاكًا إذا لم تتدارك ذلك، وما كنا سمعنا عن أحد من عقلائها كلامًا في ذلك؛ كالذي ترجمته لنا جريدة الأخبار، وما دعا الحكومة الفرنسية إلى هذا إلا خوفها على جمهوريتها؛ لأن جميع رجال الدين فيها يعتقدون وجوب الحكومة الملكية، فما جاءتها هذه الفتنة إلا من السياسة الملعونة، ومن العجائب أن ما حاولته فرنسة ولم تتجرأ على التصريح به إلا بعد عشرات السنين من السعي له، ينفذ في بلادنا بعد الدستور فجأة، ويعلن إعلانًا، وما نسبة ماسون الإسكندرية هذا النوع من التعليم إلى ابن رشد إلا غش وخداع، وإن لنا لعودة إلى هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (مجموعة الرسائل) أهدانا الشيخ محيي الدين صبري الكردي الكانيمشكاني أكثر من ثلاثين رسالة، انتقاها وطبعها في مجموعة بلغت صفحاتها 633 صفحة، من قطع رسالة التوحيد، وأكثر هذه الرسائل لابن سينا الفيلسوف وللغزالي ولمحيي الدين بن عربي وباقيها لبعض المشهورين مثلهم كابن تيمية والسيد الجرجاني والفخر الرازي وغيرهم، وهي في الفلسفة والأخلاق والآداب والعقائد والتصوف، منها أصول الكلام للرازي والرسالة البعلبكية لابن تيمية، وهي التي يثبت فيها أن القرآن كلام الله ليس للنبي ولا لجبريل ولا غيرهما شيء منه، وإن القارئ كثيرًا ما يجد في رسائل أمثال هؤلاء العلماء الأعلام ما لا يجده في كتبهم الكبيرة من التحقيق والفائدة، وقد تصفحت كثيرًا من رسائل هذه المجموعة، فرأيتها مفيدة للجمهور إلا بعض رسائل ابن عربي. منها: كتاب المؤمل، للرد إلى الأمر الأول: هذا الكتاب الوجيز لعبد الرحمن المشهور بابن أبي شامة الفقيه الشافعي المتوفى سنة 665، وهو مختصر في رسالة جعلت أول هذه الرسائل في المجموعة، وإنما أخرت ذكره للتنويه بأهم وأنفس مسائله وفوائده؛ وهي مسألة الاجتهاد والتقليد المقصودة بالذات منه، فهو يريد بالرد إلى الأمر الأول رد الدين إلى الكتاب والسنة، وقد بدأ كلامه بذكر ضعف العلم في زمنه واندراسه، وبمدح الله ورسوله للعلم وأهله، ثم بذكر الأئمة المجتهدين الذين نشروا علوم الاجتهاد في جميع الآفاق من شرعية ولغوية، قال: وهم في ذلك متفاضون، فمنهم المحكم لعلم الكتاب، ومنهم القائم بأمر السنة، ومنهم المبرز في العربية، ومنهم الممعن في استنباط الأحكام، وقل من اجتمع فيه القيام بجميع ذلك، فكان من أجمعهم وأقومهم به إمامنا أبو عبد الله القرشي الطلبي الشافعي رضي الله عنه، وذكر جملة صالحة من فضائله وما قاله علماء عصره فيه، ثم تكلم في صفة العلماء وفائدة علم الدين، وانتقل من ذلك إلى الاجتهاد واستنباط الأحكام، وجعل ذلك خاصًّا بالحكام وهذا هو الذي كنا حققناه في (محاورات المصلح والمقلد) ثم عقد فصولاً لبحث الاجتهاد والتقليد، نقلنا بعضها في غير هذا الموضع من هذا الجزء، تحت عنوان (بحث الاجتهاد والتقليد) . *** (كتاب الصاحبي في فقه اللغة العربية، وسنن العرب في كلامها) هذا الكتاب من تصنيف الشيخ أبي الحسين أحمد (ابن فارس) أحد أئمة اللغة المشهورين المتوفى في القرن الرابع، وسمّاه الصاحبي نسبة إلى الصاحب ابن عباد الوزير، واسم هذا الكتاب يدل على موضوعه، وهو بمعنى ما يعبرون عنه اليوم بفلسفة اللغة. من مباحث الكتاب: هل اللغة العربية توقيف أو اصطلاح؟ ، وبحث كون اللغات لا تجيء جملة واحدة في زمن واحد، وبحث الخط، وعلم العربية وفنونها، وفضلها وسعتها، والقرآن وإعجازه واستحالة ترجمته، وخصائص اللغة العربية في القلب والاختلاس والإدغام والحذف والإضمار والترادف. واختلاف لغات العرب في الهمز والتليين والتقديم والتأخير.. وفصاحة قريش وما يعاب من لغات العرب، وما لا تتكلم به إلا للضرورة، والقبائل التي نزل القرآن بلغاتها، وبحث القياس في العربية. ومنها الكلام في مراتب الكلام في وضوحه وإشكاله ومصادر الإشكال، وآداب اللغة العربية قبل الإسلام وبعده، والاصطلاحات الدينية فيها، ومنها أقسام الكلام وحدود الأسماء والأفعال والحروف وأجناسها وأقسامها، وفي هذه الأبواب مسائل مهمة كوضع الأسماء للمجاورة، والسبب وكيفية وقوعها على المسميات، والمشترك والترادف، ومنها الكلام على حروف المعاني بالتفصيل، وعلى حروف المعجم وما يزاد في الأسماء والأفعال منها. وأهم من هذه المباحث اللفظية ما جاء أبواب معاني الكلام؛ من مباحث الخبر والاستخبار، والأمر والنهي والدعاء، والطلب والعرض والتحضيض، والتمني والتعجب، والخطاب على اختلاف المخاطبين في الذكورة والأنوثة والعدد، وما خالف الأصل في ذلك، ومباحث العدد والجمع والتثنية، وطرق الإفهام والفهم، والمعنى والتفسير والتأويل، والمطلق والمقيد، والحقيقة والمجاز، والاتفاق والافتراق، والقلب والإبدال، والاستعارة والحذف، والاختصار والزيادة والتكرار، والعموم والخصوص، وإضافة الفعل إلى غير الفاعل في الحقيقة، وتحويل الخطاب من الشاهد إلى الغائب والعكس. ومن مباحث الكتاب الممتعة: مباحث معاني أبنية الأفعال وأسماء الصفات، ومبحث التوهم والإيهام، والقبض والمحاذاة، وإضمار الأسماء والأفعال والحروف والتعويض أي إقامة كلمة مقام أخرى تكون عوضاً عنها لنكتة. وأعلى من ذلك كله ما عقده من الأبواب لنظم القرآن، وذكر منه عدة نظوم، وكذلك أبواب الإضافة والتقديم والتأخير والاعتراض والإيماء، وتنزيل بعض المخلوقات منزلة بني آدم في التعبير عنها بضمير العقلاء، ومباحث التهكم والهزء والكف أو الاكتفاء والإعارة، وباب أفعل في غير التفضيل، والشرط والكناية والاستطراد والاتباع والنحت والإشباع والتأكيد، وغير ذلك. ما ضعفت اللغة فينا إلا بتركنا مدارسة أمثال هذه الكتب التي تبين لنا سنن العرب في كلامها؛ بالشواهد والأمثلة في أمثال هذه الأبواب التي ذكرناها، واقتصارنا على درس قواعد النحو والصرف والبيان بالأسلوب الفني الضعيف، مع قلة الشواهد وعدم بيان طرق الاستعمال، ويا حبذا لو قرر تدريس هذا الكتاب في الأزهر ومدرستي القضاء الشرعي ودار العلوم، وينبغي أن يطالعه الأدباء والكتاب ولا سيما المصنفين ومحرري الجرائد، وأن يستعين به مدرسو أدب اللغة وتاريخها على دروسهم، والكتاب يطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز وثمنه سبعة قروش صحيحة. *** (السعادة والسلام) كتاب في الأخلاق وفلسفة الآداب، وبيان سعادة الحياة، من تأليف حكيم غربي ذاق لذة العلم والحكمة، وأمير إنكليزي ذاق جميع لذات الدنيا، فهو جدير بصحة الحكم في مثل هذا الأمر، هذا المؤلف هو (لورد أفبري) صاحب الكتب المتعددة فيما يقارب معنى هذا الكتاب؛ (منها معنى الحياة، ومسرات الحياة، ومحاسن الطبيعة) وقد ترجم كتابه هذا بالعربية وديع أفندي البستاني فأحسن الاختيار، وقدمه للناشئتين المصرية والسورية بعبارة جميلة قال: (إليكم إخواني في الشبيبة حديثًا فلسفيًّا شعريًّا الحياة وسعادتها وسلامها، وسائر أحوال أيامها وأعوامها، يبسطه شيخ جليل، وعالم كبير، قطع من مراحل الحياة ما لم تقطع، واختبر فيها مال لم نختبر، حديثًا موجهًا للعقل والقلب والنفس جميعا) . عبارة المؤلف في الترجمة فيها سلاسة وسهولة، تشوبها أغلاط أكثرها في الأسلوب والتركيب؛ وسببها فيما يظهر قراءة الكتب المسيحية وما كتب على أسلوبها. بل رأيت فيه من ضروب الخطأ والضعف في التعبير ما لم أر مثله في غيره كقوله في ص8: (لكانت هي الحياة محتملة لولا ملاهيها (وصواب التركيب) لولا ملاهي الحياة لكانت كذا) وانظر هل كلمة محتملة ههنا واقعة في محلها؟ ومن الشواهد على ما ذكرنا قوله في ص3: (ونظريًّا إن لم يكن الجميع فالسواد الأعظم متفقون على أن السعادة والطمأنينة من أعظم البركات، أما فعليًّا فكثير من يبيعهما مغبونًا) ... إلخ، وكان ينبغي أن يقول: السواد الأعظم في الناس - إن لم يكونوا كلهم - متفقون) اتفاقًا (نظريًّا على كذا) أو يقول: جل الناس أو كلهم متفقون نظريًا على كذا؛ ولكن كثيرًا منهم يبيعها بالفعل مغبونًا ... إلخ ومنها قوله: (وحتى أعلم العلماء والأطباء قليل ما يعلمون عما في أجسامنا، ومنها قوله عقب هذه الجملة) ، وهو من المقرر المسلم به أنه إذا تكلمنا أو قرأنا أو تفكرنا ... إلخ، وكان الصواب أن يقول: ومن المقرر المسلم أننا إذا تكلمنا أو قرأنا أو تفكرنا ... إلخ. والكتاب يطلب من مكتبتي المنار والمعارف. *** (كتاب زراعة القطن ومقاومة آفاته وتحسين أنواعه) إن القطر المصري يعد من أغنى الأقطار بزراعته، ولا يزال أهل العلم والعمل يبحثون في وسائل زيادة إتقانه ومقاومة آفاته، وينشرون في ذلك الفصول والمقالات والرسائل والكتب، ومن أحسن ما كتب في ذلك وأنفعه هذا الكتاب الذي ترى عنوانه في أول هذه السطور؛ وهو من تأليف أحمد أفندي الألفي أحد الموظفين في مزارع الأمير عمر باشا طوسون، قال المؤلف: جريت منذ اشتغلت بالفلاحة على كتابة مشاهداتي فيها ومطالعاتي عنها في مذكرات، كنت أنتهز الفرص لتهذيبها واستخلاصها؛ كمؤلف في الزراعة العملية على الأصول الحديثة. (وهذا كتاب القطن قسم من ذلك، أودعت فيه أفضل ما يعرف إلى الآن عن زراعته ومقاومة آفاته وتحسين أنواعه، وأثبت ضمنه تقرير لجنة القطن الأخير لمكانه من الأهمية والفائدة) . (وإني لأرجو أن يكون كتابي هذا خير تذكرة للزارع المستنير، وأفضل مرشد للفلاح المستفيد، فقد استقصيت في اجتناء الفوائد، والتقاط الفرائد، وإيداعها فيه إيداعا مهذبًا عن تجربة واختبار، وبحث واستبصار) . ومن المزايا التي كان بها هذا الكتاب من أحسن الكتب في موضوعه سهولة عبارته، بحيث يسهل على الفلاحين أن يستفيدوا منه ما لا يستفيدون من غيره، وثمن النسخة منه ثمانية قروش، ويطلب من مكتبة المنار. *** (كتاب منتخبات البيان والتبيين) كتاب البيان والتبيين للجاحظ هو أحد دواوين الأدب التي كانت عمدة العلماء والأدباء؛ في تحصيل ملكة البلاغة وصناعة الإنشاء منذ القرن الثالث الذي ألف فيه الكتاب، إلى أن نزل قضاء الله تعالى بهذه اللغة وعلومها وآدابها بعد زوال الدولة العربية، فصارت الكتب النافعة الممتعة تهجر رويدًا رويدًا وتؤثر عليها كتب الأعجمين المعقدة، ولما انتعشت هذه اللغة الشريفة بعض الانتعاش في هذا العصر، طفق الناس يبحثون عن تلك الكتب المهجورة، ويصلون حبلهم بحبلها، فطبع كتاب البيان والتبيين منذ سنين، ولكن طبعًا غير جيد ولا مصحح، وطبع في هذا العام منتخباته في رسالة صغيرة تناهز جزءًا من أجزاء المنار، فيها من غرر الكلام وعقائله ما يصدق عليه قول الشاعر: تزين معانيه ألفاظه ... وألفاظه زائنات المعاني فأحث طلاب الإنشاء ومحبي الحكمة والأدب أن يقرءوا هذه المنتخبات المرة بعد المرة مع التأمل في معانيها، والتفطن لأساليبها ومناحيها، وتوطين النفس على احتذاء مثالها. وهي تطلب من مكتبة المنار. *** (ابن تيمية) كتب الشيخ رضاء الدين أفندي محرر مجلة (شورا) التي تصدر بلغة التتر في أرنبورغ من روسية ترجمة حافلة لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية، وطبعها في كتاب على حدته، فنحث أهل اللغة على قراءتها؛ لما نعلم من حسن اختيار الكاتب لما ينفع الناس. *** (الدعوة إلى الإصلاح) قد عرف قراء المنار من قبل اسم الشيخ محمد بن الخضر المدرس في جامع الزيتونة، وفي المدرسة الصادقية بتونس، وعرفوا أنه من العلماء المصلحين بما كتبناه عن مسامرته (الحرية في الإسلام) بين فيها وجه الحاجة إلى الدعوة، والدعوة في نظر الإسلام، وشرائط الدعوة والإخلاص فيها وآدابها، وآثار السكوت عنها، والإذن في السكوت وأسباب إهمالها، وما يدعى إلى إصلاحه. وقد بحث في هذه الفصول كلها بحث البصير المستقل، فنسأل الله أن ينفع به ويكثر في تلك البلاد وغيرها من أمثاله، ولعلنا ننقل بعض فصول رسالته في جزء آخر. *** (صحف جديدة) (مجلة الطلبة المصريين) أنشأ هذه المجلة إبراهيم صبحي أفندي أحد الطلبة الأذكياء منذ ثلاث

فقيد مصر مصطفى رياض باشا ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فقيد مصر مصطفى رياض باشا (2) قلنا: إن رياض باشا فاق الأقران، وكان من نوابغ الزمان، بفطرته الزكية، وأخلاقه الشريفة، وإن من تلك الأخلاق والسجايا الاستقلال في الرأي والعمل، والابتكار والتصدي للإصلاح ... إلخ. كان هذا الرجل يعمل في عهد إسماعيل باشا وما قبله ما يمكنه أن يعمله من الإصلاح ومنع الظلم، حتى كان يعرض نفسه للخطر وينقذه الله تعالى منه بإخلاصه، واعتقاد أميره أنه لا يستغني عن مثله في حكومته، وقد جمع إسماعيل مرة كبار رجاله واستشارهم في وضع ضريبة جديدة فوق تلك الضرائب الكثيرة، فما منهم إلا من أظهر الاستحسان وأبدى رأيه في كيفية وضعها وطريق تنفيذها، إلا رياض باشا فإنه ظل ساكتًا حتى سأله إسماعيل لم لم يتكلم؟ فقال: إن عندي كذا فدانًا عليها من الضرائب كذا، وهو يزيد عن غلتها بقدر كذا، فأدفع هذه الزيادة من راتبي، فالذي أراه أن حال الأهالي لا تحتمل أكثر مما عليهم، ولما أمرهم الأمير بالانصراف طفق بعض الباشوات يلكزون رياضًا قبل أن يبرحوا الباب، ويقولون: ما لك تعرض نفسك للهلاك؟ فقال لهم بصوت جهوري: إنني أرضى أن أعرض نفسي للهلاك ولا أعرض أهل البلاد كلهم له، وله وقائع متعددة من هذا القبيل؛ ولذلك قال لورد كرومر: إنه هو الذي تجرأ على تعليق الجُلجُل في عنق الهرّ، يشير بهذا إلى المثل العربي الذي نظمه (لافوتين) الإفرنجي فيما نظمه من الحكم والأمثال؛ ولما عز على فقيد مصر العمل بالاستقلال في آخر عهد إسماعيل، وتعذر عليه الاتفاق معه، هاجر من مصر إلى أوربة، وعزم على الإقامة فيها طول حياته أو تتغير الحال، ولم يعد منها إلا بعد سقوط إسماعيل، وطلب توفيق باشا له ليتولى رياسة حكومته الجديدة. سقط إسماعيل باشا عن عرشه والبلاد على شفا جرف هار مما برّح بها الظلم وما نشأ عنه من الفقر والذل، والغرق في الدَّين بأخذهم المال من الأوربيين بالربا الفاحش أضعافًا مضاعفة، فأراد توفيق باشا أن يري البلاد عصرًا جديدًا فوسد الأمر إلى رياض باشا؛ لعلمه بأنه رجل الهمة والإقدام والرغبة الصادقة في الإصلاح. قال الأستاذ الإمام فيما كتبه من أسباب الثورة العرابية في سياق ذكر وزارة الفقيد وتأثيرها في البلاد ما نصه: حفظ رياض باشا لنفسه إلى رياسة النظارة نظارة الداخلية أصالة ونظارة المالية نيابة مؤقتة، كان ولا يزال رياض باشا يألف إدارة الأمور الداخلية؛ لعلمه أنها روح السلطة الحقيقية في الحكومة، وهي التي تشرف على أحوال الأهالي مباشرة وتتصل بأهم شؤونهم، فيهمه أن يكون هو الآخذ بزمام تلك الإدارة؛ اعتقادًا منه أن ذلك يمكنه من أن يعمل بنفسه ما هو خير للعامة. أما نظارة المالية فقد استضمها إلى وظائفه موقتًا؛ لأن المشاكل المالية هي التي كانت أهم شيء يستدعي دقة الفكر وشدة الالتفات، فأراد أن يكون المباشر لجميع المخابرات التي تحصل فيها خصوصًا وله بها إلمام سابق؛ لأنه كان النائب عن الحكومة في لجنة التفتيش العليا. قبض رياض باشا على إدارة الداخلية بيد شديدة وعزم ثابت. وأول شيء توجهت عزيمته إلى محوه بسرعة تامة التسخير الشخصي. ربما يسأل سائل ما هي السخرة الشخصية: التسخير في البلاد المصرية كان على نوعين: التسخير باسم المنفعة العامة؛ وهو إلزام الأهالي بالعمل مجانًا بلا أجر فيما لا بد منه لمصالح العامة؛ كإقامة الجسور على الأنهار العظيمة، وحفر الجداول الكبيرة التي تستمد المياه منها بلاد كثيرة، وتشييد كل بناء يقام بأمر الحكومة. والنوع الثاني هو إلزام الأعلياء لمن دونهم بالعمل في منافعهم الخاصة بدون أجرة، ويسومونهم مع ذلك آلام الضرب والإهانة إن لم يؤدوا ما فرضوه عليهم من تلك الأعمال الخاصة، أو أدوه وقصروا في تطبيقه على ما في نفس وكلاء أولئك الأعلياء، أو أتوا به كما ينبغي وكما يريد الوكلاء، ولكن كان الوكيل أو الناظر أو الخولي يشتهي أن يضرب لمجرد التلذذ بالضرب، ولا يستثنى من ذلك موظف إلا أن يكون في نهاية العجز الطبيعي، بحيث لا يستطيع أن ينطق بكلمة (أرميه) [1] أو أن يحرك الكرباج بيده. (كان كل ذات من الذوات الفخام له بلاد تتعلق به، يستخدم سكانها في أراضيه بأشخاصهم وماشيتهم في جميع مواسم الزراعة، على شريطة أن يحمل العاملون أزوادهم وأقواتهم وأدوات العمل وغذاء ماشيتهم من ديارهم إذا كانت البلاد قريبة، فإن كانت بعيدة سمح لهم بغذاء الماشية فقط دون غذاء الآدميين. ولكن لا يسمح لهم بأماكن تقي من البرد والمطر أيام الشتاء تبيت فيها العملة الذين يعملون له مجانًا، بل كانوا يبيتون كراديس في (الدوار) تحت السماء، كما لا يسمح بمستظل يقيهم الحر أيام الصيف، فالقر يقتلهم شتاء والحر يذيبهم صيفًا، والذوات الكريمة تجني ثمار أعمال الموتى وتتلذذ بما تطعم من أيديهم. وهكذا كان يصنع أصاغر موظفي الحكومة وعمد البلاد كل على حسب اقتداره في التسخير؛ العالي يسخر من دونه إلى أن ينتهي كل استعباد وتذليل إلى أدنى طبقة من الشعب. ولا أريد بيان ما في هذه الحال من الأضرار المادية والعقلية والأدبية، فكل من استحق أن يسمى إنسانًا يعلم أنها كانت ضربة قاضية على الحياة الوطنية والوجود الملي، وقاتلة للشعور بالاستقلال الإداري الخاص بالنوع الإنساني، وزد على ذلك أنها ما كانت تدع للفلاح وقتًا يعمل فيه بأرضه، فكانت أوقاته موزعة بين السخرة العمومية والسخرة الخصوصية، فأوقات عمله لنفسه كانت خلسات بين هذه الأوقات، فكيف كان يعيش؟ لا أدري كيف بقي الفلاح حيًّا مع هذا، لولا ما عرف من صبر المصريين على أن يعيشوا؟ ساعد رياض باشا على محو هذه الجريمة ما كان يظهر من ميل الجناب الخديوي إلى العدل والتعفف عن دنيء الكسب؛ فلذلك شدد ناظر الداخلية في أوامره إلى المديرين وسائر المأمورين أن لا يأتوا عملاً من ذلك، وأن لا يسمحوا لغيرهم أن يأتيه، وأظهر من الشدة في ذلك ما أخاف رجال الحكومة وغيرهم، فأخذ على أيديهم وأيدي الذوات، بل وعلى أيدي الأغلب من عمد البلاد، وفي مدة قريبة لم يبق أثر للتسخير الشخصي إلا في بعض الأطراف على طريق الخفية والكتمان ونوع من الشفقة؛ خوفًا من الحاكم القوي، وبالغ رياض باشا في ذلك حتى أنه آخذ مدير القليوبية مرة في إرسال بعض أشخاص من أهاليها؛ لحفر الترعة التوفيقية التي تصل إلى أراضي القبة لأنها خاصة بالخديو، ووبخ المدير توبيخًا شديدًا، وعرض الأمر على الخديو فاستحسنه، ولكن لم يذهب بلا أثر في نفسه، فإن المبالغة في العدالة إلى هذا الحد مما لا يلتئم مع السلطة العليا في مصر مهما كانت منزلة الحاكم من الكمال. فانظر ماذا يكون في نفوس أكابر رجال الحكومة السابقين، بل والحاليين من رياض باشا بعد حرمانهم من منافع أبدان الرعية بغتة بلا تدريج؟ وبعد ذلك شرع رياش باشا في إجراء ما كانت أشارت به لجنة التفتيش العليا (من الأجانب) من إبدال نظام السخرة بنظام آخر أضمن للعدل؛ في توزيع ما يلزم للأعمال اليومية من منفعة أو عمل على المنتفعين بها، وجمع لذلك كثيرًا من الأعيان للاستعانة برأيهم، ولكون الأمر غريبًا على أذهانهم لم يهتدوا فيه إلى وجهة الصواب فانصرفوا، ووضعت الحكومة نظامًا حسبما هداها إليه رأيها، يقضي بالتخيير بين دفع بدل نقدي وبين القيام بالعمل البدني، وأخذ في تنفيذه ولكن حالت دونه صعوبات كثيرة، فمن الأغنياء من دفع البدل عن رجاله، ثم أكرهوا بعد ذلك على العمل بأبدانهم، ومن الناس من أراد دفع البدل النقدي، فلم يقبل منه وألزم بأن يعمل بنفسه؛ وذلك لعدم التعود على إيفاء الأعمال بطريقة المقاولات، ومع ذلك فقد خف الويل بهذا النظام عن كثير من الفلاحين، وشعروا بأن أوقاتهم ملك لهم، ولكن كانوا يظنون أن أبدانهم وأزمان حياتهم وهبت لهم من جانب ملاكها وما كان يخطر ببالهم أنها كانت مسلوبة منهم ثم ردت إليهم؛ ولذلك كنت تراهم يتعجبون، وينقلون أخبار هذه القصة بالدهشة والاستغراب، كأنه قد رسخ في نفوسهم أن ليس من شأن الحاكم أن يعدل، فإن طبيعة الحكم تقضي بالظلم. وهنا أورد حادثة تدل على شدة حرص رياض باشا في ذلك الوقت على أن تكون أعمال الفلاحين منحصرة فيما يعود عليهم بالمنفعة العامة والخاصة: هطل مطر غزير نشأ عنه سيل جرف جانبًا من جسر سكة حديد من خط السويس، فكتبت مصلحة سكة الحديد العمومية إلى مدير الشرقية وكان فريد باشا، تستنهض همته في إرسال مئتي شخص لإصلاح الجسر، فأمر المدير بإرسال العدد المطلوب في الحال وأصلح الجسر، ولم تأت مصلحة سكة الحديد ولم يفعل المدير إلا بعض ما هو معهود في البلاد، وما لم يكن يعده الأهالي شيئًا نكرًا، خصوصًا وقد كان الناس يفهمون أن أعمال السكك الحديدية من الأعمال العمومية، فلما بلغ الخبر رياض باشا استدعى أولاً فريد باشا وعنفه أشد التعنيف مع ما هو معلوم بينهما من المحبة وشدة القرابة، ولم يكتف بذلك، بل أمر بكتابة منشور عمومي لجميع المديرين، فكتب المنشور عدة مرات، وكلما قرأه لم يجده وافيًا بغرضه؛ لعدم تعود الكتاب على التنويه بشأن الأهالي إلى الدرجة المطلوبة له فيمزقه , وآخر الأمر دعاني لتحرير ذلك المنشور فكتبته وذكرت فيه الحادثة، وأتذكر منه هذه الفقرة: (وليعلم المديرون والأهالي جميعًا أن الأهالي ليسوا عبيدًا لأحد، ولا لأحد عليهم سلطان إلا فيما يتعلق بمنافعهم عامة أو خاصة) وهذا تصريح من رئيس الحكومة النائب عن الجناب الخديوي بإعتاق الأهالي من عبودية التسخير، بل من العبودية للحاكم على وجه الإطلاق، وهذا مما لم يعهد له مثل من قبل. اهـ المراد هنا. (المنار) هذا ما كتبه الأستاذ الإمام في إبطال رياض باشا للسخرة، وفيه ما ترى من الفائدة التاريخية والعبرة. وسنذكر في النبذة التالية ما كتبه من أعماله الإصلاحية الأخرى؛ كتوزيع مياه النيل بالقسط لري الأرض ومساواته فيها بين الرؤساء والفلاحين، وإلغاء الضرائب الكثيرة، وإبطاله استعمال الكرباج، ومنعه الحبس لتحصيل الحقوق الأميرية والشخصية، وغير ذلك من أعماله الجليلة. ((يتبع بمقال تالٍ))

سوء التفاهم بيننا وبين أصحاب مجلة دين ومعشيت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سوء التفاهم بيننا وبين أصحاب مجلة دين ومعيشت تكلمت مجلة دين ومعيشت فيما رددنا به عليها في الجزء الرابع، وقالت إنه ليس ردًّا عليها، بل على ذلك التتري الذي ترجم لنا عبارتها ترجمة غير صحيحة، وجزمت بأنه كان متعمدًا لذلك وساعيًا بالفساد، وكان لها أن تلتمس له عذرًا بضعفه في الكتابة العربية، وقالت: إن تذييلها ما كانت نقلته عن الجزء الأول من المنار، لم يكن للتردد في صدقه ولا للرغبة في تكذيب طلعت بك لأقوال المنار، (بل كان هذا ليتأكد صدق المنار، فإن غاية ما تمنيناه هي بعينها ما يتمناه صاحب المنار في هذه المسألة، فلهذا لما طالعنا ما رده صاحب المنار وأنه غير موجه إلينا، واطلعنا على بشارته بقرار طلاب الإصلاح المقاومين لأولئك الزعماء بإبطال المحافل الماسونية من عاصمة الآستانة، انشرحت صدورنا وانكشفت همومنا شرحًا وكشفًا لا نقدر قدره، وهذه البشارة لا تعد لها ولا تكافئها الدنيا وما فيها فلله الحمد وله المنة) . ثم قالت: وأما نحن أصحاب مجلة دين ومعيشت بحمد الله تعالى مسلمون، ولسنا بكاهنين ولا متكهنين، فإن الكاهن عدو الله وكافر بالإجماع، فكيف المتكهن؟ (فبإقرار منا على فضيلة صاحب مجلة المنار، لا نلتزم الاتباع له في كل ما كتبه وبسطه، فإن كان هو حقًّا في اعتقادنا، ووافق لما سبلناه وسلكناه كما هو في مسألة التياترو صدقناه واتبعناه، وإن كان غير ذلك كما في مسألة الحجاب رددناه أو سكتنا، وهذه سنة الله في الذين خلوا من قبل) . المنار: إن الخلاف يقع بين الناس بسوء الفهم أكثر مما يقع بسوء القصد، ولو كنا نكتب نحن وأصحاب هذه المجلة بلغة واحدة لسهل الاتفاق بيننا مع حسن النية في كل شيء. وإني رأيت في عبارتهم العربية ضعفًّا، فأخشى أن خلافهم للمنار في بعض المسائل جاء من ذلك. مثال ذلك أنهم ههنا جزموا بأن المتكهن أجدر من الكاهن بالإجماع على كفره، وهم يشيرون بهذا إلى قولنا: إن مجلتهم (تكهنت في استنباط الباعث) على ما كتبناه. قال في الأساس: (وتكهن قال ما يشبه قول الكهنة) وبهذا المعنى يستعمل هذا اللفظ في مصر وغيرها من البلاد العربية، ومن قال ما يشبه قول الكهنة في الأخبار عما لا يقوم عليه دليل ظاهر؛ كالكلام عن نية إنسان أو مقصده لا يكون كاهنًا ولا يكون حكمه حكم الكاهن (ولا نبحث هنا في حكمه) فهل يصح أن يكون أولى من الكاهن فيما يحكم به عليه؟ لا. لا يبعد أن يكون فهمهم لما قلناه في مسألة الحجاب كفهمهم لهذه الكلمة، وإننا لا نطالبهم باتباع المنار في شيء قط بل باتباع الحق إذا ظهر دليله، سواء وافق ما كانوا عليه من قبل أم لا؛ فإن الحق أحق أن يتبع. وفقنا الله وإياهم لاتباعه في كُلِّ حَالٍ وَكُلِّ آنٍ. وأما سرور أصحاب هذه المجلة من قيام صادق بك ومن معه لإصلاح ما أفسده غيرهم، فيشاركهم فيه أكثر العثمانيين وجميع المسلمين الذين يغارون على هذه الدولة لأنها إسلامية، ولا يرضون أن يكون سلطانها (إمبراطورًا) لا (خليفة) ولا ندري أيتم السرور أم لا، فإن أولئك الزعماء يجمعون أمرهم الآن ليستعيدوا نفوذهم. وقد وصلوا بالدولة إلى حيث صارت أوربة تنذرها بالقضاء عليها، ونسأل الله السلامة وحسن العاقبة.

جمعية الاتحاد ومشروع العلم والارشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية الاتحاد ومشروع العلم والإرشاد علم المركز العمومي لجمعية الاتحاد والترقي أن مسلمي الآستانة ساخطون على الجمعية؛ لمنعها تنفيذ مشروع العلم والإرشاد فيها، وكذا غيرهم، فأرسل إلى جميع أندية الجمعية بلاغًا يعتذر فيه عن ذلك؛ مدعيًا أنه كان عين مندوبين من أعضاء الجمعية في الآستانة؛ ليبحثوا مع صاحب المشروع في حقيقته، وهذان المندوبان كتبا إلى المركز العمومي بأن رأيهما عدم تنفيذ المشروع لأسباب تتعلق بشخص مقترحه. سخر المركز من أنديته وغشها بهذا البلاغ، والحق أن الجمعية لم تنفذ المشروع لأمرين: (أحدهما) أن من أصوله أن يكون تعليم المرشدين باللغة العربية ويعلمون التركية إلزامًا. (وثانيهما) أن مقصده حياة الدين بمعزل عن السياسة، وإلا فإن جمعية المشروع قد تأسست، والمقترح قد ترك الآستانة يائسًا من العمل، فلينفذوا المشروع بأنفسهم إن كانوا صادقين.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من الإسكندرية (س 42 44) من صاحب الإمضاء. حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا دام بقاه السلام عليكم، أرجوكم إجابتي عن الأسئلة الآتية: 1 - ما معنى الباقيات الصالحات في قوله تعالى: {المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (الكهف: 46) . 2 - هل يجوز إعطاء جماعة الدعوة والإرشاد من مال الزكاة؛ ليضعوه في مشروعهم الخاص بالمسلمين، فإن جاز، فهل يجوز نقلها لهم لمحلهم، ولو كان أبعد من مسافة القصر كَمِن الإسكندرية لمصر. 3 - ما معنى الدنيا والآخرة وحرثهما في الآيات، وما ماثلها {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (الشورى: 20) {مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (هود: 15-16) فهل الذي يعمل للدنيا يبعد عن الآخرة ويقرب من عذابها؟ وما هو العمل الخاص بالآخرة. أفيدونا ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ميلاد (الباقيات الصالحات) أما الجواب عن السؤال الأول فهو أن الباقيات الصالحات هي الأعمال التي تصلح بها النفس وتتزكى، حتى تكون أهلاً لدار الكرامة في الآخرة، سميت باقيات؛ لأن أثرها يبقى في نفس عاملها بما تطبع فيها من الملكات الفاضلة والصفات الجميلة التي يترتب عليها الجزاء بالحسنى في الآخرة، وذكرت في مقابلة المال والبنين اللذين كان المشركون يفاخرون بهما فقراء المسلمين من السابقين الأولين كعمار وصهيب، ويظنون أنهم ينالون بهما سعادة الآخرة، كما حكى الله عنهم غرورهم بهما في قوله: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سبأ: 35) . *** (إعطاء مال الزكاة لجماعة الدعوة والإرشاد) وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو القول بجواز إعطاء جماعة الدعوة والإرشاد من مال الزكاة؛ لأنها تنفق هذا المال في مصارفه الشرعية؛ لأنها تعلم طائفة من الفقراء والمساكين وتربيهم وتنفق عليهم، ومن هذه المصارف ما فرضه الله تعالى لصنف المؤلفة قلوبهم وهذه الجماعة، هي الجديرة بمعرفة هذا الصنف والاستعانة بمال الزكاة على تأليف أفراده؛ ليتمكن الإيمان من قلوبهم بتصديها للدعوة إلى الإسلام. وقد اختلف الفقهاء في جواز نقل الزكاة من بلد إلى بلد آخر، فمنعه بعضهم؛ واستدلوا بحديث معاذ عند الشيخين؛ إذ أمره عندما أرسله إلى اليمن أن يأخذها من أغنيائهم ويضعها في فقرائهم، وما في معناه. وأجازه آخرون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرسل عماله، فيأتون بالزكاة من الأعراب إلى المدينة، فينفق منها على فقراء المهاجرين والأنصار، وهذا معروف مشهور، وحديث معاذ وغيره ليس فيه ما يدل على منع النقل، ولكنه قد يدل على أنه خلاف الأصل؛ إذ النقل لا يكون إلا لسبب أو مصلحة، وهذا هو المختار عندي في المسألة. تظهر حكمة الشرع ظهورًا بينًا في قيام أغنياء كل بلد بسد ضرورات وحاجات الفقراء والمساكين فيها، فإن البائس المعوز الذي تراه هو أولى برحمتك ورعايتك ممن تسمع ببؤسه وإعوازه على البعد، وأجدر أن تحول بينه وبين حسده لك على ما يرى من نعمتك، وتمني زوالها عنك، وإنما يكون ذلك بأن تفيض عليه منها، وتجعل له نصيبًا فيها، والبلاد المجاورة لبلدك التي تعرف فقراءها أو يعرفونك حكمها حكم بلدك، وهي التي يتردد أهلها بعضهم على بعض عادة، وإن كانت دون مسافة القصر، فهذه المسافة التي يقدر بعض الفقهاء بها لا دليل عليها، ولا يظهر ما ذكرنا من الحكمة ولا غيره فيها وحديث معاذ في أهل اليمن كافة، فهو إن دل على منع نقل الزكاة، فإنما يدل على منع نقلها من القطر اليماني الذي جعل عاملاً عليه إلى الحجاز وغيره من البلاد التي لا ولاية له عليها، فالمنع لأجل الولاية لا لأجل المسافة، فيكون مخصوصًا بما يأخذه الولاة والعمال؛ كزكاة الأنعام والزرع. وإما ما يوزعه المالك من زكاته فلا دليل على الحجر عليه فيه. ويظهر من عبارة الحديث أيضًا تخصيصه بسهم الفقراء والمساكين، ويلزمه سهم العاملين عليها خاصة؛ لأنهم يأخذونه مما يجمعونه، فالذي يجمع زكاة أهل اليمن مثلاً لا يأخذ سهمه من زكاة أهل الحجاز. وهذا إذا كان كل وال يوزع زكاة البلد الذي يتولاه فيه. وكذلك المؤلفة قلوبهم والغارمون وأبناء السبيل، يعطون سهامهم حيث يوجدون، والأقرب منهم أولى من الأبعد على ما ذكرنا في الفقراء، فلا يتجاوز الأقرب مكانًا أو نسبًا إلا لمصلحة؛ كأن يرى المزكي أن من في البلد الآخر أحوج، أو أن إعانته أنفع. وأما السهم الذي في سبيل الله فمجاله أوسع ولا سيما على ما اختاره الأستاذ الإمام من شموله لمصالح المسلمين العامة كلها. *** (حرث الدنيا والآخرة) وأما الجواب عن الثالث؛ فهو أن الحرث عبارة عن الزرع، ومنه الأثر المشهور: الدنيا مزرعة الآخرة والحرث والزراعة هنا من باب المجاز، فمريد حرث الدنيا هو من يعمل عمله فيها؛ لأجل التمتع بلذاتها، لا يبتغي من حياته فيها غير ذلك. ومريد حرث الآخرة هو من يعمل أعماله التي هي غرضه من حياته لأجل الآخرة، أي يكون مخلصًا في عباداته ويلتزم في معاملاته أحكام الشرع التي تحدد بها الحقوق، فلا يظلم ولا يأكل مال أحد بالباطل، ويتحرى الحق وعمل الخير، فيتصدق من فضل ماله على الأفراد وفي المصالح العامة، وهو يتمتع بالطيبات وزينة الدنيا من طريق الحل، ولكن ذلك لا يكون هو مراده من حياته، بل يكون له مراد أعلى وهو الاستعداد لحياة الآخرة الباقية، وقد فصلنا القول في هذه المسألة تفصيلاً في تفسير قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 200-201) .. إلخ فراجعه في الجزء الثاني من التفسير، وقوله تعالى: ?? {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} (آل عمران: 145) وقوله تعالى: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ} (آل عمران: 152) فراجعهما في الجزء الرابع من التفسير.

علم الفلك والقرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ علم الفلك والقرآن نظرة في السماوات والأرض نشرت هذه المقالة في مجلة الطلبة المصريين، ثم زاد الكاتب فيها بعض زيادات وحَواشٍ. {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ *} (يونس: 101-102) {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (غافر: 57) ... ... ... ... ... ... ... ... قرآن شريف فهرس المقالة تعريف الأرض - السيارات والأفلاك - أسماؤها وعددها - الثوابت - الجذب العام - الكون كالجسم الواحد - الأقمار - مركز السيارات - ذوات الأذناب - البروج - مجاميع الثوابت - الصور السماوية - سدرة المنتهى- رؤية النبي لجبريل - الجنة والنار - السماء - السماوات السبع والإسراء والمعراج - خطأ القدماء في اعتبار الأرض مركزًا للعالم - احتمال أن السماوات أكثر من سبع وأن العدد لا مفهوم له - نص القرآن على الحركة الذاتية للسيارات وغيرها - سكنى السيارات بالحيوانات - الدابة في يوم القيامة - الأرض ليست سبعًا - تفسير الآية الواردة في ذلك - العوالم متعددة العرش أو الكرسي - الملائكة والشياطين - رجم الشياطين بالشهب - العوالم لم تخلق لأجل الإنسان وليس الإنسان أشرف جميع الموجودات - فصل في دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن - المحكم والمتشابه - الخاتمة في بيان الغاية من هذا الوجود. * * * ما هي هذه الأرض التي نعيش عليها؟ هي كوكب من الكواكب التي تدور حول الشمس، وتسمى بالسيارات، ومجموع الشمس مع هذه السيارات يسمى بالمجموعة [1] أو المنظومة الشمسية فالشمس مركز بالنسبة لها وهي مضيئة لذاتها، ومنها تستمد هذه السيارات النور والحرارة. ولا ينبغي أن يفهم القارئ من تسميتنا الشمس بالمركز؛ أن مدارات هذه السيارات هي دوائر، بل هي بيضاوية الشكل، وليست في الوسط تمامًا، بل هي مائلة إلى أحد الجوانب. ومدارات هذه السيارات تسمى بالأفلاك، فهي الأشكال البيضاوية التي ترسمها السيارات في مسيرها حول الشمس. وأكبر هذه السيارات ثمان: الأرض إحداها واثنان منها في داخل مدار الأرض، وخمس منها في خارجه، وهذه المدارات أو الأفلاك ليست في مستوى واحد، بل هي في مستويات مختلفة، فمن المدارات ما هو أفقي ومنها ما هو رأسي، وفيها ما هو مائل إلى اليمين أو إلى الشمال. أما السياران اللذان في داخل فلك الأرض فهما عطارد (Mercury) والزهرة (Venus) ، ويسميهما الفلكيون السيارين الداخلين. أما السيارات الخمس الباقية فهي المريخ (Mars) والمشتري (Gupiter) وزحل (Satun) وأورانوس (Uranus) ونبتون (Xeptume) ، وتسمى السيارات الخارجة. وكلما كان فلك الكوكب أو السيار صغيرًا كانت سنته صغيرة. وكلما كان كبيرًا كانت سنته كبيرة، فسنة عطارد وهو أصغرها فلكًا هي 88 يومًا من أيامنا هذه، وسنة نبتون وهو أكبرها فلكًا هي 60176 يومًا أي 164 سنة و8 شهور من سنيننا وشهورنا، أي أنه يدور حول الشمس في المدة المذكورة. ويوجد بين المريخ والمشتري عدة سيارات صغيرة تسمَّى نجيمات، اكتشف منها إلى الآن أكثر من 121 نجيمًا (تصغير نجم) ، وأكبر هذه النجيمات هي فستا (Vesta) أي إلهة النار، ويونو (Gumo) وسيرس (Geres) وبالاس (Pall as) وهي أسماء وثنية، وجميع هذه السيارات كبيرة كانت أو صغيرة هي أجرام مظلمة كأرضنا هذه سواء بسواء، ولا يضيئها إلا انعكاس أشعة الشمس عليها. أما النجوم الثوابت فهي شموس كشمسنا هذه مضيئة بذاتها، وسميت ثوابت [2] لأنها لا يتغير وضعها بالنسبة لأخواتها، وهي مراكز لسيارات أخرى تدور حولها كما أن شمسنا مركز للسيارات الثمانية المعروفة، ولكن نظرًا لبعدها العظيم عنا ترى كأنها نجوم صغيرة، والحقيقة أنها شموس كبيرة وأقرب هذه الثوابت إلينا يبعد عن الأرض بمقدار 19.131.030.000.000 ميلاً، والنور الذي ينبعث منه يصل إلينا في ثلاث سنوات وربع [3] ويمكننا تمييز السيارات عن الثوابت بأن السيارات تغير وضعها بالنسبة للثوابت، وبأن نورها أسطع وهو ثابت لا يتلألأ؛ وذلك لقربها منا. أما نور الثوابت فإنه يرتعش ويتلألأ لشدة بعدها عنا. والسبب الذي يمسك السيارات في أفلاكها، ويحفظ نظامها في مداراتها؛ هو جذب الشمس لها، فلولاه لسارت في طريق مستقيم إلى حيث لا يعلم إلا الله، وكذلك جميع الكواكب يجذب بعضها بعضًا {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (النازعات: 27) {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7) [4] فإذا جاء الوقت الذي يفسد فيه نظام هذا الكون اختل التوازن وزال التجاذب، وتناثرت الكواكب، واصطدم بعضها ببعض، وانشق عن البعض الآخر وانفصل عنه وتفرق {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ * وَإِذَا الكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ} (الانفطار: 1-2) ، {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} (الانشقاق: 1) الآيات. أما الآن فجميع الكواكب متجاذبة مرتبط بعضها ببعض من كل جهة، ولا يوجد فيها ما هو منشق عن بقيتها، منفك عنها، لا ارتباط له بها بل كلها متماسكة كالبنيان أو كأجزاء الجسم الواحد {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) أي ليس لها شقوق تذهب باتصالات الكواكب فتفرقها وتقطع علاقاتها وأحبال تجاذبها، بحيث يكون بعض الكواكب غير متماسك بالبعض الآخر ومنفصلاً عنه في ناحية من السماء لا ارتباط له به {فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك: 3) أي انشقاق وانقطاع. أما ما بين الكواكب من المسافات فهي وإن كانت كبيرة؛ إلا أنها بالنسبة لمجموعها وكثرتها وعظمها كالمسام بالنسبة لأجزاء الجسم الواحد، وكما أن الكواكب تتحرك في هذه المسافات، كذلك ذرات الجسم تتحرك فيما بينها من المسافات. والأثير (مادة العالم الأصلية) يملأ هذه كما يملأ تلك، فالكون كله أو السماء كلها جسم واحد لا انشقاق فيه الآن، ومجموعتنا الشمسية هذه هي جزء من أجزاء هذا الجسم العظيم أو ذرة من ذراته، فهذه المسافات التي بين الكواكب ليست هي الشقوق أو الفروج المراد نفيها، بل الفروج المنفية هي كما قلنا التي تباعد ما بين مجاميع الكواكب، حتى تقطع اتصالاتها وتشتتها وتذهبها مبددة في الفضاء بلا نظام ولا اتصال، وتجعل كل عالم مستقلاً بذاته منقطعًا عن غيره خارجًا عن دائرة الجذب العام، فانشقاق السماء وانفطارها الذي سيحصل يوم القيامة هو تبديد عوالمها وتشتيتها وانتثار كواكبها. هذا واعلم أن أكثر السيارات لها توابع تدور أيضًا حولها، وهي الأقمار فتعكس النور من الشمس إليها وتضيئها ليلاً] وَجَعَلَ القَمَر [5 {َ فِيهِنَّ نُوراً} (نوح: 16) وسميت توابع؛ لأنها تتبعها في مسيرها حول الشمس، كما يتبع الخادم سيده. فللأرض قمر واحد، وللمريخ اثنان، وللمشتري أربعة، ولزحل ثمانية، ولأورانوس ستة، ولنبتون واحد فقط كالأرض، وليس لعطارد ولا للزهرة أقمار. أما حجم هذه الأرض بالنسبة للسيارات الأخرى، فيعتبر خامسها في الكبر، والسيارات التي هي أكبر من أرضنا هذه هي المشتري وزحل وأورانوس ونبتون. أما عطارد فهو أصغر الثمان، وهو أكبر من قمر الأرض بقليل، ولكنه أقرب السيارات إلى الشمس، ويمكن رؤيته بعد الغروب بقليل أو قبل الشروق كذلك. وأما الزهرة فحجمها تقريبًا قدر حجم الأرض، ولقربها منا ترى أنها أشد الكواكب نورًا بعد الشمس والقمر، وتشاهد بعد الغروب وقبل الشروق مثل عطارد، ولكن مدتها أطول وتسمى عقب الغروب (كوكب المساء) ، وقبل الشروق (كوكب الصبح) . وأما المريخ فهو أقرب السيارات الخارجية إلى الأرض وحجمه ثمن حجمها، وتشاهد في قطبية بالتلسكوب نقطًا بيضاء، يقال: إنها ثلج. وأما المشتري فهو أكبر السيارات على الإطلاق وأشدها نورًا بعد الزهرة بالنسبة لنا، وتحيط به منطقة من السحب ودورته حول محوره هي عشر ساعات فقط، فهو أسرع دورة من الأرض، ولكبر حجمه يقال: إن قشرته لم تبرد تمامًا إلى الآن. وأما زحل فأغرب شيء يشاهد فيه هو وجود ثلاث مناطق عريضة تحيط به بعضها خارج بعض، ويقال: إنها مكونة من ملايين من التوابع الصغيرة، وأمرها في الحقيقة مجهول. وأما أورانوس ونبتون فهما أبعد السيارات في المنظومة الشمسية وآخرها على ما نعلم. وهذان السياران لم يكونا معروفين للقدماء؛ لأنه لا يمكن رؤيتهما بالعين المجردة. وأما باقي السيارات فهي معروفة من قديم الأزمان وعند جميع الأمم؛ لأنها ترى جميعًا بالعين المجردة، وقد كان القدماء يعدون السيارات سبعًا غير الأرض، مع أنهم ما كانوا يعرفون منها غير الخمس المسماة بالدراري وهي (عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل) لأنهم كانوا يحسبون الشمس والقمر من ضمنها، والحقيقة أنهما ليسا منها في شيء، فإن الشمس من الثوابت، وهي مركز العالم الشمسي الذي نحن فيه. والقمر تابع للأرض كباقي التوابع المذكورة آنفًا {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) . أما ذوات الأذناب (Comets) فهي أيضًا سيارات غازية، ولكنها تدور حول الشمس على أبعاد شاسعة جدًّا، فأفلاكها متسعة اتساعًا عظيمًا، وهي في بعض الأحيان تقترب من الشمس، حتى تختفي في ضوئها، ثم تبتعد حتى يخيل لنا أنها خرجت عن المنظومة الشمسية؛ وذلك لأن الشمس كما قلنا: ليست في وسط الأفلاك بل مائلة إلى بعض جوانبها، وأكثر هذه المذنبات يخرج فعلاً عن منظومتنا هذه الشمسية، ويذهب إلى منظومات أخرى، والمذنبات تعد بالمئات وإن كنا لا نرى بالعين المجردة إلا القليل منها لصغرها ومتى ابتعدت عن الشمس، عادت إليها أذنابها؛ لأن هذه الأذناب عبارة عن أجزاء من أجرامها الغازية، تجذبها الشمس إليها وتشدها، والصغير منها لا ذنب له مهما اقترب من الشمس. والخلاصة أن بعض هذه النجوم الغازية لها أفلاك معروفة، والبعض الآخر وهو الكثير لا تعرف له أفلاك. والظاهر أنها ضالة في الفراغ بين العوالم العديدة، وأصلها نجوم انحلت وبانحلالها هي تنشأ الشهب. وأشهر هذه المذنبات التي ظهرت في القرن التاسع عشر مذنب ظهر سنة 1811، وكان طول ذنبه 112مليونًا من الأميال، ومذنب هالي الذي ظهر في سنة 1843 وفي 1880 و1882، وقد ظهر في سنة 1861و1862 مذنبان كانا غاية في البهاء والجمال، وأخيرًا ظهر واحد شاهدناه في السنة الماضية (1910) . أما البروج فهي صور وهمية تنشأ من اجتماع الثوابت بعضها بجانب بعض بحسب ما يتخيل لنا، وهي اثنا عشر برجًا معروفة، نرى أن الشمس تتنقل من واحد منها إلى الآخر بحسب الظاهر، وباجتماع الثوابت بعضها ببعض تنشأ صور أخرى غير البروج؛ كصورة الدبين والثريا والجاثي على ركبتيه والنسر الطائر وغير ذلك، ولعل سدرة المنتهى المذكورة في القرآن الشريف هي صورة كهذه الصورة [6] فيكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل من الأرض بعينيه على صورته الحقيقية الأصلية مرتين: مرة في الأفق ومرة عند سدرة المنتهى [7] وهو نازل من الملأ الأعلى فلا يبعد أن تكون هذه السدرة [8] صورة تشبه شجرة النبق، ناشئة من اجتماع عدة ثوابت بعضها مع بعض (راجع سورة النجم والتكوير) ، وشبهت بذلك كما شبه غيرها بصورة النسر الطائر مثلاً. وقوله تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (النجم: 16) معناه أنه ر

فصل في بيان دقائق المسائل العلمية الفلكية

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ فصل في بيان دقائق المسائل العلمية الفلكية الواردة في القرآن يلاحظ القارئ مما تقدم أن القرآن الشريف قد أتى في هذا الباب بمسائل علمية دقيقة لم تكن معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المسائل تعتبر من معجزات القرآن الخالدة وهاكها ملخصة: 1 - الأرض كوكب كباقي الكواكب السيارة {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) وهما من مادة واحدة {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) وهي تدور حول الشمس {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النمل: 88) [*] . 2 - السيارات الأخرى مسكونة بالحيوانات {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} (الشورى: 29) ، {يُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (الإسراء: 44) ، {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الرحمن: 29) ومجموع هذه الآيات يدل على أن في السموات حيوانات عاقلة كالإنسان. 3 - ليس القمر خاصًّا بالأرض، بل للسيارات الأخرى أقمار {وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} (نوح: 16) . 4 - ليست السيارات مضيئة بذاتها، بل إن الشمس هي مصباحها جميعًا {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} (نوح: 16) أي لهن كما يدل عليه السياق، فالنور الذي نشاهده فيها منعكس عليها من الشمس. 5 - السماوات والسيارات السبع شيء، والشمس والقمر شيء آخر، فهما ليسا من السيارات كما كان يتوهم القدماء {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} (العنكبوت: 61) الآية وغيرها كثير. 6 - العوالم المتعددة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) والعوالم هي منظومات من الكواكب المتجاذبة {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7) . 7 - ليست جميع العوالم مخلوقة لأجل هذا الإنسان {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر: 57) أي الناس المعهودين على وجه الأرض، والإنسان الأرضي أفضل من بعض المخلوقات لا كلها {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) ولا ينافي ذلك قوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) إذ لا يلزم من هذا القول أنها غير مسخرة لغيرنا من الأحياء، فالبحر مثلاً قال الله تعالى فيه: {سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ} (الجاثية: 12) مع أنه مسخر لغيرنا من الحيوانات البحرية تسخيرًا أتم وأعم، فمنه تأكل وتشرب وتتنفس، وفيه تسكن وتحيا وتموت. فما هو مسخر لبعض الحيوانات تسخيرًا جزئيًّا قد يكون مسخرًا لغيرها تسخيرًا كليًّا، فكذلك النجوم مسخرة لنا لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر، مع أنها لغيرنا شموس عليها قوام حياتهم، كما أن شمسنا عليها قوام حياتنا، وهي بالنسبة لهم نجم من نجومهم الثوابت، وبالجملة فإن جميع العوالم بما بينها من الارتباط العام والتجاذب الذي بينها مسخرة بعضها لبعض بالنفع الكلي أو الجزئي. 8 - كان القدماء يعتقدون أن جميع الثوابت مركوزة في كرة مجوفة يسمونها كرة الثوابت أو فلك الثوابت، وبحركة هذه الكرة تتحرك هذه الكواكب كما تقدم، ومعنى ذلك أن الكواكب لا حركة لها بذاتها، وأن فلك جميع الثوابت واحد، وأنه جسم صلب. والحقيقة خلاف ذلك؛ فإن لكل كوكب فلكًا يجري فيه وحده، وكل كوكب يتحرك بذاته لا بحركة غيره، والكواكب جميعًا سابحة في الفضاء، أو بعبارة أصح في الأثير (مادة العالم الأصلية) غير مركوزة فيه في شيء مما يتوهمون، وبهذه الحقائق، جاء الكتاب الحكيم والناس في الظلمات والأوهام يتخبطون. قال الله تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) والتنوين في لفظ (كل) عوض عن الإضافة، والمعنى كل واحد من الكواكب في فلك خاص به يسبح بذاته. وفي قوله يسبحون إشارة إلى مادة العالم الأصلية (الأثير) التي تسبح فيها الكواكب كما تسبح الأسماك في الماء، فليست الأفلاك أجسامًا صلبة تدور بالكواكب كما كانوا يزعمون. 9 - نص الكتاب العزيز على وجود الجذب العام للكواكب كافة من جميع جهاتها فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الحُبُكِ} (الذاريات: 7) ، {أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (النازعات: 27) ، {هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك: 3) راجع تفسير هذه الآيات فيما تقدم، فالكون كله كالجسم الواحد الكبير محكم البناء لا خلل فيه، كما قال: {وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} (ق: 6) ، ويتخلله الأثير كما يتخلل ذرات الجسم الصغير {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) . 10 - كان الناس في سالف الأزمان لا يدرون من أين يأتي ماء المطر، ولهم في السحاب أوهام عجيبة، كما كانت لهم في كل شيء سخافات وخرافات، ولكن القرآن الشريف تنزه عن الجهل والخطأ فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً} (النور: 43) إلى قوله: {فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) وقال: {فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) ومقتضى القولين أن الماء العذب الذي نشربه ونسقي به الأرض سواء كان من الينابيع أو من الأنهار هو من الأمطار الناشئة من السحاب، ومن أين يأتي السحاب؟ هو بخار من بحار هذه الأرض أي: أن السحاب هو من الأرض، وهو عين قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) أي أن الماء جميعه أصله من الأرض، وإن شوهد أنه ينزل من السحاب. فهذه كلها آيات بينات ومعجزات باهرات دالة على صدق النبي وصحة القرآن. * * * (الخاتمة في بيان الغاية من هذا الوجود) قد علمنا مما تقدم أن العوالم متعددة، وأنها كلها مسكونة بالأحياء العاقلة وغير العاقلة، فهل كلها مخلوقة عبثًا؟ ؟ وهل لهذا الوجود غاية؟ ؟ أم كل هذه العوالم سائرة للفناء؟ وخلقت لا لشيء؟ شموس وسيارات وأقمار تجري في أفلاكها بانتظام ونواميس وسنن وهي مملوءة بالأحياء، وتظهر فيها جلائل أعمال الطبيعة والمخلوقات، أتنقرض هذه كلها وتنتهي إلى الفناء المحض والعدم الصِّرف؟ كلا ثم كلا. {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} (المؤمنون: 115-116) الحياة وخصوصًا حياة الحيوانات العاقلة، هي كما نشاهد غاية الغايات في هذا الوجود، وإلا كان العالم كله كالقصر المشيد الذي لا سكان فيه، أو كالملعب الجميل الذي لا يرى فيه ممثلون أو لاعبون. وإذا كانت الحياة هي غاية هذا الوجود، فهل لهذه الحياة غاية؟ ؟ وإذا كانت المادة وقوتها في هذا العالم غير قابلة للعدم والفناء كما يقولون، فلم تكون الحياة فانية؟ وإذا كانت المادة وقوتها تتشكل بأشكال مختلفة، وتظهر بصور وأطوار متنوعة ومع ذلك نقول ببقائهما؟ فلماذا نقول بفناء الحياة إذا تغير شكلها أو صورتها؟ أليس من العجيب أن القائلين بعدم فناء المادة والقوة هم المنكرون لبقاء الأرواح البشرية إذا غيرت المادة المنظورة شكلها؟ مع أن الأرواح قد لا تكون شيئًا آخر سوى نوع مخصوص بسيط لطيف من أنواع المادة التي لا نعرفها، كالأثير الذي يقولون بوجوده وأنه مالئ للعالم كله وأنه يتخلل ذرات المادة الكثيفة: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) . وإذا سلم أن النفوس أو الأرواح لا تفنى إذا كانت من نوع هذه المادة، فهل أعمال هذه النفوس تفنى، وأنتم القائلون بعدم فناء القوة، سواء كانت كامنة أو عاملة؟ ! (Potential & Kinctic Energy) . هذا، ولا يخفى أن لكل عمل أثرًا في النفس [1] وإذا سلم أن النفس وعملها (قوتها) وأثر عملها لا تفنى كان من السهل علينا أن نسلم أن الأعمال السيئة تطبع في النفوس آثارًا سيئة (impressions - Bad) لا تمحى. ولا تزال تلك الأعمال تطبع آثارًا من جنسها في النفس كلما زادت، حتى تجعل النفس شريرة أو صالحة، كأنها جبلت على الشر أو الخير. وإذا كان من المشاهد أن الجزاء في هذه الحياة هو النتيجة الطبيعية للأعمال إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، والنفوس بما انطبعت عليه باقية كما بينا، أفلا تلقى جزاءها الأوفى في الدار الآخرة، كما كانت تلقى ذلك في الدنيا، وتكون النفس الشريرة هناك دنيئة غير صالحة إلا للسكنى مع الأشرار الذين هم مثلها في دار تناسبها أحوالها، كما أن النفوس الصالحة تكون في عكس ذلك {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10) . وإذا سلم أن النفوس كما هي بشرها أو خيرها باقية، أفلا يكون الجحيم والنعيم لهما باقيين كذلك غير فانيين؟ فالدنيا مزرعة الآخرة أو المدرسة لتربية النفوس، فمن ربيت نفسه على الخير حتى صارت صالحة، كان جزاؤها النعيم المقيم في الآخرة، ومن ربيت نفسه على الشر حتى صارت شريرة فاسدة، كان لها الجحيم لا يناسبها غيره لأنها مجرمة {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} (الانفطار: 13-14) فالجزاء باق لأن النفوس بما طبعت عليه في الدنيا باقية، قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14) ، وقال: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81) فدوام العذاب هو للنفوس الشريرة التي فسدت، حتى صارت لا تصلح للخير مهما بقيت في الدنيا {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} (الأنعام: 28-29) {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (الأحقاف: 19) . ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد توفيق صدقي ... ... ... ... ... ... ... طبيب ليمان طره

قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

الكاتب: محمد سعيد

_ قانون في الطلبة والمدرسين والموظفين [1] الباب الرابع في الطلبة والمدرسين والموظفين (الفصل الأول) في قبول الطلبة وواجباتهم (المادة الحادية والستون) يشترط في قبول الطالب في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى ما يأتي: أولاً - أن لا ينقص سنه عن عشر سنوات، ولا يزيد عن سبع عشرة سنة. ثانيًا - أن يكون عارفًا بالقراءة والكتابة بدرجة تؤهله للمطالعة في الكتب. ثالثًا - أن يكون حافظًا لنصف القرآن الكريم على الأقل، وعليه حفظ القرآن كله عملاً بنص المادة الثالثة والخمسين. رابعًا - أن يكون خاليًا من الأمراض. خامسًا - أن يقدم شهادة بحسن سيرته، إذا كان قد بلغ عمره أربعة عشر عاما كاملة. * * * (المادة الثانية والستون) يجوز قبول العميان ضمن طلبة جامعة الأزهر والمعاهد الأخرى، ويتلقون من العلوم ما يناسب حالتهم، بحسب ما يقرره مجلس الأزهر الأعلى. ويجب أن تستوفى فيهم بقية شروط القبول، وأن يكونوا حافظين للقرآن كله. * * * (المادة الثالثة والستون) شروط انتساب الغرباء في الجامع الأزهر يقررها مجلس الإدارة، وكذلك الامتحانات التي يجب عليهم أن يؤدوها، ونوع الشهادة التي يُمْنَحوها. * * * (المادة الرابعة والستون) يجوز قبول الطالب في غير السنة الأولى من القسم الأول بالشروط الآتية: أولاً - أن يجوز الطالب الامتحان في جميع مقرر السنين السابقة على السنة التي يطلب الدخول فيها أمام لجنة يعينها مجلس الإدارة من المدرسين. ثانيًا - أن يكون حافظًا لنصف القرآن. * * * (المادة الخامسة والستون) لا يسوغ لأحد أن يدخل في القسم الثانوي إلا إذا كان حائزًا للشهادة الأولية، وأدى الامتحان في علوم السنة أو السنوات السابقة على التي يريد الدخول فيها. ولا يسوغ لأحد أن يدخل في القسم العالي إلا إذا كان حائزًا للشهادة الثانوية، وأدى الامتحان في علوم السنة أو السنوات على التي يريد الدخول فيها. * * * (المادة السادسة والستون) لا يجوز قبول أي طالب في سنة من السنوات طبقًا لما هو مقرر في المادتين السابقتين، إذا كان سنه زائدة عن السن المقرر للسنة التي يريد الدخول فيها باعتبار نهاية السن المقرر لها [2] . * * * (المادة السابعة والستون) الطلبة مكلفون بمراعاة النظام والمحافظة على ما هو مقرر في هذا القانون، وما يتقرر في اللائحة الداخلية، وقرارات مجلس الأزهر الأعلى، ومجالس الإدارة وأوامر المشيخة. * * * (المادة الثامنة والستون) الطلبة ممنوعون منعًا باتًّا من الاشتراك في أية مظاهرة، ومن كل اجتماع يوجب التشويش على الدروس أو الإخلال بالنظام. وأما الاحتفالات المألوفة عادة فلا تعد من المظاهرات. وهم ممنوعون أيضًا من إعطاء أخبار للجرائد، ومن إبداء ملاحظات بواسطتها، ومن أن يكونوا مكاتبين أو وكلاء لأية جريدة كانت، ولا يجوز لهم مكاتبتها إلا في المسائل الدينية والعملية. * * * (الفصل الثاني) في المدرسين والموظفين (المادة التاسعة والستون) يجب أن يكون المدرس تحت تصرف مجلس الإدارة في جميع ما يكلفه به من الدروس أو الأعمال الأخرى المتعلقة بالتعليم. فإذا امتنع بغير عذر مقبول عن أداء عمل كلف به بعد إنذاره من قبل المشيخة رفت وقطعت مرتباته. * * * (المادة السبعون) كل عالم من غير المتقاعدين انتخب للتدريس في علم من العلوم المقررة في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى المبينة في المادة الخامسة والعشرين، ولم يقبل، ولم يكن له عذر مقبول لدى مجلس الإدارة، يمحى اسمه من سجل المدرسين وتقطع جميع مرتباته. * * * (المادة الحادية السبعون) المدرس أو الموظف الذي جاء دور ترقيته في معهد غير الذي هو فيه، ولا يقبل النقل، يفقد حق الترقية في الدور الذي طلب نقله فيه [3] . * * * (المادة الثانية والسبعون) المدرسون والموظفون ممنوعون منعًا قطعيًّا من الاحتراف بأية حرفة في الخارج غير حرفتهم التي هم فيها. ولا يجوز لهم أن يشتغلوا بالتعليم في الخارج، ولا أن يقبلوا وظيفة كذلك إلا بإذن خاص من مجلس الإدارة. ولا يرخص مجلس الإدارة بما ذكر إلا في حالة الضرورة الشديدة بشرط بيان ذلك في المحضر. وكل مدرس أو موظف لدى الحكومة في أية وظيفة، يرفت حتمًا من المعهد الذي كان يدرس فيه، وتقطع مرتباته ولا يجوز تكليفه بدروس في نظير مكافأة أو بدونها، إلا بقرار من مجلس الإدارة وبشرط قبول الجهة التي صار الموظف تابعًا لها. ويجب تصديق مجلس الأزهر على ما ذكر. * * * (المادة الثالثة والسبعون) المدرسون والموظفون ممنوعون من الاشتراك في أية مظاهرة، ومن مكاتبة الجرائد في غير المسائل العلمية والدينية، ومن إعطاء أخبار إليها مباشرة أو بالواسطة. وأما الاحتفالات المألوفة عادة فلا تعد من المظاهرات. * * * (المادة الرابعة والسبعون) على المدرسين والموظفين أن يكونوا خاضعين لجميع اللوائح والقرارات والأوامر المختصة بالتعليم وبالنظام. * * * (الباب الخامس) في الإجازات (الفصل الأول) في إجازات الطلبة (المادة الخامسة والسبعون) لا يسوغ لأحد من الطلبة أن يتغيب عن المعهد الذي يتلقى العلم فيه، في غير أوقات المسامحات المقررة إلا بإذن كتابيّ من المشيخة التابع لها. * * * (المادة السادسة والسبعون) إذا تغيب الطالب بغير إذن أو تأخر عن الحضور للدرس بعد انقضاء أيام المسامحات أو بعد انقضاء المدة المرخص له بها، ولم يكن له عذر مقبول، فللمشيخة عقوبته بإحدى العقوبات الأربع الأولى المنصوص عليها في الفقرة الأخيرة من المادة الثامنة والثمانين. * * * (المادة السابعة والسبعون) إذا بلغت مدة الغيبة شهرًا، ولم يكن للطالب عذر مقبول، ولم يكن قد أخبر المشيخة بسبب الغيبة، يرفت، وتقطع مرتباته في سنة الغيبة، وإذا انتسب في السنة التالية يعتبر معيدًا لدروسه. وكذلك يرفت وتقطع مرتباته إذا تكررت غيبته بدون إذن وبغير عذر مقبول ثلاث مرات فأكثر في السنة الواحدة، وبلغ مجموع مدة التأخير في المرات الثلاث شهرًا، فإذا تكرر ذلك منه مرة ثانية في سنة أخرى بعد قبول انتسابه رفت، ولا يجوز قبوله في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى. * * * (المادة الثامنة والسبعون) إذا مرض أحد الطلبة، وكانت حالته تستلزم الراحة أو المعالجة في الخارج، جاز لشيخ المعهد أن يرخص له بإجازة مرضية لا تتجاوز ثلاثة أشهر؛ بناء على شهادة طبية من طبيب المشيخة التابع لها الطالب أو من طبيبه الخاص؛ بشرط تصديق طبيب المشيخة عليها. ويصح تمديد مدتها بالشروط المذكورة. فإن زادت مدة الإجازة عن ستة أشهر، قطعت مرتبات الطالب وبقي منتسبًا. * * * (المادة التاسعة والسبعون) لشيخ المعهد أن يرخص كتابة للطالب بإجازة استثنائية، لا تتجاوز مدتها خمسة عشر يومًا بناء على طلب بالكتابة من الطالب أو ولي أمره، إن كان له ولي أمر، متى تبين أن الأسباب الداعية لذلك قوية. (الفصل الثاني) في إجازة المدرسين والموظفين (المادة الثمانون) يجوز للمدرسين والموظفين الحصول على إجازات استثنائية لمدة لا تتجاوز أسبوعًا واحد؛ بشرط أن لا يتكرر ذلك أكثر من مرتين في السنة. * * * (المادة الحادية والثمانون) ويجوز لهم أن ينالوا إجازة مرضية لمدة أكثرها ثلاثة أشهر؛ بمراعاة الشروط المنصوص عليها في المادة الثامنة والسبعين. ويصح تمديد مدتها بالشروط عينها. * * * (المادة الثانية والثمانون) كل مدرس أو موظف تأخر عن العود إلى العمل المكلف به بعد انتهاء المسامحة أو الإجازة المرضية أو الاستثنائية المرخص له بها، يحرم من مرتبه ابتداء من اليوم الخامس لانقضاء المسامحة أو الإجازة إذا قدم عذرًا مقبولاً وإلا فمن اليوم التالي. فإذا بلغت مدة التأخير شهرًا من دون إخطار وعذر مقبول، يرفت وتقطع مرتباته. * * * (المادة الثالثة والثمانون) يكون الترخيص بالإجازات لمدرسي وموظفي الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى فيما زاد عن أسبوع؛ بأمر من شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى. ولا يرخص لأحد مدرسي المعاهد الأخرى أو موظفيها بإجازة؛ إلا بعد أخذ رأي شيخ المعهد التابع له المدرس أو الموظف. * * * (المادة الرابعة والثمانون) يراعى في الترخيص للمدرسين والموظفين بإجازات استثنائية أن لا يتغيب منهم في آن واحد عدد تستلزم غيبته تعطيل سير الدروس أو الأعمال الأخرى، أو الاستعانة بمن يقوم مقامهم في وظائفهم من غير المدرسين. * * * (المادة الخامسة والثمانون) يقرر مجلس الأزهر الأعلى مدة الإجازة الاعتيادية التي يجوز الترخيص بها للموظفين والكتبة، مع مراعاة القواعد المدونة في هذا الباب. وكذلك يقرر مدة الإجازات المرضية التي يسوغ الترخيص بها بمرتب كامل أو بنصف مرتب أو بدون مرتب، كما يقرر المدة التي يجب بعدها رفت المدرس أو الموظف. (الباب السادس) في التأديب (الفصل الأول) في تأديب الطلبة والمدرسين والموظفين (المادة السادسة والثمانون) تأديب الطلبة والمدرسين والموظفين من خصائص مجالس الإدارة، ويقدمون للمجلس المختص بتقرير من المشيخة التابعين لها. ولشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى؛ أن يأمر بإحالتهم في المعاهد الأخرى على مجلس التأديب مباشرة إذا تبين له ما يقتضي ذلك. * * * ... (المادة السابعة والثمانون) كل واحد ممن ذكروا في المادة السابعة، خالف حكمًا من أحكام هذا القانون، أو غيره من القوانين واللوائح الخاصة بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، أو قرارات مجلس الأزهر الأعلى، أو مجالس الإدارة، أو أوامر المشيخة، أو تعدى على غيره بالأذى، أو ارتكب أمرًا يخل بالنظام أو بالمروءة وشرف العلم، يعاقب تأديبيًّا. * * * (المادة الثامنة والثمانون) العقوبات التأديبية التي يجوز الحكم بها على الطلبة هي: التوبيخ على انفراد أو بحضور الطلبة. الطرد من الدرس مدة أكثرها أسبوع. الإنذار. قطع الجراية مؤبدًا. الإخراج من المساكن التابعة للمعهد لمدة أكثرها ثلاثة أشهر أو مؤبدًا. تقليل أو إلغاء اغتفار إعادة الدروس. (الرفت) محو الاسم من السجلات مدة أقلها سنة، مع الحرمان من الامتحانات. ولشيخ الأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى توقيع العقوبات الأربع الأولى، وللمدرسين توقيع العقوبتين الأوليين، مع مراعاة أن الطرد من الدرس لا يكون إلا من الدرس الذي حصلت فيه المخالفة. * * * (المادة التاسعة والثمانون) العقوبات التأديبية التي يحكم بها على المدرسين وبقية الموظفين الداخلين هيئة العمال هي: الإنذار. قطع المرتب لمدة أكثرها خمسة عشر يومًا. الإيقاف بلا مرتب لمدة أكثرها ثلاثة أشهر. تنقيص الراتب. الإنزال من درجة إلى التي دونها. الرفت. * * * (المادة التسعون) يجوز لشيخ الجامع الأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى توقيع العقوبتين الأوليين. * * * (المادة الحادية والتسعون) تأديب الخدمة الخارجين عن هيئة العمال، يكون بمعرفة شيخ المعهد. * * * (المادة الثانية والتسعون) محو الاسم والرفت يقتضيان عدم قبول المحكوم عليه في أي معهد آخر. (الفصل الثاني) في الاستئناف (المادة الثالثة والتسعون) يجوز للمدرسين والموظفين دون غيرهم أن يستأنفوا الأحكام الصادرة عليهم من مجالس الإدارة بالإيقاف، وتنقيص الراتب والإنزال من الدرجة والرفت. * * * (المادة الرابعة والتسعون) يرفع الاستئناف إلى مجلس الأزهر الأعلى بعريضة يقدمها المحكوم عليه، شاملة لبيان أوجه تظلمه من الحكم بيانًا كافيًا. * * * (المادة الخامسة

كلمات علمية عربية أسوقها إلى المترجمين والمعربين ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمات علمية عربية أسوقها إلى المترجمين والمعربين [1] (مقدمة) لما كان من مستلزمات نهضتنا العلمية العصرية نشر الكتب بين أمتنا باللغة العربية الشريفة، وكان كثير من الناس يظن أن لغتنا فقيرة في الاصطلاحات العلمية كالألفاظ الطبية وغيرها، أردت نشر ما عثرت عليه في هذا الباب من الكلمات الفصيحة التي تفيد المعربين والمؤلفين باللغة العربية، وهاكها بغير ترتيب، بل أنشرها كلما عثرت على شيء منها، وأرجو الله تعالى أن ينفع بها الناطقين بهذه اللغة، وأن يرد بها افتراء الذين يرمون لغتنا بالضعف والنقص، وسأذكرها مع ما يقابلها من اللغة الإنجليزية، إلا إذا لم يوجد لها مقابل أو كان ما يقابلها معروفًا مشهورًا، وحينئذ يكون الغرض من ذكرها ضبطها بلغتنا أو بيان أنها ليست عامية، كما قد يتوهم بعضهم فأقول: القَلَح: صفرة الأسنان. الظَّلْم: الطبقة اللامعة للأسنان Enamel. الحثَر: التهاب بثري للعين Phlyctenular Conjunctivitis. الانتشار في العين تمدد ناظرها Dilatation of Pupil. الظَفَرة Pterygium: هي جليدة تغشى العين من تلقاء المآقي. السَّبَل Pannus: كدُورة القرنية مع تكون شريانات فيها، وهي تنشأ من الرمد الحبيبي. الغرْب Dacryocystitis: التهاب الكيس الدمعي للعين. العائر أو الساهك Panophthalmitis: التهاب مقلة العين وتقيحها. اللَّخَص: التصاق الجفون Blepharo-phimosis. اسمدرّت عينه ظهر لها سمادير motes: وهي أشباه الذباب، ترى أمام العين. الكَمَش Astigmatism: عدم اجتماع أشعة الضوء في العين في نقطة واحدة؛ لعدم انتظام القرنية، فيضعف الإبصار. البَخَق Glaucoma: مرض يحدث به ضمور الشبكية؛ لشدة ضغط سوائل العين عليها لكثرتها، فيذهب البصر والعين منفتحة. الإطراق: استرخاء الجفن Ptosis. الخَفَش Hyper-metropia: القدرة على رؤية الشيء بعيدًا، مع عدم القدرة على رؤيته قريبًا؛ لصغر العين أي صغر قطرها الأمامي الخِلْفي. الشتر Ectropion: انقلاب الجفن. الحَوَص: ضيق العين الخلقي. الخَوَص: غُؤور العين. العقيقة: الشعر الذي يولد به الإنسان Down. الحاسم [2] Artery foreeps جفت الشريان. ضمد الجرح Todressit. الضماد Dressing. الحجبتان: رأسَا الوركين. القتير: رؤوس المسامير. الكراديس أو المُشَاش Epiphysis: هي رؤوس العظام. السحج Abrasion النَّدْب أثر الجرح أو البثر Scar. السِّدَاد Stopper. الناجود. الكوب Beaker. الفِلِزّ Mineral. الإطار هو كل ما أحاط بالشيء Frame. المِكْوى Cautery. اللدْن Caouthouc. المِلاب العطر المائع والكِباء العطر اليابس. الخُوان للأكل Table. سرير العملية Operation - Table. غَوْر أو قعر الكيس Cul de Sac. كِرْش الدابة. معدة الإنسان. حوصلة الطائر. الرُضاب: اللعاب. اللبَأ Colostrum وهو أول اللبن بعد الولادة. الزفير أول صوت الحمار الوحشي، والشهيق آخره، وفي الإنسان الشهيق جذب الهواء للرئة والزفير إخراجه Inspiration Expiration. الحَمَالة بالفتح Suppositroy ما يتحمل به في المستقيم أو المهبل أو مجرى البول. وجع فلانًا بطنه: أصابه ألم فيه. النُّقبة أول الجرب. العِقيُ Meconium أول براز للطفل. الفنجانة والفنجان Cup. البكرة من الخشب Trochleur. القَرَع Favus داء معروف. البق Bugs. الجرنفش العظيم الخلقة Acromegaly. الأرأس Hydro-cephalus العظيم الرأس. العثجل العظيم البطن. الأركب العظيم الركبة. الحنتار أو الحندل Cretin صغير الجسم والعقل. مح البيضة: صفارها. مُكاكة العظم Sequestrum: ما ينفصل منه لمرض. النَّصفان من الآنية: ما بلغ الماء (ونحوه) نصفه، وقربة نَصفَى Half-ful. الوَتَرة: ما بين المنخرين. المنخران: Nostrils. النَّثْرة: ما بين الشاربين أسفل الوترة. المُرَيطاء Hypogastrium: ما بين السرة والعانة. البرَص: Leucodermia. الكَوْكب: بياض في سواد العين Leucoma. الغربيب jet-black: شديد السواد. الكُبَاد: التهاب الكبد Hepatitis. الثنايا: Middle incisors. الرباعيات: Lateral incisors. الأنياب: Canines. الضواحك: Anterior pre-molars. الرَحَى: Molar. النَوَاجذ: Wisdom teeth. اللفف: Hesitation in speech. الخنخنة: Nasal twang. الصَّعَر: Torticollis التواء العنق. ثُندأة الرجل: ثديه. برثن السبع ومخلب الطائر. الرعاف Epistaxis: نزيف الأنف. القضَّة: دم العذرة (أي البكارة) . والجَسَد Clot: الدم المتجمد. الشّرق Sarcoma: ورم لحمي خبيث. ألية الأصبع: Thenar. الحَمَّاة: لحمة الساق Calf. الثَّرب الشحم على الأمعاء والكرش Omentum. الخُشَشَاء Mastoid: العظم الناتئ خلف الأذن. الحَجاج Orbit: عظم الحاجب. الداغصة Patella: عظم فوق مفصل الركبة. الكلس: (الجير) Calcium. الشَّوَى Scalp: فروة الرأس. الجُلبة Scab: قشرة تغطي الجرح أو البثر. القيض: قشرة البيضة. الغِرقئ: القشرة التي تحت القيض. السّابياء والحولاء والسُّخْد كلها بمعنى Amniotic fluid أي السائل الأمينوسي الذي فيه الجنين. الصؤاب (والصئبان) : جمع صؤابة وهي بيضة القمل والبرغوث. الرَمص Meibomian: وسخ العين. الأفّ Wax of ear: وسخ الأذن. الحَزَار والهِبربة والإبرية: وسخ في الرأس كالقشر. تعفن العضو: Gangarene. غَبِر العِرق Thrombosed: إذا انسد الوريد والتهب. الدُّردي: ما يركد في أسفل الدهن والشراب من الكدر وغيره. مَذِرت البيضة: فسدت. الزحار الدوسنطاريا Dysentery. الزحير Tenesumus. الوَجور: الدواء أو غيره الذي يوجر أي: يصب في الفم. الشقيقة Migraine: صداع في نصف الرأس. القُلاع Aphthoe: بثور بيضاء التهابية في الفم. الرَثْية Rheumatism: التهاب المفاصل. الخُزَرة Lumbago: داء يأخذ في مستدقّ الظهر بفقرة القطن. السَّنون: ما يستاك به. الشَوصة Pleurodynia: ألم الجنب. الخُناق: Diphtheria. الذبحة: Angina. التوصيم Malaise: فتور الجسم. الهيضة Cholera: الهواء الأصفر. التشنج والتقلص بمعنى. غَفَر الجرح نكس وانتقض Became septic. الشخوص Catalepsy: من شخص، إذا فتح عينيه، جعل لا يطرف مع دوران في الشحمة (المقلة) . الصَّرع: Epilepsy. ذات الجنب Pleurisy: التهاب بلوراوي. ذات الرئة أو البرسام Pneumonia: التهاب الرئة. القروة: القليلة وهي سائل يكون في جراب الخصيتين. عرق النَّسا ألم في العصب الوركي Sciatica. الحَصبة Measles. الدوالي Varicose: تمدد الأوردة وانتفاخها. داء الفيل: Elephantiasis. الماليخوليا تعريب: Melancholia. السُّل والهَلس والهُلاس بمعنى: وهو التدرن الرئوي. الشَّرى: مرض جلدي Tinea Circinata. الحَصَف Sudimina, Milaria: حبيبات تظهر في الجلد بعد العرق الشديد. السَّلعة Lipoma: ورم شحمي. النَّمِلة Herpes: مرض جلدي يحدث نفطات صغيرة. الخنازير Scrofula. النار الفارسية Pemphigus: نفاخات ممتلئة ماء رقيقًا، تخرج بعد حكة ولهب وتحدث حمى شديدة. النفاخات: (الفقاقيع) Bulloe. حمى النافض: Malaria. حمى الدق: Typhoid. الحمى المطبقة أو المحرقة: Typhus. الصُّنْبور: (الحنفية) Tap. الإداوة: Avessel with a tap. البزاز: هو يسمى بالعامية (بزبوز) . التقشقش Adesquemation: سقوط البشرة. الزمانة Partial paraplegia: الإقعاد الجزئي. الإقعاد Praplegia: الشلل النصفي السفلي. الحَدب Kyphosis: بروز الظهر ودخول الصدر؛ وهو أحدب وهي حدباء. القَعس Lordosis: بروز الصدر ودخول الظهر؛ وهو أقعس وهي قعساء. الفَدَع Talipes: اعوجاج القدم أو اليد. الأصك Knock-kneed. الأقفد Has Talipes equinus: من كانت قدمه كقدم الفرس. الضهياء: المرأة المصابة بانقطاع الحيض. المثناء Has incontinence: المصابة بسلسل البول. الرتقاء أو العفلاء Has imperforate: المسدودة المهبل بغشاء صفيقhymcn الرعدة: ارتعاش المحموم Rigors. الرعشة: ارتجاف المسن وضعيف Tremors العصب. القفقفة: ارتعاش البرد. المِخْوض: الآلة التي يضرب بها الشراب، ليختلط Glass rod. الخَلْفة Lienteric diarrhoea: خروج الطعام من البطن بدون هضم لشدة الإسهال. مراقُّ البطن: ما رقّ منه ولان. المسام Pores. الجلمان: آلة لحلق الرأس وغيره. الأعلم: مشقوق الشفة العليا Hare-lip. الأفلح: مشقوق الشفة السفلى. الأشرم: مشقوق الشفتين. الأخرم: مشقوق الأنف. هاض العظم: كسره ثانية Refracture. الرض: Contusion. المِخَدّة: وسادة معروفة. الخمْل Villi. الشريان Artery. الرِّزمة Dozen. الأقط: ما يسمى الكشك. مُصمت أي: غير مجوف أو مسدد. المحجن أو العُقَّافة Hook. الشَّغاف Pericardium: غشاء محيط بالقلب. التامور: دم القلب. الفالوذج: ما يسمى بالعامية البالوظة. العيبة: وعاء الثياب. المِركن: وعاء من الخزف كالذي يوضع فيه المرهم. التكَبد Hepatisation: صيرورة الرئة كالكبد بعد التهابها. الرغيدة والصحيرة: هي ما نسميه (مهلبية) . لَبك معروفة: وهي كلمة صحيحة ليست عامية. العفِص القابض Styptc: فإذا كان فيه حرافة وحرارة كالفلفل فهو حامز. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار علم القراء أن من سُنَّتِنَا نَشْر ما يُنْتقَد على المنار، والجواب عنه إمَّا بالاعتراف بخطئنا، وإمَّا ببيان خطأ المُنْتَقِد، وليس من هذه السُّنَّة أن نَحْفِل بمطاعن السفهاء أو الحاسدين، أو أعداء الإصلاح الدجَّالين، فإن مطاعنهم ليست انتقادًا وليس فيها شيء من العلم، وإنما يفترون كذبًا ويخلقون إفكًا، ويحرفون الكلم عن مواضعه؛ فيجعلون الكفر إيمانًا والإيمان كفرًا، ويُزَينون جَهْلَهم بالشعريات والجدليات، ويحمون أنفسهم بما لا يخوض مثلنا فيه ولله الحمد، وقد يكون من يَبْهَتنا بمثل ذلك ممن اشترك في المنار من السنة الأولى واستفاد منه، وأكل علينا قيمة الاشتراك عِدَّة سنين، واستحيينا من مطالبته لادعائه صحبتنا، وقد يكون ممن لا يقرأ المنار ولا يعلم شيئًا مما فيه. مثال ذلك قول بعضهم: إن صاحب المنار يناظر الله (عز وجل) ويُسَاميه ويقاسمه سلطانه على النفوس وسيطرته على القلوب.. ويطاوله في كتابه، وإنه كَذَّبَ كتاب الله واتخذه هزوًا ولعبًا (وحسبك بهذا مروقًا من الدين وخروجًا عليه) . أما زعمه الأول (منازعة الله تعالى وتَقدّس في ألوهيته) فلم يأت عليها بشبهة، وأما الثانية المتعلقة بالقرآن العظيم؛ فقد ذكر لها شبهة لا يقولها إلا مثله وهي: أننا نقلنا منذ أربع عشرة سنة أن بعض أدباء مصر قال في وصف مقدمة كتابنا الحكمة الشرعية: كدنا أن لا نميز بين كلامها وما فيها من آيات القرآن لولا الحفظ. لو كان مثل هذا مما يشتبه على من شم رائحة العلم باللغة العربية لرددنا عليه - لا بأنه من باب الغلو الشعري في التشبيه الذي قاعدته أن المشبه به أبلغ وأعلى من المشبه، ولا بأن حاكي الكفر ليس بكافر إذا فرضنا أن هذا كفر أو خطأ، ولا بأن عدم التمييز بين كلام البشر وبعض كلام الله المقتبس فيه لغير الحافظ لا يعده أحد من فقهاء المسلمين كفرا، ولا طَعْنًا في القرآن لأنه قد يكون من الجهل بالإعجاز أو يكون ذلك المقتبس قليلا لم يبلغ القدر الذي قال علماء العقائد إنه معجز، ومن كفر من يخطئ بمثل هذا فإنه يُكَفِّر أكثر المسلمين، ولا سيما الأعاجم والأميين - بل كنا نورد بعض الآيات الكريمة من الكتاب المجيد في استعمال مادة كاد استعمالاً لا يقدر القاذف المُكَفِّر أن يفسره بمثل ما فسر به كلمة ذلك الأديب، كقوله تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} (الإسراء: 73-74) . كاد معناها المقاربة ومن قارب الشيء لا يحكم عليه بأن تلبس به بل يحكم بأنه لم يتلبس به، وقد يكون ذكر المقاربة للتمهيد إلى نفي الشيء في مظنة وقوعه بحسب العادة أو ما من شأنه أن يخطر بالبال لا لإثباتها بالفعل، ولذلك قال بعض المفسرين: إنه صلى الله عليه وسلم ما ركن إليهم ولا قارب الركون. ومعنى عبارة ذلك الأديب المصري (وهو إبراهيم بك اللقاني رحمه الله تعالى) أن تلك المقدمة بليغة بحيث يمكن للمبالغ في مدحها أن يقول لولا الحفظ لقاربت أن لا أميز بينها وبين ما فيها من الآيات المقتبسة حقيقة أو ادعاء على سبيل المظنة، وحاصله أنه ما قارب، فكيف يكفر هو ومن نقل كلامه. من قبيل هذا الطعن ما شنع به بعض الدجالين من أعداء الإصلاح علينا وعلى شيخنا الأستاذ الإمام، وشيخه حكيم الإسلام، ويتجرأ به على رمينا بالكفر والدعوة إليه ويطعن في أنسابنا ويستدل على ذلك بأوهامه وأحلامه، التي يصورها له الشيطان في يقظته ومنامه، ومن الناس من تصور لهم أحلامهم أفضل البشر، بما يناسب اعتقادهم (أي الرائين) من الصور، كما تريهم طواغيتهم بصور نورانية، وهياكل قدسية، وقد بلغ بعض الصالحين أن بعض مبغضيه رآه بصورة مظلمة، فقال إنما رأى صورة نفسه في مرآتنا الصافية، ومثله قول الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله تعالى في هذا المعنى: (ذا مِن صفانا رأوا أوصافهم فينا) على أن غير واحد من أهل العلم والصلاح قد رأوا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى رؤى صالحة تمثل ما كان عليه من كمال العلم والعرفان، واستغراق الأوقات في خير الأعمال، فهل نعتد برؤى الصالحين، أم بأحلام سيئي الاعتقاد من الدجالين، الذين تشهد عليهم ألسنتهم بأنهم ينطقون عن الهوى، كما نبين لك ذلك بالأمثلة الآتية: فمما قاله من أشرنا إليه في الأستاذ الإمام: أن تفسيره للقرآن كان يبدي فيه آراءه وهي إما فسق وإما كفر! ! ولكن كيف كان يُقِرّ هذا الفسق والكفر علنًا علماء الأزهر، فهل أجمعوا على الفسق والكفر، وانفرد ذلك الشاعر الدجال بالإيمان والتقوى؟ ومن قال هذا القول في تفسير الأستاذ الإمام الذي كان يلقيه في الأزهر على مسمع الجم الغفير من العلماء والطلاب لا يُستغرب منه أن يقول: إن صاحب المنار جوز الكفر لتلاميذ المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت في جزء شهر شعبان سنة 1327 ومن راجع ذلك العدد يرى فيه أننا شددنا عليهم في مسألة مشاركة النصارى في حضور عبادتهم وذكرنا لهم اتفاق العلماء على حظر ذلك وعدِّه من الردة بشرطه، ونصحنا لهم بأربع: 1- مطالعة الكتب التي تبين حقيقة الإسلام والنسبة بينه وبين النصرانية. 2- مطالعة الكتب التي تعارض كتبهم الدينية ككتاب أضرار تعليم التوراة والإنجيل. 3- المواظبة على الصلوات الخمس لا سيما مع الجماعة وعلى الصيام وسائر أعمال الإسلام. 4- ما أمر الله به من التواصي بالحق والتواصي بالصبر و.. إلخ (راجع ذلك في ص 639 م 13) . فإذا كان هذا هو تجويز الكفر فما هو الإسلام والإيمان؟ هل هما نشر الخرافات الممهدة لدعوة الدجال؟ *** نقد الروايات وحديث سجود الشمس واستئذانها بالطلوع هذان مثالان أو أمثلة من مطاعن الدجالين الذين يملي عليهم الجهل والهوى ما يكتبون، ولا يميزون بين ما هو بديهي البطلان وما يمكن أن تقوم عليه الشبهة، ومن النوع الثاني تحريفهم لكلام لنا في نقد الروايات نذكره ثم نبين حقيقة معناه، وما قالوه فيه. وهذا نصه بعد بيان مكان أحاديث الآحاد من الدين، وهل تفيد الظن أو اليقين: (ولا شك في أن كثيرًا من الأحاديث المروية في دواوين المحدثين المشهورة تفيد هذا النوع من العلم واليقين ولا يعقل أن يكون كل ما رواه المسلمون عن النبي صلى الله عليه وسلم غير موثوق به بل لا يعقل أن تكون أكثر روايات التاريخ التي اتفق عليها المؤرخون كاذبة، فكيف يكون أكثر ما رواه المحدثون واتفقوا على تصحيحه كاذبًا وهم أشد تحرِّيًا وضبطًا من المؤرخين، واحتمال خطأ بعض الرواة العدول ووقوع ذلك من بعضهم لا يمنع الثقة بكل ما يروونه، كما أن مجرد تعديل المحدثين لهم لا يقتضي قبول كل ما رووه بغير بحث ولا تمحيص. فالجامعان الصحيحان للبخاري ومسلم هما أصح كتب الحديث متنًا وسندًا لشدة تحري الشيخين فيهما (رضي الله عنهما وجزاهما خيرا) ومع هذا لم يتلقهما المحدثون بالقبول تقليدًا لهما وثقة مجردة بهما، بل بحثوا ومحصوا وجرحوا بعض رواتهما وبينوا غلط بعض متونهما كتغليط مسلم وغيره لرواية شريك عند البخاري في حديث المعراج، وتغليطهم لمسلم في حديث خلق الله التربة يوم السبت (وتقدم ذكرهما) وفي حديث صلاة الكسوف بثلاث ركعات وثلاث سجودات، وفي حديث طلب أبي سفيان بعد إسلامه أن يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة ويتخذ معاوية كاتبًا. ومن دقق النظر في تاريخ رجال الصحيحين ورواية الشيخين عن المجروحين منهم يرى أكثرها في المتابعات التي يراد بها التقوية دون الأصول التي هي العمدة في الاحتجاج، ثم إذا دقق النظر فيما أنكروه عليهما مما صححاه من الأحاديث يجد أن أقوالهما في الغالب أرجح من أقوال المنازعين لهما لا سيما البخاري فإنه أدق المحدثين في التصحيح ولكنه ليس معصومًا من الغلط والخطأ في الجرح والتعديل. وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء الحديث لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها والقليل منها مختلف فيه، وما من إمام من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها، فإذا جاز رد الرواية التي صح سندها في صلاة الكسوف لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز رد رواية خلق الله التربة يوم السبت.. إلخ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة أيام وللروايات الموافقة لذلك، فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ التلاوة ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا بدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي وأمثاله كثيرون) ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها لأن نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها، ولأنها مؤيدة لقول الكفار {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وهو ما كذبهم الله فيه بقوله بعده {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: 48) . ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب بعد الغروب؟ والجواب عنه بأنها تذهب فتسجد تحت العرش وتستأذن الله تعالى بالطلوع إلخ، وقد سألنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه لأننا لم نجد جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، فإذا قلنا إنها يصدق عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى، ولأن كل مخلوق هو تحت عرش الرحمن - إن لم تكن التحتية فيه حسية لأن الجهات أمور نسبية لا حقيقية فهي معنوية - إذا قلنا هذا أو إنه تمثيل لخضوعها في طلوعها وغروبها وهو أقرب فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا لا مراء فيه؟ اللهم لا. ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يخرج بعضه على أنه من باب الرأي في أمور العالم والأنبياء لا تتوقف صحة دعوتهم ونبوتهم على العلم بأمور المخلوقات على حقيقتها ولم يقل أئمة الدين إنهم معصومون فيها كما يدل عليه الحديث الصحيح في تأبير النخل ولكن يستثنى الإخبار عن عالم الغيب فهم معصومون فيه. زعم ذلك الدجال أن في هذه العبارة تصريحًا بصحة رواية حديث سجود الشمس وإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكذيبًا له اللهم (سبحانك هذا بهتان عظيم) واستنبط من ذلك الجزمَ بكفر صاحبها! ! والعبارة بعيدة من هذا الزعم، كبعد ذلك المحرِّف عن الإخلاص والعلم، إذ الكلام في الرواية التي ترد لعلة في متنها وإن صح بحسب صناعة تعديل الرجال سندها، ومعنى رد الرواية عدم تسليم إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابي ومثلنا لذلك بما رد من هذه الروايات لمخالفته لما جرى عليه العمل بالإجماع، وما ردًّ لمخالفته للقرآن (ومن هذا القبيل رد المفسرين لرواية الصحيحين في سبب نزول {فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} (النساء: 88) كما ترى في تفسير هذا الجزء) وبما رد منها لكونه شبهة على القرآن. ثم قلنا (ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع كرواية السؤال

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (أساس التقديس) رسالة في علم الكلام للشيخ فخر الدين (محمد بن عمر) الرازي الشهير، كتبها وأهداها للسلطان أبي بكر بن أيوب. وقد بسط الكلام فيها على تأويل المتشابهات من الآيات والأحاديث الواردة في صفات الباري تعالى، وأسلوبه في مذهب الأشعري معروف مشهور يمتاز بالسهولة وكثرة الدلائل التي لم يُسْبَق إليها، ويتكلم في أواخرها على مذهب السلف. (الدرة الفاخرة في تحقيق مذهب الصوفية والمتكلمين والحكماء في وجود الله تعالى وصفاته ونظام العالم) هذه الرسالة للشيخ ملا عبد الرحمن الجامي يذكر فيها مذهب المتكلمين في المسألة ثم مذهب الحكماء ثم مذهب الصوفية، ويرجحه على المذهبين. ولعمري إن الجميع فلاسفة، ولكل وجهة وطريقة في البحث. والحق ما كان عليه سلف الأمة الصالحون من أهل الصدر الأول. طَبَعَ هاتين الرسالتين في كتاب واحد الشيخ محيي الدين صبري الكردي وشريكاه من قومه الشيخ عبد القادر معروف والشيخ حسين نعيمي. فنثني على همتهم ونَحُثُّ أهل العلم على قراءة الرسالتين، وتباعان في مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر. (الواجبات) كتاب جديد وضعه وطبعه ونشره سامي أفندي بواكيم الراسي من فضلاء السوريين في (سان باولو - البرازيل) وقدَّمه هدية معنوية إلى والده يواكيم أفندي مسعود الراسي، قسَّم المصنف الواجبات إلى واجبات عامة وواجبات إفرادية، فمن الأولى ما يجب للأهل والأقربين والأزواج والأصدقاء بعضهم على بعض وكذا ما يجب للأعداء وللجنس البشري وللبهائم. ومن الثاني ما يجب على المعلمين والصحافيين والأطباء والمحامين والجنود والتجار والزراع والصناع. وذكر أنه كتب ما يشعر به، أي كتب كتابة المستقل الذي يستملي من فكره ووجدانه، لا من تخيله ومحفوظه، وقد قرأنا جملاً من الكتاب تدل على صدق المؤلف في دَعْواه، ونرى أن كتابه من الكتب النافعة. (لغة العرب) مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية أصدرتها في بغداد (رهبنة الآباء الكرمليين) وجعلت صاحب امتيازها (الأب أنستاس الكرملي) ومديرها المسئول كاظم أفندي الدجيلي. صدر الجزء الأول منها في أول هذا الشهر وصفحاته أربعون من قطعة رسالة التوحيد، واعتذرت المجلة عن ذلك بأنها لم تجد في بغداد ورقًا كبيرًا كورق المجلات العربية في الشام ومصر كما أنها لم تجد فيها حروفًا كحروفها في حجمها واستكمال نقطها وحركات شكلها ليتسنى لها ضبط ما تحتاج إلى ضبطه منها بالحركات. ومن مزايا هذه المجلة أنها ستبين لنا من أحوال العراق وما اتصل به من جزيرة العرب ما نحن في حاجة شديدة إليه. وقيمة اشتراكها فيما عدا ولاية بغداد من البلاد العربية تسعة فرنكات في السنة. والمرجو أن تنجح لقدرة أصحابها على الخدمة التي انتدبوا لها بالعلم والمال. (رواية البائسين) هي القصة الشهيرة التي صنفها باللغة الفرنسية شاعر فرنسة العظيم فيكتور هيكو. وهي كمصنفها أشهر من نار على علم عند جميع الشعوب الأوربية، وكان شاعر مصر الشهير محمد حافظ إبراهيم ترجم من بعض سنين جزءًا منها بالعربية ترجمة تصرف فيها بالمعاني وأبدع في صناعة التعبير ثم لم يتم الترجمة، فانبرى لترجمتها كلها ترجمة حرفية صديقنا جرجي أفندي وصموئيل أفندي يني صاحبا مجلة المباحث، التي تصدر في طرابلس الشام، وقد صدر الجزء الأول من ترجمتهما في 200 صفحة، والمرجو من نشاطهما أن يتما ترجمة الكتاب في وقت قريب؛ ليستفيد منه قراء العربية ما فيه من الحكمة العالية والآداب السامية، التي نال بها فيكتور هيكو من العظمة والشهرة ما لم ينله أحد من الشعراء والعلماء، ولا من الملوك والأمراء. (شفاء العائلات. من أدران الموبقات) قصة صنفتها الكاتبة الإنكليزية (ألن وود) وأودعتها تاريخ أسرة كبيرة من قومها اسمها أسرة (دانسبري) كانت في أوج العلياء ثم هبطت إلى الحضيض بفشو السكر فيها وما يتبع السكر من الشرور والمفاسد. وقد ترجمها بالعربية إسكندر أفندي إبراهيم يوسف وطبعت في مطبعة المعارف وتطلب من مكتبتها. (مصرع الظالمين) قصة تمثيلية جديدة من تصنيف توفيق أفندي سعيد الرافعي قال في وصفها: (تمثل الظلم في أبشع مظاهره والانتقام من الظالمين، ثم تمثل الأمانة والطهارة في الحب، والخيانة والغش في الدولة، وضعف المرأة وقوة الرجل، والانكباب على الملاذ والشهوات، وما ينتج عن كل ذلك من النتائج السيئة والحسنة، في عبارة لا تلطف على العامة، ولا تسفل عن الخاصة) . (عدل القضاء) قصة أدبية ألفها محمد أفندي حافظ وطبعها الشيخ أحمد علي المليجي الكتبي الشهير بجوار الأزهر ومنه تطلب) . (الصهيونية) (ملخص تاريخها - غايتها، وامتدادها إلى سنة 1905) نشرت جريدة الكرمل التي يصدرها في حيفا نجيب أفندي الخوري مقالات في جميعة اليهود الصهيونية التي تسعى لتمليك اليهود بلاد فلسطين وتمهد السبيل لإعادة ملك بني إسرائيل في تلك البلاد، وقد كنا حريصين على جمع نسخ الجريدة التي نشر فيها تلك المقالات؛ لما فيها من الفوائد السياسية والتاريخية، ولكن صاحب الجريدة كفانا ذلك فجمع ما كتبه في رسالة بلغت 64 صفحة. وقد اعتمد في جُلِّ ما كتبه على دائرة المعارف اليهودية فلخص منها بالترجمة العربية جل ما كتبه فنشكر له هذه الخدمة، ونحث جميع قراء العربية، ولا سيما العثمانيين على قراءة رسالته والاعتبار بها.

فقيد مصر مصطفى رياض باشا ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فقيد مصر مصطفى رياض باشا (3) نقلنا في الجزء السابع (الماضي) ما كتبه الإمام في كتابه (أسباب الثورة العُرابية) عن إبطال رياض باشا للسخرة , ووعدنا بأن ننقل عنه شيئًا آخر من أعماله الإصلاحية , وها نحن أولاء ننجز الوعد، فنقول: كتب الأستاذ عقب ما تقدم ما نصه: (العدل في الري) واهتم رياض باشا بأن توزع مياه النيل بالقسط، وقد كان الفقراء لا ينالون من النيل أيام هبوطه إلا فضلات ما يبقى عن ري أراضي الأغنياء، فوضعت نظارة الأشغال العمومية بعض الروابط، وشددت المراقبة في تنفيذها، فأصاب التوزيع جانبًا من العدل، غير أن عادة بعض موظفي الهندسة حالت دون الغاية المطلوبة، خصوصًا مع تعود الأهالي على السكوت عن ذلك وعدم الشكوى منه؛ ظنًا منهم بأن الدعاء لا يجاب في أرض مصر على ما يعهدون , ولكن أتذكر أنني ذكرت لرياض باشا يومًا حالة قسم الحاجر في مديرية البحيرة وأن الماء محجوز عنه، وقد كادت تتلف زراعة القطن فيه، فلم تمض بضع دقائق حتى كتب لنظارة الأشغال بتحقيق السبب، وبعد يومين أطلقت المياه، وأوخذ المتسبب في حجزها، وهكذا كان شأنه عند سماع أي شكاية من هذا القبيل. وإني أتذكر حادثة عُدّت في وقتها من أغرب الحوادث؛ ذلك أن بولينو باشا كانت له آلة بخارية رافعة للمياه على جدول عظيم بجوار دمنهور، وكان يعطي الماء للأهالي بالأجرة، وكان يستمر في إدارة وابوره إلى ما بعد ارتفاع الغيطان وتزاحم المياه على فم الترعة؛ ليستزيد من الأجور، وكانت تلك عادته من سنين، والأهالي متعودون على هذا الظلم؛ لكثرة الشكوى وعدم الإشكاء. ففي أول نظارة رياض باشا كانت قد ارتفعت مياه النيل، ومن المعروف أن المياه في شهر سبتمبر تعلو فوق مستوى أغلب الزرع في مصر، فركبت المياه فم الجدول، ووابور بولينو باشا مستمر الدوران والمياه محجوزة عن الأهالي إلا أن تكون من مياه بولينو باشا، فشكوا للمدير لإحساسهم بفائدة الشكوى إذ ذاك، وعرض المدير شكواهم على رياض باشا فأمر بفتح الترعة , وعند التنفيذ جاء رجال بولينو بالسلاح لمقاومة المنفذين، وأشعر رياض باشا فأمر بفتح الترعة ولو بقوة السلاح، ففتحت تحت حماية العساكر المصرية. كانت مديرية البحيرة من أسوأ المديريات حالاً من جهة الري وأعمال التطهير, فكان أهاليها يسامون العذاب أيام الشتاء في تطهير ترعة الخطاطبة، ويجلب من سكان المديريات الأخرى عدد عديد لمساعدتهم؛ ليستحصلوا على قليل من الماء , لا يكفيهم بعد شدة العناء , وكثيرًا ما فتك الموت فيهم أيام العمل لشدة البرد , فاهتم رياض باشا ليخفف المصاب عنهم، وأنشأت نظارة الأشغال العمومية نظام شركة ري البحيرة، وكان يوم البدء بإدارة آلاتها يومًا معروفًا، احتفلت فيه الحكومة احتفالاً عظيمًا، حضره كثير من كبار الموظفين والأجانب، وشرب فيه رياض باشا كأسًا من ماء النيل على ذكر نجاح عمل يتعلق بمنفعة النيل. (إلغاء الضرائب) ولم تمض بضعة أشهر على تعيين هذه الوزارة، حتى ألغي نيف وثلاثون ضريبة من الضرائب الصغيرة التي كانت أخرت بالمصنوعات، وأوقفت حركة الأعمال التجارية والصناعية الخاصة بالأهالي، وأساءت حال المزارعين , وزيد مئة وخمسون ألف جنيه على ضريبة الأطيان العشورية؛ تعويضًا لما فات بإلغاء تلك الضرائب , ولا يخفى أن أغلب هذا النوع من الأطيان في يد الأغنياء، فقد خف بذلك عن الفقراء ما ثقل على أهل الثروة، وهو مما لا يمحى أثره من نفوس الفريقين. وذهب الأفواج من التجار والصناع إلى سراي الإسماعيلية؛ ليعلنوا شكرهم للجناب الخديوي على إلغاء تلك الرسوم القاتلة للأعمال في مصر, وكان لذلك احتفال عظيم. ولكن الذوات الكرام لم يحتفلوا له، ولم ير لجماهيرهم سواد حول السراي ولا داخلها؛ إلا في أيام التشريفات والمقابلات التي ينحصر موضوع الكلام فيها في حالة الجو وحره وبرده واعتداله، ولا يذكر فيها أمر إلغاء الضرائب، وربما ذكر فيها استحسان إبقائها أو الزيادة فيها على أن يكون ذلك على الفقراء. ثم عفت الحكومة عما عجزت عن تحصيله من الضرائب والرسوم المتأخرة لغاية سنة 1876، ورفعت بذلك المطالبة به عن الأهالي، وفرح به كثير من الأغنياء الذين ظهروا بمظهر العجز، وراوغوا في دفع الضرائب فيما سبق، وساعدتهما الحظوة على الإمهال إلى ذلك الوقت. (ميزانية الحكومة ونظام الجباية) ثم نظم برنامج الإيراد والمنصرف من مال الحكومة (ميزانية) ، وشكلت لجنة لسماع شكايات المطالبين بالضرائب وإنصافهم , ووضع نظام التحصيل في الأوقات المعينة حسب على مواسم الزراعة، وعرف الفلاح ما له وما عليه , وهذه الأمور أجريت طبقًا لما كانت أشارت له لجنة التفتيش العليا، كما صرح به رياض باشا فيما كتب به إلى لجنة صندوق الدَّيْن. ولما نظمت أوقات التحصيل على حسب مواسم المحصول، نما في الناس الشعور بأن الحكومة نوع محدود من النظام، وأنها لا تريد منهم إلا مبالغ معينة , وليس من شأنها أن تشغل الأهالي كما تشغل الماشية بدون استبقاء شيء في أيديهم, وبدأوا يوقنون بأن ما زاد من الضرائب المحددة فهو لهم خصوصًا، بعد ما صدرت الأوامر الصريحة بأن لا ضريبة توضع إلا بنظام معروف، تراعى فيه المصالح وتبين فيه الأسباب. ثم ظهر عقب ذلك مبدأ المساواة بين الأغنياء والفقراء وبين الأجانب والوطنيين , فقد كان الغني أو الذات الكريمة من ذوات الحكومة يماطل في دفع الضرائب من سنة إلى سنة، وربما عوفي من دفعها بعد ذلك، ويوزع ما لم يدفعه على أراضي جيرانه من فقراء الأهالي , وهكذا كان شأن الأجانب بعد ما يأخذون الأراضي من مالكيها؛ إيفاء لديونهم، أو يشترونها بالثمن البخس عند اشتداد الضيق على الفلاح وإلحاح الكرباج على بدنه بدفع ما لا يلزمه، وليس في يده منه شيء. كانوا يماطلون في دفع الضرائب، وما أبوا دفعه يوزع بغير حق على المساكين الذين لا حامي لهم. أما بعد مضي أشهر من نظارة رياض باشا، فقد صدرت الأوامر مشددة بتحصيل ما على الأجانب والذوات بالطريقة التي يجري بها تحصيل ما على الأهالي بدون مراعاة، وقد نفذت الأوامر بعدما لاقت صعوبات كثيرة , وظهر عند التنفيذ أن بعض الأغنياء والأجانب كان في ذمته ضرائب سبع سنين، فحصلت منه بقوة الحكومة , وهذا مما لم يكن يسمع به من قبل. ثم صدرت أوامر في ابتداء سنة 80 بإلغاء لائحة المقاولة، وإعفاء الممولين من دفع ما بقي منها. ولكن مع إلغاء الامتياز الذي اكتسبه من دفعها جملة، وبعض الامتياز الذي ناله من دفع بعضها، وفرح بذلك قوم وسيء به آخرون، وسنذكر شيئًا من أثر ذلك فيما بعد. (إبطال الكرباج ومنع الحبس لتحصيل الحقوق) وصدرت الأوامر بإبطال استعمال الكرباج بتحصيل الأموال الأميرية، وعجب كثير من الناس من ذلك، وقالوا: كيف يمكن أن يحصَّل مال من الفلاح بدون ضرب؟ وأنكرته نفوس كثير من المديرين، وظنوا أن قد هدم ركن عظيم من سلطان الحكومة على قلوب الرعية، ولكن لم يمض إلا قليل حتى ظهر الخزي على وجوه القائلين بأن الفلاح المصري لا يؤدي ما عليه إلا بالكرباج، وأخذ الممولون يتسابقون إلى دفع ما عليهم حتى قبل الأجل؛ خوفًا من ضياع النقد عند حلول الآجال المعينة. وهكذا صدرت الأوامر مشددة في عهد رياض باشا بمنع الحبس؛ لتحصيل الحقوق، سواء كانت أميرية أو شخصية، وقد لاقى تنفيذ هذه الأوامر مصاعب ومقاومات؛ لتمكن الميل إلى الظلم في نفوس أغلب المأمورين. لكن رغمًا عن كل ذلك فقد ظهر أثره ظهورًا بينًا. ولم تأت آخر مدة رياض باشا حتى محي أثر الحبس لتحصيل الحقوق إلا ما ندر ولم يكن يعرف , ومن غرائب آثار التعود على الظلم وعلى رؤيته ملازمًا للسلطة في مصر؛ أن الذين حفظت أبدانهم من الضرب والجلد وأرواحهم وأجسامهم من الحبس في سبيل اقتضاء الحقوق، سواء كانت للحكومة أو للأفراد، كأنهم يعدون تلك الأوامر مخالفة لما يجب أن يعاملوا به , وأن لا يفيد فيهم إلا الكرباج، كما لا يزال قوم منهم يقولون بذلك إلى اليوم , وكانوا يهزءون بتلك الرحمة. اللهم إلا الذين لمع في عقولهم روح الفهم ووصل إلى أبصارهم شعاع الإحساس؛ بما للإنسان من حق التكرمة التي خصه الله بها. ا. هـ المراد. هذا ما ننقله من صفحات هذا التاريخ الصادق؛ للاستدلال به على أن رياض باشا كان من الرجال المصلحين في إدارة الحكومة , وإن لنا لمجالاً واسعًا في الاستدلال على سائر ما ذكرنا من أخلاقه وصفاته الحميدة. ((يتبع بمقال تالٍ))

تأبين رياض باشا ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأبين رياض باشا في يوم الجمعة الثاني من هذا الشهر، احتفل بتأبين فقيد مصر ووزيرها المصلح مصطفى رياض باشا لمضي أربعين يومًا على وفاته. وكان الاحتفال في حوش قبره وقبور ذويه (مدفنهم) بقرافة الإمام الشافعي. وحضر الاحتفال رئيس النظار محمد سعيد باشا وكثيرون من العلماء والكبراء والأدباء. فافتتح بتلاوة مجيدي الحفاظ لآيات القرآن العظيم، ثم بأنشودة أنشدها تلاميذ مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية في القاهرة. ثم تليت الخطب وأنشدت القصائد في تأبين الفقيد، ووزع بعض القصائد مطبوعًا. ابتدأ التأبين حسن باشا رضوان وكيل المؤتمر المصري، فذكر عمل الفقيد في المؤتمر وخدمته الحسنة في قبول رياسته، وما كان لذلك من التأثير الصالح، وخطب كثيرون منهم الشيخ محمد بخيت قاضي الإسكندرية الشرعي، وحسن بك عبد الرازق وأحمد باشا زكي الكاتب الأول لأسرار مجلس النظار، بل تلا هذا وهو قاعد ملخص تاريخ الفقيد في صحائف طويلة مفيدة. وكانت قصيدة محمد حافظ أفندي إبراهيم أحسن المراثي، وتليها مرثية الشيخ محمد الحملاوي ناظر مدرسة عثمان باشا ماهر. وارتجل صاحب هذه المجلة خطبة ختم بها التأبين، وبين طريق العبرة وهذا ملخصها: أيها السادة الإخوان: لم يترك الخطباء والشعراء المؤبِّنون مجالاً لقائل يجول به في هذا الوقت القصير، وقد مل الحاضرون من طول المكث وحرارة المكان، فأحب أن أكتفي بكلمة وجيزة أوجهها إلى الشبان قبل غيرهم فأقول: قد صار الاحتفال بتأبين الرجال المحترمين عادة مألوفة بيننا في هذا العصر، وكان التأبين والرثاء للأموات معهودين في العصور السابقة كالأماديح للأحياء. ولكن بين الرجال الذين يرثون ويؤبنون فرقًا عظيمًا. فما كل من أُبِّنَ ورثي مدح كفقيد مصر الذي نؤبنه ونرثيه اليوم. للخطباء والشعراء في كل من ينظمون وينثرون فيه الثناء أقوال متشابهة، يدخل أكثرها عند الناقدين في باب أعذب الشعر أكذبه. وإذا دققنا النظر، نرى أن ما قيل في فقيدنا اليوم غير ما كنا نسمعه ونقرؤه في أكثر الذين رُثوا وأُبنوا من قبله أكثر تلك تخيلات شعرية , وإيهامات خطابية , إذا حللتها لم تحل منها بطائل, إذ لا تنبئ عن عمل ثابت, ولا عن خلق راسخ. وإنما تجدها أماديح مبهمة , بألفاظ عامة , تقال في كل صاحب مكانة وشهرة: كالفضل والنبل والعدل , والمجد والسعد والحمد , وما شاكل ذلك. وهذه مدائح عملية ثابتة: رياض باشا فعل كذا وكذا من الإصلاح , رياض باشا أزال كذا وكذا من المظالم والمفاسد , رياض باشا كان في أخلاقه كذا وكذا من الفضائل. إلى آخر ما سمعتم، وللفقيد من المزايا والأعمال ما لم يتناوله المقال. الرجال بالأعمال, والأعمال آثار الصفات والأخلاق , وبذلك يتفاضل الناس لا بالعلوم وشهادات المدارس فقط. لا أريد بهذا أن أغمط قدر العلم وأحط من قدره، وإنما أريد أن أنبه شبابنا الأذكياء إلى أن العلم وحده لا يكفي لجعل الرجل عظيمًا في قومه , نافعًا لأمته ووطنه , فإن العلم آلة تديرها الأخلاق , فإذا كانت أخلاق الرجل فاسدة كان علمه كالسيف في يد المجنون، يضر به ولا ينفع. قد ثبت في إحصاءات بعض القضاة في أوربة؛ أن الذين يرتكبون الجرائم والجنايات من المتعلمين وحملة الشهادات العالية أكثر من الذين يرتكبونها من العوام والأميين، كما بَيَّن غوستاف لوبون في كتابه (روح الاجتماع) ، فإذا كان العلم وحده لا يمنع الرجل أن يكون من المجرمين , فهل يكفي لرفعه إلى أفق الرجال المصلحين؟ ! كان رياض باشا رجلاً عاملاً مصلحًا لا بشهادة الشعراء والمؤبنين فقط , بل شهد له كبار الرجال من أوربا وهم قلما يشهدون لرجل شرقي؛ لأن ضعف الشرق وانحطاطه الاجتماعي صرف أبصارهم عن النظر فيما عساه يوجد فيه من فضيلة ومزية؛ ليروها كما هي ويقدروها قدرها. وإنما كان رجلاً بأخلاقه الفاضلة وصفاته الحميدة؛ من استقلال الفكر والإرادة , وقوة العزيمة , والعفة والنزاهة , والإخلاص في العمل , والقيام بالمصالح العامة , وغير ذلك مما سمعتم. يوجد في الناس من ينتقدون بعض أعمال هذا الرجل , وما كان معصومًا من الخطأ فيعدوه الانتقاد. ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: إن عملاً من أعماله المنتقدة كان عن سوء نية أو فساد خلق؛ كالتوسل به إلى الشهوات , والمحافظة على المنصب , أو الاستكثار من المال والعقار, أو ابتغاء مرضاة الرؤساء والأمراء؛ لأجل العروج في معارج الارتقاء. فمن ينتقده في بعض أعمال , يمدحه ويظهر فضله في أخلاقه. يقولون: اجتهد فأخطأ. وهكذا كان ينتقد على عظماء الرجال من الصحابة والأئمة فمن دونهم؛ لأن الخطأ من شأن البشر. قالوا: المجتهد يخطئ ويصيب، وقال أهل السنة اجتهد علي رضي الله عنه في قتاله لمعاوية فأصاب. واجتهد معاوية في خروجه على علي فأخطأ فلا غضاضة ولا عار على الرجل العامل أن يجتهد فيصيب تارة ويخطئ تارة , وإنما العار على الذين يقترفون الخطايا عامدين عالمين لفساد أخلاقهم واتباع شهواتهم. لم يقل أحد: إن رياض باشا كان يغشى في أوربة حانات السكر ومواخير الفسق، ولم يقل أحد: إنه كان يلعب القمار, ولا أنه تدنس بشيء من هذه الشهوات والأطماع , ومن كان هكذا طاهرًا نقيًّا فهو جدير بأن يصرف وقته إلى أفضل الأعمال , حتى يعد من عظماء الرجال. من أحب منكم أيها الشبان الأذكياء أن يستفيد من سيرة هذا الرجل العظيم، وأن يكون في قومه أرقى من الزراع والصناع الذين يعمل كل منهم للهيئة الاجتماعية عملاً صغيرًا على قدره. من أحب أن يكون رجلاً عظيمًا للأمة، رافعًا لقدرها مصلحًا فيها فعليه أن يعنى قبل كل شيء بتهذيب أخلاقه , عليه أن يكون مستقل الرأي والإرادة. ولا يكون ممن قيل فيهم: (أتباع كل ناعق) الذين يرضون دائمًا أن يكونوا أذنابًا متبوعين. يلتمسون لهم من يقودهم فيسيرون وراءه كأفراد الجند، دأبهم الطاعة العمياء , والتصفيق للزعماء , إذا كثر في الأمة المستقلون أصحاب الأخلاق الفاضلة، استقلت وارتقت حتى تكون من الأمم العزيزة وإلا فلا أمة ولا استقلال. والسلام.

مشروع المنتدى الأدبي في التعليم العربي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع المنتدى الأدبي في التعليم العربي ومساعدته عليه قد صار في حكم البديهيات أن حياة الأمم بحياة لغاتها , وارتقاءها الحقيقي منوط بارتقائها , فالمؤرخون يستدلون باللغة على درجة مدنية أهلها في الزمن الماضي , وعلماء التربية يربون الأمة بتهذيب لغتها , وجعلها مستودعًا لجميع العلوم والفنون التي يعلو بها شأنها , حتى أن الشعوب التي ليس للغتها تاريخ في العلوم والآداب , ولم يؤثر عن سلفها شيء تقر به العين من الكتب والآثار, منها ما حاولت من عهد قريب ومنها ما تحاول الآن تدوين لغتها , ووضع المعجمات والنحو والصرف لها , ونقل العلوم والآداب إليها. وإننا نرى للغتنا العربية الشريفة تاريخًا مجيدًا في العلوم والآداب والشريعة , ونرى الملايين من أهلها المختلفين في الأديان والمذاهب والأقطار محتاجين إلى إعادة مجدها الذي ضيعه من قبلهم؛ لأنه لا يمكنهم مجاراة الأمم الصاعدة في معارج الارتقاء إلا بذلك. ونرى ملايين من الشعوب الأخرى يرغبون في إحيائها , وتسهيل سبيل تعليمها؛ لحاجتهم إليها في دينهم , وهم المسلمون من الترك والفرس والتتار والهنود والصينيين والجاويين وغيرهم. في مصر نهضة شريفة في خدمة هذه اللغة , ولما مَنَّ الله على البلاد العثمانية بالدستور, وصارت حرية العلم والتعليم حقًّا لجميع العثمانيين ثابتًا بالقانون , تحركت عزيمة العرب العثمانيين لخدمة لغتهم , ونشر التعليم بها في بلادهم , كما تحرك غيرهم من الشعوب العثمانية لذلك , وهذه هي الطريقة المثلى لإحياء هذه المملكة , وإعلاء شأن هذه الدولة؛ إذ به يقوى كل عنصر في الأمة , وتتسع بها دائرة الثروة , وما ارتقت أمة من الأمم إلا بالتعليم الأهلي، سواء كانت من جنس واحد كفرنسة , أو من أجناس مختلفة كالنمسة , ولاسيما إذا كان يتعذر على الحكومة تعميم التعليم بجميع ضروبه لقلة المال. من أفضل ما قام به العرب العثمانيون من السعي لنشر التعليم بلغتهم مشروع المنتدى الأدبي في دار السلطنة (الآستانة) ، الذي صادف الارتياح من أعيان الأمة ونوابها، والعطف من ولي عهد السلطنة (يوسف عز الدين أفندي) ، فنفح المنتدى بمبلغ من الدنانير مساعدة له على عمله الشريف. هذا المشروع هو نشر التعليم الأهلي في الولايات العربية لجميع أهلها بلغتهم, وله لائحة في ذلك نشرت في أشهر الجرائد المصرية كالمؤيد والعلم والمقطم والأهرام. وقد صادف هذا المشروع العلمي ارتياحًا في هذه البلاد التي هي أم البلاد العربية في العلوم، فتألفت فيها لجنة لمساعدة القائمين به؛ إجابة لدعوة صديقنا عبد الكريم قاسم الخليل رئيس المنتدى، الذي زار مصر في هذا الصيف لأجل هذه الغاية , ووضعوا لهم نظامًا في ذلك. أما اللجنة التي تألفت بمصر لمساعدة المنتدى الأدبي على نشر وترقية التعليم العربي؛ فأعضاؤها المؤسسون 17، وقد اختاروا لرياسة اللجنة محمد باشا الشريعي، وللوكالة رفيق بك العظم، ولكتابة السر عبد الخالق بك مدكور، ولأمانة الصندوق حسن بك عبد الرازق. والباقون هم: أحمد بك تيمور. أثناثيوس مطران أفندي السريان. سامي أفندي الجريديني المحامي. الدكتور شبلي شميل. الشيخ طنطاوي جوهري. عارف بك المارديني. عبد الحميد أفندي حمدي (وهو مأمور الإدارة) . عبد الستار أفندي الباسل. الشيخ محمد المهدي. محمد علي أفندي كامل المحامي. محمود بك سالم المحامي. نقولا أفندي شحادة. يوسف دريان أفندي مطران الموارنة.

الحريق في الآستانة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحريق في الآستانة فجعت الآستانة يوم عيدِ الدستور من الشهر الماضي بحريق هائل، التهم من البلد ما تقدر مساحته بالأميال , وقيمته بالملايين من الليرات, حتى قيل: إنه دمر زهاء ربع إستانبول، ومن المباني التي أكلتها النار في أول شبوبها (دائرة أركان الحرب) ومن المعاهد المشهورة سوق (الشاهزاده) و (آق سراي) و (قوم قبو) وما يتصل بذلك من الدور والمساجد والمدارس. المصاب كبير، ومن حسن الحظ أن كان في الصيف (وبساط الصيف واسع) كما جاء في المثل، ولو كان في شتاء كالشتاء الماضي في برده وثلجه؛ لهلك الألوف من الناس. وقد كنا كتبنا في الجزء الثاني من هذه السنة نبذة في بيان كثرة الحريق في الآستانة، وقلة عناية الحكومة بأمر إطفائها؛ كاتخاذ المطافئ الحديثة وجرها بالآلات البخارية والكهربائية وإعداد الماء لها في كل مكان. وشددنا النكير على حكومتنا في هذا؛ لعلها تتألم فتتذكر أو تخشى فما أفاد التذكير. ومما يذكر مقرونًا بالحمد والشكر والترغيب؛ أن أهل النجدة والسخاء طفقوا يبذلون الإعانات للمنكوبين. ولكن يخشى أن تصرف هذه الإعانات في غير الوجه الأنفع. فنقترح الآن أن تؤلف شركة مالية لبناء ما هدم على الطريقة الحديثة بسرعة، وإعطائها المساكن للمنكوبين بأثمان رخيصة بالتقسيط، وجعل الإعانات التي تجمع عونًا للفقراء على دفع أقساطهم.

استدراك

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ استدراك [1] العصمة لله ولكتابه وحدهما، وقد وقعنا في خطأ في مقالة الفلك في صفحة 589 من هذا العدد من المنار، نبهنا إليه الأستاذ المفضال السيد محمد رشيد، وذلك في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) فأحببت أن أصححه كما يأتي، فيضاف هذا التصحيح في أول ص589 المذكورة بعد قولنا في الصفحة التي قبلها (ولنا في تفسيرها وجهان: إما أن تكون.. . إلى قولنا: وعليه فليس في القرآن ... إلخ) . وصحة العبارة هكذا: كلمة (الأرض) فيها بمعنى الطين والتراب الذي نعرفه، كما في قوله تعالى {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5) وقوله: {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الروم: 19) ونحوه كثير. وإما أن تكون بمعنى الكرة الأرضية كما في قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ} (الزمر: 67) إلى قوله: {فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ} (الزمر: 68) . أما على الوجه الأول، فتقدير الآية هكذا: (الله الذي خلق سبع سموات، ومن هذا الطين والتراب خلق ما هو مثلهن) وهو هذا الكوكب الأرضي أي الكرة الأرضية، فكأنه قال: إن هذه الأرض المركبة من الطين والتراب خلقت مثل السموات أو الكواكب السيارة؛ وذلك لأن الأرض مثل السيارات في المادة [2] وكيفية الخلق، وكونها تسير حول الشمس، وتستمد النور والحرارة منها، وكونها مسكونة بالحيوانات كالكواكب الأخرى، وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو السموات والأرض هي متماثلة من جميع الوجوه، وكلها مخلوقة من مادة واحدة وهي مادة الشمس وعلى طريقة واحدة، قال الله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} (الأنبياء: 30) - أي شيئًا واحدًا - {فَفَتَقْنَاهُمَا} (الأنبياء: 30) أي فصلنا بعضها عن بعض، فالأرض خلقها الله مثل السموات تمامًا {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ} (الملك: 3) ؛ لأن نواميس جميع الموجودات واحدة وعلى تفسيرنا هذا، تكون هذه الآية دالة على أن الأرض هي إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يخطر ببال أحد من العرب؛ وذلك من دلائل صدق القرآن. وأما على الوجه الثاني؛ وهو أن المراد بالأرض الكرة الأرضية، فتقدير الآية هكذا: (الله الذي خلق سبع سموات وخلق من الأرض أرضًا مثلهن) أي أن الآية على طريقة التجريد، كقولك: (اتخذت سبعة أصدقاء، ولي من فلان صديق مثلهم) أي في الصداقة، وقولك: (عرفت من الله ربًّا رحيمًا) والمعنى على هذا الوجه والوجه الأول واحد، أو التقدير: (وخلق بعض الأرض مثل الكواكب) على أن (من) تبعيضية، وهذا البعض هو مثلها في عناصرها الكيماوية الداخلة في تركيبها، فكأنه قال: إن بعض عناصر هذه الأرض، هو مثل عناصر الكواكب الأخرى نوعًا وكمية. والبعض الآخر موجود فيها عناصر أخرى لا نعرفها ولا توجد عندنا، وقد ثبت ذلك للفلكيين بتحليل الضوء بالمنشور (Spectral Analysis) فوجدوا مثلاً في جو المشتري وزحل وأورانوس غازًا لا يوجد عندنا منه شيء، وكذلك يوجد في الشمس عناصر كثيرة لا توجد عندنا، وقد وجدوا في بعض الشموس الأخرى أن السلكا (Silica) تقوم فيها مقام الكربون (الفحم) الذي يكاد يكون معدومًا فيها أو غير موجود مطلقًا، وذلك في مثل نجمي رجل ودنب (Rigel & Deneb) ، ولا ينافي ذلك ما قلناه في الوجه الأول من تفسير هذه الآية، فإن العناصر وإن اختلفت في الظاهر لكن مادتها في الحقيقة واحدة؛ لأنها جميعًا مخلوقة من شيء واحد (وهو الأثير) . ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي

مخاطبات المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مخاطبات المنار صاحبه وإدارته ومكتبته إدارة المنار مختصة بالنظر في أمر الاشتراك في المجلة، وأمر المطبعة وما يطبع فيها , وأمر بيع مطبوعات المنار في الجملة , وستكون الإدارة والمطبعة في أوائل الشهر الآتي في شارع مصر القديمة بالقرب من كوبري الملك الصالح , وعدد (نمرة) الدار 91. ومكتبة المنار مختصة ببيع الكتب المتفرقة من مطبوعات المنار وغيرها، وإرسالها إلى طلابها حيث كانوا , وبيع الأدوات المدرسية أيضًا , وهي في شارع عبد العزيز بالقرب من حديقة سراي شريف باشا. فالمرجو من طلاب الكتب أن يخاطبوا المكتبة بعنوانها هكذا (مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر) . والمرجو من طلاب الاشتراك ومن المشتركين الذين يكاتبوننا في أمر الاشتراك , وممن يريدون أن يطبعوا عندنا شيئًا من الكتب والرسائل أو غيرها؛ كبطائق الزيارة ورقاع الدعوة والأوراق التجارية , ومن طلاب مطبوعات المنار في الجملة , وممن يريدون نشر إعلانات في المجلة، المرجو من كل هؤلاء أن يرسلوا مكتوباتهم باسم (إدارة مجلة المنار بمصر) والعنوان البرقيّ (التلغرافي) هكذا (المنار بمصر) . وأما صاحب المنار، فيختص بالنظر في أمر فتاوى المنار والرسائل التي يراد نشرها فيه، فالمرجو مخاطبته باسمه في ذلك , ويجوز كتابة اسمه على كل ما يرسل إلى الإدارة، ولكن من أراد طلبه في أقرب وقت، فلا يخلط في خطاب واحد بين عدة مطالب. (1) ينبغي أن تكون المكاتبة الشخصية في ورقة على حِدَتها، فذلك أَرْجَى لسهولة الجواب عنها. (2) ينبغي أن تكتب الأسئلة التي يستفتى عنها في ورقة على حِدَتها بخط واضح؛ لأجل أن تعطى لمرتبي الحروف، ويسهل عليهم جمع ما فيها. وكثيرًا ما يكون إيداع سؤال في خطاب شخصي أو خطاب يتعلق بالاشتراك أو شراء الكتب سببًا لإهماله وعدم الجواب عنه , كما أن طلب الكتب في خطاب فيه أسئلة أو أمور تتعلق بالمجلة يكون سببًا لتأخير إرسال الكتب. (3) ينبغي أن يكتب ما يطلب من إدارة المنار (وهو ما بيناه آنفًا) في ورقة على حدته؛ لأجل أن يحول إلى عامل الإدارة، فينفذه في أقرب وقت. إذا روعيت هذه الأمور، فلا بأس بإرسال عدة مطالب في أوراق متعددة توضع وترسل في ظرف واحد باسم صاحب المنار؛ لأنه في هذه الحالة ينظر فيما يخصه، ويحول إلى الإدارة والمكتبة ما يخصهما. (4) ينبغي أن ترسل جميع الحوالات المالية باسم صاحب المنار (محمد رشيد رضا) ، سواء كانت ثمن المنار أو مطبوعاته أو أجرة ما يطبع في مطبعته أو أجرة إعلانات , ولا بأس بإرسال الحوالة الواحدة بأثمان أشياء متعددة. (5) ينبغي أن تكون الحوالات البريدية كلها باسم (مكتب بوسطة مصر) وأن لا يرسل شيء منها بعد الآن باسم (مكتب باب الخلق) ، ولا غيره من المكاتب الفرعية بالقاهرة، وأما الحوالات الخاصة بالمكتبة فترسل باسم مكتبة المنار بشارع عبد العزيز. (6) بنك الكريدي ليونه أحب إلينا من سائر البنوك أن تكون الحوالات عليه.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار المعراج في اليقظة أم في المنام وروحاني أم لا؟ (ص45 و46) من صاحب الإمضاء من سبس برنيو بمصر. حضرة فضيلة الأستاذ العلامة المفضال سيدي السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر، أيد الله بوجوده الإسلام , وذهبت به ظلمات الجهل والبدع المنتشرة بين الأنام. أهديكم عظيم تحيتي واحترامي. إن ترك المألوف أمر صعب على الناس، لاسيما إذا رسخ في اعتقادهم وتمكن من قلوبهم، وإن كان ذلك مخالفًا للحق أو كان عين الضلال، فلم يهن عليهم أن يتركوه؛ ولهذا آتيكم بمسألة مهمة أرجو بيانها بالحق اليقين , وما بعد الحق إلا الضلال المبين , وهي: مسألة المعراج، فهل وافقتم حضرة الفاضل الدكتور محمد توفيق أفندي صدقي في قوله: فالأرجح عندي أن المعراج كان رؤيا منامية كما قلنا، وفي هذه الرؤيا فرضت الصلوات الخمس؛ لأن رؤيا الأنبياء من الوحي كرؤيا إبراهيم أنه يذبح ولده. اهـ. وهل ورد في السنة الصحيحة أن رؤيا الأنبياء صلوات الله عليهم تعتبر شرعًا، وأنها من الوحي كما قال حضرته؟ إنني أول من يسارع إلى قبول قوله: ولو كان المعراج حصل ليلة الإسراء، وكان جسدانيًا مثله لذكر معه في سورته، فإنه أعجب وأغرب وأدل على القدرة الإلهية من الإسراء. اهـ. فإن عروجه صلى الله عليه وسلم بجسده الشريف إلى السموات، مما يؤيد حجته صلى الله عليه وسلم على المكذبين له، في إخباره إياهم بالإسراء. ولكن أشكل عليّ ما رواه الشيخان ونقله القاضي عياض في شفائه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيت بالبراق وهو دابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة , ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل، فقيل من أنت قال: جبريل، قيل: ومن معك، قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه، قال: قد بعث إليه , ففتح لنا، فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير. الحديث. فما قولكم في هذا الحديث أيحتج به أم لا؟ فالمرجو من فضلكم إظهار الحقيقة، فإن ما صرح به حضرة الدكتور مما نخاف ذكره عند عامة المسلمين، خصوصًا عند مسلمي جاوه والملايو فإنهم يتخذون ما وصف لهم من أن السموات خلقت من حديد ونحاس وفضة وياقوت وزبرجد و.. . واعتقادًا راسخًا , وإيمانًا صادقًا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ب. ع (ج) اختلف علماء السلف والخلف في الإسراء والمعراج , أكانا بالروح والجسد أم بالروح فقط , وفي اليقظة أم في المنام , وقد كنا من أول العهد بالتمييز نسمع ذكر هذا الخلاف في المساجد عندما تقرأ قصة المعراج في الليلة السابعة والعشرين من رجب كل سنة. وإذ كانت المسألة خلافية فما على الباحث من سبيل إذا ظهر له رجحان أحد الأقوال أن يقول به , وسبق لنا ذكر هذا القول في المجلد الأول من المنار. وقد رجح بعض المحققين أن الإسراء نفسه كان روحانيًا فما بالك بالمعراج؟ قال ابن القيم في كتابه (زاد المعاد في هدي خير العباد) ما نصه: (فصل) وقد نقل ابن إسحق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، ونقل عن الحسن البصري نحو ذلك. ولكن ينبغي أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء منامًا، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده , وبينهما فرق عظيم. وعائشة ومعاوية لم يقولا كان منامًا وإنما قالا أُسري بروحه ولم يفقد جسده وفرق بين الأمرين، فإن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصور المحسوسة، فيرى النائم كأنه قد عرج به إلى السماء أو ذهب إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد ولم تذهب وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال. والذين قالوا: عرج رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج بروحه ولم يفقد بدنه. وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان منامًا، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها وعرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السمواتِ. اهـ. وأطال في بيان الفرق، وذكر فيه حل إشكال في حديث المعراج، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى في قبره بالكثيب الأحمر (من أرض فلسطين) ، ورآه في السماء السادسة، ولم يعرج جسد موسى من قبره إلى السماء، وإنما تلك روحه صلى الله عليه وسلم. هذا وإن من أدلة القائلين بأن المعراج كان منامًا رواية شريك في صحيح البخاري، فإنه يقول في آخر الحديث: (ثم استيقظت) والذين لا يقولون بذلك يغلطون رواية شريك ومنهم من يقول بتعدد المعراج قال ابن القيم: (فصل) قال الزهري: عرج بروح رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وإلى السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنة. وقال ابن عبد البر وغيره: كان بين الإسراء والهجرة سنة وشهران انتهى. وكان الإسراء مرة واحدة وقيل مرتين: مرة يقظة ومرة منامًا وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات. ومنهم من قال بل كان هذا مرتين: مرة قبل أن يوحى إليه ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث , ومنهم من قال بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده , وكل هذا خبط. وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى , فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع؛ إلى أن قال بعد تعجب من القائلين بالتعدد مما يلزمه من القول بتعدد فرض الصلاة، وقد غلط الحفاظ شريكًا في ألفاظ حديث الإسراء. ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص. اهـ. أقول وفي روايات حديث المعراج: اضطراب واختلاف كثير، طالما ردوا ما وقع فيه مثله. وحديث أنس الذي أشار إليه السائل، لا يسلم من الاضطراب والاختلاف الذي قلناه، ولا يتسع هذا الجواب لبيان ذلك ومقابلته بالأحاديث التي منعوا الاحتجاج بها؛ لاضطرابها واختلاف رواياتها اختلافًا لا يقبل الجمع إلا بتكلف وتسليم ما تسلم به النفس، ولا يصدقه العقل كقول بعضهم: إن المعراج متعدد كان بعضه يقظة وبعضه منامًا , ولا يستطيع عاقل أن يقبل أن يتعدد فرض الله الصلاة على نبيه خمسين ومراجعته فيها، حتى يجعلها خمسًا مرارًا متعددة. ولذلك اضطر بعض المحققين إلى الجزم بأن بعض روايات الصحيحين في المعراج غلط. ولعلنا نبين الروايات كلها ووجوه الاختلاف والاضطراب فيها في مقال مخصوص في هذه المسألة. والظاهر أن الطبيب محمد توفيق صدقي رجح كون المعراج رؤيا منامية؛ لكونه أقرب إلى العقل وأبعد عن الطعن , لا للجمع بين الروايات والتوفيق بينها فإنه لم يتتبعها. على أن القول أقرب ما يتفصي به من اختلافها الكثير. وتعدد الرؤيا واختلاف رؤية الأنبياء في السماوات فيها لا يعد مشكلاً كتعدد ذلك في اليقظة، وإذا صححنا رواية واحدة من هذه الروايات ورددنا ما عداها وإن كان في البخاري، فحينئذ يكون ما قاله المحقق ابن القيم هو الأقرب، وهو أن ذلك كله كان مشاهدة روحية، لم ينتقل فيها جسده الشريف من مكانه. ولا يبعد أن يقع الغلط في الروايات الصحيحة السند، فإن من قل غلطه وشذوذه لا ترد روايته ألبتة، ولا شك عند أهل العلم بالحديث في صحة رواية أنس التي أشار إليها السائل؛ فإنها في الصحيحين ولم يبين وجه استشكاله لها , وهي لا تدل على ما يعتقده أهل قطره من الجاوه والملايو في السموات، وكونها خلقت من حديد ونحاس وفضة وياقوت. وما ورد في خلق مادة السموات لا يصح. وكان الجم الغفير من علماء المسلمين يرى فيها رأي فلاسفة اليونان؛ وهو أنها أجسام شفافة بسيطة. وما يقوله محمد توفيق صدقي تبعًا لعلماء الفلك في هذا العصر أقرب إلى اعتقادهم، فإنهم يقولون: إنها مؤلفة من العناصر التي توجد في أرضنا ومنها الحديد والنحاس.. إلخ. * * * (رؤيا الأنبياء وحي) أما رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكونها من الوحي، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة. وأول أبواب صحيح البخاري (باب كيف بدئ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفيه حديث عائشة: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) الحديث. ومن هذا الباب رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ومنه الأحاديث الصحيحة في رؤيا المؤمن والمسلم والصالح؛ كحديث أنس وعبادة وأبي هريرة مرفوعًا (رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) رواه أحمد والشيخان غيرهما، وحديث أبي سعيد عند البخاري، وعبد الله بن عمر وأبي هريرة عند مسلم الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة ويقابل الرؤيا الصالحة الأحلام، وما يرى الإنسان في النوم مما يحدث به نفسه عادة، وهذا التقسيم ورد في الحديث الصحيح. وجملة القول أن مسألة المعراج فيها الخلاف الذي عرفت، فالذي يتتبع النصوص يرجح ما يراه أقوى وأقرب إلى الجمع بين المعقول والمنقول، ومن لا نظر له في ذلك يقلد من يثق به أو يطمئن قلبه لقول الأكثرين، وهو أن ذلك كان يقظة بالروح والجسد. والعبرة في المسائل الاعتقادية بما يطمئن إليه القلب. ولا ينبغي لمثل السائل من طلاب العلم أن يكون اطمئنانه إلا بعد بحثه ونظره. وليعلم أننا ننشر من الرسائل العلمية (كرسالة الطبيب محمد توفيق صدقي) ما يوافق رأينا وما يخالفه، ولا نحكم رأينا في كل مسألة في تلك الرسائل إلا عند الحاجة. وقد كان الطبيب المذكور ذاكرنا في موضوع رسالة (علم الفلك في القرآن) قبل كتابتها، ثم ذكر فيها ما وافق رأينا وما خالفه بحسب ما ظهر له، حتى إننا بعد طبعها في المنار ذكرنا له خطأه في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) فلما ظهر له ذلك أذعن له كعادته، وكتب ذلك الاستدراك الذي نشرناه له في أواخر الجزء. * * * (إنكار صحة حديث المعراج) (س47) من صاحب الإمضاء في صولو (جاوه) بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله القائم بحقوق الله، وعلى آله وصحبه وناصريه وحزبه. حضرة سيدي المحترم الأستاذ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الأغر. بعد إهدائكم أوفر التحية والإكرام، أقدم إلى حضرتكم سؤالاً أرجو الإفادة بالجواب الشافي كما أن عادتكم شفاء الغليل، وأن يكون في أول عدد يصدر من المنار إذا لم يكن هناك مانع، وأن لا تحيلونا على الأجزاء والمجلدات المتقدمة؛ لكون في ذلك تفتيش أو لكون بعض المجلدات لا يوجد عندنا. (السؤال) طالعت في الجزء الخامس من السنة الثانية من الهداية لصاحبها عبد العزيز جاويش، فعثرت على سؤال وجواب في قصة الإسراء والمعراج بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الجواب ما يشعر أن الإسراء روحي أي رؤيا منامية، واستدل بحديث عائشة ومعاوية، وأن أحاديث المعراج موضوعة بدليل ما فيها مما جرى له صلى الله عليه وسلم من مراجعة ربه عز وجل، وتردده بينه وبين نبي الله موسى، وغير ذلك مما رواه الشيخان في صحيحيهما، وأن ذلك من الأباطيل والألاعيب والأكاذيب والأقاويل المنتحلة التي يجب أن ينزه الله ورسوله عنها. فهل صاحب الهداية مصيب في جوابه أم مخطئ؟ وهل إذا كانت رؤيا منامية أن يستعظم أمرها وتستحيلها العقول، فقد بلغنا أنه صلى الله عليه وسلم ل

كلمات علمية عربية أسوقها إلى المترجمين والمعربين ـ 2

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ كلمات علمية عربية أسوقها إلى المترجمين والمعربين [*] (2) السجيل Pumice stone: نوع من الحجر الخفيف الذي يمتص الرطوبة، ويعرف بالإنكليزية بالاسم المذكور هنا، وأصله من مواد طينية (أرضية) متحجرة تقذفها البراكين من جوفها، ومن هذه الحجارة تكونت بعض الأراضي والجزائر كجزيرة ليباري (Lipari) وهي التي ألقيت على قوم لوط، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} (هود: 82) وكانت إذ ذاك ملتهبة، ولما ألقيت على أصحاب الفيل كانت باردة ولكنها ملوثة بميكروب الجدري، والظاهر أن الطير التي حملتها كانت تريد بناء أوكارها منها في الجبال أو غيرها، فأخذتها من أمكنة كثر إلقاء جثث الموتى، فالجدري فيها لانتشار أوبئة هذا المرض في الأزمنة القديمة انتشارًا مريعًا خصوصًا في زمن حادثة الفيل، فإنه كان منتشرًا في البلاد المجاورة للبلاد العربية، ولكنه كان غير معروف فيها قبل هذا التاريخ، ولما كانت السوائل المنتنة المعدية تسيل عادة من هذه الجثث امتصتها هذه الحجارة التي يكثر وجودها في الجهات البركانية، حتى تشبعت منها، فأخذتها هذه الطيور بعد نبش الأرض أو وجدتها من غير نبش (وربما كانت هذه الطيور جارحة) فسقط منها بعض هذه الأحجار على أصحاب الفيل، فانتشر فيهم الجدري حتى أهلكهم، وكان - على ما يقال - ذلك أول وباء من هذا النوع عرف في بلادهم، وليعلم القارئ أن جثث الموتى بالجدري تبقى معدية مدة طويلة بخلاف غيره من بعض الأمراض، فالظاهر أن ميكروبه (الذي لا نعرفه للآن) يعيش فيها بعد التعفن مدة، ولا يموت بسرعة كغيره من الميكروبات المرضية الأخرى التي تقتلها بإفرازاتها ميكروبات التعفن بسهولة. قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} (جماعات) (الفيل: 3) {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} (الفيل: 4) . استطراد لا بأس به بمناسبة ذكر البراكين هنا؛ اعلم أنه كثيرًا ما يحدث من الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال، وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا. فإذا سلم أن سد ذي القرنين المذكور في القرآن الشريف غير موجود الآن، فربما كان ذلك ناشئًا من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره، ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة. أما قوله تعالى على لسان ذي القرنين {هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقاًّ} (الكهف: 98) فمعناه أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه؛ لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القوي القدير، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله، ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا السد ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة لحظة واحدة أمام قدرة الله، بل يدكها جمعاء دكًا في لمح البصر. فمراد ذي القرنين بهذا القول؛ تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد أو الإعجاب والغرور بقوتهم، فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله. فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السد يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت، كان وكان هذا السد موجودًا دكه الله دكًا. وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى؛ كالزلازل إذا قدم عهده، وكالثورات البركانية كما قلنا، وليس في الآية ما ينافي ذلك. وأما قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} (الأنبياء: 96) فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض كما يخرج الشيء المحبوس أو المضغوط إذا انفجر. واستعمال لفظ الفتح مجازًا شائع في اللغة ومنه قولك (فتحوا البلاد) ، وقوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} (الأنعام: 44) و {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} (الأعراف: 40) فلا الأشياء لها أبواب ولا السماء، وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم، بل هم من كل حدب ينسلون، والغالب أن المراد بخروجهم هذا خروج المغول (التتار) وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجري، وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض بعد أن انتشروا فيها من الفساد والنهب والقتل والسبي، وقد ذكرنا ذلك في مقالات (القرآن والعلم) في المجلد الحادي عشر من المنار. أما ذو القرنين فالغالب أنه أحد ملوك اليمن الملقبين (بالأذواء) كذي يزن وغيره وهم المعروفون للعرب، وقد كان لأهل اليمن مدينة عالية وحضارة كبيرة وقوة جسيمة كانت مجهولة للأمم، وبدأ الباحثون الآن يقفون على شيء من آثارهم حتى في غير بلادهم. والراجح أن السد كان موجودًا بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا بين مدينتي دربند وخوزار Derbend & Khuzar، فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة (بالسد) وبه موضع يسمى (باب الحديد) ، وهو أثر سد حديدي قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب (بجبل قاف) وقد كانوا يقولون: إن فيه السد كغيرهم من الأمم، ويظنون أنه في نهاية الأرض وذلك بحسب ما عرفوه منها، راجع دائرة المعارف الإنكليزية فيما يتعلق بكلمة (دربند) . ومن وراء هذا الجبل كان يوجد قبيلتان قديمتان تسمى إحداها (آقوق) والثانية (ماقوق) ، فعربهما العرب (بيأجوج ومأجوج) ، وهما معروفان عند كثير من الأمم واسمها بالإنكليزية Gog & Magog، وقد ورد ذكرهما أيضًا في كتب أهل الكتاب. ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في الروسيا وآسيا. راجع تتمة هذا المبحث في (مقالات القرآن والعلم) . وقد اقتبسنا بعض ما ذكر عن أستاذ المنار في بعض فتاويه، ولنرجع إلى ما كنا فيه: الحرّيف: الحاد يلذع طعمه اللسان كالبصل والفلفل. الرائب من اللبن معروف. ثع الماء من الجرح: نضح. النَّعرة Mole: الجنين الكاذب. الجنطيانا Gentian: نبات خلاصته نافعة للمعدة. (أمم الصبيان) : هي تشنجهم Infantile Convulsion. الفرزجة Pessary: آلة توضع في المهبل لتعديل الرحم أو منع سقوطه. المنفخة Insufflator: آلة لنفخ الدواء في الجروح وغيرها. تحنَّك: دهن باطن الفم بالدواء. السلاق Blepharitis: التهاب الجفون. الارتكاض: حركة الجنين في الرحم. الصفر: خليط من النحاس والقصدير Bronz. الشبّه: خليط من النحاس والخارصين Brass. الدُّوغ: اللبن بعد أخذه زبدة Caseinogen. التصلب الشرياني: جمود الشرايين Sclerosis of Ariteries. الدم البحراني: هو الشرياني. بقر البطن: فتحه (شقه) . الزكام Coryza. الطبي: ثدي ذات الخف والظلف. الجبيرة للكسر معروفة Splint. الصماخ: فتحة الأذن Meatus. الصهبة: احمرار الشعر. الصنان: رائحة العرق الكريهة. الصمام للقلب Valve: غشاء يسد فتحاته. الغراء Glue معروف. رسب Precipitated. الغلصمة: اللهاة لحمة في الحلق معروفة Uvula. الأغن: مؤنثه الغناء لمن يتكلم بأنفه. الزغب: الريش الصغير. أفرَخ الطائر وفرّخ. الرُّوبة: خمير اللبن. المُزَأبق Amalgam: كل خليط من الزئبق مع معدن آخر. زات يزيت: دهن بالزيت. أبَّر: لقح Fecundation. الأبور: ما يؤبر به Pollen Powder. السأسم: الأبنوس. أثاث البيت: متاعه Furnitures. مؤخر الرأس Occiput. الأدرة: انتفاخ الخصية لالتهاب فيها. الأراك: شجر المسواك. الميزاب والمزراب بمعنى. الصابون Soap. اليافوخ Fonanel: ما لان في رءوس الأطفال. المصل Serum: الماء الذي يبقى بعد تجمد الدم إذا وضع في وعاء. الآنك: الرصاص الخالص. البثرة Pustule. سطع الماء: تبخر، وسطعت الرائحة: طارت وارتفعت. والساطع: هو الغاز والهواء Gas. بَزل: ثقب الميزل المثقب. البراجم: رءوس السلاميات، والرواجم: ظهورها وبطونها. البردة: التخمة. البرود: هو الششم. بزغ وشرط وحجم بمعنى. الباسور Pile: زائدة في الشرج من انتفاخ الأوردة. المبضع: مشرط صغير. البطح: البسط Supination. بط Punctute: ثقب. بظر المرأة معروف Clitoris. البلاط للأرض Floor معروف. البلعوم المريء Oesophagus. البنج Hyoscyamus. الترياق Antidote: ما يبطل ضرر السم للجسم. تهِم Putrefy: فسد. الجدري Small Pox: داء مشهور. لفِطة Vesicle: نفاحة صغيرة ممتلئة ماء. الأنبوب Tube: القصبة الجوفاء. ذونبرات Dentated: ما له أسنان. جمد Solidify. العروق Vessels. حفر الأسنان: داء بها Caries. حف رأسه: نتفه. الحقب: احتباس البول Retention. النُّوَّارة Flower: الزهرة. قدم رَحّاء Flat - Foot: ليس بها خمص Not arched. الخمص: ارتفاع باطن القدم. النغف Larvae: حينما تكون الحشرات كالدود بعد خروجها من البيض قبل تمام نموها. الصُّعقر: البطارخ وهو بيض السمك. البُوال Diabetes: الديابيطس أي كثرة التبول، وهو إما مائي أو سكري. استمنى Masturbate: أنزل منيه بيده. حيوانات قشرية أو صدفية Mollusca. الجبن: الحالوم معروف. الفُطر Fungus: الطحلب. كَزَّ يَكُز: تشنج. الكزاز Tetanus: مرض يحدث تشنجًا، وينشأ من ميكروب يوجد في الطين. البؤرة Focus: تستعمل في الطب بمعنى المركز أو المجمع؛ كمجمع الأشعة أي: مكان اجتماعها في نقطة واحدة. الجزيرة Beeftea: نوع من المرق. البؤبؤ Pupil: إنسان العين. الجيدار Ergot: دواء يمنع النزف. الذراريح Cantharidis: الذباب الهندي. الشيكران Conium: حب سام يشبه الكرويا. المغناطيس Magnet: ما يجذب الحديد. الكبابة Cubebs: حب معروف. الكثيراء Tragacanth: نوع من الصمغ. المغنيسا Magnesia: أكسيد العنصر المسمى مغنيسيوم. النعنع: النعناع Mint. السعتر أو الصعتر Thyme. خلاصة الشيح Santonin. خلاصة الصفصاف Salici. الحماق أو الجاورس: الجدري الكاذب Chicken Pox. داء التنفط أو النملة Herpes: مرض جلدي يحدث بثورًا صغارًا. البُرَّة: البثرة الخبيثة أو الجمرة Anthrax. التقرح: التآكل Ulcerate. الصفار (بالضم) Anoemia. اليرقان Jaundice: احتباس الصفراء في الجسم. السعفة والقوباء Eczema. سَوّس تسويسًا: كثر سوسه. نواع: حمى النافض Malaria. (1) حمى الثاني Quotidian أو الورد. (2) حمى الغب Tertian. (3) حمى الرّبع Quartan. السكتة Apoplexy. الجذام Leprosy. البهق Tinea: مرض جلدي. العِرق المديني Eilaria Medinensis: دودة تسكن في جلد الإنسان. شحم الحنظل Pulp. البواب Pylorus: فتحة المعدة إلى الأمعاء. الميل للجرح Director: آلة للجس. الفؤاد Cardiac endof stomach: وهو في الاصطلاح طرف المعدة من جهة القلب. أقسام الأمعاء الصغيرة: (1) الإثنى عشري Duodenum. (2) الصائم Jejunum. (3) اللفائفي Ileum. الأعور Coecum: أول الأمعاء الكبيرة. القولون Colon: الأمعاء الغلاظ الكبيرة. المستقيم Rectum: آخر الأمعاء الكبيرة. البطون Ventricles: التجاويف كتجاويف المخ. الشريانات: الشرايين Arteries. الباب Portal vein: اسم وريد مشهور. الأجوف Cava: اسم وريد عظيم معروف. الأضراس Molars. الأربطة Ligaments للمفاصل معروفة. العضل Muscle: اللحم الأحمر. الوريد Vein: العرق الذي يجري فيه الدم الأسود. العَصب Nerve: حبل أبيض في الجسم يحصل به الحس أو الحركة. الحاف Sublingual vein: الوريد الذي تحت اللسان. السلامى Phalanx: أحد عظام الأصبع. اليبس Ankylosis: عدم تحرك المفاصل. النواضح: الرواشح Filters. النطع Palate: سقف الفم. الاستحاضة Menorrhagia: زيادة فاحشة في دم الحيض. الدماميل Boil: الدمامل. تمتم في كلامه To slurr. قائمة الزهرة: وهي ما فوق المبيض Style. البُرعم Bud: زهرة النبات قبل أن تنفتح. الكِم والكمامة Calyx: وعاء الطلع. الخرز Beads معروف. الإحليل Urethra: مجرى البول. الحالب Ureter: ما ينقل البول من الكلية إلى المثانة. النوشادر أو النشادر Ammonia. الخرق Incomplete Hernie: الفتق غير الكامل. العصابة ما يربط به الفتق Truss الشبق شدة الغلمة أي شهوة الجماع. النمش Lentigo: نقط بالجلد خلقية. داء الضفدع Ranula: ورم كيسي

قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

الكاتب: محمد سعيد

_ قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية الإسلامية [*] (الباب الثامن) في الميزانية والكتب ومراقبة الأوقاف والكساوى (الفصل الأول) في الميزانية (المادة الرابعة عشرة بعد المائة) تكون ميزانية الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى مستقلة ومنقسمة إلى قسمين: الأول للإيرادات، ويكون شاملاً لبيانها بالتفصيل. والثاني لبيان المصروفات نوعًا نوعًا. ويعرضها شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى على الحضرة الفخيمة الخديوية؛ للتصديق عليها. * * * (المادة الخامسة عشرة بعد المائة) لا يجوز استعمال مبلغ مخصص لأمر معين في الميزانية لغير ما وضع له؛ إلا بقرار من مجلس الأزهر الأعلى، وبشرط أن لا يحصل طلب ذلك قبل حلول الشهر الخامس من السنة الدراسية. * * * (المادة السادسة عشرة بعد المائة) يبطل توزيع بدل الكساوى بالطريقة التي كانت متبعة قبل صدور هذا القانون، ويضم المبلغ إلى الميزانية. وكذلك يضم إلى الميزانية كل مبلغ ينحل عن أولاد العلماء، وكل مبلغ ينحل من مثمن الغلال القابل للانحلال. * * * (المادة السابعة عشرة بعد المائة) لا يجوز الجمع بين راتبين مقررين في الميزانية ما عدا مرتب شيخ الجامع الأزهر؛ بصفته أيضًا من كبار العلماء. * * * (المادة الثامنة عشرة بعد المائة) يضع مجلس الأزهر الأعلى لائحة؛ لتقاعد الموظفين والمدرسين بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، ويخصص في الميزانية المبلغ اللازم لذلك. وكذلك يخصص فيها مبلغ لأولاد العلماء. ويضع لائحة شاملة لبيان القواعد التي يجب مراعاتها في كيفية صرف المرتبات وبقية المصروفات المقررة في الميزانية، وبيان الجهة التي تكون فيها النقود، وبيان أوامر الصرف واستماراته وغير ذلك من القواعد المختصة بتنفيذ الميزانية، وضبط حساباتها طبقًا لما هو مدون بالمواد السابقة. * * * (الفصل الثاني) في الكتب وفي لجنة الكتب (المادة التاسعة عشرة بعد المائة) لا يتقيد طلب العلم في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى بكتب مخصوصة ولكن يجب التصديق على ما يدرس منها من مجلس الأزهر الأعلى. ويجب أن لا يدرس في أي معهد كتاب لم يكن مقرًا على تدريسه في المعاهد الأخرى، وأن تكون كتب الدراسة واحدة في جميع المعاهد. * * * (المادة العشرون بعد المائة) تمنع قراءة التقارير بالأزهر والمعاهد الأخرى منعًا باتًّا، ولا يجوز قراءة الحواشي إلا في القسمين الثانوي والعالي بعد إقرار المجلس الأعلى. * * * (المادة الحادية والعشرون بعد المائة) يؤلف مجلس الأزهر الأعلى لجنة من أربعة من أعضائه برياسة شيخ الجامع الأزهر؛ لفحص الكتب التي يقدمها مؤلفوها، وتقرير ما تستحقه من المكافأة. ويضم إليها شيخا معهدي الإسكندرية وطنطا، واثنان يختاران من كبار علماء الفن المؤلف فيه الكتاب؛ إن كان موضوعه علمًا من العلوم المختصة بها هيئة كبار العلماء. فإن كان موضوع الكتاب علمًا من العلوم الحديثة، ضم إليها اثنان كذلك من الاختصاصيين في هذا العلم. * * * (المادة الثانية والعشرون بعد المائة) يخصص مبلغ سنوي لا يقل عن خمسمائة جنيه؛ لإيجاد جوائز لا يقل مبلغ الواحدة منها عن عشرة جنيهات ولا يزيد عن مائة، تعطى لمن يؤلفون كتبًا في العلوم التي تدرس بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، يتقرر نفعها طبقًا لما هو مدون في المواد الآتية: * * * (المادة الثالثة والعشرون بعد المائة) على لجنة مكافآت الكتب أن تلاحظ في تقرير نفعها ما يأتي: أولاً - أن لا يكون الكتاب مخالفًا للعقائد الدينية، وأن تكون عبارته علمية خالية من التعقيد. ثانيًا - أن يكون ترتيبه وتبويبه مطابقًا لمقتضى قواعد التعليم من دون تشويش ولا اضطراب. ثالثًا - أن لا تقرر مكافأة على كتاب ترى فائدة من تدريسه، إذا كان مخالفًا في ترتيبه وتبويبه بوجه عام للكتب التي سبق تقرير مكافأة عليها وتقرر تدريسها. * * * (المادة الرابعة والعشرون بعد المائة) تفضل كتب فقه المذهب الواحد، إذا اتفقت مع كتب المذاهب الأخرى في التبويب والترتيب دون غيرهما مما سبق تقرير مكافأة عليه. * * * (المادة الخامسة والعشرون بعد المائة) يجوز تقرير مكافأة لمؤلفي كتب يتقرر نفعها للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى بوجه عام، ولو لم تخصص للتدريس. * * * (المادة السادسة والعشرون بعد المائة) للجنة أن تضع نموذج ترتيب الكتب التي ترى نفعًا من تأليفها، وتوضح مضامينها العامة، وتنشرها للكافة لينسجوا على منوالها. ولمجلس الأزهر الأعلى أن يكلف اللجنة بوضع نماذج الكتب التي يرى تأليفها والنشر عنها. * * * (الفصل الثالث) في مراقبة نظارة الأوقاف (المادة السابعة والعشرون بعد المائة) لمجالس الإدارة مراقبة نظارة الأوقاف؛ فيما هو مخصص من ريعها للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى. ولشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى ولمجالس الإدارة ومجلس الأزهر الأعلى عند الاقتضاء؛ أن يأمر بمقاضاتهم للحصول على حقوق الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، وذلك بدون إخلال بما لديون الأوقاف العمومية من الحقوق والاختصاصات المقررة في اللوائح والقوانين. * * * (المادة الثامنة والعشرون بعد المائة) يؤلف مجلس الأزهر الأعلى لجنة؛ لفحص حجج الأوقاف التي للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى فيها مرتبات حالاً أو مآلاً من أي نوع كانت، وحصرها في دفتر خاص، والنظر في طريقة توحيد المرتبات. وكذلك تنظر بالاتفاق مع مدير عموم الأوقاف فيما يخص العلماء في الجامع الأحمدي وغيره من صناديق النذور وطريقة صرفه. * * * (المادة التاسعة والعشرون بعد المائة) تختص اللجنة المذكورة أيضًا بالنظر في إبدال الجرايات بنقود، ووضع القواعد التي يترتب بمقتضاها البدل النقدي لمن يستحقه من الطلبة والعلماء بشرط عدم مخالفة شروط الواقفين، بحيث لا يحرم واحد من هذا البدل أن لو كان يستحق الجراية. * * * (المادة الثلاثون بعد المائة) يأخذ شيخ الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى رأي مجالس الإدارة في نتيجة أعمال اللجنة قبل أن تقررها، ثم يقدمها بعد الإقرار عليها إلى مجلس الأزهر الأعلى، وما يتقرر منه في ذلك يعرض على الحضرة الفخيمة الخديوية؛ للتصديق عليها بإرادة سنية. * * * (المادة الحادية والثلاثون بعد المائة) متى تقرر إبدال الجراية بنقود، يستمر صرف ما يترتب منها شهريًّا طول السنة. * * * (الفصل الرابع) في كساوى التشريف (المادة الثانية والثلاثون بعد المائة) يضع مجلس الأزهر الأعلى الشروط اللازم توفرها في العلماء؛ لنيل كساوى التشريف العلمية، ويصدر بذلك إرادة سنية. * * * (المادة الثالثة والثلاثون بعد المائة) تمنح كساوى التشريف للعلماء غير الموظفين في المصالح الأميرية بإرادة سنية، بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى بعد إقرار المجلس المذكور. وأما بالنسبة للموظفين في المصالح الأميرية؛ فإن تقرير استحقاقهم للكساوى المذكورة ومنحها لهم، يكون بناء على طلب رؤساء الدواوين التابعين لها بعد أخذ رأي شيخ الجامع الأزهر. * * * (المادة الرابعة والثلاثون بعد المائة) لا تمنح كسوة التشريف لغير العلماء الحائزين لشهادة العالمية، ويستثنى من ذلك القضاة الشرعيون. * * * (المادة الخامسة والثلاثون بعد المائة) تقرير كساوى التشريف المظهرية، ومنحها يكون بمحض إرادة الحضرة الفخيمة الخدوية بناء على طلب شيخ الجامع الأزهر. * * * (الفصل التاسع) أحكام عمومية (المادة السادسة والثلاثون بعد المائة) العالم هو من بيده شهادة العالمية. وكذا كل من ثبت له هذا اللقب قبل العمل بهذا القانون بالتطبيق لنصوص القوانين السابقة أو بالقدم. * * * (المادة السابعة والثلاثون بعد المائة) تبيّن أسماء العلماء المنوه عنهم في الفقرة الثانية من المادة السابقة في اللائحة الداخلية، مع إيضاح القوانين التي حازوا هذا اللقب بناء على ما دون فيها. * * * (المادة الثامنة والثلاثون بعد المائة) يجب أن تراعى شروط الواقفين في جميع ما تقرره مجالس الإدارة ومجلس الأزهر الأعلى. * * * (المادة التاسعة والثلاثون بعد المائة) يضع مجلس الأزهر الأعلى لائحة؛ لنظام إدارة المكاتب التحضيرية التابعة للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى والكتاتيب. وكذلك يضع اللائحة الداخلية العمومية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى. * * * (المادة الأربعون بعد المائة) يضع مجلس إدارة الأزهر النظامات الخصوصية لطلبة الأروقة والحارات وغيرهم ممن لهم نظامات أو قوانين خاصة بهم. ويجب على كل حال أن لا تخرج تلك النظامات الخصوصية، كما تجب مراعاته في الجامع الأزهر من النظام العام بمقتضى هذا القانون. * * * (المادة الحادية والأربعون بعد المائة) يقرر مجلس الأزهر الأعلى ترتيب درجات المدرسين والموظفين، وكيفية تعيينهم وترقيتهم، وتصدر بذلك إرادة سنية. * * * (المادة الثانية والأربعون بعد المائة) تشتمل اللائحة الداخلية للجامع الأزهر والمعاهد الأخرى على البيانات والقواعد اللازم مراعاتها في تنفيذ هذا القانون بما لا يخالف نصًا من نصوصه * * * (المادة الثالثة والأربعون بعد المائة) على مشايخ أقسام الجامع الأزهر ومشايخ المعاهد الأخرى أن يقدموا كل سنة لشيخ الجامع الأزهر بصفته رئيس مجلس الأزهر الأعلى تقريرًا بما وصل إليه ارتقاء التعليم المنوطة بهم إدارته، ومتضمنًا جميع ملاحظاتهم ومقترحاتهم المختصة بالنظام والتعليم والمدرسين وبقية الموظفين. ويرفع الجامع الأزهر إلى الحضرة الفخيمة الخديوية تقريرًا عامًّا عن سير التعليم، ودرجة ارتقائه في الجامع الأزهر والمعاهد الأخرى. * * * (المادة الرابعة والأربعون بعد المائة) ينظر مجلس الأزهر الأعلى في كل تعديل يراد إدخاله على هذا القانون قبل عرضه على مجلس النظار. * * * (الباب العاشر) في الأحكام الوقتية (الفصل الأول) في أحكام وقتية عامة (المادة الخامسة والأربعون بعد المائة) من بيده الآن شيء من المرتبات، ولم ينل وظيفة من الوظائف بالجامع الأزهر والمعاهد الأخرى، بقي له مرتبه إلى أن ينحل عنه. * * * (المادة السادسة والأربعون بعد المائة) المرتبات الشهرية أو السنوية التي كان أصلها من مرتبات الأزهر، وخرجت منه بأوامر سابقة، على أن تبقى في أعقاب أربابها تعود للأزهر متى مات واحد منهم بلا عَقِب. * * * (المادة السابعة والأربعون بعد المائة) تنظر مجالس الإدارة في شؤون أولاد العلماء الذين يقبضون الآن مرتبات عن آبائهم، فمن ثبت لها منهم أنه مشتغل بالعلم حق الاشتغال، أبقته على مرتبه إلى أن يؤدي الامتحان طبقًا لنصوص هذا القانون، ومتى نال الشهادة ودخل في صف العلماء، صار حكمه حكم حاملي الشهادات ويقطع مرتبه. ومن لم يكن مشتغلاً أو لم يكن مواظبًا، وطلب منه الاشتغال أو المواظبة ولم يشتغل قطعت مرتباته. ويراعى في ذلك كله أقصى السن المقرر للدراسة. ويجب التصديق من مجلس الأزهر الأعلى على ما تقرره مجالس الإدارة في ما ذكر. * * * (المادة الثامنة والأربعون بعد المائة) إذا مات أحد من أولاد العلماء الذين لهم مرتبات عن والدهم، وترك أولادًا فلا حق لهم في شيء مما كان مرتبًا لأبيهم، ولو كانوا مشتغلين بطلب العلم. * * * (المادة التاسعة والأربعون بعد المائة) يبطل تمييز مخصصات الأزهر من حيث المرتبات إلى مال حكومة ومال أوقاف، ولا يكون هناك بعد الآن مرتب جديد لعال

ملحق بقانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية

الكاتب: محمد سعيد

_ ملحق بقانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية النصوص الملغاة 23 ذي القعدة سنة 1288 (3 فبراير سنة 1872) إرادة سنية بإنفاذ قانون التدريس. 7 جمادى الثانية سنة 1302 (24 مارس سنة 1885) قانون امتحان من يريد التدريس بالجامع الأزهر. 7 محرم سنة 1303 (15 أكتوبر سنة 1885) قرار من مجلس النظار بضبط أعداد أهل الجامع الأزهر، والشروط المعتبرة في شأن التبعية وكيفية ما يجري في ذلك. 6 جمادى الأولى سنة 1305 (3 يناير سنة 1887) أمر عال شامل لقانون امتحان التدريس. 7 رجب سنة 1312 (3 يناير سنة 1895) إرادة سنية بتشكيل مجلس إدارة الأزهر. 21 رجب سنة 1312 (17 يناير سنة 1895) أمر كريم شامل لقانون امتحان من يريد التدريس بالجامع الأزهر. 6 محرم سنة 1313 (29 يونية سنة 1895) قانون صرف المرتبات بالجامع الأزهر. 17 شعبان سنة 1213 (أول فبراير سنة 1896) قانون كساوى التشريف. 20 محرم سنة 1413 (أول يولية سنة 1896) قانون الجامع الأزهر. 2 صفر سنة 1326 (5 مارس سنة 1908) قانون الجامع الأزهر وما شاكله من المدارس العلمية الدينية الإسلامية (قانون نمرة 1 سنة 1908) . 22 محرم سنة 1327 (20 فبراير سنة 1909) إرادة سنية بإيقاف العمل مؤقتًا في الأزهر بالنظام الجديد والرجوع إلى قوانين سنة 1312 وسنة 1324. 4 شوال سنة 1327 (15 أكتوبر سنة 1909) إرادة سنية بالموافقة على إعادة العمل بمقتضى قانون سنة 1326 تدريجًا. 23 رمضان سنة 1328 (27 سبتمبر سنة 1910) إرادة سنية باعتماد نظام مؤقت للسير على موجبه بالجامع الأزهر في السنة التي تبتدئ من 11 شوال سنة 1328 هجرية.

الكوليرا

الكاتب: أمين المعلوف

_ الكوليرا [*] كثر تحدث الناس هذه الأيام بالكوليرا ولا غرابة في ذلك؛ لأنها من أشد الأمراض فتكًا بالبشر، وقد صارت منا على قاب قوسين أو أدنى، فرأيت أن أكتب شيئًا عنها معولاً في ذلك على أحدث ما كتب في هذا الموضوع، وأقتصر على ذكر ما يهم معظم القراء معرفته من تاريخ هذا الداء وانتشاره وأسبابه وعدواه وأعراضه وتشخيصه والوقاية منه، وأحاول أن أوضح ذلك كله أيضًا بأسلوب يفهمه جمهور القراء. (أسماؤها) لهذا الداء على حداثة العهد به في الأنحاء الغربية من المعمورة أسماء كثيرة أشهرها الكوليرا، وهي لفظة يونانية منحوتة من كلمتين معناهما جريان الصفراء، وقد أطلقها أطباء اليونان قديمًا على الداء المعروف بالهيضة عند أطباء العرب، وهي شبيهة جدًّا بالكوليرا الأسيوية، وسببها في الغالب خلل في الهضم، وربما كان بعضها ناشئًا عن مكروبات لا تزال مجهولة. وأهم أعراضها القيء والإسهال، وقد تنتهي بالموت، فيتعذر حينئذ تمييزها عن الكوليرا الأسيوية بغير الفحص البكتيريولوجي، ومن هذا القبيل حادثة باب الشعرية والحوادث الأخرى التي اشتبه فيها أطباء الصحة والكورنتينات، فلم يجزموا بصحة التشخيص قبل الفحص البكتريولوجي، وحسنًا فعلوا بالرغم من انتقاد بعض الكتاب؛ لأن التمييز بين هذين الدائين قد يستحيل بغير هذا الفحص، علاوة على أن المسؤولية الكبيرة التي تلقى على هؤلاء الأطباء تجعلهم شديدي الحذر والريب. وقد غلب اسم الكوليرا على هذا الداء الوافد الخبيث، ولكن الأطباء يميزون بين الداءين بقولهم كوليرا أسيوية أو وافدة أو هندية وكوليرا منفردة أو محلية، ويراد بالكوليرا المنفردة الداء المعروف بالهيضة عند أطباء العرب؛ لذلك أطلق بعض أطبائنا اسم الهيضة الوافدة أو الأسيوية على الداء المعروف بالكوليرا الأسيوية عند الإفرنج، وهي تسمية عربية صحيحة. ومن أسمائها الهواء الأصفر، وهو أكبر شيوعًا في الشام منه في مصر، ولعله سمي بذلك في أوائل القرن الماضي؛ لاعتقاد الناس في تلك الأيام أن منشأه تغيره في الجو أو الهواء. (تاريخها ومنشؤها) لم تكن الكوليرا معروفة عند أطباء اليونان والعرب، ولم يذكر التاريخ أنها تجاوزت حدود الهند وبعض الجزر المجاورة لها قبل أوائل القرن الماضي. وهي قديمة جدًا في الهند، ذكرها كتابهم منذ أكثر من ألفي سنة. ولم يذكر مؤلفو العرب في ما أعلم شيئًا عنها، فليست الهيضة كما مر ولا هي الوباء، ويراد به الطاعون في المؤلفات العربية طبية كانت أو تاريخية، على أن لفظة الهيضة شبيهة جدًّا بلفظ (هيجة) وهي اسم الكوليرا بلغة الهند، فهل أخذ أطباء العرب هذه اللفظة عن الهنود أو هو أصلي في العربية؟ تلك مسألة تستحق البحث والنظر. وقد كان أول عهد الإفرنج بالكوليرا في أوائل القرن السادس عشر أي بعد دخول البرتغاليين والإنكليز إلى الهند، على أنها لم تحول أنظارهم إليها حينئذ؛ لأنها كانت مستقرة هناك شديدة الفتك والانتشار، فلما كانت سنة 1817 انتشرت انتشارًا هائلاً في الهند، وفتكت بأهلها فتكًا ذريعًا، ثم أخذت في الانتقال حتى بلغت الصين واليابان شمالاً وجزر المحيط الهندي جنوبًا، وسارت غربًا فدخلت بلاد إيران إلى أن وصلت سنة 1823 إلى بر الأناضول وشمال سورية ثم توقف سيرها، ولم تتجاوزهما إلى أوربا ولا إلى الحجاز أو مصر. ثم حدثت وافدة أخرى سنة 1830، ففشت الكوليرا في بلاد أفغانستان وإيران، ودخلت روسيا عن طريق استراخان، وأخذت تنتشر في أوربا فبلغت ألمانيا وفرنسا والنمسا وأسبانيا، ووصلت إلى بلاد الإنكليز سنة 1831، وانتقلت من أوربا إلى أميركا ولم يتقلص ظلها عن أوربا قبل سنة 1839، وأما في المملكة العثمانية فقد كان انتشارها هائلاً، دخلت الحجاز عن طريق العراق وانتقلت إلى الشام ومصر وشمال أفريقيا، وكان ذلك سنة 1831، وهي أول مرة عرف فيها هذا الداء في الحجاز ومصر والأماكن التي لم يدخلها قبلاً في الشام. ثم أخذت الوافدات تتوالى بعد ذلك فكان عددها كلها في مصر تسع وافدات وهي؛ وافدة 1831 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة 1838 جاءتها من أوربا، ووافدة سنة 1848 فشت أولاً في طنطا ولا يعلم من أين جاءتها، ووافدة سنة 1850 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة 1855 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة 1865 فشت في البلاد بعد رجوع الحجاج وكانت أشدها فتكًا، ووافدة سنة 1883 فشت أولاً في دمياط ويظن أنها انتقلت إليها من الهند ووافدة سنة 1896 وفدت مع الحجاج، ووافدة سنة 1902 وهي الأخيرة فشت في موشه من قرى الصعيد بعد رجوع الحجاج، وعسى أن تكون هذه آخر الوافدات. أما الحجاز فكان عدد الوافدات تسع عشرة وافدة أشدها فتكًا وافدة سنة 1865 وقد كانت أيضًا أشد وافدات الشام فتكًا. والكوليرا متوطنة في الهند لاسيما في بنغال السفلى أي: وادي نهر الكنج، فإنها مستقرة هناك لا تنقطع ألبتة. وهذه الأماكن التي تكون الأوبئة مستقرة فيها كالطاعون والكوليرا تسمى في عرف الأطباء بؤر جمع بؤرة، وهي في اللغة موضع النار، فاستعارها أطباؤنا لما يسميه الإفرنج Foyer أو Focus وهما بمعنى البؤرة تمامًا أي: موضع النار، ويريد بهما علماء الطبيعيات نقطة تجمع النور أو الحرارة، والأطباء نقطة تجمع الداء، وللطاعون بؤر كثيرة منها مصر على زعم بعضهم. وللكوليرا ثلاث بؤر غير البؤر التي في الهند وهي؛ كانتون وشنغاي وبانكوك، ويقال: إنها قلما تنقطع من هذه المدن الثلاث في أشهر الصيف، على أن أهم بؤرة لها وادي الكنج كما مر. وتشتد الكوليرا في بعض السنين لأسباب لا تزال غامضة، فتنتشر من البؤر التي تكون مستقرة فيها وتنتقل من بلد إلى آخر. فليس الخوف منها هذه السنة لأنها قريبة منا فقط، بل لأنها سريعة الانتشار على ما يظهر. الطرق التي تدخل منها إلى الشام والحجاز ومصر ثلاث: طريق البحر الأحمر، وطريق إيران والعراق وطريق أوربا. على أنها لم تدخل الحجاز إلا من طريق البحر الأحمر مع الحجاج الهنود وطريق إيران والعراق. *** (2) (انتقالها) تنتقل الكوليرا مع الناس فتسير في طرق المواصلة التي يسيرون فيها، وسرعة انتقالها متوقف على سرعة انتقالهم، فقد كان سيرها بطيئًا قبل زمن سكك الحديد والبواخر، أما الآن فهي سريعة الانتقال جدًّا. وتظهر غالبًا في المواني البحرية أو الأماكن التي تحتشد فيها الناس؛ لإقامة المواسم والأسواق، لكن ذلك ليس مضطردًا، فالوافدة الأخيرة التي فشت في هذا القطر كان ظهورها أولاً في قرية من قرى الصعيد. وهي غير منتظمة في سيرها، فقد تتخطى عدة أماكن على طرق المواصلة، وتفشو في غيرها كما حدث سنة 1902، فإنها تخطت مدنًا كثيرة في صعيد مصر، وفشت في حلفا، فإذا لا سمح الله دخلت القطر وفشت في الإسكندرية مثلاً، فقد تظهر في مدينة من مدن الصعيد قبل ظهورها في القاهرة. والعزلة تقي منها، فإن بعض الجزر في المحيط الهندي وغيره لم تدخلها الكوليرا قط، وكذلك أستراليا ونيوزيلاندا وغرب أفريقية ومواضع كثيرة من السودان، فإنها فتكت بالجيش المصري سنة 1896، لكنها لم تنتقل إلى الأماكن التي كان العدو مقيمًا فيها لقلة المواصلة. ويقال بالإجمال: إن السواحل البحرية والأماكن المطمئنة الرطبة على مقربة من الأنهار والمزدحمة بالسكان أكثر تعرضًا لها من الأماكن المرتفعة الجافة مثل قرى جبل لبنان والأماكن البعيدة عن النيل. وقد قيل لي: إنه حالما ابتعد الجيش المصري عن النيل سنة 1896 وخيم في الصحراء قلت الإصابات كثيرًا بين العساكر ثم انقطع الداء تمامًا. والماء أعظم وسائل نقل الكوليرا، والأدلة على ذلك كثيرة، فمدينة بيروت مثلاً لم تنتشر فيها الكوليرا منذ سنة 1875، مع أنها فشت بعد ذلك في مدن كثيرة من مدن الشام كدمشق وطرابلس وغيرهما، وكانت تحدث إصابات في محجرها وفي المدينة نفسها كلما فشت الكوليرا في القطر المصري أو غيره من البلدان المجاورة، لكن الداء لم ينتشر فيها قط؛ لنظافة مائها وصعوبة تلوثه بخلاف دمشق وحِمْص وحماة وطرابلس وغيرها من مدن الشام. أما في القطر المصري، فيستبعد تلوث الماء الذي توزعه الشركات في البيوت. والخوف ليس منه بل من استقاء الماء من الآبار والترع والنيل قرب الشاطئ ، أو من تلوث الآنية التي يوضع الماء فيها كالأزيار لاسيما هذه الأزيار القذرة التي نراها على جوانب الشوارع في القاهرة، فإن زيرًا واحدًا من هذه الأزيار قد يكون سببًا لهلاك مئة نفس إذا تلوث بجراثيم الداء. وقد فتكت الكوليرا سنة 1902 ببعض أهل القاهرة، وكان عدد الجنود المصريين فيها نحو ثلاثة آلاف لم تحدث بينهم إصابة واحدة؛ لأنهم عزلوا في ضواحي المدينة، واعتني اعتناءً تامًا بالماء الذي كانوا يشربونه، وهذا كان شأن الجنود الإنكليزية فيها، وإنما أصيب منهم جندي أو اثنان شربا ماءً في إحدى فهوات المدينة على ما أتذكر. (سببها) لم يكن سبب الكوليرا معروفًا قبل وافدتها التي فشت في مصر سنة 1883، فانتدبت الحكومة الألمانية حينئذ لجنة رئيسها الدكتور كوخ، وأرسلتها إلى مصر للبحث عن سبب هذا الداء، فاكتشف الدكتور كوخ في مبرازت المصابين وأمعاء المتوفين منهم مكروبًا، ترجح له أنه مكروب الكوليرا، لكنه لم يجزم بذلك قبل أن سافر إلى الهند موطن هذا الداء، ووجد المكروب نفسه في مبرازت المصابين هناك أيضًا، فتحقق لديه أنه سبب الداء. ولكن هذا المكروب لم يستوف الشروط الأربعة التي كان كوخ قد سبق فوضعها؛ ليثبت أن مكروبًا معلومًا يسبب مرضًا معلومًا، ولكن الأدلة الأخرى كثيرة على أنه علة الكوليرا. *** (3) (مكروبها) لقد مر بنا أن سبب الكوليرا نوع من المكروبات اكتشفه كوخ في مصر سنة 1883. وليس غرضي الآن البحث في هذا المكروب بحثًا علميًّا وافيًا، ولا ذكر المشاحنات التي قامت بسببه، بل غاية ما أريد إيضاح شيء عنه لغير الأطباء؛ لأن الوقاية من الأمراض المعدية تقتضي معرفة ماهية المكروبات المسببة لها، فأقول: المكروبات أحياء صغيرة جدًّا لا ترى بالعين المجردة أي: بغير الآلة المعروفة بالمكرسكوب، ولشدة صغرها لا يقاس طولها وعرضها بالمقاييس المعتادة بل بمقياس خاص بها يعرف بالمكرومليمتر أي المليمتر الصغير، وهو جزء من ألف جزء من المليمتر أو جزء من مليون جزء من المتر، ويعبر عنه بالحرف اليوناني الذي يقابل حرف الميم بالعربية، فلا بأس بالتعبير عنه بحرف الميم في لغتنا، فيقال: إن مكروب التدرن مثلاً طوله ثلاث ميمات أي: ثلاثة أجزاء من ألف من المليمتر. ومكروب الكوليرا نوع من هذه الأحياء الصغيرة، وهو أصغر عن باشلس التدرن لكنه ليس أقل منه خبثًا، طوله من ميم ونصف إلى ميمين، وعرضه نحو نصف ميم، فإذا فرضنا أننا وصلنا واحدًا منه بآخر وهذا بآخر وهلم جرا، حتى يكون من هذه المكروبات حبل طوله مليمتر واحد فقط لاقتضى لذلك خمسمائة مكروب على الأقل. وإذا وضعنا حبلاً من الحبال بجانب حبل آخر ثم آخر بجانب هذا وهلم جرا، حتى تصير الحبال مليمتر مربع، لاقتضى ذلك مليون ميكروب أي: أن مليونًا من هذه المكروبات الواحد منها بجانب الآخر لا تزيد مساحة سطحها على مليمتر مربع. فتأمل كم يكون عددها في المليمتر المكعب أو في زير من أزيار الماء في بركة أو صهرج، وكم يعلق منها على أصبع واحدة إذا تلوثت ببراز المصابين. فمتى عرفنا ذلك سهل علينا أن نفهم كيف يتلوث الماء بمكروب الكوليرا. فإذا فرضنا أن الواحد

الإسعافات الطبية الوقتية للمصابين بالكوليرا

الكاتب: محمد بك رشدي

_ الإسعافات الطبية الوقتية للمصابين بالكوليرا للدكتور محمد بك رشدي حكيمباشي محافظة مصر الكوليرا مرض وبائي، يصل مكروبه للجسم بواسطة المياه والمأكولات ولا تحصل العدوى به بواسطة الهواء، وعدواه من براز المصابين أشد، وميكروبه ينمو ويتضاعف في الأقمشة المبلولة، وهذا يفسر شدة العدوى بالملابس الملوثة بالمواد البرازية للمصابين وانتقالها بها. ويتضاعف أيضًا وينمو في المأكولات: كاللبن والبيض والمرق والبطاطس المسلوق والخبز واللحوم وكافة الخضر والشكولاتة والأشربة المسكرة والمربات، وعلى سطح الأرض الرطبة، ويعيش حيًّا في البراز مدة 24 ساعة من التبرز، ويعيش (في البرد) لغاية درجة تحت الصفر، إنما يكون بدون حركة ثم ينمو بارتفاع الحرارة، وعلى ذلك فالبرد يضعفه والحرارة تقويه كسائر المخلوقات الحيوانية والنباتية. فمتى دخل ميكروب هذا المرض في البنية بواسطة الماء أو المأكولات، تمضي مدة من الزمن قبل ظهور أعراضه المرجفة، ويسمى هذا الزمن بدور التفريخ، ويختلف من ثلاثة إلى خمسة أيام، وهذا في الزمن لا يحس المصاب بشيء، ثم بعده تظهر الأعراض المرضية، وتحصل منه العدوى ببرازه. الأعراض: يعرف هذا المرض في مدة انتشاره بتبرز وقيء متكررين، وظمأ شديد وتناقص في البول أو فقده، وانطفاء الصوت، وآلام شديدة بسمانة الساقين، وبتلون الجسم بلون أزرق خصوصًا الأظافر وغور الأعين، وانحطاط شديد في القوى، وبرودة وقشعريرة، وتكون مواد البراز سائلة شبيهة بسائل غسيل الأرز. الأسباب: من ضمن الأسباب التي تساعد على حصول هذا المرض؛ الاستعداد الشخصي والتعب والحرمان وعدم النظافة وعسر الهضم. ثم إن تركيب طبيعة الأرض له دخل في شدة انتشاره، فكلما كانت الطبقات السطحية للأرض ذات مسام كثيرة كان الوباء أكثر شدة وبالعكس. وعند حصول الإصابة، توجد جواهر دوائية توقف نمو ميكروبه وتميته كمحلول الشب واحد على مائة، وعطر النعناع الفلفل واحد على مائتين، أو حمض اللبنيك واحد على ثلاث مئة، أو حمض الليمون واحد على مائتين، والحرارة تميته، فالملابس الملوثة بالماء المحتوي على ميكروب هذا المرض إذا جففت في الحرارة الكافية للتجفيف، وبحثت فيما بعد بحثًا ميكروسكوبيًّا، لا يوجد بها أثر ميكروب هذا المرض. الوسائط الوقتية: يجب على كل إنسان ظهرت الإصابة في جواره أن يتحاشى مخالطة المصاب، ويسارع إلى استدعاء الطبيب من فوره؛ ليرشده إلى ما يلزم اتخاذه من الوسائل لنجاة المريض وسلامة غيره من عدوى هذا الوباء. ومن المعين الاستحمام يوميًا بماء طاهر أي: مرشح مغلي (بعد تبريده) مع تجنب الاستحمام والوضوء والشرب من ماء النيل العكر؛ لما عسى أن يكون فيه من ميكروب الداء، وتقصير الثياب بحيث لا تصل سطح الأرض؛ اتقاء لما يمكن أن يعلق بها من الميكروبات. ومن الملاحظات الجديرة بالعناية وجوب خلع النعال وعدم الدخول بها في محالّ الجلوس أو الاستقبال، والامتناع عن شرب الخمر من أي نوع كان؛ لأن شرب الخمر يعين على إضعاف المعدة. ويجتنب السهر الطويل والتعرض للبرد والاعتدال في الأكل وعدم الإفراط فيه، ويحسن اجتناب المصافحة باليد مع غسل اليدين قبل الطعام وبعده وقص الأظافر، ويتعين الامتناع عن أكل الخضر غير المطبوخة؛ كالجرجير والفجل والأسماك البحرية كأم الخلول والجنبري ونحوها، ويجتنب أكل الفواكه غير الناضجة , وتطهر أطباق الأكل بوضع قليل من السبرتو النقي بها وإشعالها إن لم يغسل بماء مغلي، ومراقبة الطهارة لعدم مسح الأطباق بمناشفها القذرة. ويحسن أن لا يؤكل الخبز إلا بعد تجميره على النار أو على لهب اسبيرتو، والامتناع من التدخين أو التقليل منه؛ لأنه يضعف المعدة والقلب، ويجب غلي مياه الشرب طول مدة الوباء. الإسعافات الأولية: تنحصر تلك الإسعافات في مقاومة ثلاثة أعراض مهمة وهي: القيء والإسهال وبرودة الجسم. القيء: يقاوم القيء بتعاطي شراب الليمون المثلج أو منقوع النعناع المثلج المحلى بالسكر أو شراب حمض اللبنيك. كالمشروب الآتي: حمض اللبنيك من 10 إلى 15 جرام، شراب السكر 90 جرام كؤلات الليمون والنعناع 2 جرام , ماء مغلي 1000 جرام. يؤخذ كل ساعة كأس. الإسهال: يستعمل حقن شرجية من محلول الشب من 10 إلى 15 جرام في الألف، تذاب في ماء مغلي، وتعمل الحقنة 3 مرات في اليوم. برودة الجسم: الدلك بقطع من الصوف بعموم الجسم بعد غمسها بروح الكافور، ووضع جملة زجاجات مملوءة بماء سخن حول الجسم بعد لفها بالقماش، وتثبيت سدادتها جيدًا. ثم يستدعى الطبيب في الحال لإجراء الوسائط الصحية اللازمة، وتتميم العلاج بحسب حالة الأعراض. فهذا ما كنا نشير باستعماله من الإسعافات الوقتية الأولية سنة 1896، حينما كنت حكيمباشي باستبالية مديرية الفيوم، وظهرت فوائدها كما يثبت الإحصاء ذلك، وقد رأيت أن أكتفي بذكر ما يمكن لغير الأطباء استعماله في الإسعافات الوقتية لهذا المرض الوبيل، وقى الله البلاد شره إنه سميع مجيب.

ميرزا علي محمد الباب ادعاؤه النبوة

الكاتب: هبة الدين الشهرستاني

_ ميرزا علي محمد الباب وادعاؤه النبوة وردت من أحد المأمورين بشيراز رسالة تحاول إثبات المهدوية لميرزا علي محمد بن أقارضا البزاز الشيرازي (مدعي البابية ومؤسس طريقتها) وما اضطررت إلى الجواب عنها إلا من شدة إصرار مرسلها , ومن اقتحام بعض الصحف المصرية في أمرهم على العمياء، وتوصيفهم عن غير دراية، وتقريب العقول الناقصة من شبايك كيدهم. إني لم أر بعد النظر في أدلة تلك الرسالة دليلاً يكتسب من الأنظار أدنى أهمية، ولا وجدت قياسًا في كتابه روعيت فيه أصول الاحتجاج غير حجة واحدة، سنجعلها مدار البحث ومحوره، حيث تناسب أبحاثنا في النبوة ... بيد أن الكاتب من لباقته وشطارته أبرز تلك الحجة الواحدة في كسوة الحجج المتعددة. (وخلاصة تلك الحجة) أن (علي محمد الشيرازي) تحدى كالأنبياء لدعواه , وأخرج للناس كتابًا يصدق ما ادعاه , فلو لم يكن نبيًّا صادقًا ناطقًا بالحق، لوجب على الله (سبحانه) أن يفضحه ويظهر كذبه , ويجازيه أسوأ الجزاء على افترائه وبهتانه على مولاه وجوبًا عقليًّا (تقتضيه قاعدة اللطف) ونقليًّا دلت عليه آيات الكتاب وبينات السنة اهـ. (وهاك جوابي عن هذه الشبهة) ينبغي لنا في هذا المبحث أن ننظر أولاً في أنه كيف يجب أن يفتضح المتحدي الكاذب.. ثم ننظر في حقيقة اللطف الواجب.. كل ذلك على وجه العموم.. ثم نتكلم في افتضاح (علي محمد) وظهور كذبه لدى العقلاء بأجلى وجوه الفضيحة. ولا ينقضي عجبي منكم أيتها الفرقة الـ ... تدعون المهدوية لصاحبكم وهي فرع من الفروع الاعتقادية في دين الإسلام ثم تستدلون على مقصدكم بدلائل النبوة وتنسبون لصاحبكم تحدي الرسالة, وأنه أظهر كتابًا أكبر من كتاب محمد صلى الله عليه وسلم وتتشبثون لمطلوبكم بشبهات النصارى على الإسلام: فأدلتكم ترمي إلى شيء ودعواكم ترمي إلى آخر يخالفه تمام الاختلاف فعرفونا وجه التوفيق ومنزع الاحتجاج ومحجة النزاع. نجعل وجدانكم الصادق أيها المنصف بيننا حكمًا فاصلاً ثم ننشدك نشيدة الباحث عن حقيقة (ونقول) هل الواجب على المولى (سبحانه) أن يفضح المتنبي الكاذب بعلامات محسوسة.. مثل أن يكتب على وجنته أو جبهته (هذا نبي كاذب) ..؟ أو يوكل عليه ملكًا يهتف أمامه بذاك النداء مدى الدهر فتقصر الحجة في الكتابة على خط واحد بالضرورة , وتقتصر في النداء على لغة واحدة فلا تتم الحجة على أكثر البشر ولا تبلغهم حقيقة الأمر قطعيًّا مع اشتراكهم وتساويهم في التكليف ويفوت الشارع بناء عليه مقصده السني من تشريع السبل , وبعث الرسل , وهل عهدت يا صاح في إحدى الشرائع من إلهك الحكيم استعمال العلامات الشخصية والصور الحسية في فضيحة متنبئ أو متحدّ كاذب..؟ كلا ثم إن الصور المحسوسة لا تعم الأعصار والأمصار , كما أن الخط واللغة لا يعرفان الأقوام المختلفة حقيقة الأمر , فلا محيص من تصديق سنة الله تعالى والاعتراف بصحة سيرته مع أدعياء النبوة حيث يميز كاذبهم عن صادقهم بوجه علمي وصورة عقلية , يفتضح بها الكاذب بين الناس أجمعين , على اختلاف ألسنتهم وألوانهم , فتحصل الغاية المقدسة وتتم الحجة على كل مكلف بأبلغ منهج وأتم صورة. حيث إن الوجوه العقلية لا تختص بقوم دون قوم ولا بأبناء لهجة دون آخرين ولا تختص بعصر ولا بمصر بل تعم ذوي العقول قاطبة في جميع الظروف والأحوال (العقل دليل في كل سبيل) . وإتمام الحجة في فضيحة المتنبئ الكاذب مما يجب أن يظهر لجميع العقلاء والعلماء الذين أضحت عقائد العامة تتبع آراءهم , وأفعالها تناط بأقوالهم {ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) . إذن فالحري بنا أن ننظر في أمر هذا المدعي بالنظر العقلي , والطريق العلمي , الذي به يظهر المولى (سبحانه) كذبه إن كان مفتريًا عليه. (الحقيقة تكفينا فضيحة المتنبي) (وفي ذلك معنى قاعدة اللطف) قالت العدلية من المسلمين (يجب على الله سبحانه وتعالى أن يفضح المتنبي والمتحدي الكاذب بقاعدة اللطف) وخاضوا في عباب اللطف كل مخاض , لكن لي في المقام رأيًا متوسطًا أظن إصابة الحق فيه. وموجزه أن المتحدي بالنبوة يدعي لنفسه العصمة بالضرورة.. والحقائق لا تمهله دون أن تظهر كذبه: حيث إن الفاقد لفضيلة العصمة , لا ينفك (حسب المفروض) عن سهو أو نسيان , فيبدو منه خلال أعماله وأشغاله سهو في فعل , أو نسيان عن قول , سيما عندما تتراكم الأشغال عليه , ويحاط في المجامع العمومية بالشواغل القلبية , وتآثير الظواهر في مشاعره ونفسه الضعيفة , ومتى ما سها في شيء أو نسي تبين كذبه وافتضح. إن من يدعي بما ليس في ... كذبته شواهد الامتحان فيحصل المطلوب بتأثير أودعه الله في مظاهر الحقيقة (وهو أمر طبيعي) في العوالم الأدبية لا بد منه ولا محيص. وإذا تبينت محافظته على الحقائق , لم يظهر منه خطأ أو زلة في أعماله وأقواله , ولا عدول عن غايته، ولاتغيير فى مسلكه طول عمره، فذلك الصديق الذى يجب تصديقه والإيمان بما يدعيه، وهو العاصم المعصوم ولا ريب فيه. (افتضاح علي محمد عندنا) ذكر الناس في ظهور خداعه وكذبه، مظاهر وأشياء، ونشروا كثيرًا مما يزري بشأنه ويكذب دعواه، وأعلنوا خذلانه في مجالس العلماء بأصفهان وتبريز وشيزار وغيرها. واستبان انحطاطه وقصوره عن المباحث العلمية والأدبية والاعتقادية لكنني أعتمد في انجلاء حاله وتكذيبه على منهجين أرى لهما مقامًا ساميًا كثير الأهمية في عالم البحث الفلسفي عن الأديان والنبوات , وعن تعيين الأنبياء والصادقين من المصلحين. (المنهج الأول) : ظهور خطأ منه في سياسة أمره يمنعه من نجاحه بحيث يمسي المدعي للنبوة غرضًا لأسهم الملازمة من جمهور العقلاء فإن ذلك وشبهه من جملة الأمور الفاضحة , وشواهد كذبه الواضحة , يتم الحق بأمثالها حجته على رائديه. ولا يبرح عن اعتقادي أن العاقل المنصف إذا تأمل في كلمات (علي محمد) وبيانه الذي زعم معارضة القرآن به وعرف أغلاطه اللفظية , التي لا تقبل وجهًا ولا علاجًا في فنون العربية ,.... يجزم بخطأه في عالم السياسة فمجرد تصديه لمعارضة القرآن العظيم في العربية والبلاغة وهو عاجز عن التكلم بها غير محيط بأصولها وفنونها يكفينا فضيحته ولا ينفك لوم العقلاء منه على هذه الفلتة الكبيرة يلومونه من جهات متعددة: (1) لماذا يا مسكين لم تقنع بدعوى كونك إمامًا أو بابًا إليه كما كنت عليه في مبدأ أمرك حتى ادعيت النبوة واحتجت إلى إظهار الآيات والمعاجز وعرضت بنفسك للفضحية. (2) لماذا اخترت يا مسكين من بين المعجزات معارضة القرآن الذي أعجز أساطين الفصاحة. (3) إن لم تطاوعك النفس إلا في معارضة القرآن فلماذا عارضته بالعربية حتى يصبح أمرها عليك من كل باب تأتيه من حيث أنك أجنبي عنها نشأت على اللغة الفارسية في إيران وما سبرت أفانين العربية وآدابها ... تعجز عن أداء جملة لا تلحن فيها , وتعارض قرآنًا خرت لبلاغته الأدباء سجدًا إلى الأذقان , وخضعت دونه رجال الإصلاح والسياسة وعلماء البيان , تعارضه ببيانك المشتمل على أغلاط بعيدة الإحصاء في فنون العربية من تصريفها والأعاريب والبلاغة في التركيب خاليًا عن طريف معنى ولطيف حكمة. ولو أنك يا مسكين لفقت كتابك من فقرات وجمل بلغتك الفارسية لصنته من قدح العلماء في ألفاظه وتراكيبه , وانحصرت دوائر اللوم في أغلاطك المعنوية خاصة , وكان لك في ذلك ولصحبك مندوحة وتخفيف مشقة , وكنت في راحة من جانب ألفاظه لا تلجأ إلى مضيق الاعتذار (ورب عذر أقبح من ذنب) عن ألحانك (بأن الألفاظ كانت أسيرة الإعراب فأطلقها) ولا يلتجئ زعيم قومك اليوم تصحيحًا لأغلاطك إلى قوله: (إن ولي الله لا يكون أسيرًا لأصول اللغات وإعراب الكلمات) اعتذر به (ميرزا أبو الفضل) الكلبايكاني في كتابه بعد اعتراض شيخ الإسلام التفليسي عليه بأغلاط البيان وألحانه: وإنني لا أعدوه وسألتك يا صاحبي ولا أحتطب لك من كلماته في هذه الوجيزة من هنا ومن هناك وإنما أذكرك ببعضب كلماته التي انتخبتها أنت لنا وأتحفتنا بها في رسالتك إلينا فمن ذلك قوله: (تالله قد كنت راقدًا هزتني نفحات الوحي وكنت صامتًا أنطقني ربك المقتدر القدير لولا أمره ما أظهرت نفسي قد أحاطت مشيأته مشيأتي وأقامني على أمر به ورد على سهام المشركين امرءًا قرأ ما نزلناه للملوك لتوقن بأن الملوك ينطق بما أمر من لدن عليم خبير) . ومن ذلك قوله: (كنت نائمًا على مضجعي مرت علي نفحات ربي الرحمن ويقضتني من النوم وأمرني بالنداء بين الأرض والسماء ليس هذا من عندي بل من عنده يشهد بذلك سكان جبروته وأهل مدائن عزه فوا نفسه الحق لا أجزع من البلايا في سبيله ولا عن الرزايا في حبه ورضائه قد جعله الله البلاء غاديه لهذه الدسكرة الخضراء) . وبالإجمال فإنها فلتة عظيمة سياسية وحقيقية؛ صدرت منه بمشيئة الله تعالى رغمًا على مشيئته ليصبح الحق أبلج , ويمسي الباطل لجلج , وما صرعه الحق هذه الصرعة الفاضحة ولا أكبه بعثرته الواضحة , إلا من جنايته العظمى على الحقيقة المقدسة , وهتك حرمة الإسلام وما أبدى فيه من.... (المنهج الثاني) ثبات المدعي واستقامته في مسلكه الخاص الذي دعاه الناس إليه من مبدأ أمره إلى منتهاه لا يحول عنه ولا يزول في حال ضعفه وقوته سالكًا فيه بقوله وفعله عن شجاعة أدبية (كيف يميل عن الحقيقة من نالها أو يعدو الحق صاحبه وما وراء عبادان قرية) . فهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم جرى على سنة الأنبياء من قبله , فادعى الرسالة من ربه في مبدأ أمره , واستقام عليها حتى فارق صحبه , فكانت الرسالة لا غيرها دعواه وخطته من قبل أن يبلغ المسلمون عدد الأصابع ... ثم اتسعت بلاده وعلت كلمته وفاق المؤمنون به عشرات الألوف وصارت الأموال والكنوز تجبى إليه من أقطار الأرض: ولم تكن مع ذلك دعواه إلا الرسالة التي كان يدعيها في أول أمره. وما أورثه ارتقاء شأنه ونفوذ سلطانه , فرقًا في أخلاقه ودعاويه , ولا في معيشته وسيرته , ولقد كان يروج منه (ولا ريب) أن يدعو الناس بعد ذلك إلى تقديسه والاعتراف بألوهيته (والعياذ بالله) أو يأكل أطيب المأكول ويتخذ لنفسه أجمل وسائل العيش والتنعم من اتساع سلطته ونفوذ كلمته وتملكه القلوب والمشاعر. لكنه صلّى الله عليه وسلم كان يزداد تواضعًا وزهدًا كلما ازداد قدرة لئلا يهابه الناس فيقدسوه تقديس الرعية لسلطانها المستبد. وأمّا (علي محمد) فلا يجد المرء بعد الفحص أقل ثباتًا منه في مسلكه ودعواه , فإنه ادعى البابية في مبدأ أمره ويعني من البابية أنه الباب بين الشيعة وبين إمامهم (المهدي المنتظر) (عج) يبلغهم أحكام الشريعة عنه (ع) كما كان نواب المهدي (عج) في القرن الثالث يعرفون بهذا الاسم والصفة وكانوا هم الأبواب إليه والنواب عنه، فكانت البابية أو دعوى (علي محمد) ولأجل ذلك عرف أصحابه بهذا الاسم والعنوان من مبدأ أمرهم إلى الآن. ثمّ عظمت وطأته , وانتشرت دعوته , وشاهد ازدحام الناس على نفسه , فادعى الإمامة والمهدوية لنفسه , وإنه هو الإمام المنتظر عند الشيعة بعينه , ولا يخفى عليك اختلاف المسلكين وتفاوت الرتبتين. ثم ارتقت كلمته وكثر أتباعه لأمور اتفاقية لا يسع المقام ذكرها، واستشعر من تابعيه , قبول كل ما يدعيه , فادعى النبوة وأظهر كتابًا زعم نسخ القرآن به والمعارضة معه ... ويحكى عنه الربوبية أيضًا مستدلاً بتوافق اسمه في العدد أعني (علي م

أرباب الأقلام في بلاد الشام ومشروع الأصفر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أرباب الأقلام في بلاد الشام ومشروع الأصفر أشرنا في المقالة الأولى التي كتبناها عند إعلان الدستور إلى ما أمامنا من العقبات والمشكلات السياسية والأدبية والاقتصادية في طريق هذا الطور الجديد من الحكم , وقد وقع جميع ما كنا نتوقع , ومما أشرنا إليه في تلك المقالة بالإجمال , وعدنا إلى بيانه بعد ذلك بالتفصيل قولنا: إن الحرية ما حلت في بلاد كبلادنا خصبة التربية جيدة الإنبات غنية بالمعادن والغابات , قابلة لرواج التجارة والصناعات , إلا وتدفقت عليها أموال أوربا لأجل استثمارها فيها , وهناك من أبواب الرجاء للبلاد والخوف عليها ما لا يفطن له الآن في الأمة إلا الأفراد من الناس. فمن المطالب بتنبيه الأمة إلى طرق الثروة الطبيعية مع حفظ رقبة بلادها , والحذر من قضاء الديون الأجنبية عليها؟ .. إلخ ثم كان المنار هو السابق لجميع الصحف - على ما نعتقد - إلى التنبيه على نفوذ اليهود الصهيونيين في جمعية الاتحاد والترقي، وما في ذلك من الخطر على الدولة، حتى أنكر علينا ذلك بعض أصدقائنا المخلصين من المسلمين وغير المسلمين بمصر، ورد علينا بعض اليهود في جريدة المقطم , ولم تلبث الحقيقة أن ظهرت بعد ذلك في مجلس الأمة العثمانية أولاً، ثم على لسان الصدر الأعظم حقي باشا الذي صرح في خطاب له بأن اليهود هم أصحاب المستقبل في هذه الدولة، حتى في أمورها الإدارية والعسكرية، فهذه مقدمة أولى للكلمة التي نريد أن نقولها الآن. مقدمة ثانية: إننا كنا كتبنا مقالاً نشر في المنار وفي بعض جرائد بيروت، نبهنا فيه إخواننا العثمانيين إلى المشابهة بين ما يستقبلون في هذا الطور الجديد من الحياة الذي دخلوا فيه، وبين ما سبقهم إليه إخوانهم المصريون من مثله , وهو طور حرية الأقلام والأعمال , وذكرناهم بأن يعتبروا بحال مصر، ويتقوا ما استبان لهم ضرره , ويأخذوا ما استبان لهم نفعه , وبينا لهم ما اختبرناه بنفسنا من ضرر ومفسدة ما جرى عليه بعض إخواننا الكتاب المصريين؛ من رمي بعضهم بعضًا بخيانة الوطن وإيثار مصلحة الأجانب فيه على مصلحة أهله. فتن بهذه البدعة بعض المغرورين الطائشين، وغلوا فيه غلوًّا كبيرًا، حتى لم يخجل بعضهم من التصريح بأن مشروع الدعوة إلى الإسلام وإرشاد المسلمين إلى حقيقة دينهم، وما فيه من الخير لهم في دنياهم، يراد به خدمة الأجانب من غير المسلمين! ! فكان مثل هذا الكاتب كمثل بعض أهل الشام الذي اعتاد أن ينبذ من يخالف رأيه بلقب وهابي، حتى إذا كان يحدث بعض أدباء النصارى، فلما خالفه قال له أنت وهابي! ! فقال له ذلك الأديب: بل أنا مسيحي ما رغبت عن ديني! قال كلا. إنما أنت وهابي! ! مقدمة ثالثة: الخلاف في الرأي طبيعي في البشر لا بد منه , ونافع لا شك في نفعه , ولو لم يكن لوجب أن يوجد بالتكلف إن لم يوجد بالطبع , وهو ضار إذا أدى إلى الشقاق والتفرق، وإن أهل العلم والفضل يتناظرون في المسائل العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، فيكون أحدهم موجبًا والآخر سالبًا بالمواضعة والاتفاق , وإن لم يسبق لهم فيه خلاف , وإنما غايتهم بيان الحقيقة بالبحث عن كل ما يمكن أن يصل إليه الفكر فيها. كذلك تؤلف الأحزاب في المجالس النيابية؛ ليؤيد بعضهم الحكومة في سياستها وإدارتها , وينتقدها البعض الآخر فيهما , وغرض الفريقين واحد؛ وهو بيان المصلحة الحقيقية للبلاد. فلا يصح أن يرمى الحزب الموافق للحكومة بأنه سيء النية، يريد أن يساعدها على الاستبداد بالأمة , ولا أن يرمي الحزب المخالف بأنه عدو للدولة. بعد هذه المقدمات أقول: إنه قد ساءني في ما كان من خلاف جرائدنا السورية في (مشروع الأصفر) ونبز بعضهم بعضًا بالألقاب , ونزولهم إلى ما لا ينبغي من الطعن والسباب , حتى جعل بعضهم أشهر الجرائد بالإخلاص موضع الارتياب. مشروع الأصفر من المسائل الاقتصادية الجديرة بأن يختلف فيها الباحثون، ولو لم يختلفوا بالفعل لحسن منهم أن يتواطئوا على الخلاف، فيتكلف بعضهم استنباط كل ما يمكن أن يستنبط له من المضار , وبعضهم استنباط كل ما يمكن استنباطه من المنافع , ثم يحكموا بعض أهل الروية والعلم في الترجيح أو يدعوه إلى الحكومة والرأي العام , مناظر الإنسان نظيره، فمن رمى مناظره بالخيانة وسوء النية كان طاعنًا في نفسه , وموقفًا لها موقف التهمة والتزاحم على المنفعة. إنني لم أعن بدرس (مشروع الأصفر) الأول؛ لأنني رأيته يتقلب بين ألسنة المبعوثين وأقلام الصحفيين , فتركته لهم , ولكنني كنت أميل إلى رفضه , ورأيتهم كذلك يميلون, ولا عنيت به بعد تنقيحه أيضًا , ولا تتبعت ما يجيئني من الجرائد التي تبحث فيه , فأنا لا أحكم فيه نفسه , وإنما أقول كلمات يصح أن تكون لمن وعاها من أسباب الحكم الصحيح فيه , وهي: (1) إن عمران بلادنا يتوقف على استعمال الأموال الأوربية فيها، وزمام هذه الأموال في أيدي اليهود , وأضرب لذلك مثالاً وقع بمصر؛ وهو أن بعض الناس قال لتاجر يهودي وقد ساومه في (ساعة) : إنني لا أريد أن أشتري شيئًا يربح منه اليهود , فقال اليهودي: إذًا لا تشتر شيئًا قط. ولأجل هذا يصانع الاتحاديون اليهود الصهيونيين وغير الصهيونيين , فإذا كان إخواننا السوريون لا يقبلون مشروعًا فيه أموال لليهود، فيعلموا أن معنى هذا أنهم لا يقبلون مشروعًا عمرانيًّا كبيرًا في بلادهم مطلقًا , وبعبارة أخرى لا يقبلون أن تعمر بلادهم. (2) إن أهل بلادنا السورية بل العثمانية كلها عاجزون عن القيام بالمشروعات الكبيرة من زراعية وصناعية وتجارية لا لقلة ما لهم فقط , بل لذلك ولجهلهم بما تتوقف عليه تلك المشروعات من العلوم والفنون والأعمال الهندسية والآلية , فهم في أشد الحاجة إلى الاستعانة على تلك المشروعات بأموال الأوربيين ورجالهم , وإلى الاحتكاك بهم والاشتغال معهم لأجل التعلم منه. (3) إن الخطر من الصهيونيين ينحصر عندي في شيء واحد؛ وهو امتلاكهم للأرض المقدسة، فينبغي لكل من يقدر على حمل الحكومة العثمانية على منعهم من ذلك أن لا يألو فيه جهدًا ولا يدخر سعيًا. (4) إن الخطر من استعمال أموال الأجانب اليهود وغيرهم ينحصر عندي أيضًا في أمرين: أحدهما غرق الأهالي والحكومة في الديون , وثانيهما تمليكهم لرقبة البلاد , بأن يكون أكثر الأرض أو الكثير منها لهم. (5) إذا عدوْنا هذين الخطرين، فلا يضرنا أن نستخدم أموال اليهود العثمانيين وأموال الأجانب من اليهود وغيرهم؛ في المشروعات التي تعمر بها بلادنا بالزراعة واستخراج المعادن وغير ذلك , بل ذلك نافع لنا بل لا بد لنا منه إلا إذا اخترنا الخراب على العمران , والفقر على الغنى , وماذا نخاف بعد هذا؟ إننا رأينا العبرة في مصر بأعيننا، زادت ثروة هذا القطر بأموال الأوربيين وأعمالهم أضعافًا مضاعفة , وكثر فيها الأغنياء , ولولا جراءة الفلاح المصري على الاستدانة بالربا الفاحش وغير الفاحش بغير حساب يوازن فيه بين دخله وبين ربا الدين الذي يأخذه بغير حاجة شديدة إليه في الغالب، ولولا الإسراف والقمار والمضاربات لما كان على المصريين دين يذكر بالنسبة إلى ثروتهم العامة , ولكانوا أغنى شعوب الأرض. على أنهم إذا ثابوا إلى رشدهم , وعني المتعلمون منهم بالثروة والاقتصاد بعض ما يعنون بالسياسة , فإنه يمكن لهم أن يفوا ديونهم في زمن قريب , وعند ذلك يكون لهم شأن صحيح في السياسة , أساسه القوة الحقيقية لا القوة الكلامية. فاضت أنهار الذهب الأوربي على مصر في زمن لم يكن لمصر فيه مثال سابق تقيس حالها عليه لشبهها به , ولا منار تهتدي به في حياتها الاقتصادية , ولكنها أنشأت تتعلم بالتجارب ونفقات علم التجارب كثيرة , وقد ظهرت بواكر ثمرة علمها بالتوجه إلى إنشاء النقابات الزراعية؛ لوقاية الفلاحين من غوائل الربا الفاحش وحفظ ثروتهم , وإنشاء الشركات التجارية والصناعية , وأنشأوا يعملون بما تعلموا من الأوربيين، فكانوا في أول عملهم كالطفل الذي بدأ يتعلم المشي يمشي خطوة ويسقط , وقد كنا كتبنا في المنار مقالات ونبذًا في ذلك عنوانها (طفولية الأمة) . أما العثمانيون وأخص منهم السوريين، فأمامهم المثال الظاهر والمنار المضيء وهو مصر , فليعتبروا بحالها , ولا يقبلوا في أمثال هذه الأمور كل رأي , ولا يتبعوا فيها كل ناعق , وليحذروا ممن يستميلون العامة إليهم بما يروج عادة في سوقهم , وهو الإنذار والتخويف وإذاعة السوء، فإن الجمهور يرجح دائمًا خبر الشر على خبر الخير. ليس أمر مشروع الأصفر بيد الجرائد التي تراه نافعًا ولا التي تراه ضارًا، وإنما أمرها إلى مجلس الأمة وحكومتها العليا , فلتقل كل جريدة ما تشاء في بيان نفعه وضره , من غير طعن ولا لعن , فإذا نفذ بعد ذلك كان أهل البلاد على بصيرة من الانتفاع به والتوقي من ضرره , وإذا ردته نثلت الكنائن , وفاءت السكائن , وكفى الله المؤمنين القتال. * * * (مسألة اليمن واتفاق الحكومة مع الإمام) كنا اقترحنا على الدولة قولاً وكتابة أن تتفق مع الإمام، فتعترف له بزعامته وتقره على إمامته في قومه حسب اعتقادهم , وترضى منه بما يقبله في مقابلة ذلك من الاعتراف بسيادة الدولة على اليمن، وكونه هو تابعًا لها. وبعد الاتفاق على هذين الركنين يسهل الاتفاق على كل شيء , بل نبهنا الدولة على ما هو أعم من ذلك؛ لتمكين سلطتها في جزيرة العرب كلها بمثل هذا الاتفاق مع أمرائها. كان من سعيي في مسألة اليمن أن اقترحت على رءوف باشا المعتمد العثماني بمصر - والفتنة في ريعانها والعسكر يساق إلى اليمن تباعًا - أن يخاطب حكومة الآستانة في أمر الاتفاق مع الإمام بلسان البرق , وقلت له: إنني موقن بأن الإمام يرضى بالاتفاق، ويكره أن يحارب الدولة باختياره , وإنني أتجرأ أن أضمن ذلك بشرط أن تعترف الدولة بإمامة الإمام وزعامته في قومه وعدم نزع السلاح منهم , والإمام يعاهدها على عدم الخروج عليها وعلى تأمين البلاد , وما زالت العرب تدين بالوفاء في الجاهلية والإسلام إلخ ما ذكرته له. فقال: إن الخطابات البرقية وغير البرقية لا تكفي للإقناع في مثل هذه المسألة، ولعلنا نتكلم فيها عندما نذهب إلى الآستانة في فصل الصيف. أما الأصول التي قررتها اللجنة التي ألفت في الباب العالي؛ لأجل وضع النظام لإصلاح اليمن، فهي على ما نشر في الجرائد عشرة: (1) تقسيم اليمن وعسير إلى ثلاث ولايات. (2) أن يعين مشايخ القبائل حكامًا إداريين أي متصرفين في الألوية وقائمقامين في الأقضية، ومديرين في النواحي. (3) أن يصرف النظر عن أصول المحاكمات التي عليها العمل في الدولة هنالك، ويستبدل بها محاكم شرعية تحكم في الدعاوي. (4) أن تنشأ الطرق والمعابر الكافية، وتؤسس المدارس وأخصها الابتدائية. (5) أن يُمنَح الإمام يحيى رياسة اليمن الروحية. (6) أن تبتاع نسافات تحافظ على السواحل، وتكون سدًا دون تهريب السلاح والذخائر الحربية، وأن تنشأ المعاقل العسكرية اللازمة. (7) أن يعفى اليمانيون كافة من الخدمة العسكرية، ويوفد من سورية وطرابلس أناس يقومون بها هناك , أو يأخذ لها أناس من العربان بالأجرة. (8) أن يسمح للعربان بحمل السلاح مؤقتًا. (9) أن تلغى الضرائب ويحصر التبغ (الدخان) ؛ لأنه يسهل تهريب السلاح. (10) أن يعين الولاة من أصحاب الفطنة والحنكة والدراية، ويمنحوا السلطة الواسعة. هذه الأصول ليست فيما نرى إصلاحًا كافيًا لليمن، ولكنها ترضي اليمانيين وت

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من البحرين (س54 - 59) من صاحب الإمضاء الحمد لله وحده: حضرة محترم المقام حجة الإسلام وإمام المسلمين السيد محمد رشيد رضا رضي الله عنه وأرضاه. سلام واحترام: يرد بجهتنا المنار ونطلع عليه، فنرى فيه من آيات الإرشاد لسبل الرشاد , والإفصاح عن طرق الفلاح , ما يشهد بفضله وفضل صاحبه أطال الله بقاءه في سلامة وعافية , ولا زالت آثاره في مناره ماثلة للمسترشدين والمعتبرين , سيدي، أرجوكم الإجابة عما يأتي بأوجز ما يمكن، وإرساله ضمن جواب إن لم ترغبوا درجه في المنار. (1) المعراج كيف كان؟ (2) انقضاض الكواكب وعلته الطبيعية، والتوفيق بين ذلك بين ما ورد في سورة (قل أوحي) وسورة (والصافات) ؟ (3) أوحي على النبي (صلى الله عليه وسلم) معنى القرآن فقط، والنبي (صلى الله عليه وسلم) هو أعرب عن ذلك المعنى بهذه الألفاظ، وركبها هذا التركيب، أم أوحي إليه المعنى واللفظ جميعًا. (4) هل يصح حديث أنزل القرآن على سبعة أحرف وما معناه؟ (5) هل من الممكن إنشاء مؤتمر إسلامي، يعود على الإسلام بفائدة في القريب العاجل؟ وأين ينبغي أن يكون؟ (6) ألا تستحسنون أن تقوم جماعة الدعوة والإرشاد أول مرة لفتح ناد بمكة تسميه نادي التعارف؟ واقبلوا سلام واحترام الداعي المخلص للمنار وصاحبه. ... ... ... ... ... ... ... محمد صالح يوسف الخنجي * * * (الجواب عن السؤال الأول: كيف كان المعراج؟) لا ندري كيف كان المعراج، ولا نقطع فيه بشيء، فإنه خصوصية أكرم الله تعالى بها نبيه (صلى الله عليه وسلم) فأراه من آياته في عالم الغيب والشهادة ما لم ير غيره من البشر , فإن في رواياته أنه صلى الله عليه وسلم رأى موسى يصلي في قبره بالكثيب الأحمر ورآه في السماء السادسة , وفيها أنه رأى في السماء آدم ونسم بنيه عن يمينه وشماله , وصلى بالأنبياء إمامًا ببيت المقدس , ورآهم في السماء , ورأى العصاة يعذبون في صور غير صورهم التي كانوا عليها في الدنيا , ولم يقل أحد من المسلمين إن موسى أو آدم رفع بجسده إلى السماء , فما قولك بنسم بني آدم كلهم , ولا أن العصاة يبعثون بأجسادهم قبل يوم القيامة , وظاهر هذا أن تلك المرائي روحانية كما قال بعضهم أو منامية كما قال آخرون , وذكرنا الفرق بينهما في الجزء الماضي , ومنه ما ورد في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم تمثل له بيت المقدس وهو بمكة فوصفه لمن سأله عنه من المنكرين. وقد أورد على ما نشرناه في الجزء الماضي إشكالاً، وسئلنا عن حلهما كتابة ومشافهة: (أحدهما) وهو قديم لو كان الإسراء والمعراج في المنام أو بالروح فقط لما أنكرهما أهل مكة، ولما كان ذكرهما فتنة للناس , على أننا قد ذكرنا في جواب (س47) حل هذا الإشكال بالإيجاز. وأما بيانه بالتفصيل فهو أن الفتنة هي الاختبار الذي يتميز به الإيمان اليقيني من عدمه , فالمؤمن الموقن بصدق النبي (صلى الله عليه وسلم) في كل ما يخبر به؛ وإن كان من الأمور المخالفة للعادات والمألوفات، فإذا قال: رأيت كذا وكذا مما هو ممكن عقلاً ممتنع عادة، ولم يبين له أنه ذلك في اليقظة أو في المنام يتحقق الاختبار، وتظهر درجة إيمانه ويكون النبي صادقًا في قوله: إنه رأى ذلك لأن فعل الرؤية البصرية والرؤيا المنامية واحد، فيقال في كل منهما رأيت، والإدراك إنما هو للروح , والجسد آلة لا يتقيد بها إلا ضعفاء الأرواح , ومن ذلك أحاديث فتاني القبر، فقد ورد أنهما يبهمان السؤال فيقولان للميت: ما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم وادعى أنه رسول الله , وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) ووردت الروايات الصحيحة في أن هذه الآية نزلت في شأن ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج. ولفظ (الرؤيا) حقيقة فيما يرى في المنام؛ ولذلك اضطر إلى تأويل الآية مَنْ جزموا بأن الإسراء والمعراج كانا في اليقظة، كما اضطروا إلى تأويل رواية شريك في صحيح البخاري الدالة على أنهما كانا في المنام أو إلى القول بالتعدد، وبعضهم قال إنها غلط. وجملة القول أن آية الإسراء التي أوردناها آنفًا، وحديث شريك في البخاري يدلان على أن الرؤيا المنامية هي التي كانت فتنة للناس. نعم.. إن الجمهور قد أولوا الآية، وقالوا في الحديث ما علمت, وأما إذا قلنا: إن المعراج روحي , وأنه كان بالصفة التي يعبر عنها الصوفية بالانسلاخ كما يأتي قريبًا، فلا وجه لاستغراب الافتتان بخبره مع التصريح بالانسلاخ والتجرد , وإن لم يصرح به حمله الناس على أنه بالروح والجسد وافتتنوا به. على أن افتتان بعض الناس واعتراضهم إنما ورد في شأن الإسراء فقط؛ ولذلك قال بعضهم: إن الإسراء هو الذي كان بالجسد والروح فقط دون المعراج، واختاره المازري في شرح مسلم. (الإشكال الثاني) أورده عالم مشهور من القضاة في هذه الديار قال: إن الإسراء أو المعراج الروحي لا يعد من الخوارق؛ لأن بعض الهنود الوثنيين يميتون أجسادهم موتًا مؤقتًا، وتطوف أرواحهم في الأرض طائفة من الزمن، ثم تعود فتتصل ببدنها، فيخبر صاحبها عما رأت في تلك السياحة الروحية , وقد كان الإنكليز يسمعون مثل هذا عن الهنود ولا يصدقونه حتى اختبروه بأنفسهم، فأنام هندي أو أمات نفسه أمام بعضهم، ورأوا جسده جثة لا حراك بها , وعلموا منه أن روحه تقصد بلدًا معينًا، فلما عاد إلى حياته المعتادة أخبر بأن روحه جاءت ذلك البلد ورأت فيه كذا وكذا. فاستخبر أولئك المختبرون بعض معارفهم في ذلك البلد عما وقع فيها في تلك المدة، فوافق الجواب ما قاله الهندي. والجواب عن هذا على تقدير صحة الرواية من وجوه: (أحدها) أن الإسراء والمعراج ليسا من المعجزات التي تحدى بها النبي صلى الله عليه وسلم للاستدلال على نبوته؛ لأن الاستدلال إنما يكون بما يدركه المنكرون بحواسهم ولا يشكون فيه. (ثانيها) يكفي في تسمية الخارقة معجزة أن يعجز الناس عنها، وإن أتوا بشيء من نوعها ولا سيما إذا كان ما أتوا به دونها , فإبراء الأرمد كإبراء الأعمى، ولا إبراء المزكوم كإبراء المسلول , والروح التي تنسلخ من بدنها فتطوف في بقاع محدودة من الأرض وترى بعض المحسوسات فيها فقط , لا يقاس عملها بعمل الروح التي تطوف ما شاء الله أن تطوف في الأرض، وترى فيها أرواح الأنبياء والملائكة ثم تعرج إلى السماء وترى ما ترى من آيات الله الكبرى كالجنة والنار، وتسمع وحي الله تعالى في الملأ الأعلى. (ثالثها) أن المتكلمين يقولون: إن خوارق العادات تكون لغير الأنبياء، وتختلف أسماؤها باختلاف أحوال من تكون لهم، فتكون إرهاصًا ومعجزة وكرامة للأنبياء، الأول قبل البعثة والثاني بعدها مع التحدي والثالث بدونه. وكرامة فقط للأولياء، ومعونة لمن دونهم من الصالحين، واستدراجًا للفساق والكفار , وفي كلامهم هذا مجال للأنظار. (رابعها) أن الخوارق التي ذكروا لها هذه الأقسام، إنما جنسها المنطقي هو الأمر المخالف للمعتاد بين جماهير الناس بحسب الأسباب العامة المعروفة التي تنشأ عنها أعمالهم , ولا ينافي ذلك عند المتكلمين أن تصدر الخارقة عن كثيرين؛ ولذلك جوزوا أن تكون معجزة النبي كرامة لكثير من الأولياء، وذكروا وقائع في ذلك منها إبراء المرضى وإحياء الموتى والمكاشفات التي لا تحصى , وجوزوا أيضًا أن تصدر الخارقة عن كل أحد، وميزوا بينها بالأسماء التي سمعت. ومن الناس من يرد هذا ولا يقول به، فقد قال الشيخ محي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر في عصره: إن الخارقة لا تتعدد، فإن ما يتعدد لا يكون خارقًا للعادة , وهذا هو المعقول لا من حيث تطبيقه على معنى الخارقة فقط، بل يقال أيضًا: إن ما يتكرر لا بد أن يكون له سبب معروف وطريقة توصل إليه، كما توصل طريقة الصوفية سالكيها إلى ما يذكرون من الكرامات التي صارت عادة تتكرر لأصحابها، وإن كانت مخالفة للعادات التي عليها غيرهم , فالكشف مثلاً معتاد من صنف الأولياء، وإنما هو خارق للعادة عند جمهور الناس , وسببه الرياضات الروحية , ولأصحاب الرياضات البدنية أعمال معتادة بينهم خارقة للعادة عند غيرهم؛ كالمشي على الحبال وتعلقهم بها من أرجلهم، وإلقاء أنفسهم من الأماكن المرتفعة، وما هو أغرب من هذا. هذا، وإن الانسلاخ الذي ذكر عند الهنود وطواف الأرواح وحدها أو بأجساد من الأثير تشبه الأجساد المركبة، مما نعلم منقول عن صوفية المسلمين، وللشيخ محيي الدين ابن عربي وقائع كثيرة فيه مذكورة في فتوحاته وفي غيرها، ويذكرون لأنفسهم معارج روحية , ويقول محي الدين: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) عرج به إلى السماء 30 مرة. والله أعلم. وإننا نورد هنا ما قاله ولي الله الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) في الإسراء والمعراج على طريقة الصوفية؛ لتعرف المذاهب والآراء المشهورة فيهما كلها، وهذا نصه: وأسري به إلى المسجد الأقصى ثم إلى سدرة المنتهى وإلى ما شاء الله، وكل ذلك لجسده صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ولكن ذلك في موطن هو برزخ بين المثال والشهادة جامع لأحكامهما، فظهر على الجسد أحكام الروح، وتمثل الروح والمعاني الروحية أجساد؛ ولذلك بان لكل واقعة من تلك الوقائع تعبير، وقد ظهر لحزقيل وموسى وغيرهما عليهما السلام نحو من تلك الوقائع، وكذلك لأولياء الأمة؛ ليكون علو درجاتهم عند الله كحالهم في الرؤيا والله أعلم. أما شق الصدر وملؤه إيمانًا، فحقيقته غلبة أنوار الملكية وانطفاء لهب الطبيعة وخضوعها لما يفيض عليها من عالم القدس. وأما ركوبه على البراق فحقيقته استواء نفسه النطقية على نسمته التي هي الكمال الحيواني، فاستوى راكبًا على البراق كما غلبت أحكام نفسه النطفية على البهيمية وتسلطت عليها. وأما إسراؤه إلى المسجد الأقصى؛ فلأنه محل ظهور شعائر الله، ومتعلق همم الملأ الأعلى، ومطمح أنظار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه كوة إلى الملكوت. وأما ملاقاته مع الأنبياء صلوات الله عليهم ومفاخرته معهم، فحقيقتها اجتماعهم من حيث ارتباطهم بحظيرة القدس، وظهور ما اختص به من بينهم من وجوه الكمال. وأما رقيه إلى السماوات سماء بعد سماء، فحقيقته الانسلاخ إلى مستوى الرحمن منزلة بعد منزلة، ومعرفة حال الملائكة الموكلة بها، ومن لحق بهم من أفاضل البشر والتدبير الذي أوحاه الله فيها، والاختصام الذي يحصل في ملأها. وأما بكاء موسى فليس بحسد، ولكنه مثال لفقده عموم الدعوة وبقاء كمال لم يحصله مما هو في وجهه. وأما سدرة المنتهى فشجرة الكون، وترتب بعضها على بعض وانجماعها في تدبير واحد؛ كانجماع الشجرة في الغاذية والنامية ونحوهما، ولم تتمثل حيوانًا لأن التدبير الجملي الإجمالي الشبيه للسياسة الكلي أفراده، وإنما أشبه الأشياء به الشجرة دون الحيوان؛ فإن الحيوان فيه قوى تفصيلية والإرادة فيه أصرح من سنن الطبيعة. وأما الأنهار في أصلها فرحمة فائضة في الملكوت حذو الشهادة وحياة وإنماء؛ فلذلك تعين هنالك بعض الأمور النافعة في الشهادة كالنيل والفرات. وأما الأنوار التي غشيتها فتدليات إلهية , وتدبيرات رحمانية , تلعلعت في الشهادة حينما استعدت لها. وأما البيت المعمور فحقيقته التجلي الإلهي الذي يتوجه إليه سجدات البشر وتضرعاتها، يتمثل بيتًا على حذو ما عندهم من الكعبة وبيت المقدس , ثم أتي بإناء من لبن وإناء من خمر فاختار اللبن، فقال جبر

بحث الاجتهاد والتقليد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بحث الاجتهاد والتقليد تابع لما نشر في الجزء السابع عن مختصر كتاب المؤمل في الرد إلى الأمر الأول لابن أبي شامة من فقهاء الشافعية في القرن السابع (فصل) ثم إن المتصفين من أصحابنا بالصفات المتقدمة من الاتكال على نصوص إمامهم، معتمدين اعتماد الأئمة على الأصليين (الكتاب والسنة) ، قد وقع في مصنفاتهم خلل كثير من وجهين عظيمين. (الأول) إنهم يختلفون كثيرًا فيما ينقلونه من نصوص الشافعي، وفيما يصححونه منها، وصارت لهم طرق مختلفة (خراسانية وعراقية [1] فترى هؤلاء ينقلون عن إمامهم خلاف ما ينقله هؤلاء، المرجع في ذلك كله إلى الإمام واحد، وكتبه مدونة مروية موجودة، أفلا كانوا يرجعون إليها وينقون تصانيفهم من كثرة اختلافهم عليها؟ وأجود تصانيف أصحابنا من الكتب فيما يتعلق بنصوص الشافعي كتاب التقريب [2] . أثنى عليه أخبر المتأخرين بنصوص الشافعي وهو الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي. (الوجه الثاني) ما يفعلونه في الأحاديث النبوية والآثار المروية من كثرة استدلالاتهم الضعيفة؛ على ما يذهبون إليه نصرة لقولهم، وينقصون من ألفاظ الأحاديث وتارة يزيدون فيها، وما أكثره في كتب أبي المعالي وصاحبه أبي حامد [3] نحو: (إذا اختلف المتبايعان وترادا) ومن العجيب ما ذكره صاحب المهذب في أول باب إزالة النجاسة قال: وأما الغائط فهو نجس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لعمار: (إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول والمني والدم والقيء) ، ثم ذكر طهارة مني الآدمي، ولم يتعرض للجواب عن هذا الحديث الذي هو حجة خصمه عليه في أمر آخر، ومن قبيح ما يأتي به بعضهم أن يحتج بخبر ضعيف؛ هو دليل خصمه عليه، فيوردونه معرضين عما كانوا ضعفوه، ففي كتاب الحاوي والشامل [4] وغيرهما شيء كثير من هذا، وهم مقلدون للإمام الشافعي، فهلا اتبعوا طريقته في ترك الاحتجاج بالضعيف، وتعقبه على من احتج به وتبين ضعفه. ثم إن مذهبه ترك الاحتجاج بالمراسيل إلا بشروط، ولو ذكر سند الحديث وعرفت عدالة رجاله إلى التابعي، وسقط من السند ذكر الصحابي، كان مرسلاً، ويورد هؤلاء المصنفون هذه الأحاديث محتجين بها بلا إسناد أصلاً، فيقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويظنون أن ذلك حجة، وإمامهم يرى أنه لو سقط من السند الصحابي وحده لم يكن حجة، وكذا لو سقط غير الصحابي من السند، فليتهم إذ عجزوا عن أسانيد الأحاديث ومعرفة رجالها عزوها إلى الكتب التي أخذوها منها. ولكنهم لم يأخذوا تلك الأحاديث إلا من كتب من سبقهم من مشايخ، ممن هو على مثال حالهم، فبعضهم يأخذه من بعض فيقع التغيير والزيادة والنقصان فيما صح أصله، ويختلط الصحيح بالسقيم، بل الواجب في الاستدلال على الحكام وبيان الحلال والحرام، إن من يستدل بحديث يذكر سنده ويتكلم عليه بما يجوز الاستدلال به أو يعزوه إلى كتاب مشهور من كتب أهل الحديث المعتبرة، فيرجع من يطلب صحة الحديث وسقمه إلى هذا الكتاب وينظر في سنده وما قال ذلك المصنف أو غيره فيه. وقد يسر الله تعالى وله الحمد؛ الوقوف على ما يثبت من الأحادث وتجنب ما ضعف منها؛ بما جمعه علماء الحديث في كتبهم من الجوامع والمسانيد، فالجوامع هي المرتبة على الأبواب من الفقه والرقائق والمناقب وغير ذلك، فمنها ما اشترط فيه الصحة؛ إذ لا يذكر فيه إلا حديث صحيح على ما شرطه مصنفه ككتابي البخاري ومسلم، وما ألحق بهما واستدرك عليهما وكصحيح إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة. وكتاب أبي عيسي الترمذي وهو كتاب جليل مبين فيه الحديث الصحيح والحسن والغريب والضعيف، وفيه عن الأئمة فقه كثير. ثم سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه، ومن بعدهم سنن أبي الحسن الدارقطني والتقاسيم لأبي حاتم بن حبان وغيرهما، ثم ما رتبه وجمعه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه الكبير من الأوسط والصغير التي أتى بها على ترتيب مختصر المزني؛ وقربها إلى الفقهاء بجهده فلا عذر لهم، ولا سيما الشافعية منهم في تجنب الاشتغال بهذه الكتب النفيسة، (والكتب) المصنفة في شروحها وغريبها بل أفنوا زمانهم وعمرهم بالنظر في أقوال من سبقهم من المتأخرين، وتركوا النظر في نصوص نبيهم المعصوم من الخطأ، وآثار أصحابه الذين شهدوا الوحي وعاينوا المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفهموا مراد النبي فيما خاطبهم بقرائن الأحوال؛ إذ (ليس الخبر كالمعاينة) ، فلا جرم لو حرم هؤلاء رتبة الاجتهاد وبقوا مقلدين. (وقد كان العلماء في الصدر الأول معذورين في ترك ما لم يقفوا عليه من الحديث؛ لأن الأحاديث لم تكن فيما بينهم مدونة إنما كانت تتلقى من أفواه الرجال وهم متفرقون في البلاد، ولو كان الشافعي وجد في زمانه كتابًا في أحكام السنن أكبر من الموطأ لحفظه مضافاً إلى ما تلقاه من أفواه مشايخه، فلهذا كان الشافعي بالعراق يقول لأحمد بن حنبل: أعلموني بالحديث الصحيح أصر إليه. وفي رواية: إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا لي حتى أذهب إليه. (ثم جمع الحفاظ الأحاديث المحتج بها في الكتب، ونوعوها وقسموها وسهلوا الطريق إليها، فبوبوها وترجموها (أي وضعوا لها التراجم والعناوين) وبينوا ضعف كثير منها وصحته، وتكلموا في عدالة الرجال وجرح المجروح منهم وفي علل الأحاديث، ولم يدعوا للمشتغل شيئًا يتعلل به. وفسروا القرآن والحديث، وتكلموا على غريبهما وفقههما، وكل ما يتعلق بهما من مصنفات عديدة، فالآلات متهيئة لطالب صادق ولذي همة وذكاء وفطنة. (وأئمة الحديث هم المعتبرون القدوة في فنهم، فوجب الرجوع إليهم في ذلك وعرض آراء الفقهاء على السنن والآثار الصحيحة، فما ساعده الأثر فهو المعتبر وإلا فلا، فلا نبطل الخبر بالرأي ولا نضعفه إن كان على خلاف وجوه المضعف من علل الحديث المعروفة عند أهله، أو بإجماع الكافة على خلافه، فقد يظهر ضعف الحديث وقد يخفى. وأقرب ما يؤمر به في ذلك أنك متى رأيت حديثًا خارجًا عن دواوين الإسلام؛ كالموطأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والنسائي ونحوها مما تقدم ذكره مما لم نذكره، فانظر فيه فإن كان له نظير في الصحاح والحسان قرب أمره، وإن رأيته يباين الأصول وارتبت به فتأمل رجال إسناده، واعتبر أحوالهم من الكتب المصنفة في ذلك، وأصعب الأحوال أن يكون رجال الإسناد كلهم ثقات، ويكون متن الحديث موضوعًا عليهم أو مقلوبًا أو قد جرى فيه تدليس، ولا يعرف هذا إلا النقاد من علماء الحديث، فإن كنت من أهله فبها وإلا فاسأل عنه أهله، فما عرفوا منه أخذناه، وما أنكروه تركناه. (فالتوصل إلى الاجتهاد بعد جمع السنن في الكتب المعتمدة؛ إذا رزق الإنسان الحفظ والفهم ومعرفة اللسان أسهل منه قبل ذلك، لولا قلة همم المتأخرين وعدم المعتبرين. (ومن أكبر أسباب تعصبهم برفق الوقوف [5] وجمود أكثر المتصدرين منهم على ما هو المعروف، الذي هو منكر مألوف. * * * (فصل) فإذا ظهر هذا وتقرر، تبين أن التعصب لمذهب الإمام المقلد ليس هو باتباع أقواله كلها كيفما كانت، بل الجمع بينها وبين ما ثبت من الأخبار والآثار والأمر عند المقلدين أو أكثرهم بخلاف هذا؛ إنما هم يئولونه تنزيلاً على نص إمامهم. (ثم الشافعيون كانوا أولى بما ذكرناه؛ لنص إمامهم على ترك قوله إذا ظفر بحديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلافه، فالتعصب له على الحقيقة إنما هو امتثال أمره في ذلك وسلوك طريقته في قبول الأخبار والبحث عنها والتفقه فيها، وقد نقلت ما روي عنه في تاريخ دمشق: قال الربيع قال الشافعي: (قد أعطيتك جملة تغنيك إن شاء الله تعالى، لا تدع لرسول الله حديثًا أبدًا إلا أن يأتي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه؛ فتعمل بما قلت لك في الأحاديث إذا اختلفت) وفي رواية: (إذا وجدتم عن رسول الله سنة خلاف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي؛ فإني أقول بها) وفي رواية: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله ودعوا ما قلت) وفي رواية (كل مسألة تكلمت فيها صح الخبر فيها عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع في حياتي وبعد مماتي) [6] . (قال: وسمعت الشافعي يقول - وروى حديثًا - قال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد الله، فقال متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا صحيحًا فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب) وأشار بيده إلى رأسه، وفي رواية: روى حديثًا فقال له قائل: أتأخذ به؟ فقال له: أتراني مشركًا؟ أو ترى في وسطي زنارًا؟ أو تراني خارجًا من كنيسة؟ نعم.. آخذ به آخذ به آخذ به، وذلك الفرض على كل مسلم) وقال حرملة: قال الشافعي: كل ما قلت وكان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى ولا تقلدوني) وفي كتاب ابن أبي حاتم عن أبي ثور قال: سمع الشافعي يقول (كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني) وفيه عن الحسين الكرابيسي قال: قال لنا الشافعي: (إذا أصبتم الحجة في الطريق مطروحة فاحكوها عني فإني القائل بها) وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغرب عنه، فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي. قال وجعل يردد هذا الكلام. قال: وقال الشافعي: (من تبع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وافقته، ومن غلط فتركها خالفته، صاحبي اللازم الذي لا أفارقه هو (الثابت عن رسول الله) وقال الزعفراني: كنا لو قيل لنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلنا: هذا مأخوذ وهذا غير مأخوذ حتى قدم علينا الشافعي، فقال: (ما هذا؟ إذا صح الحديث عن رسول الله فهو مأخوذ به لا يترك لقول غيره) قال: فنبهنا لشيء لم نعرفه، يعني نبهنا على هذا المعنى. قال أبو بكر الأثرم: كنا عند البويطي فذكرت حديث عمار في التيمم، فأخذ السكين وحته من كتابه وجعله ضربه [7] وقال: هكذا أوصانا صاحبنا إذا صح عندكم الخبر فهو قولي) . (قال المؤلف) قلت هذا من البويطي فعل حسن موافق للسنة ولما أمر به إمامهم، وأما الذي يظهر التعصب لأقوال الشافعي كيفما كانت وإن جاءت سنة بخلافها، فليسوا متعصبين في الحقيقة؛ لأنهم ما أمر به إمامهم بل دأبهم وديدنهم إذا ورد عليهم الحديث الصحيح الذي هو مذهب إمامهم من قول قد أمر بتركه عند وجدان ما يخالفه من السنة، هذا مع كونهم عاصين بذلك لمخالفتهم ظاهر كتاب الله وسنة رسوله، والعجب أن منهم من يجيز مخالفة نص الشافعي لنص له آخر في مسألة أخرى بخلافه ثم لا يرون مخالفته؛ لأجل نص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أذن لهم الشافعي في هذا. قال البوطي سمعت الشافعي يقول: (لقد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها جهدًا ولا بد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة فقد رجعت عنه) وفي رواية (إني ألفت هذه الكتب مجتهدًا، بنحو ما قبله وفي آخره، فاشهدوا على أني راجع عن قولي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإن كنت قد بليت في قبري) . وقال إبراهيم بن المنذر الخزامي: حدثنا معن بن عيسى القزاز قال: سمعت مالكًا يقول: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي: فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به

المسألة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألة الشرقية [*] واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة، فوجفت القلوب، وامتدت الأعناق، وشخصت الأبصار، وعميت الأنباء على الناس فهم يتساءلون: كيف أقدمت إيطالية على مفاجأة الدولة العثمانية بالعدوان، واغتصاب مملكة كبيرة وهي ولاية طرابلس الغرب ومتصرفية بنغازي، وإيذانها بالحرب من غير عداء سابق ولا خلاف على شيء بني عليه هذا العدوان؟ كيف رضيت الدول العظمى بهذا العدوان المشوه الذي هدمت به حقوق الدول ونقضت به معاهداتها، وبطلت الثقة بكل ما عدا القوة فيها، فهي كالوحوش المفترسة، والذئاب الضارية، ولا يصدها عن الولوغ في الدماء، وتمزيق الأشلاء إلا العجز فقط؟ كيف سكتت الشعوب الأوربية لدولها على هذه السياسة الوحشية التي لا شائبة فيها لشيء من شرف الإنسانية؟ هل الحقوق والعهود والقوانين والعدل والرحمة والإنسانية ألفاظ تلوكها الألسنة وترسمها الأقلام؛ لأجل مخادعة الغافلين والتغرير بالجاهلين، أم هي خاصة بمن يدعون الانتساب إلى المسيح، وإن كانوا أبعد الخلق عن آدابه وتعاليمه في القناعة والزهد والرحمة ومحبة الأعداء، والصفح عن المعتدين؟ هل تقصد أوربة بالسماح لإحدى دولها الكبرى بهذا العدوان المشوه، المخالف لما اعتاده سائر دولها من العدوان المموه؛ لجعله مقدمة لإسقاط هذه الدولة الإسلامية واقتسام بلادها بعد أن أسقطن دولة المغرب الأقصى، واتفقن على انقسام دولة إيران، وسمحن لروسية بإنشاب براثنها في القسم الشمالي منها، وترك القسم الجنوبي لدولة إنكلترة؟ أتريد هذه الدول الأوربية المسيحية العادلة الرحيمة البريئة من الظلم والتعصب بزعمها هدم الدول الإسلامية الثلاث في سنة واحدة؟ هذا ما يتساءل به الناس. قد انهتك الستر، وانكشف القناع، وأظهرت أوربة ما كانت تخفيه بالتمويه من قصد إزالة سلطان المسلمين من الأرض، والقضاء عليهم بالذل والعبودية، وأن يكونوا خدمًا وعبيدًا لأوربة؛ بعد أن تقتسم ما بقي من ممالكهم، وتقطع عليهم جميع طرق العزة والقوة، وتحرمهم إلى الأبد من إنشاء حكومة ذاتية. كانت أوربة تتوسل إلى مقصدها هذا بالبحث عن ذنوب للحكومات الإسلامية وإن لم تخل من مثلها حكومة، أو انتحال ذنوب لا حقيقة لها، وإنما أوجدتها الدسائس الأوربية؛ ليبنى عليها مرادها منها. ابتلي المسلمون بملوك وأمراء وأعوان لهم من العلماء والزعماء بينهم وبين كل علم وعمل تعتز به أمتهم، وتقوى به دولتهم، فمكنوا بذلك أوربة من مقاتلهم، وفتحوا لها الثغور؛ لاحتلال بلادهم وإزالة استقلالهم، فزال أكثرها وبقي أقلها مستقلاً في الظاهر، ولكنه تحت نفوذ أوربة في الواقع. هذه الدولة العثمانية قد اضطرها مركزها في أوربة، واحتكاكها بدولها وكونها في الأصل دولة حربية إلى اتخاذ جيش منظم؛ كالجيوش الأوربية التي صار أساس قوتها العلم والصناعة والنظام لا الكثرة والشجاعة والقوة البدنية فقط، فكانت الدولة بهذا الجيش وبقليل من النظام أشد الحكومات الإسلامية بأسًا، وأقوهن استقلالاً. ولكن أوربة تعبث باستقلالها الداخلي، فلا تدعها تتصرف في بلادها كما تتصرف الدول الأوربية القوية منها والضعيفة في بلادها، بل لا يسمحن لها من التصرف بمثل ما يسمحن به الولايات التي فصلنها منها وجعلنها دولاً مستقلة؛ كاليونان والبلغار والجبل الأسود، فهي تريد (مثلاً) أن تزيد في المكوس (الجمارك) على ما يرد إلى بلادها ولا تقدر على ذلك أو ترضى جميع الدول الكبرى به. قد علم القاصي والداني أن دول أوربة تطمع في تقسيم ولايات هذه الدولة بينهن، وأنهن يتربثن بذلك لتنازعهن في القسمة، وخشيتهن أن تؤدي إلى حرب طحون، يتمزق بها شمل أوربة ويسحق بعضها بعضًا، وكان بعضهن يحسب لسخط المسلمين الخاضعين لها ولهرجهم حسابًا، فهذا هو السبب في عدم اتحاد دول أوربة الكبرى باسم الصليب على اقتسام بلاد الدولة العثمانية. ويلي هذه الدول في دول الإسلام دولة إيران فدولة المغرب الأقصى، كانت أوربة تتربص بهما الدوائر، وتنتظر الفرص، ترى أن سلاطين هذه الدول وأعوانهم يستعجلون الطامعين فيها بالاستيلاء عليها؛ لأنهم يظلمون الناس، ويبغون في الأرض، ويسوقون الناس إلى اليأس من حكمهم، وتوقع زواله وتوطين النفس عليه، ومتى وصلت البلاد إلى هذا الحد سهل وجود أو إيجاد الفتن والحوادث فيها والتوسل بها إلى احتلالها أو حمايتها أو امتلاكها، أو ما شئت من الأسماء اللغوية أو العرفية الدالة في هذا العصر على الفتح السلمي أو الحربي. كان جل التنازع في السياسة العثمانية والإيرانية بين الدولتين الروسية والبريطانية، حتى نجم قرن ألمانية في أوائل هذا القرن الهجري وظهرت شرة عاهلها المستوى على عرشها لهذا العهد في منازعة إنكلترة، فاستمال إليه السلطان عبد الحميد فخنق الإنكليز على الدولة العلية، وقلبوا لها ظهر المجن، واتفقوا مع روسية عليها، ومهدوا السبل لتقسيمها. كانت روسية هي السابقة إلى السعي في إزالة دولة العثمانيين ومحو اسمها من لوح الوجود، وإرث موقعها البحري الذي لا نظير له في الأرض؛ لتجمع بين القوتين البرية والبحرية، وتكون لها السيادة العليا في البرية. وكانت قاعدة السياسة الإنكليزية أنه يجب أن تبقى الدولة العثمانية سدًّا في وجه روسية، وحائلاً بينها وبين البحر المتوسط الذي هو قلب البحار وسيدها، بشرط أن لا تقوى، ولا تكون دولة بحرية تخشى، وإن شئت قلت: (بشرط أن لا تموت ولا تحيا) فلما استقرت قدمها في مصر والسودان، ودمر الأسطول الروسي في محاربة اليابان , وظهر الأسطول الألماني في منتهى القوة، وصار في سنين قليلة بعد الأسطول الإنكليزي في الدرجة، تغيرت السياسة الإنكليزية، وتبع ذلك تغير سياسة أوربة كلها في المسألة الشرقية؛ لأن إنكلترا لا تزال صاحبة النفوذ الأول في عالم السياسة. كان من سوء حظ العالم الإسلامي في مشرقة ومغربه أن انخدع في هذا الطور السياسي الجديد بعاهل الألمان، فاغترت الآستانة ثم طهران ثم فاس؛ بإظهار ميله ووده للعالم الإسلامي ورغبته في بقاء دوله مستقلة عزيزة قوية، فكان غرورها وانخذاعها، هو الذي حمل إنكلترة على التعجيل بالقضاء عليها، ولم يغن عنها وداد عظيم الألمان الوهمي شيئًا، بل كان صوته في تحية الثلاث مئة ومن الملايين المسلمين نذير الشؤم وفاتحة الشقاء. ألمانية دولة بنيت سياستها على الأثرة والشح، فهي تريد أن تربح بشرط أن لا يربح منها أحد، بل تريد كسبًا بغير رأس مال، فلا تسمح بدرهم ولا دينار ولا بجندي ولا بكرة مدفع ولا رصاصة بندقية؛ لأجل المسلمين الذين منَّاهم إمبراطورها بصداقته؛ لأجل الربح منهم. فكان إذًا كان لا بد لهم أو للدولة العثمانية كبيرة دولهم من الاعتماد على صداقة دولة أوربية، فلا يشك عارف خبير بأن صداقة إنكلترة خير لهم ولدولتهم من صداقة ألمانية؛ فإن إنكلترة إذا أرادت أن تضر لا تقدر دولة أخرى على مثل ضررها، وإذا أرادت أن تمنع الدولة من اعتداء غيرها عليها، فلا تقدر دولة أخرى على مثل منعها وحماتيها. وأما النفع فلا ينبغي أن نعتمد فيه على دولة أجنبية، فمن لم ينفع نفسه لا ينفعه غيره. هذا هو رأيي في الدولتين، وقد صرحت به منذ سنين للبارون أو بنهايم الذي كان مندوب الإمبراطور غليوم الثاني غير الرسمي بمصر؛ إذ كان يريد أن يقتضي بضد هذا الرأي، ولكن ظهرت حجتي على حجته ولم يستطع إقناعي ولا خداعي بمثل ما خدع به بعض الناس، وهذا هو رأي جميع من أعرف من إخواننا العثمانيين المعتدلين في آرائهم السياسية. وأذكر أن أحمد مختار باشا سألني عن رأيي في انكسار إنكلترة في حرب الترانسفال وكانت الحرب في ريعانها: هل من مصلحتنا نحن العثمانيين أن يستمر انكسار الإنكليز ويسقط نفوذهم، فقلت: أرى أن المصلحة في أن يقف الانكسار والغلب عند هذا الحد، وأن تنتصر بعده إنكلترة، ويبقى نفوذها في أوربة محفوظًا، فإن سقوطها خطر على دولتنا؛ لأن من مصلحتها أن تبقى دولتنا، ومصلحة روسية في زوالنا، ولا يقف في وجهها سواها، فأهوى بيده ورأسه، وقال هذا هو الرأي. كانت سياسة عبد الحميد السوء تهدم ما كان لإنكلترة من المصلحة في بقاء الدولة، وتقرب بينها وبين روسية، وتزيل ما بينهما من الأضغان والأحقاد. فلما زال سلطانه وجاء الدستور، كانت إنكلترة أول دولة رحبت بحكومتنا الجديدة، وأظهرت لها الميل، وأنحت على النمسة بأشد اللائمة عندما أعلنت ضم البوسنة والهرسك إلى أملاكها، وكادت وزارة كامل باشا تعيد لها سياستها الأولى معنا بأكمل مما كانت عليه. ولكن قام في وجهه أغيلمة غلطة وسلانيك وأسقطوا وزارته بإرشاد اليهود الصهيونيين الألمانيين، وما زال الغرور بأولئك الزعماء الذين نزوا على الدولة بقوة جمعية الاتحاد والترقي وضباطها، حتى أيأسوا إنكلترة منا في وقت يرون فيه فرنسة وروسية وإيطالية تابعات لها في السياسة، ويرون النمسة مغتصبة البوسنة والهرسك تطمع في سلانيك مركز عظمتهم وفيما جاوروها من مكدونية، ويرون فيه ألمانية تتفق مع الروسية سرًّا على بلاد إيران شقيقة دولتنا وجارتها، وذلك من أكبر الأخطار علينا، ولم يفيقوا من غرورهم حتى سمعوا صيحة إيطالية في يوم انعقاد مؤتمر جمعيتهم السنوي تقول: قد آذنتكم بالحرب، وأخذت منكم طرابلس بالقوة والقهر، ورأوا الدولة العلية تراجع الدول العظمي وتذكرهن بالحقوق الدولية والمعاهدات والإنسانية، فيتصاممن عن ندائها، ويدعن إيطالية تغتصب هذه المملكة الإسلامية الواسعة من الدولة الإسلامية التي لم يبق في يدها في إفريقية الإسلامية سواها، وقد كان معظم سواحلها الشمالية والشرقية لها. إن سكوت أوربة على هذا العدوان المشوه الذي تتبرأ منه الأعذار، وتنكث به العهود وتنسخ القوانين برهان واضح على أنه عدوان متفق عليه، وإذًا لا يقف هذا العدوان عند طرابلس، ولا سيما إذا ظهر لأوربة أن التجربة الأولى ناجحة بعجز الدولة العثمانية عن كل عمل، وعدم تأييد الأمة العثمانية بجميع شعوبها التي يعتد بها لها، وعدم تهييج شعور العالم الإسلامي كله لأجلها. يظهر أن دول الاستعمار ولا سيما إنكلترة وفرنسة، يعتقدن أن العالم الإسلامي قد مات شعوره وتقطعت روابطه؛ بما نفثت فيه أوربة من سموم الجنسية الوطنية واللغوية والقومية، ومن التعاليم الفاسدة المزعزة لأركان الإيمان، المغرية بالنعيم والشهوات، وقوَّى اعتقادها هذا عدم ظهور الغيرة والحمية الإسلامية عند العبث باستقلال دولة المغرب الأقصى ودولة إيران، فتجرأن على العبث باستقلال الدولة العثمانية، ولم يحفلن باعتقاد المسلمين أنها دولة الخلافة، وأن بذهابها زوال الحكم الإسلامي من الأرض، وهو الذي يجب على كل مسلم أن يبذل ماله ونفسه في سبيله. ألا فليعلم المسلمون في جميع أقطار الأرض والعثمانيون أينما كانوا وحيثما وجدوا؛ أن ذهاب طرابلس الغرب غنيمة باردة، يتبعه اغتصاب النمسة لسلانيك وما جاورها، فاقتسام بقية ولايات مقدونية، فوضع الولايات السورية تحت حماية الدول الكبرى، فتجزئة بقية ولايات الدول. لا يغرنكم انتقاد بعض جرائد لغدر إيطالية وعداونها، سواء كان صادرًا عن مخادعة وخلابة، أو عن استقلال في الانتصار للمعاهدات والقوان

كلمات علمية عربية أسوقها إلى المترجمين والمعربين ـ 3

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ كلمات علمية عربية أسوقها إلى المترجمين والمعربين [*] تريبة جمعها ترائب Chest- bondds: وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى، ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى، ومنها قول امرئ القيس: (ترائبها مصقولة كالسجنجل) وقد وردت هذه الكلمة في قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 5-7) والمعنى أن المني باعتبار أصله وهو الدم، يخرج من شيء ممتد بين الصلب: (أي فقرات الظهر في الرجل) والترائب: أي عظام صدره، وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر (الأورطي) وهو أكبر شريان في الجسم، يخرج من القلب خلف الترائب، ويمتد إلى آخر الصلب تقريبًا، ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة ومنها شريانان طويلان يخرجان منها بعد شرياني الكليتين، وينزلان إلى أسفل البطن، حتى يصلا إلى الخصيتين فيغيانهما، ومن دمهما يتكون المني في الخصتين، ويسميان شرياني الخصتين أو الشريانين المنويين Spermatic Arteris؛ فلذا قال تعالى إن المني: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} (الطارق: 7) لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر، وهذه الآية على هذا التفسير تعتبر من معجزات القرآن العلمية. وقال الأستاذ الإمام: إن الصلب كناية عن الرجل والترائب كناية عن المرأة أي: من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، والمعنى على قوله رضي الله عنه؛ أن المني يخرج من بين الرجل والمرأة إذا اجتمعا، فينزل من ذكر الرجل وهو ما بينهما إلى رحم الأنثى فيحصل الحمل. وهو قول وجيه ولكن الأول أوجه وأدق. الذرور Powder: ما يذر علي الجروح من المساحيق. تليين الطبيعة Laxtion النفطات Vescales الشكال للقضيب Froenum، معروف الشلل Pralysis يحدث من فساد الأعصاب الشمع Wax اللحم المشوي Roastedمعروف المشيمة للجنين Plccnta السَّلى Foetal membrane غشاء الجنين. الصبغة Tincture هي اصطلاحات نوع من الخلاصة الدوئية السائلة. الصندل Sandal الخلاف هو الصفصاف Salicis الودك Gelatin (الجلاتين) الهاضوم ما يهضم الطعام Pepsin الصلم قطع الأذن الضوى Marasmus الضعف الشديد والنحافة الطبق: من أمتعة البيت العُثة: معروفة الطست: معروف عجب الذنب العصعص Cocyx العرقوب Tendo Achiilis العذرة: غشاء البكارة Hymdn العرنين الأنف Bridge ofncse أو ما صلب منه. العسم Amkylosis: يبس المفاصل. العظلم النيل البقم بمعني Aniline التقبض Astringency عفلت المرأة: سقط رحمها التعفن والعفونه كلمات صحيحة الطُّنُب أو العقب Tenden: وتر العضل احقن بكذا أو المحقنة (الآلة للحقن) والحقنة: (المادة التي يحقن بها) . الحكة Prurigo: مرض جلدي يحدث أكلانًا شديدًا. خُمرة Erysipelas: مرض عفن. استحم: اغتسل. الحنف: اعوجاج الرجل إلى داخل Talipes varus. الحشفة: Glans Penis رأس الذكر. الجص: الجبس. خرف: يخرف فهو خرف Tobccome dclirifous. الخُرء: Foeces الغائط. الخزام Seton معروف. الخس Lettuee: نبات. الخشخاش: ما يسمي أبا النوم PoPPy. الوَرِك Femur: فخذ الإنسان. الخضروات Vegetables. الاختلاج Ataxy: اضطراب الحركة. خَللة فتخلل: أي صار خَلا. خلية: جمعها خلايا Cells. الرمص والغمص: وسخ العين Mcibomian Secretion. الدمام: حمرة تحمر بها النساء وجوهن. الودج Gugular Vein: وريد في العنق. الأبهر Aorta: أصل الشرايين وأكبرها. الأبجل: عرق في الرجل، والأكحل في الذراع Basilic، والضافن في الفخذ، والنياط في الظهر. المرحاض: المستراح. الرسغ: Wrist oramkle. الرضفة: قطعة من الحجارة المحماة. عملية الرقع Grafing: هي وضع قطع من الجلد بدل قطع ماتت وسقطت. الزنبق Lily: نوع من الزهور. الزر Button. المسبار Probe: ما يجس به الجرح. الاست Anus: حلقة الدبر. السرخس الذكر Filix Mas. السعوط ... دواء الأنف السقمونيا المحمودة Scammony نوع راتينحى مسهل أنبوب التصريف Drainage Tube وهو ما يوضع لإنزال المدة من الجروح. استسقاء البطن Ascites ماء ينزل به المرض. السقي Ascitic fluid وهو السائل الذي يوجد في البطن. السلس Incontinence نزول البول بدون إرادة. السهك: ريح العرق الكريهة. الشب Alum. القوتياء الزرقاء هي كبريتات النحاس الشبث هو المسمى بالعامية أبو شبت. الشثن: غلظ الأصابع. الشرم: قطع الأرنبة، انشقاق الشفة العليا Hare - lip. الشظية Fibula أحد عظمى الساق. شحمة الأذن معروف. الشغى عدم انتظام الأنتظام الأسنان. الدسام والشف Gauze هو المسمى عندنا بالشاش. الغضروف Cartilage ما لان من العظم. الغدة Gland عضو صغير للإفراز. غروت الجلد أغروه أي ألصقته. الاغتصاب Rape الفسق كرها. الغضون مكاسر الجلد. الغلفة القُلفة prepuce جلدة الذكر. الفتق Hernia عاهة معروفة. فحصت عن كذا ولا يقال فحصت كذا. القحف vertex أعلى الرأس. الفرصة pledget قطعة من القطن أو غيره توضع في المهبل بالدواء. فروة الرأس أو الشوى Scalp. الفص lobe. فضخ الرأس أي كسره وأخرج مخه. فك المظم أزاله من مفصله. الفالج Hemiplegia الشلل النصفي الجانبي وهو ينشأ نزف في المخ. القذال Occiput مؤخر الرأس. قصبة الرجل والرئة Tibia, Trachea. القص Sternum العظم الأمامي للصدر. القلس Eructaions رجوع الطعام أو الشراب من المعدة إلى الفم. قنيت القناة to groove. القولنج Colic المغض وهي كلمة معربة. القيح: الصديد الزنبيل هو المقطف بلغة العامية. اكلدم Ecchymosis. الكرسوع طرف الزند الذي يلي الخنصر والناتى عند الرسغ. الكزبرة Coriander. الخلف ثدي ذوات الخف. كشط نحّى الكلب Hydrophobia داء مميت الكلف Chloasma تلون الجلد في الحبل. الكلية Kidney. الكاهل Dorsal. الكوع طرف الزند الذي يلي الإبهام الساعد forearm اللتادة معروفة السمحاق periosteum غشاء فوق العظم يغذيه. اللصوق plaster دواء يلصق بالجلد. المطاء سمحاق الرأس pericranium. اللعوق ما يعلق من الدواء. اللفافة Bandage. بيمارستان Asylum وهي كلمة معربة. المرارة إفراز الكبد Bilc. الذور Giddiness. ولد منكوسا أي خرج رجلاه قبل رأسه نُكس المريض نكسا عاوده المرض. نكأت القرحة أنكأها إذا قشرتها. أنموذج يجمع نماذج. الأنملة Terminal phalanx. النهك Exhaustion الضعف المتناهي. النَّوبة fit. الوباء Epidemic المرض العام كالطاعون. الزرنيخ Arsenic. الوشم Tattooing. الأرق Insomnia عدم النوم. المسفرة Brush ما نسيه (فرشة) . البيض النمرشت نصف المسلوق. الشمر Fennel. داء الثعلب Alopecia. الماء في العين Cataract وهي كدورة بلورية. الهاون Mortar. (الأسفيداج معروف. القيفال تعريب Cephalic) ... ... ... وهما وريدان الباسليق تعريب Basilic. الأخدعان عرقا الصدغين. استرخاء المعدة Diolation تمددها. القراقر Borbovygmi صوت الأمعاء. مرض Nurse. مرق اللحم Soup معروف. المارن: ما لان من الأنف. الماست كلمة فارسية معناها. لبن الزبادي ويسمى اللبن. الماضر بالعربية. المصارين Intestinse الأمعاء. معَط سقط شعره موق العين Canthus. المروخ Linimer الدهان. الناتئ process. الاستنثار قذف مخاط أنفه. النَّخَر Necrosis وهو داء يفسد العظم ويميته. المنديل معروف. النزف Hoemorrhage خروج الدم والدم نزيف أي منزوف. الناصور والناسور واحد Sinus, fistula. الحرس الزفت pitch الأنفخة والمنفخة Rennet معروفة. النقرس Gout ويسمى أيضا داء الملوك لأنه يكثر في المترفين. المدة Pus هي القيح. النقيع Infusion ما يستخرج من الدواء بصب الماء المغلي عليه كالشاي. الطبيخ أو المطبوخ Decoction ما يستخرج من الدواء بغليه في الماء. النقه Convalescence الإبلال الشفاء. المنكب shoulder الكتف. العضد Humerus. النقي والنقو Marrow هو مخ العظم. النخاع Spinal cord. المناعة. الحصانة. وهي في الاصطلاح عدم قابلية بعض الأجسام لبعض الأمراض Immunity. فهذا ما أردت نشره من الكلمات العلمية التي عثرت عليها الآن، والله يوفقنا لنشر غيرها في المستقبل إن شاء، إنه سميع النداء مجيب الدعاء. الدكتور محمد توفيق صدقي

حالة المسلمين في جاوه والإصلاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حالة المسلمين في جاوه والإصلاح لا جرم أن من إخواننا الفضلاء قراء (المنار) من يحب أن يطلع على حالتنا الحاضرة بجاوا؛ لأن وشيجة الرحم الدينية بل والطينية لما تنفصل بعد بيننا وبينهم طالما وددت أن أزيح الغشاء عن حالتنا الحاضرة، حتى أصورها للقراء كما هي؛ لولا أن العي والحصر قد ختما على فمي، وكدما رأس قلمي، فلا أستطيع أن أبدي من الأمر إلا قليلاً. نعم.. وقد يعتورني بعض الخواطر فأقول: ما لي ولعصر يافوخي في تدوين حالة تتعثر الأقلام خجلاً من تسطيرها، ويتعلثم اللسان تنزهًا عن شرحها، على أن شأننا لا يخفى على من له أدنى اطلاع على شؤون الأمم، وجمودنا العريق لا ينكره من له أقل نظرة في سطح معترك الطوائف الحيوي. ما كان في المخدع من أمرنا ... فإنه في المسجد الجامع ومع هذا أجدني مرغمًا على القول بأن حالتنا سيئة، وأراني مضطرًّا إلى شرحها والشكوى منها؛ بحكم العوامل التي تدفع المريض إلى الأنين والتأوه وشرح مرضه إلى كل من يراه. ولكن منا فئام هداهم الله يُحفظهم التنديد بحالتهم المحزنة، ويغيظهم نصح الناصحين، وإصلاح المصلحين، وعليه فقد أصبحنا جامدين مغرورين (حشفًا وسوء كيلة) . بماذا أبتدي وعلام أنتهي؟ يقف بعض الجامدين هنا باهتًا مندهشًا أمام تلك الكلمات؛ التي ملستها أقلام الكتاب من كل أمة على صفحات الجرائد والمجلات، وصقلتها ألسن الخطباء على ذرى المنابر والمنصات، حتى أصبحت والحمد لله فيهم سلوة كل كئيب، وعكازة كل خطيب. هي تلك الكلمات التي يتبجح بها المتبجحون من الأمم الراقية بقولهم: (عصر العلم، عصر التقدم) ... إلخ، فترى الجامدين منا يحسبونها من قبيل الأماني والأحلام، حتى يدفعهم حسبانهم واندهاشهم الناشئين عن جمودهم وجهلهم إلى تفنيد أولئك المتبجحين وتزييف أقوالهم، ويا ليتهم قاسوا ما جهلوه وما استمحلته عقولهم من وجود معان لتلك الألفاظ، بما يشاهدونه ولا يشكون فيه مما اكتشفه العلم الحديث من العجائب التي لم يحلموا بها؛ لا هم ولا قومهم المحرومون من أسرار الطبيعة والمنبوذون من علوم الكون: إن تقدم رجال الغرب وعلومهم ومدنيتهم أعظم مما تتوهم، وأضعاف ما قد نعلم، وإننا لم نر إلا النزر اليسير من بخار تلك المدنية العظيمة التي لا تحتمل تصديق مثلها عقولنا الضعيفة، ولو أنعم المنصف منا بصره وأعمل فكره في هذا التقدم المادي والأدبي الذي أحرزته الأمم الغربية ومن ضارعها، ثم كر بصره في حالتنا الحاضرة؛ لجزم جزمًا صارمًا بأنه مع صرف النظر عن كلمة الشهادتين التي فضلناهم بها، لم تكن نسبة حالنا إلى تقدمهم إلا كنسبة حال متوحشي نيام إلى تمدننا، وعلى هذا فلا نجد مسوغًا للوهم إذا هم عاملون بمثل ما نعامل به من هم أحط أخلاقاً من الإهانة والاحتقار. مهلاً مهلاً أيها القارئ، ولا تعجل بالوثوب حفظك الله إلى تفنيدي وتكذيبي؛ فإن الشواهد حاضرة، والأدلة قائمة، ولئن آلمك قولي ففي ما نحن عليه معاشر الحضارة من التأخر والانحطاط ما هو أجدر بالتألم وأحرى بالتأسف، وإن منا والله أقوام لا يضيرهم الهون، ولا تستفزهم الحمية ولا يؤلمهم القول. من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام إن لبني الغرب في هذا العصر علمًا جمًّا، وفكرًا دقيقًا، وإدراكًا عاليًا، وهمة جزلة، وأموالاً طائلة، وممالك فسيحة، ومستعمرات ذهبية، وإن لهم من نفع الإنسانية بل والبهيمية ما لا يستطيع هذا القلم الضئيل وصفه، ولا تدرك معلوماتنا كنهه. ليس هذا هو موضوع القلم اليوم، ولكني وددت لو أمثل للمغرورين من قومنا بعض حال رجال أوربا؛ فيقابلوا بينها وبين حالنا التي نظل شامخين بأنوفنا تيهًا بها وغرورًا على أنفسنا وزورًا! ! ! من آية وجهة أشرفت علينا معشر الحضارم لا تشاهد إلا منظرًا يصهر الفؤاد ويذرف العيون، ويفتت الأكباد، ويرقق قلب الشامت. أمور يضحك السفهاء منها ... ويبكي من مغبتها الحليم أجل والله، من آية وجهة ألقيت بصرك على مجموع العرب هنا، تجدهم قد أجادوا في تمثيل أدوار الهمجية الغابرة، والجهالة الفاضحة، وأحسنوا الارتطام في حمأة التوحش، وأطربوا الشامتين بغطيطهم الناشئ عن سباتهم العميق بل موتهم الفظيع، وإنه وأيم الحق لينبغي لإخواننا المصريين والسوريين والحجازيين والمراكشيين وكل من الطوائف العربية؛ أن يبعث بعضهم لبعض مسنون التعزية في إخوانهم الحضارم الذين ذهبوا ضحية الجهل، وفريسة الغرور، وماتوا مجاهدين في سبيل الدينار والدرهم. أخذ الجمود من كبرائنا مأخذه، وتمكن في نفوسهم اعتقاد أن كل جديد ضار، وأن العكوف على العادات القديمة أنفع ما كان وما يكون، وأن ما سبقتنا إليه رجال أوربا من الخير لا يجوز لنا فعله شرعًا. رسخ هذا الاعتقاد في قلوبهم، وامتزج بعقولهم وأرواحهم، حتى صدهم عن استماع الدين، وسدوا فجاج الإصلاح، ودفعوا في صدر الأمة، حتى قهقروها عن التقدم، زاعمين أن التحسين والتنظيم وتسهيل وسائل التعليم مخل بالنسب الكريم أو الدين القويم، ومعاذ الله أن يكونوا في هذا من الصادقين، فإن الفتن في الإصلاح شيء، والدين والأنساب شيآن آخران. بلغ من تعصب كبرائنا أن حظروا جعل المدارس على الطريقة الحديثة من إقامة طاولات ومكتبات قدام التلاميذ، توضع عليها أدواتهم، وسرر يجلسون عليها ولوح خشبي توضح فيه مشكلات المسائل، وعدوا ذلك من المنكرات، والواجب تغييرها باليد لمن قدر عليهم؛ لأن في هذا كما لا يخفى تشبهًا بالكفار ومجاراة لأصحاب النار، بل الواجب علينا أن نقشف مداركنا ونهين تلاميذنا؛ فنجلسهم على قاعة المدرسة مباشرة أو بواسطة حصير في هذه البلاد الندية، حتى يصابوا بمرض البيري بيري المخوف فيموتوا قريبًا، وننفض أيدينا منهم نفض الأنامل من تراب الميت، وحينئذ نستريح من انتظار نفعهم في المستقبل. كنا لما أن رأينا العجمة الجاوية تمكنت جيدًا في أولاد العرب هنا، حتى إن بعضهم لا يفهم لفظ الأعداد البسيطة بالعربية، ورأينا الأوربيين يدأبون في نشر لغتهم وعقائدهم الدينية بين أولاد الجاويين، ويحاولون ردهم عن دينهم الإسلامي الذي ما بقوا متمسكين إلا باسمه، ورأينا إخواننا العرب جامدين سامدين لا يتألمون ولا يتكلمون، لما رأينا كل ذلك نهضنا على ما بنا بمساعدة بعض الإخوان، وفتحنا مدرسة لتعليم اللغة إجمالاً: فأولاً يدرس فيها إتقان الألفاظ وتركيبها ثم النحو والصرف وغيرها من الفنون العربية، ويدرس أيضًا فيها الجغرافية والتاريخ الإسلامي والعقائد الإسلامية وطرفًا من اللغة الإنجليزية. وقد باشرت التعليم العربي بنفسي، فجعلت تعليمهم اللغة على أحسن الطرائق الناجعة الرائجة في هذا العصر؛ وهي طريقة برليتز الأمريكاني التي هي عبارة عن نظر في المحسوسات والمشاهدات، وعلم في العمليات، (انظر المنار م8 ج 22ص87) وهي أشبه شيء بطريقة تعلم الطفل لغة أبيه وأمه؛ إذ يدرس التلميذ الأفعال بالأعمال كأن يحمل الكتاب ويفتحه، ثم يطبقه ويقوم ويذهب إلى اللوح الأسود ويمسك الطباشير بيده ثم يكتب، وتعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية، فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة، يتزايد كل يوم عددها بسرعة عجيبة. وهذه الطريقة هي بدون شك أحسن طريقة لتعليم اللغات، فقد جربناها فوجدناها نافقة نافعة، كما شاهدنا تأثيرها فينا حينما تعلمنا اللغة الإنكليزية عليها، وكما يشهد المنصفون تأثيرها أيضًا في تلاميذنا الذين يطلبون العربية عندنا على خطتها، بل قد جربت هذه الطريقة في أجمل عواصم أوربا، وما برحت مدارسها تتكاثر بتلك الأصقاع حتى صارت اليوم تعد بالمئات، وكلها أسفرت عن نجاح أكيد، وارتقاء عظيم، واقتصاد في الوقت والمال (انظر المنار) وأما الذي تولى تعليم القسم الإنجليزي فهو شاب من خيرة الناشئة العربية هنا؛ وهو حضرة الأستاذ عبد الرحمن القدسي المتخرج من مدرسة المعلمين بسنغافورة والحامل للشهادة. ولكن مع كل هذا نرى الجامدين والمتعصين من قومنا العرب؛ لم يرضهم فعلنا، بل قاموا يشتموننا ويقدحون في أعراضنا، ويصادرون نهضتنا، وينفرون الناس عن مدرستنا، في وقت نحن أحوج الناس فيه إلى مساعدتهم. حقًّا أقول: إن للمنار هنا اليد الطولى في الإصلاح وترقية العقول، وإحداث هذه الحركة الفكرية في أدمغة الشبان، فقد أثر معها أيما تأثير ما غذاها به من لبان الغيرة، وأنشقها إياه من نسيم النهضة، وقذفه إليها من المعارف، فالمنار اليوم هو أنشودة النابتة هنا ومورد أنظارهم؛ اعتمادًا على ما يرونه غير ما مرة على صفحاته من ضروب الذكر للحضارم بجاوه، فتارة نصحيًا، ومرة موبخًا، وأخرى مثنيًا، وطورًا باحثًا عن أحوالهم، متفقدًا لأمورهم، وكل هذا مالا تفعله معهم أية جريدة أخرى، فالنابتة بهذا لا تعد المنار إلا أكبر أستاذ وأشفق والد. نعم.. ظهرت أيضًا شبه حركة عربية بسنغافوره محصورة في بعض الأفراد، فأنشأت منذ زمن غير بعيد جريدتين أو ثلاث، ولكنها والحق يقال: إنما هي حركة عدائية، قام بها عباد الأهواء والأغراض بعضهم ضد بعض، فياليت تلك الجرائد التي نحن أحوج الناس إلى إرشاداتها العمومية، واستنهاض الهمم إلى المعالي، والقيام بالمشروعات المفيدة، عدلت خطتها ورجعت عن غيها إلى ما يعود بالخير الجزيل على الحضارم وغيرهم. ولكن من يسمع ما نقول وأنت ترى أولئك سادتنا وقادتنا: إما ساكتين أو عاملين مثل تلك الأعمال، ولا شك أن سمعة العنصر العربي هنا ستكون سيئة جدًا حينما يطلع الملايو وغيرهم على جرائدنا وما ينشر فيها، وعوائدنا وما ينجم عنها فرحماك اللهم رحماك، اللهم لا تشمت بنا عدوًّا ولا تسئ بنا صديقًا، وأنزل صاعقة من صواعق نقمتك على من قام عثرة في سبيل تقدم هذه الفئة المنكودة الحظ. آمين آمين. ... ... ... ... ... ... ... محمد بن هاشم طاهر ... ... ... ... ... ... مدرس العربية بفليمبغ سوماترا (المنار) كاتب هذه الرسالة من أذكى شبان الحضرميين المقيمين في تلك الجزائر ذهنًا، وأزكاهم نفسًا، وأشهم غيره؛ فهو يحب أن يعمل ويخذله شيوخ من قومه، وأقوى الخاذلين للإصلاح في تلك البلاد جاهًا وعضدًا الشيخ الهرم عثمان بن عقيل، وقد يسوء الكاتب أن نصرح بذلك؛ لأنه من أسرته أو هو عمه كما أظن، ونحن نكره أن نذكر المفسدين في الأرض بأسمائهم لولا الضرورة. كان المسلمون يكتبون إلينا في السنة الأولى والثانية والثالثة للمنار (أي منذ 14 سنة) مقالات في بيان ظلم هولنده وضغطها على العرب واضطهادها لهم، ويقولون: إن عونها عليهم هو واحد منه اسمه السيد عثمان بن عقيل؛ لأنها جعلته جاسوسًا عليهم ومستشارًا لها في أمورهم، وما كنا ننشر شيئًا مما يكتبون لكراهتنا الخوض في سيئات الأشخاص؛ ولأننا كنا نظن أن ذلك الطعن في الرجل يوشك أن يكون لهوى أو غرض أو منافسة، وأما الضرورة التي دعتنا إلى التصريح باسمه والتحذير منه بعد ذلك؛ فهي ما رأيناه من رسائله التي يطبعها وينشرها بين المسلمين في التنفير من الإصلاح والمصلحين، الخبط والخلط في أحكام الدين، وتحريم العلوم والفنون والنظام، وشبهته أن إنشاء المدارس المنتظمة وتعلم العلوم الرياضية والطبيعية من التشبه بالإفرنج، وهو حرام مطلقًا في اجتهاده الجهلي، وكذا يحرم عنده تعلم العلوم العربية والشرعية بطريقة جديدة وعلى هيئة صحية؛ كما عليه العمل في مصر والآستانة وغيرها، كل

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار في بحث اختلاف الأمة جاء في مجلة دين ومعيشت الإسلامية التي تصدر في البلاد الروسية ما ترجمته. كنا ترجمنا في العدد 27 من المجلة مقالة من مجلة المنار في حديث: (اختلاف أمتي رحمة) ، ووعدنا ببيان كون بعض الكلمات منها لا يطمئن به الخاطر؛ فإنجازًا للوعد نبين فكرنا في المسألة: تقول المنار في آخر المقالة: (ولكن لما جاء دور التقليد والتشيع والتعصب للمذاهب حلت النقمة، وتفرقت الكلمة، وذهب الريح والشوكة، إلى أن وصلنا إلى هذه الدرجة من الضعف: ذهب ملكنا الكبيرة وصارت المملكة الكبيرة من ممالكنا تقع في قبضة الأجانب) يريد بقوله هذا: إسناد السبب في ضعف الإسلام، وكون أهله متفرقين شذر مذر إلى انقسامهم إلى مذهبي: السنة والشيعة والمذاهب الأربعة المشهورة؛ بسبب اختلاف الأئمة في الأحكام، وإلى أن كل فرقة من أتباع الأئمة الأربعة تقلد إمامها، بذلك يسند الغيب إليهم. هذا الفكر خطأ من المنار على ما نظن، والسبب في ضعف العالم الإسلامي وصيرورته إلى تلك الحال؛ هو كون المسلمين مغلوبين أمام خصلتين من أقبح الخصال في الشريعة الإسلامية واتصافهم بهما: الأولى منها الحمية الجاهلية؛ أعني بها الاهتمام بالقومية والجنسية العربية والتركية والفارسية والهندية والتتارية والجركسية وأمثالها، وتقديم كل قوم وملة حفظ قوميتهم ومليتهم على حفظ الوحدة الإسلامية، والقرآن يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران: 103) . (وهنا فسر معنى الآية بالتتارية ثم قال) : معلوم عند كل من يطلع على كتب التفاسير والتواريخ أن العرب قبل مجيء الإسلام؛ كانت قبائل وطوائف كل واحدة منها عدوة للأخرى تعيش بالقتل والنهب (وبعبارة أخرى. كانوا يمضون الأوقات بالقتل والنهب) وبعد مجيء الإسلام تركوا العداوة فيما بينهم واتحدوا وتآخوا حتى اضطربت أطراف الأرض بقوتهم وشوكتهم، وإذا أسلم أناس من أي ملة كانوا عدهم العرب إخوانًا لهم، وكذلك الذين أسلموا؛ بسبب هذا الاتحاد والتآخي، لم يبق بين المسلمين للعصبية ولا الرومية ولا الفارسية ولا غيرها من القوميات والجنسيات، وعاش المسلمون كلهم كما يعيش الإخوان مع إخوتهم. الزمان لا يدوم على حال واحدة، بل لا بد من التقلب من حال إلى حال؛ فالفرس الذين ذهبت الدولة من أيديهم بشوكة الإسلام، كانوا مسلمين كسائر الناس، ولكن البعض منهم لا سيما الذين لم تذهب لذة الإمارة من أفواههم، لم يهضموا في نفوسهم رياسة العرب الذين كانوا قبل الإسلام غير معدودين من البشر على اعتقادهم. فأرادوا إلقاء الفتن بين المسلمين؛ ومن ورائه حفظ قوميتهم ومنصب الرياسة في ملتهم بأي طريق كان، هكذا أخذوا يعملون بالحمية الجاهلية. للوصول إلى تلك الأماني ألقوا الفتنة أولاً بين العرب، وأخذوا يفضلون طائفة منهم ويستخفون بالآخرين. فبهذه الكيفية حملوا العرب أنفسهم على زرع بذور التفرقة بينهم الممنوعة بالآيات القرآنية المار ذكرها؛ وللإيهام بحسن أعمالهم ومشروعيتها أظهروها في روح الذين دعوا الناس إلى لعن الخلفاء الأولين وتكفيرهم؛ لأنهم غصبوا الخلافة من عليّ كرم الله وجهه، وكانت من حقه. وهذه الأعمال منهم إنما يريدون بها سترة حميتهم الجاهلية وإبداءها في صورة حسنة؛ كشيء مشروع في أعين الناس وأصل الخلاف ليس هناك، هم في الحقيقة لا يرون كون الخلافة في عليّ كما لا يرون كونها في أبي بكر أو عمر، بل تلك الأعمال منهم كما قلنا إلقاء للفتنة بين العرب والأمل باختطاف شيء من الرياسة لهم أثناء الفتن، بناء على ذلك ما كان ذلك الاختلاف بعد مجيء دور التشيع كما قال صاحب المنار، بل كان موجودًا قبل التشيع، ولكن ظهر في الميدان صباغ التشيع؛ لتقوية ذلك الاختلاف فقط. أما تقليد الأئمة الأربعة، فليس له أدنى مناسبة لذلك الاختلاف؛ والدليل على ذلك أنه لم يوجد في وقت من الأوقات فتن تنحر إلى الحرب بسبب الاختلاف في الحنفية والشافعية أو المالكية ولا الحنبلية، لا ترى حربًا من الحروب الإسلامية إلا وتجد سببها الأول ترجيح القومية والملية على الوحدة الإسلامية. وإذا قلنا بلسان العرب فهو الحمية الجاهلية، والإثبات ذلك يكفي النظر في حال تركيا الآن: فتنة في اليمن، وعصيان في الدروز، وشق عصا الطاعة في الألبان، كل تلك الاضطرابات ليس سببها الاختلاف في كون بعضهم مسلمًا أو غير مسلم، أو في كون بعضهم شافعيًّا أو حنفيًّا. بل السبب في الكل تلك القومية والملية. كنا ذكرنا في أول المقالة خصلتين، وقلنا: إنهما السبب في وصول العالم الإسلامي إلى تلك الدرجة من الضعف، الخصلة الأولى قد بيناها. وأما الثانية فهي حب الرياسة. كون تلك الخصلة من الأخلاق الذميمة في الشريعة الإسلامية مبين بالتفصيل في كتب الأخلاق. فلا حاجة هنا إلى البيان من تلك الجهة، كل قوم يريدون رياسة قومهم على الآخرين دون غيرهم. ولا يتجنب في ذلك أي عمل يمكن مجيئه من يديه، وكذلك كل فرد من أفراد القوم يريد أن يترأس في قومه دون غيره، وهذه الخصلة شائعة جدًّا بين الجهلاء ولا سيما بين غير الممدنيين في ديار القزاق والباشقرط، فهم يجتهدون في نيل منصب بولص وأستر شينه (كلاهما منصب حاكم في درجة واحدة) حتى ينجر الأمر في بعض الأوقات إلى الحنابلة كل ذلك أمام العيون، شيوع حب الرياسة بين أفراد قوم، لا شك في كونه يجلب أضرارًا جسيمة على القوم، وذلك حقيقة ثابتة بتجارب عديدة، نيل شخص غير منتظر الظهور في الميدان على منصب الرياسة وقت تخاصم اثنين فيها يصادف كثيرًا جدًّا، ولا يكون نصيب المتخاصمين فيها إلا إضاعة الوقت وصرف القوى، كذلك الدولة المتشكلة من الأقوام الكثيرين إذا شاع في أبنائها حب الرياسة أو تطاول كل قوم إلى اتخاذ رئيس فيما بينهم، فلا شك في سريان الضعف إلى تلك الدولة من جميع أطرافها، وتلك حقيقة ثابتة بتجارب عديدة ومعروف لكل من يطالع كتب التواريخ. ولا حاجة إلى مراجعة كثير من الكتب ليعرف، بل يكفي قليل من التفكير في أسباب دخول ممالك الهند المتشكلة من الأقوام العديدة مقدارهم ثلاثمائة مليون أو زيادة في قبضة الإنكليز وعددهم ثلاثون مليونًا فقط. الأقوام والقبائل في الهند، كانوا لا يتحملون رياسة الأقوام الآخرين من جيرانهم، وكانت الحروب الدموية لا تنقطع فيما بينهم في نصب رئيس من أنفسهم دون الأقوام الآخرين، ففي ذلك الوقت جاءتهم الإنكليز، وقالت لهم: (اتركوا الحرب فيما بينكم ولا تقاتلوا من غير جدوى، كلكم لا تصلحون للرياسة أبدًا، ولنجرب نحن أمر الرياسة عليكم) حتى أخذوا جميع الهند في أيديهم الصغيرة من غير مشقة أو بمشقة قليلة، وصاروا رؤساء عليها يحكمون. فالسبب في استسلام هؤلاء الأقوام الذين لا يعد عددهم ولا يحص إلى الإنكليز وهم عدة ملايين ليس اختلافهم في الحنفية والشافعية أو النسبية أو الشعبية، بل السبب من غير شك خصلة حب الرياسة المذمومة المزوجة بالاختلاف في القومية والملية. نظن أن صاحب المنار المحترم؛ لا شك يعرف أكثر منا سبب دخول الإنكليز مصر التي ولد فيها وتربى في قبضة الإنكليز، السبب في ذلك من غير شك ليس اختلافهم في الحنفية أو الشافعية؛ لأن المصريين كلهم شافعيو المذهب إلا القليل اليسير، بل السبب فيها أيضًا تلك الخصلة الذميمة خصلة حب الرياسة، وبعد ذلك لا حاجة بنا إلى قراءة تواريخ تونس أو الأندلس، فنحن ما عرفنا كيف نؤول كلام رشيد رضا أفندي المحترم؛ حيث يقول: السبب في دخول ممالك الإسلام في يد الأجانب التقليد والتشيع. والحال أن تلك الأسباب المار ذكرها في الميدان أمام كل الناس، لذلك قلنا: إن هذا الفكر خطأ من المنار، وما قلنا ذلك إلا تأدبًا وإلا ما يعوزنا الكلام لمقابلة تلك الكلمات من المنار؛ لأن المذاهب الأربعة قد توورثت (أو تنوقلت) عن الأولين إلى الآخرين منذ عشر قرون أو أكثر قرنًا بعد قرن، وما قال أحد في قرن من القرون لا سيما العلماء بعدم لزوم تلك المذاهب، بل عدوها عين الرحمة كما يقول الحديث.اهـ.

رد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رد المنار المسائل الاجتماعية والسياسية التي يبحث فيها عن أحوال الأمم وطبائعها وأسباب ترقيها وتدليها وحياتها وموتها؛ هي أعلى وأرقى وأعوص مسائل العلوم البشرية كلها، ولا سيما إذا كان فهمها يتوقف على معرفة الباحث دين الأمة التي يبحث عن أحوالها؛ وفقه أصوله والاستقاء من ينبوعه الأول كالأمة الإسلامية. والمناظرة في هذه المسائل أصعب من المناظرة في سائر العلوم والفنون؛ لأسباب منها أن كل أحد يظن أنه يعرف حقها وباطلها، وقل من يعرف ذلك، ومنها أن تحرير محل النزاع عسير ولا سيما بالكتابة في لغتين أو لغة واحدة يتفاوت المتناظران في فهمها، فلهذا وذاك نرى أن مناظرة رصيفتنا الغراء (مجلة دين ومعيشت) لنا في هذه المسألة من المشكلات؛ لأن ما يترجمه لنا عنها أهل لسانها من التتار الذين يطلبون العلم عندنا؛ يدلنا على أن محرريها لا يفهمون كلامنا حق الفهم، بل نراها تخطئ فيه خطأ تستند إلينا به ما لم يخطر لنا على بال وقد كتبت هي أيضًا في عبارة ترجمت لنا عنها أن الترجمة كانت خطأ. وههنا نقول: إننا جعلنا التقليد والتشيع هو سبب استيلاء الأجانب على بلاد الإسلام، ويظهر أنها فهمت أنه هو السبب المباشر لهذا المسبب، وقد أخطأت في هذا الفهم كما أخطأت في جزمها بأننا ولدنا في مصر وتربينا في قبضة الإنكليز، وفي قولها إن مصر وقعت في قبضة الإنكليز بسبب حب الرياسة، ومع هذا كله لا بد أن نكتب في هذه المسألة المهمة (أسباب اختلاف المسلمين وضعفهم واستيلاء الأجانب عليهم) ما ترجى فائدته في التفاهم بيننا وفي إيقاظ أمتنا من نومها، وأو تنبيهها من غفلتها عن نفسها، فنقول: (1) إن لضعفنا الذي كان سبب استيلاء الأجانب علينا أسبابًا كثيرة، من أطال النظر في بعضها دون بعض يمكنه أن يطيل القول في جعله هو السبب دون غيره، فيكون خطأه في الحصر فقط، ويكون هذا الخطأ فاحشًا إذا كان السبب المحصور فيه من الأسباب الفرعية غير الرئيسية؛ كحب الرياسة الذي عدته رفيقتنا للضعف بذاته لما وجدت دولة قوية، وإننا نذكر من الأسباب التي يمكن للمرء أن يطيل في بيان كونها المضعفة للأمة خلق الحسد الذي يغري محبي الرياسة بالبغي على من يسبقهم إلى ما تصبو إليه نفوسهم؛ أو يرونها أحق به ممن ناله دونهم، فالذي يظهر لنا أن عليًّا كرم الله وجهه كان يرى أنه أحق الناس بإمامة هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يبغ على من سبقه إلى ذلك كما بغى عليه معاوية، ولا خلاف في كون خروج معاوية على أمير المؤمنين هو الصدمة الأولى التي أصابت الإسلام، فكانت علة العلل لكل ما جاء بعدها من أسباب الضعف، فذلك أن تقول: إن ذلك البغي علته الحسد؛ لأن من لا يحسد صاحب النعمة لا يبغي عليه؛ ولذلك ورد في الحديث (وإذا حسدت فلا تبغ) رواه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة بسند ضعيف ورسته عن الحسن مرسلاً، والحسد كما يقع بين الأفراد يقع بين الأمم وأهل الملل كما ورد في تفسير] أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ [ ... الآية؛ أنها أنزلت في حسد اليهود للعرب أن بعث نبي آخر الزمان منهم، وعلى هذا يمكنك أن تقول: إن الحروب التي وقعت بين الشعوب الإسلامية كان سببها الحسد. (ومنها) أي أسباب ضعف المسلمين عدم وضع نظام سياسي للخلافة وشكل الحكومة تكفله الأمة، وهذا ما يرجحه أكثر الباحثين في السياسة اليوم. (منها) أنهم لم يوفقوا إلى تأليف جند دائم بنظام يكفل طاعته لأولي الأمر؛ كالنظام المعروف اليوم. (ومنها) وهو أعمها الجهل بعلم الاجتماع والسياسة والفنون التي عليها مدار القوة، وهو الذي أزال ممالكنا في هذا القرن وما قبله لا التعصب الجنسي ولا حب الرياسة، وسبب هذا الجهل جمودنا على التقليد الذي أضعف عقولنا لعدم الاستقلال في استعمالها، وأضعف رابطتنا الدينية ووحدتنا العامة. ومنها غير ذلك من الأسباب الاجتماعية والدينية التي بحثنا فيها من قبل، وبحث غيرنا من الناس كثيرًا، وناهيك بما جمع من تلك الأبحاث في سجل جمعية أم القرى، وغرضنا من هذه الأمثلة أن نبين أن ما بيناه من ضرر اختلاف الأمة في دينها وتفرقها إلى مذاهب وكونه من أسباب ضعفها، لا ينافي ما جاء في مجلة (دين ومعيشت) من ضرر العصبية الجنسية وحب الرياسة، وكونها من أسباب ضعف المسلمين، ونحن لم نحصر جميع الحروب والفتن بين المسلمين في الاختلاف والتقليد كما حصرها أصحاب تلك المجلة في التعصب للجنسية والقومية (وهم يعبرون عن ذلك بالملية كالترك والفرس، فقد استعملوا الملة بغير معناها الشرعي واللغوي) وفي حب الرياسة. (2) أخطأت أختنا مجلة دين ومعيشت فيما ذكرته من الشواهد التي استدلت بها على ما ذهبت إليه، أخطأت في قولها: إن الخلاف الضار والتقاليد حدث في الأمة قبل التشيع، والصواب أن التشيع حدث في القرن الأول، وأخطأت في قولها: إن العصبية الجنسية هي التي كانت سبب الحروب بين المسلمين في القرون الأولى، وأنه لم يكن للتشيع والمذاهب أدنى تأثير فيها، والصواب أن سم العصبية الجنسية والقومية لم يسر في المسلمين في تلك القرون سريانًا قويًّا يؤثر فيها، وقد كنا بينا ما فعله زنادقة الفرس بسائق هذه العصبية من الإفساد في الإسلام ومحاولة رد أهله عنه وإزالة ملكه، وكونهم ألبسوا ذلك لباس الدين وبثوه في شيعة عليّ وأبنائه آل بيت الرسول عليهم السلام، التي تفضلهم على بني أمية الباغين الجائرين، وكانت هذه الشيعة مؤلفة من خيار المؤمنين، فسرى بعد ذلك إلى عامتها الغافلة بعض دسائس أولئك الزنادقة، وما أحدثوا من تعاليم الباطنية الكفرية ولكن المسلمين الصادقين من العرب والعجم لم يفطنوا لدسيستهم، وظلت أخوة الإسلام جامعة بينهم، ولا يستثقل عربي إمارة عجمي ولا مشيخته، وكانوا كلهم يتعاونون على نقد ما وضعه الزنادقة من الأحاديث وما بثوه من البدع وروجوه بزعمهم أنه مذهب شيعة آل البيت الطاهرين، وقد كانت الحروب والفتن التي أثارها الباطنية من القرامطة والإسماعيلية وغيرهم تشب نيرانها باختلافه التعاليم الدينية لا باختلاف الجنسية والقومية. والعبيديون ما استولوا على مصر وأسسوا ملكهم باسم الجنسية بل باسم المذهب، وما أزال ملكهم صلاح الدين الأيوبي بالعصبية الجنسية والقومية بل بعصبية المذهب، ولم يكن أحد من العرب يكره حكم نور الدين التركي ولا صلاح الدين الكردي، ولا يخطر في باله أنه من غير قومه، بل لا يزال العرب يعدونهما خير خلف للخلفاء الراشدين. نعم.. إن فتنة العصبية الجنسية الجاهلية قد أضرت بالدولة العثمانية كما بينا ذلك مرارًا بالنقد المر، ومع هذا نقول على علم وخبر: إن عرب اليمن وحوران لم يقاتلوا الدولة ولم يعصوها؛ لاختلاف الجنس والعنصر. فأما أهل اليمن فهم يدافعون الدولة ويحاربونها عندما تحاربهم؛ لاختلاف المذهب ولظلم رجال الدولة وإفسادهم هنالك، كما اعترف كتاب الترك بذلك في جرائدهم في أثناء الفتنة الأخيرة في هذا العام، ولم يكن اليمانيون هم البادئين في الحرب الأخيرة، بل كان الإمام يطلب الاتفاق مع الدولة. ومذهب الزيدية الذين جل تلك الحروب معهم وجوب الخروج على أهل الجور وقتالهم، وأما دروز حوران فهم على كونهم من الباطنية لم يعصوا الدولة؛ لأنها تركية وهم عرب، والقتال بينهم وبين العرب الخلص المجاورين لهم مستمر، وإنما تحرشت بهم الحكومة لتستريح من شقاوتهم وكثرة اعتدائهم على من حولهم، ولم يكن تحرشها بهم من حسن الإدارة في شيء إذا كان يمكن إخضاعهم بحسن السياسة؛ كما يعرف الخبيرون من رجال الدولة، وكذلك أخطأت في تلك الفعلة الشنعاء في الكرك. إنني أرى تأثير الإسلام في إزالة عصبية العرب القومية لا يزال أقوى من تأثيره في إزالة عصبية غيرهم من المسلمين، فأهل جزيرة العرب الذين لم يروا من الدولة خيرًا قط، وإنما رأوا منها الغارات الشعواء، وسفك الدماء، يودون لو يفدونها بأرواحهم، ويتمنون لو توفق إلى إدارة بلادهم بإقامة حكم الشرع فيها، مع كونهم لم يتعودوا الخضوع لسلطة غريب عنهم، فهم من أعرق أهل الأرض في الاستقلال، ولو كان أهل اليمن يكرهون سلطة الترك؛ لأجل العصبية الجنسية لخرجوا عليهم في هذا الوقت الذي لا تستطيع الدولة أن ترسل فيه إليهم جندًا، ولكنهم في هذا الوقت عرضوا أنفسهم واستعدوا لبذل أرواحهم في الحرب مع الدولة التي لم يروا منها خيرًا قط، وما ذلك إلا لأن رابطة الإسلام فيهم أقوى من رابطة الجنسية والقومية. نعم.. إن الأرنؤط يطلبون ما يطلبون باسم العصبية القومية، وما ألجأهم إلى ذلك إلا سوء سياسة المتفرنجين في الآستانة الذين يحاولون تتريكهم بالقوة القاهرة، ولو جروا معهم على سنة الإسلام؛ لما كان للعصبية الجنسية أثر يذكر فيهم. (3) أخطأت رصيفتنا أيضًا فيما أشارت إليه من سبب احتلال الإنكليز لمصر كما أخطأت في قولها عن صاحب المنار: إنه ولد في مصر وتربى فيها، كما قلنا في أول هذا الرد، ونزيد هنا أن زمن وجودنا بمصر هو أربع عشرة سنة كعمر المنار ويزيد أشهرًا، وأنه لم تكن العصبية الجنسية ولا حب الرياسة سبب دخول الإنكليز في مصر؛ وإنما سببه سوء إدارة إسماعيل باشا وضعف توفيق باشا، فالأول أغرق البلاد بالديون وجعل إنكلترة وفرنسة رقيبتين على حكومته، حتى أدى ذلك إلى خلعه، والثاني أحدث حركة عسكرية ليتخلص بها من وزارة رياض باشا، ولم يستطع تسكينها فاستعان بالإنكليز عليها. وليس هذا محل شرح ذلك، أفرأيتم أيها الرصفاء كيف تبنون أحكامكم على أسس من الرمل لا تمسك بناء ولا تحقق رجاء. وبعد هذه الإشارة الوجيزة والتذكرة المختصرة، أقول: إنني صرحت في الكلام على ذلك الحديث؛ بعد بيان أنه لا يصح بأن أهون الاختلاف الأمة اختلاف السلف في فهم أحكام الدين؛ ومنهم علماء الأمصار كأئمة الفقه المشهورين: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم (رحمهم الله تعالى ورضي عنهم) وقلت: إن مثل هذا الاختلاف طبيعي لا ضرر فيه، ثم بينت أن ضرر الاختلاف في الدين قد نجم في دور التشيع والتعصب، وكان من أسباب ضعف الأمة الذي فرق شملها حتى صارت إلى ما نحن فيه، ولم أقل: إن الضعف زوال الممالك لا سبب له إلا الاختلاف والتشيع، على أن من يقول هذا لا يعجزه أن يستدل عليه، وبيان ذلك حتى يصعب المراء الظاهر فيه يطول، وليس هذا محل التطويل، وإنما هو محل التذكير، فنذكر إخواننا الفضلاء أصحاب تلك المجلة وغيرهم من القراء ببعض المسائل في ذلك فنقول: إن كتاب الله تعالى قد بين في آيات كثيرة ضرر الاختلاف والتفرق ولا سيما في الدين، وتوعد على هذا بمثل ما يتوعد على الكفر، حتى صرح بأن الذين يكونون شيعًا وفرقًا في الدين هم برآء من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينا هذا مرارًا في التفسير وغير التفسير تارات بالإطناب وتارات بالإيجاز. إن النبي صلى الله عليه وسلم بين مثل ذلك في قوله وعمله، حتى لم يكن يغضب لشيء كما يغضب إذا رأى الاختلاف بين أصحابه قد أفضى أو كاد يفضي إلى التفرق؛ وانتصار كل طائفة لرأي، والنقول في ذلك كثيرة وفيما يقابله من الأمر بالاتفاق والاعتصام كثيرة جدًا. إن السلف الصالحين كانوا يتحرون هذا الهدي النبوي، ويحذرون من إفضاء الخلاف في الفهم؛ وهو طبيعي لا مندوحة عنه إلى التفرق والتشيع المحظور، حتى إن الشافعي ترك القن

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار التاريخية والآراء (محاربة إيطالية لطرابلس الغرب) نعني بطرابلس الغرب الإقليم الواقع بين القطر المصري والقطر التونسي، ومنه برقة المعبر عنها في عرف الدولة بمتصرفية بنغازي، وهو مملكة كبيرة مساحتها أربعمائة ألف ميل أو تزيد، ولكنها لسوء الإدارة والظلم والفوضى قد غلب عليها الخراب وقل فيها السكان، فأهلها يقدرون بمليون ونصف، يدخل في ذلك بدوهم مع حضرهم، وموقع هذه المملكة البحري والتجاري عظيم، وهي قابلة للعمران والترقي، وقد كنا نسمع منذ وعينا أن دولة إيطالية طامعة فيها، وكانت الحكومة الحميدية على سيئاتها قد عنيت بتعليم أهل طرابلس النظام العسكري، فأنشأت فيها فرقًا من الفرسان (الألايات الحميدية) كما فعلت في بلاد الأكراد، فقلنا يومئذ إن للسلطان عبد الحميد في هذه الدولة حسنتين: سكة الحديد الحجازية والألايات الحميدية. وقد اقترحنا على الدولة العلية منذ أكثر من عشر سنين؛ أن تعمم التعليم العسكري في طرابلس الغرب وفي سائر البلاد العثمانية، وتجعل فيها مستودعات للسلاح؛ ليكون الأهالي مستعدون للدفاع عن أنفسهم إذا فاجأهم الطامعون، وتعذر على الدولة أن تمدهم بالجند الكافي، بل قلنا: إن الطامعين إذا علموا أن أهل البلاد مستعدون للحرب والكفاح يحجمون عن مهاجمة البلاد؛ لأن أوربة - ولا خوف إلا منها - تؤثر الفتح السلمي الذي لا تخسر فيه كثيرًا من أبنائها وأموالها على الفتح الحربي. كانت نصائحنا كنصائح غيرنا تحمل على معاداة السلطان، ولا يترتب عليها إلا إيذاء الناصح في نفسه أو أهله وماله، ثم زالت الحكومة الحميدية وحل محلها الحكومة الجديدة، التي سيطرت عليها جمعية الاتحاد والترقي بقوة الجيش وديوان الحرب العرفي، فكان حظ طرابلس الغرب في عهد هذه الحكومة شرًا من حظها في زمن عبد الحميد، فقد أضعفت وزارة حقي باشا حمايتها، ومهدت السبيل لتعجيل إيطالية باحتلالها، كما يعلم من التقرير الرسمي الذي قدمه بعض المبعوثين إلى المجلس في طلب محاكمة حقي باشا. إن إيطالية تستعد منذ سنين كثيرة لامتلاك طرابلس الغرب، وكان هذا الاستعداد على أشده بعد الدستور؛ إذ كان حقي باشا سفير الدولة في رومية عاصمة إيطالية، فصدرًا أعظم للدولة، يسهر أكثر لياليه في سفارة إيطالية يقامر مع النساء والرجال… وكان يشهد دائمًا لإيطالية بحسن النية وصداقة الدولة العلية، حتى إن سفير فرنسة حذره منها، وأنذره سوء معاقبة مقاصده، فماراه بالنذر، حتى حل الخطر، ووقع البلاء المنتظر. وهاك ترجمة البلاغ الذي أعطاه سفير إيطالية لصديقه حقي باشا بإمضاء سان جليانو رئيس وزارة إيطالية. * * * (إنذار إيطالية للدولة العثمانية) لبثت الحكومة الإيطالية منذ سنين تنبه الباب العالي لضرورة وضع حد لسوء النظام وإهمال الحكومة العثمانية في طرابلس وبنغازي، ولوجوب تمتيع هذه البلاد بما تتمتع به سائر أقسام إفريقية الشمالية، وهذا التغيير (المشار إليه من حيث تأييد الأمن وترقية البلاد) الذي يقتضيه التمدين، يجعل المصالح الحيوية بحسب ما تستلزمه مصلحة إيطالية في الدرجة الأولى؛ بالنظر لقصر المسافة الفاصلة بين تلك البلاد وشواطئ إيطالية. وبالرغم من حسن مسلك الحكومة الإيطالية التي كانت دائمًا توالي وتعضد تركية في كثير من المسائل السياسية في العهد الأخير، وبالرغم من اعتدالها وصبرها حتى الآن، كانت الحكومة العثمانية تجهل رغائبها في طرابلس، حتى إن جميع مشروعات الطليان في تلك الأصقاع كانت تصادف دائمًا مقاومة لا تحتمل. فالحكومة العثمانية التي كانت حتى الآن تبدي العداء والسخط من الحركة الإيطالية الشرعية في طرابلس وبنغازي، وما زالت كذلك حتى الساعة الحادية عشرة من هذا اليوم (أي الساعة التي كتب أو قدم فيها البلاغ) ، اقترحت على الحكومة الملكية (يعني الطليانية) أن تتفاهم معها، وأعلنت أنها ميالة أن تمنحها أي امتياز اقتصادي يتفق مع المعاهدات النافذة، ومع شرف تركية الأعلى ومصالحها. ولكن الحكومة الملكية لا تشعر الآن أنها في أحوال توافق الدخول في المفاوضة بهذا الموضوع - المفاوضة التي برهن الاختيار الماضي على عدم نفعها وهي لا تشتمل على ضمان المستقبل، ولا تكون إلا سببًا للاحتكاك والنزاع. ومن جهة أخرى، قد وردت الأخبار إلى الحكومة الملكية من قنصلها في طرابلس وبنغازي تفيد أن الحالة هناك خطرة جدًّا؛ بسبب التحريض العام ضد الرعية الطليان، التحريض الذي زاده الضباط وسائر موظفي الحكومة، فهذا النهج خطر شديد على الطليان وعلى سائر الأجانب على اختلاف جنسياتهم. ولما أصبحوا قلقين على حياتهم، ابتدأوا يهجرون البلاد بلا إبطاء، ووصول (السفن) العسكرية العثمانية إلى طرابلس زاد الحالة خطرًا وحرجًا؛ مع إن الحكومة الملكية نبهت الحكومة العثمانية إلى نتائجه السيئة من قبل، ولهذا تضطر الحكومة الملكية أن تتخذ الاحتياطات اللازمة؛ دفعًا للخطر الذي ينشأ عنه. ولما وجدت الحكومة الإيطالية نفسها مضطرة إلى الحرص على شرفها ومصالحها، قررت أن تحتل طرابلس وبنغازي احتلالاً عسكريًّا، وهذا هو الحل الوحيد الذي تعول عليه إيطالية، والحكومة الملكية تنتظر أن تصدر الحكومة السلطانية أوامرها بأن لا يصادف الاحتلال معارضة من رجال الحكومة العثمانية، وأن لا تجد صعوبة في إنفاذ ما تريد إنفاذه، وبعد ذلك تتفق الحكومتان على تقرير الحالة اللازمة التي تلي ذلك الاحتلال. وقد صدرت الأوامر للسفير الإيطالي في الآستانة أن يلتمس جوبًا حازمًا في هذه المسألة من الحكومة العثمانية في مدة 24 ساعة منذ تسليمه هذا البلاغ، حتى إذا لم تجاوب عليه اضطرت الحكومة الإيطالية لتنفيذ المشروعات المدبرة لضمان الاحتلال. ونرجو أن يبلغ جواب الباب العالي المنتظر في 24 ساعة لنا عن يد السفير العثماني في رومية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء سان جليانو * * * (جواب الدولة على الإنذار) تعلم السفارة الملكية كل العلم الظروف التي لم تسمح لطرابلس وبنغازي بأن تقدم التقدم الموموق. ودرس المسألة بغير غرض يكفي في الحقيقة لأن يثبت أن الحكومة الدستورية العثمانية لا يجوز اتهامها بحالة؛ هي نتيجة الحكم الماضي، فإذا ظهر ذلك، وعدنا إلى تاريخ حوادث السنين الثلاث التي مرت يصعب جدًّا على الباب العالي أن يجد ظرفًا واحدًا ظهر فيه بمظهر العداء للمشروعات الطليانية في طرابلس وبنغازي، بل إنه يجد عكس ذلك؛ أي أن إيطالية كانت تساعد بمالها ونشاطها الصناعي على إنهاض ذلك الشطر من السلطة إنهاضًا اقتصاديًّا. وتعتقد الحكومة السلطانية أنها أظهرت ميلاً حسنًا مطردًا إلى كل المقترحات التي كانت تقدم لها بهذا المعنى، بل إنها درست وحلت حلاً وديًا كل طلب طلبته السفارة الملكية. ولا حاجة بنا إلى أن نريد أنها كانت بذلك تنقاد دائمًا لإرادتها أن تحفظ صلات الصداقة والثقة مع حكومة إيطالية وفي أن تنميها، وهذه الإدارة الحسنة هي التي دفعتها مؤخرًا إلى أن تقترح على السفارة الملكية اتفاقًا يكون أساسه الامتيازات الاقتصادية التي تفتح مجالاً واسعًا للنشاط الطلياني في تلك الأقاليم، على شرط أن يكون حد تلك الامتيازات كرامة السلطنة ومرافقها والمعاهدات النافذة. بهذا برهنت الحكومة العثمانية على ميولها السليمة، دون أن يغيب عنها حفظ العهود التي تربطها بالدول الأخرى. تلك العهود التي لا يسقط شطر منها بإرادة فريق من المتعاقدين. أما ما يختص بالنظام والأمن في طرابلس وبنغازي؛ فإن الحكومة العثمانية القادرة جيدًا على تقدير الحالة، لا يمكنها إلا أن تؤكد كما فعلت سابقًا أنه لا يوجد أقل سبب داع للخوف على الطليان والأجانب النازلين هناك. ففي تلك الأقاليم لا يوجد اضطراب ولا تهيج، ومهمة الضباط وغيرهم من موظفي الحكومة ضبط الأمن، وهم يقومون بمهمتهم خير قيام. وأما وصول النقالات العسكرية العثمانية إلى طرابلس المتمسكة به السفارة؛ لأنها تتوقع منه نتائج خطرة، فجواب الباب العالي عليه أنه لم يرسل سوى نقالة واحدة، سافرت قبل وصول مذكرة 26 سبتمبر ببضعه أيام وزيادة، على هذا أن تلك النقالة لا تحمل جنودًا، فلا يمكن أن يكون لوصولها تأثير على أفكار الأهالي غير تأثير الهدوء. فإذا تبين ذلك لا يبقى إلا عدم وجود الضمان الذي يضمن للحكومة الطليانية توسع مصالحها الاقتصادية في طرابلس وبنغازي، إذا كانت الحكومة الملكية لا تعمد إلى عمل خطير كالاحتلال العسكري، فإن الباب العالي مستعد لإزالة هذا الخلاف، والحكومة السلطانية تطلب من الحكومة الملكية أن تبيّن لها نوع الضمان المطلوب، فهي توافق عليه إذا لم يمس الأملاك وتتعهد بأن لا تغير شيئًا من الحالة الحاضرة أثناء المفاوضات، من حيث الهيأة العسكرية في طرابلس وبنغازي، وتأمل أن الحكومة الملكية توافق الباب العالي على مقصده السلمي الآستانة 29 سبتمبر سنة 1911. (المنار) تلا ذلك الإنذار بالحرب والشروع فيه، وقد كتبنا مقالات عنوانها العام (المسألة الشرقية) ونشرناها في المؤيد؛ لبيان ما يجب بيانه في هذه الكارثة الخطرة، ونشرنا في هذه الجزء الأول منها، وسننشر عمائرها في الأجزاء الآتية.

نظام مدرسة دار الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظام مدرسة دار الدعوة والإرشاد بسم الله الرحمن الرحيم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) . {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) . (صفة المدرسة) (الأصل الأول) دار الدعوة والإرشاد مدرسة كلية إسلامية، تدرس فيها جميع العلوم والفنون التي تدرس عادة في الكليات مع التربية الدينية، وزيادة العناية بالعلوم الإسلامية، وتنشأ أقسامها بالتدريج، يبدأ منها بقسم عال؛ لتخريج الدعاة إلى الإسلام والمرشدين بالوعظ والتدريس وهو المقصد الأساسي. (الأصل الثاني) هذه المدرسة تابعة لجماعة الدعوة والإرشاد، ويكون لها لجنة مدرسية يتولى مجلس إدارة الجماعة تأسيسها، وناظر يكون من أعضاء هذا المجلس (وفاقًا للأصل السابع من النظام الأساسي للجماعة) . (الأصل الثالث) مجلس إدارة الجماعة، هو الذي يعين المدرسين الموظفين عدا الخدم من العاملين في المدرسة بناء على طلب لجنة المدرسة. (الأصل الرابع) لسان التدريس في هذه المدرسة هو اللسان العربي، ويتحتم فيها تعلم لغة من لغات العلم الأوربية. ويجوز أن تدرس فيها عدة من اللغات الشرقية والغربية لا سيما لغات الشعوب الكبيرة من المسلمين؛ كالتركية والفارسية والأوردية والملاوية، ويكون ذلك بقرار من مجلس الإدارة بعد استشارة لجنة المدرسة، وللمجلس أن يقرر تدريس بعض العلوم والفنون أو اللغات التي لا نص عليها في هذا النظام من تلقاه أو بناء على طلب لجنة المدرسة. (الأصل الخامس) العلوم التي تقرأ في قسم الدعاة والمرشدين وطريقة تدريسها، تبين في فصل يلحق بهذا النظام. (الأصل السادس) برنامج الدراسة وجدول الدروس، تضعه لجنة المدرسة عند إدارة الشروع فيه، ويقرره مجلس الإدارة. (الأصل السابع) القسم العالي الذي يبتدأ به في تأسيس المدرسة، يكون صنفين: صنف المرشدين ومدته ثلاث سنين، وصنف الدعاة ويختار طلابه من متخرجي صنف المرشدين، ويمكثون ثلاث سنين أخرى، فمجموع مدته ست سنين ماعدا السنة التمهيدية الأولى. (الأصل الثامن) يكون للمدرسة سنة تمهيدية؛ لإعداد الطلاب وترشيحهم للدخول في السنة الأولى، وللمدرسة أن تتسامح في السنة التمهيدية بما ترى التسامح فيه من شروط الطلبة. (الأصل التاسع) التعليم في قسم الدعاة والمرشدين من المدرسة مجاني، والمدرسة تنفق على الطلاب الداخلين فيه وتكفيهم كل ما يحتاجون إليه فيها، وتعطيهم إعانة شهرية بحسب الحاجة الاجتهاد والتهذيب، لا تقل عن ريال مصري في الشهر، وأما الطلاب الخارجيون فلا تنفق عليهم شيئاً. (الأصل العاشر) مدة الدراسة في السنة تسعة أشهر. (الأصل الحادي عشر) تعطل المدرسة دروسها ثلاثة أشهر الصيف؛ وأسبوعًا لكل من عيد الفطر وعيد الأضحى إذا وقعنا في أيام العمل. (الأصل الثاني عشر) الطلاب الداخليون مخيرون في مدة العطلة بين البقاء في المدرسة والسفر إلى بلادهم وزيارة أهليهم، وعلى من بقي فيها أن يلتزم ما تكلفه إياه من الدراسة ومدارسة القرآن والمطالعة والكتابة. (الأصل الثالث عشر) طلب الدخول في المدرسة للتعلم أو التعليم أو غير ذلك من الخدم فيها يقدم إلى الناظر، وهو يراجع لجنة المدرسة فيما يتعلق به نظرها من ذلك. (الأصل الرابع عشر) يكون للمدرسة طبيب، ومراقب عام (ضابط) وكاتب، ومأمور إدارة يناط به حفظ موجودات المدرسة وشراء الأدوات وتوزيعها على الطلبة، ويجوز أن يكون لكل منهم معاونون بحسب الحاجة. (الأصل الخامس عشر) يكون في المدرسة الأنواع الآتية من الدفاتر: (1) دفتر قرارات ومحاضر لجنة المدرسة. (2) دفتر أسماء الطلاب الداخلين، وما يتعلق بحالهم في المدرسة. (3) دفتر أسماء الطلاب الخارجين، وما يتعلق بحالهم في المدرسة. (4) دفتر الأمور الصحية. (5) دفتر كوبيا؛ لطبع الوسائل التي تصدر من المدرسة. (6) دفتر الرسائل الواردة والصادرة، يذكر فيه تاريخها وأسماء المرسلين والمرسل إليهم الموضوع. (7) دفتر الآلات والأدوات المتعلقة بالتعليم. (8) دفتر الأثاث والماعون. (9) دفتر التبرعات والهبات التي ترد إلى المدرسة خاصة. (10) دفتر المدرسين وأحوالهم في مواظبتهم وغيبتهم. (11) دفتر المستخدمين وأحوالهم في مواظبتهم وغيبتهم. (12) دفتر رواتب المدرسين والمستخدمين. (13) دفتر النفقات العامة. (14) دفتر مكتبة المدرسة وما فيها من الكتب المهداة إليها والمشتراة لها. (15) دفتر شهادات أهل الفضل والمكانة الذين يزورون المدرسة بخطوطهم. * * * (شروط الطلاب وآدابهم في قسم المرشدين والدعاة) (الأصل السادس عشر) يشترط في قبول الطالب الداخلي: (أولاً) أن يثبت بالكشف الطبي أنه صحيح الجسم والحواس، سليم من الأمراض والعاهات، قادر على التحصيل. (ثانيًا) أن تثق المدرسة بأنه حسن السيرة طاهر الأخلاق، لم يعرف عنه أمر يخل بالدين والشرف. (ثالثًا) أن تكون سنه بين 20 و25. (رابعًا) أن يكون حافظًا لطائفة من القرآن الكريم، بحيث يسهل عليه إتمام حفظه قبل إتمام دراسة الصنف الأول. (خامسًا) أن يكون قد حصل قدرًا صالحًا من النحو والصرف والفقه، وعرف القواعد الأربع من الحساب على الأقل، وأن يكون صحيح الإملاء، حسن الخط في الجملة، جيد المطالعة في الكتب العربية. (سادسًا) أن يكون من أصل قديم في الإسلام. (سابعًا) أن يكتب على نفسه وثيقة، يبين فيها أنه اطلع على نظام المدرسة ورضي بأن يكون من طلابها ملتزمًا لنظامها خاضعًا لجماعتها، يتوجه إلى حيث توجهه بعد إكمال الدراسة. (ثامنًا) أن يكتب طلبًا للناظر، يبين فيه اسمه واسم أبيه وجده وعشيرته وبلده وحكومته وسنه، ويقدمه متصلاً بالوثيقة. (الأصل السابع عشر) يرجح الفقير من حائزي الشروط على الغني، والعارف بلغة أوربة على غير العارف، وحافظ القرآن كله على حافظ بعضه. (الأصل الثامن عشر) تتحرى المدرسة أن يكون طلابها من الأقطار المختلفة، فإذا تساوى اثنان من طلاب الدخول في الاستعداد، رجح من كان من قطر أو بلد لا يوجد في المدرسة منه أحد على غيره، ومن كان من قطر أو بلد فيه قليلون من الطلاب على من كان من بلد فيه كثيرون منهم. (الأصل التاسع عشر) على كل طالب من هؤلاء الطلاب أن يصلي الصلوات الخمس في الجماعة، والرواتب المسنونة، وأن يقرأ كل يوم طائفة من القرآن مع الترتيل، وأن يذكر الله تعالى في أوقات الفراغ من العمل منفردًا ما حضر قلبه ونشطت نفسه، وأن يلتزم أحكام الدين وآدابه في المأمورات والمنهيات ولا سيما المحافظة على الصدق في الجد والهزل، وأن يكون دائمًا نظيف البدن والمكان والفراش وسائر ما بيده من الكتب وغيرها، محافظًا على النظام والآداب، مطيعًا للناظر والمعلمين والمراقبين، وللناظر أن يكلف الطلبة ما يراه من النوافل حسب الطاقة. (الأصل العشرون) يتمرن هؤلاء الطلاب على الرياضات البدنية بأنواعها؛ كالعمل في الأرض والسباحة والمشي والعدو، ويراقبهم في أثنائها بعض المعلمين. (الأصل الحادي والعشرون) لا يسمح للطلاب بشرب الدخان مطلقًا. (الأصل الثاني والعشرون) لا يجوز لأحد من الطلاب أن يخرج من المدرسة إلا بإذن من الناظر لعذر مقبول، فإن كان العذر مرضيًا يشترط في قبوله عند عودته أن يكون قد برئ منه، وأن يكون سليمًا من كل داء بشهادة الطبيب الذي تثق به المدرسة. (الأصل الثالث والعشرون) يحظر على الطلاب الاشتغال بالسياسة، والدخول في الجمعيات والأحزاب السياسية والتشيع لها بنحو المظاهرات، ومكاتبة الجرائد السياسية. (الأصل الرابع والعشرون) لا يجوز لأحد من الطلاب أن يعيب أحدًا من إخوانه، أو يترفع عليه بجنسه أو نسبه أو نشبه أو مذهبه، وإذا بحثوا في مذاهب العلماء وخلافهم في الأصول أو الفروع؛ عليهم أن يبحثوا بالإنصاف وحسن الأدب ولا سيما مع الأئمة والمصنفين. (الأصل الخامس والعشرون) يكلف هؤلاء الطلاب الكلام الفصيح في المدرسة وخارج المدرسة. (الأصل السادس والعشرون) تحترم المدرسة استقلال الطلاب في أفكارهم وآدابهم، وحريتهم في أقوالهم وسؤالهم. ولهم التصريح لمن شاءوا من المعلمين والناظر بكل ما يخطر في بالهم من المسائل الدينية والعلمية والأدبية والاجتماعية وإن كانت من باب الشكوك والشبهات في مسائل الدين، ولكن مع حسن الأدب في التعبير. وعليهم أن لا يظهروا الاقتناع بشيء لم تطمئن له قلوبهم، ولم تستبنه عقولهم (الأصل السابع والعشرون) يشترط في الطالب الخارجي أن يكون حسن السيرة والآداب نظيف الثياب؛ عارفًا باللغة العربية وعلومها معرفة تمكنه من فهم الدروس التي يريد حضورها سالمًا في الأمراض؛ بشهادة الطبيب الذي تثق به المدرسة. (الأصل الثامن والعشرون) من أراد أن يكون طالبًا من القسم الخارجي؛ فعليه أن يقدم طلبًا لناظر المدرسة، يبين فيه اسمه واسم أبيه وجده وبلده وحكومته وسنه، ويعين الدروس التي يريد حضورها، ويتعهد بأنه يلتزم آداب المدرسة ونظامها. (الأصل التاسع والعشرون) المدرسة مخيرة في قبول الطالبين وردهم. (الأصل الثلاثون) يكون لكل تلميذ دفتر مجلد، يكتب اسمه في أوله، ويكتب في سائر صفحاته أسماء العلوم والفنون المفروضة في البرنامج في كل سنة من سني المدرسة، ويقيد بجانب كل علم وفن اسم الأستاذ الذي حضر عليه الطالب وشهادة الأستاذ له بالمواظبة والتحصيل بحسب الواقع. * * * (المعلمون) (الأصل الحادي والثلاثون) يشترط أن يكون المعلمون الموظفون من أصحاب الشهادات والتآليف أو الأعمال الدالة على قدرتهم على تدريس ما يعهد إليهم، وأن تكون سيرتهم حسنة في أخلاقهم وآدابهم الدينية والاجتماعية. (الأصل الثاني والثلاثون) المعلمون مطالبون بتعليم الطلاب وتربيتهم الدينية والعقلية والجسمية، ولهم الاستقلال التام في ذلك بشرط التزام نظام المدرسة. (الأصل الثالث والثلاثون) على المعلمين القيام بالأمور الآتية: أ - أن يكونوا في المدرسة قبل ابتداء الوقت المحدد لدروسهم ببضع دقائق على الأقل. ب - أن يلقوا الدروس بعبارة فصيحة موضحة بالشواهد والأمثلة. ج - أن لا يشتغلوا في أثناء الدرس بغير موضوعه، ولا يخلطوا في الاستطراد إلا أن يكون ذلك في درس الوعظ. د - أن يختبروا فهم الطلاب في كل درس، فإن علموا أن فيهم من لم يفهم بعض المسائل، فعليهم أن يعيدوها له إلى الثلاث مرات، فإن لم يفهم أرجئ إفهامه إلى ما بعد الدرس. هـ - أن يقبلوا من كل طالب كل سؤال يلقيه عليهم، فإن لم يكن من موضوع الدرس، أرجأوا الجواب عنه إلى ما بعده. و أن يحترموا استقلال الطلاب، ويعذروهم في خطأهم وشكوكهم، ويرفقوا بهم ولا يحقروا أحدا منهم؛ لسوء فهمه أو شكه واشتباهه، وأن يتلطفوا في إقناعهم مع حفظ كرامتهم؛ ليربوهم على الصدق والاستقلال وعزة النفس، ويرشحوهم بذلك للقدوة الصالحة والأسوة الحسنة. ز - أن يقيدوا في دفاتر الطلاب المذكورة في (الأصل 29) : الشهادة لهم بالحضور، ودرجة التلقي فيما حضروه، واستفادوه من الدروس في كل علم. ح - أن يراقبوا الطلاب في اجتماعاتهم للطعام والرياضة والصلاة، ويؤموهم في الصلا

العلوم والفنون التي تدرس في دار الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العلوم والفنون التي تدرس في دار الدعوة والإرشاد وطريقة تدريس كل علم منها في قسم الدعاة والمرشدين [1] (تنبيه) إن إصلاح طريقة التعليم الإسلامي مع التربية الدينية هو الغرض الأول الذي تقصده جماعة الدعوة والإرشاد في هذه المدرسة، وإنما نفع التعليم بتربية ملكة استقلال الفهم في تحصيل مسائل العلوم والحكم بها، وملكة الاستحضار لها عند الحاجة إليها، وملكة العمل بالعملي منها، ولا يتم تسهيل التعليم إلا بتأليف لجنة علمية لتصنيف الكتب التي تصلح للتعليم والمطالعة على الوجه المبين هنا بالإجمال، أما في بدء العمل فتختار المدرسة بعض الكتب المعروفة، وترشد المعلمين في هذا الفصل، وفيما تبلغهم إياه من قرارات لجنتها إلى كتب أخرى يقتبسون منها دروس بعض العلوم إلى أن يتم لها ما تقصد إليه من إيجاد الكتب الدراسية الجديدة، فعليهم أن يرموا إلى ذلك الغرض، ويتوخوا تربية الملكات الثلاث. * * * (تجويد القرآن الكريم) تقرأ رسالة في علم التجويد لصنف المرشدين، ويعلمون التجويد بالعمل بأن يقرأ كل طالب على حافظ المدرسة طائفة من الآيات بالتجويد؛ في الأوقات التي تعين في البرنامج، فيصحح له الحافظ تجويدها إلى أن يكون ذلك ملكة في اللسان. * * * (التفسير) يقرأ درس عام دائم في التفسير لطلاب جميع السنين، على طريق الوعظ والخطابة بلغة فصيحة؛ ليتعلموا كيفية الإرشاد والوعظ الذي يرجى تأثيره في القلوب؛ وليكون مثالاً لهم في الأسلوب الذي يطبع ملكة الخطابة الدينية في نفوسهم وألسنتهم، وغذاء لإيمانهم، ومهذبًا لأخلاقهم، ومذكرًا لهم بمقصد الدين، من إصلاح المؤمنين. (صنف المرشدين) يقرأ لصنف المرشدين تفسير القرآن كله بالاختصار والسهولة؛ مع اجتناب اصطلاحات العلوم والفنون العربية والشرعية، ويتوخى فيه فهم الآيات بغير تكلف كما يعطيه أسلوب اللغة، وينطبق به بعض القرآن على بعض، فيراعى فيه أخذه بجملته وتفسير بعضه ببعض، ويراجع فيه المأثور، ويعتمد ما يصح منه، وينبه فيه على أجوبة الشبهات عن بعض الآيات التي يعترض عليها المبطلون، أو يشتبه فيها الجاهلون من غير شرح للشبهة، بحيث إذا أوردت على الطالب يفطن لجوابها وإلا بقي غافلاً عنها. (صنف الدعاة) ويقرأ لصنف الدعاة تفسير الآيات التي ترد عليها الشبهات، ويجادل فيها الكافرون أو أصحاب المقالات، مع شرح الشبهات المتعلقة بالعلوم الكونية والفلسفة والتاريخ والقوانين ومجادلة أهل الأديان، والجواب عنها بطريق المناظرة، وكذلك الآيات الدالة على ما امتاز به الإسلام على جميع الأديان، وبيان حقائق العلوم التي لم تكن معروفة في زمن التنزيل ولا سيما للعرب، سواء كان ذلك في علوم الكون أو علوم الاجتماع والشرائع والآداب. * * * (الحديث) (صنف المرشدين) يقرأ لصنف المرشدين مثل مختصر البخاري، ومختصر الزواجر، أو الترغيب والترهيب للمنذري، والشفاء، يقرأ ذلك بأسلوب سهل، فيبين لهم معنى الحديث بالاختصار من غير بحث؛ فيما يتعلق به من العلوم والفنون والإعراب إلا النادر الذي يتوقف عليه الفهم أحيانًا، ولا شرح للشبهات إلا ما يشكل على العامة عادة؛ مما يبثه المبطلون في أحاديثهم وخطبهم، والمشككون في رسائلهم وكتبهم. (صنف الدعاة) ويقرأ لصنف الدعاة مثل المنتقى للشيخ مجد الدين ابن تيمية أو غيره من مختصرات دواوين الحديث، ويتوسع لهم في فقه الحديث وحكمه وفي التعارض والترجيح بين الأحاديث، وشرح الشبهات الواردة عليها، والبحث في مشكلاتها وأسانيدها وعللها؛ إذ المطلوب أن يكون الدعاة من علماء الحديث رواية ودراية؛ لأجل تحرير ما هو صحيح متفق عليه مقبول عند الأمة، فيجب الدفاع عنه والاحتجاج به حتمًا، وما ليس كذلك فيكون من دفاع المعترضين عليه؛ أن أئمة المسلمين لم يتفقوا على قبوله، فلا يلزمهم ما يرد عليه. * * * (أصول الحديث أو المصطلح) يقرأ هذا العلم قبل قراءة الحديث نفسه، وطريقة قراءته أن يعرف كل اصطلاح تعريفًا واضحًا، ويوضح بعدة أمثلة. ويبين ما اختلف فيه اصطلاح بعض المحدثين عن بعض؛ كاصطلاح الترمذي في الحديث الحسن والغريب. * * * (التوحيد) المراد بعلم التوحيد: علم العقائد الإسلامية المبينة في القرآن الحكيم، التي قامت بها دعوة الدين، ومباحثه تدخل في ثلاثة أبواب: الإلهيات والنبوات والغيبيات، أي ما يجب الإيمان به بالغيب، ويعبر عنها أيضًا بالسمعيات. (صنف المرشدين) هذا العلم خاص بصنف المرشدين، يجب أن يبرعوا فيه قبل الانتقال إلى صنف الدعاة. فأما الإلهيات فتقرأ على هدي القرآن وسنته في الاستدلال بالكائنات أكثر من الاستدلال بالنظريات، وعلى الوجه الذي يودع في القلوب حب الله تعالى وتعظيمه ومراقبته، والجمع بين الرجاء الذي يرغب في طاعته والخوف الذي ينفر من معصيته، والاستغراق في توحيده، ومعرفة كماله بصفاته، ويشرح في هذا الباب ما فشا الخطأ في فهمه بين الناس؛ كمسائل القضاء والقدر والجبر، والتوكل والكسب، والغرور والرجاء، واليأس والأمل، والدعاء والتوسل، والولاية والبراءة. وأما مسائل النبوات، فتقرأ على الوجه الذي يعرف به احتياج البشر إلى إرسال الرسل، وتفضل البارئ الحكيم بإيتائهم ما يحتاجون إليه من هذه الهداية التي تكمل بها فطرتهم، بوحيه إلى أفراد كملتهم، ليفقهوا عنهم ويقتدروا بهم، فتصلح أحوالهم، وترتقي عقولهم وأرواحهم، ويتوقف ذلك على بيان أخلاق الرسل عليهم السلام وصفاتهم، وسيرتهم في أقوامهم، ورفعهم إياهم من حضيض الوثنية إلى أوج التوحيد، وعلى بيان مفاسد الوثنية التي كانوا عليها، وبيان ارتقاء الدين بارتقاء استعداد البشر للاهتداء به، إلى أن تم وكمل بالإسلام، وختمت النبوة والرسالة بمحمد عليه الصلاة والسلام، ومعنى كون دين الله واحدًا في كل زمان، وسنة الله في ارتقائه وإكماله، وبيان ما امتاز به القرآن على سائر الكتب، والإسلام على سائر الأديان إجمالاً، ويبين في هذا الباب ما يشتبه فهمه على الناس من الشفاعة المثبتة في القرآن والشفاعة المنفية فيه، والهداية المثبتة للأنبياء والهداية المنفية عنهم، ومعنى عصمتهم وعدم التفريق بينهم، مع تفضيل الله بعضهم على بعض. وأما السمعيات الثابتة في الخبر عن عالم الغيب، فتقرأ على الوجه الذي يعرف به الإنسان فوائد الإيمان بالغيب وحياة الآخرة الأبدية؛ كتوسيع نطاق العقل بإخراجه من مضيق علم المحسوسات المشتركة بين كل ذي حس إلى فضاء مدارك الروح والعقل، وإعلاء مقام النفس بتوطينها وإعدادها لتلك الحياة العالية، التي تحتقر بالنسبة إليها هذه الحياة الفانية، فتهون عليها مصائب الدنيا وخطوبها، ويسهل عليها احتمال المتاعب وترك الشهوات في سبيل الحق. ويجتنب في تقرير هذه العقائد ذكر الخلاف بين المذاهب والفرق، ويعتمد على ما كان عليه الصدر الأول من السلف، ولا بد من وضع رسائل على هذه الطريقة تكون على ثلاث مراتب: إحداهما للتعليم الابتدائي وللعوام، والثانية للتعليم المتوسط، والثالثة للتعليم العالي، وإرشاد الطلاب بها إلى الطريقة التي يعلمون بها كل صنف من الناس على قدر فهمه وحسب ما يليق بحاله. * * * (الكلام) المراد بعلم الكلام علم حماية العقائد الإسلامية والدفاع عنها، ورد ما يورده الملاحدة والمبتدعة من الشبهات عليها والتحريف فيها، بالدلائل الحقيقية والإلزامية وقد تجدد في هذا العصر شبهات لم تكن معروفة في عصر المتكلمين السابقين، وبطل كثير من تلك الشبهات التي كانت رائجة في عصرهم المستنبطة من العلوم اليونانية وغيرها، فتجب العناية في هذا العلم بما يحتاج في هذا الزمن على الطريقة التي ترجى فائدتها فيه. (صنف المرشدين) يقرأ لصنف المرشدين رسالة مختصرة من كتب المتكلمين؛ كالسنوسية أو النسفية بحيث يفهمون عباراتها، ويعرفون اصطلاحهم منها. ويقرأ لهم رسالة أخرى تذكر فيها الشبهات الرائجة بين العامة في هذا العصر من قبل دعاة النصرانية ومقلدة الملاحدة ونحل الباطنية، مع بيان وجه بطلانها. (صنف الدعاة) يتوسع لهذا الصنف في رد الشبهات المتولدة من العلوم الرائجة في هذا العصر؛ كالفلسفة والهيئة والتاريخ والقوانين أو غيرها، على النحو الذي ذكر في الكلام على التفسير. * * * (البدع والخرافات، والتقاليد والعادات) (صنف المرشدين) هذا العلم خاص بصنف المرشدين، فتقرأ لهم دروس خاصة في بيان البدع التي نجمت في المسلمين، والخرافات التي فشت بينهم، يبين فيها مثاراتها وأسبابها وتاريخها، وتأثيرها الضار في الدين والدنيا، وفي بيان التقاليد والعادات التي سرت إليهم من الأمم والشعوب التي دخلت في الإسلام أو جاورها المسلمون، والتمييز بين الضار منها والنافع، وبين ما صبغ بلون الدين منه في شيء. ويبين المدرس في مقدمة هذه الدروس وجه الحاجة إليها، وأن ما تكون عليه الأمة من هذه الأمور يعد من مقوماتها أو مشخصاتها التي تمتاز بها عن غيرها، وأن ما به الامتياز والتشخص ينبغي أن يكون حسنًا نافعًا، وأن ينقى من القبح وأسباب الضرر، وأن أطباء الأمم الروحيين والاجتماعيين لا يستطيعون معالجة أمراضها أوحفظ صحتها إلا إذا عرفوا كل ذلك منها. وقد كان علماؤنا يبينون هذه الأمور في كتب الكلام والمواعظ والرقائق والأخلاق والآداب وكتب التاريخ، فالمدرس يستمد من هذه الكتب؛ ومنها كتاب الاعتصام للشاطبي، وكتاب المدخل لابن الحاج، وكتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي، وكتاب إيثار الحق على الخلق لابن المرتضى اليماني، وكتاب الطريقة المحمدية للبركوي. ويبحث عما حدث من ذلك بعد عصر المؤلفين الذين وصلت إلينا كتبهم، ويذكر منه كل ما عرفه. * * * (الفقه ومنه الفرائض) يشترط في كل طالب أن يكون محصلاً قدرًا من فقه مذهبه، يعرف به أسلوبه ويسهل عليه به أن يراجع في كتبه منه ما يحتاج إليه. (صنف المرشدين) يُقرأ لصنف المرشدين شيء من فقه المذاهب كلها بالإيجاز في العبادات والأحكام الشخصية؛ ومنها الإيمان والنذور والذبائح والأشربة والأضحية، فتفصل بعض التفصيل؛ ليعرفوا اصطلاحات هذه المذاهب، فيسهل على كل واحد أن يتوسع في فقه أي مذهب منها بنفسه، إذا صار مرشدًا في جهة يغلب فيها اتباعه، واحتاج فيها إلى ذلك التوسع، ومن فوائد ذلك أن يعرف كل طالب أن هذه المذاهب متقاربة، فلا يتعصب لبعضها على بعض، وأنها متفقة في المسائل القطعية التي لا يسع مسلمًا جهلها، وأن ما وقع من الخلاف بالاجتهاد فيما دون ذلك، لا ينبغي أن يكون سببًا لتفرق المسلمين في دينهم، بل عليهم أن يعذر بعضهم بعضًا وإن خالفه في مثل هذه المسائل؛ كما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم. ويكتفى في الفقه ببيان المسائل التي يحتاج إليها في العمل دون الشواذ والفرضيات، ويوضع لذلك رسائل تذكر فيها المسائل مفصلة معدودة على طريقة مجلة الأحكام العدلية، ويجب أن تكون عبارتها في غاية السهولة والانسجام؛ لأنها هي الطريقة التي تسلك في تعليم العوام، وتقرأ لهم رسالة في الفرائض ويمرنون على عمل المناسخات. * * * (حكمة التشريع) بهذا العلم يكون المسلم على بصيرة من دينه منبعثًا إلى العمل به بوازع من نفسه، وبه تكون حجته بالغة في الاستدلال على حقيته، ودفع شبهات المعترضين على شريعته، وبه يعلم وجه كون هذه الشريعة هي الحنيفية السمحة الصالحة ل

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة عن أحاديث ومسائل س63: من صاحب الإمضاء في بيتاوي (جاوه) . سيدي الأستاذ الحكيم: إن الأحاديث الضعيفة وما قاربها في الرتبة أعظم تكأة للدجالين، وأكبر شبهة على الصادقين المسترشدين، ولعلمي أنه لا يوجد طبيب لأدواء المسلمين المزمنة غيركم - غلو لا نرضاه ولا نَوَدُّ صحته - جئتكم متطفلاً على أعتابكم، راجيًا من جميلِ فضلِكُم وكرمِ إحسانكم، أن تُحققوا رجائي، وتُفِيضُوا عليّ من صيب علمكم وإرشادكم ما يفعم إنائي ويشفي أدوائي، ولعله قد سبق لكم جواب على بعض هذه الأسئلة في أعداد سابقة؛ فأرغب إليكم أن لا تحيلوني على ما ليس عندي، وإن تفضلتم بالمبادرة بالجواب فأنتم أهل الفضل ومعدن الإحسان، فما قول سيدي في: 1- حديث: (أكثر أهل الجنة البله) ، وكيف يتفق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: 2 - (إِنَّمَا يُثَابُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ) ؟ 3- وحديث: (يَأَتْي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَعْرُجُ فِيِهِ الْعُقُولُ) ؛ وهل تعرج من العرج أو من العروج؟ 4- وحديث: (خُذُوا نِصْفَ دِيِنِكُمْ عَنْ حُمَيْرا) ؟ 5- وحديث ثناء النبي على أويس ولقيا عمر وعلي له، وطلبهما منه الدعاء؟ 6- وحديث: (أَرواح الشهداء في جوف طير معلقة تحت العرش) وهل روح الشهيد هي روح الطير أم لا؟ 7- وهل يثاب قارئ القرآن وإن لم يفهم معناه أو فهمه على غير المراد؟ 8- وما يروى عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه أكل طعامًا، فبان له أن فيه شبهةً أو حرامًا فَتَقَايأَهُ، فهل لنا قُدْوَةٌ في عمل الصديق؟ 9 - ألا وإن من أكبر الشبه الفاتكة بالعقول ما يدّعيه المشعوذون من عبدة الجن من قولهم: إنهم يتصورون بصور مختلفة، ويتشكلون بأشكال متنوعة إلى آخر ما يدعون ويزعمون، وقديمًا كنت لا أُعَوِّلُ على مختلقاتهم، ولا أُعِيِرُ أذني لسماع خرافاتهم وخزعبلاتهم؛ حتى سمعت كلام الأستاذ الإمام في هذا الموضوع فانشرح له صدري، وزال به غين الإشكال عن فهمي، غير أني ارتبكت في تأويل قول الله تعالى عن أضياف إبراهيم حيث تَصوّروا في صورة البشر ... إلخ ما يقول أهل التفسير. 10 - وهل القائل: علة الكون أنت ولولاك ... لدامت في غيبها الأشياء يعني بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، مصيب في قوله أم مخطئ؟ فقد اتخذ هذا القول بعض السذج من عقائد الدين الواجبة التسليم. أفيدوني سيدي عن هذه الكلمات، وإن كانت ليست من الأهمية بمكان فقد أنزلت أملي بأعتابكم، وأَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعَمَّمَ النَّفعُ بِكُم ويُؤْتِيكُم مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. ع. ب. ح. (الجواب) 1- حديث: (أَكْثَرُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْبُلْهُ) هذا الحديث رواه البيهقي في الشعب، والبَزَّار في مسنده عن أنس وهو ضعيف، قال ابن الأثير: هو جمع الأبله، وهو الغافل عن الشر المطبوع على الخير، وقيل: هم الذين غلبت عليهم سلامة الصدور، وحسن الظن بالناس؛ لأنهم أغفلوا أمر دنياهم فجهلوا حذق التصرف فيها، وأقبلوا على آخرتهم فشغلوا أنفسهم بها، فاستحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنة، فأمّا الأبله وهو الذي لا عقل له فغير مراد في الحديث، وفي حديث الزبرقان (خَيْرُ أَوْلادِنَا الأَبْلَهُ الْعَقُوُلُ) ، يريد أنه لشدة حيائه كالأبله وهو عقول اهـ. وفَسّر في مادة عقل بأنه الذي يُظَنُّ به الحُمْقُ فإذا فتش وُجِدَ عَاقِلاً، وقال سهل التستري الصوفي: هم الذين ولهت عقولهم وشغلت بالله عز وجل، وقال بعضهم في تفسيره: إن من عبد الله تعالى لأجل الجنة فهو أبله في جنب من يعبده لكونه ربًّا مالكًا، وقد يقال: إن هذا يُعَدُّ أيضًا أبله في جنب من يعبده لعلمه بكماله الذي تدل عليه جميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا. وقال بعضهم: إن المراد بالجنة ما يقابل الدرجات العلى من الجنة التي هي منازل المقربين الذين هم أرقى من هؤلاء. * * * 2- حديث: (إِنَّمَا يُثَابُ النَّاس عَلَى قَدْر عُقُولِهِمْ) لا أذكر أنني رأيت هذا الحديث في دواوين المحدثين بهذا اللفظ، وما أراه إلا من موضوعات المتأخرين، ولكن ورد في معناه حديث عائشة في نوادر الأصول للحكيم الترمذي وهو أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم: بأي شيء يتفاضل الناس؟ قال: (بالعقل في الدنيا والآخرة) قالت: قلت: أليس يجزى الناس بأعمالهم؟ قال: (يا عائشة وهل يعمل بطاعة الله إلا من عقل؟ فبقدر عقولهم يعملون وعلى قدر ما يعملون يجزون) ، وحديث أنس عند الحكيم الترمذي في نوادره أيضًا: (إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يقرب الناس الزلف عقولهم) ورواهما داود ابن المحبر في كتاب العقل وتختلف ألفاظهما عنده وهو نفسه مختلف فيه قيل: هو ثقة، وقال أحمد: لا يدري ما الحديث، وقال الدارقطني فيه: متروك. وقال في كتابه كتاب العقل: وضعه أربعة أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود بن المحبر فَرَكَّبَهُ بأسانيدَ غير أسانيد مَيْسَرة إلخ ما قال. أما سند حديث أنس في النوادر ففيه جهالة، وأما سند حديث عائشة عنده فحسبك أن في إسناده ميسرة بن عبد ربه الفارسي البصري قال ابن حبان: كان يروي الموضوعات عن الأثبات، وهو واضع أحاديث فضائل القرآن، وقال أبو داود: أقر بوضع الحديث. فعلى هذا لا حاجة إلى الجمع بين الحديثين فأحدهما ضعيف والآخر موضوع، ولو فرضنا أنهما صحا فما قاله ابن الأثير في تفسير الأول كاف في منع التعارض. * * * 3 - حديث عرج العقول حديث: (يَأَتْي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَعْرُجُ فِيِهِ الْعُقُولُ) موضوع أيضًا. * * * 4 - حديث: (خُذُوا شَطْرَ دِيِنِكُمْ عَنْ الحُمَيْرَاءِ) هكذا ذكر الحديث في الكتب قال السخاوي: يعني عائشة رضي الله عنها، قال ابن حجر: لا أعرف له إسنادًا، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث، إلا في النهاية لابن الأثير، ولَمْ يذكر من خرجه. وذكر الحافظ عماد الدين أنه سأل المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه اهـ، أقول: وإذ لم يعرفه هؤلاء الحفاظ الذين أحاطوا بجميع كتب الحديث علمًا وحفظًا فمن يعرفه؟ وقد قال بعضُ العلماء في تفسيره على تقدير ثبوته: إن المراد بشطر الدين الأحكام الخاصة بالنساء باعتبار قسمة الأحكام الشرعية إلى قسمي المكلفين من النساء والرجال. * * * 5 - حديث ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على أويس القرني روى مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر أن أهل الكوفة وفدوا إلى عمر وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس، فقال عمر: هل ههنا أحد من القرنيين؟ فجاء ذلك الرجل فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس لا يدع باليمن غير أُمٍّ له قد كان به بياض؛ أي بَرَصٌ فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم فليستغفر لكم) وروى أيضًا عنه عن عمر أنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له أويس له والدة وكان به بياض فمروه فليستغفر لكم) ؛ وروى عنه أيضًا قال: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر حتى أتى على أويس فقال له: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرئت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرئ منه إلا موضع درهم له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره. فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل) فاستغفر لي. فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي. فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس فقال: تركته رث البيت قليل المتاع (فذكر له عمر الحديث) قال: فأتى أويسًا فقال: استغفر لي، فقال: أنت أحدث عهد بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له، ففطن له الناس فانطلق على وجهه، قال أسير (الراوي) : وكسوته بردة فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لأويس هذه البردة؟ اهـ. هذه رواية مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر، وروى حديثه ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة وابن عساكر في تاريخه مطولاً في قصة لأويس عن حاله في الكوفة، وروى قصته ابن عساكر وغيره عن صعصعة بن معاوية وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك بأسانيدَ ضعيفة كلها عن عمر بن الخطاب، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس عند ابن عساكر أن عمر وعليًّا ركبا حمارين، وأتيا الأراك حيث كان أويس وأنهما طلبا منه الدعاء فدعا لهما وللمؤمنين والمؤمنات. وهذه الرواية لا تصح وإنما الصحيح من كل ما روي عن أويس هو ما أخرجه مسلم عن أسير بن جابر ويقال ابن عمرو، وكان يقال له يسير أيضًا على أن ابن حبان قال عند ذكره له في الثقات: (في القلب من روايته قصة أويس شيء إلا أنه حكى ما حكى عن إنسان مجهول فالقلب إلى أنه ثقة أميل) . وقال ابن سعد: كان ثقة وله أحاديث. وذكره العجلي في الثقات من أصحاب ابن مسعود. وقال ابن حزم: أسير بن جابر ليس بالقوي، الجمهور على توثيقه تبعًا لمسلمٍ. * * * 6 - حديث: (أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ) حديث: (أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ) ، قد رواه أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وأصحاب السنن الأربعة، وهو وارد في شهداء أحد، وقد اختلفت ألفاظه عند رواته، ففي بعضها أنها تكون في حواصل طير، وفي بعضها في صورة طير وفي بعضها (كطير خضر) ، ومجموع الروايات يدل على أن أرواحهم تتشكل بصورة الطير فترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، ويكون ذلك شأنها إلى يوم القيامة فتبعث مع سائر الخلق في الأجساد المعروفة، وليس معناه أنها تحل في طير من الطير الموجودة كما يقول أهل التناسخ، والحديث يمثل لنا حياة الشهداء الغيبية في عالم الغيب، قال بعض العلماء: إنه خاص بشهداء أحد، وقيل: بل يعم من كان مثلهم في الإخلاص، ولا يمكن أن يعم كل من قتل في الحرب لما ورد من عقاب من يقاتل رياء وسمعة. * * * 7 - ثواب تالي القرآن بغير فهم الأصل في مشروعية تلاوة القرآن الاهتداء والاعتبار والاتعاظ به، ولا يكون ذلك إلا بالتدبر والفهم، وتلاوة القرآن مع الغفلة عن معناه ذنب كما ورد في الأثر: (رُبَّ تَالٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآَنُ يَلْعَنُهُ) وقد يثاب التالي بغير فهم إذا كان يتلو لغرض شرعي آخر كتجويد التلاوة والحفظ؛ فإن توجه الذهن إلى ضبط الألفاظ وإتقان مخارج الحروف مثلاً يشغل عن تدبر المعاني؛ ولكن مثل هذا يكون غرضًا عارضًا لا دائمًا. * * * 8 - ورع الصديق والقدوة به. روى البخاري عن عائشة أنه كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه؛ فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية فأعطاني، وفي رواية أبي نعيم كنت مررت بقوم في الجاهلية فرقيت لهم فوعدوني فلما كان اليوم مررت بهم فإذا عرس لهم فأعطوني، فأدخل أبو بكر أصابعه في فيه وجعل يقيء حتى ظننت أن نفسه ستخرج، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما حملت العروق وخالط الأمعاء. وروى مالك من طريق زيد بن أسلم مثل ذلك عن عمر الفاروق، قال زيد: شرب عمر لبنًا فأعجبه فسأل الذي سقاه: من أين لك هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على ماء - قد سَمَّاهُ - فإذا نعم الصدقة وهم يسقون، فحلبوا لي من ألبانها، فجعلته في سقا

المسألة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألة الشرقية تابع المقالات التي نشرناها في المؤيد بمناسبة حرب إيطالية لطرابلس الغرب (2) (ما يجب على المسلمين والعثمانيين من مساعدة الدولة) صفة العناصر العثمانية ومكانة السلطة الإسلامية من أهلها عدوان إيطالية على الدولة العثمانية هو فتح لباب المسألة الشرقية، دفعت إليه أوربة أشد دولها حماقة وغرورًا وأقلها بصرًا بالعواقب، وإن فرنسة وإنكلترة لا يطيب لهما مجاورة إيطالية لتونس ومصر لولا الضرورة، وهما تعلمان أن طرابلس الغرب لا تكون لقمة سائغة لها كما ساغت حماية تونس للأولى واحتلال مصر للثانية، فسمحتا لها بأعسر اللقم ازدرادًا وهضمًا، وأقبحها أحدوثة وذكرًا، وأشنعها سُبَّةً وعَارًا. إذا لم يكن مراد أوربة بهذا العدوان فتح باب المسألة الشرقية بهذا العمل لا يكون أقل من طرق لهذا الباب، وانتظار لما يسمع من الجواب، فبماذا يجيب العثمانيون والمسلمون؟ العثمانيون مؤلفون من عناصر وملل شتَّى، وقد رضيت دولتهم التركية العنصر؛ الإسلامية الدين، بأن يكونوا كلهم شركاء لعنصرها فيها، وما قام يحاوله أولئك الأحداث الأغرار من هضم حقوق عناصرهم، واضطهاد لغاتهم، عرض يزول بزوالهم، أو زوال سلطتهم المؤقتة، فلا ينبغي أن تؤاخذ الدولة بذنب تلك الزعنفة التي قذفتنا بها سلانيك وأزمير وأدرنه؛ بل يجب أن يعلم كل عنصر، وأهل كل ملة أنه لا توجد دولة أوربية تعاملهم بمثل ما تعاملهم به الدولة العثمانية، وتعطيهم من الحقوق مثل ما تعطيهم هي، فإن الأوربيين قد تألَّهوا بالعظمة والكبرياء، فهم يرون أنفسهم آلهة للشرقيين، وإن شاركوهم في الدين، فعلى من لم يعم التعصب الديني قلبه، ولم تفسد الوساوس الأجنبية لبه، أن يفكر بخطر العبودية، والحرمان من المساواة وحقوق الحاكمية، اللذين يتهددانه بسقوط الدولة العلية (لا سمح الله تعالى) . ثم لا يثقل على غير المسلمين من إخواننا العثمانيين أن يكون المسلمون من غير العثمانيين مشاركين لهم في الغيرة على هذه الدولة والانتصار لها باسم الإسلام، فإنَّما ذلك مزيد قوة واحترام لدولتهم التي يعتزون بعزتها ويذلون بذلتها حماها اللهُ تعالى. الدين الإسلامي دين سلطة وحاكمية، وهذه الصفة من صفاته تكاد تكون أرسخ من عقيدة التوحيد في نفوس أهله، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يعتقدون أن الدولة العثمانية هي التي تقوم بها هذه الصفة، وهي سياج عقائد الإسلام وعباداته، وأن ما عرض لها من التقصير في خدمة الإسلام باستبداد بعض السلاطين وفساد دين بعض الباشوات، أو بضغط أوربة، هو من الأعراض التي لا تلبث أن تزول بزوال أسبابها ما دامت الدولة باقية مستقلة، آخذة على نفسها القيام بمنصب الخلافة. هذا الاعتقاد سار في جميع الشعوب الإسلامية سريان الدين في مداركهم وشعورهم، ولبعض همج أفريقية وجزائر المحيط الجنوبي من الغلو في هذه الدولة وفي سلطانها ما يدخل في باب الخرافات، حتى إن في البرابرة المقيمين في القاهرة من يعتقدون أن السلطان هو الحافظ لهم في بلادهم، وهو الذي منع العرابيين وغير العرابيين من الاعتداء عليهم. هذا الاعتقاد الذي تجهل الدولة كنهه فلم تعرف كيف تستفيد منه قد أفاد دول الاستعمار، ومهد لها سبيل الاستيلاء على الممالك الإسلامية الكثيرة والتمكن فيها، بضعف المسلمين في مقاومتهم لها، إذ كان من أسباب هذا الضعف في كل قطر اعتقاد أهله أنهم ليسوا هم الذين يقيمون حكم الله؛ وإنما تقيمه دولة الخلافة فهو في أمان واطمئنان، يمكن الالتجاء إليه في كل آن، فإذا وقعت الواقعة، وبدأت أوربة بتقسيم البلاد العثمانية بالعدوان المحض، وشعر المسلمون في كل مكان بأن أوربة جعلتهم كاليهود لا دولة لهم ولا سلطان، فهنالك يدخل العالم في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى. ليس هذا القول بالتهديد ولا بالوعيد، وليس الذي يقوله جاهلاً بقوة أوروبة العلمية والصناعية والاجتماعية؛ بل هو يعرفها ويعلم أنها جعلت بها أكثر المسلمين مسخرين لخدمتها كالسوائم، وأن الجاهلين منهم، وهم السواد الأعظم لا يعلمون ماذا يعملون، وأن المتعلمين قد أفسدت التعاليم الأوروبية نفوس الكثيرين منهم، وحلت الرابطة الإسلامية التي تربط كل قطر من بلادهم منهم بالآخر وهم لا يشعرون، وأحدثت لهم روابط أخرى بدلاً منها تسمى في مصر الوطنية وفي الآستانة الحاكمية للتركية، وفي طهران الجنسية الفارسية، وأن من المصريين من صار يفاخر بفرعون ويعد المسلم السوري والحجازي دخيلاً في أمته، وأن جميع الطبقات تأثرت بهذا، وأنه وجد في الآستانة أناس يقولون إن أسباب ضعفنا وتأخرنا جاءتنا من الإسلام، وفي طهران من ينشر تاريخ المجوس وعظمة ملوكهم، وينفر من الإسلام الذي دفع العرب إلى سلب ذلك الملك منهم، وأن منهم من استحوذ عليه شيطان الجبن لشدة ما قاسى من الاضطهاد والظلم، كل هذا أعرفه كما يعرفه الأوربيون الذين زرعوا بذوره وتعهدوا غرسه بالسقي حتى بدت لهم ثمراته دانيةُ القطوف، ولكنني أعلم مع هذا كله أن هذه الجنسيات الجديدة لمَّا تَتَمَكَّنَ من نفوس جميع الذين ابتدعوها، وأن أكثر الذين تدنسوا بها لم يعرفوا أنها مخالفة لأصول الإسلام وفروعه الذي جعل المسلمين أمة واحدة؛ بل أعضاء لجسدٍ واحد، وأن الشعور بالخطر على الحكومة الإسلامية كافٍ لمحوِ كل هذه الوساوس الأوربية من نفوسهم، وزلزال الجبن الذي أَلَمَّ بقلوبهم، وعودة الرابطة الإسلامية القلبية إلى أشد ما كانت قوةً ومتانةً، وهذا هو الذي عنيته بقولي: يدخل العالم في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى. إن أوربة قد علمت كنه حرص المسلمين على الحكومة الإسلامية وشدة نفورهم من الحاكم الأجنبي عنهم، فهي لذلك تخادعهم بنصب أشباح منهم تجعلهم آلات للحكم عليهم والتصرف بهم، حتى إن إيطالية التي هي أشد دولها غرارة وغرورًا، وأقلهن علمًا وتجربةً، تبحث عن أمير مسلم تجعله تمثالاً تحكم طرابلس الغرب باسمه، ولولا أن أوربة تعلم كنه شعور المسلمين بالحرص على السلطة الإسلامية، لما أطلقت على ذلك لفظ التعصب الديني وجعلت هذا اللقب مثار البغي والعدوان، والخطر على نوع الإنسان، تنفر المسلمين منه، وتهددهم بالعقاب عليه، ولكن هل يخشى أن يكون من سوء تأثير التعصب الإسلامي المخيف أكثر مما كان من تساهل أوربة وعدلها ورحمتها في دفعها إيطالية إلى اغتصاب مملكة إسلامية كاملة والسماح لأسطولها بتدمير ما يستطيع تدميره منها ومن أسطول الدولة العلية؟ كلا إنه لا يوجد عدوان في الأرض أقبح ولا أوضح ولا أفظع من هذا العدوان. إنه مهما بالغ كتابنا وكتاب أوربة في إقناع المسلمين بأن أوربة تريد إزالة ملكهم من الأرض لا لأجل دينهم؛ بل لنفعها المجرد، فلن يستطيعوا أن يقنعوا بذلك رجلاً واحدًا من كل مليون رجل، نعم إن ضعفنا هو الذي يجرئهم علينا؛ ولكن حكومات البلقان المسيحية أضعف منَّا فلماذا يعطونها من أملاكنا، ولا يقتسمون بلادها كما يقتسمون بلادنا؟ يقولون إن إيطالية حاربت الحبش وأزالت سلطة البابا، ونقول نعم وطالما حارب المسلمون بعضهم بعضًا، ولو استولت إيطالية على الحبش لما كان ذلك في نظر أوربة إلا استبدال دولة مسيحية بدولة مسيحية، وأما إزالتها لسلطة البابا فقد مكنتها أوروبة منه لاعتقادها أن الدين المسيحي لا يعطي البابوات تلك السلطة الدنيوية التي انتحلوها لأنفسهم، وإن كان فيهم ملحدون ففينا ملحدون، ومنهم من يريد إزالة سلطة الخلافة ويجعل السلطة دنيوية محضة تقليدًا لهم، فلماذا يُبَرَّؤُونَ مِنَ التَّعَصُّبِ وَنُرْمَى بِهِ؟ إنني شرحت اعتقاد المسلمين كما هو فما جئتهم بشيء جديد إلا التذكير بما يجب من إظهار شعورهم وآلامهم من اعتداء أوربة وبغيها على دولهم الثلاث ومساعدتهم للدولة العلية بكل ما تمكن فيه المساعدة من المال والحال. لا أقول: إنه يجوز لهم أن يعتدوا على أحد الأوربيين أو المسيحيين؛ لأن إيطالية أوربية مسيحية فإن الله تعالى يقول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وللقتال طرق قانونية لا ينبغي إلا بها، وهي قتال الجيش المنظم ومن يتطوع معه فقط، وقد أنبأنا البرق بأن كثيرًا من فضلاء الإنكليز عرضوا على سفارة دولتنا في لندره أن يتطوعوا لقتال إيطالية معنا، فالمسلمون أولى بإظهار هذه العاطفة في كل قطر من الأقطار، سواء احتاجت إليهم الدولة أم لا، فَأَدْعُو المسلمين إلى التطوع. ثم أدعوهم إلى إظهار شعورهم بالقول والكتابة والمظاهرة والاحتجاج، وقد رأينا الجرائد الأوربية عندنا ولا سِيَّما الفرنسية منها قد أظهرت التحيز إلى إيطالية بمدح عدوانها، وإظهار العداوة والبغضاء للدولة العلية، وكذلك بعض الجرائد المسيحية العربية المتعصبة للدين، وحاشا الجرائد العثمانية الراقية كالمقطم والأهرام فإنهما قامتا للوطنية العثمانية بحقها، فلم لا يظهر المسلمون تحيزهم إلى دولتهم وبغضهم ومقتهم للمعتدين عليها. ثم أدعوهم إلى مقاطعة التجارة الإيطالية وترك معاملة الطليان بكل نوع من أنواع المعاملة، وأرى أن كل مسلم في أي بلد يعامل طليانيًّا معاملة مالية أو زراعية فهو مستحق لِلَعْنَةِ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ. ثم أدعوهم إلى مساعدة الدولة العلية بالمال وجمعه بالاكتتاب المنظم، وليتذكروا أن الله تعالى قدم ذكر الجهاد بالأموال على ذكر الجهاد بالأنفس حيث يمكن الأمران. وأما من عجز عن الجهاد بنفسه فليس له حظ إلا في الجهاد بماله، فإن تركه فلا عذر له عند الله ولا عند رسوله ولا عند المؤمنين، ولا يوجد دليل على صدق الإيمان أقوى من بذل المال في سبيل الله ولا دليل على ضعف الإيمان أو النفاق فيه أقوى من البخل والإمساك عن البذل في سبيل الله، ومن أهمه أو أهمه حماية الملة وحفظ كيان الأمة والدولة. إن مسلمي مصر والهند أجدر المسلمين بأن يكونوا أرفع المسلمين صوتًا وأنداهم كفًّا في الانتصار للدولة العلية؛ لأنهم يمتازون على سائر المسلمين بثلاث العلم والمال والحرية، وفي هذا المقام نعترف لدولة إنكلترة بالفضل على جميع دول أوربة التي تضطهد المسلمين وتضيق عليهم مسالك الحرية الشخصية، وإن كنَّا في مقامٍ نشكو فيه من إقرارها لإيطالية على عدوانها الوحشي. للدولة على المصريين حق الأخوة الإسلامية، وحق السيادة السياسية، ولولاية طرابلس عليهم حق ثالث وهو حق الجوار، فيجب أن يكونوا هم السابقين إلى كل أنواع المساعدات الممكنة، وهم أهلٌ لذلك، فلا يألون جهدًا، ولا يدخرون وسعًا، وقد رأينا الاضطراب ظاهرًا على عوامهم وخواصهم، والغيرة شاملة لجميع طبقاتهم، ويليهم مسلمو تونس فالواجب عليهم أن يرفعوا أصواتهم، ويمدوا سواعدهم، ويكذبوا هانوتو في زعمه أن فرنسة قد فصلت ولاية تونس من مكة، أي بترت هذا العضو من جسم الملة الإسلامية، هذه فرصة يجب أن يغتنموها هم وأهل الجزئر ليظهروا للعالم الإسلامي كنه صدق فرنسة في قولها إنها بدأت تغير سياستها في معاملة المسلمين، تغيير تساهل وتحسين، وليعلموا أن الجبن والإحجام في هذا الوقت لا يزيدهم عند فرنسة إلا مهانةً واحتقارًا، وذلةً وصغارًا، ولا

مقدمات الحرب في طرابلس الغرب

الكاتب: محمود ناجي وصادق

_ مقدمات الحرب في طرابلس الغرب لمَّا أُعْلِنَتِ الحرب بتلك الصورة المنكرة، وظهر أن الدول الكبرى موافقة لإيطالية عليها بادرنا إلى نشر مقالات (المسألة الشرقية) في المؤيد لننذر المسلمين والشرقيين عامة إلى الخطر الأوربي الذي أوشك أن يقضي على الشرق الأدنى كله، معتقدين أن هذا الإنذار قد يصد بإيقاظ المسلمين هذا التيار، ويحصر شر الحرب في طرابلس الغرب، ثم كانت إيطالية عونًا لنا بسوء تصرفها على تنفير أوربة منا، وعطف أكثر جرائدها علينا، بعد ما كان من فظائع الجيش الإيطالي بقتل النساء والشيوخ والأطفال من العرب؛ فلهذا كففنا عن التنديد بأوربة كلها. ثم إننا نشرنا في الجزء الماضي إنذار إيطالية الأول للدولة العلية وجواب الدولة عنه، وسننشر بعد ذلك ما ينبغي حفظه من تاريخ هذه الحرب وقد نشر بعض الذين كانوا موظفين في طرابلس قبل الحرب مقالةً في المؤيد بَيَّن فيها مقدماتِها وأسبابها، فرأيْنَا أن ننشرها في المنار وها هي هذه؛ قال: يعلم كل من له أقل عناية بتتبع سياسة إيطاليا في طرابلس الغرب أن هذه الحكومة ما زالت موجهة نظرها وأملها إلى هذه الولاية منذ خمسة وعشرين عامًا أو أكثر قصد الاستيلاء عليها بالسلم أو بالحرب لما لإيالة طرابلس من الأهمية الكبرى لاحتوائها على معادن شتَّى؛ ولأن سعتها تبلغ ثلاثة أضعاف سعة البلاد الإيطالية من أعلاها إلى أدناها. وكانت إيطاليا تحاذر أن تتعرض للاستيلاء على طرابلس الغرب بالقوة الحربية، مع ما تعلمه من انقطاع هذه الولاية عن عاصمة الملك العثماني، وبعدها عنها وعن سائر بلاد السلطنة وضعف القوة البحرية العثمانية؛ لأنها كانت ترى أن استيلائها على طرابلس لم يكن يوافق مصلحة إنكلترا وفرنسا لأسباب لا حاجة الآن إلى شرحها. ولهذا طرقت للوصول إلى هذا الأمل مسالك أخرى فنصبت لذلك من مدارسها فخًّا أولاً؛ إذ أسست في طرابلس الغرب مدارسَ إيطالية كثيرة واختصت للإنفاق عليها الألوف من أموال خزينتها قاصدةً بذلك أن تشيعَ اللغةَ الإيطالية بين عربِ طرابلسَ، وتُؤَلِّفَ قلوبَ الأطفال والناشئة. ولقد أدرك وزيرُنا الغيورُ المرحوم أحمد راسم باشا يوم كان واليًا على طرابلس ما ترمي إليه إيطاليا من هذا العمل؛ فجعل يقاومه بالوسائل المشروعة وينبه الأهالي إلى ما عرفه من حقيقة أمر هذه المدارس وأنها لا توافق مصلحة المسلمين، وكان له من العلماء والمدرسين عضد وساعد على نشر هذه النصيحة بين الطرابلسيين العثمانيين إلى أن نجح في عمله واتفق الجمهور على اتقاء هذا الفخ السياسي فلم يكن يوجد في صفوف هذه المدارس غير نفرٍ قليل من أطفال اليهود الفقراء. ومهما كانت الحال فإن إيطاليا جَنَتْ شيئًا من ثمارِ هذه المدارس؛ لأن الذين تخرجوا فيها من شبان اليهود صاروا يخابرون غرف التجارة في إيطاليا ويستجلبون بضائع الإيطاليين ومصنوعاتهم وينشرونها في طرابلس وينشرون معها اللغة الإيطالية حتى بلغ مقدار الذين يتكلمون بالإيطالية من الموسويين وبعض المسلمين ثلاثين في المائة من أهل مدينة طرابلس؛ مع أن الذين يتكلمون بالتركية لا يبلغون خمسة في المائة. على أن هذا كله لم يقنع أصحابنا الإيطاليين؛ بل زاد في أطماع حكومتهم، فقامت جرائدهم تنتقد خطبة السنيور (كريسبي) وحزبه قائلة إن ما أنفق على هذه المدارس كان أعظم من الثمرات التي جائت بها وإن المصلحة تقضي بإقفالها ما دامت كذلك، أما الحكومة فلم تلتفت إلى أقوال الصحافيين؛ بل أصرت على المثابرة في هذه الخطة وظلت تصرف مرتبات موظفي هذه المدارس ونفقاتها، ودامت الحال على ذلك إلى أن انعقد مؤتمر الجزيرة فتقرَّر فيه أن لا تعارض الحكومات الموقعة على صك المؤتمر شيئًا من المصالح الاقتصادية والسياسية التي للإيطاليين في طرابلس الغرب، ومن ذلك الحين أسست إيطاليا في طرابلس الغرب فرعًا لبنك (دي روما) فكان هذا البنك قطب رحى المصائب على هذه الولاية العثمانية والمصدر لكل دسيسة سياسية، زِدْ على ذلك أن الثلثين من رأس مال (بنك دي روما) هي لحضرة البابا والثلث الآخر للحكومة الإيطالية. تأسس هذا البنك فعلاً في طرابلس، ولم تلاحظ في تأسيسه حرمة البلاد وأحكام قوانينها، وبيان ذلك أن القانون يقضي بأن لا يؤسس مرفق من المرافق المالية الأجنبية في سلطنة آل عثمان إلا بإرادة سلطانية، وفضلاً عن ذلك فإن الخاصي والعامي يعلم أن هذا البنك إنما أُسِّسَ لاستملاك الأراضي، واستعمال الإيطاليين لها، ولإقراض الأهالي بالربا الفاحش، ولاحتكار التجارة في طرابلس، ولأخذ امتيازات لاستثمار المناجم وإنشاء المرافئ وما أشبه ذلك، ثم إظهار القلاقل والاختلافات بين الحكومة المحلية والقنصلية الإيطالية التي يعظمها الخيال الإيطالي بالطبع حتى تصل إلى الآستانة ورومة؛ فتكون منها مسائل يختلقون منها الوسائل للخطة التي وضعوها لأنفسهم. كان والي طرابلس الغرب وقائدها في حين تأسيس (بنك دي روما) ذلك الرجل الكبير المرحوم رجب باشا، فقاوم - رحمه الله - هذا المشروع غير المشروع بكل قوة لديه طالبًا من مؤسسيه أن يحصلوا على إرادة سلطانية بتأسيسه أولاً، وفي الوقت نفسه كان يكتب إلى الآستانة مبينًا النتائج السيئة التي تكون من نجاح الإيطاليين في تأسيس هذا البنك فلم يرض الإيطاليون بالخضوع لقانون البلاد وأوعزت الآستانة إلى المرحوم رجب باشا بأن لا يتشدد كثيرًا لئلا يكون سببًا في إحداث مشكلات سياسية. ولما يئس ذلك الرجل العثماني الحكيم من معاونة الآستانة له واهتمامها بأمر هذه الولاية البائسة توسَّل بوسائل حكيمة لمقاومة النتائج بعد عجزه عن مقاومة المقدمات، فصار يتمسَّك بنصوص القانون ما أمكنه في مسائل بيع الأراضي والعقارات، ويعرقل الحيل والدسائس التي تعمل لأجل نقلها من ملك العثماني إلى ملك الإيطالي تحت ستار الحيلة، فكلما أراد أحد أن يبيع قطعة أرض أو عقارًا واشْتَمَّ المرحوم رجب باشا منها رائحة الإيطاليين دعا صاحبها وبَيَّنَ له الأضرار العظمى التي تلحق وطنه من بيعها إلى إيطالي، فإذا لم يقنع البائع بحث له عن عثماني يشتري منه أو جار يضطر البائع إلى تفضيله بحكم الشُفْعَةِ، وإن لم يجد أَوْعَزَ إلى المجلس البلدي بأن يشتري ذلك ولو كانت قيمته فاحشة، وإذا أخفق سَعْيُهُ في ذلك وهذا أَمر دائرة (الطابو) بأن تنفذ أحكام القانون بعدم إفراغ تلك الأرض أو ذلك العقار باسم البنك؛ لأن البنك شخص معنوي، والبيع والشراء يشترط فيهما الإيجاب والقبول، كل ذلك كان يفعله المرحوم رجب باشا لئلا يتمكن (بنك دي روما) أو أحد من الإيطاليين من شراء الأراضي العثمانية واستعمارها. كانت العوائق المشروعة التي وقف بها والي طرابلس الأسبق في وجه (بنك دي روما) خير وسيلة ممكنة لعرقلة مساعيه بالرغم عن الشكاوى الطويلة العريضة من البنك والتهديدات المختلفة الأساليب التي كان قنصل إيطاليا وحكومة إيطاليا يجيئان بها في كل يوم. ولما أعلن الدستور العثماني، ثم عين حقي بك (حقي باشا) سفيرًا للدولة العلية في روما علم بنك دي روما وحكومة إيطاليا أن السكون على الوسائل التي كان يتخذها رجب باشا ربما عادت مؤيدة بالقانون في زمن الدستور، وفي ذلك من القضاء على الآمال الإيطالية ما فيه، فأكثر الإيطاليون من الشِّكَايَةِ واتخذوا حقي بك نصيرًا وآلةً لهم. ومما كتبه حقي بك في ذلك الحين إلى الباب العالي أن إيطاليا تبذل جهدَها لمساعدة الحكومة العثمانية، خصوصًا بعد الدستور، ومن الواجب على الباب العالي أن يتسامح مع بنك دي روما تثبيتًا لأواصر المودة بين الدولتين وإحكامًا لمباني الحب والصداقة، فأثَّر هذا القول من سفير الدولة في حكومته المركزية، وأوعز الباب العالي إلى الحكومة المحلية في طرابلس الغرب بأن تقبل فراغ الأراضي باسم المدير العام لبنك دي روما. وفي ذلك الحين كان المرحوم رجب باشا قد نقل من ولاية طرابلس الغرب وعيَّن وزيرًا للحربية العثمانية، وخلفه على طرابلس أمير اللواء محمد علي سامي باشا؛ وهو رجل جندي لا يعرف شيئًا من شئون الإدارة وأساليب السياسة، ثم جاء بعده فوزي باشا، وأعقبه حسني باشا، وهؤلاء الولاة الثلاثة لم يزد مجموع مدتهم في طرابلس على سنتين، وقد وجد البنك منهم في أثنائها تسهيلات كثيرة وتسامحًا كبيرًا وكانت الجرائد المحلية وفي مقدمتها (تعميم حريت التركية) و (الترقي) و (أبو قشة) و (المرصاد) العربية تبين للحكومة والرأي العام مقاصد إيطاليا وأعمالها وأغراض بنك دي روما، وتصرخ بأعلى صوتها منبهة أولياء الأمور إلى المصائب المنتظرة التي سيكون البنك المذكور مصدرها وسببها، فلم تجد هذه الجرائد الصادقة أذنًا صاغيةً من الحكومة ورجالها، ولكنها أثرت في الرأي العام وصحَّحَت اعتقاده بشأن البنك؛ فصار يعتقد أنه مرفق سياسي بعد أن كان يحسبه تجاريًّا بَحْتًا ولمَّا شعر مؤسسو البنك أن معاملاته ستقف بسبب الحملات الصحَافية قام فأسس في طرابلس مطبعة وجريدتين إيطاليتين؛ إحداهما جريدة (إيكودي تريبولي) والثانية (جريدة استيللا) وصارت هاتان الجريدتان تدافعان عن البنك ومصالحه وتبثَّان في أذهان الناس أنه تجاري لا سياسي فلم ينخدع الرأي العام بأضاليلهما. وفي ولاية حسني باشا قَدِمَ طرابلس رجل من أهل الأرجنتين في جنوب أمريكا اسمه المستر (كوزمان) فأصدر جريدة سمَّاها (بروجريسو) وصار يطعن فيها على الحكومة الإيطالية ويُبَيِّنُ مقاصدها في طرابلس الغرب، ويفضح نيَّة بنك دي روما السيئة، وظل على ذلك مدة شهر ارتفعت فيها شكوى البنك منه إلى عنان السماء؛ ولكن لم يكن للحكومة العثمانية وجه لسماع تلك الشكوى. واتفق أنه جاء إلى طرابلس أيضًا مصور أميريكي من أهل الولايات المتحدة، وبَيْنَا كان يصور (جامع أحمد باشا) مرَّ من أمامه صبيٌّ صغير حال بينه وبين الجامع فغضب المصور الأميركي وضرب الطفل. ولما تداخل البوليس حصل بينه وبين المصور سوء تفاهم فتطاول الأميريكي على البوليس، وضربه فقبض عليه البوليس باسم القانون وأخذه إلى قسم البوليس للتحقيق، ومن الغريب أن قنصل أمريكا عَدَّ هذه الحادثة إهانة للأميركي (!) وطلب من حسني باشا ترضيتَه؛ فأجابه حسني باشا إليها وطرد البوليس من خدمة الحكومة بمراسم علنية وبحضور كثير من الأجانب. فلما علم قنصل إيطاليا بطرد البوليس من خدمة الحكومة بصورة غير قانونية عاد فطلب نفي محرر جريدة (البروجريسو) بصورة غير قانونية أيضًا استنادًا على العمل السابق من الوالي في مسألة الأميركي والبوليس، أما حسني باشا فقد أجاب قنصل إيطاليا أيضًا إلى طلبه ونفى المستر كوزمان بصورة استبدادية استاء لها جميع العثمانيين من أهل طرابلس وضَحِكَ منها الكثيرون من الأجانب، وهي حادثة مؤسفة في الحقيقة لحدوثها في زمن إدارة دستورية. كانت حادثة إخراج الصحافي الأرجنتيني فوزًا كبيرًا للسياسة الإيطالية في طرابلس الغرب عقدت لها الصحف الإيطالية فصول الابتهاج والسرور، وامتلأ بها قنصل إيطاليا غرورًا وزهوًا وخُيَلاَءَ، فأصدر أمرًا تحريريًّا إلى الصحف والمطبعة الإيطالية التي في طرابلس بأن لا تلاحظ بعد الآن قانون المطبوعات العثماني، وما عليها إلا أن تراعي القانون الإيطالي فقط معلنً

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الجديدة (شرح نهج البلاغة) للشيخ عز الدين أبي حامد عبد الحميد، الشهير بابن أبي الحديد. قد اشتهر نهج البلاغة في سورية ومصر وسائر البلاد العربية بشرح الأستاذ الإمام له، وكثر استفادة الناس من هدايته وبلاغته، فلو كان شرح ابن أبي الحديد له قاصرًا على تفسير غريبه، وبيان ما لا تصل إليه جميع الأفهام من معاني جمله وأسرار حكمه، لكان لنا في تعليقات الأستاذ الإمام غنى عنه، ولكن هذا الشرح كتاب من أجمع الكتب في الأدب والتاريخ والكلام والفقه والخلاف والجدل، وقد وصفه مؤلفه أبلغ وصف وأجمعه بقوله عن نفسه: وشرع فيه بادي الرأي شروع مختصر، وعلى ذكر الغريب والمعنى مقتصر، ثم تعقب الفكر، فرأى أن هذه النغبة لا تشفي أوامًا، ولا تزيد الحائم إلا حيامًا، فتنكب ذلك المسلك، ورفض ذلك المنهج، وبسط القول في شرحه بسطًا اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان، وما عساه يشتبه ويشكل من الإعراب والتصريف، وأورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والأشباه نثرًا ونظمًا، وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والأحداث فصلاً فصلاً، وأشار إلى ما ينطوي عليه من رقائق علم التوحيد والعدل إشارة خفيفة، ولوَّح إلى ما يستدعي الشَّرْح ذِكْره من الأنسابِ والأمثالِ والنكت تلويحات لطيفة، ورصعه من المواعظ الزهدية والزواجر الدينية والحكم النفسية والآداب الخلقية المناسبة لفقره، والمشاكلة لدرره، والمنتظمة مع معانيه في سمط، والمنسقة مع جواهره في لط، بما يهزأ بشنوف النضار، ويخجل قطع الروض غب القطار، وأوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهية، وبرهن على أن كثيرًا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية، لاشتمالها على الأخبار الغيبية، وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية، وبيَّن من مقامات العارفين التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون، ولا يدركه إلا الروحانيون المقربون، وكشف عن مقاصده عليه السلام في لفظة يرسلها، ومعضلة يكني عنها، وغامضة يعرض بها، وخفايا يجمجم بذكرها، وهنَّات تجيش في صدره فينفث بها نفثة المصدور، ومرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب، فخرج هذا الكتاب كتابًا كاملاً في فنه، واحدًا بَيْنَ أبناءِ جنسِهِ، ممتعًا بمحاسنِهِ، إلخ. والمصنف من المعتزلة وهم متفقون على أن بيعة أبي بكر بيعة شرعية صحيحة وكذا بيعة سائر الخلفاء الأربعة واختلفوا في التفضيل فبعضهم كالأشعرية يجعلون ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة ومن هؤلاء عمرو بن عبيد والجاحظ والنظَّام وغيرهم من قدماء البصريين، وبعضهم يفضل عليًّا على الجميع وذكر أن الجبائي والقاضي عبد الجبار ذهب إلى ذلك في آخر عمرهما، وبعضهم توقَّف في التفضيل، وقطع بعض هؤلاء بتفضيل علي على عثمان، وإنما توقف في التفضيل بينه وبين أبي بكر وعمر، والمصنف على رأي من يفضلون عليًّا على الجميع رضي الله تعالى عنهم. إن هذا الشارح على تشيُّعِه لأمير المؤمنين لم يكن مقلدًا لطائفة الشيعة؛ بل كثيرًا ما يفند أقوالهم في بعض المسائل ولا سيَّما الطعن في الشيخين، ويورد كلام قاضي القضاة عبد الجبار من شيوخهم في رد كلام الشيعة ورد الشريف المرتضى عليه ويحكم بينهما بالاستقلال. ولكنني رأيته التزم التسليم على علي كلما ذُكِرَ حتى في الحكاية عن الصحابة وعن الجاهلية - ولم يكن هذا من عرفهم - ولا يقول عند ذكر أبي بكر ولا عمر، دع من دونهما من الصحابة، كلمة رضي الله عنه لا في كلامه ولا في نقوله عن علماء أهل السنة الذين جرت عادتهم بذلك، على أنه يقولها عند ذكر شيوخ المعتزلة، فهل يصح أن يتعمد هذا وهو معتقد صحة خلافتهما ويورد كثيرًا من مناقبهما وفضائلهما؟ أم محا دعاءه لهما من نسخ الكتاب بعض غلاة الشيعة؟ الله أعلم، ويمكن أن يقال: إن كان تعمَّد ذلك فهو فيه مصانع للوزير ابن العلقمي الشيعي المشهور الذي جعل الكتاب باسمه وأهداه إلى خزانته، والمصانع غير عدل فلا يوثق به، وإن كان ذلك من تصرف نساخ الكتاب من غلاة الشيعة فهو تصرف لا أراه مزيد قوة في نصر الكتاب لهم؛ بل ربما كان ضعفًا؛ لأنه يفتح الباب لرمي المصنف بالهوى أو المصانعة ولا يبقى مجال للقول بأنه ليس سُنِّيًّا ولا شيعيًّا فيكون حكمه في مسائل الخلاف بين الطائفتين أقرب إلى الإنصاف، وأبعد عن الاعتساف. على أن العبرة بقوة الدليل لمن كان من أهله، والمصنف ضليع في الدلائل العقلية واللغوية إلا أنه على سعة اطلاعه في المنقول ليس من أهل النقد والتمحيص في علم الرواية فلا يعتد بنقله لذاته في باب الحجة إلا أن يعزوه إلى الثقات كالصحيحين، وكثيرًا ما ينقل عنهما، وفيما عدا ذلك ينظر في تصحيح الرواية التي يراد الاستدلال بها. وجملة القول أن هذا الكتاب من أعظم المصنفات العربية في الفنون التي أشرنا إليها، يجد الناظر فيه من فنون العلم والأدب ما لا يجده مجموعًا في غيره، فهو مما يحتاج إليه كل متكلم وجدلي ومؤرخ وأديب، وقد كان أعز من بيض الأنوق، وأبعد على منال ناشديه من العيوق، فقرب مناله ودنت قطوفه بطبعه وبقلة ثمنه، فقد طبع في مطبعة البابي الحلبي بمصر، فكان أربع مجلدات كبيرة يباع في مكتبته المشهورة، وثمنه 100 قرش. * * * (كتاب المجازات النبوية) للشريف الرضي الشهير؛ كتاب في بيان مجازات القرآن وكتاب في مجازات الحديث لم ينسج على منوالهما ناسج، ولم يسبقه إلى مثلهما سابق ولم يلحقه لاحق، والمراد بالمجازات ضروب المجاز في البيان، ومن أجدر من الشريف الرضي وهو إمام البلاغة وقائد فرسانها، بشرح ما ينطوي في كلام جده صلى الله عليه وآله وسلم من فنونها، واقتطاف ما يتدلى من أفنانها، ألا إن هذا الكتاب خير أستاذ تؤخذ عنه البلاغة، وتتلقى عنه الفصاحة، ويتعلم منه كيف تستخرج درر المعاني من أصدافِهَا، وكيف تجري دراري الهداية في أفلاكها، وقد طبع كتاب المجازات النبوية في مطبعة الآداب ببغداد على ورق نظيف؛ ولكن لم يعن طابعه بتصحيحه كما يجب فقد كَثُرَ فيه الغلطُ والتحريفُ ويمزج فيه الشعر والرجز بالكلام أحيانًا لا يميز بعضه من بعض، ولعلنا ننقل للقراء فيما يأتي من الأجزاء نموذجًا منه، يعلمون به أنه على عدم العناية بتصحيحه لا يستغنى عنه. * * * (كتاب التنبيه) هذا الكتاب كان عمدة الشافعية منذ وضعه كبير فقهائهم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي إلى أن ظهرت وانتشرت كتب النووي ثم شروحها للرملي وابن حجر وكتب الشيخ زكريا الأنصاري وكانوا إذا ترجموا فقيهًا شافعيًّا قالوا إنه حفظ التنبيه أو قرأ التنبيه، وقد طبع التنبيه في مطبعة البابي الحلبي وطبع على هامشه تصحيح التنبيه للنووي؛ وهو شرح وجيز له ويباع ببضعة قروش في دار الكتب العربية الكبرى. * * * (مطبوعات الشيخ محمد جمال الدين القاسمي) بارك الله تعالى في وقت صديقنا القاسمي وعمره فإنه يخرج لنا في كل عام كتابًا أو كتبًا من تأليفه أو مما يختاره من آثار علمائنا النافعة، وبين يدينا الآن أربعة مصنفات مطبوعة مما ألفه واختاره وقد نشرت في هذا العام وهي: لقطة العجلان: للشيخ بدر الدين الزركشي من فقهاء الشافعية في القرن الثامن، وهو كتاب وجيز أو رسالة في مقدمات ومهمات مسائل العلوم العالية من الفلسفة وأصول الحديث وأصول الفقه وأصول العقائد والمنطق - وقد أطال فيه - والهيئة. قال الزركشي رحمه الله تعالى: إنه جمع هذه المسائل لسؤال بعض الإخوان لتستعمل عند المناظرة، وتعين على الدخول في فنون العقول لدى المحاورة، وقد شرحها الشيخ القاسمي شرحًا لا يقل عن ضعفي الأصل ووضعه في أواخر الصفحات معلمًا على مواضع الشرح بالأرقام، وطبع على نفقة صديقنا محمد عبد الخالق أفندي إسماعيل من فضلاء الإسكندرية، وثمن النسخة منه 3 قروش. تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب: رسالة للقاسمي اشتملت على ما ينيف على مئة قاعدة من قواعد الواجب المقررة في علم الأصول والمأثورة عن الأئمة المحققين، كذا كتب المؤلف، وأقول هي 103 مسائل أو مباحث معدودة بالأرقام ربما كان أكثرها في أحكام الواجب وروعي في التسمية الغالب. وهذه المسائل نافعة لطلاب العلم - إن شاء الله تعالى - ولا سيما في البلاد التي قلَّ فيها الاشتغال بعلم الأصول وهجرت كتبه النافعة، وقد طبعت هذه الرسالة أيضًا على نفقة صديقنا محمد عبد الخالق أفندي إسماعيل تبرع بطبعها وطبع ما قبلها تبرعًا حبًّا بنشر العلم. وثمنها قرشان. إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق: كتاب جديد للقاسمي في جواز العمل بخبر التلغراف شرعًا، وفيه مباحث نافعة لا يستغني طلاب العلوم الشرعية عن تدبرها منها في المقدمة أن الإسلام موافق لنواميس العمران، وأنه لا يخلو عصرٌ من قائمٍ لله بالحجةِ، وأن الاجتهاد في الوقائع الحادثة ضروري لا بد منه، وأما المقصد فيدخل في ثلاثة أبواب أولها في مدارك أصولية لمسألة التلغراف وتحته 15 فصلاً، وثانيها في مدارك ومآخذ فروعية للمسألة وتحته 7 فصول، وثالثها في الاستدلال على العمل بخبر التلغراف في الصوم والفطر وتحته 15 فصلاً، ويلي ذلك خاتمة في معنى التلغراف وتاريخه وما نظم فيه من الشعر وما يناسبه من الآلات المخترعة في هذا العصر وفيما كان يستعمل في الزمن الماضي لنقل الأخبار كالمشاعل والمناور في الجبال وحمام الرسائل. ويلي ذلك طائفة من الفتاوى في العمل بالتلغراف للعلماء المتأخرين المشهورين في مصر والشام والعراق، وقد بلغت صفحات هذا الكتاب بالطبع أكثر من مائة صفحة من قطع المنار بمثل حروفه، وثمنه خمسة قروش صحيحة. الفتوى في الإسلام: رسالة أو كتيب للقاسمي بحث فيه عن منشأ الفتوى في الإسلام، وكيف كانت في القرون الثلاثة الأولى وفيما بعدها، وأول من قام بهذا المنصب وما قاله الفقهاء في شروط المفتي وآدابه وتغيير الفتوى بتغيير الأحوال، وغير ذلك من المسائل والفوائد، وصفحات هذه الرسالة 72 كصفحات المنار، وتطلب كسائر مؤلفات القاسمي من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر. * * * (مطبوعات الدكتور محمد أفندي عبد الحميد) طبيب مستشفى قليوب إن لضعف العلوم والفنون في بلادنا وعدم نبوغ أحد من المشتغلين بها مِنَّا أسباب أقواها وأظهرها أن أكثر طلاب العلوم عندنا لا يطلبونها لأجل العمل بها ولا لأجل أن يكونوا فيها أئمة مستقلين يحققون ويحررون، ويكتشفون ويخترعون؛ بل يتلقون بعض المبادئ، ويحفظون بعض الاصطلاحات ليؤدوا بها امتحانًا يأخذون به شهادة ينالون بها رزقًا مضمونًا من الحكومة في الأكثر ومن غير الحكومة في الأقل، ومتى وصل أحدهم إلى هذه الغاية أو يئس من الوصول إليها يترك العلم والكتب ولا يكاد يبقى عنده مما تعلمه إلا الرطانة الإفرنجية التي يكون حظه منها جذبه إلى إضاعة ما تصل إليه يده من المال في سوق الأزياء والعادات والشهوات، وجرف ما يستطيع جرفه من ثروة البلاد إلى أوربة. وأما الذين يتلقون العلوم التي لا ينال المعاش إلا بالعمل بها كالطب والهندسة؛ فإنهم في الغالب يقنعون بعد نيل الشهادة بالوظيفة والعمل الذي به الرزق، وقلما تتوجه همة أحد منهم إلى مداومة المطالعة والبحث والتأليف والترجمة لتنمو علومهم ويبرعوا في أعمالهم، ويرتقوا عن طبقة الصناع الذين لا ينفعون البلاد إلا نفعًا جزئيًّا يزول بزوالهم، إلى طبقة العلماء ا

عبر الحرب في طرابلس الغرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عِبَرُ الحرب في طرابلس الغرب نشرنا في هذا الجزء مقالة لكاتب عليم خبير، والتقرير الذي قدمه مبعوثان من طرابلس لمجلس الأمة في الآستانة بيَّنَّا فيه حالة طرابلس وتقصير وزارة حقي باشا فيما يجب من تحصينها؛ بل جناية هذه الوزارة بتجريد هذه الإيالة بل المملكة مما كان فيها من العدة والجند وجعلها عرضة لاستيلاء الأجنبي عليها، وإنشاب أظفار مطامعه فيها، ولدينا مزيد من أخبار مقدمات هذه الحرب بنوعيها: إعداد الحكومة العثمانية إياها للخروج من سلطتها، واستعداد إيطالية للاستيلاء عليها، وفي ذلك من العبرة ما يمثل لكل ذكي وغبي كيف تدول الدول، وكيف تموت وتحيا الأمم؛ نجَّانا الله. ومن وجوه العبرة بكارثة طرابلس أننا لم نجد أحدا ولم نعلم أنه يوجد أحد كان يرتاب عند إعلان الحرب في الخروج طرابلس وبنغازي من المملكة العثمانية، وكان أشد الناس يأسا منها قواد الدولة ووزراؤها حتى نقل عن ناظر الحربية، وعن مختار باشا الغازي التصريح بأن الدفاع عنها جناية، وإنما تجددت لبعض الناس الآمال بما ظهر من نجدة العرب أهل البلاد وشجاعتهم وكسرهم الجند الطلياني الجرار المنظم الكامل العدة والسلاح مرارا بمعاونة من هناك من الجند المنظم القليل العَدد والعُدد، وجله أو كله من بلاد سورية وفلسطين، فكانت الحرب سجالا، والنصر في الغالب للمعتدى عليهم حتى اضطر المعتدون إلى لزوم الثغور التي احتلوها ليكونوا تحت حماية أسطولهم، فثبت بهذا أن اليمن والخليج الفارسي لا رجاء في حمايتهما من الأعداء إلا باستعداد أهلهما للحرب بالتعليم العسكري والسلاح الجديد الكافي. ومن وجوه العبرة أن أكثر الشعوب الإسلامية قد انتدبت لمساعدة المجاهدين بالإعانات المالية وكان العرب في مصر وسورية أبسطهم يدًا، وقصر الشعب التركي الذي كان يجب أن يكون أشد الجميع غيرة وحمية ونجدة ولا سيَّما أهل الآستانة والرومللي الذين بيدهم أزمة السيادة على هذه البلاد والسلطة فيها وفي غيرها، وقد ظهر تقصير رجالهم في المحافظة عليها، بل ما هو أعظم من ذلك، وكان ينتظر من جمعية الاتحاد والترقي ذات الملايين أن تجود بمبلغ عظيم مما تكنزه من أموال العثمانيين. من هذه العبر ومن اتحاد دول أوربة كلها علينا، على ما كانت عليه من التنازع في قسمة النفوذ والامتلاك لبلادنا، نرى أننا على خطر عظيم، وأن المسألة الشرقية قد حان أوانها ولا نرى أمامنا رجالاً يتداركون الخَطْبَ؛ بل نرى التفرَّق في مجلس الأمة لا يزداد إلا شدة، ونرى زعماء الاتحاديين على ظهور خطئهم، ونفور السواد الأعظم منهم لا يزالون مستمسكين بالمحافظة على سلطتهم الرسمية، وسلطتهم الخفية غير مبالين بالخطر الذي ينذر الدولة العلية. وقد بينا رأينا في طريقة تدارك الخطر، ولا نرى أمامنا رأيًا غيره، وهو أن تسند الصدارة إلى رجل الدولة كامل باشا ويؤيده مجلس الأمة تأييدًا يعتد به؛ فقد ظهر بالتجربة أنه هو الوزير المستقل الذي تثق به الأمة، ودول أوربة عامة وإنكلترة خاصة، وإنكلترة هي ميزان سياسة أوربة وصاحبة الترجيح فيها، فإذا وثقت بحكومتنا يوشك أن تساعدها على درء الخطر وتخرجها من المأزق الذي وقعت فيه، نظن هذا ونرجوه ولا نوقن به، ومن العجب أن مكاتب جريدة العلم في الآستانة قال إن حزب الحرية والائتلاف الذي تألف في الآستانة بسعي زعيم الدستور صادق بك متفق مع سفير إنكلترة على ترشيح كامل باشا للصدارة، وإن مقابلة ملك الإنكليز لكامل باشا في سفينته ببورسعيد وحفاوته به يراد بها إظهار ميل إنكلترة إلى تقليده الوزارة. قال المكاتب هذا ليثبت به أن توسيد الصدارة إلى كامل باشا ليس من مصلحة الدولة في شيء، فإذا صح قوله فالرجاء في إنكلترة إن وثقت بحكومتنا أكبر مما نظن ، وليته يتم ولو كره العلم وزعماء الحزب الوطني كلهم الذين يدهنون الآن لجمعية الاتحاد والترقي، ويتملقون لها، ويجعلون سيئاتها حسنات، وهواها هدى منزلاً من السماء، كما كانوا يقولون في عبد الحميد أيام سلطانه وجبروته. أيها العثمانيون إن دولتنا على خطر فاتركوا الأهواء والحظوظ وكونوا إلبًا واحدًا عسى أن توفقوا لتلافي الخطر، ويا أيها المسلمون إنكم خرجتم من عهد بعيد عن صراط ربكم، وهداية دينكم، خصوصًا في تمزيق وحدتكم، وتعديد سلطتكم، وتفرق شيعكم، وكانت لكم ممالك كثيرة لم يبق منها إلى هذه السنة إلا ثلاث، فواحدة قضي عليها فيها وهي مملكة المغرب الأقصى والثانية أنشبت أظفار أوربة وبراثنها في أحشائها وهي إيران، والثالثة بُدِئَ بتقطيعِ أعضائها، ولا يعيش الرأس بغير أعضاء وهي العثمانية، فتأملوا في حالكم ومستقبلكم إن كنتم قد استيقظتم من رقدتكم، ولا تكونوا كالذين يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون. * * * جمعية الإخاء الإسلامي في بيروت تألفت هذه الجميعة في بيروت من عهد قريب لأجل التعاون على البر والتقوى والأعمال التهذيبية والاقتصادية، وبث محبة الوطن العثماني في نفوس جميع العناصر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد نشرت نظامها فرأينا أهم أحكامه أنه لا يقبل فيها من يقصر في أداء الفرائض والواجبات، أو يرتكب بعض المحرمات، وأنه يتحتم على كل عضو يدخل فيها أن يعطي العهد والميثاق باليمين على الاعتصام بحب الدين والتقوى والصلاح وحب الدولة والوطن والصدق والأمانة والإخلاص لأفراد الجمعية ومعاملة جميع الناس بالحسنى، وأنه لا يجوز الاشتغال فيها بالسياسة، وعلى كل عضو أن يدفع بشلكا فأكثر في الأسبوع لأجل ما تقوم به الجمعية من الاقتصاد والتوفير، واختير الشيخ محمود فرشوخ رئيسًا لهذه الجمعية. ووضع لها صديقنا عبد الرحيم أفندي قليلات هذا التاريخ: إن دين الإسلام دين سلام ... واعتصام بحبل رب الأنام دين عدل وحكمة واتحاد ... واقتصاد وألفة ووئام وستبدو هذي الفضائل في تا ... ريخ (جمعية الاتحاد الإسلامي) (1329) ونحن نتمنى من صميم الفؤاد أن يكون الإقبال على هذه الجمعية عظيمًا لأن القيام بها إذا انتشرت وكثر أهلها يقلل الجرائم والمنكرات والمعاصي فيستريح الناس والحكومة وترتقي البلاد بسرعة عظيمة، فما أهلك البلاد إلا الفسق والفواحش والمنكرات الناشئة من الجهل وعدم الاعتداد بالدين، وكُنَّا قد ألَّفْنَا جمعية كهذه في طرابلس الشام عند زيارتنا لها عقب إعلان الدستور، ورجونا أن يتسع نطاقها فلم يوجد رجال يقومون بأمرها؛ فعلة خيبتنا في كل شيء إنما هي فقد الرجال العاملين للمصلحة العامة. * * * مؤتمر علمي ديني في أزمير كتب إلينا من أزمير أنه تألفت فيها لجنة لأجل عقد مؤتمر إسلامي في 15 المحرم سنة 33 للبحث في الفلسفة الإسلامية والتربية والتعليم في الإسلام وأسباب ضعف المسلمين بعد أن ارتقوا في دينهم ذلك الارتقاء المدني الذي يشهد به تاريخ المدنية الشرقية والأندلسية، وتعدى أثر سعادتهم بدينهم إلى غيرهم من أهل الملل، وأرسل إلينا مؤسسو هذه اللجنة كتابًا عربيًّا بيَّنوا فيه مقصدهم ووجه الحاجة إليه، وأنهم سينشرون نتيجة بحثهم وما يكتب إليهم من أصحاب العقول الكبيرة والأفكار النيِّرة الذين كاتبتهم اللجنة في ذلك ثم طلبوا مِنَّا ما يأتي بقولهم: فنرجوكم أن تُبينوا لنا فكركم قبل التاريخ المذكور بتحرير من حضرتكم والأمل قوي أن أمثالكم يعينون المشاريع العالية وبحثكم يكون في النزاع القائم ضد الإسلامية وحكمتها وإصلاح المدارس والتكايا حتى يتسنى للإسلام أن يأتي إلى مدينة العلم من بابها، وهو نفس العلم والتربية، ومثلكم أوسع نظرًا في هذا الموضوع فنرجوكم أن تدبجوا تحريركم بأمراض أهل الإسلام وتلافيه وما هو المحتاج إليه في هذا الموضوع، إلخ. 6 ذي الحجة سنة 1329 * * * إغراء بعض كتاب الإفرنج قومه بالترك والإسلام قرأنا في جريدة المهاجر السورية التي تصدر في نيويورك من أمريكة ما يأتي (وفيه من العبرة أن جميع الإفرنج الذين نقول إنهم تركوا الدين يعلمون ديانتهم في بلاد الدولة حتى المسلمين والدولة لا تعنى بتعليم الإسلام لأهله ثم إنهم يقولون فيها ما ترى) . كتبت جريدة (المايل) مقالة سألت فيها الأمريكان ماذا نصنع بتركيا، وبالأتراك الذين يعلمون الناس الديانة بالسيف؟ ! ! ثم طلبت إلى الحكومة طرد الأتراك من بلادهم إلخ، ولم تنتشر هذه المقالة حتى قام أحد القراء ورد على الجريدة المذكورة ردًّا انتشر في الجريدة نفسها وهذا هو: إلى المحرر؛ عجبت كثيرًا لمقالة (ماذا نصنع بتركيا والأتراك؟) فأتيت بهذه الأسطر أسألكم أي حق لنا بالتداخل في شئون تلك البلاد وأهلها؟ ومن أين يحق لنا نحن أن نجبر الأتراك على وضع التوراة والتلمود مكان القرآن؟ إن تركيا تخص الأتراك وليست إيطاليا التي اغتصبت طرابلس مؤخرًا سوى لص يجب تأديبه ومعاقبته. قلتم إن الديانة لا يتعلمها الناس بالسيف ثم رأيتكم تدعون الأميركان إلى امتشاق الحسام وطرد الأتراك المسلمين من بلادهم ونشر المسيحية فيها، ألا تكونوا أنتم بذلك تستعملون السيف لتعليم الناس الديانة، ألا تستاءون أنتم إذا حاول الأتراك طرد الأميركان من بلادهم؟ والأفضل لكم أن تقولوا للشعب المسيحي أن يعمل بقول الكتاب وهو: أخرج القذى من عينك أولاً. * * * (استعانة بعض الجرائد الأوربية على تعصبها بقول الزور) كتب المستشرق الشهير (فمبري) المجري إلى جريدة وقت الروسية يكذب ما نقلته عن جريدة (بودابست هيرلات) معزوًّا إليه من التحريض على إزالة ملك المسلمين من الأرض، والقول بوجوب انقراضهم، وقال: إن ذلك الكلام مفترى عليه في تلك الجريدة المجرية لخصومة شخصية، وصرَّح بأنه صديق للترك وسائر الشعوب الإسلامية منذ خمسين سنة وأن المثل التركي يقول: الصديق القديم لا يكون عدوًّا. ولما كنت قد أشرت في بعض مقالات المسألة الشرقية إلى ما نسب إليه وجب عليَّ أن أُبَرِّئَهُ منه، وأنبه على مبلغ تعصب تلك الجريدة الكاذبة. * * * (تصحيح أغلاط في الجزء العاشر من المنار) 1- أرسل إلينا مترجم مجلة دين ومعيشت التي ناقشناها فيها في الجزء الماضي يقول: إنه قابل الترجمة التي نشرت في المنار بالأصل فوجد فرقًا في موضعين؛ أحدهما في السطر السابع من ص 769 ونص ما نشر هكذا: (ولا سيَّما بين غير المتدينين في ديار القزاق والباشقرط، فهم) وحقه أن يكون هكذا (ولا سيما بين غير المتمدنين، في ديار القزاق والباشقرط مثلاً) ، وثانيهما في السطرين الثالث والرابع من ص 770 ونص ما نشر هكذا: (سبب دخول الإنكليز مصر التي ولد فيها وتربى في قبضة الإنكليز) ، وحقها أن تكون هكذا: (سبب دخول مصر التي ولد فيها وتربى في قبضة الإنكليز) . 2 - جاء في السطر السابع من ص 782: (رئيس وزارة إيطالية) ، وصوابها (ناظر خارجية إيطالية) . 3 - في السطر السابع من ص 791 (الأصل 29) وصوابه (الأصل 30) . 4 - في السطر 18 من ص 798 (علم النفس والأخلاق) ، وصوابه زيادة (والحكمة العقلية) بين علم النفس والأخلاق، فليصحح ذلك بالقلم. هذا ما عدا أغلاط الطبع المدركة بالبداهة. * * * (حوالات المنار) المرجو أن ترسل جميع الحوالات باسم منشئ المجلة (محمد رشيد رضا) وأن لا يرسل شيء منها باسم وكيل ولا غيره، وأن تكون حوالات البريد كلها على مكتب (بوسطة مصر) دون فروعها. * * * (تأخر المنار عن موعده) تأخر صدور الجزء الماضي بسبب نقل إدارة المجلة من شارع در

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (أخذ الأثاث واللباس من أهل الكتاب) (والنفقة على الزوجة الممكنة) (س 68 - 69) من صاحب الإمضاء في مكة المكرمة. (1) ما قولكم، رضي الله عنكم، فيما عمت به البلوى في هذه الأيام من اتخاذ المسلمين نحو اللباس وأثاث البيت من النصارى واليهود، ولم يتمكن عليهم (كذا) تجنبه إلا بعسرة شديدة، وهل هو جائز أم حرام أم كيف الحال؟ فإن قلتم بالجواز فما المراد من هذا الحديث الشريف: (من تشبه بقوم فهو منهم) فإن قلتم بالتحريم فذاك، أفتونا فلكم الأجر والثواب. (2) ما قولكم - عز قدركم - في امرأة لا تمكن نفسها على الزوج بأن لا تعرضها عليه، كأن لا تقول: (إني مسلمة نفسي إليك) ولكنها تطيع لزوجها بأن تجيب أمره الذي يجب عليها، هل تجب لها النفقة عليه أم لا؟ فإن قلتم بالوجوب، فما تقولون في عبارة فتح القريب ونصها: وتجب النفقة على الزوجة الممكنة. قال العلامة الباجوري: بأن عرضت نفسها عليه كأن تقول: (إني مسلمة نفسي إليك) فإن قلتم بعدمه فما قولكم في إفتاء بعض العلماء بالوجوب؛ لأن إجابة أمر الزوج الذي يجب عليها عين التمكين، ولسان الحال أفصح من لسان المقال، بينوا لي بيانًا واضحًا، هذا وأسأل الله أن يعطيكم الفضل والرضوان، بجاه سيد ولد عدنان، اللهم آمين. ... ... ... مكة المؤرخ في 14 القعدة سنة 1329 هجرية ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علوي (تشبه المسلمين بغيرهم ومخالفتهم لهم) (ج) اتخاذ اللباس والأثاث من اليهود والنصارى ظاهر لفظ السؤال؛ أن المراد اتخاذ ذلك من مصنوعاتهم واشتراؤه منهم، ولا أعلم أن هذا كان موضع خلاف بين الفقهاء، وما زال الناس سلفًا وخلفًا يشترون ما يحتاجون إليه من مصنوعات أهل الكتاب وغيرهم، من تجارهم وغير تجارهم، وقرينة الحال وإيراد حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) ، يدلان على أن مراد السائل باتخاذ اللباس والأثاث منهم هو أن يلبس المسلم مثل لبساهم، ويستعمل مثل أوانيهم فيكون متشبهًا بهم، وإن كان ذلك اللباس والأثاث من صنع المسلمين. وهذه المسألة قد كثر السؤال عنها من جزائر جاوه والملايو؛ ولعل السائل منهم، وأجبنا عنها مرارًا كثيرة في عدة مجلدات من المنار. وبينا أن الإسلام لم يفرض على المسلمين زيًّا مخصوصًا لذاته ولا حرم عليهم زيًّا مخصوصًا لذاته، وأنه ثبت في السنة الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس الجبة الرومية والطيالسة الكسروية. ولم يثبت عنه ولا عن خلفائه أنهم كانوا يأمرون من يدخلون في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس أن يغيروا أزياءهم، ولكن الذين كانوا يدخلون في الإسلام كانوا يتبعون المسلمين حتى في أزيائهم وعاداتهم. أما مسألة تشبه المسلمين بغيرهم؛ فإن كان في أمر دينهم أو ما حرمه ديننا وإن لم يبحه دينهم فلا شك ولا خلاف في حظره، بل صرح بعض الفقهاء بأن من تشبه بهم في أمر دينهم وشعائرهم بحيث يظن أنه منهم يعد مرتدًّا، ويجري عليه حكم المرتد قضاء. وإن كان هذا في أمور الدنيا المباحة في نفسها؛ كالأزياء والعادات فهو مكروه، ولكنه إذا فعل مثل فعلهم ولبس مثل لبسهم غير قاصد للتشبه بهم، فلا يسمى متشبهًا، ولا يكون منه ذلك مكروهًا. هذا ملخص ما حرره الفقهاء ومن أخذ الحكم من حديث: (من تشبه بقوم فهو منهم) جزم بأن القصد في المحاكاة داخل في معنى التشبه؛ لأن صيغة التفعل تدل على ذلك. وقد تكلمنا على هذا الحديث في غير موضع من المنار، وبينا في ص 61 من المجلد الثالث عشر أن ابن حبان قد صححه، وكان يتساهل في التصحيح، وأن غيره ضعفه، وأن معناه من تكلف أن يكون شبيهًا بقوم في شيء بتكرار محاكاتهم فيه؛ انتهى التشبه به إلى أن يكون مثلهم في ذلك الشيء، وهذا من قبيل حديث: (إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم) رواه الطبراني، ولذلك قالوا: إن التشبه بالكرام فلاح والحديث لا يدل على ذم التشبه في كل شيء، ولا على مدحه في كل شيء، ولا على أن المتشبه بقوم في شيء يكون مثلهم في جميع الأشياء. لو لم يكن في هذه المسألة إلا هذا الحديث الذي جعله عبيد العادات العتيقة هجيراهم عند مقاومة كل جديد؛ لسهل على عبيد العادات الحديثة الرد عليهم والاحتجاج بما هو أحص منه متنًا وسندًا من لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - لزي مشركي قومه في الغالب، وزي النصارى والمجوس في بعض الأحوال، ولأمكنهم أن يزيدوا على ذلك مثل قولهم: إن الدولة العثمانية لو لم تأخذ عن أهل أوربة هذا السلاح الجديد والنظام العسكري الحديث وتتشبه بهم في أعمال الحرب؛ لسهل على حكومة صغيرة كانت بلادها ولاية عثمانية كالبلغار أن تدمرها وتأخذ عاصمتها في أسبوع واحد، كما سهل على الأوربيين أخذ أكثر الممالك الإسلامية التي لم تتشبه بهم في ذلك أو جميعها. ولكن وراء ما نسمعه من هؤلاء وأولئك من العلم النقلي والعقلي والاجتماعي المؤيد بالاختبار ما لم تصل إليه روايتهم، ولم تسم إليه درايتهم. ثبت الهدي النبوي بمخالفة المسلمين لغيرهم فيما يتعلق بأمر الدين والدنيا؛ كحديث: (صوموا عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يومًا وبعده يومًا) رواه أحمد والبيهقي في سننه بسند صحيح، وكان أمر بصومه وحده، فقيل له: إن اليهود تصومه؛ فأمر بمخالفتهم بالزيادة، كما أمر بمخالفتهم بتغير الشيب وكانوا لا يخضبون. رواه الشيخان وغيرهما، وخالفهم في سدل الشعر، فكان يفرق شعره (كما ثبت في الشمائل) وكتب عمر - رضي الله عنه - إلى عامله في بلاد العجم عتبة بن فرقد ينهاه ومن معه عن زي الأعاجم. والحكمة في هذه المخالفة أن يكون للأمة الإسلامية التي كانت تتكون في ذلك العهد مقومات ومشخصات ذاتية تمتاز بها عن سائر الأمم، فتجعل نفسها تابعة لا متبوعة وإمامًا لا مقلدًا. وأن لا تأخذ عن غيرها شيئًا لأن غيرها يفعله؛ بل تأخذ ما تراه نافعًا أخذ العاقل المستقل الذي يستعمل عقله وعلمه في عمله، ولا يكون إمعًا يتبع غيره حذو النعل للنعل الحكمة ضالة المؤمن. ولو اتبع كل جيش من الصحابة فتح بلادًا لعادات أهلها وأزيائهم لفني فيهم، ولكن المسلمين على قلتهم كانوا يجذبون الأمم باستقلالهم إلى أتباعهم، حتى انتشر الدين الإسلامي ولغته في العالم سريعًا. ثم كان من شؤم التقليد الذي أصبنا به أن نتقل جماهير المسلمين في هذه الأزمنة من التقليد في الدين والعلم إلى التقليد في العادات، حتى غلبت عليهم عادات الأمم الأخرى فوهت قوتهم، وسحلت مرائرهم، وصاروا عالة على غيرهم، فأين نحن اليوم من حكمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين زينوا له في الشام أن يظهر بمظهر العظمة والزي الرائع لأهل البلاد الذين تعودوا أن يروا حكامهم كذلك، إذ قال: إنما جئنا لنعلمهم كيف نحكمهم لا لنتعلم منهم كيف يُحكَمون. إننا أسهبنا في هذه المسألة في كتابنا (الحكمة الشرعية) الذي هو أول كتاب ألفناه، ونحن في طور الطلب والتحصيل، وفرقنا هنالك بين حكم الأزياء في نفسها، إذا تزيّا بها الأفراد لحاجتهم إليها، وبين تشبه الأمة بغيرها، وما فيه من المضار الاجتماعية والسياسية، وكذا بين اقتباس الفنون والصناعات الحربية والعمرانية عن الإفرنج، وبين التشبه بهم في عاداتهم وأزيائهم، وما في الأول من النفع الذي لا نحيا بدونه، وما في الثاني من الضرر الذي يحل جامعتنا، ويفسد كياننا، على أننا مفتونون بالضار معرضون عن النافع، ونقلنا في العدد 29 من سنة المنار الأولى نبذة في بيان ضرر الثاني أولها: (إذا نظرنا إلى التقليد والتشبه من طرف السياسة تجلى لنا أن الصواب امتناع أمتنا عن التشبه أو التقليد لغيرها من الأمم في الأزياء والعاد (جمع عادة) ، وكل ما لا فائدة فيه ولاسيما المناصبين والمحادين لنا) .. إلخ، فليراجعه من شاء في ص 551 من الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول. ولو أردنا أن نبين هذه المسألة بالتفصيل التام، لاحتجنا إلى تأليف مجلد كبير أهم مباحثه؛ ما ورد في الكتاب والسنة، وعمل الصحابة من النصوص والأفعال في ذلك، وما أخذه المسلمون عن غيرهم في الصدر الأول، وما تحاموه من ذلك بقصد المخالفة لغيرهم لتكوين جامعتهم، وما يفعله المسلمون في هذه الأزمنة، وما يتركونه من ذلك اتباعًا للهوى أو العادة لا للمصلحة ولا للشرع، وإن ادعى بعضهم اتباعه فيه. إن النصوص والمسائل التي تتعلق بالتشبه وعللها وحكمها، تختلف باختلاف المنافع والمضار والمقاصد. وقد ألف ابن تيمية فيها كتابًا كبيرًا سماه: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) توسع فيه ببحث مشاركة المسلمين لغيرهم في أعيادهم، وشدد في ذلك بالدليل والبرهان، وناهيك بسعة اطلاعه ودقة فهمه، ومع هذا تمكن أن يزاد ويستدرك عليه، ولكن لكل مقام مقالاً، ولكل زمن مصالح وأحوالاً، وما يعقلها إلا العالمون المستقلون، وإن من موانع العقل والفهم أن تجعل المسألة دينية تعبدية، وما هي إلا من المصالح الاجتماعية السياسية، فلا نجمد فيها جمود بعض المغاربة الذين تحرجوا من زيّ الجند الأوربي الذي يتوقف على مثله إتقان الحركات والأعمال العسكرية التي تعد من أعظم أسباب تفوق جند على جند، ولا نغلو غلو بعض المشارقة الذين يقلدون الأوربيين في كل زي تقليدًا أعمى من غير حاجة إليه، كالحازقين الذين يلبسون الثياب الضيقة الضاغطة التي تعوقهم عن العبادة والحركة، ولا هي من أسباب الصحة ولا الراحة في بلادهم الحارة، بل نتأمل فيما عند غيرنا من أمثال هذه المستحدثات الدنيوية، فما وجدناه ضارًا بأجسادنا أو بثروتنا أو بآدابنا اجتنبناه ألبتة ونجتنب أيضًا ما لا يضر ولا ينفع، وما كان ضره أكبر من نفعه. وأما ما وجدناه نافعًا نفعًا لا ضرر معه أو معه ضرر قليل يزيد عليه ضرر تركه وإهماله فإننا نقتبسه لا بقصد التشبه والتقليد، بل بقصد النفع الذي ثبت عندنا، كما فعل النبي- صلى الله عليه وسلم - في اقتباس حفر الخندق من الفرس، ونجتهد مع هذا في جعله أحسن مما عليه غيرنا أو مخالفًا له نوعًا ما من المخالفة التي تكون عنوان استقلالنا وتميزنا، وسدًا دون فنائنا في غيرنا من الأمم. أنا أعتقد أن تقليد المسلمين في الآستانة ومصر وغيرهما للأوربيين، وتحريهم التشبه بهم في عاداتهم وأزيائهم، قد كان مفسدة من المفاسد التي أضعفت جامعة الأمة، وراخت عقدتها، وأوهنت أخلاقها، وجرفت ثروتها. وترى هذه المفاسد على أشدها فيمن تعلموا لغات الإفرنج، وولعوا بزيارة أوروبة، فإن ما يبذله المصريون منا في أوربة كل عام على الشهوات واللذات والزينة والقمار يكفي لتعميم التربية الملية والتعليم النافع في القطر المصري كله؛ ومنه الفنون التي يجب أن تقتبس من أوربة لإحياء الصناعة والتجارة، وإننا نرى الشاب أو الكهل منا يترك زيه الوطني ويستبدل به الزي الإفرنجي ما عدا القبعة (البرنيطة) التي يلبسونها في أوروبة فقط؛ لأجل أن يأمن الانتقاد إذا هو جلس في الحانات العامة لمعاقرة الخمر، أو دخل مواخير البغايا لأجل الفسق، ونرى أن لابسي هذه الأزياء تضعف رابطتهم بلابسي الأزياء الوطنية الأولى، وتقل ألفتهم وأنسهم بهم، ونسمع منهم من انتقاد بعضهم على بعض، كما نسمع من المتغايرين في الجنس أو الملة أو الوطن، ومن أغرب ضروب هذه التفرقة أن المتخرجين في المدارس العليا؛ لم يقبلوا أن يكون المتخرجون في دار العلوم (مدرسة المعلمين العربية (أعضاء في ناديهم، عندما أسسوه وهم أساتذتهم ومعلموهم،

مناظرة عالم مسلم لدعاة البروتستانت في بغداد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة عالم مسلم لدعاة البروتستانت في بغداد تنشر المجلات الدينية التي يصدرها دعاة النصرانية مناظرات خيالية، يصورون وقوعها بين بعض المسلمين وبعض النصارى، يدعون فيها أن المسلم يذعن لكل ما يقوله له النصراني، فلا يكون إلا محجوجًا في كل مسألة، ومنها مناظرة رأيتها في هذه الأيام منشورة في مجلة الشرق والغرب، ادعى فيها النصراني أن القرآن فرض العقاب أي الدنيوي على المرتد والحبس على المرتدة! وأجاز المسلم ذلك وقبله، وهو لا أصل له، وها نحن أولاء ننشر لهم مناظرة حقيقية بين عالم مسلم مشهور وهو السيد هبة الدين صاحب مجلة العلم في النجف وبين قسوسهم في بغداد، وهو الذي اختار نشرها في المنار على نشرها في مجلته؛ لأن المنار كما قال أوسع انتشارًا، وهذا نصها: (بحثنا مع الدعاة البروتستانتيين. حفلة أُنْس مع رفقة فضلاء) قضينا حزيران (يونيو) هذه السنة في مدينة السلام، نتجول في محافل فضلائها الأعلام، نستفيد من موائد فوائدهم، ونستأنس من طيب أخلاقهم وعوائدهم، ومن جملة الأندية العلمية الدينية أو الحفلات الأنسية الودادية، حفلتان شريفتان اجتمعنا فيهما بالفضلاء المبشرين الفلاسفة الدكاترة دعاة البروتستانتية النصرانية المشهورين بطبيب الأخلاق والتقدم في الطب العملي، والروحي الملكوتي، وهم حضرة القس بيسي وينسنت بويس [1] والدكتور الكبير جونس [2] وفضيلة داود فتو أفندي البغدادي والدكتور جورج ويلديل ستانلي [3] . وكان معنا في المحضر بعض البغداديين، وجمع من أجلاء النجف الأشرف من العائلة الجليلة الجواهرية وغيرهم. جرت في ذينك المحفلين الجليلين محاورات أدبية، وملاطفات ودادية، انتهت بنا إلى محادثة دينية فلسفية، نتلو خلاصتها لمن ألقى سمعه طلبًا لتعميم الفائدة وتمحيص الحقيقة. (تقدس الإنجيل) قلت للفاضل داود أفندي: ما تلك بيمينك؟ قال: الكتاب المقدس. فقلت: ما المقصود من تقدسه؟ قال: إنه منزه من كل كذب وخطأ وشبهة. فقلت: من جمعه وألفه؟ قال: الحواريون: متى ومرقس ولوقا ويوحنا، فقلت: هل كان هؤلاء مقدسين في أنفسهم؟ قال: كلا. ليس في العالمين مقدس غير سيدنا المسيح عليه السلام. فقلت: إذا كانوا غير مقدسين عن الأخطاء والكذب، كيف يصير ما ألفوه مقدسًا عنهم، أم كيف يطمئن أحد بتقدس مجموعة يحتمل الخطأ والكذب في جامعها؟ قال: إن روح القدس موجود في هؤلاء فيعصمهم ويقدسهم. قلت: من أين تعلم بوجوده فيهم؟ وكيف عرف الناس ذلك؟ وبأي سبب اختصوا بحلول تلك الروح فيهم دون البرية؟ قال: إن روح القدس يملأ كل إنسان عمومًا ولا خصوصية له بهؤلاء فقط. قلت: حتى الوثنيين والمسلمين وغيرهم؟ قال: نعم.. وهو الذي يهديهم إلى الخير ويحذرهم عن الشر. فقلت: تختلج في ضميري ها هنا مشكلات: 1- إنك قد قلت: ليس في العالم مقدس غير المسيح عليه السلام، والآن تقول جميع من في الأرض مقدس، وهذا تناقض في القول. 2 - إن روح القدس (الذي بنيتم على أنه يقدس من حل فيه) ، لو أصبح موجودًا في كل إنسان عمومًا كما أفدت لزم أن تصحح كل متناقضين، وتصدق كل أمرين متنافيين؛ لأن القائل بكل منهما بشر حل روح القدس فيه، فلو اعتقدت التوحيد في الله - سبحانه - وبرهنت عليه، واعتقد غيري الشرك فيه تعالى واستدل عليه، وجب أن تصحح كلا الاعتقادين وتصدقهما جميعًا؛ لأن فينا معًا الروح القدس (المستوجب لتقدس مظهره) وبديهة العقل؛ كإجماع العقلاء قاضية ببطلان هذه المسألة. 3 - لو صح وجود روح القدس في كل إنسان عمومًا لزم من صحة هذه القضية فساد نفسها، وكل ما يلزم من وجوده عدمه أو من صحته فساده أو من إثباته نفيه فهو باطل مستحيل، ألا ترى أنك لو أيقنت بوجود روح القدس في كل إنسان، وأنه يعصم من وجد فيه عن الخطأ، لزمك أن تعتقد بأنني (المخاطب لك) أيضًا معصوم بحلول روح القدس في باطني، والحالة أنني مثلاً أعتقد بعدم وجود روح القدس في كل إنسان، أو أنه لا يعصم من حل فيه، فيلزمك أن تعتقد بصحة جميع ما أراه، ومن جملة ما أراه فساد تلك القضية التي صححتها أنت، فقتلت القضية نفسها.. (مسرة في الجميع كأنهم استظرفوا هذا الكلام) . ثم قلت (4) إنكم معنا تعتبرون (ولا شك) الصدق والكذب في المحاولات، وتقولون: هذا كاذب أو مبطل، وهذا صادق أو محقن، وتتحرون العلائم والأمارات فيهما، فلو كان الناس كلهم مقدسين بروح القدس لم يبق موقع للتحري، ولغت أكثر الأمور أو خالفتم فطرة الناس وجبلتكم، ولكان الإسلام حقًّا والقرآن صدقًا. قال: هذه مسألة فلسفية طويلة. (بشرى الائتلاف، في معنى قولهم المسيح ابن الله) تذاكرنا في نسب المسيح عليه السلام المذكور في الإنجيل، وفي آخره ابن فلان ابن آدم ابن الله. فقلت: كلمة (ابن الله) هاهنا صفة لآدم عليه السلام أو لعيسى عليه السلام مع كثرة الفواصل؟ فقال داود أفندي: إنما هي صفة آدم عليه السلام. قلت: كيف يكون آدم ابن الله؟ قال: إذ لم يكن له أب جسماني، وإنما خلق بقدرة الله ومشيئته. فقلت: لم لا تقولون في عيسى عليه السلام أنه ابن الله بهذا المعنى؟ قال: بلى نقول فيه أيضًا بهذا المعنى لا غير. قلت: إذن توافقتم مع المسلمين في المعنى واختلفتم في اللفظ؛ إذ المسلمون أيضًا يعتقدون في آدم وفي المسيح أنهما مخلوقان من أمر الله وبقدرته بلا انتساب منهما إلى أب جسماني، ويستدلون بما في القرآن العظيم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} (آل عمران: 59) .. إلخ. نعم اختلفتما من جهة أنكم تسمونه (ابن الله) فهذه الملاحظة، والمسلمون يتنزهون من هذه الكلمة تقديسًا لله تعالى عن شوائب المجسمة، ويقولون: عيسى روح الله وكلمته، فاتفقتم معهم في الجوهر في أمر عرضي لا أهمية فيه. (أساس الطب التجربة) قال. د. (جونس) : هل عنكم في النجف أطباء؟ قلت: نعم.. كثيرون. قال: يحكمون بالطب الجديد؟ قلت: فيهم من اشتغل بالطب الجديد، وهو موظف من الحكومة المحلية.. ولكن مسلك الأكثر منهم الطب القديم. قال: مسلكهم مسلك العجائز والبدو؛ يعالجون المرضى بالكي ونحوه. فقلت: أساس الطب ومبناه هو التجربة، فإذا جرب الناس عملاً علاجيًّا وعهدوا منه الفائدة العمومية دائمًا، فلا لوم عليهم إذا رجعوا إليه عند مسيس الحاجة قال: ليست التجربة مبنى الطب وأساسه، بل العلم هو أساس الطب. فقلت: التجاريب تهدي الناس إلى معرفة الضار والنافع، والعلم يظهر لهم علة المضرة والمنفعة، فالتجربة تقضي مثلاً بضرر المحموم إذا اغتسل بماء بارد والمفكرة تشتغل بتعليل ذلك، فيظهر العلم سره وأن برودة الماء تسد مسام البدن ومنافذ الأبخرة، فتحتبس في الباطن فيتضرر المحموم منه، فالتجربة أساس الحكم والتعليل، التجربة طب سطحي والعلم يكسوه فلسفة..، التجربة من مبادئ حصول العلم.. التجربة تجمع الأشباه والنظائر، فتمهد السبيل لوصول العلم إلى الحكم الكلي، والناموس العام. (هل المسيح عليه السلام واسطة لخلق العالم؟) قال د. (جونس) في ضمن محادثته: (إن الرب هو المسيح.. كذا..) فقلت: كيف يكون المسيح عليه السلام ربًّا؟ قال: لأنه خلق الأشياء كلها. قلت: فهل كان في نفسه مخلوقًا مع ذلك أم لا؟ قال: نعم.. كان مخلوقًا من الأب تعالى. قلت: كان إذن واسطة في خلق الأشياء بيننا وبين المولى سبحانه وتعالى. قال: نعم. فقلت: لم لم يخلق الله الأشياء بنفسه حتى احتاج إلى توسطه؟ قال: لأن الله مقدس من كل جهة، والخلق كلهم غارقون في بحر الخطأ والذنوب، فكيف يتلطف عليهم الله ويجود عليهم بالوجود من دون واسطة. قلت: تصورت من هذا الكلام إشكاليات متعددة. (1) كيف غرقوا في بحر الخطأ قبل أن يوجدوا؟ (2) إن المسيح ليس بأسخى من الله، ولا هو أرأف منه بالعباد، حتى يحتاج الناس إليه في عطوفة الله بهم وإفاضته عليهم. (3) إن تقدس الله لو عد مانعًا من تعلق فيضه بالناس، حيث إنهم غير مقدسين (من باب عدم المناسبة بين العلة والمعلول) فكيف جاز على المسيح أن يخلق الخلق؛ إذ المانع سواء أكان من طرفه (وهو التقدس) أو من طرفنا (وهو عدم التقدس) موجود على كل حال؛ بسبب عدم المناسبة المذكورة أو لنحتاج إلى واسطة أخرى بيننا وبينه، فيعود الكلام ويتسلسل، فالتفت. د. (جونس) إلى. د (جورج ويلديل ستانلي) وتكالما بالإنكليزية مدة ثم ساد الجميع سكوت. (الحديث اللطيف) إني قلت بعد ذلك: إن في مجمعنا من يقولون: إن الواسطة غير منحصرة بحضرة المسيح عليه السلام أي: المقدسون في البرية كثيرون ومنهم محمد نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، ويثبت هؤلاء تقدسه بمثل ما تثبتون به التقدس لعيسى عليه السلام، فلماذا لا يجوز أن يتوسط محمد صلى الله عليه وسلم بيننا وبين المولى سبحانه وتعالى في الوجود وفي كل جود؟ قال متبسمًا: كيف يجوز ذلك، وقد خلق محمد بعد المسيح؟ فقلت: وقد جاء عيسى بعد آدم وجمهور الأنبياء، فكيف جاز أن يتوسط لهم في الخلق؟ قال: توسط المسيح للخلق في عالم الملكوت، وجاء بعدهم في عالم الناسوت فقلت: يقولون في محمد أيضًا مثل ذلك، وإنه تقدم في الخلق على الكل في عالم الملكوت فتوسط لهم، ثم جاء في عالم الناسوت بعد الرسل جميعًا. (الشر في المأكول أو في آكله) قال. د. (جونس) : يتذاكر الناس أن الشيء الفلاني شر، والحالة أن الشر من الإنسان المستعمل لذلك الشيء لا من نفس ذلك الشيء. مثلاً: من أكل شيئًا فأصابه ضرر منه، تراه يشتكي من ذلك الشيء، مع أنه لا شر فيه وإنما الشر في نفس الآكل؛ لأن الإنسان هو صاحب الخطيئة لا غيره. فقلت: ههنا جهات لفظية يجب أن تنقشع غيومها، حتى لا تختلط الحقائق بسببها. قال: وما تلك الجهات؟ قلت: تفرقة الشر عن الضرر الذي تتصف به الأدوية والأشياء، فإن الضرر في العرف أمر منتزع من خاصية في الشيء تؤثر أثرًا يخالف الصحة كالسم، أو يخالف الهيئة الاجتماعية كالحسد والظلم، و. و.، ويقابله النفع وهو أمر منتزع من خاصية في الشيء تؤثر أثرًا يوافق الصحة كالماء، أو يوافق نظام الاجتماع كالعدل والإحسان و ... و ... وأما الشر فقد يستعمل ويراد به الضرر، وقد يستعمل ويراد منه إنسان فاسد الأخلاق وله استعمالات أخر. وإني ما عرفت المقصود منه في كلامكم؛ ولذلك ما بادرت إلى الحكم عليه بشيء، فهل تقصدون من الشر الضرر أو غيره؟ قال: الضرر. قلت: لا يشك أحد في أن الأشياء فيها بأنفسها خواص طبيعية تؤثر من ذاتها ضررًا أو نفعًا، فالنار محرقة، والشمس مشرقة، والسم قتال، والماء رطب، والزيت دسم، فهذه الخواص موجودة لهذه الأشياء سواء استعملها أحد أو لا، وسواء تعلقت بجماد أو نبات أو حيوان أو إنسان صغير أو كبير مخطئ أو مقدس. ثم إنكم في طبكم ومطبكم تتذاكرون على الدوام في خواص الأشياء، وتسمون منها ضارًّا ومنها نافعًا من دون نظرة إلى الإنسان المستعمل لها. فقال: المقصود من الشر الخطيئة (كأنه استدرك) . قلت: نعم.. إذا كان المراد من الشر الخطيئة، لم يكن في العالم شيء ذو خطيئة من الجماد والنبات والحيوان غير الإنسان؛ لأن الخطيئة تتوقف على عصيان أحكام المولى، والعصيان فرع ثبوت أحكامه وتكاليفه ولا تكليف إلا على الإنسان القادر، فلا يكن لغيره خطيئة. لكنني أذكر منكم كلامًا قد سبق؛ وهو أن الإنسان عمومًا مقدس بوجود روح القدس فيه، فمن أين تكون له خطيئة؟ (سكوت ساد الجميع) . (رجعة المهدي ونزول عيسى عليه السلام) قال. د. (جونس) : إن الشيعة يعتقدون برجوع المهدي وظهوره

المسألة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألة الشرقية (6) (بعض ما يجب من العبرة في الحالة الحاضرة) قد أتى علينا حين من الدهر ونحن في غمة من أمرنا، وأوربة تتصرف فينا كما يتصرف الأوصياء الخونة في كفالة المعتوهين والقاصرين عن درجة الرشد، لا همَّ لهم إلا بقاء الحجر عليهم؛ ليتمتعوا بأموالهم وما ورثوا من آبائهم وأجدادهم. فتنت أوربة ملوكنا وأمراءنا بجميع فتن السياسة. وزينت لهم تقليدهم في زخرف مدنيتها، وأوهمتهم أنها تهديهم إلى سبيل الرشاد التي يصلون بسلوكها إلى ما وصلت هي إليه؛ من المدنية الجميلة التي تدهش الأبصار وتفتن الألباب، حتى سلبت ممالكهم، وثلت عروشهم، فمنهم من ذهب من سلطانه العين والأثر، ومنهم من بقي له الاسم والرسم دون التصرف والحكم، ولم يعتبر اللاحق منهم بما حل بالسابق، وأنى لهم العبرة وهم بين قاصر العقل وفاقد الرشد، وقد عمهم كلهم الجهل، وحيل بينهم وبين ما يجب عليهم من العلم. فتنت أوربة ملوكنا وأمراءنا، ولم تقصر في فتنة شعوبنا، فقد هاجمتنا بجنود من القسوس والمعلمين، والتجار والسماسرة والمرابين، والبغايا (المومسات) والقوادين والقوادات، وأصحاب الملاهي والحانات، فحاربتنا في عقائدنا الدينية، وفي مقوماتنا ومشخصاتنا الملية، وفي آدابنا وعادتنا القومية، وفي رزقنا وثروتنا العمومية، تريد بهذا كله الفتح والاستعمار باسم المدنية. راجت في سوقنا كل هذه الفتن، فحلت روابطنا، وأضعفت جامعتنا، ومزقت نسيج وحدتنا، واغتالت معظم ثروتنا، ونحن نتوهم أننا نرقي بذلك أنفسنا ويظن الذين تفرنجوا منا أنهم صاروا أرقى من سائرنا عقولاً، وأعلى آدابًا، وأصلح أعمالاً، حتى إن بعض أحداث المدارس منهم يرون أنفسهم بتأثير فتنة التفرنج أنهم أرقى من سلفنا الصالح الذين فتحوا الممالك ومصروا الأمصار، ودونوا العلوم، وبنوا لنا ذلك المجد الذي ساعدنا أعداءنا على هدمه منذ قرون ولما ينهدم كله، ألا إننا قوم جاهلون مخدوعون، نخرب بيوتنا بأيدينا، وأيدي أولئك الفاتحين المخادعين لنا، ولا ندري ماذا نفعل. كان سفراء أوربا ووكلاؤها، وقسوسها وعلماؤها، وتجارها ومومساتها، هم القواد الفاتحين، والملوك السائدين، الذين ما دخلوا قرية من ممالكنا إلا أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذله وكذلك يفعلون، ومن عجائب جهلنا وغفلتنا أن أمرنا معهم لا يزال غمه علينا، ولا نزال نرجو الخير منهم، والترقي بتعلم لغاتهم، واتباع عاداتهم. ما صخت العبر آذاننا، وخطفت أبصارنا، وقرعت أذهاننا، كما فعلت في هذا العام الذي تواطأت فيه أوربة على مرأى منا ومسمع، متفقة على ابتلاع الممالك الثلاث التي كانت باقيه لنا، وهي الدولة المغربية والدولة الإيرانية والدولة العثمانية، بدأت أوربة بالجناحين (إيران ومراكش) فلم تر في المجموع الإسلامي شعور ألم يذكر، ولا حركة دفاع تخشى، فتجرأت على القلب. وإذا جاز أن يعيش من قطعت أطرافه كما فعلت أوربة بجسم ملكنا، فهل يجوز أن يعيش الجسم بغير قلب، فمتى نفيق، ومتى نشعر؟ وصل البغي والعدوان علينا إلى هذه الدرجة، ولم تزل الغشاوة كلها عن أبصارنا، ولا الرين عن قلوبنا، ولا يزال في آذاننا وقر، وبيننا وبين الحقيقة حجاب، ولا تزال أوربة تنظر إلينا نظرة الوصي القوي المنة الشديد الطمع إلى الغلام السفيه، وهي ترجو أن لا تحمل في الإجهاز علينا كبير عناء ببركة اتحادها وتخاذلنا، وحزمها وتواكلنا، ثم خلابة من ربت لنا من تلاميذها الذين يزينون لنا أن مدنيتنا لا تتحقق إلا بتقطيع أوصال جامعتنا الملية الأولى، وصيرورة كل عضو منا جسدًا كاملاً باستقلال كل قطر من أقطارنا بجنسية جديدة، وبراءته من سائر الأقطار؛ إرضاء لأوربة التي أرشدتنا إلى هذه الحياة الجديدة وحببتها إلى تلاميذها منا، وبغضت إليهم رابطتنا الملية الأولى؛ لأنها من التعصب المذموم في عرف مدنيتها الشريفة المبنية بزعمها على حب الإنسانية وإرادة الخير لجميع البشر. أفيقوا أفيقوا أيها المساكين المخدوعون، وانظروا إلى ما تفعل أوربة بكم، إنها ما قطعتكم أفلاذًا لتمدن كل واحدة منكم على حدتها حبًّا في الإنسانية، وإنما قطعتكم كما تقطع الحمل المشويّ لتأكله لقمة بعد لقمة، لستم بأعلم بحب هؤلاء القوم للإنسانية من فيلسوفهم الأكبر الحكيم هربرت سبنسر، الذي نصح لليابانيين بأن لا يتحدوا بقومه الإنكليز، ولا يجعلوا لهم موطئًا في بلادهم؛ لئلا يفسدوا عليهم أمرهم، ويلتهموا ثروتهم، ويزيلوا ملكهم من الأرض، أو يجعلوه أثرًا بعد عين، ليس لهم منه إلا الاسم. اعلموا أن أمر أوربة كله في أيدي رجال السياسة ورجال المال، وهؤلاء كلهم من أصحاب الأثرة والبغي، لا يعرفون الحق إلا للقوة القاهرة، وكل ما يتشدقون به من ألفاظ الإنسانية والمدنية والحق والعدل والقانون وما يشاكل هذه الكلمات؛ فهو من خدعة الحرب وغش التجارة، ومن يوجد في أوربة من أهل الفضيلة ومحبي الحق والعدل مخدوعون مثلكم بأكاذيب السياسيين والماليين، ودعاة الدين الذين ينفرونهم من الشرق والشرقيين والإسلام والمسلمين، فرجاؤنا في استقلالهم أن ينفعنا قليل، ليس عليه تعويل. لماذا تقوم قيامة الشعوب الأوربية كلها إذا حارب العثمانيون حكومة من حكومات البلقان المسيحية، أو حاولوا إخماد ثورة كتلك الثورة الأرمنية، لماذا تستنفر تلك الشعوب حكوماتها على دولتنا، وتساعدها بالمال والتطوع لمحاربتنا، ولماذا نراها وادعة ساكنة، وقد بغت إيطالية واعتدت علينا، وتنظر بعين الرضا والارتياح إلى أسطولها وهو يمطر على ولاية من ولايتنا قذائفة الجهنمية؟ وهذا مع إجماعها على بغي إيطالية واحتقارها للقوانين ونكثها للعهود الدولية (هذا وما كيف لو) هذا وما جاءت إيطالية بشبه من الشبه التي اعتادت أوربة أن تدلي بها إلى شعوبها، ليوافقوها على الاعتداء علينا، كإنقاذ المسيحيين من تعصب المسلمين أو منع الثورات، وتأييد عروش الحكومات، فكيف كان يكون تأييدهم لها لو جاءت بمثل ذلك. ألا إن الخطب كبير والبلاء عظيم، وكل من ظهر من تأثيره فينا فهو قليل بالنسبة إلى ما يراد به منا، ماذا عملنا، جمعنا شيئًا من الإعانة بمصر لإنقاذ جيراننا وإخواننا أهل طرابلس من براثن الموت مصابرة أو صبرًا، ولكن لما يبلغ ما دفعه العشرات والمِئِين من أمرائنا وسرواتنا ومثرينا نصف ما دفعه غني واحد من أغنيائنا الذين أفسدهم التفرنج في هذه السنة وحدها لمقامري أوربة ومومساتها؟ إن الجرائد الأوربية التي تصدر عندنا تنفرنا من إعانة دولتنا والعطف عليها، وتظهر أنها قد استكبرت منا ما تصدينا له، وهي إنما تسخر منا وتستصغر ما تظهر أنها تستكبره، وتعرف حقيقة ما تظهر أنها تستنكره، وترى كدولها أننا نعمل عمل الصغار، فهي كدولها تعبث بنا كما يعبث الرجال بالأطفال {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) . إن الأمة التي تعرف قيمة الحياة هي التي تحتقر الحياة والمال، في سبيل الشرف والاستقلال، فيجب أن تعرف أوربة منا في مثل هذه الحال أننا أمة واحدة وأننا لا نحمل الضغط إلا إلى درجة معينة، وأنها إذا تجاوزت بنا تلك الدرجة فما ثم إلا الانفجار، الذي لا يعلم عاقبته إلا الله الواحد القهار، فلتربع على ظلمها، ولتقف عند هذا الحد في طمعها، وإذا لم تكف عنا بغي دولة الفوضويين واللصوص، فلتتركنا وشأننا معها، ولا تعارضنا فيما نفعله في بلادنا من إرسال المدد والذخيرة من مصر، وعن طريق مصر إلى طرابلس الغرب، ومن معاملة الطليان في بلادنا، بما يجوز لكل أمة وحكومة منهم أن تفعله في بلادها. أما إذا كانت ألمانية تمنعنا من مقاطعتهم أو إخراجهم من ديارنا، وإنكلترة تمنعنا من إرسال الرجال والذخائر من مصر، فلا تكون إيطالية وحدها هي المحاربة لنا، وإنما تحاربنا أوربة بأسرها، وهل لنا ذنب يقتضي كل هذا إلا ديننا؟ فأين التعصب؟ ومن هم المتعصبون؟ ألا تعتبرون أيها الغافلون. أظهرت إيطالية من الجبن شجاعة ومن العجز قوة، وبغت وتكبرت في إنذارها لدولتنا، وإنما جرأها على ذلك علمها بأن دول أوربة الكبرى كلها معها، واعتقادها أنها تنصرها أولاً وآخرًا عملاً بقاعدة: ما أخذه الصليب من الهلال لا يعود إلى الهلال، وما أخذه الهلال من الصليب، يجب أن يعود إلى الصليب. ولأجل هذه القاعدة قالت: إنها لا تقبل مناقشة ولا مذاكرة في مسألة طرابلس إلا بعد احتلال عسكرها فيها، ونتيجة القياس المنطقي الذي يتألف من هذه القاعدة ومن استحلال أوربة وإقدامها على مثل هذا التعدي؛ أنه يجب أن لا يبقى للهلال ملك في الأرض. إن إيطالية لم تحتقرنا بجمع البحرية والبرية وهجومها بها على طرابلس العزلاء الخالية من الحامية والاستعداد، بل احتقرت نفسها والدول المساعدة لها، وأقامت الحجة على أنه لا قيمة للحق ولا للفضيلة ولا للإنسانية عندها، وإنما تحتقرنا هي وحليفتها ألمانية بمساومتنا في بيع شرفنا وديننا بثمن بخس تعرضه على دولتنا؛ لتقر إيطالية الباغية على بغيها، وتجعل طرابلس ملكًا شرعيًّا لها، ولعل عاهل ألمانية صديق السلطان والدولة والمسلمين (؟ ؟) لا يجهل أن نصيحته هذه تكون أشأم على الدولة من زيارته لطنجة وإظهاره الميل والمساعدة لسلطان مراكش، لعله يعلم أن العمل بنصيحته يسخط العالم الإسلامي كله على (صديقته) الدولة، ويثير عليها رعيتها، وإذا ترتب على ذلك (لا سمح الله أن يكون) هلاكها تكتفي أوربة أمرها، وتسلم من تبعتها أمام العالم الإسلامي. ألا فيعلم الإمبراطور العظيم وحليفه الملك المتعظم، أن الدولة العثمانية ليست الآن في يد عبد الحميد فينالا منه ما أراد، ولا بيد تلك الزعنفة التي خدعتهم ألمانية بمكر يهودها الصهيونيين، وإنما أمرها إلى مجلس كبير، لا يبيع دينه وشرفه بمال اليهود ولا ينخدع بمكرهم، وقد انكشف له الستار عن كنه صداقة ألمانية لنا التي جرت علينا كل هذا البلاء، فإن استطاع مجلسنا أن يؤلف وزارة تقدر أن تقنع إنكلترة وصديقتيها بذلك، ويكف بغي دول التحالف الثلاثي عنا فذاك ما نحب من السلم والحق، وإلا فالرأي ما بينا من قبل، ورأينا كلَّ من نعرف من المسلمين متفقين معنا عليه، وهو أن نحب الموت في سبيل حفظ ما هو لنا أكثر مما يحبه غيرنا في سلب ما ليس له، وحينئذ إما نبقى أصحاب دولة وشرف، وإما أن نموت كما يموت الكرام، بعد أن نميت أضعافنا من أعدائنا البغاة. أيها المبعوثون المخلصون، إنكم تعلمون أن بيع طرابلس بيع للدولة كلها وقضاء عليها، فإذا عجزتم عن إنقاذها ولم تجدوا من أوربة مساعدًا، فاعلموا أنه ليس بعد اليوم كوفة، فادفعونا إلى عمل اليائس من الحياة، ووزعوا كل ما عند الدولة من السلاح علينا، واطردوا جميع أعدائنا من بلادنا، وتعرضوا لجهر أوربة كلها بمحاربتنا، فذلك أشرف لنا من إسرارها لذلك، وربما كان خيرًا وأبقى. 23 شوال. * * * (7) (أماني إيطالية وظنونها في مسألة طرابلس الغرب) صرّح علماء الحرب الذين عرفوا طرابلس الغرب من ألمانيين وغيرهم؛ أنه ليس في استطاعة إيطالية أن تتجاوز سواحلها، وتتوغل في داخليتها بالقوة العسكرية لأسباب متعددة: (منها) شجاعة عرب هذه الولاية الخارقة للعادة، وتصديهم للحرب والكفاح من سن البلوغ إلى سن الشيخوخة، مع وفرة السلاح عندهم وتمرنهم على استعماله وبراعتهم فيه، وكراهتهم لسلطة ا

منشورات إيطالية الخداعية

الكاتب: بورياريجي

_ منشورات إيطالية الخداعية في طرابلس الغرب وزعت إيطالية في طرابلس الغرب بعد احتلالها عدة منشورات تخادع بها الغرب هناك، ومنها ما ألقي من الطيارات والمناطية في المعسكرات، وهم يظنون أنهم يخاطبون أطفالاً يُصدقون كل ما يسمعون، ونحن ننشر أهم هذه المنشورات لأجل الاعتبار بها في الحال والاستقبال. (منشور قائد الجيش الاحتلال الإيطالي) بسم الله الرحمن الرحيم (والصلاة والسلام على كافة الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم وسلم أجمعين) . بأمر ملك إيطاليا المعظم فكتور عمنويل الثالث نصره الله وزاد مجده. أنا الجنرال كارلوس كانيفا قائد العساكر الإيطالية الموكل إليها محو الحكومة التركية في طرابلس وبرقة والمقاطعات التابعة لها، فبناءً عليه أعلن الشعوب جميعهم القاطنين في المقاطعات المنوه عنها في شاطئ البحر إلى آخر الحدود الداخلية الذين يملكون بيوتًا في المدن وبساتين وحقولاً ومراعي حول المدن نفسها أو بعيدًا عنها ما يلي: إن العساكر الخاضعة لأمري، لم يرسلها جلالة ملك إيطاليا (حماه الله) لإضعاف واستعباد سكان طرابلس وبرقة والفزان، والبلاد الأخرى التابعة لها التي توجد الآن تحت سيادة الأتراك، بل لتعيد إليهم حقوقهم وتقتص من المعتدين عليهم، وتجعلهم أحرارًا يحكمون أنفسهم، وتحميهم من كل من يعتدي عليهم، سواء كان من الأتراك أو أي شخص كان يريد استرقاقهم. وعليه فأنتم يا سكان طرابلس وبرقة والفزان والبلاد الأخرى التابعة لها من الآن سيحكمكم رؤساء منكم، موكل إليهم أن يقضوا بينكم بالعدل والرأفة؛ عملاً بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) ، وستكون هذه الأحكام تحت حماية ورعاية ملك إيطاليا السامي حرسه الله. واعلموا أن ستبقى الشرائع الدينية والمدنية محترمة، ويحترم الأشخاص والأملاك والنساء والحقوق وجميع الامتيازات المختصة بأماكن العبادة والبر؛ لأن غاية أعمال الرؤساء يجب أن تكون واحدة؛ وهي تحسين حالتكم والعمل على استتباب راحتكم، ويجب أن يكون ذلك مطابقًا للشريعة الغراء والسنة المحمدية السمحاء، وسيقضي بينكم بالعدل طبقًا للشريعة وحسب أوامرها بواسطة قضاة قد اشتهروا بتفقههم في الشرع ذوي استقامة وسيرة حميدة، كما أنه لا نغض الطرف عمن يظلم من الرؤساء، ولا نغتفر غشًّا أو خداعًا من أحد القضاة، فالكتاب والشريعة فقط تقضي وتحكم عليكم. واعلموا جيدًا أنه لا تؤخذ منكم ضرائب؛ لتصرف خارجًا عن بلادكم، والضرائب التي توجد الآن عليكم ننظر فيها، وتنقص أو تلغى كما يقتضي العدل. واعلموا جيدًا أنه لا يدعى أحد منكم للخدمة العسكرية بالرغم من إرادته، وفقط يقبل بها أولئك الذين يرغبون الانضمام تحت اللواء الطلياني باختيارهم؛ لأجل حماية النفوس والأملاك؛ ولكي يتكفلوا للبلاد السلم والنجاح. وأما الآخرون فيبقون في بيوتهم منعكفين على العمل في الحقول ورعاية المواشي أو معاطاة التجارة والصناعة والحرف الضرورية لقيام المدنية. وعلى هذا، فكل امرئ يمكنه أن يقيم الصلاة في معبده (جامعه) حسب تعليم دينه، ويلزمكم أن تتضرعوا لله - عز وجل - أن يرفع مجد الشعب الإيطالي ومجد ملكه؛ لأنه أخذكم تحت ظل حمايته. والإيطاليون يرومون أن يكون اسمهم مهابًا من جميع أعدائكم، وأما منكم فقط فيكون محبوبًا ومباركًا. وبناءًا عليه وحسبما خولني جلالة ملك إيطاليا العادل المنصور وحكومته أعلنتكم بما تقدم، وسيجري مفعوله من هذا اليوم من شهر شوال سنة 1329 هجرية؛ ليبقى كأساس للعلاقات المستقبلة التي ستوجد بين الحامية والمحتمين، وبين الإيطالي وسكان هذه البلاد، وإني واثق بأنكم تقبلون هذا المنشور بسرور قلبي؛ لأنه سيكون قانونًا يجب أن يحفظ بأمانة واستقامة ضمير وشهامة من كلا الطرفين. وإذا وجد من لا يحترم الشرائع ولا يعتبر الأشخاص، أو يمس حرمة النساء، أو يخترق حرمة الملك، أو يقاوم أو يثور على إرادة العناية الإليهة التي أرسلت إيطاليا إلى هذه البلاد، وباسمها صدرت لي هذه الأوامر وقبلها ممن يمتلك حق الأمر، فسيكون الانتقام منه عظيمًا، وسأحافظ على تنفيذها بالقوة الموكلة لعهدتي لنبراس العدل والحق. فيا سكان طرابلس وبرقة والمقاطعات التابعة لها، اذكروا أن الله قد قال في كتابه العزيز: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) وقد جاء أيضًا {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (الأنفال: 61) وجاء أيضًا {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) أي: الذين يصلحون الأرض ويمنعوا (كذا) منها الفساد وينشروا (كذا) فيها العدل والعمران، وجاء أيضًا {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) أي إن تفسدوا في الأرض إن توليتم أمور الناس وتقاتلوا بعضكم بعضًا، إن الذين يفعلون ذلك يلعنهم الله ويصمهم ويعمي أبصارهم ويستبدلهم بغيرهم، وجاء أيضًا {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) ، وجاء أيضًا {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) فإرادة الله ومشيئته - سبحانه وتعالى - قضتا أن تحتل إيطاليا هذه البلاد؛ لأنه لا يجري في ملكه إلا ما يريد، فهو مالك الملك وهو على كل شيء قدير، فمن أراد أن يظهر في الكون غير ما أظهر مالك الملك رب العالمين المنفرد بتصرفاته في ملكه، الذي لا شريك له فيه، فقد جمع الجهل بأنواعه وكان من الممترين، وبناءً عليه يلزم على كل مؤمن أن يرضى ويسلم بما تعلقت به الإرادة الربانية وأبرزته القدرة الإلهية، فالملك له سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء. فإيطاليا تريد السلام وتريد أن تبقى بلادكم إسلامية تحت حماية إيطاليا وملكها المعظم، ويخفق فوقها العلم المثلث الألوان (أبيض وأحمر وأخضر) إشارة إلى المحبة والإيمان والعشم في وجه الله.اهـ بحروفه. (المنار) لا يسخر الأجانب من المسلمين بمثل هذا المنشور إلا بمعونة المنافقين منهم، فهذا المنشور كتبه لإيطالية أحد أصحاب العمائم بمصر، وهل يستغرب هذا من يرى المسجد الذي بناه صاحب العمامة الكبيرة ابن الشيخ عليش الكبير باسم ملك إيطالية السابق أمبرتو والد ملكها الباغي المعتدي على طرابلس وبرقة؛ ليصلى فيه على روحه! ! . فهذا حظ هؤلاء المنافقين من القرآن: يحرمون على المسلمين أن يهتدوا به؛ لأن الاهتداء به من الاجتهاد الممنوع أو المقفل بابه على زعمهم، ولكنهم يحرفونه على معانيه؛ ليضلوا به المسلمين ويفسدوا عليهم أمر دينهم ودنياهم حتى صار بعضهم آلة للأجانب في إزالة حكم المسلمين من الأرض، وقيل: إن بعض هذه المنشورات كتب أو وزع برأي ومساعدة حسون باشا القرامنلي الذي وعدته إيطالية بجعله واليًا لطرابلس. أورد هذا المنافق الذي استعمل القرآن في خدمة الصليب وتحويل مملكة إسلامية إلى دولة نصرانية قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} (الممتحنة: 8) .. إلخ، يريد به أن إيطالية لم تقاتل أهل طرابلس في دينهم، ولم تخرجهم من ديارهم! ! فكيف يقبلون تحريفه والمدافع تدمر ديارهم، وقد خرج الكثيرون منها، وسيرون ما هو أشد من ذلك، والظاهر أن إيطالية لما كلفت المنافق كتابة المنشور، كانت تظن أنها تأخذ طرابلس غنيمة باردة من غير قتال، ثم أعطوه لقائدهم فوزعه بعد الشروع في تدمير البلاد، وقتل من فيها حتى النساء والأولاد، وهو لا يعلم ما فيه. وأورد المنافق الآية التي جعلها شهادة لإيطالية بالصلاح الذي تستحق به إرث البلاد، وقد شهد عليها حتى أهل دينها وجنسها بالفساد والإفساد، وأورد آية {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} (الأنفال: 61) وإيطالية قد بغت بالحرب، ولا تريد من السلم إلا أن يكون المسلمون عبيدًا لها في تلك الأرض، فهل معنى السلم الذي أمر به القرآن أن نحكم غيرنا في رقابنا ونملكهم أرضنا وديارنا وأموالنا؟ وأورد آية إيتاء الملك ونزعه بمشيئة الله؛ ليستدل بها على أنه يجب على المسلمين أن يقبلوا الذل وسيف الأجنبي لأنه بمشيئة الله! ! فهل يقول ذلك المنافق: إن دفاعهم عن أنفسهم وبلادهم، وقيامهم في ذلك بما أمرهم به دينهم، يكون إرغامًا للمشيئة وخروجًا من سلطانها؟ أليس ذلك وقد وقع بمشيئة الله تعالى؟ وأورد آية {ُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (المائدة: 45) فليطبق لنا قانون إيطالية على كتاب الله! ! ! وأورد آية {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} (محمد: 38) وهي أدل الآيات على جهله وفضيحته في التحريف بوضع الشيء موضع نقيضه، فإن المعنى أننا إذا تولينا عن إنفاق أموالنا على الجهاد في سبيل الله، يستبدل الله بنا غيرنا، وهو يجعل دليل الجهاد دليلًا على تركه! ! - إلى هذا الحد وصل الأجانب والمنافقون من السخرية بالمسلمين والعبث بدينهم وأمرهم. * * * (منشور بورياريجي الذي جعلته إيطاليا واليًا لطرابلس) يا أيها الأهالي الكرام: لا يخفاكم أنه لما كانت الحكومة العثمانية المنقرضة من هذه الديار، توسلت بجميع الوسائط لأجل تأخير جميع مصالح دولة إيطاليا، وعكس كل مشروع لها تجاريًّا كان أم اقتصاديًّا في هذه البلاد. ولما كان كل ما بذلناه من السعي والجد مع الحكومة المذكورة عدة سنين للحصول على صورة اتفاق، يؤلف الاختلاف بين الطرفين؛ لأجل تأمين منافع الدولة الإيطالية وفوائدها في هذه الأقطار حبط وذهب جفاء وسدى، فقد أتيناكم رغمًا عما كنا نويناه بصورة الاحتلال لأجل توطين لا فقط منافعنا، بل ومنافعكم أيضًا، وعليه فإننا من هذا اليوم تقلدنا باسم ذي الشوكة ملك إيطاليا الأعظم ولاية هذه البلاد؛ لأجل إدارة أمورها الملكية والعسكرية معًا، وناهيكم أيها الأهالي العزاز أن جُل مرامنا أن نؤكد لكم كل التأكيد نؤيد لكم أي تأييد أننا سنعتني أي اعتناء بكل ما يؤول إلى المحافظة على دينكم. وسنتخذ جميع الوسائط للذب والمحاماة عنه، فكونوا من هذه الجهة مطمئنين خالي البال آمنين، واعلموا أن محاكمكم الشرعية ثابتة كما في السابق بأعظم ما يمكن من الحرمة والرعاية لها، وأن أحكامها جارية كالأول، وأنا نتعهد بإنفاذ الأحكام عند الحاجة (ليتأمل هذا القيد) ، وكذلك جميع أموال الوقف ثابتة، كما كان جاريًا في السابق تحت إدارة الأوقاف بدون أدنى مداخلة من طرف الحكومة الإيطالية في شؤونها، إلا على طريق النصيحة العائدة لتثبيتها وتنميتها ونجاحها وترقيها (أي في أيدي الإيطاليين) ثم إننا نتعهد لكم تعهدًا قويًّا بصرف عنايتنا وإفراغ جدنا وجهدنا لأجل صيانة العرض والناموس في هذه الديار، وإجراء تمام الحرمة والرعاية من هذه الجهة، فإن عرضكم عرضنا وناموسكم ناموس

إعانة أمير أفغانستان وكبراء قومه لأهل طرابلس الغرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعانة أمير أفغانستان وكبراء قومه لأهل طرابلس الغرب وخطبة الأمير في ذلك كتب إلينا أحد أساتذة المدرسة الحربية الأفغانية العثمانيين في كابل وهو من قراء المنار الرسالة الآتية مع كتاب خاص، فننشر الرسالة شاكرين وهي: (يوم من أعظم الأيام في الإسلام) اليوم الثاني من ذي الحجة الحرام من هذه السنة، كان يومًا من الأيام التي يخلد لملك أفغانستان الذكر الجميل في صدر التاريخ، نعم.. هذا اليوم هو الذي انبرى فيه أميرها المحبوب ومد يد الإعانة لإخوانه المسلمين القاطنين في شاسع الأرض. صباح هذا اليوم صدرت الأوامر لجميع الأمراء ورجال الدولة وأعيان المملكة وتجارها ووجوهها تدعوهم إلى الاجتماع في الدربار (ردهة الاجتماع) ، فما جاءت الساعة الثانية بعد الظهر إلا وتقاطر أرباب المناصب وكبار الدولة وتجارها من كل فج، واجتمعوا في ردهة عظيمة عالية البناء معدة لمثل هذه الأمور، ثم بعد ساعة شرَّف الأمير الكبير الشأن الردهة، يغشاه العز والجلال، فقامت الناس إجلالاً فرحين مستبشرين برؤية محياه الذي كان يتلظى غيرة وحمية، ثم ألقى تحيته على الجمع، فحيوا بأحسن منها، وبعد برهة تلا خطابًا يلين الصخر ويذيب القلوب، وهذه ترجمته: ترجمة الخطاب الملكي لا يعزب عن فكر أحد من الأعزة والأشراف وجميع رعيتي الصادقة من كل صنف من سكان مملكتي المحروسة (أفغانستان) أن كل إنسان يعيش في هذه الدنيا الفانية، لابد أن يكون نظره موجهًا إلى أمرين عظيمين في جميع أعماله: أحد هذين الأمرين مادي والثاني معنوي، وفي هاتين الحالين يرى على نفسه وظائف كثيرة، ويراها مكلفة بأعمال متعددة، بناء على الكرامة والشرف النوعي الذي امتاز به الإنسان على سائر المخلوقات بحكمة وقدرة البارئ جل شأنه، وأنه بقيامه بتلك الأعمال، وأدائه لتلك الوظائف، يقضي حاجاته الطبيعية، ويزيل ضروراته الجسدية، وينال أيضًا من المثوبات الروحانية الأخروية ما ليس له حد. وكما أن إطاعة الرب المعبود يوصل المرء للمقامات العالية الروحانية، هكذا تعاون الناس على دفع احتياجاتهم الفرعية؛ بجعل المتعاونين ممتازين بين أقرانهم في هذا المقام أريد أن أورد مثالاً أو مثالين: نفرض أن بلدًا يحتوي على ثلاث مئة من السكان، وأن ذلك البلد لا يوجد فيه ماء صاف يصلح للشرب والاستعمال، ولكن على بعد ستة أميال يوجد ماء صاف سائغ نافع للصحة، فلا شك في أن سكان ذلك البلد لا بد لهم من أن يطووا ستة أميال حاملين قربهم على أكتافهم؛ لأجل الإتيان بذلك الماء، وفي هذا لا بد أن يلحقهم خسارتان: الأولى تعب الجسم والثانية إضاعة الوقت، وبإضاعة هذا الوقت لا مناص من أن تعطل كثير من الحوائج الإنسانية التي لا بد منها؛ لأن المرء المحتاج إلى الشرب محتاج أيضًا إلى أشياء كثيرة عليها مدار حياته، فإذا صرف أربع أو خمس ساعات من نهاره لأجل تحصيل الماء فقط، فمن أين يأتي بالوقت اللازم لتدارك سائر حاجاته الباقية. بناء على ذلك إذا أكمل سكان ذلك البلد وظيفتهم المدنية وتعاضدوا وصاروا يدًا واحدة، وأعطى كل واحد منهم روبيتين مثلاً، يحصل من هذا ستمائة ألف روبية، وبهذا المقدار يتيسر لهم جر الماء المذكور إلى بلدهم بسهولة تامة، وبهذا التعاقد يمكنهم أن يتخلصوا من مشاق نقل الماء بالقرب، ويخلصوا من هذا الاحتياج بدون عناء ولا مشقة، وإذا فرضنا أن كل واحد من سكان ذلك البلد كان ينفق في السنة ثماني روبيات ثمنًا للفاكهة فاكتفى كل منهم بخمس روبيات ووفر ثلاثة - وذلك سهل للغاية - ثم جمعوا ذلك المتوفر وصرفوه فيما يعود عليهم نفعه من مصالحهم العامة، فإننا نجزم بأنهم يدركون بهذا التعاون من المنافع ما لا يمكننا حصره وتحديده. (المثال الثاني) خلق الناس بإرادة الخالق الأزلي أكفاء، أبوهم آدم والأم حواء، وانقسموا بعد ذلك إلى شعوب متعددة وقبائل مختلفة، ولكنهم من حيث الوجود كأنهم جسم واحد، وخصوصًا إذا كان بينهم علاقة جنسية ورابطة مذهبية وملية، فإن كل فرد من أفراد ذلك الجنس والمذهب يكون حينئذ كعضو من أعضاء ذلك الجسم الواحد، يتألم ويضطرب من تألم أي عضو من الأعضاء الباقية، كما إذا عرض لإحدى الحواس الخمس ألم، فلا شك في أن الحواس الأربع الباقية كلها تتأثر وتتألم إذا رمدت عين المرء مثلاً، فإن سامعته تتألم حتى من نغمات البلبل والهزار، حتى قد تكون عندها كوخز النبال وتتأثر شامته من رائحة الورود، وينكر فمه طعم الماء، ويدمي بنانه لمس الحرير هذا ليس في الحواس الخمس فقط، بل تجري هذه الأحكام في كل عضو من أعضاء ذلك الجسم. أيتها الرعية الصادقة، وأيتها الأمة الأفغانية ذات العقيدة الصحيحة، مرادنا الملوكي من جميع هذه التمهيدات؛ هو إيقاظكم لعمل صالح كثير الخير، وترغيبكم في أمر ذي بال جامع لخيري الدنيا والآخرة، وإني أشكر المولى جل جلاله، وعم نواله أن جعلني بفضته ورحمته لم أتفكر في شيء قط يتعلق بأمتي الصادقة المتدينة بدين الحق غير الخير، ولست متفكراً في غير ذلك في ما بعد. أيتها الأمة: اعلموا أن الدولة العلية العثمانية التي هي من جنسنا وعلى مذهبنا، قد صارت هدفًا لعدوان فجائي مخالف للحق والإنسانية، جعلنا نتألم ونضطرب دهشة من هذا العدوان الفظيع، وأن معاونة إخواننا المسلمين تجب علينا من حيث الدين والإنسانية معًا، وبما أن بُعد الشقة قد حرمتنا معاونتهم فعلاً وبدنًا، وجب علينا أن نمد لهم المعونة بالمال على الأقل. إنكم إلى الآن لم تحسوا بالفوائد العظام التي تحصل من مثل هذه المعاونات، فهذه أول مرة أرشدكم إلى هذا العمل الصالح النافع بالذات، وأفتح كتاب الاكتتاب بيدي الملوكية وأقيد وأثبت به مبلغ (20) ألف روبية من عين مالي الشخصي الملوكي. أؤمل من غيرتكم الدينية وجودكم الملي أنتم رعيتي الصادقة أن تشاركوني بهذا العمل الخيري كل على قدر حاله، ودرجة آماله، ليس عليكم جبر أو تضييق في هذا الباب؛ لأن هذا الأمر يتعلق بالضمير والإنسانية، وكل صاحب ضمير صاف وعقيدة خالصة يعطي شيئًا من ماله الزائد عن نفقة أهله وعياله، ويثبت اسمه في هذا الكتاب، يكون عمل عملين عظيمين: (الأول) يكون سعى وجد بماله لاكتساب رضاء الباري جل وعلا، وفي هذا ما لا يخفى من إطاعة أمر الله والتلذذ باللذائذ الروحانية. (والثاني) يكون أعان بني نوعه ودينه، وفي هذا أيضًا ما لا يعزب عنه فكركم من أداء حقوق الإنسانية، وحفظ الشرف والغيرة الملية. أيتها الرعية الصادقة، اسم هذا الكتاب: (كتاب إعانة اليتامى شهداء ومجروحي محاربة طرابلس الغرب) افتحوا كيس حميتكم، وبلوا قلوبكم بماء الشفقة الأخوية، أعينوا يتامى أولئك المجاهدين الذين جادوا بأرواحهم؛ لأجل حفظ وطنهم وشرف ملتهم، أعينوهم على الأقل بلفائف يشدون بها جروحهم، لا تنظروا إلى قلة ما تعطونه من المال وكثرته، أعطوا ما تتمكنون من إعطائه، وأثبتوا أسماءكم في هذا الكتاب (إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً) . وأسأل المولى سبحانه وتعالى أن يهديني وجميع إخواننا المسلمين، وأبناء نوعنا الإنساني كافة لما فيه الخير والصلاح. اهـ. * * * (قال المراسل) : وكان أبقاه الله ذخرًا للإسلام والمسلمين يفسر للسامعين بلسان طلق وبيان عذب، ما حواه الخطاب من المزايا الباهرة، وكان يقول وكله حماس: (ألا ليتني قريب منهم أمدهم بالفعل لا بالقول، ألا ليتني طائر أطير لمساعدة إخواني المسلمين) . وكأن قائمًا على قدميه ينظر يمينًا ويسارًا كالأسد الرئبال، وأمامه أنجاله الفخام وإخوته العظام وأعيان مملكته، يحثهم على الاكتتاب قائلاً: (لا أظن أن أحدًا من رعيتي يتأخر عن مد يد المعونة لإخواننا في الإنسانية والدين؛ وإن وجد على فرض المحال، فإني أستجدي منهم شيئًا يسد عوز أولئك المجاهدين الذين جادوا بأنفسهم؛ فداء لحفظ شرف ملتهم ووطنهم. أعينوا أولئك الجرحى، أعينوا أطفال الشهداء، فما في الدنيا شيء يقرب من ثواب الآخرة كإغاثة الملهوف) . وبعد أن ختم مقاله، قام جميع العثمانيين القاطنين في أفغانستان، ورفعوا له عريضة الشكر، فقرأها على رؤوس الأشهاد وأظهر سروره بها - أبقاه الله - وهذه ترجمتها.

عريضة الشكر من العثمانيين المستخدمين في أفغانستان إلى أميرها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عريضة الشكر من العثمانيين المستخدمين في أفغانستان إلى أميرها نحن العثمانيين المفتخرين بالخدمة تحت حماية وعاطفة إمارتكم السنية، نفتخر بتقديم إحساساتنا وتشكراتنا القلبية لسدتكم الملوكية. طرابلس الغرب تلك البلاد الوحيدة في أفريقية التي حافظت إلى الآن على استقلالها وحريتها الإسلامية، قد صارت هدفًا لعدوان وحشي من قبل إيطاليا خلافًا لجميع القوانين الدولية، وخلافًا للقواعد البشرية والآداب الإنسانية. مجالس الصلح، جمعيات الأمن العام، جميع الدول المعظمة التي لا تفتر في كل فرصة سنحت عن بيان أنها هي المكلفة بنشر المدنية في مشارق الأرض ومغاربها، كلما غضت النظر عن هذا التجاوز الوحشي، ولم تشأ أن تنبس ببنت شفة، لكن ضربة غدر واعتساف نزلت على فئة إسلامية في هذا القرن العشرين قرن العلم والتمدن، ضعضعت أركان جميع المسلمين القاطنين في جميع أقطار الدنيا وجرحت أفئدتهم. وجرائد العالم أجمع - ما عدا الجرائد التي باعت ضميرها بثمن بخس - مجمعة على تقبيح حركات إيطالية الجنائية، وإنا نعرض بكمال الصدق أن هذا الفعل العظيم الملوكي الذي أتيتم به، قد أحيا آمال جميع العثمانيين الذين يشعرون بالاحترام والمودة لإخوانهم الأفغانيين من أمد بعيد، ويسر جميع المسلمين في أنحاء الأرض؛ المتألمين من هذا العدوان الفجائي الدنيء على إخوان دينهم. الحق نقول: إن كل كلمة من خطابكم الملوكي ستبقى منقوشة في أذهان جميع المسلمين أبد الآبدين، وسيخلد للإسلام شرفًا ومجدًا لا يمحوه تعاقب الأيام والسنين اهـ. * * * ثم بعد ذلك، قام أخوه الأكبر نائب السلطنة السردار نصر الله خان - حفظه الله - وفاه بخطاب ارتجالي بليغ، يشكر فيه حضرة الأمير الخطير على إرشاده الأمة الأفغانية لهذا الصراط السوي، ويدعو الجميع لتلبيته. ألقى خطابه بصوت متهدج مؤثر، فما بقي في المجلس إلا وأسبل الدموع الغزار. ثم استقبل الأمير المعظم القبلة ودعا الله أن ينصر المسلمين، وأمَّن الجميع على دعائه. ثم أمر حاشيته بتوزيع الرقاع والأقلام المعدة للاكتتاب، وكان من جملة الموزعين لهذه الرقاع نجلاه الفخيمان عينا الدولة، السردار أمان الله خان والسردار محمد كبير خان، فكان المجتمع في هذه الجلسة مئة ألف روبية أو أكثر، ثم صلى العصر وودع الجمع، وقال: إني ذاهب غدًا لجلال آباد أستودعكم الله، وأعدكم بجمع الخلق من الأطراف يوم عيد الأضحى وتشويقهم للاقتداء بكم. وأمر بإرسال دفاتر الاكتتاب إلي جميع أنحاء مملكته، فودعه الحاضرون وأعينهم تذرف بالدموع على فراق هذا الأمير الخطير الشأن، داعين بقاء ملكه وذاته، وانفض الجمع وكلهم ألسن تشكر. ... ... ... ... ... ... ... أفغانستان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... في 5 ذي الحجة سنة 1239 ... ... ... ... ... ... (علي) (المنار) إننا نشكر لهذا الأمير العظيم عمله هذا بلساننا ولسان إخواننا أعضاء جمعية الهلال الأحمر المصرية، الذين يتشرف صاحب هذه المجلة بكونه منهم، ثم بلسان جميع المسلمين، فإنه نطق باسم الإسلام، وعمل بهدي الإسلام، أدام الله ملكه ما دامت الأيام.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (مجموع تسعة كتب ورسائل سلفية) طبع الشيخ فرج زكي الكردي هذا المجموع المؤلف من الكتب والرسائل الآتية على نفقة بعض محبي السلف، ومُروجي كتب أنصارهم، ومحي آثارهم، وهي: (1) (الرد الوافر، على من زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الإسلام كافر) تأليف حافظ الشام أبي عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر (ابن ناصر الدين الشافعي) المتوفى سنة 843، وقد أورد المؤلف في هذا الكتاب شهادة أئمة العلم وحفاظ الحديث لابن تيمية بالعلم والعرفان وتلقيبهم إياه بشيخ الإسلام، منهم الحافظ ابن سيد الناس الأشبيلي والحافظ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عماد الدين، والحافظ الذهبي، والحافظ المقدسي الصالحي، وحافظ الشام في عصره أبو العباس أحمد ابن شيخ الشافعية علاء الدين حجي بن موسى السعدي، والحافظ أبو العباس أحمد بن مظفر النابلسي، والحافظ أبو الفضل سليمان بن يوسف المقدسي، والحافظ ابن رجب، والحافظ العراقي، وغيرهم من الحفاظ، ومنهم كثير من فقهاء المذاهب الأربعة وكبار القضاة والمفتين، حتى قاضي القضاة تقي الدين السبكي الذي اشتهر التغاير بينه وبين شيخ الإسلام، ونقل عنه كلام فيه، فكتب إليه الحافظ الذهبي يسأله عن ذلك فاعتذر وأثنى على شيخ الإسلام؛ بأنه نادرة الأعصار في علمه واجتهاده ودينه وورعه. وقد قرظ هذا الكتاب وأجازه كثير من حفاظ ذلك العصر وأكابر علمائه وفقهائه؛ منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، وقاضي قضاة الشافعية شيخ الإسلام البلقيني الشافعي، وقاضي قضاة الحنفية ومحدثهم العيني، وقاضي قضاة المالكية البسطامي، وقاضي قضاة الحنابلة نصر الله بن أحمد البغدادي، وكل هؤلاء كانوا في مصر. (2) (القول الجلي في ترجمة ابن تيمية الحنبلي) للعلامة المحدث السيد صفي الدين الحنفي البخاري نزيل نابلس. (3) (الكواكب الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) للشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي من علماء الحنابلة المشهورين، وفي هذا الكتاب بيان ثناء أئمة العلماء على ابن تيمية، وذكر تصانيفه، وسعة حفظه، وتمسكه بالكتاب والسنة، ونصره لمذهب السلف، ومحنته وسببها، ومن انتصر له من علماء المذاهب في الأقطار، وما رُثِي به بعد موته من كبار العلماء، وذكر قصيدة منها. (4) (تنبيه النبيه والغبي في الرد على المدراسي والحلبي) للشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي رد به على رجلين ردَّا على شيخ الإسلام، وهو كتاب مطول مفيد في تأييد عقيدة السلف. (5) (رسالة الزيارة) للعلامة محيي الدين محمد البركوي صاحب الطريقة المحمدية، وقد طبعوها في هذا المجموع؛ لأنها تؤيد مذهب السلف في زيادة القبور، وترد بدع من خلف من بعدهم. (6) عقيدة الإمام موفق الدين أبي عبد الله بن قدامة المقدسي صاحب المصنفات المفيدة، ومنها المغني الذي فضَّله العز بن عبد السلام مع المحلى لابن حزم على جميع كتب الإسلام في الفقه. (7) (فائدة في الكبائر) للشيخ موسى الحجاوي وهي قصيدة دالية. (8) (عقيدة أهل الأثر) للكلوذاني وهي قصيدة أيضًا. (9) (كتاب ذم التأويل) للشيخ موفق الدين بن قدامة، وكان ينبغي أن لا يفصل بينه وبين عقيدته. صفحات هذا المجموع 582، فنحث القراء على اقتنائه ومطالعته، ولا سيّما الذين يسمعون من الدجالين الذين لا خلاق لهم طعنًا في ابن تيمية لا حجة لهم عليه ولا بينة إلا ما يتوكأ عليه بعضهم من كلمات بذاء وسباب وجدت في فتاوى ابن حجر الهيتمي، ينبغي لمن يحترمه ويكرمه أن يقول: إنها مدسوسة عليه، وإلا فأين الهيتمي هذا من شيوخه وشيوخ شيوخه وغيرهم من أجلاء مذهبه وسائر المذاهب، الذين أثنوا على هذا الرجل بما لم يثنوا بمثله على أحد؛ كأحفظ الحفاظ ابن حجر العسقلاني، وأفقه الفقهاء والأصوليين ابن دقيق العيد من الشافعية وغيرهم. * * * (تحريم نقل الجنائز) فشت في طائفة الشيعة بدعة شنيعة، مرت القرون عليها ولم يرتفع صوت علمائهم في إنكارها بل أقروهم عليها، كما أقر غيرهم كثيرًا من البدع إرضاء لأهواء العامة، وناهيك بالبدع التي ينتفع بها بعض المعممين. تلك البدعة هي نقل الموتى من البلاد البعيدة والأقطار النائية إلى حيث مقابر أئمة آل بيت النبي - عليه وعليهم الصلاة والسلام -؛ لتدفن بجوار مشاهدهم، فيجيئون بهم، وقد تقطعت أوصالهم، وتمزقت أبدانهم، وأنتنت جثثهم. وفي هذه البدعة إماتة كثير من الفرائض والسنن، ولا شك في أن كثير من العلماء كان يتألم ويتأوه لانتشار هذه البدعة، ولكن لم يتجرأ أحد على الجهر بإنكارها والنهي عنها بمثل ما صدع به في هذا العام صديقنا السيد هبة الدين الشهرستاني من علماء النجف الأعلام، وصاحب مجلة العلم المفيدة التي يصدرها في النجف، فألَّف في ذلك رسالة بَيَّن فيها شناعة هذه البدعة، وما اشتملت عليه من المحرمات، ومن أجدر بالسبق إلى مثل هذا الإصلاح والاضطلاع بهذا الهدي والإرشاد من جحاجحة الهاشميين وصناديد العلويين، الذين يؤثرون رضوان ربهم، وخدمة شريعة جدهم، على إرضاء الخواص والعوام، والطمع في أموال الناس. وقد علمنا من أخبار العراق أن هذا السيد بعد أن صدع بكلمة الحق في هذه المسألة، وأيده فيها كثير من العلماء الكملة، تصدى له من خذله وأغرى العامة به، حتى قيل: إنه كان مهددًا بالقتل، ثم هدأت الفتنة، وخذلت البدعة، وسوف يستنير القوم يرجعون إلى هذه الفتوى، داعين لمن دعا إليها، ذاكرين بالسوء من صد عنها، والعاقبة للمتقين. ومن مآثر هذا السيد المصلح أنه كان قد سعى أشرف السعي وأفضله؛ للتأليف بين علماء أهل السنة والشيعة في العراق وجمع كلمتهم على التأليف بين المسلمين، وحثهم على مساعدة المجاهدين في طرابلس الغرب وغيرها، وقد نفع سعيه وإن صد عنه المتعصبون، وظهر أثر إصلاحه وإن كره المفسدون، فأهنئك أيها الصديق الكريم، والولي الحميم، وأبشرك بالفوز العظيم {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 35) . * * *

كتاب رصيف ورأي حصيف في المساعدة على الحرب بطرابلس الغرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتابٌ رصيفٌ ورأيٌ حصيفٌ في المساعدة على الحرب بطرابلس الغرب لما أنذرتنا إيطالية البأس، وآذنتنا بالحرب، كتب إلينا صديقنا الأمير شكيب أرسلان الكاتب الشهير الكتاب الآتي من صوفر (لبنان) في 13 شوال، وكتب فوقه (خصوصي) فلم ننشره في وقته، ثم استأذناه في نشره لما فيه من أصالة الرأي، وإيقاظ الفكر، وإذكاء نار الغيرة، وإنارة مصباح البصيرة، والتنويه بالإصلاح الديني، والإيماء إلى نفعه الدنيوي، ولم يصدنا عن ذلك إطراء الصديق لصديقه، وإعطائه أكثر من حقوقه، فأذن لنا فنشرناه، وها هو ذا بنصه البليغ: سيدي الأخ الفاضل: أعلم أن جهادكم في تهذيب الأنفس، وإقامة الشريعة على قواعد العلم، وأخذ المؤمنين بحقيقة الدين، وإثلاج الصدور ببرد اليقين هو الجهاد الأكبر والبلاء الأسنى، والذي فيه استكمال الحسنى، وإن الأمة التي تفهم الدين فهمكم، وتفقه الشرع فقهكم، لا يخشى عليها من اعتداء إيطالي ولا استبداد أجنبي، ولكن جهادكم هذا غرس لم يحن إيناعه، وزرع لم يئن ارتفاعه، ودون وصول ثمرته إلى درجة الوفاء بالغرض أيام وليال وأعوام طوال، بما رسخ من الأوهام، وسدك بالعقول من صدأ الترهات، ونحن الآن في خطب مستعجل الرأب، وفتق مستلزم سرعة السد، ولا يفيدنا فيه تعنيف مفرط، ولا لوم مقصر، ولا جزاء خائن أو مستهتر، ولا يغنينا مع إلحاح وافد الشر، وإطلال نازل البأس، إكبار الإهمال، والوقيعة بمديري هذه الأعمال، بل علينا قبل ذلك واجب أعجل؛ وهو تلافي ما فرط فيه غيرنا، وإبلاء العذر فيما يطلبه الرأي العام منا، وقد ظهر لنا بعد تقليب وجوه الحيل كلها، وتمحيص آراء الإغاثة بأجمعها أنه لم يبق إلا طريق البر، وأن هذا الطريق مهما كان شاقًّا صعبًا طويلاً معطشًا فإنه هو الوصلة الوحيدة، والممر الممكن، وأنَّ طريقًا سلكه آباؤنا مرارًا في فتوحاتهم ومغازيهم لجدير بأن نسلكه نحن في أحرج موقف وأضيق مجال. فإن لم تساعد السياسة على إمرار جنود منظمة، فلا أقل من متطوعة، وإن لم يمكن نهوض متطوعة، فلا أقل من تسريب ذخائر وأرزاق على ظهور الجمال، بحيث لو بدئ بتسيير قطر الجمال قريبًا صار المدد متصلاً، فإن في طرابلس وبنغازي والصحراء ومن قوم السنوسي رجالاً يشاغلون إيطاليا سنين طوالاً، لو جرى تأمين مسألة معيشتهم؛ إذ هناك رجالات كثيرة وفروسية ونجدة وبغضاء للعدو، ولدى الدولة عدة آلاف من الجند وأسلحة وعدة، وإنما يخشى على أولئك من الجوع وقلة الطعام. أفلا ينهض الإسلام في كل هذه الممالك إلى إغاثتهم بما يمسك أرماقهم على الأقل، حتى تطول الحرب ويستمر الدفاع؟ فإن طول أجل الحرب يستدعي تدخل الدول، ويفت في عضد تجارة إيطاليا، ويثير عليها ثائر سكانها، فتنتهي النازلة بصورة ليست فيها هذه الغضاضة وهذا الذل، ولا يطأطأ فيها الرأس أمام الطلياني، فيا ما أحلى الغلبة للانكليزي بالقياس إلى هذه الحالة، ويا ما أحلى طعم الموت إذا صرنا ننهزم أمام من هزمهم الأحباش، أفلا يمكنكم في مصر عقد الاجتماعات؛ لوضع هذه الإعانة في موضع التحقيق، وإيفاد السعاة إلى الهند وإلى السنوسي. فأما من الهند فتمكن النجدة بالمال، وأما من الصحراء فبالرجال، وأما من جهة الضباط لتدريب الأهالي فالدولة تقوم بهذا الأمر، وما نستصرخ إخواننا المصريين أولي اليسار وأصحاب الحمية إلا للمدد المادي إن تعذر كل مدد غيره، وأي شهم يضطلع بمثل هذا العمل أكثر منكم، وأي عمل هو أشرف من هذا، وأي سقوط حالاً واستقبالاً أعمق من سقوطنا إذا ذهبت طرابلس الغرب، لا جرم أن حسن الدفاع عنها ليقف بالطامحين عن سائر حوزتنا، ويحفظ علينا هذا النزر الباقي من كرامتنا، وإن التخاذل عن هذه النجدة يكون الإجهاز على مهجتنا العمومية؛ إذ تعلم أوربا أنه ليس ثمة من حياة ولا من أحياء، وإن هناك إلا أعداد بدون إعداد. قصدت استيراء زندكم في هذا الغرض، وليس ذلك على همتكم بعزيز، ونحن في انتظار الجواب شد الله بكم الأزر، ووفقكم إلى هذه الغاية أفندم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان (المنار) جاءنا هذا الكتاب يرمي عن قوس عقيدتنا، ويرينا في مرآته الصقيلة صورتنا وقد استفزنا الذعر، وقد استنفزنا العدوان النكر، فطفقنا نستوري زناد الهمم، ونستسقي سحاب الجود والكرم، فذو المال يجود بماله، وذو القلم واللسان بمقاله، فكتبنا إلى الصديق نبشره بأن حسن ظنه بالمصريين قد صدق وأن كل ما يمكن من تنفيذ رأيه قد نفذ.

الخطر الأكبر على بلاد العرب والرأي في تلافيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخطر الأكبر على بلاد العرب والرأي في تلافيه طرابلس الغرب مملكة عظيمة مساحتها أضعاف مساحة إيطالية الطامعة في استعمارها، وإغناء فقراء أمتها بخيراتها، وكانت في يد الدولة العثمانية من عهد بعيد، ولم تقدر على الاستفادة منها ولا على مساعدتها على الترقي والعمران؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ثم إنها لم تحصن فيها الثغور، ولا أقامت فيها معدات الدفاع لحفظها من الأجنبي الطامع، بل كان من سياسة الاتحاديين الذين حلوا محل السلطان عبد الحميد أن أخرجوا منها معظم ما كان فيها من العسكر والسلاح، فبادرت إيطالية إلى احتلال ثغورها، ولولا قيام أهلها بالدفاع عنها لاحتلوا سائر أرجائها، كل هذا معروف، ولكن ماذا كان بعده؟ انبرت إيطالية بعد فعلتها بطرابلس إلى سواحل جزيرة العرب المقدسة، فأنشأت تضرب ثغورها بمدافع أسطولها، تقتل من تقتل وتدمر ما تدمر، والدولة تسمع وتبصر ولا تستطيع أن تعمل شيئًا، بل نراها تهدد إيطالية بطرد رعاياها من المملكة العثمانية؛ إذا هي اعتدت على بعض جزائر الأرخبيل أو سواحل الرومللي أو الأناطول، ولكنها لا تهددها ولا تفعل شيئًا، ولا تقول كلمة في ضرب إيطالية لثغور اليمن وحصرها هي وثغور الحجاز (ما عدا جدة التي تعارض الدول الآن في حصرها، وما يدرينا عاقبة أمرها) ومن أسباب ذلك أن الدولة جعلت من تقاليدها أن مركز عظمتها وشرفها ومجدها هو الرومللي ثم الأناطول، فهي تهتم بأدنى قرية أو جزيرة من الرومللي، وإن كان جميع سكانها من الروم أو البلغار، ما لا تهتم لمملكة عربية، وإن كان سكانها أبناء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقومه، وهذا من أكبر أسباب ضعف الدولة. لولا معارضة فرنسة لضربت إيطالية ثغور سورية واحتلتها كلها أو بعضها، ولو كانت ترى لها ربحًا أو نفعًا من احتلال بعض ثغور اليمن والحجاز لاحتلتها، ولكنها قد تخشى من الضرر أكبر مما ترجو من النفع، وهي على كل حال لم تعتد إلا على البلاد العربية؛ إذ هي البلاد التي لا تدافع عنها أوربة؛ لأنه ليس فيها نصارى أو إفرنج، ولا الدولة ذات السيادة عليها؛ لأنها عندها من أطراف نعم السلطنة، لا من الأعضاء الرئيسة في الدولة؛ ولذلك لم تحصن ثغورها، ولم ترسل إليها عسكرًا إلا لقهر أهلها على كل ما تطلبه من المال، أو إكراههم على التجرد من السلاح، فقد علم المصريون مما نشر في الأهرام نقلاً عن مدير معارف اليمن ما كان يعلمه أهل الآستانة قبل من أن حملة اليمن الأخيرة كانت مبنية على طلب الوالي من الإمام إعطاء ما عند قومه من السلاح للدولة وامتناع الإمام من ذلك. لم تكن محاربة اليمن وحدها هي التي قصد بها جمع السلاح من أهالي البلاد، بل كانت حملة حوران والكرك لأجل جمع السلاح من أرجاء سورية، وكانت الحكومة الاتحادية تريد جمع السلاح من عرب طرابلس الغرب أيضًا، ولكنها لقيت من معارضة المبعوثين ما حال دون تقرير ذلك وتنفيذه، وقد سمعت في الآستانة من مصادر مختلفة أن من أصول سياسة جمعية الاتحاد والترقي جمع السلاح من العرب في كل ولاياتهم، ومن الألبانيين والأكراد، ثم ظهر صدق ذلك. نحن لا نبحث الآن عن مقصد الاتحاديين ونيتهم، ولا عن ضرر سياستهم التي جروا عليها أو عدم ضررها، ولا في إثبات ما يقوله خصومهم من عزمهم على بيع بعض الأطراف للأجانب بتجريده من أسباب الدفاع، والسماح لهم بالنفوذ فيه، ووسائل الانتفاع الذي هو الطريق المعبد للفتح السلمي والاستعمار. وإنما ننبه أهل الغيرة والروية في الآستانة وسائر المملكة، ثم المسلمين عامة على ما ظهر بالحس والعيان فهدم جميع النظريات المخالفة له، وهو أن البلاد العربية لا يمكن حفظها من اعتداء الأجانب عليها، ودوام ارتباطها بسائر المملكة العثمانية، إلا بقوتها الذاتية وتعميم السلاح والتعليم العسكري فيها. فالواجب المُحَتَّم الذي لا تخيير فيه هو أن تبادر الدولة العلية إلى إرسال السلاح الكامل، حتى المدافع بأنواعها إلى بلاد الشام والعراق والحجاز ونجد وكذا اليمن من غير سواحل البحر الأحمر، وأن ترسل الضباط البارعين لأجل تعميم التعليم العسكري، والأهالي كلهم يقبلون ذلك، ولا يكلفون الدولة مالاً ولا نفقة تذكر، ويجب على جميع الأهالي مطالبتها بذلك ملحين ملحفين، وإلا فلينتظروا الساعة تأتيهم بغتة، كما أتت أهل طرابلس وبرقة، فقد جاء أشراطها، وأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم؟ ؟

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار جاءنا في أوائل العام أسئلة من (لنجه في خليج فارس) أجبنا عنها في الجزء الثالث، وكانت تلك الأسئلة مبنية على انتقاد بعض الناس على المنار الاستقلال بتفسير القرآن وإتيانه بمعان فيه لم تنقل عن المفسرين، وقد سئل عن ذلك عالم لنجه الشيخ عبد الرحمن يوسف الملقب بسلطان العلماء فأجاب عنها، وقد كتب إلينا ولده بعد ذلك أن المنتقد أنكر من جواب المنار أمورًا. (أحدها) قول المنار (ص 186) : (الذي يؤخذ من مجموع الروايات في تفسير السلف لهذه الآية: أن اللام في العدل ليست للجنس) .. إلخ. قال المنتقد: إن الآية ليس فيها لفظ العدل فيبحث عن لامه، وإن العبارة تدل على أن صاحب المنار مضطر إلى التقليد (وتوقيف الذهن على ما ذكره المفسرون) (كذا) . (ثانيها) قول المنار (ص187) : إن العدل الذي يدخل في استطاعة الإنسان واجب حتى في معاملة الأعداء وقال: (يا لله العجب إذا فرق زيد صدقته المندوبة، فأعطى عمرًا مئة وخالداً ألفًا، هل يعد مخالفًا للواجب.. . وإنما العدل الواجب في الأقضية) . (ثالثها) قول المنار: (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يفيدان المأمور والمنهي علمًا، يبعث إرادته إلى العمل به) قال المنتقد: (إنه استنباط معنى من النص يخصصه؛ وهو وإن كان مختلفًا فيه عند الأصوليين، إلا أن قولنا: إن العالم بما يفعل لا يؤمر ولا ينهى، قول منكر ينهى عنه) . (رابعها) قول المنار: (ولهذا كان واجبًا) أي: لأنه يفيد ما ذكر. قال المنتقد: (هو استنتاج عجيب، ولا شك أنه من عثرة القلم سيما حصره علة الوجوب) . ثم طلب الكاتب دفع خرافات هذا المنتقد ووصفه بعدة أوصاف لا نذكر منها إلا أنزهها، وهو أنه متهور يؤذي العلماء والدين، وإن دفع خرافاته يفيد أهل تلك البلاد. فأقول: يظهر أن هذا المنتقد من أهل المراء والجدال لا من طلاب الحق فيما يقوله أو ينتقده، ومن كان كذلك ينبغي عدم الالتفات إلى انتقاده إلا إذا كان يؤذي الناس. فإذا كان همه موجهًا إلى تخطئة المنار في بعض المسائل، فالخطب سهل؛ فالمنار غير مؤيد بالعصمة، وليدلنا على كتاب من تأليف البشر ليس فيه خطأ ولا غلط، ولم ينتقد أحد عليه شيئًا. أما عبارة المنار في لام (العدل) فالمراد بها ظاهر لغير المماري الذي يلتمس حرفًا ينكره، ولا ينظر في جملة القول والمراد منه؛ ذلك بأنه علل في السؤال كون العدل غير واجب (بإخبار الله تعالى بأن العدل غير مستطاع) هذه عبارته، فإذا كان الفعل لا يدل على المصدر عنده ولا يؤول به وإن اقترن بأن المصدرية، فلماذا صرح هو نفسه بأن الله أخبر بأن العدل غير مستطاع، ولفظ العدل لم يرد في الآية؟ وإذا كانت عبارة المنار جوابًا عن قوله هذا، فلم لم يجوِّز أن تكون كلمة العدل فيها قد ذكرت حكاية للفظه هو؟ وأن يكون تقدير الكلام أن العدل الذي قلت: إن الله تعالى قد أخبر بأنه غير مستطاع، ليس هو جنس العدل وإنما هو عدل خاص.. إلخ ما هناك، أي: فلا يتم زعمك أنه غير واجب، على أن لفظ العدل ورد في بعض روايات تفسير الآية، فيجوز أن تحمل عبارة المنار على حكاية ذلك. وأما زعمه أن نقل المنار روايات المفسرين يدل على اضطرار صاحبه إلى القليد، فهو بديهي البطلان؛ فما كل من نقل مضطر إلي تسليم ما نقله، وما كل من سلم ما نقله وقبله يكون مقلدًا لمن نقله عنه؛ لجواز أن يقبله لقوة دليله، وقد اشترط بعض الأصوليين في الاجتهاد العلم بفروع الفقه منهم: الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والأستاذ أبو منصور وأبو حامد الغزالي وخصه هذا بمثل أهل زمنه - وزمننا أولى - فإذا جاز أن يتوقف اجتهاد الإنسان على وقوفه على اجتهاد غيره، أفلا يجوز أن يتوقف على ما روي عن السلف في فهم القرآن، وهو أقرب إلى تحرير اللغة وتفسير الاصطلاحات الشرعية منه إلى الاجتهاد والاستنباط؟ وأما إنكاره ما أوجب الله من العدل الممكن في المعاملة، وحصره العدل الواجب في الأقضية، فهو أغرب ضروب تهافته وأدلة جهله، وأقرب الحجج الدامغة له ما يجادل ويماري في موضوعه، وهو العدل بين النساء، فهل يصل به التهور الذي وصف به إلى أن يزعم أن العدل لا يجب بين الزوجتين إلا في القضاء بين يدي الحاكم؟ وقال الله تعالى: {َيا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) وليس في الآية قرينة تخص هذا العدل بالحكم، وصرح المفسرون بعموم العدل فيها مع الأعداء وشموله للأحكام والأعمال، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} (الأنعام: 152) كما قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) فهذا هو العدل في الأحكام، وذاك هو العدل بالأقوال، ومن الأمر بالعدل العام الشامل لكل قول وفعل وحكم، قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل: 90) وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الإحسان في كل شيء. أي بنص هذه الآية وأمثالها، والعدل أولى بأن يكتب، لأنه أهم، والحاجة إليه أعم، وعدمه سبب الخراب والدمار. وأما شبهة المنتقد التي أوردها، فتدل على أن المِراء قد أفسد عليه فهم ضروريات اللغة والعرف، فإن صدقة التطوع وإعطاء بعض الفقراء منها أكثر من بعض ليست مما يدخل في باب العدل والظلم؛ إذ ليس لأحد الفقيرين حق على هذا المتصدق المتطوع ولا ماله شركة بينهما فيقسمه بالعدل والمساواة، وإنما هو محسن والله تعالى يقول: {مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ} (التوبة: 91) . وأما قوله: إن المنار قد استنبط معنى من النص يخصصه.. إلخ، فهو قول من لم يفهم عبارة المنار، وما أظن أن يستطيع أن يفهمها وهو يجهل ضروريات اللغة والشرع، فهذه عبارة تهدم أقوى شبهات فلاسفة هذا العصر التي يؤيدون بها مذهب الجبر، وهي قولهم بالأفعال المنعكسة المركبة، ومن إضاعة الوقت وخسارة الصحف أن نطيل الكلام مع مثل هذا المماري في مثل هذه المسألة. * * * (التبرك بزيارة الصالحين) كتب إلينا بعض القراء من دمشق يقول بعد الثناء: قرأت في مناركم الأغر في الجزء الرابع من المجلد الرابع عشر جوابكم على سؤال الاستمداد من الأنبياء، قلتم: ومن طلب من المخلوق مددًا معنويًّا فهو على نوعين: نوع يعدّ شركًا كطلب الزيادة في العمر، فإن هذا مما لا يطلب إلا من الله تعالى، فمن طلبه من غيره فقد أشركه معه. وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وأما الذي غمض عليَّ، فهو قولكم: (ونوع لا يعد شركًا؛ لأنه داخل في دائرة الأسباب، وهو ما يطلبه المتصدقون من أهل العلم بزيارة الصالحين، وقربهم أو ذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم من الزيادة في حب الخير والصلاح والتقوى ويعبرون عن هذه الزيادة الذي يجدونها في نفوسهم بالبركة والمدد، ولكنهم لا يدعونهم من دون الله، ولا يفعلون ما لم يفعله السلف) وإني أرى هذا هو عين الشرك؛ بدليل قولكم: وهو ما يطلبه المتصوفون من أهل العلم بزيارة الصالحين وذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم، وهذا الطلب لا يكون إلا من الأموات، ومعلوم أن الاستمداد من الأموات شرك لا مرية فيه. وأما قولكم: ولا يفعلون ما لا يفعله السلف، ففيه أنه لم ينقل عن أحد من السلف الصالح زيارة الأموات مع ذكر المناقب بل الأمر بالعكس، كانوا يناضلون هذه البدع أشد المناضلة، وإني أعتقد أن من جملة الأسباب التي أوقعت الإسلام في الكسل والخمول هو سموم بعض أفكار المتصوفة الذين ظنوا أن الدين بالتقشف واعتزال الناس، ثم سرت في أفئدتنا حتى أصحبنا نظن أن كل ما قاله المتصوفون حق. هذا، وأرجو من إخلاصكم إظهار هذه الحقيقة حتى يتبين الصبح لذي عينين، وإن الله مع المتقين. (المنار) يظهر أنكم فهمتم من كلمة (يطلبه المتصوفون) الدعاء والطلب القولي، وأننا أبحنا دعاءهم كما يدعى الله عز وجل، مع علمكم بأننا نصرف معظم العمر في مقاومة أمثال هذه البدع، وغفلتم عن تصريحنا بكونهم (لا يدعونهم) ، وعن قولنا: (بزيارة الصالحين وقربهم أو ذكر مناقبهم وتصور أحوالهم) وهو متعلق بيطلبه المراد منه، يقصده ويبغيه. والمعنى أن الصوفي العالم بدينه الملتزم لسيرة السلف، يبغي ويقصد من زيارة الصالحين والقرب منهم في حال حياتهم، ويذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم بعد مماتهم أن ينمو في نفسه حب الخير والصلاح والتقوى التي هي صفات الصالحين، وذلك أن رؤية الصالحين والقرب منهم ومشاهدة سمتهم وهديهم يؤثر في النفس ويبعث فيها القدوة، وكذلك ذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم بعد موتهم، وبضد ذلك معاشرة الفساق والأشرار وقراءة أخبارهم، وتصور أحوالهم في فسقهم وإسرافهم، يشوق النفس إلى المعاصي ويقودها إلى الاقتداء بهم؛ ولذلك صرحنا بأن هؤلاء الذين أجزنا فعلهم، وبينا قصدهم، يلتزمون سيرة السلف الاستمساك بالسنة واتقاء البدعة، ولا يدعون مع الله أحدًا، وما كل المتصوفة هكذا. * * * (الذكر بالألفاظ المفردة) كتب إلينا صديقنا الشيخ أحمد محمد الألفي ينتقد ما كتبناه في الجزء الثاني؛ ردًّا عليه في عدم مشروعية الذكر بالألفاظ المفردة، فنترك مما كتبه مناقشاته في أقوال زيد وعمرو، ممن ليس قولهم حجة في الدين بإجماع المسلمين، ومنهم الفقهاء والصوفية الذي نقل عنهم، بل عزى إليهم مشروعية ما ذكر، وقال: إنه لا يعقل أن يبنوا عملهم على غير أصل ثابت، فإنهم هم لا يدعون أن كلامهم حجة، ونترك دعواه: (إن المذاهب الأربعة أجمعت على مشروعية الذكر بالاسم المفرد مطلقًا) فإن المذاهب لا يعزى إليها الإجماع، وإنما يعزى إلى جميع المجتهدين، فإن أراد أن الأئمة الأربعة هم الذين أجمعوا، فليأتنا بنصوصهم وإن كان إجماعهم وحدهم ليس حجة عند الأصوليين؛ ولنترك البحث في نقله عن أبي حنيفة أنه أوصى أبا يوسف بما نصه: (وأكثر ذكر الله فيما بين الناس ليعلموا ذلك منك) فإن هذا لو كان نصًّا في محل النزاع لكان له غنى عنه بمثله في القرآن الكريم، فهنالك الحجة البالغة، ولكنه ليس نصًّا وإلا لما كان ثمَّ محل للخلاف، وإذا كان يسمي مثل هذه العبارة نصًّا في المسألة، فلا يعتد بشيء من فهمه ولا نقله بالمعنى؛ نبرئه من قصد هذا، ونترك مثل ما أشرنا إليه من قوله، ونكتفي منه بما هو مظنة الدليل، ونبحث فيه وهو: (1) قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) قال: أي نادُوه بها بأن تقولوا: يا الله، كما نقل عن ابن عباس - رضي الله عنه - وأقول: إن صديقنا حفظه الله قد ذهل ذهولاً ما كان ينتظر منه؛ إذ جعل النداء ذكرًا مفردًا، ونسي نصوص النجاة في ذلك، وما عهده بدراسة النحو وتدريسه ببعيد. قوله: حديث الأنوار وارد في فضائل الأعمال، ولا يخفاكم جواز العمل فيها بالحديث الضعيف، ولم نعلم أن أحدًا من الحفاظ قال بوضعه، وإن قال أحد فليس متفقًا عليه، وحينئذ فلا معنى لمنع الاستدلال به اهـ. أقول: يعني بحديث الأنوار ما تقدم في (ص100) وهو: (إذا قال العبد الله خلق الله من قوله ملكًا مقربًا لا يزال يقول الله الله حتى يغيب في علم الله، وهو يقول: الله الله) ومن العجائب

خاتمة السنة الرابعة عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الرابعة عشر قد تمت السنة الرابعة عشرة من سني المنار بفضل الله وتوفيقه، فله الحمد والشكر والثناء الحسن كما يحب ويرضى، وقد شغلنا عن العناية بالمنار في هذه السنة بتأسيس مشروع الدعوة والإرشاد وإنشاء مدرسته، وقاسينا في سبيله من البلاء هنا ما لم نقاسه في الآستانة؛ لأن أعداء الإصلاح هنا الذين يتجاذبهم الهواء والحسد، ذوو شراسة وسفه، وضراوة بالإرجاف والكذب. وأما أمثالهم في الآستانة فقد مرنوا في الطباع، ومردوا على الأعمال، وتأدبوا في الأقوال، فكان أشدهم للمشروع مقاومة، أحسنهم لقاء ومراجعة، وألطفهم معاملة، يخصني بإكرامه، ويمنيني بكلامه. وقد اقتضى إنشاء المدرسة في ضواحي القاهرة نقل مطبعة المنار، والإدارة والدار، فاغتال النقل من وقتنا أكثر من شهر لم نكتب فيه حرفًا، ولم نعمل في الإدارة عملاً، ثم أكل ترتيب الإدارة والمطبعة شهرًا آخر، فلهذا تأخر إصدار المنار عن مواعيده في النصف الثاني من السنة، وطبع عدة أجزاء منه في مطابع أخرى، فلم يكن طبعها كما ينبغي، فهذا هو تقصيرنا في حق المشتركين علينا وهذه أسبابه. (المشتركون) أما المشتركون فإنهم كانوا في هذه السنة أشد تقصيرًا وأقل وفاء منهم فيما قبلها، فلم يؤد ما عليه إلا قليل منهم. رأونا مشغولين عن تذكيرهم ومطالبتهم فتشاغلوا عنا، ورأونا لا نطالبهم فقل منهم من طالب نفسه، فزادت نفقات المنار عن دخله (وارداته) ألوفًا، فنرجو من أهل الغيرة منهم على الدين والعلم، بل من أهل الوفاء والحق أن يحاسبوا أنفسهم، ويكلفوها عملاً واحدًا في السنة لمساعدة من يخدمهم بماله ونفسه طول السنة، وهو أن يرسل كل واحد منهم حوالة بما عليه. مرّ علينا عدةُ سنينَ، ونحن نخص جمهور المشتركين في القطر التونسي بالشكوى، وقد أذكت هذه الشكوى نار النعرة الوطنية في نفوس بعض أهل الغيرة والوفاء من فضلائهم فَلاَمَنَا، وانتدب لتحصيل مطلوبنا، ولم يلبث أن ظهر له صدق قولنا. *** (الانتقاد على المنار) نشرنا في هذا الجزء ما وجدناه في الظرف الذي تحفظ فيه رسائل الانتقاد إلا رسالة مطوّلة من صديق لنا من أهل العلم والفضل في الآستانة، جاءتنا في أثناء الاشتغال بنقل الإدارة والمطبعة، فرأينا أن نراجعه فيها قبل نشرها؛ لأننا لا نحب أن نجعله ممن يرد عليهم قبل تنبيهه إلى ذلك، وسنفرغ لهذه المراجعة بعد فتح المدرسة. وإننا نرجو منه ومن سائر أهل العلم أن يتعاهدونا بالتذكير والنقد، بعد الروية والتأمل، والشكر للناصحين المخلصين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فاتحة المجلد الخامس عشر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الخامس عشر بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم وأنت ولي الحمد، والهادي إلى سبيل الرشد، ولك الأمر من قبل ومن بعد، لكل شيء عندك قدر، ولكل قدر أجل و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُواللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 38-39) ونصلي ونسلم على محمد نبيك المصطفى، ورسولك المجتبى، الذي أرسلته كافةً للناس بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وآتيته الحكمة وفصل الخطاب، وأنزلت في محكم الكتاب {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأوْلَئِكَ هُمْ أوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) . وبعد، فقد دخل المنار في هذا العام في السنة الخامسة عشرة من عمره وهي سن بلوغ الحلم الغالب في الإنسان، وبدء الرشد في عرف شريعة الإسلام، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا فيه رشدنا ويبلغنا قصدنا، وينفعنا بما نطلبه في هذه الفواتح من نصح الناصحين، ونقد الناقدين ومن آيات الفوز والرشاد، أن وفقنا عزَّ شأنه للشروع على رأس هذه السنة في تنفيذ مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) التي نرجو أن تكون خير ما أنشئ في البلاد، لإصلاح ما استشرى من الفساد. قطع المنار هذا الطور الأول من حياته وحده، فدرج درجان الطفل غادر مهده، إلى أن بلغ رشده، فلا أخذ بيده أمير، ولا أعانه وزير، ولا أمده غني كبير، اللهم إلا أن مصطفى رياض باشا - تغمده الله برحمته - وكان نسيجًا وحدَهُ في كبراء هذه البلاد، في إعانة الصحف ومساعدة أرباب الأقلام، وكذا سائر ما يعتقد نفعه من الأعمال، أرسل إلي مرةً قيمة الاشتراك مضاعفة أضعافًا، فقلت لرسوله إنني لا أقبل من أحد مالاً لا مقابل له مني، فعاد إليه بها فاشترك بعد ذلك بعشر نسخ من المنار، ثم جعلها خمس عشرة نسخة، وجعلها نجله محمود باشا من الباقيات الصالحات له، وإني أعلم كما يعلم كثير من الناس، أن المنار لو صدر على عهد وزارة رياض، للقي من مساعدته بنفوذه، أضعاف ما لقي من مقاومة غيره، فإنه كان مغرمًا به، كثير الذكر له والثناء عليه في مجالسه، وكان مثل هذا أمرًا مفعولاًَ في عهد وزارته، وإذا كان رياض باشا قد حسن قوله في المنار وعمله، فما لي لا أذكر بالخير من حسن قوله ونيته، ذلك إبراهيم باشا فؤاد الذي كان ناظر الحقانية رحمه الله تعالى، كان يرى أن المنار أنفع الصحف للمسلمين، ويود لو يعم انتشاره بين طلاب العلوم وجميع الطبقات، وقد سمعت منه منذ السنة الأولى ما يدل على رأيه هذا، وأخبرني بمثل ذلك عنه أحمد فتحي زغلول باشا، وقال: إنه ذاكره في وضع مشروع لتوزيع المنار على طلاب العلم والفقراء من القراء بثمن قليل جدًّا لا يثقل على أحد منهم أو جعل ثمنه قليلاً لكل قارئ بجمع مال بالاكتتاب يرصد لذلك. فكر رحمه الله تعالى في ذلك وقدَّر، وذاكر وشاور، ثم لم يعمل شيئًا، فجزاه الله على نيته خيرًا. أشرت في فواتح السنين الماضية إلى ما كان يلقى المنار من المقاومة والمعارضة، والمناصبة والمناهضة، وذكرت في بعضها شيئًا من تاريخه الإصلاحي والسياسي، وأحببت أن أذكر في فاتحة هذه السنة ما فيه العبرة من تاريخه المالي، إذ يظن بعض الناس أنه أصاب كِفْلاً من المساعدة والإمداد المعتاد مثله في هذه البلاد، فلم أجد فيه إلا ما ذكرته لرياض باشا من قول وعمل، ولإبراهيم باشا فؤاد من قول ونية، ورياض باشا هو الذي أخذ بأيدي أصحاب الصحف الكبرى بمصر في أيام وزارته، سواء كانوا من نصارى السوريين، أو القبط أو المسلمين، فهو صاحب الفضل الأول على الأهرام والمقتطف وجريدتَيْ الوطن فالمؤيد، ساعد هذه الصحف مساعدة الوزير النافذة إرادته، المسموعة كلمته، المطاع أمره وإشارته، الطويل باعه المبسوطة يده، فمساعدته للمنار لا تقرن بمساعدته لتلك الصحف، وإنما أقول هذا مزيدًا في تكبيره في نفسه وتمييزه بين أبناء جنسه، لا لتصغير معروفه والتقصير في شكره. لعله لولا مثل تلك الموازرة لما نبتت تلك الصحف في أرضنا نباتًا حسنًا ولما استغلظ نباتها واستوى على سُوقه، ولمَا أينعت ثمرتها وآتت أكلها، ذلك بأن الجهل وضعف الأخلاق وفساد نظام الاجتماع جعل بلادنا كالأرض السبخة، لا تنمو فيها شجرة العلم إلا بعناية خاصة من الخاصة , وها نحن أولاء قد تعودنا قراءة الصحف اليومية عشرات من السنين وصرنا نعدها من حاجات الحضارة والمدنية، ولكن هيئتنا الاجتماعية لا تزال قاصرة أو مقصرة في القيام بما يجب من حقها، لما ذكرنا من ضعف النفوس ومرض الأخلاق فيها، حتى إن كثيرين من رجال الطبقة العليا فينا كالمدرسين والمؤلفين والقضاة يمطلون ويسوفون فيما يجب عليهم من اشتراك الجريدة أو المجلة، ومنهم من يهضم هذا الحق ويستحل أكله، ومن الوقائع القريبة في ذلك أن بعض المعروفين بشرف النسب والثروة والعلم والتأليف قال لوكيل المجلة بعد أن أرجأه طويلاً: إنني لا أدفع قيمة الاشتراك؛ لأنني من العلماء! ! فإذا كان أكل أموال الناس بالباطل، مما يجهر به الشريف الغني العالم، ويعده من ثمرات العلم ومزايا العلماء، فممن ننتظر الوفاء؟ دع التعاون على المصالح العامة والإصلاح لا أقول: تقطعت من هذه الأمة جميع أسباب الوفاء والتعاون، وانبتَّت سائر حبال التكافل والتضامن، وإنما أقول: إن ذلك قد قل فيها وضعف، على نحو ما أصف، وكان من أثره ضياع ملكها وهوان أمرها، وهذا ما نعنى بعلاجه، ونسعى لتلافيه، والله لو كان هذا المنار يراد للكسب لما بلغ سن الرشد. الخير والكمال للمرء أن يعمل باستقلاله، وأن لا يكون لأحد عليه فضل ولا منة، بألا يأخذ منه مالاً بغير مقابل ولا جزاء لمنفعته الخاصة، وإن كان يستعين به على المصلحة العامة، وأما قبول المال لإنفاقه في صالح الأعمال، فهو لا ينافي الفضيلة والكمال، كأن يشترك مريد الإعانة المالية للصحف الدورية، أو الكتب العلمية، بنسخ من الكتاب، توزع على من شاء هو أو شاء المؤلف من القراء، كما قبلنا اشتراك المرحوم رياض باشا بخمس عشرة نسخة من المنار، واشتراك ذلك المحسن المستتر في العام الماضي بست نسخ منه، واشتراك (مولوي محمد إنشاء الله) صاحب جريدة (وطن) في مدينة (لاهور) بمائة نسخة من كل جزء يصدر من تفسير المنار، توزع على خطباء المساجد في بعض الأقطار، وكان اقترح علينا هذا الفاضل أن يجعل لنا راتبًا شهريًّا مدة الاشتغال بإتمام التفسير، بشرط إتمامه في زمن قريب، فلم نقبل هذا منه؛ لأنه جزاء على عمل نعمله لله عز وجل، لا ترويج له كالاشتراك، ولنا بذلك أسوة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وصاحبه الصديق الأكبر، فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه قد أنفق جميع ماله في سبيل الله ورسوله، وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل منه الراحلة يوم الهجرة إلا بثمنها، وورد أن أبا بكر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئًا قط، وإنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم مالاً لإنفاقه في نشر دعوة الإسلام لا لنفسه , وقد كان صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى النفقة على أهله أحيانًا فيقترض من اليهود، وكان يجزي على الهدية، ولا يقبل الصدقة ألبتة؛ لأن الله أكرمه بتحريمها عليه وعلى أهل بيته ليكونوا قدوةً للناس بعزة النفس ورفعتها. تلك هي الفضيلة وذلك هو الكمال، ولمثل هذا هدانا الإسلام، ولكن العمل بما دون هذه الدرجة العليا من الكمال الإسلامي صار عسرًا جدًّا لقلة المُوَاتي والمُشارِك فيه، والمعين عليه، وأما ارتقاء تلك الدرجة، بل العروج إلى تلك الذروة، فأوشك أن يكون من خوارق العادات، التي قد ينالها بعض أهل العزلة والانفراد، دون أصحاب الأعمال العامة التي تصلح بها أحوال الناس. علمنا من كتاب الله تعالى ومن الاختبار المصدَِق له أن الناس أزواج ثلاثة في كل شأن، كما كانوا في كتاب الله عز وجل {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) وإنما تسعد الأمم وتشقى بحسب النسبة العددية في كثرة هذه الأزواج وقلتها , فالأمة التي يكثر فيها الظالمون لأنفسهم [1] بترك ما يجب عليهم، ويقل المقتصدون الذين هم للحقوق يؤدون، فلا يلوون ولا يمطلون، ويندر أو يُفقد السابقون بالخيرات، الذين لا يقفون عند حدود أداء الواجبات، بل يزيدون عليها ما شاء الله من النوافل والتبرعات، وينهضون بالمصالح العامة، ويقومون بالمنافع المشتركة، فتلك هي الأمة التي يتهدم بناء مجدها، ويزول عزها وملكها، وتصير مستعبدة لغيرها، وتخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وأما الأمة التي يقل فيها الظالمون، ويكثر فيها المقتصدون، ويكون زعماؤها والقائمون بمصالحها من السابقين بالخيرات، المتعاونين على أنفع الأعمال، فتلك هي الأمة التي ترث الأرض، وتستمتع بنعمة السيادة والملك، وتتسابق مع من يشاركها في صفاتها إلى غايات المجد المؤثل، ويكون السبق للأمثل فالأمثل. نحن ولا كفران لله من المتخلفين المقصرين وقد سبقتنا الأمم كلها بعد أن كنا نحن المقتصدين والسابقين، والظالمون لأنفسهم وأمتهم منا فريقان: فريق يجعلون علته ما جهلوا أو تركوا من هدي الدين، وهو ما عمل به سلفهم فكانوا هم الأئمة الوارثين، ويحاولون أن يقطِّعوا هذه الأمة أممًا، ويسلكوا بها إلى المدنية طرائق قِددًا، وهم ما عرفوا حقيقة المدنية الفاضلة وكنهها، ولا ما يصلح للمسلمين ويتفق مع طبائعهم منها، ولكنهم في طلب قشورها مقلدون، هذا تركي يقول: يجب أن تكون السيادة والسلطة للترك، وهذا عربي يقول: إذا لم تكن المساواة فالعرب أولى بالملك، وهذا مصري يقول: مصريون قبل كل شيء، وهذا فارسي يقول: إننا فارسيون قبل كل شيء، والأمم الظالمة من ورائهم تقول: إنكم مسودون قبل كل شيء، ومستعبدون بعد كل شيء؛ لأنكم لستم بشيء، فأولئك هم المتفرنجون، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 9) . ومن دونهم في الجناية على الأمة وإطالة أجل الغمة فريق آخرون، لا يسيرون بالناس ولا يدَعونهم يسيرون، وهؤلاء هم الذين يُدْعَوْن أهل الجمود، الذين رُزئوا بالخمول أو القنوط، ويعتذرون بقرب الساعة وفساد الزمان، وخروج الإصلاح من محيط الإمكان، وفُسوق أرباب الملك والسلطان، وإنك لتجدهم على ما لبسوا من ثياب الدين أذلةً على المفسدين والظالمين، أعزةً على الصالحين المصلحين، فهم يجذبون الأمة من ورائها لتصبر على المكث في جحر الضب، كلما جذبها أولئك من أمامها لتخرج إلى باحة الفسق، يضيعون على الأمة دنياها، ويعجزون أن يحفظوا عليها دينها، ذلك بأنهم في دينهم من المقلدين، فلا يستطيعون إقامة حجته على المستقلين، ولا دفع الشبهات التي ترد عليه من المعارضين، وقد وعد الله بنصر من ينصره وما هم بمنصورين، وكتب الغلب لحزبه وما هم بغالبين ونراهم قد غلب عليهم الذل {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) . هذه حالنا التي ننذر أمتنا سوء مغبَّتها في كل عام، ف

ذكرى الهجرة النبوية الشريفة وجعلها تاريخا عاما للبشر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذكرى الهجرة النبوية الشريفة وجعلها تاريخًا عامًّا للبشر بسم الله الرحمن الرحيم الله أكبر، هذا هلال العام الجديد عام 1330 للهجرة النبوية الشريفة. هذا هو الهلال الذي يذكرنا في كل سنة بذلك النور الذي كان خفيًّا في مكة المكرمة، فأشرق بالهجرة في المدينة المنورة، ثم امتد منها إلى جميع أرجاء العالم، فدخل به العالم الإنساني في عصر جديد، فكان تاريخًا للإنسانية جديدًا. الله أكبر، هذا هو الهلال الذي يذكرنا في فاتحة العام بذلك الإصلاح العام، الذي جاء به الإسلام، فاستفاد منه جميع الأنام، ثم حالت الأحوال، فصار حظ المسلمين من سعادته دون حظ غيرهم، حتى آل أمرهم في العام الذي ودعناه إلى ما يعرفه كل أحد، من وقوع خطر وتوقع خطر، فعسى أن يكون حظ هلالنا السياسي الاجتماعي في هذا العام الجديد خيرًا منه فيما قبله، ولا يكون كذلك إلا بالرجوع إلى تلك الهداية العليا: هداية التوحيد والاعتصام بعد الشقاق والخصام، {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) وبالسير على سنن الله في خلقه {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا} (آل عمران: 137) وبتغيير ما بأنفسنا من الأخلاق والأفكار، التي خالفنا فيها سلفنا الأخيار {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) . دخل العالم بالهجرة النبوية في عصر جديد لم يسبق له نظير في التاريخ فكان جديرًا بأن يكون تاريخًا للبشر كافةً، لا للمسلمين خاصةً. قضى الإسلام قضاءه المبرم على الوثنية التي أذلت البشر واستعبدتهم للملوك المستبدين، والرؤساء الروحانيين، ولمظاهر الطبيعة وما يمثلها في الهياكل من الأصنام والأوثان، وقرر حرية الاعتقاد والوجدان، والاجتهاد الاستقلالي في العقائد والأعمال، والشورى في السياسة والأحكام، وأبطل امتيازات الأنساب والأجناس، التي كان يستعلي بها الناس على الناس، بغير علم نافع، ولا عمل رافع، وجعل قاعدة الإنسانية العامة قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) . هذا درس عام في حقوق الإنسانية العامة، علمه الإسلام لجميع البشر بالقول والفعل، فاستفادوا منه بقدر استعدادهم في كل عصر من الأعصار، فإذا كانت العرب قد سبقت غيرها إلى الاستفادة منه؛ لأنه ألقي بلغتها وظهر فيها، فأزالت ظلم الرومان وغيرهم من المتغلبين القاهرين للإنسانية، وأحيت العلوم والمعارف، وأنشأت جنات المدنية في الشرق والغرب، - فرب لاحق يبذُّ السابق، كما رأينا الشعوب الإفرنجية قد أخذت المدنية عن أجدادنا أهل الأندلس وغيرهم وبرزت علينا فيها، فكل هذا مما يجب أن يذكرنا به تاريخ الهجرة فنعلم أن البشر لو أنصفوا لجعلوه التاريخ العام لهم. كان البشر قبل الإسلام متقاطعين ليس بينهم صلة عامة، وكانت المدنية تظهر في قطر من أقطارهم، ثم تخفى وتزول قبل أن تتصل بسائر الأقطار، بل كانت الأديان ذات السلطان الأعلى على البشر تشرع وتنسخ فلا يمر زمن قليل إلا ويذهب أصلها وينقطع سندها، وما اتصلت حلقات سلسلة العلم الإلهي والبَشري، وسلسلة المدنية والأعمال البشرية، إلا بهذا الانقلاب الإسلامي الذي جدد تاريخ البشر، فصار جميع ما يؤلف في بغداد وسمرقند وخراسان وغيرها من مدن الشرق، ينسخ ويقرأ في عصر مؤلفيه بقرطبة وغرناطة وسائر مدن الأندلس في أقصى الغرب، (واحكم على العكس بحكم الطرد) فبهذا كانت الهجرة أجدر حوادث الكون بأن تكون مبدأ تاريخ عام للبشر - كذلك أشرعت مذ ذلك العصر طرق التجارة بين الخافقين في البر والبحر، وصار يتحقق بالتدريج ما هدى القرآن البشر إليه من حكمة التعارف بين الشعوب والقبائل، الذي يمهد السبيل إلى الأخوة الإنسانية العامة. ولولا ذلك الروح الإلهي الذي بثه الإسلام في الناس لما تيسرت له تلك المواصلة في ذلك العهد الذي لم تكن تُعرف فيه الكهرباء ولا البخار، وإنما كانت همة المسلمين نائبةً عن قوى الطبيعة التي عرف منها تلاميذهم من بعدهم، ما كانوا أعدوا عدته ومهدوا طريقه لهم، فكما سرت جميع شعوب المدنية في ذلك وغيره على طريقهم، كان ينبغي أن يشاركوهم في تاريخهم. أحيا المسلمون ما كان أماته الزمان من علوم اليونان، فإذا هي علوم أكثرها نظري وأقلها عملي، وكان من هداية الإسلام لهم أن يقرنوا العلم بالعمل، فكانوا هم الذين وضعوا قواعد التجربة والعمل للعلوم الطبيعية، فجعلوا الكيمياء الخرافية كيمياء عملية، وعلى هذه القاعدة بنى تلاميذهم الإفرنج علومهم التي قامت بها المدنية الحديثة، فبهذا كان الإسلام فاتحة عصر جديد أيضًا، وكان تاريخ الهجرة الشريفة جديرًا بأن يكون تاريخًا عامًّا للبشر كلهم. إن فيما شرعه الإسلام من الهجرة تربية عالية للبشر، الذين قرن الله تكريمهم في كتابه بتعظيم شأن السفر، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ} (الإسراء: 70) فالهجرة عبارة عن فرار الإنسان بحريته في فكره ووجدانه وعمله من الأرض التي يُضطهد فيها ويُظلم إلى الأرض التي يكون فيها حرًّا عزيزًا. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} (النساء: 97) ولما اشتد إيذاء المشركين للمؤمنين في مكة أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالهجرة إلى الحبشة، وعلل ذلك بأن ملكها النجاشي لا يظلم عنده أحد، فثبت بالكتاب والسنة أن الهجرة قد شرعت لتكريم البشر، وتعظيم شأن الحرية، وإباء الظلم والذل والضعف، وقد كان المسلمون أعز الناس وأكرمهم نفوسًا، وأشدهم إباء للذل والظلم، عندما كانوا عالمين بأسرار هذا الإصلاح الذي جاء به دينهم عاملين به، ثم سرى هذا الإباء والعز منهم إلى غيرهم، بعد ما ضعف فيهم، فكان خيره عامًّا منتشرًا في البشر، فما أجدر الهجرة الشريفة بأن تكون تاريخًا عامًّا لهم. أشرق نور النبي صلى الله عليه وسلم على مدينة يثرب عند دخول الشمس في برج الميزان أول الاعتدال الخريفي، (23 سبتمبر) فكان ذلك إشارة إلى ما دخل فيه العالم من عصر العدل والاعتدال، فكان ينبغي للمسلمين أن يجعلوا ذلك مبدأ للتاريخ الشمسي للهجرة الشريفة عند حاجتهم إليه لأجل المعاملات المالية، كما جعلوا التاريخ القمري للمعاملات الدينية، فإذا كنا قد دخلنا اليوم في عام 1330 الهجري القمري فقد دخلنا منذ ثلاثة أشهر في عام 1290 الهجري الشمسي، فهل لمصر أن تكون السابقة إلى استعمال هذا التاريخ الشمسي، كما كانت هي السابقة للعالم الإسلامي كله إلى الاحتفال بذكرى التاريخ القمري، بعد أن كاد يُنسى فيها باستعمال التاريخ الإفرنجي الذي أخذناه عن الإفرنج في هذا العصر وما كنا لترجيحه على تاريخنا بمحتاجين. لولا أن انحلت روابطنا، وسحلت مرائرنا، لما استبدلنا بتاريخنا تاريخ غيرنا ولقد كان يوم تقرير الحكومة المصرية جعل التاريخ الإفرنجي رسميا يوم فرح وسرور في أوربة؛ لأن ما تقلد به أمة أمة في أمر من الأمور الملية العامة يكون دليلاً على ضعف المقلِّدين (بكسر اللام) وعلو شأن المقلَّدين (بفتح اللام) ومقدمةً لاستيلاء المتبوع على التابع والسيطرة عليه. يقول المقلدون منا: إنه لا بد لنا من التاريخ الشمسي وإن التاريخ الإفرنجي قد اشتهر فهو أولى من إحياء تاريخ الهجرة الشمسي الذي لا يفهمه أحد. وكذلك ينصح بعض الناس للدولة العثمانية أن تختار هذا التاريخ في معاملاتها المالية والرسمية. وهذه حجة الضعيف في استقلاله الشخصي والملي , ويرد هذا بأن الاستعمال يجيء بالشهرة ويجعل المجهول معروفًا، فقد كان بدء جعل الميلاد أساسًا للتاريخ في سنة 464 هجرية ولم يكن مشهورًا ولا معروفًا، ثم ظهر لهم الخطأ فيه فحرروه وصححوه ولا يزال مبنيًّا على خطأ استقلال رأي الأكثرين فيه على قاعدة (الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور) فما هو الموجب لترك ما عندنا من الصواب وتقليد غيرنا في الخطأ؟ وتاريخنا أحق بالتعميم وأجدر، وتقدم المرجوح في الزمن لا يجعله راجحًا، فالقِدم أمر نسبي كما قال الشاعر: إن ذاك القديم كان حديثًا ... وسيبقى هذا الحديث قديمًا لا يكفي في تعظيم الهجرة وإحياء ذكرى تاريخها أن نحتفل في هذا اليوم بإلقاء الخطب، وإنشاد القصائد، وإنشاء المقالات في الجرائد، وإنما يجب علينا تعظيمها بالعبرة والعمل، والمقابلة بين ماضينا وحاضرنا، لا لأجل التلذذ بذكر الماضي الجميل، والغرور بما مضى وانقضى من ذلك التاريخ المجيد، ولا لأجل الشكوى من الضعف العتيد، واليأس من المستقبل القريب أو البعيد، بل لأجل أن نتذكر ونتدبر، فنعلم أنه لا يصلح آخرنا إلا بما صلح به أولنا، كما قال أحد أئمة العلم من سلفنا، وإن في تاريخ الهجرة من دروب العبرة وآيات الحكمة {لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق: 37) . نودع عامًا ونستقبل عامًا فلا تطوى صحف عامنا الغابر على عمل يذكر، ولا ينشر في صحف العام الحاضر مشروع للأمة يُشكر، إلا ما يرى في بعض البلاد من الحركة الضعيفة، ودروج كدروج الأطفال وراء الشعوب القوية، التي تسير أمامنا بقوة البخار والكهرباء، فتسبق الأرقام على الأرض والطيور في الهواء، وإننا لنرى حولنا في كل عام فتنًا كقطع الليل المُظلم، كلما غشيتنا قطعة منها وجمنا وتألمنا، وصحنا ونُحنا، فإذا هي انجلت عدنا كما كنا. لا نحسب لما بعدها حسابًا ولا نعمل لها عملاً، أرضينا أن نكون ممن قال الله تعالى فيهم {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) . كلا إنا إلى ربنا تائبون، ولما هدانا إليه من الجمع بين العلم والعمل متوجهون، بهذا تبشرنا الحوادث، وإلى هذا تدعونا الكوارث، ورب مصيبة أفادت عبرة خير من نعمة أحدثت غرورًا وفترة، وإننا نهنئ إخواننا المسلمين على رأس هذا العام، بما تجدد لهم من شعور الأخوة العام، ونبشرهم بأن جماعة الدعوة والإرشاد قررت تنفيذ نظام مدرستها الكلية (دار الدعوة والإرشاد) من غرة هذا الشهر فاتحة العام الهجري المبارك إن شاء الله تعالى، وسينشر هذا النظام في الجرائد فيرون فيه أنه هو الضالة التي ينشدها المصلحون، والرغيبة التي ينتظرونها المحسنون {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) . ... ... ... ... ... ... ... ... ناظر دار الدعوة والإرشاد ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

علاوة للمقالة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ علاوة للمقالة كتبت هذه المقالة في سلخ ذي الحجة سنة 1329 في إدارة المؤيد؛ إذ كلفت ثمة أن أكتب مقالة افتتاحية لعدد المؤيد الذي يطبع في ذلك اليوم، ويصدر في صبيحة المحرَّم افتتاح سنة 1330 أو ليلتها، كتبتها على عجل ومرتبو حروف المؤيد يأخذون مني كل ورقة قبل أن يجف حبرها ويستعجلونني بما بعدها، فلم يسمح ضيق الوقت واستعجال العمل بشرح مسألة إحياء التاريخ الهجري الشمسي والتوسع فيها، لهذا رأيت أن أجعل لها هذه العلاوة الآن، وأن أطبعها على حدتها وفي المنار. من اختبر أحوال المسلمين في هذا العصر يرى في أخلاقهم وأحوالهم تناقضًا عجيبًا إذ يراهم من أشد خلق الله غيرة على دينهم وحرصًا على جامعتهم الإسلامية، ومن أشد خلق الله تهاونًا وإهمالاً في أمر دينهم، وعدم المبالاة والاكثرات بما يحفظ جامعتهم ويقوي رابطتهم، وإذا بحث في اختلاف الوجوه بين هذه الأمور المتناقضة يرى شواهد كثيرة تدل على أن ما ذكرنا من حرص السواد الأعظم وغيرتهم محصورة في حب استبقاء الموجود، وأما تهاونهم وإهمالهم وعدم مبالاتهم فلا تنحصر في تركهم السعي لاسترداد ما فقدوا من علم وعمل، ونور وهدى، ومجد تليد، وسيادة قديمة، بل تتناول مع هذا ضعف الهمة في طلب المجد الطريف، وعدم العناية في البناء والتجديد. ولو كان هذا التفصيل الذي يدل عليه الاختبار، ويثبته التمحيص والاعتبار، عامًّا شاملاً لجميع المعروفين من أهل الرأي والعمل من المسلمين (على قلتهم) لكان دليلاً على أن المسلمين يموتون موتًا طبيعيًّا، وأن أعداءهم لا يحتاجون إلى أدنى سعي في الإجهاز عليهم، ومبادرة ما يخشونه من يقظتهم وانتباههم؛ لأن أخص صفات الأحياء الذين يزدادون حياة وقوة هو أن يطلبوا ما يمد حياتهم وينميها، وأخص صفات الموجودات المشرفة على الموت والفناء أن تنحل وتنقص يومًا بعد يوم فتتألم لما ينقص منها، ولا تطمع في زيادة تمد حياتها ولا تطلبها. نرى بعض الشعوب تحيا بعد موت لتجدد ما كان اندرس من مقوماتها ومشخصاتها، كاليونان والأرمن على تفرقهم، والقبط على قلتهم، ونرى المسلمين على كثرتهم، واتصال أقطارهم، قد صاروا طُعمة لكل آكل، ونهبة لكل طامع، وأكثرهم راضون بسوء ما هم فيه، ومنهم من يطلب تغييره بالانسلاخ من ماضيه، والاندغام في شعب غريب لا يرتضيه، وهؤلاء هم الذين يسمون أنفسهم المجددين، وطلاب المجد والحضارة، ومكوني الوطنية، وخالقي الشعور بالحياة المدنية، والحق أنهم شر من الراضين بما وصلنا إليه من الضعف والخمول؛ لأن هؤلاء الخاملين قد رضوا بهذه الحالة التي لا نجد لها تفسيرًا إلا أنها مما يسمونه (الموت صبرًا) وأما المقلدون الذين رضوا بانحلال رابطتهم الملية، وعفاء مقوماتهم ومشخصاتهم الموروثة، وانتحال جنسية لغوية أو وطنية جديدة، لا اضطلاع لهم بها، وليسوا إلا مقلدين في انتحالها، فإنما رضوا أن يبخعوا أنفسهم، وينحروا أمتهم، ويجعلوها غذاء لأعدائهم. هنالك حزب ثالث وسط بين ذينك الحزبين، وهم حزب الله المفلحون إن شاء الله، الذين يطلبون المجد الطريف، ليكون متحدًا بالمجد التليد، الذين يريدون الحياة بمقوماتهم ومشخصاتهم الخاصة بهم، لا بانتحال ما هو من ذلك لغيرهم، الذين يريدون صقل جوهرهم لتظهر خواصه ومزاياه في أكمل ما يمكن أن يكون عليه، لا تحويله ولا تمويهه بما ليس منه. إن ما يُرى من ظواهر الحياة على حزب الجمود إنما هو الذماء الباقي لهم من الحياة القديمة، وإن ما يرى من أعراض الحياة على حزب التقليد إنما هو صناعي مستعار من الأمم الغريبة، والذماء لا يلبث أن يزول، والمستعار مهما طال زمنه مردود، وأما حزب الوسط فهم شهداء على الفريقين، ولكنهم لا يزالون غرباء في ديارهم، والرجاء كما قلنا متعلق بهم أو محصور فيهم، وهم المخاطَبون بإقناع أهل الإخلاص بإحياء ما اندرس من السنن: وسن ما يعد من النافع الحسن، عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء) وقد سن عمر بن الخطاب رضي الله عنه - ووافقه المسلمون كافة - سنة التأريخ بالهجرة في الحساب القمري، ثم اشتدت الحاجة إلى إحياء التأريخ بها في الحساب الشمسي، فما لنا لا نستعمل كِلا التاريخين، وقد هدانا الله تعالى في كتابه ونظام خليقته إلى الحسابين {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) . إننا نرى أهل الملل كافة والنصارى منهم خاصة يحافظون على تواريخهم الملية، ولا يكادون يستعملون معها غيرها، حتى إننا نراهم ينقلون الشيء عن غيرهم كالمسلمين ويكون فيه تاريخ بعض الوقائع والحوادث فيحولونه في أثناء النقل إلى تاريخهم حتى لا يفكر قراء ما يكتبونه أو يقولونه - ولو نقلاً - في غير ما هو لهم. بل نرى الملايين من الروم الأرثوذكس لا يتركون ما اعتادوا من الغلط في تاريخ الميلاد الذي يعبرون عنه بالحساب الشرقي، ونرى القبط يقدمون تاريخهم الخاص بهم الذي يسمونه تاريخ الشهداء على تاريخ الميلاد العام بين أهل ملتهم، ولو تركوا تاريخ الشهداء إلى تاريخ المسيح الذي يقولون: إنه رب الشهداء وإلههم لم يكونوا قد تركوا شيئًا من شئونهم الملية إلى ما ليس منها. فما بالنا نحن المسلمين نرغب عن تاريخنا الذي هو أجدر جميع التواريخ بالتعميم إلى تواريخ الأغيار من الروم والإفرنج والقبط وغيرهم؟ إن ديننا يهدينا إلى أن نكون أئمة متبوعين، فلماذا ذللنا حتى رضينا أن نكون مقلدين تابعين، ونحن نرى الذين جعلناهم أئمة لنا يسخرون منا ويدعوننا متعصبين. إلا أن من الذل والخسف الذي سنته الحكومة المصرية ما نراه في كثير من أوراقها الرسمية وأعداد البيوت والمركبات وغير ذلك من تشريف الكلم والأرقام الإفرنجية على مثلها العربي، فإما أن تجعل ما يكتب بالإفرنجي هو الأعلى وإما أن تجعله هو الأيمن، ومن طَمَسَ التفرنج نور بصيرته، أو طبع الذل على قلبه، فعدّ هذا مما لا يبالى به، ولا يُؤبه له، يقال له إذًا: كيف اهتم به سادتك الإفرنج ونفذوه في بلادك؟ وأنَّى ينفع القول، ومن هان عليه الذل في الأمر الصغير، لا يأبى حمله في الأمر الكبير، وقد قلت في المقصورة. من ساسه الظلم بسوط بأسه ... هان عليه الذل من حيث أتى إذا أردنا أن نحيا فعلينا أن نهتم بكل ما نحفظ به مقوماتنا ومشخصاتنا الملية الموروثة، وأن نقتبس كل ما نراه نافعًا من حضارة هذا العصر، بهذه النية وهذا القصد، وأن نهتم بالصغير والكبير من ذلك على السواء، وأن نجتهد لنكون رءوسًا لا أذنابًا، وأئمة لا أتباعًا، وما دمنا لا نستغني عن التاريخ الشمسي في معاملتنا المالية ونحوها، فلا مندوحة لنا عن جعله هجريًّا كالتاريخ القمري في المعاملات الدينية. إذ أردنا أن نسنَّ هذه السنة فالطريق قد أشرع، والحساب قد وضع، فقد صنف أحمد مختار باشا الغازي كتابًا فيه سماه (إصلاح التقويم) وطبع بالعربية والتركية سنة 1307 تكلم فيه عن تواريخ الأمم والشعوب المشهورة وبيَّن وجه الحاجة إلى العمل بالتاريخ الهجري الشمسي وضع له جدولاً مطولاً بيَّن فيه السنين الشمسية الهجرية مع المقارنة بينها وبين السنين القمرية والسنين الشمسية الميلادية من ابتداء السنة الشمسية الهجرية الأولى إلى سنة 1591 التي توافق آخر سنة 1639 القمرية وسنة 2212 الميلادية، وقد استحسن أن تسمى الشهور بما هو نص في الدلالة على المسمى في تحديد الفصول، فالسنة الهجرية الشمسية تبتدئ من أول الخريف فتسمى شهورها هكذا: الخريف الأول، الخريف الثاني، الخريف الثالث الشتاء الأول الشتاء الثاني الشتاء الثالث ... إلخ. وسمَّى الربيع بهارا وهو لفظ تركي - وذكر وجهًا ثانيًا نذكر بقية الشهور به وهو: أول الربيع، أوسط الربيع، آخر الربيع، أول الصيف، آخر الصيف، أوسط الصيف. ويمكن أن يقال: الربيع الأدنى، الربيع الأوسط، الربيع الأقصى وهكذا، ولعل هذا هو الأولى، وأي التعبيرات اختير فكل من سمع اسم الشهر يفهم معناه من لفظه. وأخبرني أحمد مختار باشا الغازي في القسطنطينية أنه كتب تقريرًا يطلب فيه من مجلس الأمة العثمانية العمل بهذا التاريخ وجعله رسميًّا للدولة. ولكن ما دامت الغلبة في المجلس للمتفرنجين المعروفين، فلا تُرجى إجابة هذا الطلب، إلا أن تطالب الأمة به من كل ولاية. وإذا سبق مسلمو مصر إلى استعمال هذا التاريخ والدعوة إليه، فالمرجو أن يعم انتشاره في أقرب وقت، والله الموفق.

نقل كلام المخالفين أو المبطلين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نقل كلام المخالفين أو المبطلين (س1) من صاحب الإمضاء في دمشق حضرة مولانا أوحد الأعلام نفع الله بعلمه الأنام. اطلعت على كتاب لأحد علماء فاس ينتقد فيه ما جاء في مقدمة شرح نهج البلاغة لابن أبى الحديد (صحيفة 4 من طبعة الحلبي الجديدة) من نقله مذهب البغاة والخوارج، ومقالة أبى القاسم البلخي في عبد الله بن الزبير (فى الصفحة نفسها) يقول الفاسي: سبحانك هذا بهتان عظيم، فقبح الله قائله فكيف يليق نقل هذه العبارة ونشرها بين أهل الإسلام والزمان كما ترى، وأهله إلى ورا (ثم قال الفاسي) ولما ذكر العلامة الأبي في شرح صحيح مسلم ما ذكره أهل السير من الأمور التي نقمت على سيدنا عثمان رضي الله عنه في خلافته. قال العلامة السنوسي في اختصاره ما نصه: قلت وقد نقل الأبي هنا كلامًا في عثمان رضي الله عنه لا يحل له أن يفوه به، ولا أن يكتبه، وأخاف أن لا يفي بسيئته حسنة ما تعب في تأليفه كله فنعوذ بالله من سوء الأدب في حق الطاهرين المطهَّرين، وأسأل الله لي وله العفو والصفح والمغفرة، والواجب على من نسخ تأليفه هذا أن لا يكتب فيه هذا المحل، ومن اطلع عليه فلا يحل له أن يفوه به ولا أن يعتقد صدقه بلا شك، وبالله التوفيق اهـ كلام السنوسي. فهل من ملام على إمام ينقل مذاهب الفرق وأقوالها ومعتقداتها وما تدين الله به مما تراه حقًّا وصوابًا وطاعة مشيًا مع اجتهادها وما أداه إليه نظرها؟ وهل يلام من ينشرها ويعد مسيء الأدب مع أنه أوردها إيقافًا على المذاهب والآراء، وإراءة لوجوه الخلاف، وإرشادًا لمواضع الشبه التي منها أتى من أتى. وهل للسنوسي مستند في حظر التفوه به وكتابته وعده سيئة وجريمة تُحبط عمل المؤلف في تأليفه كله؟ وهل يسلم له دعواه وجوب حذف مثل ذلك من التآليف حتى يفتح باب التلاعب في مؤلفات الأعلام بالحذف والزيادة والنقص؟ وكان السنوسي لم يرَ كتب المقالات والمؤلفات في الملل والنحل لمثل الإمام أبي منصور البغدادي وللإمام ابن حزم والشهرستاني وأمثال ما جاء في آخر المواقف للعضد , فما سبب هذا الجمود ونبذ مشرب سلفنا المحققين؟ وهل هذا يؤيد ما يرمى به القطر المغربي من التعصب الذي سبب له ما سبب مما حاق به ويحيق. وقد اطلعت على جواب كتبه بعض الأساتذة عندنا إلا أني رغبت أن أزداد من العلم فيما يهم الوقوف عليه من ذلك لذا أرجو شرح هذا والتفضل بجوابه -لا زلتم مظهرًا للإفادة-، وكوكبًا في أفق الفضل. حامد بن أديب الشهير بالتقي. (ج) تختلف آراء الناس باختلاف معارفهم ومشاربهم، وحال الذين يعيشون معهم، حتى إن الرجلين ليحكمان في مسألة واحدة بحكمين مختلفين، أو يريان فيها رأيين متضادينٍ، وكل منها صحيح القصد، متوخٍّ للمصلحة والنفع، وربما يرد كل منهما على الآخر ويقع التعادي بينهما أو بين أنصارهما فيصدق على كل من الفريقين أنه يجاهد في غير عدو , ومن هذا الباب وضع بعض علماء السلف الصالحين لعلم الكلام وردهم على المبتدعة، وإنكار آخرين عليهم وعد علمهم بدعةً ضارةً، حتى قال بعضهم لبعض: ويحك ألست تحكي بدعتهم ثم ترد عليها؟ أي أن ذلك كافٍ في ذم علم الكلام وتحريم التأليف فيه لئلا يرى البدعة من لم يكن يدري بها. إنني أرى ما قاله العالم المغربي المشار إليه في السؤال، وما نقله عن السنوسي يدخل في هذا الباب، على أن السنوسي من المصنفين في علم الكلام الذين نقلوا عقائد الكفار والمبتدعة وردوا عليها. لو كان ذلك المغربي عائشًا في مصر أو الشام أو الأستانة أو تونس يرى كتب الملاحدة والنصارى في مدح دينهم والطعن في غيره، ويرى جرائدهم منشورة متداولة أيضًا لما تهيج عصبه وتبيغ دمه لجملة أو جمل قرأها في شرح نهج البلاغة لبعض فرق المسلمين. وسيرى في بلاده، وقد أوقعها الجهل والتعصب للمألوف في قبضة فرنسة ما يهون بالإضافة إليه كل ما رآه في شرح نهج البلاغة مخالفًا لرأيه ومذهبه، سيرى الكتب الكثيرة في الطعن في نفس القرآن العظيم، والنبي الكريم، عليه الصلاة والتسليم، والكتب الداعية إلى الإلحاد، المؤلفة لهم كل اعتقاد، وسيرى أن شبهات هذه الكتب ومشاغبات دعاة النصرانية من جهة ودعاة الإلحاد والتفرنج من أخرى قد راجت في أذهان بعض قومه، وأن كشفها بالتسليم لقول أمثاله من العلماء المعاصرين، أو التقليد لما في بعض كتب الميتين، غاية لا تدرك، وأمنية لا تُنال. إن اطلاع العوام والطلاب المبتدئين على العقائد الباطلة ومقالات المبتدعة، لا ينكر ضرره، ولا تؤمن فتنته، كاطلاعهم على سيرة أهل الفسق والفجور، وطول استماعهم لما يزينها للنفوس، كالأشعار والأغاني المشتملة على المجون، فإذا كنا لا نستطيع منع افتتان أولادنا وعَوَامَّنا بالباطل إلا بإزالته وإزالة أهله من الأرض، ولا منعهم من الفسق إلا بإعدام كل مبذولة العِرض، فما نحن بحافظيهم من الكفر ولا من الفسق. إن الله تعالى - وهو العزيز الحكيم - قد حكى في كتابه المجيد كفر الكافرين وإلحادهم في آياته: وطعنهم في كتابه ورسوله، ولم يمحهم بقدرته من الأرض ليحمي المؤمنين من أباطيلهم، ويحول بينهم وبين شرورهم، وهكذا فعل حماة الدين، وحراس عقيدة الموحدة، نقلوا عقائد المخالفين ومقالاتهم وردوا عليها بالدلائل. إنما يُشدِّد النكير على من يكتب ما يخالف عقيدته أو مذهبه أحدُ رجُلين رجُل شديد التعصب لما هو عليه، يرى أنه يجب على جميع الناس موافقته فيه، وأن يتبعوا من اتبعهم، ويقلدوا من قلدهم، ورجل حريص على عقيدته ومذهبه، وهو على غير بصيرة منه، ولا ثقة به، فهو يخاف أن تطير به كل ريح، وأن تذهب به كل شبهة، ولا يليق هذا الضيق في الذرع، والحرج في الصدر، بالمسلم البصير في دينه، المعتصم بيقينه، وهو يعتقد أن الحق يعلو ولا يُعلى، وأنه متى جاء الحق زهق الباطل، وأن الله يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وأن بقاء الباطل في نومة الحق عنه، وإنما اللائق بصاحب هذا الحق واليقين أن يقذف بحقه على باطل غيره ليدمغه، لا أن يشكو منه ويلعن من قاله أو كتبه، ويوجب تحريفه والتصرف فيه. من الصواب أن نمنع أولادنا وتلاميذنا من قراءة كل ما نعتقد أنه ضار أو باطل إلى أن نكمل تربيتهم وتعليمهم ونثق بمعرفتهم للحق، واستقلال عقولهم في الحكم، وإذًا نبيح لهم أن يقرءوا ما أحبوا فلا خوف من الباطل الضعيف اللجلج على الحق القويِّ الأبلج؛ لأن الحق هو صاحب السلطان والفلج، ومن الصواب أن ننصح للعوام بأن يتحاموا كتب الكافرين والمبتدعين حفظًا لأذهانهم من الاضطراب ونأيًا بنفوسهم عن مهابِّ الأهواء، وأن نرشد محبي المطالعة منهم إلى الكتب النافعة لهم، التي لا تفسد عليهم نعمة الطمأنينة، وهي النعمة التي لا تساميها نعمة. لنا أن نُعْنَى بهذا وذاك، وأن نجعل لما نكتبه أو نطبعه حواشي ننبه بها على مواضع الخطأ والصواب، وليس لنا أن نطلق القول في تحريم قراءة كل ما يخالف اعتقادنا وحرمة كتابته وطبعه، ولا أن ننقل كلام مؤلف فننقص منه أو نزيد فيه، فإن هذا من الكذب والخيانة، وإن قومًا يأتونه أو يستحلونه لا يثق أحد بنقلهم، ومن زعم أن هذا جائز في الشرع فقد أهان الشرع، وصد عنه جميع العقلاء من الخلق، وجعله دينًا خاصًّا ببعض البلداء، ووقفًا على من تلقنه من الجهلاء، وإن كان لا يقصد شيئًا من هذه المفاسد، ويا لله العجب من شدة جرأة المتحمسين على التحريم، والافتيات على الدين بقصد حماية الدين. لو جرى المتكلمون والمؤرخون ونقلة اللغة ورواة الأخبار والآثار على فتوى السنوسي والمغربي لبطلت ثقتنا وثقة جميع الناس بجميع العلوم النقلية لجواز أن يكون كل ناقل قد حذف من منقوله شيئًا مما يخالف اعتقاده أو يرى نشره ضارًّا ببعض أهل مذهبه ونحلته، أو حرفه واستبدل به غيره، وحينئذ لا يبقى عند المسلمين شيء يمكن أن يحتج به أحد على آخر إلا القرآن الكريم، وما عساه يوجد من حديث متواتر مجمع على تواتره. فظهر مما تقدم أن السنوسي مخطئ في تحريمه التفوه بما قاله أهل السِّيَر في عثمان وكتابته، وفي إيجابه على من نقل كتابًا فيه شيء من ذلك أن يحذفه منه، فإننا نقرأ في كتاب الله مثل قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا} (مريم: 88-89) ، وقوله جل ذكره: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 5) وقوله تبارك اسمه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا} (الفرقان: 4) وقوله - صدق وعده -: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) والشواهد على هذا كثيرة , وليست حكاية الطعن في عثمان - وهو غير معصوم - بأعظم من حكاية هذه الأقوال , والمسألة واضحة، وهذا ما رأينا في كتابته من العبرة والفائدة.

أسئلة من الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من الهند بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف الحكيم صاحب المنار المنير دام إقباله ثم سلام الله عليك ورحمته ورضوانه. وبعد فقد اطلعت على الجزء الرابع من المجلد الثاني عشر لمناركم المنير، ورأيت في باب الفتاوى السؤال الذي هو لأحد أبناء البلاد العربية في صدد (الرقص والتغني والإنشاد في مجلس الذكر) والجواب عليه من علماء الأزهر الشريف مع تذييلكم عليه بما فيه من التشديد والنكير على الإطلاق وتكفير فاعله ومن حضره [1] . فعجبت جدًّا لهذا الجواب الذي لا يشوبه أدنى ريب؛ لأن أمثال هذا في نواحينا كثير، والعلماء أكثر، وكلهم من شافعي وحنفي ومالكي وحنبلي يجوِّز ذلك ويعده من الشعائر الدينية. والحقيقة يا سيدي أن الإنسان لَيحار جدًّا وتكاد تُشكل عليه أمور دينه من حيث إن الأزهريين ومن أشرت إليهم من علمائنا كل منهم مقلد لمذهب من هذه المذاهب ومع ذلك نرى الفرق كبيرًا بين ما يقوله هؤلاء وأولئك من جواز وتحريم، فلَيْت شِعري ما هذا الخلف وما هذا الإشكال؟ وليت شعري كم لمالك من مذهب وكم للشافعي وأخويه من مذاهب؟ أرشدونا إلى الطريق القويم أرشدكم الله إلى خير الدارين. ثم يقول الأساتذة الأزهريون (وأما نشيد الأشعار بتلك الألحان المحدثة والنغمات المطربة فهو حرام لا يفعله إلا أهل الفسق والضلال -إلى قولهم- قال الإمام الأذرعي: إني أرجح تحريم النغمات وسماعها؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل) إني أسلم بتحريم النغمات إذا كان يراد منها الأشعار المحدثة والنغمات المطربة، ولكن ما قول سيدي الأستاذ في خطبة الجمعة وتلاوة القرآن الكريم حيث إن الاثنين لا يتلوان إلا بالألحان كما لا يخفاكم، فهل هذا الفسق والنفاق والكفر يتناول هذين أم لا؟ وإذا كان ذلك فما هو ذنب من حضره -أعني السامع- وما هو إلا متبع ومقلد، كما أن الخطيب في نواحينا وسائر الأقطار الإسلامية إلا القليل لا يُدعى خطيبًا إلا إذا كان ذا صوت جميل وكذلك تالي القرآن الحكيم فما هو قولكم في ذلك؟ وما هو معنى قوله تعالى: {وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً} (المزمل: 4) أجيبونا عن ذلك وسامحني يا سيدي إذا أخذت جانبًا من وقتكم النفيس أدامكم الله سراج هدى يهتدي به من ضل عن محجة الصواب واقبلوا في الختام فائق احترام المخلص ناصر مبارك الخيري. (أجوبة المنار عن هذه الأسئلة) المذاهب واختلاف فقهائها اعلم يا أخي أن المجتهد لا يكون له في المسألة إلا رأي واحد ومن نُقِلَ عنه قولان أو أكثر في مسألة واحدة فإما أن يكون قد قال أحدهما في وقت ثم رجع عنه فقال القول الآخر في وقت آخر، وإما أن يكون النقل عنه غير صحيح، والمسائل التي يتردد فيها ليس له فيها رأي. والمذهب له في عرف الناس إطلاقان، عامي وخاصي (فالأول) هو نقل الأحكام التي قررها أو أفتى بها المجتهد، فمن عرفها وعمل بها من غير وقوف على دليل المجتهد عليها واقتناعه به يسمى مقلدًا له، وهذا هو معنى المذهب الذي يدعيه الآن جميع المنتسبين إلى المذاهب؛ لأنهم يظنون أن ما يقوله فقهاء مذاهبهم وما هو منقول في كتبهم كله مروي عن أئمتهم، وأن هؤلاء الفقهاء لا حظ لهم منه إلا نقله وتفسيره، وعلى هذا بنيتم تعجبكم من تناقض فقهاء كل مذهب في المسألة الواحدة. والصواب أنه يقل في هؤلاء الفقهاء من اطلع على كتاب للإمام الذي يدعي أنه درس فقهه أو قرأ شيئًا مما نقله عنه تلاميذه ككتاب الأم للشافعي والمدونة لمالك وكتب أبى يوسف ومحمد صاحبي أبى حنيفة رحمهم الله ورضي عنهم، وإنما قرءوا بعض كتب المتأخرين التي سنذكر لها وصف أصحابها، وما فهموها حق فهمها، وكلهم يتجرأ على الفُتيا فتختلف فتاواهم، وتتناقض آراؤهم، وفي كل قطر أفراد منهم، يثق بهم عوام بلادهم، كما هي عادة جميع العوام من جميع الملل مع رؤسائهم، يقلدونهم كيفما كانوا ومهما كانت درجة علمهم أو جهلهم، فإن قاعدة التقليد والاتباع هي أن يثق الأدنى بمن هو أرقى منه ولو في القراءة والكتابة مطلقًا، فالأمي يرى متعلم القراءة أو الكتابة أرقى منه، وإن كان عاميًّا مثله. وكل هؤلاء المفتين عاميهم ومثقفهم وفقيههم (إن وجد) ينسبون كل ما يفتون به إلى أئمة المذاهب ويتعززون بأسمائهم ويتخذون هذه الأسماء أتراسًا ومجانَّ يدافعون بها كل من يتصدى لإرشاد العامة وينهاها عن البدع والخرافات، بل يتخذونها سلاحًا يحاربون به السنة وأنصارها. الإطلاق الثاني هو بمعنى ما يسمونه الآن بالمسلك والمبدأ وهو طريقة المجتهد في استنباطه للأحكام وأصوله التي يفرع عنها كما بين ذلك في علم الأصول، وهذا هو المعنى الذي كان يقصده أصحاب أولئك الأئمة من الانتماء إليهم في عصرهم. ولم يكن أصحابهم مقلدين لهم يأخذون كلامهم قضايا مسلَّمة بغير دليل بل تعلموا منهم الاستدلال، ونقلوا عنهم علمهم ليكون مثالاً يُحتذى في استنباط الأحكام، كما صرح بذلك المُزَني صاحب الشافعي في أول مختصره إذ قال: (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي ومن معنى قوله لأُقرِّبه على من أراده مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) . ثم جرى على ذلك من بعدهم من العلماء ووسعوا دائرة الاجتهاد والاستنباط على ذلك النحو والمذهب، ثم خلف من بعد هؤلاء خلف رضوا أن يكونوا عيالاً على من قبلهم واستنبطوا الأحكام من عباراتهم، وفشت بدعة التقليد والأخذ بقول من يوثق بشهرته من غير دليل، وما زال الناس يتدلون إلى أن وصلوا إلى قرار الهُوة التي تعجب السائل من اضطرابهم واختلافهم فيها. وسننشر إن شاء الله تعالى في جزء تالٍ جملة مفيدة في هذا البحث عن كتاب الإرشاد للعماد السكري رحمه الله تعالى. وجملة القول أن سبب اختلاف من يسمونهم الفقهاء من أهل المذهب الواحد، هو أنهم ليسوا ملتزمين للنقل عن إمام أو عالم معين كما هو مقتضى التقليد الذي يدَّعونه ولا جارين على أصول واحدة في الاجتهاد الذي يأتونه وينكرونه، فلا عجب إذًا في اختلافهم واضطرابهم، ولا عبرة في دعواهم الانتساب إلى أولئك الأئمة رضي الله عنهم. وهاهنا مسألة ينبغي التفطن لها وهي دعوى المقلدين أن فائدة التقليد منع تشعب الخلاف في عامة الأمة، وخاصة إذا حصر في عدد قليل كالأربعة. وهذه الدعوى ممنوعة لا في مجموع المذاهب فقط بل في مقلدة كل مذهب مذهب أيضًا كما بين السائل، وكما هو مشاهد لكل ناظر، وسبب ذلك أنه لم يتفق للمنتمين إلى مذهب من المذاهب المشهورة، المنتشرة في أقطار كثيرة، أن يتفقوا على دراسة كتاب أو كتب معينة ويعملوا بها على سواء، سواء كانت كتب إمام ذلك المذهب أو كتب بعض المؤلفين المنتمين إليه، وإنما يتبعون في كل قطر من تصدروا فيهم للتعليم والفتوى فيحرمون ما حرموا عليهم، ويحلون ما أحلوا، ويجرون على ما أقروهم عليه من البدع، ويتركون ما تركوا من السنن، وهؤلاء المتصدرون يتفاوتون في علمهم واجتهادهم - وكل منهم يجتهد في الوقائع التي تحدث في عصره، وإن أنكر الاجتهاد بلسانه وقلمه، وإنما ينكره على غيره إذا خالف هواه فيه؛ ولذلك تتفاوت أعمال المتبعين لهم. وثَمَّ مسألة أخرى يغفل عنها الناس وهي أن علم الفتوى عند كثير من المتفقهة في أكثر البلاد الإسلامية لا صلة له بالعمل، فترى أحدهم يحضر الدعوات والاحتفالات، التي تؤتى فيها البدع والمنكرات، ويهنئ أهلها ويدعو لهم، ولا ينكر عليهم شيئًا من عملهم، ولكنه قد يقرر في الدرس أو يكتب في الفتوى أو المصنفات أن هذه الأشياء من البدع والمنكرات، وربما يصفها بأنها مما عمت به البلوى، ومنها ما يحلونه بالتأويل، ومنها ما لا يجدون له تأويلاً، فإذا فطن السائل لما ذكرنا يذهب تعجبه ويزول استغرابه مما ذكره. وسيرى في الفتوى السادسة بعد هذه أن بعضهم أحل أكل أموال المعاهدين والمستأمنين ولو بالخيانة والسرقة، وهذا من أغرب شواهد المسألتين. ويدلنا ما ذكر على أن الهداية التي يجب الرجوع إليها إذا اختلفت الأدلاء، وعمي الأمر على الناس، هي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح في العمل بها {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً} (النساء: 59) . إنشاد الشعر بالنغمات إذا حكَّمنا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة لا نجد فيهما دليلاً على تحريم إنشاد الشعر بالنغمات والحديث الذي ذكروه لا يصح فقد رواه أبو داود والبيهقي عن ابن مسعود وفي إسناده شيخ لم يسمَّ، وفي بعض طرقه ليث بن أبي سليم قال النووي: إنه متفق على ضعفه. وقد فصلنا القول في هذه المسألة تفصيلاً في الجزء الأول وما بعده من مجلد المنار التاسع وفيه أن الغناء قد يحرم حرمة عارضة ويكره الاستكثار منه ولكن الأصل فيه الإباحة. ويستحب في الزفاف والعيد وعند قدوم المسافر كما بيناه هنالك فلا هو فسق ولا كفر ولا نفاق. الخطبة بالألحان والسنة فيها روى مسلم وابن ماجة عن جابر رضي الله عنه أنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم مساكم) الحديث فهذه هي السنة في كيفية أداء الخطبة، وهذا ما يُرجى به التأثير والاتعاظ بها التي شرعت لأجله، وكل أداء يخالفه فهو مكروه وأشده كراهة تكلف الألحان والنغمات فيها كما يفعله بعض الترك وغيرهم، وإذا قيل بحرمة هذه الألحان والنغمات الموسيقية في الخطبة لم يكن بعيدًا؛ لأنه على مخالفته للسنة الصحيحة تشبُّه بالكفار في خطبهم الدينية وعبادتهم، ولو من بعض الوجوه فإن لم يكن تشبهًا؛ لاشتراط القصد في معنى التشبه كان تركًا لما أمرنا به من مخالفتهم في أمثال هذه الأمور، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء وقيل له: إن اليهود تصومه أمر بمخالفتهم بصيام يوم قبله أو بعده؛ ولأنه مفوت لحكمة الدين في الخطبة وهو الزجر المؤثر في القلوب، والوعظ الذي يزع النفوس، وهذه النغمات من اللهو الذي ترتاح إليه النفوس وتستلذه، وترويح النفوس بالمباح غير محظور ولكن الخطبة لم تُشرع له والمساجد لم تبن لأجله. وقد صارت الخطبة في أكثر البلاد الإسلامية رسومًا تقليدية مؤلفة من أسجاع متكلفة كسجع الكهان، وتؤدى بنغمات موقعة كنغمات القسوس والرهبان، وقد قارب السنة فيها بعض الخطباء المصريين والسوريين، ولم أر خطيبًا ذكَّرني خطبة النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة. زارني سيد عراقي مثَّل لي تحريض العرب على القتال بخطبة تضطرب لها القلوب، وتثير كوامن الحمية والنجدة من قرارات النفوس. تلاوة القرآن بالألحان قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن) رواه البخاري عن أبي هريرة وأحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وأبو داود عن أبي لبابة بن عبد المنذر والحاكم من حديث البراء بن عازب وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسنًا) . وقد ذهب بعض العلماء إلى أن التغني بالقرآن معناه الاستغناء به عن غيره، وهذا غير صحيح بدليل حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيحين ومسند أحم

أموال الشركات الأجنبية في بلادنا وحقوق المعاهدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أموال الشركات الأجنبية في بلادنا وحقوق المعاهدين (س6) من محمد جمال أفندي سبط الفواردي بدمشق الشام سؤال موجه إلى العالم العامل والمحقق الكامل منار الفضل والعرفان الشيخ رشيد أفندي رضا حرسه الله وحفظه آمين. ما قولكم - ساد مجدكم - في مس حقوق الشركات الأجنبية وأرباب الامتيازات المعطاة لهم من الخليفة الأعظم هل هم معاهدون مستأمنون مصونو الحقوق أم حربيون؟ وهل يجوِّز الشرع لأحد هضم حقوقهم بدعوى أنهم دخلوا بلادنا وأخذوا الامتيازات من حكومتنا قهرًا، وإن كان بالصورة الظاهرة بأمان ورضى، أفيدونا الجواب، ولكم الشكر والثواب. (ج) إن احترام الأجانب المعاهدين أو المستأمنين واحترام أموالهم وحرمة التعدي عليهم أو عليها من المسائل المجمع عليها بين المسلمين المعلومة من الدين بالضرورة فليست مما يُسأل عنه أو يستفتى فيه، لولا تأويل المضلين. وقد كتب إلينا هذا السائل الفاضل كتابًا خاصًّا يعتذر فيه عن سؤاله هذا ويبين سببه وهو أن شيخًا من شيوخ الدجل معروفًا بمخادعة العامة واستمالتهم إليه بذم النصارى والتنفير منهم، وتلفيق كتب الأوراد والصلوات والكرامات قد أفتى من يظنون أنه من أهل العلم والتقوى بأن أموال الأجانب الذين في بلادنا مباحة للمسلمين فيجوز لمن قدر على أكل مال شركة الترام أو سكة الحديد أو غيرهما من الشركات الأجنبية أو الأفراد أن يأكل ما استطاع أكله سواء كان مستخدماً فيها أو غير مستخدم , ويتأول الحكم الشرعي المجمع عليه بأن هؤلاء الأجانب معاهدون أو مستأمنون في الظاهر ولكنهم حربيون في الواقع؛ لأنهم أخذوا الامتيازات بهذه الشركات من حكومتنا بالجبر والإكراه، لا بالرضى والاختيار. وهذا هو باطل التأويل، ومحض الكذب وقول الزور، فالامتيازات أخذت باختيار الدولة والسلطان الذي كان يقدسه مفتي الإباحة ويضلل مطالبيه بالإصلاح أو يكفرهم، والمعاهدات بين دولتنا ودول أصحاب هذه الشركات لا شك فيها، وإلا كانوا محاربين، ولا حرب بيننا وبين أحد منهم (إلا الإيطاليين الآن) والمصلحة في هذه المعاهدات لنا ظاهرة، وإذا نقض بعضهم شيئًا من شروط العهد فليس لأحد من أفراد الرعية أن يعده محاربًا ويستحل ماله ودمه، وإنما ذلك حق السلطان وأولي الأمر، ولولا ذلك لم يستقم نظام ولم تثبت مصلحة، ولو كان شرعنا العادل يبيح مثل هذا لما وثقت دولة من دول الأرض بعهودنا وأماننا، ولكانت معذورة في الاتحاد على استئصالنا، سبحان الله! جعل الشارع ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، ولعن من أخفر ذمتهم، كما ورد في حديث علي كرم الله وجهه في الصحيحين والمسند وكتب السنن الثلاثة وغيرها ومن حديث غيره أيضاً. ومعنى (يسعى بها أدناهم) أن العبد أو الأجير من المسلمين إذا أمن بعض الحربيين وجب على كل مسلم أن يحترم أمانه ويحرم عليه أن يتعدى على من أمَّنه، أو يؤذيه في نفسه أو ماله. وقال الحافظ ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئًا ذكره عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك قال: إن أمر الأمان إلى الإمام (الخليفة) ورد قوله بالحديث، واشترط أبو حنيفة في العبد أن يكون مقاتلاً ليصح تأمينه. وأما تأمين آحاد الصناع والزراع فلا خلاف فيه، ولكن دجال سورية ومفتي الإباحة فيها لا يعتد بتأمين السلطان نفسه ولا بعهده وعهد دولته بل يبيح السرقة والخيانة في الإسلام، وهما لا يباحان في حال من الأحوال.

الدخول في الماسونية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدخول في الماسونية (س7) من السيد أحمد بن يوسف الزواوي في (مسقط) . غب إهداء مراسم السلام، والتجلة والاحترام، لحضرة الماجد الهمام، والأستاذ الإمام، السيد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنير، نهرع إلى بابه، ونلتمس من سماحة جنابه، كشف ما يحوك في صدورنا عن هذه الجمعية، المدعوة بالماسونية، فقد تضاربت فيها الأقوال، واستحكمت حلقات الجدال وفشى الخلف في شأنها بين العلماء والأعلام، فمن مادح وذامّ، ومبيح الانتظام، ومفتٍ بأنه حرام، إلا أننا نرى القائلين بالحظر يكيلون جزافًا، ويقتضبون اقتضابًا، على حين استناد المبيحين إلى أصل الحل، ولما كان الناس لا يقتنعون إلا بجوابكم المؤيد بالحجة المتكئ على البراهين، تيممناكم، ولنا وطيد الأمل وأكبر الرجاء بأن تثلجوا غلتنا بالجواب الضافي الذيول، الكاشف عن موضوع تلك الجمعية وبُروغْرَامها نِقاب الخفاء، حتى نقدم رافعين الرءوس على الانتظام في سلكها، أو نرفضها رفض السقب غرسه ونحمل النفوس على فركها، ولا شك أن يكون كلامكم فصل الخطاب وحاسم النزاع. (ج) قد بينا من قبل أن هذه الجمعية سياسية أنشئت في أوروبة لإزالة استبداد الملوك وسلطة البابوات، وفصل السياسة عن الدين بأن يكون التشريع من حقوق الأمة غير مقيدة فيه بدين، وقد فعلت في أوروبة فعلها وأدت وظيفتها. والذين ينشرونها في الشرق لهم أهواء مختلفة، ومنافع متعددة، والرياسة العامة التي يرجعون إليها أوروبية، وإذ قد عرفتم حقيقتها وغرضها، فقد عرفتم حكم الدخول فيها، وما سبب اختلاف الأقوال في حكم الانتظام في سلكها إلا اختلاف العلم بحقيقتها، ولا يتسنى لأهل بلادكم أن يعرفوا هذه الحقيقة؛ لأن الذين يدعونهم إليها لا يبينونها لهم، وإنما يرغِّبونهم فيها ترغيبًا إجماليًّا ويعدونهم بكشف الستار عن الأسرار، بعد الترقي في الدرجات، ولم يقرءوا ما كتب فيها دعاتها وناشروها من المدائح، وما يلطخها به خصماؤها - ولا سيما رجال الدين - من الفضائح، ورُب مدح يمدحها به قوم يراه آخرون ذمًّا، وقد نشرها الإفرنج وأعوانهم المتفرنجون في مصر والمدن العثمانية منذ عشرات من السنين فلم يكن لها من ثمرة إلا إعداد النفوس لفصل السياسة والحكومة من الدين، والاستغناء عن الشرع بالقوانين، والمؤاخاة بين المسلمين وغيرهم، وموالاتهم لهم، ولعله تبين لكم بهذا الشرح كنه ما يمنونكم به من النفع، كما عرفتم ما يحكم به الشرع، وعسى أن يزيل ما بينكم من الخلاف، الذي هو أول ثمراتها في تلك البلاد.

المسألة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألة الشرقية سلسة مقالات لنا نشرنا ستا منها في المجلد الرابع عشر (7) الجهاد في الإسلام يقع الخلاف والنزاع والعداء بين البشر بسوء الفهم أكثر مما يقع بسوء القصد، وأعم أسباب سوء الفهم والتفاهم اختلاف المواضعة والاصطلاح: يطلق زيد القول بمعنى فيفهمه عمرو بمعنى آخر فيؤاخذ زيد عليه، ويرى زيد أن قوله لا يقتضي المؤاخذة وهو مصيب في هذا الرأي، وأن عمرًا ما آخذ، عليه إلا لسوء أراد به، ونية رديئة أضمرها له، وإلا لم يؤاخذه على الصواب، وهو مخطئ في هذا الرأي لأن عمرًا إنما آخذه؛ لأنه فهم من قوله ما لم يرد هو به. واختلاف المواضعة والاصطلاح الذي قلنا: إنه أعم وأكثر أسباب سوء الفهم له مناشئ متعددة، فإن اللفظ الواحد يكون به معنى أو عدة معانٍ في أصل اللغة، ومعنى آخر في اصطلاح الشرع، ومعنى آخر أو أكثر في اصطلاح بعض العلوم والفنون، ومعنى آخر في العُرف العام، ومعنى آخر في العُرف الخاص ببلد من البلاد أو طائفة من الطوائف كالكتاب أو الفقهاء مثلاً. وقد قال علماؤنا (لا مشاحة في الاصطلاح) وهذه الكلمة تجري دائمًا على ألسنتنا وأقلامنا ولكن لا يكاد يعامل بها أحد منا غيره. فنحن في مشاحات وملاحاة لا تنقضي. وقد يكون غير معذور ولكن البيان هو الذي يقطع التعلات والأعذار. من الألفاظ التي من هذا القبيل لفظ (الجهاد) في الإسلام والظاهر لنا أن بعض النصارى يفهمون أن المراد به اتفاق المسلمين كافة على قتال أو قتل كل من ليس بمسلم سواء كان محاربًا لهم أم لا , وهذا المعنى ليس مدلولاً له في اللغة العربية ولا في عرف القرآن والسنة ولا اصطلاح الفقهاء، وربما سرى فهمهم هذا إلى بعض المسلمين الذين يجهلون اللغة والشرع ويأخذون المسائل الدينية من المعاشرين لهم، وإن لم يكونوا من أهل دينهم، وكذا من جرائدهم. ومنهم من يفهم من الجهاد القتال باسم الدين أو لأجل الدين ويقسمون الحرب إلى دينية ومدنية ويفرقون بينهما بالتسمية وإطلاق لفظ الجهاد على الحرب الدينية فقط، ويخصونها بالذم والتشنيع والتنفير. كأنهم الحرب التي يسمونها مدنية من طرق الكسب والتجارة المحمودة، ويرون أنه لا حرج على من يحارب قومًا يستضعفهم ليزيل استقلالهم ويجعلهم كالعبيد المسخرين لأبناء جلدته. نشر أحمد لطفي بك السيد مدير (الجريدة) مقالاً فيها ذكر فيه أن الحركة الحاضرة بمصر الموجهة لإعانة الدولة العثمانية على حرب إيطالية قد ظهرت بشكل الجهاد الديني أو الدعوة إلى الجهاد الديني، وأن هذا خطأ ضار بمصر , فساء قوله هذا جميع من ذكره أمامي من المسلمين، وسر جميع من ذكره من النصارى. وما رأيت الكُتَّاب والباحثين في السياسة من هؤلاء حمدوا لمدير هذه الجريدة غير هذا المقال. وقد اجتمعت في بعض السُّمَّار بطائفة منهم وخضنا في هذه المسألة وكان مما ذكرته أن الجهاد ليس بالمعنى الذي يفهمونه، ولا أدري أي معنى قصد به مدير الجريدة ولكنني أجزم بأن اتهام المصريين بالتأليب على النصارى كافة والدعوة إلى قتالهم باطل، ويمكنني أن أحلف على أنني لا أعرف أحدًا من المسلمين على هذا الرأي ولا سمعت الدعوة إليه ولا استحسانه بل ولا ذكره من أحد منهم. ثم ذكرت معنى الجهاد في اللغة والقرآن، وورود ذكره في كتب النصارى، فاقترح عليَّ بعضهم أن أكتبه وأنشره في المؤيد فقبلت الاقتراح ولم أُتم ما بدأت بشرحه في السامر. الجهاد والمجاهدة مصدر جاهد، وهو بناء مشاركة من مادة الجهد أي التعب والمشقة (ومن هذه المادة الاجتهاد أيضًا) وصيغة المشاركة تُشعر بأن الجهاد عبارة عن احتمال الجهد والمشقة في مقاومة خصم أو عدو، فلا يدخل في معناه حرب مَن لا يحارِب وقتل من لا يقاتل إذ لا مشاركة في ذلك. قال الراغب في مفرداته التي شرح بها غريب القرآن أدق الشرح ما نصه: (الجهاد والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو (تأمل قوله: مدافعة) والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس، وتدخل ثلاثتها في قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 78) ، {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 41) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: 72) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنفال: 72) وقال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم) المجاهدة تكون باليد واللسان قال صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم) اهـ كلام الراغب، ولا أذكر من أخرج هذين الحديثين، ولكن روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وجاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) وقد ذكر لفظ الجهاد في القرآن بمعنى المعالجة والمكابدة في مواضع لا تحتمل معنى الحرب كقوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15) يعني الوالدين , وأكثر أحكام الحرب ذُكرت في القرآن بلفظ القتال؛ لأن لفظ الجهاد ليس نصًّا في معنى الحرب والقتال، ولم تذكر مادة الحرب فيه إلا قليلاً ولم تسند إلى المسلمين. وكل ما ورد في أحكام القتال في القرآن كان المراد به مدافعة الأعداء الذين يحاربون المسلمين لأجل دينهم منها ما هو صريح في ذلك كقوله تعالى في سورة الحج وهو أول ما نزل في القتال: } أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [ (الحج: 39) وقوله في سورة التوبة، وهي آخر ما نزل في أحكام القتال:] أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [ (التوبة: 13) قوله] أَيْمَانَهُمْ [بفتح الهمزة ومعناه عهودهم، وذلك كما فعلت إيطالية الآن فهي من الدول المعاهدة، وقد نكثت العهد وبدأتنا بالقتال. ونزل فيما بين هاتين الآيتين آية البقرة ] وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ [ (البقرة: 190) . وما ليس بصريح مثل هذه الآية يمكن أن يحمل عليه بقرينة الحال فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع من حوله في حرب هم المعتدون فيها وكان يعاهد كل من يقبل معاهدته على ترك الحرب مهما ثقل احتمال الشروط، وما عاهده أحد من المشركين أو اليهود إلا من عَلِمَ منهم بأنهم أضعف من المسلمين، ثم هم الذين كانوا ينكثون عندما يشعرون بقدرة، ويصادفون غرة، كما فعلت اليهود غير مرة، وكما فعلت قريش بعد صلح الحديبية. ويحمل على ذلك أيضًا ما ورد من النهي عن اتخاذ الكفار أولياء والإلقاء إليهم بالمودة سواء ورد ذلك في المشركين وأهل الكتاب أو عامًّا كما صرح بذلك في سورة الممتحنة فقد قال تعالى في أولها:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [ (الممتحنة: 1) أي يخرجونكم من وطنكم مكة ويطردونكم منها بسبب أنكم آمنتم بالله ربكم، فهذه علة أولى للنهي عن ولايتهم أي نصرتهم وعن مودتهم، والعلة الثانية بينها في الآية الثانية فقال:] إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [ (الممتحنة: 2) ثم قال بعد آيات:] لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (الممتحنة:8،7) فلم يكتفِ بنفي النهي عن موالاة ومودة غير المقاتلين المعتدين، وحصر الوعيد فيمن يتولاهم، فإن كلمة] إِنَّمَا [للحصر وجملة:] أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [تفيد الحصر أيضًا. هذه جملة أحكام القتال في القرآن المتعلقة بمن يقاتلون، وهي في منتهى العدل والحكمة، وبينا أن لفظ الجهاد فيه ليس مرادفًا للحرب والقتال، ولكن الفقهاء اصطلحوا على تسمية القتال جهادًا، وهذا اللفظ ألطف وأخف من لفظ القتال ولفظ الحرب؛ لأن معناه يتحقق ببذل الجهد في مقاومة لا يقتل فيها أحد أحدًا، والقتال ليس كذلك إذ لا يتحقق معناه إلا بسفك الدم. كل هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وقد زال من دونها كل سحاب، فمن أين صار لفظ الجهاد الإسلامي هو المخيف الدال على الظلم والبغي والوحشية وذبح الأبرياء من أهل السلم والولاء؟ أليس هذا من تعصب غير المسلمين على المسلمين بتشويه محاسن دينهم وتحريف آياته عن مواضعها، وقلب معانيها وتغيير أوضاعها، أو من الجهل بها على الأقل. هذا وإن لغير المسلمين مع المسلمين أربع حالات ينقسمون بها إلى أربعة أقسام: 1- أهل الذمة: وهؤلاء يساويهم الإسلام بأهله في الحقوق ويوجب حمايتهم والدفاع عنهم إذا اعتدي عليهم وسد ضروراتهم، فإذا وجد فيهم من لا يقدر على قوته كفوه أمره، وكذا غير القوت من الضروريات. 2- أهل عهد وميثاق كجميع الدول الآن بعضها مع بعض ما عدا إيطالية مع دولتنا، فهؤلاء تجب مسالمتهم والوفاء لهم بعهدهم كما هو، حتى إنه إذا حاربهم بعض المسلمين غير الداخلين في جماعتنا العامة التي عاهدتهم واستنصرونالا ننصرهم كما في الصورة التي بيَّنها الله تعالى في أواخر سورة الأنفال بقوله: ] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [ (الأنفال: 72) . 3- أهل أمان وهم الذين يكونون أو يدخلون في بلادنا من المحاربين لنا بالأمان على أنهم لا يعتدون على أحد ولا يعتدي عليهم أحد، ويسمون المستأمنين، ويجب الوفاء لهم بالأمان. 4- أهل حرب أو محاربون وأحكامهم طويلة، وكل ما ثبت منها في الكتاب والسنة فهو مبني على قواعد العدل والرحمة. ومنه أن لا يقاتل إلا من يباشر القتال فيمتنع قتال الشيوخ والولدان والنساء ورجال الدين المنقطعين للعبادة. ومما ورد في ذلك الآية التي أساء في تفسيرها لورد كرومر وكأنه تبع في ذلك بعض القسوس أو السياسيين الذين يحرفون الكلم عن مواضعه عمدًا، تعصبًا منهم وبغيًا، وهي قوله تعالى:] فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ ال

المسألة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما يجب من إعانةالدولة العلية بإنجادطرابلس الغرب (9) تابع المسألة الشرقية سيرت دولة إيطالية أساطيلها كلها وجيشًا عرمرمًا من جنودها المنظمة إلى طرابلس الغرب، لمحاربتها في البر والبحر، والاستيلاء عليها بالبغي والقهر، وإلباسها لباس الخوف والجوع، وأهانت الدولة العلية صاحبة ذلك القطر بمساومتها في بيعها وحملها بالتهديد والوعيد على الإذعان لاحتلال الجيش الإيطالي فيها. طمعت دولة إيطالية المغرورة في تلك البلاد لإهمال دولتها أمرها، وتقصيرها في إقامة المعاقل والحصون في برها، ووضع الحامية القوية فيها، وفي بث الألغام وأنابيب التدمير في بحرها، فانقضت عليها بأساطيلها وجنودها، وصبت عليها جحيم قهرها، وقطعت عنها موارد الرزق، في عام وباء ومجاعة وقحط، فأصبح أهل تلك البلاد يحاربون دولةً عاتيةً، باغيةً قاسيةًً، لا ترحم امرأةً ضعيفةً ولا شيخًا كبيرًا، ولا طفلاً صغيرًا، ويصارعون جوعًا ديقوعًا دهقوعًا، ويصابرون وباءً مريعًا، فهم أحق خلق الله بعطف الكرماء، ورحمة الرحماء، وإعانة الواجدين، وإغاثة القادرين. نعم: إن الدولة العثمانية هي صاحبة هذه البلاد المرزوءة بقسوة الطامعين، وهي التي يجب عليها إغاثتها وإمدادها قبل كل أحد، ولكن حيل بينها وبين إنجادها إن أرادته، فلا أسطول قويّ تنجدها به بحرًا، ولا أوربة تمكنها من إنجادها برًّا، وإذا كانت الدولة عاجزة عن القيام بهذا الواجب انتقل الوجوب إلى من قدر عليه، وأقدر الناس عليه أهل مصر فصار متحتمًا عليهم بحق الجوامع الست التي تتعاطف بها الجمعيات البشرية لا بجامعة واحدة منها، وإننا نبين هذه الجوامع الست ونبدأ بالأعم منها فنقول: الجامعة الأولى الإنسانية خلق الناس ليعيشوا بالتعاون فهو معيار ارتقائهم، وميزان مدنيتهم، فكلما عم كانت المدنية أعم، والارتقاء أشمل، و (خير الناس أنفعهم للناس) كما ورد، وللتعاون أسباب أعمها التعارف، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13) وأن سهولة طرق المواصلة وتعدد وسائلها زاد في تعارف الناس وتعاونهم، فلا تقع الآن نكبة كبيرة في قطر من الأقطار إلا ويسارع أهل الأقطار الأخرى إلى إعانة أهله وتخفيف مصيبتهم، ومن الشواهد القريبة العهد على ذلك عطف المصريين على الإيطاليين الذين نكبوا بالزلازل والبراكين في صقلية ومسيني [1] فقد نظمت في ذلك القصائد العربية المؤثرة، وجمعت الإعانات المالية، وأرسلت إلى الحكومة الإيطالية. لو حكمنا العقل المجرد من الهوى في أحق الناس أن تبذل لهم المعونة، وتمد إليهم سواعد المساعدة الذين نكبوا بالجوائح الطبيعية، أم الذين نكبوا بظلم إخوانهم البشر لهم، وقهرهم إياهم، واعتدائهم على حريتهم واستقلالهم؟ لحكم حكمًا عادلاً بأن هؤلاء المظلومين أحق بالمعونة، وأجدر بالمساعدة، ولرأينا من أسباب هذا الحكم (حيثياته) أن مساعدة المظلوم وإعانته على ظالمه أكبر خدمة للإنسانية وأعظم نفعًا للبشر؛ لأن فائدتها مزدوجة، ونفعها يتعدى من المظلوم إلى الظالم بكفه عن ظلمه ومؤاخذته عليه، وبذلك يقل الظلم والعدوان بين الناس حتى يكونوا إخوة في الإنسانية، وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا إن يك ظالمًا فاردده عن ظلمه، وإن يك مظلومًا فانصره) رواه بهذا اللفظ الدارمي وابن عساكر عن جابر، وفي رواية أحمد والبخاري والترمذي عن أنس أنه قال (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) فسئل قبل إتمام الحديث: (كيف أنصره ظالمًا؟ قال: (تحجزه عن الظلم فإن ذلك نصره) . فبحق هذه الجامعة يجب على كل إنسان يؤثر حب الإنسانية على العصبية المفرقة والهوى والطمع المفسدين للأخلاق أن يساعد أهل طرابلس ودولتهم، على كف ظلم إيطالية وبغيها عنهم، أو على تخفيف مصيبتهم على الأقل، ولولا المطامع، والمبادلة والمعارضة في المنافع، لما أقرت أوروبة هذه الدولة على بغيها وظلمها، مع اعتراف المنصفين من جميع شعوبها ببغيها وطغيانها، وإنه ليوجد في كل شعب أوروبي كثيرون من أهل الإنصاف وحب الإنسانية، ولولا أن حكومتها وجرائدهم تخادعهم لما كانوا يسكتون عن الانتصار لأمثال هؤلاء المظلومين، على أنه وجد في إنكلترا كثيرون قد عرضوا أنفسهم على السفارة العثمانية للتطوع في جيشها الذي يحارب إيطالية، ومع هذا نرى فينا من ينكر مثل ذلك منا نحن المشاركين لأهل طرابلس في الجوامع الست كلها. الجامعة الثانية الشرقية الناس كلهم إخوة في الإنسانية والإخوة قد يختلفون على المنافع، ويغلب طمع القوي منهم على ما تطالبه به الفطرة وعاطفة الأخوة من التسامح والإيثار، بل من العدل والإنصاف، فيتفرقون ويختصمون، ويستعين بعضهم على بعض، ويقع الخصام والعدوان بين الجماعات كما يقع بين الأفراد، وهذا هو السبب في تكوين عصبية الجامعات المختلفة فقد كانت وما زالت الشعوب والقبائل والأمم والدول تتخالف وتتحالف، وتتنازع وتتصارع، والأصل في هذه العصبيات الاشتراك في الصفات والمقومات التي تقتضي التآلف ومقاومة المخالف فيها كالنسب والوطن واللغة والحكومة والدين والعادات والآداب، وكلما كان ما به الاشتراك أكثر، كان التآلف والتعاطف أعم وأشمل، فالمشتركون في النسب قد يخاصمون الغريب عن نسبهم من أبناء لغتهم ووطنهم ودينهم، وكذلك أهل الوطن واللغة مع الغريب عنهما المشارك في غيرهما مثلاً، وعلى هذا المنهج تصغر العصبيات وتكبر. كثر ما به الاشتراك بين أهل أوروبة، فهم مشتركون في الدين والعادات العامة، والأحوال الأهلية والاجتماعية، وطرق الكسب، وفنون الحرب، ونظام الحكومة، وأكثر خواصهم يعرفون من لغاتهم الكبرى ما يتخاطبون بها مع الآخرين ويقرءون جرائدهم وكتبهم، وينقل بعضهم عن بعض في كل يوم كل أمر ذي بال، وينشرونه للجمهور في جرائدهم، فيشعر كل شعب منهم مما يشعر به الشعب الآخر من مؤلم أو ملائم، فهم بهذه الأمور كلها عصبية واحدة على من يخالفهم فيها، وقد اتحدوا بها على المخالفين فصار العالم كله (أو ما يعبر عنه بالعالم القديم إذا استثنينا أميركة) عصبتين يعبر عن إحداهما بالغرب، ويراد به أوربة الطامعة، وعن الأخرى بالشرق، ويراد به آسية وأفريقية المطموع فيهما. وكان الأولى أن يقال: والشمال مكان الشرق والغرب، ولكن لا مشاحة في الإصطلاح كما يقال. يرى كثير من الكتاب والمؤرخين أن المراد بالشرق الإسلام وبالغرب النصرانية ولكن المختبرين من علماء نصارى الشرق الذين عرفوا كنه سياسة أوربة ورأوا سيرتها في مستعمراتها يعلمون أن أوربة تحتقر جميع الشرقيين ولا تعد النصارى منهم أهلاً لمساواة الأوربيين في شيء، وأن أية دولة من دولها تستولي على بلاد شرقية تحتقر جميع أهلها، وتستعلي عليهم بعظمتها الجنسية؛ لأنها ترى أن الأوربي يجب أن يكون سائدًا؛ لأنه أوربي، وأن الشرقي يجب أن يكون مسودًا؛ لأنه شرقي. لا يزال الشرق ضعيف التماسك جاهلاً أنه مضطهد من الغرب كله، وأنه يجب عليه التناصر لدفع سيل الغرب الآتي وعدوانه المخشي، وقد رأينا الخبيرين بكُنْه هاتين الجامعتين من شبان النصارى الأحرار في مصر وسورية يميلون كالمسلمين إلى انتصار اليابان الوثنية، على روسية النصرانية، يوم وقعت الحرب بينهما، فإذا مال هؤلاء الأذكياء إلى ظفر طرابلس الغرب الشرقية المظلومة، وانتصارها على إيطالية الغربية الظالمة، فذلك أولى، بل لا يكفي أن يميلوا ويعطفوا، دون أن يساعدوا وينصروا، فالأقربون أولى بالمعروف. الجامعة العثمانية أهل الولايات العثمانية البحتة والممتازة والمستقلة في إدارتها مختلفون في الأجناس والأديان، واللغات والعادات، وليس في استطاعة أهل ولاية منها أن يكونوا دولة قوية تحمي نفسها من أوروبة إذا صالت عليها بجيشها وأساطيلها، ومصر في ذلك كغيرها، فإن كانت أغنى وأعلم، فهي أضعف في الحرب وأعجز، فمن مصلحة الجميع تأييد الجامعة العثمانية، وإصلاح حال الدولة العلية، وهذا الإصلاح يتوقف على شكل الحكومة الذي يعبرون عنه باللامركزية، وهو ما ستصير الدولة إليه، ولا بقاء لها بدونه، إذا هي سلمت من كيد أوروبة لها، وحالت سياسة التنازع دون التعجيل عليها -سلمها الله تعالى وكفاها كيد الكائدين- وحينئذ تكون الولايات العثمانية كالولايات الجرمانية أو الولايات المتحدة كل منها داخل في إدارتها الداخلية ومشتركة مع سائر الولايات في السياسة العامة وقوة الجيش والأسطول إلخ. فعلى العثمانيين في جميع الولايات من جميع العناصر والملل أن يستمسكوا بعروة العثمانية ويبذلوا النفس والنفيس في حفظ كيانها، وتأييد سلطانها، والفرصة الآن سانحة فينبغي اغتنامها، وما ذاك إلا بمساعدة أهل طرابلس العثمانيين على حفظ أنفسهم وبلادهم وبقائهم عثمانيين مثلنا، متصلين في ظل هذه الجامعة بنا، وأخص غير المسلمين من العثمانيين بتأييد هذه الجامعة، واغتنام هذه الفرصة السانحة، فإنهم بذاك يوثقون عُرى الاتحاد بينهم وبين إخوانهم في الوطن والعثمانية توثيقًا لا تجهل فائدته. أين العقلاء الأذكياء من نصارى السوريين والقبط ومن اليهود؟ أين الذين يقولون منهم: إننا نود أن نجعل الرابطة الوطنية أو السياسية أقوى في أمور الدنيا من الرابطة الدينية، ألا يعلمون أن إيجاد هذه الرابطة وتوثيقها وتقويتها من نتائج الأعمال، لا من نتائج الأقوال، إن كُتاب المقطم والأهرام في مصر وبعض كُتاب اليهود في جريدتهم (جون ترك) قد أظهروا ميلهم إلى الدولة وضلعهم على إيطالية فشكرنا لهم ذلك، ولكن لماذا نطق بعض أرباب الأقلام، وسكت أرباب الأموال، فلم يسمع لهم صوت بكلمة التبرع لإعانة الحرب يذكر، ولا لمساعدة جمعية الهلال الأحمر. قال بعض غلاة التعصب الديني من السوريين: إن النصارى لا يدفعون إعانة في حرب سماها بعض كتاب المصريين جهادًا دينيًّا مع دولة مسيحية، ولست أرى هذا عذرًا صحيحًا لمن لم يصل إلى درجة الشيخ يوسف الخازن صاحب جريدة الأخبار في بغض المسلمين والتعصب عليهم، وإغراء الإفرنج بهم، فإن دفاع أهل طرابلس الغرب عن أنفسهم يسمى في اللغة العربية وفي اصطلاح الشرع جهادًا يوجبه الدين. فإذا كنتم لا تساعدون أهل طرابلس في مصابهم إلا إذا غيرنا وضع اللغة وعرف الشرع فما أنتم بمساعدين؛ لأن هذا التغيير ليس في استطاعة أحد من العالمين، على أن إعانة جمعية الهلال الأحمر ليست إعانة لمسلمي طرابلس على مدافعة نصارى إيطالية، بل هي إنقاذ كل من يمكن إنقاذه من الجرحى والمصابين بنكبات هذه الحرب ولو كان إيطاليا باغيًا، ولكنها باسم العثمانية وتحت هلال علمها فما بالكم تقبضون أيديكم عنها. إن نصارى السوريين المقيمين بمصر وأمريكة هم أرقى السوريين علمًا وأدبًا وأكثرهم فضة وذهبًا، وأوسعهم مروءة وكرمًا، وأشدهم نجدة وشممًا، وإني لأنتظر منهم البرهان الناصع على تأييد الجامعة العثمانية، وتوثيق الرابطة الوطنية، بل سمعت هنا حسيس همساتهم، وخفي مناجاتهم، يأتمرون بينهم، ويتحفزون للمكرمة اللائقة بهم، وكأني بها وقد ظهرت في مصر، وإن ظهورها في أمريكة لأدل على الفضل والنبل. جامعة اللغة العربية الإنس

خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المقالات.. شجون ومحاورات (10) لكل شيء مادح وقادح، ولكل كلام مقرظ ومنتقد، ولقد رأيت أن أختم هذا المقال بشكر الراضين عن مقالات المسألة الشرقية، والاعتذار عما اقترحوا، وتفصيل القول في نقد الناقدين والعفو عما اجترحوا. رأيت أكثر من عرفت راضين عن هذه المقالات ناقلين أحاديث الرضاء بل الإطراء عن غيرهم، معتقدين أنها مثلت الحقيقة، وبينت الطريقة، واقترح بعضهم ترجمتها ونشرها ببعض اللغات الأوروبية، وبعضهم طبعها على حدتها باللغة العربية، شافهنا بذلك كثيرون، وكاتبنا به قليلون، فنشكر لهم ذلك ونعتذر عن طبعها على حدتها، ولكننا ننشرها في مجلتنا (المنار) وعن ترجمتها ولكننا نأذن بالترجمة وطبعها بغير العربية لمن شاء ذلك. أما الساخطون فهم أعداء الدولة والملة، وأنصار إيطالية الباغية، وأما المنتقدون فمنهم المخلص في انتقاده، المستقل في رأيه مع احترام رأي غيره، ومنهم غير ذلك، وقد كانت تظهر أمارات وعبارات السخط من بعض الجرائد الإفرنجية وجريدة (الأخبار) العربية، وكتب إلينا رئيس جمعية قبطية (بأبي حنظل ومصر والإسكندرية) كتابًا قال فيه: (خط يراعك كلمة شلت يد كاتبها الذي يصف قومًا أعزاء كرماء وصفوا بالصلاح والتقوى والإنسانية (لا التوحش كما تقول) وحب الخير (يعني الإيطاليين) بأنهم متوحشون وإنك تعلم أيها الفيلسوف الكبير أنه لا يقدر على الحكم على قوم إلا من كان منهم (؟) وإن تكن إساءة الدخيل الذي أوجدناه من العدم (؟) وفتحنا له صدورنا ورفعنا له اسمًا ومنارًا لا تحتمل [1] ! ! ثم قال الكاتب: إنه يعفو عن ذنبي هذا الذي أسأت به إلى المصريين (بزعمه) وأنا دخيل فيهم. هذا ملخص ما كتبه. والعقلاء المنصفون يعرفون أينا أحق بالعفو عن إساءته إلى الآخر، وقد ظهر بعد أن أشرنا إلى وحشية الإيطاليين بزمن غير بعيد أن الجرائد في جميع الممالك الأوروبية والأمريكية وافقتنا على قولنا وأيدته بروايات مراسليها في طرابلس الغرب، وبتصويرها لعدوانهم الوحشي على النساء والأطفال والشيوخ وتقتيلهم والتمثيل بهم. وإنني قد عفوت عن ذلك الساخط الساخر الساب الشاتم، بعد أن ظهر أنني على الحق وهو على الباطل. وبعد هذا وذاك أذكر جميع ما بلغني من الانتقاد في محاورة مع منتقد وهو من عدة مصادر وأجيب عنه: قال لي صديق لا أرتاب في إخلاصه: إنك قد اشتهرت في الاعتدال فيما تكتب وأراك قد بالغت في هذه المقالات - أو قال تطرفت - حتى شايعت العلم والمؤيد في ذكر الجهاد والحرب الدينية وأنحيت باللائمة على أوربة كلها، وهذه السياسة ضارة بنا. فقلت له: إن صورة البغي المنكرة التي فاجأتنا بها إيطالية قد كانت صاخَّةً أصمت المسامع، وقارعةً صدعت القلوب، وإن ما تضمنته من مخالفة حقوق الدول وإبطال العهود الضامنة لسلامة دولتنا، وما أجابت به الدول الكبرى حكومتنا حين راجعتها في ذلك من أنها على الحياد، لا تعارض إيطالية في نسخ القانون الدولي وإبطال المعاهدات، كل من هذا الجواب، وذلك العدوان الصريح قد دلنا وأشعرنا بأننا مهددون بزوال دولتنا، وذهاب ما بقي من ملكنا، وبأن القوم قد أنفقوا على حل المسألة الشرقية حلاًّ سريعًا حالاً إذا لم يروا فينا من الحياة ولوازمها ما يقتضي التلبث في ذلك والرجوع عنه، فقل لي بحقك ماذا يخاف الذي أنذر بزواله من الوجود إذا هو دافع عن نفسه بكل ما يستطيع؟ أليس كل ما دون الزوال أسهل منه؟ ألم يصدق علينا في هذه الحال، قول شاعرنا الذي سار مسير الأمثال (أنا الغريق فما خوفي من البلل) ؟ بلى إنني بتأثير هذه القارعة التي ظهر أن أوربة متفقة عليها أردت أن أبين لأوربة نفسها ولجميع العثمانيين والمسلمين أننا نعتقد أن أوربة كلها تكون خصمًا لنا إذا ساعدت إيطالية علينا، ومكنتها من كل ما تريده من البغي والعدوان على بلادنا. كتبت هذا معتقدًا أن تذكير المسلمين في جميع بقاع الأرض بما أوجبه الإسلام في مثل هذه الحال، وظهور أثر هذا التذكير فيهم - هو أرجى ما ترجو من أسباب حذر أوروبة من مساعدة إيطالية على كل ما تريد من بغيها، واستمالة الدول الذي بهما إرضاء المسلمين وحسن اعتقادهم فيها، وأولاهن بذلك إنكلترة ثم فرنسة وروسية المتفقتان معها في السياسة والمصلحة، وكل واحدة من هذه الدول الثلاث مستولية على عشرات الملايين من المسلمين. وقد صرحت بمقصدي هذا في المقالات الأولى، ولم أقطع الأمل من مساعدة كل الدول. قال صديقي المنتقد: إن المسلمين الرازحين تحت سيطرة هذه الدول كلهم ضعفاء بالجهل والتفرق، فالدول إذا أرادت إنفاذ هذا الأمر (حل المسألة الشرقية) لا تبالي رضاهم ولا سخطهم، إذ لا يستطيعون أن يعملوا شيئًا، قلت: إني لا أرى هذا الرأي بل إنها تبالي وتهتم أشد الاهتمام برضاهم، وتحسب ألف حساب لسخطهم، إذا كان سببه اعتقادهم أنها تريد إزالة دولة الخلافة وإبطال حكم الإسلام من الأرض. إن رأيك هذا يشبه رأي لطفي بك السيد مدير (الجريدة) إذ قال: إن إظهار مسلمي مصر لعواطف الميل إلى الدولة العلية وإعانة أهل طرابلس على حرب عدوهم ينافي مصلحة مصر، فهو من ترجيح سياسة العواطف على سياسة المنافع، التي تتبعها كل العقلاء من أمم المدنية ودولها، وأنا أرى أن العواطف والمنافع متفقة في هذه الحال فإذا جرى جميع المسلمين على ما طالب لطفي بك به المصريين، وعلمت دول أوروبة أن تقسيم بلاد الدولة العثمانية بينهن لا يهيج لمسلم عاطفة، بل يرى كل شعب منهم أن رضاه بزوال هذه الدولة عين المنفعة له والمصلحة، فإنها لا تتلبث بقسمة هذه البلاد إلا ريثما تتفق على توزيع الحصص، وليت شعري ما هي المنفعة التي تنالها مصر من هذا التقسيم، وخرت سقوفها على أهلها، وأتاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وعن أيمانهم وشمائلهم. قال المنتقد: أما ينبغي أن نخاف أن تشدد أوروبة وطأتها على المسلمين، إذا هم أظهروا العطف على الدولة بباعث الدين؟ قلت: إنني لا أرى هذا الخوف في محله، ولو فعلت أوروبة ذلك لكان أنفع للمسلمين، فإنه لا شيء يربي الأمم ويجمع كلمتها مثل الضغط عليها في وقت تهيج شعورها، ومصادرتها فيما يتعلق باعتقادها، على أن كل بلاء يمكن أن يحل بالمسلمين في مثل هذه الحال يجب أن يحتمل في سبيل الدفاع عن كيان الدولة كما فهمت من جوابي السابق - الخوف من الذل مجلبة للذل، وإنما السلامة في الشجاعة لا في الجبن، ولكن. يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم وأقول الآن إن ما جرينا عليه، ووجهنا النفوس إليه، من كون عدوان إيطالية يعد طرقًا لباب المسالة الشرقية، قد ذكر بعد ذلك في كثير من الصحف الشرقية والغربية. وإن ما ارتأيناه من تحريك شعور المسلمين لاتقاء الخطر به قد وافقنا فيه العارفون بالسياسة من المسلمين المقيمين الآن في عواصم أوربة ومسلمي الهند وتونس وغيرهم، وأشهر هؤلاء القاضي أمير علي الشهير. وكان من مسلمي الهند ورأس الرجاء الصالح أن عقدوا الاجتماعات الكثيرة لإظهار استيائهم وتألمهم لحكومتهم ومطالبتها بالسعي إلى منع هذه الحرب الجائرة ومساعدة الدولة العلية. وكان من تأثير ذلك أن إنكلترة لم تضغط على مسلمي مصر، وفرنسة لم تضغط على مسلمي تونس والجزائر، ولم تمنعهم هذه ولا تلك من جمع الإعانات لإخوانهم مسلمي طرابلس حتى إن جرائد إيطالية قد رفعت عقيرتها بالشكوى من هاتين الدولتين وطالبتهما بالتشدد في منع إنجاد طرابلس وبنغازي من تونس ومصر [1] . بل كان من تأثير ذلك ما هو أعظم مما ذكرنا وهو ظهور مبادئ الاتفاق بين دولتنا وإنكلترة بإرسال سلطاننا أكبر أنجاله ضياء الدين أفندي لتحية ملك وملكة الإنكليز في سفينتهما التي تحملهما إلى الهند عند وصولهما إلى ثغر بورسعيد ذاهبين على الهند بقصد الاحتفال في عاصمتها القديمة دهلي بنصب الملك إمبراطورًا على الهند. وكان لقاء وفد نجل سلطاننا لملك الإنكليز مع أميرنا خديو مصر بالغًا منتهى الوداد اللائق بالزائر والمزور وجواب الملك عن كتاب السلطان وخطبته في مقابلة خطبة نجله، وإهداؤه الوسام الخاص بأسرة الملك إلى هذا النجل السعيد بعد الزيارة - كل ذلك قد بشرنا بقرب تحقق ما أشرنا به من استمالة دول الاتفاق الثلاثي إلينا وفي مقدمتهم إنكلترة [2] وهذا ما صرحنا به في أوائل هذه المقالات منذ شهرين كاملين. وجملة القول أننا رأينا العدوان من إيطالية إحدى دعائم التحالف الثلاثي، ورأينا دول التواد الثلاثي قد سكتن لها، ولم يجبن نداءنا وطلبنا المحافظة على القوانين والمعاهدات الدولية، فصحنا من شدة الألم أن أوروبة كلها متفقة علينا، واستصرخنا الشعور الإسلامي وذكرناه بالخطر على ما بقي للإسلام من السلطة، لنستعين بذلك على استمالة إنكلترة ووديدتيها إلى مساعدتنا، ودفع الخطر الأكبر عنا، ولما قيل لنا: إن الدول حصرت الحرب في طرابلس الغرب ورأينا مبادئ الرجاء في إنكلترة وغيرها تومض أمامنا، سكتنا عن الشكوى من أوروبة كلها، ولم نشرح ما كنا عزمنا على شرحه. قال المنتقد: إنك صبغت المسألة الشرقية بصبغة الدين فجعلتها كالحروب الصليبية كما تقول جريدة العلم المتطرفة المغالية وهي مسألة سياسية كان ينبغي أن تستصرخ فيها العثمانيين خاصة، فاتفاق المعتدلين بتلك مع المتطرفين على صبغ هذه الحرب بصبغة الدين قد أخاف نصارى بلادنا أن يتضمن ذلك التحريض عليهم والإيقاع بهم، فيجب الإقلاع عن تسمية هذه الحرب بالجهاد وجعلها دينية فإنها ليست إلا سياسية. قلت: إنني قلما أقرأ جريدة العلم وقلما أراها فأنا لا أدري ما هو حكمها في هذه المسألة وأرى أننا إذا جعلنا حربنا لإيطالية دينية فذلك خير لإيطالية ولجميع البشر لا لنصارى بلادنا فقط، وليت إيطالية نفسها تتبع أحكام الإسلام في الجهاد فإن القاعدة الأساسية عندنا في ذلك هي قوله تعالى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) فلا يجوز لنا أن نقاتل غير المعتدي علينا. والمعتدي هو المحارب لا جميع أهل جنسه فلا يجوز لنا أن نقاتل من الإيطاليين أنفسهم من لا يقاتلون كالرهبان والنساء والشيوخ والولدان. وإيطالية لا تبقي على أحد من هؤلاء ولا تذر إلا من تعجز عن الوصول إليه، وأما الحرب الدينية والجهاد الذي معناه أن يقاتل إنسان كل من يخالفه في الدين وإن كان ذميًّا أو معاهدًا أو مستأمنًا فهذا معنى بثته أوروبة في الشرق بحروبها الصليبية ولم يقل أحد من المسلمين به، ولو تجردنا من أحكام الدين لاستبحنا في هذه الحرب كل ما نقدر عليه من إيذاء خصمنا والإسلام لا يبيح لنا كل ذلك. قال المنتقد: إن النصارى لا يفهمون الجهاد الديني في الإسلام بمعناه الشرعي الذي تعنيه بل يفهمون عنه ما هو مشهور عندهم وكثير من عوام المسلمين يفهمون منه مثل فهمهم فيجب أن لا يذكر الدين والإسلام في الكلام عن هذه الحرب لأجل ذلك. قلت: إنني بينت حكم الإسلام وأنه لا يجيز لنا أن نقاتل في هذه الحرب غير العسكر الإيطالي وسأزيد ذلك بيانًا في مقالة خاصة (وكان هذا قبل كتابة مقالة الجهاد في الإسلام في الشهر الماضي) ومهما قال المسلم منا فهو لا يمكن أن يرضي بعض المتعصبين منهم، الذين يحسبون كل صيحة عليهم، أو يدَّعون ذلك لتحريض أوروبة علينا كصاحب جريدة

نقد تاريخ التمدن الإسلامي ـ 1

الكاتب: شبلي النعماني

_ نقد تاريخ التمدن الإسلامي الشيخ شبلي النعمانى (1) تمهيد للمنار تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي أفندي زيدان صاحب الهلال مشهور، وقد سبق لنا تقريظه في المنار ونقد بعض مباحثه، وذكرنا أننا كنا نود لو نجد سعة من الوقت لمطالعته كله ونقده نقدًا تفصيليًّا. ولما عرضه مؤلفه على نظارة المعارف المصرية وطلب منها أن تقرره للتدريس في مدارسها عهدت النظارة إلى بعض أساتذتها بمطالعته وإبداء رأيهم فيه، فلما طالعوه بينوا للنظارة أن فيه غلطًا كثيرًا وأنه غير جدير بأن يعتمد عليه في التدريس ولا المطالعة، فلأجل هذا لم تقرره النظارة. وكنت انتقدت الأساتذة الذين طالعوا الكتاب وانتقدوه أنهم لما يكتبوا ما رأوه فيه من الغلط وبينوه للناس وللمصنف أيضًا لعله يرجع إلى الصواب إذا ظهر له، فإنه يدعو الكتاب دائمًا على نقد كتبه. نعم إن بعض من قرأه قد انتقده بمقالات نشرت في جريدة المؤيد وأجاب المصنف عن بعض ما انتقد عليه واعترف ببعض، وقد ذكرت هذا في المنار. ويرى بعض الناقدين لهذا التاريخ قولاً وكتابة أن مؤلفه يتعمد التحامل على العرب وعلى الإسلام نفسه، وكنت إذا سمعت ذلك منهم أعارضهم وأرجح أنه غير متعمد، وأن السبب في أكثر ما أخطأ به هو عدم فهم بعض المسائل كتفسيره لمسألة القول بخلق ألفاظ القرآن بأن القرآن غير منزل من عند الله وكخطئه فيما ذكره عن ثروة المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك مما انتقدناه عليه في المنار، وإما جعل بعض الوقائع الجزئية قواعد كلية عامة، وهذا معهود في جميع مؤلفاته، ولكن ظهر لنا مما كتبه بعد ذلك ومن بعض حديثه معنا ومع غيرنا من أصحابه أنه يكاد يكون من الشعوبية الذين يتحاملون على العرب ويفضلون العجم عليهم وكان هذا سبب ترجمة هذا الكتاب بالتركية. وقد انبرى في هذه الأيام الشيخ شبلي النعماني العلامة المصلح الشهير مؤسس جمعية ندوة العلماء في الهند ومحرر مجلتها إلى الرد على هذا التاريخ، وكتب إلينا أنه يريد أن يرسل إلينا ما يكتبه ويطبعه من هذا الرد بالتدريج لننشره في المنار، كلما طبع منه شيئًا في (لكنؤ) أرسله إلى أن يتم، ولما كان الانتقاد من مثل هذا العالم المؤرخ هو ضالتنا وضالة صديقنا وصديقه المؤلف، بادرنا إلى نشره معتذرين عما في أوله من شدة الحكم، وودنا لو لم يصرح به وإن أثبته، ولولا أنه طبعه لحذفناه منه. قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين إن الدهر دار العجائب. ومن إحدى عجائبه أن رجلاً من رجال العصر [1] يؤلف في تاريخ تمدن الإسلام كتابًا يرتكب فيه تحريف الكلم وتمويه الباطل، وقلب الحكاية، والخيانة في النقل، وتعمد الكذب ما يفوق الحد، ويتجاوز النهاية، وينشر هذا الكتاب في مصر وهي غرة البلاد، وقبة الإسلام، ومغرس العلوم، ثم يزداد انتشارًا في العرب والعجم، ومع هذا كله لا يتفطن أحد لدسائسه [2] {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) . لم يكن المرء ليجترئ على مثل هذه الفظيعة في مبتدأ الأمر ولكن تدرج إلى ذلك شيئًا فشيئًا، فإنه أصدر الجزء الثاني من الكتاب وذكر فيه مثالب العرب دسيسة يتطلع بها على إحساس الأمة وعواطفها، ولما لم يتنبه لذلك أحد، ولم ينبض لأحد عرق، ووجد الجو صافيًا، أرخى العنان، وتمادى في الغي، وأسرف في النكاية، في العرب عمومًا وخلفاء بني أمية خصوصًا. وكان يمنعني عن النهوض إلى كشف دسائسه اشتغالي بأمر ندوة العلماء , ولكن لما عم البلاء، واتسع الخرق، وتفاقم الشر، لم أطق الصبر، فاختلست من أوقاتي أيامًا وتصديت للكشف عن عوار هذا التأليف والإبانة عما فيه من أنواع الإفك والزور وأصناف التحريف والتدليس. معذرة إلى المؤلف إني أيها الفاضل المؤلف غير جاحد لمننك فإنك قد نوهت باسمي في تأليفك هذا وجعلتني موضع الثقة منك، واستشهدت بأقوالي ونصوصي، ووصفتني بكوني من أشهر علماء الهند، مع أنى أقلهم بضاعة، وأقصرهم باعًا، وأخملهم ذكرًا، ولكن مع كل ذلك هل كنت أرضى أن تمدحني وتهجو العرب غرضًا لسهامك ودريّة لرمحك، ترميهم بكل معيبة وشين، وتعزو إليهم كل دنية وشر، حتى تقطعهم إربًا إربًا، وتمزقهم كل ممزق، وهل كنت أرضى بأن تجعل بني أمية لكونهم عربًا بحتًا من أشر خلق الله وأسوئهم، يفتكون بالناس، ويسومونهم سوء العذاب، ويهلكون الحرث والنسل، ويقتلون الذرية وينهبون الأموال، وينتهكون الحرمات، ويهدمون الكعبة ويستخفون بالقرآن. وهل كنت أرضى بأن تنسب حريق خزانة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب، الذي قامت [1] بعدله الأرض والسماء، وهل كنت أرضى بأن تمدح بني العباس فتعد من مفاخرهم أنهم نزلوا العرب منزلة الكلب، حتى ضرب بذلك المثل، وأن المنصور بنى القبة الخضراء إرغامًا للكعبة، وقطع الميرة عن الحرمين استهانة بهما، وأن المأمون كان ينكر نزول القرآن، وأن المعتصم بالله أنشأ كعبة في (سامرَّا) وجعل حولها مطافًا واتخذ منى وعرفات. وهب أني عدمت الغيرة على الملة والدين، وافتخرت كصنيع بعض الأجانب بأني فلسفي بحت عادم لكل عاطفة ووجدان، فلا أرضى ولا أغضب ولا أسر ولا أغاظ ولا أفرح ولا أتألم، وهب أني حملت نفسي على احتمال الضيم، وقبول المكروه، والصم عن البذاء، ومجازاة السيئة بالحسنة، ومكافأة الخبيث بالطيب، فهل كنت أرضى بأن تشوه وجه التاريخ، وتدمغ الحق، وتروج الكذب، وتفسد الرواية، وتقلب الحقيقة، وتنفق التهم، وتعود الناس بالخرافة، بئس ما زعمت أيها الفاضل، فإن في الناس بقايا وإن الحق لا يعدم أنصارًا. إن الغاية التي توخاها المؤلف ليس إلا تحقير الأمة العربية وإبداء مساويها ولكن لما كان يخاف ثورة الفتنة غير مجرى القول، ولبس الباطل بالحق. بيان ذلك أنه جعل لعصر الإسلام ثلاثة أدوار: دور الخلفاء الراشدين، ودور بني أمية، ودور بني العباس، فمدح الدور الأول وكذلك الثالث (ظاهرًا لا باطنًا كما سيجيء) ولما غر الناس بمدحه الخلفاء الراشدين، وهم سادتنا وقدوتنا في الدين، وبمدحه لبني العباس وهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبهم فخارنا في بث التمدن وأبهة الملك، ورأى أن بني أمية ليست لهم وجهة دينية فلا ناصر لهم، ولا مدافع عنهم، تفرغ لهم، وحمل عليهم حملة شنعاء، فما ترك سيئة إلا وعزاها إليهم، وما خلى حسنة إلا وابتزها منهم، ثم لو كان هذا لأجل أنهم من آل مروان أو لكونهم من سلالة أمية لكنا في غنى عن الذب عنهم، والحماية لهم، ولكن كل ذنبهم أنهم العرب على صرافتهم ما شابتهم العجمة مطلقًا كما قال: (وتمتاز- أي دولة بني أمية - عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة) - الجزء الثاني من تمدن الإسلام - (وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية أساسها طلب السلطة والتغلب) - الجزء الرابع صفحة 103 -. عصبية العرب على العجم أطال المؤلف وأطنب في إثبات هذه الدعوى فذكر طرفًا منه في الجزء الثاني مدسوسًا - انظر صفحة 18 - ثم جعل له عنوانًا خاصًا في الجزء الرابع (58) وهذه نصوصه: فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد، وإذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك تواضعًا لله. وكانوا يحرمون الموالي من الكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ولا يمشون في الصف معهم. وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة حمار أو كلب أو مولى. فكان العربي يعد نفسه سيدًا على غير العربي ويرى أنه خلق للسيادة وذاك للخدمة. فتوهم العرب في أنفسهم الفضل على سائر الأمم حتى في أبدانهم وأمزجتهم فكانوا يعتقدون أنه لا تحمل في سن الستين إلا قرشية، وأن الفالج لا يصيب أبدانهم. ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء فقالوا لا يصلح للقضاء إلا عربي وحرموا منصب الخلافة على ابن الأمة ولو كان أبوه قرشيًّا. ولا يزوجون الأعجمي عربية ولو كان أميرًا وكانت هي من أحقر القبائل وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعًا وأرقاء وتكاثروا فأدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم. اعلم أن للمؤلف في إنفاق باطله أطوارًا شتى: فمنها تعمُّد الكذب كما سترى، ومنها تعميمه لواقعة جزئية، ومنها الخيانة في النقل وتحريف الكلم عن مواضعه. ومنها الاستشهاد بمصادر غير موثوقة مثل كتب المحاضرات والفكاهات. وهاك أمثلة من كل نوع منها قال: (إذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك تواضعًا لله وكانوا يحرمون الموالي من الكنى إلخ , وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة إلخ) . غير خافٍ على من له إلمام بتاريخ الفرس والعرب أن الفرس كانت قبل الإسلام تحتقر العرب وتزدريهم ولما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى كسرى العجم اشمأز وقال عبدي يكتب إليَّ! ! وكتب يزدجرد إلى سعد بن أبي وقاص فاتح القادسية أن العرب مع شرب ألبان الإبل وأكل الضب بلغ بهم الحال إلى أن أفنوا دولة العجم فأفٍّ لك أيها الدهر الدائر , وكانت ملوك الحيرة تحت إمرة ملوك العجم. ثم لما شرف الله العرب بالإسلام انتصفت العرب من العجم واستنكفوا من سيادتهم عليهم، وجاءت الشريعة الإسلامية ماحية لكل فخر ونخوة فقال رسول الله في خطبته الأخيرة في حجة الوداع، أن لا فضل للعربي على العجمي ولا للعجمي على العربي كلكم أبناء آدم) . وحينئذ ارتفع التمايز وتساوى الناس ولكن مع ذلك بقيت في بعض الناس من كلا الطرفين حزازات كامنة في صدورهم كانت سببًا لحدوث حزبين متقابلين يسمى أحدهما الشعوبة وهي التي تحتقر العرب وترميه بكل معيبة حتى إن أبا عبيدة صنف كتبًا عديدة يطعن فيها على أنساب كل قبيلة من قبائل العرب، والثاني المتعصبون للعرب. وقد عقد العلامة ابن عبد ربه في كتابه العِقْد الفريد بابًا في حجج كِلا الطرفين وأقوالهما. ومعظم ما نقله المؤلف في إثبات عصبية العرب هي أقوال ذكرها صاحب العقد في هذا الباب، كما لوَّح به المؤلف في هامش الكتاب. وإذا تصفحت الكتب يظهر لك أن الأقوال التي نسبها إلى العرب عمومًا إنما هي أقوال شرذمة خاصة موسومة بأصحاب العصبية، وصاحب العقد حيثما ذكر هذه الأقوال صدرها بقوله (قال أصحاب العصبية من العرب) وأنت تعلم أن هذه العصبة ليست كافة العرب ولا أكثرها، بل ولا عشر معشارها، فإنك سترى أن هؤلاء أناس شرذمة مغمورون في الناس. ثم إن المؤلف ما اقتنع بذلك بل ربما نسب قول رجل معين معلوم الاسم إلى العرب عامة. فقال ناقلاً عن كتاب العقد: (وكانوا يكرهون أن يصلُّوا خلف الموالي وإذا صلوا خلفهم قالوا: إنا نفعل ذلك تواضعًا لله) قال صاحب العقد: نسب هذا القول إلى نافع بن جبير فأخذه المؤلف وجعله قولاً عامًّا للعرب، وهذه الصنيعة أعني تعميم الواقعة الجزئية هي أكبر الحيل التي يرتكبها المؤلف لترويج باطله بل هي قطب رحى تأليفه. قال المؤلف: (فأدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم) - الجزء الرابع صفحة 59 - إن نص معاوية الذي نقله المؤلف بعد هذه العبارة هو هذا (كأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان فرأيت أن أقتل شطرًا وأدع شطرًا) فأنت ترى أن الرواية على تقدير صحتها ليس فيها إلا أن معاوية رأى أن يقتل شطرًا منهم. ولكن المؤلف زاد على العبارة وقال: إن معاوية همَّ أن يأمر بقتلهم كلهم. قال المؤلف: فكانوا يعتقدون أن الفالج لا يصيب أبدانه

القرابين والضحايا في الأديان

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ القرابين والضحايا في الأديان الدكتور محمد توفيق صدقي الطبيب بسجن طره كثر لغط المجلات التبشيرية النصرانية في هذه المسألة مفسرين لها بحسب أهوائهم وأغراضهم زاعمين أن وجود الذبائح والقرابين والضحايا في الأديان عمومًا وثنية كانت أو إلهية هو رمز لذبيحتهم العظمى وهو صلب المسيح بحسب اعتقادهم. عجيب أمر هؤلاء القوم! ! فإنهم منذ نشأتهم في العالم لما لم يجدوا لهم برهانًا عقليًّا أو نقليًّا على إثبات دعاويهم وعقائدهم عمدوا إلى طريقة هي من الغرابة بمكان عظيم وذلك أنهم نظروا في كتب من سبقهم من بني إسرائيل وغيرهم فعرفوا بعض ما فيها من النصوص أو الشرائع والقصص وغير ذلك ثم اخترعوا للمسيح صلى الله عليه وسلم [1] ما شاءوا من الحوادث التي قد يكون لبعضها أصل تاريخي صحيح مراعين في ذلك أن يكون هناك شيء من التشابه بين ما يدعون وبين ما يوجد من النصوص في كتب المتقدمين ليتخذوا ذلك دليلاً على صحة دعواهم أن السابق إشارة أو رمز إلى اللاحق مما يلفقون. ولم نجد لهم دليلاً على عقيدة من عقائدهم سوى هذه الطريقة التي ملئوا الدنيا بها صياحًا وعويلاً مدعين أن كل ما سبقتهم من الكتب هو تمهيد أو رمز إلى دينهم وأن كل شيء خلق لأجلهم مع أن جميع الأمم التي سبقتهم لم يكن يخطر على بال أحد منها أن ما عندهم من الشرائع رمز لدين آخر. لا يظن القارئ أني أنكر بذلك النبوات والبشائر التي وردت في كتب الأنبياء السابقين إخبارًا عن الأنبياء اللاحقين إذا كانت صريحة في ذلك، ولكن الذي أنكره على النصارى هو أنهم جعلوا كل شيء في أديان من سبقهم حتى من الوثنيين رموزًا للمسيح عليه السلام مع أن بعض هذه الرموز المزعومة ربما لا يكون لها أدنى علاقة به ولا بتاريخه عليه السلام، وإنما هو التحكم يجعلهم يتوهمون أنها تنطبق عليه ولولا ذلك ما خطر على بال أحد هذا الانطباق البعيد العجيب، فتراهم مثلاً يجعلون خروج بني إسرائيل من أرض مصر إشارة إلى حضور المسيح فيها ورجوعه منها إلى بلده (راجع متى 2: 15 وهوشع 11: 1) وفى الأناجيل من مثل ذلك كثير, ولله در السيد جمال الدين الأفغاني حيث قال ما معناه (إن مؤلفي العهد الجديد قد فصلوا قميصًا من العهد العتيق وألبسوه لمسيحهم) . هذه مسألة الضحايا والقرابين في الأديان لها فيها معانٍ وأغراض أخرى ولكن يتحكم النصارى فيها ويدعون أنها رمز على (صلب المسيح) , ولنبين هنا كيف أنه لا يوجد أدنى انطباق أو أي علاقة بين هذه المسألة وبين مسألة الصلب فنقول: 1- إن الضحايا والقرابين موجودة في جميع الأديان حتى الوثنية منها من قديم الأزمان، فإذا سلمنا أن ما يوجد منها في الأديان الإلهية هو إشارة إلى المسيح عليه السلام فكيف نفسر وجودها في الأديان الوثنية وهي لا تعرف المسيح ولا دينه؟ ! سيقولون: إن الأديان الوثنية لها أصل صحيح وكانت فيها قديمًا هذه المسألة رمزًا إلى المسيح، ولما طال الزمان نسي الناس ذلك، ونقول: كيف تتفق الأمم في جميع الأزمنة وفي جميع بقاع الأرض على نسيان ذلك وهو كما يزعم النصارى أساس الدين كله؟ وكيف لا يوجد أدنى أثر في كتبهم أو معتقداتهم على أن الأصل في الذبائح هو الرمز للمسيح وهو أمر لم يخطر على بالهم؟ وهب أن جميع الأمم الوثنية نسيت ذلك فكيف نسيه بنو إسرائيل وأنبياؤهم وهم أقرب الناس إلى المسيحيين؟ وكيف لا يوجد في كتب العهد العتيق المسلَّمة عند النصارى تصريح بهذه المسألة العظمى التي كان يجب أن تذكر صريحًا في كل كتاب من كتب الأنبياء السابقين؟ وأن يخبروا أممهم بأن القرابين جميعًا والذبائح ليست مقصودة بالذات بل هي إشارة إلى ذبيحة كبرى ستأتي بعد؟ 2- إذا سلمنا أن الذبائح كانت إشارة إلى هذه الذبيحة الكبرى (صلب المسيح) فماذا يقولون في القرابين الأخرى التي لم تكن من جنس الذبائح وهي كثيرة في الشريعة الموسوية كالمحرقات التي تقدم من أثمار الأرض ومن الدقيق والزيت واللبان والفريك وغيرهما مما كان يحرق بالنار قربانًا للرب ورائحة لسروره كتعبير التوراة. 3- إذا سلم أن الذبائح إشارة إلى الصلب فإلى أي شيء يشير إحراق نفس الذبائح كلها أو بعضها بالنار؟ فهل أحرق المسيح بها! ! 4- كيف يكون الذبح إشارة للمسيح عليه السلام مع أنه مات صلبًا - على قولهم - لا ذبحًا أي أنه لم يهرق دمه حتى يموت بنزف الدم بل ظاهر عبارتهم أنهم اكتفوا بتعليقه على خشبة الصليب بثقب يديه ورجليه فقط ولم يكسروا عظمًا من عظامه (يوحنا 19: 36) فلذا لم يرد في الأناجيل أنهم ثقبوا عظم صدره بمسمار دق في قلبه كما قد يتوهم بعضهم وإلا لمات في الحال ولما بقي حيًّا من الساعة الثالثة إلى التاسعة كنص إنجيل مرقص ولو كان ثقب يديه ورجليه أحدث نزيفًا عظيمًا لما بقي ست ساعات وهو حي ولما كان هناك وجه لتعجب بيلاطس من موته بسرعة (مرقص 15: 44) فالظاهر على هذا أن الدم الذي سال منه كان قليلاً وأنه لم يمت بسبب نزف دمه بل مات بسبب ألم الصلب والجوع والتعب وإعاقة التنفس بتعليقه، فكان الواجب لكي يتم التشابه بين الرمز والمرموز إليه أن تصلب الحيوانات عند بني إسرائيل وغيرهم حتى تموت مثله أو أن يذبح هو بيد تلاميذه قربانًا للهِ لا أن يموت صلبًا بيد أعدائه بدون أن يسفك شيء يذكر من دمه. نعم ورد في إنجيل يوحنا (19: 34) أن بعض العساكر طعنه بعد أن مات وأسلم الروح بحربة في جنبه فخرج منه دم وماء ولكن هذا شيء والذبح شيء آخر كما لا يخفى ولم يخرج منه دم يذكر قبل مماته كما بينا ولم يكن خروج ما خرج منه من الدم سببًا في وفاته. أما خروج الدم والماء منه بعد مماته فهو من الوجهة الطبية عجيب غريب وليس تفسيره بالسهل الجلي [1] . ولنبدأ الآن ببيان الغرض الحقيقي من الضحايا والقرابين في الأديان فنقول: كان الوثنيون يقدمون هذه القرابين لآلهتهم لاعتقادهم أنهم ينتفعون بها كما كان يعتقد بعض الأمم أن الأموات يأكلون ويشربون فيضعون في قبورهم شيئًا من ذلك كثيرًا على أن بعض هذه المعبودات الوثنية كان ينتفع فعلاً بأكل بعض القرابين كالعجول والثيران وغيرها فإنها كانت تأكل مما يقدم لها من الحبوب والنبات ونحوها. وكانت الكهنة وسدنة الهياكل وخدمة الأصنام تنتفع أيضًا بهذه القرابين فيرغبون الناس فيها للإكثار منها، وكذلك أيضًا كان بعضها يستعمل في الهياكل والمعابد لفرشها وإضاءتها وزينتها كما تنفع الآن نذور العامة لأضرحة الأولياء والقديسين فتضاء بها وتفرش ويأخذ منها الخدم ما يلزم لمنازلهم. ولكن الأديان الصحيحة لم تأمر بالقرابين؛ لأن الإله ينتفع بها - حاش لله {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) وإنما أمرت بها هذه الأديان لفوائد أخرى نأتي هنا على بعضها: 1- الفقراء عيال الله فمن نفعهم رضي الله عن عمله وكأنه نفعه تعالى لو لم يكن غنيًّا عن العالم، وكما أن الله تعالى أمر الأغنياء ببذل شيء من مالهم للفقراء سواء كان نقودًا أو ملبوسًا [1] أو حبوبًا أو ثمارًا أو أي مطعوم آخر أو مشروب كذلك أمر بإطعامهم أنواع اللحوم فإنها أشهى إلى نفوسهم وأبعدها عنهم. وإنما أوجب الإسلام في كفارة بعض جنايات الحج ذبح الذبيحة قبل إعطائها للفقراء ولم يبح إعطاءها لهم بدون ذبح ليتيسر توزيعها على عدة فقراء بدل اختصاص فقير واحد بها ولينقطع بذلك كل أمل للذابح في عودتها إليه واستردادها من الفقير بمال أو بدل أو غير ذلك ولينقطع أيضًا أمله في الانتفاع بها وهي عند الفقير بركوب أو نسل أو لبن أو وبر أو صوف أو غير ذلك فيكون التصدق بها تامًّا وخالصًا لوجه الله تعالى وليضطر الفقير أن يأكل منها هو وولده وأهله فإنها إذا أعطيت له حية فإنه يبخل بها على نفسه ويحرم أهله وولده من أكلها حبًّا في إبقائها أو بيعها أو كنز ثمنها فيبقى هو وأهل بيته محرومين من أكل اللحم طول حياتهم وهو من أشهى المأكولات وألذها وأكثرها تغذية وأبعدها عن الفقراء وللتوسيع عليه وعلى أهله أمرنا بذبحها ولتكثر تربية المواشي والأنعام والانتفاع بها وهي أنفع الأشياء للناس خصوصًا في الأزمنة القديمة ولتتسع أيضًا دائرة التجارة فيها فيربح منها التجار الأغنياء منهم والفقراء قال تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ} (الحج: 33) فإن قيل: ولماذا لا يعطى ثمن الذبيحة للفقراء في الحج بدل الذبح؟ - قلت: ذلك لقلة النقود بين العرب وعدم انتشار استعمالها بينهم في ذلك الزمن لذلك كان أكثر تقدير أنواع الزكاة في الإسلام بالأعيان كالغلال وغيرها لا بالنقود، وأيضًا فإن الفقير إذا أعطي نقودًا بدل اللحم كنزها أو أنفقها في شيء آخر، وأما اللحم فإنه يضطر أن يأكله هو وأهله ولا يحرمهم منه كما تقدم. ومن أحكام الذبح أيضًا أن يذكر الذابح اسم الله تعالى على الذبيحة شاكرًا له على نعمه، وذاكرًا أنه لولا أمره تعالى له بالذبح ما جاز له إزهاق روح هذا الحيوان للتمتع به، وبذلك ترتفع قيمة الحياة والأرواح في نظر الناس فلا يستهترون بها. قال الله تعالى في الحج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 28) ولذلك حرم أكل الحيوان إذا لم يذكر اسم الله عليه أو ذكر اسم غيره تعظيمًا لأرواح الحيوانات , وقد جعل الله لكل أمة مذبحًا يذكرون اسم الله فيه على ما يذبحون {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} (الحج: 34) . 2-إن الذبائح والقرابين قد تكون عقوبات أو غرامات لمن يرتكب شيئًا من الآثام أو من المنهيات كما قال الله تعالى بعد ذكر عقوبة من قتل الصيد وهو محرم {لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} (المائدة: 95) وهذا الأمر يظهر جليًّا خصوصًا في ذبائح بني إسرائيل وقرابينهم التي كانوا يقدمونها كفارة لكثير من الذنوب ويحرقونها بالنار فكأنه كان في الشريعة الموسوية أن من يرتكب بعض الذنوب يعاقب عليها في الدنيا بفقد جزء من ماله كالغرامات الموجودة في سائر القوانين المدنية. 3- إن الذبائح والضحايا يراد بها أيضًا تعويد الناس على الاستعداد لبذل المال والنفس والولد في سبيل الله فهي تذكرنا بأكبر حادثة من حوادث الإسلام لله تعالى والانقياد إليه في كل شيء، ولو أدى ذلك إلى ضياع النفس أو الولد وهذه الحادثة هي إرادة إبراهيم عليه السلام أن يذبح ولده طوعًا لأمر الله وامتثالاً له وذلك أكبر علامات صدق الإيمان. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} (التوبة: 111) ومن أعطى شيئًا في سبيل الله فكأنما أعطاه لله تعالى نفسه كما قلنا سابقًا {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (البقرة: 245) فالمؤمن الحقيقي أو المسلم لله هو الذي لا يبخل بماله ولا بنفسه ولا بولده في سبيل ا

إنا لله وإنا إليه راجعون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إنا لله وإنا إليه راجعون [1] المصيبة الجلى بشقيقنا الشهيد الحسين آل رضا يعزُّ عليَّ يا حسين أن أسمع لك نعيًا، وأن أراك مَبْكِيًّا مَرْثِيًّا، يعزُّ عليَّ يا حسين أن أكون أنا الذي يُعَزَّى عنك، وأنت أنت الذي كنتم أودُّ أن تُعَزَّى عنِّي، يعزُّ عليَّ يا حسين أن لا يمرَّ عشر المحرم من هذا العام، إلا وأنت الشهيد الذي يجدد لنا ذكرى جدنا الحسين عليه السلام، يعز عليَّ يا حسين أن تُرْثَى في المنار، وقد كنت أرجو أن تَرِثَ المنار، يعز عليَّ يا حسين أن تغتضر في ريعان شبابك، وعنفوان قوتك، وأول العهد بتحقيق رجائي ورجاء الأمة فيك، فلئن بكيتك فأنت أحق الناس ببكائي، وأجدرهم ببثي وحزني؛ للصفات والمزايا التي اجتمعت فيك، وما كانت ولن تكون لسواك، فأنت أخي الشقيق، وتلميذي النجيب، وولدي البارّ، ليس في إخوتي ولا سائر أهلي من هو أقرب إليَّ منك، ولم أعن بتربية أحد ولا تعليمه كما عنيت بك، على ما آتاك الله تعالى من سلامة الفطرة، وعلو الهمة وذكاء الفطرة، وشرف النحيزة، وعزة النفس، والميل إلى معالي الأمور، والعزوف عن سفسافها. ألا إن مصيبتي فيك أيها الشقيق العزيز لأكبر من مصيبة أمك الرءوم، ولكنها ليست بأكبر من مصيبة أمتك العقور، المبتلاة في ولدها بالعقم أو العقوق، تثكل البارّ منهم قبل أن تجني ثمرة خيره وبره، ويعمر العاق فتتجرع الحميم والغسلين من عقوقه وشره، فإن بكيتك معهما، فإن مصيبتي بين مصيبتيهما، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك لمحزونون. ولو شئت أن أبكي دمًا لبكيته ... عليك ولكن ساحة الصبر أوسع فإن كان رُزْؤُك كبيرًا فالله أكبر، وإن كان الرجاء فيك عظيمًا فالرجاء في الله أعظم، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) ، فهنالك الملتقى إن شاء الله تعالى، فأنت في قوة إيمانك، وسلامة قلبك، وعظم إخلاصك، وطهارة شبابك، وقيامك بالواجبات، وتنزهك عن الفواحش والمنكرات، بل ترفعك عن مواقع الدنايا والهفوات، وبما رزقك من الشهادة، وما حباك به من حسن الخاتمة، جدير بأن تكون في مقعد الصدق، من حظيرة القدس، وهذا أعلى ما يعزينا عنك. إن الله جلت حكمته، ونفذت مشيئته، قد امتحن قلوبنا بخطبك، وابتلى إيماننا برزئك، فأرجو أن أكون من الصابرين على قضائه، المستحقين لصلواته ورحمته، الشاكرين له ما أنعم به من صدق الإيمان، وقوة الإرادة، واتباع هدي الكتاب والسنة، فقد جاءتني الصدمة الأولى وأنا بين صحبي، فملكت بفضله تعالى نفسي، وحبست مجاري الدمع من عينيَّ , وربطت على قلبي وكاد يتصدع بين جنبيَّ، وعقدت جلسة لجنة مدرسة الدعوة والإرشاد، ولم أُشعر بمصابي أحدًا من الإخوان، وإنما أذكر هذا تحدثًا بالنعمة، ورجاء أن أكون أهلاً للأسوة الحسنة، فاجعل اللهم هذا جهادًا في سبيلك، وسببًا لمرضاتك، وآتنا به ما وعدتنا على رسلك، وعوضنا خيرًا مما أخذت منا فإنك على كل شيء قدير. كان هذا المصاب أثرًا من شر آثار الفوضى واختلال الأحكام، وفساد الحكام في البلاد السورية، وغيرها من البلاد العثمانية، فقد اشتدت هذه الفوضى في وطننا (لواء طرابلس الشام) في السنة الماضية حتى ترك كثير من الأحداث والشبان الأعمال، وتدججوا بالأسلحة النارية في عامة أوقاتهم، وكثر حديثهم في الرجولية باستعمالها، والفتك بها، وزالت من نفوسهم هيبة الحكومة، واعتقدوا أن القصاص قد نسخ منها، ولم يبق بين الواحد منهم وبين قتل العمد إلا غضبة تعرض له، أو استياء من أحد يلم بنفسه، واتفق أن الفقيد صادف واحدًا من هؤلاء التحوت الأنذال يؤذي بنتًا في الطريق فنهره فاستلَّ النذل مديته وهجم بها على فقيدنا وقال له: إنني أنتظر هنا لأقتلك أنت، فقبض عليه الفقيد وما زال يعالجه حتى أخذ منه المدية، وأراد أن ينصرف، فأخرج الشقي مسدسه وأطلقه عليه ست مرات وكان في كل مرة يروغ فتخطئه الرصاصة حتى أصابته السادسة فحملها وذهب إلى الدار. وعلم بذلك الأصدقاء في طرابلس فبادروا مع طبيب عسكري وطبيب غير عسكري إلى الكشف عليه فلم يهتد الأطباء إلى الرصاصة وظنوا من غير عملية جراحية أنها غير قاتلة، وقد كتب الفقيد إليَّ وإلى شقيقنا السيد صالح بطاقة هذا نصها: سيدي الشقيقين: إني أحمد الله إليكما أن نجاني من مصاب كبير، وخطر خطير، وذلك أن الشقي عبد الوهاب الباشا أطلق علي عيارات نارية أصابني واحد منها في أليتي وقد ضمد الجرح الآن، على أنه لم يمض عليه أسبوع، ولا بد من بقائي في البيت أيامًا. وصل كتابك الأخير وسأجيبك عنه إن شاء الله تعالى، الجميع بخير. ... ... ... ... ... ... ... ... 3 المحرم سنة 1330 ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين وصفي رضا فكتبت إليه وإلى غيره إنني لا أطمئن ولا يرتاح قلبي إلا إذا استخرجت الرصاصة أو عرف مكانها وأنه غير مقتل، ولكن لم يرجع إلا النعي، فقد تبين أن الرصاصة اخترقت الجنب ووصلت إلى الأحشاء، وفعلت فعلها في الأمعاء، وذلك مساء عاشر المحرم، وخرجت روحه الطاهرة في صبيحة حادي عشره، بعد أن نطق بالشهادة وحمد الله أنه لم يسفك دمًا، ولا قارف محرمًا، وكانت هذه البطاقة آخر العهد بكتابة فقيدنا رحمه الله تعالى. كان المصاب بالحسين عظيمًا على كل من عرفه من أهل العلم والفضل والأدب أو عرف شيئًا من مزاياه العالية، وما عارِفُوه على حداثة سنه بالقليلين. وسنذكر نموذجًا من تعازيهم في جزء آخر، ونكتفي هاهنا بكلمة من كتاب تعزية لأحد أهل العلم والأدب في طرابلس الشام في سوء الحال والفوضى هناك وهو الشيخ محمد نجيب الحفار قال: أرفع لمقامكم السامي هذه العريضة، وإن قلمي يضطرب من شدة هول تلك الحادثة التي أودت بجميع من عرف ومن لم يعرف صفات فقيدكم بل فقيد جميع الناس المرحوم أخيكم السيد حسين رضا من رصاصة أتته من يد أثيمة كلا بل من دولة أثيمة لا تعرف للإنسانية حقًّا ولا للرعية ذمة يجبرانها على القيام بحفظ أموالهم وأعراضهم وأرواحهم وخصوصًا أهل العلم والفضل والشرف منهم الذين يذهبون كل يوم ضحية تهاملها وتكاسلها عن تعقيب أولئك الكفرة الفجرة الذين يعيثون في الأرض فسادًا لا يهابون الناس ولا الحكومة بدليل أنها أرسلت منذ عشرة أيام أحد ضباطها رديف بك وهو من خيرة رجالها لتعقيب بعض الأشياء الذين عجزت عن إلقاء القبض عليهم نظرًا لعدم اهتمامهم بقوة الحكومة وسطوتها فرجع المسكين محمولاً على الأكف مدرجًا بدمائه الطاهرة بعد أن كان كالأسد لا يهاب من وظيفته أحدًا فواروه جدثه ولم تزل الأشقياء للآن زُمرًا زمرًا داخل البلدة وخارجها يقومون بأعمال لا قِبل للإنسانية على تحملها وأصبحت الأهالي في اضطراب شديد من هول هذه الأعمال القبيحة، ومن جملتها مصيبتنا بالغصن الرطيب والركن العلمي والذكي المفرط المرحوم السيد حسين رضا) إلخ. ((يتبع بمقال تالٍ))

السيد حسين رضا ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد حسين رضا (1) ولد شقيقنا فقيد الإصلاح والفضيلة السيد حسين لبضع ليال خلت من شهر ربيع الأول سنة 1299 (الموافق شهر يناير 1882) وقد اغتبط والده بولادته ما لم يغتبط بولادة غيره من ولده، وكان يقول: إنه ولد ليلة المولد النبوي وأنا أرى أنه ولد قبلها بليلة فإن ليلة المولد هي ليلة تسع على التحقيق. وكان يحبه حبًّا شديدًا حتى كان يظهر حبه له في حضرته خلافًا لعادته مع أولاده، ويلهج المرة بعد المرة بقوله (هذا الحسين بن علي) فكأن هذا كان منه إشارة إلى الفجيعة به في المحرم. تعلم مبادئ القراءة والكتابة في القلمون ولاحت عليه من نشأته الأولى مخايل الذكاء والنجابة والعقل، واعتصم منذ طفولته بحبوة الحياء والأدب، وإنني لا أتذكر أن أحدًا أهانه بقول أو فعل، وكنت أنا الذي حملت الوالد رحمه الله تعالى على وضعه في مدرسة الحكومة الابتدائية في طرابلس (وكنت يومئذ أطلب العلوم الدينية والعربية في تلك المدينة) وكان يضن به على المدن خوفًا على أخلاقه، ويحب أن يطلب العلم في غير المدارس الرسمية، وكنت أتعاهده بكل ما يحتاج إليه، فتلقى فيها شيئًا من مبادئ التركية والفرنسية والحساب والصرف والنحو بالتركية!! وعلم الحال (العقائد والعبادات) ولكن حالة المدرسة الأدبية لم تكن تلائم فطرته فتركها باختياره ولم يتم مدتها. ثم أقرأته النحو والصرف والتوحيد والأخلاق وشيئًا من الفقه ورغبته في الأدب , فقرأت له مع آخرين كتاب الإظهار وطائفة من كتاب ابن عقيل في النحو (وحفظ الألفية كلها أو بعضها) ، وحضر عليَّ بعض دروس الإحياء والعقائد وفقه الشافعية. ثم هاجرت إلى مصر وأنا ضنين به أن يبقى في وطنه، وقد اشتد الضغط فيه على العلم وأهله وكتبه، فكنت أطلبه من الوالد (رحمهما الله تعالى) فيرجئ ويُسوِّف في إرساله، حتى سمح به في أوائل سنة 1321 فوضعته في الأزهر فكان يحضر درس التفسير والبلاغة على الأستاذ الإمام ودرس فقه الحنفية على الشيخ أحمد أبي خطوة ودروسًا أخرى كان ينتقل فيها من حلقة ينتقدها، إلى حلقة يرجو أن يجد طِلْبته فيها، ويقرأ المنار ويحاول اتباع أسلوبه في الكتابة، ولم يلبث أن ترك الأزهر بعد وفاة الشيخين محمد عبده وأبي خطوة، وما أراه أتم حضور كتاب على أحد فيه؛ لأنه لم يستطع الصبر على أسلوبهم - فهذا مُجمل القول في دراسته وكل من عرفه من أهل العلم كان يرى أن معارفه أكبر من سنه. هكذا قال الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان والدكتور شميل والدكتور يعقوب صروف وغيرهم. كان رحمه الله تعالى كاتبًا أديبًا وشاعرًا وسطًا وخطيبًا مفوهًا، وكان يعرض علي في بدء الأمر بعض ما يكتبه وما ينظمه فلا أجد فيه إلا القليل من الخطأ الذي يقع في مثله أشهر الكتاب والأساتذة، وما عتم أن استقل بنفسه، وصار ينشر المقالات الأدبية والسياسية والاجتماعية في الجرائد والمجلات الكبرى، فتارة يمضيه باسمه الصريح، وتارةً بلقب مستعار، وقد كنت أنكر عليه أولاً استعجاله بالاستقلال التام، وأنا أعلم أن سببه الذي ساعد استعداده الفطري عليه هو الاقتداء بشقيقه وأستاذه الأول، وأرى أنه فاته بهذا الاستقلال قبل أوانه ما كنت أحبه له من التوسع في العلوم الشرعية استعدادًا لتحرير المنار، وأن يكون ذلك برغبته واختياره، فلم أستطع أن أحدث له هذه الرغبة، وحثثته على إتقان اللغة الفرنسية فاشتغل بها زمنًا ولكنه لم يتقنها كما يجب ولم يطلقها ألبتة؛ لأنه كان يجري على سجيته ولا يطيق التكلف. وما كنت يائسًا من عودته إلى إتقان ما كنت أحب أن يتقنه وأنا أعلم أن رغبته إذا تحركت فإنها تكون كالكهرباء مضاء وسرعة. وجملة القول في علمه أنه علم الأديب، من كل فن حظ ونصيب، وكان دقيق النقد، حاضر الحجة، قوي الذاكرة، شديدًا على الخصم مع النزاهة والأدب , وله آثار وحكم وخواطر حسنة مدونة في مذكراته، سننشر بعضها في المنار إحياء لذكره، وشرحًا لمكنونات صدره وخبايا فكره. أما أخلاقه وسجاياه فهي التي كانت أكبر مواضع الرجاء فيه، وأظهرها وأعلاها استقلال الفكر وقوة الإرادة والإباء وعلو الهمة وعزة النفس والصدق والأمانة والعفة والنجدة والمروءة والشجاعة والإقدام والروية والوفاء والإخلاص، وكنت أخشى أن يغلب ميله إلى الشجاعة والرجولية ميله إلى العلم والأدب. أرأيت إذا أشرب صاحب هذه الأخلاق حب المصلحة العامة، ووجه وجهه إلى خدمة الأمة، مع حسن البيان بالقلم واللسان، ألا يرجى أن يكون من المصلحين المجددين؟ بلى، وإن فقيدنا الشاب قد كان مرجوًّا لهذا وأهلاً له، لو قدر الله له عمرًا طويلاً. إنني وإن كنت أشهد لأخي وتلميذي فشهادتي حق، وما تعودت بفضل الله إلا قول الصدق، ولا فائدة لي ولا له في إطرائه وإعطائه ما ليس له بحق، ويشهد له بذلك جميع من عرفه من أهل العلم والفضل الذين يقدرون الفضيلة حق قدرها أو جملتهم ومجموعهم، كما تشهد له به آثاره التي هي مرآة نفسه؛ لأنه لم يكن يكتب إلا ما يمليه عليه اعتقاده وشعوره، وإنني أنقل هاهنا بعض ما كتبه إليَّ فضلاء المعزين. وإنما أختار من التعازي الكثيرة التي كتبت إلى ما فيه تصريح أو إشارة إليَّ رأي الكاتب لها في فضل الفقيد وأخلاقه والرجاء في خدمته لأمته. والتعازي ضروب بعضها وعظ عام، وبعضها ثناء على المعزى، وأكثرها إكبار للمصيبة بالكلام المجمل والوصف الشعري. (1) كان أجدر الناس بأن يحفظ كلامه وينشر في هذا المقام صديقنا الأكبر الأستاذ العالم الصوفي الشيخ محمد كامل الرافعي أفضل الفضلاء في طرابلس الشام، ولكن ما كتبه في هذا المصاب شجون فيها ذكر ما وقع ووصف حاله هو فيها وما يعتقده في صديقه كاتب هذه السطور، فلا يتعلق شيء كثير منها بغرضنا، ويصح أن يكون منه بعض عباراته في إكباره المصاب على ما هو عليه من وقار المشيب، وما اعتاده من مصارعة الخطوب، كقوله حفظه الله تعالى: (فلم يفجأني إلا خبر نعيه الذي أصم السمع، وصدع القلب، وكان له من التأثير على وجودي كله ما تمنيت معه أني لم أخلق، وأسرعت إلى القلمون آسفًا جازعًا، فرأيت القيامة قائمة، وشهدت من هول المصاب ما يذيب القلوب ويفطر المرائر، ويذهب بالنفوس حسرات، واجتهدت بحسب ضعفي إذ ذاك لتخفيف الهول على غير جدوى. وبالحقيقة إن مصابنا بالحسين عظيم، والخطب فيه جسيم، وإنما يُقوى عليه بقوة من الله) . ومن كتاب له إلى ابن أخته جميل أفندي الرافعي: (فجعت بعد أخي أحمد عارف رحمه الله [1] بمثل انفجاعنا لوفاة السيد الحسين رضا، ولا أمضني خطب كخطبه، ولا أسفت لأحد كما أسفت لفقده، ولو شئت لعددت مواهبه بلسان الندب، ولكن قلبي من الحزن لا يطيق. ولقد صعب على تعزية (السيد) [1] به حتى لا أكاد أعقل ما كتبت. ولو أني حملت جبال رضوى لكان أهون علي ممن حملت من الكتابة إليه، على أنه لا بد منه، والأمر لله، و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) . (2) ما كتبه إلي لسان الصدق والحكمة السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي من الآستانة: كتابي اليوم كتاب أسى وحزن، ولولا أن الجزع قبيح بعباد الله المؤمنين لكان قلبي اليوم جديرًا أن يتسع للجزع وحده ويضيق عما سواه ولا أجد غضاضة عليَّ في ذلك لولا الإيمان؛ لأن فقيدنا ليس من هذه الأعراض الفانية المتبدلة، كلا بل هو جوهر من أكرم الجواهر التي حظينا من الزمان باكتساب صحبتها، والتعزي في هذه الحياة برؤية صفائها، هو من أعظم الهدايا الإلهية التي آنستنا في المعامع الموحشة، معامع قيل وقال، وكثرة الجدال، هو من أفضل الأعيان التي تصبح زينة التاريخ برونق محامدها، هو (السيد حسين رضا) ويا لهف قلبي حين يُرى هذا الاسم محشورًا في صفوف الغابرين، بعد أن عرفناه جمال محافل المعاصرين. إذا كان فقد الفضلاء ليس ببدع في عالم الكون والتحول، فالجزع لفقدهم ليس ببدع أيضًا، وإذا كان ذوي الغصون النضرة أمرًا معهودًا فذرف الدموع لأجلهم أمر معهود كذلك، لكننا نجلّ سنة الله تعالى في أنفسنا، ونتكلف تقديم الأُنس بروحه على الأُنس بأشباحنا، فنتزحزح بذلك عن الجزع القلبي مستغفريه سبحانه عن الدموع التي لا نملك سدًا لتيارها، ولا حول ولا قوة إلا به، هو ولي الفطرة ومازج الضعف بالقوة. إذا أسي الآل الرضوي على الحسين فلا غرو، كيف والآسون عليه من سواهم يعدون العد، ويتعاصون على الحد، فمحافل الآداب، ومعاهد العلوم، وبيوت الحسب، ومآهل الشبيبة، ومناهل الفضائل، كل ذلك بعض من أسي على هذا الغصن النضير الذي أنجبته دوحتهم، وأوحشت منه اليوم رياضهم، وإن يلتمس الآل الرضوي عزاء فليس لغيرهم مثل ما يجدونه من العزاء بوجود مولاي الأخ الذي هو اليوم عزاء عالم الإصلاح كله. كتبت هذا وما أملي بأن أكون معزيًا في الحسين أكثر من أن أكون مُعزى فيه، وذلك أن أخي الرشيد أغنى بقوة معرفته بالله سبحانه وأُنسه بروح هديه وتجلياته عن تعزية إخوانه، أما أنا فلا أستغني ولا أجدني ساليًا ذاك الشاب الذي لا فضل لي في عشق لطفه، فإن كل من عرفوه محكوم عليهم بالتقيد والتعلق بمناقبه، فالله سبحانه مسئول أن يثيبنا في هذا المُصاب، ويكفي الآل الرضوي، سائر الأوصاب، و] إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (البقرة: 156) [. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخوكم ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد الزهراوي وكتب في جريدته الحضارة التي تصدر في الآستانة ... ... ... ... ... ... ... ... السيد حسين وصفي رضا شاب نشأ في مهد المجد، ورضع أفاويق المعالي، وتضلع من الآداب والحكم، وبلغ في المروءة والشهامة الغاية، أتانا نعيه فوقع لدينا وقعًا مؤلمًا، وكان أسفنا عليه عظيمًا، فقد كان فوق كل ما تقدم من صفاته صديقًا من أعزِّ أصدقائنا، وأخًا من أكرم إخواننا، فنعزي فيه الفضائل والمعالي وأخانا العلامة المصلح شقيقه السيد محمد رشيد رضا صاحب (المنار) أجزل الله أجره، وأطال عمره، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) ، منه سبحانه نستنزل الرضوان على جدث الفقيد العزيز، والصبر والسلوان على أفئدة أهله وعارفيه. (3) ما كتبه أكتَب علماء طرابلس الشام وأعلم كتابها الشيخ إسماعيل أفندي الحافظ المدرس في دار الفنون العثماني ومكتب النواب بالآستانة. سيدي الأخ الرشيد عزى الله نفسه بما يرجوه من صلاح الإسلام وإنزال السكينة على قلبه. أكتب هذه الكلمات بيد ترتجف أسفًا، وأنفسا تتقطع لهفًا، وبين قلبي قلب يكاد يقطر دمًا، ويتفطر تأثرًا وألمًا، وعلى عارضي دمع ينهل مدرارًا، ويتسابق انحدارًا، ثم لا يلبث أن ينقلب نارًا، تذكى فيّ أوارًا، دمع كأني أحس بسويداء قلبي تسيل في وليه، وسواد عيني يمتزج بأتيه، حتى لو استعملته مدادًا، لرقم على هذا الطرس سوادًا، وذلك شأني منذ قرأت في جرائد طرابلس نعي ذلك الشاب الغض والحس المحض، والأدب الموفي على الروض جمالاً، والخلق المزري بنفحات الزهر أريجًا، والذكاء الذي يكشف أعقاب الخطوب، ويكاد يشق حجب الغيوب، ويستجلي خواطر القلوب، فيا له من خطب رُزئت به الفضيلة بجمالها، والمكارم بكمالها، والمروءة ببهجتها، والنجدة بمهجتها، ويا حسرة الأقلام والمحابر، والكتب والدفاتر، وياما أطول أسفي على ذلك الفقيد، وما أشد إشفاقي على قلب (السيد) كيف يحتمل المصاب به والصبر على نضرة شبابه، وهو أكثر أشقائه جريًا في سبيل الإصلاح، وأق

الدولة العلية واليمن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدولة العلية واليمن نشر كاتب إنكليزي شهد حصار صنعاء في العام الماضي وعاد في هذه الأيام إلى إنكلترة مقالة في التيمس وصف فيها ذلك الحصار وحالة البلاد في هذا الأوان , ترجمت جريدة المقطم خلاصتها، فرأينا أن ننشرها لتكون تتمة لما نشرناه من قبل في مسألة اليمن قال الكاتب: (عقدت الحكومة العثمانية صلحًا غير مجيد مع الإمام يحيى بعد ما رَشَتْ زعماء الثورة بالأموال الطائلة ووعدتهم بالإصلاح، فنال الإمام بذلك أكثر مما كان يطمع فيه، وثبت في مركزه حاكمًا على قبائل الزيدية ولم تتغير الحال في ما سوى ذلك عما كانت عليه قبل بدء القتال , فالأتراك يملكون صنعاء وقد استرجعوا معظم المراكز التي كانوا يحتلونها في الماضي، والإمام يملك شهارة وسائر المعاقل التي كانت له , وقد أطلق الإمام أخيرًا سراح خمسمائة أسير من الجنود ولكنه لم يُعِدْ المدافع التي غنمها في هذه الثورة أو في ثوراته السابقة , واضطرت الحكومة أن ترسل خمسين ألف عسكري بقيادة عزت باشا وهو من أكبر قوادها للحصول على النتائج التي مر ذكرها. ولا يستطيع الواقف على حقيقة أحوال اليمن أن يقابل الأنباء التي وردت من الآستانة عن استعداد الإمام لتقديم مئة ألف مقاتل ليحاربوا الإيطاليين في طرابلس الغرب إلا بالابتسام. ذلك؛ لأن سلطة الإمام اسمية أكثر مما هي فعلية؛ ولأن الحكومة العثمانية تعجز عن نقل هؤلاء المتطوعين إلى ساحة الحرب. فالإمام إذًا في حِلّ من ذلك ولا تثريب عليه إذا لم يبر بوعده. قد أتيح لي أن أكون في صنعاء لما كان الإمام محاصرًا لها وظل الحصار من شهر يناير إلى أواخر شهر إبريل من العام الماضي. وكان عدد الحاصرين يتراوح بين عشرة آلاف وخمسين ألف مقاتل. ولو هجم الثوار على المدينة بغتة لتيسر لهم فتحها عنوة؛ لأن حاميتها - وكانت مؤلفةً من خمسة آلاف من المشاة وبعض الفرسان ونحو 30 مدفعًا - لم يكن في استطاعتها الدفاع عن السور الذي يبلغ محيطه اثني عشر كيلو مترًا. ويقال: إن الإمام كان عازمًا على إتيان ذلك وأعد السلالم اللازمة لتسلق الأسوار ولكن المقربين إليه ثنوه عن عزمه. وقد أنفق الفريقان مقدارًا عظيمًا من الذخائر سدى، ولم يحتدم وطيس القتال إلا لما دنا عزت باشا بجيشه من صنعاء فكانت الحامية تخرج من المدينة حينئذ وتهاجم الثوار فتنشب بينهما معارك شديدة يخسر فيها الفريقان خسارة جسيمة. وكان الثوار مسلحين ببنادق موزر من عيار 74 وغني عن البيان أن هذه البنادق شديدة الفتك، ولقد كانت الذخائر متوفرة عندهم وإلا ما استطاعوا أن يطلقوا على الأسوار نارًا حامية أكثر من ثلاثة أشهر، ومما يستغرب في هذا الأمر أن البنادق والذخائر في شبه جزيرة العرب أرخص منها في أوروبا، ولم يستعمل الثوار المدافع العديدة التي غنموها من الأتراك كثيرًا؛ لأنه ليس بينهم من يحسن الرماية بها؟ ؛ ولأن معظم الذين تصيبهم قنابلها داخل المدينة هم من إخوانهم وأتباعهم. وحدث أنه لما عصفت ريح الثورة خرج بعض الجنود المحليين من العرب من المدينة وانضموا إلى الثوار فشدد ولاة الأمور على من تخلف من هؤلاء الجنود واعتقلوهم هم وسائر الذين اشتبهوا فيهم من الأهالي إلى أن انتهى الحصار، ولم يشددوا إلا في هذا الأمر وتجاوزوا عن سيئة الذين سعوا في نسف الثكنات، ويأوَّل تسامحهم هذا بخوفهم من قيام العرب عليهم إذا سقطت صنعاء وانتقامهم منهم وحرصهم على حياة الجنود الكثيرين الذين أسرهم العرب. وزحف عزت باشا بجيشه من الحديدة على داخلية البلاد من غير أن يلاقي المقاومة التي كان يتوقعها، نعم إنه قاتل كثيرًا في طريقه، ولكن الثوار لم يدافعوا عن معقل من معاقلهم العديدة بين الحديدة وصنعاء مدافعة تستحق الذكر، وقد دلت النتائج على أن تقاعدهم عن مقاومة الجيش كانت حكمة من الإمام وليس جبنًا منه ومن رجاله، ولما بلغ الجيش صنعاء رأى أنه لا يستطيع أن يخطو إلى ما وراءها، ولم تكن خسارته في الحرب عظيمة ولكن الأوبئة فتكت به فتكًا ذريعًا، وزد على ذلك أنه لقي في طريقه مشاقَّ وصعابًا وأنفق مالاً كثيرًا في الانتقال من مكان إلى مكان، وشاع بعد رفع الحصار أن الجيش كان ناويًا التقدم، إلى شهارة، ولكن عرب السواحل استأنفوا القتال الذي انتهى بواقعة جيزان المشئومة فحال ذلك دون إخراج هذا العزم واضطر ولاة الأمور أن يسرعوا بمفاوضة مشايخ عرب الجبال ليشتروا خضوعهم وولاءهم بالمال. ويستدل من هذه النتائج السلبية أن الحكومة العثمانية لا تستطيع إخضاع اليمن إخضاعًا تامًّا وأن الأسباب التي تمنع الإدريسي من الاتحاد مع الإمام , وهي اختلافات دينية - تمنعه أيضًا من الاتفاق مع الحكومة، هذا وإن منع تكرر الثورات في تلك البلاد ضرب من المحال إلا إذا نزع السلاح من الأهالي ولكن الحكومة بدلاً من أن تفعل ذلك مكنت العرب من غنم عدد عظيم من البنادق وبعض المدافع من جيشها وهم يرفضون الآن ما تعرضه عليهم من الاقتراحات لرد هذه الأسلحة أو رد بعضها رفضًا باتًّا. وعلاوةً على ما تقدم فإن التغلب على البلاد الجبلية في اليمن محفوف بأخطار ومصاعب جمة إذا كانت الحال ملائمة لذلك؛ لأن البلاد وعرة المسالك تتخللها الجبال والهضاب من جميع الأنحاء فتجعل المواصلات أمرًا صعبًا جدًّا إن لم نقل محالاً، وفيها كثير من المعاقل الطبيعية ويسكنها قوم أشداء عُرفوا بالبسالة والإقدام؛ لأنهم شبوا على الحرب وشن الغارات؛ ولأنهم مستكملو العدة والسلاح، نعم إن التمرس والتدرب على القتال يعوزانهم ولكنهم متحدو الكلمة تراهم قلبًا واحدًا ويدًا واحدة في الذود عن كل ما يوجب إذلالهم وإخضاعهم) اهـ. (المنار) يعتقد الكاتب أن الدولة لا تستطيع إخضاع اليمانيين بالقوة، ثم هو ينصح لها بأن تأخذ منهم أسلحتهم فكأنه ينصح لها بأن تستمر على إنفاق الملايين مما تقترضه من أوربة بالربا الفاحش وعلى بذل دماء الألوف من المسلمين كل عام لأجل أن يهلك الفريقان ويكونا غنيمة باردة للطامعين فيهم جميعًا. ولو كان مخلصًا في نصحه لاستنبط من علمه واختباره أنه يجب على الدولة وهي لا يمكنها إذلالهم وإخضاعهم أن ترضى بأن يتولوا أمور أنفسهم بمساعدتها تحت سلطتها وأن تؤلف منهم قوة يحمون بها بلادهم من الأجانب إذا اعتدوا عليها ويكونون عونًا للدولة عند الحاجة إليهم. فحسبها أنها حاربتهم أربعة قرون وخسرت في ذلك الملايين من الرجال وبذر المال، ولم تستفد في مقابلته شيئًا قط.

دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسي إلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعوة سيدي أحمد الشريف السنوسي إلى جهاد الإيطاليين في طرابلس الغرب وبرقة المنشور الذي نشره في القبائل بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا إنه من عبد ربه سبحانه أحمد بن السيد محمد الشريف بن السيد علي السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي إلى كل واقف عليه من عموم المسلمين خصوصًا البلاد التي استولى عليها أعداء الدين. الحمد لله العزيز الجبار، والصلاة والسلام على من أطال عز الدين بالبتار، وعلى آله الأنصار، القائمين بواجب {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ} (التوبة: 123) الصادقين ما عاهدوا الله عليه، الذائقين من حلاوة الشهادة ما أحبوا مفارقة النعيم المقيم للرجوع إليه. أما بعد إهدائي أطيب السلام، والدعاء لثبات الإقدام بثبات الأقدام، اعلموا {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) ، {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ} (التوبة: 111) وجاهدوا متخذين نصره سيفًا وولايته جُنَّة، واسمعوا ما نبهكم به على الوفاء بتسليم المبيع من الوعد بالربح الجسيم، في قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} (الصف: 13) واحذروا ما توعدكم به المماطل من العذاب والتدمير في قوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} (التوبة: 38-40) . واعلموا أن الأجل محتوم، فما خائض المعركة ميت إلا به، ولا القصور المشيدة مانعة ملائكة الموت عن ساكنها، فما أصاب لم يكن ليخطئ، وما أخطأ لم يكن ليصيب، على أن الموت في الجهاد هو منتهى أرب اللبيب، إذ هو الحياة الحقيقية، وكمال المنزلة بالرزق في مقام الحضرة الربانية، فلهذا آثره من ينفرد في الدنيا بعز الخلافة على ما هو فيه، فكيف بمن به يكون خلاصه من أسر الأعداء وسبيهم نساءه وأولاده وما يحميه. واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الشهيد لا يجد الموت إلا كالقَرْسِ لما هو به مشغوف، يجد ريح الجنة، وتتراءى له الحور إذا أثخن. وقد قال (أنس بن النضر) في وقعة أحد (واهًا لريح الجنة. إني لأجد ريحها دون أحد) ثم انغمس في المشركين حتى قتل. ولا تصدنكم عن جهادكم كثرة عدد ولا عدة، فإن قوة الإيمان يتلاشى في جنبها كل عدد، فجموعهم المعسكرة مكسرة، وعزماتهم المؤنثة مصغرة، وإن كانت ذواتهم مذكرة مكبرة، وقد وعد الله ناصره بالنصر والتثبيت، والعدو بالتعس والتشتيت، ولا ترتدُّوا على أدباركم، لضعف من بعض أمرائكم، فإن المرء لو جاهد لله وحده، لصدق وعده، وأعز جنده، بل جاهدوا ولو فرة، واثبتوا ولو مرة، فقد كان في الغزوات، يتداول الرايات الجماعات، كلما حيي أمير أخذها الآخر لينال المرام، وفى الحديث الحث على الجهاد مع كل إمام، فلا تنكسرن قلوبكم لقلة عدد، ولا تجبنوا لضعف مدد، بل ليقاتل أحدكم ولو وحده، منتظرًا بالنصر وعده، فقد قال تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} (البقرة: 249) والأحاديث في الترهيب من ترك الجهاد والترغيب فيه لا يحاط بها كثرة، من الأول (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يُنزع عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) أي الواجب عليكم من جهاد الأعداء والإغلاظ عليهم وإقامة الإسلام ونصرة الدين وآله وإعلاء كلمة الله وإذلال الكفر وأهله. ومنه (إن ترك الجهاد خروج عن الدين) إذ لا يرجع إلى الشيء إلا من خرج عنه. هذا في الجهاد الكفائي فكيف بالجهاد الذي تعيَّن بمفاجأة العدو [1] . وإذا كان القاعد عنه خارجًا عن الدين فكيف بمن يبايع الكفار بحُطام على قتال المسلمين وكتابة نفسه في جندهم. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من غزا غزوة في سبيل الله فقد أدى إلى الله جميع طاعته {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} (الكهف: 29) قال: قيل يا رسول الله بعد هذا الحديث الذي سمعناه منك من يدع الجهاد: (قال: من لعنه الله وغضب عليه وأعد له عذابًا عظيمًا. قوم يكونون في آخر الزمان لا يرون الجهاد، وقد اتخذ ربي عنده عهداً لا يُخلفه: أيُّما عبد لقيه وهو يرى ذلك أن يعذبه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين) وفى مسلم (من مات ولم يغزُ ولم يحدِّث نفسه مات على شعبة من النفاق) ومن الثاني قوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله أي الناس أفضل (مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله) وفيه أنهم قالوا يا رسول الله: ما يضحك الرب من عبده؟ قال (غمسه يده في العدو حاسرًا) وفيه (إن درجات المجاهدين إلى مائة درجة في الجنة ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) . فالله الله عباد الله، خلصوا أنفسكم وأعراضكم من أيدي الكفار، واغسلوا يا ذوي الهمم ملابس مروءتكم من العار، وجاهدوا بالأنفس والأموال، فدرهم الجهاد بسبعة آلاف، وكونوا كرجل واحد في التعاون والائتلاف، وأبشروا بنصر من الله وفتح قريب فما أمر بالجهاد إلا ليهدي السبيل ولا حرَّك الألسن بالدعاء إلا ليجيب، ولا تقر نفس منكم قرارها، حتى تضع الحرب أوزارها، وليكن همُّ كل منكم وهواه قتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. فالمثابرة المثابرة فما هي إلا القليل , وإن قيل إنهم {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل عمران: 173) فهم عما قليل مدحورون، وهذا إبان إعطاء جميعهم الجزية عن يدٍ وهم صاغرون فلا يوجبن لكم -ما المسلمون فيه الآن- جبنًا ولا تقصيرًا، فالله ولي الذين آمنوا {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} (النساء: 45) واصبروا فإن الفرج قريب، وإني إن شاء الله قادم إليكم عن قريب، وعليكم منا أتم السلام.

اللغة العربية

الكاتب: جبر ضومط

_ اللغة العربية بحث تاريخي فلسفي في موطن العربية المضرية ونسبتها إلى أخواتها من اللغات السامية [*] أيها السادة والسيدات: اللغة العربية فرع من أرومة تعرف بالأرومة السامية ومن فروع هذه الأرومة اللغات الآتية وهي: البابلية القديمة وتعرف بالأشورية أيضًا، والأرامية (وهي السريانية) والعبرانية الفينيقية، والحميرية، والحبشية أو الأثيوبية. إلا أن العربية من بين هذه الفروع هي أمدها أغصانًا وأملاها جذمًا وأورفها ظلاًّ وأنضرها أوراقًا وأطيبها ثمرًا يانعًا شهيًّا. وعلماء اللغات الغربيون يقولون: إن أرومة هذه الدوحة السامية انشعب منها فرعان اثنان فرع شمالي وفيه اللغة البابلية القديمة، والأرامية والعبرانية الفينيقية، وفرع جنوبي وفيه العربية المضرية والسبئية والسقطرية والمهرية والأثيوبية (أو الحبشية) . وصحح العلامة أرثر نولدكي على ما في دائرة المعارف البريطانية الأخيرة سنة 1911 هذا التقسيم فجعل اللغة البابلية القديمة فرعًا مستقلاًّ بنفسه وجعل الفرع الثاني ينشعب إلى جذمين شمالي وجنوبي وجعل في الشمالي الأرامية، والعبرانية الفينيقية، وجعل في الجنوبي العربية المضرية، والسبئية، والسقطرية، والحبشية أو الأثيوبية. هذا ما يراه العلماء الغربيون في تقسيم اللغات السامية وتفرعاتها عن الأم التي نشأت منها. ولهم في موطن هذه الأم السامية الأصلي آراء ثلاثة الأول أن موطنها أفريقيا، والثاني أنه العراق وما يجاور الخليج الفارسي من أعلاه إلى اليمين والشمال، والثالث أنه شبه جزيرة العرب , أما الرأي الثاني فرأي العلامة الأستاذ جويدي صاحب المحاضرات المشهورة في الجامعة المصرية في العام الفائت , وأما الرأي الأول فالظاهر من كلام العلامة نولدكي أنه من القائلين به أو الذاهبين إليه , وأما الثالث فيقول فيه هذا العلامة: إنه مما ذهب إليه فريق من العلماء الباحثين ولكنه لا يسمي أحدًا من الذين يقولون به , ومع أنه يقول في هذا الرأي: إن عليه مسحة من القبول وفي الظواهر ما يعضده، يعود فيعطف على مقاله هذا ما يُشْتَمُّ منه تضعيفه والجرح فيه. راجع مقالة هذا العلامة النفيسة المدرجة في المجلد الرابع والعشرين من دائرة المعارف البريطانية الطبعة الأخيرة سنة 1911 وجه 620 إلى 630. *** عود إلى تفريع اللغات السامية قلنا: إن علماء الغربيين يفرعون الدوحة السامية العظمى إلى فرعين كبيرين شمالي وجنوبي ويشعبون من الفرع الشمالي البابلية القديمة والأرامية والعبرانية الفينيقية، ومن الجنوبي العربية العدنانية المُضرية والسبئية والمهرية والسقطرية (نسبة إلى مهرة وجزيرة سقطرة) والإثيوبية ويندرج تحت الإثيوبية الحبشية والأمهرية. وقد ذكرنا أيضًا تصحيح العلامة نولدكي لهذا التفريع أي أنه جعل البابلية القديمة فرعًا مستقلاً بذاته وجعل ما سواها من بقية اللغات السامية في الفرع الثاني وشعب من هذا الفرع شعبتين أو جذمين شمالي وجنوبي على ما مر بنا. ولم أر سندًا لما ذكره هذا العلامة إلا ما بين اللغات من التقارب والمشابهات في الألفاظ المفردة والاشتقاقات الصرفية وما يلحق ذلك من التراكيب وأدوات المعاني ولا سيما أدوات وطرق التعريف والتنكير، وقد أغفل الوجه التاريخي تمام الإغفال. والذي يظهر لي أن إغفال الوجهة التاريخية نقص في البحث وأنه لو تُنبه إليها وأضيفت مآخذها إلى مآخذ الأبحاث اللغوية الصرفة لكان فيما يستنتج من مجموع وجهتي البحث ما يضعف آراء القوم في التقسيم والتفريع ويضعف أيضًا تصحيح العلامة نولدكي. وعندي أنه لو أضفنا إلى ما نعرفه من التشابه والتقارب بين الألفاظ والمشتقات وضروب التراكيب النحوية والإضافية وطرق التعريف والتنكير ما نعرفه من النقول التاريخية والتقاليد العمومية المتعارفة لأدى بنا ذلك إلى التقسيم الآتي وهو أن الدوحة السامية العظمى تنقسم إلى فرعين كبيرين هما الفرع القحطاني والفرع العادي، وأن الفرع الأول أي القحطاني تشعب منه الأرامية والحميرية والحبشية، وأن الثاني أي العادي انشعب منه البابلية القديمة والعبرانية الفينيقية والعربية العدنانية المضرية. وأما السبئية التي يشير إليها العلامة نولدكي فإن كان يراد بها لغة بلاد سبأ أي البلاد التي عاصمتها مأرب ذات السد المشهور، فالتاريخ يعارض قول هذا العلامة وينافيه؛ لأنه يشير إشارة لا تقوى على معارضتها (إلى) أن لغة هذه البلاد كانت منذ الجيل الأول للمسيح لحد هذه الساعة لغة عربية مُضَرية وسنقيم الدليل على ذلك. وعليه فالأرجح أن هذه اللغة السبئية التي يقولها هذا العلامة إنما هي الحميرية القحطانية يخالطها شيء من العربية المضرية بما يتخيل معه أنها شعبة من الجذم العربي العادي. وأما لغة مهرة وسقطرة فخليط من الحميرية والحبشية ولا يبعد أن يكون بين ألفظاها بقية كبيرة من اللغة السبئية العادية العدنانية التي زعمها العلامة نولدكي قسيمة للعربية وما هي قسيمة لها وإنما هي لهجة أو لغة من لغاتها على الأرجح. *** مهد اللغة السامية أو وطنها الأصلي قبل إقامة الدليل التاريخي على ما ذكرناه في شأن لغة سبأ أي أنها لغة ولهجة من لهجات العربية وبعبارة أخرى أن أهل بلاد سبأ كانوا يتكلمون العربية المضرية من (زمن) سيل العرِم إلى الآن. وقبل أن أذكر الدليل في إثبات أن فرعي الأمِّ السامية هما القحطانية والعادية ومنهما تفرعت بقية اللغات السامية الأخرى لا بد لي من الرجوع إلى الكلام عن موطن اللغة السامية الأصلي ومهدها الذي ربيت فيه فأقول: وجدنا اللغات السامية في البلدان الآتية: 1- في شمالي أفريقيا على شواطئ المتوسط من الشام شرقًا حتى تصل إلى بوغاز جبل طارق والأتلانتيكي غربًا ويشتمل ذلك على برقة وطرابلس الغرب وتونس والجزائر وبلاد مراكش. 2- في مصر وما يليها جنوبًا من بلاد الإثيوبيين أو ممالك الحبشة. 3- في جزيرة العرب وما والاها من فلسطين وسوريا حتى تصل آسيا الصغرى. 4- في بادية الشام والعراق من رأس الخليج الفارسي جنوبًا حتى تصل المُوصل وديار بكر شمالاً، وليس في التاريخ ولا في الآثار ولا في التقاليد المتناقلة ما يشير أدنى إشارة إلى أنها كانت في غير هذه البلدان. هذه هي البلدان التي عاشت فيها الأمم التي تكلمت اللغات السامية لم يعرف عنها قط أنها كانت في غيرها من البلاد اللهم إلا حيث كانت المستعمرات الفينيقية لكنها لم تثبت هناك، بل انقرضت حالاً عند انقراض المستعمرين وتغلب من حواليهم من الأمم عليهم، ولا شك أن مهد السامية لم يتجاوز البلدان التي ذكرناها ولا بد أن يكون في إحداها، وعلى هذا أجمع أرباب البحث من علماء اللغات والتاريخ قديمًا وحديثًا على ما أعلم وهو ظاهر قول العلامة نولدكي أيضًا. قلنا فيما مر: إن هنالك آراء ثلاثة في موطن السامية، الأول أنه أفريقيا والثاني أنه جزيرة العرب والثالث أنه العراق أو إقليم بابل وما يليه من بلاد الآشوريين. فلننظر في كل من هذه الآراء واحدًا واحدًا ولا شك أن الرأي الذي تتوفر فيه الأدلة التاريخية والعقلية هو أولى من صاحبيه بالقبول، دعونا ننظر أولاً إلى بلدان شمالي أفريقيا ونسأل تقاليد أهلها عن أهلها من أين جاءوا؟ إن البربر وأعني بهم سكان شمالي أفريقيا من الذين كانوا يتكلمون باللغة السامية ولا يزالون يتكلمون بها إلى الآن يرفضون بتاتًا أن يكون أصلهم من زنوج أفريقيا، ويصلون أنسابهم بأنساب العرب وأهل اليمن والشام، والقول المعتبر في ذلك إنما هو قول العلامة ابن خلدون صاحب التاريخ المشهور، فراجع ما نقله في أنساب البربر - المجلد السادس طبعة بولاق من صفحة 89 إلى 98. إن الواقف على ما يذكره هذه العلامة في أنساب القوم لا يشك أنهم جاءوا إلى تلك البلاد الواسعة من الشام والبلاد العربية، ولا أقول: إن البربر استعمروا بلادهم ابتداء لم يكن فيها قبلهم أحد من الأمم ولكني أقول: إن هؤلاء الذين جاءوا البلاد ولغتهم من الدوحة السامية جاءوا من الشام وجزيرة العرب فتغلبوا مع الأيام على أهل البلاد، وصارت إليهم الدولة والسلطة واختلطوا مع من غلبوهم بالزواج فصاروا من ثمَّ جميعهم (الغالبون والمغلوبون) ينتسبون إلى الأمم التي كان منها الغالبون، لا أستطيع أن أنقل كل ما ذكره العلامة ابن خلدون في أنساب البربر ولكني أنقل ما جاء له في الجزء الثاني من تاريخه (وجه 51 طبعة بولاق) قال: قال ابن حزم: هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحارث الرائش وهو الذي ذهب بقبائل العرب إلى أفريقيا وبه سُميت وساق إليها البربر من أرض كنعان مر بها عند ما غلبها يوشع وقتلهم فاحتمل الغل منهم فساقهم إلى أفريقيا فأنزلهم بها - ولما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة فهم إلى الآن بها وليسوا من نسب البربر، قاله الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي والسهيلي وجميع النسابين. انتهى النقل، ويظهر من هذا الذي نقلناه ومن كثير أمثاله أن التبابعة أجلوا غير مرة العرب وأهل كنعان إلى بلاد المغرب وأقاموا مهاجرًا فيها لقبائلهم من سبأ وحمير. ولا أحتاج أن أذكر جاليات الصيدونيين والصوريين إلى تلك البلاد فإن الحالية منهم التي استعمرت قرطاجنة ومن ثم صار لها الغلب على كل شمالي أفريقيا سنينًا طويلة هي أشهر من أن تذكر، وكادت دولتهم هناك أن يكون لها الغلب على أشهر الممالك المعروفة حينئذ لو لم تسبقها رومية العظمى إلى ذلك، وبناء على هذا جميعه أعيد ما قلته من أن التقاليد والتواريخ كلها تشير إلى جهة واحدة وهي أن الأمم السامية هم دخلاء على شمالي أفريقيا وقد جاءوا إلى هناك من الشام وجزيرة العرب، فليس شمالي أفريقيا إذن موطنًا للسامية ولا يعقل أن يكون هناك أيضًا. فرغنا الآن من الكلام عن شمالي أفريقيا، بقي علينا مصر والحبشة , أما مصر فلم أسمع عمن ذهب إلى أنها موطن السامية الأصلي وهذا مما يغنيني على الإطالة وإقامة الدليل على أمر يُنازع فيه، ومع ذلك أقول: إن الأثري والمؤرخ الشهير العلامة رولسن يرجح أن التمدن المصري القديم ليس أصليًّا فيها إنما جاءها عن العراق وبلاد العرب، ومن المشهور في الآثار والتواريخ العربية أن دولة الرعاة في مصر وكانت سامية جاءتها من البلاد العربية، بقي علينا بلاد الحبش - وعامة المحققين وعلماء اللغة لا يشكون في أن الحبشة هؤلاء أعني الذين يتكلمون بهذه اللغة السامية هاجروا إليها من البلاد العربية، ومثل ذلك أقول في الأمهريين إن لم يكن قد قيل فيهم ذلك من قبل، والفرق بينهم وبين الحبشة أن الحبشة نزحوا جماعة كبيرة، وأما أولئك فكانوا قلائل في العدد وباختلاطهم مع الزنوج غلبت عليهم وعلى لغتهم ملامح هؤلاء وألفاظ لغتهم وكثير من عباراتها وتراكيبها ولكن لم تقو لغتهم الزنجية على إزالة الأصل السامي فبقي من آثاره ما يدل عليه بعد التنقيب وإمعان الروية، وأرى أن العقل لا يستطيع الحكم بأن هؤلاء الساميين بقوا ما بقوا في أفريقيا وكانوا ما كانوا ثم خرجوا عن بَكرة أبيهم من موطنهم الأصلي في بلاد الزنوج ولم يتركوا أثرًا هناك يدل عليهم أصلاً، إن هذا الرأي لا يُقبل إلا مع البرهان الراجح إن لم نقل البرهان القاطع للشك والنافي للاحتمال. بقي علينا بلاد العراق من الخليج الفارسي إلى الموصل وديار بكر - وال

نقد تاريخ التمدن الإسلامي ـ 2

الكاتب: شبلي النعماني

_ نقد تاريخ التمدن الإسلامي بقلم الشيخ شبلي النعماني (2) مثالب بني أمية المقصد الذي جعله المؤلف نصب عينه ومرمى غايته هو أن الأمة العربية إذا بقيت على صرافتها فهي جامعة لجميع أشتات الشر، أي الجور والقسوة والهمجية وسفك الدماء والفتك بالناس. ولكن لما كان لا يقدر على إظهار هذا المقصد تصريحًا احتال في ذلك فغمض المذهب وجعل الكلام طيب الظاهر وذلك بأن قسم عصر الإسلام إلى ثلاثة أدوار - فمدح سياسة الخلفاء الراشدين، وقال بعد مدحها: (على أن سياسة الراشدين على الإجمال ليست مما يلائم طبيعة العمران أو تقتضيه سياسة الملك وإنما هي خلافة دينية توفقت إلى رجال يندر اجتماعهم في عصر. فأهل العلم بالعمران لا يرون هذه السياسة تصلح لتدبير الممالك في غير ذلك العصر العجيب وأن انقلاب تلك الخلافة الدينية إلى الملك السياسي لم يكن منه بد. (الجزء الرابع صفحة 29 و30) فأثبت بذلك أن سياسة الخلفاء الراشدين ليست فيها أسوة للناس، وأنها من مستثنيات الطبيعة، أما دور العباسيين فمدحه ولكن لا لأجل أنه دولة عربية بل لكونها فارسية مادة وقوامًا مؤتلفًا ونظامًا وصرح بذلك فقال: (دعونا هذا العصر فارسيًّا مع أنه داخل في عصر الدولة العباسية؛ لأن تلك على كونها عريبة من حيث خلفاؤها ولغتها وديانتها فهي فارسية من حيث سياستها وإدارتها؛ لأن الفرس نصروها وأيدوها ثم هم نظموا حكومتها وأداروا شئونها ومنهم وزراؤها وأمراؤها وكتابها وحُجَّابها) . (الجزء الرابع صفحة 106) ثم أشار في غير موضع إلى أن الدولة العربية الساذجة إنما هي دولة بني أمية فقال: (وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية) (الجزء الرابع صفحة 103) وظل العرب في أيام بني أمية على بداوتهم وجفاوتهم وكان خلفاؤها يرسلون أولادهم إلى البادية لإتقان اللغة واكتساب أساليب البدو وآدابهم (الجزء الرابع صفحة 61) . ولما أثبت أن خلافة الراشدين لم تكن تلائم النظام الطبيعي وأن دولة بني العباس دولة فارسية وأن الباقية على صرافتها هي الدولة الأموية أخذ يعدد مثالب بني أمية تحت عنوانات مستقلة منها الاستخفاف بالدين وأهله، ومنها الاستهانة بالقرآن والحرمين، ومنها الفتك والبطش، ومنها قتل الأطفال، ومنها خزانة الرءوس. وأتى في مطاوي هذه العنوانات من الإفك والاختلاق والتحريف والتبديل بما تجاوز الحد وخرج عن طور القياس. والآن أذكر نبذًا منها وأكشف عن جلية حالها. *** الاستهانة بالقرآن والحرمين قال المؤلف تحت هذا العنوان: (أما عبد الملك فكان يرى الشدة ويجاهر بطلب التغلب بالقوة والعنف ولو خالف الدين؛ لأنه صرح باستهانة الدين منذ ولي الخلافة.. . ذكروا أنه لما جاءوه بخبر الخلافة كان قاعدًا والمصحف في حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك - أو- هذا فراق بيني وبينك. فلا غَرو بعد ذلك إذا أباح لعامله الحجاج أن يضرب الكعبة بالمنجنيق وأن يقتل ابن الزبير ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة. وظلوا يقتلون الناس فيها ثلاثًا وهدموا الكعبة وهي بيت الله عندهم وأوقدوا النيران بين أحجارها وأستارها) (الجزء الرابع صفحة 78 و79) . الحكاية على الإجمال أن ابن الزبير ادعى الخلافة فملك الحرمين والعراق وكاد يغلب على الشام وكان أمره كل يوم في ازدياد وبإزائه بنو أمية في الشام فلما تولى عبد الملك الخلافة أرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره ولاذ ابن الزبير بمكة فنصب الحجاج المنجنيق على الزيادة التي كان زادها ابن الزبير (كما يجيء تفصيله) . يعرف كل من له أدنى إلمام بالتاريخ أن الحجاج ما أراد إلا قتال ابن الزبير ولكونه لائذًا بالكعبة اضطر إلى نصب المنجنيق على الكعبة، ولكن مع ذلك تحرز عن رمي الكعبة فحوَّل وجهها إلى زيادة ابن الزبير. فانظر كيف غير المؤلف مجرى الحكاية فصدر الباب بالاستهانة بالقرآن والحرمين. ثم ذكر أن عبد الملك قال للقرآن: هذا فراق بيني وبينك. وأنه أباح للحجاج ضرب الكعبة بالمنجنيق وهدم الكعبة وإيقاد النيران بين أستارها، فالناظر في عبارته يتوهم بل يستيقن أن عبد الملك تفرغ من بدء الأمر للاستهانة بالدين والقرآن والحرمين وجعل الاستهانة نصب عينه ومرمى غايته، وقتل ابن الزبير كان إما لأنه دافع عن مكة أو لكونه أيضًا جنس الاستهانة بالحرم. أما تفصيل الواقعة وتعيين بادئ الظلم فهو أن ابن الزبير لما استولى على الحرمين أخرج بني أمية من المدينة فخرج مروان وابنه عبد الملك وهو عليل مجدر فاستولى على الشام، وصدرت من ابن الزبير أفعال نقموا عليه لأجلها فمنها أنه تحامل على بني هاشم وأظهر لهم العداوة والبغضاء [1] حتى إنه ترك الصلاة على النبي في الخطبة ولما سألوه عن هذا قال: إن للنبي أهل سوء يرفعون رءوسهم إذا سمعوا به [2] ومنها أنه هدم الكعبة ومع أن هدمها لم يكن إلا لرمتها وإصلاحها ولكن لم يكن هذا مألوفًا للناس، ولذلك تحرز النبي عليه السلام عن إدخال الحطيم في الكعبة فاتخذ الحجاج هذه الأمور وسيلة لإغراء الناس على ابن الزبير. ولعل ابن الزبير كان مضطرًّا إلى هذه الأعمال ولكن من شريطة العدل أن نوفي كل واحد قسطه من الحق، فإذا اعتذرنا لابن الزبير فعبد الملك أحق منه اعتذارًا، فإن ابن الزبير هو البادئ والبادئ أظلم. ويظهر من هذا أن عبد الملك ما أراد الحط من شأن الكعبة ومس شرفها ولكن اضطر إلى قتال ابن الزبير فوقع ما وقع عرضًا غير مقصود بالذات ولذلك لما نصب الحجاج المناجيق على الكعبة حولها عن الكعبة وجعل الغرض الزيادة التي كان زادها ابن الزبير، صرح بذلك العلامة البشاري في أحسن التقاسيم. ثم إن من مسائل الفقه أن البغاة إذا تحصنوا بالكعبة لا يمنع هذا عن قتالهم ولذلك أمر النبي في وقعة الفتح بقتل أحدهم وهو متعلق بأستار الكعبة وابن الزبير كان عند أهل الشام من البغاة والمارقين عن الدين. ولو كان أراد الحجاج الاستهانة بالحرم فما كان مراده من رمته وإصلاحه بعد قتل ابن الزبير، ومعلوم أن تعمير الحَجاج هو كعبة الإسلام وقبلة المسلمين كافةً. أما قول عبد الملك للقرآن هذا فراق بيني وبينك، فحقيقته أن عبد الملك كان قبل الخلافة ناسكًا منقطعًا إلى العبادة لا يشتغل بشيء من الدنيا، قال نافع: ما رأيت في المدينة أشد نُسكًا وعبادة من عبد الملك، ولما سألوا ابن عمر إلى من ترجع في الفتوى بعدك؟ قال (ولد لمروان) وكان يقول ابن الزناد الفقهاء في المدينة سبع أحدهم عبد الملك. ... ... ... ... ... ... ... ... ... وقال الإمام الشعبي: ما جالست أحدًا إلا وجدت عليه الفضل إلا عبد الملك بن مروان. ذكر كل هذه الأقوال العلامة السيوطي في تاريخه للخلفاء. فلما جاءته الخلافة وهو يقرأ القرآن تصور خطارة الأمر، وأن مثل هذا العبء لا يمكن تحمله إلا المنقطع إليه فقال تحسرًا: هذا آخر العهد بك. أي الآن لا يمكن الانقطاع إلى العبادة وقراءة القرآن كما كان دأبي أولاً، وليس هذا على سبيل الاستهانة بالدين مطلقًا فإنا نرى اشتغال عبد الملك بالفرائض والسنن فيما بعد فهو يصوم ويصلي ويحج قال اليعقوبي في تاريخه: وأقام الحج للناس في ولايته سنة 72 الحجاج بن يوسف وسنة 73 وسنة 74 الحجاج أيضًا وسنة 75 عبد الملك بن مروان وسنة 76 أبان بن عثمان بن عفان، وسنة 77 أبان أيضًا وسنة 78 وسنة 79 وسنة 80 أبان أيضًا وسنة 81 سليمان بن عبد الملك (وسرد باقي السنوات فتركناها) وعبد الملك هو الذي كسا الكعبة الديباج، فهل هذا صنيع من يريد الاستهانة بالحرم؟ قال المؤلف: (ويحتز رأسه بيده داخل مسجد الكعبة) (الجزء الرابع صفحة 79) استند المؤلف في هذه الرواية بالعِقد الفريد لابن عبد ربه والاستناد بمثل هذه الكتب في مثل هذه الوقائع هو من إحدى حيل المؤلف المعتادة بها فأنت تعلم أن حادثة قتل ابن الزبير مذكورة في الطبري وابن الأثير وغيرها من المصادر التاريخية المتداولة الموثوق بها وعليها المعوَّل وإليها المرجع لكن لما لم تكن كيفية الحادثة في هذه الكتب وفق هوى المؤلف أعرض عن هذه كلها وتشبث بكتاب هو في عداد المحاضرات وإنما يرجع إلى أمثاله إذا لم يكن في الباب مستند غيره ومتى لم يخالف الأصول. والمذكور في الطبري وغيره أن عبد الله بن الزبير أصيب في الحجون وقتل هناك قتله رجل من المراد، وما احتز رأسه داخل الكعبة. قال المؤلف: (وهدموا الكعبة) . قدمنا أن الكعبة لم تكن غرضًا للحجاج وإنما كان نصب المناجيق على الزيادة التي زادها ابن الزبير، ولما كانت متصلة بالكعبة نالت الأحجار من الكعبة ولكن كان أول ما فعله الحجاج بعد ما استتب القتال أمره بكنس المسجد الحرام من الحجارة والدم كما نص عليه ابن الأثير فهل كنس المسجد الحرام من الحجارة والدم وهدم الكعبة شيء واحد؟ أما ما نقل المؤلف عن كفر الوليد وأنه أمر بالمصحف فعلقوه وأخذ القوس والنبل وجعل يرميه حتى مزقه وأنشد: أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد إذا لاقيت ربك يوم حشر ... فقل لله مزقني الوليد ونقل هذه الرواية عن الأغاني فهي من خرافات الأغاني، ومعلوم أن صاحب الأغاني شيعي ديانته شنآن بني أمية والحط منهم. وأما الأبيات فأثر التوليد ظاهر عليها، ومن له أدنى مسكة بالأدب يشهد أن نسجها غير نسج الأوائل، فأما جهابذة المحدثين المرجوع إليهم في نقد الروايات والذين قولهم فصل في هذا الباب فيجحدون أمثال هذه الروايات المختلقة. قال العلامة الذهبي: هو رأس الحديث ومرجع الرواية -: (لم يصح عن الوليد كفر ولا زندقة بل اشتهر بالخمر والتلوط فخرجوا عليه لذلك) (تاريخ الخلفاء للسيوطي ترجمة الوليد) . ثم إن هناك أمرًا آخر وهو أن الناقم على الوليد وقاتله هو خليفة أموي، فكيف ينسب استهانة الدين إلى خلفاء بني أمية عامتهم. ثم إن هذا الذي عزا إليه صاحب الأغاني الاستهانة بالقرآن قد ذكر له صاحب العقد ما ينبئ عن تعظيمه للقرآن وتفخيمه شأنه وحث الناس على حفظه وتعهده قال صاحب العقد [1] : إنه شكا رجل من بني مخزوم دينًا لزمه فقال (الوليد) : أقضيه عنك إن كنت لذلك مستحقًّا قال: يا أمير المؤمنين كيف لا أكون مستحقًّا في منزلتي وقرابتي؟ قال قرأت القرآن؟ قال: لا، قال فادن مني فدنا منه فنزع العمامة عن رأسه بقضيب في يده فقرعه قرعة وقال لرجل من جلسائه ضم إليك هذا العِلْج ولا تفارقه حتى يقرأ القرآن. فقام إليه آخر فقال يا أمير المؤمنين اقض دَيني، فقال له أتقرأ القرآن؟ قال نعم فاستقرأه عشرًا من الأنفال وعشرًا من براءة فقرأ، فقال: نعم نقضي دينك وأنت أهل لذلك. فأنت ترى أن الوليد يعد من لا يقرأ القرآن عِلْجًا والمؤلف يعد الوليد علجًا. فأما ما ذكره المؤلف من أقوال الحجاج وخالد القسري وأنهما كانا يُفضلان الخلافة على النبوة فمع أن أكثر هذه الأقوال مأخوذ من العقد الفريد وهو من كتب المحاضرات لسنا نحتاج إلى الذب عن الحجاج وخالد فإنهما من أشرار الأمة حقًّا، ولكن كم لنا من أمثال هؤلاء الملاحدة في الدولة العباسية كالعجاردة وابن الرواندي الذي عمل كتابًا رد فيه على القرآن وسماه بالدامغ، فإذا كان العباسيون مسئولين عن أوزار هؤلاء عند المؤلف فكذلك بنو أمية. وإن كان عبد الملك والوليد يرتضيان بسوء أعمال الحجاج فمعلوم أن غيرهما من بني أمية كانوا ناقمين عليه كافة حتى أن هشامًا قال (هل الحجاج استقر في جهنم أو يهوي إلى الآن) ولما وصل إلى هشام أن خالدًا القسري استخف با

الجامعة الإسلامية

الكاتب: عن جريدة الطان الفرنسية

_ الجامعة الإسلامية [*] أرسل إلينا أحد علماء اللغة العربية المقالة الآتية باللغة الفرنسوية في مسألة هي في الوقت الحاضر أكبر المسائل التي تهم أوربا بمقدار ما تهم المسلمين، وهي مسألة الجامعة الإسلامية التي نجهل منها أكثر مما نعلم، قال الكاتب: ولدت الجامعة الإسلامية تحت شمس مصر الحارة وظلت زمانًا طويلاً محصورة في دائرة عدد صغير من أنصارها، وكانت هذه الجامعة في نشأتها الأولى دينية محضة أشبه بكنيسة كاثوليكية ترمي إلى ضم جميع الفرق الإسلامية أو بالحري إلى تجديد ذكرى الوحدة القديمة التي فقدت منذ زمن بعيد، إلا أنها لم يمض عليها زمن حتى وسعت دائرتها وأصبحت تعقد الرجاء بتكوين دولة إسلامية شديدة البأس كالدولة التي كانت في زمن الفراعنة لتظهر للعالم في بعض أجزائها أنها المعيدة بصفة شبه قومية (؟) للتمدن الشرقي الذي توارى خلف مدنية أوربا المسيحية. ولما كانت الجامعة الإسلامية لم تزل حديثة النشأة لذلك كانت أعمالها صادرة عن حمية عمياء حمية الحداثة وعدم الاختبار التي تئن مصر والجزائر من تحتها إلى أن دخلت في دور السكينة مشتغلة بنشر مبادئها ومنتظرة بلوغ قوتها. والسيد جمال الدين الأفغاني الحسيني هو أول من اشتغل بنشر فكرة الجامعة الإسلامية إن لم يكن المحرض على إنشائها وقد ظل زمنًا طويلاً معروفًا بأنه المثال الحي لتلك الجامعة. ولد السيد جمال الدين في ولاية كابل في أسعد آباد من أعمال بلاد الأفغان واشترك في ثورات عديدة أُريقت فيها الدماء، ثم فارق وطنه سائحًا في العالم خصوصًا في العالم الإسلامي فاخترق الهند الإنكليزية إلى فارس فبلاد العرب فالسلطنة العثمانية، ثم القطر المصري، ومنه إلى أوربا فراقب كفيلسوف كل الحوادث العظمى التي شهدها القرن الماضي وراقب أدوار الرقي العقلي في أوربا بنظر من يود الوقوف على الحقائق، وانخرط في سلك الماسونية في مصر ثم ذهب إلى الآستانة فتوفي فيها عام 1897 وكان السلطان عبد الحميد قد جذبه إليها وغمره بإحسانه وهداياه، وفي جملة الذين حظي بصداقتهم وودادهم أثناء سياحاته المسيو رينان حتى اختصه هذا بالمدح والتقريظ في أحد مؤلفاته. وكان جمال الدين مَهيب الطلعة، ويقال: إنه مع مقدرته الفائقة في فن الخطابة كان واسع الاطلاع في الشئون العامة حتى إنه خلف تلاميذ كما فعل أفلاطون ولم يخلف مؤلفات، وكانت سيرته تاريخًا في العالم الإسلامي الذي كان جمال الدين يسعى إلى تأليفه فكانت الجامعة الإسلامية أملاً له يحلم به في كل أيام حياته، وكان ينتقل في العالم الإسلامي من بلدة إلى أخرى رسولاً للوحدة والتضامن يعظ الناس ويدعوهم للعودة إلى التقاليد القديمة ولكن من غير تعصب فكانت غايته أن يكون الإسلام عامًّا طيبًا ووسيلة للتسامح وحب المدنية والارتقاء. وكان في القطر المصري جمعية تدعى (جمعية العروة الوثقى) طلبت من الأفغاني أن يرفع مدة إقامته في باريس صوت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية فأصدر هناك جريدة (العروة الوثقى) وناط تحريرها بالشيخ محمد عبده الذي ذاع صيته في ذلك الوقت فظهر منها ثمانية عشر عددًا فقط؛ إذ إن الحكومة الإنكليزية التي كان يهمها أكثر من غيرها أمر الجامعة الإسلامية الجديدة استعملت الضغط لإيقاف حركة تلك الجامعة. ثم ظهرت فكرة عقد مؤتمر إسلامي عام فاتجه نظر الأفغاني نحو مكة واستحسن العالم الإسلامي ذلك إلا أن السلطان عبد الحميد قد راعه اتجاه الجامعة الإسلامية نحو بلاد العرب التي أقلقته ثوراتها الماضية فأخفقت فكرة عقد المؤتمر في مكة. أما الكواكبي فقد كان مع ذلاقة لسانه في الخطابة صاحب نظر دقيق نير، وقد أخذ فكرة الأفغاني في عقد المؤتمر الإسلامي فشرحها شرحًا مطولاً في كتابه الذي صدر باسم (سجل جمعية أم القرى) وضمن هذا الكتاب أعمال المؤتمر الذي لم يمكن عقده، ووصف بأسلوبه الحسن حالة العالم الإسلامي وشخص أمراضه بكل انتباه مع ذكر الدواء اللازم لها. الكواكبي هو العالم النظري الذي نفر للجماعة الإسلامية، وهو المفكر الذي لم يؤثر فيه الوعيد والتهديد، وإذا كان الأفغاني قد أظهر الميل إلى عبد الحميد بمجيئه إلى الآستانة حتى مات فيها فإن الكواكبي ظل دائمًا العدو الألد لعبد الحميد حتى ألف كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) تشنيعًا على حكومته. أما عبد الحميد فإنه بما اتصف به من الحكمة والدقة أدرك القصد من فكرة الجامعة الإسلامية فبعد أن كان أول خصم لها أراد أن يرعاها برعايته ليستأثر بفائدتها، ولذلك جذب الأفغاني وكثيرًا من الأطباء وأئمة الإسلام إلى الآستانة وأغراهم بالالتحاق به وأجزل الهبات والهدايا والعطايا والألقاب والوسامات وظهر هو نفسه بمظهر ديني وجعل نفسه نصير الإسلام في العالم ورتب المرتبات للمعاهد الدينية وللعلماء ومشايخ الطرق وللجوامع والمساجد وشيد أماكن خاصة بضيافة الحجاج وتسهيل واجباتهم الدينية كما أنشأ السكة الحديدية الحجازية التي لم يكن ينظر العالم الإسلامي إليها إلا أنها عمل صادر عن شفقة على المسلمين وحنان عليهم، فتبرع لها المسلمون بمبالغ طائلة إعانة على إتمام هذا المشروع. ولم يقتصر الأمر على جذب المسلمين والحصول على انعطافهم بل كان من اللازم أيضًا تنويرهم وضم بعضهم إلى بعض والقبض عليهم فأرسل خليفة الآستانة إلى أنحاء العالم الإسلامي أولئك العلماء الذين التفوا حوله وجعلهم رسلاً للجامعة الإسلامية التي كانت محيط أحلامه. وفوق ذلك فإنه أراد أن يراقب الدول الأجنبية التي كانت تضم بين رعاياها أو في مستعمراتها فريقًا من المسلمين فبث في كل جهة حتى في الجزر الصغيرة رسله السريين الذين لم يكن يشعر أحد بوجودهم، وتمكن أيضًا من الحصول على مخبرين سريين في الدوائر العليا لتلك البلاد، وكان ينقدهم المبالغ الطائلة أجرة على عملهم. ولما خلع السلطان عبد الحميد أصبح كل الذين يعيشون من هذا الطريق لا مورد لهم، والحكومة الدستورية الجديدة لم تشأ أن تعترف بهم، وقطع أعضاء جمعية الاتحاد والترقي الصلة بينهم وبين الجامعة الإسلامية منذ قاطعوا شخص عبد الحميد وتظاهروا أيضًا بمقاومة هذه الجامعة ونسخ اللغة العربية وهي لغة الدين المقدسة بل هي لغة المسلمين العامة التي بزوالها يزول الإسلام وببقائها يبقى ويحيا. ظل هؤلاء دائبين وراء أمانيهم الجميلة فابتكروا مشروع الإقدام على صبغ السلطنة العثمانية بالصبغة التركية، وهذا المشروع لم يخطر في بال السلاطين الفاتحين ولا عللوا النفس بتحقيقه مع ما كان لديهم من القوة التي إن لم تكن أعظم من قوة أحداث سلانيك الغارقين في الأوهام فهي على الأقل تساويها، وبهذا صارت الجامعة الإسلامية بلا سند وعادت حقًّا مشاعًا فبدأ كتاب الصحف وحدهم يشتغلون بها وقوة هؤلاء لا يستخف بها. انتشرت الصحف الإسلامية في العالم بكيفية غير محسوسة وأكثر هذه الصحف عربية فتجد منها بآسيا وأفريقيا وأميركا وأوروبا بل في الأوقيانوسية ولو بنسبة غير متساوية، ولما كانت هذه الصحف حديثة النشأة لذلك ترى لها عيوبًا كما أن لها مزايا وفوائد، فإذا كان ينقصها الأخبار السريعة من جهة فهي من جهة ثانية ذات سلطة على قرائها وهي التي تكون الرأي العام بدل أن تردد صداه. تكثر الصحف العربية بنوع خاص في القطر المصري، وكانت في سوريا قد نهضت بنشاط في مدة قصيرة حتى جاءها الحكم الحميدي ووقف في وجهها فجعلها نسيًا منسيًّا إلى أن أعلن الدستور سنة 1908 وكان الكتاب السوريون ينزلون ضيوفًا في مصر، وهي الأخت الشقيقة لسوريا فانتشرت الصحافة في وادي النيل وفازت فوزًا باهرًا. صورة مصطفى باشا كامل تتقدم بما لها من المكانة صحف الجامعة الإسلامية في القطر المصري، وهذه الجامعة الإسلامية هي الجامعة المدنية التخيلية القريبة الوصول لكل من بذل ذاته وأبدى سخاء وعلو همة إلا أن هذه الجامعة مصرية أكثر منها عمومية وقومية أكثر منها دينية. أما المثل الحي المقدام للجامعة الإسلامية الدينية فهو بلا نزاع الكواكبي والأفغاني والشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية، وكان مرمى آمال الشيخ محمد عبده أن يكون الإسلام عامًّا حيًّا يرجع إلى حاله الأولى ويتجرد مما زيد فيه بمرور الزمان. ومما قاله - رحمه الله - في كتابه (الإسلام والنصرانية) ص 117 إن ما يؤخذ على المسلمين في الوقت الحاضر ليس هو من الإسلام في شيء ولكنه شيء آخر أدخله أهل البدع على الإسلام ودليلنا على ذلك القرآن الذي انصرفوا عن تدبره واتباع سننه. إن الجامعة الإسلامية الدينية التي خلفها الشيخ محمد عبده لتلاميذه عند وفاته يتوسل للعمل لها بثلاث وسائل المؤتمرات والصحافة والتعليم بالمبادئ الصحيحة، وقد كانت آمال الجامعة الإسلامية ترمي إلى عقد مؤتمر يجمع جميع الطوائف الإسلامية، وقد سبق لنا الكلام على السبب الذي من أجله لم يفلح مؤتمر أم القرى، إلا أن العزيمة لم تفتر في هذا الشأن حتى قام قبل بضع سنوات إسماعيل غصبر نسكي مدير جريدة ترجمان التي تطبع في بغجه سراي في القريم فاقترح عقد المؤتمر في القطر المصري وقابل المصريون هذا الاقتراح بحمية ونشروا على العالم الإسلامي منشورات حماسية إلا أن هذا المؤتمر أخفق أيضًا. وقد قرأت في أحد أعداد مجلة المنار التي تصدر في مصر، وقد تفضل بإرسالها إليَّ المسيو ماسينيوس اقتراحًا لأحد المكاتبين يقترح به عقد المؤتمر إلا أنه لم يكن سببَ إخفاق المشروع فسادٌ في إدارته بل كانت هنالك صعوبات مادية تحف به من كل جانب. وأما الوسيلة الثانية وهي الصحافة فإنها جعلت فكرة الجامعة الإسلامية تتقدم تقدمًا سريعًا؛ لأن كل الجرائد الإسلامية في العالم ترمي إلى هذا الغرض وهي منتشرة في كل مكان. وإذا فتح الإنسان واحدة من هذه الجرائد أو المجلات يأخذه العجب من الخطوات التي اجتازتها الصحف العربية، وإن كانت إربًا لا تكاد تحسب لوجودها حسابًا. وتهتم الصحافة العربية باستعراض أحوال العالم الإسلامي بأسره وتشرحها وتعلق عليها وتشير بإصلاح المعوج وتشجعها وتحنو عليها حنو الوالدة على رضيعها وتفيض هذه الصحف بالبحث في تاريخ الإسلام وعلومه وتقاليده في قالب يسهل فهمه على جميع القراء؛ لأنه يكتب بأسلوب بسيط حديث. وإن مجلة كمجلة المقتبس تعد كدائرة معارف حقيقية يهم المسلمين الاطلاع عليها وهي تقرأ في كل جهة من البلاد العربية كما تقرأ في الأوقيانوسية والهند وأميركا. وقد وقف أحد مسلمي الهند في لاهور مائة نسخة من كتاب تفسير القرآن الحكيم الذي يكتبه الشيخ رشيد رضا لتوزع هذه النسخ على المساجد وتتلى فيها. ولدينا أمثلة كثيرة من هذا القبيل تدل على وجود روح التضامن التي تبثها هذه الصحف بين المسلمين المنتشرين في أنحاء العالم. وأما الوسيلة الثالثة فهي التعليم الذي اشتد الميل إليه والشوق إلى نشره فانتشرت المدارس في كل مكان. وكان الإنسان يقرأ منذ حين على كل جدر في كل مدينة من مدن سوريا هذه الجملة: (تعلم يا فتى فالجهل عار) . والجامعة الإسلامية لا تكتفي بتأسيس المدارس البسيطة بل هبت لتأسيس مدارس الجامعة الكبرى. فهذا الجامع الأزهر قد تأهب لتجديد عهد شبابه واستعد للقيام بالوسائل الحديثة. وهنالك مشروع تأسيس جامعة في الهند وأخرى في سوريا،

الصلح بين الدولة والإمام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصلح بين الدولة والإمام رسالة طويلة أرسلها إلى جريدة الحقيقة البيروتية من اليمن ضابط عثماني شهد الحرب والصلح هنالك بنفسه، لما فيها من الفوائد الجديرة بالتأريخ قال: كان يوم السبت الواقع في 8 ت 1 سنة 327 يومًا عظيمًا في اليمن حيث تجلت السعادة على تلك الربوع وانمحى الشقاء والبؤس اللذان كانا يرفرفان عليها وأراني فخورًا في زف هذه البشرى لإخواني في الدين والوطنية. إن قرية (دعان) الواقعة على مسافة خمس ساعات من الشمال الشرقي من قضاء (عمران) سيكون لها شأن في التاريخ حيث عقد فيها الاتفاق، وتم توقيع شروط الصلح بين الإمام يحيى بن حميد الدين وقائد الحملة عزت باشا فانحسم بذلك الخلاف وهدأت الخواطر وارتاحت النفوس، ولعمري إن الاتفاق خير وسيلة لحقن الدماء؛ لأن التطاحن لا يجدي نفعًا بل يكون سببًا لتأصل البغض وضعف القوة. وقد قام الإمام بحضور القائد وأركان حربه ونواب اليمن وألوف من سكانها داعية للدولة بدوام العز حتى اعتقد الناظر أن رابطة الاتحاد والإخاء ستكون أبدية إلى ما شاء الله لما ظهر على الوجوه من علائم الإخلاص وسيماء الاتحاد. وفي اليوم الرابع من الشهر المذكور كان العلم العثماني يخفق على (قلعة عمران) بين دخان كثيف حيث كانت أحد عشر مدفعًا تطلق استقبالاً للقائد وهيئة أركان حربه الذي جاء من صنعاء لاقتطاف ثمرة أتعابه ومساعيه التي صرفها منذ ستة أشهر في هذه الأصقاع فلم تكد تنتهي أصوات المدافع حتى ظهر ذلك البطل والتعب بادٍ على وجهه والشيب عام رأسه فشعرت عندئذ بفضله؛ لأن الصلح كان على يديه وذلك لحكمته ودرايته، وكم من قواد أوفدتهم الحكومة إلى ذلك القطر رجاء إصلاحه فآبوا من حيث أتوا ولم يستطيعوا أن يفيدوا شيئًا , وإليك أسماء الذين جاءوا معه: الميرالاي أحمد عوني رئيس أركان حرب الحملة. والميرلوا عبد السلام باشا رئيس أطباء الحملة. والقائمقام رجب بك. البكباشية عاصم وعزت. والقول غاسية قدري وعصمت بك، واليزباشية عاشور وسيفي وصالح وصفوت وناظم بك، وياور القائد الملازم سرور بك، والكاتبان إلهامي وسليمان بك، ومبعوث الحديدة محمود نديم بك مع مبعوث صنعا، وقومندان الجندرمة برتو بك، ومدير مكتب الرشدية والعسكريةبصنعاء، والبكباشي بهاء الدين بك وأحد علماء الروضة والميرالاي أحمد بك، والسيد أحمد قاسم من أشراف اليمن وأحد الساعين في هذا الصلح. وقد ضُرب موعد الاجتماع في قرية دعان الواقعة على بعد خمس ساعات من الشمال الشرقي من عمران (بينهما) وبين قرية (حمر) التي هي مركز لاجتماع رجال الإمام يحيى كما ذكرنا. وقد قدم الإمام يحيى إلى دعان قبل أن يغادر عزت باشا صنعاء لكي يعد المعدات لاستقباله. وفوق ذلك فإنه أرسل لاستقباله حفيد الإمام الأسبق السيد محمد بن المتوكل الملقب بسيف الإسلام مع كثير من المشايخ ورؤساء القبائل، وهو الذي حاصر قلعة عمران قبل ستة أشهر وضيق عليها الحصار بدفاعه مدة أربعة أشهر، وها هو ذا قد قصد اليوم هذه القرية حيث تستقبله الجنود التي كان يحاربها وتحييه التحية العظمى. كانت مخايل النجابة وعلائم الذكاء تتلألأ على ذلك الوجه الذي يخالط سمرة لونه شيء من الاصفرار فكان يخيل للناظر إليه في أول وهلة أنه في حضرة هونغ هنغ زعيم الثورة الصينية من حيث بهاء طلعته ورَبعة قامته وقلة شعر لحيته وسدول شاربيه ولباسه الحرير الأصفر. وكان بين وفود الإمام الموفدين لاستقبال القائد أيضًا ناصر مبخوت من مشاهير قواد الإمام، وقد كان مستخدمًا برتبة يوزباشي بالجندرمة (أى الشرطة) ثم فر منها ولحق بالإمام وهناك ظهر منه ما ظهر من قوة وشجاعة. وفي صباح يوم الأربعاء توجه عزت باشا من (عمران) إلى (دعان) مع من ذكرنا أسماءهم وعشرين من الخيالة النظامية وخمسة وعشرين من خيالة الجندرمة، ولو كان ذلك قبل هذا اليوم لما تسنى لعزت باشا أن يبتعد عن عمران مسافة ساعتين إلا بقوة ألاي (4 توابير) كامل العدد والعدة؛ لأنها آخر الأراضي الداخلة تحت إدارة الدولة، أما اليوم فقد أصبح تحرسه قلوب اليمانيين وترعاه نفوسهم. فلما اقتربنا من دعان مسافة ساعة ونصف وجدنا المستقبلين على وجوههم آثار الشجاعة والنبل وفي مقدمتهم سيف الإسلام السيد أحمد قاسم والمقدم المشهور مقداد والشيخ عبد الله أبو منصر وعلي سراجي ويحيى شبام وراجح باشا شيخ قبيلة (سراح) وكانت الحكومة وجهت عليه رتبة ميرميران لاستمالته إلا أنه بقي من رجال الإمام حتى الآن. والسيد عبد الله بن إبراهيم وهذا كان قد أرسله الإمام للآستانة في السنة الماضية للمفاوضة مع الدولة بشروط الصلح. كان هؤلاء الأبطال يقودون العربان ويحاربون الحكومة من مناخة إلى صنعاء. ويلقب الإمام ثلاثة من رجاله بسيف الإسلام وهم السيد محمد بن المتوكل والثاني السيد قاسم والثالث أبو نبيلة إلا أن هذا الأخير لم يكن حاضرًا الاحتفال بل بلغني أنه موجود مع رجاله بجهة (سعدا) . أما السيد قاسم فهو عم مبعوث صنعاء الميرلاي أحمد بك، وقد خرج من صنعاء منذ خمسة وثلاثين سنة وهو من ذاك التاريخ بجانب الإمام، وقد رويت عنه رواية قالها يومًا: إنني لما خرجت من صنعاء كنت لا أملك سوى بندقية إبراهيمية، أما اليوم فإننا نملك على مئة ألف بندقية من أحدث طرز وما يقرب من مئة مدفع. أما علي المقداد فهو من عائلة قديمة يرجع تاريخها إلى ألفي سنة، وقد حارب الدولة منذ عشرين عامًا إلا أن لذلك أسبابًا عظيمة حملته على محاربتها والوقوف بوجهها وهي أنه قدم أحد القواد العثمانيين في الزمن السالف وأراد أن ينتقم من العربان فدعا الأمير إليه فلما حضر لديه أمر أتباعه بربط هذا الجليل بعجل المدفع ثم أمر بإطلاقه فقطعت يداه من عظم القوة وكادت روحه تخرج من صدره، ثم فكه وتركه مغمى عليه، فلما أفاق عاهد الله والرسول على أن لا يقرب هو ولا أولاده من الدولة وأن يقف حياته لمحاربتها ما دام فيه عرق ينبض. هذا نموذج من الإساءة التي يستعملها رجال الدولة الذين يقصدون اليمن للإصلاح فلذا كان اليمانيون يقفون في وجه الدولة مهما أرسلت إليهم من المصلحين؛ ذلك لأنهم رأوا الإساءة من السابقين وذهبت ثقتهم من اللاحقين. يبلغ الأمير من العمر 85 سنة وكان رجاله ينقلونه على ألواح الخشب أثناء المحاربة لعجزه وعدم استطاعته ركوب الخيل، وكان يصدر أوامره الحربية وهو على هذه الحالة ويدير شئون المحاربين ويقودهم بكل رصانة. أما عبد الله أبو منصور فقد كان سببًا في انكسار حملة فيضي باشا سنة 1321 شرقي (كذا والمراد السنة المالية) وكيفية ذلك أنه لما هجم التابور المنسوب إلى ألاي (ريزا) على (شهاره) ودخلها استولى الرعب على قلوب العربان فأوشكوا أن يفروا من وجه الجنود، لولا أن قام عبد الله أبو منصور وعقل ركبتيه كي لا يستطيع الفرار إذا هاجمه العدو - وهي وسيلة استعملها لتشجيع العربان وأمثولة وضعها ليعلمهم الثبات إبان القتال - وقتل بعض الفارين من العربان عبرة لغيرهم فكانت النتيجة أن ثبت العربان حتى أفنوا التابور عن آخره وضعفت بذلك قوة الحملة. نرجع إلى مسألة الصلح: كنا نتقدم إلى (دعان) وكان يتقدمنا ألوف من العربان يلعبون بخناجرهم ويطلقون بنادقهم في الفضاء احتفاء بنا وهي نفسها التي كانوا يطلقونها علينا في الوقائع. وكانوا يسيرون إلى جانبنا وهم ينشدون الأناشيد الحربية التي لا تحلو إلا بالأمم المتصفة بالشجاعة والوفاء. هناك أثَّر فيَّ هذا المنظر وقلت في نفسي: ما أحلى هذه المؤاخاة وما أسلم هذه القلوب التي تزينها النية الصافية. لا شك أن ما رأيناه من مظاهر الإخلاص وعلائم الاتفاق هو نتيجة سعي قادة الأفكار من الفريقين في إصلاح ذات البين، وأنا على يقين أنه لولا وجود عزت باشا في اليمن لما تم الصلح ولا رجعت السكينة إلى تلك الربوع، فكم من قواد أموا هذه البلاد فأهلكوا الحرث والنسل ولم يتركوا نوعًا من أنواع الظلم إلا فعلوه فكان ذلك سببًا في إبادة ألوف من الجنود الذين ذهبوا ضحية جور هؤلاء القواد من أبناء الأناضول والروم أيلي. تلك هي سياسة القواد السابقين التي لم يلتفت إليها عزت باشا بل نظر إلى المصلحة العامة قبل كل شيء، ولولا ذلك لما تسنى له الحصول على وفاق ووئام بين طائفتين من المسلمين تقتتلان، فهيأ للجيش العثماني عضدًا قويًّا يبلغ عدده ثلاثة ملايين؛ لأن الإمام يحكم على هذا العدد ويمكنه أن يكون محاربًا مع الجيش العثماني جنبًا لجنب إذا مست الحاجة ولا يستبعد القارئ هذا، فالمثال حسي ظاهر وهو أنه لما بلغ الإمام إعلان إيطالية الحرب على الدولة أرسل نبأً برقيًّا إلى مقام الخلافة العظمى يقول بأنه مستعد لتقديم مئة ألف مقاتل كاملي العَدد والعُدد. بينما كنت غارقًا في بحور هذه التأملات إذ تذكرت صحيفة الماضي حيث كنت شاهد عدل على المقابلة التي وقعت منذ سنتين مع السيد الإدريسي في صبيا وجرى لنا استقبال حافل وأرسل لنا الإدريسي رؤساء العشائر والمشايخ وبقينا عنده ثمانية عشر يومًا لم يدُر في خلالها على ألسنتنا غير حديث وجوب اتحاد المسلمين يدًا واحدة دفعًا للطوارئ الخارجية المحدقة بنا، وكان السيد يقول لنا: إنه لا سلامة ولا راحة ولا سعادة للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلا بإطاعة أكبر دولة إسلامية والالتفاف حولها وهي دولة الخلافة العظمى. إلا أن هذا الائتلاف كان وقتيّا؛ لأن بيننا وبينه الآن دماء تجري كالأنهر وسيوف تلعب بالرقاب فشتان ما بين ائتلاف الأمس واليوم [1] . كان الاتفاق مع الإدريسي على أثر تهديده فكنا الساعين إليه قبله خوفًا من إراقة الدماء فعد ذلك ضعفًا من الحكومة، أما اليوم فإن الاتفاق بخلاف ذلك فقد أدرك الإمام أن لا فائدة من هذه المحاربات ولا نتيجة من التطاحن وأن ذلك يضعف القوى فتصافحنا مصافحة ولاء وإخلاص وتعاهدنا أن نكون يدًا واحدة في السراء والضراء. (دعان) بلد مبني على قمة جبل يتألف من مئة منزل بين دور وأبراج جعل واحد منها للإمام يحيى والثاني لعزت باشا قائد الحملة، وبعد أن استرحنا من عناء السفر ساعتين قصدنا البرج الذي نزل فيه الإمام. هناك وجدنا بعض العربان وقوفًا على الأبواب حاملين سلاحًا حديثًا ثم انتقلنا إلى رواق ضيق مظلم حتى بلغنا حجرة الإمام حيث كان جالسًا على مقعد بسيط يلاصق الأرض متكئًا على وسادة وأمامه أدوات الكتابة وأوراق منها ورقة مكتوبة ممضاة بختم الإمام ولم تكن الغرفة مزينة إلا أننا رأينا على جدران الغرفة سبحة وساعة ومصحفًا في محفظة قماش خضراء وسيفًا ونظارة. وأما الإمام فسنه يناهز الأربعين وعلى وجهه أثر الجُدري حنطي اللون أسود العينين حادهما قليل شعر الحاجبين والشاربين واللحية، وكنا نرى حينما يبتسم أسنانه الناصعة البياض , وخلاصة القول فإن سيما الذكاء والنبل كانت تتلألأ على ذلك الجبين الوضاح والوجه المنير الذي يجذب القلوب. وسأذكر لكم من قبل الاستطراد أربعة عشر شرطًا من شروط الإمامة سبعة منها فطرية والباقي كسبي. الفطري أن يكون علويًّا فاطميًّا سليم الحواس صحيح البنية حرًّا أن لا يكون ابن أمة عالمًا عادلاً. والكسبي أن يكون مستقلاً في رأيه سخي الكف جسورًا لا يهرب من القتل وأن لا يتقاعد عن الحرب إذا كان هناك مسوغ شرعي، وأن يكون وحيدًا في الإمامة وذكرًا قادرًا على استمالة ا

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (هداية الباري، إلى ترتيب أحاديث البخاري) رتب السيد عبد الرحيم عنبر الطهطاوي أحاديث (التجريد الصحيح لأحاديث الجامع الصحيح) المعروف بمختصر الزبيدي لصحيح البخاري على حروف المعجم وسماه بالاسم الذي تراه في العنوان وطبعه مشكولاً بالشكل الكامل، وجعل في جانب كل صفحة جدولين يذكر في أحدهما اسم الراوي من الصحابة وفي الثاني اسم الكتاب، وفي الهامش الباب الذي ورد فيه الحديث من كتب صحيح البخاري. ووضع في هامشه شرحًا وجيزًا للأحاديث مفصولاً بينه وبين المتن بخط عرضي دالاًّ عليه بالأرقام. فكان مؤلفًا من جزئين صفحاتهما 528 - فهذه النسخة أمثل نسخ هذا الكتاب للمراجعة والمطالعة فنثني على همة السيد عبد الرحيم عنبر ونشكر له عمله هذا ونحث القراء على الإقبال عليه. (توجيه النظر إلى أصول الأثر) سِفر كبير ألفه الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي نزيل مصر، وطبع على نفقة الجمالي والخانجي الشهيرين. وظاهر التسمية أن الكتاب في علم أصول الحديث ومصطلحه، وقد قال المصنف في التعريف به: إنه فصول (ينتفع بها المطالع في كتب الحديث وكتب السير والأخبار، وأكثرها منقول من كتب أصول الفقه وأصول الحديث) وكتب على طرة الكتاب: إن الداعي إلى تأليفه ما وقع عليه العزم من تحرير الكلام في السيرة النبوية المنتقاة مما كتبه ابن هشام. مهما قال المؤلف في تعريفه، وسبب تأليفه، فلا يخرج عما سبق إلى الذهن من قراءة اسمه، فهو في علم الحديث. ولكن فيه استطرادات نافعة، ومسائل محررة، وأوابد مقيدة، لا تكاد توجد مجموعة مع ما يناسبها في كتاب. وناهيك بسعة اطلاع الشيخ طاهر وحُسن استحضاره واختياره. فمن ذلك الكلام في جمع القرآن وتدوين الحديث، وابتداء التأليف، وبحث التواتر، والحديث المتواتر، وقد أطال فيه كما أطال في بحث الحديث الصحيح، وكتابي الصحيحين، وبحث الجرح والتعديل وعلل الحديث. ومن الاستطرادات المفيدة الاستطراد في كتابة الحديث وضبطه والتصحيف فيه إلى الكلام في الخط العربي وتدرجه في الترقي وعلائم الفصل فيه والحركات العربية والوقف وما ينبغي من وضع العلامات له وللإمالة والإشمام وغيرهما من كيفيات الأداء. وقد أطال في ذلك للحاجة إليه والبحث عنه في هذا العصر. وجملة القول أن هذا الكتاب لا يُستغنى عنه بغيره وهو من الكتب الشرعية النافعة. ويطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز وثمن النسخة منه 15 قرشًا.

الوفاق بين الإسلام والنصرانية

الكاتب: عبد الحميد شكري

_ الوفاق بين الإسلام والنصرانية أرسل إلينا صاحب الإمضاء هذه الرسالة من بضعة أشهر فحالت كثرة المواد عن نشرها قبل الآن. دعاني حب الإنسانية والسلام أن أبذل ما في وسعي للتصافي بين بني الإنسان والتآخي بين بني آدم وتطهير قلوبهم من البغضاء والشحناء ونزع التعصب الذميم من بينهم ليعيشوا إخوانًا في صفاء ونعيم. ولما كان الإسلام والنصرانية أكثر شيوعًا وأعظم عنصرًا في الأرض أبدأ في التآلف بينهما وأرجو القراء أن لا يستنكروا كبيرًا على إنسان ولا يستبعدوا مقدورًا على أحد فإن الله يهب الفضل لمن يشاء ويؤتي الحكمة من يشاء ويهدي من يشاء، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله. ولما قامت النصرانية بالكتاب المقدس وقام الإسلام بالقرآن الشريف أستهدي كُلا بكتابه وأستميله بحكمه وألفته إلى محكم آياته فإن الناس عن كتاب الله لاهون، وعن العمل بدينهم تائهون، وإنه لا تعصب بين الدينين، ولا كراهية بين الفريقين إلا ما ابتدعته سلطة الفرد من التنافر والدين نفسه منه بريء. قرأت التوراة والإنجيل والقرآن فلم أجد فيها كرهًا ولا بغضًا بل اتحادًا وارتباطًا (وما أشقى الإنسانَ إلا الإنسانُ) فكلنا خلق الله نعبد الله ولا نتخالف إلا من سوء التفاهم بيننا فهلموا نعقد الاجتماعات ونتفاهم كتاب الله أولى من المراقص والملاهي. وكل فرد منا يمكنه أن يقرأه حتى إذا تدبره لا بد وأن ينزع من نفسه كل تعصب منكر، وإن قلمي ليرتعش طربًا وسرورًا وفؤادي ينتعش حنانًا وإشفاقًا لما سأقوله محققًا لكل عالم حليم حكيم وهو: إن الكتاب المقدس يأمر المسيحي أن يكون نصرانيًّا مسلمًا والقرآن الشريف يأمر المحمدي أن يكون مسلمًا نصرانيًا نعم نعم بينهما حب وسلام، وائتلاف ووئام، قال تعالى في سورة البقرة: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64) لماذا لا نسمع داعي الله إلى هذا الحق هذا الاتحاد هذه الرابطة المتينة؟ أليس لنا قلوب نعقل بها أم على الصدور أقفالها؟ كلا فمنا العالمون ومنا المحامون ومنا الحكماء والمهندسون وكلنا أحرار. وإذا لم نرجع إلى الحق في عصر النور والحرية ونفك نفوسنا من قيود التقليد فمتى يا تُرى؟ أنتبع آباءنا ولو كانوا خاطئين؟ وإذا لم نعدل لنفوسنا في ضمائرنا فإلى من يا ترى؟ واأسفاه والله واأسفاه. فإننا إذا نظرنا في شيء واتضح لنا الحق ظاهرًا مبينًا وكان خلاف ما يتبعه آباؤنا نجد في نفوسنا حرجًا وصلابة وجمودًا لما ألفينا عليه آباءنا مهما كان باطلاً. ألا ترى أن من يعبد العجل يعبده بقلبه؛ لأنه وجد أباه له عابدًا؟ والمسلم والنصراني يعلمان أنه آثم كافر ويريد كلاهما أن يهديه إلى الحق ويود المسيحي أن يكون المسلم نصرانيًّا كما يرغب المحمدي أن يكون النصراني مسلمًا ويرى كلاهما أنه على الحق وغيره على الباطل. لماذا لماذا لماذا! لا شك أننا لآبائنا مقلدون ولو كانوا في ضلال مبين. عجبًا عجبًا! أين العلوم العصرية؟ أين النور الساطع؟ أين الذكاء؟ أين الحرية؟ ألم تنقشع غيوم الجهالة؟ أفلا تنمحي ظلمة التقليد الأعمى؟ كدنا اليوم نلمس السماوات بالاختراعات فلماذا لا نفكر في الاتحاد والسلام؟ لم لا نسير على طريق البحث لنهتدي إلى الحق؟ أيها القراء إني سرت مستقيمًا فوصلت إلى باب الحقيقة بالبحث والبرهان فمن وجدني زائغًا فليقومني بقلم حادّ وله مني مزيد الشكر وله الأجر من الله. ورد في الكتاب المقدس في إنجيل متّى إصحاح 5 - (28) سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن (29) وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا… (43) سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك (44) وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم. انظر أيها النصراني إلى هذه الوداعة وإلى هذا الاستسلام المنتهي هل تجد في ذلك تعصبًا أو كراهية لأخيك المسلم؟ كلا. وإن الله يعلم أن الناس لا يصلحون بهذا الاستسلام المتناهي وظهرت عليهم آثار علمه بالمخاصمة والشحناء فأمرهم بالحكمة البالغة فقال في القرآن الشريف في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (الشورى: 38-43) أمر بالشورى وأمر بالقصاص إذا كان لمصلحة واستحسن الصبر والغفران، أليست هذه الآيات القصيرة كافية وحدها لأن تكون توراة وإنجيلاً وقرآنا؟ لو عمل الناس بها لعاشوا في هناء وسرور. فيا أيها النصراني أحب عدوك وبالأولى المسلم ابن عمك ويا أيها المسلم عليك بالصبر والغفران. ورد في الكتاب المقدس في إنجيل يوحنا إصحاح 17 (3 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) فما هو السبب الذي يدعوك أيها النصراني أن تخاصم المسلم وهو يؤمن بأن الله واحد وأن السيد المسيح عليه الصلاة والسلام رسوله كما ورد في القرآن الشريف {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الكهف: 110) أيها المسلم اقتد بما قاله تعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الروم: 1-5) فافرح بما يكون لأخيك النصراني من النصر المبين على الكافرين وكن معه على اتحاد ووفاق. أغير ذلك دلائل على وجوب التصافي والتضامن بين الفريقين ونزع البغضاء من الطرفين؟ نعم يوجد أكثر من ذلك اقرأ رسالة يوحنا الأولى إصحاح 2 (1 يا أولادي! أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار 2 وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضًا) فهو يقول: إن المسيح يشفع ليس للنصراني فقط بل للمسلم بل لخطايا كل العالم أيضًا. فعلام أيها المسيحي تبغض أخاك المسلم الذي آمن بالتوراة والإنجيل وآمن بالمسيح وأنه كلمة الرب. هل لأنه آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام، وإنه ليؤمن به بحق كما بشر به إبراهيم وموسى وداود وأشعيا وعيسى نفسه في الكتاب المقدس عليهم صلوات الله أجمعين. اقرأ الكتاب المقدس بتدبر واعتدال، وإذا وسوس إليك الجمود فاقطعه بسيف الحق وحرر نفسك من رق التقليد وإذا أردت الاختصار فإني أورد لك بعض البشارات الصريحة. منها ما ورد في التكوين ص 17 (20 وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرًا جدًّا اثني عشر رئيسًا يلد واجعله أمة كبيرة) فمحمد عليه الصلاة والسلام هو ابن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم. وورد في التثنية إصحاح 18 (18 أقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به 20 وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي 21 وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي يتكلم به الرب؟ 22 فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه) فمحمد هو النبي الذي مثل موسى أتى بكتاب من كل الوجوه ولم يقم مثله من بعده غيره. انظر إلى التخصيص في قوله: (بين إخوته) أي بني إسماعيل جد محمد وقد دلنا على كيفية التمييز بين النبي الكاذب والصادق ونعلم أن محمدًا صدق في كل ما أخبر به من الغيب وقوم الله طريقته وساعده ونشر دينه ولم يكذب قط، ولو كان كاذبًا لأهلكه الله. وكما ورد في التثنية ورد في القرآن الشريف في هذا المعنى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} (الحاقة: 44-46) . واقرأ قول داود مزمور 45 (فآمن قلبي بكلام صالح متكلم أنا بإنشائي للملك، لساني قلم كاتب ماهر أنت أبرع جمالاً من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك، لذلك باركك الله إلى الأبد، تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاؤك) وذلك لا ينطبق على عيسى؛ لأنه لم يتقلد سيفًا بل على محمد تمامًا. واقرأ أشعياء إصحاح 42 (1 هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم 2 لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته 3 قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ إلى الأمان يخرج الحق 4 لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته 5 هكذا يقول الله الرب خالق السماوات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحًا 6 أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب ونورًا للأمم 7 لتفتح عيون العُمْي فتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن المساجين في الظلمة 8 أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات 9 هوذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مخبر بها قبل أن تنبت أعلنكم بها10 غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحة من أقصى الأرض أيها المنحدرون في البحر وملؤه الجزائر وسكانها 1 لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رءوس الجبال ليهتفوا 12 ليعطوا الرب مجدًا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر… 22 لكنه شعب منهوب ومسلوب……) تظن يا حبيبي النصراني أن كل هذا الإصحاح خاص بعيسى عليه السلام بما ورد في إنجيل متى إصحاح 12 (هوذا فتاي) يقول: فتاي ونرجع إلى الأصل نجد هوذا عبدي، وعندك أن عيسى ليس عبدًا لله، وأما محمد فهو عبد الله لم يكل ولم ينكسر ومات على فراشه محفوفًا بآله وأصحابه، وأما عيسى عليه السلام فتعتقد أنه صلب، تذكر ما ورد في إنجيل مرقص إصحاح 15 (25 وكانت الساعة الثالثة فصلبوه) أما محمد فقد حفظه الله وكان يوحد الله وكسر الأصنام وهو ابن قيدار بن إسماعيل، وأن سالع من بلاد العرب، وتأمل في كيفية الحج فإن الناس من كل فج يفدون من الجزائر والبحر وملئه، ومن أقصى الأرض ينحدرون إلى جبال عرفات ويغنون بتسبيحة جديدة قائلين: الله أكبر لبيك اللهم لبيك ألوفًا ألوفًا وترفع البرية صوتها في البلاد التي سكنها قيدار جد محمد وتترنم سكان سالع. فهيئة الحج منطبقة تمام الانطباق على هذا الإصحاح في آيات 8 و9 و11 وآية 22 تدل على العرب وهم شعب محمد فإنهم كانوا قبله شعبًا منهوبًا ومسلوبًا. وإذا لم تكتف يا سيدي بالعهد القديم (التوراة والزبور) فها هو العهد الجديد (الإنجي

الاجتهاد والتقليد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاجتهاد والتقليد هذه هي النبذة التي وعدنا بها في جزء سابق التي نقلناها من شرح الإحياء إن رعاع الفقهاء وضعفة الطلبة يخيل إليهم أن النظر في مسائل الشرع قد انسدت طرقه، وعميت مسائله [1] وأن الغاية القصوى عندهم أن يُسأل واحد منهم عن مسألة فيقول: فيها وجهان أو قولان: وقال الشافعي في القديم كذا وفي الجديد كذا، وقال أبو حنيفة كذا، ومالك كذا، ويرى أنه علم قد أبرزه. وتراهم أبدًا يقدحون في المجتهدين، ويجادلون الطالبين، ويحثون على تحصيل الأم للشافعي، ولباب المحاملي، أو غير ذلك من الكتب المبسوطة. حتى إذا وقعت واقعة كشف الكتاب فإن رأى المسألة مسطورة حكم بها وإن رأى مسألة أخرى فزعم أنها تشابهها حكم بحكم تلك المسألة فهم حشوية الفروع كما أن المشبهة حشوية الأصول، والعجب أنهم لا يقنعون بقصورهم حتى يضيفوا القصور إلى من سبق من الأئمة ويقول بعضهم: ما بقي بعد الشافعي مجتهد ويقول (آخر) : ما بقي بعد ابن شريح مجتهد. فانظروا إلى قدح هؤلاء في الأئمة المبرزين، وأنهم كانوا يقدمون على ما لا يعلمون، فإن الأئمة ما زالوا في جميع الأقطار يراجعون في الفتاوى، ويفتون باجتهادهم مع اختلاف أصنافهم، كالمعروفين بنشر مذهب الشافعي كأبي إسحق صاحب المهذب وأشياخه من أئمة العراق كلهم مبرزون مفتون، وكذلك أئمة خراسان كإمام الحرمين وأشياخه وتلاميذه كأبي حامد الغزالي والكياء والخوافي وكذلك أتباعهم كمحمد بن يحيى ومن كان في درجته من أصحاب الغزالي وكلهم قد طبق فتاويهم وجه الأرض مع صريح من فقه الشافعي. ومن تأمل فتاويهم رأى ما ذكرناه، وكذلك الأئمة المشهورون في مذهب مالك وأبي حنيفة لم يزالوا يفتون ويجتهدون في جميع الأقطار والمناكرة في ذلك مكابرة (ثم قال) : (واعلم أنه لا يجوز الكلام في أحكام الله تعالى بمحض الشهوة والرأي بل لا بد من طريق نصبها الشارع وللشارع طريقان نصبهما: طريق في حق المجتهد، وطريق في حق العامي المقلد، وطريق المجتهد النظر في الأدلة الشرعية المنصوصة من قبل الشارع والتوصل بها إلى أحكام الله تعالى كما كان دأب الصحابة والتابعين، وطريق العوام هو تقليد أرباب الاجتهاد كما كان في زمن الصحابة والتابعين، وهذان متفقان على نصبهما) . ثم أطال العبارة وذكر مسائل مهمة لا بد من معرفتها. (الأولى) إذا نقلت لكم أقوال الشافعي في الواقعة الواحدة، تعملون بكل قول أم بالبعض دون البعض؟ فإن قالوا: نعمل بكل قول سقطت مقالتهم، فإن الفعل الواحد كيف يكون حلالاًُ حرامًا في وقت واحد من وجه واحد بالنسبة إلى شخص واحد، فهذا مما لا يمكن أن يقال به فإن قالوا: نعمل بالمتأخر دون المتقدم فنقول: ما بالكم تنقلون المتقدم، وتقولون في أكثر محاوراتكم: يصح على قول وبيع الغائب صحيح على قول الشافعي، وتعتمدون عليه، وهذا لا يجوز أن يفعل على هذا الوجه بل ينبغي إذا نقلتموه لمن سألكم أن تقولوا: هو قول مرجوع عنه لا يجوز الاعتماد عليه وإنما ذكرناه لفقهه لا لحكمه. فيكونون ملتبسين بهذا الإطلاق مع أني رأيت بعضهم إذا أنكر عليه أمر فعله اعتذر بأنه قول الشافعي. (الثانية) العمل بالأرجح فالأرجح من الأقوال، فنقول: الترجيح طرف من أطراف الاجتهاد فلا حظ لك فيه؛ لأنك اعترفت أنك من جملة العوام المقلدين، وترجيح أحد القولين على الآخر إن كنت تنقله عن الشافعي أو من عندك ولا يمكنك نقل الترجيح إلى الشافعي، ولعل الإمام تَرَجح عنده القول الآخر بترجيح آخر لم تطلع عليه أنت، ولعله لا يدري ما ذكرته مرجحًا، فقد تعذر عليهم تقليد الشافعي في مثل هذه المسائل ووجب عليهم الكف عن الحكم فيها، فإنهم ليسوا مجتهدين وقد تعذر عليهم التقليد وكذلك الكلام في المسائل ذوات الوجوه المنقولة عن الأصحاب وعند ذلك يجب عليهم الكف عن الكلام في معظم مسائل المذهب. ثم إن قولهم: (ترجيح أحد القولين على الآخر على الإطلاق) ، خطأ فإن الترجيح لا يتصور في المذاهب بوجه من الوجوه، فإن كون هذا حرامًا أو مباحًا فما في التحريم نقصان ولا في الإباحة زيادة ولا يتصور الزيادة والنقصان في الأحكام بوجه من الوجوه وإنما يكون الترجيح بزيادة في أحد الأمرين لم يوجد في الثاني وهذا إنما يتصور في الأدلة بأن يختص أحدهما بزيادة تؤكد الظن الحاصل فيه ولم توجد الآخرة، فإن أرادوا هذا المعنى فقد أصابوا في المراد وأخطئوا في الإطلاق. وإذا آلَ الأمر إلى الترجيح في الأدلة فلا بد للمرجح من معرفة الدليل وشروطه وأوصافه، وبعد هذا يتحقق عنده مقابل الأدلة، وإلا كيف يتصوّر ممن لا يعرف الأدلة وشروطها أن يكون بحكم مقابلها ثم يخوض بعد ذلك في ترجيح بعضها على بعض. وأنتم قد حكمتم على أنفسكم بالعجز عن استخراج الأدلة وإذا فُقد معرفة الأدلة التي هي شرط معرفة الترجيح لزم ضرورة انتفاء الشرط وهي معرفة الترجيح. ثم إن المسألة إذا كان فيها قولان مختلفان يحرم على العامي العمل بها إذا لم يعرف المتقدم من المتأخر وتصير في حقه كأن لم يكن للمنقول فيها عنه قول أصلاًُ، وتعين عليه أن يراجع المنقول عنه إن أمكن أو تقليد غيره ممن يجوز الاعتماد عليه، والمسائل التي قد نقل فيها قولان عن أبي حنيفة والشافعي كثيرة وربما يكون معظم المذهب، وكان يجب عليكم الكف عن الكلام فيها ولو فعلتم ذلك لذهبت شهامتكم، واختلت مناصبكم، ونُسبتم إلى قلة العلم. فإن قيل: كيف يجوز لكم الفتوى فيما لم ينقل عن مقلدكم فيه حكم وأنتم لستم بأهل الاجتهاد باعترافكم قالوا: نقيسها على مسألة مسطورة وربما تحدث فيحدث ويقول: أصول الشافعي تقتضي كذا في هذه المسألة. فيقال لهم: أتردّون الحكم إلى اجتهادكم أو إلى اجتهاد الشافعي؟ الأوّل لا تعترفون به، وأما الثاني فيقال عليه: قد افتريتم على الشافعي فإنه لم يتكلم في هذه المسألة فكيف يحل لكم أن تنسبوا إليه ما لم يقل؟ فإن قالوا: نعني بكونها منسوبة إليه أنها مقاسة على ما نص عليه. فاعلم أن في هذا الإطلاق تدليسًا فإنه يفهم منه حكم الشافعي وقد علمتم أن سائلكم إنما سأل عما ذكره الإمام الشافعي فيحق لكم أن لا تطلقوا النسبة إليه، وأيضًا قولكم هذا إن كان عن اجتهاد فلا يمكنكم أو عن تقليد فلا يمكن أيضًا؛ لأنه انطوى بساط الاجتهاد بالشافعي أو بابن سريج كما زعمتم فما بعدهما لا يجوز الاعتماد على اجتهاده. (ثم قال) : اعلم أن الاجتهاد جنس تندرج تحته أنواع متعددة فإن الاجتهاد في المسائل القياسية غير الاجتهاد في المسائل التي مستندها ألفاظ الشارع، غير الاجتهاد في المسائل التي مستندها أفعال النبي صلى الله عليه وسلم، وكل نوع من هذه الأنواع يمكن العلم به مع عدم العلم بغيره فيمكن أن يكون الواحد ماهرًا في القياس وشروطه ومراتبه وموارده ولا يكون عالمًا بتفاصيل الأخبار ولا مطلعًا على صحيحها وفاسدها والعكس، هذا بالنظر إلى جملة الأنواع وكل نوع مشتمل على صور أيضًا فإن القياس يستعمل في مسائل متعددة في البيوع والنكاح والقصاص فيمكن أن يكون الواحد منا مطلعًا على مسائل النكاح عالمًا بأقيستها معتنيًا فيها، ولا يكون مطلعًا على مسائل البيع فليس الاجتهاد خطة واحدة لا تقدر أنواعه، ولا تتكثر مسائله، فعند هذا يمكن أن يكون الواحد مجتهدًا في بعض المسائل مجيبًا على البعض ولا يكون عالمًا بالبعض فليس من شرط المجتهد أن يكون مجيبًا عن كل ما يُسأل عنه، ولذلك توقف كثير من الأئمة في الجواب عن بعض المسائل فلا يجوز لأحد أن يفتي في مسألة من المسائل إلا إذا كان محيطًا بأدلتها وما لا فيمسك عن الفُتيا فيها ولا يبقى بعد هذه الحالة إلا تحصيل الأدلة الجزئية في آحاد المسائل من نصوص أو أقيسة، فإذا اطلع على دليل مسألة كان من أهل الفتيا في تلك المسألة ولا يضر كونه غير مطلع على دليل المسألة الأخرى. (ثم قال) : واعلم أن الاجتهاد عبارة عن بذل الجهد في طلب حكم من الأحكام الشرعية مما هو عارف سلوك طرقها وله شروط وهي قسمان قسم في المنظور فيه وقسم في الناظر، أما المنظور فيه فيشترط فيه أن لا يكون في محل القطع، فإن محالَّ القطع لا مجال للاجتهاد فيها كأصل وجوب الصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما يحكم فيه بأدلة قطعية لا يسوغ خلافها، وأما الناظر فيشترط فيه أمران: أحدهما: أن يكون عارفًا بقوانين الأدلة وشروطها وكيفية استخراجها، والثاني: أن يكون متمكنًا من استخراج الدليل خاصة في المسألة التي يجتهد فيها، ثم أطال الكلام في ذلك اهـ.

اللغة العربية

الكاتب: جبر ضومط

_ اللغة العربية [*] من هم الأصليون في الجزيرة العربية القحطانيون [1] أم العاديون [2] هذه المسألة على ما يخيل لي من المسائل الصعبة التي لم يتصد لها أحد بعد فيما أعلم ليزيح عنها الخفاء أو ليقطع فيها الالتباس وكأني بالشائع المتعارف أن العاديين والعمالقة وغيرهن من القبائل العادية هم الأصليون وأن القحطانيين تغلبوا عليهم وحلوا محلهم فانقرض هؤلاء وبقي أولئك. والذي أراه أن القحطانيين هم قرارة سكان العربية والأصليون في اليمن وجباله وما يليها من المواطن كحضرموت ونجد وأرض البحرين وجنوبي الحجاز مما يتصل باليمن. وأن العاديين جاءوا إليها متأخرين، ومع الأيام وبالاستيلاء على طريق التجارة تقوَّوا شيئًا فشيئًا إلى أن دانت لهم العربية كلها وأخضعوا القحطانية لسلطتهم واستمروا على ذلك زمانًا إلى أن أصابت إحدى دولهم جائحة سماوية في الراجح فذلوا وقامت القحطانية تطلب الملك والاستيلاء ورفع سلطة العاديين عنها فتم لها ذلك. وما زال النزاع بين الفريقين يتجدد من زمن إلى زمن إلى أن قام الفرع الحِميري الظِّفاري فتغلب على البلاد واشتدت وطأته على أهل مأرب فارتحلوا في البلاد فمنهم من قصد نجران ومنهم من أمّ عمان ومنهم من استمرت به رحلته حتى بلغ العراق وهم لخم وغسان، وأذلوا من بقي في البلاد من العاديين وأشياعهم من العدنانيين في الحجاز ونجد واليمامة وأرض البحرين ذلاًّ شديدًا فاشتدت بسبب ذلك البغضاء بين القحطانيين والعدنانيين حتى ضرب بها المثل واستمر ذلك فيهم إلى أن ظهر الإسلام فأخمد ظهوره شيئًا من تلك الثائرة بما كان له من التأثير في نفوسهم وبما شغلهم به من المغازي والفتوحات وامتداد السلطة والغلب. على أن تلك العداوة لم تلبث أن عادت إلى شدتها في أيام المروانيين من بني أمية وانتقلت مع القوم حيث انتقلوا. وبلغ من حدتها في الجيل الرابع للهجرة المبلغ الذي وصفه أبو الطيب المتنبي في إحدى كافورياته حيث يقول في شبيب الخارجي وكان خرج فيمن تبعه من قيس على كافور وحاصر دمشق وكاد يفتحها عنوة. برغم شبيب فارق السيف كفه ... وكانا على العلات يصطحبان كأن رقاب الناس قالت لسيفه ... رفيقك قيسي وأنت يماني والذي يظهر لي أيضًا أن العدنانيين الذين بقيت فيهم اللغة العربية كانوا من العاديين (إلا من انضم إليهم بأخرة من ولد إسماعيل بن إبراهيم الخليل) ولذلك أذلتهم القحطانية وناصبتهم العداء من حين ظهرت على العاديين أسلافهم في أوائل المسيحية ولم تألُ جَهدًا عن إذلالهم والتحكم فيهم إلى أن عادت لهم الدولة بواسطة قريش وبفضل الإسلام. فإن لم يكونوا أي العدنانيون من العاديين العمالقة في النسب فلا أقل من أنهم كانوا حلفاءهم ينقلون لهم تجارتهم وبقوا على ذلك أحقابًا متطاولة جعلت لسانهم وعصبيتهم مع لسان العاديين وعصبيتهم أمرًا واحدًا. أقول هذا وأنا أرجح ما قلته أولاً أي: أن العدنانيين (معظمهم إن لم يكن كلهم) عاديون [3] دارًا ولسانًا. وإقامة الدليل على ذلك خارج عن موضوعي، ولعلي أعود إليه في فرصة أخرى. *** بيان أن القحطانية أصلية في شبه الجزيرة العربية وأن قرارة دارهم اليمن قلت: إن المسألة صعبة الحل لما في الأخبار المنقول إلينا من التشويش والتضارب وكان يمكنني أن أضرب عنها صفحًا إلا أني لا أرى هيئة من أهل العلم والأدب أرقى من الهيئة التي أمامي الآن تستطيع أن تتبعني في هذه المزالق التاريخية؛ ولذلك لا أرى بدًّا من الإشارة إلى البراهين التي حملتني على ترجيح ما قلت أي أن القحطانيين هم أصليون في جزيرة العرب وقراراتهم منها اليمن وهم سابقون فيها على العاديين. وبيانه: (أولاً) : إنه لا خلاف أصلاً بين العدنانيين والقحطانيين لا في تاريخ ولا في تقليد أن القحطانية هي العريقة بسكنى اليمن، وأنها هي التي بقيت في البلاد بعد انقراض الدولة العادية. وقد أجمع المؤرخون عن آخرهم على تسمية العاديين بالعرب البائدة بعدما نقلوا عنهم ما نقلوه من الغنى والقوة وضخامة الملك. ولو كانوا عريقين في البلاد كالقحطانيين ولهم مثل ما لهم من العدد والتأصل في السكنى لكان يستحيل انقراضهم حتى لا يبقى من يشار إليه منهم، فالأقرب إلى المعقول إذن أن المعنيّ بانقراضهم انقراض دولتهم , ولما انقرضت دولتهم وزالت السلطة من أيديهم ظهر بعدهم بالضرورة سكان البلاد الذين كانوا خضعوا لدولتهم وظهورهم معناه خروجهم من ربقة العاديين واسترداد استقلالهم أولاً ثم منازعة العاديين الغلبة والملك في ديارهم التي نزلوها إلى أن تم لهم ذلك وذهبوا بالملك والسيادة من أيديهم جملة , وهذا معنى انقراضهم. (ثانيًا) كانت عاد في هذا الرمل من الأحقاف بين عمان واليمن إلى حضرموت فكيف يُعقل أنهم انقرضوا ولغتهم باقية في هذه البلاد لحد هذه الساعة ثم كيف ينقرض أهل اللغة وتبقى اللغة نفسها؟ إن هذا لغريب وأغرب منه أن يكون العاديون الذين انقرضوا هم أهل البلاد الأصليون والذين قرضوهم من القحطانيين دخلوا عليهم البلاد فاتحين ولهم لغة خاصة بهم ثم بعد أن استمر ملكهم ولغتهم مئات سنين عدنا فرأينا في آخرها أن لغة البلاد حينئذ كانت لغة العاديين الذين انقرضوا لا القحطانيين الذي بقوا. (ثالثًا) يكاد يكون كالمجمع عليه أن اليمن دار القحطانية وإليك ما نقل في ذلك: قال الإمام العلامة الطبري: وولد لعابر ابنان أحدهما فالغ ومعناه بالعبرية قاسم وإنما سمي بذلك؛ لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه وسمي الآخر قحطان فولد لقحطان يعرب ويقطان ابنا قحطان بن عامر بن شالح فنزلا أرض اليمن وكان قحطان أول من ملك اليمن (جزء أول طبع ليبسك وجه 217) وقال أيضًا: وجه 222 ولحقت بنو قحطان ابن عامر باليمن فسميت اليمن حيث تيامنوا إليها. وقال ابن خلدون: فأما عاد فكانت مواطنهم الأولى بأحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت. ويقال: إنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب باديةً مخيمين ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور حسبما نذكره إلى أن غلب عليهم بنو يعرب بن قحطان. (قال) : وكان أبوهم عاد فيما يقال أول من ملك من العرب وطال عمره وكثر ولده - وعاش ألف سنة ومئتي سنة - وذكر المسعودي أن الذي ملك من بعد عاد وشداد منهم هو الذي سار في الممالك واستولى على كثير من بلاد الشام والهند والعراق (الجزء الثاني طبعة بولاق وجه 19) وقال أيضًا: وجه 20 ثم ملك لقمان ورهطه من قوم عاد واتصل لهم الملك فيما يقال ألف سنة أو يزيد. ولم يزل ملكهم متصلاً إلى أن غلبهم عليه يعرب بن قحطان واعتصموا بجبال حضرموت إلى أن انقرضوا. وقال أيضًا: (قال ابن سعيد) - فيما نقله عن كتب التواريخ التي اطلع عليها في خزانة الكتب بدار الخلافة من بغداد - قال: كانت مواطن العمالقة تهامة من أرض الحجاز فنزلوها أيام خروجهم من العراق أمام النماردة من بني حان وجه 27 وقال أيضًا: وأما (جُرْهم) فقال ابن سعيد: إنهم أمتان أمة على عهد عاد وأمة من ولد جرهم بن قحطان ولما ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز - وجه 31. وظاهر من هذه النقول وغيرها أن القحطانيين أصليون في الجزيرة وقرارتهم منها اليمن، وأما العاديون وإخوانهم العمالقة فجاءوا على أثر مضايقة الملوك النماردة لهم. فنزل العاديون أحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشحر ونزل بقية إخوانهم من العمالقة وطسم وجديس وجاسم أرض البحرين وعمان ونجد والحجاز إلى تيماء. ولم يلبثوا مدة بعد دخولهم حتى صار لهم الغلب على كل الجزيرة وشادوا لهم دولة من أعظم وأقوى الدول التي قامت في تلك البلاد ومن ثم غزوا [4] الشام ومصر والهند والعراق ومازال الملك فيهم إلى أن ضعفوا في أواخر دولتهم الثانية فغلبهم على الملك يعرب بن قحطان وأزال سلطتهم عن اليمن. *** نتيجة ما ذكرناه إن المتدبّر ما مرّ بنا (أن مهد السامية هو جزيرة العرب وأن القحطانيين هم الأصليون في البلاد وقرارتهم اليمن، وأن العاديين قدموا عليهم من أرض بابل) يحكم على ما أرجح أن القحطانية الأولى انشعبت إلى فرعين فرع بقي في شبه جزيرة العرب وفرع ذهب شمالاً إلى العراق واستعمر بابل وهناك تأثل هذا الفرع وما زال أهله حتى زاحمهم النماردة أبناء كوش [5] فخرج من هناك آشور وبني نينوى ورحوبوت عير وكالح وراسن بين نينوى وكالح على ما جاء في التاريخ المقدس الإصحاح العاشر من سفر التكوين. وخرج أيضًا عاد وعماليق وقبائلهما فعادوا إلى العربية بعد زمن طويل ونزلوا بين أظهر القحطانيين وكان قد تحيز لسانهم واستقل كما تحيزت قبائلهم واستقلت عن غيرها أيضًا. والأرجح أن الذين رحلوا إلى نينوى وكالح كانوا من الحضر أهل المدن والقرى بدليل أنهم بنوا المدن حالاً، وأما الذين رحلوا إلى الجنوب فكان أكثرهم أهل طعن وخيام وعبارة العلامة ابن خلدون واضحة في ذلك فإنه ذكر أنهم لما زاحمهم بنو حام انتقلوا إلى جزيرة العرب وسكنوها بادية مخيمين. ويقوي ذلك ما هو متواتر مشهور من سكنى العاديين رمال الأحقاف بين عمان واليمن إلى حضرموت والشحر. وسكنى بديل وراحل وغفار من العمالقة بنجد وبنو الأرقم منهم بالحجاز إلى تيماء. وكل هذه البلاد من منازل أهل البادية والغالب على أكثر أهلها الترحل والانتقال كانوا ولا يزالون لحد هذه الساعة. وأرى أني وصلت على غير قصد مني إلى التقليد المشهور الذي يجعل السريانية أقدم من العربية؛ لأننا رأينا الدليل التاريخي في جانب أن القحطانية متقدمة على العادية وسابقتها في الزمان. والقحطانية كما بينا من نص المؤرخين هي السريانية كما أن العادية هي العربية. *** تجريح ما قاله العلامة نولدكي لنرجع الآن إلى ما قاله العلامة نولدكي في شأن لغة سبأ. قال هذا العلامة: ما يؤخذ منه أن اللغة السبئية هي قسيمة اللغة العربية وأخت لها انشعبتا من الفرع الجنوبي ونسبتها إلى العربية كنسبة الحبشة إليها أي إلى العربية. وأنا أقول: إن كان يقصد بالسبئية الحميرية فبه لكن تكون السبئية والحبشية شعبتين من القحطانية أو السريانية؛ لأن القحطانية والسريانية كما بينا بالنص التاريخي هما لغة واحدة أو هما شعبتان من جذم واحد هو القحطانية القديمة. وإن كان يريد أن السبئية هي لغة أخرى غير الحميرية الظفارية أي لغة الدولة التي قامت قبل التاريخ المسيحي بقليل وتعرف عند القوم الآن بدولة سبأ وريدان وأنها كانت أيضًا لغة بلاد سبأ التي عاصمتها مأرب وفيها السد المشهور فالأستاذ نولدكي وَاهِم والتاريخ يعارض رأيه؛ لأن لغة أهل هذه البلاد أعني أرض سبأ [6] كانت منذ أوائل التاريخ المسيحي ولا تزال إلى الآن اللغة العربية العادية العدنانية والتاريخ مؤيد ذلك وإليك البيان: جاء في كتاب وصف جزيرة العرب للعلامة الهمداني طبع ليدن وجه 134 إلى 136 قطعة خصها هذا العلامة بوصف لغات أهل الجزيرة العربية في أيامه (فليطالع هذه القطعة في موضعها من أراد) والذي يظهر منها أن الحميرية كانت لا تزال لغة حية في كثير من جبال اليمن وإليك ما يقول في لغة بعض تلك البلاد: (حقل قتاب فإلى ذمار) الحميرية القحة المتعقدة (وظفار مدينة هذا القسم) . حراز والأخروج وشم وماضح والأحبوب والجحادب وشرف أقيان والطرف وواضع والمعلل - خليطي من متوسط بين الفصاحة واللكنة وبينها ما هو أدخل في الحميرية المتعقدة لا سيما الحضورية من هذه القبائل - نجديّ بلد هم

العالم الإسلامي

الكاتب: السر هنري جونستون

_ العالم الإسلامي [1] بقلم: السر هنري جونستون (مقالة مهمة عنه في العدد الأخير من مجلة القرن التاسع عشر الشهيرة) يذكر قراء الأفكار الكرام أن السر جونستون هذا قد كتب مقالات شتى عن السياسة الشرقية خصوصًا، وعن الإسلام والمسلمين عمومًا، فكانت كتاباته تقيم الدوائر السياسية في أوروبة وتقعدها، ليس لأنه ضليع بالمواضيع الهامة فقط، بل لأنه ذو مكانة سامية أيضًا في عالم الأدب والاجتماع والسياسة فضلاً عن سعة معارفه الجيوغرافية؛ لأنه قضى نحوًا من عشرين سنة في البلدان الإسلامية يبحث وينقب ويراقب. والسر جونستون هذا هو أول من جهر بأسرار مقابلة ريفال بين المرحوم الملك إدوارد والقيصر نقولا الروسي واتفاقهما على أملاك تركيا في أوروبة حلاًّ لمشاكل مقدونيا والآستانة. وهو من كتب في العام الماضي يمتدح من أعمال فرنسة وإنكلترة التمدينية في المستعمرات الإسلامية بقارة أفريقيا ويقول بوجوب تسليم ألمانيا لفرنسة في إعلان حماية هذه على مراكش حتى يصبح العالم الإسلامي كله في أفريقيا تحت رايات الدول الإفرنجية القادرة على ترقيته وتمدينه [2] بعكس الحكومات الإسلامية التي لا تتمكن من ذلك لمجرد كونها إسلامية - على قوله - وأخيرًا رأيناه يجهر بعبارة صريحة قائلاً: إن العالم كله سوف يعترف بعد مئة سنة بحقيقة واضحة وهي أن ظهور النبي محمد كان أعظم ضربة على التمدن في كل الممالك التي استولى عليها المسلمون [3] . وليس المقام مقام أخذ ورد في هذه المقالة ولا هو مقام انتقاد وتخطئة فإن المستشرقين النزيهين من علماء الفرنجة ذواتهم يسفهون هذه الآراء ويقولون: إن الأديان كلها كانت في كثير من الأزمنة آلات بيد السياسة الخدّاعة تهدم هياكل العمران والرقي بمعاول التعصب الذميم فتترك وراءها الجهل العميم. والجهل أبو المصائب كلها وأولها التأخر والانحطاط. بَيدَ أن نشر مقالات كهذه بين معاشر الشرقيين تخطها أقلام الباحثين من علماء الإفرنج وكبار ساستهم له فوائد جلية لا تخفى على أحد. وطالما رأينا كثيرًا من وصيفاتنا الجرائد العربية المعتبرة تنقل عن الأفكار تعريب هذه المقالات الهامة علمًا منها بفائدة نشرها بين عموم المشارقة سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين وأمامنا اليوم العدد الأخير من مجلة القرن التاسع عشر وفيها مقال عنوانه (أوربة والعالم الإٍسلامي) بقلم السر جونستون ذاته هذا تعريبه باختصار وتصرف (ليت الجريدة لم تتصرف) : - إن الحرب الإيطالية العثمانية الحاضرة قد جدَّدت المباحث عن الشرق والغرب وعلى الخصوص عن علاقة الدول العظمى بملايين عديدة من البيض والصفر والسود يدينون بدين الإسلام , وهؤلاء المسلمون متحدون بعض الاتحاد - وليس اتحادًا كاملاً كما يزعم فريق من الكتاب بجهل حقائق الأمور؛ لأنه لم يبرح بلاده قط، أي أن هذا الفريق لا يكتب عن تحقيق واختبار - واتحاد المسلمين الجزئي هذا مُوَجَّه ضد أوروبة النصرانية وخصوصًا ضد الدول المستعمرة منها. وإذا نظرنا إلى عمل إيطالية الأخير في غزوتها طرابلس الغرب نظرة عمومية نرى أنها مخطئة خطأ فاحشًا؛ لأنها شهرت الحرب على تركيا فجأة ومن دون سابق مفاوضات تجيز لها هذا العمل، فضلاً عن أن جنودها بعد احتلالهم طرابلس أجروا من الفظائع البربرية على النساء والأولاد ما ذعر له العالم المسيحي قبل العالم المحمدي، ولا عذر للإيطاليين سوى قولهم إن امتلاكهم ولاية طرابلس الغرب ضروري لكيانهم كأمة مستقلة , وهذا العذر غير مقبول منطقيًّا، ولا جائز شرعًا، أو في عرف الدول , بيد أن الصحافة الطليانية وساسة الإيطاليين الذين حادثتهم في هذا الموضوع كانوا يقولون لي: إن النمسا وألمانيا كانتا عاقدتين اتفاقًا سريًّا مع تركيا على امتلاك طرابلس الغرب برضاها وإنهما إذا امتلكتا هذه الولاية القريبة منا تصبح حياتنا القومية مهددة بالأخطار المميتة ويصير استقلالنا تحت رحمة ألمانيا والنمسا , وسواء صح هذا القول أو لم يصح فإن إيطاليا تظل مخطئة لدى الشرائع والحقوق الدولية؛ لأنها فاجأت تركيا بهذه الحرب من دون أن تمهلها ريثما تُكذب هذه الإشاعة أو تثبتها [4] . على أن الطليان ما برحوا يؤكدون مزاعمهم قائلين: (إن الألمان كانوا أشد الناس حنقًا علينا وأكثرهم تهجمًا، وليس ذلك حبًّا بسواد عيون الأتراك، بل لأننا منعناهم من تحقيق آمالهم ألا وهي بسط نفوذهم السياسي والتجاري من طرابلس الغرب شمالاً حتى الكونغو والقمران جنوبًا) . وإيطالية غير قادرة على تمدين الغير بعد، فلذلك لم يتجاسر أحد من ساستها الذين باحثتهم على القول أمامي بأنهم غزوا طرابلس بقصد تمدينها وترقيتها. فإن كثيرًا من السياح الألمان وسائحين من الإنكليز قد كتبوا مرارًا أن إيطالية لم تأتِ عملاً تمدينيًّا هامًّا لا في مصوع ولا في مقاطعة إرترية بالحبشة، ليس ذلك فقط، بل إن السائح في بلاد الصومال يرى البون شاسعًا بين الصومال الطلياني والصومال الفرنسوي مثلاً. فالبلاد الأولى باقية على ما كانت عليه قبل الاحتلال الإيطالي من حيث الفقر والجهل والتأخر. أما الصومال الفرنسوي ففيه الخطوط الحديدية والمزارع الجميلة وكل آثار الارتقاء والتمدن في العلم. ومثل فرنسة في إسعادها مستعمراتها مثل الإنكليز في السودان وألمانيا في زنجبار. ولكن تسرع إيطالية الأخير في طرابلس الغرب لا يحوج أوربة أنْ تناوئها وتقاومها في أعمالها الاحتلالية هذه، بل بالعكس، يجب على أوربة أن تناصرها وتؤيدها بكل قوتها؛ لأن إيطالية إذا عادت خاسرة من هذه الحرب، فالعار لا يلحق بها وحدها بل يعم كل الدول الأوربية النصرانية. فالمسلمون إذا نجحوا يصيرون يضمرون طرد الإنكليز من مصر والسودان وطرد الفرنسيين من تونس والجزائر ومراكش وطرد الروس من أواسط آسيا الإسلامية. وعليه فمن الواجب على إيطالية خصوصًا وعلى أوروبة كلها عمومًا أن تبقى ساعية جهدها في الحرب الحاضرة كي ترسخ قدم الإفرنج في شمالي إفريقية من دون نظر إلى كميات الخسائر الباهظة من المال والرجال في سبيل تحقيق هذه الأمنية [5] . يعسر على الباحث الغربي أن يقترب من موضوع المسألة الإسلامية من دون حذر زائد. فإن المسلمين يعدون اليوم 230 مليونًا بينهم أقوام من البيض تجمعنا وإياهم جامعة الأصل الأبيض الواحد (الأصل الآري) و60 مليونًا منهم هم مثل الإفرنج تمامًا من حيث جمال الهيئة وقوة البنية والاستعداد الكامل للارتقاء العقلي , وبعض المسلمين هو من أصل أوروبي بحت؛ لأن كثيرًا من الغوط والإيطاليين والأروام والسلاف، والأرناؤط والقوقاسيين اعتنقوا الدين الإسلامي سابقًا بحكم أحوال قاهرة وهم الآن في مقدمة أتباع محمد رقيًّا وتهذيبًا لا يقلون عن إخوانهم نصارى الإفرنج قوة ونشاطًا وجمالاً وحسن استعداد لقبول التمدن الصحيح وفي الهند وحدها 64 مليونًا من المسلمين هم أرقى الشعوب الهندية على الإطلاق. ومجرد وجود هذا العدد الكبير من المسلمين في الرعية البريطانية يجعل الحكومة الإنكليزية أن تكون أكثر حكومات الأرض اهتمامًا بالحرب الحاضرة. فإن إنكلترة إذا رفضت السعي لأجل مصلحة تركية مركز الخلافة الإسلامية العظمى تكون قد أحدثت سببًا لإغضاب رعاياها مسلمي الهند الذين تعتمد إنكلترة عليهم وحدهم عند الخطوب في تلك البلاد، وإذا هي سعت لمصلحة تركية فتتضرر إيطالية وبضرر الإيطَالْيَانِ يزيد المسلمون حركة وهياجًا ضد الإفرنج النصارى ويعلق في أذهان زعمائهم سهولة النجاح في محاولتهم التخلص من حكم النصارى الإفرنج في تركستان ومصر وتونس والجزائر، وعندي أن إنكلترة وغيرها من دول الاستعمار العظمى تفعل حسنًا إذا سعت بضمير صالح في سبيل تعليم المسلمين العلوم الطبيعية التي تحارب العلوم الدينية علمًا منا بأن آفة الإسلام العظمى هي العلوم الدينية المبنية على القرآن وحده وهذه سدوتها الجمود ولحمتها التقيد بقيود الخرافات والأوهام [6] . وحالما يتحرر المسلمون من ربقة الاستعباد للعلوم الدينية عندهم يصيرون قادرين على إدراك الحقائق السياسية بأكثر جلاء ووضوح أي إنهم يصيرون يميزون بين المصالح السياسية والأغراض الدينية كما صارت أوربة تفهم ذلك بعد أن تحررت من ربقة الاستعباد للتعاليم الدينية التقليدية التي كانت ضاغطة على حرية القول والعمل والفكر. ولما يصل المسلمون إلى هذه الدرجة من الارتقاء العلمي فتصير مساعدتنا لهم نافعة للفريقين أي إنهم لا يعودون يمزجون الدين بالسياسة وبكل شيء بل يصبحون عالمين أسرار المنافع الاقتصادية والسياسية فيصادقون من ينفعهم نصرانيًّا كان أم مسلمًا ويعادون من يضرهم بقطع النظر عن دينه ومعتقده. *** كلامه عن الأديان الثلاثة والقرآن ليس سوى مجموعة أقوال مقتبسة عن التوراة والإنجيل وبعض تعاليم المجوس [7] . ولما كان محمد يكره يهود بلاد العرب كرهًا شديدًا صارت آياته في القرآن أشد وطأة عليهم مما هي على النصارى. وتعاليم القرآن فيها بعض المنافع مثل النظافة وعدم وأد البنات والامتناع عن المسكر والزكاة والصدق في المعاملات ولكن ازدراءه بالنساء وإباحة تعدد الزوجات وغير ذلك من الأمور المتعلقة بالمرأة تجعل تلك التعاليم الإسلامية حجر عثرة في سبيل الارتقاء العقلي والاجتماعي كيف لا والقرآن يحتقر المرأة والمرأة هي أم الرجل [8] . نعم إن الدين اليهودي لم يحسن التصرف تجاه النساء وهن نصف الجنس البشري، ولكن التوراة صارت اليوم مرنة بيد الحاخاميين يفسرونها كما يشاءون مما يطابق روح العصر ولا يخالف التمدن. وكذا الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى على الخصوص فإنها كانت تضطهد العلم وتعيق مسير العرفان ولكنها لم تمكث على هذا الاضطهاد زمنًا طويلاً بل رأيناها بعد ذلك تبني المراصد الفلكية وتنشط نشر العلوم الطبيعية والطبية واللغوية والجيوغرافية وبالاختصار فإن التعاليم المسيحية في أي مذهب من المذاهب لا تبقى جامدة بل نراها تتكيف وتتبدل حتى تطابق مجرى الأحوال بمرونة وليونة تامة. ليس ذلك فقط بل إننا نرى الكنيسة الباباوية كانت ومازالت تؤيد الفنون الجميلة كالنقش والتصوير والموسيقى والكنائس البروتستانتية تؤيد الأعمال الخيرية الآئلة إلى منفعة بني الإنسان وتخفيف ويلات المصابين وسد عوز المحتاجين وذلك في إنشائها الجمعيات الخيرية لبناء المستشفيات والمدارس والملاجئ، والكنيسة الأرثوذكسية نراها على أشدها في روسيا والرُّوس رغمًا عن شيوع السكر بينهم شيوعًا عامًّا معيبًا وعن تفشي الرشوة والمحسوبية وسائر ضروب الفساد في محاكمهم فهم أرقى بكثير من جيرانهم الأتراك علميًّا واجتماعيًّا وأفضل آدابًا وأخلاقًا هذا مع علمنا بأن روسيا حديثة العهد نوعًا في العمران. وإذا أمعنا النظر جيدًا نرى البون شاسعًا بين الممالك المسيحية والممالك الإسلامية من حيث العلوم والصنائع والفنون والاقتصاد والتدابير الصحية والعلاقة الزوجية بين الجنسين - أي أننا نرى البلدان المسيحية والبلدان التي هي تحت حكم النصارى أرقى بكثير من البلدان الإسلامية [9] ليس ذلك فقط بل إننا إذا نظرنا إلى المجر مثلاً نرى أن المجريين والأتراك هم من أصل واحد قدِموا إلى أوروبة من أواسط آسيا في بدء القرون الوسطى وكانت لغتهم واح

أخبار العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار العالم الإسلامي (روسيا ومسلمو تركستان) نشرت جريدة (نوفي فريميه) الروسية الشهيرة مقالات بإمضاء (يا. ذ. ف) عنوانها (سياسة عدم الالتفات) أو سياسة الإغضاء خَطَّأَ فيها التعجيل بتغيير الإدارة في تركستان بأخذها من الإدارة العسكرية وتسليمها إلى الإدارة الملكية وبَيَّنَ أنه لا يجوز النظر إلى تركستان من حيث إنها سوق تحضر قطنًا للروسية فقط، بل يجب أن ينظر إليها من حيث هي بمنزلة القلب للعالم الإسلامي في الشرق الأقصى ولها أهمية سياسية كبيرة بالنسبة إلى الروسية، وهو يوجس خيفة من تركها على حالها قال: يستيقظ الشرق، وليست مسألة اتحاد المسلمين جميعًا على أساس المدنية الحديثة الإسلامية - وهي بغي (في الأصل تجاوز) ظهر من جهة الأتراك محبي الجامعة الإسلامية - من المسائل التي تمر من غير التفات من الروسية التي يسكن فيها قدر ثمانية عشر مليون مسلم. كانت نتيجة عدم الالتفات إلى أحوال التتر المعنوية في أطراف فولغا أنهم سقطوا تدريجيًّا في نفوذ الأتراك المستنيرين. مسلمو تركستان هم متأخرون في المدنية عن التتر في أطراف نهر فولغا والقريم، ومع ذلك أخذوا ينهضون من نومهم الطويل الذي مر عليه قرون كثيرة ونرى مع الأسف أن الآخذين في إيقاظهم ما كانوا منا بل من الأغيار وعلى وجه غير مطلوب ألبتة. ولا شك أن لذلك أسبابًا: أن مسلمي تركستان كانوا أولاً يخافون الروس جدًّا ويعدونهم أصحاب القوة والسطوة، وقد ضعف هذا الاعتقاد فيهم بمرور الأيام، وبعد أن غلبنا في حرب اليابان وظهر عدم الانتظام بين المأمورين نقص نفوذ شوكة الروس من أنفسهم، وارتقت حالهم من جهة الاقتصاد وغنوا فكان ذلك أيضًا سببًا في ضعف شوكة الروس شيئًا فشيئًا. هم لم يتربوا في روسية فقط بل ساحوا في الممالك الأجنبية وأخذوا بعد رجوعهم ينتقدون إدارة تركستان التي فيها شيء كثير من الخلل حقيقة , ظهر لهم وجه الحاجة إلى المعارف العصرية وعدم إمكان تحصيلها في المكاتب والمدارس القديمة، وبهذه الكيفية تولد فيهم الميل إلى المعارف المنيرة للأفكار , وإن ذلك الانقلاب المعنوي التدريجي في مسلمي تركستان لم يظهر لعمال الحكومة فيها من أول وقته ولكن جمعية الاتحاد والترقي من الأتراك والتتر من أهل وطننا قد راقبوا ذلك من زمان ودققوا النظر فيه. حقًّا إن تركية الجديدة تدقق النظر من زمان بعيد في آسيا الوسطى , وإن آمال الترك فيها كبيرة جدًّا حتى إنهم فتحوا قبل عدة سنين جمعية مخصوصة في الآستانة لنشر المعارف في تركستان ومقصدهم الأصلي من ذلك نشر فكرة الاتحاديين المسلمين جميعًا. والتتر من أطراف قزان وأورنبورغ أخذوا يشتغلون بنشاط وينشرون أدبيات اتحاد الإسلام بين مسلمي تركستان بصفة معلمين في المكاتب الجديدة هناك وكذا أصحاب المطابع وتجار الكتب. وعمالنا في تركستان لم يروا تلك الحركات إلا في الوقت الذي تعذر فيه عدم الرؤية، وبعدما عرف ذلك الأجانب والحال أن ذلك الانقلاب الآخذ في الظهور بين ستة ملايين من مسلمي تركستان مهم جدًّا لا يصح عدم الإحاطة به. إن الضغط والتضييق على الأفكار الجديدة قد جعل القشر الثخين المحيط بالعالم الإسلامي ينشق من بعض جهاته ويرى من وراء شقوقه انقلاب عظيم جدًّا بين مسلمي تركستان. وكان المحرك الأول لأولئك المسلمين والسبب في ذلك الانقلاب إنما هو نحن معشر الروس: أدهشنا خيال وأفكار أولئك الأهالي بمعجزات المدنية الحاضرة مثل السكة الحديدية والتليغراف والكهرباء ولكن لم نقدر على التقرب من حياتهم المعنوية ولم نخطر في بالهم بعد التقرب منهم كيف ينبغي أن تكون المدنية وجهاتها المعنوية، وكان يجب ذلك علينا عندما كانوا يفركون عيونهم من ذلك النوم الذي لبثوا فيه عدة قرون، فبقيت أحوالهم المعنوية في ناحية من نظرنا. فاتح تركستان (نون قا أوفمان) الذي هو أكثر الولاة نشاطًا وعملاً كان في ضلال مؤسف إذ فكر في مكاتب ومدارس المسلمين التي لا تناسب اقتضاء الزمان في شيء فجزم بأنها ستفنى وتزول من تلقاء نفسها، وهذا القدر من فكره وحكمه معقول صحيح ولكنه ما فكر في أن محلاتها لا تبقى خالية أبدًا. فها هي ذي قد أخذت تتجدد ببناء المدارس الجديدة على أنقاض القديمة بقصد معين معلوم وبرنامج يمهد السبيل لاتحاد المسلمين عامة تحت نفوذ تركية الفتاة. الحكام الروسيون يعلنون للناس أن الأحوال هناك حسنة للغاية والأمن في نصابه، ولكن الحقيقة أن الخلاف الآن فيها والجدال مدهش جدًّا بين الروحانيين (علماء الدين) وأصحاب الأفكار الجديدة: الروحانيون يحافظون على المكاتب والمدارس القديمة الأصول ويحرصون على بقائها وأما الأغنياء والتجار فهم أشياع المكاتب الجديدة، ومن المؤسفات أن عمال الحكومة هناك لا يتداخلون في تلك المحاولات والاختلافات السياسية المهمة بين المسلمين بل يكتفون بالتفرج عليها من بعيد. ما علمَ الحكام الروسيون هناك بوجود مكاتب جديدة قصدها نشر فكرة اتحاد الإسلام إلا منذ سنتين فقط. على أنهم ما علموا ذلك بنفسهم مباشرة، بل بالمصادفة وقت تفتيش (عراف بالين) والحال أن تلك المكاتب وجدت منذ عشرات من السنين. مسألة تربية مسلمي تركستان بروح القومية الروسية دون روح الترك (الجامعة الإسلامية) مسألة مهمة جدًّا لا يجوز تركها على حالها من غير التفات ولا عناية. ولكن يؤسفنا أن كثيرًا من الفرص السياسية المهمة فاتت من غير التفات من الحاكمين اهـ , المقالة الأولى من مقالات نوفي فريمية الروسية مترجمة عن جريدة وقت، ومنها يعلم مقدار يقظة روسيا وقطعها طريق العلم على المسلمين قبل أن يسلكوه ويعرفوا العالم وما فيه وما فتح لها باب الحذر والخوف إلا ما يظهره أغرار الاتحاديين من الميل إلى جذب مسلمي تركستان إليهم لتقوية العنصر التركي وبهذا يضرون أنفهسم ودولتهم وأولئك المساكين، وعملهم هذا مخالف للجامعة الإسلامية ولكن روسية تتهمهم بها وإن أعلنوا في جريدتهم طنين براءتهم منها. (حركة الجامعة الإسلامية وسياسة ألمانية) تقول جريدة نوفيه فريميه الروسية في مقالتها الأولى (عدد 12840) المعنونة بهذا العنوان: منذ زمان غير بعيد قبل عاهل ألمانيا رسميًّا مقابلة رئيس المبشرين الكاثوليك في مستعمراتها في إفريقية وحاوره طويلاً في حركة الجامعة الإسلامية. وما قاله الرئيس للإمبراطور في ذلك، وما في اللائحة التي قدمها إليه غير معلوم لأحد [1] أما ما نشرته شركة (فولف) من الخبر الرسمي فهو أن الإمبراطور ويلهلم ما وجد من الضروري أن يعدّ الجامعة الإسلامية شيئًا يخاف منه على مستعمرات ألمانية ولا أرى حاجة إلى المقاومة الجدية لحركة الجامعة الإسلامية الحربية. هذه المذاكرة في حركة الجامعة الإسلامية بين الإمبراطور ويلهلم ورئيس المبشرين لم تهتم بها جرائد روسية اهتمامًا يذكر ولكن جرائد ألمانيا كتبت فيها كثيرًا وأوفتها حقها. فجرائد حرب الكاثوليك اللاتي لهن ولع دائمًا بإثارة شيء من الحركة الصليبية اهتممن جدًّا بقبول الإمبراطور لرئيس المبشرين - ذلك الرجل الذي قدم من إفريقية خصيصًا لإثارة الأفكار العمومية الألمانية ضد الجامعة الإسلامية. أما جرائد حزب المحافظين البروتستان فلا يرين اندفاع ألمانية في مقاومة الجامعة الإسلامية لأفكار فرقة (الكاثوليك الحربي) من الرأي السديد. فمن مجموع ذلك بينهم أن سياسة ألمانية فيها شيء من التردد في اختيار أي خطة من الخطط التي يجب السير عليها بإزاء الإسلام. حقًا إن المسألة فيها نزاع إلى الآن مثاره هذا السؤال: هل يمكن للجامعة الإسلامية أن تلعب دورًا مهمًّا في سياسة العالم. أم هي خيال محض طلع من رءوس شراذم قليلة من متعصبي المسلمين البعيدين عن حقيقة الأحوال؟ فهذه المسألة لم يقطع فيها بعد. منذ زمان غير بعيد نشرت في جريدة (الطان) الفرنسية مقالة ذات أساس متين [2] لواحد من علماء العرب في مسلك الجامعة الإسلامية وبروجرامها المفصل. تلك المقالة تجيب جوابًا قريبًا من الصحة عن كون هذه الجامعة ذا روح أو شبحًا من غير روح. ويفهم من تلك المقالة أن الدول اللاتي لهن السلطة على المسلمين ومن جملتهن دولة الروسية لا ينبغي لهن ترك الاهتمام بحركة الجامعة الإسلامية. وقال صاحب المقالة أيضًا: إن مؤسسها الأول رجل أفغاني ولد سنة 1839 في بلدة كابل وباشر الحروب الدموية كلها في الأفغان (يريد السيد جمال الدين) . ذلك الرجل ساح في بلاد الهند وإيران وجزيرة العرب وبلاد تركية ومصر ونشر فيها فكرة اتحاد الإسلام. كما أنه انتحل مذهب الماسونية في جهة أخرى. وذلك يدل على أنه ما نظر إلى الإسلام من جهة الاعتقاد فقط بل اتخذه آلة وتَكِأَة للمقاصد السياسية. ولرنان الشهير من محرري فرنسة ثناء مهم جدًّا على الأفغاني. وفي آخر عهده جاء الآستانة ولقي فيها احترامًا عظيمًا ثم توفي فيها. وظهر كثير من العلماء المروجين لفكر الأفغاني فأسسوا في الآستانة مسلكًا مخصوصًا لنشر فكرة الاتحاد الإسلامي وظهرت آثارهم بين المسلمين لا في تركية وحدها بل أخذت تُرى في جميع بقاع العالم التي يوجد فيها المسلمون وسهل أمرهم هذا كثيرًا كون لغة العرب لسانًا عموميًّا بين المسلمين أجمعين. فبناء على ذلك لا يستغرب وقوع الدعوة إلى مؤتمر إسلامي عام من إسماعيل غصبر نسكي محرر (جريدة إسلامية تصدر في بلدة باغجة سراي) . تنشر مجلات الاتحاد الإسلامي مثل (المقتبس) في نواحي العالم كلها ويقرؤها المسلمون في جزيرة العرب وبلاد الهند حتى جزر البحر المحيط الكبير وفي أمريكا. وبواسطة أمثال تلك المجلات يعيش مسلمو لاهور الهندية مثلاً ومسلمو تركية وهم متعارفون عن كتب وتشتد رابطة الأخوة بينهم. ليست حركة الجامعة الإسلامية في طور العدوان الآن بل هي خفية ومقتنعة بنشر فكرة الأخوة بين المسلمين جميعًا وليس عليها عيب في الظاهر. ولكن مع ذلك لا يمكن للدول اللاتي لهن منافع تمس بالسوء من ناحيتهم غير المقاومة لهم في صورة قطعية. نعم يظهر بين المسلمين حينًا بعد آخر بعض الآثار الحادة في نشر فكرة الاتحاد الإسلامي مثل (أم القرى) ولكن الجامعة الإسلامية ترى الآن وجوب الامتناع عن كشف الستار عن خريطتها وتجتهد قبل كل شيء في تحصيل التعاون والأخوة بين المسلمين في أطراف شتى. على أن أرباب هذه الجامعة ليسوا جاهلين بالسياسة. ومن برنامج سياستهم المدبرة أن ما تسميه أوروبة (خطر الجنس الأصفر) ينبغي أن يبقى بمثابة ألعوبة صبيانية. وهم يستفيدون من جميع الفرص لإخراج بروغرامهم من القوة إلى الفعل وإثارة أفكار أبناء جنسهم بعد اتحاد الأفكار بينهم. وتلك الفرص توجد دائمًا وتزيد عما يحسبه الموظفون والسياسيون الأوربيون أضعافًا مضاعفة. مثال ذلك في حرب تركية وإيطالية الآن أن الإيطاليين قتلوا بالرصاص كثيرًا من عربان طرابلس الذين استولوا عليهم وهم عراة لوجود الأسلحة الممنوعة عندهم، والعربي عند الأوروبيين يعد في الدرجة الثانية بالنسبة إلى جزاء الإعدام، وليس له كبير أهمية، ولكنه يعد أمرًا كبيرًا وتحقيرًا دينيًّا عند المسلمين، لذلك أثر على الطليان هذا تأثيرًا سيئًا جدًّا في العالم الإسلامي فحصل بينهم هياج وغليان في الأفكار واستفظعوا عمل إيطالية فوق العادة. كان الإمبراطور ويلهم إلى الآن عونًا كبيرًا ل

الدين كله من القرآن

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ الدين كله من القرآن [*] نكتب هذه الكلمة المختصرة بيانًا للنصارى الذين يطعنون على القرآن ويرمونه بالتحريف لعدم وجود ذكر لرجم الزاني المحصن فيه فنقول: قد استنبط رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أحكام شرعية قليلة تخفى مآخذها لأول وهلة على الناظر في الكتاب العزيز وهذه المسائل مع كونها قليلة جدًّا معروفة ومتواترة بين المسلمين وأهم هذه المسائل هي: (1) تحريم نكاح المرأة على عمتها أو خالتها. (2) رجم الزاني المحصن. (3) تحريم استعمال أواني الذهب والفضة. (4) تحريم لبس الحرير على الرجال. (5) النهي عن أكل الحمر الأهلية (وكان ذلك في واقعة خيبر) . (6) منع بيع الأَمَة إذا افترشها سيدها وولدت له. أما الأمر بقتل المرتد فهو كما قلنا وقال السيد صاحب المنار: كان خاصًّا لظروف خاصة تقتضيها الحالة في ذلك الوقت لمنع تشكيك ضعاف المسلمين في دينهم بتلاعب بعض الناس بالدين ودخولهم وخروجهم منه كما قالوا: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران: 72) ولمنع إفساد أمرهم وإفشاء أسرارهم وتشتت كلمتهم وإضعافهم بإظهارها أمام أعدائهم شاكين منقسمين متفرقين ولمنع عبث المعتدين بهم الذين كانوا يظهرون الإسلام إذا تمكن المسلمون منهم ثم يرتدون ويؤذونهم إذا أفلتوا من أيديهم أو قووا عليهم. أما في غير هذه الأحوال فلا يجوز للمسلمين قتل أحد لمجرد الارتداد قال تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) وقال: {وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) وأوجب تأمين المشرك الذي كان أبيح لهم دمه إذا جاءهم تاركًا الأذى راغبًا النظر في الدين وطالبًا البحث فيه لكي لا يدخله مكرهًا كما قال تعالى في سورة التوبة: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (التوبة: 6) أي يجب تركه حتى يسمع القرآن ثم نرده إلى أهله آمنًا مطمئنًّا ليتروى فيه ويتدبر فإن شاء آمن بعد ذلك وإن شاء لم يؤمن بشرط أن يَعِد ونعرف منه أنه لا يعود لإيذاء المسلمين فإن ذلك كان كل مقصودهم. وأما الإيمان والكفر فهما متروكان لحرية الشخص {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) فهل بعد ذلك يقال: إن الإسلام يُكره الناس على الدخول في الدين؟ ؟ ! ! أما تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها؛ فذلك لأن العمة أو الخالة تعتبر كالأم وتسمى أمًّا كما أن العم والخال يُسمى كل منهما أبًا قال تعالى في يوسف: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْشِ} (يوسف: 100) مع أن أمه كانت ماتت من قبل. وورد أيضًا في سفر التكوين تسمية خالته أمًّا له (راجع إصحاح 35: 19 مع 37: 10) وقال تعالى عن لسان بني يعقوب: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً} (البقرة: 133) فسموا إسماعيل عمه أبًا له. أما رجم الزاني المحصن؛ فهو لأن الزنا مع الإحصان إفساد في الأرض وموجب لخلط الأنساب [3] وإضاعة حقوق العباد في المواريث ومؤد لوجود الشحناء والبغضاء والاقتتال بين الأشخاص والبيوتات وذلك يُضعف الأمة ويفرق كلمتها. والقتل في القرآن لا يباح إلا قصاصًا للقتل وللإفساد في الأرض قال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: 32) وهذا هو حكم لنا أيضًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا} (المائدة: 33) الآية ولا شك أن الزنا محاربة لله ولرسوله بالعصيان وسعي في الأرض بالفساد. وقوله: {يُقَتَّلُوا} (المائدة: 33) يشعر بأن القتل لا يكون دفعة واحدة بل تدريجيًا كما في الرجم والرجم معروف في الشرائع الإلهية القديمة كالموسوية كما لا يخفى فلا عيب فيه. فبهاتين الآيتين خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم العام الوارد في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2) الآية أي أن ذلك خاص بغير المحصن ونقل المسلمون عنه هذا التخصيص نقلاً متواترًا. أما عدم التصريح في القرآن برجم المحصن فهو للإشارة إلى أن الزنا مع الإحصان ومع ما في الإسلام من التسهيل في مسائل النكاح من حقه أن لا يكون معروفًا بين المسلمين ولا فاشيًا فيهم، ومن الواجب أنه إذا وقع فلا يكون إلا نادرًا جدًّا وعجيبًا غريبًا بينهم فكأنه لا يحتاج لتشريع خاص به لشدة ندرته. وكأن لفظ الزاني إذا أطلق لا ينصرف عندهم إلا إلى غير المحصن وفي القوانين الوضعية كثيرًا ما يدمجون الأشياء النادرة الوقوع في حكم واحد مع غيرها بحيث لا يتيسر إلا للمتضلع فيها استنباط حكمها من النص العام فكذلك مسألة رجم الزاني المحصن في الإسلام التي لم يذكرها القرآن للتنزه عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين. وعليه فالرجم حق مما كتبه الله علينا في شريعته وإن لم يصرح به في القرآن لما وضحنا. هذا وفي اللغة العربية كثيرًا ما يراد بلفظ (كتاب) المكتوب أي المفروض كما في قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (النساء: 24) في سورة النساء وقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (النساء: 103) أي فرضًا له أوقات معينة وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة: 183) الآية. فمن ذلك نشأ خطأ كثير من المحدثين والرواة إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحد أصحابه يقول مثلاً: (إن الرجم من كتاب الله تعالى) أي مما فرضه الله على المسلمين. فظنوا حديث: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) [4] أنه آية من القرآن وشتان ما بين ألفاظ القرآن وتراكيبه العالية وما بين هذا الحديث. وكذلك أخطئوا وخلطوا في كثير من الأحاديث الواردة في هذه المسألة كقول عمر ما مثاله: إن الرجم فريضة من كتاب الله تعالى ولولا أن يقول الناس: (زاد عمر في كتاب الله لكتبتها فيه) أي هذه الفريضة. فلو كان هذا الحكم معروفًا بين المسلمين أنه من القرآن لكتبه عمر فيه ولَمَا خشي أحدًا ولَمَا قال الناس: إن عمر زاده. فقوله هذا يدل على أنه ليس من القرآن وإنما يريد عمر به المبالغة في أنه فرض كفروض القرآن ولولا أنه ليس منه لكتبه فيه يعني أنه حكم كأحكام القرآن لا يجوز الشك فيه لعدم ذكره في القرآن (كتاب الله) . فلفظ كتاب الله في هذه العبارة الممثل بها هنا له معنيان (الأول) بمعنى: المفروض الواجب (والثاني) بمعنى: القرآن وفي اللغة من مثل هذا كثير كقوله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} (النور: 43-44) فالأبصار الأولى بمعنى: العيون والثانية بمعنى: البصائر والعقول. وقال علي -رضي الله عنه- فيمن جلدها ورجمها: (جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله) أي لأن الجلد صريح في القرآن والرجم صريح في السنة، وهذا يدل على أن الرجم ما كان معروفًا بين المسلمين أن فيه آية صريحة في القرآن وإنما هو يستنبط منه استنباطًا. وجميع الأحاديث التي تدل على أنه كان من (كتاب الله) إما أن يكون منشؤها ما ذكرت فخلط فيها الرواة وخبطوا لعدم فهمهم المراد منها، وإما أن تكون من الأكاذيب التي أدخلها المنافقون على الغافلين من المحدثين افتراء على الله وعلى رسوله وعلى أصحابه (وكثير ما هي) وإلا فإن القرآن بإجماع المسلمين نقل متواترًا عن رسول الله لفظًا ومعنًى مكتوبًا في السطور ومحفوظًا في الصدور عند جماهير الأمة في كل زمان ومكان وكل ما ليس متواترًا فهو ليس بقرآن كما لا يشك في ذلك أحد من المسلمين وإنما هو من الأكاذيب والمفتريات لغش المسلمين في دينهم أو تشكيكهم فيه أو لتأييد رأي أو مذهب لبعض أهل الأهواء والأغراض أو لبعض الفرق الضالة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة أي شيء آخر عنه سوى القرآن لمنع مثل هذا الخلط وأن يختلط كلامه بكلام الله تعالى. وأما تحريم استعمال أواني الذهب والفضة فهو لأن ذلك إسراف وكنز لهما مؤدٍّ إلى الحرج على الأمة والعسرة المالية. وكل من الإسراف والكنز مذموم في القرآن الشريف. قال تعالى: {وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} (الأنعام: 141) وقال: {إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} (الإسراء: 27) وقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة: 34) . وأما تحريم استعمال الحرير على الرجال فهو لأنه ينافي الرجولية والشهامة ويؤدي إلى الإعجاب بالذات والفخفخة والخيلاء والغرور وإلا كانت محرمة كما في الآيات السابقة. وأما النهي عن أكل الحمر الأهلية فهو إما أنه كان للحاجة إليها في ذلك الوقت أو لمرض فيها يخشى منه على المسلمين إذا أكثروا من الاقتراب منها وتناولها بالأيدي (كالسقاوة والسراجة Glanders) أو لأن أكلها مكروه؛ لأنها لم تخلق لذلك كما في قوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (النحل: 5) إلى قوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 8) والخلاصة أن حرمتها لا يمكن أن تكون كحرمة لحم الخنزير بالإجماع فهي (إذا سلم أن النهي عنها كان عامًّا) إما أن تكون مكروهة وإما أن تكون من الصغائر؛ ولذلك لم يذكرها الله تعالى في آيات تحريم المأكولات كقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ} (البقرة: 173) الآية وغيرها وهذه الآية واردة في السور المكية والمدنية فلا يأتي فيها قولهم: (إنها نسخت) . وأما منع بيع الأمة إذا ولدت لسيدها؛ فذلك لأن بيعها تقطيع للأرحام وذلك مذموم بقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد: 22-23) فليتأمل في هذه الآية المكثرون من الطلاق! ! والخلاصة أن الإسلام كله من القرآن وقد تخفى مآخذ بعض شرائعه اللهم إلا بعض المسائل العملية القليلة التي توضيحها بالعمل خير من توضيحها بالقول وكانت تتكرر بين المسلمين كثيرًا ككيفية الصلاة والحج فلم يأت تفصيلها في القرآن الشريف فأين تذهبون أيها النصارى. وبماذا تطعنون في الدين الحنيف؟ ؟ اهـ.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (معيار العلم) كتاب معيار العلم في المنطق لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي سارت بذكره الركبان، وكان المشار إليه دون كتب هذا العلم بالبنان، ثم طوت صحفه أيدي الحدثان، حتى لم تعد تكتحل برؤيته عينان، إلى أن ظفر به وطبعه في هذا العام الشيخ محيى الدين صبري الكردي وشريكاه وهو متن مبسوط تبلغ صفحاته 175 صفحة كصفحات المنار، وناهيك بعبارة الغزالي في بسطها وسهولتها وانسجامها وجلاء أمثلتها وما فيها من إيقاظ العقل، وتحريك الفكر، والحث على العمل بالعلم، وترتيب هذا الكتاب مخالف لترتيب الكتب المتداولة في المنطق فهو يقدم التصديقات على التصورات، فيبدأ بمقدمات القياس فالقياس، ثم يتكلم على الحد والنظر، ويختم الكتاب بأقسام الوجود وهي المقولات العشر. لا تكاد تجد أحدًا قرأ المنطق في هذه البلاد يستعمل أقيسته وحدوده أو يراعي اصطلاحاته في الاستدلال والمناظرة، أو يشير إليها في مسامرة أو محاضرة، بل لك أن تجزم بأنها قلما تخطر في بال أحد منهم في المواطن التي يحتاج إليها فيها. وسبب ذلك قراءة تلك المتون الموجزة التي يشتغلون عند قراءتها بحل عباراتها وفهم اصطلاحاتها لأجل أداء الامتحان بها، فإذا وصلوا إلى هذه الغاية واقتحموا عقبة الامتحان، تم القصد، وقضي الأمر، وليس في تلك الكتب جاذب يجذب الفكر إلى الاشتغال بهذا العلم ومراجعته وترقية العقل به كما ترى في مثل هذا الكتاب للغزالي. مثال ذلك اختصارهم المخل في مادة القياس تراهم يكتبون فيها أسطرًا قليلة ويذكرون لكل منها مثالاً واحدًا، وأما الغزالي فقد كتب في (المجربات) زهاء صفحتين كصفحات المنار وفي (المشهورات) صحفتين ونصفًا بين فيها خمسة أسباب لإثبات الذهن لها ووضح ذلك بالأمثلة المتعددة، ومن مزايا أسلوبه أنه يورد المسائل مورد الاستعمال والوقوع تارةً بالخطاب وتارةً بالحكاية عن الغائب أو المتكلم، وهذا الأسلوب أوقع في النفس وأقوى في تقرير المعاني فيها من الأسلوب المعهود في الشمسية والبصائر وغيرهما وهو تحديد المطالب مجردة من لباس الاستعمال. وقد صدر هذا الكتاب بترجمة مطولة للمؤلف وهو يطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر. (جواهر القرآن) مصنف للغزالي مشهور طبع من قبل وأعاد طبعه في هذا العام الشيخ محيي الدين صبري الكردي كما طبع من قبل صنوه المسمى كتاب الأربعين وهما في الحقيقة كتاب واحد ينبغي جمعهما في غلاف واحد وقد سبق لنا تقريظ كتاب الأربعين. (تاريخ آداب اللغة العربية) تاريخ آداب اللغة العربية فن توجهت إليه نفوس المعلمين والمتأدبين حديثًا بعد أن رأوا الإفرنج يعنون به ويصنفون فيه، وقد كنا قرظنا في أول المجلد الرابع (1318) كتابًا بهذا الاسم الذي جعلناه عنوانًا هنا من تأليف محمد بك دياب. وقد ظهر في هذا العام جزء من كتاب آخر بهذا الاسم للكاتب المؤرخ المشهور جرجي أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال قال: إنه (يحتوي على آداب اللغة العربية في عصر الجاهلية وعصر الراشدين والعصر الأموي - أي من أقدم أزمنة التاريخ إلى سنة 132 هـ) وسيعززه بجزء آخر أو أجزاء في تاريخها فيما بعد ذلك إلى زماننا هذا. بدأ المؤلف هذا الجزء بمقدمة في تاريخ التأليف في هذا الموضوع بين فيها أن الإفرنج لم يكونوا يعرفون هذا العلم وإنما التفتوا إليه وعنوا به أخيرًا وأن العرب قد سبقوا إلى التأليف فيه (مثل سبقهم في غيره من المواضيع) وعد من كتبه (كتاب الفهرست) لابن النديم، وكتاب (مفتاح السعادة ومصباح السيادة) المعروف بموضوعات العلوم، و (كشف الظنون) و (أبجد العلوم) ولكن هذه الكتب ليست على النهج الحديث الذي سبق إلى التأليف فيه المستشرقون من الإفرنج بلغاتهم، ورجَّى المؤلف أن يكون هو أول من كتب على هذه الطريقة بالعربية وأول من سماه بهذا الاسم. ثم بين فيها الغرض من الكتاب وهو: (1) بيان منزلة العرب بين سائر الأمم الراقية من حيث الرقي الاجتماعي والعقلي. (2) تاريخ ما تقلبت عليه عقولهم ... (3) تاريخ كل علم من علومهم على اختلاف أدواره ... (4) تراجم رجال العلم والأدب ... (5) وصف الكتب العربية باعتبار مواضيعها وكيف تسلسل بعضها من بعض.. (ثم بين تقسيم الموضوع وما يشتمل عليه هذا الجزء وهو الأول منها - وهو ما بيناه في أول الكلام. ونحن نرى أن هذه الأغراض لا يضطلع بها رجل واحد يريد التحقيق والتحرير فإن تاريخ كل علم من هذه العلوم - وهو أحد الأغراض - لا يحرره إلا من عرف هذه العلوم كلها، فلا بد من الاستعانة فيه إلا لمن يقنع بمثل ما كتبه ابن خلدون في مقدمته أو يزيد عليه قليلاً مما كتبه ابن النديم أو غيره وإن لم يفهم الكاتب ذلك حق الفهم لعدم تلقيه لهذه العلوم عن أهلها. وجملة القول أن هذا الكتاب مفيد لقراء العربية في ترتيبه وأسلوبه ومسائله فنشكر لمؤلفه عنايته ولعلنا نوفق إلى توفيته حقه من التقريظ بعد إتمامه. (الحراب، في صدر البهاء والباب) كتاب جديد أتمه وطبعه في هذا العام محمد أفندي فاضل بعد مجيء عباس أفندي زعيم البابية البهائية إلى القطر المصري ذكر في مقدمته مجيئه وما كتبته الجرائد فيه ثم قسمه إلى مناطق في تاريخ البابية وديانتهم وكتبهم وهدم أصولهم ورد أباطيلهم وقولهم بألوهية ميرزا حسين الملقب بالبهاء. وذكر في المقدمة أنه عرف من دعاة هذه الديانة بمصر أناسًا يحذر المسلمين أربعة منهم هم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وهم: (1) المرزا حسن الخراساني التاجر بالقاهرة وهو عميدهم في أمورهم المدنية. (2) المرزا أبو الفضل محمد بن محمد رضى الجرفادقاني الإيراني وهو داعيتهم ومؤلفهم. (3) فرج الله زكي الكردي صاحب مطبعة كردستان (وهو داعية كبير) . (4) حسين أفندي روحي ابن الملا علي التبريزي وهو صاحب مجلة تدعو إلى هذا الدين … كان يصدرها في القاهرة باسم (لسان الأمم) - إلى أن قال -: وهو الآن صاحب مدرسة في القاهرة بخط الحسينية تسمى (المدرسة العباسية) نسبة إلى عباس أفندي زعيمهم , ومن الغريب أن يلقي المسلمون أولادهم في هذه المدرسة وهي - إذا صح أنها للبابية كما هو الظاهر - فإنها أشد إفسادًا لعقائدهم من مدارس دعاة النصرانية؛ لأن جعل المسلم نصرانيًّا عسر جدًّا وأما إفساد عقيدته بتأويل القرآن وتحريف كلِمِه عن مواضعه كما تفعل الباطنية والبهائية منهم فهو أسهل من كل إفساد ولكن أي غفلات المسلمين ليس بالعجيب؟ ؟ قبل كتابة هذه أخبرني بعض نبهاء النجديين عن فرج أفندي الكردي أنه حذف من بعض فتاوى ابن تيمية التي طبعها حديثًا على نفقة بعض أهل الخير والدين فتواه البديعة في بيان كون سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، وما كنت أظن أن التعصب للبابية يحمله على التصرف في كتب المتقدمين التي يطبعها؛ لأن هذا يبطل الثقة بجميع مطبوعاته. (بشرى، بترك المحاربات واتفاق الأمم) رسالة لفرج زكي أفندي الكردي ادعى أنها (تتضمن البشارات الإلهية، والبراهين العقلية، بقرب حصول السلام، بين الأنام) وهي عبارة عن إيهام وإبهام، واستمساك بعرى الأوهام، وجمجمة وغمغمة منها ما لم يفهم، ومنها ما يفهم ولا يعقل، نشرها يبشر بها المسلمين بالسلام العام، وصواعق المدافع تمزق منهم الأجسام، وتدرك المعاقل والآطام، وقد استولى الإفرنج على مملكة الغرب الأقصى من ممالكهم، وزحفت جيوشهم إلى بلاد فارس وطرابلس الغرب؛ لأجل القضاء على الدولتين الباقيتين لهم، كما صرحت بذلك صحفهم. وقد بث كاتب هذه الرسالة روح دعوة البابية البهائية في رسالته، والظاهر أنه ما كتبها إلا لأجل هذا، وأظهر بشارته عنهم فيها هو ما نقله عن القس (وليم مور) أنه (أخبر بأن الرب ينزل في سنة 1843 ميلادي) كذا (وتبعه) كذا (ألوف من الناس) (قال فرج) : (وهذا الكتاب مطبوع في أمريكا فعلى رأي هذا القائل يكون قد مضى من ظهوره لهذا العام) أي سنة 1905 (اثنان وستون سنة) اهـ يعني بهذا ظهور الباب والبهاء فإن الباب أظهر دعوته الباطلة بالقرب من تلك السنة التي ذكر ذلك القس أن الرب ينزل فيها ولعلهم يطبقونها عليها. وتلك السنة توافق سنة 1259 للهجرة وهي السنة التي قالوا: إن الباب أراد أن يحج فيها ويظهر دعوته بمكة. ولكن الله صرفه فلم يتح له ذلك. فيا تعسًا لدين هذه دلائله، والقس وليم ميلر وأمثاله أنبياؤه، ويا شقاء من يضيع شيئًا من وقته بقراءة أمثال هذه السخافات إلا من يحذر الأغرار منها، وإلى الله المشتكى.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (سفر صاحب المنار إلى الهند) إجابةً لدعوة جمعية ندوة العلماء إياه لحضور احتفالها السنوي جمعية ندوة العلماء في لكنوء أشهر من نار على علم وقد سبق لنا التنويه بها في المنار والكلام عن احتفالها بتأسيس مدرستها (دار العلوم) فهي جمعية إصلاحية من أنفع ما توجهت إليه همم المسلمين في هذا العصر لإحياء العلوم الدينية ووسائلها بأخذها من لغتها (العربية) مباشرة والعناية بتعليم هذه اللغة بل جعلها لغة المدرسة الرسمية. وبنشر هداية الإسلام والتأليف بين أهله، كل ذلك معروف مشهور، وأمراء المسلمين وعقلاؤهم في الهند يؤيدون الندوة ويمدونها بالمال، وحكومة الهند نفسها راضية عنها وتعطيها من خزينتها إعانة سنوية. كتب إلي صديقي العلامة الشهير الشيخ شبلي النعماني أحد الأساطين التي قام عليها بناء هذه الجمعية ومحرر مجلتها (ندوة العلماء) بأن أركانها وأعضاءها العاملين قرروا دعوة هذا العاجز إلى حضور احتفال الندوة الذي يكون في أول أبريل من هذا العام، والتصدر في محفلها الشريف الذي يحضره العلماء الأعلام، والأمراء الكرام، وقال أعزه الله: إنهم يرجون بإجابتي لدعوتهم، مزيد الإقبال من عظماء البلاد على ندوتهم، وهذا من المبالغة بحسن ظنهم بهذا العاجز أو المجاملة له. تعارض في إجابة هذه الدعوة الشريفة المانع والمقتضي بل ثم موانع كثيرة أهمها قرب العهد بتأسيس مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) وشدة الحاجة إلى أن يكون ناظرها ومديرها هو الذي يتولى أمرها بيده، ولكن حق هؤلاء الإخوان العظام أركان ندوة العلماء مما لا يمكن التقصير فيه، ولسائر إخواننا مسلمي تلك الأقطار حقوق علينا يجب أداؤها وإن لم يطالبوا بها، كما أننا نرجو أن نستفيد في مثل هذه الرحلة من علومهم ومعارفهم، ومن مشاهدة اهتمامهم بالعلم والإصلاح ما نحن في أشد الحاجة إليه، فإن مسلمي الهند ومسلمي مصر هم الذي يتمتعون بالحرية التي يمكنهم أن يخدموا بها دينهم وأنفسهم دون سائر المسلمين. شاورت في هذه الدعوة إخواني أعضاء مجلس إدارة جماعة الدعوة والإرشاد فأجمعوا على استحسان الإجابة وأن أكون فيها ممثلاً لهم؛ لأن مقصدنا ومقصد الندوة واحد وهو إصلاح التعليم الإسلامي وترقية شأن الإسلام والمسلمين. وكذلك شاورت غيرهم من الإخوان فكانت كلمة الجميع واحدة فأجبت الدعوة وعزمت، وعلى الله توكلت. وكان سفرنا من القاهرة إلى بورسعيد قبل ظهر يوم الثلاثاء 23 ربيع الأنور وركبنا الباخرة (مولتان) من بواخر الشركة الشرقية الإنكليزية وفيها كتبنا هذه السطور، ونسأل الله التوفيق وبلوغ المقصود. * * * (مدرسة دار الدعوة والإرشاد) اخترنا أن يكون فتح دار الدعوة والإرشاد في ليلة تذكار المولد النبوي الشريف تفاؤلاً وتيمنًا بأن تكون هذه المدرسة مجيبة لدعوته صلى الله عليه وسلم في العالمين، وناشرة لهداية سنته بين أحق الناس بها من المسلمين، وقد وفق الله عز وجل وأقبل طلاب القسم الداخلي في تلك الليلة المباركة على المدرسة فباتوا فيها وكانت ليلة الجمعة الشريفة. ثم بُدِئَ بإلقاء الدروس فيها للقسمين الداخلي والخارجي يوم السبت 13 لربيع الأنور ولله الحمد، ويتذكر القراء أننا نشرنا النظام الأساسي لجماعة الدعوة والإرشاد في ليلة المولد النبوي من العام الماضي أيضًا. وقد كان من قضاء الله وقدره أن أسافر إلى الهند في هذا الشهر بعد افتتاح المدرسة وانتظام الدروس فيها، فاخترت أن ينوب عني في أعمالها الإدارية المؤقتة الشيخ أحمد العبد (ابن الشيخ سليمان العبد شيخ الشافعية في الجامع الأزهر) وهو مدرس للعربية والفقه وأن يكون ذلك تحت مراقبة لجنة المدرسة، وأن يكون الذي يمضي عني والمسئول عن عمل الناظر هو من يعينه مجلس إدارة الجماعة نائبًا عني في رياسة اللجنة مدة سفري. وقد عرضت هذا الاختيار على مجلس الإدارة فأقره. * * * (مدرسة علمية في الكويت) العرب أعرق الأمم في العلم والمدنية والفضائل تدل على ذلك لغتهم الراقية الواسعة. ويشهد لهم به التاريخ، فشريعة حمورابي أقدم الشرائع المعروفة كانت عربية والشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع ومكملتها عربية، والمدنيتان الآشورية والمصرية أصلهما عربي وكل ما بعدهما مقتبس منهما ومبني على أساسهما كالمدنية اليونانية والرومانية. وللعرب في التاريخ القديم نومات طويلة، تتلوها هبات ووثبات قوية، وكانت نومتهم قبل الإسلام أطول نوماتهم زمنًا، وهبتهم بعدها أشرفها وأعلاها أثرًا، وقد عادوا إلى النوم بعدها وتاريخهم يصيح بهم من ورائهم، وتلاميذهم في الحضارة يهبون من أمامهم: النوم في هذا الزمان سبات، فمن نام مات، ومن مات فات، ونحمد الله أن نراهم يستيقظون، وإن أنشئوا يفكرون ويعملون، ولكنهم في عملهم متحيرون. ومن أكبر المشروعات العلمية التي هي مناط الرجاء وموضع الأمل ما توجهت إليه همة الشيخ مبارك آل الصباح صاحب الكويت من إنشاء مدرسة علمية دينية في بلده تكون مثابة للتربية القويمة والتعليم النافع الذي يحيي البلاد ويرقي أهلها في أنفسهم وفي أعمال معايشهم، ويَسْتَوْري زناد الذكاء العربي الكامن في فطرتهم، وإن هذا الشيخ الجليل في عقله وغيرته وسعة تجاربه ومكانه من الندرة في الأمة العربية لجدير بأن يأتي هذا العمل من بابه، وينوطه بأربابه. اختار أن يكون لهذه المدرسة لجنة تتولى جمع المال لها، وتتعاون على إنشائها وإدارتها، ليكون ذلك من تربية الأمة على الأعمال الاجتماعية التي يرجى دوامها، ويجعل كثيرًا من الفضلاء يغار عليها، ولو شاء لأنشأها من ماله الخاص وما ذلك على كرمه وسخائه ونجدته بكبير، وما اختاره هو الأولى والأنفع إن شاء الله تعالى. تألفت اللجنة برياسة نجله الكريم الشيخ ناصر مبارك الصباح وجمعت من التبرعات لأول وهلة ما يبشر بحسن العاقبة ونجاح العمل. وكان أول من لبى الدعوة، وسبق إلى تأييد هذه المبرة، صديقنا المحسن العظيم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، فقد تبرع لها بألفي جنيه وتبرع غيره من آل بيته الكريم بمبالغ عظيمة يليه منهم الشيخ عبد الرحمن إبراهيم. وقد كتب إليّ هذا الصديق الأبرّ الأوفى من بومباي أن لجنة المدرسة كلفته أن يطلب مني وضع برنامج للتعليم في هذه المدرسة وأن أختار لها المعلمين الأكفاء فكان هذا الطلب نعمة له ولأعضاء اللجنة أن يمنوها عليّ إذ رأوني أهلاً لمشاركتهم في هذه الخدمة الجليلة. وقد كتبت إليه ثم إلى اللجنة أسأل عن وقت فتح المدرسة وعدد من يُرجى أن يكون فيها من الطلاب ودرجة معرفتهم، وغير ذلك من المسائل التي يتوقف عليها تنفيذ ما شرفوني بطلبه مني. وقد كتبت هذه النبذة قبل أن يجيئني الجواب منهم ببيان ما سألت عنه، وكنت أخرت الكتابة انتظارًا لجوابهم ليكون الكلام أوسع فائدة. واتفق في أثناء ذلك أن جاءتني دعوة جمعية ندوة العلماء الهندية إلى حضور احتفالها السنوي في هذا العام، واقتضت الحال أن أجيب الدعوة وأن أزمع السفر قبل مجيء الجواب من الكويت في بيان ما سألت عنه، وستكون المذاكرة الأولى في ذلك بعد وصولنا إلى بومباي إن شاء الله تعالى. * * * (الحرب في طرابلس الغرب وبنغازي) بلغت أخبار انتصار المسلمين على الإيطاليين في طرابلس الغرب وبنغازي إلى درجة التواتر لكثرتها وتعدد رواتها بالبرقيات والرسائل ومشافهة مَنْ حضروا مِنْ ميادين القتال وهم كثيرون. وقد قال لنا غير واحد ممن شهدوا الوقائع بأنفسهم: إنهم لو لم يشاهدوا بأعينهم لما صدقوا أن الأمر وصل إلى هذا الحد الذي يكاد يكون من خوارق العادات. وقد علمنا منهم أن الموسم في هذه السنة لم ير أهل البلاد مثله من أعوام كثيرة وأن الغنائم عظيمة، وأن الإيطاليين قد أسرفوا في إطلاق قذائف مدافعهم من البر والبحر من غير حاجة في الغالب حتى إن العرب صاروا يقولون: هلموا بنا نضحك عليهم: فينصبون لهم قبل الفجر أشباحًا فإذا رأوها في أول النهار بنظاراتهم أمطروا عليها نارًا من مدافعهم قبل أن يتبينوها، وأن الشجاعة التي ظهرت من العرب قد أدهشت العالم كله، فنسأل الله تعالى حسن العاقبة. * * * (في مستقبل إيران [*] ) كتب مينشيقوف في جريدة (نوفيه فريمه) بمناسبة إرسال الجنود الروسية إلى إيران هكذا. يجب أن نتبصر ونتأمل جيدًا في فرقنا الجزائية المرسلة إلى إيران حتى لا تكون النتيجة جزاء علينا، ربما يستقبل الفدائيون عساكرنا في شمال إيران بعد الاتحاد مع أهل الخيام وعامة الإيرانيين ويثورون جميعًا علينا في جهات شتى وهذا الشكل من الحرب أصعب من الحروب النظامية الكبيرة لاسيما في بلاد مثل إيران التي ليس فيها شيء من السكك الحديدية وأبناؤها لايزالون بين التوحش والتمدن وهم مسلحون ببنادق الروس , وإيران الشمالية ليست قوقاسًا ولكنها تشابه القوقاس مشابهة تامة من جهة طبائع أبنائها وانتسابها إلى مدنية الإسلام وأحوالها الأخرى. حروب فرقنا الجزائية في القوقاس امتدت 50 عامًا وأنفق عليها من الأموال أكثر مما أنفق على حرب بروسية في زمن القيصرة يليزاويته ولكن كانت نتيجة تلك الحروب أن ملكنا تلك البلاد الواسعة والأراضي الجيدة. لو كان الإنكليز في محلنا أو النمساويون لكانوا استفادوا فوائد حتى بنسبة الألف إلى المئة مما أنفقوا من الأموال لأجل استيلائهم عليها. أما إيران فأي فائدة يمكننا أن نستفيد منها؟ ومن المعلوم أننا لا نحارب حكومة إيران؟ فإذًا كيف نسترد الأموال التي ننفقها هناك؟ توجد عساكر الروس في إيران منذ ثلاث سنين فإذا لم يكن وجودها فيها من غير شغل سببًا في استتباب الأمن بل سببًا في تقوية الحكومة الاحتلالية فلا تكون نتيجة سكوت عساكرنا الجدد الآن غير الذي عرفنا من قبل وإن كانوا الآن قد ازدادوا عددًا. وأما إذا أظهرت جنودنا شيئًا من الحركة الفعالة فهذا يعد من الحرب. أسأل مرة ثانية من أين نسترد أموالنا التي ننفقها في إيران وجرت العادة أن يستولي المحاربون على أراضي العدو ضمانًا للنفقات التي ينفقونها على الحرب؟ فالواجب علينا إذًا إما أن ننفق النفقات الكبيرة لأجل الإيرانيين تبرعًا ونخمد لهم الثورات في بلادهم وإما أن نحارب حقيقة ونستولي على مقاطعتي أذربيجان وخراسان ولكن إنفاق الذهب وإراقة الدماء لنفع الأجانب عادةً قد قدمت فلا نعلم هل ترضى بذلك وكالة الأمة (مجلس الدوما) أم لا ترضى؟ يظهر أن المقصد من إرسال فرق الجزاء هو استتباب الأمن تمامًا في شمال إيران وذلك لا يتم إلا بإقامة عساكر الروس فيها مدةً طويلةً كما هي الحال في مصر وولايتي بوسنة وهرسك , ولا يخفى أن إشغال إيران بالجنود على هذه الكيفية يكون مقدمة لتقسيمها تمامًا , وأرى أن عمل ما هو المقصود بالذات حالاً من غير تأخير أولى وأحسن من التطويل في الأمر من غير فائدة. لم يتداخل أحد في ضم اليابان لكوريا، ولا في ضم النمسة لولايتي البوسنة والهرسك. وكذلك عملت فرنسة ما أرادت في مملكة فاس - وإن تداخلت بعض الدول - وبقيت تركية وحدها (من غير نصير) في تسلط إيطالية من غير حق على طرابلس الغرب وهكذا ... فينبغي لروسيا إذا كانت تتوقع منافع دولة كبيرة في إيران أن لا تحجم عن أي شيء ولا عن إنفاق النقود الكثيرة. لو صادف روسيا في إيران أدنى شيء من عدم التوفق وسوء الحظ ولو وقتيًّا يتولد منه ثلاث فتن وهي من جهة تر

السيد حسين رضا ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد حسين وصفي رضا أقوال أهل الفضل فيه وعَدْنا في الجزء الماضي بكتابة نموذج من تعازي سائر البلاد والأقطار وإنجازًا للوعد ننشر ما يلي: (12) وكتب إلينا علم العلم والفضل في العراق العربي العلامة السيد محمود شكري أفندي الآلوسي الحسني. بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة الإمام الهمام، وقدوة العلماء الأعلام، سيدي السيد محمد رشيد رضا، ألهمه الله الصبر والرضا على ما قدر وقضى، أما بعد فقد طَرَقَ سمْعي، ما أجرى دمعي، من الخبر الذي نشرته صحف بلاد الشام، وكدرت به قلوب الإسلام، من نعي الصنو الكريم، والأخ البر الرحيم، سمي جده الإمام الحسين، ووارثه في الفوز بالشهادتين، ووالله لقد تجددت عليّ مصيبة ابن العم فابتليت بمصيبتين وفي كل يوم للمنايا رزية ... تكاد لها الأكباد أن تتفطرا تهيّج أحزانًا وتبعث زفرة ... وترسل في فقد الأحبة منذرا تكدر إخوان الصفا في انبعاثها ... وأي صفاء لامرئ ما تكدرا فأسفا على شبابه، ولهفًا على فضائله وآدابه، ولعن الله قاتله وضاعف عليه مزيد عذابه، ولعمري إنها لمصيبة تتفتت لها القلوب، وتتصدع منها الصخور وتذوب، -ألهمك الله الصبر الجميل، وضاعف لك الأجر الجزيل، وصرف عنك فوادح الضراء، ووقاك محذور الأرزاء، ووفقك فيما أصابك لعزائم العزاء-، وأحق كلمة يقولها المحزون: (إنا لله وإنا إليه راجعون) ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... بغداد في 20 صفر سنة 1330 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... العبد ... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد محمود شكري (13) وكتب الفاضل المخلص والعامل في سبيل الإصلاح السيد عوض سعيدان الحمد لله مولاي الأستاذ الرشيد أدام الله وجوده سلام الله عليكم أهل البيت قرأت بالجرائد نعي أخينا السيد حسين وصفي شقيقكم الفاضل فأظلمت الدنيا في عين محبكم هذا. وقد حصل لنعيه رنة أسف بين أدباء هذه البلاد وستقام صلاة الغائب عليه بكها (يوم الجمعة) بالجامع الكبير وقد عُرف السيد هذا بعلو الهمة والغيرة الوطنية التي تجلت فيه عند بزوغ شمس الدستور بالبلاد العثمانية وإن مثل الفقيد إذا ظهر بذاك المظهر فهو أليق الناس به إذ هو من صميم السادات الأشراف الذين لهم على الناس الإشراف، فهم صنائع ربهم، والناس بعدُ صنائع لهم. فأحسن الله عزاكم وعظم أجركم وأخلفه علينا وعليكم بخلف صالح. وقد وصلتني كتب أعظم تعزية من بعض الإخوان وأحدهم يقول: إن المسلمين بهذه الأطراف يكابدون من أنواع الهموم ما الله عالم به وزادهم نعي ثقة الإسلام بفاس وذبول غصن الأدب بالشام. (يعني الفقيد) فإنا لله وإنا إليه راجعون. رحمه الله وغفر له آمين. ... ... ... ... ... ... ... سنغافورة 19 سفر سنة 1330 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محب الفقيد ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عوض سعيدان (14) وكتب العالم العامل السيد عبد الله بن محمد بن صالح الزواوي مدرس التفسير في الحرم المكي الشريف الحمد لله وحده. حضرة محترم المقام الفاضل الأمجد الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا أفندي حفظه الله. بعد إهداء جزيل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومرضاته موجبة. بعد السؤال عن عزيز الخاطر العاطر إعلامكم بتكدر خاطرنا مما رأيناه في جريدة الحضارة بوفاة من قدس الله روحه إلى الجنة أخيكم المرحوم المغفور له السيد حسين وصفي رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار، ولقد ساءني جدًّا هذا النبأ الفاجع عظم الله أجركم وأحسن عزاكم وطرح البركة في عمركم وعملكم وفي عمر إخوانكم وتكونون خير خلف لخير سلف. ثم إنني واجهت محب الطرفين الشيخ محمد حسين أفندي نصيف وزاد كدري ما أخبرني به من أنه رأى في جريدة طرابلس أنه كان وفاة الفقيد المرحوم العزيز بيد أثيمة كافأها الله سبحانه بعدله بما تستحقه، وأنال الفقيد المرحوم بها السعادة وفاز بها، فلقد كان في حياته مجاهدًا أعز جهاد وعضدًا لفضيلتكم في جهادكم الذي أرجو من الله سبحانه وتعالى لكم به زيادة الأجر وحصول النتاج الظاهري الذي ترونه وتقر به عينكم مع طول عمركم وحصول البركة في أعمالكم وتنالوا بذلك سعادة الدارين ويحصل لكل محبيكم كل ما أمّلوه من النتائج الحسنة، ثم إني أرجو إبلاغ جزيل سلامي مع سنة العزاء إخوانكم الكرام وكل من تحبون وأن لا تروا علي في عدم المكاتبة فإنكم لا تزالون في خاطري على الدوام وقائم بوظيفة الدعاء لكم تجاه بيت الله الحرام ولما ذكر حرر والسلام. ... ... ... ... ... من مكة المشرفة 15 ص سنة 1330 ... ... ... ... ... ... ... عبد الله محمد صالح الزواوي (15) وكتب العالم المحقق والدراكة المدقق السيد هبة الدين الشهرستاني الحسيني صاحب مجلة (العلم) بالنجف. ننشر من كتابه ما يأتي قال: بتاريخ 24 شهر صفر 1330 هـ. {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (البقرة: 156-157) إلخ. قرآن عظيم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حضرة العلامة الكامل أستاذ الأفاضل دام ظله وكثر مثله بعد إهداء أسنى سلام وأزكى تحية، إلى تلك الحضرة القدسية، أدامها رب البرية، وبث الأشواق الخالصة القلبية، ولا يذهب عن فطنتكم ما أصابنا لما أصابكم فأحزن القلب وأجرى الدمع ومن مصيبة ما أعظمها ورزية ما أكبرها وأمضّها وقد أثارت في صدورنا الأحزان بها الشرار، وأسدلت الهموم على قلوبنا منها الأستار. منذ أبلغتنا الصحف نعي سعادة الأخ الفاضل قطب رحى الفضايل وأنه مضى شهيدًا بعدما عاش سعيدًا ولا غروَ فإنه من أهل بيت أصبح القتل لهم عادة، وكرامتهم من الله الفوز بالشهادة، وقد أخذ الحزن منا مأخذه، وأسفنا عليه أسفًا فايق الوصف لولا سلوتنا بمثل سيادتك، ملاذًا للأمة، ومعاذًا من كل غمة، ومقدًا آمال الباقين، وجمالاً للإسلام وثمالاً للمسلمين، وقد بلغني هذا النبأ الموحش، وإنا إذ ذاك في كاظمية بغداد مهاجرًا إليها مع علماء النجف فذكرت لهم ذلك النبأ المفجع ليشتركوا معي في الحزن فعمنا الأسف جميعًا والتفجع على فقيد العلم والدين والأدب إلخ. (16) وكتب العالم المستشرق الفرنسي موسيو لويز ماسنيون وهو من أصدقاء الفقيد الخُلَّص ننشر كتابه كما ورد وهو: إلى حضرة الشيخ الأفضل، شقيق صديقنا المرحوم وصاحب القلم الصدوق السيد رشيد رضا الأفخم سلمه الله تعالى. أما بعد السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقد وجعنا كثيرًا خبر وفاة شقيقكم المرحوم: السيد حسين وصفي رضا؛ لأن له في قلوب أصحابه مقامًا خاصًّا من الخواص وكان في رجائي أن ألتقي معه لو شاء الله عن قريب لتتجدد بالمخاطبات صداقتنا، كان فتى كامل الفتوة من أشرف الناس همة ومنصبًا، ولما كنا بلطف الرب عز وجل نجتمع معه في مصر كنا نفهم أنه فوقنا رتبة عند الله تعالى لشجاعته واجتهاده وصفاء نيته رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً. زكي النفس أزكى الحياة مثله مثل الذين (كانت مطاياهم من مكمد الكظم) مضوا ولا عين ولا أثر وراءهم إلا الألم يبقى في قلوبنا تحت توكل عقولنا للخالق مثل خمود نار الغبوق تحت الرماد في الليلة بين الأثافي مثل الموت مثل الغروب وما أنسى ما قال أبو بكر الشبلي البغدادي في المعنى: (إنما تصفرُّ الشمس عند الغروب؛ لأنها عزلت عن مكان التمام فاصفرت لخوف المقام وهكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفر لونه فإنه يخاف المقام، وإذا طلعت الشمس طلعت مضيئة منيرة كذلك المؤمن إذا خرج من قبره خرج ووجهه مشرق مضيء) . هذا ولكم منا السلام وكل احترام لكم ولآلكم ولمن يعز عليكم ودمتم سالمين مجتهدين مع (مناركم) المنير. الفقير إليه سبحانه عبده لويز ماسنيون في باريز يوم السبت 10 شباط سنة 1912 21 صفر سنة 1330. (للتعازي بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

المقالة الثانية من المقالات الروسية عن تركستان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقالة الثانية من المقالات الروسية عن تركستان تلك ترجمة المقالة الأولى من مقالات سياسة عدم الالتفات التي تنتشر في جريدة نوفي فريمية لحث الحكومة الروسية على مقاومة تعليم مسلمي تركستان، وأما المقالة الثانية فملخصها أن مدارس التتر لم يقبل عليها مسلمو تركستان في أول الأمر وبعد ثباتها عشر سنين نالت محبة قسم كبير منهم، وتألفت في مدينة طاشقند لجنة غير رسمية من المسلمين لإدارة تلك المدارس، وأخذت تبث سلطتها، وعمال الحكومة الروسية لم يلتفتوا إلى ذلك وهو بمثابة نظارة معارف غير رسمية تمهد طرق التعليم وتستحضر له الكتب والمعلمين وقصدها نشر مذاهب (الجامعة الإسلامية) في تركستان؛ فهي لذلك توجه نظر الشبان إلى العالم الإسلامي ولاسيما تركية، وكتب الدراسة تعين على ذلك، ففي كتب المطالعة مسائل في المملكة التركية وبلادها المشهورة، ومثلها في دروس التاريخ والجغرافية. والمعلمون على هذا الرأي وهم من تتر قزان وأورنبوغ ينفخون روح الإسلام الذي أخذ ينهض من جديد، ويلبسون الطرابيش التركية الحمراء ليكونوا ذوي مهابة في أعين تلاميذهم، وهم من أصحاب المدنية، وقد بلغت هذه المدارس بجدهم في طاشقند وحدها عشرين مدرسة قبل انتباه الحكومة، وكذلك كان في خوقند زهاء هذا القدر من المدارس قبل تنبه الحكومة. بعد تنبه عمال الحكومة تحيروا ولم يقوموا بالواجب وهو منع معلمي التتر من تعليم مسلمي تركستان، وبضعفهم تمكنت تلك اللجنة غير الرسمية للمعارف أن ترسل بعض تلاميذها النجباء إلى الآستانة ليستعدوا لخدمة بلادهم إذا رجعوا إليها، فسيوجد مدارس في تركستان للترك فوق مدارس التتر قبل أن يستقر رأي عمال الحكومة هناك على أمر ويخرجوا من مضيق حيرتهم. إنهم مترددون فيما يعاملون به تلك المدارس يقولون: أنعدها دينية كأنها ذات رخصة؟ أم خصوصية فننفذ فيها نظام المكاتب الخصوصية؟ أم نقفلها ألبتة؟ أم الأسهل أن نستمر على التغافل عنها؟ ومن العجائب أن (غيور غيفسكي) معاون نظارة المعارف لم يدخل تلك المدارس عند تجواله في تركستان لئلا يكون دخوله اعترافًا بها وإقرارًا لها فإذا كان رجال الحكومة متحيرين لا يدرون أي التربية يختارون لنابتة تركستان وهي مسألة من أهم المسائل فلا عجب إذا انتشرت فكرة الجامعة الإسلامية في هذه النابتة. نحن متحيرون حقيقة وأما غيرنا الذين لا يحبون أن يندغموا في الشعب الروسي اندغامًا يفنى فيه الضعيف في القوي فتضيع قوميتهم فهم يعرفون ماذا يعملون. المستنيرون من التتر قد أظهروا في الميدان برنامجًا للتعليم يدافع عنه حزب المسلمين في الدوما (مجلس النواب الروسي) وقد أخذوا يهتمون بمسلمي تركستان . فيظهر أنهم يريدون جذب مسلمي روسية كافة إليهم ثم ينشرون فكرة الجامعة الإسلامية والجامعة التركية بينهم، لذلك يريدون توحيد المسلمين كافة باللغة التركية العامة، ويعرف مقدار اهتمامهم بما ذكر من عناية جناب مقصودف رئيس حزب المسلمين في الدوما؟ [1] بالسفر إلى تركستان والطواف في بلادها لرؤية فرقه الذين تتألف منهم قوته الحربية في المستقبل، نعم إن مقصودف لم يرجع منها بفوائد كثيرة وربما قل طمعه في الرياسة السياسية القريبة على مسلمي تركستان ولكن لا شك في نيله بعض مطالبه من ذلك السفر، مثال ذلك أنه لم يمض زمن طويل على سياحة رئيس حزب المسلمين في الدوما؟ حتى جاء من أهالي طاشقند كتاب احتجاج على نظام نظارة المعارف الحديث لمدارس المسلمين وأمثاله ليقدمه إلى الدوما، وهو كتاب بيان حقوق مسلمي تركستان، ولا شك في أن ذلك من تأثير سياحته، ومقتبس مما قاله حزب المسلمين في الدوما ولم يسبق لمسلمي تركستان مثل هذه الحركة. سياحة مقصودف هذه ليست في نفسها أمرًا مهمًّا ولكن إطلاق حرية السياحة للذين يلقون فكرة الجامعة الإسلامية ويغرون المسلمين بها لا يمكن أن يكون مما يرغب فيه رجال الحكومة ومع هذا نقول آسفين: إنه قد كثر الجوالون في تركستان أخيرًا؛ لأجل بث الأفكار السياسية في المسلمين. والسائحون في آسية الوسطى ليسوا من التتر فقط بل يجول فيها كثير من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي ومراقبة هؤلاء لا تُرجى من عمال الحكومة، المشغولين بوظائفهم، فالترك يتعرفون أولاً إلى سراة القوم ثم يمشون الهُوينا إلى مقصدهم على خط مستقيم , يرونهم أن تركية مملكة عظيمة قوية ويخبرونهم بأنها ستستولي على البلاد الإسلامية من البحر الأسود إلى بلاد الصين وتأخذها من الروس فتصير تركستان تحت حكم تركية وكلهم إخوان في الدين وبهذه الوسيلة يجمعون الإعانات للأسطول. ولا ريب في أن فكرة الجامعة الإسلامية قد انتشرت بين كثير من المستنيرين في تركستان. العلوم والمعارف في تركستان ضئيلة جدًّا ومع ذلك ترى القراء يشتركون في الجرائد التركية وخصوصًا التي تتكلم في الاتحاد الإسلامي مثل (صراط مستقيم) و (تعارف مسلمين) . أهالي تركستان مولعون جدًّا بنشر الأخبار بينهم ولو كانت تافهة لا يؤبه لها كحركة عسكر الترك في حدود إيران أو تقوية الأسطول العثماني بعدة مدرعات من طراز ديردنوط، وإن هذه الأخبار التي تنتشر بسرعة زائدة لتؤثر في نظرهم السياسي. فما هي الوسائل التي يتخذها عمال الحكومة لتلافي تلك التحريضات السياسية؟ لا شك عندنا أنه لا يمكن لأولئك العمال الجاهلين غير الإغضاء عن حياة مسلمي تركستان المعنوية؛ لأنهم لا يعرفون شيئًا منها الآن كما كانوا لا يعرفون شيئًا عنها من قبل، وهذه سياسة مؤسفة ظهر عدم نفعها من تطبيقها على مسلمي (القرم) وأطراف (فولغا) . - فالواجب إذًا الإسراع بتعديل الإدارة هنالك وتفويضها إلى الإدارة الملكية وجعلها بحيث توافق منافع الحكومة واقتضاء الزمان. وقد كان صدر بذلك فرمان عالٍ منذ عشر سنين اهـ. (المنار) هذا بعض ما كتب في هذه الجريدة الروسية الشبيهة بالرسمية في عاصمة هذه الدولة، فليعتبر بها المسلمون كافة والعثمانيون عامةً والمبعوثون منهم خاصةً، فروسية التي سكتت لها الأمم كلها عن معاملتهم للمسلمين لا تريد أن يجتمع تتريّهم بتركيّهم ولا أن يتعلموا كما يريدون ولا أن يمر ببلادهم سائح مسلم، وأما الدولة العثمانية فهي على حرية الشعوب والملل فيها ووصولها إلى درجة الفوضى وعلى السماح لكل ملة بأن تعلم كما تريد من غير أن تعرف الحكومة لها طريقة تعليمها وتقرها عليها - هي على هذا كله تتهم بهضم حقوق النصارى وتطالَب بأن تجعل مدارس جميع الطوائف المسيحية الدينية وغير الدينية في حكم المدارس الرسمية تعتمد شهاداتها ويقبل المتخرجون فيها في وظائف الحكومة وأعمالها. هذا وإننا نرجو أن ننبه هذه الوساوس التي يصرح بها القوم أفكار المسلمين إلى ما يتهمون به وهو لم يخطر لهم على بال، وقد ذكرت جريدة (وقت) التترية بعد نشر هذه المقالة مثلاً فيه موعظة وعبرة للمستبصرين وهذه ترجمته.

الغارة على العالم الإسلامي ـ 1

الكاتب: المسيو شاتليه

_ الغارة على العالم الإسلامي أو فتح العالم الإسلامي [*] مقدمة المسيو شاتليه [1] (1) إرساليات التبشير البروتستانية قلنا في سنة 1910 عندما كنا نخوض على صفحات هذه المجلة في موضوع السياسة الإسلامية: (ينبغي لفرنسة أن يكون عملها في الشرق مبنيًّا قبل كل شيء على قواعد التربية العقلية ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتحقق من فائدته , ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أن لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان المبشرون وغيرهم؛ لأن لهذه المشروعات أغراضًا خصوصية وليس للقائمين بها حول ولا قوة في هيئتنا الاجتماعية التي من دأبها الاتكال على الحكومة وعدم الإقبال على مساعدة المشروعات الخاصة التي يقوم بها الأفراد فتبقى مجهوداتهم ضئيلة بالنسبة إلى الغرض العام الذي نحن نتوخاه , وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعليم الذي يكون تحت إشراف الجامعات الفرنسية؛ نظرًا لما اختص به هذا التعليم من الوسائل العقلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة. وأنا أرجو أن يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل ليبث في دين الإسلام الأوضاع المستمدة من المدرسة الجامعة الفرنسية. هذا ما ارتأيناه يومئذ وسيظهر ما يؤيده في الفصول التالية المتعلقة بإرساليات التبشير البروتستاني الأنجلو سكسونية والجرمانية الدائبة على العمل في العالم الإسلامي حتى أصبحت أهميتها تفوق بكثير ما اعتاد الفرنسيون أن يتصوروه؛ لأن النشاط وقوة الجأش التي يظهرها القائمون بأعمال هذه الإرساليات تختلف عما تمتاز به أمتنا. وكنا منذ أمد بعيد نود أن نخوض في ذكر تفاصيل أعمال هذه الإرساليات التي اشتهرت بخطتها ووفرة الوسائل التي أعدتها وتوسلت بها لمقاومة دين الإسلام. وحسبنا أن نستشهد بإرسالية التبشير الكاثوليكية في بيروت لتكون موضوع التفكير والتأمل في فرنسة. إن (كلية القديس يوسف) اليسوعية التي تدبر أعمالها هذه الإرسالية لا تأثير لها على النشوء الفكري في المحيط الإسلامي ولكن التعليم الذي تنشره وتبثه كان له الحظ الأوفر من نشر الأفكار الفرنسية في سورية والقطر المصري. نعم إن غاية المدرسة اليسوعية وطريقة التعليم فيها تختلفان عن غاية وطريقة المدرسة الكلية الفرنسية في غلطة (الآستانة) إلا أن النتائج كانت متقاربة من حيث تعميم المبادئ والأفكار التي تنشرها اللغة الفرنسية , ومن هذا يتبين لنا أن إرساليات التبشير الدينية التي لديها أموال جسيمة وتدار أعمالها بتدبر وحكمة تأتي بالنفع الكثير في البلاد الإسلامية من حيث إنها تبث فيه الأفكار الأوروبية. إلا أن لإرساليات التبشير مطامع أخرى كما يتبين من الجملة الآتية التي أستخرجها من رسالة أرسلها إليَّ من جزيرة البحرين (قرب عمان) في 2 أغسطس سنة 1911 حضرة القسيس المحترم صموئيل زويمر منشئ مجلة العالم الإسلامي الإنجليزية، وهو يبني فيها صروح آمال شامخة على أعمال المبشرين البروتستانيين قال: (إن لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإٍسلامية مزيتين - مزية تشييد ومزية هدم، وبعبارة أخرى مزيتي تحليل وتركيب , والأمر الذي لا مرية فيه هو أن حظ المبشرين من التغيير الذي أخذ يدخل على عقائد الإسلام ومبادئه الأخلاقية في البلاد العثمانية والقطر المصري، وبلاد أخرى هو أكثر بكثير من حظ الحضارة الغربية منه , ولا ينبغي لنا أن نعتمد على إحصائيات (التعميد) في معرفة عدد الذين تنصروا رسميًّا من المسلمين؛ لأننا هنا واقفون على مجرى الأمور ومتحققون من وجود مئات من الناس انتزعوا الدين الإسلامي من قلوبهم واعتنقوا النصرانية من طرف خفي) اهـ. ولا شك في أن إرساليات التبشير من بروتستانية وكاثوليكية تعجز عن أن تقتلع العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها أو تزحزحها، ولا يتم لها ذلك إلا ببث الأفكار التي تتسرب من اللغات الأوروبية، فبنشرها اللغات الإنكليزية والألمانية والهولندية والفرنسية يتحكك الإسلام بصحف أوروبة وتتمهد السبيل لتقدم إسلامي مادي وتقضي إرساليات التبشير لبانتها من هدم الفكرة الدينية الإسلامية التي لم تحفظ كيانها وقوتها إلا بعزلتها وانفرادها؟ أما ما يقوله حضرة مكاتبنا من وجود مئات من المسلمين اعتنقوا النصرانية سرًّا وهم ينتظرون فرصة للجهر بها فذلك أمر لا يمكننا البت فيه مع حضرة المكاتب , على أنه ليس من الحوادث الغريبة أن يتنصر بعض أفراد ينتمون إلى أصل فارسي أو هندي؛ لأن اختلاف النِّحَل والاعتقادات في هذه العناصر هو من مزاياها الاجتماعية وكذلك الحال في الوسط السامي المتصل بالأصل العبري ولكن من النادر المستغرب أن تقع حوادث التنصر في بيوت السادات العلوية وبين الباتان (الأفغانيون الخُلَّص الموجودون في بلاد الهند) ومشايخ الهند وجيرانهم الأفغانيين والأتراك والتركمان والعرب الحقيقيين والبربر. ولا ينبغي لنا أن نتوقع من أكثرية العالم الإسلامي بأن يتخذ له أوضاعًا وخصائص أخرى إذا هو تنازل عن أوضاعه وخصائصه الاجتماعية إذ الضعف التدريجي في الاعتقاد بالفكرة الإسلامية، وما يتبع هذا الضعف من الانتقاض والاضمحلال الملازم له سوف يفضي - بعد انتشاره في كل الجهات- إلى انحلال الروح الدينية من أساسها لا إلى نشأتها بشكل آخر. على أن المناقشة في هذه المسألة لا طائل تحتها؛ لأن الآراء تنبعث عن وجهة التفكير، فتقتصر إذن على القول بأن سير العالم الإسلامي يتدرج نحو انحلال أفكاره الدينية وزوالها وذلك أمر طبيعي ممكن التحقق، أما فرض تدرج المسلمين في اعتناق المسيحية فخارج عن حد الإمكان؛ لأن المسلم كالمسيحي واليهودي لا يجذبه التعليم العصري إلى الاعتقادات الدينية. ولكننا نعود فنقول: إنه مهما اختلفت الآراء في نتائج أعمال المبشرين من حيث الشطر الثاني من خطتهم (الهدم) فإن نزع الاعتقادات الإسلامية ملازم دائمًا للمجهودات التي تبذل في سبيل التربية النصرانية , والتقسيم السياسي الذي طرأ على الإسلام سيمهد السبيل لأعمال المدنية الأوروبية، إذ من المحقق أن الإسلام يضمحل من الوجهة السياسية وسيكون بعد زمن في حكم مدنية محاطة بالأملاك الأوربية. قد يظهر لإخواننا المسلمين أننا نتصرف في مستقبلهم بحرية وعدم تكلف، ولكن من منهم ينكر أن العالم الإسلامي أصبح هدفًا لغلطات فتيان جمعية الاتحاد والترقي الذين ورثوا عبد الحميد واستعانوا بوسائله السياسية بعد أن خلعوه، ولم تكن أمامهم وسيلة لإنقاذ السلطنة العثمانية والخلافة الإسلامية غير تنظيم حكومة مؤلفة من ولايات إسلامية متحدة، وكل وسيلة غير هذه كانت لنتيجة لا بد منها وهي تقسيم المملكة؟ إننا لم نكن نرمي الكلام على عواهنه وما كنا نقصد غير تقرير حقيقة راهنة، عندما نبهنا المسلمين من قراء مجلتنا - قبل احتلال طرابلس الغرب بستة أشهر - إلى ما تخبئه الأيام للآستانة التي ستقع بين مخالب ألمانية وروسية. إن إرساليات التبشير البروتستانية الأنجلو سكسونية تعلق أهمية كبرى على الحال الجديدة التي ظهر بها العالم الإسلامي وقد رأينا أن نذكر معها إرساليات التبشير الألمانية لما عقد بينهما من الأواصر والروابط في مؤتمري سنة 1906 وسنة 1911 ولم يبق ارتباطهما مقتصرًا كسابق عهده على تناوب كرسي الأسقفية البروتستانية في بيت المقدس. وليس من المستغرب، ونحن نبدي إعجابنا بأعمالها، أن نلح بمزاحمتها ومسابقتها، خصوصًا، وأن السيطرة على أهم الأسواق البشرية صارت متوقفة على هذه المزاحمة والمسابقة، وكنا نود لو كان في الوقت متسع لبسط القول وإيضاح مجرى الأمور في هذه المسألة بحذافيرها؛ لأنها جديرة باهتمام رجال فرنسة بلا إضاعة وقت، إلا أننا اضطررنا إلى الاقتصار على جمع بعض أمور وقفنا عليها وسنبينها هنا بقدر الإمكان. ونحن نكتفي بعرض هذه الأمور من غير تعليق عليها؛ لأننا اقتطفناها من مؤلفات وفصول شتى ونظمناها على الترتيب المتبع في مثل هذه الظروف، وإن المسألة التي تهمنا سوف تتبدد شكوك ذوي البصيرة والرواية لدى اطلاعهم على ما نعرضه أمام أنظار قراء مجلة العالم الإسلامي. ونؤمل من ذوي الشأن في إرساليات التبشير البروتستانية أن لا ينكروا علينا انتهاج هذه الخطة التي هي خطة مجلتنا، وهم أعلم الناس بعواطفنا وشعورنا نحو عملهم الذي لا يمكننا أن نذكر أهميته إلا مقرونة بإلحاحنا في ذكر الضرورات التي تقتضيها السياسة الفرنسية الوطنية لأجل تحول مجهوداتنا إلى التعليم التابع لطريقة المدارس الجامعة الفرنسية وذلك أشد العوامل تأثيرًا على بلادنا لندخل في حلبة المسابقة لنشر التعليم العقلي. *** (2) تاريخ التبشير اقتصرت مجلة العالم الإسلامي في هذا الفصل على تلخيص كتاب (مشروع التبشير) الذي ألفه المستر (إدوين بلس) البروتستاني، ثم أعاد طبعه قبل عشر سنوات فزاد عليه زيادات أخرى وسماه (ملخص تاريخ التبشير) ذكر فيه تاريخ إرساليات التبشير البروتستانية على اختلاف نزعاتها منذ نشأتها في القرون الغابرة إلى تاريخ الطبعة الثانية لكتابه، مع بيان ما بين هذه الإرساليات من ارتباط وتضامن. ثم قالت: (إن هذا السِّفر نفيس في بابه يتسنى لقارئه أن يقف على حقيقة أعمال الإرساليات البروتستانية في بلاد الإسلام حتى أواخر القرن التاسع عشر، إلا أننا ننكر على مؤلفه عدم إشارته إلى الإرساليات الكاثوليكية وهذا موضعالضعف في كتابه بل في أعمال إرساليات التبشير جميعًا على اختلافها، ولو كان المبشرون الكاثوليك والبروتستان الذين يجتمعون في بلاد إسلامية يتنبهون إلى أن انقسامهم يحط من قدرهم ويقلل هيبتهم ويوطد أركان الإسلام لكانوا على الأقل يوهمون الناس بأنهم متفقون ظاهرًا، خصوصًا وأن انقسامهم هذا يمهد للإسلام السبيل لاستمداد مبادئ الحضارة من إرساليات المبشرين من غير أن يقتبس أفكارها الدينية، ولا ريب أن نخبة الأذكياء المسلمين في مصر وسورية - عندما يقفون على هذه التفرقة الموجودة بين الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانية والعلمانية التي تتجاهل كل منهن الأخرى - لا يترددون في الحكم على مذاهب النصرانية بأنها قد فقدت التوازن بالرغم من الخدم التي تأتي بها الحضارة الأوربية. واستأنفت المجلة بعد هذا الاستطراد كلامها على كتاب المستر بلس فقالت: إنه ينقسم إلى قسمين الأول في تاريخ التبشير العام وطرائقه، والثاني في وصف موقف الإرساليات البروتستانية وأعمالها في البلاد الإسلامية. ويقول المؤلف: إن تاريخ التبشير المسيحي يرجع إلى صدر النصرانية ومبدإ أسيسها، وذكر الذين قاموا بوظيفة التبشير بالنصرانية في القرون الوسطى، فقال: إن (ريمون لول) الإسباني هو أول من تولى التبشير بعد أن فشلت الحروب الصليبية في مهمتها. فتعلم (لول) هذا اللغة العربية بكل مشقة وجال في بلاد الإسلام وناقش علماء المسلمين في بلاد كثيرة. وذكر المؤلف في الفصل الثالث المبشرين الكاثوليك والدور الذي لعبوه في ثورة (البوكسر) الصينية وتداخلهم في شئون القضاء، وهنا انتقدت مجلة العالم الإسلامي الكاثوليكية على هذا المؤلف البروتستاني اقتصاره على ذكر تاريخ المبشرين الكاثوليك في ثمان صفحات فقط، وقوله: إن المسلمين ينظرون إلى الطقوس والاحتفالات الكاثوليكية باشمئزاز , ووصفت المجلة هذا القول بأنه لا يشف عن محب

عراف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عراف صادف عراف تاجرًا في السفينة ذاهبًا إلى سوق كذا في بلد كذا , فقال له: ألا أنبئك بما تفكر فيه الآن؟ قال التاجر: كم تأخذ على ذلك؟ قال: ما تسمح به حالك , قال التاجر: لك ذلك , فأخذ العراف بيده وجمجم، وقال: إنك تقول في نفسك إذا أعلنتُ إفلاسي بعد الوصول إلى السوق وصالحت الغرماء أصحاب الديون على عشرين في المائة فإنني أربح ربحًا كثيرًا , فلما سمع التاجر هذا الكلام ظهر على وجهه أمارات التغيير والاهتمام , فقال العراف: أما أصبت المرمى؟؟ قال التاجر: لا , ولكنك نبهتني إلى فكرة حسنة ما كانت في بالي.ا. هـ

نقد تاريخ التمدن الإسلامي ـ 3

الكاتب: شبلي النعماني

_ نقد تاريخ التمدن الإسلامي بقلم الشيخ شبلي النعماني (3) جور العمال ذكر المؤلف تحت هذا العنوان أنواعًا من الجور والشدة الصادرة من عمال بني أمية ونحن نذكر بعضًا منها مع كشف الحقيقة. قال يذكر جور العمال: (وإذا أتى أحدهم بالدراهم ليؤديها في خراجه يقتطع الجابي منها طائفة ويقول: هذا رواجها وصرفها) (الجزء الثاني صفحة 22 واستند في الهامش إلى كتاب الخراج لأبي يوسف صفحة 62) . أيها الفاضل المؤلف! أليس لك وازع من نفسك؟ أليس لك رادع من ديانتك؟ أتجترئ على مثل هذا الكذب الظاهر؟ والمين الفاحش جهرة؟ فإن القاضي أبا يوسف ما تكلم في شأن عمال بني أمية ببنت شفة وإنما ذكر عن عمال هارون الرشيد وإساءتهم العمل في جباية الخراج وكتاب الخراج لأبي يوسف بين أيدينا وقد طبع في مصر وتداولته الأيدي وتناقلته الألسن. قال المؤلف: (وفي كلام القاضي أبي يوسف في عروض وصيته للرشيد بشأن عمال الخراج ما يبين الطرق التي كان أولئك الصغار يجمعون الأموال بها قال:) بلغني أنه قد يكون في حاشية العامل أو الوالي جماعة منهم من له به حرمة، ومنهم من له إليه وسيلة ليسوا بأبرار ولا صالحين يستعين بهم ويوجههم في أعماله، يقضي بذلك الذمامات فليس يحفظون ما يُوكَلون بحفظه ولا ينصفون من يعاملونه إنما مذهبهم أخذ شيء من الخراج كان أو من أموال الرعية ثم إنهم يأخذون ذلك كله فيما بلغني بالعسف والظلم والتعدي… ويقيمون أهل الخراج في الشمس ويضربونهم الضرب الشديد ويعلقون عليهم الجِرار ويقيدونهم بما يمنعهم عن الصلاة وهذا عظيم عند الله شنيع في الإسلام (الجزء الثاني صفحة 23 و24 مستندًا إلى كتاب الخراج صفحة 61 و62) . الله أكبر! هل سمع أحد بأعظم من هذا التدليس والتلبيس؟ يشتكي القاضي أبو يوسف من عمال هارون الرشيد ويرفع القضية إليه ويبين ما بلغه مما يرتكب عماله في أخذ الأموال من الرعايا، فيأخذ المؤلف أقواله وينقلها من حيث إنها هي الطرق التي كان عمال بني أمية يجمعون الأموال بها! ! ها هو كتاب الخراج بأيدينا قرأناه وقلبناه ظهرًا لبطن وكررنا فيه النظر لا كرة ولا كرتين بل مرات متوالية متتابعة فما وجدنا فيه كلمة في شأن عمال بني أمية وإنما قال ما قال أبو يوسف يعظ الرشيد بما بلغه عن عماله إلى أن خاطبه بقوله: (فلو تقربت إلى الله عز وجل يا أمير المؤمنين بالجلوس لمظالم رعيتك في الشهر أو الشهرين مجلسًا واحدًا تسمع فيه من المظلوم وتنكر على الظالم رجوت أن لا تكون ممن احتجب عن حوائج رعيته ولعلك لا تجلس إلا مجلسًا أو مجلسين حتى يسير ذلك في الأمصار والمدن فيخاف الظالم وقوفك على ظلمه فلا يجترئ على الظلم.. مع أنه متى علم العمال والولاة أنك تجلس للنظر في أمور الناس يومًا في السنة ليس يومًا في الشهر تناهوا بإذن الله عن الظلم وأنصفوا من أنفسهم (كتاب الخراج صفحة 63 و64) . لا فُضَّ فوك يا أبا يوسف! فقد صدعت بالحق وأمرت بالمعروف واجترأت على النهي عن المنكر وأخذت على ملك جبَّار كهارون الرشيد صاحب النكبة بالبرامكة، وما أكبر جرأتك أيها الفاضل؟ ! (جرجي زيدان) إنك تتبعت سيرة عمال بني أمية وبالغت في الإمعان وكابدت في ذلك محنة التقصي فأعوزك كل هذا وما وجدت في أعمالهم شيئًا من مثل تلك الفظائع فعمدت إلى سيرة عمال الرشيد وأوهمت الناظرين أنها سيرة عمال بني أمية! قال المؤلف: (وكان العمال لا يرون حرجًا في ابتزاز الأموال من أهل البلاد التي فتحوها عَنوة لاعتقادهم أنها فيء لهم كما تقدم (الجزء الرابع صفحة 75) . الذي أشار إليه بقوله: (تقدم) هو قوله في الجزء الثاني وهذا نصه: (وكان من جملة نتائج تعصب بني أمية للعرب واحتقارهم سائر الأمم أنهم اعتبروا أهل البلاد التي فتحوها وما يملكون رزقًا حلالاً لهم - يدل على ذلك قول سعيد بن العاص عامل العراق: ما السواد إلا بستان وقول عمرو بن العاص لصاحب أخنا لما سأله عن مقدار ما عليهم من الجزية فقال عمرو: إنما أنتم خزانة لنا إن كُثّر علينا كثَّرنا عليكم، وإن خُفف عنا خففنا عنكم (الجزء الثاني صفحة 19) . تشبث المؤلف بهذه الأقوال في غير موضع مستدلاًّ على أن العرب وبني أمية كانوا يتصرفون في أموال الناس كيفما شاءوا ظنًّا منهم أن أموالهم وأعراضهم أبيحت لهم مطلقًا. حقيقة القول: أنه لما فتحت البلاد في خلافة الفاروق تقدم بعض الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وبلال وغيرهما وقالوا: إن الأرض مقسومة بيننا كما قسم رسول الله خيبر وكان الفاروق رأى غير هذا فقام النزاع حتى وفق إلى الاستناد بنص القرآن فسكتوا ورضوا والقصة مذكورة بتفاصيلها في كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف، ثم إن بعض البلاد فتحت صلحًا فمتى كان الخراج أو الجزية شيئًا مسمًّى معيّنًا ما كانوا يرون الزيادة عليه وإن أكثرت الأرض خيراتها وزادت غلاتها , وفتح بعضها عنوة فكان الخراج أو الجزية عليها بقدر النقص والزيادة وهذا هو قول عمرو (إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم) وقد أشار إلى ذلك المقريزي في تاريخه والعلامة السيوطي في حسن المحاضرة. فأما قول سعيد بن العاص الذي استند إليه المؤلف فتحريف للكلام عن موضعه على جاري عادته، فإن المؤلف نقل هذه الرواية من الأغاني والمذكور فيه ما حاصله: (إن أحدًا مدح السواد عند سعيد بن العاص وبالغ فيه فقال بعضهم: نعم ويا ليته كان لأميرنا، فقال بعض من حضر: لا نُعطِ أرضنا للأمير فقال الرجل: ولو شاء الأمير لأخذه، فأنكروا قوله فقال سعيد بن العاص: (السواد بستان قريش إلخ) فقال الرجل: لا! إنه منايح رماحنا فأنت ترى أن النزاع بين الجند وأمير البلد هنا هو النزاع الذي كان بين بعض الصحابة وعمر الفاروق وأي متشبَّث في ذلك للمؤلف؟ فإن سعيد بن العاص قال ما قال ردًّا على الجند بدعوى أن الأرض لا تقسم بين فاتحي البلاد بل هي تحت يد الخليفة أو من ينوب عنه وإنما ذكر سعيد قريشًا؛ لأن الخلافة على زعمهم لقريش خاصة. قال المؤلف: (فكان الخلفاء يكتبون إلى عمالهم بجمع الأموال وحشدها والعمال لا يبالون كيف يجمعونها فقد كتب معاوية إلى زياد) اصطفِ لي الصفراء والبيضاء (فكتب زياد إلى عماله بذلك وأوصاهم أن يوافوه بالمال ولا يقسموا بين المسلمين ذهبًا ولا فضة) (الجزء الرابع صفحة 75 وأحال الرواية في الهامش على العقد الفريد صفحة 18 من المجلد الأول) . ننقل مآخذ هذه الرواية كما صرح به المؤلف في الهامش لترى خيانات المؤلف واحدة بعد واحدة، قال صاحب العقد: (ونظير هذا القول ما رواه الأعمش عن الشعبي أن زيادًا كتب إلى الحكم بن عمر الغِفَاري وكان على الطائفة أن أمير المؤمنين كتب إليّ أن أصطفي له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهبًا ولا فضة فكتب إليه: (إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين) إلخ ما كتب ثم نادى في الناس فقسم لهم ما اجتمع من الفيء) (العقد الفريد المجلد الأول صفحة 17 أو 18) . فانظر! (أولاً) : إنه ليس في هذه الرواية أن معاوية كتب إلى زياد بل إن زيادًا كتب إلى الحكم أن أمير المؤمنين كتب إليّ إلخ، ولعل زيادًا كذب في ذلك أو فهم غير ما أراد معاوية بقوله. (ثانيًا) : إن المؤلف حذف كل ما قال الشعبي وما عمل به من تقسيم الفيء لدلالته على أن في عمال بني أمية من لا يمنعه عن الصدع بالحق وأداء الواجب أحد، لا ولاة الأمصار ولا من فوقهم أي الخليفة نفسه. (ثالثًا) : إنه ليس في هذه العبارة ما يستدل به على استئثار معاوية بالمال لنفسه فإن مراده أن العمال ليس لهم تقسيم الفيء بل الأمر موكول إلى الخليفة فعلى العامل أن يجمع الأموال ويرسلها إلى الخليفة وللخليفة أن يضعها موضعها. قال المؤلف: (فكان العمال يبذلون الجهد في جمع الأموال بأية وسيلة كانت ومصادرها الجزية والخَرَاج والزكاة والصدقة والعُشور. وأهمها في أول الإسلام الجزية لكثرة أهل الذمة فكان عمال بني أمية يشددون في تحصيلها فأخذ أهل الذمة يدخلون في الإسلام فلم يكن ذلك لينجيهم منها؛ لأن العمال عدوا إسلامهم حيلة للفرار من الجزية وليس رغبة في الإسلام فطالبوهم بالجزية بعد إسلامهم. وأول من فعل ذلك الحجاج بن يوسف واقتدى به غيره من عمال بني أمية في إفريقية وخراسان وما وراء النهر فارتد الناس عن الإسلام وهم يودون البقاء فيه وخصوصًا أهل خراسان وما وراء النهر فإنهم ظلوا إلى أواخر أيام بني أمية لا يمنعهم عن الإسلام إلا ظلم العمال بطلب الجزية منهم بعد إسلامهم) (الجزء الرابع صفحة 16) . ذكر المؤلف هذه الواقعة، أي أَخْذ الجزية بعد الإسلام، في غير موضع بعبارات متنوعة، قوية الأخذ بالنفس، شديدة الوطأة على القلب، يتراءى للناظر فيها أن الناس أحيطوا من كل جانب جورًا وعدوانًا، فإذا بقوا على الكفر يعانون من الشدة ما يلجئهم إلى الإسلام، وإذا أسلموا فالجزية باقية على حالها، لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون. *** تحقيق مسألة الجزية في الإسلام 1- اعلم أن الجزية ليست إلا بدلاً عسكريًّا فمن يذب عن بيضة الملك بنفسه فهو غير مأخوذ بها أما من ضن بالنفس أو كان لا يصلح لذلك فعليه أن يؤدي شيئًا من المال ليكون عُدة للعسكر وعونًا له. وأول من سن الجزية وجعل لها وضائع كسرى أنو شروان كما ذكره ابن الأثير وصرح بأنها هي الوضائع التي اقتدى بها عمر بن الخطاب، وكم تجد في البلاذري والطبري وغيرهما أن أقوامًا من النصارى في عصر عمر بن الخطاب لما قاموا بالدفاع عن الملك أو دخلوا في الجند سقطت عنهم الجزية وأعفى عمر بن الخطاب نصارى تغلب من الجزية، وأضعف عليها الصدقة. وجملة القول أن الجزية لم تكن في الأصل شيئًا يحد بين الكفر والإسلام ولكن لما كان غالب الحال أن أهل البلاد من النصارى والمجوس واليهود كانوا أصحاب حرث وزرع وعمالاً في الديوان وكانوا لا يرضون بمخاطرة النفس واقتحام الحرب لذلك كانوا مطالبين بالجزية والمسلم لا يمكن له الاعتزال عن الحرب فإنه مضطر إلى الذب عن بلاد الإسلام طائعًا أو مكرهًا - صارت الجزية كأنها حد فاصل بين الرئيس والمرءوس ثم بين المسلم وغير المسلم. 2- ولما لم ينفصل الأمر بتةً وبقي للاجتهاد موضع ومتسع كان بعض العمال يضرب الجزية على حديثي العهد بالإسلام. 3- ولكن مع هذا لم يتفق ذلك في مدة الخلافة الأموية إلا مرات معدودات يشهد بذلك الفحص والتقصي وإمرار النظر والكد في البحث والتنقيب ومع ذلك فكلما وقع مثل هذا لم يكن له بقاء فإما أن تكون الأمة هي التي تقيم النكير على العامل أو يصل الخبر إلى الخليفة فيرد عمله ويمنعه عن الوقوع في مثله آتيًا ففي سنة 101 لما كتب الحجاج إلى البصرة برد من أسلم من أهل القرى إلى مساكنهم وضرب الجزية عليهم ضج القراء وخرجوا يبكون مع البكاة من أهل القرى وبايعوا عبد الرحمن بن الأشعث مشمئزين من عمل الحَجَّاج منكرين عليه كما هو مشروح في تاريخ الكامل لابن الأثير وكذلك لما اقتدى الجراح الحكمي بصنيع الحجاج كتب إليه عمر بن عبد العزيز يأمره بإسقاط الجزية، والواقعة مذكورة في حوادث سنة 100 في تاريخ الكامل، وكذلك لما فعل يزيد بن أبي مسلم في إفريقية سنة 102 هجرية ألّب الناس عليه وقتلوه وكتبوا إلى الخليفة يزيد بن عبد الملك فكتب إليهم إني ما كنت مستحسنًا عمل يزيد والقصة مذكورة في الكامل تحت حوادث سنة 102 وكان آخر ما وقع من مثل ذلك ما فعل الأشرس في خراسان فأورث ثورة واشترك العرب مع الثائرين ونصر

بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد ـ 1

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد [*] (1) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسل الله. أما بعد فلا خلاف بين أحد من المسلمين أن أسفار أنبياء بني إسرائيل قد بشَّرت بالمسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام فلا ننكر على النصارى كثيرًا مما يستشهدون به من العهد القديم على نبوة عيسى وكثير من أحواله وأخباره، والذي ننكره عليهم إنما هو استشهادهم بالعهد القديم على صلبه وألوهيته. فتتميما لبحثي السابق في (القرابين والضحايا) [1] أردت أن آتي هنا على أعظم حجج النصارى من كتب اليهود على صلب المسيح وألوهيته وأُظْهِر بطلانها واحدة بعد أخرى، ثم آتي ببعض الدلائل على فساد كتاب العهدين وأختم مقالي ببيان أن التوراة والإنجيل الحاليين - وإن كان قد دخلهما التحريف والتبديل - لا يزالان يشتملان على كثير من البشائر الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157) . ولا يخفى على الباحثين أن أساس الديانة المسيحية إنما هو العهد القديم وما يستشهدون به منه على عقائدهم ولولاه ما كانت لهم حجة واحدة على عقيدة من عقائدهم التي يخالفوننا فيها، فعلى العهد القديم مبنى اعتقادهم وهو أساس دينهم؛ ولذلك كان البحث في هذه المسألة ونقضها بالدلائل نقضًا للدين المسيحي الحالي كله من أساسه، ولولا اعتداؤهم علينا في ديننا ما تعرضنا لهم بشيء من مثل هذا فهم البادئون، والبادئون هم الظالمون، فنقول وبالله تعالى وحده نستعين: (الفصل الأول) فى بيان فساد ما يستشهدون به على الصلب في العهد القديم (برهانهم الأول) قالوا: إن النبي دانيال أخبر في كتابه عن صلب المسيح وأن ذلك كفارة لذنب أمته وأنه خاتم النبيين ولا نبي بعده، ومع أن اليهود ينكرون مسيحنا إلا أن هذا الكتاب لا يزال عندهم وهم يعتقدون صحته [2] وهاك عبارة النبي دانيال في هذه المسألة. قال في الإصحاح التاسع من كتابه: إن جبرائيل قال له (9: 24 سبعون أسبوعًا قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا، ولكفارة الإثم، وليؤتى بالبر الأبدي، ولختم الرؤيا والنبوة ولمسح قدوس القديسين *25 فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعًا يعود ويُبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة *26 وبعد اثنين وستين أسبوعًا يقطع المسيح وليس له وشعب رئيس آت يخرب المدينة والقدس وانتهاؤه بغمارة وإلى النهاية حرب وحزن قضى بها 27 ويثبت عهدًا مع كثيرين في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة وعلى جناح الأرجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب) وقبل تفسير هذه العبارة نأتي هنا على نبذة تاريخية في هذه المسألة فنقول: اعلم أن الله تعالى سلط على اليهود بُخْتنصر ملك بابل بسبب عصيانهم وتمردهم فحاربهم عدة مرات وأخذ في أول مرة بعضهم أسرى إلى بابل وفيهم دانيال النبي وفي آخر مرة سبى أكثر الشعب وأخذ الملك صدقيا وقتل أولاده وأحرق الهيكل المقدس وخرب المدينة وكانت مدة هذا السبي سبعين سنة، وكان إتيان بختنصر إليهم في المرة الأخيرة سنة 588 قبل الميلاد وفي سنة 536 ق. م. أذن كورش (وهو مؤسس المملكة الفارسية) برجوع اليهود من بابل وكان ذلك في السنة الأولى من ملكه فلما رجع اليهود إلى أورشليم شرعوا في بناء الهيكل وفي بناء بيوت لهم وتوفي كورش بعد أن حكم 7 سنوات فقط وقد تم بناء بيت الله (الهيكل) في السنة السادسة من ملك داريوس (راجع سفر عزرا 6: 15) ، وبعد 69 سنة من صدور أمر كورش برجوع اليهود إلى أورشليم لبناء بيت الله وسكناهم فيها. ولد لليهود في بابل رجل صالح تقي يدعى (نحميا) ولما كبر عُين ساقي الملك أرتحتشستا ولما بلغه أن سور أورشليم متهدم وأبوابها لا تزال محروقة بالنار حزن وتكدر (راجع سفر نحميا 1: 3) وبكى ودعا الله كثيرًا ولما رآه الملك كئيبًا حزينًا أرسله الملك إلى أورشليم لبناء سورها وعينه حاكمًا عليها وكان ذلك في سنة 445 ق. م. وعمره نحو 23 سنة وكمل هذا السور في 52 يومًا وصار عزرا الكاتب يعلمهم شريعة موسى ليعملوا بها واحتفلوا بأعيادها وأول عيد كان عيد المظال ومدته سبعة أيام في الشهر السابع (نحميا 8: 18) . وحكم نحميا في أورشليم 12 سنة وبعد ذلك عاد إلى بلاد فارس إلى حين، وفي مدة غيابه خالف الشعب شريعة الله وتزوجوا بالنساء الوثنيات (نح ص 13) ولما رجع إليهم أصلح هذه الأمور وبقي فيهم مصلحًا إلى أن مات أو قتله بعض أعدائه (راجع ص 6 من كتابه) والراجح أن عمره كان 62 سنة فإن آخر عمل عمله كان في السنة الخامسة عشرة من حكم داريوس نوثاس أي سنة 408 ق. م. ثم مات سنة 405 ق. م. وبعد موته لم يعين ملك فارس على أورشليم أحدًا من اليهود؛ لأن بلادهم صارت جزءًا من ولاية الشام فكان الحبر الأعظم يمارس الأمور السياسية والدينية معًا من قبل والي الشام وبعد مدة الفرس صارت أورشليم إلى اليونان واستقلت زمنًا في عهد المكابيين وهم كهنة من سبط لاوي ومن عشيرة هارون ثم خضعت للرومان وفي أيام الرومان سنة 70 بعد الميلاد حاربهم (تيطس) بعد أن كان طلب منهم أن يسالموه ويعاهدوه ولا يأخذ منهم خراجًا سبع سنين وكان أمر بإبقاء الهيكل فأخذ أحد الرومانيين نارًا وألقاها في الهيكل فاشتعل الخشب وأمر تيطس أن يوقفوا النار ولكن تهافت الرومان على النهب والسلب والتخريب وبعد أن شتتوا اليهود منعوهم عن السكنى في أورشليم وبقي هذا المنع مدة إلى أن رفع ببذل المال فرجع إليها حينئذ كثير من اليهود وحسنوها وشيدوها. وكان قد بلغ الإمبراطور أريانوس أن اليهود يحصنون المدينة ليخرجوا عن طاعته فأرسل عساكره فقتل أكثرهم وخرَّب المدينة وجعلها مساحة واحدة وفلحها وزرعها ملحًا إشارة إلى إبادتها، وفي هذه الحرب انتهى خراب أورشليم وتلاشت قوة اليهود وانتشروا في الأقطار ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة وكانت هذه الحرب سنة 132 بعد الميلاد وبذلك تمت نبوة المسيح عليه السلام إذ قال: (لا يترك حجر على حجر) (راجع تاريخ القدس لخليل أفندي سركيس) . ثم دخل الفرس أورشليم سنة 614 ميلاد وخرجوا منها سنة 628 أي بعد أن مكثوا فيها 14 سنة منعوا فيها اضطهاد النصارى لليهود فبطل إلقاء قاذورات النصارى في الهيكل عنادًا لليهود وباعوا النصارى الذين في أورشليم لليهود ونزعوا خشبة الصليب من أورشليم وأرسلوها إلى فارس. وفي سنة 636 ميلادية أخذ المسلمون القدس وطهروه وبنى عمر رضي الله عنه مكانه المسجد الأقصى وصار اليهود في حِمى الإسلام واستراحوا من ظلم المسيحيين وصاروا أحرارًا في دينهم يسوسهم الإسلام جميعًا بعدله ورحمته، وصار هذا المسجد معبدًا للمسلمين ولمن يدخل في دينهم من أهل الكتاب ونجت أورشليم من الخراب وعاد إليها المجد والعمران والإكرام وكثرت ذبائح المسلمين فيها في عيد الأضحى تذكارًا لحادثة إبراهيم خليل الله وتمت نبوة حجي حيث قال: (2: 6 قال رب الجنود: هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة 7 وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهي [3] كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدًا قال رب الجنود: 8 لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود: 9 مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من (مجده) الأول قال رب الجنود: وفي هذا المكان أعطي السلام يقول رب الجنود: فمن تخريب الرومان لأورشليم وتشتيت اليهود سنة 132 إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم سنة 622 تكون المدة 490 سنة ولا يخفى أن الهجرة النبوية هي مبدأ التشريع الإسلامي ومبدأ عظمة النبي وظهور أمره وأيضًا من سنة 132 إلى دخول المسلمين أورشليم سنة 636 تكون المدة 504 سنين فإذا طرحنا منها 14 سنة وهي مدة الفرس التي فيها استراح اليهود من ظلم الرومانيين والمسيحيين تكون مدة الظلم والاضطهاد الخالصة هي 490 سنة كان فيها اليهود في أتعس الحالات وأسوأها فكأنه بعد 490 سنة من تشتت اليهود عظم شأن الإسلام وظهر أمره وأيضًا بُني الهيكل وعاد المجد لبيت الله وأُنقد اليهود من الظلم والاضطهاد وصاروا يرتعون حول هيكلهم في حمى الإسلام وحريته. هذا وقبل البدء في تفسير نبوة دانيال أقدم مقدمة أخرى وهي أن الأسبوع في اللغة العبرية والعربية معناه سبعة فهناك أسبوع أيام وأسبوع شهور وأسبوع سنين والأسبوع من الطواف هو سبع مرات وهكذا والقرينة هي التي تعيِّن المراد ثم إن أعظم أعياد اليهود ثلاثة: عيد الفطير وهو أسبوع أيام، وعيد الأسابيع وهو بعد سبعة أسابيع من الأيام، وعيد المظال وهو أسبوع أيام أيضًا والسنة اليوبيلية كانت بعد سبع مرات سبع سنين. واليوم من أيام قضاء الله وعقابه لليهود بسنة كما في سفر العدد ص 14 عد 33) وبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة 34 كعدد الأيام التي نجستم فيها الأرض أربعين يومًا للسنة يوم (أما في غير ذلك فاليوم هو اليوم المعتاد. وإذا قيل للمسلمين مثلاً) : بعد خمسين عيدًا من أعيادكم يحصل لكم كذا وكذا (كان المعنى بعد خمسين سنة؛ لأن أي عيد من أعيادنا لا يتكرر في السنة الواحدة، وكذلك عند اليهود فإذا قيل لهم: (بعد خمسين فصحًا) كان المعنى (بعد خمسين سنة) ولما كان أعظم أعيادهم أسبوع أيام جاز أن يقال لهم: (بعد خمسين أسبوعًا) أي من هذه الأسابيع العيدية يحصل كيت وكيت والمعنى بعد خمسين سنة وعليه فالأسبوع في مقام القضاء والجزاء غيره في مقام الفرح والسرور والأول بمعنى أسبوع سنين والثاني بمعنى أسبوع أيام من أسابيع الأعياد وهي لا تتكرر في السنة الواحدة فبعد أسبوعين منها أو ثلاثة مثلاً يراد به بعد سنتين أو ثلاثة؛ لأن كل أسبوع منها يقع في سنة واحدة. إذا علمت ذلك فاسمع الآن معنى نبوة دانيال: كان دانيال مع الأسرى في بابل وكان حزينًا جدًّا لأجل حالة أمته وكان يعلم أنه لا بد لأمته أن تقضي سبعين سنة في الأسر والذل فكان يسأل الله تعالى دائمًا أن يعيد مجد أورشليم ويعمر خرابها ويبني بيتها ويعتق أمته من الذل والأسر فأخبره الله تعالى بما سيحصل لأورشليم ولأمته وبأنه قضى عليها قضاء آخر أطول من قضاء السبعين سنة فقال 9: 24) : سبعون أسبوعًا قضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدسة) والسبعون أسبوعًا في مقام القضاء والجزاء هي 490 سنة كما قلنا قضاها الله تعالى على بني إسرائيل وعلى مدينتهم أورشليم وهي تبتدئ من سنة 132 التي فيها تلاشت كل قوة لهم وتبددوا في الأرض ولم تقم لهم قائمة ومحيت مدينتهم محوًا تامًّا وتنتهي بسنة 622 التي هاجر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبها كمل أمره وعظم شأنه أو سنة 636 وهي سنة فتح المسلمين لأورشليم أي بعد إسقاط 14 سنة وهي المدة التي استراح فيها اليهود من ظلم النصارى واستراح فيها الهيكل المقدس من إلقاء القاذورات والنجاسات فيه حينما استولى الفرس على بيت المقدس فالمد

اتفاقيات سرية على مراكش والعجم وطرابلس الغرب

الكاتب: عن جريدة الأفكار العربية

_ اتفاقيات سريةعلى مراكش والعجم وطرابلس الغرب [*] من المعلوم أن في بلاد الإنكليز حزبين كبيرين يعود تاريخ إنشائهما إلى مئات من السنين. وهذان الحزبان هما حزب الأحرار المتولي اليوم زمام الأحكام وحزب المحافظين. ومن المعلوم أيضًا أن سياسة أوروبة في الوقت الحاضر تحوم حول قوتين هائلتين إحداهما ألمانية ومناصروها من النمساويين وغيرهم والثانية إنكلترة وأصدقاؤها من فرنسيين وغيرهم. وكل ما يجري في العالم السياسي تكون علله ومعلولاته راجعة إلى إحدى هاتين الدولتين. ولا جَرَمَ أن توازن القوات هو ما يحدو برجال السياسة المفكرين إلى الخوف من نشوب حرب طاحنة ببين تينك الدولتين وحليفاتهما على نحو ما جرى بين فرنسة وإنكلترة في زمن نابليون بونابرت وما جرى بين روسية وإنكلترة في النصف الأخير من القرن الماضي. فإن الحروب العظيمة التي أفنت قوى أوربة على زمن بونابرت لم تكن سوى نتيجة معقولة لسبب كبير هو اختلال التوازن الدولي وسعي رجل أوروبة العظيم نابليون الأول لجعل فرنسة نقطة الدائرة في سياسة العالم يومئذ وقيام الإنكليز بوجه ذلك النابغة خوفًا على الهند وسائر مستعمراتهم بل خوفًا على كيانهم أمة مستقلة تشغل المقام الأول بين الأمم. وما الحرب الروسية اليابانية الأخيرة سوى تكرار ما فعله الإنكليز مع نابليون الأول وأعني ضرب مطامع الروس ضربة هائلة من قبل إنكلترة وحليفاتها حتى تبقى الكفة الراجحة في جانب الإنكليز وخصوصًا في المشاكل الاستعمارية. وبعد هذا التمهيد فلنعد إلى الحزبين الكبيرين عند الإنكليز وهما الأحرار والمحافظون كما قلنا. فالمحافظون سقطوا بسبب حرب الترنسفال وأصبحت الأكثرية في جانب الأحرار منذ ذلك الحين ولا يزال هؤلاء أصحاب الحَوْل والطَّوْل حتى هذه الساعة. ومن المعلوم أن اختلاف الأحزاب السياسية ضروري لجلاء الحقائق وبقاء معارضة تكون شبه شكيمة تردع الحكام والمتفذين عن الانقياد إلى أهواء النفس وأميالها. والنفس أمارة بالسوء. وها أنا اليوم في موقف حرج للغاية فقد أصبحت فيه أوروبة مثل بركان امتلأ جوفه بكل معدات الهلاك الهائلة. والعياذ بالله من يوم ينفجر به ذلك البركان فإنه سوف لا يُبقي ولا يذر والمسئولية كل المسئولية على المستلمين زمام الأحكام وخصوصًا في لندن وبرلين - أي حيث نرى قوتين هائلتين واقفتين بالمرصاد بعضهما لبعض وكل منهما تعد العدة وتبالغ في اتخاذ الاحتياطات لذلك اليوم العصيب أبعده الله عن العالم وأبعد الحروب وويلاتها رحمة ببني الإنسان. ولما كانت المسئولية عظيمة كما قدّمنا فلا غرو إذا أكثر الباحثون من التدقيق والتمحيص تارة بالنقد وطورًا بالنصح وأخرى بالإنذار والتحذير حتى تبتعد مخاطر الحروب عن أوروبة فتقترب القلوب بعضها من بعض ويحدث التفاهم والسلام الذي هو ضالة العقلاء المنشودة ولا سيما في هذه الأيام. ولا يخفى بأن خطر الحرب كان قريب الوقوع في أواسط العام الماضي بين ألمانيا وفرنسة بسبب مراكش، ولولا أن الإنكليز أبدوا نواجذهم بإخطار ألمانيا بالانسحاب من مياه أقادير (الغدير) والاتفاق مع فرنسة بمفاوضات حبية لقصفت أصوات المدافع ولعلع البارود واستلت السيوف من أغمادها ووقع المحذور الذي يسعى محبو السلم إلى اتقائه. ولما انفرجت تلك الأزمة الشديدة انبرى أحرار الإنكليز إلى نقد وزارتهم الحاضرة وقام المعارضون يخطئونها ويظهرون للملأ مخاطر سياسة الأحرار الحاضرة فأكثروا من المباحث بهذا الصدد ومابرحوا حتى الساعة يكتبون ويخطبون وينشئون قائلين - ولهم الحق فيما يقولون -: إن الأمر جليل والحادث جسيم ومن جراء غلطة سياسية صغرى، قد يكون سقوط أمم ونهوض أمم أخرى. ولا غرو إذا حامت مباحث المعترضين على مسألة مراكش ومسألتي العجم وطرابلس الغرب؛ لأن هذه المعضلات الاستعمارية هي سبب الخلاف وهي المحور الذي تدور حوله مفاوضات الدول العظمى في الوقت الحاضر. فعن مشكلة مراكش نقول: إن الأمر قد انقضى والحمد لله؟ ! ولكن الجرح لم يلتئم بعد وإذا التأم فعلى دغل وهذا ما حدا بالحزب المعارض في إنكلترا إلى رفع عقيرته بالاحتجاج على سياسة بلاده الخارجية وفي عرض الكلام عن تلك السياسة فضح أسرارًا سياسية هائلة وأنذر الأمة بسوء العقبى فقال ما ملخصه حسبما ورد في العددين الأخيرين لمجلة القرن التاسع عشر الشهيرة: (إن الخطة التي اتبعها السر إدوارد غراي ناظر خارجية إنكلترة هي خطة عوجاء سوف تجرنا إلى حرب طاحنة مع ألمانيا. وبإمكاننا اجتناب هذه الحرب بسهولة تامة. واللوم في ذلك على سفيرنا في باريز الذي أصبح يبغض الألمان وينفذ غايات بعض ذوي الأغراض الشخصية في نفس الوزارة الخارجية عندنا. ومن سوء الطالع أن وزير خارجيتنا أخذ يصغي لهم غير حاسب للعواقب حسابًا. ففي شهر يوليو (تموز) سنة 911 اجتزنا أزمة هائلة؛ لأننا كنا على وشك الحرب مع ألمانية. ولماذا؟ إرضاء لخاطر سفيرنا في باريز ليس إلا. (فما هي المنافع التي تعود علينا إذا اشتبكنا بحرب بسبب مراكش؟ لا شيء مطلقًا. فإننا إذا خسرنا فالويل لنا. وإذا ربحنا ففرنسة وحدها هي التي تغنم تلك الأرباح. ولا ندري هل بقاء هذا التفاهم الودي مع فرنسة نافع لنا أم ضار - ونحن إلى ما قبل سبع سنين فقط كنا نجهر على رءوس الأشهاد ببغض فرنسة واحتقار كل شيء فرنسي. أما الآن فصرنا أصدقاء! وكذا صرنا أصدقاء الروس أيضًا فيا للعجب كيف سعينا جهدنا لمحق الروس في حربهم مع اليابان؟) ولطالما كرر الإنكليز هذا الاعتراف الصريح في السنين الأخيرة (ومازلنا نسعى لنضع حواجز في سبيل تقدمهم الاستعماري. وكيف يعقل أن فرنسة وروسية تخلصان لنا الود وهما لم تنسيا بعد مساعينا الهائلة ضدهما؟ فلو كانت الحرب قد نشبت في شهر تموز الماضي بين ألمانيا وفرنسة بشأن مشكل أقادير (الغدير) وكانت إنكلترا قد أنجزت وعدها فنزلت إلى ميدان القتال مناصرة لصديقتها فرنسة فمن كان يضمن لنا بقاء أصحابنا مخلصين لنا؟ أو ما هي المنافع التي نجتنيها من حرب كهذه لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟ *** الاتفاقات السرية (إن السر إدوارد غراي في خطبته الرسمية التي ألقاها في مجلس البارلمان في 27 أكتوبر (ت 2) المنصرم جهر بصراحة تامة قائلاً: إنه استدعى إليه سفير ألمانيا وصرح له باستعداد إنكلترة لمناصرة فرنسة مناصرة فعلية إذا لزم الأمر، وسبب ذلك حسبما علمنا اليوم اتفاق سري أبرم في شهر 8 إبريل (نيسان) سنة 1904 ومن يعلم مضمون ذلك الاتفاق؟ ولكن دلت الحوادث على أن فرنسة وإنكلترة وضعتا أمامهما يومئذ البحر المتوسط فقالتا هكذا: (مصر للإنكليز من دون معارضة. مراكش لفرنسة مع السماح لأسبانيا بالثغور الشمالية وقطعة من الداخلية ضرورية لتلك الثغور. طرابلس الغرب لإيطالية لقاء سكوتها عن هذا الاتفاق) وربما كان لقاء سلخها من المحالفة الثلاثية (وها إن الأميرال فرمانتل قد نشر مقالة في مجلة البحرية البريطانية مضمونها أنه لم يعد ذلك الاتفاق سرًّا. فإن كل رجال الحكومة الإنكليزية وقفوا على مضمونه. ولكن الصحافة الإنكليزية سكتت سكوتًا تامًّا عن هذا الاتفاق فلم تشر إليه ولا بكلمة. ونحن مدينون لجريدة الطان الفرنسية التي فضحت هذه الأسرار ومثلها جريدة (له جورنال) الفرنسية أيضًا التي أسهبت في الكلام على تلك الاتفاقيات السرية التي نحن بصددها الآن. وكل ذلك نشر في صحافة باريز بالشهرين الفائتين (أي ديسمبر ك 1 ويناير ك 2) والأمة البريطانية لا تدري من هذه الاتفاقيات السرية شيئًا بفضل سكوت صحافتها التي تطيع كل إيعاز من دار نظارة الخارجية. (ليس ذلك فقط بل إن في جريدة الطان بعددها الصادر بتاريخ 30 نوفمبر (ت 2) الفائت تصريح هائل محصله إبرام اتفاق حربي بيننا وبين الفرنسيين في سنة 1905 أولاً ثم في 1908 ثانيًا وأخيرًا في سنة 1911 وحسب شروط تلك الاتفاقيات الحربية أن على إنكلترة إنزال 150 ألف جندي من جيشها البري في بلجيكا حال نشوب حرب بين ألمانية وفرنسة فضلاً عن وجوب تحريك الأساطيل البريطانية حالاً. وهذه القوة الهائلة التي استمدتها فرنسة من تلك المعاهدات الحربية السرية هي التي جعلتها تستأسد في مؤتمر الجزيرة سنة 1906 حينما أرت ألمانية أن روسية وإيطالية والولايات المتحدة وإنكلترة هنّ في جانبها. وفي العام الفائت أيضًا لما احتدم الخلاف بسبب مسألة أقادير (الغدير) كانت فرنسة تظهر من الحزم والعناد شيئًا كثيرًا. ولما قيل لها: وكيف نوفق بين مطامعك الآن في مراكش وبين تعهداتك في مؤتمر الجزيرة بحفظ استقلال تلك السلطنة المغربية؟ كانت تراوغ في الجواب وتقول: هكذا أريد! وإن يدي يجب أن تكون مطلقة التصرف في مراكش؟ ! (وبكلمة أوضح نقول: إن المؤتمرات الدولية أصبحت من دون اعتبار ولا قيمة؛ لأن الاتفاقيات السرية تفسدها [1] والمعاهدات الحربية تتهدّد من يرفع صوتهُ بإشهار الحرب في أقل من لمح البصر. وهل يليق هذا بشعب راقٍ مثل الشعب الإنكليزي الذي يرسل نوابه إلى تلك المؤتمرات والذي يضرب المثل بمحافظته على كلامه ووعوده فيقال في أوربة (كلمة إنكليزية) و (موعد إنكليزي) أي صادق ومضبوط؟ وأمامنا الآن مسألة العجم ومسألة طرابلس الغرب. فما ذنب العجم يا ترى حتى نتركها تتألم؟ لا ذنب لتلك المملكة الشرقية سوى كونها ضعيفة. هذا هو الحق الصراح. وما ذنب تركيا في مشكلة طرابلس الغرب؟ إن مؤتمر برلين يقول بحفظ سلامة تركيا. ولكن الاتفاق السري المبرم بين إنكلترة وفرنسة وأسبانية وإيطالية على البحر المتوسط يناقض قرار مؤتمر برلين. ومن يجسر على الاحتجاج؟ لا أحد. فإن دون الاحتجاج إعلان حروب واحتلال ممالك وولايات وإمارات والويل للضعيف الذي لا يقدر على الدفاع عن حقوقه بقوته الوحشية [2] . قد رأينا الشعوب الأوربية وفي مقدمتها الشعب الفرنسي مذهولة أمام هذه الحقائق المتناقضة فالفرنسيون هاجوا وماجوا لما دروا أن أسبانية زحفت إلى ما وراء الثغور المراكشية وطلبوا من وزارة كايو الحزم إزاء هذا الزحف والمسيو كايو المعروف (ببرودة الدم) والحزم والذكاء النادر المثال وقف حيران لا يدري ماذا يفعل. فالاتفاقات السرية غلت يديه عن العمل كما أنها غلت يدي زميله ناظر الخارجية المسيو دي سلف ولا بد من سقوط وزارة كايو [**] لهذا السبب المهم , وأهل أوروبا ينظرون إلى تركية الآن بعين العطف والشفقة؛ لأنها مظلومة ومعتدى عليها [3] ولكن الحكومات المرتبطة مع إيطالية بمعاهدات سرية تخالف أميال شعوبها وتقول للناس: إن المؤتمرات الدولية وحقوق الأمم ليست سوى حبر على ورق , وها إننا الآن في زمن نرى به الروس يزيدون في قوات أساطيلهم زيادة فاحشة , والأسبان يفعلون كذلك تحت مراقبة وزارة البحرية الإنكليزية ذاتها , وبذات الوقت علمنا أن ألمانية قررت زيادة عدد جيوشها وإعادة تنظيم فيالقها كما أنها قررت زيادة مدرعاتها في السنين المقبلة زيادة مضطردة. وعلى نبهاء الإنكليز أن يفقهوا حرج الحال فيوقفوا وزارة خارجيتهم عند حدها حتى لا تعود تتمادى بعقد معاهدات حربية وسرية، لأن الحروب لا تلائمنا مطلقًا، وكيف تلائمنا ونحن أمة تجارية وصناعية؟ اهـ ثم أتبعت (الأفكار) المقال بما يأتي: في مجلس الشيوخ الفرنساوي ونحن نكتب هذه السطور وردتنا التيمس الصادرة بتاريخ 8 مارس (أذار) الجاري وف

التقريظ والانتقاد

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ التقريظ والانتقاد [*] (كتاب البنين) تأليف: يول دومر وتعريب: عبد الغني العريسي تمهيد توجد في غريزة الإنسان والحيوان عاطفة الحنو والرفق بصغار النسل ما وجدت الحاجة إليها، وكلما اشتد ساعد الوليد اشتدادًا يمكنه من الاعتماد على نفسه نقص من تلك العاطفة بقدر ذلك النمو حتى إذا ما بلغ الوليد أشده واستغنى عن معونة والديه باستعداده للقيام بشئونه انفصل عنهما واتخذ لنفسه منهجًا يسلكه في حياته معتمدًا على نفسه محافظًا على ذريته بمثل ما حوفظ عليه، وعلى هذه السُّنَّة تسلسلت أنواع الحيوان وعقبت وكثرت وملأت البر والبحر. كذلك نرى في طبيعة النبات وتركيب جسمه من المواد المختلفة الطعم والخاصية لقتل الهوام والحشرات التي تسطو على أزهاره وبذوره وتحاول استئصال نوعه - ومن الألياف والأشواك والحراشيف والزغب والخمل ما يمنع هجوم الطير والحشرات عن تلك البذور والأزهار ويخفف وطأة فواعل الطبيعة عنها - وبهذا حفظت أنواع النبات التي نراها وننتفع بها إلى اليوم. حب البقاء موجود في غريزة كل كائن ومساور لطبيعة كل موجود وإذا لم يمكن بقاء الذات فقد أمكن بقاء النوع بحكم الغريزة لا يعمل بعمله المخلوق مختارًا. هذا هو المشاهد في هذه الكائنات الواقعة تحت حواسنا بحكم طبيعتها، ولكن المخلوق العجيب (الإنسان) أبى إلا مساعدة الطبيعة فكون البيوت (العائلات) في العصور الخالية واختص كل بزوج يكون عونًا له على إنمائها وتسلسلها - هذا هو مبدأ تكون العائلات واتخاذ الوطن لها بالطبع. ثم لما كان لا بد لكل عمل من روح مدبرة حافظة كيانه توجهت النفوس للعبادة بإلهام حرك ما هو مغروس في الجِبِلَّة من الخضوع لقوة هي فوق القوى ووراء عالم الحس - ولما كانت تلك القوة لم تظهر له إلا بآثارها ولم تكن قد استعدت عقول البشر للبحث فيما وراء الحس أو تعقل ما ليس بمدرك بالحواس الظاهرة - اتخذت كل عائلة معبودًا لها تلتف حوله ويكون مظهر خضوعها لتلك السلطة غير المدركة وهذا هو مبدأ تكون الأديان. فيظهر من هذا أن الدين والوطن هما كالروح والجسم في كيان المجتمع الذي هو البيوت لا حياة كاملة لأحدهما بدون الآخر وبهذا يتجلى معنى (حب الوطن من الإيمان) . الحب لذة روحية انفرد بالتمتع بها الإنسان عن أنواع تشاركه في الحيوانية [1] وهو قوام كل عمل أدبي أو مادي - فهو روح كل فضيلة وملاكها؛ ولذلك قال بعضهم وقد سأله تلاميذه عن حقيقة الله تعالى - وقد عجز عن أن يحده -: الله محبة هو: حب الإنسان للبقاء هو الذي أوجد له أسبابه، وهيأ له طلابه، فتعاقب وتناسل ولكنه لما لم يكن قد توغل في الحياة العقلية - كما مر - ما كان له أن يقدر الفضيلة قدرها ولا أن يعرف معنى لمقابلة الإحسان بالإحسان - الذي هو ثمرة أدبية مهبطها السماء ومقرها قلب الإنسان بعد استعداده لتلقيها. كان الإنسان مع ما هو مغروس فيه من الاستعداد للكمال النفسي أشبه بمادي محض - لذلك لم يخاطبه المصلحون من الأنبياء والحكماء إلا بما استعد لفهمه والعمل به، ولما كانت المحافظة على البيت (العائلة) هي التي يتجلى فيها حب الوطن، ولا قوام لها إلا بنبل الأخلاق - وأجلى تلك المظاهر إنما هو الرابطة الحبية الموجودة بين الوالدين وأولادهم - وكان الإنسان إلى انتشار أعمِّ دين قبل دين الإسلام لا يعلم شيئًا أعظم لديه من حب البقاء على وجه هذا البسيط - قالت له التوراة: (أكرم أباك وأمك لتطول أيامك على الأرض) وهذه الوصية هي أعظم أساس لما يتلوها مما هو أعلى منها وأسمى في دين عمومي يأتي بعد ذلك (دين الإسلام) حيث يقول الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} (الأحقاف: 15) - إلخ الآيات وقوله: - {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} (لقمان: 14- 15) إلخ الآية. أوضحت الأديان سابقها ولاحقها طرق التربية بحسب الزمان والمكان، واستعداد الإنسان، وكلها كانت توطئة لذلك الدين العمومي الذي هو دين الفطرة وخاتمة الأديان، فجاء الناس بواضح التبيان، وشرع لهم طريق التربية ووضع لهم أساس الرقي الأدبي على أوثق بنيان، ولم يدع من فضيلة إلا تهيع مهايعها، وأوضح سُبلها. وبعث نبيه ليتمم مكارم الأخلاق، فأدب الناس بالتربية العملية. وعندما جاء دور تدوين الكتب وتحديد المسائل العملية كتب علماء الإسلام في التربية والأخلاق ما لم يغادروا بعده صغيرة ولا كبيرة إلا أحصوها، ونشأ في الأمة رجال هم مثال الفضيلة وعنوان الكمال النفسي، ثم خلف من بعدهم خلف تنكبوا طريقتهم، وخالفوا سيرهم فتقطعت بهم الأسباب - أسباب الرقي والسير إلى ذروات الكمال الممكن للإنسان نواله - ولم يبق من تلك الكتب وسيرة مؤلفيها إلا الذماء، فتأخر المسلمون وتأخر بتأخرهم الشرق، وهب الغرب من سُباته بما أزعجه من حركة الإسلام التي قلبت وجه البسيطة ودكت عروش الجبابرة وفتحت للعقل طرقًا يسير فيها إلى نوال المنافع الدنيوية والأخروية - هب هبوب المذعور وأخذ يتلمس الأسباب إلى الخروج من تلك الظلمات التي وقفت به حينًا من الدهر بين الإنسان المطلق والحيوان الأعجم - حتى كاد أن يكون هو الحلقة المفقودة كما يقولون - وعكف على الدراسة وقرن العلم بالعمل فأخذ حظه من التربية المادية وفوق حظه ونال قسطًا من الرقي الأدبي , وأصبحنا بحاجة إلى تتبع حركاته، وتأثر خطواته، ونقل صناعة وترجمة مؤلفاته، ولكن مخدَّري الأعصاب معطلي الشعور منا لاهون عما نحن في أشد الحاجة إليه - اللهم إلا أفرادًا منا تنبهوا أو نبهوا لتعريب شيء من الكتب النافعة في التربية البيتية (العائلية) والقومية (الاجتماعية) مثل كتاب (التربية الاستقلالية) أو إميل القرن التاسع عشر وكتاب (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) وأصول الشرائع لبنتام ومونتسكيو وروح الاجتماع وروح الأقوام والدولة والجماعة وغيرها، ولكن بقيت الحاجة ماسة إلى تعريب شيء من كتب الأخلاق فسد هذه الخلة عبد الغني أفندي العريسي (أحد صاحبي جريدة) المفيد (بتعريب كتاب البنين) . (الكتاب) يوجد في أطواء كتاب (البنين) أربعة أبواب: 1 - الرجل. 2 - البيت أو الأسرة (العائلة) . 3 - ابن الوطن. 4 - الوطن (وقد تفصلت في ثمانية وعشرين فصلاً، تسطر في غضونها من الحكم العملية التي تنشأ عن إعمال الروية ما يدل على علو همة المؤلف وكبر نفسه وقوة إرادته ووفرة تجاربه , ولو كانت الحكمة وحدها كافية لتقويم الأخلاق وتربية الإرادة لضمنت لك بأنها تخرج الحي من الميت وتوجد - حتى بين ظهرانينا - رجالاً خير أُساة لأدوائنا التي جعلتنا حرَضًا، وكادت تقضي على هذا الذماء الذي بقي لنا من الثروة والاستقلال بانشغال الأمم الحية عنا، وأول فصل من فصول الكتاب هو: (الإرادة والملكة) الإرادة: - قصدك إلى شيء تعمله بعزيمة ونفاذ، وقوة الإرادة هي الدأب بثبات لا هوادة فيه على تحقيق ما عزمت عليه (ولا يتم ملاك ذلك بالرغبة، بل بالهمة والإرادة والقوة والإمرة على النفس) (كما قال المؤلف) . يقال: فلان حَسَنُ الإرادة، كما يقال: فلان سيئ الإرادة، وحُسن الإرادة أن تتوجه النفس لتقويم ما اعوج من الملكات، وما ازورَّ من الأخلاق، فتنكب بصاحبه سبل الهداية وصراط الصواب، وسوء الإرادة هو سوق الهمة إلى ما يحط من قدر صاحبها وينزل به إلى مهاوي الضلال، وحُفر الدمار، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (البقرة: 148) . ابتدأ المؤلف هذا الفصل بالكلام على الإرادة وابتدأ الفصل الذي يليه بالكلام على عمل الواجب فجعلهما المبدأين اللذين تدور على محورهما جميع مبادئ الحياة الطيبة، ولا مشاحة بأن من ارتقت به همته إلى الإحساس بعمل الواجب وكان ذا إرادة قوية وأخلاق قويمة وعقل رَصين ورأي حَصيف، دَمِثًا هينًا لينًا فقد انتهى إلى باب الحياة الطيبة والعيشة الراضية، إن لم يدخله اليوم فغدًا، وإذا كان من المتسلحين بسلاح العلم وقوة اليقين فقد خلص من أوشاب هذه الحياة إلى السعادة فكان قرة عين لذويه وأمته، باعثًا روح حياة جديدة في قومه، وبمثل هذا تنهض الأمم وتحيا بعد موتها) . (للمقال بقية) (البرهان) جريدة نصف أسبوعية سياسية يصدرها في طرابلس الشام الشيخ عبد القادر المغربي الشهير - غرضها تأييد جمعية الاتحاد والترقي في المملكة العثمانية ومناوأة من عداها وقيمة اشتراكها ريالان مجيديان ونصف في البلاد العثمانية. و 13 فرنكًا في جميع الممالك. (البيان) مجلة دينية علمية عمرانية تاريخية أدبية لمنشئها الشيخ مصطفى وهيب البارودي من علماء طرابلس الشام ومديرها المسئول جميل أفندي عدره. تبحث في بعض تفسير آي القرآن الكريم، وفي الأخلاق والآداب والتاريخ ولكنها دينية في كل مواضيعها ومباحثها. وسعة اطلاع منشئها وغيرته الدينية يكفلان نجاحها والانتفاع بها سيما والبلاد الشامية في حاجة لمثل هذه المجلة إذ لا يوجد فيها مجلة دينية إسلامية، وهذه نبذة من العدد الأول منها وبودنا لو اقتصر على نعتها بالدينية فقط لكان أدعى لانطباق الاسم على المسمى. (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قرآن كريم لا بد للإنسان من رابطة تربطه ببني نوعه تكون فيها المصلحة العامة وينقاد لها بحكم النفس وهذه لا تتم إلا بنظام كلي تعلم النفس أنه جاء لأجل سعادتها وهناء عيشتها ممن أوجدها وتصرف فيها بقدرته وهو الأعلم بصالحها فتذعن له وتلقي زمامها إليه، وحيث حصل لها هذا النظام وتمت منه المصلحة فلا بد أن يصحبه مذكر دائم وواعظ مستمر يهديها إلى قصد السبيل وجادة المحجة؛ لأن الإنسان موضع للسهو ومحل للنسيان ومورد للأهواء والشهوات التي باتباعها يدخل الخلل ويقع الفساد فمن ذلك أوجب تعالى أن لا يخلو زمان من طائفة صلحت أفهامهم وصدقت عزائمهم وعرفوا أجناس الخير وأحاطوا به علمًا وميزوا أنواعه من الشرور المشتبهة به تكون وظيفتهم دعاء الناس للخير وصرفهم عن ناحية الشر وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتلاحظهم في جميع حركاتهم لترد الجاهل منهم وتذكر الغافل فيهم فلا نلبث إلا وقد ساد شأن الناس بحصولهم على ثمرات ذلك النظام الذي فيه المصلحة العامة وحصلت الرابطة الحقة ثم يسري القبول إلى النظامات الجزئية والمصالح الخاصية وأولى شيء من الخير بالتقديم في الدعوة هو إثبات ذات الله وصفاته وتقديسه عن مشابهة الممكنات وفي هذا الخير كله؛ ولذلك فسره بعضهم بالإسلام ويقويه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) [2] ثم الأمر بالمعروف لما فيه من الترغيب على فعل ما ينبغي. ثم النهي عن المنكر لما فيه من الترهيب مما لا ينبغي فالآية الشريفة أوجبت هذه الأشياء الثلاثة على المسلمين لتنظم لهم سعادة الدنيا والآخرة وأمرت بوجود طائفة منهم تفرغ أنفسها لتحصيل الطريق ال

السيد حسين رضا ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد حسين وصفي رضا أقوال الفضلاء فيه (17) وكتب المخلص الودود والحر الكريم صاحب الإمضاء في سورية: سيدي الأستاذ الجليل: لقد انقض عليّ ذلك الخبر المشئوم انقضاض الصاعقة بل أشد، فحِرْت في أمري وضاقت الدنيا في وجهي، واسودّ الضياء في عيني، وانقبض صدري، وحزن قلبي على ذلك الصديق الحميم الذي كنت أؤمل فيه وأنتظر منه خيرًا جزيلاً ونفعًا عظيمًا لهذه الأمة المنكودة التي ضلت السبيل فاعتبرت المحسن مسيئًا والمسيء محسنًا! ! ضلت هذه الأمة السبيل فبدلاً من أن نراها تكافئ رجالها المصلحين العاملين لتقدمها ورقيها - بمثل ما تكافئ به الأمم الحية رجالها - فإنا نراها تجني عليهم بمثل تلك الجناية الفظيعة! ! رأت الأمة رشيدها ومرشدها يواصل ليله بنهاره سعيًا وراء ما يرقيها ويسعدها في حالها ومستقبلها - فكافأته بهذه المكافأة العالية إيذانًا بفضله وتنشيطًا له وترغيبًا لتلاميذه ومريديه والسائرين على سننه. فأنْعِم وأكرِم بأمتنا الحكيمة التي تعرف كيف تكافئ رجالها ومصلحيها! ! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون. هذا وإني أتقدم إلى أستاذي وجميع أشقائه وسائر أفراد بيته الكريم، بواجب العزاء كما عزيت نفسي على تلك الكارثة العظمى التي تذكر فتؤثر في الفؤاد أيما تأثير. وأسأل الله تعالى أن يطيل في عمره، ويجعل هذا المصاب الأليم خاتمة أحزاننا - إنه سميع مجيب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سليمان أباظة (18) وكتب الأديب النبيل أحد فضلاء الشبيبة العربية في سورية الشيخ نسيب أفندي الخطيب: سيدي العلامة الأستاذ السيد رشيد رضا أطال الله عمره. لست أملك من بحر الصبر وشالاً، ولا من قطره ثمدًا، فكيف تنزع نفسي إلى العزاء، وتدفع داء الحزن وليس له دواء، فإن نبأ اغتيال الحبيب السيد حسين وصفي حلَّ عُرى الجلد وخلفنا عرضًا تنتقل فيه طوارق الدهر وبوائق الأيام، فشلت تلك اليد الأثيمة التي قصفت غصن شبابه قبل الأوان، ولم تخش عاقبة القتل وعقاب الديان، ولعمري لا أدري من أعزي، أأعزيكم أم أعزي نفسي، أم إخوانه وأصدقاءه؟ لا بل أعزي الأمة العربية بأسرها، ولغتها التي بعده سَيُلقَى حبلها على غاربها، وتستعصي أصولها على طالبها، فقد كان رحمه الله مطمح الأبصار ومرمى الأماني ولكن ستحفظ له بطون المهارق ذكرًا لا يمحوه كر الغداة ولا مر العشي وسيبقى اسمه لدى الكتاب مقدسًا ما استنّ اليراع في حلبة الطروس، وأحيا معالم اللغة بعد الدروس، وأوردنا مشرعة التأسي بعده فإنه قد نشط من عقاله الأرضي، وتبوأ منزله العلوي، فهنيئًا له بما أوتي وعزاء لنا بما نالنا وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نسيب الخطيب (19) وكتب العالم الفقيه الأصولي سيدي محمد بن راجح بن إبراهيم في الأيالة التونسية: الحمد لله المنفرد بالبقاء، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء، وآله وأصحابه الأتقياء (لا إله إلا الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون) . إلى حضرة الأستاذ الكامل، والمرشد النصوح، حجة الإسلام، وعنوان التربية الصالحة، والقدوة الحسنة، أمتع الله الإسلام بطول بقائه، أقدم جميل تعزيتي عن ذلك المصاب الأليم، والخطب الجسيم، ألا وهو انضواء غصن الكمال، وأفول بدر المجد بوفاة الشقيق والمجاهد في إعلاء كلمة الله ونصرة الحق وإزهاق الباطل، الكاتب النحرير والشاعر الأديب والمصلح الناصح الشريف التقي، السيد حسين وصفي رضا، تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جنته - أنبأني هذا النبأ المحزن صديقي الأستاذ النيفر فكان أشد على قلبي يعلم الله من كل مصاب، فاشتمل الحزن عليّ وانطلق لساني بذم الزمان الخئون الغادر ومعاكسته الإسلام حتى بالفتك بمن يدأب وراء إزاحة ما تكاثف حوله من الظلمات فإني أعلم ما للفقيد العزيز في ذلك من الآثار الصالحة واليد البيضاء ويكفي أنه شقيق من ينير المنار على العالم الإسلامي وعضده ومساعده في كل أعماله , فرحم الله روحه الطاهرة، وأحسن جزاءه عن الإسلام والمسلمين - ومما زادني لوعة وأسفًا ما أنبأني به هذا الصديق من أن الفقيد قتل رميًا بالرصاص من يد الأشقياء , شلت أيديهم ولعنوا بما فعلوا، نعم زاد ذلك في الأسف لظني أن ذلك كان جزاء الفقيد عند هؤلاء الأشرار عن حريته وخدمته الحقيقة ونصرته الشريعة الإسلامية , تلك هي ذنوب الفقيد إليهم فيما أظن، ولكن هذا كان مهونًا للمصاب على جسامته لاعتقادي أن الله أكرم فقيدنا المجاهد في دينه بمزية الشهادة ومرتبة الشهداء , وتلك منزلة تتفانى فيها أرواح الصالحين والمسلمين الصادقين. فهنيئًا لفقيدنا بهاته الكرامة وطوبى له بما قدمت يداه من الأعمال الصالحة، وما أبقاه من الذكر الحسن العاطر الخالد على ممر الزمان، فرحمة الله ومغفرته ورضوانه عليك يا حسين يا قتيل الحق، سلام الله وبركاته عليك يا حسين يا شهيد الإسلام، لا أعجب من موتك قتيلاً، لأنك تجاهد في سبيل الله وتحارب الإلحاد والاستبداد فتلك سنة الله في أجدادك وأسلافك الكرام قتلوا في مشارق الأرض ومغاربها؛ لأنهم أبناء النبوة والمدافعون عن هيكلها المقدس والذائدون عن حياضها و: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم إنك يا حسين ستلاقي عترتك الطاهرة وأسلافك الصالحين فقص عليهم أمرك واشكُ إليهم قاتليك فإنك تقر أعينهم وتقيم لهم الدليل على أنك فرع دوحتهم فيستقبلونك بين مظاهر الإجلال والسرور. سيدي الأستاذ. ماذا عساني أن أقوله إليكم وأنت مربي المسلمين ومرشدهم وداعيهم إلى الهدى في هذا العصر، فظني بل يقيني أن الأستاذ كما يرشد الناس بقوله يرشدهم بعمله. فيكون طود الصبر ومثال الصابرين الذين يقول الله تعالى تكريمًا لهم في كتابه الحكيم: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ} (البقرة: 156-157) . ... ... ... مشارككم في الأسف ... ... ... ... ... ... ... ... محمد راجح بن إبراهيم (20) وكتب الصحافي الحر والكاتب المحقق شكري أفندي الخوري صاحب جريدة (أبو الهول) . حضرة المفضال السيد محمد رشيد رضا الأفخم: وصلني عدد من جريدة الإقبال البيروتية في هذه الساعة ويا ليته لم يصل، فرأيت فيه ما أبكى عيوني، وصدع فؤادي، رأيت فيه خبرًا هو أن يدًا أثيمة اغتالت زهرة شباننا أخاكم المرحوم والطيب الأثر حسين، فوقع على قلبي، وقع الصاعقة، وجهشت بالبكاء، ولعنت بلادًا لا حياة فيها، إلا للكذبة الأسافل، يقتلون فيها الأحرار ويصارون أصحاب الرأي الصائب. ألا لعنة الله على الأشرار القتلة. إن المصاب الذي أصابكم بفقد أخيكم أصاب كل من عرف فضلكم وفضل الفقيد وهذا الداعي من الذين شاركوكم بالحزن والأسى، سائلاً المولى جل جلاله، أن يتغمد فقيدنا برحمته ورضوانه ويلهمكم الصبر الجميل على فقد هذه الجوهرة الثمينة. إنا لله وإنا إليه راجعون. سان باولو برازيل في 7 شباط 1912. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الأسيف ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكري الخوري (21) وكتب العالم المحقق الشيخ أحمد محمد الألفي. تحريرًا في 11 يناير سنة 1912. حضرة العالم الكبير والفاضل النحرير صديقنا وقدوتنا السيد رشيد رضا الأفخم. فوجئنا اليوم بخبر مشئوم رأيناه بالمؤيد ألا وهو وفاة الكريم ابن الكريم سلالة العترة الطاهرة النبوية وأحد رجال القلم والإصلاح ألا وهو شقيقكم المرحوم السيد حسين رضا , مات شهيد الشهامة والمروءة بطرابلس الشام بيد أثيم مجرم لم يرحم شبابه الزكي ولا نظر لاحتياج هذا الوطن الأسيف إلى أمثال هؤلاء العلماء الأحرار فتعسًا لهذا الزمن وبئس ما أعده للصالحين من العدوان - فوا أسفاه على السيد حسين لقد كان عاملاً مجتهدًا وأديبًا متضلعًا وتقيًّا ورعًا وشابًّا ذكيًّا وشريفًا كريمًا فرحمه الله رحمة واسعة وعزاكم مع حضرة السيد صالح رضا وكافة أسرتكم الكريمة وعزانا معكم أحسن العزاء ورزقنا وإياكم جميل الصبر وعظيم الأجر واقبلْ في البدء والختام جزيل السلام وعظيم الاحترام. ... خادم العلم الشريف ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد الألفي ... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بفاقوس شرقية (22) وكتب العالم المؤرخ الشهير جرجي أفندي زيدان صاحب (مجلة الهلال) . مصر في 11 يناير سنة 1912. صديقي الشيخ رشيد: أكتب هذا الكتاب على أثر قراءتي نعي المرحوم شقيقكم في الجرائد ولم أكن عالمًا بمقدمات هذه الفاجعة فكان لذلك النعي وقع شديد على قلبي؛ لأنه كان رحمه الله من نخبة الأدباء ويرجى أن يكون لك فيه عون في الخدمة العامة التي أوقفت نفسك لها وقد ظهرت تباشير ذلك بما ظهر من أدبه، وفضله وذكائه، وعلو همته. ففقده خسارة على الوطن وصدمة قوية على قلب شقيقه وسائر آله وذويه، فلا غرو إذا بكيتموه ورثيتموه فإنه جدير بذلك وأتقدم إليك أن تتأكد مشاركتي لك في الأسف على هذا المصاب ولا حيلة لنا غير التمسك بحبل الصبر وأنت أعقل من أن يكتب إليك بأسباب التعزية؛ لأنك حكيم عالم بمصير الإنسان طالت حياته أو قصرت أجمل الله عزاءك ورحم الفقيد رحمة واسعة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صديقك ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... جرجي زيدان (23) وكتب الفاضل الوجيه صديق الفقيد محمد فؤاد أفندي محمود. سيدي الأستاذ المحترم، ألهمه الله الصبر الجميل: لقد وقع خبر موت حسين عليَّ وقع الصاعقة فلا أدري ماذا أقول وماذا أريد ذهل منا العقل، وطار اللب، وانفطر القلب، واحترق الفؤاد، فاللهم صبرًا. إني أبكيه، وأبكي معه آدابًا جمة، وأخلاقًا فاضلة، وروحًا طاهرة، عرفته حسن المعاشرة، لطيف المحاضرة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. راح ذلك الشهم شهيد المروءة والنجدة، فسلام على روحه الطاهرة، ورحمة من الله عميمة. يا سيدي الأستاذ، الناس كلهم وإياك في الحزن سواء، فلقد كان منا حسين مكان الروح. وبفقدها فقدنا كل شيء، فاللهم أمطر على جثته شآبيب الرحمة والرضوان وروح روحه في روض الجنان. وأنت يا أستاذ لقد عرفناك في الشدائد صبورًا، فكن كما نعهد فيك، والله عنده حسن الثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخو ك ... في الحزن ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد ... فؤاد محمود (24) وكتب الشاب الأديب أحد أعضاء الشبيبة العثمانية وأركان الناشئة السورية الأمير أحمد هدى الأيوبي اللبناني في الأستانة العلية. لحضرة سيدي العلامة الفاضل المحترم أطال الله شريف وجوده آمين لمن الدمع بعد هذا تصون ... وعلام الصبر الجميل يكون كل حزن بحسب كل فقيد ... وبحسب الأحزان يبكي الحزين تبًّا لهذه الحياة، وبئست هذه الدنيا التي هي للهموم أداة، تسيء اختيارًا، وتوالي اضطرارًا، وتضحك مرة وتبكي مرارًا، لا يخلو يومها من شوائب الأكدار، ولا ليلها من بوائق الأخطار، ما المرء بناج من نكباتها، ولو اختار العزلة في رءوس الجبال، فإن فر من همّ فر إلى همّ، وإن اعتصم من غمّ فإلى غمّ، والموت فيها ضار جشع، ليس له ريّ ولا شبع، سارق دق جسمه، ورق عظمه، يصول بلا كف ويسطو بلا رجل، لا يوقر كبيرًا ولا يرحم صغيرًا.

الخطبة الرئيسية في ندوة العلماء بلكنهوء الهند ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخطبة الرئيسية في ندوة العلماء بلكنهوء الهند لصاحب المنار (1) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور. والصلاة والسلام على نبيه ورسوله الذي أرسله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور. سيدنا محمد خاتم النبيين وإمام المصلحين. وعلى آله وصحبه ومن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين. ثم إنني بعد حمد الله وشكره عودًا على بدء، أشكر لهذه الجمعية المباركة - جمعية ندوة العلماء - دعوتها إياي من مصر إلى الهند لحضور الاحتفال السنوي العام الذي تقيمه في هذا العام. وأن جعلت دعوتها هذه مبنية على حسن ظنها بي ورجائها الفائدة بحضوري ومشاركتي لأعضائها العلماء الأعلام. أشكر هذه الجمعية بالقول كما شكرتها بالفعل بأن أجبت دعوتها ولبيت طلبها في وقت أنا أشغل فيه ما كنت منذ وُجِدْت. فقد كنت مشتغلاً بتأسيس دار الدعوة والإرشاد والنظر في كل ما يحتاج إليه التأسيس الحسي والمعنوي من حاجات البناء والأثاث والماعون وأدوات التعليم والكتب واختيار المعلمين والمستخدمين وغير ذلك. جاءتني الدعوة وأنا على ذلك، بل الأمر أعظم من ذلك، فوافقت ما كانت تصبو إليه نفسي ويحن إليه قلبي من زيارة الديار الهندية واختبار حال التربية والتعليم الإسلامي فيها. ولكن تعارض المانع والمقتضي بل كان هنالك موانع عديدة كل واحد منها كان كافيًا للترجيح فكيف بها قد اجتمعت؟ مضت سنة الله في سجايا البشر وطباعهم في العمل الذي يندفعون إليه بمقتضى فطرتهم أن يرجحوا المانع على المقتضي إذا كان كل منهما نظريًّا مناطه الرأي والفكر، أو وجدانيًّا مناطه الشعور والهوى النفسي، وأما إذا كان أحدهما وجدانيًّا أو يمده الوجدان والآخر ليس كذلك فإن الترجيح يكون في الغالب للوجداني أو ما يمده ويؤيده الشعور الوجداني. لهذا كانت تغالبني نفسي على إجابة الدعوة وترك إدارة مدرسة دار الدعوة والإرشاد بعد فتحها وما عليّ من الدروس فيها، وترك إدارة المنار وأعماله واقتعاد غارب الاغتراب، والنأي عن التلاميذ والمريدين والأصحاب، وإن لم أكن من الذين يرضون لأنفسهم ترجيح مقتضى الشعور والميل على مقتضى المصلحة والرأي، وإن كان من الشعور والهوى ما هو عين الحق والهدى بدليل حديث (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) فتحت مدرسة دار الدعوة والإرشاد وهي منتهى رجائي في خدمة الإسلام، وغاية سعيي في إصلاح التربية والتعليم، وأقر الله عيني برؤيتها والبدء بإلقاء الدروس فيها، ورأيتني مدعوًّا إلى مفارقتها في أول العهد بوصالها والتمكن من التمتع بجمالها، فتجدد لي شعور ووجدان لم يكن عندي في أيام السعي والنصب، وكنت كالعاشق الذي دعي إلى ترك معشوقه بعد طول العناء في طلبه. هكذا كانت تتنازعني الآراء المتعارضة وتتجاذبني أرواح الشعور المتناوحة. حتى عرضت ذلك على إخواني أعضاء إدارة جماعة الدعوة والإرشاد، بعد أن استشرت غيرهم من الأصدقاء ذوي الرشاد، فأجمعت كلمة الجماعة على أن أجيب الدعوة، وأن أكون فيها سفيرًا عنهم ووافدًا من قِبَلهم، أحيِّي بلسانهم ندوة العلماء، وجميع من ألقاه من مسلمي هذه الديار الفضلاء، وأعرض عليهم رأيي ورأي الجماعة فيما ينبغي لنا وما يجب علينا من خدمة الإسلام وترقية شأن المسلمين، من طريق التربية والتعليم. فأنا أيها السادة الإخوان! - أخاطبكم بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن جماعة من إخوانكم المسلمين في مصر الذين يشاركونكم في مثل شعوركم الشريف، وسعيكم الحميد. فكان إجماع الإخوان هو المرجح الأخير الذي عليه التعويل وها أنا ذا بين أيديكم ألبيكم وأحييكم. أيها الإخوة الكرام! إذا كنت قد أضعت شيئًا من وقتكم بذكر كلمات من خبر رحلتي إليكم فإن لي نية صالحة تتعلق بغرضين: أحدهما أن يكون شفيعًا لي بين يدي مذاكرتكم في أمر التربية والتعليم بالإصغاء إلى ما أقول فإنه إذا لم يكن قول الخبير المدقق فهو قول المحب المخلص. ومن كان هذا شأنه فهو جدير بأن يُتلقى ما يصيب فيه بالقبول وما يخطئ فيه بالعفو والسماح، على أنني مشتغل بهذه المسألة منذ خمس عشرة سنة بحثًا ومذاكرة ومناظرة وكتابة وخطابة وتعليمًا. وإن المقيم في مصر ليسهل عليه أن يعرف من أحوال المسلمين في تربيتهم وتعليمهم وسائر شئونهم ما لا يسهل على المقيم في قطر آخر، ولهذا قال بعض عقلاء الإفرنج: إن مصر هي الدماغ المفكر للعالم الإسلامي. والغرض الثاني من تلك الكلمات أن أبين لكم أنني لست أنا الذي أهتم وحدي بزيارة بلادكم واختبار أحوالكم، بل يشاركني في ذلك جمهور المفكرين من إخواننا المصريين وكذا غير المصريين من فضلاء المسلمين، وكل ما يحبه المرء ويهتم به يدركه ويناله. أيها الإخوة الكرام! إن للإسلام عليكم وعلى سائر مسلمي بلادكم من حق إحياء علومه وآدابه وأعماله مثلما له على مسلمي مصر من ذلك، فإنني علمت بالاختبار الطويل أنه لا يوجد بلاد إسلامية فيها من حرية التربية والتعليم ويقظة الفكر وسعة الثروة مثل ما في الهند ومصر، ويجب علينا شكر هذه النعمة باستعمالها والانتفاع بها. إن إخواننا مسلمي التتار في روسية أيقاظ منتبهون وعندهم نهضة في التعليم تذكر فتشكر، ولكن حكومتهم تضيق عليهم السبل، وتطارد الأساتذة المعلمين منهم، وتعاقبهم على جريمة التعليم؟ ! بالنفي تارةً وبالسجن تارةً أخرى: كان الشيخ العالم الجليل الصالح عالجان منذ ثلاث سنين عندنا في مصر منفيًّا من وطنه، مبعدًا عن بلده؛ لأنه يعلم المسلمين وينبه أفكارهم في مدرسته الشهيرة في مدينة قزان، وقد نفي أخوه ومساعده في التعليم معه أيضًا. وإن الأخوين النجيبين عبد الله بوبي وعبيد الله بوبي قد أنشآ مدرسة في قرية (بوبي) واجتهدا في أمرها ما استطاعا فألقت عليهما الحكومة الروسية القبض في شتاء العام الماضي وألقتهما في غياهب السجن بقصد محاكمتهما في محكمة الجنايات بقزان، وقد مضى العام بطوله ولم يُطلبا للمحاكمة ولكن رأينا في إحدى الجرائد الإسلامية الروسية أنه ينتظر أن يحاكما في هذا الربيع والله أعلم، وقد نشرت جريدة (نوفي فريميه) الروسية التي تصدر في بطرسبرج مقالات حثت فيها الحكومة على منع التتار من السعي لتعليم مسلمي تركستان [*] ونبهتها إلى خطر سياحتهم فيها لئلا ينبهوا الترك الغافلين [1] . هذه إشارة إلى حال أقرب المسلمين الذين تحت سلطة دولة أوربية إليكم، وإن حال مسلمي المغرب لشرٌّ من حالهم، فإن مسلمي التتار مجدُّون في أمر التربية والتعليم، على مراقبة حكومتهم لهم وضغطها عليهم، وهم دائمًا يرسلون الوفود إلى مصر وسورية والحجاز ليتعلموا ويتقنوا اللغة العربية ليكونوا معلمين إذا رجعوا إلى بلادهم، ومنهم من يذهبون إلى الأستانة؛ لأجل تعلم الفنون العصرية، والمراقبة على هؤلاء شديدة. أما مسلمو تونس والجزائر فلا يستطيعون أن يعملوا مثل عملهم، فإن مراقبة فرنسة لهم أشد، وإحاطتها بهم أقوى وأعم، وقد اعترف بعض المنصفين من الفرنسيين بهذا الضغط، وصرح بعضهم بأنهم يعتقدون أنهم سينسخون الإسلام واللغة العربية من الغرب، ولكن أناسًا آخرين يرون أن حسن معاملة المسلمين أنفع لهم ويسعون في إقناع حكومتهم بذلك ولما ينجحوا في سعيهم , ولا أحب أن أزيدكم مما أعلم في ذلك. وأما مسلمو جاوه والملايو فحالهم أسوأ من جميع أحوال المسلمين , وقد أحاطتهم هولندة بسور من الجهل لا يتسلقه أحد. وإن شئتم أن تعرفوا شيئًا مفصلاً عنهم فإنني آتيكم برسالة مطبوعة باللغة الإنكليزية في ذلك فانقلوها إلى لغتكم وانشروها في جرائدكم واعتبروا بها واشكروا نعمة الله عليكم وجدوا واجتهدوا في تعميم التربية والتعليم بينكم أيها الإخوة الكرام! إن الحكومة الإنكليزية أوسع الحكومات الاستعمارية حرية ويمكن لمن يكونون في ظل حكمها أن يرقوا أنفسهم إذا سلكوا في ذلك طريق العقل والحكمة ولا يمكن ذلك لكل من كان في ظل غيرها من الحكومات الاستعمارية، ورب ظل ذي ثلاث شُعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، ومن العقل والحكمة أن يبتعد المشتغلون بالإصلاح العلمي والتهذيبي عن السياسة سرًّا وجهرًا، فإن السياسة ما دخلت في عمل إلا أفسدته كما قال الأستاذ الإمام. لو كان الذين تضطهدهم بعض الدول وتعاقبهم على التعليم يمزجون عملهم بالسياسة لكنت أول من يعذرها. فإنا علمنا من قواعد علم الاجتماع المستنبطة من التاريخ أن الدول لا تغفر أن تعارض أو تنازع في ملكها وسلطانها وقد تغفر ما دون ذلك من الذنوب إذا وقع ممن يخلصون لسلطانها أو تأمنهم عليه فذلك في دين السياسة كالشرك في الإسلام قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) . قد عهد من بعض الدول المرتقية العدل والرحمة في القضاء والإدارة ولا توجد دولة في الأرض تعتصم بالرحمة أو العدل في السياسة. وأعني من السياسة حفظ الملك والسيادة، وما يتعلق بالتعدي على السلطة، ولكن الدولة العاقلة تزن الشدة في ذلك والقسوة بميزان العقل والحكمة، والسياسة قد يكون لها عقل ولكن لا يكون لها قلب. كانت دول الإسلام في العصر الأول أعدل وأرحم ما عرف التاريخ من الدول حتى في أثناء الفتوحات والحكومة العسكرية التي كانت ولا تزال تظهر القسوة الشديدة وقد اعترف بذلك المنصفون من مؤرخي الإفرنج وعلماء التاريخ فيهم، قال غوستاف لوبون الفيلسوف المؤرخ الفرنسي: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) فإذا كانت حكومة الخلفاء الراشدين لا يقاس عليها؛ لأنها خلافة نبوة فهاتان الدولتان الأموية والعباسية كانتا أعدل دول الأرض في القديم والحديث في القضاء وأوسعهن رحمة وجودًا وفضلاً على الرعية في الجملة ولكنهما استعملتا الشدة والقسوة في التنكيل بمن نازعهما السلطة حتى إنهم كانوا يذبحون آل الرسول عليه الصلاة والسلام ويقتلونهم أينما ثقفوا - من ظنوا أو توهموا أنه يسعى منهم إلى الملك أو يُسعى له فيه، بل شهد التاريخ وروى لنا أن الأب كان يقتل ابنه والابن يقتل أباه لأجل الملك. أيها الإخوة الفضلاء! إذا كانت حكومتكم تسمح لكم أن تربوا أولادكم على عقائد دينكم وآدابه وفضائله وعباداته وأن تعلموهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم كما تشاءون لا تشترط على جمعياتكم العلمية والدينية ولا على نظام مدارسكم إلا احترام سلطتها، وعدم معارضتها في سيادتها، فقد أعذرت إليكم، وإذا قصرتم ولم تبذلوا كل طاقتكم في تعميم التربية والتعليم فإنما إثمكم على أنفسكم، ولا لوم لكم إلا عليها، فكيف إذا كانت حكومتكم هي التي تحثكم حتى على التعليم الأهلي، وتنشطكم حتى على التعليم الديني، وقد فاجأني العجب وأخذ من نفسي كل ما أخذ عندما علمت أن الحكومة الإنكليزية ترغِّب مسلمي الهند في تعلم اللغة العربية وتساعدهم على تعلمها، وأنها خصصت مبالغ من المال لأجل تعليمها في بعض مدارسها، ومبالغ لإعانة المدارس الأهلية على تعليمها، كمدرسة العلوم الإسلامية في عليكره وغيرها، كما أعطت المسلمين أراضي غالية الأثمان في عدة مدن لبناء مدارسهم الأهلية فيها وهذه ندوة العلماء جمعية دينية محضة ومن مقاصدها نشر الإسلام، وقد أعطتها الحكومة أرضًا غالية الثمن لبناء مدرستها فيها وخصصت لها مبلغ ستة آلاف روبية إعانة

نقد تاريخ التمدن الإسلامي ـ 4

الكاتب: شبلي النعماني

_ نقد تاريخ التمدن الإسلامي بقلم الشيخ شبلي النعماني (4) أما المصانع - فإن هشامًا حصَّن المثقب على يد حسان بن ماهون الأنطاكي وحفر له خندقًا وبنى حصن قطر غاش، وحصن مورة، وحصن بوفا من عمل أنطاكية. وبنى سعيد بن عبد الملك سور الموصل وهو الذي هدمه الرشيد. وفرش الموصل بالحجارة ابن تليد صاحب شرطة المروانيين. وسار العباس بن الوليد إلى مرعش فعمرها وحصنها ونقل الناس إليها وبنى لها مسجدًا جامعًا، وأسكن مسلمة بن عبد الملك مدينة الباب أربعة وعشرين ألفًا من أهل الشام على العطاء وبنى هريًا (مخزنًا) للطعام وهريًا للشعير وخزانة للسلاح وأمر بكبس الصهريج ورمّ المدينة وشرفها , وأحدث الحجاج أحد أمرائهم في سنة 83 مدينة واسط بين الكوفة والبصرة وبنى مسجدها وقصرها والقبة الخضراء بها، وأحدث سليمان بن عبد الملك في ولايته مدينة الرملة ومصرها وبنى فيها القصور ومسجدًا وحفر الآبار والقنى والصهاريج. وبنى أحد قوادهم عقبة بن نافع الفهري بإفريقية قيروانها وأحدثوا غيرها من المدن والحصون والأرباض في الأندلس وحدود بلاد الروم والسند. ثم أمنوا الطرق وعمروا السبل فكان موضع قيروان غيضة ذات طرفاء وشجر لا يُرام من السباع والحيات والعقارب فأحدثوا فيه تلك المدينة الزهراء فأصبحت طرق إفريقية آمنة مستأنسة بعدما كانت مستوحشة ذات مخاوف ومهالك , وكانت الطريق فيما بين أنطاكية والمصيصة مسبعة يعترض للناس فيها الأسد فوجه الوليد إليها أربعة آلاف من الجاموس نفع الله بها , وأذكر ما كتب ابن الأثير في حوادث سنة 88: (إن الوليد كتب إلى البلدان جميعها بإصلاح الطرق وعمل الآبار) وكان الموضع الذي فيه نهر سعيد بن عبد الملك غيضة ذات سباع فأقطعه إياها الوليد فحفر وعمَّر ما هناك. ولما بغى سيل الجراف بمكة في سنة 80 في زمن عبد الملك أمر عامله بعمل ضفائر الدور الشارعة على الوادي وضفائر المسجد وعمل الردم على أفواه السكك. وحفر عديّ عامل البصرة من قِبَل عمر بن عبد العزيز بأمره نهر عدي. ومن الأخبار التي تدل على شدة حبهم للرعية وكثرة بذلهم في إزاحة خللها وإماطة أذاها - أنه شكا أهل البصرة إلى عامل يزيد على العراق ملوحة مائهم فكتب بذلك إلى يزيد فكتب إليه: إن بلغت نفقة هذا النهر خراج العراق فأنفقه عليه، فحفر لهم النهر الذي يعرف بنهر ابن عمر وحفر عمالهم الجائرون الغاشمون (كما يقول جرجي أفندي زيدان) والمنتسبون إليهم كثيرًا من الأنهار غير ما ذكر كنهر معقل، ونهر ديبس، ونهر الأساورة، ونهر عمرو، ونهر أم حبيب، ونهر حرب، ونهر بزيدان، ونهر سلم، ونهر ناقد، ونهر خيرتان، ونهر مرة، ونهر بشار، ونهر بزور، ونهر حبيب، ونهر ذراع، ونهر أبي بكرة، وغيرها من الأنهار وهذه الأنهار كلها حفروها [1] بالبصرة فما بال غيرها من البلاد؟ أما ما بذلوا من الأموال وأفرغوا من الجهد في بناء المسجد النبوي وتذهيب البيت والمسجد الأموي الذي هو معدود من إحدى العجائب في كثرة نفقاته وعظمة بنائه ودقة صنعه وبهجة منظره وحسن نظامه فهو أشهر من نار على علم. وبنو أمية هم أول من اتخذ دار الضرب في الإسلام فكسوا به الإسلام رفعة وأغنوه عن نقود الروم والفرس ونجوه مما أوعده الروم بنقش شتم النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وهم الذين نقلوا الدفاتر والدواوين من الفارسية والرومية والقبطية إلى العربية [2] فزادت العربية انتشارًا ونفوذًا ولم يمض برهة من الدهر حتى أصبحت هذه البلاد عربية النزعة واللسان، وهم أول من بنى مستشفى في الإسلام - بنوه بدمشق سنة ثمان وثمانين، جعلوا فيه الأطباء وأمروا بحبس المجذومين وأجروا لهم الأرزاق، وهم أول من أنشأ دارًا للعُميان، وهم أول من عمر دار الضيافة [3] بعد عمر بن الخطاب، وهم أول من رثى للأيتام وتحنن عليهم ورتب لهم المؤدبين ليعلموهم [4] . *** نشر المعارف والعلم أما العلم - فقد زخر بهم بحره، وأزهر بدره، فالقرآن الذي هو عمود الإسلام، ورأس العلوم، وينبوع المعارف، أدرك الأمة قبل اختلافها فيه عثمان بن عفان وهو أموي. ثم بعد ذلك اختلطت العرب بالعجم واحتكت بهم ففسدت لغتها وأسلمت العجم فلم تستطع السلامة من اللحن فكثر التصحيف في القرآن وانتشر بالعراق ففزع الحجاج وهو أحد أمراء بني أمية إلى كتابه فوضعوا النقط والأعجام [5] فعصموا به كتاب الله أن يتطرق إليه التصحيف والتحريف تطرقهما إلى التوراة والإنجيل، ووالله هذا أعظم مبرة برَّ بها الإسلام لا تساويها مبرَّة وأعظم منة منَّ بها على الدين لا توازيها منة. ثم كتب الحجاج المصاحف وفرقها في الأمصار وكان الوليد - الذي رماه صاحبنا بالاستهانة بالقرآن - يحث الناس على حفظ القرآن وكان يجزل الصلات لحفظته ويضرب الذين لم يحفظوه [6] فكثر حفظته وعظم قدرهم وجلت رتبتهم. أما التفسير - ففي أيامهم نبغت أجلَّة المفسرين من التابعين، وفي أيامهم دُوِّن التفسير في الصحف فأول من وضع في التفسير ابن جبير بأمر عبد الملك [7] ثم مجاهد. أما الحديث - فكانوا يدرون على أهله الصلات ويبعثون إليهم بالهدايا ويجرون لهم الأرزاق لينقطعوا إلى حفظ الحديث وروايته ونقله وكانوا يكرمون الفقهاء ويجلون مقامهم ويراعون جانبهم، فقد كان يصيح صائح من بني مروان في موسم الحج: ألا لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح إجلالاً لشأنه ولكثرة علمه بالمناسك [8] وكان عبد الملك أمر الحجاج وهو أميره على الموسم أن يقدم ابن عمر في الحج ويقتص أثره في المناسك، وكان سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد والشعبي وميمون بن مهران والزهري وأيوب بن أبي تميمة وقبيصة بن ذؤيب ورجاء بن الحياة أعزة عند بني أمية وكان أكثرهم عمالاً لهم وهم أساطين الحديث وأئمة الرواية وأعلام النقل. وأنت تعلم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لولا أنها استودعت بطون الصحف لضاعت بهلاك العلماء وإسراع الموت فيهم ، فأسألك بحرمة التاريخ مَنْ أمر أهل هذا الشأن بتدوينها في الكتب - أليس هو عمر بن عبد العزيز الأموي؟ فجاء في الآثار أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الآفاق: (انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه) وكتب إلى أبي بكر بن حزم رأس المحدثين (أن انظر ما كان من سُنة أو حديث فاكتبه لي فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء) وقد كتب ابن حزم كتبًا في الحديث فتوفي عمر ثم وضع الكتب فيه ربيع بن صبيح وكان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه [9] . أما أصول اللغة ونحوها - فقد كان تدوينها بأمر أمراء بني أمية، ذكر ابن خلكان (الملجد الأول صفحة 240) أن أبا الأسود الدؤلي استأذن زيادَ ابن أبيه - وهو والي العراقين يومئذ - أن يضع للعرب ما يقيمون به لسانهم فأبى ثم بدا له صواب رأيه فدعا الدؤلي وقال له: ضع للناس الذي نهيتك أن تضع لهم فوضعه وأخذ عنه ما وضعه عتبة بن مهران المهري وعنه ميمون وعنه عبد الله الحضري وعنه عيسى بن عمر وعنه الخليل [10] وهؤلاء كلهم كانوا في عصر بني أمية وهم واضعو النحو ومدونو أصوله. أما الشعر - ففي عصرهم فتقت ألسنة الشعراء وارتفع قدرهم وانتشر ذكرهم ففحول الشعر وأمراء القول وفرسان القريض هم الفرزدق الدارمي وجرير الخطفي والأخطل التغلبي وعمر بن أبي ربيعة القرشي وكثير عزة وجميل بثينة ومجنون ليلى وذو الرمة غيلان ونصيب وهؤلاء كلهم كانوا يقصدونهم بجياد قصائدهم فكانوا يغمرونهم بالجوائز فنطقت ألسنتهم بما أصبح زهرة للأدب وزينة للغة. وكانوا يحثون الناس على اقتناء الأدب وتناشد الشعر وتدارس أخبار الشعراء، وكانوا يستوفدون الشعراء ويستزيدونهم ويجيزونهم بالأموال الجزيلة وكانوا يرسلون أبناءهم إلى البادية ليتلقنوا الأدب ويتلقفوا اللغة من أفواه الأعراب وأهل البادية، وقد جمع الوليد بن يزيد بن عبد الملك ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها [11] . أما علم التاريخ والسير والمغازي - فبعصرهم افتتح عصره، وبأمرهم ارتفع أمره، ففحول أصحاب السيَر والمغازي هم: وهب بن منبه عالم اليمن المتوفى سنة 114 ومحمد بن مسلم الزهري صاحب عبد الملك المتوفى سنة 124 وموسى بن عقبة المتوفى سنة 141 ولهؤلاء كلهم كتب في التاريخ والسير والمغازي [12] ووضع في أيامهم عوانة المتوفى سنة 147 كتاب التاريخ، وكتاب سيرة معاوية وبني أمية، وكان لملوك بني أمية رغبة شديدة في استطلاع الأخبار الماضية وحوادث الأمم الخالية. قال المسعودي: إنه كان معاوية يجلس لأصحاب الأخبار في كل ليلة بعد العشاء إلى ثلث الليل ويقوم فيأتيه غلمان وعندهم كتب فيقرءون عليه ما في الكتب من أخبار الأمم وسير الملوك وسياسات الدول، ولم يصبر على ذلك حتى استحضر عالم عصره عُبيد بن شربة من صنعاء اليمن وسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العجم وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد، وأمره أن يدوّن ما علمه، وعاش عبيد إلى أيام عبد الملك وتوفي وله من الكتب كتاب الأمثال وكتاب أخبار الماضين [13] وأخذ عنه أناس سماهم ابن النديم وكان من رواته زيد الكلابي في أيام يزيد بن معاوية عارف بأيام العرب وأحاديثها (الفهرست) صفحة 90 (وقد كان هشام مشغوفًا بالسير والأخبار فنقل له جبلة بعض كتب سير الفرس من الفارسية إلى العربية [14] وأمر هشام النقلة فنقلوا له كتاب تاريخ ملوك الفرس وقوانين دولتهم وتراجم رجالهم وكان هذا الكتاب مصورًا، ثم نقله سنة 113 رآه المسعودي سنة 303 في مدينة اصطخر كما ذكر في التنبيه صفحة (106) . أما علوم الفلسفة ومنها الطب والكيمياء - فكان لهم في نقلهما إلى العربية آثار صالحة فنقل ابن آثال لمعاوية كتب الطب من اليونانية وهذا أول نقل في الإسلام، وكان في البصرة في أيام مروان بن الحكم طبيب ماهر يهودي النِّحلة عارف بالعربية اسمه ماسرجويه فنقل ماسرجويه هذا كناش القس أهرون بن أعين من السريانية إلى العربية فلما تولى عمر بن عبد العزيز وجد هذا الكتاب في خزائن الكتب في الشام فأخرجه للناس وبثه في أيديهم [15] وخالد بن يزيد بن معاوية حكيم آل أمية أول من طلب علوم الفلسفة في الإسلام، وخبره أنه كان يطمع في الخلافة فلما وثب مروان عليها رغب خالد عنها إلى طلب العلم فاستقدم جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر ومنهم مريانوس الرومي الذي أخذ عنه صنعة الكيمياء والطب وأمرهم بنقل الكتب من اليونانية والقبطية إلى العربية فنقلوها له ولخالد كلام في الكيمياء والطب - وكان بصيرًا بهذين العلمين متقنًا لهما - وله رسائل دالة على معرفته وبراعته كما أخبر به ابن خلكان، وقد ذكر له ترجمة صالحة ابن النديم في فهرسته ونقل سالم كاتب هشام - وهو أبو جبلة المار ذكره - رسائل أرسطاطاليس إلى الإسكندر فبناء على ما قدمنا من القول بنو أمية هم أول من استقدم الفلاسفة واستدناهم في الإسلام، هم أول من أمر بنقل العلوم إلى العربية في الإسلام، هم أول من أنشأ خزائن للكتب في الإسلام، وقد ضربنا صفحًا عما كان لآل أمية بالأندلس في السياسة والعلم من المآثر الحسنة والأعمال الجليلة والسير العادلة. فهل لك أيها الفاضل المؤلف إلى الإذعان للحق من سبيل، وإلى الرجوع عن ضلال الرأي من طريق؟ *** صنيع المؤلف بالعباسية عهدنا الوحوش الضارية مع جفاء طبعها وقسوة قلبها وكونها مطبوعة على الافتراس والفتك والارتواء بالدم وإذا دخلت غابتها

بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد ـ 2

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد [*] (2) وإذا ترجمنا عبارة داود هكذا (ثقبوا يديّ ورجليّ) كما يترجمونها كان المعنى أنهم أتلفوهما وهو كناية عن تعطيل جميع قواه وقهره وإذلاله بسبي نسائه ونساء رجاله وبنيهم وأخذهم الغنائم الكثيرة منهم (1 صمو 30: 3 و19) ألا ترى إلى قوله في نفس هذا المزمور 22: 14 (كالماء انسكبت. انفصلت كل عظامي. صار قلبي كالشمع. قد ذاب في وسط أمعائي) إلخ فهل هذه الأشياء وقعت بالفعل؟ وهل انفصلت عظام داود أو المسيح حقيقة وذاب قلبهما؟ أم كل هذا كنايات كقوله: (ثقبوا يديّ ورجليّ) ؟ وكان داود يدعو الله أن ينصره على أعدائه ويخذلهم وينجيه من تعيير رجاله له ورغبتهم في رجمه. وقد كان ذلك كله فنصره الله عليهم وقتلهم واسترد منهم جميع ما أخذوه كما سبق (1 صمو 30: 17 - 19) . وأمثال هذه الكنايات كثيرة في المزامير وغيرها راجع مثلاً قوله مز 3: 7 (قم يا رب. خلصني يا إلهي؛ لأنك ضربت كل أعدائي على الفك. هشمت أسنان الأشرار) ومزمور 18 و35. أما المسيح عليه السلام فلم ينجه الله تعالى - على قولهم - من يد أعدائه بل أخذوه وعذبوه وصلبوه وقتلوه مع أن مقتضى المزمور الذي نحن بصدده أن الله استجاب دعاء داود ونجَّاه من أعدائه ومن الكرب الذي كان فيه (انظر عدد 24 منه) فكيف إذًا ينطبق هذا على المسيح؟ ! (برهانهم الرابع) ما ورد في الإصحاح الثاني عشر والثالث عشر من سفر زكريا. اعلم أن الإصحاح الثاني عشر هو نبوءة عن يهوذا المكابي وملخص قصته كما في التواريخ المسيحية وكما في سفر المكابيين المقدس عند الكاثوليك وعند الأرثوذكس أن ثلاثة من الكهنة الأشرار منهم واحد يسمى (الكميس) جمعوا حولهم نفرًا من قومهم اليهود وذهبوا إلى انتيوخس ملك سوريا اليوناني ووشوا إليه بالآخرين من أمتهم وحرضوه عليهم فانقاد الملك لرأيهم وسار إلى أورشليم وسلب ما في الهيكل فهرب من بقي في المدينة وولى على اليهود واحدًا من قواده وأمره أن يطلب من اليهود أن يسجدوا لأصنامه وأن يأكلوا لحم الخنزير وأن يتركوا الختان وكان يقتل كل من لم يقبل ذلك وكان أكثرهم طاعة الكهنة الثلاثة المذكورون سابقًا وحزبهم فتسلطوا على إخوانهم الذين لم يطيعوا وفي سنة 166 قبل الميلاد قام كاهن من اليهود الصالحين رئيسًا عليهم فقتل أحد عساكر الملك وهو يهودي منافق وقتل القائد أيضًا فقويت بذلك قلوب اليهود. ولما توفي خلفه ابنه (يهوذا) فالتف حوله جمع عظيم وحارب جيش الملك فهزمه، وأراد الملك أن يأتي بنفسه إليه ولكنه مات في الطريق، ولما فرغ يهوذا من محاربة اليونان دخل أورشليم وأزال الأوثان وطهر البيت وبنى مذبحًا جديدًا ثم قتل بعد ذلك في بعض وقائعه مع اليونان وكان في جيش عدوه (الكميس) وكثير من منافقي اليهود فبكاه شعب إسرائيل بكاءً عظيمًا وتولى أخوه يوناثان بعده (راجع الفصل 9 من سفر المكابيين الأول عدد 20) فلذا قال زكريا في كتابه 12: 2 (هأنذا أجعل أورشليم كأس ترنح لجميع الشعوب حولها وأيضًا على يهوذا تكون في حصار أورشليم) . (وفي نسخة الكاثوليك ويهوذا أيضًا تكون في الحصار على أورشليم) إلى قوله 3 (يجتمع عليها كل أمم الأرض) أي الشعوب التي حولها فلا يدل هذا على التعميم كما يقولون هم في مثل قول لوقا 2: 1 (وفي تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المكونة) أي الأرض التابعة للرومان فقط وفي قول التكوين 41: 56 (وكان جوع على كل وجه الأرض 57 وجاءت كل الأرض إلى مصر) وكذا قول تك 7: 19 (فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء) إلى قوله 23 (فمحى الله كل قائم كان على وجه الأرض) . ثم قال زكريا 14: 4 (فى ذلك اليوم أضرب كل فرس بالحَيْرَة وراكبه بالجنون 6 في ذلك اليوم أجعل أمراء يهوذا كمصباح 7 ويخلص الرب خيام يهوذا 10 وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إليَّ الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له 11 في ذلك اليوم يعظم النوح في أورشليم) وصحة الترجمة (ويسلمون إليّ) أمر (الذي طعنوا) بدون هاء الضمير وذلك أن الذين كانوا مع يهوذا المكابي تركوه خوفًا من جيش العدو ولم يبق منهم إلا قليل هربوا أيضًا حينما قتل وسلموا أمره إلى الله وإنما نسب الطعن إليهم؛ لأنهم تسببوا فيه بفرارهم من حوله، وأيضًا لأن الجيش الذي طعنه كان فيه كثير من اليهود مع (الكميس) الذي كان يرغب أن يكون كاهنًا أعظم وأتى بجيش الملك لمحاربة يهوذا معه , وعلى فرض صحة ترجمة البروتستنت وأن المعنى: (فينظرون إليّ أنا الذي طعنوه) فالذي طعنوه هو (يهوذا) وإنما أسند النظر والطعن إلى الله تعالى على حد قول الإنجيل (متى 25: 35 لأني جعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني) إلى قوله 40 (بما أنكم فعلتم ذلك بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم) وقوله تعالى في القرآن الشريف: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) ولما كان يهوذا المكابي هذا مرضيًّا عند الله ومحبوبًا وأعماله إنما هي لله - نسب تعالى طعن أعدائه له لنفسه تعالى كما نسب جوع الفقراء وعطشهم له. وقد أشار دانيال (كما قالوا) في آخر سفره لحوادث يهوذا المكابي هذا (دا 12: 12) . هذا وقول زكريا: (وينوحون عليه كنائحٍ على وحيدٍ له 11 في ذلك اليوم يعظم النوح في أورشليم) إلى قوله 14: (كل العشائر الباقية عشيرة عشيرة على حدتها) يؤيد تفسيرنا هذا وأنه في حق يهوذا لا في حق المسيح فإن الذين طعنوه وهم عسكر الرومان (يو 19: 34) لم ينوحوا عليه في ذلك اليوم ولا عشائر اليهود الذين تسببوا في صلبه. أما يهوذا فقد ناحوا عليه كثيرًا كما تقدم في سفر المكابيين، ويؤيد قولنا أيضًا قوله قبل هذا 12: 2 (وأيضًا على يهوذا تكون في حصار أورشليم) فإنه لا ينطبق على المسيح فإن أورشليم لم تكن محاصرة بجيوش حينما كان المسيح عليه السلام فيها ولم يكن ثَمَّ حرب. ثم قال زكريا في الإصحاح الثالث عشر 13: 1 (فى ذلك اليوم يكون ينبوع مفتوحًا لبيت داود ولسكان أورشليم للخطية وللنجاسة) إلى قوله: (اضرب الراعي فتتشتت الغنم وأرد يدي على الصغار) فالمراد بالراعي هنا (يوناثان) أخو يهوذا المكابي الذي تولى بعده. ولما قتل يهوذا دخل جيش الملك ومعه اليهود المنافقون ونجسوا المدينة وكان رئيسهم (الكميس) فظلم اليهود الصالحين وأمر بهدم حائط بيت المقدس فلذلك قال: (فى ذلك اليوم يكون ينبوع مفتوحًا لبيت داود ولسكان أورشليم للخطية والنجاسة) ثم أصيب (الكميس) بفالج ومات فرحل الجيش وتولى يوناثان أخو يهوذا ودخل المدينة وطهرها وأزال عبادة الأصنام كما قال زكريا 13: 2 (إني أقطع أسماء الأصنام من الأرض) ثم قتله قائد يسمى (تريفون) بالخديعة وأخذ من أخيه (سمعان) مئة قنطار من الفضة وولدي (يوناثان) أيضًا كما في سفر المكابيين ولما قتل تشتت جيشه وحصل لليهود رعب شديد وفزع ثم جمعهم (سمعان) أخوه وشجعهم واستأصل كل أثيم شرير من اليهود المنافقين (مكابيين أول 14: 14) وانتهت عبادة الأصنام من بينهم فهذا هو قول زكريا: (استيقظ يا سيف على راعيّ.. .. .. . اضرب الراعي فتشتت الغنم وأرد يديّ على الصغار) ولدي يوناثان (ويكون في كل الأرض) أي أرض إسرائيل (أن الثلثين منها يقطعان) وهم الأشرار الذين قتلهم سمعان (ويموتان والثلث يبقى فيها) وبعد سمعان لم تعد اليهود لعبادة الأصنام فلذلك قال في آخر هذا الإصحاح (زك 13: 9) هو (أي شعب إسرائيل) يدعو باسمي وأنا أجيبه. أقول: هو شعبي وهو يقول: الرب إلهي) فهذان الإصحاحان لا علاقة لهما بالمسيح عليه السلام ألبتة ولا ينطبقان عليه. وهل المسيح كان له ولدان فأُسِرا حتى يقول: (وأرد يدي على الصغار) ؟ وهل مات بالسيف مع أنه ما ضُرب بالحربة إلا بعد موته؟ (يو 19: 33 و34) فما بالهم يريدون أن يجعلوا كل شيء رمزًا لدينهم ولو بالقوة وإن خالفوا اللغة والتاريخ والعلم والعقل والدين؟ ! (برهانهم الخامس) قال متى في إنجيله 27: 9 (حينئذ تم ما قيل بأرميا النبي القائل وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن الذي ثمنوه من بني إسرائيل) فادعى متَّى وادعوا تبعًا له أن الأنبياء أخبروا أن المسيح سيباع بثلاثين من الفضة وهذه النبوءة لا يوجد لها أثر في كتب العهد العتيق اللهم إلا في كتاب زكريا (لا أرميا) فإنه يوجد بعض ألفاظ تشبه هذه العبارة (11: 12 و13) ولكن لا علاقة لها بالمسيح وإنما النصارى كما قلنا مرارًا يخترعون من الحوادث للمسيح ما يمكنهم أن يطبقوه على عبارات العهد القديم ليوهموا الناس أن الأنبياء السابقين أخبروا بجميع أحوال المسيح حتى موته وصلبه وألوهيته المزعومة وفي هذه العبارة كما في غيرها لم يحسنوا التلفيق فأخطئوا وذكروا اسم أرميا وكان الأولى أن يحسنوا السبك ويذكروا زكريا بدله وإن كان كل من العبارتين مختلفًا لفظًا ومعنًى. (برهانهم السادس) جاء في سفر الأعمال 2: 31 أن داود أنبأ عن قيامة المسيح (من الموت بعد الصلب) بقوله: (إنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا أرى جسده فسادًا) يشير بذلك كاتب هذا السفر إلى المزمور السادس عشر الذي قال فيه داود عليه السلام 16: 9 (لذلك فرح قلبي وابتهجت روحي. جسدي أيضًا يسكن مطمئنًّا 10 لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادًا 11 تعرفني سبيل الحياة - إلى قوله -: في يمينك نعم إلى الأبد) وظاهر أن داود في هذا المزمور يتكلم عن نفسه. ولفظ (الهاوية) هنا أصله العبري (شآول) وهو اسم علم لدار الموتى سواء كانوا في سعادة أو في شقاء ولذلك قال يعقوب لبنيه حينما أرادوا أخذ بنيامين منه تك 42: 38 (إن أصابته أذية في الطريق تنزلون شيبتي بحزن إلى الهاوية) . وعليه فمعنى هذا المزمور أن جسد داود يسكن بعد الموت مطمئنًّا؛ لأنه يعلم أن الله لن يتركه ميتًا إلى الأبد بل سيرد روحه إليه من عالم الأرواح (شآول) ويبعثه يوم القيامة للحياة الباقية فيخرجه من دار الموتى إلى نعيم الجنة. وأما قوله: (لن تدع تقيك يرى فسادًا. تعرفني سبيل الحياة) فالكلمة المترجمة هنا (بفساد) تفيد أيضًا معنى (القبر) والمراد بها المعنى المجازي أي مكان الموت المعنوي وهو البعد عن الله فكأنه قال: (إنك لن تدعني يا الله أرى مكان الموتى وهم الضالون الأشرار بل ستهديني إلى معرفتك التي بها الحياة الأبدية وتعصمني من الاقتراب منهم) فلهذا ولاعتقادي بالبعث والنشور أراني مطمئنًا وسيسكن جسدي بعد موتي مستريحًا واثقًا بوعدك لي بالنعيم الخالد فلذا أحمدك وأشكرك؛ لأنك نجيتني من الموت (الموت الأدبي الروحاني) وذلك مثل قوله في مزمور آخر 56: 13 (لأنك نجيت نفسي من الموت. نعم ورجلي من الزلق لكي أسير قدام الله في نور الأحياء (أو الحياة) فالبعد عن الله هو الموت وهو الموصل للقبر ومعرفته تعالى هي الحياة الباقية. قال المسيح عليه السلام يو 17: 3 (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) وقال يو 11: 26 (كل من كان حيًّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد) وقال أيضًا يو 6: 47 (من يؤمن بي فله حياة أبدية) فهذه الأقوال كلها هي كقول داود: (لن تدع تقيك يرى فسادًا (أو قبرًا) . تعرفني سبيل الحياة) إذ إن من عرف الله وآمن به واتقاه لا يرى الفساد ولا الشر وينجو من الموت النفساني ويبتعد عن مأوى الأشرار الفجار الذين ماتت نفوسهم فيحيا إلى الأبد (كما قال

الغارة على العالم الإسلامي ـ 2

الكاتب: المسيو شاتليه

_ الغارة على العالم الإسلامي أو فتح العالم الإسلامي [*] (3) مؤتمر القاهرة سنة 1906 كان القسيس (زويمر) رئيس (إرساليات التبشير العربية في البحرين) أول من ابتكر فكرة عقد مؤتمر عام يجمع إرساليات التبشير البروتستانتية للتفكير في مسألة نشر الإنجيل بين المسلمين. وفي سنة 1906 أذاع اقتراحه وأبان الكيفية التي يكون بها فوضعت هذه الفكرة على بساط البحث في (ميسور) من ولاية (أكرا) في الهند - لأن هذه الولاية ذات أهمية كبرى من حيث المسائل الإسلامية لوجود مدرسة (عليكدة) هناك، ثم عرض الاقتراح على مؤتمر التبشير الذي ينعقد في مدينة (مدراس) الهندية كل عشر سنوات فأجاز عقده، وإن اتخاذ الهند قاعدة لتأسيس النظامات الخاصة بتبشير المسلمين بالنصرانية أمر طبيعي وبديهي - لأن مسلمي الهند أخذوا على عاتقهم منذ القرن التاسع عشر تعضيد السياسة الإنكليزية للتغلب على الهندوس. ولما تقرر عقد المؤتمر شرع القسيس (زويمر) وزميل له يعدان المعدات لتأليف لجنة مؤقتة تضع برنامج مذاكرات المؤتمر وتدعو المبشرين المنتشرين في كل البلاد للاشتراك به. وفي يوم 4 إبريل من سنة 1906 افتتح المؤتمر في القاهرة في منزل عرابي باشا في باب اللوق وبلغ عدد مندوبي إرساليات التبشير 62 بين رجال ونساء، وكان عدد مندوبي إرساليات التبشير الأمريكية التي في الهند وسورية والبلاد العثمانية وفارس ومصر واحدًا وعشرين، ومندوبو إرساليات التبشير الإنكليزية خمسة، واشتركت في المؤتمر الإرساليات الأسكتلندية والإنكليزية المنفردة والألمانية والهولندية والسويدية وإرسالية التبشير الدانمركية الموجودة في بلاد العرب. انتخب القسيس (زويمر) رئيسًا للمؤتمر وعُيِّنَ معه نائب وكَتَبَة وحددت أيام الجلسات. وهذا برنامج المسائل التي تفاوضوا فيها: 1- ملخص إحصائي عن عدد المسلمين في العالم. 2- الإسلام في إفريقية. 3- الإسلام في السلطنة العثمانية. 4- الإسلام في الهند. 5- الإسلام في فارس. 6- الإسلام في الملايو. 7- الإسلام في الصين. 8- النشرات التي ينبغي إذاعتها بين المسلمين المتنورين والمسلمين العوام. 9- التنصر. 10- الارتداد. 11- وسائل إسعاف المتنصرين المضطهدين. 12- شئون نسائية إسلامية. 13- موضوعات تتعلق بتربية المبشرين والعلاقات بينهم وكيفية التعليم في الإسلام. وهذه الموضوعات جمعت على حدة في كتاب كبير اسمه (وسائل التبشير بالنصرانية بين المسلمين) . ثم صنف القسيس زويمر كتابًا جمع فيه شيئًا من التقارير عن التبشير وسماه (العالم الإسلامي اليوم) . *** وسائل لتبشير المسلمين بالنصرانية جمع هذا الكتاب ونشره القسيس (فلمنج) الأمريكي وكتب عليه هذه الكلمة (نشرة خاصة) بمعنى أنه طبع ليتنقل في أيدي فئة خاصة من رجال التبشير لا ليطلع عليه كل الناس. وقد ضمنه المباحث التي دارت في مؤتمر القاهرة واختتمه بنداءين أنهض بأحدهما همم رجال النصرانية ليجمعوا قواهم ويتضافروا بأعمال مشتركة وعمومية ليستولوا على أهم الأماكن الإسلامية، والنداء الثاني خاص بأعمال نسائية. أما الفصل الأول من هذا الكتاب فيبحث في الطريقة التي ينبغي انتهاجها في التبشير وعما إذا كان يفيد ضم إرساليات تبشير المسلمين إلى إرساليات تبشير الوثنيين أو تفضيل بقائهما منفصلتين وفيه البحث أيضًا عما إذا كان الإله الذي يعبده المسلمون هو إله النصارى واليهود أم لا (!) وقد صرح الدكتور (لبسوس) في مؤتمر القاهرة بأن إله الجميع واحد إلا أن القسيس (زويمر) خالفه في هذا الرأي فقال: إن المسلمين مهما يكونوا موحدين فإن تعريفهم لإلههم يختلف عن تعريف المسيحيين؛ لأن إله المسلمين ليس إله قداسة ومحبة [1] ! ؟ وفي الفصل الثاني والثالث بحث في الصعوبات التي تحول دون تبشير المسلمين العوام وذكر الوسائل التي يمكن استجلابهم بها وتحبيب المبشرين إليهم. وأهم هذه الوسائل العزف بالموسيقى الذي يميل إليه الشرقيون كثيرًا. وعرض مناظر الفانوس السحري عليهم وتأسيس الإرساليات الطبية بينهم. وأن يتعلم المبشرون لهجتهم العامية واصطلاحاتها نظريًّا وعمليًّا وأن يدرسوا القرآن ليقفوا على ما يحتويه. وأن يخاطبوا العوام المسلمين على قدر عقولهم ومستوى علمهم. ويجب أن تلقى الخطب عليهم بأصوات رخيمة وبفصاحة وأن يخطب المبشر وهو جالس ليكون تأثيره أشد على السامعين وأن لا تتخلل خطاباته كلمات أجنبية عنهم وأن يبذل عنايته في اختيار الموضوعات وأن يكون واقفًا على آيات القرآن والإنجيل عارفًا بمحل المناقشة وأن يستعين قبل كل شيء بالروح القدس والحكمة الإلهية (!) ومن الضروري أن يكون خبيرًا بالنفس الشرقية وأن يستعمل التشبيه والتمثيل أكثر مما يستعمل القواعد المنطقية التي لا يعرفها الشرقيون (!) وختم المؤلف هذين الفصلين بأن أكثر المسلمين الذين تنصروا إنما هم من العامة والأميين. وفي الفصل الرابع يأتي على ذكر الصعوبات التي تقف في سبيل تبشير المسلمين المتنورين. وهذه الصعوبات هي التي جعلت المؤتمر يترك المذاكرة في بادئ الأمر بمسألة التنصير فخاض في البحث عن الوسائل التي يكون لها تأثير - ولو قليلاً - على الناشئة الإسلامية لتدرك الأمور الاجتماعية والأخلاقية والأدبية. وهنا قال سكرتير المؤتمر: إن الخطة العدائية التي انتهجها الشبان المسلمون المعلمون اضطرت المبشرين في القطر المصري إلى محاولة إعادة ثقة الشبان المسلمين بهم، فصار هؤلاء المبشرون يلقون محاضرات في موضوعات اجتماعية وأخلاقية وتاريخية لا يستطردون فيها إلى مباحث الدين رغبة في جلب قلوب المسلمين إليهم. وأنشأوا بعد ذلك في القاهرة مجلة أسبوعية اسمها (الشرق والغرب) افتتحوا فيها بابًا غير ديني يبحثون فيه بالشئون الاجتماعية والتاريخية. وأسسوا أيضًا مكتبة لبيع الكتب بأثمان قليلة والغرض من ذلك استجلاب الزبائن ومحادثتهم في أثناء البيع. وقد مضى على ذلك ثلاث سنوات تسنى فيها للمبشرين أن يتوصلوا إلى النتائج الآتية: الأولى - أنهم عرفوا أحوال البلاد وأفكار المسلمين وشعورهم وعواطفهم وميولهم. الثانية - أنهم حصلوا على ثقة بعض المسلمين بهم. الثالثة - أن المبشرين تحققوا أنهم بتظاهرهم في وداد المسلمين وميلهم إلى ما تطمح إليه نفوسهم من الاستقلال السياسي والاجتماعي والنشأة القومية - يمكنهم أن يدخلوا إلى قلوبهم. وبناء على هذا ساعد المبشرون الشبان المسلمين في تأسيس جمعية الغرض منها إيجاد صلة وتقرب بين الطبقة المتعلمة والطبقات المتعددة التي تتألف الأمة منها وإنماء روح الاتفاق. هذه هي الطريقة التي استحسنها المبشرون بعد أن علموا أن الأمور التي يتذرعون بها وتكون صبغتها دينية لا ريب أن عاقبتها الفشل. ولكن المبشرين الذين هم على شيء من الجرأة يقولون: إنهم سمعوا بعض المسلمين يشكون من الزواج في الإسلام وتعدد الزوجات وتربية المرأة وعدم وجود التسامح الدينيي (!) وكل ما خاض فيه المؤتمر من هذه المباحث يختص بالمجهودات التي يبذلها المبشرون لتبشير الشبيبة الإسلامية التي تعلمت على الطريقة الأوروبية وفي مدارس الحكومة وما يلقونه من الصعوبات والفشل في تبشيرها. أما الذين تعلموا على الطريقة الشرقية في الأزهر وما يماثله فلم يتكلم أعضاء المؤتمر عنهم إلا بعض اقتراحات ونظريات - من ذلك أن أحد أعضاء المؤتمر أفاض في وصف ما للجامع الأزهر القديم من النفوذ وإقبال الألوف عليه من الشبان المسلمين في كل أقطار العالم. وتساءل عن سر نفوذ هذا الجامع منذ ألف سنة إلى الآن. ثم قال: إن السُّنيين من المسلمين رسخ في أذهانهم أن تعليم العربية في الجامع الأزهر متقن ومتين أكثر منه في غيره والمتخرجون في الأزهر معروفون بسعة الاطلاع في علوم الدين. وباب التعليم مفتوح في الأزهر لكل مشايخ الدنيا خصوصًا وأن أوقاف الأزهر الكثيرة تساعد على التعليم فيه مجانًا؛ لأن في استطاعته أن ينفق على 250 أستاذًا. ثم تساءل عما إذا كان الأزهر يتهدد كنيسة المسيح بالخطر. وعرض اقتراحًا يريد به إنشاء مدرسة جامعة نصرانية تقوم الكنيسة بنفقاتها وتكون مشتركة بين كل الكنائس المسيحية في الدنيا على اختلاف مذاهبها لتتمكن من مزاحمة الأزهر بسهولة وتتكفل هذه المدرسة الجامعة بإتقان تعليم اللغة العربية. ثم قال: إن في الإمكان مباشرة هذا العمل في دائرة صغيرة وهي أن تخص أولاً بتعليم المسلمين المتنصرين وتربيتهم تربية إسلامية ليتمكن هؤلاء من القيام بخدم جليلة في تنصير المسلمين الآخرين. وختم كلامه قائلاً: (ربما كانت العزة الإلهية قد دعتنا إلى اختيار مصر مركز عمل لنا لنسرع بإنشاء هذا المعهد المسيحي لتنصير الممالك الإسلامية (!) وفي الباب الخامس ذكر المؤلف ما دار في المؤتمر عن النشرات التي ينبغي للمبشرين إذاعتها لتنصير المسلمين. وقد ظهر للمؤتمر أن التوراة مترجمة إلى معظم اللغات الإسلامية وأكثر لهجاتها، أما أدبيات التبشير ومؤلفاته فمترجمة إلى اللغات الإسلامية المهمة فقط. وقد اقترح أحد المندوبين أن تراجع المؤلفات التي قدم عليها العهد لإصلاحها واستخدامها في تبشير المسلمين المتنورين الذين اقتبسوا علومهم في المعاهد العصرية مثل مدرسة أكسفورد وبرلين، وأشار إلى وجوب تخفيف اللهجة في المجادلات الدينية. وقال مندوب آخر: إن الحاجة شديدة إلى نشر كتب في الموضوعات الدينية الآتية: 1- أسماء وألقاب المسيح التي في الأناجيل. 2- طبيعية الخطيئة الأصلية. 3- ضرورة الغفران. 4- الجنة وكيفية الحصول عليها. 5- الروح القدس وأعماله. 6- عقيدة سر التجسد. 7- الإنسان فرد اجتماعي وخالقه ليس كذلك. 8- وأن الإله الاجتماعي يشمل الثالوث. 9- الشيطان وكيفية الخلاص منه. *** إرساليات التبشير الطبية خاض المؤتمر بعد ذلك في مسألة إرساليات التبشير الطبية فقام المستر (هاربر) وأبان وجوب الإكثار من الإرساليات الطبية؛ لأن رجالها يحتكون دائمًا بالجمهور ويكون لهم تأثير على المسلمين أكثر مما للمبشرين الآخرين. وهنا ذكر المستر هاربر حكاية طفلة مسلمة عني المبشرون بتمريضها في مستشفى مصر القديمة ثم ألحقت بمدرسة البنات البروتستانتية في باب اللوق وكانت نهاية أمرها أن عرفت كيف تعتقد المسيح بالمعنى المعروف عند النصارى. وذكر أيضًا عن رجل مسلم كان يحضر محاضرات المبشرين لإثارة الجلبة والضوضاء. واتفق أنه مرض فدخل مستشفى المبشرين وبعد أن لبث فيه مدة شفي وخرج منه فصار يحضر المحاضرات في هذه المرة ولكن بخشوع زائد وبعد ذلك بقليل تعمد وأصبح نصرانيًّا على مذهب البروتستانت. ثم قام الدكتور هارس (طبيب إرسالية التبشير في طرابلس الشام) فقال: إنه قد مر عليه اثنان وثلاثون عامًا وهو في مهنته فلم يفشل إلا مرتين فقط وذلك عقب منع الحكومة العثمانية أو أحد الشيوخ لاثنين من زبائنه من الحضور إليه. وأورد إحصاءً لزبائنه فقال: إن 68 في المئة منهم مسلمون ونصف هؤلاء من النساء وفي أول سنة مجيئه إلى حيث يبشر بلغ عدد زبائنه 175 وفي آخر سنة كان عدهم 2500 وختم كلامه قائلاً: (يجب على طبيب إرساليات التبشير أن لا ينسى ولا في لحظة واحدة أنه مبشر قبل كل شيء ثم هو طبيب بعد ذلك) . وقام بعده الدكتور (تمباني) وذكر الصعوبات التي يلقاها الطبيب في التوفيق بين مهنتي التبشير والطب كما حدث معه هو. إلا أن ما بذله من المج

أخبار العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار العالم الإسلامي (حقيقة أخبار عن تونس لشاهد عِيان) فى أواخر شهر أكتوبر من العام الماضي وزعت (البلدية) على جدران الطرق العامة أوراقًا تستدعي بها الناس إلى الاجتماع بمقبرة الزلاج في اليوم السابع من نوفمبر لتعيين قبور أهليهم لعزم (البلدية) على تسجيل المقبرة واعتبارها من يوم التسجيل حقًّا من الحقوق الدولية تتصرف فيها كيف شاءت وقد كان لهذا الإعلان أسوأ تأثير في القلوب؛ لأن مقبرة الزلاج وقف من الأوقاف العامة وقفها الشيخ الزلاج (أثابه الله تعالى) على موتى المسلمين مذ أكثر من ثمانمئة عام وقد ضمت من أجساد العلماء والأشراف وأهل الفضل والخير وأصحاب المكانة الحقيقية في القلوب ما لا يأتي على إحصائه إلا الله تعالى وحسبك أن فيها مقام الشيخ أبي الحسن الشاذلي معتقد العامة والخاصة منهم ومقام الشيخ محمد بن عرفة المالكي الشهير وغيرهما من أولي العظمة والاعتبار فيهم، ولن يرضى أحد أن تخرج عظامهم من ديارها لتتخذ بساتين يتنزه بها الأوربيون الذين لا يسمحون بشبر من مقابرهم لمثل ذلك ساء الناس ما عزمت عليه (البلدية) فاتفق أكثرهم على الاجتماع بالمقبرة في 7 نوفمبر لمنع البلدية من إجراء أعمال التسجيل وكان ما اتفقوا عليه. اجتمعوا بالمقبرة قبل ظهور حاجب الشمس فجاء شيخ المدينة (رئيس البلدية) والمهندسون فراعهم ذلك المنظر المهيب , فسألهم شيخ المدينة عن سبب اجتماعهم فذكروا أنه (السبب) الإعلانات المعلقة على الجدران - فرأى على غير طائل - أن يفرقهم بقوله: فسخت الدولة العزم على ذلك فانصرفوا إلى بيوتكم، ثم أمر من حضر من أعوان المحافظة أن يغلقوا باب المقبرة في وجوههم ويردوهم عنها بعد أن دخلها هو والمهندسون. فسخِر الناس من قوله هذا المضحك وردوا أعوان المحافظة بقوة دفاعًا عن موتاهم وغيرة على وقفهم، وبينا هم كذلك إذا أطلق طلياني مسدسه على رجل مسلم وفرّ هاربًا فلحقوا به وأخرجوه من البيت الذي التجأ إليه وذبحوه بأيديهم وخرجوا من طور الدفاع السلمي عن الموتى إلى الدفاع الحربي عن الأحياء وثارت الفتنة في البلد وكثر الهرج في الطائفتين الإسلامية والصليبية ولم تقدر الحكومة أن تشرع في إعادة الراحة إلا بعد يومين وهذا ما عملته لذلك: 1- عهدت إلى الخطباء أن ينصحوا للناس باحترام الدماء ويذكروهم بما كتب الله عليهم من حق المخالف بالدين - لأنهم يعتقدون أن المسألة بنت التعصب الإسلامي الذي حركته (طرابلس) لا بنت مدافعة العادين ورد هجمات المحاربين. 2- علقت الإعلانات الرسمية بمنع اجتماع أكثر من ثلاثة أشخاص في الطريق العام، ومنع الجوَلان فيه بعد الساعة الـ 9 مساء - وهذا الحجر كان على المسلم خاصة؛ لأنه العادي عندهم - ثم أخذت تختطف الناس من الطرق والفنادق وتزج بهم في السجن، فكم من غريب أخذ من فراشه في الفندق؟ وكم من بريء أُخذ من الطريق العام؟ فانظر ما هو عمل السياسة وأهلها وكيف يجعلون من التهمة الكاذبة، ألف حجة صادقة، ثم ماذا كان عمل الحكومة بعد؟ كان أن أوعزت إلى شيخ الإسلام أن يجمع العلماء الرسميين في دار الباي ويعترفوا بقبح هذا الدفاع الواجب وكذلك فعلوا وفعل. دعاهم إلى الاجتماع وأكد فيه تأكيدًا ولكنهم لم يعلموا الغرض منه إلا عند الاجتماع، دخل بهم على الوزير الأكبر وهو يقول: إن أهل العلم لا يرضون بهذا العمل الذي ينكره الشرع والعقل، وهم يريدون أن تعلم الحكومة ذلك منهم، ثم سأل (شيخ الإسلام) الوزير الأكبر أن يرخص لهم السفير في زيارته فأجيب إلى ذلك ولكن السفير خاطبه بقوله: يجب أن تسكن أميالكم (يعني المسلمين) القلوب ولا تخرج إلى الطريق - هذا بعدما سمع من شيخ الإسلام - حاسبه الله - مثل ما قاله الوزير ولم يقدر الشيخ أن يبين له أن المسألة لا علاقة لها بمسألة طرابلس وأنها بنت الدفاع عن النفس وليس هي بالدفاع عن الجامعة الإسلامية. أرادت الحكومة من هذا أن تفعل ما تشاء باسم الدين - الذي لاتزال سيادته الحقيقية والصورية على جميع القلوب - ولكن العامة على جهلهم ورسوخ اعتقادهم في أهل العلم كانوا يلعنونهم سرًّا وجهرًا ويعرفون أنهم خانوا الله ورسوله والمؤمنين فعلقت الإعلانات الرسمية في اليوم نفسه تعلم بتفويض سمو الباي إلى الإدارة الحربية الأمر في تفتيش بيوت من تقع عليه التهمة والحكم عليه، وفي نزع السلاح من أصحابه إلخ وتبع ذلك جرأة الطليان على قتل المسلمين ولم توفق الحكومة إلى نزع السلاح منهم إلا أخيرًا خشية الفتنة في البلاد. كانت الصحف تدافع عن المسلمين بعض الدفاع وتنجي من الحق ما تريد السياسة أن تقتله عمدًا ولكن الحكومة أصدرت قرارًا بتعطيل جميع الصحف العربية (إلا الزهرة الإخبارية) إلى أجل غير مسمى. هذا ما جرى في تونس - أيها الفاضل مما سمعته ورأيته أثناء وجودي بها - وهو مما يدعو إلى تأليف كتاب خاص تشرح به أعمال الحكومة الصادرة عن سياستها السوءى واستبدادها الفظيع واستخدامها في سبيل ذلك لشيوخ العلم الذين هم أجدر الناس بالدفاع عن الأمة والسعي للتوفيق بينها وبين الحكومة وكف بأسها عنهم ولكنا مُنينا برؤساء جهال منافقين جبناء همُّ الواحد منهم أن يملأ كيسه وبطنه ويحفظ على نفسه مذهبها ولا يبالي بما وازر الظالمين على الضعفاء الأبرياء الذين لا ذنب لهم إلا الدفاع عن أنفسهم، ولكن أين الذي يخاف الله ويحسب للقائه حسابًا من هؤلاء الجامدين؟ وبعد فقد اتفق أن شرعت في كتابة هذا ثم حالت الشواغل دون إتمامه حتى كان ما كان ما سأقصه عليك وأنا لا أزال في تونس: * * * (مقاطعة مراكب الكهرباء وسببها) ذلك أن سائقي المراكب الكهربائية (وأكثرهم من الطليان) أسرفوا في المدة الأخيرة في الاستهانة بالنفوس عمدًا فكثر عدوانهم على الضعفاء - من قائلي: لا إله إلا الله محمد رسول الله - فعمدت ثلة من أصحاب الآراء الراقية لتنبه الناس إلى مقاطعة هذه المراكب العادية حتى ترجع إلى الاعتدال وتكف عن البغي والعدوان فاجتمعت كلمة الأمة على هذا ولم تمضِ إلا أيام قلائل حتى ساد هذا الرأي على المسلم والمسلمة، ثم تقدم أفراد من القائمين بهذه الحركة إلى رئيس الشركة بمطالب الأهالي التي يعلقون على تنجيزها العود إلى ما كانوا عليه، وأهمها التسوية في أجور الخدمة بين المسلمين والإيطاليين واحترام الأرواح وإخراج الخدمة الإيطاليين (وهذا مما لا يمكن) فقبلهم مدير الشركة شر قبول وصرح لهم أن الشركة لا تجيب المسلمين إلا أكثر من وصية السائقين باحترام الضعفاء وتعليق ألواح مكتوبة بالعربية في مراكز الوقوف يرسم عليها ما يرسم بالفرنسية على نظائرها (كما هي الحال في مصر) وأما تسوية الأجور فهو موقوف على تسوية الدولة بين الأهلي والأجنبي فمتى سوت الدولة بينهما سوت الشركة، فرجع هؤلاء الأفراد بخفي حنين واستمرت المقاطعة فهال الدولة أمرها ورأت أنها أمارة حياة يخشى على الحكم المطلق من آثارها فدعت نحوًا من أربعين رجلاً من أهل العلم والتجارة وسائر الطبقات المعتبرة وخاطبتهم بلسان وزير القلم في حث الناس على ترك هذه المقاطعة وأعلمتهم بتداخلها مع الشركة وتحصلها منها على كذا وكذا - مما علموه من مدير الشركة يوم اجتمع به أولئك الأفراد لقصد إنهاء المسألة بصفة مُرضية - فقام المحاميان الغيوران محمد نعمان وعلي باش حانبه صاحبا جريدتي التونسي العربية والفرنسية يبينان أن الحكومة لم تفد شيئًا في الموضوع وأن مسألة تسوية الأجور من أهم مطالبهم أو أهمها ولا ترضى الأمة أن تترك المقاطعة بدونها وطال النزاع بين الحق والباطل ثم افترق الفريقان على غير طائل. أعادت الحكومة دعوتهم في اليوم الذي تلى يومهم ذلك وصرحت لهم أن المسألة صبغت بلون دولي وأن المقاطعة في نظر الدولة (اليوم) لدولة لا لشركة وأن القائمين بهذه الحركة إن لم ينفثوا في هذه العقدة فسينالهم العقاب ودافع علي باشحانبه ومحمد نعمان بما رأيا من الحق والله ولي جزائهما. انبث دعاة الدولة في البلاد (بعد هذا الاجتماع) يدعون الناس إلى الركوب في الترماي فلم يكد يستجيب لهم إلا الشيخ جمال الدين وقليل ممن لا يعرفون، على أن الشيخ جمال الدين من الذين لا يرجون من الدولة شيئًا بل ولا يخشى على شيء مما في يده منها لو اتبع الجماعة - ثم لم يكد يمضي على الاجتماع الثاني 48 ساعة - وهو الأجل الذي ضربته الحكومة لإنهاء المقاطعة - حتى صدر أمر الباي (ونفذ) بإبعاد ستة أشخاص عن الحاضرة منهم الشيخ عبد العزيز الثعالبي ومحمد الشاذلي درغوث وعلى باش حانبه ومحمد نعمان - الأول والأخيران إلى ما وراء حدود فرنسة والثاني إلى قصر مونسين، ولقد كان من أعجب ما سمعت ورأيت في ذلك اليوم أن شيخًا من شيوخ التدريس بجامع الزيتونة كلفته الدولة أن يوصي المدرسين والتلاميذ بالعمل بما تحب الدولة في مسألة المقاطعة من الركوب والدعوة إليه، فأخذ يحث على ذلك بإخلاص واجتهاد، مع أنه معروف من أهل الإصلاح وليس هو من أهل الفساد - ولعل صفته الرسمية هي التي ألجأته إلى ذلك - أبعدت الدولة هؤلاء الستة المتهمين بتنبيه القلوب طمعًا في تمزيق الكلمة فكان القوم في المقاطعة بعد الإبعاد أشد منهم قبله ولا تزال مستمرة إلى اليوم بعد أن توسلت الحكومة إلى حلها بكل سبب فلم تنجح - كلفت أكثر الخدمة الإداريين أن يركبوا فركبوا بضع مرات فلم يقتد بهم أحد - كلفت شيوخ الأضرحة أن يركبوا ويحثوا الناس على الركوب فلم يفيدوها شيئًا في الموضوع، ومن أغرب ما أقصه عليك أن الشيخ جمال الدين - شيخ ضريح الفزاني دفع المال من جيبه لتلاميذ زاويته ليركبوا فخرجوا من عنده واشتروا بما أخذوا منه الخضر وتركوه ودعوته. ... ... ... ابن الحقيقة (نظام التعليم الجديد في تركستان) قرارات الحكومة الروسية في شئون مسلمي تركستان العلمية: أرسلت إدارة ولاية يدي صو (فى تركستان) إلى رئيس شرطة (محافظ) آلماطا أوامر على هذه الصورة: 1- اجمعوا معلوماتكم في شئون المكاتب الجديدة الأصول [1] للمسلمين وفي معلميها وكتب التدريس فيها. وليكن تاريخ طبع تلك الكتب مبينًا وكذلك محل طبعها. 2- وماذا يوجد للمسلمين من الجمعيات الخيرية وجمعيات نشر المعارف والتعاون؟ ومَن الأعضاء والرؤساء فيها؟ وما وظيفة تلك الجمعيات وعلى أي طريق تسير؟ 3- في أي المحلات تباع الكتب الإسلامية؟ مع بيان شخصيات وخطة أولئك المسلمين الذين أخذوا الرخصة لبيع الكتب في الشوارع والمجتمعات. بناء على هذه الأوامر الصادرة في 18 فبراير سنة 1902 أمر رئيس الشرطة (المحافظ) معاونيه والشرطة بسرعة جمع المعلومات الصحيحة المفصلة بهذا الخصوص. وفي 19 فبراير أرسل الوالي الحربي في (يدي صو) أوامر وتعليمات إلى جميع المتصرفين ولمحافظ (آلماطا) المار ذكره وهذه صورتها. فى اجتماعات المتصرفين المنعقدة في يناير كنت بينت طرق المعاملة التي يجب سلوكها في شئون المسلمين ولا سيما في مكاتبهم، والآن أرسل بهذه الورقة بعض تعليمات جديدة توافق ما نشر حديثًا من طرف والي تركستان إلى مأموري المعارف في أمر مكتب المسلمين. وأطلب تنفيذ هذه الأوامر والسير دائمًا على هذه القواعد الأساسية. (المكاتب الجديدة الأصول) 1- كل مكتب ينشأ من جديد من المكاتب الجديدة الأصول لا يقبل فيه إلا أولاد قبيلة واحدة من قبائل تركستان ولا يكون المعلم إلا منهم (فلا يجوز تعليم أ

المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ المطبوعات الجديدة [*] (كتاب البنين) كتبت في الجزء الماضي مقالاً على هذا الكتاب وكنت عازمًا على تتبعه وبيان فوائده وانتقاده ولكن منعتني كثرة الشغل عن إنجاز ما وعدت به وأرى أن مطالعته مفيدةٌ جدًّا للذين يفكرون في شئون الأمة الاجتماعية وكذلك لآباء وأبناء البيوت (العائلات) ولي كلمة في التعريب أقولها وهي: إن هذه الكتب وما يماثلها مما ينقل إلى لغتنا العربية عن اللغات الأوربية التي هي نتيجة تربية حكيمة وإعمال روية - والتي إنما تظهر في الأمة بطور مخصوص من أطوار حياتها الاجتماعية - هذه الكتب هي ولا شك مما يساعد على رقي مثلنا بعض الشيء ولكننا لا نزال بحاجة شديدة إلى نقل الكتب الصناعية ووسائلها من كيماوية وطبيعية وما لدينا من الوسائل للوصول إلى الثمرة المطلوبة لجعل الأمة غنية بنفسها عن غيرها مثل كتاب النقش في الحجر والدروس الأولية في الفلسفة الطبيعية لا يصلح بأن يكون مجموعة تُجعل منوالاً تنسج عليه الأمة ثوب حياتها المادية لتنضم بين برديه وتصبح أمة حية عالمة عاملة غنية بمعارفها وصناعتها. نعم إن ما يكتبه ويعربه الدكتور محمد عبد الحميد طبيب مستشفى قليوب من الكتب الطبية وكتاب الكيمياء الحديثة الذي ألفه خان بهادر الشيخ عبد القادر بن محمد المكي وكتاب روح الاجتماع وما يماثل ذلك ربما ألفت مجموعة تصلح لأن تكون برنامجًا للمدارس العربية وتكون بها حجة الذين يطلبون من الحكومة المصرية تعليم جميع العلوم بلغة الأمة - ناهضة، ومن لنا بتأليف جمعية علمية تبحث في هذه المؤلفات وتبين ما يلزم من الزيادة عليها للإيفاء بالغرض المطلوب؟ وما دمنا نقرأ مثل كتاب التربية الاستقلالية أو كتاب البنين وكل ما نستفيده منها هو الإعجاب بآراء المؤلف والثناء على همته ولغة المعرب فما نحن إلا نظريون. ولم يرجع بنا القهقرى في علم دارَ سَنَاه وانتشر بيننا قديمًا وحديثًا إلا الاشتغال بالنظريات عن العمليات. هذا كتاب سر تقدم الإنكليز نشر باللغة العربية من سنين عديدة فهل غير شيئًا من طرق التربية في مدينة أو قرية أو بيت (عائلة) في بلادنا وهو الكتاب الذي حرك العالم وزلزل أركان التربية في فرنسة فأنشأها خلقًا جديدًا؟ فهل يكون حظنا من كتاب البنين كحظنا من الكتب السابقة أم أن حوادث الدهر ومزعجات الأيام أهابت بنا إلى النهوض من هذه الهوة التي نحن بها متدهورون؟ ثم هل نبقى معتمدين على غيرنا في جميع حاجياتنا أم يلجئنا حب البقاء إلى التماس أسبابه بانتهاج منهج الغربيين في الصناعة والزراعة؟ هذا ما أريد أن يتفكر فيه المتفكرون ويكتب فيه الكاتبون ويعرِّب له الكتب الذين يهمهم أمر بقاء أمتهم وحياتها. هذا وإن ثمن كتاب البنين عشرة قروش غير أجرة البريد وهي 11 مليمًا في مصر و22 مليمًا في الخارج ويطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر. (رباعيات الخيام) عمر الخيام أشهر من نار على علم وهو من نوابغ شعراء الفرس وقد ترجم علماء أوربة وأمريكة شعره وعنوا به عناية كبرى، فحمل حب ضم التالد إلى الطريف وديع أفندي البستاني معرب (معنى الحياة) و (السعادة والسلام) على نقل هذه الرباعيات إلى العربية، فبحث ونقب عن هذه التراجم والشروح واختار منها ترجمة (فتزجرلد) الإنكليزية وعربها ونظمها سباعيات بعد أن قابلها بترجمات (هوينفلد) ونيقولاس وغارنر ومكارثي، وكتب لها مقدمة ضافية ذكر فيها خلاصة ما وقف عليه مما كتب الغربيون في عمر الخيام واهتمامهم بآثاره، وهذه المقدمة بديعة نفيسة جدًّا. وعمر الخيام شاعر مفكر ينظم ما يمر في مخيلته من نتائج تأملاته فيصيب الحقيقة تارة ويخطئها تارة أخرى فهو يحاكي أبا العتاهية في تزهده وحكمه وأبا نواس في خمرياته ومسلم بن الوليد في غزلياته والمَعرِّي في حكمته وما ينسب إليه من المجازفات، وإليك طائفة من هذه الرباعيات أو السباعيات من هذه الأنواع قال في الفاتحة: من النشيد الأول: ربّ رحماك ما كسبت ثوابًا ... لا ولا كنت مستحقًّا عقابا إنما قلت ما رأيت صوابا ... ووجودي عليّ كان مصابًا ... وعزائي الجميل كان الحبابا وكفاني التوحيد ذخرًا فإني ... لم أُعدِّد في ديني الأربابا وقال من النشيد الأول أيضًا: وربيع الحياة عهد الصباء ... وحياتي كهذه الصهباء مرها الحلو فهي طبي ودائي ... وببلخ أو نيسبور سأقضي ... فدعوني بعض اللبان أقضي ودعوني أُسقى المدام دعوني ... قبلما يدهم المشيب الشبابا وقال من النشيد الأول أيضًا: وأجبني ووافني الاعتزال ... وابتعاد عن محض قيل وقال رُبَّ قفر من المظالم خال ... ليس فيه عبد ولا سلطان ... هو عندي المكان نعم المكان رُبَّ كهف تئويه نفس أبي ... فاق قصرًا أطالت ذراه السحابا وقال منه أيضًا: يا فؤادي حذارِ حتى النسيما ... إن هذا المنثور كان نظيما فوق غصن واليوم غشى الأديما ... كم ورود لثامها الأكمام ... كخدود لها الحياء لثام راودَتْها ريح الشمال وغاثت ... بلثام وقبَّلتها اغتصابا وقال منه أيضًا: هات لي الجام يا نديمي مترع ... أسلُ عما مضى وما يتوقع حسْبُ قلبي ما سمته وتقطع ... واسقني اليوم مذهب الحسرات ... لا تكلني لحلم يوم آت فغدًا ربما غدوت طريد الأَمْـ ... س أطوي الأدهار والأحقابا وقال منه أيضا: ولأهل اليقين والإيمان ... ولأهل الشكوك في الأديان ولأهل الدنيا وأهل الجنان ... سيقول الصوت الرهيب ضلالاً ... قد ضللتم وكنتم جُهَّالا لا هنا أنتم كسبتم ثوابًا ... لا ولن تكسبوا هناك الثوابا وقال منه أيضًا: واضطرارًا قد جئت هذي الديارا ... وسأضطر للرحيل اضطرارا واختياري إن استطعت اختيارا ... إن أُسرّي عن الفؤاد الهموما ... في حياة ملأى أسًى وغموما فأدرها سلافة واسقنيها ... نعمة فالوجود كان مصابا وقال منه أيضًا: زحل كان موطئي إذ رحلت ... بخيالي وفي السِّماك حللت وصعابًا من مشكلات حللت ... واجتليت الغوامض المبهمات ... ولقيت الحقائق السافرات غير أن الآجال والموت فيها ... ذاك سرّ لم أنضِ عنه نقابا وقال من النشيد الثاني: قلت للنفس: أين ذاك القضاء ... أين ذاك الجحيم أين السماء قالت النفس: يا فتى لا مِراء ... فيّ فيّ الأسرار والأقدار ... فيّ فيّ الجنات فيّ النار ذا سؤالي وذا جوابك يا نَفْـ ... س وكنت الحيران فيه سؤالا وقال منه أيضًا: يعلم الله أنني سِكّير ... ونظيري بين العباد كثير وهو أمر سهل عليه يسير ... يعلم الله يعلم الله فعلاً ... رب رحماك ليس علمك جهلا فَزِقاقي مملوءة ودناني ... وأنا أدمن الخمور امتثالا وقال منه أيضًا: إيه سفر الحياة آن اختنامك ... إيه خيّام قد تداعت خيامك وتدانت من حدّها أيامك ... وليالي الربيع كُن قِصارا ... وهزار الشباب غنى وطارا يا هزار الشباب لو كنت أدري ... منك هذا لسمتك الأغلالا هذا وإن لغة الكتاب ونظمه من أحسن الكتب المعرَّبة وقد طبع في مصر طبعًا متقنًا نظيفًا على ورق جيد وصفحاته 142 وهو يباع بمكتبة المنار بشارع عبد العزيز بعشرة قروش صحيحة خلا أجرة البريد. (كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) لدعاة النصرانية في البلاد الإسلامية طرق في بث دعوتهم وإلفات الناس إلى سَوْم بضاعتهم، كانت إلى سنة 1911 خطة شغب وعداء أكثر مما هي خطة جدل وإقناع يظهر هذا في جرائدهم وكتبهم ولاسيما في البلاد التي قوي فيها النفوذ الأجنبي وكان موقف المسلمين أمام هذا التهجم والشغب والشذوذ والتطرف والمغالطة يختلف باختلاف البلاد ودرجة نفوذ أولئك الدعاة وتأثيرهم في العامة أو الخاصة. فبيْنا الشيخ رحمة الله الهندي يجادل القوم في الهند بالتي هي أقوم ويدحض سفسطتهم بالأدلة العقلية والنقلية إذا بالمسلمين في البلاد المصرية والشامية يهزأون من تلك المجالدة ويضحكون زاعمين أن المسلم لا يمكن أن يكون نصرانيًّا، وينقلون كلمة عن حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني: (إن المسلم هو نصراني وزيادة؛ لأن أركان دين النصرانية: الإيمان بالله والملائكة والوحي والدار الآخرة إلخ، ولكن المسلم يؤمن بهذه الأشياء على وجه أكمل؛ فالمسلم موحد لله والنصراني مثلث له، والمسلم منزه للأنبياء والنصراني مخطِّئٌ لهم، والمسلم معتقد بجزاء ينال الإنسان في الدار الآخرة من حيث هو إنسان والنصراني يقول: إنه في الآخرة يكون (كملائكة الله الذين في السماوات) أي أن الإنسان يكون مَلَكًا وتفنى جسمانيته في روحانيته إلخ. فالدين الإٍسلامي مطابق للعقل والفطرة، والدين المسيحي على العكس من ذلك؟ تلك حجتهم على سكوتهم وعن تقصيرهم في الدعوة إلى دينهم والذود عنه. ولم يفكر مسلم في هذه البلاد أن من خدمة الإٍسلام أن يدعو أحد إليه أو أن يدافع عنه غافلين عن قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) إلخ. غلط دعاة النصرانية بحسبانهم المسلمين على وثنية فوضى وظنوا أن من السهل عليهم دعوتهم إلى وثنية منظمة منمقة يجللها ثوب الخلاص من خطيئة لم يقترفوها ويزينها حلي مصالحة الله لهم عن خصومة لم يأتوها - على قاعدة: الآباء تأكل الحصرم ويضرس البنون - ويقابل هذا عند المسلمين ويدحضه قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) - غلطوا فأوغلوا بسيرهم وأوضعوا خلال المسلمين يبغونهم الفتنة وفيهم سماعون لهم وقوم آخرون شغلتهم أموالهم وأهلوهم. ولما عقد مؤتمر القاهرة سنة 1911 (لدعاة النصرانية) بحث في طرق إمالة المسلمين عن دينهم على اختلاف طبقاتهم وخط للدعاة خططًا جديدة - يعلمها من يراجع مقالات (الغارة على العالم الإسلامي) التي تنشر في المنار تباعًا - للوصول إلى قلب المسلم. كل ذلك يجري من دعاة النصرانية ومثل النبهاني وعبد العزيز شاويش يسودان الصحائف بشتم المسلمين المصلحين تارة وبشتم النصارى تارة أخرى ولهما في بعض البلاد الإٍسلامية أمثال وأنصار من المعممين الذين كان يخاف على الإسلام منهم الأستاذ الإمام، ولكن بعض شبان سورية الغيورين المفكرين أهدى إدارة المنار في هذه الآونة كتابًا سماه (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) ألفه لرد أباطيل دعاة النصرانية وجعله تقدمة (إلى صليبي القرن العشرين المبشرين) ؟ ألف محمد طاهر أفندي التنير كتابه هذا من كتب علماء أوربة وقابل فيه بين نصوص ديانات الوثنيين ونصوص ديانة النصارى المشابه بعضها بعضًا وعزا في الهامش كل نقل إلى محله وذكر في أول الكتاب أسماء الكتب التي نقل عنها لتكون الأدلة ملزمة والحجة ناصعة، ونحن نذكر مجمل مواضيعه: 1- عقيدة التثليث عند الوثنيين وعند النصارى. 2- تقديم أحد الآلهة فداء عن الخطيئة عند الوثنيين وعند النصارى. 3- الظلمة التي حدثت عند موت أحد المخلصين عند الوثنيين والظلمة التي حدثت عند موت يسوع عند النصارى. 4- ولادة أحد آلهة الوثنيين من عذراء وولادة يسوع من عذراء كذلك. 5- النجوم التي ظهرت عند ولادة أحد آلهة الوثنيين والنجم الذي ظهر عند ولادة يسوع. 6- الجنود السماوية التي ظهرت تسبح الله عند ولادة أحد آلهة الوثنيين والجنود السماوية التي ظهرت تسبح الله كذلك عند ولادة عيسى. 7- الاستدلال على الطفل الإلهي عند الوثنيين وعند النصارى. 8- محل ولادة أحد الآلهة عند الوثنيين ومثله عند النصارى إلخ ثم مقابلة بين النصوص عند الفريقين، والكتاب يطلب من مكتبة المنار بمصر وثمنه خمسة قروش وتبلغ

نقد تاريخ التمدن الإسلامي ـ 5

الكاتب: شبلي النعماني

_ نقد تاريخ التمدن الإسلامي بفلم الشيخ شبلي النعماني (5) وذكر المؤلف عقيب ذلك وهب بن منبه وأنه قرأ من كتب الله 72 كتابًا ثم قال: (فكان للعرب ثقة كبرى فيه) وقال بعد ذلك: (فكانت كتب التفسير في القرون الأولى محشوة بالأخبار وفيها الغث والسمين مما نقل إليها من الأديان الأخرى) . فانظر كيف يناقض المؤلف نفسه! فقال: (فنشأ في اعتقادهم أنه لا ينبغي أن يسود غير العرب ولا يتلى غير القرآن - فرَسَخ في الأذهان أنه لا ينبغي أن يُنظر في كتاب غير القرآن - فتوطدت العزائم على الاكتفاء به (أي القرآن) عن كل كتاب سواه ومحو ما كان قبله من كتب العلم) . ويقول الآن: إن كتب التفسير في القرون الأولى محشوة بالأخبار.. .. مما نقل إليها من الأديان الأخرى، وإنه كان للعرب ثقة كبرى في وهب بن منبه، وإن كتب التفسير امتلأت من منقولات أهل الكتاب، فلو كان أهل القرون الأولى يبغضون ما سوى القرآن ويمحون ما كان قبله من العلم كما يدعيه المؤلف فمن روى الإسرائيليات وأقاصيص التلمود والتوراة وحشاها في التفسير؟ ولما كانت المسألة موضع زيادة تفصيل نزيدك توضيحًا وتفصيلاً: كان لعدة من الصحابة وكبراء التابعين عناية كبرى بالتوراة وغيرها من الكتب السماوية فمنهم أبو هريرة الذي كان ملازمًا للنبي عليه السلام منقطعًا إلى الرواية - لم يدانه أحد في كثرة الرواية - كان مشغوفًا بقراءة التوراة ودرسها، قال العلامة الذهبي في طبقات الحفاظ في ترجمته: (عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه لقي كعبًا - وهو حبر لليهود - فجعل يحدثه ويسأله فقال كعب: ما رأيت أحدًا لم يقرأ التوراة أعلم بما فيها من أبي هريرة) . ومنهم عبد الله بن عمرو بن العاص أحد من هاجر قبل الفتح، قال الذهبي في طبقات الحفاظ: (كان من أيام النبي صوّامًا قوامًا تاليًا لكتاب الله طلابةً للعلم كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا، وكان أصاب جملة من كتب أهل الكتاب وأدمن النظر فيها ورأى فيها عجائب) . ومنهم عبد الله بن سلام حليف الأنصار أسلم وقت مقدم النبي وفيه ورد قوله تعالى: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكِتَابِ} (الرعد: 43) نقل الذهبي بعد ذكر فضائله وكونه عالم أهل الكتاب رواية بالإسناد يرفعه إلى عبد الله بن سلام أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني قرأت القرآن والتوراة فقال: اقرأ هذا ليلة وهذا ليلة، فهذا إن صح ففي الرخصة في تكرير التوراة وتدبرها. ومنهم كعب الأحبار كان من كبار أهل الكتاب، أسلم في زمن أبي بكر، قال الذهبي: (قدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وأخذ هو من الكتاب والسنة عن أصحابه) فهذا كأنه تصريح في أن الصحابة أخذوا عنه علم أهل الكتاب. ومنهم وهب بن منبه قال الذهبي في ترجمته: (وعنده من أهل الكتاب شيء كثير فإنه صرف عنايته إلى ذلك، وكان ثقة واسع العلم ينظر بكعب الأحبار في زمانه) وعن وهب قال: يقولون: عبد الله بن سلام أعلم أهل زمانه وكعب أعلم أهل زمانه) . فهل بعد كل هذا يصح قول المؤلف: إن الصحابة ومن يليهم كانوا يقولون: إنه لا ينبغي أن يقرأ كتاب غير القرآن ومحوا ما كان قَبْلهم من العلم؟ عياذًا بالله. قال المؤلف: (ثانيًا جاء في تاريخ مختصر الدول لأبي الفرج - ثم نقل رواية الإحراق برمتها وأطال في إثبات أن أبا الفرج ليس بأول من روى هذه الرواية بل ذكرها عبد اللطيف البغدادي عرضًا في ذكره عمود السواري وذكرها القفطي في تاريخ الحكماء) . لا ننازع المؤلف في أن أبا الفرج مسبوق في ذكر هذه الرواية بالقفطي والبغدادي ولكن ماذا ينفعه ذلك؟ فإن البغدادي وهو أقدمهما من أهل القرن السادس للهجرة وذكر الرواية من غير إسناد ومن غير إحالة على كتاب. تعود المؤلف من صباه قبول مختلقات أهل الكتاب وأوهامهم فسبب ذلك أنه يزن التاريخ الإسلامي بميزان غير ميزاننا؛ ولذلك يصغي إلى كل صوت ويستمع لكل قائل، لا يعرف أن هذا الفن له أصول ومبادٍ وقواعد وما لم تكن الرواية مطابقة لهذه الأصول اليقينية لا يلتفت إليها أصلاً، منها أن الناقل للرواية لا بد أن يكون شهد الواقعة فإن لم يشهد فليبين سند الرواية ومصدرها حتى تتصل الرواية إلى من شهدها بنفسه. ومنها أن يكون رجال السند معروفين بصدقهم وديانتهم، ومنها أن لا تكون الرواية تخالف الدراية ومجاري الأحوال؛ ولذلك اهتم مؤرخو الإسلام قبل كل شيء بضبط أسماء الرجال والبحث عن سيرهم وأحوالهم وديانتهم ومحلهم من الصدق فدونوا كتب أسماء الرجال وكابدوا في ذلك محنة يضيق عنها النطاق البشري فعملوا كتبًا غير محصورة منها الكامل لابن عديّ والثقاة لابن حبان وتهذيب الكمال للمِزِّيِّ وتهذيب التهذيب لابن حجر وطبقات الصحابة لابن سعد ولابن ماكولا وابن عبد البر ولابن الأثير ولابن حجر وتهذيب الأسماء للنووي وميزان الاعتدال للذهبي ولسان الميزان لابن حجر. وتجد كتب القدماء من مؤرخي الإسلام كلها أو أكثرها كتاريخ البخاري وسيرة ابن إسحاق وتاريخ الطبري وابن قتيبة وغيره مسلسلة الإسناد مبينة الأسماء ليمكن نقد الرواية ومعرفة جيدها من زيفها. فأول شيء يهمنا في هذا البحث أن نرى: هل ذكر القفطي والبغدادي هذه الرواية مسندة وذكرا مصدر الرواية وأسماء رواتها أم لا؟ وأنت تعلم أن البغدادي والقفطي من رجال القرن السادس والسابع فأي عبرة برواية تتعلق بالقرن الأول يذكرانها من غير سند ولا رواية ولا إحالة على كتاب؟ أما كتب القدماء الموثوق بها فليس لهذه الرواية فيها أثر ولا عين، هذا تاريخ الطبري واليعقوبي والمعارف لابن قتيبة والأخبار الطوال للدينوري وفتوح البلدان للبلاذري والتاريخ الصغير للبخاري وثقاة ابن حبان والطبقات لابن سعد قد تصفحناها وكررنا النظر فيها ومع أن فتح الإسكندرية مذكور فيها بقضها وقضيضها فليس لحريق الخزانة فيها ذكر. وعلاوة على ذلك فإن في فتح مصر كتبًا مختصة بذلك مثل خطط مصر للكندي وكشف الممالك لابن شاهين وتاريخ مصر لعبد الرحمن الصوفي وتاريخ مصر لابن بركات النحوي وتاريخ مصر لمحمد بن عبد الله وغيرها مما ذكرها صاحب كشف الظنون، والمقريزي جمع وأوعى كل ذلك ولم يترك رواية ولا خبرًا يتعلق بمصر إلا وذكره عند تفصيل الفتح ولم يذكر هذه الواقعة عند ذكر فتح الإسكندرية. قال المؤلف: (وأما خلو كتب الفتح من ذكر هذه الحادثة فلا بد له من سبب والغالب أنهم ذكروها، ثم حذفت بعد نضج التمدن الإسلامي واشتغال المسلمين بالعلم ومعرفتهم قدر الكتب فاستبعدوا حدوث ذلك في عصر الراشدين فحذفوه أو لعل لذلك سببًا آخر إلخ) (الجزء الثالث صفحة 44 و45) . لا يستبعد مثل هذا الكلام من مثل هذا المؤلف! وكيف يقدِّر ديانة مؤرخي الإسلام وشدتهم في تحري الصدق ونزاهتهم عن التغيير والتحريف وبراءة ساحتهم عن الحذف والإسقاط مَن صارت غريزته تعمُّد الكذب والتحريف والخيانة والمحو والإثبات؟ قال المؤلف: (ثالثًا) ورد في أماكن كثيرة من تواريخ المسلمين، خبر إحراق مكاتب فارس وغيرها على الإجمال وقد لخصها صاحب كشف الظنون إلخ (الجزء الثالث صفحة 45) . انظر إلى هذا الكذب الفاحش والخديعة الظاهرة فإن صاحب الكشف ذكر ما ذكر من عند نفسه من غير نقل رواية ولا استناد ولا استشهاد بكتاب ولا ذكر ناقل أو مؤرخ - وصاحبنا يقول: إنه ورد في أماكن كثيرة من تواريخ المسلمين خبر إحراق المكاتب وقد لخصها صاحب كشف الظنون، فأين الأماكن الكثيرة وأين التلخيص؟ ! أما قول صاحب كشف الظنون فقد ورد عرضًا وتطفلاً وكذلك قول ابن خلدون وأمثال هذه المواقع لا تحتاج إلى كبير اعتناء وزيادة احتياط؛ ولذلك لما ذكر ابن خلدون فتح مصر والإسكندرية وهو المظنة لذكر هذه الواقعة لم يتفوه بهذه الرواية أصلاً، ثم إن ابن خلدون وصاحب كشف الظنون من رجال القرن الثامن وبعده فما لم يذكرا من أين أخذا هذه الرواية لا يُعبأ بها ولا يلتفت إليها. قال المؤلف: (رابعًا) أن إحراق الكتب كان شائعًا في تلك العصور.. .. . كما فعل عبد الله بن طاهر بكتب فارسية إلخ (الجزء الثالث صفحة 45) . يا للعجب! عبد الله بن طاهر من قواد المأمون ومن رجال الأدب وهذا العصر يمتاز بكونه عصر العلم والمعارف وقد كانت للدولة ورجال حاشيتها وغيرهم عناية كبرى بكتب الأوائل وكانوا يستجلبون الكتب من فارس وبلاد الروم وغيرها - وتجد تفاصيل ذلك في فهرست ابن النديم وطبقات الأطباء وأخبار الحكماء وغيرها، فكيف يعوّل على هذه الرواية التي ما ذكرها أحد من ثقاة المؤرخين وإنما استند المؤلف (ببراون المعلم الإنكليزي) وهو نقلها من تذكرة (دولت شاه) وهو كتاب جامع لكل غث وسمين، ولو صح نقلها لكانت على سبيل الندرة والشذوذ، فهل يصح قول المؤلف: (إن إحراق الكتب كان شائعًا في تلك العصور) ؟ قال المؤلف: (خامسًا) إن أصحاب الأديان في تلك العصور كانوا يعدّون هدم المعابد القديمة وإحراق كتب أصحابها من قبيل السعي في تأييد الأديان الجديدة ثم ذكر في تأييد ذلك عمل إمبراطرة الروم وإحراق كتب المعتزلة ج 3 ص 46. نعم ولكن الراشدين لا يقاسون بغيرهم، ثم إن المسألة ليست قياسية فما لم تثبت بالرواية لا ينفع مجرد القياس. قال المؤلف: (سادسًا) في تاريخ الإسلام جماعة من أئمة المسلمين أحرقوا كتبهم من تلقاء أنفسهم (ثم ذكر بعض الحوادث في تأييد ذلك) ج 3 ص 46. عجبًا لمثل هذا الاستدلال! فإن المرء يجوز له أن يفعل بملكه ما يشاء وأي حجة في ذلك لإحراق كتب أقوام أخر؟ إن هذه القياسات الواهية لا تغني شيئًا ولكن لو أردنا أن نستشفي في ذلك البحث بالقياس والأمارات فعلينا أن ننظر ما كان صنيع الخلفاء الراشدين بآثار أهل الذمة ومعابدهم وكنائسهم وأمتعتهم وخزائنهم، إن الأصل في ذلك عهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كتبه لأهل نجران وقد ذكره القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج بحروفه. (ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبِيَعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير) (كتاب الخراج طبع مصر صفحة 41) . فكان هذا العهد هو العمدة للصحابة عضوا عليه بالنواجذ وتجد في كل عهود الخلفاء الراشدين كعهد نجران ومصر والشام والجزيرة أن هذا الأصل أي ذمة الله ورسوله على أرضهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير محفوظ باقٍ على حالته الأصلية وعهد مصر هو هذا. (هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ودمهم وأموالهم وصاعهم ومدهم وعددهم) . وذكر في معجم البلدان رواية بزيادة (أن لهم أرضهم وأموالهم لا يتعرضون في شيء منها) وأنت تعلم ما لعمر الفاروق من العناية والشدة في وفاء العهد بأهل الذمة وغيرهم ومع عهده بأنهم لا يتعرضون في شيء من أموالهم وكل ما تحت أيديهم كيف كان يتعرض لخزانة كتبهم التي هي من أنفس ذخائرهم وأغلاها؟ اعلم أن مسألة إحراق خزانة الإسكندرية موضوع مهم عند أهل أوروبة وقد أطال البحث فيه إثباتًا ونفيًا وممن ألم بهذا البحث إجمالاً وتفصيلاً المعلم (وايت) والمعلم (دساسي) الفرنسي في ترجمة كتاب الإفادة والاعتبار و (واشنكتن أدونك) و (داربر) الأمريكاني صاحب كتاب الجدال بين العلم والدين وكرجين وسيديو الفاضل الشهير الفرنسي في تاريخ الإسلام والمعلم رينان الفيلسوف الفرنسي في خطبته الإسلام والعلم و (أرتركليين) ، وللمعلم (كريل) الألماني رسالة

بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد ـ 3

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد [*] (3) (5) قال ميخا 5: 2 (أما أنت يا بيت لحم أفراتة (وأنت) صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا , فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطًا على إسرائيل ومخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل) والذي يفهم من هذه العبارة أن الله قضى بخروجه منذ الأزل وهذا لا نزاع فيه , أما إذا كانوا يفهمون منها أن خروج المسيح كان منذ الأزل فهو خطأ؛ لأنه باعتبار ناسوته ما خرج منذ الأزل باعترافهم , وباعتبار لاهوته لا معنى لخروجه , فإن ذاته هي عين ذات الله على حسب اعتقادهم , وذات الابن لم تفارق ذات الله تعالى لا أزلاً ولن تفارقه أبدًا , فإنها لا تقبل الانقسام ولا التفرق فكيف إذًا يفسرون هذا اللفظ (مخارجه) ؟ ولماذا أتى جمعًا لا مفردًا؟ والذي يدلك على صحة تفسيرنا - أن المراد خروجه في علم الله وقضائه أزلاً - قول سِفْر الرؤيا 13: 8 كما في الترجمة الإنكليزية (فى سفر حياة الخروف الذي ذبح منذ تأسيس العالم) والمراد به عندهم صلب المسيح الذي وقع في عهد بيلاطس لا منذ تأسيس العالم وإنما قال ذلك؛ لأنه واقع في علم الله تعالى منذ الأزل كما يزعمون , وقال بولس في رسالته إلى أهل أفسس 1: 4 (كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم) مع أنهم ما كانوا موجودين في ذلك الوقت, وإنما يريد أنه اختارهم في علمه , وقال في رسالته الثانية إلى تيموثاوس 1: 9 (بمقتضى القصد والنعمة التي أعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية) فكيف تعطى لمن ليسوا موجودين؟ اللهم إلا في علم الله فكذلك عبارة ميخا يراد بخروجه فيها خروجه في علم الله؛ ولذلك لما نقل متى هذه العبارة في إنجيله نقلها هكذا 2: 6 (وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل) فلو كان قول ميخا يفهم منه ألوهية المسيح لما تركه متى. فالمراد بجميع هذه العبارات المتقدمة أن الله تعالى قضى في علمه بوقوع هذه الأشياء منذ الأزل فهي واقعة لا محالة , ولا يمكن أن يتخلف شيء مما قضاه تعالى , فقوله: (مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل) المراد به أن خروجه لا بد من وقوعه؛ لأنه مقضي أزلاً. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد: 22) راجع أيضًا قول المزمور 44: 1 (آباؤنا أخبرونا بعمل عملته في أيامهم في أيام القدم) وقول أشعياء 64: 4 (ومنذ الأزل لم يسمعوا ولم يصغوا) . ثم قال ميخا بعد هذه العبارة السابقة في حق المسيح 4 (ويقف ويرعى بقدرة الرب بعظمة اسم الرب إلهه) وهذا نص على أن الله إلهه فكيف يكون هو إلهًا , وهذا أيضًا دليل على أن مراده من قوله: (مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل) هو ما قلناه سابقًا , وأننا لسنا متعسفين , ويجوز أيضًا أن ذلك مما حرفه اليهود في كتبهم؛ لأجل مسيحهم المنتظر كما سبق في المقدمة , فلما جاءهم كفروا به. أو مما حرفه النصارى , كما سيأتي في الفصل الثالث , وإن كان له أصل صحيح. (6) قال في مزمور 45: 6 (كرسيك يا الله [1] إلى دهر الدهور) ولفظ (الله) هنا في العبرية (ألوهيم) ويطلق أيضًا على القوي من أفاضل البشر , وقد بينا لك فيما سبق أن موسى سمي (إلهًا) وكذلك غيره فلا حاجة للتكرار , والذي يدلك على أن المراد بهذا اللفظ ليس الإله الحقيقي قوله بعد ذلك 7 (مسحك الله إلهك) والإله الحقيقي لا إله له , على أن هذا المزمور هو قطعًا في حق محمد صلى الله عليه وسلم , بدليل ذكر صفات النبي صلى الله عليه وسلم فيه التي لا تنطبق على المسيح , كقوله 3 (تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار 5 نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك 9 بنات ملوك بين حظياتك 16 يكون بنوك تقيمهم رؤساء في كل الأرض إلخ إلخ) والمسيح لم يكن له سيف ولا نبل ولا نساء ولا بنون ويجوز أن يكون سقط من الكاتب لفظ (عبد) قبل لفظ (الله) سهوًا , كما يعترفون هم في كثير من المواضع التي وقع فيها خطأ الكاتب كما ستعرف. (7) قال داود - عليه السلام - مز 110: 1 قال: (الرب لربي اجلس عن يميني) ولا يخفى أن لفظ الرب يطلق في اللغات التي نعرفها على السيد فكذلك ههنا المعنى (قال الرب لسيدي) كما في حاشية الكتاب المقدس للبروتستنت وكما ترجمها الكاثوليك في نسخهم , وهذا أمر معروف فلا حاجة لذكر شيء من شواهده هنا , ولذلك قال قاموس الكتاب المقدس للدكتور (بوست) : (إنها تستعمل أحيانًا بمعنى سيد أو مولى دلالة على الاعتبار والإكرام) . هذا وقول اليهود: إن هذا المزمور هو لداود معناه عندهم أنه في حقه كما يقولون: إن مزمور (72) هو لسليمان ويريدون أنه هو المقصود به وأنه في حقه لا أنه هو قائله. أما قائل هذا المزمور (110) فهو (على قول كثير منهم) أحد أتباع داود يقصد به داود نفسه وحربه مع أعدائه وانتصاره عليهم , وفي قول آخر لهم: إن قائله اليعازر الدمشقي خادم إبراهيم - عليه السلام - (تك 15: 2) وأنه يريد به إبراهيم سيده حينما حارب الملوك الخمسة وكسرهم. وعليه فقول النصارى: إن اليهود تعترف أن قائل هذا المزمور هو داود كذب عليهم , ويوجد مزامير أخرى كثيرة لا يُعرف من الذي قالها , ويقال: إن موسى هو القائل للمزمور التسعين , فليست جميع المزامير لداود , ولم تؤلف كلها في زمنه كما يتوهم الجاهلون , بل منها ما كتب قبله وبعده بسنين (راجع قاموس بوست م 1 ص 513 - 516) . وللمسلمين أن يقلدوا المسيحيين ويقولوا في هذه العبارة: إنها في حق محمد صلى الله عليه وسلم , فإنها كأغلب نبوات العهدين ليست نصًّا في شيء معين , بل هي مبهمة ويمكننا حملها عليه بأحسن مما يفعلون. فإذا تذكرنا أن محمدًا أحيا دين إبراهيم , وسماه أبًا للمسلمين , وأوجب عليهم تعظيمه , وأن يصلُّوا على نبيهم محمد كما صلَّى الله على إبراهيم الذي يتبعونه في ملته وإسلامه لله , إذا تذكرنا ذلك تجلى لنا مغزى قول داود فيما بعد (مز 110: 4) (أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق (فإن ملكي صادق كان أطعم إبراهيم وسقاه , وباركه وأكرمه (تك 14: 18 و19) فكأن حب محمد وتعظيمه لإبراهيم هو كحب ملكي صادق وإكرامه له , ولذلك تجد المسلمين يذكرون إبراهيم دون غيره من الأنبياء في كل صلاة من صلواتهم الكثيرة في كل يوم. ولا يخفى أن الكاهن عند أهل الكتاب هو الذي يرأس الحفلات الدينية الخاصة بالعبادة , ولما كانت أهم عبادة للقدماء هي تقديم القرابين والضحايا , كان الكهنة يساعدون الناس في تأدية هذه الفروض الدينية , فيرشون دم الذبائح على المذبح ويحرقون المحرقات والقرابين , وقد يذبحون لهم بعض الذبائح أيضًا , وإن كان الذبيح في الغالب هو الشخص المقرّب نفسه. وزيادة على ذلك كان الكهنة ينظرون في بعض مصالح العباد , ويفسرون لهم الشريعة , ويُفتونهم , ويقضون بينهم في بعض المسائل , ويرشدونهم إلى كيفية تأدية عباداتهم. فالكاهن إذًا هو عبارة عن إمام لهم في عباداتهم , ورئيس لهم في دينهم ومعلم , ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم هو رئيس المسلمين وإمامهم الأعظم فكان يعلمهم الدين , ويقضي بينهم , وينظر في جميع مصالحهم , ويرأسهم في عباداتهم , ويأتمون به في جميع صلواتهم وفي حجهم , ويخطب فيهم في أيام أعيادهم وجمعهم وموقفهم بعرفة , ويقلدونه في ضحاياهم وذبائحهم , ويقتدون به في كل شيء , وهو الذي أحيا فيهم سنن إبراهيم في الحج والذبح وغيرهما , وكان كما رواه أبو داود يضحي عن نفسه وعمن لم يضحِّ من أمته وهم الفقراء؛ فلهذا كله كان صلى الله عليه وسلم هو كاهنهم الأعظم , وكل إمام لهم غيره إنما هو نائب عنه , فهو إمامهم في كل مكان وزمان , وبمثل تعبيرهم هو كاهنهم الأعظم إلى الأبد , فهو رئيس وكاهن ومعظِّم لإبراهيم ومحب له كملكي صادق من كل وجه. ولا شك أن المسيح كان أقل درجة من محمد في كل تلك الوظائف الكهنوتية السابقة , ولم يكن له من الشأن في قومه مثل ما لمحمد؛ فلذا كان محمد أولى بالتشبيه بالكاهن [2] من المسيح عليه السلام. وإذا لاحظنا أن صلب المسيح المزعوم لم يكن برغبته ولا بإرادته كما سبق بيانه (فى مقالة القرابين والضحايا) , وسنزيد ذلك إيضاحًا: أعني أنه لم يقرِّب نفسه باختياره , ولم يعمل أي عمل أثناء صلبه من أعمال الكهنة في القرابين: كالإحراق , ورش المذبح بالدم , فهو لم يمتز في هذه المسألة بشيء عن محمد عليهما السلام , بل هو فيها لم يكن بكاهن مطلقًا , بل كان نفس (القربان) ولذا تسميه كتبهم ويسمونه (الخروف المذبوح) (راجع مثلاً سفر الرؤيا 5: 12) وشتان ما بين القربان نفسه وبين الكاهن , ففي حادثة الصلب كان اليهود والرومانيون مقربوه أحقّ باسم الكاهن منه , فإن قيل: إنهم ما كانوا يقصدون تقريبه لله , قلت: وكذلك هو ما كان راغبًا في ذلك القربان , وكان يود أن يعتق منه بخلاف محمد وأصحابه فإنهم كانوا يدخلون القتال , وكانوا يتمنون أن يستشهدوا في سبيل الله وفي سبيل هداية الناس وإنقاذهم من الضلال. (راجع الفصل الثالث) وعليه فالتشبيه بالكاهن وبملكي صادق غير منطبق على المسيح تمامًا كانطباقه على محمد عليهما السلام. وقول داود في هذا المزمور 110: 2 (يرسل الرب قضيب (أو صولجان) عزك من صهيون) وهي أورشليم معناه أنه يُخرج الصولجان منها ويبعثه إليه في بلاده , وهو كناية عن نقل الملك والوحي والنبوة من اليهود والنصارى إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته , التي قال فيها المسيح لليهود كما في متَّى 21: 43: (إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطَى لأمة تعمل أثماره) . وقول داود بعد ذلك 5 و6: (الرب عن يمينك يحطم في يوم زجره ملوكًا , يدين بين الأمم , ملأ جثثًا أرضًا واسعة سحق رءوسها) إشارة واضحة لحروب النبي صلى الله عليه وسلم وانتصاراته الباهرة على أعدائه , وهي لا تنطبق على المسيح. فأنت ترى مما تقدم أن محمدًا أولى بهذا المزمور من المسيح , ولكننا نحن المسلمين ولله الحمد في غنى عن مثل هذه البراهين؛ ولذلك لا نعبأ بها كثيرًا كما تفعل النصارى؛ لشدة احتياجهم وفقرهم إليها , وإنما أطلنا الكلام هنا فيها مجاراة لهم لعلهم يرشدون. (8) قال أرميا 23: 5: (ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن بر , فيملك ملك , وينجح ويجري حقًّا وعدلاً في الأرض 6 في أيامه يخلص يهوذا , ويسكن إسرائيل آمنًا , وهذا هو اسمه الذي يدعونه به) الرب برنا 7 لذلك ها أيام تأتي يقول الرب ولا يقولون بعد حيّ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض مصر 8 بل حي هو الرب الذي أصعد وأتى بنسل بيت إسرائيل من أرض الشمال , ومن جميع الأراضي التي طردتهم إليها فيسكنون في أرضهم) . فالظاهر من هذه العبارة أن المراد بها نحميا كما سبق بيانه , وهو الذي كان أعظم من حكم أورشليم بعد السبي , بل هو الوالي الوحيد من بيت داود بعد تمام عمارتها الذي كان في عصره ببنائه لسورها , وفي أيامه رجع إليها جمهور المسبيين من بابل , وسكنوا في أرضهم ومعنى اسمه (نحميا) (من يعزيه الله) وكان أيضًا يسمى (الرئيس) فكلمتا (الرئيس نحميا) تقرب من كلمتي (الرب - أي السيد - برنا) في المعنى فكأنه قال: (السيد الذي به تعزيتنا وصلاحنا) وعدم انطباق هذه العبارة على المسيح عيسى -عليه السلام - ظاهر فيها من أولها إلى آخرها , إذ لم يأت في زمنه بنو إسرائيل من بابل إلى أرضهم , وعلى فرض أنه هو المراد بها فليس في هذا الاسم شيء يدل على ألوهيته , فإذا كان معناه (هو الرب وهو برنا) أي (هو السيد وهو برنا) فالأمر ظاهر , وإن كان المعنى أنه يسمى بهذه

الغارة على العالم الإسلامي ـ 3

الكاتب: المسيو شاتليه

_ الغارة على العالم الإسلامي العالم الإسلامي اليوم [*] بلاد الترك العثمانية وضع القسيس (أناتوليكوس) تقريرًا في هذا الموضوع لخص فيه أعمال وحركة التبشير في بلاد الترك العثمانية , ولم يتوسع في تقريره لأن هناك أسبابًا سياسية وغير سياسية تمنعه من ذلك. ومما قاله: إن الكتاب المقدس راجت نسخ ترجمته التركية رواجًا حسنًا وهي تباع بالألوف. وبنى على ذلك أن الأتراك الذين يحترمون القرآن احترام القروي الكاثوليكي في أواسط أوروبة للإنجيل , يعرفون قدر مطالعة الكتاب المقدس إلخ. *** سورية وفلسطين تقف في طريق تبشير هذه البلاد عقبات خاصة بعضها من الحكومة والبعض الآخر ناشئ عن حالة البلاد وموقفها الحاضر، فسورية وفلسطين مملوءتان بالمذاهب المختلفة , وللدين فيهما ارتباط بالسياسة، وأهم الوسائل التي يستخدمها المبشرون لتذليل هذه الصعوبات هي: 1- توزيع نسخ الكتاب المقدس. 2- التبشير من طريق الطب؛ لأن ذلك في مأمن من مناوأة الحكومة له، والمسلمون يلجأون بأنفسهم إلى مستشفيات المبشرين وصيدلياتهم. 3- الأعمال التهذيبية: كالمدارس والكليات التي تقبل أبناء المسلمين , وكان في مدارس (صيدا) فقط في السنوات الأخيرة 250 تلميذًا من كل الطوائف , فوصل عدد المسلمين في السنوات الثلاث الأخيرة إلى 98 بعد أن كانوا 45 وهذه الزيادة ناشئة عن إقبال مسلمي مصر على مدارس المبشرين في سورية. 4- الأعمال النسائية: مثل زيارة المبشرات منازل المسلمين وإلقائهن المحاضرات الخاصة. 5- توزيع الكتب والمؤلفات التبشيرية. وختم صاحب التقرير آراءه بقوله: (إننا لو سئلنا عن نتائج مجهودات مبشري المسلمين بالنصرانية في سورية وفلسطين لا نجد جوابًا غير القول بأن الله وحده هو المطلع على مستقبل أعمالنا بين المسلمين وعلى نتائجها، وأن الله لم يبارك داود النبي لكثرة عدد قومه. أجل إننا لو تصفحنا الإحصائيات يتبين لنا أن عدد المسلمين الذين تنصروا وتعمدوا هو عدد غير مُسرّ وغير مرضٍ، إلا أن هذا العدد مهما يكن قليلاً بذاته فإن أهميته أعظم مما يتصور المتصورون. وصفوة القول: أننا حصلنا على نتيجة واحدة جوهرية وهي أننا أعددنا آلات العمل، فترجمنا الإنجيل , ودربنا الوطنيين على مهنة التبشير، وأتممنا تهيئة الأدوات اللازمة وهي الكنائس والمدارس والمستشفيات والجرائد والكتب، ولم يبق علينا إلا أن نستعمل هذه الأدوات. *** الجزيرة العربية قال وليم جيفورد بالكراف: (متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلا محمد وكتابه!) . قال مؤلف كتاب (العالم الإسلامي اليوم) : وقد أدرك أهمية هذه الفكرة القسيس (يانغ) صاحب التقرير عن التبشير في جزيرة العرب , فجعلها نصب عينيه في كل الأعمال , ولكننا نتساءل عما إذا كان قد حان الوقت للعمل بها وعما تكون نتيجة التبشير حينئذ؟ وقد سبق للقسيس زويمر (رئيس إرساليات التبشير في البحرين) أن ألف كتابًا سماه (مهد الإسلام) - وسيأتي الكلام على هذا الكتاب بعد - أتى فيه على تاريخ إرساليات التبشير في جزيرة العرب وما تطمع به هذه الإرساليات , وأشار بوجه خاص إلى إرسالية التبشير العربية , وهي البنت الممتازة لكنيسة الإصلاح الأمريكية , ولها فروع أربعة أقدمها عهدًا (جمعية تبشير الكنيسة) التي تفرع عنها فرع آخر في فارس سنة 1882 , وقد استقلت هذه الجمعية بأعمالها باسم (جمعية التبشير العربية العثمانية) ولها في بغداد أربع إرساليات وفي الموصل إرسالية واحدة. وفي سنة 1885 ذهب إلى عدن (إيون كيث مالكونر) وهو الابن الثالث للكونت (كنتور) فأسس هناك إرسالية تبشير اسكتلندية سماها باسمه , وهي مؤلفة من طبيبين مبشرين , وتبعتها (إرسالية التبشير العربية) التي أسست سنة 1889 وهي تابعة لكنيسة الإصلاح الأميركية , فانتشرت في البصرة والبحرين ولها في البحرين خمسة مبشرين - اثنان منهم طبيبان واثنان امرأتان - ولها في البصرة أربعة مبشرين أحدهم طبيب. وفي (الشيخ عثمان) إرسالية تبشير دينمركية كان سلطان (مكلا) طردها من بلاده [1] , وتوجد في الجزيرة إرساليات أخرى تمدها جمعياتها بالمال والإعانات. وانتقل المؤلف بعد هذا البيان إلى ذكر النفقات الجسيمة التي تتكبدها إرساليات التبشير في جزيرة العرب , ومما قاله: إن مرتبات المبشرين والموظفين عندهم وبائعي كتبهم تساوي ثلاثة أضعاف مرتبات أمثالهم في الهند، ومما يخفف أمر هذه النفقات أن المبشرين في بلاد العرب اتخذوا لهم مراكز تمهد لهم سبيل التوغل في داخل الجزيرة , وكل الإرساليات هناك على اختلاف نزعاتها وأشكالها ومعاهدها الطبية والتهذيبية والأدبية ترمي إلى غاية واحدة. والمرضى يشدون الرحال من أصقاع بعيدة إلى مستشفيات المبشرين في (الموصل) و (بغداد) و (البصرة) و (البحرين) و (الشيخ عثمان) و (عدن) وعندما يرحل الأطباء جائيين في البلاد , يبذرون في النفوس بذورًا يمكن للمبشرين وبائعي الكتب أن يتعهدوها بعد ذلك وينمو غرسها. والتعليم المدرسي والتربية الأخلاقية اللذان يعنى بهما المبشرون قد أسفرا عن نتائج جمة , وأثمرا ثمرات نافعة في الأطفال والمراهقين على السواء. قال القسيس زويمر: إنه جمع تلاميذه المسلمين مرة ووضع بين أيديهم كرة تمثل الكرة الأرضية , ثم حول عليها نورًا قويًّا , وبرهن لهم بذلك على كون الأمر بصيام شهر رمضان ليس آتيًا من عند الله؛ لأنه يتعذر أداء هذه الفريضة في بعض البلاد؟ ! وقال أيضًا: إن المحاضرات التي يلقيها القسس المبشرون على الحاضرين من المسلمين أثناء تمثيل حوادث التوراة بالفانوس السحري والخرائط الإحصائية عن ارتقاء ممالك النصرانية وانحطاط ممالك الإسلام , كل ذلك تتمة لوسائل التعليم البروتستاني. وقال المؤلف عن نتائج أعمال المبشرين في بلاد العرب: إن من المتعذر تعيين نتائج هذه الأعمال الخيرية، إلا أن مما يدعو إلى الاغتباط والسرور أننا اقتطفنا ثمرات أعمالنا في كل منطقة من مناطق التبشير , فالأوهام تبددت وحل محلها التسامح والاهتمام الحقيقي بالتعاليم النصرانية , وفي كل سنة تباع ألوف من نسخ الكتاب المقدس وكميات وافرة من الكتب والكراسات والمجلات , ويهتم المبشرون الآن بإقامة مستشفى في الشيخ عثمان؛ لأنه بينما كان عدد المرضى الذين عرضوا أنفسهم على أطباء المبشرين يبلغ 2500 صاروا الآن 40000 [2] . *** مملكة فارس أنشأ القسيس (سن كليريسدال) تقريرًا عن التبشير في فارس , وهو لا يختلف عن التقارير المتعلقة بتبشير البلاد العثمانية من حيث قلة مادته: (بذلت إرساليات التبشير جهدها في بلاد فارس , ونجحت في تبديد ما يعتقدونه في النصارى من أنهم مشركون بالله ويعبدون آلهة ثلاثة , وهذا الاعتقاد وقر في نفوس المسلمين لما يشاهدونه في الكنائس الشرقية والكاثوليكية , إلا أنهم عادوا الآن فصاروا يفرقون بين الفرقتين النصرانيتين , فظهر لهم أن البروتستانية خالية من الوثنية فارتاحوا لها؟) . قال صاحب التقرير: (إنه لما عُين سنة 1892 سكرتيرًا لجمعية تبشير الكنيسة , كان الاعتقاد السائد هو أنه يستحيل أن يتنصر المسلم ويتعمد إلا إذا عرض نفسه للموت. ولكن الاضطهاد قد خف الآن , وصارت أبواب فارس مفتوحة للمبشرين بالإنجيل أكثر من غيرها , واكتسب المبشرون محبة الناس لهم بسبب الأعمال الطيبة التي تصدر عن المبشرين , فتجعل الأعداء أيضًا يعترفون بأن النصرانية مصدر عمل صالح. ومهما يكن عدد المتنصرين لا يزال قليلاً , فإن هنالك جمعيات صغيرة مسيحية اندمج فيها المتنصرون الفارسيون من نساء ورجال، وهذه الجمعيات الصغيرة منتشرة في كل مكان وصل إليه المبشرون , وفوق ذلك فإن عددًا عظيمًا من المسلمين ينتمي إلى النصرانية سرًّا ويقال: إن بينهم من لا يتأخر عن إعلان نصرانيته عندما تنتشر حرية الأديان في فارس. والوسائل التي يتذرع بها المبشرون هنا هي الإرساليات الطبية من نساء ورجال ورحلات المبشرين والأعمال النسائية , ورجال التبشير يتحككون بالمسلمين ويحاولون الحصول على مودتهم , ويستخدمون فريقًا منهم في مكاتب التبشير , ويدخلون معهم في المناقشات الدينية , إلا أنهم لا يجرحون عواطفهم , والهمة مبذولة بنشر الإنجيل والتوراة وسائر كتب التبشير باللغة الفارسية , وبالاعتناء بتعليم الذين تنصروا ولا يزالون في دور التجربة) . وأنكر القسيس زويمر على صاحب هذا التقرير إغفاله ذكر المدارس وما لها من التأثير إذ أنها أحسن ما يعول عليه المبشرون في التحكك بالمسلمين , وقد قال أحد المبشرين: المدارس هي من أحسن الوسائل لترويج أغراض المبشرين وقد كان عدد التلاميذ في المدرسة التبشيرية في طهران قبل سنتين فقط 40 إلى 50 , فصاروا الآن 115 وكلهم يتلقون التربية النصرانية بكل إتقان. وكذلك الحال في مدرسة تبريز التي يديرها هذا القسيس , فقد كان فيها 3 تلاميذ من المسلمين , ثم صاروا 50 ومثل ذلك مدرسة أورمية , فإن فيها 50 طالبًا وفي مدرسة البنات 35 تلميذة , وفي مدرسة البنات في طهران 25 تلميذة. وأنكر مبشر آخر على صاحب التقرير قوله: إن البهائيين يتقربون من التوراة أكثر من غيرهم , وزاد على ذلك أنه لا يوجد من يعتبر البهائيين أسمى أخلاقًا من المسلمين , بل الحقيقة على عكس ذلك. *** صومترا يمتاز التقرير الذي وضعه أحد قُسس الألمان عن مبشري هذه البلاد بدقته في الكلام عليهم , وبيان أعمالهم بالأرقام , ومما قاله: (إن جمعية المبشرين الألمانية نصَّرت مئة شخص منذ تأسست سنة 1871 إلى وقت كتابة هذا التقرير , ولجمعية التبشير الهولاندية فقط أن تبشر على الساحل الشرقي من الجزيرة , والذين نصَّرتهم لجنة تبشير جاوة 500 شخص منذ 1860 , وأما (جمعية ريتس الألمانية) فتفوق على تلك باتساع نطاق أعمالها , لأن لها 36 فرعًا: أربعة منها لتبشير المسلمين بوجه خاص , وقد تمكنت من تنصير 6000 مسلم ولديها الآن 1150 مسلمًا في دور التجربة ولجمعية التبشير بالتوراة - وهي إنكليزية - مندوبون في مناطق أعمال الإرساليات الألمانية يبيعون الكتاب المقدس. وقد تحسنت خطة هولندة مع المبشرين عما كانت عليه في أواسط القرن الماضي , فصارت تشد أزر المبشرين وتساعد مدارسهم وإرسالياتهم الطبية , وتعد ذلك من عوامل نشر المدنية. وللمبشرين هنا ثمانون كنيسة وأدخلوا بينهم من الوطنيين خمسة قُسس وسبعين مبشرًا هذبوهم في مدارس خاصة بهم , وإرساليات التبشير تجبي من المسيحيين في صومترا ضريبة وضعتها على الأرز؛ للاستعانة بها على التبشير وتستوفيها نقدًا أو من عين المال) . ويقول واضع التقرير: (إن ميل المسلمين إلى النصرانية قد ظهر جليًّا وقويَ تياره , ويتفق في بعض الأوقات أن يتنصر العروسان المسلمان في وقت واحد. ويتقرب المبشرون الألمان إلى المسلمين بالمدارس والإرساليات الطبية , وهذه الإرساليات الطبية - كما يقول عنها صاحب التقرير - مثل الشوك في أجسام زعماء المسلمين الذين يسلون أنفسهم قائلين: إن الله أرسل هؤلاء الأطباء ليخدموا. إلا أن للإرساليات الطبية بالرغم من ذلك تأثيرًا شديدًا على المسلمين؛ لأنها تظهر الفرق بين أغراض الزعماء الشخصية وبين خدمة الأطباء المبشرين الذين لا غرض لهم في النفس!) . *** جاوه لا يختلف موقف المبشرين في هذه الجزيرة عن موقف زملائهم في صومتره من حيث الوسائل التي يتذر

عجالة في رحلة الهند ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عجالة في رحلة الهند لصاحب المنار (1) قد استفدت في رحلتي إلى الهند والبلاد العربية الشرقية فوائد كثيرة جديرة بأن تنشر في المنار، وأن تدون في كتاب مستقل، ولذلك عزمت على تأليف رحلة خاصة في ذلك , ورأيت أن أعجل لقراء المنار ببعض ما رأيت وما استفدت. الإنكليز: رياضتهم وأخلاقهم لا يرى المسافر في سفينة إنكليزية عِبرة تهديها عيناه إلى فكره أعظم من انهماك الإنكليز في الرياضة البدنية في عامة أوقاتهم، فإذا هو زار الهند بعد ذلك , ورأى فيها حكامهم وعسكرهم يعيشون في ذلك الحرّ المُحرق بلا ضرر ولا ضجر ولا سأم يعلم من أسرار تلك الرياضة البدنية ومنافعها ما لم يكن يعلم، ويرى كيف وصل العقل البشري إلى الجمع بين الترف والنعيم والبأس والقوة، وكان هذا في العصور السابقة أمرًا مجهولاً، ولذلك أهلك الترف أممًا كثيرة، وأفنى دولاً كانت قبله قوية، وهل يعتبر بهذا أغنياء أمتنا، بل عامة أهل المدن منا؟ كلا! إننا نراهم لا يأخذون عن الإفرنج إلا أسباب الترف والنعيم، ووسائل الراحة واللذة، ينفقون في ذلك أموالهم وصحتهم، فبلادهم وملكهم، حتى يكونوا عبيدًا أذلاء , ومن العجائب أن الذين يزعمون منا أنهم مصلحون سياسيون ويتصدون لزعامة الأمة وقيادتها في ميدان الحياة الاجتماعية والسياسية، هم أشد أفرادها إسرافًا في الترف، وانهماكًا في اللذات، وحرصًا على الزينة والنعمة، وإنما جهادهم وكفاحهم ضرب من ضروب الكلام، وهو التشنيع على من سادوا بلادهم بالقوى البدنية والنفسية (الأخلاق) والعلمية، وما يتبعها من القوى المالية والآلية , ولا نراهم يقودون الأمة إلى ما يقوي أبدانها وإراداتها، ويهذب أخلاقها وصفاتها، ويوسع دائرة علومها وثروتها، ومن خسر نفسه فأيّ ربح يرجوه في سواها؟ إننى سافرت من بور سعيد إلى بمبي في إحدى بواخر البريد الإنكليزية بين أوروبة والهند , ولم يكن في الدرجة الأولى ركاب من غير الإنكليز سواي، فكان أول عِبرة أطلت فيها الفكرة من أحوالهم ما ذكرت من عنايتهم بالرياضة البدنية، ثم إن أخلاقهم وآدابهم ليست بالتي ينساها المعتبر، أو يغفل عنها العاقل المفكر، وإنها لأخلاق عالية، وآداب سامية، وهل سادوا الأمم وبزّوا الدول إلا بعلو أخلاقهم، وصحة أبدانهم؟ والمشهور عنهم أنهم أصحاب جفوة، وأنهم لا يبدأون غريبًا بشيء من وسائل العِشْرة، ولكنني رأيت كثيرًا منهم يبدأني بالتحية، ويفتح لي باب الكلام معه، ولكنني لسوء الحظ لم أكن أعرف من اللغة الإنكليزية ما يمكنني من محادثتهم، ويسهل لي سبيل معاشرتهم. ومما يتصل بمسألة الأخلاق والآداب ويعد من فروعها عنايتهم بنظافة السفينة فإن الملاحين يغسلون كل يوم كل ما يمكن غسله منها كسطحها الذي هو محل الجلوس والرياضة، ويمسحون ما عدا ذلك، فلا تشم فيها رائحة ما، ولا تقع يدك على شيء يصرفك إلى الماء، ولا يمس ثوبك شيئًا يدعوك إلى استبدال غيره به , ولعلك لا تجد قصرًا من قصور الملوك والأمراء، ولا دارًا من دور أهل الفنع [1] والثراء أشد نظافة من هذه البواخر الإنكليزية، وأما بواخرهم التي تتردد في الخليج الفارسي فهي دون بواخر الشركة الخديوية في النظافة والخدمة والطعام وفي كل شيء , وكانوا يسيئون فيها معاملة العرب إلى أن أُنشئت شركة البواخر العربية فاضطرتهم إلى تغيير معاملتهم. ومن وجوه العبرة في مسألة النظافة أن المسلمين قد انقلب فهمهم لها , فجعلوا كل ما ورد في الشرع من أحكامها أمورًا تعبدية يمكن الجمع بينها وبين الوساخة والقذارة , كأن الطهارة الشرعية لا يقصد بها ما يفهم من معناها في اللغة العربية، ففي عرف جمهورهم أن الوسِخ القذِر الكريه الرائحة قد يكون وليًّا كاملاً في اتباع الشريعة، وأن النظيف البدن والثياب قد يكون نجسًا إذا تعطر على نظافته ببعض الأعطار التي تمزج بالكحول الذي هو أقوى طهورية من الماء إذ يزيل من النجاسات والأقذار ما لا يزيله الماء ولو كان مع الصابون , وسنشرح هذه المسألة في الرحلة إن شاء الله تعالى. ومن آيات العبر التي أصبتها في هذه الرحلة عناية الإنكليز بأمر البريد في البحر والبر، والتوفيق بين مواعيد السفن والقطارات التي تحمله، ولا غَرْو فالبريد آلة السلطة والتصرف في الملك وفي عقول الناس وقلوبهم، ومحل شرح ذلك الرحلة. *** أزياء أهل الهند إن أزياء أهل الهند هي أول ما يشغل نظر السائح فيها ويثير تعجبه , يرى في بمبي - وهي زينة بلاد الهند في حضارتها وعمرانها وثروتها - ألوفًا من النساء الوثنيات مكشوفات البطون والسوق والأفخاذ , يجلسن في الشوارع والأسواق، غاديات رائحات، بائعات مبتاعات، ويرى الرجال حتى الأغنياء منهم مشدودي الأوساط بأُزر بيضاء , مرفوعات الأطراف من بين الرجلين , بحيث يرى باطن الفخذ والساق، ويرى كثيرًا من الرجال والولدان عراة الأجسام لا يسترون منها إلا السوءتين فقط، وهم يبيعون أو يشتغلون في الأسواق، ويرى الألوف الكثيرة من العمائم البيضاء الملونة بجميع الألوان , وفي داخل الهند أزياء أخرى للنساء: تراهن في (بنارس) - مدينتهم المقدسة - وفيما يقرب منها من البلاد يضعن على رؤوسهن قناعًا يسدلنه على الجانب الأيسر من البدن وعلى الصدر، ويبقى الجانب الأيمن مكشوفًا بحيث يُرى نصف البدن الأعلى كله , ويرى الرجال والولدان في محطة سكة الحديد عراة يغتسلون من الحنفيات التي بجانبها , ويسمون الخرقة التي يسترون بها السوءتين (سبيلين) وقد أخذوا هذا الاسم عن المسلمين الذين كانوا يُكرهونهم على ستر عورتهم بعد الفتح الإسلامي، والفقهاء يطلقون لفظ السبيلين على القُبُل والدُّبر كما هو معروف. وأما الحُلي فهو عام يشارك الذكور فيه الإناث , فيضعون في آذانهم الأقراط وفي أعضادهم الدمالج , وفي سوقهم الخلاخيل , والنساء يستكثرن من ذلك حتى إنك ترى في ساق الواحدة منهن عدة خلاخيل ثقيلة , وفي أصابع أرجلها كلها الخواتيم الكثيرة , وأقراطهن كبيرة كأسورتهن , ويكثرن منها حتى يقول الناظر: كيف يستطعن حملها؟ ويستكثرن أيضًا من الخزام في أنوفهن , وقد يكون كبيرًا مثل السوار , يظن الغريب أنهن يتحملن العناء بحمله إلا أن يتذكر أن العادة تخف على صاحبها وإن ثقلت على ذوق غيره , ويرى النساء والرجال في المزارع مشتركين في العمل عراة وأنصاف عراة. أما نساء المسلمين فيقل بروزهن في الأسواق والشوارع، وترى على رأس الواحدة منهن ثوبًا شاملاً يشبه الخيمة وعمود هذه الخيمة بدنها، ولها ثقبان بإزاء العينين لهما شبكة من الخيطان , ترى منهما الطريق الذي تمشي فيه ولا يراها منهما أحد. وأكثر المسلمين يلبسون السراويل , لعله لا يتركه منهم إلا بعض الفقراء، ومنهم المعممون ولابسو الطرابيش العثمانية ولا يلتزمون أن يكون لها زر، ومنهم من يلبس الكمة (الطاقية) حتى إن كبار العلماء يحضرون الدعوات والاجتماعات وليس على رأس الواحد منهم إلا كمة بيضاء، ورأيت الرجل يلبس تارةً عمامة كبيرة وتارةً كمة وتارة قلنسوة، ولا ينكر عليه أحد بلسانه ولا بقلبه، ومن الناس من يلبسون عمائمهم منسوجة بالذهب أو الفضة، فحريتهم في الأزياء واسعة جدًّا. وترى أحسن أهل الهند زينة وأجمل أزياء نساء المجوس، والمجوس كثيرون في بمبي قليلون في داخل الهند، وهم أرقى أهل الهند حضارة ومدنية وعلمًا وثروة والسبب في ذلك أن الإنكليز عُنوا بتربيتهم وتعليمهم ما لم يعنوا بغيرهم لحاجتهم إلى الاستعانة بهم على بعض الأعمال الوطنية، وعدم خوفهم من عاقبة ارتقائهم؛ لأنهم قليلو العدد , وهم على ارتقائهم في العلم والمدنية رجالاً ونساء محافظون على شعائرهم ومشخصاتهم الملية , فهم يتركون أمواتهم للطيور تأكلها ولها بناء عظيم في أعلى وأجمل مكان في بمبي , لا يأذنون لأحد أن يصعد إليه , ويسمون أنفسهم ويسميهم الناس (الفرس) وأما الإيرانيون المسلمون فلا يسمون في الهند فرسًا ولا يطلق على أحد منهم لفظ الفارسي , والفرس الخلص ينكرون كونهم من سلائل أجدادهم ويقولون: إن هؤلاء قجارية وترك , والصواب أن مسلمي إيران مختلطو الأنساب , فبعضهم من ذرية الفرس الأولين وبعضهم من العرب والترك والمغول وأجناس أخرى، وكذلك مسلمو الهند ومصر والحرمين والأناطول والروملي مزيج من السكان الأصليين ومن الفاتحين والمجاورين والمهاجرين، وبعض البلاد كانت تكثر إليها الهجرة لما فيها من العلم أو الخصب والراحة كالبلاد الإيرانية في عهد حضارتها الإسلامية، واللغة لا تدل على أصل الجيل والقبيل فإن أكثر الناطقين بالتركية من مسلمي الروملي هم من الروم والبلغار والأرنئود لا من الترك الفاتحين , كما تدل على ذلك سحنهم ومعارف وجوههم، فالترك العثمانيون والفرس الإيرانيون المسلمون والعرب المكيون والمدنيون ليسوا تركًا وفرسًا وعربًا إلا باللسان دون النسب، وأما أهل قرى الحجاز وباديته فهم كسائر عرب الجزيرة في نجد واليمن صريحو الأنساب، الدخيل فيهم معروف لا يزوجونه منهم، إذ لا يزالون يحافظون على أنسابهم وأنساب خيلهم. *** العادات في الأكل والطعام لا يزال أكثر وثنيي الهند يأكلون على ورق الشجر كما كانوا قبل الفتح الإسلامي الذي غير كثيرًا من عاداتهم ولا سيما عادة العري، ولا يؤاكلون أحدًا من غيرهم فلا يضيفون أحدًا , ولا يقبلون ضيافة أحد؛ لاعتقادهم أن جميع الناس نجس. أما المسلمون فهم أهل الضيافة والكرم والحفاوة الصحيحة , وعاداتهم في الأكل كعادات عرب الجزيرة يمدون السماط على الأرض , ويضعون عليه الطعام ويأكلون بأيديهم , وأكثر طعامهم الأرز مع اللحم يأخذون منه بالخمس ويدفعون بالراحة , ولا تكاد تستعمل الموائد المرتفعة والملاعق والسكاكين في داخل الهند إلا في بيوت الأمراء وبعض المتعلمين على الطريقة الأوربية من رجال الحكومة بأضرابهم، وإنما يكون ذلك في الغالب لأجل ضيف غريب يعلمون أن ذلك من عادته، وقد يسألونه ويخيرونه، وفي بمبي يأكلون على الموائد المرتفعة , لكن بأيديهم في الغالب، وفي الدعوات الكبيرة التي أقيمت لأجلي في بمبي رأيتهم يضعون لكل أربعة أو خمسة مائدة صغيرة عليها صينية من النحاس , يجلس الناس حولها على الكراسي ويأكلون بأيديهم كل طعام إلا المهلبية (ومثلها الكريمة) فيضعون لأجلها ملاعق صغيرة يأكلونها بها , وهذه عادتهم في داخل الهند أيضًا، وإنه ليوجد في دار الغني منهم عشرات من الصواني النحاسية والموائد الصغيرة , فقد أُدِبت لي عدة مآدب كان يحضرها مئات من الناس , وما حضرت مائدة على الطراز الأوربي من كل وجه إلا مائدة الأمير الكبير راجا محمود آباد في لكنهو حتى إن الآكلين الذين كانوا معنا عنده قد التزموا الأكل بالشوكة والسكين، وكنا في ضيافة النواب الكريم فتح علي خان بلاهور نأكل على الأرض بأيدينا , ولكنه إذا جاء ضيوف من الإفرنج أو المتفرنجين يعد لهم مائدة أوربية الطراز، وصديقي الشيخ قاسم إبراهيم في بمبي يأكل على الطريقة الأوروبية أيضًا، وإنما الكلام في عادات مسلمي الهند في دعواتهم , وكانت مائدتنا في ضيافة الشيخ الجليل النواب وقار الملك في عليكره على الطراز الأوروبي كل يوم إلا أن الكثيرين كانوا يأكلون معنا بأيديهم. وقلما يوجد في داخل الهند أفران , ولعل ما يوجد منها خاص بالإفرنج حيث يكثرون , وأهل الهند يخبزون في بيوته

السيد حسين رضا ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد حسين وصفي رضا أقوال الفضلاء فيه ننشر في هذا الباب شيئًا من تعازي أهل الفضل في الأقطار البعيدة وغير البعيدة , ونتبعه بشيء مما كتبته الجرائد السورية والمصرية , ثم نتبع ذلك بنشر حفلة التأبين التي أقيمت من فضلاء وأدباء بيروت في غرف القراءة بمناسبة مرور أربعين يومًا على وفاته. (28) ومما كتبه أحد أفاضل علماء تونس: إلى أخينا العلامة الشيخ محمد رشيد رضا أفرغ الله عليه صبرًا، أما بعد: فإنا لله وإنا إليه راجعون , الآن علمت نبأ موت صاحبي الفاضل وصديقي الكريم سيدي حسين وصفي تغمده الله برحمته، وأحسن عزائي وعزاءكم , والله إن لي لسهمًا في هذا المصاب , فلقد فقدت الخليل الوفي والرجل الكامل رجل البصيرة النافذة والمعارف الواسعة والمرامي العالية ويا ليتني كنت مكانه. *** (29) وكتب أحد فضلاء أدباء القيروان (تونس) بسم الله الرحمن الرحيم مولاي الأستاذ الأكبر صاحب المنار الأنور: سلام الله عليكم ورحمته , أما بعد: فقد نعى إلينا المنار رجلاً وأي رجل، رجل العفة، رجل النزاهة، رجل الفصاحة، رجل البلاغة، كاتب الشبان وشاب الكتاب شقيقكم الحسين الشهيد، لقد أدمى نعيه العيون وجرح القلوب وعَقَل الألسن وأوقف الأقلام , فلم نقدر أن نصف هذا المصاب الخطير الذي أصاب الأمة العربية بفقيدكم العظيم فإنا لله وإنا إليه راجعون. أحسب أن فقيدكم من أكتب الكتاب في هذا العصر , ولا أنسى ما خطت يمينه في المنار , من ذلك مقال أخذ بمجامع القلوب ذكرنا به علماء بغداد وأدباء قرطبة وفحول البلغاء ذلك الذي يرحب فيه بنهضة الزيتونيين يوم اعتصبوا وانقطعوا عن الدرس. أما تقاريظه العلمية للكتب والمخطوطات فلم أر مثلها لغيره , وإني لأعده من المبرزين في هذا الفن فن الانتقاد الأدبي , الذي كاد يُطمس نوره لولا نهوضكم السريع بالعربية في هذا العصر , فرحمه الله رحمة واسعة , ورزقنا جميل الصبر وأجزل ثوابه بقدر مصابنا فيه , وأطال بقاءكم , وبارك فيكم وفي ذويكم. ... ... ربيع الثاني سنة 1330 *** (30) وكتب إلينا حضرة الفاضل صاحب الإمضاء من فضلاء تونس: (ما هذا إلا قضاء من بيده الملكوت) تونس في 7 جمادى الأولى سنة 1330 حضرة الكاتب الأكتب , والفيلسوف المفكر , السميذع المحقق , الأستاذ سيدي رشيد رضا صاحب (المنار الأغر) أدام الله معاليه , وأكبت شانيه , بعد استهلال الخطاب بما يجب تقديمه للجناب , من واجب التحية والاحترام اللائق بالمقام أشعركم - والأنامل ترتعش - بأنه ما كاد يطرق سمعي نعي فقيد الأدب والفضل والمعالي المأسوف عليه شقيقكم سيدي (حسين وصفي رضا) حتى اعترتني الكآبة , وارتجَّت بي الأرض , وارتعشت مني الفرائص , وفاجأني خفقان رائع , وما ذلك إلا لما أعرف ما كان عليه الفقيد من النبل المتناهي. والسمو الفكري , والمدارك العالية! ولكن صدق عليه الصلاة والسلام حيث قال: (إنما يعجل الله بخياركم) . أيها السيد الفاضل! يحق لي أن أنتحب الانتحاب كله , وأرسل مئات الزفرات تأسفًا , وما ذاك إلا لخيبة أمل كنت أؤمله وهو الحظوة بمشاهدة الفقيد والاجتماع به إن تنازل لذلك؛ حيث كان عزم العبد معقودًا على زيارة الديار المصرية , وما الغاية من ذلك سوى الشرف بمشاهدة ومعرفة جملة رجال من كتابكم وشعرائكم ومصلحيكم الذين من آن لآخر أتصفح تحريراتهم , وأطالع قصائدهم , والنفس تتأسف لعدم حظوها برؤيتهم , ومن بين هؤلاء نقشت بحافظتي اسم شقيقكم المأسوف عليه , الذي طالما قرأت له التحارير الإصلاحية والمقالات التي ما تنم إلا عن سمو مداركه , وكمال صفاته وآدابه , ولكن آه! خاب أملي ويا لهفي عليه ألف مرة! سيدي الأستاذ , إن مثل الجناب لا يعوزه مثلي كي يحثه على التدرع بدرع الجلد والصبر , ويذكره بأن الحادث المؤلم الذي أزعجنا إنما هو قضاء ممن يقضي بين خلقه كيف يريد , وقُصاراي أن أبتهل إلى الرحيم وأسأله أن يمطر على جدث الفقيد العزيز وابل رحمته , ويسكنه جنته التي أعدت للمتقين , ويلهم أهله وذويه وأحباءه وأصدقاءه جميل الصبر وجزيل السلوان , إنه هو الذي يقول للشيء: كن فيكون , وإنا لله وإنا إليه راجعون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ح. ج *** (31) وكتب العلامة جانخوت الحتقي أحد علماء تفقاسية: إنا لله وإنا إليه راجعون جناب شيخنا حكيم الإسلام السيد محمد رشيد رضا! سلام الله تعالى ورحمته وبركاته عليكم , وبعد: فلما وافاني المنار بخبر شقيقكم الفقيد حسين رضا , عظم علينا الخطب به وأحزن قلوبنا وأدمع عيوننا , فالمصيبة في ذلك الأخ ليست واحدة , بل مصائب تجمعت عندنا: مصيبة الأمة بفقده وهو حديث السن , ومصيبة الأخوة التي عقدتها يد المكاتبة بيننا , وأيدتها مقالاته الاجتماعية التي نشرت في بعض أجزاء المنار ومصيبتكم - مولانا - فيه , وأنتم أحب الناس إلينا نسأل الله أن يطول عمر سيدنا الأكبر, ويجعل ذلك المرحوم لكم فرطًا صالحًا وذخرًا عند الله عظيمًا , ويبوئكم مع شهيدكم في حظيرة القدس. أيها الأخ الصديق المخلص السيد صالح رضا! يعز عينا ما أصابكم في فقيدنا ونسأل الله أن يرزقكم جميل الصبر , ويجزيكم جزيل الأجر إنا لله وإنا إليه راجعون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... جانخوت الحتقي ... ... ... ... ... ... ... 28 جمادى الأولى سنة 1330 *** (32) وكتب الأديب الفاضل صاحب الإمضاء , ونشرها بجريدة (الأهرام) الصادرة في 21 المحرم سنة 1330 السيد حسين وصفي رضا شهيد المروءة وفقيد الأدب حملت ليالي هذا الدهر بكوارث تقصم الظهور وتدك راسيات الجبال , ثم وضعت في هذه الأيام فاجعة , صُمَّت لهولها الآذان وهلعت القلوب , فبكى الأدب ركنًا ركينًا والفضل طودًا عظيمًا , ولبست البلاغة حدادًا ما بعده حداد , فلا غَرْو إذا تحطمت المنابر وتداعت الأعواد , أطفأت هذه الكارثة مصباحًا أضاء في سماء الأدب ردحًا من الزمن , وأذبلت زهرة شباب توردت في رياض الفضل , فحامت حولها القلوب , ثم ما لبثت أن توارت بحجاب الأحداث في عالم الأبدية حيث السكون التام والسعادة الأخروية. مات حسين شهيد الإباء والنجدة فبكاه الإباء والنجدة , وانزوى في العالم الأعلى مطلاًّ من أعلى علِّيين على شرور هذه البشرية الظالمة والإنسانية القاسية. فخفت بانزوائه صوتٌ طالما ناضل عن الحق نضال الأبطال , فاليوم يبكي حسينًا كل من عرف الفضل وذاق حلاوة الأدب , ويرثي لمصابنا كل من عاشر حسينًا وأدرك هول المصاب. فكل من رأى حسينًا رأى الشهامة المجسمة والذكاء النادر، رأى عزة النفس والاستقلال التام وشهد الوفاء والإخلاص بأجلى مظاهرهما. فإذا بكوا حسينًا فإنما يبكون هذه الصفات، إنما يبكون عقل المشيب في رياحين الشباب. نشأ هذا الراحل الكريم في دار أساسها العلم وعمادها التقوى، وترعرع في دور العلوم ومنتديات الآداب , فقد عرفته في المدرسة الرشدية في طرابلس الشام فعرفت منه أخا الوفاء وتمثال الذكاء والصديق الصدوق , ثم فرقت بيننا عوادي الأيام وتصرفات الأقدار , فلم أره ولم يرني إلا في مصر مهبط الحرية الشرقية. ولما أُعلن الدستور في ربوع المملكة العثمانية كان هذا الصديق ينتقل من مصر إلى سورية فيحمل جراثيم المودة التي تشد أواصر الإخاء فقد عرفته منابر سورية الخطيب المصقع وجرائد مصر الكاتب الألمعي , وبالجملة فقد عرفه القطران رسول سعادة وسلام. برح مصر للمرة الأخيرة , فلم أوفق واحسرتاه لوداعه , فكتب إليّ من بيروت رسالة أذكر منها هذه الكلمات: (أخي! إذا كانت متاعب هذه الحياة المملوءة بالآلام قد حالت دون مشاهدتي لك , فإني سأطلعك على أمور وفقت لوضع أساساتها في بيروت؛ خدمة لهذا الوطن الذي أعشقه بكل جوارحي , هذه الأمور تنسيك مرارة فراقنا إذا طال....) . مر شهيد النجدة باتيم يضرب ولدًا [1] من أولاد القرية ضربًا مبرحًا , وقد شهر سكينًا يريد أن يطعن بها ذلك المسكين , فدفعت الشهامة حسينًا لإنقاذه وقد توفق برشاقة لانتشال السكين من يد ذلك الجاني , ولكن الجاني الأثيم ما لبث أن ابتعد , فأطلق على المنجد الشريف رصاصة أصابت منه مقتلاً , وقد ظل حسين رابط الجأش بضعة أيام حتى كتب الله له الشهادة , وقضى على الوطن البائس بفقد ركن من أهم أركانه , فيالشقاء الأوطان بفقد الرجال , ولا سيما رجل كحسين في وطن كسورية , هكذا النفوس الكبيرة في حياتها أسوة لكل من أراد أن يلتحق بالعظماء , وفي موتها دروس الشهامة والوفاء، ففي ذمة الله ذلك الشباب الغض والغصن الرطيب , وفي أمان الله تلك الأخلاق والخصال الحميدة , بل الفضائل المجسمة والنشاط العجيب , ويا رحمتاه لقلوب تعرفك فتبكيك , فإن مصابنا فيك عظيم وخطبنا وخطب الأوطان جسيم. وإني أسأل الله أن يلهم أهله وذويه الصبر ولا سيما إخوته العلماء الأعلام , وأن يعوضهم بفقده عزاء حسنًا وصبرًا جميلاً والله ولي الصابرين وهو حسبنا ونِعْم الوكيل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... جميل الرافعي *** أقوال الجرائد فى مقتل حسين وصفي رضا كتبت جريدة المفيد الغراء التي هي جريدة النابتة العربية في سورية ما يأتي: وفاة أديب قرأنا في جريدة طرابلس خبر وفاة صديقنا الأديب الفاضل المرحوم السيد حسين وصفي رضا على أثْر إطلاق أحد الأشقياء الرصاص عليه , فهالنا هذا النبأ المزعج كما هال كل من عرف أدب السيد وفضله وعلمه وأخلاقه. عرفناه منذ أمد بعيد , فعرفنا فيه الأدب الجم الرائع والخلق الكريم الذائع , فقد كان - رحمه الله - كاتبًا عربيًّا مجيدًا وشاعرًا ضليعًا، لطيف المعاشرة، أنيس المحاضرة، واسع الاطلاع في تاريخ الآداب العربية وفنونها , وفوق هذا كله فقد كان خطيبًا ارتجاليًّا حسن الخطابة , وقد كان لا يعرف الرياء والمداهنة والمحاباة , بل كان يقول الحق ولو ساء ذلك أعزّ الناس لديه. شُلَّت يد ذاك الجاني الأثيم الذي أذبل غصنًا كان مورقًا , وحرم الأمة من شاب قد خدمها خدمة جلى , وإنه لَيُتَوَقع منه أن يخدمها في المستقبل - لو أُفسح له في الأجل - أعظم خدمة لما فيه من الاستعداد لمعالي الأمور. وقد بلغ فقيدنا الثامنة والعشرين من سني حياته - رحمه الله رحمة واسعة - وإنا لنتقدم إلى عائلته الكريمة برفع آيات التعزية خصوصًا أخاه الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار , ونسأل لهم الصبر والسلوان. *** وكتبت جريدة الاتحاد العثماني الغراء: مقتل فظيع أطلق أثيم عيارًا ناريًّا على الشاب الفاضل المرحوم حسين وصفي أفندي رضا فأصابه في مقتل , ولم يلبث أن قضى نَحبه , فساء هذا المقتل الفظيع كل الذين عرفوا أدب الفقيد وفضله , فنعزي آله وذويه ولا سيما شقيقه الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار , ونشدد على الحكومة المحلية وعلى حضرة والي الولاية في وضع حد لهذه الفوضى التي استفحل أمرها في طرابلس الشام. *** وكتبت جريدة الرأي العام الغراء: وفاة أديب من أنباء طرابلس الشام أن بعض الأشرار اغتالوا المرحوم الأديب حسين وصفي أفندي رضا , فأسفنا لهذا النعي الذي وقع لدينا موقعًا كبيرًا؛ لما كان عليه المرحوم من وافر الأدب والآداب رحمه الله رحمة واسعة , وعزى شقيقه الأكبر الشيخ رشيد رضا صاحب المنار الأغر. *** وكتبت جريدة الحقيقة الغراء: نعي أديب وافتنا جريدة طرابلس بخبر وفاة الكاتب الأديب السيد حسين وصفي رضا

حفلة الأربعين لتأبين المرحوم السيد حسين وصفي رضا ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حفلة الأربعين لتأبين المرحوم السيد حسين وصفي رضا في مساء الثلاثاء ليلة 17 صفر سنة 1330 - 6 فبراير سنة 1912 اجتمع فضلاء أدباء بيروت وأقاموا حفلة تأبين لفقيدنا السيد حسين وصفي رضا الحسيني في غرف القراءة الأميركانية , وأذاعوا تذكرة دعوة لحضور فريق أهل الأدب والفضل لمشاركتهم بذلك , وكان القائمون بهذه الحفلة هم المذيّلة أسماؤهم صورة تذكرة الدعوة، وهذا نصها: ذكرى فقيد (الساعة الثامنة من مساء الثلاثاء في 6 شباط يحتفل فريق من إخوان فقيد الأدب المرحوم السيد حسين وصفي رضا بإقامة حفلة تأبين ذكرى لفضله واعترافًا بشهامته , وذلك في غرف القراءة على (السور) فنرجو حضوركم) . المتكلمون الشيخ محيى الدين الخياط مترجم جريدة الولاية، الشيخ مصطفى الغلاييني أستاذ اللغة العربية في المدرسة السلطانية والكلية العثمانية، جرجي أفندي عطية صاحب جريدة المراقب، أمين بك طليع مدير مال قضاء الشوف، إلياس أفندي حنيكاتي كاتب (مطرانخانة الروم) نجيب أفندي بليق مدير مدرسة المقاصد الخيرية، باتر أفندي باولي صاحب جريدة الوطن، جرجي أفندي باز صاحب مجلة الحسناء، محمد علي أفندي النابلسي من التجار ووكيل المنار في بيروت. وفي الوقت المعين اجتمع كثير من أهل الفضل , وشاركوا الفضلاء المحتفلين باحتفالهم , وترأس الاحتفال الأستاذ بولس الخولي مدير مجلة الكلية، فتلا رسالة الشيخ محيي الدين الخياط الشيخ عبد الرحمن سلام لعدم حضوره [1] وأتبعها بتأبين له , وقام الأستاذ الشيخ مصطفى الغلاييني وقال. تأبين الشيخ مصطفى الغلاييني أخلاق الفقيد (الكمال يعشق) قضية لا يختلف فيها اثنان، ولا يحيد عن الإقرار بمضمونها إنسان؛ لهذا ترى الناس ميالين طبعًا لمن يرون فيه الكمال , غير أن الكمال أمر معنوي، ليس قيد الحواس , وقد اعتاد الناس أن يختلفوا في تفسير المحسوسات، وتباينوا في فهم الأمور الظاهرة , لهذا لا ترى عجبًا إذا اختلفوا في تفسير المعاني، وتباينوا في فهم المعقولات , والكمال من أدق الأشياء المعنوية، وأبعدها من متناول الأفهام , فإن كان الناس قد انقسموا فِرَقًا وطوائف وأحزابًا وجماعات في تفسير ما هو أجلى من الكمال، فأحرى بهم أن لا يتحدوا فكرًا في تأويله وتفسيره. الاختلاف سُنة من سنن البشر، وجمع الناس على الاعتقاد بأمر ورفض ما يناقضه ليس مما يمكن، ولا في وسع أحد تحقيقه - وإن تمناه كثير ممن سعوا ويسعون لنفع المجتمع - ذلك لأن الاختلاف في الرأي لم يبرح فِطَر البشر منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا , ومهما ترقى الناس، وبلغوا من سمو الفكر، ومضاء العزيمة، وقوة الإرادة، فلن يصلوا إلى ما يضم المختلفات ويؤلف بين المتناقضات, هذا في المحسوسات بله المعنويات، ذهب الناس في تفسير الكمال كما ذهبوا في تأويل كل أمر معنوي مذاهب شتى حسبما يتراءى لهم، أو حسبما تعودوا. لا أذكر الآن مذاهب كل قوم في تفسير معنى الكمال، فإن هذا يحتاج إلى موقف غير هذا الموقف ووقت لا يتسع له أمثال هذا الوقت , وإنما أذكر ما أذهب إليه، ويذهب إليه كثير غيري ممن هم يشاكلونني طبعًا ورأيًا ومحجة صواب , وفي عداد هؤلاء فقيد الكمال السيد حسين وصفي رضا الذي أقمنا هذه الحفلة ذكرى لكماله. الكمال شجرة عظيمة يتفرع منها فروع كثيرة , وكل فرع من هذه الفروع يعطي جَنيًّا وأكلاً شهيًّا، هي وإن اختلفت ألوانًا، وتباينت أشكالاً، فطعمها واحد، ولذتها واحدة. إن جماعتي الذين عنيتهم يريدون بالكمال (الخلق الحسن) فهو ملاك الفضيلة ورابطة الإخاء، ونبراس الحق، وسلطان المجد، فمن اعتصم بحبله المتين، وتمسك بركنه الركين، فهو من عباد الله الصالحين. ألا وإن الشاب الصالح، والهمام الأروع، الذي أقمنا هذه الحفلة الكمالية لأجله هو مَنْ خَطَبَ الأخلاق الفاضلة، فألقت إليه بمقاليدها، وسلمته زمامها، فهام فيها هيام الولهان بغيداء الحسان حتى ملكت لبه , وصادت فؤاده , حتى صار كله أخلاقًا حسانًا , فلا تقع ناظرة قلبك إذا نظرت إليه إلا على عادة حسنة، وخلق كريم. إذا تكلمت عن الفقيد الحبيب، فإنما أتكلم بعد الاختبار، وأصف بعد طول المعاشرة , حتى عرفت منه ما لم يعرف إخوته وإخوانه , فهو تِرْبي في السن زميلي في طلب العلم. عرفته منذ عشرة أعوام في مصر، أيام كنت أطلب العلم في أكبر معهد علمي عربي، وهو الأزهر، وأول ما عرفته في إدارة مجلة المنار التي يحررها أخوه الأكبر الأستاذ السيد محمد رشيد رضا , كنت أول معرفتي إياه أرى فيه انقباضًا يظنه الرائي لأول مرة صلفًا وكبرًا، وإنما هو عقل ورزانة، وبُعد عن مخالطة من لا يتفق فكره مع فكره، ولا يشاكل ذوقه ذوقه , عرفت فيه مذ عرفته رجل الجد والعمل، والأدب والدرس، والبعد عن سفاسف الأمور، والنأي عن مفسدات الأخلاق، ومجالس من لم يعرف فيهم الملكات الفاضلة، والأخلاق الكريمة. عرفت فيه رجلاً حرًّا مفرطًا، لا يخاف في سبيل الحق لومة لائم، ولا يهاب في الذود عما يعتقده صحيحًا عذل عاذل , وربما تحاشى مجلسه بعض من لا يرون للحق قيمة، حذرًا من أن يجيبهم بتوضيح باطلهم، وتبيان فاسدهم , ومع هذا كله فكان إذا هفا هفوة ورُد إلى الصواب، ارتد إليه شاكرًا أنعم من هداه. كان من أخلاقه الطيبة الصبر على المكروه , وتحمل المشاق في سبيل ما يريد حتى يناله , ولو أدى به ذلك إلى جهد النفس وصرف المال , أما من جهة تدينه فقد كان رجلاً متدينًا حقًّا، مسلمًا كما يريد القرآن لا كما يريد القارئون. وكان رجلاً سلمًا لمن سالمه، حربًا على من خاصمه في غير الحق محبًّا لترقي الأمة والوطن، من غير نظر إلى اختلاف المذاهب والأديان. وكان لا يعرف التمويه والتضليل، بل يتكلم بما يعتقد دون أن يخشى أحدًا لأنه لم يكن في قاموس أخلاقه ما يسمى رياء أو نفاقًا. وأعظم برهان على هذا أنه كان طريد الحكومة الماضية , وقد حكم عليه بالسجن سنوات لا أعلم عددها , ففر إلى مصر حيث يقيم أخوه الأكبر , هاربًا بحريته ووجدانه , ومع هذا فقد كان يأتي إلى هذه الديار دون مبالاة , ويجتمع بأصدقائه في المحالّ العامة , ويتذاكر معهم في الشئون السياسية وحالة البلاد وما هي عليه من التأخر وما تنوء به من أعباء الظلم واضطهاد المصلحين، حتى خشي أن يجالسه فئة غير قليلة من خواص أصدقائه، خشية أن يكونوا قيد الرقابة أو هوان الحكومة الظالمة , وقد ذكرتني حريته هذه بقصة لطيفة لا بأس بإيرادها: يوم أعلن الدستور كنت قد واعدته أن ألقاه في بعض الأمكنة، فوافيته قبل الأجل المعين , وقد برقت أسارير وجهي , فقال: ما وراءك؟ قلت: (ما كنا نتحدث به الأمس) وكنا نرجو حصوله في سورية بادئ ذي بدء، ثم علمنا أنه سيبدأ في غيرها - وكنا قرأنا قبل بضعة عشر يومًا في الجرائد المصرية التي كنا نقرأها خفية، أن فئة من الجيش ستثور للحصول على الدستور, فقال: ذلك ما كنا نبغي , ثم قمنا من مجلسنا ذلك والصحب ما بين مصدق ومكذب وشاكّ إلا الفقيد، فذهبنا إلى المكتبة العمومية لنبتاع منها نسخًا من القانون الأساسي, فبهت صاحبها وظن أننا جواسيس، فأنكر أن يكون لديه , فأقسمنا له كل يمين أن الدستور أعلن، وأن الحرية صارت ملكًا للأمة، فاعتقد الرجل صدقنا، ودخل دكانه وبحث عن النسخ، وقد دام في البحث ما ينيف عن خمسين دقيقة حتى اهتدى إليها؛ لأن القانون الأساسي كان - كما تعلمون - من الأوراق الضارة في عرفهم وقد اشترك الفقيد مع البيروتيبن في كثير من الاحتفالات التي أقيمت إجلالاً للدستور، وخطب فيها خطبًا كثيرة قد قدرها قدرها كل من سمعها. وأذكر أنه كان يخطب في إحدى المجامع، فذكر ما كانت عليه الحكومة من التضييق على أهل الذكاء , ومن عرفوا بحرية الفكر , وكان والدي المرحوم يستمع إلى خطابه، فقاطعه الكلام وقال له: لقد صدقت فيما تقول وإني قد نهيت ولدي كثيرًا أن يكلمك أو يجتمع بك إلا حيث يأمن، خوفًا من أن يصيبه ما أصابك , وإن لم يخل من بعض ذلك، وربما كان أصابه كله لولا أن منَّ الله على الأمة بالدستور. إن الفقيد أيها السادة كان مع كل ما وصفت همامًا , قد ضربت عليه المروءة رواقها، والشهامة قِبابها، كان إذا رأى مستنصرًا أعانه، أو مظلومًا بذل جهده لرفع الظلم عنه , وكفاه فخرًا وشرفًا أنه مات شهيد المروءة والشهامة , دفاعًا عن ذات عفاف رآها عرضة لسهام جلف جاف , يسمعها من قوارص الكلام وبذاءة القول , ما لم يتحمل الفقيد السكوت عن مثله، فردعه عن تعديه وظلمه، فثارت في رأس ذلك المتشرد الجلف نخوة الجاهلية، فانتضى خنجره وأهوى به إلى السيد يريد القضاء على شهامته وأدبه، غير أن شجاعة الفقيد المشهورة دفعته إلى انتزاع الخنجر من يد ذلك الجبان الخاسر، فأصلح بينها بعض من كان مارًا، فذهب السيد آسفًا على مثل هذه الأخلاق السافلة، فلم يخط بضع خطوات حتى فاجأه ذاك الملعون بإطلاق الرصاص فلم يقصده، بل اخترق أحشاءه، وبقى في منزله بضعة أيام، دون أن ينفعه طبيب: وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع وقد احتمل مضض هذه الأيام بصبر وسكون دون أن يؤثر عنه كلمة تأوه , وقبل أن يفارق هذه الدنيا الفانية بثوان، قال لشقيقته - وكانت تمرضه - بجأش رابط: (إني سأموت بعد قليل فإياك أن تصرخي واحذري أن يزعجني بصراخه أحد) ولم يكد يتم هذه الكلمات حتى قال: (لا إله إلا الله) وقد فارق الحياة. وقد كان لوفاته رنة حزن عمت كل من عرف أخلاقه وأدبه , وقرأ ما كان يدبجه يَراعه الحر البليغ من المقالات والقصائد في الموضوعات الكثيرة المختلفة. رحمه الله رحمةً واسعةً , وأغدق عليه سحائب الرضوان. *** تأبين جرجي أفندي نقولا باز صاحب مجلة الحسناء ونهض الفاضل جرجي أفندي باز فقال: سهم واحد أيها الإخوان! سهم من كنانة الدهر يرمي القضاء به الناس على السواء بلا استثناء , فيفعل في المصاب فعلاً واحدًا , ولكن تأثير فعله يختلف في الآل والأصحاب , ولكم ممن يموت ولا يشعر الناس بفقده حتى الأهل قلما يتأثرون، ولَكَمْ فقيد يألم لموته كثيرون ويودون ألا يتعزون , ولا عبرة بعمر الميت فإن الشخصية هي المؤثرة , وبحسب الاحتياج إليها يكون الحزن , وما حزن الأغنياء عنها بالمال أو بالعلم أو بالفضل أو بالأدب إلا احتياج إلى ولائها وشعورها، إلى إملاء فراغ العاطفة، إلى حفظ الحاسات من التأثر. وهذا فقيدنا لم يعمر بعد ولا توغل في الشباب، لم يشتغل كثيرًا ولا اشتهر في كل صقع ونادٍ، ومع ذلك عد فقده خسارة لا تعوض بأي كان؛ لأن شخصيته ذات استعداد يحتاج إليه الشرق، لأن نفسه كانت حية حرة كانت تكره الجمود والخمول، تبغض الجهل والغباوة، تمقت الظلم والاستبداد، تستنكف من الذل والهوان تأبى الدنايا والتافهات، تستفظع التعصب والاستئثار، كانت تحب العلم، تؤيد الحق، تناصر الضعيف، تجهر بالرأي، تخلص بالقول، تجرأ بالعمل، تستقل بالفكر، تسترشد بالبحث، تتأكد بالاختبار , كانت تعتقد أن المرأة إنسان كالرجل لها حقوق ولها نفس , وكفاها بهذه السجايا تعريفًا لها. هذا حسين يا قوم! فهلا يليق به هذا الإكرام , والشرق محتاج إلى أمثاله؟ فهلا يعد فقده خسارة؟ هذا وصفي! فهل أحاط به وصفي؟ ما لي ولقلمه السيال وإنشائه البليغ ولمقالاته الرنانة وآثار كده وجده , فحسبي منه نفسه والنفس هي الإنسان , حسبي ذكاؤه ولطفه , مروءته وشهامته , حسبي ما وصفت من خفايا نفسه وما كان يرجى من خيرها لمواطنيه،

بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد ـ 4

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد [*] (4) الفصل الثالث في التوراة والإنجيل التوراة كلمة عبرية معناها الشريعة , وتطلق في الأصل على كل ما أوحاه الله تعالى إلى موسى - عليه السلام - ليبلغه للناس من مواعظ وقصص وشرائع وغير ذلك , وسميت كل هذه الأشياء بالتوراة؛ لأن أعظم شيء فيها هو (الشريعة) . ويرى الناظر في كتب العهد القديم أن موسى- عليه السلام - اعتنى بشريعته اعتناءً كليًّا وجزئيًّا حتى إنه أعاد تبليغ هذه الشريعة لبني إسرائيل بعد أن بلغها لهم المرة الأولى , وكتبها لهم بنفسه وسلمها لهم مكتوبة هي والوصايا العشر التي كانت مكتوبة بقلم القدرة الإلهية على لوحين من الحجر وأمرهم بحفظها , وشدد عليهم في ذلك تشديدًا عظيمًا , والشريعة الموسوية هذه مع الوصايا العشر توجد ملخصة في كتاب على حدتها يسمى الآن (سفر التثنية) لأن موسى أعادها فيه كما قلنا بعد أن كان بلغها لهم من قبل , وهذا السفر يسمى في العهد القديم سفر التوراة وسفر الشريعة (تث 30: 10 و31: 9 و11 و12 و24 وتحميا ص 7: 8 ودا 9: 13 و2 أي 25: 4) ولا يوجد عند أهل الكتاب دليل على أن موسى كتب الأسفار الأخرى المنسوبة إليه غير سفر التثنية. وهذا السِّفر حافظت عليه الأمة اليهودية محافظة شديدة (إلا في أوقات ارتدادها وكثيرة هي) لأنه كان مرجع جميع الأنبياء من عهد موسى - عليه السلام - إلى عيسى - عليه السلام - ومن راجع هذا السفر ظهر له أنه لم يدخله شيء يذكر مما دخل غيره من الفساد الكبير , نعم قد زيد عليه الإصحاح الأخير منه المتعلق بموت موسى - عليه السلام - وغلط في عده الأرنب الجبلي من الحيوانات المجترة (14: 7) وربما زيد عليه بعض كلمات قليلة في أوله , وما عدا ذلك يمكننا أن نقول: إن جل ما جاء فيه هو من التوراة الحقيقية (أو هو ملخص الشريعة الموسوية) التي أوحاها الله تعالى إلى موسى , وهذا السفر هوالذي كان معروفًا بين بني إسرائيل (باسم التوراة) و (سفر الشريعة) كما يظهر من باقي كتب العهد العتيق , ويعرف أيضًا في العهد الجديد بالناموس [1] (متى 22: 40) . أما باقي الكتب المنسوبة إلى موسى - عليه السلام - فلم تسم (بالتوراة) ولا (بسفر الشريعة) بين اليهود الأقدمين كما هو ظاهر من كتب العهد القديم , والغالب أنها ما كانت كثيرة التداول بينهم قبل أسر بابل , ولا كانت معروفة لجميع الناس اللهم إلا الشرائع التي تتضمنها هذه الكتب , فالظاهر أن فسادها قليل جدًّا كالكلام على اجترار الأرنب الجبلي مع أنه لا يجتر (تث 14: 7 ولا 11: 6) ومثل شريعة برص الثياب (لا 13: 47 - 51) وبرص البيوت (لا 14: 33 إلى 55) فإنها كلها شريعة لا فائدة منها ولا يفهم أحد لها معنى للآن. ولا ننكر أن موسى - عليه السلام - بلغهم كثيرًا من القصص التي في تلك الكتب ولكنه لم يكتبها لهم , فهي بمنزلة الأحاديث عندنا , ويجوز أن يكون بعض الناس كتب شيئًا منها في زمنه عليه السلام , كما كُتب بعض الأحاديث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن ينهى عن كتابتها , وكثير مما في هذه الكتب من التواريخ قد حضره بنو إسرائيل بأنفهسم وعلموه , فهو لا يحتاج لتبليغ موسى بل تناقله اليهود بينهم بالروايات الشفوية أو بكتابة بعضه كما قلنا , فدخله كثير من التحريف والتبديل والنقص والزيادة. وقبل سبي بابل لم تجتمع هذه الكتب على هيئتها الحاضرة كما جزم بذلك علماؤهم (راجع قاموس الكتاب المقدس لبوست مجلد 1 ص 559) ولا يعرف باليقين من كتب الأسفار الأخرى غير سفر التثنية , والظاهر أنها كتبت في أوقات مختلفة وتم وجودها بين اليهود قبل سنة 720 ق. م أي قبل وجود السامريين , وكانت جمعت من الرويات الشفوية ومن بعض المحفوظات القديمة المكتوبة , فهي ككتب السير والتواريخ عند المسلمين , وليست متواترة عند اليهود بخلاف سفر الشريعة (التوراة) الذي كانت الأنبياء تقيم أحكامه من عهد موسى إلى عيسى عليهما السلام (انظر متى 5: 17 و18) . وقد استدل كثير من العلماء بوجود بعض عبارات من حوادث متأخرة , ومن وجود بعض أسماء لم تكن معروفة في زمن موسى , بل حدثت بعده , أنه عليه السلام لم يكتب كل هذه الأسفار المنسوبة إليه (راجع كتاب إظهار الحق تجد من ذلك كثيرًا , وكتابنا الدين في نظر العقل الصحيح , فقد ذكرنا فيه بعض هذه الشواهد) . قال الدكتور بوست في قاموسه صفحة 432 مجلد أول: (إنه من المؤكد أن موسى - عليه السلام - لم يكن يعرف دان (تك 14: 14) ولا حبرون (37: 14) (بهذين الاسمين) اهـ؛ فهما من الأسماء التي استجدت بعده ووجودهما في هذه الأسفار , مما يدل على أن واحدًا غيره كتبها بعد وفاته أو غيَّرهما فيها. ونحن نستدل أيضًا من ذكر لفظ (الله) فيها بالجمع (تك 1: 1) [**] وذكر مصارعة الله ليعقوب (تك 32: 24 - 29) وقصة زنا لوط [***] بابنتيه , وشربه الخمر وسردها بطريقة لا تشعر بشناعتها وبشاعتها (تك 19: 30 - 38) وندم الله تعالى على خلقه الإنسان , وحزنه لذلك (تك 6: 6) , وقصة الحية وأكلها التراب (تك 3: 14) , والكلام على برص الثياب والبيوت (لا 14: 55) وغير ذلك , نستدل بهذا أن موسى ما كتب هذه الكتب , بل كتبها أناس مجهولون في أزمنة مختلفة , وما ذكرناه من سفر التكوين يدل على أن الذي كتبه رجل لم يقدِّر الله تعالى حق قدره ولا أنبياءه , وربما كان مشركًا به أي من اليهود المرتدين الذين عبدوا الأصنام , ولا مانع من أن اليهود حوروه بعد ذلك وتوسعوا فيه. فهذه الكتب الأربعة المنسوبة لموسى - عليه السلام - تشتمل على تاريخ اليهود منذ الخليقة إلى زمن موسى , وبعض رواياتها صحيح والبعض الآخر كذب أو خطأ فلذا لا نعول عليها. وكما نسبوا إليه هذه الكتب نسبوا إليه غيرها ومثل (كتاب المشاهدات وكتاب التكوين الصغير وكتاب المعراج وكتاب الأسرار وكتاب الإقرار) وكتاب التكوين الصغير هذا كان باللسان العبري إلى المائة الرابعة بعد المسيح , واستشهد به بعض النصارى الأولين , وترجمته كانت موجودة إلى القرن السادس عشر , ثم رفضوه ففقد , ويجوز أن هذه الكتب المذكورة هنا كانت تشتمل على بعض روايات صحيحة عن موسى عليه السلام. ومما فقد أيضًا من الكتب المنسوبة لموسى عليه السلام كتاب يسمى (حروب الرب) ذكر اسمه في سفر العدد 21: 14 ولا وجود له الآن , وكذلك ضاع كلامه عن البعث والنشور , فلا يوجد في هذه الأسفار ذكر لهذه العقيدة الكبرى التي تضارع الإيمان بالله ولا يعقل أن موسى لم يخبرهم بها صراحة. والخلاصة أن شريعة موسى - عليه السلام - (التوراة بالمعنى الأصلي) أو ملخصها موجودة مع شيء قليل جدًّا من الغلط كما بينا , وتكاد تكون متواترة بين اليهود في سفر التثنية لولا كثرة ارتدادهم , وأما باقي الكتب فهي تشتمل على روايات منها الصحيح ومنها الكاذب ومنها الغلط. فتوراة موسى بالمعنى الأعم (أي كل ما أوحي إليه وبلغه إلى الناس) لم تصل إلينا , بل بعضها فقد وبعضها زيد فيه وبعضها تحرف فهي كالأحاديث عند المسلمين. وبعد سنة 721 ق. م أي بعد انقراض مملكة إسرائيل وجد السامريون , وكانت الوثنية فاشية في آبائهم وفيهم وما كانوا يهتمون بالتوراة , ولكنهم بعد ذلك اتخذوا لهم نسخة من هذه الكتب تشتمل على الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى وعلى سفري يشوع والقضاة , وتختلف نسختهم عن نسخة اليهود العبرية في كثير من المواضع: كأعمار القدماء وكجبلي جرزيم وعيبال , ويوجد في السامرية وصية زيادة عن الوصايا العشر [2] . وفي سنة 285 ق. م اجتمعت لجنة من اليهود بأمر بطليموس فيلادلفوس , وترجموا ما عندهم من الكتب العبرية إلى اللغة اليونانية , وكان عددهم 72 نفرًا وسميت هذه الترجمة بالترجمة السبعينية أواليونانية , وكانت تشتمل على كثير من الكتب الأبوكريفية (أي غير القانونية) وهذه الترجمة كانت مستعملة بين النصارى من عهد وجودهم إلى القرن الخامس عشر وهي الآن مستعملة في الكنيسة الشرقية , وبينها وبين العبرية اختلافات كثيرة في كثير من العبارات والفقرات والألفاظ , ومع ذلك لم يقتبس مؤلفو العهد الجديد إلا منها وكانت أيضًا محترمة عند اليهود. أما هذه الكتب الأبوكريفية (أي المكذوبة الموضوعة) بحسب اعتقاد البروتستنت فهي أربعة عشر (1) اسدراس الأول (2) اسدراس الثاني (3) طوبيت (4) يهوديت (5) بقية إصحاحات سفر استير غير الموجودة في العبراني والكلداني (6) حكمة سليمان (7) حكمة يشوع بن سيراخ (8) باروخ (9) نشيد الثلاية الفتية المقدسين والإصحاح الثالث عشر والرابع عشر من سفر دانيال (10) تاريخ سوسنة (11) تاريخ انقلاب بيل والتنين (12) صلاة منسى ملك يهوذا (13) مكابيين1 و (14) مكابيين 2 , وهذه الكتب موجودة في الترجمة السبعينية كما قلنا وفى الترجمة اللاتينية وفي التوراة الكاثوليكية الرومانية, وكانت مسلَّمة عند جميع فرق النصارى قبل وجود البروتستنت ما عدا كتابي اسدراس وصلاة منسى , ولا تزال كذلك إلى اليوم عند الأرثوذكس والكاثوليك. وأما أبوكريفا العهد الجديد فتحتوى على كثير من الأناجيل والرسائل وعددها 74 كتابًا , ولا يعتقد فيها النصارى الآن وكانت قديمًا منسوبة إلى المسيح - عليه السلام - وإلى تلاميذه وإلى بولس , فانظر كيف كان هؤلاء الناس يدسون الكتب الكثيرة بين كتب الله! أما كلمة (الإنجيل) فهي يونانية ومعناها البشارة , وسمي الوحي إلى عيسى بذلك؛ لأنه جاء مبشرًا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال تعالى عن لسانه: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6) , فعيسى - عليه السلام - بَشَّرَ الناس بقرب مجيء خاتم النبيين لهم بأكمل شريعة وأرقى دين لأرقى أطوار البشر وأنسب شريعة لطبيعة الإنسان في كل زمان ومكان, والتي ترفع ما وضع على الأمم السابقة من الإصر والأغلال , وأجمع دين لمصالح الدنيا والآخرة ولحاجات الروح والجسد , فقال عليه السلام: (يو16: 12 - 14 إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن 13 , وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق؛ لأنه لا يتكلم من نفسه , بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية 14 ذاك يمجدني؛ لأنه يأخذ مما لي ويخبركم) . وكان عيسى - عليه السلام - وتلاميذه يبشرون دائمًا بمملكة محمد صلى الله عليه وسلم , تلك المملكة المجيدة الجليلة التي زانها الحق وعبادة الله تعالى وحده؛ فلذا سماها المسيح (ملكوت السماوات) و (ملكوت الله) لأنها مملكته تعالى في الأرض وقانونها هو كتابه ورؤساؤها هم خلفاؤه (راجع إنجيل متى 3: 2 و4: 17 و23 و6: 15 و13: 31 و32 و20: 1 - 16 و21: 33 - 44 ولوقا 10: 9 و11) وهم الصديقون الذين يرِثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد (مزمور 37: 29) ويدخلون باب الرب (مز 118: 20) ومملكتهم هي المملكة التي لا تنقرض أبدًا كما قال دانيال (2: 44) وتفنى مملكتي الفرس والرومان (راجع فصل البشائر) . فلذلك سمي الوحي إلى عيسى - عليه السلام - بالبشارة؛ لأن أعجب شيء فيه وأعظمه إنما هو البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم , وقرب مجيئه وهو الذي كانت تنتظره الأمم من قديم الزمان , وهو مشتهى كل الأمم (حجي 2: 7) الذي به مُلئ بيت أورشليم مجدًا وعمرانًا , وعادت إليه عبادة الله بدون شرك ولا تشبه , وبمجيئه يعلم قرب مجيء يوم الدين , يوم القصاص العادل بين عباد الله أجمعين وإنصاف المظلومين , ورحمة المتقين الصابرين وخلاص المؤمنين. هذا والإنجيل لم يكتب في زمن عيسى عليه السلام , وبعد زمنه بقليل وجدت أناجيل عديدة (لوقا 1: 1-3) تشمل كثيرًا من أقواله وأفعاله مع زيادة ونقصان وتحريف

الغارة على العالم الإسلامي ـ 4

الكاتب: المسيو شاتليه

_ الغارة على العالم الإسلامي أو فتح العالم الإسلامي [*] (6) مؤتمر أدنبرج سنة 1910 عقد المؤتمر في شهر سبتمبر سنة 1910 وكان للمسائل الإسلامية حظ كبير من مداولات أعضائه، بل إن لجنتين من أهم لجانه تفرغتا للبحث في أمر الإسلام والمسلمين. وقد نشرت أعمال هذا المؤتمر ومناقشاته في تسع مجلات لم نتمكن من الحصول عليها , إلا أننا عثرنا على مجلات ثلاث تكلمت عن هذا المؤتمر واحدة ألمانية وهي (مجلة الشرق المسيحي) التي تصدرها (جمعية التبشير الشرقية الألمانية) والثانية إنكليزية وهي (مجلة العالم الإسلامي) المعروفة , والثالثة سويسرية وهي (مجلة إرساليات التبشير البروتستانية) التي تصدرها (جمعية التبشير في مدينة بال في سويسرا) . وأعمال مؤتمر أدنبرج لم تكن حبرًا على ورق , بدليل أن (المؤتمر الاستعماري الألماني) الذي عقد عقب مؤتمر أدنبرج التبشيري اهتم بأمر إرساليات التبشير الجرمانية , حتى خُيِّل للناس أن هذا المؤتمر الاستعماري السياسي تحول إلى مؤتمر تبشيري ديني. *** أقوال المجلة الألمانية مجلة الشرق المسيحي هي التي تنشرها جمعية التبشير الشرقية الألمانية منذ سنة 1910 , ولهذه الجمعية إرساليات تبشير وملاجئ للأيتام في السلطنة العثمانية وفارس وبلغارية وروسية. قالت هذه المجلة في مقالة عنوانها (الشرق المسيحي وإرساليات تبشير المسلمين) : (إن أعمالنا قد ازدادت أهمية بين مسلمي البلغار بنعمة الله الساطعة، وذلك بنشاط وإقدام القسيس (أفيتارنيان) الذي كان اسمه من قبل أمين زاده محمد شكري وازدياد أهمية التبشير كانت بوجه خاص عقب تأسيس المدرسة الدينية الإسلامية وما يأتيه هذا القسيس من الأعمال؛ بمساعدة الشيخ أحمد كاشف والمدرس نسيمي أفندي بقصد مقاومة الإسلام , يبرهن لنا على أنه قد أزف الوقت الذي يتزعزع فيه الإسلام من أركانه! وينتشر الإنجيل بين الشعوب الإسلامية! وأن هذا الارتقاء التاريخي وما نعمله في أرمينية وسورية وروسية قد جعلنا نزيد في اسم مجلتنا (الشرق المسيحي) وندعوها بعد الآن (الشرق المسيحي وإرسالية التبشير الإسلامية) وسيعهد بتحرير القسم الإسلامي فيها إلى القسيس (أفيتارينيان) . ونشرت هذه المجلة مقالة أخرى بقلم المستر (لبسيوس) الألماني عنوانها (دخول التبشير العام في طور جديد) ذكر فيها أهمية مؤتمر أدنبرج , وأنه أبان عن ارتقاء في أعمال المبشرين. ومن هذه المقالة نعلم أن مؤتمر أدنبرج كان فيه 1200 مندوب بينهم 502 من الإنكليز و505 من الأميركان , ومن مندوبي التبشير الأميركيين المستر (روزفلت) رئيس جمهورية الولايات المتحدة السابق , إلا أنه أرسل رسالة اعتذار عن عدم تمكنه من الحضور , إلا أن المستر (براين) استطاع أن يحضر - وهو خطيب أميركة المشهور , وقد رشح نفسه لرئاسة جمهورية الولايات المتحدة مرارًا - وعلى هذا فالمندوبون الذين يتكلمون الألمانية كانوا 98 والآخرون يتكلمون بلغات مختلفة , ولذلك تقرر أن تكون الإنكليزية لغة المؤتمر. وتقول هذه المجلة: إن إرساليات التبشير الإنكليزية والأرلندية تنفق في السنة 2.150.000 جنيه في سبيل التبشير وجمعيات التبشير الأميريكية والكندية , تنفق 2.000.000 جنيه , وجمعيات التبشير الأوسترالية والأفريقية والآسيوية والهندية تنفق 300.000 جنيه وما تنفقه جمعيات التبشير البروتستانية في باقي القارة الأوروبية يبلغ 700.000 جنيه. واقتبس صاحب هذه المقالة من قيود مؤتمر أدنبرج عدد جيش المبشرين البروتستانت , فقال: إنه يبلغ 98.388 مبشرًا تعضدهم لجان , يبلغ عدد أعضائها 5.500.000 شخص , ويبلغ عدد النساء والرجال الوطنيين وغير الوطنيين من موزعي التوراة الذين يشتركون في التبشير والوعظ 92.913. وعدد المعاهد الكنيسية 16.671 وعدد إرساليات التبشير العامة 3.478 والتي في الدرجة الثانية 32.009 وعدد الأساتذة والتلاميذ الذين تحت إشراف المبشرين 1.190.602 وتوجد تحت سلطتهم 81 مدرسة جامعة وكلية وفيها 7.991 طالبًا , ولديهم 489 مدرسة دينية لتعليم لاهوت النصرانية , وتخريج المعلمين والمبشرين , وفيها 12.543 طالبًا , وهي تهيمن أيضًا على 1.594 مدرسة ثانوية , فيها 155.420 طالبًا , و 28.901 مدرسة ابتدائية , يبلغ عدد تلاميذها 1.165.212 وما عدا ذلك فالمبشرون يديرون 113 مدرسة من النوع الذي يسمى (بستان الأطفال) وفيها 4.703 أطفال. وأسست هذه الإرساليات 550 مستشفى و1024 صيدلية لها4.000.000 من المترددين عليها ولديها 111 مجلسًا طبيًّا , و92 جمعية للممرضات و265 ملجأ للأيتام و88 ملجأ للبرص و21 ملجأ للبرص أيضًا وهي خاصة بالأطفال. وتدير 25 مدرسة للعميان و21 معهدًا للإسعاف و103 مستوصفات لمدمني الأفيون و15 ملجأً للأرامل. هذا كله كان سنة 1902 , ومن يقارن بينه وبين ما وصل إليه هذا الإحصاء سنة 1911 ير أن هناك ارتقاء باهرًا , لأن عدد إرساليات التبشير العامة بلغ3.838 والإرساليات التي في الدرجة الثانية 34.719 وعدد الأساتذة والتلاميذ 1.412.044 أما الجامعات والكليات , فصار عددها 88 وفيها 8.628 طالبًا ولدى المبشرين 522 مدرسة دينية؛ لتخريج المبشرين , والمعلمين فيها 12.761 طالبًا وعدد المدارس العليا 1.714 فيها 166.447 طالبًا , وعندهم 30.185 مدرسة ابتدائية عدد تلاميذها 1.290.357. أما المستشفيات فصار عددها 576 والصيدليات 1.077 والمجالس الطبية لا تزال 111 وفيها 830 طالبًا , و98 معهدًا للممرضات فيها 663 طالبة. ويشرف على إرساليات التبشير 250 جمعية عمومية عاملة و433 جمعية لإعانتها و22 جمعية مختلفة. وترد على صناديق إرساليات التبشير أموال كثيرة منها 60.500.000 فرنك في السنة , تدخل في صناديق جمعيات التبشير البريطانية والأرلندية و67.000.000 فرنك في صناديق الجمعيات الأميركية والكندية و 7.2000.000 في صناديق الجمعيات الأوسترالية والأفريقية , ولغة الجمعيات كلها الإنكليزية وأما إرساليات التبشير الأخرى , فيرد على صناديقها20.100.000 فرنك. *** أقوال المجلة الإنكليزية أقوال المجلة الثانية فهي (مجلة العالم الإسلامي) الإنكليزية التي تصدر منذ شهر فبراير سنة 1911 , ويتولى إدارتها القسيس زويمر رئيس إرسالية البحرين , وقد استهل عددها الأول بما يأتي: (تبين لنا من مراجعة (مجلة العالم الإسلامي) الفرنسية ومجلة (الإسلام) الألمانية ومن (دائرة المعارف الإسلامية الجديدة) المحررة بثلاث لغات أن زيادة العناية والاهتمام بأمر الإسلام , تستدعي إصدار مجلة إنكليزية خاصة بالأبحاث الإسلامية , ودرس أفكار المسلمين وعلاقاتهم بالكنيسة , والخطة التي ينبغي انتهاجها مع المسلمين , وإذا كانت الكنائس المسيحية تحاول التحكك بالإسلام , فيجب عليها قبل كل شيء أن تعرف مركز الإسلام. دخلنا بعد مؤتمر القاهرة في دور جديد , ظهرت فيه أهمية تنصير المسلمين وشعر زعماء التبشير بأن الكنيسة لا بد لها من سَبْر غَوْر المسألة الإسلامية , وأن تحسن العناية بتربية المبشرين , وتتوقع خيرًا من أعمالهم, ومهمة تنصير المسلمين تقضي بإيجاد ميدان مشترك للعمل , تتضافر فيه الأفكار والأبحاث والمجهودات. ومجلتنا تستحسن الاهتمام الشديد الذي أبداه مؤتمر أدنبرج , وستجتهد هي في متابعة البحث والمداولة في المسائل التي بحث المؤتمر فيها , وتواصل الجهد؛ لجمع كلمة الذين يحبون المسلمين (!) ويشتغلون لخيرهم (!) . وهذه المجلة لا تمثل فرقة أو مذهبًا واحدًا من فرق الكنيسة وأحزابها , بل هي ستكون واسعة الصدر سعة تامة) اهـ. وقد نشرت هذه المجلة مقالة بقلم المستر شارلس وطسون تحت عنوان (العالم الإسلامي) قال فيها: (إن من الخطأ الحكم على مؤتمر أدنبرج بأنه لم يهتم بالمسائل الإسلامية؛ لأن الغاية من عقد ذلك المؤتمر هي البحث في مسائل العالم الخارج عن النصرانية , والاهتمام بإيجاد وحدة وتضامن بين المبشرين في أعمالهم، وأن نظرة واحدة توجه إلى قرارات المؤتمر تظهر لصاحبها الحظ الكبير الذي كان للمسائل الإسلامية في أعمال المؤتمر. فقد كان المؤتمر مؤلفًا من ثمان لجان , اختصت الأولى والرابعة منها بالتوسع في بحث المسألة الإسلامية , أما مهمة اللجنة الأولى فهي أن تبحث في المسائل الإسلامية من الوجهة الخارجية , وفي إيجاد ميدان عام مشترك لأعمال المبشرين واختيار خطة (الهجوم) و (الغارة) , وتقرير هذه اللجنة يتضمن إحصاء متعلقًا بالمسلمين , وعددهم ومبلغ ارتقائهم في كل قطر. (ومما جاء في هذا الإحصاء أن في جزائر (ماليزية) والهند الهولندية 36.000.000 مسلم , ويزداد عددهم يومًا بعد يوم على نسبة ما ينقص من عدد الوثنيين , وتبين للجنة أن المبشرين في الهند وقفوا جزءًا من خمسة أجزاء من أعمالهم على تبشير المسلمين فيها) . (ولهذه اللجنة فروع بحث بعضها في حال الإسلام في الشرق الأدنى وآسية الوسطى , وقد جاء في تقارير هذه الفروع أن المبشرين تعذَّر عليهم الخوض في المسألة الإسلامية، ولكن اللجنة يؤملون زوال الصعوبات التي تقف في طريق إرساليات التبشير) . وجاء في تقرير اللجنة عن حالة الإسلام في أفريقية: (أن الموقف فيها صار حرجًا لسرعة تقدم الإسلام وارتقائه الواسع في الشمال , ومعاقله التي في السواحل إلى الجنوب والغرب الأفريقي , والمبشرون كانوا أخطأوا في تقديراتهم السابقة؛ لأنه تبين لهم فيما بعد أن بعض البلاد التي كانوا يحسبونها خالية من الأديان المعروفة هي إما إسلامية بحتة وإما أنها على أُهْبة الدخول في الإسلام) . وتقول اللجنة: إن العداء الذي كان يُظهره المسلمون للمبشرين قد خَفَّت وطأته بالنسبة لما كان عليه. ثم تناولت اللجنة البحث في الأمور الاجتماعية الإسلامية التي تمهد السبيل لتنصير المسلمين، فحضت جمعيات التبشير على توسيع نطاق التعليم الذي يشرف المبشرون عليه , وحصرت قراراتها بجملتين اثنتين: الأولى: أنَّ ترقي الإسلام الذي يتهدد أفريقية الوسطى يجعل الكنيسة تفكر في مسألة دقيقة وهي: هل ينبغي أن تكون القارة السوداء إسلامية أو نصرانية؟ الثانية: أن المسألة الإسلامية في الشرق على الخصوص صار لها مكان هام في أعمال المبشرين عقيب الانقلابات التي حدثت في بلاد الدولة العثمانية وفارس، مع أنها لم تكن تهم الكنيسة قبل هذه الانقلابات إلا قليلاً، ولذلك أصبح من مقتضيات الظروف أن تقوم إرساليات التبشير بعمل ينطبق على المسائل الإسلامية. هذا شيء من أعمال اللجنة الأولى , أما اللجنة الثانية فهي خاصة بتمهيد ميدان العمل لرجال (الأكليروس) في إرساليات التبشير , وقد أشارت إلى الإسلام عرَضًا؛ لأن كل المجهودات التي يبذلها المبشرون لتأسيس كنائس يقوم بأكثر أعمالها أو ببعضها المسلمون المتنصرون فشلت تمامًا إلا في جزء من بلاد الهند الغربية. واللجنة الثالثة خاضت في الأعمال المدرسية التي يقوم بها المبشرون , واكتفت بهذه الكلمة عن المسلمين فقالت: (اتفقت آراء سفراء الدول الكبرى في عاصمة السلطنة العثمانية على أن معاهد التعليم الثانوية التي أسسها الأوروبيون كان لها تأثير في حل المسألة الشرقية يرجح على تأثير العمل المشترك الذي قامت به دول أروبة كلها) . وقد كان للإسلام الحظ الوافر من مذكرات اللجنة الرابعة؛ لأنها كانت مكلفة بالبحث في علاقات الإنجيل بالديانات الخارجة عن النصرانية والوسائل التي تظهر النصرانية على تلك الديانات المزاحمة لها. وتناولت هذه اللجنة البحث في الإسلام بصراحة ومجاملة , فذكرت ما ترى أنه موضع ضعف فيه , وما للنصرانية علي

فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ فرنسة في تونس وإنكلترة في مصر إذا نظر المصري إلى ما بين يديه من علم ومدنية وأدب إلخ، مما يسمونه (التمدن الحديث) فإنما يرى مصدر ذلك كله فرنسة والفرنسيين، وإذا نظر المسلم إلى أقدم صديق لدولة الإسلام سواء كان في دولة العباسيين العربية أوالدولة العثمانية التركية في جميع أوربة , فلا يرى أمامه إلا فرنسة، بل إن الفضل في انقلاب هيئة العلم والإدارة في أوربة جمعاء إنما هو لفرنسة، فإذا ادعت فرنسة بأنها أم المدنية فإن لديها من البينة في الشرق والغرب ما يؤيد دعواها، وإذا نظر الشرقي إلى أقرب الأمم الأوربية له في الأخلاق والعادات فإنه لا يرى أمام عينه غير الفرنسي (هذه أقوال متداولة بين الناس) يقولون: إن فرنسة كانت ولا تزال أم العلم والمدنية في الشرق والغرب وربة المال في جميع أقطار المعمورة - والمال حياة العمران - فمبدأ نهضة سورية الأخيرة إفرنسي , والتفرنج المصري والرقي العلوي إفرنسيان , وقواد محمد علي وأساتيذ مدارسه من الفرنسيين. فرنسة هي نفسها التي أعلنت بأنها حكومة لا دين لها ومعناه أنها لا تنصر دينًا على دين فهي أم الحرية أم الإخاء أم المساواة - كما يقولون - وهي التي جعلت عنايتها موجهة للتعليم (اللاديني) في مستعمراتها , وقد قال أحد المبشرين الألمانيين (أسكنفلد) : (إن المدارس العلمانية تزيد الإسلام نموًّا وارتقاء) . كل هذا مما يكاد يكون من القضايا المسلَّمة عند كثير من الكاتبين والمفكرين , وكان على مقتضى ذلك أن يكون المسلمون الذين هم تحت حماية فرنسة من أكثر الناس تمتعًا بحريتهم الدينية والأدبية؛ ولكن الجوائب التي تأتينا من قِبَل مستعمراتها الإسلامية على العكس من ذلك , إذ هي تدلنا أن المسلمين الذين تحكمهم فرنسة من أشقى الناس وأتعسهم. كتب أحد المخلصين من تونس (وقد أقام بها أيامًا) إلى المنار مقالة تحت عنوان (حقيقة أخبار عن تونس لشاهد عيان) بإمضاء (ابن الحقيقة) ذكر في مقالته هذه من معاملة فرنسة الجائرة للمسلمين ما لا يكاد يصدق, وقد نشرت مقالته هذه في الجزء الخامس من منار هذه السنة , بعد حذف شيء كثير مما كتب , على ظن أنه من المبالغة، ثم منذ أيام أمََّ القاهرة ذلك الرحالة المجاهد , وأخبرنا أنه شاهد جميع ما كتبه عن تونس عيانًا , وفوق ما كتب من المعاملة الجائرة التي تعامل بها فرنسة التونسيين , وأن إبعاد أولئك الأفاضل لم يكن له من سبب إلا أنهم كانوا يحامون عن حقوق الضعفاء. وذكر أن من الشيوخ الرسميين وغير الرسميين من ينفخ في بوق الفتنة ولو خاف الله لأمكنه أن يساعد وطنه وملته , وأطلعنا على عدد من جريدة الزهرة فيه أن بعض أعضاء المجلس الشوري قال في خطبة ألقاها بعد تلك الحوادث: (إن تونس هي بنت فرنسة المدللة) إلى آخره , ثم قال: ولو أنصف لوضع للدال نقطة ولكنه أبى أن ينطق بالحق (أي لو أنصف لقال المذللة) . فسألته عن حالة تونس الأدبية فقال: إن هناك رجالاً قد عرفتهم ما أظن أنه يوجد في مصر أو الشام أحسن منهم أخلاقًا , وغيرة ملية , ولكن التضييق شديد كما قلت لكم. ثم أخبرنا بأن لديه كتابات خصوصية لم يؤذن له بنشرها , وفيها من الغرائب والعجائب ما يدهش العقل , وذكر أن كل قادم لتونس من هذه البلاد يكون تحت مراقبة البوليس , وأنه رسم طريقة للمخابرة مع أناس من الأحرار في تونس لا تصل إليها يد المراقبة , وهو يأمل أن تأتيه أخبار من هناك. قال: وبهذه الواسطة أخذت هذه الجريدة وما لدي من الكتابات المذكورة. وودعنا جاعلاً وجهته سورية فالآستانة العليا , ووعد بموافاتنا بما يصل إليه في أي مكان كان [1] . لم يكن هذا الكاتب أول مخبر عن تونس فيشك في أخباره , وإذا كان هو المخبر وحده عن تونس فمن الذي يخبر عن أحوال الجزائر ومراكش؟ كان على فرنسة وهي معلمة المدنية! أن تكون أوسع صدرًا مع محكوميها من إنكلترة ولتذكر ما يقوله ساسة الألمان من اغتنام فرصة الانتفاع بتحول قلوب المسلمين عن فرنسة. هذه مصر والسودان يكتب فيهما الإنسان ما يشاء لمن يشاء حتى بعد إحياء قانون المطبوعات , ولم نسمع بأن عدة جرائد أقفلت في يوم واحد أو أن أناسًا أبعدوا من أجل حرية أفكارهم , بل إن المحامين دافعوا دفاعًا مرًّا يوم محاكمة قاتل رئيس النظار السابق والمتهم يقول: أنا قتلته؛ لأنه كان مضرًّا بوطني فماذا جرى؟ نفذ الحكم بالمعترف بالقتل دون أن يلحق غيره من أهل حزبه أو وكلائه أدنى ضرر. وجرى بمصر اعتصاب عمال الترام مثل ما جرى بتونس , فلم يكن من الحكومة إلا إجراء وظيفتها , ولم تخلق مسألة سياسية دولية من جراء ذلك , وإعانات الحرب تجمع علنًا , وتنشر في الجرائد بل يأتي إلى مصر من المستعمرات الإنكليزية إعانات كثيرة للدولة العلية , ولم يكن من الإنكليز أدنى معارضة. لهذا نرى المسلمين أميل إلى الإنكليز من جميع الأمم , وأشد نفورًا من فرنسة ولقد رأيت أحد المراكشيين يومًا يبكي , فقلت: ما يبكيك؟ قال: مستقبل بلادي وليتها إذ وقعت تحت حكم أجنبي كانت من حظ الإنكليز , كذلك سمعت غير واحد من البلاد التي لا يزال لها الاستقلال يقول: إن كان ولا بد من ذهاب استقلالنا فلنكن للإنكليز، ولم يا ترى؟ ؟ لأنه يظن أن فرنسة تطمع باحتلال بلاده. ألم تكن فرنسة جديرة بأن تميل الشعوب إليها ميلها للإنكليز؟ بل ألم تتعلم فرنسة طريقة الإنكليز في الاستعمار؟ لا أقول هذا مادحًا الإنكليز , ولكنني أحكي ما أسمعه , وأثبت اختباري , وأسأل الله تعالى أن يحمي بلادنا باستيقاظ أهلها وحكومتها من الوقوع في أشراك الاستعمار , وخصوصًا الاستعمار الفرنسي. ... صالح مخلص رضا

الكهف الرقيم

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ الكهف والرقيم في ملخص رحلة المصلح العظيم والمجدد الحكيم أهدى الأستاذ السيد عبد الحق حقي الأعظمي البغدادي الأزهري نائب أستاذ الشعبة العربية في كلية عليكرة الإسلامية في الهند إدارة المنار 180 نسخة , من مؤلف له سماه (الكهف والرقيم في مختصر رحلة المصلح العظيم والمجدد الحكيم) يتضمن اختصار رحلة صاحب المنار في الأقطار الهندية حيث كان المؤلف ترجمانًا ورفيقًا له. أوضح أسماء البلاد التي أمَّها السيد والعلماء والأمراء الذين قابلهم , والمآدب والحفلات التي أقيمت للاحتفال به في بلاد عديدة , وشرح جميع ذلك شرحًا واضحًا مبينًا , وأبان ما كان لكلية ندوة العلماء من الفائدة بزيارة السيد صاحب المنار , وما كان من الحركة الفكرية في مسلمي الهند , وما أبداه السيد من النصائح , وما تلاه من الخطب في تلك الحفلات وصدرها بكتاب تقدمة , واختتمها بكتاب من السيد أرسله إليه. ووصف الوداع واللقاء في كل بلدة أَمَّهَا السيد , وقال: إنه جعل مؤلفه هذا كمذكرات للسيد بأسماء البلاد والأشخاص والآثار والمدارس , إلى غير ذلك مما شاهده هناك؛ لتكون مساعدةً له في تأليف رحلته الهندية , ويعلم قراء المنار أن السيد وعد بكتابة هذه الرحلة المباركة إن شاء الله تعالى. فنشكر للأستاذ الصديق عنايته هذه , ونرجو من الله تعالى أن يكثر من أمثاله في المسلمين وأن ينفع به آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح مخلص رضا

السكة الحديدية في الحجاز

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ السكة الحديدية في الحجاز [*] تواترت الأخبار اليوم بمكة المكرمة أن حكومة الحجاز الآن مهتمة جدًّا بتسيير السكة الحديدية بين المدينة ومكة وبين هذه وجدة , وهذه الأخبار طالما كانت تتشوق قلوب المسلمين إلى وجودها خارجًا لكونها تتردد مرارًا من سنة إلى أخرى حتى تسلسلت إلى ما لا نهاية لها لكنها ساذجة. حقًّا أقول: إن الإنسان بواسطة هذه السكة صار يستغني في سفره عن عدة أشهر ببعض أيام وعن عدة أيام بيوم أو بعض يوم فضلاً عما توفر له من ماله الذي كان يصرفه في سفره , وما اكتسبه من الراحة عما كان يكابده من المشاق والمصاعب والعوائق , فلا تروج صناعة ولا تتقدم تجارة ولا زراعة إلا بها؛ لأنها هي تنقل المصنوعات الخطيرة والحقيرة من بلد إلى بلد ومن مملكة إلى أخرى فيحسن حالها، وتنقل حاصلات الزراعة من الحبوب والثمار وغيرها فيزيد نفعها وتزيد بزيادته رغبة الناس فيها واعتنائهم بها. وقصارى القول: إن هذه السكة قد سهلت من السفر كل خطر شديد , وجعلت البلد البعيد أقرب من حبل الوريد، وسهلت المواصلات، وقربت المسافات، فعمَّت التجارة، وعظمت الإمارة، وتلألأ العمران في سائر البلدان، وتيسر للعلماء وأصحاب الصنائع السفر إلى البلاد البعيدة، والاطلاع على أمور كثيرة، وبذلك تتسع العلوم، وتكثر الفنون، وغير ذلك من منافعها التي لا تُحصى ولا تكاد تُستقصى، لا سيما السكة الحجازية فإن فوائدها أكثر، ومنافعها أكبر. وبيان ذلك أن طريق الحجيج إلى بيت الله الحرام والمدينة المنورة أيضًا كلها مشقات وأخطار التي لم يوجد في بلد من البلاد الإسلامية مثلها؛ لأن نظام القافلة لا ضمانة له أصلاً كما هو مشاهد بالعيان في طريق المدينة، ويكثر وقت تحميل القافلة وتنزيلها وسيرها السارقون والمنتهبون والمختلسون، وربما هجم قُطَّاع الطريق على الحجاج في هذه الطريق , وفي 28 ذي القعدة سنة 1326 كانت القافلة خرجت من مكة المكرمة بقصد زيارة الروضة النبوية الطاهرة , وكان أكثر أفرادها من الحجاج الجاويين المساكين , وبعد أن بلغت محطة (بئر درويش) التي تبعد عن المدينة المنورة بيوم واحد , أشيع بينها بواسطة الجمالة عن توقع اعتداء العربان عليها , وتسبب عن هذه الأرجوفة عودة القافلة من حيث أتت. لذلك كان الحجاج إذا قصدوا إلى أداء هذه الفريضة أو إلى زيارة الروضة النبوية كانوا أول ما يستعدون على سلاحهم , وإذا ساروا فقلوبهم تستغيث إلى الله عز وجل أن يردهم سالمين غانمين , وأن لا يصادفهم أثناء السير أدنى ضرر وخلاف , حتى كأنهم سائرون إلى موقف القتال , وهذا كما لا يخفى على عاقل ينافي دعاء نبي الله إبراهيم المذكور في كتاب الله العزيز: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} (البقرة: 126) الآية. ومع هذا فجل ما سمعنا من سوادهم الأعظم قولهم: إن تسيير السكة الحديدية في هذه الأقطار ذريعة لدخول المشركين إليها , فلم يرغبوه خوفًا لذلك. ثم الحقيقة أن هذه المقالة إنما هي بسبب الغفلة والذهول عن الاحتمالات العقلية الصحيحة , وسبب الذهول هوالنظر إلى البلاد الإسلامية التي تحت ولاية دول أوروبة؛ لكثرة الإفرنج فيها , وإلا فيحتمل أن يتزيا الإفرنجي بزي المسلمين ويتكلم باللغة العربية الفصيحة , ويدعي دين الإسلام ويدخل إلى هذه البلاد لتحقيق ما قصده من الاطلاع إلى شئون الاجتماع والعمران فمن الذي يعلم هذا؟ ؟ ؟ ومما يؤيد هذا الاحتمال ما كتبه الأديب النجيب محمد بك لبيب في الرحلة الحجازية ما نصه: أما أفراد الفرنجة الذين قصدوا مكة أو المدينة في أزمنة مختلفة , وكتبوا عنهما ما كتبوا على حسب نزعاتهم سياسية أو دينية أو عمرانية أو جغرافية إنما كانوا يتزيون بزي المسلمين بعد أن يعرفوا اللغة العربية , ويدَّعون أنهم على الدين الإسلامي , نخص بالذكر من هؤلاء: بور كادت السويسري وبورتون الإنكليزي , وهود جرونج الهولاندي [1] وكورتلمون الفرنساوي اهـ. وبناء على ما تقدم لم يبق شك أن تسيير السكة الحديدية ليس سببًا لذلك كما قد يُتوهم وإلاَّ فدخول هؤلاء إلى هذه البلاد بماذا؟ فليأتونا دليلاً عليه فهل بواسطة الطيارات والمناطيد الهوائية (Ballon) لا! لا! فإن الحجاج لا يدخلون إليها ولا يخرجون منها إلا في ركب القافلة التي لا أمانة لها أصلاً , وعلى كل فنحن نتأكد من اهتمام دولتنا العلية لذلك , وجعلنا عمومًا بلا استثناء نثني على همم معالي الدولة العثمانية بكل جوارحنا باتخاذ الوسائل؛ لحفظ شئون وراحة حجاج بيت الله الحرام مما يدلنا على ما لدولته من خلوص الاعتقاد والشفقة والحرص التام على رعاية الحجاج والالتفات طبق نوايا الخليفة الأعظم - أيده الله - والسلام. ... ... ... ... ... ... يوم الأحد 29 جماد الآخر 1330 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو ذاكر الأيداني يقول صالح رضا: لا شك بأن وجود السكك الحديدية التي تقرب الأبعاد لمن أهم وسائل العمران , وقد ظهر للحجازيين فائدة وصول السكة الحديدية إلى المدينة المنورة , والسكة الحجازية هي أهم سكك حديد الدولة؛ للأسباب التي ذكرها الكاتب ولأنها هي السكة الملية الوحيدة في بلاد الدولة العثمانية. وإن لارتقاء البلاد أسبابًا أخرى أهمها نشر العلم الحقيقي الذي أصبح أداة كل رقي وملاك كل عمل نافع , وإذا تحضرت البلاد بغير أهلها فإن ذلك هو الخراب الحقيقي لها؛ لأن الوافد - أجنبيًّا كان أو وطنيًّا - إنما هو مستعمر مستثمر؛ لذلك كان من الواجب لمساعدة الحجاز وأهله نشر العلوم والمعارف في أقطاره , وإلا كان وجود السكة لفائدة غيرهم أولاً , ثم لهم ثانيًا إن كانوا يعلمون.

طريقة السنوسية وزواياها بين الإسكندرية ودرنة

الكاتب: زيد الخير

_ طريقة السنوسية وزواياها بين الإسكندرية ودرنة [*] (1) إن الطريقة السنوسية هي من أقوى طرق الإسلام [1] انتشارًا وأكثرها حصى وأشدها تماسكًا , وزواياها مبثوثة في أقطار المغرب والسودان ووادي النيل والحجاز , فليس في وسعنا استقصاء ما هناك من الزوايا ولا معرفة عدد المريدين والأتباع , وإنما يقيس المرء ما لم يره على ما رآه , فلنذكر الزوايا السنوسية في القطعة الواقعة بين الإسكندرية ودرنة فقط , وهي الطريق المطروق للقوافل بين مصر والمغرب , ومسافتها على الجمل بضع عشرة مرحلة. فعلى مسيرة يوم للفارس من ثغر الإسكندرية إلى الغرب زاوية سيدي موسى العجاري في موقع يسمى بهيج، وعلى مسافة ساعتين منها زاوية سيدي يادم الأبيرش، وعلى مسافة نصف يوم بالتقريب من زاوية سيدي يادم توجد زاوية سيدي عبد العاطي أبي محيفظة، وعلى مسافة يومين من هذه توجد زاوية سيدي عبد المنعم أبي شنينة , وهي بمحل يقال له: جميمة في نواحي الضبعة، وعلى مسافة يوم من زاوية عبد المنعم توجد زاوية سيدي عبد الرحيم الفاخري بمحل يقال له: قربوه. ثم هناك زاوية سيدي موسى بن موسى على مسيرة ثلاث ساعات من زاوية سيدي الفاخري في محل يقال له: فوكة، مارة به سكة الحديد الخديوية، ثم على مسيرة ثلاث ساعات من فوكة إلى جهة البحر زاوية سيدى عبد الرحيم التهامي , وعلى مسيرة ساعتين من هذه على البحر أيضًا زاوية سيدي هارون بن بدر القناشي , وهو من أكابر السنوسية , وبعدها على مسافة ساعتين إلى الغرب من جهة البحر زاوية سيدي علي بن مورد , ومنها على مسافة يوم زاوية سيدي أبي القاسم الطيب , وموقعها يبعد نحو ساعتين عن مرسى مطروح إلى الغرب، ثم زاوية سيدي عبد القادر بن عمر , على مسافة يوم منها , ثم زاوية سيدي عمر الأوجلي على مسيرة ثلاث ساعات مما قبلها. ثم على مسافة نحو ثلاث ساعات أيضًا من زاوية الأوجلي زاوية سيدي محمد الشريف، ومنها على مسافة يوم زاوية سيدي الشريف بن ميلود , وعلى مسافة نحو يوم أيضًا من زاوية ابن ميلود توجد زاوية سيدي عمران بن إبراهيم وبعدها بمسافة يوم يقع المحل المسمى بالسلوم , فمن السلوم إلى الغرب بثلاث ساعات توجد زاوية سيدي محمد الشارف , ومنها على مثل هذه المسافة إلى ناحية الغرب توجد زاوية سيدي علي بن عبد الله وهي في موقع دفنه , وفي موقع دفنه أيضًا زاوية سيدي صالح الشريف مكانها على يومين من التي قبلها غربي طبرق وبعدها زاوية سيدي مرتضى فركاش , على يومين من زاوية سيدي صالح الشريف , ومنها إلى البحر بساعتين زاوية سيدي محمد بن فارس , وبعدها زاوية سيدي عبد الله فركاش على ساعتين إلى الغرب , وفي نفس درنة توجد زاوية الشيخ المسمى بالسنوسى الغرياني ومن درنه على يوم إلى الجنوب يوجد زاويتان إحداهما زاوية العزيات شيخها سيدي السنوسي الجبالي والثانية زاوية المخيلة شيخها سيدي محمد الحسين. ومتى اتصل بنا علم بقية الزوايا التي من درنه إلى الغرب نحو بني غازي وطرابلس أو إلى الداخل من البلاد نوافي بذكرها إن شاء الله , ونردفه بما نتحققه من أخبارها , والذي تحققناه إلى الآن أن أغلب العرب المنتشرين من ثغر إسكندرية إلى السلوم هم من قبيلة أولاد على المنتشرة انتشار الجراد , وكلهم سنوسية لا تسمع من كبيرهم ولا من صغيرهم إلا (ذكر سيدنا المهدي رضي الله عنه) وكل زاوية من الزوايا التي عددناها هنا لها نحو ألفين إلى ثلاثة آلاف من الأتباع لا يدخلون مع غيرهم ولو كان الجميع أبناء طريق واحد , فالجميع سنوسية ولكن أتباع كل زاوية مقصورون عليها , وهم يترددون إليها ويحضرون مجالس العلم بما أمكن , ويختمون القرآن العظيم كل شهر مرة في الزاوية , ويعظهم خلفاء السنوسي ويرشدونهم في أمور دينهم ودنياهم. ومن أحسن فوائد هذه الزوايا أنها بمثابة فنادق على هذا الطريق الممتد , فلا يوجد سواها ملجأ للبائسين والمنقطعين ولا معارج للمسافرين، ومشايخها لا يتقاضون أحدًا شيئًا , بل يتلقون كل من يفد عليهم بالترحاب , ويكرمون الضيف على قدر استطاعتهم ولا وقف للزوايا غالبًا من جهة , بل كل شيخ من أشياخها هو قائم بمصروفها (نفقتها) مما يستغل من الأراضي التي حولها وأرض الله واسعة لا يلزمها إلا حراث، وقد يقدم أتباع الزاوية لها بعضًا من غلاتهم: كالحنطة والشعير , كما أنه إذا فضل شيء عن الزاوية يقدمه شيخها إلى الشيخ السنوسي الأكبر في الجنوب أو في كفره؛ لأن زاوية الأستاذ الكبير هناك عبارة عن مدرسة كبرى هي منتاب الطلبة من جميع الأقطار والضيوف والقصاد , ينسلون إليها من كل حدب , وليس ثمة شغل بغير العلم وإقامة السنة ولا هناك بيع ولا تجارة ولا شيء يلهي عن ذكر الله؛ فلذلك ترقد الزوايا البعيدة بفضلات غلاتها المركز الكبير للسادات رضي الله عنهم. وأما درجة تعظيم هؤلاء الجماعات لفروع هذا البيت - ذرية سيدي محمد السنوسي - (وهم أبناء سيدي المهدي وسيدي الشريف رضي الله عنهم) ومبلغ اعتلاقهم حيالهم واستمساكهم بأسبابهم , وإطاعتهم لأوامرهم فمما ليس له نظير في زماننا هذا؛ ولذلك كانت أوربة تلهج بقوة السنوسية، والدول العظام يحسبن لها الحساب الكبير , وفرنسة تتقدم من وادي وإنكلترة - فيما يقال - تطمح أن تضم الجنوب إلى مصر، وإيطالية تتمنى خداع الشيخ السنوسي , لتتمكن من البلاد وكل ذلك خوفًا من أن يلتف حول السنوسي مسلمو أفريقية ويكون مركزه من الصحراء ومن بأس القبائل مساعدًا له على تأييد الكلمة وبث الدعوة , فالدول المستعمرات المصابة بكابوس الجامعة الإسلامية تحب أن تستريح من طريقة السنوسي الماثل دائمًا في خواطرها , وربما كان ذلك سببًا لسماح هذه الدول لإيطالية بأخذ طرابلس الغرب حتى يتقلص عن رأس السنوسي ظل راية الهلال , فيصيبه ما أصاب غيره من الحجر والقيد , ويذهب الخطر الإسلامي عن المستعمرات المأخوذة من أهلها، وما دامت طرابلس للدولة، فالسنوسي حر في زاويته من الأرض , وكلمته مسموعة ودعوته سارية في البسائط, والدولة العثمانية في أفريقية حَرية بأن تجمع كلمة الإسلام فيها حولها ويحدث الله بعد ذلك أمرًا. ولهذا لم يذهب الاهتمام بالشيخ السنوسي عن دهاء السلطان عبد الحميد , فأرسل إليه بمكانه يومئذ من الجنوب المرحوم صادق بك المؤيد العظمي رسولاً اجتباه لعلمه بأنه لمثل تلك العزيمة عقلاً ونشاطًا وحمية , فشاهد في تلك الرقعة من حال السنوسي ما يسر كل مسلم من قدم صلاح وحلقة درس , وتأثل طاعة ونفوذ أمره، وكتب عن ذلك رحلة نشرها رحمه الله , وبالجملة: فإن ما يروى وما يرى من أحوال السنوسي والسنوسية يخطر بالبال ما سمعه كاتب [2] منذ 22 سنة من الأستاذين الكبيرين الشيخ علي الليثي والشيخ محمد عبده - رحمهما الله - وهما يتناجيان في أحد أسمارهما وهو: (أنه لم يبق للإسلام أمل في استئناف الحياة والنهوض أصح مما يؤمل من جانب هذه العصابة) فمن رأى الآن حرب طرابلس قائمة بالسنوسية وعلم كيف أن بعض قبائل من العرب يدربها عدة ضباط من العثمانيين حصروا مدة ستة أشهر إلى حد اليوم جيشًا منظمًا بالغًا عدده150 ألف جندي كامل العُدة حديث آلة الحرب , تذكر كلام ذينك الشيخين العظيمين الذي قالاه منذ 22 سنة , وعلم أن شهرتهما في العقل والعلم وأصالة الرأي لم تكن عبثًا , وقد حققت الأيام شيئًا من كلامهما , وستحقق إن شاء الله أشياء. (2) تقدم ذكر الزوايا السنوسية المنتشرة من حدود ثغر الإسكندرية إلى ثغر درنة وإحصاء خمس وعشرين زاوية منها في هذه المسافة , وقد فات ذكر زاوية حوش ابن عيسى في الإسكندرية وشيخها محمد بن مالك، وزاوية الغيط في العامرية لأصحابها العزائم , فتكون جملة الزوايا بهما إلى حد درنة سبعًا وعشرين , ومن هناك صارت زاوية ماره شيخها سيدي عبد الله أبو سيف، وعن ماره بمسافة ساعة ونصف ساعة إلى جهة البحر زاوية بشاره شيخها سيدي عبد القادر فركاش، وعلى مسافة ساعتين من هذه إلى الشرق زاوية عوينة نقا شيخها سيدي الحبيب بن جلول , وعن ماره بمسافة ساعة إلى ساعتين أيضًا نحو البحر زاوية التراكي شيخها سيدي يوسف العجال , ثم إلى الغرب من زاوية عوينة نقا زاوية ثرت شيخها سيدي محمد الغزالي , وإلى الغرب من ثرت زاوية فيدية شيخها سيدي صالح بن إسماعيل وإلى الغرب من فيدية زاوية شحات شيخها سيدي محمد الدردفيّ وفي غربيها على مسافة ثلاث ساعات منها الزاوية البيضاء الشهيرة التي أسسها سيدي محمد السنوسي مؤسس الطريقة - رضي الله عنه - وذلك بجانب مرقد سيدنا رافع الأنصاري - رضي الله عنه - وشيخ هذه الزاوية الآن سيدي العلمي. وعلى ساحل البحر غربي الزاوية البيضاء زاوية الحمامة شيخها علمي آخر , ثم زاوية الحنية شيخها سيدي أحمد الزناتي مركزها غربي زاوية الحمامة وقبلي زاوية الحنية على مسافة ساعتين ونصف ساعة منها زاوية كفنطا وشيخها سيدي نيدة بن عمور , وقبليها زاوية العرقوب شيخها سيدي جاد الله الجبالي وغربي زاوية العرقوب على نحو ساعتين زاوية القصرين شيخها سيدي محمد العربي، وغربي زاوية القصرين بمسافة خمس ساعات زاوية القصور شيخها سيدي عمر المختار - وهو من أكبر المجاهدين بهذه الحرب , ومن أعظم أركان السيف الأبيض أنور بك - وإلى الشمال من زاوية القصور زاوية المرج شيخها سيدي عمران السكوري من أبطال الجهاد الملازمين للمعسكر العثماني وبحري زاوية القصرين إلى الشمال زاوية ميراد مسعود شيخها سيدي محمد بن حوا. وإلى الغرب من ميراد مسعود زاوية الحامدية شيخها سيدي عبد الله الكليلي وإلى الغرب منها زاوية توكره وشيخها سيدي عبد الله الجيلاني وغربي توكره زاوية برسس شيخها ابن سيدي عبد الله الجيلاني، وغربي زاوية برسس زاوية دريانه شيخها سيدي الشريف الغماري، وغربي دريانه زاوية أسقفة شيخها سيدي الأمين الغماري. ثم غربي أسقفة زاوية أم شخنب شيخها سيدي محمد علي بن عبد المولى تبعد عن أسقفة نصف يوم - ومن أم شخنب إلى مدينة بني غازي مسافة يوم كامل - وإلى الجنوب من بني غازي على مسافة 6 أو7 ساعات زاوية طيلمون شيخها سيدي محمد علي المحجوب , وإلى الجنوب من أم شخنب زاوية ماسوس شيخها السنوسي الأشهب , وإلى الغرب من بني غازي على مسافة 4 أيام زاوية القطفية شيخها الزروالي بن عبد اللطيف وغربيها زاوية النوفلية في عقر سيدي بحيري عن القطفية بمسيرة ستة أيام شيخها سيدي أحمد بن إدريس وغربي النوفلية بيوم ونصف يوم زاوية الزعفران شيخها ابن شفيع وهي بجوار قصر سرت. ثم في مصراطة زاوية أم وطين شيخها السنوسي بن عبد العال استشهد في هذه الحرب , وفي زليطن زاوية بمحل اسمه زوو شيخها سيدي محمد بن عثمان بن بركة , وفي نفس طرابلس زاوية للسنوسي شيخها سيدي عبد الوهاب الزناتي وفي جبل طرابلس زاوية سيدي عبد الله السني وفي غزامس زاوية سنوسية وكيلها سيدي أحمد الحبيب , وفي غاث زاوية شيخها الحاج أحمد الغائي وفي فزان زاوية مركزها بمرزوق شيخها سيدي عبد اللطيف بن عبيد وفي بلدة مزدة زاوية , وفي بلدة هون زاوية , وفي زويلة زاوية , وفي بلدة واو زاوية شيخها سيدي محمد علي الأشهب , وفي بلدة زلة زاوية شيخها سيدي الشارف الغرياني , وإلى الغرب منها زاوية سوكنه شيخها سيدي الشريف حامد , وفي أوجلة زاوية شيخها سيدي عبد الله الفضيل وفي جالو زاوية العرق شيخها سيدي عبد الله التواتي , وفي جالو أيضًا زاوية اللبة وكيلها الشيخ غ

أهمية الإسلام

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ أهمية الإسلام ما زال الأوربيون منذ ولوا وجوههم شطر العالم الإسلامي , واستبدلوا الخطة السلمية بالخطة العدائية في استعمار البلاد الإسلامية يبحثون وينقبون عن الوسائل الموصلة إلى مطلوبهم من أقرب الطرق , بحيث يأخذون البلاد بدون حرب على طريقة الاستعمار أو الحماية، وأن أكثر دول أوربة رقيًّا أقلها اهتمامًا باسم السلطة والألقاب الضخمة , فالإنكليز والفرنسيون مثلاً يرضون بأن تكون البلاد التي تكون تحت سلطتهما استعماريًّا , أن تكون ذات ملك أو باي أو راجا أو سلطان وما أشبه , ولكن مثل روسية لا يرضيها إلا إزالة الشكل والصورة، ثم إن الأمم الحية كل آمال أفرادها موجهة لمصلحة أممهم. كل يسير من طريق والغاية الاستئثار بمصالح ومنافع الشرق واستعباد أهله واستخدامهم، فخدمة غردون لإسماعيل باشا الخديوي الأسبق , وخدمة كثير من ضباط الجيش البريطاني والألماني في الجيش العثماني وغيرها من الخدمات الإدارية والحربية كلها لمصلحة أولئك الخَدَمة الصادقين أنفسهم ولأممهم، وكذلك النصائح الحربية والإدارية التي توجه إلى أمراء الشرق وحكامه وقواده: مثل نصيحة سفير ألمانية لحقي باشا بنقل الجيش من طرابلس الغرب إلى اليمن ونصيحة قنصل الإنكليز في البصرة لواليها سليمان نظيف باشا بتأديب الشيخ خزعل صاحب المحمرة , وانتهاء ذلك التأديب بإعلان الحماية البريطانية على ذلك الشيخ وبلاده؛ كل هذا وما سبقه ولحقه من النصائح الفرنسية التي كانت تلقى لباي تونس , والنصائح التي كان الأوربيون يرشدون بها العرابيين , وكذلك ما كان يتلقاه مصطفى كامل باشا من النصائح الأوربية؛ لتأييد المقاصد الوطنية المقدسة التي هو وأعقابه من أنصارها؛ كل هذه الإرشادات من آلات الفتح الاستعماري الجديد. ثم إن العلماء الاجتماعيين لم يفتهم قسطهم من هذه الخدم لأممهم , فكتاب (الإسلام) لمسيو هنري دي كاستري و (مدينة العرب) لغوستاف لوبون , وما يكتبه وينشره العلماء الأوربيون في مدح الإسلام وتقريظه , وبيان منزلته وتأثيره في نفوس المسلمين , والكلام في مسمى الجامعة الإسلامية , وغير ذلك مما يكون معظمه - إن لم نقل جميعه - معاول لهدم الجامعة الإسلامية , وتنبيه دولهم إلى ما بقي في الشرق من القوة الأدبية بعد أمنهم جانب حكوماتهم؛ لضعفها وانقلاب شكلها إلى ما يضعف تماسكها , ويضمن انحطاطها تدريجيًّا بسرعة دخول الأوربيين في جميع شئون الشرق , وانطلاق دعاة النصرانية يجوسون خلال الديار إلخ، ومن ذلك ما نشره جوا كيم دي بولف في مجلة (دي هايف) الألمانية تحت عنوان (أهمية الإسلام) , ولخصته عنها جريدة المؤيد الصادرة في 3 ربيع الأول سنة 1330 وهو: (يتبادر إلى الأذهان من جهات عديدة أنه سيأتي على الإسلام بعد قليل زمان لا يَحسب فيه أحد للإسلام حسابًا , وأنه جدير بالدول الأوربية أن لا تعيره من الآن فصاعدًا جانب الاهتمام , إذ لم يبق له فعلاً دولة سياسة دينية في الشرق وعلى وجه خاص في أفريقية) . (وتأييد مثل هذه الأفكار يشف عن تشاؤم وتفاؤل عظيمين يختلفان باختلاف وجهة النظر , إلا أن هذا لا ينطبق على حقيقة الواقع؛ لأن المسلمين في العالم أكثر عددًا من المسيحيين , وحركة التبشير عندهم أيسر من أعمال المبشرين المسيحيين في البلاد الشرقية) . (ولما كانت قواعد وأصول الدين الإسلامي تنطبق على الشكل الذي يبرز فيه , فمن الممكن في كل وقت أن يتولد من الإسلام عامل سياسي ذو أهمية قصوى وهذا لا يحتاج إلا إلى وجود رجل يعرف كيف يستميل هذه الجماهير , ويبث فيها الحمية والحماس) . (والموضوع الذي أخوض فيه الآن لا يتناول الإسلام من حيث أهميته السياسية والدينية بل يقتصر على وجه خاص من هذه الأهمية - وقد ترك في زوايا النسيان - إلا أن لهذا الوجه شأنًا عظيمًا خصوصًا في أعين أوربة , وهو عامل جدير بالانتباه وهو يشمل الواجبات الصحية التي فرضها الإسلام , وقد امتاز القرآن (الشريف) بالخوض فيها عن سائر الكتب السماوية. لو تأملنا حكمة الواجبات الصحية في القرآن (الشريف) وما لها من الأهمية الكبرى بجعل الجنة نصيبًا للذي يعمل بها لاتضح لنا أنه لولا الإسلام لأصبح الشرق الذي هو بؤرة الأوبئة أكثر خطرًا على أوربة بكثير مما هو الآن (؟ !) وتبين لنا أن مناوأة الإسلام ومناضلته هي بمثابة قطع فرع الشجرة الذي يتخذه الإنسان متكأ وسندًا. وأي حكمة أمتن وأظهر من فرض واجبات الوضوء وما يترتب عليها من غسل الجسم من أعلى إلى أسفل وتنظيف الفم والوجه؟ والشرط الأكبر للقيام بهذه الواجبات هو استعمال الماء الجاري [*] . ولقد جرى النبي محمد على شاكلة موسى (عليهما الصلاة والسلام) فأدرك خطر مرض (تريخنين) في الخنزير، والحمى التفوئية والهيضة الوبائية في الحيوات المحارية (ذوات الأصداف) ولذلك نرى كيفية ذبح الحيوانات هامةً جدًّا خصوصًا في الشرق؛ نظرًا للحرارة التي تفسد الدم , ووجود أمراض فتاكة منشأ جراثيمها الأمراض الحيوانية. ثم إن ماهية الحركات والتمرينات الجسمية في الصلوات كماهية التمرينات الرياضية التي يهتم الناس بها في عصرنا هذا , والسجود ومد الذراعين والأعضاء سبب من أسباب قلة السمن في الشرق. وتعدد الزوجات خير واقٍ من قلة النسل ومن الأمراض التناسلية , وعلى العموم لا يوجد في الشرق بنات مسنات معرضات للتشنج العصبي (الهستريا) . وإن تحريم شرب المسكرات الذي أتبع به المراكشيون شرب الدخان حسنة من حسنات الإسلام يجدر بنا - نحن الشعوب الأوربية التي تدعي المدنية - أن نحسد المسلمين عليها. وإن الازدراء بالحياة المبني على زيادة اليقين بالله والاهتمام بالصحة لا بقصد المحافظة على الفرد هما الوسيلتان لبقاء مجموع قوى البنية صحيحًا سالمًا. وإذا كان الشرق بقي متفوقًا في بعض الأمور ومقصرًا عنا في أمور كثيرة فذلك ناشئ عن أسباب خصوصية أهمها: اختلاط الأجناس التي هي ضعيفة العلاقة بالإسلام , وتأثير العناصر الأجنبية على الجامعة العربية بطريق التزوج من نساء الأقطار الأخرى بدون انتخاب ولا تنقيح , إذ قضت سنة الطبيعة التي لا مبدل لها أن يكون نقاء الجنس شرطًا في كماله. وعلى كل فلقد ظهر نفع وقدر التعاليم الإسلامية خصوصًا من حيث اختلاط الأجناس , وبما أنه لا يمكن إبادة شعوب الشرق بدون إبادة غيرهم , فإذا أردنا أن نتساءل: ما يمكن أن يكون مصير هذه الشعوب من جراء تأثير الإسلام عليها؟ فأجدر من ذلك أن نتساءل أيضًا ماذا كان مصيرها لولا الإسلام؟ ولا يقتصر الأمر على هذه الشعوب , بل الأحرى بنا أن نتساءل ونعلم ماذا كان مصيرنا لولا المدنية الإسلامية؟ إن واجب الاعتراف بالجميل يحتم علينا أن لا ننسى كون علومنا ومعارفنا مقتبسة من العلوم والمعارف العربية , وأنه لم يتسنى لنا معرفة فلسفة أرسطو إلا من النسخ اللاتينية التي ترجمها العرب إلى لغتهم قبل أن نعثر على الأصل اليوناني بمدة طويلة. وإذا تبادر إلى ذهن أحدنا في خلال القرون الوسطى ارتشاف لبان العلوم كان يولِّي وجهه شطر الأندلس , ولا يزال إلى وقتنا الحاضر يمكن اقتباس أمور شتى من العلوم السياسية الإسلامية , وليس من الضروري مقاومة الذين يحاولون مناوأة الإسلام؛ لأنه يتعذر مناضلة الإسلام من حيث هو دين والبرهان على ذلك فشل المبشرين الذين ارتادوا البلاد الإسلامية , ولم يصلوا إلى نتيجة حسنة , ثم إن هنالك أسبابًا شديدة تجعل مناضلة الإسلام سيئة العاقبة بغض النظر عن فوائده من الوجهة الصحية. ولا يجب علينا ازدراء حركة الجامعة الإٍسلامية والإنكليز والفرنسيون واقفون على حقيقتها , ويعرفون كيف ينتفعون منها وهاتان الأمتان والإيطاليون معهما قلبوا للمسلمين ظهر المِجن وظهروا لهم بمظهر عدائي , بينما هؤلاء يعتبرون ألمانية منفذة لهم) . ثم اختتم الكاتب مقالته بإسدائه النصح إلى ألمانية بالمحافظة على هذا النفوذ ولو لمصلحتها التجارية في الشرق وفي المستعمرات الألمانية الأفريقية التي يسود فيها العنصر العربي , أهو المقصود من مقالته هذه خدمة الأمة الألمانية وتنبيهها لما يسمى بالجامعة الإسلامية , فتأخذ قسطها من تراث العليل , وتحتفظ بما لديها من الغنائم الباردة (المستعمرات) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح مخلص رضا

ابن تيمية ولوتر

الكاتب: عن مجلة شورا التتارية

_ ابن تيمية و (لوتر) جاء ما يأتي في مجلة (شورا) التتاربة من عدة أشهر تحت هذا العنوان: إن في شروعنا بكتابة مقالة قارنَّا فيها بين اسم عالم نصراني واسم عالم مسلم لَسببًا , وإذا عرف السبب، لا يبقى محل للعجب , كان ظهر في مملكة ألمانية راهب اسمه لوتر ولد بعد مائة وخمس وخمسين سنة تقريبًا من وفاة ابن تيمية , وشرع في إصلاح النصرانية وإرجاعها إلى بساطتها الأولى وحفظها من البدع والخرافات , وذلك الرجل هو رئيس المذهب المشهور اليوم بمذهب لوتر أو البروتستانت. أتم لوتر باجتهاده وغيرته المشروع الذي قصده , ورأى بعينه ثمرة تعبه وكون خدمته مرعية الجانب بين الناس , وأن قسمًا عظيمًا من النصارى ينتسبون إلى مذهب لوتر اليوم وهم البروتستانت. كان علماء اليهود الذين أسلموا يكثرون من رواية الإسرائيليات , وعشاق الخرافات والمبالغات من العجم لم يتركوا بعد إسلامهم المبالغات والخرافات التي تربوا عليها، فلهذا أو ذاك كثرت البدع في الإسلام , وانتشر بين الناس كثير من العادات باسم الدين , وقد ظهر في عالم الإسلام كثير من المجاهدين والمصلحين جاهدوا في سبيل إزالة البدع، وإحياء سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهادًا كبيرًا , واجتهدوا في إرجاع الإسلام إلى صفوته الأولى في زمن السلف، وإزالة التفرقة من بين المسلمين وجمعهم على اعتقاد واحد وعلى صراط مستقيم , وكان ابن تيمية من كبار هؤلاء المجاهدين. لا توجد مناسبة بين ابن تيمية ولوتر في المذهب والدين، ولا في القوم والقبيلة، ولا في المكان والزمان , ولكن توجد مشابهة بينهما في المقصد والمسلك فقد كان ابن تيمية يجتهد في حفظ الإسلام من البدع والخرافات , كما أن لوتر كان يشتغل بإصلاح النصرانية , ولكن لا مشابهة بينهما في احتمال المشقات في حال من الأحوال , حقًّا إن لوتر صادف في سبيل إصلاح النصرانية بعض الصعوبات , ولكن ما ناله حري أن يحسب حظًّا وسعادة بالنسبة إلى ما احتمله ابن تيمية من المشقات , علا لوتر على أعدائه وغلب عليهم في العاقبة، أما ابن تيمية فقد توفي تحت قهر أعدائه. إذ صح القياس والنسبة بين هذين الرجلين في العلم والكمال أو لم يصح فهو لا شك يصح في العلوم المتعلقة بالديانة النصرانية وحدها، وأما في العلوم الأخرى فالفرق بينهما (بناءً على شهادة أربابه) كالفرق بين السماء والأرض، بل لا يعد لوتر نظيرًا لابن تيمية في العلوم المتعلقة بالديانة النصرانية نفسها، ويدل على ذلك استدلال العلماء من النصارى على كون إنجيل برنابا موضوعًا ومصنوعًا من طرف الأعداء بعدم ذكر ابن تيمية لذلك الإنجيل [1] . لو كان لوتر أكثر علماء النصارى وثوقًا في العلوم المتعلقة بالنصرانية بالنسبة لابن تيمية لاستشهد العلماء في هذه المادة بقول لوتر بدل ابن تيمية، فإذا كان ابن تيمية لم يذكر إنجيل برنابا فكذلك لم يذكره لوتر , ولو كان إنجيل برنابا معروفًا عند لوتر لكان أقامه عدة وآلة قوية أمام أعدائه من الكاثوليك. كان ابن تيمية ينهى الناس عن الاستمداد من الموتى وزيارة قبور الأولياء بقصد اتخاذهم وسطاء عند الله , يدعون وتطلب منهم الحاجات , وعن ذبح النذور عند القبور وكذلك اجتهد في حماية الإسلام من تجاوز الفلاسفة , وكتب في ذلك كتبًا عديدة , وتباحث مع الشيعة والروافض (ورد على الجميع في كتب حافلة) وكان يدعو الناس إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولكن أهل زمانه ما عرفوا قيمة تلك الخدمة الجليلة منه في الإسلام بل بهتوه بالباطل وافتروا عليه الكذب، فبتلك البلايا والمحن خرج ابن تيمية من الدنيا , كان لوتر يجيب أعداءه بعبارات شديدة حتى استعمل في بعض الأوقات ألفاظًا مغايرة للأدب , وأما ابن تيمية فكان يتغافل عن أذى أعدائه ويتحمله ويُظهر لهم الترفع عن السفاسف , وكان لا يخاصم أحدًا في خاصة نفسه , فلأي سبب لم يتيسر لابن تيمية اجتناء ثمرة جهاده , والحال أن لوتر وفق لذلك وما هو السبب الظاهر في ذلك؟ الأفكار مختلفة في جواب تلك المسألة، كل أحد يفكر في ذلك على قدر ما يصل إليه فكره , ويعرض له من السبب , ونحن بصرف النظر عن التفاصيل نجمل تلك الأفكار المختلفة واحدًا بعد واحدٍ تحت الأرقام هكذا: (1) كان بناء سعي لوتر في أمره على أساس متين , فإنه عرض مشروعه أولاً على الملوك والأمراء حتى وفق لاستمالتهم إليه , وبعد ذلك تمايلت الأفكار إليه من نفسها , وأما ابن تيمية فهو لم يتقرب من الملوك والأمراء , ولم يبالِ بعداوتهم ولا بصداقتهم ولا داراهم , ولم يهتم بالتفاتهم قط , وأعداؤه افترضوا منه تلك الخلة وسَعَوْا به لدى السلاطين والأمراء حتى قام عليه العلماء والأمراء بالاتفاق , وأحدثوا له أشكالاً من المصائب. (2) المطبوعات والمطابع، كان لوتر ينشر أفكاره بالمطابع ويطّلع الناس عليها قبل مضي الشهر , وينتقدونها إذا كان هناك محل للانتقاد أو يصوبونها , أما ابن تيمية فلما لم توجد صنعة الطباعة في زمنه لم يطلع على أفكاره إلا أفراد قلائل وكثير من أفكاره حُرف قصدًا من طرف أعدائه , وبذلك كانت الحقيقة تبقى في طي الخفاء. (3) الأحوال المتعلقة بذات لوتر أو ابن تيمية ليست سببًا في ذلك , بل السبب الحقيقي الطبائع والأحوال الروحية التي وجدت مع الخلق (روح العصر) لأن لوتر ظهر بين الأوربيين المستعدين الذين يفهمون الكلام , ويعرفون قيمة العالِم والعلم , والحال أن ابن تيمية ظهر بين أهل الشرق الذين يشتغلون بالشخصيات ويغضبون بأقل شيء ويتبعون العامة في الأفكار؛ لذلك عرفت قيمة لوتر ولم تعرف قيمة ابن تيمية. ليس لنا نية في المعادلة والترجيح بين تلك الأفكار (وفي الأصل محاكمتها) فنحن ما قيدنا في المجلة إلا الذي سمعناه من الأفكار سواء كانت خطأ أوصوابًا والميدان واسع للذين يريدون البحث والانتقاد ولا يعوز أحدًا قلة الكلام. ومع ذلك تجب الإشارة إلى أن كل عمل بين الأوربيين يكون في أيدي أربابه وفي الشرقيين على عكس ذلك، فلا هم ينالون فضيلة اختيار ما هم مستعدون له من الأعمال ولا هم ينوطون الأعمال بأربابها المستعدين لها إلا على سبيل الندور، فالعَمَلة يزاحمون العلماء الكبار ويشاركونهم في الأعمال الخاصة بهم، والجزارون يتكلمون في وظائف المهندسين اهـ.

فوائد صحية ـ غذاؤنا في الصيف

الكاتب: عن جريدة المقطم

_ فوائد صحية غذاؤنا في الصيف [*] من المعلوم أن الغذاء هو الذي يقوم الجسم ويعوض ما يندثر من بنائه , وأن لمجموع الجسم عملاً شاقًّا في طرد وإفراز الفضلات والمواد الداثرة , كذلك هو يعمل عملاً عنيفًا في تحليل مواد الغذاء وتوزيعها على أجزاء الجسم لتجديد بنائه، وتتنوع الأغذية بتنوع فصول السنة - يعلم العوام شيئًا كثيرًا من هذا فضلاً عن الخواص - وقد قضت مشيئة الله أن يكون لكل فصل وإقليم من مواد الغذاء ما يناسب حالة الجو , فترى الأبّ (الخضر) والفواكه تكثر في الفصل الحار والإقليم الحار , حيث تشتد الحاجة إليهما , وكان على الإنسان أن يجعل الطبيعة المعلم الأول له , ولكنه لما لم يفعل , عني العلماء والأطباء بإرشاده على ما به قوام جسمه قال الدكتور (كلفن كوتر) الأميركاني ما معناه: (يجب في الفصل الحار والإقليم الحار تقليل الأطعمة النيتروجية والإكثار من الأطعمة النباتية والفواكه الناضجة) وقد رأينا في (المقطم) مقالة في هذا الموضوع للدكتور أمين دمر تحت عنوان (غذاؤنا في الصيف) فأحببنا نشرها لقراء المنار , وسننشر مقالته اللاحقة التي وعد بها إن عثرنا عليها، قال: إن كيفية الغذاء ونوع الأطعمة التي نتناولها تختلف باختلاف فصول السنة وتقلبات الجو , ومن المعلوم أن غذاءنا يكون وافرًا ومغذيًا في الشتاء وفي أيام البرد القارس , ومعتدلاً خاليًا من المواد المنبهة في الصيف وأيام الحر , وهذه الاعتبارات التي يعلمها العام والخاص قد عللها علماء الطب مؤيدين ما شاهدوه بالاختبار , ولقد لخص الدكتور دي فلييري - في رسالة قدمها إلى مجمع الطب في باريس في شهر نوفمبر الماضي - ما سماه (الحوادث الناشئة عن تأثير الحر) وهي الأعراض التي شاهدها في الأطفال والراشدين على السواء , ولا سيما في المرضى على اختلاف سنهم) . اعتاد البعض أن ينسبوا هذه الحوادث المكدرة إلى الإفراط في المشروبات المبردة التي تشتد الحاجة إلى استعمالها كلما زادت درجة الحرارة , لا ينكر أحد تأثير هذا العامل المهم في حصول هذه الأعراض , وإنما هناك عوامل لا تقل أهمية عن الأول , ويزعم المسيو دي فلييري أنها تؤثر ولا محالة في الأغذية الحيوانية كاللحوم سواء كانت مذبوحة حديثًا أو محفوظة في العلب (معقمة) وذلك أنه يعجل اختمارها ويولد فيها المواد السامة , علاوة على ما يصيب الغدد البطنية: كالكبد والكلى والمعدة والمِعَى من الاضطرابات الشديدة التي تضعف الإفرازات الضرورية لهضم الطعام وامتصاصه , فينشأ عن ذلك تعب شديد يؤهل الجسم للنزلات المَعِدية المعوية كالدوسنطارية والكوليرين - وما أكثر انتشارهما في هذه الأيام - فتضعف حركة الهضم وتقل شهية الطعام , كما يشاهَد عادة في الراشدين أصحاء كانوا أو مرضى , ولا سيما في الأطفال - الذين تزيد وفياتهم جدًّا - على ما سنبينه في مقالة أخرى. فإذا كان تأثير الحر في بعض المواد الغذائية والغدد البطنية أمرًا ثابتًا لا يجوز الارتياب في صحته وجب علينا أن نتبع في غذائنا طريقة تكون مثال الاعتدال والانتظام , فنتجنب على قدر الإمكان في زمن الصيف اللحوم والأسماك والمواد الشحمية التي تعيق وظيفة الهضم , وكذلك البيض والحليب اللذين يعسر هضمهما في كثير من الأحيان , ونستعمل البقول والفاكهة واللبن الخائر الذي من مميزاته تقوية وظائف الهضم. أما المشروبات المثلجة فيجب الاعتدال في تعاطيها من حيث كميتها ونوعها ودرجة برودتها , فإذا شعرنا بالحاجة إلى الشرب يجب أن يكون شربنا قليلاً ودرجة برودة السائل الذي نشربه معتدلة , والكمية التي نشربها كل دفعة قليلة بحيث لا تتعب المعدة , ومن المرطبات التي يمكن تعاطيها في هذه الأيام ماء عرق السوس وشراب التمر الهندي، أما شراب الليمون (وأعني الليموناضة) فلا نرى فائدة بالإكثار من استعمالها بالكيفية التي نشاهدها الآن؛ لأنها تزيد حموضة المعدة فتؤخر حركة الهضم , علاوة على أنها لا تروي ظمآنًا بل تزيده عطشًا , وكثيرًا ما تكون سببًا في ما يسمونه تمدد المعدة. أما المشروبات الروحية والمسكرات فممنوع تعاطيها على الإطلاق ليس في البلاد الباردة فقط بل في بلاد حارة كبلاد مصر أيضًا.

أسرار الثورة أو خواطر ساعة

الكاتب: هبة الدين الشهرستاني

_ أسرار الثورة أو خواطر ساعة 1- الثورة حالة غير اعتيادية لا تناسب أطرافها ولو ألفتها الأطراف لم تكن إذ ذاك ثورة. 2- الثورة حقيقة لطيفة تسري في الجماد كالبركان , وفي الهشيم كاللهب , وفي النبات كالشعل , وفي الحيوان كالحمى والغضب , وفي الإنسان كالعشق والجنون , وفي الحكومات كالحروب والانقلابات. 3- منشأ الثورة اجتماع مؤثرات قوية في الشيء أكثر مما في طاقة شخصه أو نوعه حتى تهيجه , فتظهر بعد الكمون وتصيِّر حاملها فعالاً في نوعه مؤثرًا في غيره. 4- تقوم الثورة بأركان أربعة: بمبدأ قوي وبمثير فعال، وبذات حاملة وبمجاورات قابلة؛ فنار الشعلة مبدؤها والشاعل هو المنير الفاعل، والجمرة الحاملة والأخشاب مجاوراتها القابلة. 5- لا بد في كل ثورة من خسارة بعض الخيرات والفوائد. 6- الثورة تتبع مبدأها في الحسن والقبح , فإن كان مبدؤها صالحًا فهي مستحسنة غلبت أوفشلت , وإن كان المبدأ فاسدًا فالأجدر بها أن لا توجد. 7- زن قوة المبدأ مع قوة الأطراف التي تقاومه قبل حدوثها تعرف الغالب من المغلوب. 8- قد تصادف الثورة مجاورات مستعدة للتحول , فتتحول بصبغة المبدأ محولاً فجائيًّا وتعود الثورة انقلابًا. 9- يعقب كل انقلاب خمود وصفاء. 10- الثورة الأدبية مدرسة علمية تثقف أفكار المتبصرين , وتظهر أخلاقًا كامنة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... النجف بالعراق ... ... ... ... ... ... ... ... هبة الدين الشهرستاني

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (رقي الأفغان بالصناعة الحربية وغيرها) نقلت بعض الجرائد العربية شيئًا من أحوال رقي الأمة الأفغانية عن جريدة (سراج الاخبار) الأفغانية التي تصدر في كابل عاصمة الأفغان في الصناعة الحربية وغيرها في تلك البلاد , ولخصته عنها جريدة الحقيقة , فأحببنا نقل ذلك التلخيص لقراء المنار. قالت جريدة سراج الأخبار: (إن كل أمة منقسمة إلى طبقات عديدة , كل طبقة لها وظيفة تؤديها نحو أمتها وكلما ارتقت القوة العسكرية فيها , وانتشرت المدنية سعدت الأمة ونالت حاجياتها , ووصلت إلى درجة من الرقي لا يتوصل التصور إليها. وما الصناعة إلا بحر خِضَمّ كثرت فيه الدرر، كلما ارتقت القوة المفكرة استخرجت منه تلك الدرر النفيسة التي لا مثيل لها , أو كصحراء واسعة لا نهاية لها , يسير فيها الإنسان سيرًا حثيثًا , وكلما مشى خطوة عثر على جوهرة يتيمة. ولا ريب أن العقول ما دامت مطلقة السراح لتجول في ميدان المخترعات فسيأتي زمن نرى فيه رءوسنا مملوءة بالمدهشات والغرائب. والأمة لا ترقى إلا على قدر رقي صنائعها من جميع الوجوه فثروتها وتجارتها على قدر رقيها في الصناعة. التفت أميرنا المعظم إلى الصناعة , فقدرها قدرها وأنزلها في المحل الذي هي أهله , ومنذ جلس على عرش الإمارة اعتنى بها اعتناء تامًّا حتى بلغت شوطًا بعيدًا. وأصبحت كابل تفتخر كما تفتخر أوربة وأميركة بصنائعها) . قالت (الحقيقة) : وقد افتخرت (سراج الأخبار) بأن تطلع قراءها على ما أخرجته المصانع الأفغانية بهمة أميرها المحبوب وإليك البيان: (الأسلحة الحربية) (أما الأسلحة الحربية التي تعملها المصانع الأفغانية فهي تنقسم إلى عدة أقسام: أسلحة ثقيلة مثل المدافع، وأسلحة خفيفة مثل البنادق، وأسلحة جارحة مثل السيوف والحراب والسنك. ولم يكن القصد من إنشاء تلك المصانع إلا استحضار الآلات الحربية , وقد أسسها المرحوم الأمير السابق , وجعلها تحت نظارته، ولما توفي خلفه ولده ووجه عنايته إليها فهي في رقي دائم) . (الأسلحة النارية) (1) المدافع الصحراوية. (2) المدافع الجبلية. (3) مدافع الاستحكامات والقلاع. (4) مدافع زودفير غرابين. (5) بنادق مرتين للجنود المشاة. (6) بنادق نمرة 303 للفرسان (السواري) والمشاة. (7) بنادق لراكبي البغال. (8) بنادق بثلاث عشرة رصاصة. (9) بنادق بست رصاصات. (10) بنادق للصيد. (الأسلحة الجارحة) (1) حِراب حديدية للجنود. (2) سيوف للفرسان (السواري) . (3) حراب (سنك) لوضعها على البنادق. (4) خناجر وحراب صغيرة وسكاكين للجنود عمومًا. (الذخائر الحربية) الرصاص المسمى (نيوز) و (كارديد) وهو من أحسن الأنواع التي اخترعت إلى اليوم. البارود الأسود وغيره وهما يعملان بمهارة عظيمة , كما أن المصنع مستعد لإخراج العدد اللازم من القنابل اللازمة للمدافع في أي وقت من الأوقات. ويصنع منه الشرابنل والقسم المسمى جودني. (الصنائع المختلفة) تصنع المصانع جميع الملابس اللازمة للجنود والضباط وما يلزمهم من الأوسمة (النياشين) وغيرها , وجميع لوازم الجيش البري من خيام وأعلام إلخ، كما أنها تصنع جميع الآلات الموسيقية اللازمة للجيش. (وهناك صناعات أخرى مثل تبييض الأرز , عمل السكر، النقش وسك النقود , استخراج الياقوت , الزمرد والمرجان من معادن الأفغان , النقش على المدافع والبنادق , دبغ الجلود وغير ذلك) . * * * بعد إثبات ما مر اطلعنا على مقالة للحاج ميرزا عبد المحمد مدير جريدة (جهره نما) الفارسية التي تصدر في مصر نشرها في (المقطم) تحت عنوان (أفغانستان وسمو أميرها) ملخصة عن جريدة (سراج الأخبار) ، وقد قدم لهذه المقالة مقدمة عمرانية ذكر فيها مختصر جغرافية الأفغان , فذكر حدودها الأربعة وهي شرقًا مملكة إيران وغربًا بلاد الهند وجنوبًا بلوخستان وشمالاً تركستان الروسية وإمارة بخارى، وذكر أن مساحتها 215000 من الأميال المربعة , وأن عدد سكانها عشرة ملايين , وأنها تنقسم إلى سبع إيالات وهي كابل وفيها عاصمة الإمارة، والإيالة الثانية كافرستان في الشمال الغربي لكابل، والثالثة هزاره , وفيها تقطن طائفة هزاره، ورابعها قندهار , ومن ضواحيها كارات غليجائي وفرآه، وخامسها هرات وهي على ساحل هري رود وتوابعها سيزار واديه، وكرخ، وسادسها سيسان التي تتصل بسيسان إيران , ومن بلادها المعروفة لاس جنحانسون، وسابعها تركستان الواقعة على الحد الشمالي من جهة تركستان روسية، وذكر عناية الأفغان بالصناعة والعلم إلخ، مما يشبه ما مر عن الحقيقة , وزاد بأن أنواع البنادق منها نوعان من اختراع الأفغان أنفسهم , وأن من الأسلحة ما هو مرصع بالجواهر وأن آلات الصناعة تدار عندهم بالبخار , وأنهم بصنائعهم أصبحوا أغنياء عن جميع الممالك , بحيث إن كل ما يلزم لهم يصنع في مصانعهم , وأنواع المصنوعات الأفغانية تبلغ سبعة وعشرين نوعًا , ومنها استخراج الكحول (السبيرتو) ودبغ الجلود اهـ. (شيء من عوائد مسلمي الصين الدينية [1] ) لمكاتب جريدة (وقت) في منشورية عناية الله أحمدي (أئمة مسلمي الصين) تعيين الإمام للجامع عند مسلمي الصين يكون برضا الأهالي كما هو الشأن عند مسلمي روسية , ولكن لعدم وجود المحاكم الشرعية عندهم والقضاة والمفتين الذين يولون ويعينون الأئمة المنتخبين من طرف أهالي القرى والبلاد -يقتصرون في تعيين الإمام عندهم على رضا الأهالي فقط , ولا يضطرون إلى كثير من التعب. مسلمو الصين لا ينتخبون إمامهم مدة عمره (قيد حيات) كما هو الحال عند مسلمي روسية , بل ينتخبونه لمدة ثلاث سنوات فقط، فإذا لم يقصر الإمام في تلك المدة في أداء وظيفته ورضي الناس عنه , يمدون له ثلاث سنين أخرى , وإذ هم لم يريدوا ترْكه إمامًا لهم فإنهم يعطونه كتابًا من الأهالي , يطلبون فيه أن يترك البلدة لمدة شهر أو أكثر للسياحة. ولما كانت هذه العادة عامة في جميع مسلمي الصين , وكان الإمام يعرف أصل المسألة لا يستغرب أمرهم , بل يسافر عن البلدة كما يرغبون ويترك الأهالي وشأنهم، ويخبر بعنوانه في البلدة التي سافر إليها وبمدة إقامته فيها. بعد سفر الإمام بثلاثة أيام يجتمع الناس في الجامع ويتشاورون فيما بينهم في أمر الإمام , وفي كل بلدة من بلادهم يوجد كتاب يحفظ عند واحد من أعيانهم , فينسخون منه نسخة ويرسلونها إلى الإمام بعد أن يوقع عليها أعيان المحلة وكبارها , وفي هذا الكتاب بعد حمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله بيان ما أتى به الإمام من الخير والأعمال الطيبة , ويبينون بالكتابة أسباب اضطرارهم لتعيين إمام آخر لهم يقوم مقامه , ويرسلون إليه أيضًا مع كتابهم هذا شيئًا من الهدية. معيشة أئمة الصين مضمونة لهم، فمسلمو الصين سبقوا مسلمي روسية كثيرًا من هذه الجهة، توجد جمعية محلية للقيام بشئون الجامع والمدرسة في كل بلدة أو قرية فيها مسجد جامع , فالجمعية تبني الدكاكين والدور ذوات الريع للجامع والمدرسة , وتسلم أجورها كلها إلى الإمام , وهو ينفق منها كيفما يريد , ومعلمو الأولاد والمجاورون وكثير من المسافرين يعيشون أيضًا من دخل المسجد والمدرسة, ويوجد في الأئمة من يستأثر بتلك الأموال، والجمعية لا تحاسب الإمام إلا مرة واحدة مدة ثلاث سنين؛ لذلك نرى الأئمة ينفقون الأموال على مصالحهم الخاصة من غير اهتمام بشيء , ولا يكتبون ما أنفقوا , ويمشون على رأي المثل (المستقبل يهتم به الشيطان) وذلك يكون في كثير من الأوقات سببًا في حرمانهم من مناصبهم. إن مسلمي الصين يحترمون أئمتهم احترامًا لا مزيد عليه , والأئمة يحتفظون بمنزلتهم ومكانتهم , فلا يكلمون الناس فقيرهم وغنيهم إلا وقت الضرورة , ويعدون الكلام مع العامة نقصًا وحطة. وهم مع جهلهم متعصبون جدًّا حتى لو تصدق واحد من أهل المحَلة على إمام الجامع الآخر أو صلى العيد أو الجمعة في ذلك الجامع , يخوفونه بالتكفير , ويطردونه من المحلة إلا إذا تاب على يد إمام محلته , ووعد أن لا يعود لمثل ذلك. وعادتهم في تشييع الجنازة وقراءة القرآن على الميت والتصدق في مجالس العلماء كعادة مسلمي روسية , ولكن الأئمة لا يأخذون الصدقة بأيديهم , بل يأمرون بوضعها على منضدة معدة لذلك في بيوتهم , وكذلك في الأعياد لا يأخذون الصدقة بأيديهم , بل يضعون صندوقًا يلقي فيه كل واحد ما تسمح به نفسه من الصدقة , وهي للإمام والمؤذن ومعلمي الأولاد. وعلى كل حال فإن معيشة أئمة الصين أحسن بكثير من معيشة أئمة مسلمي روسية، ولو أصلحوا جمعياتهم المار ذكرها لكانت فائدتها أكبر للمكاتب والمدارس. * * * (مسلمو الصين أيضًا [2] ) انعقدت جمعية عمومية لمسلمي بلدة فودزدن قرب مدينة خاربين وأخذوا صورة الحساب من إمامهم؛ ليعرفوا مقدار دخل الجامع وما أنفق منه مدة ثلاث سنين , ومقدار ما بقي لهم من الأموال، وامتدت جمعياتهم ثلاثة أيام بين نزاع وخصام , حضرها معظم مسلمي فودزدن من المعلمين والأغنياء والفقراء , وكان لهم ثلاثة أشخاص منتخبين لكتابة مقدار الدخل والنفقة , ولكن هؤلاء الثلاثة اكتفوا بجمع المال وتسليمه إلى الإمام , وهو أيضًا استرسل في إنفاقه على مصالحه الخاصة على ما يظهر من غير اهتمام بشيء. * * * (تجارة المواشي) تجارة المواشي في الصين كلها تقريبًا في يد المسلمين، وسكنة نواحي خاربين من مسلمي الصين اتفقوا فيما بينهم على دفع مقدار 25 مليمًا عن كل بقرة و15 مليمًا عن كل شاة من أموال التجارة لفائدة الجوامع، فعلى هذا يبلغ دخل تلك الجوامع من المواشي في مدة ثلاث سنين عشرين ألف روبل تقريبًا , ومجموع دخلهم زهاء ثمانية وعشرين ألف روبل , ولا تزيد نفقتهم في تلك المدة على ثمانية عشر ألف روبل , ويظهر أن إمامهم هذا لم يتأخر كثيرًا في جمع الأموال عن إمامهم السابق الذي غادر فودزدن ومعه أموال كثيرة. * * * (إسلام يهوديين [3] في بغداد) أو (عناية العرب والعلماء بالدين الإسلامي) قد عُرف الإسرائيليون بالعصبية الدينية وعدم الخضوع لغير شريعتهم حتى قيل: إن الإيمان لا يدخل قلب يهودي ولا خوذي. وربما كان ذلك مسببًا عن اضطهاد جهال المسلمين إياهم وسوء الصحبة معهم وإيذائهم وإهانتهم أنحاء الأذى والمهانة ... وبعد ما أضاء البلاد الإسلامية بدر المساواة وشمس الحرية , وقضى القانون على المسلم أن يتساهل مع اليهودي وسائر الذميين , تبدلت الغضاضة بالحنان , واستحال التباغض رأفةً وعطفًا , فلا غرابة والحالة هذه لو رأينا اليهودي وغيره يستشير المسلم ويسترشده في أمر دينه ودنياه، ويصغي إلى قوله بسمعه وقلبه، ويقبل منه الرأي المعزز بالدليل. زرت في آخر صفر من هذه السنة حضرات شيوخ العرب الكرام من آل فتله في سجن بغداد بمناسبة ما هم عليه من طيب الأخلاق والخدمات العظمى للحكومة الدستورية وترويج المعارف , فذكروا لي أن هنالك شابًّا يهوديًّا اسمه (خضوري) من أهالي (الموصل) يظهر حب الإسلام كثيرًا، فدعوته فإذا هو شاب يقرب عمره من العشرين وفي سيماه ملامح الصدق والنجابة وحسن الأخلاق , فسألته عن نسبه وأحواله وسبب ميله إلى الإسلام , فقال فيما قال: إن نظافة المسلمين وحسن شعائرهم الدينية قد أورثا في قلبي حبهم , وكنت أقول لأكابر قومي: إنني أرى المسلمين أضعاف عددنا بما لا يقاس , وبصيرتهم أقوى مما هو فينا فكيف يجوز أن يكون القسم الأعظم من عقلاء الناس على الخطأ , ونكون مع قلتنا وجهالتنا على الصواب والرشد؟ فأجابوني: إن أ

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقاريظ (فتاوى ابن تيمية) طبع في هذين العامين خمسة مجلدات , أطلق عليها فتاوى شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية؛ لأن أكثر ما فيها فتاوى له، وفيها أيضًا كتب ورسائل أخرى له في الكلام وفي مسائل معينة من الفقه، حتى إن الجزء الخامس من هذه المجلدات كله في علم الكلام يحتوي على شرح العقيدة الأصفهانية وعلى السبعينية والتسعينية وهي من كتبه المشهورة. أما كتب شيخ الإسلام في الكلام فتمتاز على كتب جميع المتكلمين ببيان الفصل وبيان مذاهب الفلاسفة والمتكلمين على اختلاف فرقهم وتحرير دلائلهم , أو شبههم عليها وبيان مذهب السلف الصالح المأخوذ من نصوص الكتاب والسنة , وفهم علماء الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لها - ومنهم فقهاء المذاهب الأربعة - ووالله إنه لا يغني عنها ولا عن شيء منها الوقوف على أشهر كتب الأشاعرة وأمثالهم: كشروح وحواشي الدوانية والتفتازانية والمواقف والمقاصد , فإن أكثر هذه الكتب فلسفة يونانية , ولا يمكن الوصول إلى معرفة عقيدة سلف الأمة الصالح منها. وأما فتاواه الفقهية فهي تمتاز على جميع ما نعرف من فتاوى العلماء بذكر أقوال أشهر أئمة الفقه في المسألة وأدلتهم عليها، وإذا رجح أحد الأقوال فإنما يرجحه بالدلائل الشرعية المبنية على القواعد الأصولية، فمن كان من أهل الدليل يزداد بها بصيرة في دينه، ومن كان من أهل التقليد يعرف منها أقوال الفقهاء الذين يقلدهم الناس. وفي هذه المجلدات المعبر عنها بالفتاوى قواعد في العقود والشروط والمعاملات قد أظهر فيها الشيخ من حكمة الشريعة الإسلامية ويسرها وسماحتها وموافقتها لعقول البشر ومصالحهم ما لا نعهد مثله من غيره , وهي جديرة بأن يطلع عليها كل مشتغل بالفقه مهما كان مذهبه فيه. وفيها أيضًا كتاب المسائل التي اختارها ابن تيمية والتي انفرد بها وهي مرتبة على أبواب الفقه. فنحث جميع المشتغلين بالعلم الديني بل ننصح لهم بأن يطلعوا على هذه الفتاوى - أو الكتب الفقهية والكلامية - وعلى جميع ما يمكنهم الاطلاع عليه من كتب شيخي السنة ونصيريها: ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية , فإنه ما من أحد يطلع عليها إلا ويرى نفسه قد ارتقى في علوم الدين ارتقاء لا يجد له وسيلة أخرى في كتب غيرهما من العلماء , وقد قال لي أحد علماء المالكية الأعلام الواسعي الاطلاع المعروفين في الشرق والغرب: إنني عندما اطلعت على هذه الكتب ندمت وأسفت أنني لم أكن اطلعت عليها في أوائل زمن اشتغالي بالعلم… وهذه الفتاوى تطلب من طابعها الشيخ فرج الكردي ومن مكتبة المنار في شارع عبد العزيز بمصر (يا حسرتي عليك يا زعيتر) لما أنشأ شكري أفندي الخوري جريدته (أبوالهول) في (سان باولو) عاصمة البرازيل , جعل ينشر فيها نبذًا متتابعة من قصة لها سماها (يا حسرتي عليك يا زعيتر) يكتبها باللغة العربية العامية الرائجة في لبنان وغيره من البلاد السورية - موضوعها تاريخ المهاجرة من لبنان وغيره إلى الممالك الأمريكية لطلب الرزق وكيف كان بدؤها والترقي فيها , وهو موضوع جليل مفيد، وكتابته باللغة العامية تجعل فائدته أعم إذ يفهمه العوام والخواص، ثم رأيناه ترك نشر هذه القصة في الجريدة , وتوسع في المسائل السياسية ومناقشات الجرائد فيها , فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولعله راعى في ذلك ميل جمهور القراء الذين لا يرون للجرائد قيمة إلا بالسياسة وفتنها، ولا يعرفون قيمة الكتابة في تاريخ جيلهم وبيان عاداته وأحواله وهي أنفع ما يكتب للجمهور وأكثره فائدة , ولا سيما ما يكتب منه بقلم الانتقاد والعبرة كقلم شكري أفندي. ثم جاءنا الجزء الأول من قصة (يا حسرتي عليك يا زعيتر) فعلمنا أن صاحبنا عزم على طبع هذه القصة المفيدة أجزاء متفرقة , فسرَّنا أنه سارع في إتمامها ونشرها، وقد وضعت هذا الجزء على مكتبي لأتذكره إذا سنحت لي فرصة فراغ , فأقرأه فيها فلم تسنح هذه الفرصة إلا في سفري إلى الهند فكان لي تسلية , وتمنيت لو كان سفرًا كبيرًا، فهو قد جمع بين اللذة والفائدة , فقد أضحكني وأبكاني غير مرة، وأفادني فوائد متعددة، وإذا كنت قد استفدت منه فوائد تاريخية واجتماعية فإن فوائده للعوام أهم , فإنه يعلمهم كيف يحافظون في السفر والحضر على صحتهم وعلى أموالهم، وعلى آدابهم وأخلاقهم، ويبصِّر مريدي المهاجرة بما يقدمون عليه، وما يحتاجون إليه فيه، فأشكر للكاتب عمله شكرًا أرجو أن يكون منشطًا له على الإسراع بإنجاز هذه القصة وطبعها، وحبذا لو عاد إلى نشرها تِبَاعًا في جريدته غير ملتفت إلى من يجهلون فوائدها من المتنطعين. يظن بعض الناس أن مثل هذه الكتب والرسائل التي يكتبها شكري أفندي باللغة العامية تُضعف اللغة العربية الفصيحة , وهذا الظن خطأ بل هي سُلم لترقية العامة فيها فإنها ليست عامية محضة , بل هي ممزوجة بالفصيح السهل، وهي لا تضر الخاصة إذا قرأوها.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الإنكليز في جنوب إيران والخليج الفارسي والبلاد العربية) يجد الإنكليز في استعمار حصتهم من بلاد إيران التي نالوها بالقسمة مع روسية (وهي القسم الجنوبي المتصل بالبحر) وإنما يجدون بالعمل الاقتصادي والسياسي لا بالحروب والغارات والفتن كما تفعل روسية، وأين روسية -بل أين فرنسة التي هي أعلم منها وأغنى من دهاء الإنكليز وبراعتهم في الاستعمار. أخذ الإنكليز من إيران امتياز استخراج زيت البترول من الأهواز، ومدوا من منابع الغاز إلى عبادان في شاطئ الخليج الفارسي سكة حديد، وأخذوا يشيدون المباني الصناعية والمستودعات والقصور في عبادان (وكانت تسمى جزيرة بريم) وسموها (عبادان لندن) , ويقال: إنهم جعلوا للشيخ خزعل خان ألف جنيه في السنة في مقابلة الأرض التي أخذوها من عبادان على الشاطئ , وهي بالقرب من بلدة المحمرة حتى إن الباخرة الإنكليزية التي ركبتها إلى البصرة كانت تحمل أدوات كثيرة إلى عبادان , فلم تقف عليها بل وقفت أمام المحمرة وفرغت هناك شحنها في الفلك الحوامل التي تنقله إلى شاطئ عبادان، فما أجهل حكومة إيران؟ ! ثم إنهم يرسلون رجالهم السياسيين والحربيين إلى الثغور الإيرانية وكل بلد يمدون نفوذهم فيه، وكل هؤلاء الرجال يعرفون أو يتعلمون اللغة الفارسية واللغة العربية، وقد كان معنا في إحدى البواخر التي ركبناها بين الهند والخليج ضابط إنكليزي بزي عادي (أي غير عسكري) يقرأ طول نهاره ويترجم بالعربية والفارسية , ويتعرض للكلام مع بعض المسافرين من العرب على خلاف عادة الإنكليز، - والحاجة تغير العادات - وقد علمت أنه منذ سنتين أو أكثر لا يوجد في ثغر أبي شير حاكم من قبل الحكومة الإيرانية وإنما الأحكام كلها في يد قنصل الإنكليز، وهذا الثغر هو أهم ثغور إيران، فيا حسرتا على حكومة إيران! إن القوى التي يفتح الإنكليز بها الممالك الشرقية هي علمهم وجهل أهل هذه الممالك وجهل حكوماتها وظلمها، ثم المال الذي يستخدمون به فريقًا من أهلها في مصالحهم، وينشئون به من الأعمال والمصالح ما يثبت به أقدامهم، ويرون الناس أن الخير والعمران والأمان إنما تكون بوجودهم، ثم مراعاة سنن الكون ونظام الاجتماع في العمل , فلا يدخلون في شيء إلا بعد تمام الاستعداد للنجاح فيه، ووراء ذلك كله قوة الأسطول والعسكر، ولا يستعملون هذه القوة إلا عند الضرورة، ويأخذون فيها بالشدة والحزم في الإرهاب , فيوجهون منها إلى الشيء أضعاف ما يستحقه حتى لا يطمع الخصم في المقاومة فيحتاجون إلى الحرب والضرب الذي يؤرَّث الأحقاد ويؤسس الحفائظ التي لا تؤمن عاقبتها. ليست هذه الدولة الطامعة مكتفية ببث نفوذها وتثبيت قدمها في بلاد إيران , بل هي تمهد السبل لامتلاك ما يقابلها من بلاد العرب: كمسقط وسائر بلاد عمان وما يليها من السواحل العربية إلى الكويت حتى البصرة، فقد مكنت نفوذها في مسقط وقيدت سلطانها بمعاهدة تجر عليه تبعات كثيرة وتفتح لها منافذ السيطرة عندما تشاء، وبلغني وأنا في البصرة أن الإنكليز اتفقوا معه في هذه الأيام على منع إدخال السلاح إلى مسقط على أن يعوضوا عليه ما يربحه من المكس (الجُمرك) الذي يأخذه على ما يدخل منها كل عام، ولم يكتفوا بهذا بل اتفقوا معه أيضًا على جمع السلاح الذي في أيدي الأهالي وإعطائهم ثمنه، وبعد ذلك يجعلونه عنده ليكون هو المسئول عن كل حركة نارية في بلده، وماذا يستفيده هو أو تستفيده البلاد من وضع السلاح في قصر السلطان وهو على شاطئ البحر بجوار قنصل الإنكليز والبوارج الإنكليزية أمامها في كل حين؟ وما أدري لماذا يختار هذا السلطان المُقام في هذه البلدة التي هي في هاوية شديدة من الحر بين جبال جرداء محدقة بها تحت نفوذ قنصل الإنكليز ولا يجعل مقامه في الجبل الأخضر الذي هو جنة عمان؟ وأما ما فعله الإنكليز من الشدة في دُبَي في العام الماضي فقد كان من شذوذهم - ولعلهم ندموا أن فعلوه كما ندموا في مسألة دنشواي كما يُظن - فإن أهل دبي قد نفروا منهم بعد ذلك أشد النفور ولم يرضَ شيخهم بعد ذلك أن يكون للإنكليز في دُبَي موطئ قدم لا للبريد ولا لما هو فوق البريد , وأنذرهم بأنهم إذا أرادوا أن يحدثوا فيها حدثًا بالقوة فإن جميع الأهالي يتركونها لهم ويرحلون عنها! وبلغني أنهم طلبوا أن يحصوا الغواصين في البحرين ويجعلون لهم دفاتر يحصون فيها ما يجمعونه من اللؤلؤ كل عام، فلم يقبل شيخ البحرين ولا الأهالي هذا الاقتراح , بل أحدث عند الجميع وسوسة , فاعتقدوا أن الإنكليز يمهدون السبيل بذلك إلى مشاركة أهل الخليج في رزقهم هذا , وأنهم ربما يعاملونهم بعد ذلك كما يعاملون الغواصين في جهة سيلان إذ تأخذ الحكومة الإنكليزية منهم 65 أو75 في المئة مما يجنونه , فلا يكون لهم منه إلا مقدار القوت الذي يعيشون به؛ لأجل أن يتمتع بالثمرة غيرهم, هذا ما يتحدثون به. والخوف على مستقبل هذه البلاد عظيم والجهل عام , فلا يدري الناس ما يعملون، ولله الأمر من قبل ومن بعد. *** (طلب المسلمين المقيمين بألمانية مساعدة الدولة) الحمد لله على نعمة الإسلام والصلاة والسلام على خير الأنام , أما بعد: فنحييكم بتحية أهل الإسلام، ونسأل الله لنا ولكم الهداية وحسن الختام , ونرفع إليكم بهذا ما يأتي: تعلمون أن الدولة العثمانية صاحبة الخلافة العظمى وحامية الحرمين الشريفين , قد بغت وتعدت عليها حكومة إيطالية الظالمة , وناوأتها العدوان والحرب في ولاية طرابلس أفريقية المتاخمة لمصر , وحيث إن الأمة الإسلامية أمة واحدة بدليل قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) وحيث إن المسلمين إخوة يجب عليهم معاونة بعضهم بعضًا بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) وقوله عليه الصلاة والسلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) . وحيث إن الله جل وعلا قد أمرنا في كتابه أن نرد كيد المعتدين علينا بدليل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (البقرة: 194) فيجب حتمًا على كل مسلم ومسلمة يؤمن بالله واليوم الآخر وملائكته وكتبه ورسله أن يدفع هذا العداء الذي نزل بإخواننا في الدين ببذل نفسه وماله بدليل قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 41) وأي سبيل لله أقوم وأفضل من المجاهدة لدفع حكومة إيطالية الباغية على إخواننا المسلمين. لهذا ندعوكم أولاً أن أعينوا دولة خلافتكم في حربها هذا ببذل المال والنفس كل على قدر طاقته واستطاعته؛ لأن في ذلك إعانة لإخوانكم المجاهدين بطرابلس , وأن تقطعوا كل معاملة تجارية ومعاشية مع الطليان المقيمين النازلين والمقيمين ببلادكم، أى تقاطعون مقاطعةً تامةً. هذه دعوتنا إليكم كتبناها بدم قلوبنا , نرجو منكم إذاعتها ونشرها بين إخواننا المسلمين بطرفكم كما أنا نرجو توزيع النسخ المرسولة مع هذه على بعض الإخوان لقراءتها بالمساجد أو نشرها بالطرق التي تستحسنونها , ونحيطكم علمًا أن هذه الدعوة قد بعثت أيضًا إلى أطراف العالم الإسلامي , وأننا نتضرع إلى المولى عز وعلا أن يلهمكم الصواب , وأن يثيبكم على أداء هذا الفرض الديني ثوابًا عظيمًا. ... ... ... ... ... ... ... ... إخوانكم ... في الدين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المسلمون المقيمون بألمانية ... ... ... ... ... محرم , إسماعيل حقي , علي وفيق , نوري

الخطبة الرئيسية في ندوة العلماء بلكنهوء الهند ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخطبة الرئيسية في ندوة العلماء بلكنهوء الهند [*] لصاحب المنار أيها الأساتذة الكرام! إنكم تعلمون أن جميع القواعد الكلية للعلوم منتزعة من الجزئيات، فالعلم بالجزئيات مقدم بالطبع , فيجب أن يكون مقدمًا بالوضع، فإذا ذكرت الأجناس والفصول المقومة والمقسمة لأنواع من الحيوان والنبات , وألقيت على من لم يرَ شيئًا من أفراد تلك الأنواع أو رأى قليلاً منها , ثم دخل في بستان يوجد فيه أفراد من تلك الأنواع كلها أتحسب أنه يستطيع أن يعرف كلاًّ منها بهداية تلك التعريفات والقواعد الكلية؟ ؟ لا! لا! أما من يعرف أفراد تلك الأنواع فإنه لا يحتاج إلا لتنبيه قليل لمعرفة ما بينها من الفصل والاختلاف , وإذا ذكرت تلك الكليات يتناولها فهمه بسهولة وسرعة. ومفردات اللغة وأساليبها كمفردات أنواع الكائنات يشترك بعضها في الفاعلية أو المفعولية وفي الحقيقة أو المجاز وفي غير ذلك من أنواع الاتفاق , فالقاعدة الموضوعة لضبط الفاعل والمفعول والحقيقة والمجاز لا يفهمها بسهولة وسرعة من لا يعرف الكثير من مفرداتها بالاستعمال , ثم إذا هو فهمها لا يسهل عليه أن يطبق مفرداتها عليها , وأما من عرفها بالاستعمال فإنه يفهمها بغاية السهولة , ولا سيما إذا عرض عليه عند ذكرها كثير من الأمثلة والشواهد عليها. التعليم على هذه الطريقة هو التعليم الموافق للفطرة - فطرة الله التي خلق الناس عليها - ومخالفته مخالفة للفطرة، فالناس يتعلمون اللغات بتلقي مفرداتها بالعمل , وكذلك تعرف الموجودات والكائنات بمعرفة أفرادها، والذين وضعوا قواعد العلوم هم جماعة من أصحاب العقول الكبيرة , عرفوا تلك الأشياء حق المعرفة , ثم بالتأمل فيها انتزعوا منها تلك القواعد، فإذا كلفنا التلاميذ الصغار أن يعرفوا تلك القواعد الكلية قبل أن نعرض عليهم تلك الجزئيات نكون كأننا نكلفهم أن يكونوا رجالاً علماء حكماء قبل أن يشبوا وأن يتعلموا , وبذلك نكون قد أرهقناهم من أمرهم عُسْرًا. إن علماءنا المتقدمين لم يكونوا محتاجين إلى تسهيل طريقة تعليم اللغة العربية كحاجتنا إليها الآن؛ لأنها كانت ملكة لهم , ومع هذا كانت كتبهم ككتاب سيبويه أقرب إلى التعليم الفطري من كتبنا؛ لكثرة ما كان فيها من الشواهد والأمثلة الموضحة للقواعد الكلية. وما لي أضرب الأمثلة لتعليم فنون اللغة والمنطق ولا أذكر ما هو أهم من ذلك وأعلى , وهو تعلم القرآن ودراسة تفسيره وهو المقصد الأعلى والغاية الفُضلى؟ لعلي إذا أنشأت أبين كيف يجب علينا أن نتعلم تفسير القرآن تعلمًا يعيننا على الاهتداء به أكون قد استهدفت لنقد كثير من الناس , الذين يظنون أن القرآن الحكيم لا يحتاج إلى فهمه إلا المجتهدون , الذين يتصدون لاستنباط الأحكام الفقهية العملية في أحكام ظواهر العبادات والمعاملات القضائية التي يحتاج إليها الحكام في المحاكم والمُفتون , أولئك الذين يظنون غير الحق , وترتعد فرائصهم من ذكر القرآن، ويرون أنهم ببعدهم عن فهمه وصد الناس عنه يخدمون دينهم ويحافظون عليه. أيها السادة الكرام: إن الله تعالى أنزل القرآن هدى للناس أجمعين , وإن الاهتداء ليس خاصًّا بالمجتهدين الذين يستنبطون الأحكام العملية الفقهية , وإن آيات الأحكام فيه هي أقل عددًا من سائر الآيات التي تهدي العقول والأرواح، وترقى بها إلى أعلى معارج الفلاح، وكان سلفنا في القرون الأولى يهتدون به ويحيون بحياته , ولم يكونوا كلهم ولا أكثرهم مجتهدين بهذا المعنى المعروف في الأصول. لولا هداية القرآن وسلطانه على أرواح أولئك الأخيار لما كانوا خير أمة أُخرجت للناس , ولما انتشر الإسلام بفضل الاقتداء بهم , فقد زكى القرآن أنفسهم ورقى عقولهم حتى كانوا لا يدخلون بلادًا إلا ويجذبون أهلها إلى الإسلام بمحض القدوة، ذلك بأنهم ما كانوا يعرفون لغة أولئك الأقوام ولا كانوا يفتحون لهم المدارس ويعلِّمون أحداثهم دينهم ولغة دينهم، فكيف انتشر الإسلام من أقصى الهند إلى أقصى أفريقية وأوربة في تلك المدة القصيرة؟ يقول الجاهلون: إن الإسلام قد انتشر بقوة السيف! يا سبحان الله! إن هذا الدين بُدئ برجل واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم , وكان قومه يجالدونه بسيوفهم طول حياته , ولم يظفر بهم الظفر التام إلا قبيل وفاته - أعني عام فتح مكة - ثم إن أولئك الشراذم من أصحابه الكرام انتشروا في شرقي أرض الحجاز وغربها فهل كان في استطاعتهم أن يُكرهوا أهل المشرق والمغرب على الإسلام وهم يقبلون منهم الجزية التي كانت أقل ما يأخذه حاكم من محكوم , ثم هم يعاملونهم بالعدل والمساواة في الحقوق القضائية , ويتركون لهم حرية دينهم , ويسمحون لهم أن يتحاكموا إلى رؤساء ملتهم في كل خصام يقع بينهم؟ ؟ كلا , إنهم لم يُكرهوا أحدًا على الإسلام بحد السيف وإنما جذبوا قلوبهم وعقولهم إليهم؛ لأنهم رأوهم أعدل الناس وأرحم الناس وأفضلهم أخلاقًا وآدابًا , فاقتدوا بهم وأحبوا أن يكونوا مثلهم بل منهم , فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجًا ويقبلون على تعلم اللغة العربية؛ لأجل أن يهتدوا بنور ذلك الكتاب العربي المبين، الذي جعل أولئك الفقراء المستضعفين هم الأئمة الوارثين، ولهذا انتشرت اللغة العربية بانتشار الدين بسرعة غريبة قبل أن يكون لها مدارس منشأة ولا كتب مدونة. يمكن لمن يفهم اللغة العربية حق الفهم أن يهتدي بالقرآن ويعتبر بمواعظه وآدابه , وإن لم يقرأ شيئًا من كتب الفقه , فإن تأثير القرآن في قلوب من يفهمونه عجيب، حتى إن بعض أدباء النصارى عندنا بمصر يعجبون منه ويعترفون به , وقد سمعت غير واحد منهم يقول عند حضور بعض احتفالات المدارس وسماع القرآن المجيد فيها: إن لهذه القراءة تأثيرًا عميقًا في النفس , هذا وهم لا يؤمنون به فما بالكم بالمؤمنين المخلصين , أولئك الذين هم مرآة قوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (الزمر: 23) وقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) فهل يمكن لمن لا يفهم العربية فهمًا صحيحًا أن يكون من هؤلاء المؤمنين الصادقين؟ وقال عز وجل: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21) فاعتبروا بقوله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ} (العنكبوت: 43) فإنه تعالى هدانا بهذا المثل إلى أن نربأ بأنفسنا أن تكون قلوبنا أقسى من الحجارة , وهكذا شأن من يخشع بالقرآن ولا يتأثر بمواعظه. إذا سمع من يفهم العربية فهمًا صحيحًا مثل قوله تعالى في الآيات الكريمة التي افتتح بها هذا الاحتفال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24) فإنه يمكنه أن يفهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم ما دعانا بهذا الكتاب الحكيم إلا إلى ما نحيا به حياة معنوية طيبة نكون , بها أمة عزيزة كريمة، وأن ينتقل ذهنه من ذلك إلى تدبر القرآن؛ ليهتدي به إلى السنن الاجتماعية والنفسية التي بين الله تعالى فيها أسباب هذه الحياة وهي كثيرة في القرآن، وليست مما يلحقه النسخ الذي تشترط معرفته في الاجتهاد. بيان هذه الحياة في كتاب الله تعالى أعلى مرتبة من بيان بعض أحكام المعاملات، كأحكام الحيض والبيع والسلم والشركات، قال تعالى: {يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (النحل: 2) وما سمى الله الوحي روحًا لا لأنه ينفخ في المهتدين روح الحياة المعنوية التي يكونون فيها أئمة الخير في الدنيا وأصحاب السعادة في الآخرة , تلك الحياة التي ظهر أثرها في سلفنا فسادوا العالم كله كما أشرنا إلى ذلك من قبل، ونحن ننشدها ونبحث عن أسبابها الآن. إنني كنت أود لو أبني خطابي وتذكيري هذا على الآيات التي افتتح بهما الاحتفال والإفاضة في الكلام على هذه الحياة، ولكن اقترح علي مولانا الشيخ شبلي أمس أن أقول شيئًا في التعليم , فلم يكن لي بد من الامتثال، وإنني قد افتتحت خطابي بقوله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور) للإشارة إلى هذه الحياة وحظنا منها الآن, تعلمون أن هذه الجملة تتلى عند الاستيقاظ من النوم، وقد أشرت بافتتاح الخطاب بها إلى أن حظنا من هذه الحياة الآن هو أننا أنشأنا نستيقظ من ذلك النوم الطويل - والنوم ضرب من الموت {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (الزمر: 42) - فلست أعني بهذا أننا عدنا أمة حية كما كنا، والله تعالى يحمد على كل حال. موت الأمم يشبه النوم، وحياتها تشبه اليقظة، ولا أقول: إن أمتنا قد استيقظت كلها من ذلك النوم الطويل، والسبات المستغرق، الذي مرت عليها القرون وهي فيه لا تشعر بما تعمله الأمم الحية المستيقظة من حولها، ولا بما فعلته حوادث الأيام في جسمها، وإنما استيقظ الآن بشدة قوارع تلك الحوادث طائفة من أفرادها، وهم دعاة الإصلاح الذين ارتفع صوتهم في بلادها. أيها الإخوة الكرام: إننا مرضى ودواؤنا في الكتاب الذي أنزله الله إلينا، قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} (الإسراء: 82) وكيف يرجى الشفاء لمن جهل الدواء، وإنما يعرف هذا الدواء بمعرفة اللغة العربية، ثم بتلاوته وتدبره بقصد الاستشفاء والاهتداء به، فإذا كان بين مسلمي العرب وبينه حجاب وهو ترك التدبر بهذا القصد، فإن بين مسلمي العجم وبينه حجابين وهما: جهل لغته، وعدم تدبره، وأن إزالة كل من الحجابين، من أسهل الأعمال على الفريقين، وقد جربنا تذكير عوام العرب بمواعظ القرآن فنفعت الذكرى، وكذلك تنفع غيرهم إذا رفع الحجاب، وتوفرت الأسباب، وأتيت البيوت من الأبواب، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) . إنني أعتقد أيها الإخوة - بالدليل - أن تعلم اللغة العربية فرض على جميع المسلمين، فإن ما فرضه الله تعالى عليهم من تدبره والتذكر والاعتبار به ، والاهتداء بهديه، كل ذلك يتوقف على معرفة لغته، وقد روي هذا القول عن بعض علماء السلف ومنهم الشافعي، وهو ما جرى عليه العمل في الصدر الأول وهو أبلغ من القول، ولولا هذا الاعتقاد لما انتشرت اللغة العربية بانتشار الإسلام في الشام والعراق وفارس من بلاد المشرق، ومصر وأفريقية الشمالية كلها والأندلس من جهة المغرب، وهي البلاد التي فتحها الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، ثم امتدت إلى غيرها من بلاد الإسلام كهذه البلاد وغيرها من قبل أن تنشأ المدارس لها، ولولا فتنة العصبية

التربية ووجه الحاجة إليها وتقاسيمها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التربية ووجه الحاجة إليها وتقاسيمها (والكلام على تربية الأمم والإسلام , والتربية الدينية والإسلام , وتربية الإرادة) (خطبة ارتجالية ألقيت في مدرسة العلوم الكلية بعليكره) أيها النواب الجليل، أيها الأساتذة والوجوه الأجلاء، والطلاب النجباء: شرفتموني بدعوتكم إياي إلى الخطابة فيكم، فلم أر بدًّا من إجابة دعوتكم والشكر لكم، وقد اخترت أن يكون كلامي في التربية التي هي من علمكم وعملكم، وإن كنت في ذلك كمن ينقل التمر إلى البصرة - كما يقال في المثل - ولو شئت لتكلمت في موضوع ليس لكم فيه علم تفصيلي كحالة المسلمين في بلادنا، ولكن بحث التربية أهم والحاجة إليه أشد، فرأيت أن أعرض على مسامعكم شيئًا من رأيي فيه؛ لأنني أشتغل به علمًا وعملاً كما تشتغلون، فإن وافق رأيكم حمدت الله تعالى على اتفاقنا في هذا الشأن العظيم على بُعد الدار، واختلاف اللسان، وإن خالفه رجوت أن تنبهوني وتبينوا لي ما ترون أنه الصواب فأستفيد من علم إخواني وتجاربهم ما أنا في أشد الحاجة إليه، والحقيقة بنت البحث كما يقولون. تنقسم مباحث التربية إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة، فمن ذلك انقسامها بحسب الموضوع إلى: تربية الجسد، وتربية النفس، وتربية العقل. ومنه انقسامها بحسب الموضع إلى: تربية المنزل، وتربية المدرسة. وانقسامها بحسب المربي إلى: تربية الأم والأب للولد، وتربية الأستاذين للتلاميذ، وتربية المرء لنفسه. وانقسامها بحسب المربَّى إلى: تربية الأفراد وتربية الأمم , وهنالك أقسام أخرى أصلية أو فرعية كبحث التربية الدينية ونسبة المسلمين فيها إلى غيرهم من أهل الملل، وبحث تربية استقلال الفكر والإرادة وهو من فروع تربية العقل وتربية النفس. أما وجه الحاجة إلى التربية فلا أُراني في حاجة إلى الإفاضة فيه لأجل الإقناع به , فإن هذا قد صار عند أمثالكم من قبيل البديهيات التي لا نزاع فيها، وإنما أذكركم ببعض آيات القرآن الحكيم في ذلك للتذكير بهدايته العليا وموافقته لما يدل عليه العقل والتجارب، وتقتضيه طبيعة الاجتماع البشري. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: 78) : يعني أن الله تعالى خلق كل فرد من أفراد الإنسان جاهلاً لا يعلم شيئًا مما يحتاج إليه لإقامة بناء حياته الشخصية والنوعية , فكان في مبدأ خلقه وأول نشأته دون سائر أنواع الحيوان التي يخلقها الله تعالى عالمة بما تحتاج إليه بالفطرة متوجهة إليه بالطبع، ولذا قال تعالى في آية أخرى: (وخلق الإنسان ضعيفًا) , فالإنسان من هذه الجهة أضعف من الحيوانات حتى ما كانت بنيتها منها أضعف من بنيته، ولكن الله تعالى أعطاه من المواهب والقوى ما إن استعمله فيما خلق لأجله كان أقوى المخلوقات في هذه الأرض , يسخر الحيوانات القوية لمنفعته , ويستخدم قوى الطبيعة في أعماله، وبهذا كان في مجموعه خليفة لله في أرضه، يظهر أسرار خلقه وسننه الحكيمة فيها، وقال تعالى في خلقه بهذه المزايا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: 4) , وهو لا يرتقي في معارج الكمال بمزاياه إلا بشكر الله تعالى على نعمة الحواس والمشاعر الظاهرة، والعقول والوجدانات الباطنة، وعبر عنها بالأفئدة في الآية حسب استعمال العرب، وإنما الشكر عليها هو استعمالها فيما خلقت لأجله من تحصيل العلم بالمنافع والمضار والمصالح والمفاسد لأجل العمل بما تقتضيه الفطرة من اجتناب المضرة والمفسدة، واختيار المنفعة والمصلحة، على بصيرة وعلم. العبرة في الآية أن الشكر من أعمال الإنسان الاختيارية، لا من المواهب الفطرية، وقد أرشدنا القرآن، ودلنا العلم والاختبار على أن الإنسان يستفيد من حواسه وعقله بقدر تعاون أفراده على ذلك بالبحث والعمل واستفادة المتأخرين مما وصل إليه علم من قبلهم واختبارهم , حتى لا يضطر كل منهم إلى استئناف الاختبار لكل ما يحتاج إليه من الضروريات، فلا يفرغ حينئذ أحد منهم إلى الترقي في معارج الكماليات. وجملة القول في هذه المسألة: أن الله تعالى وهب الإنسان المشاعر والمدارك الظاهرة: كالسمع والبصر والباطنة: كالعقل والوجدان، وجعلها آلات له يرتقي بها إلى ما هو مستعد له من الكمال، ووكله في ذلك إلى نفسه، وناط سعادته أو شقاوته بعلمه وعمله، فكان محتاجًا بمقتضى فطرته إلى أن يقوم بعض أفراده بتربية الآخرين وتعليمهم حتى لا يطول عليهم أمد الجهل، والخطأ في العمل، وإنما يكمل ذلك بجعل التربية والتعليم فنَّين ينفرد بهما من يتقنونهما. كما أنعم الله تعالى على أفراد الناس بالحواس والعقول، أنعم على جملتهم بعلم آخر أعلى من العلوم التي يستفيدها كل فرد بكسب وبحثه، وهو الوحي الذي أيد به رجالاً منهم بإفاضته عليهم من لدنه بغير كسب ولا بحث، فكان كالعقل للنوع - كما قال الأستاذ الإمام - ولولاه لما ارتقى البشر إلا في الزمن الطويل، بالسير الناقص البطيء، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: 213) . هذه إشارة إلى ما تقتضيه فطرة البشر من الحاجة إلى التربية والتعليم، نقرنها بإشارة أخرى إلى مكانة التربية والتعليم من دين الفطرة الذي ختم الله به الأديان، وهو دين الإسلام، وأكتفي في بيان هذا بقوله تعالى في سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ *} (الجمعة: 2-3) وقوله تعالى في سورة البقرة: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) , فقد بين الله تعالى أنه أرسل رسوله ليكون مربيًا معلمًا، فإن التزكية هي التربية الفُضلى التي تكون بها نفس الإنسان زكية كريمة متحلية بالفضائل، مطهرة من الرذائل، والكتاب مصدر بمعنى الكتابة: أي يعلمهم أن يكونوا كاتبين لما يعلمونه؛ ليحفظ وينتشر، وأن يكونوا حكماء عارفين بالعلوم النافعة التي ترتقي بها أفرادهم وجماعتهم، وليس وراء هذا التعليم وتلك التربية غاية، إلا ما يترتب على الكمال فيها من سعادة الدنيا والإخرة. *** تربية الأمم ورسالة خاتم النبيين أنتقل من هذه المسألة إلى كلمة أقولها في تربية الأمم وهي من أقسام التربية التي بينتها في بدء الكلام فأقول: المراد بتربية الأمم إحداث انقلاب عام فيها ونقلها من طور إلى طور أعلى منه وأرقى في الحياة المادية والمعنوية، وهذا العمل هو أشق الأعمال البشرية وأرقاها، وهو يتوقف على علم صحيح واسع يقلُّ في الناس مَنْ يتقنه، وعلى بصيرة نافذة يندر في البشر من يؤتاها، وعلى أعوان كثيرين من أهل هذه البصيرة والعلم يعملون بالتعاون والإخلاص، وما كل عليم بصير يتقن العمل بعلمه ويفلح فيه، وإن كان عمله دون إصلاح أحوال الأمم، وتغيير أحوالها الاجتماعية، وإنما تتغير أطوار الأمم عادة بالتدرج البطيء في الزمن الطويل. إن علوم الاجتماع البشري والأخلاق وطبائع الأمم والسياسة والتربية وغيرها من العلوم التي يحتاج إلى معرفتها رجال الإصلاح الذين يربون الأمم، قد صارت مدونة تدرس في معاهد العلم , وهي مقتبسة من كتب الأديان ومن التواريخ والتجارب، والمتقنون لها في الشعوب المرتقية كثيرون في أنفسهم وإن كانوا أقل من المتفنين لغيرها، ولكن لا يوجد فيهم من يقدر على إحداث انقلاب سريع أو تغيير في أحوال أمة من الأمم البدوية دع الأمم الحضرية، وإنما يحاولون مثل هذا التغيير بإنشاء المدارس الكثيرة وتعميم التربية والتعليم، وتعاقب القائمين بذلك عدة أجيال. إذا تصفحنا تاريخ البشر رأينا أن أبدع مثال وأغرب صورة من مُثُل تربية الأمم وصورها هو ما كان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أميٌّ نشأ لم يقرأ كتابًا، ولم يمسك بيده قلمًا، بل لم يكن يوجد في بلده الذي نشأ فيه كتاب يقرأ (بالمعنى الذي يفهم الآن من كلمته كتاب) وهو مجموعة صحف كتب فيها كثير من المسائل) وقال بعض المؤرخين: إنه لم يكن يوجد في مكة قبل بعثته أحد يعرف الخط إلا ستة رجال ما تعلموه في مدرسة، ولا قرأوا به علمًا، وإنما ألجأتهم الضرورة إلى ذلك بالاتجار، ومخالطة بعض الشعوب في الأسفار، نبيّ هذا شأنه وشأن قومه في الأمية، والبعد عن أسباب العلم والحضارة، نهض بتربيتهم وهو في سن الكهولة، فتم التغيير والتبديل قبل انقراض الجيل بهداية هذا القرآن الحكيم، وتربية هذا النبي الأميِّ العظيم، ثم حمل هذه الهداية الذين تربوا بها في الكبر، إلى أهل الحضارة والبداوة من شعوب البشر، فما دخلوا قطرًا من الأقطار محاربين أو مسالمين، إلا وجذبوا أهله إلى دينهم ولغتهم من غير مدارس تنشأ، ولا كتب تقرأ، ولا مجالس للجدال تعقد، ولا أموال ولا منافع تبذل، ولا سيف للإكراه على الدين يستلّ، وإنما كانت سيرتهم الطاهرة وآدابهم العالية هي التي تجذب الأمم إليهم، وتقسر سرائرها على الاقتداء بهم، وتقود عقولها إلى الدخول في زمرتهم، وقد شهد لهم ولمن تبعهم من بعدهم علماءُ الإفرنج المنصفون ومؤرخوهم المحققون، قال الحكيم الفرنسي غوستاف لوبون صاحب كتاب (حضارة العرب) : ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم ولا أعدل من العرب. وقد بينت كيفية نشأة الإسلام وانتشاره في خطبتي الختامية لاحتفال ندوة العلماء. أريد بذكر هذا المثال الخارق للعادة من تربية الأمم أن أذكر لكم آية على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم تفوق جميع ما أوتي النبيون من الآيات التي لأجلها آمن بهم الناس، فإنها آية علمية عملية، تدل على التأييد الإلهي دلالة عقلية حسية، وأما نحو قلب العصا حية وإبراء الأعمى والأبرص فليست دلالة على النبوة من هذا القبيل، وقد آمن بسببها من آمن من الناس؛ لأنهم اعتادوا أن يخضعوا لمن يظهر على يديه أمر يعلو قدرتهم، لاعتقادهم أن ذلك لا يكون إلا من القدرة الإلهية، والسلطة الغيبية، وكانوا بذلك يقبلون هداية الأنبياء عليهم السلام فيحصل المقصود من بعثتهم , وقد ضرب أبو حامد الغزالي في كتابه (القسطاس المستقيم) مثلاً للفرق بين الآية العلمية التي هي العمدة والأصل في الدلالة على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والآيات الكونية التي كان يحتج بها الأنبياء السابقون عليهم السلام فقال: إذا ادعى رجل أنه طبيب ودعا المرضى إلى قبول معالجته واستعمال أدويته , واستدل على صدقه في دعواه بقلب العصا حية لا يكون دليله كدليل من يدعي مثل دعواه ويدعو إلى مثل دعوته , مستدلاًّ على صدقه بكتاب ألفه في علم الطب , ثم بمعالجته طائفة من المرضى بما في ذلك الكتاب من بيان طرق العلاج والأدوية وشفائهم بذلك في أقرب وقت وأسرعه. نشأ نبينا صلى الله عليه وسلم أميًّا بين قوم أميين , ولم يُعْنَ في صباه وعهد شبابه بما كان يُعنى به فصحاء قومه وأذكياؤهم من الشعر والخطابة، والمبارات في المفاخرة والمماتنة، ثم قام في سن الكهولة يدعو

بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد ـ 5

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد [*] (5) (1) ما يدرينا أنه وبخهم ولم يصل إلينا ذلك مع العلم بأن نفس كتَّاب الأناجيل اعترفوا بأنهم لم يكتبوا كل ما قاله المسيح أو ما فعله فقال يوحنا: إنه لم يكتب كل ما فعله المسيح , وأن أعماله كثيرة جدًّا لا يسعها العالم , فلا بد أن كثيرًا من أقواله التي قالها حين فعل هذه الأعمال لم تكتب أيضًا (يو21:25) . على أن المسيح صدق ما فيها من الشرائع والنبوات فقط كما في إنجيل متى 5: 17 و18 , ولم يتعرض للتاريخ الذي فيها بشيء كهذا الذي في إنجيل متى , فإن كثيرًا من هذا التاريخ غير صحيح وبعضه خرافي لا يمكن أن يقره المسيح كقصة شمشون ودليلة (قض 16: 4 - 22) ووقوف الشمس ليشوع (يش 10: 13) وغير ذلك كثير. (2) لماذا لم يوبخ المسيح اليهود على الكتب الأبوكريفية (الكاذبة) التي كانت في الترجمة السبعينية وقتئذ , وكانت مسلَّمة عند اليهود والنصارى كما هي مسلَّمة عند الكاثوليك والأرثوذكس إلى اليوم؟ فإن قيل: إنهم ربما لم يكونوا يعتقدون أنها ملهمة من الله في ذلك الوقت , قلت: وربما أنهم أيضًا لم يعتقدوا صحة نسبة هذه الكتب إلى موسى - عليه السلام - وإذا كانوا يسمونها (كتب موسى) فذلك لأن أهم ما فيها هو تاريخه وتاريخ أمته عليه السلام كما يسمى تاريخ المسيح وتعاليمه إنجيله (غل 1:7) مع أنه لم يكتبه بنفسه , فيجوز أنهم ما كانوا يعتقدون أنها إلهامية , ويجوز أنهم ما كانوا يضمونها إلى سفر التثنية في مجلد واحد , وقد يكون هذا الضم وهذا الاعتقاد في إلهامها وصحتها إنما نشأ بعد المسيح - عليه السلام - في أواخر القرن الأول , فبدأوا حينئذ يعتقدون أن موسى هو كاتبها لا غيره , ثم تبعهم النصارى في ذلك وجاروهم ليستميلوهم لدينهم ولأنهم كانوا منهم. (3) لماذا لم يبين المسيح للمرأة السامرية التي سألته عن اختلاف اليهود والسامريين في جبلي عيبال وجرزيم - لم يبين لها بيانًا صريحًا المحق من المبطل ولِمَ لَمْ يذم المحرف منهما ويشهّر به؟؟ [1] (يو4: 21) (4) إن المسيح - عليه السلام - وبخهم على إبطال شريعة موسى بتقاليدهم وأنهم يعلمون تعاليم ليست من الله بل من الناس , وأنهم يفعلون أمورًا كثيرة مثل هذه (مرقص 7: 6-13) فما المانع من أنه يريد بقوله: (أمورًا كثيرة مثل هذه) وقوله: (تعاليم هي وصايا الناس) أنهم يكتبون أشياء وينسبونها إلى موسى - عليه السلام - مدعين أنها من الله وهي ليست منه , بل هي من اختراعاتهم , وقد سبق أننا قلنا: إن ما عدا سفر التثنية من أسفار موسى الأخرى لم يكتبه هو بل تعتبر من التقاليد (الأحاديث) المروية بالرواية الشفوية , ثم كتبت بعدُ فلعل ذلك هو المراد بقول المسيح: (مر 7: 13) (وأمورًا كثيرة مثل هذه تفعلون) على أن المسيح - عليه السلام - لم ينبههم إلى ما وقع في نفس سفر الشريعة (التثنية) من الخطأ العلمي الصريح كالقول باجترار الأرنب الجبلي (تث 14: 7) لما ذكرناه هنا في الحاشية من أن هذه الشرائع كانت مؤقتة وأنها زائلة بالإسلام [2] , وأن محمدًا سيبين لهم كل شيء كما قال عيسى عليه السلام (يو16: 12 و13) لعدم استعدادهم في زمن المسيح لقبول ذلك. هذا وقد اعترف بطرس في رسالته الثانية بأن الناس كانوا يحرفون الرسائل والكتب , فقال 3: 16 (كما في الرسائل كلها أيضًا متكلمًا فيها عن هذه الأمور , التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضًا لهلاك أنفسهم) والتحريف هنا يشمل المعنوي واللفظي أيضًا , وتخصيصه بالمعنوي لا دليل عليه , فإذا كانوا يحرفون الأشياء العسرة الفهم في كتبهم في زمن الرسل أنفسهم كما يدل عليه هذا القول فما بالك بغير زمنهم بعد أن ماتوا وذهبوا؟ وقال بولس أيضًا غل 1: 7 (إنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحوِّلوا - يحرفوا - إنجيل المسيح) , وهو يدل على أن رغبة الناس في تحريف الإنجيل كانت قديمة منذ نشوء المسيحية , ولا ندري أي إنجيل من الأناجيل الكثيرة كان محبوبًا عند بولس ويسميه (إنجيل المسيح) ولعله كان أحد الأناجيل التي رفضوها وسموها بالأناجيل الكاذبة. وجملة القول في هذه المسألة: أن المسلم لا يمكنه أن يثق بشيء مما يسمونه الآن التوراة والإنجيل، اللهم إلا جل الشريعة الموسوية كما في سفر التثنية وبعض أقوال المسيح ومواعظه كالتي في الإصحاح 5 و6 و7 من إنجيل متى , فإننا نرجح أنها صحيحة غير محرفة , والقرآن الذي ثبتت صحته بالبراهين القاطعة هو الميزان الذي توزن به هذه الكتب , فما صدقه منها كان حقًّا وما كذبه كان باطلاً {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48) [3] . *** تذييل لهذا الفصل الثالث وفيه مسألتان: (المسألة الأولى: في كلمات الله , وفي تسمية المسيح بالكلمة) يزعم بعض النصارى أن كتبهم المقدسة لا يمكن تحريفها ولا تبديلها لقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} (الأنعام: 114-115) . أما كون كتب النصارى واليهود محرفة فهذا لا شك فيه كما سبق بيانه , وأما كون التوراة والإنجيل منزلين من عند الله لهداية الناس فهذا أيضًا لا شك فيه , وأما زعم أن القرآن لم يقُل بتحريفهما اعتمادًا على مثل الآيتين السابقتين فهو قول باطل لأن القرآن نص على تحريفهما في عدة آيات: منها قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 75) وقوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} (المائدة: 41) وقوله: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ} (المائدة: 13) , وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ} (المائدة: 15) وغير ذلك كثير وهو دالٌّ على وقوع التحريف والتبديل في هذه الكتب والزيادة عليها والنقص منها , وقد أثبتنا ذلك كله في هذا الفصل ولا يزال الإنسان يطلع - كما قال تعالى - على خائنة منهم إلى اليوم. أما الآية السابقة التي تمسكوا بها في عدم تبديل كلمات الله فهاك معناها: قال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} (الأنعام: 114) , فهم يعلمون ذلك لكثرة ما في كتبهم من البشائر بمحمد صلى الله عليه وسلم ودينه وأمته , ووضوح ذلك فيه بحيث لا يمكن انطباقه على أحد سواه , وسيأتي بيان ذلك في فصل البشائر , ثم قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} (الأنعام: 115) أي تحقق وعده بمجيء محمد - عليه السلام - وقد ورد هذا اللفظ (تمت) بهذا المعنى أيضًا في قوله تعالى في آخر سورة هود: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: 119) وقوله بعد ذلك: {صِدْقاً وَعَدْلاً} (الأنعام: 115) : أي تحقق هذا الوعد وظهر صدقه وكان ما حدث من مجيء محمد وشريعته مطابقًا لما أخبر به من قبل تمامًا بلا زيادة ولا نقصان , فإن معنى (العدل) المساواة كما في قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} (المائدة: 95) أي: ما يساويه من الصوم , فوعْد الله بمحمد تحقق بغاية الدقة والضبط , وقد حدث كل ما أخبر به عنه في الكتب السابقة ولم يتخلف منه شيء , فإن وعد الله لا يمكن أن يتبدل أو يتغير وليس لأحد أدنى قدرة على إخلاف ما أنبأ به تعالى , ومصادمة الحوادث وتغييرها حتى لا توافق وعده فإن كل ما قضاه تعالى لا بد أن يكون ولو حالت السموات والأرض والجبال دونه؛ ولذلك قال تعالى: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} (الأنعام: 115) أي لا مغير لقضائه ولا مخلف لوعده , فليس المراد بالكلمات هنا نفس الألفاظ والعبارات , بل كل ما قضاه الله تعالى وحكم به وقدَّره فلا يمكن لأحد أن يمنعه من تنفيذه , وقد ورد مثل هذا المعنى في قوله تعالى: {سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ} (الفتح: 15) فالمخلفون لم يريدوا قط أن يبدلوا نفس ألفاظ قول الله , وإنما أرادوا أن يعملوا بخلاف ما أمر به وقضاه , فسمى ذلك تبديلاً لكلام الله أي تبديلاً لأمره وقضائه , بأن لا يخرجوا للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكلمات الله تطلق على عدة معانٍ , فقد ترد بمعنى كتبه وشرائعه وقد ترد بمعنى قضائه وقدره كما بينا هنا , وقد ترد أيضًا بمعنى مخلوقاته تعالى؛ لأنها خلقت بكلمة (كن) فكانت , فهي توجد بمجرد صدور هذا الأمر منه بلا تباطؤ ولا تأخير, قال تعالى لمريم: {كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 47) , فبكلمته تعالى خلقت السموات والأرض , كما قال داود في أحد مزاميره: (مز 33: 6) ومن ذلك تسمية المسيح بكلمة الله , فإنه خُلق بدون أب؛ ليكون آية للعالمين دالة على كمال قدرة الله تعالى على سائر الممكنات , ولتنبيه البشر إلى عدم الاغترار بمعلوماتهم وأفكارهم , وإظهار أنهم لا يزالون عاجزين عن الإحاطة بأسرار نواميس هذا الكون العظيم وسنن الله فيه , وأنه تعالى قادر على خرق العادات ونقض ما يتوهمونه ناموسًا لا يمكن نقضه لقصر عقولهم ونقص معلوماتهم التي اغتروا بها , وظنوا أن الخالق تعالى مقيد بها , وخصوصًا في ذلك الزمن زمن انتشار الفلسفة اليونانية القائلة -مثلاً- باستحالة الخرق على الأجرام السماوية وغير ذلك من أوهامهم الباطلة , التي كانت عقبة في سبيل العقل البشري تحول دون ارتقائه وتوسعه في العلم والعرفان والإبداع والاختراع. فمما كان الناس يعدونه من المستحيلات خلق الحيوان بدون أب , فأظهر الله تعالى لهم بمسألة المسيح أن الأمر ليس كذلك , فاستعدت العقو

الغارة على العالم الإسلامي ـ 5

الكاتب: المسيو شاتليه

_ الغارة على العالم الإسلامي أو فتح العالم الإسلامي [*] (8) مؤتمر لكنهوء سنة 1911 مقدمة المجلة الفرنسوية عقد مبشرو البلاد الإسلامية من البروتستان المؤتمر الثاني العام بمدينتهم في (لكنهوء الهند) يوم 21 يناير سنة 1911 أي بعد خمس سنوات من انعقاد مؤتمر القاهرة. ومعلوم أن المبشرين كانوا قد تفاوضوا في (مؤتمر أدنبرج) بمسألة مقاومة الإسلام , ودرسوا وسائل مناضلته من كل الأوجه , ولما عقدوا مؤتمر لكنهوء ارتاحوا لما رأوا من نجاحهم واشتركوا مع رئيسهم القسيس (زويمر) في معرفة موقف الإسلام وقوته وأسبابها , وأظهروا استعدادًا لتطبيق أعمالهم على الحالة الحاضرة. والظاهر من مطبوعات البروتستان ومنشوراتهم أنهم يتذرعون بالتؤدة في بذل المجهود لمعرفة موقفهم وميدان عملهم ودرس محاسنهما , وهم لا يدعون شيئًا من هذا القبيل , ومنشأ هذا التضامن في جماعة المبشرين البروتستان هو المواهب العملية التي امتاز بها الأنجلوسكسوني والمزايا النظامية التي اختص بها الجرماني , ثم قالت هذه المجلة: طلبنا من القسيس زويمر أن يوافينا بملخص أعمال المؤتمر أثناءَ انعقاده , فأجابنا إلى طلبنا وأرسل لنا مجموعة تضمنت أبحاث المبشرين في ذلك المؤتمر. *** برنامج المؤتمر وترتيبه انعقدت جلسات المؤتمر في باحة مدرسة (إيزابلا ثوربون) البروتستانية الخاصة بالبنات , وامتدت إلى يوم 29 يناير سنة 1911 وهو ثاني مؤتمر خاص بالإسلام , والأول هو مؤتمر مصر الذي عرفه القراء. والذي يدخل إلى باحة ذلك المؤتمر يرى جدرانه مستورة بالخرائط والإحصائيات التي يتبين منها مبلغ اتساع نطاق الإسلام وارتقائه وتقدمه في الأيام الأخيرة , وعلى المنضدة التي أمام الرئيس كرة أرضية مجسمة وعليها هلال وصليب , أما المقصود من هذا الرمز فظاهر ومفهوم. وفي جانب الباحة غرفتان عرضت فيهما الغرائب المتعلقة بالإسلام مع مطبوعات جمعية التوراة التبشيرية , والمظنون أن هذا المعرض سيبقى تحت مراقبة لجنة مواصلة أعمال مؤتمر مصر. واشترك في المؤتمر 168 مندوبًا و113 مدعوًّا عن 54 جمعية تبشيرية , ونزل كل هؤلاء ضيوفًا على مبشري لكنهوء. وبين المشتركين في المؤتمر القسيس زويمر - الذي تقول عنه المجلة الفرنسوية: إنه الرجل الذي لا يهرم؛ لأنه درس الإسلام سنين طويلة بعد أن عاش سنين أطول بين الشعوب الإسلامية التي يحبها حبًّا جمًّا - ولم يكن القسيس زويمر رئيسًا للمؤتمر فقط , بل كان مديره الروحي أيضًا. ومن هؤلاء المشتركين الدكتور (ويتبرخت) الجرماني الإنكليزي المشهور والدكتور (وهري) صاحب التعليق المعروف على القرآن , ومن المتنصرين الذين حضروا المؤتمر (متري أفندي) الشاب المصري الذي يدير جريدة عربية والقندلفت (إحسان الله) , والمبشر (أحمد شاه) الذي يحسن معرفة الإسلام وهو واضع (قاموس القرآن) . ومُنع الصحافيون الإنكليز والأميركان من حضور جلسات المؤتمر , ولم ترسل لهم مذكراته إلا بعد أن عنيت لجنة القرارات بتنقيحها. وكانت مجلة العالم الإسلامي الإنكليزية - التي يصدرها رئيس هذا المؤتمر - قالت قبل أن تذكر ما جرى في لكنهوء: (تمخض الإسلام في السنوات الخمس التي أعقبت مؤتمر مصر بحوادث خارقة لم يسبق لها نظير , ففيها حدث الانقلاب الفارسي والانقلاب العثماني وما نتج عنهما , وفيها انتبهت مصر لحركتها الحاضرة, وعُنِيَ المسلمون بمدّ السكة الحجازية , وتأسست في الهند مجالس إدارية وشورية، وكان في قوانين انتخاباتها امتيازات للمسلمين , ودخلت الأمور الإسلامية في قالب يلائم العصر ازداد به التمسك بمبادئ الإسلام , والمسلمون يحاولون إحياء دينهم في الصين , وانتشر الإسلام في إفريقية والهند الغربية والجزائر الجنوبية. كل هذه الحوادث تحتم على الكنيسة أن تعمل بحزم وجد , وتنظر في أمر التبشير والمبشرين بكل عناية , وعلى ذلك فسيشمل برنامج مؤتمر لكنهوء الأمور الآتية: أولها: درس الحالة الحاضرة ثانيها: إنهاض الهمم لتوسيع نطاق تعليم المبشرين والتعليم النسائي. ثالثها: إعداد القوات اللازمة ورفع شأنها. هذا ما نشرته مجلة الرئيس عن مواد تضمنها برنامج المؤتمر , أما البرنامج نفسه فقد عرض على المؤتمرين بعد قراءة الخطب الافتتاحية وانتخاب اللجنة وتلاوة تقارير لجنة مواصلة أعمال مؤتمر مصر وهذه موادُّه: الأولى: النظر في حركة الجامعة الإسلامية ومقاصدها وطرقها والتأليف بينها وبين مسألة تنصير المسلمين. الثانية: النظر في الانقلابات السياسية في العالم الإسلامي وعلاقاتها بالإسلام ومركز المبشرين المسيحيين فيها. الثالثة: موقف الحكومات إزاء إرساليات تبشير المسلمين. الرابعة: الإسلام ووسائل منع اتساع نطاقه بين الشعوب الوثنية. الخامسة: تربية المبشرين على ممارسة تبشير المسلمين والمزايا النفسية اللازمة لذلك , والبحث في الدروس الإعدادية ودروس التبشير , وتأليف الكتب للمبشرين وللقراء المسلمين. السادسة: حركات الإصلاح الديني والاجتماعي. السابعة: الارتقاء الاجتماعي والنفسي بين النساء المسلمات. الثامنة: الأعمال النسائية. التاسعة: القرارات العملية وتقارير اللجان المالية للمطبوعات والمنشورات. *** خطبة الرئيس الافتتاحية افتتح القسيس زويمر مؤتمر لكنهوء بخطبة أنيقة , تكلم فيها على المسائل الإسلامية التي سيتناقش فيها الأعضاء , فقسم خطبته إلى أربعة أقسام: الأول: الإحصاءات الإسلامية. الثاني: حالة المسلمين السياسية وارتقاؤها. الثالث: ما طرأ على الإسلام بعد مؤتمر مصر من الانقلابات السياسية والفكرية. الرابع: الخطة التي اتبعتها كنائس أوربة وأميركة بعد مؤتمر مصر. *** الإحصاءات الإسلامية قال الرئيس زويمر: ليست لفظتا (العالم الإسلامي شيئًا اخترعه المبشرون للإشارة إلى معضلة التنصير العام، بل هي كلمة دقيقة تدل على موقف حقيقي. ثم أشار إلى مجلة العالم الإسلامي الفرنسية وما نشرته عن الإسلام. ودخل بعد هذا في موضوعه فقال: إن عدد المسلمين يزيد قليلاً على 200 مليون، وذلك بحسب متوسط الإحصائيات الكثيرة التي يتراوح تقدير المسلمين فيها بين 175 مليونًا و229 مليونًا. فمسلمو روسية وبخارى وخيوه 20 مليونًا ومسلمو الصين بين 5 ملايين و10 ملايين , ويزيد عدد مسلمي الهند على 62.468.077 ولاحظ أن المسلمين الذين تحت سلطة إنكلترة أكثر من الذين تحت سلطة أي دولة غيرها في هذه العصور أو في العصور المتوسطة، ومسلمو المستعمرات الإنكليزية والهند يبلغ عددهم 95 مليونًا أي أنهم يزيدون 5 ملايين على النصارى الذين يحكمهم الإنكليز ومسلمو الهند الإنكليزية آخذون في النمو , وقد جاء في كتاب (الهند وحياتها وأفكارها) الذي ألفه الدكتور (جونس) أن عدد المسلمين ازداد في السنوات العشر الأخيرة 91 في الألف مع أن زيادة عدد السكان بنسبة 19 للألف وفي جاوه 24.270.600 مسلم، ومسلمو روسية 20 مليونًا , وفي السلطنة العثمانية 14.278.000مسلم , وعدد المسلمين في كل واحد من أقطار مصر وفارس ومراكش والجزائر وبلاد العرب والأفغان وغيرها يتراوح بين 4 ملايين و9 ملايين ولا تخلو بلدة في آسيا وإفريقيا من سكان مسلمين، وقد يكون المسلمون أقل من غيرهم في بعض هذه البلاد إلا أن هذه الأقلية في نمو مستمر. وفي بلاد التبت المقفلة أبوابها في وجوه الأجانب 20 ألف مسلم. والإسلام منتشر في الكونغو وبلاد الكاب. وهو في نماء سريع في بلاد الحبشة. ويدور على الألسنة منذ انعقد مؤتمر مصر أن كثيرًا من القبائل النصرانية التي في شمال الحبشة دخلت في الإسلام، وإن كانت أسماء أفرادها لا تزال كما كانت من قبل. والمبشرون المنتشرون على ضفتي النيل وشرقي إفريقيا وبلاد النيجر والكونغو يرفعون أصواتهم بالشكوى من انتشار الإسلام بسرعة في هذه الأنحاء. وبالرغم من أن انتشاره في الهند الهولندية قد لقي موانع من مجهودات جمعيات التبشير الهولدنية والألمانية فهو يتوطد ويثبت هناك؛ لأن المسلمين أخذوا يستبدلون التقاليد الحشوية والخرافية ويتمسكون بعقائد ثابتة قوية، ففى (صومتره) اكتسح الإسلام الأرجاء الوثنية وفي جاوه ظهر بمظهر جديد على أثر تأسيس المدرسة الجامعة الإسلامية، وكثرة طبع القرآن وازدياد عدد الدعاة والمرشدين المسلمين. وما زال الوطنيون يدخلون في شبكة الإسلام إلى درجة يتعذر فيها على المبشرين المسيحيين أن يلقوا لأعمالهم رواجًا. وفي أميركا عدد كبير من المسلمين لا يُستهان به؛ لأنه صار 56 ألفًا، وفي مستعمرة (لاغوبان) الإنكليزية فقط 22 ألفًا منهم وفي أميركا الوسطى 20 ألفًا. والبلاد الإسلامية التي لم يدخلها المبشرون البروتستانت هي التركستان الروسية، وفيها خمسة ملايين من المسلمين وخيوه وفيها 800 ألف وبخارى وفيها 1.25.000 والأفغان وفيها 5 ملايين وبرقة (بني غازي) وفيها 100.000 وتونس وفيها مليون ووهران وفيها 1.300.000 وريف مراكش وفيه 2.260.000 وفي وادي مولويه وصحراء مراكش يتنافس الإسلام والنصرانية في الاستيلاء على الوثنية. ونجد والحجاز وحضرموت لا يوجد فيها مبشر واحد وجزائر مالزية وفيها أكثر من مليون مسلم خالية من إرساليات التبشير. *** الانقلابات السياسية والجامعة الإسلامية انتقل الرئيس زويمر في خطبته الافتتاحية إلى قسمها الثاني الخاص بالانقلابات السياسية التي حدثت أخيرًا في العالم الإسلامي فشكر الله على حدوث هذه الانقلابات في غرب آسيا إذ كانت موجبة للإعجاب والاستغراب وبددت معالم التجسس وأقامت الحرية على أنقاض الاستبداد وصار التجول في البلاد العثمانية والعربية والفارسية غير ممنوع وأصبح عبد الحميد سجينًا في سلانيك. وارتبطت المدينة بدمشق بواسطة السكة الحديدية، وتلألأ نور الكهربائية على الروضة النبوية. كل هذا يعد عصرًا جديدًا في تاريخ آسيا الغربية وإفريقيا الشمالية. وصار مسلمو روسيا يحاولون تعزيز حقهم في الدوما ويؤلفون الجمعيات للتدرج في مراقي المدنية. إلا أن النزعة الجديدة في مصر إسلامية محضة، يراد بها جعل مصر للمصريين باعتبار أن المصريين مسلمون. ونتيجة ذلك اضطهاد المسيحيين في مصر! خصوصًا إذا كانت إنكلترا لا تترك خطتها في ترجيح كفة المسلمين. وأن بوادر الانقلابات قد أخذت تظهر في جزائر مالزية أيضًا فأسس شبان (جاوه) جمعية الاتحاد العام (بوندي أوتومو) الذي يرمون به إلى إحداث ارتقاء اجتماعي واتباع مبادئ التربية والاستقلال الإداري. وقد فسروا القرآن بلغتهم. وتوجد في (طوكيو - اليابان) جريدة باللغة الصينية اسمها (النهضة الإسلامية) منتشرة في كل بلاد الصين. وجريدة إنكليزية ينشرها مسلم مصري وآخر هندي. وفي ذلك دلالة على مبلغ حركة الجامعة الإسلامية. واحتلال الجيش الفرنسي لمقاطعة (واداي) بإفريقيا في العام الماضي أهم حادث سياسي في هذا العصر؛ لأن واداي كانت أهم مركز في إفريقيا للاتجار بالرقيق وانتشار الإسلام، وعلى ذلك فإن هذا المركز أصبح تحت سلطة أوربية تحتفظ به مهما كلفها ذلك. وهذه الحادثة جعلتنا في مأمن من أن تكون واداي بعد الآن مركزًا للحركات الحربية ضد الحكومات النصرانية، وهي أيضًا ستقلل نفوذ مشايخ الزوايا السنوسية بحيث لا يستطيعون الوقوف في طريق التقدم الاستعماري والتجاري في الإسلام. ولم يبق الآن غير 800. 128. 37 مسلم تحت سلطة حكومات إسلامية وقد انتقلت السلطة السياسية على أكثرية

عجالة من رحلة الهند ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عجالة من رحلة الهند لصاحب المنار (2) التعليم الديني في الهند سألت عن مدارس الحكومة الإنكليزية في الهند فقيل لي: ليس فيها تعليم ديني ألبتة فلا يعلم فيها دين الحكومة ولا دين أحد من الأهالي (كما مر في النبذة الأولى ج6 ص455) وبلغني أن المجوس يُعَلِّمون دينهم في مدارسهم، ولم يتسنَّ لي زيارة شيء منها على ما كان من رغبتي في ذلك؛ لما ذكرت من ارتقاء هذه الطائفة في علومها وآدابها وحضارتها، وكنت أرى أفرادًا من رجالها ونسائها على شاطئ البحر بعد طلوع الشمس يصلون بما يقرءون من الكتب الدينية، فما كانت عبادة الشمس والنار والبحر مانعة لهم من الترقي المدني، فكيف يمنع منها دين التوحيد والفطرة؟ وكذلك الوثنيون يعلِّمون دينهم في مدارسهم، وإنْ أدري أذلك عامٌّ فيها وفي جميع فرقهم أم لا. وقد دخلت في آكرة مدرسة كبيرة لطائفة السنك، فعلمت أنهم يعلِّمون دينهم فيها. وهذه الطائفة صارت تتصدى للدعوة إلى دينها، ولم يكن هذا معهودًا عند الوثنيين مِن قبلُ، وبلغني أن بعض الجهلة المنتسبين إلى الإسلام قد انتحلوا الوثنية إجابةً لدعاتها (راجع الجزء السادس ص 455) ولا عجب في ذلك بعد فشوّ نزغات الوثنية في المسلمين بدعاء أصحاب القبور واتخاذ قبورهم أوثانًا، واتخاذ توابيت لهم يطوف بها المسلمون الجغرافيون في أسواق مدن الهند وشوارعها كما يطوف الوثنيون بأصنامهم، حتى صار يصعب على أكثر علماء الإسلام في هذا العصر أن يقنعوا علماء الأديان الأخرى بأن دينهم يمتاز على أي دين من تلك الأديان، وكان المميز الأعلى له في أهله التوحيد الخالص الذي لا يتحقق إلا بامتثال قوله تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وأمثال هذه الآية من الآيات الكثيرة. فأما التوحيد اللساني الذي يظن أكثر المشتغلين بالعلوم الإسلامية أنه خاص بالمسلمين، فما هو خاص بالمسلمين، وفي بحثي مع ذلك البرهمي في مدينة (بفارس) المقدسة عندهم عبرة للمعتبرين، فإنه زعم أن جميع المِلَل أخذت التوحيد عنهم؛ لأنهم أقدم الأمم فيه، وأن الأولياء الواصلين من المسلمين إنما يرتقون إلى أصل دين البراهمة الذي هو وحدة الوجود كشمس الدين التبريزي ومحيي الدين بن عربي (راجع ص 456 من الجزء السادس) وهو يحفظ كثيرًا من كلامهم ويطبقه على دينه، ولا يرى عبادة بعض المخلوقات التي لها مزية في نفع البشر تنافي التوحيد والوحدة؛ لأنها لا تُعْبَد إلا لأنها مظهر الفيض الإلهي كما يزعم، ويؤيد كلامه بنقول عن صوفيتهم وصوفية المسلمين. وقد أسمعني كاهن السنك عند قبر ملكهم في لاهور طائفة من كتابهم المقدس كلها من أعلى الكلام في توحيد الله وتقديسه (راجع ج6 ص 455) وعزو كل شيء في الكون إليه، ولم يتعمد الكاهن اختيار ما قرأه بل فتح الكتاب أمامي وقرأ من حيث فتح، وإنك على هذا الكلام المؤثر في التوحيد الخاص ترى تجاه قبة قبر الملك شبه منصة في بناء آخر عليها الصنم ذو الأيدي الثمان الذي يزوره السنك والمسلمون جميعًا للاستشفاع به إذا أصابهم مرض الجدري؛ {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) . أما المسلمون فكانت سوق العلوم الدينية ووسائلها من العلوم العربية نافقة في كثير من مدنهم ثم كسدت مدةً طويلةً ما كان يظهر فيها إلا قليل من العلماء، ثم جددها (ولي الله الدهلوي) صاحب كتاب حجة الله البالغة بنزوعه إلى الاستقلال في الفهم، واجتناب التقليد الأعمى في كل علم، وكان له خلائف يسيرون على طريقته ثم انحرفوا عنها، وزجوا أنفسهم في غمرة التقليد اتباعًا لجمهور الطلبة وابتغاء مرضاتهم، والعلم الصحيح والتقليد المحض ضدان لا يجتمعان، وإنما يجتمع مع التقليد ويحالفه الجدل والمراء، فزال بذلك العلم الاستقلالي أو كاد، وضعف ما يسمى بالعلم التقليدي أيضًا كما ضعف في سائر الأقطار والبلاد. على أنني رأيت في مدرسة (ديوبند) التي تلقب بأزهر الهند نهضة دينية علمية جديدة أرجو أن يكون لها نفع عظيم , وهذه المدرسة لخلفاء ولي الله الدهلوي. وقد اقترحت على علماء هذه المدرسة الأخيار عدة اقتراحات في إصلاح التعليم وزيادة بعض العلوم العصرية في برنامجها (وهم يطلقون كلمة نصاب في معنى البرنامج أو البرغرام في عرف مصر) وأن يجعلوا دراسة الفلسفة اليونانية خاصة بطائفة من الطلبة، وهم الذين يُراد منهم الأخصاء في العلوم العقلية والفلسفة القديمة وتاريخ هذه العلوم، وأن يخصصوا لكل نوع من العلوم طائفة من طلبة القسم العالي؛ لأجل النبوغ فيها بعد الاكتفاء من غيرها بالقدر اليسير، ويعدوا بعضهم للدعوة إلى الإسلام، وبعضهم لإرشاد عامة المسلمين، على منهج مدرسة دار الدعوة والإرشاد، وأن يعلموا المبتدئين اللغة العربية نفسها بالتكلم بها والترجمة قبل تعليمهم فنونها والفنون الشرعية المتوقفة عليها، وحينئذ يسهل عليهم اقتحام العقبة الكئود في طريق التعليم عندهم وعند سائر الأعاجم وهي قراءة الكتب العربية في جميع العلوم والفنون بالترجمة، وإنني بعد مذاكرة بعض أعلامهم في حال التعليم عندهم خطبت فيهم خطبةً طويلةً في احتفال عام اجتمع فيه المدرسون والطلبة أودعتها هذه الاقتراحات وغيرها من النصائح التي خطرت على بالي في ذلك الموقف. فرأيتهم قد وافقوني في جميع ما قلته، بل كانوا قد سبقوا إلى الفكر والعمل ببعضه من قبل وأسسوا جمعية دينية للمدرسة سموها جمعية الأنصار. ما قرت عيني بشيء في الهند كما قرت برؤية مدرسة ديوبند، ولا سُرَّت بشيء هناك كسرورها بما لاح لها من الغيرة والإخلاص في علماء هذه المدرسة. وكان كثير من إخواني المسلمين في بلاد الهند المختلفة يذكرون لي هذه المدرسة، ويصف رجال الدنيا منهم علماءها بالجمود والتعصب، ويظهرون رغبتهم في إصلاح تعميم نفعها، وقد رأيتهم - ولله الحمد - فوق جميع ما سمعت عنهم من ثناء وانتقاد، وأرجو أن يصدق ظني فيهم بأنهم من أبعد جميع من عرفت من علماء الإسلام الدينيين عن الجمود والغرور , وستكون الصلة بين مدرستهم ومدرسة دار الدعوة والإرشاد وجماعتها دائمة إن شاء الله تعالى , وسأذكر في الرحلة خبر زيارتي لهذه المدرسة بالتفصيل، ومنه ما دار من الخطب هنالك ولا سيما خطبة أحد العلماء في تاريخ المدرسة وسير العلم فيها. هذا، وإن للعلم الديني بقية في معاهد ومدارس أخرى من المدن الآهلة بالمسلمين كدهلي ولكهنوء ولاهور , وإني لأرجو الخير والإصلاح لمدرسة (فتح بور) في دهلي بهمة ناظرها سيف الرحمن الأفغاني وغيرته وإخلاصه، وقد سررت بزيارتي واجتماعي بجمهور العلماء والطلبة فيها، ورحب بي بعضهم بخطبة عربية ارتجالية فأجبته بخطبة وجيزة أودعتها من النصائح في إصلاح التعليم وأهله ما فتح الله تعالى علَيَّ به هنالك. وحثثتهم على العناية بتعلم اللغة العربية بالقول والكتابة، وترك قراءة الكتب بالترجمة، فأظهروا الارتياح لذلك. أما مدرسة ندوة العلماء التي أسست لأجل إصلاح التعليم الديني ودراسة العلوم الإسلامية والعصرية كلها باللغة العربية، والتي زرت الهند بدعوة جمعيتها، وكنت رئيس احتفالها (اجتماعها العامّ في هذا العام) فإنني لم أقف على طريقة التعليم فيها ولم أختبر أحدًا من طلبتها؛ لأن أيام زيارتي لها كانت أيام عطلة الدراسة واشتغال الناظر والمعلمين بالاحتفال الذي لم يسبق له نظير في كثرة إقبال الناس عليه من البلاد الإسلامية الكثيرة , وقد ارتجل أحد طلبتها خطبة بالعربية في مدرسة (فتح بوري) في دهلي. وسيكتب لي رئيس الندوة بيانًا مفصلاً عن مدرستها ينشر في الرحلة إن شاء الله تعالى. يعني أهل الهند بالمعقولات من المنطق والفلسفة القديمة والأصول، فعنايتهم بها وبالحديث أشد من عناية أهل مصر والشام، بل أقول: إنني لا أعرف أن شعبًا من شعوب المسلمين يُعْنَى بالحديث كعنايتهم، فهذا الأزهر أشهر المدارس الدينية وأكبرها كاد يكون علم الحديث فيه نسيًا منسيًّا، ولكن حظ مسلمي الهند من أحاديث الأحكام الفقهية أنهم يتكلفون تطبيقها كلها على مذهبهم في الفروع وإلا حملوا ما يعيبهم تطبيقه على النسخ عملاً بقاعدة الكرخي وأمثاله من فقهاء المذاهب وهي: أن كلام أصحابهم (الحنفية) هو الأصل، وكل من الكتاب والسنة يُعْرَض عليه فإن وافقَهَ قبل وسُمي حجة له، وإن خالفه أُوِّل أو ادُّعي نسخه، إلا أن يجدوا مطعنًا ما في سند الحديث، فإنهم يُكفون بذلك أمره كما قال الكرخي. وقد قلت لبعض كبار العلماء في الهند - وقد أنست منه الصلاح والإنصاف -: أليس هذا عين التحريف المعنوي الذي نعاه الكتاب العزيز على أهل الكتاب؟ فقال: اللهم نعم، قلت: فلِمَ لا تقرءون الحديث وتقررون معناه بِحَسَب المتبادر من لفظه، وتجعلونه فوق المذاهب أو بِمَعْزِلٍ عنها؟ قال: إن هذا لا يرضي الطلبة ولا يحضرون دروس الحديث إلا إذا قرئ على هذه الطريقة. قلت إذًا تؤثرون مرضاتهم على مرضاة الحق؟ قال: هذا هو الواقع! ! ولكن بعض علماء ديوبند قال: إنه يسهل تطبيق جميع الأحاديث على مذهب الحنفية بغير تكلُّف، وضرب لذلك بعض الأمثلة. وهذا أغرب كلام سمعته من المشتغلين بالعلم؛ فإن المسائل التي اختلف فيها أبو حنيفة مع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من أئمة الفقه - رضي الله عنهم أجمعين - كثيرة جدًّا، وهم كانوا أكثر رواية للحديث، وكانوا فيه على نسبة تأخرهم. فأحمد أكثر رواية من الشافعي، والشافعي أكثر رواية من مالك، وهذا أكثر رواية من أبي حنيفة. ثم إنهم كانوا أعرق منه في معرفة لغة الحديث؛ لأنهم أصلاء في العربية وهو دخيل فيها، فإذا فرضنا أنه كان أذكى ذهنًا منهم كلهم، فلا يعقل أن يصل بالذكاء إلى أن يكون هو المصيب وحده في جميع المسائل المختلف فيها، ولا يتفق لأحد منهم أن يصيب في مسألة ما على سَعَة علمهم ومعرفتهم واجتهادهم. ولا يلجأ إلى الجواز العقلي وإنْ كان محالاً عاديًا في مثل هذا إلا الجدل المماري. على أنه مشترك الإلزام، فكما يجوز أن يصيب هذا في كل مسألة لأنه ممكن بالإمكان الخاص يجوز أن يكون ذلك هو المصيب، ويجوز أن يخطئوا جميعًا، وكما يجوز هذا عقلاً يجوز شرعًا؛ إذ ليس أحد منهم معصومًا، ولكن المعقول الموافق لسنن الله تعالى هو أن كل واحد يخطئ ويصيب إلا المعصوم. لا يتوهمن متوهم أنني أريد بشيء من كلامي هذا تفضيل بعض هؤلاء الأعلام في اجتهاده على بعض، وإنما أعتقد أن كل واحد منهم يصيب ويخطئ، وأن الصواب ليس واجبًا لأحد منهم ولا وقفًا عليه ولا لازمًا له؛ إذ لا عصمةَ لأحد منهم. وأما قول بعضهم: إن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب. فإنما يصح مثله من المجتهد؛ لأن اجتهاده أوصلَهُ إلى الظن بأن ما ذهب إليه هو الصواب، ومقتضاه أن يظن ما خالفه خطأ، وكل منهما يحتمل الصواب بطبيعة مفهومه. وأما المقلد فلا مذهب له، وإنما ينتمي إلى المذهب الذي يجد عليه آباءه وقومه، فإن تحول عنه فإنما يتحول لمنفعة تعرض له في غيره؛ لأن المذاهب عبارة عن طريقة يجري عليها المجتهد في استنباط الأحكام، وأين المقلد في ذلك؟ ولو كان له مذهب يذهب إليه في الفهم والاستنباط لَمَا انتسب إلى شخص أحد من العلماء فقيل مالكي وشافعي. وإني أُرَانِي أطلت في هذه المسألة، ولم أكن أريد الخوض فيها، ولا هذه العُجالة بموضع لها، ولكن جمح القل

نهضة آسيوية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نهضة آسيوية كتب المستشرق المجري (فامباري) الأستاذ في جامعة (بودابست) [1] في مجلة القرن التاسع عشر في عدد إبريل (نيسان) من هذه السنة بحثًا مسهبًا تحت عنوان (المسلمون والبوذيون) طعن فيه بالنهضة الآسيوية عمومًا وبالحركة الإسلامية خصوصًا وهو الذي كتب مقالات ضافية في مجلة القرن التاسع عشر هذه على إثر خلع السلطان عبد الحميد بسط فيها آراءه في ذلك الخليع وفي رجال الدولة العثمانية كافة، وتوسع في نقد عادات الأتراك وسلاطينهم وطعن بهم وبوزرائهم أقبح طعن، ونسب إلى السلطان عبد الحميد الجهل والتعصب وفساد الأخلاق وسوء التربية ومما قاله عن سعيد باشا الصدر السابق أنه كالثعلب آية في الاحتيال والمخادعة. وقد كانت عربت جريدة (الأفكار) التي تصدر في البرازيل مقاله هذا في حينه، وعلقت عليه تعليقًا وصفت فيه ذبذبة هذا الرجل الطائر الصيت وذكرت غشه وخداعه وتناقضه، وقالت فيه مجلة (المقتطف) وقتئذ: إن عمل الأستاذ هذا مُحط بقدر العلم ومخل بشرف العلماء. وقالت (الأفكار) في عدد 628 الذي نلخص عنه هذه المقدمة ونتبعها بنقل مقالته الآنفة الذكر عنها - قالت: (أمامنا الآن مثال آخر على رياء ذلك المستشرق وخداعه الرأي العام، ونعني طعنه الحاضر بالنهضة الآسيوية عمومًا والحركة الإسلامية خصوصًا، وهو الذي كان سابقًا يؤيد المسلمين ويتظاهر بمصادقة عموم الآسيويين قائلاً بوجوب مساعدة زعمائهم المفكرين ورجالهم الناهضين. فما باله الآن يكتب قائلاً: (اقطعوا البرعم قبل أن يزهر ويثمر) اهـ. الحق أن أمثال هذا المستشرق في السياسيين والدينيين كثير في أوروبة، ولكن قلَّ أن يوجد مثله في رجال العلم بمخادعته وتناقضه. على أن ذنب الشرقيين عمومًا والمسلمين خصوصًا الوحيد أمام أوروبة السياسية والدينية هو أننا نريد أن نحيا، فنحن مؤاخذون بهذا الذنب، ولو لم يصل إلى حيز الفعل بل قبل أن نعد وسائله، فالويل لآسية من يوم عصيب إذا لم تنهض نهضة المستميت وتتدارك ما فات من التقصير، وإلا فإنها واقعة في حبائل أوروبة الاستعمارية لا محالة وهذه هي مقالة (فامباري) وفيها مثال واضح من حب الإنسانية وخير البشر! ! العبرة لمن يعتبر قال: *** المسلمون والبوذيون العجم، وطرابلس الغرب، ومراكش (ثلاثة مراكز إسلامية هوجمت بوقت واحد. فما هو سبب هذا الهجوم يا تُرى؟ أَعَارِضٌ فُجائي هو أم ضربة سياسية مدبرة؟ بالحقيقة، إن الصليب لم يضرب الهلال ضربة أشد من هذه الضربة الحاضرة، ولم يقتحم خطرًا شبيهًا بالخطر الحالي. كان الغرب منذ مئات من السنين يحارب الشرق حروبًا طبيعية لا مفر منها وصار الشرق مغلوبًا من بدء القرن التاسع عشر وما برح مغلوبًا حتى الآن والمسلمون يزيدون جهلاً وفقرًا وذلاًّ مما أطمع بهم الأعداء. ورغمًا من قيام عدد من المفكرين فيهم فإن السواد الأعظم عندهم مازال حتى الآن غارقًا في بحار الجهل والأوهام ومصابًا بداء الفقر العضال مما حمل الناهضين منهم على اليأس، فقطعوا الرجاء من الإصلاح، وجلسوا بحياء ممزوج بامتعاض وغضب على مجالس الأوروبي يتعلمون منه مبادئ العلوم العصرية، وهم على جانب عظيم من الذكاء والمهارة. ولكن الأمم كالأفراد؛ لأنها مجموعة أفراد. والفرد لا يتغير فجأة بل عليه أن يطرح الثوب العتيق، ويؤهل ذاته لِلُبْسِ ثَوْب جديد يليق بالهيئة الحديثة. والمسلمون عمومًا يصعب بل يتعذر عليهم التحول الفجائي؛ لأن عليهم أولاً نبذ اعتقادات وعادات قديمة، ومِنْ ثَمَّ تَهْيِئة ذواتهم وتكييف طباعهم لِقَبُول تعاليم جديدة وأوروبة ترى هذه المحاولة من جانب المسلمين منذ مئة سنة وشعوبها تقف متفرجة مسرورة من ذلك النهوض في الأمم الشرقية، ولكن الحكومات تقف مذعورة منها فتضع العراقيل، وَتَزِيد الصعوبات، وكأنها تقول: يا شرق! ابق خاملاً جامدًا فقيرًا إلى ما شاء الله. تقف حكومات أوروبة مذعورة تجاه نهضة الشرق هذه، فتعد المعدات السرية لخنقها وهي تتظاهر بوجوب حفظ الأمن في تلك الأماكن الناهضة أو بوجوب تمدينها وحمايتها. والصحيح هو أن أوروبة لا يهمها من التمدين ولا من شيء، بل همها الوحيد هو مثلث الأركان، أي امتلاك واستعمار بلاد جديدة أولاً. وفتح أسواق جديدة لمصنوعاتها ثانيًا. ومد نفوذها الأدبي وسطوتها السياسية ثالثًا. ولولا تحاسدُ الدول الأوربية ووقوف بعضها بالمرصاد للبعض الآخر لكانت آسية في قبضة أوربة منذ مئة سنة. وقد نجح بعض دول أوروبة فتحين فرصًا مناسبةً، وقبض بيد من حديد على قليل من تلك الأملاك الآسيوية السائبة فامتلكها أو احتلها أو استعمرها. ولما تقوى البعض الآخر من دول أوروبة، ورأى أن تلك الغنيمة على وشك الفرار من يده فيما إذا صبر حتى يتحين فرصة -قد لا تجيء مطلقًا- قام فوثب بَغْتَةً على أملاك إسلامية من دون حجة ظاهرة أو عذر مقبول قائلاً بلسان حاله: إنكم أيها المستعمرون السابقون الْتَهَمْتُمْ كثيرًا فاتركوا لغيركم شيئًا من الفريسة المعدة للاقتسام. هذه هي الأسباب الحقيقية لغزوة العجم وطرابلس الغرب ومراكش ولا صحة لما تتبجح به أوربة قائلة: إن العالم الإسلامي بربري همجي وليس فيه شيء من الأمن والنظام، وعلينا تمدينه وحفظ الأمن فيه. بَيْدَ أننا لسوء الحظ لا نقدر على إنكار شيء من هذه الحجج، وأعني وجود خلل في الأمن والنظام ووجود الجهل والتأخر في مراكش كما في العجم وطرابلس الغرب. ففي مراكش أراضٍ خصبة ومعادن كثيرة ولكن سكانها لا يعرفون كيف يستثمرونها ولا خلاف في أن دولة متمدنة مثل فرنسة تعرف كيف تنفع وتنتفع من هذه الخيرات الطبيعية الجزيلة في بلاد المغرب. وفي طرابلس الغرب أيضًا كان الجهل والفقر ضاربين أطنابهما، ولكن هذا مهما كانت حقيقته واضحة فإن الرأي العام لم يبرر عمل إيطالية بغزوتها تلك الولاية العثمانية، بل أجمع على تقبيحه فدعا عمل إيطالية قَرصنة وخيانة وخرقًا لحرمة المعاهدات الدولية واعتداء على حقوق الأمم الضعيفة والمستضعفة. قد كان بالإمكان إسعاد حالة الطرابلسيين تحت حكم تركية الدستورية الجديدة، ولكن من الواضح أن حالة تركية الاقتصادية والسياسية لا تؤهلها لترقية تلك الولاية بالسرعة المطلوبة كما هو المأمول من دولة أوروبية مثل إيطالية (قالت الأفكار من هنا بدأ الأستاذ بالتحيز الأعمى إلى جانب أوربة) وإذا راجعنا التاريخ نعلم أن حالة إفريقية الشمالية كلها كانت على زمن الرومانيين القدماء أفضل بكثير مما هي اليوم على زمن الحكم الإسلامي فيها. وأينما سرت في شمالي إفريقية من مصر شرقًا إلى مراكش غربًا ترى الخراب والدمار وسائر نتائج الإهمال والفساد. وعند ذلك لا بُدَّ لنا من أن نتساءل قائلين: ألم يحن الوقت للقضاء على تعصب العرب وبربريتهم قضاءً مبرمًا وسريعًا حتى نستريح من عوامل التخريب هذه؟ وماذا نقول عن العجم أيضًا؟ كان الأعجام فيما مضى آيةً في الحذق والفطنة فصاروا في القرون الأخيرة على غاية من الانحطاط والفقر؛ بسبب فساد حكومتهم وجهل حكامهم. وحيثما سرت في بلاد فارس ترى الفوضى والقلاقل والثورات. ولا هَمَّ للحكام إلا مشاركة اللصوص وقطاع الطرق بابتزاز أموال الناس وإزهاق أرواح العباد. وإنني لا أزال أرتجف حنقًا من ألم الذكرى التي طبعت في مُخَيِّلَتِي بعدما سِحت في بلاد فارس , ورأيت فيها من الفظائع ما تقشعر منه الأبدان. وها إن (ملكوم) خان سفير العجم سابقًا في باريز وإبراهيم بك الفارسي كتبَا ما يؤيد ما أنا بصدده الآن من فساد الحكام وجهل الرعية , وهدم كل مباني العدالة والرقي في تلك الديار الخصيبة الواسعة. أليس من العدل إذن أن تُغير أوربة على بلاد مختلة معتلة كهذه؟ فمجرد وجود دولة أوربية في بلاد فارس كافٍ لوجود الأمن والنظام فيها وَلِجَعْلِ أهليها يتنشقون هواء الحرية , فينهضون من سُبَاتهم العميق , ويزيحون من أمام تقدمهم وإسعادهم كل عثرة كالتعصب الديني الذي كان وما برح عندهم من أكبر عوائق التمدين والترقي. وحكومات أوروبة العالمة هذه الأمور صار لها نحوًا من مئة سنة, تسعى للدخول إلى الممالك الإسلامية تدريجًا ونزع استقلالها. وهكذا أصبحت كل البلدان الإسلامية تحت رحمة أوروبة , ولا أستثني منها الحكومة العثمانية أيضًا؛ لأن الامتيازات الأجنبية الموجودة في تركية هي وحدها كافية للدلالة على أن تركية مغلولة الأيدي , وتحت مطلق تصرف الدول , وليس استقلالها إلا اسميًّا ظاهريًّا. وأمير الأفغان , ولئن كان متمتعًا الآن بلقب (صاحب الجلالة) ولكنه هو ذاته أدرى من الغير بأن إنكلترة لم تدعه يتلذذ بهذا اللقب إلا من باب المجاملات السطحية التي لا معنى حقيقيًّا لها على الإطلاق. دَرى المسلمون هذه الحقائق فشرع المتنورون منهم يرفضون التمدن الأوربي الذي أدخلته إليهم الدول بحد السيف , ويقولون: إنهم يؤثرون الاستبداد والظلم والفساد الوطني على التمدن والنظام والعدل الإفرنجيّ وها إن أفضل المفكرين منهم وخصوصًا الأتراك جهروا بأفضلية حكم وطني - ولو كان أقبحَ من حكم عبد الحميد - على الحكم الأوربي مهما كان حسنًا نافعًا. وخطة الأتراك هذه معقولة؛ لأنهم وهم عنصر قليل في الأمة العثمانية قاموا, فنادوا بالجامعة الوطنية , ولا يسعهم إلا الضرب على وتر الدين الحساس أولاً حتى يتقووا بانضمام المسلمين العرب والأكراد إليهم. والعرب الذين حكموا العالم قرونًا عديدة باسم الدين الإسلامي يعسر عليهم الاقتناع بوجوب نبذ الجامعة الدينية جانبًا ما لم تجبرهم أوروبة على ذلك الإقناع بحد السيف وقنابل المدفع. *** نهضة عامة في كل آسيا (ولما دَرى عقلاء المسلمين عِظم الصعوبات التي أمامهم قاموا أخيرًا يفتشون على مخرج لهم من ذلك المأزق الضيق الذي وضعتهم أوروبة فيه. وظهرت بوادر شروره عليهم في الآونة الأخيرة باكتساح العجم وطرابلس الغرب ومراكش , ومضايقة حزب تركية الفتاة لدرجة متناهية , فالتجأوا إلى الجامعة الشرقية الوطنية, وهكذا اضطر المسلمون آخرًا إلى مصافاة أعدائهم السابقين , وإلى الاتحاد مع أبناء آسيا عمومًا ناسين الأحقاد القديمة , ونابذين الضغائن السالفة التي كانت السبب الأكبر في تضعضع الشرق وضعف الشرقيين. وأول مظهر من هذه المظاهر السياسية كان اتحاد المسلمين مع البوذيين في بلاد الهند. إن الدين المحمدي يقسم الناس إلى قسمين: المجوس , وأهل الكتاب. فأهل الكتاب بِعُرْفِهِ هم النصارى واليهود , وهؤلاء لهم حق الحماية والرعاية ضمن الشروط. أما المجوس وعبدة الأوثان , فليس لهم ذلك الحق مطلقًا؛ ولذلك كان سلاطين المغول المسلمون في الهند يستحِلُّون أموالَ البوذيين ولبراهمة وأرواحهم وأعراضهم , ولم ينتفِ هذا الأمر إلا بعد أن احتلت إنكلترة الهند , وامتلكتها أخيرًا بحد السيف. ولذات السبب عينه هجر العجم فريق كبير من سكانها المجوس القدماء فقطنوا الهند حيث عرفوا باسم بارسي , وكانوا أقوى نصير للإنكليز في تثبيت قدمهم ببلاد المغول الهندية المسلمة انتقامًا من مسلمي العجم , وإنني في كل سياحتي ببلاد العجم وسائر آسيا المسلمة لم أسمع من أتباع محمد سوى ذم المجوس , وتحليل قتلهم وتعذيبهم؛ ولذلك فلا غرابة إذا كان فريق البارسي قد أيد إنكلترة في الهند , وكان لها عونًا في الحروب. ومسلمو القوقاس وتركستان وخيوى وا

الشعر العصري

الكاتب: نسيب أرسلان

_ الشعر العصري زفير الفقير [*] أرقت وما قلبي يا سماء يكلف ... ولا مدمعي من حُرقة البين يذرف ولا شاقني وادٍ من الجزع مؤنق ... لعمري ولا ظل من القاع مورف شجتني أعاجيب الحياة فإنها ... أوابد للمقدور ليست تعرف يكل ضياء الفكر عنها كأنها ... على لبسها قطع من الليل مسدف رأيت لو البأساء في الجو ترتقي ... لشق على بدر الدجى فيه موقف *** ولو ترتمي يومًا بمتسع الفضا ... لأضحت خريق الريح في القيد ترسف رأيت سليل الفقر يعمل في الثرى ... مكبًّا على محراثه يتلهف يخد [1] أديم الأرض خدًّا كأنه ... له قبل الغبراء ثار مخلف كأني به نادته للحرب فاغتدى ... يكر عليها بالحديد ويعطف كأني به إذ فرق الترب والحصى ... يفتش هل في باطن الأرض منصف كأني به إذ خط في الأرض قبره ... يهم على جثمانه ثم يصدف [2] به آية الجهد الذي ليس ناهضًا ... به بشر غض البنان مهفهف جبين بمرفض الصبيب [3] مضمخ ... وشعر بملتص [4] الغبار مغلف وجيد خفوق الأخدعين [5] كأنما ... تبينت من أوداجه [6] الدم ينطف رثيت لمكروب سحابة يومه ... إذا قر منه معطف ماج معطف إذا زلزلته سرعة الخطو أوشكت ... أضالعه في زوره تنقصف كأن ارتجاج الصدر قدَّ وتينه [7] ... فلم يبق إلا نشفة تتصرف [8] كأن أزيز الجوف عند وجيبه ... حسيس هشيم والندى يتوكف [9] تشقق عنه الثوب فالريح قد غدت ... تصافح منه جلده حين تعصف وأثبت وقع الشمس في أم رأسه ... نبالاً فراش العظم منها منقف [10] تبطن منثور الغبار جفونه ... فضرّج منها مقلة تتحسف [11] كأن حماة الشوك في ذيل برده ... طراز حواه العبقري المفوف [12] يمد إلى الجبار كفًّا تكدحت [13] ... أناملها والله بالعبد أرأف *** ولما تقض اليوم إلا أقله ... تراجع نحو البيت في السير يَدلِف إذا مد عند المشي رجلاً أمامه ... توهمت عنها أختها تتوقف يساقط نثر الطين عنه إذا مشى ... كما فض ختم الدن سكران معنف [14] إذا صادفته (المركبات) وفوقها ... من الركب هيفاء القوام وأهيف [15] رمته العتاق السابحات بتفلها ... ومرت كما مر النعام المزفزف [16] *** ولما أتى مأواه خفت عياله ... إليه كآرام على الشيح تعكف [17] يلاقونه صور الرقاب من الأسى ... فيرنو إليهم ساعة ليس يطرف [18] ثماني بُنيات كأفراخ وكنة ... وفي المهد منهوك التجاليد يهتف [19] وخاشعة الألحاظ روَّع قلبها ... زمان يكب النيرات ويكسف وما عدمت أم البنين وسامة ... ولكن مس الضر للحسن متلف [20] قرت زوجها مما تسنى وإنه ... حثالة زيت والرغيف المقفقف [21] بمغنى خلاه الفرش إلا عفاشة ... تمج أضاميم البعوض وتقذف [22] ومدت له بعد النعاس حشية ... بها جبل عال وغور ونفنف [23] توسد ثم ارتاع من بعد هجعة ... لصوت الحيا ينهل والرعد يقصف وقد زاد ضعف النور في البيت وحشة ... كأن به طيف [24] الشقاء يطوّفُ إذا ضربته الريح لم يدر ربهُ ... به الريح تمكو أو به الجن تعزف [25] نبا النوم عن عينيه حين تنبهت ... وساوسه والهم في الليل يخشف [26] رأى نفسه رهن الخصاصة والأذى ... وأن الغواشي عنه لا تتكشّف [27] وأن وثاق الذل في الزند محكمُ ... وأن خناق الغمّ في النحر محصف [28] إذا استنجد الآمال عند اكتئابه ... تبدَّى له ستر من القار مغدف [29] بلاء لَعمري لا يطاق وترحة [30] ... يكلّ جميل الصبر عنها ويضعف *** وصفت لك الضراء يا صاحب الغنى ... وهل تعرف الضراء من حيث توصف هي الفقر ما أدراك ما الفقر إنما ... لهاة [31] الردى منه أخف وألطفُ حياة بلا أنس وعيش بلا رِضى ... فلا الرغد ميسور ولا العمر ينزف بكيتك يا خلو اليدين بأدمعي ... فأنت صريع النائبات المذفف [32] يروح كثير المال يسحب ذيله ... (وأنت المعنَّى يا فقير المكلف) ألست الذي شاد الحصون بعزمه ... وناط نجاد السيف للحرب يزحف [33] وأجرى سفين البحر في اللج ينثني ... ومشى قطار النار في البِيدِ يهذف [34] وقد ملأ الأنبار للخلق مِيرة ... وحاك لهم موشية تتغضف [35] بلى إن من هان العسير بكده ... على الأرض مفتول الشوي متقشف [36] أخو فاقة لم يدخل الطيب رأسه ... ولا مس كفيه القضيب المعقف *** أفي الحق أن يشقى الفقير بعيشه ... وذو المال في شر الغواية يسرف؟ وأن يدنف المثري بأعقاب بطنه ... غداة خفيف الحاذ بالجوع يدنف [37] ؟ أما في كبود العالمين هوادة [38] ... ولا رحمة عند الشدائد تعطف وهل لم يكن بين الأنام قرابة ... يمت [39] بها منهم عديم ومترف أرى المرء لا يأسو جراحة مملق ... ولو هز فوديه النصيح المعنف [40] أراه إذا ما نعَّم الرغد جسمه ... غدا قلبه يقسو لديه ويصلف [41] *** إليكم بني غبراء تدمى عيونهم ... وليس لهم إلا المياسير مسعف يمدون نحو المحسنين أكفهم ... وهل يستوي المكفي والمتكفف سألت غزير المال حين يفوتهم ... من الرمل تحثو أم من البحر تغرف ألا إنما الحسنى إليهم فريضة ... وفي ذلك الآيات لا تتحرف فإن طلبوا الإنصاف قيل سماحة ... ومن لك بالمظلوم لا يتنصف [42] عليكم بكشف الضر عنهم فإنما ... أخو الضر يمسي ضاريًا حين يهجف [43] فلا ترهقوهم بالشقاوة والطوى ... فيبدر منهم بادر لا يكفف [44] فإن لم ينالوا بالهوادة حقهم ... ينالوه يومًا والصوارم ترعف [45] ولا تهملوا حسن الخطاب ولينه ... فإن الخطاب العذب نعم المثقف [46] لكم عبرة في الغرب من كل فتنة ... تهز الجبال الراسيات وتخف فلو كان عيش للمفاليس طيب ... لما قام منهم قائم متطرف ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نسيب أرسلان

بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد ـ 6

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد [*] (6) استدراك على الفصل الأول وعلى نبوة دانيال المذكورة في صدر هذه الرسالة جاء في دائرة المعارف الإنكليزية مجلد 13 ص 427 و428 في حرب الرومان مع اليهود ما محصله (أن اليهود عصوا الرومان وخرجوا عليهم؛ فأرسل الإمبراطور (نيرو) أحسن قواده (فسباسيان) وهو (أبو طيطس) لمقاتلتهم وإخضاعهم. فبدأ (فسباسيان) الحرب معهم في (الجليل) في ربيع سنة 67 ميلادية. وفي سنة 70 حوصرت أورشليم تحت قيادة (طيطس) ودارت رحى الحرب فيها إلى أن تم تخريبها وإحراق هيكلها في شهر أغسطس من هذه السنة. ولكن لم تخضع جميع اليهود تمامًا وينتهِ عصيانهم ومقاومتهم للرومان إلا في سنة 73 ميلادية) اهـ. باختصار، ومن ذلك يتبين أن الحرب الحقيقية ابتدأت وانتهت في ظرف سبع سنين وبطلت الذبيحة والتقدمة في وسطها (أي في وسط هذا الأسبوع من السنين) . وفي هذه المدة كان كثير من كبراء اليهود وعظمائهم يخالفون باقي قومهم في هذه الحرب، فمالوا إلى جانب الرومان وخرجوا إليهم وأظهروا لهم الطاعة والبقاء على موالاتهم وعهدهم، فأمَّنوهم ولم يصيبوهم بأذى مدة هذه الحرب حتى انتهت وهم مسالمون معاونون للرومان والرومان مسالمون لهم. ومن هؤلاء (يوسيفوس) المؤرخ اليهودي الشهير فقد كان مع (طيطس) ونصح قومه كثيرًا بالخضوع والطاعة. فهذا هو المراد بقول دانيال فيما سبق 9: 27 (ويثبت أي جيش الرومان كما يفهم من السياق عهدًا مع كثيرين وهم كبراؤهم الذين فروا منهم في أسبوع واحد وفي وسط الأسبوع أي سنة 70 يبطل الذبيحة والتقدمة) بإحراق الهيكل وتدميره وتشتيتهم. وقوله 9: 26 (يقطع المسيح وليس له) وجدنا أن الترجمة الصحيحة لأصله العبري (ينقطع المسيح ولا يكون له شيء) أو (لا يبقى له أحد) ومثل ذلك ترجم في بعض التراجم الإنكليزية والأمريكانية وهو عين ما قلناه سابقًا من أن معناه: ينتهي ملكهم وينقطع مسيحهم بعد نحميا ولا يبقى له شيء من القوة والملك والسلطة أو النسل والخلافة بل ينمحي محوًا تامًّا وتزول دولتهم، وقد كان ذلك فلم يعد ملكهم القديم وزال ما عاد لهم من مجد منذ ذاك الحين. وعليه فهذه النبوة لا علاقة لها مطلقًا بمسألة الصلب المزعوم حتى لو حملت على المسيح عيسى، كما لا يخفى على المتأمل. ومما يؤيد عقيدة المسلمين في المسيح وعدم صلبه وعدم ألوهيته من كتب اليهود والنصارى ما جاء في الإصحاح 49 من كتاب أشعياء وهو باعترافهم نبوة عن المسيح قال 2 (.. .. . في ظل يده خبأني وجعلني سهمًا مبريًّا. في كنانته أخفاني 3 وقال لي: أنت عبدي إسرائيل الذي به أتمجد 4.. .. . لكن حقي عند الرب وعملي عند إلهي 5 والآن قال الرب جابلي من البطن عبدًا له.. .. . وإلهي يصير قوتي 7 هكذا قال الرب فادي إسرائيل قدوسه للمهان النفس لمكروه الأمة لعبد المتسلطين ينظر ملوك فيقومون. رؤساء فيسجدون _ إلى قوله - 8 في وقت القبول استجبتك. وفي يوم الخلاص أعنتك فأحفظك وأجعلك عهدًا للشعب) وهو صريح في أن المسيح عبد لله، وأنه سيحميه ويجيب دعاءه وينجيه ويحفظه، وقوله (رؤساء فيسجدون) المراد به سجود الإكرام والتعظيم والخضوع كما قال في حق سليمان مز 72: 11 (ويسجد له كل الملوك) وقد سجد مثل هذا السجود موسى عليه السلام لحميه يثرون (خر 18: 7) وبنو الأنبياء لا ليشع (2 مل 2: 15) . وقال في مزمور 91: 9 (لأنك قلت أنت يا رب ملجأي جعلت العُلى مسكنك 10 لا يلاقيك شر. ولا تدنو ضربة من خيمتك 11 لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك 12 على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك 13 على الأسد والصل تطأ. الشبل والثعبان تدوس 14 لأنه تعلق بي أنجيه. أرفعه؛ لأنه عرف اسمي 15 يدعوني فأستجيب له. معه أنا في الضيق. أنقذه وأمجده 16 من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي) وكون هذا المزمور في حق المسيح يفهم من إنجيل مَتَّى (4: 6 - 8) وإذا كان المراد بالرفع هنا الرفع الجسداني كما يؤيده قوله (من طول الأيام أشبعه) فله مثيل عندهم في غير المسيح، فقد رفع أخنوخ (نك 5: 24 وعب 11: 5) وكذلك إيليا (2 مل 2: 11) . وجاء في المزمور 109 (وأوله في حق يهوذا الاسخريوطي كما قيل في سفر الأعمال 1: 20) قوله عن لسان المسيح بعد أن تكلم على يهوذا وغيره من أعدائه 21: (أما أنت يا رب السيد فاصنع معي من أجل اسمك. لأن رحمتك طيبة نجني 2 فإني فقير ومسكين أنا وقلبي مجروح في داخلي 25 وأنا صرت عارًا عندهم ينظرون إليّ وينغضون رءوسهم (انظر أيضًا متى 27: 39) 26 أعني يا رب إلهي. خلصني حسب رحمتك 27 وليعلموا أن هذه هي يدك. أنت يا رب فعلت هذا 28 أما هم فيلعنون. وأما أنت فتبارك. قاموا وخزوا. أما عبدك فيفرح 29 ليلبس خصمائي خجلاً، وليتعطفوا بخزيهم كالرداء 30 أحمد الرب جدًّا بفمي وفي وسط كثيرين أسبحه 31 لأنه يقوم عن يمين المسكين ليخلصه من القاضين على نفسه) وهو صريح في أن الله نجى المسيح عليه السلام من القاضين عليه، وأن يهوذا وقع فيما دبره لسيده كما أشار داود إلى ذلك في هذا المزمور بقوله 109: 7 (إذا حوكم فليخرج مذنبًا وصلاته فلتكن خطيئة) إلخ إلخ. وقال في مزمور 34: 17 (أولئك صرخوا والرب سمع ومن كل شدائدهم أنقذهم 18 قريب هو الرب من المنكسري القلوب ويخلص المنسحقي الروح 19 كثيرة هي بلايا الصديق ومن جميعها ينجيه الرب 20 يحفظ جميع عظامه واحد منها لا ينكسر 21 الشر يميت الشرير ومبغضو الصديق يعاقبون) فهذه العبارات هي باعترافهم في حق المسيح كما في يو 19: 36 وهي صريحة في نجاة المسيح، وخلاصه من كل البلايا والمصائب، وفي عقاب أعدائه ومبغضيه وقوله فيها: (يحفظ جميع عظامه واحد منها لا ينكسر) أدل على قولنا بعدم الصلب منه على قولهم بالصلب؛ لأن الصلب عادةً يستلزم تفتيت عظام اليدين والقدمين وهو شيء لا يمكن توقيه في الصلب ولا بالتعمد والحذر الشديد؛ فكيف إذا لم ينكسر واحد من عظامه؟ فالحق أن المراد من هذه العبارة أن الله يحفظ جسمه كله ويصونه من كل أذى بليغ فهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل. أما إذا صح أنه صلب فأي أذًى أعظم من ذلك؟ وما معنى قوله: إنه ينقذه وينجيه ويخلصه من كل البلايا، فأي بلية أعظم من الصلب والقتل؟ وإذا كان المراد أنه يصلب حتى يموت ولكن لا ينكسر عظم من عظامه، فما فائدة ذلك وما وجه البشارة به؟ وهل يتفق هذا مع قوله: ينقذه ويخلصه وينجيه؟ فمن أي شيء نجاه إذًا؟ وقال المسيح عليه السلام لما أرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خدامًا ليمسكوه (يو 7: 33) (أنا معكم زمانًا يسيرًا بعد ثم أمضي إلى الذي أرسلني 34 ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا) وهو صريح في أنهم لن يجدوه ولن يقبضوا عليه. ومما يدلك على قدرته عليه السلام على التشكل بأشكال مختلفة والاختفاء عن عين الناس قول مرقس 16: 12 (وبعد ذلك ظهر بهيئة أخرى) وقول لوقا: 24: 15 (اقترب إليهما يسوع نفسه، وكان يمشي معهما 16 ولكن أمسكت أعينهما عن معرفته) وجاء في لوقا 24: 42 و43 قوله بعد قيامة المسيح المزعومة (فناولوه جزءًا من سمك مشوي وشيئًا من شهد عسل، فأخذ وأكل قدامهمم) وهو يدل على أنه قام بعين جسده المادي الذي كان به قبل الصلب، وإذا كان يقدر أن يختفي به بعد قيامته كما قال لوقا (24: 31) فأي مانع يمنع من اختفائه به قبل الصلب وهو هو؟ على أنه كان يختفي فعلاً قبل الصلب كما قال يوحنا، وكان يمشي في وسط اليهود بدون أن يروه (يو 8: 59) راجع أيضًا (يو 10: 39) ومثله ورد في لوقا (4: 30) . وقال عليه السلام أيضًا يو 16: 32 (هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي. وأنا لست وحدي لأن الأب معي 33 وقد كلمتكم بهذا ليكون لكم فِيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق. ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم) وهو بشارة من المسيح لتلاميذه بأن الله سينجيه وينقذه؛ وإلا فهل يصح أن من كان الله معه ومن غلب العالم يغلبه اليهود ويصلبونه رغمًا عن إرادته كما بيناه في صفحة 80؟ وكيف يتفق هذا القول مع قول المصلوب كما في متى 27: 46 (إلهي إلهي لماذا تركتني) مع أن الأول صريح في أن الله لم يتركه؟ هذا وقد أنكر الصلب كثير من فرقهم في مبدأ النصرانية أي قبل الإسلام بسنين عديدة منهم السيرنثيين (Cerinthians) والباسيليديين (Basilidians) والكاربوكراتيين (Carpocratians) والناتيانوسيين أتباع ناتيانوس تلميذ يوستينوس الشهيد الشهير، وغيرهم كثيرون، وكثير من فرقهم القديمة أيضًا كانوا موحدين منكرين لألوهية المسيح وأشهرهم (الأريوسيون) (Arians) ومنهم كان الإمبراطور (قسطنطين) أول قياصرة الرومان المسيحيين (وكذلك أمم الطيطون) أي (الجرمانيين) ولا تزال منهم طائفة كبيرة في أوربا يسمون الموحدين (Unitanians) إلى اليوم. وقال فوتيوس (Photius) : إنه قرأ كتابًا يسمى (رحلة الرسل) فيه أخبار بطرس ويوحنا وأندراوس وتوما وبولس ومما وجده فيه هذه العبارة (إن المسيح لم يُصلب ولكن صُلب غيره وقد ضحك بذلك من صالبيه) أي الذين ظنوا أنهم صلبوه. وقد ذكرنا أكثر هذه الفرق المنكره للصلب في كتابنا (الخلاصة البرهانية على صحة الديانة الإسلامية) وفي كتاب (الدين في نظر العقل الصحيح) . واعلم أن الذين قبضوا على المسيح ما كانوا يعرفونه؛ ولذلك أخذوا معهم يهوذا ليدلهم عليه وأعطاهم علامة (متى 26: 47 - 50 ومرقص 14: 43 - 46 انظر أيضًا أع 1: 16) فكان دليلهم الوحيد هو يهوذا كما يفهم من جميع نصوص العهد الجديد وخصوصًا التي أشرنا إليها، وقد كان القبض عليه ليلاً كما يفهم من سياق القصة في جميع الأناجيل (انظر متى 26: 31 و34 و75 و27: 1 ومر 14: 27 و38 - 42 ولو 22: 53 و66 ويو 18: 3 و27 و28) . ويظهر من إنجيل يوحنا أنه حصل لهم حينما أرادوا القبض عليه هيبةً منه حتى أغمي عليهم وسقطوا على الأرض (يو 18: 6) وما كان هيرودس يعرفه، ولم يجب المقبوض عليه هيرودس بشيء (لو 23: 8 و9) فهنا أيضًا موضع آخر للشك. وكان بيلاطس هو وامرأته يريد إنقاذ المسيح (متى 27: 15 - 25 ولوقا 23: 13 - 25) فيجوز أنه غشهم وأطلق لهم غيره وخصوصًا لأن رؤساءهم وكذا القابضين عليه ما كانوا يعرفونه كما سبق وكان بيلاطس يعتقد أنه بريء من كل ما نسب إليه (متى 27: 24) وإذا كان من معجزات بطرس تلميذ المسيح النجاة من السجن (أع 12: 6 - 10) وكذلك بولس وسيلا (أع 16: 25 و26) فهل من البعيد أن يكون المسيح عليه السلام أُنقذ من السجن كما أنقذت أتباعه، أو أنه هرب منه أو أن بيلاطس أبدله بغيره فظنوه هو وهو ليس المسيح، فذهب إلى موضع آخر كما ذهب بطرس بعد السجن (أع 12: 17) وهناك توفاه الله أو رفعه إليه، فلم يجدوه كما قال عليه السلام (يو 7: 34) وكما لم يجد الخمسون الرجل إيليا بعد رفعه (2 مل 2: 17) وكما لم يعرف أحد مكان موسى بعد موته (تث 34: 6) فانظر هداك الله إلى هذه النصوص وتدبرها بعين البصيرة تجد أنها كلها تؤيد عقيدة المسلمين في المسيح عليه السلام، وتنقض عقيدة النصارى فيه ولكنهم يتعسفون في تأويلها ويتكلفون كما هي عادتهم. ومن العجيب أنهم يتركون مثل هذه النصوص والنبوات السابقة الفصيحة الصريحة، ويتمسكون بعبارات من نبوات غيرها مبهمة وقابلة لكل تأويل وهي ليست نصًّا في عقائدهم، ولا تنهض لهم بها حجة كما أريناك في هذا الكتاب هداهم الله إلى الحق والصواب. *** الفصل الرابع في بشائر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته تمهيد: اعلم أن تغيير حال أمة كالأمة العربية وإحياءها وإحياء أمم الأرض بها وقلب نظاماتها وصبغاتها وإصلاح جميع أحوالها وأمورها وإخراجها من الفساد والاختلال والفوضى برجل كمحمد صلى الله عليه وسلم في

الغارة على العالم الإسلامي ـ 6

الكاتب: المسيو شاتليه

_ الغارة على العالم الإسلامي أو فتح العالم الإسلامي [*] (9) مؤتمر لكنهوء سنة 1911 وقام بعد ذلك القسيس (ك. س) المبشر في (مِدراس) ، فتلا تقريرًا عن مشايخ الطرق والدراويش في إفريقية، وقدم له مقدمة تاريخية اقتبسها من المؤلفات الفرنسية. والمعلومات التي تضمنها هذا التقرير هي ملخص كتاب ألفه هذا القسيس اسمه (الطرق الصوفية في الإسلام) . ثم قال: إن الإسلام أخذ ينتشر في الحبشة، وسيصبح شمال الحبشة عما قريب بلدًا إسلاميًّا. أما (منبسة) وشرقي إفريقية البريطانية، فلا أثر فيهما للدراويش المبشرين، وليس هناك نجاح للإسلام في شمال نيجيرية حتى الأيام الأخيرة، وذلك لما كان يلقاه هذا الدين من مقاومة القبائل الوثنية له. إلا أن الاستعمار الإنكليزي قد وطد الأمن العام ومهد السبيل لسياحة المسلمين. وانتشار الإسلام على يد التجار الهوسيين. وفي نيجرية مسلمون تربوا تربيةً إسلاميةً، وهم على مذهب مالك بن أنس وقد درسوا تفسير البيضاوي وصحيح البخاري وكتب الغزالي. والإسلام في جنوب هذه البلاد قد انتشر انتشارًا سريعًا بفضل الهوسيين أيضًا، وقسم من هؤلاء ينتمي إلى الطريقة التيجانية منذ 80 سنةً. وهذه الطريقة قد اتسع نطاقها حتى جهة (ألبيدة) ومشايخها هم الذين شدوا أزر أمير سكوتو أثناء اقتتاله مع الإنكليز. وعلى كل فالظواهر تدل على تقدم الإسلام بانتظام في مقاطعة (سيراليونة) وهو ينتشر أيضًا في (نياسالند) منذ 12 سنةً بفضل عرب زنجبار والبلاد الممتدة من (بحيرة نياسة) حتى الشاطئ الإفريقي الشرقي لا تكاد تخلو بقعة فيها من مسجد أو رجل يدعو إلى الإسلام، وبالعكس من ذلك مقاطعة (رودزية) فإن الإسلام لا يكاد يكون له فيها أثر. وقام بعده الأستاذ (مينهف) ، فذكر بعض دواعي انتشار الإسلام مثل انقطاع تجارة الرقيق، وانتشار الأمن ونفوذ المسلمين من الوجهة الاقتصادية والتجارية، ومما قاله: (إن بين الأوروبي والإفريقي هوَّة تفرق بينهما. والمسلمون قد تمكنوا من إزالة الهاوية التي كانت بينهم وبين الزنوج بأن جعلوا لهم إلى هؤلاء سلمًا. فأهالي الساحل الشرقي في إفريقية والهوسيون في السودان الغربي هم الآلة العاملة لانتشار مدنية الإسلام في إفريقية بلغة البلاد التي هي مزيج من العربية والبربرية والإفرنجية (لانغوافرانكا) وهذه اللغة هي واسطة التعارف في الأقاليم الكبرى. وشدد النكير على القائلين: إن الإسلام أكثر موافقة للشعوب الإفريقية، وقال: إن من شأن هذه الفكرة أن تحبب المسلم إلى الأوروبيين وتحملهم على مجاملته مع أن أساس هذه الفكرة واهٍ إلا إذا كان معناه أن الإسلام يبيح تعدد الزوجات المنتشر في أفريقية. وقد أظهرت التجارب الكثيرة في الاستعمار الأوروبي أن الأوربيين لا يختلفون في شيء عن الإفريقيين من الوجهة العملية. أما إن الإسلام في مستوى أرقى من مستوى الشعوب الإفريقية، فذلك لأن هؤلاء يعيشون على طريقة القرون القديمة ومدنية الإسلام هي بدرجة مدنية القرون المتوسطة، ولذلك يسهل على الإفريقيين اقتباسها , وأما مدنية أوربة فهي أرقى المدينتين الإفريقية والإسلامية، ولذلك يصعب على الإفريقي الوصول إليها والاحتكاك بها. والأوروبيون لم يثبتوا في نشر مدنيتهم في الإفريقيين إلا في الجنوب ولذالك أصبح القيام بهذا الأمر واجبًا على المبشرين كَيْلاَ يعلو الإسلام على النصرانية. وصار من الواجب على إرساليات التبشير أن تتحكك بالمسلمين، وتتسلح بالمعدات الكافية لقتالهم، وأن لا تخشى ذلك كما كانت تفعل حتى الآن. وينبغي لهم أن لا تكون أعمالهم لاهوتية محضة، بل يجب أن يطرقوا أبواب الطب والصناعة، وكل الأعمال التي يتفوق فيها الأوربي على الشرقي. *** الانقلابات السياسية ومن المسائل التي عقد مؤتمر لكهنوء للبحث فيها الانقلابات السياسية في ممالك الإسلام فابتدأوا بالبلاد العثمانية، وتقدمت ثلاثة تقارير عن الحالة السياسية في البلاد العثمانية الأول من الأستاذ (استوورد كروفارد) عن (الانقلابات العثمانية) والثاني من القسيس (ينغ) عن (الانقلابات السياسية في جزيرة العرب) والثالث من القسيس (تروبريدج) عن النظام الجديد والنظام القديم في السلطنة العثمانية) مع ملاحظة موقف إرساليات التبشير في كل ذلك. تساءل استوورد كروفارد في أول تقريره عن الموقف الذي يجب أن تكون فيه إرساليات التبشير المسيحية تجاهَ قوات الإسلام الجديدة بعد الانقلابات العثمانية ثم قال: إن الأمة العثمانية بحصولها على بعض الحقوق الوطنية العصرية قد أخذت تتدرج في مدارج نهضة عظيمة، وتظهر إحساسًا وطنيًّا جديدًا أمام المسئولية الديموقراطية. وهذا الأمر لا يقتصر على الرعايا المسلمين بل يشترك معهم فيه العثمانيون من غير المسلمين، وهؤلاء قد بدأوا يتحولون عن فكرة الاستعانة بالدول الأجنبية، وحدث بين المسلمين والنصارى تقرب محسوس بالرغم من حدوث بعض حوادث مزعجة. إلا أن الإسلام قد ظهر في قالب جديد؛ وذلك لأن الانقلاب الذي أحدثته الأمة العثمانية إنما كان إسلاميًّا محضًا، بل إن فكرة الدفاع عن الإسلام هي التي أعانت على حدوث الانقلاب. وعلى هذا فواجب المبشرين مزدوج أمام هذا المزيج الغريب المتكون من الرغبة في الارتقاء والتمسك بالتقهقر! وبهذا الواجب المزدوج يمكن لهم أن يعينوا مركزهم إزاءَ المسلمين العثمانيين , أما الواجب الأول فهو إظهار المجاملة للقوة الجديدة التي انتبهت في العثمانيين بعد سباتها بالرغم من أن الشعور الإسلامي الحقيقي يعرقل سيرها! وبهذه المجاملة يمكن تنشيط المسلمين لاقتباس الأوضاع الجديدة وترقيتها على وجه يشبه الأوضاع التي تباهي النصرانية بها. ولم يسبق لنا أننا رأينا الإسلام لينًا وملائمًا إلى حدّ تقدير المبادئ النصرانية قدرها. وهذه فرصة ثمينة ينبغي لنا انتهازها للتحكك بالعالم الإسلامي وهدايته إلى الإنجيل الذي هو أرقى وحي أهداه الشرق للغرب؟ ! وما علينا إلا أن نستصرخ المسلمين ليستردوا إليهم بضاعتهم الطبيعية، فيطبقوا مبادئها على أعمالهم الضرورية من اجتماعية وقومية ويفسروها بأنفسهم على ما يوافق هواهم. ووقتنا أضيق من أن يتسع للطعن في عقائدهم. وإذا ثبتنا على تلك الطريقة الفاسدة في إظهار المسيحية بمظهرها أيام الحروب الصليبية فإنما نكون قد خنا المسيح الفاتح! وأما الواجب الثاني فهو الصبر الذي يعرفه من عرف حكمة الإنجيل في النمو التدريجي وهي تبتدئ بالعشب، ثم بالسنبلة، ثم يتبعها انتظار طويل ريثما ينضج الحَب. إلا أن النمو الأخلاقي بطيء خصوصًا إذا كان متعلقًا بأمّة من الأمم. ثم قال: إن المسلمين يقتبسون مِنْ حَيْثُ لا يشعرون شطرًا من المدنية النصرانية، ويدخلونه في ارتقائهم الاجتماعي، وما دامت الشعوب الإسلامية تتدرج إلى غايات ونزعات ذات علاقة بالإنجيل، فإن الاستعداد لاقتباس النصرانية يتولد فيها على غير قصد منها؟ ! وقد علقت مجلة العالم الإسلامي الفرنسية على هذا القول بأنها تكتفي في بيان أهمية ما يقوله استورد كروفارد بتذكير القراء بالجملة التي اتخذتها جمعية الطلاب المتطوعين للتبشير شعارًا لها منذ سنة 1905 وهي (تنصير العالم قاطبةً في هذا العصر) فإن في هذا الشعار ما يدل على أن أقوال المبشرين تندرج نحو الحقيقة!) . أما تقرير القسيس (ينغ) عن الانقلابات السياسية في جزيرة العرب فلم تذكر منه مجلة العالم الإسلامي الفرنسية إلا ما يتعلق بحالة المبشرين، ومما قاله صاحب التقرير: إن اليمن وسائر بلاد العرب يوجد فيها دائمًا متعصبون يرون أن في المساواة بين المسلمين والنصارى ضررًا وقضاءً على الإسلام، ولكن علماء الإسلام المتنورين يقولون: إن الشريعة الإسلامية تأمر بالمساواة، ثم هم من الوجهة الشخصية لا تمكنهم الموافقة على أن المسيحي يساوي نصف المسلم وإنْ كان المسيحيون مساوين للمسلمين في الحقوق السياسية والشرعية. وهو يرجو أن يكون إنشاء الطرق والسكك الحديدية وتشييد المدارس أبوابًا ومنافذ بين المسلمين والنصرانية. وختم تقريره بقوله: (إنه قد أزف الوقت لارتقاء العالم، وسيدخل الإسلام في شكل جديد من الحياة والعقيدة، ولكن هذا الإسلام الجديد سينزوي في النهاية ويتلاشى بالنصرانية) [1] . وبعد أن فرغ الخطيبان السابقان من تلاوة تقريريهما قام بعدهما القسيسين (ترويربدج) فألقى على مسامع زملائه تقريره عن النظامين الجديد والقديم في السلطنة العثمانية. فقال: المبشرون كانوا منذ ابتداء أعمالهم التبشيرية قبل 80 سنة مظهرًا لتسامح الحكومة العثمانية كما هو شأنها مع الرعايا الأجانب الذين تحميهم الامتيازات الأجنبية، أما المتنصرون الوطنيون فهم على نقيض ذلك؛ لأنهم كانوا دائمًا عرضة للسجن والطرد، كما أن المبشرين من وجه آخر كانوا يلاقون الصعاب والعقاب في سبيل تشييد المدارس والكنائس ونشر المطبوعات. ثم أشار بعد ذلك إلى ملخص البند العاشر من القانون الأساسي الذي يحظر خرق حرية الأفراد أو إلقاء القبض على أي شخص ومعاقبته بلا مسوغ منصوص عليه في الأحكام الشرعية الإسلامية والنظاميات القانونية. ثم قال: ومع ذلك يتعذر الوقوف على حقيقة خطة الحكومة بالاستناد على أقوال الكثيرين التي تلقى على عواهنها، بل إن ذلك يتطلب التنقيب والاختبار الشخصي، ولذلك قسم الخطيب الكلام في أعمال المبشرين بالنسبة إلى موضوعها ليسهل الوقوف على موقف الحكومة إزاء كل منها، فقال عن الأعمال المدرسية: إن في استطاعة المسلمين التردد إلى مدارس وكليات التبشير وبين جدران الكلية البروتستانتية في بيروت 104 من المسلمين وفي كلية الآستانة 50 وفي كلية المبشرين في كديك باشا في الآستانة أيضًا 80 ومنذ بضع سنين صدر أمر خفي بجواز التردد على الكلية الأولى والثانية. وانتقل إلى قسم التأليف فقال: كان طبع الكتب المقدسة مباحًا منذ مدة طويلة من لدن الحكومة العثمانية إلا أن مهمة بائعي الكتب المتنقلين كانت محفوفةً بكل أنواع الصعوبات. وأصبح الآن بيع الكتب المقدسة مباحًا بسبب حرية النشر التي أعقبت الدستور فبيع في السنة الماضية للمسلمين ما يزيد على 9000 نسخة من هذه الكتب، وليس هناك صعوبات تقوم في سبيل الكتب المختصة بانتشار التبشير، ولكن يجب على المؤلفين عدم الخوض في غمار المناقشات الدينية؛ لأن الحكومة الحاضرة لا تسمح ألبتة بنشر الكتب التي على شاكلة مؤلفات فندر. وقال عن الأعمال الطبية والخيرية: إنها منتشرة جدًّا في البلاد العثمانية، ومما يجدر ذكره أن القسيس (بيت) التابع لإرسالية التبشير في الآستانة عين رئيسًا للجنة الإسعاف الخيرية التي تأسست تحت رعاية السلطان عقب مذابح أطنة والتبشير الديني جارٍ بلا صعوبة في المستشفيات التي يدير أعمالها المبشرون. ثم قال عن الأعمال النسائية: إن الحكومة سمحت عقب إعلان القانون الأساسي لخمس فتيات عثمانيات مسلمات أن يتعلمن في كلية البنات الأمريكية ليتهيأن إلى إدارة أمور مدارس الحكومة للبنات، كما أن عددًا قليلاً من البنات المسلمات في الولايات يتردد إلى مدارس إرساليات التبشير. أما الحكومة فتظهر الاحتفاظ التام بحالة تربية المرأة المسلمة، وتحظر على النساء التردد إلى المجتمعات العمومية. وقال عن أعمال التنصير: إن الحكومة العثمانية

المسلمون في مجلس الدوما (النواب) الروسي ـ 1

الكاتب: صدر الدين أفندي مقصودف

_ المسلمون في مجلس الدوما (النواب) الروسي خطبة صدر الدين أفندي مقصودف النائب المسلم في الدوما عند البحث في ميزانية الوزارة الداخلية سبب الكلام في شئون المسلمين خاصة يا وكلاء الشعب المحترمين: لا أتكلم في سياسة الوزارة الداخلية إلا من حيث تعلقها بالمسلمين. أيها الأفندية: نحن وكلاء حزب المسلمين إذا بدأنا الكلام على هذا المنبر في شئون المسلمين خاصة ربما يتساءل كثير منكم: (لأي شيء تخصّ المسلمين فقط؟ ولماذا يكون الكلام في ضغط الحكومة على المسلمين خاصة؟ وربما تقولون: إن هذا الضغط كان يصيب كل واحد من سكان روسية من غير فرق في الجنس والدين) وهذا ليس بصحيح على إطلاقه. فنحن المسلمين يصيبنا كثير من الضغط على انفرادنا غير ما يصيبنا منه مع مواطنينا الآخرين. لكل أمة من الأمم مميزات وعادات محترمة لديها، تمتاز بها عن الأمم الأخرى، والحكومات العاقلة مهما قاومت الحركة الطبيعية فإنها لا تمس - عادةً - هذه الأشياء المحترمة عند الأمم. وهذه المميزات هي لغة الأمة وأدبياتها ومدارسها وما يتبع ذلك. أما حكومتنا فهي لا تزال إلى الوقت الأخير تمس بالشر هذه الأشياء العزيزة لدينا، تطارد مدارسنا وأدبياتنا ولغتنا ونحن بها عرفنا الدنيا، وبها تتكلم أمهاتنا، وفيها تربينا منذ صغرنا. أيها الأفندية! عندما يقع علينا مثل هذه الضربات لا يمكننا أن نسكت غير مهتمين ولا مبالين. قَلَّمَا يصعد حزب المسلمين في الدوما هذا المنبر، وذلك عند نفاد الصبر وبلوغ الألم في النفس مبلغه. فلا تتكلم إلا عندما يكون الكلام لا بد منه، لذلك أيها الأفندية نحن لا نقدر على الكلام غير متأثري العواطف (أصوات من اليمين قائلة: هل تُقدَّر إحساساتكم بشيء من المال؟) أنتم لا تحسون إحساسي من هذه الجهة؛ فدعوني أتكلم بحرية في كل ما أريده وأرجو عدم قطع كلامي بأصوات شتى لا سِيَّمَا من جهة اليمين. *** الضغط الحاصل على المسلمين قبل بيان أسباب سياسة الحكومات ضدنا، وما كان لها من النتائج أَجِدُنِي مضطرًّا لتعداد أعمال الحكومة غير القانونية ضدنا في غضون سنة واحدة، وأكتفي بأن أعد منها كبارها إذ لا يمكن إحصاء جميعها. من ذلك التفتيش والسجن الذي وقع على الأشخاص الآتية أسماؤهم، فتشوا دار حسن صبري آيوازف معلم اللغة التركية في (لازار فسكي إينستيتوت) بمدينة مسكوف، ثم سجنوه ونفوه. وفتشوا دار ملا عبد الله آيانايف وملا عالم جان عليف في مدينة قزان وأخذوا منهما كتبًا وأوراقًا كثيرة. وسجنوا 9 معلمين، وعبد الله نعمة اللين وعبيد الله نعمة اللين من كبار العلماء في قرية بوبي بولاية واتكة وأخذوا وقت إجراء التفتيش 500 مجلد من الكتب , وكثير منها كتب دينية. (الرئيس: يا مقصودف! أرجو أن لا يطول بك التعداد مقصودف: لا يأذن لي الرئيس أن أعد الوقائع كلها فيجب علَيَّ أن أكتفي بأن مثل هذه الوقائع مكتوبة عندي حيث تملأ دفتر) في سنة واحدة فقط أجري التفتيش على 150 من أعيان المسلمين، وأقفلت مكاتب عديدة جِدًّا وبيوت للمعارف والمدنية. أقفل في مدينة خوقند وحدها عشرون مكتبًا بأمر مفتش المعارف هناك وطرد معلموها. وفي قرية آرصاي بولاية صمار التابعة لمتصرفية بوغورصلان أقفل المكتب وطرد معلمه، وأقفلت دار كتب السعادة (كتبخانة سعادت) في بلدة منزلة بولاية أوفا، وكذلك أقفلت مطبعة (أورنك) في مدينة قزان وطرد معلمو المكاتب في بلدة ويرخني أودينسكي وكذلك في قرية آيو أو راز في متصرفية بوغولمة بولاية صمار. وأقفلت مدرسة حسن بونامارف في بلدة بتر باول. ومنع المدرس محمد أمين من التدريس في بلدة (أوش) وأقفلت مكتبة على طاربي في بلدة باغجة سراي، ولم يؤذن ببناء جديد بدل مكتب قديم في بلدة آلماطا. وأقفلت مطبعة كازا كوف في مدينة قزان. ومنع إحسانف ويانغاليجف من تعليم الأولاد في بلدة ساريجن ومنع مسطافين وشرف وزبيرف من التدريس في مدينة قزان. ومنعت أيضًا المعلمة نفيسة كازاكوا من التعليم في مكتب البنات في بلدة تتوش، ولم يأذنوا لمنور قاري بافتتاح شعبة بجوار مدرسته لتعليم اللغة الروسية في مدينة طاشقند. ومنع حسين مكايف من التعليم في بلدة نمنكان وقرر مجلس شورى الدولة إقفال الجمعيات في مدينة استرخان. وشكى. وسمبر. وأقفل مكتب عند المسجد الجامع في مدينة قزان وعزل بولاية قزان ما ينوِّف عن عشرين من الأئمة عن مناصبهم من غير سبب. وبِنَاءً على رجاء حضرة الرئيس بالاختصار في التعداد لا أطيل القول فيه، ومع ذلك يمكنني أن أقول هذه الكمات بشأن الجرائد الإسلامية: أوقفت جريدة (الشمس كونش) اليومية التي تصدر في مدينة باكو وكذلك أوقفت فيها مجلة (هلال) و (معلومات) وغرموا جردية (وقت) أكثر من 800 روبل في سنة واحدة، وكذلك غرموا (صدى) و (معلومات) ومجلة (آيقاف) القزاقية غرامات متعددة. لم أعد كل الوقائع بل ذكرت بعضًا من كبرها، وخلاصة القول: أنها أجريت التفتيش على 150 مسلمًا , وقفل أكثر من 70 من المكاتب والمدارس , وطائفة من الجرائد. *** سبب الضغط عندما نرى إيذاءًا بهذا المقدار يقع على الأئمة , ونرى إقفال ذلك القدر من المكاتب والمدارس ننصرف، من غير اختيار لي التفكر بأحد أمرين اثنين. وهما إمّا أن الحكومة الروسية لا تحب رُقِيَّنَا ودخولنا في المدنية , فتريد أن تقاومنا بكل الوسائل الممكنة، وإما أنها تغلط بزعمها وجود فكرة وحركة بين المسلمين ضد روسية , فترى من الضروري التذرع بالوسائل لمنعها. وعلى ظني أن هذين الاحتمالين صحيحان كلاهما؛ وذلك أن من العادة القديمة للحكومة أن تردع المسلمين وتسكتهم كلما بَدَا منهم الاجتهادُ والسَّعْيُ الحثيث إلى الرُّقِيِّ والمَدَنِيَّة. الحكومة لا تريد تقدم المسلمين ورقيهم , ولكن هذه الحال في الحكومة الآن أقوى وأوضح منها في الماضي. الوسائل المتخذة ضد حركتنا المدنية الآن تتخذ على ادِّعَائِهِمْ ضِدِّ الجامعة الإسلامية. تقول الحكومة وحزب اليمين: نحن نصارع المسلمين , ونتخذ الوسائل الشديدة ضدهم؛ لأنه يوجد بينهم حركات هائلة تُدْعَى (الجامعة الإسلامية) . نورد هنا مسألةً وهي: هل توجد حركة هائلة بين المسلمين؟ وهل توجد حركات وأعمال ضد الإمبراطورية مهما كان نوعها وشكلها؟ ها هم يَدَّعون وُجودَها ونحن ننكرها. *** ما هي الجامعة الإسلامية ومن أين أَتَت ْ؟ أيها الأفنديةُ! في الأيام الأخيرة أخذت جرائد حزب اليمين تتذرع بوسائل شَتَّى ضد الجامعة الإسلامية، وَلَمَّا عَرَفْنَا أخبارَ الجامعة الإسلامية مِن هذه الجرائد ومِن الحكومة نفسها راجعنا معارفنا من الأئمة والمعلمين والتجار , وسألناهم عن وجود حركة بين الناس يمكن أن تسمى الجامعة الإسلامية , فَأَخَذَتْهُمِ الحيرةُ مِن هذا السؤال , ولم يفهموا لها مَعْنًى. فلم يبقَ لنا من مصدر للبحث عن وجود هذه الجامعة وانتشارها إلا مراجعة الحكومة. ولقد وجدت معنى هذه الكلمة العجيبة في ورقة من أوراقها , وفيها تحديد الجامعة الإسلامية هكذا: الجامعة الإسلامية هي حركة بين المسلمين لتوحيدهم جميعًا مِن حيثُ المَدَنِيَّةُ والسياسةُ: ومبيّن فيها أيضًا أن الجامعة الإسلامية منتشرة انتشارًا كبيرًا في جوار نهر (أيدل - قاما) . فالقول بوجود الجامعة الإسلامية بيننا هو اتهام لتتر (أيدل - قاما) بالسعي لتوحيد مسلمي الأرض جميعًا من حيث المدنية والسياسة. أيها الأفندية! لا أدري. هل يمكن اشتغال التترسكان نواحي نهر (أيدل - قاما) وهم 4 أو 5 ملايين متأخرون من حيث المدنية ومضطهدون من الحكومة , وفقراء من الجهة المادية بهذه المسألة العظيمة - مسألة توحيد المسلمين القاطنين في الهند وجزر الفيليبيين والأنحاء الأخرى من آسيا وإفريقية وغيرهما من القارات الأرضية، ولم يتمكن كبار الدُّهَاة من مثل هذا العمل كنابليون والإسكندر المكدوني، ويتهموننا أيضًا بوجود فكرة فيما بيننا وهي فكرة الانفصال عن روسية. أيها الأفندية الجالسين في اليمين! لنفتكر قليلاً كما يفتكر العقلاء المستنيرون متجردين من الأفكار الأخرى، (تسمع كلمات من ناحية اليمين: ماذا تقولون؟ فيسكتهم الرئيس، ويصيح النائب بور يشكيويج مستهزءًا: كنتم قد اعترفتم الآن أنكم غير متمدنين!) افتكروا قليلاً هل يمكن لأربعة ملايين من التتر المتأخرين في المدنية والاقتصاد , وهم بين 100 مليون من الروس , وقد قبلوا منذ القرن السادِسَ عَشَرَ تبعية حكومة الروس , وعاشوا أربعة قرون ساكنين مطمئنين - هل يمكنهم أن ينهضوا دفعةً واحدةً , ويشتغلوا بفكرة توحيد مسلمي القارات الخمس توحيدًا مدنيًّا وسياسيًّا؟ ! أيها الأفندية! يمكن أن يُؤْتَى بمثل هذه الكلمات على سبيل الفكاهة فقط , وأمّا من طريق الجد فلا يجوز أن يؤتى بها ولا سِيَّمَا إذ حصل بسببها إقلاق راحة أقوام هادئين مطمئنين , فحينئذ يكون مثل هذا القول لَعِبًا ضارًّا وخطأ سياسيًّا لا يُغْتَفَرُ. أيها الأفندية! لو لم تكن تِلْكُمُ الأفكارُ الباطلةُ عن وجود الجامعة الإسلامية سببًا في الضغط المار ذكره لَمَا كنت قائلاً شيئًا في هذه الجامعة الخيالية، فالسبب الرئيسي لما حصل من الضغط في السنين الأخيرة هو الاتهام بوجودها بيننا (هنا يقوم بور يشكيويج ويصيح: اقرأوا أنتم كتاب يفدوكيف وأنا أعيركم إياه إذا لم يوجد عندكم. والرئيس يسكته ثانية) . هكذا أيها الأفندية! لا يمكن إسناد الجامعة الإسلامية - التي معناها توحيد المسلمين كلهم توحيدًا مدنيًّا وسياسيًّا - إلى 4 أو 5 ملايين من المسلمين القاطنين في نواحي (أديل - قاما) لست أدري مَن ذا الذي جاء بهذا الخيال العظيم، هل نحن المرتقين؟ أم العامة الذين يكونون عادةًَ بعيدين عن أمثال هذه الأفكار العظيمة؟ لا يمكن للمستنيرين من المسلمين أن يشتغلوا بأمثال هذه الفكرة التي تعلم بالبَدَاهَةِ أنها فكرةٌ ساقطةٌ غير رائجة. أيها الأفندية! الجامعة الإسلامية هي خيال محض لا غير. وهي مما جاء به المبشرون أدعياء السياسة , الذين اتخذوا عداوة المسلمين أساسًا لعملهم، ولا وجودَ لها إلا في كتبهم ومقالاتهم. أيها الأفندية! يمكنكم أن تسألوني الآن: إذا لم يكن للجامعة الإسلامية وجود , فَمِنْ أين جاءت هذه الفكرة؟ ولأي شيء بدأت جرائد حزب اليمين تكثر من الكتابة فيها؟ فأنا مع الامتنان لكم أجيب على هذا السؤال قائلاً: الجامعة الإسلامية هي مما فكر فيه حتى أخرجه إلى الوجود الذهني مبشرو الروس أدعياء السياسة، وهي ليست من مبتكرات أفكارهم وحدهم , بل كانت هذه الفكرة موجودةً من قبلُ، وكان يكتب فيها قديمًا المستشرقون من تَبَعَةِ الدُّوَلِ الأجنبيةِ اللاتي ليس لهن رعايا من المسلمين , وهم يفكرون: أنه إذا كانت الجامعة الجرمانية قد وجدت والجامعة السلافية كذلك , فكيف لا توجد الجامعة الإسلامية؟ ولكن لا يوجد فيهم من قال بوجودها فعلاً وإنما هم يكتبون فيها كتابةً , ويجوزون وجود فكرة سياسية باسم الجامعة الإسلامية , ولا يستبعد أن يكون ظهور الجامعة الإسلامية إلى الوجود أمرًا مرغوبًا فيه عند مستشرقي الألمان والنمسة والمجر، والظاهر أن المبشرين عندنا قد سمعوا تلكم الأقوال , فتمسكوا بها وأخذوا في استعمالها بمهارة زائدة لمنافع جمعياتهم الروحية، وهاكم الدليل على ما أقول: توجد عندنا جمعيات تسمى جمعيات المبشرين. أكبرها جمعية

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (مسلمو الصين) يظهر أن الحياة المِلِّيَّة قد تمشت في أعضاء جماعة مسلمي الصين، فقد نشرنا في الجزء السابع طائفة من عوائدهم الدينية وحالتهم الاقتصادية. ومما يدلك على هذه الحياة اللائحة التي قدموها للحكومة الجديدة، وقد عربناها عن جريدة (وقت) التترية، المعروفة لقراء المنار بعد أن عربتها بعض الجرائد تعريبًا جاء فيه سقط بعض الكَلِم , وتحريف في البعض الآخر، وهذه هي اللائحة تحت العنوان الآتى: (مطالب مسلمي الصين) مسلمو كاشغر يطلبون من حكومة بكين الجديدة ما يأتي: 1- إطلاق الحرية الدينية التامة , وأن تكون شئون المسلمين الدينية في يد رؤسائهم الدينيين. 2- أن يكون للمسلمين في العاصمة رئيس ديني باسم (شيخ الإسلام) وأن يكون لديه محكمة شرعية , ووكيل درس (ناظر المدارس) وأمين فتوى وإدارة أوقاف، وأن يكون الموظفون الشرعيون من مثل القاضي والمفتي والإمام تحت إدارة شيخ الإسلام , وفي يده وحده نصبهم وعزلهم. وشيخ الإسلام نفسه ينتخبه المسلمون. وأن ينصب في مراكز الولايات التي يسكن فيها المسلمون حاكم شرعي ينفذ أحكام الشريعة الإسلامية. 3- الموظفون الدينيون للمسلمين لا يكلفون بالخدمة العسكرية , وكذلك الطلبة المقيدة أسماؤهم في المدارس الدينية. 4- المسلمون يكونون أحرارًا في بناء المساجد والمدارس والزوايا , وغيرها من الأماكن الدينية في أيِّ مكان شاءوا. 5- وكذلك يكونون أحرارًا في الإعانات للمساجد والمدارس والمكاتب , وغيرها من طُرُقِ الخير الدينية والمِلِّيَّة. 6- أن لا تتداخل الحكومة مطلقًا في إدارة أوقاف المسلمين , وأن لا تأخذَ شيئًا من الضريبة على أملاك الوقف (كما لا تأخذ من أوقاف الصينيين) وإدارة الأوقاف في بكين تراعي في تنفيذها شروط الواقفين وفقًا لأحكام الشريعة. 7- أن تكون مساعدة الحكومة لرجال الدين بالمساواة. فإذا عَيَّنَتْ الحكومة الجديدة للكهنة الصينيين مرتبًا شهريًّا تُعَيِّن مثلَه من خزينة الدولة لرؤساء الدين المسلمين. 8- أوامر الحكومة الجديدة في تبديل الألبسة والشكل لا تسري على المسلمين. 9- لا يمنع المسلمين مانع من السياحة في الممالك الأجنبية. وينبغي أن تفتح القنصليات لحكومة الصين في المدن الكبيرة على طريق الحج حتى يجد الحجاج بذلك سهولة في سفرهم. ويجب حينئذ إبرام معاهدة مع الحكومة العثمانية؛ لتبادل السفراء بين الحكومتين. ولتكن ورقة الجواز للسياحة في الممالك الأجنبية بلا مدة أو لمدة سنة على الأقل (والآن تعطي لستة أشهر فقط) . 10- يتساوى المسلمون مع غيرهم في حقوق انتخاب الوكلاء عنهم لمجلس النواب ولدوائر الحكومة. 11- يكون المسلمون متمتعين بالحرية والمساواة والعدالة كغيرهم سواءً بسواء. 12- وكذلك يكونون أحرارًا في تأسيس المطابع وافتتاح دور الكتب ونشر الكتب والجرائد والمجلات. 13- كل واحد من المسلمين يحق له أن يشغل منصبًا في دوائر الحكومة على نسبة معرفته ومقدرته. 14- مساعدة الحكومة لمكاتب ومدارس المسلمين تكون على نسبة مساعدتها لمكاتب ومدارس مِلَّة الصين. 15- والذين يريدون الدخول إلى مدارس الحكومة من أولاد المسلمين يقبلون فيها، وإذا أرسلت الحكومة طلبة إلى مكاتب الحكومات الأجنبية ترسل أيضًا من المسلمين. 16- حينما تؤخذ العساكر لمحافظة الوطن يكون المسلمون من الجنود على حِدَة في الأكل والشرب والمسكن حتى يمكنهم المعيشة والعبادة على موجب الشريعة. 17- ويكون في أماكن العساكر مساجدُ ويعيّن فيها الأئمة، وأن لا يمنع المسلمين مانعٌ من الرقي إلى أي رتبة من الرتب العسكرية. 18- في كل سنة يُعْطَى إذن للعساكر المسلمين مدة شهر رمضان مثلاً للرجوع إلى وطنهم. يوجد في الصين 55 مليونًا من المسلمين على حساب الحكومة , وهم يعدون أنفسهم 10 ملايين ينسبون إلى قبائل تركية. ومسلمو الصين وقت مراجعتهم حكومتهم يراجعون دائمًا متّحدين وباسم جميع المسلمين في الصين. ومسلمو التركستان الصينية منهم يريدون الاتحاد مع الدنكانيين؛ لأنهم كما قلنا يتفاهمون بلسان الحكومة , ويوجد بينهم دور المعارف؛ لذلك هم أرفع شأنًا عند الحكومة عن الآخرين، عَلَم (لواء) جمهورية الصين الآن ذو خمسة ألوان إشارة إلى خمسة أجناس كبيرة وهي: من فوق إلى تحت: 1- أحمر للصين الداخلية. 2- أسود للمنشوريين. 3- أبيض للمسلمين. 4- أخضر للتبت. 5- أصفر للمغول. الشوق للعِلم قد كثر بين مسلمي الصين في السنين الأخيرة , ولكن يعوزهم الآن الزعماء العاملون في طريق العلم. (أمة الجاويين) [1] القطر الجاوي مؤلف من جزائر متعددة يحدها من الشمال بحر الصين ومن الجنوب والغرب بحر الهند ومن الشرق المحيط الهادي. وأكبر هذه الجزائر (بورنيو) ثم (صومطرا) ثم (جاوا) ثم (سمبيس) وحول هذه الجزائر جزائر أخرى أصغر منها، أما جزيرة (الغنوا الجديدة) فلا تعد منها؛ لأن سكانها من جنس غير جنس الجاويين , وإن تكن داخلةً تَحْتَ سُلْطَانِ الهولنديين بمقدار 142 درجة طولاً. وكل هذه الجزائر يستعمرها الهولنديون عَدَا جزء صغير منها تحت حكم الإنكليز , وهو (رأس ملوك) وشمال (بورنيو) والذي تحت حكم البرتغال الشرق الشمالي من جزيرة (تيمور) . ويبلغ عدد سكان جاوا نحو 40.000.000 وهم مختلفون في الأديان والأكثرية داخلة في الإسلام، ومن المذاهب الشائعة هناك الوثنية والمجوسية والمتدينون بهما لم تبلغهم الدعوة بَعْدُ. والجاويون متأخرون في علوم الدين وعلوم الدنيا , فقراء في الصناعة ووسائل الارتقاء. ورغبتهم بالعلم ضعيفة، وربما لا يتعلمون أكثر من القراءة والكتابة في لغتهم، وهذا التعلم يجيئهم من طريق الهولنديين، ومما يؤسف له عدم وجود علماء منهم , أو من الخارج يعلمونهم أمر دينهم. ولم يقم منهم لتأسيس مدرسة إلا واحد نهض أخيرًا , وطلب من حكومة هولندة إذنًا بإنشاء مدرسة لتعليم الأطفال فأذنت له. ومن أدواء الجاويين عدم اتفاقهم واتحادهم على شيء، وذلك خلق انتقل إليهم بطريق الإرث، وهو الذي كان سببًا في دخول هولندا إلى جاوا؛ لأن كل واحد من أعيانها كان يريد أن يكون رئيسًا. وأنا لا أريد بهذا القول أن أذم جاوا، بل أنا منها ومن أبنائها , وإنما أردت أن أذكر الحقيقة مَهْمَا كَانت مؤلِمَةً. ومما سُرِرْتُ له أنه يوجد من أبناء وطني في القاهرة ثلاثة شبان يتلقون العلم الشريف في مدرسة دار الدعوة والإرشاد وهم - ولله الحمد - على جانب من النباهة والاجتهاد , ورجاؤنا أن يكونوا في الغد - بعناية الله ونظر الأستاذ السيد رشيد رضا ناظر المدرسة - يدًا عاملة على تنوير وطنهم بنور العلم وإنقاذه من الضلال. وفي القاهرة غير هؤلاء ثلاثون شخصًا من أبناء جاوا يتلقون العلم بالأزهر الشريف ومعلوم أن المسيحيين قد تمكنوا تمكُّنًا شديدًا من نشر دينهم في بلادنا حتى إنهم افتتحوا في كل مدينة , وفي كل قرية مدرسةً لنشر الدين، ويُخْشَى مع كثرة استعدادهم وعدم وجود عالم أو مرشد من المسلمين أن يرتدَّ الناس عن دينهم والعياذ بالله، ودعاة المسيحية هناك يتبعون المسلم حيث وجد , فيجلسون إلى جانبه في القهوة , ويناقشونه في مسائل الدين التي يجهلها بالطبع , ولا يجد جوابًا عليها لجهله وينتهي الأمر بإخراجه من دينه. وهناك خطر آخر وهو أن فقدان التعليم الديني الإسلامي في بلادنا يجعل الشبان الذين يذهبون للتعليم في أوربة جاهلين أمور دينهم فيعودون وقد دخلوا بالبروتستانتية، أو اعتنقوا الكاثوليكية. والألمان المتخرجون في مدرسة المبشرين البروتستان في مدينة (برمن) الشهيرة يأتون إلى بلادنا , وينفقون النفقات الطائلة في كل سنة؛ ليجرّوا المسلمين إلى مذهبهم، والإسلام لا يكسب أحدًا من المجوسيين أو الوثنيين؛ لأن هؤلاء يتنصرون بعناية الدعاة للنصرانية , ولا يسلمون لفقد الدعاة للإسلام. وأنا أختم كلامي ضارعًا إلى الله أن ينبه المسلمين إلى تعضيد دعاتهم؛ لينقذوا أبناء دينهم , خصوصًا في جاوا من هذه الحالة التي لا تسر المسلم، ولكل عامل على ذلك أجر وثواب من الله سبحانه وتعالى. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن عبد الواحد ... ... ... ... ... ... طالب برواق الجاويين بالأزهر الشريف

مجلة العالم الإسلامي الفرنسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مجلة العالم الإسلامي الفرنسية انتقادها مجلة المنار وصحف إسلامية أخرى من جهة ومشروع جماعة الدعوة والإرشاد من جهة أخرى أرسل إلينا أحد أصدقائنا في باريس قطعة من مجلة العالم الإسلامي الفرنسية حملت فيها على الجرائد المذكورة في بداية النقد، وخصت المنار بقسط كبير، وتناولت مشروع الدعوة والإرشاد. مع أن المنار لم يبد رأيه في هذه المقالات بعد، وهذه ترجمتها: (هل تتكرم رصيفاتنا الغراء: المؤيد والمنار والاتحاد العثماني وصحف إسلامية أخرى أن توضح لنا جنسية وأصل المحرر الأوروبي الذي أتى بالأقوال التي عزتها هذه الصحف إلى مجلة العالم الإسلامي؟ كتبت جريدة المؤيد في 8 إبريل سنة 1912 تقول: (وإن في فرنسة (لجنة Comite) اسمها (الإرسالية العلمية المراكشية) مؤلفة من المستشرقين الذين درسوا الكتب الإسلامية والعادات الشرقية واللغة العربية أو غيرها من لغات المسلمين خدمة لجامعات فرنسة السياسية والدينية والاقتصادية) اهـ. ولكن من الخطأ الواضح أن يقال عن الإرسالية العلمية المراكشية إنها (لجنة Comite) وإذا كان العلامة مدير المؤيد يتتبع الكتب فلا يصعب عليه أن يقف على أصل ما جاء به (من معنى لفظ اللجنة) خصوصًا وإن هذه الإرسالية العلمية لا تشبه اللجنة بوجه من الوجوه. وليس من الصواب أن يقال: إن لها مقاصدَ سياسيةً أو دينيةً أو اقتصاديةً. وكل ما في الأمر أن عملها نتيجة مساعي بعض الخاصة، وترجع هذه المساعي إلى سنة 1889-1890، وقد أعطيت الإرسالية منذ ذلك الحين مبلغًا صغيرًا من المال لإدارة شئونها. أما الآراء التي تنشرها هذه الإرسالية فهي خاصة بها ولا شأن للحكومة فيها. وعلى هذا فإن ما قالته جريدة المؤيد بهذا الشأن مخالف للواقع. وتقول جريدة المؤيد: (إن هذه (اللجنة) أخذت قبل خمس سنوات تنشر في باريس مجلة كبرى مصورة تصدر في كل شهر اسمها (مجلة العالم الإسلامي) ولقد كانت هذه المجلة قبل الآن ظاهرة بمظهر علمي تكون الغايات السياسية فيها بالدرجة الثانية إلى أن تم لفرنسة احتلال مراكش أولاً، ثم دخلت فارس في طورها الأخير، وحل بعد ذلك ما حل بطرابلس. فظهرت هذه المجلة كغيرها بمظهرها الحقيقي الذي تكون فيه الدروس العلمية واسطة لغايات سياسية ودينية) اهـ. وقد حذت مجلة المنار الدينية التي تصدر في مصر حذو جريدة المؤيد، فقالت في الصفحة 259 من المجلد الخامس عشر ما يأتي: (وبعد احتلال مراكش ودخول بلاد فارس تحت النفوذ الروسي الإنجليزي واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب ظهرت - أي مجلة العالم الإسلامي - بمظهر جديد تجلت فيه خطتها من التوسل بالعلم إلى المقاصد السياسية والدينية) اهـ. (والقول أن لمجلة العالم الإسلامي غاية دينية من شأنه أن يبعث السرور والفرح في قلوب قرائها الأوربيين الذين لا يدركون وجود هذه الغاية إلا بتفسير وتأويل) اهتمت جريدة المؤيد ومجلة المنار وغيرهما اهتمامًا زائدًا بعدد مجلتنا الذي صدر في نوفمبر الماضي خاصًّا بموضوع الغارة على العالم الإسلامي، وقامت بترجمة فصوله مستمرة على ذلك، خصوصًا المؤيد الذي يصدر بها أعداده بعناية تستوجب إعجابنا واحترامنا فليتكرم بقبول شكر المجلة له على ذلك. ولكن المؤيد لم يشأ أن يختم توطئته المنشورة في عدد 8 إبريل بدون تبرم؛ إذ قال في آخرها: (إن المقاصد تتبين مع انكشاف الحوادث) . إن نشر ترجمة هذه المقالات قد بعث لأول مرة الدهشة في قلوب الجميع، كما يتضح مما قالته جريدة الاتحاد العثماني وهي جريدة هامة تنشر في بيروت تحت رعاية جمعية الاتحاد والترقي [1] ، وذلك أن بعض (كتبة) الصحف العربية انتقد بلهجة شديدة على ترجمة مقالات الغارة على العالم الإسلامي حيث قال: إن من الغبن نشر كلمة (الغارة) على صفحات جريدة إسلامية، فردت عليه جريدة الاتحاد العثماني قائلة: (إننا رأينا السكوت عن نشر هذه المقالة غشًّا لا يجيزه لنا الدين ولا الوطنية بوجه من الوجوه، فإشفاقًا على عواطف القراء الذين ما اعتادوا حتى اليوم سماع أمثال هذه النغمات المدهشة رأينا أن يكون نشرها مدعاة لتفكر عقلاء المسلمين وتدبرهم في ملاقاة هذا الخطر المحدق بهم، وأن لا يكون حظ هذا الفصل الإغفال والاستهانة، بل القيام بما يأمر به الدين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم وضع أبناء المسلمين في المدارس الأجنبية إلا بعد أن يتمكنوا من دينهم ولغتهم ووطنيتهم) . ومجلة المنار نشرت مقالات الغارة على العالم الإسلامي بالعنوان الذي وضعه المؤيد. وفي 26 إبريل عاد المؤيد إلى التعليق على هذه المقالات متأثرًا باستياء القراء من نشرها. وهذا ملخص الانتقادات والإيضاحات الواردة في مقالة المؤيد يوم 26 إبريل: 1- إن بعض المسلمين يعد نشر هذه المقالات من قبيل الموافقة على ما جاء فيها. 2- والجواب على هذا القول: إنه من قبيل وضع الشيء في غير محله؛ لأن المؤيد لما بدأ بنشر هذه المقالات مهد لها بتوطئة أبان فيها عن قصده من نشرها، وذكر لقرائه شيئًا عن المجلة التي كتبت تلك المقالات والجمعية التي تنشر المجلة نفسها وحالتيهما قبل حوادث مراكش وفارس وطرابلس الغرب وبعدها. 3- ليست هذه المقالات من المباحث العلمية أو الجدلية التي تقتضي ردًّا ومناقشة بل هي تأريخ وأنباء، وكما نظن أنها ستدفع أهل الغيرة لزيارة مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) التي فيها المصري والمراكشي والجاوي والقفقايسي) اهـ. وهنا نكرر القول بأن إسناد غاية سياسية أو اقتصادية أو دينية إلى مجلة العالم الإسلامي هو أمر وهمي تمامًا وبعيد عن الصواب بعد الإرسالية العلمية المراكشية عن شكل لجنة Comit. أما استنتاج المؤيد والمنار والاتحاد العثماني مما هو متعلق بإقالة عثرة الإسلام فهو مهم في بابه، وكنا نحب أن نقول: (إن هذه الاستنتاجات جاءت في أوانها) لولا أن (سبق السيف العذل) إذ إن العالم الإسلامي ليس مهددًا بالغارة والفتح تهديدًا بل قد أغير عليه، وافتتح بالفعل، وأصبح مغلوبًا على أمره، وتلك عاقبة غلطات وهفوات الذين تولوا مهمة إنقاذه، فتدهوروا به في هاوية الهلاك وأعينهم في سِنَةٍ ونَوْمٍ. كانت مكانة الخلافة الإسلامية مشرفة على السقوط في كل الجهات، ثم حدث الانقلاب العثماني؛ فخيل إلى الناس أن الخلافة قد عاد إليها سابق عزها بعد استظهار الحرية على الحكومة الحميدية. وكان في استطاعة المسلمين يومئذ أن يبذلوا جهدهم لإحياء حضارة إسلامية مستقلة، وقد كانت أوربة الحرة في ذلك الحين تشد أزرهم. ولكن الذين أنقذوا الدولة العثمانية من ربقة الاستبداد وهتفوا بمبدأ المساواة هم الذين أرهقوا الولايات بعد ذلك عسرًا باستبدادهم الذي فاقوا فيه الاستبداد الحميدي. فنصبت المشانق في دمشق وسفكت الدماء في آسية الصغرى واندلع لهيب الثورات في ألبانية. وبموجب سُنَّة الكون التي تربط الأسباب بمسبباتها سلخت النمسة ولايتي البوسنة والهرسك من السلطنة في مقابل 53 مليونًا من الفرنكات، ولم يبق سوى أن نعرف مَن الذي تناول هذه المبالغ. وفي سنة 1911 أنجزت أركان حرب النمسة خريطة بلاد الأرناؤط. ثم حدث بعد ذلك إغارة إيطالية على طرابلس الغرب فلم تلق فيها مقاومة، ولم تسفر هذه الحادثة إلا عن طلب الإعانة في الصحف، وتبعها حادث استيلاء الإيطاليين أيضًا على جزر الأرخبيل وتقسيم الأملاك العثمانية في أوربة. والظاهر أن الجيش العثماني المنظم والقوي أصبح ولا وظيفة له إلا المباهاة بشكله بدون أن يعمل عملاً، وهو من هذه الوجهة مثل سفن الأسطول العثماني التي اشتريت بأثمان باهظة لكي تكون ساكنةً غير متحركة. وتركت أوربة هذه الحوادث تجري على مرأى من العرب والترك والأرناؤط والروم والأكراد والسوريين، وكل هؤلاء يميلون إلى الحكم الأجنبي أكثر مما يميلون إلى الاتفاق والائتلاف. وليس بين المشتغلين بالسياسة اليوم من العرب والأتراك مَن يجهل الاستعدادات العامة التي تجري لأجل التقسيم النهائي. وليس بين الدول الأوروبية العظمى غير الدولة الفرنسية مَن ابتعد عن هذا التقسيم، لأن فرنسة لا ترغب أن يكون لها حظّ في ذلك، وهي قد لا تحصل على شيء في المستقبل من هذا التراث. أما الدول الأخرى فدائبة في المساومة والتدقيق في الحساب، وهذا الأمر غير مجهول ألبتة. وأما الأمل ببقاء الدولة العثمانية فمتوقف على اتفاق عناصرها. ولا نرى بين أصدقاء الإسلام مَن يقوم فيرفع صوته محذرًا من الخطر إلا وتقوم الجريدة العربية الكبرى في القاهرة والجريدة السورية ومجلة العلماء الدينية، فيقلن: (يا للفظاعة!) فأين هي الفظاعة؟ هل هي في التحذير والتنبيه، أم في العناد والإصرار على ترك التفكير؟ ثم الآن مَن هم المدافعون الحقيقيون عن الحضارة الإسلامية؟ هل هم هؤلاء الفقراء كالمراكشيين والطرابلسيين الذين يلقون بأيديهم إلى التهلكة؛ لأجل بعض باشوات وقواد فاسدين ومرتشين، ومشايخ ملئت بطونهم؟ أم هم نخبة المتعلمين في الجزائر وتونس والقطر المصري وسورية وتركية وفارس المنكودة الحظ والبلاد الهندية وجزائر السِّنْد - الذين هم في مصافِّ الأوروبيين محترمو الأفكار والنزعات؟ في يوم 28 إبريل الماضي قام كاظم بك والي سلانيك يومئذ، فتكهن في أمر الحركة السياسية التي تتمخض بها الآن الجيوش العثمانية في الولايات المقدونية، وألقى خطابًا رنانًا بين جدران مسجد القاسمية بعد صلاة الجمعة، فأتى ببيان القوات الإسلامية في الصين والهند وأفغانساتان وتركستان وطرابلس الغرب ومراكش، وبحث في أسباب الفشل الذي لحق بها. ثم ختم خطابه بشرح برنامج إسلامي سياسي أوسع من برنامج جمعية الاتحاد الترقي ويختلف عنه - حض فيه على توسيع التعليم والتربية في العنصر العربي المسلم. فهل كانت غاية كاظم بك دينيةً أو اقتصاديةً؟ أنكرت جريدة المؤيد ومجلة المنار وجريدة الاتحاد العثماني على مجلة العالم الإسلامي أنها بينت للمسلمين كيف تتهافت القوات الأوروبية المختلفة لاستدراج الشعوب الإسلامية، وإدخالها في طرق أخلاقية واجتماعية وسياسية جديدة. ولو كانت هذه الصحف مدركة سير الأمور التي لا مبدل لها لشكرت لمجلتنا صنيعها هذا، ولما قالت. (لنرجع إلى التعليم العربي القديم مكتفين بتغييره تغييرًا سطحيًّا) بل كانت تقول: (لنفتح مدرسة الغد التي هي الكفيلة بخلاصنا المؤسسة على حضارة إسلامية عصرية) . والآن قد وصلنا إلى النقطة التي تتميز بها آراؤنا عن آراء رصفائنا العرب: أولئك مقاصدهم مقتصرة على توطيد استقلال الإسلام والهتاف له، مع التأكد من عدم الحصول على هذا الاستقلال بل مع التأكد من فقده. ونحن نود أن نراهم وطدوا أركان هذا الاستقلال بانتهاج طرق الترقي والفلاح المفتوحة أمام مستقبل الإسلام ولكنهم يضعون الجامعة الشبيهة بالقديمة التي أسسها السيد رشيد رضا في مستوى الجامعة العصرية التي يدير شئونها البرنس فؤاد باشا. إنهم لو أعملوا الفكرة والروية لمعرفة الصعاب الحقيقية التي تعترض رسوخ قدم الإنكليز في مصر لاتضح لهم - وهم في القاهرة - أنها ليست منوطةً بالوطنية الدينية أو الوطنية السياسية، بل بالنهضة الاجتماعية الكاملة , ولا يمكن للمصري المسلم أن يخرج من تحت السلطة البريطانية بتوطيد أركان دينه بل بإنهاض الفرد المسلم المستنير إلى مستوى الفرد المسيحي المنور. وبعد، فإذا كان ي

التقاريظ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقاريظ (انتقاد تاريخ التمدن الإسلامي وآداب اللغة العربية) تشر العالم الفاضل شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني رئيس جمعية ندوة العلماء هذا الانتقاد بكتاب خاص، ونشر جميعه في مجلة المنار، وقد طبعه على حدة، ثم كتب الأستاذ العالم المحقق الشيخ أحمد عمر الإسكندري انتقادًا على الجزء الثاني من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية لجرجي أفندي زيدان، ورأينا في مجلة المشرق انتقادًا آخر لهذا الجزء أيضًا للأستاذ الأب لويس شيخو اليسوعي، فرأينا تذييل انتقاد الشيخ النعماني بهذين الانتقادين، وسيصدر الكتاب في أثناء شهر شوال المقبل إن شاء الله تعالى، وإليك ما كتبه صاحب ومنشئ المنار مقدمة لانتقاد الشيخ شبلي النعماني، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم {قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 112) . أمّا بعدُ، فإن علماء الإفرنج قد سبقونا إلى وضع تاريخ سلفنا في القالب العلمي الحديث. ثم حذا حذوهم رصيفنا الفاضل جرجي أفندي زيدان بكتابه الذي سماه (تاريخ التمدن الإسلامي) فشكر له عمله هذا المسلمون عربهم وعجمهم بإقبالهم عليه , وترجمتهم إيّاه إلى عِدّة لغات وثنائهم عليه. ولكن الرجل أقدم على هذا الأمر ولم يعدّ له كل عدته، ولا أخذ له جميعَ أُهْبَتِهِ، لما رأى مجال القول واسعًا، وميدان الكتابة واسعًا، وكلاهما خالٍ من فِرْسَانِ الكلام، حملته أسلات الأقلام، وظن أنه يكفيه من الاستعداد لذلك اقتباس أسلوب الإفرنج فيه , ومراجعة كتبهم العربية الجامعة لمادته، ككتب الدين والأدب، والتاريخ والنسب، وإنْ كان لم يأخذ هذه العلوم عن أهلها، ولا عَرَفَ فَرْعَها ولا أصلَها، ولعله لم يقرأ شيئًا من كتبها قراءة دراسة وبحث، إلا بعض كتب التاريخ المعروفة؛ لأنه لَمَّا يكُنْ مسلمًا , ولم يَتَرَبَّ في مدرسة تُقرأُ فيها العلومُ الإسلامية , لم يكن له باعث على تحصيل هذه العلوم، وإنما رأى نفسه محتاجًا إلى مراجعة كتبها، عندما قام في نفسه الباعث للتأليف فيها، وَمَنْ كان هذا شأنه لا يتسنّى له فَهْم ما يراجعه مِن المسائل حقَّ الفهم. وقد قال الفقهاء: إن نقل المخالف في المذهب لا يعتدّ به؛ لأن الفِقْهَ - وإنْ كان فنًّا واحدًا - تختلف اصطلاحات المذاهب وأصولها فيه، وطرق الترجيح والتصحيح لمسائله، فمن يراجع عند الحاجة كتابًا في غير مذهبه الذي تَلَقَّاهُ بالمدارسة لا يوثق بفهمه لما يراجعه فيه , وكثيرًا ما يغتر بغير الصحيح المعتمد عند أهله منه، وإذا كان الأمر كذلك في نقل فقيه مذهب لبعض المسائل مِن مذهب آخرَ , فأجدر بالمخالف في أصل الذي ينظر إليه في غير مِرْآتِهِ، والذي لم يتدارس شيئًا من علومه، أنْ لا يُعْتَدَّ بِفَهْمِهِ، ولا يوثقَ بنقله، مَهْمَا كان متحريًا للحق، صدوقًا في النقل، ينقل ما ينقله بالحرف، فإذا كان ينقل بالمعنى كما هو دأب صاحب تاريخ التمدن في الغالب , فإن خطأَه يكون أكثرَ. كنت كلما نُشِرَ جزء من أجزاء هذا التاريخ أنظر في بعض صفحاته , فأرى فيها خطأً وغَلطًا في النقل والرأي , ويظهر أن سببَه ما شَرَحْتُهُ آنِفًا، أو جعل الواقعة الجزئية قضيةً كُلِّيَّةً وقاعِدَةً عامَّةً، وقد نبّهْتُ على ذلك في (المنار) غيرَ مَرّةٍ , واقترحت على أهل الفراغ من أهل التاريخ أن يطالعوا الكتاب كله، وينتقدوه انتقادًا عادلاً، ويبينوا أغلاطه وخطأه في المسائل الإسلامية، وهضمه للأمة العربية، لعل المصنف يصحح ويصلح ما يظهر له من الصواب، ويبيِّن عذره في غيره فيتحرر الكتاب؛ لأنه كثيرًا ما يطالب الكتاب بالانتقاد , واعتذرت عن نفسي إذ لم تقم بهذا العمل بكثرة الشواغل التي يضيق بها وقتي. ولما عرض المصنف تاريخه هذا على نظارة المعارف العمومية لتقرره في مدارسها عهدتُ إلى بعض أصدقائي من أساتذة مدارسها العالية بالنظر فيه , وبيان رأيهم فيه لها، فطالعوه وَبَيَّنُوا للنظارة أنه لا يصلح للتدريس لكثرة أغلاطه المعنوية واللفظية، وتمنيت يومئذ لو كانوا أحصوا ما ظَهَرَ لَهُمْ مِن ذلك الغَلَطِ , وَنَشَرُوهُ , وَاقْتَرَحْتُ ذَلِكَ على بعضِهِمْ فَمَا أَفَادَ الاقْتِرَاحُ، وإذًا لتيسر تنقيح الكتاب. وقد انتقد بعض الناظرين الكتاب في المؤيد، وَرَمَوْا مُؤَلِّفَهُ بِسُوءِ النِّيَّةِ، وتعمُّدِ التحريف، وفسادِ الاستنباط، وَرَأَوْا أنْ سببَ ذَلِكَ هو التعصُّب الديني والنظر إلى تاريخ الإسلام وآدابه بعين السخط. وكنت مخالفًا لهم في هذا الرأي، وجاهرت بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ فيه، على علمي بأنه لا يعقل أن ينظر أحد إلى دين لا يدين اللهَ به بعين الرضا التي يراه بها أهله؛ لأنني لا أرمي أحدًا بسوء النية، إلا بِبَيِّنََةٍ وَحُجَّةٍ قوية. ثم جاءني في فاتحة هذا العام وَرَقَاتٌ مطبوعةٌ مِن مصنف جديد في الانتقاد على هذا التاريخ لعالم شهير من علماء الهند، يعده جرجي أفندي زيدان صديقًا له، وهو شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني رئيس جمعية ندوة العلماء، وجاءني معه كتاب من مؤلفه يرغب إليّ فيه أن أنشر هذا الانتقاد في المنار لِيَعُمَّ نَفْعُهُ. وهذا الكتاب هو الذي دعاني فيه أول مرة إلى مؤتمر ندوة العلماء، ورياسة احتفاله السنوي في هذا العام، ولما رجحت إجابة الدعوة صار لنشر هذا الانتقاد في المنار ثلاث دَوَاعٍ: فائدة الانتقاد في نفسه، وإجابة اقتراح كاتبه لعلمه وفضله، والحاجة إلى مادة للمنار في مدة سفري غير ما أكتبه من التفسير وغيره، إذ لا يتيسر لي أن أكتب في السفر كل ما يحتاج إليه من المواد. أذنت بنشر الانتقاد في المنار وسافرت بعد الشروع فيه، ولم أكن أعلم بكل ما جاء فيه من الإنحاء الشديد من المنتقد على مؤلف تاريخ التمدن الإسلامي , ورميه بالتحريف والكذب في النقل، واتِّهَامه بسوء النية والقصد، ولم أكن أتصور منه كل هذه الشدة في التُّهْمَة، وإبرازها في أقبح صورة، لعلمي بما بينهما من المودة الأدبية، والصحبة القَلَمِيَّة، ولو علمت بذلك لاستأذنت المنتقد في حذف تلك الألقاب، والتلطف في هاتيك العبارات، ولما لقيته في الهند , وكنت قد قرأت بعض ما نشر من الانتقاد راجعته القول في سبب هذه الشدة , فعلمت أن سببها الانفعال والتألم من مؤلف تاريخ التمدن الإسلامي لاعتقاده أنه تعمد التحريف والكذب لأجل تحقير العرب.. . وسبب هذا الاعتقاد أن ذلك الخطأ الكبير، والغلط العظيم إما أن يكون عن جهل، أو عن سوء قصد، والمنتقد يستبعد جِدًّا أنْ يكونَ عن جهل، فترجَّح أو تعين عنده أنه عن سوء قصد، هذا ما علمناه منه، وقد أطلعني على كتاب جاءه من جرجي أفندي زيدان يقول فيه: إنه رأى الانتقاد على كتاب تاريخ التمدن الإسلامي منشورًا في المنار معزوًّا إلى صديقه الشيخ شبلي النعماني , فلم يصدق أنه له ولم يشأ أن يتنازل عن صحبة عشرين سنةً قبل التثبت بسؤاله عنه، وطلب منه أن ينكر عزوه إليه، ولكن الأستاذ لم يجبه بشيء، ليعلم أن السكوت إقرار، وأن الكذب والتزوير لا يَدْنُوانِ مِن مجلة المنار، وقد عُلم من هذا أن رصيفنا الفاضل صاحب الهلال الأغر قد أساء الظن بنا ولا شبهة، بمقدار ما أَحْسَنَّا الظَّنَّ فيه على كثرة الشُّبه. وإنني مع هذا أُشْهِدُ اللهَ والناسَ أنني أجد في نفسي أَلَمًا مِن هذا الانتقادِ في المنار، مِن حَيْثُُ نَبْذُ الرصيفِ فيه بتلك الألقاب، ثُمَّ من نشره كذلك في كتاب على حدته، بإذن المؤلف وإجازته، ولكن الدواعي توفرت , والبواعث قد قضت بهذا النشر. هذا وإننا نرجو أن يكون لظهور هذا الانتقاد في هذه الأيام فائدة وراء فائدة تمحيص التاريخ وحمل صاحب تاريخ التمدن الإسلامي على التروي والتدقيق فيما يكتبه بعد في تاريخ الإسلام، تلك الفائدة المرجوة هي أن يترجم هذا الانتقاد باللغة التركية كما ترجم التاريخ المنتقد فيكبح من جِماح دعاة العصبية التركية الذين استعانوا بنشر ترجمته بلغتهم على تحقير العرب وانتقاص مدنيتهم، وغمط حضارتهم، وتفضيل الأعاجم عليهم، فكادوا يولدون بذم العرب عصبيةً عربيةً، بإزاء ما رفعوا قواعده من العصبية التركية، ولو كانوا يقسمون الجنسية الإسلامية إلى عِدَّةِ جنسيات، من غير مفاضلة ومغامز تثير العصبيات، وتفرق بين الإخوة والأخوات لَهَانَ الأمرُ، وقلّ الضُّرُّ، وَلَكِنَّهُمْ سَفَكُوا بِهَا دِمَاءَ الألوف الكثيرة، وَأَضَاعوا بذلك القناطير المقنطرة من أموال الدولة، ولا يعلم أحد إلا الله إلى أين تنتهي عاقبتها، إذا لم يوفق رجال الدولة إلى تلافي أَمْرها. ثم المَرْجُوُّ مِنَ الْمُطَّلِعِ على هذا الانتقادِ أنْ يجعل حظه منه تحرير المسائل التاريحية دون الالتفات إلى مقاصد الكاتبين، ونِيّات المصيبين والمخطئين، {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا *** (تعليل النوع) (مؤلَّف) يشرح نظرية تعليل النوع الجديدة المَبْنِيَّة على المشاهدات العملية مع إيضاح الطريقة المُؤَدِّيَة لِمَعْرِفَةِ نَوع الطفل في بطن أُمِّهِ , وقَبْل ولادته , وبيان الحصول على النوع المرغوب فيه من ذَكَرٍ أو أُنْثَى. تأليف رملي دوسون وتعريب الدكتور محمد عبد الحميد طبيب مستشفى قليوب، صفحاته 264 صفحة , وهو مطبوع على وَرَق جيد طبعًا حسنًا , وثمنه 20 قرشًا , ويطلب من المعرب بقليوب , ومن مكتبة المنار بشارع عبد العزيز. كثرت هدايا الدكتور محمد عبد الحميد العلمية للغته وأمته , وآخرها هذا الكتاب الذي عَرَّبَهُ إِرْضَاءً لِلْعِلْمِ وَخِدْمَةً للبيوت (العائلات) بإدخال العلم إليها بطريقة مرغبة ومشهية. (موضوع الكتاب) أما موضوع الكتاب فهو البحث في إمكان معرفة نوع الطفل وهو جنين في بطن أمه أذكرًا هو أم أنثى، ولا يقول المؤلف بإمكان الوصول إلى ذلك بقرع الحصى والودَع والفول أو بالتخطيط في الرمل، بل إنه بَنَى تحقيق نظريته هذه على مشاهدات وتجارب وحساب لأوقات الحيض والولادة والحمل , وَوَضَعَ لِذَلِكَ جَدْوَلاً في آخِرِ الكتاب. ولم يَنْسَ المؤلف خطارة الموضوع , ولكنه الْتَمَسَ مِن القارئ أن يُؤَجِّلَ الحكم عليه وفيه حتى يتم مطالعة الكتاب بالدقة , فيصل إلى النتيجة التي وصل هو إليها، وقال بأن هذه المسألة وصفت بأنها: (تكاد تكون من عالم الغيب ولا يمكن حلها) . وذكر أن أشياء كثيرة ونظريات جمّة كانت تعد من عالم الغيب فَحَلَّ رُمُوزَهَا العِلْمُ، وَضَرَبَ لِذَلِكَ مَثَلاً تلغراف ماركوني وأشعة الراديوم والمراكب التي تسير تحت الماء إلى غير ذلك مما يحاول العلماء حلّه في المستقبل, كمسألة اكتشاف القُطْبَيْنِ , وترقية عالم الطيارات , ثم قال ما معناه: وحل هذه الأشياء هي ما يشجع على اقتحام مثل هذه العقبة عقبة تعليل النوع , ويمهد له العذر بإصدار هذا الكتاب الذي ادَّعَى أنه اكتشف به سِرًّا مِن أسرار الطبيعة. وذكر أن نظريته هذه مبنية على حقائق ومشاهدات , وأنها بذلك سَمَتْ عن نظرية الأستاذ شتك (الذي كَانَ كَتَبَ فِيهَا قَبْلَهُ وَجَهَّلَهُ النَّاسُ وَقْتَئِذ) . توسع المؤلف في الفصول الأولى من كتابه في مس

كامل باشا ـ آراؤه السياسية منذ 24 عاما

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كامل باشا آراؤه السياسية منذ 24 عامًا نُشرت في هذه الأيام على صفحات الجرائد مذكرات خصوصية سياسية لكامل باشا رئيس مجلس شورى الدولة الآن، فرأينا أن ننشرها على صفحات المنار ليقفَ القراء على آراء كامل باشا السياسية , وخبرته بالمسائل الدولية، وأنه كان يرى في ذَلِكَ الزمن أن مصلحةَ الدولة العَلِيَّة إنما هي في انضمامها إلى المحالفة الثلاثية , وفي مصادقة ألمانية بخلاف ما يُعْرَف عنه الآن مِن مَيْلِهِ إلى الاتفاق الثلاثي , وإلى مصادقة إنكلترة مما يَدُلُّكَ أنّ الرجل يدور مع مصلحة بلاده كيفما دارت. ويؤخذ مِن مذكراته هذه أن رجال الدولة العليَّة كانوا يعلمون بنوايا إيطالية نحو طرابلس الغرب وغيرها - التي جَهِلَهَا حَقِّي باشا وأعوانه في هذه الأيام - وقتئذ وهذا ما نَشَرَتْهُ الجرائدُ مِن هذه المذكرات: (فيما يتعلق بدخول تركية في المحالفة الثلاثية حتى تضطر إنكلترة إلى الجلاء عن مصر بغير شرط أقدم العبارات الآتية: ليس بين المحالفة الثلاثية وروسية أدنى ارتباط؛ إذ الغرض الذي وجدت لأجله المحالفة هو رد مطامع فرنسة في البحر الأبيض المتوسط , وحماية مصالح الدول التي تتكون المحالفة منها. وإيطالية أصغر هذه الدول , وهي التي تقف في وَجْهِ مَقَاصِد فرنسة في بعض المسائل، وفرنسة لا تستطيع أن تهاجمها؛ لأنها تجد بجانبها الدولتين الأخريين. ولذلك أظن أن تركية إذا انضمت إلى هاتين الدولتين , وزادت بانضمامها قواهما لم تعد فرنسة بعد هذه العُزْلَة تستطيع أن تخاطرَ بالاعتداء على الأملاك العثمانية. ومن المؤكد أن روسية لا يسرها أن ترى تركية منضمة إلى دول المحالفة الثلاثية , ولكنها لا تستطيع أن تفعلَ أكثرَ مِمَّا فَعَلَتْهُ حِينَ المعاهدة التي عُقِدَتْ بِشَأْنِ جزيرة قبرص بين تركية وإنكلترة وكان , عقدها ضارًّا بالمصالح الروسية. بل أنا أظن بالعكس أن روسية إذا أرادت إذ ذاك أن تهاجمنا كان عملها داعيًا إلى تقرب إنكلترة منا , وتقوية الصلات الوُدِّيَّة بيننا وبينها. وهذه النتيجة لا تغيب على ما أظنُّ عن رجال السياسة الروسية؛ فهم ولا بُدَّ سيفكرون كثيرًا قبل أن يدخلوا معنا في نزاع. ولهذا أعتقد أن روسية تضطر إذ ذاك بالرغم منها إلى مصافاتنا , وتبذل جهدها في اجتناب معاداتنا خصوصًا والخطة التي تتبعها سياسة المحالفة الثلاثية ليست معادية لها. والذي يعزز هذا الفهم هو السكوت الذي اتبعته روسية في مسألة إمارة البلغار الحديثة. إن تركية الآن حرة لا تربطها رابطة ما , فلها إذن الخيار في انضمامها إلى المحالفة الثلاثية , وبما أن من أغراض هذه المحالفة حفظ الحالة الحاضرة في البحر الأبيض المتوسط فليس من المظنون أن دولةً من الدول الثلاث التي تتكون المحالفة منها تعتدي على أملاك غيرها في هذا البحر , كما أنها لا تسمح للدولة الأخرى بالاعتداء على أملاك واحدة منها. وَمَتَى تَقَرَّرَ ذلك أصبح من البديهي أنه متى انضمت تركية إلى المحالفة الثلاثية استطاعت أن تحافظ على حقوقها في مصر , وأن تطلب من إنكلترة الجلاء عنها , واستطاعت أيضًا أن تسوي المسائل الأخرى المتعلقة بالجزائر وتونس. وليس كل ما تجنيه تركية من انضمامها إلى المحالفة الثلاثية قاصرًا على إعادة مصر إلى الحالة التي كانت عليها قبل الاحتلال الإنكليزي بل هناك فوائدُ أخرى هي: أولاً منع اليونان من تحقيق مطامعها في كريت ويانينة، ثانيًا منع النمسة من الذهاب إلى سلانيك (أي احتلالها) ثالثًا منع إيطالية من احتلال ألبانية وطرابلس الغرب، رابعًا منع فرنسة من الاعتداء على سورية , وأخيرًا نستطيع أن نجعل أحوال سلطتنا المالية والاقتصادية بحيث لا تبقى حُجة لتداخل الأجانب. وفوق ما تقدم من الفوائد فإننا نتمكن من محو أسباب المنازعات والحروب الداخلية والقلاقل والثورات التي تثيرها عوامل الحسد والدسائس والخلاف بين الدول الأجنبية؛ وَمَتَى مَحَوْنَا هَذِهِ الأسباب استطعنا أنْ نحكم بلادنا بِهُدُوء وبنفقات أقلَّ مما ننفقه الآن , ثم رأينا مسائلنا تسير بقوة نمو البلاد في طريق التسوية والإصلاح بإرشاد حلفائنا. وتستطيع تركية أيضًا أن تحفظ لحكومتها الحرية المطلقة في العمل. بل في إمكانها أن تجعل هذا الشرط أساسًا لدخولها في المحالفة الثلاثية. ولكن بما أن الشغل الشاغل لنا الآن هو إجلاء الإنكليز عن مصر بدون قيد ولا شرط وحماية حقوقنا فيها، وبما أنه يؤخذ من الحديث الذي دار بيني وبين السفير الإنكليزي أن إنكلترة مستعدة للعودة إلى مفاوضة الآستانة في المسألة المصرية, فقد أصبح من الواجب أن نرسل إلى رستم باشا سفيرنا في لندرة تعليمات تفصيلية واضحة ومحددة , أو أن يوعز إليه حتى بطلب إجازة شهر , ومتى أعطيت له هذه الإجازة جاء إلى الآستانة وَتَلَقَّى التعليمات اللازمة شفاهًا. ومتى جاء سفيرنا شرحنا له الحالة شرحًا وافيًا وأوقفناه على كل أوجه المسألة, ثم منحناه التفويض الذي تقضي به الظروف حتى يكونَ في قدرته أن يناقش ويفاوض ويتفق مع رجال السياسة في لندرة اتفاقًا يحسم هذه المسألة الخطيرة حسمًا نهائيًّا. ولكي ألخص أفكاري أقول كما قلت دائمًا: إن من مصلحتنا أن نستعيد المفاوضة مع إنكلترة تَوَصُّلاً إلى حلّ المسألة حلاًّ موافقًا لنا , وتابعًا لظروف الأحوال؛ لأنه ليس في الإمكان الآن أن تعرف الأدوار والتغيرات السياسية التي قد تجدّ في المستقبل , والتي قد تفقدنا الفرصة الطيبة السانحة الآن. (قالت الجريدة) وفي تقرير آخر قال كامل باشا: إطاعة للأمر الشاهاني القاضي بأن أعرض رأيي في الشروط والامتيازات التي يجب أن تدخل بها تركيبة في المحالفة الثلاثية توصلاً إلى حفظ الحالة الحاضرة في البحر الأبيض المتوسط أعرض ما يأتي: كان جلالة مولاي السلطان قد اهتم بالتقرير الذي رَفَعْتُهُ إِليه بشأن المحالفة الثلاثية , والذي أشرت فيه بالإصلاحات السياسية الواجب اتخاذها فيما يختص بتسوية المسائل الآتية: أولاً وثانيًا: مسألتي تونس والجزائر اللتين لا تَزَالاَنِ مُعَلَّقَتَيْنِ. ثالثًا: مسألة زيارة الأسطول الإيطالي لأزمير مرة ثانية. رابعًا: مسألة البلاغ الشفاهي الذي أبلغه سفير إيطالية لوزير خارجية الدولة فيما يختص بمراقبة أعمال البنك العثماني وحساباته (وهاتان المسألتان الأخيرتان تدلان على سوء نيات إيطالية بالنسبة لتركية) . خامسًا: عدم استطاعة الحكومة العثمانية الدخول في محالفة إحدى دولها - وهي إيطالية - تظهر لها العداء جهارًا. سادسًا وأخيرًا الطريقة التي يمكن التوصل بها إلى تذليل هذه الصعوبات. ثم رأيت بعد ذلك أن من مصلحة السلطنة أن نلفت إلى هذه المسائل نظر سفيرنا في لندرة , وأن نزوده بالتعليمات والتفصيلات الكافية كما أوضحت ذلك في تقريري الخاصِّ بالمسألة المصرية إيضاحًا يوفق بين مصلحة السلطنة ورغبات إنكلترة. فجوابًا على الإرادة التي جاءتني طيّ الأمر المؤرخ في محرم سنة 1306 أقول: إن المحالفة التي أسسها حفظ الحالة الحاضرة في البحر الأبيض المتوسط ليست أهميتها قاصرةً على الدول المحالة وحدها , بل تشمل كل الدول التي لها أملاك في البحر الأبيض المتوسط , وشروط هذه المحالفة موافقة الدولة المتحالفة. فبما أن مصر محتلة بإنكلترة , وتونس والجزائر واقعتان تحت سلطة فرنسة بالرغم من احتجاجات تركية , فإذا دخلنا في المحالفة الثلاثية فَمِنَ الواجب أن نحفظ لنفسنا الحقَّ في طَلَبِ جَلاء الإنكليز عن مصر والفرنسيين عن تونس والجزائر. أما فيما يختص بإيطالية , فلم يحدث في الماضي وإلى الآن نزاعٌ بيننا وبينها ولذلك فإني أعتقد أن خطتها العدائية التي أظهرتها أخيرًا ليست إلا بتحريض دولة أخرى؛ لأن المتحالفين يجب أن يتعاضدوا , أو أن يخدم كل منهم مصلحة الآخر. مثال ذلك أن سفير فرنسة حينما أراد أن يحول دون المصادقة على الوفاق الذي كُتِبَ بيننا وبين إنكلترة بشأن الجلاء عن مصر قَدَّمَ إلى جلالة السلطان تقريرًا نَصَحَ فيه بِرَفْضِ كل مساعدة تأتي مِنْ قِبَلِ إنكلترة , وبالاعتماد على التأكدات الصريحة التي تقدمها الحكومة الفرنسية , والتي تتعهد فيها بمساعدتنا مادِّيًّا وأدبيًّا في مسألة الجلاء عن مصر. أما ألمانية والنمسة فكانتا تنصحاننا بالمصادقة على الوفاق قائلتين إنه منطبق على مصلحتنا , وإن امتناعنا من المصادقة عليه لا سَبَبَ له سوى تأثير فرنسة علينا (!) وفعلاً كل الدول - وعلى الخصوص ألمانية عدوة فرنسة اللدودة وإنكلترة - استاءت لعدم المصادقة على ذلك الوفاق. وقد كانت إيطالية تحرض فرنسة , ولا تريد من هذا التحريضِ سوى أن تثبت لنا أن فرنسة عاجزةٌ عن مساعدتنا. وليس لإيطالية وحدها قيمة ما؛ لأنها لا تفعل غير اتباع الخطط التي يرسمها حلفاؤها. لذلك أرى بعد التَّمَعُّنِ أنه يجب علينا أن نعتقد أن جلاء الإنكليز عن مصر متوقف على إمضاء الوفاق المختص بحرية المرور في قنال السويس. وقريبًا أعرض على جلالة السلطان صورة من الوفاق الخاص بحفظ مصالح تركية , والذي يظن كل الظن أن إنكلترة ترضى بما فيه اهـ.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار تعدد صلاة الجمعة في البلد الواحد س8 من السائل في الترنسفال (يا غياث المستغيثين أغثنا) ما قولكم - دام فضلكم - أيها العلماء الأجلاء في بلدة فيها جم غفير من المسلمين وهي دار حرب بعيدة عن بلد الإسلام أهلها عوام ضعفاء أصحاب حرف يتعيشون بها تحت سلطة الكفار وقهرهم مستحقين الرحمة والإرشاد من إخوانهم المسلمين لا سيما علماؤهم يصلون صلاتهم الجمعة وغيرها في عدة مساجد متعبدين على مذهبين شوافع وأحناف، فالأحناف يصلون صلاة الجمعة في مسجدين مستقلين لوقوع النزاع والمضاربة بينهم , والشوافع يصلون الجمعة في ثلاثة مساجد واحد في طرف البلدة , والآخران في الطرف الآخر لتنافر قلوبهم والنزاع الواقع بينهم كما هو دأبهم إذا اجتمعوا تنازعوا طلبًا للرياسة وغيرها، مع أنه إذا اجتمعوا كلهم لا يسع لهم مسجد , وعلى قول ابن الحق لا تسع لهم المساجد كلها، وقد دخل في تلك البلدة جماعة من العلماء ما بين شوافعَ وأحنافٍ من منذ ثلاثين سنةً وزيادة , وحثهم على اجتماع على جمعة واحدة؛ لكونهم في ذلك الزمن يصلون الجمعة في المساجد والبيوت , فامتثل أهل البيوت وجمعوا مع أهل المساجد وعطلوا صلاتهم الجمعة في البيوت مع أنهم كانوا شرذمةً وأولياء بالنسبة لأهل هذا الزمن , إلى أن ورد عليهم رجل فاضل صالح فاجتهد غاية الاجتهاد حتى جمع الشوافع على خطبة واحدة , فكانت في البلدة خطبتان: خطبة للشوافع , وخطبة للأحناف؛ غير أن الشوافع صاروا يصلون الجمعة في مسجدين كبيرين بالنوبة ودامت صلاتهم الجمعة هكذا؛ أعني بالنوبة إلى الآن إلى أن حدثت فتنة عظيمة بين الشوافع , واشتد النزاع بينهم والمضاربة حتى رفعوا الأمر إلى الحكومة الإنكليزية كما هو دأبهم كلما تنازعوا , فاستقلت الطائفة المغلوبة بالجمعة , فحصلت للشوافع جمعتان , وهكذا وقع بين الأحناف , وافترقوا على فرقتين , فصارت في البلدة أربع جمع جمعتان للشوافع , وجمعتان للأحناف , ثم أنشأ الطرف الآخر البعيد جمعة للشوافع , فجملة الجمع الواقعة الآن خمس , ثم دخل علينا رجل من طلبة العلم وصلى معهم صلاة الجمعة ما ينوف عن ست سنين, ثم بعد ذلك حرم عليهم صلاة الجمعة , وقال لهم: صلاتكم الجمعة على تلك الحالة حرام عليكم , وترككم إياها وذهابكم إلى الشغل أولى وأنفع لكم من صلاة الجمعة , وعدل عن استدلال أهل مذهبه , واستدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ} (الجمعة: 9) الآية , وقال لهم: هذه الآية تدل على أن صلاة الجمعة لا تكون إلا واحدةً , فبناءً على ذلك تكون جمعتكم كلها حرامًا؛ جمعة الأحناف والشوافع , فامتنع نصف أهل البلد من صلاتهم الجمعة؛ معتقدين حرمتها عليهم إنْ لم تكن واحدةً فهل ما أفتى به ذلك الرجل صحيح أم لا , وما حكمه شرعًا؛ أفيدونا , ولكم الأجر والثواب عند الملك الوهاب. (ج) إن ما أفتى به هذا الرجل غير صحيح , والآية لا تدل عليه بل تدل على خلافه , فإن الله تعالى يأمر مَن يسمعون النداء للجمعة أن يَسْعَوْا إلى ذِكْرِ الله , أي صلاتها , وهذا يأمرهم أن ينصرفوا إلى أعمال الدنيا المحرمة في هذا الوقت. نعم , إذا أمكن اجتماع مسلمي البلد في مسجد واحد من غير مشقة ولا حرج وجب عليهم أن يُجمعوا (أي يقيموا الجمعة) فيه على المعتمد المختار، فإن من مقاصد الشرع اجتماع المسلمين في هذه العبادة؛ ليتعارفوا على الخير والتقوى، ولكن لا يقوم دليل على أن هذا شرط لصحة صلاتها كما يقول الشافعية. ولا خلافَ بين هؤلاء وغيرهم من الفقهاء في صِحّة الصلاة في المساجد المتعددة للحاجة من غير إعادة صلاة الظهر بعدها، والذي عليه العملُ عندهم أنّ المساجد إذا تعددت لغير حاجة وجب إعادة الظهر لا ترك الجمعة، وفي ذلك نَظَرٌ بَيَّنَّاهُ في المنار مِرَارًا ولبعضهم فيه رسالة طويلة نشرناها في المجلدين السابع والثامن من المنار , فمن أراد استقصاءَ البحثَ في هذه المسألة فَلْيُرَاجِعْ هذين المجلدين وغيرهما مِن مجلدات المنار مستعينًا على ذلك بفهارسها المرتبة على حروف المعجم. وهو يجد ذلك في حرف الجيم وحرف الصاد , وكذا في حرف الباء عند كلمة البدعة , وهي أول اسم الرسالة التي أشرنا إليها آنفًا كما أتذكر الآن وأنا أكتب في السفر , وليس معي من مجلدات المنار شيء. هذا , وإن من أقبح البدع أن يكون للشافعية مساجد خاصة بهم وللحنفية مساجد خاصة بهم، فإن هذا من التفريق بين المسلمين الذي هو شر سيئات التعصب للمذاهب. وقد ذم الله الذين اتخذوا مسجد الضرار بقوله: {َالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ} (التوبة: 107) فقرن التفريق بين المؤمنين بالكفر. وهذا النوع من التفريق لم يحدث مثله في زمن الأئمة , بل ولا في الأزمنة التي تقرب من أزمنتهم حتى بعد حدوث التعصب للمذاهب. وقد كان السلف الصالحون رضي الله عنهم يختلفون في بعض المسائل الدينية , ويعرف ذلك بعضهم من بعض , ولكنهم لم يتفرقوا في الدين لأجل اختلاف الاجتهاد , بل كان يَعذُر بعضهم بعضًا , ويرحم بعضهم بعضًا , ويهتدون بقوله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) روي أن رجلاً سأل الإمام أحمد - وكان يرى الوضوء من الحِجَامة -: أرأيت إذا احتجم الرجل ولم يتوضأ أَأُصَلِّي وراءه أم لا؟ فقال له: وَيْحَكَ! أتأمرني أنْ أنهاك عن الصلاة مع سفيان الثوري ومالك بن أنس؟ ؟ وقد ذكر فقهاء الحنفية والشافعية الخلاف في هذه المسألة وعبروا عنها بقولهم: هل العبرة برأي الإمام بحيث إذا كانت صلاته صحيحةً في اعتقاده يجوز الاقتداء به؟ أم برأي المأموم بحيث إذا كان يرى أن صلاة الإمام غير صحيحة في اعتقاد نفسه لا يقتدي به , وإن كانت صلاته صحيحة في اعتقاده (أي الإمام) وجعلوها مسألةً خلافيةً. وإذا راجعنا سيرة الصحابة والتابعين وتابعي التابعين رأينا أن عمل السلف كلهم على أن العِبْرَة برأي الإمام؛ ولذلك كان بعضهم يصلي مع بعض على ما كان مِن اختلافهم في نواقض الوضوء وأمثالها , وفي بعض شروط الصلاة، فلا نترك سيرة السلف الصالح , ومنهم أئمة الأمصار في الفقه كالأربعة المشهورين وغيرهم لأجل نظرية بعض المتفقهة المتأخرين. ثم إنهم كانوا يتساهلون في مسائل الخلاف الاجتهادية كما فعل أبو يوسف حين توضأ من بئر وقعت فيها فأرة وصلى, فقيل له في ذلك - ومذهبه أن الماء ينجس - فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل الحجاز: (إذا بلغ الماء قُلَّتَيْنِ لا يَحمل الخبث) فنسأل الله أن يوفقنا جميعًا للاقتداء بسيرة السلف الصالح في العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من إقامة السنة وجمع الكلمة. *** قضاء الأستاذ الإمام باجتهاده (س9) من صاحب الإمضاء بالعطف: بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة مولانا الأستاذ الفاضل الكامل السيد محمد رشيد رضا (متع الله المسلمين بوجوده) . السلام عليك ورحمة الله، أما بعد فإني ممن يجل الأستاذ الإمام جدًّا , ويود من كل قلبه أن لا يذكر اسمه إلا مقرونًا بما يليق به من التجلة. بَيْدَ أنّ كثيرًا ما أسمع مبغضيه يتشبثون بأنه كان يحكم بالقوانين الوضعية المخالفة للشريعة الغَرَّاء , فأضيق ذرعًا حيث إني مع تيقني براءة الأستاذ من أن يقدم على شيء قبل أن يعرف حكم الله فيه لا أجد لدي جوابًا أقطع به ألسنة أولئك الشانئين. لهذا أرغب إليكم أن تنشروا جوابًا شافيًا على صفحات مناركم الأغر ذَوْدًا عن مقام الأستاذ , ورحمةً بهؤلاء الذين كلما رَأَوْا من عليم شيئًا يدِقّ سره على أفهامهم تسارعوا إلى الوقوع في عرضه , وإن كان من أساطينِ المِلِّةِ , ولي وطيد الأمل أن يكون ذلك بأول عدد يصدر لا زلتم نبراسًا للمسترشدين , آمين. ... ... ... ... تحريرًا في 20 ربيع الأول سنة 1330 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد علي الطباخ بالعطف ... ... ... ... ... ... (ج) كان الأستاذ الإمام يحكم باجتهاده في جميع القضايا كما هو حكم الشرع في القاضي؛ إذِ الأصلُ فيه عند جميع الفقهاء أن يكون عالمًا أي مجتهدًا، وَأَجَازَ الحنفية تقليد الجاهل (أي: المقلد) القضاء للضرورة أو بقيد وجود مُفْتٍ مجتهد يُفْتِيه كما علل الحكم بعضهم بذلك (وليس لديّ شيء من كتبهم أرجع إليه الآن وأنا مسافر) وقد أشار إلى هذا صديقه الفاضل حسن باشا عاصم - رحمهما الله تعالى - إذ قال في تأبينه وقد ذكر سيرته في القضاء: إنه كان من القضاة الذين يطلق الإفرنج على آحادهم قاضي العدل والإنصاف؛ لأنهم لا يتقيدون بنصوص القوانين الحرفية. ولهذا لم يحكم بالرباط قط , وخالف القانون في مسائلَ كثيرةٍ تعذر عليه فيها التوفيق بين نصوصه وما أداه إليه اجتهاده ودينه، وكان في مثل هذه المسائل يَتَوَخَّى الصلح بين الخصيمين , فإن لم يمكن حَكَمَ بِاجْتِهَادِهِ، وقد شكاه بعض من كان يكرهه من وجهاء الشرقية إلى مستشار الحقَّانية مبيّنًا بعض المسائل التي خالف فيها القانون، فسأله المستشار عن ذلك بينه وبينه من غير تحقيق رسمي , فقال له الأستاذ في بدء الجواب: هل القانون وُضع لأجل العدل , أم العدل وضع لأجل القانون؟ فقال المستشار: بل القانون وضع لأجل الاستعانة به على إقامة العدل. فقال الأستاذ: إن جميع القضايا التي ذكرها الواشي قد حكمت فيها بالعدل الذي يستقيم به أمر الناس، وفصل له ذلك بما أقنعه، ولم يكن يثق بمثل هذا من غيره. هذا ما علمته منه - رحمه الله تعالى - ومن العارفين بسيرته ويعرفه له كبار القضاة الأهليين المختبرين، ولا يضر سيرة الأستاذ الإمام طعن أمثال من ذكرتم , وقد طعن في الأئمة قبله من هم خير منهم، وقد روي عن أبي القاسم الجنيد شيخ الصوفية وإمامهم رحمه الله تعالى أنه قال: لا يبلغ الرجل مقام الصِّدِّيقِينَ حَتَّى يشهد ألف صديق بأنه زنديق. *** البابية ودين البهائية (س10) من طائفة - من طلبة المدارس العليا جناب الأستاذ الفاضل: سلامًا واحترامًا، وبعد فقد قرأنا في بعض الكتب الإفرنجية الموضوعة حديثًا أنه ظهر في بلاد العجم منذ ستين عامًا رجل يقال: إنه هو المهدي المنتظر , وبشر بمجيء نبي , ويزعمون أن نبوته قد صحت , فقد جاء رجل اسمه بهاء الله وآمن به خلق كثير من كافّة الأديان , وخليفته الآن هو ابنه عباس أفندي نزيل مصر الآن؛ فنرجو إيقافنا على حقيقة هذا المذهب الجديد , وإبداء رأيكم فيه بما أنكم مِمَّنْ يُلجأ إليه في مثل تلك المسائل ولكم الفضل. (ج) البابية فرقة من الباطنية. والبهائية منهم يعبدون الرجل الملقب ببهاء الله , وقد بينا حقيقة أمرهم في مجلدات المنار الماضية، ولما جاء زعيمهم عباس أفندي القطر المصري عدنا إلى الكلام في بيان حالهم , وذكرنا نبذًا تاريخية من سيرة سلفهم الإسماعيلية والقرامطة فَراجِعُوا هذا في المجلد الماضي؛ فإن شكل عليكم بعد ذلك شيء من أمرهم فراجعونا فيه. ثم إن مسألة كون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين على ثبوتها بنصوص الكتاب والسنة هي ثابتة بالعقل عند كل من يعرف حقيقة الدين الإسلامي ووجه حاجة البشر إلى الدين مطلقًا، فإن كتابه القرآن الحكيم وسنته في بيانه قد بينا للناس كل ما يحتاجون إليه من أمر الدين في طور استقلال نوعهم ورشده بالعقل والعلم، وقد كانت الأديان السماوية قبلة مؤقتةً كما بين

الجامعتان الإسلامية والعثمانية ـ 1

الكاتب: عن مجلة سبل الرشاد

_ الجامعتان الإسلامية والعثمانية [*] (1) المسلمون أمة واحدة , مؤلفة من شعوب وقبائلَ كثيرةٍ مختلفةٍ في المذاهب والأجناس واللغات، والأقطار والحكومات، لا تجمعها إلا وَحْدَةُ العقيدة وأُخوة الإيمان، والعثمانيون أمة واحدة مؤلفة من شعوب وقبائلَ كثيرة مختلفة في كل شيء حتى في الأديان والمذاهب , لا تجمعها إلا الوحدة العثمانية السياسية والوطنية؛ إذ الممالك العثمانية كلها وطن عامّ لكل عثماني، له في كل ولاية منها من الحقوق ما لأهلها إن شاء أن يقيم فيها , ويجوز أن يُنتخب مبعوثًا عنها وإن لم يكن مقيمًا فيها [1] . للإسلام مزية في المملكة العثمانية ليست لغيره من الأديان , فقد صرح القانون الأساسي بأن دين الحكومة العثمانية الرسمي هو الإسلام , وأن سلطان العثمانيين هو خليفة المسلمين، وبهذا يكون للمسلم الأجنبي الذي يدخل المملكة العثمانية سائحًا أو مهاجرًا حقوق لا يشاركه الأجنبي غير المسلم فيها؛ لأن سلطان العثمانيين خليفته يجب عليه مراعاة أمره. وللعثماني غير المسلم من الحقوق في هذه المملكة ما لا يشاركه فيه المسلم الأجنبي؛ لأن جميع أحكامها تنفذ عليه دون المسلم الأجنبي الذي يلجأ إلى وكلاء دولته في البلاد العثمانية. ويجب على الخليفة أن يساعد المسلمين على إقامة أمورهم الدينية ولا سيما الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه إذا قامت به طائفة أو طوائف منهم، ولا يجوز له أن يساعد غير المسلمين على مثل ذلك , وإن كانوا عثمانيين، وإنما عليه أن يحمي حريتهم الدينية ويمنع غيرهم أن يعتدي عليهم فيها حَسَب ما قررته الشريعة الإسلامية العادلة. إن من آثار عدل هذه الشريعة وحريتها أن غير المسلمين قد كانوا حتى في عصر الاستبداد الحميدي متمتعين بحريتهم الدينية والتعليمية على حين تُصادَر الكتب الدينية الإسلامية ويمنَع طبعها ونشرها، ولا يصادر ولا يمنع من كتبهم شيء , ولا يوجد دولة أوربية تمنح المسلمين من حرية الدين والتعليم في بلادهم التي استولت عليها مثلما منحته الدولة العثمانية لليهود والنصارى في بلادها قديمًا وحديثًا، فهي في هذا أوسع حرية من إنكلترة التي تعد واسعة الحرية في ذلك بالنسبة إلى فرنسة وروسية، فهي لا تسمح لمسلمي الهند أن يعلموا أولادهم ويربوهم في المدارس والمكاتب كيفما شاءوا بلا مراقبة ولا سيطرة، كما تسمح الدولة العثمانية لليهود والنصارى في مدارسهم ومكاتبهم. ولو أنصفت دول أوربة لاعترفت لخليفة المسلمين بحق سؤالهن عن حرية المسلمين الدينية في ممالكهن وتحت حمايتهن، كما يسألن حكومته عن معاملة النصارى من رعيته في أمر دينهم ودنياهم، إنه ليس لملك من ملوك أوربة صفة دينية في مِلَّتِهِ مثل صفة خليفة المسلمين، ولكنهم قوم لا ينصفون. إن الدول الأوربية المستولية على الملايين من المسلمين يوجسن خيفة من ذكر المسلمين لدولة الخلافة , ومن دخول أي مسلم عثماني في البلاد التي يقيم فيها أولئك المسلمون لئلا يوجد بين أحد منهم صلة أو رابطة ما بالدولة , وهن يعلمن أنها (أي دولة الخلافة) لا تسعى إلى ذلك، ولكنهن يسعين دائمًا إلى بث نفوذهن في بلادها بكل واسطة، ثم إن جرائدهن تشكو من الجامعة الإسلامية وتشنع عليها وتدعو إلى الحذر منها , ونحن لا نشكو من دسائسهم وجدّهم في بث نفوذهم في مقدونية وألبانية والأناضول والعراق وسورية وفلسطين - فهذه هي حقيقة الجامعة الإسلامية، مِن حيثُ علاقَتُها بالدول الأوربية. أما الدول والإمارات الإسلامية فوجودها مُنَافٍ للجامعة الإسلامية؛ لأن الإسلام يوجب أن يكون للمسلمين حكومة واحدة يرأسها إمام واحد يديرها بالشورى بين أهل الحل والعقد، لا بالاستبداد، ولكن بني أمية حولوا الحكومة الإسلامية في القرن الأول عن أساس القرآن وبنوها على أساس العصبية والقوة، فصار كل صاحب عصبية قوية يؤسس لنفسه ملكًا، وصار ملوك المسلمين يحارب بعضهم بعضًا؛ لأجل توسيع دائرة الملك كما يحاربون الكفار بلا فرق، ثم تأرثت بينهم الأحقاد والأضغان، ورسخت العداوة والبغضاء حتى صار بعضهم يُعين الأجانب الطامعين في ملكهم كلهم على بعض، وما استولت كل من إنكلترة وروسية وفرنسة على عشرات الملايين من المسلمين إلا بمساعدة المسلمين؛ فليعتبر العقلاء بهذه الجامعة الإسلامية التي تتهمنا بها أوربة ونحن على نقيضها في تفرقة إسلامية سياسية تدعمها تفرقة إسلامية مذهبية. مرت القرون الطوال على هذه الفرقة والعداوة , ولم يظهر في المسلمين مَلِك عاقل ولا وزير محنّك ولا زعيم مصلح يضع للحكومات الإسلامية المتفرقة نظامًا يربط بعضها ببعض في الأمور الدينية والحربية مع حفظ استقلال كل منها في الأمور الداخلية - لم يهتدوا إلى هذا بنور بصيرتهم ولا وفقوا إلى اقتباسه عن غيرهم وقد رأوا مثاله الصالح في الوحدة الجرمانية وكذا في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد قام في أواخر القرن الماضي المصلح الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني يحضهم عليه، ويبين لهم وجه الحاجة بل الضرورة إليه، فكان جزاؤه من ملوكهم وأمرائهم الاضطهاد، والنفي والإبعاد، ثم الإحاطة به في القسطنطينية، إلى أن وافته المنية، رحمه الله تعالى وأحسن جزاءه. لو وفق رجال المسلمين لهذا لَكَانَ لهم مملكة (أو إمبراطورية) كما يقال في عرف هذا العصر جناحها الأيمن حكومة مراكش على شاطئ القاموس الغربي (الأتلانتيك) وجناحها الأيسر حكومتا الأفغان وإيران وقلبها الحكومة العثمانية التي كانت تكون منها - كبروسية في الوحدة الجرمانية - مركز السلطة العليا والقيادة العامة , بل لو وفقوا لهذا قبل هذا العهد الأخير وأنفذه مثل السلطان سليم ياوز الذي شعر بالحاجة إليه , ولم يعرف طريقه لدخل في هذه الإمبراطورية جميع ممالك الهند وتركستان والقوقاس وبخارى ونصف إفريقية الشمالي برمته , ولكان أخذ بقية إفريقية وفتح كثير من الممالك الشرقية بعد ذلك أمرًا ميسورًا. فكر السلطان سليم في وجوب جعل الممالك الإسلامية كلها مملكةً واحدةً , ولكنه كان مخلوقًا من طينة الحرب وشديد الضراوة بسفك الدم , فَرَأَى أنْ ينفذ ذلك بحد الحسام، ولم يخطر في باله ما أشرنا إليه من النظام، وماذا كانت عاقبة ذلك التفرق والانقسام؟ استولت الدول الأوربية على أكثر الممالك الإسلامية حتى إنهم في هذين العامين اقتسموا مملكة إيران بالفتح السلمي , ووضعوا به مملكة مراكش تحت الحماية الفرنسية برضاء سلطانها الجهول الغبي , وتجرءوا على الدولة العلية , ففتحوا عليها باب الفتح الحربي - فهذه هي حقيقة الجامعة الإسلامية مِن حَيْثُ علاقَتُها بحكومة المسلمين وإنّ في ذلك لعبرة للمعتبرين. وأما خبر الجامعة الإسلامية فيما بين المسلمين أنفسهم فإننا لا نزال نرى السواد الأعظم منهم في كل قطر من أقطار الأرض يشعرون بالأخوة الإسلامية العامة، فيُسرُّ بعضهم لما يصيب بعضًا من حسنة، ويتألم لما يصيبه من سيئة، وإذا حل الشرقي منهم في أرض الغربي أو الغربي في أرض الشرقي يلقى من إخوانه المسلمين أهلاً بأهل وجيرانًا بجيران، وكثيرًا ما يفضلون أخاهم الغريب على مثله الوطني. فإن كان عالمًا بالغوا في تعظيمه والتلقي عنه، وإن كان تاجرًا تسابقوا إلى ترويج تجارته، وإن كان سائحًا تباروا في إكرامه وضيافته، وإنْ كان فقيرًا لم يقصروا في بره ومعونته، كان يكون هذا بين الأفراد، فسرى في هذا العصر إلى الشعوب والأمم، فصار كل أهل قطر يهتمون بأمور إخوانهم العامة في سائر الأقطار على قدر حظهم من معرفة السياسة والشئون العامة، وهذا ما تراقبه دول الاستعمار , وينظرون إليه بالمناظير المكبرة للصغير والمقربة للبعيد، وهو لم يتجاوز الشعور الرُّوحِيّ، إلا إلى قليل من الإعانة المالية، توجه إلى الدولة العلية، باسم دولة الخلافة الإسلامية. على أن هذه الأخوة الإسلامية لم تسلم من الآفات المفسدة، والعلل المفرقة، التي تحمل المرء على أن يفر من أخيه، وأمه وأبيه، وعشيرته التي تؤويه، وأول هذه الآفات اختلاف المذاهب والتفرق في الدين المنافي لأصل الإسلام، وكان أشدها ضررًا اختلاف أهل السنة والشيعة، وهذا الاختلاف والتفرق ينافي أصل الإسلام المبني على الوَحْدَةِ والأخوة، وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وقال للمؤمنين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) ؛ إلى أن قال: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) . الإسلام دين التوحيد والألفة، والأخوة والمحبة، لا مجالَ فيه للشحناء، ولا موضع فيه للعداوة والبغضاء، وإنما هي السياسة لبست لباس الدين، ففرقت كلمة المسلمين، كانت الشيعة في العصر الأول حزبًا سياسيًّا، لا مذهبًا دينيًّا، وقد كان الإسلام قائمًا على رأي هذا الحزب أن عليًّا المرتضى هو أحق بالخلافة من غيره، ووجد من الأنصار الكرام من قال: نحن أحق بهذا الأمر من المهاجرين، ومَن قالوا: منا أمير ومنكم أمير، ومَن كان يرى أن أبا بكر الصديق أحق بالأمر، وقد غلب رأي هؤلاء وحزبهم، وَلَمّا كان الإسلام يومئذ قائمًا على صراطه لم يحدث هذا الخلاف تفرّقًا في الكلمة ولا شقًّا للعصا؛ لأن جمهور أهل الحل والعقد من أهل الصدر الأول وهم علماء الصحابة والسابقون الأولون منهم رضي الله تعالى عنهم، كانوا يعلمون أنه ليس بعد الكفر ذنب أضرّ ولا أقبح من التفرق، والاختلاف وأن مَن يرى أنه أحق بالأمر إذا تركه لِمَن هو حقيق به يكون أولى من مطالبته به مطالبةً تُفضي إلى التفرق والاختلاف؛ لهذا كان عليّ أشد نصير وظهير لأبي بكر ومَن بعده، فيما يرى حزبه أنه هو أولى به، فَهَلاَّ سَارَ المتأخرون من شيعته على هديه والتأسّي بعمله؟ إنهم لم يفعلوا، ولماذا لم يفعلوا؟ إنما سبب ذلك السياسة ودسائس المجوس وجمعياتهم السرية التي كانت تعمل على محو الإسلام لإزالة سلطان العرب الذين أزالوا ملكهم. كان بين الفرس والعرب قبل الإسلام عداوات وحروب ومفاخرات يحقر بها كل منهما الآخر , ويفضل جنسه على جنسه، ولذلك مزق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم دون سائر الملوك الذين دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام , فدعا عليه بأن يمزق الله ملكه، وكان أبو بكر هو الذي جهز الجيش لقتال الفرس , وتم فتح بلادهم في خلافة عمر في أقرب وقت إجابةً لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم , فعظم ذلك على القوم وَرَأَوْا أن الإسلام قد أعطى العرب قوةً من الوحدة والعقيدة لا تقاوم بقوة مثلها فلجأوا إلى الحيَل والدسائس؛ لإفساد أمر الإسلام وتفريق كلمة العرب فألَّفوا الجمعيات السرية لذلك، وأظهر كثير منهم الإسلام؛ لأجل تنفيذ مقاصدهم، فأول شيء فعلوه هو قتل الخليفة عمر فاتح بلادهم وجامع كلمة المسلمين بسياسته الحكيمة وعدله الشامل، ووجدوا لتفريق الكلمة مجالاً واسعًا وهو الخلاف في أمر السلطة والحكم، واتسع لهم الميدان عندما

نظرة في الجزء الثاني من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية ـ 1

الكاتب: أحمد عمر الإسكندري

_ نظرة في الجزء الثاني من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية [*] (لحضرة الفاضل جرجي أفندي زيدان) يتفق جمهور القراء بمصر على أن حضرة الفاضل جرجي أفندي زيدان من أعظم الكتاب نشاطًا واجتهادًا، وأسرعهم ترجمةً وتأليفًا، وأكثرهم قصصًا وكتبًا، غير أنهم لا يتفقون على أن هذه القصص والكتب محررة العبارة مضبوطة الرواية محققة الوقائع مصححة الأحكام. وأنا مع جمهور المتفقين في الأمر الأول، ولست مع كل المخالفين في الأمر الثاني، وإنما أنا مع مَن ينصف الرجل، فلا أجحد فضله وتحبيبه المطالعة إلى كثير من طلاب العربية بكتبه السهلة التناول، وإن كنت أمقت تهوُّره واستهتاره في أمور. ولو أتيح لكل كتاب من كتبه ناقد منصف يعلن للملأ ما يزلّ به قلمه لتحترز القراء من الوقوع في خطئه ولانتفعوا بصوابه، كما ينتفع المؤلف أيضًا بذلك بتصحيحه عند إعادة طبعه أو بإلحاق جدول تصحيح به أو بالضرب على الخطأ بالسواد كما فعل في بعض مواضع من هذا الكتاب الذي سنبحث في بعض مشتملاته الآن. وأظن المؤلف لا يأنف مِن قَبُول ذلك النقد، فطالما دعا إليه الكتاب، وقل من أجاب؛ لأن الكتّاب على قِلّتهم في شغل شاغل بمصالحهم، وأعمال وظائفهم، عن أن يُعْنَوْا بمصالح غيرهم، اللهم إلا بعض نَفَرٍ إذا وَجَدوا مِن وقتهم فرصة اختلسوها في سبيل المصلحة العامة. وهذا ما أغرى فريقًا من الطلبة والإخوان في هذه العطلة المدرسية بأن أقفهم على رأيي في هذا الجزء حتى إذا قرءوه هم أو مَن يريد الاستفادة من كل كتاب جديد كانوا على بَيِّنَة من موضع الشبه فيه , فاخترت العافية وطويت عن طلبهم كشحًا إجمامًا لنفسي وترفيهًا لصحتي وإيثارًا لحفظ المعرفة بيني وبين المؤلف، ولكن قاتل الله الإلحاح فإنه أنساني هذا كله، وقرأت الكتاب فوجدته ككل كتاب حديث في بابه لا يخلو من سمين وغث وسمينه أكثر من غثه، وذلك ما نحمد عليه المؤلف ونحث القراء على مطالعة تأليفه مع لفتهم إلى آراء النقادين والمقرظين فيه. أما ما رأيته من الصواب والخطأ حسبما أستطيع , فسأذكره مجملاً معددًا كمسائل لفهرست كتاب رفعًا لملل التطويل عن نفسي وعن القارئ. غير سالك في التقريظ مسلك الذين يجدر بهم أن يكونوا أجراء لشركة الإعلانات , ولا ناهج في النقد منهج الذين تنطبق عليه المادة (261 و262) من قانون العقوبات ولكن قصدًا بين الطرفين وتوخيًا لِكِلْتَا الحُسْنَيَيْنِ. *** وصف الكتاب في الجملة الكتاب في ذاته حسن الطبع والورق، سهل العبارة، قصير المقدمة، كثير الأبواب والأقسام والعنوانات، قريب الاستطراد، مختصر التراجم، متشابه المقالات المفتتح بها كل عصر من العصور أو كل مبحث من المباحث المختلفة، خالٍ من الكلام في الخطابة والخطباء مع تيسر ذلك في العصر الأول من الدولة العباسية، قليل الاستشهاد جدًّا على أحوال الكتابة والكتاب، كثير النقل عن مستعربي الإفرنج من غير تمحيص لدعاواهم، فيه كثير من صور فلاسفة اليونان ونقلة السريان وصور خيالية لخرافات أهل القرون الوسطى من الإفرنج في حروب الإسكندر المقدوني وتمثيل حداد عاشوراء بإيران في العصر الحاضر وصور خيالية لبعض المراصد والآلات وصور لابن سينا ومعمل الرازي وصورة سفينة عربية وغير ذلك مما يَزِيدُ القارئ وُلُوعًا بالمطالعة، والكتاب بهجة وزينة. *** محاسن الكتاب ومزاياه إذا قصدنا إلى ذكر مزاياه فليس ذلك أن نستقصي كل صواب فيه ونذكره، فإن ذلك يخرج بنا إلى تأليف كتاب آخر لا يقل عن نصف كتاب المؤلف , وإنما نقصد إلى بيان محاسن الكتاب ومزاياه في الجملة، والذي يهم القارئ والمؤلف أن يبين موضع الضعف والخطأ في الكتاب ليتنبه له كلاهما، فمن هذه المحاسن والمزايا: 1- سهولة عبارة الكتاب فلا تمتنع على أي طبقة من الطبقات. 2- كثرة تناوله للمباحث المقصودة الآن عند الأوربيين والعصريين من آداب اللغة بالإضافة إلى أي كتاب طبع إلى الآن في آداب اللغة العربية. 3- عناية المؤلف فيه بذكر كتب المؤلفين وَمَظَانّ وجودها , وأماكن طبعها ناقلاً أكثر ذلك عن كتاب بروكلمان الألماني مما يتعذر على غير عارف باللغات الأجنبية معرفته خصوصًا فن أحوال الكتب الذي للأوربيين فيه القدح المعلي , وإنْ لم يكن من أغراض أبواب اللغة الأساسية، هذا مع شك في صحة كل ذلك. 4- تعريفه القارئ في أكثر المواضع بالكتب التي تعرضت لها بنوع من التوسع. 5- تذييل الكتاب بالمراجع التي نقل المؤلف عنها نصوص عباراته , وإن لم يراع في ذلك الضبط , وبيان نوع طبع الكتاب المكرر الطبع. 6- حسن طبع الكتاب وجودة ورقه. *** الأمور التي تؤخذ على الكتاب يكفي القارئ أن أذكر بغاية الاختصار بعض هذه الأمور، فإذا شاء أو شاء المؤلف فضل إيضاح لبعض المباحث فصلته تفصيلاً. ويمكن توزيع هذه الأمور إلى الأنواع الآتية: 1- الخطأ في الحكم الفني. أي تقرير غير الحقيقة العلمية سواءٌ كان ذلك بقصد من المؤلف أم بغير قصد. 2- الخطأ في الاستنتاج. وهو ما يعذر فيه المؤلف؛ لأنه اجتهاد من عند نفسه , فإن أصاب فله الشكر , وإن أخطأ فَمَنْ ذا الذي ما ساء قط. 3- الدعوى بلا دليل وهو ما يقرره المؤلف من غير تدليل عليه وقد يكون في ذاته صحيحًا , ولكنه في سوقه ساذجًا مجالاً للشك. 4- الخطأ في النقل وهو آتٍ مِن تصرف المؤلف في عبارات المؤلفين بقصد اختصارها , أو من تسرعه في الجمع وقلة مراجعة الأصول. 5- قلة تحري الحقيقة بمراجعة الكتب المعتبرة والتواريخ الصادقة ووزن كل عبارة بميزان العقل والإنصاف , وقياس الأمور بأشباهها , بل كثيرًا ما تروج عند المؤلف أقوال الخصوم في خصومهم وأقوال الكتب الموضوعة لأخبار المُجَّان أو لذكر عجائب الأمور وغرائبها. 6- تناقض بعض أقوال الكتاب. 7- الاختصار في كثير من التراجم والمباحث , وإهمال ما ليس من شأنه أن يهمل. 8- إدخال ما ليس من موضوع الفن فيه لغير مناسبة أو لمناسبة ضعيفة جدًّا. 9- الاستدلال بجزئية واحدة على الأمر الكلي وهو كثير الحصول في جميع كتب المؤلف , وفي أكثر استنتاجاته ودعاواه. 10- تقليد المستشرقين في مزاعمهم أو نقلها عنهم من غير تمحيص. 11- اضطراب المباحث وصعوبة استخراج فائدة منها لاختلال عبارتها أو لعدم صفاء الموضوع للمؤلف. 12- اضطراب التقسيم والتبويب؛ إما بِذِكْرِ المباحث في غير موضعها , وإما بعدّ رجال عصر في عداد رجال عصر آخر , وربما زاد المؤلف عن ذلك بعدّ رجال فن في رجال فن آخر. 13- التحريف واللحن , وهما كثيرا الشيوع في جميع كتب المؤلف مع سهولة الاحتراز عنهما بمراجعة الأصول عند التأليف والطبع واستئجار أحد المصححين العَالِمِينَ بقواعد العربية. 14- تهافت المؤلف على تطبيق قانون النشوء والارتقاء حتى في الأمور التي فيها تدلٍّ وانحطاط لا نشوء ولا ارتقاء. (يتلى) ((يتبع بمقال تالٍ))

بشائر عيسى ومحمد في العهدين العتيق والجديد ـ 7

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ بشائر عيسى ومحمد [*] في العهدين العتيق والجديد (7) (البشارة الأولى) جاء في سفر التثنية ما يأتي 18: 15 (يقيم لك الرب إلهك نبيًّا من وسطك من إخوتك مثلي له تسمعون 16 حسب كل ما طلبت من الرب إلهك في حوريب يوم الاجتماع قائلاً: لا أعود أسمع صوت الرب إلهي , ولا أرى هذه النار العظيمة أيضًا لئلا أموت 17 قال لي الرب: قد أحسنوا في ما تكلموا 18 أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه , فيكلمهم بكل ما أوصيه به 19 ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه 20 وأما النبي الذي يطغى , فيتكلم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي 21 وإن قلت في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب 22 فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه) , فهذه البشارة صريحة جدًّا في محمد -صلى الله عليه وسلم- لأنه لم يقم نبي مثل موسى ومن وسط اليهود ومن إخوتهم (بني إسماعيل) [1] غيره وكان أُمِّيًّا يُوحَى إليه القرآنُ , فيحفظه ويبلغه للناس مصداقًا لقوله: (أجعل كلامي في فمه) وكان مأمورًا بجهاد أعدائه , فانتقم الله له ممن لم يسمع كلامه منهم وحفظه الله تعالى , فلم يقتله أحد , وصدقه فيما أخبر به عنه بوقوعه وحدوثه , وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن الشريف كانتصار الروم على الفرس, ونصر المؤمنين على الكفار في نفس ذلك اليوم (30: 1-6) ودخول المسلمين مكة بعدما طردوا منها (48: 27) وارتداد بعض الناس بعد النبي (5: 54) وانغلاب المشركين وانهزامهم (54: 44 و45) وحفظ النبي وعصمته من أعدائه وإهلاك المستهزئين به (2: 137 و15: 94-96 و5: 67) واستخلاف المؤمنين في الأرض (أي جعلهم خلفاءَ) وتمكين الدين لهم , وإسكانهم فيها آمنين مطمئنن بعد الضعف والخوف الشديد (24: 55) وإخباره بحفظ القرآن من الضياع ومن التحريف والتبديل (15: 9) وبعجز العرب وغيرهم عن الإتيان بسورة واحدة مثل سوره (2: 23 و24 و17: 88) وبتمام دينه قبل موته , وظهوره على غيره وبقائه إلى يوم القيامة (9: 32 و33) وبظهور الدلائل الكونية في العلوم الحديثة , وغيرها التي تؤيّد نصوص دينه (41: 53) وإخباره بدعوة المخلفين من الأعراب إلى حرب بعد وفاته (9: 83 قارنها بسورة 48: 16) وتبشيره المؤمنين بالنصر في واقعة معينة عندهم (هي خيبر) وأخذهم الغنائم الكثيرة منها , فكان ذلك مع أنهم سبق لهم الانكسار في بعض وقائع سابقة غير هذه (48: 18-22) والإخبار بأن النبي سيبقى نسله، وأما مُبغضه (وهو شخص معين اسمه العاص بن وائل) فسيكون أبتر (سورة 108) وإخباره بتجنس الأمم بالجنسية العربية كما سبق: 62: 3 (إلى غير ذلك مما أنبأ به قبل وقوعه وصدقه الله فيه هذا عدا ما في أحاديثه من المغيبات العجيبة العديدة (ما مر من الأرقام هو لسور وآيات قرآنية) . ومن كان محبًّا للبحث والاطلاع فعليه بكتاب (حجة الله على العالمين في معجزات سيد المرسلين) يجد من ذلك شيئًا كثيرًا. والأحاديث الإسلامية هي أصح من غيرها لقرب عهدها , وكثرة رواتها , وعدم انقطاع سندها بحوادث جارفة , أو ارتداد عام كما حصل لليهود والنصارى في أزمنة اضطهاداتهما , ولكون المسلمين في تلك الأزمنة كانوا ممتازين عن غيرهم بالعلم والعرفان والقوة والحياة حتى وجد بينهم علم النقد العالي في الحديث والتمحيص الدقيق فيه قبل أن تعرف ذلك أمة من أمم العالم قاطبة، وكان فيهم ألوف من العلماء المحققين منذ نشأتهم، وكان العلم والكتب منتشرة بين عامتهم ولم توجد عندهم رئاسة دينية تحظر عليهم الاطلاع بأنفسهم على كتبهم الدينية كما كان عند النصارى قبل الإصلاح البروتستنتي؛ ولذلك قال بعض علماء الإفرنج: إن الإسلام هو الدين التاريخي الوحيد يعني: أصح الأديان من الوجهة التاريخية. وإنما قلنا: إن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قام من وسط اليهود؛ لأن المدينة التي فيها عظُم أمره وكمُل شأنه وتم دينه كانت محاطة بأراضي اليهود كأهل خيبر وبني قينقاع والنضير وغيرهم، وهي التي تحصن فيها كثير منهم بعد حادث (طيطس) الروماني. وكان اليهود في زمن المسيح عليه السلام ينتظرون نبيًّا آخر غير المسيح، بشرهم موسى عليه السلام به كما يدل على ذلك ما ورد في إنجيل يوحنا (1: 19-25) (وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت 20 فاعترف ولم ينكر وأقر: إني لست أنا المسيح 21 فسألوه إذًا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال: لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب لا - إلى قوله: 25 فسألوه وقالوا له: فما بالك تعمد إن كنت لست المسيح ولا إيليا ولا النبي) فمرادهم بالنبي هنا هو المذكور في سِفر التثنية وهم كانوا يفهمون من كتبهم أنه غير المسيح فلذا سألوا ما سألوا. وجاء في سفر الأعمال أن بطرس قال: (أع 3: 19) (فتوبوا وارجعوا لتُمحى خطاياكم لكي تأتي أوقات الفرَج من وجه الرب 20 ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم من قبل 21 الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم جميع أنبيائه القديسين منذ الدهر 22 فإن موسى قال للآباء: إن نبيًا مثلي يقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم له تسمعون في كل ما يكلمكم به) فأزمنة رد كل شيء التي تكلم عنها الله بفم الأنبياء جميعًا هي أزمنة محمد صلى الله عليه وسلم التي فيها يبقى المسيح في السماء على قولهم حتى تنتهي. ولا يصح أن تكون عبارة موسى هذه بُشرى بمجيء المسيح الأخير فإن هذا المجيء هو الدينونة والجزاء كما يزعمون. وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تشبه شريعة موسى؛ فلذا سمى أزمنته (أزمنة رد كل شيء) فكأن الشريعة العيسوية كانت تمهيدًا لإتيان الشريعة المحمدية الكاملة التي تشمل العدل والفضل وردَّت الدين إلى رونقه القديم رونق التوحيد والتنزيه والأحكام الإلهية بعد أن شوهوه بالشرك والتشبيه والإباحة ونقضهم ناموس موسى كما بينَّا. (البشارة الثانية) بشارة عيسى عليه السلام بالفارقليط، وهي مشهورة في إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، ومن شاء زيادة إيضاح فعليه بكتاب (إظهار الحق) (1 يو 14: 15 - 18 و15: 26 و27 و16: 12 - 16) . وإنما لنا هنا كلمة عن الفارقليط وهي: هذا اللفظ يوناني، ويكتب بالإنكليزية هكذا (Paraclete) بارَقليط أي (المُعزِّي) ويتضمن أيضًا معنى المحاجّ كما قال بوست في قاموسه، وهناك لفظ آخر يكتب هكذا (Periclyte) ومعناه رفيع المقام. سام. جليل. مجيد. شهير. وهي كلها معانٍ تقرب من معنى محمد وأحمد ومحمود. ولا يخفى أن المسيح كان يتكلم بالعبرية فلا ندري ماذا كان اللفظ الذي نطق به عليه السلام، ولا ندري إن كانت ترجمة مؤلف هذا الإنجيل له بلفظ (Paraclete) صحيحة أو خطأ، ولا ندري إن كان هذا اللفظ (Paraclete) هو الذي ترجم به من قبل أم لا؟ ؟ ؟ لأننا نعلم أن كثيرًا من الألفاظ والعبارات وقع فيها التحريف من الكتّاب سهوًا أو قصدًا كما اعترفوا به (راجع الفصل الثالث) في جميع كتب العهدين فإذا كان اللفظ الأصلي (Periclyte) بيرقليط فلا يبعد أنه تحرف عمدًا أو سهوًا إلى (Paraclete) بارقليط حتى يُبعدوه عن معنى اسم النبي صلى الله عليه وسلم مما يسهل عليهم ذلك تشابه أحرف هذه الكلمة في اللغة اليونانية. وعلى كل حال فسواء كان هو (Paraclete) بارقليط أو (Periclyte) فمعنى كل منهما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم فهو مُعزٍّ للمؤمنين على عدم إيمان الكافرين وعلى وجود الشر في هذا العالم بإيضاح أن هذه هي إرادة الله لحكمة يعلمها هو، ومُعزٍّ أيضًا للمصابين والمرضى والفقراء وغيرهم بعقيدة البعث والقيامة، وهو صلى الله عليه وسلم كان يُحاجِج الكفار والمشركين وغيرهم (إذا كان معناه المحاجّ كما قال بوست) وهو شهير سامٍ جليل مجيد إذا كان اللفظ الأصلي (بيرقليط) والعبارات الواردة في إنجيل يوحنا في هذه المسألة لا تنطبق إلا على محمد عليه السلام كما بين ذلك صاحب كتاب إظهار الحق ومؤلف كتاب (فتح الملك العلام في بشائر دين الإسلام) وكما أشرنا إلى ذلك في صفحة 82 من هذا الكتاب. ومملكة محمد هي مملكة الله في الأرض المسماة في العهد الجديد بملكوت الله وبملكوت السماوات، وكان المسيح عليه السلام وتلاميذه يبشرون الناس دائمًا بقرب مجيئها وأمر عليه السلام النصارى أن يطلبوا إتيانها من الله في صلواتهم (انظر متَّى 3: 2 و4: 17 و23 و23 و6: 31 و32 و20: 1 - 16 و21: 33 - 44 لوقا 10: 9 و11 (وهذه المملكة هي التي بدأت صغيرة ثم نمت وكبرت حتى ملأت العالم؛ ولذلك شبهها عيسى عليه السلام بالزرع الجيد وبالخميرة وبحبة الخردل التي تصير أكبر البقول حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها (متَّى 13: 24 - 35) ولذلك قال القرآن الشريف في محمد وأتباعه (ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه) الآية (راجع سورة الفتح 48: 29) وهم الآخرون الذين صاروا أولين كما قال المسيح (متى 20: 16) وقال محمد صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون السابقون) وهم الأمة التي أعطي لها (ملكوت الله) ورئيسهم محمد هو (رأس الزاوية والحجر الذي من سقط عليه سُحق) (متى 21: 42 ومز 118: 23) لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا من بني إسماعيل، وهم نسل الجارية (تك 21: 13) المحتقرون عند اليهود، ولكن الله باركهم وكثرهم جدًّا حتى ملأوا الأرض وفتحوها وصاروا لا يُعَدون من الكثرة كما قال ملاك الرب لهاجر (تك 16: 10) ولم يجعل الله لأولاد الحرة (سارة) فضلاً عليهم، وأما العهد الذي جعله تعالى لأولادها (تك 17: 21) [2] فهو إعطاؤهم أرض كنعان فإنه تعالى كتبها لهم كما قال القرآن الشريف (5: 21) راجع أيضًا (تك 17: 8) وقال في سِفر الخروج 6: 4 (وأيضًا أقمت معهم عهدي أن أعطيهم أرض كنعان أرض غربتهم التي تغربوا فيها) وقال في مزمور 105: 8 - 11 (ذكر إلى الدهر عهده.. .. الذي عاهد به إبراهيم وقسمه لإسحاق فثبته ليعقوب فريضة ولإسرائيل عهدًا أبديًّا قائلاً: لك أعطي أرض كنعان حبل ميراثكم) . فلولا محمد صلى الله وسلم لما كان لبني إسماعيل (العرب) شأن يذكر في العالم مع أن الله وعد أن يجعلهم أمة كبيرة عظيمة (تك 17: 20 و21: 17) فبمحمد وحده تحقق هذا الوعد وصاروا أمة أخضعت العالم كله لها ونشرت فيه الدين الحق والعلم والمدنية الصحيحة، ولا يزالون إلى الآن من أكثر أمم الأرض حتى صاروا بعد الإسلام لا يعدون من الكثرة كما بشر الملاك هاجر بذلك (تك 16: 10) على ما تقدم. وبذلك ظهر صدق هذا الوعد الإلهي بأكمل مظاهره، وأما قبله عليه السلام فلم يكن أحد يسمع عن العرب (بني إسماعيل) شيئًا يُعبأ به أو عملاً يُلتفت إليه. فقارن حالتهم قبل الإسلام وبعده تتضح لك صحة هذه الأقوال الواردة عنهم في سفر التكوين من قديم الزمان، فقد باركهم الله تعالى بمحمد وكثَّرهم وجعلهم أمة كبيرة كما وعد (تك 17: 20) وكان لهم مُلك جليل واسع كما في الإنجيل يزينه ذكر الله تعالى وحده، ومن أنكر تفسيرنا هذا فليأتنا بغيره بحيث يكون شافيًا لعلته راويًا لغلته كهذا التفسير الصحيح الذي ذكرناه هنا، وإلا فليترك المكابرة وليعترف بالحق فإن الحق خير وأبقى. (البشارة الثالثة) قال حجي 2: 6 (لأنه هكذا قال رب الجنود. هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة 7 وأزلزل كل الأمم ويأتي (مشتهى) كل الأمم فأملأ هذا البيت مجدًا قال رب الجنود 7 لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود 9 مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود وفي هذا المكان أعطي السلام بقول ر

الغارة على العالم الإسلامي ـ 7

الكاتب: المسيو شاتليه

_ الغارة على العالم الإسلامي [*] (10) التنظيم المادي لإرساليات التبشير استمرت مجلة العالم الإسلامي الفرنسية في تلخيص تقرير جمعية التبشير الكنيسية فأشارت إلى ما جاء فيه بخصوص أعمال مبشري هذه الجمعية في أفريقيا الشرقية، وقد كان الدكتور (كريف) أول من دخل هذه الديار وذلك أنه طرد من بلاد الحبشة سنة 1844 فهبط إلى (منبسه) ثم تبعه مبشرون آخرون أخذوا يطوفون عرض البلاد فاتسعت أعمالهم على الشواطئ منذ سنة 1874 وكانوا يؤسسون قرى يقطنها الأرقاء المعتوقون وشملت أعمالهم التبشيرية أفريقيا الألمانية وبلاد (أوغندا) ثم أسسوا بعد ذلك إرساليتي تبشير: واحدة على مقربة من جبال (كليما جارو) وأخرى في سفح جبل (كانيا) ويبلغ عدد معاهدهم التبشيرية في أفريقيا الشرقية الإنكليزية فقط 22 معهدًا ولهم 21 معهدًا علميًّا يتعلم بين جدرانها 1072 تلميذًا وتبلغ الإيرادات التي يتناولونها من المبشرين 70 ألف فرنك، والمبشرون القاطنون في (منبسه) وفي (مزبزيمة) يجدون أنفسهم في بلاد إسلامية محضة، كما أن المسلمين مسيطرون على كل ولاية (السيدية) وتوجد في الجهة الشمالية من هذه البلاد إرسالية تبشير في (جيلوري) التابعة لبلدة (مالندة) واقعة على مقربة من معهد عربي إسلامي قديم العهد، ويرى مبشرو هذه الجهات أن الإسلام ينتشر في الداخل بين صفوف القبائل الوثنية المدمنة شرب الخمر، وأخذ يتطرق إلى الوثنيين المنتمين إلى قبائل (وادا بيدة (رغمًا عما تمتاز به هذه القبائل من كثرة السحرة والدجالين بينها ويوجد كثير من وثني (واديفو) ينقادون للإسلام بسهولة، ولتجار الساحل المسلمين قرى بنوا فيها مساجد حتى في جوف بلاد (كباره) الواقعة في سفح جبل (كانيا) على مقربة من المبشرين، وقد أصبحت الحال موجبة للروية والتفكير لدرجة أن السير (بارسي جيروار) حاكم أفريقيا الشرقية الإنكليزية صرح في المؤتمر الذي أقامه المبشرون على ظهر الباخرة (غالف) في البحر الأحمر بأنه يجب على الحكومة وعلى المبشرين أن يشتركوا في العمل ضد الإسلام! وقد جاء في تقرير جمعية التبشير أن المسلمين ليسوا إلا قسمًا من أهالي هذه المقاطعة إلا أنهم يؤلفون العنصر التجاري العامل الذي يتنقل من جهة إلى أخرى، ولذلك فإن المبشرين يوجهون مجهوداتهم لتأليف كتب بالرطانة الساحلية، وينشرون مجلة شهرية يبلغ عدد قرائها 200 شخصًا فضلاً عن الكتب الدينية التبشيرية التي نشرت بهذه الرطانة. ويعلق مبشرو هذه الجمعية أهمية على انتشار الإسلام في أفريقيا الشرقية الألمانية، وقد قالت المبشرة المس (فورسيت) : إنها كانت تجد مساجد صغيرة حيثما مرت، وفي بعض الأوقات كانت ترى هذه المساجد بشكل أكواخ صغيرة إلا أن هذه الأكواخ بمثابة مراكز للتبشير الإسلامي، وأشار أحد المبشرين إلى المجهودات التي يبذلها المبشرون لإيقاف انتشار الإسلام، وذكر آخر أن اثنين وثنيين متنصرين اعتنقا الإسلام، ويرى المبشرون أن الخصم الوحيد لهم في هذه الجهات هو المسلم، ويرون أن بعض المسلمين الذين وزعت عليهم كتب تبشيرية مكتوبة بالرطانة الساحلية طفقوا يشترون التوراة والإنجيل، وقالوا: إن امرأة مسلمة في منبسة عني المبشرون بمعالجتها فاعتنقت النصرانية. ويرجع عهد دخول المبشرين إلى مقاطعة (أوغندا) إلى سنة 1875 عندما صرح (متيسة) ملك هذه البلاد بارتياحه إلى اقتباس التربية الأوروبية، وما ذاع خبر هذا التصريح الذي فاه به حتى تبرع اثنان رغبَا بإخفاء اسمهما بمبلغ 25 ألف فرنك ليتسنى لجمعية التبشير إنفاذ إرسالية إليها، وتمكنت فعلاً من بعث إرسالية سنة 1876 لكنها هوجمت في الطريق وفقدت بعض المبشرين ثم بقيت في (أوغندا) وتبعتها إرسالية تبشير كاثوليكية، وقد أخذ الإرساليتان بتوسيع أعمالهما بعد موت (متيسة) دون حصول أدنى منافسة بينهما ترجع فائدتها إلى المسلمين، إلا أن (موانغا) الذي تقلد الملك بعد (متيسة) كان ارتياحه قليلاً لأعمال المبشرين، ولذلك أصبح المسيحيون الوطنيون عرضة للاضطهادات الشديدة، لكن (موانغا) ما عتم أن خلع فأصبح المسلمون أصحاب الحول والطول في البلاد وطردوا المبشرين من كاثوليك وبروتستانت في سنة 1888 وما مضت سنة واحدة حتى أعيد (موانغا) إلى منصبه بفضل رعاياه المسيحيين فوافق سنة 1890 على رفع العلم الإنكليزي لشركة أفريقيا الشرقية البريطانية أي قبل أن تعلن الحماية الإنكليزية على بلاده بأربع سنوات. وفي سنة 1896 بارح (موانغا) بلاده [1] فخلفه ابنه (شوا) الذي تعمد وسمي (داود) رغمًا عن ثورة قامت بها الجيوش السودانية، ومن ذلك الحين توطدت أحوال مقاطعة (أوغندا) السياسية ويوجد عدا الأهالي المسلمين في هذه المقاطعة كثير من التجار الهنود والعرب والسوريين الذين يؤلفون كمية وافرة من المسلمين، ثم جاء في تقرير الجمعية أن اثنين من المسلمين اعتنقا النصرانية في (بوغندا) بعد أن عُني المبشرون بمعالجتهما، ويشعر المبشرون بالصعوبات التي يثيرها زعيم مسلم في (كبيرا) الواقعة شرقي أوغندا حيث الإسلام ينمو ويتقدم سريعًا، وحاصل القول أن للمبشرين في هذه المقاطعة 1010 معاهد أو محطات للتبشير و147 مدرسة يتعلم بين جدرانها 424، 47 تلميذًًا، ويبلغ ما يتناولونه من الإيرادات 500 ألف فرنك، وتقدر ميزانية مبشري هذه المقاطعة بمليون فرنك، وهذا المبلغ الجسيم يؤيد وجود 1010 معاهد، وقد كان للمنافسة التي حصلت ضد المبشرين الكاثوليك شأن كبير في توسيع نطاق التبشير أكبر من فكرة مناوأة الإسلام ومناضلته، وعلى كل فسيرى الإسلام نفسه أمام قوة التربية والحضارة الإنكليزية التي يقوم بها المبشرون الإنجيليون. وجاء بعد ذلك في التقرير ذكر إرساليات التبشير في مصر والسودان، التي يرجع عهد تأسيسها إلى سنة 1815 عقيب حروب نابليون حيث هبطت إرسالية التبشير جزيرة مالطة وأخذ نطاقها يمتد وينتشر حتى بلغ مصر والحبشة واليونان وبلاد الدولة العثمانية وفلسطين، ومن شأن هذه الإرساليات إرجاع كنائس الشرق سيرتها الأولى وتنصير المسلمين، لكن مع كل ما بذله المبشرون من الغيرة في هذه البلاد لم تكلل أعمالهم بالنجاح حتى إنهم أقفلوا مدرسة التبشير في القاهرة في سنة 1862 بعد أن تخرج فيها بعض المبشرين ثم تأسست إرسالية تبشيرية في مصر ستة معاهد للتبشير فيها كثير من النساء المبشرات لها مدرسة تبشيرية ومدرسة داخلية ومدرستان للبنات في القاهرة ومدرسة عالية في حلوان، ولهذه الجمعية مكتبة عامة في القاهرة، ويقوم مبشروها بنشر مجلة الشرق والغرب، وتبلغ ميزانيتهم في القطر المصري 160 ألف فرنك، أما الإيرادات التي يتلقا المبشرون من الوطنيين فلا تكاد تبلغ 450 فرنكًا، وهذه الجمعية لا ترى إرساليتها التبشيرية في مصر أهم ما لديها كما يتضح من تقريرها السنوي. وقد كانت سنة 1910 مهددة بصعوبات وعقبات، إذ حملت الصحف الإسلامية في هذه السنة حملة شعواء على المبشرين عمومًا، وقد كانت الصحف الوطنية خصوصًا تمتاز بما كانت تصب عليهم من كلمات السب والشتم. وكان الشيخ (سكندا؟ ؟) وامرأته عُرضة للاضطهادات الأليمة، وهذه المعاملة لم تمنع بائعة كتب مسلمة متنصرة أن تقوم بواجباتها بمزيد الغيرة والنشاط والأعمال الطبية مستمرة النمو إلا أنها لا تأتي بفائدة من الوجهة الدينية؛ لأنه لا يكاد الطبيب يظهر بمظهر المبشر حتى تحيط به الاعتراضات كما كان شأن الدكتور (هربور) التابع لإرسالية تبشير النيل، وقد قام إمام جامع (حامول) حيث كانت إقامة الدكتور ستة أشهر فحث الأهالي على عدم حضور مذاكرة هذا الدكتور الذي استطاع مع ذلك إبراز بعض مناظر بالفانوس السحري في قرية (سترى) وأسس فيها مدرسة صغيرة لتعليم التوراة، وللجمعية أيضًا مدرسة في منوف وأخرى في شبرا زنج بقرب منوف بين سكان كلهم مسلمون. وقد أصدرت الجمعية بعض أموال لإقامة ذكرى (غردون) عقب موته في الخرطوم، وهذه الأموال مكنت الجمعية بعد فشل الخليفة من تأسيس إرساليات تبشير في أم درمان والخرطوم وأتبره ومليك وفي أواسط السودان مع مدارس بنات، ولها أيضًا ثلاث مدارس للبنات في السودان الشمالية، وأحوال مدرسة أتبرة سائرة من حسن إلى أحسن؛ لأنه أصبح في استطاعة المبشرين في (أتبره) أن يطلبوا من التلاميذ الصغار المسلمين أن يصلوا معهم صلاة الصبح! وهم يطلبون أيضًا مثل هذا الطلب من المرضى المسلمين في مستشفى أم درمان! واختتمت الجمعية نبذة تقريرها عن هذه الجهة قائلة أنه على أثر موت (ليوبولد الثاني) ملك بلجيكا أرسلت الحكومة 50 جندي مسلم إلى مقاطعة (اللادو) فانتشر هؤلاء الجنود في البلاد وأخذوا يفتحون المدارس الإسلامية وسط القبائل الوثنية. وللجمعية أيضًا إرساليات تبشير عديدة في فلسطين أخذت تنتشر في هذه البلاد منذ 1851، وتفضل الجمعية إرسال مبشرات غير متزوجات؛ لأن لهن تأثيرًا على النساء المسلمات! ولها مدرسة ومعهد للتبشير في بغداد والموصل. ويرجع عهد التبشير في بلاد فارس إلى سنة 1811 وسنة 1834 حيث ابتدأ المبشرون الأمريكيون بالتبشير بين النسطوريين ثم بين المسلمين. وقد اتضح للمبشر (بروس) سنة 1869 أن المسلمين في أصفهان يميلون إلى المجادلات الدينية فجاء إلى (جولفة) ومكث فيها حيث فتح مدارس. ثم شدت أزره جمعية التبشير الكنيسية الإنكليزية، واتسع بذلك نطاق التبشير إذا أسست مدارس ومستشفيات منها مستشفى للبنات. وفتحت مدرسة داخلية للبنات في أصفهان. وقد قالت الجمعية: إن الثورة الفارسية مهدت السبل للحصول على حرية الأديان إلا أن نفوذ العلماء لم يزل ثابتًا والفوضى منتشرة في عرض البلاد حيث يدأب الأشرار والسلابون في قطع طرق المواصلات. أوسعت جمعية التبشير الكنيسية مكانًا من تقريرها لمقدمة صغيرة استهان بها أقوالها عن البلاد الإسلامية، وذكرت فيها مزايا الدين الإسلامي من حيث الاعتقاد بوحدانية الله. ثم بحثت في هذه الوحدانية فقالت: إنها تحتك من بعض الأوجه بمذهب اللا أدرية! ومن وجه آخر بمذهب وحدة الوجود القائل: أن الله والكون واحد! وتقرب أيضًا من مذهب تعدد الآلهة والشرك! حتى إن لهذه العقيدة صلة بالمذهب الحيوي القائل بوجود روح في نفس الحيوان ووجود عامل حي في النبات والجماد وأن هذا هو علة الأعمال الحيوية ولا تأثير للقوى الكيماوية أو المادية وتقول أيضًا: إنه يجب أن ينكر على الإسلام سماحه لكل مسلم أن يعمل ما شاء؛ لأنه سيكون في آخر الأمر مظهرًا للرحمة الإلهية! وقالت: إن في الإسلام عيبًا فاحشًا وهو حطه من شأن المرأة ودعَّمت ما عَزَته إلى الإسلام بذكر نبذة جاء فيها أن امرأتين فارسيتين سمتا ابنتيهما الأولى (غير مطلوبة) والثانية (كفا بنات) ثم انتقلت الجمعية في مقدمتها إلى التساؤل عما إذا كان في الإمكان حمل المسلمين على الدخول في حظيرة المسيح! وافتتحت بابًا خاصًا أتت فيه على صفوف المجاملة التي تظهرها الحكومة الإنكليزية نحو المسلمين، وهي لا تنكر أن موقف الحكومة الإنكليزية دقيق نظرًا لكثرة المسلمين الموجودين تحت سيطرتها إلا أنها تنكر على بريطانية إهمالها مجهودات المبشرين في القطر المصري والسودان ونيجيريا وجعلها يوم الجمعة في دوائر الحكومة المصرية يوم عطلة حتى إن ذهاب الأقباط المستخدمين في الحكومة في الأرياف للكنيسة يوم الأحد منوط بإرادة رؤسائهم المسلمين. ثم انتقلت ا

المسلمون في مجلس الدوما (النواب) الروسي ـ 2

الكاتب: صدر الدين أفندي مقصودف

_ المسلمون في مجلس الدوما (النواب) الروسي بقية خطبة صدر الدين أفندي مقصودف النائب المسلم في الدوما (2) بناءً على ما ذكر أولاً- أي بناء على وجود الجامعة الإسلامية - تفكر جمعية الشورى فيما يأتي: (1) تخصيص إعانة نقدية للمبشرين ولجمعيات نشر المعارف الروحية (كجمعية براتستوا ستوتوي غوري مثلاً) في ولايات ضواحي (إيدل) حيث الناس خليط من المسلمين. (2) زيادة شعبة مخصوصة في قزان لتعليم أساليب اللغة المحلية حتى يقدر التلاميذ على التفاهم بها، فضلاً عن دروس الألسنة الشرقية الموجودة الآن في الجمعية العلمية (الأكاديمية) الروحية في قزان، وبعبارة ثانية وجوب إعانة جمعية المبشرين. (3) أن يقبل في هذه الشُّعبة من أتم مدة مدرسة من المدارس الثانوية الروحية والملكية فضلاًعن الذين يستحقون الدخول في جمعية المبشرين بناء على القوانين العمومية. (4) الذين يتمون مدة شُعبة جمعية المبشرين هذه يقدَّمون على غيرهم في أن يعينوا معلمي اللسان والديانة في المدارس الثانوية الروحية ويكون لهم الحق أيضًا في أن يكونوا قسيسين أو مبشرين في الأماكن التي يوجد فيها أقوام من غير الروس. (5) بما أن الشعبة الموجودة الآن في قزان تؤدي الاحتياجات الدينية والأخلاقية في ضواحي نهر (إيدل) فيجب أن تخصص لها إعانة لشراء وترتيب بناية خاصة بها (كل هذه في الإعانة للمبشرين، ومع هذا تدَّعي أنها من التدابير والأسباب لمقاومة الجامعة الإسلامية) . (7) لأجل تمكن الأرثوذكس من مقاومة الإسلام يجب: (أ) تعليم الديانة الإسلامية في دور المعلمين التابعة للكنيسة مع الاعتراضات عليها من طرف الديانة النصرانية. (ب) نشر تاريخ المسلمين الإجمالي، ونشر كتب للرد على العقائد الإسلامية وإعطاء الجوائز للذين يجيدون ما يكتبون فيما ذكر. (8) تمكين الجمعية (الأكاديمية) الروحية في قزان من نشر مجلة أو جريدة في روح النصرانية يفهمها العامة للتأثير في غير قوم الروس بواسطة المطبوعات تأثيرًا مدنيًّا ودينيًّا، وتخصيص إعانة لهذا الغرض تزيد على 200. 3 روبل. (9) يجب أن يسكن الرؤساء الروحيين في الولايات الشرقية التي يكثر فيها المسلمون أو في الأماكن التي يكثر فيها المهاجرون بين المسلمين والمهاجرين. (10) يجب لتقوية الخدمة الدينية والمدنية في المحلات التي يوجد فيها المسلمون: (أ) أن يعمل الروحييون والمأمورون الملكيون بعد أخذهم الرخصة محاضرات دينية موافقة لروح الكنيسة الأرثوذكسية لأجل الكبار والصغار. (ب) افتتاح دور الكتب (الكتبخانات) قرب المكاتب. (ج) تحسين معيشة الخدمة الروحيين في القرى بتعيين مرتبات مقننة لهم، وذلك في المحلات التي يوجد فيها أقوام من غير الروس. (وهذا أيضًا منح إعانة وتدبير ضد الجامعة الإسلامية؟) (11) إخراج الفنون التي لا تعلق لها بالديانة من مكاتب ومدارس المسلمين ومن جملتها اللغة الروسية، فلا يعلَّم فيها غير الديانة الإسلامية وأن يُسلَّم تفتيش تلك الأمور إلى نظارة المكاتب العمومية. (بعد معارضة من حزب اليمين وكلام مع الرئيس) قال: أرجوكم أيها الأفندية أن تصبروا أيضًا دقائق معدودة. فأنا لا أقرأ لكم قرارات الجمعية الشورية بتمامها بل أقتصر على كُبراها. ومن قراراتها ترك مكاتب المتنصرين من التتر [*] على حالها الحاضرة وعمل هيئة شورية مركبة من الروحيين ووكلاء نظار المكاتب ينظرون في شئونها. (20) جعل أمثال هذه المكاتب الواقعة في محلات يكثر فيها المسلمون تحت نظارة إدارة الأمور الروحية الأرثوذكسية. ومن قراراتها أيضًا أنه نظرًا لكثرة عدد النفوس التي تحت نظارة الإدارة الروحية الإسلامية ولعدم إمكان التوفيق بين تسليم شئون المسلمين كافة إلى إدارة واحدة وبين منافع الدولة ومنافع الدولة ومنافع شعوب المسلمين أنفسهم يجب تسليم إصلاح الإدارة الروحية إلى الوزارة الداخلية وهي تقوم بإصلاحها بتأسيس إدارات روحية إسلامية متعددة في محلات متعدة (وبعد استراحة المجلس استأنف الكلام صدر الدين أفندي مقصودف) فقال: أيها الأفندية! قرأت لكم قبل الاستراحة اللائحة التي تبحث في التدابير ضد الجامعة الإسلامية، ولعل تلك القرارات بقيت في خاطر أحد منكم ولم تذهب جميعها من بَالكم، وأريد الآن توجيه أنظاركم إليها ثانية ولا سيما مادة واحدة منها وهي المادة 11 التي قيل فيها (إخراج الفنون التي لا تعلق لها بالديانة، من مكاتب ومدارس المسلمين ومن جملتها اللغة الروسية فلا يُعلَّم فيها غير الديانة الإسلامية وأن يسلم تفتيش تلك الأمور إلى نظارة المكاتب العمومية. أيها الأفندية! إنهم قد صدروا هذه القرارات بمقدمة أتوا فيها بالأدلة على ضرورة انفاذها جاء فيها: (بناءً على أن المعلومات الدينية ضرورية لعلماء المسلمين الدينيين بصفة أنهم أمة لها كيان ومشخصات كغيرها ترى الجمعية الشورية دوام بقاء مكاتبهم ومدارسهم الدينية من غير شك إلا أنه يجب إرجاع هذه المدارس إلى حالتها الدينية المحضة، فالجمعية ترى جعل حد فاصل بين العلوم الدينية وغيرها من الفنون مما لا بد منه. وشئون التعليم الديني في تلك المدارس تسلم إلى نظارة العلماء الروحيين من المسلمين، ولا يتداخل فيها رجال الحكومة، ومع ذلك يجب أن لا يترك سبيل لتعليم الفنون العمومية فيها. وبناء على النظام المصدق من طرف القيصر في 26 مارس سنة 1907 كان قد جعل تعليم الروسية إجباريًا في مكاتب ومدارس المسلمين وأعضاء الجمعية الشورية تذاكروا أيضًا في هذه المسألة، على أن جعل تعليم اللغة الروسية إجباريًّا في المكاتب والمدارس كان قد بُني على مقصد معين وهو إدخال مكاتب المسلمين الموجودة الآن في تلك المكاتب العمومية. وأنى لنا بالتأكد من صحة هذا المقصد؟ وإذا هو حصل فإن مكاتب المسلمين تخرِّج طلابًا لهم وقوف على المعارف العمومية الحقيقية وهذا ليس بمطلوب قط، ثم إن جعل تعلم اللغة الروسية إجباريًا في المدارس الإسلامية لم يحُز قبولاًعند المسلمين وعدوه تحاملاًعلى الدين وعملاً ًيُراد به الذهاب بمشخصاتهم أو تحويلها إلى مشخصات روسية قَسْرًا. فبناءً على ما تقدم ترى الجمعية وجوب محو اللغة الروسية (الموجودة الآن) في المكاتب والمدارس الإسلامية وأن لا يؤذن للمسلمين فيما بعد بإدخال اللغة الروسية في مكاتبهم ومدارسهم) . انظروا أيها الأفندية! بعد ما سمعتم هذه القرارات التي حازت القبول من رجال الحكومة الذين يريدون الاحتفاظ بمنافع الدولة ترون أننا بطبيعة الحال ننتهي إلى البحث والتفكير فيما يلي: نحن مسلمي روسيا لسنا تحت إدارة حكومة دنيوية تدير شئونها بالعقل والروية بل نحن تحت نظارة المبشرين الذين لا ينظرون إلينا بعين العداوة، لأن رجال الحكومة يأتمرون بأمر المبشرين في إدارة شئوننا في جميع الأوقات فكأننا محكومون بحكومة (إكليريكية) . موضوع قرارات الجمعية التبشيرية في قزان وقرارات رجال الحكومة في العاصمة واحد وهو وجوب إعانة جمعية المبشرين ومنع تعليم تقويم البلدان والتاريخ ولغة الروس وغيرها من الفنون في مكاتب ومدارس المسلمين وعدم الإذن بافتتاح مكاتب أخرى. كل هذا لمقاومة الجامعة الإسلامية على ادعائهم فتفضلوا أرونا أي قرار من تلكم القرارات يُفهم منه مقاومة الجامعة الإسلامية. كلا! ليس هناك شيء لمقاومة تلكم الجامعة بل كلها لمقاومة الإسلام نفسه أولاً ولمقاومة رُقيّ المسلمين ثانيًا. انظروا أيها الأفندية! بسبب تلكم اللوائح من المبشرين وتلقينا تهم المستمرة أيقنت وزارة الداخلية بوجود حركة (الجامعة الإسلامية) وأرسلت التعليمات اللازمة إلى الولادة والمأمورين الآخرين لمقاومة هذه الحركة، فأخذ الولاة وغيرهم من المأمورين يبحثون عن الجامعة الإسلامية، وأخذوا يرون في كل شخص ظلها، وكل مأموري الإدارة أخذوا يجدون في نيل قصب السبق للعثور على مركزها فبدأت التفاتيش والحبس والنفي وسبق في هذا الأمر مأمور ولاية (وياتكة) وامتازوا به على غيرهم. فتشوا عن مركز الجامعة الإسلامية حتى عثروا عليه. لو كان الأمر بأيديكم فأين كنتم تفكرون وجود مركز هذه الجامعة؟ هم وجدوه في مدرسة دينية في قرية فقيرة تسمى (بوبي) بولاية وياتكة، وامتازوا به على غيرهم. فتشوا عن مركز الجامعة الإسلامية حتى عثروا عليه. لو كان الأمر بأيديكم، فأين كنتم تفكرون وجود مركز هذه الجامعة؟ هم وجدوه في مدرسة دينية في قرية فقيرة تسمى (بوبي) بولاية وياتكة، ومن الصدفة كان معلموها يعلمون تقويم البلدان والتاريخ ولغة الروس فضلاًعن العلوم الدينية. عندما سمعت إدارة الشرطة في وياتكه بتعليم الفنون الجديدة في هذه المدرسة أخذت تفكر: لا بد من وجود شيء في هذه المدرسة، يعلمون في مدرسة إسلامية اللغة الروسية وتقويم البلدان باختيارهم وبنفقاتهم الخصوصية! فلا بد من وجود الجامعة الإسلامية هنا. وأخذت تستفهم الأئمة في القرى المجاورة لقرية بوبي عن شئون المدرسة، وهل الأئمة في قرية بوبي يشتغلون بالجامعة الإسلامية أم لا؟ والذين يخالفون تدريس اللغة الروسية وتقويم البلدان من الأئمة، وكذلك الجهلة أجابوا باحتمال وجود الجامعة الإسلامية فيها وقالوا: إنهم يعلمون التلاميذ جريان الأرض حول الشمس ودورانها حول محورها. وهل للأرض محور؟ وذلك لا شك من علامة الجامعة الإسلامية (كل هذا مكتوب في سِعاية من السعايات المقدمة للحكومة) . صدقت إدارة الشرطة في وياتكه أقوال أعداء أئمة بوبي وشرعت في إبلاغ الأمر إلى المقامات العالية. وسلم هؤلاء السيئي البخت إلى المحكمة. وكانوا أولاً سجنوهم من غير تفتيش من المحكمة، ولكن باشروا الآن العمل في المحكمة حتى لا يعد أمرهم هذا شيئًا خارجًا عن حد اللياقة ليس إلا. يقولون: إن ذنب هؤلاء الأئمة اشتغالهم بالجامعة الإسلامية كأنهم نشروا من قرية بوبي فكرة الجامعة الإسلامية في أنحاء روسيا جمعاء. وهم منذ سنة ونصف في سجن بلدة ساربول ولا يعلم أحد متى يكون الحكم عليهم [1] . نحن تيقنا من الآن بسقوط الجامعة الإسلامية التي ظهرت من جانب الموظفين والمبشرين وتيقنا أن سيعلم الناس جميعًا أنه لا يوجد بين المسلمين حركة ما سوى حركة الاجتهاد في الارتقاء والتقرب من مدنية الروس. وأطال الخطيب في آراء المحافظين على القديم من المسلمين وسعايتهم بالنشء الجديد الطالب للارتقاء والتحكك بمدنية الروس وأتى على ذكر الحاج طلاشي الشركسي صاحب مجلة مسلمانيين التي كان يصدرها في باريس وذكر تناقضاته بتهويله بالجامعة الإسلامية تارةً وبوضعه أساسًا وإبدائه النصائح لتأسيس بنيانها وإيجادها تارةً أخرى، واستشهد بالعدد 375 من جريدة ريج الروسية ثم قال: والحاصل أيها الأفندية أنه قد أتى دور الحبس والتفتيش وإقفال المكاتب بسبب سعايات جهلة من المسلمين وغيرهم ممن اتخذوا السعاية مهنة لهم. ابتدأت هذه الأمور في زمن اسطالبين ولا تزال مستمرة إلى الآن وتنفذ على الدوام تدابير الجمعية الشورية. والذين ينظرون معي إلى هذا الأمر متجردين من الغاية والتحيز يقتنعون ببطلان هذه السياسة وأنها تنافي منافع الدولة كما أنها توجب الوهن لبناء كيان دولة الروس أمتين. أنتم باتهامنا بهذه الجامعة تقطعون علينا طريق العلم والمدنية بعد أن أخذنا نستيقظ لانتهاجها الآن، وكثير من الناس يع

الأخبار والآراء

الكاتب: عناية الله أحمدي

_ الأخبار والآراء (أحوال مسلمي الصين) جمعية إسلامية في بكين جاء في العدد الـ 1016 من جريدة وقت الروسية تحت هذا العنوان لمكاتبها في بكين ما ترجمته. كان زعماء المسلمين في بكين (عاصمة الصين) قد أجمعوا على عقد اجتماع كبير في 2 يوليو سنة 1912. فدعوا مسلمي العاصمة جميعًا بواسطة الجرائد والإعلانات الخصوصية للاجتماع في ذاك الوقت المعهود في جامع حوشيع (شرق) . وفي الساعة الثانية بعد الظهر من يوم الاجتماع امتلأ الجامع ورحبته بالناس وأرسلت جوار (عربات) خصوصية لبعض الكبار كالمفتي عبد الرحمن وأمثاله واستقبلوهم بالإجلال والتكريم. وبعدما تم اجتماع الناس جاء وكيل من طرف يوانشيغاي رئيس الجمهورية ووكيل آخر من طرف الوزارة الداخلية، والذي جاء وكيلاً عن رئيس الجمهورية هو شاب مسلم يُدعى عبد الله من رجال نظارة المعارف وكل منهما خطب خطبة توافق المقام تحية للجمعية. خلاصة خطبة عبد الله أفندي وكيل رئيس الجمهورية: قد أرسلني رئيس الجمهورية يوانشيغاي كي أحيي جمعيتكم نيابة عنه، وهو قد بين اشتراكه اشتراكًا قلبيًا في تأسيسكم جمعية إسلامية تُرجى فيها فوائد جمة للمسلمين وكذلك للوطن. إن الوطن الآن في أهم دور من أدواره فاحتياجه للائتلاف والاتحاد بين أبنائه قد صار أشد من كل وقت، فغيرة المسلمين الذين قد اشتهروا بالصداقة والشجاعة وسعيهم في سبيل الوطن هما من ألزم الأشياء له وأغلاها قيمة. والحق يقال: إننا كلنا أبناء وطن واحد، فمن وظيفتنا الشعبية والوجدانية أن تنقذه من التهلكة وأن نجتهد في سبيل الجمهورية بأموالنا وأنفسنا. المسلمون وإن كانوا قد عاشوا أحرارًا في زمن الاستبداد ولكن بعد الجمهورية قد تتبدل القوانين وربما لا تثبت الوظائف والحقوق في قرارهما الأول. وتتغير الأحوال بتغير طرق الإفادة والاستفادة، فإذا كان المسلمون لا يقصرون في الاجتهاد في سبيل وطنهم فلا شك أن الجمهورية توسع لهم حقوقهم وتَعُدهم من أبطال الوطن وأما من حيث الديانة فإن أهل الصين يحترمون الأديان كلها، وعلوية الإسلام وقدسيته ظاهرة لجميع من أهل الصين، فالحكومة الجمهورية أيضًا ستعتبره كذلك، فالمسلمون يكونون أحرارًا في دينهم. على أن مسلمي الصين قد حافظوا إلى الآن على دينهم بواسطة اطلاعهم على شيء من اللغة العربية، فأول شيء أوصيكم الآن به هو ترقية تلكم اللغة بين مسلمي الصين. وبعد إتمام خطبته ختمها بقوله: (ليحيى المسلمون والجمهورية) فصفق له الحاضرون. ثم خطب الوكيل المبعوث من طرف الوزارة الداخلية فقال: إن وطننا المعظم كان قد اقترب من الاضمحلال بسبب الاستبداد والظلم والجهالة. ولما رأى ذوو الأفكار العالية ذلكم من سير الدولة تركوا أوطانهم ورحلوا إلى الممالك الأجنبية وأحدثوا هناك جمعيات تسعى في إنقاذ الوطن من التهلكة وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، فالجمهورية التي تملكها اليوم هي من ثمرة جهاد أولئكم الأبطال من الشيوخ والشبان. فالآن يجب علينا كلنا أن نجتهد لأجل المحافظة على هذه الجمهورية، والمأمول من المسلمين الذين جعلوا أموالهم وأنفسهم فداء للحصول على الجمهورية سيجعلون ما لديهم كذلك فداء في سبيل محافظتها. وبعد تمام خطبته صفق له الحاضرون وأطالوا في التصفيق. ثم ألقى عدة خطباء خطبًا موافقة للمقام، وكانت موسيقى العسكرية تطرب الحاضرين بعزف ألحان الجمهورية، وتلاميذ المدارس نثروا أزهارًا صُفرًا على الوكيلين. ثم أخذوا في انتخاب رئيس للجمعية، وبعد أخذٍ وردٍّ انتخبوا بالاتفاق واحدًا من الوجهاء يُدعى عبد الله وهو شاب تخرج من المدرسة الصينية، وعينوا عبد الرحمن أفندي مفتي بكين وكيلاً له ثم انتخبوا أعضاء لها من وجهاء مسلمي العاصمة مثل أبي بكر أفندي من أئمة بكين ومحمد صالح أفندي صاحب جريدة (آياقوباو) الإسلامية. وبعد تمام الانتخابات خطب السيد طاهر أفندي باللغة العربية وهذه خلاصة خطبته: إن حياة الأمة والحكومات مربوطة بالاتفاق والاتحاد، وأن كثيرًا من الأمم تعيش بسبب اتحاد أبنائها حافظة حقوقها بل حاكمة على غيرها كما أن كثيرًا منها تكون بسبب فقدان الوفاق بين أبنائها مرذولة ومحقرة وتهلك هلاكًا معنويًّا وإن كان أفرادها كثيرين. وأتم كلامه بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} (آل عمران: 103) الآية. وأكتب في مقالتي الثانية بُرُجرام هذه الجمعية ومقاصدها. (ع. أحمدي) ثم جاء في العدد الـ 1017 لمكاتبها المذكور ما ترجمته: مقاصد الجمعية الإسلامية في بكين كنت كتبت إليكم خبر تأسيس جمعية (باسم الجمعية الإسلامية) في مدينة بكين، أما مقصد هذه الجمعية الرئيس فهو السعي في رقي وتعالي مسلمي الصين الذين عاشوا منذ قرون عديدة تحت نيِّر حكومة المنشوريين وظلمهم بعيدين عن المعارف والصناعة والنجارة والأخلاق الإسلامية - والسعي في إراءة الطرق لهم. مركز هذه الجمعية هو في بكين، وستفتح لها فروع وشعب في القرى والبلاد الأخرى من أنحاء المملكة حيث يوجد فيها المسلمون. إن القائمين بشئون الجمعية قد طبعوا بروجرامها ونشروه بين المسلمين وبعثوا اثنين منهم إلى رئيس الجمهورية للتصديق عليه وهو أحاله إلى محله الواجب إحالته إليه وأعجب بتشبث المسلمين بمثل هذا الأمر العظيم، أما نظام الجمعية فهو عبارة عن هذه المواد: الأولى - افتتاح عدة مكاتب ومدارس في مدينة بكين تدرس فيها لغتا العرب والصين، وتاريخ الصين والإسلام، وتقويم البلدان وأمثلهما، والمتخرجون في هذه المدارس يقبلون في مدارس الحكومة من غير امتحان، ويخصص فيها يوم للوعظ لأجل محو الخرافات والعقائد الباطلة المنتشرة بين مسلمي الصين المخالفة للإسلام، ثم تربية التلاميذ تربية موافقة لحقيقة الإسلام، ولأهل المحلة صغارها وكبارها أن يحضروا دروس الوعظ، والمتخرجون في هذه المدارس يستحقون أيضًا أن يكونوا معلمين في المدارس الدينية وأن يعينوا أئمة في الجوامع كما أنهم يستحقون الدخول في مدارس الحكومة. الثانية - ترقية المسلمين في التجارة وافتتاح المدارس التجارية لذلك ويسعون الآن في إدخال شبان مستعدين من المسلمين في مدارس الحكومة كي يستعدوا لأن يكونوا معلمين في المدارس التجارية المراد افتتاحها. والجمعية ستفتح دكاكين في المحلات الإسلامية للاتجار ببضائع يجوز الاتجار بها شرعًا وفتحوا الآن محلات لتجارة الملح، ولها في بلاد الصين فوائد لا يستهان بها، والمسلمون لا يشترون الملح إلا منها، وكذلك الوثنيون لكونه أرخص فيها بالنسبة إلى غيرها. الثالثة - ترقية الزراعة بين المسلمين وطلب أرض من الحكومة في جهات مدينة موكدن وأطراف منشوريا وإسكان الفقراء من المسلمين فيها. وباجتهاد الجمعية أسسوا بنكًا ماليًا زراعيًا في موكدن وسيفتحون فروعًا له في البلاد الأخرى. ومن مقاصدها توزيع آلات الزراعة بين المسلمين بأسعار رخيصة وتسهيل شئون الزراعة لهم. وهي تشتغل الآن بالبحث في وجود الأموال لها، وأعضاؤها يدفعون سنويًا زهاء عشرة قروش مصرية إلى ثلاثين قرشًا. والحاصل أن مقصد الجمعية نشر المعارف والصناعة والتجارة والزراعة بين المسلمين ويؤمل حصول أمور أعظم من هذا بينهم. وأكبر العاملين في هذه الجمعية وتأسيسها هو الأستاذ المحترم السيد طاهر أفندي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ع. أحمدي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (بكين) *** جريدة إسلامية في بكين كنت أسمع بوجود جريدة إسلامية في مدينة بكين عاصمة الصين، وأنا في بلدة خاربين. في اليوم الثاني من وصولي إلى بكين ذهبت مع السيد طاهر أفندي إلى محل إدارة تلك الجريدة، فركبنا الجارية (العربة) لطول المسافة وسرنا زهاء ساعة نمرّ بشوارع بكين الكبيرة حتى وصلنا إلى دار رفيعة كتب على بابها بالحروف الكبيرة (بسم الله الرحمن الرحيم) فوقفنا عندها فهناك استقبلنا خدمة المطبعة والمحررون من معارف السيد طاهر أفندي وحيونا بالسلام والترحيب. صاحب هذه الجريدة ومديرها المسئول هو رجل شاب يدعي بمحمد صالح يعرف اللغة العربية والهندية جيدًا واشتهر بين المسلمين والمجوس باطلاعه التام على أدبيات اللغة الصينية. الجرائد والمجلات في بكين يبلغ عددها الآن خمسين جريدة ومجلة، وكانت قبل سنة واحدة عشرًا فقط. واسم الجريدة التي يصدرها محمد صالح أفندي هو (آياقوباو) أي حب الوطن، وقصده الوحيد منها المحافظة على حقوق المسلمين ونشر الأخبار المتعلقة بهم. ويريدون إصدارها من الآن باللغتين العربية والصينية بمساعدة السيد طاهر أفندي وأخذوا يستعدون لذلك. ويصدر منها كل يوم اثنان وعشرون ألف نسخة وترسل إلى كثير من الأئمة والمعلمين بلا بدل، وقد صدرت منذ خمس سنين، وعدد الخدمة في المطبعة زهاء خمسين وكلهم من المسلمين. وبعد الزيارة والتعارف ذهب بنا محمد صالح للتغدي إلى مطعم كبير مزين على أصول الأوربيين وهو إسلامي يديره بعض المسلمين، ووجدنا أن كثيرًا من كبار المجوس يأكلون فيه، أما مسلمو الصين أنفسهم فهم -فقيرهم وغنيهم- فلا يأكلون طعام المجوس قط، بل يوجد في محلتهم مطاعم إسلامية يأكلون فيها. وبعد الطعام ركبنا الجواري (العربات) الخاصة بكبار أهل الصين وتفرجنا على شوارع بكين، وهي شوارع ضيقة جدًّا وليس فيها شيء من النظافة، وإذا استثنيت محلة الأوروبيين وعدة شوارع أخرى فلا يبقى بعدها إلا شوارع وسخة لا ترغب دخولها لوساختها. الوطنية بين أهل الصين قوية جدًا، فملابسهم الوطنية لا يتركونها والتجارة كلها في أيديهم ولا يوجد في محلة الصينيين دكان لأوروبي غير دكاكين الوطنيين، وملابسهم ومأكولاتهم كلها معمولة في معاملهم وبأيديهم، ولما أخذ بعض الشبان منهم يلبسون البرانيط الأوروبية بعد إعلان الجمهورية اتخذوا كذلك مصانع لهم يصنعون فيها البرانيط الأوروبية. ولا يأتمرون بأوامر يوانشيغاي رئيس الجمهورية في قطع ضفائرهم ادعاء بأنه مساس بقوميتهم، ويروون خبر وجود جمعية سرية تستعد للثورة حفظًا للضفائر. ... ... عناية الله أحمدي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (بكين) *** افتتاح مدرسة إسلامية في بكين مسلمو الصين ولا سيما أهل بكين منهم عرفوا وجوب التعلم وأخذوا يلتذون به ويصرفون جهدهم لافتتاح المدارس الابتدائية التي هي أساس الحضارة والارتقاء. قبل خمس سنين ما كان بينهم كما يروون ذكر للمدرسة، وما كانوا يعرفون ما هي وما فائدتها، والآن فتحوا في مدة وجيزة سبع مدارس ابتدائية ويجتهدون في تعليم أولادهم الصغار، وكذلك فتحوا مدرسة كبيرة للذكور في محلة الإمام أبي بكر أفندي حينما كنت أنا في بكين، حضر مجلس الافتتاح مفتي مسلمي بكين والعلماء والموظفون في دوائر الحكومة ومعلمو المدارس وغيرهم من كبار مسلمي العاصمة، وبعد أن تم اجتماع المذكورين جاء السيد طاهر أفندي - الذي اجتهد كثيرًا في فتح المدرسة وحاز منزلة رفيعة بين مسلمي الصين - والتعليم في هذه المدرسة يكون على ما يقولون في فصلي الصيف والشتاء، إلا أنه يكون في الشتاء خاصًّا بالأولاد وعلى نظام (برغرام) معين، وفي الصيف يقبل الصغار والكبار ولا يكون التعليم بالنظام. معلم الديانة في هذه المدرسة في فصل الصيف يكون دائمًا في المدرسة، وكذلك معلم اللغة الصينية. والعلوم التي تدرس فيها هي هذه: اللغة العربية. والديانة، وت

الحرب الصليبية في البلقان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب الصليبية في البلقان قد عرف كل قارئ وكاتب وواعٍ وسامع حقيقة ما تسميه أوربة (المسألة الشرقية) وهو إزالة دول الإسلام من الشرق -وبعبارة أخرى من الأرض- وجعلها قسمة بين الدول الغربية -وبعبارة أخرى المسيحية- وأول ما يهمهم من بلاد المسلمين ما كان منها في أوربة، فإن من طباع الأوربيين وغرائزهم الموروثة شدة العصبية على من لم يكن منهم وعدم احتمال وجوده بينهم. بل كانوا لا يحتمل بعضهم من بعض مخالفة في دين ولا مذهب، ولذلك أبادوا الوثنيين من أوربة لما صار أكثرهم نصارى، وأبادوا المسلمين من غربي أوربة (الأندلس) ولا يزالون يعملون لإبادتهم من شرقيها (تركية أوربة) ولا تنس ما جرى بينهم من الحروب لاختلاف المذاهب النصرانية حتى غلب كل مذهب في دولة أو دول. ولولا فضل اليهود والأحرار المارقين من النصرانية على أوربة بتأسيس الماسونية الداعية إلى الحرية والمساواة بينهم وإزالة السلطة الدينية لظلت الدماء تُراق حتى يبيد أهل مذهب واحد جميع المذاهب كما أباد دين واحد جميع الأديان. كانت الدولة العثمانية أقوى من جميع دول أوربة بأسًا، ولكنها لم تكن قطّ أقوى عقلاً ورأيًا، فكانوا يستفيدون من قوتها بحسب دهائهم، حتى صاروا بارتقاء العلوم والفنون وما يترتب عليها من الصناعات أقوى منها. حينئذ طفقوا ينتقصون بلادها من أطرافها، فأزالوا سلطانها عن بلاد اليونان والرومان والبلغار، وأسسوا من البلاد التي كانت لها عدة إمارات وممالك بجوارها تأسيسًا تدريجيًّا، وأخذوا على عاتقهم حمايتها منها، فإذا أغارت إحدى هذه الإمارات أو الممالك على شيء من بلاد الدولة حتى عندما كانت تحت سيادتها ساعدتها أوربة على امتلاك ما أغارت عليه، وإذا وقعت حرب انتصرت فهيا العثمانية وأخذت شيئًا من بلاد إحدى هذه الممالك ردته أوربة إليها ولم تسمح للعثمانية بأن تستفيد من انتصارها شيئًا. والأصل في ذلك القاعدة المتفقة عليها بين دول أوربة كافة ونقل عن اللورد سالسبوري التصريح بها وهي (ما أخذه الصليب من الهلال لا يعود إلى الهلال، وما أخذه الهلال من الصليب يجب أن يعود إلى الصليب) . هذا هو الواقع الذي تمدح به أوربة في رأيي، وإنما يذم منكره والمكابر فيه من منافقي بلادنا وغيرهم، وهذا ما ظهر للعيان في الحرب الحاضرة فقد صرح بعض ملوك التحالف البلقاني ووزراؤه بأن هذه الحرب صليبية محضة المراد منها إنقاذ المسيحيين من سلطة (الترك الكافرين) وصرحت الدول العظمى في أول الأمر عندما كن يعتقدن أن الدولة العثمانية أقوى من البلقانيين ويُرجى أن تنتصر عليهم بأنهن لا يسمحن للغالب في هذه الحرب بأن يأخذ شيئًا من ملك المغلوب بل يجب أن تبقى البلاد كلها على حالتها الحاضرة التي تواثقت الدول كلها على حفظها فلما ظهرت بوادر الغلبة للبلقانيين على الترك بدا لهم، ولم تخجل دولة ولا جريدة لدولة من التصريح بأنه لا يمكن حرمان دول البلقان من ثمرة انتصارها. هذا قول إجمالي وجيز في تصرف أوربة في الدولة العثمانية إلى هذا اليوم وهو تصرف العاقل الحكيم في القاصر الجاهل. وإنني أعتقد أن أوربة لم تكن في الماضي ولا في الحاضر شرًّا علينا من أنفسنا، ولو وجد في الدولة عقلاء مصلحون لتيسر لهم النهوض بها بمساعدة أوربة نفسها، ومن لا يصلح نفسه لا يصلحه غيره. والدولة تعرف في الجملة ما هي أوربة وهي الآن منها كالمريض بين يدي ممرضه الذي يعالجه عند شدة الألم بالمورفين الذي يسكِّن آلامه في الحال، ليسلبه الحياة في الاستقبال، ولكنه لا يرى في نفسه غِنى عنه، فهي تلقي نفسها بين يدي أوربة، وتقول لها: تصرفي كيف شئت ولكن تكرمي بالرفق واللين. إن الدول العظمى تقدر الآن على اقتسام جميع بلاد الدولة العثمانية بحيث يكون سقوطها أهون عليهن من سقوط مراكش بل من أخذ طرابلس الغرب الذي لم يتم لهن في سنة، وقد يتم هذا في شهر؛ لأنه تبين لهن أن القوة العسكرين العثمانية التي كان يُخشى بأسها غير منظمة كما يجب ولا أعد لها مال يمكن به جمعها، وإيجاد عمل كبير بها، وأما القوة المعنوية فقد هدمن أركانها بأيديهن وأيدي المتفرجين في الآستانة وغيرها، فهن لا يخشين من استعمالها إياها، ولكن منهن من تداري بعض المسلمين في بلادها، فهن الآن قادرات على أن يبطشن البطشة الكبرى وما هي منهن ببعيد. وقد كانت الدولة تعتمد على خلافهن وخلاف البلقانيين في المصالح والقسمة وهذا أقبح جهلها بالسياسة وأضره، وإذا جاز أن تتفق دول البلقان، وهي أكثر تنازعًا وأقل حكمة وعلمًا من الدول الكبرى وأن يعقدن بينهن اتفاقًا ربما كان دائمًا وكنّ به دولة عظيمة متحدة، فكيف لا يجوز اتفاق أولئك. إذا اكتفت أوربة هذه المرة بسياسة الجرح فالتخدير فقطع بعض الأعضاء وإبقاء بقية الجسم وتركت التصدي لمثل هذه (العملية) زمنًا طويلاً فإنني أعد ذلك منها إحسانًا إلى الدولة. ولكنها لا تحسن هذا الإحسان إلا إذا كان فيه المصلحة لها. أما الإحسان الخالص بعدم بتر شيء من جسم الدولة وفاء بعهد الدول قبل الحرب فهو المنة التي يعجز عنها الشكر. ولعله يكون متعذرًا إذا تم الفوز للبلقانيين، وإنما يكون ممكنًا إذا أُديل للعثمانية منهم فطردتهم من بلادها إلى حدود بلادهم على الأقل وما كل ممكن يقع. إن الذي يستنتج من مجموع صحف أوربة هو أن الدول الكبرى تخشى عاقبة هذه الحرب إذا تم الفوز للباقانيين، وهذا إنما يكون إذا كانت غير متفقة على تقسيم البلاد العثمانية كلها، فإن التنازع بينهم على الأوربية منها أشد، وهو على أشده بين النمسة وإيطالية وروسية ورومانية. ومحل الخوف من وجهين: أحدهما: أن الحكومات البلقانية المتحدة قد خرجن بهذه الحرب من حَجْر وصاية الدول الكبرى وأعلنّ الرشد والتصرف الاستقلالي حتى أنهن يصرحن بأنهن لا يقبلن وساطة أوربة في الصلح بينهن وبين الدولة العثمانية. وإذا كان الأمر كذلك كما هو الظاهر فلم يبق للدول الكبرى نفوذ ولا سلطان لا على الدولة العثمانية فإذا هي أُظفرت قدرن على حفظ السّلم العام بحرمانها من ثمرة الظفر وإلا فقد خرج الأمر من أيديهن إذا كان بينهن خلاف ما، ويظهر أن حكوماتهن حريصات على الوفاق وعلى حفظ السّلم العام، وأن شعوبهن تميل إلى البلقانيين لمكان الدين والمذهب والانتصار للصليب على الهلال والنصرانية على الإسلام - فالمستقبل مجهول الآن. أما نحن المسلمين فقد صرح سلطاننا برأي حكومتنا أن هذه الحرب سياسية لا دينية. والمراد بهذا أن الدولة لا تعدها حربًا دينية بالمعنى الذي تفهمه أوربة وسائر النصارى من لفظ الجهاد الديني وهو ما قام به الصليبيون من قبل ومن بعد. وهو أن يقوم أهل دين على دين آخر لإبادتهم أو إثخانهم وإزالة سلطانهم، والحق أن هذه الحرب لا يراد بها عند دولتنا هذا المعنى. وإنما هي دينية بمعنى آخر ٍإسلامي عادل وهو أن أعداءنا قد اعتدوا علينا لأجل ديننا وسلطاننا وراموا أخذ بلادنا من أيدينا فيجب علينا شرعًا أن نقاومهم بكل ما نستطيع وأن نجاهدهم بأموالنا وأنفسنا - وهذا ما يعتقده جمهور المسلمين. يترتب على كون الحرب دينية بهذا المعنى أنه يجب على كل مسلم أن يساعد الدولة عليها بما يستطيع من مال أو نفس، وأن تبذل فيها الزكاة الشرعية إما مقدار سهم الغزاة فقط عند من يعتقدون أن الزكاة يجب صرفها إلى جميع الأصناف المستحقة لها إن وجدوا، وإما صرفها كلها عند من يقول يجوز أداؤها إلى صنف واحد. ويمكن أن يقال في هذه الحرب: إنه يجوز صرف سهام الفقراء والمساكين وأبناء السبيل إلى هؤلاء المقاتلين فيها؛ لأن الدولة عاجزة في هذا الزمن عن كفايتهم. إننا نرى ميل الشعوب النصرانية إلى البلقانيين مما نقرأه عن الجرائد الأوربية مع علمهم بأنهم باغون معتدون، فالواجب على جميع الشعوب الإسلامية أن تميل إلى الدولة العثمانية، بل يجب ذلك على كل شعب يرجح الحق والإنسانية والسلم على الباطل والوحشية وإراقة الدماء. ولكن هل يوجد في الأرض شعب متصف بهذه الصفة؟ لا لا. لا تحتاج الدولة إلى من يجاهد معها بنفسه فإن عندها جيشًا كثيرًا يكفي لرد عدوان المعتدين إذا وجد العُدة والمؤنة الكافية. على أن هذه الحرب لا يطول أمرها إلى أن يدركها من يريد إمداد الجيش العثماني بنفسه من الأقطار البعيدة. فالواجب الجهاد فيها بالمال الذي يتوقف عليه كل شيء، وهو الذي يمكن إرساله بسرعة البرق من المشرق والمغرب والجنوب والشمال. إن المسلمين أنشأوا في بعض الأقطار يجمعون المال للإعانة الحربية ولجمعية الهلال الأحمر كما نذكر ذلك في باب الأخبار من هذا الجزء، ولكن يظهر لنا من قلة ما يبذلون أنهم لا يزالون غير شاعرين بكنه الحال، وخطر زوال الاستقلال، فإذا كانت هذه الصاخّة الكبرى لم توقظهم فمتى يستيقظون (إنا لله وإنا إليه راجعون) . أما المغرورون من أوشاب الآستانة والرومللي الاتحاديين ومن على رأيهم فلا تحاسبهم الآن على غرورهم التي قذفنا في هذه الهُوة، ولنا معهم كلام آخر بعد انتهاء الأزمة، وإنما نذكِّر الناس بأن هؤلاء قد جمعوا ملايين كثيرة من أموال العثمانيين وزعموا أنهم يريدون بها حماية الدستور وترقية المملكة، فأي الأمرين أحق أن ينفق في سبيله مال الأمة: أحفظ الدولة وسلامة أملاكها وشرفها؟ أم حفظ الدستور بغير دولة؟ إن زعماء هذه الجمعية قد استخفوا الأمة العثمانية سنين حكموها باستبدادهم، ولا يزالون محتقرين لها، وقد خرج الأمر من أيديهم، ومن ضروب هذا الاحتقار والاستخفاف قول طلعت بك وجاويد بك أنهما يرغبان التطوع في الجيش! ! ولو دخلاهما وأمثالهما في الجيش ما زادوه إلا خبالاً يبغونه الفتنة وفيه سماعون لهم، وإنما الجيش في أشد الحاجة إلى خزائن جمعيتهم لا إلى تصديهم لحرب لا غناء لهم فيها إلا غناء الغانيات. المال المال هو الذي يغني الدولة عن كل ما عداه ولا يغني عنه تطوع المتطوعين، وماذا تعمل الدولة بالمتطوعين يُحشرون إلى حيث لا يجد الجند المنظم خبزًا يُشبعه إذا هو اجتمع برمته. ألا إن المسلمين لم يستيقظوا من رقادهم، فيشعروا بالخطر الذي حاق بهم، وكل هذه الصيحات والقوارع التي تقدمت قيام ساعتهم، لم تنبههم من غفلتهم ولا بصرتهم بسوء عاقبتهم، {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْراطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} (محمد: 18) . إذا انتهت هذه الحروب بخروج الولايات المقدونية من سلطة الدولة وخرج معها من رؤوس المتفرنجين الذين ربتهم لنا مدارس الآستانة غرورهم بأنفسهم وبجيشهم ومن رؤوس معظم العثمانيين والملايين من المسلمين غير العثمانيين غرورهم بهم وبقوتهم، وبقي للدولة استقلال صحيح ولو في بلادها الأسيوية فقط - فإنني أعد هذه الحرب والخسار فيها من أكبر نعم الله على الدولة والإسلام. إن الخطر ينذر هذه الدولة بالهلاك من زمن طويل، وقد عجل عبد الحميد خطواته في زهاء ثلث قرن، وعجلت جمعية الاتحاد والترقي خطواته في ثلاث سنين، بأشد من تعجيل عبد الحميد لها في ثلاثين سنة ونيف، ولم يقم أحد من المسلمين في كل هذه المدة بمشروع يدرأ الخطر، ويكفل مستقبل الإسلام المنتظر. طالما نبهنا الدولة في زمن عبد الحميد إلى وجوب تعميم التعليم العسكري في جميع البلاد، وإيجاد قوة محلية

السبحة ـ تاريخها والتسبيح والذكر بها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السبحة تاريخها والتسبيح والذكر بها (س 11) من تونس كان أرسل إلينا صديقنا العالم المؤرخ محمد بن الخوجة السؤال الآتي من تونس منذ ثلاث سنين فأرجأنا الجواب عنه لنبحث عن تاريخ السبحة ولم يتيسر لنا ذلك وهذا نصه: (حضرت مجلسًا ذكرت فيه أفضلية الذكر بالسبحة المعروفة، فأحببت أن أعرف أصل شيوعها في الإسلام وكيف رسخ أمرها عند المسلمين بعد أن كانت من شعائر البراهمة والمجوس. فراجعت مجموعة مناركم المنير إلا أني لم أقف فيها على ذكر لها. لذلك طرقت باب معارفكم الواسعة لتتفضلوا بالإفادة على معنى الوجهتين التاريخية والتعبدية ولكم الشكر سابقًا ولاحقًا) . (ج) لم يرد للسبحة ذكر في كتاب الله تعالى ولا في الأحاديث الشريفة ولا في كلام الصحابة (رضي الله عنهم) ونقل شارح القاموس عن الأزهري أن هذه اللفظة مولدة لم تعرفها العرب. ويدخل في هذا النفي أنها لم ترد في كلام أحد ممن يحتج بعربيته بعد الإسلام. ونقل عن شيخه أنها حدثت في الصدر الأول للاستعانة بها على التسبيح. كنا نرى هذه السبح في أيدي القسيسين من النصارى والرهبان والراهبات ونسمع أنها مأخوذة عن البراهمة، ولما زرت الهند في هذه السنة رأيت فيها بعض الصوفية من البراهمة والمسلمين، ورأيتهم يحملون السبح ويعلقونها في رقابهم، والظاهر أن المسلمين أخذوها أولاً عن النصارى لا عن البراهمة؛ لأنهم ما عرفوا البراهمة فيما يظهر لنا إلا بعد فتحهم للهند، وأما النصارى فكانوا في مهد الإسلام عند ظهوره (جزيرة العرب) وفي البلاد المجاورة له كالشام ومصر. فلا بد أن يكونوا قد أخذوا السبحة عنهم فيما أخذوه من اللباس والعادات. والأمر في السبحة ينبغي أن يكون أشد من أخذ غيرها عنهم؛ لأنها تدخل في العبادة وتعد شعارًا كما ذكر السائل. ولكنها صارت معتادة وجماهير الناس يخضعون للعادة ما لا يخضعون للحق. ألا ترى كيف يقيمون القيامة في كل قطر عن من يستحدث ثوبًا أو ماعونًا أو عادة لغيرهم وينكرون عليه ويقولون: إنه فاسق أو مبتدع أو كافر؟ ثم هم لا يتركون شيئًا مما استحدثه من ذلك من قبلهم وصار عادة لهم بل ربما ينكرون تركه ويعدونه تركًا لشيء من شعائر الدين أو فرائضه، فالسبحة من البدع الداخلة في العبادة، فكان الظاهر أن يتشدد في تحريمها أكثر مما يتشدد بعضهم في حظر أزياء الكفار لا أن يقولوا: إن الذكر بها أفضل. فإن قالوا: إنهم وجدوا لها فائدة في ضبط الذكر الكثير الذي يفرضه عليهم شيوخ الطريق نقول: يلزمهم بهذا أن يبيحوا كل ما توجد له فائدة من البدع الدينية. فإن قالوا: نفعله على أنه من طرق التربية العادية عند الصوفية ولا نقول: إنه من أمر الدين. نقول: يلزمهم القول بمثله في كل العادات وهو الصواب، ولكن قلما يقولون به فيما يحدث ويتجدد. على أنه لا يمكن الجواب عن شيء من بدع المتصوفة بغير هذا وإن لم يسلمه لهم الفقيه في السبحة ونحوها. ولا يغترنّ أحد بالأبيات التي نظمها بعض الجهلاء في إحصاء تركة النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر السبحة في أولها بقوله: (مخلف طه سبحتان ومصحف) فهذا من الأباطيل التي اخترعها الجاهلون، ولم يترك النبي صلى الله عليه وسلم مصحفين ولا مصحفًا، ولم يكن القرآن في عهده مجموعًا في المصحف وإنما كان مكتوبًا في صحف وعظام وغير ذلك وكانت هذه المكتوبات متفرقة وكانت العمدة في نشره وإقرائه حفظ القراء له حتى جمع في خلافة أبي بكر ووزعت المصاحف على الأمصار في عهد عثمان رضي الله عنهم أجمعين. أما السنة في إحصاء ما ورد من الذكر معدودًا فهي العقد بالأنامل أي وضع رأس الإصبع على عقدها، وفي كل إصبع ثلاث عقد. وكان للعرب اصطلاح في العقد يشيرون بها إلى جميع الأعداد. قيل: كانوا يعقدون الآحاد والعشرات باليمنى والمئين والألوف باليسار، روى أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح) وروى أحمد والترمذي وأبو داود وابن حبان وغيرهم بأسانيد مختلفة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالتسبيح والتهليل وأن يعقدن بالأنامل. قالت راوية الحديث يسيرة المهاجرة رضي الله عنها أنه قال: (عليكم بالتسبيح والتهليل والتقديس ولا تغفلن فتنسين الرحمة واعقدن بالأنامل فإنهن مسئولات مستنطقات) أي فتشهد لهن يوم القيامة، وأما الذكر الكثير فلا حاجة إلى عده فإن العدد يشغل القلب عن المذكور فلا يحصل المراد منه. وهو الذكر الذي قال فيه محيى الدين بن عربي: بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس البصائر والقلوب

حديث في استلزام المغفرة للذنوب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حديث في استلزام المغفرة للذنوب (س 12 من البصرة) حضرة العالم الفاضل صاحب مجلة المنار الإسلامية الغراء: إن هذا الحديث (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) من الأحاديث الشريفة الواردة ويستبان من ظاهره أن الله سبحانه وتعالى الذي هو ليس بظلام للعبيد يحث على ارتكاب الذنب وهذا مما يجعل العامة في ريب فنرجو حل هذا الحديث على الوجهة الشرعية أجزل الله لكم الثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سائل (ج) جاءني بهذا السؤال وأنا بالبصرة بعض الشبان من طلاب مدارس الحكومة وقال بعضهم: إنهم يرتابون في صحة هذا الحديث بل أنكروه. فقلت لهم: بل هو صحيح السند، رواه مسلم في صحيحه وبينت لهم معناه بما لا شبهة فيه كما يأتي. أما لفظ مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً فهو (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرونه فيغفر لهم) وعن أبي أيوب بلفظ: (لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون يغفر لهم) وبلفظ آخر بمعناه. وفي الجامع الصغير عن ابن عباس عند الإمام أحمد وحسنه (لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون ليغفر لهم) . وأما معنى الحديث فهو أن من شئون رب العالمين خالق العباد وملكهم أنه غفور رحيم للمذنبين التوابين منهم، كما أن من شئونه العقاب للعاصين، والقصاص من الظالمين للمظلومين، فلا بد أن تجري جميع شئونه في خلقه، وأن يظهر تعلق صفاته في متعلقاتها من العالم، كالعلم في المعلومات، والقدرة في المقدورات، والسمع في المسموعات، فكما تتعلق هذه الصفات الإلهية بمتعلقاتها تتعلق صفة المغفرة بمتعلقاتها، والعالم كله مظهر صفات الله تعالى وأسمائه في الدنيا والآخرة، وهذا لا يقتضي الحث على الذنب لأجل التعرض لتعلق المغفرة بالمذنب؛ لأن المغفرة لا تتعلق بكل مذنب بل من المذنبين من يعاقب على ذنبه كما علم من النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة وهي معلومة من الدين بالضرورة، ومنهم من يغفر له كما علم من هذا الحديث وغيره، وما أحسن قول أبي الحسن الشاذلي في هذا المقام: (وقد أبهمت الأمر علينا لنرجو ونخاف، فأمّن خوفنا ولا تخيّب رجاءنا) على أن ما يستحق المذنب به المغفرة مبين في الكتاب الحكيم، قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) وقال تعالى في بيان استغفار الملائكة للمؤمنين: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} (غافر: 7) إلخ وفي رواية أبي هريرة للحديث المسئول عنه ما يشير إلى ذلك فإن المراد بالاستغفار ما يكون أثر التوبة.

أسئلة من القوقاس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من القوقاس (س 13-15) من صاحب الإمضاء العالم المستنير مفتي تلك الديار. بسم الله الرحمن الرحيم حضرة الشيخ المعظم والأستاذ المحترم سيدنا ومولانا السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار. سلام الله تعالى عليكم. وبعد: فإني أرجوكم الإجابة بلسان المنار في هذه المسائل التي أذكرها (1) إحداها تفسير {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} (الزخرف: 33) الآية إني رجعت فيها إلى كتب المفسرين فوجدتهم يقولون بتفسير يلزم معه أن لا يوجد في الناس أولياء ولا أنبياء إلا وهم مفتونون بالأموال وحاشاهم عقلاً ونقلاً. (2) المزارعة إذا كان صاحب الأرض مسلمًا والعامل كافرًا والبذر منه فهل يجب على المسلم إخراج جميع عشر خارج الأرض أم عشر ما يصيبه فقط. (3) الحادثة التي يكثر السؤال عنها في دارنا، وذلك أن رجلاً يستأجر من آخر مسلمًا كان أو غيره أرضًا يستغلها فلا يستفيد إلا مقدار عشر خارجها زائدًا عن المئونة التي صرفت عليها وربما لا تفي غلتها بما صرف عليها. ومثل هذا يقع في دارنا ولا سيما إذا قل العمال (الأُجراء) فهل يجب على العامل عشر الخارج بدون إخراج مؤنتها فيكون محرومًا أو مغبونًا من جهة كونه عاملاً بحق؟ أفيدونا مأجورين رحمكم الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... جانخوت الحتقي *** الجواب عن الأولى تفسير {وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً} (الزخرف: 33) معنى الآية على رأي الجمهور معروف للسائل وملخصه: لولا كراهة أن يكون الناس كلهم كفارًا أو مائلين إلى الكفر لجعلنا لبيوت الذين يكفرون بالرحمن سقفًا من الفضة ومعارج من الفضة كالدَّرج والسلالم يرتقون عليها إلى الغرفات وغيرها من الأماكن العالية في تلك البيوت، وأبوابًا وسررًا من الفضة أيضًا، وزخرفًا من الذهب وغيره من أنواع الزينة التي تزين بها البيوت من الأثاث والرياش والماعون وإنما يكون الناس بسبب ذلك أمة واحدة لأنهم كلهم يميلون إلى الزينة ناهيك بها إذا وصلت إلى هذه الدرجة من الكمال بالنسبة إلى هذه الحياة. على أن كل ذلك متاع الحياة الدنيا يتمتع به صاحبه قليلاً ثم يفارقه، والآخرة التي لا تزول زينتها ولا ينقضي نعيمها خاصة بالمتقين فإذا لم يكن المنعم منهم بأن كان كافرًا بتلك النعم وبالنعم يكون محرومًا منها فماذا تغني عنه تلك الزينة الفانية، والنعمة البالية. وهذا التفسير كما قال السائل الفاضل يستلزم أن يكون جميع الناس مفتونين بالزينة والزخرف. واللازم له منقوض بالفعل، دع ما قاله من نقضه بالعقل والنقل فقد وجد في الناس الزاهدون في الزينة والنعيم، عن استطاعة وقدرة، كالخلفاء الراشدين بعد الفتح، وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم بن أدهم وغيرهم. وأقول وبالله التوفيق: ما لنا لا نرجع في فهم هذا التركيب، إلى مثله في الكتاب العزيز؟ قال تعالى بعد بيان إنزال التوراة والإنجيل وأمر أهلها بالحكم بهما ثم إنزال القرآن كذلك: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (المائدة: 48) ... إلخ وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} (النحل: 93) وقال بعد ذكر إنزال القرآن لإنذار أم القرى وما حولها: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} (الشورى: 8) . وقال بعد بيان أحوال الأمم وكونه لا يهلكهم بظلم وهم مصلحون {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (هود: 118-119) فهذه الآيات تدل على أن حكمته تعالى قضت بأن لا يكون الناس أمة واحدة فكانوا بمشيئته المطابقة لحكمته مختلفين. وقال بعد بيان عبادة المشركين لغير الله على أنهم شفعاء عنده وإنكار ذلك عليهم: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (يونس: 19) وقال تبارك وتعالى بعد بيان أحوال الناس في أقوالهم وأعمالهم وإيمانهم: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} (البقرة: 212-213) الآية. فبين لنا في هاتين الآيتين أن الناس كانوا أمة واحدة ثم تفرقوا بالاختلاف. و (كان) هنا تامة ثبوتية والمعنى أنهم وجدوا وخلقوا أمة واحدة، والجمع بين هذا وبين ما تقدم أن الناس خلقوا أمة واحدة في الفطرة ونظام الخلقة. ثم تفرقوا بالاختلاف، وبذلك سبقت مشيئة الله تعالى واقتضته حكمته. ذلك أن من سنته في خلق هذا النوع أن يوافق الأولاد والديهم في بعض الأوضاع الجسدية والصفات النفسية والعقلية ويباينونهم في بعض، ولو وافقوهم في كل شيء لظلوا على أصل التكوين الأول فبقوا أمة واحدة كالعصافير مثلاً، ولو باينوهم وفارقوهم في كل شيء لكانوا أنواعًا أخرى من المخلوقات لا من الناس، فبسُنَّتي الموافقة والمباينة كانوا أمة واحدة، وكان لا بد من أن يختلفوا في كل شيء من أمور معاشهم وشرائعهم وأديانهم. ومن حكمة الله تعالى في ذلك أن يكونوا نوعًا مستقلاً مباينًا لغيره من أنواع المخلوقات في تفاوت استعداد أفراده وكون هذا الاستعداد يتعلق بما يحتاجون إليه لحفظ حياتهم الحيوانية شخصية ونوعية، وبما لا يتعلق بذلك بحيث لا يكون له حد معروف. ولذلك يشتغلون بأخسّ الأشياء وأدناها، وأرفعها وأعلاها، ويظهرون الحقائق ويؤيدونها، ويأخذون بالأباطيل وينصرونها، وأن يكون منهم الغني والفقير، والسيد والأجير، والسعيد والشقي، والرشيد والغَوِيّ، ولذلك قال تعالى في الآية الأولى من الشواهد التي أوردناها آنفا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} (المائدة: 48) أي: ولكن جعلكم مختلفين بمقتضى سنة الخِلقة ليختبركم فيما أعطاكم من زينة الدنيا كيف تعملون فيها بما آتاكم من الإرادة والاختيار، كما قال في آية أخرى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} (الكهف: 7-8) بعد هذا التمهيد نقول في الآية التي نحن بصدد تفسيرها (ولولا) تحامى (أن يكون الناس أمة واحدة) كغيرهم من أنواع الحيوان التي اتحدت فطرتها، وفُطِرت مسوقة بطبعها إلى عمل ما فيه قوام حياتها، لا يختلف في ذلك أفرادها، سواء ما يعيش عيشة فردية أو زوجية، وما يعيش عيشة اجتماعية، (كالنحل والنمل) (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن) كذا وكذا من الزينة والزخرف والمتاع الحسن بمحض قدرتنا وسنتنا في التكوين لا بكسبهم وسعيهم واختيارهم، وحينئذ لا يكونون على نظام هذا النوع في حياتهم، وقد سكت عن بيان ما يجعله للمؤمنين؛ لأنه يفهم من مقابله، وهو أن يحرمهم بقدرته وسنته في التكوين من تلك الزينة أو من جميع أنواع زينة الدنيا ومتاعها ويجعل رزقهم كفافًا. وبهذا يكون الناس أمة واحدة بخلقها على استعداد واحد لا يتفاوت فيه أفرادهم، ولا تأثير فيه لكسبهم واختيارهم، وإن كانوا فريقين فريقًا ذا زينة وفريقًا غفلا منها. كالطاووس جعل الله لذكره ذنبًا جميلاً يزينه وحرم أنثاه من هذه الزينة، وهو مع هذا أمة واحدة. قلنا: إن معنى الجعل في منطوق الآية وما يقابله من مفهومها الذي بيناه، هو الخلق والتكوين بحيث لا يكون للكافر كسب ولا اختيار في زينته، ولا للمؤمن كسب ولا اختيار في عطله، وأن يكون الناس بذلك غير هذا النوع الذي نعرف سنة الله فيه من أنفسنا - ودليلنا على هذا أن الكفر والإيمان لا دخل لهما في الاستعداد لكسب الزينة وتحصيلها كما هو الواقع المشاهد، ويصدق هذا آيات كثيرة كقوله تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: 20) أي عن أحد من مريدي العاجلة ومريدي الآخرة. وقوله في طالبي حسنتي الدنيا والآخرة: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا} (البقرة: 202) . وليس من مقتضى الإيمان ولا من شأنه أن يكون صاحبه أقل كسبًا أو استعدادًا للكسب، ولا أن يكون محرومًا من الزينة والطيبات، بل هو أحق بهذا من الكافر بدليل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32) فجعل المؤمنين هم أصحاب الحق الأول الذاتي للزينة والطيبات كأنه لا حق فيها للكافر. ولولا أنه قال {خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) لم يكن في الآية ما يدل على أن الكافر قد يشارك المؤمن فيها في الدنيا. وقال {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى} (طه: 124) يعني أن الكافر بإعراضه عن كتاب الله يكون شقيًا ضيق المعيشة في الدنيا هالكًا في الآخرة، وقال تعالى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} (الجن: 16) . فهذه الآيات وأمثالها تنقض ما قاله المفسرون وغيرهم في كون الأصل في زينة الدنيا وطيباتها وعزها أن تكون للكفار وكون الأصل في حال المؤمن أن يكون محرومًا من هذه النعم. كلا إن نعم الدنيا تُنال بأسبابها وهي مشتركة، والمؤمن أحق بها بمقتضى تهذيب الإيمان وإعلائه للهمم، ولذلك وعد الله المؤمنين الصالحين بإرث الأرض وبشر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بالملك الواسع لمشرق بلاده ومغربها، ولأن المؤمن أجدر بالشكر ووضع النعم في موضعها، وهذا سبب المزيد منها. بقي شيء مهم وهو أن المؤمن لمعرفته بالله تعالى وما أعده للمؤمنين في الآخرة تكون نفسه متعلقة بما هو أعظم من كل شيء في الدنيا ويرى متاع الدنيا كله حقيرًا في جانب ما تتوجه إليه نفسه من نعيم الآخرة ورضوان الله فيها. فلا يفرح بما يصيبه منها فرح بطر وغرور، ولا يحزن على ما فاته منها حزن يأس وفتور، وقد صغر الله له شأنها. لأجل أن تكون همته متوجهة إلى ما هو خير منها. فلا يبطر الواجد، ولا يحزن الفاقد، بل يكون جميع المؤمنين في مقام الاعتدال المكين فهو تعالى يبين لنا في هذه الآية أنه لولا تحامي أن يكون الناس أمة واحدة كغيرهم من أنواع الحيوان لجعل زينة

الجامعتان الإسلامية والعثمانية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامعتان الإسلامية والعثمانية (2) الجامعة العثمانية بينّا في صدر هذا المقال معنى الجامعتين بالإجمال، وفصلنا في القسم الأول منه القول في الجامعة الأولى بعض التفصيل، وها نحن أولاء نفصل القول هنا في الجامعة الثانية كذلك. أكبر سيئات البشر الاجتماعية أنهم جعلوا انقسامهم إلى شعوب وقبائل، وأمم ودول، وملل ونِحل، سببًا للعداوة والبغضاء، وسفك الدماء، وإفساد الأرض، وإهلاك الحرث والنسل، وربما انقسمت الأمة الواحدة، وأهل الملة التي من شأنها الوحدة، إلى أحزاب ومذاهب، وآراء ومشارب، فعادى بعضهم بعضًا لأجل ذلك، وقد تَسْري عدوى هذا الفساد من الجماعات الكبيرة إلى الجماعات الصغيرة، فترى الأسرة التي تنتهي إلى جد بعيد أو قريب تنقسم إلى بيوت يعادي بعضها بعضًا فأولاد العم يتحاسدون ويتباغضون، بل الإخوة يتغايرون ويتدابرون، يكثر هذا في الأمة ويقل ويزيد وينقص، على مقدار نقص العلم والتهذيب فيها وكمالهما بالفعل، لا مقدار ما كان لها من ذلك في التاريخ، فلا شرف النسب ولا صحة أصل الدين مما يفيد في ذلك إذا كان الفروع قد تركوا سنة أصولهم التي شرفوا بها، وكان أهل الدين الصحيح لا حظ لهم من الاهتداء به. لا سلامة للبشر من تلك السيئة التي تلد ما لا يُحصى من السيئات، ولا كمال لهم ولا سعادة في هذه الحياة، إلا بالعمل بهذه القاعدة، وهي أن يتعاضدوا ويتعانوا على ما يشتركون فيه ويتفقون عليه، ويعذر بعضهم بعضًا فيما يفترقون فيه، ويحكِّموا الشرع والميزان فيما يتنازعون عليه، وعلى هذه القاعدة التي وضعتها من قبل جريت في دعوة العثمانيين من طريق السياسة والاجتماع، والمسلمين من طريق الدين والاعتقاد، إلى ما تتوقف عليه حياتهما من التعاون والاتفاق، فأنا أدعو إلى كلتا الجامعتين، ولا أرى شيئًا من التنافي بين المصلحتين. إن المسلمين واليهود والنصارى والصابئين وغيرهم من أهل الملل والنحل الذين تضمهم العثمانية على اختلاف المذاهب في الملة الواحدة منهم كلهم عثمانيون لا يكونون سعداء في معيشتهم أعزاء في وطنهم، إلا بعمران المملكة، وعزة الدولة وشرفها، فيجب أن يتحدوا ويتعاونوا على عمران هذه البلاد بالأعمال الزراعية والصناعية والتجارية المشتركة بينهم. ومتى مزج المال بالمال، وأنشئت الشركات المختلطة للأعمال، واجتمع المتفرقون في العقائد والمذاهب والعناصر، في المعامل والمزارع والمخازن، وكل منهم يرى مصلحته عين مصلحة الآخر، ويرى سعيه لنفسه عين سعيه له، وكثر التقاء الوجوه بالوجوه، ونظر العيون، والمحاورة بالكلام، والاجتماع على الطعام -تزول وحشة الخلاف، ويحل محلها أنس الائتلاف، فإننا نرى المصالح المادية أدعى إلى الوفاق من الأمور المعنوية، وإذا أمكن أن يربَّى جيل جديد في مدارس عثمانية وطنية يكون تلاميذها من جميع العناصر تتوثق الجامعة وتكون أكمل. فإذا لم يوفق العثمانيون إلى ذلك بترغيب عقلائهم فيه، ودعوة رجال الإصلاح والوفاق إليه، فإن الوحدة العثمانية لا تتكون تكونًا صحيحًا تامًّا. قد يسهل البدار إلى العمل بهذه القاعدة في مثل البلاد السورية لاتحاد لغة أهلها وتكافئهم في الكسب وارتقاء معارفهم؛ ولأن التفرق فيها بين المسلمين والنصارى لا يتعدى المنافسة والمباراة إلا قليلاً. وليس لفريق منهم ضلع مع دولة أجنبية يرمي عن قوسها إلى إلقاء فتن تمهد لها السبيل للاستيلاء على البلاد أو لما يشبه ذلك من فساد وخيانة كما يعهد في الولايات المقدونية التي أعضل داؤها، واستعصى على المعالج شفاؤها، فأنى يطمع في وحدتها العثمانية، بنظمها في سلك قاعدتنا الذهبية. أما التفرق بين الترك والروم في الأناطول فهو أهون من مثله في مكدونية وإن كان كل منهما في القطرين ملة واحدة. ودونه التفرق بين الكرد والأرمن على ما بين هؤلاء من وقائع العدوان التي لم يقع مثلها لأولئك، وإنما ينأى بالطمع في التأليف بينهم ذلك البون الشاسع بينهم في التربية والمعارف والكسب. وحسب العثمانية منهم الآن أن يتركوا البغي والعدوان، وكلامنا لا يصل إليهم، فلا نطيل الكلام في شأنهم، وكل ما نرجوه من إصلاح ذات بينهم، نفوضه إلى حكمة الحكومة وعدلها فيهم. وأما أهل العراق فهم أقرب إلى إخوانهم السوريين في الاستعداد للاتفاق في إقامة قاعدة الوحدة العثمانية، لولا أثرة اليهود في الأعمال المالية، وإيثارهم للجامعة الدينية الملية، وهم كثيرون في العراق، وفي أيديهم ناصية تجارتها، وتصريف رياح ثروتها، وما أظن إلا أنهم يأبون مشاركة المسلمين في أعمالهم، بل يطمعون في تجريدهم من معظم أموالهم، وإلجاء أكثرهم إلى بيع أرضهم وعقارهم، لأن هؤلاء الأكثرين يسرفون في النفقة ويقصرون في الكسب، كما هو شأن المسلمين في أكثر بقاع الأرض، إعراضًا عن هداية دينهم، وهجرًا لما أنزل عليهم من ربهم في النهي عن التبذير والإسراف، والترغيب في الاعتدال والاقتصاد، وأن المسرف المهمل ليغري القنوع بالطمع، فكيف لا يكون مزيدًا في طمع الطامعين؟ وأن المقتصد النشيط في الكسب ليجذب أمثاله إلى مشاركته في عمله، فما أجدره بجذب الكسالى والمتواكلين. وإني لأعذر يهود العراق، وكذا النصارى فيه إذا رغبوا عن عقد الشركات مع مسلميه إذا ظل هؤلاء مصرِّين على كسلهم وخمولهم، وإني أعيذهم من هذا الإصرار بالله الواحد القهار، الذي جعل إرث الأرض لمن يُصلح العمل والاستعمار {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} (هود: 61) . تلك هي المرتبة العليا للجامعة العثمانية بيناها لترغيب المستعدين لها فيها، وتنبيه محبي الإصلاح للدعوة إليها، فإذا تعذر العروج إليها في هذا العصر والتمكن من قسميها السلبي والإيجابي معًا (السلبي هو ترك التعادي والتباغض والتدابر، والإيجابي هو الائتلاف والاشتراك في المراقف والمنافع الدنيوية والتربية الفنية والعلمية) فإننا نكتفي منها بالقسم السلبي لأنه ترك، والترك ميسور في كل وقت، ثم لا مندوحة لنا عن القيام في المرتبة الثانية. المرتبة الثانية من مراتب الجامعة العثمانية: هي أن تتبارى الأقوام التي يجمع كلاً منها اللغة أو الدين في أسباب العمران من العلوم والفنون والأعمال مع الإخلاص للدولة، وقصد إعلاء شأنها وشأن مجموعة الأمة، ومراعاة ما سميناه القسم السلبي من قسمي المرتبة الأولى، وهو أن لا يتعادوا فيما يختلفون فيه. بل يجب أن يتحروا مع ذلك حسن المعاشرة، وآداب المجاملة، وأن يكون مثلهم في هذا كمثل الدول الأوروبية المتعاهدة على السلم: تتبارى في الكسب، وتتسابق إلى توسيع دائرة النفوذ والسلطة، ويعامل بعضها بعضًا بالمشاحة، فلا يرضى أن يسبقه غيره إلى دينار أو درهم، ولا إلى بث نفوذه أو تجارته في قطر أو بلد، وهم في أثناء ذلك كله يكرم بعضهم بعضًا ويعامله بالاحترام والآداب. فإذا اتفق لبعضهم أن تعدى حدود الحق أو الآداب مع الآخر تراضوا فيما بينهم أو تحاكموا إلى محكمة الصلح العام، وهم في هذا قد أعلوا شأن أوروبة كلها وصاروا في مجموعهم سادة العالم. وأضرب لهم مثلاً آخر: جماعات من الصناع والعمال يبنون قصرًا لكل منهم أجرة عمله خالصة له وغاية الجميع أن يكون القصر في أركانه وجدُره وبلاطه ونجارته وتجصيصه ونقوشه من أحسن قصور الدنيا. وهم في أثناء العمل يجتمعون على الطعام وعند أوقات الراحة يتحاورون ويتفاكهون، ولكن يجتهد كل فرد منهم وكل فريق بأن يكون أحسن عملاً وأتقن صنعًا وأوفر أجرًا. وأما مثلهم في المرتبة الأولى -وأخرت ذكره للمقارنة والمقابلة- فكمثل الجسد الواحد في حياته المادية يعمل كل عضو من أعضائه عمله لحياته وحياة سائر الأعضاء ممدًا لها ومستمدًا منها، معينًا لها مستعينًا بها، وإن كان لأهل ملة كل منهم حياة روحية أخرى ولهم فيها أعمال خاصة هم لها عاملون. ينبغي للمسلمين في مثل العراق أن يعتبروا في هذه المرتبة باتحاد اليهود والنصارى وتعاونهم ونشاطهم في الكسب، وسعيهم لإرث الأرض، وأن يجاروهم ويباروهم في ذلك ويتحروا سبقهم، من غير أن يهضموا حقهم، أو يسيئوا عِشرتهم وإنني أرى أن المسلم إذا تعصب للمسلم في الكسب واتحد به لمسابقة غير المسلم الذي تعصب لقومه -مع التزام ما كررنا تأكيد الحث عليه من حسن العشرة- فإن أولئك الأغيار يرغبون حينئذ إلى المسلمين في إقامة الوحدة العثمانية على أساس تلك القاعدة، والارتقاء بها إلى تلك المرتبة، لأن الاتحاد لا يكون إلا بعد التكافؤ. فكيف والمسلمون يكونون حينئذ أرجح؛ لأنهم أكثر عددًا ولا يزال معظم رقبة الأرض في أيديهم، وأما إذا طال عليهم أمد هذا التخاذل والتكاسل، فلا بد أن يغلبهم الآخرون على ما بقي لهم، ويفقدون قوة الثروة، كما فقدوا قوة الوحدة، فلا يبقى لهم شأن في الوطن ولا في الدولة. وحينئذ تكون تلك المرتبة العليا من الجامعة العثمانية أبعد. ولا تغرن المسلمين كثرتهم فإنها مع التخاذل لا تغني عنهم شيئًا كما قلت في المقصورة: لا تخدعنك كثرة جاهلة ... فربما كان حصاها كالحصى [1] كم فئة قليلة قد غلبت ... كثيرة بالاتحاد والنُّهى [2] وإنما العزة للكاثر إن ... توحد الكثير قصدًا واتقى [3] وإنما التقوى اجتناب كل ما ... يُردي وأخذ ما استطعت من قُوى والمال عدة لكل قوة ... تنقض أنكاثًا بفقده القوى إن من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري أن التعاون بين الجماعات والأقوام والأمم والدول لا يكون بالمبادلة، ولا يوزن إلا بميزان المنفعة والمصلحة، فهو إذًا لا يكون إلا بين الأكفاء، وتلك سنته أيضًا في الأفراد، فالإخوة المتفاوتون في العلم أو الثروة لا يكونون سواء في شيء، فإذا وجد أفراد من الناس يبذلون أموالهم وأوقاتهم لمنفعة غيرهم ابتغاء مرضاة الله تعالى، أو حبًّا في الجاه وحسن الصِّيت، أو تلذذًا بفضيلة التفضل على الناس، فلا يطلبون ممن يبذلون له مالهم أو جاههم أو وقتهم جزاءًا ولا شكورًا، بل يطلبون ذلك من الله تعالى أو من الناس الذين يطلعون على عملهم، أو يكتفون بتلذذهم بفضلهم، وإذا صح أن هذا من الشذوذ في تلك السُّنة التي تطَّرِد في الأقوام دون الأفراد، فمثل هؤلاء الأفراد لا يوجد في الدول والأقوام، ألا ترى أن الدول لا تحالف إلا أندادها وأكفاءها، التي لا تنفعها إلا لتنفع منها، وسنة الله في الشعوب والأمم كسنته في الدول، فالطريقة المثلى للتأليف بين العثمانيين لتكوين الجامعة العثمانية هي الاجتهاد في جعلهم أكفاء للاشتراك في المصالح والمنافع، وإنما يكون ذلك بسعي المصلحين، والله ولي المحسنين. (كتب هذا في المحجر الصحي بالحمدانية بين حلب وحماه في غرة شعبان) *** ذيل للمقالة في العناصر العثمانية بينا أن للجامعة العثمانية مرتبتين: مرتبة عليا ومرتبة دنيا، وأنه إذا تعذر العروج إلى الأولى وجب الاعتصام بالأخرى، وهو أن يُعنى أهل كل عنصر من العناصر أو ملة من الملل ذات الجنسية العثمانية في ترقية أنفسهم بالتربية والتعليم والاقتصاد، وجميع شئون الاجتماع والعمران، مع موادتهم لغيرهم من إخوانهم العثمانيين وتعزيز الدولة. وقد تتداخل مصالح العناصر والملل بعضها في بعض فيتعاون كل من تجمعه بآخر مصلحة على ما يشترك

نظرة في الجزء الثاني من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية ـ 2

الكاتب: أحمد عمر الإسكندري

_ نظرة في الجزء الثاني من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية [*] (2) (أمثلة لكل نوع من الخطأ) أقتصر في هذه العجالة على بعض نماذج من أنواع الخطأ في الأمور الآنفة ليكون القارئ على بصيرة من أمثالها فمن أمثلة الأمر الأول (وهو الخطأ في الحكم الفني) (1) قول المؤلف في صفحة 137: (وكان أبو حنيفة لا يحب العرب ولا العربية حتى إنه لم يكن يُحسن الإعراب ولا يبالي به) [1] وعزا في الذيل هذه العبارة إلى صفحة 165 جزء ثان ابن خِلِّكان. فالذي يثق بالمؤلف يصدق عبارته هذه بعد أن تبرأ من تبعتها ونسبها إلى مؤرخ عظيم، ولكنه إذا راجع ابن خلكان في هذه الصفحة بل إذا قرأ ترجمة أبي حنيفة من أولها إلى آخرها لم يكد يشم منها رائحة هذه الألفاظ بله المعاني. وكل ما ذكره هو العبارة الآتية: (ولم يكن يُعاب بشيء سوى قلة العربية، فمن ذلك ما روي أن أبا عمرو بن العلاء المقرئ النحوي المقدَّم ذِكْره سأله عن القتل بالمثقل هل يوجب القود أم لا؟ فقال: لا، كما هو قاعدة مذهبه خلافًا للإمام الشافعي رضي الله عنه، فقال له أبوعمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق؟ فقال: ولو قتله بأبا قبيس. يعني الجبل المُطلّ على مكة -حرسها الله-. وقد اعتذروا عن أبي حنيفة بأنه قال ذلك على لغة من يقول: إن الكلمات الست المعرَبة بالحروف وهي أبوه وأخوه وحموه وهنوه وفوه وذو مال إعرابها يكون في الأحوال الثلاث بالألف وأنشدوا في ذلك: إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها وهي لغة الكوفيين وأبو حنيفة من أهل الكوفة فهي لغته والله أعلم. هذه هي عبارة ابن خلكان بنصها فليقابلها القارئ بعبارة مؤلفنا وأترك الحكم له بلا تشنيع ولا تبشيع فهي وحدها كفيلة بكل ذلك. على أن بعضهم قد أخذ على مالك ما أخذه خصوم أبي حنيفة عليه إذ قال في الموطأ (عليه هدي بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد إلا هي) بوضعه ضمير الرفع موضع ضمير النصب. ولو اطلع المؤلف على هذا الموضع لقال في مالك ما قال هو في الخمر. (2) قول المؤلف في الصفحة المذكورة (وكان أئمة الفقه في المدينة فأراد المنصور تصغير أمر العرب وإعظام أمر الفرس؛ لأنهم أنصارهم وأهل دولتهم فكان من جملة مساعيه في ذلك تحويل أنظار المسلمين عن الحرمين فبنى بناءً سماه القبة الخضراء حجًّا للناس (كذا) وقطع المِيرة عن المدينة وفقيه المدينة يومئذ الإمام مالك الشهير فاستفتاه أهلها في أمر المنصور فأفتى بخلع بيعته فخلعوها وبايعوا محمد بن عبد الله من آل علي، وعظم أمر محمد هذا وحاربه المنصور، ولم يتغلب عليه إلا بعد العناء الشديد فرجع أهل المدينة إلى بيعة المنصور قهرًا، وظل مالك مع ذلك ينكر حق البيعة لبني العباس فعلم أمير المدينة يومئذ وهو جعفر بن سليمان عم المنصور بذلك فغضب ودعا بمالك وجرده من ثيابه وضربه بالسياط وخلع كتفه) فيفهم من هذه العبارة: أولاً: أن جمهرة أئمة الفقه كانت بالمدينة فقط. ثانيًا: المنصور كان يكره العرب كراهة حملته -وهو خليفة المسلمين وأفقه أهل زمانه- على أنه يرتد عن الإسلام ويحاول صرف المسلمين عن تولية وجوههم شَطر قبلتهم، وعن أداء فريضة هي أحد أركان الإسلام الخمسة إلى قبته الخضراء التي بناها فوق قصره ببغداد. ثالثًا: أنه قطع المِيرة عن المدينة لمجرد بغض الحرمين ولوجود أكثر أئمة الفقه في المدينة وهي فضلى المدائن العربية، ويستتبع ذلك أن يكون بغضه لمالك أشد منه لكل فقيه فيها؛ لأنه شيخهم العربي. رابعًا: أن أهل المدينة استفتوا مالكًا في خلع المنصور وببيعة محمد بعد قطع الميرة عنهم. خامسًا: أن مالكًا أفتاهم فِعلاً بذلك. سادسًا: أن المنصور لم يتغلب على محمد بن عبد الله إلا بعد العناء الشديد أي بعد وقائع كثيرة وأزمنة طويلة. سابعًا: أن مالكًا استمر على عناده حتى فعل به جعفر بن سليمان ما فعل. ثامنًا: أن وقوف المؤلف في العبارة عند هذا الحد يقتضي أن ذلك كان برضى من المنصور. وأقول: إن كل هذه اللوازم باطلة، أما عن الأول فلم تكن جمهرة الفقه خاصة بالمدينة بل كانت ضاربة بجرانها في مصري الإسلام - الكوفة والبصرة - كما كانت في الشام ومصر على كثب من ذلك، وإنما كان العلم بالحديث يغلب على فقهاء الحجاز والعلم بالقياس والرأي يغلب على أهل العراق وربما طرأت هذه الشبهة على المؤلف من قول مالك نفسه في حديث له مع المنصور (وإنما الفقه فقه أهل المدينة) يرجح مذهبه وأخذه بالحديث ويضعف مذهب أهل العراق في أخذهم بالرأي، وهذا أقل ما يقول صاحب مذهب في ترجيحه، والمعلوم أن أبا حنيفة وأصحابه بالعراق أسبق من مالك وأصحابه بالمدينة اشتغالاً بالفقه وتدوينًا له. وأما عن الثاني: فكيف يكره المنصور العرب هذه الكراهة وهو عربي وابن عم النبي العربي وخليفته في أمته وشريعته؟ وكيف يحاول تحويل المسلمين عن قبلتهم وشعائر حجهم إلى قبته الخضراء على غضاضة الإسلام وقرب عهد الناس بنبيهم مع أن دعوة العباسيين لم تقم إلا بإظهار الدفاع عن حوزة الإسلام وتجديد شريعته وشعائره؟ وكيف يقع ذلك من المنصور وهو الذي حمل علماء المسلمين في جميع بقاع الأرض على تدوين علوم الكتاب والسنة فكان عهده مبدأ لتدوينها بإجماع المؤرخين ومنهم المؤلف. وبعد فلو كان كل ذلك قد كان فما الذي حمل المنصور على الحج إلى بيت غير قبته حتى توفي في طريق مكة على أميال منها محرِمًا ناسكًا وكُفِّن ودفن كذلك. هذا إلى ما اشتهر عن المنصور من الزهد وتشدده في أمر الدين فلم يُسمع في داره لهو قط. والتواريخ مفعَمة بمناقبه وإنما كان الرجل ملكًا ومؤسس ملك فاشتدت وطأته على أعدائه ومزاحميه من بني علي فأذاعوا عليه هذه الشنعة ليصرفوا الناس عنه كما صرفوا عن بني أمية بمثل ذلك، وأنهم هدموا الكعبة فأخذ المؤلف هذه العبارة من بعض الكتب التي روت حديث الخصوم من غير تمحيص وتحقيق. وكيف يبلغ كراهة العباسيين للعرب هذا الحد وهم إنما ولوا السفاح قبل المنصور؛ لأن أمه عربية، وولوا الأمين قبل المأمون لأن أمه هاشمية، وكل من المنصور والمأمون أكبر من أخيه. وكانت ثقتهم بالفرس في ضبط الملك ترجح عن ثقتهم بالعرب؛ لأن أنصار بني أمية من العرب كانوا في مبدأ الدولة أقوياء الشوكة على أن هذا لم يدم أكثر من قرن ثم تحول إلى الترك وغيرهم. وأما عن الثالث: فبينا فيه ما تقدم واعتذار المنصور بعد لمالك عما وقع من جعفر وسؤاله الصفح عنه بعد أن عزله عن ولاية المدينة وأقدمه إلى العراق على قتب، ودعوة مالك إلى تأليف الموطأ وقوله له: إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك (أي بعلوم الفقه والدين طبعًا) ودعوته له أن يَقْدَم معه إلى العراق وينشر علمه بها فأبى مالك واختار جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما عن الرابع: فإن المنصور لم يقطع الميرة عن أهل المدينة إلا بعد مبايعتهم محمدًا، وأن مالكًا إنما أثر عنه ذلك بعد قتل محمد وقدوم جعفر بن سليمان مجددًا لبيعة المنصور. وأما عن الخامس: فغاية ما روي أن مالكًا سئل في يمين المكره: هل تقع؟ فقال: لا، وكان جعفر أيام ذلك يأخذ الناس بأيمان البيعة للمنصور طوعًا وكرهًا فوشى بعض الناس إلى جعفر بأن مالكًا لا يجيز أيمان بيعتكم ففعل ما فعل. وأما عن السادس: فلم يدم أمر محمد منذ ظهر بالدعوة إلى يوم قتل أكثر من شهرين وسبعة عشر يومًا ولم يزد الجيش الذي حاربه على خمسة آلاف رجل ولم يزد أصحاب محمد على نيف وثلثمائة رجل. وأما عن السادس والسابع: فمفهوم مما تقدم. (3) ومن الخطأ في الحكم دعوى المؤلف في صفحة 83 أنه لم يبق من نظم إبان لكتاب كليلة ودمنة إلا بيتان هما: هذا كتاب أدب ومحنة ... وهو الذي يدعى كليله ودمنه فيه احتيالات وفيه رشد ... وهو كتاب دفعته الهند ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (كذا) فالمؤلف لم يجد إلا هذين البيتين في الأغاني فنقلهما محرَّفين وادعى أنه لم يبق غيرهما مع أن كتاب الأوراق للصولي بدار الكتب الخديوية، أي بعدة أبواب من الكتاب منظومة في أخبار أبان، ومن العجيب أن المؤلف اطلع على هذا الكتاب ووصفه بما قدر عليه في صفحة 175 من كتابه هذا. ومن أبيات إبان غير هذين البيتين قوله: وقيل أيضًا: إنه قد ينبغي ... للرجل الفاضل فيما يبتغي ألا يرى إلا مع الأملاك ... أو يعبد الله مع النساك كالفيل لا يصلح إلا مركبا ... لملك أو راعيًا مسيبًا (4) ومن الخطأ في الحكم زعم المؤلف أن كتاب الأدب الصغير والكبير والدرة منقولة عن الفارسية أي أنها مترجمة عنها. أما الأدب الكبير المطبوع في مصر وسورية باسم الدرة خطأ فقد صرح ابن المقفع أنه من بنات أفكاره (فليراجع) . وأما الأدب الصغير فشيء من عند ابن المقفع وشيء نقله عن غيره كما يُعلم ذلك مما كتبه العلامة البحاثة أحمد زكي باشا في المقدمة التي دبجتها براعته لطبعة جمعية العروة الوثقى. وأما الدرة اليتيمة فلم يعثر عليها أحد إلى الآن وليست هي الأدب الكبير كما زعم المؤلف في هذا الكتاب بقوله: (كتاب الدرة اليتيمة ويسمى أيضًا كتاب الأدب الكبير) فقد نقلت كتب الأدب منها قطعًا لا توجد في الأدب الكبير المطبوع باسم اليتيمة خطأ. ووصف المؤلفين لليتيمة لا ينطبق على الأدب الكبير. هذا ولم يقل أحد أن اليتيمة مترجمة عن أصل فارسي إلا المؤلف. وإنما فيها بعض نقول عن قدماء الفرس كما يقع في أكثر كتبه. (5) ومن الخطأ في الحكم عدّه طاهر بن الحسين فاتح بغداد وقاتل الأمين في عداد المنشئين كتاب الرسائل مع أن هذا الاسم لا ينطبق عند علماء الأدب إلا على الكاتب في ديوان الرسائل الذي سمي فيما بعد ديوان الإنشاء، ولم يخدم طاهر بن الحسين الدولة منشئًا قط كما لم يعرف له كتب ذات بالٍ غير وصية كتبها لابنه عبد الله عند توليه ديار مصر، ولم يكن طاهر إلا قائدًا عظيمًا وأميرًا داهيًا. ولئن ساغ لنا أن نعد كل من خلف وصية مطولة بليغة في طبقات الكتَّاب، لقد كان من الواجب أن نعد الإمام عليًّا والمنصور العباسي والرشيد والمأمون من كتَّاب الرسائل مع أن لهم مجموعات من الرسائل، وبينما نجد المؤلف لم يتكلم في العصر الأول العباسي إلا على طاهر بن الحسين وعمرو بن مسعدة من كتاب الرسائل إذ نراه أهمل ذكر جميع كتاب الرسائل المشهورين كعمارة بن حمزة وأبي عبيد الله وزير المهدي والقاسم بن صبح ويوسف بن القاسم وأحمد بن يوسف ويحيى بن برمك وجعفر بن يحيى وإسماعيل بن صالح وابن الزيات وغيرهم وهم فحول البلاغة وفرسان الكتابة والكتابة صناعتهم وصناعة آبائهم ولا يزال كثير من رسائلهم وكتبهم محفوظة في بطون الكتب والتواريخ لمن يريد البحث والفحص. ويشبه هذا عد المؤلف أبا العباس المبرد وأبا علي القالي من علماء متن اللغة؛ لأن الأول ألف كتاب الكامل وفيه قصائد ومقطعات شرح بعض ألفاظها من اللغة وعده القالي كذلك؛ لأنه أملى أماليه شارحًا بعض غريبها مع أن هذين الكتابين باعتراف المؤلف ركنان من أركان كتب الأدب الأربعة مما كان أولى أن يعدهما في طبقات مؤلفي الأدب. وعده السكري من المؤلفين في الأدب مع الجاحظ وابن قتيبة مع أن السكري لم يكن إلا راويًا للشعر جمع أشعار كل قبيلة أو شاعر في ديوان، وليس له فيها غير الجمع ناقلاً عن أئمة الرواة أو عن الأعراب، وفي الكتاب من أشباه هذا كثير. (6) ومن الخطأ في الحكم زعم المؤلف في صحيفة 207 أن علم الكلام ومذهب الاعتزال نشآ في العصر الثاني من حكم بني العباس أي بعد 132 هجرية مع أن المشهور

ميزان الجرح والتعديل ـ 1

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ ميزان الجرح والتعديل لعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي هذا بحث جليل، ومطلب خطير، طالما جال في النفس التفرغ لكتابة شيء فيه يكون لباب اللباب في هذا الباب الذي اختلف فيه الناس، لما غلب التعصب على النفوس ونبذوا مشرب كبار المحدثين رواة السنة، وهداة الأمة، حتى سنحت لي فرصة كتبت فيها ترجمة حافلة للإمام البخاري جعلتها مفصلة بتراجم منوعة كان منها (تخريج البخاري عمن رُمي بالابتداع) وهم الذين أسميهم (المبدّعين) [1] . ذكرت ثمة ما يناسب تأليف الترجمة، ثم رأيت أن المقام يستدعي زيادة بسط وإسهاب، ودرأ شبه واحتمالات أوردها بعض الفقهاء خالف فيها الحقيقة، فخشيت أن يطول بإيرادها - في ترجمة البخاري - الكلام، ويشبه الخروج عن الموضوع فأفردت تتمة هذا البحث في مقالة خاصة تحيط به من أطرافه، وترده على أنحائه وهذا البحث من جملة المباحث العلمية التي نسيها الخلف أو أضاعوها، ولا غرو أن يذهل عن الغايات من يقصر في البدايات، ولا حول ولا قوة إلا بالله. *** منشأ النبز بالابتداع من المعروف في سنن الاجتماع أن كل طائفة قوي شأنها وكثر سوادها، لا بد أن يوجد فيها الأصيل والدخيل، والمعتدل والمتطرف، والغالي والمتسامح، وقد وجد بالاستقراء أن صوت الغالي أقوى صدى وأعظم استجابة؛ لأن التوسط منزلة الاعتدال، ومن يحرص عليه قليل في كل عصر ومصر، وأما الغلو فمشرب الأكثر، ورغيبة السواد الأعظم، وعليه درجت طوائف الفرق والنحل، فحاولت الاستئثار بالذكرى، والتفرد بالدعوى، ولم تجد سبيلاً لاستتباع الناس لها إلا الغلو بنفسها، وذلك بالحط من غيرها، والإيقاع بسواها، حسب ما تسنح لها الفرص، وتساعدها الأقدار، إن كان بالسنان، أو اللسان. وأول من فتح هذا الباب - باب الغلو في إطالة اللسان بالمخالفين - الخوارج فأتى قادتهم عامَّتهم من باب التكفير؛ لتستحكم النفرة من غيرهم، وتقوى رابطة عامتهم بهم، ثم سَرى هذا الداء إلى غيرهم، وأصبحت غلاة كل فرقة تكفِّر غيرها وتفسقه أو تبدعه أو تضلله لذاك المعنى نفسه، حتى قيض الله تعالى من الأئمة من قام في وجه أولئك الغلاة، وزيَّف رأيهم، وعرف لخيار كل فرقة قدرهم، وأقام لكل منهم ميزان أمثالهم. *** من شهر الرواية عن المبدعين وقاعدة المحققين في ذلك كان من أعظم من صدع بالرواية عنهم الإمام البخاري رضي الله عنه، وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، فخرَّج عن كل عالم صدوق ثبت من أي فرقة كان، حتى ولو كان داعية، كعمران بن حطان وداود بن الحصين. وملأ مسلم صحيحه من الرواة الشيعة [2] فكان الشيخان عليهما الرحمة والرضوان بعملهما هذا قدوة الإنصاف وأسوة الحق الذي يجب الجري عليه؛ لأن مجتهدي كل فرقة من فرق الإسلام مأجورون أصابوا أو أخطأوا بنص الحديث النبوي. ثم تبع الشيخين على هذا المحققون من بعدهما حتى قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: التحقيق أن لا يرد كل مكفَّر ببدعته؛ لأن كل طائفة تدَّعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف (قال) : والمعتمد أن الذي تُردّ روايته من أنكر أمرًا متواترًا من الشريعة معلومًا من الدين بالضرورة، واعتقد عكسه. وأما من لم يكن كذلك، أو ينضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله اهـ. *** آفات الجرح إلا بقاطع قال الإمام ابن دقيق العيد: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام. وقال الإمام النووي في التقريب، وشارحه السيوطي: أخطأ غير واحد من الأئمة بجرحهم لبعض الثقات بما لا يجرح، كما جرح النسائي أحمد بن صالح المصري بقوله: غير ثقة ولا مأمون. وهو ثقة إمام حافظ احتج به البخاري ووثقه الأكثرون، قال ابن الصلاح: وذلك لأن عين السخط تبدي مساوئ، لها في الباطن مخارج صحيحة، تُعمي عنها بحجاب السخط، لا أن ذلك يقع منهم تعمدًا للقدح مع العلم ببطلانه اهـ. وقال الإمام ابن دقيق العيد: والوجوه التي تدخل الآفة منها خمسة: (أحدها) الهوى والغرض وهو شرها، وهو في تاريخ المتأخرين كثير. (الثاني) المخالفة في العقائد. (الثالث) الاختلاف بين المتصوفة وأهل علم الظاهر. (الرابع) الكلام بسبب الجهل بمراتب العلوم وأكثر ذلك في المتأخرين؛ لاشتغالهم بعلوم الأوائل، وفيها الحق والباطل. (الخامس) الأخذ بالتوهم مع عدم الورع. وقد عقد ابن عبد الرؤوف بابًا لكلام الأقران المعاصرين بعضهم في بعض، ورأى أن أهل العلم لا يقبل جرحهم إلا ببيان واضح [3] . *** الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي قال السيوطي: قال في الاقتراح: [4] تُعرف ثقة الراوي بالتنصيص عليه من راويه، أو ذكره في تاريخ الثقات، أو تخريج أحد الشيخين له في الصحيح، وإن تُكُلِّم في بعض من خرج له فلا يلتفت إليه، أو تخريج من اشترط الصحة له، أو من خرج على كتب الشيخين اهـ، فتمت النعمة بتعديل رجال الصحيحين ونبذ كل وهم سواه، وبذلك عرف للرجال فضلهم، ولأولي العلم قدرهم، وسن للناس طرح التعصب والتحزب، والتصافح على الأخوة الإيمانية، وتبادل الآراء والأفكار، واستماع الحكم ومدارك الاستنباط والاجتهاد من ذويها، على هذا جرى أئمة الحديث، وقادة الروايات، الذين جمعوا ما جمعوا لدلالة الأمة على هدي نبيها وسنة رسولها صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، حتى أصبحت مرجع الفروع والأحكام، ومعوَّل الأئمة الأعلام. *** زيادة إيضاح في حكمة التخريج عن المبدّعين وفوائد ذلك إن تخريج أئمة السنة وحفاظ الهدي النبوي -حديث من نُبذوا بالابتداع على طبقاتهم- فيه حكمة بليغة، وفائدة عظيمة، ألا وهي النهم بالعلم، والسعي وراءه والجد في طلبه، والتنبه لحفظه من الضياع، وسن نبذ التعصب، والتشيع والتحزب، والتقاط الحكمة من أي قائل. قال حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر في كتاب جامع العلم وفضله في (باب جامع في الحال التي تنال بها العلم) ما مثاله: وروينا عن علي رحمه الله أنه قال في كلام له: العلم ضالة المؤمن، فخذوه ولو من أيدي المشركين، ولا يأنف أحدكم أن يأخذ الحكمة ممن سمعها منه. وعنه أيضًا أنه قال: الحكمة ضالة المؤمن يطلبها ولو في أيدي الشرط اهـ، فأئمة الحديث رأوا أن السنة من الحكمة بل هي الحكمة - في تفسير الإمام الشافعي كما أوضح ذلك في رسالته الشهيرة [5] في (باب بيان ما فرض الله من اتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم) فلذا عمدوا إلى تلقيها من كل ذي علم، واشترطوا للعناية بها أن تكون من مسلم عدل صدوق، ثبْت في روايته، ولم يبالوا بما غُمز أو نُبز أو رُمي به، علمًا بأن المسائل النظرية، أو التي دخل على أصولها تأويل بنظر المأول هي من المجتَهد فيها، والمجتهد مأجور أصاب أو أخطأ، فعلام يُترك الأخذ عن المأجور، وقد يكون رأيه هو الحق، ومذهبه هو الأدق -ما دام الأمر فيه احتمال ولا قاطع، أو اعترض النص ما رجعه ظاهرًا- كما يعلمه من أعار نظر الإنصاف مآخذ الأئمة ومداركهم- وقد أوضح جملاً من ذلك الإمام تقي الدين ابن تيمية في كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام [6] ) فكان أئمة الحديث بهذا -أعني التلقي عن كل عالم ثبت- مثال الإنصاف وكبر العقل، وقدوة كل من يلتمس الحكمة، ويتطلب العلم، فجزاهم الله أحسن الجزاء. *** عقوق الخلف بهجر مذهب السلف سبق أني قلت في هذا المعنى كلمة في كتابي (نقد النصائح الكافية [7] ) بعد أن سبرت رجال من خرَّج لهم الشيخان أو أحدهما في صحيحيهما - ممن نبز بالابتداع - وهي قولي: فترى من هذا أن التنابز بالألقاب والتباغض لأجلها الذي أحدثه المتأخرون بين الأمة عقوا به أئمتهم وسلفهم- أمثال البخاري ومسلم والإمام أحمد بن حنبل، ومن ماثلهم من الرواة الأبرار، وقطعوا به رحم الأخوة الإيمانية الذي عقده تعالى في كتابه العزيز، وجمع تحت لوائه كل من آمن بالله ورسوله، ولم يفرق بين أحد من رسله، فإذن كل من ذهب إلى رأي محتجًّا عليه، ومبرهنًا بما غلب على ظنه، بعد بذل قصارى جهده وصلاح نيته في توخي الحق فلا ملام عليه ولا تثريب؛ لأنه مأجور على أي حال، ولمن قام عنده دليل على خلافه، واتضحت له المحجة في غيره، أن يجادله بالتي هي أحسن ويهديه إلى سبيل الرشاد، مع حفظ الأخوة، والتضافر على المودة والفتوة، هذا ما قلته ثمة مما يبين أنه لو كانت الفِرق التي رُميت بالابتداع تهجر لمذاهبها وتُعادى لأجلها لَمَا أخرج البخاري ومسلم وأمثالهما لأمثالهم. نعم إن هؤلاء المبدعين وأمثالهم لم يكونوا معصومين من الخطأ حتى يعدوهم الانتقاد، ولكن لا يستطيع أحد أن يقول: إنهم تعمدوا الانحراف عن الحق، ومكافحة الصواب عن سوء نية، وفساد طوية، وغاية ما يقال في الانتقاد في بعض آرائهم: إنهم اجتهدوا فيه فأخطأوا، وبهذا كان ينتقد على كثير من الأعلام سلفًا وخلفًا لأن الخطأ من شأن غير المعصوم، وقد قالوا: المجتهد يخطئ ويصيب، فلا غضاضة ولا عار على المجتهد إن أخطأ في قول أو رأي، وإنما الملام على مَن ينحرف عن الجادة عامدًا متعمدًا، ولا يتصور ذلك في مجتهد ظهر فضله وزخر علمه. *** رد القول بمعاداة المبدّعين قدمنا أن رواية الشيخين وغيرهما عن المبدعين تنادي بواجب التآلف والتعارف، ونبذ التناكر والتخالف، وطرح الشنآن والمحادّة، والمعاداة والمضارة؛ لأن ذلك إنما يكون في المحاربين المحادّين، لا في طوائف تجمعها كلمة الدين، ومن الأسف أن يغفل عن هذا الحق من غفل، ويدهش لسماعه المتعصبون والجامدون، ويحق لهم أن يذعروا لهذا الحق الذي فجأهم لأنه مات منذ قضى عصر الرواية والرواة، وانقضى زمن المحدثين والحفاظ، ودال الأمر بعد الأخبار النبوية للآراء والأقوال، وصار الحق -بعد أن كانت الرجال تعرف به- يعرف بالرجال، وأصبح مشرب أمثال البخاري وغيره نسيًا منسيًّا، ونُشر لواء التعادي والتباغض في الأمة وكان مطويًّا، وسبّب على الأمة من التفرق والانقسام، ما أورثها الضعف والانفصام، فبعد أن كان التسامح في التلقي عن الحكماء والفضلاء من أي طبقة ركنًا ركينًا في حضارة الإسلام، خلفه التخاذل والتدابر والتعصب والملام، ولم يكف ذاك حتى ادُّعي أنه من الدين، مع أن الدين يأمر بالتآخي ونبذ التفرق في محكم كتابه المبين. (ومن العجب) أن يقول قائل: لا يلزم من الرواية عنهم عدم معاداتهم، أي يجوز أن نروي عن راوٍ، مع التدين بمعاداتنا له، وبغضنا إياه! (فنجيب عنه) بأنَّا لا نعرف من قال ذلك من السلف، ولا من ذهب إليه من الأئمة، والرواية يراد بها هنا تلقي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وهديه وتشريعه وأقضيته، وفتاويه وشمائله، لتتخذ دينًا يُدان الله به، وشريعة يُقضى بها في التنازع، ومرجعًا تُحل به المشكلات، فهل يُتلقى ذلك عمن يجب علينا معاداته في الدين؟ وكيف يتصور أن نأخذ الدين عمن نرى أنه عدو للدين؟ سبحان الله ما هذا التناقض، إن من يأمرك الدين بأن تعاديه لا يبيح لك أن تأخذ دينك وشريعتك وعقيدتك عنه، ومن المسلَّم بأن هذا الراوي أدَّاه اجتهاده إلى ما رأى، ومن أدَّاه اجتهاده إلى ما رأى كيف يُعادى، وقد بذل قصارى جهده، وليس قصده إلا الحق، والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وكيف يُعادى من أثبت له الشارع الأجر ولو كان مخطئًا؟ وإنما يعادى الآثم لا المأجور. *** رد القول بتفسيق المبدّعين أغرب من ذلك قول البع

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الحرب العثمانية البلقانية) ذكرنا في الجزء الماضي أن دول البلقان الأربع - البلغار والصرب واليونان والجبل الأسود - قد اتحدن واتفقن على قتال الدولة العثمانية إلا أن تجيبهن إلى ما يطلبن من استقلال الولايات المقدونية في إدارتها وجعلها تحت مراقبتهن ومراقبة الدول الكبرى. وأن الجبل الأسود أعلن الحرب على الدولة، وأن الدول الثلاث الأخرى سيتبعنه في ذلك. وقد كان. بعد إعلان الجبل الأسود للحرب قدم (غشوف) رئيس نظار حكومة البلغار وناظر الخارجية والمذاهب فيها بلاغًا إلى وكيل أشغال الدولة العثمانية ليرفعه إلى دولته وفحواه أن حكومته وحكومتي اليونان والصرب (ولم توقع البلاغ معهن حكومة الجبل الأسود لسبقها بإعلان الحرب) ترى من الواجب عليها أن تخاطب الحكومة العثمانية مباشرة بالرغم من مساعي الدول الست الكبرى في شأن الإصلاح في الولايات الأوربية العثمانية - وتطلب منها تصريحًا بتنفيذ إصلاحات حقيقية يكفل حقوق نصارى تلك الولايات، ويحفظ السلم بين السلطنة العثمانية والحكومات البلقانية التي كثيرًا ما سلكت الحكومة العثمانية معها مسلك تحكم وغطرسة لا مسوغ له. فهذه الحكومات تطلب من حكومة الباب العالي الاتفاق مع الدول ومعهن حالاً على الإصلاح المشار إليه في المادة 23 من معاهدة برلين بأن تمنح ولاياتها الأوروبية الاستقلال الإداري، وأن يعين لهذه الولايات حكام عموميون من البلجيكيين والسويسريين (أي الأوربيين الذين لا مطمع لحكوماتهم في استعمار هذه الولايات ولا غيرها) ومجالس عمومية منتخبة وشرطة وشحنة، وأن يكون التعليم فيها حرًّا. وأن يعهد في إنفاذ هذه المطالب إلى جماعة من المسيحيين والمسلمين تنتخب بالمساواة تحت مراقبة الدول وسفراء حكومات البلقان الأربع في الآستانة. ثم إن حكومات البلغار واليونان والصرب تطلب من الدولة أن تصرح بقبول هذه المطالب ومطالب الذيل الملحق بهذا البلاغ، وتتعهد بتنفيذها في مدة ستة أشهر وأن تصدر أمرًا بمنع حشد الجيوش ليكون دليلاً على الرضا والقبول. هذا ملخص البلاغ. وأما الذيل الملحق به فهذه ترجمته: الأول - تأبيد استقلال العناصر في السلطنة مع كل ما يتبعه. الثاني - تمثيل كل عنصر في السلطنة في مجلس النواب تمثيلاً يكون متناسبًا مع عدده. الثالث - قبول المسيحيين في كل المناصب في الولايات التي يسكنها المسيحيون. الرابع - اعتبار مدارس الطوائف المسيحية كالمدارس الأميرية نفسها في البلاد العثمانية. الخامس - أن تتكفل الحكومة العثمانية بعدم تغيير مركز العناصر في تلك الولايات، وذلك بمنع نقل المهاجرين المسلمين إليها. السادس - استخدام الجنود في ولاياتهم مدة الخدمة العسكرية وإنشاء فرق مستقلة من المسيحيين وتوقيف التجنيد من الآن إلى أن يجاب هذا الطلب. السابع - إنشاء الشرطة (الجندرمة) في ولايات تركية أوروبة بقيادة ضابط من البلجيكيين أو من السويسريين. الثامن - تعيين ولاة من البلجيكيين أو السويسريين في الولايات التي يقطنها المسيحيون يكونون معروفين للدول يعاونهم مجلس عمومي ينتخبه أهل الأقضية. التاسع - إنشاء لجنة عالية في الصدارة تعين من المسيحيين والمسلمين بالتساوي يعهد إليها مراقبة هذه الاصطلاحات ويراقب السفراء ووكلاء حكومات البلقان أعمال هذه اللجنة. انتهى. (المنار) يرى القارئ أن هذا البلاغ قد كتب لأجل إثارة الفتنة وإيقاد نار الحرب لا لأجل أن يُقبل، فإنه كتب بمداد الإهانة للدولة ممن كانوا بالأمس رعية أو عبيدًا لها فأعتقتهم لتستريح من شرورهم وانتصار دول أوربة الكبرى لهم، فإنهم لم يكتفوا فيه بطلب انتزاع الولايات الأوروبية منها حتى جعلوا أنفسهم مسيطرين عليها في سائر تصرفاتها وأعمالها ومن ثَمَّ اضطرت إلى ترك الجواب عن هذا البلاغ مقابلة للإهانة والاحتقار بمثلهما مع طلب الاعتذار عنه، ثم إلى قطع الصلات السياسية بينها وبين البلغار والصرب. وأعلنت الحرب ودخلت فيها اليونان أيضًا. يظهر أن دولتنا أصلح الله حالها لم تبادر إلى أخذ الحذر وتعبئة الجيش، من بدء ظهور ناجذي الشر، وكأنها كعادتها اتكلت على أوروبة ظانة أنها تمنع دول البلقان من الحرب، أو على ما تعهد بين البلقانيين أنفسهم من المنافسة والتنازع، ولم تعتبر بما كان من المبعوثين العثمانيين من هذه العناصر إذ اتحدوا في المجلس على حين كان زعماء الاتحاديين يجدُّون في التفريق بين مسلمي العثمانيين، بإهانتهم وقتالهم للعرب والألبانيين، فأخبار مواقع القتال تفيد رجحان البلقانيين على العثمانيين في كل مكان. ولكننا إلى وقت كتابة هذه النبذة (فى العشر الأواخر من هذا الشهر) لم نصل إلى حد اليأس. أول أسباب ما أصابنا من الخذلان في هذه الحرب عدم الاستعداد لها كما يجب، وهذه أكبر سيئات جمعية الاتحاد والترقي التي كانت مجهولة لنا، ومن أسبابه العسكرية المعروفة إفسادها كثيرًا من الضباط بالسياسة، وإخراج كثيرين منه ؛ لأنهم على غير سياستها، وتولية آخرين منهم للأعمال الإدارية لتأييد سلطتها في البلاد، وإضعاف روح الدين في الجيش، والثقة بنصارى العناصر المحاربة الذين لم يدخلوا الجيش إلا كارهين، فهم ينافقون للدولة، ويخذلونها في وقت الشدة، وقد كتبنا في هذا الجزء مقالة في سياسة هذه الحرب وأسبابها وعواقبها وسنبين في جزء آخر وجوه العبرة في هذه الأمور التي أشرنا إليها هنا وغيرها من شئون هذه الحرب إن بقي فينا من يعتبر، وبقي مجال لعمل المعتبرين إن وُجدوا. وإلى الله المَفْزع والمصير، وهو على كل شيء قدير. * * * (إعانة المصريين للحرب) ما كادت تظهر الشرارة الأولى للحرب حتى هب المصريون إلى جمع الإعانات لإعانة الدولة عليها. فاجتمعت لجنة الإعانة التي كانت أُلِّفت لأجل الحرب الإيطالية في طرابلس الغرب وبرقة في قصر المرحوم رياض باشا (تذكارًا لمساعيه النافعة) تحت رياسة الأمير الجليل عمر باشا طوسون وحضرها رئيس الشرف صاحب الدولة الأمير محمد علي باشا شقيق سمو الخديو المعظم، وألقى فيها خطبة مؤثرة، فجمعت طائفة من المال. واجتمعت جمعية الهلال الأحمر أولاً برياسة الشيخ على يوسف وخطب فيها بعده (الله بخش) الهندي السائح وصاحب هذه المجلة في الحث على جمع المال. ثم قبل صاحب الدولة الأمير الكبير محمد علي باشا شقيق عزيز مصر المعظم رياستها، وأعد في حديقة داره دعوة إلى عصرية الشاي حضرها الجم الغفير من الوجهاء وتبرعوا هنالك بزهاء عشرة آلاف جنيه منها بضعة آلاف دفعت في الحال. وقد شكرت الجماهير، كما نشكر لهذا الأمير الجليل وللأمير عمر باشا طوسون والأمير يوسف باشا كمال رئيس اللجنة التنفيذية لجمعية الهلال الأحمر غيرتهم وهمتهم. وعندي أن مصر قد دخلت في طور جديد من الحياة الاجتماعية بتولي أمرائها لرياسة الأعمال والمصالح العامة فيها. * * * (إعانة الحرب في بمباي الهند وغيرة العرب على الدولة) جاءني من صديقي المحسن الشهير والسري الكبير الشيخ قاسم محمد آل إبراهيم كبير تجار العرب وسرواتهم في بمباي ومن غيره من فضلاء العرب فيها خبر تأثير الحرب البلقانية هنالك ووقعها الشديد من نفوس المسلمين عامة والعرب خاصة وإقبالهم على جمع المال للإعانة الحربية. اجتمع تجار العرب عند زعيمهم الشيخ قاسم إبراهيم واتفقوا على جمع الإعانة فاجتمع لديهم في يومين فقط مئة وستون ألف روبية، وكان القدوة الحسنة لهم في البذل الشيخ قاسم وابن أخيه السخي الكريم الشيخ عبد الرحمن إبراهيم. ووعدنا بعض الكاتبين بإرسال كشف بأسماء جميع الباذلين ومقدار ما بذلوه. وقد اجتمع مسلمو بمباي لهذه الغاية الشريفة في نادي (انجمن إسلام) فجمعوا أولاً ثمانية آلاف روبية فقط. ثم رغبوا إلى كل من الرجلين العظيمين الشيخ قاسم آل إبراهيم والسر كريم باي إبراهيم (وهو من سروات بمباي وزعماء فرقة آغاخان) في رئاسة لجنة الإعانة لمسلمي الهند في بومباي فقبلا ذلك، وتبرع كل منهما بعشرين ألف روبية وتبعهما أهل النجدة والسخاء فاجتمع لديهم مائة ألف روبية وخمسة عشر ألف روبية وتقرر أن يجتمعوا مرة أخرى بعد أسبوع. وجملة ما دفعه تجار العرب إلى يوم 13 ذي القعدة الحاضر 000. 180 روبية، وهي تساوي اثني عشر ألف جنيه إنكليزي. وجملة ما دفعه مسلمو بومباي من الهنديين يساوي سبعة آلاف وستمائة جنيه. وقد دفع الشيخ قاسم إبراهيم وحده أربعين ألف روبية من ذلك، وقد كتب إلينا بعض العرب بيان ما دفعوه سيضاعف قريبًا. ولا شك أيضًا في مضاعفة ما يدفعه إخوانهم الهنديون؛ لأن السخاء العربي لا يناسبه إلا سخاء مسلمي الهند. وإنا لننتظر أن نسمع ما هو أكبر من ذلك عن سخاء العرب من جهة السيد الكريم سلطان مسقط وآله الكرام وأهل بلاده، ومن الزعيم العربي الكبير العثماني الغيور الشيخ مبارك الصباح وأهل الكويت ومن الأمير الكبير شيخ البحرين وتجار تلك الجزيرة الأخيار ومن غيرهم من أهل الخليج الفارسي والعراق وسائر البلاد العربية. * * * (الصلح بين الدولتين العثمانية والإيطالية) كانت وزارة سعيد باشا الاتحادية أرسلت مندوبين إلى أوربة لأجل المذاكرة مع مندوبي إيطالية في شروط الصلح في مسألة طرابلس الغرب وبرقة. وقد سقطت وزارة سعيد باشا وخلفتها وزارة الغازي أحمد مختار باشا قبل أن يتفق الفريقان على شيء فكانت هذه الوزارة تصرّ على اشتراط بقاء سلطة الدولة على ذلك القطر بالفعل حتى تحفزت دول البلقان لقتال الدولة ورأت الوزارة أن التجهيزات العسكرية التي كان الاتحاديون يمنون بها على الأمة غير كافية لمناجزة البلقانيين، فكيف إذا كانت معهم دولة من الدول الكبرى كإيطالية. فاضطرت إلى عقد الصلح مع إيطالية. فساء هذا الصلح جميع العالم الإسلامي كما نعتقد سواء منهم من عرف عذر الدولة ومن لم يعرف , ويقال: إن السنوسيين وبعض الضباط العثمانيين مصرون على مواصلة القتال وعدم الخضوع لإيطالية، واختلفت الرواية عن القائد الشهير (أنور بك) في هذا الأمر. فإذا صح خبر الثبات على المقاومة يثبت عند العرب صدق أولئك الضباط، ومن صحبوا من الخطباء لتحريض العرب على الدفاع عن بلادهم عملاً بأحكام الدين، وغيرة على الإسلام والمسلمين، ومن نكص على عقبيه يظهر لهم أنه منافق جاء ليشتري بدمائهم عرضًا قليلاً للدولة، وستكشف الأيام الحقيقة. وإن لنا لعودة إلى هذه المسألة.

جماعة الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جماعة الدعوة والإرشاد اجتمعت الهيئة العامة لجماعة الدعوة والإرشاد يوم الجمعة 14 ذي القعدة في دار مدرستها بقصر شريف باشا بالمنيل تحت رئاسة وكيلها ناظر المدرسة محمد رشيد رضا صاحب هذه المجلة فافتتح الجلسة باسم الله وحمده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، ثم ألقى خطبة في بيان أحوال المسلمين في هذه الأزمنة وما هم فيه من الخطر وإحاطة الأمم بهم، وأخذها الطرق عليهم، وحال المتصدين للشئون العامة فيهم، وانتقل من ذلك إلى بيان الإصلاح الحقيقي ومكان مشروع جماعة الدعوة والإرشاد منه، وكيفية تأسيس هذه الجماعة (يجدها القارئ في الجزء الآتي من المنار) . ثم بين مجمل حالتها المالية وما اجتمع عندها من المال وما أنفقته، وما بقي في صندوقها إلى غاية سنة مدرستها الماضية، وقدم للهيئة بعد ذلك صورة ميزانية السنة الجديدة فصدقت عليها باتفاق الآراء. ثم عرض عليها عدة اقتراحات قبلت كلها بالاتفاق أو بخلاف واحد فقط (منها) أن تكون سنتها المالية وسنة مدرستها بالحساب الشمسي الهجري، وأن تكون أول سنتها المالية السنة الماضية، وأول سني مدرستها السنة الحاضرة، وأول مدة مجلس الإدارة من أول هذه السنة أيضاً ليتمكن من تربية صِنف المرشدين الأول. ومنها تعديل الأصل الخامس عشر من النظام الأساسي بزيادة فقرة فيه تفيد جواز كون أعضاء مجلس الإدارة مقيمين في أي بلد من القطر يتمكن المقيم فيه من حضور الجلسات، وتعديل الأصل السابع عشر بجعل قيمة اشتراك من يجوز له أن يكون عضواً في الهيئة العامة للجماعة ثلاثة جنيهات إنجليزية لا مصرية؛ لأجل أن يفهم قيمة المبلغ أهل الأقطار الإسلامية كلها بمجرد الاطلاع على النظام. واقترح محمد أفندي علي كامل المحامي أن يزاد في الأصل الثامن عشر من النظام الأساسي عبارة تدل على جواز جمع الهيئة العامة في غير موعدها السنوي إذا قضت المصلحة بذلك فقبل اقتراحه بالاتفاق ووضعت العبارة وصدق عليها. ثم ختمت الجلسة بذكر الله تعالى وانفض الحاضرون مغبوطين بما وفقهم الله من خدمة العلم والدين.

اتخاذ الصور والتصوير الشمسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اتخاذ الصور والتصوير الشمسي (س 16) من صاحب الإمضاء بمكة المكرمة بسم الله الرحمن الرحيم قال عز من قائل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ما ذكره الذاكرون. أما بعد ففي القسطلاني على البخاري ما نصه: قال ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقمًا فأربعة أقوال: (1) الجواز مطلقًا لظاهر حديث الباب. (2) والمنع مطلقًا حتى الرقم. (3) والتفصيل فإن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حرم، وإن قطعت الرأس وتفرقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح. (4) والرابع إن كان مما يمتهن جاز، وإن كان معلقًا فلا. اهـ بالحرف. والمسئول لجنابكم يا سيدنا نوَّر الله تعالى بكم دين الإسلام، وأزاح بكم دياجي الظلام، فيما عمت به البلوى في هذه الأزمنة. من اتخاذ الصور المأخوذة من آلة الفوتوغراف المعروف هل يجري فيه هذا الخلاف لكونها من جملة المرقوم أم تجوز مطلقًا بلا خلاف لكونها من قبيل الصورة التي ترى في المرآة، وتوصلوا إلى حبسها حتى كأنها هي كما تقضي به المشاهدة، وقد رفعت هذه الأسئلة بعينها إلى أحد العلماء (في البلد) الحرام، الشيخ أحمد خطيب بن عبد اللطيف، الجاوي منشأ والشافعي مذهبًا فأفتى بالجواز مطلقًا، وعللها بأنها من قبيل الصورة التي ترى في المرآة وتوصلوا إلى حبسها كما قدمناه، وليست من جملة المرقوم كما هو المتبادر، فحينئذ ما حكم الصاور والمصور (كذا) هل كل منهما يأثم أم لا؟ فإني لم أقف على من تعرض لذلك من أرباب المذاهب المتبعة، لعدم أهليتي لهذه الصناعة، لكوني يقينًا قليل البضاعة، فأفتوا.... الحقير الفقير بالجواب الشافي، ولكم الأجر من الوهاب، وأزيلوا عنا الإشكال. ... ... ... ... ... ... ... طويلب العلم الشريف بالحجاز ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد عصام ... ... ... ... ... ... الفاراسيّ - سورا كرنا الجاوة (ج) إن الذي يظهر لي هو أنه لا فرق بين تصوير اليد والتصوير الشمسي في الحكم لا في اتخاذ الصور ولا في صنعتها لأنني أرى أن علة ما ورد في ذلك من الأحاديث أمر ديني محض يتعلق بصيانة العقيدة من لوازم الشرك وشعائره إذ لم يكن يعهد في صدر الإسلام وقبله اتخاذ العرب للصور والتماثيل إلا للعبادة كالذي كان من ذلك على الكعبة الشريفة فأزاله النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح. فعلى هذا يحرم ما كان فيه قصد التعظيم الديني وما كان شعارًا دينيًّا للكفار إذا قصد به التشبه بهم أو كان بحيث يظن أنه منهم أو يذكر بعبادتهم وشعائرهم. فمقصد الإسلام إزالة الشرك وشعائره والتشبه بأهله فيما كان عبادة، دون موافقتهم فيما حسن من عادة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس مثلما كان يلبس قومه. ويدل على هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بهتك الستار الذي كان فيه الصور؛ لأن المشركين كانوا يعلقون الصور وينصبونها بتلك الهيئة، فلما جعلت منه وسادة استعملها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبالِ بالصور التي فيها؛ لأنها غير ممنوعة لذاتها، ولا لأنها محاكاة لخلق الله تعالى. ومن يقول: إن علة تحريم التصوير واتخاذ الصور هو محاكاة خلق الله تعالى -يلزمه تحريم تصوير الشجر ولم يحرموه، وما استدل به على ذلك لا يدل عليه بل معناه أن الله تعالى يُظهر للمصورين عجزهم يوم القيامة تمهيدًا لعقابهم على مساعدة الناس بتصاويرهم على عبادة غيره. ولو صح هذا التعليل لكان التصوير الشمسي غير محرم مطلقًا لأن صاحب الآلة يظهر للناس شيئًا من النظام والسنن في خلق الله وهو لا يحاكي بعمله ما أخذ صورته، فمثله كمثل مدير الآلة التي تحكي أصوات الناس (الفونغراف) فهذه الآلة وآلة الفوتوغراف من جنس واحد، وكل منهما يمثل أو يحكي نوعًا من أنواع المخلوقات. ولكن الآلة التي تمثل الصور والهيآت، أنفع من التي تحكي الأصوات، فإن للتصوير الشمسي - وكذا غير الشمسي - منافع في هذا الزمان كثيرة في العلوم كالطب والتشريح والتاريخ الطبيعي وفي الصناعات وفي السياسة والإدارة والحرب، وفي اللغة فإن كثيرًا من أسماء النبات والحيوان لا تعرف مسمياتها في اللغة العربية لعدم تصويرها، وكتب اللغة لا تزيد في تعريفها على كلمة نبات (م) وحيوان (م) أي معروف، وما كل معروف عند أناس يكون معروفًا عند غيرهم، ولا كل معروف في زمن يبقى معروفًا في جميع الأزمنة إلا إذا اتصلت سلسلة العلم به وكان مقرونًا بالعمل والتطبيق. ثم إن نقل الأسماء من قطر إلى آخر سهل، وقد يكون نقل المسميات متعذرًا أو عسرًا كنقل الأسد إلى القطب الشمالي أو نقل القط والدُّب الأبيض إلى خط الاستواء، ولكن نقل صور هذه المسميات سهل. فالتصوير ركن من أركان الحضارة ترتقي به العلوم والفنون والصناعات والسياسة والإدارة فلا يمكن لأمة تتركه أن تجاري الأمة التي تستعمله. ولكنه إذ استعمل في العبادات يفسدها؛ لأنه يحولها إلى وثنية. وقد كان النهي عن اتخاذ الصور من الوصايا العشر التي كانت في ألواح موسى عليه السلام وهو نص لا يزال ثابتًا في التوراة التي في أيدي أهل الكتاب؛ لأن التوحيد الذي هو أساس دين جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يتفق مع اتخاذ الصور اتخاذًا دينيًّا. ولكن القرآن الحكيم اكتفى بإثبات التوحيد بالبراهين العقلية والكونية والأمثال التي تجعل المعنى المعقول كالشيء المرأي بالعيون الملموس بالأكف، وأوضحه بذلك، وبفنون من بلاغة القول تستولي على القلوب وتحيط بالفكر والوجدان من جميع نواحيهما - فلم تبق مع هذا كله حاجة للنهي عن اتخاذ الصور والتماثيل، وإنما نهي عنها النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول جمع القرآن ووصوله إلى الناس لقرب عهدهم بالوثنية كما نهى عن زيارة القبول في أول الإسلام لمثل هذه العلة. ثم رخص فيها لأجل العظة والعبرة، ولو كان اتخاذ الصور والتصوير الذي هو ذريعته من المحرم لذاته على الإطلاق أو لضرر فيه لا ينفك عنه مطلقًا لكان محرمًا على ألسنة جميع الأنبياء، ولما امتن الله على سليمان عليه السلام بقوله {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} (سبأ: 13) إلى قوله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (سبأ: 13) فجعل ذلك من النعم التي يشكر الله تعالى عليها. هذا وإن لاتخاذ الصور ضررًا في هذا العصر غير ضرره الديني وهو تقليد المسلمين للإفرنج وغيرهم في اتخاذها للزينة والتقليد. وقصد أمة التشبه بأمة تراها أرقى منها يُضعِف روابط المقلدة (بكسر اللام) ويسهل للمقلدة (بفتح اللام) طريق السيادة عليها. فينبغي للمرشدين والزعماء في الأمم الضعيفة أن يحذروها من تقليد الأمم القوية في العادات والآداب والشعائر ويجعلوا استفادتها منها خاصة بالعلوم والأعمال النافعة، وأن يأخذوا منها ما هم محتاجون إليه بقدر ما يليق بحالهم مع اتقاء لوازمه الضارة وعدم قصد التقليد فيه. ومن هذه الصور ما له تأثير في إفساد الآداب والتشويق للفواحش والمنكرات. وقد سبق بحث المنار في هذه المسألة من قبل مرارًا فيراجع في المجلدات السابقة.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار *** حرمة الرضاع (س 17) من محمد فؤاد أفندي عثمان في عطبرة (السودان) وبعد، أدام الله فضلكم فما قولكم فيمن رضع من امرأة على أكبر أولادها، فهل اللاتي أتين بعد الرضاع ببعض سنين حرام عليه؟ أفتوني في أمري هذا ولكم من الله الأجر والثواب. (ج) نعم يحرمن عليه، فإن من أرضعته وهو في سن الرضاع صارت أمه فكل أولادها إخوته من تقدم ومن تأخر، وأولاد أولادها أولاد إخوته، وهم كإخوة النسب في التحريم. (س 18 - 20) من صاحب الإمضاء في الشرقية: سيدي العلامة المفضال السيد الرشيد سلام عليك ورحمة الله. وبعد فأرجو التكرم بالإجابة على المسائل الآتية على صفحات منار الإسلام ولك الفضل والشكر وهي: (1) ما رأيكم فيما زعمه العلامة ابن تيمية في رسالته العقيدة الحموية من أن الله فوق العرش، وما رأيكم في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي استدل بها على ذلك نرجو الجواب بإسهاب. (2) ما رأيكم أيضا فيما زعمه إبراهيم أفندي علي في كتابه (أسرار الشريعة الإسلامية) من أن علماء السنة قالوا بأن الروح توازن أوقية. (3) ما هي فائدة الطب والدواء إذا كان لكل أجل كتاب. هذا واقبلوا فائق تحياتنا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو هاشم قريط *** صفات الله وتنزيهه ومذهب السلف في ذلك أما الجواب عن السؤال الأول فرأينا وقولنا واعتقادنا هو ما كان عليه سلفنا الصالح من وصف الله تعالى بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما أَوَّلَ أكثر الخلف الآيات والأحاديث في مثل هذه المسألة هربًا من لوازمها التي هي لوازم الأجسام فقالوا: إذا قلنا: إنه تعالى مستوٍ على العرش، أو فوق عباده أو في السماء كما ورد، لزم من ذلك أنه جسم محدود له طول وعرض، وأنه متحيز تحصره الجهات، وكل هذا محال على الله تعالى بالبرهان العقلي. وظنوا أن وصفه بالعلم والإرادة والقدرة وغيرها من صفات المعاني التي يذكرونها في كتبهم الكلامية لا يستلزم شيئًا من لوازم المخلوقات. والصواب أن جميع الألفاظ التي يوصف بها الخالق عز وجل قد وضعت للمخلوقات وعقيدة التنزيه تنفي مشابهته تعالى لشيء من خلقه، فالمسلم المؤمن بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي يجمع بين آيات التنزيه وآيات الصفات فيؤمن بالمعنى الشريف الذي وصف الله به نفسه وبالآيات التي نزه بها نفسه عن مشابهة خلقه. قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) وكل من لفظ السميع والبصير قد وُضع لمعنى له مثل، فنقول: إنه سميع بصير ولكن سمعه وبصره ليس كسمع أحدنا وبصره، بل هو أعلى من ذلك كما يليق بكمال ربنا وتنزيهه وقال تعالى: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً} (الإسراء: 43) فكلمة (سبحانه) تدل على التنزيه، وكلمة (علوًّا) يلزم منها التشبيه، فنؤمن بكل منهما على أن التنزيه، ينفي اللازم لكلمة التشبيه، فنقول: إن علوه تعالى ليس كعلو سقف البيت على أرضه، بل هو علوّ يليق بكمال ربنا وتنزيهه، ولو لم يطلق عليه سبحانه الكلم الذي استعمله الناس الذين بعث الله رسله لهدايتهم لما أمكن التعبير عن مقام الألوهية بشيء، إذ لا يخاطب الرسل الناس إلا بما يعرفون، ولهذا ذهب بعض المدققين كالغزالي إلى أن لفظ القدرة إذا أطلق على صفة الله تعالى التي بها يوجد ويعدم يكون استعارة إذ لا يوجد في اللغة كلمة تدل على كنه تلك الصفة؛ لأنه معنى لم تلمحه عين أحد من واضعي اللغات فيضعوا له لفظًا يدل على كنهه. ومثل هذا يقال في جميع صفات الله تعالى. فعليك بعقيدة السلف، ولا يصدنك عنها شقشقة مقلدة الخلف، وإن غالى بعضهم فتجرأ على تكفير كل مؤمن بالقرآن، ويدعي أنه ينصر بذلك الإسلام ويقيم دعائم الإيمان، الذي اعتمد فيه على نظريات فلسفة اليونان، على أنه يذكر اسم الجلالة فيقرنه بكلمة (تعالى) وهي من الكلمات الموهمة فما له يجيز بعض هذا الكلم ويحرم بعضه بالهوى؟ *** وزن الروح وأما الجواب عن الثاني فهو أنني لم أقف على نص في الكتاب أو السنة يثبت وزن الروح وزنتها. وما كل قول يوجد في كتب طائفة كأهل السنة أو الشيعة يكون عقيدة لتلك الطائفة. فللعلماء أقوال وآراء كثيرة يناقض بعضها بعضا كما ترون في كتاب الروح للعلامة ابن القيم. وأن بعض ما ينسب منها لبعض أئمة الأشاعرة ما لو قال به بعض المسلمين اليوم لعده جماهير علماء الأزهر وغيرهم كافرا كقول القاضي أبي بكر الباقلاني: إن الروح عرض من أعراض الجسد، وهو عين ما يقوله الماديون اليوم وقبل اليوم. فعليك ألا تلتفت إلى الأقوال التي لا تقرن بدليل يؤيدها، ولا تبالي أيًّا كان القائل لها. *** لكل أجل كتاب. يدخل في عمومه معالجة الداء بالدواء ترون في الجرائد آنًا بعد آنٍ أن الأطباء يقدرون زمنًا معينًا لشفاء المرضى والجرحى وتأخذ المحاكم بتقديرهم في القضايا التي تتعلق بذلك. وهذا التقدير يكون في الأكثر مبنيًّا على المعالجة والتداوي. وهم يضعون مثل هذه التقديرات لموت المرضى والجرحى كما يضعونها لشفاء من يحسبون أنه يُشفى. يقولون مثلاً: إن هذا المرض أو الجرح إذا عولج معالجة قانونية يُشفى بعد شهر أو يموت صاحبه بعد شهر، وإذا لم يعالج يُشفى بعد ثلاثة أشهر أو يموت صاحبه بعد أسبوع. فالتقدير يختلف باختلاف أحوال المرضى وباختلاف معالجتهم، وقد يكتبون تقديرهم ويعينون فيه أجل الشفاء وأجل الموت. وهذا مثال تفهم منه تقدير الله تعالى وكتابته للآجال مع التفرقة البديهية بين تقديره وكتابته وتقدير عبيده الأطباء وكتابتهم. فهم لعدم إحاطة علمهم وعدم عموم قدرتهم يبنون على الظن ويخطئون في التقدير والكتابة، والله تعالى بكل شيء محيط علمًا وقدرة فلا يخطئ ألبتة. فتقديره - أي جعله كل شيء بمقدر يليق به - لا يختل نظامه، ولا يمكن أن يكون التداوي خارجًا من تقديره ولا أن يكون المتداوي وغير المتداوي في علمه سواء، فإن علمه مطابق للواقع، وهو الذي خلق الدواء لإزالة المرض وجعل لكل شيء قَدْرًا. *** نقل الجنازة (س21) من ع. س في سنغافورا ما يقول الأستاذ وفقه الله وأدام عُلاه، في حمل الجنائز حيث بعدت المسافة فإنها في هذه البلدة تكون غالبًا بين ثلاثة وخمسة أميال إنكليزية، هل الأفضل فيه أن يكون على الأعناق كما هي العادة في جميع الأقطار حتى عند اليهود والوثنيين وتكون تلك الهيئة مما تعبدنا الله به فتتحتم أم نحكم بفضلها مطلقًا فتندب، وإن كان الحاملون لها مأجورين أم نقول: هي متحتمة أو مندوبة في غير أوقات الضرورة. أم يكون الأفضل الآن، لتغير الفتوى واختلافها بحسب الأحوال، حملها على عربة مخصوصة تجرها الخيل أو ترام أو ترل، وقد قال بهذا بعض طلبة العلم هنا وعمل به الفقراء، ووقف بعض محبي الخير عربة جميلة عملها لذلك مخالفة لما يستعمله النصارى واحتج بقوله: إن الميت يُحترم ميتًا كما يُحترم حيًّا، وحمله مسافة بعيدة على الأعناق يعزر به وشاق عليه لو كان حيًّا مع وجود العربات الجميلة ولو كان مريضا وحاولوا أخذه على الأعناق لاستغاث بالحكومة، وقد كان الحمل على الأعناق قبل تعبيد الطرق واختراع جميل العربات خيرًا من الحمل على نحو الجمال. ولا يعترض على هذا بما يعتاد الآن من حمل من يعظمونه في بعض الحفلات على الأعناق فإن ذلك شبه الزفاف وقت نشوة الفرح ولا يناسب حزن الموت وهيبته. نعم لو جر العربة الرجال بهيئة غير مزرية وكان ذلك للتعظيم لمكاانة مخصوصة للميت لم يبعد أن يكون حسنًا فهل ما قاله هذا مما له قيمة أم لا. وإذا فرضنا أن أجرة نقل الميت على الأعناق تستغرق عشرين ريالاً، ونقله على العربة لا يستغرق إلى ريالاً واحدًا مثلاً وترك أيتامًا ولم يعين في وصيته صفة نقله، فهل للوصي حينئذ أن ينقله على الأعناق أم يتعين عليه نقله في العربة؟ أفيدونا ولكم الأجر والثواب. (ج) لم يرِد في الكتاب ولا السنة نص في وجوب حمل الجنازة ولا في ندبه كما وردت الأحاديث في الصلاة عليها وفي التكفين والتحنيط والدفن، نعم إنهم كانوا يحملونها عملاً بالعادة المتبعة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير، وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم) رواه الشيخان وأصحاب السنن. والجمهور على أن الأمر هنا للاستحباب، وقال ابن حزم: بل هو للوجوب على الأصل فيه. وورد أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسرعون بالجنازة، فالإسراع بها سنة عملية ثابتة بالنص والعمل جميعًا، ومع هذا عدها الجمهور مستحبة ولم يحرموا تركها، بل لا أذكر أنني شيَّعْت جنازة مع علماء مصر إلا وكان السير بها دون السير المعتاد. وكثيرًا ما تُحمل جنازة بعض الوزراء وأمراء العسكرية على عربة مدفع ويشيعها العلماء من جميع المذاهب ولا ينكر أحد منهم ذلك عند التشييع ولا بعده. ولست أعني أن سكوت هؤلاء العلماء عن إنكار شيء حجة على مشروعيته، وإنما أعني أنهم لا يفهمون من أمر حمل الجنازة على الأعناق إلا أنه عادة، فإذا تعسر العمل بهذه العادة وكان فيه مشقة أو نفقة فلا بأس بالعدول عنه ولا سيما إذا كانت النفقة في مال اليتامى. ومن فوائد العدول الإسراع المأمور به في السنة، ويمكن الجمع بين الأمرين بنقل الجنازة على العربة إلى المقبرة، أو قربها وحملها هنالك إلى القبر، وإذا لم يكن هنالك مشقة بأن كانت المقبرة قريبة، فالأولى أو الأفضل أن لا تترك عادة السلف الصالح بشبهة إكرام الميت. وينبغي في حال العدول اتقاء التشبه بأهل الأديان الأخرى. *** عدد من تصح بهم صلاة الجمعة (س22) من صاحب الإمضاء بمكة المكرمة ما قولكم دام فضلكم في قرية لم يبلغ أهلها أربعين رجلاً بل كانوا اثني عشر مثلاً، وهم يصلون الجمعة تقليدًا على قول من يجوِّز إقامة الجمعة بأقل من أربعين هل يصلون الظهر بعدها أم لا؟ فإن قلتم: نعم. فهل هو سنة أو حسنة أو جائز؟ فما قولكم في فتوى عالم من علماء الحجاز هو أن صلاة الظهر بعد الجمعة حسنة احتياطُا. فهل هذه الفتوى صحيحة أم لا؟ وما معنى الاحتياط؟ أفيدونا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... سلام من السائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... حاج داود الرشيدي ... ... ... ... ... ... ... ... ... من مشتركي المنار (ج) : ثبت أن الصحابة لما انفضوا إلى التجارة وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم قائمًا يخطب يوم الجمعة، كان الذين بقوا في المسجد اثني عشر رجلاً فصلى بهم الجمعة، وهذه الحادثة هي التي نزلت فيها الآية التي في آخر سورة الجمعة , والحديث رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه، فهو حجة على صحة صلاة الجمعة باثني عشر وعلى بطلان اشتراط ما زاد على ذلك دون بطلان ما نقص عنه؛ لأن وقائع الأعيان لا تفيد العموم، والصفات والأحوال التي يتفق كون النبي صلى الله عليه وسلم عليها عند عمل ما، لا تفيد أنها شرط لصحة ذلك العمل. والظاهر المتبادر أن الجمعة كالجماعة لا بد فيها من الاجتماع ولا دليل على تحديد أقله. ومن صلاها معتقدًا عدم صحتها كان متلبسًا بعبادة فاسدة في اعتقاده وذلك معصية، وأما إذا صلاها معتقدًا صحتها بالدليل وبالثقة بقول من قال: تصح باثنين أو ثلاثة كأهل الظاهر وفقهاء الحنفية حرُم عليه أن يصلي الظهر بعدها؛ لأنه عبادة لم يأذن بها الله تعالى، إذ لم يشرع لنا أن نصلي فريضة في وقت واحد مرتين إلا إذا صلى أحدنا منفردًا، ثم أقيم

ميزان الجرح والتعديل ـ 2

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ ميزان الجرح والتعديل [*] (2) جواب شبهة رب قائل يقول: كيف لا يفسق هؤلاء وقد خالفوا بتأويلهم النصوص من الكتاب والسنة؟ فنقول: قدمنا ما يمنع تسميتهم فسقة شرعًا ولغة، ولذا جاء في مُسَلَّم الثبوت من كتب الأصول، ما مثاله: لك أن تمنع كون المتدين من أهل القبلة فاسقًا بالعرف المتقدم الذي عليه القرآن الكريم، وهو شموله للكافر والمؤمن المرتكب الكبيرة اهـ. وقال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: مهما اعترضت على القدري في قوله: الشر من الله، وكذلك في قولك: إن الله يُرى، وفي سائر المسائل، إذ المبتدع محق عند نفسه، والمحق مبتدع عند المبتدع، وكل يدعي أنه محق وينكر كونه مبتدعًا اهـ. وبالجملة فهم مخالفون بنظر غيرهم، وأما عند أنفسهم فغيرهم هو المخالف وهم الموافقون، وحاشا لمؤمن عالم أن يخالف كتابًا أو سنة عامدًا متعمدًا، فهم مجتهدون مثابون؛ إذ لم يألوا جهدًا فيما ذهبوا إليه، وإن كنت لا تقول به وترى الحجة فيما أنت عليه، على أن ما تسميه أنت نصًّا هم يرونه ظاهرًا، إذ دعوى نصية الشيء ليست بالأمر اليسير، لأن النص هو القاطع في معناه، المفيد لليقين في فحواه، وهذا إنما يكون في محكمات الدين، وأصوله التي لم يختلف فيها الفرق كلها، وأما ما عداه فكلها ظواهر، وقد يراها البعض باجتهاده نصًّا، وليس اجتهاد مجتهد بقاضٍ على اجتهاد آخر. وعلى من يريد تحقيق هذا أن يراجع مطولات الخلاف، ويطالع مآخذ المجتهدين، ومن أنفع ما ألف في هذا الباب كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله فإنه جدير لو كان في الصين أن يرحل إليه، وأن يعض بالنواجذ عليه، فرحم الله من أقام المعاذير للأئمة، وعلم أن سعيهم إنما هو إلى الحق والهدى، كما أسلفنا وبالله التوفيق. *** جواب شبهة أخرى يزعم بعضهم بأنه يحتمل أن يكون الراوي تحمل عن المبدّع قبل تمذهبه بذلك المذهب، وهذا جهل بمذاهب الرواة، ومشارب الرجال، فإن كل من ألَّف في نقد الرجال لم يذكر في المشاهير منهم أنه كان على مذهب كذا، أو أن الحافظ الفلاني تحمل عن فلان قبل تمذهبه بمذهب كذا، ومثل هذا إنما يؤخذ عن النقلة الأثبات كالمصنفين في أحوال الرجال، ولا يمكن الاجتهاد فيه بحال من الأحوال، ولذا تراهم يقولون في ترجمة الراوي: كان خارجيًّا. ونحو ذلك قولاً واحدًا. وحبذا أن يكون ما ذكره مأثورًا عن إمام مؤرخ مشهور، وأما القول بالاحتمال، فإذا فُتح أَوْرَثَ الاضمحلال، لكل ما يعوّل عليه في الاستدلال، ومثل ذلك ما يقال: يحتمل أن يكون روى عنه وهو غير عالم بما هو عليه من فساد العقيدة، فهذا يزيد عما قدمنا من الجهل بمذاهب الرواة تجهيل أئمة الحديث، ووصمهم بما هم برآء من الغباوة والبلاهة، وأنهم يتحملون عمن لا يعرفون مذهبه ولا مشربه، وأنهم كحاطب ليلٍ، نعوذ بالله من ذلك، وأي عاقل يجرؤ على مثل ذلك في البخاري صاحب التاريخ في الرجال؟ بل من دونه من أرباب السنن وغيرهم ممن تكلم في الجرح والتعديل، وميز بين صحيح الحديث وضعيفه، لثقة رجاله أو ضعفهم , وهل يعقل في صحاح، وسنن ومسانيد، وموطآت عليها مدار أدلة الأحكام، وحجج الفروع، صنفت على الأسانيد المنوعة والمكررة بالأسماء والكُنى والألقاب أن يكون جامعوها لا يدرون مشرب رجالها ولا ما يتحملونه مع أن العامي والأمي نراه إذا خدم عالمًا لا يخفى عليه مشربه ومذهبه ورأيه وفكره، فكيف بعالم مؤلف، لا بل بإمام مجتهد يستنبط الأحكام من الأحاديث ويترجم عليها، ويزاحم من تقدمه من الأئمة في التخريج والرد والاستدراك والتفريع والتأصيل؟ ألا يدري مذهب رجال إسناده ونحلتهم، وهم عمدته في الاستدلال، وركنه في الاحتجاج، بلى ثم بلى، وهو أجلى من أن يبرهن عليه، أو يرد على من كابر فيه، ولقد كان علم الجرح والتعديل، ومعرفة طبقات الرجال وتراجمهم من أوئل ما يدريه طلاب الحديث ومريدو التحمل عن الحفاظ، ولكن من أين يدري أبناء هذا الجيل، ما كان عليه السلف من فنون التحصيل، وقد اندرست تلك العلوم، ولم يبق منها ولا الرسوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وأما قول بعضهم: فكيف يستدل بإخراج الشيخين على عدم جواز المعاداة مع قيام هذه الاحتمالات؟ وكيف يسوغ للإنسان أن يتمسك بالمحتمل الذي لا تقوم به حجة؟ فقد علمت سقوط هذه الاحتمالات وأنها أشبه بالأوهام والخيالات، والتلاعب في الحقائق الواضحات والمحتمل الذي تقوم به حجة هو الذي يتطرق إليه احتمال معقول، أو تأويل مقبول، جارٍ على قوانين التأويلات، والأوجه المعروفة في نظائره. وأما احتمال في مقابلة حقيقة ثابتة وأمر واضح فلا يقال له احتمال، وإنما هو تلاعب وهوس خيال، يقول أئمة الجرح والتعديل في كتبهم عن راوٍ ممن خرَّج له الشيخان أو أحدهما: إنه شيعي، أو خارجي، أو قدَري، أو مرجئ، ثم يأتي من يريد أن ينقض هذا بالاحتمال، وهو لم يضرب في هذا الفن بسهم، ولا يمكن أن يرجع إليه في رأي ولا علم، كيف لا وقد اجتمعوا على الرجوع إلى أئمة الفن في هذا الباب، لأنه أمر لم يبق فيه مجال ولا نظر ولا احتمال، وهذا من البديهيات الغنية عن الحجة والبرهان. *** رفع وهم في عبارة للبخاري وأما زعم أن قول البخاري في جزء رفع اليدين: كان زائدة لا يحدّث إلا أهل السنة اقتداء بالسلف - يخالف ما استنبطناه، فعجيب جدًّا؛ لأنه لا شاهد فيه، ولا يناسب بحثنا حتى يخالفه، لأن زائدة رحمه الله كان يمتنع عن تحديث غير أهل السنة، أي إسماعهم الحديث وإقرائهم إياه، وذلك في التلاميذ منهم والمبتدئين في طلب الحديث الذين يبغون التلقي والسماع، وقد انتموا إلى غير مذهب أهل السنة، فكان زائدة يتجافى تحديثهم اقتداء بمن رآه من سلفه كذلك، ولا منازعة في الوجدانيات ولا يكلف المرء ما لا يطيقه، فمن كانت نفسه لا تحب إسماع من كان كذلك، فله الخيرة ولا جناح عليه في ترك الإسماع، لا سيما لتلاميذ لم يتأهلوا بعد للنظر والوقوف على التحقيق، فمثلهم إنما يكون مقلدًا لا مجتهدًا، وأما حفاظ شيوخ، ذوو علم ورسوخ، أوتوا من العلم والفضل ما أهَّلهم للتحمل عنهم، والاستفادة من علمهم، بحيث طارت شهرتهم، وتفوقوا على غيرهم، فلا دخل لكلام زائدة فيهم، ولا يشملهم مشربه، وهكذا نحن نقول: لا ينبغي لأستاذ أن يشرح صدره لتلاميذ أغرار، انتحلوا غير ما يراه الحق بدون نظر أو فكر، بل تقليدًا أو اتباعًا لكل ناعق. وأما من بلغ مرتبة الرسوخ والإفادة، وكان على جانب عظيم من العلم، وانتحل ما انتحل عن اجتهاد ونظر، فلا يرتاب أحد في العناية بالأخذ عنه، والتلقي منه، كما فعل الأئمة أمثال البخاري، وأشياخه، فكلام زائدة من وادٍ، وما نقوله من وادٍ آخر. وهكذا يقال فيمن حكى عنهم من المرجئة من أهل بلخ، وأما قوله: ولقد رأينا غير واحد من أهل العلم يستتيبون أهل الخلاف، وإلا أخرجوهم من مجالسهم، فهو يعني به من ذكرناه من التلاميذ لقوله: وإلا أخرجوهم، وهل يخرج إلا المتعلم الضعيف في العلم والفهم، المتطفل على ما ليس له بأهل؟ وشتان بين من يخرج من مجلس الحديث من أهل الخلاف وبين من يرحل إليه ويتحمل عنه منهم، كرجال الشيخين وغيرهما من هؤلاء، ولو اطرد الابتعاد عن هؤلاء أو إبعادهم لما تلقى عنهم أمثال الشيخين، وخلد أسماءهم ومرويهم في أصح الكتب بعد التنزيل الكريم، وقد يكون مراد البخاري بأهل الخلاف أهل الرأي جمودًا وتقليدًا المؤثرين آراء الفقهاء على صحيح السنة، لأن كتابه المذكور وهو جزء رفع اليدين في مناقشة أهل الرأي وحجهم بصحيح السنة على رأيهم. وقد تجافى أرباب الصحاح الرواية عن أهل الرأي [1] ، فلا تكاد تجد اسمًا لهم في سند من كتب الصحاح أو المسانيد أو السنن، وإنْ كنت أعدّ ذلك في البعض تعصبًا، إذ يرى المنصف عند هذا البعض من العلم والفقه ما يجدر أن يتحمل عنه، ويستفاد من عقله وعلمه، ولكن لكل دولة من دول العلم سلطة وعصبة ذات عصبية، تسعى في القضاء على من لا يوافقها ولا يقلدها في جميع مآتيها، وتستعمل في سبيل ذلك كل ما قدر لها من مستطاعها كما عرف ذلك من سبر طبقات دول العلم، ومظاهر ما أوتيته من سلطان وقوة، ولقد وجد لبعض المحدثين تراجم لأئمة أهل الرأي يخجل المرء من قراءتها فضلاً عن تدوينها، وما السبب إلا تخالف المشرب على توهم التخالف، ورفض النظر في المآخذ والمدارك، التي قد يكون معهم الحق في الذهاب إليها، فإن الحق يستحيل أن يكون وقفًا على فئة معينة دون غيرها، والمنصف من دقق في المدارك غاية التدقيق ثم حكم بعد. ومما نعده تعصبًا ما حكام الإمام البخاري في جزء رفع اليدين المذكور من إخراج أهل الخلاف من مجالس الحديث حتى يُستتابوا، وحمل قاضي مكة سليمان بن حرب على الحجر على بعض علماء الرأي من الفتوى، وما ذلك إلا من سلطة دولة الأثريين وقتئذ، وقيامهم بالتشديد ضد غيرهم، ونبذ التسامح الذي كان عليه الصحابة والتابعون في أن يفتي كل بما يراه بعد بذل جهده في المسألة دون تعنيف أو اضطهاد، لا جرم أن سنة كل قوم آنسوا من أنفسهم قوة وسلطانًا أن يستعملوا لبث مذهبهم ونشره هيمنة الحاكم وسيطرته، ولا سيما إذا كان منهم وعلى شاكلتهم وهو مستبد في علمه وما يمضيه فحدث هناك ولا حرج. انظر إلى القدرية لما دالت لهم دولة العلم أيام المأمون ماذا جرى منهم مع من لم يقل بمشربهم ولم يستجب لدعوتهم، فقد ضربت أئمة وأهينوا وسجنوا الأعوام وأوذوا مما دونه التاريخ وأحصاه على هؤلاء المتعصبين، وكان نقطة سوداء في تاريخ حياتهم، وإن كانوا يزعمون مقاومة الحشو والجمود، وتنوير الأذهان بعلوم الأوائل مما أخذوا بتعريبه، وجهدوا في نشره، إلا أن الغلو كان رائدهم، والبطش قائدهم، ولكن هي السكرة، التي يذهب معها صحيح الفكرة، أعني سكرة الدولة والغلبة، والسلطة والقوة، فما من دولة إلا ونقم عليها شيء من ذلك، كما يدريه من سبر أخبار الدول وفلسفة حياتهم، ومظهر آرائهم وآمالهم. وكذلك قُل عن الفتنة التي فر من أجلها إمام الحرمين من العراق إلى الحجاز حينما دالت دولة الحنفية، وثارت عصبيتهم على الشافعية والأشعرية. قال التاج السبكي في طبقاته [2] في ترجمة الإمام أبي سهل الشافعي: إنه لما بلغ من سمو المقام أن أرسل إليه السلطان الخُلَع وظهر له القبول عند الخاص والعام، حسده الأكابر وخاصموه، فكان يخصمهم ويتسلط عليهم. قال: فبدا له خصوم واستظهروا له بالسلطان عليه وعلى أصحابه، قال: وصارت الأشعرية مقصودين بالإهانة والمنع عن الوعظ والتدريس، وعزلوا من خطابة الجامع، قال: وتبع من الحنفية طائفة أشربوا في قلوبهم الاعتزال والتشيع، فخيلوا إلى أولي الأمر الإزراء بمذهب الشافعي عمومًا، وبالأشعرية خصوصًا، قال وهذه هي الفتنة التي طار شررها، وطال ضررها، وعظم خطبها، وقام في سب أهل السنة خطيبها، فإن هذا الأمر أدى إلى التصريح بلعن أهل السنة في الجُمَع، وتوظيف سبهم على المنابر، وصار لأبي الحسن الأشعري بها أسوة بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، واستعلى أولئك في المجامع، فقام أبو سهل في نصر السنة قيامًا مؤزرًا، وتردد إلى المعسكر في ذلك ولم يفد، وجاء الأمر من قِبل السلطان (طغرلبك) بالقبض على الرئيس الفراتي، والأستاذ أبي القاسم القشيري، وإمام الحرمين، وأبي سهل بن الموفق، ونفيهم ومنعهم عن المحافل، وكان أبو سهل غائبًا في بع

خطبة افتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة افتتاح الاجتماع السنوي العام لجماعة الدعوة والإرشاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه. أيها الإخوة الكرام: إن أمتنا الإسلامية قد ابتليت بمثل ما ابتلي به كثير من الأمم ذات التاريخ المجيد، ولكنها وصلت في هذا العصر إلى درجة من الخطر لم تصل إلى مثلها فيه أمة أخرى فيما نعلم. لا أعني بهذا أننا قد ابتلينا بأمراض اجتماعية لم يبتلَ بها غيرنا، فإنني أعلم أن جميع أمراضنا، قد انتقلت إلينا بالعدوى ممن قبلنا، كما أشار إلى ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) رواه الشيخان وغيرهما. وإنما أعني بهذا أننا مرضنا فأضعفنا المرض وأنهك قوانا في زمن قويت فيه أمم أخرى أخذت علينا طرق العلاج، وسدت علينا منافذ الحياة، وفتنتنا في أنفسنا وديننا وأخلاقنا وآدابنا، وسائر مقوماتنا ومشخصاتنا التي كنا بها أمة واحدة. حللت بتلك الفتن بنيتنا كما تحلل الأجسام المركبة في معاملها الكيماوية، ونجعلها غازات تطير شعاعًا في الجو وذرات تتفرق في الأرض، بل لبستنا شيعًا وأذاقت بعضنا بأس بعض حتى صرنا شرًّا على أنفسنا وأضرّ من أعدى أعدائها عليها، فمنا من يقطع روابط الأمة بمُدية الوطنية، ومنها من يقرض نسيج وحدتها بمقراض الجنسية اللغوية أو النسبية، ومنا من يمزق شملها بأظافر الأحزاب السياسية , فأين الموحدون دعاة التوحيد؟ أين أهل الجماعة طلاب الجمع والتأليف؟ أين المصلحون بالتربية القويمة والتعليم؟ أيها الإخوة، إن هذه الأمة، قد باتت في حيرة وغمة، أضلها الإدلاء وأمرضها الأطباء، فلم تبق لها ثقة في شيء من الأشياء، وما ذاك إلا أن أكثر الذين اشتغلوا بأمورها العامة يجهلون طرق الإصلاح، وينكبون في سيرهم عن سبيل الرشاد، وأما العارف البصير فقد كان يعوزه الأعوان ويحال بينه وبين المراد. قالوا: إن الأمم تصلح بالمدارس المنتظمة على النمط الأوربي، وها نحن أولاء قد شرعنا في تأسيس هذه المدارس منذ قرن كامل فما بالها لم تصلح شئوننا، ولا يزال السواد الأعظم منا يرى أنها لم تزدنا إلا فسادًا وخبالاً؟ قالوا: إن الأمة الجاهلة المختلة لا تستطيع أن تصلح شأنها إلا بعد أن يتوفر المال عندها، فهو سبب الأسباب، والمقدم على جميع الأعمال، وها نحن أولاء نرى مسلمي قطرنا هذا يملكون من المال ما يكفي لكل ما يحتاجون من الإصلاح، فما بال بعض الشعوب التي كانت أقل مالاً منا قد سبقتنا في جميع ضروب الإصلاح ومعارج الارتقاء. قالوا: إن الأمة المختلة المعتلة لا ينتظم شملها ويعلو شأنها، إلا بعد أن تتخذ لها قوة حربية يُخشى بأسها، ويحول دون أطماع الطامعين فيها، ولكنا نرى دولتنا العثمانية قد كانت وما زالت ذات قوة حربية لا يستهان بها. فما بالها لم تصلح كما صلحت اليابان، وتستغني ولو في عدة الحرب وفنونها عن الأجانب كالإنكليز والألمان؟ بل لم يعصمها ذلك أن تنتقص من أطرافها، ويدخل عليها من أكتافها؟ حتى صارت عاصمتها كما قال الشاعر: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت ... بها المخاوف حتى أصبحت طرفا قالوا: إن الأمة الضعيفة تقوى باحتذاء مثال الأمم المرتقية. فما لنا قد حاولنا احتذاء مثال الإفرنج في مدة جيل أو جيلين، ولم نستفد من ذلك إلا زيادة الضعف والوهن، إذ كان استيلاء الأجنبي على المتفرنجين، أسهل من استيلائه على من نسميهم أو يسمونهم المتوحشين؟ أيها الإخوة، إن الرأي الصحيح في مصابنا، الذي يمثل لنا أقتل أمراضنا، هو أننا فكرنا في طريق إصلاح شئوننا في كل شيء إلا في أنفسنا، ولعمري إن من خسر نفسه خسر كل شيء، ومن ربح نفسه ربح كل شيء. لقد بلغ الفساد من أنفسنا أن صار كثير ممن نعدهم من أهل الرأي والبصيرة فينا، يرون أن استيلاء الأجنبي على قطر من أقطارنا، يسخر أهله في تمهيد طرقه له، ومد خطوطه الحديدية لأجله، واستخراج معادنه وثمراته لإغناء حكومته وشعبه، وينشر فيهم البغاء والفحش، والخمر والميسر، ويصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ويفتنهم بالزينة واللذة، فخير لهم من أن يظلوا على استقلالهم في عيشة ساذجة بدوية لا تعرف فنون هذه اللذات والشهوات من المدنية. إننا خسرنا أنفسنا فذلت ومجنت، وفقدت الشعور بشرف الاستقلال الشخصي فجهلت قيمة الاستقلال القومي، فلا صلاح لنا إلا بإصلاح أنفسنا بتربية صالحة وتعليم صحيح، وإنما نفع التربية والتعليم وصلاحهما بالسير فيهما على طريقة العمل والتوسل بهما إلى العمل. إن من نسميهم خيارنا وخواصنا من المشتغلين بالعلوم والفنون هم في الغالب شرارنا، لأنهم قدوة سيئة فينا، لا يطلبون العلم للعمل، ولا يستفيدون به صلاح أنفسهم، ولا إصلاح غيرهم، وكثيرًا ما يتصدى للزعامة في الأمة سفهاؤها، فينهزم من أمامهم أمثلهم وأعقلهم. إننا لا نتعلم لغتنا بالعمل ولا لأجل العمل، ولهذا نجد أعجز الدارسين لها عن فهمها، والإتيان بالقول البليغ منها، هم الذين يطوون السنين الطوال في درس علومها وفنونها وفلسفتها، فلا تكاد تجد فيهم كاتبًا مُجيدًا، ولا خطيبًا مؤثرًا، وبهذا ضعفت اللغة عن حمل ما استحدث من مصطلحات العلوم والفنون في هذا العصر، حتى كادت تعد لموتنا من اللغات الميتة، وهل يمكن وجود أمة حية بدون لغة حية؟ إننا لا نتعلم ديننا بالعمل ولا لأجل العمل، ولهذا فسدت أخلاق عامتنا، بفساد أخلاق قادتنا، وتركهم ما أوجب الله عليهم من الدعوة إلى الخير، والتواصي بالحق وبالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانتكث بهذا الفساد فَتْلنا، وتفرق شملنا، وارتخت الروابط الملية فينا، وضعفت ملكة التعاون في أنفسنا، فإذا فقدنا قوة الوحدة بالعقائد الدينية، والأخلاق الملية، والتعاون على المصلحة العامة، فبماذا نكون أمة واحدة قوية، ونحن لا تجمعنا لغة واحدة، ولا حكومة واحدة، ولا مملكة واحدة؟ إننا لا نتعلم العلوم الطبيعية والصناعية والمالية بالعمل ولا لأجل العمل، ولهذا لا يوجد فينا المخترعون، ولا يظهر منا المكتشفون، ولا ينبُغ منا الصناع ولا الماليون، حتى صرنا بعد الشروع يتعلم هذه العلوم بمئة سنة عيالاً على الأجانب في جميع أنواع الحاجات التي يدور عليها أمر المعاش، كالماعون واللباس والأثاث والرياش، بل صرنا عالة عليهم، حتى في حماية أنفسنا منهم، فإننا نشتري منهم جميع أسلحتنا وذخائرنا وبوارجنا الحربية، ونتعلم منهم الفنون، والأعمال العسكرية أليس هذا أغرب ضروب الكسل، والإهمال، والتواكل المفضي - إن دام - إلى فقد الاستقلال. إن الكلام في وصف حالنا يطول، والشيء إذا كثر مملول، ووصف العلاج أهم من وصف الداء، وإنما دواؤنا التربية الملية والتعليم العملي، وأول ما يجب البدء به منه تخريج رجال لا هم لهم من حياتهم إلا خدمة الأمة وإصلاح شئونها، والنهوض بها إلى المستوى اللائق بها في هذا العصر، فإنه لا يعوزنا شيء في سبيل الحياة التي نريدها إلا المعلمون والمربون، وإن شئت قلت المرشدون الصادقون. إن من مصائب الإسلام أنه لا يوجد في أهله طائفة تقوم بالإرشاد العام للمسلمين كما كان على عهد سلفنا الصالح، وكما هو معهود عند الأمم الأخرى كرهبان النصارى وقسوسهم، فصار المسلمون فوضى في أمر دينهم وتربيتهم وآدابهم، التي عليها مدار حياتهم، فمنهم الجاهلون الذين يقضون حياتهم لا يرون مرشدًا عالمًا مربيًا يتعاهدهم بإرشاد أو نصيحة، ومنهم الذين انصرفوا إلى مدارس دعاة النصرانية أو الحكومات يقتبسون العلم والأخلاق والآداب منهم. ولهذا لم تر الأمة الإسلامية إصلاحًا من المتعلمين في هذه المدارس بل رأت منهم مفاسد كثيرة، أهمها تفريق كلمتهم، وإفساد آدابهم، ودعوتهم إلى روابط ملية واجتماعية لا تتفق مع دينهم وتاريخهم. وأما المدارس الدينية، على قلتها في العالم الإسلامي، فقد صارت كلها مدارس دنيوية يطلب العلم فيها لأجل المعيشة بالقضاء أو الإفتاء أو التدريس، ولا تكاد ترى الأمة منها مرشدين يتعاهدونها في البلاد والقرى والمزارع والبوادي، ولكنها ترى دعاة النصرانية في جميع هذه الأماكن. ولا أخوض في تعليم هذا الصنف من المسلمين وتربيته وأخلاق هنا، وما ذلك بالذي يخفى عليكم. تعلمون أن أخاكم الذي بين يديكم قد اختبر أحوال العالم الإسلامي اختبارًا لم يتيسر مثله إلا لقليل من أمتنا، وكانت نتيجة هذا الاختبار أنه يعتقد اعتقادًا قاطعًا بأنه لا رجاء لأمتنا الإسلامية بالنجاح والفلاح إلا بتربية خاصة وتعليم خاص لطائفة من المسلمين ليكونوا مرشدين ومعلمين لأمتهم ثم لغيرها من الأمم كما يليق بهدي الإسلام، الذي أكمل الله به دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا يشتغلون بغير ذلك ألبتة فحسبهم إصلاح النفوس وإرشادها إلى العمل بما تعلم، وقد رأيت عقلاء المسلمين من العرب والترك والفرس والهنود وغيرهم متفقين على هذا الرأي. هذا هو العمل الذي تألفت له جماعة الدعوة والإرشاد وكنت أيها الإخوة الكرام من السابقين الأولين لإجابة دعوة الداعي إلى تاسيسها، وبذل شيء من المال للبدء بالعمل فيها. إن من أغرب ما ابتلي به المسلمون من الخذلان أنه لا يقوم أحد منهم بعمل نافع لأمتهم إلا ويتصدون لمقاومته، ووضع العثرات في سبيل العاملين معه، ويشتدون في ذلك بقدر نفع العمل. عندنا في مصر منكرات كثيرة، وبدع عديدة، وقلما نرى أحد يشنع على أهلها ويرجف بهم ويرميهم بالتهم الموبقة، وإنما يقذف بأشد التهم من يتصدون للخير وعمل البر والإصلاح في الأمة. لما أسست الجمعية الخيرية الإسلامية بمصر وجد في المسلمين حتى في أصحاب العمائم من أرجف بها واتهمها بالسياسة والسعي بها لدى الحكومة والمحتلين بأنها تمد مهدي السودان بالمال مساعدة له على مصر. وقد زوروا أوراقًا وختمًا لإثبات ذلك. ولولا عزيمة الأستاذ الإمام ومن ثبت معه من أصحابه لقضي على هذه الجمعية وهي في مهدها. وأما جماعتنا هذه فقد تصدى بعض المسلمين لقتلها ووضعها في اللحد، قبل أن تولد وتوضع في المهد. أو تهمة قذفنا بها المرجفون في جريدة العلم المصرية هي أننا نؤسس جمعية سرية، لإسقاط الدولة العثمانية وإنشاء خلافة عربية، وكانت حجتهم على ذلك أننا نخفي عملنا، ولا نظهر للناس أسماءنا وقانوننا. وكان ذلك قبل أن تتكون الجمعية ويتفق المؤسسون على نظامها الأساسي الذي قدمه إليهم هذا الداعي إليها. حقا إن إخفاء العمل مدعاة الارتياب فيه، لا أنه دليل على ما زعمه المرجف ولكن إظهاره وإباحته لكل أحد لا مجال معه للريبة، فإظهار عملنا برهان قطاع على بطلان تلك التهمة، ومحو تلك الشبهة، ولو كان المرجف يعتقد ما كان يقول لرجع عن قوله، واستغفر لذنبه، عند ما تم تكوين الجمعية ونشر نظامها حتى في الجرائد. وعلم أنها جمعية عامة لكل المسلمين لا فرق فيها بين عربي وتركي وفارسي وتتاري وهندي وملاوي وصيني. نشر نظام الجماعة وفيه أسماء أعضاء إدارتها فلم يرجع المرجف عن إرجافه، فكان ذلك دليلاً ظاهرًا على سوء نيته، وفساد طويته، وكان يسهل عليه وعلى من يثق بإخلاصهم للدولة أن يشتركوا في هذا العمل ويكثروا عددهم فيه حتى يكون أمره في أيديهم، فيخدموا به الدولة، فلماذا لم يفعلوا؟ وقد دعوا إلى ذلك فلما

حقيقة أحوال مسلمي جاوه

الكاتب: عبد الحافظ الجاوي

_ حقيقة أحوال مسلمي جاوه رسالة من صاحب الإمضاء من طلاب العلم في مكة المكرمة أيهما أنفع للهيئة الاجتماعية الترقي أم التدلي؟ في العام الماضي بينما كنت متضلعًا بقراءة مجلة (المنار) إذ هي إحدى المجلات التي تبحث في المشكلات الشرعية وفلسفة الدين، وحبًّا في مباحثها النفيسة المفيدة، طالعت جميع ما فيها من البحث في العلل الروحية والأمراض الاجتماعية التي طرأت على المسلمين، والبحث في شئون الاجتماع والعمران، وفي ذلك العام 1329 صدر من المجلة عدة أجزاء أهمها ثلاثة - الخامس - والسابع- والعاشر - فهرولت في طلبها، واعتنيت في تحصيلها إلى أن ظفرت بها، فتناولتها بيمين الإجلال، وتصفحت صحائفها باشتياق وإقبال، رغبًا أن أجد فيها ما يشفي لي الغليل، ويبرئ الضمير العليل، في المشكلات الشرعية، فإذا أن رأيت فيها ناطقًا بشئون مسلمي جاوة، وباحثًا في أمورهم الاجتماعية، من حيث التأخر والتدلي والانحطاط، والجهل والهبوط والخرافات، ولم أرها تعرض في أبحاثها ومقالاتها إلى شيء من حقائق شئوننا بقطر الجاوة في هذه الأزمنة، إلا النزر اليسير، سيما ما كتبه الكاتب في الجزء السابع من الجفوة؛ لأن في عبارته جفخًا [1] بأهل قطره (ماليزيا) ، وتفضيلاً لأبناء جنسه، ولا يرمي شيئًا من الفوائد والنصائح التي ينبغي أن نعتني بشأنها، فيدلنا ذلك على أن الكاتب دبت إليه عقارب الحسد والبغض والنزاع، وأصبحت رسالته غير مشتملة على الخدمة الملية والجامعة الجاوية بل هي مجرد الدققة [2] . إن شئوننا لم تزل ضعيفة خرافية فعلينا وعلى سائر إخواننا المحبين لخدمة الملة إرجاع النظر، واتخاذ وسائل المساعدة والمعاونة لترقيتها إلى منبر التقدم وتقديمها إلى محراب الحضارة، فإن الأمم المجاورة لنا وهي - اليابانية - والصينية - قد طلعت بمشيئة الله تعالى شموس الترقي والتقدم والحضارة في بلادها وظهرت بإرادته نجوم المعارف والعلوم والصناعة والفنون في آفاقها، حتى جاء انقلابها في أحوال التجارة وأمور السياسة والإدارة فائقًا. ولما كان مثله في الأمم الأوربية، جمع كثير من الفضاء حوادثها التي تسر الناظرين في الأسفار، وصانوا ديباجتها عن غبار الشنار، قائلين إنه إذا دامت الأمة اليابانية 40 سنة على هذه الحركة العلمية العملية، فلا بد أن تحل في الشرق محل الأمم الغربية، (انظر المجلة المصورة بينتانغ - هندية الصادرة في بندونغ (سنده) سنة 1904 العدد 5) وإن صناعات اليابان اليوم تفوق صناعات الأوربيين بكثير حتى إن ما يساوي قرشًا بالأصالة يساوي دينارًا بالصنعة (انظر (رسملي كتاب) الصادر في الآستانة في نيسان 1328 العدد 39 مجلد 7) وأن الأمم الصينية الآن في بدء الانقلاب فسيمنح الصينيون الحرية الدينية والشخصية، وتغير الحكومة القديمة بالحكومة الجمهورية وهي التي سماها أهل الغرب (la de gouvernement Le Republique) وهي نظام الحكومة في أمريكا وفرنسا وغيرهما، وقد تصدر الحكومة الأوامر بتبديل الملابس والطرز القديم ويكون أهالي الصين مكلفين باتباعها ويستثنى من ذلك المسلمون، وقبلت الحكومة أيضًا راية جديدة فيها ألوان شتى، فالبياض علامة المسلمين والحُمرة علامة أصل الصينيين والسواد علامة المانجو والخضرة علامة التبت والصفرة علامة عنصر المغول، فشاعت هذه الأخبار وذاعت بين الأقطار والبلدان، ورأينا الصينيين المقيمين في قطرنا (الجاوة) يترقون شيئا فشيئًا اتباعًا لحضارة حكومتهم وبلادهم، وأجمعوا على وجوب تعميم التعليم وأنشأوا مدرسة كبيرة لأبناء بلادهم المقيمين في تلك الجزائر، سموها (Tiong - Hwe - Hoa - Tiong) وبذلوا لهذا الغرض الشريف كل ما في وسعهم مما يحتاج إليه من المال، مع اختيار أكمل الرجال، ويزداد عدد التلاميذ يومًا بعد يوم والفضل في ذلك لنظارة المعارف (Wie - Joe - Khong) وقد سمعنا صوتًا سياسيًا قبل الانقلاب: أن المملكة الصينية إذا ارتقت كالدولة اليابانية تهول الدول الأوربية وتخفيها فإن مملكتها فسيحة وسكانها مئات الملايين ومقدار المسلمين فيها على مقتضى إحصاء الحكومة خمسة وخمسين مليونًا [3] وانظر مبلغ أصل الصينيين والمانجو والتبت وعنصر المغول كم يكون؟ وإخواننا مسلمو جاوه على هذه الحركات المدنية والحضارة وأدوار المملكة الممكنة من عهود تجدد، وشروط تؤكد، ونظام يتغير، وانقلابات تظهر، تراهم بين أمواج التأخر، والانحطاط والتقهقر، كل الأوصاف الخسيسة عليهم انطبقت، وسحائب الجهل والكسل والظلم والاستبداد وكل نعوت الدناءة فيهم قد تزايدت وتراكمت، حتى لا يمدح منهم سوى تمسكهم بكلمة الشهادة، وتلفظهم بالهيللة، ومن العجائب أنهم يتركون ما يجب علمه وعمله لحماية دينهم وملكهم، من تنظيم المدارس وقراءة الجرائد والمجلات، والإلمام باللغات الأجنبية. وأن هؤلاء القوم قد أشربوا حب النصارى في قلوبهم، واستحضروا عظمة ملكهم، ولاحظوا توفر الدنيا بأيديهم، ولكنهم لا يعملون ما ينيلهم ذلك , فحقوق المسلمين أو الواجبات عليهم هي أن لا يبدلوا الملابس والطرز القديم، فالأزياء والوساخة والطاقية الخشبية والنعل المعروف بالقبقاب من مصنوعاتهم هي عين الدين، والمدارس العقيمة على الطريقة العتيقة هي طريقة السلف والخلف فينبغي لنا إبقاؤها، والجرائد والمجلات غاية ما فيها العبث والكذب والزور فينبغي اجتنابها، لذلك نرى رجال الدين الإسلامي عندنا معاشر الجاويين قلما يعرفون شيئًا من أمور العالم. فإنهم جعلوا ما لا شائبة فيه من الأشياء الممنوعة المحرمة، وجعلوا الأفعال الفاحشة والأشياء الخرافية إجماعًا سكوتيًّا، ولا حاجة بنا إلى التصريح بها فإنها معلومة لدى الشيوخ في بلاد الجاوة الشرقية خصوصًا في (فونوروقو) ومتعلقاتها، فلا حول ولا قوة إلا بالله وأعاذنا الله من ذلك! ! على أن الذين يأتون ذلك هم الذين يقرءون التفاسير فهل النهي عندهم للجواز؟ وهل فسر المفسرون النفي بالإثبات والإثبات بالنفي؟ (حاشا لله! ! !) اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا يسخر الأجانب من المسلمين إلا بمثل هذه الأفعال الفاحشة، لا بأفعال الجاهلين منهم الذين لا يمسون أدنى التمدن بل يمسون التوحش، والحق أنهم ليسوا علماء، وإن كانوا يقال لهم ذلك. كيف وقد وضعوا الشيء موضع نقيضه؟ بل هم أدل الآيات على جهلهم وفضيحتهم في التحريف، وتسبب من هذه الأفعال نفور الجاويين من ديانتهم الرسمية وميلهم إلى الديانة المسيحية أو إلى غيرها أو إلى الكفر المجرد لا مسيحية ولا غيرها، غير أنهم لم يمحوا منها كل ما هو إسلامي بدليل بقاء بعض الشعائر الإسلامية والأعياد المِلِّيّة ثابتة هناك كالاحتفال بالمولد النبوي وغيره، وأن من تزوج بغير نكاح، ومن لم يختن أو من مات بالكفن الأسود من الجوخ [4] هذا كله قد عرف العوام فضلاً عن الخواص أنه باطل ولا يفعله أحد. ومما نأسف له من تأثير جهلهم أنهم كلما خرجوا من وطنهم ضرب عليهم الذل والهوان، ويدلك على ذلك الحجاج الجاويون، فإنك ترى مطوّفيهم يلعبون بهم لعبة الكرة - وكذا وكلاء المطوفين - ويظلمونهم ويؤذونهم، وترى الحُجَّاج في هذا الظلم والجور مثل البهائم لغلبة الجهل عليهم، ولو عرف القراء ما عرفته من حال المطوفين ووكلائهم وسفرائهم بهذه المدة ليعجبوا أشد العجب، ولا يمكن أن يقع كل هذا الظلم على من كان له قليل من له الإلمام بقوانين الدولة وبصيص من نور الحضارة وكثرة قراءة في الجرائد والمجلات، فالإنسان ما وصل إلى هذا الحد إلا بعدم المعرفة لشئون العالم، وعدم الإلمام بأمور الاجتماع والعمران. فإنني إن أطلع القارئ على أن المتنصرين لهذا العهد يوميًّا من مسلمي جاوة في جزيرة سوربياة لا يقلون من أربعين إنسانًا وقس عليها ملحقاتها - سمارنغ - بتاوي - سوراكرتا - ودعاة النصرانية فيها يخدعونهم بالاستمالة تارة، ويأخذونهم بالقهر والغلبة مرارًا، ومن الغرائب أن رجال الدين الإسلامي هناك ساكتون لا يقاومون ولا يدافعون حق الدفاع، بل نرى رجال اليابانيين المقيمين في تلك الجزائر هم الذين يناضلون ويدفعون أولئك الدعاة الدجاجلة كما حدثني بذلك الثقة، كان الأولى والأحق بهذا الواجب هم الأولون، ولا ندري سبب سكوتهم عن ذلك، نعم إنهم يتلون قوله تعالى: {إِنَّ الهُدَى هُدَى اللَّهِ} (آل عمران: 73) . إن مقاصدنا استيلاء هولاندة على جزيرتنا بعد أن استأثرت بمنافعها هي: (أ) نصب القضاء بيننا بالعدل والرأفة وبالشورى. (ب) تحسين حالتنا وترقية شئوننا المادية وسنكون بعد 40 سنة في المهارة بالصناعات مثل أوربا. (ج) تحكم هولاندة علينا بحسب قانونها، ويكون مبطقًا على كتاب الله وسنة رسوله. (د) لا تريد الحكومة الهولاندية في جاوة والهند الشرقية إزالة الديانة الإسلامية بل تريد الإصلاح وبقاء الحال على ما هو عليه. ثم لها عدة مواد تعاهد بها (لعله عاهدت عليها) أميرنا الأفخم، ونحن ننشر ما هو مفيد منها لجماعة الدعوة والإرشاد. تقول مجلة المنار في الجزء السابع (ص 519) نقلاً عن أقوال المجلة السويسرية (مجلة إرساليات التبشير والبروتستانتية) : (إن حكومة هولندة تشد أزر المبشرين أكثر من الحكومة الإنكليزية، وقد رتبت لهم مرتبات مالية لتصرف على المستشفى والملاجئ والمدارس، وسبب هذا الاتفاق بين الحكومة الهولاندية والمبشرين وجود (فون بوتزيلر) قنصل المبشرين والوسيط بينهم وبين الحكومة) . (قلت) إن صحت هذه العبارة فإنها تدل صراحة على أن الحكومة الهولندية تريد إزالة الديانة الإسلامية، والتحول عنها إلى الديانة المسيحية، فلا وجه للتعاهد على إبقاء الإسلام. مع هذه الصراحة، فازداد بها يقيني وإنكاري، وشمرت بها إلى فتح طريق الاعتراض والانتقاد على المادة الرابعة (د) وفوق ذلك نرى إخواننا شبان الجاويين قد اعترضوا على المواد المذكورة فأسسوا جمعية الاتحاد العام Boedi - Oetomo أي الأخلاق الفاضلة فهم يرومون بها التربية والاستقلال ويتخذون لذلك وسائل شتى، ولها جريدة خاصة باللسان الجاوي والماليزي سموها (دارما - كوندو) تبحث في شئون هذه الجمعية حتى أصبحوا -ولله الحمد- قد أخذت تظهر فيهم بوادر الانقلاب، فلو كان جميع الزعماء من المسلمين عارفين بمقاصد جمعية (الاتحاد والترقي) وسياستها، وأرادوا أن يتبعوا منها شبرًا وذراعًا بذراع في الأمور المادية والمعنوية جميعًا لفعلوا بلا معارض، فكما طلعت شموس الانقلاب وفجوره طلعت أيضًا رءوس المدارس الإسلامية محصورة في بعض المدن والقرى حتى بلغ المنشأ حديثًا زهاء خمس مكاتب على طراز جديد، ونخص بالذكر منها مدرسة بتاوي ومدرسة فكالوعان ومدرسة سورابية ومدرسة سورا كرتا ومدرسة يجوكجا كرتا. وهاتان المدرستان هما أكبر المدارس الدينية فيها إذ مؤسس المدرسة بسورا كرتا هو الجناب العالي أميرنا الأفخم عبد الرحمن العاشر، ومؤسس المدرسة في جوو كجرتا الحكومة الهولندية بأمر الحاكم العام في بتاوي، وكلها عامرة بالتلاميذ، غير أن أساتذتها لا يعرفون نظام المدارس في الآستانة ومصر المحروسة بالفعل، لذلك فشا فيها شيء من الطريقة القديمة حتى جاء ذاك المصلح الكبير نجل السادة الأعيان، والعلماء الأعلام، سيدي السيد عبد الله بن صدقة بن زيني دحلان، فساعد على تنظيمها رغبة في

بعد تسعة قرون

الكاتب: محمد شرف

_ بعد تسعة قرون [*] يقولون: إننا في القرن العشرين، في القرن الذي ارتقى فيه الإنسان أعلى الدرجات في سُلَّم الحياة، في القرن الذي انتشر فيه العلم والعدل والمساواة، في القرن الذي قلَّت في جوه جراثيم الأمراض الاجتماعية الفتاكة، في القرن الذي مُحي فيه كل رسم للرق والنخاسة، في العصر الذي قويت فيه عاطفة الرحمة في ابن آدم وتجسمت في عقله مبادئ الإنسانية الحقيقية وحب السلام والحب الجنسي، في العصر الذي محي فيه من قلب الإنسان كل بغض ديني لمن على غير دينه، وقوي فيه التسامح الديني ومات التعصب، وصار كلّ يحترم دين غيره، فهل كل هذا حق؟ إن الحوادث والشواهد تؤيد خلاف ذلك. هل زال بعد تسعة قرون (أي بعد الحرب الصليبية الأولى) من النوع الإنساني ما كمن في فؤاده بل ما جرى في دمه من الخبائث؟ هل نسيت أوربة صبغتها المسيحية ومركزها تجاه الإسلام، هل غفلت عن عدوها القديم؟ هل تزحزحت بعد التسعة القرون بما اكتسبته من علم ونور ومبادئ شريفة إصبعًا واحدة عما كانت عليه أيام الحروب الصليبية؟ لَعَمْري إن الأديان كانت بسوء استعمال الناس لها سببًا في فناء جزء كبير من البشر وستبقى كذلك , فليس من العجيب أن نرى أنفسنا في القرن العشرين في حرب صليبية سببها نفس السبب الذي أجرى في سهول سورية وفلسطين ومقدونيا أنهارًا من الدم، وأقام فيها هضابًا من الجماجم أيام العصور الوسطى. أيها المسلمون اعلموا وتيقنوا أن المسيحية لن تغفل عنكم. إن دينكم ومركزكم الجغرافي لا بد أن يجعلاكم في عِراك دائم معها. أنا لا أريد منكم أن تكونوا معتدين، ولكن أريد أن لا تنسوا الدفاع عن بلادكم المقدسة، تلك البلاد التي ارتوت واحمرت بدماء آبائكم، ثم ابيضت بعظامهم، ولا بد أن تحمر وتبيض مرات عديدة حتى يفنى العالم. أيها المسلمون! لست في حاجة إلى تنبيهكم لمكان هذه الشئون من تاريخكم من حيث إنكم أمة إسلامية. لا بد أن تكونوا علمتم جميعًا بالحوادث الأخيرة حول دار الخلافة وما ينويه أعداء الإسلام لكم. إني أكرر أن هذا الزمن ليس زمن أزمة وحرج في تاريخنا فقط، بل هو معركة حيوية نتيجتها إما بقاء أو موت، لذلك لا بد أن تكون تلك الحوادث قد شغلت بالكم وأشعلت في أنفسكم جمرًا كان باردًا. لا تظنوا أن أوربة تريد إصلاحًا أو عمارًا في مقدونيا، إن هي أرادت ذلك فليس الجبل الأسود أو بلغارية أو الصرب هي التي تدخل هذه الاصطلاحات، فالأول على حالة الوحشية والحيوانية الأولى، ولا فرق بين الثانية وبين تركية، والثالثة ليست إلا قطيعًا من الخنازير. ربما كنا نصدق بهذه الاصطلاحات لو كانت الحرب من إنجتلترة أو فرنسة أو ألمانية. إن طلب الاصطلاحات تحته امتلاك، إنه أسد في جلد حمار. إن أوربة الحقيقية تريد أن ترى تغيرًا في رعاة الشرق الأدني، تغيرًا في حدوده الجغرافية بالأحرى، تغيرًا في سادة القسطنطينية أو كما تقول جريدة (البال مال غازيت) : (نود أن نرى مسيحيي البلقان يطوون هذه السيادة الآسيوية التي ظهرت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر) هذا هو غرض أوربة وهي لا تكتفي ولا ترضى بإثارة حرب قومية، بل تثير علينا حربًا دينية محضة. يجب أن لا نغتر بما يسمونه (المداولات السياسية لمنع حرب البلقان) إنه عمل مبني على غير إخلاص، وما هو إلا ذرّ رماد في الأعين. إن أوربة الصليبية لا تريد أن تقف أمام قوة تتفق مع أهوائها الطبيعية، لا بد أن تنتصر لإخوانها في الدين وتساعدهم، إنه لا يمكن وضع المسلم والمسيحي في كفة ميزان! إن الأخير أحق عندها بإصلاحات تناسب رقي عقله، وعلو قدره، لذلك نشأت تلك الحرب الدائرة الآن عن دسيسة دولية ماهرة أخذت في التكون منذ العام الماضي حين قامت الروسية تضغط على الباب العالي بقبول ضم طرابلس إلى إيطالية، منذ ذاك الحين اشتعلت الدسائس فأهاجت البلقان على الإسلام. ومنذ خمسة أشهر ظهر ناظر خارجية النمسة باقتراحه المشهور، ومهما كساه بالألفاظ الأدبية المعتادة في المخاطبات السياسية، ومهما موهه وطلاه بألوان الطلاء فهو في الحقيقة فحم جديد لنار موقدة، بين شعوب ذوي عقائد مختلفة، ما زادها إلا وقودًا، وزاد لهيبها إلا اشتعالاً. وتلك الروسية التي عهد إليها مع النمسة الاحتجاج الشديد على دول البلقان نجد عليها تبعة كبرى في هذه الحرب ولا يدعو إلى الاستغراب أن تدخل فيها عن قريب. ميل روسية إلى الجامعة السلافية أمر مشهور وعداوتها اللازمة لبني عثمان حقيقة تاريخية، وتمنيها القبض على مفاتيح البحر الأسود وجعل القسطنطينية عاصمة جامعة سلافية كبرى أمر دائم في فكرها ومحور سياستها. وهي الآن تساعد بلغارية. وهذا ملك الجبل الأسود الحائز للقب (فريق) في الجيش الروسي وصهر القيصر والذي قال منذ أسبوعين (إن كلمة القيصر هي القانون عنده وعند قومه) أيعقل أن يعلن الحرب رغم أنف القيصر؟ لا بد من مواثيق ومعاهدات. ولم يمض على الحرب أسبوع حتى أمطرت الروسية على الجبل الأموال الكثيرة والعطايا الغالية وأرسلت البعثات الطبية، وجاء إلى الجبل أميران روسيان. أهناك تشجيع على الحرب أكثر من ذلك؟ إن خطب ملوك البلقان موجهة إلى قيصر الروسية أكثر مما هي موجهة إلى أقوامهم. جاء في الإرادة السلطانية أن هذه الحرب سياسية محضة، ولكننا نعتقد بالرغم من ذلك أنها دينية محضة، حرب مؤسسة على بغضاء دينية كمنت سنينًا وقرونًا، ويُثبت ذلك ما جاء في مذكرات الأمم البلقانية وخطابات ملوكها، فهذا ملك البلغار يقول: إن آلام إخواننا في الدين من رعايا سلطان آل عثمان التي لم يسمع بها أحد قد أثارت غضب أمتنا بحق، وكل الوسائل السلمية للدفاع عن هؤلاء الشهداء إخواننا في الدم والدين قد نفدت، لذلك لا يمكننا أن نبقى بدون تأثر بتأوهاتهم الشديدة، ولاعتمادنا على قوة جيوشنا أمرناها بغزو الحدود للمحاربة مع ذلك العدو القديم. إن عملنا مقدس، وفي سبيل الرحمة والإنسانية. اعلموا أن حربكم حرب صليبية. إلى الأمام بعون الصليب وقوة أسلحتكم، إن إله العدل لا بد أن يعينكم. وقد أمر بدق الأجراس في جميع الكنائس إعلانًا بالحرب وجيء بالقسيسين للصلاة والدعاء بالرحمة والشفاعة للمحاربين. وخاطب ملك الصرب قومه بهذا المعنى أيضًا - وأمر بإقامة الصلاة والدعاء بالنصر لجيوش المسيحيين وطول العمر لقيصر الروس حامي حمى الكنيسة الأرثوذكسية. وقال مثل ذلك ملك اليونان، وناظر خارجيته يقول: (إن حرب البلقان الصليبية هي غزوة لنصر المدنية والتحرير من السيادة الأسيوية التي بعد أن هددت أوربة وبعد أن وصلت إلى فيينا لا تزال عبئًا ثقيلاً على كواهل أمم أكثر تقدمًا وأرغب في الحضارة والحرية من الأمة الفاتحة) هذا بعض ما قيل في البلقان، وإليك ما في غرب أوربة. ففي إنجلترة نفسها - في الأمة التي يقال إنها سبقت جميع الأمم في ميولها العادلة وسلامة أذواقها وصفاء قلوبها من الحقد والضغن الديني - في الأمة التي تدعى جريدة التيمس أنها (أقوى مُدافع عن بيضة الإسلام) - في الأمة التي عولت تركية كثيرًا على إنصافها وخطبت ودّها - في هذه الأمة لا يمكن الإنسان أن يحتمل البغض الظاهر لتركية والإسلام. لا يمكن الإنسان احتمال ظواهر لبغض أشد من بغض غلادستون الذي كان يقول (هذا الكتاب - مشيرًا إلى القرآن - لا بد أن يجمع من أيدي المسلمين ثم يحرق، هذا الكتاب ما دام في أيدي هؤلاء الملايين لا بد أن يبقوا أشقياء أعداء لكل ارتقاء وإصلاح، أعداء للمسيحية) وهذه الصحف الإنجليزية تضرب على نغمة أشد من نغمته فهي تقول اليوم: لا خير في الإٍسلام ولا صلاح يُرجى منه. ومن هذه الجرائد قسم لا يكتفي بكتابة أخبار مهيجة عارية عن كل صحة، وبإعلانات مثيرة للخواطر، بل تعلق عليها بمقالات أشد من قول ملك البلغار. ومثالاً لذلك أقتطف جملة من تعليق (البال مال غازيت) قالت: (لا شك أننا كلنا والرأي العام هنا لا بد ينتصر لإخوانه في الدين. لا شك أننا نود أن نرى إخواننا في الدين يكتسحون تلك السيادة الآسيوية في جنوب شرق أوربة كما اكتسحوا الأندلسيين العرب من غربها) . لم تقتصر هذه الظواهر العدائية على الصحف والرأي العام بل اشتدت في الدوائر الرسمية وظهرت على لسان المستر (لويد جورج) والمستر (ماستر مان) من نظار المالية. واجتمعت جمعية البلقان المكونة من أعضاء البرلمان في وستمنستر يوم إعلان الحرب، وقررت بأن الأمم البلقانية محقة في عملها. ومهما تكن نتيجة الحرب لا بد من استقلال مقدونيا. وقررت عقد اجتماعات عمومية لتهييج الراي العام. لم تقف تلك الظواهر عند هذه الحدود بل امتدت إلى المعاهد الدينية بالطبع فدعا بعض القسيسين يوم الأحد بالنصر للغزاة. وقال بشوب سوبثويل (Bishop of southwell) في خطاب ألقاه في نوتنجام (Nottingham) إن قتل المسيحيين وتعذيبهم في مقدونيا طول هذه السنين لم يعد يحتمل ولا بد من إعلان الحرب. هذا يوم إعلان الحرب وسافر المستر Buscton Nocl عضو البرلمان إلى صوفية وأعلن هناك أن عددًا كبيرًا من الإنجليز قادم إليهم للتطوع مع البلغار. وأن أثر هذه المظاهرات في نفوس أهل البلقان لا يخفى على القارئ. إن إنجلترة المدعية الصداقة للدولة العثمانية والدفاع عن الإسلام والتي يعدها عدد كبير من المسلمين أخلص صديق لهم تعمل كل ذلك في زمن جرحت فيه قلوب جميع المسلمين (ومن يبالي بقلوب المسلمين الذين لا يبالون بأنفسهم) إن إنجلترة بما لها من النفوذ الدولي الكبير والنفوذ الأدبي كان في إمكانها على الأقل إيقاف اليونان عن الحرب، وربما كان في ذلك إيقاف الحرب كلها. إن إنجلترة تقيم البرهان الآن على مبلغ إخلاصها للمسلمين. قد رأيناها مع ما اشتهرت به من حب الإنصاف خنقت أمة شريفة ذات مجد قديم وهي في أول درجات الترقي والتقدم والجهاد الشريف وباعتها لدب مفترس قاسٍ تحقيقًا لتوازن دولي غير محقق. هذه هي حقيقة نية الإنجليز في المسلمين. ما كنا لنتأوه كثيرًا لو كانت إنجلترة نفسها احتلت فارس بأجمعها؛ لأنها ربما كانت تساعدها على المدنية ولو قليلاً، ولكن أعطتها لمن سيسحقها سحقًا مبيدًا. إن إنجلترة لا بد أن تعلم أن في ملكها أو تحت حمايتها وفي احتلالها أكثر من 85 مليونًا من المسلمين وهي تعترف أن روح العصر تجري في دمائهم، وأنهم استفاقوا من نوم عميق وتأثروا بأشعة النور الحالي، ولتعلم أيضًا أن الإسلام حقيقة تاريخية وأنه لا يزال مفتاح أكبر باب في سياستها، ولنحذر لذلك غضب الشعوب الإسلامية. إن الإسلام جرحت كبده في العام الماضي وجرح قلبه في السنة الحاضرة. إن هذه الحركة العدائية العمياء في إنجلترة أمر لا يحتمله المسلمون ولا بد لها من أثر سيئ ما لم يتدارك الأمر بعض الرجال المدققين في الحكومة الإنكليزية. ولعلّ في ذلك عبرة لجمهور المسلمين الذين لا يفكرون في أن إنجلترة إذا ساعدتهم فإنما تساعدهم عن اضطرار، وأن الأولى بهم الاعتماد على هممهم الذاتية. أيها المسلمون اعلموا أن أمة العرب اندرست آثارها في الأندلس بسبب غفلة المسلمين وعداوة المسيحية لهم، وعدم وصول أي مساعدة إسلامية إلى أمراء المسلمين في الأندلس، واعلموا أن التاريخ يعيد نفسه، وأن أمامنا مثالاً ثانيًا فإن بقيتم بعيدين لا تعرفون معنى الجامعة الإسلامية فالنتيجة واحدة لا محالة. أيها المسلمون إن خلافتكم محاطة بأكثر من نصف مليون سيف، وإن عدد أعدا

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (عون المعبود بشرح سنن أبي داود) كتاب السنن للإمام الحافظ أبي داود من أجلّ كتب الحديث وأجمعها وأضبطها حتى قال بعض العلماء: إن فيه القدر الكافي للمجتهد في الفقه. ولم يطبع طبعًا متقنًا مضبوطًا لا في مصر ولا في الهند ولا طبع له شرح فيما نعلم قبل شرح (عون المعبود) وهذا الشرح للشيخ أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي نسبة إلى بلد (عظيم آباد) من بلاد الهند، وهو من كبار محدِّثي هذا العصر وعلمائه ومصنفيه المشهورين في ذلك القطر. وقد تعب في ضبط متن الكتاب، ولقي نصبًا شديدًا لقلة النسخ الصحيحة فلم يتم له ما أراد حتى جمع إحدى عشرة نسخة من الهند والحجاز بعضها بالشراء وبعضها بالاستعارة. وأما الشرح فإنه -والحق يقال- شرح محدث فقيه - لا فقيه محدث - أعني أنه شرح من يعتقد أن السنة أصل يعرض عليه أقوال الفقهاء فما وافقها قبل وما خالفها ترك، لا من يرى أن الأصل في الدين كلام فقهاء مذهبه فيعرض عليه السنة فما وافقه منها قبله، واحتج به وما خالفه منها تمحل في تعليله أو تأويله. فهو يشرح الحديث ويبين درجته ومن خرجه من الشيخين في صحيحيهما، ومن أصحاب السنن الثلاثة تبعًا للمُنذري ويزيد من شاء الله أن يزيد. ويشرحه بما يتبادر إلى الفهم من العبارة مستعينًا بشراح الحديث من قبله ولا سيما الحافظ ابن حجر والإمام النووي والإمام الشوكاني. ويذكر ما فيه من الفقه. وقد بين طريقته في ذلك في آخر الشرح. وإذا كان بعض علماء الأصول يرى أن سنن أبي داود كافية في الحديث لمن يريد أن يكون مجتهدًا. فأنا أرى أن شرحه هذا كافٍ لمن يريد أن يأخذ دينه من السنة ويكون مهتديًا بها. طبع هذا الشرح مع الأصل في مطبعة حجرية في دهلي فجعل المتن في أعلى الصحائف والشرح في أدناها مفصولاً بخط عرضي على الطريقة الحديثة. وقد عُني بتصحيحه عناية قلما نجدها في طبع الكتب الهندية. وضبط ما تمس الحاجة إلى ضبطه من المتن بالشكل. فجاء في أربع ملجدات من القطع الكامل. وجعل له جدولاً للخطأ والصواب. وهو يطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر. *** (بداية المجتهد. ونهاية المقتصد) كتاب في الفقه للإمام الفيلسوف الأصولي الفقيه القاضي أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي الشهير (بابن رشد الحفيد) المتوفى سنة 595 رحمه الله تعالى. قال المصنف في أول الكتاب بعد البسملة: (أما بعد حمدًا لله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه، فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقًا قريبًا. وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد وقبل ذلك) . ثم ذكر الطرق التي تُتلقى منها الأحكام الشرعية وأصناف الأحكام وأصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف في نحو من ثلاث صفحات فكان ذلك مقدمة أصولية للكتاب، وشرع بعد ذلك في المقصد مبتدئًا بكتاب الطهارة مختتمًا بكتاب القضاء على طريقة فقهاء المالكية. وهو يذكر في كل كتاب أصوله فيحصرها في أبواب يذكر في كل منها ما اتفق عليه الفقهاء أولاً، ثم أمهات المسائل التي اختلفوا فيها مع بيان أدلتهم ومداركهم فيها. وقلما يرجح بعضها على بعض. فمن مزايا هذا الكتاب أنه - فيما علمنا - أحسن كتاب يمثل جملة الفقه الإسلامي ومآخذه ودلائله لمن يريد معرفته بالإيجاز والسهولة من غير حشو ولا زوائد، وهذا ما يحتاج إليه المسلمون وغير المسلمين من الباحثين. (ومنها) أنه أقرب وأوضح ما يفند به بالتفصيل رأي الذين توهموا أن فقهاء الإسلام استمدوا من القوانين الرومانية أو احتذوها في فقههم. (ومنها) أن المسلم يعرف به المسائل المتفق عليها التي يتأكد العمل بها والمحافظة عليها والمسائل المختلف فيها التي له فيها متسع. (ومنها) أن الاطلاع على ما فيه من أسباب الخلاف ودلائل فقهاء المذاهب التي تنسب إليها أكثر المسلمين اليوم وغيرهم يزلزل أو يزيل جمود المتعصبين لبعض المذاهب على بعض الذين يحتقرون إخوتهم في الدين من غير المنتمين إلى غير ما انتموا هم إليه، ومنهم الغلاة الذين يكفرون مخالفهم أو يحكمون ببدعته ويستحلون إيذاءه، كما اشتهر عن الأفغانيين في بلادهم. وقد سألت بعض طلاب العلم منهم في (لاهور) من مدن الهند: أحقًّا ما قيل عن أهل بلادكم من التعصب الشديد على غير الحنفية ومن يعلم بغير المشهور في بلادكم من أقوال فقهاء هذا المذهب؟ فإنه بلغنا أن من يرفع سبابته عند التشهد في الصلاة يقطعون سبابته؟ فقالوا: نعم! وحاولوا إقامة الحجة على تصويب هذه الجرائم والجنايات. والسبب في مثل هذا التعصب الشديد عندهم أنهم يحصرون دين الله وشرعه في المعروف عندهم من كتبهم الفقهية، ويسمون المخالف له مخالفًا للشرع وتاركًا للدين، وإن كان في المسألة التي خالفهم فيها عاملاً بحديث صحيح أخذ به أكثر المجتهدين في عصور العلم والاجتهاد، وكانوا هم فيها عاملين برأي بعض الفقهاء الذين لم يتفق لهم الوقوف على ذلك الحديث بإسناده الصحيح، وقد كان مما أراد الطلاب الأفغانيون الاحتجاج به على إيذاء المخالف وقتله قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} (التوبة: 5) ! ! ! الوارد في مشركي العرب المحاربين للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي ذكرته هنا من مزايا الكتاب هو زائد على الغرض الأول للمؤلف من تأليفه إياه وما فيه من الإعانة على تحصيل مرتبة الاجتهاد المطلق التي تقاصرت عنها همم المسلمين في عصره، وكذا قبل عصره فدع ما بعده، وقد كان أمثاله من القضاة أشد الناس احتياجًا إلى الاجتهاد لما كان يعرض لهم من القضايا التي لا نص فيها ولم يكن لها نظير في زمن من قبلهم، ومعرفة أمهات أحكام الفقه بدلائلها ومداركها أعون ما يعين على استنباط الأحكام لهذه القضايا الحادثة. وجملة القول في هذا الكتاب أنه من الكتب التي لا تستغني عنها النهضة العلمية الإسلامية الحاضرة. وقد طبع في العم الماضي (1329) على نفقة محمد أمين أفندي الخانجي الكتبي وشركائه، وهو يطلب منه ومن مكتبة المنار. *** (حياة البخاري) كتاب مختصر في ترجمة إمام الحفاظ محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح لصديقنا عالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي. وهو يناهز أربعة كراريس (ملازم) مثل كراريس المنار طبع في مطبعة العرفان بصيدا بعد أن نشر في مجلة العرفان هنالك. وهذه الترجمة هي التي ذكَّرت المؤلف بالحاجة إلى رسالة (الجرح والتعديل) التي تنشر في المنار. وأجدر بالقاسمي أن يكتب مثل ترجمة البخاري، وهو الذي يشغل جلّ أوقاته في علوم الأثر مطالعة وتدريسًا وتصنيفًا. ولو كان للمسلمين جمعية تؤلف معجمًا علميًّا (دائرة معارف) ما اخترت لكتابة مثل هذه الترجمة لها من علماء بلادنا غير القاسمي، وكنت أرجو أن أرى في الترجمة بيان السبب الذي ترك له البخاري الرواية عن بعض الثقات العدول أو الإقلال منها وتحرير الكلام في ذلك بالإنصاف الذي يرضي المنصفين. والكتاب يباع في مكتبة المنار وثمنه قرشان صحيحان خلا أجرة البريد. *** (الدين والإسلام - أو الدعوة الإسلامية) كتاب جديد (لمؤلفه محمد الحسيني آل كاشف الغطا النجفي) من علماء الشيعة الإمامية طبع الجزء الأول منه، وهو يشتمل على فاتحة في حال الإسلام والمسلمين يلي ذلك خمس سوانح: (1) في الأديان وتوقف انتشارها على العلم والعمل والسيف والقلم، وتمثيل حال الإسلام اليوم. (2) في الشرف والسعادة. (3) فيما ينشط العزائم لتحصيل الشرف. (4) في حال المصنف وعنايته بالفلسفة الروحية والفنون العربية. (5) في الحكماء ومؤلفاتهم، وعدم قيام زعماء الإسلام بالدعوة على وجهها وخروج النصارى عن آداب المناظرة مع المسلمين وسوء مغبة ذلك. يلي ذلك مقدمة في وجوب النظر وفصول في إثبات الصانع، وتوحيده، والعدل العملي والاعتقادي، ومباحث القضاء والقدرة والعناية. وعبارة الكتاب وأسلوبه شعري خطابي على طريقة كتاب الرسائل وهو أسلوب اعتيد في الأدبيات دون العلميات والدينيات إلا قليلاً، والظاهر أن المصنف جرى فيه جري المجتهد المستقل الذي لا يعتمد تقليد من لا يعتقد العصمة له. وقد طبع هذا الجزء طبعًا نظيفًا في مطبعة العرفان بصيدا. وجاءتنا نسخة منه عقب عودتنا من رحلتنا الطويلة، والشواغل متزاحمة فلم نجد وقتًا نقرأ فيه مبحثًا تامًّا من مباحثه لتشهد له أو عليه بالحق، وحسبنا أن نشكر للمؤلف قصده وغايته وموضوع عمله، وأن ندعوه لشد أزر جماعة الدعوة والإرشاد بدلاً من الشكوى والتألم من المسلمين لإهمالهم أمر الدعوة والإرشاد، فإننا نرى أن أغرب تخاذل المسلمين وتقاطعهم، ما هو واقع بين المتفقين في الرأي منهم، إننا نرى بعض الأفراد أو الجماعة منا يدعون إلى شيء أو يشرعون فيه، ونرى آخرين يشكون من فقد ذلك الشيء نفسه ويدعون إليه جاهلين أو متجاهلين حال إخوانهم الذين يقومون بذلك، ومنهم من إذا علم أو أُعلم بحالهم أنكرهم أو طعن فيهم حسدًا وبغيًا، أو احتقارًا وكبرًا، أو لأنه يتجر بالكلام في ذلك الموضوع اتجارًا، أو يتخذه مزرعة يستغلها استغلالاً. أقول هذا في أناس أعرفهم بشخوصهم وبسيماهم، وأعيذ هذا المصنف الغيور بالله ثم بفضله أن يكون منهم، ولو كان عندي في مكان الظنة، لما ذكرته في هذا المقام بكلمة، ولما دعوته لأنْ يضع يده في يدي، وأن يكون في هذا العمل الذي يدعو إلى مثله ساعدي وعضدي، وأن الكتاب لا يغني عن القول باللسان، والقول لا يغني عن العلم، فالقارئون قليل، والذين يفهمون منهم أقل، والعاملون من هؤلاء أندر من الكبريت الأحمر. هذا، وإن ثمن النسخة من هذا الجزء اثنا عشر قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (دين الله في كتب أنبيائه) كتاب يحتوي على مقالات الطبيب محمد توفيق أفندي صدقي الشهير التي نشرها في منار هذا العام في الرد على النصارى وإبطال مزاعم دعاتهم من البروتستانت وكشف شبهاتهم ونقض القواعد التي يبنونها عليها، وعلى مقالات أخرى نشرت في بعض السنين الماضية كان الباعث الأول على كتابتها الرد على دعاة النصرانية، ثم جر السياق إلى ما يختص بالمسلمين في بعض المسائل. حقًّا إن الكاتب قد جاء بما لم تره لغيره من العلماء الذين ردوا على النصارى من قبله وأحسن في اختيار ما سُبق إليه. ومن المسائل التي توسع فيها وأجاد مسألة القرابين والذبائح في الأديان ونقض الأساس الذي أخذته النصارى منها لبناء عقيدة الصَّلب عليه، ومسألة إبطال ما يستدلون به من كتب العهد العتيق على الصلب، وقد أوضح هذا وما قبله في مئة صفحة. ثم مسألة البشائر بنبينا صلى الله عليه وسلم في كتب العهدين العتيق والجديد. ومسألة حقيقة التوراة والإنجيل وإثبات تحريفهما وعدم الثقة بنقلهما، ومقابلة ذلك بحفظ القرآن وضبطه والعناية بكتابة المصاحف ونشرها , وإنك لترى في مقالة تاريخ المصاحف كلامًا في ضياع سند كتب النصارى , وفي مقالة النا

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الحرب البلقانية والمسألة الشرقية) قد عرف القراء رأينا في المسألة الشرقية من المقالات العشر التي نشرت في منار السنة الماضية عند إغارة إيطالية على طرابلس الغرب , ثم جاءت حرب البلقان مؤيدة لرأينا في تلك المقالات وداحضة لآارء قصار النظر الذين لا يرون إلا ما كان بين أيديهم، غير بعيد عن مواقع أبصارهم , وقد بينا في غير تلك المقالات أن الدولة لا تقدر أن تحفظ جميع بلادها بقوتها العسكرية المنظمة، بل الوسيلة لحفظها هي إيجاد قوة دفاعية أهلية في كل قطر وكل ولاية، وهو ما يعبر عنه إخواننا الترك بالدفاع المِلّي , وهذا رأي لنا قديم طالما جهرنا به وعرضناه على بعض رجال الدولة، وذاكرنا فيه بعض من عرفنا من الضباط أركان الحرب وغيرهم في الآستانة , ونرى الحوادث تؤيده آنًا بعد آنٍ بالوقائع المشاهدة، ومع هذا نرى أكثر الناس غافلين عنها. بدأت الحرب البلقانية والدولة غير مستعدة لها خلافًا لما كان يعتقده العالم كله من عثمانيين وأوربيين، لأن الجميع يعلمون أن هذه الدولة دولة حرب فقط، ويظنون أنها مهملة لكل شيء أو مقصرة فيه إلا الاستعداد الحربي، وأن هذا الاستعداد لا يوجد تامًّا إلا في العاصمة وحَرَم العاصمة وجوارها، ولكن البلغاريين وحدهم هم الذين كانوا أعلم من العثمانيين ومن الأوربيين بكُنه هذا الاستعداد، وجميع ما هنالك من نقص وضعف وخلل؛ لأن جواسيسهم كانوا متغلغلين في كل مكان، ويوجد في رجالنا من الخونة من يبيعهم كل ما يبذلون فيه المال، فانتهزوا فرصة هذا الخلل والتقصير، وسائر ما أحدثته جمعية الاتحاد والترقي من الفساد في الجيش والعناصر، وألفت الوحدة البلقانية بمساعدة روسية، في أوائل العام الماضي على عهد الوزارة السعيدية الاتحادية، التي كانت بركان الشقاء والشقاق في البلاد العثمانية. اشتعلت نار الحرب فكان الرجحان فيها للبلقانيين فما زال البلغاريون منهم يطاردون العثمانيين حتى خط الدفاع الأخير أمام الآستانة في المكان الذي يسمى (شتالجة) حيث تصل أصوات المدافع إلى العاصمة، وهذا خط ضيق ينتهي من أحد جانبيه ببحر مرمرة ومن الجانب الآخر بالبحر الأسود، فكان الأسطول العثماني يحمي جناحي جيشنا من الجانبين فتتوفر القوة البرية في القلب، ومعظم الجيش في هذا الخط جديد لم يُكسر فوقه، ولم تُفسِد بأسه الهزيمة، ولا أنهكه الجوع والتعب، وهو يجد كل ما يحتاج إليه من المؤنة والذخائر حاضرًا لقربه من العاصمة , وأما جيش العدو فقد كان منهوك القوى، وبعُد عن بلاده فصار نقل المؤنة والذخيرة إليه عسرًا - لهذا كله، ولما هو معروف عن العثمانيين من قوة الدفاع والثبات والصبر فيه قد ارتد جيش العدو عن هذا الخط خاسئًا خاسرًا ولم ينل منه نيلاً، بل نال شرًّا وويلاً. ما ظهر رجحان البلقانيين على العثمانيين، إلا وأظهرت دول الاتفاق الثلاثي المصيبة للغالبين، تبعًا لصديقتهم الروسية موقظة هذه الفتنة، وصاروا يتحدثون بقسمة الولايات المقدونية بين الغالبين وإخراج الترك من أوربة، ومنها امتداد حدود الصرب إلى السواحل الألبانية من بحر الأدرياتيك، وهذا مما يضر دولة النمسة وينافي مصلحتها، وينافي أيضًا مصلحة إيطالية على ما في المصلحتين من التعارض، حينئذ كشرت النمسة عن أنيابها، وأمرت بحشد جيوشها، وصرحت بأنها لا تأذن للبلقانيين بإعطاء الصرب ما يطلبون من ساحل البحر، ولا بالاعتداء على بلاد الألبانيين بل يجب أن تكون هذه البلاد مستقلة , وأظهرت ألمانية وإيطالية تأييدهما لحليفتهما، فاستحوذ الذعر والقلق على الروسية وصديقتيها - إنكلترة وفرنسة - وخفن أن يؤدي الخلاف إلى حرب أوربية لا تُبقي ولا تذر , فطفقت روسية تنصح للصرب بأن لا تصر على ما تطلب وتجعله ضربة لازب , وألانت إنكلترة القول في مسألة خلاف الدول , والحق أن كل دولة من الدول الكبرى تبذل كل ما في وسعها من وسائل الاستعداد الخفية للحرب، وتجتهد مع ذلك اتقاء أسبابها , ولم يظهر بعض الاستعداد لها إلا النمسة. كانت الدولة العثمانية بعد انهزام جيشها في معركة (قرق كليسا) ومعركة (لولي برغاس) العظيمتين طلبت من الدول الكبرى التوسط في الصلح فأحجمن وجمجمن، فعرضت على البلغار عقد هُدنة، لأجل المذاكرة في أمر الصلح فسُرَّت هذه بهذا الاقتراح؛ لأنها كانت تفضل أن لا يتوسط الدول في ذلك , ولكنها عرضت شروطًا شديدة ردتها الحكومة العثمانية وتلا ذلك رجحان جيشنا في دفاع شتالجه وتكشير النمسة في وجوه البلقانيين والخوف من ميلها وميل حليفتيها معها إلى العثمانية، فتساهلت البلغار والصرب في شروط الهدنة وأسرعتا بإمضائها، وأبت اليونان ذلك لتبقى حرة في حركاتها البحرية، ولكنها صرحت بأنها تدخل مع حليفتيها في مذكرات الصلح , وستكون المذاكرة في مسألة الصلح في لندرة كما روت لنا البرقيات الأخيرة. ثم إن الدول الكبرى يقترحن عقد مؤتمر للنظر في مسألة الدولة بعد الصلح والحكم بينها وبين دول البلقان فيما يختلفن فيه، فيكون كمؤتمر برلين الذي عقد عقب الصلح بينها وبين روسية بعد حربهما الأخيرة. والغرض من المؤتمر أن لا يكون تعارُض المصالح والمنافع سببًا للتنازع والحرب بين الدول الكبرى , وهذا هو الذي يخشى شره، فإن الدولة ليس عندها قوة بحرية ولا برية لحماية بلادها من إغارة الدول عليها أو بث نفوذهم فهيا على الوجه الذي يسمونه الفتح السلمي , وإنما عمدتها في السلامة من شرّ الدول تنازعهن واختلافهن، والاختلاف الضار لا يستمر بين العقلاء فمن الخطأ العظيم والخطر الكبير أن يعتمد عليه. نعم، إذا نجونا هذه المرة أيضًا من وضع أوربة جميع ولاياتنا الآسيوية تحت سيطرتها عملاً بقاعدة الفتح السلمي فإنما ننجو بتعارض الدول وتنازعها على ما بقي لنا، لا بقوة ذاتية فينا، ولا بقاء لمن لا حياة له في نفسه، ولا استمساك له بذاته، إذ لا يدوم له ما يدعمه من ورائه، لمنفعة عارضة لواضع الدعامة له، فيجب إذًا أن نعمل لنحيا حياة سياسية ذاتية، ونكون قادرين على نفع من ينفعنا وضر من يضرنا، ليكون النفع بالمبادلة فينمو بنمائها، ويكون دفع الضرر والعدوان بالقوة فيدوم بدوامها، وقد كان مصابنا في هذه المرة من قبل الاتفاق الثلاثي وقد أخطأنا؛ إذ أسأنا الظن بدولة النمسة عند اقتراح وزيرها المشهور، ثم ظهر لنا أن روسية هي التي أثارت الفتنة، وظاهرتها فرنسة وإنكلترة، والآن ترى ألمانية والنمسة يظهران لنا المودة، فإذا تم ذلك فعلاً، وثبت في المؤتمر الدولي ثبوتًا قطعيًّا، فالواجب على حمية العثمانيين وجميع المسلمين أن يكافئوا من يساعدنا بكل ما يستطيعون، وأهمه ترويج التجارة، وما لنا لا نعول على ألمانية في كل ما نحتاج إليه من علوم أوربة وفنونها وصناعتها، ولكن مع الجد في تكوين أنفسنا، واتقاء جميع العواثير التي عثرنا قبل فيها. فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا يجب على رجال الدولة وعلى كل عاقل من العثمانيين أن يبذلوا كل ما في وسعهم وطاقتهم لاتخاذ وسائل الدفاع الوطني أو المِلّي - كما يقولون- وأن يجعل لهذا الدفاع نظام يجري عليه، فإن هذا هو كل ما يمكن الآن لاتقاء بسط الإفرنج سلطانهم على بلاد الدولة كلها , فإن القوم طلاب كسب، فإذا علموا أن محاولة استيلائهم على البلاد، ولو بالفتح السلمي يقاوم بكل ما في البلاد من قوة، ولو أدى إلى خرابها فإنهم لا يقدمون على ذلك، وإن كانوا يعرفون من أنفسهم القدرة ويثقون بالنصر. ولا يمكن وضع هذا الدفاع على أساس متين ثابت إلا بمبادرة الدولة إلى تغيير شكل إدارتها وجعلها من النوع الذي يسمونه اللامركزية وهو الذي اقترحه صُباح الدين أفندي ابن أخت السلطان عقب الانقلاب فعاداه الاتحاديون لأجله واضطروه إلى مغادرة الآستانة فغادرها وطفق يدعو إلى ذلك في أوربة , فشهدت له يومئذ بما لا أزال أشهد به من أنه هو الزعيم السياسي العثماني الذي لم نرَ بعد الانقلاب مثله في صحة رأيه وإخلاصه، كما أننا لم نر مثل صادق بك في أعماله وإخلاصه، فهما مفخر إخواننا الترك في هذا العصر، وسنعود إلى هذه المسألة بعد. ألا فليعلم كل مسلم أن البلاد الباقية في يد هذه الدولة ليست ميراث الترك وحدهم، ولا العثمانيين منهم ومن غيرهم، وإنما هي ميراث الإسلام نفسه، فإن روح هذه البلاد جزيرة العرب مهد الإسلام الأول، وحرمه المقدس، حيث نزل الوحي بالقرآن، وحيث الكعبة المشرفة أول بيت لله وضع للناس، وحيث قبر خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام. وما كان المسلمون راضين بجعل هذه الدولة هي الحامية لهذه الجزيرة من أعداء الإسلام، إلا لاعتقادهم قدرتها على ذلك , لا لأن لها حقًّا عليها بالفتح والاستعمار، أو بإيجاد شيء فيها من العلوم والعمران , فإنه ليس لها شيء من ذلك فيها. أما وقد ظهر لهم كلهم، ما كان خفيًّا لا يدركه إلا أفراد منهم، فالواجب عليهم كلهم حيثما كانوا، وأينما وجدوا، أن يفكروا في وسيلة حفظ هذه الجزيرة من استيلاء الأجانب عليها، أو إيصال نفوذهم إليها، أو جعل حياتها في أيديهم بالاستيلاء على سواحلها. يجب على جميع المسلمين في جميع بقاع الأرض أن يعقدوا اللجان والجمعيات ويتشاوروا في أمر حفظ مهد دينهم، وحرم قبلتهم، وأن يقترحوا على أولي الأمر القيام بما يظهر لهم أنه الصواب , ولا يتركوا الأمر لمن يغلب نفوذه في مركز السلطنة العثمانية أيًّا كان، فقد رأوا أنه قد غلبها على أمرها في السنين الأخيرة أغيلمة من الملاحدة والفساق، أنزلوها في أربع سنين من مستوى الدول الكبار، وجعلوها بحيث تسمع في عاصمتها مدافع البلغار، وهم الذين كانوا تحت سيادتها قبل هذه الحرب بأربع سنين، وكانت بلادهم من أملاكها إلى عهد ليس ببعيد , فهل يجوز لمسلم أن يرضى بعد ذلك باستبداد أمثال هؤلاء بمهد الإسلام، وهل نأمن عليه أن يقع في قبضة الأجانب بعد أعوام، إذا نجت الدولة من شر المؤتمر الذي يعقد في هذه الأيام. أيها المسلمون إن الأمر جِدّ، والخَطب إدّ، والخطر قريب، والجرائد الأوربية تصرح بوجوب الحل الأخير للمسالة الشرقية، والاستيلاء على جميع ما بقي من البلاد الإسلامية، وجعل الخليفة في قصره، كالعصفور في قفصه، لا قوة ولا عمل له، وقد بينا لكم في العام الماضي أن مسألة طرابلس الغرب كانت فتحًا لباب هذه المسألة، وبينا لكم ما على جزيرة العرب من الخطر، والطريقة المثلى لإنقاذها منه , فصرفكم الغرور بمقاومة عرب طرابلس وبرقة لإيطالية، عن الخطر الأكبر على الدولة والإسلام، فلم تمر السنة حتى سمعتم الصيحة الثانية، من الصيحات الثلاث لهذه القارعة، ولم يبق إلا صيحة واحدة، تقوم بها قيامتكم، فإن لم تسمعوها في هذه الأيام، فستسمعونها بعد أعوام، فهل يظل لسان حالكم، ينشد مثل الغنم الراعية الذي ضربناه لكم: نحن ولا كفران لله كما ... قد قيل في السارب أخلى فارتعى إذا أحس نبأة ريع وإن ... تطامنت عنه تمادى ولها إنني أخشى أن تسمع دول الاتفاق الثلاثي نداء جرائدها، وتقنع دول الاتحاد الثلاثي باقتسام سائر بلادنا , فإن لم تقدر على ذلك في هذا المؤتمر فلا يغرنكم ذلك فتكونوا كالغنم التي تجفل وترتاع عند الصيحة، وتعود إلى الرعي عند سكوت الصائح، بل يجب أن تتفق كلمتكم على صيانة حرمكم وقبلتكم، وصيانة القوة التي ت

خاتمة السنة الخامسة عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الخامسة عشرة نختم السنة الخامسة عشر من سني المنار بحمد الله الذي يحمد على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وكرام الصحب والآل، وقد علم القراء أننا قضينا أكثر من نصف هذه السنة في السياحة، وأن سياحتنا بفضل الله للخدمة العامة، ليس لنا فيها مصلحة خاصة، ولم نقصر -ولله المِنّة- في العناية بما كتبنا واقتبسنا للمجلة، إلا أن أغلاط الطبع كانت أكثر بالطبع، ولم يرد علينا في هذه السنة انتقاد على المنار يذكر، ولم نجد من المشتركين الماطلين وفاء يُشكر، وقد زادت الإدارة قيمة الاشتراك في هذا العام بغير إذن مني، لأنها رأت هذه الزيادة ضربة لازب، فأما أهل الوفاء والفضل فقد تلقوها بالقبول، ولو كان كل المشتركين أو أكثرهم مثلهم لما احتيج إليها، وأما الماطلون المسوّفون فقد يشكون منها وهم السبب فيها، وإننا نذكر أهل العلم والرأي بما ندعوهم إليه في كل عام من تذكيرنا وتنبيهنا إذا نسينا أو أخطأنا، بمشافهتنا أو الكتابة إلينا، لا بالغيبة والسباب والنبز بالألقاب، كما يفعل أهل الأهواء. يكتمون عن الإنسان عيبه، ويتركون النصيحة الواجبة له ويعيبونه عند الناس ولو بما ليس فيه، وسينبذ أمثال هؤلاء جميع العقلاء والفضلاء، والعاقبة للمتقين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فاتحة السنة السادسة عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة السادسة عشرة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فقد جرت عادتنا أن نشير في فواتح سني المنار إلى شيء من تاريخه أو تاريخ الإصلاح، أو حال سيره في عالم الإسلام، ونقول الآن على رأس السنة السادسة عشرة: إن صوت الإصلاح الديني قد علا كل صوت في الأقطار الإسلامية التي بلغتها دعوته وهزتها صيحته، فخفتت دونه أصوات الحشوية الجامدين، والدجاجلة المخرفين، وقد خذل الله ببيروت في العام الماضي أشدهم إفكًا وتخريفًا، فيما يسميه نظمًا وتأليفًا، فخذلته الخاصة ولم تنصره العامة، وعورض ما يفتريه من الرؤى والأحلام بشيوع خبر رؤيين رآهما بعض الصالحين من الحجاج، فقد حدثني الثقة المتفق على توثيقه في بيروت قال: لما عاد والدي من الحجاز عام حجه جاء (الشيخ فلان) للسلام عليه، وكان يُعد من أصدقائه وأقبل بلهف ودهشة ليعانقه، فصاح به والدي: يا شيخ فلان - وذكر اسمه - إن النبي صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنك، فقد رأيته عند زيارته في المدينة المنورة في الرؤيا، وأمرني أن أبلغك أنه غير راضٍ عنك. وأما الرؤيا الأخرى فقد رُويت لي عن رجل من الحجاج أعطاه ذلك الدجال نسخًا من كتبه ليوزعها في المدينة المنورة، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه قبل دخول المدينة بليلة واحدة يقول له: إن هذه الكتب غير مقبولة، فلما استيقظ ألقى تلك الكتب أو دفنها في جانب الطريق. فمثل هاتين الرؤيين من ذينك الحاجين الصالحين نقض ما يدعيه ذلك الدجال من الرؤى التي هو متهم فيها بتعظيم شأن نفسه، والتمهيد لدعوى الولاية له ولولده وتحقير من اتخذهم أعداء له؛ لأنهم ينيرون عقول الأمة حتى لا تغتر بمثله. هذا إيماء إلى عاقبة دجال القطر السوري المجاهر بعداوة الإصلاح وأهله، ولا نكبر شأنه بالرد عليه أو التصريح باسمه. وقد خفت أيضًا صوت دجال (جاوه) وظهر جهله، وما أبقى عليه تكريم حكومة هولندة بل نسبه وسنه، ودجال تونس المقيم معدود عند عقلاء بلده من المجاذيب أو المجانين، ولو كان في تونس حرية لحزب الإصلاح كالحرية الشاملة لأهل الجمود والفساد؛ لرأى العالم الإسلامي من تونس ما لم يَرَه من سائر الأقطار. وأما دجالها المتقلب في البلاد كتقلبه في الآراء والأفكار فهو يتتبع مواقع الصيت والاشتهار، ويتأيّا مساقط الدرهم والدينار، فيدور مع من يملك ذلك حيثما دار، حتى إنه أفتى بجواز بناء الكنائس للروم والبلغار، والإنفاق على ذلك من بيت المال، فنال الحظوى بمثل هذه الفتوى عند زعماء جمعية الاتحاد والترقي، واصطنعوه لكل ما يبغون من الخداع الديني، وقد خذلهم الله ولم يعتبر المسكين {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (الأعراف: 183) . هذه حال المجاهرين بمقاومة الإصلاح الديني وأهله، لا صوت لأحد منهم يُسمع، ولا رأي لهم يُتبع، وإنما يغترون بكثرة من يصدق الخرافات، ويسلِّم كل ما يُعزى إلى الأموات تقليدًا للآباء والأمهات، ومواتاةً للأتراب واللدات، ويحسبون هذا اتباعًا لهم، ويعدون أهله من أشياعهم، فيفتنون بكثرتهم، ويهونون من أمر المصلحين لقلتهم، وقلة من يهتدي بهم، ولو فكروا وقدروا وتدبروا واعتبروا، لرأوا أن هذه القلة هي محل الرجاء، وتلك الكثرة كالغثاء أو الهباء، وأنها تتفلت كل يوم من أيديهم كما تتفلت الإبل من عقلها، بل من جامعة الإسلام التي عرفوا اسمها وجهلوا حدها وفصلها، فكثرة أشياع الخرافات إلى قلة، وقلة حزب المصلحين إلى كثرة، وقد فطن هرقل ملك الروم لهذا الأمر الذي جهله المغرورون، فسأل عن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم: أيزيدون أم ينقصون؟ فلما علم أنهم على قلتهم في ازدياد، وأن من دخل فيهم لا يخرج منهم، علم أنهم حزب الله الغالبون. ولو رجَّع أولئك الدجالون البصر وكرروا التأمل والنظر، لرأوا أن هؤلاء العوام الذين لم تبلغهم حقيقة دعوة الإصلاح، أو صدهم عن النظر فيها سدنة القبور المعبودة وتجار الولاية والصلاح، هم الذين يتسللون يومًا بعد يوم مما يسمى الإسلام التقليدي، ولا يهتدون السبيل إلى حقيقة الإسلام البرهاني، فأكثرهم يفتنون بالشبهات المادية التي يبثها فيهم حملة قشور العلوم العصرية، ومنهم من يشُكُّون في الإسلام بمطاعن دعاة النصرانية، فما بال زعماء الدجل والخرافات لا يتصدون للرد على تلك الشبهات، وأنى لهم الرد عليها وهم لا يعرفون مواردها ومصادرها، ولا يقفون على شيء من العلوم المتولدة هي منها، ولا يميزون بين أصول الإسلام التي يجب الدفاع عنها، والخرافات والأوهام الملصقة بها، وإنما قصارى ما عندهم أن يقولوا للعوام: إن جميع العلوم الطبيعية باطلة، وإن تعلمها كفر، ومتعلميها زنادقة، ويريدون أن يتلقى الناس قولهم هذا بالقبول والتسليم، كما يوجبون عليهم قبول جميع ما يقولون: إنه من الدين، على أنهم يعظمون الحكام والأغنياء المتعلمين لتلك العلوم، فهل يرضى أحد بأن يكون من هؤلاء في مكان المقلد من الإمام المعصوم؟ كلا إننا نرى كثيرًا من المتعلمين في المدارس العصرية يعدون خرافات أمثال هؤلاء الدجالين حجة على جميع العلوم الإسلامية، فهم لذلك يصدون عنها، ويعدون من إضاعة الوقت النظر في شيء منها. يزعم هؤلاء الدجالون أن الضلال كل الضلال هو ما يدعو إليه المصلحون من هدي الكتاب والسنة، على النحو الذي كان عليه الصدر الأول من الأمة، ونبذ كل ما استحدثه الخلف، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه الشيخان وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة. وقد جعلوا همهم الطعن في دعاة هذا الإصلاح، ورميهم بحجارة الزور والبهتان، وأكبر شبهتهم أن هذا من الاجتهاد الذي انقطع فضل الله به عن العباد، وأن كتاب الله الذي أنزله هدى للعالمين، ووصفه بالتبيان والمبين، لم يتبين معناه إلا للأفراد القليلين، الذين وصفوا بالأئمة المجتهدين، حتى إنهم لو لم يوجدوا لما أمكن لأحد أن يكون من المسلمين، وأن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لا تكفي في بيان كتاب الله من دون علمهم، وإن قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) فإن لم يكن قد بيَّنه كما أمر الله، فكيف يكون قد بلَّغ رسالة الله؟ وهل يُعقل أن يكون عجز عن ذلك وقدر عليه سواه؟ معاذ الله، وحاش لله. ألا إن هؤلاء ليسوا من أهل البصيرة والاستدلال، فنجذبهم بالحجة أو ندمغهم بالبرهان، وإنما نريد بمثل هذا الكلام أن نُذكِّر من لهم نصيب من الاستقلال بأن مقلدة أمثال هؤلاء المساكين كلهم عرضة للمروق من الدين، وأنهم لو كانوا يغارون عليهم وعلى دينهم لجعلوا همهم في وقايتهم من الكفر والإلحاد، لا في وقايتهم من هدي السنة وهدي القرآن، وحصروا عنايتهم في كشف الشبهات التي تخرجهم من حظيرة الإسلام، لا في نشر الخرافات التي تحصرهم في زريبة الأوهام، ولكن يظهر أن ترك الإسلام ألبتة أهون عليهم من ترك التقليد الأعمى إلى هداية الكتاب والسنة؛ ولذلك نراهم يدهنون للمارقين من أصحاب المال والجاه، ويثنون عليهم بالألسنة والأقلام، ولا تظهر غيرتهم على الدين إلا في تضليل حماة الدين، ونحمده تعالى أن خذلهم وكبتهم، وصرف قلوب الناس عما تزوّر أقلامهم، وتفتري ألسنتهم. هذا، وإن الإسلام ليشكو اليوم من شيطان الإفساد السياسي، ما لا يشكو من شيطان الإفساد الديني، فقد غلب على مقام أولي الأمر زعنفة من عبدة الطاغوت والشر جعلوا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وأرهقوا الأمة قتلاً وحبسًا ومصادرةً وتخويفًا، يأكلون تراث الأمة أكلاً لمًّا، ويحبون المال حبًّا جمًّا، إذا دعوتهم إلى الحق وَلَّوْا منك فرارًا، وجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا، وقد مكروا بأناس استخدموهم لغش المسلمين مكرًا كبارًا، فاتبعوا من لم يزده ماله وجاهه إلا خسارًا، وكان من كيدهم ومكرهم - وعند الله عاقبة مكرهم - أنهم عجزوا عن إسكان حركة الإصلاح، وإسكات نداء دعاته: حَيَّ على الفلاح، أرادوا إفساد أمرها بتوسيدها إلى غير أهلها من المنافقين المتزلفين إليهم، الراضين أن يكونوا آلات في أيديهم، فنصروا هؤلاء على أبناء بجدتها، وآباء عذرتها، كما وسدت صروف الزمان إليهم من الأمر ما ليسوا له بأهل، فدنت بذلك ساعة الأمة، وقد جاء أشراطها , ولا تلبث أن تأتي بغتة، قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (إذا وُسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة) رواه البخاري في صحيحه. هذا هو السر في تناقض بعض الصحف التي ظهرت بعد ظهور الفئة الباغية، والجمعية الطاغية الإسلامية في الظاهر الاتحادية في الباطن؛ إذ تمدح الإسلام وتنفِّر عن الأعمال التي تحييه وتطعن في القائمين بها، وتدعو إلى الجامعة الإسلامية، وتلقي الشقاق بين العاملين لها، ويزاحم أهلها المصلحين، وهم أعوان المفسدين، ومنهم مَن تخدع رؤيته وتفتن خلابته ويغر ببكائه أو تباكيه، والمنافق يملك عينيه فيبكي بهما متى شاء. فكم أذرى الدموع لنهب مال ... وكم أبدى الخشوع لنيل جاه ومنهم من لو علم المغرورون برقته، حقيقةَ حاله في علمه وعمله وعقيدته، لولَّوْا منه فرارًا، وأعرضوا عنه ازورارًا، واستصغروا أنفسهم استصغارًا، لتعجلهم باتباع كل ناعق، وعدم التزييل بين الصادق والمنافق، وستظهر للجميع الحقائق، فحبل الكذب وإن طال قصير، ومصير المنافقين شر مصير. وإنما نخشى أن لا تظهر العبرة إلا بعد خراب البصرة، وأن يأخذ الله المسلمين كافةً بما جنته تلك الفئة الباغية {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّة} (الأنفال: 25) . ذلك بأن الأمة تحتاج إلى ضروب من الإصلاح يمد بعضها بعضًا، وأصولها خمسة: الديني، والعلمي، والاجتماعي، والسياسي، والمالي، وقد تداعت هذه الأصول كلها في العالم الإسلامي، ولا يسهل إقامة بعضها إلا بإقامة باقيها؛ لهذا أردنا عندما لاحت لنا من الآستانة بارقة الأمل في الإصلاح السياسي أن ننشئ فيها عملاً كبيرًا من الإصلاح الديني والعلمي، الذي هو أكبر عون على غيره، ولا سيما الإصلاح الاجتماعي، فعلمنا أن ما لاح لنا كان برقًا خلبًا، وسرابًا بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، بل تبين لنا أن مثل ذلك البلاء النازل، الذي تراءى بصورة الإصلاح الخادع، كمثل ذلك العذاب الذي نزل بصورة العارض {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24-25) . أجل، إن هذا العذاب ليمثل ذلك الانقلاب، الذي حسبنا أن وراءه ما نرجو من الإصلاح، فكان بسوء تصرف ذويه عين الإفساد، وقد أنذرنا الأمة سوء عاقبته، وخطر مغبته، فتماروا بالنذر {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ ب

الدعوة إلى انتقاد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى انتقاد المنار إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض في الإسلام، هو سياجه وحفاظه أن تعتدى حدوده بين أهله، كما أن الجهاد سياجه وحفاظه أن يعتدي عليه غير أهله، وقد قصر المسلمون في الفريضتين فكان عاقبة أمرهم ما نسمعه ونرى ونذوق، فالمنار يدعو كل من يطلع عليه ويرى فيه خطأً أن يبينه لنا بالمشافهة إن كان ممن يلقانا ونلقاه، وإلا فبالكتابة، والطريقة المثلى في ذلك أن يقال: إن في صفحة كذا من جزء كذا خطأً، ويبين ذلك الخطأ وصوابه بالدليل من غير استطراد ولا تطويل، ونحن نرجع إلى الصواب إن ظهر لنا، أو نبين ما عندنا في المسألة. هذه هي طريقة الأمر والنهي، والتواصي بالحق والصبر، لا ما يذهب إليه أهل الأهواء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وهو أنهم إذا رأوا أو سمعوا - ولو كذبًا - أن أخاهم أخطأ في شيء أشاعوا ذلك بين الناس بالقول والكتابة، فيدري بذلك الخطأ مَن يلقونه دونه، وربما كان ذلك منكرًا أو شبهةً على الدين تعلق في نفس المستمع، ولا يدري كيف يتفصى منها، وكثيرًا ما يكونون هم المخطئين، ومنهم من يصدق عليهم قول الشاعر: إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا فمن ابتلي من أهل التقوى والإخلاص من هؤلاء الذين يوسوسون في صدور الناس يُذم أو يُسب أو يُطعن، مَن يدعى عليه أنه أخطأ، فليقل: إن هذه غيبة يفسق صاحبها، لا نصيحة يتبع قائلها، فإن كان فلان أخطأ، فذَكِّره بينك وبينه، فإن لم يرجع فهو شيطان، فأعرض عنه وقل سلام. محمد رشيد رضا الحسيني

الجهاد أو القتال في الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجهاد أو القتال في الإسلام (س1) من صاحب الإمضاء في فاينات (خراسان) . بسم الله الرحمن الرحيم إلى العلامة السعيد المرتضى، السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار الغراء، بعد إهداء شكري إليه مما أنعمت به من فيض دجلة تلك المجلة، إني قرأت في مجلتكم الغراء، ما يشعر بتنزيل ما ورد في الجهاد من الآيات الكريمة على الجهاد الدفاعي فحسب؛ دفعًا لما أورده الإفرنج على دين الإسلام، وما نقموا من نكير سيفه وتنمره في ذات الله، وهذا وإن كان له وجه وجيه بالنظر الفلسفي، حيث إن العلة التي أوجبت الدعوة إلى دين يراد به ترقية الإنسان إلى كافة السعادات الدنيوية والأخروية، وإخراج الناس كافة من الظلمات إلى النور، ومن الوحشية الموحشة إلى المدنية المؤنسة، ومن الشقاوة الكبرى إلى السعادة العظمى، هي التي أوجب إبرامها، والتي أوجب إبرامها هي التي أوجب إعلاءها، بحيث يصلح للبقاء إلى قيام الساعة، والعقل السليم يفرق بين موجبات نشر دينٍ من شأنه دفع ظلمة التوحش وطردها، وبين ما لا يراد به إلا التجافي عن الدنيا والفراغ للعبادة، ولو في شعب الجبال، ويلزم على الصادع بمثل هذا الدين الدفاع عن علوه وبقائه، كما يلزم عليه الدفاع عن إبلاغه وإسماعه، فمثله في عالم التشريع كمثل النور في عالم التكوين، وكما أن النور يطرد الظلمة بسنا برقه، فكذلك ذاك الدين طارد للوحشة بسنا بريقه، فهو من بدء ظهوره ظهر دافعًا، وهو كذلك إلى الأبد. هذا هو الحق الحقيق بالتصديق لكنه لا يلائم ظاهر معنى الدفاع، ولا تقسيمهم الجهاد إلى دفاعي وابتدائي، ولا يزيح علة الخصم في لجاجه وإيقاعه ولا يوافقه شواهد التاريخ وأدلة الأحكام وعناوين الفقهاء التي كلها منك بمسمع ومرأى، ولو تركناها على ظاهرها فإن تحقق معنى الدفاع بظاهره يتوقف على سبق الخصم بالمزاحمة، وعليه فكيف يمكننا أن نقول: إن الفرس والروم زاحموا محمدًا وصحبه الكرام، عليه وعليهم السلام، وهم في بحبوحة الحجاز حتى أوجب عليه وعليهم دفعهم إلى حد الصين شرقًا وأفريقية غربًا. فيا عجبًا من الإفرنج كيف يعدّ احتلال بلاد الإسلام وصلب رجالها واستحياء نسائها أو ذبح أطفالها لأدنى فائدة اقتصادية ترجع إليهم من دون حق لهم عليه مشروعًا تمدنيًّا بل دينيًّا، ولا يعدّ ضرب السيف بعد إتمام الحجة وإيضاح المحجة وتخيير المكلف بين الإسلام ونيل سعادته الأبدية في أعقابه، أو قبول أدنى جزية وصون حقوقه البشرية في إنجاده مشروعًا دينيًّا إسلاميًّا، مع أن ما هو عليه الآن من الترقي والتمدن صدقة من صدقات الإسلام عليه بعد ما كان عليه من أخس مراتب التوحش، أرجو من فضيلتكم السامية بعد تجديد شكري إليكم بسط الكلام في هذا الموضوع بحيث تزيح علة الخصم مع موافقته لظواهر الآثار. ... ... ... ... ... ... ... ... ... خادم الإسلام ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حامد البيرجندي من قطر قاينات من بلاد خراسان (ج) لا يجهل أحد له نصيب ما من تاريخ الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أظهر دعوته إلى الإسلام عاداه قومه وقاوموه وآذوه هو وكل من آمن به واتبعه، ولم يعصم دمه ولا دم أحد من أصحابه إلا حماية عشائرهم أو مواليهم لهم بنعرة النسب أو الولاء وعصبيتهما، وإن تلك الحماية لم تمنع الإيذاء بل اضطرت قريش أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج بأهل بيته مع ابن أخيه من مكة إلى الشِّعب لإصراره على حمايته وعدم تمكينهم منه، ثم ما زالوا يكيدون ويمكرون حتى ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه بصفة يضيع بها دمه في كل القبائل، بأن يختاروا من كل قبيلة رجلاً ليضربوه بسيوفهم في آنٍ واحد، فأطلعه الله تعالى على كيدهم، وأذن له بالهجرة من بلدهم، راجع تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} (الأنفال: 30) هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وهاجر السابقون الأولون من أصحابه فآواهم إخوانهم الأنصار الذين كانوا أسلموا في موسم الحج بمكة، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن يمنعوه من كل معتدٍ كما يمنعون ويحمون أنفسهم وأولادهم، وبذلك صار حربًا للعرب عامة، وأهل مكة خاصة، أي صاروا يعدونه محاربًا ويعدّهم محاربين بحسب العرف العام في ذلك الزمان، فكان المؤمنون مع المشركين يومئذ كالعثمانيين مع البلقانيين اليوم، لا يقدر أحد أن ينال من الآخر نيلاً فيقصر فيه، بل كانت العرب قبل البعثة وفي عهدها في غزو دائم وقتال مستمر، لا يعصم قبيلة من قبيلة إلا بأسُها وقوتُها، أو المعاهدات التي كانت تفي بها، فكانت كل قبيلة تتوقع القتال في كل أوان من كل قبيلة ليس بينها وبينها عهد أو حلاف، فالحرب (معلنة) عرفًا في كل زمان ومكان، إلا ما كان لهم من التقاليد المتبعة في الأشهر الحرم والبلد الحرام، ومن البين الجليّ أن البدء بالقتال لا يعدّ من الاعتداء في مثل هذه الحال، ومع ذلك كان المشركون هم الذين يعتدون على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ويحزّبون عليهم الأحزاب، فكان قتاله صلى الله عليه وسلم كله دفاعًا حتى ما كانت صورته هجومًا، وكانت القاعدة الأساسية للحرب قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) . ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب بالقتال ملكًا، وقد رغبوا إليه في مكة أن يجعلوه ملكًا عليهم بشرط أن يترك دعوته، وعرضوا عليه كل ما يقدرون عليه من مال ومتاع، فلم يقبل ذلك وهو في حال الضعف والاحتياج، وكان دفاعه في أكثر سني الهجرة دفاع الضعف للقوة، إلى أن أظفره الله الظفر الأكبر بفتح مكة، وأظهر الآيات على حرصه صلى الله عليه وسلم على حقن الدماء وكراهته للقتال، رضاؤه بصلح الحديبية وهو في قوة ومنعة، على ما في ذلك من الشروط الثقيلة التي كرهها يومئذ جميع الصحابة، حتى تراءى للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم خرجوا أو كادوا يخرجون من الطاعة. فالقتال الديني الحقيقي هو ما كان دفاعًا عن الدعوة وأهلها، أو لحمايتها وحمايتهم في نشرها وتعميمها. أما غير العرب فلم يتصدَّ النبي صلى الله عليه وسلم إلا إلى قتال الروم منهم في غزوة تبوك وكان سببها أنه بلغه أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بالشام وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء لقتال المسلمين بإغراء متنصرة العرب، ولولا ذلك لما أمر بالخروج في ذلك الوقت الذي كان المسلمون فيه في عسرة ومجاعة، وقد أدركت ثمارهم فاضطروا إلى تركها، والحر شديد، والشقة بعيدة، والعدد كثير، ولهذا كانت هي الغزوة التي ظهر فيها صدق الصادقين ونفاق المنافقين. على أن نشر الدعوة في ذلك العصر كان متعذرًا بغير قوة يأمن بها الدعاة على أنفسهم، وكان جيران جزيرة العرب من الروم في الشام ومصر، والفرس والعراق قد اعتدوا على بعض أهلها وأخضعوهم لسلطانها، فلما اجتمعت كلمة أكثر العرب في الجزيرة بجامعة الإسلام، صار أولئك الجيران عدوًّا لهم، وكان العدو حربًا لعدوه حيث كان، فكان لا مندوحة للمسلمين - والحال ما ذكرنا - أن يؤيدوا نشر الدعوة بما يستطيعون من قوة، ولكنهم لا يستعملون القوة إلا عند الحاجة أو الضرورة، فكانوا يعرضون على الناس الإسلام، فإن أجابوا كانوا مثلهم، وإلا اكتفوا منهم بأخذ جزية قليلة تكون اكتفاء شرهم، وتركوا لهم الحرية في أنفسهم وأموالهم ودينهم، حتى إنهم لا يجبرونهم على التحاكم إليهم، وإن تحاكموا إليهم ساووهم في ذلك بأنفسهم، فلم يكن الغرض من هذا إلا أن تكون دعوة الحق في حماية قوة يمكن بها إظهارها كما يعتقدها ويدين لله بها أربابها، من غير اعتداء على دين أحد ولا ماله، ما دام محافظًا على ذمته وعهده، فهكذا كانت سيرة الخلفاء الراشدين في فتوحاتهم. وأما من بعدهم من خلفاء العرب وملوك الطوائف في عهدهم، فقد شاب فتوحاتهم لنشر دعوة الإسلام شائبة حب سعة الملك وعظمة السلطان، ومع هذا قال غوستاف لوبون من أكبر فلاسفة الاجتماع والعمران وعلماء التاريخ من الإفرنج: (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) . هذا مجمل ما نفهمه من آيات كتاب الله عز وجل، وسيرة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو مبني على قواعد العدل والرحمة، وما شرع لأجله الدين من إصلاح الأمة، وهو في الإسلام إصلاح البشر كافةً، ولسنا كغيرنا ممن يغيرون ويبدلون، ويحرفون ويؤولون لدفع ما يعترض به المعترضون، فإن ديننا ليس كسائر الأديان التي يدافع عنها أهلها كما يدافع المحامي عن موكله المبطل بتمويه باطله، وتصويره بغير صورته، وإنما دفاعنا عن ديننا هو إظهار حقيقته، وإزالة ما عرض من التمويه والتلبيس عليه. ونحن نعلم أن المعترضين عليه فريقان لا ثالث لهما: الجاهلون بحقيقته، والمعادون له للعصبية الدينية أو المطامع السياسية، وهؤلاء يطعنون فيما يرونه من محاسنه بأشد مما يطعنون فيما يتوهمون من مساويه، وغرضهم من ذلك إضعاف أهله بإزالة ثقتهم به ثم بأنفسهم، ومن ذلك طعنهم في مسألة الجهاد، وهم لا يطعنون في التوراة التي تأمر باستئصال الأعداء واصطلامهم من الأرض، كما بينا ذلك في المنار مرارًا، ومن أوضحها ما رددنا به على لورد كرومر. ولو أن المسلمين عملوا بأحكام القتال كما أمر الله ورسوله لكان سلطانهم في علو دائم، ومد لا جزر معه، بما يدعمه من العدل والرحمة، مع استكمال أسباب القوة، فالواجب على الدعوة الإسلامية أن تكون أقوى دول الأرض وأن تقيم دعوة الإسلام وتحميها بالقوة، وقد يكون ذلك بالدفاع وبالهجوم، مع مراعاة قاعدة: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) .

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من الشيخ راغب القباني في بيروت لقب الإمام (س) تطلقون على المرحوم الشيخ محمد عبده لقب الأستاذ الإمام، ونرى بعض المعترضين عليكم يقولون: إن هذا اللقب لا يجوز إطلاقه إلا على المجتهدين أصحاب المذاهب المتبعة. (ج) إن هذا اللقب قد أطلقه الناس على كثير من العلماء في القرون الأخيرة حتى في هذا القرن وما قبله كما ترونه على الكتب المطبوعة في مصر من تأليف علماء الأزهر وغيرهم الذين لم يدَّعوا ولم يدَّعِ لهم أحد الاجتهاد ولا كانوا مظنة لدعواه، واشتهر إطلاقه على بعض العلماء في القرون الوسطى ممن لا يعدونهم من المجتهدين بل يذكرونهم في طبقات المقلدين كالفخر الرازي الأشعري الشافعي فهو الذي ينصرف إليه لقب الإمام إذا أطلق في كتب أصول الفقه والكلام والمنطق التي ألفت بعده، وكان تاج الدين السبكي يطلق على والده لقب الشيخ الإمام كما ترونه في كتبه كجمع الجوامع، وطبقات الشافعية، وسبقه الرازي إلى ذلك. * * * قول الشيخ محمد عبده في الربا (س) يزعم بعض الناس أن الشيخ محمد عبده فتح بابًا للقول بجواز الربا إذا كان غير أضعاف مضاعفة. (ج) نحن ما رأينا هذا الباب فدلونا عليه في كلامه، وبينوا لنا الباطل منه لننشره للناس لإزالة الالتباس، ونحن نعلم أن بعض أعداء الإصلاح يطعن في الرجل كذبًا وبهتانًا اتباعًا للهوى، فلا تغتروا بأقوال أمثال هؤلاء الطاعنين اللاعنين. * * * التصوير الحيواني (س) لم يقنع الناس بالاستدلال على جواز التصوير الحيواني بأن المعلول يدور مع العلة وجودًا وعدمًا، فإنهم يقولون: إن العلة لا تزال موجودةً، فنرغب إليكم بالتفصيل. (ج) ليس عندنا تفصيل نوافيكم به، ولسنا وكلاء على الناس فيما يرونه ويعتقدونه، ونحن نعلم أن من الناس مَن هو مقتنع بأن ما شائبة للدين فيه من أمر هذه الصور والتصوير لا يمس الدين، كالذي يفعله بعض جواسيس الحرب، وكصور المجرمين التي تستعين بها الحكومة على معرفتهم وكالصور التي يستعان بها على تعليم التشريح والتاريخ الطبيعي واللغة، فإن كثيرًا من الحيوانات التي نرى أسماءها في كتب اللغة لا نعرف مسمياتها إذا رأيناها ما لم نكن رأينا صورها، فإذا كان الناس الذين يعنيهم السائل يقولون: إن علة تحريم الصور متحققة في هذا الأمثلة جدلاً وعنادًا أو رأيًا واعتقادًا فهم لا يخاطَبون؛ لأنهم لا يفقهون.

ميزان الجرح والتعديل ـ 3

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ ميزان الجرح والتعديل [*] (2) درء وهم واشتباه يقول بعضهم: إن مسلمًا روى عن ابن عباس أنه قال في نجدة الحروري: (لولا أن أرده عن نتن يقع فيها ما كتبت إليه ولا نعمة عين) . قال النووي: كان ابن عباس يكرهه لبدعته وهي كونه من الخوارج. والجواب: أنه لا يلزم من كراهة الفرد كراهة المجموع، وإلا لما خرَّج لثقاتهم وعلمائهم الشيخانُ وغيرُهما، وهل يؤخذ الجميع بجريرة الفرد؟ على أن نجدة ليس من رجال الرواية عند المحدثين، فقد ضعَّفه الذهبي في (ميزان الاعتدال) وقال عنه: ذكر في الضعفاء للجوزجاني، على أن الحال وصل إليه في قومه أن يختلفوا عليه وينبزوه بالكفر كما تراه في كتاب (الفرق) للإمام أبي منصور البغدادي، والملل والنحل للشهرستاني وغيرهما، فلا نعمة عين - كما قال ابن عباس - ولو كان يُكره كل خارجي لبدعته لما أخرج لأثباتهم أئمةُ السنة في الصحاح والمسانيد، ويكفي أن الإمام مالكًا رضي الله عنه عُدَّ ممن يرى رأيهم، كما رواه الإمام المبرد في كامله [1] . ومن عزا لك ما يأثره، وأراك مصدره، فقد أوقفك من المسالك على الصراط المستقيم. ومن الغريب أن يستدل بعضهم على معاداة المُبَدَّعين بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجر الثلاثة الذين خُلفوا، ورفض تكليمهم حتى تِيبَ عليهم، مع أنه لا تناسب بين دليله والدعوى بوجه ما؛ لأن البحث في الرواة المجتهدين الثقات المتقنين الذين ما نبذ السلف مرويهم لرأي رأوه أو مذهب انتحلوه، فهل كان المخلفون كذلك؟ وما المناسبة بين قوم هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم لذنب محقق اعترفوا به حتى تيب عليهم، وقوم لا يرون ما هم عليه إلا طاعة وعقدًا صحيحًا يدان الله به، وتنال النجاة والزلفى بسببه؟ فالإنصاف يا أولي الألباب الإنصاف، وحذار من الجري وراء التعصب والاعتساف. غريب أمر المتعصبين والغلاة الجافين، تراهم سراعًا إلى التكفير والتضليل والتفسيق والتبديع، وإن كان عند التحقيق لا أثر لشيء من ذلك إلا ما دعا إليه الحسد، أو حمل عليه الجمود وضعف العلم، وجهل مشرب البخاري ومسلم، وأصحاب المسانيد والسنن هداة الأمة، ولا قوة إلا بالله. * * * ثمرة الرفق بالمخالفين قال بعض علماء الاجتماع: يختلف فكر عن آخر باختلاف المنشأ والعادة والعلم والغاية، وهذا الاختلاف طبيعي في الناس، وما كانوا قط متفقين في مسائل الدين والدنيا، ومن عادة صاحب كل فكر أن يحب تكثير سواد القائلين بفكره، ويعتقد أنه يعمل صالحًا ويسدي معروفًا وينقذ من جهالة ويزع عن ضلالة، ومن العدل أن لا يكون الاختلاف داعيًا للتنافر ما دام صاحب الفكر يعتقد ما يدعو إليه، ولو كان على خطأ في غيره؛ لأن الاعتقاد في شيء أثر الإخلاص، والمخلص في فكر ما إذا أخلص فيه يناقش بالحسنى؛ ليتغلب عليه بالبرهان، لا بالطعن وإغلاظ القول وهجر الكلام، وما ضر صاحب الفكر لو رفق بمن لا يوافقه على فكره ريثما يهتدي إلى ما يراه صوابًا، ويراه غيره خطأً، أو يقرب منه، وفي ذلك من امتثال الأوامر الربانية، والفوائد الاجتماعية ما لا يحصى، فإن أهل الوطن الواحد لا يحيون حياة طيبة إلا إذا قل تعاديهم، واتفقت على الخير كلمتهم، وتناصفوا وتعاطفوا، فكيف تريد مني أن أكون شريكك، ولا تعاملني معاملة الكفؤ على قدم المساواة؟ دع مخالفك - إن كنت تحب الحق - يصرح بما يعتقد، فإما أن يقنعك وإما أن تقنعه، ولا تعامله بالقسر، فما قط انتشر فكر بالعنف، أو تفاهم قوم بالطيش والرعونة، من خرج في معاملة مخالفه عن حد التي هي أحسن يحرجه فيخرجه عن الأدب ويحوجه إليه؛ لأن ذلك من طبع البشر مهما تثقفت أخلاقهم وعلت في الآداب مراتبهم. وبعدُ فإن اختلاف الآراء من سنن هذا الكون، هو من أهم العوامل في رقيّ البشر، والأدب مع من يقول فكره باللطف قاعدة لا يجب التخلف عنها في كل مجتمع، والتعادي على المنازع الدينية وغيرها من شأن الجاهلين لا العالمين، والمهوسين لا المعتدلين. اهـ مع تلخيص وزيادة. ولا يخفى أن الأصل في هذا الباب قوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) وقوله سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} (البقرة: 83) وقوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات: 11) ولا تنس ما أسلفنا عن السلف في تفسيرها. * * * حملة الأعلام المحققين على المتفقهة المكفرين لما استفحل الرمي بالتكفير والتضليل لخيار العلماء في منتصف قرون الألف الأولى من الهجرة ضجت عقلاء الفقهاء، وصوبت سهام الردود في وجوه زاعمي ذلك، حتى قالت الحنفية - عليهم الرحمة - ما معناه: (لو أمكن أن يُكفَّر المرء في أمر من تسعة وتسعين وجها، ومن وجه واحد لا يكفر؛ يُرجَّح عدم التكفير على التكفير لخطره في الدين) . ولم يشتد الرمي بالتكفير والإرهاق لأجله والإرجاف به في عصر من العصور مثل القرن الثامن للهجرة، ومن سبَر تاريخ الحافظ ابن حجر المسمى (بالدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) أخذه من ذلك المقيم المقعد؛ إذ يرى أن العالم الجليل الذي هو زينة عصره وتاج دهره، كان لا يأمن على نفسه من الإفك عليه والسعاية به فيما يكفره ويحل دمه، حتى صار يخشى على نفسه من أخذت منه السن، وأقعده الهرم، وأفلجته الشيخوخة، ولا من راحم أو منصف - كما تقرأ ذلك في ترجمة علاء الدين العطار تلميذ الإمام النووي، وأنه مع زمانته، وكونه صار حِلْس بيته، يتأبط دائمًا وثيقة أحد القضاة بصحة إيمانه وبراءته من كل ما يكفره، ولقد أريقت دماء محرمة، وعذبت أبرياء بالسجون والنفي والإهانات باسم الدين، وروعت شيوخ وشبان أعوامًا وسنين، حتى عج لسان حالها وقالها بالدعاء إلى فاطر الأرض والسموات، بكشف هذه الغمم والظلمات، ولم يزل سبحانه يملي لها ويستدرجها في غيها، ولم تحسب للأيام ما خبئ لها في طيها، إلى أن امتلأ إناؤها، وحان حصدها وإفناؤها، فأخذها الله وهي ظالمة جائرة، ودارت على دولتها الدائرة، ومحق الله بفضله تلك الدولة المجنونة الجاهلة، وأورثها للدولة الصالحة العاقلة، فأمَّنت الناس على أنفسها ودمائها، وذهبت عصبة الجمود بزبدها وغثائها. سيقول بعض الناس ممن تغره القشور، ولم تقف مداركه على لباب روح العصور: إن تلك الدماء المراقة والأرواح المهدرة، لم يحكم عليها إلا بالبينة والشهود، التي بمثلها تقام الحدود، وهل بعد ذلك من ملام أو جحود؟ يقول ويجهل أو يتجاهل أن التعصب يحمل على الأخذ بالظنة، أو الإيقاع بالشبهة، وأن المتطوعة بالشهادة قد يحملهم على اختلاقها ظنُّ الأجر بنصرة الدين بقتل هؤلاء المساكين، لا سيما إذا دُفعوا بتشويق المتصولحين والمتمفقرين [2] ، والحشوية البكائين، احتيالاً وقنصًا للمغفلين. ولقد استفيض عن كثير من هؤلاء الضالين المضلين الإغراء بقتل الداعين إلى الكتاب والسنة، والمجاهدين في الإصلاح العاملين، على أن قاعدة المحققين هي عدم البتّ في أمر تاريخي إلا بعد تعرفه من أطرافه، ومراجعة عدة أسفار للوقوف على كنهه وحقيقته، والإشراف على غثه وسمينه، ووزنه بميزان العقول السليمة، والقواعد الاجتماعية المعقولة، كما أشار إليه الإمام ابن خلدون في مقدمته. نحن لم نصِم أعمال أولئك بالظلم والجور والبغي إلا لما فضح نبذًا منها الإمام زين الدين ابن الوردي الشهير صاحب (البهجة، واللامية، والديوان، والمقامات) فقد شفى بالحقيقة الأوام، وأوضح عن مكر أولئك بالتمويه والإيهام في مقالة بديعة أنشأها في القاضي الرباحي المالكي [3] سماها (الحرقة للخرقة) . ولا بأس بنقل جمل منها تأييدًا لما قلناه، قال رضي الله عنه: أما بعد، حمدًا لله الذي لا يحمد على المكاره سواه، والصلاة والسلام على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الذي خاف مقام ربه وعصم من اتباع هواه، وعلى آله وصحبه الذين بذل كل منهم في صون الأمة قواه، وسلمت صدورهم من فساد النيات، وإنما لكل امرئ ما نواه، فإن نصيحة أولي الأمر تلزم، والتنبيه على مصالح العباد قبل حلول الفساد أحزم، والمتكلم لله تعالى مأجور، والظالم ممقوت مهجور، وتحسين الكلام لدفع الضرر عن الإسلام عبادة، والنثر والنظم للذَّب عن أهل الإسلام من باب الحسنى وزيادة، وجرحة الحاكم الأعراض بالأغراض صعبة؛ إذ نص الحديث النبوي: أن حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، ومخرق خرقته مذموم، ولحم العلماء مسموم، وهذه رسالة أخلصت فيها النية، وقصدت بها النصيحة للرعاة والرعية، أودعتها من جوهر فكري كل ثمين، وناديت بها على هزيل ظلم أبناء جنسي مناداة اللحم السمين، لكن جنبتها فحش القول؛ إذ لست من أهله، وخلدتها في ديوان الدهر شاهدة على المسيء بفعله، ورجوت بها الثواب، نصرة للمظلوم، وغيرة على حملة العلوم، وسميتها: (الحرقة للخرقة) فقلت: اعلموا يا ولاة الأمر، ويا ذوي الكرم الغمر، أبقاكم الله بمصر [4] للأمة، ووفقكم لدفع الإصر وبراءة الذمة، أن حلب قد نزعت للزبدة، ووقعت من ولاية التاجر الرباحي في خسر وشدة، قاضٍ سلب الهجوع وسكب الدموع، وأخاف السرب، وكدَّر الشرب، بجراءته التي طمت وطمت، وعَمايَته التي عمت وغمت، وفتنته التي بلغت الفراقد، وأسهرت ألف راقد، ووقاحته التي أدهشت الألباب، وأخافت النطف في الأصلاب، فكم لطخ من زاهد، وكم أسقط من شاهد، وكم رعب بريًّا، وكم قرب جريًّا، وكم سعى في تكفير سليم، وكم عاقب بعذاب أليم، وكم قلب ذائب، بنائبة توسط بها عند النائب، فامتنعت الأمراء عن الشفاعة، وظنوا هم والنائب أن هذا امتثال لأمر الشرع وطاعة: يا حامل النائب في حكمه أن يقتل النفس التي حرمت غششته والله في دينه بشراك بالنار التي أضرمت (إلى أن قال الزين ابن الوردي) : ثم إنه فسق مفتيًا في الدين، وفضح خطيبًا على رؤوس المسلمين، ثم قال: يحب إثبات الردة والكفر كحب الدنانير الصفر. حاكم يصدر منه ... خلف كل الناس حفر يتمنى كفر شخص ... والرضا بالكفر كفر (ثم قال) : إذا وقع عنده عالم فقد وقع بين مخالب الأسود، وأنياب الأفاعي السود: أدركوا العلم وصونوا أهله ... من جهول حاد عن تبجيله إنما يعرف قدر العلم من ... سهرت عيناه في تحصيله ثم قال: ما أقدره على السفير، وما أسهل عليه التفسيق والتكفير، كم دعى إلى بابلة فما ارتاح إلى الباب، ونراه حيران لعدم الرقة، فإذا قيل له: فلان قد كفر، طاب، يحبس على الردة بمجرد الدعوى، ويقوي شوكته على أهل التقوى، قد ذلل الفقهاء والأخيار، وجرأ عليهم السفهاء والأغيار: يحبس في الردة من ... شاء بغير شاهد لا كان من قاضٍ حكى الـ ... ـفقاع جد بادر أراح الله من تعرضه، وصان عراض الأعراض من تعرضه، يقصد بذلك أهل الدين، والقراء المجودين: جرحت الأبرياء فأنت قاضٍ ... على الأعراض بالأغراض ضاري ألم تعلم بأن الله عادل ... (ويعلم ما جرحتم بالنهار) هذا بعض ما جاء في رسالة الإمام ابن الوردي التي هي أشبه بمقامة بديعية، وكلها حقائق صادقة ناطقة بما كان عليه تعصب قضاة ذلك الوقت، ولا سيما المالك

نظرة في الجزء الثاني من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية ـ 3

الكاتب: أحمد عمر الإسكندري

_ ... ... ... ... ... نظرة في الجزء الثاني من كتاب تاريخ آداب اللغة العربية [*] (2) الخطأ في النقل قد أخطأ المؤلف في نقل عبارات المؤلفين إما بتصرفه فيها تصرفًا أفسد معناها، وإما بتحريف الكلم، وإما بنقلها عن نسخة محرَّفة من غير تمحيص لها، فمن ذلك: (1) قوله في ترجمة سلم الخاسر: هو سلم (ويقال سالم) ابن عمرو، أحد موالي أبي بكر الصديق. فسالم الخاسر هو (سَلْم) بفتح السين وسكون اللام، فمن أين جاء للمؤلف أن يقال في اسمه: سالم أيضًا، وليس سلم مجهولاً حتى يشتبه في اسمه. منشأ هذا التحريف الذي وقع فيه المؤلف أن نسخة تاريخ ابن خلكان المطبوعة كتب فيها (سلم) بألف توهمًا من الناسخ الأصلي أن الألف محذوفة كما تحذف في (القسم والحرث) فأثبتها وطبعت النسخة على هذه الصورة خطأً، وفي نسخة ابن خلكان هذه ذكر اسم (سلم) منظومًا في الشعر في قول أبي العتاهية له: تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال ونحن لا نشك أن المؤلف قرأ ترجمة (سلم) في (الأغاني) وفيها وقع اسمه منظومًا في غير موضع، فمن ذلك قول أبي العتاهية: إنما الفضل لسلم وحده ... ليس فيه لسوى سلم درك وله فيه وقد حبس إبراهيم الموصلي: سلم يا سلم ليس دونك سر ... حبس الموصلي فالعيش مر وقول أبي محمد اليزيدي فيه: عق سلم أمه صغرًا ... وأبا سلم على كبره ومن هجاء أبي الشمقمق فيه: * يا أم سلم هداك الله زورينا * وقول مروان بن أبي حفصة فيه: أسلم بن عمر وقد تعاطيت غايةً ... تقصر عنها بعد طول عنائكا وقول أشجع السلمي يرثيه: يا سلم إن أصبحت في حفرة ... موسدًا تربًا وأحجارًا فرب بيت حسن قلته ... خلفته في الناس سيارًا فهو عند هؤلاء الشعراء المعاصرين له اسمه (سلم) فحسب، ويجوز عند مؤلفنا وناسخ ابن خلكان أن يُسمى (سالمًا) أيضًا، فليختر القارئ لنفسه ما يحلو. (2) ومن خطئه في النقل قسمه اسم رجل واحد على مسميين، فذكر في ترجمة الصولي (ص175) أن له كتابًا اسمه الأوراق وهو في دار الكتب الخديوية، وذكر ممن ترجم له هذا الكتاب أحمد بن يوسف بن صبيح، فقال: (وأحمد بن يوسف وزير المأمون وآله، وابن صبيح كاتب دولة بني العباس، وتوقيعات أحمد المذكور وكلامه فضلاً عن أشعاره) . والحقيقة أن الثاني هو عين الأول، ومن يراجع الكتاب يعرف ذلك. وهو أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح، ويتبين هذا أيضًا من خلال كلام مؤلفنا؛ إذ ذكر أحمد ثم ابن صبيح ثم قفَّى بذكر توقيعات أحمد ورسائله وشعره. فلو كان ابن صبيح غير أحمد، فما الداعي لفصل توقيعات أحمد عن ترجمته؟ ولو فرضنا أن المؤلف يريد بابن صبيح جده القاسم، فذلك لم يكن كاتب دولة بني العباس، بل كان يكتب لبني أمية وللمنصور في بدء خلافته، ولم تطل أيامه، وليس هناك في الكتابة، وإنما ذكره الصولي مع من ذكره من آل أحمد بن يوسف. (3) ومن خطئه في النقل بتصرفه في عبارة المؤلفين قوله في ترجمة ابن الرومي صفحة 158: (اشتهر بالتوليد في الشعر؛ لأنه أتى بكثير من المعاني لم يسبق إليها، ومن مميزاته أنه لا يترك المعنى حتى يستوفيه، ويمثله للقارئ تمثيلاً) . ومن عبارة المؤلفين في ذلك ما قاله صاحب معاهد التنصيص: (هو أبو الحسن.. . صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها ويبرزها في أحسن قالب، وكان إذا أخذ المعنى لا يزال يستقصي فيه حتى لا يدع فيه فضلة ولا بقية) . وقال ابن خلكان: (صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة فيستخرجها من مكانها، ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية) . فترى أن عبارة ابن خلكان أجود في تصوير الشاعر، وعنه نقل صاحب معاهد التنصيص مع تغيير قليل. فرأى مؤلفنا أن ينقل عنهما بتغيير آخر، ولكن تغييره شذ عن مرادهما فهما يقصدان بقولهما: (صاحب التوليد الغريب) أنه إذا استنبط معنًى من قرآن أو حديث أو حكمة أو مثل أو من كلام شاعر آخر، أو اخترعه اختراعًا لا يزال يولد منه معاني متشاكلةً بالزيادة عليه أو النقص منه، أو بالقياس عليه فيستعمله في مدح ويقلبه في هجو ويزينه في وصف حتى لا يدع لغيره وجهًا أيًّا كان يستعمله فيه بعد، وقد فسر المؤلفان غرضهما في عبارتهما بقولهما: (يغوص على المعاني.. .) إلخ. ففهم مؤلفنا من التوليد أنه يأتي بمعانٍ لم يسبق إليها، مع أن ابن الرومي كثيرًا ما يُغِيرُ على قول غيره، وفهم من قولهما: (وكان إذا أخذ المعاني ... ) إلخ، أنه يوضح المعنى، ويمثله تمثيلاً، وما كان عليه لو نقل عبارة المؤلفين كما فعل في أكثر مواضع الكتاب. (4) ومن تقصير المؤلف في توضيح ما ينقله ما نقله عن السيوطي ـ ناقلاً عن كتاب العين، ومختصر الزبيدي ـ إحصاء المستعمل من الألفاظ العربية والمهمل منها، فاستخرج المؤلف من كلام الزبيدي جدولاً استنتج منه أن عدد المستعمل من ألفاظ اللغة العربية 5620 لفظًا، مع أن كتاب القاموس وحده، وهو ليس إلا قطرةً من بحر اللغة العربية، يشتمل على ستين ألف مادة، متوسط ما في كل منها من المزيد والمشترك عشرون كلمة على الأقل، أي نحو مائتي ألف وألف ألف كلمة، فكيف ولسان العرب به ثمانون ألف مادة، متوسط ما في كل منها ثلاثون كلمة على الأقل. والمؤلف نقل عبارة الزبيدي عن المزهر للسيوطي، وهي فيه مختلة أيضًا أسقط منها النساخ كلمة (ألف) المكررة في عدد المهمل والمستعمل فصار فيها ألف الألف (أي المليون) ألفًا فقط، ويعرف هذا بمراجعة مقدمة شارح القاموس، فإنه نقل عبارة الزبيدي أيضًا، وفيها مكان الألف في بيان المهمل والمستعمل (ألف ألف) وإن وجد بها بعض تحريف أيضًا، فكان جديرًا بالمؤلف أن يزن العبارة بميزان عقله، ويعدلها - إذا شاء - كما عدل الأرقام التي ذكرها المزهر؛ لتصح له عملية الجمع. (5) ومن تحريف المؤلف بنقل عبارة المؤلفين ناقصة ما نقله في ترجمة المتنبي في قوله: (حتى صار يقف بين يدي كافور وفي رجليه خفان، وفي وسطه سيف ومنطقة، ويركب بحاجبين من مماليكه، وهما بالسيوف والمناطق، فلما رأى كافور منه سموّه بنفسه وتعاليه بشِعْره خافَه، وقال: يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ألا يدَّعي المُلك مع كافور؟ فحسبكم. فأغضبه فخرج أبو الطيب من مصر. والمتأمل في هذه العبارة يجد أن قول كافور: يا قوم.. . إلخ، مقتضب مما قبله بل هو تتمة لكلام محذوف، وهو الواقع فإن كافورًا كان وعده بولاية بعض أعماله، وطمع المتنبي في ذلك، واستنجزه وعده في شعره مرارًا وهو يماطله، فعاتبه بعض كبار الدولة في مطله عن إبلاغه أمنيته على كثرة مدحه له وهجرته إليه مغاضبًا لسيف الدولة فقال كافور: يا قوم.. . إلخ. * * * عدم تحري الحقيقة والصواب اعتاد المؤلف أن ينقل إلى كتبه ما يعتقده بذاته، أو ما يكون ذائعًا على ألسنة عامة القراء والوراقين، أو يقرؤوه في الكتب التي تلقي الأخبار على عواهنها، من غير تمحيص لحقيقتها؛ حرصًا على إفادة القراء وإتحافهم بالغرائب، وهو اجتهاد يشكر عليه؛ لولا ما يشوّه بهذه الأخبار محاسن كتبه من حيث لا يقصد، وربما يلتمس له في ذلك عذر، وهو تسرعه في تأليف الكتب تعجيلاً لفائدتها، وأن التحري والبحث والتحقيق والتدقيق كلها تستدعي أزمانًا طويلة ومراجعةً لكثير من الكتب، ومساءلةً لجمهور الأدباء، وهو ما يضيق دونه وقته الثمين، وعامة القراء يرضيهم ما دون ذلك، والمستفيد يتوخى أربح الطريقين (وَلِكُلٍّ وَجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) (البقرة: 148) . ولكن الرأي الذي نراه أنه ينبغي لكل من تعرض لتدوين التاريخ في السياسة أو الأدب ألاَّ يكتفي برواية كتاب واحد أو كتابين وبما يذيع على ألسنة الناس، بل يجب عليه تحقيق الخبر وتمحيصه والأخذ بالرواية القريبة من العقل، واللائقة بمنزلة من روي عنهم. ويوجد في هذا الكتاب كثير من الأخبار التي اغتر المؤلف بنقلها من الكتب ولم يمحصها، فمن بعض ذلك: (1) نقله عبارة ابن خلكان التي نقلها مثل المؤلف كثير من الناقلين من أن الأمين جمع بين سيبويه والكسائي في مجلسه للمناظرة، وأن الكسائي زعم أن العرب تقول: (كنت أظن الزنبور أشد لسعًا من النحلة فإذا هو إياها) . وأن سيبويه قال: إن المثل: ( ... فإذا هو هي) وأن الأمين تعصب لأستاذه الكسائي وأوعز سرًّا إلى أعرابي حكَّمُوه في المسألة أن يصوب الكسائي ويخطئ سيبويه. مع أن المسألة مشهورة في كتب الأدب والتاريخ والنحو من أن المناظرة جرت في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وأن الكسائي كان يجيز الوجهين، أي: (فإذا هو هي) و (فإذا هو إياها) وأن أعرابًا عدة معروفين بعينهم وأسمائهم شهدوا بجواز الأمرين، وأن الغلبة كانت على سيبويه في هذا المقام، وليس في العلم كبير. وهذا ما يليق بمقام الكسائي والأمين وثقات رواة الأعراب. والقصة مبسوطة بالتفصيل في معجم الأدباء لياقوت ص 191 ج 5 في ترجمة الكسائي، وفي ص 81 ج6 ولم يكمل طبعه، ولكن ما طبع اطلعت عليه، وفيه ترجمة سيبويه، وفي ص 366 من بغية الوعاة في طبقات النحاة، وفي مبحث (إذا) من الجزء الأول من مغني اللبيب لابن هشام وفي غيرها من الكتب غير المطبوعة، وفي أكثرها إعراب الوجه الثاني من الوجهين اللذين يجوِّزهما الكسائي، وأن البصريين أنفسهم لا ينكرون صحة شهادة الأعراب الثقات، وإنما يطعنون فيهم بأنهم من أعراب الحطمة، أي أنهم ليسوا فصحاء، ولولا طول هذه القصة لأوردتها من كثير من الكتب التي تخالف ابن خلكان في النقل، وربما اطلع عليها المؤلف ولكنه آثر روايته؛ إما لغرابتها أو لغرض آخر. (2) ومن الأمور التي لم يتحرَّ فيها المؤلف الحقيقة والصواب قوله في ص 146 في تعداد كتب الواقدي: -2 - كتاب فتوح الشام: هو أشبه بالقصص منه بالتاريخ؛ لما حواه من التفاصيل والمبالغات؛ لكنه مؤسس على الحقيقة. وفيه حقائق لا توجد في سواه من كتب الفتوح، وقد طبع مرارًا إلى أن قال: وطبع أيضًا في مصر سنة 1882 وغيرها. ثم بعد أن ذكر عدة كتب له قال: -7 - عدة كتب في الفتوح تنسب إليه كفتح منف والجزيرة والبهنسا طبعت بمصر وغيرها، وكان له كتاب يسمى فتوح الأمصار لم نقف عليه، ولكن المؤرخين نقلوا عنه. وأكثر كتبه محشوة بالمبالغات لا يُعول عليها، وفي مجلة المشرق البيروتية مقالة انتقادية في الواقدي ومؤلفاته (صفحة 936 سنة 10) جزيلة الفائدة. أقول: إني لم أطلع على مجلة المشرق ولا على انتقادها، ولكن الأمر لا يجهله من له أدنى إلمام بتمييز كتابات العصور المختلفة أو بالتاريخ أن كتب المغازي التي تطبع في مصر من مثل فتوح الشام ومصر والبهنسا وفتح خيبر وفتح مكة، ورأس الغول ونحوها ـ هي من الكتب الموضوعة الخيالية المشتملة على بعض حقائق تاريخية، والأقرب أنها وضعت هي وقصة عنترة وذات الهمة وغيرها زمن الحروب الصليبية؛ لتغرس في الناس فضيلة الشجاعة والاقتداء بالسلف الصالح، لا أنها هي نفس كتب الواقدي الحقيقية، وإن الذين سموها بهذه الأسماء هم جماعة الوراقين والنساخين؛ لترويج سلعهم عند القراء، كما نسب مؤلف قصة عنترة وروايتها إلى الأصمعي، وزعم أنه عمر وأدرك الجاهلية وقابل شيبوبًا أخا عنترة، وإني لأخجل أن أرى مثل مؤلفنا قد انخدع بهذا الباطل، وطوح به الأمر أن قال في كتب الواقدي أبي التاريخ: إنها محشوة بالمبالغات لا يعول عليها، وليت شعري على من نعول في تاريخ الفتوح إذا لم نعول عليه وهذا ابن سعد كاتب الواقدي وتلميذه نقل عنه أ

عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية [*] (1) (مقدمة وتمهيد) من الناس من يكتب ليعجب الناس بما يأتي به من زخرف القول، ومنهم من يكتب ليرضيهم بما يبديه من حسن الرأي، فهذا يفترض حوادث الزمن، وذاك يرتقب سوانح النكت، ليحل كلامهما محل القبول، ويصيب مواقع الاستحسان من القلوب، ونسأل الله أن لا يجعلنا منهم. ومن الناس من يكتب لأجل النفع، بإزالة باطل أو إظهار حق، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فهو يتخول الناس بالموعظة، ويتخونهم بالكشف عن مكامن العبرة. ونرجو الله أن نكون من هؤلاء في الدنيا وأن نحشر معهم في الآخرة. تساءل بعض الناس لمَ كتبتُ تلك المقالات الطوال في المؤيد حين أُوقدت نار الحرب في طرابلس الغرب وبرقة، ولم أكتب فيه شيئًا في إبان هذه الحرب، وهي أدهى وأمرّ، وأنكى وأضر؟ ولو تذكروا تلك المقالات لعلموا أنها كتبت في شأن هذه الحروب وكون تلك المقدمات لها، أي أنها فتح لباب المسألة الشرقية وتصدٍّ من أوربة لحل هذه المسألة، والقضاء المبرم على ما بقي للمسلمين من هذه الدولة، فلو وعاها إخواننا المسلمون ووزنوها بميزانها لفكروا في مستقبلهم، واجتمع أهل الرأي منهم في كل مكان للبحث عن مصيرهم، ولم يرضوا أن تبقى مصلحتهم العامة في أيدي بعض سفهاء الأحلام، الذين لا يملكون هنا إلا البذاء في الكلام، وتضليل العامة بالوساوس والأوهام، وكان من ضررهم ما كان، فكيف بحال أمثالهم في عاصمة الدولة، وقد ملكوا مع هذا كل شيء فدمروا كل شيء. إنني - وايم الله - لأكتب من أجل الإفادة والنفع، وما اكتفيت في أيام هذه الحرب بما كتبت في المنار، وأمسكت عن الكتاب [1] في الجرائد اليومية - وأولاها بما أكتب في هذه الحال: المؤيد - إلا لأنني أرى أن هذه مثل البلاد لا تستطيع أن تنفع الدولة الآن إلا بالمال. وقد انبرى لجمعه لها أمراؤها فخَفَتَ لصوتهم كل صوت، وقصر عن قولهم كل قول، وتضاءل دون سعيهم كل سعي، جزاهم الله أفضل الجزاء، وحسبي من شرف مشاركتهم في ذلك ولو بالاسم أنني عضو في جمعية الهلال الأحمر فلم يبق من طرق نفع الكلام في هذه الحرب إلا بيان ما فيها من العبر، وما أدى إليها من الأسباب وما يلزم عن تلك المقدمات من النتائج، وهذا ما كنت أتربص به أن تضع الحرب أوزارها، لئلا يقال: إنه ابتسر العبرة فجاءت قبل أوانها، كما قال بعض أصدقائي في مقالة نشرتها في المنار. أما وقد عقدت الهدنة، وعين المفوضون للبحث في شروط الصلح، وقد ثبت خيانة وفساد الاتحاد والترقي للدولة ثبوتًا رسميًّا، وعلم الخاص والعام، أنها هي علة حرب طرابلس وحرب البلقان، فقد جاء الوقت الذي يرجى أن ينفع فيه القول، ويخشى أن يضر السكوت، وترجح المقتضي على المانع. قد كان يكون من موانع الكتابة قلة وجود المتدبرين الذين يميزون بين قول الحق ويعرفون أهله بأدلتهم وسيرتهم، وبين أقوال المبطلين الذين يغشون الأمة ويغرونها بتأييدهم للأقوياء الذين ينتفعون منهم، فقد كان زعماء الحزب الوطني هنا يغشون الناس بالسلطان عبد الحميد الذي باعوه ذمتهم بالرتب والنياشين والدراهم والدنانير حتى كان بعض زعمائهم يجعل الشهادتين في الإسلام ثلاثا فأوجب على من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، أن يثلث فيقول: وأشهد أن السلطان عبد الحميد خليفة الله. ولولا هذا التثليث لما انتقل من لقب أفندي إلى لقب بك. ومنه إلى لقب باشا، وما زالت جريدة اللواء تغش المسلمين عامة والمصريين خاصة بعبد الحميد مدة حياة مؤسسها وبعد موته إلى ما قبل إعلان الدستور بيوم واحد؛ إذ كتب فيها يوم الأربعاء طعن شديد في طلاب الدستور من العثمانيين ورمي لهم بأنهم يريدون به هدم الدولة، وأنبأتنا البرقيات بإعلان الدستور يوم الجمعة. فلما سقط عبد الحميد ونزا على الدولة بعده أولئك الأغيلمة المتخرجون في ملاهي غلطه وبيوغلي وسلانيك وباريس، وأفسدوا كثيرًا من ضباط الجيش، وجعلوا بقوتهم الدستور آلةً لتفريق عناصر الدولة وذريعة لمحو اسمها من لوح الوجود، قام أنصار عبد الحميد هنا وفي بلاد أخرى ينصرون هؤلاء المتغلبين المخربين، ويغشون الأمة بهم كما كانوا يغشونها به وأشد، وكان يصدقهم في إطرائهم كثير من الناس مع بيان جرائد الأمم كلها لمفاسدهم، بل مع ظهور هذه المفاسد بالفعل، إلى أن أبكم الله ألسنتهم قبل ثبوت خيانة مستأجريهم للدولة ثبوتًا رسميًّا، وتنكيل الحكومة السلطانية بهم وتمزيقها لشملهم، ولعله لو بقي لهم لسان ينطق، وقلم يكتب وينشر، لم يخجلوا من الاستمرار على التمويه والتضليل، إذا كان أملهم بعودة الجمعية إلى استبدادها باقيًا، أو إمدادها لهم لا يزال متصلاً، ويا حسرتى على شبان هذه البلاد، الذين خدع كثير منهم بهؤلاء المفتونين بالمال والشهوات والشهرة الباطلة والأوهام المضللة. نعم إن رواج التغرير والتضليل في سوق السياسة وقلة التمييز بين المحق والمبطل، والصادق والكاذب، قد يكون مانعًا من التصدي للكتابة لولا أن الله أوجب النصح وبيان الحق، وحرم القنوط واليأس، وجعل العاقبة للمتقين. مقدمات الخذلان في هذه الحروب (جمعية الاتحاد والترقي) إنني أعرف من أمر هذه الجمعية ما لا يعرفه أحد في القطر المصري، وقد بلوناها واختبرناها في الآستانة مدة سنة كاملة، رأيت من زعمائها وسمعت من ألسنتهم ورويت عنهم بالأسانيد العالية المتصلة بهم، ما لا يتفق مثله إلا لقليل من الناس، ثم أيدت أحاديث جرائد العالم وحوادث الدهر ووقائعه ما علمته عنهم، فأنا أروي ما تؤيده الأحاديث والحوادث، وأستخرج العبرة منه ليعلم أولو الغيرة على هذه الدولة التي لم يبق للمسلمين غيرها أين مكانتها، وما هو الخطر الذي ينذرها، لعل ذلك يكون مما يستبين به أولو الرأي ما يجب لحفظ سلطة الإسلام، المهددة بالزوال والانقراض والعياذ بالله. أبدأ بذكر أهم الوسائل التي شرع الاتحاديون فيها ولا أذكر مقصدهم الذي يتوسلون إليه بتلك الوسائل الآن؛ لأنه لا يصدقه غير العارف بحقيقة أمرهم، إلا إذا اطلع على المقدمات والوسائل التي أذكرها؛ لأنه مقصد غريب في نفسه. ... ... ... ... أعمال الاتحاديين التي كانت مقدمات الخذلان في الحرب (إزالة قوة المسلمين غير الترك من الدولة) أول ما قرر زعماء هذه الجمعية البدء به من الأعمال، بعد ما عنوا به من جمع الأموال بضروب من القوة والاحتيال هو إزالة كل قوة في هذه الدولة. حدثني غير واحد في الآستانة من الترك وغير الترك من العثمانيين وبعض الأجانب والعارفين بأمور الدولة أن من برنامج جمعية الاتحاد والترقي أن تجمع السلاح من الأرنؤط وتضربهم ضربة شديدة، ثم تجرد جيشًا آخر أو جيوشًا لضرب العرب في اليمن وعسير، وعشائرهم وعشائر الدروز في حوران وجنوب بلاد الشام ثم العراق، وتجمع السلاح من الجميع، وسأذكر ما قرر في شأن طرابلس بعد، وبعد هذا وذاك تجرد جيشًا آخر على الأكراد تذللهم وتجمع السلاح منهم، فإذا هي جمعت السلاح وأخضعت لهيبتها أولي القوة والبأس من المسلمين، يسهل عليها أن تنفذ مقصدها بلا معارض ولا منازع. قررت جمعية الاتحاد والترقي تنفيذ هذه المادة من برنامجها ولم تفكر في عواقبه، لم تفكر في عجز الدولة عن حماية هذه البلاد إذا كانت مجردة من القوة الذاتية، ولم تفكر فيما تخسره في قتال هذه الممالك من الأموال التي تأخذها من أوربة بالربا الفاحش، ومن الجنود المنظمة التي تحتاج إليها للدفاع عن الدولة وحفظ سلطانها، ولا فيما ينشأ عن هذا القتال من الفتن، وتفرق عناصر الدولة وانحلال روابطها. بدأت الجمعية بقتال الأرنؤوط وأنا في الآستانة فبذل مبعوثو هذا الشعب جهدهم في إصلاح حال الجمعية بأن يتوسلوا إلى حل مسألة الأرنؤط بالنصح والسلم فلم يقبلوا، وأظهروا الاحتقار بهؤلاء المبعوثين حتى أنهم صفعوا إسماعيل كمال بك الزعيم الشهير في مجلس الأمة، ومن غرائب صنعهم أن جمعوا ما قدروا على جمعه من سلاح المسلمين ولم يعيدوه إليهم، ولكنهم أعادوا السلاح إلى الماليسوريين لأنهم نصارى، فانظر كيف كان عاقبة أمرهم، وكيف ظهر أنه يجب عليهم أن يسلحوا جميع مسلمي تلك البلاد ويدربوهم على الفنون العسكرية لأجل الدفاع عنها، ويؤلفوا منهم عصابات كعصابات البلغار وغيرهم، ولو فعلوا ذلك لنفع الدولة في هذه الحرب نفعًا عظيمًا. ثم فعلوا فعلتهم في اليمن وعسير، وفي الكرك وحوران، فقد جردوا لقتال المسلمين في هذه البلاد زهاء مائة ألف جندي من أحسن جنود الدولة النظامية أو أحسنها على الإطلاق، قتل منهم في اليمن ألوف كثيرة وبقيت مسألة اليمن كما كانت. ولكن خربوا بلادًا كثيرةً منها ومن بلاد الكرك وحوران ولم تستفد الدولة في مقابلة هذا التخريب والخسران شيئًا، ولو تم لهم ما أرادوا من جمع السلاح من بلاد اليمن لاستولت عليها إيطالية في السنة الماضية وقتلت من فيها من العسكر؛ لأن الدولة ما كانت تستطيع أن ترسل إليها مددًا، ولو ظل أولئك الجنود في معسكرهم لرجحت الدولة على البلقانيين بهم. والآن يتحدث الناس فيما ذكرته الجرائد الفرنسية عن سورية ومصالح دولتها فيها، والظاهر أن المراد به اختبار رأي الدول في أمر استيلائهم عليها، وقد عرف بالقياس على مسألة طرابلس الغرب ومسألة البلقان أن الدولة لا تقدر على حفظ سورية إلا إذا كان فيها قوة ذاتية تخشى الدول العظمى بأسها، ولا يمكن أن تأتي هذه القوة من الرومللي ولا من الأناضول، بل يجب أن تكون مؤلفة من الجند النظامي والاحتياطي الذي فيها، ومن قبائل العرب والعشائر الوطنية والمجاورة، وهؤلاء هم الذين يخشى الأجانب من جانبهم إذا كانوا مدربين على القتال ما لا يخشونه من الجند الرسمي؛ لأن قتالهم يكون بالمطاولة لا بالمناجزة، فالخسارة فيه عظيمة، وإنما هؤلاء الأجانب تجار يطلبون الربح من أقرب طرقه، وأشدهم اتقاء للقتال أعظمهم توغلاً في الاستعمار كإنكلترة وفرنسة. ولعل إيطالية لا تعود إلى مثل غلطها في طرابلس الغرب، بل أظن أن البلغار قد ندمت على تهورها في طلب أمنيتها على ما أتيح لها من الظفر بتخاذلنا وإهمالنا، وأنها لا تعود إلى مثله. ظهر ضرر هذا العمل السيئ الذي شرع فيه الاتحاديون، وظهر أنه كان الواجب المحتم أن يعملوا ضده، وأن يجعلوا في كل قطر من هذه الأقطار قوةً أهليةً تساعدها الدولة وتؤهلها للدفاع عن قطرها، فهل يعتبر الناس بهذا ويسعون للواجب من جميع الطرق، هل يعتذر عنه الاتحاديون ويندمون عليه، هل يسكت عن الاعتذار لهم مأجوروهم والمغرورون بهم؟ كلا إننا قرأنا في جرائد أمس أن زعماءهم لا يخجلون من الإصرار على التبجح بقتال الدولة - أو الحكومة الاتحادية - للأرناؤوط، وإن ظهر أن ذلك كان مصابًا كبيرًا على جمعيتهم من جهة، وعلى الدولة نفسها من جهة أخرى، وهاك شاهدًا مما نقلته إحدى جرائد الآستانة عن أحد زعماء الجمعية الذين فروا في هذه الأيام إلى أوربة: كتب صاحب جريدة أقدام التركية من سويسرة إلى جريدته في الآستانة يقول: إنه قرأ في جريدة بسترلويد حديثًا دار بين مكاتب هذه الجريدة مسيو رالي وبين جاويد بك أحد زعماء جمعية الاتحاد والترقي الذي كان ناظر المالية في أهم وزاراته، سأل ذلك المكاتب جاويد بك عن أسباب انكسار الجيش العثماني وخذلانه في البلقان، فكان الجواب بعد مقدمة فيما

أحوال مسلمي الصين

الكاتب: عناية الله أحمدي

_ أحوال مسلمي الصين (مسلمو مدينة نانكين في الصين) نانكين مدينة من كبريات المدن الصينية المشهورة بتجارتها، سكان هذه المدينة زهاء مليون نسمة، والمسلمون منهم مقدار مسلمي بكين في الكثرة، ومنهم أناس أولو ثروة طائلة وتجارة كبيرة، وهم أرقى مسلمي الصين على الإطلاق في دنياهم؛ إذ أكثر الموظفين في دوائر الحكومة منهم، وكذلك منهم أكثر المعلمين في المدارس، ويعد المسلمون في هذه الولاية أرقى علمًا وفكرًا من سائر أهلها، ولكن لبعدهم عن العاصمة (مدينة بكين) التي هي مركزهم الإسلامي لا يعرفون من الإسلام غير كلمة التوحيد والسلام، والمستنيرون منهم قد عرفوا أخيرًا أي: بعد حصولهم على الحرية - وجوب تربية أولادهم على روح الإسلام، فأسسوا في مدنية نانكين جمعية باسم: جمعية نشر الإسلام والمعارف. لهذه الجمعية مقاصد أحدها: بيان حقيقة الجمهورية للمسلمين والدلالة على طرق الاستفادة منها، ولذلك يطبعون رسائل مختصرة في لغة الصين وينشرونها بين المسلمين في البلاد والقرى ويخطبون بذلك في المجامع، وأكثر ما يهتمون به هو شئون الانتخابات، يجتهدون كثيرًا في انتخاب نواب الولاية من الذين يحبون الإسلام ويسعون لخير المسلمين. ثانيها: افتتاح المكاتب الابتدائية والرشدية في أحياء المسلمين كلها، ونشر لسان العرب وبيان حقيقة الإسلام للأهالي، وتكثير سواد المسلمين الحقيقيين. ثالثها: الاجتهاد في محو العادات والأخلاق الفاسدة المتمكنة من المسلمين، وافتتاح المكاتب الصناعية لإزالة الكسل والفقر منهم. ومسلمو الصين لجهلهم وتعصبهم المفرط لعوائدهم لا يشتغلون بما يشتغل به الوثنيون من الصناعات فيستنكف أحدهم أن يكون حدادًا أو خياطًا أو ساعاتيًّا مصلحًا للساعات؛ لأن الوثنيين يشتغلون بهذه الصناعات وينفرون ممن هذه صناعته من المسلمين. فبجهلهم هذا وتعصبهم الزائد صارت منزلتهم في التجارة والصناعة متأخرة جدًّا بالنسبة إلى غيرهم، وبلغوا نهاية قصوى من الفقر، وبسعي هذه الجمعية أخذوا يتعلمون في المدارس الصناعية ويشتغلون ببعض الصناعات كالخياطة. ومن مقاصد الجمعية أيضًا السعي في انتخاب العلماء لمنصب الإمامة في المساجد من الذين يستحقونها. والحاصل أن مقصد الجمعية السعي في ترقية المسلمين وإزالة أسباب الفقر وفساد الأخلاق من بينهم، وإنقاذهم من المهانة في الدنيا والخسار في الآخرة، والجمعية تفتح أيضًا شُعبًا لها في ولايات خانقو شانغاي، وسيجوان، وأرسلت نور الدين أفندي وثلاثة آخرين من زعمائها إلى تلك البلاد للتشاور بينها وبين مسلميها واختيار أعضاء منهم للجمعية، ولها الآن أكثر من عشرة آلاف عضو في مدينة نانكين وولايتها. فإذا اجتهد مسلمو الصين على هذه الكيفية من غير فتور يرجى أن يرتقوا في مدة يسيرة. ... ... ... ... ... ... ... (ع. أحمدي) ... ... ... ... ... (مترجم من جريدة (وقت) عدد 1050)

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ) هذا الكتاب من تصنيف أحد علماء اليمن المجتهدين، الشيخ صالح مهدي المقبلي المتوفى سنة 1108، وكان في الأصل على مذهب الزيدية ولكنه قرأ كتب الكلام والأصول وعرف مذاهب الفرق كلها وكتب التفسير والحديث وسائر العلوم، وطلب بذلك الحق ومرضاة الله تعالى، فانتهى به ذلك إلى ترك التمذهب وقبول الحق الذي يقوم عليه الدليل، وقد شهد له الإمام الشوكاني بالاجتهاد المطلق، وهو يشرح في هذا الكتاب أمهات المسائل التي وقع الخلاف فيها بين المذاهب الشهيرة كالأشعرية والمعتزلة وأهل السنة والشيعة الزيدية والإمامية وكذا الصوفية. ويبين ما يظهر له أنه هو الحق ولا يتعصب لمذهب على مذهب، وهذا هو مراده الذي يدل عليه اسم كتابه. وقد توسع في الكلام على مسائل التحسين والتقبيح العقليين، والكسب والاختيار والجبر، وأفعال الباري تعالى وأفعال العباد، ورواية الحديث ونقدها، والجزاء والتوبة، وافتراق المسلمين والفرقة الناجية المشار إليها في الحديث، والطائفة التي تبقى ظاهرة على الحق لا يضرها من خالفها فيه، وعنده أن أهل الحق يكونون من مجموع المسلمين لا من أهل مذهب معين، وبيَّن في هذا المقام مفاسد الخلاف بين المسلمين ومضاره، ومسألة وحدة الوجود وحقيقة حالة أهلها، ولا تكاد تجد كتابًا منشورًا تعرف منه حقيقة مذهب المعتزلة والزيدية غير هذا الكتاب، ومنه تعلم أن أكثر ما تجده في كتب العقائد المتداولة من مذهب المعتزلة خطأ؛ لأنه مِن نقل المخالفين لهم نظروا إليه بعين السخط، ونقلوه بالمعنى لا بالنص، وتصرفوا فيه كما فهموا، وبهذا يتجلى لك صدق قول العلماء من أن نقل المخالف لا يعتد به. كان هذا الكتاب من الأسرار والمخبآت يكتمه كل من يظفر بنسخة منه إعجابًا به وخوفًا من الناس أن يشنعوا عليه؛ لأنه يخالف كل مذهب من المذاهب في بعض المسائل، وإن لم يخرج عن مجموعها في شيء، وهو شديد الحملة على ما يعتقد بطلانه، قوي الإنكار لا يتحامى التشنيع والنبذ بالألقاب المنكرة، فهو في هذا الخلق يشبه الإمام ابن حزم الذي هجر جمهور الناس كتبه في الأصول والفقه لشدة إنكاره على مخالفيه من أئمة الفقهاء، ونبزهم بلقب الجهل وما أشبهه من الألقاب، ولولا ذلك لاشتهرت كتبه وأخذ الناس بها، وترك كثير منهم مذاهبهم إليها؛ لأنها في الذروة العليا، كما شهد بذلك سلطان العلماء الشيخ عز الدين بن عبد السلام الشهير إذ سئل عن أحسن ما كتبه المسلمون في الفقه فقال: (المحلى) لابن حزم و (المغني) للشيخ الموفق، وأنا أرى أن كتب ابن حزم هي أكبر وأوسع مادةً استمد منها شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم. ولكنهما كانا أنزه قلمًا وأشد أدبًا مع الأئمة. فكتاب (العلم الشامخ) ككتاب (المحلى) هو من الكتب التي يستفيد منها العلماء الخواص أصحاب العقول والأفهام المستقلة والصدور الواسعة، وقد نقل عنه شيخ الأزهر العطار الشهير في حاشيته على الجلال المحلي، فدل ذلك على أن الكتاب كان يتداوله العلماء ويتناسخونه كما كانوا يتناقلون قبل ذلك كتب ابن حزم. وقد تصدى لطبع هذا الكتاب منذ ثلاث سنين بعض الشرفاء والفضلاء الحجازيين والسوريين بعد أن استنسخه بعضهم من مكتبة حسين حسني أفندي الذي كان شيخَ الإسلام في دار السلطنة، ولما قيل له: إننا نريد طبعه، قال: ومن يتجرأ على طبعه؟ ومن عاش معظم عمره في حجر السلطة الحميدية تحيط به جواسيسها لا يبعد منه أن يقول مثل هذا القول، على أنه رحمه الله كان من أوسع علماء الآستانة صدرًا، وأشدهم تسامحًا، وكان معجبًا بالكتاب ضنينًا به، ولكنه سمح بنسخه، ولو علم بما يطبع في مصر من كتب الفِرق والجدل، ومن كتب دعاة النصرانية، لرأى الفرق الكبير بين مصروالآستانة حتى في عهدها الذي يسمى الدستوري. طبع الكتاب مع زوائده: (الأرواح النوافخ لإيثار آثار الآباء والمشايخ) الذي أوضح به مسائله وفند به كلام من أنكر عليه بعضها، ووضعت له عدة هوامش فيها انتقاد على المؤلف بعضها من النسخة الأصلية يوشك أن تكون للمحقق الشوكاني. وهو مطبوع على ورق جيد وصفحاته تناهز 800 صفحة، ولهما فهرس واسع جدًّا مرتب على حروف المعجم، وثمن النسخة منه 25 قرشا، وأجرة البريد للخارج خمسة قروش، وللقطر المصري 25 مليما، وهو يطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر. *** (رسالة بغية الراغبين، وقرة عين أهل البلد الأمين، فيما يتعلق بعين الجوهرة السيدة زبيدة أم الأمين) تأليف العالم الفاضل السيد عبد الله بن السيد محمد صالح الزواوي الحسني الإدريسي المدرس بالمسجد الحرام ورئيس لجنة عين زبيدة رسالة تشتمل على ذكر أحوال عين زبيدة التي يستقي منها أهل البلد الحرام (مكة) والوافدون لحج البيت العتيق مع بيان التصليح والترميم مما أحدثته اللجنة المشكلة تحت رعاية صاحب السيادة والدولة أمير مكة المعظم، ورئاسة مؤلف هذه الرسالة، ثم بيان خطط البلد الأمين. وقد تبرع السيد عمر الخشاب الكتبي بطبع هذه الرسالة؛ إعانةً على المشروع الجليل النفع، العميم الفائدة، ومن يطلع على هذه الرسالة يعلم أن إعانات عين زبيدة إنما أنفقت في طريقها وعلى وجهها، فنشكر للمؤلف سعيه في سبيل الله وخدمة بلده الحرام. ... ... ... ... ... *** ... ... ... ... ... (كفاية الطالبين لرد شبهات المبشرين) تأليف الشيخ محمد عبد السميع الحفناوي مدرس اللغة العربية بالمدارس الحرة صفحاته 133 بقطع، (الإسلام والنصرانية) ، مطبوع بمطبعة أبي الهول بالقاهرة سنة 1330 على ورق نظيف متوسط ثمنه ثلاثة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. موضوع الكتاب الرد على دعاة النصرانية، وقد أبطل المؤلف به ادعاء النصارى كون كتبهم كتبت بإلهام من الله، وبيَّن اختلافاتها وأغلاطها وأنحى على عقيدة التثليث ببراهين وأدلة عقلية، وكذلك فعل في نفي الشريك والولد عن الله تعالى، وفي إبطال ما يتمسك به النصارى من صلب المسيح، وتكلم على حقية القرآن ووجوه إعجازه، وفي نبوة سيد الأنبياء صلى الله عليهم وسلم مستدلاًّ على ذلك بنصوص كتبهم التي يسمون مجموعها الكتاب المقدس، ورد شبهات أولئك الدعاة، وختم الكتاب بمقابلته بين آيات من القرآن الشريف وجمل من العهد العتيق والعهد الجديد. *** (كتاب أمراض النساء) تأليف الدكتور نجيب بك محفوظ الطبيب بمستشفى القصر العيني صفحاته 176 بقطع، (الإسلام والنصرانية) طبع بمطبعة التوفيق، ويشتمل على 45 شكلاً من أشكال الأعضاء والأدوات، يباع بعشرين قرشًا في المكاتب الشهيرة بمصر. هذا الكتاب من الكتب العلمية السهلة الفهم التي تفيد مطالعتها الخاصة والعامة خصوصًا الذين يتعلمون الجراحة بغير اللغة العربية، فنشكر لمؤلفه على اجتهاده ونتمنى لكتابه الانتشار ليعم نفعه. *** (كتاب الفتوحات الإلهية في مجمل العلوم الأزهرية، وكتاب التسهيلات الإلهية في أصول الحنفية والشافعية) كلاهما تأليف الشيخ أحمد بن محمد درويش القاضي الشرعي وأحد علماء الأزهر طبع الكتابان في القاهرة بمطبعة مقداد، على ورق نظيف بقطع المنار، صفحات الأول منها 27، تكلم فيه مؤلفه في تعريف أشهر العلوم الأزهرية تعريفًا أزهريًّا مصطلاحيًّا، وبيان موضوعاتها وفوائدها ومسائلها، وصفحات الثاني 200 واسمه يدل على موضوعه، ويطلبان من مكتبة المنار بمصر. *** (حكم النبي محمد) للفيلسوف تولستوي تعريب سليم أفندي قبعين، صفحاته 77 بقطع تفسير الفاتحة، مطبوع بمطبعة التقدم بمصر، ويطلب من مكتبة المنار وثمنه قرش واحد صحيح. بحث مؤلف هذا الكتاب في حالة المسلمين الدينية في روسية وشرح ما قاسوه من الاضطهاد بسبب دينهم، وما منحهم إياه القيصر نقولا الثاني من حرية عود المتنصرين جبرًا إلى دينهم، ومن حرية المدافعة عن الدين، ونشر الجرائد بلغة المسلمين إلى غير ذلك، ثم استطرد إلى بيان أخلاق المسلمين وتعظيم القرآن للمسيح وأمه، وأفرد فصلاً للكلام على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تكلم فيه عن حالة العرب قبل ظهور الإسلام، وأورد آيات من القرآن للحكم على الدين الإسلامي فيها بالتوحيد الخالص والأحكام العمومية، وأبان ما كان للدين الإسلامي من الأثر الصالح في العالم. وأورد طائفة من الأحاديث النبوية في الأحكام والحِكم ومكارم الأخلاق، وتكلم على الحجاب وبيَّن مفاسد التهتك إلخ، ولكن فيها شيئًا من الغلط ومن التحريف المطبعي، ولو قوبلت الحِكم بأصلها من القرآن والأحاديث لكان أقوم قيلاً. *** (أمالي الشيخ علي عبد الرازق من علماء الأزهر في علم البيان) صفحاته 122 بقطع أسرار البلاغة، طبع سنة 1330 بمطبعة مقداد على ورق نظيف، ويباع بخمسة قروش في مكتبة المنار ومكتبة النيل. هذا الكتاب هو مجموعة أمالي ألقاها المؤلف دروسًا في الأزهر سنة 1330 هـ، ثم جمعها في كتاب على حدة فجاءت كتابًا وافيًا بالغرض حسن الأسلوب سهل الفهم ولم أر لعالم أزهري لهذا العهد كتابةً محررةً مختصرةً مفيدةً تدل على تفكر الكاتب وتوخيه الاستفادة والفائدة مثل هذا الكتاب، وإن القارئ ليقرأ فيفهم فن المعاني مجردًا. *** (الجرح والتعديل) رسالة من تأليف عالم الشام العامل الشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي، نشرت في المنار، وجمعت فجاءت 40 صفحة بقطع المنار على حدة، وثمنها قرشان، وهي تطلب من مكتبة المنار بمصر، ومن مؤلفها في دمشق. هذه الرسالة هي الحكمة التي تكم أفواه الحشوية ومتعصبي الفرق، وترجع بهم إلى سماحة الإسلام ببيان ما جرى عليه العلماء الأعلام مثل البخاري وغيره من اعتبار رواية الفرق التي يكفر أهلها اليوم جهلة المقلدين والحشوية، وتبين أضرار التعصب للمذاهب ميلاً مع الهوى وتكون خير عون للمصلحين على جمع كلمة المسلمين والتأليف بين المختلفين. *** ... ... ... ... (العلاج الجراحي) الجزء الأول منه تأليف وليم روز ألبرت كارلس وتعريب الدكتور محمد عبد الحميد طبيب مستشفى قليوب صفحاته 195 بقطع المنار، طبع سنة 1912 بمطبعة المعارف بمصر طبعًا نظيفًا على ورق جيد، وهو مزين بالرسوم الملونة والأشكال التي بلغت عشرين شكلاً، ويطلب من معربه بقليوب، ومن مكتبة المنار بمصر، وثمنه عشرة قروش خلا أجرة البريد. *** ... ... ... ... (التشريح الجراحي) الجزء الأول منه تأليف فردريك لريفي وآرثر كيت وتعريب الدكتور محمد عبد الحميد أيضًا صفحاته 252 بقطع (الإسلام والنصرانية) طبع في مطبعة المعارف طبعًا نظيفًا على ورق جيد مزينًا بالصور الملونة التي بلغت 45 شكلاً، وثمنه عشرة قروش، ويطلب من معربه ومن مكتبة المنار بمصر. مواد الكتاب: فروة الرأس، قبوة الجمجمة، محتويات الجمجمة، الحجاج والعين، الأنف وتجاويفه، الوجه، الفم واللسان والحنك والبلعوم، العنق، وأسلوبه كأسلوب سابقه بل كسائر معربات الدكتور محمد عبد الحميد الذي يفيد لغته وأمته بما يقدمه حينًا بعد حين من الآثار النافعة. *** (بلوغ المرام من أدلة الأحكام) تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر العسقلاني صفحاته 278 بقطع المنار طبعه بمطبعة التمدن الشيخ عبد الرحمن بدران الكتبي وشريكاه، على ورق متوسط، وثمنه سبعة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. الكتاب مجموعة من أحاديث مخرجة مرتبة على أبواب الفقه، وزاد فيه باب الأدب، فيجدر بكل من يروم فقه ال

الحرب البلقانية الصليبية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب البلقانية الصليبية لقد بدا للناس من هذه الحرب ما لم يكونوا يحتسبون، فقد كانت أقوال صحف أوربة تدل على أن الأوربيين كالعثمانيين يظنون أن كفة الدولة العثمانية تكون هي الراجحة، وكفة البلقانيين هي المرجوحة، ولذلك صرحت الدول الكبرى بأنها متفقة على أن هذه الحرب لا تغير شيئًا من الحال الحاضرة ولا من خارتة البلقان. فلما ظهر رجحان كفة البلقانيين رجعت عن قولها، وصرحت بأنه ليس من العدل حرمان الدول المتحالفة من ثمرة انتصارها (والعدل عند هؤلاء الناس لا يجوز أن يتعدى أبناء جنسهم وأهل ملتهم ودينهم) بل تجاوزت ذلك إلى محاولة إكراه الدولة العثمانية وقسرها على أن تعطي الصليبيين ما فتحوا من بلادها وما أعياهم فتحه كأدرنة، وقد أجمعت ذلك دول التثليث كلهن، سواء منهن من أبدى ناجزَيْ الشر للدولة، وأظهر ضلعه وتعصبه للصليبيين كدول الاتفاق الثلاثي، ومن جامل العثمانيين بالقول بعض المجاملة كدول التحالف الثلاثي. نعم إن ما ظهر من ضعف الدولة العثمانية وخللها هو ما لم يكن يحتسبه كله أحد ولا الأوربيون الذين يعبرون عنها بالرجل المريض، ويرون أنها بهذا المرض تكاد أن تكون حرضًا أو تكون من الهالكين، وهكذا شأن الناس في تقدير أحوال مَن ضعُف بعد قوة عظيمة، أو افتقر بعد ثروة كبيرة، فإنهم يتصورون شيئًا من ماضيه مع تصور حاضره، ويستخرجون النتيجة من مقدمات التاريخ الماضي زالت مع زمنها ومن مقدمات التاريخ الحاضر، وكذلك يخطئون في تاريخ حال من دخل في حياة جديدة، استصحابًا لشيء من ماضيه يمزجونه بما عرفوا من حاضره، حتى تأتي الحوادث والوقائع الكبيرة بما لم يكن في الحسبان، كما رأينا في حرب الروسية واليابان، ولكن العبرة في رجحان البلغار على الترك أكبر، والتفاوت بين الفريقين فيها أعظم. ومما ظهر وبان هاجمًا من وراء حدود الحسبان، شيء آخر كان كثير من المغرورين بمدنية هذا الزمان يظنون أنه من وراء حدود الإمكان، وهو طغيان صليبي البلقان الظافرين على أبناء وطنهم المسلمين المسالمين، وإسرافهم في تقتيلهم وتعذيبهم، وهتك أعراضهم وسلب أموالهم، وإنهم ليقتلون النساء والأطفال ليقل عدد المسلمين في البلاد، حتى ألجأوا بعضهم إلى الخروج من الإسلام، وانتحال النصرانية حفظًا لأنفسهم، وصيانة لأعراضهم وأموالهم، وقد شهد فظائعهم هذه كثير من مكاتبي الصحف الأوروبية من الشعوب المختلفة، وبعض وكلاء الدول السياسيين (القناصل) وذكرت الجرائد الأوروبية والتركية كثيرًا من حوادثه تقشعر منها الجلود، وتفتت لهولها الكبود. ولم يكن عجب الناس من اقتراف البلقانيين لهذه الجرائم والجنايات والفواحش والمنكرات وجعلهم ذلك باسم الصليب في سبيل المسيحية كعجبهم من الدول والشعوب الإفرنجية في أوربة وأمريكة لسكوتهم عنها، بل إقرارهم إياهم عليها، فهل هذه هي المسيحية التي يبذلون الملايين في سبيل دعوتنا إليها؟ وهل هذه هي الإنسانية التي يفتخرون بدعواها؟ اختلفت دعاة النصرانية في مؤتمرهم الذي عقدوه للنظر في وسائل تنصير المسلمين: هل إله المسلمين هو إله النصارى أم لا؟ فقال قس من أكبر قسوسهم: إن إله المسيحيين غير إله المسلمين؛ لأنه دين محبة ورحمة، وإله المسلمين ليس كذلك. فأين هذا القس المحب الرحيم الآن؟ لا أراه إلا فرحًا مسرورًا مع قومه بفظائع الصليبيين في البلقان، فإنه هو وأمثاله قد اتخذوا المسيحية آلة للشهوات واللذات وسعة الملك واستعباد الأمم والشعوب، وهم أبعد خلق الله عن دين المسيح عليه الصلاة والسلام، وعن دين بولس الذي تمثله الكتب والرسائل التي يسمونها العهد الجديد أيضًا. وإذا كان هذا شأن رجال الدين فيهم فكيف يكون شأن رجال السياسة المنافقين الذين ينفثون في أرواحهم سموم العصبية الدينية، ويغرونهم بإفساد عقائد الناس، ويعينونهم على ذلك بالنفوذ والمال، وإذا لقوا أحدًا من أهل الملل الذين يغرونهم بهم ادعوا أنهم يمقتون العصبية الدينية وأهلها، وأنهم لا يدينون بدين إلا دين الإنسانية العامة، وهم بهذا الوجه الذي يلقون به المسلمين وغيرهم من أهل الملل الشرقية المخالفة أشد إفسادًا في الدين والاجتماع من دعاة دينهم، فإن الذين أفسد عليهم الإفرنج دينهم باسم الإنسانية، أضعاف أضعاف الذين أفسدوا دينهم ودنياهم باسم المسيحية. صدق هؤلاء المنافقين تلاميذهم ومريدوهم من المسلمين وغيرهم، وظنوا فيهم الخير، وتوهموا أنهم بترك الدين وحل رابطته والدعوة إلى رابطة أخرى يسلكون طريقهم في الترقي المادي، وإنما يهوون في مهواة التدلي والانقراض. إلا أنه قد وجد فينا الحكماء العارفون، وطالما حذروا وأنذروا، فعلت أصوات الخادعين أصواتهم فلم تعتبر بها الأمة، وإننا نذكرها الآن بنبذة من مقالة التعصب إحدى مقالات العروة الوثقى التي نشرناها في المنار من قبل ونقلتها بعض الصحف، وهي منشورة أيضًا في بعض الكتب. بيَّن الأستاذ رحمه الله في أول تلك المقالات معنى التعصب في اللغة والاصطلاح ومفاسد الغلو فيه ومدح الاعتدال، وما ثبت في التاريخ من غلو الأوربيين في تعصبهم، وإبادتهم للمخالفين لهم، وتسامح المسلمين وتساهلهم، ثم بيَّن غرضهم من تنفير المسلمين خاصة من التعصب الديني مطلقًا، وإن كان معتدلاً لا يترتب عليه شيء من إيذاء المخالفين، وهو أن يحلوا رابطتهم ويتمكنوا من إزالة سلطانهم، وبين كون الموافقين لهم المخدوعين بسحرهم يخربون بيوت أنفسهم بأيديهم وأيدي أعدائهم، ثم قال: (هذا أسلوب من السياسة الأوروبية أجادت الدول اختباره وجنت ثماره فأخذت به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في البلاد العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية، ولم تعدم صيدًا من الأمراء المنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن يميلوا مع هذه الأهواء الباطلة، ولكنا نعجب من أن بعضًا من سذج المسلمين مع بقائهم على عقائدهم، وثباتهم في إيمانهم، يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني ويلهجون في رمي المتعصبين بالخشونة والبعد عن معدات المدنية الحاضرة، ولا يعلم أولئك المسلمون أنهم بهذا يشقون عصاهم ويفسدون شأنهم، ويخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المارقين، يطلبون محو التعصب المعتدل، وفي محوه محو الملة ودفعها إلى أيدي الأجانب يستعبدونها ما دامت الأرض أرضًا والسماء سماءً، والله ما عجبنا من هؤلاء وهؤلاء بأشد من العجب لأحوال الغربيين من الأمم الإفرنجية الذين يفرغون وسعهم لنشر هذه الأفكار بين الشرقيين، ولا يخجلون من تبشيع التعصب الديني ورمي المتعصبين بالخشونة، الإفرنج أشد الناس في هذا النوع من التعصب وأحرصهم على القيام بدواعيه، ومن القواعد الأساسية في حكوماتهم السياسية الدفاع عن دعاة الدين والقائمين بنشره ومساعدتهم على إنجاح أعمالهم، وإذا عدت عادية مما لا يخلو عنه الاجتماع البشري على واحد ممن على دينهم ومذهبهم في ناحية من نواحي الشرق، سمعت صياحًا وعويلاً وهيعات ونبآت تتلاقى أمواجها في جو بلاد المدنية الغربية وينادي جميعهم: ألا قد ألمت ملمة، وحدثت حادثة مهمة، فأجمِعوا الأمر وخذوا الأهبة لتدارك الواقعة والاحتياط من وقوع مثلها حتى لا تنخدش الجامعة الدينية، وتراهم على اختلافهم في الأجناس، وتباغضهم وتحاقدهم وتنابذهم في السياسات، وترقب كل دولة منهم لغرة الأخرى حتى توقع بها السوء - يتقاربون ويتآلفون ويتحدون في توجيه قواهم الحربية والسياسية لحماية من يشاكلهم في الدين، وإن كان في أقصى قاصية من الأرض، ولو تقطعت بينه وبينهم الأنساب الجنسية. أما لو فاض طوفان الفتن وطم وجه الأرض وغمر وجه البسيطة من دماء المخالفين لهم في الدين والمذهب فلا ينبض فيهم عرق ولا يتنبه لهم إحساس بل يتغافلون عنه ويذرونه، وما يجرف حتى يأخذ مده الغاية من حده، ويذهلون عما أودع في الفطر البشرية من الشفقة الإنسانية والرحمة الطبيعية كأنما يعدون من الخارجين عن دينهم من الحيوانات السائمة والهمل الراعية. وليسوا من نوع الإنسان الذي يزعم الأوربيون أنهم حماته وأنصاره، وليس هذا خاصًّا بالمتدينين منهم، بل الدهريون ومن لا يعتقدون بالله وكتبه ورسله يسابقون المتدينين في تعصبهم الديني، ولا يألون جهدًا في تقوية عصبيتهم، وليتهم يقفون عند الحق ولكن كثيرًا ما تجاوزوه، أما إن شأن الإفرنج في تمسكهم بالعصبية الدينية لغريب. يبلغ الرجل منهم أعلى درجة في الحرية كغلادستون وأضرابه ثم لا تجد كلمة تصدر عنه إلا وفيها نفثة من روح بطرس الراهب، بل لا نرى روحه إلا نسخة من روحه (انظر إلى كتب جلادستون وخطبه السابقة) اهـ. ومما بدا للمسلمين من هذه الحرب ولم يكونوا يحتسبونه، أن الدولة العثمانية ليست بالدولة القوية التي يرجى أن تحفظ نفسها من أوربة بقوتها الحربية، سواء منها البرية والبحرية، وإنما بقاؤها بدوام تنازع الدول في اقتسامها، وإن هذا الاقتسام متفق عليه في الجملة، مختلف عليه في التفصيل، وإن ممالكها في نظرهن كالأرض الموات: مَن سبق إلى شيء منه ملكه، وإن ما يبديه بعضهن لها من الميل والانعطاف أحيانًا، وهو لا يتعدى القول اللطيف والمساعدة السلبية، فإنما سببه جر المغنم العاجل كالامتيازات والقروض وبيع الأسلحة والذخائر، على أنهن صرن يقبضن أيديهن عن إقراضها ولو بالربا الفاحش ويتشددون في ذلك، وأما ما كان من مساعدة بعضهن لها في الزمن الماضي فسببه تعارضهن في النفوذ والطمع في بلادها أيضًا، وقد ارتقوا عن هذه الدرجة الآن. عرف خواص المسلمين هذه الحقائق في الأقطار الكثيرة، وشعر به عوامهم في مصر وولايات السلطنة أيضًا، فأصابهم من الغم والكآبة ما وجلت له القلوب، وذرفت لأجله العيون، وطفق الناس يتساءلون عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون، وهو كيف يكون حال الإسلام والمسلمين إذا صارت هذه الدولة في عداد الغابرين؟ إن أصحاب هذه الدولة يجدُّون ويجتهدون في هدمها منذ قرنين أو أكثر وكانت بعض الدول الأوربية تدعّهم إلى الإسراع في الهدم، وبعضها تدعوهم إلى التريث فيه، وقد اشتد الهدم على عهد عبد الحميد ولكن من وراء الحجب والأستار، وفي حنادس الظلمات، وأما بعد سقوطه فقد صار الهدم أشد، ولكن الهادمين يسمون أنفسهم البنائين الأحرار، وصار أبين وأظهر لأنه يؤتى في ضوء النهار. لقد كان جهل المسلمين بحقيقة حال هذه الدولة، أكبر مصائبهم ومصائب الدولة، ولو كانوا يعرفون كُنْهَ حالها، منذ تنبهوا لأنفسهم ولها - أي من عهد انكسارها في حرب الروسية الأخيرة - لاجتهدوا في إصلاح أنفسهم وإصلاحها، ولكنهم اغتروا وخُدعوا بها، وأمدتهم جرائد المنافقين في غرورهم، فحسبوا أن لهم دولة قوية عزيزة تقيم شرعهم، وتعلي كلمة دينهم وتدافع عنه وعنهم، وكم نبهناهم وأنذرناهم فتماروا بالنذر، ولا يزال كثير منهم على غرورهم، كما يدلنا على ذلك تجاوب اقتراحهم عليها إدامة الحرب، وكراهتهم لما جنحت إليه الوزارة الكاملية من السلم، وعقد الهدنة للبحث عن شروط الصلح. إن كل ما عرفناه من مساعدة العالم الإسلامي للدولة في حربها هذه هو أنهم أمدوها بإعانة لا تت

رحلتنا الهندية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلتنا الهندية شكر علني كنت أرى من حقوق إخواني مسلمي الهند وعمان والعراق الذين أكرموا مثواي في رحلتي، وأحسنوا ضيافتي وبالغوا في مودتي، أن أكتب إلى كل واحد منهم كتاب شكر خاص به، وكنت أتربص فرصة فراغ أوفيهم حقهم هذا، ولكن قد طال العهد والزمن لم يَجُدْ عليَّ بهذه الفرصة، وذلك أن زمن الرحلة قد امتد في العودة فلم أبلغ القاهرة إلا في النصف الثاني من شهر شوال، فالأعمال التي كانت متأخرة من مدة ستة أشهر، وما يجب من الاهتمام والعمل لفتح مدرسة الدعوة والإرشاد، وكان قد جاء موعد فتح المدارس، وما يجب من جمع الهيئة العامة لجماعة الدعوة والإرشاد في النصف الأول من ذي القعدة، وما عرانا من انحراف المزاج، ثم ما شغل البال والوقت من هذه الحرب المشئومة، كل ذلك كان حائلاً دون سنوح الفرصة المنتظرة. لهذا رأيت أنه يجب عليَّ في عرف الوفاء والأدب أن أستعيض عن الشكر التفصيلي الخاص بشكر إجمالي عام لأولئك الأصدقاء الكرام، والعلماء الأعلام، والأمراء الفخام، وإنني أرجو وقد وفقت للكتابة إلى قليل منهم، أن أوفق إلى مكاتبة سائرهم أو أكثرهم، وإنني أخص بالذكر من أتذكر الآن أسماءهم. أولهم وأولاهم بالشكر من جالية العرب في بمبي ومن أهلها صديقي الحميم المحسن العظيم الكريم ابن الكريم ابن الكريم، الشيخ قاسم بن محمد آل إبراهيم، فهو الذي قام بحسن ضيافتي في غدوتي وروحتي، وأعد سيارة كهربائية خاصة مدة إقامتي في بمبي، ثم ابنا أخيه الشيخ عبد الرحمن إبراهيم، والشيخ يعقوب إبراهيم، والشيخ محمد المشاري رئيس شركة البواخر العربية، وعبد الله فوزان، وسائر الجالية العربية في بومباي الذين استقبلوني على رصيفها هم وبعض كرام أهلها كالحاج سليمان عبد الواحد شريف البلد والحاج إسماعيل صوباني رئيس (أنجمن إسلام) الذي حياني على رصيف البحر بخطبة بليغة، وميان محمد حاجي جان محمد شوتهاني كبير طائفة الميمن وأشهر تجارهم نجدةً ومروءةً، والحاج عبد الله ميان الكهندواني من كبراء طائفة الميمن أيضًا، وهؤلاء قد أدبوا لنا مآدب حافلة اجتمع لها مئات من الكبراء والفضلاء. ثم أشكر فضل باي من أكابر سروات البلد جماعة آغاخان، وكنت أتمنى لو كان زعيمهم محمد سلطان (إمام الإسماعيلية) يومئذ في بمبي فإني كنت حريصًا على لقائه، وقد سررت من اهتمام فضل باي بأمر الجامعة الإسلامية؛ لأنها كانت جل حديثنا في تزاورنا. وممن أخص بالشكر والثناء السيد علي الحسن معاون البوليس في آكره الذي أحسن ضيافتي وإطلاعي على الآثار العظيمة التي فيها، ومحمد شعيب مفتش مصلحة الآثار في آكره ودهلي. وأما أهل دهلي فأجدرهم بثنائي وشكري النواب محمد أجمل خان حاذق الملك الطبيب الشهير كبير سروات دهلي وأحد أفراد المسلمين الممتازين في الهند بالعلم والفضل وعلو الجانب، وقد أحسن - حفظه الله - ضيافتي وجمعني في داره بأكبر علماء البلد ووجهائه، وخصص لي سيارة كهربائية تيسر لي بركوبها رؤية جميع الآثار القديمة في ضواحي تلك المدينة في مدة قصيرة، ولا أنسى أولئك العلماء الكرام الذين أنسنا بهم هناك وأخص بالذكر منهم مولوي الشيخ سيف عبد الرحمن المدرس الأول والناظر لمدرسة فتح بوري الدينية، وقد زرنا مدرسته وسمعنا وأسمعنا ما فتح الله به فيها. وتكلمنا معه في إصلاح التعليم، والعناية باللغة العربية فصادفنا منه ارتياحًا لرأينا في ذلك، ومولوي الشيخ عبد الله الغزيبوري، ومولوي أحمد الله المبارك بوري، وميرزا ضمير الدين أحمد اللوهاري، ولا أنسى مودة التاجر الصادق الحاج التقي عبد الغفار بن الحاج علي جان، الذي كان يترك محل تجارته الكبير ويصاحبني في كل مكان، وقد صحبنا معه في رؤية آثار دهلي النواب ضمير الدين، وبالقرب من الأثر العظيم الذي هو أكبر آثار دهلي، منارة قطب أوليا، بلدة اسمها مهرولي، عرجنا فيها على دار الشيخ رياض الدين من كبراء أهلها وكان أعد لنا غداءً طيبًا نوَّع فيه ألوان الأطعمة الهندية،وكان من مظاهر الكرم الإسلامي في تلك الديار. ولم أنسَ ولا أنسى زيارة مدرسة مظاهر العلوم في مدينة سهارنبور ولقاء ناظرها وأكبر مدرسيها مولوي الشيخ خليل أحمد الذي لم أر في علماء الهند الأعلام أشد منه إنصافًا ولا أبعد عن التعصب للمشايخ وللتقاليد، وما ذلك إلا لإخلاصه وقوة دينه ونور بصيرته. وأبدأ من شكر أهل لاهور الكرام بالثناء على الأمير الجليل والسري النبيل، النواب فتح علي خان قزلباش، الذي أحسن ضيافتنا وأكرم وفادتنا، ولا غرو فقصره في تلك المدينة القديمة معهد الكبراء والفضلاء، وموئل السائحين والغرباء، وأثني بالثناء على الصديقين الفاضلين، والرصيفين الكريمين مولوي محبوب عالم صاحب جريدة بيسه أخبار، ومولوي محمد إن شاء الله صاحب جريدة وطن، وكان هذان الفاضلان يتسابقان لضيافتي، ويرى كل منهما أنه أولى بي: الأول لأنه تكرم بزيارتي في مصر عند منصرفه من أوربة، والثاني لما بيني وبينه من صلة المكاتبة وعنايته بنشر تفسير المنار، ولكن النواب الجليل قال: إنه هو الأحق بذلك، فلم يسعهما إلا الإذعان، لأنه هو البدء الذي لا يختلف على تقديمه اثنان. ثم أثني الثناء الأوفى على الكاتب البليغ والخطيب المصقع مولوي ظفر علي خان، صاحب جريدة (زميندار) الذي بالغ في الترحيب بي قبل وصولي إلى الهند، واقترح أن تعقد لجنة لوضع برنامج لحفاوة مسلمي الهند بي، وكان يريد أن يحتفل احتفالاً عامًّا يجتمع له الألوف من جميع طبقات الشعب فاعتذرت له على ذلك بأنني مضطر إلى السفر إلى ندوة العلماء لقرب موعد احتفالهم هذا العام. ومما أذكره مع الشكر والثناء مواتاته لي في الصلح بينه وبين صديقي صاحب جريدة (وطن) الذي أشكر له مثل هذه المواتاة، وكانت جرت بينهما مناظرة حادة أدت إلى الجفوة وآلمت فضلاء المسلمين في جميع البلاد الهندية حتى رغب إليَّ كثير من كبرائهم في السعي للصلح بينهما عند زيارة لاهور. ومما أشكره لصديقي محبوب عالم شكرًا خاصًّا، ترْكه لنجله الكريم مريضًا يعالَج وطوافه بي على مساجد البلد ومدارسها ومعاهدها الأثرية فيها وفي ضواحيها. وأما أهل لكنهؤ فلا أستطيع أن أوفيهم حقهم من الشكر والثناء، فقد استقبلني الألوف منهم بحفاوة قلما يستقبل بمثلها الملوك، حتى خجلت واستحييت وكلما رجوتهم أن يختصروا في التكريم غلوا فيه وأفرطوا، حتى إنهم جروا المركب التي ركبتها بأيديهم، وأخص بالشكر والثناء رجال ندوة العلماء الكرام، وفي مقدمتهم رئيسهم صديقي العلامة الهمام شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني، والسيد ممتاز حسين رئيس لجنة المستقبلين فيها، وهو الذي خصص داره الفيحاء لنزولي فيها، وتأنق في إتقان الضيافة ما شاء فجمع بين مقتضى أصله العربي الصميم، وفرعه الهندي الكريم، واحتشام السلطنة أمين أموال الندوة، وسائر علماء الندوة وغيرهم كالعلامة الكبير السيد ناصر حسين كبير علماء الشيعة. ثم عظماء البلد الذين أدبوا لنا المآدب الحافلة: مشير حسين القدوائي، الذي كان كاتب السر لجمعية الجامعة الإسلامية في لندن وأخوه شاهد حسين والسيد محمد علي حسن خان ابن أمير العلماء وعلامة الأمراء المرحوم السيد صديق حسن خان، نواب بهوبال صاحب التصانيف الشهيرة، والأمير الكبير النواب محمد علي راجا ولاية محمود آباد، وهو من أعظم أمراء الهند وسرواتهم من طائفة الشيعة الإمامية، وأركان النهضة الإسلامية، فإنه يبذل المال لمدرسة العلوم الكلية في عليكرة بألوف الجنيهات، كما يبذل للمدارس الخاصة بأهل السنة كمدرسة ندوة العلماء، فنسأل الله أن يكثر في المسلمين من أمثاله، وكانت خاتمة الدعوات الحافلة في لكهنؤ دعوة الطبيب الشهير الحكيم محمد عبد الولي حياه الله تعالى. وقد سِرت من لكهنؤ إلى بنارس مدينة البراهمة المقدسة ومقر أقدم أصنام في الأرض فلم أعرف من مسلميها إلا مضيفنا الكريم محمد ممنون حسن خان المعاون المسلم للحاكم الإنكليزي فيها، وهو أفغاني الأصل، فقد تفضل - أحسن الله جزاءه - مع حسن الضيافة بمساعدتنا على رؤية الآثار القديمة الوثنية الثابتة من ألوف السنين المكتشفة حديثًا في ضواحيها، صرفنا كل وقتنا في رؤية الآثار والعاديات فلم نتعرف لأحد، على أن أكثر مسلمي بنارس من الصناع والزراع وقلما يوجد فيها أحد من أهل العلوم والآداب فيما نعلم. للشكر بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

أبو سعيد العربي الهندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أبو سعيد العربي الهندي كان هذا الرجل في (درنه) يتردد على أنور بك وحاشيته مثل الشيخ صالح التونسي وجاء مصر فاتصل بأخلاط الحزب الوطني فلحقه الفريقان بالطعن في صاحب المنار فكتب في بعض جرائد الهند ينكر عليها فيها إطراءه وتسميته مصلحًا، وبلغني أنه ادعى في بعضها أنه يتكلم في شأني عن معرفته بي، وهو لا يعرفني وإنما رآني مرتين: إحداهما في لجنة الهلال الأحمر وثانيتهما في الطريق، دعوته فيها إلى إدارة المنار للتعارف والمذاكرة فاعتذر. فإذا كان قد كتب ما كتب بسوء الفهم، وهو مخلص، فستظهر له عاقبة المنافقين الذين كذبوه وخدعوه، والله يعفو عنه، وإن كان مثلهم فجزاؤه على الله تعالى، والعاقبة للمتقين.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار ] مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه ِ [[*] (س5) من صاحب الإمضاء بالإسكندرية: حضرة مولانا الأستاذ الفاضل والعلامة الكامل السيد محمد رشيد رضا الأكرم، السلام عليكم ورحمة الله، مولاي، نشرت إحدى الصحف أن طبيبًا أمريكيًّا اكتشف عائلة مكونة من أب وأبناء له ثلاث بأن كل فرد منهم له قلبان وأن كل قلب مستقل عن الآخر ويؤدي وظيفته تمام التأدية، ولما كان هذا معارَضًا بقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) أرجوكم إجلاء الحقيقة مع إظهار معنى الآية الشريفة وبيان وجه مخالفة الآية والعقل معًا لذلك إن كان ثمت مخالفة أو موافقة، هل الآية قاصرة على الرجل أو تشمل المرأة التي هي فرعه، وهل يؤخذ من الآية أم الخارج، أملي التكرم بالجواب خدمة للعلم والدين لا زلتم للفضل أهلاً. ... ... ... ... ... ... ... من المخلص محمد \ سليمان ... ... ... ... ... ... ... ... بجريدة الأهالي وقد أرسل السائل الفاضل ما نشرته في ذلك جريدة الأهالي في عدد 689 وهذا نصه: المعروف للآن أن القلب يسكن الجانب الأيسر من صدر الإنسان وأن الذين وجدت لهم قلوب في الجانب الأيمن يمكن أن يعدوا على الأصابع بين مئات الملايين من بني آدم، ولكن أحد أطباء أمريكا اكتشف أخيرًا أمرًا أغرب بكثير من وجود القلب في الجانب الأيمن، اكتشف أربعة أشخاص من أسرة واحدة لكل منهم قلبان: قلب في اليمين وقلب في اليسار، وهؤلاء أربعة هم أب وأبناؤه الثلاثة. وبعد المشاهدة والامتحان عرف أن كلاًّ من القلبين منفصل عن أخيه تمامًا ويؤدي وظيفته كما لو كان وحده، رأيه أن الأبناء ورثوا ذلك من أبيهم. اهـ. (ج5) يطلق لفظ القلب اسمًا لمضغة من الفؤاد معلقة بالنياط أو بمعنى الفؤاد مطلقا، ويقول بعضهم: إن القلب هو العلقة السوداء في جوف هذه المضغة الصنوبرية الشكل المعروفة، كأنه يريد أن هذا هو الأصل، ثم جعله بعضهم اسمًا لهذه المضغة وبعضهم توسع فسمى هذه اللحمة كلها حتى شحمها وحجابها قلبًا، ويطلق اسمًا لما في جوف الشيء وداخله كقلب الحبة، واسمًا لشيء معنوي وهو النفس الإنسانية التي تعقل وتدرك وتفقه وتؤمن وتكفر وتتقي وتزيغ وتطمئن وتلين وتقسو وتخشى وتخاف، وقد نسبت إليه كل هذه الأفعال في القرآن. والأصل في هذا أن أسماء الأشياء المعنوية مأخوذة من أسماء الأشياء الحسية، وقد أطلق على الشيء الذي يحيا به الإنسان ويدرك العقليات والوجدانيات كالحب والبغض والخوف والرجاء عدة أسماء منها الروح وهو من مادة الريح، فإن لفظ الريح، أصله (روح) بكسر الراء فقلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة كواو الميزان، ولذلك تجمع الريح على أروح والميزان على موازين، والمناسبة بين الروح والريح أن كلاً منهما خلْقٌ خفي قوي، ومنها النفس وهو من النَّفَس بفتحتين؛ لأن النفس دليل الحياة التي تكون بالنفس، ومنها القلب واللب؛ لأن لب الشيء وقلبه من المخلوقات الحية هو مستَقَر حياته ومنشؤها كما يعرف ذلك في الحبوب، وهنالك مناسبة أخرى للقلب هو أن قلب الحيوان هو مظهر حياته الحيوانية ومصدرها، وللوجدانات النفسية والعواطف تأثير في القلب الحسي يشعر به الإنسان، ومهما كانت المناسبة التي كانت سبب التسمية فلفظ القلب يطلق في القرآن بمعنى النفس المدركة والروح العاقلة التي يموت الإنسان بخروجها منه، قال تعالى: {وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ} (الأحزاب: 10) أي الأرواح لا هذه المضغ اللحمية التي لا تنتقل من مكانها، وقال: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} (الحج: 46) أي نفوس أو أرواح وليس المراد أن القلب الحسي هو آلة العقل. وقال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) أي على نفسك الناطقة وروحك المدركة، وليس المراد بالقلب هنا المضغة اللحمية ولا العقل؛ لأن العقل في اللغة ضرب خاص من ضروب العلم والإدراك لا يقال: إن الوحي نزل عليه، ولكن قد تسمى النفس العاقلة عقلاً كما تسمى قلبًا، وقد يُعزى إلى القلب ويُسند إليه ما هو من أفعال النفس أو انفعالاتها التي يكون لها أثر في القلب الحسي كقوله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} (الأنفال: 2) وقوله: {ِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: 156) وقوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (التوبة: 15) وللاشتراك بين القلب المعنوي وهو النفس، والقلب الحسي وهو المضغة التي ينبعث منها الدم؛ أو لأن الاسم الأول مأخوذ من الثاني، وإن صار مستقلاًّ بمعناه، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) أما الجوف في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} (الأحزاب: 4) فقد يراد به الصدر، وقد يراد به ما هو أعم منه، فإن جوف الشيء باطنه كقلبه، فالرأس له جوف وفيه الدماغ، والقلب له جوف وفيه السويداء، فعُلم مما تقدم أن القلب في هذه الآية هو الروح الإنساني المدرك. روى أحمد والترمذي وحسَّنه، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وغيرهم عن ابن عباس أنه قال في سبب نزول هذه الآية: (قام النبي صلى الله عليه وسلم يومًا يصلي فخطر خطرةً، فقال المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلبًا معكم وقلبًا معهم، أي: مع أصحابه الصادقين) . وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان رجل من قريش يسمى ذا القلبين كان يقول: لي نفس تأمرني ونفس تنهاني. فأنزل الله فيه ما تسمعون. وروي أنه وجد من المشركين من ادعى أن له قلبين يفهم بكل منهما أو يعقل أفضل من عقل محمد، وأنه هو أو غيره كان يدعى ذا القلبين، وأن الآية ردت هذا الزعم كما أبطلت مزاعم التبني والظهار من ضلالات العرب، ومعنى القلب اللحمي غير مراد على كل حال. ولو فرضنا أن المراد بالآية نفي أن يكون للإنسان قلبان حسيان لكان الكلام صحيحًا، سواء صحت رواية الجريدة أم لا، ولا تصلح أن تكون هذه الرواية ناقضة لخبر الآية لا لأن خبر الآية ماضٍ وما اكتشف بعدها لا ينقض خبرها عما قبله؛ بل لأن بيان أحوال الخلق إنما تبنى على ما مضت به السنة العامة التي يعبرون عنها بالناموس الطبيعي؛ والشاذ لا حكم له، ولا يعد مكذبًا لمن يخبر عن السنن الكونية بما هو المعروف. فإذا قال علماء وظائف الأعضاء والتشريح: إن جسد الإنسان مركب من رأس ويدين ورجلين مثلاً، وإن لكل يد ورجل خمس أصابع فلا ينقض قولهم هذا ولادة طفل برأسين أو أكثر من يدين بست أصابع، ونحو ذلك مما يسمونه فلتات الطبيعة. وإذا أنت تدبرت السياق الذي وردت فيه الآية وفهمت المراد منها بمعونته علمت أن مسألة اكتشاف رجل له ولكل من أولاده قلبان لا يدنو من معنى الآية بوجه ما. ذلك بأن السورة افتتحت بالأمر بتقوى الله والنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين واتباع الوحي خاصة، وجاء بعد ذلك قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ} (الأحزاب: 4) فكان المراد منه أن الإنسان لا يمكن أن يكون له قلبان يجمع بهما بين الضدين، وهما ابتغاء رضوان الله وابتغاء مرضاة الكافرين والمنافقين والإخلاص فيكون في وقت واحد مخلصًا لله ومخلصًا لأعداء دينه، ومن هذا الباب قول الشاعر: لو كان لي قلبان عشت بواحد ... وتركت قلبا في هواك معذبا فهل يتعلق اكتشاف قلبين لحميين لرجل واحد - إذا صح - بشيء من مراد الشاعر هنا؟ لا، إلا إن كانت إدراكاته ووجداناته النفسية صارت تجمع بين الضدين في حال وزمن واحد كأن يكون مؤمنًا كافرًا، محبًّا مبغضًا، آمنًا خائفًا، من غير ترجيح بين هذه الأشياء المتقابلة، وهذا محال. *** ترتيب آي الرحمن الرحيم (س6) من صاحب الإمضاء الرمزي في جبل لبنان: حضرة الفاضل العلامة السيد رشيد رضا منشئ المنار الأغر. بعد السلام، أعرض أنه قد تجاهل بعضهم حكم الله تعالى وآياته المحكمة التي أنزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتي أحرزت بقوله: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88) وأخذ مأخذه من التغيير والتأويل والتحريف والتبديل، مدعيًا ما لم يدعه أحد قبله في العصور الخالية، وهو أن البسملة التي هي فاتحة الكتاب، فيها خلل يعثر عليه المنتبهون مثله من ذوي الألباب، وهو أن البلاغة تقضي بتقديم الرحيم على الرحمن. فأرجو من سيادتكم وإرشادكم أن تبينوا هذا لمن جهل الحقيقة على صفحات مناركم المنير، كيلا يتشبث بهذا التشبث من غلب عليه الجهل من المسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ح (ج6) إن بعض المتعصبين الكارهين للشيء لا ينظرون إليه إلا نظرة الكاره الملتمس للمَذَامِّ والمعايب، فإذا وجدوا منفذًا لشبهة يشوهون بها حسنه عدوها حجة ناهضة، وقد استنبط بعضُهم الاعتراضَ الذي أشار إليه السائل من قول أكثر المفسرين للبسملة: إن لفظ الرحمن أبلغ وأعظم معنى من لفظ الرحيم؛ لأنه أكثر حروفا، والأصل أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وفسروا (الرحمن) بأنه المنعم بجلائل النعم، والرحيم بأنه المنعم بدقائقها، وأوردوا على هذا أن الترتيب لا يكون على قاعدة الترقي في الكلام بالانتقال من الأدنى إلى الأعلى، وأجابوا على ذلك بأن الترقي إنما يكون هو الأبلغ إذا كان اللفظان - كعالم ونحرير - يدل أحدهما على معنى الآخر وزيادة، فإنك إذا قلت: فلان نحرير عالم كان لفظ عالم، تكرارًا لا فائدة له؛ لأن لفظ نحرير يدل عليه؛ لأن النسبة بينهما هي العموم والخصوص، وذكر الأخص يستلزم الأعم ولا عكس. وكلمتا (الرحمن الرحيم) ليستا من هذا القبيل؛ لأن (الرحمن) هو المنعم بجلائل النعم فقط، فبدئ به لأنه الأعظم معنى، والمقام مقام الثناء فيقدم فيه الأبلغ الأدل على الفضل، ثم جيء بلفظ (الرحيم) كالمتمم للمعنى؛ ولئلا يحجم من يحتاج إلى النعم الدقيقة عن طلبها من الله تعالى. وهذا توجيه قوي جهله أو تجاهله المعترض المتعصب فقال ما قال. على أن هذا التفسير للاسمين الكريمين ليس هو التفسير الذي لا معدل عنه، فقد اختار الأستاذ الإمام قول بعضهم: إن لفظ (الرحمن) من قبيل الصفات العارضة كالعطشان والغضبان، ولفظ (الرحيم) من الصفات الثابتة كالحكيم والعليم، فذكر الوصف الدال على التلبس بالرحمة بالفعل عند عروض الحاجة إليها بالنسبة إلى البشر لا إلى الله تعالى الذي لا يطرأ عليه تغيير، ثم ذكر الوصف الدال على الثبات والدوام ليفهم العربي من أسلوب كلامه أنه سبحانه وتعالى متصف بالرحمة بالفعل عند حاجة العباد إليها، وأنها مع ذلك صفة ثابتة له في الأزل والأبد بصرف النظر عن تعلقها بالعباد، وهو وجه ظاهر. وهنالك وجه آخر في حسن الترتيب وبلاغته، وهو أن (الرحمن) هو الوصف الذي عُدَّ من قبيل اسم العَلَم واسم الذات؛ ولذلك قال تعالى {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) وأما الرحيم فهو الوصف الذي يراد منه معنى الوصفية، ولذلك تعلقت بها الباء في قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: 29) وهذا الوجه ظاهر أيضًا لا شبهة تجرئ المتعصب ع

رحلتنا الهندية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلتنا الهندية شكر علني (تتمة ما في الجزء الأول) (مدرسة عليكره) أبدأ من شكر مدرسة عليكره ومديري شئونها وطلابها بذكر الشيخ الجليل والمولى النبيل النواب وقار الملك بهادر مولوي مشتاق حسين، سكرتير (عمدة) المدرسة وأحد زعماء مسلمي الهند وأركان النهضة العلمية فيها، وبالعالم الأصولي النحرير، والمحامي الشهير المقبل على شأنه، الخبير بأهل زمانه آفتاب أحمد خان، رئيس مؤتمر التربية والتعليم في الهند، وبالعالم العامل المهذب الفاضل مولوي محمد حبيب الرحمن، رئيس الشرف للشعبة الدينية في المدرسة، ثم بسائر العلماء الأعلام المدرسين، ووجهاء البلد المقدمين، وفي طليعتهم الدكتور محمد أشرف، والدكتور ضياء الدين، والأستاذ يوسف هردوتس الألماني أستاذ الشعبة العربية في المدرسة، والسيد سليمان أشرف البهاري معلم الشعبة الدينية على مذهب أهل السنة، ومولوي فدا حسين معلم الشعبة الدينية على مذهب الشيعة الإمامية، وعبد المجيد خواجه المحامي، وأبو الحسن معاون سكرتير المدرسة. تفضل هؤلاء العلماء الأجلاء باستقبالي على محطة السكة الحديدية خارج البلد مع جمهور عظيم من أهل المدرسة ووجهاء البلد، وبتوديعي كذلك، وبالحفاوة الفائقة بي مدة إقامتي بينهم، وقد بالغ النواب الجليل وقار الملك في التأنق بضيافتي وأعد لي دار صديقه السري الكبير (خان) بهادر نواب محمد فرمل الله خان الفسيحة الفيحاء، ذات الحديقة الغناء، وكان يدعو لمؤانستي على الطعام كل يوم أكابر العلماء والأدباء، وقد استفدت من فضلاء عليكره علمًا وخبرةً بأحوال إخواني مسلمي الهند لم أجدهما عند غيرهم. ثم أشكر لناظر المدرسة الهمام مستر جي أيشتول بهادر، ترحيبه بي هو وقرينته الفاضلة ودعوتهما إياي إلى شرب الشاي في دارهما، ووعد الناظر إياي بالإجابة إلى ما اقترحته عليه من العناية بتوسيع نطاق تعليم اللغة العربية في المدرسة، وأشكر مثل هذا الوعد لأستاذ الشعبة العربية يوسف هردتس الألماني، أما النواب وقار الملك وعمدة المدرسة وأساتذتها فإن ارتياحهم لاقتراحي عليهم لم يكن إلا تذكيرًا بما لا يغيب عن أذهانهم، بل رميًا عن قوس عقيدتهم، وقد وعدوني بأنهم سينشئون ناديًا في المدرسة لا يتكلمون فيه إلا بالعربية، ولعلهم أنجزوا الموعد، فإنهم أهل الوفاء والصدق، وقد ذكرني رأيهم هذا، وكان وعدا مفعولاً، ما حدثني به بعض علماء المسلمين في روسية وهو أنهم توسلوا إلى التمرن على اللغة العربية باتفاق أهل العلم وطلابه على التزام التكلم بالعربية دون سواها في مدة شهر رمضان. أما النواب الجليل فقال كما قال هردوتس: إنه لا يتيسر لهم اتفاق تعليم اللغة العربية ما دامت المدرسة تابعة لنظارة معارف (إله آباد) قال النواب: وإننا قد جمعنا المال الكافي لتحويل المدرسة إلى جامعة مستقلة، فمتى تم لنا ذلك فإننا نجتهد فيما اقترحتموه علينا من إتقان تعليم الدين وتعليم العربية أتم الاجتهاد، وقد أحزنني بعد عودتي ما بلغني من استقالة النواب الجليل من المدرسة، ولا أدري أحق ما قيل من أن المال الذي كان جمع لجعلها جامعة قد دفع لإعانة الدولة العثمانية على الحرب أم لا؟ وإذا صح فهل تصدوا لجمع غيره أم لا؟ أما المبلغ فهو مئتا ألف جنيه إنكليزي وبضعة آلاف من الجنيهات. ولا يسعني من شكر طلاب المدرسة النجباء والثناء عليهم إلا الإجمال، فقد قرت عيني بما رأيته من أمارات النجابة والاجتهاد عليهم، وما توسمته من شعور الإخاء الإسلامي في وجوههم، وما قابلوا به خطبتي عليهم في التربية من الارتياح والقبول، وقولهم: إنهم نقشوها في ألواح النفوس وصحف القلوب، ثم إن طلاب القسم العالي والأعلى منهم لم يكتفوا بإظهار سرورهم واحترامهم بالقول الحسن، والزيارة والسؤال، وغير ذلك من شعائر الاحترام، بل استأذنوا النواب الجليل في مأدبة حافلة للعشاء باسمهم فكانت مأدبتهم أكبر مأدبة أكرمني بها أمراء الهند وأغنياؤهم، فإن أصحاب الدعوة من الطلبة بضع مئين ودعوا معي أساتذة المدرسة من الوطنيين والأوربيين ووجهاء البلد، على أنهم قدروا نفقات دعوة لزهاء ألف رجل يقدم لهم أنفس ما يأكل الأمراء والكبراء من الطعام، ثم اكتفوا بعد مذاكرتي ورضائي مع الإعجاب والسرور بأن يجعلوا المأدبة في الدرجة الوسطى ويجعلوا باقي ما قدروه من نفقتها إعانة لأيتام وجرحى المجاهدين في طرابلس الغرب، فكان ذلك ثلث ما قدروه، وكذلك فعل العالم العامل التقي الخفي مولوي حبيب الرحمن الذي آثر بأن أسميه صديقي المحبوب في دعوته إياي إلى حفلة الشاي، فحيا الله هؤلاء الإخوة الكرام. *** (مدرسة ديوبند) قد بينت في العجالة التي كتبتها عن رحلتي وأنا في العراق ما كان من سروري وارتياحي في مدرسة ديوبند الدينية، وأن الخُبر لها كان خيرًا من الخَبر عنها، فأشكر لعلمائها الأعلام وطلابها النجباء تواضعهم وكرمهم بي والعناية باستقبالي وتوديعي؛ إذ خرج لهما رؤساؤهم وجمهورهم إلى محطة السكة الحديدية البعيدة عن البلد، وفي مقدمتهم مولانا العلامة الشيخ محمود حسن رئيس المدرسين، ومولانا الحافظ محمد أحمد ناظر المدرسة، ومولانا العلامة الشيخ عبيد الله رئيس جمعية الأنصار، ومولانا العلامة الشيخ أنور شاه، ومولانا العلامة الشيخ محمد حبيب الرحمن من كبار المدرسين، وكان من ذوقهم ولطفهم أن وضعوا على باب المدرسة قطعة كبيرة من النسيج، مرسومًا عليها حديث: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء) وقد حيوني بالخطب والشعر حياهم الله تعالى، وبالغوا في الاعتذار عن التقصير في الضيافة بأن حالهم وحال بلدهم الصغيرة لا يمكنانهم من كل ما يرونه لائقًا من كثرة الألوان وضروب الإتقان، وأقول: إنهم والله ما قصروا ولقد كانت كيفية ضيافتهم آثر عندي وأروح لنفسي من ضيافات كبراء الدنيا، ومن مبالغتهم في ضيافتهم أنهم زودونا بأطعمة نفيسة حملوها إلى القطار الحديدي عند توديعنا، فأكلنا منها في الطريق وأفضنا على الفقراء في بعض المحطات، وهذا من الكرم الذي انفردوا به دون سائر الكرماء. وإنني أختم الشكر والثناء بذكر من يستحق أن يشارك أهل كل بلد زرته هنالك في شكري لهم، وهو صديقي الصفي الوفي، السيد عبد الحق حقي الأعظمي البغدادي، مدرس اللغة العربية، في مدرسة العلوم الكلية، فإنه كان رفيقي وأنيسي وترجماني في كل هاتيك البلاد، وإنني ما لقيت في حياتي رفيقًا أخف روحًا وأكبر مروءةً وأشد تواضعًا وأحسن تصرفًا من هذا الأخ الكريم، والولي الحميم، فإنه وضع نفسه مني، وهو الكفؤ الكريم، في موضع التلميذ المجتهد من الأستاذ المحقق، والمريد الصادق من المسلك العارف، والولد البار من الوالد، بل الخادم الأمين من المخدوم القمين، ثم كتب رسالة في ملخص رحلتي لقب نفسه فيها بهذه الألقاب، وطبعها ونشرها في البلاد، ولولا ذلك لما أبحت لنفسي أن أذكرها ولو لأشكرها، وأبين أن فضله وكماله هما اللذان حملاه على التفضل بها، فهي أيادٍ يمنها عليَّ، وليس لي يد أمنها عليه، وإنما أسأل الله أن يحسن جزاءه ويديم وفاءه، وأن يقر عينه بولده، حتى تتصل بهم سلسلة الولاء والوفاء من بعده. للكلام بقية في شكر أهل عمان والعراق ((يتبع بمقال تالٍ))

الدولة العثمانية تعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيها ونظرة في حالها ومستقبلها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدولة العثمانية تعلق مسلمي الهند وغيرهم وآمالهم فيها ونظرة في حالها ومستقبلها لا يظهر الاهتمام بأمر الدولة العثمانية في قطر من الأقطار الإسلامية كما يظهر في الهند ومصر؛ لما امتازا به في الحرية وانتشار العلم، وإننا نرى في هذا الأيام في مطبوعات الهند ما لا نراه في المطبوعات العربية ولا التركية من اللهج بالخلافة، والخوف على دولة الخلافة، والتألم من الحرب البلقانية، وتمني العود إليها بعد الهدنة رجاء النصر للدولة العثمانية. ومن موجبات الأسف أن هؤلاء المسلمين لا يعرفون حقيقة حال الدولة ولا حقيقة مصلحتها ومصلحة المسلمين المرتبطة بها، ويترتب على هذا أنهم لا يعرفون كيف ينفعونها ولا كيف يدفعون الضرر عنها، بل كانوا ولا يزالون يظنون أن الانتصار والتحزب لكل من يتولى أمر هذه الدولة في الآستانة هو الذي يقويها ويحفظ استقلالها، ويحفظ بحفظه الإسلام ويقام شرعه ويحمي الحرمان الشريفان. على هذه القاعدة كانوا يتشيعون للسلطان عبد الحميد المخرب لبنيان الدولة من الداخل، ثم صاروا ينتصرون لمن خلفوه من المخربين من الداخل والخارج، وكانت جرائدهم مظهر هذا الانتصار، وكان من تأثيرها إضعاف سعي طلاب الإصلاح من العثمانيين في مصر مدة زمن السلطان عبد الحميد، وقد استطاع الاتحاديون أعداء عبد الحميد أن يستخدموا كثيرًا ممن كان يستخدمهم الحزب الوطني في مصر، ولكن كان من شؤمهم أن سقط هذا الحزب ولم يبق له من الأثر إلا سفاهة بعض الشبان الحمقى تظهر في بعض الجرائد التي لا يأبه لها أحد يؤبه له في مصر. ولم يستطع المصريون والهنديون أن ينفعوا الآستانة بشيء إلا ما جمعوه من المال للإعانة على الحرب وبعثات الهلال الأحمر، ولم يكن للحزب الوطني تأثير في جمع مئات الألوف من الدنانير التي جمعت من مصر، ولكن كان للمؤيد ولمؤسس المؤيد يد بيضاء وتأثير عظيم في ذلك وهما اللذان يتهمهما الحزب الوطني بعداوة الدولة العثمانية. ثم إن مسلمي الهند ومصر صاروا يبحثون في سياسة الدولة الداخلية والحربية وإنني أعتقد أن جميع الهنديين وأكثر المصريين مخلصون في ذلك تدفعهم الغيرة الدينية إلى هذا البحث، ولا يشذ إلا أفراد من المنتمين إلى الحزب الوطني هنا فإنهم مستأجرون، ولا تنفع الكتابة في هذا الموضوع وإن كانت عن إخلاص إلا إذا كانت عن معرفة صحيحة بحقيقة الحال ورأي صحيح فيما تقتضيه. *** (نشرة صحيفة بريس من حيدر آباد) جاءتنا نسخ من هذه النشرة التي طبعت باللغة العربية لإيقاف العرب في مصر والشام والآستانة على رغائب إخوانهم المسلمين في الهند في الأزمة الحاضرة، وعهد إليهم الكاتب أن ينقلوها إلى جرائدهم العربية ويترجموها بالتركية، وقد وزعنا النسخ التي وصلت إلينا ورأينا من حق الكاتب الغيور أن نشير إلى ما كتبه في المنار أيضًا وإن كنا لا نوافقه على كل ما ارتآه. في النشرة مسائل مهمة نلخصها فيما يأتي: (1) وصف الكاتب شدة تعلق مسلمي الهند بالدولة العثمانية، وأن الدولة البريطانية تعرف هذا جيدًا فاستفادت بالخلافة الإسلامية ما استفادت، وذكر من ذلك أن السلطان تيبواك بطل الإسلام في الهند كان في القرن الثامن عشر أرسل سفارة سياسية إلى سدة الخلافة ولكن رجال الدولة العلية أصدروا الفرمان الشاهاني بوجوب مودته للدولة البريطانية. وأن السلطان عبد الحميد أصدر فرمانا في عهد الثورة الهندية الكبرى سنة 1857 بوجوب طاعة مسلمي الهند للدولة البريطانية كما طلب منه الإنكليز، وهكذا أصدر الفرمان للأمير شير علي خان أمير الأفغان بوجوب الاعتصام بحبل مودة الإنكليز. ونحن نقول للكاتب: صدقت، ونزيده أن الدولة لجهلها بقيمة منصب الخلافة لم تعمل عملاً ما تستفيد به منه، ولكن الإنكليز هم الذين أحيوا اسم الخلافة واستخدموه حتى في عهد سلطة الاتحاد والترقي، فقد حملت الوزارة الاتحادية السلطان محمد رشاد في العام الماضي على إرسال أحد أنجاله بكتاب خاص من خط يده إلى توديع ملك الإنكليز في مياه ثغر بورسعيد عند سفره إلى الهند، لأجل الاحتفال بإلباسه تاج الإمبراطورية الهندية، وإعلان مودته له ولدولته. ولكن ما يدرينا الآن أن إظهار المسلمين لشدة تعلقهم بالدولة العثمانية صار يخيف الإنكليز من عاقبته، فحملهم هذا على الرضا بإزالة سلطانها، وهل ينفع الدولة حينئذ شدة حزن الهنود على ما أصابها، وترك طلبة العلم هنالك أكل اللحم لتوفير المال لها؟ (2) أشار الكاتب إلى أقوال ظن أن أهل هذه البلاد اطلعوا عليها، كبيان جريدة كامريد الدهلوية لحال المسلمين الآن، وقول الخواجة مظهر الحق (بيرسترات لا) في محاضر ضجت بها أرجاء الهند: إن هذه الحرب أريد بها إخراج الترك والمسلمين من أوربة، أو حرب بين الإسلام والنصرانية. وما قاله السير جيمس مستن لفتننت غورنر في خطابه لطلبة كلية عليكرة، ونحن نخبره أن أهل البلاد العربية لم يطلعوا على ما ذكره ولكني أظن أنه لم يُقل عندهم شيء إلا وقيل عندنا مثله أو أشد. (3) قال: بل الخطر ظهر جليًّا لآسية الصغرى والشام والعراق، بل العرب نفسها مركز قلوب المسلمين؛ فإن نفوذ أوربة في هذه البلاد أنتم أعلم به منا، ولا شك أنكم تعرفون كيف يزداد نفوذ ألمانية كل يوم في العراق والأناضول. وذكر طمع هذه الدولة هناك وطمع فرنسة في سورية، ونسي أو تناسى أن طمع إنكلترة في بلاد العرب أشد وأوسع، وأن دولة أوربة أنشأت تبحث في تقسيم أملاك الدولة في القرنين الأخيرين بتدخل أوربة وأنه لا فائدة في إبقاء سيادة الخلافة اسمًا بلا مسمى. ونقول إن خواصنا أعلم من خواصكم بكل ما قال - كما قال - ويرون أن الذنب على الدولة لا على دول أوربة، فإن أوربة قد وصلت إلى درجة عالية في فتح الممالك وهي ما تسميه الفتح السلمي، ومن المحال أن تبقى الدولة العثمانية بجانبها وهي على جهلها وخللها وكسلها وعدم اهتمام رجالها بشيء غير سلب مال الأمة لأجل التمتع به، ولو جارت الدولة تلك الدول في العلم والعمل والعدل في أمتها والنظام والقوة، لتنافسْنَ في التقرب إليها وتسابقن محالفتها للانتفاع من قوتها، أوتركْنَها وشأنها خوفاً من شدة بأسها، فهي قد تركت كل عمل نافع واتكلت على تنازع الدول عليها، توهمًا أنهن لن يتفقن عليها، فخاب ظنها وبطل وهمها. (4) نتيجة ما تقدم والمقصد من النشرة أن إخواننا مسلمي الهند يرون أنه يجب أن لا ترضى الدولة باستقلال ألبانية بلاد الأرنؤوط، ولا بالتنازل عن شيء من مكدونية لأن ذلك يسقط مقام الخلافة وهيبتها ويغري الدول بالجري على هذه الخطة في ولايات آسية، فيجب أن لا تقبل الدولة الصلح بحال من الأحوال، وأن لا تبالي سيلان أضعاف ما سال من أنهار الدماء، فالخطر على الدولة مترتب على الصلح، وإذًا يصير الحرمان الشريفان على خطر، وقد بالغ الكاتب في التحريض على مداومة القتال، وأتى بما أتى به من العبر والأمثال، فعلم أنه هو وجمهور إخواننا المسلمين هناك يعتقدون أن بالعود إلى الحرب تحفظ عظمة الخلافة ويصان الحرمان وتعلو كلمة التوحيد. ونحن هنا نرى جمهور المصريين موافقين لإخوانهم الهنديين في رأيهم وشعورهم، ومن يعلم هذا منهم يزداد استمساكًا برأيه واطمئنانًا به. وما هذا منهم بعجيب فإنهم لا يعرفون حقيقة حال الدولة، وإنما العجيب أن يضرب بعض الكتاب العثمانيين بهذا الدف ويردد نغمات الحرب، ويقول: إما صلح شريف تحفظ به أدرنة أو نصف أدرنة وإما موت شريف، وذلك أن الدولة يئست من البلقان كله إلا أدرنة التي ثبتت على الحصار. إني ليعز علي أن تؤخذ مدينة أدرنة غنيمة باردة بترك الدولة لها صلحًا، كما عز علي أضعاف ذلك تركها مملكة طرابلس الغرب وبرقة صلحًا، ولكنني لا أفهم معنى معقولاً لتعريض الدولة للموت في الحرب، ولا كيف يكون هذا الموت شريفًا في سبيل المحافظة على مدينة أدرنة كلها كما يقترح بعض الكتاب، أو على نصفها كما تقترح وزارة محمود شوكت باشا الاتحادية. إن موت الدولة ليس كموت رجل واحد يهان فيبارز من يهينه، وإن كان أقوى منه لينتقم منه، أو يموت فلا يرى نفسه مهينًا بين الناس، فإن الدولة شخص معنوي وموتها عبارة عن خروج الحكم فيها من أيدي أهلها إلى أيدي الأجانب، وأهلها الذين يعزون بحياتها ويشرفون، ويذلون بموتها ويهانون، لا يموتون بذهاب الحكم منها ولا ينقرضون، فهم إذًا يطلبون الوقوع فيما يحذرون. ألا إن من كتم داءه قتله، ألا إننا قد سئمنا الغرور والتغرير، ألا إننا قد أصبحنا على شفا جرف، وسقوطنا في هاوية العدم منتظر في كل يوم، فلم يبق عندنا شيء نخاف عليه من إظهار حقيقة حالنا لمن لا يعرفها منا. ألا إن الحقيقة المجردة من لباس الزور والغرور هي أن هذه الدولة قد أمست بجهلها وسرفها وغرورها وفقرها، ودهاء أوربة وعلومها وثروتها لا تستطيع أن تعيش مستقلة عزيزة في عاصمتها بقوانينها وأنظمتها وتقاليدها، وبرجالها الذين ربتهم أوربة لها، لأنها تربية مذبذبة لا هي إسلامية ولا أوربية، وإنما تعيش في تلك العاصمة كما تريد أوربة، فلا هي قادرة أن تحفظ عاصمتها من أوربة ولا الحرمين الشريفين ولا غيرهما من البلاد، ولا يمنع أوربة أن تتصرف فيها، وهذه حالها، كما تريد إلا تنازع الدول الكبرى واختلافهن، فمتى اتفقن على شيء أردنه كان الأمر مفعولاً. ألا إنني قد فطنت لهذا الأمر من قبل وقتلته بحثًا وتفكيرًا، ثم اقترحت على الدولة من بضع عشرة سنة أن تجعل الآستانة مركزًا حربيًّا وتجعل عاصمتها دمشق الشام، فإن لم يقبل متعصبو الترك فقونية، وأن تتركهذا التفرنج كله وتؤسس لها قوة آسيوية حربية أهلية من العرب والترك فتجعل جميع أفراد الأمة مستعدين للحرب والكفاح للدفاع عن بلادهم وقت الحاجة. ولكن افتتانها بعظمة اسم القسطنطينية وموقع القسطنطينية وتسمية نفسها دولة أوربية، وما يتبع ذلك من لذات هذه المدنية، قد حال دون التفكر في هذا الاقتراح وتنفيذه. وقد علمت في هذه الأيام أن بعض كبراء رجال الدولة اقترح على السلطان عبد الحميد نقل العاصمة إلى الأناضول قبل الانقلاب الأخير بعدة سنين وأن أحد كبار ضباط ألمانية الذين تولوا تعليم الجيش العثماني وتنظيمه قد اقترح مثل هذه الاقتراح في الزمن الأخير، وأخشى أن يصدق عليه المثل: بعد خراب البصرة، وجميع من أعرف من أهل الرأي العثمانية سيما الترك يرون أن استمرار الحرب خطر، وليس له فائدة تنتظر، وسيظهر الصواب لجميع البشر. *** (حال الدولة ومستقبلها) فاجأنا هذه الأيام نبأ مفزع وهو أن أنور بك الضابط الاتحادي هجم على الباب العالي مع فتية من رجال جمعيته الفدائيين في حال انعقاد مجلس الوزراء وقتلوا ناظم باشا ناظر الحربية والقائد العام وبعض الحاشية وأكرهوا كامل باشا على الاستقالة فذهب بها أنور إلى قصر السلطان وعاد يحمل فرمان تعيين محمود شوكت باشا [1] صدرًا أعظم وناظرًا للحربية، فكيف حال دولة هكذا تسقط وزارتها وهكذا تنصب؟. سنشرح في آخر هذا الجزء أخبار هذا الانقلاب، ونقول هنا: إن الخطر على الدولة قد اشتد، وسواء عادت الحرب أو لم تعد، فإن الأمر بيد الدول ولن تستطيع الدولة أن تعمل بقوتها شيئا، ولكن تبذل دماء ألوف كثيرة وملايين من النقد بغير عوض ولا فائدة فتزداد ضعفًا على ضعف، ويخشى أن تستتبع فتنة أنور فتنة داخلية أكبر منها، واللعنة

نظريتي في قصة صلب المسيح وقيامته من الأموات ـ 1

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظريتي في قصة صلب المسيح وقيامته من الأموات [*] ذهب علماء الإفرنج المحققون في تعليل منشأ هذه المسألة مذاهب شتى لأنهم لا يعتقدون حصول هذه القيامة الموهومة. ولسنا في حاجة إلى نقل آرائهم في مثل هذه المقالة، ومن شاء الاطلاع على شيء من ذلك فليقرأ مؤلفات رينان وإدوارد كلود، ودائرة المعارف المتعلقة بالتوراة، وكتاب دين الخوارق وغير ذلك. وإنما نريد الآن أن نقول كلمة في هذا الموضوع لنزيل الغشاوة عن أعين هؤلاء الناس الملقبين بالمبشرين وهي نظريتي [1] في هذه المسألة فنقول: كان بين تلاميذ المسيح رجل يدعى يهوذا، وهو من قرية تسمى خريوت في أرض يهوذا فلذا عرف بالأسخريوطي، وكان يشبه المسيح في خلقته شبهًا تامًّا [2] ومن المعلوم أن المسيح كان يدعو الناس إلى دينه في الجليل ولكنه كان يذهب إلى أورشليم كل سنة في عيد الفصح كما هي عادة اليهود فزارها في السنة الأولى من بعثته وكان هو وأتباعه القليلون محتقرين فيها لأن اليهود كانوا يحتقرون أهل الجليل وخصوصًا سكان الناصرة [3] فما كان أحد يبالي بهم أو يلتفت إليهم، وفي السنة الثالثة من بعثته لما زارها في المرة الأخيرة من حياته كان شأنه قد ارتفع عن ذي قبل وكثرت أتباعه فحقد عليه رؤساء اليهود الذين استاءوا من أقواله وأعماله وتعاليمه فصمموا على الفتك به واتفقوا مع يهوذا الإسخريوطي على أن يدل مبعوثيهم عليه ليقبضوا عليه فذهب يهوذا معهم ودلهم عليه فإنهم ما كانوا يعرفونه (مرقس 14: 43 - 46) فأمسكوه وكان ذلك ليلاً وساقوه إلى بيت رئيس الكهنة فتركه جميع التلاميذ وهربوا (مر 14: 50) ولكن تبعه بطرس من بعيد ثم أنكر علاقته به وفر هو أيضًا هاربًا، وأما دعوى صاحب الإنجيل الرابع أن يوحنا تبعه أيضًا (يو 18: 15 - 18) فالظاهر أنها مخترعة من واضعه لمدح يوحنا كما سيأتي بيانه وإلا لذكرها الثلاثة الإنجيليون الآخرون. ولما كان الصباح ساقوه إلى بيلاطس الذي كان يود إنقاذه منهم ولكن الظاهر من الأناجيل أنه لم يفلح فحكم بصلبه فأخذه العسكر إلى السجن حتى يستعدوا للصلب، ففر من السجن هاربًا إما بمعجزة أو بغير معجزة كما فر بعض أتباعه بعده من السجون أيضًا (راجع أع 12: 6-10 و16: 25 و26) وربما ذهب إلى جبل الزيتون ليختفي (انظر مثلاً يو 8: 1 و59 و10: 39 و11: 53 - 57) وهناك توفاه الله أو رفعه إليه بجسمه أو بروحه فقط فخرج الحراس للبحث عنه، وكان يهوذا مسلمه قد صمم على الانتحار وخارجًا ليشنق نفسه في بعض الجبال (متى 27: 3-10) ندمًا وأسفًا على ما فعل فلقيه الحراس، ونظرًا لما بينه وبين المسيح من الشبه التام فرحوا وظنوه هو وساقوه إلى السجن [4] [5] متكتمين خبر هروبه خوفًا من العقاب ولمَّا وجد يهوذا أن المقاومة لا تجدي نفعًا ولِما طرأ عليه من التهيج العصبي والاضطراب النفساني الشديد الذي يصيب عادة المنتحرين قبل الشروع في الانتحار، ولاعتقاده أنه بقتل نفسه يكفر عما ارتكب من الإثم العظيم ولعلمه أن قتله بيد غيره أهون عليه من قتل نفسه بيده، لهذه الأسباب كلها استسلم للموت استسلامًا ولم يفُه ببنت شفة رغبةً منه في تكفير ذنبه وإراحة ضميره بتحمله العذاب الذي كان سلم سيده لأجله [6] ولما جاءت ساعة الصلب أخرجوه وساروا به وهو صامت ساكت راضٍ بقضاء الله وقدره ونظرًا لما أصابه من التعب الشديد والسهر في ليلة تسليمه للمسيح وحزنه واضطرابه لم يقو على حمله صليبه أو أنه رفض ذلك فحملوه لشخص آخر يسمى سمعان القيرواني وذهبوا إلى مكان يسمى الجمجمة خارج أورشليم وهناك صلبوه مع مجرمين آخرين فلم يكن هو وحده موضع تأمل الناس وإمعانهم ولم يكن أحد من تلاميذ المسيح حاضرًا وقت الصلب إلا بعض نساء كن واقفات من بعيد ينظرن الصلب مت 27: 55 ولا يخفى أن قلب النساء لا يمكِّنهن من الإمعان والتحديق إلى المصلوب في مثل هذا الموقف وكذلك بُعد موقفهن عنه، فلذا اعتقدن أنه هو المسيح، وأما دعوى الإنجيل الرابع 19: 26 أن مريم أم عيسى ويوحنا كانا واقفين عند الصليب فالظاهر أنها مخترعة كالدعوى السابقة لمدح يوحنا أيضًا إذ يبعد كل البعد كما قال رينان أن تذكر الأناجيل الثلاثة الأول أسماء نساء أخريات وتترك ذكر مريم أمه وتلميذه المحبوب يوحنا، كما يسمي نفسه بذلك في أغلب المواضع، إذا صح أنه هو مؤلف الإنجيل الرابع.انظر إصحاح 13: 3 و21: 20 وغير ذلك كثير. هذا وقلة معرفة الواقفين للمسيح لأنه كان من مدينة غير مدينتهم (راجع يوحنا ص7) وشدة شبه يهوذا به وعدم طروء أي شيء في ذلك الوقت يشككهم فيه - كل ذلك جعلهم يوقنون أن المصلوب هو المسيح، حتى إذا شاهد القريبون منه تفاوتًا قليلاً في خلقته حملوه على تغير السحنة الذي يحدث في مثل هذه الحالة ومن مثل هذا العذاب. وكم في علم الطب الشرعي من حوادث ثابتة اشتبه فيها بعض الناس بغيرهم حتى كان منهم من عاشر امرأة غيره الغائب بدعوى أنه هو وجازت الحيلة على الزوجة والأهل والأقارب والمعارف وغيرهم ثم عرفت الحقيقة بعد ذلك، وأمثال هذه الحوادث مدونة في كتب هذا العلم في باب تحقيق الشخصية: (Identification) فليراجعها من شاء. ومنهم من شابه غيره حتى في آثار الجروح والعلامات الأخرى واللهجة في الكلام (راجع الفصل الأول من كتاب أصول الطب الشرعي لمؤلفيه جاي وفرير الإنكليزيين) . فلا عجب إذن إذا خفيت حقيقة المصلوب عن رؤساء الكهنة والعسكر وغيرهم وخصوصًا لأنهم ما كانوا يعرفونه حق المعرفة ولذلك أخذوا يهوذا ليدلهم عليه كما سبق فاشتبه عليهم الأمر كما بيَّنَّا وكان المصلوب هو يهوذا نفسه الذي دلهم عليه فوقع كما كان دبره لسيده (انظر مز 6: 8-10 و7: 5 ومز37 وأمثال 11: 8 و21: 18) . ولما كان المساء جاء رجل يسمى يوسف فأخذ بجسد المصلوب ووضعه في قبر جديد وقريب ودحرج عليه حجرًا وكان هذا الرجل يؤمن بالمسيح ولكن سرًّا (يو 19: 38) ومن ذلك يعلم أنه ما كان يعرف المسيح معرفة جيدة تمكنه من اكتشاف الحقيقة وخصوصًا بعد الموت، فإن هيئة الميت تختلف قليلاً عما كانت وقت الحياة لا سيما بعد عذاب الصلب، وروى الإنجيل الرابع وحده أن رجلاً آخر يدعى نيقوديموس ساعد يوسف في الدفن أيضًا (19: 39) وكان هذا الرجل عرف يسوع من قبل وقابله مرة واحدة في الليل (يو 3: 1-13) فمعرفته به قليلة جدًّا وكانت ليلاً منذ ثلاث سنين تقريبًا أي في أوائل نبوته، وفي كتب الطب الشرعي والمجلات الطبية عدة حوادث خدع فيها الإخوان والأقارب بجثث موتى آخرين (راجع كتاب الطب الشرعي المذكور صفحة 32 منه) فما بالك إذا لم يكن الشخصان الدافنان للمصلوب يعرفانه حق المعرفة كما بينا. لذلك اعتقد جمهور الناس وقتئذ أن المسيح صلب ومات ودفن فحزن تلاميذه وأتباعه حزنًا شديدًا وفرحت اليهود وشمتوا بهم ولو أمكن التلاميذ إحياءه من الموت لفعلوا ففكر منهم واحد أو اثنان في إزالة هذا الغم الذي حاق بهم وما لحقهم من اليهود من الشماتة والاحتقار والذل فوجد أن أحسن طريقة لإزالة كل ذلك ولإغاظة اليهود أن يسرق جثة المصلوب من القبر ويخفيها في مكان آخر ليقال إنه قام من الأموات ولم تفلح اليهود في إعدامه إلا زمنًا قليلاً وهكذا فعل وأخفى الجثة. فلما مضى السبت الذي لا يحل فيه العمل لليهود جاءت مريم المجدلية إلى القبر فجر يوم الأحد فلم تجد الجثة فدهشت وتعجبت وأسرعت إلى بطرس (ويقول الإنجيل الرابع كما هي عادته: إلى يوحنا، أيضًا) وأخبرتهما أن الجسد فُقد من القبر فذهبا معها ووجدا كلامها صحيحًا فقالا: لا بد أنه قام من الموت، وهذا القول هو أقرب تفسير يقال من تلاميذ المسيح المحبين له المؤمنين به وربما كانا هما المُخفين للجثة أو أحدهما (بطرس) ولذلك نجده في سفر الأعمال وفي الرسائل يتكلم أكثر من يوحنا عن قيامة المسيح بل أكثر من جميع التلاميذ الآخرين. أما مريم المجدلية فمكثت تبكي لعدم وجود الجثة وعدم معرفتها الحقيقة وكانت عصبية هستيرية، وبتعبيرهم: كان بها سبعة شياطين (مرقص 16- 9) فخيل لها أنها رأت المسيح ففرحت وأسرعت وأخبرت التلاميذ (يو 20: 18) أنها رأته وأما النساء الأخريات اللاتي ذهبن إلى القبر فلم يرينه كما يفهم من أنجيل مرقص ولوقا، وغاية الأمر أنهن رأين القبر فارغًا وبعض الكفن الأبيض باقيًا فخيل لبعضهن - وكلهن عصبيات - أن ملكًا كان واقفًا في القبر وأمثال هذه التخيلات الخادعة كثيرة الحصول للناس وخصوصًا للنساء عند القبور وفي وقت الظلام (يو 20: 1) وما حادثة قيام المتبولي من قبره عند عامة أهل القاهرة ببعيدة. ويجوز أنهن رأين رجلين من أتباع المسيح ممن لا يعرفنهم وكانا هما السارقين للجثة ففزعن منهما وغشاهن حتى ظنن أنهما ملكان بثياب بيض (انظر لو24: 4) فكثرت أحاديث هؤلاء النسوة كل منهن عمَّا رأته ومنها نشأت قصص الأناجيل في قيامة المسيح كما نشأت الحكايات الكثيرة المتنوعة عن قيامة المتبولي في هذه الأيام في مصر [7] ولذلك اختلفت قصة القيامة في الأناجيل اختلافًا عجيبًا يدل على أن كل كاتب أخذ ما كتب عما حوله من الإشاعات والروايات المختلفة التي لم تكن وقتئذ مرتبةً ولا منظمةً. ويظهر من هذه الأناجيل أن التلاميذ بعد ذلك صاروا محاطين بالوساوس والأوهام من كل جانب حتى إنهم كانوا كلما لاقاهم شخص في الطريق واختلى بهم أو أكل معهم ظنوه المسيح ولو لم يكن يشبهه في شيء ظنًّا منهم أن هيئته تغيرت (مر16: 12 ولوقا 24: 16 ويو21: 4-7) فكانت حالهم أشبه بحال العامة من سكان القاهرة الذين التفوا منذ زمن قريب حول رجل سائر في الطريق في صبيحة إشاعة انتقال المتبولي من قبره يصيحون: سرك يا متبولي، كما نقلناه هنا عن بعض جرائد العاصمة التي ذكرت تلك الحادثة في ذلك الحين لاعتقاد الناس أنه هو المتبولي الذي قام من قبره وكانوا يعدون بالمئات إن لم يبلغوا الألوف ولا يبعد أن بعض أولئك الناس الذين لاقاهم التلاميذ كان بلغهم الإشاعات عن قيامة المسيح فكانوا يضحكون من التلاميذ ويسخرون بهم ويأتون من الأعمال والحركات ما يوهم التلاميذ أن ظنهم فيهم هو صحيح كما كان ذلك الرجل السابق ذكره يقول للناس لما رآهم التفوا حوله: أنا المتبولي أنا المتبولي. وروى الدكتور كاربنتر في كتابه (أصول الفسيولوجيا العقلية) ص 207 أن السير والترسكوت (Walter Scott Sir) رأى في غرفته وهو يقرأ صديقه اللورد بيرون (Byron Lord) بعد وفاته واقفًا أمام عينيه فلما ذهب إليه لم يجد شيئًا سوى بعض ملابس وهي التي أحدثت هذا التخيل الكاذب (IIIusion) وفي حريق قصر البلور (Crystal Palace) في سنة 1866 خيل لكثير من الناس أن قردًا يريد الفرار من النار بتسلقه على قطع حديدية كانت في سقف هناك والناس وقوف يشاهدون هذا المنظر متألمين، ثم اتضح أنه لم يكن ثم قرد مطلقًا وإنما هو منظر كاذب كما حكاه الدكتور تيوك (Dr.Tuke) وذكر الدكتور هبرت (Hibbert Dr.) في مقال أن جماعة كانوا في مركب فشاهدوا أمامهم طباخًا لهم يمشي وكان مات منذ بضعة أيام فلما وصلوا إليه وجدوا قطعةً من خشب طافية على سطح الماء، وهناك أمثلة أخرى عديدة كهذه يعرفها المطلعون على علوم الفسيولوجيا والسيكولوجيا والأمراض العقلية وكان المخدوعون فيها عدة أشخاص. ويدخل في هذا الباب (باب الخيالات الكاذبة والأوهام) دعوى القبط في مصر أنهم في ثاني يوم لعيد النيروز (أي 2 توت من السنة القبطية) إذا نظروا إلى جهة الشرق بعد طلوع الشمس بقليل رأوا رأس يوحنا المعمدان كأنه في طبق والدم يسيل من جوانبه وقد أكد لي

عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية ـ 3، 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية (3) مقدمات الخذلان في هذه الحروب محاربة الاتحاديين للدين من المسلمات التي لا يختلف فيها عاقلان، ولا يَنْتَطِحُ فيها عَنْزَان أن القوة المعنوية هي الأصل الباعث على الأعمال المادية، وأن الدين هو أعظم القوى المعنوية أثرًا، وأشدها على المخالف خطرًا، وأن الفريقين المتحاربين إذا تساويا في جميع ما ينبغي للقتال من علم ومعرفة، وذخيرة وعدة، وتفاوتا في قوة الإيمان بالله عز وجل والرجاء في الحياة الآخرة، فإن أقواهما إيمانًا وأعظمهما رجاء هو الجدير بأن يكون له الفلج ويتيسر له النصر. وقد صرحت الجرائد الأوربية بهذه الحقيقة في سياق البحث في أسباب رجحان البوير على الإنكليز في حرب الترنسفال، كما بيناه في المجلد الثاني من المنار. وقد نشرنا في المجلد الأول من المنار نبذة في هذه المسألة ترجمها الأستاذ رحمه الله تعالى من (وقائع بسمارك) التي نشرها بعد موته أمين سره مسيو (بوش) قال: غطاء المائدة فقال لأصحابه: كما تنتشر هذه البقعة في النسيج شيئا فشيئا كذلك ينفذ الشعور باستحسان الموت في سبيل الدفاع عن الوطن في أعماق قلوب الشعب ولو لم يكن هنالك أمل في الأجر والمكافأة، ذلك لما استكن في الضمائر من بقايا الإيمان. ذلك لما يشعر به كل أحد من أن واحداً مهيمنًا يراه وهو يجالد ويجاهد ويموت وإن لم يكن قائده يراه. فقال بعض المرتابين: أتظن سعادتكم أن العساكر يلاحظون في أعمالهم تلك الملاحظة؟ فأجابه البرنس: ليس هذا من قبيل الملاحظات وإنما هو شعور ووجدان، هو بوادر تسبق الفكر، هو ميل في النفس، وهوًى فيها كأنه غريزة لها، ولو أنهم لاحظوا لفقهوا ذلك الميل، وأضلوا ذلك الوجدان، هل تعلمون أنني لا أفهم كيف يعيش قوم، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليهم إن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي. واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة؟ بعد هذا تكلم ذلك الرجل العظيم عن نفسه فأكد القول بأنه لولا إيمانه بالعناية الإلهية ويقينه بحياة بعد الموت وشعوره بأنه يرضي الله بخدمته للأمة الألمانية وسعيه لوحدتها وإعلاء شأنها - لما رضي لنفسه أن يكون من حزب الملكية وأن يخدم الملك لأنه هو جمهوري بالطبع. والوظائف والرتب والألقاب لا بهاء لها في نظره. وإنه لا يحب إلا العيشة الخلوية في المزارع، ومما قاله: (اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني) ومنه: إن لم أكن خاضعًا لأمر إلهي فلمَ أضع نفسي تحت طاعة هذه الأسرة المالكة مع أنها تتصل بأصل ليس بالأعلى ولا بالنبيل من الأصل الذي تنصل به عشيرتي؟ ومن أراد ترجمة نص قوله برمته فليرجع إلى المنار (ص 846 م1 من الطبعة الثانية) . وقد قال الأستاذ في مقدمة هذه الترجمة أنه ترجمه ليطلع عليه من لم يُعن بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يعدون النسبة إلى دينهم سبة، والظهور بالمحافظة عليه معرة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبالوحي الإلهي إلى أنبيائه ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في الرئاسة، ولا ضعفًا في السياسة. وقال بعده: هذا كلام بسمارك وهو يدلنا على أن هذا الرجل العظيم كان يعتقد أن عظائم أعماله إنما كانت من مظاهر إيمانه، وأن الإيمان بالله والتصديق باليوم الآخر هما الجناحان اللذان طار بهما إلى ما لم يدركه فيه مُفَاخِر، ولم يكثره مكاثر. أقول بعد هذا التمهيد: ولكن زعماء الاتحاديين قد فخروه وكثروه في السياسة، فكان اتحادهم العثماني أقوى وأعلى وأثبت من اتحاده الألماني؛ لأنه بني على صخر الإيمان، وبنوا على رمل الإلحاد. لقيت في الآستانة الدكتور ناظم بك الزعيم الأكبر للاتحاديين الذي خلف صادق بك أمير الألاي بعد أن تبرأ من الجمعية فصار هو المرخص المسئول لها. لقيته يتحدث مع فطين أفندي المدرس في دار الشفقة والمدير للمرصد الفلكي الجديد في ضواحي العاصمة وكان يومئذ من صميم الاتحاديين، على حين تركهم أكثر أمثاله من المعممين، حتى كان يشك في تدينه رجال الدين، فقال لي: تعال احكم بيني وبين البك. قلت: ما خطبكما؟ قال: إن البك يقول: إننا نحن العثمانيين لا يمكن أن نترقى إلا إذا نبذنا الدين وراء ظهورنا وعصرنا العلماء عصرًا، نمحقهم به محقًا، وسِرنا وراء فرنسة خطوة خطوة. وأما أنا فقلت له: إننا يجب أن نأخذ من أوربة لا من فرنسة خاصة، الفنون الصناعية والزراعية وكل ما نحتاج إليه للترقي العملي في دنيانا. وأما الأمور المعنوية والأدبية فنرجع فيها إلى أصول ديننا ونستمدها منه. فقال: يجب أن نأخذ عن فرنسة كل شيء فإن جميع ما عندنا فاسد وموجب للتدلي. لا يحتاج القارئ إلى القول بأن رأي فطين أفندي هو الموافق لرأيي في هذه المسألة وقلما رأيت أحدًا أوجز وأفاد في تحرير هذه المسألة الكبيرة مثل هذا الرجل، ولكنني سلكت في تأييده مسلك بيان السبب في هذه التفرقة والخلاف بين المتعلمين، وتطرف بعضهم في التفرنج وبعضهم في الجمود على القديم، وشدة الحاجة إلى المعتدلين الذين يعرفون القديم والحديث، أي كفطين أفندي، وانتقلت من هذا إلى مشروع العلم والإرشاد الذي كنت أسعى له هنالك وليس هذا المقال بمحل تفصيل القول فيه. جميع زعماء الجمعية على رأي ناظم بك الذي ذكرناه آنفا، ولكن قلما يوجد فيهم من يتجرأ على التصريح بمثله. وقد سمعت منه ومن غيره منهم وعنهم غير ذلك ولولا ظهور قوة تأثير الدين لهم في الجيش يوم 31 مارس أو 13 أبريل لظهر من تهتكهم والجهر بمقاومتهم للدين أضعاف ما ظهر للناس وما الذي ظهر بقليل، ونكتفي من ذلك بشيء مما يتعلق بالجند حذرًا من التطويل. كانت الصلاة في العسكر أمرًا إجباريًّا يتساهل فيه الضباط المارقون والمرتابون في خاصة أنفسهم، وقد يتعدى ذلك إلى الجنود التابعين لهم. فإذا جاء متدين منهم وشدد فيه لا يستطيع معارضته أحد لأنه رسمي. فلما دالت الدولة للاتحاديين جعلوا الصلاة أمرًا اختياريًّا وصاروا يوعزون إلى حزبهم من الضباط بمنعها وإشغال العسكر عنها بالتمرين أو غيره من العمل في أوقاتها، حتى في المدرسة الحربية العليا نفسها. أخبرني من أثق بهم في الآستانة بهذا، وآخرون بخبر آخر أضر منه في الجيش، وهو أنهم كانوا عند التنسيق العسكري يعنون بإخراج الضباط المتدينين من الجيش وأكثر هؤلاء المتدينين من الذين ارتقوا إلى رتبة الضباط بالعمل والتمرن في الجيش في إبان السلم والحرب سنين كثيرة ويسمونهم الألايلية نسبة تركية إلى ألاي وكان عذرهم في إخراجهم أنهم غير متخرجين في المكتب الحربي فمعارفهم غير قانونية. وقد أخرجوا بعض المتخرجين في المكتب الحربي بعلل أخرى، كما أبقوا بعض الألايلية الذين اتبعوا هوى الجمعية ولو كان عدد الضباط المكتبيين كافيًا لعسكر الدولة لكان لهم في إخراج من أخرجوا وجهًا للاعتذار وإن أضر ذلك بمالية الدولة وخسر به جيشها طائفة من الضباط، يفضلون كثيرًا من متخرجي المكتب الأحداث والأغرار، أي الذين لا تجربة لهم. وقد كان غرض الاتحاديين من تنسيق عمال الحكومة في جميع النظارات والمصالح أن يخرجوا منها من شاءوا، ويبقوا من أحبوا، ليعلم كل فرد من أفراد هذه الدولة أن جمعية الاتحاد والترقي هي ولية أمره وصاحبة السلطان عليه، فيكون طوع يدها، ويؤدي لها ما عدا الضريبة الأولى ما فرضه قانونها على كل منتمٍ إليها، وهو اثنان في المائة من جميع دخله (إيراده) وقد كانت خسارة الدولة بهذا التنسيق أكثر من ثلاثة ملايين جنيه في كل سنة تُعطى رواتب للمعزولين والمنسقين. وما كان الذين استحدثوهم خيرًا من الذين أخرجوهم، ولولا هذا التنسيق لكان للدولة في المال الذي خسرته به ما يمكِّنها من شراء مدرعة وطرادة من الدرجة الأولى في كل سنة. إن أكثر الضباط الذين تعول عليهم الجمعية في نصرها من الملحدين أو المرتشين في دينهم، ومنهم الذين يصرحون بالكفر تصريح الحقود المنتقم من الدين، ومن ذلك ما حدثني به بعض الثقات في الآستانة عن بعض الباشوات أنه قال: لو كان في بدني شعرة تؤمن بفلان - وذكر خاتم الرسل وسيد العرب والعجم صلى الله عليه وسلم - لقلعتها مع اللحم الذي حولها وألقيتها. ومن لم يجدوه على مثل هذا الفساد من قبل حاولوا إفساده بالسياسة، فكانوا لا يقبلون ضابطًا في الجمعية إلا إذا دخل الماسونية، وهذا وذاك أهم الأسباب التي حملت أمير الألاي صادق بك الشهير على محادة الجمعية ومقاومتها، بعد أن عجز عن إقناع زعمائها بترك هذه المفاسد. وكان محمود شوكت باشا جاراه بإظهاره له أنه مجتهد في منع الضباط من الاشتغال بالسياسة وجهر بذلك في خطبة له في نظارة الحربية، وخطبة أخرى في أدرنة، كنت من المعجبين بهما وبه يومئذ وأنا في الآستانة، ثم ظهر لصادق بك أن ذلك خداع، ثم ظهر لسائر الناس أيضًا في العريضة التي استقال بها محمود شوكت باشا من نظارة الحربية، فإنه صرح فيها بأنه يترك تنفيذ قانون منع الضباط من السياسة لخلفه، أي أنه لا يمكنه تنفيذ هذا القانون وهو الذي أسلس العنان للضباط حتى توغلوا في السياسة أن يمنعهم منها عند ما قامت ثورة طائفة كبيرة منهم في بلاد الأرنؤوط طالبين إسقاطه وإسقاط جمعيته. مثل جمعية الاتحاد والترقي في إضعاف الدين في الجيش وإخراج عدد كثير من الضباط المتدينين من صفوفه كمثل من كان له بيت يؤويه ويقيه فواعل الجو فهدمه لأنه صار يراه غير لائق بمقامه، ولكن قبل أن يبني له بيتًا آخر على النحو الذي يحب، فبينا هو في العراء يفكر ويقدر ويجلب بعض الحجارة لبناء بيت آخر عصفت الريح فأثارت السحاب فاعتلجت فيه البروق، وقصفت الرعود، وانهمر الصيب الهتون، فجرفه هو وما كان جلبه لبناء البيت. إنهم أرادوا أن يستبدلوا الوطنية العثمانية والجنسية التركية، بما يهدمون من الرابطة الإسلامية والنزعة الدينية، التي لولاها لم يكن الجيش العثماني مضرب المثل في شجاعته وبأسه وثباته في مواقف النزال، وبلائه في معارك القتال، فأنشأوا أناشيد وأغاني باسم الوطن التركي والجيش العثماني، ليخلقوا بها شعورًا جديدًا للجند يقوم مقام الشعور الديني، ولعل هذا من أقوى الجوامع التي جمعت بينهم وبين زعماء الحزب الوطني المصري، فإن هذا الحزب يفخر دائمًا - وليس له أثر صالح في البلاد - بأنه أوجد الشعور الوطني، وهذا الشعور هو الذي يخرج الإنكليز من القطر، ومن حسن حظ مصر أن هؤلاء المغرورين لم يتولوا أمرًا من أمور البلاد، وأما الاتحاديون فمن سوء حظنا أنهم تولوا أمر المملكة ثلاث سنين أفسدوا فيها ما لم يستطع عبد الحميد مثله في ثلاثين سنة. شهد العلماء الذين أرسلتهم الحكومة لوعظ الجيش في شتالجة بأنه تبين لهم بعد الاختبار أن أهم أسباب انكساره في هذه الحرب قد كان مما أودعه الاتحاديون في نفوسهم من أن وظيفة الجيش الدفاع عن الوطن بعد أن نزعوا منها الاعتقاد بأن هذا الدفاع مشروع دينًا وأن الذي يقتل فيه شهيد له عند الله حياة خير من هذه الحياة ذات نعيم دائم ورضوان من الله أكبر. وشهد عظماء الألمانيين الذين يتلقى الجيش العثماني عنهم فنون القتال أن أهم أسباب انكساره هي إفساد الاتحاديين له بإشغاله بالسياسة، وقد بينا أن هاتين المفسدتين متلازمتان، فإنه

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (رسالة عين الميزان) بقلم صاحبها محمد الحسين النجفي آل الشيخ الكبير الشيخ جعفر نقد بها مقالة (ميزان الجرح والتعديل) للشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي التي نشرت في المنار، وقد نشر بعض هذه الرسالة في مجلة العرفان في آخر عدد منها، صفحاتها 26 بالحرف الصغير والقطع المثمن، وقد وعد المؤلف بإتمامها بعد اطلاعه على تتمة المقال (ميزان الجرح والتعديل) وهذه الرسالة مطبوعة بمطبعة العرفان في صيدا وثمنها قرش ونصف قرش صحيح، وهي تطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (أمثال الشرق والغرب) تأليف يوسف توما أفندي الكُتْبِي بمصر، صفحاته 126 بقطع تفسير سورة الفاتحة، طبع على ورق متوسط بمطبعة البوسته بمصر سنة 1912 يطلب من مكتبة المنار بمصر، وثمنه 3 قروش. جمعه مؤلفه من كلام العلماء والحكماء من السابقين والمعاصرين، ورتبه على 24 فصلاً، جمع فيها من أمثال العرب والعجم والبربر والفرنجة واليونان والهنود طائفة كبيرة، والكتاب نافع لاشتماله على حِكم رائقة مفيدة. *** (الأمازون) جريدة جامعة تصدر صباح كل خميس من الأسبوع ذات ثماني صفحات على شكل جريدة الأفكار، قيمة اشتراكها في السنة 25 فرنكًا، عنوانها (سان بولو البرازيل، صندوق البوسته عدد 1343) مديرها ومحررها فارس دبغي. *** (المصور) جريدة علمية أسبوعية مصورة، صفحاتها أربع، عنوانها: إدارة جريدة المصور في المطبعة العثمانية في بيروت، قيمة اشتراكها مجيدي ونصف في البلاد العثمانية، و 10 فرنكات في الخارج، صاحب امتيازها عبد الوهاب سليم التنير ومديرها المسئول محمد طاهر أفندي التنير. *** (الفجر) جريدة أسبوعية تصدر مؤقتا كل عشرة أيام مرة، صفحاتها ثمان وقيمة اشتراكها 120 قرشا في الخارج، صاحبها ومحررها ناصر شاتيلا أفندي عنوانها (AL-Fajr Caixa Postal , 1595 Rio de janeiro Barzil) ... ... ... ... ... ... ... ... ... *** (رائد السودان) جريدة علمية أدبية إخبارية اقتصادية تصدر يوم السبت من كل أسبوع بأربع صفحات على شكل جريدة الأهرام، قيمة اشتراكها في مصر والسودان خمسون قرشًا صحيحًا، وفي الخارج 20 فرنكًا عنوانها (صندوق البوسته عدد 51 و52 بالخرطوم) . *** (السهام) جريدة تبحث في كل موضوع تصدر مرة في الأسبوع، قيمة اشتراكها 200 قرش في البرازيل عن سنة، و35 فرنكًا في الخارج، عنوانها التلغرافي (السهام مناوس) مديرها ومحررها جورج إسحاق يارد.

الانقلاب الخطر وجمعية الأحمرين الدم والذهب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانقلاب الخطر وجمعية الأحمرين الدم والذهب كل من نعرف من العثمانيين المخلصين، والأجانب المستقلين يعتقدون أن جمعية الاتحاد والترقي هي جمعية الأحمرين: الدم والذهب، أما كونها جمعية دم وثورة فهو صفتها الرسمية، ولما سقطت وزارتهم السعيدية الشقية جمعوا مؤتمرهم العام وزعموا أنهم قرروا فيه التحول عن جمعية ثورة إلى حزب سياسي. وكان هذا خداعًا للأمة الجاهلة المسكينة، كذبته ثورتهم الجديدة لقلب وزارة كامل باشا. وأما كونها جمعية ذهب، فلا يخفى على أحد، فقد نهبوا أموال عبد الحميد خان وصادروا أكثر أغنياء الأمة، وباعوا بوسنة وهرسك للنمسة، وطرابلس الغرب لإيطالية، واتفقوا مع الجمعية الصهيونية على بيعها أراضي السلطان عبد الحميد الواسعة، وعلى تمهيد الأسباب لامتلاكها البلاد المقدسة لإقامة ملك إسرائيل فيها، ولهذا قال وزيرهم حقي باشا في خطبة علنية له: إن مستقبل هذه الدولة العثمانية لليهود. وأخذت وزاراتها من ميزانية الدولة أكثر من 40 مليون جنيه لم يظهر لها أثر يذكر. لأجل هذا كله كنا نخشى أن تعود لها الكَرة لامتلاك زمام الدولة فتكون هي الكَرة الخاسرة، وتقوم بذلك قيامة هذه الأمة البائسة في هذه الأحوال الحرجة، وزاد هذا الخوف في قلوبنا إخراج الجمعية لبطلها أنور بك من دَرَنَة الذي وضعته هناك وجعلت في يده جميع الإعانات الحربية؛ لتوهم العالم الإسلامي أنها هي التي تدافع عن طرابلس وبرقة، وما هي إلا البائعة لهما على الوجه الذي بيَّناه من قبل، وإنما أخرجته وجاءت به إلى الآستانة ليعينها باسمه وشهرته الخادعة على الثورة وسفك الدم. وقد وقع ما كنا نتوقع، وهاك ما ورد علينا وعلى غيرنا من أصحاب الجرائد المصرية من الآستانة في ذلك: رسالة إلينا خاصة من الآستانة: كتب إلينا أحد الأصدقاء من عاصمة الملك ومركز الحوادث يقول: (أكتب إليكم، وأنا أشهد بعيني، وأسمع بأذني كيف تكون مصارع الدول، وكيف تخط مضاجع الأمم، وكيف يفتك العلم بالجهل، وتستولي النباهة على الخمول، وكيف تنشب القوة مخالبها في الضعف فتمزق أشلاءه، وكيف يتضاءل المقصرون أمام السابقين، ويتضاغر المهملون لصولة العاملين، هذا وهؤلاء المتأخرون في كل شيء، والمتقدمون إلى شفير كل هلكة، كأنهم لا يألمون لما يألم له الأحياء، فنراهم في غمرتهم ساهين، وعلى ما ألفوا من الحرص والطمع عاكفين، وعلى هذا الذماء الحقير من السلطة متهالكين، كأن الآلام تقع على غيرهم، وكأن من يقصد بهذا الشر المستطير سواهم، فكل ما حل بهم وما سيحل بمن يتصل بهم لم يظهر له ولا أثر ضعيف في أعمالهم وحالهم، أو كما يقول شاعرهم التركي: عالم ينه أول عالم ... دوران ينه أول دوران بل أشهد كيف يحتفر الجاهل قبره بيده، ويهدم قصره بفأسه ومعوله، حتى لا يترك للعدو سبيلاً إلى العناء، فلقد اختلس الطامعون فرصة اشتغال العسكر في المرابطة على الحدود، واشتغال الوزارة بالجواب على مخطرة الدول، فخرجوا من زقاق شرف، مع رئيس من رؤسائهم المعروفين بعدد من الزعانف لا يبلغ المائتين، أعيتهم الحيل في جمعهم، ومنهم قسم عظيم من جهال مهاجري طرابلس الغرب، أغروهم بالوقوف أمام الباب العالي يطلبون معاشهم الذي مضى وقت صرفه، ولم تتمكن الوزارة من تدارك قرض لصرفه، فوقفوا ووقف أولئك معهم يصيحون ويصخبون، وجاء رئيسهم أنور فدخل على كامل باشا ورفاقه وطلب إليهم الاستعفاء بحجة أنهم ضعفوا أمام الأعداء وأطمعوهم، وأشار إليهم بأن ممثلي الأمة وراءه وهم الواقفون أمام الباب، وكان ذلك بعد أن اغتيل ذلك القائد العظيم ناظم باشا وضابطان آخران، فاضطرت الوزارة إلى الاستقالة وخرج أنور وهو يكاد يسامق الفَلَك غرورًا، وتوجه توًّا لسفارة ألمانية حيث مكث هناك برهة ثم صعد إلى سراي طولمه باغجه، حيث أخبر السلطان بعمله، وأشار عليه بنصب محمود شوكت باشا، وإعادة الوزارة الاتحادية، فأجابه إلى طلبه طبعًا، وعاد فأعلن ذلك إلى ممثلي الأمة الواقفين في ساحة الباب العالي! فهتفوا باسم الاتحاد والترقي، وكان ذلك وقت الغروب أو بُعيده. ثم قُبض على علي كمال وأُحيط بإدارة جريدة أقدام وعلى محرر يكي غزته وأحيط بإداراتها، وبناظري المالية والداخلية، وبكثير من رجال العلمية والملكية، وفر كثيرون مما لم نقف بعد على تفصيله، وتوجه في تلك الليلة رجلان إلى إدارة صباح، حيث كان محررها فأمروه بكتابة ما يريدون، وهددوه إن لم يفعل بالقتل، فخرجت صباح ثاني يوم تمجد هذا العمل وتقدسه وتلبسه لباس الحق، وإن للأمة أن تخرج عن الطاعة وتنبذ طاعة حكومتها إذا عملت على غير مصلحتها. وكان قد أصيب في تلك المظاهرة مرخص الاتحاديين مصطفى نجيب فهلك فأخرجوا جنازته في اليوم التالي بين التهليل والتكبير، والبكاء والعويل، والتآبين المطولة، والمراثي المطنطنة، وفي جملة من أبَّنَه عبد العزيز شاويش، أبَّنه بالإنكليزية! ثم مشوا به ومعه ألوف مؤلفة فيهم قسم عظيم من الحمالين (الشيالين) وقسم عظيم من شيوخ الطرق، وآخر من رجال العلمية والطلبة، والباقون من شبان المأمورين، ومشت أمامه فرقة من العساكر، وأخرى من النوَّاحين يرثونه، ويذكرون بلاءه في سبيل الوطن وتعريضه بنفسه إلى الموت لتخليص وطنه من الذين يريدون بيعه وتسليمه للأعداء، ويتباكون كأن المصاب بهذا المجاهد أعظم من المصاب بكل من مات في ميدان الحرب، وأعظم من الهزيمة التي أسقطت الجيش والعثمانية كلها من مرتبة الوجود. كل هذا على حين أن جنازة ناظم باشا كانت تمشي من طريق آخر وليس معها سوى بعض الجند، وبعض ضباط الأجانب والمأمورين العسكريين، والناس يتناجون فيما بينهم ولا يجسر أحد منهم أن ينبس ببنت شفة. جرت كل هذه المضحكات المبكيات، ثم عادت الوزارة الجديدة لمباشرة العمل والقيام بما ملأت به ماضغيْها من التحريض على الحرب ورد مخطرة الدول، وراجعت الأساس الذي كانت الوزارة السابقة تريد بناء الجواب عليه فإذا هو عبارة عن تسليم بعض الحدود الخارجية عن منطقة أدرنة وتسليم بعض الجزر، والرجاء من الدول بالاكتفاء بهذا وصرف النظر عن مطالبهن، فجعلت الوزارة اللاحقة تحاول تعديل جزء يسير من هذا فلم تجد إليه سبيلاً، ولا عليه معينًا، فاضطرت فيما سمعناه إلى تقريره بعينه، وستقدم الجواب اليوم أو غدًا [1] . أما صدى هذه الحركة في الجيش فالمسموع أنه صدى سيئ، وأن العسكر في جتالجه منقسمون، وبعضهم يريد الزحف على الآستانة لتأديب القائمين بها، وبعضهم يطالب بدم ناظم باشا، وبعضهم فر من الجيش إلى جيش البلغار، وأما الولايات فلم يرد منها إلا التقبيح لهذا العمل ورفض الاعتراف بالوزارة الجديدة فيما سمعنا، حتى قيل: إن ولاية البصرة عازمة على طرد الأتراك من بلادها وإعلان الاستقلال، وعلمت أن تلغرافًا ورد طالب بك يتضمن هذا أو نحوه، وأن تلغرافات وردت من بيروت والقدس بالرفض أيضًا [2] . أما التهاني التي وردت من بعض أقضية الأناضول ونشرتها الجرائد فهي خافتة الصوت ظاهر عليها أثر التصنيع، وأول ما درج منها تلغراف من رئيس الحمالين في أزمير يهنئ الوزارة، ويذكر أن لديه عددًا كبيرًا من عربات النقل مستعدة لخدمة الحكومة في الحرب التي تنوي استئنافها لتخليص الوطن! وعلمت من ثقة أن أول عمل قررته الوزارة: إعادة المجلس المنحل ودعوة المبعوثين؛ لأنها لا تعتبر ذلك الفسخ قانونيًّا؛ ولم ينشر في الجرائد تصريح بذلك، أما تلميحًا فقد نشر، والجرائد لا تذكر واحدًا من هؤلاء المبعوثين باسم مبعوث سابق، بل تطلق كلمة مبعوث إطلاقًا، وبالجملة فكل ما نراه ونسمعه هو من آيات الانتحار والانقراض، ولا ندري ماذا يكون شأن بلادنا، وماذا يعمل زعماؤها وكيف السبيل إلى النجاة. انتهى بنصه. ونشر المؤيد في العدد الصادر أمس (يوم الأربعاء 28 صفر سنة 1331 و5 فبراير سنة 1913) رسالة قال: إنه تلقاها عن أوثق المصادر جاء فيها ما نصه: بينما كانت الوزارة الكاملية مجتمعة في الباب العالي بعد ظهر أول أمس (أي: يوم الخميس 23 يناير) للمداولة في الجواب المزمع إرساله إلى سفراء الدول بشأن مسألة أدرنة والجزر؛ إذ أقبل نحو الباب العالي زمرة من الاتحاديين وأتباعهم يحملون أعلام الجمعية، وكانت الساعة الثالثة زوالية، وفي مقدمة الجميع القائمقام أنور بك، والميرالاي جمال بك وهو والي بغداد السابق، والبكباشي إسماعيل حقي بك وهو والي بتليس السابق، وعمر ناجي بك مبعوث قرق كليسا السابق وممتاز المتهم بقتل المرحوم زكي بك وتحسين بك صاحب جريدة سلاح، ومصطفى نجيب الذي لقي حتفه في هذه الفتنة، وبعض المنتمين للهلال الأحمر الهندي والهلال المصري من الهنود والمصريين (وهؤلاء انضموا إلى المتظاهرين في الآخر) وقسم كبير من المشايخ صنائع الاتحاديين يهللون ويكبرون. ثم دخل أنور بك ورفقاؤه المذكورون إلى رحبة الصدارة وحاولوا الولوج إلى الغرفة التي يجتمع فيها الوكلاء فعارضهم نافذ بك ياور الصدر الأعظم، وتوفيق بك ياور ناظم باشا، وجلال أفندي البوليس الملكي الذي يمشي بمعية سماحة جمال أفندي شيخ الإسلام، وكان هؤلاء الحجاب محقين بمنع هؤلاء الجماعة من الدخول على مجلس الوكلاء في ساعة انعقاده؛ لأنهم مأمورون بذلك قانونًا، وهم قاموا بوظيفتهم التي ينبغي أن تكون محترمة عند الجميع. ولكن أنور بك وجماعته هجموا بالقوة وقتلوا برصاص المسدس المرحومَ نافذ بك ياور الصدارة، فأصيب في جنبه وهجموا على الحاجبين الآخرين بالمُدى والخناجر التي كانوا خبأوها تحت ثيابهم، وكان الحاجبان يدافعان عن حياتهما، وعن باب مجلس الوكلاء بمسدسين كانا معهما. أما ناظم باشا فقد أقلقه انطلاق الرصاص داخل الباب العالي، وعلى باب مجلس الوكلاء، وكذلك قلق سائر الوزراء فخرج ناظم باشا من الباب وقبل أن يسمعوا كلامه أو يفهم مرادهم أطلق عليه مصطفى نجيب رصاصة، وقيل بل الذي بدأ بإطلاق الرصاص عليه هو أنور بك ونسب ذلك إلى مصطفى نجيب لأنه مات فيما بعد، ثم انهمر الرصاص على ناظر الحربية من الآخرين فأصيب برصاصة في صدغه وأخرى تحت عينه اليسرى ومات فأقبلوا على جثته يطعنونها بالخناجر والمُدى. وكان الياور توفيق بك إلى ذلك الحين يطلق الرصاص في الفضاء إرهابًا لهؤلاء الجماعة، فلما رأى جثة وزير الحربية ملقاة على الأرض ملطخة بالدماء لم يملك عواطفه، مع ما أصابه من جروح، فقتل مصطفى نجيب بالرصاص. وبعد قتل ناظم باشا تحول رصاص القوم على توفيق بك وبوليس شيخ الإسلام، وعلى اثنين من خدمة الباب العالي فقتلوا جميعًا. وبعد هذه المعركة دخل أنور بك وجمال بك على الصدر الأعظم وطلب منه الأول أن يستقيل فأجابه إلى ما أراد وكتب كتاب الاستقالة، وسلمه إلى أنور بك فخرج هذا بها إلى جماعته الذين ينتظرونه في الخارج أمام الباب العالي، وكان عددهم إلى تلك الساعة لم يزد على مائة شخص فبشرهم باستقالة كامل باشا، وقال لهم: لا تفارقوا باب الباب العالي حتى أعود إليكم من القصر السلطاني بتعيين وزارة أخرى. وذهب إلى سراي طولمه بغجه راكبًا أوتومبيلاً فقابل جلالة السلطان وأخذ منه الإرادة السنية في الحال بتعيين محمود شوكت باشا صدرًا أعظم، وطلعت بك وكيلاً لنظارة الداخلية إلى أن تتألف الوزارة الجديدة، وكان هذان ينتظران مع آخرين عند سراي طول

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار اللعب بالنرد والشطرنج والورق وحضور دور اللعب ومجاملة أهل الكتاب (س 7) من صاحبي التوقيع بالمطرية (في الدقهلية) : حضرة مرشد الأمة ورشيدها صاحب المنار المنير فضيلتلو أفندم: السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، ألتمس من فضيلتكم إجابتنا عن السؤال الآتي عسى بجواب فضيلتكم تمنع الحيرة ونهتدي إلى سبيل الرشاد. أسس بالمطرية دقهلية نادٍ باسم نادي الموظفين، الغرض منه نشر الفضيلة ومدارسة العلم، وتوثيق عرى المحبة والإخاء والإنسانية، وأعضاء النادي المذكور تتألف من محمديين وعيسويين وموسويين، وأعمال النادي على مقتضى قانون قد جاء فيه: (منع الخمر والميسر منعًا باتًّا) ولكن بالنادي المذكور حجرة للهو واللعب بالنردشير (الطاولة) والشطرنج والورق (أي الكتشينة) ترتب على وجودها بالنادي منع بعض أعضائه المسلمين من الحضور فيه وحرمانه من سماع ما يلقى من المحاضرات النافعة؛ لعلمه أن هذه الألعاب حرام لكونها ميسر كما نص عليه الشافعي وجرى عليه أكثر أصحابه، واعتمده الشيخان وغيرهما مستدلاًّ على تحريمه وتغليظ العقوبة فيه بأحاديث كثيرة وأقوال شهيرة مذكورة في كتاب (كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع) وكتب غيره، ولمَّا بيَّن الممتنعُ عن الحضور هذا المانعَ إلى بعض مؤسسي النادي، أجابه بعدم أحقيته في الامتناع حيث هذه الألعاب لم تكن من الميسر في شيء، ولم تكن حرامًا ولا مكروهة، وأنها نافعة لما فيها من مجاملة أهل الكتاب باللعب معهم، وتشحيذ الخواطر وتزكية الأفهام وراحة القلوب من عناء الأفكار، وترويح النفوس من شاق الأعمال، وغير ذلك مستشهدًا بأقوال كثيرين وببعض فتاوى المرحوم الإمام مفتي الديار (قياسًا) وقد كثر الأخذ والرد بينهما، وانتهى الموضوع إلى رفع الأمر إليكم رجاء الجواب عما إذا كانت الألعاب المذكورة حرامًا أو مباحة، والأكمل حضور الممتنع بالنادي لإعادة النفع العلمي أو امتناعه عن الحضور مع وجود حجرات بالنادي خلاف المختصة باللعب أفندم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن حسن عزام ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالمطرية - دقهلية ... ملحوظة: غرفة الألعاب مفصولة عن غرفة المطالعة والمحادثة بصالة عرضها 4 أمتار تقريبًا، وحضرات أعضاء النادي الأقباط يلعبون، وإذا كان كل مسلم يبتعد عن ذلك فسينمو الجفاء طبعًا، ومن جهة أخرى فإن النادي تلقى به محاضرات علمية وأدبية وفنية كل ليلة جمعة، فإذا ابتعد المسلم خسر هذه الفوائد التي لا تخفى على فضيلتكم، فأفتونا بما يقرب الناس ويزيل سوء التفاهم، ويكون سببًا لرقينا بعد ذلك النوم الطويل، أدامكم الله للمخلص ... ... ... ... ... ... ... ... سكرتير النادي ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد حسن محجوب (ج) من اعتقد أن عملاً من الأعمال حرام وجب عليه تركه ألبتة إلا لعذر شرعي كالضرورة التي تبيح المحرم لذاته كأكل الميتة، والحاجة التي تبيح المحرم لعارض كرؤية الطبيب ما تحرم رؤيته من بدن المرأة أو الرجل، وإذا زال العذر عاد حكم التحريم كما كان. وليست مجاملة أهل الكتاب ولا المسلمين من الأعذار التي تبيح المحرمات، ومن توهم أن التهاون بأحكام الدين من أسباب الترقي فقد انقلبت الحقيقة في نظره إلى ضدها، بل الإسراع إلى تغيير شعائر الأمة وآدابها وعاداتها التي تعد من مقوماتها أو مشخصاتها هو الذي يحل روابطها، ويمزق نسيج وحدتها، فلا ينبغي لعاقل أن يتهاون في المحافظة على ما ذكر، بل ينبغي مراعاة التدريج في ترك العادات الضارة إذا فشت في الأمة وصارت تعد من مميزاتها، فهذا أول ما يجب التفكر فيه والاعتبار به في هذا المقام وهو مما يغفل عنه الناس. على أن المجاملة لا تنحصر في اللعب بما هو محرم، ولا بما هو مباح أيضا. ثم إن في مسألة اللعب بحثين، أحدهما: هل الألعاب المذكورة في السؤال محرمة قطعًا وهي من الميسر أم لا؟ وثانيهما: هل الدخول إلى حجرة الخطابة من النادي لسماع شيء من العلم النافع يعد محرمًا لوجود حجرة تلعب فيها تلك الألعاب عند من يرى تحريمها؟ أما اللعب بالنرد، فالجمهور على تحريمه إلا أبا إسحاق المروزي قال: يكره ولا يحرم، وهو محجوج بحديث أبي موسى مرفوعًا في صحيح مسلم وسنن أبي داود وابن ماجه: (من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله) . وعللوا ذلك بأنه كالأزلام يعول فيه على ترك الأسباب والاعتماد على الحظ والبخت فهو يضر بذلك ويغري بالكسل، والاتكال على ما يجيء به القدر، أي فيه معنى الميسر المبني على الكسب بالحظ والنصيب دون العمل والجهد، وما أشد إفساد هذا في الأمم، وما أبعده عن الإسلام الذي يهدي أهله إلى الجد والسعي والعمل، ولا يمكن التفصِّي من تحريم لعب النرد إلا إذا ثبت أن سبب النهي عنه أنهم كانوا يلعبون به على مال؛ وأنه حرم لذلك، وليس عندنا نص في ذلك، وهو لا يكون من الميسر حقيقة إلا إذا كان اللعب على مال. وأما الشطرنج فالأكثرون على أنه غير محرم ومنهم الشافعية، قال الشافعي: إنه لهو يشبه الباطل، أكرهه ولا يتبين لي تحريمه، وقال النووي: إن أكثر العلماء على تحريمه وإنه مكروه عند الشافعي أي تنزيهًا، واشترط لتحريمه أن يكون على عوض، أو يفوت على اللاعب الصلاة اشتغالاً به عنها. ولا يوجد حديث يحتج به ناطق بتحريمه، وكل ما لا نص من الشارع على تحريمه فهو مباح لذاته؛ إذا لم يكن ضارًّا واستعمل فيما يضر، فإن ترتب على فعل مباحٍ حرامٌ حُرِّم لهذا العارض لا مطلقًا، كأن يترك اللاعب بالشطرنج ما يجب عليه لله أو لعياله مثلاً، ويدخل في ذلك: اللعب بالورق، فإنه لا نص فيه من الشارع، ولكن قال بحرمته بعض الشافعية، وهؤلاء قد جعلوا للعب قاعدة فقالوا: إنه يحل منها ما فيه حساب وتفكر يشحذ الذهن كالشطرنج دون ما كان كالنرد أو كان من العبث، والحق أنه لا يحرم إلا ما كان ضارًّا كما تقدم آنفًا. ولا شك في كراهة الانهماك في اللعب والإسراف فيه، ولنا في النرد والشطرنج فتوى مطولة في المجلد السادس من المنار، فليراجعها من شاء (ص 373 - 376) . وأما حضور الخطب والمحاضرات العلمية والأدبية في النادي فلا وجه لتحريمها بحجة أن في النادي حجرة يلعب فيها لعب محرم؛ لأن الحرمة إنما هي على اللاعب وعلى من يراه ولا ينكر عليه، وكذا يباح دخول أي مكان من النادي ليس فيه منكر، وقد يستحب إذا كان فيه فائدة كموادة الأصدقاء ومجاملتهم. *** أحاديث تقويم ديوان الأوقاف (س 8) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية: صاحب الفضيلة العلامة منشئ المنار الأغر: ما قول سيدي الأستاذ - وهو المحقق الأوحد في فن الحديث الشريف - فيما تذيل به صحائف التقويم الذي يصدره ديوان عموم الأوقاف عن حساب الأيام والشهور ومواقيت الصلاة إلخ إلخ، من الجمل الحكمية التي اختيرت على أنها أحاديث صحيحة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس على كثير منها صبغة ذلك الكلام البليغ الذي عهدناه في كتب الحديث الصحيح وأمهات كتب الشريعة الإسلامية. وإذا صح أن متخير هذه الحكم لم يحتط في بحثه ولم يرجع في مثل هذا العمل الخطير إلى الإخصائيين الراسخين في علم الحديث والسنة، وهو أول وأحق ما يجب اتباع قول الله فيه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) فما عذر علماء مصر ورجال الدين فيها؟ وهذه الحكم تنتشر على صحائف جريدة المؤيد، وتعلق عليها الشروح الضافية على أنها أحاديث صحيحة. وكان يجوز أن نلتمس لهم بعض العذر لو بقيت هذه الأحاديث على صحائف التقويم بين جدران الغرف، ولكن الأمر قد شاع وذاع وكثر اللغط فيه. فهل لسيدي الأستاذ أن يتصدى للموضوع بباعه الطويل، وقلمه البليغ، لتنجاب عنا هذه الغيوم، وتبيد تلك الهموم؟. ابن منصور (ج) إنني لم أنظر تقويم الأوقاف إلا معلقًا على بعض الجُدُر من بعيد فلم أَرَ فيه شيئا من هذه الأحاديث، ولكني رأيت بعض ذلك في المؤيد، وقلت لأحد محرريه: إن كثيرًا منها لم يروهِ أحد من المحدثين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح ولا حسن ولا ضعيف، وبعضها مروي فيجب على شارحها تمييز الحديث من غيره منها. وإطلاق اسم الأحاديث عليها غير جائز؛ إذ ليس لمسلم أن يعتد بعزو أحد حديثًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا عزاه إلى بعض أئمة المحدثين أصحاب الدواوين المعروفة في تخريج الأحاديث أو وثق بعلمه بالحديث، سواء رأى هذا الحديث في جريدة أو كتاب أو سمعه من متكلم أو خطيب، فإننا كثيرًا ما نسمع من خطباء الجمعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمحرفة حتى صار يضيق صدري من دخول المسجد لصلاة الجمعة قبل الخطبة الأولى أو في أثنائها، فمن سمع الخطيب يعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا يعلم أنه موضوع، يحار في أمره لأنه إذا سكت على هذا المنكر يكون آثمًا، وإذا أنكر على الخطيب جهرًا يخاف الفتنة على العامة، والواجب على مدير الأوقاف منع الخطباء من الخطابة بهذه الدواوين المشتملة على هذه الأحاديث أو تخريج أحاديثها إذا كانت الخطب نفسها خالية من المنكرات والخرافات والأباطيل وما أكثر ذلك فيها. وفي ص32 من فتاوى ابن حجر الحديثية أنه سئل عن خطيب يرقى المنبر كل جمعة، ويذكر أحاديث لا يبين مخرجيها ولا رواتها، وذكر السائل بعضها، وقال في ذلك الخطيب: إنه مع ذلك يدعي رفعة في العلم وسموًّا في الدين، فما الذي يجب عليه وما الذي يلزمه؟ فأجاب بما حاصله أنه لا يجوز له أن يروي الحديث من غير أن يذكر الرواة أو المخرجين إلا إذا كان من أهل المعرفة بالحديث أو بنقلها من كتبه قال: وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث أو في خطب ليس مؤلفها كذلك - فلا يحل ذلك، ومن فعله عزر عليه التعزير الشديد. وهذا حال أكثر الخطباء فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث، حفظوها وخطبوا بها، كذا من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلاً أم لا. فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك. ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه. إلخ. وحاصل الجواب: أن ما طبع في تقويم الأوقاف من الأحاديث بعضها له أصل صحيح أو غير صحيح، وبعضها لا أصل له، بل هو حكم منثورة لبعض الحكماء والعلماء، وأنه لا ينبغي لمسلم أن يروي شيئا منه مسميًا إياه حديثًا نبويًّا إلا إذا علم ذلك بالرواية عن الثقات في علم الحديث أو برؤيته في بعض دواوين الحديث المشهورة كالصحيحين وكتب السنن، أو معزوًّا إلى هذه الكتب وأمثالها في مثل الجامع الصغير، وليعلم أنه ليس كل ما في كتب السنن وأمثالها كمسند الإمام أحمد من الأحاديث يصل إلى درجة الصحيح في اصطلاحهم، بل فيها الصحيح والحسن والضعيف، وفيها ما عده بعض المحدثين موضوعًا، فليس لمن رأى فيها أو فيما نقل عنها حديثًا لم يصرحوا بقولهم: إنه صحيح، أن يقول: هو حديث صحيح، وكذا ما يراه في كتب الفقه والأدب والمواعظ، فإن هذه الكتب يكثر فيها إطلاق الأحاديث بغير تخريج وكثير منها واهٍ وموضوع لا تحل روايته إلا للتحذير منه. ومن الكتب المتداولة التي تكثر فيها الأحاديث الموضوعة والشديدة الضعف كتاب (خريدة العجائب) وكتاب (نزهة المجالس) بل يوجد مثل ذلك في بعض الكتب الجليلة كإحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وأكثر كتب التصوف لا يوثق بما فيها من الأحاديث. والعمدة: التخريج والتصريح بالتصحيح أو التحسين، فالمن

عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية (5) قد وصلنا إلى الخطر فإلى متى نغش أنفسنا؟ كتبت في شهر المحرم فاتحة هذا العام أربع مقالات في هذا الموضوع، ثم شغلت عن إتمام ما بدأت به من أسباب خذلان دولتنا في هذه الحرب حتى حدثت فتنة جمعية الاتحاد والترقي الأخيرة بزعامة أنور بك، فأسقطت وزارة كامل باشا وقتلت ناظر الحربية ناظم باشا في الباب العالي، ونصَّبت وزارة اتحادية جديدة صدرها وناظر حربيتها محمود شوكت باشا، فتعجل البلقانيون على إثر ذلك بقطع الهدنة، وأعيدت الحرب جذعة. كنت عازمًا على أن أبين في سلسلة هذه المقالات جميع الأسباب التي فتحت علينا باب المسألة الشرقية، بحرب طرابلس الغرب فالحرب البلقانية، وأن لا أدع من تلك الأسباب مسألة واحدة أومئ إليها ولا أبينها، وهي عبث جمعية الاتحاد والترقي بالعرش السلطاني ومقام الخلافة، تكريمًا لهذا المقام، واحترامًا للجالس على ذلك العرش. فلما حدثت الثورة الاتحادية وظن الناس - ولم أظن - أن ألمانية ستؤيد تلاميذها الاتحاديين، والنمسة وإيطالية معها ظهير، وأن دهاقين السياسة المحنكين سيعرضون عمران أوربة كله للتدمير، انتصارًا لهؤلاء الأحداث المخربين، ولما رأيت أوربة قابلت هذه الفتنة بهدوئها المعتاد، ورأيت جماهير المسلمين لم يقدروا ضررها حق التقدير، ولم يفكروا في عاقبة الحرب حق التفكير، بل ألقوا السمع إلى سماسرة التغرير، وحسبوا أن ما يرجون من النصر يدفع عن الدولة ما كان يخشى من الخطر - لما كان ذلك كله كما ذكرت، ورأيت أن التمادي في السكوت أولى فتماديت، إلى أن قرأت في جرائد مساء أمس ومؤيد صباح هذا اليوم (السبت 9 ربيع الأول) هذه البرقية الرسمية الواردة من عاصمة النمسة، فكانت هي الباعثة على العود إلى الكتابة في ذلك الموضوع مكتفيًا منه بالبحث في النتيجة والعاقبة، وهذه ترجمتها: نشرت الحكومة بلاغًا رسميًّا أزالت به المخاوف التي تسربت إلى الأفكار بشأن مهمة البرنس (هوهنلوه) حاجب عاهل النمسة، وقد جاء في البلاغ أن البرنس لقي في روسية مقابلة في منتهى المودة والصداقة، وأن الأسباب القديمة التي أسفرت عن حصول نزاع في روسية قد زالت، وأن الشعوب البلقانية صارت الآن عضوًا من أعضاء الأسرة الأوربية الغربية، وستهتم حكومة النمسة والمجر اهتمامًا خاصًّا بترقية هذه الشعوب وإعلاء شأنها. تفكرت في هذه البرقية مليًّا، وقارنت بينها وبين ما ورد قبلها من نبأ الوفاق والتواد بين إنكلترة وألمانية، وقلت في نفسي: إن هذا الاتفاق بين هذه الدول لا يكون في هذا الوقت إلا علينا، ولا بد أن يكونوا به قد صاروا إلبًا واحدًا على الدولة العثمانية التي كان أساس سياستها الخارجية، أنه لا بقاء لها إلا بتنازع الدول عليها، وسواء صح اتفاقهم النهائي علينا الآن، أم أخروه إلى أعوام، فالنتيجة واحدة، وهي أنه يجب أن تكون حياتنا ذاتية لنا، لا بتنازع الدول علينا، وأن نفكر في طريق اتفاق الدول وكيفية حلهم للمسألة الشرقية، التي كانت عضلة العقد وأم المشاكل، هل يقسمون ما بقي بأيدينا فيحتل كل منهم حصته احتلالاً عسكريًّا؛ لأن الدولة لا تستطيع مقاومتهم فتنتهي بالفتح الحربي أم اختاروا لها صورة من صور الفتح السلمي؟ وقد تفكرت فكان الثاني هو المرجح عندي، فإن هذه الدول العاقلة الرشيدة تأبى الاستيلاء على سائر بلاد الدولة الغالب عليها الخراب والجهل بالاحتلال العسكري لأسباب متعددة: منها: أن ذلك يقتضي نفقات كثيرة هم في غنى عنها. ومنها أنه لا بد أن يفضي إلى ثورات وفتن داخلية في البلاد التي يغلب على أهلها البداوة كالبلاد العربية والكردية وما يجاورها، وهم في غنى عن سفك الدم الأوربي المقدس! في أرض الهمجية في عرفهم، وفي إنفاق المال على ذلك. ومنها: أنه يترتب على ذلك وقوع العداوات والأحقاد بين المحتلين، وأهالي البلاد المسلمين، فيكون ذلك مؤخِرًا للاستفادة من استعمارها. ومنها: أن ما تطمع فيه كل دولة منها وتعده من منطقة نفوذها ليس بينه وبين ما تطمع فيه الأخرى حدود طبيعية يُؤمَنُ بها التنازع بين المحتلين مع ما بينهم من المناظرة والمباراة، بل الشقاق والمعاداة، ولا يتيسر الآن إقامة معاقل تتكافأ بها القوى فيخشى أن تقع بينهم الحروب لأجل ذلك. ومنها: أنه لا يوجد في أكثر هذه البلاد ثكنات ولا قلاع ولا حصون للجيش ولا مباني تليق بالأوربيين الذين يتولون الإدارة والأعمال، ولا طرق حديدية لنقل العسكر عند الحاجة ولسهولة المعيشة، فلهذا يتعذر اتقاء خطر التنازع الذي أشرنا إليه في الوجه الذي قبل هذا ويتعذر تلافي خطر الثورات والفتن الداخلية. ومنها: أنه لا يوجد عندهم العدد الكافي من الرجال، الذين يصلحون لتولي الأعمال، ويرجى أن تصلح بهم الحال، ومنها أن ذلك أشد ما يوقظ به استعداد مسلمي الأرض كافة، ويوجه قلوبهم إلى وجوب السعي للانتقام ممن أزالوا ملكهم، وهدموا سلطان دينهم. تلك هي الأسباب المانعة من الفتح الحربي، وأما الفتح السلمي فهو إدارة البلاد وحكمها بواسطة أشباح من العثمانيين تحسبهم عامة الأمة رجالاً منها، فلا يؤدي إلى هذا المحظور. يا سبحان الله! إن ساسة أوربة ينشرون في رسائلهم وجرائدهم الآراء في كيفية إزالة هذه الدولة كما أزالوا دولة مراكش ودولة إيران ولا نرى أحدًا من المسلمين يعتبر أو يفكر، ولا نقول يسعى أو يعمل. وما هو رأيهم في كيفية إزالتها؟ نشر مدير مجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية رسالة في أوائل العهد بهذه الحرب سماها (المسألة الشرقية) أشار فيها إلى أن أمثل الطرق في حل هذه المسألة أن تجعل الدولة العثمانية تحت مراقبة الدول كما تجعل حكومة ألبانية الجديدة. وبيَّن أن من مسهلات ذلك: سبق الدولة إلى جعل جميع مقومات حياتها في أيدي الأوربيين كمجلس الديون العمومية، وشركة احتكار الدخان، والبنك العثماني، والسكك الحديدية، والمستشارين الماليين، والمعلمين العسكريين، والمدارس والصناعات والملاحة، فلم يبق إلا تحويل نفوذ السفراء في الآستانة إلى سلطة شوروية مختلطة تكون هي المشرفة على حكومة العاصمة والمديرة لها، ويجعل وكلاء الدول في الولايات والمتصرفيات مسيطرين على الحكام فيها، ويكون من أهم عملهم تحديد النفقات العسكرية؛ لأن العسكر لا يبقى من الحاجة إليه إلا حفظ الأمن (كالعسكر المصري) وأما الخلافة فتظل محترمة بصفة كونها إمامة دينية فيكون السلطان محصورًا في قصره لا سلطة له ولا قوة. ويقول الكاتب: إن هذا يثقل على أصحاب المناصب والأهالي، ولكن الدولة في حالة إفلاس، وسيعلم رجالها أنه لا يمكن بقاؤها إلا بهذه الطريقة، وسيتعود الأهالي الخضوع لسلطة وكلاء الدول كما خضعوا لرجال الانقلاب العثماني أي: وهم أخلاط وأوشاب لا يعرف لهم عرق راسخ في الأمة كما بيَّنه الكاتب في موضع آخر من رسالته. وقد قرأنا في مؤيد هذا اليوم ترجمة برقية أرسلها صاحب جريدة أقدام التركية من فينة إلى جريدته بالآستانة يؤيد هذا الرأي، وهي هذه: عقد مندوبو البنك الشرقي الألماني والبنك الأهلي والعثماني جلسة في باريس تداولوا يها بمسألة القرض الذي تطلبه الوزارة العثمانية وقرروا أن يقرضوا الحكومة ما يكفيها لدفع رواتب الموظفين والضباط والجنود فقط. وطلبوا في مقابل ذلك أن يمنح لشركة إنكليزية امتياز ري أراضي الجزيرة. وأن تمنح إلى شركات فرنسوية امتيازات إنشاء الخطوط الحديدية في الأناضول، وأن تمنح إلى شركات ألمانية امتيازات إنشاء خطوط حديدية تتفرع عن الخط الأصلي لسكة حديد بغداد. وأن تصدق الحكومة على تمديد امتياز احتكار الدخان في المملكة العثمانية لشركة الريجي. وإجراء إصلاح في ميزانية نظارة الحربية. وأن يكون لهذه البنوك حق المراقبة على النفقات العمومية للحكومة. وأخيرًا أن تفوض إلى مصلحة الديون العمومية مسألة عقد القروض. اهـ. يقرأ المسلمون مثل هذا في الجرائد وتراهم وادعين ساكنين لا يهتمون بها ثم تراهم يهيجون لذكر أخذ أدرنة أو نصف أدرنة، ويشيد بعضهم بإطراء جمعية الأحمرين التي تجدّ ببيع ما بقي من هذه الدولة لأوربة بالرهون والامتيازات، فما هذا الجهل والغرور؟ نعم إن أمتنا الإسلامية قد استحوذ عليها الجهل والغرور معًا، وصار رؤساؤها وكبراؤها شرارها، فمن ذا الذي يعلمها ويهديها رشدها؟ إن السيادة والسلطة أعلى وأغلى شيء في نفسها، وقد كان لها ممالك كثيرة فكانت تزول بالتدريج وهي لا تعقل سبب زوالها، ولا تعتبر اللاحقة بما حل بالسابقة منها. تألفت الدولة العثمانية من عدة من هذه الممالك فكانت أكبرها وأقواها، ولكنها منذ صارت القوة تُبنى على أسس العلم والنظام صارت هي ترجع القهقرى في كل شيء، فهي منذ أزال السلطان محمود منها قوة الإنكشارية الهمجية إلى هذا اليوم، لم تقدر أن تؤسس قوة نظامية تحفظ بها ملكها الواسع، ولو بحيث تنجو من طمع الطامع، وإنما اكتفت من القوة المنظمة في الجملة بالقدر الذي يُمكِّن العاصمة البيزنطية من تذليل جميع الشعوب العثمانية، وجباية الضرائب والمكوس منها؛ ليتمتع أهل تلك العاصمة ومن حولهم بها، وكانوا يرون أن ذلك لا يدوم لهم إلا ببقاء الأمة على جهلها، فكان مصير ثروة الدولة والأمة كلها إلى أوربة، ولكن المسلمين راضون لجهلهم بسوء حالهم، ومقتنعون بأن لهم دولة قوية تحمي حماهم وحرمهم، فهذا الجهل والغرور هو الذي انتهى بالدولة إلى هذا المصير، ولا يزال المسلمون على غرورهم يحثون الدولة على الحرب، رجاء أن يكون لها الغلب فيعود إليهم التلذذ بالطمأنينة على ملك الإسلام، الذي تمثله لهم الأماني والأوهام، وإن زالت اللذة بعد شهور وأيام: أماني من سعدى عذاب كأنما ... سقتنا بها سعدى على ظمأ بردا مُنًى إن لم تكن حقًّا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدا أيها الإخوة المخلصون في الغيرة على الملة والدولة، إن الرائد لا يكذب أهله، اعلموا أن الدولة على شفا جرف من الخطر، وأن استيلاء أوربة عليها بالفتح السلمي أقرب غائب ينتظر، ومن مقدماته الفتنة الثورية التي حدثت في الآستانة وما سيعقبها من الفتن، ولا منجاة للدولة ولا لمثيري الفتنة بنصر يرجى لأخذ نصف مدينة أدرنة، ولا أخذ كل تلك المدينة، ولا بلجنة الدفاع الملية، ولا بالإعانات والضرائب الحربية، وقد كنتم مغرورين بجيش عبد الحميد، وسررتم بظفره باليونان، ثم أنفق الاتحاديون باسم هذا الجيش خمسين مليونًا من الليرات، ولم يمنع البلقانيين أن يسلخوا من الدولة بضع ولايات تضاهي جميع ممالكهم، فهل يمنع الدول الكبرى من أخذ الباقي إذا هي اتفقت على ذلك؟. أيها الإخوة المخلصون للدولة والإسلام، إنني أنا النذير العريان، الذي حمله الإخلاص في النصح على تعريض عرضه للسب والشتم، بل تعريض ماله للسلب ونفسه للقتل، اعلموا أن الدولة على خطر الزوال، فيجب على العقلاء منكم أن يفكروا أولاً في عاقبة سلطة الإسلام، وحفظ حرم الله تعالى وحرم رسوله عليه الصلاة والسلام، فإن أدرنة التي خدعتم بتعظيم أمرها، لا تغني فتيلاً في الدفاع عنهما، وإنما حفظهما بحفظ سياجهما والبلاد والسواحل المحيطة بهما، ثم أن يفكروا ثانيًا بحفظ سائر بلاد الدولة ووقايتها من امتلاك الأجانب لها، وحفظ استقلال الدولة فيها. سمعتم أن

نظريتي في قصة صلب المسيح وقيامته من الأموات ـ 2

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظريتي في قصة صلب المسيح وقيامته من الأموات (2) (تابع ما قبله) ولنا أن نسأل هنا الأسئلة الآتية: (1) إذا كان المسيح أخبر تلاميذه بأنه بعد قيامته سيسبقهم إلى الجليل وأمرهم بالذهاب إلى هناك لكي يروه (مت 26: 32 و28: 10 ومر 16: 7) فلماذا إذًا ظهر لهم في أورشليم كما يقول لوقا ويوحنا في نفس اليوم الذي قام فيه؟ (لو 24: 36 و37 ويو20: 19) . (2) ما الحكمة في إرسالهم إلى الجليل ليروه هناك مع أنه ظهر لهم مرارًا في أورشليم (أع 1: 3) وما الداعي إلى ذلك، وهو الذي أمرهم أن لا يبرحوا أورشليم حتى يحل عليهم روح القدس؟ (لو 24: 49 وأع 1: 4) . (3) هل ظهوره لهم في الجليل كان بعد ظهوره لهم في أورشليم أم قبله؟ فإن كان بعده فلماذا شكُّوا فيه؟ (مت 28: 17) بعد أن كان أقنعهم بذلك في أورشليم (لو 24: 39 - 49 ويو 20: 20 و27) وإن كان قبله، فمتى ذهبوا إلى الجليل إذًا مع العلم بأن الجليل يبعد عن أورشليم مسيرة ثلاثة أيام على الأقل، وقد نصت الأناجيل على أنهم رأوه في أورشليم في نفس يوم قيامته من القبر، فهل يعقل أنهم ذهبوا إلى الجليل ورأوه هناك ثم رجعوا في نفس ذلك اليوم؟ وإن كان السبب في الشك أن هيئته كانت تتغير بعد القيامة مرارًا، فلماذا كان ذلك؟ وما الحكمة في هذا التضليل؟ وإذا كانت هيئته قابلة للتغيير والتبديل بعد القيامة وقبلها كما يفهم من الأناجيل (راجع متى 17: 1 - 7 ومر 9: 2 - 8 ولو 9: 28 - 36) وكان له القدرة على الاختفاء عن أعين الناس، والمرور في وسطهم بدون أن يروه والإفلات من أيديهم (يو 8: 59 و10: 39 ولو 4: 30) فكيف إذًا يجزمون بأن اليهود صلبوه وأنهم عرفوه حقيقة وأمسكوه مع أن نفس تلاميذه كانوا يشكون فيه لكثرة تغير هيئته وتبدلها؟ (يو 21: 4) فأيّ غرابة إذا قلنا: إن اليهود لم يعرفوه وأخطأوه كما أخطأته مرة مريم المجدلية وظنته البستاني؟ (يو 20: 15) . (4) إذا كان المسيح ظهر لهم في أورشليم يوم قيامته، فلماذا لم يأمرهم بنفسه وقتئذ بالذهاب إلى الجليل بدلاً من أن يرسل إليهم هذا الأمر بواسطة النساء؟ (متى 28: 10 ومر 16: 7) ولماذا لم يذكر مَتَّى هذا الظهور، ويذكر ما ينافيه مما سبق بيانه؟ ألا يدل ذلك على أنه ما ظهر لهم في أورشليم، وإلا لَمَا احتاج لتوسيط النساء بينه وبين تلاميذه؟ ولم ترك متَّى ذكر ذلك، وهو من الأهمية والبعد عن الشك كما يقول الآخرون بمكان عظيم؟ (لو 24: 45 ويو 20: 25) . بقي علينا أن نناقش قصة الصلب هذه من وجوه أخرى: (1) أن الشريعة الموسوية في مثل حالة المسيح كانت توجب الرجم، وليس فيها صلب لأحد وهو حي، وإنما يعلق المقتول على خشبة (تثنية 21: 22) . أما الشريعة الرومانية فكان الصلب فيها للعبيد ولقطاع الطريق ونحوهم من أرباب الجرائم الدنيئة، فكيف إذًا صلب المسيح، وعلى أيِّ شريعة كان ذلك؟ وكيف طلب اليهود صلبه وأنفذه الرومان لهم، وهو ليس موجودًا في شرائعهم لمثله؟ وكيف صلب معه لصان كما يسميهما متَّى ومرقس وليس في شريعة الرومان، ولا شريعة اليهود صلب اللصوص؟ لذلك شك بعض العلماء حتى في أصل هذه القصة، ومنهم أيضًا من أظهر بالدلائل التاريخية المعقولة الكذب أو المبالغة في بعض قصص اضطهاد النصارى؛ واستشهادهم الكثير في القرون الأولى كما يحكون في تواريخهم. (2) جاء في إنجيل لوقا أن المسيح قبيل القبض عليه قال لتلاميذه (22: 36) : الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك، ومن ليس له فليبع ثوبه ويشترِ سيفًا 38 فقالوا: يا رب هو ذا هنا سيفان. فقال لهم: يكفي 39 وخرج ومضى كالعادة إلى جبل الزيتون، وتبعه أيضًا تلاميذه 40 ولما صار إلى المكان قال لهم: صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة 41 وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى 42 قائلاً: يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك 43 وظهر له ملاك من السماء يقويه 44 وإذا كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض 49 إلى قوله: فلما رأى الذين حوله ما يكون قالوا: يا رب أنضرب بالسيف 50 وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه اليمنى، وعلى هذه العبارة ترد عدة مسائل: أولا: إن المسيح أمر تلاميذه بشراء السيوف وحملها للدفاع عنه، وأراد واحد منهم أن يقتل عبد رئيس الكهنة، ولكن أصابت الضربة أذنه فقطعتها ولم ينهه المسيح عن ذلك إلا بعد أن أخطأت الضربة الرجل كما يفهم من متَّى (26: 51 و52) فكيف يتفق هذا مع قول الأناجيل عنه أنه أمر تلاميذه بمحبة الأعداء (مت 5: 44) وأنه قال (مت 5: 39) : (من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا) . فلماذا لم يعمل هو نفسه بأقواله هذه، وأراد تلاميذه على حمل السيوف للدفاع عنه؟ أم كانت هذه الأقوال السلمية في مبدأ أمره كما يفهم من إنجيل متَّى قبل أن يقوى، فلما قوي قليلاً تركها؟ فماذا كان يفعل لو بلغ من القوة مبلغًا يستطيع معه أن يقهر دولة الرومان؟ وبم يفتخر المسيحيون علينا إذًا، ونحن نرى أن المسيح ما دعا إلى السلم إلا وقت ضعفه الشديد؟ ولم يعيبون محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنه حارب أعداءه، وقد كان حينئذ قويًّا شديدًا؟ أو لا يُفهم من عبارة لوقا هذه أن المسيح هو الذي أشار عليهم بالضرب بالسيف حينئذ، فإنه هو الذي أمرهم بشرائها وحملها معهم؟ نعم إنه لم يصرح بذلك حينما سألوه (أنضرب بالسيف) ؟ ولكن كان سكوته إيعازًا خفيًّا خوفًا من اليهود ومن الدولة الرومانية؛ لأن الظاهر أنه كان عنده أمل في النجاة منهم؛ ولذلك لما تم صلبه على زعمهم يئس وقال: (إلهي إلهي لم تركتني؟) (مت 37: 46) . ثانيًا: إذا كان المسيح ابن الله الذي نزل من السماء للموت ليرفع خطيئة العالم، فلماذا أراد الدفاع عن نفسه، ولماذا لم يسلم نفسه لهم طائعًا مختارًا؟ وما معنى هذه الصلاة الطويلة العريضة والإلحاح بطلب النجاة، وما حكمة ذلك يا ترى؟ وهو يعلم أنه لا فائدة من هذا كله ولا بد من صلبه الذي جاء لأجله. ثالثًا: إذا كان عبيد الله يقدمون أنفسهم للشهادة في سبيله بكل شجاعة وثبات وإقدام، فكيف يمكن أن يجبن (ابن الله) عن مساواتهم في ذلك حتى يتصبب عرقه من شدة الخوف من الموت، وليس في الموت إلا أنه يعود ثانية إلى أبيه، فَلِمَ كَرِهَ ذلك يا ترى؟ ولِمَ هذا الحزن الشديد كما ذكر متى (26: 37 و38) ؟ رابعًا: كيف يحتاج ابن الله الممتلئ من روح القدس إلى ملاك من السماء ليقويه مع أنه في ناسوته يوجد أقنومين إلهيين (الابن، وروح القدس يو1: 32) وهما متَّحِدان به، فهل هذا الملَك عندهم أقوى من الله؟ خامسًا: هل من العدل عند النصارى أن ينقذ الله المذنبين - آدم وبنيه ويصلب ابنه البريء رغم إرادته وهو يستغيث به فلا يغيثه؟ فأين عدله ورحمته؟ وإذا لم يكن عادلاً رحيمًا بابنه، فهل مثل هذا الإله يرحم عبيده ويعدل فيهم؟ ولِمَ هذا الحب الكثير من إلههم لسفك دم الأبرياء من قديم الزمان؟ راجع قصة يفتاح الممتلئ من روح الله الذي قتل ابنته الوحيدة البريئة قربانًا لله وذكر الله قصته هذه في بعض كتبه ولم يزجر أباها ولم يعاقبه على ما فعل، كأن قتلها كان مرضيًّا عنده تعالى (قضاة 11: 29 - 40) لأن أباها أصعدها بعد قتلها محرقة له، فلعله سُرَّ من رائحتها والنيران تأكل جثتها فلذلك ذكر هذه القصة ولم يذكر ما ينفر منها ليقتدي الناس بيفتاح هذا. راجع أيضًا مقالة القرابين والضحايا في كتابنا (دين الله) . (3) يقول إنجيل يوحنا 19: 31 (ثم إذا كان استعداد فلكي لا تبقى الأجساد على الصليب في السبت؛ لأن يوم ذلك السبت كان عظيمًا، سأل اليهود بيلاطس أن تكسر سيقانهم ويرفعوا 32 فأتى العسكر وكسروا ساقي الأول والآخر المصلوب معه 33 وأما يسوع فلما جاءوا إليه لم يكسروا ساقيه؛ لأنهم رأوه قد مات 34 لكن واحدًا من العسكر طعن جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء 36 لأن هذا كان ليتم الكتاب القائل عظم لا يكسر منه 37) . وأيضا يقول كتاب آخر: (سينظرون إلى الذي طعنوه) . فإذا كانت هذه القصة حقيقية ووقعت لتتميم نبوات قديمة، فكيف لم يشر إليها الثلاثة الإنجيليون الآخرون؟ وليس هذا فقط بل إن عبارة مرقس (15: 42 - 46) تنافي هذه القصة؛ لأن يوحنا (19: 38) يقول: إن يوسف أتى إلى بيلاطس بعد أن أمر بكسر سيقان المصلوبين وبعد أن ماتوا؛ فأذن له بأخذ الجثة؛ فكيف إذًا تعجب بيلاطس (حسب رواية مرقس) من موت المسيح بسرعة حينما جاءه يوسف طالبًا الجسد؟ ولماذا سأل قائد المائة قائلا: (هل له زمان قد مات؟) (مر 15: 44) إذا كان حقيقة أصدر أمره بكسر سيقان المصلوبين ورفعهم كما قال يوحنا؟ فهل بعد هذا الكسر يبقى موضع للعجب؟ ولا يخفى أن المسيح صلب بين اللصين (يو19: 18) فكيف تخطاه العسكر، وكسروا ساقي الأول والآخر ولم يكسروا ساقيه بل كسروا الثالث قبله؟ فإن قيل: لأنهم رأوه قد مات. قلت: إذا كانوا متحققين من الموت فلماذا طعنه أحدهم بالحربة في جنبه؟ وإن لم يكونوا متحققين فما الذي أخرهم عن كسر ساقيه بعد صدور الأمر لهم بذلك؟ ولماذا ترددوا في إطاعة الأمر حتى تخطوه إلى الثالث، وهل من شأن العسكر التردد والتوقف والبحث في مثل ذلك؟ مع أن الأمر صدر لهم صريحًا بكسر سيقان الجميع والتعجيل بموتهم ورفعهم عن الصلبان إجابة لطلب اليهود من بيلاطس فما الذي أخرهم عن تنفيذ الأمر في الحال؟ ألا يدل ذلك على أن هذه القصة مصطنعة لتطبيق نبوات قديمة على المسيح كما هي عادة كتبة الأناجيل؟ (راجع كتاب دين الخوارق في الإنكليزية صفحة 837 و 838) . وكيف يفسرون خروج الدم منه بعد الموت من الوجهة الطبية، وما هذا الماء الذي رآه يوحنا خارجًا من جنبه كما يقول إنجيله (19: 34 و35) . (4) ذهب بعض علماء الإفرنج إلى أن المصلوب لم يمت؛ لأن مدة الصلب كانت ست ساعات على الأكثر (راجع مرقس 15: 25 - 37) وهي غير كافية للموت بالصلب، فإن المصلوب يموت عادة من يوم إلى ثلاثة أيام؛ ولذلك تعجب بيلاطس من هذه السرعة (مر 15: 44) وقال بسبب ذلك أوريجانوس وغيره من آباء الكنيسة القدماء: إن موته كان من خوارق العادات؛ وأيضا فإنه لم تسمر إلا يديه فقط وربطت رجلاه؛ ولذلك لم يذكر يوحنا إلا أثر المسامير في يديه ولم يذكر رجليه (يو20: 20 و25 و27) ولم يُرِهما المسيح لتلاميذه بحسب هذا الإنجيل. وأما عبارة لوقا (24: 39 و40) فإنها تحتمل أن المراد بها أنه أراهم يديه ورجليه ليجسوهما؛ ليعلموا أنه جسم حقيقي له لحم وعظم، كما قال؛ ليقنعهم أنه ليس روحًا، وإنما أراهم يديه ورجليه دون سائر جسمه؛ لأنه يسهل كشفهما دون باقي الأعضاء الأخرى، على أن هذه القصة قد ردَّها علماء النقد المحققون (راجع كتاب دين الخوارق في الإنكليزية صفحة 837 و838) . هذا ولم يكن ربط رجلي المصلوب عند الرومانيين وغيرهم بأقل من تسميرهما، إن لم نقل: إنه كان الغالب في الصلب، وفوق ذلك فإن عظامه لم تكسر كما قال يوحنا (19: 36) وأما طعنه بالحربة فلم تذكرها الأناجيل الأخرى، وقصتها مشكوك فيها كما بيَّنا، وإذا صحت فيجوز أن الحربة لم تنفذ إلى داخل الجسم، وتكون فقط قد قطعت الجلد والشحم وبعض العضلات على أن الفعل اليوناني المترجم في الإنجيل بطعن (يو 19: 34) لا يفيد أن الجرح كان غائرًا كما يقول علماء هذه اللغة. ثم إن هذه الحادثة تدل على الحياة أكثر من دلالتها على الموت، فإنه لو كان المصلوب ميتًا لَمَا سال منه دم، فسيلان الدم منه هو أحد الدلائل على أنه كان حيًّا، فبعد أن سال منه جزء من الدم بطل النزف كالمعتاد. والظاهر أن هذه القصة اخترعت قديمًا لإثبات الموت؛ لجهلهم بعلم الطب إذ ذاك. فلهذه الأسباب كلها قال الع

خطبة لرأس هذه السنة الجديدة سنة 1331 هجرية

الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي

_ خطبة لرأس هذه السنة الجديدة سنة 1331 هجرية [1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (الإسراء: 111) {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ} (الملك: 1-2) {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (آل عمران: 18) {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29) {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (آل عمران: 144) {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُم} (محمد: 2) {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيما} (الأحزاب: 40) {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) . اللهم صلِّ على نبيك رسول الرحمة، وكاشف الغمة، ومزيل النقمة، وعلى آله وأصحابه أجميعن، ومن اهتدى بهديهم في الأولين والآخرين، واجعلنا منهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فيا أيها المسلمون {هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} (آل عمران: 138 - 143) {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (المزمل: 19) . أيها المسلمون، مرت الليالي والأيام وتعاقبت الشهور والأعوام، والأمة الإسلامية في كل موضع ومقام، تُظلم وتُضام، وتُداس بالأقدام، عند جميع الأقوام وهم {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُعْتَدُونَ} (التوبة: 10) ولا ينظرون إلى مسلم بعين إنصاف أو رحمة، وإن من شهد هاتيك الأعوام الماضية، وتلك الأيام النحسة الخالية، هذا العام الذي طويت صحيفته من الوجود، ومحيت أيامه ولياليه من الخافقين فلا تعود {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدا} (الأحزاب: 11) وعم الويل والثبور القريب منهم والبعيد، فقد انتابتهم النوائب الماحقة، وصبت عليهم المصائب الساحقة، وألمت بهم الرزايا العديدة، ونزلت بساحتهم البلايا المبيدة، وأحاطت بهم المهالك، فجعلت أيامهم البيض سودًا حوالك، وها هي ذي الأمة الإسلامية تردد النفس الأخير، وسيقضى عليها - لا قدر الله - إن لم يتداركها برحمته العزيز القدير] وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [ الأعراف: 34) . انظروا بعيني البصر والبصيرة إلى هذه الأمة الكبيرة، ذات العزة والسطوة، والمنعة والقوة، والأيام المشهورة والآثار المسطورة، تروها على وجه هذا الصحصحان ككرة الصولجان، تتقاذفها الفرسان، وتطاردها الفتيان، وتقلبها في الميدان، وهي لضعفها طوع صوالجهم، ولعجزها تبع إرادتهم، لا ترد ضربة ضارب، ولا تكف يد لاعب {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} (الشورى: 30) {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (يونس: 44) . تأملوا رحمكم الله وأصلح بالكم، في هذه الأمة الكريمة، ذات الشهرة العظيمة، والرعب والرهبة، والفتح والغلبة، تجدوها بين الأمم، كقطيع من الغنم، غاب عنها راعيها وقد خيمت عليها الظلم، فانقضَّت عليها ذئاب الغرب المتمدنة، وثعالب تمدن هذه الأزمنة، تنهشها بالأنياب والحراب، وتمزق منها الجلباب والإهاب، وتسومها سوء الهوان والعذاب، تقطع أوصالها، وتستلب أموالها، تقتطع ممالكها مملكة فمملكة وتجرها من مهلكة إلى مهلكة، تغتصب بلدانها وتختطف تيجانها، تستنزف دماءها، وتمزق أشلاءها، مرتكنة في استباحة أفعالها على حجج لا مبرر لها، ودعاوي أوهن من بيت العنكبوت، وإنه لأوهن البيوت، وأمتكم تستغيث بالإنسانية ولا إنسانية لدى القوم، وتستجهر بالمروءة وقد ماتت ومات أهلها من بينهم اليوم، تناشدهم شفقة الأخوة الآدمية، وتذكرهم بالحقوق الملية، والمعاهدات الدولية، وهم يتصاممون عن سماعها، ويُنغضون إليها رءوسهم استهزاءً بها، تخوفهم عاقبة هذه الدار، وعقاب القوي الجبار، لكل ظالم ختار، وهم لا يرهبهم إلا الحديد، والعدد العديد من الأبطال الصناديد، أولي الأيد والبطش الشديد، ولا تخيفهم إلا الجماعة المتساندة، والعصبة المتحدة، والفئة المتعاضدة ذات القلوب المتوادة والأهواء الواحدة، والمقاصد المتماثلة والأعمال المتواصلة، والآراء السديدة والمساعي الحميدة، والهممم العالية والمطالب السامية، ولا ترعبهم السيوف البتارة والجيوش الجرارة والخيل والعدة والبأس والشدة، والشهامة والنجدة ولا تفزعهم إلا البواخر الماخرة والقلاع الزاخرة، والمدافع المزمجرة، والقذائف المدمرة ولا تردعهم إلا الرعاة الساهرة والقواد الماهرة، والذخائر الوافرة، والنيران الملتهبة والليوث المتأهبة ولا يردهم عنكم أيها المسلمون الساهون اللاهون، إلا الاهتداء بتعليم القرآن والامتثال لأوامر الرحمن والمبادرة إلى العمل بقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُون} (الأنفال: 60) . وأنى للأمة الجاهلة اللاهية الغافلة بمثل هذه الصفات الفاضلة؟ وأين منها هذه المزايا الفضلى والمعاني الجلى، وقد اشتغل سادتها وكبراؤها، وأمراؤها وزعماؤها بالألقاب العاطلة، والفخفخة الباطلة عن إعداد القوة المرهوبة، وتهيئة العُدد المطلوبة، وبفتح زجاجات الخمور عن تحصين الثغور، وبتشييد القصور والتفاخر بالرياش والملابس عن تشييد القلاع والحصون وإنشاء المدارس، وبنصب مراسح التمثيل، ورفع منصات السفه والأباطيل عن تأسيس المعامل لبناء الأساطيل والبواخر، وعمل الخراطيش والأسلحة والذخائر، وبالخرافات والترهات عن إقامة المصانع لإبراز المصنوعات، وبالركون إلى البطالة اعتمادًا على موهوم الإمارة، عن تعميم الزراعة وتنشيط التجارة حتى تكثر الثروة وتعز القوة، وبالتخيلات الشعرية والشهوت البهيمية عن العلوم والفنون والمعارف العصرية، وبمطالعة روايات الفحش والفجور عن تواريخ الأمم ووقائع الدهور، وبسير الفجار والأشرار عن سير القواد الكبار والأسلاف الأخيار، وبتلقف أخبار زمرة الفسق والدعارة عن النظر في أحوال الأمة والمملكة أو الإمارة، وبمعاقرة بنات الدنان، ومعانقة الغيد الحسان، عن تلاوة القرآن لمعرفة أوامر الرحمن، وبالانهماك في قصص البغايا والبغاء، عن الالتفات إلى أحاديث خاتم الأنبياء، وبالاعتناء الشديد بقول الخناس الوسواس، عن الاهتداء بقول ذي العرش المجيد: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} (الحديد: 25) وبالتفاني في طاعة النفس والهوى، في كل ما يضرهم ولا ينفعهم، ويفسدهم ولا يصلحهم، وهم غافلون لاهون، لا يحسون ولا يشعرون، عن امتثال أوامر فالق الحب والنوى، مما به يعلون ويعتزون، ولا يهِنون ولا يُحزنون، ويُحترمون ويُهابون، ولا يُهانون ولا يُظلمون، يبيتون لياليهم سجدًا ولكن في المراقص والحانات. وركعًا ولكن على مناضد الخمور والمغيِّبات، وخُشَّعًا ولكن لأصوات المغنيات، ووسواس حلي الراقصات، ويقضون نهارهم في سررهم نائمين، لا يهمهم من أمري الدنيا والدين، إلا تناول المساحيق وابتلاع المعاجين {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} (المؤمنون: 106) {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ } (الأحزاب: 67) ، {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} (الأعراف: 38) {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 8) فهل - والحال هذه - يفرح ذو شعور باختتام عام وافتتاح عام؟ أو تنشط نفس مسلم غيور إلى السرور بتجدد الشهور والأيام؟ وهل يستل

الفهم والتفاهم

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ الفهم والتفاهم كنا نود أن لا يأتي الزمان شاهدًا بليغًا بصحة ما كنا نقول ونصف من مضارِّ الابتعاد عن الفهم والتفاهم، أمَا وقد أتى الزمان بهذه الشهادة التي سمعتها كل أذن، فنحن غير ضانِّين بإعادة التذكير علَّ الحياة التي يرجى شيء منها لقومنا في الأيام الآتية تكون في تقويم أحسن وشكل أمتن. عهِدنا القومَ يقولون: نحن نؤمن أن البارئ عز وجل قد أكرمنا بهداية عظيمة، ولكنا لا نفهمها إلا بواسطة فلان وفلان، ولتعدد الذين هم أئمة ومقتدَون لهم رأيناهم متباغضين أشد التباغض، ومتنافرين أشد التنافر، وما ذلك إلا لأن فهم الإمام فلان قد خالف فهم الإمام فلان؛ ولكل منهم إمام معلوم، وأعظم هذا الافتراق قد وقع بين الذين يسمون الشيعة وبين الذين يسمون السُّنية، ولم ينمُ ويترعرع ذلك بين هاتين الفئتين الكبيرتين إلا بسبب عدم التفاهم، ولم يبعدهم عن التفاهم إلا قول كل واحد من كل فريق منهم: نحن لا نفهم. فلست أدري اليوم - من بعد أن رأوا ما نزل بساحتهم - أيبقى باب الفهم والتفاهم مسدودًا فيما بينهم، أم يتشاءمون بذلك السد ويرجون ما ترجوه الأمم الفاهمة من فوائد الفهم والتفاهم. نعم لست أدري أيبقون مصرين على سد ذلك الباب، وإن أصبح البيت خرابًا أم يلهمهم الله معرفة أن الفهم والتفاهم ليسا بمحالين كما ظنوا؟ وكذلك لست أدري ما هي الفوائد التي ينتظرونها من ذلك السد بعد أن أدى الافتراق والابتعاد عن الفهم إلى ما صار إليه هؤلاء المفترقون الذين يقولون: نحن أهل ملة واحدة؛ وما أدراك ما صار إليه هؤلاء أجمعون؟ إنهم صاروا إلى أسوأ ما تصير إليه الأمم. نحن لا نقصد بهذا تقريعًا، ولا نرمي به إلى وقيعة، غفرانك اللهم إن علق شيء من هذا بنيتنا، أو مر بخاطرنا، كلا بل ليس قصدنا إلا التذكير وما نحن بناسين ولله الحمد ما للناس من العذر في ذلك الموقف الذي وقفوه قرونًا متطاولة، نعني به موقف الاقتداء بالآباء والجدود فيما تعلقوا به من تقديس فُهُومِ بعض المتقدمين، والتبرؤ من فهومهم أنفسهم، فإن استعداد أكثر الناس آخِذٌ بهم إلى مثل هذا. إي والله إنما نقصد التذكير لا التقريع، ولكي نزيد هذا تأكيدًا نصف ههنا كيف يخلص التقليد إلى أكثر النفوس، وكيف يخلص منه بعضها، فاقرأه أيها الأخ وأنت ذاكر سنن ربك عز وجل، تخرج منه إلى ثمرة عظيمة النفع إن شاء الله تعالى. كان الناس أمة واحدة في أوائل أمرهم فما لبثوا أن أتت عليهم المفرقات فأصبحوا أممًا في الأوطار والأفكار، كما صاروا أمما في الأوطان والديار، وأعظم ما طرأ عليهم من المفرقات هو الفضل الذي يوجد في علوم بعضهم على علوم الآخرين، ولو شاء الله تعالى أن يكونوا جماعة واحدة فحسب لفطرهم على نحو ما فطر سائر أنواع الحيوان من تساوي أفراد كل نوع منها في المدارك تقريبًا، أمَا وقد جعل الفاطر عز وجل بين أفراد النوع الإنساني هذا التباين العظيم في الإدراك والإجادة؛ فإننا نفهم حينئذ أنه سبحانه قد قضى أن لا يكون الناس أمة واحدة، فكانوا على ما نراهم عليه أممًا وجماعات؛ ولله سبحانه الحكمة البالغة، على أنه قد لطف بعباده فخلق لهم مع أسباب التفريق أسباب الجمع، وكما جعل في تفاوت الإدراك شيئًا من الضرر قد جعل فيه ذروا من النفع، فمن كانت شهوته من فلاسفة الإنسانية أن يكون البشر على عقل واحد فإنما يتيسر له ذلك بإعدام كل من يخلق في مداركه شيء من الفضل على مدارك غيره. أما الذين عافاهم الله تعالى من تلك الشهوة فأولئك يعلمون أن هذا النوع لم تتمزق أوصاله بتفرعه إلى أمم معدودة محدودة معهودة، كلا، بل بسقت بذلك دوحته وعظم أصلها، وازدادت قوتها، وأصبحت بحيث لا يضيرها أن تذبل بعض فروعها. نعم نعم، قد خلق الفاطر سبحانه أسباب الجمع كما خلق أسباب التفريق ومن جملة أسباب الاثنين معًا ذلك الاقتداء الذي جعله غريزة في البشر عامة شديدة الالتصاق، فبما توحيه هذه الغريزة يمشي الملايين من الأبناء والبنات، على ما عليه مشت الملايين من الآباء والأمهات، ويظلون على ذلك عصورًا كثيرة من غير ما تغيير ولا تبديل إلا قليلاً لا يكاد يعد مفرقا لشمل هذا الجمع العظيم، وهكذا يكون شأن سائر الجموع والأمم كما هو مشاهد، وبما خص به العقل الإنساني الذي جعله الله جوّالاً ولم يوزعه على الأفراد بالسوية، نرى أنه مهما وقف الاقتداء بملايين من بني آدم عند الحد الذي وقف فيه آباؤهم يقوم أحيانًا فرد من بين تلك الملايين تتقد فيه جذوة من ذلك المشرق العقلي وتدفعه إلى التماس ما هو أحسن مما وقفت عنده أمته، وحينئذ يجدهم معارضين له، فإن نجحوا أخمدوا جذوته، وإن نجح دخل بأمته في خلق جديد، أو خرج منها بأمة حديثة في الوجود، ولذا لا يمدح الاقتداء من حيث هو مطلقًا؛ لأنه قد يوقف الأمم وقفة واحدة، ولا يذم مطلقًا؛ لأنه به تتكون أمم وبه تنتقل في أطوارها، وأنت تراه تارة صديق النوابغ؛ إذ لولاه لما وجدوا تابعًا ومُظاهرًا، ولولاه لما ظهرت مقادير هممهم عند مقاومة الأجيال لهم، وطورًا تراه عدوهم؛ إذ لولاه لما وجدوا تلك العقبات الهائلة في سبيل الإصلاح؛ ولأجل هذا ترى الذين ينظرون إلى الأمور من جهة واحدة منهم من يحسب فيه كل الفوائد ومنهم من يخال كل المضار فيه. أما الذين يمعنون النظر في الأشياء ويسلم نظرهم من شوائب الهوى الخاص، فأولئك يعرفون انقسام أكثر الأشياء إلى أجزاء أو جهات بعضها نافع وبعضها ضار، ويعرفون المقادير والحدود التي بينها فيعطون كل شيء حقه، ويذكرون له حدَّه، فإذا مر هؤلاء باقتداء ضارّ ذكّروا بالعقل، وقالوا: إن الإنسان لا يليق به الجمود، وإذا مروا باقتداء نافع ذكّروا بالفضل الذي جرت سنة الفاطر أن يمنحه بعض الأفراد ونفّروا من الجحود، ألا ترى القرآن المجيد كيف يقص من مناقب الأنبياء لأكرم رسله محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقول له: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90) أََوَلا تراه كيف عاب على الذين صدفهم اقتداؤهم بآبائهم عن الإيمان بفضل الله تعالى الذي خص به الأنبياء عليهم السلام؟ وكيف هزَّ عقولهم هزة قوية بقوله: {َأَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) ؟ هذا وإذ كان المقتدَى الأعظم في الملة الإسلامية هو ذلك الوحي الذي نزل على محمد الأمين صلى الله عليه وسلم، كان من شأن الذين يتخذون مقتدَين آخرين سواه أن يكون ضرر اقتدائهم ذلك أكثر من نفعه؛ لأن المتمذهب بمذهب رجل من الذين يقال لهم أئمة السنة، إن قال: إن مقتداي رجل من علماء السلف الأبرار، يجد تجاهه مخالفًا من الذين يقال لهم الشيعة يقول له: إن مقتداي أيضًا رجل من علماء السلف الأبرار، ولا يستطيع الذي يسمي نفسه سنيًّا مثلاً أن يقول: إن الإمام جعفر أو الإمام زيدًا رضي الله تعالى عنهما ليسا من علماء السلف الأبرار، وإنما قصاراه أن يقول: إن هؤلاء الذين يقال لهم الشيعة ليسوا في الحقيقة على مذهب جعفر أو زيد، وهذا لا يلتفت إليه الجعفري أو الزيدي، وليس هو من المناظرة القانونية في شيء. ومن أعجب ما في مضار هذا الافتراق الذي جاء به هذا التقليد أنك أصبحت ترى جميع أقطاب الأمة وكبار علمائها مرنوا بسببه على اليأس من الصلح بين هاتين الفئتين الكبيرتين في الأمة حتى كأن هذا الأمر - أي الصلح بينهما - ليس مما يعني الأمة وليت شعري كيف يتيسر الصلح ما دام باب التفاهم مسدوداً، وكيف يفتح باب التفاهم ما دام الجماهير جيلاً خلف جيل لا تجول أفكارهم في مسألة من المسائل ولا يقولون فيها بقول من الأقوال إلا قول رجل من أولئك الرجال القليلين الذين اتخذوهم مقتدَين، هذا على تسليم بأن فلانًا وفلانًا الذين يعنونهم لم يُحصِّلوا في فهومهم تلك إلا ظنًّا، وعلى تسليمهم أن الحق ليس في ظنونهم تلك على وجه اليقين والجزم والتعيين، فإلى متى يا قوم هذا؟ ومتى تأذنون بفتح باب الفهم والتفاهم؟ عبد الحميد الزهراوي حاشية للكاتب: إني ألهمت تحرير هذه المقالة على إثر اطلاعي على كتاب (العلم الشامخ) الذي نشر في هذه الأيام، وإني رأيت أن مطالعته تفيد كثيرًا في زحزحة مُطَالِعه عما ألفه من التقليد الضار الذي يحول بينه وبين الفهم والتفاهم ويشوش عليه الإخاء الذي يوجبه الدين، فمن أحب أن ينال حظًّا من العلم الصحيح فليمر به مرور تدبر واستقلال.

بيان حزب اللامركزية الإدارية العثماني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيان حزب اللامركزية الإدارية العثماني [*] إن غرض الأمم الذي ترمي إليه في هذا الوجود إنما هو الحياة: الحياة الاجتماعية والحياة السياسية، أي أن يكون لها وجود اجتماعي راقٍ، ووجود سياسي ثابت. ومن الضروري أن تسعى الأمة لكلا الوجودين في منهجهما القويم الموصل إلى الغاية، وتُعنى بهما جميعًا، ولا تقصر مجهوداتها على بلوغ غاية أحدهما دون الآخر؛ لئلا يكون مثلها كمثل من علم بركاز من الذهب في مكان، فأسرع إليه بكل ما تصل إليه قوته وجهده، فلما بلغه لم يجد معه أداة لاستخراج ذلك الركاز، فرجع القهقرى من حيث جاء واهي القوى خائب الأمل والرجاء. فالقوانين الاجتماعية مهما كانت راقية قل أن تضمن الحياة لأمة إذا لم تكن قائمة على أساس متين هو القوانين السياسية. ومهما عنيت الحكومة بتنظيم قوانين الحياة الاجتماعية للأمة وأكثرت من مشروعات الإصلاح في المملكة في التعليم والاقتصاد والإدارة والقضاء ونحو ذلك - فإنها لا تخرج في هذا كله عن معنى الوصاية على محجور عليه لا يملك التصرف بشئون حياته الخصوصية ليثبت لنفسه وجودًا صحيحًا بين الناس، ويعمل لسعادته جهد العامل المجد. ولذا أصبح لهذا العهد شكل الحكومات التي تقوم به الحياة السياسية، لكل أمة همُّ جميع الأمم، وصار من المسلَّم بالبداهة أن وجود الأمة السياسي والاجتماعي بين مجاميع الإنسان الحية متوقف على شكل الحكومة؛ فكلما كانت مشاركة الشعب للحكومات أكثر، كان ذلك لدوام وجوده أضمن. لهذا السبب تكاد تكون سائر الحكومات التي للأمم المستقلة اليوم دستورية شعبية لا شأن فيها لسلطة الأفراد، بل الشأن لعامة الأمة ومشاركتها للحكومة في كل جليل وحقير من الشئون العامة، إلا أنها تتفاوت في ذلك منازل ودرجات وتختلف في الشكل اختلافًا روعي فيه الاجتهاد والنظر إلى حالة الشعوب الاجتماعية والعرفية والقابلية والاستعداد. ومما يثبت بالتجارب لهذا العهد أن أفضل شكل من أشكال الحكومات هو الدستوري، وأفضل أشكال الدستوري هو اللامركزية خصوصًا في الممالك التي تعددت فيها الفروق والمذاهب واللغات، واختلفت العوائد والتقاليد والأخلاق، فكان من المتعذر أن تساس بقانون واحد لم تراعَ فيه تلك الأحوال، ولم ينظر معه في الحاجة والزمان والمكان. ثبت ذلك بالتجارب كما ثبت أن اللامركزية هي أفضل مربٍّ لأفراد الأمة على الاستقلال الذاتي الذي هو خير وسيلة لترقي الأمم؛ لأنها - أي اللامركزية - تأبى بطبيعتها أن تكون تبعة الحكم مقصورة على أفراد قليلين تصدر عنهم القوة والعمل إلى كل ناحية من أنحاء المملكة فيكونوا كالمحرك في آلة كبيرة جدًّا إذا أصابه عطب أو ضعف تعطلت أجزاء سائر الآلة عن العمل دون أن يكون لأي جزء من هذه الأجزاء قوة ذاتية يعمل بها بنفسه ودون أن يكون مسئولاً عن نتيجة وقوفه عن العمل. ومن البديهي أن الشعب غير المسئول عن أي خطأ يصدر عن حكومته لا يشعر كل فرد منه بالتبعة، فلا يهتم بنتائج خطأ الحكومة إلا بعد الوقوع فيه، ذلك لأنه مُسَيَّر بإرادة غيره، لا سلطة له حتى ولا على نفسه؛ لأنها محكوم عليها أن تسير في السبيل الذي يريده غيره، وإن خالف رغبته ومصلحته وهواه. فاللامركزية توزع التبعة على أفراد الأمة بمقدار ما تعطيهم من السيطرة على مصالح الوطن، وبسبب ذلك تنزع عنهم ثوب الحياة الاتكالية الخَلِق الممقوت، حياة الاعتماد على غير النفس، وتفسح أمام كل فرد مجال العمل الواسع في جهاد الحياة، وتمهد للشعب بلوغ غايات المدنية والترقي والعمران من أقرب سبيل في وقت قصير، والعكس بالعكس. مثاله ما نراه لهذا العهد من الفرق بين السلطنة العثمانية التي تحكم بالمركزية وبين سويسرا التي تحكم باللامركزية، ففي هذه يرى من آثار العمران والمدنية والحياة العالية الصحيحة والوفاق الشامل لكل العناصر التي تقطن هذه المملكة الصغيرة ما لا يُرى مثله حتى في كثير من الممالك المتمدنة الراقية بفضل توزيع السلطة على أقسامها الثلاثة العنصرية وإطلاق حرية التعليم لكل عنصر من العناصر الثلاثة المؤلفة للأمة السويسرية بلسانه وبما يوافق رغباته، وإطلاق حرية العمل لكل ولاية منها فيما ينمي عمرانها ويرقي سكانها على الوجه الذي يناسب مركزهم الاقتصادي والاجتماعي بحيث صار يضرب المثل بترقي هذه البلاد الجميلة وترقي أهلها البالغين منتهى ما يريده قوم من السعادة والرفاه. أما السلطنة العثمانية التي تحكم بالمركزية فعلى نقيض ذلك؛ إذ نرى المعارف فيها منحطة والعمران قليلاً في بعض جهاتها مفقودًا في بعض آخر، ووسائل الترقي الصحيح معدومة ألبتة؛ لأن حياة الاتكال على المركز في كل شيء مستحوذة على الشعوب العثمانية كافة، والمركز مقيد لكل ولاية بقيود تمنعها عن الحركة نحو الإصلاح المطلوب إلا ببطء وبما يوافق الحال والحاجة في الغالب. والمثال على ذلك قوانين التعليم مثلاً فإنها على نقصها وعدم وفائها بالحاجة تحتم أن يكون التعليم في عدة أقطار بغير لسان أهلها، وعلى برنامج واحد غير مُراعًى فيه حاجة كل ولاية واستعداد أهلها، ثم إن المركز لا يعطي المال اللازم للتعليم لكل ولاية إلا بقدر محدود هو دون الحاجة، فينشأ عن هذا وذاك نقص في التعليم وضعف في العلم وتضييق على الراغبين فيه فتعم الجهالة، وتحرم البلاد من المعارف العالية التي هي أهم أسباب الترقي والحياة والسؤدد في كل أمة من الأمم الحية المتمدنة لهذا العهد. وعلى هذا فقس سائر الأعمال النافعة التي يتوفر بها العمران في الولايات العثمانية، فإنها لتوقف صدورها على المركز بطيئة ضعيفة بل تكاد بعض الولايات تحرم منها ألبتة. زد على ذلك أننا نرى هذه الحكومة المركزية قد أعجزها تنائي أطراف المملكة واختلاف لغات وأجناس ومشارب أهلها على أن تنفذ قوانينها في كل ولاياتها؛ فإن كثيرًا من الأقطار العثمانية ليس فيها للدولة ديوان إداري ولا محكمة ولا مدرسة ولا ثكنة ولا قلعة ولا حصن، ومنها ما لا يؤخذ منه الجنود، فبعض هذه الأقطار عالة في حمايته من المغيرين عليه على الولايات الأخرى، عملاً بمبدأ الاتكالية الممقوت، واعتمادًا على المركز. ولذا نرى هذه الحكومة المركزية لا تقدر على الدفاع عن أكثر البلاد العثمانية إذا هاجمها عدو أجنبي كما ظهر ذلك في مسألة طرابلس الغرب ومثلها كثير، ناهيك بتوالي الفتن والثورات في أنحاء السلطنة وعجزها عن إخمادها وبالأحرى عجزها عن تلافيها قبل ظهورها بما يمنع حدوثها أو امتدادها حتى إن قطرًا من الأقطار وهو اليمن لا يزال مع الدولة في حرب مستمرة منذ دخل أول عثماني فيه إلى عهد قريب. وقد ظهر للعيان أن المملكة كلها عرضة لخطر الزوال بهذه الحكومة المركزية، مهددة بفقد الاستقلال الذي يفديه كل عثماني بأعز شيء لديه وهو النفس، ويتمنى كل شعب تظله راية الهلال بقاءه ليبقى عزيزًا في وطنه أمينًا من تسلط المغيرين عليه. إذا تمهد هذا فقد علمنا أن المركزية أصبحت في مثل هذا العصر عصر التنازع الشديد في ميدان الحياة لا تصلح لترقي الأمة العثمانية المرغوب، ولا تضمن لها الحياة السياسية والاجتماعية ولا البقاء لا سيما إذا أضفنا إلى هذا حاجة الشعوب العثمانية إلى الراحة من الغوائل السياسية والفتن الداخلية، التي توالت على الدولة في العهدين: عهد الحكومة المطلقة وعهد الحكومة الدستورية، وأصيبت بسببها الدولة بغائلة الحرب البلقانية، وانفكاك أعز ولاياتها عن جسم السلطنة العثمانية، بفساد سياسة المركزية، وسياسة مزج العناصر التي ذهب إليها فريق من المتهوسين بالسيادة فَجَرُّوا على المملكة من المصائب ما لا يحتاج إلى برهان، بعد الذي حدث وكان. ولكي تأمن الأمة العثمانية على حياتها السياسية في المستقبل وعلى سلامة الدولة من غوائل الفتن والمشاغبات الداخلية والصدمات الخارجية التي يسببها عدم رضاء العناصر العثمانية والتفافها بإخلاص حول النقطة الجامعة وهي العرش العثماني الرفيع الذي أصبح وجود الأمة السياسي لازمًا لوجوده مرتبطًا به لكي تأمن الأمة على ذلك صار من المحتم على كل عثماني صادق الوطنية النظر في الأسباب التي تتماسك بها أعضاء هذا الجسم الذي تفكك بقوتي الجذب والدفع بين المركز والأطراف، ودخله الوهن والضعف المؤديان إلى الانحلال، وهذا ما دعا فريقًا من العثمانيين إلى تأليف حزب اللامركزية الإدارية بعد البحث والتروي الكثيرين فيما يضمن سلامة هذه المملكة وتضامّ كلمة شعوبها واتحادهم على العمل الأنفع لعمران البلاد وسعادتها وقوة الدولة وبقائها. فهذا الحزب يعرض على أنظار جمهور العثمانيين من إخوانه في الجامعة والوطنية برنامجه ليكون موضع النظر والبحث من سائر العثمانيين وهو يرجو أن يجد منهم أنصارًا كثيرين وأعوانًا غيورين على تنفيذ قواعد اللامركزية الإدارية في الأقطار العثمانية، والله الموفق والمعين. *** برنامج حزب اللامركزية الإدارية العثماني المادة الأولى: الدولة العلية العثمانية دولة دستورية نيابية، وكل ولاية من ولاياتها تعد جزءًا من السلطنة لا ينفك عنها بحال من الأحوال، وإنما تبنى إدارة هذه الولايات على أساس اللامركزية الإدارية، والسلطان الأعظم هو الذي يعين الوالي وقاضي القضاة. المادة الثانية: قاضي القضاة يعين القضاة الشرعيين والوالي يعين سائر الموظفين بعد اختيار مجلس الإدارة لهم (وفاقًا للمادة السابعة) ولا يجوز عزل موظف إلا بحكم من مجلس تأديب، ومن عُزل لا يجوز استخدامه ولا يعطى معاش معزولية. المادة الثالثة: يوضع نظام خاص لترقية عمال الحكومة وتأديبهم وتقاعسهم وما يتعلق بذلك. المادة الرابعة: يكون في مركز كل ولاية مجلس عمومي ومجلس إداري ومجلس معارف ومجلس أوقاف. المادة الخامسة: جميع قرارات المجلس العمومي تكون نافذة. المادة السادسة: من حقوق المجلس العمومي للولاية المراقبة على حكومتها والنظر في جميع شئون الإدارة المحلية من: تقرير ميزانية الولاية، وأمور الأمن العام والمعارف النافعة، والأوقاف، والبلدية، وتقرير ما يراه فيها، وسن النظامات لها. وأما ما كان من أمور النافعة يتعلق من بعض الوجود بالأمور العسكرية، أو السياسة الخارجية كسكك الحديد، فيرفعه بعد إبداء رأيه فيه إلى العاصمة. المادة السابعة: من حقوق مجلس إدارة الولاية وضع ميزانيتها وانتخاب جميع موظفيها. المادة الثامنة: من حقوق مجلس المعارف وضع برنامج التعليم والنظر في جميع شئونها ووضع ميزانية خاصة لها يراعى فيها حصة المعارف التي تضاف على الأعشار والويركو، وما يقرره المجلس العمومي من الضرائب لها وما لها من الأملاك والأوقاف. المادة التاسعة: من حقوق مجلس أوقاف الولاية وضع ميزانية خاصة لها والنظر في جميع شئونها فما كان منها له شروط تجب مراعاتها يكون العمل فيها بحسب شروطه، وما كان من غير ذلك يصرف فاضل ريعه على إقامة الشعائر ثم على التعليم الإسلامي. المادة العاشرة: جميع أعضاء هذه المجالس تكون بالانتخاب إلا مجلس الإدارة فإن نصف أعضائه ينتخبهم الشعب والنصف الآخر من رؤساء المصالح. المادة الحادية عشرة: تعدل طريقة الانتخاب لهذه المجالس ولمجلس المبعوثين وللمجالس البلدية بحيث تكون حرة وممثلة لجميع عناصر الشعب. المادة الثا

حديث كامل باشا مع مؤسس المؤيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حديث كامل باشا مع مؤسس المؤيد تلقى السيد علي يوسف مؤسس المؤيد حديثًا سياسيًّا عن كامل باشا في حالة الدولة في وزارته الأخيرة، وما بعدها فنشرها في مؤيد اليوم (سلخ ربيع الأول) فرأينا أن ننقل معظمه؛ لأنه في معنى الرسمي القطعي، والعنوانات لمؤسس المؤيد، قال: تشرفت بمقابلة شيخ السياسة العثمانية أول أمس بأوتيل سميراميس، وهذه سلسلة الحديث: (1) هل هناك غرامة حربية؟ س: مولاي، إن الأخبار التي تحملها إلينا الشركات البرقية عن الصلح سيئة جدًّا، فقد كانت المشكلة في السابق منحصرة في مسألة ترك أدرنة لحكومات البلقان، ونراها الآن قد انتقلت إلى طور آخر، وصارت تظهر لنا أمور جديدة مثل مسألة الغرامة الحربية، فما هي يا ترى نتائج هذه الأحوال؟ ج - ماذا أقول يا سيدي، الحكم لمن غلب، أما من جهة الغرامة الحربية فالذي أظنه أن الدول العظمى التي تعرف حالتنا المالية لا توافق البلقانيين الحريصين على مطامعهم من هذه الجهة؛ لأن إجابتهن البلقانيين إلى هذا الطلب يؤدي إلى انحطاط الثقة المالية في الدولة فتسقط بذلك أسعار سندات الديون العثمانية التي كل حامليها من الأوربيين فيلحقهم من وراء ذلك ضرر عظيم، وبديهي أن الدول العظمى لا تتوسط لفائدة البلقانيين فيما فيه ضرر الأوربيين، وأنا أعتقد أن هذه الدول تلاحظ أن أقساط هذه الغرامة إذا دفعت للبلقانيين عاما بعد عام ستستهلك كل فائدة تأتي من وراء ما وعدتنا به دول أوروبا من المساعدات المادية والأدبية للاطمئنان على مستقبلنا؛ وحينئذ لا يبقى لنا ما ننفقه على عمار بلادنا وإصلاحها، فتكون مساعدات الدول التي وعدتنا بها من قبيل المساعدة للبلقانيين لا لنا. وعلى كل حال فإن حاجتنا إلى الصلح ظاهرة كالشمس في رابعة النهار. (2) ما هو الباعث على ذلك الانقلاب؟ س: إذا كان هذا مبلغ حاجتنا إلى عقد الصلح، فأي فائدة كانت جمعية الاتحاد والترقي تؤمل أن تحصل عليها من وراء الثورة التي أثارتها ضد الصلح؟ ج - الغاية الأولى لجمعية الاتحاد والترقي من ذلك هو التربع في دست السلطة. أما فائدة أو ضرر استمرار الحرب فتلك مسألة ثانوية في نظر الجمعية، ولو كان هنالك أقل عمل في الفوز والفائدة لكانت وزارتنا تستمر في الحرب إلى النهاية. ولعمري إن حسابنا لم يخطئ قطعًا، وكيف يجوز لنا ترجيح الاستمرار في الحرب والتقارير العسكرية التي كانت تعرض من قواد الجيش على مجلس الوكلاء بواسطة وكيل جلالة السلطان في القيادة العامة كانت - مع التصريح باستعداد الضباط والجنود للموت في سبيل الوطن - خالية من كلمة واحدة تشف عن الأمل في النجاح، بل القواد يصرحون على العكس بترجيح جانب الصلح على الاستمرار في الحرب. وإذا كانت وزارتنا قد خدعت في فهم حقيقة ما، فذلك في شيء واحد هو تقدير شكري باشا للمؤن، وكم تكفي لتقاوم حامية أدرنة الأعداء المحاصرين لها، فإنه حدد الوقت الذي سيضطره فيه نفاذ الأرزاق لتسليم أدرنة بأقصر مما ظهر بعد ذلك [1] . ولو كنا علمنا هذه الحقيقة كما هي لما عجلنا بالموافقة على اقتراح الدول العظمى، ولكانت وزارتنا صححت اعتقادهن في هذا الباب؛ ولطلبت منهن أن يدخلن تعديلاً جديدًا على اقتراحهن. (3) أدرنة قطب رحى المخابرات: س - هل لكم يا مولاي أن تتفضلوا ببيان الحوادث التي تعد تتمة لهذه الحرب صونًا للحقيقة أن يتناولها التاريخ على غير وجهها؟ ج - أجل، إن هذا الأمر مهم جدًّا في الحقيقة، معلوم أن أدرنة لم يكن في الإمكان إنقاذها من حصارها بالقوة العسكرية، وكانت الدول العظمى ترى أنه قد قُضي على المدينة بالسقوط لنفاد أرزاقها؛ ولذلك أرسلت إلينا مذكرة إجماعية تنصح لنا فيها بلهجة حازمة أن نترك أدرنة للمتحالفين؛ وأن نفوض أمر الجزر لإنصافها. أما مجلس الوكلاء فقد رأى بعد التفكير في كل الطرق أنه لا مندوحة عن قبول طريق الصلح حيث لم يكن ثمة تدبير آخر، وقبل يوم واحد من حدوث تلك الجناية عقد في السراي السلطانية مجلس عمومي صدق على ضرورة الصلح بعد أن اطلع على حقيقة موقفنا، ومع ذلك فإنه لما كان لأدرنة شأن عند عموم الأهالي؛ ومن المنتظر أن تركها للأعداء صلحًا يستلزم هياج الأفكار والخواطر، ولا يخفى أن العامة التي لا تطلع على حقائق الأحوال عن قرب ربما تتهيج على الحكومة، لذلك لم تقدم هيئة الوزارة على تحمل هذه المسئولية وقررت أن توضح لأوربة هذه المحذورات في جوابها، وبما أن السير إدوارد غراي ناظر خارجية إنكلترا كان قد اقترح على مندوبي الباب العالي أن تكون أدرنة في منطقة على الحياد وأن تكون معفاة من الرسوم الجمركية، فنحن قد وافقنا على جعل أدرنة على الحياد، وعلى إعفائها من رسوم الجمرك، ولكننا اشترطنا أن تبقى تابعة للدولة العلية، فرفض مندوبو البلغار قبول ذلك، وأحيلت المسألة على مؤتمر السفراء فلم تنتج مذكرات المؤتمر شيئًا. (4) جواب الباب العالي يومئذ على مذكرة الدول: ثم قال فخامته: ولما أردنا أن نجيب على مذكرة الدول قررنا أن نوافق على جعل أدرنة بلدًا إسلاميًّا كما كانت، وأن تكون هي وضواحيها مستقلة وعلى الحياد بشرط أن لا تطالبنا الدول البلقانية بعد ذلك بشيء جديد، أما حاكم أدرنة فطلبنا أن يكون مسلمًا مهما كانت جنسيته، وأن تنتخبه الدول الموقعة على معاهدة برلين والدولة العلية إحدى هذه الدول بالطبع، وحينئذ فإن الباب العالي مستعد لتجريد أدرنة من حاميتها وذخائرها الحربية، وإنما رجحنا هذا الحل لما كنا لاحظناه من المحاذير من وراء استمرار الحرب، وقد تركنا للدول العظمى أمر تعيين حدود الأراضي التي ستتبع المتحالفين. أما مسألة الجزر فقد قلنا في الجواب عنها: إننا واثقون من إنصاف الدول العظمى وأنها ترى لزوم بقاء هذه الجزر تابعة للدولة العلية؛ لقربها من سواحل الأناضول العثمانية، وحيث إن بلاغ الدول كان يحتوي على وعود، منها معاونة الدولة ماديًا ومعنويًا لرقي وعمران الممالك العثمانية وزيادة قوتها فقد قرر مجلس الوكلاء أن يذكر في جوابه على مذكرة الدول كيف هو يتلقى تلك الوعود الحسنة التي تعوض علينا خسائرنا. ثم استحسنا أيضا أن يدرج في ذلك الجواب أننا نعتمد كل الاعتماد على الدول العظمى في أن ترفع - بعد زوال الروم إيلي تقريبا من يدنا - كل القيود التي قيدتنا بها المعاهدات القديمة التي كانت أمضيت في تركية أوربة، وأن يسمح للدولة بإطلاق الحرية في معاملاتها الاقتصادية وفقًا لما هو جارٍ بين الدول العظمى نفسها. (5) لم يبلغ الجواب رسميًّا: على هذا النمط حررت صيغة جواب الباب العالي باللغة الفرنسوية على أن يبلغ في مساء ذلك اليوم 23 يناير إلى سفراء الدول. (6) هجوم جماعة الاتحاديين والترقي على الباب العالي: وبينما كان مجلس الوكلاء يمعن النظر في ترجمة مسودة الجواب هجمت شرذمة قليلة اختلالية من جمعية الاتحاد والترقي بصورة وحشية على الباب العالي، وحاولت أن تدخل غرفة مجلس الوكلاء فبادرهم ناظم باشا ليمنعهم ويسكن جأشهم، فقتلوه في الحال واضطر حينئذ بقية الوكلاء أن يدخلوا غرفًا أخرى ينتظرون فيها ماذا يكون. أما أنا فقد لبثت في غرفة الصدارة ومعي حضرة فؤاد باشا كاتب المابين الذي جاءني حاملاً بعض إرادات ملوكانية وعلمت حينئذ أن الثائرين ملأوا الباب العالي اعتداءً، وأنهم قتلوا أيضًا ستةً من الياورية والحجاب الذين قاموا بواجب المحافظة على الوكلاء والدفاع عنهم، وعلمت كذلك أن اثنين من الثائرين قد قتلا في الحادثة. وفي خلال هذه الفاجعة قفل فؤاد بك راجعًا من حيث أتى ثم دخل على شرذمة من الضباط لا أعرفهم ومعهم أشخاص آخرون بألبسة ملكية فتقرب مني جسور منهم، وقال: إن الخواطر خارج الباب العالي متهيجة تهيجًا عظيمًا. وطلب مني أن أكتب استقالتي فتحققت وقتئذ أن جميع تلك الفعال الجنائية إنما كانت وسيلة فقط ليحصل الاتحاديون على أزِمة السلطة. وأنهم لا قصد لهم في الثأر من أحد. (7) استقالة فخامته: وقد خطر ببالي أنني لو ترددت في أمر الاستقالة لتجرأ الثائرون على الإيقاع بي حتى يتسنى لهم انحلال مقام الصدارة، فبناء على إصرار الضباط استقلت وكتبت عريضة للحضرة السنية الملوكانية التمست فيها بلا تردد إعفائي من منصب الصدارة، ولم يمض ساعة إلا وجاءني رئيس قرناء الحضرة السلطانية مُبَلِّغًا عن لسان مولانا السلطان الأعظم كدره من هذه الواقعة وراجيًا أن لا أترك الباب العالي خلوًّا من الحكومة ريثما تظهر نتيجة الحال. فامتثالاً لأمر جلالته وانتظارًا للنتائج بقيت على كرسي الصدارة منتظرًا. وفي خلال ذلك كان يدخل ويخرج أناس كثيرون ومنهم طلعت بك وأنور بك ثم عمر ناجي بك مبعوث قرق كليسا سابقًا المعدود من أركان الجمعية فتقرب هذا مني قائلاً: مولاي إن شاء الله أنتم تنفعون الدولة في هذا المقام كثيرًا، ونحن جميعًا محتاجون إليكم، وسنكون مطيعين لأوامركم. وقد أراد بهذا الكلام مداهنتي، فقلت له: لا حاجة لي بالصدارة فقد سبرت طالع الدولة وحسبي ما مضى. وبهذا الكلمة صرفته عني. (8) ألاعيب أنور بك: ثم جاءني أنور بك متظاهرًا بحيرة واندهاش وقال: إنني كنت في تمرين عسكري وفي أثناء الطريق أُخبرت بالواقعة، هذا ما قاله لي في حين أنه كان قد تواتر ساعتئذ في الباب العالي أنه من جملة الذين قتلوا ناظم باشا. وبعد ساعة من الزمان اجتمع عليَّ شيخ الإسلام وآخرون من الوكلاء واحدًا بعد آخر. تعيين الصدر الجديد: وعقب ذلك نصب محمود شوكت باشا صدرًا أعظم وجاء إلى الباب العالي مع شيخ الإسلام الجديد، وبعد أن تلي الخط العثماني على رأس السلم جاء محمود شوكت باشا إلى الغرفة العمومية مستقبلاً تبريكات المهنئين؛ ثم شرع في الترتيبات اللازمة. وبعد نصف الليل اجتمع بي خلفي في غرفة أخرى، فتفاوضنا هنيهة في الأحوال الحاضرة، وعلى هذه الصورة بقيت هزيعًا من الليل؛ ولكثرة الزحام لم يمكن إيقاد مدافئ الغرف مع شدة البرد وكثرة الأمطار. وظلت جثث القتلى هناك ولذلك لم أتمكن من مغادرة الباب العالي إلا بعد الساعة الثالثة بعد نصف الليل؛ فأثر البرد ليلتئذ في جسمي حتى أصابتني حمى ارتفعت درجتها إلى 39 درجة، وقد زارني سفراء الدول العظمى في منزلي فشكرت مسعاهم واعتذرت لهم بالواسطة عن قبولهم. وبعد معالجة دامت عشرة أيام عادت إليَّ صحتي فأشار عليَّ الأطباء بتبديل الهواء، وفي الحقيقة كنت قد تعبت لملازمتي الباب العالي ليل نهار مدة ثلاثة أشهر تقريبًا، أي منذ شبت الحرب، فكنت مستمرًّا طول هذه المدة على الاشتغال بمهام الأمور فأنهك العمل جسمي ولذلك وافقت رأي الأطباء، وجئت إلى القطر المصري على إحدى بواخر الشركة الخديوية. دخول سعيد باشا في الوزارة الجديدة: أما محمود شوكت باشا فإنه في اليوم الثاني من صدارته شكل وزارته، ولما جاءه سعيد باشا مهرولاً ومباركًا له فوزه، انتخبه محمود شوكت باشا رئيسًا لشورى الدولة، وباشر العمل بوظائفه. سقوط الوزارة الجديدة في الشَّرَك: ومن الاتفاقات الغريبة أن الوزارة الجديدة كانت تحسب أن الوزارة السابقة قد أبلغت جوابها إلى الدول موافقة على طلبهن مذعنة لشروط الصلح كما طلبتها الدول. ولكن لما رأت الوزارة الجديدة أوراق مجلس الوكلاء علمت أن كل ذلك لم يكن وأن اللائحة الجوابية لم تعط، وأنه لم يكن ثمة مندوحة لسلامة الد

اللامركزية الإدارية حياة البلاد العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اللامركزية الإدارية حياة البلاد العثمانية جربت الحكومة المركزية العثمانية عدة قرون بالحكم المطلق وخمس سنين بالحكم الدستوري النيابي فلم تفلح، وكانت خمس سنين منها دستورية، أسرع إلى التخريب من خمس مئة سنة استبدادية، فظهر لكل ذي بصيرة أن هذه المملكة المؤلفة من أقطار متنائية الأرجاء مختلفة العناصر في اللغات والعادات والتقاليد والأخلاق، لا يمكن أن يحسن إدارتها الداخلية أفراد من عنصر واحد من عناصرها يتربون ويتعلمون في عاصمتها من علوم الإفرنج ولغاتهم وقوانينهم ما يريدون الاستعانة به على إدارتها مع جهلهم بلغاتها وسائر شئونها، ويجعلون جميع مصالحها مرتبطةً بالعاصمة البعيدة عن أكثرها، والتي يجهل لغتها التركية السواد الأعظم من أهلها، بحيث إذا أراد رجل عربي أن يفتح مكتبًا أهليًّا في ذروة جبل من اليمن لا يبيح له نظامها فتحه إلا إذا كتب إلى العاصمة باللغة التركية يستأذن بذلك وجاءه الإذن؛ ولن يجيئه إلا إذا كان يُعلم بالتركية، ولن يجد من يُعلِّم بها، وإذا هُدم مكان للحكومة في أبعد أرجائها لا يجوز بناؤه ولا ترميمه إلا بعد استئذان العاصمة وورود الإذن، ولن يرد إذا اهتموا به إلا بعد عدة شهور وإلا فعدة سنين. أكبر ما استفاده العثمانيون من إعلان الدستور جواز إبداء آرائهم في حكومتهم ومصالحهم، وقد صرح بعضهم في السنة الأولى للدستور بأنه لا يستقيم أمر هذه المملكة إلا بالإدارة اللامركزية، ولكن الجمهور صبروا على حكم المركز مع اشتداد وطأته بغلوّ الاتحاديين وإسرافهم فيه، فرأوا من بوادر نتيجته أن الاتحاديين وجهوا قوة الدولة كلها لقتال عناصرها وتذليلهم فنكلوا بالأرنؤوط وعرب اليمن وعسير والكرك وحوران، وأضاعوا طرابلس الغرب، فالولايات الأوروبية العثمانية كلها، واضطروا إلى الاعتراف باستقلال إمام اليمن في بلاده وعرضوا مثل ذلك على السيد الإدريسي في عسير، فكان كلما حدثت حادثة من هذه الحوادث يقتنع كثيرون من أهل البصيرة والرأي بأن عدم المركزية خير وأبقى لهذه الدولة؛ فإن لم تبادر إليه اضمحلت اضمحلالاً، وانحلت انحلالاً. وقد كان أكبر الشبهات التي يغالط بها المتمتعون بالمركزية العامة وأشياعهم، أن اللامركزية تمزق الدولة فيسهل على الأجانب ابتلاعها، ولكن أهل المعرفة والحجة قد بينوا الحقائق للجمهور، فلم يعد يهذي بهذه المغالطة مع المتمتعين بلذة السلطة المركزية وعظمتها وأموالها إلا منافق متملق لهم؛ ليشاركهم في بعض ما يتمتعون به، أو جاهل غملاج، يتابع كل أحد على رأيه. تُكشف هذه الشبهة بكلمة واحدة، وهي: أن المطلوب هو اللامركزية الإدارية وهو لا دخل له في السياسة الخارجية ولا في الحربية، وحفظ البلاد من استيلاء الأجانب عليها إنما يكون بالقوة الحربية أو الوسائط السياسية، ولا نعلم أن أحدًا ينازع العاصمة فيهما، على أن مسألة طرابلس الغرب وحرب البلقان قد أثبتا لكل ذي عقل وفهم أن حكومة الآستانة لا تقدر أن تصد أية دولة من الدول الكبرى عن امتلاك ما تطمع فيه من بلادها، فعلم من لم يكن يعلم أن بقاء ما بقي للدولة منوط أمره بالدول الكبرى إن شاءت أن تقسمه بينها فعلت، وإن شاءت أن تتركه فعلت، والثاني هو المرجح عندنا الآن لما بيَّناه في موضع آخر من هذا الجزء، ولا دخل فيه لشكل إدارة الولايات ألبتة. بل نقول: إن جعل ما بقي تحت نفوذهن بالوسائل المالية أو السياسية وهو الخطر المنتظر لا يتم لهن بسهولة إلا مع بقاء الحكومة المركزية؛ إذ يكفي إرضاء اثنين أو ثلاثة من أصحاب النفوذ في مجلس الوكلاء لأخذ كل ما تريده أوربة من الامتيازات والأراضي العثمانية، ورهن موارد الدولة، ولا يسهل هذا مع اللامركزية؛ لأنه يتوقف على إقناع مجالس الولايات ثم العاصمة، فالخطر كل الخطر على البلاد إنما هو من الحكومة المركزية، ولا سيما إذا كانت السلطة بيد جمعية الاتحاد والترقي. * * * حزب اللامركزية ولجان الإصلاح السورية نشرنا في هذا الجزء بيان هذا الحزب وبرنامجه السياسي، وهو مؤلَّف من طائفة من أولي البصيرة والرأي وحملة الأقلام من العثمانيين المقيمين في مصر، وقد تألفت في سورية عدة لجان للتشاور في طلب الإصلاح على أصول اللامركزية الإدارية؛ وإن لم يذكر هذا الاسم فيها، وكانت حكومة العاصمة على عهد وزارة كامل باشا راضيةً عن هذه الحركة ومؤيدةً لها، وكان أمثل تلك اللجان لجنة بيروت فإنها انتخبت انتخابًا قانونيًّا، فكانت مؤلفة من 86 عضوًا من خواص الطوائف كلها وستنشر لائحتها في الجزء الآتي. والذي يسر في مجموع هذه المطالب وهذه الحركة المباركة، إن شاء الله، هو أنها صادرة عن الشعور بالحاجة إليها المشترك بين المسلمين وغيرهم، وأنها كانت أفضل مجلى من مجالي الاتفاق والألفة بين الجميع، وقد ظهر ذلك في بيروت بصفة لم يسبق لها نظير، ولا أستثني ما كان عقب إعلان الدستور، فإن تلك نشوة عارضة لا يعتد بمثلها، ولا يوثق بدوامه. وقد توهم بعض الناس أن هذه الحركة كانت بتحريض أفراد من الأذكياء يمكن استمالتهم بالمناصب والوظائف والوعود، فاغترت بذلك جمعية الاتحاد والترقي، ووجهت همتها إلى استمالة هؤلاء الأفراد، أو استمالة من تظن أن تركهم لطلب الإصلاح يتبعه ترك غيرهم، وسترى الجمعية أنها مخطئة وأن كل من تستطيع استمالته يسقط من نظر إخوانه، فلا يبقى له عندهم قيمة ولا تأثير، كما ظهر مثل ذلك لعبد الحميد الذي اتبع هذه السياسة من قبل. وكتب إلينا وإلى أناس آخرين أن الجمعية تريد إرسال وفد إلى سورية لأجل التفريق بين طلاب الإصلاح وإيقاع الشقاق بين المسلمين والنصارى، وربما تستعين على ذلك ببعض جرائد المنافقين التي تمدها بمالها ونفوذها، فإن الجمعية على محاربتها لكل ما يفيد الإسلام صارت تستخدم اسم الإسلام لتأييد نفوذها، والمرجو من عقلاء إخواننا البيروتيين عامة وأصحاب الجرائد الرشيدة منهم خاصة، أن يكونوا إلبًا واحدًا على من يسعى للتفريق بينهم بقول أو عمل، وأن يحذروا من كل جريدة عرفت بالانتصار للاتحاديين أو تنشأ لترويج سياستهم، وإذا ظهرت لهم جريدة عربية في الآستانة فليكونوا منها على حذر، ولا سيما إذا استخدم لها قلم شيطان التفريق السفيه المشهور. وقد جاء في بعض جرائد أمريكة أن لعزت باشا العابد يدًا في هذه الحركة، وإنني أجزم - على علم - بأنه لم يكن له ولا لغيره من المقيمين في خارج البلاد السورية والمصرية يد في ذلك ولا رأي ألبتة، ويتبع ذلك أنه ليس لأحد منهم نفوذ ولا تأثير في ذلك. * * * تمليك الشخص المعنوي في الدولة العلية جاء في البرقيات العامة من الآستانة أنه قد صدرت الإرادة السنية بجواز تمليك الشخص المعنوي. قال المؤيد في تعليقه على هذه البرقية: وكان السلطان السابق ممتنعًا كل الامتناع من أن يفعل هذا، فمثلاً كان لا يجوز لشركة عثمانية أو أجنبية أن تمتلك، وإذا كان لا بد من هذا فكان التمليك باسم رئيس الشركة؛ والملك لا ينتقل للشركة ذاتها في سجلات الحكومة، فكانت الشركات تأبى أن تأخذ ملكًا بأسماء رؤسائها خوفًا من انحلال الملك عنهم إلى الحكومة متى توفوا ولا وارث لهم. وكان هذا المنع حتى لا تصبح الشركات مستعمراتٍ أجنبيةً ذات ملك واسع في البلاد ينتهي أمرها إلى مثل ما انتهت إليه الشركات الإنكليزية في الهند أو الهولاندية في الترنسفال أو البلجيكية في الكونغو. أما الآن فقد أجيز تملك الشخص المعنوي، ويخشى أن لا يكون هذا الشخص المعنوي مقيدًا بقيد العثمانية؛ لأنه إذا لم يكن كذلك أمكن لمثل شركة حديد الأناضول الألمانية مثلاً أن تملك الأراضي الواسعة حولها فتصبح مستعمرات ألمانية، ومثل ذلك يقال في الشركات الإنكليزية والفرنساوية في بغداد والبصرة وسوريا وفي الشركات التي تنشأ من كل دولة أخرى. ولهذا هرع إلى الآستانة منذ أسبوعين ماليون كثيرون كانوا يتطلعون إلى أراضٍ واسعة في البلاد العثمانية، ولا يستطيعون شراءها بواسطة الشركات؛ لأنهم رأوا الفرصة سانحةً لهم، وبعض هؤلاء يؤملون أن جمعية الاتحاد والترقي تأخذ أملاكًا واسعةً باسم شخصها المعنوي وتبيعها لهم سريعًا بثمن موافق. ولكنا مع هذا كله نؤمل أن نرى في نص الإرادة السنية ما يقيد الشخص المعنوي بقيد العثمانية، حتى يزول الخطر الذي كان يخشاه السلطان عبد الحميد. اهـ. (المنار) هذا الخبر يدل على ما أثبتنا عن مقاصد الاتحاديين المالية من قبل، وهو أخوف ما نخافه من سياستهم المالية، فنسأل الله السلامة.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار سبب نقل الروايات الموضوعة (س9) من صاحب الإمضاء: حضرة إمام المرشدين، وقدوة العلماء العاملين، من يتلقى سؤال كل سائل بالقبول والرضا، الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا، أبقاه الله للمسلمين يداوي كل مرض كان عارضًا، آمين. ذكرتم في الجزء الثاني من منار هذه السنة تفسير قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (النساء: 162) إلخ، ورأيتكم ذكرتم كما ذكر غالب المفسرين بإزاء تفسير: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} (النساء: 162) الرواية الموضوعة المنسوبة لعثمان من أن في المصحف لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها، وذكرتم أيضا أنها موضوعة، وأن السابقين الأولين بعيدون عن ذلك إلخ. فإذا كانت الآية بريئةً من نسبة هذه الرواية الموضوعة، وكذلك باقي آيات القرآن قطعًا، فما الداعي لذكر غالب المفسرين لهذه الرواية مع أن القرآن جميعه بريءٌ منها، فهلا تركوا ذكرها بإزاء تفسير الآية حتى لا يتأتى تشويش فكر لضعيف. ... ... ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم محمد عريقات ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... من برنبال غربية (ج) ما من أمة من الأمم إلا وفيها الصادقون والكاذبون، وما من دين من الأديان إلا وينتمي إليه المخلصون والمنافقون، وقد كذب الزنادقة وأهل الأهواء على نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم كما كذب أمثالهم على المسيح وحوراييه وغيرهم من الأنبياء في الأمم السابقة، ولكن المسلمين امتازوا على جميع الأمم بتمحيص كل ما روي عن نبيهم وعن أصحابه، وإن لم يكن قول الصحابي برأيه حجة شرعية عندهم، ومن أظهر آيات صدق أئمة المحدثين أصحاب الجرح والتعديل، وبيان علل الحديث أنهم لم يكتموا شيئًا مما روي، ولم يُحكِّموا مذاهبهم وآراءهم وأهواءهم في ذلك، بل نظروا في الرواية نظر المؤرخ العادل، فما ظهر لهم قوة سنده منها صحَّحوه أو حسَّنوه، وما كان غير ذلك ضعَّفوه أو كذَّبوه، ولم تحملهم صحة المعنى على تصحيح الرواية، ولا مجرد كون المتن موضعًا للطعن والنقد، على الحكم على سنده بالوضع، بل فصَّلوا بين نقد المتون ونقد الأسانيد، فعني بهذا أناس وبذاك آخرون، ويقل من جمع بينهما، فجمعوا لنا كل ما روي وقيل فينا، سواء كانت لنا أو علينا، فأما المفسرون فمنهم من لا هم له إلا نقل ما يراه في كتب مَن قبله من غير بحث ولا نقد، ولا تمييز بين ما يصح وما لا يصح لأجل نقده وبيان الحق، ومن هذا الباب نقلهم لما روي عن عثمان، ومن كان همه النقل فقط لا يخطر بباله ما يثيره نقله في نفوس القارئين ولا يحفل بذلك. *** اختلاج الأعضاء (س10) ومنه: ذكر الخوارزمي في كتاب (مفيد العلوم ومبيد الهموم) بابًا لاختلاج الأعضاء جميعها، وقال بأنه إذا اختلج عضو كذا يحصل من الخير كذا، وإذا اختلج عضو كذا يحصل من الشر كذا، وهكذا إلى آخر الأعضاء ما بين خير وشر، فهل لهذا الاختلاج من حكم وأصل؟ وإذا قيل بأنه لا أصل له نقول: قد وجدنا غالب ما ذكره الخوارزمي في باب الاختلاج عند التجارب صحيحًا، فهل ذلك من الأسباب العادية أم كيف؟ أفيدونا. (ج) مسألة اختلاج الأعضاء وكونها سببًا للخير والشر ليست دينية ولا عقلية، وأما التجربة فلا يثبت بها مثل هذا إلا بالاستقراء المطرد، وأنتم تنفون ذلك بقولكم أنكم وجدتم غالب ما ذكره الخوارزمي في باب اختلاج الأعضاء صحيحًا، وهذا إثبات لعدم صحة مقابل الغالب، ولا يكفي في الاستقراء تجربة واحد؛ إذ يتفق أن يحدث له بعد الاختلاج ما لا يحدث لغيره، وما يدريكم لعل غيركم رأى أكثر ما يقوله أهل هذا الزعم أو كله غير صحيح، ها أنا ذا رأيت في صغري أرجوزة في دلالة اختلاج أعضاء البدن علق بذهني أبيات منها طالما خطرت في بالي عند الاختلاج فظهر لي كذب الناظم، منها: وجفنه الأعلى يرى ما يؤثر ... وفي شماله بكاء يكثر وجفنه الأسفل صحة الجسد ... وفي شماله بكاء لا يحد على أن رؤية ما يؤثر أو البكاء بعد الاختلاج قد يكون كثيرًا أو يقع نادرًا ولا صلة بينه وبين الاختلاج بسببية ولا علية، وصفوة القول في الجواب أن هذه المسألة وهمية، ومن ظهر له صدق شيء مما قيل كان واهمًا، وكثيرًا ما يؤثر الاعتقاد في الإنسان تأثيرًا يكون سببًا في حدوث ما يعتقده، فإذا اعتقد عقب اختلاج جفنه الأيسر أنه لا بد أن يحدث له ما يبكيه لا يلبث أن يبكي مما لا يبكي منه لولا وهمه هذا. وكثيرًا ما يرى الإنسان أمرًا حدث عقب أمر فيتوهم أنه سبب له وما هو في الحقيقة بسبب طبيعي، ومن هنا نشأ التشاؤم والتطير؛ ولذلك جعل علماء المنطق القضية الشرطية قسمين: حقيقية واتفاقية، فالحقيقية ما كان فيها المقدم سببًا وعلة للتالي مثل: إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود. والاتفاقية مثل قولهم: إن كان الإنسان ناطقًا فالحمار ناهق. ومن البديهي أن نطق الإنسان ليس سببًا لنهيق الحمار. فعليكم أن تتدبروا ذلك. *** استحلال حكم المَحاكم المُخالف للشرع والمانع من الحكم بالشرع (س 11 و12) ومنه: ما حكم المستحل لحكم المَحاكم المخالفة للشرع المنزَّل، وذلك كمحاكم مصر الأهلية، وهل من مانع من رجوع جميع محاكم الحكومات الإسلامية للحكم بالشريعة الحنيفية وإقامة الحدود خصوصًا الحكومة المصرية؟ وإذا لم تتمكن الحكومة المصرية مثلاً من إقامة الحدود وغيرها من الأحكام الشرعية المعطلة لأسباب ظاهرية أو وهمية، أفلا يمكنها وهي حكومة إسلامية رسميًّا أن تمنع ولو أربعة أمور فقط، وأن تعكس قضاياها في قوانينها من إيجاب إلى سلب؛ لأنها من أكبر أمهات فساد الأحوال وضياع الأموال في هذا القطر الإسلامي ألا وهي: (الزنا والربا والخمر والقمار) . (ج) الأحكام الشرعية منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة كالحدود الثابتة بنص القرآن، وفي معناها كل ما هو مُجمَع عليه معلوم من الدين بالضرورة فمن استحل حرامًا من هذا النوع كان كافرًا، ولا يعذر بجهله إلا من كان قريب عهد بالإسلام، أو نشأ بعيدًا عن المسلمين منفردًا عنهم. وما كان غير قطعي لا يكفر مستحله إلا إذا ثبت عنده وكان غير متأول في استحلاله، وإنما يكفر جاحد هذا النوع بنحو استحلال حرامه؛ لأنه يكون مكذبًا للشرع رادًّا له، فمن استحل حكم المحكمة المخالف للشرع المنزل أي في القرآن يكفر إذا كانت الآية التي خالفها الحكم قطعية الدلالة، أي نصًّا لا يحتمل التأويل، ومثله ما إذا كانت دلالتها ظنيةً، وكان المستحل يعتقد أن ذلك هو المراد منها، وأما إذا اعتقد أن ما خالفه الحكم من ظاهرها ليس هو المراد منها فلا يكفر، فالكفر يناط بتكذيب القرآن أو استحلال مخالفته، فمن خالف غير مكذب ولا مستحل، ولو لما ترجح عنده أنه حكم الله من غير قطع - كان عاصيًا يجب عليه التوبة والعمل الصالح الذي يُرجى أن يكون كفارةً لذنبه، فإن أصر يخشى أن تحيط به خطيئته، ويرين عصيانه على قلبه فيكون من الخاطئين؛ وأما مخالفة الناس أو المحاكم لآراء الفقهاء الاجتهادية، فالأمر فيه أهون والعبرة باعتقاد المخالف، فإن كان يعتقد أنه من شرع الله كان عاصيًا. وأما مسألة الحكم بالشرع فأئمة اليمن الزيدية لا يحكمون إلا بفقه الزيدية، وأهل نجد لا يحكمون إلا بفقه الحنابلة، ولكن ترْك الحكم بالشرع في الجنايات وبعض القضايا المدنية طرأ على البلاد الإسلامية التي قلدت المدنية الأوروبية، وإنما يسأل السائل عنها، وإذا أردنا أن نشرح جواب هذا السؤال شرحًا تامًّا لا يتم لنا ذلك إلا بتأليف كتاب يكون من أبوابه: استبداد ملوك المسلمين وأمرائهم بالأحكام وأسباب ذلك، وباب خضوع الأمة لأحكامهم، وأسبابه التي سهلت عليها قبول أحكامهم المخالفة للشرع، وباب فقه المسلمين ومآخذه، وكون الفقيه عند سلف المسلمين هو المجتهد، وأسباب ترك الاجتهاد، ومقتضاه: فقدُ الفقهاء العارفين بأحكام الشرع معرفةً صحيحةً، أي بالدليل، وسبب امتلاء كتب الفقه بالخلاف والاضطراب في تصحيح الأقوال المنقولة عن أئمة الفقهاء، وسبب جعل أقوالهم أصولاً للدين يستنبط منها المقلدون الذين ليسوا أهلاً للاستنباط، وسبب ما فيها من التشديد وسوء التأليف والتعقيد اللفظي والمعنوي، وغير ذلك من الأمور التي جعلت فهمها واستخراج الحكم الصحيح منها عسرًا. وباب ما حدث للناس من شئون المعاش والاجتماع والفنون والأحوال والعادات والعرف التي ترتبت عليها قضايا كثيرة لا نص عليها في أصل الشريعة ولا تقبل الأمة ولا حكوماتها أن يكون فيها مجتهدون يضعون لها أحكامًا تتفق مع الأصول المقررة، وباب تغلب الإفرنج على المسلمين واستيلائهم على أكثر بلادهم استيلاءً رسميًّا تامًّا، ووضعهم الباقي تحت نفوذهم واضطرارهم حكامه إلى الخضوع لهم فيما يريدونه منهم، ثم ضعف العلم والدين في الحاكمين والمحكومين وافتتانهم بتقليد الإفرنج في قوانينهم. واستخراج الجواب من مجموع تلك الأبواب. فإذا تأمل السائل عناوين هذه الأبواب ولمح بعض ما يدخل فيها من المسائل علم أن ترك الحكم بالشريعة له أسباب كثيرة، إثمها الأكبر على الملوك والأمراء والعلماء، وسببها الأكبر: جهل الأمة وتركها لحقوقها بغش رؤساء الدين والدنيا لها؛ ليتسنى لهم استخدامها واستغلالها، فمتى أرادت الأمة أن تحكم بشريعتها التي تؤمن بها حكمت بها دون غيرها؛ لأن إرادة الأمة لا ترد، ولكن متى تريد؟ إن من لا وجود له لا حياة له، ومن لا حياة له لا إرادة له، فالمسلمون الآن ليسوا أمة فنطالبهم بالأعمال الإرادية التي هي من شأن الأمم الحية، وإنما هم أفراد متفرقون {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14) لهذا كنا نقول منذ أنشأنا المنار: إن الواجب قبل كل شيء هو تكوين الأمة. بل أقول: إن حكم مَحاكم البلاد الإسلامية بالعقاب على الزنا والسكر والقمار وامتناعها من الحكم بالربا، لا يتوقف على جمع كلمة الأمة الإسلامية ومطالبتها بذلك بلسان القال والحال، بل يمكن بما هو دون ذلك، أما في البلاد العثمانية فلو طلب ذلك أكثر المبعوثين لكان قانونًا نافذًا، ولكن كان أكثر المبعوثين ممن لا يرى ذلك، والذنب على الأمة التي تنتخب من لا تثق بدينه، وأما في مصر فلو انتدب علماء مصر للمطالبة بذلك يتبعهم السواد الأعظم من المسلمين، ولا يبقى للحكومة مندوحة من إجابتهم متى قاموا يطالبونها مع علمائهم في كل مكان، ولكن النفوس ماتت فلا يتجرأ أحد على طلب شيء باسم الدين، نعم إن الحكومة المصرية لا تقدر على منع الأجانب من بيع الخمر وشرائها، ولا بغايا الأجانب من فتح مواخير الزنا ولا مصارفهم من الدين بالربا، ولا المحكمة المختلطة من الحكم به، ومن ذا الذي يطالبها بذلك، وهي تقصر في تنفيذ مواد القانون المصري التي وضعت للتشديد في أمور الفسق والقمار؛ لأن الكثيرين من رجال القانون يحبون التساهل في ذلك، بل الأمر أعظم من ذلك، وكأن السائل لا يعرف من أمر بلاده شيئًا وإلا فسؤاله على غير ظاهره. وإذا أراد العبرة بمسألة من المسائل المتعلقة بصعوبة الفقه الإسلامي وجمود التقليد اللذين أشرنا إليهما فليقرأ الرسالة الآتية وتعليقنا عليها، ولو كان ممن يقرأ المنار من أول صدوره لما احتاج إلى السؤال عن مثل هذا فما من مسألة من المسا

إذن سلطاني عن فتوى شيخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إذن سلطاني عن فتوى شيخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي أو أوامر مهمة في إصلاح القضاء الشرعي [*] بسم الله الرحمن الرحيم لا يخفى أن محاسن الشريعة المحمدية يسرها وسماحتها ومشيها مع المصالح في كل شئونها، ولذا كان من أوائل أصولها ودعائم قواعدها أن لا ضرر ولا ضرار، واتساع الأمر إذا ضاق، ورفع الحرج والعسر، ونحو ذلك من قوانينها المقرَّرة، ونواميسها المحرَّرة، فاليسر ورفع العسر لازمٌ من لوازمها، وخاصَّة من خصائصها، كما أن من مَزاياها وفرة المآخذ لأحكامها، وتنوع المدارك لفروعها، فقد فتح بفضل ذلك أبواب لمخارج لولاها لضاقت الصدور. وقد رحم الله سبحانه - وله الحمد - هذه الأمة بكثرة مجتهديها وانتشار فقه أئمتها، وتلقي ذلك خلفًا عن سلف حتى سهل الانتفاع بعلومهم وفروع أصولهم، والاستمداد من مدوناتهم وفتاويهم، وحتى أصبح أسلوب التفريع في كتب الفقه والفتاوى خير رائد لتعلم الحكم والقضاء وتوليد الفروع من الأصول، وتعرف الأشباه والنظائر. أقول: كتب الفقه، وأعني بها كتب عامة الأئمة المجتهدين وأصحابهم وأتباعهم رضوان الله عليهم، فهي التي تجلى فيها يسر الدين ورحمته، وكاد أن لا تقع نازلة إلا ويجد المنقِّب لهم كلامًا في أمرها، هذا إذا نظر إلى النوازل من الوجهة الفقهية؛ وأما إذا نظر إليها من الوجهة الأصولية فلا ريب أن آيات الأحكام المنزلة، وأحاديثها المصححة والمحسنة كافية وافية كلها بمنطوقها ومفهومها، عامة لكل ما جَدَّ ويَجِدُّ. من هنا كان الخلاف رحمة، أي اختلاف المآخذ وتنوع وجوه المَدَارك وتعدد مناحي المصالح؛ إذ بذلك صار يتسنى تعرف الأقوى فالأقوى من الأقوال، والأصلح فالأصلح من الأقضية لمراعاة الأحوال، وارتفع الحرج من التحريج على الأفكار، واستبان الأحق بالقبول، ولم يبق إلا تطبيق العلم على العمل. ومن المعلوم أن كثيرًا من مسائل القضاء الشرعية كمسألة فسخ عقد من يغيبون غيبة منقطعة إنما يتمشى القضاء بها على بعض المذاهب دون البعض، فكم من أقضية لا يتيسر القضاء بها الآن على مذهب النائب الشرعي الحنفي لانحصار قضائه في مذهبه الذي أنيب للحكم به؟ وأما على غير مذهبه فيمكن القضاء بها إلا أن أمر تنفيذ القضاء بها موقوف على توسيع الإذن للنائب الحنفي بأن يولي القضاء لمن يقضي بتلك النازلة على مذهبه ممن يراه أهلاً للقضاء والحكم، فإذا قضى هذا نفذ النائب الأصلي قضاءه فينفذ حينئذ. وأما الوقائع لهذه القضية التي سهل العمل بها الآن، وكان مغلقًا دونها أبواب التنفيذ فلا تحصى أيضا، فيعلم الناس أن من الرجال من يغيب عن زوجته غيبة ينقطع بها خبره، أو يكون لا مال له حاضر ينفق عليها منه أو يعسر بنفقتها المعروفة فيفر من وجهها ويتعذر الإنفاق عليها حينئذ لفقد مال له تعاش به أو تراش، فكيف المخرج لهذه البائسة أتبقى؟ على هذه الحالة التي سكرات الموت أهون منها، أم ترجع إلى ما عسى أن يكون لها في الشرع الأنور فرج ومخرج؟ لا جرم أن لها فرجًا ومخرجًا، والدين ليس بالجافي، وإن ضاق بها مذهب فقد يتسع لها مذاهب، وأقوال الأئمة اشتملت على كثير مما فيه سعة ورحمة. أنا لا أحصي مذاكراتي مع قضاة دمشق وسواها لحل هذه المعضلة، وإزاحة هذه المشكلة، بل كثيرًا ما فاتحت بها مبعوثي سورية وغيرها ممن رغبت إليهم في اقتراح توسيع المجلة بأبواب أخر، لا سيما في بابي النكاح والوقف، بل كلمت مرة في ذلك شقيق أحد الصدور العظام لما قدم دمشق، كل ذلك لما يحمله قلبي من همِّ تلك النازلة؛ وما يشغل فكري على المدى من تلمس المَخرج لها. ما اتفق أني تجولت في ضواحي دمشق ومراكز أقضيتها إلا وشكا لي خيار نوابها ومن نزلت بهم هذه المسألة ضيق صدورهم بمصابها، فكم يشكو آل الزوجة غيبة الزوج في بلاد أميركا مثلاً وانقطاع خبره وطول مدة غيبته وإهماله إقامة وكيل عنه ينفق على زوجته، أو فقدان مال له ينفق عليها، وعدم صبرها على ذلك، لا سيما مع قلة ذات يدها وفقر آلها؟ أحضروا لي مرة امرأة بهذه الحالة معلقة، وذكروا أنه صار لزوجها بضع سنين في أمريكا ولا كتاب منه ولا خبر، ولا حوالة بمال، ولا صلة بحال، ولا أهل له ولا وكيل، وأخذوا يبكون على نضوب ماء حسنها، وقرب الزهادة فيها، ووكس مهرها، ووجودها بين أترابها كالمعلقة، لا مزوجة ولا مطلقة، وتجرع مرارة الفراق، وهموم تسيل الدم من المآق، وأنهم كانوا كلما انتجعوا وجهًا لحل عقدتها لا يجدون، وكان يعتذر لهم النواب بأن فسخ هذا النكاح سُدَّت دونه الأبواب، حتى يصدر الأمر من المشيخة الإسلامية بالعمل على فسخه، وإبطاله ونسخه. أما الآن فقل للنواب والقضاة في عامة المراكز والجهات قد صدر الأمر تلو الأمر من مقام المشيخة الجليلة مؤيدًا بالإرادة السنية بالقيام بفسخ هذا النكاح، وإليك ما أذنت به المشيخة الإسلامية الجليلة لعام 1293 وأرسلت أمرها بذلك للولايات ليحفظ في سجلات محاكمها الشرعية مُعَرَّبًا عن الأصل بالتركية [1] . عدد (نمرو) 299: ورد من قِبَل علماء لواء السليمانية كتاب يستفتون فيه عما إذا كان الحكم العالي الناصّ بأن للقاضي الحنفي أن يأمر وفقًا للمذهب الشافعي بفسخ عقد من يغيبون غيبة منقطعة وتزويج زوجاتهم من غيرهم، والمرسل [2] سنة 1272 جوابًا على ما ورد من متصرفية الموصل لا يزال إلى اليوم مستمرًّا أم لا؟ ويرجون في كتابهم بعد الآن تعيين نواب عالمين بالمذهبين لينظر في الدعاوى الواقعة وتفصل على المذهب الشافعي فيما إذا كان الطرفان شافعيين أو على المذهب الحنفي فيما إذا كان المتخاصمان حنفيين أو أحدهما فقط حنفيًّا بباعث أن كثيرين من أهالي السليمانية وكركوك وقرى سنجار وأربيل شافعيون كما أن ولاية بغداد وأهل المغرب يتمذهبون بالمذهب المالكي، وكذلك معظم أهل نجد حنابلة، وقد حول كتابهم واستفتاؤهم إلى دار الفتوى، وأجيب عنه بأنه لما كان القضاة الكرام في زماننا مأمورين بأن يحكموا على المذهب الحنفي، وأنهم ممتنعون من تنفيذ حكم خلاف مذهبهم، وأن قضاء قاضٍ على خلاف رأيه فيما هو مجتهد فيه لا ينفذ على القول المفتى به - كان جعل النائب مأذونًا له بأن يحكم بأقوال بقية المذاهب مخالفًا للقول المفتى به ومؤديًا لتشويش أمور العباد. غير أن الكتب الفقهية المعتبرة صرحت بأنه يصح شرعًا تفويض ذلك إلى رجل شافعي ليحكم فيها على المذهب الشافعي؛ لذلك وجب في المسائل المختلف فيها كالطلاق والنكاح إذا كان المتداعيان شافعيين أن ينتخب المفتي الشافعي أو من كان أعلم وأفقه علماء البلدة، وكان معروفًا بالعقل وموصوفًا بالدين والاستقامة، ويفوض إليه ويطلب منه الحكم ثم يقوم بتنفيذه القاضي الحنفي؛ وأن يجري على هذا الوجه أيضا في المالكي والحنبلي. ولما كان يفهم من مآل مذكرة (؟) أنه يجب على القضاة الشرعيين المعينين في تلك الأنحاء أن يستحصلوا في ذلك إذنًا من قبل مستجمع الشرف وملجأ الخلافة وكان ذلك أوفق للمصلحة، فقد استؤذن من حضرة ظل الله في الأرض أن تجري المعاملات المذكورة بموجب الفتوى المقدمة فصدرت إرادته - التي من شأنها الإصابة - آذنة بذلك، وقد سطرنا لكم هذا الرقيم لتهتموا بعد الآن بأن تعملوا بمنطوقه الجليل عندكم. في 10 صفر سنة 1293 وفي شباط 1291 ... ... شيخ الإسلام ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن فهمي وإليك صورة الفتوتيين الجليلتين من جانب المشيخة الإسلامية لهذا العهد تعزيزًا للفتوى المتقدمة، أُرسلتا لقضاء المدينة المنورة غب مراسلته لها بذلك: عدد (نومرو) 47: جواب الرسالة البرقية المؤرخة في 25 نيسان سنة 1328: يُفهم من مؤدى التحريرات القديمة المتضمنة فسخ النكاح، والمؤرخة في 10 صفر سنة 93 وذات العدد التاسع والتسعين بعد المائتين أن للقاضي الحنفي الحق شرعًا أن يعطي إذنًا للأشخاص المسطرين ضمنها بأن يحكموا وفقًا للمذاهب الأخرى، وقد بودر بإشعار الكيفية إلى جانب فضيلتكم مع نص دار الفتوى في 9 جمادى الأخرى سنة 1330 وفي 30 مارس سنة 1328. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الإسلام ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن نسي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عدد (نومرو) 91: لما كان أشعر بمحررات جوابية مؤرخة في 9 جمادى الآخرة سنة 1330، وذات العدد السابع والأربعين بأن للقاضي الحنفي الحق شرعًا أن يعطى إذنًا للأشخاص المسطرين ضمنها بأن يحكموا وفقًا للمذاهب الأخرى كما يفهم من مؤدى التحريرات القديمة المتضمنة فسخ النكاح والمؤرخة في 10 صفر سنة 1293، وذات العدد التاسع والتسعين بعد المائتين أرسل لكم ذلك مطويًّا مع رسالة برقية مقدَّمة بإمضاء السيد محمد، تحتوي بعض الجمل في ذلك الباب. في 29 رمضان سنة 1330 وفي 29 آغستوس سنة 328. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الإسلام ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد جمال الدين وبعد فإن من يتدبر هذه الفتاوى الجليلة يعلم أنه إذا عمل بها قضاتنا ونوابنا حينما تمس الحاجة إليها فإنها تُزاح بها آصار وغموم، ولا سيما في بعض مسائل الزوجية التي لا يقضى بها على مذهب الحنفية، ويسهل الحكم بها على المذاهب الأخرى. ومن الصور التي يفسخ بها النكاح على غير مذهب الحنفية إعسار الزوج بالنفقة أو انقطاع خبره ولا مال له، ففي الصورتين لها فسخ النكاح ففي (المنهاج وحواشيه) من كتب الشافعية: إن من أعسر بأقل نفقة أو كسوة أو مسكن ولم تصبر فلها الفسخ إن ثبت إعساره عند قاضٍ بإقراره أو بينة وكذا إذا انقطع خبره، ولا مال له حاضر، فلها الفسخ كما في كتاب النفقات. وفي (الإقناع وشرحه) من كتب الحنابلة: أنه متى تعذَّر الإنفاق على الزوجة بأن لم يكن للزوج مال ولا نقد ولا عرض ولا عقار - فلها الفسخ؛ لتعذر الإنفاق عليها من ماله كحال الإعسار. وفي (بداية المجتهد) للإمام ابن رشد من أئمة المالكية ما مثاله: وأما الإعسار بالنفقة فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبوعبيد وجماعة: يفرق بينهما. وكذلك يعتبر عند الحنابلة الشروط التي تحصل عند العقد، وهي ما يقتضيه العقد أو تنتفع به المرأة فكله لازم للزوج بمعنى ثبوت الخيار لها بعدمه وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: (مقاطع الحقوق عند الشروط) . وتفاصيل الفروع في المطولات. لهذا كان من الواجب المحتَّم على نواب المراكز والألوية والأقضية أن يحتفظوا بهذه الأوامر الشرعية والفتاوى الجليلة في باب الزوجية؛ وليقيدوها في سجلاتهم وليحافظوا عليها؛ وليحفظوها لمحاكماتهم؛ وليقوموا بها في كل دعوى أقيمت على هذه الحال؛ ولينفذوا حكمها بما أمر به مشايخ الإسلام الأعلام، بتفويض ذلك إلى من يقضي بها ثم ينفذون الحكم في الحال؛ وليرحموا من تنزل بهم هذه النازلة من البائسات؛ وليوفوا بما عهد إليهم من ذلك لا سيما وقد صدرت به الإرادة السنية التي طاعتها في الحق من الواجبات، ومن خالف من القضاة بعد وضوح المحجة، فقد قامت عليه الحجة، والله حسيبه، وعليه حسابه. اهـ. (المنار) إن حل المشيخة الإسلامية لهذا المشكل بهذه الصورة حسن، يحصل به المقصود ويكفي للخروج من الحرج، وبه تفك قيود المحاكم الشرعية في القطر المصري وأكثر أهله شافعية فمالكية، بل يجوز لمن يسمون حنفية تبعا لآبائهم أن يطلبوا الحكم بمذهب الشافعي أو غيره فيها إذا احتاجوا إلى ذلك في مثل الواقعة التي أشار إليها ناشر هذه الأوامر وفي غيرها من الوقائع، والعامي لا مذهب له إلا مذهب مفتيه وال

لائحة الإصلاح لولاية بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لائحة الإصلاح لولاية بيروت (وهي اللائحة التي صدقت عليها وقررت السعي في إنفاذها) ... (الجمعية العمومية الإصلاحية في بيروت) المؤلفة من ستة وثمانين عضوًا منتخبين انتخابًا قانونيًّا من قِبل المجالس الملية والرؤساء الروحيين لجميع الطوائف في بيروت ليمثلوا طوائفهم وينوبوا عنها في تقرير الإصلاح اللازم لولايتهم. وقد تم التصديق لهذه اللائحة وتفويض إنفاذها إلى لجنة الجمعية العمومية في الجلسة العامة الثالثة المنعقدة في دار المجلس البلدي في يوم الجمعة الواقع في 23 صفر سنة 1331 و31 كانون الثاني سنة 1913. *** مادة أساسية الحكومة العثمانية حكومة دستورية نيابية (الإدارة) المادة الأولى: تقسم إدارة الولاية إلى قسمين: القسم الأول هو المشتمل على الأعمال المتعلقة بكيان السلطنة وشئونها الأساسية، وهي المسائل الخارجية والعسكرية والجمارك والبوسته والتلغراف وسن القوانين ووضع المكوس. والقسم الثاني: هو المشتمل على الأعمال المحلية المتعلقة بشئون الولاية الداخلية الخاصة، فكل ما يتعلق بالقسم الأول منوط تقريره وإجراؤه بالحكومة المركزية، وكل ما يتعلق بالقسم الثاني منوط تقريره بمجلس الولاية العمومي. *** الوالي - حقوقه ووظائفه المادة الثانية: للوالي صفتان قانونيتان: الأولى تمثيل الحكومة المركزية، وبهذه الصفة يتولى إجراء جميع الأعمال المتعلقة بالقسم الأول طبقًا لقرارات الحكومة المركزية. والثانية تمثيل حكومة الولاية التي يرأسها، وبهذه الصفة يتولى تنفيذ جميع الأعمال المتعلقة بالقسم الثاني طبقًا لقرارات المجلس العمومي. أما حقوق الوالي ووظائفه فهي: أولاً - تنفيذ قرارات المجلس العمومي. ثانيًا - الاعتراض على قرارات المجلس العمومي على الشروط الآتي بيانها في باب الوالي والمجلس العمومي. ثالثًا - الاطلاع على لوائح المشاريع التي تعدها لجنة المجلس العمومي لإبداء ملحوظاته عليها قبل تقديمها إلى المجلس. رابعًا - تعيين المتصرفين والقائمقامين والمديرين بعد عرض أسمائهم على الحكومة المركزية وفقًا لنظام يضعه المجلس العمومي. خامسًا: تعيين الطلاب الممتحنين الذين تعرض عليه لجنة الامتحان أسماءهم لأجل التوظيف. سادسًا: دعوة المجلس العمومي في الميعاد المعين لاجتماعه، ويمكنه دعوته لاجتماع فوق العادة بمصادقة لجنة المجلس أو مجلس المستشارين. * * * المجلس العمومي - حقوقه ووظائفه المادة الثالثة: يؤلف في الولاية مجلس عمومي من ثلاثين عضوًا ينتخب نصفهم من المسلمين والنصف الآخر من غير المسلمين لمدة أربع سنوات، وهم ينتخبون منهم رئيسًا لهم بالاقتراع السري، أما سائر الانتخابات العمومية فتبنى على قاعدة التمثيل النسبي العددي في دوائر الانتخابات. أما حقوق المجلس العمومي ووظائفه فهي: أولاً: تقرير جميع أعمال الولاية الداخلية والمذاكرة في ما يعرض عليه من قِبل الوالي أو لجنة المجلس أو عشرة من أعضائه. ثانيًا: وضع الأنظمة الداخلية، بشرط أن لا تمس شئون السلطنة الأساسية. ثالثًا: عقد القروض التي لا تتجاوز قيمتها نصف الواردات المختصة بالولاية. أما القروض التي تتجاوز هذا المبلغ فيلزم لها مصادقة الحكومة المركزية. رابعًا: إعطاء رخص لتأليف شركات مساهمة (آنونيم) عثمانية للمشاريع العمومية النافعة للتجارة والصناعة والزراعة وسائر الشئون العمرانية داخل الولاية على شرط أن لا تتضمن امتيازًا، أما المشاريع التي تتضمن امتيازًا فيجب مصادقة الحكومة المركزية عليها. وتخول هذه الشركات الشخصية المعنوية بمعنى أن يكون لها حق التملك. خامسًا: تقرير الضمائم الكسورية على المكوس المقررة. سادسًا: تقرير رواتب موظفي ومستشاري الدوائر التي هي بإدارة حكومة الولاية. سابعًا: حق استيضاح الوالي وطلب عزله. لا يتدخل المجلس العمومي في الشئون السياسية العامة مطلقًا. * * * الوالي والمجلس العمومي المادة الرابعة: قرارات المجلس العمومي نافذة ما لم يعترض عليها الوالي بمصادقة مجلس المستشارين خلال أسبوع من تاريخ تبليغه إياها؛ فيعيد المجلس النظر في قراره، وإذا أصرَّ عليه بأكثرية ثلثي الأصوات يكتسب القرار الصفة القانونية القطعية وعلى الوالي تنفيذه. * * * لجنة المجلس العمومي المادة الخامسة: ينتخب المجلس العمومي بالاقتراع السري لجنة من أعضائه واحد منهم من كل لواء واثنان من مركز الولاية لمدة سنة واحدة فتجتمع بإدارة مستشار المجلس العمومي. أما وظائف اللجنة فهي: أولاً: مراقبة تنفيذ قرارات المجلس. ثانيًا: درس المشاريع اللازمة للولاية وإعداد لوائحها. ثالثًا: تعيين مهندسين اختصاصيين للاستعانة بهم في أعمالها. رابعًا: حق الاعتراض على الممتحنين الذين تقدم إليها لجنة الامتحان أسماءهم قبل عرضها على الوالي. خامسًا: دعوة المجلس العمومي، لاجتماع فوق، العادة باتفاق ثلثي أعضائها ومصادقة مستشار المجلس. * * * الموظفون - تعيينهم وعزلهم المادة السادسة: الوالي وحاكم الشرع في مركز الولاية والدفتردار وباشمدير الرسومات وباشمدير البوسطة والتلغراف وقومندان الجندرمة وضباطها - تعينهم الحكومة المركزية على شرط معرفتهم اللغة العربية معرفة تامة، ويستثنى من هذا الشرط والي الولاية لمدة خمس سنوات من تاريخ وضع مواد هذه اللائحة موضع الإجراء. أما بقية الموظفين فينبغي أن يكونوا من أهالي البلاد ويجري تعيينهم على الوجه الآتي بيانه: تعيين الموظفين: يُمتحن طالبو الوظيفة أمام لجنة مؤلفة من مستشار ورئيس الدائرة التي يطلبون الدخول فيها، فتقدم لجنة الامتحان اسمي الممتازين منهم إلى لجنة المجلس العمومي، وبعد مصادقتها يعرضان على الوالي فيعين أحدهما. ولدى تعيينه يبلغ الوالي اسمه للنظارة المنسوب إليها فيقيد في سجلها محافظة على حقوق ترقيته وتقاعده، وأما رؤساء العدلية فيعينون وفقًا لنظام يضعه المجلس العمومي. عزل الموظفين: الموظفون المعينون من قبل الولاية عدا رؤساء العدلية تكف يدهم بناء على طلب المستشار ورئيس الدائرة المنسوبين إليها معًا. وأما رؤساء العدلية فتكف يدهم بناء على طلب المستشار ومصادقة مجلس المستشارين. وقرار كف اليد في كلا الحالين ينفذه الوالي، وللموظف المكفوفة يده الحق بمراجعة الوالي في خلال سبعة أيام من تاريخ تبليغه ذلك إذا كان موظفًا في مركز الولاية وخمسة عشر يومًا إذا كان خارج المركز. فيحيل الوالي دعواه إلى مجلس المستشارين ليحكم في وجوب العزل أو عدمه، والموظف الذي يحكم مجلس المستشارين بعزله لا يجوز استخدامه في دوائر الحكومة ولا يعطى معاش معزولية، أما محاكمة المعزول جزئِيًّا فتجري في المحاكم العدلية بمذكرة خاصة من المستشار المدعي العمومي. وأما موظفو الحكومة المركزية فتكف يدهم بطلب المستشار ومصادقة الوالي الذي يطلب عزلهم بعد حكم مجلس المستشاين عليهم من النظارة المنسوبين إليها، وينبغي أن يعين خلفهم في مدة ثلاثين يومًا. وأما المفتشون والمستشارون فيكون عزلهم بطلب الوالي من مجلس المستشارين وبحكم صادر من هذا المجلس. وأما الوالي فيكون عزله بناء على قرار المجلس العمومي بأكثرية ثلثي مجموع أعضائه، فتعين الحكومة المركزية خلفه في مدة أربعين يومًا. * * * المستشارون والمفتشون المادة السابعة: تعين الحكومة المركزية مستشارين من الأجانب على شرط معرفتهم إحدى اللغات الثلاث: العربية أو التركية أو الفرنسوية، وذلك للدوائر الآتية في مركز الولاية وهي: الجندرمة والمالية وتلحق بها غرفة التجارة والبوسطة والتلغراف والجمرك. وتعين أيضا مفتشًا أجنبيًّا عامًّا لكل لواء من الولاية يخول حق تفتيش أية دائرة كانت في اللواء، ويكون مرجعه مستشار مركز الولاية الداخلة تلك المسألة المراجع فيها ضمن دائرة اختصاصه. ويعين المجلس العمومي من الدول التي ترضاها الحكومة المركزية مستشارين للداوئر الآتية: وهي مجلس الولاية العمومي والعدلية والنافعة والمعارف والبلدية والبوليس، ويلبس هؤلاء المستشارون الشعار العثماني في أوقات العمل، أما مدة الاستشارة والتفتيش فخمس عشرة سنة، ويمكن تجديدها. * * * مالية الولاية المادة الثامنة: وإدارات الولاية على نوعين: أحدهما يعود برمته إلى مركز السلطنة، وهو حاصلات الجمارك والبوسطة والتلغراف والبدلات العسكرية، والآخر وهو عدا ما ذكر من الواردات يعود برمته إلى الولاية. * * * رواتب الموظفين المادة التاسعة: ينظم المجلس العمومي ميزانية الولاية السنوية فيدخل فيها رواتب جميع الموظفين والمستشارين عدا موظفي ومستشاري الجمارك والبوستة والتلغراف. * * * الأراضي المحلولة المادة العاشرة: تسلم الأراضي المحلولة والأملاك الأميرية الداخلة ضمن الولاية إلى المجلس العمومي، وتكون برمتها ملكًا للولاية. * * * الأوقاف المادة الحادية عشرة: لا علاقة للإدارة ولا للمجلس العمومي في الأوقاف، بل يسلم كل وقف إلى مجلس الملة المنسوب إليها؛ لاستخدامه بموجب قانونها (بناء عليه، جميع أوقاف المسلمين في الولاية تسلم إلى مجلس ملتهم أسوة بباقي الطوائف) . * * * البلديات المادة الثانية عشرة: البلديات مستقلة بجميع أعمالها، ولها الحق بوضع الرسوم البلدية بمصادقة المجلس العمومي دون مراجعة الحكومة المركزية. * * * مجلس المستشارين المادة الثالثة عشرة: يؤلف مجلس يسمى مجلس المستشارين ويكون أعضاؤه رئيس المجلس العمومي، أو من ينيبه عنه من أعضاء لجنة المجلس، وجميع مستشاري الدوائر في مركز الولاية. أما وظائف هذا المجلس فهي: أولاً: تفسير النظام الذي تضعه الحكومة المركزية بناء على هذه اللائحة كدستور لحكومة الولاية ومجلسها العمومي. ثانيًا: تفسير القرارات والأنظمة التي يضعها المجلس العمومي. ثالثًا: النظر والحكم بناء على طلب الوالي أو أحد المستشارين في كل خلاف في الرأي يقع بين أحد المستشارين والمجلس العمومي أو إحدى لجانه أو أية دائرة كانت ويكون حكمه مبرمًا ويرأس هذا المجلس والي الولاية وينوب عنه في غيابه رئيس المجلس العمومي أو مستشار هذا المجلس. * * * اللغة المحلية المادة الرابعة عشرة: إن اللغة العربية تعتبر اللغة الرسمية في جميع المعاملات داخل الولاية، وتعتبر أيضًا لغة رسمية كاللغة التركية في مجلسي النواب والأعيان. * * * الخدمة العسكرية المادة الخامسة عشرة: تخفض الخدمة العسكرية إلى سنتين وتقضى الخدمة أيام السلم في الولاية، وتنزل قيمة البدل النقدي للنظامية إلى ثلاثين ليرة عثمانية، وللرديف والاحتياط إلى عشرين ليرة. ... ... ... ... (الجمعية العمومية الإصلاحية في بيروت) (المنار) إنني أشكر لإخواني أهل بيروت هذا العمل الإصلاحي الذي أقيم على أساس الاتفاق بين مسلميهم ونصاراهم، وإن بذل الأولون في استمالة الآخرين ما لم يبذله غيرهم من الناس؛ وهو أنهم راضون أن تكون قلة النصارى في الولاية مساوية لكثرة المسلمين في الاشتراك بإدارة حكومتهم، فهذا برهان عملي قاطع على تساهل من يعدون أشد المسلمين عصبية في سورية، وقد صدَّق الله، ولله الحمد، حسن ظني في أهل بيروت؛ إذ فضَّلتهم على جميع أهل بلادنا فيما كتبته عنها عند زيارتي لها بعد إعلان الدستور. وإذا كنا نعد لهؤلاء المسلمين من المزية سماحهم ببعض حقوقهم لأ

نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ـ 1

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1-4) وبعد، فقد كتبت هذه المقالة، وهي بحث تاريخي عقلي في العهد الجديد وفي عقائد النصرانية، تتميمًا للبحث السابق في مسألة الصلب والفداء، راجيًا من الله أن يوقظ بها الغافلين، ويهدي بها الضالين، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، فأقول وبه تعالى وحده أستعين، إنه حسبي ونعم الوكيل: اتفقت شهادة علماء النصارى الأقدمين على أن متَّى لم يكتب إنجيله اليوناني الحالي، وإنما الذي فعله، كما سيتضح لك، هو أنه جمع بعض أقوال المسيح عليه السلام باللغة العبرية، وأقدم شهادة وصلت إلى النصارى في هذا الموضوع هي شهادة بابياس (Papias) أسقف هيرابوليس الذي استشهد في سنة 164 أو 167 ميلادية، فإنه كتب في منتصف القرن الثاني كتابًا ضخمًا في خمسة مجلدات، فُقِدَ ولم يبقَ منه سوى جمل قليلة نقلها عنه أوسابيوس (Eusebius) وإيريناوس (Irenaeus) فمن هذه الجمل التي نقلها أوسابيوس (مات سنة 340 م) قوله: (إن متَّى كتب مجموعة من الجمل (Logia) باللغة العبرية) يعني بعض كلمات المسيح باللغة الآرامية (وقد ترجمها كل بحسب طاقته) . اهـ. ومع أن أوسابيوس المؤرخ وغيره وصفوا بابياس هذا بسخافة العقل وضعف الإدراك؛ فإنه لا يوجد عند النصارى شهادة لكتبهم أقدم وأعظم من شهادته هذه على ضعفها؛ فهي سندهم الوحيد من عصر المسيح إلى منتصف القرن الثاني. وفي سنة 180 ميلادية، ذكر إيريناوس الذي مات سنة 202 م أن متى كتب إنجيلاً باللغة العبرية أو الآرامية ولا ندري لماذا فقدت كتابات متى العبرية ومن ترجمها ومتى ترجمت؟ وإذا لاحظنا أن الأصل الذي كتبه متى كان عبارة عن بعض عبارات المسيح وكلماته (Logia) كما هو صريح شهادة بابياس المذكورة - ظهر لنا أن واحدًا مجهول الاسم أخذ هذه المجموعة وترجمها وهذَّبها ورتَّبها وأضاف إليها ما شاء من الحوادث وغيرها لربط الجمل بعضها ببعض حتى صارت هي الإنجيل اليوناني الذي سمي باسم متى فيما بعد، فهل بمثل هذا الإنجيل يمكننا أن نثق ونحن لا نعلم من ترجمه؟ ومن الذيتوسع فيها؟ وهل الترجمة صحيحة أم محرَّفة؟ وهل الزيادات التاريخية التي فيه صادقة أم كاذبة؟ وأين هو الأصل الذي ترجمه هذا المترجم؟ واعلم أنه لم يروِ أحد من قدمائهم أن متى كتب إنجيلاً يونانيًّا كما يدّعون الآن بلا برهان. فهذا هو حال إنجيلهم الأول، ومنه يُعلم أن أول من نص على أن متَّى كتب إنجيلاً عبرانيًا هو إيريناوس سنة 180 ميلادية أي في أواخر القرن الثاني، ولا نعلم إن كان الإنجيل اليوناني الحالي مترجمًا عن هذا الذي ذكره إيريناوس أم لا؟ أما مرقس فإنه جمع بعض أخبار المسيح وأقواله غير مرتبة كما هي الآن على ما صرح به بابياس المذكور، وعليه فَيَدٌ أخرى رتبت هذا الإنجيل وزادت فيه، ثم زيد فيه شيئًا فشيئًا حتى صار كما هو الآن، ومن أحدث الزيادات فيه العبارات المذكورة في آخره (16: 9-20) ولذلك لم توجد في بعض نسخهم القديمة التي عثروا عليها؛ لأن زيادتها إذ ذاك لم تعم جميع النسخ، ولكنها عمتها فيما بعد كما هو الحال الآن؛ وهذه العبارات المشار إليها تتضمن ظهور المسيح لتلاميذه، ودعوة العالم كله للنصرانية، ورفعه إلى السماء ودعوى إعطاء المؤمنين بالمسيح القدرة على خوارق العادات والمعجزات (عدد 17 و18) وهي دعوى يردها الحس والعيان وسيأتي البحث فيها. هذا وقد كتب مرقس ما كتب بعد موت بطرس وبولس كما صرح بذلك إيريناوس (Irenaeus) فلم يطلع إذًا بطرس على ما كتبه مرقس بالرواية عنه. ومرقس لم يجتمع بالمسيح ولم يره قط. فأي ثقة لنا بمثل هذا الإنجيل؟ وهو لم يذكر إلا في أواخر القرن الثاني كإنجيل متى. وأما ما ذكره بابياس في منتصف هذا القرن فعن مجموعة أخرى من أقوال المسيح وأخباره غير مرتبة بحسب زمن وقوعها بخلاف هذا الإنجيل فإنه مرتب. وأما لوقا فإنه أيضًا ليس تلميذًا للمسيح ولم يره وكذلك بولس أستاذه [1] ، ولا يوجد دليل على أنه كتب إنجيله بالوحي، بل الظاهر من مقدمته أنه كتبه بالاجتهاد (1: 1-3) ولم يذكر أيضًا هذا الإنجيل صريحًا في القرن الأول والثاني إلى سنة 180 ميلادية، وقد اعترف مؤلفه أنه وجد قبله أناجيل أخرى كثيرة، وهو يدل على تأخر زمنه. وأما إنجيل يوحنا فلم يذكره أحد إلا في أواخر القرن الثاني، وفيه من الأقوال والآراء ما لم يروِه أحد غيره. مثال ذلك دعواه أن المسيح قال: 8: 58 (قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن) . ولا ندري لماذا لم تذكر أمثال هذه العبارة في الأناجيل الثلاثة الأخرى؟ فهل كان العالم غير مستعد لهذه التعاليم قبل كتابة إنجيل يوحنا كما يزعمون؟ مع أن بحث الناس في الكلمة (Logos) بدأ قبل المسيح بقرون عديدة، فكان الفيلسوف اليوناني زينو (Zeno) أستاذ الرواقيين من سنة 340 - 260 قبل الميلاد يعتقد أن الكلمة هي الشيء العامل في الكون والخالق له والكائن فيه، وكان الناس في زمن المسيح كثيري البحث في مثل هذه المسألة وغيرها، شديدي الشغف بأمثال هذه الفلسفات اليونانية اليهودية التي نشأت عنها بعض العقائد المسيحية. ولذلك نجد بحثًا طويلاً في هذه المسألة في كتابات فيلو (Philo) الفيلسوف اليهودي الإسكندري الذي كان معاصرًا للمسيح، وفي الترجوم الكلداني، وأيضًا في كتاب الحكمة (Wisdon) المنسوب لسليمان عليه السلام. فلماذا إذًا لم يذكر بحث الكلمة إلا في مؤلفات يوحنا دون سائر التلاميذ الآخرين مع أن البحث كان شاغلاً لأذهان الناس قبل المسيح وفي زمنه وبعده؟ فإن كان المسيح حقيقة قال تلك الجملة السابقة أو نحوها، فلماذا تركها الإنجيليون الآخرون؟ ولماذا لم يرشدهم روح القدس بعد حلوله عليهم إلى جميع الحق أو أهمه ليدونوه كما دونه يوحنا؟ أم كان الخوف من اليهود هو الذي منعهم من ذلك كما يزعمون؟ ولماذا لم يمنع هذا الخوف النصارى الأولين من المهاجرة بعقائدهم حتى نالهم من الاضطهاد والأذى والقتل ما نالهم على ما يقولون؟ فكيف يمنع الخوف الرسل من بيان الحق للناس ولا يمنع من هم أقل منهم من المجاهرة به في كل مكان وزمان؟ . وهناك مسائل أخرى كثيرة مذكورة في هذا الإنجيل الرابع ذكرنا بعضها سابقًا في مقالة الصلب، ولا أثر لها في الثلاثة الأولى، كدعواه أن يوحنا ذهب مع بطرس إلى دار رئيس الكهنة وقت محاكمة المسيح ودخوله وحده قبل بطرس ثم استئذانه له (18: 15 و16) وأنه دون سائر التلاميذ كان واقفًا عند الصليب مع مريم أم عيسى (19: 26) وذهابه مع بطرس إلى القبر بعد قيامة المسيح منه (20: 2 و3) وتسميته نفسه في أغلب الأوقات بالتلميذ الذي يحبه يسوع (21: 20 و13 و13: 23 - 26) إلى غير ذلك مما لم يرد في الأناجيل الأخرى، وهي كلها مسائل موضوعة من مؤلف هذا الإنجيل للمبالغة في مدح يوحنا، وتعظيمه وتفضيله عن باقي التلاميذ، ولذلك لم يروها إنجيل من الأناجيل الأخرى وهي من الأهمية بمكان عظيم لو صحت. ومما يلاحظه الإنسان أن يوحنا يتكلم في رسائله بصيغة المتكلم، وأما في هذا الإنجيل فيتكلم دائمًا عن نفسه بصيغة الغيبة. وورد في آخر هذا الإنجيل (21: 24) هذه العبارة: هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق. وهي تشعر بأن بعض أتباع يوحنا في أفسس أخذوا ما كتبه يوحنا وتوسعوا فيه ومنه ألفوا هذا الإنجيل ونسبوه إليه وعظموه فيه كثيرًا، واخترعوا له من الحوادث ما لم يذكره غيرهم، ثم قالوا: ونعلم أن شهادته حق، ولذلك ترى هذا الإنجيل أصح عبارة في اللغة اليونانية من سفر الرؤيا لمهارة كاتبيه فيها. ومن غرائب استدلال النصارى على أن لبطرس يدًا في تأليف إنجيل مرقس، أنه خالٍ من مدح بطرس مع أنه قد خص بطرس بالذكر في أعظم المقامات (مر 16: 7) وهو إنجيل مختصر وترك تفصيل كثير من المسائل. وفي مقابلة هذا النقص والاختصار لم يذكر تفاصيل أخرى من الخالية عن المدح تكون مكتسبة من معلومات بطرس. ومع ذلك فإذا صح استدلال النصارى هذا في بطرس فكيف ساغ ليوحنا مدح نفسه كل هذا المدح حتى خص نفسه بحب المسيح أكثر من كل أحد سواه وذكر لنفسه من الحوادث ما لم يروه أحد غيره. فالحق أن هذا الإنجيل هو من وضع بعض أتباع يوحنا المتأخرين في أفسس، كما قلنا؛ ولذلك نجد أن بوليكارب (Polycarp) تلميذ يوحنا الخصيص لم يشر إلى هذا الإنجيل بكلمة واحدة مع أنه ذكر كثيرًا من العبارات عن المسيح توجد في الأناجيل الأخرى وكذلك بابياس (Papias) لم يذكره، وإن كان في يوستينوس (Justin) الشهيد المتوفى نحو سنة 166 ميلادية، يقول: إن سفر الرؤيا هو ليوحنا. لكنه لم يذكر أن يوحنا كتب هذا الإنجيل مطلقًا وهو ينقل كل ما يكتبه من حياة المسيح عن الكتاب المسمى (Memoris Of The Apostles) (مذكرات الرسل) تاركًا ذكر جميع هذه الأناجيل الحالية، وما في كتاباته عن حياة المسيح يختلف كثيرًا في بعض المسائل عما في إنجيل يوحنا، فلو كانت هذه الأناجيل معروفة في زمنه لنقل عنها وخصوصًا إنجيل يوحنا فإنه يناسب آراءه، ومع ذلك لم يشر إليه بكلمة واحدة. وفي هذه المذكرات أشياء لا توجد في الأناجيل الحالية أو تناقضها. وقد صورت الأناجيل الثلاثة الأول المسيح بأنه ما كان يعلم أن يهوذا الإسخريوطي سيسلمه (متى 19: 28 ولو22: 30) إلا في آخر حياته، وأنه ما كان يعلم متى تقوم القيامة [2] (مر 13: 32) وأنه كان حزينًا جدًّا؛ ويستغيث بالله مرارًا لينجيه من الصلب (مت 26: 38 - 44 ومر 14: 34 - 41) حتى صار يتصبب عرقًا من كثرة الإلحاح في الدعاء فنزل عليه ملك من السماء ليقويه (لو 22: 43 و44) وأما الإنجيل الرابع فصوَّره بأنه كان من أول الأمر يعلم أن يهوذا سيخونه (بو 6: 70 و71) وأنه يعلم كل شيء (6: 64 و2: 25 و16: 30) وأنه ما كان حزينًا لأجل الصلب (إصحاح 14 - 17) غير أنه اضطرب قليلاً (يو 12: 27) وأنه أسلم نفسه لليهود طائعًا مختارًا (يو 10: 18) حتى كانوا يسقطون على الأرض من هيبته (18 : 1 - 11) . وقد ترك أيضًا هذا الإنجيل ذكر تجارب الشيطان له [3] وصيامه أربعين يومًا وليلة لله تعالى (مت 4: 1-11) وصلواته الكثيرة (لوقا 6: 12 و 11: 1 و9: 18 ومر 6: 46 ومت 14: 23) وصراخه وقت الصلب من الألم (مت 27 : 46) وكذلك ترك قصة شجرة التين [4] (مت 21: 18 - 22) ومر 11: 12 - 14) لأنها تؤدي إلى نسبة الجوع والجهل والظلم والعجز للمسيح؛ حيث إنه لم يعرف إن كان بالشجرة تين أم لا مع أنه لم يكن وقت التين كما ذكر مرقس (11 - 13) ثم إنه ظلمها وظلم صاحبها أو كل من كان ينتفع بها من السابلة بدعائه عليها حتى يبست، وكان الأولى به أن يُوجِد التين فيها في غير وقته بقدرته!! فإن ذلك يكون أفيد وأحكم وأدل على القدرة، أو يشفيها إن كان عدم ثمرها لمرضها!! لذلك ترك يوحنا هذه القصة كما ترك كل أمثالها خوفًا مما تؤدي إليه، فكل ذلك يدل على أن هذا الإنجيل كتب في زمن كان فيه الناس قد تغالوا في المسيح ورفعوه لدرجة تقرب من درجة الأب (الله) [5] فهو مظهر من مظاهر ترقيهم في هذه العقيدة تدريجيًّا؛ ولذلك اختلف هذا الإنجيل المتأخر عن الأناجيل الثلاثة الأول في هذه وغيرها وتركها عمدًا لغاية له علمها العلماء من الناس الآن. فإن قيل: لعل يوحنا أراد أن يكون إنجيله مكملاً للأناجيل الثلاثة الأولى فلذا لم يذكر ما ذكرته منعًا للتكرار. قلت: إن ما سبق بيانه لا يصلح أن يعتبر تكميلاً بل هو تناقض بيِّنٌ كما لا يخفى على المتأمل، والظاهر م

كتاب سياسي للعبرة والتاريخ

الكاتب: محمد بن علي الإدريسي

_ كتاب سياسي للعبرة والتاريخ عثرنا على صورة هذا الكتاب الذي أرسله السيد محمد الإدريسي إلى الإمام يحيى حميد الدين بتاريخ 16 ربيع الأول الأنور سنة 1330. بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن علي الإدريسي إلى جناب المولى، الذي هو بالمحامد أولى [1] ، الإمام يحيى حميد الدين أشرق الله شموس سعده، وأعلى مراتبه على سنن جده، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد تقديم تحيات بين يدي نجوى هذه السطور، تهديها إليكم نسمات الوداد ونفحات الإخلاص على أطباق النور، فقد وردت كتبكم الكرام، آخرها ما هو بصحبة السادة الأجلاء العلماء الأعلام، السيد العلامة صفي الإسلام الصنو أحمد بن يحيى بن قاسم عامر، والصنو العلامة العزي محمد بن علي بن أحمد بن حسين الذاري، والصنو العلامة الوجيه عبد العزيز بن يحيى بن المتوكل، والصنو العلامة العزي محمد بن محمد الشرعي الحولي، وقد سرَّنا وصولهم وشريف قدومهم، وانشرح البال من لطائف علومهم، وظرائف فهومهم، وتذاكرنا في أبحاث شتى. أما مادة الصلح بيننا وبين الحكومة، فمن أول يوم وما ندعو إليه هو الوفاق، وكلما أرادوا عقد ذلك نقضوه، وكفى بما كان في هذه المدة الأخيرة فإن المذاكرة حصلت بيننا وبينهم في هذا الموضوع ثلاث مرات، بل أربع مرات بعد وصول رسلهم إلينا، فإذا أجبنا بما فيه الوفاق أعرضوا تيهًا وكبرًا واحتقارًا لنا. فأولى المرات بواسطة محمد توفيق [2] في مجيئه الأخير فأجبناهم ذاكرين مواد بسيطة؛ لأن في ذلك الوقت لم يكن قد وقع بيننا وبينهم سفك دماء. وتلك المواد هي أن نكون في جهاتنا آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر، ضابطين للبلاد من الفساد، مع بقاء مراكزهم، وإليهم تساق الحاصلات، وعليهم القيام بما يلزم من معاش القضاة والمترددين في مصالح البريات، وأن يبقوا (جازان) برتبة المعتاد، وأن لا يحدثوا زيادة من القوة في البلاد، وأن يفك أمير مكة صالح ابن حسن وصاحبه من الحجاج، وأن نتوسط بينكم وبينهم من الصلح. وهذه المواد مما يضحك منها؛ لأنها لبساطتها لا تكاد أن تكون مطالب، ولكن أدَّانا إلى ذلك حب الراحة للبلاد والعباد. فما كان الجواب إلا بنقيض ذلك فساقوا تلك القوة التي يقدمها محمد راغب بك ومحمد علي باشا في جازان، وملأوه بالآلاف، وازدادوا عدوانًا على طلب الحجاج لحبسهم كما وقع في حبس بعض رجال (المعّ) في حج هذا العام. وأشعروا أن العسيري تابع لإمارة حسين بن عون [3] وأرسلوا إلينا بطريق مصر في حين وصول القوة العامة برفق عزت [4] ، إني إن أردت السلامة أفتح لهم الطريق إلى الإمام التي تمر على طرف البلاد التي بيدنا، ففوضنا الأمور إلى الله، واستعنا به في مدافعتهم، وبحمد الله قد كان ما كان. ثاني المرات بواسطتكم عندما وصل إليكم عزيز [5] ووافقناكم فكان منهم الجواب بالتعليق على ما هو في حكم المستحيل، وهو إجابتنا لحضور الآستانة. وقد تحقق لكم من هذا نهاية الإعراض، مع أنكم قد بذلتم الجهد كما أخبر عزيز عند وصوله مصر لبعض أصدقائنا بذلك، وبما كررتموه من المراجعة فيما هنالك، ومنع عزت وأخذ في تجهيز نحو تسعة وثلاثين طابورًا إلى أن حال بيننا وبينهم الله بما تداركنا به من رحمته فكشف عنا الغمة ونجانا، كما هو سنته مع عباده المؤمنين، وعكس عليهم القضية وسلط عليهم عبادًا له أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولاً. ثالثها: كان بواسطة السيد الشراعي مع بعض إخواننا فأجبنا، فكان الجواب منهم بالسكوت. رابعها: مع سليمان متصرف عسير؛ لما أتانا جوابه [6]- بعد أن قامت عليهم فتنة الطليان - يدعونا فيه إلى الوفاق، وأن نكون إخوانًا ونهجر الشقاق، فأجبنا عليه بالترحيب والتسهيل، فأرسلنا بعض خُلَّص أصحابنا إلى أن وصل بقرب معسكرهم وخاطبه بحضوره لأجل المذاكرة فيما يجمع الشأن فكان يساجل إلى أن تمكن من أرزاق ومعاش؛ لأنه في ذلك الوقت كان عادمًا فلما رأى أنه استغنى تكبر، وأجاب بالغلظة وإعداد الطوابير الجملة للمخالفين فرجع صاحبنا بذلك. ثم في هذه المدة مع ما رأيناه من فتك الطليان بهم أخذنا العطف فأمسكنا كل حركة، وكتبنا لمن في مفرزة ميدي [7] : إن دهمكم شيء فلكم مانعون، فكان منهم أن محمد علي [8] مر بطريق القنفدة وليته لما مر قصر اشتغاله بمصلحة العسكر؛ بل أخذ يحرق ما وجد في طريقه من بيوت السادات العلماء؛ لأن هذا الرجل أكبر عداوته لأهل الدين؛ لأن ما ناله من الشرف في الآستانة كان بأسباب شنقه لعالم في أطنه أيام تنازع وقع بين المسلمين والنصارى هناك. ولما قدم جازان بالعساكر لم يختر لهم (خسته خانه) إلا جامع تلك البلدة، ولا يهمه أن تلوث بالنجاسة وتعطلت إقامة الجمعة فيه. وكأنه يظن أن هذه هي الأسباب في ارتزاقه النياشين والرتب من باب: (من رزق من شيء فليلزمه) وهذا هو السبب في تجهيز ما وجهناه من الجند إلى جهة الشام [9] لأجل مدافعة هذا الطغيان والمحافظة على مراكز أهل الدين والإيمان. وقد حصلت المذاكرة بيننا وبين هؤلاء الإخوان في هذه الأحوال إلى أن ساق بنا الكلام إلى مفرزة ميدي، وأخبرناهم أن الطليان قد ضربوا قلاع الدولة ومراكزها من باب المندب إلى جدة، وهد تلك الحصون بمدافعه المسلطة، ولم يبق إلا هذه القلعة مع أن شيخ البلدة التي فيها قد سبقت له جناية مع الطليان بواسطة شهادة سبنوك، طال الخلاف بين الترك والطليان فيه، وتوقف الأمر على شهادة هذا الشيخ، وتهددته الدولة بالشهادة لها فشهد، فإذا قصد الطليان هذه المفرزة لا يقتصر عليها، بل يتعداها إلى تلك البلد، لما جناه شيخها عليهم، وسابقًا قد ضربوا هذه البلد كما قد عرفته. ومن المشاهد أن هذه العساكر كجملة من في كل موضع إذا ضرب الطليان المواقع هربوا من مواقعهم تلك إلى محلات العامة ولم يدافعوا ولا يضرب مدفع واحد، وقد ضربت هذه القلعة من نحو شهر، وخرجوا منها كما ذكرنا، وهذا مما أوقع الناس في العجب، فإن الدولة لما عجزت عن إصلاح الداخلية كان يرجى منها حفظ الخارجية والقيام بالمدافعة عن الرعايا ممن قصدهم بسوء، فعجزت الدولة الآن عن هذا وهذا، فما بقي لهم إلا أن يسعوا الناس بحسن الخلق؛ لو كانوا يعقلون. ثم إنه قد اشتد الخطب من الطليان بمحاصرتهم للحديدة إلى حالة يخشى معها أن تحتل الحديدة، فتكلمنا مع العسكر الذين في القلعة بأن بقاءهم بها ضرره على الإسلام والمسلمين؛ لأن الحديدة إذا احتلت يتبعها ملحقاتها ومن ذلك هذه القلعة، ومن المعلوم حسب أصولهم أنه إذا احتلت الحديدة، وجاء المحتلون ببوابيرهم لاستلام هذه النقطة تبعًا للمركز، ومعهم الإذن بالتسليم من كبراء الترك، فإن من هذه النقطة لا يلتفت إلى الإسلام ولا إلى المسلمين ولا يهتمون بأمر الوطن بل حالاً يعملون الترتيب اللازم في التسليم إلى المحتلين، ولو بطريق الحرب مع أهل الوطن بأن يضربوا من القلاع وتضرب البوابير من الساحل حتى يتصلوا بالمحتلين، ويدفعوا لهم موقع الحرب، ويسلموا أهل الوطن إلى الأسر، كما فعلوا في بني غازي إحدى متصرفيات طرابلس، فإن أهلها عشية احتلال الطليان؛ لما رأوا بوابير الطليان بالساحل أسرعوا إلى مركز الحكومة ليستعدوا للقتال ويودعوا أهاليهم وأموالهم في محل مكين، فمنعهم الأتراك وألزموهم الطمأنينة فرجعوا إلى بيوتهم، فلما جن الليل لم يشعروا إلا والمتصرفية بأجمعها صارت عساكر طليانية فقاموا للدفاع ولم يمكن الخروج من المنازل إلا للرجال دون النساء والذرية، وهم الآن تحت قبضة الطليان، واشتهر أن هذه المعاملة من العساكر بأسباب ما أخذه كبراؤهم من الطليان خفية. وبأسباب ذلك استقال الصدر فتبين أن بقاءهم حينئذ في المواقع الحربية لا للدفاع وحماية الثغور كما هو اللازم لمن يتولى إمارة المسلمين بل للأغراض الفانية، وبيع البلاد للمصلحة الشخصية، فمن ينعَ الإسلام فلينعه من الترك، ومن يندب الدين فليندبه مما لهم من اختلاق الإفك، فلما خاطبناهم في النزول معنا ليبقوا مع العساكر العربية جنبًا بجنب حتى إذا احتلت الحديدة يكون موقع المفرزة الميدية بأيدي المسلمين يؤدون فيه ما أوجب الله عليهم، وإن امتنعوا فلا إلزام. وإن أرادوا اللحاق بكبرائهم فلهم ذلك، فأبوا هذا وهذا، ولا يحيق المكر السييء إلا بأهله. والعجب من هؤلاء الناس يذكرون أننا السبب في تركهم للمدافعة كما روى عنهم السادة الواصلون! فليت شعري من أي وجه؟ وأيّ قرب بيننا وبينهم في المسافة أن يقولوا نخشى أن نصلى بنارين؛ إذ في الأقل بيننا وبين الحديدة ثمانية أيام؛ ولو سلم هذا فما يكون جوابهم في احتلال الطليان لطرابلس؟ وما المانع من المدافعة هناك مع أن أهل تلك الجهة من المخلصين للحكومة بل هم قائمون بالقتال للمحتلين من الآن، ومن العجاب أن الحكومة قبل أن يحتل المحتلون رفعت الأسلحة والوالي والعسكر إلا شيئًا قليلاً، وبعد ذلك لم تمد المجاهدين ولا بدرهم أو نفر. وفي عهدي أنا عرَّفناكم سابقًا أن في صبح ليلة خروج الأتراك من جازان وفي اليوم الذي بعده جاءت بوسطة بطريق البحر فوقعت بيد المجاهدين، فإذا بعض رسائلها يحتوي ترجمتها على إعلان حرب إيطاليا لهم وأنه يلزم مآميرهم هنا العناية برعايا الإيطاليين وحفظهم، فتعجبنا من حسن معاملتهم، هذا لمن ناوأوهم بالعداء الأكبر، وإذا حصل منا معاشر المسلمين أدنى شيء معهم قامت القيامة. وبينما نحن في هذا الموضوع إذ ورد منكم كتاب كريم، فتلقيناه بالترحيب والتكريم، وسنوفي كل بحث مما أشرتم إليه حقه، إن شاء الله. فأما ما أشرتم إليه من قولكم: والدولة العثمانية، وإن كان أمراؤها كما عرفتم فإنه عند الشدائد تذهب الأحقاد - إلى أن قلتم: أما ما كان سابقًا مما ذكرتم من تباعد العثمانية عن الصلاح فإنه لا يغرنا الآن الإنصاف. وقد أنصف الغارات من راماها. فلا يخفاكم أي حقد عندنا! ولما جاءني كتاب سليمان باشا يجنح إلى السلم في وقت قيام الطليان وافقت، وأجبت بما صدرت إليكم صورته، وأرسلتُ مِن أخِصاء إخواننا مَن يقوم بحل هذه المشاكل كما قد أشرنا لكم في أول الجواب، ولم نلتفت إلى ما سبق منهم من الإيعاد بأنواع المهالك حتى بشق بطون الحوامل، فلما جاء جواب سليمان لذلك الأخ يعني مندوبه بالتهديد وإعداد الطوابير للتربية تعجبنا من ذلك، وما زلنا نتوقف عن عمل أي حركة رجاء أن يهتدوا إلى الصواب، فما كان بعد ذلك إلا مرور محمد علي باشا في شهر ذي الحجة يحرق بيوت السادات والعلماء وأفاضل الناس، كما قد ذكرنا لكم أول الكتاب. فيا ليت شعري ما نصنع بعد هذا؟ وهل فيه إنصاف أعظم من هذا الإنصاف حتى من كان لنا بالأمس عدوًّا لدودًا أصبحنا نتقرب إليه بالمودة لا لشيء بل كان حبًّا للصلاح مزيدًا، وهل من العقل بعد ذلك لنا أن نرمي بأنفسنا إليه ولو على المهالك؟ وهل هذا من الدين؟ كلا، وأصدق القائلين يقول: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139) . ثم إن ما أشرتم إليه هو لم يزد عن كونه من قبلكم، ولم ندر ما هم عليه؛ إذ لم يرد من كبرائهم وأعيانهم من تحسن المخاطبة معه في ذلك وفي كيفية مواصلة الخطاب إلى الآستانة؛ لأن ولاية اليمن صارت الآن منقطعة عن الولاية العثمانية للحيلولة بالقوة الإيطالية. وأما ما أشرتم إليه أن لو اقترن ما بيننا وبينهم ب

انتقاد لائحة الإصلاح البيروتية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتقاد لائحة الإصلاح البيروتية الحقوق التي أعطتها اللائحة للمستشارين الأجانب (1) جاء في المادة الرابعة أن اعتراض الوالي على قرارات المجلس العمومي مقيد بمصادقة مجلس المستشارين، وهو قيد لا حاجة إليه؛ لأن مجرد اعتراض الوالي على قرار ما لا يقتضي إلغاءه حتى يقيد فيه بما يمنع استبداده به، ومن شأن الاعتراض أن يبنى على أحد أمرين: إما مخالفة القوانين، أو مخالفة المصلحة، ولو قيدوه بهما لكان أولى حتى لا يكثر الاعتراض من الولاة البلداء فيضيع بها الوقت، وما دام القول الفصل في الاعتراض للمجلس، فالاعتراض إما أن ينفع وإما ألا يضر. (2) في المادة الخامسة أن لجنة المجلس العمومي تجتمع بإرادة مستشار هذا المجلس، ومن حقوقها دعوة المجلس لاجتماع فوق العادة باتفاق ثلثي أعضائها ومصادقة مستشار المجلس. فهذا القيد لا حاجة إليه أيضًا، وفيه هضم لحقوق اللجنة عظيم، فإذا سوغنا أن يكون اجتماعها بإرادة المستشار لاتخاذه إمامًا ومرشدًا لها فيما هو أعلم به منها من وظائفها كلها أو بعضها، فلمَ يجوز لها الاستقلال بطلب عقد المجلس إذا رأى ثلثا أعضائها الحاجة إلى ذلك لأمور تتعلق بمصلحة بلادهم يجوز أن لا يعرفها المستشار؟ ألا يجوز أن تكون المسألة التي يدعونه لأجلها مهمة جدًّا في نظرهم وأن يكون للمستشار هوًى في عدم اجتماع المجلس لها؛ لأن فيها تعارضًا بين مصلحة الوطن ومصلحة أبناء جنسه الأوربيين؟ بلى فالمصلحة أن لا نجعل له حقًّا يمكن أن يضر؛ ولا حاجة تدعو إليه، أي ليس لنا فيه نفع. على أن القاعدة الأصولية أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح. (3) في الكلام على تعيين الموظفين من المادة السادسة: أن طالب الوظيفة يمتحن أمام لجنة مؤلفة من مستشار ورئيس الدائرة التي يطلب الدخول لها. والظاهر أن الامتحان يكون باللغة العربية ولا تشترط اللائحة أن يكون المستشار عارفًا بها؛ لأنه معرفته للتركية أو الفرنسية تقوم مقامها، ثم ما هي مواد الامتحان؟ ولم يشترط في كل مستشار أن يعرف قوانين الدولة، فنقول: إن الامتحان يكون بموادها. (4) في الكلام على عزل الموظفين من المادة السادسة أيضا: أن رؤساء العدلية تكف أيديهم عن العمل بناء على طلب المستشار ومصادقة مجلس المستشارين، وأن سائر الموظفين المعينين من قِبل الولاية تكف أيديهم بناء على طلب المستشار ورئيس الدائرة المنسوبين إليها فقط، وأن موظفي الحكومة المركزية يكون عزلهم بطلب من مجلس المستشارين وبحكم من هذا المجلس. وقد جعلت اللائحة للقسمين الأولين من الموظفين الذين تكف يدهم حق مراجعة الوالي في مدة معينة؛ ولكنها أوجبت على الوالي أن يحيل دعوى من يراجعه إلى مجلس المستشارين الذين كان كف اليد من قبلهم ليحكم فيها، فهذه حقوق تجعل أمر العزل كله بأيدي المستشارين الذين لا يعرفون لغة البلاد ولا قوانينها ولا يشترط فيهم ذلك، ولم يقيدوا بقانون آخر يحكمون به في العزل والإيقاف، وهذه سلطة استبدادية خطرة قد تقع على بعض الناس بالقوة القاهرة، وأغرب الغرائب أن يطلبها بعض الناس لأنفسهم ويسمونها إصلاحًا؛ وإنما طلبها مبني على قاعدة عدم وجود الأكفاء لإدارة الحكومة في البلاد، فكيف يكون حال هؤلاء الموظفين الذين يقل فيهم الكفؤ مع المستشارين الذين بأيديهم أمر رزقهم؛ وهم يذلون الآن لرؤسائهم من الترك؛ خوفًا من العزل الذي لا يقطع الأمل من العودة إلى الوظيفة، أو نيل خير منها، فكيف يكون ذلهم لمن إذا عزلوهم يحرمون بعزلهم من خدمة حكومتهم طول حياتهم؟ (5) أغرب كل ما في هذه اللائحة على الإطلاق أنها بعد أن جعلت أمر عزل الوطنيين في أيدي الأجانب ناطت بهم عزل أنفسهم أيضًا، كأن واضعيها يحسبون أنهم سيجدون في أوربة من المستشارين والمفتشين، من يجري على سنة الخلفاء الراشدين، ونسوا أنه لا يُعرف في أوربة كلها رجل سياسي رفع صوته بالرضاء بإلغاء امتياز الأوربي على الشرقي في الحقوق والعقوبات، بل المعروف عن الكثيرين منهم أنهم لا يرون أمة من أمم الشرق توازي صعلوكًا أوربيًّا، والذي يزيد هذا الأمر غرابة أن هؤلاء المستشارين الذين يعدون في تكافلهم واتحادهم في الشرق، كأنهم رجل واحد قد جعلت اللائحة أمر مذنبهم مفوضًا إلى آرائهم وأهوائهم لا إلى قانون يوجب عليهم الحكم بمواد معينة في كل ذنب، على حين أنهم إذا قيدوا بقانون ونيط أمرهم بمجلس تأديب وطني أو مختلط لا تسهل معاقبتهم بما يوجبه ذلك القانون. (هذا وما فكيف لو) . * * * اقترحت اللائحة في المادة السابعة أن تعين الحكومة المركزية المستشارين من الأجانب للشرطة (الجندرمه) والمالية والبوسطة والتلغراف والجمرك في مركز الولاية ومفتشًا عامًّا منهم لكل لواء، وأن يعين المجلس العمومي من الدول التي ترضاها الحكومة المركزية مستشارين للمجلس العمومي والعدلية والنافعة والمعارف والبلدية والبوليس؛ ولكنها لم تبين أعمالهم ووظائفهم في هذه المصالح، وإنما بينت في المادة الثالثة عشرة فنذكرها واحدة واحدة في سلسلة انتقادنا هذا وهي أربعة. (6) أول وظائف هذا المجلس تفسير مواد النظام الذي تضعه الحكومة المركزية على أن يكون دستورًا لحكومة الولاية ومجلسها العمومي، ولست أرى لإعطاء المستشارين هذا الحق وجهًا إلا أنه حكم بين الولاية والعاصمة وإلا فمجلس إدارة الولاية أجدر من المستشارين بفهم هذه القوانين، ولعل حكومة العاصمة ترى حكمه أقرب إلى مصلحتها إذا كان مؤلفًا من الأعضاء المنتخبين ورؤساء المصالح الذين يعين بعضهم من قبلها، وبعضهم من قبل الولاية، على أن إعطاءهم حق هذا التفسير مطلق عام؛ ولهم بذلك مجال واسع للحكم بالرأي والهوى. (7) الوظيفة الثانية لهذا المجلس تفسير القرارات والأنظمة التي يضعها المجلس العمومي، ولست أرى لهذه الوظيفة وجهًا ألبتة، فإذا اشتبه الوالي أو غيره فيما يضعه المجلس فينبغي أن يراجع المجلس فيه؛ لأنه أعلم بما يضع، ويترتب على إعطاء المستشارين هذا الحق: وجوب نقل كل ما يضعه المجلس بلغة البلاد إلى اللغة الفرنسية؛ لأنها ستكون هي اللغة التي يعرفها جميع المستشارين حتمًا، وقد يكون هذا من مقدمات احتلال فرنسة للبلاد. (8) الوظيفة الثالثة له النظر والحكم في وجوب عزل الموظف أو عدمه، وقد أشرنا إلى انتقاده من قبل ونقول هنا: إن الواجب المتعين أن يكون لكل مصلحة مجلس تأديب يتألف من رئيسها وبعض كبار الموظفين فيها، ويجوز أن يكون مستشارها عضوًا فيه. (9) الوظيفة الرابعة: له النظر والحكم بناء على طلب الوالي أو أحد المستشارين في كل خلاف يقع بين أحد المستشارين والمجلس العمومي أو إحدى لجانه أو أي دائرة مصلحة كانت، ويكون حكمه مبرمًا، وقد انتقدنا مثل هذه الوظيفة من قبل؛ ونريد هنا انتقاد جعل حكمه مبرمًا انتقادًا شديدًا مؤكدًا، فإن هذا الحكم المبرم الذي لا يقبل النقض ولا المعارضة، ولا يجوز فيه الاستئناف لا يصح أن يعطى إلا للمعصوم من الخطأ والمنزه عن الهوى، ولا يعقل أحد وجه الحاجة إليه، ولا كيف يمنحه الناس للحاكم من تلقاء أنفسهم. تلك إشارة وجيزة إلى ما رأيناه من خطأ هذه اللائحة في موضوع المستشارين؛ ولنا عليها انتقادات أخرى لا حاجة إلى بسطها، ولما كنا جازمين بأن الحكومة المركزية يستحيل أن تقبل هذه اللائحة، ولا سيما الوزارة الاتحادية منها التي لا يرضيها إلا استبداد العاصمة في المملكة - فالواجب على طلاب الإصلاح المخلصين من أهل بيروت أن ينضموا إلى حزب اللامركزية الإدارية؛ لتكون يد الجميع واحدة ويد الله على الجماعة - كما ورد - والله الموفق.

المسألة العربية عند الاتحاديين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألة العربية عند الاتحاديين من لم تفده عِبرًا أيامُه ... كان العمى أولى به من الهدى كنا نقول: إن مصيبتنا بهؤلاء الاتحاديين الذين ورثوا ملك عبد الحميد أنهم أصحاب نظريات في السياسة والإدارة يجربونها في هذه الدولة التي يجب الجري فيها على قواعد ثابتة؛ لأنها لم تعد تحتمل التجارب، وكنا نظن أنها إذا لم تفاجئها الدواهي الخارجية في أثناء هذه التجارب فربما ظهر لهؤلاء العاملين خطأهم فرجعوا عنه، وقد رأينا القوم خابوا وفشلوا في كل شيء، واعترف بعضهم ببعض خطأهم وادعوا أنهم رجعوا عن بعضه، وأنهم سيرجعون عن بعض آخر، ولكنهم لم يفوا بوعد، ولا رجعوا عن سوء قصد، ولا اعتبروا بالحوادث، ولا تأدبوا بالكوارث، بل ازدادوا كذبًا وخداعًا، وهذا من الغرور الذي قلما يوجد في البشر له نظير، والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا، بل أعمالهم اليوم هي عنوان أعمالهم بالأمس، لا فرق بين ما كنت تراه منها في أول عهد وزارتهم (الحقية) إذ كانوا يدلون ببأسهم وقوتهم وجيوشهم، وبين ما تراه على عهد وزارتهم (الشوكية) بعد أن أضاعوا ثلثي المملكة بإضاعة طرابلس الغرب وبرقة وجميع الولايات الأوربية، ومعظم الجزر البحرية، وبعد إفساد الجيش والتفريق بين العناصر وإضاعة الأموال، فهم بعد هذا كله لم يتحولوا عن سياستهم السوءى في المسألة العربية التي أحدثوها في هذه المملكة وقطبها عندهم الضغط والإرهاب بالقوة من جهة والغش والمخادعة من جهة أخرى، وغرضنا من هذا أن نقول كلمة في هذه المخادعة: زرت الآستانة في أوخر سنة 1327 وبقيت فيها إلى آخر ما بعدها وكان مما اجتهدت في تلافيه سد ثغرة التنافر بين الترك والعرب. ولما حدثت طلعت بك الزعيم الاتحادي في ذلك وكان ناظرًا للداخلية وقابضًا على زمام الإدارة والسياسة في الدولة - أظهر لي قبول رأيي وكان مما قاله: إنهم عازمون على إنشاء جريدة عربية في الآستانة؛ لأجل استمالة العرب ومودتهم، فسألته عمن يقوم بإدارة هذه الجريدة وتحريرها فقال: عبيد الله أفندي مبعوث آيدين. قلت: إن الرجل معروف ببغض العرب والعربية، فلا أراه يزيد مسافة الخلف إلا انفراجًا أو اتساعًا إلخ ما دار بيننا في ذلك، ثم ظهرت جريدة باسم العرب؛ وكان ما كان من أمر قيامة الجرائد العربية عليها في سورية والعراق ومصر وأمريكة وغيرها من البلاد، واشتهر عند الخاص والعام في هذه الأقطار أن هذه الجريدة أسست للتفريق بين العرب وغشهم ومخادعتهم وتحقير مصلحيهم، وإيقاع الشقاق بين مسلمي سورية ونصاراهم منهم، وبهذا بطل الغرض من إنشائها فاضطروا إلى إبطالها. شاويش خلف عبيد الله: ثم بدا لهم أن ينيطوا هذه المفسدة برجل يعده بعض العرب منهم؛ فلم يروا أحدًا أهلاً لذلك إلا الشيخ عبد العزيز شاويش؛ لأنه كان قد مهَّد السبيل إلى ثقتهم بما كان ينصر جمعيتهم ويطري زعماءهم في جريدة العلم، وبمقاومته لمشروع الدعوة والإرشاد ثم بطعنه في مسلمي العرب وزعمه أنهم أضر على الدولة من نصارى البلغار والروم وغيرهم. بمثل هذا تقرب شاويش إلى جمعية الاتحاد والترقي عدوة العرب والإسلام ونال الحظوة عندها؛ فأسست له جريدة في الآستانة كانت تنشرها في البلاد العربية بقوة الحكومة، وهي الهلال العثماني، ولكن نفوذ الحكومة قد عجز عن جعل الناس يتلقونها بالقبول، ثم سقطت هذه الجريدة المنافقة بسقوط وزارتهم (السعيدية) فلما عادت لهم الكَرة بفتنة أنور بك وألفوا الوزارة (الشوكية) أنشأوا لشاويش جريدة أخرى باسم (الحق يعلو) وسمي أحد شبان المصريين المتصلين به مديرًا لها؛ ليكون مدح شاويش وإطراؤه فيها لنفسه سائغًا مقبولاً؛ ولئلا يكون إذا حالت الأحوال مسئولاً. لم أقرأ في هذه الجريدة إلا عددًا واحدًا وجدت فيه دسيسة من شر دسائسهم في التفريق بين العرب وإغراء العداوة والبغضاء بينهم الذي يراه الاتحاديون الوسيلة إلى إضعافهم وأخذ منافذ الترقي والإصلاح عليه في سورية، وهو أنه زعم أن أهل الذمة الذين بيننا يتربصون بنا الدوائر فإذا أمكنتهم الفرصة منا فعلوا بنا أقبح مما فعل البلقانيون بمسلمي بلادهم من القتل والسلب والنهب والفضائح. . . فما الذي حمل الاتحاديين على دفع الشيخ عبد العزيز شاويش على كتابة مثل هذا الكلام في مثل هذا الوقت؟ أليس المعقول أن مصلحة الدولة الآن تقتضي الألفة أو السكون في الولايات الآسيوية، وهي مرتبكة في الحرب البلقانية؛ لئلا تفتح على نفسها أبوابًا جديدة من المشاكل؟ ألم يكن الواجب على الشيخ عبد العزيز شاويش أن يكتم علمه بما قاله، إن كان في ذلك على علم، وما هو علم ولا ظن بل هي فتنة؛ لئلا يكون سببًا لثورة في سورية تفضي إلى خروجها من ملك الدولة كما خرج غيرها؟ بلى، ولكن الاتحاديين علموا أن أواخي الوفاق قد شدت بين المسلمين والنصارى في بيروت، وأجمعوا على أن يكونوا يدًا واحدة في طلب الإصلاح لبلادهم، وهذا ما لا يطيقه الاتحاديون. والظاهر أن تعريض البلاد العربية لاستيلاء أوربة عليها أخف على قلوبهم وأدنى إلي سياستهم من اتفاق أهلها وإصلاح حالهم؛ فلهذا أوعزوا إلى محضاء مفاسدهم بهذا من غير أن يحسبوا لعاقبته حسابًا، وربما كان هذا الغلو في الإفساد إلى هذه الدرجة من سوء اجتهاد الشيخ شاويش وجريًا منه على ما تعود بمصر من إطلاق العنان لقلمه في مثل هذا حتى زجَّه في السجن غير مرة ثم أخرجه من القطر المصري كله، وإذا كان شأنه في التفريق بين المسلمين والقبط ما علمه الناس، وفيها حكومة منظمة ومحاكم تقيم القانون، فكيف لا يكون شأنه في ذلك ما رأينا وأشد مما رأينا منه في الآستانة؟ وهو يرمي عن قوس جمعية الاتحاد والترقي صاحبة السلطة في المملكة العثمانية، وينضح بسهامها ويكافَأ على ذلك بمال العثمانيين المنكوبين بجميع أنواع المصائب بشؤم هذه الجمعية. الشيخ عبد العزيز شاويش مفتون بحب الشهرة والزعامة، وهو يحاول أن ينال بجاه الاتحاديين ما أعياه نيله بغلوه في الحزب الوطني المصري، والاتحاديون يرون من مصلحتهم إيجاد زعيم عربي يخدعون به العرب، وليس الشيخ شاويش بأهل لهذه الزعامة ولا الاتحاديون قادرين على ما يبغون منه، حتى إنهم لو قربوا منهم بعض الأفراد الذين نالوا الثقة بحق بين العرب لكان قربه منهم وثقتهم به مما يسرع بالتهمة إليه ويفيده الظنة، فإذا بدرت منه بادرة تنافي مصلحة قومه عدت دليلاً قاطعًا على نفاقه وبيع ذمته للاتحاديين، فكيف إذًا يستطيعون جعل الشيخ شاويش زعيمًا عربيًّا ويرجون أن يؤثر كلامه في السوريين؛ وهو قد اشتهر بالنفاق للترك والحط على العرب وفَاقَ زعماء الحزب الوطني وكُتَّابه في بغض السوريين منهم خاصة، وهل ينسى السوريون - من هؤلاء - مطاعن جريدتهم اللواء فيهم، وقولها في طائفة من جنودهم ما قاله مالك في الخمر؛ إذ كانت باخرة تحمل بعض العسكر العثماني إلى اليمن ففر بعضهم من بورسعيد أو السويس وقيل: إنهم من السوريين، فافترصت ذلك جريدة اللواء لسان حال الحزب الوطني وعدوة السوريين كافة، وشنَّعت على السوريين وعللت هربهم بخسة منبتهم، ثم تبين أنهم غير سوريين. سيعلم الاتحاديون أنهم مخطئون في نظريتهم هذه كما ظهر لهم مثل ذلك في استخدام عبيد الله بمثل ما يستخدمون له شاويشًا، وفي غير ذلك من أعمالهم المبنية على نظرياتهم الباطلة، بل سيعلمون أن خداعهم هذا سيعود عليهم بضد ما يرون كما وقع لهم غير مرة ولم يعتبروا. ألا فليعلموا أن جميع من يفهم ويعقل من العرب يعتقد أن جمعية الاتحاد والترقي لا تريد بالعرب إلا شرًّا، ولا تستخدم لشيء يتعلق بمصالحهم إلا من يكون عونًا لها عليهم، والسوريون منهم خاصة يعرفون أن كتاب الحزب الوطني كفريد وشاويش كانوا يبغضون جميع السوريين قبل أن يستخدمهم الاتحاديون في أهوائهم وأن شاويشا قد غلا في ذلك وأفرط، فلا قيمة لكلامه عند أحد منهم إلا قيمة العدو المستأجَر لإيذاء عدوه، فإذا كانوا يريدون إرضاء العرب فلا طريقة لذلك إلا ترك الجمعية لمقصدها الأول، وهو العصبية التركية، وجعل العرب والترك كالأخوين الشقيقين لا ترجيح لأحدهما على الآخر في شيء؛ وإلا خسروا العرب أو خسروا أنفسهم، وإنه ليستحيل في اعتقادي الجمع بين بقاء الدولة وبقاء سلطة الجمعية فيها وهي على طريقتها الأولى. لولا أن هذه الجريدة مُنْشَأة بأموالنا لإفساد ذات بيننا بإغواء المفتاتين على حكومتنا لما كتبت في شأنها كلمة واحدة؛ إذ ليس الشيخ عبد العزيز شاويش أحق بأن يُلتفت إلى قوله من صبية الحزب الوطني الذين يخلقون كل يوم من الكذب والبهتان ويخترعون من الغش والتمويه ما نعرض عنه ونمر به كرامًا كما أرشدنا الله تعالى في كتابه، فنحن نحذر قومنا من دسائس جمعية الاتحاد والترقي لا من شاويش. فالذي ينبغي لكل محب لقومه محترم لنفسه من العرب أن لا يُعنى بقراءة هذه الجريدة المستأجَرة بمال السحت، ولا يبالي بما يسمعه عنها، وعلى أصحاب الجرائد العربية الصادقة المحترمة أن لا تردد صوتها، ولا تنقل عنها ولا ترد عليها، ولكن يجب عليهم أن يحيطوا بكل ما فيها، فإن رأوا فيها مفسدة لا بد من درئها وتفنيد باطلها؛ فليكن ردهم على المستأجِرين دون الأجير، وعلى الكلام دون المتكلِّم؛ ولا يغتروا بما عساه يكتب فيها من مدح العرب أو دعوى السعي لخيرهم، فقد رأوا مثل ذلك في جريدة العرب وعلموا أنه خداع وتغرير؛ ولا يلدغ المؤمن من جحر مرتين وهل رأوا شرًّا من أفاعي جحر الاتحاديين؟ فجريدة (الباطل يسفل) التي سميت بضد معناها شرّ خلف للجريدة التي سميت العرب. الوفاق بين المسلمين والنصارى: وعلى عقلاء البلاد السورية أن يعتبروا بهذا الإفساد فيزدادوا استمساكًا بحبل الوفاق والتآلف الذي وفقهم الله له، وأن يُعنى كُتَّاب المسلمين منهم خاصة برد كل كلام يكتب لإفساد ذات بينهم باسم الإسلام وبتحريك نعرة العصبية الدينية؛ فإن هذا الإفساد مخالف لهدي الإسلام، ولا تغرنهم سفسطة بعض أجراء الاتحاديين وزعمهم أنه يجب احترام شاويش بكونه من علماء الدين، لا لأن شاويشًا ليس من صنف علماء الدين ولا زيه زيهم، ولا سمته سمتهم؛ إذ هو يحلق لحيته ويعفي شاربه خلافًا للسنة؛ بل لأن كلامه باطل يراد به ما هو شر منه؛ والعبرة عندنا بالحقائق والمقاصد، لا بالرسوم والظواهر، وحسب العامي الذي يشتبه عليه الكلام، أن يعلم أنه صادر عمن جاهروا بعداوة العرب بالقول والعمل، فهذه آية لا تخفى على أحد.

الصلح بعد سوء العاقبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصلح بعد سوء العاقبة بسقوط يانية وأدرنة كان زعماء الاتحاديين يزعمون أن سبب خذلان الجيش العثماني وانكساره في حرب البلقانيين هو أن وزارة مختار ووزارة كامل لم تحسنا إدارته، ولم تكلا قيادته إلى القادرين عليها، وأنه لو تعين محمود شوكت باشا مفتشًا للجيش؛ لتحولت الحال، وكان الظفر للعثمانيين مضمونًا، ثم عمدوا إلى إسقاط وزارة كامل باشا لرضائها بالصلح، وزعموا أنهم لا يصالحون إلا بعد أن ينقذوا أدرنة ويعيدوا شرف الجيش إليه بالظهور على البلقانيين، وأن قوته ومعداته كافية لذلك لا ينقصها إلا أن تكون الإدارة والقيادة في أيدي الاتحاديين، وقد نقلنا بعض مزاعمهم هذه وبيَّنا أنهم لا غرض لهم إلا الاستيلاء على الدولة بهذه الفرصة وأنهم لا يستطيعون أن يصلوا إلى صلح شريف كالصلح الذي كان يريده كامل باشا، وهو به زعيم: بأن يجعل أدرنة ولاية إسلامية مستقلة فاصلة بين البلقان والآستانة، ثم صدقت الحوادث آراءنا ففتحت اليونان يانيا عنوة وفتحت البلغار أدرنة عنوة، وفقدنا كل ما فيهما من السلاح والذخائر؛ وهو معظم ما بقي عند الدولة، وأخذ منا عشرات الألوف أسرى؛ فهل هذا هو الشرف العسكري الذي أرجعوه بجعل الصدارة مع الحربية بيد محمود شوكت باشا؟ كان المنافقون للاتحاديين يعظمون أمر أدرنة على عهد الوزارة السابقة ويزعمون أنها إذا سقطت في أيدي البلغار حربًا أو صلحًا فقد سقطت الآستانة وسقطت وراءهما الدولة والإسلام. فلما أُخذت أدرنة عنوة وحصونها أمنع من جميع حصون البلاد المحصَّنة في الدولة، وعلم جميع الناس أنه لا يوجد في هذه المملكة حصن يمتنع على حكومة صغيرة كالبلغار - قام هؤلاء المنافقون يجعلون سقوط أدرنة وأخذها عنوة من قبيل الظفر للدولة؛ لأن الأعداء علموا أن أخذ بلادها لا يمكن إلا بخسارة كبيرة! ! وأين البلاد المحصنة كأدرنة في الدولة؟ ومثل هؤلاء المنافقين لا يُكَلَّمُون ولا يُخَاطَبُون، وإنما يُتمثل عند ذكر تهافتهم هذا بالحديث الصحيح المتفق عليه: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت. ومنهم من يقول: إن أخذها عنوة أقل ذلاًّ من أخذها صلحًا بالنزول على حكم الدول الكبرى؛ لأن الرضاء بما تقترحه الدول يطمعها فينا ويجعلنا تحت سيطرتها. وكان يمكن تسليم هذا الكلام على علاته لو أن الدولة سَلِمَتْ بعد أخذ أدرنة من سيطرة الدول وتحكيمهن في أمر الصلح وأمر الجزر، ولكنها لم تسلم بعد ذلك؛ بل عادت بعد أخذ أعظم بلادها وأكثر ذخائرها بالقوة القاهرة إلى تفويض أمر الصلح إلى أولئك الدول بلا شرط ولا قيد؛ وذلك شر ما وصلنا إليه من تسليم الأمر إلى الدول وقبول سيطرتها، وما بعده أعظم منه، وسيرى القراء صدق رأينا في هذا كما رأوا مثله كثيرًا. وجملة القول أن هؤلاء الاتحاديين قد عجلوا على هذه الدولة ما لم يعجل عبد الحميد، فهم الذين استبدوا بالأمر كل هذه المدة لم يخرج الأمر من أيديهم إلا شهورًا لم يتجدد فيها شيء لم يكن من آثارهم وعمل أيديهم، ولا يزالون يمنون علينا بكلمة الدستور أو (مشروطيت) فلا كانوا، ولا كان دستورهم الخادع، ولا مشروطيتهم الخاطئة الكاذبة.

مستقبل الدولة العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مستقبل الدولة العثمانية قد عرف القراء قبل هذه الحرب رأينا في الدولة، وأنه يُخشى عليها سرعة الزوال إذا ظل أمرها في يد جمعية الاتحاد والترقي، وأما بعد هذه الحرب فقد صار يخاف عليها الزوال كل أحد حتى عوام العثمانيين. وقد كنت أعتقد وأقول منذ بدأت هذه الحرب البلقانية: إذا ذهبت ولايات أوربة من الدولة فلا يمكن أن يُبقي التركُ حكومة الدولة نيابيةً بقانونها الأساسي الحاضر، وناهيك بها إذا ظل أمرها في أيدي الاتحاديين غلاة النعرة التركية. وإن من مقاصد صلحهم مع إمام اليمن والسيد الإدريسي أن يقل عدد العرب الذين لهم حقوق في إدارة الدولة، وقد قامت الشعوب العثمانية تطلب الاستقلال الإداري الداخلي المعبر عنه باللامركزية الإدارية، وتريد الحكومة أن تلهيهم عن ذلك بقانون جديد وضعته للولايات لا ترضى به ولاية باختيارها. وجملة القول في الدولة أنه لا بد من انقلاب عظيم في شكلها العام الدستوري، وفي إدارتها الداخلية. وأما حالتها الخارجية فالظاهر لنا أن دول أوربة المسيطرة عليها لا تريد الآن أن تحدث في ولاياتها الآسيوية تقسيمًا. وقد بلغنا أن بريطانيا العظمى - وهي صاحبة النفوذ الأعلى في السياسة الأوربية العامة تريد - وتقنع الدول بما تريد - أن تمهل الدولة خمس سنين لإصلاح بلاد الأناضول وتساعدها على ذلك بمساعدتها على عقد قرض لا يقل عن عشرين مليونًا من الجنيهات. ونحن نعلم أن إنكلترة لا بد أن تختم هذه الحرب بإظهار مساعدة للدولة، ترمي به إلى عدة أغراض، منها: إرضاء مسلمي الهند الذين اشتد سخطهم عليها، وسنبين سائر هذه الأغراض إذا صار ما بلغنا أمرًا مفعولاً. *** حكمت علينا كثرة المواد الضرورية أن نؤخر شكرنا لأهل عمان والعراق على إكرامهم إيانا في رحلتنا الأخيرة، كما أخرنا كثيرًا من التقاريظ والأخبار.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (أسئلة من صاحب الإمضاء في دربند بوسنة وهرسك) إلى جناب الأستاذ الأكبر، والمصلح الغيور الأفخم، الإمام العلامة الأجل، والهمام الفهامة الأكمل، حكيم الإسلام، وفيلسوف الأنام، قدوة العلماء الأعلام، سيد المحققين وسند المدققين، مقتدَى الأمة، وعمدة أهل السنة، ناصر السنة وقامع البدعة، فريد العصر ووحيد الدهر، البحر النحرير، والعلم الشهير، صاحب المنار المنير، السيد الشريف السيد محمد رشيد رضا حفظه الله عز وجل وحيَّاه وشكر سعيه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (س11) ما قولكم في رجل مسافر يريد إقامة مدة أربعة أيام في بلد فأكثر على اختلاف الأئمة، هل يسوغ له أن يؤم المقيمين في الرباعية من غير قصر؛ وهل يعد مقيمًا أم لا؟ (س12) ما قولكم في قوم مسافرين في البحر أو سكة الحديد هل يتوجهون عند إقامة الصلاة جماعة أو أفرادًا حيث يتوجه المركب ويسير من غير تَحَرٍّ للقبلة ولا اعتناء بها، أم يتحرون القبلة ويتوجهون إليها من غير استدارة في الصلاة واعتناء بحفظها عند تحول المركب عنها، أم يفعلون غير ذلك؟ (س13) ما قولكم في رجل يبدأ في الصلاة بأم الكتاب غير أنه يأتي بالاستعاذة والبسملة بعد التكبير، ولا يقرأ شيئًا سوى ذلك لا نحو (سبحانك اللهم) إلخ، ولا نحو: وجهت وجهي إلخ، وإذا سئل عن سبب ذلك أجاب: قراءة سبحانك لم يرد فيه حديث صحيح مرفوع يصلح للاحتجاج به، وقراءة وجهت، لم يرو إلا في النوافل، بل الذي صح قراءته عنه عليه الصلاة والسلام في الفرائض هو قوله: (اللهم باعد) إلخ مع أنه لم يأخذ بما ورد في هذا عن أحد من الأئمة. وعلى كل حال فأم الكتاب أحوى وأشمل للثناء والتحميد والتمجيد من غيرها، فهو إذًا مستغن عنه وأحب إليه من جميع ما سواه، هل يكون فعله مخالفًا للسنة أم لا؟ (س14) ما قولكم في رجل لا يأتي بـ (آمين) في شيء من الصلاة إلا في حال الاقتداء وإذا سئل عن ذلك أجاب: لم يرد فيه حديث صحيح صريح يقتضي ذلك إلا في هذه الحال، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين) . ومع ذلك فإني عند الإتيان به في غير حال الاقتداء أخاف الالتباس بالقرآن والزيادة عليه بما ليس منه، فحينئذ لا أحب الإتيان به إلا في ذلك الحال. هل يكون تاركًا للسنة أم لا؟ (س15) ما قولكم فيما نقل عن الطحاوي من أن من توضأ ولبس الخفين على طهارة كاملة فسبقه الحدث قبل أن يمسح عليهما لا يجوز المسح عليهما أبدًا، هل هو صواب وموافق لأصول الشريعة أم لا؟ (س16) ما قولكم فيما قاله من قال من العلماء - أظنه صاحب تاج العروس - من أن الإمام أبا حنيفة أعظم اعتناء في الحديث واشتراط شروطه من الشيخين: الإمام البخاري والإمام مسلم، مع قلة اشتهار أبي حنيفة برواية الحديث فضلاً عن الاعتناء به وبوضع شروطه، هل قوله صواب أم لا؟ فأرجو من أمواج علومكم الجواب الشافي عن هذه الأسئلة مع الأدلة الشرعية والبراهين الواضحة حتى يبين الحق ويظهر اليقين. ولكم الشكر الجميل والحمد الجليل على ممر الدهور والأوان. ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار المنير ... ... ... ... ... ... ع. ظ. م. ر. ر. ت. ر. ب. ر أجوبة المنار عن هذه الأسئلة بالترتيب (صلاة المسافر ينوي أن يقيم أربعة أيام فأكثر) إن السائل الفاضل يعرف خلاف العلماء في هذه المسألة، وإنما يسألنا عن الراجح المختار عندنا فيها، فنحن نصرِّح له به تصريحًا، مع بيان أننا لا نجيز لأحد أن يقلدنا فيه تقليدًا، وهو أن المسافر الذي يمكث في بلد أربعة أيام أو أكثر، وهو ينوي أن يسافر بعد ذلك منها لا يعد مقيمًا منتفيًا عنه وصف السفر لا لغة ولا عرفًا، وإنما يُعد مقيمًا من نوى قطع السفر واتخاذ سكن له في ذلك البلد، وإن لم يتم له فيه إلا يوم أو بعض يوم، إننا نرى المسافر يخرج من بلده، وقد قدر لسفره تقديرًا منه أنه يقيم في بلد كذا ثلاثة أيام؛ وفي بلد كذا عشرة أيام، وفي بلد كذا عشرين يومًا إلخ، وهو إذا سئل في أي بلد أو سئل عنه هل هو من المسافرين السائحين؟ أم من المقيمين الوطنيين أو المستوطنين؟ لم يكن الجواب إلا أنه من المسافرين السائحين؛ فالمكث المؤقت لا يسمى إقامة إلا بقيد التوقيت، بحيث لو سئل صاحبه هل أنت مقيم في هذا البلد؟ يقول: لا وإنما أنا مسافر بعد كذا يومًا، أو أمكث أيامًا معدودة ثم أسافر إلى بلد كذا، أو أعود إلى بلدي، وقد يعبر عن هذا المكث بلفظ الإقامة، وذلك لا ينافي أنه مسافر، ولا فرق في التوقيت بين اليوم الواحد والأيام، بل يصح أن يقول المسافر: إنني أقيم في هذا البلد ساعة أو ساعتين أو ساعات، ولا تخرجه هذه التسمية عن كونه مسافرًا، ولذلك ترى الشافعية الذين يشترطون في الجمعة أن تقام بأربعين فأكثر مقيمين في البلد لا يعدون من المقيمين فيه من ينوي المكث فيه أربعة أيام أو ثمانية عشر يومًا أو أكثر ثم يسافر، بل يعدونه مسافرًا لا يحسب من الأربعين. ولكنهم يناقضون أنفسهم ويعدونه مقيمًا بالنسبة إلى صلاة المسافر. وإني لم أعجب لغلط أحد في هذه المسألة كما عجبت لغلط الشوكاني فيها؛ إذ قال: إنه يعلم بالضرورة أن المقيم المتردد غير مسافر حال الإقامة، فإطلاق اسم المسافر عليه مجاز باعتبار ما كان عليه أو ما سيكون عليه. اهـ. وإنما المعلوم بالضرورة ما ذكرناه آنفًا من عرف الناس قديمًا وحديثًا، وهذا المجاز الذي ذكره إنما يصح فيمن كان مسافرًا وعاد إلى بلده، فقال الناس المسلِّمون عليه: كنا نسلم على فلان المسافر، أو هيا بنا نزور فلان المسافر. فهذا هو المجاز باعتبار ما كان عليه، وأما المجاز الآخر فمثاله قول من تجهز لسفر من بلده وعزم عليه، وقد طلب منه أن يعمل عملاً لا يعمله إلا المقيم: إنني مسافر فلا أستطيع أن أعمل بهذا العمل. ولم يقل أحد: إن السفر عبارة عن الحركة والانتقال بين البلاد، وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة عام حجة الوداع عشرًا وهو يقصر. رواه الشيخان وغيرهما، وأقام فيها عام الفتح تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة ويأمر أهلها بالإتمام ويقول: (يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإننا قوم سفر) رواه مالك في الموطأ. وأقام بتبوك عشرين يومًا يقصر أيضًا، رواه أحمد وأبو داود. فكان غير مسافر حقيقة على رأي الشوكاني بل مجازًا، وإذًا يثبت القصر في السفر المجازي فلمَ لم يقل به؟ وليراجع السائل تتمة هذا البحث في تفسيرنا لقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء: 101) الآية، فإننا حررناه هناك تحريرًا، ومنه يعلم أن صلاة السفر ركعتيتن ركعتين إلا المغرب عزيمة لا رخصة؛ خلافًا لعائشة إن صح عنها الإتمام والتأول بأنها تطيقه، وجزم بعضهم بعدم صحته؛ لمخالفته عمل النبي صلى الله عليه وسلم المطرد في القصر ولروايتها، فهي قد روت أن الصلاة شرعت ركعتين ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر كما مر مفصلاً، ولولا أن جعل الرباعية في السفر ثنائية عزيمة لكان الخطب فيما سأل عنه السائل سهلاً، فملخص السؤال هل يتم المسافر الذي ينوي الإقامة أربعة أيام إذا أم المقيمين؟ وملخص الجواب أنه لا يتم في هذه الحالة كما لا يتم في غيرها على المختار من كون القصر عزيمة، وإلا فهو مخير، والله أعلم. استقبال المصلي في المراكب والقطارات الحديدية: استقبال القبلة في الصلاة فرض وشرط لصحتها يسقط بتعذره، والميسور لا يسقط بالمعسور، فعلى المسافر في البر أو البحر أن يتحرى القبلة ويستقبلها إذا أمكن؛ هذا متيسر في سفن البحر الكبيرة المعدة للسفر في هذا العصر؛ وقلما تتحول السفينة تحولاً سريعًا ينحرف به المصلي عن القبلة في أثناء الصلاة، بل هذا شيء كأنه لا يحصل، فإذا فرضنا أنها تحولت وعلم بتحولها يتحول هو إلى القبلة أيضا، وأما القطارات الحديدية فلا يتيسر فيها استقبال القبلة كما يتيسر في البواخر والسفن الشراعية الكبيرة، فالأولى للمسافر فيها أن ينتظر وقوفها ويصلي صلاته تامة، ولو بالجمع بين الصلاتين، فإن خاف أن تفوته صلاة تحرى القبلة وصلى كيفما تيسر له كما يصلي في السفينة الصغيرة قائمًا أو قاعدًا مستقبلاً يتحول بتحولها ويستدير باستدارتها إذا أمكن، وإلا بقي على حاله، والصلاة في السفينة معروفة في الفقه وهي محل الإجماع. الاستفتاح في الصلاة بين التكبير والقراءة: حديث الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك ولا إله غيرك. لا يصح كما قال الرجل، وأما قوله: إن حديث (وجهت وجهي) لم يرو إلا في النوافل دون الفرائض، فغير صحيح، فإن حديث علي كرم الله وجهه فيه - وإن قيده مسلم بصلاة الليل - قد قيده الشافعي في سننه وابن حبان في صحيحه بالصلاة المكتوبة، ولا منافاة بين القيدين فإنه كان يستفتح بذلك في المكتوبة وفي صلاة الليل، وأما حديث (اللهم باعد بيني وبين خطاياي) إلخ فلا يمنع العمل به عدمُ أخذِ أحدٍ من الأئمة به إن صح هذا، وعدم العلم بأخذهم به لا يقتضي عدمه، ولم يؤثَر عن أحد منهم الطعن فيه، فذلك الرجل الذي يبدأ بعد تكبيرة الإحرام بالاستعاذة والبسملة وأم الكتاب يعد مخالفًا للسنة فيما ثبت وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم عنده، ثم رغب عن العمل به؛ لأنه لم يعرف عن أحد من الأئمة أنه أخذ به، كحديث: (اللهم باعد....) وكذا حديث علي إذا علم به ولم يكن له مطعن في تقييد الشافعي وابن حبان إياه بالصلاة المكتوبة، فينبغي له أن يأتي بما صح ولو لم يواظب عليه. التأمين بعد الفاتحة في الجماعة وغيرها: ثبتت مشروعية تأمين الإمام والمأمومين بأحاديث متفق على صحتها، وروى أبو داود وابن ماجه والدارقطني وقال: إسناده حسن، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، والبيهقي وقال: صحيح - عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلى {غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 7) قال: (آمين) حتى يسمع من يليه في الصف الأول. وروى مثله أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، والدارقطني وصححه، وابن حبان من حديث وائل بن حُجر، قال الحافظ ابن حَجر: وسنده صحيح، وخطّأ ابنَ القطان في إعلاله، وقد ورد من طرق ينتفي بها إعلاله. وقال ابن سيد الناس: ينبغي أن يكون صحيحًا. فيدل هذا وما قبله على مشروعية التأمين مطلقًا، فلا حاجة إلى نص في تأمين الذي يصلي منفردًا، لهذا نرى أن اجتهاد من يترك التأمين في غير حالة الاقتداء خطأ. المسح على الخفين بعد الحدث واشتراط الطهارة قبل لبسهما: الأصل في اشتراط طهارة الرِّجلين قبل لبس الخفين لجواز المسح عليهما: حديث المغيرة بن شعبة المتفق عليه وما في معناه، قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في مسير له فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه وغسل ذراعيه ومسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) فمسح عليهما. اهـ. وورد هذا الحديث بألفاظ أخرى في الصحيحين وغيرهما، وكان ما ذكر فيه في وقعة تبوك وهي بعد نزول سورة المائدة التي فيها آية الوضوء. واختلف فقهاء الأمصار من سلف الأمة في المراد بطهارة القدمين، فذهب الجمهور إلى أنها الطهارة الشرعية، وذهب بعضهم إلى أنها الطهارة الحسية التي تستفاد من إطلاق اللغة، أي أدخلهما نظيفتين ليس عليها خبث، وهذا مذهب الإمام داود. وفي حديث عمرو بن أمية الضمري عند أحمد والبخاري وغيرهما وحديث ب

محاورة بين عالم سياسي وتاجر ذكي في المركزية واللامركزية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاورة بين عالم سياسي وتاجر ذكي في المركزية واللامركزية التقى أحد التجار الأذكياء بصديق له من أهل العلم والوقوف على السياسة وأحوال الزمان؛ وكلاهما من العثمانيين، ودار بينهما الحديث الآتي: التاجر: نرى الجرائد وقد شغلت الناس بكلمتين ما كنا نسمعهما قبل هذا العهد، وهما: كلمة المركزية وكلمة اللامركزية، ونرى الناس قد اختلفوا فيهما اختلافًا كبيرًا؛ فمنهم من يقول: سعادة الأمة وحياة الدولة لا يسلمان إلا بالمركزية، ومنهم من يقول بالعكس، ولما كنت واثقًا بمعرفتك وصدقك أيها الأستاذ وبإخلاصك للدولة عولت عليك في كشف الحقيقة، فأسألك أولاً: ما هي المركزية واللامركزية؟ الأستاذ: المركزية عبارة عن كون رجال الحكومة العليا في عاصمة المملكة يتولون بأنفسهم أمر سياستها الخارجية وإدارتها الداخلية، فيكون بيدهم الحل والعقد، والدخل والخرج، والنصب والعزل. وعدم المركزية عبارة عن جعل الإدارة الداخلية لكل ولاية أو قطر من المملكة الواحدة في أيدي أهل تلك الولاية، وتكون رابطتهم بمركز الحكومة العام في الأمور العامة كلها كالسياسة الخارجية والحربية ومصلحتي البريد والبرق. التاجر: هل الممالك الأوربية والأمريكية من نوع المركزية أم من نوع اللامركزية؟ الأستاذ: بعضها من هذا النوع وبعضها من النوع الآخر؛ فجمهورية فرنسة مركزية وجمهوريتا سويسرة والولايات المتحدة لا مركزية، وكذلك إمبراطوريتا ألمانية والنمسة. التاجر: ما هو سبب الاختلاف في نوع إدارة هذه الممالك مع كونها كلها مرتقية في العلم والقوة والسياسة. الأستاذ: أما فرنسة فترى أن الإدارة المركزية تناسبها؛ لأن مملكتها كدار واحدة تسكنها أسرة واحدة. فهي ضيقة المساحة ومتصلة الأرجاء كلها بالسكك الحديدية وأهلها من جنس واحد ودين واحد وينطقون بلغة واحدة، وبقية الممالك المرتقية ليس لها كل هذه الصفات؛ فكان الأصلح لها والأدعى إلى عمرانها ورضاء أهلها واتحادهم وارتباط بعضهم ببعض أن تكون حكومتها من نوع اللامركزية. التاجر: ما هو الأصلح لدولتنا العلية؟ المركزية أم اللامركزية؟ الأستاذ: إن اللامركزية أصلح لها، بل لا صلاح لها بغيرها؛ لأسباب كثيرة إذا أمكن الجدال والمراء في بعضها، فلا يمكن في سائرها، إلا لمن أراد أن يسمي الضلالة هداية والباطل حقًّا. التاجر: تكرم عليَّ ببيان هذه الأسباب أو المهم منها. الأستاذ: إن هذه الأسباب قسمان: قسم منها لبيان كون اللامركزية أسهل طرق العمران وأقوى وسائل الترقي، والقسم الآخر لبيان كونها ضرورية للدولة؛ لا يمكن عمرانها ولا حفظها بدونه، وبحثنا الآن في الأول يعد من ترك الضروري للاشتغال بالكمالي، فيجب أن نبحث أولاً عما يقي بلادنا من الخراب والدمار المشرفة عليهما؛ لا أننا في عمران نبحث عما هو أكمل منه، فالولايات المتحدة الأمريكية كانت باللامركزية في مقدمة ممالك الأرض عمرانًا، ولو اختارت لنفسها الحكومة المركزية لأمكنها بها أيضًا أن تكون عامرة؛ لأنها على سعتها متصلة الأرجاء بالسكك الحديدية، ولها لغة واحدة، وتربى أهلها تربية واحدة أو متشابهة، فأين نحن منها ومن التشبه بها؟ أما الأسباب التي تجعل اللامركزية ضرورية للمملكة العثمانية فأهمها ما يأتي: (1) أن هذه المملكة واسعة المساحة بعيدة الأرجاء، نائية الأنحاء، حتى إن مساحة آسية الصغرى والبلاد العربية تضاهي بمساحتها ممالك الهند التي يعيش فيها أكثر من ثلاثمائة مليون، وهي على سعتها ليس فيها سكك حديدية تربط ولاياتها بالعاصمة التي صارت في الطرف منها، ولا بعضها ببعض، فتوقف أمورها الإدارية والقضائية وغيرها على أمر المركز ونهيه مفسد لها لبطئه، ولأسباب أخرى تعلم مما يأتي، فقد تحدث الحادثة المهمة كالثورة الأهلية والخروج على الحكومة في بعض البلاد، فلا يستطيع المركز العام أن يبدأ بتدارك ذلك إلا بعد عدة شهور، ولا أن ينتهي منه إلا بعد سنين، فأي فساد أشدّ من جعل أمور الأمن والعدل والتعليم والعمران مقيدة بهذا المركز السحيق. (2) أن أهل هذه المملكة مختلفو اللغات، وأكثرهم لا يعرف لغة أهل المركز العام، ولا أهله يعرفون لغاتهم، وكذا سائر الشعب التركي الحريص على الاستئثار بجميع أنواع السلطة والحكم وإدارة جميع المصالح في جميع هذه البلاد، فإقامة العدل الذي هو الشرط الأول للعمران متعذر من حكام لا يعرفون لغة الذين يحكمون بينهم، وكذلك سائر المصالح؛ لأنها تتوقف على فهم كل فريق من الآخر، ودع عصبية الأجناس التي أثارها الاتحاديون فيهم. (3) أن أهل هذه المملكة مختلفون في الأديان والمذاهب والعادات والأخلاق اختلافًا كبيرًا بحيث إن أكثر مسلمي العرب كأهل الحجاز واليمن ونجد لا يقبلون أن يُحكم بينهم بالقوانين التي يرضى بها مسلمو الترك، بل يعدون الحكم بها كفرًا يجب قتال الحكومة التي تقرره عند القدرة على ذلك، فإذًا لا يستقيم الأمر بجعل الإدارة والقضاء والتعليم في كل بلاد موافقًا لحالها، وهذا هو أساس اللامركزية. (4) أن المتخرجين في مدارس عاصمة دولتنا الرسمية الذين هم أصحاب التقدم في وظائفها الشرعية والإدارية والقضائية العدلية - لا يكاد يوجد فيهم أحد يعرف تاريخ جميع شعوب الدولة وأحوالهم الروحية والاجتماعية، فتوسيد الأمر إليهم مدعاة الخلل في الإدارة والظلم في القضاء، زد على هذا أن أكثرهم لا يعرف من لغات هذه الشعوب إلا لغة شعب واحد وهي التركية كما قلنا في بيان السبب الثاني. (5) أن أكثر المتخرجين في هذه المدارس الرسمية متفرنجون، حتى إنه يقل فيمن ينتسبون إلى الإسلام منهم من يؤدي الفرائض ويجتنب كبائر المعاصي، وأمثال هؤلاء لا يصلحون لتولي الأحكام بين من يمقتون التفرنج والفسق، وإن كان من المعاصي الشخصية كشرب الخمر، فكيف إذا اقترن - كما هو الغالب بالمعاصي التي يتعدى ضررها كالرشوة. (6) أن مركز دولتنا شر من مركز كل حكومة مركزية في الدنيا، فإن رجالها لا همَّ لهم إلا جباية المال بالحق وبالباطل والتمتع به وعدم وضعه في مواضعه؛ فأموال الأوقاف والطرق ومخصصات المعارف للولايات لا تصرف في مصارفها، بل يجرف أكثرها إلى المركز العام (الآستانة) وهناك يذوب ويضمحل، والبلاد كلها خراب حتى الآستانة، فلو كانت المركزية تصلح لهذه المملكة لكان ما علمنا من حال القائمين بها كافيًا وحده لتركها وجعل اللامركزية بدلها. وإنني أعلم علم اليقين أن الناس ما صبروا على أمثال هؤلاء الحكام في مثل بلادنا إلا كارهين مكرهين، وها نحن أولاء نرى أهل بلادنا السورية وهم أحسن البلاد العثمانية عمرانًا بنشاطهم قد يئسوا، فهم يهاجرون منها أفواجًا، فإذا استمرت هذه الهجرة بضع سنين تصبح البلاد خرابًا يبابًا، وأنت تعلم أن البلاد التي يهاجرون إليها ليست أشد قابلية للعمران من بلادهم، ولكن العمران محال في ظل حكومة مركزية بينها وبين أهل البلاد من الفروق ما أشرنا إليه. فهذه أهم الأسباب التي تعرف بها أن هذه المملكة لا يصلح أمرها إلا باللامركزية الإدارية الواسعة أو الاستقلال الإداري التام، وإلا فهي سائرة إلى الخراب وصائرة إلى الزوال، أعني استيلاء الأجانب عليها بالفتح السلمي أو الحربي. التاجر: يا لله العجب! إنني سمعت بعض المعترضين على طلاب اللامركزية، يقولون: إن حسنها من جهة العمران لا ينكر إلا أنها تكون وسيلة إلى استيلاء الأجانب على كل ولاية تدار باللامركزية؛ لأنها تنفصل من مركز السلطنة فتكون ضعيفة لا تقدر على حفظ نفسها كما وقع في تونس ومصر. الأستاذ: يمكنني أن أكتفي من معارضة هذا القول بالسؤال عن ولاية طرابلس الغرب وولايات الدولة الأوربية التي انقدَّتْ منها أولا فتألفت منها عدة ممالك، والولايات التي انفصلت منها في هذا العام أو هذه الأيام بقوة تلك الولايات التي صارت ممالك قوية بعد استقلالها، هل كانت هذه الولايات الزائلة وأمثالها مما أخذته روسية والنمسة تدار على قطب اللامركزية، أم كانت - ما عدا طرابلس - أشد الولايات اتصالاً بالمركز ومعهدًا ومقرًّا لكل ما فيه من القوة؟ فإذا كانت الحكومة المركزية الشديدة لم تمنع أقرب الولايات إلى المركز العام وأشدها اتصالاً به من استيلاء أضعف الأجانب عليها، فكيف تقدر أن تمنع الولايات البعيدة عن المركز كالعراق وسورية أن تستولي عليها الدول الكبرى كإنكلترة وفرنسة؟ . كان يمكنني أن أكتفي بهذا، ولكنني أفرض أن الدولة - أعزها الله وأصلحها - يمكنها أن تحمي سورية من فرنسة والعراق من إنكلترة بأساطيلها وجيوشها البرية التي تتدفق من المركز العام في طرف المملكة الأقصى، أفرض هذا فأقول: ما الذي يمنعها من هذه الحماية إذا كانت إدارة البلاد بأيدي أهلها وهم عثمانيون تابعون لها على كل حال؟ ، وما يطلبونه من اللامركزية الإدارية لا يخرج قوة البلاد العسكرية من سلطة المركز العام، ولا يبيح للولايات أن تعقد مع الأجانب معاهدات سياسية، ولا أن تعطيهم شيئًا من الامتيازات التي تنافي مصلحة المركز السياسية أو الحربية. كما كانت عليه تونس ومصر بالفعل قبل حماية فرنسة للأولى واحتلال إنكلترة للثانية، على أن حكومة الآستانة المركزية لو كانت ذات قوة حربية وسياسية لما حل بهذين القطرين ما حل بهما، فهذه إنكلترة لم تحتل مصر إلا بعد أن طالبت حكومة الباب العالي بإرسال جيش عثماني لقمع الثورة العرابية فلم تفعل بل أذنت لها بأن ترسل الجيش الإنكليزي للقيام بذلك وأصدرت إرادة سلطانية بناء على طلب إنكلترة بعصيان عرابي ومن معه للخليفة أو لدولة الخلافة بقيامهم على الخديو وقتالهم لإنكلترة. فلو أن طلاب اللامركزية طلبوا الاستقلال الإداري والسياسي والعسكري لكان اعتراض أولئك المعترضين موضع النظر والبحث، ولكنهم لم يطلبوا ذلك كله، وإنما طلبوا القسم الإداري منه المتعلق بالمصالح الداخلية المحضة كالإدارة والقضاء والتعليم والزراعة والصناعة، ولا يقصد من هذا إلا عمران الولايات وترقي أهلها بحيث تكون كل ولاية عضوًا قويًّا في بنية الدولة. التاجر: إن للمعترضين اعتراضًا أقوى من الاعتراض الأول، وهو أن أهل الولايات يغلب عليهم الجهل وفساد الأخلاق والعجز عن القيام بأعمال الحكومة؛ لأنهم لم يتمرنوا عليها، وإنما المتمرن على ذلك والمستعد له هم إخواننا الترك. وقد سمعت قولك في ضعف الترك وجهلهم، فما قولك في غيرهم من العثمانيين ونسبتهم إليهم؟ الأستاذ: إنني لا أجهل ما عليه أهل بلادنا العربية من الجهل وضعف الأخلاق ولا أنكر ذلك، وأنا أعلمه وأعلم أن سببه الأكبر ما كان من سوء إدارة حكومتهم المركزية واستبداد رجالها وظلمهم، ولكنني أقول: إن إخوانهم الترك ليسوا خيرًا منهم في شيء قط، لأنهم ليسوا أزكى فطرة ولا أذكى قريحة ولا أفضل وراثة لسلف صالح، ولا كان الاستبداد الذي يفسد البشر أخف وطأة عليهم، بل ربما كان أشد؛ لأن نفوذ الحكومة الاستبدادية كان عامًّا فيهم شاملاً لهم، ولم يعم البلاد العربية كلها، فلا يزال فيها ملايين عجز الظلم عن التسلق إليهم، وتضاءل الاستبداد أن ينال منهم، ومن دونهم ملايين آخرون (أهل اليمن) وقفوا في وجوه جيشه وقفة القرن للقرن، وكانت الحرب بينهما سجالاً مدة أربعة قرون. ثم إن للتاريخ سريانه فيها قريب، وهو في ا

نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ـ 2

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية (2) تابع ما قبله هذا، واشتهار هذه الأناجيل بعد ذلك في أواخر القرن الثاني وأوائل الثالث لم يمنع النصارى من محاولة تحريفها هي وغيرها من كتبهم في بعض الأماكن التي لم ترُق لهم أو التي كثر انتقاد الناس عليها كعبارة لوقا في تقوية الملَك للمسيح (23: 43) (راجع كتابنا دين الله ص 80) وكساعة الصلب في إنجيل يوحنا (19: 14) فجعلوها في بعض النسخ (الثالثة) بدل السادسة [1] وغير ذلك كثير (راجع أيضًا رسالة الصلب ص 162 وكتاب دين الله ص 76 - 78) وعبارة إنجيل لوقا المشار إليها هنا تدل على أن كاتبه إما أنه ما كان يعتقد في المسيح الألوهية الحقيقية كباقي زملائه كُتَّاب العهد الجديد (انظر مثلاً رؤيا 3: 14) أو أنه لم يقدر الله حق قدره فلذا قال هذه العبارة، والوجه الأول هو الراجح عندنا كما سبق بيانه. ومن العجيب أن المحرفين قد يضيفون بعض عبارات من عند أنفسهم كما في إنجيل مرقس (16: 17 و18) وينسبونها للمسيح كذبًا، وإن أوقعهم ذلك في إشكال عظيم - ما دام في عملهم هذا تطبيق لنبوات قديمة على المسيح وأتباعه، فإن هذا هو أكبر مقاصدهم بل مقصدهم الوحيد في كل ما يكتبونه عن المسيح حتى أعماهم عن كل شيء آخر، ألا ترى أن كاتبي إنجيل متى ومرقس زعما أن المسيح صرخ وهو مصلوب قائلاً: إلهي إلهي لماذا تركتني (مت 27: 46 ومر 15: 34) رغبة منهما في تطبيق المزمور (22: 1) عليه ونسيا أن مثل هذا الصراخ يدل على العجز والضعف واليأس والقنوط من رحمة الله وعدم الرغبة في تضحية ذاته في سبيل خلاص الناس. ولكن رغبة الإنجيليين في تطبيق نبوات اليهود على المسيح أنستهم كل شيء آخر. وكذلك ادعى متى ركوب المسيح الأتان والجحش معًا حينما دخل أورشليم تطبيقًا لنبوة زكريا عليه التي لم يفهمها كما سبق بيانه، وتراهم مثلاً يقولون في إنجيل مرقس وغيره مثل (يو 14: 12) : (إن الذين يؤمنون بالمسيح يخرجون الشياطين باسمه ويتكلمون بألسنة جديدة، ويحملون الحيات ولا تضرهم السموم، ويشفون المرضى) . مع أن هذه الأشياء لا نرى أحدًا منهم الآن يقدر على فعلها، وإن زعموا أنها خاصة بتلاميذه مع أن النص عامٌّ، قلنا: ولماذا لا تشاهد هذه الآيات والمعجزات الآن مع شدة احتياح العالم إليها وامتلاء قلوب العالمين بالشك في الدين المسيحي على الخصوص وكثرة الطعن فيه وتكذيبه حتى ممن كانوا أتباعه؟ ولو جاز اتخاذ مثل هذه العبارات دليلاً على أن الإنجيليين ومن عاصرهم كانوا يرون بأعينهم المعجزات تُعمل في زمنهم على يد تلاميذ المسيح؛ لجاز أيضا أن يقال: إنهم كانوا يرون الجبال تنتقل من مكانها وتنطرح في البحر بل كانوا يرون ما هو أكبر من ذلك يحصل بكلمة أيِّ رجلٍ منهم ولو كان إيمانه ضعيفًا كحبة الخردل كما قالوا في أناجيلهم (مت 17: 20 ومر 11: 23 ولو 17: 6) مع أنه لم يشاهد أحد منهم شيئًا من ذلك قطعًا لا انتقلت الجبال ولن تنتقل بأضعف الإيمان ولا بأكمله، فلم إذًا نسبوا هذه العبارات للمسيح وخطؤها واضح لا يحتاج إلى دليل؟ ألا يدل ذلك على أنهم كانوا يخترعون ولا يبالون، والناس لجهلهم يصدقون؟ وإذا صح قول المسيح: (إن حبة خردل من الإيمان تفعل كل شيء) فكيف بعد ذلك مباشرة (مت 17: 21) اشترط الصلاة والصوم لإخراج شيطان من شخص قدم لتلاميذه فلم ينجحوا في إخراجه منه؟ أفلم يكن عندهم قدر حبة خردل من الإيمان؟ وإن كانت عندهم فلم اشترط إذًا الصلاة والصوم وهو القائل قبل ذلك: إن حبة الإيمان كافية لكل عمل حتى لا يكون شيء مستحيلاً [2] مع وجودها؟ أما السبب عندنا في نسبة مثل تلك العبارات للمسيح فهو أيضًا ورودها في النبوات القديمة كعادتهم وتوهم الكاتب بدون بحث ولا تحقيق - لشيوع الجهل إذ ذاك - قدرة الناس على هذه المعجزات؛ لكثرة ادعائهم لها في تلك الأزمنة بشيء من الشعوذة أو التأثير العصبي على عامة الناس ليثبتوا صدق النبوات الماضية القائلة بحصولها في زمن المسيح وزمن أتباعه [3] فامتلاؤهم بروح القدس وتكلمهم بألسنة جديدة قال عنه يوئيل (2: 28 - 30، راجع أيضًا أع 2: 16 - 19) وعدم أذية الحيات وغيرها لهم وسلامتهم من كل سوء، ذكره كتاب أشعياء (11: 8 و65: 25) والمزامير (91: 13) وغيرهما، وشفاؤهم المرضى ذكره أشعياء أيضًا (29: 18 و35: 5 - 10) ولما كانت أغلب هذه الأمراض عندهم ناشئة عن تأثير الشياطين فلا عجب إذًا إذا جعلهم كُتَّاب الأناجيل قادرين على إخراج الشياطين أيضًا، والحق أن سفر إشعياء هذا هو أعظم مصدر لقصص وعبارات العهد الجديد، فجُعل ما حكوه فيه تجد أن الحامل لهم عليه هو تطبيق عبارات أشعياء على المسيح وعلى أتباعه، ولو لم يقدروا على عمل شيء من ذلك الآن لإقناع الشاكِّين منهم في دينهم. وزيادة هذه العبارة في مرقس (16: 9: 20) مسلَّمة عند كثير من علمائهم حتى من أشد المدافعين عن المسيحية المتعصبين لها كترتون (Turton) مؤلف كتاب صدق المسيحية (Christianity Truth The) ص 382 منه. فرغبة كُتَّاب العهد الجديد في تطبيق هذه النبوات القديمة كان أعظم سبب لضلالهم ووقوعهم في الغلط الكثير الذي ملأ أكثر كتبهم. والذي منع النصارى فيما بعد عن إصلاح هذه الغلطات مع كثرة تلاعبهم في كتبهم أمران: (1) اشتهار هذه الغلطات ومعرفة خصومهم لها من قديم الزمان وتعييرهم بها، فلا يمكنهم - والحالة هذه - إصلاحها. (2) شيوع الجهل بينهم في الأزمنة القديمة، واعتقادهم أن الإيمان بدون بحث ولا تعقل فضيلة، وقلة عدد نسخ كتبهم، وعدم ضم بعضها إلى بعض كما هي الآن، وقلة المطلعين عليها حينئذ فلم ينتبهوا لهذه الغلطات إلا بعد أن وقف عليها الناس فعرفوها وحفظوها عليهم في كتبهم فلا يصح جعل هذه الغلطات - كما يفعل بعضهم الآن - دليلاً على أمانتهم في النقل، فكم من غلطات غيرها حاولوا إصلاحها أو أصلحوها فعلاً لعدم شهرتها، وعرف ذلك أخيرًا، كما تبينا بالمراجعة والبحث في النسخ الحديثة والقديمة والكتب الأخرى غير المقدسة التاريخية والتفسيرية وغيرها، ولولا خوف الفضيحة والعار لأصلحوا كل غلطات كتبهم الآن؛ ليستريحوا من كثرة القيل والقال، ومع ذلك يتجدد فيها كل حين تنقيح وتصحيح، وأخذ ورد، وتسليم ورفض، فلم يستقروا في أمرها على حال إلى الآن. * * * تلاميذ المسيح المسمون بالرسل [4] وبولس هؤلاء التلاميذ هم اثنا عشر رجلا: ثمانية منهم لم يكتبوا شيئا كما يقول النصارى وهم أندراوس ويعقوب وفيلبس وبرتولماوس وتوما [5] وسمعان القانوني ويعقوب بن حلفي ويهوذا الاسخريوطي، وهاك خبر الأربعة الباقين: (1) بطرس لم يكتب سوى رسالتين، وكان ضعيفًا؛ ولذلك أنكر المسيح - وقت الصلب من شدة الرعب والجبن وسماه المسيح من قبل ذلك شيطانًا (مت 16: 23 ومر 8: 33) وكان يرائي اليهود في أنطاكية حتى زجره بولس (غلاطية 2: 11 - 14) فإذا سلم أنه هو الكاتب للرسالتين المنسوبتين إليه فلا ثقة لنا به، وخصوصًا لأن بولس كان يؤثِّر عليه كثيرا. وأما تسمية المسيح له ببطرس (أي الصخرة) فالظاهر أنها كانت في أول الأمر عند ابتداء إيمانه كما في يوحنا (1: 42) أي قبل أن يحصل منه ما حصل، فكان عيسى عليه السلام يحسن به وبغيره الظن كما هو شأن المخلصين الصالحين، وكما أحسنه بيهوذا حتى وعده بالجنة (مت 19: 28) هذا إذا صح أن المسيح نفسه هو الذي سماه بطرس. وأما قصة بناء الكنيسة عليه وإعطائه مفاتيح الملكوت (مت 16: 18 و19) فالأرجح أنها كغيرها من تاريخ بطرس، زيادة من رؤساء الكنيسة الأقدمين في هذا الإنجيل ليبنوا عليها سلطتهم التي كان منها ما كان مما لا ينساه تاريخ النصرانية من سفك الدماء وظلم الأبرياء ودعوى القدرة على غفران الذنوب للناس وغير ذلك. ومع كون هذه القصة لا تتفق مع تسميته بعدها مباشرة بالشيطان ولم تُذكر في إنجيل آخر غير متى - فالظاهر أن المحرفين خافوا الفضيحة فاقتصروا على إضافتها في إنجيل واحد لتيسر ذلك عن إضافتها في الكل كما هي عادتهم غالبًا في التحريف ليقال: (إنهم لم يمسوا الكتب بسوء وإلا لأضافوها في الجميع) . كما يقول بعض مبشريهم الآن. (2) متّى: روي أنه جمع بعض أقوال المسيح بالعبرية، وما جمعه مفقود الآن كما سبق. (3) لباوس المسمى يهوذا: كتب رسالة واحدة ليس فيها شيء يذكر من عقائدهم، وفيها يستشهد بكتب غير قانونية عندهم (أبو كريفة) (عدد9 و14) . ومن مضحكات براهين النصارى أنهم إذا وجدوا في بعض الكتب القديمة قولاً من أقوال المسيح يشبه ما في أناجيلهم الحالية زعموا أن المؤلف اقتبسه من أناجيلهم واتخذوا ذلك دليلاً على وجود هذه الأناجيل في زمن المؤلف وعلى صحة نسبتها إلى من نُسبت إليهم، ولا أدري لماذا إذًا رفضوا كتاب أخنوخ وقالوا أنه موضوع مكذوب، على أن أخنوخ هو القائل للعبارة التي استشهد بها؛ فلماذا إذًا خالفوا طريقتهم في الاستدلال على صحة هذا الكتاب؟ (4) يوحنا: وإنجيله مشكوك فيه كما بينا، وقد زادوا في إحدى رسائله أصرح عبارة عندهم في عقيدة التثليث (1 يو 5: 7) فإذا سلمنا صحة نسبة هذه الكتب إلى يوحنا، فكيف نأمن أن يكونوا حرفوها كما حرفوا هذه العبارة؟ ومن أين لنا صدق هذا الرجل وعصمته من الخطأ؟ وما الدليل على أنه موحى إليه؟ وفضلاً عن ذلك فهو لم ينص على الألوهية الحقيقية للمسيح كما بَيَّنَّاه، ولو سلم أنه دعا الناس إليها لاستحق القتل بنص التوراة (تث 3: 5) ولو كان مؤيدًا بالمعجزات فما بالك وهو لم تثبت له ولا واحدة باليقين؟ . ومما تقدم تعلم أن الرسل لم يكتبوا شيئًا هامًّا عن تاريخ المسيح وتعاليمه فهل كتبوا شيئًا غير ذلك لم يصل إلينا؟ لا ندري. ولماذا تعرَّض للكتابة سواهم من تلاميذ بولس ومريديه؟ حتى إنك لترى أن جل العهد الجديد ليس من عمل تلاميذ المسيح بل هو عمل بولس ومريديه. وإذا تذكرنا مشاجرة بولس مع برنابا (أع 15: 39) مع أنه هو الذي قدمه للرسل وجعلهم يثقون به (أع 9: 27) وعدم وصول شيء لنا من برنابا تثق به النصارى الآن مع أنه كان شريك بولس والمخصص معه لدعوة الأمم غير اليهودية إلى المسيحية (غل 2: 9) ووصول جميع كتابات بولس وذيوله [6] (تلاميذه) إلينا، وانتهار بولس لبطرس في أنطاكية، وكلام بولس القارص وتحامله وبغضه لأكثر تلاميذ المسيح كما هو صريح عباراته في رسالته إلى أهل غلاطية (إصحاح 1 و2) وتهكمه بهم وترفعه عنهم (غل 2: 6 كو 11: 5 و6 و23) إذا تذكرنا كل ذلك تبين لنا كيف كان هذا الرجل مستبدًّا فيهم مسلطًا عليهم غير ميال إليهم مستأثرًا بهذا الأمر دونهم، مع أنه لم يَرَ المسيح ولم يعرفه ولا آمن به في عهده بل كان عدوًّا له ولمن اتبعه طول حياته. ثم إنه كان يناقض نفسه بنفسه في قصته كما في سفر الأعمال حيثما سمع صوت يسوع وراءه كما يزعم (راجع أع 9: 6 - 8 و22: 9 و26: 13 - 18) وكذلك يناقض برسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي سفر الأعمال (قارن أع 17: 14 - 16 و18: 5 مع 1 تسا 3: 1- 2) وأيضا فإن عباراته في غلاطية (1 و2) تناقض أخباره الواردة في سفر الأعمال المذكور كما بينه رينان بالتفصيل في كتابه عن الرسل (صفحة 21 و22 منه) وذلك لتقلُّب هذا الرجل وتلونه فهو - كما يقول عن نفسه - يهودي لليهود (انظر أع 21: 18 - 26 و16: 1 - 3) ونصراني للنصارى ووثني للوثنيين (انظر 1 كو 9: 19 - 23) ليربح الجميع لمذهبه وتعاليمه التي يسميها الإنجيل، والظاهر من رسائله أنه كان له إنجيل مخصوص يدعو الناس إليه، ويزعم أن الله سيدين سرائرهم يوم القيامة بحسب هذا الإنجيل (رو 2: 16 و16: 25 و2 تي2: 8) ولا ندري ما هو هذا الإنجيل؟ وأين ذهب؟ وقال: إنه كان غير إنج

دعاة النصرانية في البحرين وبلاد العرب

الكاتب: سائح ناصح

_ دعاة النصرانية في البحرين وبلاد العرب سيدي العلامة المشتهر منشئ المنار الأزهر، أيد الله بك الشرع الأغر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فلم أنس لا أنسى تلاوة أعداد مجلتك المحترمة وما حَوتْْْْه من منشورات نصارى البروتستان في الغارة على العالم الإسلامي ودسائسهم في إضلال ضعفاء المسلمين وتهديدهم حياة الأديان - حتى الإسلام - بقواهم ومعداتهم المدهشة وما كان يشيعه زويمر عن مسلمي البحرين من تأثير عملياته فيهم. أقرأ تلك المنشورات وأناملي ترتعش وفرائصي ترتعد، ونيران الأحزان تلتهب في أحشائي وتتقد.. . حتى إني سئمت العيش آنئذ وعفت الأهلين والوطن وخرجت بوجهي كهائم في فلاة حتى بلغت مجمع البحرين لكي أطلع على حقيقة الأمر وأتحقق صحة ما أشاعه دعاة البروتستان عن تلك القادة الإسلامية المحضة فأتدارك الخطب بعدئذ عن بصيرة. فحللت بلاد البحرين في أول يوم من هذه السنة والتقيت بأميرها وقاضيها وبالعلماء والأعيان من أهليها. وفتشت عن زويمر فأخبروني بسفره إلى البلاد المصرية، واتفق نزولي في دار قريبة من مستشفى البروتستان ومن مدرستهم وبيوتهم، فأرسلت إلى بعض خدمهم من مسلمي الجزيرة، وأخذت منه بعض المعلومات الضرورية، وظفرت بتصاوير إدارتهم الكائنة في البحرين وفي مسقط والكويت والبصرة. إن الخطر مما لا يُستصغر، ولكن مما يهوِّن الخطب أن أكثر ما يشيعونه من نجاح مسعاهم في هذه البلاد مبالغات أو مفتريات يقصدون من نشرها إغراء جمعياتهم الكبرى وتشويقها حتى تبذل لهم الأموال الجسيمة. وها أنا ذا ذاكر لسيادتك بعض ما كشفته عن أمر هؤلاء، وسوف أذكر في حضرتك البقية بالمشافهة، إن شاء الله تعالى. أما الدعاة المنتشرة في البحرين فلا يبلغ عددهم العشرين رجالاً ونساء وأكثرهم لا يحسنون العربية ولا يعرفون شيئا من العلوم الدينية، وهذا بعض ما يدل على أن هؤلاء يغشون جمعياتهم الكبرى التي تنفق عليهم الأموال الطائلة لظهور عجزهم وقصورهم في أداء وظيفتهم، فتذهب بهم أموال الجمعية هواء في شبك. وقد لقيني معلمهم بعض الأيام وسألني عن قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) إلخ الآية. فقال: إن المستفاد من الآية هو علم الملائكة بالغيب بل بما لم يعلمه الله تعالى. قلت: يا سبحان الله كيف تستفيد ذلك من الآية مع تصريح الملائكة في هذا السياق بقولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة: 32) وتصريح الباري عز شأنه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) ثم إن الملائكة لم تعترض على الله في خلق آدم وإنما استفهموا منه تعالى عن جواز صيرورة الظالم المفسد - في رأيهم - خليفة، فقالوا بعد قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) : {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (البقرة: 30) إلخ ولم يقولوا: أتخلق فيها من يفسد. ومتى كان هذا القول من الملائكة استفهامًا وسؤالاً عن جواز استخلاف الله تعالى ظالمًا، ولم يكن ذلك منهم اعتراضًا عليه - دل ذلك على عدم علم الملائكة الغيب، وعلى سعة علم الله تعالى دون العكس كما توهمت. وتكلمت معهم يومًا في مكتبتهم في مسألة إشباع المسيح عليه السلام خمسة آلاف نفس بخمسة أرغفة المذكورة في إنجيل متى وغيره، وبرهنت لهم بالأدلة الواضحة منافاة هذه القضية لحكم العقل والعلم، فاعترفوا بمناقضتها لحكم العقل، لكنهم اعتذروا بأن الدين لا يضره مناقضة العقل. فبينت لهم في مقالة ضافية الذيل وجوب معاضدة العقل للدين ومصادقتهما، ويستحيل بدون ذلك إيمان إنسان إيمانًا صادقًا وذكرت لهم موافقة الدين الإسلامي للأحكام العقلية وتصريح بعض علماء الإسلام بقضية (كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، وكذلك العكس) . ولدعاة البروتستان في البحرين مدرسة صغيرة مركبة من حجرتين يجلس الأطفال في التحتانية منهما ويجمع الكبار للصلاة في الفوقانية، ولا يبلغ تلاميذها عدد الأصابع، وما فيها من المسلمين غير صبيين عربي وفارسي يتعلمان فيها الإنكليزية، ورأيتهما يستهزآن بصلاة هؤلاء ويقول أحدهما للآخر: كيف يقبل الله تعالى صلاة يغنون فيها بأدوات اللهو، ويقضون باسم الصلاة شهوات أنفسهم؟ وأما تاريخ زويمر، فالمشهور بين أهالي البحرين أنه في أول مجيئه قبل بضع عشرة سنة صادف خشونة من الناس فهاجر إلى بلاد الحسا ليستقر فيها فوجد في أهليها ذكاء وتنبهًا وأن البلاد العثمانية لا يسود فيها حكم لقونسل إنكليزي حتى يستظهر مثله بكل ما ستسمع، فرجع إلى البحرين بخفي حنين، واستعذب ما يراه من المهانة، وكان يلقب نفسه ضيف الله، والأهالي يدْعونه ضيف إبليس! كذا ذكر الناس، وكان قد فتح في مبدأ أمره حانوتًا في السوق لبيع الكتب المختلفة ثم تخصص بالتدريج لبيع الكتب المسيحية وبعد أعوام عزم على شراء أرض هناك، فامتنع الحاكم أن يبيعه مع أنه اشترط على نفسه أن لا يضع فيها ناقوسًا ولا غيره من آثار النصرانية، ولا يدعو فيها إلى دينه، لكن زويمر توسل بقونسلية الإنكليز في بوشهر والبحرين فألحت القونسلية على الحاكم وأخذت منه قدرًا واسعًا من الأرض لزويمر بثمن أربعة آلاف روبية تقريبًا وأسسوا فيه مدرسة ومستشفى صغيرًا لنشر دعوة الإنجيل بتمام حريته، أفلا يدل هذا وأمثاله على تورية في لهجة أوربا وادعاء اجتناب ساستها الأمور الروحية وتجنب ديانتها الأمور السياسية؟ ولم يظهر خلال هذه الأعوام نجاح لزويمر إلا في أمور أربع، الأول: زيادة راتبه ومعاشه إلى 150 ربية في الشهر غير ما يتبرع عليه بعض أحبائه الأمريكانيين. الثاني: تكثير عدد الدعاة في بلاد البحرين من رجال ونساء أمريكيات يتطلبون بمسعاهم الارتزاق. الثالث: استخدامهم لفقراء المسلمين في إدارتهم ثم يأخذون صورهم ويرسلونها إلى بلاد أخرى يشيعون عنهم أنهم تنصروا، والصحيح أنهم (تبصروا) في دسائس مخالفيهم، ولقد شاهدت في مستخدميهم الغيرة الإسلامية والشكوى مما هم فيه حيث إن الفقر ألجأهم إلى خدمة عباد المسيح. الرابع: توزيعهم نسخ الأناجيل بين المسلمين، ولشد ما أخطأوا في هذا الأمر وسيندمون حين لا ينفعهم الندم؛ لأن أبناء القرآن إذ اطلعوا على آيات الإنجيل سقط موقعها من أعينهم. وقد اتسع نطاق فحصي في ذلك فلم أجد مسلمًا يسمع الإنجيل إلا ويتكلم عليه. ولقد قال لي بعض البحرانيين: إنني كنت أعتقد قبل أن أرى الإنجيل أنه كتاب إلهي ولكن يد التحريف مست بعض آياته، وبعد ما وصلتني منه نسخة سقط من عيني حتى كدت أن أنكر نسبة شيء منه إلى الباري. ولقيت الشاب الغيور يوسف كانون، أحد أجلاء البحرين، وممن يتحبب إليهم زويمر وقد أتحفه بنسخة من العهدين، فقال: وقد أعانتني قراءتهما على محاجة زويمر معي في كثرة أزواج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. فقلت: إنها لا تنافي رسالته من الله تعالى، وهذا سفر صموئيل من التوراة ينطق بأن سليمان النبي عليه السلام تزوج بمائة من النساء وأن داود عليه السلام تزوج بغير زوجته على وجه غير وجيه، إلى آخر ما قال. وكان شبان العرب يذكرون لي ما سنح في خواطرهم من الاعتراضات على الأناجيل، وجاء بعضهم يومًا بنُسَخ من الإنجيل الموزع عليهم قد كتبوا على هوامشها اعتراضات جمة. ولقد نهيتهم عن إحراقها إذ بلغني أن أكثر جهالهم يأخذون نسخ العهود الموزعة عليهم ويحرقونها. أو يلقونها في البحر. ويبيعون أغلفتها ويستعملون الأوراق لصنعة الكرتون أو سائر حوائجهم. وبالجملة: إن نشر هؤلاء تلك الكتب بالمجان وشبهه تلقي خسارات باهظة على كاهل جمعياتهم من دون فائدة، بل المرجح أن ذلك يعود عليهم بمضرة كبيرة يصعب عليهم ملافاة أخطارها في المستقبل. وهي توجه أفكار المسلمين إلى إشاعة ما في الأناجيل وإنكاره تمامًا، فهم - ما لم يقرؤوا الأناجيل - مذعنون حسبما يظهر من قرآنهم المقدس (أن العهود كتب إلهية مسَّت يد التحريف بعضًا من آياتها) ومتى اطلعوا على خوافيها نفروا من جميع ما فيها، وعرفوا مواضع الطعن منها. أقول هذا ولا أظن المسيحي يعترف لي أو يصدقني لما ملأ قلبه من الشغف بالإنجيل، ويزعم أن الناس كلهم يرون إنجيله مثلما يراه، كلا، ومن أنذر فقد أعذر. أخذ الإفرنج منذ سنين يوزعون الأسلحة النارية في بلاد العرب بالمجان بعضًا وبأزهد الأثمان أخرى، يقصدون من ذلك إلقاء الفتن والقلاقل الداخلية فيقع بأس المسلمين بينهم، ويمزق الإسلام أيدي أبنائه، ولقد تأكد ظنهم من فتنة اليمن وما أشبه فخسروا في توزيع الأسلحة ثروة عظيمة. ولما ظهرت صيحة طرابلس ونهض العرب كأسود ضارية يستعملون تلك الأسلحة والسهام في نحور أعداء الإسلام - خابت ظنون الإفرنج وانتقضت سياستهم فطفقوا الآن في مواني جزيرة العرب يشترون منهم بأثمان غالية تلك الأسلحة التي فرقوها بينهم بأبخس الأثمان، فتضاعفت خسارتهم مرة أخرى {تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} (النازعات: 12) . وها أنا ذا أنذرهم - ولا يغني الإنذار - وأحذرهم من نشر كتبهم في المسلمين؛ لأنهم في هذه الفكرة كالباحث عن حتفه بظلفه، يبصرونهم بمواضع الطعن ويمكنونهم منها، ولسوف تراهم يشترون بأغلى القيم جميع الأناجيل التي فرقوها فيهم بالمجان أو بقيمة زهيدة ويسعون في جمعها بكل وسيلة وحيلة، وتكون خساراتها في حال جمعها أكثر من خساراتهم حال تفريقها، وتكون عاقبة أمرهم في نشر أسلحتهم الدينية كأمرهم وخطأهم في نشر أسلحتهم النارية، ومن أنذر فقد أعذر. ... من (بطون الفلوات) ... ... ... ... سائح ناصح (المنار) إن هؤلاء القوم لا يبالون بزيادة نفور بعض من يرى كتبهم من دينهم ويكتفون ممن يأخذون هذه الكتب بالأنس بهم واعتياد البحث عنهم والتشوف إلى سائر ما ينشرونه ولو بقصد الاختبار والسخرية، وحينئذ يفتح لهم باب التشكيك في الإسلام بنشر الكتب التي تطعن فيه، ولا يذكر فيها شيء من كتبهم، ومتى شك المسلم في القرآن أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم كفر وبطلت ثقته بالإسلام، وهذا عند الدول أول درجات الفتح السلمي بواسطة دعاة النصرانية. فالأولى للمسلمين أن لا يأخذوا شيئًا من كتبهم ألبتة إلا من كان متصديًا للدفاع عن الإسلام والتفرقة بين الحق والباطل، ومن أخذ منها شيئًا فلا كفارة لأخذه مثل إحراقه بالنار قبل أن يهوي به إلى النار، وقد أخطأ السائح الفاضل بنهي الناس عن إحراق تلك الكتب التي تثير الفتنة وتمزق شمل الأمة وتكون وسيلة للشك في الدين ولإزالة ملك المسلمين. وكما ينبغي إحراق تلك الكتب الضارة ينبغي أيضًا نشر الكتب التي تبين حقيقة هذه النصرانية التي يدعوننا إليها؛ ليعلم المسلمون أنها أبعد الأديان عن دين المسيح الصحيح، وعن دين بولس الذي ألفه باسم المسيح وأودعه هذه الكتب التي يسمونها العهد الجديد. وليعلم أهل الصلاح والتقوى والغيرة الدينية من أهل البحرين والكويت وسائر بلاد الخليج الفارسي وعمان والعراق أن نشر الكتب التي تشكك الناس في القرآن والإسلام، ستزداد عامًا بعد عام، فعليهم أن يؤلفوا جمعية للدفاع عن دينهم، يكون أول عملها مجاهدة هؤلاء الدعاة المبشرين بمثل ما يجاهدون المسلمين به، بأن يكون أول عملها توزيع الكتب التي تبين حقيقة النصرانية الحاضرة مجانًا في كل مكان وصلت إليه

جمعية خدام الكعبة

الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي

_ جمعية خدام الكعبة [*] إن الاتحاديين أضروا بالإسلام والمسلمين أكثر من إضرار الأعداء الحقيقيين، فقد مزقوا الدولة وأذلوا العثمانيين والمسلمين معًا وفرقوا الكلمة ولعبوا بالأمة وضيعوا من ممالك الدولة الإسلامية في خمس سنين ما لم يضيع مثله عبد الحميد وأعوانه في أكثر من ربع قرن، وقد نفروا من هذه الدولة - المصابة من أيدي أبنائها بأكثر مما أصابها الأغيار- قلوب العالم الإسلامي، وإذا كان العدو العاقل خيرًا من الصديق الجاهل، فما بالك بهذا الصديق الجاهل إذا كان زنديقًا ملحدًا لا يعتقد بالله ولا يؤمن بما به تؤمن، ولا يصدق ويوقن بما تصدق به وتوقن اللهم إلا دعوى لسانية تخالفها الأفكار والأعمال، وتباينها السيرة والحال وهو مع ذلك قد تطور بأطوار لا تلائم الجنس الذي يدعي الانتساب إليه، وتشكل بأشكال صارت وبالاً على جنسه وعليه. لئن كنا نؤاخذ الاتحاديين على السيئات التي اجترحوها، والجرائم التي ارتكبوها، والأضرار التي جلبوها على الدين والأمة والدولة، وعلى العثمانيين عامة وعلى أنفسهم خاصة فإنما ذلك لكونهم إخواننا، نحب لهم ما نحب لأنفسنا، ولا نود لهم الزيغ والضلال ولا نريد لهم الخراب والدمار، ولا نرضى لهم بالذل والصغار، ونغار عليهم أضعاف غيرتهم على أنفسهم. ولئن كنا في أسف وحزن وغم على ما أصاب إخواننا الأتراك من أيدي الاتحاديين الأغرار، وأذنابهم المفسدين الأشرار، وعلى عمل هؤلاء الاتحاديين بأنفسهم وشعبهم، والجاهل يعمل بنفسه ما لا يعمله العدو به فإنا نشكر من جهة أخرى لهؤلاء الأغرار أعمالهم الخبيثة وأفعالهم السافلة؛ لأنها نبهت المسلمين إلى وجوب ترك الاتكال على الغير وإلى السعي والعمل لملتهم وأمتهم وحماية دينهم والنظر في أمورهم وإصلاح ذات بينهم وترقية أنفسهم، وإن كان ذلك قد جاء بعد خراب البصرة. فقد قعدت هذه الملايين العديدة من المسلمين عن العمل من قبل اتكالاً على هذه الدولة التي يفتخر سلطانها - ويحق له الفخر- بخدمة الحرمين الشريفين: كعبة المسلمين قاطبة وروضة نبيهم أجمعين، والذي يحترمه المسلمون كل الاحترام ويغارون عليه أشد الغيرة، ويفدونه بالأرواح والأنفس والأموال بسبب الاتسام بسمة هذه الخدمة الشريفة، وتوهم أنها هي التي ترفع شأن الإسلام وتحفظ سلطته والحكم بشريعته، وتحمي أهله وتعزهم وتنهض بهم وترفع رءوسهم، وتفك أغلال الاستعباد عن المستعبدين، وتذيقهم نعمة الحرية الكاملة التي يتنعم بها بقية العالمين. ولما ظهر لهم الآن الصواب من الخطأ، وتبين الرشد من الغي، وأزال الاتحاديون بأيديهم الأثيمة سجوف الشكوك والأوهام، وتجلت حقيقة هذه الدولة المنكودة للخاص والعام من هذه الملايين المتواكلة - انتبهوا لحالهم - ورجعوا إلى أنفسهم وثابت إليهم عقولُهم وندموا على انخداعهم كل هذه المدة، ولات ساعة مندم، فهبوا من نومهم طائشين مدهوشين يتشبثون كالغرقى بكل ما تصل إليه أيديهم، وينظرون إلى مستقبلهم ومستقبل دينهم وأمتهم ومآل كعبتهم وقبر نبيهم بعيون ملؤها الخوف والفزع، وقلوب تحيط بها جيوش الاضطراب والهلع، ولا يدرون أين يسيرون وماذا يفعلون وأي شيء من الأعمال يقدمون. ولأذكر لكم مثالاً واحدًا من أمثلة رجوع المسلمين إلى أنفسهم، وخلعهم نير الاتكال على غيرهم عن عاتقهم، ويأسهم من الدولة العثمانية والحكومة الإسلامية القائمة بها الأمة التركية. وهذا الرجوع والخلع وإن جاءا متأخرين عن وقتهما كثيرًا وربما لا تثمر المساعي اليوم ولا ينفع العمل - فإن فيهما بشارة عظيمة لأن اعتماد المسلمين على أنفسهم بعد اتكالهم على الله، واهتمامهم بشئونهم وأمورهم، والسعي والعمل لملتهم وأمتهم وتوجه أفكارهم وأنظارهم نحو حماية الإسلام ورفعة شأنه، وصيانة الشرع الشريف من العبث به لا بد أن ينفعهم إما عاجلاً أو آجلاً، وأن يحفظ لهم البقية الباقية، إن لم يُعد لهم ما كان لهم في الأيام الخالية، وكل من سار على الدرب وصل، والقنوط ليس من شأن المسلمين الصادقين، كيف وقد أخبرهم ربهم بأن العاقبة للمتقين، وأن الله ولي المؤمنين؟ تألفت في لكهنؤ من بلاد الهند جمعية نافعة جدًّا ولكنها لا تزال في طور التكوين اسمها مجلس أو أنجمن (خدام الكعبة) وقد نشر نظامها وبروجرامها بعد بيان مقاصدها وأغراضها، وكل ذلك بصورة اقتراح لطلب الموافقة عليه حضرة الكاتب الغيور، والمحامي المسلم الكبير، مستر مشير حسين القدوائي. ولما كان الوقت ضيقًا وكان النظام والاقتراح طويلاً اكتفيت اليوم بنقل مقدمة القدوائي وتمهيده الذي مهد به الكلام على اقتراحه مرجئًا نقل الاقتراح وإرساله إلى البريد التالي إن شاء الله. وهذا هو التمهيد مترجمًا عن الخلاصة التي نشرت منه في العدد 16 من المجلد الثاني من جريدة الهلال الأسبوعية الغراء الصادرة يوم 23 إبريل سنة 1913 من كلكته: مجلس خدام الكعبة {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) لا شبهة في أن الله جل جلاله هو الحافظ لنوره، ولكن ألا نحب نحن بقاء هذه الأمانة النورانية لدينا؟ هل يختار الله غيرنا للمحافظة على هذا النور؟ ألا يبقى من يؤتمن على هذا النور من نسل الأمة المحمدية الموجودة؟ منذ سنتين ونحن في ابتلاء شديد، كم استشهد من المسلمين في طرابلس؟ وكم ذُبح منهم في البلقان؟ ولم يكتفِ الظالمون بسفك دماء إخواننا بل تعدوا إلى انتهاك حرمات الأماكن الإسلامية في البلاد التي وقعت في أيديهم فجعلوها اصطبلات واتخذوها كنائس. ولا تزال قوات البلقان المتحدة ومعها جميع الدول المسيحية في سعي متواصل لإخراج أدرنة من أيدي المسلمين، تلك البلدة المحتوية على مساجد خلفاء الإسلام سلاطين آل عثمان ومقابرهم، ولأجل تمكين الرعب من قلوبنا نحن المسلمين تطلب بلغاريا الاستيلاء على القسطنطينية التي فيها مسجد أيا صوفيا والمزار المقدس. إن ما جرى في المشهد المقدس [1] من قريب غير خافٍ على أحد، وإذا كان هكذا هيجان المسيحيين ذوي التهذيب المادي في القرن العشرين فمن يضمن لنا خلاص الكعبة المعظمة والمدينة المنورة من جريان مثل ذلك عليهما، لا قدر الله. إنا قد استفدنا درسًا وافيًا في عدم الاعتماد على قوة أخرى أو دين آخر، فيجب علينا أن نفكر ونعمل للمحافظة على مواضعنا المقدسة وخدمتها. إخواني، لا أريد بهذا القول الدول المسيحية بل أريد أن أنبهكم إلى أن الواجب عليكم من الآن أن لا تتركوا أمر الأماكن المقدسة لشعب من شعوبكم أو طائفة من طوائفكم، أتْراكًا كانوا أو إيرانيين، فإن هؤلاء عديمي الحيلة لا يقدرون على الأعداء الكثيرين، سواء كانوا منفردين أو مجتمعين، ولا يمكن لقوة أن تقابل عشر قوات، ألا وإن الحق في نظر التهذيب المادي هو الشدة والقوة، إن العثمانيين يجودون بالأرواح: نساؤهم ترمل وأولادهم تيتم، وديارهم تخرب، ومزروعاتهم تتلف وتنتهب، فماذا يمكنهم أن يفعلوا وحدهم مع ذلك؟ لقد صار من الصعب العسير على السلطان صيانة قبور أجداده من أيدي الأعداء وإساءاتهم، وقد وجهت القوات المسيحية بأجمعها ضغطها عليه، فما الذي يطمئنه على صيانة الكعبة المعظمة والمدينة المنورة وبيت المقدس وكربلاء إذا اجتمع عليها الأعداء؟ وهل في قدرته وإمكانه حفظها من أيديهم؟ لا أدري لمَ يترك المسلمون فرض حماية الأماكن الإسلامية المقدسة واحترامها لذمة الأتراك وحدهم؟ أيها المسلمون، إما أن تتركوا من الآن قولكم: إنا معكم مسلمون، وإما أن تستعدوا على بكرة أبيكم من الآن لحماية وخدمة أماكن دينكم المقدسة وأن تتخذوا للوصول إلى ذلك ذرائع نافعة، وتدابير قويمة ثابتة، وأن لا تدَعوا الإسلام ذليلاً في أعين أحد. إن المسلمين اليوم مع ما هم عليه من الهيجان لم يقدروا على صيانة مساجد طرابلس وبرقة وسلانيك من انتهاك حرماتها. إنا إذا كنا نحترم أماكننا المقدسة حقيقة، وإذا كنا نحب ديننا محبة صادقة، وإذا كنا نرغب في حفظ الحرم المحترم من القذائف، وإذا كنا نود صيانة قبر أشرف العالمين نبينا وهادينا من حملة الأعداء، إذا كنا لا نريد أن تكون حال قبر شهيد كربلاء كحال قبر الإمام الرضا، وإذا كنا لا نتحمل تسليم بيت المقدس إلى مخالب بلغاريا أو روسيا - فمن الواجب اللازم علينا إذن أن نختط لأنفسنا خطة ثابتة للمحافظة على الأماكن الإسلامية المقدسة وخدمتها وحمايتها، وذلك يفرض علينا جميعًا الاعتناء بإبقاء أماكننا المقدسة على حالة جيدة سارة، وأن نيسر سبل تردد المسلمين إليها، وأن نعتني بالمحافظة على الصحة وغيرها فيها، حتى يستدل من ذلك على عظمة الدين الإسلامي وقدسيته وعلو شأنه وسيطرته وجلاله، وحتى لا يتجرأ أحد من الملل الأخرى على النظر إلى تلك الأماكن المقدسة بنظرة الازدراء أبدًا. ... ... ... ... ... ... ... عبد الحق البغدادي ... ... ... ... ... نائب أستاذ العربية في كلية عليكره الإسلامية (المنار) إننا ننتظر ترجمة الاقتراح لنبدي فيها رأينا التفصيلي، وأما الرأي الإجمالي فهو الاستحسان والتحبيذ، فإن هذا في جملته عين ما اقترحناه في آخر المقالة الخامسة من مقالاتنا: عبر الحرب البلقانية وخطر المسألة الشرقية. (راجع آخر ص192 من هذا المجلد) . ((يتبع بمقال تالٍ))

كتاب متصرف عسير وقائدها سليمان باشا إلى السيد الإدريسي يطلب فيه الاتفاق وعقد الصلح

الكاتب: سليمان باشا

_ كتاب متصرف عسير وقائدها سليمان باشا إلى السيد الإدريسي [*] (يطلب فيه الاتفاق وعقد الصلح) ... ... ... ... بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الهادي إلى سبل السلام، والصلاة والسلام على سيد الأنام، وعلى آله وصحبه الكرام، من سليمان شفيق علي كمال، متصرف وقومندان عسير، إلى السيد محمد علي الإدريسي، أرشدنا الله وإياه لما فيه رضاه وألهمنا تقواه، وتولى هدانا وهداه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإن الانقطاع الحاصل والتنازع الواقع هو مخالف لما أمر الله تعالى بقوله: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) ولكن كل هذا بقضاء الله وقدره، ولسنا الآن بصدد البحث عما مضى، وعسى الله أن يجمع القلوب ويكون الإسلام يدًا واحدة على أعداء الدين، ونذب عن حقوق المسلمين، كما قال سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم: (الإسلام كالبنيان يشد بعضه بعضا [1] ) إلى كثير من الآيات والأحاديث الواردة بوجوب الاتحاد والتناصر بالدين، ولا نزيدكم علمًا بهذه العجالة فأنتم لستم كغيركم بل أنتم بدرجة من العلم. فهلم يا أخي في الدين نسعى بما فيه صلاح المسلمين، فهذه دول الأجانب من النصارى أعداء الدين قد تعاونوا وتناصروا واتفقوا على محو الإسلام وهدم قواعد الإيمان، وأن يجعلوا البلاد الإسلامية مضغة في أفواههم، وقسمة باردة في أطماعهم، وقد بلغنا ما حل بإخواننا المسلمين في الجهات فواجب علينا معشر الإسلام الذب عن الوطن، الذب عن العرض، عن النفس، عن الدين، كما قال عليه الصلاة والسلام: (قاتل دون مالك [2] ) فما بالك دون نفسك، دون عرضك، دون دينك. ويعفو الله عما سلف، فبادر لندفع عن الوطن، عن الدين، عن المسلمين هذه البلية، ونكون يدًا واحدة على حفظ حقوق المسلمين. هذا زمن الحمية الإسلامية والجهاد، هذا وقت الإخلاص وأوان الخلاص، إن الأمة الإسلامية في أقطار الدنيا ناظرة إلينا وعندها الظن الجميل بتعاوننا وتناصرنا، وها أنا أنتظر منك الجواب الشافي الذي يكون فيه حفظ شرف الإسلام، فإن أجدادك الكرام قد أسسوا مجدًا أخرويًّا فهدوا وأرشدوا وحفظوا كيان الإسلام، وشادوا أركان الإيمان، وهذه نزغات قلم مسطور باح لك به النصح الواجب، فإن أجبت فأرسل لنا بسرعة هيئة تعتمدون عليها لنتخابر معها بما يصلح ويحفظ شأن الإسلام والمسلمين على شرط بالوجه والأمان، وإن شئت بين لنا معالمكم لدفع أعداء الدين فيجتمع الرأي المصيب بما فيه الصلاح، إن شاء الله. وإني عازم بحول الله على مدافعة أعداء الدين والجهاد أمام المسلمين، مع ما لدي من قوة هي تزيد عن عشرين ألفًا، ونحن بهذا العزم، ولو فني منا الصغير والكبير، وعلى الله توكلنا وإليه المصير، فأسرعوا إلينا بالجواب، وفقنا الله وإياكم للصواب، والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... في 21 شوال سنة 1329 * * * ... ... كتاب السيد الإدريسي في جواب سليمان باشا بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وهو حسبي وكفى، وأتم الصلاة والسلام المقترنين بالتحيات القدسية على أشرف الخلائق المصطفى، وصحبه معادن الصدق والوفا. من محمد بن علي الإدريسي إلى أخينا في الدين صاحب السعادة سليمان شفيق بن علي كمال متصرف وقمندان لواء عسير، سلك الله بنا وبه مسالك أهل البصائر المبصرة، وأخذ بيدنا وبيده إلى ما ينفع في الدنيا والآخرة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبينما النفس في قلق، والأنفاس تتصاعد بنيران الأرق، مما فعل المسلمون بأنفسهم، بينما أسلافهم قد رفعوا لهم أعلام العز، وشادوا على قوائم الدين دعائم العصمة والحرز، أولئك الذين استمسكوا بعروة الله الوثقى التي ليس لها انفصام، وكان لهم من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} (آل عمران: 102-103) وغير ذلك من آيات الذكر الحكيم أعظم اعتصام - إذ خلف من بعدهم خلف أضاعوا الحقوق، واستبدلوا بإخاء الدين - الذي به ملاك الأمر- القطيعة والعقوق، ليستعد أحدهم لأخيه بالمدمرات، ويعد أعظم المفاخر إذا صرعه فمات، مع أن مجرد الإشارة بحديدة ورد فيها (من أشار إلى أخيه بحديدة لم تزل الملائكة تلعنه حتى يشيمها [3] ) هذا، وأعداء الملة من وراء هذه الأستار ينظرون نظر المفترس إلينا، ويترقبون كلَّ آنٍ الفرصةَ لمحونا، ومن الحمق أن نخرب بيوتنا بأيدينا، فأعنَّاهم بنا علينا، كأننا لم نتلُ في القول الصحيح أن التنازع يوجب الفشل ويذهب الريح {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) فلا عجب من هذه الغمة، إذا حلت بنا معاشر هذه الأمة، وانطوى على الهوان يومهم وأمسهم؛ لأنهم {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر: 19) {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35) {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ} (المجادلة: 20) ولو أنهم اعتصموا بحبل الله مولاهم، لكان لهم نعم المولى ونعم النصير وكفاهم، ولكان لهم ما كان لأسلافهم؛ إذ دانت لهم المشارق والمغارب، وما قاومهم أحد إلا خذل؛ لأنهم حزب الله وحزب الله كما كتب على نفسه هو الغالب {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: 171-173) {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ} (محمد: 11) {وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال: 40) ومهما هال العدو بما في يده من الآلات الشنيعة، فإنه والله ستنكشف عما هو كسراب بقيعة {فَأَيُّ الفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 81-82) وأعداء الدين في كل وقت أعظم عددًا، وأكثر استعدادًا وأقوى مددًا وجندًا ليحق الله قوله: {وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ المُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 19) {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} (يوسف: 21) {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} (الجن: 24) ولا يزال الحق هذه صفاته وفي كل آن ومكان هذه نعوته {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} (الأنعام: 115) . فبينما الخاطر في هذه المهامه، والفكر في هذه المفاوز حيران وواله، وهل من مستبصر مستهدٍ يأخذ في هذه المضايق بالأيدي - إذ ورد كتابكم الكريم المستحق للاحترام والتعظيم والتفخيم، مسفرًا عما تحدو إليه الرغائب من الدعوة للاتحاد ونبذ ما هو بجانب، فانشرح البال وأسرعت إلى داعيك وحمدت الله؛ إذ كانت نسائم التوفيق تهب بناديك، متوكلين على الملك الجليل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وهل يرضى الله ورسوله إلا إذا كان المسلمون إخوانًا، يجاهدون في سبيله وعلى الحق أعوانًا، ولقد أخذنا وأخذتم بذلك، حتى حالت أمور قد ذكرتم لا حاجة إلى ذكر ما هنالك، وما ذكرتم من الهيئة فقد أرسلنا إليكم أخانا محمد يحيى ومعه جماعة يتوجهون إلى رجال (المع) [4] ولا تطمئن نفسه بالدخول إلى (أبها) فيتفق بجانبكم بأطراف (المع) الشام وتحصل المذاكرة، وإن شرفتم بالقدوم فحيهلا وسهلاً، وغيرنا وغيركم لا يكاد بهذه المقاصد أن يقوم، ولعلنا أن نكون السبب في كشف هذه المشاكل من جميع الوجوه في أقرب وقت عاجل، فترتاح الدولة في هذه الديار، بل في جميع الأقطار والأمصار، والأمور وإن تشعبت فإن مرجعها إلى الله، وبيده الحركة والسكون وهو أهل الكرم، حاشاه أن يخيب من وفقه للالتجاء إليه ودعاه، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، والسلام عليكم (ورحمة الله) وعلى من حواه المقام، ورحمة الله وبركاته في البدء والختام. ... ... ... ... ... ... غاية شوال سنة 1329. ((يتبع بمقال تالٍ))

الكتاب الذي أرسل إلى السيد الإدريسي من مأمور مفرزة ميدي

الكاتب: مأمور مفرزة ميدي

_ الكتاب الذي أرسل إلى السيد الإدريسي من مأمور مفرزة (ميدي) وهو جواب ما أرسله إليه السيد بالمسعدة [*] بسم الله الرحمن الرحيم إلى جناب السيد الجليل، رفيع القدر والمحل، السيد محمد بن علي الإدريسي سلمه الله، آمين. بعد مزيد شريف السلام مع التحية والإكرام تغشاكم على الدوام. اطلعنا على جوابكم المؤرخ في 23 شوال سنة 1329 والجوابات التي بباطنه نقل (صور) كتاب عزت باشا وكتاب الإمام يحيى الواردة منكم بواسطة السيد يحيى ابن موسى الرفاعي وقد أسرَّنا ذلك، وقد قرأناهم بين سادة وشرفاء ومأمورين وأعيان وجملة من الإسلام، وقد أخذنا نقل صور الجميع وعزمنا نرسلهم إلى محل رجوعنا الآستانة وعند ورود الجواب نعرفكم بكل حقيقة، وربنا يؤلف بين القلوب ويصلح ذات البين ويعيد الإسلام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والسلام. 26 شوال سنة 1329 ... ... ... ... ... ... ... مأمور مفرزة العسكرية بميدي ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل (المنار) قد رأى القراء كتاب سليمان باشا إلى السيد الإدريسي ورأوا ما فيه من الاستمالة باسم الإسلام، ورأوا كيف أجابه السيد بالقول والرغبة في الاعتصام، وقد علموا من كتاب السيد إلى الإمام الذي نشرناه في الجزء الماضي أن كتابة الباشا كانت خديعة، هكذا فعلوا وهكذا يفعلون: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 103-104)

المؤتمر العربي بباريس وحزب اللامركزية بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر العربي بباريس وحزب اللامركزية بمصر يبحث الأوربيون آنا بعد آن في خطرين وهميين يمكن عقلاً وفرضًا أن ينازعا دولهم في سيادة الأرض، وهما خطر الجامعة الإسلامية والخطر الأصفر. فرضوا احتمال رجوع المسلمين إلى الاعتصام بحبل الإسلام واسترجاع سيادته وقوته، ولو في بعض الممالك الإسلامية، واحتمال ارتقاء الأمة الصينية وقوتها في بلادها، فحملهم هذان الفرضان على أخذ الأهبة والتعاون فيما بينهم على إزالة ما بقي من ملك هاتين الأمتين واقتسام بلادهم ولو بالفتح السلمي الذي هو أرقى ما وصل إليه المبشر في الفتح والسيادة، وهو الفتح بالعلم والعقل والحزم والمال، تؤيدها قوة الأساطيل والجنود عند الحاجة؛ لأجل حمايتها وهيبتها. أما الشرقيون فتصخ نذر الأخطار آذانهم، وتفقأ أشباحها المزعجة أعينهم، وهم يتمارون بالنذر، ويتجادلون في مواضع العبر، وقد كانت الحرب البلقانية العثمانية آخر صدمة صدمت الشرق فأتت على آخر ركن للاستقلال في آخر مملكة مستقلة فيه أو كادت، وأهل هذه المملكة يتمارون فيما بينهم ويتجادلون ولا يعتبرون بما حل بهم ولا يزدجرون. من يحاول من الشرقيين عملاً ما لأمته فإنما يحاوله في آخر الوقت الذي يمكن فيه العمل أو بعد ذهاب الوقت، وقد كان يجب على الأمة العربية أن تهب من رقدتها، وتعمل لنفسها ودولتها، وتثبت لنفسها وجودًا تحترم به حقوقها وتعمر بلادها، إن لم أقل: إن هذا كان يجب عليها منذ تغلغلت السلطة الحميدية التدميرية في ولاياتها، وأنشأت تجهز الحملات العسكرية على معاهد القوة منها كاليمن، والحملات الإفسادية على الولايات الضعيفة كسورية. وإذ لم يفعلوا فليكن ذلك العهد عهد الإيقاظ والتنبيه، وعهد الاتحاديين الذي هو شر منه وأضر عهد الوحدة والعمل. رأى العرب من الاتحاديين ما رأوا من سفك دماء إخوانهم وتدمير بلادهم في اليمن والكرك وحوران، وإفساد ذات بينهم ومقاومة لغتهم في سورية والعراق، ورأوا أن هؤلاء قد أنشأوا يهدمون ما أبقى عليه عبد الحميد من ملك بني عثمان، ومع ذلك لم يزدادوا إلا أملاً ورجاءً في عاصمتهم البزنطية عاصمة الجهل والغرور، والخيلاء والإسراف والظلم والخيانة والتدمير، ولم نر العبر والكوارث المحدقة بهم والمنذرة لدولتهم قد أثرت فيهم تأثيرًا جمع كلمة أهل الرأي والبصيرة إلى العمل الواجب {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} (القيامة: 26-29) وظفرت جيوش البلقانيين بإخوانهم وأبناء دولتهم، وصارت مدافع البلغاريين تزلزل بِدَوِيِّهَا منازل تلك العاصمة، وتقلق بأصواتها سلطانها في مضجعه بقصر، ضولمه بغجه وصارت الأمم الأوربية، تتحدث بتصفية حساب المسألة الشرقية، وسُمع من باريس صوت مزعج يدعي لفرنسة حقوقا في سورية، ورؤيت المدرعات الفرنسية وغير الفرنسية تتهادى في المواني السورية وغير السورية، بعد هذا كله تحرك أهل الغيرة والإخلاص من العرب، وحاولوا أن يعملوا عملاً يحفظ بلادهم من استيلاء الأجانب عليها، وأن يصلح حالهم فيها، فكانت حركتهم هذه في آخر الوقت، إن لم نقل: إنها كانت أو كادت تكون بعد ذهاب الوقت. ماذا عملوا؟ ألَّف أهل الإخلاص والغيرة من السوريين المقيمين بمصر حزب اللامركزية الإدارية العثماني، فلم يجعلوه حزبًا سوريًّا ولا عربيًّا بل عثمانيًا عامًّا، وقام أهل ولايات سورية (بيروت والشام) والعراق يطلبون الإصلاح لولاياتهم على أساس وقواعد اللامركزية، وفي باريس مئون من العرب السوريين أهل العلم العصري والأدب والتجارة وطلاب العلوم العالية، أزعجهم صوت موسيو بوانكاره - رئيس وزارة فرنسة بالأمس ورئيس جمهوريتها اليوم - إذ قال في مجلس النواب: إن لدولته حقوقًا موروثة في سورية، وهم أول من سمع هذا الصوت في مركز قوته وعظمته، فأحسوا بالخطر على وطنهم الخاص وعلى قومهم ودولتهم، فأجمعوا أمرهم على أن يُسمعوا فرنسة وسائر عالم المدنية صوتهم المعبر عن إحساسهم ورأيهم في أمتهم ودولتهم، وكراهة افتياتها عليهم ومقاومة احتلالها لبلادهم، وأن يدعوا لمشاركتهم من شاء واستطاع السفر إليهم من أمتهم العربية، وهم يعلمون - كما يعلم كل عاقل خبير- أنه قلما يرحل هذه الرحلة إلا من يشتغلون بالمصلحة العامة من حملة الأقلام الأحرار، وأصحاب الأفكار، فتكون وظيفة المؤتمر الطبيعية أن يطلع العالم الأوربي على رأي جمهور كبير من العرب يمثل بطبعه نهضتهم، فيعرفوا حقيقة المسألة العربية التي أحدثتها جمعية الاتحاد والترقي في عالم السياسة، ولم تكن شيئًا مذكورًا إلا على ألسنة جواسيس عبد الحميد وأقلام مستغلي أوهامه، ولا شيئًا موجودًا إلا في خياله وخيال مبغضي العرب من ساسة دولته، وأن هذه المسألة لو وجدت في كتاب تاريخ السياسة قبل الآن لنجت الدولة بقوة العرب مما وقعت فيه من الخذلان والهوان. وقد رأى الداعون إلى هذا المؤتمر أنه يجب أن يكون لهم حزب يؤيدهم ويؤيدونه فانتسبوا إلى (حزب اللامركزية الإدارية العثماني) الذي أسس في مصر وجعلوا مؤتمرهم تابعًا له، وطلبوا منه أن يرسل إليهم وفدًا يكون أحد أعضائه رئيسًا للمؤتمر، فتلقى الحزب ذلك بالقبول واختار السيد عبد الحميد الزهراوي وإسكندر بك عمون لذلك، وسيكون أولهما رئيس المؤتمر. وقد تقرر أن تدور مباحث المؤتمر على المسائل الآتية: 1- مقاومة الاحتلال الأجنبي للوطن. 2- حقوق العرب في المملكة العثمانية. 3 - وجوب تغيير شكل الإدارة العثمانية الحاضر وجعله من نوع اللامركزية الإدارية؛ إذ لا يرجى صلاح المملكة بدون ذلك، ولا بقاء لها إلا بصلاحها كما تقتضيه سنة الله تعالى في الخلق، المعبر عنها في لسان العلم بالانتخاب الطبيعي وبقاء الأمثل. 4- المهاجرة من سورية وإليها. هذه المسائل هي أهم المسائل الاجتماعية الحيوية في المملكة العثمانية، وأكثرها قد صار حديث ساسة الدول وجرائد الأمم، ولو لم يوجد من العرب حزب ولا مؤتمر يبحث فيها لجاز لجميع الأمم والدول أن تعتقد أنه لا يوجد في المملكة العثمانية أمة تسمى الأمة العربية، وأن تصدق مغروري جمعية الاتحاد والترقي في زعمهم أن العرب ليسوا أمة ولا شعبًا فيحسب لهم حساب في إدارة المملكة العثمانية ومصالحها، وإنما هم قسمان: عرجلة أو عراجل من الوحوش في اليمن وبوادي الشام والعراق والحجاز ونجد ينكل بهم الجيش العثماني المظفر، وقطعان من الغنم في سورية ومدن العراق تتصرف بهم الحكومة المركزية بما تشاء من رعي ومن منع، وذبح وبيع. سيكون لحزب اللامركزية ولمؤتمره في باريس ولطلاب الإصلاح المبني على قواعد هذا الحزب في الولايات السورية والعراقية شأن عظيم في الآستانة وأوربة المسيطرة على الحكومة العثمانية، وإن كابر الحسَّ والنفس في ذلك زعماءُ جمعية الاتحاد والترقي واستعملوا سلطة الحكومة وألسنة المثقفين المنافقين المتزلفين لها وأقلامهم لتحقيرهما وتهوين أمرهما، وهي لم تحقر شيئًا إلا وعظم ولم تعظم شيئًا إلا وحقر؛ لأنها مخذولة من الله المتنكبة لسنته في خلقه وشرعه، كما ثبت بالتجربة مرارًا، ومن ذلك أنها تلبس الحق بالباطل فتصف الشيء بضد ما هو عليه، وتسلك إلى كل غاية الطريق الموصل إلى ضدها، فهي تأمر منافقيها بأن يذيعوا أن المؤتمر وحزب اللامركزية وطلاب الإصلاح يعملون بإيعاز من الأجانب ليمهدوا لهم طريق احتلال وطنهم، الأمر بالضد كما هو ظاهر وسيكون في المؤتمر أتم ظهورًا، كما توعز إليهم أن يقولوا: إنها تعمل لإحياء الجامعة الإسلامية، على حين نرى بعض كتابها ينشر في مجلة الشرق الإنكليزية مقالاً يحاول فيه إقناع الإنكليز وغيرهم من الأوربيين بأنه لا يوجد في المملكة أحد غير هؤلاء الفتيان من الترك يتجرأ على كسر القيود الدينية التي تقيدت بها الدولة العثمانية ويطلب إعانة أوربة لهم على ذلك. وجملة القول أن الحكومة الاتحادية قد أضاعت بجهلها وغرورها وخبث طويتها جميع الممالك العثمانية الأوربية والأفريقية، وهي تساوم أوربة على بيع منافع الممالك الآسيوية، وكل هذا من فساد الحكومة المركزية التي تجعل أمر الأمم والممالك في يد واحد أو آحاد، إذا فسدوا أفسدوا وأهلكوا الجميع، ولو كان للأمة صوت مسموع في مصالحها كالصوت الذي نسمعه الآن من حزب اللامركزية وطلاب الإصلاح لِما أمكن لهؤلاء وأمثالهم إضاعة الدولة. وهذا الصوت على كونه قد تأخر عن وقته لا بد أن تكون له فائدة ما، وأقلها أن تحسب أوربة له حسابًا فيما ستقرره في كيفية إدارة هذه الدولة؛ إذ فوضت الحكومة الاتحادية إليها أمر المملكة، بل ظهرت فوائد ذلك قبل تمام ظهوره، فبدأت الوزارة الاتحادية تستميل العرب بعض الاستمالة، ولولا أنها وجدت بهم بعض المنافقين يهونون عليها أمر طلاب الإصلاح لما تلبثت في قبوله إلا قليلاً. فإذا كان هذا السعي مفيدًا مع كون أمر الدولة في أيدي الاتحاديين أعداء العرب والإسلام، فكيف يكون نفعه إذا عجل الله انتقامه منهم ودالت الدولة للائتلافيين [*] والصباحيين دونهم؟ يومئذ يكون العرب شركاء الترك لا عبيدهم في هذه الدولة، فلا يكون أحدهما مظلومًا مع الآخر فيمقته ويخذله، ويقوم بناء إدارة المملكة على قواعد اللامركزية الثابتة، يومئذ يعض المنافقون على أيديهم يقولون: يا ليتنا اتخذنا مع حزب المصلحين سبيلاً، وخفضنا في إسرافنا في التملق للاتحاديين المفسدين ولو قليلاً. وجملة القول أنه قد ثبت قطعًا أن الدولة لا تستطيع حماية بلادها من الدول الكبرى إن أردن اقتسامها، وأن أمر اقتسامها منوط باتفاق الدول بينهن لا بطلب الأمة للإصلاح وعدمه، وأنه إذا لم يصلح أمر الأمة ويظهر استقلالها بشئونها الإدارية والاقتصادية، فإن بلادها ستكون غنيمة باردة للأوربيين، سواء احتلوها بالجند أم لا، وأنها لن تصلح ما دام أمرها كله بأيدي من يتغلب على السلطة في عاصمتها ولو بالثورة وسفك الدماء، فنسأل الله أن يأخذ بأيدي المصلحين ويكفيهم شر المستبدين والطامعين، آمين.

رحلتنا الهندية ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلتنا الهندية العربية (شكر علني لأهل عمان والكويت) شكرنا في الجزئين الأول والثاني لإخواننا مسلمي الهند حفاوتهم بنا وحسن ضيافتنا، ووعدنا بأن نشكر مثل هذه الحفاوة لإخواننا العرب الكرام في مسقط والكويت والعراق، وقضت كثرة المواد التي لا يمكن تأخيرها أن نرجئ الوفاء بهذا الوعد إلى هذا الجزء. سافرت من بمبي صباح الجمعة لتسعٍ خلون من جمادى الأولى للعام الماضي في سفينة إنكليزية قاصدًا مسقط عن طريق كراجي، وكنت حريصًا على السفر في إحدى بواخر الشركة العربية التي يديرها في بمبى مؤسسوها من أصدقائنا تجار العرب، وكان ذلك يسرهم أيضا، وقد تحدثنا به مع مدير الشركة الهمام الشيخ محمد المشاري في قصر الزعيم الكبير صديقي ومضيفي الشيخ قاسم إبراهيم فعلمنا أن انتظار مواعيدها يضيع عليَّ أيامًا كثيرة، وقد انتقلنا في ميناء كراجي إلى سفينة إنكليزية أخرى حملتنا إلى مسقط فوصلنا إليها ضحوة يوم الاثنين (12ج29 أبريل) وعندما رست كان قد وصل إليها زورق بخاري من السلطان الكريم السيد فيصل ملك عمان يحمل بعض رجاله لاستقبالي، وكان كلف من يعتمد عليه في بمبي أن يخبره عن سفري منها ببرقية يعرف بها موعد وصولي، فصعدوا ومعهم صديقي الفاضل السيد يوسف الزواوي، أكبر سادات مسقط بعد أسرة السلطان وأكبر تجارها قدرًا وجاهًا وشهرة، فعفرّف الجماعة بي، وبعد السلام نزلنا إلى الزورق فحملنا إلى رصيف قصر السلطان فصعدنا القصر وبعد السلام والمكث مع السلطان ساعة من الزمان ذهبنا إلى دار ضيافته التي أعدها لنا. وكان صديقنا السيد الزواوي أعد دارًا جديدة له على الطرز الحديث؛ لأكون فيها مدة وجودي في مسقط فنفس عليه السلطان ولم يسمح له بذلك. أقمت في مسقط أسبوعًَا كان يختلف إليَّ كل يوم وكل ليلة منه وجهاء البلد وأذكياؤه ويلقون الأسئلة الدينية والفلسفية والأدبية والاجتماعية، وزارني السلطان في دار الضيافة أيضًا ومكث معي عدة ساعات، وزرته في مجلس حكمه عدة مرات، وكان يلقي عليَّ في كل مرة الأسئلة المختلفة، وكان يكون معه في مجلسه أخوه السيد محمد وهو كثير المطالعة في الكتب، ولكنه لا يحب البحث في المجالس في كل ما يطلع عليه من المسائل، وقد عهد السلطان إلى كاتبه الخاص من أهل السنة الزبير بن علي أن يتولى أمر العناية بضيافتي، وإلى كاتبه الشيخ إبراهيم بأن يتعاهدني معه أيضًا. وأدَّب لي صديقي السيد الزواوي مأدبتين حافلتين، إحداهما في داره العامرة في نفس مسقط، دعا إليها علماء ووجهاء البلد، والأخرى في دار له بقرية سداب وهي على مسافة ميل من مسقط ذهبنا إليها بزورق السلطان في البحر، وعدت أنا ماشيًا مع بعض المدعوين برًّا؛ لأجل الرياضة ورؤية ثنية الجبل التي يسلك منها إلى مسقط المطوقة بالجبل. وقد دعا إلى هذه المأدبة مع وجهاء مسقط وجهاء القرى المجاورة لها، فأجاب الدعوة عشرات منهم، وكان الغرض من ذلك أن يسمعوا كلامي وتذكيري بآيات الله، وقد فاض معين السخاء العربي الهاشمي في هذه المأدبة على فقراء القرية الذين اعتادوا أن يعشوا إلى ضوء نار السيد الزواوي الذي هو مظهر لقول الشاعر: * ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا * فتراه بين مظاهر الكرم والنعيم، لا يغفل عن مراعاة ما يمكن تحصيله من فوائد العلم والدين، بنى لنفسه عدة دور فخمة جميلة في مدخل البلد على البحر وهو موقع غير واسع، يشارك هو فيه السلطان وقنصل الإنكليز في الملك، ويسكن في دار له فيه قنصل أمريكة، وبنى لله مسجدًا هو أنظف مساجد البلد وأزهاها، وقد جر إليه الماء بأنابيب الرصاص (المواسير) وجعل له عدة حنفيات، وعلى هذه الطريقة اقترح عليَّ يوم المأدبة الأولى وكانت للغداء في يوم الجمعة أن أعظ الناس في مسجده بعد صلاة الجمعة فأجبت، وكان من تأثير الكلام فيهم أن ارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب والنشيج، واقترح عليَّ أيضًا أن أتكلم وأذكِّر من يحضر المأدبة من الوجهاء والخواص فأجبت، ونجله الكبير الشيخ عبد القادر له ذوق في النظام وميل إلى الصناعة، وقد مد من دارهم في سداب إلى دارهم في مسقط مسرة تليفون فكانت هي الوحيدة في تلك القرية. وسافرت من مسقط ضحوة يوم الإثنين لتسع عشرة خلون من الشهر ومكثت في مجلس السلطان زهاء ثلاث ساعات من أول نهار السفر كان يلقى فيها عليَّ الأسئلة الكثيرة في العقائد وما يتعلق بها والأحكام الشرعية والاجتماعية والتاريخية، وتارة يشير إلى رجاله بأن يسألوا، وكانوا جميعًا يُسرون من الأجوبة، ثم نزلنا إلى البحر فودعني السلطان على رصيف قصره ونزل معي في زورقه البخاري جميع من كان ثَم من أنجاله الكرام وهم خمسة أكبرهم السيد نادر، ومعهم بعض كتابه وحاشيته ومن سوء حظي أن كان ولي عهده السيد تيمور مسافرًا فلم أره، وظل هو واقفًا على الرصيف حتى بعُد الزورق عنه، فودعته الوداع الأخير بالإشارة. ونزل معنا أيضًا صديقنا الزواوي ونجله السيد علي ابن عم السلطان وصهره وقد سافر معنا قاصدًا البصرة فرأيت منه رفيقًا تقيًّا نقيًّا صفيًّا. وقد مكث معنا أولاد السلطان والزواوي ساعة من الزمن في الباخرة ثم ودعناهم الوداع الأخير، وعادوا إلى مسقط موشحين بجلابيب شكري الخالص وودي الدائم، إن شاء الله تعالى (وسنصف مسقط ونتكلم عن حالة أهلها الاجتماعية في الرحلة) . جرت السفينة بنا من مسقط ظهر يوم الاثنين، وهي إنكليزية تقطع في الساعة 12 ميلاً فقط، وفي ضحوة اليوم الثاني خرجت بنا عن محاذاة جبال عمان ودخلت في الخليج الفارسي فصرنا نرى بر فارس عن اليمين وبر العرب عن اليسار، ووقفت بنا فجر يوم الخميس في موضع من عرض البحر كان ينتظرنا فيها مركب شراعي كبير أرسله إلينا الشيخ مبارك الصباح صاحب الكويت، وكان علِم بأننا نصل إليه في هذا الوقت في هذه الباخرة مما كُتِبَ إليه من بُمْبَي ومسقط، فنزلنا فيه قبل طلوع الشمس فأقلع بنا والريح لينة والبحر رهو، ثم قويت الريح قليلاً في النهار فبلغ بنا الكويت قبل غروب الشمس، وكان رجال الشيخ مبارك حملوا فيه خروفين كبيرين وكثيرًا من الحلوى والمشمش والخيار فأفطرنا وتغدينا فيه، وقد أعجبني جدًّا طبخ الطاهي الذي كان معهم للخروف بالرز الهندي وهو طاهٍ متفنن، وطبخ للعشاء ألوانًا متعددة لئلا نتأخر إلى الليل فبقيت للبحارة، وقد استقبلنا أولاد الشيخ مبارك وبعض الوجهاء في زورق صغير خارج الميناء. أنزلني الشيخ مبارك في قصره الجديد الذي هو قصر الإمارة وتولى مؤانستي ومجالستي في عامة أوقاته في مدارسة العلم ومراجعة الكتب حتى صار له مشاركة جيدة في جميع العلوم الإسلامية، وأقمت في الكويت أسبوعًا كنت كل يوم ما عدا يوم البريد، ألقي فيه خطابًا وعظيًّا في أكبر مساجد البلد فيكتظ الجامع بالناس، وكان يحضر مجلسي كل يوم وليلة وجهاء البلد من أهل التقوى وحب العلم يسألون عما يشكل عليهم من أمر دينهم، وأما الشيخ ناصر فكان يسأل عن دقائق العلوم في العقائد والأصول والفقه وغير ذلك، على أنه لم يتلقَ عن الأساتذة فهو من مظاهر الذكاء العربي النادر. ومما أحب أن أذكره هنا، وهو من مباحث الرحلة، مسألة علاقة مبارك بالدولة العثمانية والإنكليز، كنا نسمع المنافقين لرجال الدولة يصفون صاحب الكويت بالخيانة للدولة ويعيبونه بطلب حماية الإنكليز له، فسألته عن ذلك فقص عليَّ قصة سألت عنها بعد ذلك السيد رجبا نقيب البصرة مندوب الحكومة إليه فيها؛ فكان جوابه موافقًا لجواب الشيخ مبارك، ثم ذكرت ما قاله للشيخ فهد بك الهزال شيخ قبائل عنزه في العراق؛ إذ كنت في ضيافته على نهر الفرات مع صديقي مراد بك أخي محمود شوكت باشا فصدق ما قاله الشيخ مبارك، وزادني فوائد هو أعرف الناس بها. وملخص ما قاله الشيخ مبارك أنه في أواخر مدة عبد الحميد ساقت الدولة بعض العسكر مع عربان ابن الرشيد إلى قرب الكويت وأرسل المشير فيضي باشا السيد رجبا النقيب ومع نجيب بك ابن الوالي إلى الكويت، فبلَّغاه أنه قد صدرت إرادة سَنية بوجوب خروجه من الكويت إلى الآستانة أو إلى حيث شاء من ولايات الدولة، والحكومة تعين له راتبًا شهريًّا يعيش به، فإن لم يخرج طائعًا دخل الجند مع عرب ابن الرشيد وأخرجوه بالقوة، فسألهم ما هو ذنبه الذي استحق به النفي من بلده وعشيرته؟ وذكر نقيب البصرة بما يعرف من إخلاصه للدولة وإعانته لها بالمال عند كل حادثة وبما كان من محاربة سلفه وعشيرته لقبائل المنتفك المالكين للبصرة وإخراجهم منها وجعلها في حكم الدولة كما ملكهم هو وعشيرته بقوتهم الأحساء وغيرها، وطلب منه أن يعود إلى البصرة فيقنع المشير بمراجعة الآستانة. فقال: إنما علينا البلاغ وليس في يدنا غيره. قال: فخرجت من عندهما بقصد مشاورة أهلي، وكانت حكومة الهند الإنكليزية قد علمت بكل ما دبرته الدولة في ذلك وبمجيء عشيرة ابن الرشيد مع العسكر إلى جهة الكويت، فأرسلت مدرعتين فوقفتا تجاه البلد، فلما عُدتُ رأيتُ أميرًا إنكليزيًّا قد نزل من إحدى المدرعتين ومعه بعض الجند فسألني عما جرى فأخبرته الخبر، فقال: إن حكومتنا متفقة مع حكومة الترك على أن تبقى الكويت على حالها، لا يتعرضون ولا نتعرض لها؛ وإذ قد غدروا وخالفوا فقد صار لنا حق الدخول في أمرها، ولا يمكن أن نسمح لجندي عثماني أن يدخلها، وإذا دخلوا برضاكم دمرناها على رءوسكم ورءوسهم، ثم بلَّغ الأميرال ذلك لنقيب البصرة رسول الحكومة فقفل راجعًا وبلَّغ المشير ذلك، فأمر المشير بصرف الجنود والعربان، قال: فما كان من تدخل الإنكليز في أمر الكويت لم يكن بطلب مني بل كان هذا سببه. وقد عرضوا عليَّ أن أختار لنفسي راية أرفعها على البلد وأعلن الاستقلال تحت حمايتهم فأبيت ذلك، وهذه الراية العثمانية تراها كل يوم مرفوعة فوق رأسي. وقد تعجبوا من قولي لهم: إنني أختار أن أكون دائمًا عثمانيًّا، قيل لي: أتقول هذا بعد أن رأيت منهم ما رأيت؟ قلت: إن الوالد إذا قسا في تربية ولده أحيانًا لا يخرج بذلك عن كونه والده الذي تجب عليه طاعته. اهـ. وسأذكر في الرحلة ما أيد به نقيب البصرة وشيخ عنزة هذا الكلام؛ فليعتبر المعتبرون بإخلاص العرب للدولة على سوء معاملتها لهم. للكلام بقية

أخبار مختصرة مفيدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أخبار مختصرة مفيدة (الصلح العثماني البلقاني) كان الاتحاديون هم سبب اتحاد البلقانيين على قتالنا، وهم سبب إقدام الدولة على قتالهم، وهم المانعون لكامل باشا من عقد صلح شريف في الجملة وزعموا أنهم لا يذلون لأوربة وأنهم قادرون على الثأر من البلقانيين وحفظ شرف الجيش وإنقاذ ولاية أدرنة. وكان الأمر بالضد فذهبت أدرنة ويانية، وكل ما كان للدولة فيهما من السلاح والذخائر، ورضيت الوزارة الشوكية الاتحادية بعد هذا الذل والخسران بصلح فوضت فيه الأمر إلى أوربة بلا شرط ولا قيد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. (الشيخ قاسم إبراهيم في دار الدعوة والإرشاد) ألمَّ صديقنا المحسن الشهير الشيخ قاسم إبراهيم في هذا الربيع بمصر فأقام فيها أسبوعًا كان فيها محل التكريم من سمو أمير البلاد ووجهائها. ولما كان هو عضو الشرف الأول في جماعة الدعوة والإرشاد دعاه أعضاء مجلس إدارة الجماعة إلى شرب الشاي وما يتصل به في مدرسة دار الدعوة والإرشاد، وأعدوا لذلك مائدة حافلة شهدها مع الكثيرين من أعضاء الجمعية بعض كبار رجال العلم الديني والدنيوي يتقدمهم الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر وشيخ مذهب الشافعية وبعض كبار علماء الأزهر وعلي باشا أبوالفتوح وكيل نظارة المعارف وأحمد زكي باشا كاتب سر مجلس النظار، وقد سئل الطلبة أمام الحاضرين عدة أسئلة أحسنوا الجواب عن أكثرها، وطاف الشيخ قاسم مع ناظر المدرسة (صاحب هذه المجلة) معاهد المدرسة فأعجبه نظامها ونظافتها، وسُرَّ بهذا العمل الشريف الذي كان هو المتبرع الأول له. (اقتران صاحب المنار) في الليلة الثامنة عشرة من هذا الشهر بنى صاحب هذه المجلة على سعاد كريمة الشيخ حسن الصفدي، وبيت الصفدي في طرابلس الشام من بيوتات العلم التي امتازت بمكارم الأخلاق وطهارة الأعراق، فأسأل الله تعالى أن يجعله بناءً مباركًا وقرانًا ميمونًا {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .

إشكالان في حديث وآيتين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إشكالان في حديث وآيتين (س17 و18 من دمياط) بسم الله الرحمن الرحيم من مصطفى نور الدين إلى المصلح العظيم والرباني الحكيم، السيد محمد رشيد رضا، سلام عليك أيها الوارث لهدي النبيين، المجدد لما اندرس من معالم هذا الدين، المحيي لما أماته الناس من سنة خير المرسلين، سلام عليك وعلى عترتك الطيبين الطاهرين، وبعد، فقد عرض لي مسألتان من مسائل الدين، وأنتم - في نظري - أفضل من يوثق به في هذا العصر؛ فلذلك أجدني غير مرتاح إلا لما تقولون: الأولى: جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يدخل أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا) الحديث. فهل المشركون من المسلمين يشملهم هذا الخروج؛ لأنه يصدق عليهم أن في قلوبهم مثقال حبة من خردل من إيمان، وقد جعلهم القرآن مؤمنين وهم مشركون فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) فإنهم مؤمنون بوجود الصانع وبأن الله خلقهم، وخلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} (العنكبوت: 61) ولكنهم مشركون باتخاذ الشفعاء والتقرب إلى الوسائط من المقربين وتسويتهم برب العالمين في التعظيم والتوجه بالدعاء والالتجاء؟ أم لا يشملهم هذا الخروج ويكون حكمهم حكم الدهريين الذين ينكرون وجود الصانع؟ وإذا كان هذه الخروج يشملهم، فهل يشمل مشركي المسيحيين أيضًا؛ لأنهم مؤمنون بوجود الصانع، أو لا يشملهم حيث إن شركهم يختلف عن شرك المسلمين فظاعة وشناعة، فإنهم يعتقدون تعدد واجب الوجود؟ أما المشركون من المسلمين فلا يعتقدون بتعدد واجب الوجود؛ بل يعتقدون تعدد المستحق للعبادة، هذه هي المسألة الأولى، أرجو بيانها بيانًا شافيًا. المسألة الثانية: قد نشم رائحة الاختلاف في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوَهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} (الأعراف: 194-195) الآية. فإن الصدر يفيد أن المدعوين من دون الله عباد، والعجز يدل على أن المدعوين جماد، مع أن القرآن لا ريب فيه من رب العالمين؛ ولذا لا يوجد فيه اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) بل هو كتاب متشابه أي لا ينافي بعضه بعضًا بل يؤيد بعضه البعض كما قال منزله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} (الزمر: 23) فالرجاء أن تزيلوا هذه الرائحة الكاذبة وتثبتوا له رائحته الطيبة الحقيقية الصادقة. وإفادتي عن هاتين المسألتين إما أن تكون على صفحات مجلتكم المنار الشافية لما في الصدور وإما أن تكون بخطاب خاص، إن كان هناك مانع من الأول. وعنواني يكون هكذا: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دمياط ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى نور الدين حنطر ... ... ... ... حاشية تناسب هذا المقام إن بعض المشركين بل الغالب من أفرادهم يزعم أن جميع الآيات التي جاء فيها تقبيح الشرك وتوبيخ المشركين خاصة بالأصنام بمعنى الجماد مع أننا لو تتبعنا هذه الآيات التي جاءت بشأن الشرك والمشركين لوجدناها مصرحة بأن المشركين فريقان: فريق يدعو الأصنام المجعولة تماثيل لعباد الله المقربين. وفريق يدعو المقربين غير ناظر إلى التماثيل، فمما جاء في تسفيه أحلام الفريق الأول قوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} (الصافات: 95) {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (الأنبياء: 52) . ومما جاء في التشنيع على الفريق الثاني قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5-6) وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: 56-57) وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزاًّ * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِداًّ} (مريم: 81-82) وقوله: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النحل: 20-21) فهل يعقل أن الأصنام بمعنى الجماد تتصف بهذه الصفات التي وُصف بها المدعوون في هذه الآيات التي جاءت بشأن الفريق الثاني؛ إذ لا يعقل أن يتصف الجماد بالغفلة أو بضدها أو يتصف بالعداوة وضدها أو بالكفر وضده، ولا يتأتى أن تبتغي إلى ربها الوسيلة؛ وأن ترجو رحمته وتخاف عذابه، ولا يمكن أن تكون الأصنام بمعنى الجماد ضدًّا على المشركين يوم القيامة ولا يتصور أن يوصف الجماد بموت أو حياة أو شعور ببعث، فمن عنده أدنى مسكة من عقل يدرك أن جميع هذه الصفات لا تنطبق على الأصنام بمعنى الجماد؛ بل لا تنطبق إلا على المقربين من الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين الأولياء. اهـ. * * * جواب المنار عن حديث من يخرج من النار، والإيمان المنجي قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) وقال تعالى: {وَقَالَ المَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة: 72) وقال تعالى في سياق محاجّة إبراهيم لقومه في التوحيد والشرك {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك، وهو نكرة في سياق النفي يفيد أن الأمن من العذاب المقيم الذي أعده الله للمشركين خاص بمن آمنوا إيمانًا لا يشوبه شيء ما من الشرك، وإن كان مثقال حبة من خردل. وقد بينا حكمة ذلك في تفسير آيتي {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: 48) فراجعه في تفسيرهما من مجلد المنار الخامس عشر. فعلم أنه لا مندوحة عن حمل حديث البخاري المسئول عنه على ما يتفق مع هذه الآيات، وأن يراد بمثقال الخردلة من الإيمان فيه المثال للإيمان الخالص الذي لا يشوبه مثقال خردلة من شرك، وهو الذي يعتد به في النجاة وإن لم يترتب عليه ما يترتب على الإيمان الكامل من الآثار العملية والنفسية لأسباب منعت من ذلك، كأن يموت المرء عقب اهتدائه إلى التوحيد الصحيح فلم يتم في قلبه، ولم يترعرع إلى أن يكمل وتصدر عنه آثاره. فإن لم يكن هذا هو المراد بالحديث كان معارضًا لهذه الآيات، ولا يمكن ترجيحه عليها أو إرجاعها إليه والقول بأن مثقال حبة من خردل من إيمان مشوب بالشرك ينجي صاحبه من النار بعد دخولها ويجعله من أهل الجنة، ولم يقل بهذا أحد من المسلمين بل أجمعوا على أن الشرك بالله لا يغفر منه شيء، ومن تلوثوا به من المسلمين جنسيةً لا يسمونه شركًا بل يسمونه اسمًا آخر، إلا من لم يبالِ بلقب الإسلام كالباطنية بعد تكونهم شيعًا ذوات عصبية، ثم إنه لا يمكن جعل ذلك خاصًّا بأمة من الأمم، ولا شك أنه يصدق على مشركي العرب في زمن البعثة أنه كان في قلوبهم إيمان كحبة الخردل أو أعظم، وإنما المراد بحبة الخردل منتهى القلة؛ فإن القرآن شهد لهم بأنهم يؤمنون بأن الله هو الخالق الرازق، وفيهم نزل {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) والآيتان اللتان أوردهما السائل في سؤاله بعد هذه الآية، لا في المسلمين الذين يشركون كشركهم، فلو كان الإيمان بوجود الله مع اتخاذ شركاء بذلك المعنى منجيًا لكان مشركو العرب في الجاهلية ناجين حتمًا. أما حقيقة الشرك الذي لا يغفره الله تعالى، والذي حرم الله على صاحبه الجنة فهو مبيَّن في القرآن في مواضع كثيرة جدًّا، وينقسم إلى شرك في الألوهية بعبادة غير الله تعالى، ومخ العبادة وجوهرها الدعاء أي طلب الخير ودفع الشر في الدنيا والآخرة، وشرك في الربوبية باتخاذ بعض الناس شارعين يحلون لهم ويحرمون عليهم ويشرعون لهم ما لم يأذن به الله فيتبعونهم، وقد شرحنا ذلك مرارًا كثيرة في المنار في التفسير منه وغير التفسير. والمعطِّل المنكر لوجود الله تعالى لا يسمى مشركًا، ولكنه شر من المشرك، فإذا كان الله لا يغفر لمن يؤمن بأنه الحق الخالق الرازق إذا توجه إلى غيره معه ودعاه من دونه، ولو ليقربه إليه زلفى، فهل يغفر لمن جحده مطلقًا؟ ولا نرى وجهًا لتفرقة السائل بين الشرك باعتقاد تعدد المستحق للعبادة وتعدد واجب الوجود، فإن المسلمين مجمعون على أن المستحق للعبادة هو واجب الوجود، وواجب الوجود هو المستحق للعبادة، وهو الله تعالى، لا تصدق العبارتان إلا عليه تعالى، وإن اختلفتا في المفهوم، والعبارة الثانية من اصطلاحات المتكلمين تبعًا للفلاسفة، فما ذكره من الشرك واحد، والنصارى لا يقولون بتعدد واجب الوجود كما قال، ولكن لهم فيه فلسفة لا تعقل؛ وهي التوحيد مع التثليث، أما من يتوهم أن عند الله فرقًا بين المشركين باختلاف من أشركوهم معه في الدعاء أو غيره من خصائص الألوهية والربوبية فهو - كما يعلم السائل الموحد - جاهل أحمق؛ إذ العبرة بحقيقة الشرك لا بأصناف الشركاء، فلا فرق بين من أشرك به ملكًا أو نبيًّا، ومن أشرك به كوكبًا أو حجرًا أو شيطانًا، وفي مشركي المسلمين من أشركوا بالله بعض آل بيت نبيه بالعبادة والدعاء، ومنهم من أشركهم بالتشريع أيضا كأصناف الباطنية وآخرهم البابية، ومن هؤلاء من انسلخ من اسم الإسلام كما انسلخ من معناه، ومنهم من حافظ على انتحال اسمه مع لقب مذهب أو طريقة أو طائفة، ولو على سبيل التقية، ومنهم من أشرك من دون آل البيت حتى النبات والجماد على نحو ما كان عليه مشركو الجاهلية وغيرهم، فأما المحافظون على اسم الإسلام وشرائعه الظاهرة فما نزغ به الشيطان بينهم جهل يسهل على العلماء إرجاعهم عنه إذا بينوا لهم التوحيد الخالص من غير تأويل، وأما من ليسوا كذلك فقد صاروا أبعد عن الإسلام من كثير من الوثنيين الخُلَّص، وكل ذلك معروف. الجواب على تسمية الأصنام عبادًا لم ير أشهر المتقدمين من المفسرين إشكالاً في إطلاق لفظ عباد على الأصنام، فابن جرير الذي هو أشدهم عنايةً بتقرير كل ما كان يعد مشكلاً والجواب عنه، لم يورده في الآية وفسر العباد بالأملاك. وأما من بعدهم فقد أوردوا ذلك وأجابوا عنه. فالرازيُّ ذكر جو

ما الحكمة في الذبح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما الحكمة في الذبح؟ (س19) من صاحب الإمضاء بلوندرة سيدي الأستاذ العزيز صاحب المنار: طلب إليَّ أحد أصدقائي أن أنقل إليكم السؤال الآتي راجيًا منكم أن تتفضلوا بالإجابة عليه في المنار الأغر: ما هي الحكمة من الذبح؟ إذا كان الغرض عدم تعذيب الحيوان، فهناك طرق أوفق بكثير من الذبح الذي لا يخلو بلا شك من التعذيب حتى باستعمال أَحَدّ سكين، دع عنك أن الذبح يؤدي إلى تصفية أعضاء الجسم من الدم الذي هو مادة مفيدة للغذاء ومحتوية على الجزء الأكبر من الحديد. ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي لوندرة قي 13 مايو سنة 1913 ... ... ... ... بمستشفى سانت جورج (ج) ليس الذبح أمرًا ابتدأ الإسلام إيجابه على أهله؛ لحكمة فيها يطلبها أو فائدة يكلف الناس الانتفاع بها، وإنما جاء الإسلام والناس على عادات في أكل الحيوانات: بعضها لا علاقة له بالدين، وبعضها من تقاليده الخرافية، فمنع القسم الأخير ألبتة، وهو الذبح للأصنام ونحوها وعلى النصب تعبدًا وتدينًا. وحرم من القسم الأول ما يستخبث عند أصحاب الطباع السليمة ويستقذر، وهو على مهانة أكله مظنة الضرر، وهو الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، كما حرم تعذيب الحيوان بالوقذ وغيره، وأمر بالرفق والإحسان به بقدر الطاقة، وحرم الموقوذة - التي تضرب بغير مُحدد حتي تنحلّ قواهاة وتموت - فجعلها من الميتة، وكذا ما اعتاده بعض فقراء العرب الممتهنين من أكل فرائس السباع والنطائح وما يتردى في الوديان والحفر فيوجد ميتًا، إلا ما وقع من ذلك أمام أعينهم فأدركوا فيه حياة فأزهقوا روحه بأيديهم، فإن أكله ليس فيه من مهانة النفس وضعتها وتعريضها للضرر ما في أكل ما يوجد منه في الفلوات والوديان مترديًا أو مفترسًا مثلاً، ثم أباح لهم ما وراء ذلك مما لا مهانة فيه ولا مظنة ضرر وأقرهم على ما اعتادوا من أنواع تذكيته وصيده، فكانوا ينحرون الحيوان الكبير في لبته كالبعير والثور ويذبحون الصغير إذا قدروا عليه وإلا قتلوه بسهم أو حربة، ويأكلون ما صادوه بأيديهم ورماحهم وسهامهم ومَعَاريضهم وما صادته لهم الجوارح فجاءتهم به ميتًا، وتجد تفصيل ذلك في باب التفسير من هذا الجزء وما بعده مع النص بإحلال الإسلام له كله.

نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ـ 3

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية (3) تابع ما قبله ومما تقدم تعلم أن القول بقيامة المسيح لم يكن - كما يزعم المبشرون الآن- الحصن الوحيد الذي وقى المسيحية من السقوط، ولا كان محتمًا لإنقاذ التلاميذ من هاوية السقوط والقنوط. ومن أكبر ما حدث للنصارى بعد ذلك هو - كما زعموا - اضطهاد نيرون لهم سنة 64 ميلادية، وهذا الاضطهاد إذا سلم أنه وقع عليهم فهو بإجماع المؤرخين لم يكن سببه إلا سياسيًّا، أي اتهامه لهم بحريق رومية، ولم يكن لعقيدة قيامة المسيح أدنى دخل فيه (راجع أيضًا رسالة الصلب صفحة 140 - 142) بل ولا في أيِّ اضطهاد من الاضطهادات الرومانية العشرة الشهيرة من سنة (64 - 311 م) وإلا فلينبئونا مَن منهم أو مِن رسلهم قُتل فيها من أجل هذه العقيدة؟ فقول المبشرين أنهم إنما اضطهدوا لمجاهرتهم بالقول بقيامة المسيح، لا أساس له ألبتة من التاريخ، وإذًا فقولهم: إن النصارى إنما صبروا على كل ما أصابهم لوثوقهم من هذه القيامة، قد خوى على عروشه واندكت دعائمه كما لا يخفى؛ إذ لو لم يقولوا بها مطلقًا لأصابهم ما أصابهم، وهم قائلون بها ما داموا حزبًا ناميًا مخالفين لغيرهم في كثير من أفكارهم وآرائهم وشئونهم وسياستهم وأمانيهم وسائر أمورهم؛ ولذلك أصيب اليهود في بعض هذه الاضطهادات بما أصيب به النصارى؛ لاختلافهم أيضًا عن الرومانيين في مثل ما تقدم؛ فالقول بالقيامة وعدمها سواء بالنسبة لاضطهادهم وصبرهم عليه. وكيف نسلم صحة كل حكايات الاضطهاد هذه بعد الذي علمناه عن النصارى من المبالغات والتحريف والأكاذيب والزيادات؟ (راجع رسالة الصلب ص121 و140 - 142) . ومن الذي قال: إن جميع القائلين بعقيدة القيامة هذه كانوا كذابين وأنهم ما كانوا معتقدين لها في الواقع ونفس الأمر، وإن كانوا فيها واهمين؟ وما يدرينا أن أكثر الاضطهادات التي يحكونها كانت تحصل لهؤلاء المساكين الصادقين في عقيدتهم؛ إذ مثل هؤلاء هم الذين يندفعون عادة ويتعرضون للناس ويدعونهم إليها من غير أن يحسنوا السياسة معهم، والرؤساء من ورائهم يحرضونهم سرًّا ويشجعونهم طمعًا في نجاحهم ونكاية بخصومهم وهم عن الأذى بعيدون؟ وهل حصول الاضطهاد لشخص اعتقد شيئًا ما يدل على أن عقيدته صحيحة؟ مع أننا نرى كثيرًا من الناس يتوهمون شيئًا ويعتقدونه فينالهم أذى كثير في سبيل ذلك ولا يتحولون عنه، وما من دين في العالم أو أي مذهب إلا ونال أتباعه الأولين أذى كثير واضطهاد فظيع؛ فهل جميع الأديان والمذاهب صادقة وهي كلها متناقضة؟ ! ولنرجع إلى أصل موضوعنا فنقول: من العجيب أن بولس يذكر كل هؤلاء الأشخاص الذين أريناك حقيقة أمرهم ويترك ذكر مريم المجدلية وهي أول من قالت أنها رأت المسيح (يو 20: 18 ومر15: 9) ولها فضل السبق في الذهاب إلى القبر، وقد ذكرت الأناجيل الأربعة اسمها، وهي في الحقيقة البطل الأعظم لهذه الرواية، ومع ذلك لا يذكرها بولس، ويذكر أشخاصًا آخرين لم تذكرهم الأناجيل، فما السبب في ذلك يا ترى؟ السبب الأكبر في ذلك هو أن بولس - ككل العقلاء الحريصين - يرى أن شهادات النساء في مثل هذه الحلة لا قيمة لها وخصوصًا لأنها كانت امرأة مختلة العقل ومصابة بالشياطين كما تقول الأناجيل (لو8: 2) ولذلك قال بولس في النساء (1 كو 14: 34) : (لتصمت نساؤكم في الكنائس؛ لأنه ليس مأذونًا لهن أن يتكلمن بل يخضعن كما يقول الناموس أيضًا) وهو صريح في بيان رأيه في قيمة النساء عندهم خصوصًا في المسائل الدينية، وكذلك نرى أن شهادتهن ما كان يُعَوَّل عليها عند قومه اليهود حتى ما كانوا يقبلونها في محاكمهم، فلهذا ولعدم ضرورة التملق لهن لضعفهن وعدم الخوف منهن ترك بولس ذكر شهادة النساء في مسألة القيامة، مع أن شهادة مريم هذه عند النصارى هي أول شهادة وأعظمها في هذه المسألة. فمما تقدم يظهر لك شدة مبالغة بولس في هذه المسألة التي هي أصل دعواه، وأساس دعوته كما قال هو نفسه (1 كو 15: 14) وذكره أشياء فيها - سياسة منها كما بيَّنا - لم يذكرها أحد قبله ممن رأوا المسيح وشاهدوا أعماله، وهو مع ذلك لم يقل أنه رواها عنهم، بل قال في رسالته إلى أهل غلاطية (1: 17 - 19) أنه بعد إيمانه بالمسيح لم يصعد إلى أورشليم إلى الرسل بل ذهب إلى بلاد العرب ثم رجع إلى دمشق وبعد ثلاث سنين ذهب إلى أورشليم، ولم يقابل فيها أحدًا من الرسل إلا بطرس ويعقوب وجاء في سفر الأعمال (9: 19 و20) أنه كان في دمشق يكرز بالمسيح أي قبل ملاقاة الرسولين، فهل كان إذًا يكرز بقيامته أم لا؟ فالظاهر أن كرازته هذه وإخباره بمسألة القيامة والرؤية بعدها مبنية على دعواه لنفسه الوحي بها لا لسبب آخر، وهيهات أن يثبت ذلك له، ولذلك قال في رسالته إلى أهل غلاطية (1: 11 و12) أن إنجيله لم يأخذه عن أي إنسان، بل بإعلان يسوع المسيح، فهذه هي قيمة شهادته من الوجهة التاريخية فهو لم يكن راويًا شيئًا في هذه المسألة وغيرها عن تلاميذ المسيح باعترافه بنفسه [1] ! ! فمبالغاته السابقة في رؤيته هو وغيره للمسيح لا يعول عليها، فإن من يدعي ويقول لأهل غلاطية (في آسيا الصغرى) إن المسيح صلب بينهم ورأوه بأعينهم أمامهم مصلوبًا (غل 3: 1) لا يبعد عليه أن يقول ما شاء وشاء هواه. فإن قيل: إن المراد بهذه العبارة التي تشير إليها هو أنهم رأوا رسمه وصورته مصلوبًا [2] كما ترجموه في النسخ العربية، أو المراد تصويره لهم وصفًا وتعبيرًا. قلت: وما فائدة هذا الكلام إذًا وما قيمته؟ وأي حجة فيه على أهل غلاطية أو غيرهم الذين سماهم أغبياء؛ لأنهم خالفوه ولم يذعنوا له؟ وهل مثل هذا التصوير الكلامي أو الكتابي يكفي لإقناع الناس بمسألة الصلب أو بصدقه فيما يدعيه؟ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) ولماذا أضاعه النصارى إن كان مقنعًا للناس لهذه الدرجة؟ الحق والحق أقول: إن النصارى في دينهم واهمون، وعن طريق الصواب ناكبون، هداهم الله إلى الطريق القويم والصراط المستقيم. * * * تذييل للفصل السابق جاء في إنجيل يوحنا (يو20: 23) أن المسيح حينما قابل تلاميذه بعد قيامته من الموت قال لهم: (من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت) ومن لم يأت في عبارته هذه بقيد ولا شرط غير ما تراه فيها من تفويض الأمر كله للتلاميذ؛ فلنسأل هنا الأسئلة الآتية: 1- هل إذا غفروا لمذنب لم يتب تغفر ذنوبه أم لا؟ فإن غفرت فأين إذًا العدل الإلهي، وقد ساووا الطالح بالصالح بكلمة منهم واحدة؟ وأي فائدة للتوبة والاستقامة ما دام الأمر موكولاً لهم يهبونه لمن شاؤوا متى شاؤوا ولو لم يستحقه؟ وهل لا يحمل قول المسيح هذا - إذا صح - النفوس على ترك كل عمل من أعمال البر والتقوى، والسعي فقط فيما يرضي هؤلاء التلاميذ ونوابهم كالملق لهم أو دفع مال، أو غير ذلك، وترك ما يرضي الله تعالى ما دام الأمر في يدهم لا في يده تعالى؟ فأي إباحة للشرور والمفاسد أعظم من ذلك؟ وهل لا تُعذر النصارى الذين عبدوا هؤلاء القديسين من قديم الزمان بعد أن علموا - من نصوص كتبهم - أنهم يمكنهم أن يفعلوا بهم ما لم يفعله الله نفسه فيغفروا ذنوبهم ولو كانوا على العصيان والشر مقيمين؟ وأي قدرة أكبر من ذلك؟ وإن لم تغفر ذنوب المذنب إلا بالتوبة إلى الله والعمل الصالح فلمَ لم يشترط ذلك المسيح في عبارته هذه، وجعلها مطلقة كما ترى؟ وإذا اشترط ذلك فما تكون إذًا فائدة غفران تلاميذه؟ وأي فرق بين وجوده وعدمه؟ وما مزيتهم على غيرهم؟ وهل لا تكون هذه العبارة عبثًا ظاهرًا وقدرة موهومة أعطاها لتلاميذه؟ وكيف يصل علم هؤلاء التلاميذ إلى أسرار نفوس الناس والوقوف على حقيقة أمرهم حتى يعلموا إن كانت توبتهم صادقة صحيحة يستحقون لأجلها الغفران أم لا؟ فهل أصبحوا آلهة بكلمة المسيح هذه؟ فغفرانكم أيتها الآلهة، غفرانكم للعاصين مثلي، الكافرين بكم. 2- وإذا لم يغفروا لمذنب تاب ورجع إلى الله وحده، فهل يُغفر له أم لا؟ فإن غفر الله له فما حاجة الناس إذًا إلى طلب الغفران منهم؟ وكيف قال المسيح: (من أمسكتم خطاياه أمسكت) وإن لم يغفر الله له فكيف وعد التائبين (راجع مثلاً: حز 18: 21 - 24) بالغفران، ولم يشترط شيئًا آخر غير التوبة والصلاح في جميع كتب الأنبياء السابقين، أي حتى قبل عمل الكفارة المزعومة بصلب المسيح؟ فهل لم يعلم الله في تلك الأزمنة بأولئك الآلهة الذين أشركهم - بزعمهم - المسيح معه فيما بعد حتى استقل بالعمل وحده بدون مراعاة رضاهم على التائبين، فماذا يفعل إذا هم خالفوه في ذلك يوم القيامة؟ وكيف تكون التوبة قبل هذه الكفارة أسهل منها بعدها، فإنها كانت قبلها قاصرة على إرضاء الإله وحده، وأما بعدها فلا بد من إرضاء غيره معه وهم كثيرون؟ تعالى الله عما يشركون، وكيف لا يقدر الله الغفور الرحيم (مز 86: 5 وخر 34: 6) على الغفران بدون إذنهم حتى تكون مشيئته تابعة لمشيئتهم: أما مشيئتهم فنافذة - بمقتضى وعد المسيح هذا - كالسهام بحيث لا تقف أمامها إرادة الله نفسه، فهم إذًا أقدر منه تعالى وأولى بالعبادة دونه وأحق، فأي باعث على الشرك وعبادة البشر أكبر من ذلك؟ فالآلهة إذًا عندهم ليسوا ثلاثة فقط، بل هم كثيرون متعددون، فما معنى توحيدهم، وأي فائدة منه بعد ذلك؟ وأي ذل واستعباد للناس أكبر من ذلك؟ وأي مبادئ أشد حضًّا من مبادئهم هذه على استبداد رؤسائهم وطغيانهم وتصرفهم فيهم كما يشاؤون؟ وكيف بعد ورود مثل هذه العبارة في الأناجيل ينكر مبشرو البروتستنت الآن أن كل ما حصل في أوربا في القرون الخالية من مظالم رجال الكهنوت وغيرهم من رؤسائهم (انظر رو 13: 1 و2) وأكلهم من أموال الناس بالباطل ومفاسدهم واستبدادهم وسفك الدماء والمذابح العظيمة والشقاق الدائم بين فرق النصارى، وغير ذلك إنما هو كله كان من النتائج اللازمة لتلك المبادئ التي قررتها كتبهم التي يقدسونها إلى الآن. وكيف يعقل أن عبارة المسيح السابقة هي من عند الله؟ أليست هي مما اختلقته الشياطين ونسبوه كذبًا لعيسى عليه السلام، وهو منها ومن أمثالها - والله - لبريء [3] ؟ وإلا فكيف تتفق هذه العبارة مع قوله عليه السلام لمن سألته أن يجلس ابنيها واحدًا عن اليمنى وواحدا عن اليسار في مجده، قوله لها: (وأما الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلا الذين أعد لهم من أبي) . (راجع متى 20: 23 ومرقس 10: 37 - 40) فإذا كان هو نفسه لا يمكنه أن يعطي شيئًا إلا لمن أراده الله فكيف إذًا تعطي تلاميذه الغفران لمن شاءوا ويمنعونه عمن شاؤوا؟ إن هذا لأمر عجيب! وإذا كان النصارى يعتقدون قدرة التلاميذ على التصرف في الكون (مت 16: 19 و18: 18) وغفران الذنوب ودينونة الخلائق والملائكة يوم القيامة (1 كو 6: 2 و3) وأن كلمة أحدهم تنقل الجبال ولا يستحيل عليها شيء كما سبق (مت 17: 20) فأي شيء أبقوه لله تعالى بعد ذلك كله سوى عمله بحسب مشيئتهم وانقياده لأوامرهم ونواهيهم؟ وهل هذا هو التوحيد الذي جاء به عيسى وجميع الأنبياء قبله؟ وهل إلى هذا الشرك والوثنية يدعون المسلمين الموحدين ولا يخجلون؟ فأي عقل أسخف من هذا؟ ومن الذي جن حتى يقبل ذلك منهم؟ ومما تقدم هنا تعلم حكمة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك الزمن الذي بعث فيه، ومقدار حاجة العالم إليه وقتئذ، وحكمة إكثاره - قبل كل شيء - من الدعوة إلى التوحيد الحقيقي والتنزيه بعد أن امتلأ العالم كله بالشرك والوثنية والتشبيه والتجسيم، فهو إمام المصلحين وسابق المتأخرين منه

تاريخ الجهمية والمعتزلة

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ تاريخ الجهمية والمعتزلة [*] بسم الله الرحمن الرحيم هذا بحث جمع من تاريخ الجهمية والمعتزلة ما يحق أن يأخذ نفسه بتحققه من أُنعم عليه بشرف المنزلة، وفُضِّل بالأدب والعلم، والأخذ من الفنون بسهم. دعاني إلى العناية به ما رأيت - لما أفضت بنا النوبة في قراءة صحيح البخاري إلى كتاب التوحيد والرد على الجهمية - أن كلام الشراح عليه موجز، وأن ليس في الأيدي كتاب جمع تاريخهم وأحرز. جمعت ما تيسر من شئونهم، ثم أشفعته بطرف من أخبار المعتزلة لتوافق الفرقتين في معظم المسائل المعروفة عنهم، وفي تلقيب كلٍّ غالبًا بلقب الأخرى. كثر ما يمر بقارئ التفاسير وشروح السنة ومؤلفات أصول الدين والفقه ومطولات التاريخ وكتب المقالات، ذكر الجهمية والمعتزلة؛ ذلك لأنهما كانتا أول من ظهر من الفرق الإسلامية في صدر حضارة الإسلام بقواعد الأصول، والعمل على الجمع بين المنقول والمعقول، وفتح لأولي العلم بابالنظر والتأويلات، وانتصب للمجادلات والمناظرات، وزحزح الواقفين عند ظواهر الرواية، إلى منازل تأويل الدراية، وأشاع في الخافقين الآراء الغريبة في أصول الدين، وفي تأويل آيات الصفات في الكتاب المبين، بله ما اتفق لبعض الجهمية من إخافة أمراء زمانهم بالخروج على عمال بني أمية الظالمين، وإنكارهم لأعمالهم الجائرة، ونصبهم الحروب معهم الأعوام المتطاولة، رغبة في تحكيم الكتاب والسنة والتقرب من الشورى كما سنقصه، ولله أمر التاريخ فإنه {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} (الكهف: 49) . قد يُظن أنا نريد الكلام على الجهمية والمعتزلة من جهة عقائدهم ومحاكمتهم فيما لها وعليها، كلا، فقد حكاها أرباب المقالات والمصنفون في الملل والنحل، ما بين عادٍّ لها فحسب، وما بين عادٍّ ورادٍّ، وهكذا كبار المتكلمين، وجهابذة السلفيين، في مؤلفات لا يبلغها الإحصاء، لا سيما المطولات منها [1] . لا يزال الحوار بين هاتين الفرقتين ومن خالفهما غضًّا طريًّا كلما سنحت مسائلهم، وما أكثر سنوحها للمفسر والمحدث والمتكلم الأصولي، ذلك بأن مسائلهم متشعبة من وجوه ما يراد بالآيات والأخبار المأثورة في أبواب مسائلها، وهي مرجع المستدلين كل حين. نعم أشرنا إلى جمل من عقائدهم تتميمًا للمقصد من التعريف بأحوالهم، إلا أن المقصد هو سرد ما أورده المؤرخون من الحوادث التاريخية والوقائع التي جرت من جرَّائِهِم. وما عدا ذلك فإنما ذكر تكميلاً إيقاظًا واعتبارًا، ولا غرو فهذا البحث من المباحث الضافية الذيول، الواسعة الأنواع. وهذا تفصيل ما تضمنته المقالة في دائرة بحثين: البحث الأول: في الجهمية وفيه مطالب: 1- من هي الجهمية؟ 2- ذكر الجهم زعيم الجهمية. 3- خروج الجهم مع الحارث بن سريج على بني أمية، ودعوتهما إلى الكتاب والسنة والشورى. 4- مقتل الجهم بن صفوان والحارث بن سريج. 5- مَن وهِم في عام قتل جهم وسببه وتصحيح ذلك. 6- فلسفة جهم أو مذهبه في الأصول، وتأثيره في العقول. 7- مناظرة الجهم مع بعض السنية وإفحامه إياه، وما علق على هذه المناظرة. 8- تلقيب الجهمية بالجبرية. 9- التنبيه لما وقع من خلل النقل عن الجهمية وغيرهم. 10- تمثل الشعراء بمذهب الجهمية. 11- بيان أن مذهب الجهم متلقى عن الجعد بن درهم، وشيء من أنباء الجعد وقتله. 12- نبذة من أخبار خالد بن عبد الله القسري قاتل الجعد أستاذ الجهم. 13- حمل الأثرية على الجهمية والإغراء بهم. 14- رأي الأثرية في الجهمية. 15- رأي الجهمية في الأثرية. 16- تفريط الجهمية في السمع وسواهم في العقل. 17- بيان أن انقسام الناس إلى التجهم، يشبه انقسامهم إلى التشيع، وذلك ثلاث درجات. البحث الثاني في المعتزلة وفيه مطالب 1- التعريف بالمعتزلة. 2- سبب تلقيبهم بالمعتزلة. 3- تلقيب المعتزلة بالجهمية. 4- انتشار مقالة الجهمية بواسطة كبار المعتزلة. 5- ظهور دولة الجهمية (المعتزلة) في عهد المأمون ودعواه إلى مذهبهم وما جرى على أئمة الرواية في مسألة خلق القرآن. 6- أول من صنف من المعتزلة في محاجة الأثرية. 7- تلقيب المعتزلة بالقدرية وسبب التسمية بذلك. 8- أول من تكلم في القدر. 9- رجال الجهمية والمعتزلة (القدرية) ممن روى لهما الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما. 10- بيان أن الجهمية والمعتزلة لهم ما للمجتهدين. 11- شبهة الأثرية في اضطهاد الجهمية، والجهمية في اضطهاد الأثرية، لما دالت لكلٍّ الدولة، وفيه اعتذار بقلم الجاحظ. 12- ما نتج من تعصب الجهمية والأثرية، وبيان آفة الغلو في التعصب. 13- حظر الأئمة المحققين رمي فرق المسلمين بالكفر والفسق. 14- بيان أنه لا تضليل لمن أصاره اجتهاده إلى التأويل. 15- ما وصى به الأئمة من إطراح أقوال العلماء بعضهم في بعض، ومن التماس الحكمة أينما وجدت. هذا ما قدر جمعه على ضيق الوقت في بعض شهور، وراجعت لأجله عدة أسفار، واقتبست ألطف ما أُثر عن الكبار، ولم تكن موالاة البحث والتنقيب بأشق من العناية بالتنقيح والترتيب، بيد أن التذرع للحقائق يُستسهل دونه كل صعب، ولا لذة تضاهي لذة العلم والحكمة واستنارة القلب، والفضل لله سبحانه فيما هدى وألهم، فلا نحصي ثناء عليه، نسأله أن يعلمنا ما لم نكن نعلم. البحث الأول في الجهمية وفيه مطالب (1) من هي الجهمية؟ الجهمية: فرقة من فرق المسلمين، انتحلت مذهب الجهم بن صفوان الآتي ذكره في مسائله المدونة في كتب المقالات والكلام، ثم توسعت بعد ذلك شأن المذاهب كلها التي استفحل أمرها، وكثرت رجالها، وتفرعت مسالكها، وتنوعت مصنفاتها، ولم تك قبل على شيء منها، وقد يظن أنها أمست أثرًا بعد عين، مع أن المعتزلة فرع منها، وهي في الكثرة تعد بالملايين على ما ستعرف، على أن المتكلمين المتأخرين المنسوبين للأشعري يرجع كثير من مسائلهم إلى مذهب الجهمية، كما يدريه المتبحر في فن الكلام، والمُوازن بين أقوال هؤلاء وأقوال السلف، ولذا قلنا في المقدمة قبلُ: إن الخلاف بين الجهمية وغيرهم لا يزال غضًّا طريًّا كلما سنحت مسائلهم، ولعل لقب الجهمية غلب على المعتزلة من عهد المأمون كما سنوضحه. والله أعلم. (2) ذكر زعيم الجهمية وطرف من أنبائه الجهم هذا: هو ابن صفوان، من أهل خراسان، ينسب إلى سمرقند وترمذ، ومحتده الكوفة. ويكنى أبا محرز. وكان مولى لبني راسب من الأزد، أخذ الكلام عن الجعد بن درهم، وكان فصيحًا، اتخذه الحارث بن سريج التميمي أيام قيامه بخراسان كاتبًا له كما سنفصله، وكان يقص في بيت الحارث في عسكره وكان يخطب بدعوته وسيرته، فيجذب الناس إليه، وكان يحمل السلاح ويقاتل معه، وكان صاحب مجادلات ومخاصمات في مسائل الكلام التي يدعو إليها، وكان أكثر كلامه في الإلهيات. يقول بعض من أرَّخَه: لم يكن لجهم نفاذ في العلم، يعني بالعلم: علم الحديث والأثر، فإن الجمهور كان منكبًّا على تحمل الحديث وآثار الصحابة ومروياتهم، إلا فئة المتكلمين، وفي مقدمتهم الجهم وإخوانه، فلم يكن لهم عناية برواية الحديث ولا تحمُّله، وكانوا يرون العلم ما هم فيه من علم الكلام، ولذا كانوا يلقبون حملة الأثر بالحشوية، كما سيأتي. أول ظهور مذهب جهم كان بترمذ، فإنه أظهره فيه للملأ وأشاعه وحاور فيه، ثم أقام ببلخ، فكان يصلي مع مقاتل بن سليمان في مسجده، ثم نُفي إلى ترمذ، ولما اتصل بالحارث بن سريج لم يزل معه إلى أن قُتلا، كما سنفصله. هذا ما قاله الأئمة من مجمل حال الجهم بن صفوان كالإمام أحمد في كتاب الرد على الجهمية، والبخاري في كتاب خلق الأفعال، والطبري في تاريخه، والإمام ابن حزم في الفصل، وابن عساكر وابن الأثير في تاريخهما، وابن حجر في الفتح. قلت: ومقاتل بن سليمان الذي كان يصلي في مسجده الجهم، هو مقاتل البلخي المفسر المشهور، الذي قال فيه الشافعي: (الناس عيال في التفسير على مقاتل) . وحكى العباس بن مصعب في تاريخ مرو أن مقاتلاً كان يقص في الجامع بمرو، فقدم جهم إلى مقاتل، فوقعت العصبية بينهما، فوضع كل منهما على الآخر كتابًا ينقض عليه [3] . وعن أبي حنيفة رحمه الله قال: (أفرط جهم في نفي التشبيه، حتى قال: إنه تعالى ليس بشيء، وأفرط مقاتل في معنى الإثبات حتى جعله مثل خلقه) نقله الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال، وفي حكاية العباس بن مصعب ما يدل على أن الجهم كان من المؤلفين في مذهبه. (3) خروج الجهم مع الحارث بن سريج على أمراء بني أمية ودعوتهما إلى الكتاب والسنة والشورى يمر بقارئ حوادث المائة الثانية للهجرة النبوية أخبار عن الحارث بن سريج عجيبة تدل على حرصه على نشر العدل، وتحرقه من الظلم وأهله، ورغبته في العمل بأحكام الكتاب والسنة، وفي القضاء على سلطة الاستبداد وجعل الأمر شورى، وإن نصبه الحرب مع بني أمية، واتخاذه الجهم بن صفوان وزيرًا في بث الدعوة كتابة وخطابة، إنما كان لهذه المقاصد الحسنة. وملخص ما ذكره الطبري وابن الأثير وابن خلدون أن الحارث هذا كان عظيم الأزد بخراسان [4] ، وأنه خلع سنة (116) ولبس السواد، ودعا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والبيعة للرضا. وأنكر سيرة هشام بن عبد الملك وأعماله، ونزل الفارياب وأتى بلخ، واستولى عليها وأقام بها عاملاً، وسار إلى الجوزجان، وغلب عليها وعلى الطالقان ومرو الروذ. ثم أقبل إلى مرو بيضة خراسان في ستين ألفًا ومعه فرسان الأزد وتميم ودهاقين بلاد العجم. واقتتلوا مع أمير مرو قتالاً شديدًا، حتى انهزم أصحاب الحارث، ولم يبق معه إلا زهاء ثلاثة آلاف، ثم عاد الحارث إلى بلاد الترك، وأقام بها اثنتي عشرة سنة، ثم روسل بالعود إلى خراسان، فأخذ الأمان وعاد سنة (126) ولما قدم مرو لقيه الناس بكشمهين قال لهم: (ما قرت عيني منذ خرجت إلى يومي هذا، وما قرت عيني إلا أن يطاع الله) . قال ابن جرير الطبري: كان الحارث بن سريج يجلس على برذعة وتثنى له وسادة غليظة، ولما لقيه نصر بن سيار وأنزله أجرى عليه كل يوم خمسين درهمًا، فكان يقتصر على لون واحد، وطلق أهله وأولاده، وعرض عليه نصر أن يوليه ويعطيه مائة ألف دينار، فلم يقبل، وأرسل إلى نصر: (إني لست من هذه الدنيا ولا من هذه اللذات ولا مِن تزوُّج عقائل العرب في شيء، وإنما أسأل كتاب الله عز وجل والعمل بالسنة واستعمال أهل الخير والفضل، فإن فعلت ساعدتك على عدوك) . وقال الحارث لنصر: (خرجت من هذه المدينة - مرو - منذ ثلاث عشرة سنة إنكارًا للجور، وأنت تريدني عليه) . هذا كلام الحارث في مشربه نفسه، وفي رأيه في سياسة الشعب، وصدعه في وجوه إصلاحه، وبه يعلم منزلة عقله، ونبله وفضله، وغيرته وتقواه، رحمه الله. (البقية تأتي) ((يتبع بمقال تالٍ))

قانون جماعة خدام الكعبة

الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي

_ قانون جماعة خدام الكعبة تمهيد للمترجم: شغلني شاغل عن إتمام ما بدأت به من نقل (قانون جماعة خدام الكعبة) الذي أرسلت إليكم من قبل تمهيد المحامي الغيور المستر مشير حسين صاحب القدوائي له، وقد كان تأليف هذه الجماعة المباركة في طور التكوين، ثم تمخضت الآراء في هذه المدة عن هذا الجنين الميمون فبرز إلى الوجود صارخًا بدعوة أبناء الإسلام إلى كفالته والعناية بتربيته؛ ليشب في حجر الغيرة الإسلامية، ويترعرع في حضن الحياة الدينية، برز إلى الوجود فكفله رجال اتفق أغلب الناس على إخلاصهم في غيرتهم وصدقهم في إخلاصهم، وعلى اقتدارهم ولياقتهم وصبرهم وثباتهم. اجتمعوا لأول مرة فتذاكروا وتداولوا ووضعوا مواد القانون الأساسي وقرروا إجراءه والعمل به، وقد حلف بعض ذوي الغيرة اليمين ودخل في الجماعة طائفة صالحة، وقد نشر هذا القانون في العدد 72 من جريدة همدود اليومية الصادرة من دهلي في يوم الجمعة 16 مايو سنة 1913 مفتتحة بتمهيد صغير لا بأس بنقله وهو هذا: نزُفُّ في ذيل هذا إلى القراء أغراض ومقاصد وقواعد جماعة خدام الكعبة (ونريد أن نبين معه أيضًا أنه لأجل إلباس هذه الفكرة لباس العمل عقدت في 6 مايو سنة 1913 جلسة في منزل جناب المولوي عبد الباري صاحب اللكهنوي وبعد المباحثة والمداولة اتفق الحاضرون على قبول هذه القواعد المنشورة في هذه المراسلة، وقبل اختتام الجلسة حلف بعض الأشخاص يمين خدام الكعبة ودخل بمساعيهم في الجماعة إلى تلك الساعة عدد جيد. من الممكن أن يُعد بعض المحتاطين هذه الفكرة الحسنة بدعة، ولكن الحق هو أن هذا المشروع ليس بغرض جديد اخترعه (خدام الكعبة) لأنفسهم، بل هو جزء من دين كل نفس. إن أقوى وأكثر أسباب غفلة العالم الإسلامي اليوم عن أداء هذا الفرض الأولى الأهم هو أن المسلمين من بدء الإسلام وصلوا فاتحين وظلوا حاكمين ليس على جزيرة العرب وما جاورها من ممالك آسية فقط، بل على جزء كبير من أفريقية وأوربة أيضًا، وفي هذا الزمن المنحوس أيضا كان إخواننا الأتراك الذين تركوا آسية حكامًا على قطعة من أوربة، وكانوا متعهدين بخدمة الكعبة مع الاهتمام الكافي، ولا يزال جلالة السلطان المعظم يعد القيام بكنس الحرم المطهر من بواعث اليمن والسعادة، ولكن لما صرنا نرى السلطنة العثمانية قد زالت عنها تلك اللياقة التي كانت تقدر بها على المحافظة على حرم الكعبة بالقوة والضبط كالسابق بسبب الصدمات التي تتوارد عليها من سنين - صار من مقتضى غيرتنا الإسلامية ومحبتنا الدينية أن نحس بالغرض الذي تركناه خلف أظهرنا وأن ننضم قولاً وفعلاً إلى خدام الكعبة. فكل من يعطف ويتوجع لهذا المشروع المسعود المبارك من عظماء الأمة، وكل من يرغب في الدخول فيه فليراسل خادم الخدام أو معتمديه. وأخيرًا نريد أن نزيد أيضًا أن قواعد وضوابط خدام الكعبة عارضة يمكن ترميمها ونسخها في المستقبل باتفاق آراء الأعضاء وبالأغلبية، فكل من يوافق على ضرورة هذا المشروع وغرضه وغايته يمكنه أن ينضم إلى الجماعة بعد حلف اليمين، ويمكنه أن يعدل أو ينسخ كل قاعدة أو مادة لا يوافق عليها تمامًا، إن العمل لخدمة الكعبة وحرمتها غير محتاج في نفسه إلى بيان، ولكن العمل الذي يوضع فداء لبيت الله يكون نهرًا جاريًا بالفيوض يفيض منه المسلمون على كل مزرعة يريدون إرواءها لجعلها خضرة نضرة، إن شاء الله تعالى. * * * بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله محمد رسول الله دستور العمل لجماعة خدام الكعبة الحاجة إلى الجماعة: 1 - إن الاطمئنان الذي كان لنا من قبل على بقاء حرمة الكعبة وعزتها لم يبق الآن؛ فلذلك ولأجل بقاء حرمة الكعبة أسسنا جماعة خاصة بأبناء الإسلام باسم جماعة خدام الكعبة. الأغراض والمقاصد: 2- الغرض الأصلي لهذه الجماعة تمكين حرمة الحرم المحترم، والقيام بكل خدمة لأول مركز للتوحيد في الدنيا، وهو بيت الله الذي عمره إبراهيم خليل الله، وصيانته من أيدي غير المسلمين. 3- لأجل الحصول على هذا الغرض اتخذت (جماعة خدام الكعبة) هذه التدابير. (أ) يعد حماة التوحيد والبائعون أرواحهم للكعبة جماعة تصمم بقلوب صادقة على افتداء الحرم بالأرواح والأموال. (ب) يقومون بكل انتظام بتبليغ الإسلام الذي هو الخدمة الصادقة للكعبة، وبإرسال الدعاة إلى كل جهة من أقطار الأرض حيثما تدعو الضرورة وتقتضي الحال لنشر كلمة التوحيد وتوسيع إشاعتها. (ج) يتصدون لتأسيس ملاجئ للأيتام وفتح مدارس ابتدائية لأبناء الإسلام في كل موضع ومقام. (د) يسعون لتقوية وتكثير العلائق بين المسلمين وبين بيت الله الشريف، وبذل المساعي يومًا فيومًا في توسيع وتسهيل وسائل وذرائع الذهاب والإياب من الكعبة المعظمة وإليها. أعضاء الجماعة: 4- يمكن لجميع الناطقين بكلمة التوحيد، وكل أهل القبلة رجالاً ونساء أن يكونوا أعضاء لهذه الجماعة، ويقال لكل واحد منهم يدخل فيها (خادم الكعبة) . 5- يجب على كل خادم للكعبة أن يحلف وقت الدخول فيها بكل إخلاص أمام المسلمين واضعًا يده على القرآن المطهر ومستقبلاً القبلة يمينًا بالصيغة الآتية: أنا فلان ابن فلان أستغفر الله الحاضر لديَّ والناظر إليَّ والمطلع عليَّ وأتوب إليه من جميع المعاصي، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأعاهد الله بقلب صادق على أن أسعى بكل إخلاص لأجل إبقاء حرمة هذه القبلة، ويشير بأصبعه إليها، وأن لا أبخل بمالي وروحي على الكعبة وقت حمل الأغيار عليها، وأن أتبع أحكام وقواعد جماعة خدام الكعبة تمامًا إن شاء الله تعالى. 6- أما أولئك الخدام الذين يجعلون حياتهم وقفًا على خدمة هذه الجماعة والذين يقال لهم (عشاق الكعبة) فيكون تحليفهم بصيغة اليمين الآتية: أنا فلان ابن فلان بعد العلم باطلاع الله عليَّ أقسم مستقبلاً القبلة على أني أجعل حياتي نذرًا لله على خدمة الحرم المحترم، ومن الآن تكون حياتي وقفًا على خدمة الكعبة وبقاء حرمة الكعبة وتكون أحكام جماعة خدام الكعبة لي من أهم الفرائض وأشد الضروريات، وأكون مستعدًّا بقلبي وروحي لامتثالها بلا عذر ولا تأخير، ومتهيئًا للذهاب من فوري إلى أي قطعة من الأرض يرسلونني إليها لا يمنعني مشكل ما، ومع هذا الإقرار والعهد والميثاق أقسم مرة أخرى بديني وربي ونبيي وقرآني وشرفي وعزتي وأنضم إلى جماعة (عشاق الكعبة) . 7- يجوز أن ينضم بعض الأفاضل إلى (عشاق الكعبة) لمدة معينة، وبعد القسم باليمين المذكور أعلاه يكون متعهدًا بما تعهد به (عشاق الكعبة) . 8- نفقات (عشاق الكعبة) ، ونفقات أهلهم وعيالهم ومساكنهم تكون على ذمة جماعة خدام الكعبة، وهكذا تتعهد الجماعة بأداء جميع نفقات الخدم التي تفوض إليهم. 9- وتعطى هذه الحقوق أيضًا لأولئك العشاق الذين دخلوا في جماعة (عشاق الكعبة) لمدة محدودة ما داموا في عدادهم. 10- يجب على جميع الخدام أن يعلقوا في ثيابهم على صدورهم علامة من قماش أصفر هلالية الشكل تنقش فيها كلمة خدام الكعبة بحروف سود، ولا بد لكل عضو من تعليق هذه العلامة في كل جلسة من جلسات الجماعة التي يحضرها، وفي وقت كل خدمة يقول بها لها، إلا أنه يفرض على (عشاق الكعبة) أن تكون ملابسهم دائمًا أبدًا خضراء، وأن تكون عليها عدا علامة خدام الكعبة علامة عشاق الكعبة أيضًا، وتكون ملابس هؤلاء في بعض الجلسات الخصوصية عباءة خضراء معلقة عليها العلامتان. نظام الجماعة: 11 - نظام جماعة خدام الكعبة يكون بأيدي الحزب الأعلى من الجماعة الذين يقال لهم: (جماعة خدام الكعبة الأصليين) والذين تقرر أن يكون مستقرهم الآن في دهلي. 12- تتفرع عن هذا الأصل فروع عليا في كل ولاية من ولايات الهند، وفي كل إمارة إسلامية أو وثنية فيها ما تختاره جماعة خدام الكعبة الأصليين، ويسمى كل فرع منها باسم جماعة خدام الكعبة العليا لولاية أو إمارة كذا. 13- وفرع كل ولاية يؤسس في متصرفيات تلك الولاية فروعًا له يطلق عليهم اسم جماعة خدام الكعبة لمتصرفية كذا. 14- فرع كل متصرفية ينشئ فروعًا صغيرة له في المواضع التي يختارها من الفضوات والنواحي والقرى التابعة لتلك المتصرفية بعد تقسيمها إلى حلق ودوائر وينسب كل فرع منها إلى الحلقة أو الدائرة التي أنشئ فيها ويعبر عنها (بجماعة خدام الكعبة لحلقة أو دائرة.....) 15- يجب على هذه الفروع الصغيرة أن تنتخب لها منها وكلاء يمثلونها في الفروع المتصرفية التابعين لها ويتحتم عليهم الدخول في القسمين من الجماعة جماعة خدام الكعبة العام وجماعة عشاق الكعبة الخاص. 16- يجوز لفرع خدام الكعبة في كل متصرفية أن يبلغ عدد أعضائه من 15 إلى 20 عضوًا. 17- يجب على كل فرع كل متصرفية منفردًا أو مجتمعًا مع فروعه أن ينتخب عاشقًا يرسله إلى الفرع العالي من الولاية التابعة لها، وتجب عليه الإقامة في مركز الفرع. 18- يجب على كل جماعة أن تنتخب علاوة على الوكيل والعاشق مشيرًا من عامة الخدام لا يجب عليه القيام في المركز بل يلزمه حضور كل جلسة. 19- يجوز لكل فرع عالٍ أن يبلغ عدد أعضائه من 15 إلى 20 عضوًا. 20- يجب على كل فرع عالٍ أن ينتخب له وكيلاً من قسم (العشاق) يرسله إلى جماعة خدام الكعبة الأصليين وتجب عيه الإقامة في مركزها. 21- يجب على كل فرع عالٍ أن ينتخب على الوكيل العاشق (مشيرًا) من الخدام أيضا يلزمه حضور جلساتها ولا تلزمه الإقامة في مركزها. 22-لهؤلاء المشيرين من الحقوق في الجلسات ما لغيرهم من الوكلاء العشاق. 23- سيكون من الآن في جماعة خدام الكعبة الأصليين وكلاء من الولايات المذكورة أدناه وهي: أ- الهند الإنكليزية: 1- بنغال الشرقية. 2- بنغال الغربية. 3- بهار وأرويسه. 4- أود. 5- ولاية آجرة. 6- بنجاب. 7- ولاية حدود الهند 8- السند. 9- بومباي. 10- مدراس. 11- الولاية المتوسطة وبوار. 12- راجبو تانه ووسط الهند. 13- برما. ب - الإمارات الإسلامية: 1- حيدر آباد الدكن. 2- بهوبال. 3- رامبور. 4- جونا كره. 5- بهاول بور. 6- خبر بور السند. 7- تونك. ج- إمارات الهند الآخر: 1- كشمير. 2- ميسور. 24- ينتخب العضو لجميع جماعات (خدام الكعبة) لمدة سنتين فقط، لا فرق بين أن يكون من القسم الأعلى أو الأدنى من الجماعة الأصليين، أو من جماعات الفروع العليا في الولايات وغيرها. 25- يفرض على أعضاء جماعات خدام الكعبة الأصلية والفرعية أن ينتخبوا منهم رئيسًا يلقب بخادم الخدام، وذلك بعد الانتخاب العام الذي يكون على رأس كل سنتين تفوض إليه الإدارة العامة وتسلم له الصدارة العليا. 26- وتنتخب كل جماعة عضوين منها بصفة وكيلين أو معتمدين لخادم الخدام يكونان تابعين له في أداء الخِدم. 27- الفروع التي في المتصرفيات تكون تابعة لأحكام الفروع العليا في الولايات وهذه تكون تابعة لأحكام الجماعة الأصلية. 28- حكم الجماعة الأصلية يكون قطعيًّا ولا يعلوه حكم، ويُفرض اتباعه على كل واحد من الخدام. * * * بيت المال - مال الجماعة 29 - يؤخذ على سبيل الإعانة روبية واحدة في السنة من كل عضو لجماعة خدام الكعبة سواء كان غنيًّا أو فقيرًا من عامة الخدام أو من قسم العشاق الخاص حتى لا يُرى فرق في المساواة الإسلامية. 30- إن المبلغ الذي يجتمع من هذه الإعانات يقسم إلى ثلاث حصص متساوية وتتبع الطريقة الآتية في صرفها: أ- الحصة الأولى منها تعطى لتلك الحكومة الإسلامية المستقلة التي تقوم بالمحافظة على الحرم المحترم. ولكن بشرط أن تصرفها

السيد الإدريسي والحكومة العثمانية

الكاتب: يماني

_ السيد الإدريسي والحكومة العثمانية لصاحب الإمضاء ولد السيد محمد الإدريسي في بلدة (صبية) من أعمال العسير واسم والده السيد علي وجده السيد محمد وجد والده السيد أحمد الإدريسي رحمهم الله، وهذا هو الذي هاجر من المغرب منذ سبعين سنة تقريبًا إلى جهات عسير. اشتهر والد السيد الإدريسي وأجداده وجميع أفراد عشيرته بالصلاح والتقوى والعفة والاستقامة وخدمة الدين الحنيف والشريعة الغراء فأصبحت هذه الشريعة الكريمة موضع إجلال اليمانيين واحترامهم، واتفقت كلمة الناس على حب رجالها وسماع نصائحهم والرجوع إليهم في كثير من الشئون المهمة، وهذا من أهم الأسباب التي مهدت للسيد محمد سبيل الظهور في هذا المظهر، مظهر السيادة والإمارة. حفظ السيد محمد القرآن، وأخذ بعض العلوم والفنون على أساتذة يمانيين في صبية، وكان والده رحمه الله يمنعه من الاختلاط بالناس. ويقال: إن السيد الإدريسي لم يخالط الناس إلا بعد أن جاوزت سنه العشرين. ذهب السيد محمد إلى الأزهر في مصر وهو في سن الخامسة والعشرين فدرس فيه بقية العلوم والفنون مدة 7-8 سنوات ثم غادر مصر إلى السودان فلبث هنالك سنة وأشهرًا، ومنها عاد إلى جهات العسير حيث يقيم الآن. وهو اليوم في سن التاسعة والثلاثين، قوي البنية طويل القامة، صحيح الجسم، أسمر اللون، وعلائم الدهاء والذكاء والمتانة والرزانة بادية على وجهه. لا يخاطب السيد الإدريسي اليمانيين في خطاباته إلا بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ولم يَسْتَمِلْهم إليه ويمتلك قلوبهم ويتسلط على عقولهم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخدمة الدين والشريعة بالفعل، ومنع الغزو وإبطاله، وإزالة الشقاق والاختلافات القديمة من بين القبائل والعشائر، وإحقاق الحق وتطبيق العدالة والمساواة بين الكبير والصغير والرفيع والوضيع من الأهلين. نعم، إن السيد الإدريسي لم يستمل اليمانيين، كما زعم بعض الكاذبين المنافقين، باستعمال الفوسفور والكهرباء وغير ذلك من الاختراعات العصرية الجديدة التي لم ترها عربان اليمن بعدُ، قصد إقناعهم بولايته أو نبوته، بل استمالهم بالحجة والبرهان والمبادئ القويمة الصحيحة، ولم نسمع ونحن من صميم اليمن أن السيد الإدريسي ادعى هذه الدعوى أي الولاية، وما أشبه. اليمانيون يحبون السيد الإدريسي حبًّا كالعبادة، وينقادون له انقيادًا أعمى ويطيعونه طاعة زائدة، وينفذون أوامره بكل ارتياح، والسعيد منهم من يتشرف بمقابلته ويتبارك بتقبيل يده وركبته، كل ذلك ناشئ من شدة تمسكه بقواعد العدل والمساواة وتطبيقها بين جميع الطبقات، واعتبار الجميع واحدًا في القضاء والمعاملات. قبل أن يعود السيد الإدريسي من مصر إلى عسير كانت الفوضى في هذه الأنحاء منتشرة والأمن مفقودًا، والراحة مسلوبة والغزو كثيرًا، واعتداء القوي على الضعيف أمرًا مألوفًا، وكان الابن يخاف على نفسه من والده، والوالد لا يأمن على حياته من ولده، وكان الإنسان يجلس في الظلام ليلاً خوفًا من أن يراه عدوه إذا أنار المصباح فيطلق عليه الرصاص، وكانت الطرقات مسدودة لكثرة اللصوص وقطاع الطريق. والخلاصة: كانت الأهالي بأشد حالات الضيق من هذه الأحوال التي تسلب الراحة، ففرج الله عنهم بقدوم السيد الإدريسي إلى العسير حيث بدأ بنصح وإرشاد القبائل وشرع في نشر مبادئه وتعاليمه الدينية والمدنية بينهم، فاستمالهم إليه، وامتلك قلوبهم وجمع حوله منهم قوة، ثم أخذ بتطبيق أحكام الشريعة عليهم بدون محاباة ولا مراعاة، فأعدم المئين من الرجال الذين ارتكبوا جريمة القتل، وقطع أيدٍ كثيرة إقامة لحد السرقة، فاستتب الأمن، وبطل الغزو، وزال الشقاق، وحل محله الوفاق بين القبائل، ووقف القوي عند حده، وامتد رواق العدل والمساواة في تلك الأصقاع، فارتاحت الأهالي وأمنت على أرواحها وأموالها، وصاروا كلما ذكروا عذاب الماضي وقاسوه بنعيم الحاضر يتضاعف حبهم للسيد الإدريسي، وتزداد طاعتهم له وانقيادهم لأوامره وتقوى الروابط بينه وبينهم. أعدم السيد الإدريسي عددًا كبيرًا من كبار القوم الذين ارتكبوا جريمة قتل الأبرياء الضعفاء قصاصًا ولم يلتفت إلى علو كعبهم ورفعة منزلتهم بين قومهم، ولا إلى شرفهم وعظمتهم ونفوذهم، فلم يغضب لهذا الأمر إنسان لأنه عدل وحق. قاعدة السيد الإدريسي في الحكم والإدارة العدل، وهو عنده فوق كل شيء، وهذا مما جعل الرأي العام في جهات جزيرة العرب وفي جهات العسير منها خاصة يميل إليه ويحب خطته ويطري مبادئه ويثني على منهجه القويم. السيد الإدريسي لم يفاجئ الحكومة العثمانية بالعدوان ولم يعلن عليها الحرب في حين من الأحيان، بل كان الأمر بالعكس، فإن الباب العالي كان يصغي لأكاذيب ولاة اليمن وقوادها الجهلة المغرورين الذين كانوا يوسوسون له ويدسون الدسائس ضد الإدريسي فيأمر - أي الباب العالي - بتجييش الجيوش وتسيير الحملات على السيد فيضطر هذا إلى الدفاع فالهجوم فسحق القوات فحصار المدن والثغور فالاستيلاء عليها. في واقعة واحدة من الوقائع العديدة العظيمة التي حصلت بين رجال السيد وبين الجيش العثماني وهي واقعة جازان المشهورة، قُتل من الجنود العثمانية أكثر من أربعة آلاف عسكري، ولم يعرف عدد الجرحى، والتجأ قائد الجيش الميرالاي محمد راغب بك إلى السيد خوفًا من فتك الضباط به بسبب الخطأ الذي ارتكبه في هذه الواقعة على زعمهم. وبقي هذا القائد التركي عند السيد معززًا مكرمًا مدة سنة ونصف ثم فر هاربًا بدون أن يستأذن من السيد مع أن السيد كان تاركًا له الحرية في السفر أو البقاء، على باخرة إنكليزية كانت مرت بجازان. لما أعلنت إيطالية الحرب على الدولة العثمانية أخلت هذه في الحال ميناء جازان من العسكر ولم يتيسر لها لضيق الوقت ولقلة وسائط النقل أن تنقل إلى الحديدة غير الجنود فقط، وتركت السلاح والمؤنة والذخائر والخيام والبغال. تركت أشياء كثيرة كانت معدة لحملة عسكرية مؤلفة من خمسة وعشرين تابورًا، فاستولى السيد الإدريسي على ما تركوه ودخل جازان، وهي أعظم ميناء على السواحل اليمانية بعد الحديدة، ولا تزال في يده كما أنه استولى بعد ذلك على غيرها من المواني مثل ميدي وشفيق وحبل وبركة والفوز، وفي ميدي قلعة كبيرة مهمة أخذها الإدريسي بما فيها من المدافع والذخائر. ولقد تمكن السيد الإدريسي منذ نشبت الحرب بين الحكومة العثمانية وإيطاليا إلى الآن من جلب أكثر من مائة ألف بندقية وخمسين مدفعًا ونيف من درجات مختلفة أي كبيرة ومتوسطة وصغيرة؛ لأن الطليان كانوا أغرقوا وأسروا بواخر خفر السواحل العثمانية كلها فخلا للسيد الجو وانتهز هذه الفرصة الثمينة واستعد استعدادًا عظيمًا، ولديه الآن أكثر من عشرين مدفعًا من المدافع الكبيرة التي ترمي إلى مسافة 12-15 كيلو متر وهي موضوعة في الحصون التي أنشأها في السواحل الثغور التي بيده، وقد تعلمت الجنود العربية استعمال المدافع واستخدامها في الحروب، وبرعوا جدًّا في إطلاق القنابل، ولا يزال عند السيد عشرات من أفراد الجند وضباط الصف (الجاويشية) العثمانيين الذين أسروا أو التجأوا إليه في الحروب ومعظم هؤلاء من صنف المدفعية، وإذا أضفنا عدد المدافع التي أخذها السيد من جيوش الدولة في الحروب، والبنادق التي استولى عليها والتي كانت عند العربان من قبل إلى الأرقام السالفة الذكر يمكنا بلا مبالغة أن نقول: إن لدى السيد الإدريسي الآن أكثر من تسعين مدفعًا ومن مائتي (200) ألف بندقية جديدة من أحدث طرز، ومعظم البنادق الجديدة محفوظة مع ذخيرتها الكافية الوافية لوقت الحاجة في المخازن التي بنيت بصورة مخصوصة. في قبضة السيد الإدريسي الآن عدة مواني أهمها جازان وميدي وشفيق وبركة وحبل والفوز، كما ذكرنا آنفا، وفي كل ميناء منهن جمرك له عمال موظفون من قبل السيد لاستيفاء الرسوم الجمركية من الواردات والصادرات، والرسوم التي يتقاضاها السيد أقل من الرسوم التي كانت تأخذها الدولة. والتجارة كثيرة جدًّا بين هذه الثغور وبين عدن ومصوع؛ لأن هذه الثغور هي مواني قطعة العسير كلها وبعض جهات اليمن والحجاز، والسنابك [1] تروح وتغدو بينها وبين مصوع وعدن دائمًا، والأمن مستتب، والرشوة ولله الحمد مفقودة، والعدل موجود، والظلم معدوم، والتسهيلات متوفرة، والناس كلها ألسن مدح وثناء على السيد الإدريسي الذي أحيا هذه القطعة وأصلح شئون أهلها. ولقد انتشر نفوذ السيد الإدريسي كثيرًا من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب حتى السواحل بقدر ما قل وتناقص نفوذ الإمام يحيى، لأسباب لا محل لذكرها هنا. حتى إن كثيرًا من القبائل التي كان عليها معظم المعول عند الإمام يحيى أتت لعند السيد الإدريسي وبايعته ووضعت عنده الرهائن من أولاد زعمائها، وفي مقدمة هذه القبائل قبيلة حاشد العظيمة التي يقودها الشيخ ناصر بخيت. على رأس كل قبيلة من قبائل العسير قاضٍ وأمير من قِبل السيد الإدريسي، فالأول ينظر في الشئون القضائية، والثاني ينظر في الشئون الإدارية والحربية، ويجمع الزكاة الشرعية للسيد، والمخابرات الرسمية جارية بكمال الدقة والاهتمام بين المركز والضواحي. عند السيد الإدريسي وكيل اسمه يحيى زكريا وهو بمثابة رئيس الحجاب أو الصدر الأعظم، وأمين لبيت المال واسمه محمد يحيى وهو بمثابة ناظر المالية، وكثير من القواد وكلهم يحملون السيوف دائمًا ولهم شارات مخصوصة كل بحسب رتبته ومقامه. أرسل قائمقام لحية إبراهيم بك خليل بتاريخ 10 مارس سنة 1913 كتابًا إلى السيد الإدريسي يطلب فيه الإذن بمقابلته فأذن له فجاء وأخبر السيد بأن الوالي محمود نديم بك تلقى من الباب العالي أوامر تقضي بمخابرته بأمر الصلح وحسم المشاكل وفض الاختلافات التي بينه وبين الدولة، وسأله هل يقبل بفتح المفاوضات، فقبل السيد، فقفل القائمقام المذكور راجعًا إلى لحية وأخبر بذلك الوالي برقيًّا، فغادر محمود نديم بك ومعه القائد سعيد باشا صنعاء ووصلا إلى لحية في 27 مارس سنة 1913، وأرسلا كتابًا إلى السيد يطلبان فيه حضوره لثغر ميدي ليقترب منهما فأرسل السيد مِن قِبله هيئة لمخاطبتهما على رأسها أمينه محمد يحيى بخطاب يقول فيه: بلغوا كل ما تريدون لهذا الأمين وهو يوصله إليَّ حتى أعلم ما تريدون [2] . كانت مطالب السيد الإدريسي قبل ثلاث سنوات - كما ذكرها هو في كتابه إلى الإمام بسيطة جدًّا، أما مطالبه اليوم فهي لا تشابه تلك المطالب بوجه من الوجوه. ففي ذلك الحين لم يكن في يد السيد الإدريسي ثغر من الثغور البحرية وقد أصبح اليوم في قبضة يده عدة مواني كما تقدم في كل واحد منهن بضعة مدافع كبيرة تحميها. وفي ذلك الحين لم يكن قد وقع بين رجاله وبين الدولة سفك دماء، وكان ذلك قبل حرب الطليان وما تلاها من المصائب وحرب البلقان وما أعقبها من النوائب، وجملة القول أن كلاً من حالته وحالة الدولة لم تكن مثل ما هي الآن. يحق للسيد الإدريسي اليوم أن لا يرضى لما كان رضي به قبل ثلاث سنوات، ولم ترضَ به الحكومة العثمانية؛ لأن نفوذه خلال هذه المدة انتشر بين القبائل انتشارًا هائلاً، وأحواله انتظمت ورجاله تسلحت، وقبائله استعدت، وعساكره تعلمت وتمرنت على إطلاق القنابل واستعمال المدافع الكبيرة والصغيرة، وق

تفريط الاتحاديين بحقوق الدولة في خليج فارس والعراق والطرف الشرقي من جزيرة العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفريط الاتحاديين بحقوق الدولة في خليج فارس والعراق والطرف الشرقي من جزيرة العرب والتزلف بذلك إلى إنكلترة إن خليج فارس وشط العرب وبلاد العراق وما يتصل بها من البلاد العربية خير للدولة العثمانية من الآستانة وما يتصل بها من البلاد الأوربية، ولكن رجال الدولة وجمهور المتعلمين منهم في مدارس الآستانة مفتونون بعظمة القسطنطينية ومقامها التاريخي وموقعها الجغرافي ويعدون دولتهم ما دامت هنالك دولة أوربية، وإن لم يجنوا من هذا الموقع، وهذه النسبة إلا النكال والوبال، والسلاسل والأغلال، بل فقد الاستقلال وهم مع كل ما أصابهم من الشقاء والخسار في فتح هذه البلاد الأوربية، ثم في ترك معظمها لا يزالون يعدون بقاءهم في قطعة أرض منها على شفا من طرف مملكتهم علوًّا وعظمة، وإن كان على حد المثل العامي: علو ولو على خازوق. ولو عمرت الدولة تلك البلاد لكان لها منها ثروة تغنيها عن أوربة وتجعلها دولة آسيوية قوية عزيزة كاليابان بل أهم من اليابان؛ لأنها القلب الذي يصل الشرق بالغرب. من المعلوم بالضرورة من السياسة الأوربية الحاضرة أن الدول الكبرى انفرقن إلى فريقين عظيمين؛ بتنازع إنكلترة وألمانية الأولوية في سيادة العالم، وما أظهر هذا التنافس والتنازع بينهما إلا سكة حديد بغداد: التي منحتها الدولة العثمانية للألمانيين، فأقامت بذلك قيامة إنكلترة عليهما وحملتها على موالاة الروسية ومواتاتها على ما تريد من العثمانية ومن إيران، على معارضتها في إيصال الألمانيين سكتهم إلى شط العرب أو خليج فارس، فهذا الموقع العثماني العظيم الذي غير سياسة العالم القديم، وجر على العثمانية والإيرانية الرجز الأليم، لا قيمة له في نفس ساسة الآستانة، حتى كان من هوانه عليهم ما عهدت به جمعية الاتحاد والترقي إلى مندوبها حقي باشا الذي أعطته إضاعة طرابلس الغرب مهارة عملية، في إضاعة الممالك العربية، وذلك أنها أرسلته إلى أوربة ليستميل إليها الدول بما يبذله لهن من المصالح والحقوق في البلاد العربية العثمانية، تحقيقًا لقول من قال منهم لبعض أبناء العرب في الآستانة: إنا نبيعكم ونرقي أنفسنا بثمنكم. بدأ حقي باشا الماهر بأن بذل لإنكلترة منتهى ما تسعى إليه إنكلترة من زمن طويل في شرق البلاد العربية، بذل لها حقوق الدولة في شط العرب وخليج فارس وشرقي الجزيرة العربية، وهي تعمل عملها وتمد نفوذها في غربيها وجنوبيها لتحيط بها من جميع أطرافها، ووالله إنه لو بذل لها الآستانة وما بقي للدولة في أوربة كله واستبقى ما بذل، لما كان إلا باذلاً الذي هو أدنى ومستبقيًا الذي هو خير. وإننا قبل بيان ذلك ننشر نبذة لجريدة التيمس من مكاتبها في الآستانة عن مصالح إنكلترة في البلاد العربية وهي: كلام التيمس في حقوق إنكلترة في بلاد العرب: إن اهتمام إنكلترة بما يحدث في البلاد العربية لهو أعظم أهمية مما يتصوره الناس، فقد استولينا على عدن ولنا حق الحماية على كثير من الزعماء والقبائل في الداخلية فضلاً عن سلطتنا على أمير عظيم الشأن وهو سلطان لحج ولنا فوق ذلك نفوذ الحماية على ساحل البلاد العربية الجنوبي إلى عمان ومصالحنا أعظم من مصالح سوانا وهي مؤيدة بالمعاهدات. ثم إن زعماء العربان في ساحل القرصان على الخليج العجمي هم تحت حمايتنا، وتوجد علاقات خاصة بيننا وبين شيخ الكويت وهو عامل عظيم في سياسة الأعراب، وبذلك نجد أن نصف السواحل العربية كائن فعلاً ومباشرة تحت نفوذ إنكلترة؛ ولذلك قد تكون الأحوال هناك أحيانًا ذات أهمية خاصة لإنكلترة. أما عدن بالذات فإنها الآن في شغل داخلي شاغل فقد أدخل فيها مشروع جديد للضرائب، والغاية منه سد نفقات تحسين المياه، ومنع ذوي السوابق من الدخول إليها. هذا المشروع قد أحدث شيئًا من الانقسام والخلاف، وهناك مشروع آخر تحت النظر لإنشاء ترام بخاري من تواهي إلى الشيخ عثمان، أما تجارة عدن فلا تتقدم والمناظرة شديدة بينها وبين جيبوتي والحديدة ولا يتيسر لعدن الحصول على نصيبها من تجارة الداخلية إلا إذا وجدت المواصلات بينها وبين داخلية اليمن، والأحوال هناك ليست على ما يرام، فالقبائل في نزاع دائم إحداها مع الأخرى، وجميعها مع الأتراك، والقبائل الموجودة تحت حمايتنا تحارب القبائل الكائنة في آسية تحت حماية الدولة العثمانية، والجيش العثماني يحارب أتباع إمام صنعاء، وحقيقة الأمر أن الأتراك لم يستولوا فعلا على اليمن ولم يحسنوا الولاية على القسم الذي يملكونه. أما في الساحل الغربي الجنوبي فإن سلطان مكللا الكائن تحت حماية إنكلترة قد حارب أخيرًا في بلاد حضرموت وهو يزحف على خصومه على أنه لا يملك إلا ألف مقاتل؛ فلا أهمية لغزواته، والناس لا يعلمون شيئًا عما يحدث في داخلية البلاد العربية يوميًّا من الغزو والحروب والخلاف الدائم مع أن البلاد العربية أنجبت فيما مضى رجلاً حمل أتباعه السيف والدين فدخلوا القارات الثلاث ومع أنه لا ينتظر أن تنجب مثل هذا الرجل فيما بعد؛ فلا يبعد أن تكون عاملاً خطيرًا في سياسة العالم. وتكلم المكاتب عن الخلاف القائم بين ابن سعود وابن الرشيد وختم مقالته بقوله: لئن كان هؤلاء المتحاربون في ظاهر الأمر لا يهمون إنكلترة فربما استطاعوا يومًا ما بطرق مختلفة أن يؤثروا في مركزنا في خليج العجم المتصل اتصالاً تامًّا بسلطتنا على الهند. اهـ. هذا ما كتبته جريدة التيمس لسان حال حكومتها في إثر ما كتبته عن حقوق دولتها أو مصالحها في مصر، فهل تجهل حكومتنا العثمانية هذا أم تعرفه وتريد أن تحقق آمال إنكلترة وتنيلها مآربها في البلاد العربية في مدة أقصر مما قدره ساستها لذلك؟ وما هو حظ الدولة من ذلك؟ نحن نعلم كما يعلم كل واقف على السياسة وسير الأمم والدول أن الإنكليز قد مدوا أعينهم فأصابعهم إلى خليج عمان وخليج فارس وشط العرب والعراق منذ ثلاثة قرون، ولكنهم كانوا ينظرون إلى تلك المعاهد خلسة، ويحركون أصابعهم فيها خفية، وما زاد اهتمامهم في الأمر إلا توجه نابليون بونابرت الكبير الهمة الواسع الفكر والطمع إلى سلوك طريق الإسكندر المكدوني ووصل الشرق بالغرب، وإنما هو طريق العراق وذلك الخليج، ومنذ قضى دهاة الأرض وأقطاب سياستها على نابليون ومطامعه جميعًا طفقوا ينفذون مقاصده لأنفسهم بالتؤدة واغتنام الفرص كعادتهم، فاحتلوا مصر بعد إخراجه منها بنحو ثلاثة أرباع القرن. ويظهر أن دولتنا سهلت لهم أن يتمموا الأمر كله في مثل هذه المدة، وكان من حسن حظهم أن سياسة عبد الحميد الخرقاء مكنت لهم في أرض مصر ثم أرادت أن توجد لهم خصما قويًّا في العراق ومنفذه البحري إلى الهند فأعطت امتياز سكة بغداد للألمان وأضرمت نار العداء والتنافس بينهم وبين الإنكليز؛ لمعارضة هؤلاء في مدها ومشايعة الفرنسيين لهم؛ وبيد الفريقين معظم ثروة أوربة. وكانت الدولة العثمانية ولا تزال ترى أن حياتها متعلقة بتنازع دول أوربة الكبرى على المصالح والمنافع فيها، بل كانت محصورة في تنازع إنكلترة وروسية، فأزال هذا التنازع عبد الحميد بسوء سياسته ولكنه استبدل به التنازع بين إنكلترة وألمانية، فجاء بعده الاتحاديون فكانوا شرًّا منه وممن قبله وبعده سياسة؛ لأنهم بما عقدوه من الاتفاق في هذه الأيام بين مندوبهم حقي باشا والحكومة الإنكليزية قد أزالوا هذا التنازع أيضًا، فأزالوا به كل عقبة تحول بين الدول وبين اقتسام بلادهم، ويظن أعداء العرب منهم أنهم بذلوا أهم مواقع البلاد العربية وسلمت لهم الأناضول التركية، ولكن هيهات هيهات، إن عبد الحميد حفر اللغم تحت بلاد الأناضول، والاتحاديون وضعوا فيه البارود وأضرموا فيه النار. * * * وإننا ننشر الآن مواد الاتفاق بين إنكلترة وتركية ثم الآراء فيه، وهذه ترجمته: مواد الاتفاق بين إنكلترة وتركية 1- تعترف الحكومة الإنكليزية بحقوق الدولة العثمانية على قضاء الكويت. 2- تتنازل الدولة العلية عن إدارة شئون هذا القضاء الداخلية إلى حكومة إنكلترة وتعترف بالاتفاق الذي تم مع شيخ الكويت وما له أن لإنكلترة حق التصرف في مسائل الكويت الخارجية. 3- تتنازل الدولة العلية عن جميع حقوقها في جزيرة قطر وتفوض إلى إنكلترة إدارتها وإنشاء الفنارات والمحافظة على الأمن في خليج البصرة. 4- تكتفي إنكلترة بمد سكة الحديد إلى البصرة فقط، وتترك الحق في مدها إلى الكويت لإدارة سكة حديد بغداد، وإنما تطلب تعيين مديرين من الإنكليز في إدارة الشركة المذكورة. 5- يصادق لإنكلترة على امتيازاتها في نهري دجلة والفرات وعلى تأمين متاجرها في البلاد العربية، وفي رواية: ضبط الأمن فيه. 6- تؤلف لجنة مختلطة من العثمانيين والإنكليز لتسيير السفن وتطهير الأنهر وإنشاء الفنارات على شط العرب؛ وتكون الهيئتان: الفنية والتفتيشية، من أعضاء هذه اللجنة من الإنكليز الاختصاصيين. 7- تحفظ حقوق أمير المحمرة على المحمرة. 8- تسوى الحدود العثمانية الإيرانية في أقرب آنٍ. 9- تتنازل الحكومة العثمانية عن حق مراقبتها على القروض المصرية. هكذا ذكرت المواد في بعض الجرائد، وزاد بعضها حقوقًا أخرى لإنكلترة وأدمج في بعض المواد ما ذكر هنا في غيرها، ومن الزيادة ما هو فيه من قبيل الشرح والتفصيل كإدخال جزيرة البحرين أو جميع الجزر هنالك في دائرة نفوذ الإنكليز بحيث صارت جميع مغاوص اللؤلؤ في يدهم، وهي التي لم تقدر الدولة أن تستفيد منها شيئًا لجهل رجالها واحتقارهم للعرب واتخاذهم أعداء لهم. ومن الزايادات التي زادها بعضهم إطالة امتياز شركة بواخر لنش أولنج الإنكليزية في شط العرب والدجلة والفرات وبيع البواخر العثمانية لها حتى لا يبقى في مياه العراق للعثمانيين تجارة ولا بريد إلا وهو في قبضة الإنكليز، ومنها إعطاء حق استخراج المعادن وزيت البترول في العراق إلى شركة إنكليزية، ومن اطلع على ما جرت عليه إنكلترة حديثًا من استعمال زيت البترول في تسيير سفنها الحربيةِ يعلم أن البترول سيرتفع ثمنه وتكون تجارته من أهم تجارات الأرض. وجملة القول أن في شط العرب وخليج فارس والعراق وما جاوره من بلاد العرب من ينابيع الثروة ما لا يوجد مثله، ولا ما يقاربه في غيرها من بلاد الدولة، ولا بلاد غيرها؛ وناهيك بمكانة المكان الجغرافية والطبيعية والحربية والتجارية، فخليج الكويت القاحلة خير من خليج الآستانة، فإن سمي هذا قرن الذهب ولا ذهب فيه ولا فضة، فجدير بذلك أن يسمى خليج اللؤلؤ واللؤلؤ أثمن من الذهب. وقد وهبت الدولة حقوقها العظيمة في تلك البقاع البرية البحرية النهرية للإنكليز في مقابلة وعدها إياها بالمساعدة على زيادة رسوم الجمرك وما تبغيه من عقد الفروض وبيع الامتيازات والأراضي في أوربة واشتراء السفن ونحو ذلك، أعطت أثمن ما عندها نقدًا رجاء أن تُسَاعد نسيئة على شيء مبهم هو مهما عظم أحقر من أحقر ما بذلت! ! للكلام بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (جمعية بيروت الإصلاحية وقتل زكريا طباره) كان أول عمل عملته الوزارة الشوكية الاتحادية في البلاد العربية عزل أدهم بك والي بيروت وجعل حازم بك مكانه وبدأ هذا عمله بإقفال نادي الإصلاح وحل عقد الجمعية الإصلاحية التي تألفت وأنشئ ناديها بإذن رسمي من سلفه الوالي أدهم بك الائتلافي، ثم قتل أحد رجال جمعية بيروت الإصلاحية زكريا أفندي طباره اغتيالاً، وأشيع أن قتله كان بإيعاز من الوالي حازم بك فعظم الأمر على الناس، ولكن مدير الشحنة (البوليس) ومعاون المدعي العمومي (وكيل النيابة) قد نشر كل منهما في الجرائد بلاغًا رسميًّا كذَّبَا فيه ما أشيع من قتل الرجل بسبب سياسي أو إداري، وإيعاز خفي. أما سبب الإشاعة فهو ما اشتهر من أن هذا الوالي الاتحادي العريق قد اصطنع لنفسه زعنفة من الأشقياء الذين يعيثون في البلد فسادًا بالعدوان وتهريب السلاح والدخان، وما كان من أعضاء جمعية الإصلاح من حمل جميع أهالي بيروت على إقفال محلاتهم التجارية ومعاهدهم العمومية يومًا واحدًا احتجاجًا على عمله وإيذانًا له بأن الجمعية الإصلاحية تمثل وطنها حق التمثيل، وما كان من إرادته إجبار الناس على فتح البلد بواسطة الضغط على بعض طلاب الإصلاح ووقف بعضهم في دار الحكومة ومنهم زكريا أفندي طباره، وبذلك زيد الاعتصاب فأقفلت المدينة يومين آخرين، ثم إن الوالي بادر إلى إطلاق من وقفهم من رجال الإصلاح بشفاعة كبيري بيروت محمد أفندي بيهم وألفرد بك سرسق، وعلى إثر ذلك قتل زكريا أفندي طباره اغتيالاً في الطريق وهو ذاهب ليلاً إلى داره، فقيل ما قيل، ومنه أن الوالي أوعز إلى بعض الأشقياء بأن يقتلوا أحمد مختار أفندي بيهم وزكريا أفندي، واستحضروا بإذنه أحدهم - المحكوم عليه بالإعدام - من مرسيلية لأجل ذلك ووعده الوالي بعفو السلطان عنه. المعروف عند كل الناس أن جمعية الاتحاد والترقي جمعية ثورية وأن لها أفرادًا تسميهم الفدائيين أعدتهم لاغتيال خصومها، وقد اتهمت بقتل كثيرين من رجال الصحافة في الآستانة وغيرهم كحسن بك فهمي وأحمد بك صميم، وبعد أن أعلنت هي رسميًّا أنها تحولت من جمعية ثورية خفية إلى حزب سياسي فعلت فعلتها بهجوم بعض أشقياء رجالها على الباب العالي وقتل ناظر الحربية وغيره في دائرة الصدارة منه وإسقاط وزارة كامل باشا بذلك وإقامة وزارة محمود شوكت باشا مقامها، ثم إن هذه الوزارة الاتحادية لم تحاكم من قتلوا ناظر الحربية ومن قتل معه ولو محاكمة صورية، فإذا كان هذا أمرًا يعرفه جميع الناس من كل الأمم فكيف يستغرب ما أشيع بين الناس من كون قتل زكريا طباره كان جناية سياسية؟ إنما نحن ناقلون، لا مثبتون ولا نافون، وغرضنا من النقل العبرة والنصيحة فنقول للحكومة الاتحادية الحاضرة: إنك أمرت بمعاملة الجمعية الإصلاحية في بيروت بالشدة والقسوة، فهذه من جملة أعمالك المبنية على ما في مخاخ رجالك من النظريات التي نرى نحن أنها باطلة ومؤدية إلى ضد ما تريدين، وقد قلنا مثل هذا القول في غير هذا العمل من أعمالك، فصدق قولنا، وسترين صدقه في هذه المرة أيضا وفساد تلك النظريات، وأن هذه الشدة تنفع العرب الذين تريد الجمعية سحقهم ومحقهم ولا تضرهم، فإن الأمم لا تظهر قوة استعدادها إلا بالضغط عليها، فعسى أن تتدبر الحكومة والجمعية هذا القول فتبادر إلى الإصلاح بمنتهى السرعة والإخلاص. *** (أحوال مسلمي روسيا) افتتان بعض علماء التتار بعبد الحميد ورأيهم في سبب خذلان الترك حال شبانهم رأينا في مجلة (دين ومعيشت) التي تصدر ببلدة أورنبورغ في روسية ويتولى تحريرها بعض علماء التتار الجامدين على التقاليد المألوفة رأيًا غريبًا نشر فيها بإمضاء (زاري) تحت عنوان (لماذا انهزم الترك؟) فأحببنا أن ننشره لما فيه من العبرة، بافتتان الناس بالملوك وتأييدهم بنصوص الدين، وإن كانوا ظالمين، وهذه ترجمته: انهزم العثمانيون لأنهم استوجبوا غضب الله تعالى فلم ينصرهم؛ ذلك أنهم خلعوا سلطانهم الذي خدمهم 33 عامًا خدمة جليلة وحفظهم من ذلك الخذلان بحكمه فيهم حكمًا مطابقًا لرضاء الله تعالى! وأنهم لم يعرفوا قدره بل عزلوه عن منصبه وأسقطوه من عرشه وفرقوه من تاجه، فإن الله تعالى حرمهم من الأراضي الأوربية كلها وتركهم أذلاء في العالم تصديقًا لما قاله نبيه المحبوب صلى الله عليه وسلم لأمته وتفهيمًا لعصيان الأتراك إياه. روى الإمام الترمذي في باب ما جاء في الخلفاء الحديث الآتي: من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله. وهذا الحديث ليس مختصًّا بالسلطان التركي بل يشمل كل سلطان، إذا حقر الناس أي سلطان كان، فلا بد أن تهان أنفسهم ويجازوا عليه [1] الشبان العثمانيون أهانوا السلطان عبد الحميد، فالله تعالى جازاهم على ذلك، وأهان أنفسهم وتركهم في ذلة وشقاء، نعم إن الأتراك شبانهم وشيوخهم سواء في إهانة سلطانهم عبد الحميد بل لم يخل، عن هذه الإهانة العالم الإسلامي كله، ولكن السبب فيها هم الذين تركوا دين الله وراء ظهورهم، وأبوا الشريعة الإسلامية، ولم يخافوا الله تعالى. إن الذين أهانوا السلطان عبد الحميد ظهروا أولاً في سلانيك فالله تعالى أخذ سلانيك من أيديهم أولاً وأعطاها للآخرين. كان في مقدمة هؤلاء الناس الذين بغوا على السلطان عبد الحميد أنور بك ونيازي بك اللذان في قدمهما شؤم، فإن أحدهما جاء إلى بلاد الأرنؤوط بقدمه النحسة فذهبت تلك البلاد من أيديهم، وثانيهما قدم طرابلس الغرب فذهبت إلى الطليان بشؤمه، هذا الرجل المشئوم بعد ما رجع من طرابلس الغرب قدم البلاد الأوربية العثمانية فذهبت تلك البقاع إلى الحلفاء البلقانيين، حفظ الله من قدوم هؤلاء الناس المشئومين إلى بلاد الأناضول، فإذا وطئوها فلا شك حينئذ في ذهاب الأناضول أيضًا. إن العثمانيين مع ظهور جزاء الله تعالى فيهم لا يتفكرون في شؤمهم ولا يبحثون عن إصلاح أحوالهم، بل يمشون على أعقاب هؤلاء الناس، ويجعلونهم رؤساء فيُعَرِّضُون أنفسهم لغضب الله تعالى وقهره إذا هم لم يفيقوا من غفلاتهم ولم يتوبوا من قبائحهم ولم يطلبوا عفو السلطان عبد الحميد مقبِّلين يديه ورجليه فليس بعيدًا أن يأخذ الله تعالى منهم الخلافة والسلطنة بل هذا قريب جدًّا، تفكروا، أي أمة من الأمم إذا سئمت الشريعة التي بها قوامها وسخرت من طالبي هذه الشريعة ولقبتهم بـ (شريعت استرز) [2] وكرهت الشريعة كما يكره الارتداد بل ظلمت فوق ذلك أهل الدين منهم ولم تقف عند هذا الحد خوفًا من الله تعالى بل خوفًا من أوروبا فقط، فماذا يفعل الله تعالى بهذه الأمة؟ أليس قليلاً، ولو جازاهم بأي جزاء؟ لئن نسي الشبان العثمانيون ما فعلوا بعلماء الدين من الإهانة عند الانقلاب وبعده؛ فإن الله تعالى لا ينساه، فإنه يعلم أن قطرة من دماء هؤلاء الفدائيين في سبيل الدين لا تقابلها دماء ألوف من الناس المشئومين، وزد على ذلك دم ناظم باشا الغازي في سبيل الله في الانقلاب الأخير؛ وهذا يمنعهم أيضًا من التقدم إلى مدة طويلة، ودموع السلطان عبد الحميد وأحزانه في حبسه يكفيهم لإطفاء نورهم. وقى الله الأمة الإسلامية من شرورهم اهـ.

مقتطفات من جريدة وقت الروسية الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقتطفات أخرى من جريدة وقت الروسية الإسلامية (منع الحكومة الروسية الدخول في الإسلام) يروون أن غاوريلوف من قرية نيجينكه بولاية أورنبورغ طلب الإذن في أن يدخل في الإسلام هو وأهل بيته، ولكن جاء الرد من الوزارة الداخلية بعدم جواز الخروج من الأرثوذكسية إلى الإسلام (فلماذا لا تمنع دولة الخلافة الردة عن الإسلام؟) . (عناية روسية بتنصير المسلمين) إن القسيس واستورغف الذي أرسلته نظارة الأمور الروحانية (السينود) أتى مدينة طاشقند سعى مدة وجوده فيها في افتتاح مدرسة تبشيرية لتنصير المسلمين ومقاومة المذاهب المبتدعة الضالة من النصارى. (منع المسلمين من تأسيس مطبعة) وصل إلينا أن محرر وناشر مجلة (اقتصاد) استأذن والي ولاية سامار في افتتاح مطبعة إسلامية في بلدة سامار مركز الولاية ولكن الوالي لم يأذن له بذلك. (حرية المسلمين وانتخاب النواب) كان أحمد جان أفندي شريف من أعضاء البلدية دعا العلماء وبعض وجهاء البلد للضيافة في داره، ولما التأم شمل المدعوين وأراد صاحب الدار تقديم الشاي لهم جاء مأمور المركز ومعه عدة من الشرط فخاطب الحاضرين بقوله: قد وصل إلينا أنكم تجتمعون هنا لمداولة الأفكار في أمور الانتخابات للدوما، والاجتماع لأمثال هذا لا يمكن إلا بعد الحصول على الإذن فيه فأنا أنذركم به. ولما بيَّن له صاحب الدار أنه دعاهم للطعام لا لشيء آخر، كتب أسماء الحاضرين ثم راقبهم إلى أن تم الأكل، وكذلك كانوا قد وضعوا عدة من الشرط على الأبواب الخارجية وبعد أن تم الأكل وانتشر الضيوف ذهب المأمور وأعوانه. (مسألة الإعانة للهلال الأحمر) كان مسلمو أورنبورغ وقارغالي طلبوا الإذن من الوالي بجمع الإعانة للهلال الأحمر وكان الوالي وعد بمراجعة الوزارة الداخلية في ذلك، والآن جاء الجواب من بطرسبرج بعدم الإذن؛ لأنه لا يعد شيئًا مشروعًا في المملكة الروسية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (وقت. عدد 1013) كان قادر أفندي رحيف وأربعة من رفقائه من التجار طلبوا من وزارة الداخلية بالتلغراف منذ 13 يومًا الإذن بجمع الإعانة في أورنبورغ للهلال الأحمر والتزموا إنفاقها بواسطة قرينة السفير الروسي في الآستانة، وبعد انتظار الجواب أكثر من عشرة أيام من غير جدوى أعادوا طلبهم مرة ثانية وأرسلوا تلغرافًا في ذلك إلى بطرسبرج. ... ... ... ... ... ... ... ... (وقت. عدد 1070) قزان - نوفمبر 16: فتشت دار أمير خانف لاتهامه بجمع الإعانة للهلال الأحمر. إيركوتسكي (في سيبريا) : جمع المسلمون هناك (3256) روبلاً للهلال الأحمر أرسلوها إلى قرينة طرخان باشا السفير العثماني في بطرسبرج. سيواستوبول: بناء على الأمر من بطرسبرج منع متصرف سيواستوبول، قنصل الدولة العلية فيها من جمع الإعانة من المسلمين للهلال الأحمر. فلا يمكنه بعد الآن أن يجمع الإعانة إلا من تبعة الدولة العلية. ... ... ... ... ... ... ... ... (وقت. عدد 1074) كنا كتبنا في الجريدة أن مسلمي أورنبورغ طلبوا مرارًا بلسان البرق من وزارة الداخلية الإذن لهم بجمع الإعانة لجرحى الأتراك وإنفاقها بواسطة السفارة الروسية في الآستانة. وفي الأخير اهتمت ببرقياتهم دائرة الأديان الأجنبية غير الأرثوذكس وأخبرت نظارة الداخلية والي أورنبورغ بأنها سترسل الجواب في هذا الشأن عن قريب. ... ... ... ... ... ... ... ... (وقت. عدد 1075) ... من أخبار بخارى في الأيام الأخيرة أن المسلمين هناك أرادوا جمع إعانة للهلال الأحمر، وطلبوا الإذن في ذلك من الحكومة المحلية، فأطلقت حريتهم ولم يمنعهم مانع في أول الأمر من جهة نيابة الحكومة الروسية، ولكن جاء النائب بعد ذلك وأفهم الحكومة المحلية ضرورة إرسال نصف الإعانة إلى دول البلقان المحاربة للدولة فلم يرضَ المسلمون بذلك فتركوا جمع الإعانة. ... ... ... ... ... ... ... (جريدة وقت. عدد 1076) (حرمة شهر رمضان) عقد أئمة بلدة أورنبورغ جلسة فيما بينهم تحت رئاسة الإمام زاهد الله كاشيف وتباحثوا في المحافظة على حرمة رمضان المبارك أن تهتك بمناسبة مجيئه سنة بعد سنة وقت اشتداد الحر، وفي الأيام الطويلة ووجود المفطرين فيه أحيانًا بسبب ذلك، وأجمعوا على مراقبة آداب الإسلام في الأسواق والأماكن العمومية، فانتخب للقيام بما أجمعوا عليه عدة أشخاص عن كل حي من أحياء البلدة بعد استصدار الإذن به من الوالي. فإذا وجد في الأماكن العمومية من يسكر أو يأكل ويشرب في نهار رمضان يسلم حالاً إلى الإمام بمساعدة البوليس وهو يعظه ثم يسلمه إليه ليحبسه برهة من الزمن في مركز البوليس. وكذلك استصدروا أمرًا بإقفال حانات الخمر (المشروبات الروحية) ثلاثة أيام العيد. (إعطاء أراضي المسلمين لمهاجري الروس) وجد لجان المساحة في نظارة الأراضي والزراعة مقدارًا كبيرًا من أراضي القزاق ومسلمي تركستان زائدة عن حوائجهم فقررت أخذها للحكومة لأجل إسكان مهاجري الروس فيها. وهي: 4.950.000 فدان في متصرفية له بسي، و3.872.0000 فدان في متصرفية قابال و367.000 فدان في متصرفية جاركند و3.238.000 فدان في متصرفية آلماطا وكل هذه في ولاية يدي صو و5.107.000 فدان في ولايتي فرغانه وصردريا. (الفدان الروسي: 11 ألف متر مربع تقريبًا) .

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار قصص القرآن وكتب العهد القديم (س21) كتب إلينا الدكتور أخنوخ فانوس القسيس الإنجيلي القبطي سؤالاً مطولاً يبين فيه مخالفة بعض قصص القرآن كقصة داود وطالوت لما في أسفار العهد العتيق من تاريخ اليهود، ويعد هذا شبهة على صحة ما جاء في القرآن العزيز. وجوابه بالإيجاز أن القرآن منزل من عند الله وخبر الله تعالى أصح من أخبار مؤرخي اليهود، سواء منها ما تسمى مقدسًا؛ لاشتماله على أخبار الأنبياء كسفر القضاة وسفر الأيام، وما لم يسم مقدسًا كتاريخ يوسيفوس. وإننا نرى أهل ملة السائل يجيبون عما خالف العهد الجديد به كتب اليهود بأن كتبته ما كانوا يلتزمون عبارات تلك الكتب بل روح معناها، أما نحن المسلمين فلا ثقة لنا بلفظها ولا بمعناها ولا مزية لها عندنا على غيرها من التواريخ القديمة، والجديدة تفضلها ومع هذا نرى فيها كذبًا كثيرًا، فهل يُعَارض بمثلها كتاب الله المعصوم؟ *** متى يحرم الوقاع؟ (س 20) من صاحب الإمضاء بمكة المكرمة: ما قولكم - دام إرشادكم - في قول العلامة الفاضل، والقدوة الكامل، الشيخ إبراهيم الباجوري، رحمه الله تعالى رحمة واسعة في حاشيته على شرح العلامة قاسم الغزي المسمى (بفتح القريب في محرمات النكاح صحيفة 113 من السطر 20 ما نصه) : (أما التحريم غير الذاتي وهو العارض بسبب حيض، أو إحرام أو صوم، أو نحو ذلك) ما المراد منه وما معناه، فهل المراد أن الحائض أو الصائمة يحرم نكاحهما كما هو صريح كلامه أم لا، وقد أوهم بعضهم أن المراد منه يحرم نكاحهما حتى أفتى بذلك، بيِّنوا لنا بيانًا شافيًا وافيًا؛ لأن المسألة واقعة كل عام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... مستمد ... الدعاء ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بصري الصولوي ... ... ... ... ... ... ... ... ... المجاور بمكة المكرمة (ج) المراد بالتحريم هنا تحريم الوقاع لا تحريم عقد النكاح، والأمر ظاهر، ولذلك حذفنا ما أطلتم به السؤال من مقابلة كتب الشافعية بعضها ببعض.

نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ـ 4

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية (4) تابع ما قبله ولعل الحكمة في إرادة الله تعالى اختلاف آراء النصارى ومذاهبهم في عقائدهم وغيرها هذا الاختلاف المعروف قبل البعثة المحمدية هي إشباع العقول من كثرة البحث والتفكير [1] وتوسيع معلومات الناس وتكبير مداركهم وترقيتها بذلك حتى تتهيأ لقبول العقائد والتعاليم الإسلامية بعد تشويقها إلى معرفة الحقيقة وتطلبها الوقوف عليها إذا عرفتها، بعد هذا التعب الشديد والضلال عنها، وإن كانت سهلة كما هو شأن الحق دائمًا، عضت عليها بالنواجذ وما فرطت فيها الأمة المحمدية تفريط من قبلها كبني إسرائيل الذين أوحي إليهم الحق رخيصًا فلم يعرفوا قيمته. ولو ضلت الأمة المحمدية كلها عن الحقيقة وهي آخر الأمم لاحتيج إلى وحي جديد، ولكن أراد الله أن يختم بمحمد النبوة لارتقاء البشر في عهده وكفاية العقل والقرآن لهدايتهم؛ فلذا كان ما كان وصان القرآن. ولو أراد الله بقاء كتبهم للعمل بها إلى يوم القيامة كما يزعمون لصانها كما صان القرآن الشريف من التحريف والتبديل والضياع، ومع ذلك فقد أبقى الله تعالى فيها من العقائد الصحيحة والحكم والنصائح العالية ما فيه هداية للمفكرين، وما به إظهار كذب أهل الكتاب ودسهم على أنبيائهم ما لم يأتوا به وما لم يقولوه ولذلك تجد - إذا تأملت - ما دسوه قلقا مضطربًا لا يتفق مع تعاليم الأنبياء الأصلية كما سبق تفصيل بعض ذلك في هذه الرسالة، ولكن لا يدرك كل الناس الفرق بين الحق والباطل في هذه الكتب {وَلاَ يَزَالُونَ} (هود: 118) في أمرها {مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) وما الأديان في هذا العالم إلا كباقي الأشياء الأخرى قابلة للتبديل والتغير الذي به تسترد شبابها وقوتها، ألا ترى أن الأشجار مثلا تذبل وتسقط أوراقها كل سنة في زمن الشتاء حتى تصير كالميتة ثم إذا ذهب الشتاء انتعشت، وأورقت وأزهرت وأثمرت، وصارت أقوى وأبهج مما كانت، فلا يعيق ذلك الذبول المؤقت صحتها وقوتها بل تكتسب به شبابًا جديدًا في كل سنة، فكأنها تكتسب من الضعف قوة ومن الذبول والتغير صحة وشبابًا ورقيًّا [2] . فكذلك سنة الله في الأديان وغيرها فهي وإن تبدلت وتغيرت في بعض الأوقات إلا أن ذلك يكسبها قوة وتقدمًا ورقيًّا بنهوض العقل البشري للبحث والتفكر فيها، وبما يوحيه الله للناس من جديد فتعود إليها صحتها ويرجع إليها شبابها وتصير أحسن مما كانت بعمل الأنبياء والمصلحين الذين يكونون لها كالشمس والماء للأشجار. (راجع أيضا هامش صفحة 126 من هذه الرسالة) . هذا وإنما استعمل الله لفظ الأب في التوراة والإنجيل في حق الله ولفظ الأبناء في حق المخلوقين كما في (مت 5: 9 ويو20: 17) وغيرهما، إذا صحت رواية اليهود والنصارى، ولم يستعمل ذلك في القرآن؛ لأن الناس كانوا في تلك الأعصر الأولى ضعاف العقول حتى إنهم قل أن يفهموا شيئًا بدون ضرب الأمثال والتشبيه لهم؛ فلذا كثرت في كتبهم فلأجل أن يعرفوا أن الله رؤوف رحيم بهم محب لهم كما يحب الأب أبناءه بل أكثر، سماه أنبياؤهم لهم أبًا، وسموهم أبناءه، ولكن بعد زمن المسيح بقليل أي: بعد انقطاع الأنبياء فيهم الذين كانوا دائمًا يحذرونهم من الوثنية صار الناس يحملون كلا من لفظ الأب والابن على معناه الحقيقي وادَّعَوا (كما في كتابات يوستينوس الشهيد [3] المتوفى نحو سنة 166 ميلادية وغيره كثيرون) أن الله ولد الابن ولادة حقيقية أي أنه جزء خرج منه، وفهموا ما جاء في سفر المزامير (2: 7) ورسالة العبرانيين (1: 5) [4] [5] [6] [7] ونحوهما فَهْمًا خطأ، ولهم في ذلك سخافات اتصلت إليهم بعد أنبيائهم من الوثنيين والفلسفات الأجنبية كفلسفة سقراط وأفلاطون اللذين قالا بعقيدة الكلمة قبل المسيح بقرون كما اعترف بذلك يوستينوس نفسه في بعض كتبه، وإن كانت عقيدتها طبعًا أبسط من عقيدة النصارى المعروفة. وقد كان الرومانيون وغيرهم يعبدون بعض قياصرتهم في حياتهم ويألهونهم بعد موتهم (راجع ص44 من كتاب التوراة غير موثوق بها لمؤلفه Wslter Jekyll) وكانت عبادة البشر [8] وتأليههم شائعين في المملكة الرومانية، في ذلك الزمن كما يفهم أيضا من نفس سفر الأعمال (12: 22 و41: 11 و28: 6) فلما فشا في الناس ذلك المعنى الضار في الأب والابن بتأثير الوثنية أبطل الله هذه الاستعمالات المجازية في القرآن الذي هو آخر الكتب بعد أن حصل الناس على الغرض منها، وأصبحت لا فائدة فيها لهم سوى أنها قد تجر بعض سخفاء العقول كما جرتهم من قبل إلى الغلو فتوقعهم في الشرك والوثنية مرة أخرى بعد ختم الوحي والنبوة فلذا استبدلها الله تعالى باستعمالات أخرى أقرب إلى تصوير الحقيقة، وأبعد عن الضرر، وتكفي الناس في ذلك الزمن لفهم المراد ما كفتهم تلك في الأزمنة الأولى والبشر في طور الطفولية، فبين تعالى في كتابه العزيز أن الله رؤوف رحيم ودود لعباده وأنه يحبهم ويحبونه (قرآن 3: 31 و5: 54 و16: 18 و85: 14) وغير ذلك كثير وأنه وليهم (2: 257) وهم أولياؤه (10: 62) وبدأ كل سورة منه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) ، وبيَّن رسوله أن الخلق عياله وأنه أشفق عليهم وأرحم من الأم بولدها وبذلك ونحوه حصلوا على فهم ما فهمه الأولون من الأب والأبناء بدون أن يلحقهم ما لحق أولئك من الشرك والوثنية، فإن البشر في زمن البعثة المحمدية كانوا أرقى ممن سبقهم فكانت تكفيهم كما قلنا هذه العبارات لفهم المراد من محبة الله لهم بدون تشبيه ولا تمثيل، ولا تنس أن محمدًا هو خاتم النبيين لذلك تركت هذه الاستعمالات المجازية في القرآن لعدم حاجة البشر إليها في فهم المراد؛ ولأنهم إذا وقعوا بسببها في الوثنية تعسر إبعادهم عنها بعد ختم الوحي والنبوة. هذا وفي قول القرآن الشريف: {رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (المائدة: 119) وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) من التكريم الإلهي والتحبب واللطف ما لا يخفى على متأمل، فكأن الله تعالى {وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى} (الروم: 27) ساوى عباده به حتى صار يطلب رضاهم عنه وحبهم له كما يطلبون هم ذلك منه، وهو الذي بدأ - كما في هذه الآيات - بالرضا عنهم والحب لهم، فأي رفع لنفوس البشر وجذب لقلوبهم، بعد أن أماتها الشرك والوثنية، أكبر من ذلك؟ فهم وإن كانوا عباده إلا أنه لا يعاملهم معاملة السيد لعبيده بل معاملة الأخلاء بعضهم لبعض كما هو ظاهر من عبارات القرآن، وهي لا شك أدعى لرفع نفوس الناس وتشريفهم وجذب قلوبهم إلى الله تعالى من قول الإنجيل: (أبانا الذي في السموات) . فإن الفرق بين درجة الأب مع ابنه ودرجة النظير مع نظيره لا يحتاج لتوضيح. وقول القرآن: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) ليس كقول الإنجيل: (هذا إنه في السموات) ؛ إذ دلالة الأول على القرب لا تقارن بدلالة الثاني عليه، وشتان بين من يدعو الذي في السموات وبين من يدعو الذي هو أقرب إليه من حبل الوريد، وفرق بين النصراني الذي ينتسب إلى الله ويقول: إنه أبوه وبين المسلم الذي يتقرب إليه الله نفسه ويقول له: إني أقرب إليك من أجزاء جسمك الداخلية، ويخاطب نفسه بقوله: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر: 28-30) . أما قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة: 18) فليس المراد به إنكار تسميتهم أبناء الله بمعنى أحبائه بل المراد إنكار اختصاصهم بذلك، كما ادعت اليهود والنصارى [9] ، وبعناية الله بالوحي والنبوة والخير الأكبر، وغير ذلك دون سائر العالمين، فبيَّن تعالى لهم أنهم عنده كسائر الناس خصوصًا في زمن البعثة المحمدية التي ساوت بين جميع العالمين، وإن كانوا فضلوا في بعض الأشياء، وفي بعض الأوقات عن غيرهم إلا أن ذلك لم يكن لكل زمان ولا في كل شيء، ورد عليهم دعواهم المحبة لله بأنهم يعصونه، والمحب لمن يحب مطيع، فهم كاذبون أيضًا في دعوى محبتهم له، ولو كان لهم عنده مزية على غيرهم لما ساوى بين الناس جميعًا في العقاب الدنيوي والأخروي؛ ولذلك قال: {يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} (المائدة: 18) أي كباقي الناس، فالمراد أن الخلق كلهم عياله تعالى وأنه محب لهم جميعًا ولم يبق مزية لكتابي على جاهلي ولا لأبيض على أسود ولا لعربي على عجمي بل الكل عند الله سواء: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ويجوز أن مذهب وحدة الوجود كان فاشيًا في نصارى العرب ويهودهم كما كان فاشيًا في أسلافهم الأولين على ما بيَّنا في حاشية (صفحة 141) فيكون مرادهم بقولهم: إنهم أبناء الله أنهم مولودون أي أن مادتهم هي من ذات الله تعالى، فكذبهم القرآن في هذه الدعوى وبين أنهم مخلوقون محدثون هم وسائر الناس بقدرته وصنعه لا مولودون منه، فيجوز عليهم كل ما جاز على سائر الأحياء المخلوقة كالآلام والذل والعذاب وغيره، ولا يعقل أن الله يهين نفسه ويعذبها لو صح قولهم إن ذاتهم هي من ذات الله تعالى، بل له ملك السموات والأرض بالقهر والإيجاد لا بكونهما أجزاء منه، والوجه الأول عندنا أقرب إلى ظاهر الآية فإن المتبادر منها أن العطف في قوله: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: 18) هو للتفسير، فمقصودهم أنهم وحدهم أحب الناس إليه كأنهم أبناؤه؛ لأن ولد الإنسان أحب إليه من كل من سواه كما لا يخفى. واعلم أن الله تعالى منزه عن الانفعالات النفسية والجولات الفكرية والتأثيرات القلبية ونحوها من صفات الحوادث؛ فوصفه تعالى بالحب والرأفة والرحمة وغير ذلك هو أيضًا لا ينطبق تمامًا على صفاته القديمة، وإنما هي ضرورة التعبير ألجأتنا إلى هذه الألفاظ ونحوها لنفهم منها فضله علينا. أما الحب عندنا في جانب الله فمعناه [10] إفاضته الوجود، وما يلزم له من النعم العديدة التي لا تحصى على جميع المخلوقين ولو كانوا به كافرين مشركين ودوام هذا التفضل والإنعام على عباده المؤمنين إلى الأبد من غير أن يعود عليه تعالى أقل نفع له منهم جميعًا، أو أدنى فائدة ترتجى له؛ إذ هو الغني عن كل ما سواه، المفتقر إليه كل من عداه، فحبه تعالى يمتاز عن حبنا في كونه صفة أزلية له تعالى، وإن تعلق بالموجودات بالفعل في وقت وجودها فهو كباقي الصفات الأخرى، فإن تعلقها بالحوادث هو في غير الأزل مثل القدرة على الخلق، وأيضًا فحبه أكبر وأعظم ولا تشوبه أدنى شائبة من الحاجة إلينا أو المنفعة، كما قلنا، لا كالمعتاد الغالب في حبنا مهما خلص، وهو يشمل جميع مخلوقاته حتى أعداءه منهم بالمعنى الذي بيناه هنا، وهو دائم أبدًا لعباده المؤمنين الذين يمدهم بالخير العظيم والفضل العميم، والإحسان الكبير، ومن غير أن يكون شيء من ذلك واجبًا عليه تعالى بل هو كله محض فضل منه ورحمة، وأيضا فقد ينشأ عن حب بعضنا بعضًا شيء من الضرر كحب الأم الجاهلة لولدها حتى تمنعه من كل عمل فيه مشقة ولو كان نافعًا أو ضروريًّا

تاريخ الجهمية والمعتزلة

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ تاريخ الجهمية والمعتزلة [*] (4) مقتل الجهم والحارث وما أفضى من الوقائع إليه في سنة 128 ولي ابن هبيرة العراق، فكتب إلى نصر بن سيار بعهده على خراسان، وطلب البيعة لمروان بن محمد بن مروان، فأبى الحارث، وقال: إنما أمنني يزيد بن الوليد ولم يؤمني مروان، ولا يجيز مروان أمان يزيد فلا آمنه، فخالف نصرًا، فأرسل إليه نصر يدعوه إلى الجماعة وينهاه عن الفرقة وإطماع العدو، فلم يجبه إلى ما أراد، وخرج فعسكر وأرسل إلى نصر: اجعل الأمر شورى [1] فأبى نصر، وأمر جهم بن صفوان أن يقرأ سيرته؛ وما يدعو إليه على الناس، فلما سمعوا ذلك كثروا وكثر جمعه، وأرسل الحارث إلى نصر ليعزل سالم بن أحوز عن شرطته ويغير عماله، ويقر الأمر بينهما أن يختاروا رجالاً يسمون لهم قومًا يعملون بكتاب الله، فاختار نصر مقاتل بن سليمان، ومقاتل بن حيان، واختار الحارث المغيرة بن شعبة الجهضمي ومعاذ بن جبلة، وأمر نصر كاتبه أن يكتب ما يَرْضَى هؤلاء الأربعة من السنن، وما يختارونه من العمال، فيوليهم ثغر سمرقند وطخارستان. وعرض نصر على الحارث أن يوليه ما وراء النهر ويعطيه ثلاثمائة ألف فلم يقبل، ثم تراضيا بأن حكما جهم بن صفوان ومقاتل بن حيان، فحكما بأن يعتزل نصر وأن يكون الأمر شورى، فلم يقبل نصر، فخالفه الحارث وقدم على نصر جمع من أهل خراسان، حين سمعوا بالفتنة، وأمر الحارث أن تقرأ سيرته بالأسواق والمساجد وعلى باب نصر، فقرئت فأتاه خلق كثير، وقرأها رجل على باب نصر، فضربه غلمان نصر فنابذهم الحارث وتجهزوا للحرب. ودل رجل من أهل مرو الحارث على نقب في سورها، فمضى الحارث إليها ونقبه ودخل البلد وقتل من وقف في وجه جماعته، وانتهبوا منزل سلم بن أحوز، وركب سلم حين أصبح وأمر مناديًا فنادى: من جاء برأس فله ثلاثمائة، فلم تطلع الشمس حتى انهزم الحارث وقاتلهم الليل كله، وأتى سلم عسكر الحارث فقتل كاتبه، واسمه يزيد بن داود. وأسر يومئذ جهم بن صفوان فقال لسلم: إن لي وليًّا من ابنك حارث، فقال: ما كان ينبغي له أن يفعل، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأبرأك إليَّ عيسى ابن مريم ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، والله لا يقوم علينا من اليمانية أكثر مما قمت، فقتله. ثم غلب الكرماني على مرو، وخطب الناس فأمنهم، وهدم الدور ونهب الأموال فأنكر الحارث عليه ذلك، ثم أتى الحارث مسجد عياض وأرسل إلى الكرماني يدعوه إلى أن يكون الأمر شورى، فأبى الكرماني فانتقل الحارث عنه، ثم اقتتل معه حتى قتل الحارث وأخوه وعدة، وذلك سنة 128. هذا مجمل ما رواه الثقات في سبب مقتل جهم ومخدومه الحارث، وبه يعلم ما كانا عليه من الحرص على إقامة أحكام الكتاب والسنة، وجعل الأمر شورى، وإباء الانغماس في إمرة الظالمين، ورفض أعطياتهم والعمل لهم. ومن تأمل ما قص يعلم أن قتل جهم كان لأمر سياسي لا ديني، وقد صرح بذلك سلم رئيس شرطة نصر قاتله بقوله: (والله لا يقوم علينا من اليمانية أكثر مما قمت) فتفطن ولا تكن أسير التقليد. * * * (5) من وهم في عام قتل جهم وسببه وتصحيح ذلك قدمنا أن مقتل جهم كان عام 128 كما حكاه الطبري وغيره. وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: أسند أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة له أن قتل جهم كان في سنة 132 قال: والمعتمد ما ذكره الطبري أنه كان في سنة 128، وذكر ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري أن قصة جهم كانت سنة 130 قال: وهذا يمكن حمله على جبر الكسر، أو على أن قتل جهم تراخى عن قتل الحارث بن سريج ثم قال: وأما القول بأن قتل جهم كان في خلافة هشام بن عبد الملك فوهم؛ لأن خروج الحارث بن سريج الذي كان جهم كاتبه كان بعد ذلك. ولعل مستند القول به ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق صالح بن أحمد بن حنبل قال: قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى نصر بن سيار عامل خراسان: أما بعد فقد نجم قِبَلك رجل يقال له جهم من الدهرية فإن ظفرت به فاقتله. قال ابن حجر: ولا يلزم من ذلك أن يكون قتلُه وقع في زمن هشام، وإن كان ظهور مقالته وقع قبل ذلك حتى كاتب فيه هشام والله أعلم. ولا يخفى أن نبز هشام لجهم بأنه من الدهرية، في كتابه هذا - إن صح - إنما أراد به زيادة الإغراء بقتله، ليكون حجة له، وتمويهًا على العامة، ومن لا يدري حقيقة الأمر في هدر دمه. وقد علمت أن الباعث على قتله أمر سياسي محض؛ لأن جهمًا كان خطيب الحارث وقارئ كتبه في المجامع، والداعي إلى رأيه وإلى الخروج معه على بني أمية وعمالهم، لسوء سيرتهم وقبح أعمالهم وشدة بغيهم كما أثرناه قبل. ولا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل أن الدهرية لا يقرون بألوهية ولا نبوة. وجهم كان داعية للكتاب والسنة، ناقمًا على من انحرف عنهما مجتهدًا في أبواب مسائل الصفات فكيف يستحل نبزه بالدهرية، وهي أكفر الكفر، ومن هنا يعلم أن لا عبرة بنبز الأمراء والملوك من ينقم عليهم سيرتهم بالألقاب السوءى، والتاريخ شاهد عدل؛ وليس القصد التحزب لجهم والدفاع عن مذهبه وآرائه، كلا، فأنا أبعد الناس عن التحزب والتعصب والتقليد، ولكن الإنصاف يدعو أن يذكر المرء بما له وما عليه إذا أريد درس حياته ومعرفة سيرته، وذلك ما توخيناه هنا. * * * (6) فلسفة جهم أو مذهبه في الأصول، وتأثيره في العقول قد حَكَى مذهب جهم وفلسفته أربابُ المقالات والمصنفون في الملل والنحل، وكذا في كتب الكلام المطولة، وفيما صنف للرد عليه وعلى أتباعه الجهمية. مرجع فلسفته وخلاصة مذهبه: هو تأويل آيات الصفات كلها؛ والجنوح إلى التنزيه البحت، وبه نفى أن يكون لله تعالى صفات غير ذاته، وأن يكون مرئيًّا في الآخرة، وأن يتكلم حقيقةً، وأثبت أن القرآن مخلوق. هذه أشهر مسائل جهم التي يقال لها (مقالة الجهمية) وله من الآراء سوى ذلك، كالقول بنفي جهة العلو، والقول بالقرب الذاتي، وأن له تعالى مع كل أحد ذاتًا كما حكاه الرازي الحنفي في كتابه حجج القرآن عن الجهمية، وأورد أدلتهم من الكتاب والسنة فانظره. كان من أعظم شبههم في باب الصفات: اعتقاد أن ظاهرها يفيد التشبيه بالمخلوق أي أن ما يفهم من نصوصها يماثل ما يفهم من صفات المخلوق، فظاهر معناها التمثيل، وهو مستحيل فيجب التأويل. وقد رد عليهم: بأن الظاهر المفهوم لو كان المراد به خصائص صفات المخلوقين حتى يشبه المولى بخلقه، لما خالف أحد في رده ونفيه؛ لأن هذا ليس مرادًا بالاتفاق، للقطع بأنه تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، إلا أن هذا ليس هو ظاهرها، وإنما ظاهرها ما يليق بالخالق تعالى. وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا، والصفة تتبع موصوفها، فكما أن ذاته المقدسة ليست كذوات المخلوقين فكذلك صفاته. بهذا يقرب الأمر من رفع الخلاف [2] إذ الظاهر عند خصوم الجهمية غيره عندهم، فانفكت الجهة وللإمام ابن دقيق العيد تقريب آخر قرره في ذلك حيث قال: المنزهون لله عن سمات الحدوث ومشابهة المخلوقات بين رجلين: إما ساكت عن التأويل وإما متأول؛ ثم قال: والأمر في التأويل وعدمه في هذا قريب عند من يسلم التنزيه، فإنه حكم شرعي أعني الجواز وعدمه، فيؤخذ كما يؤخذ سائر الأحكام. إلا أن يدعي مدع أن هذا الحكم ثبت بالتواتر عن صاحب الشرع، أعني المنع من التأويل، ثبوتًا قطعيًّا، فخصمه يقابله حينئذ بالمنع الصريح، وقد يتعدى بعض خصومه إلى التكذيب القبيح بالمنع الصريح. اهـ. قال العلامة المقبلي في العلم الشامخ، بعد نقله ذلك - ونعم ما قال -: (وتقريب مسافة الخلف بين الفريقين كان يمكن بمثل هذين التقريبين وغيرهما، لولا تعصب الحزبين كما سنبينه في آفة التعصب) . وبالجملة فتأثير مذهب الجهمية في الأفكار، إنما كان تنبيها إلى التأويل، وسلوك منهج المجاز في تلك المسائل، وكان هذا الباب موصدًا قبلها، لا يطرقه أحد ولا يخطر له. ثم درج المعتزلة على أثر الجهمية، قال الغزالي في الإحياء، مشيرًا إليهم، فمن مسرف [3] في رفع الظواهر، انتهى إلى تغيير جميع الظواهر والبراهين أو أكثرها، حتى حملوا قوله تعالى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم} (يس: 65) وقوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} (فصلت: 21) وكذلك في الميزان والصراط والحساب ومناظرات أهل النار وأهل الجنة في قولهم: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ المَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} (الأعراف: 50) زعموا أن ذلك كله بلسان الحال ثم قال الغزالي: وأولوا من صفاته تعالى الرؤية، وأولوا كونه سميعًا بصيرًا، وأولوا المعراج وزعموا أنه لم يكن بالجسد، وأولوا عذاب القبر [4] ، وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر الأجساد، والجنة واشتمالها على الملاذ المحسوسة، وبالنار واشتمالها على جسم محسوس محرق يحرق الجلود. اهـ. * * * (7) ... ... ... مناظرة الجهم مع بعض السمنية ... ... وإفحامه إياه، وما علق على هذه المناظرة روي أن الجهم لقي بعض السمنية [5] الخصمين، فقال له السمني: أريد مناظرتك، فإن ظهرت حجتي عليك دخلت في ديني، وإن ظهرت حجتك دخلت في دينك، فكان مما كلم به الجهم أن قال له: ألست تزعم أن لك إلهًا؟ قال الجهم: نعم، فقال له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا، قال: فهل سمعت كلامه، قال: لا، قال: فشممت له رائحة، قال: لا، قال: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا، قال: فوجدت له مجسًّا؟ قال: لا، قال: فما يدريك أنه إله؟ فأخذ الجهم في حج السمني بمثل حجته، فقال له: ألست تزعم أن فيك روحًا؟ فقال: نعم، قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا، قال: فسمعت كلامه؟ قال لا، قال: فوجدت له حسًّا؟ قال: لا قال: فكذلك الله لا يُرى له وجه ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان. هذا ما حكاه الإمام أحمد في الرد على الجهمية آثرناه باختصار وقوفًا على موضع الشاهد من فطنة جهم وبلاغته في إفحامه خصمه. قال الإمام ابن تيمية في التسعينية، بعد حكاية ذلك: لما ناظر الجهم مَن ناظره من المشركين السمنية من الهند الذين جحدوا الإله؛ لكون السمني لم يدركه بشيء من حواسه، لا يبصره بسمعه، ولا بشمه، ولا بذوقه، ولا بحسه، كان مضمون هذا الكلام أن كل ما لا يحسه الإنسان بحواسه الخمس، فإنه ينكره ولا يقر به، فأجابهم الجهم أنه قد يكون في الموجود ما لا يمكن إحساسه بشيء من هذه الحواس وهي الروح التي في العبد، وزعم أنها لا تختص بشيء من الأمكنة، وهذا الذي قاله هو قول الصابئة الفلاسفة المشائين ثم قال ابن تيمية: والحجة التي ذكرها مشركو الهند باطلة، والجواب الذي أجاب به الجهم باطل، وذلك أن قول القائل ما لا يحس به العبد لا يقر به أو ينكره، إما أن يريد به أن كل أحد من العباد لا يقر إلا بما أحسه هو بشيء من حواسه الخمس، أو يريد به أنه لا يقر العبد إلا بما أحس به العباد في الجملة، أو بما يمكن الإحساس به في الجملة. فإن كان أراد الأول، وهو الذي حكاه عنهم طائفة من أهل المقالات، حيث ذكروا عن السمنية أنهم ينكرون من العلم ما سوى الحسيات، فينكرون المتواترات والمجربات والضروريات النقلية وغير ذلك، إلا أن هذه الحكاية لا تصح على إطلاقها عن جمع من العقلاء في مدينة أو قرية. وما ذكر من مناظرة الجهم لم يدل على إقرارهم بغير ذلك، وذلك أن حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا ل

نظرة في الحرمين الشريفين ومشروع جماعة خدام الكعبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظرة في الحرمين الشريفين ومشروع جماعة خدام الكعبة إن السبب الذي دعا مؤسسي مشروع جماعة خدام الكعبة إلى تأسيسه هو اعتقادهم أن الحكومة العثمانية لم تعد قادرة على حماية الحرمين الشريفين، وقد دعي الشيخ الجليل النواب وقار الملك الشهير إلى الانتظام في سلك جماعة خدام الكعبة فقبل ذلك مع الفخر والشكر، ولكنه اعتذر عن حضور جلسات لجنة الجماعة لضعفه وكتب مقالة في بعض الصحف قال في أوائلها ما ترجمته: الأصل أن كل دين إذا لم تكن له قوة شديدة تحافظ عليه فبقاؤه وثباته وحفظ آثاره في منتهى العسر والصعوبة، وقد يخرج أحيانًا عن الإمكان، وإن ما فعله نصارى البلقان المغيرون من إكراه مئات الألوف من المسلمين على التنصر بقوة السيف لا وجه له إلا أن الترك ما كانوا يقدرون على كفهم ومنعهم لتلك الأسباب التي نعلمها كلها، والثاني عدم وجود قوة شديدة في هذا الوقت تحتفظ بها حرية المسلمين. ثم قال النواب الجليل: إن الاتكال على مشروع خدام الكعبة يخالف الفتوة والعزم، وإن من رأيه أنه يجب على المسلمين أن يوقنوا - مع التمسك القوي بهذا المشروع - أن الترك هم العنصر الإسلامي الوحيد في الدنيا الذين إذا تطهروا من النقائص الداخلية والخارجية يمكنهم أن يقوموا على أحسن وجه في المستقبل - إن شاء الله - بما كانوا قائمين به إلى الآن من المحافظة على تلك الأماكن والقيام بخدمة الكعبة المعظمة. ثم أورد آراء ونظريات وتمنيات في حال الترك وما يترتب على ميلهم إلى التجارة والحرفة والصناعة إذا هم مالوا، وبنى على تلك الآراء والنظريات أنهم يمكنهم حماية إخوانهم وجيرانهم الإيرانيين فوق حماية البلاد المقدسة وغيرها، وكانت نتيجة آرائه دعوة مسلمي الهند إلى مساعدة الدولة العثمانية بالمال، لتحقيق هذه الآمال، وذلك بشراء قراطيس الدَّيْن الذي أصدرته نظارة المالية العثمانية. نتيجة حسنة لا نناقشه في مقدماتها من هذه الجهة بل نشكر له هذه الدعوة فإن أقل فائدتنا من إمداد إخواننا مسلمي الهند لدولتنا بالمال أنه ربما استغنى بذلك عن بيع أراضي بلادنا للأجانب وقد عرضتها للبيع رسميًّا، وهذا أكبر المصائب علينا وعلى حرمنا، ولكنه قال في سياق كلامه كلمة عن العرب لا بد لي من ذكر ترجمتها هنا، وبناء البحث في خدمة الكعبة المعظمة بل الحرمين الشريفين عليها وعلى الكلمة الأولى التي قالها في إخواننا الترك، وذكرناها في فاتحة كلامنا هنا، وهي: (إن شجعانا أقوياء مثل العرب عشاق الإسلام إذا مزجوا دمهم بعرقهم في المحافظة على الكعبة وروضة النبي صلى الله عليه وسلم وبقية الأماكن المقدسة مع الأتراك فلا يمكن لأي قوم في الدنيا مقابلتهم في جبالهم ورمالهم، ومتى ما عرف العرب ومهروا في العلوم والفنون الجديدة التي بدأ الترك بسلسلتها من إنشاء الجامعات في البلاد العربية، فاعلموا أن هؤلاء العرب هم أولاد أولئك العرب الذين نشروا إلى مدة من الزمن أنوار العلوم في جميع الدنيا) اهـ. أقول: يا ليت صديقنا النواب الجليل الصادق النية كان واقفًا على حقيقة حال العرب والترك ليؤلف بعقله المنطقي الكبير أقيسة مقدماتها صحيحة فتأتي بالنتائج الصحيحة التي نحتاج إليها من مثله، وإنني مضطر بسائق المصلحة الإسلامية إلى أن أقول له: (1) إن إخواننا الترك ليسوا هم الحماة للحرمين الشريفين إلى الآن. (2) وإنهم ليسوا أرقى من إخوانهم العرب في العلوم والفنون والعمران. (3) وإنهم دونهم في التجارة والزراعة والكسب. (4) وإنه لا يوجد أحد في الدنيا يقدر على حماية الحرمين من العدو الأجنبي إلا عرب الجزيرة من الحجازيين واليمانيين والنجديين والعراقيين والشآميين. (5) وإن دولة الترك هضمت حقوق العرب، وتعمدت إضعافهم وجعل الحرمين وما حولهما أبعد بلاد الدنيا عن العلوم والفنون والعمران. (6) وإننا قمنا بعد الدستور نطالبها بحقوق العرب كافة على قاعدة اللامركزية لتقوى وتعمر كل بقعة بحسب حالها المناسب لها في طبيعة الاجتماع البشري. (7) وإنها كانت تقابل مطالبنا بالاحتقار والسخرية والسعي في تفريق الكلمة حتى علمت أن عاقبة هذا خسر وخطر فجنحت للوفاق. وسيتم إن الله تعالى على الوجه النافع المرضي، فإن نازعني في مقدمة من هذه المقدمات؛ فأنا مستعد لبيانها له بالتفصيل. بقيت المسألة الحربية والشجاعة: إن العرب قسمان: بدو وحضر، فالحضر من القطرين الشآمي والعراقي مشاركون لإخوانهم الترك في علم الفنون العسكرية الأوربية وفيهم مئات من الضباط أركان الحرب، وغير أركان الحرب متخرجون في أوربة وفي الآستانة، والعسكر يؤخذ من عرب ولايات القطرين وما بينهما كالموصل وديار بكر بالنظام الذي يؤخذ به من الولايات التركية، وكل منهما آية في الشجاعة ولكن ضباط الترك أكثر. وقد ظهر لنا بالعيان أن الحرب النظامية التي يدير حركتها هؤلاء الضباط هي التي أذلتنا وأسقطت قيمة شجاعة جنودنا في الحرب البلقانية الأخيرة وفي الحرب الروسية التي كانت قبلها، وكانت مقدمة لاستقلال هؤلاء البلقانيين بعد أن كان أكثرهم تابعًا لدولتنا، ونُسِبَ فيهما لقواد الترك من الخيانة ما لم يتلوث بمثله العرب، ولا يشك أحد في أن سلانيك عاصمة أحرار الترك والمركز العام لجمعية الاتحاد والترقي قد أخذها اليونان غنيمة باردة بخيانة حسني باشا ورجاله. ونحن لا نحب المفاضلة بين العرب والترك في أمر مشترك بينهم كالجندية وإنما ذمنا هنا خاص ببعض القواد والرؤساء الذين كانوا سبب كل بلاء حل بدولتنا لا للعنصر التركي. على أنه قد كان للعرب في هذه الحرب البلقانية حملات خصهم العالم بالثناء عليها. لا أفضل شعبًا على شعب في الشجاعة والحرب ولكنني أقول: إن المدرسة الحربية وغيرها من مدارس الآستانة لم تفسد من دين العرب وأخلاقهم كما فسدت من غيرهم. وأما البدو من العرب ومن على شاكلتهم من سكان المدن والقرى في عقر الجزيرة فهم أشجع قلبًا وأشد بأسًا من حضر العرب والترك الموصوفين بالمدنية حتى إن عرب اليمن ونجد يصفون الجندي العثماني بالجبن والضعف، ولو كان هؤلاء القوم يعرفون من النظام العسكري ما يعرفه الجند العثماني ويحملون من السلاح ما يحمله لكان التابور منهم يغلب عشرة توابير من غيرهم. قد أصبح من البديهيات التي لا يختلف فيها اثنان أن الجيش العثماني لا يقدر على صد أية دولة من الدول الكبرى إذا أرادت الاستيلاء على الحجاز وإنما يقدر على ذلك عرب الحجاز واليمن ونجد والشآم والعراق، لا يحتاجون فيه إلا إلى القوت الضروري والسلاح والذخيرة، واتفاق الكلمة، فإن هؤلاء كانوا مستعدين بما ذكرنا للدفاع عن حرمهم وبلادهم لا يمكن أن تتجرأ دولة أوربية على الاصطلاء بنارهم؛ لأسباب متعددة منها: شجاعتهم وصبرهم وعدم مبالاتهم بالموت، ومنها أنهم لا يقفون في وجه عدوهم ويحاربونه حربًا نظامية يقضى بها على معسكرهم إذا غلب، بل يتألفون عصابات تهاجم مكان الضعف منه عند إصابة الغرة، فإن لقيتْ ما لا قِبَل لها به فرتْ من وجهه في صحاريها واعتصمتْ بجبالها حتى تصيب غرة أخرى، ومنها طبيعة البلاد وتعذر معيشة الأوربي فيها، ومنها أن الخسارة الكبيرة فيها ليس وراءها ربح مادي يكون عوضًا منها. وقد انقرض التاريخ الذي كان الأوربيون يسفكون فيه أنهار الدماء لأجل الانتقام الديني أو عظمة الملوك وقهر أعدائهم. كل ما يمكن أن تفعله دولة أوربية بحرية في هذه السبيل هو أن تستولي على سواحل جزيرة العرب فتبدأ منها بما عدا الحجاز كاليمن وحضرموت والعراق وسورية ثم تجعل سواحل الحجاز تحت مراقبتها البحرية فتمنع عنه السلاح، وتلقي العداوة والبغضاء بين أمراء الجزية، فتغري بعضهم ببعض، وتساعد من يستجيب لها على خصمه بالمال حتى إذا ما فل الحديدُ الحديدَ، وبأس القوم بينهم شديد، وضبطت موارد الرزق ومنع السلاح تعقد الدولة التي تفعل ذلك مع كل أمير وزعيم في جهة من جهات الجزيرة اتفاقًا على حرية التجارة وتأمين التجار وغيرهم، ويدخل وراء ذلك الخمر وتجاره والبغاء وفجاره، والمبشرون وكتبهم، كما وقع في مسقط والكويت وجميع بلاد الدولة، فيقع العداء الشديد بين الشعب ورؤسائه ويتم لأعدائهم ما يريدون منهم. وكم أظهر دعاة النصرانية من الإفرنج الشغف والميل والرجاء والأمل بأن ينشروا دعوتهم في جوار الكعبة وعرفات ومسجد المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام؟ وكم أظهر متعصبو السياسة ما يتمنونه من نقل الكعبة والقبر الشريف ووضعهما في اللوفر أو غير اللوفر من دور التحف والعاديات في أوربة؛ لتكون أثرا تاريخيا يفتخرون به: {قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118) . فالواجب على الدولة العثمانية أولا وبالذات أن تعترف بالاستقلال الإداري والدفاعي لجميع إمارات البلاد العربية ومنها الحجاز وعسير واليمن بشرط أن لا تنفرد إمارة منها بعقد اتفاق ولا معاهدة مع الأجانب لا سياسة ولا اقتصاد، وأن تساعدها على تنظيم إدارتها، وقوى الدفاع فيها وعمرانها بالوسائل المقنعة المرضية عند أهلها، وجمع كلمة أمرائها، وأن يكون الجند الذي ينظم فيها عونًا للدولة على أية دولة أجنبية تحاربها بقدر الاستطاعة وبهذا تربح الدولة قوة كبيرة لا تنفق عليها شيئا من المال، وتستفيد إخلاص العرب في هذه الإمارات وفي ولاياتها السورية والعراقية، ولا تخسر في مقابلة هذا الربح شيئًا فإنها منذ أعلنت امتلاكها لتلك الإمارات في جزيرة العرب إلى هذا اليوم لم تربح خزينتها منها شيئًا بل خسرت الملايين من الأموال ومئات الألوف من الرجال وتخريب البلاد وإفساد العمران. فبهذا يحفظ الحرمان الشريفان من عدوان الأجانب، فإن الشيء لا يحفظ إلا بحفظ سياجه. فإن قيل: إن الدولة ما تعمدت إضعاف العرب وحرمت بلادهم حتى الحرمين الشريفين من العلم إلا خوفًا أن يعتزوا ويقووا فيستقلوا دونها ويستعيدوا الخلافة الإسلامية فكيف تسعى هي إلى تقويتهم؟ فالجواب أن هذا اللقب قد جنى على الإسلام والمسلمين أكبر الخطوب والمصائب وكان أشد أسباب ضعفهم من حيث لم ينفعهم شيئًا؛ وأنا أضمن أن أولئك الأمراء يرضون بأن يعترفوا لسلطان الدولة بالخلافة إذا هي رضيت بما ذكرنا. والواجب على المسلمين في جميع بقاع الأرض أن يساعدوا أهل تلك البلاد المقدسة على كل ما به حفظها وحياتها الدينية والمدنية سواء وفقت الدولة للقيام بما يجب عليها لها أم لم تقم بذلك، وإنما تطلب المساعدة منهم بالمال ثم بالرجال الذين يصرفون ذلك المال في إنشاء المدارس والملاجئ وأسباب القوة والعمران، وتحسين معيشة العربان، وإذا نجحت جمعية خدام الكعبة وأصلحت قانونها فإنها تستطيع أن تؤدي خدمة جليلة يشكرها لها الله تعالى من فوق عرشه ويثيبها عليها ويشكرها لها جميع المسلمين، ومتى رأوا باكورة ثمرتها يدخلون فيها أفواجًا والله الموفق والمستعان.

احتفال لتكريم أحمد فتحي باشا زغلول

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ احتفال لتكريم أحمد فتحي باشا زغلول أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية يعد في مقدمة الذين نبغوا بمصر في هذا العصر، وهو من مريدي الأستاذ الإمام في الفلسفة والأدب والاجتماع وعلو الهمة، ومن مزاياه التي فاق بها أهل طبقته الذين تعلموا على الطريقة الأوربية وأتموا علومهم في أوربة أن اشتغاله في خدمة الحكومة بالجد وترقيه في مناصبها لم يصرفه عن الاشتغال بالعلم مطالعةً وترجمةً وتصنيفًا فله عدة آثار علمية مطبوعة ما بين مصنَّف ومترجَم، وهو حسن الاختيار لما يترجمه، وناهيك بترجمته لكتاب روح الشرائع تأليف بنتام الشهير، ولكتاب سر تقدم الإنكليز السكسونيين لأدمون ديمولان في التربية والتعليم، ولكتابي روح الاجتماع وسر تطور الأمم، كلاهما لجوستاف لوبون، اللذين هما من خير ما كتب الإفرنج في علم الاجتماع الإنساني، وكان آخر ما ألفه شَرْحه للقانون المدني المصري الذي أعجبت به الحكومة وجمهور رجال القانون من القضاة والمحامين. وقد أسمعني مقدمته قبل إتمام طبعه فرأيته يجول في علم القوانين جولان الأئمة المجتهدين في علم الفقه فتذكرت له مثل هذه الجولة الاجتهادية إذ حضرت منذ خمس عشرة سنة محاكمته للأمير سيف الدين بمحكمة مصر الأهلية وكان رئيسًا لها. ولما طبع هذا الشرح وانتشر اجتمع بعض رجال القانون والعلم من قضاة ومحامين وغيرهم تحت رياسة الشيخ محمد بخيت مفتي نظارة الحقانية ودعوا إلى الاحتفال به في دار الجامعة المصرية فأجاب الدعوة جمهور عظيم من قضاة الشرع وعلماء الأزهر وقضاة المحاكم الأهلية والمحامين والأدباء والوجهاء، وخطب شكري باشا وعبد العزيز بك فهمي والدكتور صروف ومحمود بك أبوالنصر فأثنوا على المحتَفَل به وعلى كتبه عامة وكتابه الجديد خاصة، وختمت الحفلة بخطبة له كانت أشد الخطب تأثيرًا كما كانت أحسنها إلقاء وهذا نصها: خطبة فتحي باشا سادتي! رجعت إلى المعاجم ألتمس منها كلمات تسمو معانيها إلى سماء فضلكم، أو صيغة حمد تفي بقليل من واجب شكركم، فما راقني لفظ ولا شاقني معنى، ورغبت عن التنقيب والاستفادة، إلى الإقرار والشهادة. أنا عاجز، نعم أنا عاجز عن إيفائكم حق الثناء لقاء صنيعكم، لكني لن أعجز عن الاحتفاظ بعهدكم، والبقاء على الدوام متأثرًا بجميلكم. شرفتم هذا المكان لتكريم خادم ظننتم به خيرًا، وما خيره إلا منكم، وأردتم أن توفوا له فضلاً والفضل أنتم مواليه، ولا أرى في اجتماعكم هذا إلا حركة نفسية من حركات الأمة تقطع دور السكون، وتعلن يقظتها وشخوصها نحو الرقي، بعد أن اختمرت الأفكار وتمكن اليقين بأن لا حياة إلا بالحضارة، ولا حضارة إلا بالعلم، وما أنا إلا ذريعة اتخذتموها للقيام بهذه الحركة المباركة. هذا مظهر خلق جديد كمُنَ حتى اكتمل، وسكن حتى نما وتم، خلق لا تقوم أمة بدونه وهو عماد كل رقي، هو محبةُ الكلِ خيرَ الكل في كل فرد من الأفراد، وظهور هذا الخلق دليل على ما للأمة من الصفات الكريمة الأولية، ومن الأخلاق الفطرية الاجتماعية، مما إذا عولج صفا، وأعلى مكانتها، ووصل بها إلى الدرجة التي تستحقها في هذا الوجود. من يَخْبُر هذه الأمة ويقف على كنه خلقها، ويعرف جيدا حقيقة خصالها، ويدرك الصحيح من آمالها، وينعم النظر في أعمالها، يقتنع بأن التربة زكية لا يفسد زرعها إلا شيء من البذور الرديئة، وبأن الخلق كريم يغشاه ستار من عدم العلم التام بالواقع، وبأن الآمال كبيرة شريفة لكنها مشوبة بشكوك وأوهام تطوح بنا يوما ذات اليمين ويوما ذات الشمال، أما أعمالنا فثمرة هذا وذاك، نهتاج والسكون واجب، ونلهو وكل النجح في العمل، وما كان شيء من كل هذا يكون لولا خطأ في تقدير حقيقة حالنا، وعدم التفات إلى حركة البيئة التي نحن فيها، ونسيان لشيء كثير من الماضي، ولهو عن الحاضر، وعدم اهتمام بما هو آتٍ، ومحال أن تدوم هذه الحال، فلا بد لنا من إعداد العدة اللازمة لذلك التحول وما هي إلا العلم. العلم هو سلم الأمم إلى حضارتها، فهو كاشف ظلمات الجهل، ومسدد الآراء، ومنجح كل مجهود، هو الذي اخترق الأرض فأخرج مكنوناتها، وحكم في المادة فاستلب منها كنوزها، وتسلط على البحار فسادها، ورقى إلى الجو فخلق في القبة الزرقاء طالبًا للناس علوًّا وكمالاً، وقرب الأبعاد فأضاف إلى الوقت أوقاتًا، وضم إلى حياة الإنسان حياة وحياة، بهذا أنار البصائر وشد العزائم، وقوى الهمم، فأنهض الأمم، وأعلى كلمة التي كان حظها منه وفيرًا. أرجو أن يكون في مظهركم هذا دليل على أننا قطعنا دور التنافر والتفرق، وعرفنا الصواب بعد أن حجبته عنا الأوهام زمنًا طويلاً، ودخلنا من باب العمل الصحيح النافع، واقتنعنا بأن الضعف - وما الضعف إلا الجهل - يطمس على القلوب، ويجعل القوم يرون حسنًا ما ليس بالحسن، يظنون أن التأخر آتٍ من عارض خارجي وأنهم إذا قعدوا عن التماس وسائل التقدم فالمقصد يجذبهم إلى الوراء، ولكنهم متى علموا عرفوا أن العلة ذاتية، وأن الدواء في اليد، وأن قتل الوقت في الظنة والاتهام مضيعة لما يفيد، وداع جديد من دواعي الضعف والتأخر. أرجو أن يكون في اجتماعكم هذا دليل على السآمة من هذه الحال، بل على الفزع من أخطارها الاجتماعية الكبرى، وعلى أن العلم الذي ينبث فينا أخذ ينقي الضمائر ويجمع شمل المتفرقين، ويطهر السرائر ويوحد كلمة المتنافرين، وينير البصائر فيهدينا إلى أن التآزر شرط النجاح، وأن يد الله مع الجماعة، وأن التباغض مجلبة للشر، والتنابذ يمهد سبيل الذل، وأن في التضاغن تهلكة للناس. لعل رجائي محقق بإقبالكم على هذا المكان ملتفين حول راية واحدة مع اختلاف العناصر والمعتقدات، ومنبعثين من روح واحد ألف بين قلوبكم جميعًا فتعارفتم وجئتم إخوانًا فرحين بوجهٍ باسمٍ يحيي موجد هذا الروح وباعث ذاك الشعور، العلم. سادتي! ما خيم الجهل في أمة إلا أذلها، وما انبلج ضوء العلم بين قوم إلا عزوا. أيها العلماء أيها العظماء أيها الشعراء والأدباء، قادة الأفكار، دعاة الأمة، اربأوا بها، فالسبيل واضح، علِّموا الأمة علِّموا الأمة. (المنار) أشار الخطيب المحتَفَل به إلى ما امتاز به هذا الاحتفال على غيره حتى كان هو الأول في بابه، وهو اجتماع أصناف من الناس لم يتفق اجتماعهم في أمثاله، فقد كانت لجنة الاحتفال مؤلفةً من بعض علماء الأزهر وعلماء القانون وغير القانون من العلوم العصرية، بعضهم من المسلمين وبعضهم من النصارى، وبعض النصارى من قبط مصر وبعضهم من السوريين، وكذلك الذين أجابوا الدعوة وحضروا الاحتفال. ومن أكبر ضروب العبرة في هذا الاجتماع حضور طائفة من علماء الأزهر وكون رئيسه من أشهر فقهائهم وهو الشيخ محمد بخيت، وقد كانوا من قبل يشددون النكير على القوانين ومتعلميها، ومن يحكم بها، ولا نقول أكثر من ذلك في هذا المقام. ثم صار بعضهم يدخلون أبناءهم مدارس الحقوق ليتعلموا هذه العلوم ويحكموا بهذه القوانين. على أن القانون المدني أقرب من سائر القوانين إلى فقه المسلمين. ومن ضروب العبرة فيه: اختلاف ذوق المسلمين وشعورهم الديني والأدبي في مسألة تدل على مبلغ تأثير التفرنج في البلاد، وهي أن بعض المسلمين الحاضرين كان أنكر على جماعة العلماء تأخير صلاة المغرب إلى قرب وقت العشاء فلما صلوها سروا بذلك وأثنوا خيرا، وأنكر آخرون عليهم أنهم قاموا من مكان الاحتفال قبل انتهائه إلى مكان آخر صلوا فيه وعدوا ذلك من قلة الذوق، ورأوا أنه كان ينبغي لهم تأخير المغرب عن وقتها، ولعل بعض هؤلاء لا ينكر عليهم ترك صلاتها ألبتة لأجل الاحتفال، فأين الشعور الإسلامي عند هؤلاء من شعور مسلمي نجد واليمن الذين لم يبق لهم ثقة بأحد من علماء الأمصار التي دخلها التفرنج وفشا فيها. يقول أولئك المسلمون: إن هذه المنكرات هي التي أضعفت الإسلام وأضاعته، ويقول هؤلاء المتفرنجون: إن جمود أولئك المسلمين وجهلهم بحضارة العصر هي التي أضاعت ملك الإسلام وذهبت بقوته، وأكبر المصائب على الإسلام وأهله وملكه في هذا العصر هو الاختلاف البعيد بين أهله في مقومات الأمة ومشخصاتها، وانحلال الروابط القديمة بالتفرنج الذي لم يستطع أهله أن يستبدلوا بما حلوه وقطعوه منها ما هو منها ولا مثلها. أما أسباب الضعف والقول الفصل فيها فقد بيناه في المنار غير مرة.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (كتاب الجغرافيا التجارية) تأليف: ج. ج. شيشولم أستاذ الجغرافية بجامعة أدنبرج، الجزء الأول من الطبعة الأولى بمطبعة المعارف سنة 1330 هـ، وسنة 1912 م. ص331 بقطع رسالة التوحيد. الكتاب مطبوع طبعًا نظيفًا على ورق جيد مباحثه: 1- فوائد دراسة الجغرافية التجارية. 2- قيمة البيانات العددية. 3- المنسوجات القطنية، تحسين وسائل النقل، حقائق عامة خاصة بإنتاج وتوزيع البضائع، الجو، التربة، إلى غير ذلك، ثم فصل الحاصلات فحاصلات الأقاليم المختلفة فالحاصلات المعدنية. *** (رسالة في المحاسبة التجارية) تأليف المسيو: ف. جروفلير أستاذ العلوم التجارية الطبعة الأولى بمطبعة المعارف بمصر سنة 1330 هـ وسنة 1912 ص 401 بقطع سابقها. الرسالة مطبوعة كطبع الكتاب السابق من حيث النظافة وجودة الورق ومباحثها: الباب الأول: عموميات في الفن وحواصل الأشياء أو القيم وحواصل الأشخاص إلى آخر الحواصل، وبيان كيفية وضع الدفاتر، وأمثلة لذلك ثم الباب الثالث في الجرد والميزان، إلخ، والباب الرابع في حواصل القيم وحواصل الأشخاص وحواصل التاجر. وقد ذكر في مقدمتها بأن لحسن أفندي فهمي إسماعيل مدرس مسك الدفاتر بمدرسة المحاسبة والتجارة الخديوية الفضل في تصحيح هذه الترجمة العربية على أصلها الفرنسي وفي ترجمة التمرينات الموجودة بهذه الرسالة وفي تحويل الجداول من السكة - العملة - الفرنسية إلى السكة المصرية. *** (تمرينات على المحاسبة التجارية والمالية) جزء أول جمعه سليم أمين حداد أفندي المدرس بمدرسة المحاسبة والتجارة الخديوية الطبعة الأولى منه بمطبعة المقتطف سنة 1912 ص 276 بقطع المنار والكتاب مطبوع طبعًا مضبوطًا على ورق جيد، وكله تمرينات عملية. هذه الثلاثة الكتب أصدرتها إدارة التعليم الزراعي والصناعي والتجاري بنظارة المعارف العمومية المصرية، وهي كتب مدرسية تدرس في مدارس الحكومة باللغة العربية فنشكر الحكومة على قيامها للأمة بما لم تقم هي لنفسها به، وهي تُطْلَب من الإدارة المذكورة ومن مخزن المعارف ومن مكتبة المنار بمصر. *** (حياة البلاد في علم الاقتصاد) ملخص باختصار من أحدث المؤلفات في هذا العلم بقلم رفيق أفندي رزق سلوم أحد طلبة الحقوق السوريين في الآستانة طبع بمطبعة قسطنطين يني في حمص سورية سنة 1912 م ص 126 بالقطع الوسط ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المنار بمصر. الكتاب مطبوع على ورق جيد ويحتوي على 41 درسًا ويعقب كل درس تمرينات في موضوعه فهو جدير أن يكون كتابًا مدرسيًّا، وقد جعله جامعه هدية احترام إلى السيد عبد الحميد الزهراوي اعترافًا بفضله وعلمه؛ وقد نشر الكتاب بجريدة الحضارة التي كان يصدرها السيد الزهراوي في الآستانة. *** (كتاب معالم الكتابة ومغانم الإصابة) إنشاء عبد الرحيم بن علي بن شيت القرشي عني بنشره وتعليق حواشيه الخوري قسطنطين الباشا المخلصي طبع في بيروت بالمطبعة الأدبية سنة 1912 م صفحاته 192 بقطع تفسير سورة الفاتحة ثمنه 12 قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. هو كتاب تعليمي إنشائي حَرِي بالمعلمين والمتعلمين الاطلاع عليه لينسج واضعو الكتب المدرسية على منواله في موضوعه وقد صدَّره ناشره بمقدمة بيَّن فيها ما قاساه من التعب في استخراجه لصعوبة قراءة خطه، وأظهر مكانة الكتاب في عالم الأدب، ونشر فيها صفحة منه نموذجًا من أصله. *** (الجواب المنيف في الرد على من يدعي التحريف في الكتاب الشريف) صنَّفه الأستاذ الشيخ يوسف أحمد نصر الدجوي المدرس بالأزهر، طبع بمطبعة النهضة الأوربية سنة 1331 هـ و1913 م صفحاته 277 بقطع (الإسلام والنصرانية) على ورق جيد بحروف جيدة، ويطلب من مكتبة المنار وثمنه 8 قروش. موضوع الكتاب رد مفتريات كتاب: (هل من تحريف في الكتاب الشريف) . الذي ألفه القس كولديساك الإنجيلي وقد جاء فيه المؤلف بالنصوص الواضحة والحجج الدامغة وصدَّره بفاتحة أوضح فيها سبب تأليف كتابه ونعى على حكام المسلمين وأغنيائهم وعلمائهم ما هم فيه من التواني عن نصرة الإسلام، فقال: وإني لأعجب من متانة هذا الدين حيث لم يؤثر عليه (الصواب: يؤثر فيه) ذلك التيار الجارف الذي تؤلف له الجمعيات في أوربا وأميركا أو تصرف في سبيله مئات الملايين على حين أن حكومات المسلمين ساهية لاهية لا يعنيها أمر الدين، وأن أغنياء المسلمين لا يبذلون أقل قليل في ذلك السبيل وأن علماءهم لا يتفقدون عُماتهم بالإرشاد والتذكير ... إلخ، وليت الأستاذ تذكر بأن نفرًا من الفضلاء أهل الغيرة على الدين قد أنشأوا جماعة الدعوة والإرشاد للغرض الذي يقصده، وأن عليه وعلى أمثاله تعضيد المشروع، وما أراه إلا فاعلاً، إن شاء الله تعالى. ويجدر بمن اطلع على الكتاب: (هل من تحريف في الكتاب الشريف) والكتب التي ينشرها دعاة النصرانية بمصر أن يطلع على هذا الكتاب. *** (النصائح العصرية في الخطب المنبرية، والنفحات النبوية في الخطب العصرية) ديوانَا خُطَبٍ ألفهما الأستاذ الشيخ حسن خير الدين فتيان خطيب وإمام الشافعية في جامع النصر وأحد مدرسي العربية في المدرسة الابتدائية في مدينة نابلس، وكلاهما مطبوع ومضبوط الكلمات بالحركات ويطلبان من مكتبة المنار، ومن الشيخ أحمد علي المليجي ملتزم طبعهما. من مميزات هذين الديوانين أن مؤلفهما لم يثبت فيهما من الأحاديث غير صحيح السند، وجميعها معزوة إلى مخرجيها؛ والمُؤلف من محبي الإصلاح الغيورين على الملة، فنرجو أن يكون لأعماله - ومنها هذا المُؤلَّف - نفعٌ عميمٌ.

قتل محمود شوكت باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قتل محمود شوكت باشا أهم حوادث هذا الشهر قتل محمود شوكت باشا الصدر الأعظم وناظر الحربية. كان خارجًا بسيارته الكهربائية من نظارة الحربية فدنت منها سيارة أخرى عند وقوفها في الطريق بسبب مرور جنازة وأطلق عليه الرصاص ثلاثة نفر منها، فخرَّ صريعًا في الحال وطارت سيارة الجناة فلم يدرك لها أثر، وقد عرا جماعة الاتحاديين الوجل والذعر لهذه الفاجعة، وهمَّ زعماؤهم بالفرار من الآستانة أو الاستخفاء فيها؛ فكان أثبتهم جأشًا جمال بك محافظ العاصمة فثبتهم وبادر إلى إلقاء القبض على كل من وجد من خصوم الاتحاديين السياسيين الذين كان يصرف جلّ أوقاته في مراقبتهم وأسلمهم إلى ديوان الحرب العرفي، وكل رجاله من الاتحاديين، فعذبهم وأساء معاملتهم، فألقى الرعب في قلوب أهل العاصمة وتمكنت الحكومة والجمعية من الاحتفال بجنازة قتيلها فكان عظيمًا، وجعل ناظر الخارجية البرنس سعيد باشا حليم صدرًا أعظم. ثم لم يلبث ديوان الحرب أن سجن مئين ونفى مثلهم وحكم بالإعدام على عشرة من كبار الزعماء الذين جعلهم جمال بك في موضع التهمة بالاشتراك بالقتل أو التدبير له، وبادرت الحكومة بأخذ توقيع السلطان (الإرادة السنية) بقتل من قبضت عليه منهم، وفي مقدمتهم صالح باشا بن خير الدين باشا التونسي الشهير وهو من أصهار السلطان، وروت الجرائد أن أخت السلطان شفعت عنده في زوجها وبكت وأبكت ولم يمكن العفو عنه لإصرار الاتحاديين على قتله؛ لأنه من أكبر خصومهم. وحكموا أيضًا على صباح الدين أفندي ابن أخت السلطان فاستخفى بمساعدة بعض الأجانب وفرَّ كثيرٌ من خصومهم السياسيين لاعتقادهم أن الجمعية ستغتنم هذه الفرصة للفتك بجميع من تظفر به من المخالفين لها في سياستها. ومن جملة الذين فروا إسماعيل بك وكيل حزب الحرية والائتلاف وكان الاتحاديون قبل الحادثة قد عرضوا عليه تأليف الوزارة من الحزبين الاتحادي والائتلافي فأبى وقال: إن حزبه قد أعلن رسميًّا ترك العمل لمدة الحرب؛ لعدم التهويش على الحكومة بالسياسة فليس له صفة للاتفاق معهم الآن. وكذلك كانوا كلموا صباح الدين أفندي في الاتفاق معهم فأبى. ذلك بأنهم كانوا يشعرون بضعفهم ونفور الأمة منهم وكيد الأحزاب لهم فكان قتل زعيمهم قوة لهم؛ لأنه كان من قبل الأفراد لا الأحزاب كما علمنا فجعلوه حجة لتنكيل الحكومة بالرجال الذين يخالفونهم. اختلف العثمانيون والإفرنج في الثناء الحسن والقبيح على محمود شوكت باشا كما شأن الناس في كل من ينال شهرة، والحق الذي ظهر لي من كلام المختلفين واختباري الشخصي بلقائه مرارًا متعددة في الآستانة وسماعي كلامه وآراءه وكلام العارفين فيه أنه رجل عسكري غير سياسي، وأن معارفه العسكرية أكبر من شجاعته، وأنه كان يخاف جمعية الاتحاد والترقي فجاراها على إشغال الجيش بالسياسة وكان يتربص الفرص لإزالة سلطتها من الدولة إلى أن اتهمه مجلس المبعوثين بالتواطؤ مع حقي باشا الصدر الأعظم على إضاعة طرابلس الغرب وطلب محاكمته معه فلم يجد أمامه ملجأً يحميه من المجلس إلا الجمعية التي أضاعت نفوذها من المجلس فكاد يسقط وزارتها بتهمة الخيانة، عند ذلك ساعدها محمود شوكت باشا بنفوذه وتأثيره في القصر السلطاني فأصدر لها إرادة من السلطان بحل المجلس وصار معها بقلبه وقالبه، ووثقت هي به، فولته منصب الصدارة ونظارة الحربية بعد إسقاطها وزارة كامل باشا الأخيرة بقتل ناظم باشا ناظر الحربية. لما جئت الآستانة في أول شوال سنة 1327 للسعي في تأسيس جمعية الدعوة والإرشاد فيها كتبت إلى هادي باشا قائد الجحفل الثالث في سلانيك أستشيره في بدء السعي في ذلك فكتب إلي أن أبدأ بعرض المشروع على محمود شوكت باشا وأعمل برأيه وكتب إليه كتابًا يعرِّفه بي، فلما قابلته بيَّن لي رأيه في المشروع، وأن الإسلام والدولة في أشد الحاجة إليه وما يخشى من المقاومة له، وعهد إليَّ أن أذهب من قِبَله إلى الصدر الأعظم حسين حلمي باشا أولاً، ثم إلى ناظر الداخلية طلعت بك وأن أرجع إليه فأخبره بما يقولان، ثم كانت سيرته معي أو سيرتي معه هكذا: كلما تجدد شيء في السعي أخبره به ويذكر لي رأيه فيه، وقد كنت أجلس عنده الساعة والساعتين وأكتب من كلامه ما أراه جديرًا بأن يكتب في دفتر المذكرات المؤرخ، ومنه كلمة فلتت بالمناسبة في رأيه في زعماء الاتحاديين أشرت إليها في مقال سابق من غير عزو إليه، وهي قوله بمناسبة وعد طلعت بك وحقي باشا بتنفيذ المشروع: (هل صدقت؟ إن هؤلاء ظاهرهم غير باطنهم) . لو أن محمود شوكت باشا شجاع لأسقط الجمعية وأصلحها ولو أنه أمر بمحاكمة قاتلي سلفه ناظم باشا لما اشتد السخط عليه وأقدم مَن أقدم على قتله. ذهب معي مرة لزيارته صديقي السيد عبد الحميد الزهراوي وكان مبعوثًا فأثنينا على خطبته التي خطبها في نظارة الحربية بوجوب امتناع الضباط من الاشتغال بالسياسة وقلنا له: إننا لا نزال نراهم على حالهم لم يمتنعوا، وذكرنا له حادثة كانت وقعت في نابلس من أقبح حوادثهم وأفظعها في العدوان، فقال: أما هنا فقد امتنع اشتغالهم بالسياسة، وأما في الأماكن البعيدة كبلادكم فيحتاج منعهم ألبتة إلى زمن، ولكن ظهر بعد ذلك رسميًّا ما كتبه في عريضة استقالته من نظارة الحربية أن قوله هذا غير صحيح. وذكرنا له مسألة التناظر والتغاير بين الترك والعرب وأعمال رجال الدولة والجمعية التي أحدثت الخلاف وما يجب من تلافيه. فقال: إنني أسمع كلامًا في هذا لا يعجبني وأرى مستقبل الدولة لنا نحن العرب؛ لأننا أكثر عددًا وأزكى فهمًا وأنشط في العمل، ولكن يجب أن ندخل أولادنا مدارس الدولة ونرتقي بها، ولكنه مع هذا لم يساعد العرب ولا كفَّ عنهم شيئا من العدوان بل هو الذي سير الحملات العسكرية إلى اليمن والكرك وحوران إطاعة للجمعية. على أن هذه الشدة هي التي كونت المسألة العربية الحاضرة. وقد بلغنا من الأخبار الخاصة أنه كان في العهد الأخير عازمًا على إجابة العرب إلى مطالبهم الإصلاحية، وإن كان هو الذي أمر بتشديد حازم بك على طلاب الإصلاح في بيروت. وقد أشار طلعت بك في كلام له نشرته الجريدة إلى ميل شوكت باشا إلى إجابة العرب إلى ما يطلبون من الإصلاح المعقول. وبالجملة فإن للرجل -عفا الله عنه ورحمه - حسنات وسيئات وأمورًا متناقضة، والله أعلم بالسرائر. *** احتجاج حزب المحافظة على حقوق الإنسان على فظائع الاتحاديين لما اتصل بحزب حقوق البشر الفرنسيين خبر الأعمال الفظيعة التي ارتكبها الاتحاديون بحجة التحري عن قتلة شوكت باشا أرسل رسالة برقية بواسطة رئيسه إلى مولانا السلطان من باريس في 18 يونيو احتجاجًا على فظائع الاتحاديين وهذه ترجمة الرسالة: اسمحوا يا صاحب الجلالة لأصدقاء مخلصين للدولة العلية أن يستغيثوا بما اتصفتم به من العدل والإنصاف باسم ستين ألفًا من الرعايا الفرنسيين أعضاء حزبهم؛ إذ قد يتعذر على الرأي العام الأوربي أن يتصور قيام حكومة في أيام سلطان محب للقوانين والتقدم لإلقاء القبض على الجموع العديدة عقب قتل شوكت باشا، وإلقاء العذاب الأليم بهم وإعدام المتهمين منهم دون أن تضمن لهم الحق بالدفاع عن أنفسهم. أجل، إن الحكومات والشعوب لم تجنِ إلا العلقم من اتباع سياسة الإرهاب ولا شيء شر وأسوأ من التذرع بحجة جرم سياسي لإلغاء الحزب المعارض والقضاء عليه القضاء الأخير. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس الحزب

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (الاتفاق التركي الإنكليزي وأثره في بلاد العرب) بيَّنا في الجزء السابق شأن هذا الاتفاق ومواده وما فيه من الغبن والضرر على الأمة العربية والدولة العثمانية بالإجمال وأشرنا إلى أن للكلام في موضوعه بقيةً، وقد ضاق هذه الجزء بكثرة مواده عن نشر ما لدينا من الآراء والأخبار فيه فنكتفي بذكر نتيجة واحدة من نتائجه وهي وصول سوء الظن بالسلطة الاتحادية إلى أمراء جزيرة العرب وعشائرها، فاعتقدوا ما يعتقده جمهور أهل الرأي في الولايات أنها لبغضها للعرب تريد أن تُحَكِّم في رقابهم ورقبة بلادهم دولة أشد منها بأسًا وأصعب مراسًا وهي الدولة الإنكليزية التي لا يرجى لهم إذا هي ملكت بلادهم استقلال، إلا إذا انقلب ما عليه الأمم والدول الآن من شئون الاجتماع من حال إلى حال، وقد حدث في هذه الأثناء حادثتان عظيمتان في تلك البلاد التي يتعلق الاتفاق بشئونها، وهما استيلاء الأمير ابن سعود على بلاد الأحساء التي تسميها الدولة متصرفية نجد، والثانية اشتداد الاضطراب في ولاية البصرة، حتى كان من نتائجه قتل قائد الدولة في البصرة قومندان البصرة ومتصرف المنتفج. *** (استيلاء ابن سعود على الأحساء) نشرت جرائد العراق وسورية ومصر خبر استيلاء الأمير عبد العزيز بن سعود على تلك البلاد الأحساء والقطيف والعقير، وإخراجه لعمال الدولة وعسكرها منها وإرسالهم إلى العراق، وجاءنا من أخبار تلك البلاد ما لم نر تفصيله في الجرائد. وابن سعود يرى أن هذه البلاد من إمارته التي ورثها عن آبائه وأجداده وإنما استولت عليها الدولة أخيرًا في عهد ولاية مدحت باشا على بغداد بمساعدة الشيخ مبارك الصباح وآل بيته، وكان الشقاق يومئذ بين آل سعود قد أضعفهم فلم يستطيعوا مقاومة العشائر التي زحف بها على البلاد آل الصباح مع عسكر من الدولة. ثم سلطت الدولة ابن الرشيد على ابن سعود لينزع منه بقية البلاد فاتفق ابن سعود مع الشيخ مبارك الصباح على ابن الرشيد فاسترجع منه ما كان استولى عليه حتى لم يعد له نفوذ إلا في عشيرته. ثم إن ابن سعود والشيخ مباركًا تنبها لما يجب على الملسمين من الاتحاد والولاء فكانا شديدي التعلق والإخلاص للدولة العثمانية على كثرة ما يريانه من سوء معاملتها. ولكن بيع الاتحاديين لشرقي بلاد العرب رقبتها أو مصالحها ومنافعها للإنكليز بعد بيعهم طرابلس الغرب لإيطالية جدير بأن يخيفهم على بلادهم فلا غرو إذا بادر ابن سعود لاسترجاع بلاد الأحساء. ومن الأخبار الخاصة أن ابن سعود طهَّر تلك البلاد عند استيلائه عليها من الرجس فأجلى العاهرات وبائعي الخمر إلى البحرين والبصرة، وأبطل الحكم بالقوانين وأقام الأحكام الشرعية، ومنها أنه كتب إلى السيد فيصل صاحب مسقط بأن يكون تابعًا لإمارة نجد كما سبق، وأوعده بأنه سيزحف على عمان فيصل إليه بعد أربعة أشهر. وبلاد عمان تتمخض الآن بالفتن فقد نصب الإباضية لهم إمامًا تبرأ أتباعه وهم عدة عشائر من السيد فيصل لموالاته الإنكليز، ويقال: إن ابن سعود اتفق مع بعض رؤساء العشائر في عمان على أن يؤيدوا أمراءه ويساعدوه بالمال والرجال عند الحاجة على أن يصد عنهم مداخلة الإنكليز في بلادهم التي تفسد عليهم دينهم بالبغاء. *** (الاضطراب في البصرة) اصطنع الاتحاديون عجيمي بك السعدون من رؤساء عشائر العراق الذي اعتقلت والده فمات في السجن وسبب اصطناعها إياه أمران: أحدهما: أنه نهب مال عمه وقدره 170 ألف ليرة عثمانية وهم يدورون حول الدينار، ولو كان في النار. وثانيهما: إغراؤه بطالب بك النقيب الذي أعيا الجمعية نفوذه في البصرة على كونه مقاومًا لسياستها المبنية على إضعاف العرب وهضم حقوقهم حتى انفضَّ بنفوذه الناس من حولها وأقفل ناديها. وقد كان ناديها في بغداد اقترح على مركزها العام تعيين عميدها وعتادها في العراق أمير الألاي فريد بك واليًا للبصرة ليكفيها أمر طالب بك ويُخضع الولاية لعظمتها فلم يقبل اقتراحه خوفًا أن يثير ذلك فتنة تعجز الحكومة عن تلافيها؛ إذ ليس عندها جند كاف في العراق ولا سبيل إلى إرسال جند من مكان آخر، وهي في قتال مغلوبة فيه على أمرها في البلقان، فاكتفت بجعل فريد بك قومندانا لها موقتًا. فكان أول عمله إغراء عجيمي بك السعدون بالزحف برجاله على البصرة وطلب إخراج طالب بك منها أو يهجم برجاله عليها، فزحف عجيمي حتى وصل إلى قرب البصرة فاضطرب الناس وفر الأجانب إلى الأماكن القريبة الآمنة كالمحمرة وبطلت التجارة، وخاطب وكلاء الدول الحكومة بوجوب إكراه عجيمي بك على الرحيل، وفي أثناء ذلك هجم بعض أشقياء العرب على فريد بك وهو في جهة العشار مدخل البصرة من شط العرب، مع بديع بك نوري متصرف المنتفك فقتلوهما بالرصاص، فسكنت بعد ذلك ثورة عجيمي بك السعدون، وجاء البصرة مصالحًا لطالب بك طالبًا منه العفو، ثم إنه أرسل برقية إلى الحكومة باسمه واسم كبراء عشيرته يطلبون فيه اللامركزية الإدارية في البلاد، فهذا مثال من سياسة الاتحاديين وإدارتهم فنسأل الله حسن العاقبة، وتوفيق الدولة.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من بلدة العطف في القطر المصري بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله ومن والاه إلى جناب ينبوع الفضائل، ومتبوع الأفاضل، الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا، مد الله في مدته، السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد فإني سائلكم - لا عدمكم المسلمون - عن أمور اشتدت الحاجة إليها نلتمس إجابتنا عنها بمناركم الأنور، ولكم من الله تعالى الجزاء الأوفر. (س22) فنسألكم عن آلات الملاهي من طبول ومزامير وذوات أوتار وفونوغراف هل فيها قول يجوز تقليده؟ فإنا نجد في بعض كتب المالكية وبعض رسائل كرسالة الشيخ النابلسي وكرسالة للأمير المالكي ذِكْر قولٍ بالجواز مع إيراد ما يشعر بجواز العمل به؟ (س 23) وهل يعول على ما يذكره الأئمة من أن من قال كذا شعرًا نال كذا أجرًا كقول الشعراني من قال عقب كل صلاة جمعة: إلهي لست للفردوس أهلاً ... ولا أقوى على نار الجحيم فهب لي توبة واغفر ذنوبي ... فإنك غافر الذنب العظيم خمس مرات توفي مؤمنًا بلا شك. نقله عنه الباجوري في حاشيته على أبي شجاع الشافعي؟ فإن قلتم: نعم، فما مستند ذلك، ومثله إنما يؤخذ عن الشارع ولم ينقل عنه - فيما أعلم - أنه وعد على شعر بأجر خاص؟ وإن قلتم: لا، فكيف استجاز الأئمة ذكر ذلك مع أن منهم المجمع على جلالته كالسيوطي فقد أورد من هذا شيئا في كتاب الأرج في الفرج؟ (س 24) هل يجوز لبس شيء شك في أنه حرير دودة أو حرير زراعة؟ وهل من علامة تميز بينهما أو يرجع في ذلك لذوي الخبرة بهذا الشأن؟ (س 25 و26) هل يحرم شرب الدخان في مجلس القرآن؟ إن قلتم: نعم فهل هو إجماعي أو ثم قول يجوز تقليده بالحل؟ وهل ضابط المجلس العرف أو ما هو؟ فإن القراء قد يختصون بنحو دكة، والسامعون معهم في نحو خيمة واحدة على دكك أخرى فيشرب البعض تعللا بأن المجلس إنما هو محل القارئين والعرف يأبى ذلك، وما دليل تحريم الشرب المذكور مع حدوث الدخان بعد زمن النبوة؟ نلتمس الإجابة عن ذلك، لا برحتم ملجأ للسائلين المبتغين سواء السبيل آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد علي الطباخ ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالعطف البحيرة * * * سماع آلات الطرب بينا في الجزء الأول والثاني من مجلد المنار العاشر خلاف العلماء في سماع آلات الطرب وأدلة من حظرها وأدلة من أباحها والترجيح بينها؛ فعلم من ذلك أن سماعها مباح لذاته، وقد يعرض له الحظر إذا ترتب على السماع معصية، فليرجع السائل إلى ما نشرناه هنالك عسى أن يعرف الحق في المسألة بدليله. * * * الثواب المعين على إنشاد شعر معين ما ذكر في السؤال شيء لا دليل له من أدلة الشرع، فلا يعول عليه، ولا يُلتفت إلى ناقله كائنًا من كان، ولا يقبل كلام أحد في ثواب الآخرة وعقابها إلا بدليل عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن الشعراني الذين نقل عنه الباجوري ذلك القول في البيتين ليس من الأئمة المجتهدين، ومن اتفق الناس على إمامتهم في فقه الدين ليس كلامهم حجة ولا شرعًا بالإجماع، وإنما معنى إمامتهم أن لهم مسالك في فهم النصوص والاستنباط منها وترجيح متعارضها قد استفاد منها الناس وتبعوهم فيها وهي التي سميت مذاهب. * * * لبس المشكوك فيه هل هو حرير أم لا من شك في ثوب هل هو حرير محرم أم لا؟ يجوز له أن يلبسه لأن الحرمة لا تثبت بالشك والاحتياط أن لا يلبسه حتى يراجع أهل المعرفة ويخرج من الشك إلى اليقين. والعبرة في مثل هذا بأهل الخبرة الذين يوثق بمعرفتهم. * * * شرب الدخان في مجلس القرآن وحكم شربه قد سبق لنا إفتاء عن هذا السؤال، ونقول الآن بالإيجاز: تعظيم القرآن واحترامه واجب قطعًا وإهانته محرمة قطعًا بل يكفر متعمدها، والعمدة في ذلك القصدُ ويجب فيه مراعاة العرف، والأصل في الدخان الحل إلا إذا كان ضارًّا؛ إذ يحرم تناول كل ضار بالإجماع. *** الحلف بالرسول والحلف بغير الله (س27 و28) من صاحب الإمضاء بمصر (ورد من عدة سنين ونُسِيَ) حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار: سأل سائل عن الحلف بغير الله تعالى فقال قوم: يجوز الحلف برسوله صلى الله عليه وسلم فأنكرتُ ذلك لعدم مشروعيته، فنسب آخرُ للمنار تقرير جواز الحلف بغير الله تعالى من نبي وولي، فأسأل من فضيلتكم بيان الحق بهذه المسألة على صفحات المنار بدون إحالة على أعداد سابقة خدمة للدين المبين واقبلوا في الختام سلامًا واحترامًا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي يوسف ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحامي بمصر حاشية: وأرجو بيان حكم الحلف بغير الله تعالى. (ج) صح في الأحاديث المتفق عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله، ونقل الحافظ ابن عبد البر الإجماع على عدم جوازه قال بعضهم: أراد بعدم الجواز ما يشمل التحريم والكراهة؛ فإن بعض العلماء قال: إن النهي للتحريم وبعضهم قال: إنه للكراهة. وبعضهم فصَّل فقالوا: إذا تضمن الحلف تعظيم المحلوف به كما يعظم الله تعالى كان حرامًا، وإلا كان مكروهًا. أقول: وكان الأظهر أن يقال: إن المحرم أن يحلف بغير الله تعالى حلفًا يلتزم به فعل ما حلف عليه والبر به؛ لأن الشرع جعل هذا الالتزام خاصًّا بالحلف به أي بأسمائه وصفاته، فمن خالفه كان شارعًا لشيء لم يأذن به الله. وبهذا يفرق بين اليمين الحقيقي وبين ما يجيء بصيغة القسم من تأكيد الكلام وهو من أساليب اللغة، وقد قالوا بمثل هذه التفرقة في الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (أفلح وأبيه إن صدق) فقد ذكروا له عدة أجوبة منها نحو ما ذكرناه، قال البيهقي: إن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد للقسم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف. قال النووي في هذا الجواب: إنه هو الجواب المرضي. وأجاب بعضهم بقوله: إن القسم كان يجري في كلامهم على وجهين للتعظيم وللتأكيد، والنهيُ إنما وقع عن الأول. وأقول: إن هذا عندي بمعنى قول البيهقي. وقيل: إنه نسخ وقيل: إنه خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم وقد ردوهما. والظاهر أن ما كان من حلف قريش بآبائها كان يقصد به التعظيم والالتزام ما حلف عليه، ولذلك كان من أسباب النهي وإلا فلأنهم مشركون غالبًا. روى أحمد والشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) وفي لفظ (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله) فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: (لا تحلفوا بآبائكم) رواه مسلم والنسائي. وروى الشيخان عنه أيضًا (من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله) رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو حصر، وفي معناه حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن حبان والبيهقي مرفوعًا (لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) . فهذه الأحاديث الصحيحة، ولا سيما ما ورد بصيغة الحصر منها، صريحة في حظر الحلف بغير الله تعالى، ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عموم (غير الله تعالى) والكعبة وسائر ما هو معظم شرعًا تعظيمًا يليق به؛ ولا يجوز أن يعظم شيء كما يعظم الله عز وجل ولا سيما التعظيم الذي يترتب عليه أحكام شرعية، ولقد كان غلو الناس في أنبيائهم والصالحين منهم سببًا لهدم الدين من أساسه واستبدال الوثنية به، ونسأل الله الاعتدال في جميع الأقوال والأفعال. *** ترك العمل يوم الجمعة (س29) من صاحب الإمضاء بمصر: سيدي العلامة المفضال السيد محمد رشيد أفندي رضا حفظه الله. ربما علمتم بحركة تجار دمشق واتفاقهم على إغلاق حوانيتهم ومحلاتهم في كل يوم جمعة، ولكن هذا لم يرق لبعض المشاغبين كالشيخ عبد القادر الخطيب المعلوم عند سيادتكم وأمثاله فتكلموا مع الوالي بعدم صلاحية ذلك وإجبار التجار على الشغل في ذاك اليوم فطلب الوالي بعضًا من التجار وخاطبهم بهذا الشأن استحسانًا لا جبرًا، فما قبلوا فلما رأى الشيخ عبد القادر الخطيب المومأ إليه أن سعيه لدى الوالي لم يفده بشيء خطب في الجامع الأموي وقال: إنه لا يجوز الإغلاق في يوم الجمعة واستدل بقول الخفاجي على أنه تشبه باليهود والنصارى وأورد الآية الكريمة الواردة بحق يوم الجمعة، وأنه لطلب الرزق إلى آخر ما أملاه عليه ضميره. فالمسألة أخذت دورًا مهمًّا في دمشق لذلك كتب إليَّ جماعة من التجار يطلبون أن أعرض هذا الأمر لفضيلتكم وتقدم لهم النصوص الواردة في يوم الجمعة، ومن علماء المذاهب الأربع في الأزهر، وترد إليهم ذلك حالاً فلذا لكوني اعتبرت واعتادت الأمة الإسلامية الاستنارة بعميم فضلكم أرجوكم التفضل بكتابة ما ورد بحق يوم الجمعة وسبق منذ ثلاث سنين سألت فضيلتكم مثل هذا السؤال من السودان وأجبتم عليه في المنار وبه عمل فأدام الباري فضيلتكم سيدي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد حمدي النجار (ج) سبق للمنار بيان هذه المسألة وفصلنا القول فيما ورد في يوم الجمعة في مقالات المسلمين والقبط، التي جردت من المنار وطبعت في رسالة على حدتها فيمكنكم إرسال نسخة منها أو أكثر إلى من كفلوكم أن تسألونا عن النصوص الواردة في يوم الجمعة. هذا وإن قول الشيخ عبد القادر الخطيب: إنه لا يجوز إغلاق المحلات التجارية يوم الجمعة - إن صح - غريب جدًّا، لا من حيث إنه اجتهاد منه وهو يحرم الاجتهاد في هذا العصر، فإن هذا ديدن جميع الذين يغلطون بالإنكار على المصلحين الذين يدعون الناس إلى الاهتداء بالكتاب والسنة يزعمون أن هذا الاهتداء يستلزم الاجتهاد الذي أغلق أمثالهم بابه بالقول، فهم ينكرون الاجتهاد قولاً ثم تراهم يحرمون على الناس بأهوائهم ما أحله الله لهم ويستدلون على ذلك بما لا يدل عليه من الآيات والأحاديث وهو عين ما ينكرون من الاجتهاد. والاهتداء بالكتاب والسنة الذي يدعو إليه المصلحون لا يستلزم مثل ذلك فإنه قد يكون مع الاستعانة على فهمهما بكلام ثقات المفسرين والمحدثين. فإذا كان من يدعي تحريم إغلاق المحلات التجارية يوم الجمعة أو كراهته شرعًا مقلدًا لأحد الأئمة فليأتنا بنص من كلامه أو نقل ثقات أصحابه المدونين لمذهبه في ذلك؛ وإن كان مجتهدًا فلكل أحد أن يسأله عن دليله، وفي السؤال أنه استدل على ذلك بقول الخفاجي: (إنه تشبه باليهود والنصارى) وهذا غير صحيح بل هو مخالفة لهم؛ لأن اليهود يتركون العمل يوم السبت وخالفهم النصارى فتركوا العمل يوم الأحد، فلو قال فيمن يتركون العمل يوم الأحد من المسلمين في بلاد مصر وبيروت إنهم تشبهوا بالنصارى لكان له وجه، وأما من يتركون العمل يوم الجمعة فلا وجه لدعوى أنهم متشبهون بهم إلا إذا صح الاستدلال بالشيء على ضده، فإن تشبه الإنسان بقوم إنما هو أن يفعل مثل فعلهم بحيث يشتبه حاله بحالهم فيظن من لا يعرفه أنه منهم. ولا يقول عالم ولا عاقل: إن التشبه بأجناس العمل العامة يكون محل بحث، وإلا لكان من مقتضى عموم التشبه أن تترك كل أعمال العمران التي سبقونا إليها من فنون وضروب الصناعة والزراعة والتجارة، وقد فصلنا مسألة تشبه المسلمين بغيرهم غير مرة، ومن أوسعها بيانًا الفتوى 69 من المجلد الرابع عشر (ص907 - 911) فليراجعها من شاء.

نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ـ 5

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية تابع ما قبله فائدة بعثة عيسى والفرق بين صورته في القرآن وصورته في الأناجيل فإن قيل: إذا كانت هذه العقائد التي امتازت بها المسيحية عن الإسلام واليهودية باطلة؛ فما فائدة بعثة عيسى إذًا، ولِمَ فتن الله الناس به حتى اتخذوه إلهًا؟ قلت: لا شك أن عيسى كان نبيًّا كبيرًا ورسولاً عظيمًا جعله الله مثالاً حسنًا للناس ليهتدوا بهديه وليقتدوا به في أخلاقه وأعماله وأقواله وسيرته الطاهرة، وقد اشتهرت تعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة والرأفة والزهد في الدنيا كما قال القرآن الشريف : {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} (الحديد: 27) وذاع إصلاحه في الأرض منذ وجوده للآن رغمًا عن كل ما طرأ على دينه من التحريف والتبديل مع كثرته. ومن فوائد بعثته أيضًا أن الله تعالى جعله دليلاً على قدرته على البعث والقيامة الأخروية، فإن الناس كانت قد ضعفت فيهم أو تلاشت من بينهم تقريبًا هذه العقيدة الكبرى لدرجة جعلت الصدوقين من اليهود وهم الأمة التي اشتهرت بكثرة الوحي فيها والأنبياء ينكرون البعث يوم القيامة (مت 22: 23 وأع 23: 8) وكان يوجد من النصارى أيضًا من تبعهم في ذلك كبعض أهل كورنثوس كما يفهم من رسالة بولس الأولى إليهم (15: 12) وتجد أسفار العهد القديم خالية من التصريح بهذه العقيدة اللهم إلا بعض إشارات طفيفة كما في سفر التثنية (32: 19 - 43) ولعل السبب في ذلك وجودهم بين المصريين مدة (430) سنة (خر12: 40) واقتباسهم منهم هذه العقيدة التي كانت عالقة كثيرًا بأذهان المصريين [1] فانتقلت منهم إلى بني إسرائيل وأصبحت عندهم من الأمور التي لا يترددون في قبولها فلذا لم يحتاجوا للتذكير بها كثيرًا فاكتفت كتبهم بالإشارة إليها أحيانًا، ولا تنس أن بني إسرائيل كانوا من أشد الأمم ميلاً للتقليد وخصوصًا للأمم الغالبة، فلذا انتقلت إليهم هذه العقيدة من المصريين وانتشرت بينهم، أو كان السبب في قلة ذكر كتبهم لها أن الناس كانوا في تلك الأزمنة قصيري الإدراك بلداء الشعور، وخصوصا اليهود ذوي الرقاب الصلبة (خر32: 9) فلذا ما كانوا يتأثرون ولا تنفعل نفوسهم بالمواعيد الآجلة انفعالها بالمواعيد العاجلة التي كثرت كتبهم من ذكرها لهم لغلظ قلوبهم وقساوتها فلما كَثُرَ بين الناس الشك في هذه العقيدة وارتقى إدراكهم ورق شعورهم عن ذي قبل جاء عيسى لتبيين هذه العقيدة العظمى، واشتهر بالتصريح بها أكثر من جميع من سبقه من أنبياء بني إسرائيل، وقد بين قدرة الله تعالى على البعث والنشور بمعجزاته العظيمة كإحياء الموتى وخلقه من الطين طيرا وبوجوده هو نفسه بدون أب خلافا لما اعتاده الناس فالله تعالى الذي أجرى على يديه كل هذه الآيات البينات (أع 2: 22) لا شك أنه قادر على إحياء الموتى يوم القيامة [2] . فإصلاح الأخلاق وتذكير قومه بكلام الله القديم الذي كانوا هجروه وإرشادهم إلى حقيقة الشريعة وروحها والدعوة إلى الإيمان باليوم الآخر والزهد في الدنيا؛ لشدة انغماس الناس في زمنه في الماديات هي أهم ما جاء عيسى به، وهي أعظم ما عرف عنه بين جميع أتباعها، واشتهر به على اختلافهم في الآراء والمعتقدات ولو أنهم جعلوا نعيم الآخرة روحانيًّا فقط، مع اعترافهم بالبعث الجثماني بل والعذاب الجسداني أيضا [3] بسبب تأثير أقوال بعض فلاسفة اليونانيين فيهم كأرسطو حتى أولوا أقوال المسيح نفسه الدالة على عكس ما ذهبوا إليه تقليدًا لهم كما في (متى 26: 29 ولوقا 22: 30) . ولكن من المجمع عليه أن أكثر تعاليم عيسى وشغله الشاغل كان في الدعوة إلى مكارم الأخلاق والسلم والتمسك بروح الدين [4] وجوهره الإيمان باليوم الآخر والعمل على نشر ذلك كله بين العامة والخاصة من قومه، ولكنه قل أن تعرض للإلهيات لعدم حاجة اليهود إليها بل أحالهم فيها إلى ناموسهم؛ إذ فيه الكفاية منها، وبين أن التوحيد هو أول كل الوصايا (راجع مثلا مرقس 12: 28 - 34) كما كان معلومًا لديهم من قبل وقد استفاد العالم من تعاليمه كثيرًا منذ زمنه إلى الآن. وأما افتتان الناس به ودعواهم له الألوهية، وإن كان هو تبرأ من إطلاق لفظ الصالح عليه كما سبق (مت 19: 17) فذلك لا يطعن في انتفاعهم العظيم به عليه السلام، وفي أنه كان إمامًا ورحمة لهم وآية للعالمين كما أنه لا يطعن في فائدة نزول الغيث كونُه قد يصيب بعض البيوت مثلاً فيهدمها على أهلها، ولا يطعن في نفع النار وغيرها أنها كثيرًا ما تؤذي الإنسان وتهلكه، وهي أقوى ما يستعمله الإنسان للتدمير في الحروب وغيرها. فهذه سنة الله في خلقه؛ إذ يندر أن يوجد شيء في العالم خال من الضرر في جانب نفعه الكبير فكذلك بعثة عيسى وإن أفادت الناس كثيرًا إلا أنها لم تخل من الأضرار بضعاف العقول الذين ألَّهوه وعبدوه من دون الله، تعالى عما يشركون. فالاعتراض على بعثته بسبب ذلك كالاعتراض على جميع ما خلق الله مما لا يخلو من ضرر، ولذلك أيد الله تعالى - كما قال القرآن - أتباع عيسى مع ضعف إيمانهم وفساد بعض عقائدهم حتى نشروا دينه على علاته في الأرض، وأصبحوا فيها ظاهرين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (الصف: 14) أي: قل يا محمد كما قال عيسى لأصحابه ما ذكر، والحكمة في قول القرآن ذلك بدل أن يقول: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله، أنهم لم يكونوا في دينهم على ما يرام كما يفهم من قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ} (آل عمران: 54) لأن يهوذا باعتراف النصارى كان منهم وكذلك بطرس الذي سماه المسيح شيطانًا، وغيرهما كان ضعيف الإيمان أو عديمه كما سبق بيانه (راجع صفحة 52 و88 و92) وقال القرآن أيضا: {إِذْ قَالَ الحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ} (المائدة: 112) الآية، وقال: {فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} (مريم: 37) الآية. وإذا كان الله أيدهم مع ضعفهم هذا وفساد بعض عقائدهم بسبب أن في دينهم أشياء أخرى كثيرة صالحة للبشر، وهي أكثر مما ألحق به من المفاسد فمن باب أولى يؤيد الله المؤمنين الصادقين الخالي دينهم وعقائدهم من التحريف والتبديل؛ لذلك ضرب الله الحواريين مثلاً للمؤمنين؛ لبيان كرمه وحلمه وتفضله على عباده بالخير الكبير، ولو لم يستحقوه كله؛ ليعلموا أنهم إن نصروا الله، ولو قليلا، نصرهم هو كثيرًا كما فعل بأصحاب عيسى، ولم يضرب المثل بغيرهم من الأمم السابقة المؤمنة؛ لأنهم لم يبق لهم ملك في الأرض مشاهد كاليهود، أو أنهم انقرضوا كمؤمني قوم صالح وهود. هذا وقد بين القرآن الشريف تاريخ عيسى كما بيناه هنا فقال الله تعالى فيه: {إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} (الزخرف: 59) [5] ] وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ [6] لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [7] [ أي كاختلاف اليهود (الزخرف: 60-63) في القيامة لعدم صراحتها في كتبهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} (الزخرف: 63-65) لاحظ العطف هنا بالفاء {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} (الزخرف: 65-66) والآيات في بيان فضائل المسيح ومزاياه وأعماله بالثناء عليه عديدة شهيرة [8] فانظر إلى آداب القرآن العالية في المسيح فهو يصوره دائمًا بغير الصورة التي تفهم من الأناجيل وفيها كثير من المسائل تؤدي إلى الطعن الفظيع فيه كما أدت كثيرين إلى ذلك في أوروبة. فنحن وإن كنا نبرأ إلى الله من مطاعنهم هذه نشير هنا [9] إلى بعضها ولا نتعرض للبحث فيها طويلا بمثل ما تعرضوا به من المبالغة في الطعن إجلالاً لمقامه السامي عندنا بسبب شهادة القرآن له ليس إلا، فمما عابوه به: (1) مسألة تردده وهو شاب عزب جميل على بيت مريم ومرثا أختها وهما عاهرتان (قارن لوقا 7: 36 - 39 بيوحنا 11: 1-3 و12: 1-8 وحبه لهما يو 1: 5) والأكل في بيتهما والمبيت عندهما ودلك مريم قدميه ومسحه بشعرها ودهن رأسه بالطيب (لو 10: 38 - 42 ومت 21: 17 و26: 6 - 13) وكثرة اختلاط غيرهما من النساء به وبتلاميذه ومصاحبتهن لهم في كل مكان وخدمتهن له من أموالهن (لو 8: 1-3) إلى غير ذلك مما يحرم علينا الإسلام الخوض به وسوء الظن بالمسيح بسببه، فإن لم يفتتن هو أو تلاميذه بهن فكيف لا تفتتن مثل هؤلاء النساء بهم وأكثرهن عزبات؟ ومن أراد الاطلاع على بعض ما يقوله علماء الإفرنج في مثل هذه المسألة فليقرأ الفصل السابع من كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة، تأليف فيلب سدني Philip Sidney. (2) وجود المسيح في عرس يشرب الناس فيه الخمر بحضرته ويسكرون (يو 2: 10) وهو لا ينكر عليهم ذلك بل ساعدهم على المنكر وحول لهم الإناء خمرًا، فكأنه زاد الطين بلة (يو 2: 1-11) حتى رماه المعاصرون له من اليهود بأنه شريب خمر محب للخطاة والعشارين (لو 7: 33 و34) ومن كلامه في لوقا (5: 37 -39 ومتى 9: 17) يفهم أنه كان له دراية بالخمر وأحوالها. (3) اختصاصه أحد تلاميذه يوحنا بحبه، واتكاء هذا في حضنه والتدلل عليه، وكان يوحنا إذ ذاك فتى صغيرًا، وعدم تجاسر التلاميذ الآخرين على سؤاله إلا بواسطة هذا التلميذ المحبوب وحده (يو 13: 23 - 25) وتجرد عيسى عن ثيابه أمامهم بعد العشاء بدون مناسبة مما يوهم أنه سكر بكأس العشاء (يو 13: 4 و5 ومت 26: 29) . (4) قولهم: إنه كذب مرة على إخوته وغشهم (7: 8 و10) راجع حاشية صفحة (12 و13) من هذه الرسالة في النسخة المطبوعة على حدتها. (5) أمره تلاميذه بشراء السيوف وحملها للدفاع عنه فضرب أحدهم بالسيف عبد رئيس الكهنة ليقتله فأفلتت الضربة وأصابت أذنه فقطعتها (لو 22: 36 - 38 و50) مع أنه كان في أول الأمر يحض الناس على محبة الأعداء (مت 5: 44) وهو أمر مغاير للطباع البشرية حتى لم يقدر عليه هو نفسه فخالف بذلك وصيته، وكان أول من نقضها بعمله هذا [10] راجع أيضا رسالة الصلب ص (122 و123) . (6) عدم احترامه لأمه مريم وإهانتها مرارًا أمام الناس (يو 2: 4 و19: 26 ومت 12: 46 -50) ومخالفته بذلك قول الله (تث 5: 16) : (أكرم أباك وأمك) ثم دعواه أنه ما جاء لينقض الناموس (مت 5: 17) مع أنه نقضه في أعظم أركانه وأكبر دعائمه وهي الوصايا العشر [11] . (7) إيجاده التقاطع والتفريق بين الناس وحضهم على بغض أهليهم وأقاربهم حتى آبائهم وأمهاتهم و

تاريخ الجهمية والمعتزلة

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ تاريخ الجهمية والمعتزلة [*] (8) تلقيب الجهمية بالجبرية اشتهر عن جهم القول بالجَبْر، بفتح الجيم وسكون الموحدة، وهو إسناد فعل العبد إلى الله تعالى، ففي المواقف للعضد وشرحها للسيد: الجبرية: متوسطة تثبت للعبد كسبًا كالأشعرية، وخالصة لا تثبته كالجهمية قالوا: لا قدرة للعبد أصلاً لا مؤثرة ولا كاسبة، بل هو بمنزلة الجمادات فيما يوجد منها. اهـ. لم يَعُدّ العضد في (المواقف) الجهمية فئة على حدتها كما فعل غيره من أرباب المقالات، بل جعلها قسمًا من الجبرية، فلذا عسر السقوط عليها من المواقف إلا بالسبر، وقد عرفتها. والجبر المذكور هو أحد آراء الجهمية، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (ليس الذي أنكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة، وإنما الذي أطبق السلف على ذمهم بسببه إنكار الصفات حتى قالوا: إن القرآن ليس كلام الله وإنه مخلوق) . اهـ. وعلى قول العضد الأشعرية جبرية متوسطة، اذكر ما قاله العلامة المقبلي في (العلم الشامخ) [1] ، وعبارته: لما رأى محققو الأشاعرة بطلان مذهب جهم بالضرورة، وعود مذهب الأشعري وأتباعه إليه بأدنى إلمام، واضمحلال الكسب كيفما قلبته، وبطلان سعي أهله، تسللوا عنه لواذًا، فمنهم الراجع إلى الحق صريحًا، ومنهم المقارب ولكن مع التستر باللهج بعبارات الأسلاف وتمويه التقارب فيما بينهم وبين الأشعري والكون تحت رايته، وقد رفضوه ونسبوه إلى إنكار الضرورة من حيث المعنى: ثم سمى المقبلي من هؤلاء المحققين إمام الحرمين والفخر الرازي وغيرهم فانظره. * * * (9) التنبيه لما وقع من خلل النقل عن الجهمية وغيرهم أرى من واجب كل من يؤرخ مذهب قوم، وكل من يناقش فرقة ما في مذهبها، أن ينقل آراءها عن كتب علمائها الثقات، ويقوم بالعزو إلى مآخذها ومصادرها؛ لتكون النفس في طمأنينة مما يريبها إن لم يعن بهذا الواجب - هذا كله إذا أمكن الظفر بكتبها نفسها وآرائها التي دونتها رجالها - وإلا فعلى النَّهِم بتعرف الحقائق أن يأثر عن كتب الأئمة المحققين ما أثروه، ويبني على ما بنوه، مع التحري والتيقظ، وما على باذل جهده من ملام. وبالجملة فلا بد من السند في قبول ما يُعْزَى ويُرْوَى إلى تلك الفرقة، فإما عن أسفارها أو عن إمام ثقة أثر عنها، وأما رمي فرقة برأي ما بدعوى أنه قيل عنها ذلك أو يقال، فمما لا يقام له وزن في الصحة والاعتماد، فلا يتعانى في رده أو مناقشته، وهذه القاعدة يجب أن تؤخذ دستورًا وأمرًا عامًّا في كل ما يؤثر وينقل، وأصلها مما نبه عليه أئمة الرواية عليهم الرحمة والرضوان، إذ لم يقبلوا الأثر إلا بعد معرفة راويه وضبطه وثقته وعدالته؛ إذ ليس من السهل تشريع أمر إيجابًا أو حظرًا، تحليلاً أو تحريمًا، بل أمامه ما أمامه من بذل غاية الوسع، ونهاية الجهد، في تعرف مورده ومصدره تَحَرِّيًّا للحق، واحتياطًا للصواب، وهكذا كل ما يؤثر من الأقوال والآراء، سواء كانت في الأصول أو الفروع أو اللغات أو الأقاصيص، ودليل هذا الأصل: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: 36) والآية {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: 111) إذا عرف هذا تبين أن التساهل في الحكاية والنقل لا يقول به المحققون، ويربأون بأنفسهم عن الخوض فيه وإنما يستروح به المتعصبون والمندفعون وراء كل ناعق، أو المقلدون بدون تمحيص ونقد. من أعجب ما اتفق لي في ذلك ما رأيته في (طبقات السبكي) [2] من قوله: (وأما جهم فلا ندري ما مذهبه، ونحن على قطع بأنه رجل مبتدع ... ) إلخ؛ ثم قال [3] : واعلم أن جهمًا غاص في المعاني بزعمه، وأعرض عن الظواهر فسقط على أم رأسه، وقامت عليه حجج الشرع، ومنعته عن سبيل الحق أي منع، إلخ، فتأمل قولَ السبكي: فلا ندري ما مذهبه، ثم تَهجُّمَهُ عليه مع أن السبكي انتقد على ابن حزم في تحامله على الأشعري قبل أسطر وعبارته: وهذا ابن حزم رجل جريء بلسانه، متسرع إلى النقل بمجرد ظنه، هاجم على أئمة الإسلام بألفاظه، وفي كتابه الملل والنحل الإزراء بأهل السنة، ونسبة الأقوال السخيفة إليهم، من غير تثبت عنهم، والتشنيع عليهم بما لم يقولوه. ثم قال السبكي: إن ابن حزم ما بلغه بالنقل الصحيح معتقد الأشعري، وإنما بلغه عنه أقوال نقلها الكذابون عليه، فصدَّقها بمجرد سماعه إياها، ثم لم يكتف بالتصديق بمجرد السماع حتى أخذ يشنع. اهـ. فنقول له: لقد كدت تقع فيما رميت به الإمام ابن حزم. وممن نبه على ما وقع من تساهل بعض المؤلفين الإمام فخر الدين الرازي في رسالته التي جمعها في المسائل الواقعة له في رحلته إلى ما رواء النهر، فقد قال في المسألة العاشرة ما مثاله: كتاب الملل والنحل للشهرستاني كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه، إلا أنه غير معتمد عليه؛ لأنه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمى بالفَرْق بين الفِرَق من تأليف الأستاذ أبي منصور البغدادي قال الرازي: وهذا الأستاذ كان شديد التعصب على المخالفين، فلا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه، ثم إن الشهرستاني نقل مذاهب الفرق الإسلامية من ذلك الكتاب، فلهذا السبب وقع الخلل في نقل هذه المذاهب اهـ كلام الرازي. وهكذا انتقد العلامة المقبلي في العلم الشامخ من ينقل مذهب المعتزلة من كتب الأشاعرة بأنه حصل الغلط عليهم في بعض كلامهم. وذكر أن هذا كثير الوقوع في حكاية المذاهب قال: صحة الرواية تنبني على التحري وعدم المجازفة، ثم أثنى على الرازي في تحريه النقل عن المعتزلة وعبارته: قد أكثر الرازي في تفسيره الحكاية عن القاضي وغيره من المعتزلة ثم قال: الرازي أكثر عناية في هذا الشأن، وأدقهم مسلكًا وأوسعهم مجالاً، وحاله في كتبه تحرير حجج الخصوم على أبلغ ما يمكنه، وليس كسائر الأشاعرة لا يعرفون مذهب المعتزلة على حقيقته، ولا ينصفونهم فيما عرفوا قال: وكذلك الزمخشري تنصيصًا وتلويحًا وإيماءً وتصريحًا، كما قال بعضهم: إنه دس الاعتزال تحت كل ذرة من كتابه. وقال أيضا: علم من المختلفين في العقائد اتباع الهوى وقبول المثالب من دون تثبت: ذكر ذلك في نقده على الذهبي في قوله عن الجاحظ: إنه باقعة قليل دين. قال: هو أجلُّ من ذلك وإن تحامل عليه مخالفوه في العقائد، فلا يصدقون عليه، وأصحابه المعتزلة أخبر به، فهو عند المعتزلة من جلة العلماء وعند الجميع مقدَّم الأذكياء الحكماء اهـ. وقال أيضا: وقد صار كل من الفِرَق يحكي الشر عن مخالفيه ويكتم الخير، بل يروي الكذب والبهت، كما تذكر الأشاعرة أن المعتزلة تنكر عذاب القبر، ترى ذلك فاشيًا بينهم، مع أن النقل عنهم باطل، وهو شبيه قذف الغافلات، فإن المعتزلة لا تكاد تظن قائلا يقول هذه إلا شذوذ مثل المريسي وضرار وهما بيت الغرائب، مع أن ضرارًا ليس من المعتزلة في روايتهم؛ لأنهم رووا عنه القول بالرؤية بحاسة سادسة، ورووا عنه القول بخلق أفعال العباد، وأنه رجع عن الاعتزال، قال: وعلى الجملة فليس شذوذه عن الفريقين بغريب، وإنما المُنْكَر إلزامُ المعتزلة قوله، وإنما هذه المسألة كسائر المسائل، لا بد فيها من شذوذ كشذوذ العنبري والظاهرية، وهذا شيء كثير يطلعك عليه كتب المقالات. اهـ. ويتفرع من هذا البحث مسألة جليلة، وهي إلزام الناس لوازم أقوالهم، وإضافتها إليهم إضافة أقوالهم أنفسهم، وقد نبَّه عليها أئمة الأصول، قال الإمام أبو إسحاق الشيرازي في (اللمع) : ما يقتضيه قياس قول المجتهد لا يجوز أن يجعل قولا له، قال: ومن أصحابنا من قال: إنه يجوز أن يجعل ذلك قولاً له، وهذا غير صحيح؛ لأن القول ما نص عليه وهذا لم ينص عليه، فلا يجوز أن يجعل قولا له. اهـ. ومثله يجري في قولهم: لازم المذهب ليس بمذهب، وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيلاً في هذه المسألة، وهو قوله في بعض فتاويه: (لازم قول الإنسان نوعان: أحدهما لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه؛ لازم الحق حقٌّ، ويجوز أن يضاف إليهم إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثيرًا ما يضيف الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب. والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه؛ إذ أكثر ما فيه أنه تناقضٌ، وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين عليهم السلام. ثم إن مَن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره فقد يضاف إليه، وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له لم يلتزمه لكونه قد قال ما يلزمه، وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا بلازمه، قال رحمه الله: وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب هل هو مذهب أم ليس بمذهب، هو أجود من إطلاق أحدهما، فما كان من اللوازم يرضي القائل بعد وضوحه به فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله، وإن كان متناقضًا. وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع الملزوم، واللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه، وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها، فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال) . اهـ كلامه. وهو تفصيل راعى فيه ما عليه أتباع الأئمة من إضافة ما يجري على قواعدهم إليهم، وجعله قولاً لهم، بحجة أن قواعدهم لا تأباه، أو أنه يعلم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه، كما قال تقي الدين. ولا يخفى أن الأقعد هو التورع عن الإضافة مطلقًا، فإن الذي يضاف إلى المرء هو ما قاله أو رواه عنه ثقة، وأما تقويل الإنسان ما لم يقله وإلزامه إياه، وأخذ نتائج منه، فهذا لا يدل عليه منقول، ولا يؤيده معقول، ولا جرى عليه التابعون بإحسان، وإنما نشأ هذا لما استفحل أمر التقليد، وعُومِلَتْ أقوال المتبوعين معاملة أقوال المعصوم ونصوص الكتاب نعوذ بالله من ذلك، وذلك ظاهر لمن له أدنى إلمام بسير القرون، واختلاف حال السلف عن الخلف في تحمل العلوم على أصولها. * * * (10) تمثل الشعراء بمذهب الجهمية قال الإمام ابن تيمية في كتابه (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) : أصل قول الجهمية هو نفي الصفات بما يزعمونه من دعوى العقليات التي عارضوا بها النصوص؛ إذ كان العقل الصريح الذي يستحق أن تسمى قضاياه عقليات موافقًا للنصوص لا مخالفًا، ولما كان قد شاع في عرف الناس أن قول الجهمية مبناه على النفي صار الشعراء ينظمون هذا المعنى كقول أبي تمام: جهمية الأوصاف إلا أنها ... قد لقبوها جوهر الأشياء اهـ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... * * * (11) بيان أن مذهب الجهم متلقى عن الجعد بن درهم وشيء من أنباء الجعد وقتله وروى الأئمة أن أول من قال بخلق القرآن وخاض فيه وصيره هِجَّيرَاه: الجعد بن درهم، وكان مؤدب [4] مروان آخر ملوك بني أمية، ولذا كان يلقب بمروان الجعدي؛ لأنه تعلم من الجعد مذهبه في القول بخلق القرآن والقدر وغير ذلك، وكان الناس يذمون مروان بنسبته إليه، قاله ابن الأثير. وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه: أقام الجعد بدمشق حتى أظهر القول بخلق القرآن، فتطلبه بنو أمية فهرب وسكن الكوفة، فلقيه بها الجهم بن صفوان فتقلد عنه هذا القول. وقال ابن الأثير في سيرة ابن هشام: قيل: إن الجعد بن درهم أظهر مقالته بخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري وهو أمير العراق وأمره بقتله، فحبسه خالد ولم يقتله، فبلغ الخبر هشامًا، فكتب إلى خالد يلومه ويعزم عليه أن يقتله، فأخرجه خالد من الحبس في وثاقه،

فرنسا الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فرنسا الإسلامية جاء في جريدة (المفيد) المفيدة تحت هذا العنوان ما يأتي: أثبتنا منذ أيام في صدر هذه الجريدة تعريب مقالة للطان أََنَّبَتْ فيها حكومتها على إدارتها الجائرة في المستعمرات الإفريقية ثم عثرنا اليوم على العدد الأول من جريدة فرنساوية صدرت حديثًا في باريس عنوانها فرنسا الإسلامية، ومديرها المسيو بول بروزون، غايتها البحث في إفريقية الفرنساوية، وحض حكومة الجمهورية على تبديل شكل إدارتها في هذه البلاد؛ لأجل استرضاء أهلها، والاستيثاق من مودتهم، وجميع ما تقدم يدل دلالة واضحة على أن أكثر المفكرين من أمة الفرنسيين يرون أن استمرار فرنسا على إنفاذ الخطة الإدارية المعتادة في إفريقية الشمالية، أمر يضر بسياستها أعظم الضرر فضلا عن كونه لا يتفق مع مبادئ دولة اشتهرت بأنها مهد الحرية. وإذا كان يهم القراء جدًّا أن يعرفوا ما تقول جريدة فرنسا الإسلامية ولا سيما في عددها الأول، فقد بادرنا إلى تعريب افتتاحيته وهي الآتية: إن عنوان هذه الجريدة يفيد خلاصة كل آرائنا ويعرف بدون إشكال المقصد الذي ندعي أننا نتبعه. وإن هذا العنوان بمثابة ضمانة للنصح المتبادل، وبمثابة صورة للارتباط، ثم على التقريب بمثابة رمز للاتفاق، بين شعبين كانا في الأمس متناكرين متعاديين، ولكن قضت المقادير بأن يدنو أحدهما من الآخر ليسيرًا غدًا في طريق مشترك. وإنه يبين أننا المجاهدون المقتنعون بفائدة سياسة الاتفاق، بأكثر مما يمكن تبيينه بالإرشادات الطويلة. لا مشاحَّة في أن فرنسا بفتوحاتها الإفريقية قد اكتسبت حقوقًا، ولكن لا مشاحة أيضًا في أنها بالفتوحات المذكورة أصبحت مسئولة عن واجبات مقدسة، بإزاء الذين وضعتهم تحت سيطرتها، وهي لا تستطيع إنكار ذلك. إن مستقبل هذه الامبراطورية الإسلامية الواسعة متوقف جميعه على الصورة التي تعرف بها فرنسة أن تطابق بين هذه الحقوق، وهذه الواجبات. إن هذه الامبراطورية التي اكتملت اليوم باحتلال مراكش تشتمل على عدد من السكان يمكن تقديره بدون مبالغة زهاء عشرين مليون نسمة، وكلهم يجمعهم دين واحد، ولهم احترام شديد لتقاليدهم القديمة المتشابهة، وهذا ما يجده كل إنسان مشروعًا لهم، فعلى أية طريقة يناسب فرنسة أن تسلك بإزاء هذا الجمهور القلق الأفكار الذي يرمقها بنظرات مملوءة من الرجاء، ومملوءة من الوجل أيضًا؟ هل يبدو لها أن تسحقه بتوحش، وتدفعه نحو الصحراء؟ هل يبدو لها أن تحكم عليه بالنفي؟ هل يبدو لها أن تستعبده استعبادًا شاقًّا؟ كل ذلك من المناهج الجرمانية التي لا يستطاع تأليفها مع مزية فرنسا الشريفة الفائقة في العدالة والرقة. كيف هذه الأمة الكريمة - التي لم يكن المظلومون يستنجدونها عبثًا - ترضى بأن تتحمل مسئولية ثقيلة مثل مسئولية بولونية، وفنلدنة والإلزاس واللورين؟ هل يتسنى لها أن تنكر أعمالها، والعبارات الجميلة التي كتبتها بدماء شهدائها في الصفحات الأولى من دستورها؟ كيف تجسر على أن تصادم الأحكام التاريخية، حين ترتكب هي نفسها شتم الكلمات الثلاث البديعة أي: (حرية، مساواة، إخاء) التي خطتها في ضميرها النقي، وعلى عتبات جميع هياكلها وقصورها؟ ومع ذلك فإنه عدا كل مسألة شعورية، فإن مصلحتها عينها تستدعي منها أن تتخذ لها موقفًا غير هذا. إنها إذا كانت في حكمها بمنزلة الأم الظالمة، فإنها تثير عليها في وسط حوزتها كثيرًا من الأضغان ذات الخطر. وبالعكس إنها بالعدل والرفق وبإجراء ما يستلزم عرفان الجميل تزيد قابلية النجاح في عملها العائد إلى نشر المدنية. إن الاعتماد على القوة وقت مزاولة الفتح هو لازم لسوء الحظ، فما دامت البلاد الخاضعة في ثورة مستترة، وما دامت غير خالية من الهرج بالكلية، فإن استعمال الطرق القسرية مما يجوز فيه قبول العذر؛ ولذلك لا نجادل في التدابير الاستثنائية التي ظنوا أنه كان يجب العمل بها في الجزائر حين كان الشعب بتمامه خاضعًا لتأثير الجمعيات الدينية المؤسفة، وحين كانت أصوات مشايخ الزوايا تصادف مكانًا من قلبه، فالذي يحسن منا تقديره الآن هو أنه لم يعد لهذه الخطة حق في الوجود، وأنه من الواجب على فرنسة أن تستبدل بها في القريب العاجل خطة أخرى أكثر حرية وعدلاً، وبذلك ترسم في أفريقية أثرًا مفيدًا وثابتًا. فمن جَرَّاءِ تأثير المدرسة العبدية [1] وهي من أهم المدارس اللاهوتية، وهي التي أسبابها ونتائجها تنطبق انطباقًا غريبًا على الأسباب والنتائج المكونة للحركة الفكرية الكبيرة القائمة حول الإصلاح، من جراء تأثير هذه المدرسة أخذ الإسلام في الانصلاح، إن تلاميذ الشيخ محمد عبده دخلوا في محاربة المتعصبين في الدين تعصبًا أعمى. وهم يستنكرون كل البدع، ويرفضون سلطة أصحاب المذاهب، وإذ كانوا خصومًا للتعصب الشديد فهم يعلمون التساهل الواسع، والشيخ عبده في تفاسيره للكتب الدينية يفصل العلم ومبدأ الاجتماع اللذين يوضحهما إلى أقصى درجاتهما عن حيز العقيدة الذي ينبغي أن يبقى نقيًّا ضمن أصول ثابتة، وبهذه الصورة لا يكون الشيخ عبده مقاومًا للدين كما يدعي أعداؤه، بل إن هذا اللاهوتي العظيم كان متقيدًا تمام التقيد بأحكام القرآن والسنة، وهو بذلك يعيد الإسلام إلى طهارته الأصلية، ويعيده إلى شبابه من حيث ملامسة التقاليد والنصوص. وبتأثيره النافع تصير شريعة النبي صلى الله عليه وسلم كما وجب أن تكون في كل آن، أي: دين التوحيد الحر المعقول الخالي من الأكليروس ومن التكاليف تقريبا، الذي يبث في النفوس أدبًا يقع تحت طاقتها، والذي بقاعدته السالمة من كل روح إجبارية استطاع أن يخرج إلى العالم مدينتين مثل بغداد وقرطبة. فالمدرسة العبدية من الآن فصاعدًا تفسح للمسلمين العاملين بدون تقييد مجالاً واسعًا للنجاح، وهي تسمح لهم فوق ذلك بأن يمتزجوا بالمعاطفة مع الشعوب الغربية، فالهند ومصر وسورية مدينات لهذه المدرسة بنجاح مدهش، ومنذ سنوات انتشرت هذه العقيدة في إفريقية الفرنسية ففي بادئ الأمر هزت تونس هزة نشاط كبيرة، واليوم قد امتدت إلى الجزائر وغدًا ستنبه مراكش. فلا جرم أن هذه الحركة هي من الحركات التي تستحق اهتمام أوربة، فإنكلترة وروسية وهولندة اللواتي عندهن مستعمرات إسلامية، وألمانية وإيطالية اللاواتي لهن الأمل بأن يصير عندهن من ذلك، كل هذه الدول ينظرن إلى هذه الحركة باعتناء؛ ولكن يظهر أن فرنسة وحدها غير شاعرة بها. إن هذه الغفلة أي: غفلة فرنسا الخارقة للعادة، والتي هي من قبيل الإثم وجلب الأخطار قد استمرت زمنًا طويلاً، وهي تعرقل مجهوداتنا في السياسة الإفريقية فمن اللازم أن تنتهي. إن فرنسة يجب عليها تلقاء نفسها أن تهتم بهذه المسألة مثل جاراتها بل أكثر؛ لأنه قد يتفق لسوء الحظ أن تصير اثنتان أو ثلاثة منهن عدوات لها في هذا المكان في المستقبل الإسلامي فينبغي لها أن تتخذ موقفًا بإزاء هذه الحركة التي أشرنا إلى أسبابها ومنازعها. هل يخطر لها أن تعتقها؟ إن ذلك لا يكون من الظلم الشنيع فقط، بل من الطيش الذي لا فائدة منه أيضًا، لا يمكن توقيف الشعوب متى كانت أحكام المقادير الغامضة تدفع هذه الشعوب رغمًا عن نفسها، إذا تظاهرت فرنسا بمناهضة هذه الحركة الوطنية في شمالي إفريقية، فإنها لا تستطيع أن تمنع شيئًا، فإن هذه الحركة مع ذلك تجري، ولا يكون نتيجة لهذا الحساب الفاسد إلا أن تُكون أعداء ألداء من الذين تستطيع أن تجعلهم معاضدين وأصدقاء إن لم تستطع جعلهم أبناء، وبالعكس إذا كانت تريد أن تظهر لهم الانعطاف ولا تتوقف عن منحهم مساعدة حرة خالصة فإنه تستخرج لها من هذه الحركة نفسها فوائد فائقة الحد؛ لأنها أولاً إذا سلكت هذا المسلك فإنها تقدر أن تراقب الحركة وأن تديرها، وأن تُدخل فيها معارفها، ثم بعد ذلك تتضافر مع علية القوم على إنفاذ ما تريد أن تعمله من نشر التمدن، وهذا شيء لا يعادله ثمن. لا ينبغي لنا أن نقع في الوهم: إذا كنا لا نعتمد على وساطة الأشخاص الذين لهم علاقة ضئيلة بالتقاليد الموروثة وبالإيمان، فإننا لا نستطيع أبدًا أن نتغلغل إلى الأجزاء العميقة من الشعب؛ لأن هذه الأجزاء بعيدة، ولا ثقة لها بنا، فهل نستطيع أن نعرف ما يصدر عنها؟ هل نستطيع أن نقدر الآمال التي تنعقد لديها والأضغان التي تنمو عندها؟ إنها بلا جدال عرضة لنفوذ الجمعيات الدينية، ومشايخ الزوايا، ولكن هل نعرف أين؟ وكيف؟ وإلى أية درجة؟ وفوق ذلك ينبغي أن لا ننسى الأمم المعادية لنا التي ترجو أن تغلبنا يومًا ما من جراء الصعوبات التي نصادفها هناك، وإن لهذه الأمم هناك عمالاً سريين عديدين يعرفون حق المعرفة أن يستخرجوا من الجهالة نفعًا. وفي مقابلة ذلك نحن المعدودون أصحاب البلاد، من أجل أننا أصحاب البلاد ليس عندنا شيء من السلاح، ولعمري إن حناننا ينشئ لنا سلاحًا كافيًا، إن هذا الحنان يساعد على أن يكون لنا في البلاد من أهل العرفان والتفكير والفهم رجال يقاومون الجمعيات الدينية ومشايخ الزوايا، فتصير علية القوم في جانبنا، أو في جانب خصومنا وهو مما يتعلق بنا لا بغيرنا. في الوقت الحاضر رغمًا عن انجلاء بعض الأوهام، فإن هذه الطبقة التي ذكرناها لم تزل تتمتع بالالتفات إلى جهة فرنسة وهي مسوقة إلى ذلك بأسباب عديدة: أهمها ميلها الشديد إلى حفظ مصالحها الأولية، ذلك الميل الذي تكون شدته على قدر المعرفة لمسائل الأمم، فهل ننكر هذا الاستعداد الميمون ونحتقر الفائدة التي تنجم عنه لنا؟ إن ذلك يكون خطيئة لا تغتفر، إن هذه المسألة مما لها يستحق الانتباه، فإن الساسة العالمية عرضة للتبدل، وإنه لدى حالة كهذه قد يعرض لنا أسباب الندامة من حيث إننا لم نكن أكثر استبصارًا أو كياسة مما كنا، فيلزم أن نعمل العكس وهو أن نحكم الرابطة التي تربط سكان هذا الوطن بنا، وأن نبدي لهم بأننا سعداء ومطمئنون بقبول معاضدتهم لنا في الأمر. ومن أجل ذلك فإنه من الواجب على حكومة الجمهورية أن تعمد في القريب العاجل إلى إنفاذ سياسة حرة عادلة في أفريقية الشمالية ونحن عازمون على أن نطري هذه السياسة، وأن ندافع عنها. إن الذي تحتاج إليه امبراطوريتنا الإفريقية هو القوانين الدستورية اهـ. (المنار) إننا لما صار لنا صلة بأهل تونس والجزائر، وعلمنا من عقلائهم وأهل البصيرة فيهم حقيقة ما يشكونه من سياسة فرنسة وإدارتها لبلادهم كنا نتعجب من أمر هذه الدولة التي تجمع بين الأضداد؛ إذ هي في أوربة على ضد ما هي في أفريقية، هي في أوربة أم الحرية والمساواة وناشرة لواء العلوم والفنون وما شم مسلمو أفريقية رائحة ذلك منها في بلادهم، هذه الرائحة الطيبة التي تحيا بها الأمم، بل شموا عوضًا عنها رائحة خبيثة، كنا نرى مسلمي هذه البلاد يبغضون هذه الدولة ويتربصون بها نوائب الدهر، ويتمنون لو تيسر لهم الهجرة من بلادهم ولا نرى مثل هذا من مسلمي الهند ولا من غيرهم من مسلمي المستعمرات الأوربية، حتى مسلمي روسية دولة التعصب الديني والسلطة المطلقة الاستبدادية، فقد كتب إليَّ كثير من أهل القوقاس يقولون: إنه قيل لنا إنه يجب علينا الهجرة من بلادنا إلى بلاد حكومتها إسلامية، وإننا لا نود أن نبتغي ببلادنا بدلاً إلخ. كنا نتعجب من هذه الطريقة التي جرت عليها فرنسة في تونس والجزائر ونرى أنه يمكنها أن تملك

المجلة المصرية الفرنسية ورأيها في المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المجلة المصرية الفرنسية ورأيها في المنار يُصْدِرُ هذه المجلة المفيدة في القاهرة المسيو بول تريبيه مديرها، والمسيو جاك لاويفر رئيس تحريرها، وقد ذكرت مجلة المنار في العدد الثاني وهذه ترجمة ما قالته فيها: أصدر الشيخ محمد رشيد رضا أول عدد من المنار منذ 15 عامًا فلم يمض رَدَحٌ من الزمان حتى رفع مجلته إلى المكانة الرفيعة التي تشغلها بحق وسط العالم الفكري الاجتماعي والعالم الديني الإسلامي بفضل الأفكار الحرة الإصلاحية التي لم يفتر عن نثرها؛ وإذ كان الشيخ رشيد التلميذ المخلص الغيور لرجال الإصلاح مثل الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده فقد أخذ على نفسه أن ينشر أفكار وعقيدة هؤلاء المصلحين العظام. وأن يدافع عنها بكل غيرة وحمية، مناضلاً بكل حزم وعزم التقليد الضيق والخرافات العديدة والمحافظة على القديم المحفوفة بالوساوس وكل هذه الأمور التي ساءت عاقبتها فأخرت ترقي الأمم الإسلامية وتسلقها مرقاة التقدم. أهم باب يشغل صفحات مجلة المنار، شأن كل المجلات الإسلامية، هو المختص بالاجتهاد وبالتالي علم تطبيق الأحكام القرآنية، وهذا العلم عَسِر ومعقد إلا أنه يصعب أو يتعذر الاستغناء عنه لأجل النجاح في إدخال طرق الإصلاح بين قوم تمسكوا حرفيًّا بظاهر الآيات على أن كل الأعمال التي يقوم بها المصلحون المسلمون بين الطبقات الإسلامية ذات المدنية واهتمامهم الدائم متوقفة على توضيح وبيان أن أحد الإصلاحات ينطبق على الأوامر السماوية، أو أن إحدى العادات هي من قبيل إساءة تأويل الأحكام القرآنية والسنن النبوية، وأنه ينبغي نبذها أو تغييرها فتكون منطبقة على حقيقة الدين الإسلامي القويم، وبناء على ما تقدم إذا كان مسلمو العالم اتفقوا على الميل إلى الحكومات الدستورية وتطلعوا إليها في هذه الأيام فما ذلك إلا لأن نخبة العقلاء منهم استطاعوا إقناعهم بأن المبدأ الدستوري ليس غير مناف للعقيدة القرآنية فقط، بل إن القرآن يأمر المسلمين بالشورى وتبادل الآراء لأجل إدارة الأشغال والمصالح العامة كما يتضح من آية: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) على أن الشورى هي أساس المبدأ الدستوري، وعلى هذا النمط يجري المصلحون في الأمور الأخرى، اهـ. ثم أشارت إلى ما جاء في بعض أعداد المنار من المباحث، وهي أوربة والإسلام، وامبراطورية ألمانية والإسلام، ومقالة ترجمت من النوفي فريمية الروسية فيما قاله إمبراطور ألمانيا أمام المبشرين الكاثوليك الألمانيين في إفريقية.

الاتفاق الإنكليزي التركي على خليج فارس وشط العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاتفاق الإنكليزي التركي على خليج فارس وشط العرب نلخص هنا بعض آراء الجرائد الأوربية والعثمانية والمصرية في الاتفاق ومطامع الدول: جاء في رسالة لمندوب المقطم في الآستانة (نشرت في 20 جمادى الآخرة و26 مايو) بعدما ذكر مواد الاتفاق ما نصه: هذا هو أساس الاتفاق العثماني الإنكليزي وإلى القراء الآن بعض مطالب فرنسا التي لم تر الجرائد الباريسية ضررًا من نشرها. أولاً: أن تصدر الإرادة السنية بإنشاء مستشفيات فرنسوية على أساس اتفاق سنة 1901 بين حكومتي الآستانة وباريس. ثانيًا: أن يحافظ على شروط هذا الاتفاق في المستقبل. ثالثًا: أن تعامل المكاتب الفرنسوية معاملة المكاتب العثمانية فيما يتعلق بالشهادات وبالإعفاء من دفع الأموال الأميرية. رابعًا: أن لا يسجن فرنسوي في المملكة العثمانية في غير سجون القنصليات. خامسًا: أن يعترف بالتبعية الفرنسوية للتونسيين والمراكشيين. سادسًا: أن يلجأ إلى التحكيم في بعض المسائل المختلف عليها بين الحكومة العثمانية وفرنسا. سابعًا: أن تعطى فرنسا امتيازًا بإنشاء فروع السكك الحديدية الآتية: أولا: في أرمينية: أ - خط سمسون سيواس. ب - خربوط - ديار بكر. ت - ديار بكر - أرضروم - طرابزون. ثانيا: في سورية: أ- مد سكة حديد الشام من رياق إلى جهات الجنوب. ب - تقسيم نقل البضائع بين فرع سكة حديد الحجاز التي تبتدئ من حيفا وسكة حديد الشام التي تبتدئ من بيروت، والعناية بحماية المصالح الفرنسوية وفتح ميدان واسع لها لتنمو في تلك الأنحاء. ثامنًا: أن تعطى فرنسا امتيازًا بإنشاء المرافئ التالية، وهي مرفأ أنابولي وهركله على البحر الأسود وطرابلس وحيفا ويافا في سورية. ويظهر أن ألمانيا لم تكتف بما لها من الامتيازات المهمة في سكة حديد بغداد وغيرها في البلاد العثمانية فإنها تسعى الآن لنيل مطالب اقتصادية في فلسطين لم أتمكن من معرفتها. وأما روسية فلها آمال كبيرة في البلاد الأرمنية ستعلم في العاجل القريب، إن لم تتنبه الوزارة العثمانية الحاضرة لسوء العاقبة، وتتدارك المسألة الأرمنية بالحكمة والعزم والتساهل. وعلى ذكر المسألة الأرمنية أقول: إن الحكومة لم تتمكن بعد من إنجاز وعدها للمجلس الملي الأرمني فالحال في ولايات الأرمن تزيد سوءا يومًا فيومًا ولا يعلم أحد ما سيقرره المجلس الملي في اجتماعه الآتي يوم الجمعة القادم. فإذا عجزت الحكومة عن المحافظة على حياة الأرمن وأموالهم فلا بد من تفاقم الخطب واتخاذ وسائل لا تؤمن مغبتها على الدولة فتتحمل الوزارة الحالية بتهاملها هذا تبعة كبيرة ليس في أوربة أو أفريقية بل في الولايات الأناضولية، وفي قلب البلاد العثمانية. * * * الاتفاق وآراء الجرائد الإنكليزية قال المقطم في 12 رجب ما نصه: أرسل إلينا صديق لنا من إنكلترة قصاصات من المقالات التي أنشأتها بعض الصحف الإنكليزية على أثر اتفاق الكويت عن احتمال التفاهم بين إنكلترا وألمانيا واتفاقهما فآثرنا تلخيص ما ورد فيها لأهميته: قالت جريدة الكومندايتور: دلتنا نتيجة المفاوضات التي دارت بين حكومتنا وحكومة برلين على بعض المسائل المعقدة في الشرق الأدنى على أنه أيسر لنا أن نسوي المسائل المهمة المختلف عليها بيننا وبين ألمانيا من أن نسوي بعض المسائل القليلة الأهمية كمسألة مسقط مع صديقاتنا وتعني بذلك فرنسا. وقالت جريدة الديلي كرونكل: ونحن نرجي الآن أن يعقد اتفاق بين إنكلترا وألمانيا يكون متممًا للاتفاق الذي عقدناه مع الباب العالي إذ على هذا الاتفاق يتوقف كل شيء عملناه إلى الآن، ولا يغنينا تعيين مديرين إنكليزيين في مجلس إدارة سكة حديد بغداد ولا جعل البصرة منتهى سكة حديد بغداد فتيلاً من غير هذه الاتفاق. أما المسألة الأولى من هاتين المسألتين فهي على شيء من الأهمية، ولكن الثانية قليلة الأهمية جدًّا في اعتبارنا؛ لأن البصرة، وإن تكن مدينة داخلية، فهي واقعة على نهر كبير يصلح للملاحة ولها طريق نافذ إلى خليج العجم. وقالت جريدة منشستر غارديان: أما من جهة الكويت فإننا قد اعترفنا بسيادة الدولة العلية عليها، ولكنا اتخذنا كل الحيطة لمنعها من إتيان أي عمل يشتم منه أن لها أقل حق فيها. على أننا دفعنا ثمنًا باهظًا جدًّا مقابل هذه الاتفاق، وهو أننا وعدنا الباب العالي بأن نسمح له بزيادة الرسوم الجمركية [1] . نعم إن هذه الزيادة تتناول جميع الدول على السواء بلا فرق ولا تمييز ولكنها ستكون سببًا في إضعاف التجارة الأوربية في السلطنة العثمانية وتقليل مقطوعيتها ولا سيما التجارة الإنكليزية فإن خسارتها ستكون أكبر من خسارة كل تجارة سواها. فهل كانت مسألة الكويت وخوفنا على خليج العجم مساويين لهذه الخسارة؟ وهل زيادة الرسوم الجمركية أفضل وسيلة لزيادة إيراد الخزينة العثمانية وتحسين حالها؟ إننا نرتاب في ذلك كثيرًا. وقالت الديلي جرافك: لا ندرك الحكمة من جعل البصرة نهاية لسكة حديد بغداد بدلا من الكويت بعد تصريح الهرفون جاكو ناظر خارجية ألمانيا. فقد قال هذا الناظر: إن ألمانيا لا توافق على هذا الإبدال إلا إذا جعل شط العرب صالحًا للملاحة، ومفاد ذلك أن ألمانيا ستجد أمامها بابًا مفتوحًا يوصلها إلى خليج العجم كما لو كانت في الكويت تمامًا ولكن من غير أن تنفق نفقات طائلة في تمديد الخط الحديدي إلى هناك. وهناك مسألة أخرى تفتقر إلى إيضاح وجلاء وهي أن ألمانيا أعيد إليها الحق بمد سكة حديد بغداد إلى البصرة، وقد كانت تنازلت عنه سنة 1911 مقابل منحها امتيازًا بمد فرع أو فروع من خط سكة بغداد الرئيسي غربًا إلى الإسكندرونة فهل يفهم من الاتفاق الجديد أن هذا الامتياز قد نزع منها الآن أم هو باق بيدها؟ فإذا كان باقيًا بيدها فتكون ألمانيا قد خرجت من المقارعة السياسية التي دارت على نهاية سكة حديد بغداد غانمة غنيمة كبيرة، فإن ترسيخ قدمها في الإسكندرونة يعد ربحًا كبيرًا في حد ذاته فكيف بها إذا وقد رسخت قدمها في الإسكندرونة والبصرة جميعًا (ليتأمل العاقل) . * * * كلام جريدة الطان الفرنسية في الاتفاق ترجمت جريدة الأهرام مقالة لجريدة الطان في موضوع الاتفاق، وخطبة ناظر خارجية إنكلترة بينت فيه مقدماته ونتائجه ونكتفي ببيان حقيقة واحدة من الحقائق التي استنتجتها منها،وهي: السادس: أن الاتفاق بين إنكلترا وتركيا يعقبه اتفاق آخر بين إنكلترا وألمانيا، وقد قال السير غراي في خطابه: إن بين ألمانيا وتركيا اتفاقات خصوصية بشأن سكة بغداد، ونحن لا دَخْلَ لنا في تلك الاتفاقات الخصوصية، والآن نعقد نحن اتفاقات مع تركيا لا دخل لألمانيا فيها، ولكن يجب أن نعلم أن هذه الاتفاقات لا تمس الحقوق المخولة لها من تركيا، فالاتفاق المراد عقده بين إنكلترا وألمانيا يقصد منه تسوية المسائل المختصة بسكة بغداد تسوية نهائية، قالت الطان، والسير غراي صادق في قوله: فإنه متى تمت الاتفاقات الجديدة تسوى مسألة تلك السكة نهائيًّا، وقد كنا منذ زمن طويل نتوقع هذه التسوية بسبب خطأ سياستها في السنين السابقة، ولقد كانت فرنسا وإنكلترة في سنة 1909 اتفقتا على طلب امتياز خط حديدي بين حمص وبغداد والبصرة غير أن معارضة المسيو بومبار في ذلك المشروع أفضت إلى توقيف المفاوضات في سنة 1910 ثم أهمل المشروع إهمالاً تامًّا ولا يمكن الآن إعادته إلى بساط البحث، ولا يحق لنا الآن أن نشكو من إنكلترا؛ لأنها حاولت تسوية تلك المسائل دون إشراكنا معها فقد أعرضنا في الماضي عن الاشتراك معها فموقفنا الآن هو نتيجة خطأ سياستنا في الماضي، ولا أمل الآن في أن يتمكن وزير الخارجية الفرنساوية من صون مصالح فرنسا في الأجزاء الآخرى من السلطنة العثمانية. (تأمل واعتبر) . الأهرام: هذا ما قالته الطان وقد تناولت صحف أوروبا كلها هذا الخطاب فعقدت عليه الفصول الطويلة وأجمعت صحف إنكلترا على أن الاتفاق يملك إنكلترا طريق الهند وهذا كافٍ. * * * الاتفاق ومغانم الإنكليز والألمان مقالة افتتاحية للأهرام تصرفنا في عنوانها فقط وهذا نصها: عرف من أخبار المصادر التي يوثق بها، ومن أقوال الصحف التي يعول على أقوالها، بل من خطاب السير أدوارد جراي المنشور بين التلغرافات أن الباب العالي رضي في الاتفاق الجديد بينه وبين إنكلترا أن يترك كل دعوى من دعاوي السيادة على الكويت وقطر وجزر البحرين ومسقط وعمان، واعترف لإنكلترا بالحق المطلق في إنارة الخليج الفارسي وخفارته، وحقَّق لها كل أمنية وكل مطلب في شط العرب، وثبت حقوقها المختصة بالملاحة في دجلة والفرات، كل هذا وغير هذا مما سبق نقله وبيانه وإيضاحه في هذه الجريدة. تلك الأماني التي أدركتها إنكلترا وتلك الغنائم التي نالتها بدت عظيمة جدًّا لأعين الدول الأخرى الكبرى صاحبات المرافق والمصالح في البلاد العثمانية. ورأت تلك الدول أن الحكومة العثمانية نفسها فتحت الباب وأوسعت المجال للمطامع والمطامح ومهدت السبيل لعرض المطالب والرغائب، رأت ذلك فإذا بالمطالب تكاد تغمر الباب العالي؛ وإذا ببعض الدول تريد أن تأخذ من الباب العالي، ومن إنكلترا أيضًا حصة أو تعويضًا. أبدت ألمانيا في هذا المجال، وهي صديقة تركيا الصادقة المخلصة، أنها لا تعرف للقناعة والاعتدال والاكتفاء معنى، وهي التي تطلب التعويض الكبير بملء فيها، مع أنه إذا كانت إنكلترا في الاتفاق الجديد تأخذ من دولتنا كثيرًا فهي في الوقت نفسه تعطي ألمانيا على حساب دولتنا ما هو أكثر وأوفر وأغلى قيمة وأعظم شأنًا. قد يدهش القارئ إذ لم يسمع أن إنكلترا أعطت ألمانيا شيئًا ولكن من ينظر إلى مضمون الاتفاق أو ما عرف منه حتى الآن يتبين له أن إنكلترا صدقت بصفة نهائية على سكة حديد بغداد الألمانية وعدلت عن المعارضة والمقاومة والمعاكسة أو إقامة العراقيل في سبيل ذلك المشروع الخطير، وهي بذلك التصديق على سكة بغداد الألمانية قد أعطت ألمانيا ما لا تقدر قيمته ولا تحصَى فوائده، وهذه الحقيقة تنجلي عند البحث في مشروع سكة بغداد. فمساحة سكة بغداد الألمانية تقارب ثلاثة آلاف كيلو متر، تبدأ من حيدر باشا على البوسفور وتنتهي عند البصرة على شط العرب ومن مراجعة عقد الامتياز الذي نالته الشركة الألمانية والاتفاقين اللذين عقد أحدهما سنة 1908 والثاني سنة 1911 يتبين أن الشركة حصلت على الحق في مد الفروع الكثيرة أو الخطوط المتفرعة من تلك السكة، ومن ذلك فرع بين حلب وأورفه وفرع بين بغداد وخانكين الواقعة على حدود إيران وفرع يمد إلى مرعش وفرع إلى عينتاب وفرع إلى ماردين وفرع إلى أربيل، وفروع أخرى تتكون منها الصلة بين السكة الأصلية والبحر المتوسط وتنتهي عند نقطة واقعة بين مرسين وطرابلس الشام. وتلك الفروع هي التي تزيد مساحة السكة الأصلية إلى ثلاثة آلاف كيلو متر، وتلك السكة وفروعها تتخلل آسيا الصغرى وأعالي سوريا وما بين النهرين والعراق العربي وتجتاز من البلاد العثمانية الجهات والأقاليم التي فيها مصادر الحياة والثروة والخير. وليس ذلك كل ما نالته شركة سكة حديد بغداد الألمانية فإنها فوق ذلك حصلت على حق إنشاء بعض المواني والمرافئ والأرصفة اللازمة لرسو السفن والمخازن اللازمة لتخزين البضائع على تلك الأرصفة وفي بنود الاتفاق بينها وبين الباب العالي أن الحكومة العثمانية تأذن لها بتسي

مذهب الإباضية في صلاة المسافر والاستفتاح والتأمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مذهب الإباضية في صلاة المسافر والاستفتاح والتأمين ... ... ... بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. رحم الله أستاذنا وشيخنا السيد محمد رشيد رضا وأكرمه وأعانه ونصره، أما بعد، فإني أريد أن أعرض من آثار المسلمين أجوبة على سؤالات السائل بالمنار الأغر الصادر بتاريخ جمادى الأولى سنة 1331. ولم أقصد بهذه الآثار التفاضل أو التشهير بالأصوب أو الأحرى، وإنما مجرد عرض أقوال المسلمين أهل الدعوة على معرض أقوال غيرهم؛ ليكون المجال أوسع للمستبصرين مع أني لم أكن معترضًا ولا منتقدًا ولا مدعيًّا بل إني كثير الجهل قليل العلم. الجواب على (س10) أن القصر في السفر رخصة من الله تعالى وتخفيف، ودليلها من الكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء: 101) وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام للفاروق رضي الله عنه حين سأله عن قصر الصلاة فقال: (صدقة من الله تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته) وقوله عليه السلام: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه) . فالمفهوم من هذا أن صلاة السفر سنة لا يجوز تركها، وأما المسافة التي يجوز فيها صلاة السفر ففرسخان، والدليل على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم ومعه أصحابه حتى إذا صار في ذي الحُلَيْفَة فصلى بهم ثم رجع فسئل عن ذلك فقال: (أردت أن أعلمكم صلاة السفر أو قيل حد السفر) . والفرسخ عند علماء أهل الدعوة - رحمهم الله - ثلاثة أميال والميل أربعة آلاف ذراع. ولا بد من المسافر أن ينوي سفرًا مسافة تجاوز فرسخين فصاعدًا وإن لم ينو السفر وتعدى الفرسخين وتجاوز بيوت مصره أو بلده ووجبت الصلاة صلاها قصرًا. وجائز للمسافر إذا حضرت الصلاة أن يصلي خلف الإمام المقيم أربعًا، والمسافر يلزمه القصر، وإن في بلده، ما دام لم ينو الإقامة فيها، ولا ينكسر عليه القصر حتى يصل السور في المنزل، وفي البيت إلى بابه وفي الخص إلى أوتاده، والمقصود دخوله الوطن فعندها يصلي تمامًا صلاة الإقامة، وقد مضت السنة أن يقصر المسافرون وإن أقاموا عشر سنين ما لم يتخذوها وطنًا، وقد بلغنا أن عبد الله بن عمر أقام بأذربيجان سبعة عشر شهرًا يصلي قصرًا، والله أعلم. ومن آثار المسلمين أن الرجل إذا تزوج امرأة مسافرة وهو مقيم أتمَّت معه، وإن اشترى عبدًا مسافرًا أتم معه، وإن تزوج امرأة حاضرة لم يتم معها إذا كان مسافرًا هو وهي في أعداد المقيمين، ولا تقصر معه حتى تتحول معه مكانًا يتعدى الفرسخين، وإن اشترى عبدًا وهو مسافر وكان العبد مقيمًا كان في عداد المقيمين حتى يتحول معه ويجاوز الفرسخين. الجواب على (س13) : المستحب عند المسلمين اقتداءًا بأكابر الصحابة عمر وعائشة وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة، وجهوا لها (بسبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك) . ثم بالاستعاذة من الشيطان الرجيم قبل تكبيرة الإحرام أو بعدها كلا الفعلين جائز، وقراءة فاتحة الكتاب بالبسملة خلف الإمام فقط، وأما فذًّا فقراءة الفاتحة وثلاث آيات من القرآن على الأقل؛ لقوله عليه السلام: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) فصاعدًا، وفي رواية أخرى أنه صلى الله عليه وسلم (أمر أعرابيًّا أن يقرأ في الصلاة فاتحة الكتاب وما تيسر من القرآن) ، وما روي أيضا من طريق آخر أنه قال عليه السلام: (وشيئًا من القرآن معها) والله تعالى أعلم. وأما التأمين بعد فاتحة الكتاب فلم يبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعله؛ لأنه لم يكن من القرآن، وإنما التأمين في الدعاء بعد أداء الصلاة والخروج منها؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ} (الشرح: 7) أي إذا خرجت من الصلاة فانصب إلى الدعاء، والله أعلم. (المنار) يعني الكاتب بأهل الدعوة من المسلمين الإباضية أهل مذهبه، أما قوله: إن القصر في السفر رخصة، ثم قوله: إنها سنة، فيوافق قول الشافعية وقد رجحنا في التفسير وغير التفسير خلافه، وأنه واجب وتمام وعزيمة؛ ولذلك لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والعشاء في سفر قط، وبه صرحت عائشة كما ثبت في صحيح البخاري، وفي كتاب الجامع الصحيح للفراهيدي المعتمد عند الإباضية، قال شارحه الشيخ عبيد الله بن حميد السالمي، وهو من أشهر علمائهم في هذا العصر: وقد أخذ بظاهره أصحابنا والحنفية والهادوية فالقصر عندنا واجب لا جائز فقط، وهو المروي عن عمر وعلي، ونسبه النووي إلى كثير من أهل العلم، قال الخطابي: كان مذهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو الواجب في السفر. إلخ. ثم أورد ما اعترض به على هذا القول وأجاب عنه، ومنه آية {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} (النساء: 101) قال: إنها نزلت في صلاة الخوف لا السفر، وإن نفي الجناح لا يستلزم نفي الوجوب. أقول: وهو الصواب الذي حققناه في التفسير من قبل، ومنه حديث عمر: (صدقة من الله) إلخ، وأجاب عنه بأن كونه رخصة وتخفيفًا لا ينافي كونه تمامًا، فإنما ذلك بالنظر إلى الأربع المفروضة في الحضر، وذكر حديثا مرفوعًا بغير سند: الركعتان في السفر ليستا قصرًا إنما القصر واحدة عند الخوف وأجاب غيره عن حديث عمر بأن قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقبلوا صدقته) أمر بقبول القصر وهو للوجوب، وأما ما ذكره في مسافة القصر فهو قريب مما بيناه في التفسير وفي مجلدي المنار السابع والثالث عشر، وأنه صح (ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ) والاحتياط الأخذ بالثلاثة فراسخ، وما ذكره من فروع المسألة لم يذكر له دليلاً. وأما ما قاله في افتتاح الصلاة بسبحانك اللهم وبحمدك فلم يصح فيه حديث مرفوع كما قلنا، وأقوى ما ورد فيه أن عمر رفع صوته به؛ ليعلمه الناس فيقال: لولا أنه سنة تلقاها عن النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل. وأما قوله في التأمين: إنه لم يبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجوابه أنه بلغ غيرهم، وقد صحت الرواية فيه عند أهل السنة والجماعة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، على أن الإباضية يوافقون الحنفية في هذا القول، ومتى صحت السنة كانت حجة على كل مسلم.

إحراق الكتب الضارة والفرق بينها

الكاتب: مرجليوث

_ إحراق الكتب الضارة والفرق بينها جاءنا من العلامة المستشرق الإنكليزي الشهير صاحب الإمضاء ما نصه: سيدي العلامة منشئ المنار: بعد التحيات، فقد طالعت ما ورد في الصفحة (383) من المنار من استصوابكم إحراق الكتب، فذكرني ذلك حكاية جاء بها ياقوت في الجزء السادس من معجم الأدباء كما يأتي: حدثني محب الدين محمد بن النجار (المتوفى 643) قال: حضر الوجيه النحوي (هو المبارك بن المبارك بن الدهان المتوفى 612) بدار الكتب التي برباط المأمونية وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله فجرى حديث المعري فذمه الخازن، وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيفه فغسلته، فقال له الوجيه: وأي شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب نقض القرآن، (يعني كتاب الفصول والغايات) ، فقال له: أخطأت في غسله، فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه، واستشاط ابن هبة الله وقال: ما مثلك ينهى عن مثل هذا؟ قال: نعم، لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيرًا منه أو دونه، فإن كان مثله أو خيرًا منه - وحاش أن يكون كذلك - فلا يجب أن يفرط في مثله، وإن كان دونه - وذلك مما لا شك فيه - فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه، فاستحسن الجماعة قوله، ووافقه ابن هبة الله على الحق وسكت اهـ، وما كان أجدر بالمنار أن يفتي مثل فتوى ابن وجيه النحوي، والسلام. لِسِتِّ بقين من رجب سنة 1331 ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... د. س: مرجليوث في أكسفورد (المنار) إنني أشكر للدكتور الفاضل انتقاده وما رأى المنار جديرًا به، وهو كما قال فلو كنت مكان ابن وجيه لقلت مثل قوله، والفرق بعيد جدًّا بين الواقعة التي قال فيها ابن وجيه كلمته والواقعة التي استحسن فيها المنار إحراق الكتب، فذلك كتاب من آثار فيلسوف أديب لا تكاد توجد منه إلا تلك النسخة في دار الكتب، فالواجب حفظها والضن بها حفظًا لنتائج الأفكار وآثار العلماء، وأما الكتب والرسائل التي يوزعها دعاة النصرانية بين عوام المسلمين في البحرين والخليج الفارسي وسائر البلاد فهي - على كونها مثارات فتن - كثيرة العدد، دائمة المدد، إذا أحرق بعض الناس نسخًا منها لا يجنون على التاريخ ولا تفقد الأرض أثرًا صالحًا ولا فاسدًا، وإنما تسد ذريعة الفتنة وتفرق الكلمة في بلاد ما اعتادت هذه المجادلات، وهذا أنا ذا أملك كثيرًا من كتب النصارى القديمة والحديثة، ومن هذه الرسائل التي يطعن مؤلفوها في الإسلام طعنًا يعتقد أكثرهم أو كلهم أنه متحامل ومشاغب ولو في بعضه كما أظن، ولم أحرق في زمني شيئًا منها، ولو عثرت بكتاب من نوعها فقدت نسخه أو قلَّتْ لحرصت عليه إذا كان له قيمة في موضوعه، وإن اعتقدت أن ما فيه باطل، وقد اقترحت في السنة الأولى من المنار إحراق أكثر كتب علماء المسلمين التي أعتقد أنها ضارة في أسلوبها وموضوعها، ومنها أكثر كتب التعليم في المعاهد الدينية المشهورة، وأن يبقى من كل كتاب منها نسخة أو نسخ قليلة تحفظ في دور الكتب ليطلع عليها الباحثون في تاريخ العلم وسيره، وإننا نرى الحكومات الحرة تمنع كثيرًا من الكتب والرسائل والجرائد السياسية والمجونية والجدلية إذا كانت ترى في نشرها ضررًا، وتصادر ما تضبطه منها كما نرى من إنكلترة في السودان وغير السودان، فما ارتأيناه من هذا القبيل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الإصلاح والاتفاق بين الاتحاديين والعرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح والاتفاق بين الاتحاديين والعرب قد عرف قراء المنار كافةً أنه كان من مقاصد زعماء جمعية الاتحاد والترقي جعل الدولة العثمانية دولة تركية محضة تقلد فرنسة في سياستها وإدارتها، وكان من وسائل هذا المقصد العظيم عندهم إضعاف ما عدا الترك من الشعوب القوية التي تتألف منها هذه الدولة كالعرب والأرنؤوط، وكان من مسارعتهم في هذا أن جيشوا الجيوش اللجبة على بلاد هذين الشعبين المخلصين لدولتهم، الراضين معها بسوء حالهم، وفعلوا الأفاعيل الشنعاء في اليمن والكرك، وحوران وبلاد الأرنؤوط، وعرف قراء المنار أيضًا أننا قد جهدنا حق الجهاد بالقول والسعي لمقاومة هذه الأعمال الضارة، وصرحنا بأن تتريك العناصر بالسلطة والقوة أو بغير ذلك لم يعد مما يدخل في حدود الإمكان، وأنه لو كان ممكنًا لعذرنا الاتحاديين على محاولته سياسة لا دينًا؛ لأن الإسلام وهو دين الدولة الرسمي ودين جميع الترك فيها هو دين عربي كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد: 37) وإن إضاعة العربية إضاعة له. وقد عرف القراء أيضًا أن الدولة قد خسرت الملايين من الدنانير والألوف الكثيرة من الجند في تلك السبيل، وما كانت العاقبة إلا إضاعة الشعب الأرنؤوطي الباسل بإخراجه من حضن الدولة الإسلامية، وتنبيه الشعب العربي الكريم إلى الخطر الذي ينذره، وينذر الدولة سرعة الانحلال والزوال، من عالم السلطة والاستقلال، وزاد في يقظته حادث طرابلس الغرب، فمثُل للعالم كله شدةُ ارتباطه بهذه الدولة على إضاعة رجالها هذه المملكة العربية العظيمة بإخراج ما فيها من العسكر والسلاح وإرساله إلى قتال إخوانهم في اليمن، ثم اشتدت اليقظة وعظم الخوف من الخطر بما كان من انكسار دولتهم في حرب البلقان، فعلم عقلاؤهم وأهل البصيرة منهم أن استمرار السكوت والسكون يفضي إلى إضاعة بلادهم المباركة وبلادهم المقدسة، كما ضاعت طرابلس الغرب وألبانية ومكدونية، فهبوا لمطالبة الدولة بالإصلاح الذي تقوى به الأمة بقوة كل عنصر من عناصرها وشعب من شعوبها، على قاعدة اللامركزية الإدارية التي لا يُرْجَى ذلك بدونها، وقد قرؤوا البراهين الكثيرة في المنار على ذلك. قد اتفق ما عدا الاتحاديين من أهل الرأي والبصيرة من العثمانيين على أن دولتهم لا يُرْجَى صلاحها ولا بقاؤها إلا بالإدارة اللامركزية، وقد ظهرت الدعوة إلى أن ذلك من الترك قبل العرب، وقد قويت هذه الدعوة وانتشرت في المملكة على عهد وزارة مختار باشا، ووزارة كامل باشا الأخيرة، ولم يكد الاتحاديون يسقطون وزارة كامل باشا ويعودون إلى مقاعد الباب العالي حتى عادوا إلى شنشنتهم الأولى في مقاومة كل حركة إصلاحية بالقوة القاهرة، وكان قد تأسس حزب اللامركزية في مصر وانتشرت دعوته في البلاد العربية، وتأسست جمعية بيروت الإصلاحية وتعارفت مع هذا الحزب، وقام على أثر ذلك نبهاء العرب الذين يشتغلون في فرنسة بطلب العلوم والفنون والتجارة يطلبون عقد مؤتمر عربي في باريس لبيان حقوق العرب في الدولة وطلب اللامركزية، وفوضوا أمر هذا المؤتمر إلى حزب اللامركزية بمصر، وظهرت حركة الإصلاح في العراق بصورة مخيفة، واتحد أهلها بحزب اللامركزية أيضًا، وامتد الشعور بهذه النهضة المباركة إلى ضباط الجيش المحارب وغير المحارب وخافت الحكومة أن يؤيدوها. بدأت وزارة شوكت باشا - رحمه الله وعفا عنه - بالضغط على جمعية بيروت الإصلاحية فأقفلت ناديها وحبست بعض أعضائها وهددتها بالحكم العرفي، فظهر لها ولجمعية الاتحاد أن هذه الشدة ما زادت أهل بيروت - وهم تحت ضغط الحكومة العرفية - إلا اتحادًا وإصرارًا على ما قرروا طلبه من الإصلاح، وكذلك فعل الاتحاديون في البصرة فأعقبتهم الشدة والتهديد كل حسرة، فماذا يمكن أن يقاوم به من هم في البلاد الحرة كمصر وأوربة وأمريكة؟ حاولت حكومة الباب العالي أن تمنع عقد المؤتمر في باريس بالرغبة إلى الحكومة الجمهورية في ذلك؛ فلم تُجِبْ فرنسة طلبها هذا، فأوعزت إلى أنصار السلطة في سورية من رجال المال والألقاب وبعض الكتاب أن يطعنوا برجال المؤتمر وطلاب الإصلاح، فلم يغن ذلك من شيء، على أنه قد قام به كثيرون من أغنياء سورية كعبد الرحمن بك اليوسف وفوزي باشا العظم، ومن كتابها كالأمير شكيب أرسلان والشيخ محيي الدين الخياط، ومن أصحاب الجرائد كطه أفندي المدور صاحب جريدة الرأي العام، وعبد القادر أفندي المغربي صاحب جريدة البرهان، وكذا جريدة الشعب المصرية التي يحررها أحداث الحزب الوطني، وقد غلا هؤلاء كلهم في التشنيع على المصلحين، والقدح في اللامركزيين، وصوروا للناس أن ضياع المملكة واستيلاء الأجانب عليها إنما يكون بهذا الإصلاح الذي يطلبه المصلحون على قواعد اللامركزية الإدارية، وأن بقاء الدولة وغيرها إنما يكون بتسليم إدارتها إلى فئة الاتحاديين في الآستانة، وما يعقده مندوبوهم من الاتفاق مع الدول على بيع أراضيها وامتيازاتها ومنافعها وسائر ما يُقَوِّى نفوذ الأجانب فيها. بعد هذا كله ثابت الجمعية إلى رشدها ورأت الخير لها وللدولة في إجابة المصلحين إلى إرضاء العرب والعاقل من استفاد من الحوادث واعتبر، وكان أعقل شرفاء مكة الشريف علي حيدر مراقبًا لسير الحوادث، وله عند الاتحاديين المكانة العالية، فلما رأى فرصة إصلاح البين سانحة سعى لها سعيها، وجمع بين طلعت بك الزعيم الأكبر للجمعية في الحكومة وعبد الكريم أفندي قاسم الخليل رئيس المنتدى الأدبي لأجل ذلك؛ إذ لا يوجد عربي في الآستانة يعرف من حركة النهضة العربية الإصلاحية ما يعرفه عبد الكريم هذا؛ لأنه سافر في هذه السنة عدة مرات بين الآستانة ومصر وسورية، وكان مندوب حزب اللامركزية إلى جمعية بيروت الإصلاحية وغيرها من أفراد وجماعات طلاب الإصلاح، وله بالجميع صلة لم تنقطع، فأوقف طلعت بك على مقاصد اللامركزيين وطلاب الإصلاح كافة، وعلى هذا الأساس وضعوا للإصلاح إحدى عشرة قاعدة عهد إلى عبد الكريم أفندي السعي لموافقة جميع طلاب الإصلاح عليها. كتبت القواعد ووقع عليها طلعت بك بالنيابة عن جمعية الاتحاد والترقي، وعبد الكريم أفندي عن جمعية الشبان العرب، وهي جمعية إصلاحية معظم أفرادها من المتعلمين في مدارس الحكومة، وكان هذا التوقيع تمهيدًا لإقناع حزب اللامركزية وجمعية الإصلاح البيروتية بالاتفاق، وهما ممثلان في المؤتمر العربي بباريس، رجاء أن يقنع به سائر العرب بعد ذلك. حمل صورة الاتفاق عبد الكريم أفندي إلى باريس واطلع عليه رئيس المؤتمر السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي وغيره من الزعماء وبعد تنقيح وزيادة فيها صرحوا بأنهم يرضون أن ترسل جمعية الاتحاد والترقي إليهم وفدًا من ثقات رجالها للمذاكرة للاتفاق عليه، فعاد إلى الآستانة وبلغ، فندبت الجمعية مدحت بك شكري والحاج عادل بك من ثقات رجالها ليكونوا وفدها إلى المؤتمر العربي بباريس، فلما أزمعا الرحيل اعتلت صحة عادل بك فسافر مدحت شكري بك ومعه عبد الكريم أفندي رسول الوفاق والسلام، وبعد المذاكرة والمناقشة تم الاتفاق على القواعد الاثنتي عشرة الآتية على إبهامها، رجاء الاتفاق على التفصيل بعد، واقترح زيادة 13 قاعدة عليها لإرضاء وفد بيروت موضوعها: أن يكون نصف أعضاء المجلس العمومي في بيروت من المسلمين والنصف الآخر من غيرهم؛ لأن هذا أكبر ما أرضى به مسلمو بيروت نصاراها وبنوا عليه أساس اتفاقهم المحمود، فوعد مدحت شكري بك بالسعي لإقناع جمعيته بها، وعلى مسائل أخرى سرية تتعلق بالأشخاص، وعاد إلى الآستانة على أن ينتظر مندوبو حزب اللامركزية وجمعية بيروت الإصلاحية في باريس تصديق الحكومة رسميًّا على القسم الجهري من الاتفاق، وطلبهم إلى الآستانة لأجل مباشرة التنفيذ، وفي أثناء ذلك كانت الرسائل البرقية والبريدية متصلة بين الحزب في مصر ومؤتمر باريس، وأرسل المؤتمر إلى الحزب صورة الاتفاق. أبطأت الحكومة في التصديق على الاتفاق فساءت الظنون، ولما كانت أمثال هذه الأمور لا تخفى في جملتها، وإن خفي بعض تفاصيلها، أذاعت شركة روتر برقية قالت فيها: إن الحكومة وافقت العرب على ما يطلبون من الإصلاح رسميًّا وسَيُعَيَّنُ الزهراوي رئيس المؤتمر شيخًا للإسلام، والشريف علي حيدر رئيسًا لشورى الدولة، ففرحت القلوب وسارع رفيق بك العظم رئيس حزب اللامركزية إلى نشر مواد الاتفاق ظنًّا منه أنه لم يبق مانع من نشرها، وقد قررتها حكومة الباب العالي رسميًّا، وأرسل برقية شكر إلى الصدر الأعظم وعد فيها بأن يرسل الحزب وفدًا إلى الآستانة لأداء الشكر للحكومة فيها، ولكن تبين بعد ذلك أن كل هذا كان قبل أوانه، وأن برقية روتر كاذبة. ساء الاتحاديين نشرُ صورة الاتفاق وحُقَّ لهم ذلك، وهاج عليهم أنصارهم الذين طعنوا في المؤتمر وجميع طلاب الإصلاح لأجلهم، فلهذا السبب ولأسباب أخرى كذبت جريدة طنين ما نشر في الآستانة وغيرها من خبر الاتفاق، ونشرت جمعية الاتحاد بيانًا من مركزها العام فيما عزمت عليه الحكومة من الإصلاح في الولايات العربية وغيرها، وزعمت أنها عزمت على ذلك من تلقاء نفسها، أي لا إجابة لطلب أحد، وفي البلاغ تعريض بذم أناس مبهمين وصفوا بالفساد، فكان هذا وذاك سببًا لإساءة الظن بالحكومة تبعًا لإساءة الظن بالجمعية، وسرى سوء الظن إلى عبد الكريم أفندي. وقد كنا عازمين على أن لا نكتب في هذا الموضوع شيئًا إلا بعد القرار الرسمي من الحكومة والتعارف التام بين الطالبين والمطالبين، ولكننا اضطررنا إلى هذا عسى أن يكون بيان الحقائق، من أسباب التعارف الصحيح والاتفاق الثابت، فلنا أن نقول الآن ما نعلم ونرى فيه المصلحة؛ لأننا لا نزال معارضين ونرى أن مطالبنا لم تُقْبَل، ولولا ذلك لجعلنا مقدمة الكلام على الاتفاق مرضية ولم نُشِرْ فيها إلى الخطأ السابق، وللجمعية أن تقول ما تراه موافقًا لسياستها، وأن تكذب الاتفاق وتعرض بعدم المبالاة بطلاب الإصلاح، لا عبرة بالأقوال وإنما العبرة بالعمل والإخلاص، فمتى رأينا العمل الصالح من الحكومة، وشممنا منه رائحة الإخلاص، نتناسى الماضي؛ لأن السياسة لا أضغان فيها، وطلاب الإصلاح لا يهمهم إلا الإصلاح، وسنكف عن حملات المعارضة، وإن كانت بحق، إلى أن ينجلي الأمر، وهذا نص الاتفاق الأول باللغة التركية: اتحاد وترقي مركز عموميسيله الشبيبة العربية هيئتي آره سنده منعقد اتفاقنامه نك صورتيدر مادة 1: بتون بلاد عربية تحصيل ابتدائي وإعدادي لسان عربيله تدريس أولنه جغي كبي تحصيل عالي ها كثيريتك لسانيله أوله جقدر. وآنجق إعدادي مكتبلرنده لسان عثماني تحصيلي مجبوري أوله جقدر. مادة 2: بالجمله رؤساي مأمورين لغت عربية يه واقف أولملري شرط أولوب مأمورين سائره ولا يتجه تعيين أولنه جفلر، آنجق إرادة سنية أيله تعيين أولنه جق حكام ومأمورين عدليه مركز جه تعيين أولنه جقدر. ولاة مستثنا. مادة 3: محلي جهات خيريه سنه صرفي مشروط أولان عقارات ومؤسسات وقفيه شرطلري وجهله جماعات محلية مجالسنه ترك أولنه جقدر. مادة 4: أمور نافعة إداره محليه يه ترك أولنه جقدر. مادة 5: أفراد عسكرية زمان صلح وآسايشده خدمت عسكرية لربني بلاد عربية داخلنده ملاصق قول أوردو منطقه ل

أهم الأنباء والحوادث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم الأنباء والحوادث الشقاق والقتال بين البلقانيين واستعادتنا لأدرنة: الشعب البلغاري شعب وحشي شديد القسوة، وملكه فردينند قوي الطمع والأثرة، فهذه الأخلاق قد أوقعت بين البلغاريين وحلفائهم الشقاق، فاتحدت اليونان والصرب على البلغار، واستحر بينهم القتال. وافترصت رومانيا ذلك فزحفت على أرض البلغار واقتطعت لنفسها ما تطمع فيه منها. فدارت الدائرة على البلغار، ورأت دولتنا أنها أولى بانتهاز الفرصة فزحف جيشنا المرابط في شطالجه على أدرنة مخترقًا الحد الذي حدده مؤتمر الصلح الدولي في لوندرة. فأنذرتها إنكلترة عاقبة ذلك إن لم ترجع وتحترم معاهدة لوندرة، وإن لم يحترمها البلقانيون، فكان هذا أول حظنا من مساعدة إنكلترة لنا في مقابلة ما بذله حقي باشا لها وهو معظم ما تطمع فيه منا، ولكن الدولة لم تبال بالنذر؛ لعلمها أن دول أوربة لا تتفق على مقاومتها بالقوة، ويبعد أن ينفرد أحد منها بعمل حربي في البلقان، وقد كان هذا الانقلاب الأخير، بسعي عاهل الألمان، فرجحت بذلك كفة التحالف الثلاثي في البلقان على كفة الاتفاق الثلاثي التي كانت هي الراجحة من قبل، ولله الأمر من قبل ومن بعد، ينصر من يشاء وهو القوي العزيز. * * * عرض الأراضي المدورة وغيرها للبيع: قلنا من عدة أشهر: إن الاتحاديين إذا تمكنوا من السلطة يبيعون كل ما يمكن بيعه للأجانب من أرض المملكة ومنافعها، وقد صدقت الأيام قولنا هذا كما صدقت غيره، فقد عرضت الحكومة المركزية زهاء ستة ملايين فدان مصري من الأراضي المدورة التي عمرها عبد الحميد وغيرها للبيع من الأجانب في ساعة العسرة المالية التي لا يشتري أحد فيها أرضًا في البلاد العثمانية إلا أن تكون بعشر معشار ما تستحقه من الثمن، وهذا أكبر خطر على الولايات العربية التي فيها معظم هذه الأرض؛ ولذلك قامت قيامة الفلاحين وأصحاب الأملاك، لا السياسيين، وطفقوا يكتبون المحاضر البرقية والبريدية يستغيثون بالحكومة أن تكف عن بيعها للأجانب، وأن تقسمها وتبيعها للأهالي. وألف أهل البصرة جمعية للسعي في مقاومة هذا البيع، وهم يجتهدون في تعميمها في البلاد فعسى أن تصغي الحكومة إلى استغاثة الأمة، وأن تسلك في بيع هذه الأراضي للأهالي ما سلكته الحكومة المصرية في بيع أراضي الدائرة السنية، وسنعود إلى هذا في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.

أسئلة من البحرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من البحرين عن حكم الحج وترك الملوك والأمراء وبعض العلماء له (س30 - 36) لصاحب الإمضاء بجزيرة البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة سيدي العلامة المصلح العليم مرشد الأمة ورشيدها الفيلسوف الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير، أدام الله تعالى شريف وجوده وسلام الله عليك ورحمته ورضوانه. وبعد فالداعي لتحريره عرض مسألة عرضت لنا في هذه الأيام، وهو أننا عشرة أشخاص نوينا هذه السنة التوجه لحج بيت الله الحرام والتمتع بمشاهدة مهد الإسلام، وبهذه المناسبة صار بيننا جدال وكلام كثير بخصوص الحج ومناسكه فالتجأنا إلى طلب الاستهداء من حضرتكم لإرشادنا إلى السبيل الأقوم والصراط المستقيم، فعليه قدمنا هذا الكتاب مؤملين فيه الجواب من حضرتكم على هذه الأسئلة وهي: علمنا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار لنا الإسلام دينا وجعل هذا الدين مُقامًا على خمسة أركان رئيسية، وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج إلى بيت الله الحرام من استطاع إليه سبيلا. هذا هي الخمسة الأركان التي لا يكمل الإسلام إلا بها، وبفضل المنار المنير وباقي كتب العلماء المصلحين الأفاضل قد فهمنا المقاصد والحكم من الصلوات والزكاة والشهادتين والصيام كما قد فهمنا المقصد من الحج على الوجه العام، ولكن اسمح لنا يا حضرة المفضال الحكيم أن نقول في الحج بعض أعمال لم نعرف الحكمة منها فلذلك جئنا بهذا الكتاب نلتمس منك هدايتنا إلى ما جهلناه وهو: 1- ما هي الحكمة في الاجتماع على تقبيل الحجر الأسود إذا عرفنا أنه حجر لا يضر ولا ينفع ولا يخفى ما في ذلك من المظاهرة الوثنية؟ 2- ما الحكمة في رمي الحجارة الجمار في القليب في مزدلفة؟ 3- ما الحكمة في الهرولة بين المروتين؟ 4- ما المقصد في ذبح الذبائح على كثرتها ودفن لحومها في منى، وفي ذلك ما فيه من النتائج الوخيمة التي تصدر من تعفن اللحوم؛ إذ تنتشر الأوبئة منها، ولماذا يمنع الناس من أكلها؟ وهل ذلك لازم، ومن المناسك التي لا يتم الحج إلا بها على هذه الصورة. ولا يخفاكم مبلغ النقود الطائلة التي يدفعها الحجاج سنويًّا ثمنًا لهذه اللحوم؛ إذ هي لا تقل عن خمسين ألف جنيه فما قولكم لو صرفوا هذه المبالغ على إصلاح آبار مكة وطرقها وتكاياها وتنظيفها وعلى كل ما يعود على الحجاج بالراحة والصحة والسلامة. 5- لماذا أقاموا دون عرفة بِنَائَيْنِ عن اليمين والشمال تعرف بالعلمين؟ وكل من لم يكن خلف هذين البِنَائَيْنِ ليس مقبول الحج مع أنه تكلف العشاء ووصل إلى ما دونهما؟ ولماذا يكون من خلفها مقبول الحج، وهو في لهوه ولعبه، وممارسة ما اعتاده في بلاده من الأعمال، ومن كان دونها غير مقبول، ولو كان على غير ذلك؟ وهل هذان البناءان حد فاصل بين الله والناس أو بين الجنة والنار. 6- نرى كثيرًا من علماء الأمة الإسلامية ومرشديها المصلحين منهم من عاش ومات وهو لم يحج مع أنه ربما رحل في سنته مرتين أو ثلاثا إلى أوربا أو إلى غيرها من البلاد ولم يذهب إلى مكة مع أنه كان الألزم والأوجب أن يقصد مكة والحج كل موسم للنصح والإرشاد. فهذا ساكن الجنان الأستاذ الإمام والمرحوم السيد عبد الرحمن الكواكبي وغيرهم عاشوا وماتوا وهم لم يروا مكة في وقت الحج. وحضرتك أيضا كذلك، فما هي الأسباب يا ترى ونحن نعتقد أن امتناعكم جميعًا عن الحج لا بد له من سبب فما هو ذلك السبب العظيم الذي يمنع رجال الإصلاح العظام عن الحج المقدس. 7- وكذلك نرى أن جميع ملوك الإسلام وأمراءه وأغنياءه لا يحجون ولا نرى الحجاج سواهم إلا من فقراء الهند والصين والروسيا وجاوا وبلاد العرب كمصر وتونس وسوريا والعراق وغيرها. وهذا كثير من سلاطين آل عثمان الخلفاء وأمراء البيت السلطاني وأعاظم الرجال من الوزراء والحكام والأغنياء المشار إليهم بالبنان كلهم لا يحجون ولا يدور في خلد أحدهم أن يحج، فما هو السر في ذلك يا ترى، وكم عجبنا لما سمعنا بحج أمير مصر قبل سنتين، وكثر تحدث الناس في ذلك حتى تجرأ أحدهم فقال: إن المقصود من حج العزيز غرض سياسي ورحلة في جهات الحجاز لا غيرُ، وليس له مقصد في الحج قطعًا. هذا ما وجهناه لحضرتكم ملتمسين التنازل بمجاوبتنا عليه، ولك يا سيدنا الخيار في المجاوبة أن تكون على صفحات المنار أو كتاب مخصوص، وإذ كانت في المنار تكون أعم وأنفع، وإن أردت أن تجاوب على بعضها في المنار وبعضها كتابة مخصوصة فالأمر إليك، ونحن قد اتكلنا بعد الله عليك، ولنا كبير الأمل أن حضرتك تهدينا إلى سواء السبيل لا سيما وحجنا يتوقف على جوابكم؛ لأنه لا يخفاك أننا نقصد الحج نطلب الأجر والغفران، لا الإثم والخسران، فأمط لنا - بما أعطاك الله من سعة العلم - نقاب الباطل عن وجه الحقيقة أدامك الله سراجًا يهتدي به مَن ضل عن محجة الصواب، والسلام عليك. 4 شعبان سنة 1331 إلى مصر. القاهرة ... ... ... ... ... ... ... ... من المخلص ... ... ... ... ... ... ... ناصر مبارك الخيري ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالبحرين أجوبة المنار قد سبق لنا القول في مجلدات المنار السابقة عن حكم الحج جملة وتفصيلا، والانتقاد على ملوك المسلمين وأمرائهم أنهم تركوا هذه الفريضة، وعذر الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في تأخير هذه الفريضة إلى أن وافاه أمر ربه، وكون عذرنا عين عذره. وما نظن أن السائل وأصحابه الذين أشار إليهم قد علقوا حجهم على جواب هذه الأسئلة، ولعله قال ذلك لنبادر إلى الجواب عنها، وها نحن أولاء نبادر إلى ذلك، وإن كان لدينا كثير من الأسئلة مقدمة عليها في التاريخ. * * * حكمة تقبيل الحجر الأسود ما ذكره السائل في تقبيل الحجر الأسود قد سرى إليه من شبهات النصارى والملاحدة الذين يشككون المسلمين في دينهم بأمثال هذا الكلام المبني على جهل قائليه من جهة وسوء نيتهم في الغالب من جهة أخرى، ومن عرف معنى العبادة يقطع بأن المسلمين لا يعبدون الحجر الأسود ولا الكعبة ولكن يعبدون الله تعالى وحده باتباع ما شرعه فيهما، بل كان من تكريم الله تعالى لبيته أن صرف مشركي العرب وغيرهم من الوثنيين والكتابيين الذين كانوا يعظمونه قبل الإسلام عن عبادته، وقد وضعوا فيه الأصنام وعبدوها فيه ولم يعبدوه. ذلك أن عبادة الشيء عبارة عن اعتقاد أن له سلطة غيبية يترتب عليها الرجاء بنفعه لمن يعبده أو دفع الضرر عنه، والخوف من ضره لمن لا يعبده أو لمن يقصر في تعظيمه، سواء كانت هذه السلطة ذاتية لذلك الشيء المعبود فيستقل بالنفع والضرر أو كانت غير ذاتية له بأن يُعْتَقَد أنه واسطة بين من لجأ إليه وبين المعبود الذي له السلطة الذاتية، ولا يوجد أحد من المسلمين يعتقد أن الحجر الأسود ينفع أو يضر بسلطة ذاتية له، ولا أن سلطته تقريب من يعبد ويلجأ إليه إلى الله تعالى، ولا كانت العرب في الجاهلية تعتقد ذلك وتقوله في الحجر كما تقول في أصنامها: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) ، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) وإنما عقيدة المسلمين في الحجر هي ما صرَّح به عمر بن الخطاب رضي الله عنه عند تقبيله، قال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) . رواه الجماعة كلهم أحمد والشيخان وأصحاب السنن. وقد بيَّنَّا في المنار من قبل أن هذا القول روي أيضا عن أبي بكر رضي الله عنه، وروي مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أثر عمر كان العمدة في هذا الباب للاتفاق على صحة سنده. قال الطبري: إنما قال عمر ذلك أي أنه معلوم من الدين بالضرورة؛ لأن الناس كانوا حديثي عهد بعبادة الأصنام فخشي أن يظن الجهال أن استلام الحجر الأسود من باب تعظيم الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد أن يعلم الناس أن استلامه اتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لأن الحجر يضر وينفع بذاته. اهـ. فإن قلت: روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري أن عمر لما قال ذلك قال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنه يضر وينفع، وبين ذلك بأن الله لما أخذ الميثاق على ولد آدم كتب ذلك في رق وألقمه الحجر، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي يوم القيامة وله لسان ذلق يشهد لمن استلمه بالتوحيد) فالجواب أن هذا الحديث باطل، انفرد بروايته عن أبي سعيد أبو هارون عمارة بن جوين العبدي، وأهون ما قيل فيه: إنه ضعيف، وكذَّبه حماد بن زيد، وقال يحيى بن معين: ضعيف لا يصدق في حديثه، وقال الجوزجاني: أبو هارون كذاب مفتر، وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديث، وقال شعبة: كنت أتلقى الركبان أسأل عن أبي هارون العبدي فقدم فرأيت عنده كتابًا فيه أشياء منكرة في علي رضي الله عنه، فقلت ما هذا الكتاب؟ فقال: هذا الكتاب حق، وقال شعبة أيضا: أتيت أبا هارون فقلت له: أخرج إلي ما سمعته من أبي سعيد، فأخرج إلي كتابًا فإذا فيه: حدثنا أبو سعيد أن عثمان أدخل في حفرته وأنه لكافر بالله. فدفعت الكتاب في يده وقمت. وأقول: إن طعنه في كل من الصهرين الكريمين يفسر لنا قول الدارقطني فيه: يتلون خارجي وشيعي. والذي يظهر لي من كلامهم هذا أنه كان منافقًا. فإن قيل يقوي حديثه هذا حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي وغيرهما. قلت: ليس في حديث ابن عباس أنه ينفع ويضر وإنما فيه أنه يشهد لمن استلمه بحق، فإذا صحت هذه الشهادة مهما كانت كيفيتها في عالم الغيب فهي لا تدل على أن الحجر الأسود يملك لأحد من الناس ضرًّا أو نفعًا هو مختار فيه، ولا يطلب أحد من المسلمين منه هذه الشهادة بألسنتهم ولا قلوبهم فيقال: إن طلبه عادة، وشهادة أعضاء الإنسان عليه يوم القيامة أصح من شهادة الحجر وليست معبودة بهذا المعنى. بقي أن يقال: إذا كان الحجر لا ينفع ولا يضر كما قال عمر في الموسم تعليمًا للناس وأقره بعض الصحابة عليه. وكان استلامه وتقبيله لمحض الطاعة والاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يتبع في سائر العبادات، فما هي حكمة جعل ما ذكر من العبادة؟ وهل يصح ما قيل من أن النبي صلى الله عليه وسلم تركه في الكعبة مع أنه من آثار الشرك تأليفًا للمشركين واستمالة لهم إلى التوحيد؟ والجواب: أن الحجر ليس من آثار الشرك ولا من وضع المشركين، وإنما هو من وضع إمام الموحدين إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، جعله في بيت الله ليكون مبدأ للطواف بالكعبة يعرف بمجرد النظر إليها فيكون الطواف بنظام لا يضطرب فيه الطائفون. وبهذا صار من شعائر الله يكرم ويقبل ويحترم لذلك كما تحترم الكعبة لجعلها بيتًا لله تعالى، وإن كانت مبنية بالحجارة، فالعبرة بروح العبادة: النية والقصد، وبصورتها الامتثال لأمر الشارع، واتباع ما ورد بلا زيادة ولا نقصان، ولهذا لا تُقَبَّلُ جميع أركان الكعبة عند جمهور السلف، وإن قال به وبتقبيل المصحف وغيره من الشعائر الشريفة بعض من يرى القياس في الأمور التعبدية. وتعظيم الشعائر والآثار الدينية والدنيوية بغير قصد العبادة معروف في جميع الأمم لا يستنكره الموحدون ولا المشركون ولا المعطلون، وأشد الناس عناية به الإفرنج فقد بنوا لآثار عظماء الملوك والفاتحين والعلماء العاملين الهياكل العظيمة ونصبوا لهم التماثيل الجميلة، وهم لا يعبدون شيئا منها، فلماذا نهتم بكل ما يلفظ به كل قسي

نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ـ 6

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية تابع ما قبله (8) جاء في إنجيل متى (15: 22 - 28) أن امرأة كنعانية صرخت إليه ليشفي ابنتها المجنونة، وكانت تقول له: ارحمني يا سيد يا ابن داود، فلم يجبها بكلمة فصارت تصيح وراءه حتى طلب تلاميذه منه صرفها فقال لهم: لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة. فجاءت وسجدت له قائلة يا سيد أعني. فقال لها: ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب. فقالت: نعم يا سيد والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها. حينئذ شفى لها ابنتها بعد هذا العناء العظيم والإلحاح الكبير. فانظر إلى مقدار عطفه ورحمته بالضعفاء. وهو الرجل الذي يقولون: إنه جاء لخلاص الناس أجمعين. ألا يدل ذلك على أن كل ما جاء في تعاليمه مما يفيد معنى الرحمة والمسامحة والإحسان إلى الناس ما كان يريد به إلا أمته اليهودية فقط لا غيرهم من الأمم كما هو صريح عباراته في هذه القصة التي تدل على القساوة المتناهية حتى حركت أعمال المرأة عطف تلاميذه أنفسهم قبله؛ ولذلك طلبوا منه إجابة طلبها فأبى أولا. فهذه هي أخلاق هذا الرجل الذي يمدح نفسه بقوله (مت 11: 29) : (لأني وديع ومتواضع القلب) فهل يتفق هذا مع فعله مع المرأة الكنعانية؟ نعم هو وديع ومتواضع القلب ولكن مع من؟ مع الأقوياء من أمة اليهود [1] ومع الرومانيين حكامه وحكام أمته. أما الضعفاء الأجانب فهم عنده كلاب. فهذا هو مبلغ تعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة على غلوها أحيانًا فهو نفسه كان يخص بها اليهود رغمًا عن دعواهم الآن أنها للبشر أجمعين. وهذه القصة تدل على أنه ليس بإله؛ لأنه مقيد بإرادة من أرسله كما يفهم من قوله: (لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة) . ولذلك تركها يوحنا كعادته وأتى بقصة المرأة السامرية، وهي تغايرها بالمرة (يو 4: 7 - 30) وغرضه منها أن يظهر أن بعثته كانت عامة، فقال: إنه كان يتكلم مع هذه المرأة السامرية ويطلب الشرب معها مع أن اليهود لا يجوز لهم معاملة السامريين حتى صار تلاميذه يتعجبون من ذلك وهذه القصة - كغيرها مما تقدم - تدل على تأخر زمن هذا الإنجيل عن الأناجيل التي قبله؛ ولذلك أتى بها ليظهر أن بعثته ليست قاصرة على اليهود كما يفهم من قصة المرأة الكنعانية ومن (مت 10: 5 و6) بل كانت للبشر كافة أما قول متى (28: 19) : اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، فهو إن لم يكن إضافة متأخرة كقول مرقس بدعوة الخليقة كلها (16: 15) الذي ثبت عندهم إضافته أيضًا (كما سبق في صفحة 50) فالمراد به أمم اليهود كافة فإنهم، كما قال سفر الأعمال، كانوا في أورشليم وحدها من كل أمة تحت السماء أع 2: 5-13 فما بالك بمن كانوا في أرض اليهودية كلها؟ ويؤيد هذا المعنى قول المسيح لتلاميذه (مت 10: 23) فإني الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان. فهذه المدن كانت عندهم العالم كله كما أريناك سابقًا ص 14 من هذه الرسالة، وعلى ذلك يحمل قوله في مرقس (13: 10) ينبغي أن يكرز أولاً بالإنجيل في جميع الأمم، وقوله في متى (24: 14) في كل المسكونة لجميع الأمم ثم يأتي المنتهى. ولا تنس قول لوقا (2: 1) (صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة) ، أي أرض اليهودية خاصة كما قال صاحب كتاب الهداية المسيحي في مجلد (2 ص 255) وغيره. ومن أمثلة وداعته وتواضعه ورحمته غير ما تقدم ما جاء في إنجيل متى (18: 21 و22) أن أحد تلاميذه مات أبوه فاستأذنه في الانصراف ليدفنه فلم يقبل وقال له: اتبعني ودع الموتى يدفنون موتاهم. والظاهر من هذا القول أن أبا هذا التلميذ لم يكن مؤمنًا به فلذا حقد عليه حتى بعد موته، ومنع ابنه من الذهاب ليدفنه ولا ندري ماذا كان يفعل به لو قدر عليه وهو حي؟ فهل هذا خلق الرجل الذي أمر غيره بمحبة الأعداء. وقد داس بعمله هذا مع تلميذه على أمر التوراة بإكرام الوالدين وأيضًا بعمله مع أمه مريم ومخاطبته لها بقوله (يو 2: 4) ما لي ولك يا امرأة) ولكن كان في أول الأمر وخوفًا من اليهود يقول لهم (مت 5: 17) : (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء) . فما أصدق كلامه هذا وغيره. وهذه القصة تظهر أيضًا أنه ما كان يريد بتعاليمه الداعية إلى السلم والرحمة والإحسان إلى اليهود عامة كما قلنا من قبل تساهلاً (ص191) بل كان يريد بها من آمن به فقط من اليهود واتبعه ولذلك قال متى (12: 46 - 49) : إن أمه وإخوته جاءوا مرة إليه ووقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه نحو تلاميذه، وقال: (ها أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي) يعني من آمن به فقط [2] . ولذلك أمر أتباعه ببغض غيرهم كما سبق (لو 14: 26) فهل هذا هو الأمر بالإحسان إلى الناس كافة حتى الأعداء؟ ومتى عمل هو نفسه بذلك أو أتباعه الذين استغاثت الأرض من سفكهم دماء بعضهم بعضًا لأقل الأسباب ودماء غيرهم من الأمم بغير حق إلى الآن. ومنهم من أدار خده الآخر للضاربين (مت 5: 39) وأحب أعداءه؟ أليست هذه التعاليم كلها حبرًا على ورق، وهي مع ذلك غلو مذموم مخالف للعقل والعدل وللطبيعة البشرية، وإيجابها في جميع الأحوال مؤد إلى الفساد بطغيان الأشرار، وبتثبيط همة الأصدقاء وتنفيرهم لمساواتهم بالأعداء فيهملون ولا يبالون. ومن منهم ترك ما اعتادوه من الانغماس في الملاذ والشهوات والترف، وباع كل ماله كما في لوقا (18: 22) ووزعه على الفقراء؟ وإذا أطاع الناس هذا الأمر أتصلح أحوال هذا المجتمع ويتقدم إلى الأمام أم يبطل فيه كل عمل واختراع واكتشاف واجتهاد ما دامت الأموال كلها توزع من الأغنياء على الفقراء بلا عمل ولا حساب؟ قال ملحدوهم: الظاهر أن يسوع ما أمر بذلك إلا حيلة؛ ليتمكن هو وتلاميذه من أخذ أموال الأغنياء ليعيشوا بها بلا عمل سوى التجول من مدينة إلى أخرى صارفين في حاجاتهم كلها من أموال غيرهم حتى من النساء (لو 8: 1-3) كما هو شأن أهل البطالة والكسل المتشردين، وإذا كان كل شيء ينال بالصلاة كما قال في (مت 18: 19 و20) فما حاجته بعد إلى أموال الناس التي كان يأخذها منهم ويحملها في صندوق معهم يهوذا الإسخريوطي (يو12: 6) فلماذا لم يترك المال لأهله ويسأل أباه السماوي فيعطيه كل ما احتاج إليه هو وتلاميذه الفقراء الذين لا عمل لهم بعد اتباعه (مت 4: 19 - 22) سوى الإنفاق من المال الذي كان يلقى لهم في الصندوق من الناس. فهذا شيء قليل من كثير مما أصبح بعض الإفرنج يقولونه في المسيح. ومن أراد أكثر منه فليقرأ مثل كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة المذكور آنفًا The Truth about Jesus of Nazareth، وإني أستغفر الله من كل هذا، ومما جاء في هذا الكتاب الإنجليزي وغيره من تأليف ملحدي النصارى أنفسهم. وقال هؤلاء الملحدون أيضا: إذا صح أن يسوع صدق في نبوة واحدة من نبواته فهي قوله (مت 10: 34) : لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض، ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا. فإن الأرض لم تخضب بدم أكثر مما خضبها به أتباعه منذ أن صارت لهم قوة ودولة ولم يصدر عن أمة في العالم ما صدر من أمته، حتى من رؤساء الدين منهم [3] ، من ظلم الأبرياء والأذى والاضطهاد وسائر أنواع المفاسد والمظالم، حتى الآن كما هو مشاهد. (انظر مثلاً ص 130 و131 من كتاب الحقيقة عن يسوع الناصرة) . ويقولون: إذا كانت هذه ثمرة دينه في الأرض فبئست الثمرة، وإذا كان ذلك كله مما فعله في ثلاث سنين، وهو فقير حقير ضعيف مضطهد (أش 53: 3) فكيف به لو كان أوتي عزًّا ومالاً وملكًا كبيرًا وعمرًا طويلاً، لذلك كفر به الناس وكفروا بدينه، وبكل ما جاء به وألفوا المؤلفات الضخمة في مطاعنهم وردودهم وصاروا اليوم يدعون الناس في أوربة جهرًا إلى آرائهم وأفكارهم. فليتأمل في ذلك دعاة النصرانية الذين يطعنون، وهم في بلاد المسلمين خوفًا من أن يسمعهم الملحدون فيضحكون منهم يطعنون في محمد بمطاعن ضعيفة واهية لا تعد شيئًا بالنسبة لما فعله المسيح وما يفعله الآن أتباعه كثيرًا كالانتحار وشرب الخمور والربا والمقامرة وحب المال لدرجة الفناء فيه والفسق والخلاعة والتبرج والزنا والقتل والظلم والانغماس في اللذات والشهوات، وغير ذلك مما أتت به إلى بلادَنَا مَدِنَيَّتُهُم الإفرنجية التي يسمونها مسيحية ولا يخجلون ويظنون أن المسلمين يخجلون من حكم الطلاق وتعدد الزوجات في الإسلام وجهاد الأعداء [4] في سبيل الله بسبب ظلمهم لنا، على فرض قبحها، ليست كالأشياء التي رووها أنفسهم عن المسيح، وأشرنا إلى بعضها هنا، والحكم عليها بالقبح مع ذلك ليس مما أجمع عليه العقل البشري كمسائلهم تلك، بل هي أمور اعتبارية، ألا ترى أن مسألة تعدد الزوجات في الإسلام هي من المسائل التي يختلف الحكم عليها باختلاف عادات البلاد واختلاف أذواق أهلها فهي أقل من مسألة التزوج عند بعض الأمم بالأقارب الأقربين مثلا. فنحن، وإن كنا نستفظع ذلك التزوج بالأقربين ونستقبحه ونمقته، إلا أنه ليس من المسائل المجمع على قبحها بين سائر البشر، وكذلك عادة رقص النساء مع غير أزواجهن وإبداء زينتهن لغير محارمهن هي عندنا قبيحة وشنيعة وعند الإفرنج حسنة وتعمل رسميًّا في قصور ملوكهم، فالخلاف بيننا وبينهم فيه كما قال الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف فإن قيل: إذا كانت هذه المسائل التي حكيتها عن المسيح صحيحة فما جواب المسلمين عنها وهي تنافي معتقدهم في المسيح الذي عظمه القرآن تعظيما، وإن كانت كاذبة فهل يعقل أن الإنجيليين وهم أحباب المسيح يخترعونها وينسبونها إليه كذبًا؟ قلت: إننا لا نقول: إن كل هذه المسائل اخترعها الإنجيليون أنفسهم بل نقول: إنها روايات كاذبة افتجرها بعض أعداء المسيح الأولين من اليهود وغيرهم وروجوها بين أتباعه حتى اشتهرت وظنوها روايات صحيحة فدخلت الغفلة على رواة النصرانية حتى على كتاب الأناجيل لشدة جهلهم وغباوتهم كما دخلت على كثير من محدثي المسلمين وكتاب السير منهم بعض أشياء من المنافقين والوضاعين توجب الطعن في محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام مع الفرق العظيم بين رواة المسلمين ورواة غيرهم في نقد الحديث كما اعترف بذلك بعض علماء الإفرنج أنفسهم (راجع مثلاً كتاب المسحاء الوثنيين ص238 و239 لمؤلفه المستر روبرتسن J. M. Robertson) . ومع ذلك فقد ترك بعض الإنجيليين بعض هذه الأشياء ولم يشر إليها أو ذكرها لذيوعها بين الناس، بطريقة مخففة لرفع الإشكال بقدر الإمكان بحيث لا يرى منها أصل القصة جليًّا واضحًا إلا بالرجوع إلى الأناجيل كلها أو بعضها وأخذ عبارة فيها من هنا وعبارة من هناك حتى يتم فهم القصة، كمسألة تردد المسيح على بيت مريم ومرثا في قرية بيت عنيا، فإن علاقة المسيح بهما وكونهما عاهرتين يحبهما المسيح ويكثر مخالطتهما والمبيت عندهما إلخ، إنما يستنتج ذلك كله من مجموع ما رووه فيهما لا من واحد منهما فقط. ومن أعظم الأسباب أيضًا أن بعض هذه المسائل كان يوجد مثلها عند الوثنيين الداخلين في المسيحية كما بيناه في حاشية (صفحة 185) وقد تأصلت في نفوسهم فلم يهن عليهم تركها فأدخلوها في دينهم الجديد ليجعلوا المسيح كأحد آلهتهم لكي لا يشعروا بالفرق الكبير بين الدينين، شأن البشر فيما ألفوه من آرائهم ومعتقداتهم، وقد قبل منهم أكثر النصارى ما أدخلوه جهلاً منهم بحقيقة دينهم أو فرحًا بهم واستمالة لهم لعلهم لا يرجعون. وربما كان غرض بعضهم أيضًا من ذكر هذه المسائل إظهار أن المسيح وهو عندهم يغفر لمن يشاء (لو م7: 47 - 49) وقد أع

تاريخ الجهمية والمعتزلة

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ تاريخ الجهمية والمعتزلة (14) رأي الأثرية في الجهمية أحسن من كتب في هذا المعنى الإمام ابن قتيبة في شرح مختلف الحديث، فإنه صنَّفه انتصارًا لحاملي الأثر من خصومهم، وكان ابن قتيبة للأثريين كالجاحظ للجهمية خطيبًا مفوَّهًا كاتبًا بليغًا، وهاك ما قاله في مقدمة كتابه المنوَّه به: (أما بعد أسعدك الله تعالى بطاعته وحاطك بكلاءته، ووفقك للحق برحمته، وجعلك من أهله، فإنك كتبت إليَّ تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض، حتى وقع الاختلاف، وكثرت النحل، وتقطعت العصم، وتعادى المسلمون، وأكفر بعضهم بعضًا، وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث إلى أن قال: ومع روايتهم كل سخافة تبعث على الإسلام الطاعنين، وتضحك منه الملحدين، وتزهد في الدخول فيه المرتدين، وتزيد في شكوك المرتابين، وقد قنعوا من العلم برسمه، ومن الحديث باسمه، ورضوا بأن يقولوا فلان عارف بالطرق ورواية الحديث، وزهدوا في أن يقال: عالم بما كتب، أو عامل بما عَلِمَ ثم قال: هذا ما حكيت من طعنهم على أصحاب الحديث. ثم قال: وقد تدبرت مقالة أهل الكلام، فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل، ولا يتهمون آراءهم بالتأويل، ومعاني الكتاب والحديث وما أُودِعَاهُ من لطائف الحكمة، وغرائب اللغة، لا يُدْرَك بالطفرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية. ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما لوضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج، ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة، وحب الاتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات، والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضًا، ولو وجد لهم من يدعي النبوة أو الربوبية لوجد على ذلك أتباعًا وأشياعًا، وقد كان يجب مع ما يدعونه من معرفة القياس، وإعداد آلات النظر، أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحُساب والمُسَّاح والمهندسون، فما بالهم أكثر الناس اختلافًا ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين يدان برأيه، وله عليه تبع [1] . ثم قال ابن قتيبة: وقد كنت في عنفوان الشباب، وتَطَلُّبِ الآدابِ، أحب أن أتعلق من كل علم بسبب، وأن أضرب فيه بسهم، فربما حضرت بعض مجالسهم، وأنا مغترٌّ بهم، طامع أن أصدر عنهم بفائدة، أو كلمة تدل على خير، أو تهدي لرشد، فأرى من جراءتهم على الله تبارك وتعالى، وقلة توقيهم، وحملهم أنفسهم على العظائم لطرد القياس، ما أرجع معه خاسرًا نادمًا. ولقد غلا كثير من الأثرية في الحمل على الجهمية، فصرح بالتكفير واستحلال الدم، نعوذ بالله من الغلو، حتى قام الأئمة المحققون وحظروا النبز بالكفر، كما ستراه في بحث على حياله آخر مقالنا هذا إن شاء الله. ومن استقرأ كلام السلف في ذم الجهمية، تبين له أن سببه شيئان: الأول شدة تمسك السلف بالظواهر، وإعظام تأويلها بوجه ما ولو سوغته اللغة بما فيها من المجاز، كأنهم أشفقوا أن يفضي باب التأويل إلى التعطيل، بل رأوه هو هو، حتى إن لازم المذهب عندهم مذهبٌ [2] ، قال ابن تيمية: ولما كان أصل قول جهم هو قول المبدلين من الصابئة، وهؤلاء شر من اليهود والنصارى كان الأئمة يقولون: إن قولهم شر من قول اليهود والنصارى. السبب الثاني: قال ابن تيمية: إن الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم كانوا إبان ظهورهم يستريحون بالتجهم والتشيع اهـ. فالتبسوا على السلف، لذلك حملوا عليهم كما روى البخاري في كتاب خلق الأفعال عن أبي عبيد قال: ما أبالي أصليت خلف الجهمي أو الرافضي، أو صليت خلف اليهودي والنصراني، ولا يسلم عليهم ولا يتعارفون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم. اهـ. ولا يشك أن مرادهم: أولئك الزنادقة الملاحدة الذين تستروا بالتجهم والتشيع. أما صالحو الجهمية والشيعة فبمعزل عن هذا الجرح كما لا يخفى. * * * (15) رأي الجهمية في الأثرية لما كان القصد مما جمعناه الوقوف على الحقائق التاريخية فيه، كان من تمامه العلم بآراء هذه الفرق بعضها في بعض، ليزداد بصيرة في مذهبها من يروم مناقشتها الحساب، قال الإمام ابن بطة: ومن كلامهم، يعني الجهمية: من انتحل مذهب الأثر واعتقد ما في الأحاديث على ظاهرها، فهو حشوي زائغ، وعند التحقيق كافر [3] . اهـ. وقال الأديب عبد المؤمن الأصفهاني في أطباق الذهب [4] ما مثاله: مثل المقلد بين يدي المحقق، مثل الضرير بين يدي البصير المحدق، ومثل الحكيم والحشوي، كالميتة والمشوي، ما المقلد إلا جمل مخشوش له عمل مغشوش، قصاراه لوح منقوش، يقنع بظواهر الكلمات ولا يعرف النور من الظلمات، يركض خيول الخيال، في ظلال الضلال، شغله نقل النقل، عن نخبة العقل، وأقنعه رواية الرواية عن در الدراية، يروي في الدين عن شيخ هم، كمن يقوده أعمى في ليل مدلهم، ومن طلب العلم بالعنعنت، تورط في هوة العنت، والحق وراء السماع، والعلم بمعزل عن الرقاع، فما أسعد من هدي إلى العلم ونزل رباعه، وأُري الحق حقًّا ورزق اتباعه، وما أشقى جُهَّالاً قلدوا الآباء فهم على آثارهم مقتدون: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) . ومن مثل هذا يعلم مبلغ نفرة الجهمية من الأثر والأثريين، ونبذهم إياهم بما تجل أقدارهم عنه، ولئن وجد في الرواة من جعل همه التوسع في الرواية دون الدراية، وهم الذين عناهم الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، إلا أن أئمة الرواية لم يقنعوا إلا بالبحث والتأصيل والتفريع والتخريج، وقد طبق علمهم الآفاق، وسارت بمذاهبهم وأصولهم الركبان، وسنذكر تفريط الجهمية في المنقول، وهو ما حداهم إلى النيل من أهله، وبالله التوفيق. * * * (16) تفريط الجهمية في السمع والنقل، وسواهم في العناية بالعقل من المعلوم أن الجهمية قصَّروا في علم السمع والنقل، وهو علم الرواية، فجانبوا كثيرًا من المرويات المشهورة المعروفة عند أهلها، وتمحلوا في ردها أو تأويلها بما لا يرتضيه منصف، ففاتهم ركن عظيم من أركان أصول الشرع وهو السنة، وما يتبعها من علومها المتنوعة، وفنونها المحررة، وهل يزري بعلم زخر بحره، وتلاطم بالشرائع موجه؟ قال المقبلي في العلم الشامخ في تخطئة المعتزلة في رد الحديث الصحيح بمجرد الرأي ما مثاله: فإن صح الحديث لزمنا تصديقه، فإن فهمنا معناه وإلا رددنا علمه إلى الله سبحانه، ولكن هذه طريقة اعتمدها متكلمة المعتزلة، وهي مردودة عقلاً وسمعًا، فلذا ردوا أحاديث الصفات، وفي القرآن ما في الحديث من ذلك وما ينبغي التفرقة بينهما، وما أحسن جواب بعض المحدثين، وقد سئل عن أحاديث الصفات فقال: (رواها الذين رَوَوْا لنا الصلاة والزكاة وسائر الشريعة) فالواجب تسليم ما صح، وما اشتبه معناه رددناه إلى الله سبحانه، فلا يغرنك قولهم آحادي فلا نقبله في مقابلة العقل؛ لأن ما رواه الثقات مقبول، وإلا اطرحنا أكثر الشريعة، والدليل على قبول الآحاد شامل لكل الدين، والتفرقة جاءت من قِبَلهم لا من قِبَل الله ورسوله؛ إذ العقل قد فرضنا أنه لم يدرك حقيقة ذلك، فكيف يقال: إنه مصادم له. اهـ. وأما خصوم الجهمية فهم أتقنوا علم السمع، وعلموا منه كثيرًا من القواعد، وتواتر من السمع لهم ما لم يتواتر لغيرهم، إلا أنهم ظنوا أن العلوم العقلية معارضة لما عرفوه من السمع الحق، وحسبوا أن الإصغاء لعلم المعقول والنظر إليه يستلزم البدعة من غير بُدٍّ، مع أن العقل السليم لا ينافي السمع الصحيح، قال الإمام الغزالي رحمه الله في الإحياء: لا غنى بالعقل عن السماع، ولا غنى بالسماع عن العقل، فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين، وكن جامعًا بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية، والعلوم الشرعية كالأدوية. اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

نموذج من إنشاء طلبة السنة التمهيدية لمدرسة دار الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من إنشاء طلبة السَّنة التمهيدية لمدرسة دار الدعوة والإرشاد خيرنا الطلاب في امتحان آخر السنة التمهيدية التحضيرية الماضية بين موضوعين في الإنشاء أحدهما (المفاضلة بين التربية والتعليم، وثانيهما حديث الصحيحين (المؤمن للمؤمن كالبنيان) إلخ، وإننا ننشر هنا ما كتبه ثلاثة من المصريين؛ لأنهم زهاء نصف الطلبة، وثلاثة من غيرهم: سوري وتركي وتتاري. وإنا ننشر ما كتبوه بنصه من غير تصحيح لإظهار درجة استفادتهم في سنة واحدة في لغتهم وأفكارهم، وجل أفكارهم وآرائهم الإصلاحية والاجتماعة مقتبسة من دروس التفسير. * * * أي الأمرين أشد تأثيرًا في إصلاح الأفراد والأمم التربية أم التعليم؟ [1] إن إصلاح الأفراد والأمم يتوقف على كل من التربية والتعليم، ولكن إذا قارنَّا بينهما من حيث التأثير ألفينا التربية هي صاحبة المكانة العليا والقسم الأوفر. ذلك أن الإنسان ينشأ في بادئ أمره ضعيف العقل ضئيل الجسم قصير الإدراك، فأول شيء يحتاج إليه التربية فإذا هو تُعُهِّدَ بالتربية الحسنة الموافقة للفطرة فنما عقله على الاستقلال بعيدًا عن الأسر، وربت نفسه على الفضائل، وروعي جسمه بما يحفظه من طوارئ الطبيعة، لم يلبث حتى يصبح إنسانًا بالمعنى الصحيح، قوي الإرادة، مستعدًّا لكل ما يلقى عليه من العلوم والمعارف، أهلاً لأن يميز بين الصحيح الذي ترغب فيه فطرته وطبيعته، وبين الفاسد الذي ترغب عنه تربيته ونشأته، وحينئذ تبشر الأمة التي يكون من أفرادها مثل هذا الذي أنبت نباتًا حسنًا، فيعلو بها ويوصلها إلى أوج الفلاح، كالسائل الذي يندفع بالحرارة وقوتها ويرتفع بها ما شاء الله أن يرتفع، وإذا هو قد أهمل وترك فشب على التقاليد الوراثية، ونما على السخافات العادية، حتى تشبعت مدركاته بها، وتصلبت أعصابه عليها، أصبح خاسرًا لنفسه، معاديًا لما وافق الفطرة من العلوم والمعارف فلم يقبل من العلم إلا ما يلائم تربيته ولم يثبت في فؤاده إلا ما يوافق نشأته وحينئذ يكون علمه غير نافع فضلاً عما يجلبه على الهيئة الاجتماعية من الوبال والخسران فمن ذلك تبين لنا أن التربية هي الأساس الأول الذي يبنى عليه إصلاح الأفراد ويقوم بحفظ كيان الأمم، والتعليم طبقة ثانية بعدها لا اعتماد إلا عليها. وحسبنا المشاهدة التي هي أعظم حجة وتاريخ الأمم الذي هو أقوى برهان. * * * أي الأمرين أهم وأشد تأثيرا في إصلاح الأفراد والأمم التربية أم التعليم؟ [2] من نظر إلى الأمم في مجموعها، والأفراد في تقلبها، وراقب ما تقوم به من الأعمال وتتصف به من الخصال، وجد الفرق الكبير بين أمة وأخرى والبون الشاسع بين فرد ومن ماثله. نعم يجد هذه الأمة قد ملكت المشارق والمغارب برًّا وبحرًا، وصارت هي السائدة على العالم طرًّا، آخذة في النمو والارتقاء لا يعترضها محيط، ولا يثني عزيمتها صعوبة اختراق الجبال واجتياز المفاوز، بينما هو يجد تلك الأمة في غاية الضعف والاضمحلال، مهينة بين الأمم لا تحترم لها حقوق، ولا يراعى لها عهد ولا يحفظ ميثاق، آخذة في التقهقر والخذلان تخاف من كل ناعق، وترهب من كل ناعب، ويجد هذا الفرد قد أدهش العالم بمخترعاته، وحرك الأمم بيراعه، بينما يكون الآخر عالة على غيره يحتاج من يطعمه ويسقيه. ولقد يقف الناظر أمام هذه الحال متفكرًا يسائل نفسه هل هذا الفرق نتيجة التربية أم نتيجة التعليم؟ نقول له: أيها الناظر لا تذهب بفكرك بعيدًا إن التربية هي أساس كل مجد، وأصل المفاخر والارتقاء، فمن رأيته سائدًا من الأمم والأفراد فاجزم بأن سموه ثمرة تربية صحيحة. ومن رأيته في أسوأ حال فاحكم بأن تربيته قد أهملت فلا يأتي بخير، وإن تعلم علوم الأولين والآخرين؛ ذلك أن التربية تشمل تربية العقل والنفس والجسم، وإذا ربَّى الإنسان عقله على الاستقلال مع صحة المبادئ كان كنز المعارف وأب التفننات النافعة التي يسود بها صاحبه من عداه، زد على ذلك أن يدرك الحق على أنه حق، ويدفع الباطل لبطلانه ويميز بين الحسن والقبيح من كل شيء تمييزًا صحيحًا، ويستنتج من الوقائع أمورًا قد يعجز غيره عن فهمها بعد الحصول. وإذا ربى نفسه على احتمال المشاق في ابتناء المعالي سهل عليه الجولان في الأرض والسماء، وتاقت نفسه إلى اكتناه دقائقهما، والوقوف على أسرارهما، ولقد يتوقع الهلكة مرارًا، وهو جاد في طريقه فلا تنثني عزيمته، ولا تَهي قوته، حتى يحصل على مطلوبه أو يموت راضيًا مطمئنًّا غير سائم من هذا السبيل، وإذا ربى جسمه بما يحفظ صحته ويزيد في قوته، كان قويًّا على القيام بما يهيئه له عقله، وتشرئب إليه نفسه، فلا يفوته خير ولا تبعد عنه مكرمة، ويكسب الفخار غدوًّا ورواحًا. أما التعليم فقد يكون مع عقل سقيم، ونفس حقيرة وجسم ضئيل، فلا ينفع فردًا ولا أمة، بل قد يكون هو السبب في استئصال الأفراد وهلاك الأمم؛ لأن التعليم هو معرفة مسائل العلوم والفنون باعتبار نتيجته، وهذه المعرفة يعبر عنها العالم، وهو كالريح تمر بالطيب فتطيب وبالخبيث فتخبث. وبالجملة فإن مَن سرَّه أن يكون سعيدًا في الدارين، وشريفًا في المقامين، فعليه بالتربية النافعة التي تكسب العقل صحة واستقامة، والنفس شجاعة وإقدامًا، والجسم قوة وإنماء، ولا يلوي على التعليم إلا بعد الحظ الكبير من التربية، وربما بحسن التربية يعرف طريقًا للتعليم أجدى من كل الطرق الموجودة في زمانه، والله الموفق. * * * أي الأمرين أهم وأشد تأثيرًا في إصلاح الفرد والأمم التربية أم التعليم؟ [3] التربية مصدر من تربى وأصله ربَا يربُو معناه النماء والزيادة، وهذا النماء إما حسي وإما غير حسي. فتربية الجسم تحصل بحفظه من الأمراض والانحلال وبوقايته من الضعف. فمن اهتم بحفظ الصحة وراعى قانون الموازنة في أكله وشربه يسلم من الأمراض ويكون صحيح الجسم قوي البنية. فبذلك يصفو دماغه ويكثر نشاطه إلى كل عمل. والتربية المتعلقة بالروح والنفس تحصل باحتراز الإنسان من الأفعال الدنيئة والأعمال القبيحة حتى يكون ميل النفس إلى الأعمال الصالحة وميل الروح إلى مرجعها الأصلي. فبذلك تقوى همة الأفراد والأمم وتعظم همتها؟ ويصلح شأنها. وإذا نمت عقول الأمم وتزكت نفوسها يكون الإصلاح والإرشاد ديدنها، وأما التعليم فإنه يرى في كثير من الناس ولكن لعدم التربية في أنفسهم لم ينفعهم تعليمهم ولا يزيد فيهم إلا ضلالاً وشقاوة. وإذا ربى شخص نفسه وزكيها (؟) وأردف فيها التعليم كان من أعظم الناس إرشادًا وإصلاحًا، ومن أهم ما يصلح شأن الأفراد والأمم هي التربية الكاملة والتعليم الصحيح. ومعنى لفظ التعليم الوقوف والاطلاع في شيء مجهول سواء كان ضارًّا أو نافعًا. ولكن التربية هي التزكية والتنمية والعلو والارتفاع ولذلك مخاطبة الله لنبيه في كل مواضع في القرآن بلفظ الرب، ويفهم من هذا أن من أعظم أسماء الله الحسنى هي لفظة الرب. وكذلك الخطاب للأنبياء والأمم الماضية صدر بلفظ الرب أنه مربي العالمين ومربي كل شيء. ويقول تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} (القصص: 69) ، و {رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) ، أو غير ذلك، وأمر بالدعاء إليه بلفظ الرب. ولم يقل ولم يأمر ومعلمك ومعلم العالمين. فإذًا إن التربية أهم وأشد تأثيرًا في الإصلاح. * * * أي الأمرين أهم وأشد تأثيرا في إصلاح الأفراد والأمم التربية أم التعليم؟ [4] لكل من التعليم والتربية تأثير في إصلاح الأفراد والأمم فهما لازمان لمن يريد إصلاح نفسه أو أمته. وتأثير التعليم هو أن يحرك الأفكار ويجعل الإنسان يحب البحث دائمًا عن كل ما يجهله في أمور الدين والدنيا، والتفكر والبحث سبب وصول الحقائق، وهما أم الاختراعات والاكتشافات؛ ولذلك نرى الأمم التي انتشر بين أفرادها التعليم تقدموا في الارتقاء وغيرها بعكس ذلك. ولكن تأثير التعليم ليس بشيء بالنسبة لتأثير التربية العملية وهي تربية العقل والروح والجسم , فإن كل فرد أو أمة توجد فيها هذه التربية يكون بالطبع جامعًا بين العلم والعمل. والأعمال هي أساس الإصلاح. وكذلك هذه التربية تجعل نفوس الأفراد والأمم عزيزة أبية لا تقبل الخضوع لغيرها أبدًا، ولا ترضى بالذل والهوان بأي حال من الأحوال، وبالتربية تصلح الأخلاق أكثر مما تصلح بالتعليم، فإننا نرى كثيرًا من المتعلمين فاسدي الأخلاق لعدم التربية فيهم، ونراهم أيضًا يكذبون ويسرقون ويخونون ويغشون ولا يفون بعهد إذا عاهدوك. وأما المتربون تربية صحيحة فهم يبتعدون من الأخلاق الذميمة، ويحبون العمل أكثر من القول. ولا شك أن أمة انتشرت بينها التربية تسود على غيرها، ولذلك ترى اليوم الأمم المتربية سادت علينا معشر المسلمين من كل وجه. ومما يدل على أن التربية أشد تأثيرًا في إصلاح الفرد والأمم من التعليم ما وقع في صدر الإسلام للمسلمين من الإصلاح العظيم في الأمة وفي أفرادها ولا شك أن سبب هذا الإصلاح هو تربية نفوسهم وتهذيبها من الأخلاق الفاسدة والعقائد الباطلة، وما كان التعليم عندهم معهودا قط، ومع ذلك سادوا على الأمم المتمدنة المتعلمة بشدة تأثير التربية، فعلمنا من هذا أن التربية من أهم ما يؤثر في الإصلاح، وأما إذا كان معها التعليم فبالضرورة يكون أكمل وأتم في التأثير، فحينئذ يجب علينا معشر المسلمين أن نصلح أحوالنا بالتربية الصحيحة والتعليم العملي كما يوجبه علينا ديننا الشريف حتى نكون خير أمة أخرجت للناس والله الهادي إلى الصواب. * * * (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا [5] ) هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد منه أن المؤمنين في تناصرهم وتعاضدهم ومساعدة بعضهم لبعض في جميع ما يحتاج إليه كل فرد منهم من الأمور الدينية والدنيوية كالبنيان في شدة تماسكه وقيام أجزائه بعضها ببعض، فكل طبقة من طبقات البناء لا تقوم إلا بالمُجاوِرَة لها الملتصقة بها كما هو معلوم بالمشاهدة، فكذلك المؤمنون حقًّا، تراهم يسارعون إلى مساعدة بعضهم بعضًا بداعي الشفقة والرحمة الناشئين عن كمال الإيمان والعلم بسنن الله تعالى في خلقه وحكمته البالغة، فقد اقتضت حكمته - جل شأنه - أن يجعل حاجات الإنسان متنوعة وأفكاره متباينة ومقاصده متعددة، وجعله عاجزًا عن القيام بجميع حاجياته بل يحتاج إلى أبناء جنسه في قضاء مصالحه وسد عوزه، فكل فرد يرجع إلى الآخر فيما يعجز عنه ويقدر الآخر عليه، تلك سنة الله، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) ، فالمؤمن الكامل يجعل هذه السنة نصب عينيه فلا تمنعه المحبة الشخصية والمنفعة الذاتية عن أن يكون لإخوانه عونًا، وعلى سنة ربه جاريًا، بل يكون كالقَطْر أينما وقع نفع، وقد أرشدنا الله إلى ذلك في القرآن الكريم في عدة مواضع فقال تعالى في الحث على الاتحاد الذي هو أساس كل خير ورأس كل فضيلة {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات: 10) إلى غير ذلك. فينبغي للمؤمنين أن ينظروا بعين الإنصاف ويهتدوا

وثيقة شرعية بفسخ نكاح غائب معسر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صورة وثيقة شرعية بفسخ حاكم حنبلي لنكاح غائب معسر [1] وتنفيذ الحاكم الحنفي لحكمه (منقولة بحروفها) الحمد لله تعالى نفذت نمقه الفقير إليه تعالى محمد رفعت زاده صدقي زاده القاضي بدمشق الشام غفر الله لهما. ما نسب إليه فيه صحيح، كتبه الفقير إلى الله عز شأنه مصطفى البرقاوي الحنبلي ابن سليمان النابلسي المولى الخلافة بمحكمة الكبرى بدمشق الشام. بمجلس الشريعة الغراء بمحكمة الكبرى بدمشق المحروسة - أجله الله تعالى - ثبت لدى مولانا فخر قضاة الإسلام الحاكم الحنبلي الموقع أعلاه بالبينة الشرعية العادلة المرضية بشهادة افتخار الأفاضل الفخام الشيخ يسن أفندي ابن عمدة العلماء والمدرسين الفخام الشيخ حامد أفندي عطار زاده والسيد مصطفى بن السيد عبد الله الحموي والسيد محمد بن السيد يسن الحموي المقبولين لديه بذلك شرعًا بمعرفة السيد محمد بن السيد سعيد الصواف الغائب عن دمشق وأعمالها منذ سنة واحدة وعشرة أشهر كوامل تقدم تاريخه الغيبة الشرعية المجوزة للحكم والقضاء على الغائب شرعًا ومعرفة زوجته الحرمة حنيفة المستقرة يومئذ في عصمته وعقد نكاحه بنت السيد يسن الحموي المرأة الكاملة الحاضرة بالمجلس، وإنه بعد أن عقد نكاحه الشرعي عليها ودخل بها واستمر بمعاشرتها برهة من الزمان سافر وغاب عنها الغيبة المزبورة تركها المدة المزبورة بلا نفقة ولا منفق شرعًا ولم يترك عندها شيئًا تبيعه وتنفق ثمنه عليها ولا أحالها على أحد بالنفقة ولم تعلم له مكانًا فتراسله وانقطع خبره عنها بالكلية، وإنه فقير معسر لا مال له ولا نوال ولا ملكًا ولا عقارًا، وإنها محتاجة لفسخ عقد نكاحها من عصمة بعلها السيد محمد الغائب المزبور ثبوتًا شرعيًّا وزكاهم السيد حمزة بن السيد عبد الغني السرداح والحاج أحمد بن الحاج عثمان عوف الحلبي التزكية الشرعية فحلفها الحاكم الحنبلي المشار إليه أعلاه يمينًا بالله تعالى العظيم الرحمن الرحيم على طبق ما شهدت به البينة، وأن من شهد لها شهد حقًّا وصدقًا وظاهر الأمر فيه كباطنه الحلف الشرعي بالمجلس فصبرها ووعظها الحاكم الحنبلي المشار إليه أعلاه على أن يفرض لها نفقة على بعلها السيد محمد الغائب المزبور إلى حين مجيئه فلم تصبر ولم تتعظ وأعادت تبدي فقرها وإعسارها وقلة ما بيدها واحتياجها لفسخ عقد نكاحها من عصمة بعلها السيد محمد الغائب المزبور وطلبت الحرمة حنيفة المزبورة من الحاكم الحنبلي المشار إليه أعلاه أن يأذن لها بفسخ عقد نكاحها من عصمة بعلها السيد محمد الغائب المزبور لغيبته ولفقره وإعساره ولعدم النفقة والكسوة وغيرها إذنًا شرعيًّا فعند ذلك استخار الله تعالى كثيرًا واتخذه هاديًا ونصيرًا وأذن لها بفسخ عقد نكاحها من عصمة بعلها السيد محمد الغائب المزبور لغيبته ولفقره وإعساره ولعدم النفقة والكسوة وغيرها إذنًا شرعيًّا، فعند ذلك أشهدت عليها المأذون لها الحرمة حنيفة المزبورة شهود آخره أنها فسخت عقد نكاحها من عصمة بعلها السيد محمد الغائب المزبور لغيبته ولفقره وإعساره ولعدم النفقة والكسوة وغيرها واختارت فراقه وطلبت من الحاكم الحنبلي المشار إليه أعلاه الحكم في ذلك فعند ذلك حكم لها في فسخ عقد نكاحها من عصمة بعلها السيد محمد الغائب المزبور وبوقوع الفرقة بينهما حكمًا شرعيًّا بالتماس شرعي ثم أنفذ حكمه نائب سيدنا الحاكم الحنفي الواضع خطه وختمه أعلاه غب الدعوى والمرافعة لديه بحادثة ذلك إنفاذًا شرعيًّا بالتماس شرعي بعد أن أعلمها السيد الحاكم الحنبلي أن عليها الاعتداد من يوم تاريخه أدناه بثلاث حيض كوامل حتى يحل لها أن تنكح زوجًا غيره إعلامًا شرعيًّا بالتماس شرعي وحرِّر في ثاني عشر ربيع الأول سنة خمسين ومائتين وألف. شهود الحال: المحامي السيد محمد أمين - المحامي السيد محمد علي - المحامي السيد محمد أسعد - سيد إبراهيم محضر - المحامي السيد محمد سليم - حبري السيد محمد أنيس.

قرارات المؤتمر السوري العربي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قرارات المؤتمر السوري العربي اجتمع المؤتمر السوري العربي في باريس في شارع سان جرمين عدد 184 بتاريخ 21 حزيران (يونيو) سنة 1913 رجب 1331 وقرَّر ما يأتي: 1- أن الإصلاحات الحقيقية واجبة وضرورية للمملكة العثمانية فيجب أن تنفذ بوجه السرعة. 2- من المهم أن يكفل للعرب التمتع بحقوقهم السياسية، وذلك بأن يشتركوا في إدارة المملكة المركزية اشتراكًا فعليًّا. 3- يجب أن تنشأ في كل ولاية عربية إدارة لا مركزية تنظر في حاجاتها وعاداتها. 4- كانت ولاية بيروت قدمت مطالبها بلائحة خاصة صُودِقَ عليها في 31 كانون الثاني سنة 1913 بإجماع الآراء، وهي قائمة على مبدأين أساسيين وهما: توسيع سلطة المجالس العمومية وتعيين مستشارين أجانب فالمؤتمر يطلب تنفيذ وتطبيق هذين الطلبين. 5- اللغة العربية في مجلس النواب (المبعوثين) العثماني يجب أن تكون معتبرة [*] ، ويجب أن يقرر هذا المجلس كون اللغة العربية لغة رسمية في الولايات العربية. 6- تكون الخدمة العسكرية محلية في الولايات العربية إلا في الظروف والأحيان التي تدعو للاستثناء الأقصى. 7- يتمنى المؤتمر من الحكومة السنية العثمانية أن تكفل لمتصرفية لبنان وسائل تحسين ماليتها. 8- يصادق المؤتمر ويظهر ميله لمطالب الأرمن العثمانيين القائمة على اللامركزية. 9- سيجري تبليغ هذه القرارات للحكومة العثمانية السنية. 10- تبلغ أيضًا للحكومات المتحابة مع الدولة العثمانية. 11- يشكر المؤتمر الحكومة الفرنسوية شكرًا جزيلاً؛ لترحابها الكريم بضيوفها. * * * ملحق للطلبات السابقة 1- إذا لم تنفذ القرارات التي صادق عليها هذا المؤتمر فالأعضاء المنتمون إلى لجان الإصلاح السورية العربية يمتنعون عن قبول أي منصب كان في الحكومة العثمانية إلا بموافقة خاصة من الجمعيات المنتمين إليها. 2- ستكون هذه القرارات بروغرامًا سياسيًّا للعرب العثمانيين، ولا يمكن مساعدة أي مرشح للانتخابات التشريعية إلا إذا تعهد من قبل بتأييد هذا البروغرام، وطلب تنفيذه. * * * بلاغ نظارة الداخلية العثمانية للولايات في شأن الإصلاح جاء في جرائد سورية التي صدرت في شعبان الماضي ما نصه: وردت من نظارة الداخلية الجليلة برقية مؤرخة في 20 تموز (يوليو) بالحساب الشرقي سنة 1329 مالية (1331 هجرية) هذا تعريبها: لما كان أمر ارتقاء جميع الولايات العثمانية وعمرانها وتأمين رفاهة وسعادة كل أفراد الأهالي بحسب أمزجتهم المتباينة وحاجياتهم المحلية نظر إليه بعين الاعتبار، فبعد الاتكال عليه سبحانه وتعالى جرت المخابرة مع الولايات بشأن الإصلاحات التي جرى الإمعان فيها وشرع في تنفيذها، ووضعها موضع العمل تدريجًا، وقد أصدر مجلس الوكلاء الخاص القرار الآتي: (1) تسليم العقارات والبنايات الوقفية المشروط صرف ريعها للجهات الخيرية المحلية إلى المجالس الملية حسب شرط الواقف وتوفيقًا للقانون الخاص الذي هو قيد الوضع. (2) خدمة الأفراد المحلية العسكرية مدتهم النظامية تكون في زمن السلم في دائرة المنطقة التفتيشية التابعين لها، ولكن إذا اقتضى لدى الدولة حشد جنود على جهة من الحدود أكثر من القدر المعين لتلك المنطقة فهي تسوق كل قسم من العسكر بلا قيد ولا شرط، أما الجنود الضروري سوقها الآن إلى المقاطعات البعيدة كالحجاز واليمن وعسير ونجد فهي ترسل من جميع البلاد العثمانية على نسبة معينة. (3) لما كان التدريس باللسان العربي في جميع المدارس الموجودة في البلاد التي يتكلم أكثر أهلها بذاك اللسان هو مفيدًا في الأصل؛ لأنه يؤدي إلى أن تكون تلك البلاد بأقرب آن مظهرًا للتكمل المدني المحتاجة له في الحال والاستقبال فقد تقرر الآن الشروع في التدريس باللسان المذكور في المكاتب الابتدائية والإعدادية، وأن يتذرع في المستقبل بالوسائل التي تجعل التدريس العالي بلسان الأكثرية، ولكن ينبغي؛ لأجل تصحيح اللسان الرسمي أن يحافظ بصورة مستقلة على المكاتب الإعدادية الموجودة في مراكز الولايات؛ على أن يظل التدريس فيها باللسان التركي. (4) يجب أن يكون المأمورون في تلك الأنحاء واقفين على اللسان العربي عدا وقوفهم على اللسان الرسمي، وأن يدقق في هذا الأمر عند تعيينهم. (5) يلزم أن تعين الولايات المأمورين الثانويين ضمن دائرة القوانين والأصول المخصوصة. أما تعيين الحكام ومأموري العدلية المنصوبين بإدارة سنية فهو عائد إلى المركز. وقد جرى تبليغ هذا القرار إلى نظارات الحربية والمعارف والأوقاف. هذا؛ وحبًّا بالإسراع في الإصلاح تقرر هنا جلب وتعيين مفتشين أجانب بقدر اللزوم الذي تحتاجه شعبات الإدارات في كل ولاية ووضع قانون لذلك. ثم من مقتضى حصر قانون الولايات ضم مقدار من المخصصات على ميزانيات الولايات لسد عجز الميزانيات المتعلقة بالوظائف المعينة المتروك أمر رؤيتها وتمشيتها للإدارة المحلية، وعلى الأخص ميزانية المعارف النافعة. ومن المقرر أن تنفذ في الحال القرارات التي تصدرها المجالس العمومية ضمن دائرة صلاحيتها القانونية. فنبلغكم على سبيل التعميم أن تبذلوا مزيد الاهتمام في العمل بمقتضى ذلك.

الإدارة السلطانية بشأن الإصلاح في البلاد العربية

الكاتب: محمد رشاد

_ الإرادة السلطانية بشأن الإصلاح في البلاد العربية نشرت صحف الآستانة يوم 23 أغسطس الجاري الإرادة السلطانية الصادرة بتنفيذ ما قرره مجلس الوكلاء من التغيير الإداري في البلاد العربية، وهذه ترجمتها: إن من وسائل الإصلاح الأساسية التي قرر مجلس الوكلاء تنفيذها، والعمل بها: (1) أن يعهد إلى مجالس الطوائف المحلية بإدارة أملاك ومعاهد الأوقاف المشروط صرف ريعها على الجهات الخيرية مع مراعاة شروط الواقفين، والتزام نصوص القانون الخاص الذي باشرت الحكومة وضعه. (2) أن يؤدي الجنود خدمتهم الجندية في زمان السلم والأمن داخل دائرة التفتيش التي هم تابعون لها. وإذا رأت الدولة أن الحال تقتضي بزيادة عدد الجنود المحتشدة على جهة من جهات الحدود فللحكومة أن تحشد وتسوق كل صنف من أصناف العساكر من غير قيد ولا شرط. وأما العساكر الذين تمس الحاجة الآن إلى إرسالهم إلى الحجاز واليمن وعسير ونجد وأمثال هذه الأقطار فيؤخذون من كل البلاد العثمانية بنسبة صحيحة. (3) لأجل الاطمئنان على حصول ما تحتاج إليه البلاد العربية بوجه خاص من وسائل الحضارة والعمران في الحاضر والمستقبل فإن من المفيد لذلك أن تكون لغة التعليم في مدارس تلك البلاد هي اللغة العربية، ويبادر من الآن إلى التعليم بهذه اللغة في المدارس الابتدائية والثانوية مع جعل تعليم اللغة التركية إجباريًّا، وينظر من الآن في أسباب جعل التعليم العالي في المستقبل بالعربية في البلاد العربية، ولكن لأجل تعميم اللسان الرسمي ينبغي أن يبقى التعليم بالتركية في المدارس الثانوية التي في مراكز الولايات. (4) يجب أن يلاحظ في تعيين الموظفين للبلاد العربية أن يكونوا عارفين اللغة العربية عدا اللغة الرسمية. أما الموظفون الذين من الدرجة الثالثة فتعينهم الحكومة المحلية في الولايات على المنهج المنصوص عليه في القوانين الخاصة بذلك، وأما الذين يتوقف تعيينهم على صدور إرادة سنية فيناط تعيينهم بالحكومة المركزية في الآستانة. على مجلس الوكلاء تنفيذ إرادتنا السنية هذه. في 14 رمضان سنة 1331. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشاد

وجود الله ووحدانيته والقضاء والقدر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وجود الله ووحدانيته والقضاء والقدر (س 37-39) من صاحب الإمضاء الشهير بفاقوس: حضرة الأستاذ الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأفخم، تحية وسلامًا وأشواقًا، وبعد فأرجو أن تجيبوا بالبرهان الكافي والبيان الشافي في المنار الآن على هذه الأسئلة: (1) شاع وذاع وملأ الأسماع أن أستاذًا ملحدًا تلقى العلوم في مدرسة المعلمين وكمل بمدارس أوربة وعين مدرسًا بمدرسة التجارة بمصر، أنكر وجود الخالق تعالى مستندًا على علم الطبيعة الذي يبحث فيه عن أشياء الكون الظاهر الموجودات قائلاً أمام الطلبة: الاعتقاد بوجود الإله من الأوهام التي لم يقم عليها دليل علمي ولا برهان حسي. (2) مما ألقاه هذا الأستاذ الملحد من الشُّبَه على عقيدة القضاء والقدر أمام الطلبة أن الإنسان أثناء ملابسة الشرور إما أن يكون في سلطة القضاء والقدر أو لا؟ فإن قيل بالإيجاب امتنعت عنه المسئولية، وصار غير مستحق للجزاء لا شرعًا ولا قانونًا، وإن قيل بالسلب بطل القضاء والقدر. وأما القول بأنه مجبور باطنًا مختار ظاهرًا فهو من السفسطائيات التي لا يرضاها العلم والفلسفة. (3) سأل سائل (المقتطف) كيف اعتقد بعض فلاسفة اليونان تعدد الآلهة مع قيام البرهان العقلي على التوحيد الخالص؟ فأجاب (المقتطف) : إن البرهان العقلي لا ينفي التوحيد ولا يثبته، وإنما ثبت التوحيد بالإلهام. فأعاد السائل السؤال فأعاد (المقتطف) الجواب بما لا يخرج عن معنى ما تقدم. هذا وأرجو أن يكون الجواب بالأدلة العقلية والعلمية والفلسفية والتاريخية على الطريقة العصرية؛ ولكم من الله الأجر، ومن الأمة الشكر، ودمتم لصديقكم المخلص. ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد الألفي ... ... ... ... ... ... ... ... خادم العلم الشريف الأدلة العلمية على وجود الله تعالى (ج) -1 - إذا صح ما نقل عن ذلك المدرس بمدرسة التجارة فهو جاهل مغرور لا يعلم العلم الإلهي ولا العلم الطبيعي، فلم يقل عالم ولا عاقل مؤمن ولا ملحد: إن العلم الطبيعي ينفي وجود الخالق، وكل ما زعمه بعض من طمست بصيرتهم في ذلك أن العلم الطبيعي لا يثبت وجود الخالق ولا ينفيه، ولكن السواد الأعظم من عقلاء البشر وعلمائهم أثبتوا وجود الخالق بالبراهين العقلية والحجج العلمية، والمثبت مقدم على النافي؛ لأن نفي ما عدا المحال جهل؛ لأنه عبارة عن عدم العلم بالنفي، وقد صرحتم فيما نقلتموه عن ذلك الملحد الجديد بأنه استدل على عدم وجود الخالق بعدم الدليل العلمي والبرهان الحسي على وجوده، وعدم الدليل لا يقتضي عدم المدلول، على أن دعوى عدم الدليل باطلة، والصواب عدم علمه هو بالدليل، وعدم العلم بالشيء لا يقتضي عدم ذلك الشيء باتفاق العقلاء، بل هو من البديهيات، وفي كتب الكلام كثير من الأدلة العقلية على وجود الخالق، وفي القرآن كثير من الأدلة العقلية والأدلة العلمية الكونية على ذلك. وقد كتب محرر المقتطف مقالة عنوانها آياته في خلقه شرح فيها الدلائل العقلية والطبيعية على وجود الخالق تعالى نشرناها في جزء ذي الحجة سنة 1328 بعد مقدمة وتمهيد في الدين والإلحاد والاشتراكية (راجع ص 913 م13) . * * * القضاء والقدر (2) ما قاله ذلك الأستاذ الملحد في القضاء والقدر مبني على جهله بمعنى القضاء والقدر، وظنه أنه عبارة عن الجبر وسلب الاختيار، وهو ظن باطل آثم، وقد بيَّنَّا حقيقة المسألة في المنار مرارًا فلا نعيدها عند هذيان كل هاذ، والسائل الفاضل يعرف مواضع تحرير هذه المسألة من المنار. * * * وحدانية الخالق (3) وأما مسألة وحدانية الخالق عز وجل فهي تُعْلَمُ من الدلائل على وجود الخالق؛ لأن تلك الدلائل تثبت وجود خالق واحد، والتعدد مسألة ثانية لا تحتاج إلى دليل آخر، والعدد لا نهاية له، فلا بد لمثبت التعدد من دليل يرجِّح به العدد الذي يدعيه على غيره. وتعلم من دلائل أخرى مبنية على تلك الدلائل، فمقالة المقتطف التي أشرنا إليها آنفا تثبت وجود الله تعالى ووحدانيته معًا، وما قال المقتطف: إن التوحيد إنما عرف بالإلهام إلا ذهولاً عن هذا المعنى وعن دلائل التوحيد الأخرى، وسبحان المنزه عن الغفلة والذهول. وجمهور فلاسفة اليونان كانوا إلهيين موحدين وأثبتوا وجود الواجب بالأدلة النظرية، وهؤلاء هم الفلاسفة الإلهيون، وأما الماديون فلا يثبتون إلهًا ليثبتوا توحيده، وما ذكر في خرافات اليونان من تعدد الآلهة لا يعني به أن واجب الوجود الذي يطلقون عليه اسم (علة العلل) أي لكل موجود حقيقة لها عدة أفراد، وإنما ذلك مبني على نظريات أخرى في نظام كل أمر كلي عام، لا محل هنا لشرحها، لا يتسع وقتنا الآن ولا هذا الجزء من المنار لإطالة الكلام في هذه المسألة فنكتفي بأن نُذَكِّرَ السائل - وهو من أهل العلم الذين تكفيهم الإشارة - ببعض البراهين العقلية والطبيعية: فمنها الاستدلال بوجود الممكنات في جملتها على وجود الواجب؛ إذ يستحيل أن تكون قد أوجدت نفسها، وأن تكون وجدت من العدم المحض بدون موجد فلم يبق إلا أن لها مُنشِئًا وجوديًّا آخر ليس من جنسها، أي ليس من الممكنات، وهو الواجب الأزلي الذي وجوده ذاتي له، وهو حقيقة واحدة اضطر العقل إلى إثباتها مع عدم معرفة كنهها، فلا مجال لدعوى التعدد فيها إلا التحكم والغرض رجمًا بالغيب من مكان بعيد. ومنها أن فرض تعدد الوجود الواجب يوقع العقل في مشكلات لا يمكن التفصي منها إلا بإبطال الفرض وإثبات الوحدة. فإن الواجب الذي أثبت العقل وجوده هو مصدر وجود الممكنات في جملتها؛ لأن كل ممكن منها يجوز أن يكون مصدرُه ممكنًا آخر، وأما جملة الممكنات في أسبابها ومسبباتها، فلا يمكن أن تكون هي مصدر نفسها ولا أن يكون جزء منها مصدر الكل، ولا أن تكون من العدم المحض بغير موجد كما تقدم آنفًا، فالوجود الواجب الذي أثبتناه هو مصدر مجموع الممكنات، ولا معنى لذلك إلا أنها صادرة بإرادته حسب علمه وهما صفتان ذاتيتان واجبتان له، فإذا فرضنا وجود واجب آخر يكون ذلك تناقضًا معناه أن جملة الممكنات صادرة عن كل منهما غير صادرة عنه؛ لأن القول بصدورها عن كل واجد يقتضي عدم صدورها عن الآخر الذي هو غيره ذاتًا وعلمًا وإرادة، فإذا استطعت أن تفرض وجود واجبين أو أكثر؛ لأن الفرض لا حجر فيه فيتناول المحال، فإنك لا تستطيع أن تثبت ذلك ولا أن تتفصى من مشاكله. ولك أن تقول من وجه آخر: إن الخالق هو مصدر هذه الموجودات ومصدر التدبير والنظام فيها، فإذا فرضنا تعدده المستلزم لاختلاف صفاته من العلم والحكمة والإرادة والقدرة؛ إذ لا معنى للتَّعدُّد إلا هذا، لزم من هذا الفرض أن يكون التدبير والنظام صادرين عن علمين أو علوم مختلفة وإرادات متباينة وذلك يستلزم اختلاف المرادات لاختلاف المعلومات، التابعين لاختلاف كنه الذات، وبذلك يختل النظام وتفسد الكائنات. وهو هذا برهان التمانع في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) أي في السموات والأرض. ومن الأدلة الكونية الطبيعية على الوحدانية ما يؤخذ من قول جماهير علماء الكون إن لمجموع الكائنات مصدر وحدة من حيث المادة والقوة، مجهول الكنه والحقيقة. دع ما يدل عليه النظام العام في الخلق من وحدة مصدره، ودع ما يدل عليه العلم الطبيعي من كون العناصر البسيطة التي يتركب منها عالم المادة لا بد لها من مبدأ وحدة، وتذكر قولهم: إن الفاعل في مادة الكون الأولى الذي جعلها أطوارًا انتقلت من طور منها إلى طور بسنن طبيعية مطردة في منتهى الإبداع والنظام إنما هو شيء وجودي سموه القوة. وتذكرْ اعترافهم بالعجز عن معرفة كنه تلك القوة التي هي حقيقة واحدة، وأن عمل القوة بالنظام الدقيق لا يعقل إلا أنه عمل عن علم وحكمة، يُفْتح لك باب آخر من دلائل التوحيد والوحدة، فإن ادعاء أن هذه القوة عرض ذاتي للمادة لا يقوم البرهان إلا على ضده؛ لأنه يقتضي أن تكون هذه التطورات التركيبية أزلية وهي حادثة قطعًا. ثم تذكر بعد ذلك كله ما انفتح من أبواب العلم لإثبات ما وراء المادة، فإن لم تعد منها مسألة إدراك الأرواح وظهور آثارها فلا يَفُتْكَ أن منها ما يسمونه اليوم بالعقل الباطن، وللمقتطف فيه مقالة نشرت في جزء أغسطس من هذا العام، وهذا يحتاج كغيره إلى شرح في جزء خاص.

تاريخ الجهمية والمعتزلة

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ تاريخ الجهمية والمعتزلة (17) بيان أن انقسام الناس إلى التجهم يشبه انقسامهم إلى التشيع وذلك ثلاث درجات: قال الإمام ابن تيمية: ليس الناس في التجهم على مرتبة واحدة، بل انقسامهم في التجهم يشبه انقسامهم في التشيع، فإن التجهم والرفض هما أعظم البدع أو من أعظم البدع التي أُحْدِثَتْ في الإسلام، ولهذا كان الزنادقة المحضة مثل الملاحدة من القرامطة ونحوهم إنما يستترون بهذين بالتجهم والتشيع، وقد كان أمرهم إذ ذاك لم ينتشر ويتفرع ويظهر فساده كما ظهر فيما بعد ذلك. فإن الرافضة القدماء لم يكونوا جهمية، بل كانوا مثبتة للصفات، وغالبهم يصرح بلفظ الجسم وغير ذلك، كما قد ذَكَرَ الناسُ مقالاتهم، كما ذكر أبو الحسن الأشعري وغيره في كتب المقالات. والجهمية لم يكونوا رافضة بل كان الاعتزال فاشيًا فيهم، والمعتزلة كانوا ضد الرافضة، وهم إلى النصب أقرب، فإن الاعتزال حدث من البصرة، والرفض حدث من الكوفيين، والتشيع كثر في الكوفة، وأهل البصرة كانوا بالضد، فلما كان بعد عهد زمن البخاري من عهد بني بُويه، فشا في الرافضة التجهم وأكثر أصول المعتزلة، وظهرت القرامطة ظهورًا كثيرًا، وجرى حوادث عظيمة. والقرامطة بنوا أمرهم على شيء من دين المجوس وشيء من دين الصابئة، فأخذوا عن هؤلاء الأصلين: النور والظلمة، وعن هؤلاء العقل والنفس، ورتبوا لهم دينًا آخر ليس هو هذا ولا هذا، وجعلوا على ظاهره من سيما الرافضة ما يظن الجهال به أنهم رافضة، وإنما هم زنادقة منافقون، اختاروا ذلك؛ لأن الجهل والهوى في الرافضة أكثر منه في سائر أهل الأهواء. والشيعة هم ثلاث درجات: شرها الغالية الذين يجعلون لعلي شيئًا من الإلهية أو يصفونه بالنبوة وكفر هؤلاء بيِّنٌ لكل مسلم يعرف الإسلام وكفرهم من جنس كفر النصارى من هذا الوجه. والدرجة الثانية وهم الرافضة المعروفون كالإمامية وغيرهم الذين يعتقدون أن عليًّا هو الإمام الحق بعد النبي صلى الله عليه وسلم بنص جلي أو خفي، أو أنه ظلم ومنع حقه، ويبغضون أبا بكر وعمر ويشتمونهما، وهذا هو عند الأئمة سِيَّما الرافضة وهو بغض أبي بكر وعمر وسبهما. والدرجة الثالثة المفضلة: من الزيدية وغيرهم الذين يفضلون عليًّا على أبي بكر وعمر، ولكن يعتقدون إمامتهما وعدالتهما ويتولونهما، فهذه الدرجة وإن كانت باطلة فقد نسب إليها طوائف من أهل الفقه والعبادة وليس أهلها قريبًا ممن قبلهم، بل هم إلى أهل السنة أقرب منهم إلى الرافضة؛ لأنهم ينازعون الرافضة في إمامة الشيخين وعدلهما وموالاتهما، وينازعون أهل السنة في فضلهما على علي، والنزاع الأول أعظم، ولكن هم المرقاة التي تصعد منه الرافضة، فهم لهم باب. وكذلك الجهمية على ثلاث درجات: فشرها الغالية: الذين ينفون أسماء الله وصفاته، وإن سموه بشيء من أسمائه الحسنى قالوا هو مجاز، فهو في الحقيقة عندهم ليس بحي ولا عالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا متكلم، ولا يتكلم، وكذلك وصف العلماء حقيقة قولهم كما ذكره الإمام أحمد فيما ذكره في الرد على الزنادقة والجهمية، قال: فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئًا، ولكنهم يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية، فإذا قيل لهم فمن تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة، قالوا: نعم، قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئًا، إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون، فقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى، قالوا: لم يتكلم ولا يتكلم؛ لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح عن الله منتفية ، وإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيمًا لله، ولا يعلم أنهم إنما يقودون بقولهم إلى ضلال. وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب المقالات والإبانة: الذين نفوا صفات رب العالمين، وقالوا: إنه لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر، إنما أخذوه عن إخوانهم من المتفلسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعًا لم يزل ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير، غير أن هؤلاء لم يستطيعوا أن يظهروا ما كانت الفلاسفة تظهره فأظهروا معناه، وقالوا: إن الله عز وجل عالم قادر سميع بصير من طريق التسمية من غير أن نثبت له علمًا أو قدرة أو سمعًا أو بصرًا، وقد أفصح بذلك رجل يعرف بابن الأباري كان ينتحل قولهم، فزعم أن البارئ تعالى عالم قادر سميع بصير في المجاز لا في الحقيقة. وهذا القول وهو قول الغالية النفاة للأسماء حقيقة هو قول القرامطة الباطنية، ومن سبقهم من إخوانهم الصابئة الفلاسفة. والدرجة الثانية من التجهم هو تجهم المعتزلة ونحوهم الذين يقرون بأسماء الله الحسنى في الجملة لكن ينفون صفاته، وهم أيضا لا يقرون بأسماء الله الحسنى كلها على الحقيقة، بل يجعلون كثيرًا منها على المجاز، وهؤلاء هم الجهمية المشهورون. والدرجة الثالثة هم الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، لكن فيهم نوع من التجهم كالذين يقرون بأسماء الله وصفاته في الجملة، لكن يردون طائفة من أسمائه وصفاته الخبرية وغير الخبرية ويتأولونها، كما تأول الأولون صفاته كلها. ومن هؤلاء من يقر بصفاته الخبرية الواردة في القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه وطائفة من أهل الحديث ومنهم من يقر بالصفات الواردة في الأخبار أيضًا في الجملة، لكن مع نفي وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبي محمد بن كلاب ومن اتبعه. وفي هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعري وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى أهل السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية أقرب منهم إلى أهل السنة المحضة، فإن هؤلاء ينازعون المعتزلة نزاعًا عظيمًا فيما يثبتونه من الصفات أعظم من منازعتهم لسائر أهل الإثبات فيما ينفونه. وأما المتأخرون فإنهم والوا المعتزلة وقاربوهم أكثر، وقدموهم على أهل السنة والإثبات وخالفوا أوليهم ومنهم من يتقارب نفيه وإثباته، وأكثر الناس يقولون: إن هؤلاء يتناقضون فيما يجمعونه من النفي والإثبات. اهـ. [1] *** البحث الثاني في المعتزلة وفيه مطالب: (1) التعريف بالمعتزلة هذه الفرقة، كفرقة أهل السنة والجماعة، من أعظم الفرق رجالاً، وأكثرها تابعًا، فإن شيعة العراق على الإطلاق معتزلة، وكذلك شيعة الأقطار الهندية والشامية والبلاد الفارسية، ومثلهم الزيدية في اليمن، فإنهم على مذهب المعتزلة في الأصول، كما قاله العلامة المقبلي في العلم الشامخ، وهؤلاء يعدون في المسلمين بالملايين، بهذا يعلم أن الجهمية المعتزلة ليسوا في قلة، فضلاً عن أن يظن أنهم انقرضوا، وأن لا فائدة للمناظرة معهم، وقائل ذلك جاهل بعلم تقويم البلدان ومذاهب أهلها. أما البلاد المنتشر فيها مذهب السلف الأثرية خاصة في العقائد، فهي بلاد نجد بتهامها، فإنها سلفية الاعتقاد، لكن يغلب عليهم الجفاء، والغلو، وفي بلاد الهند طوائف سلفية داعية إلى مذاهب السلف بنشر كتبه ودرسها. وفي العراق والحجاز والشام ومصر جماعات قليلة منهم يغلب عليهم الاعتدال. وأما السواد الأعظم من معظم البلاد الإسلامية فعلى مذهب الأشعري أعني ما يدعي أنه مذهبه من تلك العقائد المبثوثة في كتب المتأخرين المتداولة، وإلا فالأشعري قد صرح في كتابه الإبانة [*] بأنه على مذهب الإمام أحمد في الاعتقاد تصريحًا لا شبهة فيه. ولا أدل على مذهب المرء وعقده من كلامه أو ما خطته يمينه، وسنذكر في آخر البحث ما دعا إلى انتشار مذهب الأشعري، فانتظر. * * * (2) سبب تلقيبهم بالمعتزلة قال الإمام عبد القادر البغدادي في كتابه الفَرْق بين الفِرَق: كان واصل بن عطاء من منتابي مجلس الحسن البصري في زمان فتنة الأزارقة، وكان الناس يومئذ مختلفين في أصحاب الذنوب من أمة الإسلام على فرق: - فرقة تزعم أن كل مرتكب لذنب صغير أو كبير مشرك بالله، وهو قول الأزارقة. - وفرقة تزعم أن صاحب الذنب المجمع على تحريمه كافر مشرك. - وفرقة تقول: إنه منافق. وكان علماء التابعين في ذلك العصر مع أكثر الأمة يقولون: إن صاحب الكبيرة من أمة الإسلام مؤمن لما فيه من معرفته بالرسل وبالكتب المنزلة من الله تعالى؛ ولمعرفته بأن كل ما جاء من عند الله حق، ولكنه فاسق بكبيرته، وفسقه لا ينفي عنه اسم الإيمان والإسلام؛ فلما ظهرت فتنة الأزارقة بالبصرة والأهواز، واختلف الناس في أصحاب الذنوب على ما ذكرنا خرج واصل بن عطاء عن قول جميع الفرق المتقدمة، وزعم أن الفاسق من هذه الأمة لا مؤمن ولا كافر، وجعل الفسق منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان، فلما سمع الحسن البصري من واصل بدعته هذه طرده عن مجلسه فاعتزل عند سارية من سواري مسجد البصرة وانضم إليه صديقه عمرو بن عبيد، فقال الناس يومئذ فيهما: إنهما قد اعتزلا قول الأمة، وسمي أتباعهما من يومئذ معتزلة، ثم إنهما أظهرا أقوالهما في المنزلة بين المنزلتين، وضما إليها دعوة الناس إلى قول القدرية على رأي معبد الجهني. اهـ. ملخصًا. وذكر ابن خلكان في ترجمة قتادة البصري، أحد كبار علماء التابعين، أن قتادة دخل مرة مسجد البصرة فإذا بعمرو بن عبيد ونفر معه قد اعتزلوا من حلقة الحسن البصري، وحلقوا وارتفعت أصواتهم، فأمهم وهو يظن أنها حلقة الحسن، فلما صار معهم عرف أنها ليست هي فقال: إنما هؤلاء المعتزلة ثم قام عنها. اهـ. * * * (3) تلقيب المعتزلة بالجهمية عُلم مما أسلفنا من حياة جهم وفلسفته أن انتشار آراء جهم وشيوع مسائله بين أولي العلم ولهج الناس بها كما سبق العصر الذي ظهرت فيه المعتزلة، إلا أنه سبق قريب، فإن هذه الفرق والنِّحَل الإسلامية كانت تترى يأتي بعضها إثر بعض، وربما تعاصرت، وقد يخمل بعضها بنباهة بعض، أو تندغم إحداها في الأخرى؛ لما يجمعهما من القول بمسائل تتفقان عليها، ومن ذلك المعتزلة مع الجهمية، فإن المعتزلة أخذت عن الجهمية القول بنفي الرؤية والصفات وخلق الكلام ووافقتها عليها، وإن كان لكل فروع واختيارات غير ما للأخرى، إلا أن ما توافقوا فيه من هذه المسائل الكبيرة جعلهم كأهل المذهب الواحد، فلذلك أطلق أئمة الأثر لفظ الجهمية على المعتزلة، فالإمام أحمد في كتابه الرد على الجهمية، والبخاري في الرد على الجهمية ومن بعدهم، إنما يعنون بالجهمية فيه المعتزلة؛ لأنهم كانوا في المتأخرين أشهر بهذه المسائل من الجهمية، ولكن كان غرض المتقدمين بالرد والمناقشة الجهمية؛ لأنها الأم لغيرها، والسابقة على سواها في الظهور، بل هي أول فئة ظهرت في الإسلام بمذهب التأويل، وقام حزبها بالدعوة إلى مذهبها في ريعان الدولة الأموية كما تقدم، فلذا غلب عند السلف اسمها على غيرها ممن قاربها وتلقى عنها. بما ذكرناه يزول الإشكال والاشتباه الذي يراه بعضهم من ذكر الجهمية في تلك المسائل، مع أنها في عرفهم وما يدرسونه في كتب الكلام المتأخرة، مضافة إلى المعتزلة، وحاصل دفع الإشكال، أن تلقيبهم بالجهمية كان لما وجد من موافقتهم للجهمية في تلك المسائل مع مراعاة سبقهم فيها على المعتزلة، وتمهيدهم السبيل للتوسع فيها فاحفظه. قال الإمام ابن تيمية في منهاج السنة [2] : لما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم

العرب والعربية بهما صلاح الأمة الإسلامية

الكاتب: عبد الحق الأعظمي البغدادي

_ العرب والعربية بهما صلاح الأمة الإسلامية رسالة لصديقنا السيد عبد الحق الأعظمي البغدادي مساعد أستاذ اللغة العربية في مدرسة العلوم الإسلامية، الكلية الإسلامية الشهيرة في عليكره بالهند. والخطيب المفوَّه الشهير بيَّن في أولها ضعف المسلمين وسوء حالهم وكون اليأس منهم أقرب إلى الرجاء فيهم لولا أن اليأس ينافي الإيمان بقدرة الله تعالى وعنايته، ثم بيَّن أنه تصدى لإصلاح حالهم كثيرون: من طريق الدين ومن طريق العلم والمدنية وتقليد الأمم القوية، وشرح مذاهب دعاة الإصلاح المشهورة، وذكر أن بعض الإفرنج ساعد بعضهم على بعضها كمساعدة الإنكليز لمسلمي الهند في هذا العصر على التعليم، وبالغ في مدحهم على ذلك، ثم قال: إن كل تلك المذاهب والطرق الإصلاحية لم تغن عن المسلمين شيئًا فلا يزالون على سوء حالهم، والأخطار المحدقة بهم، وانتقل من شرح ما تقدم بالإطناب التام بأسلوبه الخطابي الفصيح إلى بيان رأيه في حل هذا المشكل، وإزالة هذا المعضل، فقال: إن لديه علاجًا لإصلاح حال المسلمين، وإصلاح حال البشر بهم أجمعين، وهو وصفة مؤلفة من جزأين يعرضهما على عقلاء المسلمين وأهل الغيرة منهم؛ لعلهم يعالجون بتأليفهما والجمع بينهما هذه الأمة التي تصلح بصلاحها كل الأمم: أما الجزء الأول فهو تعميم اللغة العربية في العالم الإسلامي كله وجعلها لغة التكلم والتعلم والتعامل دون سواها. وههنا بيَّن أن صلاح المسلمين يتوقف على هداية القرآن والسنة، وهدايتهما تتوقف على إحياء تأثيرهما في نفوس الناس وذلك يتوقف على إحياء لغتهما وإتقانها. وأطنب في وصف مزايا اللغة العربية وأسرارها وشدة تأثيرها وتأثير القرآن الحكيم، وما يشهد لذلك من نشأة الإسلام الأولى في العرب، وأما الجزء الثاني من هذه الرسالة فننقله لقراء المنار بنصه وهو قوله: الجزء الثاني من هذه الوصفة أما الجزء الثاني من هذه الوصفة فهو الشعب العربي، فالواجب يقضي على كل ساع في إعادة مجد الإسلام بإيقاظ الأمة العربية من نومتها، وتنبيهها من غفلتها، وإنهاضها من كبوتها، وانتشالها من سقطتها، ومساعدتها على الاستعداد للخطر المحدق بها، والمهدد لكافة الأمة الإسلامية على بكرة أبيها، فقد فرغت أوربا أو كادت تفرغ من القضاء على استقلال العنصرين العظيمين من العناصر الإسلامية اللذين كانا موضع رجاء بقية العناصر في جميع بقاع الأرض، ومطمح أنظارهم في إعادة مجد الإسلام وحفظ سلطته وحماية أهله ووقاية مهد الدين، وكعبة المسلمين من تَغََلُّبِ الأجانب وتوارد النوائب وتزاحم المصائب، وهما عنصر الترك والفرس على أنهما حماهما الله من كيد الأعداء، بتوفيقهما لهدي القرآن، قد استبدلا الرابطة الجنسية اللغوية، بالجنسية الإسلامية القرآنية، فلا ترجى مع بقائهما بهذه العصبية الجاهلية، حياة الإسلام بالقرآن والسنة السنية، إلا أن يثوبا إلى رشدهما بالعرب والعربية. أما العنصر الأفغاني ومن على شاكلته من الإمارات الصغيرة المبعثرة هنا وهناك، فهو وإن كان مستقلاً في بلاده، مختارًا في أموره وأعماله، لم تَأْبَه له أوربا ولم تعبأ به، وهو في الحقيقة لا في العير ولا في النفير، ولا أمل لأحد فيها بأن يرد للأمة مقدار فتيل مما سلب منها أو نقير، فلم يبق أمام جمعيات أوربا من العقبات الشديدة لبلوغ أمنيتها من محو الإسلام تمامًا وإذلال أبنائه قاطبةً ووضع أغلال الاستعباد في أعناقهم، وانتزاع سائر ممتلكاتهم من أيديهم، إلا عنصر واحد هو أكبر العناصر الإسلامية وأفضلها، وأغْيَرها على الدين وأجدرها بالقيام بأمر المسلمين، ألا وهو العنصر العربي الذي أعز الله به الإسلام، ورفع مقامه فوق كل المقامات، وبه شيد صرح الإيمان، وأعلى كلمة الرحمن، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى الطرق المثلى في جميع الأمور، وجعل - تعالت قدرته - بلاد هذا العنصر الأبي، مشرق هذا النور الإلهي، ومنبع حكمته، ومنار هدايته، ومصدر تعليمه وتربيته، ومظهر جلاله وعظمته، واختارها جل ثناؤه مقرًّا لبيته الحرام مطاف العائذين، ومطهر المذنبين، وقبلة المسلمين في سائر الأرضين. فإذا غلب الأجانب العرب على أمرهم، وأنشبوا براثنهم في أحشاء بلادهم فلا عاصم للأمة بعد ذلك من أمر الله ولا ملجأ ولا منجاة لها من نوائب الدهر وغوائله، ولتوطن نفسها على استقبال الموت الأحمر والبلاء الأسود، ثم الفناء والزوال، أو الرسوف في أغلال الاستعباد إلى أبد الآباد، ومهما سلمت الأمة العربية والبلاد العربية، فإن النفوس تظل مطمئنة راجية أن يعتز الإسلام بها يومًا من الأيام. ألا وإن الخطر الذي يلحق بالإسلام من استيلاء الأجانب - الذين فرغوا له الآن - على الأمة العربية والبلاد العربية، أشد وأمضى من كل خطر يصيبه من استيلائهم على غيرهما من العناصر والبلاد الإسلامية؛ لأن العرب كما لا يخفى روح الإسلام وعزه، وبلادهم نقطة دائرته ومركزه، فالاستيلاء عليهما استيلاء على قلب الإسلام وضربة على أم دماغ الأمة، فلا يرجى لها بعدها انتعاش أو قيام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام [1] ) وإذا ذل الإسلام فقل على الدنيا وما فيها السلام، فإن الخسارة تنتج من ذله، والضر الذي يترتب على هوانه وزواله، يعمان البشر قاطبة ويشملان الموجودات طُرًّا؛ لأنه الدين الذي رضيه الله لعباده، وأكمل به الأديان، والشرع الذي ما بعد شرع ينتظر لإصلاح بني الإنسان: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . فإذا رغب المسلمون في بقاء جامعتهم وحياة أمتهم، ورفع كلمتهم وحماية شريعتهم، وحفظ وجودهم وصيانة حقوقهم، وأن يقام لهم وزن بين الأمم، وتقوم لهم ومنهم دولة مهابة عزيزة بين الدول، وإن أرادوا أن يحافظوا على الوديعة التي أودعت لديهم، والأمانة التي بعد أن عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها فُوِّضَت إليهم، وهي وديعة التوحيد، وأمانة الإيمان بالعلي المجيد، وأن يتمموا ما بدءوا به من إصلاح البشر إصلاحًا يجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، وسعادتي الروح والجسم وطيب المعاش والمعاد، إذا أرادوا هذا ورغبوا في ذاك فالواجب على عامتهم وخاصتهم قريبهم وبعيدهم عربيهم وعجميهم أن يقوموا بإحياء البلاد العربية بكل وسائل الحياة، وتقوية الأمة العربية بجميع أنواع القوى، وأن يسدوا أولا بكل ما لديهم من حول وقوة كل منفذ من المنافذ التي يدخل منها الأجانب لإفساد هذا الشعب الكريم والتلاعب به، واستدراجه وإيقاعه في حبائل مكرهم وخداعهم، وأشراك غشهم واحتيالهم. وليعلم المسلمون - حيث ما كانوا وأينما وجدوا - أن كل دولة تنشأ لهم في أي بقعة من بقاع الأرض وفي أي زمن من الأزمان، إذا لم يكن العرب بناة أساسها، وأركان بنائها وعمد صروحها، ومدبرو أمورها ومديرو حركتها، واليد العاملة فيها والقوة التي ترتكن عليها، والروح التي تسري في مفاصلها، والأصل الذي تتفرع عنه أغصانها وتنمو عليه أفنانها، فهي دولة لا تدوم ولا تحسن حالها ولا تسعد رعاياها، ولا يعتز بها الإسلام، ولا يبث هديه وإرشاده بواسطتها بين الأنام، ولا تقوم بما ندب إليه العربَ ربُّ العالمين، من جعلهم هداة مرشدين وأئمة وارثين وزعماء مصلحين، وقادة ناصحين وسادة عادلين. وكما لا يعتز الإسلام بقيام دولة مثل هذه، ولا يتمكن من أداء وظيفته على يديها، فكذلك لا يفجعه سقوطها ولا يؤلمه هبوطها، ولا يؤثر فيه انحلالها ولا يضره زوالها، فقد اعتز العنصر الفارسي عصورًا ثم سقط، واعتز العنصر التركي دهورًا ثم هبط، ولكنهما أهملا دعوة الإسلام أيام عزهما بل عطلا كثيرًا من أحكامه وتركا أكثر تعاليمه، فلم يكن سقوطهما مدعاة إلى اليأس من الإسلام نفسه، وإنما كان صدمة شديدة وزلزالا عظيمًا على المسلمين في هذا العصر، لم يقل أحد إنه سقطت به المدنية الإسلامية، فضلا عن الدعوة المحمدية، كفاجع سقوط العرب في الأندلس، ذلك الفاجع الذي قوَّض صروح السعادة، سعادة المدنية الفاضلة مدنية الإسلام الكاملة من أوربا، وقضى على آمال العالم الإنساني عامة والإسلامي خاصة من نشر الدين في هاتيك الربوع، وبث هدايته بين تلك الجموع، مما لو تم لعمت هذه السعادة كل الناس، ولفاز بالحسنيين جميع الشعوب والأجناس، ولساد الصلاح في البشر، وزال الفساد من البر والبحر. نعم إن العنصر العربي جار عليه الظالمون وأنهك قواه المعادون، ومزق وحدته المارقون، وفرق كلمته المنافقون، وعادى بين أمرائه المبطلون، وضرب بعضه ببعض المعرضون، وسعى في تبديده الساعون، حتى أزهقوا روحه الأدبية، وحالوا بينه وبين كل قوة مادية أو معنوية، ومنعوا عنه العلوم والمعارف، وسلبوا منه التالد والطارف، وسدوا في وجهه المنافذ، وضيقوا عليه المسالك، وأفسدوا حالته الاجتماعية وأحاطوا به بكل شر، وصدوا عنه كل خير: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} (الأنبياء: 70) ، {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} (الدخان: 25-29) . لكنه مع كل ذلك لا يزال أصلح العناصر الإسلامية للقيام بأمر الإسلام وإعادة مجده إلى الأنام، وصيانة هيكله من الانهدام، بل رفع مقامه فوق كل مقام، وبث دعوته وتجلية حقيقته وإصلاح الأنام به وإسعادهم بتعليمه، إذا كفَّر عن سَيِّئاتهم المسيئون، وتاب عن خطيئاتهم الخاطئون، وثاب إلى رشدهم المفتونون، ورجع عن إغوائهم المغوون، وترك إفسادهم المفسدون واستبدلوا الوفاق بالنفاق، والاتحاد بالشقاق، والتعارف بالتناكر، والتآلف بالتنافر، والمحبة بالبغضاء، والإخلاص بالرياء، والصلح بالعداء، والإصلاح بالإفساد، والتقرب بالابتعاد، والمساعدة بالاضطهاد، والتقوية بالإضعاف، والموازرة بالإرجاف، ثم أطلقوا لهذا الشعب الكريم الحرية، وبثوا بين أبنائه الأذكياء المعارف والعلوم العصرية، وفتحوا لهم أبواب التجارة، ومكنوهم من أسباب الحضارة، وساعدوهم على إصلاح أراضيهم الواسعة المباركة، وعاونوهم على تفجير ينابيعها والانتفاع بمياه أنهارها المتدفقة، وتنمية مزروعاتها واستغلال خيراتها، واستخراج كنوزها، وتأمين السابلة، وتقريب طرق المواصلة، وتنظيم السبل وتسهيل التنقل، وتشييد المعامل الصناعية عليها، وترغيب أبناء البلد فيها، وتنشيط عمالها، وترويج مصنوعاتها، وتنظيف مدنها وتخطيط دروبها، وترقية سكانها ورفعة شأنها، وما أشبه ذلك من وسائل القوة وأسباب الثروة. فإن فضائل الشعب العربي الكريم لا تزال كامنة فيه كمون النار في الزناد، واستعداده الفطري لا يزال راسخًا في طبيعته رسوخ الجبال على المهاد، وخصائصه ومميزاته وأخلاقه وصفاته لا تنفك قائمة فيه ومتمكنة منه، لا ينتزعها نازع، ولا يبدلها تبدل الأقاليم والمواضع، ولا تقلعها أعاصير المظالم والزعازع، ألا وإن العرب ليسوا بحديثي نعمة في المدنية والمجد كسائر الأمم التي قامت وس

نزوح العرب عن أسبانيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نزوح العرب عن أسبانيا ظهرت في إحدى صحف نيويورك المسائية مقالة نفيسة لكاتب أمريكي قدير ساعد بها على جلاء الريب العالق بالأذهان حول حقيقة خروج العرب من بلاد الأندلس التي تدعى اليوم أسبانيا فآثرنا إيراد ملخصها، وهو هذا: منذ ثلاث مائة وأربع سنوات نفت أسبانيا العرب من داخل حدودها بناء على أمر ملكي أصدره فيليب الثالث فكان لها بذلك النفي انتحار وطني. أعطت أسبانيا قبائل ماريسكوز مهلة ثلاثة أيام فقط لينزحوا في خلالها عن البلاد مع أن عددهم كان مناهزًا مليونًا ونصف المليون، والمتبادر إلى الذهن أن قومًا هذا عديدهم يستحيل عليهم العمل بما ينطبق على الأمر الصادر بحقهم ولا يستطيعون الجلاء عن البلاد بكل تلك السرعة، وحينئذ أنشأت الحكومة تطردهم وتطاردهم بقسوة بربرية تفوق الوصف، فعاملتهم معاملة الحيوانات والضواري؛ إذ ذبحت منهم ألوفًا، ونقلت الباقين على بواخر إلى سواحل أفريقيا، وقد أجمع ثقات المؤرخين على أن كثيرين من المطرودين كانوا يعرضون على السيف وهم على متون السفن وتطرح جثثهم في البحر حتى لقد قيل: إن الأسبان فتكوا بمائة ألف عربي من مجموع 140 ألفًا كانوا منقولين دفعة واحدة إلى القارة السوداء، وما صافحوا الموت إلا بعد مقاساة صنوف التعذيب والإهانات وتمثيل فظيع بهم تقشعر منه الأبدان. ابتدأ عهد انحطاط أسبانيا وخرابها منذ ثورانها الجنوبي على العرب ونفيهم من أراضيها، فإن قبائل الماريسكوز كانت تؤلف أفضل طبقات الشعب الأسباني، فإنها صاحبة الأفكار والمعارف والصناعة؛ ولما دفعتها أمواج الحوادث إلى أراضي أفريقيا وبعضها إلى بطون الحيتان وجوف الأرض، أبقت فراغًا في أسبانيا لم يقم بعدها من يملؤه. فإن العلوم والفنون والصنائع انحطت بعدها أو تقلص ظلها بالكلية من البلاد الأسبانية، وأمست مقاطعات واسعة من أراضيها ليس لها من يحرثها فكانت قفارًا جرداء ليس فيها ساكن. إن الزراعة العجيبة التي صيرت سهول الأندلس مثال الفردوس قد انمحت آثارها ولم يعد لها رسم، وهكذا انقضى عهد المصانع الحريرية وأساليب الري المنتظمة التي كانت تحيا بها البلاد. وبالتالي فإن البقاع التي كانت كجنة عدن بروائها باتت عبارة عن صحاري قاحلة. إن مغبة نفي العرب من الأندلس جاءت آفات على أبنائها، فإن العلم الذي يتغلب على الطبيعة ويذلل قوتها لتخضع لإرادة الإنسان، والذكاء الذي يصقل الأخلاق ويلطف العواطف ويعين على إيجاد الإخاء والتقدم، كانا في أسبانيا مجسمين بالعرب، ومنذ نفي العرب نفيت معهم تلك المزايا الراقية التي هي عناصر المدنية القديرة، وحل محلها بين الأسبانيين خرافات وأوهام هي شر أعداء الإنسانية ومعاثر الارتقاء. عظيمة كانت زلة أسبانيا بنفيها العرب من بلادها وعظيمًا كان القصاص الذي وقع على الأسبانيين بسبب زلتهم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مرآة الغرب)

تركيا في بلاد العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تركيا في بلاد العرب عقد محرر جريدة التيمس الإنكليزية الشهيرة مقالة في مسألة شبه جزيرة العرب، ترجمتها بالعربية جريدتا الهدى ومرآة الغرب الشهيرتين في نيويورك فأحببنا أن ننشر ترجمتها في المنار وهي: اهتم الناس كل الاهتمام بالمأساة العظيمة التي تمثلت في شبه جزيرة البلقان حتى إنهم لم يكترثوا كثيرًا للمعارك الصغيرة التي نشبت من مضي شهرين أو ثلاثة أشهر في بلاد العرب. وقد كانت العرب من مضي عدة قرون أرضًا مجهولة مهجورة مرت حولها مجاري التاريخ البشري دون أن تتوغل فيها. وهي شبه جزيرة كبرى واقعة بين ثلاث قارات كبرى تتكسر أمواج البحار العظمى على شواطئها من ثلاث جهات، وكل سنة يسير على سواحلها العارية الجرداء عشرات الألوف من الناس، ولكنها بالرغم من ذلك لا يعرف الناس عنها أكثر مما عرفوه عن آشور في أيام آشور بانيبال. ولكننا نسمع بعض الأحيان من وراء كثبانها المحرقة أصداء ضعيفة عن قتال شديد ناشب هناك، وترد على أسواق بومباي والقاهرة أخبار معارك شديدة بين محاربين مدرعين وجيوش تتماصع بالسيوف وتتطاعن بالذوابل، وتتراشق بالسهام، وتتقاتل في الليل ويقع بينها حصار وخروج وهجوم ومباغتة. وهؤلاء الناس بالرغم من أنهم لا يزالون على بداوتهم يتأثرون بمجرى الشئون الحديثة كما أثبتت الحوادث الأخيرة، فلما انتصر البلغاريون على العثمانيين في تراقية وأرجعوهم إلى خطوط شتالجه قال الناس: إن تركيا تقدر أن تنشئ مملكة عثمانية مجددة في آسيا الصغرى، وقد وافقهم على قولهم هذا القليلون الذين عرفوا الحقيقة، ولكنهم ارتابوا في ما إذا كان الأتراك يقدرون أن يؤيدوا سلطتهم المتداعية في أطراف بلاد العرب، فلم تكد معاهدة الصلح توقع في لندن حتى ثار العرب في أواسط شبه جزيرة العرب، ولكن ثورتهم لم تكن منظمة؛ إذ لم تسر كتائب من الجنود المنظمة على الطرق الصحراوية بل وقع القتال بين ثلات قليلة من فرسان العرب غير المدربين على أساليب القتال الحديث، وشراذم من الجنود العثمانيين ذوي الملابس الرثة، وقد انتصر العرب في الشهر الماضي على الجنود العثمانيين وأخرجوهم من شرقي بلاد العرب وبذلك ذهبت فتوحات مدحت باشا المتقلقلة في بلاد العرب، وأصبحت الطرق الشرقية إلى مدينتي الإسلام المقدستين مكة والمدينة تحت رحمة زعماء العرب المنتصرين. ولا يمكن القول بأن اندحار الأتراك في الحرب البلقانية أحدث هذه الحركة في بلاد العرب فإنها بدون تلك الحرب ممكن حوثها لأن سيطرة الأتراك على بلاد العرب لم تكن قط قائمة على ركن منيع، فمن مضي مائة سنة قامت الحركة الوهابية في بلاد العرب واستولى الوهابيون الخارجون على الدين الإسلامي (؟) والخلافة الإسلامية على أكثر جهات شبه جزيرة العرب، ونهبوا مكة: مقدس المسلمين السنيين، وكربلاء: محجة الشيعيين، وهددوا مدينة دمشق، فعجز الأتراك عن إخماد ثورتهم فاستعانوا بمحمد علي باشا خديوي مصر فقمع من نخوتهم، وأخمد الحركة الوهابية، ومنذ الغارة المصرية الكبرى على بلاد العرب نال الهلال انتصارات قليلة في تلك البلاد حتى إن الخط الحجازي لم تستطع الحكومة تأمينه إلا برشوة القبائل العربية، فالخط الحديدي الممتد إلى المدينة هو دائما تحت خطر. وقد نشبت بالأمس ثورة طال عهدها في ولاية العسير جنوبي مكة، وثورة أخرى أعظم منها في ولاية اليمن، ولا تزال نيران هاتين الثورتين كامنة تحت الرماد، أنفق الأتراك كثيرًا من المال والرجال على إخمادها فما نجحوا، ولذلك أخذ مركز الأتراك في تلك البلاد يتداعى يومًا بعد آخر، ورؤية جنودهم المغلوبة المنطرحة على متن باخرة إنكليزية في خليج بلاد فارس هي من الأدلة الكثيرة الراهنة على تداعي مكانتهم في شبه جزيرة العرب. هذا، وإن تجدد القوة العربية في شكلها الحاضر يرجع إلى عهد يزيد قليلا عن عشر سنين، أما منشئها الحقيقي فهو مبارك بن الصباح أمير الكويت ذلك السياسي الشيخ، والمحارب المنيع الجانب الذي ينبسط نفوذه على أكثر جهات بلاد العرب مع أنه لم يطمع بأرض خارجة عن حدود مسقط رأسه. وبيان الأمر أن المصريين بعد أن أخمدوا الحركة الوهابية وأسقطوا أمراءها بني السعود، انتقلت السيطرة على أواسط بلاد العرب إلى أيدي أمراء بني الرشيد الذين جعلوا عاصمتهم بلدة حائل في قلب شبه الجزيرة العربية وحكموا هناك سبعين سنة، وقد كانوا أقوياء الجانب أجرياء. وفي أوائل القرن الحاضر كان أميرهم المقيم في حائل ذا مطامع تتجاوز قوته فدعا نفسه ملك بلاد العرب وباشر الزحف على خليج فارس وهدد الكويت فخرج الأمير مبارك بن الصباح من عاصمة إمارته الصغيرة لملاقاته وقتاله فقاتله وانتصر عليه، وتعقب رجاله المغلوبين حتى منتصف الطريق عبر بلاد العرب واستولى على حائل عاصمة ولايته وكان غرض الأمير مبارك من هذه الغارة تأديب ابن الرشيد فقط لا بسط حكمه على نجد ولذلك قفل راجعًا، وعند رجوعه إلى الكويت أخذه ابن الرشيد على غرة فإنه جمع جموعه وباغت رجال الأمير مبارك ليلاً وهم يعبرون معبرًا صخريًّا وضربهم ضربة قاضية فقتل منهم خلقًا كثيرًا، والذين نجوا من الموت في هذه المعركة ترادف كل ثلاثة منهم على متن جواد ووصلوا سالمين إلى الكويت. غير أن الأمير مباركا كان شجاعًا جريئًا فأضمر الشر لابن الرشيد ودعا أبناء أسرة السعود الوهابية التي أسقطها المصريون وعالهم وآواهم وأعطاهم مالاً وسلاحًا وأرسلهم إلى الصحراء العربية لاسترجاع مملكتهم المفقودة. وكانت لابن رشيد عاصمتان الحائل في الشمال والرياض في الجنوب فزحف أحد شبان أسرة ابن السعود على الرياض وكان يجمع الرجال في مسيره حتى بلغ عددهم ثلاثة آلاف وقد توقف بهم سرًّا في إحدى القرى القريبة من الرياض، وهجم تحت ظلام الليل على المدينة بخمسين فارسًا باسلاً لا يهاب الموت. وقد وقعت هذه الحادثة من مضي عشر سنين وبهؤلاء الفرسان الخمسين تجددت ولاية ابن سعود، فإنهم عند وصولهم إلى باب المدينة جعلوا رئيس الحراس يفتحها لهم بخدعة حربية ولما دخلوا أعملوا المهاميز في شواكل خيولهم، واجتازوا أسواق المدينة بسرعة البرق، وهجموا على قصر الحاكم ابن الرشيد وذبحوه، وعند انشقاق عمود الفجر دخل بقية رجالهم وجددوا الولاية الوهابية في تلك الجهة. وقد حصر ابن الرشيد ثلاث سنين في مدينة حائل، ولكن ابن السعود انتصر عليه في آخر الأمر وقهره في إقليم قاسم على منتصف الطريق بين المدينتين. أما المعركة الأخيرة التي نشبت بين رجال ابن السعود من جهة ورجال ابن الرشيد وبعض الجنود العثمانية من جهة أخرى، فقد أسفرت عن انتصار الأولين، وقتل ابن الرشيد بثلاثة سهام أصابه أحدها في فخذه فسمره بسرج جواده، وقد أبلى رجال ابن السعود في هذه المعركة بلاء حسنًا فكانوا لا يرمون سهمًا إلا بعد معرفتهم أنهم سيصمون به رجلاً من أعدائهم. وكانت نتيجة المعركة أن ابن السعود صار مسيطرًا على كل نجد، وتم له ما أراد من مضي عهد طويل من إخراج الأتراك من بلاد العرب وإرجاعهم إلى خليج العجم، ولكن انتصاره هذا لا يدل على تجدد الحركة الوهابية الحقيقية، بل هو تجدد مؤقت لها، كما أنه لا ينوي إعلان جهاد جديد؛ لأن العالم لم يعد يرى بعد تيارًا سريعًا من القوات الإسلامية متدفقًا من رمال بلاد العرب. نعم إن عرب البادية هناك يتضامون، ولكنهم غير متحدين اتحادًا يستطيعون به إيقاد حروب وفتوحات، ولا تجول في صدورهم حمية دينية كافية لأن تمكنهم من إعلان جهاد جديد أو إرغام غير المسلمين بالقوة، ولكن تجدد قوتهم يبطن خطرًا على الأتراك، ولذلك ترى أصدقاء تركيا المخلصين لها ينصحون لها بنية صافية أن تصالح ابن السعود الذي يعتقد أنه يميل إلى مفاوضة السلطان بطاعة واحترام، فواحات الأحساء قليلة غير مفيدة لتركيا، في حين أن علائقها الولائية بحاكم نجد تنفعها كثيرًا، والأمر الذي يهم تركيا أكثر من غيره في بلاد العرب هو أن تبقى لها السيطرة على مدينتي الإسلام المقدستين لتحفظ اعتبارها وهي صاحبة الخلافة الإسلامية في عيون المسلمين، وخير ما يساعدها على إدراك غايتها هذه هو اتفاقها مع ابن السعود. وكان من الواجب عليها أن تكف عن إرسال الجنود إلى اليمن، وتنشئ لها علائق ولائية مع إمام صنعاء على قاعدة تسلطه على تلك الولاية تحت سيادتها وكذلك يجب عليها أن تنهي ثورة العسير بهذه الصورة فتسلط الإدريسي على تلك الولاية تحت سيادتها أيضا. وبهذه الطريقة تكتفي مؤونة إرسال كثير من المال والرجال إلى تلك البلاد على غير فائدة، ولا تخسر حقوقًا أرضية لا ينازعها إياها منازع في الوقت الحاضر، وتستطيع بعد أن يهدأ بالها من جهة العرب أن تنصرف كل الانصراف إلى المهام الحيوية التي لا تزال تنتظرها في آسيا الصغرى. اهـ. (المنار) خير ما في هذه المقالة خاتمتها، فهو النصح الخالص للدولة العثمانية الذي سَبَقْنا إليه غير مرّة (وقد يستفيد الظنة المتنصح) والقسم التاريخي منها يشوبه شيء من الخطأ كقوله: إن الوهابيين كانوا خارجين على الدين الإسلامي والخلافة، فهذا خطأ فهم مسلمون متشددون في التمسك بالإسلام، وجلُّ ما عُزِيَ إليهم من الشذوذ كذب افترته السياسة، وبعضه من الخطأ الذي اقتضته طبيعة القتال لا تعاليم المذهب، وكقوله: إن مكة مقدس أهل السنة ومحجهم، وكربلاء محج الشيعة. والصواب أن مكة هي محج جميع المسلمين، وأما كربلاء فليست محجا واجبا لأحد ولكن يزورها الشيعة كثيرًا وغيرهم قليلا، وما ذكره الكاتب من أن ابن سعود وإمام اليمن والإدريسي كلهم يودون الاستقلال في بلادهم تحت سيادة الدولة صحيح، وأصح منه قولاً ونصحًا قوله: إن الواجب على الدولة أن تترك قتالهم، وتعطيهم استقلالهم ولكن هل يعقل هذا رجال الآستانة، ويعملون به؟ الله أعلم.

نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ـ 7

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية تابع ما قبله لهذا كله كان اليهود معاصروه يرون أنفسهم أرقى منه علمًا ونفسًا وأخلاقًا وتدينًا [1] وما كانت تعجبهم أحواله وأعماله حتى كانوا يعيرونه بكثرة شرب الخمر وحب الخطاة كما سبق (لو 7: 34) وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلم ير فيه معاصروه أدنى عيب ولم يطمع أحد منهم في مسابقته في العلم والفضل، والكمال والعقل والصدق والإخلاص، والصلاح والتقوى، حتى عرف بين مشركيهم من صغره بالأمين المأمون، وكان لهم نبراس الهدى ومثال الكمال بينهم في كل شيء ففاقهم بمراحل واسعة، وأما المسيح بحسب هذه الأناجيل فلم يفق الوسط الذي كان فيه. هذا مع ملاحظة أنه لم ينقل لنا عنه إلا القليل من أخبار حياته، وأن مدة بعثته كانت قصيرة جدًّا، وأن الناقلين لأخباره هذه هم صفوة أتباعه وأخلص تلاميذه الذين كانوا كما تقول النصارى ملهمين من الله، معصومين من الكذب والخطأ والنسيان في كل ما كتبوه عنه. فكيف بعد ذلك يليق بعاقل منصف أن يفضل عيسى على محمد وآداب المسيحية وتعاليمها على آداب الإسلام وتعاليمه؟ وهو الذي لم ينشر إلا التقوى والفضيلة بين الناس، ونص كتابه صريحًا ببراءة بعض أنبيائهم مما رموهم به من الكبائر (راجع القرآن 2: 102و 20: 87 - 93) ولم يذكر من تاريخ الآخرين إلا ما فيه عبرة وما به تغذية النفوس بالصلاح والاستقامة وتحصين الأخلاق والآداب بسياج الفضائل، فلم ينسب لهم شرب الخمر ولا السكر به، ولا الخيانة ولا الزنا ولا الغش ولا الكذب، ولا التعدي على بناتهم بالفسق فيهن، ولا عمل الأصنام لأممهم ولا الشرك بالله وعبادة غيره، إلى غير ذلك مما لا فائدة في نشره عن الأنبياء إلا إشاعة الفاحشة بين الناس والاستخفاف بالدين ومخالفة أوامره ونواهيه والكفر بالله أو الشرك به؛ وخصوصا لأن كتبهم ذكرت بعض هذه الجرائم ولم تذكر معها ما يُنَفِّر منها كما ترى في سفر التكوين مثلا، فللناس أن يقولوا: إذا كانت الأنبياء لم تقو على الاستقامة فكيف نقوى عليها، ونحن أقل منهم في كل شيء، وإذا كان الله لم ينبذهم مع أننا نرى أن بعضهم لم يتب من ذنبه أو كفره فَلِمَ نخافه أو نخشاه؟ ومن ذلك يعلم أن القرآن قد امتاز عن كتبهم بالفضائل وبالآداب العالية وبالحث الكثير على الصلاح والتقوى والتوبة حتى إنه لم يذكر عنهم مثل ما ذكرته كتبهم عن نوح مثلا (تك 9: 20 27) [2] ولوط (تك19: 30 - 38) [3] وإسحاق (تك 26: 7) ، ويعقوب (تك 27: 19) ، وهارون (خر32: 16 [4] ) [5] وداود (2 صم: 2 27) وسليمان (امل 11: 5 و6) وغيرهم من أنبياء الله الأمناء الطاهرين أقامهم الله ليكونوا قدوة حسنة ومثالاً صالحًا للناس، فهل قدرة الشيطان عندهم وصلت إلى حد أن قلب على الله غرضه أيضًا في ذلك كما قلبه عليه مرارًا في غير ذلك مما بينا آنفًا (راجع ص 123 من هذه الرسالة وص 109 و 110 من رسالة الصلب) حتى جعل الذين أراد الله أن يكونوا مثالاً حسنًا للناس وهداية لهم وقدوة صالحة جعلهم شر الأشرار فأتوا من الشرور ما تنفر منه طباع أحط البشر أخلاقًا كزنا الإنسان ببناته وكيف يقبل الناس على تعاليمهم بعد فعالهم هذه؟ وكيف سردت كتبهم أكثرها كما قلنا بطريقة لا تشعر بشناعتها ولا ببشاعتها ولا بالإنكار على فاعلها، ونبذه كنبذ النواة؟ راجع كتاب دين الله (ص 67 -71) ثم راجع أيضًا قصة داود وسليمان مع شمعي بن جبرا (في 1مل 2: 8 و 9 و 36 46) وفيها ترى أن داود وهو على سرير الموت يوصي ابنه سليمان بقتل هذا الرجل (شمعي بن جبرا) بعد أن أقسم له بالله أنه لا يقتله فسلط ابنه عليه وهو محتضر. وسيرة داود عندهم معروفة مشهورة وقساوته وظلمه لا مثيل لهما (حاشاه) حتى إنه نشر أسرى بني عمون بالمناشير ونوارج الحديد والفؤوس (2 صم 12: 31 و 1 أي 20: 3) وسيرهم في أتون الآجر أي أحرقهم بالنيران (راجع كتاب دين الله ص 125 و126) وداود هذا هو الرجل الذي نصت كتبهم على أنه كان بارًّا ولم يعص الله قط إلا في مسألة أوريا وزناه بزوجته وتعريضه للقتل بكتاب أرسله معه وهو لا يعلم ما فيه، فقال سفر الملوك الأول (15: 5) عنه (لأن داود عمل ما هو مستقيم في عيني الرب ولم يحد عن شيء مما أوصاه به كل أيام حياته إلا في قضية أوريا الحثي [6] ) [7] وهو صريح في أن الله راض عن داود في كل أعماله السيئة الشنيعة القاسية إلا مسألة أوريا وهم لا يزالون يرتلون مزاميره ويعبدون الله بها! ! فما بالهم الآن يطعنون على محمد لجهاده الأعداء الذين آذوه وآذوا أمته وفعلوا بهم من الاضطهاد والقتل ما فعلوا. أما اغتياله لبعض أعدائه المحاربين له ولأمته فقد تكلمنا عليه في كتاب (الإسلام) ص 58 60 (راجع أيضا كتاب (صدق المسيحية) في الإنكليزية ص 251 و252 ففيه كلمة في هذا الموضوع دفاعًا عن كتبهم الآمرة بإبادة الكنعانيين [8] يصح أن تكون أيضا دفاعًا عن الجهاد وقتل الأعداء ولو غيلة) وكان لداود أيضا نساء عديدة وامتن الله عليه بإعطائهن إياه (2صم 12: 8) فما بال النصارى لا يرون الخشبة في أعينهم ويرون القذى (إن سلم أنه قذى) في أعين غيرهم؟ فتراهم يستحسنون كل ذلك ويجعلون المسيح المثال الأكمل للبشر على ما وصفته كتبهم به مما سبق ذكره، وأما محمد فينبذونه ويستقبحون أعماله، وهو الذي أصلح العالم كله وخلصه من الشرك والوثنية وعبادة البشر والصور والصلبان والأصنام ودعا بوحي الله إلى كل خير وحرم الخمر بتاتًا وأمر باجتناب كل شر وضرر وأتى بمكارم الأخلاق الصحيحة قاطبة، وفرض على أتباعه الصلوات الخمس وحث على قيام الليل وعبادة الرحمن وأوجب الصوم والزكاة وفعل كل خير بالأيتام والفقراء وأبناء السبيل والأسرى والرقيق وغير ذلك مما فصَّلناه في كتبنا (الدين في نظر العقل الصحيح) و (الإسلام) و (دين الله في كتب أنبيائه) وغيرها وأصلح حال المرأة إصلاحًا لم يسبقه به أحد، ودعا للعمل للدنيا والآخرة كقول القرآن: ] وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [وغيره مما ذكرناه سابقًا. ثم إنك ترى أن جميع تعاليمه عملية وصالحة لخير هذا المجتمع ولا تزيده إلا عزًّا ورفعة وعلمًا وتقدما ومدنية وهي بعيدة عن كل عيب أو غلو أو استحالة ولا يرد علينا بحال المسلمين اليوم فإن الإسلام (كما في القرآن والسنة النبوية) غير مسلمي هذا الزمان وفقهم الله لمعرفة حقيقة دينهم التي أخفاها عنهم الجهل والتقليد. ومن تمسك بحال مسلمي اليوم فهو كالمتمسك بحال نصارى القرون الوسطى أو نصارى الحبشة ونحوهم الآن مستدلاًّ على قبح المسيحية وانحطاطها، فهل هذا من الإنصاف والعقل في شيء؟ ! ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد توفيق صدقي ((يتبع بمقال تالٍ))

تذييل الفصل السابق في النبيذ عند العرب

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ تذييل للفصل السابق في النبيذ عند العرب ننقل هنا ما يأتي بحروفه عن كتاب (الهدى إلى دين المصطفى) لأحد علماء الشيعة المحققين بالعراق، قال حفظه الله (في صفحة 68 - 71 من الجزء الأول) : إن المتكلف (يريد صاحب كتاب الهداية) كان شاعرًا بما في كتب العهدين من تلويث قدس الأنبياء وخصوصًا المسيح بشرب الخمر فحاول أن يموه على البسطاء المغفلين ويلوث قدس خاتم المرسلين بشربها فتشبث لذلك بأخبار آحاد لم يتحقق سندها ولم يفهم مدلولها، ولو أنها صحت وكانت لها مداخلة في أصول الدين لكانت أجنبية عن مقصوده الممتنع عليه. فقال في الهداية (1ج ص 13) : إن محمدًا شرب الخمر، وذكر عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى السقاية في مكة وقال اسقوني من هذا فقال العباس ألا نسقيك مما في بيوتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله: لا ولكن اسقوني مما يشرب منه الناس، فأُتِيَ بقدح من نبيذ فذاقه فقطب ثم قال هلموا وصبوا فيه الماء ثم قال زد فيه مرة أو مرتين أو ثلاثا ثم قال: إذا صنع أحد منكم هكذا فاصنعوا به هكذا. وذكر ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله عطش وهو يطوف بالبيت فأتِيَ بنبيذ من السقاية فشمه ثم دعا بذَنُوب (أي: دلو) من ماء زمزم فصب عليه ثم شربه فقال له رجل: أحرام هذا يا رسول الله؟ فقال: لا. وقد غفل المتكلف أو تغافل عن أن اسم النبيذ مأخوذ من النبذ وهو الطرح، وقد كان النبيذ على قسمين: أحدهما: أن يطرح التمر أو الزبيب في الماء في الأواني التي تصبر على التمادي إلى أن يبلغ حد الإسكار كأواني الدباء وهو القرع اليابس، والمزفت وهي أو أن تطلى بالزفت، والحنتمة وهي أوان خزفية تدهن بالقلي ونحوها، فيترك زمنًا طويلاً إلى أن يبلغ حد الإسكار. وثانيهما: أن ماء الحجاز كان مرًّا مضرًّا فيطرح فيه لمداواة طعمه وطبعه ما يتمكن الأعرابي منه في ذلك الزمان وهو قليل من التمر فإن ترقى فالزبيب بمقدار الكف أو أقل يطرحونه في السقاء غدوة فيشربونه عشيًّا ويطرحونه عشيًّا فيشربونه غدوة حينما يؤثر طعم التمر أو الزبيب في الماء حلاوة ما. وقد تضافرت الأخبار الكثيرة بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى عن نبيذ الدباء والمزفت والحنتمة بسبب أنه يصبر عليه حتى يبلغ حد الإسكار ويرخص في نبيذ الأسقية وهو أن يطرح في السقاء كف ونحوه من التمر أو الزبيب فيشرب في يومه أو صبيحة ليلته حينما يطيب طعم الماء بحلاوة التمر أو الزبيب؛ لأن أسقية البيوت لا تحتمل أن تشغل زمنًا طويلا بالنبيذ، ولا تقوى على بقائه [1] إلى أن يختمر ويتعفن ويبلغ حد الإسكار. انظر إلى مسند أحمد وغيره من كتب الحديث. فعلى المتكلف في تشبثه بما ذكر من الحديثين إن صحا في الجامعة الإسلامية (يعني إجماع المسلمين) أن يعين دلالتهما على أن النبيذ المذكور فيهما كان من القسم المسكر المخمر لا الذي ذكرنا أنه يطرح فيه قليل من التمر أو الزبيب لمحض تطييب طعم الماء على عادة أهل الحجاز، ونحن نقول: إن المتعين كون النبيذ فيهما من هذا القسم لا القسم المسكر لوجوه: (أولها) أنه لو كانت في مكة مصانع للنبيذ المسكر كمصانع أوربا لما وسعت كفاية الألوف العديدة من الحجيج في الأيام الكثيرة وهو يُعْطَى مجانًا لهم، وكيف يقوى العباس على ذلك؟ (وثانيها) أن السقاية في مكة كانت لإرواء الحجيج من العطش لا أنها حانوت خمار. (وثالثها) أن هذه الواقعة إن كانت فإنما تكون بعد فتح مكة في أواخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومقتضى الأخبار التي يذكرها المتكلف (الهداية 1 ج ص 23 و 24) أن الخمر حرمت في أوائل الهجرة. وفي ما ذكره عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما شربه: إنه ليس بحرام، مع أن حرمة النبيذ المسكر كانت حينئذ مقررة معلومة في الإسلام. (ورابعها) الذي يكشف الحجاب ما صح نقله عن جعفر الصادق وهو الإمام السادس من أهل البيت حيث قال في نبيذ السقاية: إن العباس كانت له حبلة وهي الكرم فكان ينقع الزبيب غدوة فيشربونه بالعشي وينقعه بالعشي ويشربونه غدوة يريد أن يكسر به غلظ الماء على الناس. وأما سر تقطيبه صلوات الله عليه في رواية ابن عباس فليس لأن النبيذ الذي أُعْطِيَ له كان من القسم المسكر، بل لأن حلاوة التمر والزبيب كانت زائدة على المتعارف من نبيذ الأسقية، فإن الحلاوة إذا ظهر أثرها مع مرارة الماء كانت من المهوعات، فزاد عليها من الماء إلى أن ردها إلى النحو المتعارف، وأرشدهم إلى أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه هذا النحو من المشروب لإصلاح طعم الماء. ولو تنزلنا وفرضنا أن النبيذ المذكور في الروايتين كان من القسم المسكر لكانتا دليلاً على أنه صلوات الله عليه كان يعاف المسكر ويشمئز ويقطب وجهه الشريف منه، ولم يشربه حتى أخرجه عن موضوعه وصورته بإراقة الماء الكثير عليه [2] أفبهذا يتشبث الكاتب ويقول بملء فمه ومهوى قلمه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرب الخمر [3] ؟ ! وقد فات المتكلف المتشبث أن في أخبار الآحاد التي لا تقيم لها الجامعة الإسلامية وزنًا ما يساعفه على مقصوده بعض المساعفة، فقد روي في مسند أحمد أن رجلا كان إذا قدم المدينة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمرًا فقدم مرة ومعه زق خمر ليهديه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: إن الخمر قد حرمت. ولكن ماذا يعمل الوهم من هذا الخبر في مقابلة متواترات الآثار ومعلومات السير بأن قدس رسول الله لا تحوم حوله هذه الأوهام، وقد جاء عنه صلوات الله عليه في مستفيض الحديث من طريق أهل البيت قوله صلى الله عليه وسلم: أول ما نهاني عنه ربي شرب الخمر وعبادة الأوثان، وكفاك أن مشركي قريش، والعرب قد تمحلوا في تكذيب رسول الله وكابروا الوجدان وغالطوا العيان بدعواهم أنه صلوات الله عليه مجنون، ولو أنه صلوات الله عليه كان يمكن أن يُرْمَي بشرب الخمر والمسكر ليتيسر لهم أن يقولوا بلا مكابرة للوجدان أن ادعائه صلى الله عليه وسلم للرسالة والوحي إنما هو من صورة الخمر وعربدة السكر وخيالات الخمر. ولكنه كان صلوات الله عليه ولم يكن لقائل فيه مغمز. فياذا الرشد والفكر الحر الذي لم يستأثر للعصبية والتقليد سألتك بفضيلة الصدق وشرف النفس هل كان من الرشد وأدب الكاتب أن يتغاضى هذا المتكلف عما لوثت به الكتب الإلهامية في نحلته قدس الأنبياء، وخصوصا المسيح بشرب الخمر وحضور مجلس السكر صريحًا، ويتشبث لتلويث قدس رسول الله بهذه الأوهام. اهـ. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] كثرت المطبوعات المراد تقريظها وحال ضيق الوقت عن النظر فيها نظر دقة وتزاحمت المواد فلم تدع محلاًّ للإشارة إليها في كثير من أجزاء هذه السنة، ونحن نشير إلى طائفة منها في هذا العدد، وموعدنا للإشارة إلى باقيها الأعداد التالية. ... ... ... ... ... * * * (البيان السنوي للكلية العثمانية الإسلامية) (في بيروت سنة 1330 هـ سنة 1912 م لعامها الثامن عشر) ما زالت الكلية العثمانية الإسلامية في رقي ونجاح حتى نهضت بكثير من الشبان في بيروت إلى أفق الإنسانية الراقية. أنشئت هذه الكلية سنة 1313هـ فكانت مدرسة ابتدائية اجتمع لديها عشرات من التلاميذ، وما زال يرتقي عدد التلاميذ بارتقاء المدرسة حتى بلغ في سنتها الماضية سنة 1330هـ سنة 1912 ثمان مئة تلميذ، وفيها من المعلمين من أبنائها وغير أبنائها زهاء أربعين معلمًا. وقد كانت إلى السنة العاشرة من سنيها نهارية وذاعت شهرتها في الآفاق فقصدها الطلاب من أنحاء البلاد الإسلامية القاصية فأنشأت قسما ليليًّا منذ ثمان سنوات، وقد زاد العهدة عنايتهم بالمدرسة فأدخلوا تسعة بنود إصلاحية في برنامجها. وبالإجمال فإن الكلية سائرة على سنن التقدم والنجاح ومن أدلة ارتقائها أن شبان بيروت الذين يرجى منهم الخير للبلاد والأمة هم من تلاميذها. وقد كان التعليم العالي في بيروت منتشرًا، وكانت ولا تزال الكليات الأجنبية مفتحة الأبواب وقد كثر المتعلمون من غير المسلمين في تلك المدارس أهلية وأجنبية ولم تزدد الطوائف إلا تباعدًا وعداء. ولكن تلاميذ الكلية العثمانية ما كادوا يخالطون الناس في المدارس العالية والأعمال العمومية حتى انتشرت روح السلام والوفاق بين طوائف بيروت التي كان يظن الناس - أجنبيهم ووطنيهم - أنها ستكون فاتحة الشر والخراب على البلاد. من قرأ هذا البيان يزداد في شئون المدرسة بيانًا، وفق الله هذه المدرسة وكثر من مثلها في البلاد العربية. وإننا نحث إخواننا أهل العراق على إرسال أبنائهم إليها إنها أرقى المدارس العربية الإسلامية في البلاد العثمانية. * * * (التقويم الجزائري) لسنته الثالثة سنة 1331هـ وسنة 1913م يصدر هذا التقويم في الجزائر الشيخ محمود كحول مدير تحرير جريدة كوكب إفريقية والمستعرب بودي لوي ناظر صفافي الحروف العربية في مطبعة فونطانا الأخوين في الجزائر، وثمنه فرنكان اثنان في الجزائر. صدر هذا التقويم سنة 1329 الموافقة سنة 1911 وفيه كثير من الفوائد الصحية والزراعية والجغرافية، ومناسك الحج والنبذ الأدبية نظمًا ونثرًا مزينًا بصور مشاهير رجال القطر الجزائري، وفيه أهم الحوادث التي وقعت في السنة الماضية، وما زال في ارتقاء وزيادة في المادة حتى بلغت صفحاته 196 صفحة بقطع المنار بعد أن كانت في السنة الأولى 158. وقد رأيناه ينقل الفوائد عن المجلات المصرية فقد نقل في صفحة 40 سنة 1330 مقالة عنوانها (علم الفلك والقرآن) للدكتور محمد توفيق صدقي عن مجلة الطلبة المصريين (على أنها نشرت في المنار بزيادة تنقيح وفوائد) ومقالة في التفسير في صفحة 67 لسنة 1330 م عن مجلة المنار وأخرى عنوانها (كلمات علمية عربية) في ص 129 عن المنار أيضًا. وقد حولها من الإنكليزية إلى الفرنسية السيد محمد بن أبي شنب أحد أساتذة المدرسة الثعالبية في الجزائر. * * * (الفصول المهمة في تأليف الأمة) تأليف عبد الحسين بن شرف الدين الموسوي العاملي طبع بمطبعة العرفان بصيدا ص 236 بالقطع الصغير ثمنه ثمانية قروش ويباع في مكتبة المنار بمصر. أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا تورد يا سعد الإبل اسم الكتاب يدل على موضوعه، ولو وافق الاسم المسمى لكان الكتاب من أحسن وأنفع ما كتب في هذا العصر، ولكن المؤلف نحا فيه منحًى لا يؤدي إلى الغاية المقصودة بحسب الظاهر، وسلك مسلك الدعوة إلى مذهبه، والإزراء بمذهب المخالف بأسلوب جديد في الدعوة، فقد جاء بأهم المسائل الخلافية بين السنة والإمامية وأيد ما شاء ووهَّن ما شاء مما جعل كلا من الفريقين يتمسك بما عنده من التقاليد ويدافع عن عصبيته وكان الطريق الأسلم أن يدعو إلى ما اتفق عليه الفريقان وهو جميع أصول الدين وما علم بالضرورة، وأن يدع ما وقع فيه الخلاف قديمًا وحديثًا، فإن من دعا إلى مذهب فقد دعا إلى عصبية. وشأن المصلح الداعي إلى التأليف أن يتحامى مثارات التفريق ولا يغني ذكر بعض من ضللهم بالتعظيم فتيلاً؛ لأن خصومه يزنونه بأنه يتخذ حصن التقية موئلاً. * * * (العراقيات) الجزء الأول منه، وهو مختار من شعر عشرة من مشاهير شعراء العراق لجامعيه رضا وظاهر وزين طبع مطبعة العرفان ص 200 ونيف بالقطع المتوسط على ورق جيد ثمنه 9 قروش وربع قرش يباع بمكتبة المنار بمصر. افتتح هذا الديوان بكلمة لناشريه في (ماهية الشعر) فذكروا فيها بحث (منزلة الشعر عند العرب) وبحث (أدوار الشعر) إلخ. والحق أنهم قد استخرجوا بهذا الديوان كنوزًا كانت مخبوءة عن الناس في مجاهل العراق فقد أثبتوا من شعر السيد محمد سعيد حبوبي والسيد إبراهيم الطباطبائي والسيد حيدر الحلي والشيخ جواد شبيب والشيخ ملا كاظم الأزدي والشيخ عباس ملا علي النجفي والسيد جعفر الحلي والشيخ عبد المحسن الكاظمي والأخرس البغدادي ما يزري بقلائد العقيان، وذكروا ترجمة كل واحد من هؤلاء القراء. * * * (الشيعة وفنون الإسلام) لمؤلفه السيد حسن الصدر من أكابر علماء العراق طبع بمطبعة العرفان بصيدا ص 150 بقطع المنار على ورق متوسط ثمنه ستة قروش، ويباع في مكتبة المنار بمصر. اختصر المؤلف بهذا الكتاب كتابه (تأسيس الشيعة الكرام لفنون الإسلام) ويعني بالشيعة ما يعم كل من كان يوالي أمير المؤمنين عليًّا المرتضى، عليه الرضوان والسلام، ويخطئ من خرجوا عليه ولا سيما بني أمية مفرقي كلمة الإسلام، والسواد الأعظم من المسلمين كلهم شيعة بهذا المعنى العام؛ لأن النواصب والخوارج قليل عددهم في كل زمان. وقد ذكر من أسماء أفاضل الصحابة والتابعين رجالاً معروفين بالسابقة والفضل عدهم من الشيعة، وذكر فنونًا جمة، وأسماء أول من ألف فيها وربما كرر اسم المؤلف في عدة علوم. * * * (كتاب تنزيه القرآن الشريف عن التغيير والتحريف) تأليف الشيخ عبد الباقي سرور نعيم من علماء الأزهر. الطبعة الأولى بمطبعة الجمالية بمصر ص 68 بقطع المنار، ثمنه قرشان اثنان، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. وضع المؤلف كتابه هذا ردًّا على كتاب (هل من تحريف في الكتاب الشريف؟) الذي ألفه أحد دعاة النصرانية وإنه - والحق يقال - قد ألجم ذلك الداعية بلجام الحجة والبرهان وأوضح فساد ما يحتج به دعاة النصرانية من واهي الروايات وضعيفها وموضوعها. والكتاب كثير الفائدة بل هو أحسن كتاب رأيته في موضوعه وأحسن ما فيه أنه ينسب القول لقائله ويعزو الرأي لمقرره، فحيا الله المؤلف وبَيَّاه، ولا زال يرسل من شواظه على أولئك المبطلين ما يردهم على أعقابهم خاسرين. * * * (دلائل الإعجاز) لإمام الفن وواضعه الشيخ عبد القاهر الجرجاني أعيد طبعه بمطبعة المنار للمرة الثانية، وأضيف إليه حواشي الأستاذ الإمام التي على نسخة الدرس، وصحح فيه غلط الطبعة الأولى، صفحاته 428 وثمنه عشرون قرشًا وأجرة البريد ثلاثة قروش ويطلب من مكتبة وإدارة المنار بمصر.

حركة الأمة الهندية الشرقية والحكومة الهولندية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حركة الأمة الهندية الشرقية والحكومة الهولندية أردت بالأمة الهندية الشرقية سكان جزائر الهند الشرقية (جاوة. سومطرة. بورنيو. سليبس، وغيرها من الجزائر المجاورة لها) . سكان تلك الجزائر أجناس متعددة، وشعوب مختلفة متفرقة، أعظمها وأشهرها جاوية فملاوية ثم باتاكية ثم مكاسرية ثم بوقيسية ثم سداوية. فكلها من أصل واحد، وهو الملايو. هذه الأمم متأخرة عن بقية الأمم مدنية وحضارة ولم تزل إلى السنوات الأخيرة في انحطاطها ورقدتها. وقد كانت نهضة اليابان أيقظتها بعض اليقظة؛ إذ قام رجالها وشبانها المستنيرون بالدعوة إلى الاقتداء باليابان والأمم الغربية، وبعبارة أخرى قاموا بالدعوة إلى المدنية والحضارة، وإلى إقامة المدارس، ونشر العلوم والمعارف في جميع البلاد الجاوية الملاوية. فكتب كتابهم في جرائدهم ومجلاتهم شيئًا كثيرًا من هذا القبيل، وطلبوا من الحكومة زيادة المدارس، وكان القارئ لا يقرأ في الجرائد الملاوية والجاوية إلا كلمات التقدم والتعليم والمدنية والحضارة.. إلخ. وبعد أن كثرت الأصوات والصيحات ولم يفتر كتابها عن الطلب والإلحاح على الحكومة، اضطرت الحكومة إلى قبول مطالبهم رغبة في تقدمهم وارتقائهم (أي بعد ظهور هذه الحركة خوف أن ... وما كانت راغبة في ... ) وبذلك أصبح عدد المدارس الهندية الشرقية الهولندية زهاء ستة آلاف مدرسة ما بين الابتدائي والثانوي والعالي، وما بين مدارس الحكومة ومدارس الأهالي، أما الآن فلا أبالغ إذا قلت: إن عددها ثمانية آلاف مدرسة. قام الصينيون بعد قيام اليابان وقلبوا حكومتهم الاستبدادية إلى الجمهورية الدستورية، وأرسلوا شبانهم إلى بلاد اليابان والبلاد الغربية؛ لتلقي العلوم والفنون العصرية، فكان نهوضهم هذا سببًا لقيام الأمة الهندية الشرقية بالسعي والاجتهاد، وبترك الخمول والرقاد، فظهرت حركاتها الوطنية الحية ونهضتها الحديثة في كل البلاد، أكثر مما كانت عليها حين بدو النهضة اليابانية، وتأسست بعد الانقلاب الصيني عدة من الجمعيات والشركات التي تقوم بالأعمال التي تعود منافعها ومصالحها على الأمة والوطن. أما أنواع تلك الشركات والجمعيات فأشهرها ما ترى: (1) شركة الإسلام، هذه الشركة أسست منذ سنة، وقد بلغ عدد أعضائها والمشتركين فيها الآن زهاء 900.000. وغرضها الوحيد الوصول إلى الدرجة الراقية وإعلاء شأن الوطن والوطنيين معًا، وقد فتحت الشركة متاجر عديدة، كما أنها أقامت مدارس كثيرة. ومن قانونها أن لا يجوز لأعضائها والمشتركين فيها أن يشتروا شيئًا من البضائع الأجنبية ما دام ذلك الشيء موجودًا عند تجارها أو غيرهم من أصحاب التجارة الوطنية، وفوق ذلك تلح دائمًا على الوطنيين أن يفضلوا التجارة الوطنية على التجارة الأجنبية، وقد ظفرت بذلك بعض الظفر. (2) حزب النابتة (الشبيبة) أو الحزب الوطني، هذا الحزب تأسس حديثًا وغرضه إنقاذ الوطن والوطنيين من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن هاوية الانحطاط إلى ميدان الحضارة والارتقاء. ومن وظيفته النظر في شئونهم وأمورهم الاجتماعية والاقتصادية وفي المصالح العمومية، وبالجملة إنه يقوم دائمًا بالواجب الوطني. (3) جمعية المحبة وغرضها الاتحاد والتضامن، والاتفاق والتعاون، وعلى الأخص مساعدة أبناء الفقراء واليتامى في تعليمهم وتهذيبهم. (4) الشركات التجارية الوطنية، وهي الآن كثيرة الشيوع. وما عدا ذلك فإنه توجد نهضتان عظيمتان ربما تعجبان من لم يعلم حركة تلك الأمة من قبل: أولاهما: أنه قد تأسست هناك مدرسة الجامعة الجاوية، وغرضها ترقية العلوم والمعارف، وهي تضاهي الجامعة المصرية في الغاية والمقاصد، ومركزها في بناوي، وقد انتهت من إعداد المعدات اللازمة لها، وللتدريس، وستبتدئ الدراسة فيها في أوائل سنة 1914. ولا يمكن أن يلتحق بهذه الجامعة لتلقي العلوم إلا من تخرج في إحدى المدارس العالية، وكان يحمل الشهادة النهائية، ومؤسسو هذه الجامعة هم من أعضاء وكبار حزب النابتة. أما الثانية: فهي حركة أعظم من الكل، بل هي حادثة معجبة فإن حصولها ما كان ينتظر في هذه الأيام، وقد علم الكاتب علم اليقين أن مثل هذه الحادثة لا بد أن تحصل بيد أن حصولها ليس في هذه الأيام. وتفصيل ذلك أنه في شهر أغسطس الجاري أقامت الحكومة الهولاندية والشعب الهولاندي في البلاد الجاوية والملاوية احتفالاً بعيد الاستقلال الهولندي والحرية الهولندية، كما احتفلت الحكومة والأمة الهولندية في بلادها. وقبل يوم الاحتفال بأيام اجتمع الشبان الجاويون في مجتمعهم للنظر في أمر هذا الاحتفال، وكان زعماؤهم أربعة هم الدكتور جيفتو ماغون كسوما المحرر بجريدة دي إكسبرس الهولندية، وعبد المويس رئيس تحرير جريدة (هنديا شريكت) الملاوية، وسواردي سوريا نيغرت، وويجنادي سنسترا المحررين (قوم مودا) الملاوية فهؤلاء كلهم من الوطنيين المسلمين المخلصين، ومن عقلاء حزب النابتة. وكان من رأيهم - بل رأي الأكثرين - أن لا يجوز للأهالي ألبتة أن يشتركوا مع الحكومة في الاحتفال، ويفرحوا بذلك الاستقلال، بدعوى أن الحكومة إذا احتفلت بعيد الاستقلال الهولندي ودعت الأهالي إلى أن يشتركوا فيه ويفرحوا بسرورها فليس ذلك إلا إهانة واحتقارًا للوطنيين أجمعين؛ ذلك لأن الاستقلال هو الاستقلال الهولندي لا استقلال الأهالي، والأهالي لا يزالون عبيدًا لها، فإذا اشترك الوطنيون في ذلك الاحتفال كان في الحقيقة احتفالين: احتفالاً بالحرية الهولندية والاستقلال الهولندي، واحتفالا بعبودية الوطنيين والأهالي، إن ذلك لعيب كبير وعار عظيم. وبعد أن اتفقت آراء المؤتمرين كل الاتفاق كتب زعماؤهم الأربعة صور المنشورات فطبعوها ثم وزعوها بين الأهالي خواصّهم وعوامهم، وكان من ضمن تلك المنشورات: (1) نهي الأهالي أن يشتركوا في الاحتفال ألبتة، وبيَّن المنشور سبب ذلك بيانًا وافيًا. (2) الدعوة إلى الاتحاد، والاتفاق معهم في المطالب التي أرادوا تقديمها إلى جلالة ملكة هولانده، وإلى الحكومة الهولاندية، وتلك المطالب مبيَّنة في تلك المنشورات. (3) الرجاء ممن يرغب في هذا المشروع أن يرسل إليهم بطاقة أو خطابًا؛ اعترافًا برضائه واستحسانه ذلك المشروع ويجب عليه أن يوقع إمضاءه عليه. أما مشروعهم فهو: اتفقوا على أن يرسلوا ويقدموا إلى ملكة هولانده تهنئة بالتلغراف يهنئونها بعيد الاستقلال الهولندي بدلاً عن الاشتراك مع الحكومة في الاحتفال، وفي الوقت نفسه يفدون إلى الحاكم العام للهند الشرقية الهولندية يهنئونه بذلك العيد من جهة ويقدمون له مذكرة مطالبهم من جهة أخرى. وأما مطالبهم فكثيرة، أهمها وأعظمها ما يأتي: الأول: إلغاء المادة الثالثة من قوانين الهند الشرقية الهولندية، أي امتياز الهولانديين خاصة والأوربيين عامة في الحكم والقضاء. الثاني: إعطاء الوطنيين حقوقهم في مجلس شورى القوانين الهندية الشرقية الهولندية Kamer Tweede الذي مركزه في عاصمة هولانده، أي أن يكون رجال ذلك المجلس من الوطنيين أكثر من الهولانديين، أو يكون نصف الأعضاء منهم على الأقل. الثالث: طلب المساواة والحرية التامة؛ سواء كانت في الأمور السياسية أو الدينية أو التجارية أو غير ذلك. هذا هو أهم مطالبهم وبعد نشر تلك المنشورات نشر سواردي رئيس تحرير جريدة قوم مودا (حزب النابتة) منشورات أخرى ذكر فيها بلهجة شديدة أن من الواجب أن يطلبوا برلمانًا (مجلس نواب) ، ولكن من الأسف أنه قبل أن يتموا أعمالهم ومشروعهم الجليل وبعد أن نشروا زهاء خمسة آلاف نسخة من تلك المنشورات أصدرت الحكومة أوامرها بالقبض على هؤلاء الأربعة، فألقي عليه القبض، وأدخلوا السجن. وكان الدكتور جيفتو المحرر بجريدة دي إكسبرس الهولندية قبض عليه البوليس في إدارة الجريدة كما أن عبد المويس المحرر بجريدة (هنديا شريكت) قبض عليه وهو في إدارة جريدته أيضًا، وأما سواردي المحرر بجريدة قوم مودا وويجنادي سترا رئيس تحرير تلك الجريدة فقبض عليها في بيتيهما. والتحقيق جرى بينهم وبين قاضي التحقيق، وربما أترجم إلى العربية بعض التحقيقات إذا سنحت لي الفرصة. فيرى القراء الكرام أن ما كتبه هؤلاء الأربعة لم يخرج ولم يتجاوز حقوقهم ولا حقوق الحكومة، بل ذلك من مصالح الأمة والوطنيين. أما امتناعهم عن الاشتراك في الاحتفال فما كان إلا دفاعًا عن كرامتهم وكرامة الأهالي، وأما دعوتهم إلى الاتفاق والاتحاد معهم في تلك المطالب فذلك من حقهم وواجباتهم فليس للحكومة حق في القبض عليهم، وإلقائهم في السجن بوجه من الوجوه. وبمناسبة هذه المقالة أدعو إخواني الجاويين والملاويين إلى تأييد تلك المطالب وضم أصواتنا إلى أصواتهم، فكلنا نريد الحرية ولا نريد العبودية. كفانا أيها الإخوان الكرام نومنا السابق، وذلنا الفائت، فلا يجوز لنا أن نديم رقدتنا وذلنا؛ فإننا الآن في عصر الحضارة والتقدم لا في عصر الانحطاط والذل. يجب علينا جميعا أيها الإخوان الكرام أن نلح على حكومتنا بأن تعترف بحقوقنا، وأن تقبل مطالبنا من غير تردد ولا عمه. يجب علينا أن نعلم أن بلادنا ليست ملكا لهولنده؛ فإن دخولها فيها كان بمعاهدات تجارية ثم بمعاهدات ودية عقدتها مع أمرائنا، أما معاهدتا سنة 1814 وسنة 1824 اللتان ضمتاها إلى أملاكها فليستا باعترافنا. ولسلامة الحكومة الهولندية وسلامة الوطن والوطنيين ولبقائها محبوبة من الأهالي يجب عليها أن تقبل مطالبنا وتراعي مصالحنا، وفوق ذلك يجب عليها أن تعترف بأننا أصدقاء وإخوان لها لا عبيد لها. فإذا اعترفت الحكومة بذلك فلا ريب أنها تبقى في تلك الأصقاع الآمنة مطمئنة، فإن الأهالي حينئذ يحبونها ويساعدونها لا يريدون الفراق والانفصال عنها أبدًا. وبمناسبة هذه الحركة المجيدة أقول لكم أيها الإخوان الكرام كلمة في أمر التعلم وهي: أنه قد اعتاد آباؤنا الكرام وإخواننا الأعزاء أن يقتصروا على إرسال أبنائهم وشبانهم إلى مكة المشرفة ومصر المحروسة وإلى البلاد الهولندية وحدهن، وأرى أن ذلك من الخطأ العظيم، والتقصير المبين، ولست في حاجة إلى الحجج والبراهين لإثبات قولي وتأييده أكثر مما نرى ونشاهد، وهو تقدم اليابان والصينيين، أليست سرعة تقدمهم ورقيهم بفضل إرسال أبنائهم وشبانهم النجباء إلى بلاد وعواصم أوربا وأمريكا؟ فإذا علمنا ذلك فلماذا نقتصر على تلك البلاد فقط؟ إذًا يجب علينا أن نبذل غاية جهدنا في احتذاء مثال هاتين الأمتين لنكون في صف الأمم الراقية في أقرب وقت، هدانا الله لصالح الأعمال ونجانا من هاوية الجهل والانحطاط والسلام. ... ... أغسطس ... ... ... ... ... ... د. ي (المنار) يظهر أن الكاتب لا يزال يغلو في سوء الظن بهولنده المستولية على وطنه، ولكن بلغنا من الثقات في تلك البلاد أن الحكومة الهولندية كانت مؤيدة لهذه الحركة الجديدة، إن لم تكن هي المحرك الأول لها، ومن الثابت أنها صارت تتساهل مع الأهالي في أمر التعليم الديني واللغة العربية، وكانت تتشدد في ذلك كل التشديد، وسبب ذلك أن وزارة الحزب الديني قد سقطت من عاصمة هولنده وخلفتها وزارة حزب الأحرار، فيجب على مسلمي تلك البلاد الحزم واغتنام الفرصة؛ وأن يشكروا لوزارة الأحرار تساهلها ولا ينفروها بالغلو لعل ذلك يكون مدعاة المزيد، وأن يثنوا عليها بق

الإصلاح اللامركزي في البلاد العربية واتفاق الترك مع العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح اللامركزي في البلاد العربية واتفاق الترك مع العرب نشرنا في منار شعبان صورة الاتفاق الذي عقد بين جمعية الاتحاد والترقي وطلاب الإصلاح من العرب، وأقره المؤتمر العربي بباريس وأكدت الجمعية العهود والمواثيق لتنفذنه الحكومة برمته. وقلنا: إنه لما وقع الخطأ من حزب اللامركزية بنشره نشرت الجمعية بلاغًا في أنديتها العربية يخالفه من عدة وجوه، ثم إن طلعت بك عاقد ذلك الاتفاق بالنيابة عن الجمعية نشر بلاغًا رسميًّا بصفته ناظرًا للداخلية بيَّن فيه ما عزمت الحكومة عليه من الإصلاح، وهو بين بين، وفي ذلك قرار مجلس الوكلاء، ثم نشرت إرادة السلطان السنية بتنفيذ ذلك، ونشرنا في منار رمضان ترجمة بلاغ نظارة الداخلية، وترجمة الإرادة السنية، وكان قطب الرحى في هذه الحركة الجديدة طلعت بك الرجل الفعال في الجمعية المدبرة للحكومة، وفي الحكومة المنفذة لمقاصد الجمعية. فرح المشتركون في هذه الحركة في الآستانة بهذه القرارات، وأقاموا في أثناء نشرها المآدب والاحتفالات، فأكلوا وشربوا وأنشدوا وخطبوا، عظموا أمرها وأكبروا، وهللوا لها وكبروا، وأرسلوا الكتب والبرقيات، إلى الأحزاب العربية والجمعيات، في باريس ومصر وسورية والعراق، يستنطقون ألسنتها، وأقلامها وصحفها بالشكر والثناء، على هذه النعم والآلاء، التي جاد بها على العرب الاتحاديون الأسخياء، ويطلبون إرسال الوفود منها إلى العاصمة البيزنطية، لأداء الشكر للحكومة والجمعية، والاشتراك في الاحتفالات والمآدب، والمطاعم والمشارب، كان يرسل هذه البرقيات والرسائل عبد الكريم أفندي قاسم الخليل، وعززه سليمان أفندي البستاني ناظر الزراعة والتجارة، ولكن منعت الرزانة والبصيرة طلاب الإصلاح من إجابة الدعوة فما أجابها أحد، وإنما أرسل جماعة المؤتمر الذي ينتظرون في باريس وعد جمعية الاتحاد بتنفيذ الاتفاق المعهود وفدًا منهم إلى الآستانة ليختبروا حال الحكومة بالمشافهة مع وزرائها ويكتبوا إليهم بذلك، لا لأجل الشكر على نعمة لا تزال في حيز الوعد المضطرب. كان أعضاء وفد باريس ثلاثة من مندوبي بيروت في المؤتمر وهم الشيخ أحمد طباره وأحمد مختار أفندي بيهم، وسليم أفندي سلام، استقبلهم على البحر في الآستانة سليمان أفندي البستاني الوزير العربي، وبعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي وجمهور طلبة العرب في مدارس الحكومة الذين يجمعهم المنتدى الأدبي، وقد ذهبوا بهم إلى المنتدى الأدبي حيث ألقيت الخطب المناسبة للمقام، وأعدت لهم جمعية الاتحاد مأدبة حافلة ألقيت عليها الخطب أيضًا، ولقوا الصدر الأعظم وطلعت بك ناظر الداخلية فواعدهم بتنفيذ الإصلاح المطلوب كله، وأكد الأخير لهم الوعد مرارًا وزاروا ولي العهد أيضا فأكرم وفادتهم. ثم قابلوا مولانا السلطان فرحب بهم وهشَّ لهم وأظهر لهم ارتياحه إلى إسعاد البلاد والأمة. وبيَّن سليم أفندي سلام في حضرته السامية إخلاص العرب لسلطانهم وتعلقهم بالخلافة وغيرتهم على الدولة، ودعا الشيخ أحمد طباره دعاء مناسبًا، وقد كان كلام كل منهم في كل اجتماع ومع كل وزير ومكاتب جريدة موزونًا بميزان الروية والاعتدال، ليس فيه شيء يشف عن الغرور ولا الاغترار، ولا ينبئ بشيء من التملق ولا الدهان. في أثناء هذه الحوادث والوقائع كان زعماء المقاومين للإصلاح في سورية يتميزون غيظًا؛ لأنهم رأوا أنهم سوَّدوا وجوههم عند أمتهم؛ إرضاء للحكومة والجمعية فكانت العاقبة أن ازدرتهم، وأجابت دعوة طلاب الإصلاح وكرمتهم، فطفقوا يكتبون إلى مركز الجمعية العام في الآستانة يعظمون شأن أنفسهم، ويهونون خطر طلاب الإصلاح وينالون منهم، ويزعمون أن زعامة الأمة العربية في أيديهم لا في أيدي المصلحين، وأن الحكومة إذا نفذت ما اتفقت عليه مع المصلحين يزول نفوذ الاتحاديين من بلاد العرب بتركهم إياها، فرأت الجمعية أن تأذن لهم بالمجيء إلى الآستانة، قيل لترضيهم بشيء من التكريم الذي كرمت هي والحكومة به من حضر الآستانة من المصلحين، وقيل لتصلح بين الفريقين فتكتفي أمر الجميع، وقيل لإحكام الشقاق بين الفريقين لتجعل لنفسها عذرًا في إلغاء بعض مواد الإصلاح وإرجاء بعض آخر، وقالت بعض جرائد هؤلاء المعارضين للإصلاح: إنها تريد أن تعقد مؤتمرًا منهم ومن أمثالهم ومن بعض أفراد الأحزاب والجمعيات الإصلاحية من العرب المخلصين، ومن مثل عدد الجميع من الترك. وجملة القول: أن جمعية الاتحاد والترقي قد ساوت بين وفدها الذي استقدمته ووفد الإصلاح في التكريم الذي هو عبارة عن المأدبة ولقاء مولانا السلطان ولقاء ولي العهد والصدر الأعظم، وامتاز وفد الإصلاح بتكريم جميع أبناء العرب الذين في الآستانة له واحتفائهم به وبأنه قد وعد الوعود المؤكدة بسرعة تنفيذ الإصلاح المطلوب ما أعلنته الحكومة منه وما لم تعلنه، وبأنه لم يتملق ولم يدهن ولم يقبل أن يجتمع بمعارضي الإصلاح، وقد سافر إلى بيروت، وبذلت الآستانة الجهد قبل ذلك وبعده في استقدام السيد عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر من باريس إلى الآستانة وحده أو مع من بقي معه من أعضاء المؤتمر فخاب السعي كما خاب في طلب رفيق بك رئيس حزب اللامركزية إلى الآستانة، وذلك لأن حزب اللامركزية لم ير موجبًا لذهاب الرئيسين ولا الوفدين إلى الآستانة والحكومة لم تصرح بقبول الاتفاق الذي صدق عليه المؤتمر العربي. فمن هذه الخلاصة ومما نشرناه من قبل يعلم القارئ أن كل ما حصل من الإصلاح والاتفاق هو: (1) أن الحكومة أعلنت بعض مطالب المصلحين وسكتت عن أهمها، وهو توسيع سلطة المجالس العمومية على أساس الإدارة اللامركزية، وجعل جميع مسائل النافعة المحلية من خصائصها لتأمين الأمة من بيع رقبة بلادها ومنافعها إلى الأجانب بدون رأيها ولا مراعاة مصلحتها. (2) أن أفراد جمعية الشبان العربية أدبوا مأدبة لزعماء جمعية الاتحاد والترقي والجمعية أدبت مأدبة مثلها، وأخرى لوفد المؤتمر العربي من جمعية بيروت الإصلاحية، وثالثة الأثافي من هذه المآدب الاتحادية لوفد المعارضين للإصلاح. (3) الوعود بالإصلاح. (4) الشروع بتنفيذ التعليم باللغة العربية في المكاتب الابتدائية وبعض المدارس السلطانية، أما هذه الاحتفالات والمآدب فلم يحضرها إلا جماعة الاتحاديين وبعض الموظفين أو طلاب الوظائف من العرب في الآستانة وقليل من شباننا ورجالنا الذين هم على مشربنا في الإصلاح، ولكن لم يقل فيها أحد ممن يعده المصلحون منهم كلمة تشعر بالرضا مما حصل إلا عبد الكريم أفندي قاسم الخليل، وقد آخذته على ما قال وفعل جميع الهيئات الإصلاحية في جميع الجهات، وإنما كان معظم التهليل والتهويل فيها لإشباع الاتحاديين الذين كثر بهم سواد هذه المآدب والمحافل كالشيخ عبد العزيز شاويش ومعروف أفندي الرصافي، وكانت نتيجة ذلك كله أن الجمعيات الإصلاحية في مصر وأوربة وسورية والعراق والجزيرة لم تثق بحصول مطالبها فعمدت إلى لَمِّ شعثها وتوحيد سعيها وانتظار وعد الحكومة الأخير لوفد المؤتمر من إخوانها البيروتيين، ولعل هذا الانتظار لا يعدو هذا الشهر، فإن شرعت الحكومة في تنفيذ المطالب الأساسية من الإصلاح فقل إن الدولة قد هدأت أحوالها الداخلية، وصارت إلى طور جديد من الحياة المدنية، وإن لم تفعل فاجزم بأن المسألة العربية قد دخلت في طور عملي عام سيعقبه انقلاب لا يعلم كيف يكون إلا الله. أما المطالب الأساسية فأهمها أربعة أمور: (1) أن تكون جميع المسائل الإدارية الداخلية من خصائص المجالس العمومية فلا يعطى في البلاد العربية امتياز بطريق حديدي، أو استخراج معدن، أو عمل زراعي أو غير ذلك، ولا يباع شيء من أرض البلاد العربية للشركات المالية، لا يكون شيء من ذلك وأمثاله إلا بقرار من المجالس العمومية. (2) مشاركة العرب للترك في السلطة العليا بالعاصمة مشاركة تضمن بها مصالحهم. (3) أن يكون رؤساء مصالح الحكومات العربية ممن يعرفون لغتها معرفة صحيحة، وأن يكون من عداهم من الموظفين من أهل الولايات أنفسها. (4) أن تكون اللغة العربية هي لغة الحكومة في جميع دوائر الولايات العربية، ومقبولة في العاصمة أيضًا.

صرف الزكاة للإعانة على تعليم القرآن والكتابة وغيرهما من العمل النافع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صرف الزكاة للإعانة على تعليم القرآن والكتابة وغيرهما من العمل النافع (س40) من الشيخ عبد الله بن عمر مدحج ناظر المدرسة الابتدائية الإسلامية ببلد الشيخ عثمان من ملحقات عدن نذكره بالمعنى مختصرًا: سبب السؤال: أن السائل أسس مدرسة في بلدة الشيخ عثمان لأجل تعليم أولاد الفقراء العاجزين عن أجرة التعليم، ولا بد لهذا من نفقة. وملخص السؤال: هل يجوز أن يدفع أغنياء البلد شيئًا من زكاة أموالهم للإعانة على هذا التعليم، ويدخل ذلك في بعض الأصناف الثمانية التي تصرف لها الزكاة أم لا؟ (ج) إذا كان المدير والمعلمون في هذه المدرسة من الفقراء والمساكين فلا خلاف في جواز دفع الزكاة لهم، ولا يكلفون أن يتركوا التعليم لأجل كسب آخر، وإن قدروا عليه؛ لأنهم قائمون بفرض من فرائض الدين، وهو تعليم ما يجب علمه على المسلمين أو يُسَنُّ لهم، فإن كانوا لا يحسنون كسبًا آخر فالأمر أظهر. ويجوز أن يوكل مؤتي الزكاة ناظر المدرسة في صرف ما يعطيه إياه من زكاته على مستحقيه من المعلمين أو التلاميذ الفقراء أو المساكين، ولكن المعلمين ونظار المدارس لا يعدون من الأصناف التي تجب لها الزكاة لذاتهم، وبوصف المعلمين إلا على التوسع في تفسير: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 60) والمشهور عند جمهور الفقهاء أن المراد بهذا الصنف الغزاة في سبيل الله. وزاد بعض الأئمة في الحج، واختار الأستاذ الإمام أن المراد بسبيل الله: كل عمل صالح من المصالح العامة يُتَقَرَّبُ به إلى الله تعالى. وبهذا التوسع تدخل النفقة على تعليم العلوم المطلوبة شرعًا. وجملة القول: أن القائمين بأمر التعليم يُعْطَوْنَ من مال الزكاة إذا كانوا فقراء أو مساكين أو غارمين بخلاف ذلك، ومثل ذلك إعطاؤها لأولياء التلاميذ الفقراء؛ لينفقوا منها على تعليم أولادهم، ويجوز التوكيل في الدفع للمستحق أيضًا، وأظن أن هذا كافٍ في المقصود، والله أعلم.

نظرة في كتب العهد الجديد وفي عقائد النصرانية ـ 8

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية تابع لما قبله فصل في رد ما يستدلون به من القرآن على عدم تحريف كتبهم قد يقول بعض القارئين: إذا صح قولك فيما سبق بضياع جزء عظيم من الإنجيل واختلاط الحق بالباطل فيما بقي منه حتى فسد تقريبًا فما معنى قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 101) ، وقوله: {وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يونس: 37) وكيف مدح الله التوراة والإنجيل وحثَّ أهل الكتاب على إقامتها في مثل قوله في سورة المائدة: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ} (المائدة: 68) وغير ذلك؟ قلت: أما قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 101) فمعناه أنه عليه السلام جاء طبق ما عندهم عنه في التوراة والإنجيل يعني أن أحواله جميعًا توافق البشائر المخبرة بمجيئه تمام الموافقة، ولا تختلف عنها في شيء كما بيناه في كتاب دين الله. وهناك فرق بين قولك: جئت مصدقا لقول فلان، وقولك: أنا مصدق بقوله. فمعنى الأول أن فلانًا أخبر بمجيئك فجئت مصدقًا لإخباره عنك، ومعنى الثاني أن تؤمن بقوله وتصدقه، ولم يرد في القرآن أنه قال إنه هو أو محمد صلى الله عليه وسلم جاء مصدقًا بما معهم. (راجع أيضا صفحة 176 من هذه الرسالة) . وإذا سلمنا أنه لا فرق بين قول القرآن: {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 91) وبين أن يقول: مصدقا بما معهم، فليست العبارة نصًّا على أنه مصدق بكتبهم هذه التي معهم؛ إذ لم يذكر فيها لفظ الكتب، ولا يجوز أن يكون القرآن مصدقًا بجميع ما معهم من دينهم؛ لأنه رد عليهم في كثير منه. فتعين إذًا أن يكون المراد أنه مصدق ببعض ما معهم، وهذا حق، فإن القرآن يوافق دينهم في كثير من عقائده وآدابه وتعاليمه، فدين الإسلام أقرب الأديان إليهم ومع ذلك هم نفروا منه ورفضوه بأشد ما يرفضون الوثنية كما هو مشاهد حتى هذا اليوم، ويجوز أن يكون المراد مصدق بأن أصل ما معهم من الله وأن فيه أشياء كثيرة صالحة للناس ونافعة لهم وموروثة بينهم عن أنبيائهم. وأما قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: 111) فالمراد به أن قصص القرآن ليست مخترَعة ولا مفتراة بدليل وجود أمثالها بين الناس قبل نزوله، فهي وإن اختلت قليلا في بعض التفاصيل أو الجزئيات عما يرويه الناس إلا أنها توافقها في الجملة وتصدقها في الجوهر، فلا تظنوا أيها المشركون أن النبي اخترعها بعقله، بل اسألوا عنها أهل الكتب تجدوا أنها معروفة بينهم ومروية في كتبهم، فوجود قصص القرآن عند الناس من قبل لا يضعف حجته كما يتوهم المبشرون، بل هو من أعظم ما يصدقه ويؤيده؛ ولذلك ترى القرآن نفسه يستدل بها على كونه من عند الله؛ لأن النبي لم يطلع على كتب أهل الكتاب. ولا يستنتجن القارئ من هذه الآية أن قصص القرآن يجب أن لا تختلف عن قصص التوراة والإنجيل في شيء ما، كلا إذ لو كان هذا الاستنتاج صحيحًا لما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (النمل: 76) فقصصه قد تختلف عما عندهم وتبين لهم حقه من باطله. فلا منافاة بين تصديق القرآن لقصصهم في الجملة، ومخالفته لها في بعض الجزئيات كما قلنا. ويجوز أن يكون المراد بقوله: {تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يونس: 37) تصديق الحق الذي عندهم لا كل الذي عندهم وإلا لدخل في ذلك عقائدهم الفاسدة وأوهامهم وخرافاتهم وغيرها مما جاء القرآن لإزالته ومحقه، ويستحيل أن يكون مصدقًا لما جاء لإبطاله، فتنبه لذلك ولا تكن من الغافلين. أما استدلالهم على عدم تحريف كتبهم بما في سورة المائدة ونحوها من مدح التوراة والإنجيل، وأمر أهلهما بالحكم بهما. فهاك بيان ما اشتبه عليهم من آيات هذه السورة: قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ} (المائدة: 44) وهي شريعة موسى {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} (المائدة: 44) وهو أمر لا ننكره ونؤمن به، ولكنه لا يفيد المبشرين شيئًا في إثبات دعواهم {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} (المائدة: 44) وهم معلمو شريعة اليهود وعلماؤهم، يحكمون ويفتون ويقضون {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ} (المائدة: 44) بما طلب منهم المحافظة عليه من التوراة، وفيه دليل على أن بعض أحكام التوراة كانت مؤقتة ولم يطلب منهم المحافظة عليها فهم إنما يحكمون بما لم ينسخ منها {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} (المائدة: 44) أي رقباء يعلمون أنه لم يحرف لشهرته بينهم وتواتره، فمعلمو اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها لشيوعه وتداوله وتواتره بين الناس بالعمل به. ولما كانت شريعتهم صالحة لزمنهم ونافعة لهم قال الله تعالى لهم: {فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 44) إلخ؛ وذلك لأن كثيرًا منهم كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرفونها، ويقاومون المصلحين، ويقتلون النبيين (عب 11: 37) ويشركون ويرتدون، ولولا علم موسى ذلك عن طباعهم ما قال لهم ما قال (راجع مثلا سفر التثنية إصحاح 28 - 31) ثم قال الله تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ} (المائدة: 46) وكما قال تعالى لأتباع موسى {فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 44) الآية قال أيضا لأتباع عيسى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} (المائدة: 47) وإنما خص أهل الإنجيل بالذكر لبيان أن الإنجيل لم ينزله الله للأمم كافة كما يزعمون وليست شريعته باقية لكل زمان. وقد بينا أن بعثة عيسى كانت خاصة بالأمة اليهودية في صفحة (193 و194) وحذف لفظ القول في القرآن كثير كما في قوله تعالى: {لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} (غافر: 16) وقوله: {فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ} (يوسف: 45-46) وغير ذلك مما يعرفه المطلعون على أساليبه وتراكيبه، فكذلك هنا حذف لفظ (قلنا) قبل لفظ ليحكم وفي قراءة حمزة، وهي من القراءات السبعة المتواترة بين المسلمين، وليحكم، بكسر اللام وفتح الميم، والمعنى آتينا عيسى الإنجيل ليحكم به أهله وهم الذين بعث إليهم من بني إسرائيل {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) أي شاهدًا على ما فيه من الحق والباطل، ولا يدل ذلك على أنه يمنع تحريفه كما زعم بعضهم فإن الشاهد على أي شيء كالجرائم ونحوها ليس من شأنه أن يمنع مرتكبيها منها وإنما هو يقرر أمام القضاة ما علمه عنها. وقد توسعنا في بيان ذلك في كتاب دين الله في حاشية صفحة (84 و85) فراجعه إن شئت {فَاحْكُم بَيْنَهُم} (المائدة: 48) يا محمد {بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ} (المائدة: 48) بأن تعمل في كتبهم فإنهم كتبوها كما شاءوا وشاءت أهواؤهم وأبقوا فيها من شرائع الله ما وافق أميالهم وأغراضهم حتى اختلط الحق بالباطل. زد على ذلك أننا {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) فإننا وضعنا لكل أمة سابقة ولاحقة طريقة وشريعة توافق مصلحتها وقد تخالف مصلحة غيرها فلا تعمل إلا بما أنزلناه إليك فإن شريعتهم، حتى السالمة من التحريف والتبديل، فيها ما لا يوافق أمتك ولا يناسب حالها {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} (المائدة: 48) أي لتسارع كل أمة من السابقين واللاحقين في طريق الطاعات وعمل الخيرات، وهذا الكلام كما قيل لنا قيل أيضا لكل الأمم الغابرة، فإن الجميع طولبوا بعمل الطيبات الصالحات والمبادرة إلى طاعة الله تعالى والتسابق فيها مع الأمم الأخرى المعاصرة لهم أو بعضهم مع بعض {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (المائدة: 48) بعضكم مع بعض أو بعض الأمم السابقة بمن أدركوه من الأمم اللاحقة. ثم قال تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} (المائدة: 49) فأي شيء في هذه الآيات يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل مع أنها صريحة في عكس ذلك، وفي نسخهما والأمر بعدم الالتفات إليهما بعد القرآن؟ ألا إن الغرض يعمي ويصم. وأما قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (المائدة: 68) الآية فمعناها هكذا: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} (المائدة: 68) يصح أن يقال له دين أو يعتد به {حَتَّى تُقِيمُوا} (المائدة: 68) أي تعملوا طبق الواجب بأحكام {التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (المائدة: 68) وتحيوا شرائعهما وتطيعوا أوامرهما وتنتهوا بنواهيهما، فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه كإقامة الصلاة مثلا أي فعلها على الوجه اللائق بها، ولا يدخل في ذلك القصص التي في التوراة والإنجيل ولا العقائد ونحوها فإنها ليست عملية. والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته، وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة، فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفًا. وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها وهي لا تدخل في الأمر بالإقامة، ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ ونصائح ونحوها لا تزال فيها أشياء كثيرة لا عيب فيها ونافعة للبشر وفيها هداية عظمى للناس فهي مما يدخل تحت قوله تعالى: {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} (آل عمران: 3-4) فإذا أقام أهل الإنجيل أحكامهما على علاتها كانوا لا شك على شيء يعتد به، ويصح أن يسمى دينًا، وإذا لم يقيموها وجروا على خلافهما كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى دينًا وكانوا مشاغبين معاندين وبدينهم غير مؤمنين إيمانًا كاملاً. وهذه قضية صحيحة لا يشك فيها عاقل، وهي المعنى المتبادر من الآية، فأي شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل على وجودهما عند أهلهما كاملين وخصوصًا بعد قوله تعالى كما سبق في اليهود والنصارى {وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13) فالآية تشبه قوله ت

تاريخ الجهمية والمعتزلة

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ تاريخ الجهمية والمعتزلة [*] (4) انتشار مقالة الجهمية بواسطة كبار المعتزلة وغيرهم قال الإمام ابن تيمية: لما كان بعد المائة الثانية انتشرت المقالة التي كان السلف يسمونها (مقالة الجهمية) بسبب بشر بن غياث المريسي وذويه (ثم قال) : وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب (التأويلات) وأبو عبد الله محمد بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه (تأسيس التقديس) ويوجد كثير منها في كلام غير هؤلاء مثل أبي علي الجبائي وعبد الجبار بن أحمد الهمذاني وأبي الحسين البصري وغيرهم، هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي في كتابه، كما يعلم ذلك من كتاب الرد الذي صنَّفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمن البخاري، وسمى كتابه (رد عثمان بن سعيد، على الكاذب العنيد، فيما افترى من التوحيد) فإنه حكى هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي ثم ردها، ويعلم بمطالعة كتابه أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين الذين تسموا بالخلف هو مذهب المريسية. اهـ. وقال الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال في ترجمة بشر المريسي: إنه تفقه على أبي يوسف فبرع، وأتقن علم الكلام ثم جرد القول بخلق القرآن وناظر عليه، ولم يدرك الجهم بن صفوان، إنما أخذ مقالته، واحتج لها ودعا إليها اهـ. * * * (5) ظهور دولة الجهمية (المعتزلة) في عهد المأمون ودعوته إلى مذهبهم، وما جرى على المشاهير في مسألة خلق القرآن من سنن الأحزاب والفرق في هذا الكون: أن كل حزب قويت عصبته وعصبيته يتطاول إلى الغلب، ويتطاول على التغلب، فيصرف مستطاعه لهذا السبيل، ويسعى جهده لتأييده من أي طريق أمكن، ابتغاء انفراده، وتكثير سواده، فإذا أتيح لعصبة ما أن تمدها قوة سلطان قاهر، وجبار مستبد، وُجِدَ لها من نفوذ الكلمة وانتشار الدعوة، وكثرة الأعوان، ما تبلغ به أقصى أمانيها، والناس على دين ملوكهم بين راغب في حطامهم، أو مقلد يتبع كل ناعق. وقد عرف الخليفة (المأمون) بمحبته للعلم والعلماء، وشغفه في الحكمة والحكماء، بل لم ير في أولاد الملوك من تعشق العلوم الحكمية على حداثة سنه، وأقام بين العلماء لمناظرتهم في جميع أنواع العلوم مثله، فما دخل عليه مرة إلا وأُلْقِيَ في مجلس من العلماء والأدباء. وقد ورث ذلك عن أبيه (الرشيد) فقد كان العلماء والأدباء لا يفارقونه في حضر ولا في سفر، حتى أنه ليطلب شاعره في أطراف الليل فيجده ببابه مع غيره من محدث أو نديم. وإنما قرب العلماء إلى الرشيد ما بنفسه من الميل إلى الأدب، والحرص على إحراز العلوم، حتى كانوا إذا اجتمعوا بداره سما إلى مناظرتهم من حيث العلم والتواضع له، لا من حيث السيادة عليهم، وهو بموضعه الجليل من الخلافة. وكان من الفضل بحيث أن مآدبه لم تخل قط من عالم أو أديب أو شاعر. وبلغ به التواضع لهم أن معاوية المحدث الضرير كان إذا جلس إلى طعامه قام الرشيد من موضعه وصب الماء على يده تعظيما لقدر العلماء. فقال معاوية: يا أمير المؤمنين إن تواضعك في شرفك لأشرف من شرفك، وكانت همة الرشيد مصروفة إلى ترجمة كتب الفلاسفة من يونان وغيرهم بعد أن رأى جعفرًا وزيره يبتاع من صحفهم ما يأمر التراجمة بتعريبه، ثم يعطيهم زنة الكتاب المعرب ذهبًا؛ لأن سوق العلم كانت نافقة عند البرامكة، وقد استنهضوا همم العلماء إلى تعريب صحف الأعاجم فنافسهم الرشيد في ذلك، إذ كان في نفسه من الميل إلى الأدب، والتشوق إلى الاطلاع على كنوز الحكمة ما عرف، فأنفذ رسله في إحراز الأسفار القديمة، وأمر بتعريبها [1] وأخباره في العلم ومحاضرات العلماء كثيرة. ولما أفضت الخلافة إلى ابنه (المأمون) اقتدى بأبيه أو أربى عليه، فطارت شهرته في العلم والفلسفة، إلى أن حظي بقربه أحمد بن أبي دؤاد [2] وكان ابتداء اتصاله به أنه قال: كنت أحضر مجلس القاضي يحيى بن أكثم مع الفقهاء، فإني عنده يومًا إذ جاءه رسول المأمون، فقال له: يقول لك أمير المؤمنين انتقل إلينا وجميع من معك من أصحابك، فلم يحب أن أحضر معه، ولم يستطع أن يؤخرني، فحضرت مع القوم، وتكلمنا بحضرة المأمون، فأقبل المأمون ينظر إليَّ إذ شرعت في الكلام، ويتفهم ما أقول ويستحسنه، ثم قال لي: من تكون؟ فانتسبت له، فقال: ما أخرك عنا؟ فكرهت أن أحيل على يحيى فقلت: حبسة القدر وبلوغ الكتاب أجله، فقال لا أعلمن ما كان لنا من مجلس إلا حضرته فقلت: نعم يا أمير المؤمنين. وقيل قدم يحيى بن أكثم قاضيًا على البصرة من خراسان من قبل المأمون آخر سنة (202) وهو حدث سنه نيف وعشرون سنة، فاستصحب جماعة من أهل العلم والمروءات، منهم ابن أبي دؤاد، فلما قدم المأمون بغداد في سنة (204) قال ليحيى: اختر لي من أصحابك جماعة يجالسوني ويكثرون الدخول إليَّ، فاختار منهم عشرين فيهم ابن أبي دؤاد. ثم قال: اختر منهم، فاختار خمسة فيهم ابن أبي دؤاد، واتصل أمره، وأسند المأمون وصيته عند الموت إلى أخيه (المعتصم) وقال فيها: (وأبو عبد الله ابن أبي دؤاد لا يفارقك، أشركه في المشورة في كل أمرك، فإنه موضع ذلك) . ولما ولي (المعتصم) الخلافة، جعل أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة، وعزل يحيى بن أكثم وخصّ به أحمد، حتى كان لا يفعل فعلاً باطنًا ولا ظاهرًا إلا برأيه. وكان أبو العيناء يقول [3] : ما رأيت رئيسًا قط أفصح ولا أنطق من ابن أبي دؤاد، وكان أخذ عن واصل بن عطاء مسائل الكلام حتى تضلع من الكلام، وأصبح داعية إليه، فلما اتصل بالمأمون دس له القول بخلق القرآن، وحسنه عنده، وصيره يعتقده حقًّا مبينًا إلى أن أجمع رأي المأمون في سنة (218) على الدعاء إليه، فكتب إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين في امتحان العلماء كتابًا يقول فيه: (وقد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم، والسواد الأكبر من حشو الرعية، وسفلة العامة، ممن لا نظر له ولا روية، ولا استضاء بنور العلم وبرهانه، أهل جهالة بالله، وعمى عنه وضلالة عن حقيقة دينه، وقصور أن يقدروا الله حق قدره، ويعرفوه كُنْهَ معرفته، ويفرقوا بينه وبين خلقه، وبين ما أنزل من القرآن، فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله ويخترعه، وقد قال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 3) فكل ما جعله فقد خلقه [4] كما قال {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (الأنعام: 1) وقال {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} (طه: 99) فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها، وقال: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} (هود: 1) ، والله محكم آياته ومفصله، فهو خالقه ومبتدعه، ثم انتسبوا إلى السنة، وأنهم أهل الحق والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر، فاستطالوا بذلك وأغروا به الجهال، حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب، والتخشع لغير الله إلى موافقتهم، فنزعوا الحق إلى باطلهم، واتخذوا من دون الله وليجة إلى ضلالهم) إلى أن قال: (فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة المنقوصون من التوحيد حظًا، أوعية الجهالة، وأعلام الكذب، ولسان إبليس الناطق في أوليائه، والهائل على أعدائه من أهل دين الله. وأحق أن يتهم في صدقه، وتطرح شهادته، ولا يوثق به من عمي عن رشده وحظه من الإيمان بالتوحيد، وكان عما سوى ذلك أعمى وأضل سبيلا، ولعمر أمير المؤمنين إن أكذب الناس من كذب على الله ووحيه، وتخرَّص الباطل، ولم يعرف الله حق معرفته، فاجْمعْ مَن بحضرتك من القضاة، فاقرأ عليهم كتابنا، وامتحنهم فيما يقولون، واكشفهم عما يعتقدون في خلق الله وأحداثه، وأعلمهم أني غير مستعين في عمل، ولا واثق بمن لا يوثق بدينه، فإذا أقروا بذلك ووافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود، ومسألتهم عن علمهم في القرآن، وترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق، واكتب لنا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم والأمر لهم بمثل ذلك) . هذه صورة كتاب المأمون في المحنة، وقد ذيله بأشخاص كبار فقهاء بغداد وأئمة الأثر والرواية، وتم الأمر بالمحنة التي طار شررها وطال ضررها، واشتهر من بين رجالها (الإمام أحمد بن حنبل) رحمه الله ورضي الله عنه، ولها في التاريخ ذيل طويل، وممن استوفى أطرافها التاج السبكي في طبقاته، فليرجع إليها لمستزيد. ثم موضع الغرابة من كتاب المأمون، هو حمل الناس على غير ما يعتقدون، وإكراههم على أمر لم تمض به سنة، ولم يجدوا فيه برهانًا من أنفسهم، ومع أن الإكراه على أصل الأصول، وما به العصمة والنجاة - وهو الدين الخالص - قد أباه الشرع ونهى عنه في غير ما موضع من التنزيل الكريم، كآية {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) ، وآية {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99) وآية {وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) ولكن سكرة الدولة، وانقلاب الرأي عقيدة بالتسليم والتقليد، وعظم الطول والقدرة، كل ذلك يحول دون الإنصاف والاعتدال غالبًا، وقد يظن أن ما أذاقه المأمون من الاضطهاد لرجال محنته، كان باعثه ما أشار إليه في رسالته من نبز من اضطهدهم لجماعته بالكفر والضلال، وإشاعتهم ذلك بين العامة، إذ قال في رسالته المتقدمة إعذارًا لمن يلم به الملام (ثم انتسبوا إلى السنة، وأنهم أهل الحق والجماعة، وأن من سواهم أهل الباطل والكفر، فاستطالوا بذلك وأغروا به الجهال) وجلي أنه لا يطيق الصبر على هذا فئة رأسهم في هذا المعتقد الخليفة فقضاته ووزراؤه. نعم قد يمكن أن يكون ذلك من بواعثه، وقد يكون انتقامًا من اضطهاد سابق، ومقابلته بالمثل في جزاء الاعتدال بنظيره، إذ كان للأثرية دولة في عهد الأمويين وصدرًا من الخلافة العباسية، وكانت أقوالهم في تكفير مخالفيهم من الجهمية، ورميهم بالزندقة وهدر دمهم، تغري بهم، وتحفظ الأمراء عليهم، وتستفز ذوي البطش منهم على الإيقاع بهم، كما يدري ذلك من سبر أقوالهم في الجهمية، ولم يكن قتل الجعد بن درهم وغيلان الدمشقي، بل ومثل محمد بن سعيد الشامي المصلوب [5] إلا من جراء مقالاتهم فيهم، والتاريخ أبو العجب. وقد كان بدء المحنة بالقول بخلق القرآن سنة (218) إلى أن أفضت الخلافة إلى المتوكل، فأمر سنة (234) بترك النظر والمباحثة والجدال وترك ما عليه الناس في أيام المعتصم والواثق من القول بخلق القرآن، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر الشيوخ المحدثين بإظهار السنة والجماعة. ولكل زمان دولة ورجال. قال نابغة البلغاء أبو بكر الخوارزمي في إحدى رسائله: ليس من فرق الإسلام فرقة، إلا وقد هبت لأهلها رويحة، ودلت لها دولة، كما اتفق المختار بن عبيد الله للكيسانية، ويزيد بن الوليد للغيلانية، وإبراهيم بن عبيد الله للزيدية، والمأمون لسائر الشيعة، والمعتصم والواثق للمعتزلة، والمتوكل للنواصب والحشوية اهـ. * * * (6) أول من صنف من المعتزلة في محاجة الأثرية قال السفاريني في شرح عقيدته: معظم خلافيات علم الكلام مع الفرق الإسلامية خصوصًا المعتزلة؛ لأنهم أول فرقة أسسوا قواعد الخلاف، لما ورد به ظاهر السنة، وجرى عليه جماعة الصحابة رضي الله عنهم. فأول من صنف في علم الكلام والجدال والخصام مع أهل السنة والجماعة أبو حذيفة واصل بن عطاء، وهو رئيس المعتزلة وأول من سمي معتزليًّا، وله من الت

بيان للأمة العربية من حزب اللامركزية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيان للأمة العربية من حزب اللامركزية [*] من المعلوم أن الأمة العربية المستظلة براية الهلال العثماني من أخلص الأمم للدولة العلية وأشدها استمساكًا بعروة الجامعة العثمانية، وقد مضت على هذه الأمة قرون عانت فيها ضروبًا من المحن والمصائب بسبب الإدارة السيئة التي أنتجها الحكم المطلق في المملكة العثمانية وهي صابرة على ذلك بحكم الجهل الذي كان مخيمًا عليها وعلى كل الشعوب العثمانية وراضية بما يصيبها من الجور رغبةً في بقاء الرابطة التي تربط الشعوب العثمانية بالدولة العلية وتقيها شر التفرق المفضي إلى ضياع المملكة واقتسامها بين الطامعين فيها من دول الاستعمار. صبرت الشعوب العربية العثمانية على ذلك طويلا وللصبر حد ينتهي إليه. ولما رأت هذه الشعوب أن الالتجاء إلى رابطة عامة قد دخلها الوهن، والسكوت على مرض بلغ حد الإعضال ليس من الإخلاص للدولة التي يودون بقاءها في شيء، وأن الأخطار التي ألمت بالمملكة فذهبت بقسم عظيم منها بسبب سوء الإدارة وفساد الحكم تهددهم بمثل ما أصاب غيرهم لا محالة - هب عقلاؤهم والمفكرون فيهم إلى البحث عن أقرب الطرق المؤدية إلى السلامة، فصاح بهم اليأس ينذرهم فوات الوقت ودنو ساعة الخطر، فلم يجد إلى قلوبهم منفذًا بل رأوا أن اليأس استسلام للهلاك فنبذوه، نظروا فرأوا أن أدواء الوطن والأمة كثيرة ترجع كلها إلى أمر واحد هو شكل الإدارة التي تدار بها المملكة، ذلك الشكل الذي مضى عليه مئات من السنين لم يخط فيها بالأمة والدولة إلى الأمام بينما الممالك الأخرى تسير في طرق الترقي والمدنية سير السابق المُجِدّ، بل أصبحت المملكة العثمانية في أخريات الممالك ثروة وقوة وعمرانًا، بل هي لا تكاد تكون بالنسبة إلى أصغر الممالك الأوربية شيئًا مذكورًا ذلك بأنه ما من ولاية من ولاياتها تستطيع أن تعمل لنفسها بنفسها عملاً نافعًا لها موجبًا لعمرانها، جالبًا لثروتها، فتمهيد الطرق وإقامة القناطر والجسور ومد السكك الحديدية وتجفيف المستنقعات واستخراج المعادن وتسيير مركبات الترام وتنوير المدن بالكهرباء أو غيرها وتأليف الشركات واستثمارها لمرافق البلاد ونشر التعليم وإنشاء المدارس وما شابه ذلك من أسباب الارتقاء والثروة والعمران كله منوط بعاصمة الملك متوقف على إذن المركز وإرادته إن شاء أعطى وإن شاء منع. وها نحن نرى معظم الولايات العثمانية بل كلها مملوءة بكنوز الطبيعة ومعادن الأرض، ولم نر ولاية من هذه الولايات انتفعت يومًا من هذه الكنوز المدفونة على كثرتها، مع أنها مورد رزق عظيم للحكومة ولأهل الولايات لو كانت تعمل فيها أيدي الشركات اليوم، وهيهات أن يكون ذلك ما دام أهل البلاد ليس لهم من أمر مرافق بلادهم شيء. وما دامت الحكومة المركزية هي المتصرفة بكل شيء. زد على هذا أن عدم كفاءة الموظفين الذين يقذف بهم المركز إلى الولايات وجهلهم بكيفية تطبيق القوانين وعادات البلاد ولغاتها وحاجاتها قد أوجد اضطرابًا وتشويشًا في إدارة الأمور في كل ولاية، فأساء سمعة الحكومة العثمانية حتى أحجمت كل شركة وطنية أو شبه شركة وطنية عن استثمار خيرات البلاد أو عمل أي عمل نافع لها، فصار الأهلون عالة على الأجانب الذين تحتكر شركاتهم منافع البلاد وعالة على الحكومة التي لا تفتح لهم أبواب موارد الرزق إلا بمقدار، وفقدت منهم مزايَا الجماعات الإنسانية كالاعتماد على النفس والتعاون على المشاريع النافعة والنظر في وسائل عمران الوطن، بل لا يكاد يوجد أثر من روح الاستقلال الشخصي في نفوس أفراد العثمانيين فهم ينتظرون من حكومتهم أن تفتح لهم المدارس للتعليم وتنشئ الملاجئ للفقراء، وتدفعهم إلى كل عمل من أعمال الحياة، وما ظنك بأسرة نشأت، وهي عالة على ربها لا تطرق بابًا من أبواب العمل، ولا تألف التمرن على أي سبب من أسباب الحياة، ما ظنك بهذه الأسرة إذا قعد يوما صاحبها عن العمل واستسلم لعوامل الضعف؟ ألا تصبح عرضة للفاقة وتصير إلى الهلاك المحتم؟ إن حال الأمة العثمانية اليوم يشبه حال هذه الأسرة لاعتمادها في كل شيء على الحكومة المركزية وفقدانها روح التضامن وروح الاستقلال الشخصي، ولعموم الجهل بين أكثر الطبقات فيها لأنها لا تملك لنفسها حتى ولا شؤون التعليم فضلا عن باقي شؤون الحياة. هذا ما فكر فيه عقلاء العرب وخشوا بعده من مصير قومهم إذا استمر شكل الإدارة في الحكومة على ما كان عليه من استئثار المركز بالسلطة على كل شيء، وبهذا ثبت لديهم أن الضعف الذي اعتور الدولة وسرى إلى سائر أجزاء المملكة لا يمكن تلافيه إذا أريد بقاء الدولة وسلامة استقلالها إلا بأن يناط بأهل كل ولاية النظر في شئونها الإدارية والتعليمية، أي بأن يكون لها نوع من الحكم الذاتي الموجود في كل الممالك الراقية اليوم في أوربا وأميركا المعروف باسم: (Administratire (Decentralisation أي: اللامركزية الإدارية، الذي يود رجال حكومتنا أن يسموه توزيع السلطة أو توسيع المأذونية. وعلى هذا المبدأ ولأجل نجاة الوطن والدولة تأسس في مصر حزب اللامركزية الإدارية العثماني لا لمصلحة الشعوب العربية وحدها بل لمصلحة الدولة نفسها؛ لأن كل ارتقاء وغنى وقوة تنالها الشعوب العثمانية إنما هو ارتقاء وغنى وقوة للدولة، وهل للدولة قيام أو وجود إلا بمجموعة هذه الأجزاء التي تتألف منها المملكة فإذا قويت قويت الدولة والعكس بالعكس؟ ولقد تلقت الأمة العربية وعقلاؤها والمخلصون من أبنائها في كل ولاية نبأ تكوُّن هذا الحزب بكل ارتياح وسرور؛ لأنهم شعروا كشعور المؤسسين لهذا الحزب بالخطر المحدق بالأوطان وبالحاجة إلى التمسك بأسباب الترقي الصحيح والنهوض السريع وأننا صرنا من الحرج إلى حالة لا مخلص لنا منها ولا للدولة التي نود بقاءَها وسلامتها لبقائنا وسلامتنا إلا بانتهاج أقرب الطرق المؤدية للسلامة، ألا وهو مشاركة الشعب للحكومة في إدراة شؤون البلاد والتوفر على عمرانها وارتقاء أهلها. لم يشذ عن مشاركتنا بهذا الشعور بفضل الله إلا أفراد من عُبَّاد المنفعة في الأمة العربية وآخرون يقادون إلى مفتريات هؤلاء مكرهين بزمام الحاجة إليهم، أو التقليد لهم على غير علم، وهؤلاء متى حصحص لهم الحق كانوا إليه أميل، وبأنصاره ألزم، وإذن لا يكون هناك أدنى ريب في أن سواد الأمة العربية الأعظم وعقلاءها وذوي الرأي فيها مجمعون على استحسان مبدإ اللامركزية وأيقنوا بأنه خير وسيلة للنجاة والنجاح، وهذه حقيقة وإن عرفتها الحكومة المركزية تحاول أن تتجاهلها ولا تعطي الأمة العربية ما تريده لأجل حياتها ولأجل دولتها أيضا. إننا لا يجوز لنا أن نرتاب في نية الحكومة ومقاصدها إذا أقامت الدستور، إذ ما من حكومة دستورية في العالم تأبى ترقي الشعب وراحته، إنما نرتاب في فهم هيئتها الحاضرة معنى اللامركزية التي ينشدها طلاب الإصلاح ومقدار إخلاص هؤلاء لدولتهم ووطنهم، مع أننا أثبتنا للحكومة أننا لسنا طلاب عنت بل طلاب إصلاح، بأن رضينا منها بدون ما هو وارد في برنامج حزبنًا تمهيدًا لسبيل الوفاق الدائم بين الحكومة والشعب العربي الذي كلما برهنت الحكومة على الثقة به وتوطين العزيمة على إصلاح حاله زادها إخلاصًا، وازداد بإخوانه الأتراك ثقة، وإلى دوام مشاركتهم في السراء والضراء ميلاً. رضينا منها بدون ما هو طلبتنا من الإصلاح على قواعد برنامجنا ولكنها ويا للأسف لم ترض حتى بما هو دون المطلوب لنا، ولم تف بما وعدت به خلص الأمة العربية وعقلاءها الذين نابوا عنها في المؤتمر العربي. إذ هذا المؤتمر كما تعلم الأمة العربية الكريمة عقد في باريس باسمها، وكانت مباحثه دائرة على منافع اللامركزية الإدارية وطلبها للبلاد العربية، وإذ كان المؤتمرون فيه يمثلون معظم الجمعيات العربية والشعب العربي الكريم فقد أوفدت جمعية الاتحاد والترقي التركية التي هي حزب الحكومة اليوم المتكلم بلسانها مندوبًا من قبلها للاتفاق مع أعضاء المؤتمر على مواد إصلاحية سبق الاتفاق عليها بين الشبيبة العربية وبين مركز الجمعية في الآستانة تمهيدًا لعرضه على المؤتمر، ورأى المؤتمرون أن يبرهنوا للحكومة وللعالم أجمع على أنهم يريدون الإصلاح ولو أتى تدريجا، وأن من الإخلاص لدولتهم أن لا يكون على عملهم مسحة من الجفاء، وأن يقبلوا بمواد الاتفاقية مع بعض التحوير إذا وعدت الحكومة بقبولها وسرعة تنفيذها. ثم وعدت الحكومة بقبولها إلا أنها لما أعلنت بيانها في الإصلاح جاء مخالفًا لنص الاتفاقية من بعض الوجوه وفيه تغيير ظاهر. ولما صدرت الإرادة السنية على بيان الحكومة رأينا نص البيان قد تغير أيضًا. ولكي يرى أبناء الأمة العربية الكرام الفرق بين برنامج حزب اللامركزية وما رضينا به من دونه في اتفاقية باريس، ثم بيان الحكومة لقرار مجلس الوكلاء المنافي لجوهر الاتفاقية، ثم القرار الذي صدرت عليه الإرادة السنية، ومباينته للقرار الأصلي - نأتي في هذا البيان على نصوصها جميعًا لمقارنة بعضها ببعض ووقوف الشعب العربي الكريم على ما بينها من المباينة، وإننا مع رضانا بالقليل لم نحصل عليه. (وههنا نشر في البيان برنامج حزب اللامركزية، ثم الاتفاق الذي صدق عليه مؤتمر باريس ثم بيان الحكومة بما قررت قبوله من الاتفاقية، ثم ترجمة الإرادة السنية بتنفيذ ذلك - وكل هذا قد نشرناه في المنار من قبل ثم عقب البيان على ذلك بما يأتي) . * * * المقابلة بين برنامج الحزب واتفاقية باريس وما قررته الحكومة بالمقابلة بين برنامج الحزب والاتفاق الذي صادق عليه مؤتمر باريس يرى القارئ الكريم الفرق العظيم بينهما، فالبرنامج يتضمن طلب اللامركزية الإدارية بكل معانيها والاتفاق ليس فيه شيء قليل غامض من مطالب اللامركزية ومع هذا رضي المؤتمر بمضمون هذا الاتفاق بانيًا ذلك على حسن نية الحكومة وعزمها الأكيد على إجراء الإصلاح على قواعد اللامركزية بالتدريج، فكان من الواجب أن تثبت الحكومة حسن نيتها للأمة العربية بالمبادرة بتنفيذ مواد الاتفاق لتتأكد الثقة بينهما ويتعاونا على ترقية البلاد وإحياء قوة الدولة التي كاد يعروها الدثور بسبب الإدارة السيئة. ولكن الحكومة لم تفعل ذلك بل أصدرت بيانها الذي رآه القراء الكرام وهو يباين ذلك الاتفاق من وجوه كثيرة. منها أن ذلك البيان يقول في المادة الرابعة (إن التعليم في الولايات العربية يكون في المدارس الابتدائية والإعدادية باللغة العربية) ولكنه نفى ذلك في المادة الخامسة أو الفقرة الثانية من المادة الرابعة بقوله (ولأجل تعميم اللسان الرسمي يجب المحافظة على المدارس الإعدادية في مراكز الولايات ودوام التدريس فيها باللغة التركية) . ومنه أن البيان المذكور لم يترك للولايات سوى تعيين الموظفين الصغار واشترط معرفتهم التركية مع العربية بحجة أنها اللغة الرسمية مع أن اتفاقية باريس تقضي بأن جميع موظفي البلاد العربية يعينون فيها ما عدا الرؤساء الذين يعينون بإرادة سنية، وأن يقبل مبدئيًّا أن تكون المعاملات الرسمية في البلاد العربية باللسان العربي فيتيسر أن يكون أولئك الموظفون من أهل الولايات نفسها، وفي هذا التعديل الذي جاء في البيان حرمان أهل الولايات العربية حتى من الوظائف الصغيرة كالتسويد وك

الجنسية واللغة

الكاتب: أمين أبو خاطر

_ الجنسية واللغة يراد بالجنسية الانتساب إلى قوم تضمهم جامعة واحدة ويخضعون لقانون واحد بدون التفات إلى وحدة الأصل وكثرة العدد واختلاف اللغة والدين كالجنسية الفرنساوية والألمانية والإنكليزية والعثمانية والنمساوية إلخ، وهي في عرف الناس وفي نظر رجال الحكومات صفة لازمة للقومية وقوة مقومة لكيان المملكة وحفظ المجتمع، وفي نظر بعض علماء الاجتماع ضلال من ضلالات الزمان، التي استولت كما استولى غيرها على الأذهان، ولا بد أن يقضي الزمان بإلغائها كما قضى على غيرها من الأوهام والخرافات. يظهر لأول وهلة أن هذا الرأي الأخير بدعة تزعزع أركان الوطنية وتبدد عناصر القومية، وتضعف روابط الجامعة وتهدم بناء المملكة ولكن يتضح بعد الإمعان والتمعن في ما يلي أنه حقيقة لا بد من ثبوتها في المستقبل البعيد. إذا استولى الوهم على الذهن كان أشد تأثيرًا فيه من العقل وإذا اندس في أخلاق الأمم وعاداتها كان شديد المراس لا يزحزح إلا بعد جهد وعناء شديدين. وإذا طال الزمن على عقيدة فاسدة شق على العقل والعلم نقضها وإقناع الجمهور بفسادها؛ لأن الخرافات أعلق بالأذهان من الحقيقة وأشد منها تمكنًا واستمساكًا، بدليل ما نرى منها إلى الآن في عادات أرقى الأمم مدنية وأعلاها علمًا وأدبًا، ومن قبيلها إجماع الناس على الاعتقاد بالجنسية اعتقادًا غلب فيه الوهم على الحقيقة، فيعطونها ما ليس لها من الحدود والصفات والمميزات التي لا تعتبر في نظر علماء الاجتماع إلا حيلاً سياسية لاستعباد الأقوام الصغيرة وتعضيد القوة الحاكمة، وهي تظهر بأشد مظاهرها في البلاد التي تقوى الروح الوطنية فيها، وتصبح خطرًا على البلاد المجاورة، وحيث الرغائب والأميال والحذر من المستقبل والاستنكار من تقدم الأمم الأخرى وتفوقها والانفعال من خسارة بعض الامتيازات تُحَوِّل الأذهان عن فهم الحقيقة، وتميل بها إلى تفسير القضايا الاجتماعية تفسيرًا يوافق تلك الرغائب والأميال. نرى ذلك في فرنسا التي خسرت سيادتها في أوربا بعد وحدة ألمانيا ووحدة إيطاليا، وفي النمسا حيث تطالب الشعوب المظلومة بحقوقها، فإذا خلا الذهن من تلك الأكدار حسب الروح الوطنية ظاهرة من الظواهر الطبيعية تؤثر في الفرد كما تؤثر في العموم ولها حد من النمو لا يمكن توقيفه أو منعه كما أنه لا يمكن توقيف المد والجزر أو منع حرارة الشمس في إبان الحر. على أن من الضلال الفاضح أن يكون أساس الجنسية الأساس الذي وضعته السلطات الحاكمة وتحاول أن ترسخ في الأذهان أن أقل جنوح عن نظامها يفقد الإنسان جنسيته ويجعله شريدًا طريدا في مجاهل الإنسانية. فما هو أساس الجنسية؟ وما هي علامتها المميزة؟ إذا رجعنا إلى الأنثروبولوجيا وهو العلم الوحيد الذي يرجى منه حل المسألة لم نجد فيه ما يفي بالغاية؛ لأن علماء الأنثروبولوجيا فريقان الواحد يقول بتعدد أصول الإنسان والآخر يقول بوحدة الأصل، فالقائلون بالتعدد يزعمون أن الأسباب التي ساعدت على ظهور الإنسان في بقعة من الأرض ساعد مثلها على ظهوره في بقعة أخرى، وأن ما بين الأنسال البشرية من الاختلافات الجوهرية كاختلاف اللون والصفات والتركيب مسبب عن اختلاف الأصول وليس عن تحول الصورة الأصلية وتطبيق الحياة على الأحوال المحلية، فهذا الرأي لا يحل المسألة حَلاًّ شافيًا عدا عن أنه لا يخلو من النقد ولم يتفق عليه علماء الأنثروبولوجيا، أما الفريق الثاني فيقول: إن التغييرات التي تحصل في النسل الواحد بفعل الأحوال المحيطة وتأثير العومل المحلية هي حدود للجنسية وينسب لكل شعب صفات خاصة تميزه عن بقية الشعوب ولو كانت من نسل واحد. على أن تلك الصفات ليست إلا صفات خارجية لا تدل دلالة صريحة على وجود حدود فاصلة بين الهيئات الوطنية لأن في كل شعب ولا سيما في النسل الأبيض أفرادًا كبارًا وصغارًا وشعرًا أشقر وأسود وعيونًا زرقًا وسودًا ومزاجًا باردًا وحارًّا. وإذا تغلبت بعض الصفات في شعب والبعض الآخر في شعب آخر فالعلامات الجسمية والعقلية تقرب أن تكون واحدة وليس فيها من الصفات الخصوصية ما يمتاز بها شخص عن آخر وتعرف بها جنسيته كما يعرف النسل الأسود بالجلد الأسود والشعر الأجعد وهيئه القِحْف والوجه. فهذه الصفات التي يعلقون عليها أهمية كبرى ليست بيولوجية لتحدث تغييرًا في ذاتية الإنسان ولا جوهرية لتضع حدودا فاصلة بين الجنسيات، لأنها تكتسب بالتعليم والتهذيب والتدريب وتزول بعد البلوغ وفي ظروف معلومة، تدلنا على ذلك أحوال الولد الذي ينقل طفلا من قومه وينمو ويعيش في وسط آخر بعيد عن أهله فإنه يكتسب صفات ذلك الشعب الغريب ولا يظهر فيه أثر من صفات قومه؛ لأن تلك الصفات أعراض قابلة للزوال حتى لقد يخسر البالغ صفات قومه ويكتسب صفات قوم يخالطهم كما اكتسب البرامكة صفات العرب وضرب المثل ببلاغة تواقيعهم، وكما أن الأيوبيين وهم أكراد صاروا أشد نعرة للعرب من العرب أنفسهم، وكان منهم شعراء وعلماء وأجازوا الشعراء ووقف منهم على أبوابهم ما لم يقف على أبواب غيرهم من ملوك العرب، والسموأل وابن سهل يهوديان وهما شاعران عربيان تتدفق الروح العربية من أنفاسهما، والأمثلة على ذلك كثيرة يروى منها عند كل الأمم فقد قام كتبة ألمانيون من أصل فرنساوي تفتخر بهم ألمانيا وقام ألمانيون في فرنسا وإيطاليون في إنكلترا وقِسْ عليه. فالرابطة الدموية إذا ليست شرطًا جوهريًّا لتحديد الجنسية فالهيغونوت (وهم البروتستانت الفرنساويون الذين هربوا من الاضطهاد) الذين هاجروا إلى براندبورج أصبحوا من أفضل الألمان، والهولانديون في أمستردام الجديدة صاروا أميريكيين لا غبار على وطنيتهم، أي أن الحرب والمهاجرات الكبرى والأسفار مزجت الناس بعضهم ببعض حتى لم يبق فارق يفرق العناصر القومية بعضها من بعض عدا عن أن التشريع لا يعير القرابة الدموية أقل أهمية، لأنه يسهل للغرباء أن يتجنسوا بجنسية المملكة أي يصيروا وطنيين لهم ما لأهل الوطن من الحقوق وعليهم ما على مواطنيهم من الواجبات، فالأنثروبولوجيا ليست أساسًا للجنسية وكل ما يقال فيها واهن من هذه الجهة وغير ثابت. وقد حاولوا أن يجعلوا أساس الوطنية الاشتراك في المنافع والمرافق وقالوا: إن ما يجعل الناس أعضاء أمة واحدة هو الماضي المشترك والمستقبل المشترك وكونهم تحت سلطة واحدة وخضوعهم لشرائع واحدة واشتراكهم في الأفراح والأتراح، إلا أن ذلك نظرية سفسطية تصح قولاً ولا تثبت فعلا؛ لأن الروماني في غاليسيا لا يشعر على الإطلاق بكونه بولونيًّا مع أن الرومان والبولونيين اشتركوا في الشرائع والنظامات السياسية منذ أكثر من ألف سنة، والفيلاندي يعتبر جنسيته غير جنسية السويدي رغما عن أنهما يؤلفان شعبًا واحدًا ويسيران على سياسة واحدة منذ أكثر من ألف سنة أيضًا، لا ريب في أن الشرائع والنظامات واتفاق العادات والأخلاق وارتباط الأعمال تقرب العناصر بعضها من بعض وتولد فيها شعورًا بالتضامن، إلا أنها تنزع جنسية من صدر قوم ولا تخلق أخرى في قوم آخرين. كل ذلك فن احتيالي تضرب به الحقيقة عرض الحائط، فالجنسية لا تعرف من صفات الفرد إلا ما ندر، والشرائع والنظامات لا تحدد الجنسية حدًّا صحيحًا فاصلاً بالرغم عما لها من التأثير في الأخلاق، بل ما يحددها هو اللغة؛ لأن بها وحدها يصبح الإنسان عضوًا من شعب خاص ويتولد فكره وشعوره وبها يقتبس منهج الشعب الذي كونها وأنماها ووضع فيها أسرار عقله ونفث فيها نسمات روحه وكساها بأدق خصوصياته العالمية وبها يصبح ابنًا ووارثًا لكل المفكرين والشعراء ولكل النبغاء وقواد الشعب، وبها يشابه قومه فكرًا وعملاً؛ لأنها تستهوي الأفراد بتاريخها وآدابها، وهي بالحقيقة الإنسان كله لأنه سلك الإيصال للمدركات الخارجية والآلة الجوهرية التي تساعد على العمل في العالم الخارجي فمن بين الملايين يقوم مفكر واحد يفكر في قومه فيكتب لهم لإصلاح مجتمعهم فيأخذ الملايين عنه ما أنتجته قريحته الذكية وينالون باللغة ما لا ينالونه بأية آلة أو واسطة أخرى، فاللغة هي أقوى رابطة تربط الناس بعضهم ببعض لأن أخوين لا يتكلمان لغة واحدة يكونان بعيدين أحدهما عن الآخر أكثر من غريبين يتعارفان ويتبادران السلام بلغة واحدة. كنت وبعض الزملاء في الآستانة وكنا نختلف إلى بعض الأندية ونتكلم بلغتنا العربية فابتدرنا شيخ يناهز الستين تتقاذفه عوامل الفرح واليأس والقنوط والأمل والحب والبغض قال بالحرف: يا لشقاوتي هنا أبناء وطني يتكلمون العربية وأنا أموت حسرة في الآستانة قلنا: ومن أين الشيخ؟ قال: من بغداد. قلنا: وأين سورية من بغداد؟ قال: تجمعنا اللغة. وقعت بين الإنكليز والأمريكان حروبٌ طاحنة وحصلت مشاكل شتى زادت شقة البعد بين الشعبين، ولكنهما تجاه غير الإنكليزي واحد، ويشعران بأنفسهما أنهما أبناء بريطانيا العظمى. لما قامت الحرب بين الإنكليز والبوير خفق قلب الهولنديين وتفتت ألما رغمًا عن انقطاع العلاقة السياسية بين هولاندا والكاب منذ نحو قرن وفي حرب 187 تشيع أهل سويسرا وبلجيكا للفرنساويين وحنوا إليهم بكل جوارحهم رغمًا عما بينهم وبين الفرنساويين من الفرق العظيم في الشرائع، والأخلاق والجنسية السياسية والتذكارات التاريخية وفي حرب الشلسويك هولشتين فزع النروجيون للدنمارك وتطوع بعضهم لمساعدتهم مع أنهم يكرهونهم ويقبحونهم وقد تحرروا من سلطتهم بعد حروب طويلة ولا شيء يربطهم بهم سوى اللغة إلا أن هذا اللاشيء هو كل شيء. رقي اللغة عنوان رقي الأمة وانحطاط اللغة دليل على انحطاط الأمة لأنها تتخذ أهمية إذا استخدمتها الأمة آلة لنهوضها ورقيها وتقل أهميتها إذا كانت الأمة منحطة ومستعبدة للفئة الصغرى منها المستبدة بأحكامها؛ لأن في مثل هذه الحال لا تحتاج إليها الهيئة الحاكمة لأنها لا تتنازل إلى مخاطبة الأفراد ولا يحتاج إليها الأفراد أيضًا؛ لأنه لا يحق لهم أن يفرغوا ما في قلوبهم في قالب من الكلام الحسن ولا يبقى منها إلا ما يلزم القرويين للتفاهم أو للهذر والمزاح أو للعداوة والتحسر والشتم، وقانون الاستبداد يقضي بإظلام البصائر فيحب الظلام ويقبح النور ويسد سبل التهذيب ويقفل أبواب المدارس ويجعل السوط قاموس اللغة ومتنها وكل علومها وآدابها، والشريف في الأمة لا يرى ما يدعوه إلى التعلم لأن حقوقه يؤيدها شرف الولادة فهو سيد بدون أن يفتح فمًا أو أن يغمس قلما في دواة. فالجنسية في هذه الحالة واطئة؛ لأن علامتها الرئيسية واطئة، إلا أن الأحوال تغيرت في هذه الأيام حتى في روسيا وتركيا وأصبح لكل فرد من أفراد الرعية حق الدفاع عن نفسه وأن يعلو فوق الحد الذي وضعته فيه أحوال ولادته، وفتحت أبواب التعليم وانتشرت الجرائد، وأعطيت حرية الخطابة فاتسع نطاق اللغة ورقت حواشيها وسَمَتْ آدابها، وأمعن فيها الكبير والصغير والغني والفقير حتى الملوك أنفسهم؛ إذ علموا أن لا بد لهم من سهولة الكلام في كثير من الأحوال، وأصبح كل عقبة تقف في سبيل استعمال اللغة الخاصة بالأمة أو كل ضغط يوجب لغة أجنبية عارًا وعنفًا لا يحتملان، ومن كانت جنسيته الصغرى في البلاد التي يتوطنها وكانت لغته غير اللغة الرسمية وحظر عليه استعمال لغته وأجبر على استعما

صحيفة التيمس الأفريقية ومجلة الشرق

الكاتب: عماد الدين

_ صحيفة التيمس الأفريقية ومجلة الشرق سيدي الأستاذ العلامة محرر المنار: السلام عليك ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد دفعني لكتابة هذه الرسالة بشأن جريدة التيمس الأفريقية ومجلة الشرق مقالة مفيدة بعنوان: خدمة المسألة المصرية في إنجلترا اطلعت عليها في الأهرام الغراء الصادرة في 23 شوال الماضي. قال حضرة كاتبها بعد أن عدَّد الصفات الواجبة في الجريدة التي يمكن أن تخدم المسألة المصرية في إنجلترا بصورة دائمة مأمونة مضمونة النفع ما يأتي: هذه الجريدة التي أشير إليها هي صحيفة التيمس الأفريقية ومجلة الشرق، وهي مجلة شهرية صغيرة الحجم كبيرة الفائدة زهيدة الثمن يتسابق إلى شرائها الإنجليز المهتمون بالمسائل الشرقية والأفريقية قبل الشرقيين والأفريقيين أنفسهم، وتدبرها شركة دولية لا لغرض تجاري بل لخدمة صوالح الشعوب الملونة، ولما ظهرت مقالة الدستور المصري في عدد أغسطس بعثت برسالة شكر إلى رئيس تحريرها على اعتداله ونزاهته وأملت منه أن يوسع ما فيها من باب الكلام على مصر فكتب إلي يقول: إنه لولا أن أغراض الشركة إنسانية وسياسية لا تجارية لما استحقت المسألة المصرية أقل نصيب من عناية المجلة؛ لأنه لا يوجد في الشركة فرد واحد مصري من حملة الأسهم، كما أنه لا يباع منها في مصر عدد يستحق الذكر، ولا يوجد في القطر المصري إلا عدد قليل من المشتركين، وربما كان ما يباع منها في مصر غالبًا للإنكليز أو للأوربيين المقيمين فيها فيا للعار والخجل ... اهـ. قرأت هذا بين حيرة وأسف أو زادت حيرتي عندما قرأت الكلمات الآتية في مقالة حضرة الكاتب المشار إليه: وهذا النوع من الصحافة الذي هو قادر على خدمتنا موجود فعلاً ويدعونا لإدلاله أكثر من مرة على شكوانا، وقد قرأت هذه الدعوة في عدة جرائد مصرية، ونحن لاهون صامتون كأنما لا عيون لنا ولا عقول اهـ. وأظن أنه لا غرابة في حيرتي ودهشتي؛ لأني ما كنت أظن أن إقبال الوطنيين المتعلمين بمصر على هذه المجلة النفيسة التي تدافع عن صوالح مصر بغيرة وتعقل يقل عن إقبال إخوانهم في أوربا الذين يعضدونها بكل قواهم وما كنت أظن أن وطنيتنا لا تزال محصورة في القول دون العمل، وأن مصر التي يوجد بها عشرات الآلاف من المتعلمين العارفين باللغة الإنكليزية لا يتقدم منها ولو بضع مئات للاشتراك في هذه الصحيفة النافعة التي لا يربي اشتراكها على 6 شلنات في السنة بما في ذلك أجرة البريد. على أن الأنكى هو أن نبخل أيضا بنفثات أقلامنا في سبيل خدمة الأمة، وإلا فما معنى عدم تلبية كتاب مصر المتضلعين من اللغات الأوربية لنداء تلك المجلة الذي تكرر مرارا كثيرة على صفحات أغلب الصحف المصرية، فإن قيل: إن إخلاصها مشكوك فيه. فيكفي لدحض ذلك دعوة المجلة إيانا لدلالتها على شكاوينا بالرغم من عدم مساعدتنا المالية لها، ويكفي أيضا لبطلان هذا الزعم أن نعلم أن رئيس تحريرها هو صاحب ذلك الكتاب التاريخي السياسي المشهور في أرض الفراعنة Pharaohs the of Land the in الذي نور به ذهن الرأي العام الإنكليزي عن حقيقة الشئون المصرية فخدم به مصر خدمة جليلة في وقت لم يعضده فيه مصري واحد، وفي حين أنه لو كان أنفق ذكاءه المشهود به، وأوقف قلمه على نصرة الباطل وتشويه سمعة المصريين خاصة والشرقيين عامة كما جرت عادة الكتاب الأوربيين لفاض عليه ذهب الاحتلاليين ولرفعوا منزلته السياسية إلى أبعد ما يصل إليه المتخيل. وإن قيل: إن مركز الجريدة السياسي ومكانة الكتاب الذين يحررون فيها غير عالية، فلا أدل على كذب ذلك من تناقل الصحف الإنكليزية المشهورة لما يكتب فيها، ومَنْ مِنْ سادتنا الكتاب المصريين تفوق منزلته أمثال شارلس روشر، وأليس شاءب ودوجلاس سليدن، وكاثلين فريزر واللورد لامنجتون واللورد نيوتن والمستر أوبري هربرت وبدوين ساندز جورج رافالوفتس وج ب فيشر ولود ولورد موبري وأستروتن، والكابتن دكسن جونسون وكثيرين غيرهم لا تحضرني أسماؤهم وكلهم ما بين كاتب فيها أو صديق لها، ويكفي للدلالة على نفوذها أنها هي صاحبة الفضل في تكوين الجمعية العثمانية التي وفقت إلى مقاومتها الجمعية البلقانية وتحويل أغلبية الرأي العام الإنكليزي إلى جانب العثمانيين بالاجتماعات السياسية العظيمة التي عقدتها وتعقدها في كل مناسبة، وبالنشرات والمقالات وعلى الأخص بترجمة كتاب بييرلوتي نزع تركيا Agonisanto Turquie إلى اللغة الإنكليزية. بعد هذا البيان يا سيدي الأستاذ اسمح لي أن أتطرق للكلام على النقطة الأساسية التي حركتني لتحرير هذا الكتاب، ونبهتني إليها مقالة خدمة المسألة المصرية في إنجلترا السالفة الذكر، فأقول: إن مجلة التيمس الإفريقية ليست مجلة سياسية محضة بل لها أغراض ومرام أعلى من ذلك أهمها خدمة السلام العام وإزالة سوء التفاهم بين الغرب والشرق وقتل روح التعصب الأعمى للدين أو اللون، وبالاختصار هي تعمل جهدها لإحلال الوئام وحسن التفاهم بين جميع شعوب الأرض، وأظن سيادتكم تعلمون أنه يوجد في إنجلترا خاصة وأوروبا عامة من الآراء السخيفة عن الدين الإسلامي ما يدهش له كل من يعتقد في الأوربيين حب التحقيق والتسامح، ولست أدري والله ما هي ذمم أولئك المؤلفين الذين نقلوا إليهم هذه المعتقدات الساقطة التي يبرأ منها الإسلام والمسلمون وأفهموهم أن العادات والخرافات القبيحة الملتصقة بالشعوب الإسلامية الحاضرة كما التصقت من قبل بالشعوب المسيحية بسبب الجهل - سنة الله في أرضه - هي جزء من الدين الإسلامي، وكيفما كان الباعث لأولئك الكتاب على نشر هذه الأباطيل، فالحقيقة المرة أن جذورها لا تزال ثابتة حتى الآن ولم يقتلع إلا شيء ضئيل منها بهمة أمثال العلامة السيد أمير علي الهندي والأستاذين الكبيرين أرنلد وبراون، على أن حزب هؤلاء الأفاضل المحققين المصلحين لايزال صغيرًا لايعتد به ولا تزال القوة العظمى في أيدي السير هري جونستون والمستر نويل بكستون ومن على شاكلتهم ممن لا يحركهم غير التعصب الذميم وعداء ما يجهلون. والخلاصة أن كل مسلم في هذه البلاد لا يجد من أهلها وأستثني الأقلية الضئيلة التي تعرف التسامح ولا تفهم الدين فهمًا معكوسا كما أستثني الأفراد القليلين الذين بحثوا بأنفسهم وعرفوا مزايا الدين الإسلامي وحسناته الواضحة لكل ذي عقل سليم، لا يجد من أهلها غير ازدراء به وترفُّع عنه يرجع بعضه إلى التعصب للون ويرجع البعض الآخر لاحتقار دينه البربري، ومهما حاول مناقشتهم وإبلاغهم مقر الحقيقة لا يرى منهم إلا ابتعادًا وتفسيرًا لمناقشته بأنها مغالطة لا يوافق عليها علماء الإسلام. وإن الباعث له على تفسيره المقبول وبيانه المعقول الذي يعتبر مغالطة هو شعوره بسقوط دينه وإيثاره الدفاع عنه بما اكتسبه من المعلومات الغربية عن الاعتراف بذلك السقوط. ومن هذا ترى يا سيدي المفضال أنه لم تبق وسيلة لتبديل هذه الحال العجيب إلا بتسابق علماء الإسلام المستوطنين في البلاد الشرقية، وسيادتكم في مقدمتهم، إلى دحض هذه المفتريات في الصحف الأوربية ذاتها، ولا أنسب من جريدة التيمس الأفريقية ومجلة الشرق، لعل من ذلك ما يكفي لإخراس ألسنة الأفاكين ورفع رءوس جميع المسلمين المقيمين في أوربة الذين لا يقبل دفاعهم عن دينهم بحجة أنهم إنما يكتبون متأثرين بالمدنية المسيحية. وليس غرضي أن أشير بفتح باب مناقشة دينية عنيفة ومجادلة خصوم الدين الإسلامي بشكل منفر كالذي اعتاده أغلبهم؛ لأنه بغض النظر عن قلة الحذق في ذلك فالمجلة المشار إليها التي غرضها سياسي التوفيق لا التفريق وخدمة الحقيقة بوجه عام لا يمكن أن ترحب بكتابة على تلك الصورة، ولكنها ترحب على ما يظهر لي مما نشر من قبل فيها بكل كتابة أساسها التسامح والتحقيق وحب التوفيق، ولا شك أن هذا المبدأ مما يرتاح إليه أئمة الإسلام الذين نحتاج إلى بياناتهم النزيهة لتنوير الرأي العام الأوربي في كثير من المسائل التي شوهت لديه، وأخص بالذكر مسألة المرأة المسلمة فإن الفكرة السائدة هنا هي أن المرأة المسلمة لا حقوق لها، تباع وتشترى كبيع السلع، ومقيدة بكثير من الأغلال والقيود التي لا يمكن أن تتفق مع الحضارة الصحيحة ومبادئ الإنسانية. هذا ويحسن أن أذكر هنا ما قرأته في التيمس الأفريقية من أنها مستعدة لقبول كل ما يكتب في صالح مبادئها بأية لغة أوربية وأن قلم ترجمتها ينقله إلى الإنكليزية، ولا أظن أن من العسير على العلماء المسلمين أن يوفقوا بين أصدقائهم العارفين باللغات الأوربية إلى إيجاد من يتبرع لهم بترجمة آرائهم إلى الفرنسية أو الألمانية أو غيرهما إن لم يجدوا من يقدر على ترجمتها مباشرة إلى الإنكليزية، وحبذا لو بعث كل عالم منهم بصورته الشمسية إلى المجلة المذكورة لتنشر بجانب مقاله لعل في هذا ما يدحض الرأي الشائع هنا عن أن الدين الإسلامي يحرم التصوير الشمسي. وأخيرًا: أؤمل أن يكون من رسالتي هذه محرك للهمم؛ لأنه إذا كان من السخافة أن تنام عن استنباط الوسائل التي نصون بها كرامتنا وندفع بها مهاجمة عدو، فمن الجنون أن نتعامى عن تلك الوسائل إذا هي وجدت فعلا وكانت متهافتة علينا، وليس مما يشرفنا أن نقرن بخلنا المالي في سبيل المصلحة العامة ببخلنا القولي أيضًا، ولنتخذ لنا من نهضة الأمم البلقانية والوسائل التي اعتمدت عليها في سبيل ذلك عبرة نعتبر بها، فإنه لولا استئجار تلك الحكومات لكثير من الصحف الأوربية وتصويرها العثمانيين بصورة المتوحشين، ولولا ضربها على النغمة القديمة في تمثيل الدين الإسلامي دينًا بربريًّا مريعًا لا يستحق أنصاره إلا الفناء؛ لأنهم أهل مفسدة، لولا ذلك لما استطاعت جذب أغلب الأوربيين إلى صفها، الذين لم ينتبهوا لحقيقة الحالة إلا بعد ضياع الفرصة، ولكن أطالبهم بعدم الاستمرار على التواني في الدفاع عن مصالحنا وخدمة الحق الذي يشهد الله أنَّا في جانبه، وإطلاع الأوربيين على حقيقة الواقع لدينا وصدق شؤوننا التي يعمل أهل الأغراض ليل نهار على تشويهها. وأختم كتابي بذكر عنوان المجلة المشار إليها ليرجع إليها كل غيور تدفعه غيرته للمساعدة المالية أو الأدبية، هذا مع العلم بأن مركز الجمعية العثمانية committee Ottoman The الرئيسي هو في إدارتها وهذا هو نص العنوان: Review Orient & Times Afrrcan The . C.E LONDON Street Fleet 158 برنجهام ... ... ... ... عماد الدين (المنار) نشكر للكاتب الغيور نصحه وإرشاده، ونتمنى لو يقبل قراء الإنكليزية من إخواننا المصريين على الاشتراك في هذه الصحيفة التي طالما تمنى عقلاؤهم أن يكون لهم مثلها في وطنهم، ولهي في لندن أنفع منها في مصر، ونتمنى لو يوافيها أهل العلم الصحيح بالمقالات التي تبين للأوربيين حقيقة ديننا ومظالمنا، فإن أهل الفضيلة والاستقلال النفسي والإنصاف وحب العدل لا يحصى عددهم في أوربة فإذا عرفوا حقيقة حالنا كانوا قوة لنا لا نستطيع تكوين مثلها في بلادنا، وإنما كان ولا يزال يغش هؤلاء الفضلاء رجال السياسة ودعاة الدين، والمبشرون وكلا الفريقين يستحل الكذب والبهتان وقلب الحقائق؛ لأن رياسته ومجده ورزقه تتوقف على رواج هذه التجارة فمن يقيس جميع الأوربيين على ما يرى ويسمع من تعصب هذين الفريقين فهو مخطئ ضال.

مصاب مصر والصحافة العربية الإسلامية بالشيخ علي يوسف رحمه الله تعالى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب مصر والصحافة العربية الإسلامية بالشيخ علي يوسف رحمه الله تعالى في صبيحة يوم السبت الخامس والعشرين من هذا الشهر ذي القعدة الحرام أكتوبر، فجعت مصر بأكبر سياسي فيها، وأشهر كاتب من كتاب صحفها، النابغة العصامي الكبير، صديقنا الشيخ علي يوسف منشئ جريدة المؤيد أشهر الجرائد الإسلامية في العالم وأعلاها قيمة، وشيخ السادات الوفائية بمصر، فاهتز القطر المصري لوفاته، واضطرب اضطرابًا ظهر أثره في جمهور العقلاء والمفكرين، وشعر بأنه فقد ركنًا من أركان حياته السياسية والاجتماعية يعز أن يرى له خلفًا، أو يجد عنه عوضًا، وأن الفراغ الذي حدث بفقده واسع يعز أن يوجد من يملؤه، وسيشارك القطر المصري في مصابه سائر الأقطار الإسلامية ولا سيما العربية. حسب الرجل نبوغًا وفضلاً أن يوصف في قومه ببعض أسماء التفضيل، ويكون وصفه بها حقًّا لا مراء فيه، وفي مصر كثير من الكتاب والمشتغلين بالسياسة، ولا خلاف بين العارفين والمنصفين في كون الفقيد أوسعهم في الشئون المصرية خبرة، وأسدّهم رأيًا، وأمضاهم عزمًا، وأكتبهم قلمًا، وإنك لتجد العقلاء المفكرين يجيلون الآن قداح الفكر، ويراجع بعضهم بعضًا الرأي، ويتساءلون بينهم: من يخلف عليًّا في سياسته المصرية الإسلامية؟ فلا يكون الجواب إلا: يجب التفكير والبحث. كيف نبغ هذا الرجل في مصر بين ألوف ممن نالوا ما لم ينله من شهادات المدارس الدينية والمدنية، ونشئوا في بيوت أكبر من بيته جاهًا وأكثر مالاً؟ نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الكر والإقداما إن المدارس لا تعطي أبناءها نبوغًا، ولكنها تعطيهم آلات للعمل وسلاحًا للجهاد أو تدلهم على ذلك، وما كل من وجد الآلة يحسن العمل، ولا كل من يحمل السيف والقنا يصيب بهما مقاتل العدو، وبيوت الجاه والمال لا تستطيع أن تُكَوِّنَ عظماء الرجال، وإنما ينبغ النابغون باستعدادهم الذاتي وصفاتهم النفسية، وقد أودع الله في فطرة فقيدنا حظًّا عظيمًا من هذه الصفات والسجايا، أعلاها قوة الإرادة وصحة العزيمة، والإقدام مع الروية، والثبات والصبر، والبصيرة في العواقب، وحب معالي الأمور واحتقار سفسافها، وقد دفعه استعداده للظهور إلى التطفل على الصحافة من غير استعداد لها بتعليم معلم، أو تربية مرب، فأقدم غير هيَّاب ولا وَكِل، وعلم نفسه الكتابة بالتمرن والعمل، حتى صار طفيلي الكتابة هو صاحب مائدتها الكبرى في وطنه، وما تلك المائدة إلا المؤيد ويا لها من مائدة كان يفضلها على غيرها أكبر كتاب العصر، فيرغبون أن يكونوا طهاة يهيئون لها الطعام الطيب تارة، وضيوفًا يأكلون ما طاب لهم مما يطبخه صاحبها أو يختاره من طيبات غيره. وإن شئت قلت: كان المؤيد مدرسة جامعة عليا يلقي فيها أكبر علماء المسلمين وكتابهم الدروس العالية في العلم والدين والسياسة والاقتصاد والإدارة في سائر المعارف الاجتماعية، فكان من أساتذتها وأعوانها الأستاذ الإمام والشيخ عبد الكريم سلمان وأمين باشا فكري وحسن باشا عاصم وسعد باشا زغلول وقاسم بك أمين وعلي بك فخري والمويلحي والهلباوي وغيرهم من الكتاب والمفكرين، وكان أكبر أنصارها ومروجيها وزير مصر العظيم مصطفى باشا رياض، وناهيك بمن كانوا يتعاهدونها برسائلهم من سائر الأقطار الإسلامية. وأما الذين تربوا فيها، وتعلموا الكتابة والسياسة بإرشاد فقيدنا اليوم، فكثيرون جدًّا، ومن أشهرهم مصطفى باشا كامل، ومحمد أفندي مسعود وحافظ بك عوض. مولده ونشأته ومؤيده: ولد الفقيد في بلدة صغيرة تسمى بلصفورة في مديرية جرجا سنة 1280 هـ وبعد تعلم مبادئ القراءة والكتابة مال إلى طلب العلم فابتدأ بالطلب على شيخ من شيوخ العلم والتصوف في بني عدي كان له عناية كبيرة بتربية أخلاق تلاميذه قلما يلتفت إلى مثلها أمثاله في هذا الزمان، ثم في سنة 1299 هـ جاء الأزهر للمجاورة فيه فأقام فيه ثلاث سنين أو أربعا يشتغل كما يحب، وعني من نفسه بالأدب ونظم الشعر، وفي السنة الخامسة ملَّ الطلب، وجنحت نفسه لما هي مستعدة له من العمل، فأنشأ مجلة الآداب بالاشتراك مع الشيخ أحمد الماضي، ثم استبدلا جريدة المؤيد بمجلة الآداب سنة 1307 ثم استقل الفقيد بها بعد ذلك، فرباها بعزمه وحزمه وثباته وذكائه، وربته بما أدخلته فيه من الحوادث السياسية والمدنية، وما جعلت له من الصلة بكبار رجال الحكومة وسمو الأمير والتعاون مع كبار الكتاب والمفكرين، فلولا صبر الشيخ علي وثباته وفطنته لما قوي المؤيد على ما لقيه من المقاومة وتحامل الاحتلال والأجانب وناهيك بنفوذهم في مصر، ولولا المؤيد لما كان الشيخ علي ذلك السياسي المحنك والكاتب القدير، فإنه لم يتعلم الكتابة والسياسة في بني عدي ولا في الأزهر، وما ثم من كتابة ولا سياسة، فظهر بهذا أن الرجل قد نبغ بأخلاقه وسجاياه التي دفعته إلى الإقدام على العمل، وأقدرته على مصارعة الحوادث، ومقارعة الحوادث، حتى صار أشهر رجال السياسة في قومه، وأقدر كتابها في وطنه، وعرف اسمه الشرق والغرب، فتقدم إلى الأمام، وتخلف أصحاب الشهادات العالية في العلوم القديمة والحديثة فصاروا وراءه في هذا الميدان، فبهذا يعلم القارئ أن الرجل دخل في عالم العمل وهو لا يحمل من آلاته الصناعية والفنية شيئا يذكر، ولم يمنعه ذلك أن يبذَّ حاملي أحدث الآلات الصناعية والفنية، وإنه خاض معامع الجلاد في الجدال وهو أعزل، فجدل فرسانها المدججين بأمضى أسلحتها الحديثة هذا وما ... فكيف لو ... كانت الصحافة المصرية قبل المؤيد وقفًا على السوريين المسيحيين، والسوري من أقدر الناس على الاصطباغ بصبغة الوطن الذي يهاجر إليه، وعلى خدمته للعلم والأدب والسياسة فيه كما يخدم في وطنه. فإذا هاجر إلى أوربة يقدر أن يكون أوربيًّا، وإذا هاجر إلى أمريكة يقدر أن يكون أمريكيًّا، فأجدر به أن يكون مصريًّا في مصر التي يصح أن تسمى وطنًا أصليًّا له؛ لأنه يشارك أهلها في اللغة وأكثر العادات؛ لقرب الجوار وكثرة الاختلاط، وناهيك بهما وبمكانتهما من مقومات الأمم وروابط الجنسيات، لهذا كانت خدمة أكثر السوريين الذين اشتغلوا بالصحافة مرضية عند المصريين، ولولا ذلك لما نجحوا وعاشوا هذه العيشة الراضية، وصار بعضهم صاحب ثروة واسعة. بل أقول: إن أكثر الصحف السورية ومديريها ومحرريها قد صادفوا في مصر قبولاً ومساعدة من جمهور الأمة وهم المسلمون، وما نجح من نجح منهم إلا بمساعدة الأمة برضاها واختيارها، اللهم إلا المقطم فإنه أنشئ مشايعًا للاحتلال الإنجليزي، فكره ذلك منه المسلمون فكان نجاحه بنفوذ الاحتلال والحكومة المصرية، مع قدرة أصحابه وبراعتهم، وسعة علمهم واختبارهم وما شعر المسلمون بشدة حاجتهم إلى جريدة وطنية إسلامية إلا بعد ظهور المقطم بهذه السياسة، وإن كانت مصبوغة بصبغة وطنية، تحاول إقناع المصريين بأن كل ما ترمي إليه هو الموافق لمصلحة مصر في هذه العهد أو الطور الذي دخلت فيه، وإذا جاز إقناع بعض الناس بأن هذا صواب في الجملة، فلا يمكن إقناعهم بأن كل ما يحاول الإنجليز عمله في مصر إما موافق لمصلحة المصريين، أو يجب سكوتهم عليه وإن لم يكن موافقا لمصلحتهم، وهو ما كانت تدور عليه سياسة المقطم. ظهور المقطم في وقته كان طبيعيًّا، وظهور المؤيد وقيامه بمعارضته كان ضروريًّا، وقد كانت جريدة الأهرام معارضة للمقطم في سياسته الاحتلالية، ولكن ذلك لم يكن مغنيًا للمصريين المسلمين عن إنشاء جريدة تشعر بشعور الأمة الإسلامية وتعبر عن رأيها ووجدانها من كل وجه، ومهما صدقت وطنية المخالف للأمة في دينها، وأخلص في خدمتها، فإنه لا يمكنه أن يشعر بشعورها، ويدرك كُنْه مصالحها، ويغار عليها كغيرتها، فكيف إذا كان مبلغ صدقه لها لا يعدو صدق الصانع الأمين الذي يجيد الصنعة على قدر الأجرة. هذا وإن للدين دخلاً كبيرًا في المصالح السياسية والوطنية لا ينكره إلا جاهل أو مكابر، فها نحن أولاء نرى طائفة القبط كانت وما زالت أشد معارضة للمسلمين في منازعهم السياسية والمصالح والمنافع المصرية من الأجانب أنفسهم، بل نرى مثل هذا في أرقى البلاد مدنية، فإن طائفة البروتستانت في أرلندة غير راضية بالاستقلال الذي رضيته الحكومة الإنكليزية لوطنها؛ لأن أكثر أهله من طائفة الكاثوليك، وكلهم نصارى. إذن كان من أكبر تقصير مسلمي مصر وإهمالهم وتوكلهم أن لا يكون لهم جريدة إسلامية سياسية، أو عدة جرائد إسلامية سياسية أو غير سياسية، وقد كان فقيدنا اليوم هو الذي أزال هذه النقص، والفضل الأكبر فيه له، ومما ينتقد على القطر كله أنه لم يستطع إيجاد شقيقة أخرى للمؤيد، بل مرض المؤيد بما أصاب مؤسسه من الأمراض الجسدية والنكبات المالية، وخيف عليه السقوط على قوة أساسه، ونور نبراسه، ولم تظهر الكفاءة من أحد لإنشاء مثله، وأسست له شركة فلم تستطع الاضطلاع بأمره، وإنما كان أعضاء شركته كغيرهم يرجون أن يعود إلى ما كان عليه بعودة الصحة إلى مؤسسه، فلما وقع قضاء الله تعالى شعروا وشعر جميع أهل الرأي والغيرة بوجوب العناية به، كما يليق بمكانته وأفقه، وهذا هو موضوع حديثهم وهمهم اليوم. لا يمكن أن تحل محل المؤيد جريدة أصحابها وكتابها من غير المسلمين، ولا من المسلمين المتفرنجين، بل لا بد أن يكون الروح المدبر لمثل هذه الجريدة كروح من فقدنا اليوم، إسلامي قبل كل شيء، بأن تكون تربيته إسلامية وعنده من المعارف الإسلامية والوقوف على حال العصر ما يعرف به كيف يحافظ على مصالح أمته الملية، من غير إخلال بالحقوق العامة والمنافع الوطنية، ليعرف كيف يدبر السفينة في مهاب العواصف الاجتماعية والسياسية التي تمس الدين ومصالح أهله، كالعاصفة التي هبت منذ بضع عشرة سنة على المحاكم الشرعية بسعي بطرس باشا غالي فكادت تقوض بناءها المعنوي، وكعاصفة القبط التي أرادوا بها أن يأتوا على ما آخر ما بقي للمسلمين من شيء في حكومة هذه البلاد، حتى شعائر الجمعة والأعياد، وكعاصفة متفرنجي المسلمين الذين يدعون إلى فرنجة النساء، وهتك ما بقي من آثار العفاف والصيانة والحياء، باسم تحرير المرأة وتمدينها، وترقية الأمة وتعليمها، وكالعاصفة التي أثارها بعض أهل الأهواء من المسلمين لمقاومة مشروع الدعوة والإرشاد، فهل يرجى أن يدير سفينة المصلحة الإسلامية في مهاب أمثال هذه العواصف مسيحي مهما كان محبًّا للبلاد وأهلها، أو متفرنج جاهل بحقيقة الإسلام يصدق عليه المثل: صديق أحمق شر من عدو عاقل؟ ألا إنه قد علم المسلم وغير المسلم أنه لم توجد في مصر جريدة سياسية إسلامية بحق إلا جريدة المؤيد، وإن وجودها ضروري من الضروريات، لا من الحاجيات أو التحسينات، نعم وجدت صحف للمسلمين ولكنها غير إسلامية المشرب والسياسة. وقد أكثر بعضها الجعجعة باسم الإسلام والمسلمين، وأظهرت الغلو في التشنيع على المعارضين والمخالفين، تحاول بذلك أن تميت المؤيد وتحل محله، وإنما تلك نزعات أهواء، ومظاهر سمعة ورياء، وكان أمثلها جريدة اللواء، وأين اللواء من المؤيد: وأين الثريا وأين الثرى ... وأين معاوية من علي ما كان اللواء إلا إعلانًا لوطنية صاحبه وشاعرًا يطريه في كل عدد، على حين تمر السنة والسنين ولا ينشر في المؤيد شيء في تعظيم صاحبه، اللهم إلا في الحوادث التي يكتب في

الأزهر ودعاة النصرانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأزهر ودعاة النصرانية قد اشتدت في هذا العام حملة دعاة النصرانية بمصر وكذا في غيرها على الإسلام واتحدت جمعياتهم على ذلك، وهم يبذلون جهدهم هنا في إغواء بعض مجاوري الأزهر الذين فتنوا بالاختلاف إلى جمعياتهم التي يدعون فيها إلى دينهم ويطعنون فيها في الإسلام، ونحن نعلم أن المجاور في الأزهر قد يقيم فيه بضع سنين لا يتلقى كتابًا من كتب العقائد، وإن كثيرًا منهم لا يفهمون ما يتلقونه منها فهمًا صحيحًا، وإن الذين يفهمون هذه الكتب المتداولة كشروح السنوسية والجوهرة والنسفية وحواشيها لا يستفيدون منها علمًا يدفعون به شبهات دعاة النصرانية ومطاعنهم في الإسلام؛ لأن مسائل هذه الكتب محدودة لا غناء فيها: وهي تتلقى بالتقليد، ومن أظهر الاشتباه في شيء منها ينبز بلقب الاعتزال أو الابتداع أو الكفر. ألا فليتذكر المجلس الأعلى للأزهر ومجلس إدارته أن هؤلاء المجاورين في بلاد أطلقت فيها حرية الطعن في الأديان، وأنه يطبع فيها كل سنة ألوف كثيرة من الكتب في الطعن في القرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام، وأن بلادًا كهذه يجب أن تعلم فيها العقائد وعلم الكلام على طريقة الاستقلال والاستدلال الموافقة لحاجة الزمان والمكان، وإن السنوسية والنسفية والدوانية لا غَنَاء فيها الآن، وإن هذه الفوضى في الأزهر مع هذا الضعف في تعليم أصول العقائد والدفاع عنها ستفضي إلى الخزي والعار بافتتان بعض المجاورين الجاهلين وتنصرهم، فإنه إذا تنصر بعض مجاوري الأزهر يتخذ ذلك دعاة النصرانية حجة على عجز أكبر معاهد العالم الإسلامي في الأرض عن إثبات الإسلام وإبطال شبهات النصرانية. فأقترح على المجلس الأعلى للأزهر أمرين يجب عليه المبادرة إليهما: أحدهما: تغيير طريقة تدريس العقائد وعلم الكلام وجعلها على الوجه الذي فهم من سابق كلامنا هنا، وهو ما بيناه في الفصل الملحق بنظام دار الدعوة والإرشاد. ثانيهما: حصر طلاب الأزهر بنظام جديد يجعل فيه لكل مائة منهم نقيب ولكل عشرة من المائة عريف، ليسهل معرفة سيرتهم وأحوالهم عند مشايخ الأروقة ومجلس الإدارة، ثم يجعل غشيانهم محافل دعاة النصرانية مشروطًا بإذن من مجلس الإدارة أو من رئيس لجنة خاصة تعين للنظر في ذلك، وهي لا تأذن لأحد منهم إلا بعد العلم بغرضه من الذهاب، وبكُنه استعداده في هذا الأمر، وما يجب أن يزود به من الوصية، ويشترط عليه بعد العودة ما كان من تأثير ما سمعه ورآه في نفسه، ويرشد من يؤذن لهم بحضور هذه المحافل إلى قراءة الكتب النافعة في موضوع الخلاف بين الإسلام والنصرانية. ومن خالف مثل هذا يمحى اسمه من دفاتر الأزهر، وتعلن حقيقة حاله حتى لا يغتر بصفته أحد، وإذا قبل المجلس رأينا يستغني بهذا الإجمال عن التفصيل، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

بيان حزب اللامركزية والإصلاح في الولايات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيان حزب اللامركزية والإصلاح في الولايات نشرنا في غير هذا الموضع بيان حزب اللامركزية إلا قليلاً منه أشرنا إلى سبب حذفه، أما السبب الذي حمل الحزب على هذا، وعلى حمل اللجان والجمعيات العربية على إرسال البرقيات إلى الصدارة العظمى بطلب اللامركزية فهو مشروح في البيان. ونزيد عليه شيئًا نعلمه علم اليقين عسى أن تتدبره الوزارة حق التدبر وهو: أن بعض المتملقين للحكومة اليوم، الذين كانوا أشد تملقًا للحكومة الحميدية من قبل، ما زالوا يغشون الوزارة الحاضرة وجمعية الاتحاد والترقي بتهوين أمر طلاب الإصلاح اللامركزي وتحقيرهم، وزعمهم أنهم لا قيمة لهم عند الأمة ولا هي ترى رأيهم، وأن الحكومة يمكنها أن تأتي هذا البنيان من القواعد بمعونتهم، وهم أصحاب الزعامة بزعمهم، وما عليها إلا أن تواتيهم على ما جربوا من السياسة الحميدية فتعيد فتنة الرتب والأوسمة سيرتها الأولى، وتفتن بزخرفها وزينتها أشهر علماء المسلمين، وبعض قرنائها من المعارضين، فيتحد الفريقان على المصلحين، ويحاربون الإصلاح باسم الدين، الذي جدل به عبد الحميد الفرسان الأحرار تجديلاً، فجعلهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ولكنهم اهتدوا بعد إلى القوة. هذا ما بلغ رجال الحزب من خبر المعارضين للإصلاح، ثم رأوا أن الحكومة انخدعت لرقيتهم، وأمطرت على حملة العمائم مطرًا من الرتب والأوسمة، بدون عمل كوفئوا بها عليه ولا مناسبة، ومن يهتدي برأي رجال عبد الحميد، لا مندوحة له عن عمل عبد الحميد، ولم نكن ننتظر هذا من رجال حكومتنا الحاضرة، ولكنهم سوفوا في ما وعدوا به من الإصلاح، حتى ما صدرت به إرادة مولانا السلطان، وعادوا إلى التجارب التي تضيع بها نفائس الأوقات، فأراد حزب اللامركزية أن يريهم آية من أكبر الآيات، على صدقه وإخلاصه هو وسائر المطالبين بالإصلاح وأنهم هم زعماء الأمة لا أولئك المدعون الكاذبون، الغارُّون المغرورون، وسيعلمون أيضًا أن معارضي الإصلاح من المعممين، تعدهم الأمة من المنافقين، فلا نفوذ لهم في أمر الدنيا ولا الدين، وأما من عداهم من الصادقين، فهم لا يبيعون دينهم وأمتهم بالرتب والنياشين. هذا وإن رجال حكومتنا يعلمون أن أكثر المعارضين للإصلاح من العرب أولو تملق ودهان، وطلاب مناصب ومنافع، ولكنهم كانوا يظنون أن السواد الأعظم من العرب أقرب إلى رأيهم، لغلبة الجهل عليهم، وأن لهم نفوذًا في البلاد إذا أيدته السلطة يزداد قوة، فيكون عونًا للحكومة على ما تريد من الأمة، فأراد الحزب أن يخدم الحكومة بكشف الحقيقة لها في هذا الأمر أيضا. لعلها تبادر إلى الإصلاح من تلقاء نفسها، في هذا الوقت الذي يعده طلابه فضلا وإحسانا منهم. فإذا هي أصرت على المطل والتسويف يخشى أن تنتقل المسألة العربية بحسب سنة الله تعالى في نظام الاجتماع البشري إلى طور آخر يضطر الحكومة إلى الإصلاح اضطرارًا، أو يلجئ الأجانب إلى التوسط بينها وبين العرب، كما أنشئوا يتوسطون بينها وبين الأرمن، وهذا ما لا يرضاه طلاب الإصلاح من العرب، ولذلك لم يسعوا إليه كما سعت الأرمن، ولكنهم يخشون أن تلجئ إليه طبائع الأحوال، وتقضي به سنن الاجتماع.

عناية نظارة المعارف المصرية باللغة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عناية نظارة المعارف المصرية باللغة العربية عَرَفْنا أحمد حشمت باشا ناظر المعارف بمصر من قبل أن يتولى هذه النظارة ومن قبل أن يدخل في سلك الوزارة -غيورًا على اللغة العربية حريصًا على إصلاح التعليم بها، وكان يتكلم في ذلك مع من يراهم أهلاً، أو يرجو منهم عملاً، ويساعد الأدباء والمؤلفين بماله وجاهه عندما يرى لذلك طريقًا، وقد ظهرت هذه الغيرة والحرص منه في عهد وزارته للمعارف، فلا يزال يجد ويجتهد في إصلاح التعليم لهذه اللغة والتعليم بها، وتوسيع نطاق العلوم والفنون فيها، فهو الذي سن التعليم العملي في النظارة، وأسس مدارس جديدة للزراعة والتجارة، وزاد في دروس مدارس البنات كل ما يحتجن إليه من العلوم والأعمال، عندما يصرن ربات بيوت وأمهات أولاد، وقد نشر في هذا الشهر منشورات حتم فيها العناية بدرس متن اللغة العربية وضبطه وإتقان تدريسها، وشكل كتب التعليم، وتسهيل قراءتها بما سموه الترقيم، وهو وضع علامات للوقف التام، وغير التام فيها، وعلامات للاستفهام والتعجب وغير ذلك مما سبقنا إلى استعماله في المنار، وسنتكلم عن هذا الإصلاح بالتفصيل في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى.

أنا عربي وليس العرب مني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنا عربي وليس العرب مني س41 من صاحب الإمضاء بمصر: مولاي السيد الإمام منشئ المنار نفع الله به المسلمين. أما بعد، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فإننا نلتمس كتابة جواب على سؤالنا هذا في المنار الأغر لكشف الغمة عن صحة الحديث المسئول عنه ومعناه. السؤال: قرأنا في جريدة المفيد البيروتية كتاب تهديد جاءها من بعض الترك يذم فيه العرب جاء فيه حديث: أنا عربي وليس العرب مني. فهل من سند صحيح لهذا الحديث بهذه الرواية أم برواية أخرى؟ وإذا صح أفلا يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تبرأ من عموم العرب وهم قومه وهو منهم؟ وما سبب ذلك إذا صح؟ ثم إننا نسمع بشيوع هذا الحديث في أمة الترك حتى كل من خدم في العسكرية الجهادية سمعه منهم برواية أنا عربي وليس الأعراب مني، ومنها: أنا عربي وليس العرب مني فأية الروايات أصح؟ أفيدونا لا زلتم ملجأ لحل الغوامض. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سائل (ج) لا يصح شيء من ألفاظ هذا الحديث بل هو موضوع مختلق على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا لم أسمعه من أحد إلا من بعض أفراد عسكر بلدنا الذين حضروا حرب البلقان الأولى وحرب الروسية للدولة وغيرهم ممن أدوا الخدمة العسكرية مع أمثالهم من الترك. نقل إلينا هؤلاء أن بعض أفراد الترك كانوا يحتقرونهم ويقولون لهم: إن الله قد ذم العرب في القرآن العظيم الشأن بقوله: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (التوبة: 97) وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيهم: أنا عربي وليس العرب مني. فمن هؤلاء من كان يتعجب من هذه الأقوال، ولا يدري ما يقول كالأميين، ومنهم بعض الأذكياء الذين يقرءون القرآن كانوا يجيبون عن الآية بما يقابلها من قوله تعالى في سورتها التوبة {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} (التوبة: 99) فيُفْهَم من مجموع الآيتين أن تلك في كافري الأعراب ومنافقيهم، وهذه في مؤمنيهم الصادقين الصالحين وأن المدح والذم فيها ليس للجنس، ولكن لم أسمع من أحد ولا عن أحد منهم أنه أجاب بأن الأعراب هم سكان البادية خاصة والواحد أعرابي، وأن علة كون كفارهم ومنافقيهم أشد كفرًا ونفاقًا من أمثالهم في الحضر هي جفوة البداوة وقسوتها وخشونتها كما هو معروف عند جميع الأمم، وأن التعرب أي سكنى البادية كان محرمًا على المؤمنين بعد الهجرة؛ لوجوب ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته. وأما الحديث فلم يكن أحد من أولئك العوام يعلم أن بعض الناس قد كذب على الرسول صلى الله عليه وسلم ونسب إليه أحاديث لم يروها عنه أحد من حديثه منها ما له معنى صحيح، ومنها ما معناه باطل كلفظه. وهذا القسم منه ما لا يَعْرِف بطلان معناه إلا العلماء، ومنه ما هو بديهي يعرف بطلانه كل من شم رائحة الإسلام كقول أولئك السفهاء من الترك إنه صلى الله عليه وسلم قال: أنا عربي وليس العرب مني، إذ لا معنى لهذا النفي إلا التبرؤ من قومه العرب، وليس الغريب أن يحفظ هذا بعض المتعلمين المتفرنجين الذين أفسدت السياسة عليهم دينهم فكان من عصبيتهم الجنسية بغض العرب، ولكن العجيب الغريب وصول هذه المفسدة إلى عوامهم الذين نسمع أن أكثرهم باق على فطرته الإسلامية يحب العرب تدينًا؛ لأنهم قوم نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. وقد سمعت من بعض من شهد هذه المحاورات أنهم كانوا يجيبون عن الحديث بأن أصله: أنا عربي وليس أعرب مني. وأنهم رووه محرفًا، ولا أدري أهذا شيء كان سمعه ممن أجاب بمثل هذا الجواب؟ أم ظن أن أصله ما ذكر فصححه بظنه؟ وإنني أورد هنا بعض الأحاديث الواردة في مناقب العرب إتمامًا للحجة على أولئك المنافقين من الترك؛ وتثبيتًا لإخواننا المؤمنين الصادقين منهم ومن غيرهم، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: (أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وكذا العقيلي ووضع السيوطي بجانبه في الجامع الصغير علامة الصحة. ومنها: (إن الله تعالى اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) رواه مسلم في صحيحه والترمذي عن واثلة. ولفظ الترمذي (إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعلي بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا) إلخ فهذا الحديث الصحيح يدل مع قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) أن العرب من بني إسماعيل هم صفوة أصفياء الله من البشر كلهم وصفوتهم قريش وصفوة قريش بنو هاشم، فهم لب اللباب، وخاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والتسليم صفوتهم فهو سيد ولد آدم على الإطلاق، فكيف يتبرأ من قومه الذين اصطفاهم الله تعالى واصطفاه منهم؟ ومن عساه يستبدل بهم في عرف أولئك المنافقين؟ وقد روى الحاكم هذا المعنى من حديث ابن عمر بلفظ آخر وهو: (إن الله اختار من آدم العرب واختار من العرب مضر ومن مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار، فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم) ورُوِىَ أيضا من حديث أنس مرفوعا: (حب العرب إيمان وبغضهم نفاق) وسند هذا ضعيف يؤيده ويقويه سائر الأحاديث في الباب مما تقدم وما هو في معناه كحديث (لا يبغض العرب إلا منافق) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائده عن علي كرم الله وجهه، وحديث (لا يبغض العرب مؤمن) رواه الطبراني عن ابن عمر، وحديث (من أحب العرب فهو حبي حقًّا) رواه أبو الشيخ عن ابن عباس. فهذه الأحاديث تدل على أن هؤلاء الذين عرفوا ببغض العرب كلهم من المنافقين المبغضين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وقد اشتهر عن بعض أهل الجراءة منهم التصريح ببغض الإسلام، والنيل من مقام خاتم الرسل عليه أفضل الصلاة والسلام، والطعن في الخلفاء وسائر الصحابة الكرام، وهم يتعمدون إذلال العرب وإهانتهم انتقامًا من الإسلام، ولا غرو ففي حديث جابر عند أبي يعلى بسند صحيح (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) اللهم أعز الإسلام وأعز العرب، اللهم وأعز من أعز العرب، وأذل من أذلهم إلى يوم القيامة.

تحويل مصلحة الأوقاف العمومية بمصر إلى نظارة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحويل مصلحة الأوقاف العمومية بمصر إلى نظارة الأوقاف العمومية هي المحبوسة على المصالح الإسلامية العامة كالمساجد والمدارس والتكايا أو عمل البر والخير مطلقًا أو مقيدًا، ومنها أوقاف الحرمين الشريفين والجامع الأزهر، فمنها ما وقف على ذلك ابتداءً ومنها ما آل صرفه إلى بعض هذه المصالح بعينه أو مطلقًا، كأوقاف الملوك التي لا تراعى شروطها، والأوقاف التي جهلت شروطها، أو تعذر صرفها فيها، وقد كانت هذه الأوقاف قبل النظام الجديد الذي أوجده محمد علي الكبير في مصر تابعة لحال حكومتها في الفوضى والاختلاع والضياع، ثم أدخلت في سلك النظام حتى جعلت نظارة من نظارات الحكومة قبل الاحتلال الإنجليزي، ثم جعلت مصلحة مستقلة ناظرها الشرعي هو الحاكم العام للبلاد الخديو، وهو يوكل عنه مديرًا يتولى الأعمال الإدارية العامة، وأضيف إليها كثير من الأوقاف الخصوصية للثقة بضبطها، وما يناط بالقاضي الشرعي من تلك الأعمال كالإذن بالاستبدال وتولية النظار وعزلهم يرجع فيه إلى قاضي مصر. وقد ترقت هذه المصلحة بالتدريج وكثر دخلها، وعُمِّرَ كثيرٌ من مبانيها وأرضها. ولكن الناس ينتقدون إدارتها وديوانها بأشد مما ينتقدون به نظارات الحكومة ومصالحها، وكان المخلصون منهم يتمنون أن يكون نظامها أتم من نظام تلك النظارات والمصالح وارتقاؤها أكمل لتكون حجة على اقتدار المصري على الأعمال العامة بدون مراقبة الأجنبي وسيطرته، حتى لا يكون للمحتلين وجه للتعرض لها ووضعها تحت سيطرتهم. حدثني شيخنا الأستاذ الإمام في سنة 1316 عند حدوث مسألة إصلاح المحاكم الشرعية أنه كان قال للأمير منذ سنين: إن في يد مولانا وفي الأصل أفندينا ثلاث مصالح لا يمد الإنكليز إليها أيديهم الآن لأنها دينية، إذا أصلحتها تحيي بها المسلمين وهي الأوقاف والأزهر والمحاكم الشرعية، فهذه الكلمة المسجلة في المنار منذ سنين تدل على أن أهل الرأي من المسلمين كانوا يخافون من أوائل العهد بالاحتلال أن تفضي سيطرته إلى الدين بجعل معاهد العبادة والتعليم الديني والقائمين به وبالوظائف الدينية تحت سيطرة غير المسلمين، وكذلك ريع الأوقاف الإسلامية المحبوسة على مصالح المسلمين، فلا يبقى للمسلمين استقلال ما حتى في أمر دينهم، فماذا يكون لهم من الاستقلال في أمر دنياهم؟ وإنما جاء هذا الخوف مما يعلمونه من تصرف بعض الأوربيين في مستعمراتهم الإسلامية كتصرف فرنسة في أوقاف الجزائر وتونس وفي جعلها المساجد والتعليم الديني تحت سيطرتها، وذلك أشد ما بغضها إلى مسلمي تلك البلاد وإلى جميع المستنيرين من مسلمي الأرض، ولكن الإنجليز أوسع من الفرنسيين صدرًا، وأكبر أناة وروية وصبرًا، وأعلم بمداراة شعور الأمم وأدق خبرًا، وأدرى بمسالك التدريج في إحكام النفوذ والسلطة وأصح فكرًا، وبهذه المزايا التي نبغوا فيها، وبما في مصر من الاستعداد الطبيعي للعمران في أرضها وأهلها وحكومتها، وبتغلغل الأوربيين فيها وما لهم فيها من الامتيازات والأملاك والديون، بهذا كله أمكن لهم أي للإنكليز أن يسلكوا في إدارتها والسيطرة على حكومتها مسلكًا لطيفًا لم تشعر الأمة بثقل وطأته ولا بأنها فقدت شيئًا كان لها قبله، ذلك بأنهم كانوا يتقون كل ما له علاقة بالدين، ويعملون سائر الأعمال بالأوامر الخديوية العالية وقرار النظار الوطنيين، وبأن الجرائد المعارضة لم تكن تنتقد أحدًا من رجال الإنكليز إلا قليلاً، وإنما كانت تبالغ في انتقاد الوزارة المصرية وتلصق كل ما تنكره من الأعمال بها وكانت عاقبة هذا أن كل إصلاح حصل في مصر حفظ ونسب إلى المحتلين، وكل ما كان ينتقد عليهم أو على الحكومة المصرية بسببهم قد نسيه الجمهور، إما لأنه سلبي، وإما لأنه ألف، وإما لأنه عمل عارض ليس له صورة باقية. وأما تأثير هذا المسلك في خارج القطر المصري فهو أنه قد جعل للإنكليز اسما سميًّا، وقدرًا عليًّا، وصار مسلمو الشرق والغرب، يفضلونهم به على جميع الإفرنج أو جميع دول الأرض. لأجل هذا عجب كثير من الناس في هذه الأيام من تصدي لورد كتشنر إلى تحويل مصلحة الأوقاف الإسلامية إلى نظارة مع علم الناس بأن النظار مجبورون على أن يكونوا تحت سيطرة المعتمد الإنكليزي في مصر كما هو الواقع، وكما صرح به ناظر خارجية إنكلترة رسميًّا، وكما يفهم من اقتراح لورد كرومر من قبل وسيأتي نصه، ولكن اللورد أعد للأمر عدته، وأقنع به حكومته، وحكومته وثقت من حكومة الآستانة بأنها تساعدها على ما تريد عمله في مصر من هذا الأمر وغيره وإن كان له علاقة بالدين، لتعمله بنفوذ الخليفة الذي جربت بريطانية نفوذه الديني في الهند. وكانت الأسباب في مصر ممهدة بما أضعف قانون المطبوعات من حرية الجرائد، وما كان يخشى إلا من الأزهر، وقد شاع في البلدان أن الأزهريين شرعوا في معارضة قوية لكن الحكومة تلافتها بسرعة وحزم، فقدر اللورد كتشنر على ما تمناه لورد كرومر ولم يتجرأ على تنفيذه. مدح لورد كرومر في تقاريره مصلحة الأوقاف، ولا سيما تقرير سنة 1902 ووصف تقدمها وشهد بأنها تعطي جميع المستحقين كل بارة يستحقونها في وقتها، وأنهم لم يكونوا يصلون إلى حقوقهم من قبل هذا النظام، وأشار في بعض التقارير إلى انتقاد بعض الناس عليها وحاجتها إلى الإصلاح، وقال في تقريره عن سنة 1904 وهي السنة التي عقد فيها الاتفاق الإنكليزي الفرنسي وصدق عليه غيرهما من الدول، إن دخل الديوان بلغ في هذه السنة 303.000 ج م ونفقاته 221.000 ج م فالزيادة 83.000 ج م، وإن مال الأوقاف الاحتياطي بلغ175.000ج م في آخر ديسمبر سنة 1904 قال وفي سنة 1896 كان العجز في حساب ديوان الأوقاف 27.000 ومن ذلك الوقت انقلب العجز إلى زيادة تتعاظم عامًا فعامًا حتى بلغ مجموع الزيادات في الثماني سنوات الأخيرة لا أقل من 409.000 ج م أي زهاء نصف مليون جنيه مصري، ثم قال في خاتمة الكلام عنه بعد ذكر تنظيم هراري باشا لحساباته ما نصه: ولم يجر في الأوقاف ما يذكر غير ذلك، ولا تزال إدارتها قاصرة جدًّا كما يعترف بذلك أولو الألباب من المسلمين. غير أن هذا الموضوع ليس من المواضيع التي يتعرض لها مشيرو الدولة البريطانية كثيرًا. اهـ أي لتعلقه بأمر الدين. ثم قال في تقريره عن سنة 1905 بعد التصريح بأن ديوان الأوقاف أصلح في السنوات الأخيرة بعض الإصلاح ما نصه: واعتقادي أن الإصلاح الوحيد المرضي هو وضع هذا الديوان تحت إدارة ناظر مسئول يكون عضوًا في مجلس النظار وتتيسر مراقبة أعماله كما تراقب سائر النظارات أما الآن فإنه تحت إدارة مدير عمومي مستقل عن مجلس النظار على الغالب. اهـ. وإنما قال: على الغالب؛ لأن حسابات الأوقاف تحت مراقبة نظارة المالية. فيعلم من هذا أن معنى جعل مصلحة الأوقاف نظارة هو وضعها تحت مراقبة الإنكليز أي أن الأموال التي تقام بها شعائر الإسلام في المساجد، ومنها ما هو للحرمين الشريفين، والتي ينفق على التعليم الديني تكون تحت مراقبة وسلطة المستشار المالي الإنكليزي والمعتمد السياسي البريطاني ما دام هذا هو الشكل الذي تدير به بريطانيا حكومة هذا القطر، ولا يوجد مسلم يرضى بهذا باختياره، فكان من المنتظر أن تقوم قيامة القطر بالمعارضة والاحتجاج على هذا العمل، ثم تردد صداه جميع البلاد الإسلامية، ولكن حال دون ذلك ما أشرنا إليه وما نبينه من الأسباب والتمهيدات التي اتخذت والإسراع في التنفيذ. وكيف كان ذلك؟ إن الذي شاع وذاع في البلد هو أن اللورد عرض المشروع على الخديو وقال: إن حكومة لوندرة جزمت به، فعارض الخديو أولا، ثم اتفقا على استفتاء الآستانة بناء على أن هذا المشروع يتعلق بالدين والسلطان هو الخليفة صاحب السلطة الدينية العليا، فرفع الأمر إلى الآستانة فجاء الجواب حالا في أيام العيد بأن تحويل مصلحة الأوقاف إلى نظارة جائز لأن الأمر في الآستانة كذلك. فقطعت فتوى الخليفة كل كلام في شكل المشروع كما قطعت جهيزة قول كل خطيب، إلا أن بعض الجرائد كالمؤيد بينت الفرق بين نظارات الآستانة ونظارات مصر، بأن تلك مستقلة تحت سلطة الخليفة، وشيخ الإسلام هو العضو الأول في مجلس النظار، وهذه تحت مراقبة دولة أجنبية، ولكن اللورد تلافى هذه الاعتراض قبل وقوعه بما أعلن وأشيع من خبر اتفاقه مع الحكومة على أن لا يكون لنظارة الأوقاف الجديدة مستشار إنكليزي، بل تكون مستقلة في أعمالها، ويكون لها مجلس أعلى من المسلمين تقيد به تصرفات الناظر كالمجلس الأول في الجملة. الحق أقول: إن هذا كان مؤثرًا، وإن جواب الآستانة لم يفعل في القلوب والأفواه فعله في الجرائد والأقلام، فالذين لم يقولوا فيه شيئًا بأقلامهم، قد قالوا بقلوبهم وأفواههم، ولكن أيقنوا بأنه لا بد من تنفيذ المشروع، فصار همهم في جعله مُسَوَّرًا بما يكفل استقلال أوقافهم، وصرف أموالها في مصالحهم، وجعل القول الفصل فيها لهم دون الأجانب، فكان جمهور الأمة يود تأخير صدور الأمر العالي به إلى أن تنعقد الجمعية التشريعية في أوائل السنة الآتية، وما هي ببعيد، لتصدق عليه وتقرره فتطمئن به قلوب الأمة، وقد كررت جريدة المؤيد القول في هذا الاقتراح وكتب سعد باشا زغلول الشهير بمعارفه القانونية والاجتماعية وباستقلال الرأي مقالا في المقطم نقلته سائر الجرائد اقترح فيه أن يكون رأي الجمعية التشريعية قطعيًّا نافذًا فيما يعرض عليها من ميزانية نظارة الأوقاف وما يوضع له من اللوائح والنظام، وقد أيد اقتراحه بالبيان الذي صادف استحسان جمهور المسلمين، وإنما قلت جمهور المسلمين؛ لأنه يوجد في المسلمين كما يوجد في غيرهم من الشعوب من لا يبالي بالمصالح الدينية العامة، ومن لا يبالي بالمصالح الدنيوية العامة أيضًا، ومن لا يعرف له رأي لأنه إمعة يتابع كل أحد في مجلسه، وناهيك بمن يدهنون لأصحاب السلطة والنفوذ في كل شيء. ونشرت نبذة في جريدة المؤيد عزيت إلى عالم من كبار العلماء تتضمن اقتراحًا آخر ربما كان أصدق معبر عن رأي الجمهور في هذا الأمر؛ لأنني سمعت بعض الأذكياء يتحدثون به قبل نشر المؤيد له، ويقولون: إن هذا هو الذي يوده جميع المسلمين وهاك نص تلك النبذة: الرأي الإسلامي العام في مسألة الأوقاف لعالم من كبار علماء المسلمين عرف القراء رأي المؤيد الخاص في هذه المسألة المهمة، وقد كان همنا في هذه الأيام مصروفًا إلى الوقوف على الرأي الإسلامي السائد في جميع الطبقات المفكرة من المسلمين فيها، فعلمنا بعد كثرة السؤال واكتشاف الآراء أن جمهور المسلمين لم تظهر لهم فائدة معقولة في هذا التغير والتحويل في إدارة هذه المصلحة الإسلامية فكان هذا داعية الوسواس وسوء الظن، وسرى فيهم اعتقاد أن هذا التغيير تمهيد لصرف أوقاف المسلمين في بعض الأمور العمومية التي يجب الإنفاق عليها من خزينة الحكومة أو من جميع طوائف الأمة، فيشارك المسلمين غيرُهم من الطوائف في منفعة أوقافهم التي وقفها سلفهم لمصالحهم وشعائرهم الخاصة عبادة لله تعالى وتقربًا إليه. ونحن نبرئ الحكومة وكذا المحتلون من إرادة ذلك أو الرضاء به، ونقترح على أولي الأمر مولانا الخديو ورجال حكومته أن يجعلوا في نص لائحة الأوقاف الجديدة أو الأمر العالي الذي يصدر في هذه المسألة ما يزيل وسواس الأمة وتطمئن به قلوبها، وهو أن لا يصرف شيء من أموال الأو

الإصلاح في نظارة المعارف في عهد أحمد حشمت باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح في نظارة المعارف في عهد أحمد حشمت باشا إن المصريين الذين تعلموا في المدارس العصرية من أميرية وأهلية وأجنبية يعدون في هذا القطر بمئات الألوف، وفيهم ألوف كثيرة يحملون شهادات التعليم الثانوي والتعليم العالي، ولكن الذين ينفعون البلاد بعلمهم قليلون جدًّا، وأكثرهم كَلٌّ على الأمة ينفقون كثيرًا ولا يربحون إلا قليلاً. ويندر أن يوجد فيهم من يقدر على الاستقلال بعمل يحصل به قوته، فجمهور الفلاحين الأميين خير منهم وأنفع للبلاد لأن مدار حياتهم على عملهم، وأكثر ما يستخرجونه من خيرات الأرض ينفقه المتعلمون في شهواتهم وزينتهم ولهوهم فيجعلون للأجانب الحظ الأوفر من هذه الأموال، ثم إن حظ أكثر هؤلاء المتعلمين من الحياة المعنوية ليس أشرف ولا أرقى من حظهم من الحياة المادية بل ربما كان دونه. ومن بحث عن أسباب ذلك يعثر في أول الطريق بالسبب الأول له وهو القصد من التعليم، ذلك أن أكثر المتعلمين يقصدون من التعلم شهادة يكون لهم بها رزق مضمون من الحكومة، فهم لا يقصدون تهذيب أنفسهم وتكميلها بالفعل ولا الاستعانة على الأعمال الاستقلالية التي ترقي الأمة، فإذا جاوز هذا السبب يلقاه وراءه السبب الثاني، وهو كون التعليم نظريًّا لا عمليًّا في الغالب، فمن تدبر هذين السببين يعرف قيمة ما شرع فيه حشمت باشا من الإصلاح العظيم بفتح أبواب التعليم العملي لعلوم اللسان وعلوم الحياة، إذ أنشأ مدارس جديدة للزراعة والصناعة والتجارة وما يتعلق بها من علوم الاقتصاد والقوانين وفنون مسك الدفاتر والمحاسبة وأعمال المصارف (البنوك) والشركات والسمسرة، وعني بإصلاح مدرسة الزراعة ومدرسة الهندسة ومدرسة الصنائع التي كانت من قبل. واهتم بمدارس البنات كما اهتم بمدارس البنين فحَوَّل التعليم فيها من الطريقة النظرية والمحفوظات اللسانية إلى الطريقة العملية، بتعليم كل ما تحتاج إليه ربات البيوت في إدارة بيوتهن، وأنشأ مدرسة جديدة داخلية سميت مدرسة التدبير المنزلي يتعلم البنات فيها الدين والأدب وحفظ الصحة والحساب وجميع أعمال البيوت من طبخ وغسل وكي الثياب وخياطة وتطريز وترقيع. وحول التعليم عن اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية في التعليم الأول والثاني وبعض التعليم العالي، وأنشأ لجنة لأجل ترجمة الكتب بالعربية، وفتح أبواب الأمل لمن يترجم الكتب التي تحتاج إليها المدارس بشراء النسخ الكثيرة منها، وآخر ما عني به جعل تعليم اللغة العربية عمليًّا لتكون اللغة ملكة في اللسان والقلم، وكان آخر ما أصدره من المنشورات في ذلك هو: المنشور الأول وضع علماء العصور السابقة الشكل في اللغة العربية ليدل على هيئة النطق بالحروف الهجائية في صيغ الكلمات، فهو من الأجزاء الضرورية في الكتابة العربية، والمحافظة عليه من أقوى الأسباب في صحة اللغة، ومن أعظم وسائل التسهيل على القارئين. وتركه يؤدي في كثير من الأحيان إلى الخطأ أو الالتباس في نطق الألفاظ، وإلى صعوبة القراءة، فمن الواجب استعماله في الكتب على العموم، وفي كتب التعليم على الخصوص، وفي كتب تعليم اللغة العربية على الأخص. ولكن كتب تعليم تلك اللغة المستعملة بالمدارس كثير منها خال من الشكل بالمرة والقليل منها مشكول شكلا غير وافٍ بالحاجة. وبما أن الشكل من الأهمية بالمكانة العظمى، وعليه المدار في انتشار صحيح اللغة بين الجمهور على العموم، والمتعلمين على الخصوص، رأت النظارة أن تلفت المؤلفين إلى التدقيق في رعاية هذا الأمر الأساسي فيما يؤلفونه من كتب التعليم، ولا سيما فيما يختص منها بالمكاتب والمدارس وسائر معاهد التعليم التي تحت إشرافها. وتعلن النظارة أنها من الآن فصاعدًا لا تقبل من كتب تعليم اللغة العربية للمكاتب الأولية والمدارس الابتدائية والثانوية، إلا ما كان مشكولا شكلاً تامًّا، سواء كان مقدمًا إليها لتقرره من جديد أم مطلوبًا إعادة طبعه مما سبق لها تقريره. * * * المنشور الثاني ملخصه: أن كل ما يقدم إلى النظارة من المؤلفات التاريخية والجغرافية أو يطلب منها إعادة طبعه يجب أن تُضْبَط فيه الأعلام بالشكل التام، وكذا كل كلمة يمكن أن يقع فيها الالتباس. * * * المنشور الثالث طريقة تحفيظ القِطَع المنتخبة بإقراء القطع قبل تفسير ما فيها من المفردات اللغوية والأساليب الغريبة، قلما تأتي بالفائدة المقصودة من استظهار المختارات الشعرية والنثرية وهي التضلع من متن اللغة والتوسع في أساليب تراكيبها. لذلك رأينا أن نلفت حضرات المعلمين إلى ما يأتي: 1- أن يعد المعلم قبل الشروع في التحفيظ، ما تحتوي عليه القطعة من المفردات اللغوية ويكتبها مسلسلة بعضها تحت بعض على شكل عمودي، ويكتب أمام كل كلمة اللفظ الذي يفسرها. 2- أن تكون كتابة الأسماء المطلوب تفسيرها على صيغة المفرد، وإذا مست الحاجة تقرن بمثنياتها وجموعها، وأن تكون كتابة الأفعال أيضًا على صيغة الماضي، وإذا دعت الحال تصحب بالمضارع والأمر، وأن يضبط بالشكل ما يلزم من أحرف الكلمة لصحة النطق بها. 3- أن يكلف التلاميذ تفهم الكلمات وتفسيرها، واستظهار جميع ذلك ويختبرهم فيه بالسؤال والمذاكرة. 4- بعد التحقق من استثبات التلاميذ الكلمات وتفسيرها، يقرأ معهم القطعة ويتفهم وإياهم معانيها المرادة، والأساليب الغريبة التي يظن غموضها على أفهامهم، ليكون ذلك بمثابة تطبيق لاستعمال المفردات اللغوية في تراكيب القطعة ثم يكلفهم حفظ تلك القطعة. ويحسن اتباع هذه الطريقة في المطالعة المقصود بها فهم المعنى ذلك أجدر لاستقرار اللغة في نفوسهم، وحضور مفرداتها وأساليب تراكيبها في أذهانهم، فيجدون بعد ذلك ما يريدونه من مبانيها ومعانيها طوع مرادهم، وعلى أطراف ألسنتهم وأسنة أقلامهم. للموضوع بقية

تاريخ الجهمية والمعتزلة

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ تاريخ المعتزلة والجهمية [*] (8) أول من تكلم في القدر اشتهر أن أول من أحدث القول بالقدر معبد الجهني قال الذهبي في الميزان: هو تابعي صدوق لكنه سن سنة سيئة، فكان أول من تكلم في القدر، قتله الحجاج صبرًا لخروجه مع ابن الأشعث، اهـ. وكان أولاً يجلس إلى الحسن البصري ثم سلك أهل البصرة بعده مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله. ويروى أن أول من تكلم في القدر غيلان بن أبي غيلان الدمشقي ويقال: إنه أخذ عن معبد، ولا منافاة فالأولية نسبية، بمعنى أن كلا منهما سبق وتقدم على كل من خاض في القدر بعدهما. وغيلان هذا كان مولى عثمان بن عفان، وكان داره بدمشق في ربض باب الفراديس شرقي دمشق، وحكى ابن عساكر أن عمر بن عبد العزيز كان لاَمَ غيلان على رأيه، فكف عن ذلك حتى مات عمر، فلما مات سال غيلان في القدر سيل الماء، وكان يفتي الناس لما حج مع هشام سنة 106 قال الأوزاعي: قدم علينا غيلان القدري في خلافة هشام بن عبد الملك، فتكلم غيلان وكان رجلاً مفوهًا، ثم أكثر الناس الوقيعة فيه والسعاية بسبب رأيه في القدر، وأحفظوا هشام بن عبد الملك عليه، فأمر بقطع يديه ورجليه وقتله وصلبه. * * * (9) رجال الجهمية والمعتزلة القدرية ممن روى لهما الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من المقرر في الأصول أن أئمة الرواية والأثر لم يتجافوا الرواية عن المُبَدَّعين، فقد تحملوا عن الشيعة والمرجئة والقدرية والخوارج وغيرهم. ومع تصلب الشيخين في الرواة وتحريهما، لم يريا مانعًا من الرواية عن أعلام من رمي ببدعة، انتجاعًا للعلم واستقاء للحكمة من مناهلها، وقد سبر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أسماء من رمي بذلك ممن خرَّج له البخاري. وسرد الحافظ السيوطي في تدريب الراوي شرح تقريب النوواي منهم من خرَّج له الشيخان أو أحدهما، وأما من رمي بذلك ممن روى لهم غير الشيخين فقد تكفلت به كتب الرجال، ومن أشهرها الآن: نقد الرجال للحافظ الذهبي. ولما كان بحثنا في الجهمية والمعتزلة رأيت مما يتممه إيراد من سمي من رجالهما في الصحيحين ليعلم بذلك تسامح المحدثين في الأخذ عمن رمي ببدعة إذا كان ثقة صدوقًا، وفي تلقي السنة منه طرحًا للتعصب، واعترافًا بقدر ذوي الفضل. 1- بشر بن السري قال السيوطي: رمي برأي جهم، وهو نفي صفات الله تعالى والقول بخلق القرآن، وقال الذهبي: حديثه في الكتب الستة، روى عنه الإمام أحمد وقال: كان متقنًا للحديث عجبًا. وقد زعم الذهبي أنه رجع عن التجهم، لكن يبطله تعصب الحميدي عليه وقوله: جهمي لا يحل أن يكتب عنه، فمع كونه جهميًّا روى عنه الأئمة المشاهير، ولم يحفلوا بقول الحميدي ولا غيره فيه. 2- ثور بن زيد المدني. 3 - ثور بن يزيد الحمصي. 4 - حسان بن عطية المحاربي. 5 - الحسن بن ذكوان. 6 - داود بن الحصين. 7 - زكريا بن إسحاق. 8 - سالم بن عجلان. 9 - سلام بن عجلان. 10 - سلام بن مسكين. 11 - سيف بن سليمان المكي. 12 - شبل بن عباد. 13 - شريك بن أبي نمر. 14 - صالح بن كيسان. 15 - عبد الله بن عمرو. 16 - عبد الله بن أبي لبيد. 17 - عبد الله بن أبي نجيح. 18 - عبد الأعلى بن عبد الأعلى. 19 - عبد الرحمن بن إسحاق المدني. 20 - عبد الوارث بن سعيد الثوري. 21 - عطاء بن أبي ميمونة. 22 - العلاء بن الحارث. 23 - عمرو بن أبي زائدة. 24 - عمران بن مسلم القصير. 25 - عمير بن هانئ. 26 - عوف الأعرابي. 27 - كهمس بن المنهال. 28 - محمد بن سواء البصري. 29 - هارون بن موسى الأعور النحوي. 30 - هشام الدستوائي. 31 - وهب بن منبه. 32 - يحيى بن حمزة الحضرمي. قال السيوطي: هؤلاء رُمُوا بالقدر، وكلهم ممن روى له الشيخان أو أحدهما اهـ. وقال ابن تيمية: في هؤلاء، يعني القدرية، خلق كثير من العلماء والعباد، كتب عنهم وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم. وقال الإمام أحمد: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة، قال ابن تيمية: وهذا لأن مسألة خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات مسألة مشكلة اهـ. * * * (10) بيان أن الجهمية والمعتزلة لهم ما للمجتهدين كما أن اسم الاجتهاد يتناول في عرفهم فروع الفقه، فكذلك مسائل الكلام لعموم مفهومه لغة واصطلاحًا ووجودًا، فإن الفِرَق التي تنوع اجتهادها في مسائل الكلام، ربما تربوا على مجتهدي الفروع، وكيف لا تكون من المجتهدين وهي تستدل وتحكم، وتبرهن وتقضي، وتجادل خصومها بمآخذها، وترى أن ما تستدل عليه هو الحق الذي لا يعقد على سواه، ولا يدان الحق تعالى بغيره. وجلي أن ما يبعث على بذل الجهد في الفروع، هو نظير ما يبعث عليه في الأصول أو أعظم، فإن مسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن واردة الكائنات، لما تشابهت الآيات والأخبار فيها، ذهب كل فريق إلى ما رآه أرفق لكلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه، فكانوا لذلك مجتهدين، وفي اجتهادهم مأجورين، وإن كانوا في القرب من الحق متفاوتين. نعم لا يمكن أن يقال في مسائل الأصول: إن كل مجتهد فيها مصيب، وإن الحق فيها متعدد، كما قاله الأكثرون في غيرها من مسائل الفروع المجتهد فيها؛ وذلك لأن مسائل الأصول أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة، ولا تحتمل اجتهادين يمكن أن يكون الأمر على هذا أو ذاك، بل لا بد من كونه على أحدهما ألبتة، والأمور الذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتتبعها، فلذلك كان المصيب فيها واحدًا، والحق منها واحدًا، والمخطئ معذورًا غير آثم؛ لأنه بذل وسعه، واستنفذ طاقته، وما يراه غيره نصًّا يراه هو غير نص ' فالحقيقة عند أحدهما مجاز عند الآخر وبالعكس. وقد ذهب الغزالي إلى أن الإثم غير محطوط عن المخالفين في مسائل الأصول، وحجته اتفاق سلف الأمة على ذم المبتدعة ومهاجرتهم، وقطع الصحبة معهم، وتشديد الإنكار عليهم، مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه. هذا ما احتج به الغزالي. وعجيب من مثله أن يعد هذا دليلا على تأثيمهم، وأي مناسبة بين الدعوى والدليل؟ على أن دعوى الاتفاق على ذم المبتدعة ومهاجرتهم مردودة بتلقي أئمة الحديث عن كثير منهم، وحمل السنن النبوية عنهم، وجعلهم في الآثار حجة بينهم وبين ربهم، وقد سبق لنا عدة ممن روى لهم الشيخان من الجهمية والمعتزلة والقدرية وبقي ممن رويا لهم من الإباضية والمرجئة والشيعة عدد عديد كما تراه في مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر والتدريب شرح التقريب للسيوطي وميزان الاعتدال للذهبي. وقدمنا ما قاله الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد كتب عنهم وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم ثم قال: لكن من كان داعية لم يُخرِّجوا له، ولهذا لم يخرِّج أصحاب الصحيح لمن كان داعية اهـ. وقد اشتهر هذا، أعني أن من كان داعية إلى بدعته لم يُخرِّجوا له، مع أن العراقي اعترض على ذلك بأن الشيخين احتجا بالدعاة، فاحتج البخاري بعمران بن حطان الخارجي، واحتجا بعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، وكان داعية إلى الإرجاء، فأنى يستقيم مع ذلك دعوى هجران السلف لهم، وقطع الصحبة معهم، وهم قد حملوا عنهم من السنة ما لم يوجد عند غيرهم، وأصبح مرويهم حجة دامغة أبد الآباد؟ نعم كان بعض السلف سلق بعض متقدمي الجهمية والقدرية بألسنة حداد، ورموهم بما هم برآء منه، وكان ذلك أيام ضعفهم وقلتهم، أما وقد انتشر مذهبهم بعد، ودالت الدولة لهم، ودخل فيه قوم من العلماء والعباد، فلم يسع من عاصرهم من أئمة الحديث إلا التحمل عنهم وإنصافهم، كما رأيت في عبارة الإمام أحمد المتقدمة. فتبين مما ذكرناه أن ما عوَّل عليه الغزالي في المستصفى لا يصح دليلاً ولا شبهة مع ما عرفت من تخريج الشيخين عنهما، بله غيرهما، ممن نزل شرطه في تخريجه عن شرطهما، كأصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، فإن هذه الكتب ملأى بالمبتدعين من الفرق كلها، كما يعرفه من سَبَرَ طبقات الرجال، ورأى رموز من خرج لهم من الرواة المشاهير. وبالجملة فكون هذه الفرق مجتهدة لها ما للمجتهدين، أمر لا يرتاب فيه منصف، والمجتهد معذور بل مأجور وإن أخطأ، وإذا انتفى الإثم عن المجتهد فأنى يصح نبزه بالألقاب السوءى والحفيظة عليه، وهل فرق الأئمة وجعلها شيعًا وأذهب ريحها إلا هذا التنابز والإزراء المعيب، مع ما يجمع الكل من أخوة الإسلام. ولقد أنصف العلامة المقبلي في قوله في بحث الكلام مع المعتزلة من كتابه العلم الشامخ ما مثاله: إني لست بمعتزلي ولا أشعري، ولا أرضى بغير الانتساب إلى الإسلام، وصاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام، وأعد الجميع إخوانًا، وأحسبهم على الحق أعوانًا. انتهى. ومن طالع كتاب حجج القرآن للإمام أحمد الرازي الحنفي رحمه الله، ورأى تمسك كل فرقة من فرق الإسلام بآيات وأخبار ذهب بها اجتهادها إلى أنها نصوص أو ظواهر فيما تذهب إليه عذرها ورحمها، وعلم أنها لم تكل جزافًا، وإنما وزنت الأمر بمعيار ما أدى إليه النظر، وتوخت الحق جهدها، نعم ليس كل من يتوخى الحق يصيبه، إلا أنه ليس على باذل جهده ملام، والسلام. وقد حكى السبكي في طبقاته عن أبيه أنه وقف لبعض المعتزلة على كتاب سماه طبقات المعتزلة افتتح بذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ظنًّا منه أنه منهم على عقيدتهم، قال السبكي: وهذا نهاية في التعصب فإنما ينسب إلى المرء من مشى على منواله اهـ. وجليٌّ أن الذي أوصلهم إلى عد الصحابة منهم، هو الشغف بمذهبهم، والاعتقاد بأنه الحق والصواب، ولا غرو فإن الولع بمذهب يحاول أن يرد الكتاب والسنة وخيار الناس إليه، بيد أن من هؤلاء مجتهدين، ومنهم مقلدون، وبينهما بون عظيم، فإن المجتهدين يؤثرون مذهبهم لما يرشدهم الدليل إليه، فهم يستدلون ثم يعتقدون، وأما المقلدون فهم يؤثرون مذهبهم حبًّا أو عصبية، فيعتقدون ثم يستدلون لما يعتقدون، فإن رأوا خلافه أعرضوا عنه: فما أضيع البرهان عند المقلد. قال الإمام أحمد بن المختار الرازي في مقدمة كتابه حجج القرآن لما استخرج منه حجج كل طائفة ما مثاله: وما من فرقة إلا ولها حجة من الكتاب، وما من طائفة إلا وفيها علماء نحارير فضلاء، لهم في عقائدهم مصنفات، وفي قواعدهم مؤلفات، وكل منهم يؤول دليل صاحبه على حسب عقيدته ووفق مذهبه، وما منهم من أحد إلا ويعتقد أنه هو المحق السعيد، وأن مخالفه لفي ضلال بعيد {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) قال: وليس قصدنا بيان مقولات المتكلمين، من المتأخرين والمتقدمين، ولكن القصد أن نذكر جميع حجج القرآن بطريق الاستيعاب، ثم نذكر حجج الحديث، لكل قوم من القديم والحديث، لكيلا يعجل طاعن بطعنه في فرقة، ولا يغلو قادح بقدحه في طائفة. وكتابه هذا بديع جدًّا، رتَّبه على ثلاثين بابًا، في كل باب فصول جمة، وقال رحمه الله في خاتمته ما صورته: هذا آخر ما أوردنا من حجج القرآن لجميع أهل الملل والأديان، وهي بمجموعها حجة على أصحاب الظواهر الذين يأبون التأويل، وينسبون مخالفيهم إلى التعطيل وحجة أيضًا على المتعصبين الذين يقابلون مخالفيهم بالتكفير والتضليل، والتخطئة والتجهيل، وحجة أيضا على من ينكر النظر في كتب الأصول، أو يقول فيها بالمنقول دون المعقول وحجة أيضًا على من يكفر أهل القبلة أو يعير طائفة بالقلة، أو يخرجهم ببدعة عن الملة، وحجة أيضًا على من يجزم على م

الإسلام وحرية العقيدة وكتاب الدعوة الإسلامية

الكاتب: محمد سعدي بك

_ الإسلام وحرية العقيدة وكتاب الدعوة الإسلامية أرسل محمد سعيد بك مكاتب جريدة أقدام التركية في لندن مقالة إلى جريدته في الآستانة اقتبسها عن فصل لمجلة الشرق الأدنى الإنكليزية نشرته بمناسبة صدور كتاب الأستاذ أرنولد الذي سماه الدعوة الإسلامية Islam of Preachrng The ونحن نترجم هذه المقالة عن جريدة أقدام وهذا نصها: كان للكتاب الجديد الذي أصدره الأستاذ أرنولد وقع عظيم عند الراغبين في درس أحوال العالم الإسلامي؛ لأنه بينما كانت الكتب التي سبق انتشارها بشأن الشريعة الإسلامية وصاحبها مملوءة بالأكاذيب والأغلاط إذا بكتاب الأستاذ أرنولد قد كشف النقاب عما فيها من البهتان بما امتاز به كتابه من التحقيق. وقد أبان هذا الكتاب أحوال الإسلام منذ ظهر في أم القرى إلى أن عم أقطار الدنيا فكان دينًا عامًّا للناس أجمعين، وإن فيه من الفصول النافعة عن كيفية انتشار الإسلام بين العرب فالأتراك ما يصح أن يكون تأريخًا لهذا الدين. وإن الأستاذ أرنولد قد دحض بمتانته وبلاغته وحكمته تلك الفرية التي اخترعها بعض المسيحيين المتعصبين عن انتشار الإسلام بالسيف في بدء ظهوره حتى قال في رد ذلك: إن الإسلام لم يستعن بالسيف بقدر ما استعانت النصرانية بالنار والمال. ثم قال: وإن خرافة السيف هذه التي يذكرها المتعصبون من النصارى بحدة وتحمس ليس لها أصل في الحقيقة؛ لأن التقاليد التي جرى عليها الإسلام والحكمة العامة التي جاء بها القرآن دائرتان حول تعويد البشر السلام والصلاح، والإسلام دين من السهل نشره، وقد أرشد محمد صلى الله عليه وسلم كل المسلمين إلى ضرورة السعي لهذه الغاية بتعليمه إياهم أن يعلموا غيرهم ما يعلمونه. وهذه الهداية النبوية قد عملت في نشر الإسلام ما لا تعمله قوة السياسة والجيش، ونحن نرى الآن كيف أن الحكومات الإسلامية قد أشرفت على الهلاك ومع ذلك كان الإقبال على الإسلام أعظم من الإقبال على أي دين آخر، والداخلون فيه يزداد عددهم يوما بعد يوم، وهذا يظهر للباحث من النظر في أبسط الإحصائيات، وفي هذه الأمور ما يدلنا على أمر قطعي وهو أن الإسلام قام على أساس قوة حكمية معنوية لا يحتاج معها إلى قوة مادية لنشر دعوته. ومما يدعو إلى الحيرة والعجب أن كل انتصار كان للعرب في حروبهم وكل استيلاء كان لهم في فتوحهم لم يكن شيء منه في شكل حرب دينية إلا أن هذا العمل العظيم الذي قام به العرب لم يكن مما يسر أولئك المسيحيين فصوروه بالصورة التي شاءوها له وتوجهت أنظار كل مؤرخيهم إلى أن الإسلام انتشر بقوة السيف، أما الوسائل الأخرى التي كانت للإسلام في انتشاره فكانت مجهولة عند أولئك المؤرخين. الحقيقة أن الجيش العربي لم يطرق ديار فارس وبيزانس ليغير دين سكانها، بل إن مسألة الدين كانت آخر شيء يخطر على بال الجيش العربي. الباعث الحقيقي على تلك النهضة العربية العامة هو أن هذه الأمة الشجاعة النشيطة قد أحست وهي في البادية بحاجتها إلى التبسط في الثروة والعمران فدفعتها هذه الحاجة إلى ممالك جيرانها وكان اندفاعها عامًّا ومنتظمًا وكانت حركته مسيرة بالتأثير الطبيعي الذي لتلك الحكومات الملهمة في المدينة المنورة، وهذه الحكومة أسست بحكمة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخذوا الهداية عنه فعاش بها الإسلام إلى اليوم وسيبقى بها دينًا رسميًّا عامًّا عائشًا إلى الأبد، ونحن إذا نظرنا في الأمر نظرة إنصاف يتبين أن انتشار الدين الإسلامي لم تساعد عليه نهضة ذلك الجيش العربي الفاتح. وإن نصارى الشرق بعد الفتح العربي كانوا متمتعين بحرية الدين الحقيقية الزاهرة إلى حد أن النصارى الشرقيين كانوا يرجحون العيشة في الإدارة الإسلامية لما رأوا من أن الحرية المذهبية عند بني دينهم في الغرب كانت لفظًا مجردًا عن معناها الصحيح. الدين الإسلامي دين منطقي فطري منزه كل التنزه عن الأساطير والخرافات، وهو قائم على الأحكام الصادرة من أرباب العقول السليمة بدون غرض، ولهذا صار الإسلام مقبولا في كل الأقطار. ومن الناس من يزعم أن الإسلام ليس دينًا اجتماعيًّا ولكن الأستاذ أرنولد يدحض هذا الزعم بقوله: الإسلام دين عملي جاء بالهداية الحكيمة لكثير من الفلاسفة والشعراء والعلماء الإلهيين والحكماء وقد مر على هذه الأرض زمان كادت تختنق فيه بظلمة الجهل فأدركها الإسلام بمدارسه الجامعة، ومن ذا الذي ينكر الفوائد العظمى التي نالتها أوربة من هذه المدارس الإسلامية ومما بعثته إلينا من العلوم النافعة والفلسفة؟ وإذا شاء القارئ دليلاً أعظم من هذا نقول له: حسب الإسلام أن يكون منزهًا عن نقيصة الرهبانية وعن مهنة التبشير والرئاسة الدينية، أما الدعوة إلى الإسلام فهي واجبة على كل مسلم لا في مقابل أجرة من متاع الدنيا كما هي الحال في النصرانية بل في سبيل الله ولله، والفرق بين الدعوتين ظاهر. وإن الدعوتين تظهران بما لهما من الأثر في أفريقية، فالدعوة إلى الإسلام يقوم بها هناك التجار المسلمون وإن لهؤلاء التجار فضلاً حقيقيًّا في القضاء على تجارة الرقيق كما أن لهم الهمة العالية في نشر الإسلام، وإنما يقاومون عادة الرق؛ لأنه يؤلمهم أن يباع إخوانهم المسلمون كما تباع السلع........ ويرون هذا منافيًا لرابطة الإخاء، ولذلك كان النجاح الحقيقي في منع الرق من إفريقية من نصيب الإسلام. وكذلك إذا أردنا أن نقول الحقيقة بشرف وإنصاف فلا بد من القول بأن الذي علم الزنوج مزية النظافة والقناعة والأخلاق الإنسانية هو الإسلام أيضًا، ولهذا كان الإسلام جديرًا بما كان له في الأقطار الأفريقية، من الحب في القلوب والإقبال عليه من الجميع والنظر إليه بأنه معجزة خارقة. ومن الناس من قال: إن الإسلام دين لا تدخل فيه إلا الأمم التي في الشرق المتوسط لما جاء في هذا الدين من الأحكام القاسية التي تنافي مبادئ المدنية، فكان جواب الأستاذ أرنولد عن هذه التهمة بما يأتي: إن في هذا القول مغالطة وهو مخالف للواقع؛ لأن الإسلام قد انتشر في الصين وبلاد المغول والتتر وفي الأمم الكثيرة في شرق آسيا وفي وسطها، وهؤلاء يعدون بالملايين، وفي كل يوم تنضم إليهم ألوف جديدة من الناس اهـ. ذلك هو كتاب المستر أرنولد الذي نشره حديثًا فأبان به أسباب ارتقاء الإسلام وتقدمه ذاكرًا ذلك بلسان نزيه وإنصاف عال. ويقول الكاتب الفاضل المستر وليم مكسويل الذي صدق على هذه المسائل: إن الحالة السيئة التي وصل إليها العالم الإسلامي لا عار فيها على الإسلام مطلقًا، والسبب الحقيقي لتدني المسلمين هو أن الأتراك المهيمنين على الإسلام في هذه الإيام بينما كان يجب عليهم أن يأخذوا بروح الهداية الإسلامية والمعاني القرآنية تركوا كل هذا وانصرفوا إلى الألفاظ والأشكال وصاروا يهربون من الارتقاء والتجدد والحياة في صغير أمورهم وكبيرها. وإن الذي يقرأ كتاب الأستاذ أرنولد باهتمام خاص يجد فيه الأسباب التي تنعش الإسلام وتبعث فيه روح الحياة. انتهى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المؤيد ... ... (المنار) إن أرنولد من فضلاء الإنجليز المستقلين في رأيهم المنصفين في حكمهم الذين قلنا: إن عددهم في الأوربيين لا يحصى، وهو قد عاشر المسلمين في الهند واطلع على كثير من كتبهم، فلم يأخذ علمه بالإسلام عن دعاة النصرانية ولا عن رجال السياسة الذين قلنا فيهم: إنهم يغشون أهل الإنصاف من أقوامهم بما يشوهون به الإسلام. وكتابه هذا ليس جديدًا بل ألفه منذ أعوام، وربما نشر بالطبع نشرًا جديدًا. كتب الرجل كتابه على بصيرة وعلم يزينهما الإنصاف فقل غلطه في أخباره وفي آرائه أيضًا، فمما يخطئه به كل مسلم قوله - بحسن النية وقصد المدح - إن أحكام الإسلام صادرة من أرباب العقول السليمة بدون غرض، على أنها عبارة يمكن تفسيرها تفسيرًا صحيحًا بأن الأحكام الإسلامية المستنبطة من الكتاب والسنة إنما استنبطها علماء عقلاء اتبعوا فيها الحق والمصلحة لا الأغراض والأهواء. وإنما نخطئ ما يتبادر إلى الأفهام من أن مراده بما ذكر أصل الإسلام من كتابه وسنة الداعي إليه صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك كان نتاج عدة عقول سليمة. ومن لم يؤمن بالوحي لا مندوحة له عن مثل هذا الرأي. وكذلك قوله: إن مسألة الدين كانت آخر ما يخطر في بال أولئك الفاتحين، والصواب عندنا أن هداية الناس إلى الإسلام كانت أول ما يخطر في بال أولئك الفاتحين، ولكن بدون إكراه ولا إجبار، فكانوا يعتقدون أن فتحهم للبلاد وحماية حرية الأديان فيها مع العدل والمساواة هو الذي يظهر لأهلها المستعدين للتمييز بطلان ما قلدوا فيه سلفهم، وحقيقة ما عليه الفاتحون لبلادهم، فكان لدخول الناس في الإسلام أفواجا سببان: أحدهما ما كانت عليه الشعوب التي فتح العرب بلادها من الخرافات والتقاليد الباطلة، وثانيهما ما رأوه من فضائل العرب وعدلهم وحريتهم وحقيقة دينهم، فكانت حالهم النفسية أعظم داع إلى دينهم الحق، واقتصر هو على السبب الأول. نعم إنه أصاب في قوله: إن فتوحاتهم ما كانت دينية بالمعنى الذي يفهمه الأوربيون، وهو التنكيل بالمخالف أو يرجع عن دينه، فهذا المعنى ما خطر في بال أحد من فاتحي العرب في وقت ما ولا يبيحه الإسلام، وأما قوله: إن الإسلام لا يحتاج إلى دعاة ومبشرين فهو إنما يصح إذا أقامه أهله، أما وقد صار جمهور أهله منحرفين عن هدايته العليا بالفعل، ودعاة النصرانية يهاجمونه بالتضليل والإفك، فقد وجب أن يتربى ويتعلم طائفة من المسلمين كيف يدعون إليه ببيان حقيقته، وكيف يدافعون عنه بإظهار أباطيل خصومه. وأما قول وليم مكسويل: إن سبب ضعف المسلمين هو ترك الترك لروح هداية القرآن، فهو وإن أقره مُكاتب أقدام وإدارة تحريرها من الترك يحتاج إلى شرح طويل.

المرأة قبل الإسلام وبعده

الكاتب: أمير علي

_ المرأة قبل الإسلام وبعده مقال في مسألة تعدد الزوجات نشره بالإنكليزية في أوربة السيد أمير علي العلامة العصري الشهير بدفاعه عن الإسلام وترجمه بالعربية أحمد أفندي نجيب ونشره في المؤيد وهذه ترجمته: (1) في غضون التطورات الاجتماعية الأولى كان تعدد الزوجات أمرًا لا مناص للعالم منه ألبتة؛ ذلك لأن هروب القبائل التي ما كانت تهدأ ثائرتها قط، والنتائج الطبيعية اللازمة لذلك من نقص عدد الذكور وزيادة عدد النساء أوجدت بالضرورة تلك العادة التي تعتبر بحق في أيامنا هذه إحدى الآفات التي لا بد للعالم من التخلص منها. فإذا تصفحنا تاريخ الأمم الشرقية في تلك العصور الخوالي وجدنا تعدد الزوجات عادة مألوفة ومتبعة، ولقد زادها ثباتًا ورسوخًا بين الناس حينئذ ما كان من أمر ملوك ذلك الوقت الذين كانوا يزعمون أنهم يحكمون بوحي من عند الله فإنهم بما كان لهم من هذه السيطرة الكبرى قد صبغوا تلك العادة بصبغة رسمية وذلك بتزوجهم هم أنفسهم بأكثر من امرأة واحدة. فإذا تتبعنا تاريخ الهندوس مثلا وجدنا أن تعدد الزوجات عندهم عادة متبعة من قديم الزمان شأنهم في ذلك شأن البابليين والآشوريين والفرس فإنهم هم أيضًا لم يكن عندهم حد يقفون عنده في الزواج، وإذا تتبعنا تاريخ الأمم والشعوب الأخرى وجدنا أن الطبقة العليا من البراهمة حتى في هذه الأزمنة الحديثة تتزوج بما تشاء من النساء من غير حرج. وهكذا كان شأن الإسرائيليين قبل موسى وبعده فإن شريعة ذلك النبي لم تتصادم مع تلك العادة بل تمشت معها في طريقها القديم، نعم إن تلمود بيت المقدس كتاب تقاليد اليهود نص على أنه لا يحق لرجل أن يتزوج بأكثر من العدد الذي في استطاعته أن يعول أمره، وأن الربانيين قرروا فيما بينهم أن الرجل لا ينبغي أن يتزوج بأكثر من أربع نساء، ولكننا نرى القرايين منهم لا يذهبون مذهبهم ولا يسلمون بتحديد ما. أما الفرس فقد كان دينهم حينئذ يَعِدُ من يتزوج بأكثر من امرأة بحسن الجزاء. وأما الفينيقيون فقد انحط الزواج عندهم إلى درجة الفحش بمعنى أن الرجل أصبح يعقر ما شاء من النساء بغير حرج، وأما شعوب ثراسيا وليديا وبلاسجيا، تلك الشعوب التي قطنت في أماكن شتى من أوروبا وغرب آسيا، فقد بلغت عادة تعدد الزوجات عندهم حدًّا يقصر عنه الوصف. هذا ما كان من تعدد الزوجات في الشرق القديم، وأما الغرب فقد كانت المرأة في أثينا مهد المدنية والحضارة منه كمنزلة المتاع تعرض في الأسواق، وتنقل من يد إلى يد، وبالجملة يحق عليها كل ما كان يحق على أثاث البيت الصرف، كان الأثينيون فوق ذلك يعتبرون المرأة شيطانًا لا غنى عنه في ترتيب المنزل وتربية الأطفال، وكان يحق للرجل منهم أن يأخذ ما شاء من النساء بغير حساب، وأما الشارع في إسبارطة فإن كان لم يأذن للرجل باتخاذ أكثر من زوجة إلا في ظروف مخصوصة، فقد أجاز للمرأة أن تتخذ أكثر من بعل واحد. هذا، وأما الدولة الرومانية فإنه يحتمل أن الظروف المخصوصة التي تكونت فيها هذه الدولة أبت أن تجعل تعدد الزوجات مشروعًا في بدء حياتها، ومهما يكن من أمر حكاية اعتصاب نسوة الصابيين المشهورة وقيمتها التاريخية فلا ريب عندي أن وجود هذه الحكاية وتناقلها من السلف إلى الخلف من شأنه إرشادنا صراحة إلى الأسباب التي ساعدت على وضع تلك القوانين الأولية للزواج في الدولة الرومانية رغمًا من بقاء عادة تعدد الزوجات في البلاد المحيطة بها برومية من كل جانب، خصوصًا بين الإنزسكانيين، ولقد كانت نتيجة احتكاك الرومانيين عدة قرون مع بقية شعوب إيطاليا والحروب والفتوحات التي وقعت حينئذ كذلك، وكل ما كان من أمر الأبهة والفخفخة التي جاءتهم على أثر نجاحهم في الاستعمار، كان نتيجة ذلك كله أن سقطت منزلة العقود الزوجية المقدسة وأصبح الرجال يعيشون مع النساء بغير عقد أو كتاب، بمعنى أن النساء جميعا أصبحن في منزلة السراري والحظايا، ومما زاد هذه الحالة قوة وثباتا ما كان من أمر قوانين البلاد التي اضطرت إلى الاعتراف بهذه الحالة رسميًّا، فالحرية المطلقة التي أعطيت للمرأة حينئذ، وضياع ذلك الرباط الذي كان يربطها بالرجل، والحالة الناشئة عن ذلك من استبدال الرجل لنسائه أو نقلهن من يد إلى يد، كلها أمور تدل صراحة على وجود عادة تعدد الزوجات بالفعل، وإن وجدت تحت اسم مستعار. هذا وبينما هذه الأمور جارية على ما بينا في الغرب كانت المسيحية قد ظهرت في الشرق وبدأ نورها يتألق في أفق العالم الروماني بأسره، ولا ريب أن هناك أسبابا كثيرة منها الروح وتأثيرها على تعاليم المسيح، قد حدت بنبي الناصرة إلى أن يضع من قيمة الزواج مطلقًا وإن لم يحرمه أو يأمر بمنعه على أي شكل كان. على أن تعدد الزوجات بقي بالرغم من ذلك كله جاريًا مجراه الأصلي في البلاد الرومانية إلى أن جاء جوسنتيان فوضع القوانين لإبطال هذا التعدد، ولكن هذا الإبطال الذي جاءت به تلك القوانين لم يؤثر تأثيره المطلوب وبقي تعدد الزوجات معمولاً به ومتبعًا إلى أن استنكرته الهيئة الاجتماعية الحديثة فأبطلته. وإذا أردنا أن نتوسع في ذكر ما نصته تلك القوانين في معاملة النساء اللواتي سبق زواجهن برجل واحد نقول: إنها خصت المرأة الأولى بكل المميزات، وأبقت النساء الأخرى في أشد حالات التعاسة والشقاء، وزد على هذا أن أولادهن يحرمون من إرث أبيهم، ومن كل حق اجتماعي آخر. وإنه يجمل بنا في هذا المقام أن نلاحظ أن تعدد الزوجات بالصورة التي ذكرناها آنفًا ما كان خاصًّا بالطبقة العليا من الشعب في رومية بل تعداه إلى كل الطبقات، ولم يستثن من ذلك طبقة رجال الدين الذين نسوا أقسام العزوبة التي أقسموها، وأصبح الرجل منهم يجمع في بيته أكثر من امرأة شرعيات كن أو غير شرعيات. وإن التاريخ ليثبت أن تعدد الزوجات ما كان مستنكرًا إلى وقت قريب جدًّا ولقد ذكر (سنت أوغستين) نفسه أن ليس في تعدد الزوجات من إثم أو عيب مطلقًا وقال: إنه ما دامت شريعة البلاد تبيح تعدد الزوجات فلا شيء في ذلك بتاتًا، وقال (هلم) : إن المصلحين الألمانيين أقروا على صلاحية الجمع بين امرأتين أو ثلاث إذا كانت المرأة عاقرًا أو إذا كان فيها ما يماثل ذلك من النقص، وقال بعض أصحاب الرأي من الأوربيين أيضًا: إنه لا عيب مطلقا في تعدد الزوجات، وإن المسيح نفسه لم يصرح قط بإبطال هذه العادة، ولقد استطرد هؤلاء المفكرون إلى القول بأن وحدة الزوجية المنتشرة في أوربا الآن هي عادة من عوائد الألمانيين أو الرومانيين الإغريق، وهذا قول مخالف للواقع والتاريخ؛ ذلك لأن هؤلاء القوم استدلوا على صحة قولهم بشهادة اثنين من كتاب الرومان، ولكن هذه الشهادة على كونها لم تثبت، لم يعززها كتاب آخرون، فإن هذين الكاتبين مشهوران، بطمس معالم الحقائق اتباعًا لأهوائهما. والواقع أننا إذا تمشينا مع تاسيتش، وهو أحد هذين الكاتبين، فيما زعمه عن وحدة الزوجية بين الألمان، فإننا نرى أنفسنا أمام حقيقة تاريخية تفسد عليه زعمه، وهذه الحقيقة ذكرها أغلب المؤرخين وهي وجود أثر من آثار تعدد الزوجات القديمة في الطبقة العليا من الألمان في القرن التاسع عشر. الحقيقة أن تاسيتش أراد من ذكر هذه الأكذوبة في كتابه أخلاق الألمان استفزاز عواطف بني وطنه الرومانيين لمجاراة الأخلاق الموهومة لجيرانهم الألمانيين ليصلحوا من شئونهم ويقلعوا عن شهواتهم واتخاذ السراري والحظيات. هذا، وإذا استأنفنا البحث عن تاريخ تعدد الزوجات في الدولة الرومانية وجدنا أن هذه العادة كان معترفًا بها في أواخر الجمهورية في بداية الإمبراطورية، وإن الاعتراف بهذه العادة ظاهر من المنشور الذي أذاعه القائمون بأمر الحكومة حينئذ لإبطال هذه العادة، ولكن هذا المنشور لم ينجح نجاحه المطلوب فيكفينا لإثبات ذلك أن الإمبراطرة هناريس وأركاديوس اللذين حكما في نهاية القرن الرابع، وقسطنطين وولده فيما بعد، لازموا العادة القديمة، على أن ثلانتين الثاني أصدر منشورًا بعد ذلك أيضًا أذن فيها لمن يريد من الرعية أن يتزوج بعدة نساء، وليس في تاريخ الكنيسة ما يدلنا على أن رجال الدين عارضوا هذا القانون بل بقي معمولاً به لدى من خلفه من الإمبراطرة حتى جاء جوستنيان كما أسلفنا فأعاد منعها، ومن العبث أن يظن أن هذه القوانين الجديدة وضعت تطبيقًا لأحكام دينية مسيحية فإن أكبر مستشاري هذا الرجل جوستنيان ما كان يعترف بوجود الله ومع ذلك فإن هذه القوانين لم تُحَّوْل ذلك التيار الجارف قيد شبر، وكل ما يقال فيها: إنها كانت فاتحة حياة فكرية للعالم الجديد، وإذا كانت وحدة الزوجية قد انتشرت في أوروبا الآن فليس ذلك نتيجة من نتائج هذه القوانين وغيرها، وإنما هي نتيجة عمل تفكيري محض انتهى إليها المجتمع الجديد بعد تجارب عدة من القرون. (2) بعد أن بينا في مقالنا السالف تاريخ تعدد الزوجات في العالم بإسهاب نعود اليوم فنذكر أن أكبر غلطة يرتكبها الكتاب المسيحيون في هذا العصر هي ما يزعمونه من أن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أول من شرع تعدد الزوجات للخلق وأجازه لهم، نعم إنه بطل اليوم رأي القائلين بأن محمدًا هو أول من أوجد تعدد الزوجات في العالم وأول من قال به، لا لأن هذا الرأي قد ظهر أنه مخالف للحقيقة والتاريخ فقط، بل لأن من يقول به لنا يلصق بنفسه تهمة الجهل الفاضح بأساس هذه المسألة الاجتماعية القديمة، أقول: نعم إنه بطل اليوم هذا الرأي ولكن زعمهم أن النبي أجاز هذه العادة وصرح بها كما ذكرنا ما زال مذهب المسيحيين عمومًا والمتعلمين منهم خصوصا ولسنا في حاجة إلى القول بأن هذا زعم فاسد باطل كما سنبينه بعد. إن محمدًا صلى الله عليه وسلم وجد تعدد الزوجات عادة معمولاً بها بين قومه كما وجدها معمولاً بها في كافة الأصقاع المجاورة لبلاده. نعم إن الإمبراطورية المسيحية حاولت بما وضعته من القوانين أن تضع حدًّا لتلك الحالة المحزنة كما ذكرنا في الفصل السالف، ولكن نتيجة هذا العمل كانت على غير ما يراه أصحاب هذه القوانين، فإن تعدد الزوجات سار في تياره القديم بغير انقطاع، ونساء الرجل الواحد خلا الأولى منهن بقين على حالتهن الأولى من التعاسة والشقاء. أما في بلاد الفرس فقد كان سقوط الآداب وانحطاطها حوالي الوقت الذي ظهر فيه النبي أمرًا موجبًا للدهشة والحزن معا، فإنه لم يكن ثم قانون للزواج مطلقا، وإذا كان ثم قانون من هذا القبيل فقد كان مهملاً وغير معمول به أصلاً. ولما كانت قوانين البلاد لم تحدد على كل حال العدد الذي يقف الرجل عنده في الزواج كان من أمر الفارسيين أن استمرءوا هذا المرعى الخصيب وصار الرجل منهم يتخذ ما شاء من الزوجات، زائدًا على السراري والحظيات (رولنجر صحيفة 406) . ولقد كان بين العرب الأقدمين واليهود عدا ما قلناه من عادة تعدد الزوجات عادة أخرى هي الزواج بشروط مخصوصة، وكذا الزواج لمدة معينة، ولا ريب أن وجود مثل هذه الحالة في شبه جزيرة العرب كان من شأنه تحطيم وجود الأمة الاجتماعي بأسره، إلا أن الله قيض لها من يرفع شأنها ويأخذ بيدها من هذه الوهدة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ورفع من شأن المرأة فارتفع البناء الاجتماعي بأكمله. لقد كان مركز المرأة بين اليهود والعرب في أقصى دركات الانحطاط، فقد كان شأن الموسوية في بيت أبيها شأن ال

سقوط مسقط

الكاتب: عن مجلة لغة العرب البغدادية

_ سقوط مسقط [*] La chute de Mascate (1) مسقط هي الثغر العربي البحري حاضرة بلاد عمان على حرف بحرها في عرض 23 درجة و37 دقيقة من الشمال وفي طول 56 درجة و15 دقيقة من الشرق فيها نحو 35 ألفًا من السكان وميناؤها حسن، وكان قد حصنها سابقًا البرتغاليون، وتجارتها مع بمبي وخليج فارس نافقة، والميناء الصغير الذي يجاورها واسمه مطرح يعد من مرافقها وكان قد فتحها البوكرك في سنة 1507 فامتلكها البرتغاليون إلى سنة 1648 ثم خرجت من أيديهم وتقلبت عليها الأحوال حتى أصبحت هدفًا للنفوذ الإنكليزي إلى هذه الأيام الأخيرة فجاءتنا الأخبار أن الإنكليز احتلوها وغدت من أملاكهم، ولا بد من أن نعرض على القراء مجمل الأنباء منذ أقرب عهد إلينا أي منذ عهد السيد سعيد بن سلطان لتقوم في الفكر صورة الحقيقة منذ نشأتها إلى هذا العهد. وقد استندنا في أغلب هذه الرواية على حضرة سليمان أفندي الدخيل صاحب الرياض فنقول: كان لمسقط في عهد السيد سعيد بن سلطان شأن يُذْكَر أصبحت فيه حاضرة إمارة كبيرة على سيف الخليج الفارسي تمتد على الثغور البحرية المجاورة لها حتى جزيرة البحرين التي لم يتغلب عليها مع أنه حارب أهلها أشد المحاربة، ومن الثغور التي كانت تضاف إلى الإمارة المذكورة لنجة وبندر عباس وما يجاورهما من البلاد الإيرانية الواقعة على خليج فارس، لا بل امتدت أجنحة إمارته إلى ساحل شرقي إفريقية مثل بلاد لامو ومنباسة والأتقزنجة وبندر السلام وهنزوان والجزيرة الخضراء وزنجبار وغيرها. وكان قد أقام له حاضرتين وهما مسقط للبلاد الواقعة في بحري عمان وفارس وزنجبار للأقطار الأفريقية، وعقد معاهدة مع والي البصرة ومثلها مع دولة الهند ليحافظ على استقلاله وأمور دياره حتى إن فرنسة أقرت له بلقب سلطان العرب أو امبراطورهم وقد نالت رعيته من الرفاهية ورغد العيش ما لم تنله تلك الأقطار في سابق الأعصار، وكان له أسطول ذو حول وطول يمخر أبحر الهند وفارس وعمان. بقيت تلك الدولة في نمو وزهو إلى أن توفي السيد سعيد فانقسمت دولته بين أبنائه قسمين: شطر عربي وشطر أفريقي، فكان الشطر الأفريقي نصيب السيد ماجد ومن بعده السيد برغش ووقع الشطر العربي حصة للسيد ثويني الذي قتله ابنه السيد سالم ليستولي على سلطنته، وما بدأ هذا الرجل بالقبض على زمام الأمر إلا واستعرت نيران الفتن واندلعت ألسنة اللهيب إلى تلك الديار ولم تخمد إلا بتغلب السيد تركي عليها وهو ابن السيد سعيد أخي السيد ثويني، وبقيت الأمور تجري في مجراها إلى عهد السيد فيصل بن تركي السلطان العربي الحالي، فتقاسم الإنكليز والألمانيون تلك البلاد في معاهدات سنة 1890 وأفضت ثغور فارس والبحرين والكويت إلى حماية الإنكليز. وهكذا أخذت البلاد تخرج من أيدي أصحابها. ولما اخترع الإفرنج البواخر وسيروها على متان البحار وشحنوها آلات جهنمية وبقي العرب على حالتهم الأولى من اتخاذ السفن الشراعية أو ذوات المقاذيف ضعفت قواهم في المحاربة وتأخروا عن سائر الأمم التي كانت تزداد قواها بازدياد عدد بواخرها وبوارجها ومدرعاتها فاضطر أمير مسقط أن يسايس الإفرنج والإنكليز خوفًا من أن تفلت البلاد من يديه قهرًا وقسرًا بدون أن يتمكن من معارضة المتغلبين الطامحة أبصارهم إلى دياره، فاضطر إلى منع النخاسة بيع الرقيق ثم إلى منع بيع الأسلحة ثم إلى غير هذه المطالب مما أوغر صدور العرب عليه ودفعهم إلى الخروج عليه. وأول من نفث في صدور الناس روح العصيان هو الشيخ عبد الله السالمي من الشرقية فإنه دعاهم إلى أن يبايعوه وقد كان بلده ضبية ومسكنه في بلد القابل الذي أميرها الشيخ عيسى بن صالح، وأول منه بايعه هو هذا الشيخ وكانت المبايعة سرًّا، والغاية من هذا الخروج إقامة السيد فيصل إمامًا شرعيًّا على الإباضية في مسقط يكون نافذ القول والأحكام لا سلطانًا، ولهذا كتبا إليه كتابًا ليلطلعاه على ما جال في فكرهما فأبى السيد فيصل قائلاً إنه سلطان وإمام معان، وإنه حر القول والفصل في مملكته يعمل ما يشاء ويقول ما يشاء. فلما بلغ ذلك الخبر إلى الشيخين امتعضا وانضم إليهما جمع شايعوهما في أفكارهما ثم طلبوا جميعهم إلى السيد فيصل أن يقطع دابر المومسات من مسقط وعمان وأن يمنع شرب المسكرات والدخان وتجول المبشرين في تلك البلاد إلى غير هذه المطالب، فأبى كل الإباء قائلا: إن الإنسان خلق حرًّا ولا يحق لي أن أقيده بقيود. فلما رأوا أنه رفض كل ما طلبوه منه اجتمع الشيخ عبد الله السالمي والشيخ عيسى بن صالح والشيخ عبد الله بن سعيد وعقدوا مجلسًا خفيًّا في سمائم من بني الرحية [1] وقرروا أن يبعثوا الشيخ عبد الله بن حميد إلى جميع ديار عمان ليدعوَ أهلها إلى النهوض مع الشيوخ المذكورين وإلى محاربة السيد فيصل لكونه أبى تلبية مطالبهم. فجرى الأمر على ما قرروه ومكنوا الصلح في قبائل عمان المختلفة وربطوا بعضها ببعض ليكونوا يدا واحدة على السيد السلطان، ثم سار الشيخ عبد الله بن حميد إلى تنوف [2] بليدة قريبة من نزوة وواجه شيخها حمير الإمامي الذي أمر للحال بجمع علماء الإباضية وذاكرهم في الأمر فقر رأيهم على تعيين إمام ومبايعته فأقاموا عليهم الشيخ سالم بن راشد الخروسي [3] ودخلوا نزوة سرًّا ودعوا سكانها إلى المبايعة فبايعوا الإمام وكان في مقدمتهم بنو يام والكنود [4] . فلما بلغ الخبر أمير نزوة وهو السيد سيف بن حمد من أبناء بني سعيد هجم عليهم بعسكره كبحًا لجماحهم، لكنهم أبلوا بلاء حسنًا وقتلوا من بني سعيد خاصة أكثر من 25 رجلاً وجرحوا الوالي ثم بعد ذلك أخذت نزوة، أو قل: سلمت نفسها بدون ممانعة لضعف أهلها وقوة محاربيهم، وللحال أخرجت العساكر من القلعة الحصينة [5] واحتلها أتباع الإمام. أما الوالي فإنه لما رأى الحال على تلك الصورة لجأ إلى أحد المساجد فطلبوا إليه أن يطاوع الإمام، وألا يعامل معاملة الأسرى، فاستمهلهم ساعة قبل الجواب فلما أمهلوه انتحر. قبض الإمام على زمام الأمر في نزوة، ولما قرت فيها قدمه أرسل يقول لسكان بيت سليط [6] إما الطاعة وإما الحرب فسالموه وأطاعوه. ثم سار وقد قسم جنده إلى طائفتين وجه الطائفة الأولى إلى بركة الموز [7] والطائفة الأخرى إلى الرستاق [8] وما كادت تصل تلك الجنود إلى تلك الديار إلا وانقاد سكانها للهاجمين بدون معارضة ثم زحفوا على بلاد الحزم [9] فبايع أهلها الإمام ثم زحفوا إلى ولاية العوابي [10] ، فلم يقاومهم فيها أحد، وفي تلك الأثناء كانت الطائفة الثانية من الجند قد زحفت من بركة الموز إلى ولاية تركي [11] ، وقالوا لواليها: إن أنت وافقتنا على أمرنا أقمناك إمامًا. فسلمهم القلعة بدون محاربة وللحال لفوا رأسه بعمامة وقالوا له: كن مستعدًا لأن تكون خليفة بعد إمامنا هذا. لما سمع السيد فيصل هذه الأمور جيش جيشًا فيه 5 آلاف جندي وأمر عليه ابنه السيد نادر فلما وصل إلى قرب موقع الإمام الجديد في سمائم قلب له جيشه ظهر المجنّ فانحاز إلى جيش الخصم ولم يبق معه إلا فرقة من البلوص وأولاد بني سعيد وكلهم لا يتجاوز عددهم التسعين، فلما رأى هذه الخيانة لجأ إلى حصن سمائم فدخله ولبث فيه محصورًا منتفعًا بالمدافع التي كانت هناك دفعًا لهجمات عدوه الشديدة. أما قبائل ذلك الموطن فإنها لم تنفعه فتيلا لأنها كانت خانته وانحازت إلى الإمام الجديد الذي اشتد ساعده لما رأى من الفوز المبين، ومع ما توفق له من انضمام القوم إليه لم يستفد من محاصرة السيد ناذر عظيم فائدة لأنه كان يدحرهم شر دحر بما كان يمطره عليهم من قذائف مدافعه، ولهذا رأى الإمام من الأوفق له أن يتركه وشأنه ويحاصر البلد محاصرة ضيقة بحيث يبقى السيد ناذر وهو في حصنه في بؤرة البلد. ثم إن الشيوخ تفرقوا بجنودهم فسار الشيخ حمير بجنوده إلى سمائم السفلى وسار الشيخ عيسى إلى بلد سرور فبايعه أهلها، وسار الإمام ومعه الشيخ عبد الله إلى سمائم العليا [12] محاصرين السيد نادرًا. ثم إنهم لما لم يروا نتيجة إتعاب محاصرتهم حفروا سربًا أو نفقًا تحت الأرض على بعد ربع ساعة كذا ولعل في هذه الرواية غلوًّا عظيمًا ولا سيما لأن الأرض هناك ذات حجارة صلبة سوداء تكاد تكون كالحرة ينتهي إلى القلعة ونسفوا بالبارود شيئًا يسيرًا من الحصن ولم يصب أحد بضرر لا من المحاصرين ولا من المحاصرين لكن لما أعادوا الكرة وأخذوا ينسفون الحصن للمرة الثانية رجع مفعول البارود على جند الإمام وأهلك من قومه نفوسًا كثيرة. أما الشيخ عيسى فإنه أوغل في البلاد وبايعه أهلها وما زال يمعن فيها حتى وصل إلى بلد فنكا فأرسل السيد فيصل عليه جيشًا جرارًا وعند وصوله إلى بلد الخوث رجع على أعقابه وذهب إلى بلاد السيب بدون أن يرى العدو بل علم أن العدو قد احتل الخوث قبل أن يصل وبايعه أهله فحقق سعي جيش السيد فيصل، وأما جيش الإمام الذي كان قد احتل الرستاق فإنه تجاوزه وأمعن في البلاد حتى دخل العواني وفيها أبناء السيد فيصل وهما حمود وحمد، ومعهما السيد هلال والي بركة فلما رأوا صولة العدو فروا هاربين من القتل فأخذهم الإمام وأخرج منها العسكر الموجود فيها وامتلك الأسلحة المذخرة هناك وباعها للعشائر. واستمرت هذه المحاربة نحو أربعين يومًا، وفي الآخر رأى السيد فيصل أن لا طاقة له على مقابلة العدو فاستنجد بالإنكليز فأمدوه بست بوارج هائلة وبخمسمائة جندي، واعديه أن يساعدوه في كل ما يطلب، وأن لا يبعدوا في البر أكثر من مسافة ساعة وقد احتلت الجنود الانكليزية بعض القلاع وأخذوا يقاومون العدو أشد المقاومة وأصبحوا أصحاب الأمر والنهي في عمان. ولما قرت قدم الإنكليز في مسقط وفي سائر ديار عمان وأصبحوا فيها أصحاب الأمر والنهي نشروا فيها أجنحة الأمن والراحة والسكون، حتى إن أحد تلك الأرجاء كتب إلى جريدة الدستور البصرية: إن السكينة قد عادت إلى ربوعها بعد أن اتخذ الإنكليز جميع وسائل الحرب لصد العدو عن مهاجمتها لا بل شرعوا المذاكرة في أمور الصلح بينهم وبين الإمام الإباضي. فتبارك مالك الملك الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء اهـ بنصه. (المنار) نشر في جرائد مصر والعراق وسورية عدة مقالات في أخبار هذه الفتنة لم نر فيها أوفى من هذه المقالة المختصرة المفيدة، وإذا صح ما قاله الراوي من أن الشيخ عبد الله السالمي والشيخ عيسى بن صالح كتبا إلى السيد فيصل رحمه الله تعالى بما ذكر، وأنه أجابهما بما ذكر في ص 942 فقد أعذرا إليه، واللوم عليه أكبر من اللوم على غيره، نعم إننا نعلم أنه صار مغلوبًا على أمره للإنكليز في حاضرة مسقط، وأنه لم يعد يستطيع منع المبشرين، الذين هم أصل كل فتنة في كل البلاد التي يحلون فيها فيفسدون على أهلها جامعتهم ويفرقون كلمتهم، ويمهدون السبل لإزالة استقلالهم إذا كان لهم استقلال، ولا منع المومسات والمسكرات بدون إذن الإنكليز، ولن يأذنوا بذلك. ولكنه لا ينبغي مع هذا أن يجيب بما قيل إنه أجاب به من الرضا بدعوة المسلمين إلى ترك دينهم الحق، وإباحة الفجور والفسق، وعدهما من الحرية التي لا يجوز تقييدها إذ لا يوجد في الأرض مملكة تبيح لكل أحد أن يفعل ما يشاء، غير مراعية استعداد الرعية ولا عواقب الأمور الأدبية والسياسية، ولا تهييج الأحقاد الدينية، فالإنكليز وهم أعرق الإفرنج في الحرية لا يبيحون للكاثوليك أن يظهر

الشيخ علي يوسف ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ علي يوسف (2) سياسته العامة والعثمانية الخاصة: كان الشيخ علي كاتبًا سياسيًّا، وكانت سياسته إسلامية عثمانية مصرية، ثم لما أظهر الاتحاديون العصبية التركية، واضطهاد العرب والعربية، كانت سياسته إسلامية عربية أولا ثم عثمانية. أعني أنه يخدم الدولة العثمانية في كل ما يستطيعه إلا إذا كان معارضًا للإسلام أو العرب، وقد خدمها أجل خدمة في تأسيسه لجمعية الهلال الأحمر في مصر، فهو الذي سن هذه السنة الحسنة في مصر فاستفادت الدولة منها تلك الألوف الكثيرة من الجنيهات مع بعثات طبية منظمة أدت لها الخدمة النافعة في حربي طرابلس والبلقان كما كان له في مؤيده اليد البيضاء في إعانتها من قبل على حرب اليونان. كان للمؤيد التأثير العظيم فيما عليه المصريون الآن من التعلق الشديد بالدولة العثماية والحب الخالص لها، وقد كانوا يمقتون الترك وحكم الترك مقتًا شديدًا لأنهم لم يروا من آثار حكمهم ولم يحفظوا من أخبار حكمهم ما يوجب غير ذلك. وقد تجلى ذلك في الثورة العرابية أظهر التجلي، فكان زعماؤها عازمين على جعل حكومتهم مصرية محضة يتولى إدارتها المصريون دون الترك والمستتركين من الشركس وغيرهم، فلما وقعت البلاد تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي ثقل ذلك على المسلمين طبعًا، وأحسوا بضعفهم، فحدث عند بعض المشتغلين بالسياسة فكرة التعلق بالدولة والرجاء فيها. وكبر ذلك ونمى بل وجد وظهر منذ تولى الأريكة الخديوية العزيز الحاج عباس حلمي الثاني وفقه الله وأيده، فإنه بما سنه من زيارة الآستانة في كل عام، أوجد في مصر حركة سياسية وطنية لم تكن في غابر الأيام، وجرأ المصريين على ما لم يكونوا يتجرءون عليه من قبل، وولى وجوههم شطر تلك العاصمة، وأنطق ألسنتهم وأجرى أقلامهم، بما لم يكن يعهد من أحد منهم، وكان المؤيد خطيب هذا المنبر، أو منبر خطباء هذه السياسة، ولكن مصر لم تستفد منه شيئًا مما كانت ترجوه من هذه السياسة، وإنما استفادت منه الدولة تعلق السواد الأعظم من المصريين بها وحبهم إياها فكان من أثره جمع الإعانات لها في كل حرب تدخل فيها. لا موضع هنا لبيان أثر هذه السياسة في معاملة الإنكليز لمصر وللدولة العثمانية ولا لبيان تأثير هذا الحب والتعلق من الخديو وأمته في نفس السلطان عبد الحميد ثم في نفوس من خلعوه وخلفوه في هذه الدولة، ولا لبيان سيرتهم مع عزيز مصر، ولا مع الإنكليز فيما يتعلق بسياسة مصر؛ لأن موضوعنا سياسة الشيخ علي يوسف في المؤيد وفي نفسه، وخلاصة القول فيها أنها كانت إسلامية في كل حال، عثمانية مصرية معًا أيام كانت الآمال والأماني تنوط بالدولة حل المسألة المصرية بإخراج الإنكليز من مصر، ثم عثمانية محضة مصرية محضة بعد ما خابت تلك الآمال، وطاحت تلك الأماني والأحلام، التي كان يقال في مثلها: حياتنا بين أيدي المابين. ثم عربية عثمانية في العهد الأخير، كما أشرنا إلى ذلك في فاتحة الكلام، بل صارت خدمته للدولة في هذا العهد داخلة في سياسته الإسلامية العامة. وسيأتي الكلام في سياسته المصرية خاصة. يقول أعداؤه وخصومه في السياسة من قومه: إنه كان متقلبًا في سياسته، ويعدون عليه من ذلك ما قد يعد له، والسياسة متقلبة بنفسها، فالذي يجمد على حال واحدة لا يستطيع أن يكون سياسيًّا؛ لأن الأحوال تتغير دائمًا، والسياسي هو الذي يدور معها كيفما دارت. وفي الحكم والأمثال دوام الحال من المحال، وإنما يعاب على الرجل أن يكون متقلبًا في المقاصد لا في الوسائل. فعلى هذه القواعد التي لا نزاع فيها يرد أنصار الفقيد شبهة خصومه بأنه كان في سياسته أثبت من الأطواد، أما سياسته الإسلامية فالأمر فيها ظاهر، ولم يتهمه بالتحول عنها متهم، وأما سياسته العثمانية فقد ثبت عليها حتى الممات أيضًا، وآخر خدمة خدم بها الدولة تأسيس جمعية الهلال الأحمر المصرية، وكان عضوًا عاملاً في جمعية إعانة الحرب أيضًا. نعم إنه شن على جمعية الاتحاد والترقي حربًا عوانًا لاعتقاده أن ما سارت عليه في سياسة الدولة وإدارتها كان ضارًّا بالدولة العلية والأمة العثمانية عامة، وقومه العرب خاصة، ومضعفًا للرابطة بين الدولة وبين مصر، ومنافيًا للسياسة الإسلامية أيضًا، ولم يكن رحمه الله منفردًا بهذا الاجتهاد بل كان متفقًا مع جماهير العثمانيين من الترك والعرب الذين ألفوا عدة أحزاب لمقاومة الجمعية، وصار أكثر أعضاء مجلس الأمة عليها فاضطرت إلى حله بالإرادة السلطانية، ثم إن الجمعية نفسها صرحت بأنها كانت مخطئة في كثير من أعمالها ومقاصدها وأنها رجعت عنها، ومنها تتريك العرب وغيرهم من الأقوام العثمانيين. فظهر للمتتبع للحوادث أنه قد ظهر أنه كان مصيبًا في انتقاده، وكان آخر ما ظهر للجمهور من ضرر سياستها هو أول شيء كان أول من انتقده عليها جهرًا، وهو جعل السلطة في أيدي الضباط وإشغالهم بالسياسة، وقد قال في هذا الموضوع كلمته المشهورة في بيروت في أول العهد بإعلان الدستور، وسكر الناس كلهم بخمرة الفرح والسرور، وهي أن السيف والسياسة لا يجتمعان في غمد واحد. قال ذلك لما رأى بعض صغار الضباط الاتحاديين في بيروت يتصرف في الحكومة تصرف الحاكم المطلق المستبد. ثم تبين أن ضرر اشتغال الضباط بالسياسة والإدارة قد أضعف الدولة وقسم القوة فيها على نفسها، وكان أهم أسباب الخذلان في الحرب البلقانية الأخيرة كما صرح به القائد الألماني الكبير البارون فندر غلترز باشا منظم الجيش العثماني. ويقولون: إن التقلب والذبذبة في السياسة العثمانية هو ما جرى عليه خصوم الفقيد الذين صدق عليهم المثل رمتني بدائها وانسلت، ذلك بأنه ينتصرون لصاحب القوة أخطأ أم أصاب نهض بالدولة أم هوى بها، فكانوا يقدسون السلطان عبد الحميد ويقولون في طلاب الدستور والإصلاح منه أشد مما قال مالك في الخمر. وكان قاعدة سياستهم ما وضعه لهم زعيمهم مصطفى كامل باشا من الغلو في السلطان عبد الحميد والتشنيع على طلاب الإصلاح والدستور منه، حتى إنه أوجب على من ينطق بالشهادتين، الشهادة لله تعالى بالوحدانية والشهادة لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، أن يثلثهما بالشهادة للسلطان عبد الحميد إلخ، وقد صرحوا في جريدتهم اللواء قبل إعلان الدستور بيوم واحد بأن طلاب الدستور أعداء الدولة الخونة؛ لأنه يضر الدولة ويفسدها ... بل كانوا بعد إعلان الدستور أيضًا يصيحون في وجوه بعض العثمانيين المبتهجين به. ثم لما استقرت السلطة لجمعية إعلان الدستور وصار بيدهم المال والقوة قدسوهم كما كانوا يقدسون السلطان عبد الحميد. هذا ملخص ما يرد به أنصار الشيخ على خصومه في مسألة ثباته على سياسته العثمانية في جوهرها، وهو أنه كان يتبع المصلحة ويدور معها، وهم يتبعون رجال السلطة ويدورون معهم، وقد فتح ههنا الباب لخصم ثالث يقول: إن الشيخ عليًّا كان من أنصار عبد الحميد أيضا، بل هو أستاذ مصطفى كامل في الغلو فيه، وقد نال من رتبه وأوسمته أكثر مما نال مصطفى كامل، وبقي ثابتًا على الثناء عليه فلم ينقلب عليه بعد سقوطه، كما انقلب عليه تلاميذ مصطفى كامل، وكنا ننتظر أن يعد أنصاره هذا من ثباته، ولكنك تذكر عنهم أن الشيخ كان يتبع في خدمة الوطن العلية المصلحة، لا الرجال الذين بيدهم المال والقوة، فهل كان الشيخ علي يجهل أن السلطان عبد الحميد مخرب للدولة أم لا؟ إن قلت: نعم فما هو بالسياسي، وإن قلت لا فما هو بالناصح الذي يتبع المصلحة. وإنما الناصح في هذه المسألة هو المقطم دون المؤيد ودون اللواء الذي تلقى عنه السياسة الحميدية كالمصرية، ثم أربى عليه في الغلو فيها وغش الناس بمدح ذلك السلطان المخرب. فما قول أنصار الشيخ الذي يبالغون في مدح سياسته فيغرقون في هذا؟ وما قولك وأنت تبحث في سياسته بحث المؤرخ الصادق المنصف. أقول: إن آخر ما أعرف من شوط أنصار سياسة المؤيد في هذه المسألة أن السلطان كان هو الدولة، فكان لا بد لمن ينتصر لها؛ لكونها إسلامية وللتَّقوِّى بها على الاحتلال الأجنبي في مصر من مدح السلطان والدفاع عنه كيفما كانت سيرته في سياسته وإدارته للمملكة. والسياسي لا يكون صوفيًّا ولا ناسكًا يلتزم الحق من كل وجه، بل يلتزم مصلحته والمنفعة التي اتخذها قاعدة لسياسته. والمقطم ما كان يذم السلطان ويندد بمخازيه انتصارًا للحق وغيرة على الدولة، بل ليصرف عن الدولة قلوب المصريين ويقطع حبل رجائهم فيها خدمة للاحتلال، لأجل هذا كان في حجاج وخصام دائم مع المؤيد ثم مع اللواء الذي اتبع سنن المؤيد، وغلا فيها غلوًّا كبيرًا، وأما الانتفاع برتب السلطان وأوسمته فلا يلام عليه مثل الشيخ علي ولا مصطفى كامل، لأن المتصدي للزعامة السياسية يحتاج إلى ذلك؛ لأنه يزيد في جاهه ويعلي من كلمته، ويؤهله للقاء عظماء الحكام والسياسيين أصحاب المناصب فيعدونه من طبقتهم، وإنما يعاب بمثله من يخدم المصلحة العامة تعبدًا لله تعالى، أو من يبني خدمته على مقاومة تمييز بعض الناس على بعض بهذه الرتب التي تضعها الحكومة يطلب إبطالها، ليتفاضل الناس بعلومهم وأعمالهم، لا بالألقاب اللفظية، ولا حلي الأوسمة الفضية والذهبية. أما أنا فأقول: إن كلا من المؤيد واللواء، ومثلهما الأهرام، قد أضر المسلمين والعثمانيين عامة والمصريين خاصة بما جرين عليه من الإسراف في مدح السلطان عبد الحميد والدفاع عنه، ولولا أن جمهور المسلمين كانوا يحملون ذم المقطم لسياسته وإدارته وتنديده به على سوء النية ويظنون أن أخباره غير صادقة، ولولا تلك الردود عليه لكان نفع ما نشره عظيمًا، ولقد كان يكون النفع أعظم لو كان المؤيد واللواء ينشران مثل تلك الأخبار ويبنون عليها مطالبة السلطان بالإصلاح مشايعة لطلابه من العثمانيين مع الاعتدال. وقد كنت أقول لمن أذاكرهم في ذلك من عقلاء المصريين: إن المقطم ينشر بعض ما يعلم، ويعلم بعض ما يقع، وإنه يجب عليكم أن تعتبروا بأخباره، مهما كان ظنكم ورأيكم في نيته، وإلا كنتم طالبين التلذذ بمدح الدولة والسلطان، لا لمعرفة الحقيقة التي يتبعها الصلاح والفساد، فتشايعون السلطان على ما يضر، وتتكلون عليه في أمر الإسلام وأمر مصر، وكل ذلك من بناء المصلحة على وعث من الرمل، بدلا من بنائها على الصخر، وهو أن تعرف الأمة حقيقة حال دولتها وحكومتها، وتعتمد على سعيها وعملها في إصلاح نفسها وإصلاحها. ومما أعرفه للشيخ علي رحمه الله تعالى من المزية في سياسته العثمانية بل في أخلاقه وسجاياه الفطرية، إنه كان كلما ازداد علمًا وخبرة بأحوال الدولة ازداد ميلاً إلى مساعدة طلاب الإصلاح من العثمانيين على ما يطلبونه، ولكن مع روية واعتدال، ومحافظة على كرامة السلطان لعدة أسباب منها مراعاة صلة الولاء بينه وبين الخديو التي كان هذا يحافظ عليها فلا ينقطع عن زيارة ذاك سنة من السنين ومنها ما كان يراه أولا من نفع تعلق المصريين به في المسألة المصرية ومنها اتقاء أن يظنوا أنه صار خصمًا للدولة. ومنها أن مفاجأة الناس بخلاف ما يرونه ربما يفضي إلى ضد ما يراد منه. وينفرهم من المؤيد فلماذا لم يعد خصومه هذا من ثباته على حفظ كرامة السلطان ويعدون مساعدته لطلاب الإصلاح من التقلب في السياسة وعدم الثبات. لا أذكر من الشواهد على رغبته في معرفة حقيقة حال الدولة ومساعدة طلاب

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (كتاب ابن الرشيد إلى الصدر الأعظم) ذكر في بعض الصحف أن سعود باشا الرشيد كتب إلى الصدارة العظمى كتابًا قال فيه: علمنا أن بعض الناس يقومون الآن في بعض الولايات طالبين من الدولة العلية مطالب مجحفة بحقوق الدولة ومنافية للدين الإسلامي الحنيف، الأمر الذي ساءنا جدًّا، وعليه ليكن معلومًا لدولتكم ولدى العالم الإسلامي أجمع أننا لا نقبل هذه الشئون المضرة بالدين الإسلامي والدولة. وإننا مستعدون مع كافة جنودنا وقبائلنا للقيام بما تأمرنا به الدولة العلية ولا نحيد عن أوامر خليفتنا المعظم. اهـ. ونحن نقول: (أفلح الأعرابي إن صدق) في قوله: إنه لا يرضى بما لا ينافي الدين، وإنه لا يقبل الشئون المضرة بالدين والدولة، نقول هذا ونحن لا نعلم ما هي المطالب التي يعنيها؛ إذ لم يبلغنا أن الناس طلبوا في بعض الولايات ما ذكره، ولو أنه أشار إلى تلك المطالب لعلمنا مبلغ صحة حكمه عليها، وهل هو مصيب فيه أو مخطئ؟ وهل قال قوله عن علم بأحكام دين الله أم لا؟ ويا ليت شعري إذا علم الأمير ابن الرشيد - أرشدنا الله وإياه إلى نصر الدين والدولة - أن بعض الناس يطلبون من الدولة منع الفواحش والمنكرات كالسكر والزنا والربا والمجاهرة بالفطر في رمضان نهارًا من دار الملك والخلافة ومن غيرها من البلاد العثمانية وإقامة الحدود الشرعية فيها كلها، وعدم بيع شيء من أرضها أو معاداتها للأجانب، هل يكون مستعدًّا مع جنوده وقبائله لنصرته وشد أزرهم؟ فإن كان ينصرهم ولو بلسانه وقلمه فليعلن هذا كما أعلن ذاك، وإن لم يفعل علم العالم الإسلامي أجمع أنه غير مستعد الآن إلا لما كان يعده له السلطان عبد الحميد من قبل من سفك دماء المسلمين في جزيرة العرب مهد الإسلام وحرزه لأجل توسيع سلطته في بلاد أمراء آل سعود وتكثير ماله وإعلاء رتبه الرسمية العثمانية عند من يرضيهم هذا وهو ما يتهمه به المشتغلون بالسياسة في ديار الشام والعراق حتى الآن وإن من هؤلاء من هم أعلم بالشرع وأحكام الإسلام منه ومن الصدر الأعظم أيضًا. ما يجب على أمراء جزيرة العرب الآن: أما نحن فنقول له: إن أفضل خدمة يخدم بها الإسلام والدولة الإسلامية - أيدها الله بتوفيقه وتسديده - هو أن يساعد على ما يجمع كلمة المسلمين على ما يفرقها بأي اسم كان، وأول ما يجب عليه من ذلك عقد الاتفاق بينه وبين جاره الأمير ابن سعود والعهد والميثاق على السلم والأمان، وأن لا يبغي أحدهما على الآخر ولا يقاتله ألبتة، وإذا وقع خلاف بينهما على شيء يحكمان فيه من يرضيان حكمه، وعلى أن يتعاونا على تأمين جميع البلاد التي يصل نفوذهما إليه، ومنع غزو الأعراب بعضهم لبعض فيها، وعلى نشر العلم الديني وما يعد فرض كفاية من علوم الدنيا في بلادهما، وعلى تنظيم قوتهما الحربية على قاعدة قول الله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) والمرابطة فيها لحفظ الحرمين الشريفين وما هو سياج لهما من جزيرة العرب، وأن يتحدا على هذا مع أميري اليمن والإمام الإدريسي، فبهذا يرضيان الله ورسوله والمؤمنين، ويكفيان الدولة مؤنة إرسال الحملات العسكرية المرة بعد المرة إلى العراق والشام واليمن ونجد، وسفك دماء المسلمين فيها لإخضاع العرب أو حفظ الأمن، أو جمع السلاح وما أشبه هذه الأسباب والحجج، التي كثيرًا ما كانت باطلة، ناشئة عن وشاية سافلة أو نية سيئة. وأقترح أن يتضمن هذا العهد والميثاق إعانة الدولة على كل حرب تكون بينها وبين أعداء الإسلام من تنازع أهله وتفرقهم وسفك بعضهم دماء بعض، وإنه لولا هذا التفرق والشقاق ما زال ملك الإسلام من الشرق والغرب، ولم يبق له إلا هذه البقعة المهددة بالزوال في كل يوم، وإن الدولة العثمانية -أيدها الله بتوفيقه - لا تقدر أن تحمي بعسكر الأناضول عاصمتها وبلادها الأوربية والآسيوية ثم تحمي به الحرمين وجزيرة العرب، وإنما يقدر على ذلك العرب وحدهم إذا اتفقوا. وليعلم أن زوال قوة العرب من الجزيرة ستفضي إلى وقوعها في قبضة الأجانب في أسرع وقت وأقربه فلا يبقى للمسلمين استقلال ولا حرية في الأرض، إلا بقدر ما تنعم به أوربة عليهم. ألا وليعلم ابن الرشيد وغيره أن دول أوربة يراجع بعضهم بعضًا القول في تحديد مناطق نفوذهم السياسي والاقتصادي في البلاد العربية والأناضول، وأنهم يتشاحون في قسمتها كما يتشاحون في قسمة المال؛ لأن صاحب كل منطقة يتفقون على إعطائها له يعد نفسه مالكًا لها بحق الفتح الإسلامي، ولم يبق من عذر لأحد في الاغترار باعترافهم باسم الدولة. فإن بقاء هذا الاسم أنفع لهم من عدمه، لأنهم يستعملون به في نفوذها الصوري والمعنوي لإدارة البلاد وإخضاع المسلمين فيوفرون مالهم ورجالهم. فإذا اتفقوا على القسمة كما هو المنتظر في كل يوم، وانفردت كل دولة بالنفوذ في ساحل من سواحل جزيرة العرب، فقل على الجزيرة والحجاز السلام، لأن حياتها المادية خرجت من أيدي أهل الإسلام، فمن كان لديه غيرة وقوة فكر فليفكر في استعمالها لتلافي هذه الأخطار، لا لتهديد طلاب الإصلاح في الولايات. *** (حرية المسلمين الدينية بمصر) لدعاة النصرانية المبشرين عدة مدارس ومستشفيات وصحف في مصر لا غرض لهم منها إلا تنصير المسلمين، وقد ساعدتهم الحكومة المصرية على إنشاء مدارسهم ومستشفياتهم باسم نشر العلم وعمل الخير، ثم إنهم ينشرون في كل سنة عدة كتب ورسائل في الطعن في القرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام وتنفير المسلمين من الإسلام. دع النشرات والأوراق الصغيرة التي ينشرونها في المستشفيات، والخطب التي يلقونها فيها وفي سائر معاهد التبشير. وقد عز عليهم مع هذا أن يكون للمسلمين في هذا القطر الإسلامي كله صحيفة إسلامية واحدة ترد عليهم وتدافع عن الإسلام، فسعوا بواسطة بعض قناصلهم إلى لورد كتشنر ورغبوا إليه أن يأمر الحكومة المصرية بإلغاء مجلة المنار وإبطال صدورها، وبمحاكمة صاحبها هو والدكتور صدقي الذي يساعده في الرد عليهم، أليس من عجائب الغلو في تعصب القوم أن يسعى إلى هذا أو يتحدث به أو يفكر فيه بعض أبناء الأمتين الأمريكية والإنكليزية، أعرق أمم الإفرنج في احترام الحرية. وقد سئلنا عما ينشر في المنار من الرد على النصارى فأجبنا: إننا أقدمنا على هذا العمل مدافعين لا مهاجمين، وإن هؤلاء المبشرين قد كتبوا في الطعن في ديننا أضعاف ما كتبنا، إن هذا الرد واجب علينا شرعًا بل هو من فرائض الكفاية إذا لم يقم به بعض المسلمين أثم الجميع، وإنه يجب على المسلمين الهجرة من البلاد التي ليس لهم حرية فيها في إظهار دينهم والدفاع عنه، وإننا مع هذا نفضل أن يسكت هؤلاء المعتدون عنا ونسكت عنهم. على أن مجالهم أوسع في الرد علينا؛ لأننا نؤمن بنبيهم وكتابهم الذي أنزله الله عليه ونعد الطعن فيه كفرًا كالطعن في نبينا بلا فرق، فلا نستطيع أن نقول كما يقولون، ولا أن نخوض كما يخوضون. ألا إنه لم يكن يظن أحد من الناس أن الحرية التي كانت مصر تفاخر فيها أوربة من كل وجه تتضاءل بعد لورد كرومر حتى يطمع الطامعون فيها بمثل ما ذكرنا، وهي التي رفعت اسم إنكلترة حتى صار جميع مسلمي الأرض يفضلونها على جميع دول أوربة، ضعفت في مصر الحرية السياسية فخفف على الناس المصاب فيها راحتهم من أولئك الأحداث السفهاء، فإذا اضطهدت الحرية الدينية فأي شيء يخفف على المسلمين مصابها ويعزيهم عنها؟ على أن الذي ظهر لنا أن أولي الشأن قد أقنعوا أولئك السعاة المحالين بأنهم هم المعتدون وأنه يصدق على رد المنار عليهم: واحدة بواحدة، بل بمئات، والبادي أظلم. *** (مسألة الأرمن وتعصب أوربا الديني) لم تكد دولتنا تمضي عقد الصلح بينها وبين اليونان، وتنفض يدها من حرب البلقان حتى فاجأتها الدولة الروسية بما ليس في الحسبان، إذ اقترحت أن تكون الولايات الخمس التي يقيم فيها الأرمن مستقلة في إدارتها يتولاها كلها حاكم أوربي أو عثماني مسيحي تختاره الدول الكبرى ويعينه السلطان (كمتصرف لبنان بل نفوذ الدولة فيه أضعف) وأن تكون مجالسها العمومية نصفها من الأرمن والنصف الآخر من غيرهم، وفرنسة وإنكلترة تؤيدان روسية في طلبها، فليتأمل العاقل كيف يدخل التعصب الديني في أعمال أوربة وسياستها، هذه الولايات فيها زهاء خمس ملايين من المسلمين وثلاثة أرباع المليون من الأرمن، وفيها كثير من اليهود أيضًا، وتريد دول الإنسانية والمدنية أن يكون نصف الأعضاء الذين يديرون أمرها من النصارى مع جعل الحاكم منهم. فإن كانت المسألة دينية فما هو المرجح لدين النصارى؟ وإن كانت جنسية ففي تلك الولايات الترك والعرب والكرد واللاز والإسرائيليون؛ فَلِمَ لم يكن لكل جنس أعضاء يمثلونه؟

خاتمة السنة السادسة عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة السادسة عشرة نختتم سنتنا السادسة عشرة بمثل ما افتتحنا به من حمد الله على كل حال، والصلاة والسلام على سيدنا محمد والصحب والآل، وقد وقع ما كنا في تلك الفاتحة توقعناه وظهرت بوادر ما كنا نخشاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وما لي وقد أنذرت وبينت إلا أن أقول كما قال يعقوب نبي الله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (يوسف: 86) . إن غفلة هذه الأمة عن نفسها، وتَمَارِيها بالنُّذُر الخاصة بأمر هلاكها بزوال استقلالها، لم يدع لنا مجالاً للتنبيه على تقصير المقصرين منها في حقوق المنار، والنسبة في ذلك بين الأصناف والأجناس والأقطار، كما كنا نفعل في خواتيم السنين بقصد الموعظة والاعتبار، وإنما يتعظ ويعتبر من لا يعقل أن قيامه بحقوق أبناء جنسه، هو عين إقامته وحفظه لحقوق نفسه، {َمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) . * * * الانتقاد على المنار ندعو القراء على رأس كل سنة إلى انتقاد ما يرونه منتقدًا في المنار، ونذكر في خاتمة السنة جملة ما ورد علينا من الانتقاد، ونبين رأينا فيما لم نكن بيناه من قبل، ولم ينتقد أحد علينا في هذه السنة شيئًا إلا عبارة في مقالة من مقالات الدكتور محمد توفيق صدقي في الطعن في الأوربيين، أنكرها بعض الحكام قولا لا كتابة. وهي - وإن كان مثلها لا ينكر في أوربة نفسها - وما كان ينكر في مصر قبل هذه الأيام، ليست مما أرضى بمثلها للمنار ولو رأيتها قبل الطبع لأصلحتها، وقد طبع في هذه السنة عدة نُبَذ من رد الدكتور على النصارى لم أرها قبل الطبع ولم أصحح فيها شيئًا، ولا عهدت إليه بتصحيح شيء منها، وقد جرى هذا خلاف عادتي لكثرة الشواغل، وانتقد بعض أهل البحرين الإجابة عن أسئلة من سأل منهم عن حكم مناسك الحج ولم ينكروا الإجابة نفسها، ووجه إنكارهم أن السائل معترض على الإسلام لا مستفيد وإذا صح هذا تكون إجابته أولى كما سنوضحه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. وقد منعت الحكومة العثمانية دخول المنار إلى ولاياتها في أثناء هذه السنة ثم أذنت بدخوله فلهذا لم تصل بعض الأجزاء إلى المشتركين في وقتها، ولمن لم يصل إليه شيء أن يطلبه، وإن فات الوقت المحدد في نظام الإدارة لطلب الأجزاء المفقودة. ونسأل الله تعالى أن يوفق أمتنا، لما يرفع مقته وغضبه عنا، فطوبى للمعتبرين المشمرين، وويل للغافلين المصرين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

فاتحة السنة السابعة عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة السابعة عشرة بسم الله الرحمن الرحيم {قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (النمل:59) ، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) ، {فَلِلَّهِ الحَمْدُ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ العَالَمِينَ * وَلَهُ الكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (الجاثية: 36-37) . فنحمده بما حمد به نفسه، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه ورسله، وصفوته من بني آدم الذين فضلهم على كثير من خلقه، محمد النبي الأمي، العربي الحجازي، الذي أرسله رحمة للعالمين، وأتم به نعمته في الدنيا والدين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الهادين المهديين، والتابعين لهم في هدايتهم وهديهم إلى يوم الدين. وبعد فإننا نُذَكِّرُ قُرَّاءَ المنار على رأس سنته السابعة عشرة بنحو ما ذكَّرناهم في السنين الخالية، من سوء عاقبة الإفراط والتفريط اللذين رُزِئَتْ بهما أمتهم الجاهلة الغافلة: الإفراط في عبادة الهوى واتباع الشهوات، والانهماك في الفواحش والمنكرات، والمحافظة على البدع وسيئ العادات. والتفريط في حقوق الله وحقوق الأمة، وما يجب من التزام هدي الكتاب والسنة، ومجاراة الأمم بما يستطاع من حول وقوة، ولا سيّما قوة الاعتصام والوحدة، وقوة العلم والمعرفة، وقوة الكسب والثروة. ثم نذكرهم بتلك الآيات والعبر، وهاتيك المواعظ والنذر، وبما يُفتنون به في كل عام، وما تسلب من ملكهم الأمم والأقوام، وبيان سنن الله تعالى في الظالمين والمسرفين، {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} (الأنعام: 4) ، {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} (يونس: 101) [1] ، {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: 102) . سبحان الله! إن من العقلاء من يتعظ بالعبارة، ومنهم من يكتفي بما توحيه إليه الإشارة، وإنهم ليستنبطون من وقائع الأحوال ما يستعدون به لما ينتظر في الاستقبال، ولو على سبيل الفرض والاحتمال، وإن الأمم أشد من الأفراد احتياطًا، وأخفى حيلة وأدق استنباطًا، وأوسع في المستقبل آمالاً، وأكثر استعدادًا له وأعمالاً؛ لأنها أطول أعمارًا، وأشد قوة واقتدارًا، وأكثر أعوانًا وأنصارًا، فما بال أمتنا لا تتعظ بكلام الله ولا بكلام البشر، ولا تعتبر بما تشاهده من الأحداث والعبر، وكلما أنذرها الله بطشته تتمارى بالنُّذُر؛ {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 4-5) ، {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} (الأنبياء: 45) . تركت هذه الأمة هداية القرآن، ففاتها ما كانت نالت به من الملك والسلطان، والعلم والعرفان، والبسطة في العمران، وأمست غافلة عن سبب ذلك التوفيق وهذا الخذلان؛ بل أتى عليها أحقاب من الزمان، لا تشعر بكنه هذا الخسران، وقد استيقظ فيها الشعور بما فسد من أمر دنياها، قبل الشعور بما كان سببًا له من فساد أمر دينها، وبما خسرت من سلطانها وأملاكها، قبل الشعور بما خسرت من أخلاقها وملكاتها. ولما شعرت بالخطر على حياتها المادية والسياسية، غافلة عن عللها الروحية وأسبابها المعنوية، شرعت في شيء من الإصلاح الصوري، بدون أن تؤديه بروح الإصلاح المعنوي، فعُدَّ السلطان محمود مصلحًا بتغيير الزي الرسمي ونظام الجندية، والسلطان عبد المجيد مصلحًا بإعلان التنظيمات الخيرية، والسلطان عبد الحميد مصلحًا بإنشاء نظارة العدلية، ومصطفى رشيد باشا مصلحًا بإدخال الدولة العثمانية في سلك الدول الأوروبية، ومدحت باشا وأعوانه مصلحين باقتباس القوانين الغريبة الغربية، ومحمد علي باشا وأحفاده مصلحين بِفَرْنَجَةِ البلاد المصرية، والأمير عبد الرحمن خان مصلحًا بالتأليف بين القبائل الأفغانية. ولم تتوجه همة أحد إلى إصلاح الأخلاق والعادات، وإزالة البدع والمنكرات، وجمع الكلمة التي فرقتها المذاهب واللغات، فما زاد الأمة ذلك الإصلاح الصوري إلا ضروبًا من الفساد، ولا أفاد الدولة إلا إضعاف الاستقلال وإضاعة البلاد، {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44) . لا أقول إن جميع ما قام به أولئك الرجال لم يكن مطلوبًا، ولا أقول إن ضرره وما ترتب عليه من الفساد كان ذاتيًّا؛ بل أقول: إن أكثره كان ضروريًّا، ولكنه لم يكن علاجًا لهذه الأمة من طبيب اجتماعي، عَرَف من أمراضها الظاهري والباطني فوصف لها من الدواء ما يزيل العلة، ويحفظ البنية، ويقوي المنة، لذلك رأيناها بعد هذه المعالجات لم تزدد إلا مرضًا، حتى كادت تكون حرضًا، ازدادت ذلاًّ وفقرًا، وتفرقًا وضعفًا، وفسادًا في الأخلاق، وإسرافًا في النفاق، وكان ما أُدخل فيها من علوم الأمم القوية وقوانينها وآدابها، كالجسم الغريب الذي يدخل في البنية فيفسد مزاجها؛ لأنه لم يكن على حسب استعدادها وحاجها؛ بل كان تقليدًا صوريًّا، أو عارضًا وقتيًّا؛ فمنه ما كان ضارًّا، ومنه ما كان نافعًا؛ فأما الضارّ فأكبر ضرره التقاليد والقوانين الإفرنجية، التي قطعت كثيرًا من روابط الأمة المِلِّيَّة، وأزالت ما أزالت من مقوّماتها ومشخصاتها الاجتماعية والأدبية، ولم تستبدل بها ما يحل محلها من مقومات الأمم الأوروبية؛ بل صارت عيالاً عليهم في جميع الشؤون، حتى انتهى ذلك إلى هذا الفتون، بأن فقدت الاستقلال، باسم النفوذ أو الحماية أو الاحتلال، {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام: 129) ، {ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} (الأنعام: 131) ، {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 132) . وأما ما كان نافعًا من تلك الأعمال التي وسمت بسمة الإصلاح، فإنما كان نفعه موضعيًّا، وعارضًا لا دائمًا، فكان كمداواة بعض أعراض الزهري (الداء الإفرنجي) الظاهرة بما يزيلها، مع بقاء العلة في الباطن (كتسمم الدم) تصدر عنها آثارها، فما زال منه بالمعالجة الموضعية اليوم، يظهر ما هو شر منه وأعصى على العلاج في الغد (كلما داويت جرحًا سال جرح) ذلك مثل ما كان في الدولة العثمانية، وهي أكبر مظاهر السلطة في الأمة الإسلامية، وخير منه ما قام به الأمير عبد الرحمن، من جمع كلمة قبائل الأفغان، وتدريبها على القتال، الذي يحفظ به الاستقلال، وكذا ما قام به الأمير محمد علي في مصر، فإنه بنى ركني الثروة والقوة على أساس العلم، ولو أتم أحفاده ما بدأ به ببناء ركني الأخلاق والآداب، على أساس الدين وسنن الاجتماع، لَتَمَّ لهم تكوين الأمة، ولاستقام لهم بالأمة أمر الدولة، فهذا العصر عصر الأمم والشعوب، لا عصر الأمراء والملوك، ولكن جميع أقيال المسلمين، كانوا - ولا يزالون - عن هذا غافلين، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} (فاطر: 44) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} (غافر: 21) ، {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9) . نعم، إنهم لم يسيروا في الأرض، لأجل الاعتبار بسنن الله في الكون، فينظروا في سوء عاقبة الأمم الجاهلة النائمة، ومصير الدول المستبدة الظالمة، وحسن عاقبة الأمم العالمة العاملة، وسيادة الدول المنظمة العادلة، وكيف أن إصلاح الأرض وعمران الدور، لا يغني عن إصلاح الأخلاق وارتقاء الجمهور، ولو ساروا لما نظروا، ولو نظروا لَمَا أبصروا، ولو أبصروا لَمَا اعتبروا، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) ، وأي عمى أشد من عمى الاستبداد؟ وهو مصدر كل فساد وأصفاد، حتى إنه يفسد الطباع، ويغير الأوضاع، ويقطع رابطة الزوجية، ويزيل عاطفة الأبوة والبنوة، فيغري الولد بقتل والده، والوالد بقتل ولده، وكيف يؤمن على حياة أمته، من لا يكبر عليه قتل والده أو ولده؛ إذا هو نازعه في سلطته، أو عارضه في إرادته؟ فانتظار الأمم أن يكون صلاحها ورشادها ممن لا حظَّ لهم من حياتهم إلا استذلالها واستعبادها، اتباعًا لترفهم ونعيمهم، وافتتانًا بإطرائهم وتعظيمهم، يشبه طلب العلم من الجاهلين، والتماس الهدى من الضالين {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 116- 117) . ألا إنه لا بقاء مع ظلم وفساد، ولا عدل مع استبداد، ولا هلاك مع إصلاح، ولا إصلاح للدولة إلا بصلاح الأمة، ولا صلاح لأمة إلا إذا كان فيها بقية من أولي الرأي والعزم، يأمرون بالصلاح وينهون عن الفساد في الأرض، ولا تأثير للأمر والنهي إلا بإجماع الأمر وإحكام الرأي، ولا يفيد الإحكام والإجماع، إلا مع مراعاة سنن الاجتماع، لاختلاف استعداد الأقوام، باختلاف أحوال الزمان والمكان، وزماننا هذا هو زمان الجماعات العلمية والأدبية والسياسية، والشركات الزراعية والصناعية والتجارية، فحظ الأفراد الكثيرين من معنى الأمة، على قدر حظهم من إقامة هذه الأركان الستة، ولا ينبغي أن يطلق هذا اللفظ، على من لا نصيب لهم منها ولا حظَّ، إلا على سبيل التجوز في القول، كما يطلق اسم الشيء على صورة الشيء، ومتى ملكت الأمة بالجمعيات أمورها المعنوية، وبالشركات أمورها المادية، كانت جديرة بأن تقوم أمر حكومتها، وتقيمها على صراط شريعتها، لهذا كان همنا منذ سنة المنار الأولى، أن نذكر أهل العلم والرأي من المسلمين بهذه الطريقة المثلى؛ اهتداء بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين هذا الكتاب للإمام الحافظ المحقق ابن قيم الجوزية، شرح فيه كتاب (منازل السائرين) في التصوف لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي - شرحًا بيَّن فيه غوامضه، وفصل بين ما يوافق الكتاب والسنة وما يخالفهما منه، فهو أفضل كتب التصوف وأنفعها، وهو يطبع الآن في مطبعة المنار، وقد أوشك أن يتم طبع الجزء الأول منه، وقد رأينا أن ننشر هذا الفصل منه تعجيلاً بالفائدة لقراء المنار، ولشدة الحاجة إليه. قال المصنف - رحمه الله تعالى - في سياق بيان أنواع الكفر: فصل وأما الشرك فهو نوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندًّا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي تضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار: {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، مع إقرارهم بأن الله وحده خالق كل شيء وربه ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق ولا تحيي ولا تميت. وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم، بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله. وكثير منهم - بل أكثرهم - يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده، ويغضبون لمنتقص معبوديهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين، وإذا انتهكت حرمة من حرمات آلهتهم ومعبوديهم غضبوا غضب الليث إذا حرد، وإذا انتهكت حرمات الله لم يغضبوا لها؛ بل إذا قام المنتهك لها بإطعامهم شيئًا رضوا عنه ولم تتنكر له قلوبهم . وقد شاهدنا هذا - نحن وغيرنا - منهم جهرة، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه إن أقام وإن قعد وإن عثر وإن مرض وإن استوحى [1] فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على قلبه ولسانه، وهو لا ينكر ذلك، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه - وهكذا كان عباد الأصنام سواء - وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم، وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها [2] من البشر. قال الله تعالى حاكيًا عن أسلاف هؤلاء المشركين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 3) ، ثم شهد عليهم بالكفر والكذب وأخبر أنه لا يهديهم فقال [3] {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر: 3) ، فهذه حال من اتخذ من دون الله وليًّا يزعم أنه يقرِّبه إلى الله، وما أعز من يخلص من هذا؟ بل ما أعز من لا يعادي من أنكره! والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله , وهذا عين الشرك , وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله، وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن له أن يشفع فيه ورضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء، فإنه يأذن سبحانه لمن شاء في الشفاعة لهم حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه، فيكون أسعد الناس بشفاعة من يأذن الله به صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعًا من دون الله. والشفاعة التي أثبتها الله ورسوله هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحَّدَهُ، والتي نفاها الله [4] الشفاعة الشِّركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء، فيعاملون بنقيض قصدهم من شفاعتهم ويفوز بها الموحدون , فتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة - وقد سأله: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه) - كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال به شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين إن الشفاعة تُنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله، فقلب النبي صلى الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. ومن جهل المشرك اعتقاده أن مَنْ اتخذه وليًّا أو شفيعًا أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع شفاعتهم مَنْ والاهم، ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال تعالى في الفصل الأول: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ اللاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وفي الفصل الثاني: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إلا َّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا التوحيد واتباع الرسول، وعن هاتين الكلمتين يَسأل الأولين والآخرين، كما قال أبو العالية: كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون: ماذا كنتم تعبدون؟ [5] وماذا أجبتم المرسلين؟ فهذه ثلاثة أصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها: لا شفاعة إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله [6] فالله تعالى لا يغفر شرك العادلين به غيره، كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1) ، وأصح القولين أنهم يعدلون به غيره في العبادة والموالاة والمحبة كما في الآية الأخرى، {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ العَالَمِينَ} (الشعراء: 97-98) ، وكما في آية البقرة {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165) . وترى المشرك يكذب حاله وعمله لقوله؛ فإنه يقول: لا نحبهم كحب الله ولا نسويهم بالله. ثم يغضب لهم ولحرماتهم إذا انتهكت - أعظم مما يغضبه لله، ويستبشر بذكرهم ويتبشبش به [7] سيما إذا ذكر عنهم ما ليس فيهم من إغاثة اللهفات، وكشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنهم باب بين الله وبين عباده. ترى المشرك يفرح ويسرّ ويحنّ قلبه ويهيج منه لواعج التعظيم والخضوع لهم والموالاة، وإذا ذكرت له الله وحده وجردت توحيده، لحقته وحشة وضيق وحرج [8] ورماك بتنقص الإلهية [9] التي له، وربما عاداك. رأينا - واللهِ - منهم هذا عيانًا، ورمونا بعداوتهم وبغوا لنا الغوائل [10] والله مخزيهم [11] في الدنيا والآخرة، ولم تكن حجتهم إلا أن قالوا كما قال إخوانهم: عاب آلهتنا. فقال هؤلاء: تنقصتم مشايخنا وأبواب حوائجنا إلى الله. وهكذا قال النصارى للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: إن المسيح عبد [12] قالوا: تنقصت المسيح وعِبْته. وهكذا قال أشباه المشركين لمن منع اتخاذ القبور أوثانًا تعبد ومساجد، وأمر بزيارتها على الوجه الذي أذن الله فيه ورسوله، قالوا: تنقصت أصحابها. فانظر إلى هذا التشابه بين قلوبهم حتى كأنهم قد تواصوا به و {مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ المُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِياًّ مُّرْشِداً} (الكهف: 17) . وقد قطع الله تعالى الأسباب التي تعلق بها المشركون جميعها قطعًا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليًّا أو شفيعًا فهو {كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ} (العنكبوت: 41) فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ اللاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 22-23) ، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لِمَا يحصل له به من النفع. والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكًا كان شريكًا للمالك، فإن لم يكن شريكًا له كان معينًا له وظهيرًا، فإن لم يكن معينًا ولا ظهيرًا كان شفيعًا عنده. فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيًا مترتبًا متنقلاً [13] من الأعلى إلى ما دونه [14] فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يظنها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه، فكفى بهذه الآية نورًا وبرهانًا ونجاة وتجريدًا للتوحيد وقطعًا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها، والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعر [15] بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنه في نوع، وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثًا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعَمْرُ الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم. وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك، ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية [16] ؛ وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك. وما عابه القرآن وذمه، وقع فيه وأقره، ودعا إليه وصوَّبه وحسَّنه وهو لا يعرف أنه هو الذي كان عليه أهل الجاهلية أو نظيره، أو شر منه [17] أو دونَهُ، فينتقض [18] بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والبدعة سنَّة والسنة بدعة، ويكفَّر الرجل بمحض الإيمان وتجريد التوحيد، ويُبَدَّع بتجريد متابعة الرسول ومفارقة الأهواء والبدع، ومن له بصيرة وقلب حيّ يرى ذلك عيانًَا والله المستعان. اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

إسلام اللورد هدلي وما قاله وكتبه في سببه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إسلام اللورد هدلي وما قاله وكتبه في سببه خاضت جرائد العالم في إسلام اللورد (هدلي) الإنكليزي، فكتب بعضها ما عليه كما هو على سبيل الخبر، وزعم بعضهم أن إسلامه إسلام سياسي ليمثل المسلمين في مجلس اللوردات! وأبى بعض المتعصبين من النصارى إلا أن يشوب الخبر بشوائب التلبيس وإيهام القارئ أن اللورد لا يزال نصرانيًّا يؤمن بالثالوث ويجمع بين الضدين أو النقيضين (التوحيد والتثليث) . وكأن هذا التلبيس والإيهام قد استنبط من كلمة عُزيت إلى اللورد. وإننا ننشر ما نقلته جريدة مسيحية إنكليزية عن اللورد وما كتبه هو عن إسلامه؛ فتقول: جاء في جريدة الديلي ميل الصدارة في 17 نوفمبر سنة 1913 تحت عنوان (إسلام اللورد هدلي) ما يأتي: اللورد هدلي هو البارون الخامس في بيته (عائلته) وقد ارتقى إلى هذه الرتبة في يناير الماضي بعد وفاة ابن عمه. وقد أسلم هذا اللورد الآن وأعلن إسلامه في حفلة للجمعية الإسلامية بلندن، وكان هو نفسه حاضرًا في وليمة الجمعية السنوية. قال في اجتماع البارحة: (إنني بإعلان إسلامي الآن لم أَحِد مطلقًا عما اعتقدته منذ عشرين سنة، ولما دعتني الجمعية الإسلامية لوليمتها سررت جدًّا لأتمكن من الذهاب إليهم وإخبارهم بالتصاقي الشديد بدينهم. وأنا لم أهتم بعمل أي شيء لإظهار نبذي لعلاقتي بالكنيسة الإنكليزية التي نشأت في حجرها، كما أني لم أحفل بالرسميات في إعلان إسلامي، وإن كان هو الدين الذي أتمسك به الآن. إن عدم تسامح المتمسكين بالنصرانية كان أكبر سبب في خروجي عن جامعتهم، فإنك لا تسمع أحدًا من المسلمين يذم أحدًا من أتباع الأديان الأخرى كما تسمع ذلك من النصارى بعضهم في بعض، فإن المسلمين وإن كان يحزنهم عدم اهتداء الناس إلى دينهم إلا أنهم لا يحكمون على كل من خالفهم بالهلاك الأبدي. إن طهارة الإسلام وسهولته وبعده عن الأهواء والمذاهب الكهنوتية ووضوح حجته كانت كل هذه الأشياء أكبر ما أثر في نفسي. وقد رأيت في المسلمين من الاهتمام بدينهم والإخلاص ما لم أر مثله بين النصارى، فإن النصراني يحترم دينه عادة يوم الأحد حتى إذا ما مضى الأحد نسي دينه طول الأسبوع. وأما المسلم فبعكس ذلك، يحب دينه دائمًا، وسواءٌ عنده أكانَ اليوم يوم الجمعة أو غيره، ولا يفتر لحظة عن التفكر في كل عمل يكون فيه عبادة الله. وإني وإن كنت اعتنقت الإسلام إلا أني لا زلت نصرانيًّا، بمعنى أني لا زلت مؤمنًا بالمسيح ومتبعًا تعاليم المسيح، فإن الإسلام يصدق بتعاليم جميع الأنبياء على حدٍ سواء فلا يفرق بين موسى والمسيح ومحمد (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . اهـ كلام هدلي. ثم قالت الجريدة المذكورة: إن اللورد هدلي هو مهندس. وفي المسابقة الرياضية التي جرت في كمبردج حاز قَصَبَ السَّبْق في الملاكمة مثل المستر ألنسون وين (winn Allanson) . *** لماذا أسلمت؟ وجاء في جريدة الأبزيرفر الأسبوعية (observer the) في عددها الصادر في 23 نوفمبر الماضي تحت عنوان (لماذا أسلمت) بقلم اللورد هدلي (headley) ما ترجمته حرفيًّا: (عقيدة الإسلام) أخذت صحف عديدة تخوض في معتقدي الديني، ويسرني أن أرى أن جميع الانتقادات التي وجهت إليّ للآن، كانت بلهجة لطيفة، وما كان ينتظر أن الخروج عمّا ألفه الناس واعتادوه لا يلفت الأنظار إليه، وذلك ممّا يسرني، إني أحب مهنتي ومولع بالألعاب الرياضية، ولم يكن لي في ذلك غرض لطلب الشهرة وبعد الصيت، ولكن لو كان عملي في هذه الحالة سببًا في جعل الناس كبيري المدارك سمحاء فأنا في غاية الاستعداد لأن أتحمل بكل صبر أي نوع من الإساءة والاستهزاء. أتاني في يوم كتاب من نصراني متمسك بدينه يقول لي فيه: إن الإسلام هو دين شهوات، وإنه كان لنبيه عدة زوجات. فما أعجبها من فكرة عن الإسلام! ! ولكنها هي الفكرة السائدة على عقول تسعة وتسعين من كل مائة بريطاني، فإنهم لا يتعبون أنفسهم في البحث عن حقائق دين يدين به مائة مليون من إخوانهم الخاضعين لهم. نبيّ العرب المقدس كان على الأخص حصورًا عن الشهوات طاهرًا، فكان مخلصًا لزوجته الوحيدة خديجة التي كانت أكبر منه بخمس عشرة سنة، وكانت أول من آمنت ببعثته. وبعد موتها تزوج عائشة ثم تزوج أيضًا عدة أرامل لأصحابه الذين قتلوا في الحرب، لا لأنه كان له أدنى رغبة فيهن بل ليعولهن ويقوم بكفالتهن ويرفع مقامهن إلى منزلة ما كن يصلن إليها بغير ذلك. وكان عمله هذا ملتئمًا مع بعده عن الأنانية، ومع حياته الشريفة العالية. وكان من شدة زهده في هذه الحياة أنه ما كان يملك ما يكفيه من العيش. نحن البريطانيين تعودنا أن نفخر بحبنا للإنصاف والعدل، ولكن أي ظلم أعظم من أن نحكم - كما يفعل أكثرنا - بفساد الإسلام قبل أن نلم بشيء من عقائده، بل قبل أن نفهم معنى كلمة الإسلام؟ *** القرآن والدعوة من المحتمل أن بعض أصدقائي يتوهم أن المسلمين هم الذين أثَّروا فيّ، ولكن هذا الوهم لا حقيقة له، فإن اعتقاداتي الحاضرة ليست إلا نتيجة تفكير قضيت فيه عدة سنين. أما مذاكراتي الفعلية مع المتعلمين من المسلمين في موضوع الدين فلم تبدأ إلا منذ أسابيع قليلة، ولا حاجة بي إلى القول بأني ملئت سرورًا حينما وجدت نظرياتي ونتائجي متفقة تمام الاتفاق مع الدين الإسلامي. وأمّا صديقي الخوجة كمال الدين فلم يحاول قط أن يكون له فيّ أقل تأثير، ولكنه كان حقيقة كقاموس حيّ يفسر ويترجم لي - مع الصبر - ما لم يتضح لي من آيات القرآن. وكان سلوكه هذا مسلك المبشر الإسلامي الحقيقي الذي لا يحاول إرغام سامعيه أو التأثير فيهم. فإن الدخول في الإسلام يجب - كما يقول القرآن - أن يكون بإرادة الإنسان الحرة وبرأيه الذاتي بدون أي وسيلة من وسائل الإكراه. وكذلك أراد عيسى أيضًا حينما قال: (مر 6: 11 وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك ….) . إني أعرف حوادث عديدة جدًّا لبعض البروتستانت المتحمسين الذين يظنون أنه يجب أن يزوروا بيوت الكاثوليك ليحولوهم إلى مذهبهم، ومثل هذا التعدي الجارح قبيح طبعًا. وقد أدى - في الأكثر - إلى إثارة الأحقاد التي نشأت عنها مشاحنات وجعلت الدين يزدري. وإني ليحزنني أن أرى أن دعاة النصرانية قد سلكوا هذا الطريق عينه مع إخوانهم المسلمين، ولا يمكنني أن أفهم كيف يريدون أن يدعوا إلى النصرانية من هم في الحقيقة أفضل منهم نصرانية (أو قال: نصارى أفضل منهم) لم أقل: (نصارى أفضل منهم) جزافًا فإن ما في الإسلام من الخير والتسامح وسعة المدارك أقرب إلى ما دعا إليه المسيح من تلك العقائد الضيقة التي أخذت بها فرق النصارى المختلفة. *** عقيدة أثناسيوس [1] أذكر مثلاً واحدًا وهو عقيدة أثناسيوس التي تشرح الثالوث شرحًا في غاية التعقيد. في هذه العقيدة - وهي كبيرة الأهمية جدًّا وتنص على إحدى العقائد الأساسية للكنائس المسيحية - ترى جليًّا أنها عقيدة الجمهور، وأننا إذا لم نأخذ بها نهلك هلاكًا أبديًّا. ثم يقال لنا إنه: (يجب علينا أن لا نفكر في الثالوث بغير ذلك) وبعبارة أخرى: إن الإله الذي نَصِفُه في لحظة بالرحمة والقدرة، نصفه في اللحظة الثانية بالظلم والقسوة، وهو ما نتحامى أن نصف بها أقسى البشر السفاكين، فكأن الله تعالى القديم الذي فوق كل شيء يكون خاضعًا لما يذهب إليه الهالك المسكين (يريد الإنسان) في أمر الثالوث. وهاك مثلاً آخر من أمثلة بعدهم عن الخير: أتاني كتاب بمناسبة ميلي للإسلام يقول لي فيه كاتبه: إنني إن لم أومن بلاهوت المسيح فلا سبيل لي إلى الخلاص. أما مسألة ألوهية المسيح هذه فلم يظهر لي أنها تقرب في أهميتها من تلك المسألة الأخرى وهي: هل بلغ رسالة ربه للبشر؟ فلو كان عندي الآن أي شك في هذه المسألة الأخيرة لضايقني كثيرًا، ولكني - ولله الحمد - لا أشك فيها، وأرجو أن يكون إيماني بالمسيح - وبما أوحاه الله إليه - ثابتًا كإيمان أي مسلم أو أي نصراني به. وكما قلت من قبل مرارًا إن الإسلام والنصرانية التي أتى بها المسيح نفسه هما توأمان لم يفرق بينهما إلا الأهواء والاصطلاحات التي يحسن أن تنبذ ظهريا في هذه الأيام. يميل الناس إلى الإلحاد حينما يطالبون بالأخذ بعقائد جامدة لا تتحمل التسامح، وإن كانوا ولا شك لفي شوق إلى دين يذعن لحكم العقل كما يذعن الوجدان. من سمع بمسلم انقلب ملحدًا؟ يجوز أن يوجد أحوال قلائل كهذه ولكنني مع ذلك أشك في وجودها كل الشك. *** خوف الانتقاد إني أعتقد أنه يوجد ألوف من الرجال والنساء الذين يدينون بالإسلام في قلوبهم، ولكن مخالفة الإجماع وخوف الانتقاد العدائي والرغبة في اجتناب كل ضيق أو تغيير يحملهم على عدم الجهر بما في قلوبهم، قد سلكت الآن نفس هذا المسلك. على أني أعلم أن كثيرًا من أصدقائي وأقربائي ينظرون إليّ كأي روح ضالة تستحق الدعاء لها، مع أن عقيدتي الآن هي عين عقيدتي منذ عشرين سنة؛ ولكن جهري بها هو الذي أفقدني حسن ظنهم بي؛ لأن الخوف هو السبب في وجود أحوال لا تحصى من الشقاء والشر في هذا العالم، ولو اتبع الناس الصراحة في القول لقل سوء التفاهم بينهم، ولزاد احترامهم، ولنقتبس هنا كلمة المستر (بلفور) الحكيمة وهي قوله: (لا ناصح أضر من الفزع إلا اليأس) ولكن أفضل أن أقول في هذه الحالة (هناك ناصح أضر وأشد خطرًا من الشك أو الكفر ألا وهو الخوف) . وحيث إني قد أتيت هنا بملخص بعض الأسباب التي حملتني على اعتناق الإسلام وقد بينت أني أعتبر نفسي بهذا العمل نصرانيًّا أكمل بكثير مما كنت من قبل، فلذا أرجو أن يقتدي بي غيري في ذلك، فإنه خير لا شك فيه. وفيه السعادة لكل من يرى أن عملي هذا ارتقاء لا يراد به أي عداء للنصرانية الصحيحة. اهـ. (المنار) في كلام أخينا اللورد هدلي كلمتان جديرتان بالاعتبار: (إحداهما) قوله: إن الإسلام هو النصرانية التي كان عليها ودعا إليها المسيح عليه السلام. وهذا حق فإن دين جميع رسل الله (عليهم السلام) واحد في أصوله وجوهره، وإنما كان بيان خاتمهم (محمد صلى الله عليه وسلم) أتم وأكمل على سنة الارتقاء في الحياة، وقد حفظه الله من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان. وقد سبق لحكيمنا الكبير السيد جمال الدين الأفاغني - رحمه الله تعالى كلمة مثل كلمة أخينا اللورد هدلي. ذلك أن سائلا سأله عن سبب الدعوة إلى المذهب النيشري المادي في الهند فقال: إن الذين أرادوا حل رابطة المسلمين في الهند دعوهم أولاً إلى النصرانية فلم تنجح دعوتهم لأن الإسلام مسيحية وزيادة، فإنه يقرر الإيمان بالمسيح وبما جاء به من التوحيد والفضائل ويبطل ما زاده النصارى في دينه من الخرافات - أي مع زيادة في المعارف الإلهية والآداب والفضائل والهدي الكامل - فلما خابت هذه الدعوة رأوا أن يشككوكهم في الدين المطلق ... إلخ ما قاله، وقد ذكرناه بالمعنى. ولولا العصبيات المذهبية، والأحقاد السياسية، وسوء حال مسلمي هذه الأزمنة وبعدهم عن حقيقة الديانة الإسلامية، وجهل الإفرنج بها وبلغتها العربية، ثم هذا الحجاب الذي أسدلته العلوم والأعمال المادية، ومقت الدين الذي أثارته الخرافات الكنيسية، وما كان قبل من قسوة السلطة البابوية، لكان هؤلاء الإفرنج أجدر الناس في هذا العصر بالإسلام، دين العقل والعلم والحضارة والسلام، الذي كشف ما غشي كتب الأنبياء من الخرافات والأوهام، ورفع امتيازات الأجناس والأصناف والأقوام، ودعا الناس كافة إلى الإخاء والوحدة والاعتصام. ولا بد أ

تاريخ الجهمية والمعتزلة

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ تاريخ الجهمية والمعتزلة [*] (12) ما نتج من تعصب الجهمية والأثرية، وبيان آفة الغلو في التعصب (قال الإمام الغزالي) في إحياء علوم الدين: وأما الكلام - أي علم الكلام - فمقصوده حماية المعتقدات التي نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا غير. (ثم قال) : ويحتاج إليه لمناظرة مبتدع، ومعارضة بدعته بما يفسدها وينزعها عن قلب العامي، وذلك لا ينفع إلا مع العوام قبل اشتداد تعصبهم. وأما المبتدع بعد أن يعلم من الجدل ولو شيئًا يسيرًا، فقلّما ينفع معه الكلام، فإنك إن أفحمته لم يترك مذهبه، وأحال بالقصور على نفسه وقدر أن عند غيره جوابًا ما، وهو عاجز عنه، وإنما أنت ملبس عليه بقوة المجادلة. وأما العامي إذا صرف عن الحق بنوع جدل يمكن أن يرد إليه بمثله قبل أن يشتد التعصب للأهواء، فإذا اشتد تعصبهم وقع اليأس منهم؛ إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فينبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر دواعيهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه، ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير، لأنجحوا فيه؛ ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الاتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم، وسمّوه ذبًّا عن الدين، ونضالاً عن المسلمين، وفيه - على التحقيق - هلاك الخلق، ورسوخ البدعة في النفوس. اهـ. (وقال الغزالي) - رحمه الله - أيضًا؛ في الجدل المذموم ومضراته: وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه؛ قال: ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل، ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب، فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره، بل الهوى والتعصب وبعض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه، ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء، ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك؟ لكره ذلك خيفة أن يفرح به خصمه (قال) وهذا هو الداء العظيم الذي استطار في البلاد والعباد، وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب فهذا ضرره. اهـ. وقال العلامة المقبلي في العلم الشامخ: واعلم أن الخلاف والتعصب والتحزب هو الذي حمل سيوف بعض المسلمين على بعض، وحلل دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحرف الكتاب والسنة، ثم صيَّرهما كالعدم بسد باب الاجتهاد اهـ. و (قال أيضًا) : ثم ترتب على الافتراق تقويم كل لعمود الشقاق، وصار كل منهم إنما يعتز بمن مال إليه من الملوك على خصمه. اهـ. وبالجملة فمن أعظم آفات التعصب ما نشأ عنه من التفرق والتعادي، بحيث صار يرثه المتأخر عن المتقدم، حتى أصبح يبغض القريب قريبه إذا وجده يخالف رأيه، ويلصق به كل تهمة شنعاء ولو أقام على صحة رأيه مئين من البراهين؛ بل بلغ احتقار بعضهم لبعض مبلغًا دفع به أن يحنق على مخالفه، ويتحين الفرص للإيقاف به، حتى إذا بدرت منه هفوة، أو ظهرت زلة - ولا معصوم إلا المعصوم - رفع مخالفه عقيرته بتأنيبه، وملأ الأرض والسماء صراخًا بتشهيره، غير مبال بما حظره الشرع مما يولد البغضاء والشحناء، ويفكك عرى الإخاء، ولا ملام على الدهماء من ترويج مثل هذه الخطة الشائنة لغرقهم في بحار الجهل، وإنما يلام قادة الأفكار على احتذائهم هذا الحذو، ونسجهم على هذا المنوال، إذ لولا صخب هؤلاء الرهط، وبثهم هذه الألقاب في النفوس، لكانت الأمة متماسكة الأجزاء، متينة عرى المحبة بين الأفراد. نعم؛ لا بأس أن تُنْتَقَدَ الأَقْوَالُ، وتُضَعَّفَ بالبُرْهَانِ، ويُوَضَّحَ كلُّ خَطَأٍ يَنْجُمُ عنها؛ ولكن الذي يجب التوقي منه هو أن يتشاحن قادة العقول ويتطاحنوا ويتبغضوا لما لا يصح أن يكون سببًا معقولاً، وأن يثب كلٌّ على مخالفه وثبة الغادر المنتقم، فيود أن ينكل به أو يمزقه شر ممزَّق، فيقتفي أثرهم مقلدها، فتصبح الأمة أعداءً متشاكسة، وأحزابًا متنافرة، بشؤم التعصب الذميم، الذي لم يتمكن من أمة إلا وذهب بها مذهب التفرق والانحطاط، وأضعف قواها، وأحاق بها الخطوب والأرزاء، فمن الواجب العلم على ملاشاة الشحناء والشقاق، والقيام بالتحابّ والاتفاق، وبالله التوفيق. (13) حظر الأئمة للمحققين، رمي فرق المسلمين بالكفر والفسق من أعظم ما بليت به الفرق الإسلامية، رمي بعضها بعضًا بالفسق والكفر، مع أن قصد كلٍّ الوصول إلى الحق، بما بذلوا جهدهم لتأييده واعتقاده، والدعوة إليه، فالمجتهد منهم - وإن أخطأ - مأجور (وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية) في كتابه موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول [1] عن الإمام الرازي (في نهاية العقول) في مسألة التكفير ما مثاله: قال الشيخ أبو الحسن الأشعري في أول كتاب (مقالات الإسلاميين) : اختلف المسلمون بعد نبيهم في أشياء ضلّل فيها بعضهم بعضًا وتبرّأ بعضهم من بعض فصاروا فرقًا متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم فيعمهم. فهذا مذهبه، وعليه أكثر الأصحاب، ومن الأصحاب من كفر المخالفين. وأما الفقهاء، فقد نقل عن الشافعي - رضي الله عنه - قال: لا أردّ شهادة أهل الأهواء إلا الخطّابية [2] ، فإنهم يعتقدون حل الكذب. وأما أبو حنيفة رضي الله عنه، فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر أحدًا من أهل القبلة، وحكى أبو بكر الرازي عن الكرخي وغيره مثل ذلك. وأما المعتزلة، فالذين كانوا قبل أبي الحسين تحامقوا وكفّروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال. وأما المشبِّهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة، وكان الأستاذ أبو إسحاق يقول: أكفِّر من يكفِّرني، وكل مخالف يكفرنا فنحن نكفره وإلا فلا. ثم قال الرازي: والذي نختاره أن لا نكفر أحدًا من أهل القبلة، والدليل عليه أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها مثل أن الله تعالى هل هو مُوجِدٌ لأفعال العباد أم لا؟ وأنه هل هو متحيز، وهل هو في مكانٍ وجِهَة، وهل هو مرئيّ أم لا؟ لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول باطل؛ إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين، لكان الواجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطالبهم بهذه المسائل؛ بل ما جرى حديث من هذه المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، علمنا أنه لا يتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول، وإذا كان كذلك لم يكن الخطأ في هذه المسائل قادحًا في حقيقة الإسلام، وذلك يقتضي الامتناع من تكفير أهل القبلة. اهـ. ثم قال الإمام ابن تيمية بعد ذلك: (والأصل في هذا الباب أن الألفاظ نوعان: مذكور في كتاب الله وسنة رسوله، وكلام أهل الإجماع، فهذا يجب باعتبار معناه وتعليق الحكم به، فإن كان المذكور به مدحًا استحق صاحبه المدح، وإن كان ذمًّا استحق الذم، وإن أثبت شيئًا وجب إثباته وإن نفى شيئًا وجب نفيه؛ لأن كلام الله حق وكلام رسوله حق، وكلام أهل الإجماع حق. ومن دخل في اسم مذموم في الشرع كان مذمومًا؛ كاسم الكافر والمنافق والملحد ونحو ذلك، ومن دخل في اسم محمود في الشرع كان محمودًا كاسم المؤمن والتقيّ والصدّيق ونحو ذلك) . وأما الألفاظ التي ليس لها أصل في الشرع، فتلك لا يجوز تعليق المدح والذم والإثبات والنفي على معناها، إلا أن يبين أنه يوافق الشرع، والألفاظ التي تعارض بها النصوص هي من هذا الضرب كلفظ الجسم والحيز والجهة والجوهر والعَرَض، فمن كانت معارضته بمثل الألفاظ؛ لم يجز له أن يكفر مخالفه إن لم يكن قوله مما يبين الشرع أنه كفر؛ لأن الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرًا في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صوابًا في العقل يجب في الشرع معرفته، ومن العجب قول من يقول من أهل الكلام: أن أصول الدين التي يكفر مخالفها هي علم الكلام الذي يعرف بمجرد العقل، وأما ما لا يعرف بمجرد العقل فهي الشرعيات عندهم، وهذه هي طريقة المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم كأتباع صاحب الإرشاد وأمثالهم، فيقال لهم: هذا الكلام يتضمن شيئين: أحدهما أن أصول الدين هي التي تعرف بالعقل المحض دون الشرع، والثاني أن المخالف لها كافر، وكل من المقدمتين وإن كانت باطلة، فالجمع بينهما متناقض، وذلك أن ما لا يعرف إلا بالعقل لا يعلم أن مخالفه كافر الكفر الشرعي، فإنه ليس في الشرع أن من خالف ما لا يعلم إلا بالعقل يكفر، وإنما الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته، مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود، ونحوهم. وفي الجملة فالكفر متعلق بما جاء به الرسول لا بمجرد ما يعلم بالعقل، فكيف يجوز أن يكون الكفر بأمور لا تعلم إلا بالعقل؟ إلا أن يدل الشرع على أن تلك الأمور التي لا تعلم إلا بالعقل كفر، فيكون حكم الشرع مقبولاً، لكن معلوم أن هذا لا يوجد في الشرع بل الموجود في الشرع تعليق الكفر بما يتعلق به الإيمان، وكلاهما متعلق بالكتاب والرسالة، فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع تصديقه وطاعته. ومن تدبر هذا رأى أهل البدع من النفاة يعتمدون على مثل هذا فيبتدعون بدعًا بآرائهم، وليس فيها كتاب ولا سنة، ثم يكفرون من خالفهم فيما ابتدعوه، وهذا حال من كفر الناس بما أثبتوه من الأسماء والصفات التي يسميها هو تركيبًا وتجسيمًا وإثباتًا لحلول الصفات والأعراض به ونحو ذلك من الأقوال التي ابتدعها الجهمية والمعتزلة ثم كفَّروا من خالفهم فيها. اهـ كلام الإمام ابن تيمية رحمه الله. ولب هذا كله قوله: (فلا إيمان مع تكذيب الرسول ومعاداته، ولا كفر مع تصديقه وطاعته) وما ذكره ونقله قبل هو الفيصل في هذا الباب. وقال رحمه الله في شرح الأصفهانية: (خاصة أهل السنة المتبعين للرسول - صلى الله عليه وسلم - هي أنهم يتبعون الحق ويرحمون من خالفهم باجتهاد، حيث عذره الله ورسوله) اهـ. وإنما رحموه لأنهم تجمعهم أخوة الإيمان، وقد قال تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ، فالمؤمنون مهما اختلف اجتهادهم، وتباينت مداركهم، فهم إخوة يتراحمون، يتآلفون ولا يتباغضون، ولا يلزم من اختلاف الرأي اختلاف القلوب، وبالله التوفيق. (14) بيان أنه لا تضليل، لمن أصاره اجتهاده إلى التأويل قدمنا أولاً أنا لم نرد في هذه الورقات ذكر عقائد الجهمية والمعتزلة، ولا مناقشتهم؛ لأن لذلك مواضع معروفة، لا سيّما وهذا المقام طويل الذيل، متشعب المناحي، ويكفي أنه لأجله صنّف ودوّن علم الكلام، وإنما أردنا تعرف شأن هاتين الفرقتين من الوجهة التاريخية، وقد أتينا على جمل منها. بقي التنبيه على النصفة مع مجتهدي فرق الإسلام ومجافاة التضليل عن كل من التزم قانون التأويل، فنقول: قد وقَرَ في قلوب كثير من الناس رمي أمثال المعتزلة بالمروق والضلال والزيغ، تقليدًا لمن ينبزهم بذلك من حشوية المتفيهقين، وهذا من أغرب الغريب، إذ كيف يصح هذا وكان القائمون بمذهب المعتزلة خلفاء الإسلام في العه

الباب الأول من كتاب الاعتصام

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

_ الباب الأول من كتاب الاعتصام [*] في تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظًا وأصل مادة (بدع) للاختراع على غير مثال سابق، ومنه قول الله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} (البقرة: 117) ، أي مخترعهما من غير مثال سابق متقدم، وقوله تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) ، أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد بل تقدمني كثير من الرسل، ويقال: ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق، وهذا أمر بديع يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن؛ فكأنه لم يتقدمه ما هو مثله ولا ما يشبهه. ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العلم المعمول على ذلك الوجه بدعة، فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة حسبما يذكر بحول الله. ثبت في علم الأصول أن الأحكام المتعلقة بأفعال العباد وأقوالهم ثلاثة: حكم يقتضيه معنى الأمر كان للإيجاب أو الندب، وحكم يقتضيه معنى النهي كان للكراهة أو التحريم، وحكم يقتضيه معنى التخيير وهو الإباحة. فأفعال العباد وأقوالهم لا تعدو هذه الأقسام الثلاثة: مطلوب فعله، ومطلوب تركه، ومأذون في فعله وتركه. والمطلوب تركه لم يطلب إلا لكونه مخالفًَا للقسمين الأخيرين، لكنه على ضربين: (أحدهما) : أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مخالفة خاصة مع تجرد النظر عن غير ذلك، وهو إن كان محرمًا سُمي فعله معصية وإثمًا، وسمي فاعله عاصيًا وآثمًا، وإلا لم يسم بذلك، ودخل في حكم العفو حسبما هو مبين في غير هذا الموضع. ولا يسمى بحسب الفعل جائزًا ولا مباحًا لأن الجمع بين الجواز والنهي جمع بين متنافيين. (والثاني) : أن يطلب تركه وينهى عنه؛ لكونه مخالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الحدود وتعيين الكيفيات والتزام الهيئات المعينة أو الأزمنة المعينة مع الدوام ونحو ذلك. وهذا هو الابتداع والبدعة ويسمى فاعله مبتدعًا - فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها في معنى البدعة وإنما يخصها بالعبادات. وأما على رأي من أدخل الأعمال العادية في معنى البدعة فيقول: (البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية) . ولا بد من بيان ألفاظ هذا الحد: فالطريقة والطريق والسبيل والسنن هي بمعنى واحد، وهو ما رسم للسلوك عليه، وإنما قيدت بالدين لأنها فيه تخترع وإليه يضيفها صاحبها، وأيضًا فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على خصوص لم تسم بدعة؛ كإحداث الصنائع والبلدان التي لا عهد بها فيما تقدم. ولمّا كانت الطرائق في الدين تنقسم: فمنها ما له أصل في الشريعة، ومنها ما ليس له أصل فيها - خص منها ما هو المقصود بالحد وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها من الشارع؛ إذ البدعة إنما خاصتها أنها خارجة عمّا رسمه الشارع، وبهذا القيد انفصلت عن كل ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع ممّا هو متعلق بالدين، كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة. فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع؛ إذ الأمر بإعراب القرآن منقول وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنة فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبد الشرعية بالألفاظ الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤدّى. وأصول الفقه إنما معناها استقراء كليات الأدلة حتى تكون عند المجتهد نصب عين وعند الطالب سهلة الملتمس. وكذلك أصول الدين - وهو علم الكلام - إنما حاصله تقرير لأدلة القرآن والسنة، أوْ ما ينشأ عنها في التوحيد وما يتعلق به، كما كان الفقه تقريرًا لأدلتها في الفروع العبادية. (فإن قيل) . فإن تصنيفها على ذلك الوجه مخترع. (فالجواب) : أنَّ له أصلاً في الشرع، ففي الحديث ما يدل عليه، ولو سلم أنه ليس في ذلك دليل على الخصوص فالشرع بجملته يدل على اعتباره، وهو مستمد من قاعدة المصالح المرسلة، وسيأتي بسطها بحول الله. فعلى القول بإثباتها أصلاً شرعيًّا لا إشكال في أن كل علم خادم للشريعة داخل؛ تحت أدلته التي ليست بمأخوذة من جزئي واحد. فليست ببدعة ألبتة. وعلى القول بنفيها لا بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات. وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة؛ لأن كل بدعة ضلالة من غير إشكال، كما يأتي بيانه إن شاء الله. ويلزم من ذلك أن يكون كتب المصحف وجمع القرآن قبيحًا، وهو باطل بإجماع، فليس إذًا ببدعة. ويلزم أن يكون له دليل شرعي، وليس إلا هذا النوع من الاستدلال، وهو المأخوذ من جملة الشريعة. وإذا ثبت جزئيٌّ في المصالح المرسلة، ثبت مطلق المصالح المرسلة؛ فعلى هذا لا ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيره من علوم اللسان أو علم الأصول أو ما أشبه ذلك من العلوم الخادمة للشريعة بدعة أصلاً. ومن سمّاه بدعة فإمّا على المجاز؛ كما سمى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قيام الناس في ليالي رمضان بدعة. وإما جهلاً بمواقع السنة والبدعة، فلا يكون قول من قال ذلك معتدًّا به ولا معتمدًا عليه. وقوله في الحد (تضاهي الشرعية) يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة. منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائمًا لا يقعد، ضاحيًا لا يستظل. والاختصاص في الانقطاع للعبادة، والاقتصار من المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة. ومنها التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدًا، وما أشبه ذلك. ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته [1] . وثَمَّ أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية. وأيضًا فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة؛ حتى يكون ملبسًا بها على الغير، أو تكون هي ممّا تلتبس عليه بالسنة، إذ الإنسان لا يقصد الاستتباع بأمر لا يشابه المشروع؛ لأنه إذ ذاك لا يستجلب به في ذلك الابتداع نفعًا، ولا يدفع به ضررًا، ولا يجيبه غيره إليه. ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيل التشريع ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير. فأنت ترى العرب الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما أحدثوه احتجاجًا منهم، كقولهم في أصل الإشراك: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) ، وترك الحُمْس الوقوف بعرفة لقولهم: لا نخرج من الحرم اعتدادًا بحرمته. وطواف من طاف منهم بالبيت عريانًا قائلين: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها. وما أشبه ذلك ممّا وجّهوه ليصيّروه بالتوجيه كالمشروع، فما ظنك بمن عُدَّ أو عَدَّ نفسه من خواصّ أهل الملة؟ فهم أحرى بذلك، وهم المخطئون وظنهم الإصابة. وإذا تبين هذا ظهر أن مضاهاة الأمور المشروعة ضرورية الأخذ في أجزاء الحد. وقوله: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) هو تمام معنى البدعة إذ هو المقصود بتشريعها. وذلك أن أصل الدخول فيها يحث على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ، فرأى من نفسه أنه لا بُدّ لما أطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة، وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة. وأيضًا فإن النفوس قد تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدد لها أمر لا تعهده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول، ولذلك قالوا (لكل جديدة لذة) بحكم هذا المعنى، كمن قال: (كما تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك يحدث لهم مرغبات في الخير بقدر ما حدث لهم من الفتور) . وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: فيوشك قائل أن يقول: ما هم بمتبعيّ فيتبعوني وقد قرأتك القرآن فلا يتبعني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة [2] . وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات، فكل ما اخترع من الطرق في الدين مما يضاهي المشروع، ولم يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية، كالمغارم الملزمة على الأموال وغيرها على نسبة مخصوصة وقدر مخصوص مما يشبه فرض الزكوات ولم يكن إليها ضرورة. وكذلك اتخاذ المناخل وغسل اليد بالأُشنان وما أشبه ذلك من الأمور التي لم تكن قبل، فإنها لا تسمى بدعًا على إحدى الطريقتين. وأمّا الحدّ على الطريقة الأخرى فقد تبين معناه إلا قوله: (يقصد بها ما يقصد بالطريقة الشرعية) . ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته؛ لأن البدعة إمّا أن تتعلق بالعادات أو العبادات، فإن تعلقت بالعبادات فإنّما أراد بها أن يأتي تعبده على أبلغ ما يكون في زعمه ليفوز بأتمّ المراتب في الآخرة في ظنه. وإن تعلقت بالعادات فكذلك؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها. فمن يجعل المناخل في قسم البدع فظاهر أنّ التمتع عنده بلذّة الدقيق المنخول أتمّ منه بغير المنخول. وكذلك البناءات المشيدة المحتفلة، التمتع بها أبلغ منه بالحشوش والخرب. ومثله المصادرات في الأموال بالنسبة إلى أولي الأمر، وقد أباحت الشريعة التوسع في التصرفات، فيعد المبتدع هذا من ذلك. وقد ظهر معنى البدعة وما هي في الشرع، والحمد لله. *** فصل وفي الحدّ أيضًا معنًى آخر ممّا ينظر فيه. وهو أن البدعة من حيث قيل فيها: إنّها طريقة في الدين مخترعة ... إلى آخره - يدخل في عموم لفظها البدعة التَّركية كما يدخل فيه البدعة غير التركية، فقد يقع الابتداع بنفس الترك تحريمًا للمتروك أوْ غير تحريم؛ فإن الفعل مثلاً قد يكون حلالاً بالشرع فيحرمه الإنسان على نفسهِ أو يقصد تركه قصدًا. فهذا الترك إمّا أنْ يكون لأمر يعتبر مثله شرعًا أو لا، فإن كان لأمر يعتبر فلا حرج فيه، إذ معناه أنه ترك ما يجوز تركه أو ما يطلب بتركه [3] كالذي يحرِّم على نفسه الطعام الفلاني من جهة أنه يضره في جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك. بل إن قلنا بطلب التداوي للمريض فإن الترك هنا مطلوب، وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح، فهذا راجع إلى العزم على الحمية من المضرات. وأصله قوله عليه السلام: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج - إلى أن قال - ومن لم يستطع فعليه بالصوم) [4] الذي يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة فيصير إلى العنت. وكذلك إذا ترك ما لا بأس به حذرًا مما به البأس فذلك من أوصاف المتقين، وكتارك المتشابه حذرًا من الوقوع في الحرام واستبراءً للدين والعرض. وإن كان الترك لغير ذلك، فإما أن يكون تدينًا أو لا. فإن لم يكن تدينًا فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك. لا يسمى هذا الترك بدعة إذ لا يدخل تحت لفظ الحد إ

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (كتاب الهدى إلى دين المصطفى) (الجزء الأول منه لمؤلفه ... النجفي في مدينة (سُرَّ مَنْ رَأَى) بالعراق، طبع بمطبعة العرفان طبعًا نظيفًا على ورق متوسط ص 392 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا، ويباع في مكتبة المنار بمصر) . كثر دعاة النصرانية في هذه البلاد كما كثروا في كل بلد دخله النفوذ الغربي، دخلوا القرى بدون إذن أهلها، وجاسوا خلال الديار رائدين الفتنة والتفريق، وقد كان المسلمون - عامتهم وعلماؤهم - لا يحفلون بما يبثه هؤلاء الدعاة بين المسلمين لسخافته وبداهة بطلانه، وليس في هذه البلاد من أثقله وزر آدم فيأتي هؤلاء الذئابَ يحتمي منه في حظيرتهم، ولا من ضاق صدره بتوحيد الله عز وجل فيجيء هؤلاء المعددين ليجد له عندهم متسعًا في ثالوثهم، ولا من حصر صدره بعصمة الأنبياء الهداة حتى يتحكك بهؤلاء الكتبة؛ ليثلجوا صدره ويجرّؤه على المعاصي بقصة نوح مع ولديه أو إبراهيم مع امرأته أو يهوذا مع كنَّته أو داود مع امرأة قائده أو سليمان مع أصنام نسائه أو ابن يعقوب مع امرأة أبيه أو يعقوب مع ملاك ربه أو لوط مع بنتيه.. إلخ. بل إن المسلمين ليسوا بمحتاجين مسيحهم الخيالي (وهو غير مسيح الله عليه السلام) الذي يدعي هؤلاء الصدوقيون أنهم يعبدونه وينكرون سيرته الإنجيلية ويرون عصمته عن السكر وعن غسل أرجل التلاميذ وعن طرد أمه وإخوته وإنكاره لها وعن البخل بهداية الكنعانية، إلى غير ذلك مما نراه في أناجيلهم. لا خوف من هذه التعاليم على عامة المسلمين فضلاً عن علمائهم، ولكن السكوت على باطلهم خيَّل إليهم أنهم على حق فتفننوا في طرق دعوتهم حتى إنهم ليصدرون بعض كراريسهم بالآيات القرآنية أو بخطب تضارع الخطب التي اصطلح بعض الخطباء الرسميين على تلاوتها يوم العيد وأيام الجمع.. إلخ. كل ذلك ليدخلوا إلى قلوب المسلمين فيفسدوا عليهم ما بقي لهم من دينهم، ويحلوا الروابط التي تربطهم بأمتهم. ولذلك قام العلماء في جميع الأقطار يرسلون شهب ردودهم فتخمد أنفاس شياطين التفريق، وأول من كتب في الرد عليهم في هذا العصر بعقل وبحث وروية الشيخ رحمة الله الهندي ثم تبعه قوم آخرون هم عيال عليه في هذا الباب. ثم رأينا مثالاً له في هذه الآونة من رسائل الدكتور صدقي وكتاب النجفي، وهو هذا المؤلَّف الذي هو نتيجة بحث علمي وتمحيص المسائل وتحقيقها. فحيّا اللهُ العلامة النجفي فقد دحض مزاعم دعاة النصرانية بكتابه هذا وقذف بحقه على باطلهم فإذا هو زاهق ولهم الويل مما يصفون. وضع كتابه هذا ردًّا على كتاب (مقالة في الإسلام) لسايل الإنكليزي المترجم بالعربية وعلى الكتاب البذيء المسمى بالهداية الموضوع للرد على كتاب (إظهار الحق) ، وكتاب (السيف الحميدي) فهدم أركانها وقوّض بنيانها بالأدلة العقلية والنقلية بعبارة طلية جلية، فيجدر بمن عني بالرد على هؤلاء المشاغبين أن يطلع على هذا الكتاب. *** (كشف الأستار عمّا لحقوق الدول من الأسرار) الجزء الأول بقلم صبحي أباظه طبع بمطبعة العرفان بصيدا سنة 1331 ص 125 بقطع المنار ثمنه 20 قرشًا يطلب من مكتبة المنار بمصر. اسم الكتاب يدل على موضوعه وفيه فوائد جمّة جاءت من طريق الاستطراد. *** (في التربية والتعليم) تأليف محمد أمين. طبع بمطبعة التقدم بمصر على ورق جيد. ص 114 بالقطع الصغير، ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المنار بمصر. مواضيع الكتاب - بعد مقدمة بقلم أحمد بك لطفي السيد مدير الجريدة -: (1) الشكوى. (2) تشخيص العلة. (3) وصف الدواء؛ ثم الأطوار الثلاثة، في البيت والمدرسة والمجتمع. (4) التربية الحسية والعملية والأخلاقية؛ ثم الخاتمة. والكتاب مجموعة مقالات نشرت في الجريدة ثم طبعت على حِدَتها غير مصدَّرة بالبسملة ولا الحمدلة، على سنة من يتفصون من كل ما يربطهم بالأمة الإسلامية من الشعائر والمقومات والمشخصات. *** مرشد المترجم الصغير (لطلبة الشهادة الابتدائية) تأليف محمد السيد بك وكيل مدرسة المعلمين الناصرية وعوض إبراهيم بك وكيل المدرسة السعيدية. طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا ص 140 بالقطع الوسط. ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المعارف ومكتبة المنار بمصر. وضعه مؤلفها لطلبة الشهادة الابتدائية وتوخيًا في تذليل عقبات الترجمة من العربية إلى الإنكليزية وبالعكس، وتسهيلها على التلميذ بشرح المفردات التي يهتدي إليها بسهولة، وقد اطّلع عليه المستر استيفنز معلم الإنكليزية بمدرسة المعلمين الناصرية. والكتاب يفيد التلميذ علمًا بالشئون الاجتماعية بمواضيعه المفيدة. *** (الأجوبة المسكتة) تأليف أحمد أفندي صابر من مستخدمي (نظارة الأوقاف) وقد طبع الطبعة الثانية بمطبعة الجمالية بمصر؛ مع زيادات وتحسينات، ص 252 بقطع رسالة التوحيد. ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر، وهو غني عن التعريف. *** (غاية الإنسان) كتاب في الفلسفة الأدبية مفيد وضعه الفيلسوف جافينون وترجمته وسيلة محمد مترجمة (روح الاعتدال) وناهيك بها سلاسة وجوده. ص 160 بقطع سابقه. طبع بمطبعة المعارف طبعًا نظيفًا. ثمنه خمسة قروش ويطلب من مكتبة المعارف ومكتبة المنار بمصر. *** (أرجوزة ابن المعتز) طبعت في المطبعة الجمالية بمصر سنة 1330 على نفقة ابن منصور في 24 ص بقطع رسالة التوحيد، على ورق جيد ثمنها قرش صحيح واحد، وتطلب من المكاتب المصرية، وموضوع الأرجوزة تاريخ المعتضد بالله العباسي، وما هو بالتاريخ الذي يعتد به. *** نشوء الاجتماع (الجزء الأول منه) تأليف بنيامين كد وتعريب محمد زكي صالح في طنطا طبع بمطبعة الأخبار بمصر سنة 1913 على ورق جيد ص 135 بقطع (الإسلام والنصرانية) ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. مواضيعه بعد مقدمة المترجم التي ألمت بموضوع الكتاب وآراء العلماء والجرائد فيه هي: (1) الحاضر (2) أسباب الارتقاء (3) العقل لا يؤيد أسباب الارتقاء (4) أجلى طبيعة في التاريخ الإنساني (5) وظيفة العقائد الدينية في نشوء الاجتماع. والكتاب مفيد في موضوعه، منبه للعقل موقظ للقوة المفكرة. وأرى أن أستعير لتقريظه كلمة الأستاذ (ويسمن) الألماني التي كتبها في مقدمة الترجمة الألمانية وهي: (لا أرمي إلى تحليل هذا الكتاب الفذ؛ بل أقول: إنه جدير بالنظر والاعتبار … إلخ) والمرجو أن يظهر المعرب الجزء الثاني منه وأن يعتني بترجمته وبتصحيحه ليسلم من مثل الأغلاط التي في الجزء الأول. *** (كتاب آداب العرب) تأليف إبراهيم بك العرب. طبعته نظارة المعارف على نفقتها في المطبعة الأميرية سنة 1911 وقررت تدريسه في مدارسها الابتدائية وفي مدارس المعلمين والمعلمات ويطلب من مخزن المعارف. الكتاب مجموعة مواعظ منظومة على ألسن الحيوان والطير على نمط كتاب الصادح والباغم. *** (المطالعة الفصيحة لأمهات اليوم والغد) الجزء الأول منه تأليف الشيخ مهدي أحمد خليل المدرس بمدرسة المعلمات في بولاق. الطبعة الأولى منه سنة 1331 ص 205 بقطع رسالة التوحيد، ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. الكتاب أدبي اجتماعي لغوي كبير الفائدة، ولذلك قررت نظارة المعارف تدريسه لجميع تلميذات مدارس البنات العالية والابتدائية والخصوصية. *** (محاسن الطبيعة وعجائب الكون) تأليف اللورد (أفري) ترجمة وديع البستاني. ص 264 بالوسط طبع مطبعة المعارف، وثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار ومكتبة المعارف. أبحاث الكتاب: تمهيد، عالم الحيوان، والنبات، والحقول والحراج، والماء، والبحر، ثم القبة الزرقاء. وهو يجول في هذه الأبحاث جولة المفكر المتعقل المعتبر. وإذا كان هذا الكتاب أسمى معاني وأكثر دقة من سائر ما قرأنا من مؤلفات لورد أفري التي عربها وديع البستاني فإن ترجمته أصح وأسلم وأقل غلطًا من جميعها أيضًا. *** (رواية جزيرة الذهب) مترجمة عن الألمانية بقلم ماري إبراهيم نجار، طبع الجزآن الأول والثاني منها بمطبعة جريدة الهدي في نيويورك على نفقتها فكانت ص 254 بالقطع الوسط وموضوعها تحويل الأفكار عن عبادة الذهب، وتضحية كل شيء في سبيل الحصول عليه؛ إلى فكرة الإنسانية الراقية وما أجدر هذه المترجمة العاقلة الفاضلة، باختيار هذه القصص المفيدة النافعة. *** (مجلة العلوم الاجتماعية) مجلة تصدر في بيروت تبحث في الحقوق والاقتصاد والاجتماع، سنتها عشرة شهور شمسية تبتدئ من أيلول (سبتمبر) من كل سنة. الجزء منها 322 ص. منشئها المحامي توفيق أفندي الناطور المتخرج في مدرسة الحقوق في باريس، ومدير تحريرها الشيخ محمد منيب أفندي الناطور من تلاميذ الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي. قيمة اشتراكها في البلاد العثمانية ريالان مجيديان، وفي البلاد الأجنبية عشرة فرنكات. وإن في سعة منشئها ومديرها وتوخيهما النفع لها ما يوجب الإقبال عليها لما يختاران نشره فيها من العلوم والفوائد التي أصبحت في هذا العصر حاجة من حاجات الأمة، فنحن نرجو لها الرواج والنجاح، ونعده عنوانًا لاستعداد الأمة للارتقاء. وقد فتحت بابًا لأدبيات اللغة العربية فضمت إلى فوائدها العلمية هذه الفائدة اللغوية ويمكن الاشتراك فيها بواسطة مجلة المنار ومكتبته.

الشيخ علي يوسف ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ علي يوسف (3) فصل في بقية الكلام على سياسته المصرية بينَّا أن سياسة الشيخ في المؤيَّد كانت تدور في أول العهد على ثلاثة أقطاب: (1) تأييد سلطة الأمير ونفوذه (2) مقاومة نفوذ الاحتلال الإنكليزي (3) الاعتماد في هذه المقاومة على نفوذ الدولة العثمانية وحقوقها الرسمية في مصر. وكذا على نفوذ فرنسا ومصالحها السياسية فيها، وأنها بعد طول الاختبار وتغير الحوادث طرأ عليها بعض التغيير. ونزيد ذلك بيانًا فنقول - وإن كررنا بعض المعاني -: إنه بعد حادثة فشودة علم المترجم أن الاتكال أو الاعتماد على عهود دولة أوربية لا يكون إلا دون الاتكال على المواعيد العرقوبية، وأنه بعد اختبار السياسة العثمانية بالغوص في أعماق الحوادث التي بيانها وبين أوربا، وبلقاء كبار رجالها في الآستانة ومصر وأوربا، علم أنه لا يتكل عليها في شيء، وأن الذي يبني عمله على الرجاء فيها فإنما يبني على شفا جرف؛ إذ لا يؤمن خذلانها له في كل عمل، فاكتفى من خدمة الدولة فيما يسمونه المسألة المصرية بالمحافظة على حقوقها الرسمية في مصر، وجعل فرماناتها الرسمية لأمراء مصر ركن استقلالها الركين، الذي يصد به بعض ما يخشى من هجمات الاحتلال عليه. وأما فرنسة وسائر دول أوربة فقد علم كما يعلم كل خبير بصير أنها دول تجارية تَتِّجر بالأمم والشعوب والدول، وأنها لا تراعي في تجارتها حقًّا ولا عدلاً، ولا رحمة ولا فضلاً، وإنما رأس مالها القوة والحيلة والأثرة، فلا يقدر أن يستفيد منها إلا من جعل منفعته وسيلة إلى منفعتها، وهيهات أن يتسنى لأدنى أن يستخدم لمنافعه من هو أعلى منه قوة وعلمًا. وما كل من تنفعه تقدر أن تستخدمه، وناهيك بدول أوربة ومعارضة بعضها لبعض في سياستها أو مطامعها في بلادنا، فإذا أراد بعضها أن ينفعنا قليلاً لينتفع منا كثيرًا، عارضه في ذلك من يكره لنا هذه المنفعة ويراها عقبة في طريق مطامعه فينا. وكان الفقيد يعلم أيضًا أن شعوب أوربة خير من حكوماتها، وأن فيهم كثيرًا من الأحرار ومحبي الحق والخير لكل البشر، وأن رأي الشعب العام له السلطان الأعلى على الحكومات؛ فلهذا كان يرى أخيرًا أنه ينبغي أن يكون للمصريين صلة ببعض أهل الفضيلة من أحرار الإنكليز لعلهم يستعينون بهم على مقاصدهم، وإيصال ما يشكون منه بحق من إنكليز مصر إلى إنكليز لندرة، حتى لا تكون الشؤون المصرية محجوبة عن محبي الإنصاف، لا يعرفون منها إلا ما يكتبه عميد إنكلترا في مصر إلى ناظر الخارجية في لندرة وبعض مراسلي الجرائد. والعلم بهذا الرأي إما أن ينفع وإما أن لا يضر. ولكن عارضه فيه أحداث الوطنية في جريدة اللواء وما أحدثوه بعد مصطفى كامل من الجرائد كدأبهم وعادتهم، وقد بينا وجه ذلك عندهم في هذه الترجمة. *** (الجرائد والأحزاب بمصر) ونقول ههنا: إن السياسة في مصر لا مظهر لها إلا الجرائد، وقد تألفت الأحزاب لأجل الجرائد ومديري سياسة الجرائد، ولم يستطع حزب من الأحزاب أن يجعل جريدة أكثر رواجًا وقبولاً من جريدة أخرى عند الرأي العام بمصر. وقد سبق القول بأن الجرائد العربية المؤثرة في الجمهور المصري كانت ثلاثة: الأهرام والمقطم والمؤيد، وأن التنازع إنما كان أولاً بين الأهرام والمقطم؛ ثم كانت الأهرام تشايع المؤيد بعد ظهوره لاتفاقه معها في الميل إلى السياسة الفرنسية التي تعد الأهرام هي الركن الأول لها؛ ولأن مشايعته على المقطم كانت تعد من آيات صدق الخدمة الوطنية لمصر. ولما انقطع أمل المصريين من فرنسة صارت جريدة الأهرام في المرتبة الثانية بين الجرائد اليومية؛ بل كادت تموت من شدة ضعفها؛ لولا أن تداركها همّة بشارة باشا تقلا القوية ومَن ساعده على تحريرها من أذكياء الكتاب، وأعانه على ذلك ثقة جمهور التجار والزراع بأخبارها التجارية. بذلك انتعشت بعد أن سقطت، وارتفعت بعد أن انخفضت، وحفظت مكانتها بين الجرائد اليومية الكبرى، فإن لم تعد رأسًا في سياسة خاصة فهي رأس في الثروة والمباحث العامة. ولا يضاهيها في هذين الأمرين إلا المقطم. فهما الآن في مقدمة الجرائد المصرية في الثروة، وسعة الأخبار العامة، والقدرة على التصرف في الكلام عن الشؤون المصرية، على أنهما لم تتألف لهما أحزاب، وإنما تلك كفاءة أصحابهما ومحرريهما، والجمع بين حسن الإدارة، والبراعة في الكتابة. وقد تألف في مصر ثلاثة أحزاب سياسية حول ثلاث جرائد يومية، هن أكبر جرائد مسلمي هذا القطر وأوسعها انتشارًا: المؤيد واللواء والجريدة، ولم يكن لواحدة منهن دخل يوازي دخل المقطم والأهرام إلا للمؤيد، فقد كان أوسع منهما انتشارًا وعلى مقربة منهما في المال، ولو أتيح للمؤيد مدير مالي يسير بإدارته سيرة أصحاب تينك الجريدتين لكان أوسع الجرائد ثروة، على أن الشيخ رحمه الله عاش به في سعة ورخاء، كما يعيش الأمراء والكبراء، حتى تورط في شراء الدور وأراضي البناء، في إبان إسراف الناس في التغالي بها، فركبته الديون وجاءت سنوات العسرة المالية فأتت على تجميع ما في يده، وكادت تذهب بالمؤيد نفسه، لولا أن تداركه بتأسيس شركة مساهمة له، فحالت دون موته، لا دون مرضه، فقد مرض المؤيد أمراضًا أشرفت به على الموت عدة مرار، وصارت حركة ظهوره كحركة المذبوح أو حركة الاستمرار، وهو لا يزال محتاجًا إلى تجديد الحياة، وإنما يكون ذلك بحسن الإدارة والنظام، وجعل التحرير على الوجه الذي بيناه من قبل، وهو ما به يظل المؤيد صاحب التأثير الأول في كل ما يتعلق بمصالح المسلمين في مصر، وكذا في غيرها، ثم بالمصالح المصرية والعثمانية. فإذا قصَّر المؤيد في هذا الأمر - الذي لم يكن لولاه أمرًا ذا بال - يحكم عليه الرأي العام الإسلامي بالعدم والزوال، ويطلب بلسان حاله جريدة تحل محله حتى ينهض بها مَن يؤهله الاستعداد من الشركات أو الأفراد. وجملة ما نريد الاعتبار به أن المؤيد قد جعله مشربه الإسلامي والمصري فوق جرائد القطر كلها، بل جعله حاجة طبيعية، مِنْ حَاج البلاد المصرية فالإسلامية، ولقي من المساعدة والإقبال ما لم يلق غيره، ومع هذا كله لم يستطع أن يكون في ثبات الأهرام والمقطم وفي مثل ثروتهما، ولا في المحافظة على إشعار الجماهير بحاجاتهم إليه، وبأنه لا بد لهم في الحوادث الطارئة من رأيه، وقد ألف صاحبه له حزبًا سياسيًّا سماه (حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية) فلم يفده قوة تذكر، ولا رد عنه غارة تشن، وإنما كانت قوته المعنوية في هجومه ودفاعه سنان قلم الشيخ علي، وحسن استعماله لأسنة الأقلام التي كانت تساعده، ومنها ما كان أنفذ من سنانه في بعض الشؤون وأقتل. فلما مرض الشيخ مرض المؤيد، ولما مات خشي الناس أن يموت كما مات حزبه، ولكن الشركة المالية تداركت حياته المادية، وعسى أن توفق لتدارك حياته المعنوي، فإن لم يتم هذا يفقد مسلمو مصر الانتفاع بقوتهم المعنوية، ولا يبقى لهم قائد منهم في حياتهم السياسية والأدبية، ولا مدافع يؤثر صوته في مصالحهم الدينية، فالشعب جريدة أحداث جهال، والجريدة ليست إسلامية المشرب، والأهالي كذلك، على أنها ولدت سقطًا كما قال أحد الأدباء. فالجريدة الإسلامية المصرية هي المؤيد، فإذا مات يعسر وجود خلف له. وإنني بهذه الحرية في النصيحة، ربما أثير على نفسي حقدًا قديمًا وعداوة جديدة، ولا أبالي ذلك في سبيل مصلحة المسلمين، على أنني لست على ثقة من قبولها، والله الموفق. وأما اللواء فقد بينا أن منشئه تربى في مدرسة المؤيد السياسية، فكان تلميذًا له، إلا أنه عقه وكفره، وكان يحسب أنه يبذه أو يكون ناسخًا له؛ لأنه يبالغ ويغلو في كل المقاصد التي صار المؤيد يسلك سبل الاعتدال فيها، كمدح السياسة الحميدية، وذم الحكومة المصرية، ومقاومة الاحتلال بالذم والاحتجاج، وذلك أن الناس كانوا قد ألفوا بعض المبالغة من المؤيد، فإذا أرجعته عنها الحكمة والخبرة، يعد عوامّهم وشبانهم ذلك من تغيير الخطة، ومن دأب الأحداث والعوام، حب الإغراق والغلو في الكلام، وناهيك بما يتعلق منه بالسياسة والحكام. وقد بذّ اللواءُ المؤيَّدَ في المبالغة بهذه المقاصد، وانفرد دونه بدعوة مسلمي مصر إلى تكوين رابطة جنسية وطنية، لكنها رابطة تنافي إخاء الإسلام ولا ترضي القبط وسائر طوائف النصرانية. صادف اللواء من مساعدة الآستانة ومساعدة بعض أمراء مصر وأغنيائها ما لم تصادفه جريدة أخرى. حتى كان يبذل له الذهب بالألوف، وهو على هذا كله لم يتسع انتشاره إلا بعد سنين من إنشائه، ثم إنه غلب المؤيد على استمالة أكثر تلاميذ المدارس وكثير من العوام، وصار المؤيد باعتداله -على رضاء أكثر العوام عنه- جريدة الخواص. لم يستطع اللواء أن يصل بكل ذلك إلى أن يكون كجريدة الأهرام أو المقطم في ثباتهما وثروتهما، وقد ألف صاحبه له الحزب الوطني الحديث [1] وألف شركة رأس مالها عشرون ألف جنيه لأجل إصدار لواء أو لوائين آخرين باللغتين الفرنسية والإنكليزية، وإنما كانت هذه الشركة صورية لا غرض منها إلا بذل ذلك المال لمصطفى كامل يتصرف فيه؛ كما يشاء كما يفهم من قانونها وقد فعل. أضاع هذا المال - كما أضاع ما سبقه من الإعانات مع كل غلة اللواء ومطبعته - في السرف والمخيلة والمضارات، وطفق ينشد في اللواء شركاء يشترون سهامًا أخرى من الشركة؛ فلم يستجب لرقيته أحد، ولم يلبث مصطفى باشا كامل أن مرض وضاعف ثقل المرض عليه همّ الدين والعوز، وفي أثناء مرضه ألف الحزب الوطني الحديث [1] وكل ذلك لم يغن شيئًا. ومات (كما مات صاحب المؤيد بعده) مثقلاً بالديون، فقد تبين أن عليه عشرات الألوف من الجنيهات. وقد حجز الدائنون مطبعة اللواء، وبيع أثاث زعيم الوطنية في محل رجل رومي يبيع الأثاث بالمزاد، ثم مات اللواء بعد أن اضطر أصحابه إلى استخدام بعض الكتاب من نصارى السوريين لتحريره وقد كان أعدى أعدائهم، وبعد أن انشق الحزب وأنشأ - بسعي محمد بك فريد؛ رئيسه - جريدة لتكون لسان حاله سماها العلم (بالتحريك) ناط رياسة تحريرها بالشيخ عبد العزيز شاويش، فكانت دون اللواء؛ أحط منه في كل شيء إلا الغلو والإسراف في الكذب، والإرجاف والطعن في الشعوب والأفراد. لذلك اضطرت الحكومة إلى إلغائها بعد أن حوكم رئيس تحريرها (شاويش) غير مرة، وحكم عليه بالسجن وسجن. في أثناء هذه الحوادث كان المتحمسون من رجال الحزب الوطني وآخرون ممن يودون استمالة محبي الرجل من التلاميذ يجمعون المال لنصب تمثال له، يخلدون به ذكره، ولو راعوا الآداب الإسلامية لحافظوا بهذا المال على جريدة اللواء، وانتقوا لها محررين من العقلاء الأدباء، فإن هذا هو الذي يحفظ ذكره كما حفظ الأهرام اسمي سليم تقلا وبشارة تقلا، فما من يوم إلا ويقرأ الأهرام ألوف من الناس يرون هذين الاسمين ويتذكرون مؤسسي هذه الجريدة المرتقية، وفي مصر عدة تماثيل لا يخطر أصحابها لأحد على بال حتى عند رؤيتها ماثلة بالشوارع. وأما (الجريدة) فالعبرة بها أعظم فقد أنشأها جماعة من سروات البلاد أصحاب الثروة والمكانة الاجتماعية، وحصلوا لها رأس مال عظيم، ووضعوا لها قبل إنشائها قانونًا من أدق القوانين، وأسسوا لها مطبعة من أرقى المطابع، وجعلوا إدارتها ومطبعتها في قصر من أحسن القصور، واختاروا لها مديرًا من أذكى الكتاب وأعلمهم بالسياسة والقوانين، واختار هو من المحررين

الجامعة الإسلامية والسياسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامعة الإسلامية والسياسية (جمعية إسلامية. مدرسة جامعة بالمدينة المنورة. استغلال الحجرة النبوية) نجدد الخوض في ذكر الجامعة الإسلامية بما ظهر أخيرًا من عناية جمعية الاتحاد والترقي بالاستفادة من نفوذ الدولة الديني؛ لِما ظهر لها من تأثير الدين في السياسة، وضرر ما كان من إعراضها عنه، ومن اهتمام مسلمي الأرض كافة بحرب طرابلس، وحرب البلقان، وبذلهم المال لإعانة الدولة على الحرب بقدر الإمكان، ومطالبة مسلمي الهند لدولتهم البريطانية بمساعدتها، واستيائهم من ميلها للبلقانيين، ففي أثناء الحرب ألّفوا في الآستانة جمعية إسلامية خيرية تحت رياسة أو رعاية ولي عهد السلطنة. وكان أول من بذل المال لتأسيسها بعض وجهاء المصريين، ويرجون أن يجمعوا لها مالاً جمًّا، وإن لم يعرف العالم الإسلامي أين ذهب هذا المال وكيف ينفق؟ *** المدرسة الجامعة بالمدينة وأذاعوا في الأقطار خبر تأسيس مدرسة جامعة في المدينة المنورة ويعبر عنها الترك باسم (دار فنون) ثم أرسلوا وفدًا إليها في أثناء زيارة الحجاج لها للاحتفال بالشروع في تأسيس هذه المدرسة المسوِّغ لفتح باب الإعانات لها. ونحن ننتظر أن نرى نظم هذه المدرسة لنعلم هل موضوعها دار فنون جامعة لكل الفنون والعلوم العالية كما يفهم من هذه التسمية أم لا، ولنعلم أي اللغات تكون لغة التعليم فيها؟ هل هي العربية أم التركية؟ ومن أين يأتون بالتلاميذ الذين تلقوا التعليم الابتدائي والثانوي ليدرسوا فيها الفنون والعلوم العالية؟ وليس في المدينة ولا في الحجاز شيء من هذا التعليم، ولا نبحث عن المعلمين والكتب قبل أن نعرف لغة التعليم، فإن نظارة المعارف العثمانية تعتذر عما نطلبه من جعل التعليم في ولايات بالدولة العربية بلغة أهلها، وأظهر أعذارها عدم وجود الكتب والمعلمين. وقد أذاعت الجرائد من بضعة أشهر أن النظارة ألفت لجنة فيها لأجل اختيار الكتب العربية الصالحة. وعلمنا أنها طلبت نموذجًا من كتب التعليم التي تقرأ في المدارس المصرية الأميرية فأرسل إليها. وإلى الآن لم نر لعمل اللجنة أثرًا يُذكر. وإذا كانوا يريدون التعليم في المدينة باللغة التركية فإن لنا في ذلك كلامًا آخر. نقول هذا ونحن لا نعقل؛ فلا نصدق أن حكومتنا توجد في المدينة المنورة مدرسة جامعة. ونرى ذلك غير مستطاع إن كان مرادًا، ولا نظن أنه مراد؛ ولكنها قد تبني بناء فخمًا تسميه مدرسة جامعة، وتجلب إليه بعض الطلاب من بلاد مختلفة، فيُعْطَون دروسًا ابتدائية أو فوق الابتدائية، حسب استعداد من يحضر، ثم تستندي أكفّ أغنياء الحجاج وغيرهم لأجل ترقية المدرسة كما تستنديها الآن لأجل تأسيسها بإعاناتهم. وأمّا كون المراد من هذه المدرسة بث فكرة الجامعة الإسلامية في نفوس المسلمين - كما قالت الجرائد في هذه الأقطار وفي غيرها - فالظاهر أن السياسة الاتحادية الأخيرة تودّ إذاعة هذا المعنى عنها، وتحض الذين يتولون إنشاء المدرسة الآن على إقناع زوار المدينة المنورة وغيرهم بأن جمعية الاتحاد والترقي تخدم الدولة والإسلام، وأنه يجب أن تساعد على ذلك بما يستطاع من النفوذ والمال، وقد علم هذا من حال من اختارتهم الجمعية للشروع في العمل، ومن الاحتفال الذي كان في المدينة المنورة، ومن حال المندوب الذي بقي هنالك بعد الاحتفال (وهو الأمير شكيب أرسلان أحد أدباء طائفة الدروز في جبل لبنان) الذي كتب الشعارات بل المئات من المقالات في إطراء الجمعية والطعن في طلاب الإصلاح من العرب للبلاد العربية. أما الشيخ عبد العزيز شاويش رئيس لجنة ذلك الاحتفال في المدينة المنورة ورفيقه عبد القادر أفندي المغربي فهما من غلاة أنصارها الذين ثبتوا على خدمتها في الإقبال والأدبار، على اختلاف المظاهر والأطوار، ومن كان هذا شأنه معها فيما رجعت عنه من سياستها القديمة، فكيف لا يكون كذلك في سياستها الجديدة؟ ! أما أنا فأتمنى لو توجد مدرسة جامعة في المدينة المنورة، أو مدرسة ما مهما كانت درجتها، ومهما كان الغرض من إنشائها، فإذا لم تكن كما نحب اليوم، فإننا نرجو أن تكون كما نحب غدًا، ولهذا لم أكتب كلمة تحذير منها في المقالات التي أنحيت بها على أعمال الجمعية، أيام كان الخلاف بينها وبين قومنا العرب على أشده، حتى إنني عدت كما كنت في عهد عبد الحميد لا آمن على نفسي أن أحج بيت الله الحرام، أو أزور حرم رسوله عليه الصلاة والسلام، وكانت تتمثل لي هذه المدرسة عند سماع خبر العزم عليها كمسجد الضرار. وقد دخل قومنا معها الآن في طور جديد تمنينا فيه بكل ما نطلب من الإصلاح، والله المسؤول أن تصدق الأماني وتحصل الآمال. وأما رأيي الذي أنصح به للدولة، فهو أن تصدي رجالها السياسيين لتحريك أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرًا ولا ينفعها إلا قليلاً، ويوشك أن تكون هذه الأقوال التي قيلت في هذه المسألة - على قلة تأثيرها - من أسباب ما نراه من شدة تحامل أوربة عليها، وأكتفي في هذا المقام بالمثل الذي يكرره الإمام الغزالي في الإحياء: (كن يهوديًّا صِرفًا وإلا فلا تلعب بالتوراة) . ومرادي من هذا أنه يجب عليها أحد أمرين: (الأول) أن تؤسس حكومة إسلامية، خالية من التقاليد والقوانين الإفرنجية، إلا ما كان من النظام، الذي يتفق مع الشرع ولا يختلف باختلاف الأقوام، وتعطي مقام الخلافة حقه من إحياء دعوة الإسلام، وإقامة الحدود وحرية أهل الأديان، ولا يعجزها حينئذ أن ترضي غير المسلمين من رعاياها الذين ليس لهم أهواء سياسية، ولا ضلع مع الدول الأجنبية، بل يكون إرضاؤهم أسهل عليه منه الآن إن شاءته. ولو كان لي رجاء في إصغائها إلى هذا الرأي، أو جعله محل النظر والبحث، لبينت ذلك بالتفصيل، ولأوردت ما أعلمه من المشكلات والعقبات التي تتعرض في طريق تنفيذه من داخلية وخارجية مع بيان المخرج منها، ثم ما يترتب عليه من تجديد حياة الدولة، وكونه هو المنجي لها من الخطر، وإن تراءى لكثير من الناس أنه هو المسرع بالخطر، ظنًّا منهم أن أوربة تعجل بالإجهاز على الدولة إذا علمت بأنها شرعت بنهضة إسلامية؛ لعلمها بأنها هذه هي حياتها الحقيقية، وكون حياتها بهذا هو ما يصرح به بعض أحرار الأوربيون [1] وإنْ خوف منه بالتمويه والإيهام أكثر السياسيين. (الثاني) أن تدع كل ما عدا الأمور الرسمية المعهودة لديها من أمور التدين إلى الجمعيات الدينية الحرة، والأفراد الذين يدفعهم استعدادهم إلى هذه الخدمة، ولها أن تساعد ما يستحق المساعدة من هذه الأعمال بالحماية، وكذا بالإعانات المالية من أوقاف المسلمين الخيرية، (إذا كانت تريد بقاء الأوقاف العامة في يدها ولم تجب طلاب الإصلاح إلى جعل أوقاف كل ولاية في أيدي أهلها) مع إبقائهم بمعزل عن السياسة وأهلها، ولولا أن هذا هو رأيي لما اشترطت على رجال الدولة وجمعية الاتحاد - إذ عرضت عليهم مشروع الدعوة والإرشاد - أن يكون في يد جماعة حرة لا علاقة لها بالسياسة، وأن لا تخصص لها إعانة من خزينة الدولة، بل تكون نفقاتها مما تجمعه هي من الإعانات بأنواعها، ومما تعطاه من أوقاف المسلمين الخيرية {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غافر: 44) . *** استغلال الحجرة النبوية بلغنا - والعهدة على الرواة - أن بعض المنافقين الذين يتقربون إلى (جمعية الاتحاد والترقي) باسم الدين، واستنباط الوسائل منه إلى استخراج المال من جيوب المسلمين، قد زينوا لها أن تتخذ دفترًا تضعه في حجرة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام. وتذيع في العالم الإسلامي كله أن من أراد أن يكتب اسمه في هذا الدفتر، الذي وضع لدى قبر الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله وسلم - فليبذل قطعة من النقود الذهبية (كالجنيه الإنكليزي أو الليرة العثمانية) ونحن ننصح للدولة أو الجمعية بأن تردّ هذا الاقتراح ولا تنفذه، مهما زينه المنافقون ووسعوا دائرة الأمانيّ فيه، وأوهموها أن السواد الأعظم من المسلمين يقبلونه، ظانّين أنه يجعلهم معروفين عند نبيهم - صلى الله عليه وسلم - محبوبين لديه، مقبولين عنده، وأنه يمكن لمن يدعوهم إلى البذل أن يقول لهم: إنه صلى الله عليه وسلم ينظر في هذا الدفتر كل يوم، ويقرأ هذه الأسماء ويدعو لأصحابها بخير. هذه بدعة قبيحة لا نظن أن رجال الاتحاد يقبلون فيها قول المنافقين، أو يحتاجون إلى نصح الناصحين، وهي على كونها حدثًا وبدعة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبثًا بالدين، تخل بتعظيمه وتكريم مقامه صلى الله عليه وسلم وقد لعن من أحدث حدثًا في مسجده (وسيأتي الحديث فيه) وكذا في مدينته وما حولها: روى الشيخان في صحيحيهما وغيرهما عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ما كتبنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن وما في هذه الصحيفة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثور [2] فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحْدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) الحديث. لا يعجز أصحاب الجرأة من المنافقين أن يقولوا: إن استغلال حجرة المصطفى وقبره صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الدفتر لا يعد حدثًا ولا بدعة، لأنه وسيلة إلى مساعدة الدولة على خدمة الدين (مثلاً) ويمكن أن يتقي فيه الكذب في الدين وإيهام الباطل والكذب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يكون توسلاً باسمه - صلى الله عليه وسلم - إلى أكل أموال الناس بالباطل. ولكن أنصار السنة أنهض حجة وأقوم قيلاً، فلا يعجزهم أن يظهروا الدلائل وآثار السلف التي تدحض هذه الشبهات، وأن يبينوا للناس أن كل بدعة حدثت في الإسلام قد موهت بمثل هذا التمويه، وادَّعى محدوثها أنهم يخدمون بها الدين، كما بينه الإمام الشاطبي في كتاب الاعتصام. وإنني أنقل هنا أثرًا واحدًا من آثار السلف الصالح في التوقي من إحداث شيء في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو مدينته حذرًا من لعنته. نقل الشاطبي في بيان كون المبتدع ملعونًا ما يأتي: قال أبو مصعب صاحب مالك: قدم علينا ابن مهدي - يعني المدينة - فصلَّى ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكًا - وكان قد صلى خلف الإمام - فلمّا سلّم قال: مَن هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان، فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه. فحبس. فقيل له: إنه ابن مهدي [3] فوجه إليه وقال له: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف، وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئًا ما كنا نعرفه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) فبكى ابن مهدي، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدًا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره. (قال الشاطبي) : وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن؛ خوفًا من تلك اللعنة، فما ظنك بما سوى وضع الثوب؟ اهـ. (ونقول) : فما ظنك ببدعة وحدث في حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم يتبعها الكذب عليه، وأكل أموال الناس باسمه، والزيادة في الدين الذي جاء به، ولو لم يكن في ذلك من الزيادة في الدين إلا إحداث قربة جديدة، وعبادة مخترعة، هي التقرب إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بكتابة أسماء الن

انتقاد أجوبة المنار لمن سأل عن حكم الحج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتقاد أجوبة المنار لمن سأل عن حكم الحج كتب إلينا غير واحد من البحرين أن الذي سألنا عن حكم الحج وأسرار المناسك لم يكن يريد الحج هو وأصحابه، وما أسئلتهم تلك إلا مظهر ما في نفوسهم من الاعتراض على الدين وعدم الإذعان لأحكامه، وإنه ما كان ينبغي أن يجابوا إلا أن يقال لهم: هذا ديننا، فإن كنتم من أهله فأقيموا أركانه وأدّوا فرائضه، وإلا فالزموا شأنكم. هذا معنى ما كتب إلينا، وصرّحوا بأن سبب سوء اعتقادهم في السائل - ومن على شاكلته - أنهم قد تعلموا في مدرسة دعاة النصرانية (المبشرين) فأزاغوا عقائدهم. أما نحن فنقول: إن الأسئلة التي أرسلت إلينا تدل على أن السائل قد عرضت له شبهات في هذه العبادة (الحج) فهو إما حريص على دينه يسأل العلماء ليأخذ عنهم ما يدفعها بها ليكون على بصيرة من دينه، وإما معجز أو شاكّ يختبر علماء المسلمين ليرى ما عندهم، حتى إذا عجزوا عن بيان حكم هذه المناسك عذر نفسه، واطمأن بما عنده. والواجب علينا أن نغلّب حسن الظن ما وجدنا له منفذًا، وأن نجيب طالب العلم مهما كان قصده، فإن كان مؤمنًا ازداد - ببيان حكمة الدين - إيمانًا، وإن كان شاكًّا أو زائغًا يوشك أن يعود إلى الرشد، ويطمئن بما ظهر له من الحق، ولا ينبغي لنا أن نتهم أحدًا في دينه بالشبهة، ولا أن ندع من يشككهم دعاة النصرانية في الحق وشأنهم، بل ينبغي لنا أن نجذبهم إلينا، إذا هم أعرضوا عنا وتركوا سؤالنا. فإذا ترك الحقُّ الباطلَ يصول بشبهاته على إحداث المسلمين، يمرقون كلهم من الدين. وإذا كان بعض أهل البحرين يعلمون مبلغ إفساد دعاة النصرانية في بلدهم، فلماذا لا يحذرون الغافلين من إرسال أولادهم إلى مدارسهم، ويغنونهم عنها بمدرسة إسلامية ينشئونها لهم، يعلمونهم فيها من علوم المعاش ما يعلمهم هؤلاء المفسدون، ويزيدون عليهم تعليم عقائد الإسلام وأحكامه وحكمه وآدابه وتاريخه بدلاً من النصرانية وشؤون أهلها؟ ألا يعلمون أنهم بترك معارضة هؤلاء المحاربين لدينهم آثمون كلهم؟ وإن هذا الإثم لا يزول إلا بإنشاء مدرسة ينقذون فيها أولادهم من مدرسة دعاة النصرانية التي ستلقي العداوة بينهم وبين أولادهم، وتقطع صلتهم بهم في الدنيا والآخرة؟ ؟ وعسى أن يعتبر من يدعون في حضرموت وغيرها من أطراف جزيرة العرب إلى جعل بلادهم للإنكليز أو تحت حمايتهم، ويفطنوا لما في ذلك من الخطر على دينهم.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (الموالد بدعة أم سنة) (س1) من صاحب الإمضاء في فليمبغ (سومطرة) من فليمبغ إلى القاهرة في 25 المحرم عام 1332هـ. جناب الأستاذ مرشد الأمة ورشيدها سيدي محمد رشيد رضا أدام المولى وجوده. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد ... أرجو من فضلكم إجابة السؤال الآتي على صفحات المنار. ما قول سيدي في قراءة القصص المسماة بالموالد هل هي سنة أم بدعة؟ ومن أول من فعل ذلك؟ وأي الموالد المتداولة بين أيدينا أحرى بالقراءة وأحسن؟ فإن كثيرين من رجال المناصب يزعمون أن مولد الديبعي هو أمثل الموالد وأفضلها وأن روح النبي صلى الله عليه وسلم تحضر عند قراءته خلافًا للموالد الأخرى. أرجو أن تتفضل بإزالة الإشكال، والجواب على هذا السؤال، ولكم الفضل أولاً وآخرًا، ودمتم، والسلام. (طالب الدعاء منكم السيد عقيل بن عبد الله بن عقيل الحبشي) . (ج) هذه الموالد بدعة بلا نزاع، وأول من ابتدع الاجتماع لقراءة قصة المولد النبوي أحد ملوك الشراكسة بمصر، وقد شرحنا ما في هذه الاحتفالات التي يسمونها الموالد بمصر في مجلد السنة الأولى من المنار ثم في غيره من المجلدات. ولم نطلع على قصة من قصص المولد النبوي الشريف إلا ورأينا فيها كثيرًا من الأخبار الموضوعة. حتى جمع صديقنا عالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي من كتب الصحاح والسنن أصح وأمثل ما ورد في ذلك و (شذرة من السيرة النبوية) وقد طبع في مطبعتنا وصار محبو السنة ومبغضو البدعة يستغنون به عن تلك القصص المشحونة بالموضوعات والأكاذيب التي يؤثرها الجهال؛ زعما منهم أنها أكثر تعظيمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أغناه الله تعالى بفضله العظيم عليه عن تعظيم غيره له بالكذب في سيرته. ولم نطلع على مولد الديبعي. فإن كان هو المحدث المشهور فالمرجو أن يكون ما كتبه خاليًا من الموضوعات، وإن لم يخل من الضعاف التي يتسامحون فيها في ذكر المناقب. *** قراءة البخاري لطلب النصر في الحرب (س2) من علي أفندي مهيب (بديوان عموم التلغرافات) بمصر (تأخر) حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ رشيد رضا المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛ فقد قرأت في الجرائد في الأيام الأولى للحرب الحاضرة بين الدولة العلية ودول البلقان أن صاحب الفضيلة شيخ الجامع الأزهر كلف حضرات العلماء بقراءة البخاري أمام القبلة؛ طلبًا للنصر من الله سبحانه. فهل ورد شيء عن قراءة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء الحرب طلبًا للنصر؟ ولماذا لم يقرأ كلام الله سبحانه بالأولى إذا كانت التلاوة تغني عن العمل؟ أرجو الإفادة على صفحات المنار الأغر ولحضرتكم جزيل الشكر. (ج) جاءنا هذا السؤال في أثناء الحرب الأخيرة فوضعناه بين الأسئلة الكثيرة ولم يتفق وقوعه بيدنا إلا الآن. وموضوعه يتكرر عند الحرب وغير الحرب من المصائب كالوباء والقحط. والجواب: إنه لا يعقل أن يكون قد ورد في الكتاب أو السنة أمر أو ترغيب بقراءة أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب النصر أو رفع المصائب، ولا أن يكون ذلك معروفًا في الصدر الأول. فإن الأحاديث لم تكن مدونة في زمن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وإنما دونت في زمن التابعين، وأول من أمر بجمعها ونشرها عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ولم يكن التابعون ولا تابعو التابعين يقرؤونها لتكون قراءتها سببًا للنصر. وإنما فعل ذلك المتأخرون، ولا أدري في أي زمن أحدثوا ذلك، وما أظن أن أحدًا من أهل العلم يقول إن هذا سنة أو مأمور به شرعًا، ولعل أقوى ما يمكن أن يقولوه في سببه: إننا نجتمع للدعاء ونقرأ قبل الدعاء طائفة من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لما يرجى من تأثيرها في حضور القلب، والخشوع للرب، الذي يرجى أن يكون سببًا لاستجابة الدعاء. وعلى هذا يتجه السؤال الثاني وهو: (لماذا لا يقرأ كلام الله سبحانه؟) . وما أظن أن أحدًا من أهل العلم يقول إن قراءة الحديث أو القرآن في المساجد بِنِيَّة نصر المحاربين سبب لنصر المحاربين في ميدان القتال، وقد بين الله تعالى أسباب النصر في كتابه وأمر بها، وأهمها: إعداد ما يستطاع من القوة في كل زمن والثبات، وذكر المحاربين لله تعالى في قلوبهم عند لقاء العدو، كذكر وعده بإحدى الحسنيين وثوابه للشهداء، وبألسنتهم كالتكبير فإنه يعلي الهمة ويقوي الأمل والرجاء، وقد بينا ذلك بالتفصيل غير مرة. وقد ظهر المشركون على المسلمين في أُحُد وحنين والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وأنزل الله تعالى في أحد: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165) ؛ فراجع تفسيرها في المنار أو في الجزء الخامس من التفسير، إن شئت زيادة الإيضاح والتفصيل.

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ فصل من كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين للإمام العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى في مشاهد الخلق في المعصية وهي ثلاثة عشر مشهدًا [1] : مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة - ومشهد اقتضاء رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة - ومشهد الجبر - ومشهد القدر - ومشهد الحكمة - ومشهد التوفيق والخذلان - ومشهد التوحيد - ومشهد الأسماء والصفات - ومشهد الإيمان وتعدد شواهده - ومشهد الرحمة - ومشهد العجز والضعف - ومشهد الذل والافتقار - ومشهد المحبة والعبودية. فالأربعة الأول للمنحرفين، والثمانية البواقي لأهل الاستقامة. وأعلاها المشهد العاشر. وهذا الفصل من أجلِّ فصول الكتاب وأنفعها لكل أحد، وهو حقيق بأن تثنى عليه الخناصر، ولعلك لا تظفر به في كتاب سواه، إلا ما ذكرناه في كتابنا المسمى بسفر الهجرتين في طريق السعادتين. *** فصل فأما (مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة) فمشهد الجهال، الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان، ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها. فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية، لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية، فضلاً عن درجة الملائكة. فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها. (فمنهم) من نفسه كلبية لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها وحماها من سائر الكلاب، ونبح كل كلب يدنو منها، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة، ولا يسمح لكلب بشيء منها، وهمه شبع بطنه من أي طعام اتفق: ميتة أو مذكى، خبيث أو طيب، ولا يستحيي من قبيح، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك، وإن منعته هرّك ونبحك. (ومنهم) من نفسه حمارية لم تخلق إلا للكد والعلف، كلما زيد في علفه زيد في كده، أبكم الحيوان وأقله بصيرة. ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه فلم يعرفه معرفة ولا فقهًا ولا عملاً. ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها وأخلد إلى الأرض واتبع هواه. وفي هذين المثلين أسرار عظيمة ليس هذا موضع ذكرها. (ومنهم) من نفسه سَبُعية غَضَبية، همته العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت إليه قدرته، طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه. (ومنهم) من نفسه فاريَّة، فاسق بطبعه، مفسد لما جاوره، تسبيحه بلسان الحال: سبحان من خلقه للفساد. (ومنهم) من نفسه على نفوس ذوات السموم والحمات، كالحية والعقرب وغيرهما، وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه فيدخل الرجل القبر، والجَمَل القِدْر، والعين وحدها لم تفعل شيئًا وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية مع شدة حسد وإعجاب، وقابلت المعين على غرة منه وغفلة، وهو أعزل من سلاحه، فلدغته، كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن الإنسان فتنهشه، فإما عطب وإما أذى. ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة، بل إذا وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه. والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته عن حمل سلاحه كل وقت. فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح، كالحية إذا قابلت درعًا سابغًا على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف، فحق على من أراد حفظ نفسه وحمايتها أن لا يزال متدرعًا متحصنًا، لابسًا أداة الحرب، مواظبًا على أوراد التعوذات والتحصينات النبوية التي في السنة والتي في القرآن [2] . وعلى هذا الشبه اعتماد أهل التعبير للرؤيا في رؤية هذه الحيوانات في المنام عند الإنسان وفي داره أو أنها تحاربه. وهو كما اعتمدوه. وقد وقع لنا ولغيرنا من ذلك في المنام وقائع كثيرة. فكان تأويلها مطابقًا لأقوام على طباع تلك الحيوانات. وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في قصة أحد بقرًا تنحر، فكان ما أصيب من المؤمنين بنحر الكفار، فإن البقر أنفع الحيوان للأرض وبها صلاحها وفلاحها مع ما فيها من السكينة والمنافع والذِّل (بكسر الذال) فإنها ذلول مذللة منقادة غير أبية، والجواميس كبارهم ورؤساؤهم [3] ورأى عمر بن الخطاب كأن ديكًا نقره ثلاث نقرات، فكان طعن أبي لؤلؤة له. والديك رجل أعجمي شرير. ومن الناس من طبعه طبع خنزير يمر بالطيبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رَجِيعة قَمَّه. وهكذا كثير من الناس يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوي، فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونُقْلَه. (ومنهم) من هو على طبيعة الطاووس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش وما وراء ذلك شيء، ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان وأغلظه كبدًا. (ومنهم) من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث، وعلى طبيعة القرد [4] . أحمد طبائع الحيوانات طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوسًا وأكرمها طبعًا، وكذلك الغنم، وكل من ألف ضربًا من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه، فإن تغذى لحمه كان الشبه أقوى. فإن الغاذي شبيه بالمتغذي [5] . ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما يورث آكله [6] من شبه نفوسها بها والله أعلم. والمقصود أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى ميل نفوسهم وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك ألبتة. *** فصل المشهد الثاني: مشهد رسوم الطبيعة ولوازم الخلقة كمشهد زنادقة الفلاسفة والأطباء الذين يشهدون أن ذلك من لوازم الخلقة والطبيعة الإنسانية، وأن تركيب الإنسان من الطبائع الأربع وامتزاجها واختلاطها كما يقتضي بغي بعضها على بعض وخروجه عن الاعتدال بحسب اختلاف هذه الأخلاط، فكذلك تركيبه من البدن والنفس والطبيعة والأخلاط الحيوانية يتقاضاه إثر هذه الخلقة ورسوم تلك الطبيعة، ولا تنقهر إلا بقاهر إما من نفسه وإما من خارج عنه. وأكثر النوع الإنساني ليس له قاهر من نفسه، فاحتياجه إلى قاهر فوقه يدخله تحت سياسة وإيالة ينتظم بها أمره ضرورية [7] كحاجته إلى مصالحه من الطعام والشراب واللباس. وعند هؤلاء أن العاقل متى كان له وازع - من نفسه - قاهر لم يحتج إلى أمر غيره ونهيه وضبطه [8] . فمشهد هؤلاء من حركات النفس الاختيارية الموجبة للجنايات، كمشهدهم من حركات الطبيعة الاضطرارية الموجبة للتغيرات [9] وليس لهم مشهد وراء ذلك. *** فصل المشهد الثالث: مشهد أصحاب الجبر وهم الذين يشهدون أنهم مجبورون على أفعالهم، وأنها واقعة بغير قدرتهم، بل لا يشهدون أنها أفعالهم ألبتة. ويقولون: إن أحدهم غير فاعل في الحقيقة ولا قادر، وإن الفاعل فيه غيره والمحرك له سواه، وإنه آلة محضة، وحركاته بمنزلة هبوب الرياح وحركات الأشجار، وهؤلاء إذا أنكرت عليهم أفعالهم احتجوا بالقدر وحملوا ذنوبهم عليه، وقد يغلون في ذلك حتى يروا أفعالهم كلها طاعات خيرها وشرها، لموافقته للمشيئة والقدر. ويقولون: كما أن موافقة الأمر طاعة، فموافقة المشيئة طاعة. كما حكى الله تعالى عن المشركين إخوانهم أنهم جعلوا مشيئة الله تعالى لأفعالهم دليلاً على أمره بها ورضاه. وهؤلاء شر من القدرية النفاة، وأشد عداوة لله، ومناقضة لكتبه ورسله ودينه، حتى إن من هؤلاء من يعتذر عن إبليس ويتوجع له ويقيم عذره بجهده، وينسب ربه تعالى إلى ظلمه بلسان الحال والمقال، ويقول: ما ذنبه وقد صان وجهه عن السجود لغير خالقه؟ وقد وافق حكمه ومشيئته فيه وإرادته منه؟ ثم كيف يمكنه السجود وهو الذي منعه منه وحال بينه وبينه؟ وهل كان في ترك السجود لغير الله إلا محسنًا؟ ولكن: إذا كان المحب قليل حظ ... فما حسناته إلا ذنوب وهؤلاء أعداء الله حقًّا، وأولياء إبليس وأحباؤه وإخوانه. وإذا ناح منهم نائح على إبليس رأيت من البكاء والحنين أمرًا عجيبًا، ورأيت من تظلم الأقدار، واتهام الجبار، ما يبدو على فلتات ألسنتهم وصفحات وجوههم، وتسمع من أحدهم من التظلم والتوجع ما تسمعه من الخصم المغلوب العاجز عن خصمه. فهؤلاء هم الذين قال فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته: ويدعى خصوم الله يوم معادهم ... إلى النار طرًّا فرقة القدرية *** فصل المشهد الرابع: مشهد القدرية النفاة ويشهدون أن هذه الجنايات والذنوب هم الذين أحدثوها، وأنها واقعة بمشيئتهم دون مشيئة الله تعالى، وأن الله لم يقدر ذلك عليهم ولم يكتبه ولا شاءه ولا خلق أفعالهم، وأنه لأي قدر أن يهدي أحدًا ولا يضله إلا بمجرد البيان، إلا أنّه يلهمه الهدى والضلال، والفجور والتقوى، فيجعل ذلك في قلبه، ويشهدون أنه يكون في ملك الله ما لا يشاؤه، وأنه يشاء ما لا يكون، وأن العباد خالقون لأفعالهم بدون مشيئة الله. فالمعاصي والذنوب خلقهم وموجب مشيئتهم، لا أنها خلق الله ولا تتعلق بمشيئته. وهم لذلك مبخوسو الحظ جدًّا من الاستعانة بالله والتوكل عليه والاعتصام به، وسؤاله أن يهديهم، وأن يثبت قلوبهم وأن لا يزيغها، وأن يوفقهم لمرضاته ويجنبهم معصيته؛ إذ هذا كله واقع بهم وعين أفعالهم لا يدخل تحت مشيئة الرب. والشيطان قد رضي منهم بهذا القدر، فلا يؤزّهم إلى المعاصي ذلك الأزّ، ولا يزعجهم إليها ذلك الإزعاج. وله في ذلك غرضان مهمان: (أحدهما) أن يقرر في قلوبهم صحة هذا المشهد وهذه العقيدة، وأنكم تاركون الذنوب [10] والكبائر التي يقع فيها أهل السنة. فدل على أن الأمر مفوض إليكم، واقع بكم، وأنكم العاصمون لأنفسكم المانعون لها من المعصية. (الغرض الثاني) أنه يصطاد على أيديهم الجهال، فإذا رأوهم أهل عبادة وزهادة وتورع عن المعاصي وتعظيم لها قالوا: هؤلاء هم أهل الحق. والبدعة آثر عنده وأحب إليه من المعصية، فإذا ظفر بها منهم، واصطاد الجهال على أيديهم، كيف يأمرهم بالمعصية؟ بل ينهاهم عنها ويقبحها في أعينهم وقلوبهم، ولا يكشف هذه الحقائق إلا أرباب البصائر. *** فصل المشهد الخامس وهو أحد مشاهد أهل الاستقامة: مشهد الحكمة وهو مشهد حكمة الله في تقديره على عبده ما يبغضه سبحانه ويكرهه، ويلوم ويعاقب عليه، وأنه لو شاء لعصمه منه، ولحال بينه وبينه، وأنه سبحانه لا يعصى قسرًا، وأنه لا يكون في العالم شيء إلا بمشيئته {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ} (الأعراف: 54) . وهؤلاء يشهدون أن الله سبحانه لم يخلق شيئًا عبثًا ولا سدًى، وأنه له الحكمة البالغة في كل ما قدره وقضاه من خير وشر، وطاعة ومعصية، وحكمة باهرة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها، وتكلّ الألسن عن التعبير عنها، فمصدر قضائه وقدره لما يبغضه ويسخطه اسمه الحكيم الذي بهرت حكمته الألباب، وقد قال تعالى لملائكته لما قالوا: {َتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} (البقرة: 30) ؛ فأجابهم سبحانه بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 30) ، فللَّه سبحانه في ظهور المعاصي والذنوب والجرائم وترتب آثارها من الآيات والحكم، وأنواع التعرفات إلى خلقه، وتنويع آياته، ودلائل ربوبيته ووحدانيته، وإلهيته وحكمته وعزته، وتمام ملكه وكمال قدرته، وإحاطة علمه، ما يشهده أولو البصائر عيانًا ببصائر قلوبهم {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} (آل عمران: 191) ؛ إن هي إلا حكمتك الباهرة وآياتك الظاهرة. ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدًا شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد فكم من آية في الأرض بينة دالة على الله و

الرد المتين على مفتريات المبشرين

الكاتب: محمد طاهر التنير

_ الرد المتين على مفتريات المبشرين [*] لقد اطّلعنا على المجلة المدعوة (الشرق والغرب) التي يطبعها المبشرون بمصر وقرأنا العدد الأول الذي صدر في 1 كانون الثاني سنة 1914 والعدد الثاني الذي صدر في 15 من الشهر المذكور، وإذا فيهما - على زعم أولئك المبشرين - تفنيد لما كتبناه في كتابنا الذي سميناه: (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) ، وجميع ما قالوه ينحصر في خمسة أمور: (الأول منها) : تطاولهم واستبحاتهم لكلام البذاء والتطاول. وهذا ليس له عندنا جواب فليفرحوا وليتنعموا به. (الأمر الثاني) : ادّعاؤهم أننا اعتمدنا في كتابنا على أقوال علماء نصارى أوروبيين ملحدين. وهذا نجاوبهم عليه بأن لهم الخيار بما يصفونهم به. أما نحن فنقول بحقهم أنهم علماء مستقلون قالوا الحق الذي وصل إليه علمهم بشأن ديانة المبشرين غير مبالين بمن لا يرضاه منهم. (الأمر الثالث) : عدم تصديقهم باطّلاعنا على الكتب التي ذكرناها في أول الكتاب. وهذا أيضًا لهم الخيار فيه صدقوا أم لم يصدّقوا. ونقول لهم ولمن هم على شاكلتهم: ها هي ذي مكتبتنا حاضرة لكل من يروم الاطلاع عليها، ونزيدهم - وربنا شهيد - إنه عندنا عدة كتب غير التي ذكرناها لم ننقل منها كلمة واحدة؛ لشدة اعتراضاتها على الديانة النصرانية. وجميعها تأليف علماء مسيحيين أوربيين. وإن أحبوا فإننا مستعدون لذكر أسمائها، وأسماء المدن التي طبعت فيها مع أسماء الطابعين. (الأمر الرابع) : قولهم ما نصه بالحرف (فإذا استزادنا حضرته من نقد بقية ما في كتابه فربما عدنا إليه في فرصة أخرى. ولكن ليسمح لنا الآن بهذه النصيحة وهي أن لا يحشر نفسه بين العلماء الباحثين، بل ليدع ذلك لرجال العلم وليبحث له عن شغل يرتزق منه والله يهدي سواء السبيل) . أما من جهة نقدهم لبقية ما في كتابنا فإننا نشكره لهم سلفًا، فإننا لم نأت بكلمة واحدة من عندنا، ولا بكلمة واحدة من كلام علماء المسلمين رضي الله عنهم، بل جميع ما ذكرناه مأخوذ من كتب علماء الغرب المسيحيين خاصة، وأما أمرهم إيانا بأن لا نحشر نفسنا بين العلماء الباحثين بل لندع ذلك لرجال العلم، وأن نبحث عن شغل نرتزق منه! فأجيبهم عنه بأسف عظيم: أن والدي منذ نعومة أظفاري وضعني بمدارس المبشرين، ولم يعلم أن الدارس فيها يخرج محبًّا للكسل والبطالة واللهو والسباحة والتسول، وأكره شيء عليه السعي وراء شغل يرتزق منه، ويفضل الخمول على السعي، والفاقة على الغنى؛ لرسوخ ما علموه إياه في عقله كتعليمهم لتلاميذهم الصغار (فلا تهتموا للغد لأن الغد يهتم بما لنفسه) وكذلك (لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون) وكذلك (انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن، وأبوكم السماوي يقوتها) . وكذلك فقال يسوع لتلاميذه: (الحق أقول لكم إنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السماوات؟ وأقول لكم أيضًا: إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت السموات. فأجاب بطرس حينئذ وقال له: ها نحن تركنا كل شيء وتبعناك، فإذًا يكون لنا. وكل من ترك بيوتًا أو إخوةً أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًّا أو امرأةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحيوة الأبدية) . وغير ذلك كثير مما هو على هذا النمط، أما لو وضعني بمدارس المسلمين، لكنت لكم من الشاكرين، لأن نصحكم يكون تذكيرًا لي بما درسته فيها من آيات القرآن المجيد، والحديث الشريف، كقوله تعالى:] فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [، وكقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الجمعة: 10) ، وكقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} (نوح: 12) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كاد الفقر أن يكون كفرًا) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبدًا، واحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غدًا) [1] وقوله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده) [2] . وكذلك أيضًا: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا مع أصحابه ذات يوم فنظروا إلى شاب ذي جَلَدٍ وقوة وقد بكَّر يسعى فقالوا: ويح هذا لو كان شبابه وجلده في سبيل الله. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هذا فإنه إن كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين ضعيفين، أو ذرية ضعاف ليغنيهم ويكفيهم فهو في سبيل الله) [3] واحسرتاه! ليته وضعني بمدارس تعلم القرآن المجيد، والحديث الشريف، أي تعلم الحكمة، والهمة والرحمة، ولا كان وضعني بمدارس تعلم الكسل والخمول والبلادة وحب التسول والفاقة وبغض المجد وكره الغنى. (الأمر الخامس) : اعتراضهم على بعض علماء المسلمين الكرام وتصريحهم باسم الأمير صاحب التآليف المشهورة المبنية على آيات القرآن المجيد والحديث الشريف، ويكفهم ردًّا على اعتراضهم وتحاملهم ما أبدوه من العداوة والبغضاء للحق وأهله. أما اعتراضهم على آيات القرآن المجيد؛ كقولهم ما نصه بالحرف: (ولا نحن نطلب من إخواننا المسلمين أن يبينوا لنا كيف يصح القول بأن هامان كان وزيرَ فرعون، وأن مريم العذراء كانت أخت موسى وهارون، على ما يستفاد من القرآن، ولا غير ذلك من المشاكل التي يستحيل التوفيق بينها وبين التاريخ) . على رِسلِكُمْ يا أيها المبشرون الزاعمون إنكم لا تقولون إلا الحق المبين: فما معنى ذكر مثل هذه المسائل وما مدخلها مع تفنيدكم لكتابنا؟ أَمَا آن لكم أن تتركوا المغالطات والسفسطات والتمويهات وتمقتوها؟ أما آن لكم أن تتركوا التشدق بما يعود عليكم بالخيبة والخذلان؟ واللهِ لو كان قصدكم الاستفهام حقيقةً لَمَا كنا نتأثر باعتراضاتكم وتشدقاتكم، ولكن نعلم أن قصدكم بها إغواء عباد الله تعالى وتشكيك عوامّ المسلمين في دينهم. ومع ذلك نقول لكم يا مرحبًا! سلوا عما تشاءون من المشاكل التي تظنون استحالة التوفيق بينها وبين التاريخ الذي كتبته أيدي الصادقين. ونقول لكم - مع أننا نعلم أنكم قصدتم بالتجاهل الإغواء وتشكيك عباد الله تعالى -: إن المقصود من أخوية مريم العذراء هو أخوية تشبيه لا أخوية ولادة من أب وأم، وهذا التشبيه كثير ومشهور في اللغات الشرقية، ولقد جاء مثله في إنجيل متى ففي الفصل الثاني عشر من عدد 46 إلى 50: (وفيما يكلم الجموع إذا أمه وإخوته قد وقفوا خارجًا طالبين أن يكلموه فأجاب وقال للقائل له: من هي أمي ومن هم إخوتي؟ ثم مد يده نحو التلاميذ وقال: ها أمي وإخوتي؛ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي) وجاء مثله في إنجيل مرقص (راجع الفصل الثالث من عدد 32 إلى 34) . وهكذا أخوة مريم لهارون عليهما السلام أي كأخوة المسيح عليه السلام لمن أشار إليهم بيده. وكما يشبهون الصالح بأحد المشهورين بالتقوى والعفاف في الأيام الخالية كذلك يشبهون الشرير المشهور بالخيانة في القرون الماضية كقولهم: (أخو الحارث بن ظالم) وهكذا. ولنا على الأعداد التي ذكرناها من الإنجيل سؤالات عديدة نود الاستفسار عنها من حضرة المبشرين الذين انتقدوا إطلاق لقب (أخت هارون) على مريم ولكن خوفًا من أن يتوهم أحد المسيحيين الشرقيين بأننا نقصد الحط من المعتقدات النصرانية كما توهموه لمّا قلنا عن البلغاريين وحلفائهم إنهم كفار ظالمون لاستباحتهم سفك دماء نساء وبنات وأولاد المسلمين ودفنهم جرحى العساكر العثمانية تحت التراب وهم أحياء يقاسون ألم الجراح وألم الموت خنقًا، وإحراقهم النساء المسلمات، وغير ذلك من الأعمال الوحشية التي لم يرو التاريخ صدور مثلها حتى ولا من القبائل المتوحشة في إفريقية. لذلك نكتفي بهذين السؤالين مؤملين من حضرتهم إفادتنا عنهما وهما: (1) إنهم يقولون عن مريم العذراء عليها السلام أنها لم تلد أحدًا غير المسيح عليه السلام، والأناجيل تقول: إنه كان لها أولاد، فهل نصدق كلامهم ونضرب بكلام الإنجيل عرض الحائط أم نصدق كلام الإنجيل ونكذب كلامهم. (2) يظهر من كلام الإنجيل أنها أي أمه لم تكن مؤمنة به ولا صانعة إرادة مرسلة كتلاميذه، ولولا ذلك لَمَا تبرأ منها هي ومن معها من إخوته أشار نحو الحاضرين بأنهم هم إخوته وأخواته وأمه. فلو كانت مؤمنة به لما فعل هذا لأن فيه إهانة عظيمة لها، كما هو المتبادر من عبارة الإنجيل لكل من يقرؤه. ومعلوم أننا نحن لا نؤمن بهذه القصة التي سموها إنجيلاً، بل نؤمن بأن أمه كانت مؤمنة تقية، وأنه كان برًّا بها كما حكى الله عنه في قوله: {وَبَراًّ بِوَالِدَتِي} (مريم: 32) . وقد أرسلنا إليهم كتاب (تاريخ الفحشاء) هدية كي يتسلوا به إلى أن نختصر بعض فصول كتابنا الذي سميناه (مقام عيسى المسيح عليه السلام في النصرانية والإسلام) لتنشر في المنار الأغر أدام الله شمس صدقه منيرة سماء العدل والمدنية. وأما اعتراضهم على مسألة تحديد تعدد الزوجات، وأقوال الصوفي المتنصر وغير ذلك مما ذكروه بمجلتهم فسنرد عليه في الفصول الآتية إن شاء الله تعالى. محمد طاهر التنير (المنار) : نشرنا هذه النبذة ويتلوها الفصل الأول من الكتاب الذي أشار إليه الكاتب، وقد تصرفنا في العبارة بعض التصرّف فإن في الأصل شدة في العبارة لا حاجة إليها. وسنعلق على الفصل الآتي كلامًا نبين فيه الغرض من نشر أمثال هذه المقالات. ((يتبع بمقال تالٍ))

مقام عيسى (يسوع) المسيح عليه السلام في النصرانية والإسلام

الكاتب: محمد طاهر التنير

_ مقام عيسى يسوع المسيح عليه السلام في النصرانية والإسلام الفصل الأول في نسبه (تنبيه مهم) إن إهانة الناس واحتقار أديانهم لَمِنْ أقبح الأعمال وأعظمها كرهًا ومقتًا عند المسلمين كافة، ولا يتأتى عنها إلا العداوة والبغضاء، على مخالفتها للشريعة الغرَّاء، قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} (البقرة: 256) ، وكل من يتدبر الحقائق بعين الصدق والإنصاف يرى أن جميع ما كتبه علماء المسلمين - رضي الله عنهم - قديمًا وحديثًا بشأن النصرانية لم يكن سوى رد على المفتريات التي رمى الظالمون بها دين الإسلام المبين، بغيًا وعدوانًا حينًا بعد حين، وهذا الافتراء الذي اتخذه المبشرون وغيرهم من قسيسي الفرق النصرانية مهنة لهم في هذه الأيام هو الذي اضطرنا إلى كتابة هذه الكتب وهي: (العقائد الوثنية، في الديانة النصرانية. ومقام عيسى عليه السلام في النصرانية والإسلام) و (آداب الإسلام وتعليم التوراة والإنجيل) و (أخلاق عيسى المسيح عليه السلام في الأناجيل وفي القرآن المجيد) ولم يطبع منها سوى (كتاب العقائد الوثنية) وإن شاء الله تعالى سنطبع البقية بأقرب وقت بعد ما ننشر أكثر فصولها باختصار في المنار الأغر. وقد بيّنا الحقائق - ولله الحمد - بطريقة ترضي حتى أشد الناس عداوة لدين الإسلام المبين؛ إذ لا خير يرجى من كتابة ما يغضب الناس ولا سيّما في الأمور الدينية التي هي أعز شيء عند الإنسان، مهما كان دينه. قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) فالحمد لله على نعم تعليم القرآن المجيد، الذي لولاه لكنا مثل أولئك المبشرين ومن ينحو نحوهم، الذين ألفوا تلك الكتب السافلة المشحونة بالباطل والتطاول والافتراء وغير ذلك ممّا هو من أخلاقهم وخصالهم. وإنَّا نلفت نظر القارئ الفاضل إلى أمر ذي بال وهو اقتصارنا على ما جاء في التوراة والإنجيل كي لا يقدر أحد منهم على نسبة الكلام إلينا كما فعلوا بنسبة كلام العلماء الأوروبيين الذين استشهدنا بكلامهم في كتابنا (العقائد الوثنية) إلينا، مع أننا ذكرنا أسماءهم بالعربية والإفرنجية، ولننظر الآن ماذا يقول أولئك القوم الذين ألفوا تلك الكتب السافلة ضد دين الإسلام المبين. *** الجد الأول من جدود الزنا عقد الفصل الـ 38 من سفر التكوين من أوله إلى آخره لبيان زنا القديس (يهوذا) بكنَّته (ثامار) وحملها منه، وأنها وضعت ولدين ذكرين سماهما (فارص) و (زارح) والمبشرون المؤلفون لتلك الكتب والرسائل يقولون: إن فاديهم ومخلصهم وخالقهم (يسوع المسيح) من سلالة (فارص) المباركة وبما أن هذه القصة الشريفة لها علاقة مهمة مع هذا الرب المختار الولادة من الزنا نأتي عليها باختصار، ومن يحب الزيادة فليقرأ الفصل المذكور يرى فيه ما ملخصه أن يهوذا نزل عند رجل عدلامي اسمه (حيرة) فرأى ابنة رجل كنعاني اسمه (شوع) فأخذها ودخل عليها وولدت له ثلاثة أولاد ذكور اسم الكبير (عير) والثاني (أوثان) والثالث (شيلة) ولما كبر عير أخذ له زوجة من بنات الكنعانيين اسمها (ثامار) فعمل الشر بعيني الرب فأهلكه فأمر يهوذا ابنه (أوثان) بأن يأخذ زوجة أخيه ويقيم له نسلاً فتزوجها أوثان. وبما أن النسل الذي يأتيه منها يعد نسل أخيه لا نسله صار إذا ضاجعها يفسد على الأرض (أي يعزل ماءه) لئلا تحمل منه فأماته رب التوراة وأبقى أباه القديس لأنه لما زنى بها لم يفسد على الأرض ولما مات أمرها يهوذا بأن تقعد أرملة ببيت أبيها وأنه متى كبر ابنه شيلة يعطيها إياه زوجًا لها وقال في نفسه: ربما يعمل كما عمل أخواه فيميته الرب مثلهما. فذهبت إلى بيت أبيها ومضت الأيام وكبر (شيلة) ولم يعطه لها. وبلغها أن حماها المذكور (القديس يهوذا) ذاهب إلى (تمنة) مع صاحبه العدلامي ليقص صوف غنمه فخلعت ثياب ترملها وغطت وجهها وجلست على طريق (تمنة) فلما رآها ظنها هذا القديس زانية وراودها عن نفسها فقالت له: ماذا تعطيني؟ فقال لها أعطيك جدي معز أبعثه لك. فقالت له: أعطني رهنًا فأعطاها عصابته وخاتمه وعصاه وزنى بها. ولما وصل إلى تمنة أرسل لها الجدي مع صديقه العدلامي لِيَفْتَكَّ الرهن. فلم يجدها فرجع وأخبر يهوذا. فقال له: لتذهب بما معها كي لا يلحقنا عار. فحبلت منه ووضعت ولدين ذكرين سمتهما (فارص) و (زارح) ويسوع المسيح من نسل فارص المبارك. ولنا على هذه القصة عدة أسئلة وملاحظات مهمة ذكرناها في كتابنا (مقام عيسى المسيح عليه السلام في النصرانية والإسلام) نذكر منها هنا مسألتين فقط؛ لأن قصدنا الاختصار كي لا نضيع كثيرًا من صفحات المنار الأغر لأن عليه أداء خدمات إسلامية مهمة. (أولاهما) تقول التوراة إنه ظنها زانية لأنها كانت مغطية وجهها. وهذا باطل عقلاً ويكفي لرده وإظهار بطلانه ما جاء في التوراة والإنجيل (منها) في قول سفر التكوين (24: 64 و 65) : (ورفعت رفقة عينها فرأت إسحاق فنزلت عن الجمل وقالت للعبد: من هذا الرجل الماشي في الحقل للقائنا؟ فقال العبد: هو سيدي. فأخذت البرقع وتغطت) . وجاء في الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس (11: 16) : (لأن المرأة إن لم تتغط فليقص شعرها أو يحلق، وإن كان عيبًا على المرأة أن يقص شعرها أو يحلق فلتتغط) فالحجاب عَلَم المخَدَّرات الطاهرات، وسِيمَة الخيِّرات الطيبات، كما أن التبرج والابتذال من علامات الفواجر الزانيات. (ثانيتها) تخبرنا التوراة عن ذهاب يهوذا مع صاحبه العدلامي، وأنه كان معه لما راودها عن نفسها، وأنه أرسل الجدي الوديع معه، وأنه لم يجدها وغير ذلك، لكنها لم تذكر هل زنى بها هذا العدلامي أيضًا أم لا؟ ويدل العقل والعادة بين الفساق في هذه الأمور التي يشتركون فيها وإرسال الأجرة - أي الجدي - إليها معه على أنه زنى بها مع يهوذا. وإذا صح هذا فمن المحال معرفة ممن كان الحمل وربما حملت من كل واحد بولد، ولا يبعد حينئذ أن يكون زارح بن يهوذا، وفارص بن العدلامي. وكيفما كان فإن هذا المجد الأعلى للمسيح قد خلق من ماء الزنا. *** الجد الثاني جاء في سفر يشوع بن نون ما نصه (2: 1) (فأرسل يشوع بن نون رجلين من شطين جاسوسين تحت الخفاء قائلاً: امضيا انظرا الأرض وأريحا. فانطلقا ودخلا بيت امرأة زانية اسمها راحاب وباتا عندها) وجاء في هذا السفر ذاته (6: 17) (ولتكن المدينة بكل ما فيها مبسلة للرب، ولكن راحاب الزانية تحيا هي وجميع من معها في بيتها) انتهى. وهذه راحاب الزانية زنى بها سلمون وهو من سلالة فارص الذي هو الأصل الأول من أصول الزنا المقدس. فحبلت ووضعت (بوعز) الذي من سلالته جاء (حمل الله الوديع) وما قلناه بخصوص عدم معرفة الحمل ممن كان عند ذكرنا الجد الأول، هل كان من يهوذا أو من العدلامي؟ نقوله هنا أيضًا؛ لأن كلا الجاسوسين باتا عند هذه الزانية فكيف يعرف ممن علقت؟ (الشاهد الثالث) في سفر الملوك الثاني (11: 2 - 5) نقلنا هذه الأعداد عن التوراة المطبوعة بمطبعة اليسوعيين بمدينة بيروت. واسم هذا السفر في توراة الابروسطانت (سفر صموئيل الثاني) : (وكان عند المساء أن داود قام عن سريره وتمشى على سطح بيت الملك فرأى عن السطح امرأة تستحم، وكانت المرأة جميلة جدًّا، فأرسل داود وسأل عن المرأة فقيل له هذه بتشابع بنت إليعام امرأة أوريا الحثي، فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت عليه فدخل بها، وتطهرت من نجاستها ورجعت إلى بيتها، وحملت المرأة فأرسلت وأخبرت داود وقالت إنني حامل) انتهى؛ فوضعت ولدًا ومات ثم زنى بها ثانية (على زعمهم) فحبلت ووضعت سليمان وهو الأصل الثالث من الثالوث الزاني. وبما أننا قصدنا الاختصار بقدر الإمكان لذلك لم نكتب ما جاء في تفاسيرهم على التوراة والإنجيل وإن كان موجودًا في كتابنا؛ لأن على المنار الأغر خدمات عظيمة فلا نضيع من صفحاته أكثر من هذا القدر. فهذا ما عندهم وهذا ما يدعون الناس إلى الإيمان والاهتداء به، وأما ما عندنا وندعو إليه أهل الفضل والعقل بعد تبرئة أنبياء الله من الفسق والفجور فهو: *** اعتقاد المسلمين طهارة نسب عيسى المسيح عليه السلام قال الله تعالى في سورة آل عمران: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا} (آل عمران: 33-37) . وقال الله تعالى في سورة العنكبوت بعد ذكر إبراهيم عليه وعلى آله الصلاة والسلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (العنكبوت: 27) . الله أكبر! فلينظر المبشرون والأب لويس شيخو - الذي ألف رسالة منذ بضع سنين وسماها (خرافات القرآن) وقد ترجمها المبشر المدعو (زويمر) [1] ونشرها في مجلته (العالم الإسلامي) - إلى اعتقاد المسلمين بطهارة نسب عيسى المسيح عليه السلام. فإنهم إذا نظروه من جهة القرآن المجيد يرونه من سلالة طيبة زكية حماها الحي القيوم من التلطخ بأقذار وأدران الزنا والسفاح. فلينظروا أي الوصفين أحب إليهم بحق هذه الذات الشريفة وليتمسكوا به. وايم الله إننا ما كنا نحب كتابة ما ذكرناه على هذا الموضوع غير أن ضرورة الحال تمنعنا. *** اعتقاد المبشرين أن المسيح إلههم صار لعنة والعياذ بالله تعالى قال مقدسهم بولس في رسالته إلى أهل غلاطية الإصحاح الثالث العدد (3: 13) : (المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب: ملعون كل من علق على خشبة) . يعلم الناس أن النصارى يعتقدون أن المسيح هو إلههم وربهم وخالقهم ومخلصهم، وكتابهم المقدس يلقنهم أنه (صار لعنة) ، واللعنة غاية المبالغة في الشتم والازدراء وليس بعدها زيادة لمستزيد، وأي شيء يمكن أن يؤتى به ويكون أشد قبحًا من قول مقدسهم: إنه (صار لعنة) ؛ أي أنه نفس اللعنة؟ فما هذا الحب الذي قادهم إلى القول بألوهيته من جهة ثم قادهم إلى القول بأنه (صار لعنة) من جهة أخرى؟ . دع اعتقادهم بأنه من سلالة زناء مثلث كما بيناه سابقًا، فهم - والحالة هذه - أسوأ حالاً من أشد أعدائه؛ لأن مقام العداوة لا يطلب إلا أقبح الأوصاف، ومقام المحبة لا يطلب إلا أحسنها وأكملها، فهم يدّعون محبته عليه السلام ويعتقدون أنه خالقهم ورازقهم وفاديهم ومخلصهم، ثم يصفونه بهذا الوصف … فما بالهم لا يتدبرون ما يعتقدون. وبما أنه إله على حسب اعتقادهم - والعياذ بالله تعالى - فمَنْ

مطامع الدول فينا

الكاتب: الموسيو فلورنش

_ مطامع الدول فينا [*] وضعت الحرب أوزارها، وأخمدت المدافع أنفاسها، وأعيدت السيوف إلى أغمادها، وعادت الدول المتناجزة بالأمس عن ميادين القتال إلى ردهات المجلس فعقدت بعضها مع بعض معاهدات تضمن صيانة السلام إلى حين. ثم خلت كل واحدة إلى نفسها تناقشها الحساب، وتبحث في ما نالها من الغُنم. فكانت الهمة الأولى منصرفة إلى اقتسام الأراضي المكتسبة. ثم إلى النظر في ما ثغرته النفقات الحربية في ميزانياتها، وما يقتضيه سد تلك الثغور من الأموال الطائلة، وهي لا سبيل إليها إلا بعقد القروض. ولو انحصر الأمر في الدول الخارجة من ميدان القتال لهان الخطب، ولكن ثمت دولاً أخرى أبت إلا أن يكون لها من الغنيمة نصيب. تنازلت تركيا لإيطاليا عن ولاياتها الأفريقية. ثم تخلت لحكومات البلقان عن ولاياتها الأوربية غير ولاية أدرنة. ثم تقاسمت الدول ما بقي بشكل مناطق نفوذ كل واحدة بحسب ما توحيه إليها مطامعها في العلانية والجهر. ورضيت إنكلترا نصيبًا لها سواحل خليج العجم من الأوقيانس الهندي إلى البحر الأحمر. فأصبحت سلطتها مبسوطة على البلاد العربية من البصرة إلى السويس ومن الخليج العجمي إلى ترعة السويس. وأصبحت في يدها الطريقان البحريتان الموصلتان من أملاكها الشرقية إلى أملاكها الغربية. واتصلت إمبراطوريتها الأسيوية (الهند) بملكها الأفريقي (مصر) . أما إيطاليا ولية أمر طرابلس الغرب والواضعة يدها على جزيرة رودس وما جاورها من جزر البحر المتوسط فإنها فازت بهذه البقعة الآهلة باليونانيين والأروام، والقائمة بين خط بغداد والأرخبيل، ومعها ميناء أضاليا وخط حديد يمتد إلى الداخلية، ويتصل بالخطوط الألمانية؛ خط بغداد وخط أزمير. وأما ألمانيا فكان نصيبها هذا الخط البغدادي الكبير بجملته لا مسيطر عليها فيه ولا مهيمن، وهو الذي طمحت إليه، ومن ورائه ما بين النهرين وكل البلاد الواقعة بين أسكودرا والبصرة من البوسفور إلى الخليج العجمي. وإن اتفاق بوتسدام مهّد للألمانيين السبيل إلى بلاد إيران؛ إذ خوّلهم حق تمديد خط حديدي من بغداد إلى طهران. وفي مقابل ذلك جعلت حصة روسيا أرمينيا الكبرى. وهي تتناول الأراضي الواقعة إلى شمال الخط البغدادي وإلى جنوبه بجملتها بين أنقره وبغداد. على أن ثمت عقبة كان لا مندوحة عن تذليلها. فإن الاستئثار بتلك البقاع الواسعة كان لا بد من تمويهه بحجة من الحجج ووسيلة من الوسائل فكانت هذه الوسيلة الأشغال العمومية والمشروعات النافعة الواجب إجراؤها. بيْد أن روسيا لم يخطر لها أن تبذل أموالها الخاصة في هذا السبيل بل لجأت إلى فرنسا. أفليست هي على الدوام مستعدة لبذل أموالها استعداد تركيا للتخلي عن أراضيها؟ وعلى هذه الصورة تم الاتفاق على أن فرنسا تتولى إنشاء مينائي يني بولي وهر كله (على البحر الأسود) والخطوط الحديدية (سمسون سيواس - ديار بكر، وديار بكر - أرضروم - طرابزون) مع العلم بقلة إيراداتها المتوقعة؛ لأنها لازمة لروسيا تأييدًا لموقفها السياسي والاقتصادي والحربي أيضًا، وإن كان لا فائدة لنا نحن منه على الإطلاق. وإنما أعطينا في مقابل ذلك البقعة السورية في جنوبي غربي خط بغداد، مع حق إنشاء مينائي حيفا ويافا وتمديد خط رياق الحديدي إلى القدس، ثم الاتفاق على اقتسام النقل بين خط دمشق - حماه والخط الحجازي، وكلاهما متصل بالسواحل السورية: الأول في بيروت والثاني في حيفا. وكلها امتيازات لا نفع لنا منها ما دمت حكومتنا متغاضية عن معاهدنا الكاثوليكية في الشرق، ضاربة بما لنا من الحق في حماية الأراضي المقدسة وحماية المارونيين عرض الحائط، ومهدت للإيطاليين قطع السبيل علينا بما ينشئونه لأنفسهم في رودس وأضاليا وطبرق وسراقوسه. لا يتوهمن متوهّم أن الدولة العثمانية بذلت كل ما تملك للآخذين على أنفسهم صيانة كيانها. كلا! فهي لا تزال باقية لها الأراضي الواقعة على ضفتي المضايق. وما زالت في عهدتها حماية البوسفور والدردنيل (! !) وإنه لشرف عظيم (! !) وفخر باق وإن كان يلقي على كاهل صاحبه مسؤوليات عظمى. ثم إنهم لا يزالون مالكين أدرنه والآستانة وبروسة وأزمير وأسقاعًا متراميةَ الأطراف خصبة التربة تكفي إيراداتها - فيما يقولون - لدفع فوائد ديونها المتراكمة (! !) . بهذا الثمن نجت الدولة العثمانية من الطور الثاني، وأعني به طور التقسيم أو طور التجزئة. بقي الطور الثالث وأعني الحاجة إلى المال. ومعلوم أننا نحن معاشر الفرنسيس لا نبرح أبدًا من بال أحد متى بلغت المسائل هذا الطور وأعني طور الدفع. إذن إلى فرنسا اتجهت الأبصار للمطالبة بسد الفراغ الذي سببته هفوات وجنون بل جنايات الآخرين حتى يتهيأ لأرباب الجشع والطمع ممن ذكر أن يستتبعوا تحقيق مطامعهم. أما ما يطالبوننا به هذه المرة فثماني مئة مليون فرنك. ولقد غامرت الأمة الفرنسوية إلى هذا الحين بمبالغ طائلة من توفيرات أبنائها في المشروعات العثمانية فلا ينكر عليها حق السعي في استرداد ذلك المال. ولكن هذا لا يجب أن يتخذ ذريعة لتضحية مصالح البلاد في سبيل منافع بعض الماليين، فبعد نكبات الجيوش العثمانية اتفقت الصحافة وأجمع الرأي العام في فرنسا والعالم كله على إلقاء تبعة تلك الانكسارات على عاتق جمعية الاتحاد والترقي. فإن الاتحاديين هم المسؤولون عن سوء انتظام الجيش وسوء الإدارة وضياع أموال الحكومة. وإن هؤلاء الاتحاديين هم أنفسهم المتقلدون الأحكام اليوم وفي أيديهم التصرف بالأموال العمومية. وهم أنفسهم الذين يتطلبون اليوم الأموال الفرنسوية في حين أن لاستعمالها في فرنسا وجهة أولى وأنفع، ولكن ما ثَمَّ مَنْ يعترف، فإن قلم المراقبة في وزارة الداخلية كان قد ألغي، فأعاده المتمولون - على شكل أضمن لمصلحتهم. ومن أهم ما يتهمون به جمعية الاتحاد والترقي نزعاتها الألمانية وهي تكاد تكون تحرشاً بنا. ثم يتهمونها بأنها ألقت بين يدي الضباط الألمانيين تنظيم جنديتها حتى ألقى بعضهم على الجنرال فندر غولتز تبعة انكسارات العثمانيين في قرق كليسة ولوله برغاس. فلما استعاد الاتحاديون السلطة كان أول عمل قاموا به انتداب بعثة ألمانية جديدة لتنظيم الجيش العثماني. ورضي العاهل الألماني بإيفاد ثلاثة وأربعين رجلاً من ضباط جيشه إلى الآستانة، ولكنه اشترط أن تكون لهم مع تحمل المسئولية السلطة الفعلية، وأن تكون القيادة العليا لزعيم البعثة، وأن يكون الضباط العثمانيون في الجيش خاضعين للضباط الألمانيين. ولما كان الخط البغدادي الذي يجتاز آسيا الصغرى من أدناها إلى أقصاها - من خليج العجم إلى البوسفور - وكل الخطوط الحديدية الأخرى فروع له، هو الوسيلة الوحيدة لتعبئة الجيش وحشده، فإن الجيش العثماني بقيادة الضباط الألمانيين سيكون بمنزلة إحدى فرق الجيش الألماني، والثماني مئة مليون فرنك التي تطالبنا الحكومة العثمانية بها اليوم ستنفق في تسليح وتجهيز وتنظيم وتدريب جيش يكون في طليعة الجيوش المهاجمة لنا في أول حرب نخوض غمراتها. وتكون أموالنا نحن الفرنسويين قد تحولت إلى حديد ورصاص يخترق صدور أبنائنا. ولقد بلغ من حرج الموقف أن الحكومة الروسية مع عدم رغبتها في انتهاج خطة المجافاة والمشاكسة لم يسعها إلا إقامة الحجة في عاصمة السلطنة. وليست وزارتنا الحربية والخارجية في فرنسا ببعيدتين عن وزارة المالية فجدير بوزيريهما أن يجتمعا بزميلهما ويكاشفاه بأن في الحياة مواقف لا يجوز فيها تضحية الوطنية في سبيل مصالح بعض الأفراد، وأن بعض القروض يجب مجانبة قبولها في بورصة باريز. أما أنا فإني لا أبذل فلسًا واحدًا من مالي للذين يساومون في تربة الوطن وفي موارده الطبيعية تزلفًا لبعض العظماء، ولا أعتبر من يجود بأموال الأمة على هذه الصورة مؤتمنًا أمينًا. رُبَّ قائل يقول: ليس في الأمر شيء مما تخشاه، وكل ما هنالك تفاهم بتبيين مناطق نفوذ كل دولة. نعم؛ ولكن لتحدث غدًا فتنةٌ أو ثورةٌ أو مذبحة - وليس ذلك بالأمر النادر حدوثه في آسيا الصغرى - إذن لا نلبث أن نرى العمارة الإيطالية في أضاليا، والإنكليز في الكويت، والألمان في مرسين، والفرنسويين في بيروت، والروسيين في طرابزون. ومتى وطئت أقدامهم الأرض فهيهات أن تتزحزح عنها. وإن لدينا في موقف إيطاليا اليوم في جزر بحر إيجه خير شاهد، فالأمر إذن ليس بمنحصر في تبيين مناطق النفوذ، بل هو يتجاوزه إلى تقسيم الأملاك العثمانية الأسيوية والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... (الأهرام) ثم علقت الأهرام عليه بما يلي: هذا هو كلام ذلك الوزير وهو لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه ولكنه يقوله لنا ونردده على أنفسنا لنتعظ ونتخذ الحيطة ونعمل بقول الشاعر: ما حكَّ جِلْدَك مثلُ ظفرِك ... فتولَّ أنت جميعَ أمرِك (المنار) صدقت الأهرام، إن هذا السياسي الكبير لا يقول لنا شيئًا لا نعرفه؛ أي لا يعرفه أهل البصيرة منا، ولكنهم - واحسرتاه - قليلون فينا، والجمهور مغرور بما يرى حينًا بعد حين من إيماض الذبال قبل الخمود، كلما أومض إيماضة حسبوا أنهم في عالم الحياة النورانية داخلون، وإذا أظلم عليهم عادوا في ظلمتهم يعمهون، وإذا صاح بهم المنذرون: يا قومنا فروا إلى النجاة فإنكم إلى الذبح تساقون - وسوس لهم الموسوسون: إن هؤلاء قوم غاشّون، وعن حظيرة الإخلاص للاتحاد خارجون، وبألسنة أعدائنا الإفرنج ينطقون، أمَا ترون وميض أنوار التجديد، يلوح لأعينكم من بعيد، فابذلوا لهؤلاء المجددين كل ما تملكون من المال، تنالون جميع الآمال! ! بيَّنا في المجلد الماضي وفيما قبله ما وصلنا إليه من الخطر القريب، وبيَّنا أن الأوربيين لا يقبلون أن يأخذوا بلادنا إلا بالفتح السلمي المعبر عنه بمناطق الاقتصاد والنفوذ، وبيَّنا طريقة النجاة ولكن لمن لا يسمع ولا يبصر، وها نحن أولاء نرى غير الرسميين من ساسة الإفرنج يصرحون بذهاب ملكنا تصريحًا، والرسميين منهم يصرحون بالعمل ويعرّضون بالقول تعريضًا، وحسبنا أَنْ نصحنا وأدينا الأمانة. وإن عرضنا نفسنا للأذى والإهانة.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (تاريخ حرب البلقان الأولى بين الدولة العلية والاتحاد البلقاني) عني يوسف أفندي البستاني أحد محرري الجريدة اليوم، بتتبع حوادث هذه الحرب من أول المهد بشبوب نارها، إلى أن خدمت ووضعت أوزارها، وقرأ ما كتبه أشهر كُتَّاب الإفرنج في الجرائد الأوروبية، وما ألفوه من الكتب في ذلك، وما كانت تنشره الجرائد العربية لمراسليها في الآستانة وغيرها؛ فاتخذ ذلك مادة لوضع تاريخ لهذه الحرب كتبه بمداد الروية والاعتدال؛ فجاء تاريخًا مفيدًا جامعًا لما فيه العبرة النافعة، والموعظة الصادقة، بعيدًا عن لغو القول وهرائه وبلغت صفحاته 327 ماعدا صفحات المقدمة والصور والرسوم. (وفيه 40 رسمًا وخريطتان) وقد كتب في الحرب عدة مصنفات عربية لا تعد شيئًا مذكورًا مع هذا الكتاب فينبغي أن يكون معول قراء العربية عليه دونها. وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر وثمن النسخة منه خمسة عشر قرشًا خلا أجرة البريد. (بيكي مجموعة سي) مجلة علمية شهرية تركية تصدر في الآستانة العلية صفحاتها 96 قيمة اشتراكها في الممالك العثمانية - عن سنة واحدة - نصف ليرة عثمانية، وفي روسيا خمس رابل ونصف، و15 فرنكًا في سائر الممالك وهي مطبوعة طبعًا جيدًا على ورق نظيف وثمن العدد الواحد خمسة قروش عثمانية. (مجلة الناشئة) مجلة شهرية تبحث في الناشئة وشؤونها يحررها طلاب المدرسة العلمية الوطنية في دمشق، قيمة الاشتراك السنوي 15 قرشًا ولتلاميذ المدرسة 10 قروش، ويضاف إلى ذلك أجرة البريد للخارج. وصفحاتها 32 بالقطع الصغير، فنحثّ على مطالعتها تنشيطًا لمحرريها واطّلاعًا على سير العلم في نابتة الأمة. (لسان العرب) مجلة تاريخية اجتماعية أدبية مصورة لمنشئها أحمد عزت الأعظمي صفحاتها 65 مطبوعة على ورق جيد، قيمة اشتراكها السنوي ثلاثة ريالات مجيدية في الممالك الأجنبية وللطلبة بنصف القيمة، وعنوانه: (الآستانة. شارع أبو السعود، صندوق البريد عدد 149) . ولهذه المجلة مكانة في نفسي أرجو أن أوفق إلى قراءة ما لدي من أعدادها فأعود إلى تقريظها بالتفصيل الذي يليق بها. (مجلة كمال) مجلة أدبية فكاهية شهرية (سنتها عشرة أشهر) مطبوعة على ورق نظيف طبعًا نظيفًا صفحاتها 96 بقطع المنار. ويصدرها في بيروت كمال أفندي عباس. قيمة اشتراكها في البلاد العثمانية ريالان مجيديان وفي مصر والبلاد الأجنبية عشرة فرنكات. (المرآة) جريدة أسبوعية مصورة سنتها خمسون عددًا، صفحاتها 28 وهي في شكل مجلة من المجلات ذات الصفحات الكبيرة يصدرها في بيروت خليل أفندي زينية المعروف لدى كتّاب وقرّاء العربية، قيمة اشتراكها السنوي في بيروت 80 قرشًا وفي سوريا وفي لبنان وسائر الولايات العثمانية 20 فرنكًا وفي الخارج 25 فرنكًا.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (لا بابوية في الإسلام ولا تُباع شفاعة خير الأنام) ذكرنا في الجزء الماضي أن بعض المنافقين زين للاتحاديين أن يستغلوا حجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم بوضع دفاتر فيها، يكتب فيها أسماء الناس الذين يبذلون لهم الذهب الأحمر لتكتب أسماؤهم في تلك الدفاتر، وبيّنا قباحة هذه البدعة المشتملة على عدة جرائم منكرة، وبينا أن سلف الأمة الصالح ما كانوا يتسامحون في إحداث بدعة من العادات المباحة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم لئلا يدخل محدث ذلك، والراضي به في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في مسجدنا هذا حدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ؛ وهو الحديث الذي احتج به الإمام مالك على ابن مهدي العالم الزاهد لمَّا صلى على ثوبه. وبنينا على ذلك أننا لا نظن أن جمعية الاتحاد والترقي تقبل هذا الاقتراح، ولا أن الحكومة تنفذه. ثم بلغنا بعد ذلك أن موضوع المشروع أن تسمى تلك الدفاتر دفاتر المستشفعين؛ أي أن كتابة الأسماء في تلك الدفاتر طريق أو سبب لشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فهي إذًا عبارة عن بيع شفاعة المصطفى صلى الله عليه وسلم لِمَنْ يريد أن يشتري، وأن أقل ثمن لها ليرة عثمانية. الشفاعة لا تملك فتباع، ومن يدعي أن كتابة اسم أحد ووضعه في الحجرة النبوية يكون سببًا لشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم له فهو مفترٍ على الله ورسوله؛ لأن هذا أمر لا يُعلم إلا بوحي من الله، ولو أنزل الله تعالى فيه شيئًا يدل عليه بالنص أو الفحوى لكان أجدر الناس بمعرفته والعمل به الصحابة - رضي الله عنهم - ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. لهذا ننصح للذين لا يعرفون أصول الدين وفروعه من رجال الدولة الاتحاديين أن يتجنبوا هذه البدعة، فليست هذه المسألة كغيرها من الأمور التي تجرءوا عليها. وليتذكروا أن مسألة بيع البابوات للغفران هي التي أحدثت الانقلاب الديني العظيم الذي آل إلى سلب السلطة السياسية من البابوات، بعد حروب شابت من هولها الولدان، على أن بيع الغفران له وجه ما في دين النصارى؛ إذ يحتجون عليه بقول أناجيلهم أن ما يحلونه أو يعقدونه في الأرض يكون كذلك في السماء، وبيع الشفاعة بدعة في الإسلام ليس لها وجه ولا شبهة؛ بل تدل الحجج الكثيرة على بطلانه. وقرنه بالشرك بالله تعالى لأنه قول على الله بغير علم، وشرع لم يأذن به الله، وزيادة في الدين الذي أكمله، وداخل في عموم الأحداث والبدع التي نهى وحذر الشارع منها ولعن مُحْدِثَها. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، تدعمها الآيات الناطقة بأن يوم القيامة لا يملك فيه أحد لأحد شيئًا لا شفاعة ولا غيرها وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ وحده فلا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ولا يأذن إلا لمن رضي له قولاً {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ} (الأنبياء: 28) وأجمع المسلمون على أنه ليس لأحد أن يجزم بمستقبل أحد في الآخرة إلا بنص من الشارع، فليس لأحد من رجال الحكومة العثمانية ولا غيرهم أن يدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له أو لأحد معين، فمن لا يملك الشفاعة لنفسه، كيف يبيعها لغيره؟ فإن كانوا في شكٍّ من نصحنا لديننا ولهم في هذه المسألة فليعرضوها على علماء الفاتح وعلماء السليمانية في عاصمتهم ويطلبوا منهم إبداء رأيهم فيها بالحرية التامة، وربما نعود إلى بيان ذلك بالتفصيل، ودلائل السنة والتنزيل {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) . *** (جمعية خدام الكعبة في الهند) جاءنا من هذه الجمعية رسالة وجيزة ملخصها أن الدولة العثمانية أصبحت على خطر مما يبيّت لها الأعداء، وأن أكبر أماني المسلمين أن تكون غنية قوية، وأن مؤسسي الجمعية أحسوا بما سيصيب الحرمين الشريفين من المصائب الحاضرة فأسسوا هذه الجمعية لا يقصدون منها (إلا مساعدة الدولة العثمانية في المحافظة على الحرمين الشريفين وبذل المال والنفس في سبيل حمايتها من الغوائل) ومن ذلك تعليم العرب الذين يقطعون السبل على الحجاج. كل هذا حسن؛ ولكن جاء بعده أن الجمعية تريد إنشاء جريدة باللغتين العربية والأوردية. قال الكاتب: (حتى ننشر أفكارنا في جميع البلاد الإسلامية وننبه المسلمين إلى ما يجب عليهم نحو دينهم ودولتهم الوحيدة ... إلخ) ، وهذا هو الأمر الذي لم نفهمه: جمعية خدام الكعبة أنشئت لخدمة الحرمين الشريفين فكيف يجوز لها صرف المال الذي تجمعه للحرمين الشريفين في إنشاء جريدة سياسية، وما هي هذه الأفكار التي يريد رئيس تحرير الجريدة أن يبثها في العالم الإسلامي؟ هل هي أفكاره أم أفكار الذين يتبرعون بالمال لخدمة الحرمين الشريفين؟ ومن أين وقف على أفكارهم؟ وهل دفعوا المال لأجل نشر الأفكار السياسية أم لأجل خدمة الحرمين؟ قد بينا رأينا من قبل في هذه الجمعية وفيما يجب أن تكون عليه فلا نعيده. ونقول الآن: إنه لا يجوز لها - بحسب قانونها الذي نشرناه وبحسب ما اقترحناه من تعديله - أن تنفق شيئًا من مالها على إنشاء الجرائد، فهذه الفكرة الجديدة قد أزالت ثقتنا بالجمعية إلا أن يرجعوا عنها. أما مساعدة الدولة العثمانية بالمال والنفس فهو عمل نشكره لكل من قام به في الهند وغيرها، فمن شاء فليؤلف له جمعية مستقلة ولينشئ له ما شاء من الجرائد بما شاء من اللغات، وأما خدمة الكعبة والحرمين الشريفين فيجب أن يكون بمعزل عن السياسة وأهلها، وهو عمل تخدمه جميع الجرائد الإسلامية في جميع الأقطار، وتنشر لجمعيته ما شاءت من غير أجرة فلا يحتاج إلى جريدة خاصة. إن مساعدة الدولة بالمال والنفس وبث فكرة الجامعة الإسلامية يوشك أن تقاومه حكومة تلك البلاد وتبطله وتصادر جريدته، فإذا كان ملصقًا بجمعية خدام الكعبة يوشك أن يكون شؤمًا عليها وسببًا لزوالها؛ لأجل هذا نحب أن تكون بمعزل عن السياسة. وما دمنا نرى هذا الرأي فإننا ننصح لكل مسلم أن يقاوم هذه الفكرة الجديدة التي عزمت عليها جمعية خدام الكعبة؛ لتكون جمعية خيرية محضة. والسلام على من اتبع الهدى، ورجّح الحق والمصلحة على الهوى. *** (مفاسد المتفرنجين في أمر الاجتماع والدين) يهاجم الإسلام والمسلمين جيش خارجي من دعاة النصرانية، وجيش آخر داخلي من دعاة التقاليد الإفرنجية. والثاني أنكى من الأول وأضرّ، وأدهى وأمرّ؛ لأن جُلّ أفراده من المارقين الذين يعدهم المسلمون منهم وما هم منهم، ولسبعون عدوًّا خارج الدار أهون من عدو واحد في الدار فقد تمر السنون ودعاة النصرانية تبحّ أصواتهم من الصياح بالخطب والجدل؛ ولا يقع في شركهم في القطر الكبير إلا واحد أو آحاد يلجئهم الفقر إلى أن يكونوا من خِرَافِهم؛ لأنهم يجدون من المرعى عندهم ما لا يجدون عند غيرهم. وقد ورد في الحديث: (كاد الفقر أن يكون كفرًا) وقلَّما تجد واحدًا من هؤلاء الخِراف يأنس مرعًى له خارج دمنتهم إلا ويتفلت منها. وأما هؤلاء المنافقون المتفرنجون فإنهم يغشون المسلمين بأنهم منهم، ينفعهم ما ينفعهم ويضرهم ما يضرهم، وإنهم إنما يدعونهم إلى الترقي عمّا هم عليه إلى مدنية أعلى وحضارة أسمى، وهي أن يكونوا مثل الإفرنج في عزهم وثروتهم وزخرفهم، ويحسبون - لصغر عقولهم وقصر نظرهم - أن ما يفوقنا به الإفرنج من الثروة وأسباب القوة، قد جاءهم من رقص نسائهم مع رجالهم، ومن اختلاطهن بهم في مجامعهم ومحافلهم، أو من عدم مبالاة كثير منهم بالدين، وإن كان الأكثرون يتعصبون له ويبذلون له الملايين، أو من عاداتهم في طعامهم وشرابهم وأزيائهم، وفسقهم وفجورهم، واجتماعهم وافتراقهم، فطفقوا يقلدونهم في شر ما عندهم، ويدْعون المسلمين إلى تقليدهم في أمثال هذه الظواهر، على أن منها ما هو من سيئات مدنيتهم وقبائحها التي ينكرها عليهم حكماؤهم وعقلاؤهم، ومنها ما هو مناسب لطبيعة بلادهم وأجيالهم دوننا، ومنها ما لا نفع فيه ولا ضر لذاته ولكنه يضرنا من حيث هو تقليد لهم يضعف روابطنا القومية، ومشخصاتنا الاجتماعية، ويحقر أمتنا في أنفسنا ويعظم أممهم فيها، فيكون تمهيدًا لقبول سيادتهم علينا بغير امتعاض، دع ما يتوقف عليه البقاء من الجهاد. وقد قوي هجوم هؤلاء المتفرنجين في فاتحة هذا العام فكان أشد مما كان عليه في العام الماضي، فكان شأنهم عنا كشأن دعاة النصرانية سواء. ومنبت هذه الفتن ومطلع رؤوس شياطينها الآستانة ومصر، وقد اشتركت المدينتان في مسألة الدعوة إلى تهتك النساء باسم تحرير المرأة، وامتازت الآستانة بالغلو في عصبية الجنسية، وقطع ما أمر الله به أن يوصل من الوشائج الدينية، بمثل كتاب (قوم جديد) و (ترجمة القرآن) بالتركية وغير ذلك. *** (مسألة تحرير المرأة أو تهتكها) إن الآستانة ومصر فرسا رهانٍ في تهتّك النساء وفي تجريء المتفرنجين على ذلك، وقد نشر بعض الشبان في الجرائد المصرية دعوة إلى جمعية تسعى لهتك ما بقي من آثار الحشمة التي يسمونها حجابًا وإبطال ذلك بالفعل، وعقدوا اجتماعًا في إدارة (الجريدة) التي هي لسان حالهم وأقنعوا بعض النساء بحضوره حاسرات فهجم بعض الشبان عليهن لمعانقتهن وتقبيلهن فمنعهم آخرون. وقد اختلفت الروايات علينا في تفصيل ما كان في هذا الاجتماع فلا نجزم بشيء منه، ولا فائدة في شرحه. قام هؤلاء الشبان بهذه الدعوة في وقت جاءتنا فيه البرقيات الأوروبية ببيان ضرب من ضروب فضائح اختلاط النساء بالرجال ما كان يذاع مثله من قبل، وهو أنه قد افتض عدة من العذارى اللواتي يتلقين العلوم العالية في مدارس ألمانيا الجامعة. هذا وإن الألمانيين أشد عناية من السكسونيين - دع اللاتينيين - في التربية الدينية والصيانة المنزلية. وإن كثيرًا من الدعاة إلى هتك النساء الذي يعبرون عنه بتحرير المرأة، لا يبغون إلا أن يمهدوا السبيل لأنفسهم للتمتع بالحسان من ثيبات وأبكار، وقليل منهم يريد الظهور بلباس المصلح المدني وهو عاجز عن كل إصلاح، فلا يرى أهون عليه من اللغط بالكلام في هذه المسألة؛ لأنه لا يتوقف على علم ولا عمل، فما على اللاغط إلا أن يبرز ما كتب غيره من قبل في قالب جديد، ويزيد عليه من لغو الكلام ما يشاء أن يزيد. يقول لي أهل الصيانة: ما لك لا تردّ على ما يكتب هؤلاء المفسدون، فمنك نطلب، وإياك نرجو، أن تتبّع عوارهم، وتقلّم أظفارهم. وإني أرى أن الذين قاموا في وجههم صائحين متهكمين قد كالوا لهم الصاع صاعين أو عدة آصع، وليس عندهم شبهات قوية تحتاج إلى علم واسع وحجج قيمية؛ بل لا يكاد يفهم مرادهم من كلامهم، ولا أراهم يبينون ما يريدون. فليست المرأة مستعبدة فيكون طلبهم تحريرها طلب حق لها شرعي أو عقلي، وليست محجوبة في مصر حجابًا مانعًا لها من التصرف والرياضة ولا التبرج المذموم أو غير المذموم بل هي تفعل ما تشاء. إلا أن القاعدة العامة في نساء الأغنياء والمتوسطين في المدن أنهن لا يحضرن أندية الرجال ومجامعهم العامة، وأما المجالس الخاصة والمحاكم ومحالّ التجارة فيحضرها كثير منهن، وأنهن لا يخلون بالرجال الأجانب في البيوت إلا شذوذًا. فالظاهر أن هؤلاء المتفرنجين يطلبون الآن إبطال هاتين العادتين دفعة واحدة. ولا يشك ذو عقل أن ذلك مما يستشرى به الفساد، وتتفاقم به فوضى الأعراض، وليس له حسنة تمحو سيئة من سيئاته. على أن دفع المفاسد مقدم عقلاًً ونقلاً على جلب المصالح، وأ

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار دعاة البهائية ومجلة البيان المصرية (س3) من صاحب الإمضاء في القاهرة. حضرة العالم الفاضل صاحب المنار الأغر: نشرت مجلة البيان التي تصدر في مصر مقالاً عن البهائيين وزعيمهم عباس أفندي، جاء فيه ما يأتي: (ذلكم هو مولانا عباس أفندي الملقب بعبد البهاء بطل الإصلاح الديني وسيد المصلحين الدينيين، والمصدر الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) (البهائية هي كمال حي) - (هي الكاثوليكية الصادقة) . وما دعوتها في الحقيقة إلا دعوة إصلاح ورقي للإسلام (إن أنصارها استخرجوا أسمى تعاليم القرآن فنقّوها مما علِق بها مما ليس من الدين الصحيح في شيء) - (إن نعيم الآخرة وهمٌ وخيال) . هذا بعض ما جاء في تلك المجلة وما نشره صاحبها المسلم الأزهري عقب مقابلته لزعيم البهائيين في الإسكندرية. وقد رد على (البيان) الأستاذ صاحب (عكاظ) في عدة مقالات وتبعه كاتب في جريدة الشعب ثم تبعتهما جريدة الأفكار، وكلهم كان يطلب إلى صاحب (البيان) تكذيب ما نشره في هذا الموضوع والرجوع إلى الحق، ولكنه كان يقول لهم: إني كتبت وأكتب عن البهائيين وزعيمهم كما كتبنا عن فولتير وسبنسر ونيتشه، وكما كتب الأوربيون ويكتبون عن العظماء والفلاسفة والنابغين. فما رأي العالم الجليل صاحب المنار في ما نشره (البيان) في موضوع البهائيين وزعيمهم؟ وما رأيه في رد عكاظ أولاً والشعب والأفكار ثانيًا؟ (ف - صحفي قديم) (ج) بيّنا في المنار مرارًا أن البهائية قد انتحلوا دينًا جديدًا في هذا العصر، وأن دينهم أبعد عن الإسلام من دين اليهود لأن أساس دين اليهود التوحيد الذي هو أساس الإسلام، وأساس دين البهائية وثني مادي، وهم يعبدون والد زعيمهم عباس أفندي الملقب (بعبد البهاء) وما هذا اللقب إلا عنوان القول بألوهية البهاء. ولهم شريعة ملفقة من الأديان المختلفة، وفلسفتها هي عين فلسفة سلفهم من فرق الباطنية، الذين حاربوا الإسلام بالدسائس التي اخترعتها لهم جمعيات المجوس السرية، لإفساد أمر المسلمين وإزالة ملكهم انتقامًا للمجوسية التي أبطلها الإسلام. ألا وإن مرزا حسين الملقب بالبهاء هو وولده الداهية عباس أفندي قد جعلا دينهما الجديد تنقيحًا لما دعا إليه الأبله الثرثار مرزا محمد علي الذي اشتهر بلقب (الباب) ، وإنما مهد السبيل لدعوته في بلاد الفرس بدعة الشيخية، الذين هم أكبر المفسدين في الشيعة الإمامية، وسننشر في المنار شيئًا من فلسفتهم الخيالية، التي انتزعوها من أباطيل الباطنية، وزفوها في مَعْرِض الأساليب الصوفية. وجملة القول أن دين البهائية دين مخترع، افتراه الباب المخدوع، ونقحه بتمادي الزمان - الباقعة عباس أفندي. وهو أضر على الإسلام من كل دين في الأرض؛ لأن أهله يسلكون في الدعوة إليه مسلك سلفهم الصالح في مخادعة عوام المسلمين وإيهامهم أنهم يصلحون لهم دينهم، واحتجاجهم بالشبهات التي يحرفون بها القرآن والأحاديث بالتأويلات البعيدة، فهم أكبر فتنة على المسلمين في هذا العصر ولا سيّما على الشيعة؛ لأن الغلو في التشيع سلم للباطنية، ولهذا كان يقول بعض العلماء: ائتني برافضي كبير أخرج لك منه باطنيًّا صغيرًا، وائتني بباطني كبير أخرج لك زنديقًا كبيرًا. فمن عرف دين البهائية من المسلمين ومدحه واستحسنه وشهد بكونه حقًّا أو إصلاحًا للإسلام، وكونه هو أو زعيمه معصومًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كان بذلك مرتدًّا عن الإسلام، وإن زعم أنه مسلم، فهو زنديق منافق كسائر الباطنية إذا كانوا ضعفاء بين المسلمين، فالبهائية كسلفهم من الباطنية يتوسلون بدعوى الإسلام بين المسلمين ليقبل كلامهم في دعوتهم إلى باطلهم وتحريف معاني القرآن للاستدلال عليها وإبطال ما يفهمه المسلمون منها. فإذا كان صاحب البيان قد قال ما نقله عنه السائل معتقدًا له فالأمر ظاهر، وإن كان قد كتبه عن جهل بحقيقة القوم فكان الواجب عليه بعد أن نبهته جريدة (عكاظ) وغيرها أن يرجع إلى الحق ويصرّح ببطلان دين البهائية وتحذير المسلمين من خداع دعاته (ويسمونهم مبلغين) وأمّا ما ذكره السائل عنه من الاعتذار عن تقديس دين وثني مادي وتقديس داعيته وأحد مخترعيه - بأن مدحه له كمدحه لفولتير - فهو غريب، فإن مدحه لفولتير إن كان باطلاً فهو تأييد للباطل بالباطل، وإن كان يراه حقًّا ويرى أن ما قاله في عباس أفندي ودينه حق أيضًا، يكون قد ارتدّ عن الإسلام ودخل في دين البهائية، وإلا فإنَّ من قال حقًّا وقال باطلاً، لا يكون قوله الحق مرةً عذرًا له إذا قال الباطل بعده. والذين مدحوا مثل فولتير من كتّاب الإفرنج كانوا مثله مارقين من النصرانية، فهل يرضى صاحب البيان أن يكون مدحه لعباس كمدحهم لفولتير؟ وليس ما نقله السائل عن البيان قول مؤرخ يحكي شيئًا وقع لا رأي له فيه، حتى يقال: (إن حاكي الكفر ليس بكافر) بل ذلك مدح لهذا الدين الجديد وتفضيل له على غيره يتضمن دعوة المسلمين إليه. فإذا لم يكن هذا مراده فليصرح كتابةً ببراءته من البهائية والتحذير من كفرهم بالإسلام. على أن فيما نقله السائل عنه ما هو كفر في نفسه بالإجماع؛ كإنكار حقية نعيم الآخرة، وتسميته وهما وخيالاً؛ بناءً على أن هذا من مذهبهم. وجملةُ القول أن من شأن المسلم أن لا ينشر شيئًا يعد كفرًا في دينه، وأن لا ينقله عن غيره مقرًّا له ومستحسنًا؛ فكيف ينوّه بمدح دين جديد يراد به نسخ الإسلام وإبطاله من الأرض ويصفه بأنه هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين ولا من خلفه؟ وقد قرأنا بعض ما نشر في عكاظ ردًّا على البيان فرأيناه مبنيًّا على أساس الصواب ولم نر ما كتب في جريدة الشعب؛ لأننا لا نكاد نقرأها بل قلّما نراها - وكذا جريدة الأفكار - والحق ظاهر في نفسه. *** البحث في تعدد الزوجات والطلاق والحجاب (س4) من صاحب الإمضاء في مصر. فضيلة الأستاذ العالم العلامة منشئ المنار الأغر: بعد الاحترام؛ نرجو من سيادتكم إجابتنا على السؤال الآتي في مناركم الأغر: هل يعد البحث في تعدد الزوجات والطلاق والحجاب من الوجهة العمرانية وتبيان أضرارها في الناس من الوجهة الاقتصادية إهانة للدين الإسلامي. عبد الحميد حمدي بشبرا مصر. (ج) حاشا للهِ أن يعد البحث في هذه المسائل إهانة للدين الإسلامي مطلقًا؛ بل كثيرًا ما يكون البحث فيها كاشفًا عن حكم الإسلام وفضائله، ومبينًا وجه كونه دين الفطرة الجامعة بين مصالح الروح والجسد؛ ولكن غير المسلم قد يهين الدين الإسلامي إذا خالف هواه ورأيه بعضُ أحكامه، فيتخذ ذلك وسيلةً للطعن فيه، أمّا المسلم فإنه يبحث عن الحقائق مع الأدب، فإن عرضت له شبهة على حكم إسلامي ثابت يزداد بحثًا ليزداد علمًا، ولكنه ينسب القصور إلى نفسه لا إلى دينه، ويجعل هذا قاعدةً للبحث، إلى أن يتبين له الحق.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (تابع) فتاوى المنار أسئلة من صاحب الإمضاء في (العطف) من 5 - 11 بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الأستاذ الأوحد منشئ المنار المنير، السيد محمد رشيد رضا، شاد اللهُ به منار الدين. السلام عليكم ورحمة الله. أما بعد فإني سائل فضليتكم عن أمور أشْكلَتْ عليَّ مؤمِّلاً إسعافي بأجوبتها لِمَا أني لا أرى لذلك ممن أعرف أهلاً سواكم: (1) لماذا حمل الأستاذ الإمام أخذ الكتب في القيامة بالأيمان وبالشمائل مِنْ وراء الظهور على أخذها بنشاط وسرور أو بضد ذلك مع إمكان الحمل على الظاهر الذي تمتنع مخالفته بلا دليل؟ واستبعاد تصوير وراء الظهر بما صوره به لا يوجب رفض الظاهر، فلِمَ لا يقال يأخذ الكافر كتابه بشماله من وراء ظهره حقيقةً، ولا يزداد على ذلك؟ ويجعل النشاط والسرور سببًا للأخذ باليمين وضد ذلك سببًا للأخذ بالشمال من وراء الظهر؟ (2) هل يحلّ التداوي بالخمر - إذا ظن نفعها بخبر طبيب - أخذًا من آية {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ، ومن القاعدة المتفق عليها: الضرورات تبيح المحظورات. وإذا جوّزتم فما ترون في حديث: (إنها داء وليست بدواء) أو كما ورد. (3) هل الخمر نجسة، وما دليل نجاستها إن قلتم بها؟ فإني لم أَرَ دليلاً شافيًا بعد شدةِ البحث. (4) ما جواب مجوّزي سماع الملاهي عن حديث تحريم سماع المعازف الذي في البخاري. (5) ما درجة حديث النهي عن تعليم النساء الكتابة وهل له معارض؟ وما رأيكم في هذا التعليم؟ والحديث المشار إليه ذكره في فتح البيان عن البيهقي والحاكم وابن مردويه وسكت عليه، فهل ذكر الحاكم له يفيد صحته. (6) ما درجة حديث جابر في خلق النور المحمدي قبل الأشياء؛ فقد أنكر الشيخ عبد العزيز جاويش صحته مع ذكره في كتب جمّة كشرح الهمزية لابن حجر، لكن لم أَرَ مَنْ صححه بعد شدة بحث في كثير من كتب السنة. (7) لم شرَطتم على المفتي ذكر دليل الحكم للعامي مع أن كثيرًا من الأدلة يصعب جدًّا تفهيمه إيّاها فالتكليف به حرج شديد؟ وإذا وَسِعَ العامِّيّ أن يثق برواية المفتي فلم لا يسعه أن يثق بأنه أخذ فتواه من دليل صحيح؟ فإنّا إذا نظرنا إلى احتمال خطأ العالم في أخذ الحكم أو فتواه بما لا يعلم - لزم أن ننظر إلى احتمال كذبه في الرواية أو في تفهيم مرويه، ولا إخالكم ترتابون في صعوبة تفهيم العامي بعض الأدلة لعلمكم بأن مأخذ الحكم قد يتركب من حديثين أو أحاديث أو من سنة وقرآن، ويحتاج تقريره إلى فطنة وإلمام بجملة علوم. هذه يا سيدي الأستاذ مسائل اشتدت حاجتنا إلى معرفة الحق فيها جدًّا، فلجأنا إليكم والأمل بتحقيق طلبنا ملء الفؤاد لا برحتم عضد الحق. خادم العلم الشريف م. ز - بالعطف *** (أخذ الكتب بالأيمان والشمائل) حمل الأستاذ الإمام الآية في سورة الانشقاق على الكناية؛ لأنه الأبلغ الذي يظهر به معنى الوعد والوعيد الذي وردت الآية في سياقه. والكناية لا تنافي الحقيقة، فيجوز أن يكون المراد هو ما فسر به الآية مع كون الأخذ بالأيمان وبالشمائل ممدودة إلى ما وراء الظهر يقع بالفعل؛ ولكن إرادة الحقيقة وحدها خبر مجرد ليس فيه ما في الكناية من الموعظة وبيان حسن حال من يأخذ كتابه بيمينه من قبل وجهه، وسوء حال من يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وحمل كلام الله على أبلغ الوجوه العربية وأظهرها انطباقًا على مقاصد القرآن هو الأولى؛ بل المتعين، وقد أنزل الله القرآن هدًى وموعظةً وعبرةً وذكرى؛ كما هو مبين في عدة آيات. نعم؛ لا يجوز أن يتكلف المفسر في كلام الله تعالى معاني لا يسيغها الأسلوب العربي البليغ للهروب من معنى متبادر لا يوافق ذوقه أو رأيه. وقد عهد في الاستعمال العربي البليغ التعبير باليمين وبالأخذ باليمين عن اليمن والنشاط والعناية، وبالتعبير بالشمال عن ضد ذلك من الشؤم والكراهة. وسمَّت العرب اليد اليمين: اليمنى، والشمال: الشؤمى، وكانوا يتيمنون بالطير إذا مرت يمينًا ويتشاءمون بها إذا مرت شمالاً. فتقول العرب: أخذ فلان كذا بيمينه أو بشماله، قلّما يريدون إلا الكناية، فهو من الكنايات المشهورة بينهم؛ لأن إرادة الحقيقة قلّما تكون لها فائدة. وأما قول العلماء: إن الأصل في الكلام الحقيقة ولا يصار إلى المجاز أو الكناية إلا بدليل وقرينة، فلا يريدون به أن كل ما أمكن أن يراد به الحقيقة يحمل عليها مطلقًا، فإن من الكلام ما يجزم سامعه عند سماعه أنه مجاز أو كناية مع إمكان إرادة المعنى الحقيقي، ثم إن تحديد الحقيقة في كل مواد الكلِم والتمييز بينها وبين المجاز والكناية ليس من السهولة بحيث ينال من طرف التمام، ولعسره أنكر بعض النقاد المجاز من أصله وعدّ الجماهير كثيرًا من المجازات حقائق، وخلطت معاجمُ اللغة الحقيقة بالمجاز، ولم يعن بالتزييل إلا أفراد من الجهابذة؛ كالزمخشري في أساس البلاغة، وليس هذا المقام بالذي يتسع لبيان ذلك. *** (التداوي بالخمر) التداوي بالخمر لِمَنْ ظن نفعها؛ شيء. والاضطرار إلى شربها؛ شيء آخر. فأمّا الاضطرار فإنما يعرِض لبعض الأفراد في بعض الأحوال، وهو يبيح المحرم من طعام وشراب بنص قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) ، وينفي الحرج والعسر وغير ذلك من الأدلة. وقد مثّل الفقهاء له في شرب الخمر بمن غُصّ بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به سوى الخمر. ومثله من دنق من البرد وكاد يهلك ولم يوجد ما يدفع به الهلاك بردًا سوى جرعة أو كوب من خمر، ومثله أو أولى منه مَنْ أصابته نوبة ألم في قلبه كادت تقضي عليه؛ وقد علم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع عنه الخطر سوى شرب مقدار معين من الخمر القوية؛ كالنوع الحديث الإفرنجي الذي يسمونه (كونياك) فإننا نسمع من الأطباء أنه يتعين في بعض الأحيان لعلاج ما يعرض من مرض القلب ودفع الخطر وقد ثبت ذلك بالتجربة. وهذا النوع من العلاج لا يكاد يكون شربًا للخمر وإنما يؤخذ منه نقط قليلة لا تسكر. وأمّا التداوي المعتاد بالخمر لمن يظن نفعها ولو بإخبار الطبيب كتقوية المعدة أو الدم ونحو ذلك مما نسمعه من كثيرٍ من الناس فهذا هو الذي كان الناس يفعلونه قبل الإسلام ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ونص الحديث الذي أشار إليه السائل: (إنه ليس بدواء ولكنه داء) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي، وسببه: أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي عن الخمر - وكان يصنعها - فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقاله. وقوله: (ولكنه داء) هو الحق وعليه إجماع الأطباء، فإن المادة المسكرة من الخمر سم تتولد منه أمراض كثيرة يموت بها في كل عام ألوف كثيرة، والسموم قد تدخل في تركيب الأدوية، ولكن الذين يشربون الخمر - ولو بقصد التداوي بها - لا يلبثون أن يؤثر في أعصابهم سمُّها، فتصير مطلوبة عندهم فيتضررون بسمها، فلا يغترن مسلم بأمر أحد من الأطباء بالتداوي بها لمثل ما يصفونها له عادة، واللهُ الموفق. *** (نجاسة الخمر) ذهب جمهور الفقهاء إلى نجاسة الخمر، وروي عن ربيعة شيخ الإمام مالك القول بطهارتها، فأمّا نجاستها المعنوية فلا شك فيها، وأمّا النجاسة الحسية فلا تصدق على الخمر لغةً لأنها ليست قذرة، والنجس ما كان شديد القذارة، ولا قام عليها دليل من الكتاب ولا من السنة، وقد شرحنا ذلك في المجلد الرابع من المنار (ص 500 و 821 و 866) فليرجع إليه السائل إن شاء. وقد جمعتنا الأيام بعد كتابة ما كتبناه في ذلك المجلد بجماعة من أكابر علماء الأزهر في قطار خاص من قطارات سكة الحديد كان يحملنا إلى بلدة (ديروط) بدعوة قطب باشا قرشي - رحمه الله - للاحتفال بتأسيسه مسجدًا ومدرسةً فيها، فدار الكلام بيننا في هذه المسألة، فقال أحد علماء المالكية: إنه يريد أن يكتب رسالةً يثبت فيها نجاسة الخمر بالدليل فتكون ردًّا على المنار، قلت له: إذا جئت بدليل صحيح يقبله المنار وينشره في الأقطار، وإلا ردّ عليك ما تكتب، ويمكنك أن تذكر الآن ما عندك من الدليل، قال: (الإجماع) ؛ قلت: لم ينقله أحد بل نقلوا عن الإمام ربيعة التصريح بطهارتها، قال: (آية المائدة) قلت: إن لفظ (رجس) محمول فيها على الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، ولم يقل أحد من المسلمين بنجاسة الميسر والأنصاب والأزلام، فتعيّن أن يكون الرجس هو المستقبح عقلاً وشرعًا لضرره، والرجس يكون حسيًّا؛ وهو ما يدرك بأحد الحواس، ويكون معنويًّا وهو ما يعرف بالعقل والشرع مجتمعين أو منفردين، قال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (يونس: 100) ، وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} (التوبة: 125) ، وقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (الحج: 30) ، ولا يمكن إرادة النجاسة الحسية بشيء من ذلك. ولمَّا لم يستطع الأستاذ المالكي أن يقيم دليلاً، سأل أحد الحاضرين مفتي الديار المصرية - وكان يسمع المناظرة - عن رأيه في المسألة. فقال المفتي: ما مذهب الأستاذ؟ يعني كاتب هذا - قيل له: شافعي، فقال لي: ما المعتمد عند الشافعية في المسألة؟ قلت: المعتمد أن الخمر نجسة. قال: انتهى الأمر. قلت: لا، إننا نبحث في الدليل على نجاسة الخمر لا في نص المذهب. فإن كان لديك دليل فاذكره لنا. فلم يأت بشيء. ثم سكت الشيوخ وسكتنا. *** (سماع المعازف) قد شرحنا في الجزأين الأول والثاني في المجلد التاسع هذه المسألة؛ فذكرنا أدلة مجوِّزي السماع وأدلة حاظريه، وأقوى أدلة الحاظرين حديث البخاري الذي أشار إليه السائل؛ إذ لم يصح في الباب سواه، بل قال ابن حزم: لا يصح في الباب حديث أبدًا وكل ما فيه فموضوع. وبينا أجوبة المجوزين عن هذا الحديث: (فمنها) أنه منقطع الإسناد فيما بين البخاري. (ومنها) أن في إسناده صدقة بن خالد وقد قال فيه يحيى بن معين إنه ليس بشيء، والإمام أحمد: إنه ليس بمستقيم. (ومنها) أنه مضطرب المتن والسند بما بيناه هنالك. (ومنها) أن كلمة المعازف التي هي محل الاستدلال ليست عند أبي داود. (ومنها) إن لفظة يستحلون ليست نصًّا في التحريم، فقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي لها معنيين: أحدهما أن المعنى: يعتقدون أن ذلك حلال، والثاني: أن يكون مجازًا عن الاسترسال والإكثار من ذلك. (ومنها) أن لفظة المعازف مختلف في مدلولها والاختلاف يوجب الاحتمال المسقط للاستدلال. (ومنها) أن المعازف المنصوص عليها فيه هي ما كانت مقترنة بشرب الخمر كما يستفاد من بعض روايات الحديث. (ومنها) أن المراد بالحديث: يستحلّون مجموع ما ذكر فيه لا كل واحد منها. وحينئذ يستثنون المعازف بدليل كون الدف والغناء منها جمعًا بين الأدلة؛ إذ ثبت في الأحاديث المتفق عليها سماع النبي صلى الله عليه وسلم وإجازته لهما. وإذا أراد السائل أن يقف على تفصيل هذه الوجوه والأجوبة عنها وملخص ما قاله المجوزون والمحرمون في المسألة فليرجع إلى المجلد التاسع من المنار. والذي ظهر لي من مجموع ما ورد في هذا الباب ومن كلام العلماء المختلفين في المسألة: أن سماع الغناء وآلات اللهو ليست محرّمة لذاتها مطلقًا، ولكن الإكثار منها مكروه ولو لم تبعث على معصية، فإذا كانت مغرية بالفسق كما يقع كثيرًا حرمت لسدّ الذريعة. ولمّا كثر اللهو والفسق من المفتونين بالمعازف وصارت أغانيهم كلها غرامية خلافًا لِمَا كان عليه

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ باب الانتقاد على المنار نقد عبارة في المنار والمناظرات بين دعاة النصرانية وعلماء الإسلام أرسل إلينا طاهر أفندي التنير من بيروت نبذتين في الرد على دعاة النصرانية الذين فتح لهم الدستور باب الجرأة على توزيع رسائل الطعن في الإسلام في سوريا حتى قاربوا أن يجهروا فيها كما يجهرون في مصر، وقد رأينا في كل من النبذتين شذوذًا في التعبير فحذفنا ونقحنا وتصرفنا في العبارة بحذف بعض المعاني الشعرية التي تؤثر تأثيرًا رديئًا بِلا فائدة، وقد ظهر لنا بعد ذلك أنه بقي في الكلام ما ينتقد على الكاتب، وكذا على الناشر؛ لأنه يؤلم القارئ من النصارى، إذ كاشفنا بعض أصدقائنا السوريين بما انتقدوه، وقالوا: إن مثل هذا لا يعهد من المنار، فهو يرد على المبشرين من سنين طويلة ولم ننتقد عليه كلمةً واحدةً تعد جارحةً، أو بعيدة عن الأدب، ثم إنه قد عرف بأنه داعيةُ وفاقٍ ومودةٍ، فلا ينبغي له أن ينشر - لِمَنْ لا يراعون مشربه هذا - ما ينافيه؛ فرأينا أن نكتب كلمات في هذا الموضوع تزيل اللبس، وتكون هي القول الفصل، وهي: (1) إننا نحمد الله تعالى أن جعلنا من دعاة الوفاق ومن محبي الأدب والنزاهة، وإنه ليسوءنا ويحزننا أن نقع في سهوٍ أو غلط ينافي ذلك ويعارضه، وإذا عثرنا نسارع إلى التوبة والندم، ونتلافى ما يمكن تلافيه بما تحمله الطاقة، وتناله الاستطاعة. (2) إن المنار لا يشترك فيه النصارى كما يشترك المسلمون في صحفهم الدينية - دع السياسة التي تسمّى عامة - فلا يوجد في مشتركيه عشرة نفر من النصارى؛ لأجل هذا لا يخطر في بالنا عند كتابة كل شيء أو نشره أن نراعي فيه موقعه من نفوسهم، وتأثيره في جمهورهم، والأدب مطلوب عندنا لذاته. وإنما يطّلع عليه عدد قليل من أهل العلم والأدب كأصحاب الصحف التي يبادلها المنار، وهؤلاء من الأحرار أصحاب الصدور الواسعة، فإذا هم استنكروا شيئًا لا يذيعونه في جمهور قومهم، ونتيجة هذا أن ما ينشره المنار لا تأثير له في عامة النصارى حتى يقال: إن المجلات كالجرائد يجب أن يراعى فيها شعور جميع الملل التي تقيم في الوطن التي تصدر فيه أو تنطق باللغة التي تكتب بها. فهو إذًا من كتب الإسلام الدينية، فلا وجه لمطالبتنا بأن نراعي شعورهم فيه، ولا لدعوى أن ما ينشر مخالفًا لعقائدهم، أو ردًّا عليها يوجب التفرقة والعداوة. (3) إن دعاة النصرانية هم المعتدون على المسلمين بالطعن في دينهم بما ينشرون من الكتب والرسائل والصحف، وبما يعقدون من المجامع لدعوى المسلمين إلى دينهم وفي مدارسهم ومستشفياتهم، فصار من الواجب علينا شرعًا أن ندافع عن ديننا، وننفِّر عوامنا عن قبول دعوتهم؛ فالفرق بيننا وبينهم أنهم مهاجمون ونحن مدافعون، وأنهم يكتبون مطاعنهم لينشروها في المسلمين، كما يبثون مطاعنهم القولية فيهم، ونحن لا ننشر مطاعننا بين النصارى ولا نشافههم بها، ولا يكاد يطّلع عليها إلا عدد قليل من محبي الوقوف على الشؤون العامة، فمن ينتقد ما نكتبه بدعوى أنه يوجب العداوة والتفرقة بين عامة الفريقين مخطئ؛ وإنما يكون مصيبًا إذا قال ذلك فيما يكتبه أهل ملته ودينه؛ لأنهم ينشرونه بين المسلمين فينفرونهم من النصارى، ولا يغفل عن هذا أو يتغافل عنه إلا الغالي في التعصب. (4) قال بعض أصحابنا: إن الطاعنين في الإسلام من النصارى كلهم من الأجانب كالأمريكانيين والإنكليز؛ لا من أبناء وطننا، فلا ينبغي أن نسيء إلى أبناء وطننا بردنا عليهم. ونقول (أولاً) : إن هذا القول غير صحيح، فكتاب (الضلالة) المسمى بضد اسمه تأليف رجل من متعصبي القبط، وهو أقذر هذه الكتب وأقلها أدبًا في الطعن في نبينا صلى الله عليه وسلم، وكتاب (أبحاث المجتهدين) مؤلفه سوري، بل أقول: أكثر تلك الكتب والرسائل والصحف الطاعنة في الإسلام يكتبها أجراء المبشرين من الوطنيين أو يترجمونها؛ إذ لا يكاد يوجد في أولئك الأجانب من يحسن الكتابة العربية، وإنما ينشرها الأجانب لأن لديهم أموالا كثيرة مرصدة لذلك من أهل بلادهم الذين يقول لنا أبناء وطننا إنهم هم البُرَآء من التعصب الديني دون أهل الشرق! ! ولأن لهم من الامتيازات والنفوذ السياسي ما يحميهم من سلطة الحكومة. ونحن نبرئ جمهور الوطنيين من ذنب أولئك الأجراء ولا نعده مانعًا من الاتفاق بيننا وبينهم. (وثانيًا) إذا فرضنا أن هذا العدوان من الأجانب خاصة، فهل من العدل أن يطالبنا نصارى بلادنا بأن لا نرد عليهم، ولا نحذر عوامّنا ونَحُول بينهم وبين إفسادهم لعقائدهم؛ لأن دفاعنا عن ديننا يجرح عواطفهم الدينية؟ ! أليس منتهى التعصب والسعي للعداوة والتفرق أن تطالب ابن وطنك بأن يترك الدفاع عن دينه، وتعليم أهله ما يصونهم عن الارتداد عنه، أو عن فساد العقيدة الذي قلّما تنتج دعوة المبشرين غيره، وأن يرضى بأن يُكذَّب قرآنه ويُشتم رسوله، إكرامًا لخاطرك، ومراعاة لعواطفك؟ (5) إن القاعدة الصحيحة للاتفاق هي قاعدة المنار الذهبية التي دعا إليها المختلفين في المذاهب والأجناس من المسلمين، والمختلفين في الأديان والأجناس من العثمانيين، وهي: (نتعاون على ما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) . وقد شرحناها غير مرة ولكن كثيرًا من الناس لا يحبون الوفاق، ومنهم أعوان المبشرين من الوطنيين، وبعض الكتاب والصحافيين، كالشيخ يوسف الخازن من نصارى السوريين، الذي وضع قاعدة للخلاف ضد القاعدة التي وضعتها للوفاق، وصرّح بها في ملأ مِن أدباء نصارى السوريين كنت أكلمهم في وجوب السعي إلى الوفاق والوحدة؛ فسخر من هذه الدعوة، وقال: إذا كان الخلاف بين مسلم ونصراني فأنا مع النصراني على المسلم كيفما كان - أي في الحق والباطل - وإذا كان بين كاثوليكي فأنا مع الكاثوليكي مطلقًَا، وإذا كان بين كاثوليكي غير ماروني فأنا مع الماروني مطلقًا، قال: وكل الناس كذلك. فمثل هذا لا يعذر المسلمين في كلمة يخالفون فيها النصارى ولا بقولهم ولو في كتبهم وصحفهم الخاصة بهم أننا على الحق، والطاعن في ديننا على الباطل، ولذلك أقام النّكِير على المنار مرة لأنه ذكر اسم المبشرين في سياق الكلام على ما أفسد بلادنا من سعي فسّاق الإفرنج كمواخير البغاء وحانات الخمر وبيوت القمار. ونحن نرى المبشرين أشد إفسادًا في بلادنا من غيرهم لأن صاحب الحانة يحمل المسلم أو يساعده على مخالفة الإسلام في أمر واحد وهو السُّكر، والمبشر يحمله على ترك دينه كله، وزد على ذلك أن المبشرين هم الذين يوقدون نار العداوة بين المسلمين والنصارى ويفسدون المسلمين أنفسهم بتشكيكهم في الدين الذي هو أساس الفضيلة والتقوى والوحدة والاتفاق. فمثل الشيخ يوسف الخازن من متعصبي النصارى السوريين، وبعض أصحاب الجرائد من متعصبي القبط، أشد سعيًا في التفريق بين المسلمين والنصارى من المبشرين الأجانب؛ لأنهم يبحثون عن كلمة يقولها مسلم في الدفاع عن دينه فيجردونها عن سببها والحامل عليها من الأعذار، ويزفونها إلى قومهم في صورة مشوّهة، وإضافات باطلة، وما بلَّغ المكروهَ إلا من نقل. (6) إن مجالنا في الردّ على النصارى أضيق من مجالهم لأننا نؤمن بنبيهم المسيح ونعظّمه ونعظّم حواريه، ونعدّ الطعن فيه كفرًا وردةً عن الإسلام {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} (البقرة: 285) ?وهم يطعنون بلا قيد ولا حد. فغاية ما يمكن أن يكتبه المسلم هو النقل من كتبه الدينية أو كتب أحرار الأوربيين بشرط إظهار البراءة من كل ما لا يليق بكرامة المسيح أو غيره من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، والتصريح بأن نقل ما ذكر من باب (ناقل الكفر ليس بكافر) وأنا لا أحب لنفسي سلوك هذه الطريقة، وهي التي اضطر إليها بعض من كتب في المنار، وكتابة التنير من هذا الباب، وإنني حبًّا في النزاهة والأدب، وكراهة للشعريات في المناظرة والجدل، عملاً بقوله تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46) قد نقحتها، فإذا كان قد بقي فيها كلمةً شاذةً ككلمة الثالوت الزنائي في سياق قصة ولادة سليمان عليه السلام، فإنما ذلك من السهو الذي يظهر بما نبين من سببه، وهو أن الكاتب جعل عنوان مقالته (الثالوث الزنائي المقدس) وصدر الكلام في كل قصة من القصص الثلاث التي نقلها من التوراة بقوله: (الأقنوم الأول من الثالوث الزنائي المقدس) إلخ، وكان يختمها بمثل هذه الكلمة، ويكررها في أثناء العبارة، فرمجنا (شطبنا) كل هذه الكلمات لأن فيها امتهانًا لاصطلاحات محترمة، وغرضنا من تحذير عوامّ المسلمين من الاستجابة للمبشرين لا يتوقف على ذلك، ولا هو ممّا ترضاه آدابنا، وجعلنا مكان كلمة الأقنوم كلمة الجد، وحذفنا لفظ الثالوث من العناوين ومن تضاعيف الكلام، واتفق أننا لم نقرأ تلك الأوراق في وقت واحد لكثرة الشواغل وضيق وقتنا عنها، ولذلك جعلنا في القصة الثالثة لفظ (الشاهد) بدل (الجد) وبقي في آخرها كلمة (الثالوث الزنائي) على أنني أتذكر جيدًا أنني حذفت هذه العبارة التي كانت في العنوان الأول وتكررت في الكلام، فلا أدري أكان ترميجها (شطبها) غير ظاهرٍ فجمعت حروفها، أم كنت قد نسيتها؛ لأنني قرأت تلك الورقة التي هي فيها وحدها. ولهذا قلت فيها: الشاهد الثالث بدل الجد الثالث. وقد ظهر بهذا الذي شرحته أن هذه الكلمة قد بقيت في المقابلة كالعضو الأثري، وإن اللام فيها لام العهد الذِّكري؛ أي الثالوث الذي تقدم ذكره. وإنني لما ذكرت لي ما صدقت حتى راجعت ورأيتها بعيني. وقد امتعضت امتعاضًا شديدًا ظهر عليّ وسئلت عن سببه، فإن من خلقي وغريزتي أن أتألم مما يقع مني مخالفًا لمشربي ورأيي، ولو سهوًا أو نسيانًا، ولا أبالي بما ينتقده الناس إذا كنت أعتقد أنه حق وصواب وغير خارج عن حدود الآداب. ومثل هذا الغلط والسهو يقع كثيرًا، وفي هذا الجزء من المنار غلط في آية من القرآن غفلنا عنها؛ لأجل هذا قلت لمن نبهني ولغيره: إنني أحب أن أتلافى هذا الخطأ بما يرضي المتألمين منه، وأدع لأهل الإنصاف من النصارى اقتراح ما يرونه ويرضونه من اعتذار أو انتقاد لما كتب، أو حذف الكراسة من المنار وطبع كراسة بدلها خالية من كل كلمة جارحة، وإنما أقبل في هذا قول المعتدلين البرآء من التعصب كإسكندر بك عمون وسامي أفندي الجريديني من فضلاء المحامين السوريين، على أن هذه الكتابة يصح أن تعد ترضية للمنصفين ودليلاً على أننا لم ننشر تلك العبارة عمدًا. وأما المتعصبون فلا يرضيهم منا إلا خروجنا من ديننا، فلا زالوا ساخطين وقد سعوا مع بعض المبشرين من قبل لإقناع الوكالة البريطانية بإلغاء المنار ومنع إصداره ظنًّا منهم بأن الجو يخلو لهم ولغيرهم من أعداء الإسلام فلا يتجرأ أحد على الرد عليهم. (7) إن سبب نشر هذه المقالة والمعنى الذي أردنا أن يفهمه المسلمون منها هو: أن إيماننا بالمسيح والأنبياء أصح من إيمان المبشرين، وتكريمنا لهم خير من تكريمهم، فهم قد جمعوا فيما قالوه في المسيح عليه السلام بين الضدين فأطروه حتى اتخذوه ربًّا وإلهًا، ونقلوا في نسبه لأمه وأبيه الناموسي (لا الحقيقي) أنه من نسل سليمان بن داود من سبط يهوذا، وقد ثبت في العهد العتيق عندهم (لا عندنا) أن بعض أجداده في هذا النسب (الذي سرده متّى ولوقا في إنجيليهما) من أولاد الزنا. وثبت عن مقدسهم بولس أن

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ فصل [*] فحينئذٍ يطلع منه على المشهد الثاني عشر وهو مشهد الذل والانكسار، والخضوع والافتقار للرب جل جلاله، فيشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة وافتقارًا تامًّا إلى ربه ووليه، ومن بيده صلاحه وفلاحه وهداه وسعاداته، وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تدرك بالحصول، فيحصل فيه كسرة خاصة لا يشبهها شيء، بحيث يرى نفسه كالإناء المردود تحت الأرجل الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله، وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيّمه؛ فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما من ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيرًا، فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه اقتضت ذكره به وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه، ورآها - ولو ساوت طاعات الثقلين - من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه، فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أَوجَبت له هذا كله، فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد له وأجداه عليه! وذرة من هذا ونفس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلّين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم. وأحبُّ القلوب إلى الله سبحانه قلب قد تمكنت منه هذه الكسرة، وملكته هذه الذِّلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله. قيل لبعض العارفين: أيسجدُ القلبُ؟ قال: نعم؛ يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء؛ فهذا سجود القلب، فقلب لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد السجود المراد منه، وإذا سجد القلب لله هذه السجدة العظمى سجدت معه جميع الجوارح، وعَنَا الوجهُ حينئذٍ للحيّ القيوم، وخشع الصوت والجوارح كلها، وذلّ العبد وخضع واستكان، ووضع خده على عتبة العبودية، ناظرًا بقلبه إلى ربه ووليه نظر الذليل إلى العزيز الرحيم، فلا يُرى إلا متملقًا لربه خاضعًا له، ذليلاً مستعطفًا له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يترضى ربه كما يترضى المحب الكامل المحبة محبوبه المالك له، الذي لا غنى له عنه، ولا بدّ له منه، فليس له هم غير استرضائه واستعطافه؛ لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته له، يقول: كيف أغضب من حياتي في رضاه؟ وكيف أعدل عمن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحبه وذكره؟ وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجل كان في كنف أبيه يغذوه بأطيب الطعام والشراب واللباس، ويربيه أحسن التربية، ويرقية في درجات الكمال أتم ترقية، وهو القيّم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه في حاجة له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره وكتفه وشدّه وثاقًا، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامَه سوءَ العذاب، وعامله بضد ما يكون أبوه يعامله به، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفيْنة بعد الفيْنة، فيهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، وتذكّر ما كان عليه، وكل ما كان فيه. فبينا هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد نحره في آخر الأمر، إذ حانت منه التفاتة إلى نحو ديار أبيه، فرأى أباه منه قريبًا، فسعى إليه، وألقى نفسه عليه بين يديه، يستغيث: يا أبتاه يا أبتاه يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه، حتى وقف على رأسه وهو ملتزم لوالده ممسك له. فهل تقول: إن والده يسلمه مع هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟ فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالد بولده، ومن الوالدة بولدها؟ إذ فرّ إليه، وهرب من عدوه إليه، وألقى نفسه طريحًا ببابه، تمرّغ خده في ثرى أعتابه، باكيًا بين يديه يقول: يا ربّ! ارحم من لا راحم له سواك، ولا ناصر له سواك، ولا مؤوي له سواك، ولا مغيث له سواك، مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك، لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك، أنت معاذه، وبك ملاذه: يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره لا يَجْبُرُ الناس عظمًا أنت كاسره ... ولا يهيضون عظمًا أنت جابره *** فصل فإذا استبصر في هذا المشهد، وتمكن من قلبه، وباشره وذاق طعمه وحلاوته، ترقى منه إلى (المشهد الثالث عشر) وهو الغاية التي شمّر اليها السالكون، وأَمَّها القاصدون، ولحظ إليها العاملون. وهو مشهد العبودية والمحبة والشوق إلى لقائه والابتهاج به، والفرح والسرور به، فتقرّ به عينه، ويسكن إليه قلبه، وتطمئن إليه جوارحه، ويستولي ذكره على لسان محبه وقلبه، فتصير خطرات المحبة مكان خطرات المعصية، وإرادات التقرّب إليه وإلى مرضاته مكان إرادة معاصيه ومساخطه، وحركات اللسان والجوارح بالطاعات مكان حركاتها بالمعاصي، وقد امتلأ قلبه من محبته، ولَهَجَ لسانُه بذكره وانقادت الجوارح لطاعته، فإن هذه الكسرة الخاصة لها تأثير عجيب في المحبة لا يعبَّر عنه. ويحكى عن بعض العارفين قال: دخلت على الله من أبواب الطاعات كلها فما دخلت من باب إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن الدخول، حتى جئت باب الذل والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه وأوسعه، ولا مزاحم فيه ولا معوق، فما هو إلا أن وضعت قدمي في عتبته فإذا هو قد أخذ بيدي وأدخلني عليه. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه يقول: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية. وقال بعض العارفين: لا طريق أقرب إلى الله من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا ينفع مع الإعجاب والكبر عمل واجتهاد، ولا يضر مع الذلّ والافتقار بَطالة؛ يعني بعد فعل الفرائض. والقصد أن هذه الذلة والكسرة الخاصة تدخله على الله، وترميه على طريق المحبة، فيُفتح له منها باب لا يفتح له من غير هذه الطريق، وإن كانت طرق سائر الأعمال والطاعات تفتح للعبد أبوابًا من المحبة، لكن الذي يفتح منها من طريق الذل والانكسار والافتقار وازدراء النفس، ورؤيتها بعين الضعف والعجز والعيب والنقص والذم، بحيث يشاهدها ضيعة وعجزًا وتفريطًا وذنبًا وخطيئةً، نوع آخر وفتح آخر. والسالك بهذه الطريق غريب في الناس؛ هم في وادٍ وهو في وادٍ، وهي تسمى طريق الطير، يسبق النائم فيها على فراشه السعاة؛ فيصبح وقد قطع الركب بينا هو يحدثك وإذا به قد سبق الطرف وفات السعاة. فالله المستعان وهو خير الغافرين. وهذا الذي حصل له من آثار محبة الله له وفرحه بتوبة عبده، فإنه سبحانه يحب التوّابين ويفرح بتوبتهم أعظم فرح وأكمله، فكلّما طالع العبد مننه سبحانه عليه - قبل الذنب وفي حال مواقعته وبعده - وبرّه به وحلمه عنه وإحسانه إليه: هاجت من قلبه لواعج محبته والشوق إلى لقائه، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن اليها، وأي إحسان أعظم من إحسان من يبارزه العبد بالمعاصي، وهو يمده بنعمه ويعامله بألْطَافه، ويُسبل عليه ستره، ويحفظه من خطفات أعدائه المترقِّبين له أدنى عثْرة ينالون منه بها بغيتهم، ويردهم عنه ويحُول بينهم وبينه، وهو في ذلك كله بعينه يراه ويطّلع عليه، فالسماء تستأذن ربها أن تحصبه، والأرض تستأذنه أن تخسف به، والبحر يستأذنه أن يغرقه، كما في مسند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق ابن آدم، والملائكة تستأذنه أن تعاجله وتهلكه [1] والرب تعالى يقول: دعوا عبدي فأنا أعلم به إذ أنشأته من الأرض، إن كان عبدكم فشأنكم به، وإن كان عبدي فمني إلى عبدي، وعزتي وجلالي إن أتاني ليلاً قبلته، وإن أتاني نهارًا قبلته، وإن تقرّب منّي شبرًا تقربت منه ذراعًا، وإن تقرّب منّي ذراعًا تقربت منه باعًا، وإن مشى إليّ هرْولت إليه، وإن استغفرني غفرت له، وإن استقالني أقلته، وإن تاب إليّ تبت عليه، مَن أعظم منّي جودًا وكرمًا وأنا الجَوَاد الكريم؟ عبيدي يبيتون يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤهم في مضاجعهم، وأحرسهم على فرشهم، مَن أقْبلَ إليّ تلقيته من بعيد، ومن ترك لأجلي أعطيته فوق المزيد، ومن تصرّف بحولي وقوتي ألنت له الحديد، ومَن أراد مرادي ردت ما يريد. أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي، إن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب، لأطهّرهم من المعايب) . *** (نموذج آخر من الكتاب) في بعض منازل السير إلى الله تعالى فما تقدم هو نظر الصوفية في المعصية، واختلاف مشاهد أصناف الناس فيها بين مَن يعتبر ويندم ويزداد بعدها صلاحًا، ومَن يرى أنه مجبور ومعذور بالقدر، ومَن يرى أنه مؤدٍّ لحق الطبيعة ووظائف الأعضاء ... إلخ، ولذلك جاء كله في مباحث التوبة. وأمّا هذا النموذج فهو من نظرهم في سير السالكين إلى الله تعالى؛ أي إلى معرفته العليا وما لهم من المنازل في طريقهم. *** فصل ثم ينزل القلب منزل الاعتصام وهو نوعان: اعتصام بالله، واعتصام بحبل الله. قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ، وقال: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج : 78) والاعتصام: افتعال من العصمة؛ وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمَخُوف، فالعصمة: الحمية، والاعتصام: الاحتماء، ومنه سميت القلاع العواصم؛ لمنعها وحمايتها. ومدار السعادة الدنيوية والأخروية على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله، ولا نجاة إلا لمن تمسّك بهاتين العصمتين. فأمّا الاعتصام بحبله فإنه يعصم من الضلالة، والاعتصام به يعصم من الهلكة، فإن السائر إلى الله كالسائر على طريق نحو مقصده، فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها، فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له، فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة، وأن يهديه إلى الطريق، والعدة والقوة والسلاح بها تحصل له السلامة من قطّاع الطريق وآفاتها، فالاعتصام بحبل الله يوجب له الهداية واتباع الدليل، والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يستلئم بها في طريقه، ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى، فقال ابن عباس: تمسّكوا بدين الله. وقال ابن مسعود: هو الجماعة. وقال: عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة، خير ممّا تحبون في الفرقة. وقال مجاهد وعطاء: بعهد الله. وقال قتادة والسدّي وكثير من أهل التفسير: هو القرآن. قال ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن هو حبل الله، وهو النور المبين، والشفاء النافع، وعصمة من تمسّك به، ونجاة من تبعه) . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن: (هو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تختلف به الألسن، ولا يخْلَق عن كثرة الرّد، ولا تشبع منه العلماء) وقال مقاتل: بأمر الله وطاعته، ولا تفرّقوا كما تفرّقت اليهود والنصارى. وفي الموطأ من حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمرك

الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية

الكاتب: كريستيان سنوك هرغرنج

_ الإسلام يقاوم نفوذ النصرانية [*] الإسلام في المستقبل سيكون نظير الدين الإسرائيلي يطبق نفسه على حاجات العصر الحديث ولا يدع النصرانية تغلبه وتسلبه أبناءه. (مقدمة للمترجم) إن نشوء الإسلام في المستقبل سيعيد تاريخ الدين اليهودي الحديث بدرجة مشابهة، فالمبشرون بالإنجيل الذين لا يزالون يتوقعون انضمام كل الأديان إلى النصرانية لا تتحقق أحلامهم فيما يتعلق بالإسلام؛ لأن الدين الإسلامي سيظل دينًا قويًّا نشيطًا نظير الدين اليهودي، ويطبق نفسه نظير الدين اليهودي على حاجات العصر المتغيرة. هذا هو رأي الدكتور (كريستيان سنوك هرغرنج) الهولندي الذي قضى ربع قرن يدرس القضايا الإسلامية وشريعة الإسلام وفلسفته. ومما يقال عن هذا الأستاذ: إنه أكثر من خيالي ونبي متغرض، فهو أعلم علماء عصره في الإسلام؛ لأنه لا يعرف تاريخ الإسلام وشريعته وفلسفته معرفة دقيقة فقط، ولكنه قضى ربع قرن يدرس الإسلام من وجه علاقته بالمؤسسات الدينية والسياسية الأخرى. وقد أرسلته جامعة ليدن - في هولندا على سبيل المبادلة -إلى الولايات المتحدة للمرة الأولى ليلقي في أمهات كلياتها العلمية أربع محاضرات في نتائج درسه الإسلام، وقد فصّل في هذه المحاضرات زياراته لمكة (مدينة الإسلام المقدسة) ، فإنه قضى ثمانية أشهر ضمن تلك المدينة المسورة وكان فيها عضوًا من بطانة رجلٍ مسلم، فأتمّ هناك الفرائض الدينية التي كان يقوم بها يوميًّا مائتا ألف من حجاج مكة، وتعهّد الجوامع هناك، وسمع المحاضرات التي لم يكن يسمعها في الزمن الماضي غير المسلمين، وكم من قصة رويت عن نصارى أضلّوا الطريق، ويهود مغامرين قُتِلوا في مكة لاتهامهم بأنهم تجرؤوا على الدخول إلى المدينة الإسلامية المقدسة، وإذا لم تصدق هذه الأخبار فقد ثبت أن كثيرين غير المسلمين طردوا من المدينة بإهانة عندما ظهر أنهم غير مسلمين. ثم إن الدكتور هرغرنج ليس يعرف اللغة العربية فقط؛ بل إنه قبل ذهابه إلى مدينة الإسلام المقدسة قضى عدة سنين يدرس التاريخ الإسلامي، وكانت معرفته هذه للإسلام وسيلة استطاع بها أن يحافظ على تنكره مدة ثمانية أشهر قضاها في مكة، وبلغ منه أنه خدع الكلاب الشاردة التي تفرق المسلم عن غير المسلم لأنها تعرفه بقوة الشم فتهاجمه وتفضح أمره. وقد وضع الدكتور المذكور بعد إقامته في مكة فصلاً فيها وفي تاريخها وحياتها العمومية الحاضرة يعتبر الكتابة الوحيدة التامة عن هذه المدينة المحمية. وليس اهتمام هذا الدكتور بالإسلام اهتمام طالب علم فقط، فقد قضى سبع عشرة سنة في الهند الشرقية الهولندية مستشارًا لحكومة هولندا في المسائل المتعلقة بإدارة سكان الهند الشرقية الوطنيين، واستطاع بدرسه الإسلام درسًا عميقًَا واسعًا أن يضع لهولندا السياسة التي تجري عليها مستعمراتها الإسلامية التي تحتوي على نحو من خمسة وثلاثين مليونًا من أتباع النبي محمد. ومن مضي سبع سنين عاد الدكتور إلى هولندا ليكون أستاذ اللغتين العربية والسلافية في جامعة ليدن، فقبل هذه الوظيفة على شرط أن يبقى مستشارًا عموميًّا للحكومة في المسائل الإسلامية. وزيادة على ذلك أنه ساح في أكثر البلدان الإسلامية، وكان في خلال ربع قرن مضى يراقب الحركات العاملة على إحداث تغيير ديني وسياسي في العالم الإسلامي كله، ولذلك كانت صورته التي صوّر بها حالة الإسلام الحاضرة، والطريقة التي جرى عليها في تتبع نشوئه في المستقبل، أمرين خارجين عن مألوف الذين يعتبرون أن الإسلام لا يزال بربريًّا في شكله الشرقي، بل إنه يرى أن الحواجز بين الشرق والغرب تتهدم بالتدريج تهدمًا يؤدي إلى امتزاجهما السريع في خلال سنين تأتي. وقد ألقى هذا الدكتور محاضرة بالأمس - في جامعة كولومبيا - في الإسلام هذا ما قاله فيها: (محاضرة الدكتور هرغرنج في الإسلام) إن المدينة الإسلامية كانت في خلال ألف سنة مضت ترتفع إلى الدرجة الحاضرة النهائية، فمِن مضي ألف سنة اعتقد المسلمون أن أحوالهم الدينية راضية تمام الرضى، وكان المعتقد الديني عندهم مسألة مقررة، وكان السواد الأعظم من المسلمين يقولون بعصمة الدين الإسلامي ويقبلون حقيقته المكشوفة بدون ريب، نظير إجماع النصارى على عصمة الكنيسة الكاثوليكية. وكانت للإسلام شرائع تتعلق بالحياة في كل أطوارها من شخصية وعمومية وفردية واجتماعية. وعلى الجملة: إن الإسلام كله قام على استقلال المسلمين السياسي، فقد كانوا في دائرتهم الخصوصية أحرارًا مستقلين، اعتبروا العالم كله ملكًا لهم، فالذي لم يكن لهم كان عليهم أن يفتحوه، وبذلك كان حكم السيف ممكنًا إذا لم يكن محتملاً؛ ولكن ثبتت استحالته في الألف سنة التي مضت. ففي خلال القرن الماضي تعرى الإسلام من استقلاله السياسي باعتداء الدول الأوروبية التدريجي عليه، ونتج عن ذلك أن الإسلام اضطر أن يعدل آراءه وأعماله، وتأكد للمسلمين أنه يجب عليهم أن يحسبوا حسابًا لما تفعله الأمم الأخرى وتحصل عليه. وقد نجمت عن هذه الحالة مسألتان: الأولى منهما هي: هل يستطيع الإسلام الذي يرشد حياة تابعيه وأفكارهم أن يجاري هذا التغيير عندما يفقد استقلاله السياسي الذي قام عليه؟ إن الذين درسوا القضايا الإسلامية استنتجوا أن القضايا الروحية، متصلة تمام الاتصال بالقضايا المادية في الدين الإسلامي، بحيث إن سقوط الاستقلال السياسي يستلزم سقوط الإسلام نفسه، ولكني لا أوافقهم على هذا القول. أما المسألة الثانية، فهي أهم من الأولى وهي: هل إذا كان الإسلام قادرًا على احتمال ذلك التغيير - كما أعتقد أنه قادر - يقدر أن يطبق نفسه على قضايا الحياة الحديثة بطريقة يستطيع بها تابعوه بأن يكونوا في مقدمة الصفوف في ارتقاء العالم ومدنيته؟ هاتان هما المسألتان مع كل القضايا الأخرى المتفرعة عنهما ما أريد البحث فيه على مسامع الأمريكيين رجاء أن أوقف الغربيين على الانقلاب العظيم الجاري في العالم الشرقي ومجاري هذا الانقلاب. (فشل محاولة تنصير المسلمين) والأمر الجوهري في هذا الشأن هو الوجه المنظور فيه إلى قضية مستقبل الإسلام، فإذا نظرتم إليها بعيني المرسل النصراني الديني؛ فلا بد أنكم تستنتجون أنه لا يرجى شيء كثير من نشوء الإسلام؛ لأن الإسلام قبل صيرورته كفؤًا يجب عليه أن يتخذ النصرانية أولاً؛ ولكن هذا هو أسوأ رأي يعول عليه، وأنا مسرور بقولي: إنه ليس رأيًا شاملاً، فالمسلمون لا يقصدون أن يتنصّروا، وقد احتاطوا أعظم احتياط لهذا الأمر الذي أدركه كل المبشرين النصارى المتنورين في الأراضي الإسلامية، ففي الهند الشرقية الهولندية - حيث قضيت سبع عشرة سنة ملتصقًا تمام الالتصاق بالمؤسسات الإسلامية - لا يقدر المرسل النصراني الديني أن يربح تابعين لدينه، نعم يوجد كثيرون من المدعوين مسلمين ولا سيّما سكان داخلية البلاد الذين لم يتغلغل إليهم دين من الأديان. وقد ابتعدوا خطوة واحدة عن حالتهم الوثنية الفطرية، ولم يعد يصعب تنصيرهم، وفي بعض جهات جاوه حيث انتشرت الديانة الهندية سابقًا لم يجد المرسلون النصارى صعوبةً في تنصير قبائل برمتها. ولكن أكثر دعاة النصارى الدينيين في البلاد الإسلامية المحضة - حيث الإسلام تقليد قديم لا دين يُتدين به - يرون صعوبةً كبرى في تنصير المسلمين، وقد تحولوا عن التبشير بالمسيح إلى التهذيب والإعانة، وما داموا جارين على هذه الطريقة فالمسلمون مستعدّون لقبول ما يقدمونه لهم. مثلاً إن الذي تقدمه كلية روبرت الأميركية في الآستانة يقبله كل مسلم، وقد كان للكلية المذكورة فضل كبير في نشر المعرفة والطرائق التي يعتبرها المسلمون منتهى التقدم؛ ولكن الكلية المشار إليها لم تحوّل مسلمًا واحدًا عن معتقده. وقد حدّثت مؤخرًا أحد زملائي الفرنساويين الذي قضى عدة سنين في الجزائر، ولمعرفتي بتعصب المسلمين في شمالي إفريقيا سألته عن العمل التبشيري الذي تقوم به الجمعيات الكاثوليكية الدينية المتعددة فقال: إنه عمل ناجح ولكن لا ذِكر ألبتة للدين فيه. هذا وإن هولندا تحكم على خمسة وثلاثين مليونًا من المسلمين ولم تعد تفكر قط في هدايتهم وتنصيرهم , وكل ما أدركناه هو حاجتنا إلى تعليم هؤلاء الناس الذين وكّلت أمورهم إلينا بطيّات الحوادث التاريخية، وأدركنا أن أفضل شيء لنفوسهم هو تطبيق دينهم الخاص ومؤسساتهم الخاصة على حاجات العصر الحاضر. ولا أعتقد أبدًا أن الدين الإسلامي يسقط أمام النصرانية؛ لأن المسلم يحتاط أشد الاحتياط لمقاومة النفوذ النصراني، فهو يعرف النصرانية التي ليست عنده شيئًا جديدًا غير مألوفٍ، فقد عرف أصلها وطريقة نشوئها وهو يعتبرها دينًا فسد بالتدريج، وأخيرًا نسخه وحي النبي محمد خاتم الأنبياء الموحى إليهم؛ وبالتالي إنه يعتبر النصرانية شيئًا مضى، ويرى تديّنه بها خطوة إلى الوراء، ومهما كان التغيير الذي يقع على الإسلام في ربع القرن الجاري أو نصفه فإنه لا يكون تغييرًا يتناول التدين بالنصرانية. إذ لا تدعو الضرورة في الإسلام إلى هذا الإصلاح. *** (إضعاف الإسلام بالتربية والتعليم) ولا يخفى أن كل من عاش في أراضي الإسلام لا ينكر أنه حدث في النصف الأخير من القرن الماضي تغيير عظيم، فقد اشتدت حاجة المسلمين إلى كل ما هو ضروري للاشتراك في الحياة الحديثة التي تبعت دخول الغزاة الغربيين إلى الشرق، ولم يعد المسلمون المتنورون اليوم يكتفون بالتربية الإسلامية القديمة، فهم يطلبون أطباء حديثين وكيمياء حديثة، وأحدث شيء في علم الحياة. وصاروا يطلبون دروسًا اجتماعية في مدارسهم واللغات الحديثة والفن الحديث، ولا يبالون مَن يقدم لهم هذه الأشياء إذا قدمت لهم في غير صبغة دينية. مرّ زمان كان فيه المسلم يعرف أخاه المسلم بألْف طريقة مختلفة: كأخلاقه وطريقة معيشته ولباسه وأكله، ولكن كل هذه المميزات أخذت تزول بالتدريج؛ بل إن المزية الوحيدة التي كان بها المسلم يقدر أن يعرف أخاه في الدين سيزيلها التهذيب والتعليم ببقية معروفة من العقيدة الدينية. وقد زالت عادات إسلامية قديمة كثيرة، وأصبح كثير منها آخذًا الآن بالزوال، فزي اللباس الشائع الذي دخل من الغرب إلى الشرق يجعل تأدية الصلوات الخمس الواجبة يوميًّا أمرًا مستحيلاً، فلم يعد المسلم الشرقي يقدر اليوم أن يصلي خمس مرات في اليوم بين شروق الشمس وغروبها! ! وهو مضطر أن يشتغل ثماني ساعات في اليوم. بل إنه لا يقدر أن يحافظ على مركزه في الصناعة المنظمة التي يضطر إلى مزاولتها بالتدريج ويصوم سحابة النهار في شهر رمضان. وقد كانت هذه الأمور قديمًا شرائع لا بد من العمل بها؛ أمّا الآن فإنها تصير أشياء لا يقدر أن يمارسها غير حجاج مكة والأئمة المتصوفين؛ بل حدث تراخٍ في كل شيء، فقد ساد الإسلام في وقت من الأوقات وتناولت سيادته التجارة أيضًا، ولكن حفت به المشاكل بالتدريج، نعم إن ضمان الحياة لا يزال عند المسلمين شكلاً من أشكال المقامرة؛ ولكن الربا في استثمار المال صار ممكنًا باعتباره قسمًا من المقاولة الأصلية. * * * (درجة تأثير الأفكار الأوربية في المتعلمين) تغلغلت الأفكار الأوروبية في كل جهة من الأراضي الإسلامية، ولكن لم يجد فيها الشعور الأوربي مركزًا، ولهذا أتجرأ على القول بأن المسلمين س

اعتقاد الشيخية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اعتقاد الشيخية [*] على ما نقل من كلامهم في كتبهم المعروفة الكاشفة عن اعتقاداتهم في مراتب أصول العقائد. (ففي مرتبة معرفة الذّات) قالوا (إن الذّات ذاتان) ذات غيبية باطنية لا اسم لها ولا رسم لها، ولا تسمى ولا توصف، ولا تكليف على العباد بمعرفتها وتوحيدها وعبادتها. وذات ظاهرة تسمى، وتوصف، وفي هذا القسم من الذات قالوا: إن المعرفة فرع إدراك المعروف، والعبادة فرع إدراك المعبود، فيجب أن يكون المعبود في صقع العارف والعابد، حتى يعبد بجسمه جسم المعبود وبنفسه نفس المعبود، وبعقله عقل المعبود، وبفؤاده فؤاد المعبود. فهناك ذات ظاهرة معرفتها تسمى بمعرفة البيان، وهي المتعلقة بها المعرفة والعبادة، وهي في مقام النبوة نبيّ، وفي مقام الإمامة إمام، وفي مقام الركنية ركن رابع، ولذا قالوا: إن الخطاب في (إياك نعبد وإياك نستعين) إلى النبي والإمام. والركن الرابع صرّح به الشيخ أحمد بن صقر المشهور بزين الدين واغر الإحسائي في رسالته الخطابية المطبوعة في جوامعه، والسيد كاظم الرشتي في شرح الخطبة، والحاج كريم خان في موارد من إرشاده المعروف المطبوع في عصره، وهذه المقالة دعتهم إلى مصاحبتهم لصور مشايخهم، وجعْلها في محالّ سجودهم، وقد اشتهروا بذلك بحيث لا يتمكنون من إنكاره. (وفي مرتبة معرفة الصفات) قالوا: إن الأسماء والصفات للذات الظاهرة: النبي والإمام والركن الرابع، وهي معرفتهم بالمعاني. وقالوا: إن الصفات كلها حادثة، فالله عالم بالأشياء بعلم حادث، وقادر بقدرة حادثة، وهكذا. وقالوا: إن الصفات متحدة في المفهوم كما هي متحدة في المصداق، وقالوا: نسبة الخلق والرزق إليه تعالى كفر. قال الخان الكرماني في إرشاده بالفارسية: (بس هركه بكويد ذات خداي تعالى خالق اشياء است باجماع مسلمانان از ضرورت دين بيرون رفته) . وصرّح بتمام ذلك ابن صقر في شرح العرشية، والرسالة العلمية، وشرح الزيارة، والسيد الرشتي في شرح الخطبة. (وفي مرتبة معرفة الأسماء) قالوا: إن الذات لا اسم لها ولا رسم لها. ويقولون في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الأعراف: 180) يعني الربوبية الثانية في الذات الظاهرة. قال سيدهم في شرح الخطبة: إن الربوبية لها ستة مقامات: (أحدها) : رتبة الذات البحت التي لا اسم لها ولا رسم. (الثانية) : رتبة الذات الظاهرة التي هي مظهرة تلك الذات البحت. (والثالثة) : رتبة الذات في مقام يعبر عنها بـ (هُوَ) . (والرابعة) : رتبة يعبر عنها بإله. (والخامسة) : رتبة يعبر عنها بسائر الأسماء. (والسادسة) : هي الرتبة الربوبية، السارية في العبودية. وخمسها شيخه، وكثرها الخان الكرماني بغير حساب. قال في الإرشاد: (من نميكوم انخذائيكه سابق مي برستند باطل بوده بلكه ميكويم او حق بوده وعبادتش درست بوده ولكن امروز جون شعور شمازيادشده بايدبدابندكه ان خدانبوده بلكه بنده بوده واينكه امروز ميكويم اين خدا است وبعد از اين شعورها زياد يمشودميد ايندكه اين خدا نيست بلكه بنده ايست از بند كان خدا وخدا ديكريست) . وقال الشيخ أحمد في شرح الزيادة في تفسير الدعاء: أنت الله عماد السماوات - يعني الحسن بن علي، وقالوا: أنت الله قوام الأرضين - يعني الحسين بن علي، وقالوا: إن الضمائر له في القرآن من الغيبة والخطاب والتكلم راجعة إلى النبي والإمام والركن الرابع في مرتبة المعاني. وقال الشيخ أحمد: كما أن له الأسماء الحسنى كذلك له الأسماء السوءى، لكن أمرنا بدعوته بالحسنى دون السوءى، وقال: إن معنى قولك: (الله عالم قادر بصير) الله الله الله لاتحادها في المفاهيم اللغوية كاتحادها في المصداق الوجودي. (وفي مرتبة معرفة الأفعال) قالوا: لا فعل لله تعالى، ولا انتسب إليه الفعل، ولا يطلق على الذات اسم الخالق والفاعل وأمثالهما؛ لأنها يجب أن يكون مقارنة للفعل، والذات لا يقارن شيئًا. واستدلوا بقوله: إن الإرادة لا تكون إلا والمراد معها. ولا يفهمون أن معية المراد مع الإرادة حادثة هي لا مع المريد الذي هو القديم تعالى. و (في مرتبة العدل) قالوا: لا خصوصية للعدل في حق معرفته من الأصول دون سائر الصفات؛ ولذلك جعلوا أصول دينهم أربعة: (أحدها) : معرفة الله، و (الثانية) : معرفة النبي، و (الثالثة) : معرفة الإمام، و (الرابعة) : معرفة الركن. وعليه بنى الإرشاد الخان الكرماني. و (في معرفة النبوة) قالوا لكل نوع من الموجودات نبي من نوعهم، فللجماد نبي من الجمادات، وللبنات هكذا، وللحيوان أيضًا وقالوا إن الصفات المقررة في أنبياء بني آدم مقررة لها من كونها طاهرة مطهرة، عاقلة عاملة، قابلة للوحي والإلهام، معصومة فيّاضة على ما تحتها من أمتها. ولها أئمة من بعدها حافظة لشرائعها ونقباء ونجباء. صرّح به الشيخ أحمد في جوامعه، والخان في إرشاده، وزاد أشياء أخرى فقال: إن محمد تنزل وتطور في كل مقام في صورة كل نوع فينبئ فيها ويبلغها، فإنهم قد يظهرون في صور الجماعات والنباتات والحيوانات، وصور بني آدم سعيدهم وشقيهم. وبه قال الشيخ أحمد في موارد من كتبه، منها ما ذكر في شرح الزيارة في تفسير (وأجسادكم في الأجساد) ، وقال إن الأئمة قد يظهرون في أحسن صورة لأوليائهم، وفي أوحش صورة لأعدائهم. ثم ذكر حديث جابر بن عبد الله في قول طلحة، وقال في الاستشهاد لهذا الحديث: حيث ظهر أمير المؤمنين عليه السلام في صورة قبيحة هي صورة مروان بن الحكم ورمى طلحة بسهم وقتله للاتفاق على أن طلحة قتل برمي مروان، لكن طلحة لمّا عاين الموت وكشف عنه غطاؤه رأى عليًّا عليه السلام في صورة مروان بن الحكم، انتهى. وصرّح به الخان في إرشاده. والعجب من هذه المقالة بأنه كيف عرف طلحة ورأى عليًّا في صورة مروان، ولم يعرفه الحسن بن علي حيث قال في مجلس معاوية لمروان: أنت الذي وقفت بين الصفين ورميت طلحة وقتلته؟ و (في مرتبة الختمية) قالوا: إن للخاتم صلى الله عليه وسلم اسمين (يعني ظهورين) اسم سماوي وهو أحمد، واسم أرضي وهو محمد. وقد ظهر باسمه الأرضي منذ بعث في رأس كل مائة لترويج ظاهر شريعته، حتى مضت عليه وعلى شريعته ستة مائة ستة مائة فكانت اثني عشر مائة [1] وانتهت الدورة الأولى لترويج ظاهر الشريعة، وأتت الدورة الثانية لترويج باطن الشريعة، وانقضت دورة ظاهر الشريعة، فظهرت تلك الحقيقة المحمدية باسمها السماوي وهو أحمد في الشيخ أحمد لترويج باطن الشريعة. وهذه المقالة عين ما قاله السيد كاظم الرشتي في شرح قصيدة عبد الباقي، مذكورة في عشرين ورقًا [2] مِن أواخر الكتاب. وللخان في هذا الميدان جولان، حيث شبه الإيمان بالإنسان. وقال: إنه كان نطفة في زمن آدم عليه السلام، ثم صار علقة في زمن نوح عليه السلام، ومضغة في زمن إبراهيم عليه السلام، وعظامًا في زمن موسى عليه السلام، ونفخ فيه الروح في زمن عيسى عليه السلام، وتولد في زمن محمد صلى الله عليه وسلم، فارتضع من ثدي ولاية الأئمة عليهم السلام ولمّا كان أوان فطامه غاب عنه المرتضعة [3] فودوعه [4] لدى المربيات وهم الفقهاء، وصار مراهقًا في زمن شيخنا، فأخذناه من الإماء المربيات لنعلمه الآداب والسنن. وجال في المقام، وأطال في الكلام، ولعب بذنبه والسبال، حتى آلَ الحال إلى مقالة قرة العين القزوينية راقصة بالغنج والدلال، أنكحت وزوجت قد فر من الميدان! ! وقال الخان أيضًا في إرشاده: إن بعث الأنبياء والرسل ونصب الحجج وإنزال الكتب كلها لإثبات الركن الرابع، وهو بمنزلة أصل الكعبة في مسجد الإمامة في حرم النبوة في عالم أرض التوحيد. فعلى الإسلام السلام بعد هذه المقالة. وقالوا بكفر من أنكر الركن الرابع، وأنهم ناصبين! ! وطهارتهم للتَّقِيَّة. وأيضًا قال في أول المجلد الرابع من إرشاده ما هذا لفظه: من جكونه بادست قاصر ونفس ضعيف أين مطلب وابكردان اين خلق منكوس بكذارم كه هزاروده سأل است كه درجاهليت غيبت كرفتارند. وتاريخ كتابه في ست وستين فيكون من أول ولادة الحجة داخلاً في الجاهلية إلى أن بلغ قلمه موضعه من الكتاب. وقال: كتابي هذا - يعني الإرشاد - مطابق لما هو مسطور في اللّوح المحفوظ حرفًا بحرف، والسواد مطابق للأصل. وقال قراءة كتابي هذا واجبة وقراءة القرآن مستحبة. وقال مَن قرأ خمسة أوراق من كتابي فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، وما أتى به الأنبياء من عند الله. ولا تقتصر عباداته عن عبادة السيد ميرزا علي محمد ابن السيد رضا الشيرازي في بيانه النازل إليه من السماء بزعمهم: أن لو اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بحرف من حروف البيان إذًا لا يأتون بحرف منه أبدًا. و (في مرتبة الوحي) قالوا: إن الوحي عبارة عن توجه خيال النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه، ونفسه إلى عقله، وإنزال عقله المعاني إلى نفسه، ونفسه إلى خياله، والعقل هو جبريل النازل عليه. صرّح به الخان في إرشاده في المقصد الثالث في النبوة. وقال هناك: إن النبي مهما كان متوجهًا إلى مسألة علمية كان غافلاً عن سائر المسائل، فيتدرج له العلم شيئًا بعد شيء في الدنيا والبرزخ. وقال: كثيرًا ما يسأل عن الأئمة من الأحكام الشرعية [5] ولم يكن لهم جواب حتى يلقى إليهم من عقلهم، فيقصر زمان الإلقاء ويطول. فإن قيل: فكيف يرمون هؤلاء بالغلو في حقهم - عليهم السلام - مع هذه المقالة؟ يقال: إن التناقض في كلماتهم غير معدود ولا محدود، ويقولون بجواز اجتماع النقيضين لاسيّما في ذات الواجب، ويستدلون بوجود ملك نصفه من النار ونصفه من الثلج. وهذا معروف منهم. و (في مرتبة العصمة) قالوا: يجوز الكبائر والصغائر عليهم عمدًا وسهوًا قبل البعثة وبعدها. صرّح بالسهو شيخهم في (جوامع الكلم) وقال: يغيب عنهم الملك المسدد. وقال الخان في الإرشاد: بس اكر خداوند مصلحت داند دربقاء دين ان بيغمبر كه از دنيا ميرود البتة قائم مقامي از براي ان بيغمبر قرار دهدكه اقلاّ در حفظ شريعت معصوم بوده باشدا كرجه درجاهاي ديكر معصوم بناشد. وإن كان في مبحث العصمة أثبتها لهم وقد قسّمها بعصمة عقلية، وعصمة نفسية ووجودية، وقسّمها الشيخ في شرح الزيارة بعصمة ذاتية؛ وقال بها لنبينا والأئمة. وعصمة عرضية؛ وقال بها في سائر الأنبياء. ولا يفهم مراده. وقال الخان بعصمة الركن الرابع الذي يسميه إمام الزمان، حيث يقول في إرشاده غير مرّة: بس امام غائب بكارمر در نميخودر ومردم امام حي حاضر معصوم ميخواهند. (وفي مرتبة الإذعان بالمعراج) قالوا بما هو لفظ الشيخ في رسالته المسماة بالقطيفية: قال إنه تعالى لما أراد العروج ألقى في كل كرة ما منها فألقى ترابه في التراب، وماءه في الماء، وهواءه في الهواء، وناره في النار. وكل قبضة! في تلك السماء، ثُم لمّا رجع أخذ من كل كرة ما ألقى فيها. وصرح عليه في جميع كتبه. ومن بيانه تشبيه المعراج بأكل الغذاء وتحليله وإخراج تفله، إلى أن يحصل الروح البخاري في القلب، ثم يصعد إلى الدماغ، وقد صعدها الخان في معراج الغذاء المأكول إلى أن جعلها نفسًا وعقلاً وفؤادًا. (وفي مرتبة الإمامة) قالوا: إن إمام الزمان غير الأئمة الاثني عشر: ولا بد في كل زمان عن إمام غيرهم، وهذا صريح كلماتهم. وقال الخان في إرشاده: بس جنانجه بخداي ناديده اكتفا نميتوانيد نمود بامام غائب هم اكتفا نميتوانيد نمود. وقال في موضع آخر: سار غائب جكوند تريت شاكرد ميتواند نمود. (وفي مرتبة المعاد) ق

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] نشوء فكرة الله (كراسة تحتوي على خلاصة كتاب لجرانت ألين الكاتب الإنكليزي المشهور عن نشوء الاعتقاد بالله وترقي الإنسان من الوثنية إلى التوحيد الحاضر مع بيان أصول المسيحية ونشوئها) . لخّص هذه الكراسة من ذلك الكتاب وطبعها ونشرها (سلامة أفندي موسى) وهو شاب قبطي الجنس ماديّ الاعتقاد، يعنى بإقناع الناس بأن الأديان أوضاع مخترعة ينبغي لهم تركها والعمل بقواعد الانتخاب الطبيعي وأصول الاشتراكية ومنها - على رأيه تبعًا لبعض غلاة المادية من الإفرنج - أن يعجل الأقوياء بإهلاك الضعفاء، ومنعهم من الزواج ومن كل ما يطيل أيام حياتهم على الأرض، كمعالجة المرضى والصدقة على البائسين. وما نشر هذه الكراسة إلا في سبيل مذهبه. وهذه الحملات التي يحملها الملاحدة على الدين تؤثر في النصرانية دون الإسلام؛ لأن النصرانية الحاضرة وثنية متسلسلة من وثنية قدماء المصريين والهنود وغيرهم، وإنا ننقل فصولاً من هذه الرسالة بحروفها تثبت ما قلناه، ثم نعقّب عليها بما نراه، قال الكاتب: (المسيحية كمقياس ديني) إذا أخذنا المسيحية كنموذج للأديان واعتبرنا نشوءها نجد أن كل ما فيها من العقائد والمراسم مأخوذ من الأديان السابقة لها التي كانت فاشية عند ظهورها. فإله المسيحية - المسيح - كان إنسانًا كما كانت كل الآلهة القديمة عند أول ظهورها. وقد اعتبره المسيحيون الأوّلون ابنًا لإله (كذا) تنزيهًا له عن الإنسانية كما فعل اليونانيون مع إسكندر المقدوني. ونجد في المسيحية ما يسمى (بالثالوث الأقدس) وهو عبارة عن إدماج ثلاثة آلهة - وهم الآب والابن والروح القدس - في إله واحد، على مثال ما كان يعتقد المصريون في الثالوث الإلهي المكون من أوزيريس وإيسيس وهوريس. والمسيحيون يعتقدون أن أم المسيح عذراء، ولا بد أن هذا الاعتقاد قد تسلسل من الاعتقاد المصري القديم الذي كان قائمًا على اعتقاد البكارة في إيسيس أُمّ هوريس. وكذلك ترى إذا بحثت عن الأصل في مراسم المسيحية كالصليب والقبر والكنيسة والهيكل أنها مأخوذة من الأديان المصرية القديمة. كما أن نظام القربان والكهنوت مأخوذة منها أيضًا. (15- الضحيَّة والدم) قد رأينا فيما سبق أن للضحية باعثين، الأول: هو الاعتقاد بأنها تقدّم كطعام للروح أو الإله. والثاني: هو الاعتقاد بأن الإله ذاته يتجسد فيها وتدفن أجزاؤها في الحقول لكي تنمي الزروع. إلى هنا لم نتكلم عن أكل الناس الأحياء للضحية، فقد رأينا الضحية تجزأ وتدفن في الحقول باعتبار أنها إله، ورأينا القربان أيضًا يوضع للميت اعتبارًا بأنه سيجوع ويأكله. وسنتكلم الآن عن أصل عادة أكل الناس للضحايا. من الشائع بين عوام مصر أن من أكل قلب ذئب صار قويًّا مثل الذئب، ويعتقدون في الهند أن من يأكل نمرًا يصير شجاعًا جريئًا كالنمر. لهذا لما نشأت عادة ذبح الآلهة المتجسدة في الضحية ورد على خواطر المضحين أن يأكلوا هم أيضًا قطعة من جسم الإله حتى يصيروا مثله في صفاته، على نحو ما يفعل آكل الذئب والنمر. فصاروا يضعون جزءًا من الضحية المؤلهة في الأرض ويأكلون جزءًا آخر منها. وهذا صيد العصفورين بحجر واحد: مباركة الحقل وتقوية الجسم. كذا تفعل قبائل الغوند وكذا أيضًا كان يفعل المكسيكيون. فإنهم كانوا إذا أرادوا التضحية قبضوا على أسير من أسرى حروبهم وعاملوه معاملة الملوك مدة عام يقتلونه باحتفال عظيم في نهايته ويأكلونه. وبمضي الزمن ارتقى الإنسان من التضحية البشرية إلى التضحية الحيوانية الحاضرة في أعياده. وفي طريقة الذبح عند العرب والعبرانيين الآن بقايا أثرية من عوائد التضحية القديمة فإنهم يذبحون الآن (باسم الله) ويتطلبون إراقة الدماء من المذبوح، والدم هو في العادة الجزء الذي يشتهيه الإله؛ لأنه بخلاف اللحم يجف فيظن الرائي أن الإله قد شربه. قلنا: إن الإنسان كان يشرب دم الذبيحة أو يأكل لحمها اعتقادًا بأنه يأكل ويشرب من لحم الإله ودمه، وقد قلنا إنه كان يعتقد بأن روح الضحية روح للإله تنحل من الذبيحة عند الذبح وتنتشر في المحاصيل كالكروم والغلال. مِن هنا نشأت عادة أخرى وهي أن يأكل المتدين خبزًا أو يشرب نبيذًا باعتقاد أنه يأكل مِن لحم الإله ودمه؛ لأن روح الإله قد تجسدت في محاصيل الغلال والكروم، والخبز والنبيذ هو ما يأخذه المسيحي من قسيسه باعتقاد أنه يأكل ويشرب من لحم المسيح ودمه. (16 - ضحية الافتداء) للضحية - كما قلنا - اعتباران عند المتوحشين: (1) أنها تقدم كطعام للروح أو للإله. (2) أنها تقدم كأنها هي الإله ذاته. وهناك نوع ثالث من الضحايا يقدم باعتبار أنه يفيد القبيلة أو الأمة من خطاياها وقد صُلب المسيح لكي يفدي الناس من خطاياهم أي لكي يكفّر عن ذنوبهم. والأصل في هذه الضحية هو الاعتقاد بإمكان نقل المرض من شخص إلى شخص أو إلى شيء آخر، مثال ذلك: أن ملكًا في بتشوانا لاند أصيب مرة بمرض ما، فأحضر ثورًا وتليت عليه الرقيات، وأغرق بعد ذلك في النهر. ومنطق هذا العمل عندهم أن المرض قد انتقل إلى الثور وذهب معه بعيدًا عن الملك، ولا يزال عندنا نحن المصريين آثار باقية من هذا الاعتقاد في رقياتنا؛ حيث تزيل الرقية المرض وتلقيه بعيدًا عن المريض بإلقائها بعض أشياء كانت تحرقها في النار وقت الرقية. وقد نشأ من اعتقاد إمكان نقل المرض اعتقاد إمكان نقل الخطيئة. مثال ذلك: أن بعض قبائل إفريقيا يقتل كل سنة شخصين رجلاً وامرأة؛ لكي يكفرا عن خطايا القبيلة، يعتقدون أن خطيئات القبيلة قد انتقلت إلى هذين الشخصين، وأنهم بقتلهما يغسلون القبيلة من أدران خطاياها، ويبررونها أمام آلهتها، كما كان يقتل الأثينيون شخصًا عند وفود وباءٍ ما على بلدهم اعتقادًا بأن الوباء يموت بموته وينجي الأمة منه، وكما تذري الراقية قطعة الشب التي أحرقتها في النار وقت الرقية اعتقادًا بأنها حملت المرض معها وذهبت بعيدًا عن المريض. (17 - العالم قبل المسيح) كان العالم الذي انتشرت فيه المسيحية تابعًا للدولة الرومانية عند بدء انتشار هذه الديانة، وقد كانت هذه الدولة تشمل كل ممالك البحر المتوسط، ودرجت اللغة الرومانية على ألسن التجار فقرّبت بين هذه الأمم وصبغتهم بالصبغة الرومانية. وقد بعثت التجارة على المهاجرة والنزوح إلى المواني فكانت الإسكندرية ورومية وأنطاكية [1] ملأى بالسوريين والرومانيين والأسبانيين وغيرهم من الجاليات التي هجرت مواطنها الأصلية واستعمرت هذه المواني للارتزاق. وقد أدى هذا إلى انتشار الأديان في أصقاع الإمبراطورية، وخروجها من أوطانها الأصلية، فكانت الآلهة المصرية تعبد في إنجلترا ورومية بسبب النزلاء المصريين، كما كان يعبد الإله يهوه في الإسكندرية ومرسيليا بواسطة اليهود. وقد كانت بعض هذه الآلهة تتّحد في الصفات فيعبدها الناس وإن كانت أجنبية عنهم إلا أنها تتفق في صفاتها مع أحد آلهتهم، أو كانت الظروف تقتضي عبادة الآلهة الغريبة كما حدث مع البطالسة، فإنهم حينما تولوا حكم مصر عبدوا الآلهة المصرية مع أنهم كانوا يونانيين، وقبيل ظهور المسيحية كانت الأديان الوثنية قد ضعفت أمام الفلاسفة وحصل بذلك اشتياق في النفوس للتوحيد اليهودي. ولو لم يكن يهوه إله اليهود وطنيًّا متعصبًا في ألوهيته يكاد لا يعترف بأمة حقيقة بالجنة غير اليهود لعمت عبادته. لهذا تحول الناس إلى العبادة المسيحية لأنها في الحقيقة عبادة للآلهة كلها؛ لأن المسيحية اشتقت مناسكها وسننها ومراسمها من آلهة مصر وسوريا ورومية وفرنسا وإنجلترا وغيرها، فكانت كل الأمم تعرف شيئًا عنها وتعتقد بصحة بعض سننها وأساطيرها، وممّا زاد في الإقبال عليها سهولة طريقة التدين بها وصعوبته عند اليهود. (18 - نمو المسيحية) إنا نشك في أن المسيح كان إنسانًا موجودًا، على أننا إذا صدقنا رواية وجوده كشخص ما، فإنما نعتقد ذلك باعتبار أنه وجد وقتل كضحية مؤلهة. وهي الضحية التي قلنا إنها كانت تقدم لآلهة الغلال والنبيذ. فقد كان السوريون المجاورون ليهود يعبدون (أتيس) إله الغلال، وكان من عادتهم أن يقدموا له ضحية سنوية؛ ولعلّ الإشاعة التي فشت بعد ظهور المسيحية عن ذبح اليهود للأطفال قد نشأت عن هذه التضحية، وعندنا سبعة أشياء ترجح أن المسيح كان ضحية مؤلهة، وهي: (1) إذا فحصت عظات بولس في رسائله إلى الفورنتيين تجده يصف المسيح كأنه يصف أحد آلهة الغلال تمامًا. (2) أكل تلاميذ المسيح - وكل المسيحيين الآن - الخبز والنبيذ باعتبار أنهما من جسد المسيح ودمه، وهذا ما كان يفعله تمامًا عبدة أودنيس وأتيس - إلَهَيِ الغلال - لأن الإله يتجسد في المحصولات. (3) قول المسيح: (أنا خبز الحياة) ، (خذوا كلوا من دمي) [2] وقد وصفوه بأنه قمحيّ الوجه وأن شعره كلون النبيذ. (4) أنه دخل أورشليم بهيئة ملك مثل ضحايا أتيس وأدوينس؛ لأن الاعتقاد كان فاشيًا بأن هذين الإلهين يتجسدان في الضحية التي تقدّم لهما فيجب إذن إكرامهما ما داما على قيد الحياة. وقد جاء في الإنجيل أنهم وهم يقتلون المسيح ركعوا، وهذا يماثل ما كان يفعله كهنة أتيس بالضحايا. (5) ولمّا دخل المسيح أورشليم كان ممتطيًا حمارًا وقد نثرت أغصان الأشجار على الأرض، وهو عين ما كانوا يفعلونه مع ضحية أتيس وما زال في (أحد الزعف) [3] الذي يسبق العيد الكبير عند النصارى بقية من بقايا أعياد آلهة الغلال. (6) لمّا قتل المسيح بكت عليه النساء مثلما كان يحدث في ضحايا أتيس؛ لأنهم كانوا يعتقدون بأن الإله يتجسد فيها، وبالتالي يبكون عليه لأنهم قتلوه. (7) بعثه بعد ثلاثة أيام. مثل أتيس وأدونيس بالضبط. فالمسيح قتل لغرضين: أنه ضحية مؤلهة، ولكي يفدي الشعب من خطاياه، وقد عرفنا أصل ومعنى الفداء. أمّا الثالوث فقد جاء للمسيحية من مصر، ونشأ أولاً عند الأقباط لأن أديانهم الوثنية السابقة كانت تحتم هذا الاعتقاد. أما الصليب فقد أتى أيضًا من مصر وتراه للآن على الجُعلان. وقد اختلط الموضوع على بطريرك مصري مرة فقال في أحد كتبه عن المسيح: إنه (جُعل الله) ؛ أي أنه ظن الصليب والمسيح شيئًا واحدًا لأن الجُعل كان يرسم عليه الصليب. (19- بقايا أثرية في المسيحية) ما زال المسيحيون للآن يعبدون الموتى، وقد كانت الكنائس عند أول تشييدها قبورًا ليس إلا. ومركز القديس الآن بين النصارى وقيمته عندهم كمركز رئيس القبيلة المتوفى بين قبيلته بالضبط؛ لأن النصراني يحترم القديس ويتهيبه ويتقرب منه كأنه يعبده عبادة ولو أنكر ذلك. وقد كانت القرون الوسطى العصر الذهبي لعبادة الموتى والأرواح، فإنهم كانوا لا يبنون كنيسة إلا إذا أحضروا لها شهيدًا أو قديسًا دفنوه في هيكلها، وقد تفانوا في هذا العمل حتى إن البندقيين نقلوا جثة مرقص الرسول من الإسكندرية إلى البندقية لكي يضعوها في الكنيسة المسماة باسمه هناك. ودين الإسلام التوحيدي العظيم لم يتمالك عن تقديس الموتى واعتبارهم، فالمسلمون ما زالوا للآن يتمسحون بقبور الأولياء، ويتبركون بها، ويبنون لهم - للأولياء - المساجد على قبورهم. نريد بذلك أن الإنسان الذي تشبع بالتوحيد ما زال يحن إلى ميوله الوحشية وتبعثه غريزة التدين الأصلية إلى العبادة الأولى؛ عبادة الجثث والأرواح. وترى للآن عند المسلمين أثرًا من آثار العبادات القديمة في مشهد قتل الحسين حيث يمثلون قتل الحس

الإصلاح اللامركزي وطلابه في البلاد العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح اللامركزي وطلابه في البلاد العربية تألف حزب اللامركزية بمصر لمطالبة الدولة بتغيير شكل إدارتها في المملكة كلها - وإن كان جميع مؤسسيه من العرب السوريين - لأنهم يريدون الحياة للدولة كلها لا لبلادهم فقط، ولو طلبوا الإدارة اللامركزية لبلادهم وحدها لَمَا كان ذلك أنفع لهم ولا أرجى لقبول طلبهم، إذ رضاء الدولة بجعل إدارة بعض ولاياتها مركزية وبعضها غير مركزية بعيد عن العقل والتصور، وتألفت في أثناء ذلك الجمعية الإصلاحية ببيروت لطلب إصلاح معين لولاية بيروت خاصة. وتلتها جمعية في البصرة لطلب الإصلاح لولاية البصرة خاصة. وما حفز العرب في هذه المواضع وأهاب بهم إلى طلب الإصلاح والدولة تئن من أثقال الحرب البلقانية التي غلبت فيها على أمرها، إلا لخوفهم أن يكون بقاء الخلل السابق سببًا لانحلال الدولة وتقسيم الدول لها بالفتح السلمي الاقتصادي أو الاحتلال العسكري. ولمّا رفعت هذه الجماعات أصواتها بطلب الإصلاح رددت صداه جماعات المهاجرين السوريين في أمريكا الشمالية والجنوبية وفي أوربا، واقترح بعض مَن في باريس منهم تأليف مؤتمر عربي بباريس لإعلان مقاومة كل احتلال أجنبي في البلاد وللبحث في حقوق العرب في الدولة العثمانية وللمطالبة بها. وعهدوا إلى حزب اللامركزية إدارة هذا المؤتمر، فاختار الحزب للقيام بذلك كلا من السيد عبد الحميد الزهراوي وإسكندر بك عمون، ورشح الأول لرياسة المؤتمر على أن يكون بانتخاب أعضاء المؤتمر، وكذلك كان. وكان من أمر انعقاد المؤتمر ونجاحه واهتمام حكومة الآستانة به ما هو مشهور. شعر أركان الحكومة الاتحادية بوجود العرب وعنوا بمبادلة الاحتفالات بينهم وبين مَن في الآستانة من العرب وأكثرهم طلبة المدارس الأميرية. وسعوا لاستقدام الوفود من سوريا، واحتفلوا واحتفوا بمَن ذهب منهم إلى الآستانة، وأدبوا لهم المآدب، وأحبوا التأليف بين طلاب الإصلاح ومَن عارضهم وشنع عليهم تزلفًا للحكومة، ولكن لم يتم لهم هذا. وكانت هذه المظاهرات التي اهتم بها أهل الآستانة تذكر بالسخرية في غيرها، ويعدها العرب في مصر وسورية والعراق وفي البلاد الأجنبية خداعًا وتحذيرًا. وأمّا الأمر الذي كان محل النظر، وموضع الأمل عند بعض العرب، فهو الاتفاق الذي عقدته جمعية الاتحاد والترقي مع رئيس المؤتمر العربي، وأعطته العهد والميثاق لتنفذنه كله. وهو مؤلف من اثنتي عشرة مادة. ولهذا مكث رئيس المؤتمر بضعة أشهر في باريس ينتظر تنفيذه، وكانت الآستانة تجذبه إليها وحزب اللامركزية يجذبه عنها، حتى اختار الحزب أخيرًا أن يعود إلى مصر، وأن يمر بالآستانة مختبرًا إذا شاء، فشاء وجاء الآستانة، وراجع رجال الحكومة في أمر تنفيذ الإصلاح الموعود به، فقالوا: إننا على عهدنا، وقد بدأنا من التنفيذ بإنشاء مدرستين سلطانيتين باللغة العربية إحداهما في دمشق والأخرى في بيروت، وبتقرير جعل عسكر كل ولاية في منطقتها العسكرية، وبجعل اللغة العربية رسمية في المحاكم ودواوين الولايات العربية، وباختيار الموظفين لهذه الولايات من العارفين باللغة العربية. وأما ما يتعلق بالنافعة والأوقاف والمعارف فهو يتوقف على وضع القوانين له ونحن شارعون في ذلك بتنقيح قانون الولايات ووضع قوانين أخرى، ثُم إن تنفيذ بعض ذلك يتوقف على وجود المال، ولا مال الآن. وأمّا المناصب والوظائف في مجلس الأعيان ومصالح الحكومة العليا؛ فهَلُمّ ساعدنا على اختيار الأكْفاء لها لنعينهم بالتدريج. هذا ملخص ما نتذكره من معنى أجوبة الحكومة للسيد الزهراوي بعد مراجعات متعددة، ووعود مبهمة، كان فيها بين اليأس والرجاء مدة طويلة، حتى عزم على مغادرة الآستانة. ثم شرعت الحكومة في تنفيذ ما لا يتوقف على القوانين ولا المال من المطالب بالمشاورة معه، ومنها تعيين ستة أعضاء من العرب في مجلس الأعيان؛ أحدهم السيد الزهراوي نفسه، إذ اقتضت الحال أن يكون في الآستانة مراقبًا لتنفيذ سائر ما وعدت به الحكومة من الإصلاح، ومنها تعيين الشيخ إسماعيل الحافظ من علماء طرابلس الشام عضوًا في مجلس المعارف الأعلى، وهو في الذروة العليا من نابغي العرب علمًا وعملاًَ وأخلاقًا وعقلاً ورأيًا واستقامةً. ومنها تعيين عبد الوهاب أفندي الإنكليزي (لقبًا لا نسبًا) وشكري أفندي العسلي مفتشين في بعض الولايات، وهما من أشهر نابغي العرب من سلك الحكومة الملكي المستحقين للمناصب العالية. ومنها تعيين أناس آخرين في (الدوائر) العالية في العاصمة. وكان رجال الآستانة قبل هذا قد أرضوا بعض رجال جمعية بيروت الإصلاحية بالوعود الجميلة فسكنت حركتها بالتدريج، واستمالوا السيد طالب بك النقيب زعيم البصرة، فأعلن في الجرائد الرضاء عن الحكومة والاتفاق معها وتبرع للأسطول العثماني وجمع له مالاً كثيرًا. ثُم إن حزب اللامركزية رأى من الصواب أن يحفظ صلته بالسيد الزهراوي كما حفظ هو صلته بالحزب بعد قيامه بما عهد إليه خير قيام، حتى إنه لم يحل ولم يرحل، ولم يحلّ ولم يقعد إلا باستشارة الحزب، ولأن زعماء الحزب يثقون كل الثقة بصدقه في القول وبإخلاصه في العمل لمصلحة الأمة، فهو بهذا خير من يوقفهم على أعمال حكومة العاصمة فيكونون على بصيرة منها، فلا يبنون عملهم وسعيهم على الظنون والأوهام، فقرر الحزب باتفاق الآراء إقرار السيد الزهراوي على قبول منصب الأعيان والثقة به، أي في التوسط لدى الحكومة بمطالب الإصلاح. فعل الحزب هذا وهو غير موقن ولا مرجح لإنجاز الحكومة ما وعدت به السيد الزهراوي، كما أنه غير موقن بأنها لا تنجزها، فكانت الحكمة في عدم قطع الصلة بالحكومة، ومطالبتها بالبرهان والحجة، على كون الحزب لا يألو جهدًا في السعي إلى الإصلاح من طريق الأمة، فهو يسلك الطريقين إلى مقصده، فإذا لم يصل مِن أحدهما وصل من الآخر. اتفق أن الحزب لم ينشر شيئًا جديدًا بعد بيانه العام الذي نشره يوم المظاهرة البرقية السلمية، يطلب البلاد كلها للإدارة اللامركزية؛ لأنه لم يتجدد شيء جديد يدعو إلى النشر، فظن البعداء عن مركز الحزب والذين ليس لهم صلة مكاتبة به، أن الحزب قد سكن وسكت أو انحل كجمعية بيروت وجمعية البصرة. وأنه رضي من الحكومة بما قالت وما فعلت، وطفقت الجرائد العربية في أمريكة تطعن في الحزب وفي طلاب الإصلاح كافة، وزعماء بيروت منهم خاصة. يدخل الكلام بهذا الموضوع في أربع مسائل: الجماعات الإصلاحية، والمعترضون عليها الآن، وما يعترضون به، والحالة الحاضرة. ولنا في كل مسألة منها قول وجيز. أما الجماعات الإصلاحية فثلاث كما تقدم: جماعة حزب اللامركزية وهي تعمل للمملكة كلها وإن كان العاملون فيها عربًا، وتأثير عملها الأول في البلاد العربية. ومتى وجد الإصلاح في البلاد العربية يوجد في غيرها حتمًا إما سابقًا وإما لاحقًا، وجماعة بيروت وجماعة البصرة، ومطالب كل منهما موضعية، ولكن زعماءهما متفقون مع حزب اللامركزية في مطالبه العامة كلها، إذ النسبة بينه وبينهما كالنسبة بين الخاص والعام فلذا سكتت الجماعتان اليوم عن مطالبهما العامة لأسباب اقتضت ذلك، فذلك لا ينفي بقاء اتفاق أهل الرأي منهما مع حزب اللامركزية في المطالب الإصلاحية العامة، وإن لم يساعده على ذلك جميع أفرادهما في الشكل الأول، فقد يساعده كثير منهم في شكل آخر. والحق الواقع أن الحزب الآن أقوى ناصرًا وأكثر عددًا ممّا كان عليه من قبل، خلافًا لما يتوهمه البعيد عنه، فقد تشعبت شعبه وكثرت فروعه في الولايات، ورسخت مقاصده في النفوس، وقد قويت الآمال فيه، وانحصر رجاء الولايات في سعيه، وإن صلة السيد الزهراوي به لم تزد رجاء الولايات فيه الا قوة وثباتًا، وإن كان أهل الرأي من شعبه ولجانه فيها متفقين مع إخوانهم الذين في مصر على كون ما منت به الحكومة على العرب لا يعد شيئًا مذكورًا في جانب مطالب الحزب، ولا ينبغي أن يزيده إلا جدًّا واجتهادًا في السعي. وأما المعترضون فمنهم المخلص الذي لا علم له بدخائل الأمور وحقائقها، ومنهم المخلص المطلع الذي يريد بالاعتراض حفز الهمم والحث على الإسراع في العمل، ومنهم من لا حظ له من المطالبة بالإصلاح إلا التلذذ بمقاومة الدولة العثمانية والتهويش عليها، وهو لا يرجو لها ولا منها صلاحًا، ولا يحب لها بقاءً، فهو نصير المتألبين عليها، وظهير المقاومين لها، وعدو الراضين منها، كيفما كانوا، وبأبهى شكل ظهروا، ومراده أن تستولي الدول الأوربية عليها ولا يرضيه ما دون هذا. ومنهم من لا يسهل معرفة قصده، ولا حقيقة مراده. فأما المخلصون في طلب الإصلاح فلا يلبثون أن يرجعوا عن إنكارهم، وغير المخلصون لا علاج لهم. وأغرب ما رأى الحزب من المعارضة والمقاومة وأبعده عن المعقول ما كان من أحد كتاب نصارى السوريين الذين انتموا للحزب. فقد حضر كثيرًا من جلسات اللجنة العليا بطريق الاستثناء، كان يلقي فيها دلوه بين الدلاء، فينفرد بالمعارضة، ويلح بطلب جعل المصالح والمنافع قسمة بين المسلمين والنصارى، وقد اتفق الفريقان على إنكار هذا الرأي وضرر هذه القسمة، وكونها تكون مثار النزاع والتخاصم والعداوة والبغضاء، ويجزم أهل العلم والرأي من النصارى بأن ضرر هذه القسمة عليهم أشد، وأن السكوت عن كل ما يتعلق بالدين والمذاهب خير لهم وأنفع؛ ولكن هذا الكاتب الذي كان ينكر ذكر الدين في أمور السياسة وشؤون الدنيا بث فكره هذا بما نشره في بعض جرائد مصر وأمريكة، ونفّر نصارى المهاجرين في أمريكة مِن الحزب، ونهاهم عن مساعدته باسم المسيحية وحقوق المسيحيين وهضم المسلمين لها، حتى إنه كتب في جريدة الهدى الأمريكية التي تعنى بنشر ما يكتبه: إن صاحب المنار أنكر على مسلمي بيروت اتفاقهم مع نصاراها على جعل نصف أعضاء المجالس المحلية من المسلمين والنصف الآخر من غيرهم. وهي دعوى غير صحيحة، فإن المنار أنكر من لائحة جمعية بيروت الإصلاحية أكثر ما أعطته للمفتشين والمراقبين من الأجانب، ولم ينكر مسألة المناصفة في المجالس؛ بل عدها دليلاً على إخلاص المسلمين وصدقهم الاتفاق مع النصارى؛ لأنهم تنازلوا لهم عن بعض حقوقهم. وأما الانتقاد والطعن الذي صوّب إليهم فهو أن الترك أرضوهم ببعض المناصب والوظائف، فظهر أن طلب الإصلاح كان شبكة لصيد المنافع، ويحتجون على هذا بأن المؤتمر العربي قد قرر أن لا يقبل أحد من المنتمين إلى لجان الإصلاح العربية أي منصب في الحكومة العثمانية إذا لم تنفذ القرارات التي صادق عليها - إلا بموافقة خاصة من الجمعيات المنتمين إليها. وخص بأشد الانتقاد السيد الزهراوي وعميدي المسلمين والنصارى في جمعية بيروت الإصلاحية - محمد أفندي بيهم ونخلة بك سرسق؛ إذ قبلوا أن يكونوا أعضاء في مجلس الأعيان قبل تنفيذ الإصلاح في البلاد العربية. ولهؤلاء الثلاثة ثلاثة أجوبة يردون بها تلك المطاعن: (أحدها) : إن الحكومة قد شرعت في تنفيذ الإصلاح ولا يعقل أن لا يقبل العرب طلاب الإصلاح منصبًا ولا عملاً فيها إلا بعد تنفيذ الإصلاح كله بأيدي الترك ومقاومي الإصلاح من العرب، كأننا نقول: إننا بعد أن يصلح لنا هؤلاء بلادنا نقبل المناصب والوظائف فيها! (الثاني) : إن عضوية الأعيان لا تعد وظيفة أو منصبًا في الحكومة؛ لأن عمل الأعيان كعمل المبعو

الشيخ علي يوسف ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ علي يوسف (4) أخلاقه وسجاياه: المنار لا يعنى بترجمة أحد ترجمة تاريخية محضة؛ وإنما يعنى من تراجم الناس ببيان الأخلاق الحسنة والأعمال النافعة، متى تكون مثالاً حسنًا، وقدوةً صالحةً؛ لأن غاية المنار إصلاحية فهو يعنى بكل ما يتوسل به إلى الإصلاح، ويرغّب الناس في الفضائل ومحاسن الأعمال، وإن ذكرنا ما يقابل ذلك فإنما نذكره لأن العبرة لا تتمّ إلا به، ولا يجعل ذكر المساوئ هو الأصل في الموعظة، وقد كان ما ذكرناه من ترجمة هذا الرجل دائر على هذا القطب، وأحببنا أن نختمها بهذه الكلمات التي تذكر الناسي وتنبّه الغافل لِما هو المقصود بالذات. فنقول: إن هذا الرجل نبه بعد خمول، وارتفع بهمته وأخلاقه إلى الطبقة العليا في أمته، فصار من بطانة أمير البلاد وأهل ثقته. وصاحب التأثير الأول في أفكار المصريين، والرأي المحترم في جميع الأقطار الإسلامية، وكم من متعلم نال الدرجات العلى في العلوم والفنون العربية والإفرنجية يتمنى أن يصل إلى ما وصل إليه الشيخ علي يوسف بما دون درجات علمه، وهو لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً؛ لأن مَن أبطأت به سجاياه وأخلاقه لا تسرع به علومه وفنونه، فأحب أن تتذكر نابتتنا أن الرجل قد ارتقى بالعزيمة وقوة الإرادة والصبر والثبات وعلو الهمة والإخلاص للملة والأمة، فمَن استطاع أن يتخلق بهذه الأخلاق، فليقصد بها ما شاء من مراتب الكمال، ومقامات الرجال. وليحذر المعتبر بسير رجال عصره من الوقوع في مثل الخطأ الذي ارتكبه هذا النابغة وأمثاله من النوابغ (كقاسم بك أمين) وهو محاولة استعجال الثروة الواسعة التي تليق بمقامهم الاجتماعي بسلوك الطرق التي ربما تؤدي إلى ضد مرادهم، والشيخ رحمه الله عصمته تربيته الدينية أن يفتتن بما افتتن به كثير من كبرائنا المتفرنجين من المقامرة، وإنما تورط في شراء الدور والقصور وعرصات الأرض المعدة للبناء في تلك المدة التي خرج فيها التغالي بالأثمان عن الحد الطبيعي الذي وصلت إليه درجة العمران في البلاد. ولما عادت (سنة ردّ الفعل) بأثمان المباني وعرصاتها إلى ما دون الثمن المعتدل لها، بعد ذلك الإفراط فيها، غرق الرجل مع مَن غرق في طوفانها، ولولا ذلك لَمَا قصرت ثروته بما يليق بمقامه الاجتماعي، على ما كان من تقصيره في إدارة المؤيد المالية. وما ذكرنا هذا - على كونه معروفًا مشهورًا - إلا ليكمل الاعتبار بسيرة فقيدنا النافعة طردًا وعكسًا، ونسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته، بمنّه وفضله وكرمه.

استفتاء في فسخ نكاح المعسر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استفتاء في فسخ نكاح المعسر ما قولكم في امرأة فقيرة غاب عنها زوجها من مدة سنين وترك عندها ولدًا ولم يترك لها شيئًا لنفقتها ونفقة ولده، ولم يرسل لهما سوى شيء يسير لا يقوم بنفقة الولد وكتبت له عدة كتب طلبت منه النفقة الكاملة لها ولولدها أو الطلاق فتعنت ولم يجب عليها! ! ثُم التمست من شيخه شيخ الجاوى فكتب له ولم يجب. فهل لها طلب فسخ النكاح عند الحاكم الشافعي أم لا؟ وهل لو رفعت أمرها إليه وتحقق وثبت عنده جميع ما ادّعته المرأة بالبينة الكاملة وفسخ نكاحها يكون فسخه واقعًا موقعه ولها بعد تمام العدة من الفسخ المذكور التزوج أم لا؟ أفتونا مأجورين. (جواب مفتي الشافعية بمكة المكرمة) باسمه سبحانه وتعالى أبتدئ الجواب، وأستمد منه تعالى العون والهداية للصواب. في الحقيقة يقع كثيرًا من بعض الرجال الظلم والتعدي والإيذاء في حق النساء البائسات، وذلك حرام وفاعله آثم مخالف لِمَا أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في حقهن، ومن ذلك التزوج بهن ثم السفر وتركهن بلا نفقة ولا منفق، فجزى الله إمامنا الشافعي - رضي الله عنه - خيرًا، حيث سوّغ لهن فسخ النكاح عند تضررهن، ويسوغ للحاكم متى رفعن أمرهن إليه أن يفسخ نكاحهن، ثم بعد تمام العدة يتزوجن بمن شئن، وكذلك إمام دار الهجرة الإمام مالك رضي الله عنه. فالمرأة المسئول عنها متى رفعت أمرها إلى الحاكم وثبت لديه تضررها ودعواها فله حينئذٍ فسخ نكاحها من الزوج المذكور، وفسخه سائغ وواقع موقعه، ولها بعد تمام عدة الفسخ المذكور التزوج بمَن يقوم بشأنها. قال في الأسنى متنًا وشرحًا: واختار القاضي الطبري وابن الصباغ وغيرهما جواز الفسخ لها إذا تعذر تحصيلها للنفقة في غيبته للضرورة، وقال الروياني وابن أخته صاحب العدة: إن المصلحة الفتوى به، وقال في فتح المعين: واختار جمع كثيرون من محققي المتأخرين في غائب تعذر تحصيل النفقة منه - الفسخ، وقوّاه ابن الصلاح. وقال في فتاويه: إذا تعذرت النفقة لعدم مال حاضر مع عدم إمكانها أخذها منه حيث هو بكتاب حكمي وغيره لكونه لم يعرف موضعه أو عرف ولكن تعذرت مطالبته، عرف حاله في اليسار والإعسار أم لم يعرف فلها الفسخ بالحاكم، والإفتاء بالفسخ هو الصحيح. اهـ. ونقل شيخنا كلامه في الشرح الكبير، وقال في آخره: وأفتى بما قاله جمع من متأخري اليمن. وقال المحقق الطمبداوي في فتاويه: والذي نختاره تبعًا للأئمة المحققين أنه إن لم يكن له مال كما سبق لها الفسخ وأنه كان ظاهر المذهب خلافه لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) ولأن مدار الفسخ على الإضرار؛ ولا شك أن الضرر موجود فيها إذا لم يمكن الحصول إلى النفقة منه وإن كان موسرًا؛ إذ سر الفسخ هو تضرر المرأة وهو موجود - لا سيّما مع إعسارها - فيكون تعذر وصولها إلى النفقة حكمه حكم الإعسار. اهـ. وقال السيد عبد الله بن عمر الحضرمي: إنه يجوز فسخ النكاح من زوجها حضر أوغاب بتسعة شروط ... ، إلى أن قال: ولو غاب الزوج وجهل يساره وإعساره بانقطاع خبره ولم يكن له مال بمرحلتين فلها الفسخ بشرطه، كما جزم به في النهاية وزكريا والمزجد والسمباطي وابن زياد وابن قاسم والكروي وكثيرون. وقال ابن حجر في التحفة: والفسخ وهو متجه مدركًا لا نقلاً. اهـ. بل اختار كثيرون وأفتى به ابن عجيل وابن الصباغ والروياني: أنه لو تعذر تحصيل النفقة من الزوج في ثلاثة أيام جاز لها الفسخ حضر الزوج أم غاب، وقوّاه ابن الصلاح ورجّحه ابن زياد والطمبداوي والمزجد وصاحب المهذب والكافي وغيرهم فيما إذا غاب وتعسّرت النفقة منه ولو بنحو شكاية. قال ابن قاسم: وهذا أولى من غيبة ماله وحده والمجوز للفسخ. أما الفسخ بضررها بطول الغيبة وشهوة الوقاع فلا يجوز اتفاقًا وإن خافت الزنا. والله سبحانه وتعالى أعلم. أمر برقمه مفتي الشافعية بمكة المحمية الراجي غفران المساوي: عبد الله بن السيد محمد صالح الزواوي كان الله لهما آمين. ... ... ... ... ... ... ... الختم صورة ما كتبه بعض كبار علماء الشافعية بالأزهر على هذه الفتوى الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أفاد العلامة السيد مصطفى الذهبي في المسائل الفقهية أن أصل مذهب الإمام الشافعي أنه لا فسخ ما دام الزوج موسرًا، أي لم يعلم إعساره وإن انقطع خبره وتعذّر استيفاء النفقة منه، وإن الذي جرى عليه ابن الصلاح وشيخ الإسلام وكثير من المحققين أنه إذا تعذر استيفاء النفقة من كل الوجوه لانقطاع خبره أو تعززه أي تواريه بحيث لا يتمكن الحاكم من جبره، ولم يوجد لكل منهما مال فسخت الزوجة بالحاكم، قالوا: لأن سر الفسخ بالإعسار هو التضرر، والتضرر موجود هنا ولو مع اليسار، فلا نظر لعدم تحقق الإعسار، وظاهر أنه لا إمهال هنا لأن سبب الفسخ - كما علمت - هو محض التضرر من غير نظر لليسار والإعسار. انتهى. وإن أردت بسطًا في المقام فراجع المسائل المذكورة صحيفة 67و 68، والله أعلم. كتبه ... ... ... ... كتبه ... ... ... ... كتبه محمد النجدي سليمان العبد بالأزهر الشريف محمد إبراهيم القاياتي الشافعي (المنار) إن ما علل به أولئك الفقهاء جواز الفسخ صحيح وإن رفع الحرج ونفي الضرر والضرار قطعي في الشريعة. ومِن أشد الضرر والحرج والعنت عدم القيام بحق الزوجية الثابت بحديث: (وإن لزوجك عليك حقًّا) المتفق عليه، فلا عبرة بقول من قال: إنه لا يفسخ به وإن خافت الزنا على نفسها؛ لأنه مخالف لأدلة الشرع القطعية. وقد سبق لنا في المنار بيان فتوى المشيخة الإسلامية في الآستانة بالفسخ على الغائب والمعسر، وصدور الإرادة السنية بذلك.

محاضرة الدكتور كريستيان سنوك هرغرنج الهولندي في الإسلام ومستقبل المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاضرة الدكتور كريستيان سنوك هرغرنج الهولندي في الإسلام ومستقبل المسلمين وعَدْنَا أن نعلق شيئًا على هذه المحاضرة التي نشرناها في الجزء الماضي ووفاءً بالوعد نقول: (1) يظهر من كلام الدكتور أنه اختبر المسلمين اختبارًا واسعًا قلّما يصل إلى مثل غوره الأجنبي، فهو قد أصاب في أكثر ما ذكره عنهم من رأي وخبر، ولكنه ما عرف حقيقة الإسلام وكنهه، وأنَّى له أن يعرف ذلك؟ ومِن أين يعرفه؟ يقول: إنه درس الإسلام وعرف أصوله وفروعه من مكة المكرمة حيث أقام ثمانية أشهر يتلقى عن بعض العلماء! سبحان الله! إن أهل مكة أقل أهل الأمصار الإسلامية عنايةً بالعلم الديني وغيره، ومَن يوجد فيها من المدرسين الغرباء، فقلّما يوجد فيهم أحد من المبرزين الأقوياء، وإن وجد فيهم من يتقن بعض العلوم الشرعية، فهو لا يقرأ الدروس إلا على طريقة متأخري المسلمين العقيمة، طريقة المناقشة في عبارات بعض كتب المذاهب، فالثمانية الأشهر لا تكفيه لقراءة عقيدة كالنسفية أو السنوسية، ونحوهما من كتب الكلام على مذهب الأشعرية، ولا لقراءة باب الطهارة والصلاة من متوسطات كتب الشافعية أو الحنفية. وعلم الكلام - الذي هو علم فلسفة العقائد الإسلامية - يقول فيه الإمام الغزالي: إنه ليس من علوم الدين وإنما هو حارس للعقيدة كالعسكر الذين يحرسون البلاد أو الحُجاج مثلاً؛ بل نقول إننا على سعة اختبارنا للعالم الإسلامي لا نعرف مكانًا في الأرض تبين فيه حقيقة الإسلام التي يمثلها القرآن وسنة الرسول المتبعة وسيرة السلف الصالح، من العقائد والأخلاق والآداب، والسياسة والإدارة والقضاء، تبيانًا سالمًا من الشوائب والأوهام، بحيث تتلقى بسهولة في ثمانية أشهر أو أعوام (وأرجو أن يوفق لهذا من يتخرجون في مدرسة دار الدعوة والإرشاد) . (2) اعترف هذا الدكتور الهولندي بأنه ادّعى الإسلام نفاقًا أو خداعًا للمسلمين ليسبر غورهم وغور دينهم من حيث تأثيره في حياتهم المدنية والسياسية، وقد فعل مثل هذا غيره من أفراد الشعوب الأوربية أصحاب المستعمرات الإسلامية، كالفرنسيس والروس والإنكليز. ولو كان للمسلمين حكومات منظمة، وجمعيات إصلاحية عامة، لَمَا تيسر لهؤلاء الجواسيس ما يتيسر لهم وأمر المسلمين فوضى. وإننا نرى هؤلاء المستعمرين يراقبون كل غريب يدخل مستعمراتهم ولا سيّما إذا كان مسلمًا. فلا يفوتهم من حركاته ولا أقواله شيء. (3) بيّن الدكتور أن الإسلام الديني كان قائمًا على أساس الإسلام السياسي، وأن المسلمين كانوا واثقين بدينهم راضين به إذ كانوا أحرارًا يرون أن العالم كله ملك لهم بالفعل أو بالقوة، عليهم أن يفتحوا منه ما لم يفتحوه. وهذا الذي ذكره عن المسلمين هو الذي عليه الإفرنج الآن، فهم يرون أن العالم كله ملك لهم، ولذلك يتفقون فيما بينهم على اقتسام الممالك المستقلة؛ ثم ينفذون ذلك، ولا مجال هنا للبحث في تفصيل هذا وبيان مآخذه. ولكننا ننبه عقلاء القراء إلى الاعتبار بحالهم السابقة وحال الأوربيين الحاضرة، ثُم العبرة كل العبرة فيما رتبه هذا السياسي الكبير على هذا وهو: (4) بيّن أن الأوربيين قد سلبوا المسلمين ذلك الاستقلال والحرية بالتدريج، فاضطر المسلمون إلى تعديل أفكارهم في الإسلام الديني بعد زوال الأساس الذي بني عليه وهو الاستقلال السياسي، ثم نقل أن بعض الساسة الأوربيين يرون أن سقوط الإسلام الديني يتبع سقوطه السياسي، فيزول الإسلام من الأرض، وأنه يخالفهم في ذلك، ويرى أن الإسلام الديني لا يزول كما أنه لا يبقى كما كان في عهد استقلاله والثقة به، وسنذكر ملخص رأيه فيه والعبر لمن يعقل من المسلمين في هذا كثيرة، ومن أهمها غرور المفتونين من المسلمين الذين يظنون أنهم يحفظون استقلالهم السياسي أو يؤسسون لهم استقلالاً جديدًا مع ترك الدين، فإن هذا إذا جاز في غير الإسلام لا يجوز فيه؛ لأن جميع المقومات للأمة جعلها الإسلام إسلامية. (5) كما بين إزالة أوربا لاستقلال الإسلام السياسي بالاستيلاء على ممالكه الواسعة، بين تصرفها في إزالة استقلال أفراد المسلمين في أنفسهم، بما بينه من تغلغل الآراء الأوربية في أفكارهم، وزلزلتها لكثير من مقوماتهم ومشخصاتهم الملية التي يمتازون بها عن غيرهم، وبها كانوا أمة واحدة، وبيّن أن إزالة بعض المميزات العادية كاللباس، له دخل في إزالة المميزات الدينية كالصلاة، فقال: إن أداء الصلوات الخمس صار متعذرًا على المتفرنجين، الذي يلبسون الزي الإفرنجي، (قال) وسيتبعه الصيام. فجزم بأنهم يتركونه، وبأن الشرائع التي كانت مقدسة عامّة ستكون خاصّة بحُجاج مكة والمتصوفة. وطالما نبّهنا المسلمين على ضرر هذا الانسلاخ من العادات والأخلاق بتقليد الإفرنج، وقد فطنا لهذه المسألة في أثناء اشتغالنا بطلب العمل بطرابلس الشام، فكتبنا في بحث الزي واللباس فصلاً طويلاً ينافيه أنه ليس للإسلام زي ديني خاص، وأن ضرر تغيير الزي سياسي اجتماعي، وإنما يمسّ الدين ويكون محرمًا شرعًا لأسباب عارضة ككونه ضيقًا يمنع من أداء الصلاة. ولكن جماهير المسلمين لا يزالون بمعزلٍ عن فهم أمثال هذه التنبيهات والنصائح، حتى إنه ليسخر بها من يعدّون أنفسهم من الفلاسفة والسياسيين، وإنما هم من السفهاء المفتونين. (6) ذكر من أثر سلطان الإسلام في أهله أن الآراء الأوربية على شدة تغلغلها في أنفس المسلمين وتحويلها لعاداتهم وأفكارهم، وتغييرها لشؤون حياتهم، لم تَقْوَ على محوِ الشعور الديني من قلوبهم، حتى إنه كان يعرف تلاميذه المسلمين من غيرهم بمجرد قراءته لمنشآتهم؛ لأن روح الإسلام لا بد أن تتجلى في عبارتها. (7) يعلل الدكتور بهذا وغيره ما رآه ورواه من خذلان دعاة النصرانية (المبشرين) فيما يحاولون من تنصير المسلمين؛ لأنهم يعرفون النصرانية ويعتقدون أنها فسدت وأن الإسلام أرقى منها. وهذا القول الذي قاله صحيح، وإن كان يجهله من لم يكن له مثل علمه واختباره، فنحن نعتقد أن أصل النصرانية صحيح، وأنه طرأ عليها التبديل والتغيير، وإن الله أكمل دينه بالإسلام، على سنته في النشوء وترقي الاجتماع في الأقوام. (8) رأي الدكتور في مستقبل المسلمين - الذي أطال في بيانه - هو أنهم يكونون مثل اليهود في زوال الملك والرضا بحكم الأوربيين وسيادتهم، مع المحافظة على شعور دينهم وبعض تقاليده مثلهم، ومجاراة الإفرنج في سائر الشؤون وإن كان فيها ترك أحكام الإسلام وآدابه. واستدل على ذلك بتحول أفكار المسلمين عن الرضا بالتربية الدينية القديمة إلى لغات الأوربيين وعلومهم وتربيتهم. (9) يرى هذا الدكتور الهولندي ما يراه الفرنسيّون وغيرهم أن ما يراد إدخاله على الإسلام من الآراء والأفكار التي يريدها دعاة النصرانية يجب أن يبث في المسلمين باسم المدنية لا باسم الدين، فحينئذٍ تقبل. وهذا ما تجري عليه فرنسا في مستعمراتهم الإسلامية؛ يعني أن المسلمين قد فتنوا باسم المدنية الأوربية ومظاهرها، فهم يقبلون من بابها كل شيء - وإن لم يوصل إليها - لا يميّزون بين كفرٍ وإيمانٍ، ولا بين ضارٍّ ونافعٍ. وأمّا ثقتهم بدينهم ورؤيتهم دين النصرانية دونه فهما مما يحول دون قبولهم لشيء ما من دعاة النصرانية باسم النصرانية. (10) ملخص المحاضرة: إن أوربة أزالت استقلال الإسلام السياسي وانتزعت ملك المسلمين من أيديهم بالتدريج، وإنها شرعت في إزالة سائر مقوماتهم ومشخصاتهم القومية التي كانوا بها أمة واحدة، دينية وغير دينية، حتى اللغات والعادات وأركان الدين، وإن أهل الرأي فيها مختلفون في دين الإسلام نفسه: هل يمكن إزالته من الأرض بعد إسقاط الحكومات الإسلامية كلها أم لا؟ فبعضهم يرون إمكان ذلك فيبذلون الملايين لدعاة النصرانية لتنصير المسلمين. وبعضهم يرى الإسلام لا يزول بالمرّة، ولكن ينبغي أن تزال ثقة المسلمين به، وأن يحولوا باسم المدنية عن جميع ما يربط بعضهم ببعض حتى اللباس، فبهذا يكونون فَعَلَة وزَرّاعًا للسادة المالكين لبلادهم، إذ لا يستغنون عنهم في استخراج خيرات الأرض، وهذا ما يسعى إليه قوم آخرون. ومن العجائب أن محاضرة كهذه تترجمها جريدة سورية بالعربية، وتجعل عنوانها: (مقاومة الإسلام لنفوذ النصرانية) كأنه كَبُرَ عليها قول الخطيب: إن المبشرين لا يستطيعون تنصير المسلمين، فعدّت هذا من مقاومة الإسلام للنصرانية، وهكذا تقول بعض الجرائد القبطية هنا إذا قابل بعض المسلمين طعن المبشرين بجزء من ألف جزء. فمتى يفهم المسلمون ومتى يعقلون؟ (11) نحن نسلم قول الكاتب وفاقًا لكثير من أحرار الإفرنج: إن أوربة قد أزالت استقلال الإسلام السياسي، ولا يصدنا عن هذا التسليم إبقاء أو بقاء خيال من الاستقلال ضعيف في بعض البلاد، يدير بعضه النفوذ الأوربي ظاهرًا وباطنًا أو باطنًا فقط، ولا وجود بعض الإمارات الصغيرة غير المنظمة التي يدور حولها النفوذ الأوربي ولا يجد له الآن منفذًا للدخول في أحشائها؛ كقلب جزيرة العرب، ولو كان عدد العقلاء الذين يفهمون هذه الحقيقة ولا يغترّون بخيال الاستقلال الرسمي أو ظلاله مثلنا كثيرًا، لكان نهوض الإسلام من سقوطه السياسي والديني قريبًا، ولكن جمهور المسلمين الأكبر كالأطفال الذين يظنون أن الصور المتحركة التي يرونها في الملاعب تمثل الملوك والجيوش والوقائع - هي من الأحياء التي تتحرك وتعمل بإرادتها. ولو عرف الدكتور الحاذق النبه حقيقة الإسلام كما عرف أحوال المسلمين الاجتماعية، ولو دقق نظره بعد ذلك في شؤون المسلمين فضل تدقيق، وقاس حاضرهم الذي عرفه بماضيهم القريب المظلم وماضيهم البعيد المشرق - لَعلِم أن في الإسلام قوةً كامنةً لم يكن لليهود مثلها ولا ما يقرب منها عندما زال ملكهم، ولا قبل ذلك ولا بعده. ولَعلِم أن هذه القوة لو وجدت مَن يحسن استخدامها والانتفاع بها لأمكنه أن يملك بها الشرق كله، أو يكون سيّده الأول؛ ولكن من سوء حظ الشرق لم يوجد في هذه القرون الأخيرة عقل نيّر أدرك هذا بقوة أشعته ولا همة عالية أرادت أن تتصدى له، إلا عقل نابليون الكبير وهمته ولكن حالت الأقدار بينه وبينه. ولو عقل الدكتور السياسي هذا وخبره لأقنع دولته بأن تكون هي الدولة التي تسود الشرق بالمسلمين، ولو أقنعها لأمكنها ذلك؛ وإن كان مسلمو بلادها أضعف مِن غيرهم في قوتي العلم والعمل وفي المجد التالد والطارف. أَمَا لو فطن لمثل هذا العمل فرنسة أو إنكلترا لكانت كل منهما أقدر عليه من غيرها. فإذا ظلت هذه الدول تملك عشرات الملايين من المسلمين، محجوبة عن الحقيقة بما ضربه التاريخ دونه من حجب السياسة والدين، فليس من البعيد أن تفطن له دولة اليابان، إن صح ما يظنه الأوربيون من أنهم قطعوا طرق الحياة كلها على هذه البقايا من دول الإسلام. وأما الإسلام الديني فهو لا يزداد إلا قوة وجدة مهما حل بالإسلام بالسياسي، وقد حفظ الدكتور منه شيئًا وغاب عنه أشياء: فإن كان بعض المتفرنجين قد تركوا الصلاة والصيام، ويظن هو - كما يظنون - أن الجماهير سيتبعونهم في هذا الضلال افتتانًا بزخرف الشهوات المدنية، وما تعبث بعقولهم الآراء الأوربية، فليعلم أن عدد المصلين يزيد ولا ينقص، وأن هؤلاء المتفرنجين المفتونين سيرجع بعضهم إلى الهدى، وينبذ المسلمون البعض الآخر نبذ النوى، وأن الإسلام دين المستق

الباطنية وغلاة المتصوفة ـ بدعهم وتأويلاتهم

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

_ الباطنية وغلاة المتصوفة.. بدعهم وتأويلاتهم من فصول كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي فصل (ومنها) بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل - يدّعون فيها أنها هي المقصود والمراد، لا ما يفهم العربي - مسندة عندهم إلى أصل لا يعقل. وذلك أنهم - فيما ذكر العلماء - قوم أرادوا إبطال الشريعة جملةً وتفصيلاً، وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم، فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحًا، فيرد ذلك في وجوههم، وتمتد إليهم أيدي الحكام، فصرفوا أعناقهم إلى التحلل على ما قصدوا بأنواع من الحيل، من جملتها صرف الهمم من الظواهر إحالةً على أن لها بواطن هي المقصودة، وأن الظواهر غير مرادة. فقالوا: كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فهي أمثلة رموز إلي بواطن. فمما زعموا في الشرعيات: أن الجنابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سرٍّ إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق، ومعنى الغسل: تجديد العهد على من فعل ذلك، ومعنى مجامعة البهيمة: مقابحة من لا عهد له ولم يؤد شيئًا من صدقة النجوى؛ وهي مائة وتسعة عشر درهمًا عندهم. قالوا: فلذلك أوجب الشرع القتل على الفاعل والمفعول به، وإلا فالبهيمة متى يجب القتل عليها؟ والاحتلام: أن يسبق لسانه إلى إفشاء السرّ في غير محله؛ فعليه الغسل، أي تجديد المعاهدة. والطهر: هو التبري من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام. والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام. والصيام: هو الإمساك عن كشف السر. ولهم من هذا الإفك كثير في الأمور الإلهية وأمور التكليف وأمور الآخرة، وكله حَوْم على إبطال الشريعة جملة وتفصيلاً، إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية منكرون للنبوة والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة بل هم منكرون للربوبية. وهم المسمون بـ الباطنية [1] . وربما تمسكوا بالحروف والأعداد: بأن الثقب في رأس الآدمي سبع، والكواكب السيارة سبع، وأيام الأسبوع سبع، فهذا يدل على أن دور الأئمة سبعة، وبه يتمّ. وأن الطبائع أربع، وفصول السنة أربع، فدل على أن أصول الأربعة هي السابق والتالي الإلهان - عندهم - والناطق والأساس - وهما الإمامان. والبروج اثنا عشر، يدل على أن الحجج اثنا عشر، وهم الدعاة. إلى أنواع من هذا القبيل، وجميعها ليس فيه ما يقابل بالرد، لأن كل طائفة من المبتدعة سوى هؤلاء، ربما يتمسكون بشبهة تحتاج إلى النظر فيها معهم. أما هؤلاء فقد خلعوا في الهذيان الربقة، وصاروا عرضة لِلَّمْزِ، وضحكة للعالمين. وإنما ينسبون هذه الأباطيل إلى الإمام المعصوم الذي زعموه، وإبطال الأئمة معلوم في كتب المتكلمين ولكن لا بدّ من نكتة مختصرة في الرد عليه. فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم ما من جهة دعوى بالضرورة وهو محال؛ لأن الضروري هو ما يشترك فيه العقلاء علمًا وإدراكًا، وهذا ليس كذلك. أمّا من جهة الإمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأويلات. فنقول لِمَن زعم ذلك: ما الذي دعاك إلى تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - سوى المعجزة؟ وليس لإمامك معجزة، فالقرآن يدل على أن المراد ظاهره، لا ما زعمت، فإن قال: ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها الناس فتعلمناها منه. قيل لهم: مِن أي جهة تعلمتموها منه؟ أبمشاهدة قلبه بالعين؟ أو بسماع منه؟ ولا بد من الاستناد إلى السماع بالأذن. فيقال: فلعلّ لفظه ظاهر له باطن لم تفهمه، ولم يُطْلِعْكَ عليه، فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه، فإن قال: صرّح بالمعنى، وقال: ما ذكرته ظاهر لا رمز فيه، أو: والمراد ظاهره. قيل له: وبماذا عرفت قوله إنه ظاهر لا رمز فيه؛ بل إنه كما قال؟ إذ يمكن أن يكون له باطن لم تفهمه أيضًا حتى لو حلف بالطلاق الظاهر أنه لم يقصد إلا الظاهر؛ لاحتمل أن يكون في طلاقه رمز هو باطنه وليس مقتضى الظاهر، فإن قال: ذلك يؤدي إلى حسم باب التفهيم - قيل له: فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية، والجنة والنار، والحشر والنشر، والأنبياء، والوحي، والملائكة، مؤكدًا ذلك كله بالقسم. وأنتم تقولون: إن ظاهره غير مراد وأن تحته رمزًا. فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لمصلحة وسرّ له في الرمز - جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يظهر لكم خلاف ما يضمره لمصلحة وسرّ له فيه، وهذا لا محيص لهم عنه. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله: ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال؛ إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية؛ إذ مذهبها إبطال النظر، وتغيير الألفاظ عن موضعها بدعوى الرمز. وكل ما يتصوّر أن تنطق به ألسنتهم فإما نظر أو نقل. أمّا النظر فقد أبطلوه، وأمّا النقل فقد جوّزوا أن يراد باللفظ غير موضوعه، فلا يبقى لهم معتصم. والتوفيق بيد الله. وذكر ابن العربي في العواصم مأخذاً آخر في الردّ عليهم أسهل من هذا وقال: إنهم لا قِبَل لهم به - وهو أن يسلط عليهم في كل ما يدعونه السؤال (بكم) خاصة، فكل مَن وجهت عليه منهم سقط في يده. وحكى في ذلك حكاية ظريفة يحسن موقعها هاهنا، وتصور المذهب كافٍ في ظهور بطلانِه، إلا أنه مع ظهور فسادِه وبُعده عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعًا فاحشةً، منها مذهب المهدي المغربي؛ فإنه عدّ نفسه الإمام المنتظر، وإنه معصوم حتى إن مَن شك في عصمته أو في أنه المهدي المنتظر فهو كافر. وقد زعم ذَووه أنه ألف في الإمامة كتابًا ذكر فيه أن الله استخلف آدم ونوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا عليهم السلام، وإن مدة الخلافة ثلاثون سنة، وبعد ذلك فرق وأهواء وشحٌّ مطاع، وهوًى متّبع، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فلم يزل الأمر على ذلك، والباطل ظاهر والحق كامن، والعلم مرفوع - كما أخبر عليه الصلاة والسلام - والجهل ظاهر، ولم يبقَ من الدين إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، حتى جاء الله بالإمام فأعاد الله به الدين - كما قال عليه الصلاة والسلام: (بدئ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدئ فطوبى للغرباء) ، وقال: إن طائفته هم الغرباء، زعمًا من غير برهانٍ زائد على الدعوى. وقال في ذلك الكتاب: جاء الله بالهدى، وطاعته صافية نقية، لم يرَ مثلها قبل ولا بعد، وإن به قامت السموات، والأرض به تقوم، ولا ضدّ له، ولا مِثل، ولا نِدّ. وكَذَبَ، تعالى الله عن قوله. وهذا كما نزّل أحاديث الترمذي وأبي داود في الفاطمي على نفسه وأنه هو بلا شك. وأول إظهاره لذلك أنه قام في أصحابه خطيبًا فقال: الحمد لله الفعال لما يريد، القاضي لما يشاء، لا رادّ لأمره، ولا معقّب لحكمه، وصلى الله على النبي المبشر بالمهدي، يملأ الأرض قسطًا وعدلاً، كما مُلئت ظلمًا وجورًا، يبعثه الله إذا نُسخ الحق بالباطل، وأُزيل العدل بالجور، مكانه بالمغرب الأقصى، وزمانه آخر الزمان، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبه نسب النبي عليه الصلاة والسلام، وقد ظهر جور الأمراء، وامتلأت الأرض بالفساد، وهذا آخر الزمان، والاسم الاسم والنسب النسب والفعل الفعل. يشير إلى ما جاء في أحاديث الفاطمي. فلما فرغ بادَر إليه من أصحابه عشرة. فقالوا: هذه الصفة لا توجد إلا فيك، فأنت المهدي. فبايعوه على ذلك. وأحدث في دين الله أحداثًا كثيرة زيادة إلى الإقرار بأنه المهدي المعلوم، والتخصيص بالعصمة. ثُم وضع ذلك في الخطب، وضرب في السكك، بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة. فمَن لم يؤمن بها أو شكّ فيها، فهو كافر كسائر الكفار. وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها. وهي نحو من ثمانية عشر موضعًا. كترك امتثال أمر مَن يستمع أمره، وترك حضور مواعظه ثلاث مرّات، والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل، وأشياء كثيرة. وكان مذهبه البدعة الظاهرية، ومع ذلك فابتدع أشياء، كوجوه من التثويب؛ إذ كانوا ينادون عند الصلاة (بتاصاليت الإسلام) و (بقيام تا صاليت) و (سوردين) و (باردي) و (وأصبح ولله الحمد) وغيره. فجرى العمل بجميعها في زمان الموحدين. وبقي أكثرها بعدما انقرضت دولتهم حتى إني أدركت بنفسي في جامع غِرْنَاطة الأعظم الرضا عن الإمام المعصوم (المهدي المعلوم) ، إلى أن أزيلت وبقيت أشياء كثيرة غفل عنها أو أغفلت. وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي - منهم. ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات. فأمر - حين استقرّ بمراكش - خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر فيها بتغيير تلك السنة، ويوصي بتقوى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الحق، وأن لا مهدي إلا عيسى، وأن ما ادعوه أنه المهدي بدعة أزالها، وأسقط اسم من لا تثبت عصمته. وذكر أن أباه المنصور همّ بأن يصدع بما به صدع , وأن يرفع الحرف الذي رفع، فلم يساعده الأجل لذلك. ثُم لمّا مات واستخلف ابنه أبو محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد، وفد إليه جماعة من أهل ذلك المذهب المتسمين بالموحدين، ففتلوا منه في الذروة والغارب، وضمنوا على أنفسهم الدخول تحت طاعته، والوقوف على قدم الخدمة بين يديه، والمدافعة عنه بما استطاعوا، لكن على شرط ذكر المهدي وتخصيصه بالعصمة في الخطبة والمخاطبات، ونقش اسمه الخاص في السكك، وإعادة الدعاء بعد الصلاة، والنداء عليها (بتاصاليت الإسلام) عند كمال الآذان و (بتقام تاصاليت) ؛ وهي إقامة الصلاة، وما أشبه ذلك من (سودرين) و (وقادري) و (أصبح ولله الحمد) وغير ذلك. وقد كان الرشيد استمرّ على العمل بما رسم أبوه من ترك ذلك كله، فلمّا انتدب الموحدون إلى الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك، فأسعفوا فيه. فلما احتلوا منازلهم أيامًا ولم يعد شيء من تلك العوائد، ساءت ظنونهم، وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتهم في دينهم، وبلغ ذلك الرشيد، فجدد تأنيسهم بإعادتها. قال المؤرخ: فيا للهِ! ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الارتياح لسماع تلك الأمور، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد، وشملت الأفراح فيهم الكبير والصغير. وهذا شأن صاحب البدعة، فلن يسرّ بأعظم من انتشار بدعته وإظهارها؛ {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} (المائدة: 41) ، وهذا كله دائر على القول بالإمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة. *** فصل (ومنها) رأي قوم التغالي في تعظيم شيوخهم، حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه، فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان، وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور. وهو باطل محض، وبدعة فاحشة، لأنه لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبدًا مبالغ المتقدمين. فخير القرون الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به، ثُم الذين يلونهم، وهكذا يكون الأمر أبدًا إلى قيام الساعة. فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام، ثُم لا زال ينقص شيئًا فشيئًا إلى آخر الدنيا. لكن لا يذهب الحق جملة؛ بل لا بد من طائفةٍ تقوم به وتعتقده، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم، لا ما كان عليه الأولون مِن كل وجه، لأنه لو أنفق أَحد من المتأخرين وزن أُحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أَحَد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نَصِيفه. فخير القرون: الذين رأوا رسول ال

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التوكل فصل [*] قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: 23) وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} (آل عمران: 122) ، وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3) وقال عن أوليائه: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (الممتحنة: 4) وقال: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (الملك: 29) وقال لرسوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ} (النمل: 79) وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (النساء: 81) وقال: {َوتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان: 58) وقال: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) وقال عن أنبيائه ورسله: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} (إبراهيم: 12) [1] الآية، وقال عن أصحاب نبيه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل عمران: 173) ، وقال: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الأنفال: 2) ، والقرآن مملوء من ذلك. وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: (هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون) وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حسبنا الله ونعم الوكيل: قالها إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ} (آل عمران: 173) وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم أعوذ بعزتك - لا إله إلا أنت - أن تضلني، أنت الحيّ الذي لا تموت، والجن والإنس يموتون) ، وفي الترمذي عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعًا: (لو أنكم تتوكلون على الله حقّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا وتروح بِطانًا) وفي السنن عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن قال - يعني إذا خرج من بيته - بسم الله توكلت على الله، ولا حول [2] ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت ووقِيت [3] وكُفيت، فيقول الشيطان لشيطانٍ آخر: كيف لك برجلٍ هُدي وكُفي ووُقي؟) . التوكل نصف الدين، ونصفه الثاني الإنابة، فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة، ومنزلته أوسع المنازل وأجمعها، ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل ووقوعه من المؤمنين والكفار والأبرار والفجّار، والطير والوحش والبهائم، فأهل السموات والأرض - المكلفون وغيرهم - في مقام التوكل، وإن تباين متعلّق وتوكلهم، فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما يرضيه منهم، وفي إقامته في الخلق، فيتوكلون عليه في الإيمان ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابه وتنفيذ أوامره. (ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله فارغًا عن الناس. (ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في معلومٍ يناله منه مِن رزقٍ أو عافيةٍ أو نصرٍ على عدوٍّ أو زوجةٍ أو ولدٍ، ونحو ذلك. (ودون هؤلاء) مَن يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش. فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبًا إلا باستعانتهم بالله، وتوكلهم عليه؛ بل قد يكون توكلهم [4] أقوى من توكل كثير من أصحاب الطاعات، ولهذا يلقون أنفسهم في المتالف والمهالك معتمدين على الله أن يسلمهم ويظفرهم بمطالبهم، فأفضل التوكل في الواجب (أعني واجب الحق وواجب الخلق وواجب النفس) ، وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكل ورثتهم. ثُم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم، فمِن متوكلٍ على الله في حصول الملك، ومتوكل في حصول رغيف. ومَن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوبًا له مرضيًّا كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطًا مبغوضًا كان ما يحصل له بتوكله مضرّة عليه، وإن كان مباحًا حصلت له مصلحة التوكل دون مصلحةِ ما توكّل فيه، إن لم يستعن به على طاعة [5] والله أعلم. *** فصل فلنذكر معنى التوكل ودرجاته وما قيل فيه قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب. ومعنى ذلك أنه عملٌ قلبيٌّ ليس بقول اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات. ومِن الناس مَن يجعله مِن باب المعارف والعلوم فيقول: هو تعلم القلب بكفاية الرب للعبد. ومنهم من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب. فيقول: التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب، كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء، وهو ترك الاختيار، والاسترسال مع مجاري الأقدار. قال سهل: التوكل: الاسترسال مع الله على ما يريد. ومنهم من يفسره بالرضاء؛ فيقول: هو الرضاء بالمقدور. قال بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، يكذب على الله، لو توكل على الله رضي بما يفعل الله. وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلاً. ومِنهم مَن يفسره بالثقة بالله، والطمأنينة إليه والسكون إليه. قال ابن عطاء: التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدّة فاقتك إليها، ولا تزال [6] على حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها. وقال ذو النون: هو ترك تدبير النفس، والانخلاع من الحول والقوة، وإنما يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه. وقال بعضهم: التوكل التعلق بالله في كل حال. وقيل: التوكل أن ترد عليك موارد الفاقات، فلا تسمو إلا إلى مَن إليه الكفايات. وقيل: نفي الشكوك، والتفويض إلى مالك الملوك. وقال ذو النون: خلع الأرباب، وقطع الأسباب؛ يريد قطعها مِن تعلق القلب بها، لا مِن مُلابسة الجوارح لها. ومنهم من جعله مركَّبًا مِن أمرين أو أمور. فقال أبو سعيد الخراز: التوكل اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب - يريد حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن - وسكون إلى المسبب وركون إليه، ولا يضطرب قلبه معه، ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصلة إلى رضاه. وقال أبو تراب النخشبي: هو طرح البدن في العبودية، وتعلّق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية. فإن أعطي شكر، وإن مُنع صبر، فجعله مركبًا مِن خمسة أمور: القيام بحركات العبودية، وتعلّق القلب بتدبير الرب، وسكونه إلى قضائه وقدره، وطمأنينته بكفايته له، وشكره إذا أَعطى، وصبره إذا مَنع. قال أبو يعقوب النهرجوري: التوكل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيم الخليل - عليه السلام - في الوقت الذي قال لجبريل عليه السلام (أمّا إليك فلا) لأنه غائب عن نفسه بالله [7] فلم يرَ مع الله غيرَ الله. وأجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب، فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكّل فاسد. قال سهل بن عبد الله: مَن طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومَن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان، فالتوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسب سنته، فمَن عمل على حاله فلا يتركن سنّته. وهذا معنى قول أبى سعيد (هو اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب) ، وقول سهل أبين وأرفع. وقيل: التوكل قطع علائق القلب بغير الله. وسئل سهل عن التوكل فقال: قلب عاش مع الله بلا علاقة [8] . وقيل: التوكل هجر العلائق، ومواصلة الحقائق. وقيل: التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال. وهذا مِن موجباته وآثاره؛ لأنه [9] حقيقته. وقيل: هو ترك كل سبب يوصلك إلى مسبّب، حتّى يكون الحق هو المتولي لذلك. وهذا صحيحٌ مِن وجهٍ، وباطلٌ مِن وجهٍ، فترك الأسباب المأمور بها قادحٌ في التوكل، وقد تولّى الحق إيصال العبد بها. وأمّا ترك الأسباب المباحة، فإن تركها لِمَا هو أرجح منها مصلحةً فممدوحٌ، وإلا فهو مذمومٌ. وقيل: هو إلقاء النفس في العبودية، وإخراجها مِن الربوبية. يريد استرسالها مع الأمر، وبراءتها مِن حولها وقوتها، وشهود ذلك بها؛ بل بالرب وحده. ومنهم مَن قال: التوكل هو التسليم لأمر الرب وقضائه. ومنهم مَن قال: هو التفويض إليه في كلّ حالٍ. ومنهم مَن جعل التوكل بدايةً، والتسليم وساطةً، والتفويض نهايةً. قال أبو علي الدقاق: التوكل ثلاث درجات - التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض. فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه، وصاحب التفويض يرضى بحكمه. فالتوكل بداية، والتسليم وساطة، والتفويض نهاية فالتوكل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين. التوكل صفة العوام، والتسليم صفة الخواص، والتفويض صفة خاصة الخاصة. التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم الخليل، والتفويض صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. هذا كله كلام الدقاق. ومعنى هذا التوكل اعتمادٌ على الوكيل، وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه، وإرادة وشائبة منازعة، فإذا سلّم إليه زال عنه ذلك، ورضي بما يفعله وكيله. وحال المفوض فوق هذا، فإنه طالب مريد ممن فوض إليه، ملتمس منه أن يتولى أموره، فهو رضاء واختيار، وتسليم واعتماد، فالتوكل يندرج في التسليم، وهو والتسليم يندرجان في التفويض، والله سبحانه وتعالى أعلم. *** فصل وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها. وكلٌّ أشار إلى واحد من هذه الأمور، أو اثنين أو أكثر. فأوّل ذلك معرفة بالرب وصفاته، مِن قدرته وكفايته وقيوميّته وانتهاءِ الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل. قال شيخنا رضي الله عنه: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف، ولا مِن القدرية النفاة القائلين بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء [10] ولايستقيم أيضًا مِن الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله، ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات. فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم؟ ولا هو فاعل باختياره؟ ولا له إرادة ومشيئة؟ ولا يقوم به صفة؟ فكل مَن كان بالله وصفاته أعلم وأعرف، كان توكله أصح وأقوى. والله سبحانه وتعالى أعلم. *** فصل (الدرجة الثانية: إثبات في الأسباب والمسببات) فإن مَن نفاها فتوكله مدخولٌ. وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي أن الأسباب يقدح في التوكل، وأن نفيها كمال [11] التوكل. فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة؛ لأن التوكل مِن أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سببًا في حصول المدعو به، فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببًا، ولا ج

أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة

الكاتب: البستاني

_ أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة فصل جليل ختم به كتاب تاريخ الحرب البلقانية للبستاني خطر لنا عند الفراغ من تأليف هذا الكتاب، أن نستطلع آراء نخبة من أكابر العلماء وفحول الكتّاب، عن أفضل وسيلة تنهض بالسلطنة بعد كبوتها، وتزيد في يقظة الأمة بعد غفوتها. فسألنا مَن أسعدنا الحظ بالوصول إليه قبيل صدور هذا المؤلف أن يصوغ لنا فكرته الأساسية في أسطر قليلة فتكرّموا بتلبية الطلب، أدامهم الله زهرًا نضيرًا في بستان العلم والأدب. وإليك آراؤهم مرتبة حسب تواريخ ورودها. *** رأي سياسي شهير كتب إليَّ عالمٌ كبير لم يشأ أن ينشر اسمه قال: إن الأمر عويصٌ جدًّا لأن في السلطنة فواعل كثيرة متناقضة وبعضها خفي. ولقد سمعت مرة المرحوم نوبار باشا رئيس الوزارة المصرية الأسبق يقول: إن لورد دربي ألقى عليه سؤال مثل سؤالك وطلب منه أن يرتأي رأيًا أو يضع مشروعًا نافعًا للسلطنة العثمانية، قال نوبار: فأخذت القلم وكتبت (أنْ ينشأ في السلطنة محكمة مختلطة مستقلة ترفع إليها الشكاوى من المأمورين فتحاكمهم وتنفذ الحكومة ما تحكم به عليهم) . فما أدق هذا الانتقاد، وما أرق هذا التهكم! … *** رأي القانوني الكبير، والعالم الاجتماعي الشهير سعادة فتحي باشا زغلول أقرئك السلام وبعد، فسؤالك هام ومطلبك أهم. الدولة العلية رعاك الله مجموع يحتاج في سياسته وإنهاضه إلى حكمة عالية وبصرٍ بالأمور كبير، فإذا غلب الرأي الهوى، وبطل التفاضل بين العناصر، وأقيم وزن العدل وتساوى الناس جميعًا في الحقوق وفي الواجبات، وإذا خلصت نيات أهل الزعامة وصدقت عزائم ذوي الرئاسة، ففضلوا مصالح الأمة على المنافع الفردية، وجدَّ الكل في طلب الإصلاح، فنشروا التعليم وعنوا بالأمور الاقتصادية، فاستبقوا لأنفسهم مرافق البلاد وكنوزها، وذللوا السبل وأمنوا السابلة وقربوا المسافات، ثم ازدرعوا واحترفوا واتجروا فأحرفوا، وإذا احكموا نظام الجند وهذّبوه. لا شك أن الدولة ناهضة من سقطتها، وإن الأمة ناشطة من عقالها، وأنها نائلة مِن الحضارة والمناعة مكانًا عليًّا. *** رأي العالم العامل الشهير، والصحافي المحنك الخبير الدكتور فارس أفندي نمر صاحب المقتطف والمقطم: حضرة الفاضل؛ إن كان المقصود مِن (السلطنة) في سؤالكم: (الحكومة والأمة) في حالتهما الحاضرة أي الدستورية فوسائط إنهاضها متعددة منها ماديّ ومنها أدبيّ، ولكل واسطة منها قوة لا يُستغنى عنها، وخصوصًا وسائط العلم والمال. على أن في الحكومة وفي الأمة رجالاً مِن ذوي العلم وذوي المال فلا يعوزهم إدراك ولا يسار، ولكنِ الذي ينقصنا هو تربية الحكومة على الأخلاق القويمة، والصفات المنظمة والمرقية لشؤون الهيئة الاجتماعية، حتى نستطيع الاتحاد والتعاون على تدبير أمورنا وإنجاح أعمالنا ونحن جماعات، كما يستطيع كثيرون منا اليوم تدبير أمورهم وإنجاح أعمالهم وهم أفراد. *** رأي شيخ الأدباء، وكبير الشعراء سعادة إسماعيل صبري باشا التوظيف: إذا أراد التركي أن يستبقي ما بقي له مِن مُلكه فلا يفرقن بين التركي وسائر الأجناس التي تتألف منها الدولة العثمانية؛ بل يجب عليه أن يفضل في التوظيف في كل بلد أهل الكفاءة من بنيها، فلا يوظف التركي في بلد غير بلده الأصلي إلا إذا كان يتعسر وجود أكفاء مثله من أبناء ذاك البلد، فتتعود جميع العناصر التي تتألف منها الدولة حب الراية التي تظلهم، والأراضي التي تقلهم، فيقوم عندئذ وطن عثماني حقيقي يحبونه ويَذُبُّونَ عنه في اليوم العصيب. التعليم: التعليم مِن أوجب الواجبات لنهوض الشعب العثماني مما هو فيه، ولا يراد بالتعليم أن يصبح جميع الأفراد من العلماء؛ بل يكفي أن يكون هناك عدد وافر من المتعلمين يسيرون بالدولة إلى مقام الشعوب الراقية، وأن يتعلم باقي أفراد الأمة ما يمكنهم مِن فَهم قادتهم وأرباب الرأي فيهم. العدل: العدل بسيطٌ في معناه؛ صعبٌ في تنفيذه بين الأفراد، وأكبر آفاته الغرض والرشوة. فإذا أرادت الدولة أن يسود فيها العدل فلتصرف كل جهدها في ملاشاة هاتين الآفتين، ولنحذر مِن أن تستعين بالأجانب في سنِّ قوانينها وتوزيع العدل بين رعاياها، ومِن أن تطلب غير أبناء بلادها لإقامة العدل وسنِّ القوانين. وإلا تعذّر عليها أن تجد عدلاً وطنيًّا متفقًا مع أخلاق أمتها وعاداتها. وما يقال في العدل يقال أيضًا في سائر فروع الإدارة. وإذا كانت الحكومة لا تجد مندوحة عن الآستانة بالأجانب الأكفاء فلا تطلبهم من حكوماتهم؛ بل تكلفهم وضع التقارير بعد اختبارهم لحالة البلاد، ثم تأخذ النافع والموافق لعادات الأهالي من تلك التقارير دون أن تجعل أصحابها موظفين رسميين. *** رأي العالم الاجتماعي الشهري الدكتور شبلي الشميل الدولة لا تنهض إلا بثلاثة: رجالٍ ومالٍ ووقتٍ، والرجال بالعلم والتربية، والمال بالموارد. فهل ذلك متوفر - ولا سيّما الوقت - وحالنا في الاجتماع كما هي من قلة التكافؤ مع ما هو عليه اليوم من شدّة التنازع؟ والجواب على ذلك يدل على المصير. *** رأي الأستاذ الفاضل أبو شادي بك رئيس تحرير جريدة المؤيد رأيي أن الدولة لا تنهض من سقطتها ولا تعود إلى سابق مجدها إلا إذا توفر لديها ما يأتي: أولاً: تعميم التعليم في أنحاء البلاد وجعل الأولي منه إجباريًّا. ثانيًا: إزالة التنافر بين العناصر ولا يكون ذلك إلا بمنح كل ولاية الاستقلال إداريًّا داخليًّا؛ حتى يعلم كل فرد أن اجتهاده منصرف إلى بلده وإلى نفسه. ثالثًا: إيجاد الأكفاء من الموظفين؛ إذ بغير شكٍّ إن قوانين الدولة عادلة ولكن تنفيذها معدوم. رابعًا: إصلاح جباية الضرائب بحيث تكون الضرائب متسلطة على الأعيان لا على الحاصلات وتنظيم أوقات تحصيلها. خامسًا: نزع السياسة من أفكار الجيش. سادسًا: تعميم اللغة العربية في جميع الولايات وبين المسلمين بنوعٍ أخص، وذلك لأن مظهر الدولة إسلامي والقرآن عربيٌّ. *** رأي العالم الإسلامي الكبير السيد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الدولة كائن حي، يحفظ وجودها بالسنة التي تحفظ بها حياة سائر الأحياء، وهي سلامة مزاجها في نفسها ووقايتها مما يعدو عليه من الخارج. فأما سلامة مزاج دولتنا العثمانية في نفسه؛ فإنما يكون بإقامة الشرع العادل في القضية، والمساواة في الحقوق بين الرعية، وبناء إدارة المملكة على أساس اللامركزية، وجعل السلطة العليا شق الأُبلمة بين العنصرين الكبيرين فيها - العرب والترك - بحيث يكونان منها كالعنصرين اللذين يتكون منهما الماء أو الهواء. وأما وقايتها ممّا يعدو عليها من الخارج فهو الآن منوط بدول أوربا الكبرى فهن أصحاب المطامع فيها، ومطامعهن متعارضة. وما دامت كذلك كانت الدولة آمنة على نفسها من اقتسامهن إياها بالقوة، فيجب أن تتقي استيلاءهن على البلاد بقوة المال والسياسة، أي بالفتح السلمي، وأن تقوي مزاج الأمة بالمال والعلم وإعدادها للدفاع عن نفسها. فإذا هي فرطت في مرافقها وأملاكها فباعتها للأوربيين، وبقيت على تبذيرها، وتوهمها أنها تستطيع أن تحمي نفسها منهن بقوتي الدولة البرية والبحرية الرسميتين، ولم تجعل كل اعتمادها على الأمة، فالخطر عليها من الفتح السلمي، أقرب وأقوى من خطر الفتح الحربي. *** رأي الكاتب التحرير الشهير داود أفندي بركات رئيس تحرير الأهرام رأيي في إصلاح السلطنة العثمانية أن تقسم مناطق، وأن تكون كل منطقة مؤلفة من العناصر المتفقة في التقاليد، العادات واللغة، فتعطى الاستقلال الإداري تبتّ مِن أموره كل ما لا يتناول منطقة أخرى أو أكثر من منطقة. ويعيّن لكل منطقة مندوب سامٍ يعاونه مجلس إدارة يؤلف من الفنيين في الأمور المالية والإدارية والقضائية والعسكرية، ويؤخذ للمركز العام جزء معين مِن دخل كل منطقة، وتلغى الضرائب العشرية، وتقرر ضرائب ثابتة معينة على الأملاك، وتوضع قوانين للشركات على اختلاف أنواعها، ويوحد القضاء فلا يكون من اختصاص رجال الدين إلا الأمور الشخصية، فتكون الدولة مؤلفة من ولايات متحدة أو مناطق متحدة. ذلك رأيي في إنهاض السلطنة بسرعة. *** رأي العالم المؤرخ جرجي بك زيدان صاحب مجلة الهلال العلة الحقيقية في حال الدولة العثمانية اليوم فقر المملكة واضطراب الحكومة. والحكومة الدستورية في أيدي الأمة، والأمة العثمانية ضعيفة الأخلاق، عريقة في الانقسام، بسبب ما توالى عليها من أعصر الفساد. أما المملكة ونعني الولايات الباقية منها في آسيا فليس فقرها أصليًّا فيها، وكل ولاية منها كانت في بعض الأزمان مملكة قائمة بنفسها، فالعراق كانت وحدها مملكة البابليين والآشوريين، وبها اعتزّ العباسيون في إبان دولتهم، وكانت جبايتها ثلث جباية مملكتهم الواسعة الممتدة من حدود الهند إلى شواطئ الأتلانتيكي. وسوريا كانت مؤلفة مِن عدّة دول ثُم اعتز بها السلوقيون أجيالاً، وكذلك آسيا الصغرى، وظلّت مدة هي أعظم أركان الدولة العثمانية. فهذه الولايات إذا أحسنت سياستها وإدارتها صارت غنيّة. وهذا لا يتم والأمة كما تقدم. فالوسيلة المثلى للنهوض بالدولة العثمانية إنما هي ترقية الشعب، وهو لا يقدر أن يرقّي نفسه رغم استعداده الطبيعي للرقي. وقد يقوم بذلك حاكم عادل عاقل؛ إنما يشترط أن يكون مستبدًّا، وهذا لا يتيسر والحكومة دستورية. فلا بد مِن الاستعانة بالأجانب وأسلم الطرق أن تتحالف الدولة العثمانية مع دولة تثق بصداقتها، فتستعين برجالها على إصلاح حكومتها وترقية شعبها وصيانتها مِن مطامع الدول الأخرى، بشرط أن لا يكون لهذه الدولة مطمع في الاستعمار. فإذا وفقت إلى ذلك في أثناء أربعين سنة نهضت واسترجعت رونقها. *** (رأي الشاعر الكاتب الطائر الصيت) خليل أفندي مطران أخي، سألتني عمّا أرتئيه لإصلاح الدولة العلية. فالذي أرتئيه إنّما هو أمر واحد يلخص في كلمة واحدة: التعليم. منذ عشرين سنة أرقب حوادث الدولة وأستقرئ ما يجري فيها، فالذي بدا لي مِن شأنها في كل حال: أن الحكام كانوا لا يهتمون بإصلاحها اعتمادًا منهم على جهلِ الأمة وعلى تسليمها لهم بسبب ذلك الجهل، وأن المحكومين كانوا فاقدي الحيلة في التماس مَا هو خير لهم وكانوا صابرين على مضض. وربما أومض لهم بارق الإصلاح في إحدى المصادفات فتألموا منه تألمهم من الرمد المفاجئ. فهؤلاء المحكومين ما لم يتعلموا لا يقيمون لأنفسهم وزنًا ولا يفرّقون بين حقٍ لهم وحقٍّ عليهم، كما أن أولئك الحكام أيًّا كان جنسهم ودينهم يلبثون أبد الدهر متنكرين لأمتهم جانين عليها، إلا حيث تضطرهم إلى الإصلاح اضطرارًا، وتأخذ منهم قسرًا ما يأبونه عليها اختيارًا. وكل ذلك لا يتم شيء منه إلا بالتعليم. *** رأي الكاتب الشهير محمد أفندي مسعود حياة الدولة في مستقبلها، ومستقبلها في حكومة كفيلة باسترجاع مجدها المضيّع، وهذه الحكومة لا توجد؛ إلا متى عرف رجالها قدر أنفسهم. فوضعوها فوق عبث الأحزاب. *** رأي الصحافي الخبير والكاتب الألمعي سامي أفندي قصيري المحرر في المقطم لمّا كانت الدولة العثمانية فيما مضى دولة استبدادية قائمة على حكومة الفرد كانت تقوى بقوة ذلك الفرد وتضعف بضعفه وتسعد بسعده وتشقى بشقائه. أمّا الآن وقد أعلن فيها الحكم الدستوري مراعاةً لأحوال الزمان والمكان وتبدلت حكومة الفرد بحكومة الأمة، فصلاح الحكومة قائم بصل

عبد العزيز بك علي المصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عبد العزيز بك علي المصري عبد العزيز بك المصري أو عزيز بك - كما تقول الترك - مِن ضُباط أركان الحرب المشهورين في الجيش العثماني. وقائد برقة في قتال الجيش الإيطالي، وقد قُبِضَ عليه في الآستانة منذ شهرين وسجن بأمر ديوان الحرب العرفي، ولم يعرف السبب الرسمي لذلك، فحدث لذلك من التأثير السيئ في مصر وسوريا وغيرهما من البلاد العربية فوق ما كان ينتظر، وصار ذلك شغل الجرائد العربية الشاغل، وسرى هذا التأثير إلى كثير من الجرائد الأوربية. وتناقلت الجرائد عن الآستانة أن الذي وشى به هو الشيخ عبد العزيز جاويش الذي وظيفته التجسس على العرب. وقد دعا شيخ الجامع الأزهر أشهر علماء المصريين وفضلائهم إلى عقد اجتماع للتشاور بما يجب اتخاذه لإنصاف هذا الرجل، فاجتمع ألوفٌ مِن الناس في 26 من هذا الشهر. وكان قد دُعي إلى الخطابة فيما يتعلق بهذا الموضوع رفيق بك العظم ومحمد أفندي لطفي جمعة ومحمد أبو شادي بك وإبراهيم بك الهلباوي - الثلاثة من المحامين - فخطب كل منهم فأجاد، وأثنوا على عبد العزيز بك المصري وأطروا خدمته للدولة وأقاموا الدلائل والبينات على استهجان القبض عليه، وفنّدوا ما شاع وما تصوّر مِن اتهامه به. وخطب صاحب هذه المجلة خطبة ارتجالية وجيزة اقترحت عليه عندما وصل وأخذ مجلسه مِن مكان الاحتفال، واختار ناظم عِقد اللجنة حسن باشا رضوان أن يكون الخطيب الثاني، فأجبنا الطلب، ثُم اقترح علينا أن نكتب ملخص ما قلناه وننشره وهو هذا: اقترح عليّ الآن أن أقول شيئًا في الموضوع الذي عُقد لأجله هذا الاجتماع ولم يكن اسمي في جدول الخطباء وهم كثير فأنا أقول كلمةً وجيزةً حتى لا أضيّع على الخطباء المستعدين وقتهم. سمعتم ما شرحه الخطيب الأول (رفيق بك) من خدمة عبد العزيز بك المصري للدولة والأمة في إقامة الدستور وتأييده، وفي مقاومة حرب العصابات المسلحة في مكدونية، وفي اليمن وبرقة. وستسمعون من سائر الخطباء شرحًا أوسع في الثناء على الرجل. وإنني أظن كما تظنون أن الرجل بريء مِمَّا رماه به السعاة الواشون، ولكني أبني كلمتي على غير الأساس الذي بنى عليه رفيق بك كلامه، فأنا لا أفرض أنه بريء، وإنه يخشى أن يؤثر في أعضاء المحكمة التي تنظر في قضيته ما يدور حولها من السعايات والأوهام فتصدق بعضها وتبني عليه الحكم، ولا أقول يوجب عقابه إذا كان مذنبًا أو طلب العفو عنه بعد الحكم؛ بل أقول قولاً آخر فهاكموه: يجوز أن يكون عبد العزيز المصري قد أتى بذنبٍ، لأنا نحن المسلمين لا نقول بعصمة أحد من البشر غير الأنبياء الذين يبلغون رسالات ربهم فيما يتوقف عليه أمر التبليغ وحكمته، كما يجوز أن يذنب كل واحد من الناس وليس فيهم أنبياء مرسلون. نُجوّز هذا عقلاً وإن كان لدينا دلائل متعددة تؤيد البراءة الأصلية، أظهرها أن الرجل بقي زمانًا في الآستانة بعد عودته من برقة كانت توكل إليه الأعمال العسكرية التي لا توكل عادة إلى المجرمين المستحقين للسجون، ولم يؤخذ بالتهمة المبهمة إلا بعد استقالته من الخدمة، ولم يكن له بعدها عمل صالح ولا سيئ. وإنما أخذ بسعاية واشٍ مفسدٍ، فلنفرض أنه مذنبٌ، وأن ذلك الواشي الخبيث صادق. أنتم تعلمون أن الأمم لا تعز ولا ترتقي إلا بالرجال القادرين على الخدمة العامة للأمة القائمين بها، وهؤلاء الرجال قليلون، لذلك يجب أن يضن بهم وتقال عثراتُهم، وعزيز المصري مِن هؤلاء الرجال؛ بدليل ما قام به مِن الخدمة العامة للدولة والأمة، فإذا صدق ذلك الواشي النَّمَّام الخبيث وما كان إلا كذوبًا في زعمه أنه قد أتى ذنبًا يحاكم عليه، أليس له من حسناته وخدمته العامة شفيعٌ يقتضي أن تغفر الدولة ذنبه وتقيل عثرته؟ وهل كان الذين يريدون الانتقام منه بُرآء من الذنوب والعثرات؟ أم نقول لهم كما قال المسيح - عليه الصلاة والسلام - حين جيء بالمرأة الزانية لأجل رجمها؟ كلا؛ إن لنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوةً حسنةً، ولنا في سيرة أصحابه وأئمة العدل مِن خلفائه ما نهتدي به في مثل حادثة عزيز المصري. كان أبو محجن الثقفي مدمن خمر في الجاهلية وقد أسلم ولقي النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه حديثًا. وكانت الخمرة قد أحدثت له مرض الخمار فكان لا يستطيع تركها، وكانوا يجلدونه إذا شرب، فيرى ألم الجَلد دون ألم الخمار. وقد حضر حرب القادسية مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ فحبسه سعد وقيّده بتهمة الشرب، وقد التحم المسلمون مع المجوس في معركة شديدة، وكان سعد مجروحًا لم يحضر المعركة؛ بل قعد على سطح بيته ينظر ما يفعل المقاتلون، فلمّا رأى أبو محجن رحى الحرب دائرة وخاف على المسلمين أن يغلبوا، رغب إلى امرأة القائد العام أن تحلّه من قيده ليحضر المعركة، وعاهدها بأن يعود إلى قيده إذا هو سلم، ففعلت، فوثب على فرسٍ لسعد يقال لها: البلقاء، وحمل برمحه على جيش الأعداء، فكان لا يحمل حملةً إلا انهزم الأعداء أمامه. وكان سعد - رضي الله عنه - يرى ذلك ويتعجب ويقول: الكرُّ كرُّ البلقاء، والحمل حمل أبي محجن [1] وأبو محجن في القيد!! ولمّا انهزم العدو رجع أبو محجن إلى قيده كما وعد امرأة سعد. وأخبرت هي سعدًا بما كان، فأطلقه من قيده، وقال: لا أحد اليوم رجلاً نصر الله المسلمين على يديه. فقال أبو محجن: لقد كنت أشربها إذ يقام عليَّ الحد فيطهرني، وإذ قد حابيتني [2] فوَالله لا أشربها أبدًا. وتاب من ذلك اليوم. ولدينا شاهد آخر من وقائع القادسية: زُهرة بن حوية هو الذي قتل الجالينوس، قائد جيش المجوس، وقد أخذ سلبه بدون إذن القائد العام سعد بن أبي وقاص، فانتزعه سعد منه وأراد أن يؤاخذه، ولكنه كتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يستأمره في ذلك. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: تعمد إلى مثل زُهرة وقد صلى بما صلى به، وبقي عليك ما بقي من حربك وتكسر فُوقه؟ [3] أنكر سيدنا عمر علي سعد عمله، وأمضى لزهرة سلبه، لأنه رأى أن عمله الماضي والحاجة إلى عمله في المستقبل أرجح من هذه المخالفة، وأن المصلحة تقتضي ذلك. إن لنا فوق هذا كله أسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خبر حاطب بن أبي بلتعة: نقض مشركو قريش عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يزحف عليهم لفتح مكة، وكان لحاطب أهل ومال بمكة خاف عليهم لأنه ليس لهم أحد يحميهم، فكتب إلى أهل مكة يخبرهم بعزم النبي صلى الله عليه وسلم، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بما كان، وأرسل مَن أخذ الكتاب مِن امرأة كانت تحمله في عقاص شعرها، وسأل حاطبًا عن ذلك فاعترف واعتذر بالخوف على أهله وولده وأنه عمل ما لا يضر الله ولا رسوله؛ فقبل عذره، وأراد عمر بن الخطاب الذي تضرب الأمم بعدله المثل أن يقتله؛ لأن إفشاء سر الحرب من أكبر الذنوب العسكرية فجعله عمر دليل النفاق، واستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتله فلم يأذن له، وقال (إنه شهد بدرًا) . عدّ النبي صلى الله عليه وسلم شهود غزوة بدر مِن أقوى آيات الإيمان، والصدق والإخلاص في الإسلام، لأن المسلمين كانوا وقتئِذٍ في قلة عدد، وقلة مال، وقلة طعام، وقلة ركائب؛ كانوا في أشد الضعف، وكان المشركون في أَوَجِّ قوتهم، فمَن بذل نفسه في سبيل الله في مثل تلك الحال لا يبذلها إلا بباعث الإيمان وحافز الإخلاص، وتلك الحسنة تتضاءل بإزائها أي سيئة من السيئات. فلنفرض أن عبد العزيز المصري قد اجترح ذنبًا عسكريًّا كبيرًا (كذنب حاطب أو ماليًّا كذنب زُهرَة بن حوية، أو شخصيًّا كذنب أبي محجن رضي الله عنهم) وأن ذلك الواشي الخبيث صادق فيما رماه به - وما كان الواشي النمّام الخبيث إلا كذوبًا فاسقًا - أليس له مِن الجهاد في سبيل الحكومة الدستورية عند تكوينها، ومِن الدفاع عنها أيام كان الخطر محدقًا بها، ما يشبه حسنة حاطب في شهود غزوة بدر؟ وما كان حاطب ممتازًا فيها بشيء انفرد به دون سائر مَن حضرها، ولا كان في مقدمة الذين أبْلَوا فيها وأثخنوا؟ وأما عبد العزيز المصري فكان في مقدمة الضباط الذين أَبْلوا في فتح الآستانة، وفي غيرها من الأعمال العسكرية التي أيدت الحكومة الحاضرة. فهو جدير بأن يكتفى منه بالأعذار، إذا فرضنا أنه ارتكب بعض الأوزار، دع خدمته للدولة في عقد الصلح بينها وبين إمام اليمن، بعد حرب استمرت عدة أجيال، سفكت فيها دماء مئات الألوف مِن الرجال، وضاع بها القناطير المقنطرة من الأموال، ولم تستفد الدولة مِن ذلك فائدةً ما، فكان ذلك الصلح من أفضل الأعمال وأنفعها للدولة ولأهل اليمن، ثُم دع خدمته في قتال الجيش الإيطالي في برقة. وإذا كان هذا الاجتماع العظيم قد عُقِد لأجل التشاور في إنصاف هذا الرجل، أو إنقاذه من الخطر، قد جعل تحت رياسة الأستاذ الأكبر شيخ جامع الأزهر، وشهده طائفة من أكبر علمائه، مع هذا الجمع العظيم من خواص البلاد؛ فالذي أراه وأقترحه هو أن ترسل برقية بإمضاء الأستاذ الرئيس إلى مولانا السلطان المُعَظم يخاطبه فيها بعنوان الخلافة، ويفتتحها بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) ، ويطلب منه بأن لا يؤاخذ عبد العزيز بك المصري بما عسَاه ينسبه إليه ديوان الحرب من ذنبٍ أو تقصيرٍ؛ لإخلاصه وسابق خدمته للدولة، اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسألة حاطب، وبأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في إمضاء سلب الجالينوس لزُهرَة بن حَويِة، وبسعد بن أبي وقاص في مسألة أبي محجن (رضي الله عنهم أجمعين) ، ويظهر له رغبته ورغبة هذا الجمع الكبير مِن علماء مصر وفضلائها في ذلك. وأكبر ظني أن هذا هو أرجى ما يرجى نفعه في الآستانة. هذا وإنني أختم كلمتي بالشكر لكم أيها الفضلاء الذين قصدتم هذا المكان للسعي في إنقاذ أخٍ لكم من الهلاك، فإن هذا خدمةٌ للإنسانية، ومحافظةٌ على حقوق البشر في الحياة والحرية. وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} (المائدة: 32) ، قال بعض مفسري السلف: إحياؤها السعي في إنقاذها من الموت والسلام. هذا وإن لجنة الاجتماع لم تعمل بهذا الاقتراح لأنها كانت قد وضعت صورة برقية باسم الصدر الأعظم تتضمن معنى شفاعة الأمة المصرية بالرجل، فجاءها جواب أنور باشا ناظر الحربية، ملخصه أن المجلس الحربي مستقل تمام الاستقلال لا يطرأ عليه أقل تأثير! !

التعصب على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعصب على المنار هاج بعض غلاة التعصب على المسلمين هيجة شؤمى على المنار في هذا العام، وجدّدوا السعي إلى الوكالة البريطانية أولاً وبالذات، وإلى الحكومة المصرية ثانيًا وبالتبع، لتبطش بصاحب المنار فتلقيه في غيابة السجن، أو تنفيه من أرض مصر، استعانوا على محلهم وسعاتهم ببعض القسيسين وغير القسيسين من الأجانب والوطنيين، ونفثوا سموم تعصبهم في جرائد القبط وبعض الجرائد الإفرنجية التي يحرر فيها بعض السوريين. وكان محضاء نار هذه الفتنة، والمدبر الأول لهذه المكيدة، يوسف الخازن اللبناني الذي يعيش من التحرير في جريدة الوطن القبطية، وجريدة دوكير الفرنسية، وهو الراسخ في بُغْضِ المسلمين الذي نُقل عنه أنه قال: إذا صافحه مسلم تضطرب أعصابه، ولهذا لا تكاد تراه يبدأ مسلمًا من معارفه بالمصافحة. وقد عرف القرَّاء مما كتبناه في الجزء الماضي شيئًا من خبر هذه الهيجة التعصبية على المنار، ولعل أن أدباء القراء ظنوا أن ما كتبناه في الجزء الماضي قد أطفأ - بما يتجلى فيه من حسن نيتنا - نيرانهم، واستخرج بحججه وسماحته أضغانهم، كلا؛ إنه لم يزدهم بغيًا وعدوانًا، وسعايةً ووشايةً وزورًا وبهتانًا، فنحن نثبت من تاريخنا وممّا كتبناه في المنار من أول نشأته إلى الآن، أننا طلاب تسامح ووفاق، وهم يريدون أن يتبدلوا الشيء بضده فيوهموا مَن يسمع كلامهم أننا دعاة عداوة وافتراق، نَحْقِر النصارى وندعو المسلمين إلى بغضهم وعداوتهم لأجل دينهم!! حَسْب الإنسان أن يُعلم من نفسه ومن نيته السعي للخير، والإخلاص في العمل، فإن كان يبالي باطلاع الناس على عمله ومظاهر حسن قصده، لأجل الأسوة الحسنة، والتعاون على الخدمة العامة، فحسبه أن يعرف أهل الإخلاص وحسن النية منه ما يعرفه من نفسه. ونحن ولله الحمد والمنّة أصحاب تاريخ معروف، وأثر في السعي إلى الإصلاح والاتفاق مدوّن مطبوع، يعرفه قراء العربية، ولا يجهله خواص الأمم الإفرنجية، وحسبك ما نَوَّهَ به - في العام الماضي - أصحاب المجلة الفرنسية المصرية بمصر، وجريدة فرنسا الإسلامية في باريس، من حسن تأثير خدمة المنار في المسلمين بحملهم على التسامح والمدنية، وما سمّوه (المدرسة العبدية) هو ما بثه المنار من مشرب شيخنا الأستاذ الإمام من إثبات التسامح الإسلامي والدعوة إليه، والتأليف بين قواعد الإسلام الثابتة، وبين المدنية الصحيحة. وما قالته هاتان الصحيفتان أخيرًا هو صدى ما كتب في جريدة الطان من بضع سنين في سياق الكلام عن مسلمي تونس، وما كتبه لورد كرومر عن حزب الشيخ محمد عبده في تقريره الذي ذكره في عقب وفاته، وهل لمشرب الشيخ محمد عبده وآرائه مظهر عرفت به في الأقطار، غير مجلة المنار؟ ؛ بل نقول إن هذا المشرب مما اتفق فيه رأينا مع رأي الأستاذ رحمه الله تعالى، ولم يكن مما تلقيناه عنه، وما لنا فيه من القول والسعي أكثر مما كان له. ومن الشواهد على ذلك ما كتبناه في فاتحة العدد الأول من المنار، وفي أول نبذة فيه بعد الفاتحة، ولم نكن يومئذٍ تلقينا عن الأستاذ درسًا، ولا بسطنا معه في هذه المسألة وأمثالها قولاً. قلنا في بيان خطة الصحيفة وما أنشئت لأجله ما نصه: (وتحاول إقناع أرباب النِّحَل المتباينة، والمذاهب المختلفة، أن الله تعالى شرع الدين للتحابّ والتوادّ والبر والإحسان، وأن المعارضة والمناهضة، والمناصبة والمواثبة، تفضي إلى خراب الأوطان وتقضي على هدي الأديان) . وبينت في النبذة التي بعد المقدمة أن لفظ الكفر لم يستعمل في الكتاب والسنة للإهانة؛ بل لبيان حقيقة من الحقائق. وأنه يستعمل الآن في غير ما كان يستعمل من قبل، ومنه إرادة السب والشتم، فلا يجوز أن يوجه بهذا المعنى في الخطاب بنداء أو وصف إلى مَن حرَّم الشرع إيذاءَهم وجعل لهم حقوقًا محترمةً من الذمّيين والمعاهدين (الأجانب الذي بينهم وبين المسلمين عهود على ترك الحرب أي غير المحاربين) واستخرجت نصًّا من كتب الفقهاء على ذلك لا حاجةَ لإعادة ذكرِه هنا. بعد هذا التمهيد أقول ليوسف الخازن وأصحاب الجرائد القبطية من غلاة التعصب ومبغضي المسلمين كيفما كانوا، ولجميع ما هو مثلهم من وطني أو أجنبي: قولوا فينا ما شئتم، وظنوا ما شئتم، واعتقدوا ما شئتم، وهيجوا مَن شئتم، ولتدب عقارب سعايتكم إلى مَن شئتم، فنحن لا نبالي بكم، ولا نأبه لرضاكم ولا لسخطكم، فمَن أخطأ إلى مثلكم فهو الذي يحسن منه أن يصرَّ ولا يعتذر؛ إذ لا صارف لكم عن شيء من الشرّ، إلا مكانتكم من الضعف والعجز، وها أنتم أولاء قد أجمعتم كيدكم، وبذلتم في سبيل إيذائنا جهدكم، فما كنتم إلا خائبين مخذولين؛ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ} (يونس: 81) نعم، لو كان ساسة الإنكليز كساسة القبط في عقولهم وأخلاقهم، وكان لورد كتشنر كيوسف الخازن في تعصبه وحنقه على المسلمين، لأقفل المنار، ونفي صاحبه من هذه الديار، وتبعه إقفال الأزهر بعد دار الدعوة والإرشاد، ولو رأيت من جمهور المشاركين لكم بلقب الدين ما رأيت منكم، لقلت للمسلمين إنه قد ظهر لي في السنة السابعة عشرة من دعوتي إياكم إلى الاتفاق والتعاون مع هؤلاء الناس على ترقية البلاد، إنهم لا يمكن أن يتفقوا معكم، ولا يرضيهم منكم إلا خروجكم من دينكم، أو إقامتكم فيه على خوف، لا تدفعون عنه بحق، ولا تقابلون محاولي إبطاله وإخراجكم منه بالمثل ولا دون المثل؛ ولكن من فضل الله على عباده أن مثل هؤلاء الغلاة قليل، ولهذا لا نيأس من خطتنا، ولا نرجع عن قاعدتنا وهي: (نتعاون على ما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) .

المسألتان الشرقية والصهيونية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألتان الشرقية والصهيونية ما تبددت ثروة شريف باشا الكبير في مصر إلا وكان بددها مكونًا لثروات جديدة لم تكن، ومددًا لثروات أخرى ومزيدًا فيها، ذهبت تلك الثروة الكبيرة ممن عجزوا عن حفظها بله تنميتها، إلى أيدي القادرين على ذلك. وكذلك تتبدد الدول فتتألف من الكبيرة منها دول متعددة، وتنمى وتتسع دول أخرى - سنة الله في تغذي الأحياء بفرائسها - من أفراد الجنة (الميكروبات) والهوام إلى جماعات البشر؛ أرقى أنواع الحيوان. ومن عجائب العِبَر في تفاوت همم البشر، أن ترى كاتبًا صغيرًا في خدمة غني كبير يطمع أن يرث ثروته أو ينشئ لنفسه مثلها، وذلك الغني يائس مِن حفظ ثروته واستبقائها وإن تعجب من تكون ممالك البلغار واليونان والصرب والجبل الأسود والألبان مِن أملاك الدولة العثمانية في أوربا، وتغذي الدول الكبرى بأملاكها في إفريقية وفتح أفواههن لابتلاع أملاكها في آسية. فأعجب من ذلك كله تصدي جمعية من يهود أوربة لتكوين دولة جديدة في البلاد المقدسة من هذه المملكة تتألف من مهاجرة فقراء اليهود الممزقين في جميع أطراف الأرض بمساعدة هذه الجمعية؟ فكيف تسمو همة جمعية أسسها رجل من اليهود إلى تكوين دولة من أوزاع المهاجرين الفقراء في بلاد تتنازع على شبر الأرض فيها أقوى الأمم والدول وتسفل همة أصحاب هذه البلاد عن حفظها لأنفسهم، دع سمو الهمة إلى تأسيس ملك جديد، في قطرٍ قريبٍ أو بعيدٍ، وهكذا تموت الناس وتحيا، وهكذا تردى وترقى، وأسباب ذلك ظاهرة لا محل هنا لشرحها، وكلها تدور حول العلم أو الجهل، وعلو الهمة أو وطوؤها، وكبر المقاصد وصغرها. (والعلم ما يعرّفك مَن أنت ممن معك) . علم الصهيونيون أن الدول الكبرى لا يسمحن لواحدة منهن بامتلاك مهبط الوحي ومصدر الدين الموسوي والعيسوي، وأنه إذا زال ملك الترك من بلاد فلسطين فلا بد أن تكون مستقلة تحت حماية جميع الدول (وهذا رأي بعضهم في الحجاز أيضًا) فطمعوا في إرضاء الدول بأن تحل أشكال التنازع بين الدول والمذاهب المسيحية بأن يكون اليهود هم أصحاب الملك في هذه المملكة؛ بل طمعوا أيضًا في إرضاء جمعية الاتحاد والترقي بذلك؛ بل يقال: إنهم أقنعوها به فهي تساعدهم على التمهيد له لتقطع الطريق على العرب وتكثر خصومهم في بلادهم، ولا محل هنا للبحث في إثبات هذا القول أو نفيه، وإنما جئنا بهذه المقدمة كلها لأجل تذكير الذين أكثروا القول في المسألة الصهيونية من كتّاب العرب بأنهم ما فتئوا يدورون حولها ولمّا يدخلوا فيها. يجب على زعماء العرب أهل البلاد أحد أمرين: إمّا عقد اتفاق مع زعماء الصهيونيين على الجمع بين مصلحة الفريقين في البلاد إن أمكن - وهو ممكن قريب إذا دخلوا عليه من بابه، وطلبوه بأسبابه - وإما جمع قواهم كلها لمقاومة الصهيونيين بكل طرق المقاومة، وأولها تأليف الجمعيات والشركات، وآخرها تأليف العصابات المسلحة التي تقاومهم بالقوة - وهو ما تحدّث به بعضهم على أن يكون أول ما يعمل، وإنما هو الكيّ - والكيّ آخر العلاج كما يقال.

السيدة نعمى آل رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيدة نُعْمَى آل رضا في النصف الثاني من ليلة الأحد سادسة ليالي شهر ربيع الأنور وهبنا الله تعالى بنتًا، سمّيناها نُعْمَى، واللهَ نسأل أن يحقق معنى الاسم في المسمّى، وقد فاتنا أن نذكر ذلك في الجزء الماضي.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حديث صحيفة علي كرّم الله وجهه (س12) من صاحب الإمضاء بمصر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد فأرجوكم شرح حديث علي الذي نقلتموه في (ص483 م 16) من المنار وقوله فيه: (وما في هذه الصحيفة: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكفار) فما الذي تعرفه عن هذه الصحيفة؟ وأين هي؟ ولماذا أهملها المسلمون؟ وهل ما فيها متفق عليه في جميع المذاهب؟ وإن لم يكن متفقًا عليه فلِمَ ذلك؟ ولماذا أمر - صلى الله عليه وسلم - بكتابتها مع أنه نهى عن كتابة شيء عنه غير القرآن؟ ومتى أمر بكتابتها؟ ومَن كتبها وأين؟ وكيف لا يقتل المسلم بالكافر؟ فالرجاء الإجابة الشافية عن كل هذه الأسئلة كعادتكم حتى لا نحتاج لمزيد بيان بعد ذلك. (المخلص محمد توفيق صدقي) (ج) الحديث رواه الجماعة؛ أحمد والشيخان وأصحاب السنن بألفاظ متقاربة. أمّا البخاري فقد روى الحديث عن أبي جحيفة في كتاب العلم بلفظ: (قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر) . ورواية الكشميهني (وأن لا يقتل ... إلخ) . وفي باب فكاك الأسير من كتاب الجهاد بلفظ: (قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما أعلمه، إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلمٌ بكافرٍ) . وفي باب الدِيَات بلفظ: (سألت عليًّا رضي الله عنه: هل عندكم شيء ممّا ليس في القرآن؟ - وقال ابن عيينة مرةً: ممّا ليس عند الناس - فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهمًا يعطى رجل في كتابه، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ... إلخ) . ورواه في باب حرم المدينة من كتاب الحج عن إبراهيم التيمي عن أبيه بلفظ: عن علي - رضي الله عنه - قال: ما عندنا شيء إلا كتاب الله، وهذه الصحيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثًا، أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل. (وقال) : وذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومَن تولّى بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل) . وفي باب ذمّة المسلمين من كتاب الجزية بلفظ (خطبنا علي فقال: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. قالوا: وما في هذه الصحيفة؟ فقال فيها الجراحات وأسنان الإبل، والمدينة حرام ما بين عير إلى كذا، فمَن أحدث فيها حدثًا أو آوى فيها محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل. ومتى تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك وذمة المسلمين واحدة، فمَن أخفر مسلمًا فعليه ذلك) . وفي باب إثْم مَن عاهد ثم غدر بلفظ: عن علي قال: ما كتبنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآن وما في هذه الصحيفة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المدينة حرام ما بين عائر إلى كذا، فمَن أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف، وذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمَن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومَن والى قومًا بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل) . وفي باب إثم مَن تبرّأ مِن مواليه بلفظ: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله غير هذه الصحيفة، (قال) فأخرجها فإذا فيها أشياء مِن الجراحات وأسنان الإبل، (قال) وفيها المدينة حرام ... إلخ) وذكر مسألة الولاء فمسألة الذمة بمثل ما تقدم) . وفي باب كراهة التعمق والتنازع والغلوّ في الدين مِن كتاب الاعتصام بلفظ: خطبنا علي على منبر من آجرّ فقال: والله ما عندي مِن كتابٍ يُقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة، فنشرها فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها المدينة حرم من عير إلى كذا، فمَن أحدث فيها حدثًا فعليه لعنة الله - … وإذا فيه: ذمّة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمَن أخفر مسلمًا فعليه … (إلا أنه قال) : لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً. وروايات مسلم وأصحاب السنن بمعنى روايات البخاري، وصّرح مسلم بِحَدَّي المدينة وهما عير وثور (جبلان) ، قال الحافظ في فتح الباري في الكلام على حديث علي من طريق إبراهيم التيمي عن أبيه: وسبب قول علي هذا يظهر مما أخرجه أحمد من طريق قتادة عن أبي حسان الأعرج أن عليًّا كان يأمر بالأمر فيقال له: (فعلناه) . فيقول: صدق الله ورسوله. فقال له الأشتر: إن هذا الذي تقول؛ أهو شيء عهده إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما عهد إليّ شيئًا خاصةً دون الناس إلا شيئًا سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي، فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة فإذا فيها - فذكرت الحديث - وزاد فيه: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على مَن سِواهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهدٍ في عهده. (وقال فيه) : إن إبراهيم حرّم مكة، وإنّي أحرم المدينة ما بين حَرَّتَيْها وحماها كله، لا يُختلى خلاها ولا يُنفّر صيدُها، ولا تُلتقط لقطتُها، ولا يُقطع منها شجرةٌ، إلا أن يعلف رجلٌ بعيره، ولا يُحمل فيها السلاح لقتالٍ) ، والباقي نحوه. وذكر في موضعٍ آخر أن سبب سؤال علي زَعْم بعضهم أن النبي خصه بشيء دون الناس. وقال في الكلام على حديث في باب إثم مَن تَبَرّأ من غير مواليه: وكان فيها أيضًا ما مضى في الخمس من حديث محمد ابن الحنفية أن أباه علي بن أبي طالب أرسله إلى عثمان بصحيفةٍ فيها فرائض الصدقة، فإن رواية طارق بن شهاب عن علي في نحو حديث الباب عند أحمد أنه كان في صحيفته فرائض الصدقة. وقال الحافظ: إن الصحيفة كانت مشتملة على كل ما ورد؛ أي فكان يذكر كل راوٍ منها شيئًا، إمّا لاقتضاء الحال ذكره دون غيره، وإمّا لأن بعضه ملمٌّ يحفظ كل ما فيها أو لم يسمعه، ولا شك أنهم نقلوا ما نقلوه بالمعنى دون التزام اللفظ كله، ولذلك وقع الخلاف في ألفاظهم، ولم يقل الرواة: إنه قرأها عليهم برمّتها فحفظوها أو كتبوها عنه؛ بل تدل ألفاظهم على أنه كان يذكر ما فيها أو بعضه من حفظه، ومَن قرأها لهم كلها أو بعضها لم يكتبوها؛ بل حدّثوا بما حفظوا، ومنه ما هو من لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومنه ما هو إجمالٌ للمعنى كقوله: (العقل وفكاك الأسير) ؛ فإن المراد بالعقل: دِيَةُ القتل. وسميت عقلاً لأن الأصل فيها أن تكون إبلاً تعقل؛ أي تربط بالعقل في فِنَاء دار المقتول أو عصبته المستحقين لها. وقوله: (أسنان الإبل) في بعض الروايات معناه ما يشترط في أسنان إبل الدية أو الصدقة. وفكاك الأسير ما يفك به من الأسير من فداءٍ أو مالٍ. ففي الصحيفة بيان ذلك، لا لفظ (العقل، وفكاك السير وأسنان الإبل) . وجملة القول أننا لا نعلم أن أحدًا كتبَ عن أمير المؤمنين ما كان في تلك الصحيفة بنصه، ولا أنه هو كتبها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال في رواية قتادة عن أبي حسان أنه سمع شيئًا فكتبه. وأمّا كتابة الصحيفة مع ما ورد من النهي عن كتابة شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن، فيقال فيه: إن النهي عن الكتابة معارض بالأمر بها كحديث (اكتبوا لأبي شاه) وغيره، والكتابة لأهل اليمن، وكتاب الصدقات الذي كتبه أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أنس لمّا وجّهه إلى البحرين؛ أي عاملاً على الصدقة. فإنه قال فيه: (إن هذه فريضة وفي رواية فرائض الصدقة التي فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين والتي أمر بها رسوله ... إلخ) ورواه الشافعي وأحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم. وروى أبو داود والترمذي وابن ماجهْ عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قُبِضَ فقرنه بسيفه. فعمل به أبو بكر حتى قُبِضَ ثُم عمل به عمر حتى قُبِضَ ... إلخ. هذا لفظ أبي داود ثم بيّنه بنحو حديث أنس مختصرًا ولم يذكر الزهري البقر. وفي رواية عن يونس بن يزيد عن الزهري قال هذه نسخة كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه في الصدقة وهو عند آل عمر بن الخطاب، قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر فوعيتها على وجهها، ثُم ذكر أن عمر بن عبد العزيز انتسخها. وقد تفرّد بوصل هذا الحديث سفيان بن حسين وهو من رجال مسلم إلا أنه ضعيف فيما يرويه عن الزهري خاصة، وتابعه سليمان بن كثيرٍ مِن رجال الصحيحين، وفي رواية أبي داود لحديثِ أنس أن الكتاب كان عليه ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك مما ورد في الكتابة. فمِن الناس مَن يجعل الإذن ناسخًا، ومنهم مَن يجعل أحد النصين مطلقًا والآخر مقيدًا كتقييد كون الكتابة عنه لتبليغ نصّها والتعبد بلفظها عنه كالقرآن، لئلا يشتبه بعض الناس، فيمتنع التنافي بينهما حينئذٍ. وقد سَبَقَ للمنار البحث في ذلك كما يعلم السائل. وأمّا الأخذ بالأحكام المرْوية عن تلك الصحيفة: هل هو متفق عليه أم لا؟ فجوابه: إن العلماء لم يتفقوا على العمل بها، فمنهم مَن لم يحرم المدنية كمكة، ومنهم مَن يقول: يقتل المؤمن بالكافر؛ كالحنفية، ومَن خالف مِن العلماء شيئًا مِمَّا في الصحيفة فله مِن الدليل المعارض له ما يراه مرجحًا عليه، كاحتجاجهم بإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لِمَن صاد النغر (طائر أحمر المنقار كالعصفور) على جواز صيد المدنية، على أن تلك واقعة حال مجهول تاريخها، وكاحتجاجهم على قتل المؤمن بالكافر بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلمًا بمعاهد وقال: (أنا أكرم من وفى بذمته) . رواه البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني مرسلاً وهو ضعيف. وبقوله في بعض روايات حديث الصحيفة وفي أحاديث أخرى (لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده) قالوا معناه المناسب لعطفه على منع قتل المؤمن بالكافر: ولا يقتل معاهد حال كونه في عهده لم ينقضه بكافر. وحينئذٍ يكون المراد بالكافر الحربي، أي من كان محاربًا للمسلمين بالفعل أو بالقوة بأن لم يكن بينه وبينهم عهدٌ ولا ذمةٌ. لأنَّ المعاهد والذميَّ لا يقتل بالحربي إجماعًا، وبعموم أدلة القصاص، وليس هذا محل تحرير هذا البحث، وإنك تجد تحرير الأدلة فيه من غير تعصبٍ في (فتح الباري) و (نيل الأوطار) . فمَن صح عنده قتل المسلم بالكافر فله أن يعدَّه من عجائب مبالغة الإسلام في العدل والمساواة، ومَن صح عنده خلافه فلا يراه بدعًا في أعمال الأمم الفاتحة، والزمن زمن الأحكام العرفية أو العسكرية؛ بل ترى الإفرنج لا يقبلون أن يكونوا مساويين لأمم الشرق والجنوب في الدماء لا في البلاد التي يفتحونها فتحًا حربيًا ولا سلميًّا ولا في البلاد التي يكونون فيها نزلاء معاهدين كالضيوف. أمّا أحكامهم العرفية فحسبك نموذجًا منها ما جرى في (دنشواي) من هذه البلاد من تمزيق جلود بعض المصريين بالضرب المُبرح بالسياط ذات العقد، ثُم شنقهم وصلبهم على أعين الناس من رجالٍ ونساءٍ وأطفال مِن أهلهم وغيرِ أهْلهم؛ لأنهم تجرَّؤوا على بعض عسكر الإنكليز ال

حقيقة الإعجاز

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

_ حقيقة الإعجاز [*] أما الذي عندنا في وجه إعجاز القرآن، وما حققناه بعد البحث، وانتهينا إليه بالتأمل وتصفح الآراء وإطالة الفكر وإنضاج الروية. وما استخرجناه من القرآن نفسه في نظمه ووجه تركيبه واطراد أسلوبه، ثُمّ ما تعاطيناه لذلك من التنظير والمقارنة واكتناه الروح التاريخية في أوضاع الإنسان وآثاره، وما نتج لنا من تتبع كلام البلغاء في الأغراض التي يقصد إليها، والجهات التي يعمل عليها، وفي رد وجوه البلاغة إلى أسرار الوضع اللغوي التي مرجعها إلى الإبانة عن حياة المعنى بتركيب حي من الألفاظ يطابق سنن الحياة في دقّة التأليف وإحكام الوضع وجمال التصوير وشدّة الملاءمة، حتى يكون أصغر شيء فيه كأكبر شيء فيه - نقول: إن الذي ظهر لنا بعد كل ذلك واستقرّ معنا أن هذا القرآن معجزٌ بالمعنى الذي يُفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه. فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغًا، وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة، وإنما هو أثر كغيره من الآثار الإلهية يشاركها في إعجاز الصنعة وهيئة الوضع، وينفرد عنها بأن له مادة من الألفاظ كأنها مفرغة إفراغًا مِن ذوب تلك المواد كلها. وما نظنه إلا الصورة الروحية للإنسان. إذا كان الإنسان في تركيبه هو الصورة الروحية للعالم كله، فالقرآن معجزٌ في تاريخه دون سائر الكتب، ومعجزٌ في أثره الإنساني، ومعجزٌ في حقائقه. وهذه وجوه عامة لا تخالف الفطرة الإنسانية في شيء، فهي باقية ما بقيت. وقد أشرنا إليها في بعض الفصول المتقدمة، على أنها ليست من غرضنا في هذا الباب. وإنما مذهبنا بيان إعجازه في نفسه من حيث هو كلام عربي؛ لأننا إنما نكتب في تاريخ الآداب. ونحن في كل ما نضعه من هذا الكتاب إنما نسلك الجانب الضيق من الطريق، ونقتص الأثر الطامس، ونلتزم الخطة التي تحمل عليها النفس حملاً. وقد كان فيما قدمناه؛ بل فيما دونه مقنع لو آثرنا ما تستوطئه النفس. وعطفنا على ما تنازع إليه من السكون، كلما انتهت إلى حجة واضحة أو استبانت لائحة مسفرة، ولكنّا نمضي ما اعتزمنا فاللهم عونك واللهم عونك. هذا ولا بدّ لنا قبل الترسل في بيان ذلك الإعجاز أن نوطئ بنُبَذٍ من الكلام في الحالة اللغوية التي كان عليها العرب عندما نزل القرآن فسنقلب من كتاب الدهر ثلاث عشرة صفحة تحتوي ثلاثة عشر قرنًا لنتصل بذلك العهد. حتى نخبر عنه كأننا من أهله وكأنه رأي العين. وإنما سبيل الصحة فيما نحن فيه أن يشهد عليه الشاهدان (العين والأذن) إذ كان من شأنهما أن لا تثبت دعوى في حادثة دون أن يشهد عليها أحدهما أو كلاهما. بلغ العرب في عهد القرآن مبلغًا من الفصاحة لم يُعرف في تاريخهم من قبل، فإن كل ما وراءه إنما كان أدوارًا من نشوء اللغة وتهذيبها وتنقيحها واطرادها على سنن الاجتماع، فكانوا قد أطالوا الشعر وأُفتنوا فيه وتوافى عليه من شعرائهم أفراد معدودون، كان كل واحد منهم كأنه عصر من تاريخه، بما زاد في محاسنه وابتدع من أغراضه ومعانيه، وما نفض عليه من الصبغ والرونق، ثم كان لهم من تهذيب اللغة واجتماعهم على نمطٍ من القرشية يرونه مثالاً لكمال الفطرة الممكن أن يكون، وأخذهم في هذا السمت ما جعل الكلمة نافذة في أكثرهم، لا يصدها اختلافٌ من اللسان، ولا يعترضها تناكرٌ في اللغة، فقامت فيهم بذلك دولةُ الكلام، ولكنها بقيت بلا ملك حتى جاءهم القرآن. وكل مَن يبحث في تاريخ العرب وآدابهم وينفذ إلى ذلك من حيث تنفذ به الفطنة وتتأتى حكمة الأشياء، فإنه يرى كل ما سبق على القرآن من أمر الكلام العربي وتاريخه إنما كان توطيدًا له، وتهيئة لظهوره، وتناهيًا إليه، ودُربة لإصلاحهم به، وليس في الأرض أمة كانت تربيتها لغوية غير أهل هذه الجزيرة، فما كان فيهم كالبيان آنَقَ منظرًا وأبدع مظهرًا، وأمدّ سببًا إلى النفس، وأردّ عليها بالعاقبة، ولا كان لهم كذلك البيان أزكى في أرضهم فرعًا، وأقْوم في سمائهم شرعًا، وأوفر في أنفسهم ريعًا، وأكثر في سوقهم شراءً وبيعًا. وهذا موضع عجيب للتأمل ما ينفد عجبه على طرح النظر وإبعاده، وإطالة الفكر وترداده، وأي شيء في تاريخ الأمم أعجب من نشأة لغوية، تنتهي بمعجزة لغوية، ثم يكون الدين والعلم والسياسة وسائر مقومات الأمة مما تنطوي عليه هذه المعجزة، وتأتي به على أكمل وجوهه وأحسنها، وتخرج به للدهر خير أمة كان عملها في الأمم صورة أخرى من تلك المعجزة؟ هذا على أنه - كما علمت - أنشأهم على الكبر، ولم يجر معهم على المألوف من مذاهب تربية الأمم، ولا هو كان طباقًا لروح الأخلاق التاريخية فيهم التي تظهرها العادات على كل دين وشريعة وسياسة؛ إذ كانت ميراث الدهر، وكانت مستقرة في كل عرق سار، وفي كل شبه نازع. وكانت روح المجموع لا تكون إلا منها، ولا تعرف إلا به، ولا تظهر إلا فيها. فما عدا أن سفَّهَ أحلامَهم، ونكَّس أصنامهم، وأزرى عليهم وعلى آبائهم الأولين وقام على رؤوسهم بالتقريع والتأنيب، وهم أهل الحمية والحفاظ، وأهل النفوس التي تصب كالمعاني في الألفاظ، ثم ذهب بطريقة كانت لهم معروفة، وعادات كانت لهم مألوفة، وأرسلهم في طريق العمر إلى الفناء، فكأنما طلع بهم من أولها، وكأنهم بعد ذلك على آدابه نشأوا وهم أغفال وأحداث؛ بل كأنهم سلالة أجيال كان القرآن في أوليتهم المتقادمة فكانوا هم الوارثين لا الموروثين، والناشئين لا المنشئين، مصداقًا للحديث الشريف: (خير القرون قرني ثم الذي يليه) . ولَعَمْرُكَ إن هذا لعجيب، وليس أعجب منه إلا أن أول جيل أنسل من هؤلاء القوم كان هو الذي تناول مفتاح العالم فأداره. وقد خرج للغاية التي جاء بها القرآن، وكأنه دار معها في الأصلاب دهرًا طويلاً، حتى أحكمته الوراثة الزمنية، وردّت عليه من الطباع ما لا يتهيأ إلا في سلالةٍ بعد سلالة وجيلٍ بعد جيل، من قوم قد مرّوا منذ أولهم في أدوار الارتقاء. على سنن واضح وطريق نهج، لم ينتقض لهم في أثناء ذلك طبع من طباع الاجتماع، ولا رذلت شيمة، ولا التَوَت طريقة، ولا سقطت مروءة، ولا ضلّ عقل، ولا غوت نفس. ولا عُرض لهم بغي ولا أفسدتهم عادة. وأين هذا كله أو بعضه من قوم كانوا بالأمس عاكفين على الأوثان يأكل بعضهم بعضًا. ولهم العادات المرذولة، والعقائد السخيفة، والطباع الممزوجة - إلى غيرها ممّا يحمل عليه الإفراط فيما زعموه فضيلةً. كحمية الأنف واستقلال النفس، ومما كان من عكس ذلك كالتسليم للعادة والانقياد لطبيعة التاريخ. والمضي على ما وجدوا؛ ثم الموت على ما وُلِدُوا؟ لا جَرَم أن في ذلك سرًّا من أسرار الفطرة. فلولا أن أكبر الأمر بينهم كان للفصاحة وأساليبها بما استقام لهم من شأن الفطرة اللغوية وما بلغوا منها كما فصّلناه في بابه، حتى صارت هذه الأساليب كأنها أعصاب نفسية في أذهانهم. تنبعث فيها الإرادة بأخلاق مِن معاني الكلام الذي يجري فيها، وتعتزهم على أخلاقهم وطباعهم فتصرفهم إلى كل وجه، كأنها إرادة جبّار معتزم لا يلوي ولا يستأني ولا يتئد. ولولا أن القرآن الكريم قد ملك سرّ هذه الفصاحة وجاءهم منها بما لا قبل لهم بردّه، ولا حيلة لهم معه. مما يشبه على التّمام أساليبَ الاستواء في علم النفس. فاستبد بإرادتهم، وغلب على طباعهم، وحال بينهم وبين ما نزعوا إليه من خلافه. حتى انعقدت قلوبهم عليه وهم يجهدون في نقضها، واستقاموا لدعوته وهم يبالغون في رفضها، فكانوا يفرّون منه في كل وجه ثم لا ينتهون إلا إليه؛ لأنه أخذ عليهم بفصاحته وإحكام أساليبه جهات النفس العربية. والمكابرة في الأمور النفسية لا تتجاوز أطراف الألسنة، فإن اللسان وحده هو الذي يستطيع أن يتبرأ من الشعور، إذ هو أداة مغلبة تتعاورها الألفاظ، والألفاظ كما يرمى بها في حقٍّ أو باطلٍ، لا تمتنع على مَن أرادها لأحدهما أو لهما جميعًا. قلنا: لولا أن ذلك على وجهه الذي عرفت لَمَا صار أمر القرآن إلى أكثر مما ينتهي إليه أمر كل كتاب في الأرض؛ بل لَمَا كان له في أولئك العرب أمرٌ ألبتة؛ لأنهم قومٌ أمّيُّون قد تأثلت فيهم طباع هذه الأمية، وكان لهم الشيء الكثير من العادات والأخبار والتواريخ، وبينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ثم هم لم يعدموا الحكماء من خطبائهم وشعرائهم، ومن جنح إلى التأله منهم، كأمية بن أبي الصلت وقس بن ساعدة وغيرهما. وما جاءهم القرآن بشيء لا يفهمونه ولا يثبتون معناه على مقدار ما يفهمون، ولا كان هذا القرآن كتاب سياسة ولا نظام دولة، ولو كان أمرًا من ذلك ما حفلوا به ولا استدعى هو منهم الإجابة؛ لأن لهم منزعًا في الحرية لم تغلبهم عليه دولة من دول الأرض، ولا أفلح في ذلك مَن حاوله مِن ملوك هذه الدول في الأكاسرة والقياصرة والتبابعة، بل خلقوا عربًا يشرقون ويغربون مع الشمس حيث أرادوا وحيث ارتادوا. وهم على ذلك لم يجمعهم ولم يخرجهم إلى الدنيا ولم يقلبهم على تصاريف الأمور غير القرآن. فلو أن هذا القرآن غير فصيح، أو كانت فصاحته غير معجزة في أساليبها التي ألقيت إليهم. لَمَا نال منهم على الدهر منالاً، ولخلا منه موضعه الذي هو فيه، ثم لكان سبيله بينهم سبيل القصائد والخطب والأقاصيص. وهو لم يخرج عن كونه في الجملة كأنه موجود فيها بأكثر معانيه. قبل أن يوجد بألفاظه وأساليبه، ثم لَنَقَضُوه كلمةً كلمةً وآيةً وآيةً , دون أن تتخاذل أرواحهم، أو تتراجع طباعهم. ولكان لهم وله شأنٌ غير ما عُرف، ولكن اللهَ بالغُ أمره. وقد أومأنا في بعض ما سلف إلى أن هذا القرآن يكبر أن يكون حيًا بروح عصره الذي أنزل فيه. فلا يستطيع من يقول بإعجازه أن يقصره على زمن الجاهلية، أو يتعلل في ذلك. وهو بعد من الإحكام والسمو وشرف الغاية وحسن المطابقة، بحيث تتعرف منه روح كل أمة قد فرعت الأمم واستولت على الأمد التاريخي، ونالت ما لا ينال إلا مع بَسْطة في العلم، وزيادة في المعرفة بوجوه العمل، وفضل من القوة، ومع كمال المنزلة في كل ذلك وأشباهه من مقومات الأمة، فذلك ما علمت. وإن ههنا وجهًا آخر هو أعجب ما أومأنا إليه، على أنه ضريبة في الحكمة وقسيمة في الاعتبار. إذ هو متعلقٌ بطبيعة الأرض كما أن ذلك متعلقٌ بطبيعة أهلها، فإن من الثابت البيّن أن لهيئة الطبيعية جهة من التأثير في تهيئة الأخلاق، فترى في الجهات المقفرة أو المخوفة. أو التي يلقي منظرها في نفسك أُهْبَة دون المحبَّة، والفزع دون الاطمئنان. أقوامًا كأنما نشأوا في المعابد وولِدوا في الصوامع، فليس في أخلاقهم إلا الاستسلام للوهم والتخيل، وإلا الخوف مِن كل شيء تكون فيه روح الطبيعة، كما زعم العرب من البيات مع الغيلان وتزوج السعالي ومجاوبة الهواتف، والروغان عن الجن إلى الحن، واصطياد الشق ومحاربة النسناس وصحبة الرئيّ، وما كان لهم من خدع الكاهن وتدسيس العرّاف، ومن العيافة والتنجيم والزجر والطَرْق بالحصى [1] وغيرها من خرافاتهم، ثم الخوف من كل شيء تعرف فيه روح الطبيعة كالأوثان وسائر ما قدّسته العادات والشعائر، وإن كانوا في غير ذلك أهل جلد ونجدة ومضاء وبديهة وعارضة؛ لأن هذه الصفات وأمثالها تكتسب من طبيعة الخيال حدّة وشدّة، وأنت واجدٌ عكس ذلك فيمن تكون طبيعة أرضهم ساكنة مطمئنة لا تجتاح أهلها ولا ترميهم بالفزع، فإنهم لا يقرّون على خوفٍ وتوثب، ولا يكون في أخلاقهم الجنوح إلى عبادةِ ما يخيفهم، أو تقديس ما اتصلت به روح الطبيعة، ثم لا

الرضا بقضاء الله تعالى وقدره

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرضا بقضاء الله تعالى وقدره قد اضطربت في هذه المسألة الأفهام، وزَلَّت فيها أقلام وأقدام، وأوردوا فيه أبياتًا ليهودي حقيقة أو حكاية يقول فيها: إذا قضى الله أن يكون يهوديًّا وأمَره أن يرضى بقضائه فما حيلته في ذلك؟ وأوردوا له أجوبة لم يرها الكثيرون مقنعة. ولذلك طلب الشعراني في بعض كتبه ممن ظفر بجواب أحسن مما أورده أن يلحقه بما ذكره منها. ولم نر لأحد من العلماء تحريرًا لهذه المسألة كتحرير ابن القيم لها في كتاب (مدارج السالكين) وأين نجد كابن القيم في المحققين المحررين؟ قال قدّس الله روحه في شرح كلام الهروي من الجزء الثاني: قوله: (وهو الرضاء عنه في كل ما قضى) هاهنا ثلاثة أمور: الرضاء بالله ربًّا [1] ، والرضاء عن الله، والرضاء بقضاء الله. فالرضاء به فرض، والرضاء عنه، وإن كان من أجَلّ الأمور وأشرف أنواع العبودية - فلم يطالب به العموم لعجزهم ومشقته عليهم - وأوجبته طائفة كما أوجبوا الرضاء به، واحتجّوا بحجج (منها) : أنه إذا لم يكن راضيًا عن ربه فهو ساخط عليه؛ إذ لا واسطة بين الرضاء والسخط، وسخط العبد على ربّه منافٍ لرضائه به ربًّا. قالوا: وأيضًا فعدم رضائه عنه يستلزم سوء ظنّه ومنازعته له في اختياره لعبده، وإن الربّ تبارك وتعالى يختار شيئًا ويرضاه ولا يختاره العبد ولا يرضاه، وهذا منافٍ للعبودية. قالوا - وفي بعض الآثار الإلهية (من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، فليتخذ له [2] ربًّا سواي) ولا حجّة في شيء مِن ذلك. أمّا قوله [3] : (لم يتخلص من السخط على ربه إلا بالرضاء عنه إذ لا واسطة بين الرضاء والسخط) فكلام مدخول، لأن السخط بالمقضي لا يستلزم السخط على مَن قضاه، كما أن كراهة المقضي وبغضه والنفرة عنه لا يستلزم تعلّق ذلك بالذي قضاه وقدّره، فالمقضي قد يسخطه العبد وهو راضٍ عمن قضاه وقدّره؛ بل يجتمع تسخطه والرضا بنفس القضا - كما سيأتي إن شاء الله - وأما قولكم [4] : (إنه يستلزم سوء ظن العبد بربه ومنازعته له في اختياره) فليس كذلك؛ بل هو حسن الظن بربه في الحالتين، وإنه إنما يسخط المقدور وينازعه بمقدور آخر، كما ينازع القدر الذي يكرهه ربه بالقدر الذي يحبه ويرضاه، فينازع قدر الله بالله لله [5] ، كما يستعيذ برضاه من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، ويستعيذ به منه. فأما (كونه يختار لنفسه خلاف ما يختاره الرب) فهذا موضع تفصيل لا يحسب عليه ذيل النفي والإثبات. فاختيار الرب تعالى لعبده نوعان: (أحدهما) : اختيار ديني شرعي، فالواجب على العبد أن لا يختار في هذا النوع غير ما اختاره له سيده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (الأحزاب: 36) ، فاختيار العبد ذلك منافٍ لإيمانه وتسليمه ورضاه بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ رسولاً. (النوع الثاني) : اختيار كونيّ قدريّ لا يسخطه الرب؛ كالمصائب التي يبتلي الله بها عبده، فهذا لا يضره فراره منها إلى القدر الذي يرفعها عنه ويدفعها ويكشفها، وليس في ذلك منازعة للربوبية - وإن كان فيه منازعة للقدر بالقدر - فهذا يكون تارةً واجبًا، وتارةً مستحبًّا، وتارةً يكون مباحًا مستوي الطرفين، وتارةً يكون مكروهًا، وتارةً يكون حرامًا. وأمّا القدر الذي لا يحبه ولا يرضاه، مثل قدر المعايب والذنوب، فالعبد مأمور بسخطها ومنهي عن الرضاء بها. وهذا هو التفصيل الواجب في الرضاء بالقضاء، وقد اضطرب الناس في ذلك اضطرابًا عظيمًا ونجا منه أصحاب الفرق والتفصيل، فإن لفظ الرضا بالقضاء لفظ محمود مأمور به، وهو من مقامات الصديقين، فصارت له حرمة أوجبت لطائفة قبوله من غير تفصيل، وظنوا أن كل ما كان مخلوقًا للرب تعالى فهو مرضي له ينبغي الرضا به، ثُم انقسموا فرقتين، فقالت فرقة: إذا كان القضاء والرضاء متلازمين فمعلوم أنّا مأمورون ببُغْضِ المعاصي والكفر والظلم، فلا تكون مقضية مقدرة. وفرقة قالت: قد دل العقل والشرع على أنها واقعة بقضاء الله وقدره فنحن نرضى بها. والطائفتان منحرفتان جائرتان عن قصد السبيل، أولئك أخرجوها عن قضاء الرب وقدره، وهؤلاء رضوا بها ولم يسخطوها. هؤلاء خالفوا الرب تعالى في رضائه وسخطه، وخرجوا عن شرعه ودينه، وأولئك أنكروا تعلّق قضائه وقدره بها. واختلفت طرق أهل الإثبات للقدر والشرع في جواب الطائفتين، فقالت طائفة: لم يقم دليلٌ مِن الكتاب ولا السنة ولا الإجماع على جواز الرضا بكل قضاء فضلاً عن وجوبه واستحبابه، فأين أمر الله عباده أو رسوله أن يرضوا بكل ما قضاه الله وقدّره؟ وهذه طريقة كثير مِن أصحابنا وغيرهم، وبه أجاب القاضي أبو يعلى وابن الباقلاني قال: فإن قيل: أفترضون بقضاء الله وقدره؟ قيل له: نرضى بقضاء الله الذي هو خلقه الذي أمرنا أن نرضى به، ولا نرضى من ذلك ما نهانا عنه أن نرضى به، ولا نتقدم بين يدي الله، ولا نعترض على حكمه. وقالت طائفة أخرى: يطلق الرضا بالقضا في الجملة دون تفاصيل المقضي المقدّر. فنقول: نرضى بقضاء الله جملة ولا نسخطه، ولا نطلق الرضا على كل واحد من تفاصيل المقضي كما يقول المسلمون: كل شيء يبيد ويهلك، ولا يقولون: حجج الله تبيد وتهلك، ويقولون: الله رب كل شيء، ولا يضيفون ربوبيته إلى الأعيان المستخبثة المستقذرة بخصوصها. وقالت طائفة أخرى: بل نرضى بالقضاء ونسخط المقضي، فالرضاء والسخط لم يتعلقا بشيء واحد. وهذه الأجوبة لا يتمشى شيءٌ منها على أصول مَن يجعل محبة الله ورضاءه ومشيئته واحدة - كما هو أحد قولي الأشعري وأكثر أتباعه - فإن هؤلاء يقولون: إن كل ما شاءه وقضاه فقد أحبه ورضيه، وإذا كان الكون محبوبًا له مرضيًّا فنحن نحب ما أحبه ونرضى ما رضيه. وقولكم: إن الرضا بالقضاء يطلق جملةً ولا يطلق تفصيلاً. فذلك لا يمنع دخوله في جملة المرضى به، فيعود الأشكال. وقولكم نرضى به من جهة كونها خلقًا لله، ونسخطها من جهة كونها كسبًا للعبد، فكسب العبد إن كان أمرًا وجوديًّا فهو خلق لله فيرضى به، وإن كان أمرًا عدميًّا فلا حقيقة له ترضي ولا تسخط. وأمّا قولكم: ترضى بالقضاء دون المقضي. فهذا إنما يصح على قول مَن جعل القضاء غير المقضي، والفعل غير المفعول، وأما مَن لم يفرّق بينهما فكيف يصح هذا على أصله؟ وقد أورد القاضي أبو بكر على نفسه هذا السؤال فقال: فإن قيل: القضاء عندكم هو المقضي أو غيره؟ قيل: هو على ضربين، فالقضاء بمعنى الخلق هو المقضي، لأن الخلق هو المخلوق، والقضاء الذي هو الإلزام والإعلام والكتابة غير المقضي؛ لأن الأمر غير المأمور والخبر غير المخبر عنه. وهو الجواب لا يخلصه أيضًا؛ لأن الكلام ليس في الإلزام والإعلام والكتابة، وإنما الكلام في نفس الفعل المقدّر المُعلم به المكتوب: هل مقدره وكاتبه سبحانه راضٍ به أم لا؟ وهل العبد مأمور بالرضاء به نفسه أم لا؟ هذا حرف المسألة. وقد أنكر الله سبحانه وتعالى على مَن جعل مشيئته وقضاءه مستلزمًا لمحبته ورضائه، فيكف بمن جعل ذلك شيئًا واحدًا؟ قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ} (الأنعام: 148) ، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النحل: 35) ، {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْم} (الزخرف: 20) ، فهم استدلوا على محبته ورضاه لشركهم بمشيئته؛ لذلك عارضوا بهذا الدليل أمره ونهيه. وفيه أبين الرد لقول مَن جعل مشيئته غير محبته ورضاه، فالإشكال إنما نشأ مِن جعْلهم المشيئة نفس المحبة، ثُم زادوه بجعلهم الفعل نفس المفعول، والقضاء عين المقضي، فنشأ من ذلك إلزامهم بكونه تعالى راضيًا محبًّا لذلك، والتزام رضائهم به. والذي يكشف هذه الغمة، ويبصر من هذه العماية، وينجي من هذه الورطة التفريق بين ما فرّق الله بينه، وهو المشيئة والمحبة، فإنهما ليسا واحدًا ولا هما متلازمين؛ بل قد يشاء ما لا يحبه ويحب ما لا يشاء كونه (فالأول) : كمشيئه لوجود إبليس وجنوده، ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه، (والثاني) : كمحبته إيمان الكفار، وطاعات الفجار، وعدل الظالمين وتوبة الفاسقين، ولو شاء ذلك لوجد كله وكان جميعه، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. فإذا تقرّر هذا الأصل، وأن الفعل غير المفعول، والقضاء غير المقضي، وأن الله سبحانه لم يأمر عباده بالرضاء بكل ما خلقه وشاءه - زالت الشبهات، وانحلت الإشكالات، ولله الحمد، ولم يبق بين شرع الرب وقدره تناقض بحيث يظن إبطال أحدهما للآخر؛ بل القدر ينصر الشرع والشرع يصدق القدر، وكل منهما يحقق الآخر. إذا عرف هذا فالرضا بالقضاء الديني الشرعي واجب وهو أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضيًا به بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة لا اعتراض، قال الله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) . فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله، ويرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، ويسلّموا الحكم تسليمًا. وهذا حقيقة الرضاء بحكمه، فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان [6] ، والتسليم في مقام الإحسان. ومتى خالط القلب بشاشة الإيمان، واكتحلت بصيرته بحقيقة اليقين، وحيي بروح الوحي، وتمهدت طبيعته، وانقلبت النفس الأمارة مطمئنة راضية وادعة، وتلقّى أحكام الرب تعالى بصدر واسع منشرح مسلّم، فقد رضي كل الرضا بهذا القضاء الديني المحبوب لله ورسوله. والرضاء بالقضاء الكوني القدري الموافق لمحبة العبد وإرادته ورضاه من الصحة والغنى والعافية واللذّة أمرٌ لازم بمقتضى الطبيعة؛ لأنه ملائم للعبد، محبوب له، فليس في الرضاء به عبودية؛ بل العبودية في مقابلته بالشكر والاعتراف بالمنّة، ووضع النعمة مواضعها التي يحب الله أن توضع فيها، وأن لا يعصى المنعم بها، ويرى التقصير في جميع ذلك. والرضاء بالقضاء الكوني القدري الجاري على خلاف مراد العباد ومحبته مما لا يلائمه ولا يدخل تحت اختياره مستحب، وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي وجوبه قولان، وهذا كالمرض والفقر وأذى الخلق له، والحر والبرد والآلام ونحو ذلك. والرضاء بالقدر الجاري عليه باختياره مما يكرهه الله ويسخطه وينهى عنه، كأنواع الظلم والفسوق والعصيان حرام يعاقب عليه وهو مخالفة لربه تعالى، فإن الله لا يرضى بذلك ولا يحبه، فكيف تتفق المحبة ورضاء ما يسخطه الحبيب ويبغضه؟ ! فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضا. فإن قلت: كيف يريد الله سبحانه أمرًا لا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف تجتمع إرادة الله وبغضه وكراهيته؟ قيل: هذا السؤال هو ال

القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد

الكاتب: محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي ابن المقدسي

_ القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد [*] بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وعليه نتوكل اللهم أرنا الحق حقًّا واهدِنَا لاتَّباعِه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابِه الحمد لذاته وجميل صفاته، والشكر له على آلائه ونعمائه وعطائه وهباته، والصلاة والسلام على عبده ورسوله المبعوث بالدين المتين، والكتاب المبين، سيدنا ومولانا ونبينا محمد الرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه الهداة المهتدين. أما بعد؛ فهذه تعليقة موسومة (بالقول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد) أذكر فيها ما حضرني من بعض مسائل الاجتهاد، واقتداء المقلد بإمام يرى خلاف قول مقلده - بفتح اللام - إما اجتهادًا أو تقليدًا ما سنح للخاطر الفاتر، في الوقت الحاضر من غير تقيد بمراجعة في ذلك وهي نبذة يسيرة من شيء كثير، فأقول وبالله الإعانة الكلام في هذه المسائل على فصول: الفصل الأول اعلم أنه لم يكلف الله أحدًا من عباده بأن يكون حنفيًّا أو مالكيًّا أو شافعيًّا وحنبليًّا؛ بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم، والعلم بشريعته؛ غير أن العلم بها متوقف على الوقوف عليها، والوقوف له طرق، فما كان منها ممّا يشترك به العوام وأهل النظر كالعلم بفريضة الصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء إجمالاً، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس، وغير ذلك مما عُلِمَ من الدين بالضرورة، فذلك لا يتوقف فيه على اتباع مجتهد ومذهب معين؛ بل كل مسلم عليه اعتقاد ذلك. فمَن كان في العصر الأول فلا يخفى وضوح ذلك في حقه، ومَن كان في الأَعصار المتأخرة، فلوصول ذلك إلى علمه ضرورة من الإجماع والتواتر وسماع الآيات والسنن، أي الأحاديث الشريفة المستفيضة المصرّحة بذلك في حق مَن وصلت إليه. وأمَّا ما لا يتوصل إليه إلا بضرب من النظر والاستدلال فمَن كان قادرًا عليه بتوفر آلاته وجب عليه فعله، كالأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، ومَن لم يكن له قدرة عليه وجب عليه الاتباع إلى من يرشده [1] إلى ما كُلِّفَ به ممّن هو أهل النظر والاجتهاد والعدالة، وسقط عن العاجز تكليفه بالبحث والنظر لعجزه بقوله تبارك وتعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ، وقوله عزَّ مِن قائل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ، وهي الأصل في اعتماد التقليد، كما أشار إليه المحقق الكمال بن الهمام في التحرير [2] . *** فصل إذا علمت ذلك؛ فاعلم أن أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد بن محمد بن حنبل رحمة الله عليهم أجمعين، كلٌّ كان من أهل الذكر الذين وجب سؤالهم لمن لم يصل إلى درجة النظر والاستدلال، فإذا عمل أحد من المقلدين في طهارته وصلاته أو شيء مما جرى به التكليف بقول واحد منهم مقلدًا له فيه - لو صادف قوله، ولو لم يعلم به حين العمل فقلده فيه بعد انقضائه على ما ظهر لي في المسألة، كما يدل عليه ما استشهد به في المسألة بعد هذا - فقد أدّى ما عليه، وليس لأحدٍ ممّن هو في درجته التقليد له. قلت: بل ولا للمجتهد الإنكار عليه، كما صرّح به في غير كتب عندنا من تصانيف الصدر الشهيد حسام الدين وغيره من كتب المذهب المعتبرة، كالتجنيس والمؤيد لشيخ الإسلام برهان الدين صاحب الهداية كما نقلته بخطي عنها في مظانّه. إذا ثَبَتَ ذلك فليس لحنفيّ أو مالكيّ أو شافعيّ من المُقَلدين أن يمتنع من الاقتداء بالإمام المخالف لمذهبه، وليس له أن يحتج بأني لمّا قلدت الشافعي وأبا حنيفة - مثلاً - فقد وجب علي الحكم ببطلان ما خالف اجتهاده؛ لأننا نقول: إنما أبيح التقليد بقدر الضرورة، وذلك يندفع بتقليدك له في عملك وكيفيته فقط، وإن شئت قل: في كيفية إيقاع ما كلفت به فقط، وأما الحكم ببطلان مخالفه فليس ذلك إليك؛ بل للكلام مجال في تسويغ ذلك للمجتهد الذي قلدته. وأما أنت - ومَن هو في مرتبتك من المقلدين - فقول (كل مجتهد) ؛ عنده على حدّ سواء؛ إذ ليس الترجيح بالدليل من وظائفك، وإلا كنت في درجتهم ووجب عليك الاجتهاد وارتفع التقليد، ولكن لا بد للعمل في تصحيحه من مستند، فأنت استندت إلى إمامك - ونعم الإمام - وهذا الآخر استند إلى إمامٍ في فعله مثل إمامك أو أعلى منه، فلا يمكنك الحكم على عمله بالبطلان ألبتة، فلست حينئذٍ في تخلفك عن الاقتداء به إلا عاملاً بمحض التعصب، وقد نص علماؤنا وغيرهم من أصحاب المذاهب على حرمة التعصب، وتصويب الصلابة في المذهب. ومعنى الصلابة أي [3] الثبات على ما ظهر للمجتهد من الدليل، وليس ذلك إلا للمجتهد نفسه أو لِمَن هو مِن أهل النظر ممن أُخِذَ بقوله. والتعصب: هو الميل مع الهوى لأجل نصرة المذهب ومعاملة الإمام الآخر ومقلديه بما يحطط عنهم. وقد نصّ في جواهر الفتاوى وغيرها من كتب أصحابنا أن الإمام الشافعي - رحمه الله تعالى - لم يكن له تعصب على أئمتنا رحمهم الله تعالى. *** فصل وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يقتدي بعضهم ببعض، وكذا التابعون لهم، وفيهم المجتهدون ولم يُنَقل عن أحد من السلف - رحمهم الله تعالى - أنه كان لا يرى الاقتداء بمَن يخالف قوله في بعض المسائل؛ ولو في خصوص الطهارة والصلاة؛ بل يقتدي بعضهم ببعض، وربّما اعتقد بعضهم ولاية بعض؛ حتى إن الشافعي - رضي الله عنه - بَعث يطلب قميص الإمام أحمد بن حنبل من بغداد يستشفي به في مدّة مرضه بغسله وشرب مائه - كما رأيته مثبتًا في مناقب أحمد رضي الله عنه - وقد روي ذلك بالعكس [4] ، وكذلك كان الصحابة - رضي الله عنهم - يعامل بعضهم بعضًا، كما يُعْلَمُ ذلك من سيرهم وأحوالهم. ولا يلتفت إلى ما قد تمسك به مَن لا معرفة عنده بأن الاختلاف بينهم لم يكن بينهم بهذه الصفة التي عليها المذاهب الآن؛ لأنَّا قد قررنا أن ذلك لا يمنع؛ لأن الكل كانوا في طلب الحق على حدّ متساوٍ، واجتهاد كل واحد منهم يحتمل الخطأ كغيره بعد تسليم بلوغهم درجة الاجتهاد، وإن تفاوتوا فيه. فَإِنْ قُلْتَ: قد نقل الإمام حافظ الدين النسفي صاحب الكنز والكافي في مصفّاه عن المشايخ المتقدمين: إنّا إذا سُئلنا عمّا ذهبنا إليه في الفروع نجيب بأن ما ذهبنا إليه صواب يحتمل الخطأ، وما ذهب إليه الغير خطأ يحتمل الصواب. انتهى بمعناه، وإن لم يكن بلفظه. وهذا يوجب امتناع المقلد من اتباع إمام يرى مخالفة قول إمامه لكونه خطأ، وما قلد فيه صواب عنده. قلنا: المراد من هذا تخصيص أن ما ذهب إليه أئمتنا هو صواب عندهم مع احتمال الخطأ؛ إذ كل مجتهد قد يصيب وقد يخطئ في نفس الأمر. وأما بالنظر إلينا فهو مصيب في اجتهاده، وهو معنى ما روي أن كل مجتهد مصيب؛ فليس معناه أن الحق يتعدد. وينبغي أن يكون قد أراد الكلام [5] أن للمجتهد الحكم ظنّا لا قطعيّا بأن اجتهاد غيره خطأ. وأما نفس المجتهد المخالف فهو مصيب في العمل باجتهاد نفسه لا مخطئ في ذلك، وإن كان محكومًا بخطأ اجتهاده عند غيره؛ لأنه مأمور باجتهاد نفسه كما لا يخفى. قال الإمام فخر الإسلام علي بن محمد البزدوي في شرح الجامع الصغير في مسألة التحري بالقبلة في الليلة المظلمة: وهذا نص من أصحابنا على أنهم لم يقولوا: كل مجتهد مصيب؛ خلافًا للمعتزلة، فإن من نسب ذلك إليهم فقد تقوّل عليهم، هذا لفظ فخر الإسلام رحمة الله عليه. قلت: وقد ذهب بعضهم إلى أن الحق يتعدد في المسألة، وهو ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد فيها، فقد جعل الله تبارك وتعالى حكم المسألة ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد. ولكن لا نقول به؛ بل معناه أنه مصيب في اجتهاده ثم العلم به، والحق عند الله واحد، ولكن لمّا ظهر لهم بالدليل حكمٌ من الأحكام وجب عليهم اتباع الدليل، ومن ضرورة وجوب الاتباع التصويب، وإلا فالشرع لا يأمر باتّباع الخطأ. ثُم من ضرورة تصويب قولهم تخطئة قول مخالفهم مع احتمال الإصابة من مخالفهم؛ لأن المجتهد لم يحصل له إلا الظن لا القطع بذلك، ولهذا لو حكم بشيء من القطعيات في العقائد يجزم بالإصابة وبتخطئة المخالف، كما ذكره النسفي في تلك المسألة في المصفى أيضًا. فالحاصل أن المراد من أئمتنا ومَن أخذ بقولهم من أهل النظر كمشايخ المذهب الكبار المتقدمين، كالشيخ أبي الحسن الكرخي والإمام أبي جعفر الطحاوي، والمتأخرين مثل شمس الأئمة الحلواني وتلميذه السرخسي وفخر الإسلام البزدوي وأمثالهم من النظّار في القرن الخامس، والإمام قاضي خان وخسرويه صاحب الهداية، وأضرابهما من أهل الأنظار ذوي القدر الخطير في القرن السادس - لو سُئلوا لكان جوابهم ما ذكره. ويرشد إلى ذلك تعبيره بقوله: (لو سئلنا) . وقوله: (عمّا ذهبنا) . إلى آخره. ولم يقل: لو سئل المقلد. فهذا الجواب مقدّر من جانب الأئمة أنفسهم فيما ذهبوا إليه، وليس المراد أن يكلف كل مقلد أن يعتقد ذلك فيما قلد فيه؛ إذ ذلك تقليد فيما لا يحتاج إليه، وهو ممنوع، كما أفدتك من قبل أن التقليد إنما يسوغ بقدر الضرورة، وهو محتاج إلى العلم؛ فلا بد من التقليد في كيفية حصوله، وأما اعتقاد صحة ما قلد فيه ولا يدري [6] بطلان كل ما عداه فليس مكلّفًا. فَإِنْ قُلْتَ: بل هو مكلّف، وإلا لَزِمَ إذًا التكليف مع اعتقاد عدم صحتها. قلت: لا يلزم ذلك إلا لو اعتقد عدم صحة ما قلّد فيه، ونحن لا نقول به؛ بل هو على الصواب ظاهرًا حيث فعل ما عليه، وهو الأخذ بقول مجتهد، وأما تخطئة مَن أخذ بخلاف قول مقلده فما هو مكلف بها. وإذا تقرّر هذا فلا يسوغ لحنفي أو شافعي وَجد في المسجد إمامًا على خلاف مذهبه بعد أن كان من أهل السنة والجماعة ترك الاقتداء به، نظرًا إلى عدم صحة صلاته على مقتضى مذهب إمامه [7] . *** فصل يؤيد ما ذكرته ما نقله التقي الشهني في شرح المختصر والشيخ عثمان الزيلعي وصاحب البحر الرائق وغيرهم عن الإمام الجليل أبي بكر الرازي رحمه الله من صحة الاقتداء بإمام رعف ولم يتوضأ، وهذا يشعر بالاكتفاء باعتقاد الإمام نفسه في صحة صلاته، ولا عبرة حينئذٍ بفسادها في اعتقاد المقتدي، كما أشار إليه النسفي أيضًا، وهذا القول هو المقصود روايته وإن اعتمد خلافة روايةً عندنا. وهو الذي أميل إليه، وعليه يتمشى ما ذهبنا إليه في هذه الوريقات؛ بل أزيد وأقول: والذي يقتضيه النظر فيما ذهبنا إليه لا ينبغي تخصيص عقيدة الإمام بالاعتبار في الصحة؛ بل يقول: يكفي حصول الصحة على قول مجتهد، سواء في ذلك مطابقة عقيدة الإمام والمأموم أو غير مطابقة؛ كمثل شافعي مسَّ فرجه وصلَّى ناسيًا إمامًا، واقتدى الحنفي بالشافعي ثُم نسي ودخل في الصلاة، والحنفي كان عالمًا بمسّه وهو ذاكرٌ له، فنقول: له أن يقتدي به؛ لأنه في حالته بعد المس، وهو متوضئ في اعتقاد الحنفي المقتدي فيكفي ذلك. وقد قال المحقق في فتح القدير في مثل هذه الصورة: إن الأكثر على الصحة؛ خلافًا للهندواني وغيره، ففي هذه الصورة قد اعتبرنا اعتقاد الحنفي المقتدي، واكتفينا بصحتها في عقيدته، وصححنا الاقتداء، كما أنه في مسألة اقتداء الحنفي بالإمام الذي رعف ولم يتوضأ اكتفينا بصحتها في عقيدة الإمام الراعف، وصححنا الاقتداء به، وهو الذي نقلوه عن الإمام الرازي. وقد ذكر الشيخ الإمام المحقق كمال الدين بن الهمام في شرحه على الهداية عن شيخه الإمام سراج الدين الشهير بقارئ الهداية أنه كان يعتقد قول أبي بكر الرازي، وأنه أنكر مرة أن يكون فساد الصلاة ب

الصهيونية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصهيونية (ننقل هذا الفصل من جزء نوفمبر سنة 1913 لمجلة الهلال المفيدة لاطّلاع مَن لم يطّلع عليه من قرائنا في هذه الأيام التي كثر فيها الخوض في هذه المسألة) . تاريخها وأعمالها: الصهيونية: دعوة اجتماعية سياسية؛ انتشرت في الأمة الإسرائيلية بأواخر القرن الماضي، وكثر تحدث الناس فيها بالأعوام الأخيرة. وقد همَّنا أمرها على الخصوص في أثناء رحلتنا بفلسطين. ولا بد لنا في بحثنا عن أحوال تلك البلاد الاجتماعية والاقتصادية من الإشارة إلى هذه الدعوة وتأثيرها الشديد في تلك الأحوال. فرأينا أن نأتي على خلاصة تاريخها وحقيقة غرضها؛ لزيادة الإيضاح فنقول: موضوعها: قد تقدم في كلامنا عن تاريخ فلسطين في الهلال الماضي كيف تشتت اليهود في أنحاء العالم بعد أن جاهدوا في الدفاع عن أورشليم دفاع الأسود. وقد مضى عليهم في هذه الهجرة نحو 19 قرنًا وهم يندبون وطنهم ودولتهم وهياكلهم؛ ولا سِيَّما هيكل سليمان الباقية آثاره في القدس إلى الآن كما سنبينه مصورًا في رحلتنا. وقد حاولوا استرداد ذلك الوطن عبثًا، ونظموا الأشعار في رثائه. ولا يزالون إلى اليوم يبكون ذلك المجد الذاهب كل أسبوع عند أحجار يعتقدون أنها من بقايا هيكل سليمان. وقد حاول اليهود المهاجرون السعي في استرجاع ذلك الوطن غير مرة بأساليب مختلفة، آخرها الحركة الصهيوينة التي نحن في صددها. ولا بد لكل دعوة اجتماعية أو سياسية من غرض ترمي إليه، وغرض الصهيوينة (جمع الشعب الإسرائيلي في فلسطين وجعلها وطنًا خاصًّا به) ، وهي مبنية من الوجهة الدينية على آياتٍ جاءت في سفر أرميا الفصل 30 عدد 10 حيث يقول: (لا تخف يا عبدي يعقوب يقول الرب ولا تفزع يا إسرائيل فإني أخلصك من الغربة وذريتك من أرض جلائهم، فيرجع يعقوب ويستقر في الراحة والخصب ولا يرعبه أحد) . وفي حزقيال 39 عدد 28: (فيعلمون أني أنا الرب إلههم بإجلائي إيّاهم إلى الأمم ثُم جمعي إياهم إلى أرضهم، بحيث لا أبقي هناك منهم أحدًا من بعد) وفي عاموس قول صريح ص (9: 14) : (وأردّ شعبي إسرائيل فيبنون المدن المخربة ويسكنونها ويغرسون كرومًا يشربون من خمرها وينشئون جنات يأكلون من ثمرها وأغرسهم على أرضهم فلا يقتلعون فيما بعد من أرضهم التي أعطيتها لهم) . وهناك نبوءات أخرى بهذا المعنى أو نحوه في زكريا وأشعيا وميخا وغيرها. غير ما عندهم من الاعتقاد بالمسيح الذي سيأتي ويجمع بني إسرائيل حوله ويزحف على القدس ويعيد العبادة للهياكل، وغير ذلك مما جاء في التلمود. على أن هذه الأقوال وأمثالها لا تكفي لإجماع الأمة على العمل بها إن لم يتوقع أصحابها نفعًا اقتصاديًّا أو سياسيًّا من ورائها، أو أن يدفعهم للعمل جوع أو اضطهاد أو ظلم. وكم من اعتقاد يعتقده الناس ولا يجتمعون للعمل به؛ لعجزهم عن ذلك أو لعدم الاضطرار إليه؟ وإنما يجتمعون للعمل في ما يرون لهم فيه مصلحةً حقيقيةً. ويتذرّعون إلى الاجتماع غالبًا بأسبابٍ دينية يتوكؤون عليها ويأولونها إلى ما يساعدهم على ذلك القيام. ولا بد في مثل هذه الحال مِن محرّكٍ يبعث على النهوض، وقد بعث اليهود على هذه الحركة أمران: الأول: تمكن الروح الملّية من نفوسهم على أثر الارتقاء الاجتماعي والعلمي في العالم المتمدن؛ فإن شيوع الحرية الشخصية ولّد في نفوس الأمم عصبية عنصرية غلبت على الجامعات الأخرى، وبهذه العصبية يطلب المجر التخلص من النمسا، ويحاول البلقانيون الخروج من سلطة تركيا. والبلقانيون أنفسهم يتحاربون الآن باسم العنصرية مع أنهم من مذهب واحد وإقليم واحد. والأمر الثاني: مبالغة الأمم النصرانية في امتهان اليهود باسم الأنتسميتزم (antisemitism) ومعنى اللفظ: (مقاومة الساميين) ؛ لكنهم يريدون بهم اليهود خاصة. فآل ذلك طبعًا إلى اجتماع كلمة اليهود بأوربا، وفيهم طائفة حسنة من أصحاب الأموال ورجال الساسة والعلم وأهل الهمة والنشاط، فأخذوا يبحثون في الدفاع عن أمتهم، وآنسوا في أنفسهم المقدرة على العمل بتلك الآيات، فوجّهوا عنايتهم إليها؛ فأخذ كُتَّابُهم يحرّضون قومهم على الاستعمار في فلسطين للتخلص من اضطهاد الأمم لهم. وقال بعضهم: إذا لم يكن ابتياع فلسطين ممكنًا فلنطلب وطنًا في مكانٍ آخر على وجه هذه البسيطة. ونشط آخرون لاستنصار الجمعيات الخيرية الإسرائيلية - كجمعية الاتحاد الإسرائيلي - على القيام بهذا العمل سنة 1863؛ ولكن هذه الجمعية غرضها الرئيسي تهذيب الشبيبة اليهودية، وحاول غيرهم استنهاض جمعية اليهود الإنكليزية في لندن وجمعيتهم في برلين، فترتب على ذلك تأسيس الجمعية العمومية الفلسطينية وجمعية الاستعمار الفلسطيني؛ لكنَّ الدعوة لم تكن نضجت بعد فلم تأت هذه المساعي بثمرة. فوجّهوا التفاتهم إلى وادي الفرات لعله يصح أن يكون مهجرًا لهم. وبذل السياسي أولفانت الإنكليزي جهده في نيل امتياز خط حديدي في ذلك الوادي ليسكن فيه مهاجرو اليهود من روسيا، واقترح إنشاء مهجر يهودي في فلسطين بنواحي السلط، على أن تتألف جمعية رأس مالها عشرة ملايين فرنك تبتاع مليون فدان يستثمرها يهود بولندا ورومانيا والأناطول فلم يأذن لهم السلطان، وقِسْ على ذلك سائر مساعيهم في هذا السبيل. لكن روح الصهيونية أخذت تتمكن من قلوب اليهود؛ وهم يزدادون تمسكًا بالعنصرية كلما زاد مقاوموهم شدة، فكثرت الجمعيات التي تألفت لهذه الغاية. وأول جمعية أفلحت في استثمار أرض فلسطينية نشأت سنة 1879 ولما التأم المؤتمر الإسرائيلي سنة 1884 وأوشكوا أن يبلغوا غايتهم لكن العثمانيين انتبهوا لأغراضهم فحالوا بينهم وبين ما يريدون. ولم يستقر عملهم على قواعد متينة إلا بعد ظهور الدكتور تيودور هرتزل صاحب الدعوة الصهيونية. وهو رجل نمساوي شديد الغيرة على العنصر الإسرائيلي عالي الهمة قوي الحجة، كتب وهو في باريس سنة 1895 كتابًا في استعمار اليهود سماه (الوطن الإسرائيلي) ، لم يزعم أنه يستنهض به الهمم أو يستثير العزائم؛ بل قال: إنه كتبه لنفسه ولإيقاف بعض أصدقائه على آرائه، ولكن الكتاب ما لبث أن طبع في فيينا بالنمساوية حتى نقل إلى الفرنساوية والإنكليزية والعبرانية، وأعيد طبعه مرارًا وراج رواجًا عظيمًا. وحرك الهمم فوق ما كان يتوقع الناس منه، وقد عارضه كثيرون، لكن المجاري الاجتماعية اقتضت ظهور ثمره؛ لأن فكرة استعمار اليهود لفلسطين كانت قد نضجت واستعدت لها الأذهان وتاقت إليها النفوس. وخلاصة آراء هرتزل في ذلك الكتاب: (إن أعداء الساميين آخذون في الازدياد، ولا يستطيع اليهود مقاومتهم لتشتت شملهم في الأرض، فهم في حاجة إلى الاجتماع في وطنٍ خاص بهم) ؛ فاقترح إنشاء شركة يهودية اقتصادية رأسمالها 50.000.000 جنيه مركزها لندن. وأن تتألف جمعية سياسية يهودية تدير أعمال هذه الشركة وتشير عليها بما ينبغي عمله. واقترح للقيام بذلك ابتياع فلسطين أو الأرجنتين على أن ينتقل إليها اليهود انتقالاً منتظمًا. ثُم عدل هرتسل رأيه هذا فحصر طلبه باستعمار فلسطين دون سواها؛ لعلمه أن الناس لا يساقون بمثل الشعائر الدينية، واليهود هجروا فلسطين وقلوبهم في هيكل سليمان. ولم تمض سنة على نشر آراء هرتسل حتى أقبلت الجمعيات على الأخذ بها وأول من فعل ذلك جمعية اليهود النمساوية؛ فوقع بضعة آلاف منهم سنة 1896 على خطاب يطلبون فيه تأسيس جمعية يهودية في لندن، غير مَن أخذ برأيه وتعصب له من الناشئة المتألمين من مقاومة اليهود. على أن طائفة كبيرة من الحاخامين في روسيا وألمانيا والنمسا وإنكلترا عارضوه في بادئ الرأي؛ لأنه لم يعتبر الوجهة الدينية من المسألة كما ينبغي؛ ولأن أتباعه أكثرهم من الشبان المتنورين [1] واتهموهم بكل قبيح. وكان المسيحيون أشد عطفًا على الصهيونية من أولئك الحاخامين فنصروها بأقلامهم وألسنتهم. ومن جملة العقبات التي قامت في طريق الصهيونية مسألة التعليم؛ لأن الحاخامين اعتبروا نشر العلوم العصرية من قبيل الخروج عن الآداب الدينية، وأشاعوا أن الصهيونية من آلات الكفر؛ فلما انعقد المؤتمر الثاني رأى هرتسل من الحكمة مسالمة رجال الدين؛ فاعترف أن الصهيونية تشمل السعي في إحياء شعائر الدين فضلاً عن الاقتصاد والسياسة. أعمال الصهاينة ووسائلها: قد يستغرب القارئ نجاح هذه الدعوة في هذه المدة القصيرة؛ لكنه إذا علم الغرض والوسيلة هان عليه ذلك. دعا هرتسل الشعب اليهودي من أنحاء العالم المتمدن إلى مؤتمر اجتمع في باسل سنة 1897 حضره نيف ومئتا عضو بعضهم يمثلون جماعات. وكانت الأذهان متأهبة لقبول الدعوة فلم يكتفوا بإعلانها - وهي إيجاد وطن شرعي للشعب الإسرائيلي في فلسطين - بل بحثوا في الوسائل المؤدية إلى نشرها وتأييدها؛ فقرّروا لذلك ثلاث وسائل من أرقى الوسائل المؤدية إلى النجاح وهي: (1) إحياء آداب العبرانية ونشرها. (2) إنشاء مدارس لتعليم اللغة العبرانية. (3) إنشاء مالية مشتركة لليهود. وأخذوا بعد انفضاض هذا المؤتمر في تأييد هذه القرارات بنشر الكتب وإلقاء الخطب في اللغات العبرانية والألمانية والفرنسية والإنكليزية والعربية، وشكلوا عمدة للاستعمار الإسرائيلي. فلما انعقد المؤتمر الثاني في فيينا ثم في باسل سنة 1898 ظهر في التقارير التي تليت في ذلك الاجتماع أن الجمعيات الصهيوينة القائمة بذلك العلم تضاعفت كثيرًا وأصبح عددها 1150 جمعية، فأخذ أعداؤها يتقرّبون منها، وآمن بمبادئها كثيرون من رجال الدين. وتقرر في هذا المؤتمر تعيين جمعية خاصة بالاستعمار غرضها توسيع نطاقه وأن تكون اللغة العبرانية هي لغة اليهود حيثما وجدوا. وقِسْ على ذلك ما جرى في المؤتمرات التالية. فانعقد المؤتمر الثالث في باسل أيضًا وكانت أبحاثه أكثرها في نيل امتياز من السلطان عبد الحميد لم يسفر عن نتيجة، وبلغ عدد الجمعيات الروسية فقط 877 جمعية، وعدد المنتظمين في عضوية الجمعية 250000 نفس. وانعقد المؤتمر الرابع في لندن سنة 1900 والخامس في باسل سنة 1901، وفي هذا المؤتمر تقرر عقد مؤتمر عمومي كل سنتين - غير المؤتمرات الفرعية في أثناء السنتين - وقرروا إنشاء مكاتب للمطالعة ومدارس وتأليف دائرة معارف عبرانية. وانعقد المؤتمر السادس في باسل سنة 1903 وتقرر فيه إرسال لجنة إلى أوغندا تبحث في: هل تصلح تلك البلاد للاستعمار. وقرر تخصيص 200000 جنيه لشراء أرض في فلسطين وسوريا. وفي السنة التالية 1904 تُوفي الدكتور هرتسل صاحب هذه الدعوة؛ فانتخبوا مكانه الدكتور نوردو رئيسًا. وعرضت إنكلترا في ذلك العام على الصهيونيين أرضًا في شرقي إفريقيا الإنكليزية على سكة حديد أوغندة بين نيروبي وماو؛ لأجل إنشاء مستعمرة يهودية مستقلة بأحكامها تحت رعاية الدولة الإنكليزية. فعينت لجنة للبحث؛ فقررت أن البقعة ضيقة لا تكفي فرفضوها. وقِسْ على ذلك سائر مؤتمرات الصهيونية وآخرها المؤتمر الحادي عشر الذي انعقد هذا العام في فيينا برئاسة الموسيو ولنسن، وقد جاء فيه أن الصهيونية سائرة على قدم النجاح وأن سلامتها مرتبطة بسلامة الدولة العثمانية؛ لأن المسألة اليهودية والمسألة العربية متفقتان. وقرر أشياء أخرى أهمها إنشاء جامعة في أورشليم لتعليم العلوم العالية باللغة العبرانية، وفي جملتها اللغات الشرقية والفلسفة القديمة والحديثة. غير المؤتمرات الفرعية التي كانت تعقد في أنحاء العالم المتمدن، ومنها مؤتمر

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (أعيان البيان، من صبح القرن الثالث عشر الهجري إلى اليوم) كتاب خاص بتاريخ الآداب العربية في هذا العصر، وتراجم نوابغ الأدباء والشعراء تأليف حسن أفندي السندوبي. طبع بمطبعة الجمالية بالقاهرة سنة 1332هـ و 1914 مالية صفحاته 432 بقطع المنار بحرف متوسط الحجم على ورق جيّد ثمنه 10 قروش خلا أجرة البريد ويطلب من مكتبة المنار بشارع عبد العزيز بمصر. اندفع كُتّاب العربية في هذه السنين الأخيرة إلى تدوين آداب اللغة العربية وتاريخها فكتب جرجي بك زيدان والشيخ أحمد الإسكندري ومصطفى أفندي صادق الرافعي وغيرهم. وألقى أشهر علماء الأدب بمصر الشيخ محمد المهدي أستاذ هذا الفن في الجامعة المصرية ومدرسة القضاء الشرعي دروسًا في الجامعة المصرية وغيرها في الموضوع تبلغ أسفارًا، واتجهت نفوس الأساتذة والطلبة إلى استخراج جواهر هذا الفن من قواميس جهابذة العربية وأساطينها. فتسابق المؤلفون والمدرسون في هذا المضمار. وكان مؤلف هذا الكتاب حسن أفندي السندوبي يراقب هذه الحركة، وضم إلى مطالعة كتب الأدب القديمة مطالعة هذه المكتوبات الحديثة، وأعد العدة إلى تأليف كتاب في ركن من أركن الموضوع لم يطرقه المعاصرون وهو تراجم أشهر أدباء هذا القرن، والذي قبله فأثبتها ذاكرًا مميزات المترجَم فمؤلفاته فنبذًا من آثاره القلمية نثرًا ونظمًا. وقد جعل كتابه هدية لمليك البلاد - أعزّه الله - وصدره بمقدمة شعرية تاريخية أجمل فيها تطورات الأدب العربي في ست عشرة صفحة أوجز فيها واختصر، فالكتاب مفيد وليس له في بابه نظير من المؤلفات العصرية، وإني لأرجو أن أوفق إلى مطالعته لأعطيه حقه من التقريظ والنقد. *** (ديوان المازني) الجزء الأول منه نظم إبراهيم عبد القادر المازني؛ طُبِعَ بمطبعة البسفور صفحاته 157 بقطع رسالته التوحيد بحرف كبير ثمنه خمسة قروش، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. صدر المازني ديوانه بمقدمة عنوانها: (الطبع والتقليد في الشعر العصري) ، من إنشاء عباس محمود العقاد أبدع فيها وإن يكن قد جار في بعض أحكامه؛ إلا أنه تكلَّم على سير الأدب كلام ذي ذوق وتطرّق إلى أسلوب الشاعر (المازني) بالنظم على أوزان لم تكن مسبوقة سيرًا مع العصر وفكّا لقيود أخنى عليها الدهر. هذا وقد جرى بعض كتّاب العصر على سُنَّة سيئة تنافي سيرتهم الأولى وطريقة آبائهم المثلى؛ وهي ترك مكتوباتهم بتراء جذماء لا بسملة فيها ولا حمدلة، وعلى هذه السنة جرى شاعرنا المازني وكاتب المقدمة. على أن كتبة الفرنجة الذين يكتبون بالعربية قلّما يدعون كتبهم غفلاً، فكان على كتّابنا أحد أمرين: إمّا السير على سنن الأولين. وإما تقليد المعاصرين تقليدًا أعمى. هذا وإن المازني قد طرق عدة مواضيع أجاد النظم فيها، وإن شعره يشعر بأن هلال أدبه سيكون بدرًا. *** (فتاة النيل) مجلة نسائية علمية تاريخية أدبية صحية تصدرها في مصر الفاضلة سارة الميهية في أول كل شهر عربي قيمة اشتراكها في مصر والسودان 50 قرشًا، وفي الخارج 15 فرنكًًا صفحاتها 40 مطبوعة على ورق جيد. للفاضلة سارة الميهية مباحث يعرفها قراء العربية بما كانت تنشره في الصحف السيارة باسم (فتاة النيل) وقد رحب القطر المصري بمجلتها (فتاة النيل) لتسد فراغًا في عالم الأدب بصدور هذه المجلة، فنحث التلميذات والمعلمات على قراءتها كما نحث أرباب العائلات على ذلك. *** (الرشديات) مجلة تاريخية أدبية شهرية لصاحبها زكريا أحمد رشدي تصدر في مدينة الإسكندرية. قيمة اشتراكها السنوي في مصر 30 قرشًا وفي الخارج 12 فرنكًا. صفحاتها 32. صدر منها العددان الأول في غرة شعبان، والثاني في غرة رمضان سنة 1331، ولم نرَ من أعدادها بعد ذلك شيئًا فأتمنى لها الحياة ودوام الانتشار لأنها ذات مواضيع مفيدة. *** (البشير) صحيفة تخدم العرب والعربية والملة تصدر في كل شهر عربي مرتين في فيلمبغ (صومترا) ، لمنشئها محمد بن هاشم بن طاهر ذات أربع صفحات أو خمس قيمة اشتراكها في هولندا ومستعمراتها ثلاث روبيات هولندية. من أجل الخدمات التي قام بها السيد محمد بن طاهر بن هاشم للدين والعرب والعربية هذه الجريدة وهو يكتبها باللغة العربية ولغة البلاد فهي عامل من عوامل الرقي هناك ويمكن الحصول عليها بواسطة إدارة ومكتبة المنار بمصر. (دروس الديانة والتهذيب) الجزء الأول منه، طبعة ثانية سنة 1914، صفحاته 45 بالقطع الصغير، والجزء الثاني منه تحت الطبع، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (مقرر السنة الأولى لتلاميذ المكاتب منه) مواضيعه معرفة الله، والرسل، رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، سيدنا آدم، سيدنا نوح، نجاة سيدنا إبراهيم من النار، سيدنا يوسف وإخوته، اجتماع يوسف مع أبيه وإخوته، سيدنا موسى والعصا، هجرة سيدنا محمد إلى المدينة، نواقض الوضوء، الأشياء اللازمة لكل صلاة، كيفية الصلوات الخمس. *** (مقرر السنة الثانية لتلاميذ المكاتب أيضًا) سيرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولادته، أعماله، أخلاقه قبل الرسالة، هجرته إلى المدينة، مقابلة أهل المدينة له، انتشار الدين الإسلامي بعد الهجرة، الإسلام بعد فتح مكة، وفاته صلى الله عليه وسلم، قواعد الإسلام الخمس، الشهادتان، الصلاة وأوقاتها، شروط صحتها، مبطلات الصلاة، الصوم، الزكاة الحج، الأخلاق الفاضلة المأخوذة من القرآن الكريم.. إلخ. *** (كتاب المطالعة السهلة) الجزآن الثاني والثالث مقرران للفرقتين الثالثة والرابعة من المكاتب. طبع طبعة ثانية سنة 1914 منقحًا على حسب ما رأته نظارة المعارف. صفاته 69، يطلب من مكتبة المنار بمصر، ومن المؤلفين؛ وهو مجموعة حكايات ومحادثات ونبذ علمية واجتماعية وأخلاقية وإدارية إلى غير ذلك. *** (دروس الحساب) هو كتاب على أسلوب سهل، الجزء الأول منه للفرقة الأولى، والثاني للثانية من تلاميذ المكاتب، وهكذا إلى الرابع. هذه الكتب الثلاثة تأليف الأستاذين العالمين الشيخ مصطفى العناني المدرس بمدرسة المعلمين الناصرية، والشيخ عطية الأشقر مساعد مفتش بنظارة المعارف العمومية، وناهيك بكتب يضعها للتعليم من اشتغل فيه عدة سنين في مدارس متفرّقة، فأحر بهذه الكتب أن تنتشر في الآفاق العربية وأن تستعملها الحكومة العثمانية في مدارسها؛ على أنني لم أطلع بعد على جميع الأجزاء وبما رأيته كفاية. *** (عظة الناشئين) كتاب أخلاق وآداب واجتماع تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني أستاذ اللغة العربية في المكتب السلطاني في بيروت. طبع في مطبعة الثبات في بيروت سنة 1331. صفحاته 160 بالقطع الصغير، ويطلب من المكتبة الأهلية في بيروت. الكتاب مجموعة ما كان يكتبه صديقنا الأستاذ الغلاييني في جريدة المفيد، وقد جعله هدية لروح فقيد الأدب، وريحانة نابتة العرب؛ فؤاد أفندي حنتس أحد صاحبي المفيد، ولا حاجة بي إلى مدح الكتاب بأكثر من أنه من إنشاء مَن عرفه جمهور قراء العربية بعلمه وفضله وتحريه النفع فيما يكتب، وثمنه خمسة قروش. *** (الفرائد) هو مختار ما كتبه الشيخ محمد مصطفى الههياوي في الأدب والأخلاق والاجتماع، ونشره في الجرائد. طبع على ورق جيد طبعا نظيفًا بمطبعة أبي الهول بمصر سنة 1331، صفحاته 189 بقطع رسالة التوحيد. يطلب من مكتبة المنار، وثمنه خمسة قروش. فصول الكتاب شتّى ومعظمها شكاية من الدهر وبنيه وأبيهم الأول فكأنما نفخ فيه من روح المعري وتسربل برداء ابن الهبارية. *** كتاب المؤتمر العربي الأول المنعقد في باريس من 13 رجب سنة 1331 إلى 18 منه صدرته اللجنة العليا لحزب اللامركزية في مصر مزينًا بالصور مفتتحًا بمقدمتين - إحداهما لمنشئ هذه المجلة، والثانية لجامعه محب الدين الخطيب -عن فكرة المؤتمر ونتيجته وتاريخ الحركة العربية، ويتخللهما صورة الاتفاق الذي تم بين المؤتمر ومندوب جمعية الاتحاد والترقي. وفيه محاضر جلسات المؤتمر الأربع وما دار فيها من المناقشات، وفيه خطب: السيد الزهراوي، العريسي، مطران، دياب، طباره، عمون، مكرزل، بيهم، دباس غانم، وفيه 18 رسالة بريدية وبرقية من 420 جمعية وجماعة وشخص في تأييد المؤتمر، وفي آخره قصيدة مهداة من فؤاد الخطيب للمؤتمر، ثم بيان حزب اللامركزية ومظاهرته السلمية برفع برقيات الاحتجاج إلى الصدارة بطلب اللامركزية، وقد وقع في 234 صفحة كبيرة وطبع على ورق جيد، ثمنه 8 قروش مصرية وأجرة البريد قرشان، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. فالكتاب اجتماعي سياسي إداري يمثل شعور الأمة بحاجيات الحياة والارتقاء فيها، وضرورة الائتمار بين أولي الأمر، ومداولات أصحاب العقول الراجحة والأفكار الثاقبة، ويجلي سر تطور الأمم وانتقالها في الاجتماع والسياسة من طورٍ إلى طور. ويشخص بالإجمال أمراض الاجتماع في المملكة العثمانية وشعوبها المتعددة المتباينة، ويصف أنجع دواء يحفظ حياتها ويشد عضدها؛ لتقف في صف الأحياء العاملة؛ فتناضل عن حوزتها، وتحفظ بقيتها، وتدافع عن مُلْكِهَا ومَلِكِهَا، فأجدر بكل مَن يقرأ العربية أن يطلع على هذا الكتاب وخصوصًا العثمانيين حاكمهم ومحكومهم، عربهم وعجمهم؛ فإنه ألصق بهم من غيرهم، وجميع أبحاثه تدور على محور مصلحتهم.

مستقبل الدولة العثمانية وطلاب الإصلاح من العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مستقبل الدولة العثمانية وطلاب الإصلاح من العرب كنا نسمع ونقرأ منذ وعينا أن لكل دولة من الدول الأوربية مطمعًا في ولاية أو قطر من المملكة العثمانية. سمعنا كثيرًا أن مملكة طرابلس الغرب ستكون لإيطاليا. وقرأنا في تاريخ الأفغان للسيد جمال الدين أن إنكلترا لم تروها مياه النمس والكنج ففغرت فاها لتجرع مياه النيل ونهر جيحون (يعني الاستيلاء على مصر وبلاد الأفغان لأن نهر جيحون على التخم الشمالي الشرقي من تلك المملكة) كتب السيد هذا بمصر في عهد إسماعيل باشا. وقد احتلت إنكلترة مصر وإيطالية طرابلس فصدق ما كان يقال. وكنّا لا نزال نسمع ونقرأ أن فرنسا ترى أن سوريا لها، وأن إنكلترة ترى أن البصرة وبغداد وجميع سواحل جزيرة العرب لها - والداخلية تتبع السواحل بالطبع - كما صرنا نسمع أن لألمانيا قلب الأناطول إلى العراق. ولروسية شمال الأناطول إلى الآستانة؛ على الخلاف في الغاية؛ أتدخل في المغيا أم لا؟ فما يؤمننا أن يحل بهذه البلاد ما حل بما قبلها؟ ولا سيما بعد أن رأينا ما حل بولايات مكدونية، ونحن ننشد في أمثالنا: من حلقت لحية جار له ... فليسكب الماء على لحيته إن جميع من نعرف من عقلائنا في خوف ووجل من قرب تلك الساعة، والعرب منهم موقنون بأن الدولة إن قدرت على إيجاد أسطول يحمي سواحل البلاد التركية القريبة من الآستانة وجزائرها من اليونان أو البلقان، فلن تقدر به عن حماية سواحل سورية من فرنسة ولا سواحل العراق أو اليمن والحجاز من إنكلترة، فما حظ بلادهم من الأسطول الذي يبذلون لتأسيسه الإعانات الاختيارية وغير الاختيارية؟ هذا الخوف على البلاد هو الذي حمل بعض أهل الغيرة على تأسيس الحزب اللامركزية، وكان المحرك لهم على ذلك صوت رسمي سمعوه من باريس تذكر فيه فرنسة حقها في سورية … وكان أول سعيهم الفزع إلى صاحب الدولة رؤوف باشا المعتمد (القومسير) العثماني بمصر، ومكاشفته بخوفهم على سورية أن تُغِير عليها فرنسة كما أغارت إيطاليا على طرابلس، وبكونهم ألّفوا من أنفسهم لجنة للسعي إلى الدفاع سورية، وطلبوا منه أن يكتب إلى الباب العالي بذلك وبما يطلبون من المساعدة على الاستعداد للدفاع الوطني عن البلاد. ولكن المعتمد لم يجبهم إلى طلبهم، ولا يزال القرار الذي كتبوه بذلك وما كتبوه في مسألة تنفيذه محفوظًا عندهم. سمع بعد ذلك الصوت الفرنسي صوت ألماني من برلين معارض له، فاطمأن القوم بعض الاطمئنان الموقوت، وقويت في نفوسهم فكرة وجوب الاستعداد للدفاع الوطني - أو المِلي كما يسميه الترك - ووجوب قضاء شبان كل قطر خدمة العسكرية في قطرهم لأجل ذلك، وعقدوا عدة اجتماعات للمذاكرة في ذلك استطردوا فيها من مسألة الدفاع ومسألة المال الذي يتوقف عليه كل شيء إلى الجزم بوجوب ترقية كل قطر بأهله، وتوقف ذلك على الإدارة اللامركزية؛ فوضعوا برنامج حزب اللامركزية؛ رجاء أن يقنعوا به جميع الأمة العثمانية، لا العرب خاصة. وفي أثناء ذلك قامت ضجة في بيروت كان من أثرها تأسيس الجمعية الإصلاحية بإذن والي الولاية، وكان من غرضها أن اتفاق المسلمين والنصارى على الإصلاح هو الذي يسد ذريعة الاعتداء الأجنبي على البلاد، ثم قامت ضجة أخرى في العراق وتألفت جمعية إصلاحية عراقية في البصرة. تلا ذلك صوت عربي من باريس يدعو إلى عقد مؤتمر سوري عربي يكون أهم مقاصده مقاومة الاحتلال الأجنبي للبلاد. وكان من أمر انعقاده ما هو معروف، ولم يكن المؤتمر ولا الجمعية الإصلاحية والبيروتية ولا العراقية ولا حزب اللامركزية سببًا لمداخلة أجنبية قولية ولا فعلية؛ لأن غرض أربابها دفع التدخل الأجنبي، والمقدمات السلبية لا تنتج نتيجة موجبة. قام المنافقون للحكومة طلاب الدراهم والوظائف والمناصب يلعنون طلاب الإصلاح؛ زاعمين أن طلبهم له في تلك الأوقات يحرج الحكومة ويكون ذريعة لافتئات الأجانب عليها، ولم نر أحدًا منهم شتم الأرمَن ولا لعنهم على استغاثتهم بأعدى أعداء الدولة من الأجانب ونيلهم ما طلبوا بسعيها! ! وقد كذبهم الحق الواقع ولا يزالون يهذون بزعمهم أن طلب الإصلاح على قاعدة اللامركزية يفضي إلى إضاعة البلاد واستيلاء الدول عليها. ومنهم من يخص حزب اللامركزية بهذا الطعن لاعتقاد أن جمعيتي بيروت والبصرة قد انحلتا. والمنافق الذي يكتب ما لا يعتقد لأجله إرضاء من ينتفع منهم لا يستحي أن يحول الشيء إلى ضده بالسفسطة والتمويه. نرى طلاب اللامركزية موقنين بأنهم لا يعرفون طريقة لبقاء الدولة وحفظ البلاد ثُم عمرانها إلا ما يطلبونه، ونرى حجتهم ناهضة يذعن لها المنصفون من غيرهم، وهم يطلبون من كل ذي رأي أن يقنعهم بطريقة يمكن بها حفظ البلاد العربية من استيلاء الدول الطامعة فيها عليها، ولما يجدوا مقنعًا. كنت مرة في دار المعتمد العثماني (القومسيرية) بمصر أتكلم في شؤون الدولة مع إسماعيل حقي بك القائم بأعمال المعتمد الآن، فجاءنا فؤاد بك سليم (قنصل الدولة الجنرال في سلانيك الآن) ودخل معنا في الحديث، فانتقد فؤاد بك ما كان من عقد المؤتمر العربي بباريس والمطالبة بالإصلاح في وقت الحرب بمثل ما كان ينتقده به المعارضون المعتدلون. فقلت له: كان هذا يقال ويعد محل نظر وبحث في الوقت الذي انعقد فيه المؤتمر إذا كان سيئو الظن وسيئو القصد يقولون إنه يمكن أن يفضي إلى إتعاب الدولة أو إيقاعها في مشكلة سياسية، وكان القائمون بالعلم يدفعون هذا ليقينهم بحسن نيتهم واحتياطهم في عملهم، ثم أيدهم الحق الواقع فانقضت الحرب وانقضى المؤتمر ولم يكن شيء من عمل طلاب الإصلاح متعبًا للدولة في شيء، وقد قبلوا كل ما عرضه على المؤتمر مندوب جمعية الاتحاد والترقي، فدل ذلك على حسن نيتهم، وبراءتهم من المشاغبة ومن المطالب البعيدة عن المعقول حتى عند الاتحاديين. وانتقدت أنا بعض أعمال الاتحاديين بما عز الجواب المقنع عنه. ثم انتقلنا إلى المسألة الكبرى. قال فؤاد بك: إن ما مضى فات خطأً كان أو صوابًا، فما الرأي الآن لسلامة الدولة وإعلاء شأنها الذي يجب على الجميع السعي له؟ قلت: إن لي في ذلك آراء أشرت إليها في المنار غير مرة ولو علمت أن رجال الدولة يقبلونها وينفذونها لفصلتها لهم تفصيلاً، وأهمها مسألة سلامة الدولة، فأنا أرى أن ما توجهت إليه الدولة من اقتراض عشرات الملايين من أوربا لأجل سد عجز ميزانيتها والقيام بمشروعاتها سيفضي إلى أكبر الأخطار، وأن نظارتي الحربية والبحرية مهما عملنا لا تستطيع الدولة أن تحمي بها سواحل سورية والحجاز واليمن والعراق، ولا أن تحول دون احتلال كل دولة من الدول لما تطمع فيه. قال: إنا نوافقك على هذا فما المخرج منه؟ قلت: لم يبق لنا وسيلة فما أرى إلا مسألة الدفاع الملي؛ لأن الدولة الكبرى التي نخافها لا تحارب بلادًا لأجل البطش والانتقام والتخريب كما كان يفعل الملوك في التاريخ القديم، ولا كما يفعل وحوش البلقان، وإنما تفعل هذه الدول كل ما تفعله لأجل الكسب، فمتى كان أهل البلاد مسلحين مستعدين للدفاع عن بلادهم إذا احتلها الأجنبي تمتنع الدول عن الاعتداء عليهم؛ وإن كانت ترى أنها لا تعجز عنهم؛ لأن معاداة الأهالي وتخريب بلادهم يحول دون الانتفاع منها ومنهم ... إلخ. فوافقني فؤاد بك وكذا إسماعيل بك على ما قلت في هذه المسألة وفي غيرها مما لا حاجة إلى ذكره. وجملة القول أن طلاب الإدارة اللامركزية إنما يطلبونها لأنهم يعتقدون أنها هي المنجية لدولتهم ولبلادهم من الخطر الأجنبي، وأن البلاد لا تعمر إلا بها، وليس في مطالبهم شيء يمنع أن تكون مقاليد القوة البرية والبحرية والسياسية للدولة وأن تكون في يد العاصمة. ولمّا وعدتهم جمعية الاتحاد المتصرفة في الدولة بإجابتهم إلى بعض مطالبهم رضوا وصبروا وانتظروا. وقد مرّت السنة على انتظارهم ولم يحدثوا شغبًا داخليًّا، ولا توسطوا الأجانب في شيء من مطالبهم، وهذه جرائد الشرق والغرب تصخّ مسامعهم بخبر اتفاق الدولة مع الدول الكبرى على جميع سواحل البلاد العربية، وبإعطائهن الامتيازات فيها، وبإرهاق الولايات كلها بالديون الفاحشة - وتلك طرق الدول وسلاحها في الفتح السلمي - فيزدادون خوفًا ورعبًا من سوء العاقبة وخطر المستقبل. أفليس من سنة الله في غرائز البشر وفطرهم وممّا توجبه عليهم أديانهم وشرائعهم، وما تطالبهم به حقوق أمتهم وبلادهم، أن يبحثوا عن المأمن من الخوف والموئل من الفزع، والمنجاة من الخطر؟ ؟ أَوَليس من مقتضى الفطرة والشريعة أن يطالب الإنسان لنفسه - فوق تجنب الهلكة - عيشةً راضية، وحالة حسنة عزيزة؟ عقدت جمعية الاتحاد الاتفاق بين مندوبها (مدحت بك شكري) ومندوب حزب اللامركزية في المؤتمر العربي (السيد الزهراوي) وصدقت حكومتها على بعض ما وقع عليه الاتفاق وصدرت به الإرادة السلطانية. ثُم عينت الحكومة السيد الزهروي عضوًا في مجلس الأعيان فقبل ذلك ليكون مطلعًا ومساعدًا على تنفيذ الإصلاح الموعود به قولاً وكتابةً. فلم يستفد حزب اللامركزية من ذلك إلا لوم كثير من الأصدقاء وذم كثير من غير الأصدقاء واتهامه بأنه يسعى للمناصب والوظائف خلافًا للعهود والوعود. وقد احتمل الحزب كل هذا لتكون له الحجة على الأمة إذا نفذت الحكومة الإصلاح، والحجة على الحكومة إذا لم تنفذه، وهو لا حجة عليه مطلقًا. الحزب لم يقل إنه لا يقبل الوظائف ولكنه فعل، فلم يدخل أحد من أعضائه في خدمة الحكومة. وقد بينا قضية السيد الزهراوي من قبل، ونزيده بيانًا. الرجل ثقة مقبول الرواية عند الحزب. وقد كتب إلى الحزب أنه آنس من الحكومة عزمًا على الإصلاح المطلوب وأنها تريد أن تعتمد على الثقات المخلصين من العرب وتستعين بهم على إصلاح بلادهم، وأنها تكن معذورة في قبول المنافقين إذا تجنبتها فئة المصلحين الصادقين. ولما تكررت هذه الكتابة منه رغب إليه رئيس الحزب وغيره من أصدقائه بأن يزور مصر قبل افتتاح المجلس ويوقف إخوانه على حقيقة ما رآه، ويفسّر لهم ما أَشْكَل عليهم من أعمال الحكومة (كتقوية إمام اليمن على السيد الإدريسي وتسليح ابن الرشيد أمام ابن سعود وغير ذلك مع قدرتها على الإصلاح بين الجميع والاستفادة منهم) فأجاب الدعوة، وتكرم بالزيارة، وأكّد بلسانه مضمون ما كان يكتبه بقلمه؛ مِن أن الدولة تريد إصلاح بلاد العرب ولكنها لا تقدر على تنفيذ ذلك إلا بالتدريج، ووعد بأن يراجع أصحاب الشأن في المسائل التي لم يقف على حقيقتها كمسألة جزيرة العرب وأمرائها، ويوقف إخوانه على ما يقف عليه منها. والخلاصة أن طلاب الإصلاح اللامركزي في مصر وغيرها من الأقطار لا يزالون في خوف ووجل على بلادهم ودولتهم، ولم يسمعوا قولاً ولا رأوا فعلاً يفيد الاطمئنان؛ فالأقوال مضطربة، والأفعال مشتبهة. لا ننكر أن الوزارة الحاضرة قد هبت للعمل هبّةً شديدة، ووثبت في سياستها وثبةً بعيدة، وأظهر أفرادها من الهمّة والذكاء والجرأة ما لا نعرف له نظيرًا في تاريخ هذه الدولة، فأقدموا على اقتراض عشرات الملايين من أوربة، وإعطاء حكوماتها وشركاتها الامتيازات الكثيرة، والمساعدة على إزالة التنازع والخلاف الذي بين الدول على منافع بلادها، ونفوذهن الاقتصادي والسياسي فيها، وتمهيد السبيل للصهيونيين لاستعمار مملكة فلسطين، والشروع في تقوية الأسطول، وفتح المدار

تلقين الميت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تلقين الميت (س14) من صاحب الإمضاء في - كلنتن - جاوه. حضرة إمام المرشدين وقدوة العلماء المصلحين. من يتلقى سؤال كل سائلٍ ملهوف بالقبول والرضا الأستاذ العلامة مرشد الأمة ورشيدها سيدي محمد رشيد رضا أبقاه الله للمسلمين يداوي كل مرض كان عارضًا؛ آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته - أرجو من فضلكم إجابة السؤال الآتي على صفحات المنار الأغر - ما قول سيدي فيما شاع في ناحيتنا الجاوية من قراءة التلقين في حاشية البرماوي على شرح ابن قاسم؛ وهو قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: 88) ... إلخ؛ بعد تمام الدفن. وهو مشتمل على آيات قرآنية على خلاف أسباب نزولها، ومعان غير متناسبة، وبعضهم زاد على ما في البرماوي زيادات كثيرة ومناسبات لا تليق بالحال، ك] قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [ ... إلخ وهي متعلقة بالأحياء لا بالأموات، فهل هو على هذا النظم مأثور أم لا؟ فإن قلتم: نعم إنه مأثور أو إنه مجموع من متفرقات مأثورة، فأرجو من سعة علمكم وكريم إنسانيتكم أن تشرحوه لنا شرحًا وافيًا حتى لا تخفى معانيه على أمثالنا من القاصرين. وإن قلتم لا، فقد أشكل علينا أن البرماوي يقول: (ويسن تلقينه بعد الدفن وتسوية القبر؛ فيجلس عند رأسه إنسان ويقول: بسم الله الرحمن الرحيم كل شيء هالك إلا وجهه.. إلخ) ، والبرماوي من علماء المسلمين فيكف يسوغ له أن يقول بالسنية ما لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء هم أدلاء الأمة ومرشدوهم إلى سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فكيف يرشدون بما لم يرشدهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويخترعونه بعقلهم ورأيهم، وكيف يجوز لنا أن نلقن موتانا بما لم يرد عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ومبنى التلقين على التعبد لا مجال للرأي فيه؟ أفيدونا بيانًا شافيًا لأنَّا قليلو الاطلاع، فإنا لم نجد سجعاته في الآيات القرآنية ولا في الأحاديث النبوية، والسلام. الداعي / الحاج موسى عبد الصمد (ج) : ما ذكره البرماوي ليس بسنة، ولم يرد فيه حديث يثبت السنية ولا الاستحباب؛ بل لم يرد في التلقين حديث صحيح ولا حسن؛ وإنما ورد فيه حديث واحد ضعيف لم يخرجه أصحاب الصحاح ولا السنن؛ بل رواة الضعاف والمناكير والموضوعات وغيرها لأجل تدوينها، على أن الاعتماد في مسألة الاحتجاج على أسانيدها ومتونها، وقد اختلفت ألفاظهم فيه بعض الاختلاف، وهو حديث أبي أمامة رضي الله عنه. رواه ابن عساكر وابن النجار والطبرانى والديلمي، وهاك رواياتهم مرموزًا فيها إليهم، من سنن الأقوال، من كنز العمال، وهي ثلاث: 1- (إذا مات الرجل فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه فليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه سيسمع، فليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه سيستوي قاعدًا، فليقل: يا فلان ابن فلانة! فإنه سيقول له: أرشدني رحمك الله، فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث مَن في القبور. وإن منكرًا ونكيرًا عند ذلك كل واحدٍ يأخذ بيد صاحبه ويقول: قم ما تصنع عند رجل لقن حجته؟ فيكون الله حجيجهما دونه) . (كر عن أبي أمامة) . 2- (إذا مات أحد من إخوانكم فنثرتم عليه التراب فليقم رجل منكم عند رأسه ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ فإنه يسمع ولكن لا يجيب. ثُم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ فإنه يستوي جالسًا، ثم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ فإنه يقول: أرشدنا رحمك الله، ولكن لا تشعرون، ثُم ليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وأنك رضيت بالله ربًّا وبمحمدٍ نبيًّا وبالإسلام دينًا وبالقرآن إمامًا؛ فإنه إذا فعل ذلك أخذ منكر ونكير أحدهما بيد صاحبه؛ ثم يقول له: اخرج بِنَا من عند هذا، ما تصنع به فقد لقن حجته؟ ولكن الله عز وجل حجته دونهم، قال رجل: يا رسول الله فإن لم أعرف أمه؟ قال: انسبه إلى حوّاء) . (طب. كر الديلي. عن أبي أمامة) . 3- (يا أبا أمامة: ألا أدلكم على كلمات هي خير للميت من الدنيا وما فيها وما غابت عليه الشمس وطلعت؟ إذا مات أخوكم المؤمن وفرغتم من دفنه فليقم أحدكم عنده قبره، ثُم ليقل: يا فلان ابن فلانة؛ والذي نفس محمد بيده إنه ليستوي قاعدًا، ثُم ليقولن: يا فلان ابن فلانة؛ فيقول: أرشدني إلى ما عندك يرحمك الله [1] فليقل: اذكر ما خرجت عليه من الدنيا؛ شهادة أن لا إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وقد كنت رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، فيقوم منكر فيأخذ بيد نكير فيقول: قم بنا ما يقعدنا عند هذا وقد لقن حجته؟ ويكون الله حجيجهما دونه، قيل: إن كنت لا أحفظ اسم أمه؟ قال فانسبه إلى حواء) . (ابن النجار عن أبي أمامة) . وأورده في سنن الأفعال معزوًّا إلى ابن عساكر بهذا اللفظ: عن سعيد الأموي قال: شهدت أبا أمامة وهو في النزع فقال لي: يا سعيد إذا أنا مِتُّ فافعلوا بي كما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم عليه التراب..) ، إلخ ما تقدم. فأنت ترى أنه ليس في شيء من ألفاظ هذا الحديث شيء من تلك الآيات، ولا تلك السجعات، ولهذا سكت بعض الفقهاء عن مسألة التلقين وقال بعضهم باستحبابه بناءً على تساهلهم في العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، وقد أدخل هذا التساهل بدعًا كثيرة في الإسلام، كما حققه الإمام الشاطبي في الاعتصام، وحسبك منه ما ننقله عنه في هذه الأيام، من إثبات بدعية الدعاء بعد الصلاة من الجماعة مع الإمام؛ حتى الأدعية والأذكار المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام؛ فإن ما ثبت عمله على الانفراد، لا يجوز فيه التزام الاجتماع، والمدققون من الفقهاء لم يزيدوا على ما ورد في حديث أبي أمامة. قال النووي: هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا منهم القاضي حسين وصاحب التتمة والشيخ نصر المقدسي في كتابه التهذيب وغيرهم. ونقله القاضي حسين عن الأصحاب مطلقًا، والحديث الوارد فيه ضعيف؛ ولكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم. وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة كحديث: (اسألوا الله له الثبيت) ووصية عمرو بن العاص. اهـ المراد منه. أقول: إن حديث الدعاء للميت بالثبيت لا يعضد شرعية التلقين التي يراد بها منع السؤال الذي ثبت الدعاء بالتثبيت لأجله ورجاء السداد فيه، ولو كان التلقين يحول دون السؤال لكان تلقينه خيرًا من الدعاء له، وكذلك وصية عمرو لا تعضده، فإنه أوصى بأن يقيموا عند قبره قدر ما ينحر جزور ويفرّق لحمها؛ لأجل أن يستأنس بهم؛ يعني أن روحه تشعر بوجوده فتستأنس بهم في ذلك الوقت الذي هو أول العهد بذلك العالم وحيث يمتحن الداخل فيه. فمسائل التشريع لا تبنى على مثل هذا. وأنت ترى فيما نقله الشاطبي عن الإمام مالك أصلاً راسخًا من أصول الشريعة، وهو أن ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم أجمعين مع وجود سببه وداعيته؛ فتركهم إياه إجماع على أنه غير مشروع ولا جائز في الدين؛ أي في العبادات دون العادات. وقد ذهب بعضهم إلى تقوية الحديث بعمل أهل الشام به من العصر الأول في زمن مَن يُقتدى به. قال في شرح الإقناع - من كتب الحنابلة - بعد ذكر المتن استحباب الأكثر للتلقين، وذكر الحديث وضعفه ما نصه: وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله (أي الإمام أحمد) : هذا الذي يصنعون إذا دفن الميت: يقف الرجل ويقول: يا فلان ابن فلانة؛ اذكر ما فارقت عليه - شهادة أن لا إله إلا الله - فقال: ما رأيت أحدًا نقل هذا إلاّ أهل الشام حين مات أبو المغيرة، جاء إنسان فقال ذاك. وكان أبو المغيرة يروي فيه عن أبي بكر بن أبي مريم عن أشياخهم أنهم كانوا يفعلونه. اهـ. أقول: أبو بكر بن أبي مريم ضعيف وقد اختلط عقله. وأما أبو المغيرة فهو عبد القدوس بن الحجاج الحمصي، روى عنه أحمد والبخاري في غير الصحيح، وأصحاب السنن؛ وهو ثقة. وقال النسائي: لا بأس به. وقد ذكر التلقين أبو عبد الله ابن القيم - في سياق الاستدلال على سماع الموتى بعد الدفن - قال: وقد سُئِلَ عنه الإمام أحمد فاستحسنه واحتجّ عليه بالعمل. ويروى فيه حديث ضعيف ذكره الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة - فذكر الحديث وقوّاه باتصال العلم به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكارٍ؛ ثُم ذكر حكايات مناسبة لمعنى التلقين. أقول: لو أن ابن القيم - رحمه الله تعالى - أراد تحقيق هذه المسألة في حدّ ذاتها لكتب غير هذا؛ ولكنه أوردها في سياق يريد تقويته بسرد الدلائل الكثيرة كعادته؛ فجاء كلامه فيه موضعًا للنظر والنقد؛ فأمّا جواب الإمام أحمد عنه للأثرم فلا يدل على استحسانه ولا على تقويته بالعمل به؛ إذا لم ينقل العمل به إلاّ عن أهل الشام من رواية أبي بكر بن أبي مريم؛ وهو ضعيف، فيدل لفظ الإمام أحمد على أن التلقين في عصره من القرن الثالث لم يكن معروفًا إلا عن أهل الشام، فسقط بهذا قول ابن القيم باتصال العمل به في سائر الأعصار. والحق أن العمل لا يعد حجة إلا إذا كان مستفيضًا عن أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين، فما حدث بعد ذلك فلا قيمة لشيوعه وكثرة العمل به، فكم من بدعة عمّت الأقطار والأمصار، يقيم الحجج على بطلانها وقبحها مثل ابن القيم وأستاذه ابن تيمية من أنصار السنة. وجملة القول أن التلقين لم يثبت بكتاب الله ولا بسنة رسوله، ولا قال أحد من المحققين إنه سنة؛ بل قال بعض الفقهاء باستحبابه؛ للتساهل في العمل بالحديث الضعيف والاستئناس له بما يناسبه. والبرماوي ليس قدوة، وكم في كتب أمثاله وكتب مَن هم أعلم منه من البدع، فلا ينبغي لأحد أن يثق إلا بما يصرّح المحققون بثبوت نقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجمهور السلف، دون ما يذكر غفلاً.

القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد

الكاتب: محمد بن عبد العظيم المكي الحنفي ابن المقدسي

_ القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد فصل [*] وكذلك مسألة التحرير أيضًا - وهي التي عبّر عنها بعضهم بقوله: (لا تقليد بعد العلم) - فيها نظر هو أن هذه العبارة لها معنيان: (أحدهما) أنه إذا عمل وصادف الصحة على مذهب إمام ولم يكن عالمًا بذلك، والحال أنه على مقتضى مذهبه بطل ذلك العمل، فهل له أن يقول: أخذت بمذهب مَن يرى صحة ذلك، أم لا؟ فعلى ما ذكر ليس له ذلك على تقدير تفسير العبارة بهذا المعنى أقول: وفرع أبو يوسف المنقول في مسألة الفأرة يردّه؛ إذ هو عين التقليد بعد انتهاء العمل، وهو الذي أذهب إليه وأقول به؛ بل قد اختار عالم قطر اليمن في زمانه؛ الإمام العلامة الفقيه عبد الرحمن بن زياد الشافعي في فتاويه: أن العامي إذا وافق فعله مذهب إمام من الأئمة الذين يجوز تقليدهم صحّ وإن لم يقلده؛ توسعة على العباد، واختلاف الأئمة رحمة. وقال المحقق ابن حجر: لا يكون صحيحًا إلا إن قلّد ذلك القائل بالصحة؛ لأن تقليده لإمام من الأئمة المذكورين التزام متابعته في الأحكام كلها، فلا يجزئ في خلاف ذلك إلا بتقليد صحيح. وقد ذكر بعض أولياء الله تعالى الصالحين أنه كشف له أن الله لا يعذب من عمل في المسألة بقول إمامٍ مجتهد من الذين يجوز تقليدهم، وهم الآن الأئمة الأربعة المدونة مذاهبهم، والمحررة أصول وفروع مسائلهم، أما المجتهدون السابقون فلا؛ للجهل بضوابط الأحكام عندهم، لفقد التدوين؛ لتطاول السنين. كذا رأيت ما حكيته في بعض المجاميع. قلت: وفي تخصيص الأئمة الأربعة كلام لا يسع في هذا المحل بيانه، ثم رأيت في البحر الرائق شرح الكنز للعلامة ابن نجيم في باب قضاء الفوائت عند قوله: ويسقط بضيق الوقت والنسيان، ما نصه: وإن كان عاميًّا ليس له مذهب معين فمذهبه فتوى مفتيه - كما صرّحوا به - فإن أفتاه حنفيّ أعاد العصر والمغرب، وإن أفتاه شافعيّ فلا يعدهما ولا عبرة برأيه، وإن لم يستفت أحدًا وصادف الصحة على مذهب مجتهد أجزأه، ولا إعادة عليه؛ انتهى. وهذا موافق لما اختاره عالم قطر اليمن في زمانه وفقيهه؛ العلامة عبد الرحمن بن زياد الشافعي رحمه الله تعالى. والمعنى الثاني: أنه ليس للإنسان إذا عمل في مسألةٍ بمذهبٍ أن يعمل بخلافه فيها ثانيًا، وهذا أيضًا مدفوع من وجوه: (الأول) : أنه لم يقم عليه دليل إلا لزوم صورة التلاعب، وذلك لا يلزم إلا لو قصد به ذلك، أو دلت عليه قرائن أحوال، أو مكلف ضاق به الحال فالتجأ إلى الأخذ فيها في المرة الثانية بقول إمامٍ آخر؛ لدفع ضرورةٍ ألجأته إلى ذلك والغرض صحيح - فلا ينسب إلى التلاعب، وقد صحّ وثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه رجع عن قوله في مسألةٍ كان حكم فيها بحكم، ثم تكررت فتبدل نظره فيها فحكم بخلافه، وقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. فإن قلت: إنه مجتهد، وهذا حال المجتهد: أنه يجب عليه الرجوع إلى ما سنح له من الدليل بخلاف المقلّد. قلت: مهلاً يا أخي! فإن المقلِّد لم يظهر له بالدليل صحة ما قلّد فيه أولاً كما ظهر للمجتهد، وهنا مجتهد آخر قائل بخلافه فهو أحرى بتجويز الانتقال له. ثُم ظهر لي بعد مدة مِن تسطيري هذه الأسطر ظهورًا بينًا منكشفًا لا ريب فيه؛ أن مرادهم من قولهم: لا تقليد بعد العمل؛ أنه إذا عمل مرّة في مسألةٍ بمذهب في طلاق أو عتاق أو غيرها، واعتقده وأمضاه، ففارق الزوجة مثلاً، واجتنبها، وعاملها معاملة من حرمت عليه، واعتقد البينونة بينه وبينها بما جرى منه من اللفظ مثلاً، فليس له أن يرجع عن ذلك، ويبطل ما أمضاه، ويعود إليها بتقليده ثانيًا إمامًا غير الإمام الأول الذي قلده فيها، حيث كان الثاني يرى خلاف ما رآه الإمام الأول، فهذا معنى قولهم ليس له التقليد بعد العمل، ولا يرجع عما قلد فيه وعمل به، ونحو ذلك من العبارات، فأما إذا وقعت تلك الواقعة مرةً ثانية مع امرأة أخرى أو مع زواجها بنكاحٍ جديد، فله الأخذ بقول إمامٍ آخر، ولا مانع - كما سيأتي قريبًا؛ على أنه قد نقل العلامة ابن أمير الحاج الحلبي الحنفي تلميذ المحقق ابن الهمام عن الزركشي من أئمة الشافعية في شرح التحرير أن في كلام بعض الأئمة ما يقتضي جريان الخلاف في جواز التقليد بعد العمل أيضًا وأن منعه ليس باتفاق؛ فاعلمه، وقد نقل صاحب الفتاوى الصرفية عن الظهيرية والنسفية والنصاب - واللفظ من الظهيرية - أنه سئل شيخ الإسلام عطاء بن حمزة السندي، عن الصغيرة إذا زوجها أبوها من صغير وقبل أبوه وكبر الصغير وبينهما غيبة منقطعة وقد كان التزويج بشهادة الفسقة: فهل يجوز للقاضي أن يبعث إلى شافعي المذهب ليبطل هذا النكاح بينهما بهذا السبب؟ قال: نعم، وللحنفي أن يفعل ذلك بنفسه أيضًا أخذًا بمذهب الخصم، وإن لم يكن ذلك مذهبه؛ انتهى. ثُم أورد في المحيط والظهيرية مسألة أبي يوسف في الفأرة عقبها مستشهدًا؛ فاعلم ذلك. وكذا مولانا خاتمة المتأخرين العلامة ابن نجيم رحمه الله في البحر الرائق في مسألة اليمين المضافة عن البزازية عن أصحابنا: أنه لو استفتى فقيهًا عدلاً فأفتى ببطلان اليمين: هل له العمل بفتواه وإمساكها؟ وروى أوسع من هذا، وهو أنه لو أفتاه مفتٍ بالحل، ثُم أفتاه آخر بالحرمة بعدما عمل بفتوى الأول فإنه يعمل بفتوى الثاني في حق امرأة أخرى لا في حق الأولى، أي في هذه المرأة التي مضت - كما نبهتك عليه قريبًا - وانظره فقد صرَّح بجواز العمل بخلاف ما عمل للعامّي، وإنما منع من أن يفتي به المفتي لئلا ينسب إلى الغرض والتشهي والتلاعب، ولئلا ينسب العلماء إلى التناقض من جهة العوام، فافهم [1] . هذا ما قام عندي في وجه ذلك، ورأيت في عبارة بعضهم تعليله (بكيلا يتطرق به إلى هدم مذهب أصحابنا) أو نحو ذلك من العبارة، والله أعلم. واعلم أن من المسائل ما يقع التصريح بها من بعضًا المتأخرين رحمة الله عليهم أجمعين، وخصوصًا في الأصول التي ألفها المتأخرون وليست بمرضية؛ بل ربما يقع التصريح بخلافها من المتقدمين، ويوجد من هذا النوع في كتاب التحرير الذي ألفه المحقق وجمع فيه من مقالات المتأخرين من فضلاء عصره فمن قبلهم بقليل حتى من كلام أرباب المذاهب غير مذهبنا، فلا علينا أن نأخذ بما ظهر لنا صواب خلافه [2] إن أنعم الله علينا بحصول ضربٍ من النظر يمكن الوقف به على الصواب. وهذا ونحن مع ذلك بحمد الله تعالى لا نخرج عن درجة التقليد لإمامنا الأعظم أبي حنيفة رحمة الله عليه، ونحن مقلدون له ولكبار أصحابه ومَن بعدهم مِن كبار أئمتنا كشمس الأئمة وأضرابه [3] وأما ما يبحثه ويقرره المتأخرون من أهل التاسع والعاشر [4] من فضلاء المذهب فلنا النظر فيه إن أمكن، وعلينا التمسك بما هو منقول عن المتقدمين وخصوصًا إذا انتهض متمسكًا لنا فيما نرتضيه. والله الموفق إلى الصواب وبه الاعتصام. *** فصل ومما ينشأ من الجهل والتعصب تفويت فرض من فروض الله تعالى مع إمكان إقامته على رأي مجتهدٍ جليل؛ بل على رأي جمعٍ من المجتهدين، وذلك أن جهلة المتعصبين يمتنعون ويمنعون من جمع الصلاتين في السفر التي ذهب إلى جوازها الإمام الشافعي وغيره من صدر الإسلام رحمة الله عليهم، ويؤدي ذلك إلى تفويت الغرض رأسًا، وذلك أنهم لما يعزمون على السير عند الزوال مثلاً فيصلون الظهر [5] لأول وقتها ويمتنعون من جمع العصر إليها، فيركبون ويسيرون بناءً على أنهم ينزلون قبل المغرب آخر وقت العصر فيدركونها، والحال أنهم قد لا يتهيأ لهم النزول إلا مع المغرب أو الغروب بحيث لا يتسع الوقت إلى الطهارة والصلاة [6] وخصوصًا في حق مَن تتعسر الطهارة عليه فتفوتهم الفرصة، وقد كانوا يمكنهم أداؤها في المنزل [7] مجموعة جمع تقديم إلى الظهر على مذهب الإمام الشافعي رحمة الله عليه، وعلى مذهب غيره ممن جوّز الجمع لأجل السفر، فيمتنعون عن ذلك ويرضون بتفويتها، ولا بفعلها [8] على مذهب مجتهدٍ يجوز لهم أو عليهم يجب اتباعه، والحال ما قرّر؛ لأن تحصيل الفرض من وجه مقدم على تفويته من كلّ وجه، وما هذا إلا محض التعصب والجهل. وقد ذكر الإمام الأجلّ ظهير الدين الكبير المرغيناني عن أستاذه السيد الإمام أبي شجاع رحمه الله تعالى: أنه سئل شمس الأئمة الحلواني عن كسالى بخارى أنهم يصلون الفجر والشمس طالعة: فهل نمنعهم من ذلك؟ فقال: لا يمنعون؛ لأنهم لو منعوا يتركونها أصلاً ظاهرًا (أي مما يظهر من حالهم) ولو صلوها تجوز عند أصحاب الحديث , ولا شك أن الأداء الجائز عند البعض أولى [9] من الترك أصلاً. هذا جواب الحلواني، وناهيك به إذ هو شيخ المذهب في عصره تخرج به الفحول النظار من أئمتنا كشمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي صاحب المبسوطين، وأضرابهم من رؤساء المذهب الذين هم قدماء الدهر، وعظماء ما وراء النهر. هذا مع أن الجاهل المتعصب الغبي يكفيه إيقاعها مجموعة مع الظهر تقليد الإمام [10] الشافعي وغيره، ثُم إنْ أراد الاحتياط وأدرك في الوقت فسحة أعادها على مذهبه أو قضاها بعد المغرب احتياطًا إنْ لم تطعه نفسه في أدائها مجموعة مع الظهر، والله أعلم والموفق لا ربَّ غيره وهو حسبي ونعم الوكيل. قال جامعها محمد عبد العظيم المكي الحنفي غفران الله تبارك وتعالى له ولوالديه ولسائر المسلمين: ثُم بعد تسطير هذه الأسطر ظفرت في أثناء المطالعة بعدةٍ من النقول تؤيد ما ذكرته بهذه الرسالة وتشهد له، لم أنشط لإلحاقها. ثُم رأيت كلامًا للإمام الكبير المجتهد في العلوم رأس الفقهاء والمحدثين الشهير بابن تيمية الحنبلي رحمه الله تعالى، فأحببت تعليقه في ذيل هذه الرسالة وهو مؤيد لما أشرنا إليه مطابق إلى جميع [11] ما أوردته فيها، فالحاصل وإن كان في كلامي زيادة إيضاح وبيان فهو لا يخالفه؛ بل يعضده ويؤيده. ولفظ ما رأيته: سئل الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحنبلي - رحمه الله تعالى - عن أهل المذاهب الأربعة: هل يصح اقتداء بعضهم ببعض في الصلوات المفروضة وغيرها أم لا؟ وهل قال أحد من السلف أنه لا يصلي بعض المسلمين خلف بعض إذا اختلفت مذاهبهم أو لا؟ وهل قائل ذلك مبتدع أم لا؟ وإذا فعل الإمام ما يعتقد أن صلاته صحيحة والمأموم يعتقد خلاف ذلك؛ مثل أن يكون الإمام تقايأ أو رعف أو احتجم أو لمس النساء بشهوةٍ أو مس ذكره أو قهقه في صلاته أو أكل ما مسته النار أو أكل لحم الإبل وصلى ولم يتوضأ، وهو لا يعتقد وجوب الوضوء من ذلك، أو كان الإمام لا يقرأ البسملة أو لم يتشهد التشهد الأخير أو لم يسلم من الصلاة والمأموم يعتقد وجوب ذلك؛ فهل تصح صلاة المأموم والحالة هذه؟ أفتونا مأجورين ولكم الثواب. أجاب رحمه الله تعالى: الحمد لله رب العالمين. نعم تجوز صلاة المسلمين بعضهم خلف بعض كما كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان ومَن بعدهم من الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين يصلي بعضهم خلف بعض مع تنازعهم في هذه المسائل المذكورة وغيرها، ولم يقل أحد من السلف الصالح رحمهم الله تعالى: إنه لا يصلي بعضهم خلف بعض. ومَن أنكر ذلك فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها، وكان الصحابة والتابعون ومَن بعدهم منهم من يقرأ البسملة ومنهم مَن لا يقرأها ومنهم مَن يجهر بها ومنهم مَن لا يجهر بها، وكان منهم مَن يقنت في الفجر ومنهم من لا يقنت، ومنهم مَن يتوضأ مِن الحجامة والر

فصل الابتداع بالتشدد في الدين والتزام ما لم يرد وتتبع آثار الصالحين

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

_ الابتداع بالتشدد في الدين والتزام ما لم يرد وتتبع آثار الصالحين فصل من كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي ثبت بمضمون هذه الفصول المتقدمة آنفًا أن الحرج منفي عن الدين جملةً وتفصيلاً - وإن كان قد ثبت أيضًا في الأصول الفقهية على وجهٍ من البرهان أبلغ - فلنبن عليه فنقول: قد فَهَمَ قوم مِن أصول [1] السلف الصالح وأهل الانقطاع إلى الله ممّن ثبتت ولايتهم أنهم كانوا يشددون على أنفسهم، ويلزمون غيرهم الشدة أيضًا، والتزام الحرج ديدنًا في سلوك طريق الآخرة. وعدّوا مَن لم يدخل تحت هذا الالتزام مقصرًا مطرودًا ومحرومًا، وربما فهموا ذلك من بعض الإطلاقات الشرعية، فرشحوا بذلك ما التزموه، فأفضى الأمر بهم إلى الخروج عن السنّة إلى البدعة الحقيقية أو الإضافية. فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للآخرة، أحدهما سهل والآخر صعب، وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حدّ واحد فيأخذ بعض المتشددين بالطريق الأصعب الذي يشق على المكلف مثله، ويترك الطريق الأسهل بناءً على التشديد على النفس، كالذي يجد للطهارة ماءين سخن وبارد؛ فيتحرى البارد الشاق استعماله، ويترك الآخر. فهذا لم يعط النفس حقها الذي طلبه الشارع منه. وخالف دليل رفع الحرج من غير معنى زائد؛ فالشارع لم يرض بشرعية مثله، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (النساء: 29) فصار متَّبِعًا لهواه، ولا حجة له في قوله عليه السلام: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات) - الحديث. من حيث كان الإسباغ مع كراهية النفس سببًا لمحو الخطايا ورفع الدرجات، ففيه دليل على أن للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس، ولا يكون إلا بتحري إدخال الكراهية عليها؛ لأنّا نقول: لا دليل في الحديث على ما قلتم؛ وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية، ففيه أمر زائد، كالرجل يجد ماءً باردًا في زمان الشتاء ولا يجده سخنًا فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ. وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه؛ بل في الأدلة المتقدمة ما يدل على أنه مرفوع عن العباد، ولو سلم أن الحديث يقتضيه لكانت أدلة رفع الحرج تعارضه، وهي قطعية وخبر الواحد ظني، فلا تعارض بينهما للاتفاق على تقديم القطعي. ومثل الحديث قول الله تعالى:] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ [ ... الآية (التوبة: 120) . ومن ذلك الاقتصار من المأكول على أخشنه وأفظعه لمجرّد التشديد لا لغرضٍ سواه، فهو النمط المذكور فوقه؛ لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس في التكليف؛ وهو أيضًا مخالف لقوله عليه السلام: (إن لنفسك عليك حقًّا) ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل الطيب إذا وجده، وكان يحب الحلواء والعسل، ويعجبه لحم الذراع، ويستعذب له الماء، فأين التشديد من هذا؟ ! ولا يدخل الاستعمال المباح في قوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} (الأحقاف: 20) ؛ لأن المراد به الإسراف الخارج عن حد المباح، بدليل ما تقدم، فإذًا الاقتصار على البشيع في المأكول من غير عذرٍ تنطع؛ وقد مر ما فيه في قوله تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [ ... الآية (المائدة: 87) . ومن ذلك: الاقتصار في الملبس على الخشن من غير ضرورة؛ فإنه من قبيل التشديد والتنطع المذموم. وفيه أيضًا من قصد الشهرة ما فيه. وقد روى عن الربيع بن زياد الحارثي أنه قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: اغد بي على أخي عاصم، قال: ما باله؟ قال: لبس العباء يريد النسك. فقال علي رضي الله عنه: عليَّ به. فأُتيَ به مؤتزرًا بعباءة مرتديًا بالأخرى، شعث الرأس واللحية، فعبس في وجهه وقال: ويحك! أما استحييت من أهلك؟ أما رحمت ولدك؟ أترى الله أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئًا؟ ! بل أنت أهون على الله من ذلك، أما سمعت الله يقول في كتابه: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} (الرحمن: 10) - إلى قوله - {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (الرحمن: 22) ؟ أفترى الله أباح هذا لعباده إلا ليبتذلوه [2] ويحمدوا الله عليه فيثيبهم عليه؟ وأن ابتذالك نِعَم الله بالفعل خير منه بالقول. قال عاصم: فما بالك في خشونة مأكلك وخشونة ملبسك؟ قال: ويحك! إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس. فتأملوا كيف لم يطالب الله العباد بترك الملذوذات! وإنما طالبهم بالشكر عليها إذا تناولوها، فالمتحري للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعي مفتات على الشارع [3] وكل ما جاء عن المتقدمين من الامتناع عن بعض المتناولات من هذه الجهة وإنما [4] امتنعوا منه لعارضٍ شرعي يشهد الدليل باعتباره، كالامتناع من التوسع لضيق الحال في يده، أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع، أو لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يفطن إليه غيره ممن علم بامتناعه، وقضايا الأحوال لا تعارض الأدلة بمجردها، لاحتمالها في أنفسها. وهذه المسألة مذكورة على وجهها في كتاب الموافقات. ومن ذلك الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس، حملها على ذلك في كل شيء من غير استثناء، فهو مع قبيل التشديد. ألا ترى أن الشارع أباح أشياء مما فيه قضاء نهمة النفس وتمتعها واستلذاذها؟ فلو كانت مخالفتها بِرًّا لشرع، ولندب الناس إلى تركه فلم يكن مباحًا؛ بل مندوب الترك أو مكروه الفعل. وأيضًا فإن الله تعالى وضع في الأمور المتناولة إيجابًا أو ندبًا أشياء من المستلذات الحاملة على تناول تلك الأمور، لتكون تلك اللذات كالحادي إلى القيام بتلك الأمور، كما جعل في الأوامر إذا امتثلت، وفي النواهي إذا اجتنبت أجورًا منتظرة، ولو شاء لم يفعل؛ وجعل في الأوامر إذا تركت والنواهي إذا ارتكبت جزاءً على خلاف الأول؛ ليكون جميع ذلك منهضًا لعزائم المكلفين في الامتثال، حتى إنه وضع لأهل الامتثال الثائرين على المبايعة [5] في أنفس التكاليف أنواعًا من اللذات العاجلة، والأنوار الشارحة للصدور، ما لا يعدله من لذات الدنيا شيء؛ حتى يكون سببًا لاستلذاذ الطاعة والفرار إليها وتفضيلها على غيرها، فيخف على العامل العمل؛ حتى يتحمل منه ما لم يكن قادرًا قبْلُ على تحمّله إلا بالمشقة المنهي عنها؛ فإذا سقطت سقط النهي. بل تأملوا كيف وضع للأطعمة على اختلافها لذَّات مختلفات الألوان، وللأشربة كذلك، وللوقاع الموضوع سببًا لاكتساب العيال - وهو أشدَّ تعبًا عن النفس - لذة أعلى من لذة المطعم والمشرب؛ إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن نفس المتناول، كوضع القبول في الأرض وترفيع المنازل، والتقدم على سائر الناس في الأمور العظائم؛ وهي أيضًا تقتضي لذات تستصغر في جنبها لذات الدنيا. وإذا كان كذلك، فأين هذا الموضع الكريم، من الرب اللطيف الخبير؟ فمن يأتي متعبدًا بزعمه بخلاف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسير والأسباب الموصلة إلى محبته؛ فيأخذ بالأشق والأصعب، ويجعله هو السلم الموصل والطريق الأخص: هل هذا كله إلا غاية في الجهالة، وتلف في تيه الضلالة؟ عافانا الله من ذلك بفضله. فإذا سمعتم بحكاية تقتضي تشديدًا على هذا السبيل، أو يظهر منها تنطع أو تكلف؛ فإما أن يكون صاحبها ممن يعتبر كالسلف الصالح، أو من غيرهم ممن لا يعرف ولا ثبت اعتباره عند أهل الحل والعقد من العلماء، فإن كان الأول فلا بد أن يكون على خلاف ما ظهر لبادئ الرأي - كما تقدم - وإن كان الثاني فلا حجة فيه، وإنما الحجة في المقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه خمسة في التشديد في سلوك طريق الآخرة يقاس عليها ما سواها. *** فصل قد يكون أصل العلم مشروعًا؛ ولكنه يصير جاريًا مجرى البدعة من باب الذرائع، ولكن على غير الوجه الذي فرغنا من ذكره. وبيانه أن العلم يكون مندوبًا إليه - مثلاً - فيعمل به العامل في خاصة نفسه على وضعه الأول من الندبية، فلو اقتصر العامل على هذا المقدار لم يكن به بأس، ويجري مجراه إذا دام عليه في خاصيته غير مظهر له دائمًا؛ بل إذا أظهره لم يظهره على حكم الملتزمات من السنن الرواتب والفرائض اللوازم، فهذا صحيح لا إشكال فيه. وأصله ندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإخفاء النوافل والعمل بها في البيوت، وقوله: (أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة) ؛ فاقتصر في الإظهار على المكتوبات كما ترى؛ وإن كان ذلك في مسجده عليه السلام أو في المسجد الحرام أو في مسجد بيت المقدس، حتى إن النافلة في البيت أفضل منها في أحد هذه المساجد الثلاثة بما اقتضاه ظاهر الحديث. وجرى مجرى الفرائض في الإظهار السنن كالعيدين والخسوف والاستسقاء وشبه ذلك؛ فبقي ما سوى ذلك حكمه، ومِنْ هنا ثابر السلف الصالح - رضي الله عنهم - على إخفاء الأعمال فيما استطاعوا أو خفَّ عليهم اقتداءً بالحديث وبفعله عليه السلام؛ لأنه القدوة والأسوة. ومع ذلك فلم يثبت فيها إذا عمل بها في البيوت دائمًا أن يقام جماعة في المساجد ألبتة، ما عدا رمضان - حسبما تقدم - ولا في البيوت دائمًا، وإن وقع ذلك في الزمان الأول في الفرط [6] كقيام ابن عباس - رضي الله عنهما - مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ما بات عند خالته ميمونة، وما ثبت من قوله عليه السلام: (قوموا فلأصلي لكم) . وما في الموطأ من صلاة يرفا [7] مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقت الضحى، فمن فعله في بيته وقتًا ما فلا حرج، ونص العلماء على جواز ذلك بهذا القيد المذكور، وإن كان الجواز قد وقع في المدونة مطلقًا فما ذكره تقييد له، وأظن ابن حبيب نقل [8] عن مالك مقيدًا؛ فإذا اجتمع في النافلة أن تلتزم التزام السنن الرواتب إما دائمًا وإما في أوقات محدودة وعلى وجه محدود، وأقيمت في الجماعة في المساجد التي تقام فيها الفرائض، أو المواضع التي تقام فيها السنن الرواتب، فذلك اتباع [9] والدليل عليه أنه لم يأت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ولا عن التابعين لهم بإحسان فعل هذا المجموع هكذا مجموعًا، وإن أتى مطلقًا من غير تلك التقيدات؛ فالتقييد في المطلقات التي لم يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي في التشريع؛ فكيف إذا عارضه الدليل، وهو الأمر بإخفاء النوافل مثلاً؟ ووجه دخول الابتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة؛ فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العلم بالسنة، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعًا، ثُم يلزم من ذلك اعتقاد ما ليس بسنة والعمل بها على حد العلم بالسنة نحو من تبديل الشريعة؛ كما لو اعتقد في الفرض أنه ليس بفرض، أو بما ليس بفرض أنه فرض، ثم عمل على وفق اعتقاده فإنه فاسد، فهب العمل في الأصل صحيحًا فإخراجه عن بابه اعتقادًا وعملاً من باب إفساد الأحكام الشرعية. ومن هنا ظهر عذر السلف الصالح في تركهم سننًا قصدًا لئلا يعتقد الجاهل أنها من الفرائض كالأضحية وغيرها كما تقدم ذلك. ولأجله أيضًا نهى أكثرهم على اتباع الآثار، كما خرج الطحاوي وابن وضاح وغيرهما عن معرور بن سويد الأسدي قال: وافيت الموسم مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رض

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ حظر الشحاذة والسؤال والذل لغير الله فصل من فصول كتاب (مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين) للإمام المحقق ابن القيم ذكره في بحث منزلة الرضاء بالله ومن الله فحرر المسألة به تحريرًا كعادته، قال أجزل الله ثوابه: (فصل) والمسألة في الأصل حرام؛ وإنما أبيحت للحاجة والضرورة؛ لأنها ظلم في حق الربوبية وظلم في حق المسئول، وظلم في حق السائل. (أما الأول) فلأنه بذل سؤاله وفقره وذله واستعطاءه لغير الله، وذلك نوع عبودية، فوضع المسألة في غير موضعها وأنزلها بغير أهلها، وظلم توحيده وخلاصه وفقره إلى الله وتوكله عليه ورضاءه بقسمه، واستغنى بسؤال الناس عن مسألة رب الناس، وذلك كله يهضم من التوحيد ويطفئ نوره ويضعف قوته. (وأما ظلمه للمسئول) فلأنه سأله ما ليس له عنده، فأوجب له بسؤاله عليه حقًّا لم يكن له عليه، وعرضه لمشقة البذل أو لوم المنع، فإن أعطاه أعطاه على كراهة، وإن منعه منعه على استحياء وإغماض، هذا إذا سأله ما ليس عليه، وأما إذا سأله حقًّا هو عنده لم يدخل في ذلك، ولم يظلمه بسؤاله. (وأما ظلمه لنفسه) فإنه أراق ماء وجهه، وذل لغير خالقه، وأنزل نفسه أدنى المنزلتين، ورضي لها بأبخس الحالتين، ورضي بإسقاط شرف نفسه وعزة تعففه وراحة قناعته، وباع صبره ورضاءه وتوكله وقنعه بما قسم له واستغناءه عن الناس بسؤالهم، وهذا عين ظلمه لنفسه؛ إذ وضعها في غير موضعها، وأخمل شرفها، ووضع قدرها، وأذهب عزها، وصغرها وحقرها، ورضي أن تكون نفسه تحت نفس المسئول، ويده تحت يده، ولولا الضرورة لم يبح ذلك في الشرع. وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم) . وفي صحيح مسلم عن [1] أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الناس أموالهم تكثرًا، فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر) . وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله، أعطاه أو منعه) . وفي صحيح مسلم عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن يغدو أحدكم فيحطب على ظهره فيتعمق به، ويستغني به عن الناس خير له من أن يسأل رجلاً، أعطاه أو منعه ذلك فإن [2] اليد العليا خير [3] من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول - زاد الإمام أحمد - ولأن يأخذ ترابًا فيجعله في فيه خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه) . وفي صحيح البخاري عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها [4] وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثُم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم؛ حتى نفد ما عنده، فقال لهم حين أنفق كل شيء بيده: (ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومَن يستعفف [5] يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر) . وعن عبد الله بن عمر [6] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر، وذكر الصدقة والتعفف عن المسألة [7] : (اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة واليد السفلى هي السائلة) . رواه البخاري ومسلم. وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثُم سألته فأعطاني ثُم قال: (يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمَن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف [8] نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى) . قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا حتى أفارق الدنيا. وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر - رضي الله عنه - دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفي. متفق على صحته. وعن الشعبي قال:حدثي كاتب المغيرة بن شعبة، قال: كتب معاوية إلى المغيرة ابن شعبة أن اكتب إليّ شيئًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتبت إليه: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن الله كره لكم ثلاثًا؛ قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال) . رواه البخاري ومسلم. وعن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلحفوا في المسألة فوالله لا يسألني أحد منكم شيئًا فتخرج له مسألته مني شيئًا وأنا له كاره فيبارك له فيما أعطيته) - وفي لفظ- (إنما أنا خازن فمَن أعطيته عن طيب نفس يبارك له فيه، ومن أعطيته عن مسألة وشره كان كالذي يأكل ولا يشبع) . رواه مسلم. وعن أبي مسلم الخولاني قال: حدثني الحبيب الأمين - أما هو فحبيب إليّ، وأما هو عندي فأمين - عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تسعة أو ثمانية أو سبعة؛ فقال: (ألا تبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - وكنا حديثي عهد ببيعة - فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، قال: ألا تبايعون رسول الله؟ فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله فعلام نبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات [9] الخمس وتطيعوا الله - وأسر كلمة خفية - ولا تسألوا الناس شيئًا فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدًا يناوله إياه) رواه مسلم. وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المسألة كدٌ يكدّ بها الرجل وجهه إلا أن يسأل الرجل سلطانًا أو في أمر لا بد منه) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. وفي مسند الإمام أحمد عن زيد بن عقبة الفزراي، قال: دخلت على الحجاج بن يوسف الثقفي فقلت: أصلح الله الأمير، ألا أحدثك حديثًا سمعته من سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: سمعته يقول: (المسائل كدٌّ يكد بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه ومن شاء ترك، إلا أن يسأل رجل ذا سلطان، أو يسأل في أمر لا بد منه) . وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يتقبل لي بواحدة أتقبل [10] له بالجنة - قلت: أنا - قال: لا تسأل الناس شيئًا) فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب فلا يقول لأحد ناولنيه، حتى ينزل هو فيتناوله. رواه الإمام أحمد وأهل السنن. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله أوشك الله له بالغنى، إما بموت عاجل أو غنى عاجل) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح [11] . وعن سهل ابن الحنظلية قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فسألاه فأمر لهما بما سألا، وأمر معاوية فكتب لهم بما سألا، فأما الأقرع فأخذ كتابه فلفه في عمامته وانطلق، وأما عيينة فأخذ كتابه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتابه، فقال: يا محمد أراني حاملاً إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمس، فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل وعنده [12] ما يغنيه فإنما يستكثر من النار - وفي لفظ آخر من جمر جهنم، قالوا: يا رسول الله! وما يغنيه؟ - وفي لفظ - وما الغنى الذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: قدر ما يُغَدِّيه ويعشِّيه - وفي لفظ - أن يكون له شبع يوم وليلة) رواه أبو داود والإمام أحمد. عن أبي الفراس [13] قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أسأل يا رسول الله؟ قال (لا، وإن كنت سائلاً لا بد فسل [14] الصالحين) رواه النسائي. وعن قبيصة بن مخارق الهلالي، قال: تحملت حمالة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أسأله؛ فقال: (أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها. قال: ثم قال: يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش، أو قال: سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة؛ حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش - أو قال: سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتًا يأكلها صاحبها) رواه مسلم. وعن عائذ بن عمرو: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فسأله فأعطاه، فلما وضع رجله على أسكفة الباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو يعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئًا) رواه النسائي. وعن مالك بن نضلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأيدي ثلاثة - فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى - فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك) رواه الإمام أحمد وأبو داود. وعن ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من سأل مسألة وهو عنها غني كانت شيئًا في وجهه يوم القيامة) رواه الإمام أحمد. وعن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثٌ والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفًا عليهن: لا ينقص مال من صدقة، فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا رفعه الله بها، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) رواه الإمام أحمد. وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سرحتني أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله. فأتيته فقعدت؛ قال: فاستقبلني فقال: (من استغنى أغناه الله، ومن استعفّ أعفّه الله، ومن استكفى كفاه الله، ومن سأل وله قيمة أوقية فلقد ألحف) فقلت: ناقتي هي خير من أوقية، ولم أسأله. رواه الإمام أحمد وأبو داود [15] . وعن خالد بن عدي الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جاءه من أخيه معروف من غير إشراف ولا مسألة فليقبله ولا يرده؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليه) رواه الإمام أحمد. ((يتبع بمقال تالٍ))

تشريف أمير البلاد مدرسة دار الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تشريف أمير البلاد مدرسة دار الدعوة والإرشاد إن عناية مولانا عزيز مصر العباس (أيده الله تعالى) برفع منار العلم والعرفان، مما سارت به الركبان، وعرف فضله فيه الثقلان، وقد أدرك - حفظه الله - بنور بصيرته الثاقب؛ أن التعليم الذي شيد لمعاهده أركانها، وأقام من مدارسه بنيانها - لا تصلح به حال الأمة إلا إذا قرن بالتربية العملية، وتهذيب الأخلاق في المدارس الداخلية، ولما وقف على مشروع مدرسة دار الدعوة الإرشاد، ورأى قواعد نظامها قائمة على هذا الأساس، أظهر ميله الشريف إليها، واستحسانه لطريقتها، وقد أراد في هذه الأيام أن يظهر للأمة ميله إليها، وعنايته السامية بها، تشجيعًا للقائمين بأمر المدرسة على عملهم، وإرشادًا لمحبّي الخير إلى شد أزرهم فأظهر لناظر المدرسة عزمه الشريف على زيارتها في ضحوة يوم الاثنين (2 جمادى الآخرة) وأنه يحبّ أن يراها كما هي من غير زينة ولا كلفة، ولم يأذن لي بدعوة أحد إلى استقباله فيها؛ إلا من حضر من أعضاء جماعتها. وكان ذلك اليوم قد ضرب موعدًا لاجتماع مجلس النظار في الساعة العاشرة صباحًا، وموعد خروج الأمير من قصر القبة رأس الساعة التاسعة. فكان اجتهاد رجال التشريفات أنه يشرف قصر عابدين أولاً ثم يؤم المدرسة منه، وإن مدة مكثه في المدرسة تكون من عشر دقائق إلى 15 دقيقة. ولما تشرفت يوم السبت الماضي بتهنئته بعيد مولده السعيد في المقابلة العامة تفضل بإجلاسي بجانبه وقال لي عند الانصراف إنه سيخرج من قصر القبة على رأس الساعة التاسعة ويقصد المدرسة توًّا، فاستبشرت حينئذٍ بأن مدة تشريفه ستكون طويلة. وفي ضحوة ذلك اليوم الميمون جاء المدرسة صاحب العزة محمد بك فهمي التشريفاتي الأول فتعهد المدرسة والطريق الموصل إليها، وكان قد تعهد الطريق غيره من رجال المعية السنية وكذا مهندس السيارات، ثم جاءت فصيلة من العسكر المصري ووقفت عند طريق المدرسة الخاص لأداء السلام العسكري لسموه. ولما كان تمام الساعة التاسعة جاء نبأ المسرة بلسان المِسرَّة (التلفون) من قصر القبة بأن الركاب العالي قد تحرك، وكان قد جاء المدرسة لاستقبال سموه صاحب الفضيلة السيد عبد الحميد البكري رئيس جماعة الدعوة والإرشاد، وكل من الأستاذ الشيخ محمد المهدي المدرس بمدرسة القضاء الشرعي والأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار المدرس بمدرسة البوليس، وأصحاب العزة محمود بك سالم ومحمود بك صادق ومحمد بك لبيب البتانوني وعبد الله بك فائق والطبيب محمد توفيق أفندي صدقي من أعضاء جماعة الدعوة والإرشاد، وشقيقي السيد صالح رضا، فخفّ الجميع مع محمد بك فهمي إلى باب حديقة المدرسة، ووقفنا خارجه، وبعد ربع ساعة من نبأ المسرة وصل سموه إلى المدرسة في سيارة كهربائية تسابق البرق، فصافح المستقبلين كما هو دأبه الشريف، وكان مع سموه رئيس حجاب معيته السنية، وجاء أيضًا صاحب السعادة علي باشا ذو الفقار محافظ العاصمة وحده ليكون في خدمته مدة زيارته للمدرسة. ثم دخل سموه المدرسة فكان أول شيء رآه وتعاهده فيها مسجدها في الطبقة الأولى منها. ثم صعد إلى الطبقة الثانية فشرف حجرة الناظر أولاً، ثم حجرة المعلمين. فقَدَّمْتُ له المعلمين واحدًا بعد واحد، فكان يسأل كل واحد عن العلم الذي يُدرّسه وعن عدد دروسه، ثم دخل حجرة السنة التمهيدية، فبينت لسموه أجناس الطلبة بالإشارة إليهم فكان يسأل: أين كانوا قبل الانتساب إلى المدرسة، وعن درجة فهم الأعاجم منهم للعربية ونطقهم بها، فاستأذنته بسماع إلقاء طالب هندي لبعض محفوظه من الشعر العربي فأذن. فقام الطالب عبد الله خدايا وأنشد بلسانٍ فصيح أبيات أبي تمام التي أولها: يا صاحِبَيَّ تَقَصَّيا نَظَرَيْكُما ... تَرَيا وجوهَ الرّوض كيف تصوّر تريا نهارًا مشمسًا قد شابه زهر الربي فكأنما هو مقمر فأعجبه إنشاده وإلقاؤه وفصاحة لسانه. ثم عرضتُ على مسامع سموه أن بعض الطلبة قد نظموا - على ضيق الوقت - شيئًا من الشعر ترحيبًا بتشريفه: فهل يإذن بإنشاد شيء منها؟ فأذن فأنشدوا ما سيذكر بعد، وهو واقف يسمع، وقد جبر قلوب المنشدين بإشارة الرضا والاستحسان. ثم مرّ سمّوه من وسطهم متفرسًا فيهم، ودخل حجرة السنة الأولى، فاستأذن الطالب الأول فيها وهو محمد أبو زيد وأنشد هذين البيتين: شرفت دار المرشدين يا مليـ كًا نورت أضواؤه لمن سلك عباسنا في رفع شأن شعبه ... لم يأل جهدًا فهو خير مَن ملك وكان بعض الطلبة من هذه الفرقة قد نظموا شيئًا من الشعر أيضًا فلم أر من الذوق استئذان سموه بإنشاده. ثم إنه - حفظه الله تعالى - سألني عن جميع الدروس التي يتلقونها، وأمر أن يسألهم معلم اللغة الإنكليزية أمامه بعض الأسئلة، وأن يطلعه على خطوطهم وترجمتهم ففعل، ونطق - حفظه الله تعالى - بكلمات من الحكمة في منافع لغات العلم الأوربية وحاجة طلاب هذه المدرسة إليها في هذا العصر. ثم عاد إلى حجرة ناظر المدرسة فاستأذنته بإلقاء بعض ما يخالج القلب من واجب الشكر والدعاء؛ فأذن فألقيت ما سيذكر بعد، وهو حفظه الله واقف والجميع وقوف في خدمته، فتكرم بكلمة القبول المؤذنة بتواضعه المعهود، وأظهر استحسانه لكل ما رأى. ووعد بأن يزور المدرسة في كل سنة. ودعا الله تعالى بأن يراها تزداد تقدمًا وارتقاءً في كل عام. فشكرت له هذا بما يليق بالمقام، وأطلعته على دفاتر ذات جداول وضعناها في هذا العام لتكون سجلات لتاريخ الطلبة في تربيتهم وتعليمهم، تحصى فيها درجات الامتحانات المختلفة، وأنواع المخالفات والعقاب عليها، وغير ذلك، فأظهر استحسانه لها. ثم إنه نزل إلى الطبقة الأولى فتفقد حجرات النوم والطعام، والمتوضأ والحمام، فأعجبه كل ذلك. وعلم برؤية ذلك أننا جددنا عمارة في المدرسة لم تكن؛ فسأل عن ذلك فذكرتُ لسموه ما جددناه فيها. وسأل عن إجارتها وأجرتها وكم بقي لنا من مدتها، فأجبته عن ذلك، وقد كرر عبارات استحسان المكان في بنائه وموقعه، فذكر ذلك في بدء الدخول وعند إرادة الخروج. وبعد أن أتم بحثه وتفتيشه بدقة يعجز عن مثلها أمهر المفتشين خرج مشيعًا بالقلوب والأجسام؛ حتى إذا ما بلغ باب حديقة المدرسة ودع المشيعين وودعوه بتقبيل يده الكريمة. وأراد أن يمشي في الشمس إلى الشارع العام، فلما رآنا نريد المشي في خدمته ركب سيارته، وأمر سعادة محافظ العاصمة بالركوب معه، وانصرف والألسنة تلهج بحمده والدعاء له وكانت الساعة بلغت 10و5 دقائق. وعلى أثر ذلك تألف وفد من رئيس الجماعة والشيخ محمد المهدي والشيخ عبد الوهاب النجار وكاتب هذه السطور (ناظر المدرسة) لأداء واجب الشكر إلى سموّه، فجئنا قصر عابدين، فأبلغنا رجال التشريفات أن موعد انعقاد مجلس النظار قد حان، فلا وقت لمقابلة سموه الآن. فاكتفينا بكتابة أسمائنا في الدفتر كما هي العادة المتبعة. ثم إن كاتب هذه السطور أمّ قصر عابدين مرة أخرى في أصيل ذلك اليوم فتكرم الجناب العالي بمقابلته مقابلة خاصة، فأديت ما يجب من الشكر بلساني ولسان إخواني، وتفضل - أيده الله تعالى - بإبداء سروره من زيارة المدرسة ورضاه عنها، وببعض الأوامر الإرشادية المتعلقة بها وبما تبرع به لها، فخرجت حامدًا شاكرًا داعيًا. أما ما تبرّع به لها فهو خمسمائة جنيه مصري. وما يرجى من عنايته وبرّه فوق ذلك، أدام الله توفيقه وتأييده، آمين. *** كلمة الدعاء والشكر التي وجهها إلى سمو أمير البلاد ناظر مدرسة دار الدعوة والإرشاد [1] وهو واقف بين يديه في حجرته من المدرسة مولانا العزيز العظيم: ليس في طاقتنا ولا في طاقة الأمة أن تقوم بما يجب لك من الإجلال والتكريم، بتشريفك هذا المعهد الإسلامي من معاهد التربية والتعليم، ولكن لسان كل منا يردد قول البوصيري: ما له حيلة سوى حيلة العا ... جز إما توسل أو دعاء فنقول: أعز الله بك - أيها العزيز - الإسلام، ورفع بهمتك منار العلم والعرفان، وأحيا بهديك السنة، وجدد بعنايتك مجد الأمة. نحمد الله تعالت أسماؤه ثم نحمدك، ونشكره جل ثناؤه ثم نشكرك، ولو كبر عن الثناء محسن لكبرت يا مولاي عن الحمد، ولو جل عن شكر الصنيعة منعم لجلت صنائعك عن الشكر. فأنت أنت الذي انفردت - دون أمراء المسلمين - بالجمع بين المدنية الصحيحة وإقامة شعائر الدين. ففي أوربا تزاحم بمنكبك مناكب أعاظم الملوك، وفي حرم الله ورسوله يزاحمك بمنكبه البدوي والصعلوك. وأنت أنت الذي أفضت المال والنظام على معاهد العلم الدينية، ولم تنس من فيضك مدارس الفنون الدنيوية، ولم ترض بما رفعت من شأن الأزهر حتى أنشأت أزهرًا ثانيًا في مدينة الإسكندرية، كما نفخت روح الثقة في جسم الجامعة المصرية، بإعانتك المالية وعنايتك المعنوية. وأنت أنت الذي رقيت بعلمك وعملك الزراعة، وجددت في قطرك السعيد أعمال الصناعة، ووسعت بهديك دائرة التجارة. تفعل كل هذا بحق، بما آتاك الله من الهمة العلية، وتجري فيه على عرق، بالوراثة المحمدية العلوية. فأنت أنت الذي لله ما فعلا ... وأنت أنت الذي لله ما صنعا وأنت أنت الذي لله ما وصلا ... وأنت أنت الذي لله ما قطعا ولكن: هل رضيت نفسك الكبيرة بكل هذا ووقفت همتك العلية عنده؟ كلا! أنت - أيدك الله بروح منه - قد توجهت إلى ما وراءه من الإصلاح الاجتماعي والسياسي، والإصلاح الديني الروحي. أما الأول: فقد أشهدت الشرق والغرب - وكفى بالخافقين شاهدي عدل - على أنك تريد أن تشاركك أمتك في سلطتك الذاتية، وتجعل حكومتك حكومة نيابية، ولا تزال تمهد لذلك السبيل، وتمزج مع الأمة من كل قبيل، وهذه رحلتك الميمونة المباركة التي أزمعتها، آية بينة على إحيائك سنة الراشدين في احترام الأمة ومعاشرتها، ومحبتها والتحبب إليها [2] . وأما الثاني: فهو عنايتك بأمر هذه المدرسة ورغبتك في نجاحها، على علم منك بأنها تقوم في الإسلام بخدمة لا يغني غيرها غناءها، من حيث إنها رباط لتربية الأخلاق، والآداب الإسلامية، على ما كان عليه السلف الصالح وقدماء الصوفية، ومعهد لتعليم العلوم الدينية، وما يحتاج إليه المرشدون والدعاة من العلوم الكونية والعقلية، وإن الغرض منها إحياء دعوة الإسلام والدفاع عنه بحسب ما تقتضيه حال العصر، وإرشاد عامة المسلمين إلى ما يصلح به أمر دينهم ودنياهم، ويجارون به غيرهم ويعيشون عيشة الوفاق مع من عداهم. وإن ارتباط جماعة الدعوة والإرشاد بمشيخة الطرق الصوفية مما يمهد السبيل للمرشدين الذين يتخرجون في هذه المدرسة لإصلاح شؤون العامة؛ لأن أكثر العامة تنتمي إلى طرق الصوفية، فإذا انبث المرشدون المستعدون بالتأثير بالوعظ والخطابة في هؤلاء الناس، وعهدت إليهم المشيخة الصوفية بإرشادهم وتعليمهم. فالمرجو بحسب سنة الله تعالى في تأثير الدين في النفوس أن يصلح حالهم في أقرب وقت، وبذلك تقل الجرائم والجنايات، والتعديات على الزرع والبهائم والناس، بعد أن أعيا الحكومة أمرها، وحارت في الوسائل التي تقللها، فعنايتك يا مولانا بهذه المدرسة ستكون عهد إصلاح جديد للأمة والبلاد؛ إن شاء الله تعالى. هذا ولولا أن أشق على مولاي بإطالة الوقوف لأطلت القول بحمده وشكره، وشرح ما أعتقد من الخير والنفع للأمة بعنايته وبره؛ ولكنني أكتفي بما في القلب، وما في القلب كثير. *** القصائد والمقاطيع التي أنشدها الطلاب على مسامع مولانا الأمير القصيدة الأولي لمحمد أفندي ال

مصاب مصر والشام برجال العلم وحملة الأقلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب مصر والشام برجال العلم وحملة الأقلام أكبر مصائب البلاد موت العلماء والأدباء والكتاب الذين يغذون العقول ويزكّون النفوس بالتعليم والتصنيف ونشر العلوم والآداب. وقد رزئت الديار المصرية والسورية في هذه الأيام بوفاة أربعة كهول من أشهر رجالهما في علوم الدين والدنيا واللغة، يعدون من عوامل التحول والانقلاب الاجتماعي في الأمة العربية. وهم أحمد فتحي باشا زغلول المصري والشيخ حسن المدور والشيخ محيي الدين الخياط البيروتيان - والشيخ جمال الدين القاسمي الدمشقي. 1- أحمد فتحي باشا زغلول في آخر يوم من الشهر الماضي شيعت مصر جنازة نابغة العرب فيها صديقنا أحمد فتحي باشا زغلول، وشعر كل ذي بصيرة فيها بأنها فقدت رجلاً لا خلف له في مواهبه ومزاياه. ولد الفقيد لليلتين أو ثلاث خلت من شهر رمضان 1279 (الموافق أول شهر الشتاء الثاني سنة 1241 هجرية شمسية - 22 فبراير 1863م) والده من بيت كريم ينتمي إلى بعض قبائل العرب التي استوطنت القطر المصري، ووالدته من بيت كريم يسمَّى (بيت بركات) ، وهما من قرية من قرى مديرية الغربية اسمها (إبيان) ، وكان والده سمّاه (فتح الله صبري) ثم غير اسمه ناظر المعارف فسماه باسمه (أحمد) لما ظهر له من نجابته، ولقبه بفتحي للإشارة إلى اسمه الأول. وتلقى التعليم الابتدائي والوسط في مدارس الحكومة بمصر والإسكندرية، واختار له ناظر المعارف أن يتلقى التعليم العالي في فرنسا، فكان في مدارس التعليم كلها آية الذكاء والاجتهاد. ولما عاد من أوربة دخل في خدمة الحكومة في النيابة والقضاء حتى صار رئيسًا لمحكمة مصر الأهلية ثم وكيلاً لنظارة الحقانية، ونال ما نال من رتب الحكومة وأوسمتها العالية، وكان العارفون يجزمون بأن ترقيه دون استحقاقه واستعداده. فهل هذا هو أحمد فتحي باشا زغلول؟ تعلم في مدارس مصر وأوربا ألوف، عاش أكثرهم ومات كما يعيش ويموت الملايين من الجهلة والمغمولين، وتقلب كثيرون منهم في مناصب الحكومة وأعمالها. وما كل واحد منهم يستحق أن يترجم في الصحف ويخلد اسمه في دواوين التاريخ، اللهم إلا تواريخ المنافقين الذين يعظمون كل صاحب منصب أو ثروة وإن لم يكن له أثر يذكر أو منقبة تؤثر إلا جمع المال واقتناء العقار، والتعالي على الناس ولو بالظلم والإفساد. أحمد فتحي زغلول ذلك الرجل الذي شهد له كل ذي علم وفهم في مصر بأنه بذ الأقران، وكان المجلى من حلبة المدنية في كل ميدان، لم يجمع مالاً، ولم يتأثل عقارًا، ولم يترك درهمًا ولا دينارًا؛ وإنما كان هو ذلك الرجل بما آتاه الله من الذكاء واللوذعية، والعقل والروية، والهمة العلية، وما تربى عليه من ملكة الاستقلال، وما اكتسبه من العلوم وما أحسنه من الأعمال. خلق أحمد فتحي زغلول كبير الاستعداد، آتاه الله فؤادًا ذكيًّا، وذهنًا لوذعيًّا، والأذكياء في أمتنا العربية كثيرون، فإن كان حظ هذا الرجل من الذكاء عظيمًا فكم من عظيم الذكاء أطفأت التربية السوءى والبيئة الفاسدة نور ذكائه، وهدمت ما بنته الفطرة من قوة استعداده، وكم من ذكي وجهت القدوة السوءى ذكاءه إلى ما يضره أو يضر أمته كلها، وقد اتفق لهذا الذكي اللوذعي أن نبت في بيئة خاصة، مثل فيها أمام عينيه من أول العهد بالتمييز إمام الإصلاح في هذا الزمان، ومن حوله من المريدين والإخوان، الذين لم يكن لهم سمر ولا حوار، إلا في شؤون التربية والإصلاح، فكان يرى منهم منذ عهد التعليم الابتدائي الأستاذ الإمام متجليًا في فضائله وحكمته، والشيخ عبد الكريم سلمان متحليًا بآدابه وفطنته، وأخاه (سعدًا) معتصمًا باستقلاله وحجته، مع أتراب لهم من مريدي السيد جمال الدين حكيم الإسلام، وخليفته الأستاذ الإمام، وكل في فلك العلم والحكمة يسبحون، وحول قطب الإصلاح وتجديد حياة الأمة يدورون، فلقح استعداد أحمد فتحي بفكرة العمل والسعي لتجديد حياة الأمة، وصحب الأستاذ الإمام بعد عودته من أوربة ودخوله في أعمال الحكومة كأخيه الأكبر (سعد باشا) صحبة المريد الصادق للمرشد الكامل، فاستفاد من تلك الأفكار السامية، والمقاصد العالية، والفصاحة الخلابة، والبلاغة الجذابة، ما شاء الله أن يستفيد. وكان زيته صافيًا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فاتصل بذلك القبس المتألق فاشتعل نورًا على نور. أروي عن فقيدنا النابغة كلمتين في أستاذنا الإمام رحمهما الله تعالى: الأولى سمعتها منه في أول مجلس لقيته فيه: زار الفقيد طرابلس الشام بصحبة الأستاذ أيام كنت أطلب العلم فيها، فكنت مدة مكثهما في طرابلس ملازمًا لهما من الصباح إلى وقت النوم؛ لأنني كنت اطلعت على ما صدر من جريدة (العروة الوثقى) فعشقت السيد جمال الدين مدير سياستها، والشيخ محمد عبده رئيس تحريرها، وصرت مريدًا لهما بالغيب، وقد جئت الدار التي ناما فيها ليلة قدما فقيل لي أنهما ذهبا إلى حمّام عز الدين، جئت الحمام فألفيت بعض العلماء والوجهاء قعودًا في خارج الحمام ينتظرون مع الفقيد، والأستاذ في الداخل، فترجمني الشيخ خير الدين الميقاتي من علماء طرابلس للفقيد، وكان مما قاله: إنه أكتب الكتاب عندنا وهو لا يرى لنفسه أستاذًا في الكتابة إلا الأستاذ الشيخ محمد عبده على أنه لم يره، فقال الفقيد: كلنا ليس لنا أستاذ في الكتابة غير الأستاذ. وأحسب أنه فسّر ذلك بأن التمايز في الكتابة إنما هو بالأفكار وأساليب التصرف في الكلام، وأن كل من يقرأ ما كتبه الشيخ أو يسمع كلامه يجد فيه القدوة المثلى والمادة الغزيرة في ذلك. ولم أحفظ من كلامه بنصه وقتئذٍ إلا تلك الكلمة. وأما الكلمة الثانية فقد قالها منذ ثلاث سنين؛ إذ كنا نتذاكر في داره ببعض المسائل الاجتماعية، فذكرنا كلمة من حكم الأستاذ في ذلك فسرتها الحوادث فقال: إن كثيرًا من كلام الشيخ لم يظهر لنا معناه المراد إلا بعد موته. وقد كان يقول الكلمة فنظن أننا فهمناها ثم يظهر لنا بعد عدة سنين أننا لم نكن فهمنا بعد غوره فيها، حتى كشفه طول البحث وسعة الاختبار. اهـ بالمعنى. تلك البيئة الإصلاحية هي التي جعلت استعداد أحمد فتحي زغلول خطيبًا مفوهًا، كما جعلته كاتبًا قديرًا، فكان في مصر ثاني الأستاذ الإمام في فصاحة لسانه، والتزام الفصيح في أكثر كلامه، أما الأستاذ فقد كتب الشيخ إبراهيم اليازجي في ترجمته - وناهيك بنقده ودقته -: إن كلامه الذي كان يلقيه في مجالسه العادية كأبلغ ما يكتبه المترسلون المتأنقون. أقول: وناهيك به قدوة صالحة، ومربيًا للملكة. تلك البيئة الطيبة والقدوة الصالحة هي التي لقحت ذلك الذهن الوقاد بلقاح الاستقلال، الذي به تظهر ثمرات العلوم عند القيام بالأعمال، فكان مضطلعًا بالعمل بما تعلم، وكان علمه ملكة ثابتة، وصفة راسخة، وشجرة مثمرة، وأكثر بالعمل المتعلمين منا مقلدون، يودعون العلم بوداع المدرسة، وما عرفنا رجلاً مثله كانت الحكومة تشعر بحاجتها إلى علمه، وترجع إليه حتى في القوانين والأعمال التي لا تتعلق بعلمه، فهو واضع اللائحة الإصلاحية للمحاكم الشرعية، وهو واضع قانون إصلاح الأزهر، وناهيك بهما، وبما يتوقف عليه وضعهما، وقد اشتهر أنه كان في نظارة الحقانية الركن الركين لوضع جميع الأنظمة واللوائح والقوانين. لم تشغل الفقيد خدمة الحكومة التي كان يتقنها من كل وجه، عن خدمة الأمة بالعلم والعمل، فقد كان عضوًا عاملاً في الجمعية الخيرية الإسلامية، وألف وترجم عدة كتب ينبغي بها الإصلاح والنهوض بالأمة، دون الكسب والثروة، وكان أول ما أخرجه للغة العربية من نفائس مصنفات الإفرنج (كتاب أصول الشرائع) لبنتام، وهو كتاب جليل في فلسفة القوانين وعللها ومداركها، يعجز عن ترجمته من لم يكن راسخًا في علوم القوانين والفلسفة، وسعة الاطلاع في علم اللغة، ولو كان العلم في الأمة حيًّا لأعيد طبع هذا الكتاب مرارًا. وكان آخر كتاب ألفه في القضاء (شرح القانون المدني المصري) شرحه شرح العالم المجتهد المستقل، وتصرف في تنسيقه وترتيبه تصرف المصلح المنقح، غير في هذه الترجمة كثيرًا من الاصطلاحات القضائية المترجمة عن اللغة الفرنسية ترجمة غير صحيحة، فأعجبت الحكومة وجمهور رجال القضاء بهذا الشرح، واعترفوا بشدة الحاجة إليه، وكان هو الباعث على احتفالهم بالشارح ذلك الاحتفال الذي نوهنا به في وقته. وله في هذه المباحث القضائية كتاب حافل سماه (المحاماة) وقد بين في هذه الكتاب تاريخ المحاماة عند الأمم القديمة بالإجمال وعند الأمم الغربية بالتفصيل ومنه الكلام في نظامها عند هذه الأمم، والمؤتمر الذي عقد لها، ثم أفاض القول في المحاماة في مصر، وبيان حال المحاكم المصرية وتاريخها وتأسيس الحكومة المصرية ودخولها في سلك النظام الأوربي، وأطال الكلام على القضاء فيها، وبعد استيفاء كل ما أراده من الكلام على المحاماة وأهلها من التاريخ والنظام والقوانين والآداب، وما يناسب ذلك ختم الكتاب بملحقات في قوانين مصرية سابقة ولوائح وأوامر رسمية مصرية متممة للموضوع. فكانت صفحات الكتاب 434؛ وصفحات الذيل 210 وله رسالة قضائية في التزوير مفيدة في بابها. وله ترجمة كتاب (الإسلام - خواطر وسوانح) للكونت هنرى دي كاستري الفرنسي، في رد مفتريات الصليبين وأشباههم على الإسلام، فقد كان هذا الكونت واسع الاطلاع في كتب المسلمين، ونقل في هذا الكتاب من مطاعن الإفرنج في الإسلام ما لم يخطر على بال مسلم في الدنيا، وردها وأثنى على الإسلام خير الثناء. وقد ترجم هذا الكتاب وطبعه في أواخر سنة 1305، وهي التي صدر فيها المنار، وقرظناه في العدد الحادي عشر من السنة الأولى، ونشرنا مقدمته للترجمة العربية التي نقل الفقيد فيها نبذة من المنار. وكان غرضه من ترجمة هذا الكتاب الدفاع عن الإسلام وبيان محاسنه وتنبيه المسلمين إلى ذلك. وأما الكتب التي ترجمها لغرض التجدد العلمي والمدني في مصر وسائر الأمة العربية فهي كتاب (سر تقدم الإنكليز السكسونيين) في الطريقة المثلى للتربية والتعليم، لعالم فرنسي اسمه (أدمون ديمولان) وكتاب (روح الاجتماع) وكتاب (تطور الأمم) كلاهما للفيلسوف الفرنسي الكبير (غوستاف لوبون) فكان غرضه من هذه الكتب بث فكرة التربية الاستقلالية والتعليم العلمي في الأمة، واعتماد الأفراد على أنفسهم لا على حكوماتهم [1] وتنبيهها إلى أسباب التحويل والانقلاب في الأمم والشعوب، وكونه لا يحصل إلا بالتدريج البطيء، وتذكيرها بالآفات والعلل الكامنة في التطورات الاجتماعية الحديثة في الإفرنج، كالاشتراكية والأحزاب والجمعيات السياسية، والاقتصادية وغيرها. ولغوستاف لوبون مذهب خاص في هذه المباحث يخالفه في كثير من آرائه بعض علمائهم والناظر المستقل لا يقلد أحدًا من المختلفين، وإنما يمحص المسائل ويتبع قوة الحجة والدليل. ويقال: إنه كان بدأ بترجمة كتاب مدنية العرب أو حضارة العرب لغوستاف لوبون أيضًا، وكان الأستاذ الإمام حضه على ترجمته، وآخر ما أخرجه قلمه للناس ترجمة رسالة سياسية في سوء حال الدولة العثمانية وشدة حاجتها إلى تغيير وضعها ونظامها، وهي للأمير مصطفى فاضل باشا زعيم الأحرار الأول في الآستانة خاطب بها السلطان عبد العزيز، ورسالة أخرى في قواعد وفذلكات اجتماعية لغوستاف لوبون جعلها كالمذاكرات والعناوين لما فصله في كتبه الاجتماعية، فتر

محاربة متعصبي القبط وغيرهم للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاربة متعصبي القبط وغيرهم للمنار في يوم السبت في 21 جمادى الآخرة دعانا بالمسرّة (التلفون) رئيس النظار حسين رشدي باشا إلى داره؛ فوافيناه فيها فإذا هو في سرير النوم لانحراف صحته، وإذا بجانبه جريدة مصر القبطية، فأطلعنا عليها، وسألنا عما تنسبه إلى المنار من الطعن المعلم عليه بالحبر الأحمر فيها، وملخصه أنه يجعل النصارى كلهم وثنيين، وأن طعنه يكاد يضرم نار الثورة في البلاد؟ ؟ فلما قرأت ما فيها قلت للرئيس: يا عطوفة الرئيس! أنت قاضٍ قبل كل شيء، وقد اشتهرت في حياتك القضائية بالاستقلال، ومن مقتضى ذلك أن تقرأ الطعن الذي تشير إليه جريدة مصر، قبل أن تحكم في المسألة بشيء. هذه العبارة التي تشير إليها جريدة مصر أوردها المنار كعنوان لموضوع كتاب في سياق تقريظه له. هذا الكتاب اسمه (نشوء فكرة الله) مؤلفه إنكليزي، ولخصه بالعربية سلامة أفندي موسى القبطي، وطبعه بمطبعة يوسف أفندي الخازن الماروني السوري، محرر جريدة الوطن القبطية، وقرظته الجرائد والمجلات السورية القبطية والإسلامية، ولم يعب المترجم والناشر أحد منها بأنه عاب النصرانية وكاد يضرم نار الثورة في البلاد! ولكن لما قرظته مجلة المنار الإسلامية وذكرت أن ملخصه إثبات كون الديانة النصرانية وثنية الأصل - وقيدتها بالحاضرة تبرئة للمسيحية الصحيحة التي كان عليها المسيح عليه السلام وحواريه رضي الله عنهم - صار ذلك أكبر الجرائم المحركة للثورات والفتن، واستحق صاحب المنار النفي من مصر، واستحقت الحكومة هذا الإنذار من جريدة مصر - إذ فيها: أن من أنذر فقد أعذر بعد الاقتراح على الحكومة بأن تعاقب صاحب المنار بمثل ما عاقبت به عبد العزيز شاويش عدو القبط من سجن ونفي. ثم أعطيت للرئيس نسخة المنار فلما قرأ التقريظ فيها ضحك مستغربًا كتابة جريدة مصر. ثم ذكرت له أن المنار لما كان هو المجلة الإسلامية الوحيدة التي أخذت على نفسها الدفاع عن الإسلام في هذه البلاد الحرة التي ينشر المبشرون فيها الصحف والرسائل الكثيرة في الطعن في الإسلام والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وجب علينا شرعًا أن نرد عليها اعتداءها ولو بما هو دونه؛ إذ لا يسمح لنا ديننا أن نطعن في سيدنا عيسى ولا في أصل دينه وكتابه. فأنا لا أترك مدافعة المبشرين إلا إذا كانت الحكومة تريد منع حرية المسلمين في دينهم وتجعل الحرية للنصارى وحدهم. فقال الرئيس: كلا إن الحكومة لا تسلبك حرية الدفاع عن الإسلام ولكن توصيك بالاعتدال والتزام خطة الدفاع. قلت: إنني أعني بالدفاع أنهم البادئون وأننا نجزيهم بما دون عملهم، وأنهم إذا تركوا الكلام في ديننا تركنا الكلام في دينهم، وأنني مستعد لتقديم جدول للحكومة بالشواهد من كتب المبشرين ورسائلهم على ما فيها من الطعن الفاحش في الإسلام ... إلخ. كان ما أطلعني عليه الرئيس أول ما اطلعت عليه من المطاعن الكثيرة التي وجهتها إلى المنار جريدة مصر، وكنت أسمع بها، ولا أحاول الاطلاع على شيء منها. ثم جاءني أحد الأصدقاء بعددين منها؛ فإذا في أحدهما ما نصّه تحت عنوان (صاحب المنار) : (اتصل بنا أن ولاة الأمر قد اهتموا بما كتبناه عن الشيخ صاحب المنار وطعنه الطعن الجارح في الدين المسيحي وأهله فاستدعاه عطوفة رئيس النظار إلى منزله وحذره من الكتابة في مثل هذه المواضيع المهيجة وأنذره بتعطيل مجلته إن عاد إلى تلك الكتابات. فعسى أن يكون هذا الإنذار مانعًا من الوقوع في المصائب التي يريد صاحب المنار جلبها على البلاد وأهلها. دع كذب جريدة مصر على رئيس الحكومة في هذا العدد وانظر ما كتبت في الآخر: كنت كتبت مقالة في الرد على جريدة (دوكير) التي تصدر بمصر باللغة الفرنسية؛ إذ نشرت مقالة تنكر فيها على المنار ما كتبه في النصرانية، يظهر أنها لأحد السوريين، بينت فيها طريقة المنار في الجمع بين الإسلام والمدنية الصحيحة والتأليف بين المسلمين وغيرهم، والصحف الفرنسية التي شهدت له بذلك، وكون رده على دعاة النصرانية لا ينافي ذلك. وأرسلت المقالة إلى المؤيد فلم ينشرها إلا بعد زهاء شهر من إرسالها إليه. وقد هاج نشرها جريدة مصر فكتبت مقالة في اليوم التالي لنشر المقالة في المؤيد (وهو 27 جمادى الآخرة) استفرغت فيها ما في قلب صاحبها ومحررها من السباب والشتائم والحقد والضغينة على صاحب المنار، فظهر من فحوى ذلك سر من الأسرار، وهو سبب حملة جريدة مصر علينا في هذا الشهر، مع أن المنار يرد على المبشرين من بضع عشرة سنة وهاك ما فضح السر منها: (ولكن هذا الرجل المسكين لم يعد يعطف أحد عليه. فالوطنيون يكرهونه لأنه يعاكس مبادئهم، والإنكليز يبغضونه لأنه عدو مدنيتهم وعلماء المسلمين يكرهونه لأنه غير واقف على أسرار الدين. وقد أدركت الحكومة سوء طويته، وستوقفه عند حده عن قريب. (إننا إذا اغتفرنا لهذا الرجل كل سيئاته وتغاضينا عن مدرسته التي لا ندري الغرض منها. فإنه لا يرضينا منه تداخله في ما لا يعنيه وشرحه للدين المسيحي شرحًا يخالف ما يعتقد به أهله. وطعنه ذاك الطعن الأليم في المدنية الأوربية ووضعه القناصل والمبشرين والمومسات والقوادين في مستوًى واحد. لذلك كله نرى من واجباتنا الوطنية أن نلاحق هذا الرجل ونعمل جهد استطاعتنا لمحاربته كما تحارب الحكومات الأمراض المعدية ولو تسلح برضا بعض ولاة الأمر عنه وشدّ جريدة مثل المؤيد لأزره بقولها عنه: (إن صاحب المنار مهضوم الجانب وفي حاجة إلى الدفاع عن نفسه ودينه) اهـ. بحروفه. (المنار) ظهر لنا من هذا التصريح الذي لا يحتمل التأويل أن سبب انفجار بركان التعصب على صاحب المنار في جريدة مصر هو تشريف مولانا الأمير عزيز مصر مدرسة دار الدعوة والإرشاد، وما تضمنته هذه الزيارة من إعلان ثقته بالمدرسة وعطفه السامي على ناظرها صاحب المنار، ولذلك عرضت جريدة مصر بذكر المدرسة وقالت إنها تغاضت عنها، على كونها لا تدري الغرض منها! ! كأنه يجب على كل مسلم يعمل للإسلام عملاً أن يوقف جريدة مصر على غرضه من علمه! ! تقول جريدة مصر في صاحب المنار: إن المصريين والإنكليز يبغضونه، وإن الحكومة قد أدركت سوء طويته وستوقفه عند حده عن قريب. أثبتت جريدة مصر كل هذا، فكان ينتظر من مديرها ومحررها أنصار الديانة المسيحية بزعمهم أن يجد صاحب المنار من قلوبهم عطفة أو نفحة من الرحمة المسيحية المبني أساسها على محبة الأعداء ومباركة اللاعنين! ! ولكنهم لم يزدادوا إلا قسوة وحقدًا عليه، فبعد الجزم بجميع ما ذكر قالوا: إن الواجب عليهم أن يعملوا جهد استطاعتهم لمحاربته ولو تسلح برضا بعض أولياء الأمور عنه؟ فإذا كان الإنكليز ورجال الحكومة غاضبين عليه. فمن تعني ببعض أولياء الأمور المتسلح برضاهم عنه؟ ؟ ثم ماذا تريد جريدة مصر بالمحاربة الجديدة التي توعدتنا بها، بعدما كان من تهييجها المبشرين وغيرهم من رجال النصرانية علينا، وبعد هذه السباب والشتائم وبعد إنذار الحكومة بخطر الثورة إذا لم تنكل بصاحب المنار؟ وهل بعد هذا من حرب تقدر عليه جريدة؟ نعم بلغني ممن يعاشر بعض محرري جريدة مصر أنهم يعنون بهذه المحاربة الاستعانة بنفوذ المبشرين في إنكلترة على إقناع حكومة لندرة نفسها بوجوب إلغاء المنار والتنكيل بصاحبه وإقفال مدرسة دار الدعوة والإرشاد، إلى هذا الحد وصلت ثقة متعصبي القبط بكيدهم للمسلمين، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار ... ... ... ... السكروتة والحرير (س15) من صاحب الإمضاء الرمزي بدمياط. صاحب الفضيلة حضرة الأستاذ المرشد والإمام المصلح السيد محمد رشيد رضا سدده الله ووفقه. ما قولكم يا فضيلة الأستاذ في هذه الثياب المعروفة التي تسمى بالسكروته، وما حكم لبسها مع اختلاف الناس فيها أهي حرير أم من نبات؟ فبعضهم يقول: إنها من حرير الدودة المحرم. وبعضهم يقول: إنها ألياف نباتية تنبت بأرض الهند كالتيل والكتان. واختلف الناس في شأنه كثيرًا، وقد أصبح الناس يلبسونها كثيرًا وخصوصًا علماء الدين فلا تجد واحدًا منهم إلا وهو يقتني منها ثوبًا أو أثوابًا؛ بل ربما يديم لبسها طول الصيف ويفتي الناس بحلها بناء على أنها نباتية، ويقول ذلك ويقرره بجراءة غريبة، وقد وقع الناس الآن في شأنها كثيرًا في بلدة دمياط، واهتموا بهذا الموضوع اهتمامًا ذا بال، فنرجو فضيلتكم إجابتنا بما ترونه في ذلك منطبقًا على دين الله، وما تعلمونه عن حقيقة مادة السكروته هذه، مع ذكر مسألة الحرير وتحريمه في الدين وحكمة التحريم، ورأيكم الخاص في ذلك. فإن الخلاف فيه قديم بين الجمهور وقليل من السلف. واقبلوا مزيد الاحترام. ... ... ... ... ... ... ... ... (م. ل) (ج) : من اعتقد من الرجال أن النسيج المسمى بالسكروته حرير حرم عليه لبسه، ومن لم يعتقد ذلك لم يحرم عليه. والمتبادر من التسمية أن السكروته غير الحرير. وقد سألت تاجرًا مسلمًا سوريًّا يَتَّجِر بهذا الصنف في (شنغاي) من مواني الصين فقال: إن الذي يعلمه هو أن السكروته من نسج دود غير الحرير، أي فلهذا وضع لها اسم غير الحرير. وتفارق الحرير في أخص صفاته وهي النعومة. ولا يمكن أن يقال: إن جميع ما تنسجه الحشرات حرير. فقد كان نسج العنكبوت معروفًا عند العرب ولم يسمه أحد حريرًا. وبلغنا أن الإفرنج يتخذون منه قفافيز وغيرها. والحكمة في تحريم السنة لبس الحرير الخالص على الرجال هو كونه مبالغة في الترف والنعيم المضعفين للرجولية، والمفسدين لبأس الأمة. وكان ولا يزال عند أكثر الأمم من خصائص النساء. ولمثل هذه العلة ورد النهي في السنة عن لبس المعصفر والمزعفر؛ إذ كان من زينة النساء خاصة. فما نعلم من حكمة تحريم الحرير لا يوجد في السكروته. نعم؛ إن الرقيق من السكروته إذا كوي بالمكواة يكون له لمعان كالحرير، ولكثير من نسيج القطن والكتان مثل ذلك. فالظاهر لنا أن لبس السكروته غير محرم. والله أعلم وأحكم. *** تكرار الفدية بتأخير قضاء الصيام (س16) من نوح ابن الحاج عبد القادر القاهري السندي ما قولكم أيها العلماء الأعلام وأئمة الإسلام في قول المنهاج في كتاب الصيام: " والأصح تكرره بتكرر السنين " ما المراد بتكرر السنين؟ هل هو تأخير قضاء رمضانيين أو أكثر إلى رمضان آخر؟ أم تأخير قضاء رمضان الواحد إلى رمضانيين فصاعدا؟ فإن قلتم بالثاني فما المراد بقول الشرقاوي في حاشيته على شرح التحرير: قوله (إلى رمضان آخر) بالتنوين مصروفًا لأنه نكرة إذ المراد به غير معين، بدليل وصفه بالنكرة وهي (آخر) وزالت منه إحدى العلتين وهي العلمية. وبقاء الألف والنون الزائدتين لا يقتضي منعه من الصرف. اهـ وما المراد بقول السيد الفاضل المصطفى الذهبي في تقريبها على هامش تلك الحاشية: قوله: رمضان آخر هو مصروف لأنه غير معين، انظر ما الفرق بينه والأول؟ وغاية ما يقال: الأول مقصود منه الشهر الذي يستقبله المدرك بعينه، بخلاف الثاني فإنه يتناول ما بعده لا إلى نهاية، فتكرر الكفَّارة بكل رمضان يأتي بعد الأول فهل يكفي هذا في منع الصرف حرره. اهـ. وما المراد بقول السيد علوي ابن السيد أحمد سقاف في حاشيته على فتح المعين: قوله: (لكل سنة) أي لصوم كل يوم من رمضان كالسنة، وبه قال مالك وأحمد. اهـ. وقد قال العلامة الدسوقي المالكي في حاشيته على شرح المختصر ما نصه: فإذا كان عليه يومان من رمضان ومعنى عليه ثلاث رمضانات أو أكثر فإنه إنما يلزمه مدان. أفيدونا بالمسطور جزاكم الخير رب غفور. (ج) مراد المنهاج: (والأصح تكرره بتكرر السنين) أن من أخر قضاء ما فاته من رمضان واحد إلى رمضانيين فأكثر يطعم عن الرمضانيين مسكينين لكل مسكين مُدّ وعن ثلاث رمضانات ثلاث مساكين وهَلُمَّ جَرَّا، ولا يمكن أن يكون معناه: من أُخر قضاء يومين فأكثر من رمضانيين فأكثر إلى رمضان آخر لزمه عن كل يوم مد؛ لأن هذا لغو من القول للاستغناء عنه بما قبله وهو قوله: (ومن أخر قضاء رمضان مع إمكانه حتى دخل رمضان آخر لزمه مع القضاء لكل يوم مد) ولأنه لا خلاف فيه حينئذ فلا يكون لوصفه بالأصح معنى؛ إذ مقابل الأصح - وهو الصحيح - أنه لا يتكرر. فهل يمكن أن يكون المراد بعدم التكرر على الصحيح أن من أخر قضاء يومين من رمضانيين إلى رمضان آخر لا تجب عليه فديتان؟ لا لا. وإذا تبين الحق فمن إضاعة الوقت البحث في كلام من لم يعرفه والاهتمام بفهم المراد منه. على أن بحث الشرقاوي والذهبي في العلة النحوية لصرف رمضان لا ينافي هذا، ولا حاجة إلى العناية والبحث فيما جاء به السقاف، ولا الرجوع إلى عبارة الدسوقي المالكي فإنه ليس تفسيرًا لعبارة المنهاج ولا يتفق مع مذهب الشافعي. فالمعنى واضح والمذهب معروف. *** التقليد والمذاهب وجمع المسلمين على الكتاب والسنة (س 17) من صاحب الإمضاء المصري في (السودان) بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الأستاذ منار الدين الحق السيد محمد رشيد رضا أدامه الله حاميًا لدينه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. سيدي؛ أرفع سؤالي هذا ولي عظيم الأمل في أني سأحصل على الجواب الشافي الذي يريح ضميري وأغلب المسلمين. نرى اختلافًا كثيرًا بين الأئمة المجتهدين - رضوان الله عليهم - في مسائل عديدة، إلا أنَّا نعتقد فيهم مثابون ومصيبون في ذلك، لما نعلم من أعذارهم في مثل هذا، كبلوغ أحدهم الدليل وعدم بلوغه للآخر أو بلوغه وعدم صحته. فهم مثابون ومصيبون من حيث تحريهم الحق، لا من حيث إصابتهم لحقيقة الحكم؛ إذ يستحيل أن يكونوا كلهم مصيبين مع هذا الاختلاف، وإلا فيكون هذا حكمًا صريحًا، على أن في الشرع تناقضًا، وحاشاه من ذلك. إذا علمنا أن هذا هو سبب اختلافهم وأقوالهم بين أيدينا فلماذا نختلف نحن أيضًا ويتبع كل فريق منا مذهبًا؟ وهل يتعين على المسلمين في هذه الحالة أن يستخلصوا الأدلة الصحيحة الثابتة ويتركوا ما عداها وقد علموا عذر الأئمة في ذلك؟ وإلا فإن المقلد لا يسلم من أن يكون متبعًا إمامه فيما أخطأ فيه أو على الأقل فيما كان منسوخًا أو مرجوحًا. وهل يصح أن يلتمس له عذرًا من قلده مع خلوه عنه؟ وهل الخطاب بالكتاب والسنة عام لكل الناس أو مختص بالأئمة الأربعة فقط؟ وإذا كان الخطاب عامًّا فما عذر من عدل عنهما إلى سواهما؟ وإن قيل إن الاستدلال بالكتاب والسنة لا يتأتى إلا للعلماء - وهم الأقلون - فهل يتحتم على هؤلاء العلماء إرشاد العامة إلى السبيل القيم مبينة لهم الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله تاركين هذه الاختلافات القديمة التي لا تخلو من ضر وقد أصبح ذلك ميسورًا؟ رجائي الإجابة على هذه على صفحات مناركم الأعز، مبينين السبيل الحق في ذلك، أثابكم الله وأداكم نورًا يستضاء به، تفضلوا بقبول احتراماتي. محسوبكم سليمان حلمي (ج) قد سبق للمنار بيان هذه المسائل كلها مرارًا، وأول ما كتبناه فيها (محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع، ثم جمعت في كتاب على حدتها. ثم وقفنا على مناظرة في بحث الاجتهاد والتقليد للمحقق ابن القيم نشرناها في المجلدين السادس والسابع. وتكرر ذلك في التفسير والفتاوى، ومما ورد في باب الفتوى أجوبة المسائل الباريسية التي سئل عنها أحمد باشا زكي في باريس فأرسلها إلينا. وقد طبعت في ذيل كتاب محاورات المصلح والمقلد. فإذا لم يتيسر للسائل مراجعة هذه المسائل في مواضعها المتفرقة من مجلدات المنار فليكتف بقراءة كتاب محاورات المصلح والمقلد وذيله، ثم إذا بقي عنده أو تجدد لديه بعض الأسئلة في ذلك فليسأل عنها. ونزيده هنا فائدة ينبغي أن يفكر فيها بعد أن يقرأ في أواخر ذلك الكتاب ما قرره المصلح في مسألة وحدة الأمة. وهي أن هذه الوحدة الدينية قد توجهت إليها نفوس عقلاء المسلمين من جميع المذاهب في جميع الأقطار، وأنه لا يرجى حصولها في وقت قريب إلا إذا أيد الإصلاح الديني دولة أو إمارة إسلامية. على أن الأمة لا بد أن تنبذ كل خلاف، وتصير إلى الوحدة ولو بعد جيل أو أجيال. * * * الخلاعة في التمثيل (س18) من صاحب الإمضاء في بيروت سلام على إمامنا السيد الرشيد أيده الله. وبعد فلا يخفى أن مولانا السيد كان أفتى في المنار مَن استفتاه من دمشق في أمر التمثيل الروائي بأنه جائز إذا لم يكن فيه خلاعة. ونظر الأستاذ ذلك الجواز بكتب الأدب واللغة التي هي روايات خيالية وعلمية لا عملية كالمقامات. ولما كان الداعي مختلفًا هو وبعض العلماء في تلك الخلاعة اتفقنا على أن أستفتي سيادة الأستاذ في بيان وجهها. فسر الداعي تلك الخلاعة بما يتخيله الفساق ويحصل في المراقص لا في الروايات التي يمثل فيها النساء مع الرجال، وهي روايات أدب وعلم وصدق وعدل. وفسر ذلك البعض الخلاعة بحال تلك النساء الممثلات. فإنهن يكن كاشفات الرأس والوجه واليدين حتى ما فوق المرفقين وأعلى الصدر. مع المعانقة الجزئية بين العاشق والمعشوقة وتقبيل جبهتها حسب ما يقتضي التمثيل. ويكن أيضًا لابسات أفخر الثياب مع زينة الحلي. فذكرت لهذا المفسر أن هذه الحال لا تكون إلا لمجرد التمثيل كي تظهر نتيجتها من حيث التوفيق بين العاشقين أو الحكم عليهما حسب مقتضى أمرهما كما هو من فوائد التمثيل التي تحدث عظة أو خلقًا في نفس الرائي. ثم إنني ذكرت لذلك العالم أنه يسوغ أن يقاس ما فسرت أنا على الحديث الصحيح الذي فيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تنظر مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجال وهم يلعبون. فلما أورد هذا الحديث على الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه وهو يحرم نظر الأجنبية إلى الأجنبي، أجاب أن نظرها إنما هو اللعب نفسه ولم يكن مقصودًا به النظر المجرد إلى الرجال. فقال لي ذلك العالم: إن ذلك كان في زمن غير زمننا المعروفة أحواله. فأجبته بأن تخيل الفسق يكون إثمه على من يتخيله. فهذا خلافنا رفعته إلى مولاي الأجلّ كي يحكم بيننا بالحق. فالمرجو الجواب في الجزء الآتي من المنار أعز الله به الإسلام وناصريه والحمد لله أولاً وآخرًا. بيروت: الأربعاء 24 رجب سنة 1332 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي راغب القباني (ج) إن الخلاعة التي ينبغي أن تكون مانعة من رؤية تمثيل القصص هي ما كان ذريعة للفسق وفساد الأخلاق. فإنه ليس لأحد أن يحرم شيئًا غير ما حرم الله ورسوله بالنص أو اقتضاء النص وهو سد الذرائع. فمن يخاف أن يغريه هذا التمثيل في بعض القصص بفعل محرم وجب عليه اجتنابه. ومن لا يخاف على نفسه ذلك تباح له رؤيته. وإذا غلب فيه كونه ذريعة لمحرم يصح إطلاق القول بتحريمه. ولم يثبت هذا؛ بل المعروف أن من يحضرون هذا العمل يكون جل همهم مراقبة الأعمال كرؤية عائشة للعب الحبش، وأن يعرفوا الوقائع وعاقبتها ومآلها. وقلما سمعنا أن أحدًا منهم يحفل بغير ذلك. فإن وجد من افتتن في بعض البلاد بامرأة ممثلة فلا يصح أن يجعل نفس التمثيل ذريعة لذلك على الإطلاق؛ إذ ثبت في كل زمن أن بعض الناس يفتنون ببع

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ نموذج آخر من مدارج السالكين من بحث تغير الأخلاق وعدمه في ضرب مثل للانتفاع بكل خلق وكل غريزة وعدم محاولة تغييرها فصل نافع جدًّا عظيم النفع للسالك يوصله عن قريب، ويسير بأخلاقه التي لا يمكنه إزالتها، فإن أصعب ما على الطبيعة الإنسانية تغيير الأخلاق التي طبعت عليها، وأصحاب الرياضات الصعبة والمجاهدات الشاقة إنما عملوا عليها ولم يظفر أكثرهم بتبديلها، لكن النفس اشتغلت بتلك الرياضات عن ظهور سلطانها، فإذا جاء سلطان تلك الأخلاق وبرز كسر جيوش الرياضة وشتتها واستولى على مملكة الطبع. وهذا فصل يصل به السالك مع تلك الأخلاق ولا يحتاج إلى علاجها وإزالتها، ويكون سيره أقوى وأجل وأسرع من سير العامل على إزالتها. ونقدم قبل هذا مثلاً نضربه مطابقًا لما نريده وهو: نهر جارٍ في صببه ومنحدره، ومُنْتَهٍ إلى تغريق أرض وعمران ودور، وأصحابها يعلمون أنه لا ينتهي حتى يخرب دورهم ويتلف أراضيهم وأموالهم، فانقسموا ثلاث فرق: فرقة صرفت قواها وقوى أعمالها إلى سكره وحبسه وإيقافه فلم تصنع هذه الفرقة كبير أمر، فإنه يوشك أن يجتمع ثم يحمل على السكر فيكون إفساده وتخريبه أعظم. وفرقة رأت هذه الحالة وعلمت أنه لا يغني عنها شيئًا فقالت: لا خلاص من محذوره إلا بقطعه من أصل الينبوع، فرامت قطعه من أصله فتعذر عليها ذلك غاية التعذر، وأبت الطبيعة النهرية ذلك أشد الإباء، فهم دائمًا في قطع الينبوع، وكلما سدوه من موضع نبع من موضع، فاشتغل هؤلاء بشأن هذا النهر عن الزراعات والعمارات وغرس الأشجار. فجاءت فرقة ثالثة خالفت رأي الفرقتين وعلموا أنهم قد ضاعت عليهم كثير من مصالحهم فأخذوا في صرف ذلك النهر عن مجراه المنتهي إلى خراب العمران، وصرفوه إلى موضع ينتفعون بوصوله إليه ولا يتضررون به، فصرفوه إلى أرض قابلة النبات وسقوها به، فأنبتت أنواع العشب والكلإ والثمار المختلفة الأصناف، فكانت هذه الفرقة هم أصوب الفرق في شأن هذا النهر. فإذا تبين هذا المثل، فالله سبحانه اقتضت حكمته أن ركّب الإنسان - بل سائر الحيوان - على طبيعة محمولة على قوتين: غضبية وشهوانية؛ وهي الإرادية، وهاتان القوتان هما الحاملتان لأخلاق النفس وصفاتها، وهما مركوزتان في جِبِلَّة كل حيوان، فبقوة الشهوة والإرادة يجذب المنافع إلى نفسه، وبقوة الغضب يدفع المضارَّ عنها، فإذا استعمل الشهوة في طلب ما تحتاج إليه تولد منها الحرص، وإذا استعمل الغضب في دفع المضرة عن نفسه تولد منه القوة والعزة، فإذا عجز عن ذلك الضار أورثه قوة الحقد، وإن أعجزه وصول ما يحتاج إليه ورأى غيره مستبدًّا به أورثه الحسد. فإن ظفر به أورثته شدة شهوته وإرادته خلق البخل والشح، وإن اشتد حرصه وشهوته على الشيء ولم يمكنه تحصيله إلا بالقوة الغضبية فاستعملها فيه أورثه ذلك العدوان والبغي والظلم، ومنه يتولد الكبر والفخر والخيلاء، فإنها أخلاق متولدة من بين قوتي الشهوة والغضب، وتزوج أحدهما بصاحبه. فإذا تبين هذا فالنهر مثال هاتين القوتين، وهو منصبٌّ في جدول الطبيعة ومجراها إلى دُور القلب وعمرانه وحواصله يذهبها ويتلفها ولا بد، فالنفوس الجاهلة الظالمة تركته ومجراه فخرب ديار الإيمان وقلع آثاره وهدم عمرانه، وأنبت موضعها كل شجرة خبيثة من حنظل وضريع وشوك وزقوم، وهو الذي يأكله أهل النار يوم القيامة يوم المعاد، وأما النفوس الزكية الفاضلة فإنها رأت ما يؤول إليه أمر هذا النهر فافترقوا ثلاث فرق: فأصحاب الرياضات والمجاهدات والخلوات والتمرنات راموا قطعه من ينبوعه فأبت ذلك حكمة الله تعالى وما طبع عليه الجبلة البشرية، ولم تنقد لهم الطبيعة، فاشتد القتال ودام الحرب وحمي الوطيس وصارت الحرب دولاً وسجالاً، وهؤلاء صرفوا قواهم إلى مجاهدة النفس على إزالة تلك الصفات. وفرقة أعرضوا عنها وشغلوا نفوسهم بالأعمال ولم يجيبوا دواعي تلك الصفات مع تخليتهم إياها على مجراها، لكن لم يمكنوا نهرها من إفساد عمرانهم بل اشتغلوا بتحصين العمران وإحكام بنائه وأساسه، ورأوا أن ذلك النهر لا بد أن يصل إليه، فإذا وصل إلى بناء محكم لم يهدمه بل يأخذ عنه يمينًا وشمالاً، فهؤلاء صرفوا قوة عزيمتهم وإرادتهم في العمارة وأحكام البناء، وأولئك صرفوها في قطع المادة الفاسدة من أصلها خوفا من هدم البناء. وسألت يومًا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة وقطع الآفات والاشتغال بتنقية الطريق وتنظيفها، فقال لي جملة كلامه: النفس مثل الباطوس (وهو جب القذر) كلما نبشته ظهر وخرج ولكن إن أمكنك أن تسقف عليه وتعبره وتجوزه فافعل، ولا تشتغل بنبشه فإنك لن تصل إلى قراره، وكلما نبشت شيئًا ظهر غيره. فقلت: سألت عن هذه المسألة بعض الشيوخ فقال لي: مثال آفات النفس مثال الحيات والعقارب التي في طريق المسافر فإن أقبل على تفتيش الطريق عنها والاشتغال بقتلها انقطع ولم يمكنه السفر قط. ولكن لتكن همتك المسير والإعراض عنها وعدم الالتفات إليها. فإذا عرض لك فيها ما يعوقك عن المسير فاقتله ثم امض على سيرك. فاستحسن شيخ الإسلام ذلك جدًّا، وأثنى على قائله. إذا تبين هذا فهذه الفرقة الثالثة رأت أن هذه الصفات ما خلقت سدًى ولا عبثًا، وأنها بمنزلة ماء يسقى به الورد والشوك والثمار والحطب، وأنها صوان وأصداف لجواهر منطوية عليها دومًا، فما خاف منه أولئك هو نفس سبب الفلاح والظفر، فرأوا أن الكبر نهر يسقى به العلو والفخر والبطر والظلم والعدوان، ويسقى به علو الهمة والأنفة والحمية والمراغمة لأعداء الله وقهرهم والعلو عليهم، وهذه درة في صدفته، فصرفوا مجراه إلى هذا الغراس واستخرجوا هذه الدرة من صدفته وأبقوه على حاله في نفوسهم، لكن استعملوه حيث يكون استعماله أنفع، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أبا دجانة يتبختر بين الصفين فقال: (إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع) فانظر كيف خلى مجرى هذه الصفة وهذا الخلق يجري في أحسن مواضعه، وفي الحديث الآخر - وأظنه في المسند: (إن من الخيلاء ما يحبها الله ومنها ما يبغضها الله، فالخيلاء التي يحبها الله اختيال الرجل في الحرب وعند الصدقة) فانظر كيف صارت الصفة المذمومة عبودية، وكيف استحال القاطع موصلاً. فصاحب الرياضات والعامل بطريق الرياضات والمجاهدات والخلوات، هيهات هيهات، إنما يوقع ذلك في الآفات والشبهات والضلالات، فإن تزكية النفوس مسلم إلى الرسل، وإنما بعثهم الله لهذه التزكية وولاهم إياها، وجعلها على أيديهم دعوة وتعليمًا وبيانًا وإرشادًا، لا خلقًا ولا إلهامًا، فهم المبعوثون لعلاج نفوس الأمم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 2) وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} (البقرة: 151-152) ، وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشد، فمن زكى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجئ بها الرسل، فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه، وأين رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم، والله المستعان. ((يتبع بمقال تالٍ))

الدين والتدين والإلحاد والتعطيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدين والتدين والإلحاد والتعطيل التدين غريزة فطرية، والدين حاجة من حاجات البشر الطبيعية، والإلحاد والتعطيل إما نقص في الفطرة. كما يولد بعض الناس مخدوجًا بنقص حاسة من حواسه، أو تشوه عضو من أعضائه، وإما تصرف سيئ في الفطرة، وجناية على الطبيعة. وقد خلق الله الإنسان في هذه الأرض وأعطاه فيها سلطان التصرف فيها وفي نفسه. وأسجد له مَن فيها من ملائكته، الذين هم كالملكات والقوى في تدبير الأمر، وإقامة النظام في الخلق، فهو بهذا التصرف فيها يفسد فيها ويسفك الدماء، كما يصلح ويعمر وينفع الناس: يجني على نفسه فيُحَمِّلها فوق طاقتها، ويعرضها للأمراض التي لا قبل له بها، ويجني على غيره بالعدوان والبغي، وإهلاك الحرث والنسل. فلا غرو إذا جنى على الدين، بشبهة دليل أو بغير دليل. كان السواد الأعظم من الناس متدينًا، ولا يزال السواد الأعظم من الناس متديِّنًا، وسيبقى السواد الأعظم من الناس متدينًا. ولكنهم يتصرفون في أديانهم، كما يتصرفون في أنفسهم وأبدانهم، وسيظلون زمنًا طويلاً في اضطراب ومخض، بين رفع وخفض، وإبرام ونقض، حتى تزول العصبيات الدينية، وتسقط الرياسات المذهبية، ويكون الدين لله، لا للخلفاء والأشياخ، ولا للرهبان والأحبار، ويكون للإنسان الحرية فيه والاستقلال، فيتفق أكثر المختلفين، ويجتمع أكثر المتفرقين، فتنقشع السحب عن دين الفطرة، ويدخلون في السلم كافة. كان الناس متدينين، وكان يكون في كل جيل منهم في كل عصر أناس من المعطلين، وأفراد من الملحدين، كما يوجد فيهم العُمْي الذين لا يبصرون. والصم الذين لا يسمعون , والبكم الذين لا ينطقون {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية: 24) ، هذه حكاية القرآن عن بعض جاهلية العرب. وحكى مثله عن قوم نوح أقدم من أثر تاريخهم من الأمم. ولكن بعض ملاحدة عصرنا يظنون - لجهلهم بالتاريخ - أن هذا الشذوذ خاص بالفلاسفة وأصحاب الأفكار الراقية، ولهذا الامتياز الوهمي صار بعض الغوغاء يكفر بالتقليد، لينتظم في سلك الفلاسفة الجديد. ويتفلت من قيد التكليف. نعم يوجد من أهل النظر من حجبته نظريات الفلسفة ومسائلها وتعليلاتها المسلمة عن الدين وجوهره، وما كان من حسن أثره، فطفقوا يقذفون بتلك النظريات والمسلمات، ظواهر الدين وتقاليده المحدثات، وخيل إليهم أنهم فازوا بقصب الرهان، وأبرهوا جيوش الأوهام بسيف البرهان. وما ذلك إلا وهم يناطح وهمًا، هذا يسميه هدى وذلك يدعوه علمًا، ولو كانت تلك النظريات علمًا يقينيًّا لما تنازعت فيها الأفكار، واختلفت باختلاف الأجيال والأعصار، فإن فلسفة هذا الزمان، قد نقضت معظم فلسفة اليونان، وينقض بعضها بعضًا في كل عام. وأما علم اليقين، فلا شيء منه بمناقض لهداية الدين، وإن نقض بعض تواريخ الكتب المقدسة في بعض الأديان، وبعض عقائدها المخترعة التي ما أنزل الله بها من سلطان. وحاشا دين القرآن، الذي كفل حفظه الرحمن، فلم تؤثر فيه تأويلات المتكلمين، ولا تعليلات المتفقهين، دع أباطيل أهل الزيغ أو الزندقة، كالباطنية والمتفلسفة. إن في الفلاسفة متدينين، كما أن فيهم ماديين، وكذلك أصحاب العقول الكبيرة من العلماء والقواد والسياسيين. فتولستوي الفيلسوف الروسي كان متدينًا. والبرنس بسمارك كان متدينًا، وإمام الأطباء باستور كان متدينًا، وإن أكبر قائد حربي في فرنسة اليوم متدين. كما كان ابن سينا والفارابي والغزالي وابن رشد من فلاسفة المسلمين متدينين. وأمثالهم كثيرون في كل أمة. نعم إن دين أمثال هؤلاء قد يخالف في أصوله وفروعه دين العوام المقلدين؛ لأن لعلومهم وفلسفتهم طريقًا خاصًّا في فهمهم الدين، والعامي المقلد تابع لمن يلقنه، وللبيئة التي يعيش فيها كل منهم تأثير في فهم ما يتلقنه. فإذا كان العالم المستقبل يخطئ فهم حقيقة الدين في قليل من المسائل، فالجاهل المقلد أجدر بالخطأ في فهم الأكثر منها. يغتر كثير من مقلدة الإلحاد في أمتنا بمن اشتهر من ملاحدة علماء الإفرنج، غافلين عن الاعتبار بحال المتدينين منهم، وما كل من طعن في الكنيسة وأهلها من علماء الإفرنج كافر بالله ورسله؛ بل لهؤلاء دين غير دين الكنيسة، وتكفير الكنيسة لهم كتكفير بعض المتكلمين والصوفية لابن سينا وأمثاله. فمن متديني الإفرنج المقلدون، ومنهم العقليون والموحدون. ولعل دين السواد الأعظم من المتعلمين المهذبين منهم كدين مدام (كلاير) : عجوز فرنسية ذات علم وأدب، من بيت في ليون محترم، جاورتنا مرة في الدار، فرأيتها لاتذهب إلى الكنيسة في أيام الآحاد، فسألتها: ما بالك لا تذهبين إلى الكنيسة؟ ألستِ متدينة. قالت: أنا مؤمنة بالله وأصلي له في بيتي، وما فضل الكنيسة على البيت؟ إنها لا فضل لها إلا أن فيها رجالاً يأكلون أموالنا.. . قلت: أتدينين بعقيدة التثليث؟ قالت: لا أعرف التثليث، أعرف أن الرب واحد. قلت: وما تقولين في السيد المسيح عليه السلام؟ قالت: (مثل نبي) . فهذه حال أهل التعليم العالي في القوم. دع السواد الأعظم من العامة، وكثيرًا ممن يعدون من الخاصة، الذين يتمسكون بمذاهبهم التقليدية، لا يثنيهم عنها إنكار العقليين ولا غيره. أفلا ينظرون من وراء ذلك كله - جهلوه أم عرفوه - إلى ما يبذله الإفرنج من ملايين الجنيهات لجمعياتهم الدينية لأجل نشر دينهم في الخافقين، وتعميمه في المشرقين والمغربين؟ يقول بعضهم بغير علم: إن الغرض من ذلك سياسي لا ديني. كذبوا، وحكموا بما لم يعلموا، إن تلك الملايين يبذلها الشعب الذي لا يعرف السياسة، ولا ننكر أن أهل السياسة يستفيدون من سعي المبشرين، فإذا كانت حكومة روسيا تستفيد بسياستها من تنصير دعاة الأرثوذكسية لمسلمي بلادها، وإنكلترا تستفيد من تنصير دعاة البروتستانتية لمن ينصرون من أهل الهند والسودان، فأي فائدة سياسية لأمريكا في بث دعاة النصرانية في بلاد العرب والترك والفرس والهند وسائر الأقطار؟ تأملت في حال ملاحدة هذا العصر، فما رأيت أشد عماية، وأبعد غواية، وأضل سبيلاً، وأفسد قيلاً من ملاحدة المسلمين الجغرافيين. ما رأيت أحدًا منهم صاحب دعوة سياسية في أمته قد ثبت عنده أن الإسلام يعارضها، ويحول دون التحول السياسي والاجتماعي الذي يراد بها، فهو ينفرد من الإسلام وينفر عنه لأجلها، كيف وهم يعترفون - تبعًا لحكماء الإفرنج - بأن الدين أقوى عوامل السياسة؛ ولا سيّما دين الإسلام، كما صرح بذلك علماءالاجتماع. ما رأيت أحدًا منهم صاحب مذهب فلسفي أدبي ثبت عنده أن حكمة الإسلام تناقضه، وأن صلاح الأمة لا يكون إلا به، فهو يلهج بالاعتراض على الإسلام؛ لأنه عقبة في طريق ما يحاول من الإصلاح. كيف وإن التربية عند أئمتهم - أكثر الإفرنج - لا تزال قائمة على أساس آداب الدين؟ ما رأيت أحدًا منهم عني بفقه القرآن وصحيح السنة. وما كان عليه سلف الأمة، ثم عرضت له شبه قوية على صحة تلك الهداية فهو يريد التفصي منها. وقد خانته البينات والدلائل المزيلة لها، كيف ونحن نعلم أن أكثرهم لم يقرأ تفسير سورة من السور. ولا يميز بين الصحيح والموضوع من الأثر؟ وإن مَن له إلمام بشيء من علم الدين، قلّما يعرف إلا بعض القشور من هذه التقاليد، فهو يهزأ بالدين لأجل خرافة أو بدعة. يحسب أنها عقيدة ثابتة أو سنة. ألا إنهم - على ما هم عليه من جهل بحقيقة الإسلام، وقصور عن النهوض بدعوة إلى الإصلاح - يطلقون للسانهم العنان، فيجمح بهم في كل ميدان. فمنهم من يتشدق بالسياسة، ومنهم من يتفيهق بالمقابلة بين القانون والشريعة، ومنهم من يهذر بالأخلاق والآداب، ومنهم من يهذي بالاعتراض على العبادات، يتخذون الكلام في ذلك هزؤًا ولعبًا، وأفاكيه يتلذذون بها تلذذًا، في زمن قل فيه العليم بأسرار الدين، والبصير بحكم التشريع، الذي يفرّق بين الأصول الثابتة بالدليل، والنصوص التي لا تحتمل التأويل. وبين الفروع المستنبطة بالاجتهاد، والظواهر التي لم يتعين منها المراد. على أن الأرض لا تخلو من قائم لله بحجته، ومن مفصح للشرع عن حكمته، ولكن هؤلاء بمعزل عن الحجة وأهلها، هي مجهولة لهم؛ فهم لا يطلبونها، ثقيلة عليهم فإذا تليت عليهم آياتها لا يسمعونها، إلا من كان سليم الفطرة، قريب العهد بهذه الهجرة، وطالما تأذنهم المنار، بما يذهب بالتعلات والأعذار، من الاستعداد لإزالة كل شبهة، والتصدي لكشف كل غمة. يا سبحان الله! أتبيح السياسة لبسمرك أعظم رجال أوربا في القرن الماضي - وهو كما قال جمهوري بالطبع - أن يكون على دين يناقض طبعه فيجعله عبدًا لملك بروسية؛ لأنه يقول له - إن سلطة المملوك من الله؟ - ولا تبيح لهؤلاء المتشدقين منا أن يكونوا على دين سبق كتابه إلى وضع أعظم أساس للحكم الذاتي بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، وأقام على هذا الأساس أركان المصالح المرسلة، وجعل رفع المفسدة مقدمًا على جلب المصلحة، إلى غير ذلك من الأركان الثابتة، ثم قِس على هؤلاء المتشدقين، أمثالهم من المتفيهقين والهاذين والهاذرين. وإن تعجب فعجب خوضهم في مسائل الأخلاق والآداب، فقد انقلبت عقولهم فيها شر الانقلاب، حتى صار فيهم من يعدّ العفة والغيرة والرحمة من الرذائل وأضدادها من الفضائل؛ بناءً على قاعدة الإتخاب الطبيعي التي تغري القوي، بالضعيف، وتبيح له أن يعجل بسلب حياته ويستأثر دونه بزوجه وماله، ولعل واحدهم لا يرجع عن هذه الغواية إلا إذا مسه الضر، وعضه ناب الفقر، وتصدى إخوانه في الكفر لإزهاق روحه، وتعدى أخدانه في الإلحاد على عرض زوجه، ومنعوها من خدمته ومواساته؛ بناء على قاعدتهم في كون الحق في ذلك للقوي القادر على الإنتاج، والقيام بشؤون الاجتماع! ألا إن من بلغ هذه الغاية من ارتكاس الفطرة، وانتكاس الفكرة، فصار يرى الحقائق بغير صورها، ويزن الأشياء بغير ميزانها، فلا طمع في هدايته، ولا رجاء في مناظرته، أولئك الذين ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، يجادلونك في الحق بعدما تبين، ويمارونك في البديهي وقد تعين. وأما أكثر المخدوعين بأوهام هؤلاء المبطلين، فهم مستعدون لقبول الدليل، والاهتداء إلى سواء السبيل، إذا تداركهم العلماء والراسخون، وتعاهدهم الحكماء الربانيون ولكن قل العلماء القادرون على كشف الشبهات، وكثر المشتبهون، فالإصلاح موقوف على تكثير سواد المصلحين الجامعين بين علوم الدنيا والدين، مع استقلال الفكر، وتزكية النفس، ولا يكون هذا إلا بتربية وتعليم، على صراط الحق المستقيم، فقل للذين هم على الدين يغارون: لمثل هذا فليعمل العاملون. فسارعوا إليه إن كنتم صادقين، وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.

الابتداع بالتشدد في الدين والتزام ما لم يزد وتتبع آثار الصالحين

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

_ فصل [*] الابتداع بالتشدد في الدين والتزام ما لم يرد وتتبع آثار الصالحين من كتاب الاعتصام للشاطبي ثم أتى بمأخذ آخر من الاستدلال على صحة ما زعم، وهو أن الدعاء على ذلك الوجه لم يرد في الشرع نهي عنه مع وجود الترغيب فيه على الجملة، ووجود العمل به. فإن صح أن السلف لم يعملوا به، فالترك ليس بموجب لحكم في المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج خاصة، لا تحريم ولا كراهية , وجميع ما قاله مشكل على قواعد العلم وخصوصًا في العبادات - التي هي مسألتنا - إذ ليس لأحد من خلق الله أن يخترع في الشريعة من رأيه أمرًا لا يوجد عليه منها دليل؛ لأنه عين البدعة، وهذا كذلك، إذ لا دليل فيها على اتخاذ الدعاء جهرًا للحاضرين في آثار الصلوات دائمًا، على حد ما تقام، بحيث يعد الخارج عنه خارجًا عن جماعة أهل الإسلام متجزًا ومتميزًا [1] إلى سائر ما ذكر، وكل ما لا يدل عليه دليل [2] فهو البدعة. وإلى هذا [3] فإن ذلك الكلام يوهم أن اتباع المتأخرين المتقلدين خير من اتباع الصالحين من السلف، ولو كان في أحد جائزين، فكيف إذا كان في أمرين أحدهما متيقن أنه صحيح والآخر مشكوك فيه؟ فيتبع المشكوك في صحته، ويترك ما لا مرية في صحته ولو لعا من يتبعه [4] . ثم إطلاقه القول بأن الترك لا يوجب حكمًا في المتروك إلا جواز الترك، غير جار على أصول الشرع الثابتة، فنقول: إن هنا أصلاً لهذه المسألة لعل الله ينفع به من أنصف من نفسه: وذلك أن سكوت الشارع عن الحكم في مسألة ما أو تركه لأمر ما على ضربين: (أحدهما) : أن يسكت عنه أو يتركه؛ لأنه لا داعية له تقتضيه، ولا موجب يقرر لأجله، ولا وقع سبب تقريره، كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين، وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح مما لم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخصوص مما هو معقول المعنى، كتضمين الصناع، ومسألة الحرام، والجد مع الإخوة، وعول الفرائض، ومنه جمع المصحف، ثم تدوين الشرائع، وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه عليه السلام إلى تقريره للتقديم [5] كلياته التي تستنبط منها، إذا لم تقع أسباب الحكم فيها ولا الفتوى منه عليه السلام، فلم يذكر لها حكم مخصوص. فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فلا بد من النظر فيه وإجرائه على أصوله إن كان من العاديات، أو من العبادات التي لا يمكن الاقتصار فيها على ما سمع، كمسائل السهو والنسيان في إجراء العبادات. ولا إشكال في هذا الضرب؛ لأن أصول الشرع عقيدة، وأسباب تلك الأحكام لم تكن في زمان الوحي، فالسكوت عنها على الخصوص ليس بحكم يقتضي جواز الترك أو غير ذلك؛ بل إذا عرضت النوازل روجع بها أصولها فوجدت فيها، ولا يجدها من ليس بمجتهد، وإنما يجدها المجتهدون الموصوفون في علم أصول الفقه. (والضرب الثاني) : أن يسكت الشارع عن الحكم الخاص أو يترك أمرًا ما من الأمور، وموجبه المقتضي له قائم، وسببه في زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت، إلا أنه لم يحدد فيه أمر زائد على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه؛ لأنه لما كان المعنى الموجب لشرعية الحكم العقلي الخاص موجوداً ثم لم يشرع ولا نبه على السبطا [6] كان صريحاً في أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة زائدة ومخالفة لقصد الشارع، إذ فهم من قصده الوقوف عندما حد هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه. ولذلك مثال فيما نقل عن مالك بن أنس في سماع أشهب وابن نافع هو غاية فيما نحن فيه، وذلك أن مذهبه في سجود الشكرالكراهية وأنه ليس بمشروع وعليه بني كلامه. قال في العتبية: وسئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله عز وجل شكرًا؟ فقال: لا يفعل هذا مما مضى من أمر الناس. قيل له: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه - فيما يذكرون - سجد يوم اليمامة شكرًا لله. أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر. وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء فيقول: هذا لم تسمعه مني. قد فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين بعده. أفسمعت أن أحدًا منهم فعل مثل هذا؟ إذ ما قد كان في الناس وجرى على أيديهم سمع عنهم فيه شيء، فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر؟ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم، فهل سمعت أن أحدًا منهم سجد؟ فهذا إجماع. وإذا جاءك أمر لا نعرفه فدعه - تمام الرواية - وقد احتوت على فرض سؤال والجواب بما تقدم. وتقرير السؤال أن يقال في البدعة - مثلاً -: إنها فعل سكت الشارع عن حكمه في الفعل والترك، فلم يحكم عليه بحكم على الخصوص، فالأصل جواز فعله، كما أن الأصل جواز تركه؟ إذ هو معنى الجائز، فإن كان له أصل جملي فأحرى أن يجوز فعله، حتى يقوم الدليل على منعه أو كراهيته، وإذا كان كذلك فليس هنا مخالفة لقصد الشارع، والسكوت عند الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة، ولا يعين الشارع قصدًا ما دون ضده وخلافه، وإذا ثبت هذا فالعمل به ليس بمخالف إذ لم يثبت في الشريعة نهي عنه. وتقرير الجواب معنى ما ذكره مالك رحمه الله، وهو أن التشديد عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضي له إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان؟ إذ لو كان ذلك لائقًا شرعًا أو سائغًا لفعلوه، فهم كانوا أحق بإدراكه والسبق إلى العمل به، وذلك إذا نظرنا إلى المصلحة، فإنه لا يخلو إما أن يكون في هذه الأحداث مصلحة أو لا. والثاني لا يقول به أحد. والأول إما أن تكون تلك المصلحة الحادثة آكد من المصلحة الموجودة في زمان التكليف أو لا، ولا يمكن أن يكون [7] مع كون المحدثة زيادة تكليف، ونقضه [8] عن المكلف أحرى بالأزمنة المتأخرة، لما يعلم من قصور الهمم واستيلاء الكسل، ولأنه خلاف بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحة، ورفع الحرج عن الأمة، وذلك في تكليف العبادات؛ لأن العادات أمر آخر - كما سيأتي - وقد مر منه [9] فلم يبق إلا أن تكون المصلحة الظاهرة الآن مساوية للمصلحة الموجودة في زمان التشريع أو أضعف منها، وعند ذلك تصير هذه الأحداث عبثًا أو استدراكًا على الشارع؛ لأن تلك المصلحة الموجودة في زمان التشريع إن حصلت للأولين من غير هذا الأحداث إذًا عبث [10] إذ لا يصح أن يحصل للأولين دون الآخرين، فقد صارت هذه الزيادة تشريعًا بعد الشارع بسبب الآخرين ما فات للأولين [11] فلم يكمل الدين إذًا دونها، ومعاذ الله من هذا المأخذ. وقد ظهر من العادات الجارية فيما نحن فيه أن ترك الأولين لأمر ما من غير أن يعينوا فيه وجهًا مع احتماله في الأدلة الجملية ووجود المظنة، دليل على أن ذلك الأمر لا يعمل به، وأنه إجماع منهم على تركه. قال ابن رشد في شرح مسألة العتبية: الوجه في ذلك أنه لم يره مما في الدين - يعني سجود الشكر - فرضاً ولا نفلاً، إذ لم يأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا فعله، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الأمور - قال - واستدلاله على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بعده (بأن ذلك لو كان لنقل) صحيح؛ إذ لا يصح أن تتوفر الدواعي على ترك نقل شريعة من شرائع الدين، وقد أمروا بالتبليغ - قال: وهذا أصل من الأصول، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخضر والبقول مع وجود سبب الزكاة فيها؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر) لأنا نزّلنا ترك نقل أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة منها كالسُّنة القائمة في أن لا زكاة فيها، فكذلك نزل ترك نقل السجود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشكر كالسنة القائمة في أن لا سجود فيه. ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه، والمقصود من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة، لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق. وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المحلل، وأنه بدعة منكرة، من حيث وجد في زمانه عليه السلام المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليتراجعا كما كانا أول مرة، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها، وهو أصل صحيح إذا اعتبر وضح به ما نحن بصدده؛ لأن التزام الدعاء بآثار الصلوات جهرًا للحاضرين في مساجد الجماعات لو كان صحيحًا شرعًا أو جائزًا لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك أن يفعله. وقد علل المنكر هذا الموضع بعلل تقتضي المشروعية، وبنى على فرض أنه لم يأت ما يخالفه وأن الأصل الجواز في كل مسكوت عنه. أما إن الأصل الجواز فيمتنع؛ لأن طائفة من العلماء يذهبون إلى أن الأشياء قبل وجود الشرع على المنع دون الإباحة، فما الدليل على ما قال من الجواز؟ وإن سلمنا له ما قال: فهل هو على الإطلاق أم لا؟ أما في العادات فمسلم، ولا نسلم أن ما نحن فيه من العاديات؛ بل من العبادات، ولا يصح أن يقال فيما فيه تعبد: إنه مختلف فيه على قولين: هل هو على المنع؟ أم هو على الإباحة؟ بل هو أمر زائد على المنع؛ لأن التعبديات إنما وضعوا للشارع [12] فلا يقال في صلاة سادسة - مثلاً - إنها على الإباحة، فللمكلف وضعها على - أحد القولين - ليتعبد بها لله؛ لأنه باطل بإطلاق، وهو أصل كل مبتدع يريد أن يستدرك على الشارع. ولو سلم أنه من قبيل العاديات أو من قبيل ما يعقل معناه، فلا يصح العمل به أيضاً؛ لأن ترك العمل به من النبي صلى الله عليه وسلم في جميع عمره، وترك السلف الصالح له على توالي أزمنتهم، قد تقدم أنه نص في الترك وإجماع من كل مَن ترك؛ لأن عمل الإجماع كنصه - كما أشار إليه مالك في كلامه. وأيضًا فما يعلل له لا يصح التعليل به، وقد أتى الرادّ بأوجه منه: (أحدها) : أن الدعاء بتلك الهيئة ليظهر وجه التشريع في الدعاء، وأنه بآثار الصلوات مطلوب. وما قاله يقتضي أن يكون سنة بسبب الدوام والإظهار في الجماعات والمساجد، وليس بسنة اتفاقًا منا ومنه، فانقلب إذًا وجه التشريع. وأيضًا فإن إظهار التشريع كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم والى، فكانت الكيفية المتكلم فيها أولى للإظهار، ولما لم يفعله عليه السلام دل على الترك مع وجود المعنى المقتضي، فلا يمكن بعد زمانه في تلك الكيفية إلا الترك. (والثاني) : أن الإمام يجمعهم على الدعاء ليكون باجتماعهم أقرب إلى الإجابة. وهذه العلة كانت في زمانه عليه السلام؛ لأنه لا يكون أحد أسرع إجابة لدعائه منه، إذ كان مجاب الدعوة بلا إشكال، بخلاف غيره وإن عظم قدره في الدين فلا يبلغ رتبته، فهو كان أحق بأن يزيدهم الدعاء لهم خمس مرات في اليوم والليلة زيادة إلى دعائهم لأنفسهم. وأيضاً فإن قصد الاجتماع على الدعاء لا يكون بعد زمانه أبلغ في البركة من اجتماع يكون فيه سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكانوا بالتنبيه لهذه المنقبة أولى. (والثالث) : قصد التعليم للدعاء ليأخذوا من دعائه ما يدعون به لأنفسهم لئلا يدعو بما لا يجوز عقلاً أو شرعًا، وهذا التعليل لا ينهض، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان المعلم الأول، ومنه تلقَّينا ألفاظ الأدعية ومعانيها، وقد كان من العرب من يجهل قدر الربوبية فيقول: رب العباد ما لنا وما لك ... أنزل علينا الغيث لا أبا لك وقال الآخر: لاهُمَّ إن كنت الذي بعهدي ... ول

الجنسيات في المملكة العثمانية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجنسيات في المملكة العثمانية الجنس في عُرف أهل السياسة كالصنف في عُرف علماء المنطق، فيُطلق على الأجيال التي تفصل بينها الفصول العامة (كالنسب واللغة) وهما أقدم روابط الجنسية، ويليها الدين والوطن الأرضي والسياسي. ولم يوجد دين من الأديان ألف بين شعوب وقبائل مختلفة في جميع روابط الجنسية وجعلها أمة واحدة وجنسًا واحدًا إلا الدين الإسلامي، وقد بيَّنَّا هذا مرارًا فلا نعيده الآن. ولما كان اتحاد الأمة لا يتم إلا بوحدة لغتها كان من مقاصد الإسلام جعل لغة القرآن لغة لجميع المسلمين، وعلى هذا جرى المسلمون في خير القرون بالعمل، فصارت العربية لغة المسلمين في المشرق والمغرب من القرن الأول. وقد زال من نفوس المسلمين الشعور بالغيرية الجنسية زمنًا طويلاً، حتى أحياه الفرس والترك كما بيّنّا من قبل. إن العصبية الجنسية في هذا العصر قد دخلت في طور سياسي جديد، وكان العرب آخر الأجناس شعورًا بها؛ لأن سوادهم الأعظم مسلمون لا يكادون يشعرون بغير الجنسية الدينية؛ ولكن الآستانة بسياسة حكومتها وإدارتها بعد الدستور وسياسة جرائدها قد كونت هذا الشعور وجعلته حيًّا ناميًا - فصدقت كلمتي المحفوظة: إن العرب يعجزون بأنفسهم عن تكوين جنسية عربية سياسية لهم، ولا يقدر على ذلك إلا الآستانة وحدها، ولما رأينا بوادر هذا الأمر وكنا نعلم أن التحولات الاجتماعية السريعة تكون دائمًا محفوفة بالأخطار سعينا لتدارك الخطر في الآستانة نفسها، ومقالاتنا الست التي نشرناها هنالك تحت عنوان (العرب والترك) لا تزال محفوظة تشهد لنا بأننا سعينا إلى الوحدة بين العنصرين جد السعي، وبينا من الحجج على ذلك ما لم يبينه أحد، ولكن ذلك كله لم يفد، ولماذا؟ إن من المقاصد الأساسية لجمعية الاتحاد والترقي إحياء الجنسية التركية وتقويتها لتوجد منها أمة تركية كأمم أوربا في مدنيتها، ودولة تركية كدول أوربة في عزتها وحضارتها. وكانوا يظنون أنهم يستطيعون بقوة الدولة أن يتركوا جميع الأجناس العثمانية في البلاد الحضرية القابلة للعمران، ويجعلوا سائر البلاد مستعمرات ليس لها من الحقوق ما لسائر العثمانيين. ولهذا كانوا يجدون في تقوية الجنسية التركية ونشر اللغة التركية، ويعاقبون من يقتدي بهم في ذلك من غير الترك أشد العقاب. دار الفلك دورته، فثبت للاتحاديين ضرر هذه التجربة - محاولة تتريك شعوب المملكة -، وكان من نتائجها المشؤومة الفتنة الألبانية، فالحرب البلقانية العثمانية، فرجعوا عن فكرة تعميم تتريك الشعوب كلها إلى الاكتفاء بتتريك الضعيف منها، إما بقلة العدد كاللاز والشركس، وإما بقلة العلم وعدم تدوين اللغة كالأكراد، وإما بالخضرمة في اللغة كالعرب المتصلين بالترك بالقرب من الأناضول، ثم بتقوية اللغة التركية في جميع البلاد العثمانية، وجعل الارتقاء في الحكومة والعلوم والمدينة موقوفًا عليها. وترتب على هذا ترك الضغط السابق على المستيقظين من الشعوب الكبيرة؛ إذ كانت الجرائد تحاكم وتقفل إذا ذكرت اسم جنسها، والاعتصام بحبل لغتها، والتذكير بمجد سلفها، حتى إن المجلس العسكري العرفي في بيروت حاكم مدير جريدة المفيد، وعدّه مجرمًا، وحكم بمنع صدور الجريدة بذنب غريب جدًّا في هذا الباب، وهو كلمة (يا قوم) وردت في قصيدة، نشرت في تلك الجريدة! ! قرر رئيس المجلس وأعضاؤه من الترك أن كلمة (يا قوم) معناها عنصر العرب، فذكرها تفريق بين العناصر العثمانية، وهو من أعظم الجنايات! ! (كما مر) ذلك بأن الترك يستعملون كلمة (قوم) بمعنى الجنس والجيل من الناس الذي يعبرون عنه بالعنصر. ولم يلتفت المجلس لاحتجاج المتهم بأن القصيدة المنشورة في جريدته عربية ولفظ القوم في اللغة العربية معناه الجماعة من الناس، كما هو منصوص في المعاجم، قيل: يشمل الرجال والنساء، وقيل: هو خاص بالرجال. وإن الشعراء يستعملونه الآن بمعنى (يا ناس) . كانت جمعية الاتحاد والترقي قد صرَّحت تصريحًا نشرته جريدتها (طنين) بالرجوع عن فكرة (تتريك العناصر) وكان ذلك مداراة لم يصدقه العمل، ولكنها في العهد الأخير عقدت اتفاقًا مع (جمعية الشبيبة العربية) التي يمثلها (المنتدى الأدبي) في الآستانة، وأشهروا هذا الاتفاق بالاحتفالات والمآدب، وجعلوه وسيلة وذريعة للاتفاق بين جمعية الاتحاد والترقي والمؤتمر العربي الذي انعقد في باريس. وصار زعماء الجمعية من وزراء الحكومة يزورون المنتدى الأدبي ويحضرون بعض احتفالاته، وتمثيل القصة العربية التي يمثلها أعضاؤه كل سنة. وقد احتفل أعضاء المنتدى في هذا العالم بذكرى المولد النبوي الشريف فحضر احتفالهم فيه طلعت بك ناظر الداخلية وجمال باشا ناظر البحرية (الآن) ، وخطب طلعت بك بالتركية باستمساك الترك بالعرب، وأنهم إذا فرّوا منهم يتبعونهم ويلتزمونهم، فاهتزت لهذه الخطبة أسلاك البرق في العالم، ووعد الزعيم الكبير في خطبته هذه بأن يخطب في احتفال مولد العام القابل بالعربية، هذا بعد أن كان أعضاء المنتدى الأدبي لا يسمون أنفسهم جمعية خوفًا من إقفال الحكومة الاتحادية لناديهم، ومحاكمتهم على ذلك في المجلس العسكري العرفي. فأين هذا من تسقط هذا المجلس لبعض أعضاء المنتدى بتسميتهم جمعية ليعترف بعضهم بذلك فيحكم المجلس فيهم حكمه؟ وقع هذا التسقط في تحقيق المجلس مع المتهمين في حادثة الاعتداء على صاحب جريدة (إقدام) التركية الشهيرة، عقب نشر مقالة أهين بها العرب، وكان المنتدى الأدبي لم يتجاوز السنة الأولى من عمره. علم من هذا أن السياسة الجديدة التي ظهر بها الاتحاديون في العاصمة هي أن العصبية الجنسية نافعة أو ضرورية لترقي كل جنس، وأنه يمكن الجمع بينها وبين الوحدة العثمانية، ولا سيما الوحدة بين العرب والترك من العثمانيين، وأنه يجب على كل جنس أن يرقي نفسه من غير أن يضر غيره أو يحول دون الوحدة العثمانية. وقد سر جمهور المتعلمين من العرب بهذه السياسة الجديدة، وهم لا يشترطون لاعتقاد إخلاص الاتحاديين للعرب فيها إلا إطلاق الحرية لجرائدهم وجماعاتهم وأفرادهم كما أطلقوها للترك، ومساواة الحكومة بينهما في التربية والتعليم والمساعدة على الأعمال. ولكن الترك في هذا الطور الجديد قد ألفوا عدة جمعيات تركية محضة، وقاموا بعدة مشروعات تركية خالصة، وألفوا عدة كتب ورسائل في النهضة التركية والرابطة الجنسية البحتة، وصار شغل جرائدهم الشاغل وجوب إنشاء أمة تركية محضة ودولة تركية محضة وكان كلام بعضهم في هذا أن الدولة تركية لا عثمانية. وإن العثمانية وهم من الأوهام. ولم يفعل العرب شيئًا يذكر من ذلك. نعم إن بعضهم يتكلم أو يكتب في الجرائد كتابة تعد ضئيلة نحيلة إذا قيست بما يكتبه الترك. ولم أر لأحد منهم مصنفًا خاصًّا في هذا الموضوع إلا رسالة لأحد أدباء بيروت من آل الفاخوري. ونشر بعض الغلاة منشورات تهييج وثورة، وقالوا فيها: إن لهم جمعية، وأنا لا أصدق ذلك. * * * الجنسية والإسلام وحزب اللامركزية: بعد هذا كله قام من كتّاب العرب كاتب من طائفة لها دين لا يتفق مع دين الإسلام في أصوله ولا فروعه [1] فكتب كتابًا جعل نفسه فيه أشد إسلامًا من جميع علماء الإسلام. وأشد عصبية تركية من غلاة الترك أنفسهم، وأشد اتحادية من زعماء جمعية الاتحاد والترقي ووزرائها؛ إذ قام يجاهد فيه الجنسية العربية وحدها، ويجعلها هادمة للإسلام الذي يغار عليه - بزعمه - ما لا يغار عليه الذين أفنوا أعمارهم في القيام به علمًا وعملاً ودعوة ودفاعًا، ويلصق تهمة هذه الجناية على الإسلام بحزب اللامركزية وحده. على أن حزب اللامركزية عثماني محض ليس في برنامجه ولا في بياناته كلمة واحدة تدعو إلى الجنسية العربية، أو تنفر من الجنسية التركية؛ وإنما هو يدعو جميع العثمانيين إلى مطالبة الحكومة بالإدارة اللامركزية، بالطرق المشروعة القانونية. نعم إن فكرته قد انتشرت في العرب؛ لأن المؤسسين له من العرب، ولم يقدروا على نشر دعوتهم في غير الشعب العربي. وذلك الكاتب المنحي عليهم يقول: إن دعوتهم لم يحفل بها أحد يذكر. ولم يستجب لها إلا عدد لا يقدم ولا يؤخر. فلماذا عني إذًا بتأليف كتاب خاص في التشنيع عليهم؟ ما رأيت مثالاً لإطالة هذا الكاتب القدح في حزب اللامركزية - بدعوى الجناية على الإسلام بتقوية الجنسية العربية وجعلها هي واللامركزية التي تراد لأجلها أسرع ما يمحو الإسلام ويوقع المملكة في أيدي الأجانب! ! إلا ما أطال به كاتب أمريكانى في التشنيع على جمعية إبطال المسكرات في أمريكا. ذلك بأن هذه الجمعية سلكت أخيرًا السبيل القانوني الموصل إلى غرضها الشريف؛ وهو السعي لانتخاب أعضائها ومشايعيها لمجلس النواب. وقد فازوا في بعض الولايات فوزًا عظيمًا، فانبرى لمحاربتهم تجار المسكرات، الذين يربحون الملايين من الريالات، وكان أغرب حربهم القلمية، مقالات لأحد الكتاب عنوانها (الحرية الشخصية) ما ترك هذا الكاتب شيئًا اهتدى إليه باطلاعه وذكائه في مدح الحرية الشخصية إلا وقاله، وجعل إبطال المسكرات مزيلاً له، كأنه الذي يهدم الحكومات الدستورية، ويوقع العالم في الفوضى والهمجية! ! فكثير من كلامه حق أريد به باطل، ومنه ما هو باطل أريد به باطل، وهكذا فعل كاتبنا العربي، ونقول في كل منهما: إنه يمكن تفنيد مقالاته، ودحض شبهاته، بمقالات أصح منها دليلاً، وأقوم قيلاً، وأوسع تفصيلاً. ولكن الرد على ما يكتب اتباعًا للهوى، وارتيادًا للمناصب إضاعة للوقت، وسبب للتمادي في الباطل واللغو. قد يظن هذا الكاتب ويظن من تقرب إليهم بما كتب - ممن لا يحبون أن تقوم للعرب قائمة، ولا تستيقظ لهم عين نائمة - أن مثل هذه الكتابة تقنع السواد الأعظم من مسلمي العرب بأن يجيبوا دعوة لمن يدعونهم إلى إحياء لغتهم، وإلى قيامهم بعمران بلادهم، والاستئثار بخيراتها دون الصهيونيين والأجانب الذين تقذفهم بهم الحكومة المركزية من كل جانب، بما تعطيهم من امتياز، وما تمكن لهم من امتلاك البلاد، وأن ينبذوا هؤلاء الدعاة إلى الإصلاح نبذ النوى، اعتقادًا بصدق ذلك الكاتب في زعمه أن هذا يميت الإسلام ويزيل هداية السنة والقرآن! وإن هذا هو الذي يرمي إليه زعماء اللامركزية، بدعوتهم إلى إحياء الجنسية العربية. وسيعلم الظانون كذب ظنهم، وإن هذه الكتابة لا تخدع عامة العرب فضلاً عن خاصتهم؛ بل تكون سببًا لقوة نهضة العرب، وإساءة الظن بمصادر هذه الخدع. كنا عزمنا على ترك الكتابة في هذه المسائل، ثم بدا لنا بعد هذه الخلابة والخديعة أن نبين للأمة والتاريخ لباب الحقيقة، وأن ننشر نموذجًا من كلام دعاة الجنسيتين التركية والعربية؛ لأجل المقارنة بينهما، وليعرف اعتدال حزب اللامركزية بين غلاتهما، ومنه يظهر أن تخصيصه باللوم والتعنيف، ليس نصرًا للدين الحنيف؛ إذ الدين لا يحيا إلا بحياة لغته، وارتقاء أمته، وإننا نبدأ بنموذج من كتاب (قوم جديد) ؛ لأنه جاء الدعوة إلى الجنسية التركية من طريق الدين، بما فيه أكبر عبرة للمعتبرين، من التحريف والتبديل، والتحريم والتكفير بمحض الرأي والهوى. وجعل الدين كالمحصور في بذل المال والنفس لحكومة الآستانة الاتحادية. * * * نموذج من كتاب (قوم جديد) (مترجم عن النسخة التركية المطبوعة في الآستانة) جاء في الصفحة 14 من هذا

نموذج من إنشاء طلبة دار الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من إنشاء طلبة دار الدعوة والإرشاد اقترحنا الموضوع الآتي على طلبة السنة الأولى لاختبار إنشائهم وآرائهم في هذه المسألة، فاخترنا أن ننشر ما كتبه بعضهم كما كتبوه مع تصحيح بعض الغلط في الهامش، وهو: آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم إنشاء الطالب يس إبراهيم: لم ير التاريخ من لدن آدم إلى ظهورهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كالإسلام في معاملته وعدله، ولم ينقل إلينا أثر يدل على أن الإسلام عامل مخالفيه بالقسوة؛ بل تواترت الآثار والشواهد الدالة على عدله، وأنه ما جاء إلا لهداية البشر لما فيه صلاحهم في الحال وصلاحهم في المال، وأنه رحمة للناس كافة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) ، وإن أهم ما يستشرف منه على عدل الإسلام في معاشرة مخالفيه النظر في نصوص الدين، فإنه الميزان الذي يبين العدل من الجور، ويفصل بين الضغط والحرية، تأمل تر أن الإسلام قد بلغ حدًّا من القوة لا يقاومه صاد. ولا يحركه مزحزح، ومع ذلك ينادي الإسلام: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) . فلو أن الإسلام فيه شائبة من ظلم لحمل الناس على الدخول فيه كرهًا أيام استكمال القوة في عزه وشبابه، كما يفعل أهل الأديان الأخرى في العصر الحاضر والقرون الخالية، على أن السابقين معذورون، فإنهم ما وصلوا إلى درجة من العلم والحضارة تحملهم على الالتجاء إلى العدل، بخلاف أهل هذا الجيل فلا عذر لهم مع صياحهم بصوت العدل. ولا يخفى على أحد ما يفعلونه بالناس من حملهم على دينهم وسلب أموالهم وجعلهم خدمًا وعبيدًا، إما بالظلم البيّن، أو الجور المستتر، وهو ما يسميه الأستاذ بالسياسة اللينة. فوربك أما تشعر الآن بأن الإسلام دين الرحمة والعدالة في القرون المظلمة خير من جميع الأديان وقوانين السياسة في عصر العلم والحضارة؟ إن الإسلام لم يضغط على معاشريه، ولم يحملهم على المعاملة بأحكامه؛ بل جعل لهم الحرية التامة في وضع أحكامه، وجعل عقوبة لمن يتعرض لهم بالأذى من المسلمين، هكذا كان الإسلام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأيام الخلفاء بعده. ومما يروى أن يهوديًّا جاء إلى سيدنا عمر بن الخطاب شاكيًا سيدنا عليًّا رضي الله عنهما من أجل دَيْنٍ ادّعاه عليه، ولما كان الخليفة يحكم بينهما رأى أن أمير [1] جالسًا قال (قم فساوِ خصمك) ، فيا لله ما هذا العدل والإنصاف بين يهودي ومسلم لدى أمير المسلمين؟ ما نشأ هذا العدل إلا من نور الإسلام وسماحته. ولا يتوهمن أحد أن القتال الذي وقع بين المسلمين ومعاشريهم ومن ساعدهم ينافي العدل؛ ما دام يعلم أن الذنب على المعتدي، وإن البادئ أظلم، فمعلوم أن المسلمين ما آذوا أحدًا ولم يكن غرضهم إلا إيصال هذا النور إلى القلوب، وكل ما وقع منهم إنما هو دفاع عن أنفسهم بأمرٍ من الله تعالى بعد التعدي عليهم {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوَهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِينَ * فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفَُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 191-192) . وإن الإسلام لم ينه معتنقيه عن موالاة من خالفهم، ولم يمنعهم من مواساتهم إلا إذا كانوا يقاتلونهم ويعادونهم، والقرآن أعظم دليل على ذلك: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 8-9) أتُراك بعد سماع هذه الآيات تشعر بأن الإسلام ليس دين العدل والرحمة إذا أزلت عن بصرك عشاء العصبية؟ فلو نظرت نظرة الإنصاف ما وسعك إلا التسليم بأن آداب الإسلام في معاشرة المخالفين أحسن الآداب، وكم عفا - صلى الله عليه وسلم - عن مذنب، وأحسن إلى مسيء؟ وإن التاريخ يدلنا على أنه كان يتحمل أذى الأعداء، ودائمًا يتبع أثر السلم ولو بالحكم الشاق، ألا تراه مع كثرة تطلعه إلى مكة، وشدة شوقه إلى الكعبة، وحنينه إلى حجر أبيه إبراهيم، كيف قبل أن يرجع، مع وفرة القوة وإمكان الوصول، وقساوة الشروط التي منها أنه إذا ارتد أحد من شيعته يقبلونه، وإذا أسلم أحد منهم لا يقبله - على ما يقول التاريخ - وقد ترك زيارة البيت في هذا العام [2] هكذا كان الإسلام ولم يزل في تسامحه وعدله بين أهليه ومعاشريه. ومن أدب الإسلام أنه لم يسمح للمؤمنين أن يساعدوا الذين آمنوا ولم يهاجروا على من كان بينهم وبينهم ميثاق [3] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} (الأنفال: 72) . ولعمري ما انتشر الإسلام على ما ترى إلا بحسن آدابه وعدله في المعاملة، فإن العدل يجمع القلوب. وبالآداب الحسنة تملك الأزمة، ولا رأي للقائلين بالضغط والغلظة. والقول الفصل في هذا قول الله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) ، فإن الله تعالى أعلم بقلوب عباده خبير بما يوحدهم ويجمع كلمتهم، وقد أنزل القرآن وضمنه ما يكفل ذلك إن قام به أهله. ولو تصفحت القرآن آية آية لا تجده يأمر بالغلظة على من التزم حده. وإنما قال {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (المؤمنون: 96) وقال {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} (آل عمران: 159) إلخ. وقد أجمع عقلاء الاجتماع [4] على أن اللين خير من الشدة مهما كانت القوة، وأنه ما أثر هذا التأثير رجل واحد إلا بإعطاء الحرية وانتشار العدل ومخاطبته العقول. ويخيل لي - بل ربما كان أقرب إلى الحقيقة - أن الذي يحتاج إلى استعمال الشدة والقوة والغلظة هو من يدعو إلى شيء باطل، فإن العقول بطبعها تنفر عنه، فإن أخذ أصحاب الباطل وسائل القسوة والضغط ربما أمكن أن يخضعوا بعض الناس في الظاهر زمنًا ما، ولا يلبث أن يحصل رد الفعل ويرجع الناس إلى فطرتهم، وإن الإسلام ما جاء بشيء يناقض الفطرة فكان مقبولاً بمجرد وصوله إلى الآذان الصاغية؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البَلاغُ} (الشورى: 48) ، فلو أن المسلمين قاموا بما أوجب الله عليهم وبلغوا هذا الدين إلى الناس كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح وتدبره الناس لدخلوا في دين الله أفواجًا. * * * آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملتهم إنشاء الطالب محيي الدين رضا بسم الله الرحمن الرحيم سبحانك ربي ما أحكمك، وأحكم شرعك ونبيك، لقد صببت الآداب والفضائل كلها في كتابك الحكيم. وأجريتها على لسان خاتم المرسلين، فبأي لسان نحمدك ونمجدك؟ وبأي عمل نشكر على آلائك وإحساناتك؟ فشكرًا لك من عبد ضعيف، وصلاة وسلامًا على نبيك الأمين. الإسلام وما أدراك ما الإسلام؟ الإسلام هو ذلك الدين الذي سوى بين الأمير والحقير؛ (بل لا حقير عنده) أما بلغك خبر الأمير العادل (عمر بن الخطاب) مع ذلك الأمير الغساني جبلة بن الأيهم الذي وطئ الأعرابي وصفعه [5] على قفاه؟ هل قبل منه عمر أن يجعل بينهما درجات متفاوتات؟ كلا! ثم كلا! ولذلك فر الغساني هاربًا إلى القسطنطينية ولا تسأل عمّا حل به من الندم بعد ذلك. فشعره يشهد على ندمه العظيم. هذا ما كان من عمر في قضية الأمير الغساني والصعلوك العربي، وانظر إلى ما كان منه مع ابن عمرو بن العاص حينما ساط القبطي الذي سبقه (ولا تنس فضل أبيه الفاتح وأنه كان صغير السن قد يهفو) فقد كتب إلى أبيه: يا عمرو منذ كم استعبدتم [6] الناس وقد ولدتهم أماتهم أحرارًا؟ ما هذا بعدل إنسان، إنما هو هدى القرآن، نعم هذا هو سبيل الإسلام وأمرائه، وليس بعجيب إن قلنا إن التاريخ لم ير أعدل منه. ولعلك تتذكر أن عليًّا (وهو صهر الرسول وابن عمه) تحاكم مع يهودي أمام قاض مسلم [7] فكناه القاضي ونادى الآخر: يا يهودي! فغضب علي من القاضي وقال له: ما كان لك أن تفعل هذا في موقف القضاء؛ بل كان يجب أن تسميني وتسميه. خير الأمور التسامح في محله، وقد جرت الشريعة الإسلامية على هذه الفضيلة وحثت عليها في مواضع شتى. وكم من موقف لأمراء الإسلام وعلمائه أسرع التاريخ إليه فاقتنصه وحلى به جيده العاطل، فالشريعة تنادي أهلها أن: خالقوا الناس بخلق حسن. {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) (من غشنا فليس منا) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ} (النساء: 94) ، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: 90) ، {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} (النحل: 91) . ولو أردنا تتبع ما ورد في الشريعة من الآي والحكم الواردة بخصوص المخالفين لنا فقط لما أمكننا في هذا الموقع، غير أننا نعلم بالجملة من تاريخ السلف الصالح ومما اقتبسناه وأرشدنا إلى تدبره من قرآن وحديث، أن الدين الإسلامي خير دين قد أخرج للناس يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحترم المصالح العامة والخاصة، ولا يأمر إلا بكل خير وصلاح لمعتنقيه وللمستظلين برايته البيضاء؛ حتى يجعل الجميع في هناء، يرفلون في حلل السعادة وطيب العيشة الراضية. لا تظن أن الإسلام احتقر أهل الذمة واهتضم حقوقهم كلا! بل هو مع ذلك لم يرغمهم على الدين به وهو خير دين {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) فالدين قد جعل لهم أحكامًا ترضيهم، فعقد لذلك الفقهاء الأبواب والفصول، وكلها مستمدة من الدين القويم، فقد جعلهم أحرارًا. وأي حرية أكبر من حرية ذلك اليهودي الذي أخذ بتلابيب النبي صلى الله عليه وسلم يجذبه إليه ويصيح به. فهَمَّ عمر باستلال السيف فناداه النبي: دعه فإنه له حقًّا [8] . هذه الواقعة التي وقعت من أبي المسلمين محمد صلى الله عليه وسلم تعطينا درسًا اجتماعيًّا كبير الأهمية عظيم المنفعة، وتعظم منزلة الدين في نفوسنا، ولعلنا نقوم فنحاكي سلفنا الصالح ونسير على نهجه القويم فنعود أمة حية، وليس بعجيب على التاريخ أن يعيد نفسه، ونسأل الله سبحانه تعالى أن يوفقنا لهذا بدون إثارة الغبار على من خالفنا، كما نسأله أن يهدي مخالفينا ويجعلنا أمة صالحة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. * * * آداب الإسلام في معاشرة المخالفين ومعاملته إنشاء الطالب عبد الرحمن عاصم اقتضت حكمة الله تعالى بأن يرسل رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، بدين الفطرة السليمة والعقل الصحيح، ليكون الناس أمة واحدة تجمعهم جامعة الدين على كلمة الإخلاص لله وحده، والشهادة لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليتم مكارم الأخلاق، جا

مصاب مصر والشام برجال العلم وحملة الأقلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب مصر والشام برجال العلم وحملة الأقلام 2- الشيخ حسن المدور هو من بيت معروف في بيروت. اشتغل من أول نشأته بطلب العلوم العربية والشرعية، وصحب الأستاذ الإمام أيام هجرته في بيروت وتلقى عنه، فاستنار عقله، وأشرب حب الإصلاح في قلبه، ولكنه كان يداري الجامدين، ويخاف شر المستبدين، فلهذا لم ينهض بالدعوة إلى الإصلاح، ولم يقم بمظاهرة الظاهرين بها في زمن الاستبداد، على أنه كان يدرس ويفيد الطلاب باعتداله ورويته، وقد رغب إليَّ منذ سنتين أن أرسل إليه ما طبع من تفسير القرآن الحكيم؛ ليقرأه درسًا في الجامع الكبير، فلم أبادر في إرساله إليه، فكنت في ذلك مخطئًا، وما كنت ألتمسه لنفسي من العذر في التأخير كان ضعيفًا. وكان الفقيد كريم الأخلاق، حسن المعاشرة واسع الحلم، شديد الاحتياط في أموره، فوجود فقيه مثله في بيروت كان ضروريَّا؛ إذ كان رحمه الله تعالى وسطًا بين تشديد الجاهدين، وشذوذ المتساهلين المفرطين، فهو من الأفراد الذين لا تستغني أمتنا الإسلامية في قطر ولا مصر عن واحد أو آحاد منهم في هذا العصر - عصر التحول والانقلاب. وقد كان مسلمو بيروت مستفيدين من هذه المزية من مزاياه وإن لم يعرفها له الجمهور منهم. وقد صار في العهد الأخير أمينًا للفتوى في بيروت؛ فكان خير عون وظهير لمفتيها لهذا العهد صديقنا الشيخ مصطفى نجا، ويسوؤنا أننا لا نعرف من ترجمة هذا الصديق شيئًا كثيرًا نثبته في ترجمته؛ ليكون ذكرًا باقيًا له، فنحن نعلم أنه كان يفيد طلاب العلم والمستفتين بعلمه وعقله وأدبه. ولا ندري أكتب شيئًا من الكتب والرسائل المفيدة أم لا. وقد خسرت بيروت بفقده خسارة لا عوض لها الآن عنها، لضعف الاشتغال بالعلوم الدينية فيها. وهو قد دخل في العقد السادس من عشرات سني عمره، وكان جيد الصحة، فعرض له المرض أيامًا معدودات انتهت بأجله، رحمه الله تعالى رحمة واسعة. *** 3- الشيخ محيي الدين الخياط ولد بمدينة صيدا في رجب سنة 1229 فكانت وفاته في أواخر السنة القمرية المتممة للأربعين، ورأينا في بعض جرائد بيروت التي أَبَّنَتْهُ أن والده من السلالة العلوية، وأنه لرغبته عن التفاخر بالأنساب لم يكن يعرف عنه كلمة تدل على ذلك، وأن أمه ألبانية الأصل، وكانت كريمة الخلق ذكية الفؤاد، فهي التي تولت تربيته وعنيت بتعليمه. وقد تعلم التعليم الابتدائي في مدرسة لجمعية المقاصد الخيرية في بيروت، وتلقى بعض علوم الأدب والدين عن الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي والشيخ يوسف الأسير البيروتي اللذين انتهت إليهما رئاسة العلوم العربية والشرعية في بيروت. ثم كان جل تحصيله بجده واجتهاده في المطالعة والمراجعة والتعليم، وعين بالكتابة العصرية ونظر الشعر فكان في الرعيل الأول من فرسانهما في وطنه، وعلم في بعض المدارس، وحرر في عدة جرائد، وألف عدة كتب قرظها المنار في أزمنة نشرها، حتى صار أشهر شبان النهضة الإسلامية في بيروت. لقيته في بيروت قبل هجرتي إلى مصر، فإذا هو شاب يتدفق غيرة على الأمة وشعورًا بسوء حالها، وشدة حاجتها إلى الإصلاح ومجاراة الأمم الحيّة. ولما أنشأت المنار جعلته وكيلاً له في بيروت وما يتصل بها، فقبل ذلك بالارتياح، وكان مغتبطًا بالمنار أشد الاغتباط، على ما كان في ذلك من الخطر والتعرض لأذى الحكومة الحميدية، ولكنه عهد بعد ذلك بتوزيعه وجمع مال اشتراكاته لصاحب له من ذوي المطامع الدنيئة وفاسدي الأخلاق، فغشنا به - غير متعمد - عدة سنين سامحه الله وعفى عنه. كان الفقيد صاحب همة علية، وحب للاستقلال الفكري والحرية، وميل شديد للسياسة، ولو أتيح له أن يعيش في بلاد كتاب العصر المصلحين. ولكنه كان ضعيف الثقة باستقلال نفسه في العمل، فلم يتجرأ على الهجرة ولا على النهوض بعمل مستقل غير مضمون الربح، ولهذا باع قلمه لأصحاب الجرائد بالأجرة مراعيًا مشاربهم ومذاهب سياستهم فيها، فكان لا يؤلف كتابًا إلا بعد أن يتعاقد مع رجل يطبعه على نفقته، ويكون ملكًا لطابعه من دونه، وكان الباعث له على ذلك الحاجة إلى المال، وحب التعجل بربح قطعي بلا نفقة ولا انتظار، وكان من لوازم هذه الطريقة من الكسب بالقلم اختيار ما يروج عند الطابعين وسرعة التأليف، فالوقوف به عند حد في استطاعة المؤلف ما هو أعلى منه، ولولاها لم يحصر جُلَّ ما كتبه في كتب التعليم الابتدائي، فإنه لم يؤلف إلا كتب دروس التاريخ الإسلامي والعربية والفقه والمطالعة للمدارس الابتدائية. وعلّق على ديواني أبي تمام وابن المعتز تفسيرًا لغريبهما، سلك فيه مسلك الاختصار المخل، وأوقعه الاستعجال في كثير من الغلط، على أنه كان من أحرص كتاب العصر على ضبط اللغة وصحة العبارة، والثقة مما يضبطه بدقة المراجعة. فكان يضاهي الشيخ إبراهيم اليازجي في هذا. وكان يعرف اللغة التركية، وترجم عنها قصة (الوطن) لنامق كمال بك الشهير. وكان يرجى من خدمته للغة العربية ما هو أعظم من ذلك، ولكن كان من سوء حظ الأمة العربية أن فقدته عندما بلغ أشده واستوى، وقوي في إتقان خدمة الأمل والرجاء عرضت له حمى وهو في عنفوان قوته، فقضت في أسبوع واحد على حياته، فخسرت بفقده الأمة العربية قلمًا سيّالاً، وذهنًا جوالاً، وهمة لا تعرف ملالاً ولا كلالاً. *** 4- الشيخ محمد جمال الدين القاسمي هو علامة الشام، وبادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعمل والتعليم، والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي، المفسر المحدث، الأديب المتفنن، التقي الأواب، الحليم الأواه، العفيف النزيه، صاحب التصانيف الممتعة، والأبحاث المقنعة، صديقنا الصفي، وخلنا الوفي، أخونا الروحي، قدّس الله روحه، ونوّر ضريحه، وأحسن عزاءنا عنه. نشأ الفقيد في بيت من بيوت العلم والدين في دمشق الشام، ولد سنة ثلاث وثمانين ومئتين وألف. وتلقى مبادئ العلوم العربية والشرعية عن والده الشيخ سعيد ابن الشيخ قاسم الملقب بالحلاق، والقاسمي نسبة إلى الشيخ قاسم هذا. ووالدته علوية يتصل نسبها بنسب الشيخ إبراهيم الدسوقي الشهير. وقد عني الفقيد في آخر عمره بإثبات هذا النسب، وكتب له شجرة، وجاء مصر في العام الماضي لشؤون تتعلق بذلك فسررنا بلقائه، وجددنا ما لا تخلقه الأيام من عهود إخائه. وكتبنا له كما أحب كلمات على نسبه. وقد صار بعض تلاميذه وأصحابه يطلقون عليه لقب (السيد) بعد تحرير هذا النسب؛ بناء على القول بعموم شرف الأسباط. ولكن العرف الذي عليه أكثر المسلمين على خلاف هذا القول. والكثيرون من أهل سوريا يطلقون لقب (السيد) على من ليس له لقب علمي ولا رسمي، ولعل ذلك من نزغات الأمويين، في هضم حقوق العلويين، والشيخ غني عن هذا اللقب، الذي لا يفهم المراد منه أحد. وقد تلقى العلوم المتداولة في الشام عن الشيخ بكري العطار أشهر علمائها وفقهاء الشافعية فيها، وكان يحضر مجالس الأستاذ الكبير الشيخ عبد الرزاق البيطار مجدد مذهب السلف في الشام، وقد استفاد من علمه وعقيدته الأثرية وهديه وأخلاقه المرضية، ما لم يستفده من غيره، وصحب الأستاذ المعنّ المفنّ الشيخ طاهراً الجزائري، فاستفاد من صحبته علمًا بحال العصر، ومعرفة بنوادر الكتب وغرائب المسائل، وصحب العالم المستقل الشيخ سليم البخاري، وأترابًا من خيرة شبان العصر المدنيين كرفيق بك العظم ومحمد أفندي كرد علي وغيرهما وجماعتهم. فكان لصحبة هؤلاء الشيوخ والشبان - وهم خير من أنبتت الشام في هذا الزمان - تأثيرًا عظيمًا في حياته العلمية، من حيث فتحت لاستعداده الفطري، واستقلاله الوهبي، أبواب البحث والتحقيق، وعدم الوقوف عن المسلمات من التقاليد، ونبهته إلى حاجة الأمة إلى الإصلاح المدني كحاجتها إلى الإصلاح الديني وجاء مصر مع الأستاذ البيطار - على عهد الأستاذ الإمام - فاغتبطا بلقائه واغتبط بلقائهما، وصارت المكاتبة بعد ذلك متصلة بينه وبينهما. وإنما كان جمال الدين ذلك الرجل بجوهر نفسه، وقوة استعداده، وكم من طالبِ علمٍ سمع مثل ما سمع، ولقي من الشيوخ والشبان مثل من لقي، فأنكر كل ما خالف - وعلى كل من خالف - ما عرف وألف. ولم يهده ذلك إلى طلب علم جديد، ولا إلى مراجعة النظر واستشارة الدليل. فالحق أن الأفراد الذين امتازوا في هذا العصر من أمتنا بالعلم الصحيح والتصدي للإصلاح، إنما امتازوا أولاً بقوة الاستعداد، والميل الفطري إلى الاستقلال، ثم سلوك النظر والاستدلال، فمن كان هذا نفعه لقاء أهل الاختصاص، والاطلاع على أحاسن الكتب والأسفار، فيكون في ذلك كالنحلة في الروض، تجني من ناضر الأزهار ويانع الثمار أطيب ما فيها. رغبت بعض المدرسين، في قراءة كتاب إحياء علوم الدين، فقلب أوراقه كلها أو بعضها، فلم يقع اختياره على شيء يقرؤه منها، إلا بعض حكايات الصالحين، وبعض الآثار في فضائل الأعمال، فهو لم يستفد من علم الغزالي مسألة ما، ولم يعقل من خصائص الكتاب شيئًا. ذلك بأن هم ذلك المدرس كان محصورًا فيما رأى عليه أمثاله، وهو انتقاء ما يرضي الناس ويلذ لهم، ولا يذكرهم بشيء من جهلهم، ولا يكشف لهم الستار عن شيء من عيوبهم، ولا ينذرهم سوء عاقبة إفراطهم وتفريطهم. نعم إن كل فرد من أولئك الأفراد القلائل الذين نعدهم في هذا العصر من المصلحين - وصديقنا المترجم منهم - لم يكن امتيازهم إلا بصفاء جوهرهم وقوة استعدادهم الفطري للاستقلال والكمال. مع التوفيق للطلب والاشتغال، واتفاق لقاء بعض أصحاب المزايا من الرجال، ذلك بأنه ليس في أمتنا مربّون، ولا معلمون مصلحون، لا في البيوت ولا في المدارس، ولو وجد فينا كثير من القادرين على التربية الصحيحة والتعليم الاستقلالي، لوُجِدَ في كل بلد - لا في كل قطر فقط - كثير من أمثال القاسمي. ظهر الشيخ جمال الدين في الشام على حين فترة من العلماء، فقد كان من أدرك من كبار شيوخها آخر الذين عنوا بدراسة الكتب المعهودة التي يطلق على مدارسيها لقب (علماء) على أن العلم الصحيح - وهو العلم الاستقلالي المبني على الدليل كان قد حجر عليه وحكم بتحريمه من عدة قرون، فلم يكن أحد يشم ريحه ولا يشم وميضه إلا قليلاً، وصار الناس كالخفافيش لا يفتحون في هذا النور عينًا، ولا يحيلون في شعاعه فكرًا. ظهر الفقيد وفي دمشق الشام أفراد ورثوا عن آبائهم وأجدادهم عمائم العلماء وألقابهم والرواتب التي كانوا يأخذونها من أوقاف المسلمين ولم يرثوا عنهم من العلم بتلك الكتب شيئًا. فاتهم العلم ولم يفتهم صرف الأوقات كلها في استنباط الحيل للتمتع بجاهه ومجده، تبعًا للتمتع بألقابه وأزيائه ونقده، فكان من أكبر الخطوب عليهم أن يروا في الشام عالمًا يتصدى للتدريس والتصنيف، ويبين حاجة البلاد إلى الإصلاح والتجديد، فإذا تصدى لذلك أحد يكيدون له المكايد، وينصبون له الحبائل، ويبغونه الفتنة، ويجعلونه في موقف الظنة، فيسعون به إلى الحكام، أنصار كل منافق، ويهيجون عليه العوام، أتباع كل ناعق، فماذا يعمل العالم المصلح بينهم. إذا كان عمل القاسمي للإصلاح وتجديد علوم الدين صغيرًا في نفسه، فهو كبير جدًّا في بلاده وبين قومه، فما القول فيه إذا كان عمله كبيرًا في الواقع، وقد عظم المطلوب وقل المساعد؟ كان رحمه الله تعالى يقرأ الدروس العربية والشرعية ل

وجوب تعلم العربية على كل مسلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وجوب تعلم العربية على كل مسلم (س19) من صاحب الإمضاء بمصر: السيد الإمام صاحب المنار قرأنا في أعداد سابقة من مجلتكم المنار أدلة وجوب تعلم اللغة العربية على كل مسلم، وأشرتم في بعض الأجزاء إلى أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال بذلك. ثم قرأنا في الجزء السابع من المجلد 17 قول عبيد الله صاحب (قوم جديد) باستغناء المسلمين عن تعلم العربية. فنرجو أن تنشروا قول الإمام الشافعي بذلك إلجامًا لذلك الدجال واطمئنانًا لقوم يؤمنون. مستفيد يقرأ المنار (ج) جاء في رسالة الإمام الشافعي التي هي أول رسالة كتبت في أصول الفقه برواية الربيع بن سليمان المرادي ما نصه: (قال الشافعي) رضي الله عنه: والقرآن يدل على أن ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدًا له وتركًا للمسألة له عن حجته ومسألة غيره ممن خالفه، وبالتقليد أغفل من أغفل منهم والله يغفر لنا ولهم. ولعل من قال: إن في القرآن غير لسان العرب، وقبل ذلك منه ذهب إلى أن من القرآن خاصًّا يجهل بعضه بعض العرب، ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي؛ ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودًا فيها من يعرفه، والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، ولا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فرق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودًا عند غيره، وهم في العلم طبقات، منهم الجامع لأكثره وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقل مما جمع غيره، وليس قليل ما ذهب من السنن على من جمع أكثرها دليلاً على أن لا يطلب علمه عند غير أهل طبقته من أهل العلم؛ بل يطلب عند نظرائه ما ذهب عليه حتى يؤتى على جميع سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، فينفرد جملة العلماء بجمعها، وهم درجات فيما وعوا منها. وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها، ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلا من قبله عنها، ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها، وإنما صار غيرهم من غير أهله بتركه، فإذا صار إليه صار من أهله، وعلم أكثر اللسان في أكثر العرب أعم من علم أكثر السنن في أكثر العلماء. فإن قال قائل: فقد نجد من العجم من ينطق بالشيء من لسان العرب؛ فلذلك يحتمل ما وصفت من تعلمه منهم، فإن لم يكن ممن تعلمه منهم فلا يوجد ينطق إلا بالقليل منه، ومن نطق بقليل منه فهو تبع للعرب فيه، ولا ينكر إذا كان اللفظ قبل تعلمًا أو نطق به موضوعًا أن يوافق لسان العجم أو بعضها قليل من لسان العرب، كما ياتفق [1] القليل من ألسنة العجم المتباينة في أكثر كلامها، مع تنائي ديارها واختلاف لسانها، وبعد الأواصر [2] بينها وبين من وافقت بعض لسانه منها. فإن قال قائل: ما الحجة في أن كتاب الله محض بلسان العرب لا يخلطه فيه غيره؟ فالحجة فيه كتاب الله، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ} (إبراهيم: 4) ، فإن قال قائل: فإن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يرسلون إلى قومهم خاصة وأن محمدًا صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، قيل: فقد يحتمل أن يكون بعث بلسان قومه خاصة، ويكون على الناس كافة أن يتعلموا لسانه أو ما أطاقوه منه، ويحتمل أن يكون بعث بألسنتهم، فإن قال قائل: فهل من دليل على أنه بعث بلسان قومه خاصة دون ألسنة العجم؟ (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: فالدلالة على ذلك بينة في كتاب الله عز وجل في غير موضع: فإذا كانت الألسنة مختلفة بما لا يفهمه بعضهم عن بعض فلا بد أن يكون بعضهم تبعًا لبعض، وأن يكون الفضل في اللسان المتبع على التابع. وأولى الناس بالفضل في اللسان من لسانه لسان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يجوز - والله تعالى أعلم - أن يكون أهل لسانه أتباعًا لأهل لسان غير لسانه في حرف واحد؛ بل كل لسان تبع للسانه، وكل أهل دين قبله فعليهم اتباع دينه. وقد بيّن الله تعالى ذلك في غير آية من كتابه. قال الله عز ذكره: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195) ، وقال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا} (الرعد: 37) ، وقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الشورى: 7) ، وقال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 1-3) . (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها. ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل وعز كل لسان غير لسان العرب في آيتين من كتابه فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 103) وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ} (فصلت: 44) . (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وعرفنا قدر نعمه بما خصنا به من مكانة فقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} (التوبة: 128) الآية - وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً} (الجمعة: 2) الآية، وكان مما عرف الله تعالى نبيه عليه السلام من إنعامه عليه ان قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} (الزخرف: 44) ، فخص قومه بالذكر معه بكتابه وقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء: 214) ، وقال {وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} (الأنعام: 92) ، وأم القرى مكة، وهي بلده وبلد قومه، فجعلهم في كتابه خاصة وأدخلهم مع المنذرين عامة، وقضى أن ينذروا بلسانهم العربي لسان قومه منهم خاصة. فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده رسوله، ويتلو به كتاب الله تعالى وينطق بالذكر فيما افترضه عليه من التكبير وأمر به من التسبيح والتشهد وغير ذلك. وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان مَن ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه كان خيرًا له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها، ويأتي البيت وما أمر بإتيانه. ويتوجه لما وجه له ويكون تبعًا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعًا. (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان العرب دون غيرهم لأنه لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحد جهل سعة لسان العرب وكثرة وجوهه وجماع معانيه وتفرقها، ومن علمها انتفت عنه الشبه التي دخلت على من جهل لسانها، فكان تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصة نصيحة للمسلمين، والنصيحة لهم فرض لا ينبغي تركه، أو إدراك نافلة خير لا يدعها إلا من سَفِهَ نفسه وترك موضع حظه، فكان يجمع بين النصيحة لهم قيامًا بإيضاح حق، وكان القيام بالحق ونصيحة المسلمين طاعةً لله. وطاعة الله جامعة للخير. (قال الشافعي) رحمه الله تعالى: أخبرنا سفيان بن عيينة عن زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول: بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم. وأخبرنا سفيان بن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم) . اهـ المراد منه.

فصل تابع لما نقل من كتاب الاعتصام

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

_ فصل [*] إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر: وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغير وإلى ما هو كبير - حسبما تبين في علم الأصول الدينية - فكذلك يقال في البدع المحرمة إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارًا بتفاوت درجاتها - كما تقدم - وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة. ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه، وجميع ما قالوه لعله لا يوفي بذلك المقصود على الكمال. فلنترك التفريع عليه. وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة، وهي الدين والنفس والنسل والعقل المال. وكل ما نص عليه راجع إليها، وما لم ينص عليه جرى في الاعتبار والنظر مجراها، وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه. فكذلك نقول في كبائر البدع: ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة، وما لا فهي صغيرة. وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب. فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسن انحصار - حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب - كذلك تنحصر كبائر البدع أيضًا، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها. وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلاً وإما فرعًا؛ لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو نقصانًا منه أو تغييرًا لقوافيه، أو ما يرجع إلى ذلك؛ وليس ذلك بمختص بالعبادات دون العادات، إن قلنا بدخولها في العادات؛ بل تعم الجميع. وإذا كانت بكليتها إخلالاً بالدين فهي إذًا إخلال بأول الضروريات وهو الدين، وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة، وقال في الفِرَق: (كلها في النار إلا واحدة) وهذا وعيد أيضًا للجميع على التفصيل. هذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر، كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان، وكذلك سائرها مع الإخلال؛ فكل منها كبيرة. وفقد النظر إلى أن كل بدعة كبيرة. ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره، ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه: (أحدها) أنَّا نقول: الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال؛ ولكنها على مراتب؛ أدناها لا يسمى كبيرة، فالقتل كبيرة وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها، وقطع عضو واحد كبيرة دونها، وهلم جرّا إلى أن تنتهي إلى اللطمة؛ ثم إلى أقل خدش يتصور، فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة، كما قال العلماء في السرقة: إنها كبيرة؛ لأنها إخلال بضرورة المال. فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدُّوه من الصغائر. وهذا في ضرورة الدين أيضًا. (فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإيمان عروة عروة، وليصلين نساء وهن حيض - ثم قال - حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما: ما بال الصلوات الخمس؟ لقد ضل مَن كان قبلنا، إنما قال الله {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (هود: 114) لا تصلُّنَّ إلا ثلاثًا. وتقول أخرى: إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة، ما فينا كافر. حق على الله أن يحشرهما مع الدجال) وهذا الأثر - وإن لم تلتزم عهدة صحته - مثال من أمثلة المسألة. فقد نبّه على أن في آخر الزمان مَن يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا خمس، وبيّن أن من النساء من يصلين وهن حيض، كأنه يعني بسبب التعمق وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنة. فهذه مرتبة دون الأولى. وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات. ثم وقع في العتبية: قال ابن القاسم: وسمعت مالكًا يقول: أول من أحدث الاعتماد في الصلاة حتى لا يحرك رجليه رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن أذكره، وقد كان مُساءً (أي يساء الثناء عليه) ، قال: قد عيب ذلك عليه، وهذا مكروه من الفعل. قالوا: (ومساء) أي يساء الثناء عليه. قال ابن رشد: جائز عند مالك أن يروّح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في المدونة. وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على أحدها دون الأخرى؛ لأن ذلك ليس من حدود الصلاة؛ إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين، وهو من محدثات الأمور. انتهى. فمثل هذا - إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر - فيقال في مثله: إنه من كبائر البدع. كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها؛ بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين، فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة. (والثاني) : أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية، ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليًّا في الشريعة، كبدعة التحسين والتقبيح العقليين، وبدعة إنكار الأخبار السُّنِّية اقتصارًا على القرآن، وبدعة الخوارج في قولهم: لا حكم إلا الله. وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعًا من فروع الشريعة دون فرع؛ بل تجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية، أو يكون الخلل الواقع جزئيًّا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض، كبدعة التثويب بالصلاة - الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال. - وبدعة الأذان والإقامة في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين، وما أشبه ذلك. فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها. فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن ان يكون منحصرًا داخلاً تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة، ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصًا به لا عامًّا فيه وفي غيره، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو، الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد، فلا قطع على أن جميعها من قبيل واحد، وقد ظهر وجه انقسامها. (والثالث) : أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر، ولا شك أن البدع من جملة المعاصي - على مقتضى الأدلة المتقدمة - ونوع من أنواعها، فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضًا، ولا يخصص وجوهًا (؟) بتعميم الدخول في الكبائر؛ لأن ذلك تخصيص من غير مخصص، ولو كان ذلك معتبرًا لاستثنى من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع، فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها. فإن قيل: إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقًا؛ وإنما يدل ذلك على أنها تتفاضل، فمنها ثقيل وأثقل، ومنها خفيف وأخف؛ والخفة هل تنتهي إلى حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم؟ هذا فيه نظر، وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة في المعاصي غير البدع: وأما في البدع فثبت لها أمران: أحدهما: أنها مضادة للشارع ومراغمة له، حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة، لا نصب المكتفي بما حدّ له. والثاني: أن كل بدعة - وإن قلت - تشريع زائد أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح؛ وكل ذلك قد يكون على الانفراد، وقد يكون ملحقًا بما هو مشروع، فيكون قادحًا في المشروع. ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدًا لكفر؛ إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير قل أو كثر كفر، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر. فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه أو ألحقه بالمشروع، إذا لم نكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر؛ لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير. ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء، فالفرق بين بدعة جزئية وبدعة كلية، وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني. وأما الثالث فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام: (كل بدعة ضلالة) وما تقدم من كلام السلف يدل على عموم الذم فيها. وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام؛ بل إنما ينقسم ما سواها من المعاصي. واعتبر بما تقدم ذكره في الباب الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها. وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير؛ أن يقال: كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار؛ إما باعتبار أن بعضها أشد عقابًا من بعض، فالأشد عقابًا أكبر مما دونه، وإما باعتبار فوت المطلوب في المفسدة، فكما انقسمت الطاعة باتباع السنة إلى الفاضل والأفضل، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل، انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل، والصغر والكبر، من باب النسب والإضافات؛ فقد يكون لا شيء كبيرًا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه. وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقسام المعاصي إلى الكبائر والصغائر فقال: المرضي عندنا أن كل ذنب كبيرة وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله، ولذلك يقال: معصية الله أكبر من معصية العباد قولاً مطلقًا، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها. ثم ذكر معنى ما تقدم؛ ولم يوافقه غيره على ما قال، وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب الموافقات. ولكن الظاهر يأبى ذلك - حسبما ذكره غيره من العلماء - والظواهر في البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها - حسبما تقدم - فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات، كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من الواضحات. فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه، ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت؛ بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها، بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها؛ بل صاحب المعصية متنصل منها مقر لله بمخالفته لحكمها. وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة؛ والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة، ولذلك قال مالك بن أنس: من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) إلى آخر الحكاية. وقد تقدمت. ومثلها جوابه لمن أراد أن يُحْرِم من المدينة وقال: أي فتنة فيها؟ إنما هي أميال أزيدها. فقال: وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلاً قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ! إلى آخر الحكاية، وقد تقدمت أيضًا. فإذًا يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة. فالجواب أن ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه المسألة. وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالمًا بكونها بدعة وأن يكون غير عالم بذلك. وغير العالم بكونها بدعة على ضربين: وهما المجتهد في استنباطها وتشريعها والمقلد له فيها. وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا حكمنا له بحكم أهل الإسلام؛ لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو النقصان من

ترجمة الإمام الشاطبي

الكاتب: أحمد بن أحمد بن عمر أقيت

_ ترجمة الإمام الشاطبي من كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج [1] هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير بالشاطبي، الإمام العلامة، المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًا مفسرًا، فقيهًا محدثًا، لغويًّا بيانيًّا، نظارًا ثَبْتًا، وَرِعًا صالحًا، زاهدًا سُنّيًّا، إمامًا مطلقًا، بحّاثًا مدققًِّا، جدليًّا بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتفننين الثقات، له القَدَمُ الرّاسخ والإمامة العظمى في الفنون - فقهًا وأصولاً، وتفسيرًا وحديثًا، وعربية وغيرها - مع التحرّي والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصًا على اتباع السنة، مجانبًا للبدع والشبهة، ساعيًا في ذلك مع تثبت تام، منحرفًا عن كل ما ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة من شيوخه وغيرهم في مسائل. وله تآليف جليلة، مشتملة على أبحاث نفيسة، وانتقادات وتحقيقات شريفة. قال الإمام الحفيد ابن مرزوق في حقه: إنه الشيخ الأستاذ الفقيه الإمام المحقق العلامة الصالح أبو إسحاق انتهى. وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام، وإنما يعرف الفضل لأهله أهله. أخذ العربية وغيرها عن أئمة، منهم الإمام المفتوح عليه في فنها ما لا مطمع فيه لسواه، بحثًا، وحفظًا، وتوجيهًا، وابن الفخار الألبيري؛ لازمه إلى أن مات، والإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية، أبو القاسم السبتي، شارح مقصورة حازم، والإمام المحقق أعلم أهل وقته الشريف أبو عبد الله التلمساني، والإمام علامة وقته بإجماع أبو عبد الله المقري، وقطب الدائرة، شيخ الجلة، الأمير الشهير، أبو سعيد ابن لبّ، والإمام الجليل، الرحلة الخطيب، ابن مرزوق الجد، والعلامة المحقق المدرس الأصولي أبو علي منصور بن محمد الزواوي، والعلامة المفسر المؤلف أبو عبد الله البلنسي، والحاج العلامة الرحلة الخطيب أبو جعفر الشقوري. وممن اجتمع معه، واستفاد منه، العالم الحافظ الفقيه أبو العباس القبَّاب، والمفتي المحدث أبو عبد الله الحفار، وغيرهم. اجتهد وبرع، وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالغ في التحقيق، وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم، كالقبَّاب، وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبى عبد الله بن عباد. وجرى له معهم أبحاث ومراجعات، أجلت عن ظهوره فيها، وقوة عارضته وإمامته، منها مسألة مراعاة الخلاف في المذهب [2] فيها له بحث عظيم، مع الإمامين القبَّاب وابن عرفة. وله أبحاث جليلة في التصوف وغيره. وبالجملة فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر. ألّف تواليف نفيسة، اشتملت على تحريرات للقواعد، وتحقيقات لمهمات الفوائد. منها شرحه الجليل على الخلاصة في النحو، في أسفار أربعة كبار، لم يؤلف عليها مثله بحثًا وتحقيقًا فيما أعلم. وكتاب (الموافقات) في أصول الفقه سماه: (عنوان التعريف بأصول التكاليف) كتاب جليل القدر جدًّا لا نظير له، يدل على إمامته، وبعد شأوه في العلوم، سيّما علم الأصول، قال الإمام الحفيد بن مرزوق: كتاب الموافقات المذكور، من أنبل الكتب، وهو في سفرين. وتأليف كبير نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة، سماه (الاعتصام) وكتاب (المجالس) شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري. فيه من الفوائد والتحقيقات، ما لا يعلمه إلا الله. وكتاب (الإفادات والإنشادات) في كراسين، فيه طرف وتحف، وملح أدبيات وإنشادات. وله أيضًا كتاب (عنوان الاتفاق، في علم الاشتقاق) ، وكتاب (أصول النحو) ، وقد ذكرهما معًا في شرح الألفية. ورأيت في موضع آخر أنه أتلف الأول في حياته وأن الثاني أتلف أيضًا. وله غيرها، وفتاوى كثيرة. ومن شعره لما ابتلي بالبدع: بليت يا قوم والبلوى منوّعة ... بمن أداريه حتى كاد يرديني دفع المضرة لا جلبًا لمصلحة ... فحسبي الله في عقلي وفي ديني أنشدهما تلميذه الإمام أبو يحيى ابن عاصم له مشافهة. أخذ عنه جماعة من الأئمة كالإمامين العلامتين، أبي يحيى بن عاصم الشهير، وأخيه القاضي المؤلف أبي بكر بن عاصم، والشيخ أبي عبد الله البياني، وغيرهم. وتوفي يوم الثلاثاء ثامن شعبان سنة تسعين وسبعمائة ولم أقف على مولده رحمه الله. (فائدة) وكان صاحب الترجمة ممن يرى جواز ضرب الخراج على الناس عند ضعفهم وحاجتهم؛ لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما وقع للشيخ المالقي في كتاب الورع. قال: توظيف الخراج على المسلمين من المصالح المرسلة، ولا شك عندنا في جوازه، وظهور مصلحته في بلاد الأندلس في زماننا الآن. لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما يحتاج إليه الناس، وضعف بيت المال الآن عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس، وإنما النظر في القدر المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام، ثم قال أثناء كلامه: ولعلك تقول كما قال القائل لمن أجاز شرب العصير بعد كثرة طبخه وصار رُبًّا: أحللتها والله يا عمر. يعني هذا القائل أحللت الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ، حتى تحل الخمر بمقالك، فإني أقول - كما قال عمر رضي الله عنه: والله لا أحل شيئًا حرّمه الله، ولا أحرّم شيئًا أحلّه، وأن الحق أحق أن يتبع، (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) . وكان خراج بناء السور في بعض مواضع الأندلس في زمانه موظفًا على أهل الموضع، فسئل عنه إمام الوقت في الفُتْيَا بالأندلس الأستاذ الشهير أبو سعيد ابن لب، فأفتى أنه لا يجوز ولا يسوغ، وأفتى صاحب الترجمة بسوغه، مستندًا فيه إلى المصلحة المرسلة، معتمدًا في ذلك إلى قيام المصلحة التي إن لم يقم بها الناس فيعطونها من عندهم ضاعت. وقد تكلم على المسألة الإمام الغزالي في كتابه، فاستوفى. ووقع لابن الفراء في ذلك مع سلطان وقته وفقهائه كلام مشهور، لا نطيل فيه. وكتب جوابًا لبعض أصحابه في دفع الوسواس العارض في الطهارة وغيرها: (وصلني جوابكم فيما تدفعون به الوسواس، فهذا أمر عظيم في نفسه، وأنفع شيء فيه المشافهة، وأقرب ما أجد الآن، أن تنظروا من إخوانكم من تدلون عليه وترضون دينه، ويعمل بصلب الفقه، ولا يكون فيه وسوسة، فتجعلونه إمامكم على شرط أن لا تخالفوه، وإن اعتقدتم أن الفقه عندكم بخلافه، فإذا فعلتموه رجوت لكم النفع، وأن تواظبوا على قول: (اللهم اجعل لي نفسًا مطمئنة توقن بلقائك، وتقتنع بعطائك، وترضى بقضائك، وتخشاك حق خشيتك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) فإنه نافع للوسواس، كما رأيته في بعض المنقولات. وكان يقول: لا يحصل الوثوق والتحقيق بشأن الرواية في الأكيال المنقولة بالأسانيد، واختبرت ذلك فوجدت الأكيال مختلفة، متباينة الاختلاف، وهي ذوات روايات، فالكيل الشرعي تقريبًا منقول عن شيوخ المذهب، يدركه كل أحد، حفنة من البر أو غيره بكلتا اليدين مجتمعين، من ذوي يدين متوسطتين بين الصغرى والكبرى، فالصاع منها أربع حفنات، جربته فوجدته صحيحًا. فهذا الذي ينبغي أن يعوّل عليه؛ لأنه مبني على أصل التقريب الشرعي، والتدقيقات في الأمور غير مطلوبة شرعًا؛ لأنها تنطُّع وتكلُّف، فهذا ما عندي. ومن كلامه: أما من تعسف وطلب المحتملات، والغلبة بالمشكلات، وأعرض عن الواضحات، فيخاف عليه التشبه بمن ذمه الله في قوله: {َأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} (آل عمران: 7) . وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين، ولا يرى لأحد أن ينظر في هذه الكتب المتأخرة، كما قرره في مقدمة كتابه الموافقات، وترد عليه الكتب في ذلك من بعض أصحابه، فيوقع له: وأما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة، فليس ذلك مني محض رأي، ولكن اعتمدته بحسب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع المتأخرين كابن بشير، وابن شاس، وابن الحاجب، ومن بعدهم، ولأن بعض من لقيته من العلماء بالفقه، أوصاني التحامي عن كتب المتأخرين، وأتى بعبارة خشنة ولكنها محض النصيحة، والتساهل في النقل عن كل كتاب جاء لا يحتمله دين الله. ومثله ما إذا عمل الناس بقول ضعيف، ونقل عن بعض الأصحاب، لا تجوز مخالفته، وذلك مشعر بالتساهل جدًّا، ونص ذلك القول لا يوجد لأحد من العلماء فيما أعلم. والعبارة الخشنة التي أشار إليها، كان ينقلها عن صاحبه أبي العباس القبَّاب أنه كان يقول في ابن بشير وابن شاس: أفسدوا الفقه. وكان يقول: شأني عدم الاعتماد على التقاييد المتأخرة. إما للجهل بمؤلفيها أو لتأخر أزمنتهم جدًّا، فلذلك لا أعرف كثيرًا منها ولا أقتنيته، وعمدتي كتب الأقدمين المشاهير. ولنقتصر على هذا القدر من بعض فوائده. ((يتبع بمقال تالٍ))

الجنسيات في المملكة العثمانية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجنسيات في المملكة العثمانية (2) بيَّنَّا في المقالة الأولى من هذا البحث أن الحكومة العثمانية الاتحادية تركت في طورها الأخير عقاب من يلهج بالعرب والعربية من أصحاب الجرائد العربية وغيرهم، وأن العرب لم يغلوا في إحياء الجنسية العربية كما غلت الجمعيات والجرائد التركية، التي جاهرت بالدعوة إلى كل شيء في الدولة تركيا، بالقول والفعل، وهجر اسم (العثمانية) ولم نسمع لأحد من كتاب الترك صوتًا في إنكار هذا الغلو والانتصار للجامعتين الإسلامية والعثمانية على التركية إلا لعلي بك كمال، فقد كتب في جريدة (بيام) ردًّا على أولئك الغلاة بيّن فيه أن الحياة التركية، لا تقوم إلا بالجامعة العثمانية السياسية، وأن المجاهرة بحصر كل شيء في الترك والتركية يبعث العرب والكرد وغيرهم من العناصر العثمانية إلى مثل هذه الدعوة فلا يبقى للترك شيء. واشتدت المناظرة بينه وبين (أقجورا) وغيره من غلاة الجنسية التركية حتى انتهت إلى السباب والشتم. وكان مما كتبه (أقجورا) في (تورك يوردي) بالآستانة في أوائل ربيع الآخر من هذا العام ما ترجمته بالاختصار والإجمال: يجب أن نعمد إلى الحقائق فنقررها. ما العثمانية؟ ولماذا لا نقول التركية؟ أليست العثمانية نسبة إلى عثمان التركي؟ إن الحقيقة تغلب الخيال، ومن المحال العقلي أن تظل هذه العناصر المتباينة مرتبطًا بعضها ببعض وراء ستار وهمي، وتحت اسم خَلِق بالٍ. يجب علينا ما دام في استطاعتنا الحياة أن نعمد إلى الجيش والأسطول والعلوم والآداب والشرائع والقوانين وكل شيء فنصبغه بالصبغة التركية المحضة: (ليت شعري هل تدخل الشريعة الإسلامية في هذه الشرائع التي عناها أم هم في غنى عنها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد: 37) ؟) . يجب أن نعلم أنَّا من أمة ظهر فيها قواد أعظم من نابليون. وعظماء أشهر من يوليوس قيصر، وشعراء أكبر من هيغو. وأن في استطاعتنا أن نفعل ما يفعله الجرمان أو السكسونيون لحياة قومهم، فلا ينبغي أن نظل مقيدين بالأوهام والخرافات الماضية. وقد انهزم علي كمال بك أمام حملات الغلاة واضطر إلى مجاراتهم. وإننا لنرى أشد كتّاب العرب لهجًا بالعربية لا يعدون غلاة بالنسبة إلى الكتاب المعتدلين من الترك؛ بل يعدون مقصرين، وإن جماعة حزب اللامركزية لم يجعلوا مسألة الجنسية العربية من موضوع حزبهم؛ إلا إذا كانت المحافظة على اللغة العربية بين أهلها يعد دعوة إلى الجنسية العربية، ولهذا أنكرنا على ذلك الكاتب العربي رميهم بالعصبة الجنسية التي ذمها ذمًّا إسلاميًّا، وجعلها هادمة للإسلام كأن الإسلام الذي دخل فيه يموت بحياة لغته العربية، ويحيا باللغة التركية. استدللنا بتخصيص الحزب بهذا الذم وبسكوته عن غلاة العصبية التركية، على أنه لم يكتب ما كتب إلا تزلفًا ونفاقًا، وجعل اسم الدين الإسلامي شبكة لصيد المال والجاه. ولو أنكر على أولئك الغلاة والمعتدلين في العصبية الجنسية، واتبع هواه بإضافة اللامركزيين إليهم، وإشراكه معهم، لما اعتقدنا فيه كل هذا الاعتقاد. سلكت الجماعات العربية كلها مسلك الاعتدال فيما تطلبه لأمتها من الدولة وفيما تنصح به للأمة، إلا ما عرض لجماعة البصرة، فقد كان في بعض كلامها شيء من الشدة، ثم كان زعيمها السيد طالب بك النقيب ساعد الحكومة وعضدها في عقد الوفاق بينها وبين الأمير عبد العزيز بن سعود أمير نجد، وفي غير ذلك مما عهدته إليه من خدمتها في تلك البلاد، وقد تبرع هو ووجهاء البصرة للأسطول وغير الأسطول بمبالغ قلّما رأت مثلها الدولة من بلد آخر. على أنها لم تجبهم إلى شيء مما طلبوه من الإصلاح. فكان ذلك دليلاً على أن أشد العرب في ولايات الدولة شكيمة، وأقواهم عصبية، لا يني ولا يقصر في خدمتها، إذا هي أظهرت الثقة به، وعهدت إليه بعمل يعمله. *** الجنسية اللبنانية نعم إن بعض الجرائد والجمعيات اللبنانية قد غلت في الدعوة إلى الانسلاخ من كل صفة عثمانية، والاستقلال بجنسية لبنانية لا عربية. فلبنان يتمتع باستقلال داخلي لا يشاركه في مثله جبل من الجبال، ولا سهل من السهول، ولا ولاية ولا مملكة في الأرض، حتى قال الدكتور يعقوب صروف - وهو من يفتخر لبنان بمكانه في العلم والفلسفة ومعرفة شؤون العالم -: إن كل تغيير يطرأ على نظام لبنان يكون شرًّا؛ إذ لا خير مما هو عليه. ولكن كثيرًا من اللبنانيين لا ينظرون إلى هذه النعمة بالعين التي ينظر بها هذا العالم الخبير، فترى صراخ شكواهم قد ملأ فضاء أمريكا الشمالية والجنوبية ومصر، ونقلت الجرائد صداه إلى كل قطر يوجد فيه لبنانيون أو سوريون. فمنهم من يدعو إلى الاستقلال التام، ومنهم من يدعو إلى احتلال فرنسا للبلاد. ولهم عدة جمعيات سياسية يشترك فيها ألوف منهم في الوطن وفي ديار الهجرة من مصر إلى أوربة وأمريكا وغيرها من الممالك. وقد قرأنا كثيرًا من مقالاتهم وقصائدهم وأناشيدهم الاستقلالية فرأيناهم يفخرون فيها بعراقة هذا الجبل في الاستقلال، وامتناعه على الفاتحين من جميع الأمم والأجيال، أي فهم لا يطلبون الآن، إلا الاستقلال الذي كانوا متمتعين به في كل زمان. وقد جددوا لأنفسهم علمًا وطوابع بريد، ومنهم من يختار الاستقلال تحت حماية فرنسة والاستظلال بعلمها. وقد عرف أهل الخافقين ما كان من مبالغة أهل الجبل في الحفاوة بضباط الأسطول الفرنسي والمظاهرات الولائية لهم عندما زاروا بطرك الموارنة وبعض البلاد منذ أشهر؛ إذ كان الأسطول في مياه بيروت. ويلي ذلك ما كان لمسيو جورج بيكو قنصل فرنسة عندما زار لبنان مصاحبًا لمسيو مورسي بارس أحد أعضاء مجلس النواب الفرنسي. وهذا النوع من الاحتفالات والمظاهرات قد تكرر، وتكررت الوعود من فرنسة بإنالة الجبل ما يريد. لسنا نريد الاستقصاء التاريخي في هذا المسائل فنفصل القول فيه، ولا الانتقاد على الغلو والشذوذ الذي كان يتخلل ذلك مما لا يعهد له نظير للأجانب في مملكة من الممالك، فنتتبع من ذلك ما قيل وما كتب، وما انتقده بعض المسلمين في جرائد بيروت على ذلك وما رد به اللبنانيون على هؤلاء. وإنما نريد أن نبين بالإجمال أن اللبنانيين منهم المعتدلون فيما ينقمون من الدولة وما يطلبون لبلادهم، ومنهم الغلاة. وأن ذلك الكاتب العربي المدافع عن الجامعة العثمانية أو الجامعة الإسلامية، المعادي للجنسية العربية والموضعية (كاللبنانية) لم يكتب كلمة في انتقاد هؤلاء الغلاة من أبناء وطنه، وأين منهم مؤسسو حزب اللامركزية، الذين لم يدخلوا حزبهم في باب مباحث المسألة الجنسية. وإننا نثبت ما قلناه عن اللبنانيين أولاً بنشر ما جاء في جريدة الهدى التي تصدر في نيويورك من مطالب جمعية النهضة اللبنانية التي يرأسها مدير تلك الجريدة، وهذا نصه: من مبادئ النهضة اللبنانية ومنازعها (لكل امرئ من دهره ما تعودا) ، وما تعودناه أن نصون الوعد فلا نخلفه، والعهد فلا نخفره، وإن نكث الناكثون، وعبث العابثون، مستأثرين بأيام، نرجو أن تنقضي على سلام، فلا يلؤم فيها أحد، بما يجيئه من الفيش والفند. أرسلنا في (الأغراض من سياحتنا) كلمة، ونرسل الآن في بعض مبادئ النهضة اللبنانية أخرى؛ نحن دون أحد من الناس المسئولون عنها. كنا في رحلتنا نبشر بهذه المبادئ بلساننا، ونحن الآن نبشر بها بقلمنا، إلى أن تعود الخطابة، فتنوب عن الكتابة. اللبنانيون مظلومون وظالمون - مظلومون لأن السلطة ضعيفة ضاغطة وجائرة، وظالمون لأنهم وهم تحت الضغط والجور يتنابذون ويتطاحنون مؤثرين الخصوصيات على العموميات. فيجب على خدمتهم - ونحن منهم - التجرد في النصح لهم، والدعوة إلى ما فيه صلاحهم ونجاحهم، ووضع مبادئ يقوم عليها حزبهم السياسي الأكبر المدعو (النهضة اللبنانية) . قد يقوم من اللبنانيين أنفسهم من يناكر ويصادر، ويشاكس ويعاكس، ولكن لبنانية المناوئين هؤلاء غير صحيحة، لقيامها على التعصب والتحزب والنكاية والغواية. والحق ظافر، والإخلاص ظاهر. فمن مبادئ النهضة اللبنانية: 1- جمع اللبنانيين بدين الوطنية الشامل الكامل الفاضل (وتمزيق الأناجيل الطائفية ليسلم إنجيل المسيح) وما يقال عن الإنجيل يقال عن القرآن والتلمود وكل كتاب مقدّس عند أهله. إلا أن ذلك لا يعني الكفر ولا التعطيل، فليعبد الناس إلههم في كنيستهم وكنيسهم وجامعهم وخلوتهم وتحت أفياء الشجر وظلال الصخور إذا شاؤوا وإنما فليجتمعوا (؟) بدين الوطنية الواحد وهم المفلحون. 2- استقلال المهاجرين (بنهضتهم اللبنانية) ما زال الإصلاح لا يتم إلا عن طريق المهاجرة وعلى همم المهاجرين. إلا أن هذا الاستقلال لا يعني الانفصال؛ بل توحيد قوة المهاجرين ما بين القطبين وجعلهم قوة واحدة تسعى للإصلاح سعيًا مجردًا صادقًا، إلى أن ينفلت المتخلفون من قيود الوظائف، ويكشفوا عنهم غيوم السفاسف التي لا يزال حتى في المهجر أثر مجلوب (؟) 3- طلب أمير أجنبي من دول أوربا الست الضامنة استقلال لبنان تكون غايته غايتنا ومصلحته مصلحتنا، ولغتنا لغته ولغة أولاده، فلا يكون دخيلاً لا يشعر بشعورنا، ولا يهمه - وهو المرجع الأكبر في الجبل - أن يتعلم لغة الناس فيه ليكون حكمه معقولاً وقضاؤه مقبولاً - أمير أجنبي يكون لنا ما كان مثله لرومانيا وبلغاريا واليونان وألبانيا ولا تعود تهمه (المدة) تنقضي وينقضي الاهتمام بعد الابتداء بها بأيام - الشعب الخامل الغافل يرضى بحاكمه وقاضيه دخيلاً أعجميًّا لا يشعر معه ولا يفهم لغته ليقضي بالعدل، ولا يهمه إلا تناول المرتب وربما الرشوة (؟) مباشرة وبواسطة، وتفريق الناس لاتخاذ الأحزاب منهم. وقد يكون وضيعًا قبل أن يصير حاكمًا بلقب كبير ومرتب كبير وتغطرس كبير وعمل صغير. 4- إرجاع لواء لبنان إليه فإن لكل شعب على شيء من الاستقلال راية أو علمًا أو لواء إلا لبنان الذي كان منذ بدء التاريخ على كثير من الاستقلال حتى وقوع حوادثه الأخيرة التي زعم أنه نال بعدها حكمًا ذاتيًّا لا نرى له أثرًا. 5- (تمديد لبنان بعد تقلصه) أي إعادة حدوده الأولى والطبيعية إليه ما بين نهري القاسمية والعاصي. ومعنى ذلك أن تكون حدوده كما كانت على عهد أمرائه الأصلاء من القاسمية إلى جبل الشيخ إلى لبنان الشرقي إلى حمص فالنهر الكبير وهي حدود تتناول بيروت وطرابلس وصيدا والسهول المحيطة به - اللبنانيون لا يطلبون التوسع بهذه المطالب؛ بل إعادة الحدود التي انتزعها المنتزعون إليهم. 6- إعادة الجمارك والبريد والبرق إلى لبنان؛ لأن الدولة (ضمنتها من لبنان ضمانًا) ولكنها لم تتقيد بشروط الضمان ولم تدفع إلى لبنان ما هو من حقوقه ولكل صاحب ملك حق باستعادة ملكه الذي لا يدفع الضامن ضمانه أو المستأجر أجرته، فضلاً عن أن اللبنانيين لم يطلبوا المرافئ لتكون بغير جمارك، ولا البريد ليظل عمال الأتراك عابثين ومتلاعبين به وبأقدس أسراره وغير حافلين بغير سرقة الحوالات المالية حتى من الكتب المضمونة وبمصادرة الصحافة الحرة لئلا يستفيق الشعب من غفلته. 7- جعل كل قدم تتكسر عليها أمواج البحر المتوسط من شواطىء لبنان مرفأ له إذا شاء اللبنانيون عدم الاكتفاء بجونة النبي يونس. 8- إطلاق حرية الفكر والخطابة والكتابة وإنشاء الجمعيات إذ لا يوجد في نظام لبنان مما يحول دون ذلك (لولا انتصاب التماثيل الش

مصاب مصر والشام برجال العلم وحملة الأقلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب مصر والشام برجال العلم وحملة الأقلام 4- الشيخ محمد جمال الدين القاسمي (تتمة ترجمته) تصانيفه ورسائله: كان أثابه الله سيّال القلم سيّال القريحة، سريع الذاكرة سريع المراجعة، وقد كتب كثيرًا من الكتب والرسائل تصنيفًا وشرحًا واختصارًا لبعض المطولات، وأحصاها لنا بعض تلاميذه فزادت على السبعين، وهو العقد الذي تعبر به العرب من الكثرة. وهذه أسماؤها مرتبة على حروف المعجم: (1) الاستئناس في تصحيح أنكحة الناس. طبع في دمشق سنة 1332. (2) الأنوار القدسية على متن الشمسية في المنطق، كتب عليها إلى آخر قسم التصورات. (3) إيضاح الفطرة في أهل الفترة. (4) الارتفاق، بمسائل الطلاق. (5) إزالة الأوهام بما يستشكل من ترك سيدنا عمر لكتابة الكتاب الذي همَّ به عليه الصلاة والسلام. (6) إفادة مَن صحا في تفسير سورة " والضحى ". (7) إعلام الجاحد عن قتل الجماعة المتمالئة بالواحد. (8) الأقوال المروية في من حلف بالطلاق الثلاث في قضية. (9) الأوراد المأثورة - مطبوع في دمشق. (10) الأجوبة المرضية مطبوع في دمشق سنة 1326. (11) إصلاح المساجد من البدع والعوائد. (12) بذل الهمم لموعظة أهل وادي العجم. (13) بديع المكنون في أهم مسائل الفنون. (14) بيت القصيد في ديوان الإمام الوالد السعيد. (15) بحث في جمع القراءات المتعارف. (16) تعطير المشمامّ، في مآثر دمشق الشام. (17) تعليقات على حصول المأمول لصديق حسن خان. (18) تنوير اللب في معرفة القلب. (19) تاريخ الجهمية والمعتزلة. نشر في مجلة المنار وطبع في مطبعتها سنة 1331. (20) تنبيه الطالب إلى معرفة الفرض والواجب - طبع في مصر سنة 1326. (21) ثمرة التسارع إلى الجب في الله وعدم التقاطع. (22) الجواب السني عن سؤال السيد أحمد السني. (23) الجوهر الصاف في نقابة الأشراف. (24) جواب المسألة الحورانية. (25) جوامع الآداب في أخلاق الأنجاب. (26) جدول في مخارج الحروف وصفاتها. (27) جواب الشيخ السناني في مسألة العقل والنقل، نشر في مجلة المنار. (28) حسن السبك في الرحلة لوعظ قضاء البنك. (29) حياة البخاري. طبع في صيدا سنة 1330. (30) حاشية على الروضة الندية. (31) درء الموهوم من دعوى جواز المرور بين يدي المأموم. (32) دلائل التوحيد. مطبوع في دمشق سنة 1326. (33) ديوان خطب مطبوع في دمشق سنة 1325. (34) رفع المناقضات، بين ما يزيد في العمر وبين المقدرات. (35) رسالة في الشاي والقهوة والدخان. مطبوعة في بيروت سنة 1323 (36) رسالة في أوامر من مشايخ الإسلام بالحكم بغير المذهب الحنفي. مطبوعة بعد نشرها في مجلة المنار سنة 1331. (37) رسالة في المسح على الجوربين. مطبوعة في بيروت سنة 1332. (38) رسالة في المسح على الرجلين. (39) زوال الغشاء عن وقت العشاء. (40) زبدة الأخبارعن أولاد الكفار. (41) السطوات في الرد على منع العشاء قبل الصلوات. (42) شمس الجمال على منتخب كنز العمال. (43) الشذرة البهية في حل ألفاظ نحوية. مطبوعة في دمشق سنة 1322. (44) شذرة من السيرة المحمدية. مطبوعة بمطبعة المنار في مصر سنة 1331. (45) شرح لقطة العجلان. مطبوعة في مصر سنة 1326. (46) شرح مجموعة أربع رسائل في الأصول. مطبوعة في بيروت سنة 1324. (47) شرح مجموعة أربع رسائل في الأصول أيضًا. مطبوعة في دمشق سنة 1323. (48) شرح مجموعة ثلاث رسائل في أصول التفسير وأصول الفقه مطبوعة في دمشق سنة 1332. (49) شرح مختصر المستصفى لابن رشيق. (50) الطائر الميمون في حل لغز الكنز المدفون. مطبوع مرتين سنة 1316 وسنة 22. (51) طراز الخلعة فيما نقل من قول الرملي: وأقسام الاسم تسعة. (52) الطالع المسعود على تفسير أبي السعود (لم يتم) . (53) الطالع السعيد في مهمات الأسانيد. (54) العقود النظيمة في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه العظيمة، ومحاسن شريعته القويمة. (55) غنيمة الهمة على كشف الغمة. (56) فصل الكلام في حقيقة عود الروح إلى الميت حين الكلام. (57) الفضل المبين على عقد الجوهر الثمين، ويعرف بشرح الأربعين العجلونية. (58) فتاوى الأشراف في العمل بالتلغراف. مطبوع في دمشق سنة 1329. (59) قواعد التحديث من فن مصطلح الحديث. (60) الكواكب السيارة في مدح الفوارة. (61) كتاب الفتوى في الإسلام. مطبوع في دمشق في سنة 1329. (62) كتاب إرشاد الخلق إلى العمل بخبر البرق. طبع بدمشق سنة 1329. (63) كتاب الإسراء والمعراج. طبع دمشق سنة 1331. (64) كتاب شرف الأسباط. طبع بدمشق. (65) كتاب (شرح العقائد) وهو كتاب كبير كتب الفقيد منه نحوًا من مائتي صفحة ولم يتم. (66) اللف والنشر في طبقات المدرسين تحت قبة النسر. (67) لزوم المراتب في الأدب مع الإمام الراتب. (68) المسند الأحمد على مسند الإمام أحمد. (69) منتخب التوسلات. مطبوع في دمشق سنة 13. (70) مذاهب الأعراب وفلاسفة الإسلام في الجن. طبع بدمشق سنة 328. (71) ميزان الجرح والتعديل، طبع في مصر سنة 1330. (72) موعظة المؤمنين من أحياء علوم الدين. طبع بمصر سنة 133. (73) (محاسن التأويل) وهو التفسير العظيم الذي يقع في اثني عشر مجلدًا مع مقدمته التي كتبت في مجلد حافل. (74) النفحة الرحمانية على متن الميدانية. مطبوعة في دمشق سنة 1323. (75) نقد النصائح الكافية. طبع بدمشق سنة 1328. (76) هداية الألباب لتفسير آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} (المائدة: 5) . (77) الوعظ المطلوب من (قوت القلوب) . (78) وفاء الحبيب وحده، في إيضاح جهة الوحدة (المسوقة في الفناري) . (79) ينابيع العرفان في مسائل الأرواح بعد مفارقة الأبدان. أقول: إن بعض ما ذكرنا رسائل صغيرة مؤلفة من كراسة أو كراستين أو كراسات قليلة، له أو لغيره، وبعض ما ذكرنا من الشروح عبارة عن تعليقات لا يصح أن تسمى شرحًا، وقد كتب إليّ في العام الماضي أنه له كتابًا في العبادات مقتبسًا من كتب المذاهب مع بيان حكمة التشريع. كان أخذه منه الشيخ أحمد طباره ليطبعه في مطبعته ببيروت ولم يعده إليه، وعلمت ممّا كتب إليّ أنه من أهم كتبه، وكنت وعدت بتأليف كتاب في ذلك فسبقني رحمه الله إليه، فتمنيت لو يطبع لأستغني به. ولعل هذا الكتاب وتفسيره الحافل هما أكبر مظاهر علمه وإصلاحه، على أن له رسائل مختصرات لا تغني عنها المطولات. سيقول كثير من الناس: إنك عددت القاسمي من رجال الإصلاح، وإن أسماء كثير من هذه الكتب التي صنفها أو شرحها تدل على أنها ليست من الإصلاح في ورد ولا صدر، ولا تشتمل على عين منه ولا أثر؛ فكيف يضيع العالم المصلح وقته في شرح لغز، أو ما يعد أبعد عن الإصلاح من اللغز؟ ويمكنني أن أقول: إن الرجل كان من خيار مصلحي المسلمين في هذا العصر، وإن لم يدخل كل ما كتبه في باب الإصلاح الذي يفهمه قراء المنار، فمسمى الإصلاح ومفهومه واسع، وهو يختلف باختلاف الزمان والمكان، والسن والعشراء والأقران، والتلاميذ والمريدين، وغيرهم من المخاطبين، والمصلح لا يخلق مصلحًا بالفعل؛ بل يخلق كغيره لا يعلم شيئًا، ويكون الاستعداد للإصلاح فيه كامنًا، ثُمَّ تظهره التربية والتعليم، وما يتجدد المرة بعد المرة له من العبرة والتأثير. فهل يطلب ممن عاش خمسين، ترك فيها من هذه الكتب والرسائل نحوًا من سبعين، أن يكون جميع ما كتبه أو شرحه إصلاحًا في الدنيا والدين، مرضيًا عند الكهول المجربين، والشيوخ المحنكين؟ طريقته في الإصلاح: حسب من نشأ وتعلم وتربى في أرض التعصب للتقليد، والجمود على العادات والخرافات، تحت سماء الاستبداد، والحجر على الألسنة والأقلام، - ولم تكن هذه المفاسد في الآستانة أشد منها في الشام - أن يكون بسلامة فطرته، وعناية الله به، مثل الشيخ جمال الدين القاسمي في استقلاله، ونزاهته واعتداله، ونظافة عقله وقلمه ولسانه، وجرأته على مجاهدة الجمود والتقليد، والجمع في إحياء علوم اللغة، والدين بين الطريف والتليد. أما طريقته في الإصلاح وغايته منه فلم يكن فيها ما على خطة مقررة من أول النشأة، وإنما كونتهما الحاجة بقدر استعداد البيئة: فتح الرجل عينيه فرأى أطلال العلم في بلده دارسة، وأعلامه طامسة، وقد كانت مهاجرًا يرحل الطلاب إليها، فأصبحت مهجورة يرحل عنها. فكان الإصلاح الضروري فيها إيجاد نشء جديد من طلبة العلم يعلمون تعليمًا صالحًا يرجى أن يحيا به وبهم العلم، وقد كان سبب اختيار الشيخ لقراءة بعض الكتاب ولكتابة بعض الشروح والتعليق على بعضها، هو الضرورة أو الحاجة إلى تدريسها، لا كونها صالحة في نفسها، أو محاولته إصلاح التعليم بها. مثال ذلك ما كتبه على شرح الفناري ومتن الشمسية في المنطق، كان ما لا بد منه؛ لأن طلبة العلم كانوا يمتحنون بهما لأجل إعفائهم من الخدمة العسكرية. ونقيس ما لم نعرف عذره فيه - كقراءة كتاب جمع الجوامع وشرح بعض المتون - على ما عرفنا عذره فيه كمتن الشمسية وشرح الفناري، وكلاهما لا يصلحان للتدريس في رأي العارفين بطرق إصلاح التعليم. ولو كان الشيخ في مصر لقلنا إن عذره في قراءة جمع الجوامع اعتماد الجامع الأزهر عليه في الامتحان ونيل شهادة العالمية. لعلنا لو اطلعنا على جميع ما كتبه لظهر لنا من عذره ما لا يظهر لنا الآن، أو ننتقد منها ما لا نظن الآن أنه منتقد، وحسب الرجل أن يكون مصلحًا في سيرته ومجموع أعماله. قد اطلعنا على كتاب دلائل التوحيد وبعض الرسائل من مؤلفاته المطبوعة، وقرظنا بعضها في المنار وبينا مزيتها فيه. ويمكنا أن نستنبط منها ومن مذاكراتنا القصيرة له ما نعده للقارئين من مزاياه ومزاياها: (1) إن القاسمي درس فنون اللغة العربية والعلوم الشرعية على الطريقة المألوفة في مدارس المسلمين منذ قرون، وتلقى تلك الكتب التي اختارها المتأخرون للتدريس، ورأى حاجة أهل البلاد إلى بعض تلك الكتب لأجل امتحان الإعفاء من العسكرية، وأن المشتغلين بالعلم منهم يظنون أن العالم لا يكون عالمًا حقيقة إلا بتحصيل كذا وكذا منها (كجمع الجوامع وكتب السعد التفتازاني) فكانت هذه الأمور الثلاثة أسبابًا لمحافظته على بعض ذلك التليد. (2) أنه كان يرى أن ما يثبت بالدليل النقلي في النقليات والعقلي في العقليات وبالتجربة في المجربات لا تتلقاه بالقبول هذه الأمة التي جمدت على التقليد، وبعد عهد جمهورها بالحجة والدليل، إلا إذا أيد بنقل عن بعض العلماء السابقين، ولا سيّما إذا كان من المشهورين، فكان يرى هذا ركنًا من أركان الإصلاح في التدريس والتأليف لأجل إقناع المستدلين والمقلدين معًا، ونحن نجري على هذا في المنار والتفسير أحيانًا. (3) أنه كان يتحرى مذهب السلف في الدين وينصره في دروسه ومصنفاته، وما مذهب السلف إلا العمل بالكتاب والسنة، بلا زيادة ولا نقصان، على الوجه الذي كانوا يفهمونه في الصدر الأول. وقد اتهم - كما اتهم غيره من المستقلين - بأنه أحدث مذهبًا جديدًا في الإسلام، ولما كانت حادثة السعاية التي أشرنا إليها، وذكرنا أنه حبس فيها، لغط حساده بهذه المسألة فقال يرد عليهم: زعم الناس بأني ... مذهبي يدعى الجمالي وإليه حينما أف ... تي الورى أعزو مقالي لا وعمر الحق إني ... سلفيّ الانتحال مذهبي ما في كتا ... ب الله ربي المتعالي ثم ما صح من الأخـ ... بار لا قيل وقال أقتفي الحق ولا أر ... ضى بآراء الرجال وأرى التقليد جهلاً ... وعمى في كل حال وقال أيضًا في هذا المعنى: أقول كما قال الأئمة قبلنا ... صحيح حديث المصطفى هو مذهبي أألبس ثوب القيل والقال باليًا ... ولا أتحلى بالرداء المذهب (4) كان يتحرى في المسائل الخلافية الاعتدال والإنصاف، واتباع ما يقوم عليه الدليل من غير تشنيع على المخالف ولا تحامل

تفسير (له معقبات من بين يديه ومن خلفه)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفسير ] لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [[*] (س20) من صاحب الإمضاء في بركة السبع (مصر) . فضيلة الأستاذ: السلام عليكم ورحمة الله؛ لي الشرف الرفيع والقدح المعلى بمثول مسطوري بين يديكم، وإنني وإن لم أحظ من الأستاذ بالمعرفة الشخصية فقد عرَّفتني به آدابه الجمة، وهداني إليه منار علمه الغزير، ومشكاة فضله العميم، ولا غَرو بعدُ إذا رفعت هذا إليكم مستفتيًا عن الآتي: جاء في كتاب (الإسلام دين الفطرة) للأستاذ المفضال (الشيخ عبد العزيز شاويش) تنديد على بعض مفسري الزمن الغابر. نرى فضيلته قد ذهب مذهبًا غير الذي ذهب إليه المفسرون كالجلالين والنسفي وغيرهما. ولقد جاء في كلامه المنشور على (ص 33و44) من الكتاب المشار إليه في تفسير الآية التالية ما لا يتفق مع السابقين: {عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد: 9-11) فسر الأوائل المعقبات بالملائكة تتعاقب على العبد ليل نهار. ورووا في ذلك حديثًا عن كنانة العدوي قال: دخل عثمان بن عفان على رسول الله فقال: أخبرني عن العبد كم معه من ملك. قال (ملك على يمينك على حسناتك وهو أمين على الذي على الشمال. وملكان من بين يديك ومن خلفك، يقول الله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (الرعد: 11) وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك، وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد عليه الصلاة والسلام، وملك على فيك لا يدع الحية تدخل إليه وملكان على يمينك. فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون وملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكًا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل) . اهـ. وفسَّر الشيخ شاويش المستخفي بالليل والسارب بالنهار فقال إنهما المتخذان لهما حرسًا وجلاوزة، إلخ وهنا يتضح من سياق كلامه أنه جحد وجود ملائكة تحفظ العبد، وصفوة القول إني حيال هذه التفاسير المتضاربة وتلك الآراء المتباينة كريشة في مهب الرياح. بيد أن تقتي بكم واعتمادي على علو كعبكم في العلوم الدينية سيدنيان مني الغرض ويقصيان عني الريب. وها أنا (ذا) على أحر من الجمر، حتى يرد عليَّ القول الفصل، وما هو شفاء للصدور. ورجائي أن تشمل الإجابة الأسئلة الآتية: (1) أي الطرفين أصاب وما وجه إصابته وأيهما الجدير بالاتباع. (2) لم لا يعود الضمير في قوله تعالى: (له معقبات) على من ذكر اسم الله كقول المفسرين ولم لا أثر لذلك في الآية أصلاً كرأي فضيلة الشيخ شاويش؟ (3) ما هو تفكيك نظام الآية الذي جاء به المفسرون وكيف قطعوا الحال من صاحبها وفرّقوا بين الأجزاء التي تتألف منها؟ (4) كذب الشيخ شاويش الحديث. وبأي وجه يحتمل تكذيبه له مع أن راويه البخاري وهو كما تعلم من رؤوس الرواة وأصحها سندًا؟ المخلص محمد السيد الجارحي (ج) اختلف مفسرو السلف في المعقبات هنا فأخذ الشيخ عبد العزيز شاويش بما أعجبه، وشنع على من قالوا بغيره، وما كان ينبغي له ذلك - وقد ذكر الحديث المرفوع فيه - وإننا لم نطلع على ما كتبه، ويظهر مما كتبه السائل أنه رد الحديث من غير أن يبني رده على علَّة فيه أوطعن في سنده. وأن عبارته توهم أن ما اعتمده في تفسير المعقبات مما استنبطته قريحته الوقادة وكان دليلاً على تفضيل الأواخر على الأوائل! وقد عهدنا منها في مجلته رد الأحاديث الصحيحة المتفق عليها إذا لم يعجبه معناها. وحديث كنانة العدوي في تفسير المعقبات ليس في الصحيحين، وقد عزاه في الدر المنثور إلى ابن جرير، وخرجه ابن جرير في تفسيره بسند ضعيف قال: (حدثني المثنى قال: حدثنا عبد السلام بن صالح القشيري قال: ثنا علي بن حرب عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي) وذكره. وعبد السلام بن صالح اختلفوا فيه فقالوا: إنه يروي المناكير واتهمه بعضهم بالوضع، ولكن أنكر الحافظ قول العقيلي فيه: إنه كذّاب. وفي غيره من رجال السند مقال لا محل لبسطه. ولو صحّ هذا السند عن ابن جرير لما رجح عليه غيره. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير المعقبات: يعني السلطان يكون عليه الحرّاس يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، إلخ. كذا في الدر المنثور. وفي تفسيره بسنده عنه قال: ذكر ملكًا من ملوك الدنيا له حرس من دون حرس. وفي رواية أخرى له عنه قال: يعني ولي الشيطان يكون عليه الحرس. وروى أيضًا عن عكرمة أنه قال في أصحاب المعقبات: هم هؤلاء الأمراء. وقال في رواية أخرى أنه قال في المعقبات: المواكب من بين يديه ومن خلفه. قال ابن جرير بعد ما روى القولين في المعقبات عن ابن عباس وعن غيره: (وأولى التأويلين في ذلك بالصواب قول من قال: الهاء في قوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) [راجع إلى] (من) التي في قوله: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) ، وأن المعقبات من بين يديه ومن خلفه هي حرسه وجلاوزته. كما قال ذلك من ذكرنا قوله، وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلين بالصواب؛ لأن قوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) أقرب إلى قوله: (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) منه إلى قوله: (عَالِمُ الغَيْبِ) فهي لقربها منه أولى بأن تكون من ذكره (فيها) وأن يكون المعني بذلك، هذا مع دلالة قول الله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} (الرعد: 11) على أنهم هم المعنيون بذلك. وذلك أنه جل ثناؤه ذكر قومًا أهل معصية له وأهل ريبة يستخفون بالليل ويظهرون بالنهار، ويمتنعون من عند أنفسهم بحرس يحرسهم ومنعة تمنعهم من أهل طاعته أن يحولوا بينهم وبين ما يأتون من معصية الله، ثم أخبر أن الله تعالى ذكره إذا أراد بهم سوءًا لم ينفعهم حرسهم ولا يدفعهم عنهم حفظهم. اهـ ما قاله وهو الذي نختاره. أما حديث أبي هريرة في الصحيحين والنسائي فهذا نصه: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر. ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وهو أعلم بهم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) ورواه البزار بلفظ: (إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم: ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) إلخ. فأنت ترى أنه لم يرد تفسيرًا للآية. ولا أدري أكذب عبد العزيز شاويش هذا الحديث وأنكر أن يكون في الملائكة حفظة يتعاقبون في المكلفين؟ أم أنكر أن يكون ذلك هو المراد من الآية؟ ظاهر عبارة السؤال: الأول، ولا يبعد ذلك على هذا الرجل فقد عُهد منه مثله، ولا عبرة بقوله، فلا هو من أهل العلم بالحديث رواية ولا دراية، ولا بغير الحديث من علوم الدين، ولكن له مشاركة في الفنون العربية وبعض العلوم العصرية، فتصدى بذلك للتشبه بالمصلحين الذين يجمعون بين الدين والعقل، فتجرأ على رد الأحاديث الصحيحة بغير علم. وقوله هو المردود. وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هو المقبول. ولعل ما ذكرناه يغني عن بقية مباحث السؤال اللفظية غير الواضحة.

السبي والرق في التوراة والإنجيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السبي والرق في التوراة والإنجيل (س21) من صاحب الإمضاء في الكويت. حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر. نرجو من فضلكم تبيين حكم السبي في الشرائع القديمة هل هو مشروع فيها أم لا؟ وهل له ذكر في هذه الأناجيل وهذه التوراة الموجودة في أيدي الناس اليوم إثباتًا أو نفيًا أم لا؟ وما هو أحسن جواب للمعترضين به على الدين الإسلامي بدعوى أنه من الهمجية أو أنه ينافي الإنسانية أو ما أشبه ذلك من العبارات. وكيل المنار سليمان العدساني (ج) يؤخذ من أسفار العهد القديم التي يسمونها التوراة أن السبي والرق كان مشروعًا على عهد الأنبياء السابقين إبراهيم صلى الله عليه وسلم فمن بعده (راجع سفر التكوين 14: 14) وأن شريعة موسى تقضي بأن يستأصل الإسرائيليون الأمم التي يغلبونها في الأرض المقدسة التي أُعْطوها فلا يُبقوا من أهلها صغيرًا ولا كبيرًا. وأن يسبوا مَن غلبوهم في غير تلك الأرض. وللسبايا والعبيد والإماء من العبرانيين وغيرهم أحكام متفرقة في سفر الخروج وسفر اللاويين وسفر التثنية. ومنها أنه شرع لهم تحرير العبراني دون الغريب، وكذلك يجب الرفق بالعبراني منهم دون غيره. ومن نصوص سفر اللاويين في ذلك ما جاء في الفصل الخامس عشر منها وهو مما ذكروه من كلام الرب لموسى بعد توصية الإسرائيلي بأخيه إذا بيع له لفقره قال: (44 وأما عبيدك وإماؤك الذين يكونون لك فمن الشعوب الذين حولكم، منهم تقتنون عبيدًا وإماءً 45 وأيضًا من المستوطنين النازلين عندكم. منهم تقتنون ومن عشائرهم الذين يلدونهم في أرضكم فيكونون ملكًا لكم 46 وتستملكونهم لأبنائكم من بعدكم ميراث ملك تستعبدونهم إلى الدهر. وأما إخوتكم بنو إسرائيل فلا يتسلط عليهم أحد بعنف) . والظاهر من هذه العبارة أنه لا يجوز عتق العبد الغريب عندهم، وأما العبراني فيعتق سنة اليوبيل عندهم إلا إذا أحب هو أن يبقى رقيقًا، فعند ذلك تثقب أذنه ويبقى عبدًا إلى الأبد. وأن لاستعباد العبراني عندهم ثلاثة أسباب: الفقر، والسرقة إذا لم يجد السارق قيمة المسروق، وبيع الوالد بنته لتكون سرية. فإذا تم للصهيونيين ما يريدون من امتلاك فلسطين وأقاموا شريعتهم فيها فإنهم يستأصلون أهلها ويستعبدون جميع من يقدرون على استعباده من جيرانهم إلى الأبد. ولا يرضون أن يكون لأحد معهم حق ولا ملك، دع الملك الذي صرح سفر التثنية فيه بأنه لا يحل للإسرائيلي أن يجعل عليه ملكًا أجنبيًّا ليس هو أخاه؛ (راجع 17: 13و15) . وفي الفصل العشرين من سفر التثنية ما نصه: (10 حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح 11 فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير والسبي ويستعبد لك 12 وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها 13 وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف 14 وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك وكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك 15 هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك فلا تَسْتَبْقِ منها نسمة ما) . تأملوا! تأملوا أيها المنصفون ما أشد ظلم الذين ينتقدون الإسلام وهم يدعون الإيمان بالتوراة! فالقرآن يأمر المسلمين إذا أثخنوا في مقاتليهم، وظهرت لهم الغلبة عليهم أن يكفوا عن القتل، ويكتفوا بالأسر، ثم شرع لهم في الأسرى أن يمنوا عليهم بالعتق فضلاً وإحسانًا، أو يفادوهم إن احتاجوا إلى ذلك، كما قال {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: 4) . وإذا تزوج الإسرائيلي امرأة من السبايا يشرع له أن يكرمها لإذلاله لها. كما في الفصل الحادي والعشرين من سفر التثنية، وهذا التكريم هو أن يتركها لنفسها إذا لم يُسَرّ بها ولا يبيعها ولا يسترقها. أما الإنجيل فقد أقر الإسرائيلين على الرق كما أقر الرومانيين ولم يأمر السادة بالعتق ولا بالرفق؛ بل أوصى العبيد بالخضوع والطاعة بغير شرط ولا قيد. ومن وصايا بطرس في رسالته الأولى: (أيها الخدام كونوا خاضعين بكل هيبة للسادة ليس للصالحين المترفقين فقط، بل للعنفاء أيضًا) إلخ. ومن وصايا بولس في رسالته إلى أهل أفسس (6: 5 أيها العبيد أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم للمسيح) وفي رسالته إلى أهل كولوسي (3: 22 أيها العبيد أطيعوا في كل شئ سادتكم حسب الجسد) . وقد شرحنا في عدة مجلدات من المنار عدل الإسلام ورحمته وحكمته في تخفيف وطأة الرق التي كانت عند جميع الأمم والملل وتمهيده السبيل إلى تحريره، فهو لم يوجب الاسترقاق كما كان يوجبه بعض الملل، ولكنه أباحه لأن المصلحة، قد تقتضيه حتى لمصلحة السبايا؛ إذ كانت طبيعة العمران - ولا تزال - في بعض البلاد على غير ما هي عليه الآن في ممالك الحضارة. فإذا قتل رجال قبيلة وبقي نساؤهم وأطفالهم ما كانوا يجدون من يكلفهم وينفق عليهم، ففي مثل هذه الحال قد يكون الاسترقاق خيرًا لهم، إذا كان كاسترقاق الإسلام يهدي إلى إطعام الأرقاء مما يأكل منه السادة وإلباسهم كما يلبسون وعدم تكليفهم ما لا يطيقون. وعدم إهانتهم حتى بالتعبير عنهم بلقب العبد والأَمة. وناهيك بما شرعه من الأسباب الموجبة لإعتاقهم. وقد فصّلنا ذلك في مواضع من مجلدات المنار كما قلنا آنفًا فراجع الفهارس تجد ذلك مفصلاً، وتجد حجة الإسلام قائمة على جميع الخلق ولا سيّما اليهود والنصارى منهم.

أقوال علماء القرن الثالث الأثبات في عقيدة السلف وإثبات الصفات ـ 1

الكاتب: الذهبي

_ أقوال علماء القرن الثالث الأثبات في عقيدة السلف وإثبات الصفات (1) لما ظهرت بدعة الجهمية في إنكار صفات الله عز وجل، وتأويل ما ورد منها في الكتاب والسنة - هَبَّ حفظة الدين وحملته من التابعين ومن بعدهم للرد عليهم، وتفنيد تأويلاتهم، والاستمساك بعروة النقل، حذرًا من تحريفها بنظريات العقل، التي ينخدع بها بعض القاصرين، توهمًا أنها من قطعيات البراهين، وإننا ننقل من كتاب العلو للذهبي (الذي يطبع في مطبعة المنار) بعض أقوال الأئمة المتبوعين، الذين جهل أقوالهم من يجلهم من المعاصرين، ولكن الذهبي ينقل في هذا الكتاب ما صح وما لم يصح، ويشير إلى ضعف الرواية الضعيفة أو نكارتها غالبًا على أن من غلاة الأثريين من يقبل كل ما روي في ذلك، قال: ... ... طبقة الشافعي وأحمد رضي الله عنهما روى شيخ الإسلام أبو الحسن الهكاري والحافظ أبو محمد المقدسي بإسنادهم إلى أبي ثور وأبي شعيب، كلاهما عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي ناصر الحديث - رحمه الله - قال: القول في السنة التي أنا عليها، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل سفيان ومالك وغيرهما: إقرار بشهادة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وأن الله على عرشه في سمائه، يقرب من خلقه كيف شاء، وينزل إلى السماء الدنيا كيف شاء. وذكر سائر الاعتقاد. وبإسناد لا أعرفه عن الحسين بن هشام البلدي قال: هذه وصية الشافعي، أنه يشهد أن لا إله إلا الله. فذكر الوصية بطولها، وفيها: القرآن غير مخلوق، وأن الله يُرى في الآخرة عيانًا ويسمعون كلامه، وأنه تعالى فوق العرش. إسنادهما واهٍ. قال الحاكم: سمعت الأصم يقول، سمعت الربيع، سمعت الشافعي وقد روى حديثًا فقال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال: إذا رويت حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. *** ابن خزيمة وعدة سمعت يونس يقول قال الشافعي: لا يقال للأصل لم ولا كيف. أبو ثور وغيره قالا: سمعنا الشافعي يقول: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح. وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: المراء في الدين يقسي القلب ويورث الضغائن. وعن يونس بن عبد الأعلى: سمعت الشافعي يقول: لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحدًا قامت عليه الحجة ردها. قال ابن أبي حاتم: سمعت الربيع بن سليمان، يقول: سمعت الشافعي يقول: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة؛ لأن اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة وبالصفا والمروة فليس عليه كفارة لأنها مخلوقة. (قلت) : تواتر عن الشافعي ذم الكلام وأهله، وكان شديد الاتباع للآثار في الأصول والفروع. مات في رجب سنة أربع ومائتين بمصر كهلاً، عاش أربعًا وخمسين سنة. *** القعنبي ذاك الإمام قال بنان بن أحمد: كنا عند القعنبي - رحمه الله - فسمع رجلاً من الجهمية يقول {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال القعنبي: من لا يوقن أن الرحمن على العرش استوى كما يقر في قلوب العامة فهو جهمي. أخرجها عبد العزيز القحيطي في تصانيفه. والمراد بالعامة عامة أهل العلم، كما بيناه في ترجمة يزيد بن هارون إمام أهل واسط. ولقد كان القعنبي من أئمة الهدى، حتى لقد تغالى فيه بعض الحفاظ وفضله على مالك الإمام، توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين عن بضع وثمانين سنة، وهو أكبر شيخ لمسلم مطلقًا. *** عفان أحد أعلام السنة قال ابن أبي حاتم: ثنا يحيى بن زكريا بن عيسى: حدثني يحيى بن أبي بكر السمسار، سمعت عفان بن مسلم بعد ما جاء من دار إسحاق بن إبراهيم لما امتحنه في القرآن فقال: إنه كتب إليّ أن أدرّ أرزاقك إن أجبت إلى خلق القرآن. فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ} (الفتح: 15) {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (البقرة: 256) {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) أمخلوق هذا؟ أدركت شعبة وحماد بن سلمة وأصحاب الحسن يقولون: القرآن كلام الله ليس مخلوقًا. قال: إذًا تقطع أرزاقك. قلت: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون َ} (الذاريات: 22) قيل: كان رزقه في الشهر ألف درهم فترك ذلك لله عز وجل، توفي سنة تسع عشرة ومائتين. *** عاصم بن علي شيخ البخاري روينا عن عاصم بن علي بن عاصم الواسطي قال: ناظرت جهمًا فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء ربًّا. قلت: كان عاصم حافظًا من أوعية العلم صادقًا، حمل عن شعبة وابن أبي ذئب وخَلق. ذكر الخطيب في ترجمته أن المعتصم وجه من يحزر مجلس عاصم هذا في رحبة جامع الرصافة، وكان يجلس على سطح الرحبة ويجلس الخلق في الرحبة وما يليها، فعظم الجمع مرة حتى قل أربع عشرة مرة. ثنا الليث بن سعد، والناس لا يسمعون لكثرتهم وكان المستملي هارون يركب نخلة يستملي عليها، فحزروا الجمع فكان عشرين ومائة ألف. وقال يحيى بن معين: عاصم بن علي سيد المسلمين. قلت: مات مع القعنبي في سنة (أي سنة 221) . *** الحميدي أخبرنا إسماعيل بن عبد الرحمن المعدل أنبأ عبد الله بن أحمد الفقيه سنة سبع عشرة وستمائة أنبأ سعد الله بن نصر أنبأ أبو منصور الخياط أنبأ عبد الغفار بن محمد أنبأ أبو علي الصواف أنبأ بشر بن موسي الحميدي قال: أصول السنة عندنا ... فذكر أشياء، ثم قال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} (المائدة: 64) ومثل قوله {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نزيد فيه ولا نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ومن زعم غير هذا فهو مبطل جهمي. كان العلامة أبو بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي الحميدي مفتي أهل مكة وعالمهم بعد شيخه سفيان بن عيينة، حدث عنه البخاري والكبار. مات سنة تسع عشرة ومائتين. *** عالم المشرق يحيى بن يحيى النيسابوري قال ابن منده: أنبأ محمد بن يعقوب الشيباني ثنا محمد بن عمرو بن النضر ثنا يحيى بن يحيى قال: كنت عند مالك فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فأطرق ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال ابن أبي حاتم: سمعت مسلم بن الحجاج: سمعت يحيى بن يحيى يقول: من زعم أن من القرآن من أوله إلى آخره آية منه مخلوقة فهو كافر. كان يحيى بن يحيى إليه المنتهى في الإتقان والورع والجلالة بنيسابور، قل أن ترى العيون مثله، حمل عن مالك وخارجة بن مصعب والكبار، ومات سنة ست وعشرين ومائتين. *** عالم الري هشام بن عبيد الله الرازي قال ابن أبي حاتم: ثنا علي بن الحسن بن يزيد السلمي سمعت أبي يقول: سمعت هشام بن عبيد الله الرازي - وحبس رجلاً في التجهم فجيء به إليه ليمتحنه - فقال له: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: لا أدري ما بائن من خلقه، فقال: ردوه فإنه لم يتب بعد. كان هشام بن عبد الله من أئمة الفقه على مذهب أبي حنيفة، تفقه على محمد ابن الحسن، كان ذا جلالة عجيبة وحرمة عظيمة ببلده، توفي سنة إحدى وعشرين ومائتين. ابن أبي حاتم: حدثنا أبو هارون محمد بن خلف الجزار: سمعت هشام بن عبيد الله يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق: قال له رجل: أليس الله تعالى يقول: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: 2) ؟ فقال: محدث إلينا وليس عند الله بمحدث. قلت:لأنه من علمه وعلمه قديم فعلم عباده منه. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: 1-2) فالمقري يلقن الختمة مائة نفس ومائتين فيحفظونه وهو لا ينفصل عنه منه شيء، كسراج أوقدت منه سرجًا ولم يتغير. *** فقيه المدينة عبد الملك بن الماجشون قال ابن أبي حاتم: ثنا يحيى بن زكريا بن عيسى ثنا هرون بن موسى الفروي قال: ما سمعت الكلام في القرآن إلا سنة تسع ومائتين، جاء نفر إلى عبد الملك بن الماجشون وكلموه فأنكر ذلك عليهم، فكان في بعض ما كلمهم به أن قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) أهذا مخلوق؟ ثم قال: لو أخذت بشرًا المريسي لضربت عنقه. كان عبد الملك من أَجَلِّ تلامذة مالك، وكان أبوه عبد العزيز بن الماجشون يفتي مع مالك في دولة المهدي، توفي عبد الملك في سنة أربع عشرة ومائتين. (المنار) سننشر طائفة أخرى من نقول هذا الكتاب، ونبين أن مذهب السلف هو الموافق للعقل السليم دون مذهب الجهمية. ((يتبع بمقال تالٍ))

الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الطامة الصغرى أو الحرب الكبرى {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} (الأنعام: 65) [. {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وإنه ليبغي أن رآه اعتز واستعلى، وإن مدّ الطغيان لإلى جزر، وإن غناه لإلى فقر، وإن البغي مصرعه وخيم، وإن علوّ الجبارين لإلى هبوط ذميم. كانت المسألة الشرقية فزّاعة أوربا إذا فزعت من سوء العواقب، ومشأمتها إذا تطيرت من أمارات النوائب، وكانت ترى أن مشكلتها أعقد من ذَنَب الضَّب، وأن حلها أعسر من تربيع الدائرة. وقد أنذرها داهية ساستها (البرنس بسمارك) بأن شرارة واحدة من نار حرب بلقانية تكفي لإحراق ممالك أوربة كلها، ولكنهم تماروا بالنذر، وغرهم ما كانوا يسمونه التوازن الأوربي بين وفاق مثلث وحلاف مثلث. وألفت دولة الروسية بين المختلفين من الدول البلقانية، فجعلت البلغار واليونان والصرب والجبل الأسود إلبًا واحدًا على الدولة العثمانية. بعد أن أغارت إيطاليا على مملكة كبيرة من ممالكها وهي طرابلس الغرب وبرقة. ثم سمحت الدول الكبرى كلها للبلقانيين بقتال الدولة العثمانية، ولكنهن صرحن بأنهن لا يسمحن بتغييرٍ ما في خريتة البلقان؛ لأن التنازع على تلك الأرض مثار البغي والعدوان، فاشتعلت نيران الحرب، وأظهر البلقانيون فيها من القسوة والوحشية والفظائع والفواحش ما لا مزيد عليه، ولم ينبض في قلوب رجال الدول الكبرى عِرق من عروق الرأفة والرحمة، ولا احتج أحد منهم على تلك المذابح والفظائع بكلمة، وإنما كان همهم محصورًا في حصر الحرب في البلقان، ومنع شررها أن يصل إلى ممالكهم الكبار. ثم شرع البلقانيون في قسمة ما استولوا عليه من البلاد العثمانية، فسمحت لهم الدول بذلك متناسية وعدها بعدم السماح. فوقع بينهم التنازع والتقاطع، وحل الخلاف محل الحلاف، ولم يُرضهم ما حكم به في القسمة مؤتمر السفراء، فأوقدوا نار القتال بينهم، ونقضوا ما أبرمته الدول لهم. ثم دخلت رومانية في الأمر معهم، وضربت من الغنيمة بسهم، وكانت القسمة ضئزى، غبن بها البلغار، وكان القدح المعلى لليونان، واغترّت الصرب أي اغترار، وكانت النمسة مسعر نار الفتنة بينهن، لتأمن مغبة اغترار الروسية بهن. وقعت الواقعة، وفتح باب المسألة الشرقية، وسوَّل الغرور للدول الكبرى عملها، وظنت أن ساستها قدروا بدهائهم على حصر نيرانها في مواقدها، ومنع شررها أن يتعدى إلى ما حولها، وأن أوربة المملوءة من البارود والديناميت، أمنت أن تصيبها الشرارة التي أنذرها بسمرك فيعمها الحريق. ونسوا عدل الله العام في جميع الأمم والأقوام، وأنه يعاقب المقر للشر كمجترحه، ويجزى الساعي بالخير كفاعله {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} (الزمر: 47) . غرَّ الصرب ما أوتيت من نصر ومن سعة في الملك، ومن عود الصربيين العثمانيين إليها، فطمعت في صرب النمسويين وفيما يسكنونه من البلاد أيضًا، فزادت جمعياتها السرية الساعية إلى ذلك جرأة وإقدامًا، حتى اغتال بعض الفدائيين منهم ولي عهد النمسة وقرينته في 28 يونيو الماضي، في مدينة بوسنة سراي عاصمة البوسنة عند زيارتهما لها. وقد ثبت لدى حكومة النمسا والمجر أن هذه الجناية كانت إثر مكيدة دبرت في بلغراد عاصمة الصرب. وأن بعض الضباط وعمال الحكومة من الصربيين هم الذين أعطوا الجناة ما كان معهم من السلاح والقذائف النارية، وكلهم من جمعية صربية ثورية. فأرسلت حكومة النمسة والمجر بلاغ تهديد وإنذار لحكومة الصرب اشتمل على ما يرهقها ويذلها. فما كلفتها إياه تصريحًا أو ضمنًا أن تعترف باشتراك بعض ضباطها وموظفيها في جناية قتل ولي العهد وزوجه، وتتبرأ من عملهم وتصرح بالأسف لوقوعه، وأن تنشر الاعتراف والبراءة في جريدتها الرسمية وجريدتها العسكرية، وأن تتبرأ من أعمال الجمعيات الصربية المحرضة على عداوة النمسة، وأن تحل جمعية (نارونا) أو (إبرانا) وأن تضبط جميع المطبوعات الصربية المشتملة على التحريض على النمسة والتنفير منها لهذا الجمعية ولغيرها، وأن تعزل جميع الضباط والمستخدمين الذين تثبت لدى حكومة النمسة تهمة تحريضهم على عداوتها - وأن تعاقب الشركاء في جناية اغتيال ولي العهد من الصربيين المقيمين في بلادهم، ومنهم بعض الضباط والموظفين المعينين بأسمائهم، ومنها أن تحذف من كتب التعليم كل ما يعد دعوة إلى معاداة النمسة، وتعزل المعلمين الذين يبثّون هذه الدعوة، ومنها أن تمنع تهريب السلاح والمواد المفرقعة إلى ما وراء الحدود، ومنها أن تقبل من تندبهم حكومة النمسة لمساعدة حكومة الصرب على تنفيذ هذه الاقتراحات. كتب إنذار النمسة في 23 يوليو الماضي، وكلفت الصرب أن تجيب عنه في مدة 48 ساعة. أما الصرب فلم تقبل مطالب النمسة، وبلغت الدول الإنذار وطلبت منها التوسط في الأمر، وأما الدول فقد اختلف رأيهم: فروسيّة عدَّت بلاغ النمسا وسيلة منها إلى قتال الصرب وإذلالها، وصرّحت بأنها لا تسكت على ذلك، وبادرت إلى مذاكرة فرنسا وإنكلترا ومطالبتهما بالاتحاد معها على الحرب والقتال، فأسرعت فرنسا إلى وعدها بالقيام بجميع عهودها التي تفرضها عليها المحالفة. ولكن إنكلترا ترددت في الأمر، ولم تعد بالمساعدة على الحرب، وطفقت تخاطب سفراءها بلسان البرق، مجتهدة في رتق الفتق. وأما ألمانيا فقد أظهرت العطف على حليفتها وارتأت وجوب حصر الخلاف بين النمسة والصرب دون سواهما، حتى لا يتعدى لهيب النار إلى أوربة كلها، وتبادل عاهل الألمان وقيصر الروس البرقيات في وجوب صيانة السلم في أوربا، وصرّح الأول للثاني بأن ذلك موقوف على عدم تصدي روسيا للاستعداد للحرب؛ ولكن روسيا بادرت إلى تعبئة جيشها تعبئة عامة، وبلغ ناظر خارجيتها سفير إنكلترة أن عند حكومته براهين قاطعة على أن ألمانيا تستعد برًّا وبحرًا لمهاجمتها. فروسيا بدأت بالتعبئة جهرًا، متهمة ألمانيا بأنها تستعد سرًّا، وأنها لا تدعها تسبقها في الاستعداد. والمتبادر مما دار بين الدول في هذه المسألة أن ما كانوا يقولونه ويكتبونه كان له ظاهر وباطن، والظاهر منه أن إنكلترة وفرنسة كانتا حريصتين على منع الحرب الأوربية؛ ولكن روسيا وألمانيا لم تدعا لهما طريقًا يسلكانه لذلك. ففي 21 يوليو قر قرار الروسية على التعبئة العامة رسميًّا، وألمانيا وفرنسا أمرتا بذلك في أول أغسطس. وأعلنت ألمانيا الحرب على روسيا في 2 منه بناءً على اجتياز بعض الجنود الروسية للحدود، وتتايعت [1] سائر الدول الكبرى على الحرب ماعدا إيطاليا فإنها لزمت الحياد. نعم إن وراء الأسباب الرسمية للحرب أسبابًا أخرى تقدمتها ترجع إلى أصل واحد في السياسية، وهو تعارض الدول الكبرى في المصالح والمنافع والسيادة والعظمة في الأرض، فروسيا ترمي إلى أن تكون ذات السيادة العليا بضم عصبية الشعوب السلافية في البلقان والنمسة إليها، والتوسل بذلك إلى النفوذ من زقاقي الآستانة (البوسفور والدردنيل) إلى البحر الأبيض المتوسط، الذي هو بين أوربة وآسية وإفريقية بمنزلة القلب من جسد الإنسان. وألمانيا تود أن تكون ذات السيادة العليا في أوربة كلها؛ بل في العالم كله، بالجمع بين القوتين البرية والبحرية على أكمل ما يصل إليه ارتقاء العلوم الطبيعية، والفنون الآلية. وكانت إنكلترة قد سبقت الدول كلها بالقوة البحرية التي جعلت لها السيادة العليا في الاستعمار، فهي ترى أنه يجب عليها أن تحافظ على ما آتاها الله بجدها وتدبيرها، فكانت كلّما رأت ألمانيا أنشأت بارجة حربية تنشئ بارجتين مثلها؛ لأنها إذا لم تفعل ذلك لا تلبث أن تسلبها ألمانيا ملكها. وأما فرنسا فهي على ما كان لها من السبق في الفنون والأعمال الحربية، من برية وبحرية، لم تكن هذا في العهد الذي عظمت فيه المباراة بين إنكلترا وألمانيا، مجتهدة في الاستعداد للحرب الأوربية بحسب ما تخولها ثروتها ومعارفها؛ بل اكتفت من العظمة بتوسيع مساحة مستعمراتها، بالاستيلاء على مملكة المغرب الأقصي بعد إضعافها بإيقاع الفتن والحروب الداخلية فيها. وانصرفت إلى التمتع بسعة الثروة ونعمة الحضارة، واكتفت من اتقاء زحف ألمانيا عليها بتحصين حدودها، وبمحالفة روسيا ثم مودة إنكلترا لها، فكانت تمد روسيا بالقناطير المقنطرة من الذهب وتغريها بما يوافق هواها من الاستعداد للحرب، وتوغر صدرها وتستثير دفين حقدها، وتستخرج كمين ضغنها على النمسا وألمانيا معًا. وكان من سياستها أن تعطي روسيا المال الذي تقتضي الحال إنفاقه على الاستعداد الحربي مباراة لألمانيا، فتستفيد بذلك فائدتين: استغلال المال بدلاً من إضاعته في زيادة أُهبة الحرب، وإعداد جند غريب للدفاع عن فرنسا بدلاً من تعريض معظم شبابها للقتل، مع ما منيث به من قلة النسل؛ ولكن إنكلترا حملتها بعد الاتفاق معها على تعزيز قوتها البحرية، كما حملت هي روسيا على زيادة العناية بجميع المعدات الحربية. بذلك كله أصبحت هذه الدول العريقة في العلم والصناعة والثروة والحضارة، تنفق مئات الملايين ممّا تمصه من ثروة البشر وثمرات كسبهم، على الاستعداد لإراقة دمائهم، وتدمير حضارتهم، وكلها مشتركة في هذا الوزر الكبير، ومُصرة على هذا الحنث العظيم، الذي لا باعث له إلا الطمع في الكسب، وحب العلو في الأرض وإن كانت تموهه بدعوى تأييد السلم بالاستعداد للحرب، وعدم استعمال هذا السلاح في غير المتوحشين، الذين تريد تهذيبهم بالمدنية والدين!! وإنما تراهم يخصون ألمانيا أو عاهلها غليوم الثاني بمزيد الذم، ويرمونه بتعمده إغراق أوربة في بحر من الدم؛ لأن أمته قد صارت بسعيه أشد أمم الأرض عناية بالفنون والأعمال العسكرية، واستعدادًا للحروب البرية والبحرية، حتى اضطرت سائر الدول اضطرارًا لمجاراتها في ذلك، فإذا كانت ألمانيا لم ترض من الدول التي سبقتها إلى الاستعمار بمساواتهن لها في حرية التجارة والكسب في بلادهن ومستعمراتهن، ولا بما بَذَّتْهُنَّ به من النماء النسبي في تجارتها وصناعتها فقامت تستعد لسلبهن ما في أيديهن، أو الاستعلاء عليهن، فكيف يرضين بأن يعرضن ملكهن للضياع والخضوع لقوة الشعب الجرماني العسكرية القاهرة؟ هذه حجة الأمم الأوربية على ألمانيا التي أرادت أن تعامل الدول التي جارتها أو سبقتها بالحضارة، بمثل ما عاملن به الأمم التي غلب عليها الجهل والبداوة، وهي السيادة بقوة العلم والصناعة. على أن الجرائد المصرية الرئيسة كالمقطم والأهرام نقلت لنا عن لندن وباريس وبطرسبرج أن جميع الشعوب تلقت نبأ إعلان الحرب بالسرور والابتهاج، والهتاف في الشوارع والأسواق؛ واستثنوا الشعب الألماني فزعموا أنه كاره للحرب، مسوق إليها بتأثير العاهل غليوم الثاني والحزب العسكري. فإن صح قولهم هذا - ولن يصح - فهو فضيلة لهذا الشعب على سائر الشعوب الأوربية. ولكنهم أرادوا أن يهونوا أمره، ويبالغوا في ذم عاهله، فمدحوه بغير قصد، وسيرجعون عن هذا المدح. حسبنا هذه الجملة الوجيزة من بيان أسباب هذه الحرب ومقدماتها، ونختم الم

من كتاب الاعتصام في الابتداع

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

_ من كتاب الاعتصام في الابتداع هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية؟ الباب السابع [*] قد تقدم في حد البدعة ما يقتضي الخلاف فيه: هل يدخل في الأمور العادية أم لا؟ أما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها، وهي عامة الباب؛ إذ الأمور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية، وإما أعمال جوارح من قول أو فعل، وكلا القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة، والخوارج والمعتزلة، وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه. وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في تقسيم البدع، كالمكوس والمحدثة من الظالم، وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية، وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة، وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة، واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان، ولبس الطيالس، وتوسيع الأكمام، وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح، فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها، وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع، وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة، وهذا من الأدلة الدالة على ما قلنا، وإليه مال القرافي وشيخه ابن عبد السلام، وذهب إليه بعض السلف. فروى أبو نعيم الحافظ عن محمد بن أسلم أنه ولد له ولد، قال محمد بن القاسم الطوسي: فقال: اشتر لي كبشين عظيمين، ودفع إليّ دراهم، فاشتريت له وأعطاني عشرة أخرى، وقال لي: اشتر بها دقيقًا ولا تنخله واخبزه. قال: فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به، فقال: نخلت هذا؟ وأعطاني عشرة أخرى وقال: اشتر به دقيقًا ولا تنخله واخبزه. فخبزته وحملته إليه، فقال لي: يا أبا عبد الله! العقيقة سنة، ونخل الدقيق بدعة، ولا ينبغي أن يكون في السنة بدعة، ولم أحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة. ومحمد بن أسلم هذا هو الذي فسر به الحديث إسحاق بن راهويه حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه السلام: (عليكم بالسواد الأعظم) فقال: محمد وأصحابه. حسبما يأتي - إن شاءالله - في موضعه من هذا الكتاب. وأيضًا فإن تصور في العبادات، وقوع الابتداع وقع في العادات؛ لأنه لا فرق بينهما، فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية، فكلاهما مشروع من قبل الشارع: فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر. ووجه ثالث وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي خارجة عن سنته، فتدخل فيما تقدم تمثيله؛ لأنها من جنس واحد. ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:: (إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها، قال فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدّوا إليهم حقهم وسلوا حقكم) وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كره من أميره شيئًا فليصبر، وفي رواية: (مَن رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإنه من فارق الجماعة شبرًا فمات مات ميتة جاهلية) . وفي الصحيح أيضًا: (إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتقارب الزمان، ويقبض العلم، ويلقى الشح، [1] وتظهر الفتن، ويكثر الهرج. قال: يارسول الله أيما هو؟ قال: القتل القتل) وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي لأيامًا [2] ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرْج) . والهرج القتل. وعن حذيفة رضي الله عنه. قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها ثم قال: (ينام [الرجل] النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الولث [3] ثم ينام النومة فتقبض، فيبقى أثرها مثل أثر المحل كجمر دحرجته على رجلك فنفص فتراه ينتثر وليس فيه شيء، ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة. فيقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا. ويقال للرجل: ما أعقله! وما أظرفه! وما أجلده! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) الحديث. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول، وحتى يقبض العلم، ثم قال: وحتى يتطاول الناس في البنيان) إلى آخر الحديث. وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) . ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: (بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا يبيع دينه بعرض الدنيا) وفسّر ذلك الحسن قال: يصبح محرمًا لدم أخيه وعرضه وماله، ويمسي مستحلاًّ له. كأنه تأوله على الحديث الآخر: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) والله أعلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا ويشرب الخمر، ويكثر النساء، ويقل الرجال، حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد) . ومن غريب حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء، قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: إذا صار المغنم دولاً، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته وعقّ أمه، وبرّ صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرِم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القيّان والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء، وزلزلة وخسفًا، أو مسخًا وقذفًا) . وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قريب من هذا وفيه (ساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم) وفيه: ظهرت القيان والمعازف، وفي آخره (فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع) . فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو في الحقيقة تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها، فلما عرضوا منها غيرها، وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعًا كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين في العبادات. والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع [4] الأولون. في الجملة، ومخالفات المشروع، كالمكوس والمظالم، وتقديم الجهال على العلماء، وغير ذلك، والمباح منها كالمناخل إن فرض مكروهًا - كما أشار إليه محمد بن أسلم - فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات، إذ في الأثر: أول ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المناخل - أو كما قال - فأخذ بظاهره من أخذ به كمحمد بن أسلم، وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته قوله تعالى {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} (الأحقاف: 20) الآية [5] لا من جهة أنه بدعة. وقولهم: كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات - مسلم، وليس كلامنا في الجواز العقلي، وإنما الكلام في الوقوع، وفيه النزاع. وأما ما احتجوا به من الأحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد، إذ لم ينص على أنها بدع أو محدثات أو ما يشير إلى ذلك المعني، وأيضًا إن عدوا كل محدث العادات بدعة، فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعًا، وهذا شنيع، فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والاسم، فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم، هذا من المستنكر جدًّا، نعم لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين الجارية على مقتضى الكتاب والسنة. وأيضًا فقد يكون التزام [6] الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبًا ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والبقاع والأحوال، والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثَمَّ معارض. وإنما جعل الشارع ما تقدم في الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها بالنسبة إلى ما تقدم ليفعلها فإن الخير كان أظهر، والشر كان أخفى وأقل، بخلاف آخر الزمان فإن الأمر فيه على العكس، والشر فيه أظهر والخير أخفى. وأما كون تلك الأشياء بدعًا فغير مفهوم على الطريقتين في حد البدعة، فراجع النظر فيه تجده كذلك. والصواب في المسئلة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين، وتحقق المقصود في الطريقتين، وهو الذي بني عليه ترجمة هذا الباب، فلنفرده في فصل على حدته والله الموافق للصواب. *** فصل أفعال المكلفين بحسب النظر الشرعي فيها على ضربين: أحدهما أن تكون من قبيل التعبدات، والثاني أن تكون من قبيل العادات، فأما الأول فلا نظر فيه هاهنا. وأما الثاني وهو العادي، فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها، فمنهم من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعباديات، فكما أنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها، فكذلك العاديات، وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم، حيث كره في سنة العقيقة مخالفة مَن قبله في أمر عادي، وهو استعمال المناخل، مع العلم بأنه معقول المعنى، نظرًا منه - والله أعلم - إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم غلب عليه جهة التعبد، يظهر أيضًا من كلام مَن قال: أول ما أحدث الناس بعد رسول الله صلى الله وعليه وسلم المناخل. ويحكى عن الربيع بن أبي راشد أنه قال: لولا أني أخاف مَن كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت. والسكنى [7] عادي بلا إشكال. وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلاً في قسم العباديات، فدخول الابتداع فيه ظاهر. والأكثرون على خلاف هذا، وعليه نبني الكلام فنقول: ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد؛ لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تبعدي، والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي؛ لأن أحكامها معقولة المعنى، ولا بد فيها من التعبد؛ إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها، كانت اقتضاء أو تخييرًا، فإن التخيير في التعبدات إلزام، كما أن الاقتضاء إلزام - حسبما تقرر برهانه في كتاب الموافقات - وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد، فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه، صحَّ دخوله في العاديات كالعباديات، وإلا فلا. وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبين ذلك بالأمثلة، فما أتى به القرافي [8] وضع المكوس في معاملات الناس، فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات - وقتًا ما أو في حالة ما - لنيل حطام الدنيا، على هيئة غصب الغاصب، وسرقة السارق، وقطع القاطع للطريق، وما أشبه ذلك. أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر ال

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ الأدب وكلام الصوفية فيه [*] فصل وأما الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فالقرآن مملوء به، فرأس الأدب معه كمال التسليم له والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكًّا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم، وإلا حرّفه عن مواضعه وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً فقال: نؤوّله ونحمله، فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق ما خلا الشرك، خير له من أن يلقاه بهذا الحال. ولقد خاطبت يومًا بعض أكابر هؤلاء فقلت له: سألتك بالله لو قدّر أن الرسول صلى الله عليه وسلم حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه أكان فرضًا علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه؟ أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟ فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنّا؟ وبأي شيء نُسِخ؟ فوضع أصبعه على فيه وبقي باهتًا متحيّرًا وما نطق بكلمة. هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به، ورفع الأصوات وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم، وعزل كلامه عن اليقين، وأن يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه؛ بل المعمول في باب معرفة الله على العقول المنهوكة المتحيرة المتناقضة، وفي الأحكام على تقليد الرجال وآرائها. والقرآن والسنة إنما نقرأهما تبركًا، لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه. ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ * حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ * أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ * وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ * أَمْ تَسأَلهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوَهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (المؤمنون : 63-74) . والناصح لنفسه العامل على نجاتها، يتدبر هذه الآيات حق تدبرها، ويتأملها حق تأملها، وينزلها على الواقع يرى العجب، ولا يظنها اختُصت بقوم كانوا فبانوا (فالحديث لك واسمعي يا جارة) والله المستعان. ومن الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الحجرات: 1) وهذا باقٍ إلى يوم القيامة ولم يُنسخ. فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته، كالتقدم بين يديه في حياته، لا فرق بينهما عند ذي عقل سليم. قال مجاهد - رحمه الله -: لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه. وقال الضحاك: لا تقضوا أمرًا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو عبيدة: تقول العرب لا تقدم بين يدي الإمام وبين يدي الأب. أي: لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه. وقال غيره: لا تأمروا حتى يأمر ولا تنهوا حتى ينهي. ومن الأدب معه أن لا تُرفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به؟ أترى ذلك موجبًا لقبول الأعمال، ورفع الصوت فوق صوته موجب لحبوطها؟ ومن الأدب معه أن لا يُجعل دعاؤه كدعاء غيره، قال تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً} (النور: 63) وفيه قولان للمفسرين: (أحدهما) : أنكم لا تدعونه باسمه كما يدعو بعضكم بعضًا؛ بل قولوا: يارسول الله! يا نبي الله! فعلى هذا: المصدر مضاف إلى المفعول، أي دعاءكم الرسول. (الثاني) أن المعنى: لا تجعلوا دعاءه لكم بمنزلة دعاء بعضكم بعضًا إن شاء أجاب وإن شاء ترك؛ بل إذا دعاكم لم يكن لكم بد مِن إجابته، ولم يسعكم التخلف عنها ألبتة. فعلى هذا: المصدر مضاف إلى الفاعل، أي: دعاءه إياكم. ومن الأدب أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع من خطبة أو جهاد أو رباط لم يذهب أحد مذهبًا في حاجته حتى يستأذنه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} (النور: 62) فإذا كان هذا مذهبًا مقيدًا بحاجة عارضة لم يوسع لهم فيه إلا بإذنه، فكيف بمذهب مطلق في تفاصيل الدين: أصوله وفروعه دقيقه وجليله؟ هل يشرع الذهاب إليه بدون استئذانه؟ {فَاسْأََلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) . ومن الأدب معه أن لا يستشكل قوله؛ بل تُستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس؛ بل تهدر الأقيسه وتلقى [1] لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول. ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد، فكل هذا من قلة الأدب معه صلى الله عليه وسلم، وهو عين الجرأة. *** فصل وأما الأدب مع الخلق فهو معاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم، فلكل مرتبة أدب، والمراتب فيها أدب خاص، فمع الوالدين أدب خاص، وللأب منهم أدب هو أخص به، ومع العالم أدب آخر، ومع السلطان أدب يليق به، وله مع الأقران أدب يليق بهم، ومع الأجانب أدب غير أدبه مع أصحابه وذوي أنسه، ومع الضيف أدب غير أدبه مع أهل بيته. ولكل حال أدب: فللأكل آداب وللشرب آداب، وللركوب والدخول والسفر والإقامة والنوم آداب، وللبول آداب، وللكلام آداب، وللسكوت والاستماع آداب. وأدب المرء عنوان سعادته وفلاحه، وقلة أدبه عنوان شقاوته وبواره، فما استُجلب خير الدنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استُجلب حرمانهم بمثل قلة الأدب. فانظر إلى الأدب مع الوالدين كيف نجى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليه الصخرة، والإخلال به مع الأم تأوُّلاً وإقبالاً على الصلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته، وضرب الناس له ورميه بالفاحشة، وتأمل أحوال كل شقي ومغتر ومدبر كيف تجد قلة الأدب هو الذي ساقه إلى الحرمان، وانظر قلة أدب عوف مع خالد كيف حرمه السلب بعد أن برد بيديه، وانظر أدب الصديق - رضي الله عنه - مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة أن يتقدم بين يديه فقال: ما كان ينبغي لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف أورثه مقامه والإمامة بالأمة بعده، فكان ذلك التأخر إلى خلفه - وقد أومأ إليه أن اثبت مكانك - جمزًا لا سعيًا إلى قدام، بكل خطوة إلى وراء مراحل إلى قدام تنقطع فيها أعناق المطي. والله أعلم. *** فصل قال صاحب المنازل: (الأدب حفظ الحد بين الغلو والجفاء بمعرفة ضرر العدوان) هذا من أحسن الحدود. فإن الانحراف إلى طرفي الغلو والجفاء هو قلة الأدب، والأدب: الوقوف في الوسط بين الطرفين، فلا يقصر بحدود الشرع عن تمامها ولا يتجاوز بها ما جعلت حدودًا له، فكلاهما عدوان والله لا يحب المعتدين، والعدوان هو سوء الأدب، وقال بعض السلف: دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، فإضاعة الأدب بالجفاء كمن لم يكمل أعضاء الوضوء ولم يوف الصلاة آدابها التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها، وهي قريب من مئة أدب ما بين واجب ومستحب. وإضاعته بالغلو كالوسوسة في عقد النية ورفع الصوت بها، والجهر بالأذكار والدعوات التي شرعت سرًّا، وتطويل ما السنة تخفيفه وحذفه، كالتشهد الأول والسلام الذي حذفه سنة. وزيادة التطويل على ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا على ما يظنه سرّاق الصلاة والنقّارون لها ويشتهونه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليأمر بأمر ويخالفه، وقد صانه الله من ذلك وكان يأمرهم بالتخفيف ويؤمهم بالصافات، ويأمرهم بالتخفيف وتقام صلاة الظهر فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ويأتي أهله ويتوضأ ويدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى. فهذا هو التخفيف الذي أمر به، لا نَقر الصلاة وسرَقها، فإن ذلك اختصار - بل اقتصار - على ما يقع عليه الاسم ويسمى به مصليًا. وهو كأكل المضطر في المخمصة ما يسد به رمقه، فليته شبع على القول الآخر. وهو كجائع قدم إليه طعام لذيذ جدًّا فأكل منه لقمة أو لقمتين فماذا يغنيان عنه؟ ولكن لو أحسن مجموعة لما قام عن الطعام حتى يشبع منه وهو يقدر على ذلك، لكن القلب شبعان من شيء آخر. ومثال هذا التوسط في حق الأنبياء - عليهم السلام - أن لا يغلو فيهم كما غلت النصارى في المسيح، ولا يجفو عنهم كما جفت فيهم اليهود، فالنصارى عبدوهم واليهود قتلوهم وكذبوهم، والأمة الوسط آمنوا بهم وعزّروهم ونصروهم واتبعوا ما جاؤوا به. ومثال ذلك في حقوق الخلق أن لا يفرط في القيام بحقوقهم، ولا يستغرق فيها بحيث يشتغل بها عن حقوق الله أو عن تكميلها أو عن مصلحة دينه وقلبه، وأن لا يجفو عنها حتى يعطلها بالكلية، فإن الطرفين من العدوان الضار، وعلى هذا الحد فحقيقة الأدب هو العدل، والله أعلم. *** فصل قال: (وهو على ثلاث درجات، الدرجة الأولى منع الخوف أن يتعدى إلى اليأس [2] وحبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن، وضبط السرور أن يضاهي الجرأة) يريد أنه لا يدع الخوف يفضي به إلى حد يوقعه في القنوط واليأس من رحمة الله فإن هذا خوف مذموم. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: حد الخوف ما حجزك عن معاصي الله، فما زاد على ذلك فهو غير محتاج إليه. وهذا الخوف الموقع في الإياس إساءة أدب على رحمة الله تعالى التي سبقت غضبه وجهلٌ بها. وأما حبس الرجاء أن يخرج إلى الأمن فهو أن لا يبلغ به الرجاء إلى حد يأمن معه العقوبة، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، وهذا إغراق في الطرف الآخر، بل حد الرجاء ما طيّب لك العبادة، وحملك على السير، فهو بمنزلة الرياح التي تُسيّر السفينة، فإذا انقطعت وقفت السفينة، وإذا زادت ألقتها إلى المهالك، وإذا كانت بقدر أوصلت إلى البُغية. وأما ضبط السرور أن يخرج إلى مشابهة الجرأة، فلا يقدر عليه إلا الأقوياء أرباب العزائ

البروغرام الصهيوني السياسي

الكاتب: أوسيشكن

_ البروغرام الصهيوني السياسي بقلم الزعيم الصهيوني أوسيشكن شرعت جريدة فلسطين بترجمة هذا الكتاب بالعربية ونشره تباعًا فيها، فرأينا أن ننقل بعض فصوله عنها بمناسبة ما نشرناه في الأجزاء الماضية عن الجنسية في البلاد العثمانية، ولما فيها من العبر. الفصل الأول إن المساعي التي بذلها الشعب الإسرائيلي للخلاص من منفاه بعد أن مضى عليه فيه نحو ألفي عام، قد تحولت منذ 25 سنة من حالة التفكير والسكون إلى حالة الحركة والعمل، وذلك لإعادة حياته السياسية الحرة في بلاد أجداده. ولقد كان ما لاقاه اليهود من المذابح وما قاسوه من الاضطهادات في غربي روسيا من أكبر البواعث على إخراج هذه المجهودات من حيز الفكر إلى حيز العمل. ومن يتتبع تلك المساعي يجد أنها كانت تتغير وتتطور تبعًا للظروف ومجاورة لِمَا كان يضعه الزعماء من البروغرمات والخطط. فجمعيات (محبة صهيون) و (الصيهونية الروحية) و (الصهيونية السياسية) لم تكن إلا وسائط مختلفة وطرقًا متعددة ترمي جميعها إلى غاية واحدة وتوصل إلى غرض واحد. *** الصهيونية السياسية كل أمة تسعى وراء كيان سياسي مستقل حر، يجب عليها توصلاً لغايتها هذه أن تراعي ثلاث حالات ضرورية: حالة الشعب - وحالة البلاد - وحالة الظروف الخارجية. 1- حالة الشعب: من الشروط الأولية لكل أمة تسعى وراء الاستقلال السياسي والاقتصادي والأدبي أن يكون شعبها على شيء من الاستعداد لذلك، كأن يكون ذا شعور قويم راق، وجمعيات قوية منظمة، ورؤوس أموال كبيرة عمومية، وصبر على احتمال المصاعب، وأهم من ذلك كله أن يكون مستعدًّا دائمًا لتضحية مصالحه الحاضرة أمام الصالح العام المستقبل. فإذا كانت هذه الشروط جميعها لا توجد في الشعب ولم تبذل المساعي اللازمة لإيجادها فيه، استحال على الأمة أن تنشئ لنفسها مركزًا سياسيًّا حرًّا. 2- حالة البلاد: أمّا حالة البلاد أو الأرض التي تريد الأمة أن تستقل بها استقلالاً سياسيًّا فيجب أن تكون ملكًا لها بالفعل من الوجهتين الاقتصادية والعقلية، أعني أن تكون جميع قوى تلك الأرض الحيوية في يد شعبها، وإن كانت الأرض نفسها تحت سيادة غيره اسمًا، وأن يكون للشعب بها علاقة روحية، وتكون تربتها مشبعة من دمه وعرق جبينه، وإلا كانت غير صالحة للاستقلال. 3- حالة الظروف الخارجية: ثم لو فرضنا أن الشعب كان جامعًا لكل شروط الاستقلال وكانت حالة البلاد موافقة له، فاستقلاله فيها وإعلان حكمه عليها، لا يتيسران له إلا إذا ساعدته الظروف الخارجية أيضًا، لارتباط مصالح جميع الشعوب بعضها ببعض وإن تشعبت الطرق المؤدية إليها. ولذلك كان لا بد في كل حركة قومية من بروغرام سياسي تتمشى عليه لاجتناب ما ربما يقف في طريقها من العثرات، وإقناع الحكام والمحكومين بإخلاص تلك الحركة وما ينجم عنها من الفوائد، مع السعي في الوقت نفسه باستمالة الرأي العام الأجنبي، واستخدام أحسن ما فيه من القوى العقلية والإنسانية لمنفعة تلك الحركة، وإلا أصابها الفشل. *** الفصل الثاني إن أحسن بروغرام يجب السير عليه في كل حركة قومية تتطلب الخلاص والاستقلال هو العمل لها من الجهات الثلاث المذكورة. وبهذه الطريقة فقط تتقدم وتتقوى من يوم إلى يوم ومن سنة إلى أخرى. فيصلح حال الشعب ويسهل عليه امتلاك البلاد، وتصبح الظروف الخارجية ملائمة له، وتكون جميع القوى التي تملكها الأمة قد استخدمت لفائدة تلك الحركة، فبينما تسعى جماعة مثلاً لتكثير رؤوس الأموال وإفعام خزائن الشعب منها، تكون غيرها ساعية وراء تعليم العامة وإنماء مداركها وشعورها، وبينما تكون جماعة ترود البلاد وتدرس حالتها، تأتي أخرى لاستثمارها واستعمارها، وبينما يقوم البعض بشرح رغبات الأمة وغاياتها أمام الشعوب الأجنبية، يسعى آخرون بالتعارف مع الملوك والوزراء وما يترتب على ذلك من الأمور السياسية؛ لأن على مجموع هذه الأعمال المتفرقة التي يقوم بها الأفراد والجماعات في جهات متعددة وفي وقت واحد - يتوقف نمو الحركة ونجاحها. وبالعكس فإن النتيجة تكون عقيمة أو قليلة الفائدة [1] إذا حصر المسعى في جهة واحدة، وبقيت قوى كثيرة مهملة بدون عمل. ومن المحتمل أيضًا أن يكون هذا العمل الناقص ذا نتائج محزنة في المستقبل؛ لأن أقل عارض يطرأ عليه يوقف مجاريه فيفقد العملة نشاطهم ومراكزهم، وتقع عامة الشعب في أزمة شديدة، وتصبح الحركة في طور حرجٍ جدًّا، وفي ذلك من الأضرار ما لا يخفى على أحد. أما إذا كان العمل مشتركًا، وفي جهات متعددة فحبوط جزء منه في جهة يعادله نجاح جزء آخر في جهة أخرى. وهكذا تبقي الحركة سائرة سيرًا طبيعيًّا مطردًا. لنتصور الآن أن الظروف الخارجية كانت موافقة لرغبات أمة ما تريد أن تجدد تاريخها وحياتها الاستقلالية في أرض ما، ووافقت الحكومات والشعوب جميعها على رغبتها هذه، ولم تجد مانعًا خارجيًّا يقف في سبيلها؛ ولكن شعبها كان من وجهته قليل الثقة بقواه الخاصة قليل الاستعداد لبلوغ الغاية التي ترمي إليها: لا جمعيات منظمة لديه، ولا أموال عمومية تساعده على اغتنام الفرص المهمة واستخدامها، فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة حينئذٍ أن تلك الفرصة المهمة التي سنحت تفوت، وربما لا تعود في عدة قرون. ومثل هذه الفرص عرضت مرتين لليهود عندما طردوا من أسبانيا في أيام الدوق جوزيف دي نكسوس فلم يستخدموها. ثم لو تصورنا عكس ذلك ورأينا الشعب مستعدًّا للحياة الاستقلالية وليده جميع الوسائط اللازمة وكانت البلاد في قبضة يده فعلاً ولكن الظروف الخارجية كانت لا تساعده أو لا تسمح له بالحصول على بغيته، إما لأنه لم يهتم بها، وإما لأنها لم تكن على استعداد تام لقبول فكرته، فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة إذ ذاك أن الشعب يضطر إلى أن يبقى تحت العبودية والنير في انتظار أيام أحسن. ومثل هذه الحالة تنطبق الآن تمامًا على حالة أرمينيا العثمانية التي وإن كان استقلالها أمرًا لا بد منه، إلا أن ذلك يطول ما دامت الظروف الخارجية غير موافقة له. على أنا إذا وجدنا لِمَا تقدم مثالاً، صَعُبَ علينا جدًّا أن نجد في التاريخ العلم كله من أوله إلى آخره حالة مفجعة أسوأ من حالة شعب ذكي متعلم راق كالشعب اليهودي، هبَّ لجمع شتات قواه وتنظيم رؤوس أمواله، وشعر بوجوب استمالة شعوب وحكام العالم أجمع لمساعدته والأخذ بيده، فوجد بعد كل هذا العناء أن البلاد التي ينشدها وهي غاية أمانه ومطمح أنظاره ومرمى مساعيه التاريخية - بين أيدي شعب آخر يضارعه اجتهادًا ولا يقل عنه في مداركه الاقتصادية. ولذلك فإنني [2] أشعر بوجل شديد وترتجف أعصابي عندما أتصور أن الشعب الإسرائيلي ربما وجد نفسه في مثل هذه الحالة يومًا ما إذا ظلت مساعي بعض زعمائه منصرفة إلى جهة واحدة. وحينئذٍ قل: السلام على تاريخه المملوء بالآلام والاضطهادات وعلى أمانيه وموضوع أحلامه وآماله، وقل: السلام على مستقبله الذي أضرّ به جهل الزعماء، أكثر من مساعي الأعداء. *** الفصل الثالث إن سبب قلة نجاح الحركة الصهيونية في الخمس وعشرين سنة الأخيرة يرجع معظمه إلى النقص في العمل، فجمعية (محبة صهيون) لم تهتم في بحر عشر سنوات في غير أمر البلاد وحالة الأرض فقط، فلم تفكر في إعداد الشعب لها وإنماء مداركه العقلية، ولا بإنشاء رؤوس أموال عمومية، ولم تعرف أن تحول هذه الحركة إلى حركة رسمية سياسية، ولم تجرب أن تستميل إليها الدول الأجنبية؛ بل اكتفت بأن تظهر في مظهر المحسن بإنشاء بضع مستعمرات تعيش من مال الإحسان، ولذلك انتهت هذه المدة الأولى من تاريخ الصهيونية بأزمة سنة 1891. على أن المدة الثانية التي تلت تلك الأزمة وهي مدة انتشار الصهيونية الروحية لم تكن بأسعد حظًّا من الأولى فقد أُهمل فيها أمر البلاد كما أُهمل في التي قبلها أمر الظروف الخارجية. وبعد خمس سنين انصرفت في أثنائها جميع المساعي إلى التعليم الداخلي وتنبيه الشعور العقلي فقط، نبغ عدد قليل وجملة من الخياليين، فلم يجدوا لما تعلموه فائدة محسوسة أو عملاً ماديًّا، وبقي مجموع الأمة جامدًا، وأصبحت الحركة الصهيونية مهددة بالموت. إلى أن عُقد المؤتمر الأول فابتدأت به المدة الثالثة وهي عصر الصهيونية الذهبي، فبعثت الحركة من مرقدها ودبت في الأمة روح جديدة؛ لأنها وجدت في المؤتمر ضالتها، ووافقت قراراته هوى في نفسها. إن جميع الصهيونيين الحقيقيين أصحاب الوجدان ومفكري الأمة رأوا في بروغرام مؤتمر (بال) الأول إدعام البروغرامات السابقة بأخرى جديدة حوت صفوة ما تقرر، وخلاصة رغبات الأمة، ولا سيّما في تصريحه جليًّا على مسمع من العالم أجمع بأننا نجاهد لإنشاء حكومة يهودية في فلسطين، وأنه لا بد لنا لنصل إلى هذه الغاية من أربعة أمور: 1- امتلاك فلسطين اقتصاديًّا وأدبيًّا. 2- تنظيم قوى الشعب وإنشاء رؤوس أموال عامة له. 3- إنماء الشعور القومي في الشعب وترقيته. 4- السعي بكل الطرق السياسية لجعل جميع الظروف الخارجية موافقة لنا. وفي الحقيقة: إن الشجاعة الأدبية التي أظهرها هذا المؤتمر في إعلان حقوق الأمة الإسرائيلية في فلسطين، والخطة الجلية الصريحة التي رسمها لبلوغ هذه الغاية، والقوة المعنوية التي تجلت من خلال أبحاثه - كان فعلها في الشعب اليهودي فعل المعجزات، فإنه تنبه من سباته العميق، وفي كل محل بلغت إليه أخبار المؤتمرعقدت الاجتماعات، وألقيت الخطب، فأسست الجمعيات، وتألفت الشركات. ومنذ ذلك الحين أخذ العمل يتقدم بسرعة وبجد واجتهاد عظيمين، فاشتد ساعد الجمعية الصهيونية وأنشأت صندوق المال الملي، وانضمت لها قوى سياسية خارجية، وظهر لنا من نتيجة مقابلات الملوك والوزراء بأن حركتها ستنمى وتتقوى على مر الأيام. غير أن القريب من مركز إدارة هذه الحركة والواقف على مجرياتها، يلاحظ في الحال أن الخطأ العظيم الذي كانت الصهيونية تتألم منه في مدتيها الأولى والثانية - وأعني به قيادة الحركة من جهة واحدة فقط وتوحيد المساعي وصرفها وراء نقطة واحدة من نقط البروغرام - مازال يُرتَكَب حتى الآن، وذلك بسعينا وراء العمل السياسي فقط لاجتناب العقبات الخارجية. أما الجهات الأخرى فلم يلتفت إليها؛ بل أهملت بالكلية. فالأمر الأول من بروغرام مؤتمر (بال) وهو امتلاك (فلسطين) اقتصاديًّا وأدبيًّا كان من نتيجة قلة الاهتمام به أن اللجنة التي عينها المؤتمر للنظر في المسائل الاستعمارية لم تعمل شيئًا؛ لأنه لم يدخل صندوقها شيء من المال، ووجد مديرو هذه الحركة في فلسطين أنفسهم بعد ست سنوات أنهم لم يتقدموا خطوة إلى الأمام؛ بل ظلوا في ذات النقطة التي ابتدأوا منها. ثم إن الآداب الإسرائيلية لم تتقدم أيضًا تقدمًا محسوسًا، وكانت مسألة البحث في إحيائها تبدو في كل مؤتمر كشبح مرعب. والدليل على ذلك النجاح البطيء الذي صادفته اللغة العبرانية في السبع السنوات الأخيرة مع أنها من أكبر العوامل على تنبيه الشعور القومي. *** الفصل الرابع ظهر مما تقدم أن إدارة العمل من جهة واحدة لا يمكن أن تأتي بالفائدة المقصودة، ففي الوقت الذي كانت فيه مساعي الرؤساء جميعها منصرفة إلى العمل السياسي، كان بقية الأعضاء يطلبون بالحاح شغلاً عمليًّا آخر، ولكن هذا الشغل لم يكن موجودًا، والعمل السياسي - كما لا يخفى - لا يصلح له إلا رجال مخصوصون

المراسلة والمناظرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المراسلة والمناظرة ... ... ... ... ... (تمثيل القصص) بسم الله الرحمن الرحيم إلى فضيلة الرشيد المرشد، شائد منار السنة، مولانا السيد محمد رشيد رضا، أيَّدَهُ اللهُ وأَيَّدَ ثَمَرَاتِ مَسْعَاهُ آمين. السلام عليكم ورحمة الله. إني أَحْمَدُ إِلَيْكُمُ اللهَ الآمرَ بالتواصي بالحقِّ، وأصلي وأسلمُ على صفوةِ الخَلْقِ وآله وصحبه أَلْسِنَةِ الصِّدْقِ. أما بعد؛ فقد رأيت لفضيلتكم في الجزء السابع من المجلد السابع عشر من مناركم الأغر فتوى في حل التمثيل وحضوره عُلّل فيها الحل بأنه لا نص على حرمته وليس ذريعة لفساد حتى يحرم سدًّا للذرائع، فلا يحرم إلا على مَن يغريه بمحرم، ما لم يكن موضوعه منكرًا بحيث يكون موضوع القصة الممثلة عملاً محظورًا فيحرم إذًا، ولا عبرة بوجود نساء في موضعه كاشفات الرؤوس والسواعد؛ إذ الغالب أن يكن كافرات غير مخاطبات بالفروع، وأن يكون الناظر لمقصود التمثيل فقط، على أنهن كثيرًا ما يرين في الطرق على تلك الصفة فلا فرق بين رؤيتهن كذلك فيها ونظرهن بهذه الصفة في موضع التمثيل. هذا معنى ما جاء في جوابكم. وفيه أن كون التمثيل لا نص على حرمته يرد بأن حضور النساء كاشفات على ما مر مبديات زينتهن المبالغ في التأنق فيها جزء من التمثيل الغرامي وذلك محرم بنص {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30) {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} (النور: 31) الآية. والنصوص المانعة من حضور المنكر والتسبب فيه، وعدم كونه ذريعة فساد يرد بأنا نعلم بالسير أن الأكثر يتهافتون جدًّا على التمثيل الغرامي لا لشيء سوى وجود أولئك النساء؛ بدليل أنهم لا يعتنون كذلك بما لا يحضرونه، ونسمع الكثير يسألون عن حال الممثلات من حيث نحو الجمال قبل السعي إلى التمثيل، حتى لقد اتخذ هذا الضرب من التمثيل وسيلة لمحض التكسب به كثير من فاسدي الأخلاق الذين لا يعقل أن يقصدوا تهذيب غيرهم، وسمعنا كثيرًا غب مفارقة التمثيل يلهجون بوصف جمال الممثلات ورونق زينتهن ورخامة أصواتهن، وأنبأنا بعض مَن حضروا ذلك التمثيل ثم تابوا لما رأوا من سيئ أثره بأن من الحضور مَن كان مستصحبًا نظارة تجعل الممثلة كأنها إلى جنبه، وهذا مما يؤكد سوء آثار حضور التمثيل المذكور وأنه لا يكاد يسلم من ذلك أحد مهما كان ورعًا، على أنه يحضره كثير ممن لا عناية لهم بالأخلاق، ولا وازع يزعهم عن الاسترسال في مطلق الشهوات، فيخرجون وقد استفحل الداء في نفوسهم، واستولت الاضطرابات على قلوبهم، وكون الكفار غير مخاطبين بالفروع مختلف فيه ومعتمد الشافعية والمالكية الخطاب لدخولهم في عموم الوعيد، والآية: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ} (المدثر: 42-43) إلخ، ولئن سلم جواز السفور للكافرات لم يسلم جواز حضور مكانهن حال السفور مع نظرهن، للأمر بغض البصر وتحريم النظر لغير الوجه والكف بالسنة دون فرق بين مؤمنة وكافرة. وهو مقتضى حكمة تحريم النظر، وهو كونه بريد الزنا - كما ورد - بلى سُمِّيَ في الصحيح زنا العين، وقد أطلتم في بعض أبحاث المنار القول في مفاسد النظر بما يُعلم به أن مفسدته تغلب مصلحة التمثيل الغرامي، إن كانت. أما كون الناظر إنما يلاحظ مقصود التمثيل، فخلاف ما عهدنا في كثير. نعم من الناس من هو كذلك ولكن قليل ما هم. وأما التسوية بين نظر السافرات في مواضع التمثيل ونظرهن في الطرق فقد يرد بأن الماشي في الطريق غير مستقر في موضع فتصادفه منهن من تصادفه بدون قصد أو به، مع شدة الحاجة إلى الشيء فيه، ومع كون اللاتي فيه لا يتأنقن في الزينة تأنق الممثلاث اللاتي يُختارون من أجمل الطبقات، ويعددن من الزينة ما تجلب به الرجال للتمثيل ويبالغن في ترخيم أصواتهن عند قراءة الأشعار الغرامية التي قد تحدث وحدها في النفس أثرًا سيئًا، فما الظن إذا حدث من نسوة على هذه الصفات بهذا الترخيم على مرأى من الرجال الذين جبلوا على شدة الميل إلى مثل ذلك، فهذا كله يقتضي أن مفسدة مثل هذا التمثيل غالبة، على أن لنا عما يقصد منه من الاعتبار والتهذيب غنى بآداب ديننا التي جاء بها القرآن والآثار وحكم العارفين، فما بالنا نفزع في طلب العظة إلى هذا الأمر الذي ضُره أضعاف نفعه؟ إني لأعتقد أن لتمثيل القصص الغرامية الحظ الأوفر في إفساد أخلاق المصريين والمصريات، والذين عُرف بالاستقراء فرط شغفهم بالشهوات وتكالبهم على الزخارف وإن كانت محظورات، وعدم مبالاتهم بالتهتك، ولذا كنت أود أن تفسحوا في مناركم الأغر مكانًا لانتقاد ذلك التمثيل والتنفير منه جدًّا مادام على غير صفة شرعية. والآن أرجو إبانة رأيكم بعد ما ذكرت لكم ما عندي ليستنبين الحق أتم استبانة، لازلتم عضدًا للحق والحقيقة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (محمد زهران) (المنار) إن ما ذكره أخونا الكاتب من وصف التمثيل خاص بتمثيل القصص الغرامية المعهود بمصر، وهو مبني على السماع والمبالغة في دعوى براعة جمال الممثلات ورخامة أصواتهن وافتتان الرجال بهن. وكلام المنار السابق في التمثيل المطلق، ومنه ما يقوم به الرجال وحدهم وما يقوم به نساء لسن من مظنة الفتنة في شيء. وإذا ثبت أن التمثيل الذائع هنا مصدر للفتنة، وذريعة للمفسدة، فهو مما جزمنا بتحريمه في كلامنا السباق، ومن الغريب جعله آية نهي المؤمنات عن إبداء زينتهن نصًّا على وجوب ذلك على الكوافر بمعنى مطالبتهن به كالمسلمات، وجعل هذا مذهبًا للشافعية! وإنما المذهب أن الكفار يعاقبون على ترك فروع الشريعة في الآخرة بدليل آية المدثر التي ذكرها، بل قال (لعموم الخطاب) وإنما الخطاب في الآية للمؤمنات، وفي الرسالة مسائل أخرى قابلة للبحث والنقد ولا حاجة إلى ذلك. وحسبنا أن نقول: إن حكم هذا التمثيل منوط بمافيه من المصلحة أو المفسدة، والثاني هو الذي يحظر دون الأول. * * * المعازف - آلات اللهو بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الأستاذ الأوحد رافع منار الدين، وحامي حوزته السيد محمد رشيد رضا الحسيني أنجح الله تعالى مساعيه وأكثر في المسلمين من أمثاله. السلام عليكم ورحمة الله؛ إني أحمد إليكم الله الذي وفقكم لأجل الخدمات الإسلامية، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسائر القائمين بنصرة الشريعة المحمدية. أما بعد فقد كنت منذ بدء اشتغالي بالعلم شديد العطش إلى معرفة الحق في مسألة آلات الملاهي فكنت أراجعها في كل كتاب تيسر لي من كتب المقلدين والمستقلين فلا يُشفى لي غليل، حتى أتيح لي مراجعتها في نيل الأوطار مرارًا فكاد يثلج صدري بتحقيق ذلك العالم الرباني، وكنت أقرأ في المنار الأسمى أجوبة أسئلة في هذا الشأن تحيل استيفاء البحث على أول أجزاء المجلد التاسع وتاليه فيشتد شغفي لاقتنائهما حتى تيسر ذلك، فأمتعت الفكر بمطالعة المبحث فيها فإذا حاصل ما زدتموه على الشوكاني في نيل الأوطار أن رجحتم أدلة الإباحة على أدلة الحظر بموافقتها للبراءة الأصلية ومقتضى الفطرة وسماحة الدين وكونها صحيحة دون أدلة الحظر. وقولكم: إن أدلة الحظر تحظر المعازف - والدف منها قطعًا - أي فتكون معارضة لأحاديث جواز الدف. فتُقَدَّم هذه لما مر - وقولكم: إن غناء النساء الثابت جوازه في الصحيح أشد الملاهي تأثيرًا في النفس. أي فغيره أولى بالجواز - وقولكم عقب نقل كلام الشوكاني: ومعلوم أن نذر الحرام أو المكروه لا ينعقد، وهذا يبطل دعوى الشوكاني نهوض أدلة المانعين شبهة على المنع - وقولكم في حاشيتي صفحتي 46و47 من الجزء الأول بعد نقل كلام الشوكاني في رد الحافظ ابن حجر على ابن حزم في دعواه انقطاع حديث المعازف الذي في الصحيحين ما نصه: ومنه تعلم أن الحافظ ابن حجر والشوكاني يعترفان بأنه لم يصح من الأحاديث الواردة في حظر آلات اللهو إلا الحديث الأول مما أوردنا، وزيادات أخرى أوردتموها في بحث القياس الفقهي في السماع وفي خلاصة البحث، أما ترجيح أدلة الجواز لموافقتها لأصل الإباحة ولمقتضى الفطرة ويسر الشريعة فإنما يصح لو تعارضت أدلة الجواز وأدلة المنع، ولا تعارض؛ إذ القاعدة الأصولية تقتضي تخصيص أحاديث تحريم المعازف بغير ما صح في الأحاديث جوازه من الدف والغناء كما هو الشأن في تخالف العام والخاص، ولذا لم يحرم الشافعية ما ذُكر من الدف والغناء حيث أُمنتْ الفتنة بالثاني، وخص المالكية جواز الدف في النكاح أو لكل سرور وقوفًا مع ظاهر الوارد. وأرى هذا قريبًا وأحوط. وأما الترجيح بصحة أدلة الجواز وضعف مقابلها ففيه أنكم اعترفتم تبعًا للحافظين بصحة حديث البخاري في المعازف، وهو كافٍ في إثبات المنع غير أنه يخص بأحاديث الدف والغناء كما مر، وبذا علم ما في قولكم أن أدلة المنع تحظر المعازف والدف منها. وأما كون غناء النساء أشد الملاهي تأثيرًا في النفس فغير مُسلّم على العموم؛ إذ ليس غناء كل امرأة أشد تأثيرًا من كل لهو آخر؛ بل كثيرًا ما يكون صوت العود مثلاً أشد تأثيرًا من غناء بعض النساء. على أنه بعد صحة الحديث بتحريم المعازف المراد بها غير الغناء والدف بدليل الأحاديث الأخرى - لا مساغ لهذا؛ إذ لا يجوز إلغاء حديث صحيح لمجرد توهم مخالفته لمقتضى القياس الأولوي على ما في حديث آخر؛ لأنه لا وثوق لنا بأن عليَّة جوازها في هذا الحديث هي ما فهمناه؛ إذ لا مانع من كون العلة شيئًا آخر لم يبلغه إدراكنا، فلماذا لا نجمع بين الأدلة ما أمكن ونعمل بجميعها امتثالاً لما أُمرنا به من الأخذ بكل ما أتانا به الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وأما كون الأمر بضرب الدف لمن نذره يدل دلالة واضحة على جواز الملاهي لعدم انعقاد نذر المنهي عنه - ففيه أن ذا إنما يدل جليًّا على جواز ضرب الدف فقط فيخصص بذلك وبأحاديث الغناء - حديث منع المعازف كما سبق - فيبقى باقيها على المنع، فكيف يقال: إن الأمر المذكور قد منع نهوض أدلة المنع شبهة. وأما كون اقتصار الحافظ على رد تضعيف حديث البخاري في المعازف يدل على أنه يرى ضعف سائر الباب - ففيه أنه قد يكون سكوته عن بيان حالها لعدم علمه به لا لعمله بضعفها. وبعدُ فإني أرى أن ما استنتجه الشوكاني من كلامه الطويل من أن المقام مقام شبهة فقط لا يصلح نتيجة لبحثه فإنه نقل أجوبة المجوزين عن حديث البخاري المعلق وردها، فعلم منه أن الحديث حجة للمانعين، وقد قال في خلال البحث: إن الأحاديث ينهض مجموعها حجة لتعاضدها، فقد نصر المانعين بحجتين سلمهما. وما احتج به للمجوزين من نحو عموم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (الأعراف: 157) يرد بتخصيصه بتينك الحجتين. وبعد دلالة السنة على المنع لا مساغ لمقاس فقهي ولا غيره إلا قياس مع وجود دليل من كتاب أو سنة. فصفوة بحث الشوكاني نُصرة المانعين وترجيح التحريم، لا مجرد أن المقام مقام شبهة. نعم قد يقال: إن لفظ المعازف جمع محلى بال وهو للعموم، فمعنى استحلال المعازف استحلال جميعها حتى نحو الغناء المهيج على محرم، فيكفي في تحقق معنى الحديث تحريم مثل ذلك ويكون هذا جمعًا مقبولاً بين الأدلة يتفق مع القياس الفقهي ومع الأمور التي رجحتم بها أدلة الجواز. وقد يرد كون مجموع أحاديث الحظر غير الأول ينهض حجة بأن تعدد الأحاديث الضعيفة إنما يقتضي بلوغ درجة الحسن إذا كان الضعف لنحو سوء حفظ الراوي لا لفسقه أو اتهامه بكذب، والأول غير متحقق هنا فلا جزم بالح

الحرب الأوربية والدولة العثمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب الأوربية والدولة العثمانية كان أخوف ما نخاف على دولتنا قبل هذه الحرب اتفاق الدول الكبرى على تقسيم بلادها إلى مناطق نفوذ اقتصادي، يتبعه النفوذ السياسي، فتمهد كل منهن السبل في منطقتها للاستيلاء التام عليها، وتنتظر الفرص لإعلان امتلاكها، وكنا قد رأينا بوادر هذا الاتفاق، ومنها الاتفاق مع فرنسا على منافعها في سوريا ومع إنكلترا على العراق، بإزاء ما لألمانيا من الحقوق بامتياز سكة الحديد بين الآستانة وبغداد. أما وقد وقع بين تلك الدول ما كانت تتمخض به حوادث الأعصار وتشخص لرؤية أهواله الأبصار، فقد سنحت لها فرصة للم شعثها، وتوفير ثورتها، وجمع كلمة شعوبها، وإعداد وسائل الدفاع الوطني في بلادها، وإزالة ما للأجانب من النفوذ والامتياز فيها، مع حفظ حقوقهم وتأمينهم على أنفسهم وأموالهم، بحيث تكون مستقلة في داخليتها حق الاستقلال، ولا تكون دون الجبل الأسود والبلغار واليونان، وما شرعت فيه من الاستعداد العسكري وتعبئة الجيش المنظم يجب أن تراعي فيه الاقتصاد. وتجعله وسيلة للاستفادة من الحياد، ولا شك أن الأمة كلها تشد أزرها في ذلك (وعند الشدائد تذهب الأحقاد) . هذا ما نراه وما يراه كل مَن نعرف من العقلاء الذين ذكرناهم في هذه المسألة من عرب وترك وغيرهما، وإنا لنعلم مع ذلك أن بين الحكومة الاتحادية والدولة الألمانية اتفاقًا سريًّا قبل الحرب، والظاهر أن الثانية جعلته ذريعة لاستخدام جيش الأولى في قتال أعدائها. الدولة قريبة العهد بحرب لم تبق في خزائنها مالاً، ولا في مسالحها سلاحًا، وقد أبيد بها مئات الألوف من خير جندها، والأمة فقيرة لا تستطيع أن تمد الدولة عن سعة بما تستطيع أن تحارب به دولة كبيرة كالروسية وحدها، فكيف تحاربها ومعها إنكلترا وفرنسا واليابان، وبعض حكومات البلقان؟ وهذه الحرب قد تستمر عدة أعوام، كم تَسُوق من الجند إلى روسيا وكم تُبْقي لحماية بلادها الواسعة، وثغورها غير محصنة؟ وإذا غلب جيش لها في رجاء من الأرجاء، أو احتاج إلى الميرة والذخيرة والسلاح، فكيف السبيل إلى إمداده من الأرجاء الأخرى والبحار محرمة عليها، ولا سكك حديدية تصل بين أقطارها؟

علم الله بصفاته، الرضاع من الجدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ علم الله بصفاته الرضاع من الجدة (س22) من صاحب الإمضاء الجاوي بمصر: سيدي الأستاذ الأكبر السيد رضا زاده الله من مرضاته. أما بعد فإني ألقي إليَّ مسألتان من البلاد إحداهما مسألة علمه سبحانه بصفات كمالاته، فإنها قد شوهت أفكار الأغلب من أهل بلادي في سومترا إذا لم يوجد منهم للآن من يفصل القول المحكوم بالدليل أو السنة فيتبعونه، يقولون: هل يعلم الله أعداد بقية صفاته التي هي صفات الكمالات خلاف العشرين مثل كذا أو كذا من العدد أم لا؟ فإن أجبتم بنعم، فما المراد بقولهم إن صفات الكمالات من غير نهاية فإن المتبادر من معنى تلك الكلمة معلوم وظاهر. وإن أجبتم بلا، فما المراد أيضًا بقول الآية {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (الجن: 28) ثم ألا يُعَدُّ عجزًا عليه سبحانه وتعالى لو فرضنا أنه لا يعلم تلك الأعداد. فها هي (ذي) المسألة الأولى. أما الثانية فهي مسألة الرَّضَاعة. ويقول فيها السائل: هل عثرتم من مفهوم الكتاب أو السنة من قول بعض العلماء على أن الطفل إذا رضع من جدته من جهة الأم يؤدي إلى وقوع الطلاق بين والدي الطفل فيقع الطلاق واحدًا إذا رضع الطفل مرة واثنتين إذا كان مرتين وثلاثًا إذا كان ثلاث مرات. فتانكم المسألتان احترت عليهما [1] إذ قلبت كثيرًا من كتب الفقه ومن كتب التوحيد لعلي أعثر من عبارة تحل عقد تينك المسألتين فلم أجد، وحقيقة إنهما لغريبتان بجانب فهمي القصير، ولذلك وجهت بهما إلى بحر علومكم راجيًا أن تحلوا وِثاقهما، وما ذلك على واسع علومكم بعظيم. ... ... ... ... ... ... ... إبراهيم بستاري سراج الجاوي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... تحريرًا في21 شعبان 1332 علم الله تعالى بصفاته الجواب عن المسألة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى يعلم صفاته بلا شك، سواء كان مراد العلماء بقولهم: إن صفات الله لا نهاية لها ولا حصر - أنها كذلك بالنسبة إلى علم الخلق، أو في الواقع ونفس الأمر. ولا إشكال في ذلك فإن الله تعالى يعلم ما لا نهاية له من الحوادث أيضًا كالحوادث التي تكون في الجنة والنار وسائر العالم في المستقبل الذي لا نهاية له. ههنا يحسن التذكير بأمرين هما أهم من تينك المسألتين: أحدهما: أنه سبحانه وتعالى قد وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بصفات من الكمال معروفة، والألفاظ الدالة عليها هي أسماؤه الحسنى. وحكمته في ذلك أن نعرف بها كماله وعظمته وآثار فضله ورحمته فينا ونعمه علينا، لنزداد بذكرها إيمانًا وتزكيةً لأنفسنا وحبًا في الكمال وأفعال البر، لا لأجل أن نعدها عدًّا، ونبحث فيما زاد عنها، ثم نشغل أنفسنا بالفكر والكلام في إمكان إحصائها أو عدمه، وفي كيفية علمه بها، وإحاطته بعَدِّها، فإن أمثال هذه المباحث مما لم نُكلَّفه ولا نرى لنا فائدة فيه؛ بل ربما يضر البحث فيها ضعيف العلم أو الفهم ويحدث له شوكًّا في الدين. ولهذا قال العلماء في تفسير الإحصاء من حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا مَن أحصاها دخل الجنة) [2] : أي من أحصاها حفظًا لمعانيها وعلمًا بها وإيمانًا، أو من استخرجها من كتاب الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لأجل أن يزداد بها إيمانًا ومعرفةً بربه عز وجل ويدعوه بها، أو من أطاق العمل بما تهدي إليه من الكمال والبر، أو من أَخْطَرَها بباله وتفكر في معانيها عند ذكرها بتلاوة القرآن والأذكار المأثورة خاشعًا معتبرًا متدبرًا راغبًا راهبًا، هذا مجمل ما قالوه في معنى الإحصاء ولك أن تقول به كله. ولم يقل أحد يعتد بعمله وفهمه أن المراد عدها بالأرقام أو إحصاؤها على السِّبح، ولم يثبت برواية صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم عدّها لهم، واستشكلوا روايات عدها من جهة المتن، كما تكلموا فيها من جهة السند. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: والذي عوّل عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء مدرج في الحديث وأنهم جمعوها من القرآن. وأجابوا عن ذلك بما لا حاجة إلى ذكره هنا، وقد ورد في بعض روايات الحديث الضعيفة: (وما من عبد يدعو بها إلا وجبت له الجنة) رواه الديلمي من حديث علي كرم الله وجهه، وفي أخرى: (من دعا بها استجاب الله له) رواه ابن ماجه عن أبي هريرة. وليس فيهما ذكر الإحصاء. وعندنا فوق ذلك كله قول الله عز وجل في سورة الأعراف: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} (الأعراف:180) وقوله في سورة الإسراء {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء:110) فهو تعالى يهدينا إلى أن ندعوه ونتضرع إليه بهذه الأسماء الحسنى لاشتمالها على أحسن المعاني الدالة على منتهى الكمال والفضل. الأمر الثاني: لا ينبغي لأحد أن يجعل ما لا يفهمه من كلام العلماء وما لا يتضح له أنه صواب - مُشكَلاً مِن مُشكَلاَت الدين؛ بل يحسن أن يعدّه كأن لم يُقَلْ، ولا سيّما أقوال المتكلمين واصطلاحاتهم التي استنبطتها قرائحهم لتأييد مذاهبهم والرد على مخالفيهم، فإن فيما قالوه الخطأ والصواب، وما إذا احتيج إليه للرد على خصم كان في زمنهم لا يحتاج إليه في زمن آخر. وكذلك ما صوروا به عقيدة الإسلام التي يدافعون عنها، لا ينبغي أن يجعل هو الإسلام الذي يلقنه المسلمون في كل عصر، ويجعلون حظهم من حماية الدين الدفاع عنه. مثال ذلك ما كتبه السنوسي رحمه الله تعالى من العقائد ولا سيّما العقيدة الصغرى التي انتشرت في المشرقين والمغربين، وحذا حذوه فيها معلمو المدارس الرسمية وغيرها حتى فيما يضعونه من العقائد للمبتدئين. وقاعدتها في الإلهيات أن الواجب على كل مكلف شرعًا أنه يؤمن بأن يجب لله تعالى عشرون صفة ويستحيل عليه أضدادها. واصطلاحه في هذه الصفات مخالف لما كان يفهمه السلف وأهل اللغة من معنى كلمة صفة ومن إطلاقهم الإيمان بصفات الله تعالى. فهو يعد الأمور الاعتبارية والعدمية صفات، فالوجود والمخالفة للحوادث - أي عدم الاحتياج إلى المكان والمخصص - صفتان لله تعالى عنده، والقدرة وكونه تعالى قادرًا صفتان متغايرتان. ولم ينقل مثل هذا عن أحد من الصحابة ولا التابعين، دع عدم ذكره في القرآن أو في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف نقتصر عليه ونجعله هو العمدة في تلقين عقيدة الإسلام، ونجعل ما عساه يخالفه ولو في عدد الصفات محلاًّ للإشكال. مسألة رضاع الطفل من جدته وأما الجواب عن المسألة الثانية فهو أننا لم نطلع في الكتاب ولا في السنة، ولا في كتب الأئمة على كلام يدل بمنطوقه أو مفهومه على أن الطفل إذا رضع من جدته لأمه رضعة تطلق أمه من أبيه طلقة واحدة وإذا رضع مرتين تطلق طلقتين، وإذا رضع ثلاثًا تطلّق ثلاثة. وإنما الطلاق كلام يقوله الرجل يدل على حله لعقدة الزوجية، والله أعلم.

كلمات الاستقلال والاعتماد على النفس والاجتهاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمات الاستقلال والاعتماد على النفس والاجتهاد (س23) من أحد المشتركين السوريين بمصر: سيدي الأستاذ الحكيم السيد محمد رشيد رضا دام نفعه. المعروض بعد التحية أن بعض الأفاضل منتقد استعمال كلمة: (الاعتماد على النفس) أو (الاستقلال الشخصي) بمعنى اجتهاد الإنسان، ودليله في ذلك عدم استعمال العرب له، ولما لم يكن يقنع مني بأن ذلك الاستعمال محمول على اجتهاد المرء الذي هو ضد كسله وخموله فقال بأن المستعملين ذلك لا يعنون منه سوى اجتهاده في كل حاجياته بحيث لا يعتمد على غيره ألبتة كما هو ظاهر ذلك الاستعمال. جئتكم بهذه الكلمات راجيًا منكم البيان الوافي المقنع لمثل ذلك المنتقد في المنار الأغر، ولكم الفضل. (ج) قال في القاموس المحيط: واستقله: حمله ورفعه وأقله (أي أطاق حمله وهذا أصل المعنى) والطائر في طيرانه ارتفع. وقال غيره: استقل الطائر: نهض للطيران وارتفع. وقال الزبيدي فيما استدركه على القاموس في هذه المادة من شرحه: والاستقلال: الاستبداد، يقال: هو مستقل بنفسه: ضابط لأمره، وهو لا يستقل بهذا: أي لا يطيقه. اهـ وأما الاعتماد على الشيء فأصله الاتكاء عليه والتورك عليه. ومنه العماد والعمود الذي يقام عليه البناء والاعتماد على المرء عبارة عن الاتكال عليه ونوط الأمور به. ومنه عمدة القوم وعميدهم وعمودهم، وهو سيدهم الذي يعتمدون عليه في مصالحهم. هذا ما يؤخذ من جميع معاجم اللغة. وأما الاجتهاد فهو بذل الجهد والمشقة في تحصيل الشيء. سواء استقل الإنسان بالسعي والعمل أو اعتمد على مساعدة غيره مع بذل جهده. فإذا تدبرت معاني هذه الألفاظ ترى أن المنتقد مخطئ، وأن استعمال كلمة الاستقلال فيما نستعملها فيه فصيح ولا تحل محلها كلمة الاجتهاد.

شعر منثور في العربية والعرب

الكاتب: فؤاد الخطيب

_ شعر منثور في العربية والعرب من إنشاء فؤاد الخطيب أستاذ الآداب العربية في مدرسة غردون الكلية بالخرطوم لا جرم أن اللغة العربية أجزل اللغات السامية، وأوسعها مجالاً، وأحكمها استعمالاً، لا يذهب مرّ العشي بسلاستها، ولا يعبث كرّ الغداة بطلاوتها. ولقد طاحت دول وبادت ملل، فاستسرّت لغاتها، وعفت آياتها؛ وتلك اللغة تدور مع الأحقاب، في غلائل الآداب، وغلواء الشباب، لا يرهقها هرم، ولا يُخلقها قِدَم. فكأنها وهي ابنة القرون الخالية والأمم الماضية، نشأت في اليوم الحاضر أو أمس الدابر، فجاءت دفعة واحدة مستوفيةً أقسام جمالها، وصحة أبنية أسمائها وأفعالها؛ تجول بها أسلات الألسنة وأطراف اليراع، في صدور المحافل وبطون الرقاع، فتنظم فرائها، وتعقل شواردها، فلا تشذ نادرة، ولا تندّ بادرة. أجل: إن السيف الباتر، والجبروت القاهر، والمكاتب المتماوجة بالزحام، والمدارس المكتظة بالطلاب، والصحف الذائعة في الآفاق، والوفود الضاربة في الأصقاع، لم تُحوِّل لغة عن أصلها، ولم تجذب أمة بحبلها. فأين ذلك مما وقع للعربية، مع تلك الشراذم البدوية؟ فإنها لم تنهب الأرض في قطار، ولم تجزع [1] الفضاء في منطاد، ولم تمخر البحار بالبخار؛ بل جابت المسارح، ورادت المكامن، وطافت المجامع؛ فولجت كل مصر، وسكنت كل نفس، وقالت لكل شيء: حسبك فإنك عربي منذ اليوم. فسقى الغيث ذلك العهد القديم، ورعى الله ذلك العربيّ الصميم؛ فلقد كان نورًا في الظلمات، وهدى في الشبهات؛ إذا جال في مضمار الفكر، وراوح بين النظم والنثر؛ صور على الطرس، حقيقة النفس، فناجتك بأسرارها، وحدثتك بأخبارها؛ فإذا الغيب تكاد تراه عيناك، وإذا الوهم تكاد تلمسه يداك. فهكذا الأدب، وكذلك العرب: فلقد سبروا غور العلم، ومشوا إلى أعماق الفهم، فانتزعوا العقول من عقالها، واستلوا الوجود من العدم، واستخرجوا اليقين من الريب، وتغلغلوا بين الذرة وأجزائها، وتسرّبوا بين العصا ولحائها، فكانوا وكل سحر غير سحرهم باطل، وكل بلد خيّموا فيه بابل. اللهم سبحانك! أينطق العربي بالحكمة الناصعة، ويهتف بالقافية الرائعة، فتكاد لحلاوة أبياتها تقبل أفواه رواتها؛ وهو في ذلك المنقطع من الأرض، يهيم في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا مشت عيونه ففي صميم القفر، وإذا وقفت به فعلى أديم الصخر..؟ فلا يزال في الوجود، كالمثل الشرود، تتلقفه الأقطار، وتتخطفه الأسفار، فمن هضاب يحوم فيها كالعقبان، إلى بطاح يعمل فيها كالسّيدان، ومن مجالدة زعزع نكباء تنسف التلال، إلى مكابدة هاجرة سجراء تأكل الظلال. فما ثَم مرتع شائق فيستمد من جماله البيان. وما ثَم مورد رائق فيمتح من عذبه اللسان، وإنما هي أرجاء عابسة، وبيداء طامسة، تجول فيها الأفكار فتكل، وتدور فيها الأبصار فتضل. فسلام على تلك الجزيرة الجرداء، ومرحى لتلك المجاهل الخلاء، فوالله ما تعوزها الرياض مبثوثة الزرابي والأنماط، ولا الحقول مبسوطة البرود والرياض، ولا النمير يترقرق، على حصباء تتألق، فقد نبتت فيها حسنات الزمان، وتفجرت منها ينابيع العرفان، فغنيت بنضرة الآداب، عن بهجة الأعشاب، وبكمال السكان عن جمال المكان؛ بل كانت مسبح الروح الأمين، وموئل الدنيا والدين، فتبارك الله أحسن الخالقين. فأي نياط لا يتقطع، وأي مهجة لا تتصدع؟ وقد أودى أولئك الكرام، وتنكرت تلك الأيام، حتى تبازى الرُّهام، واستنسر الحمام، ولم يبق غير أمة مكسال، لا تتحرك إلا بزلزال، ولا تقطع من أشواط الدهر، إلا مسافة العمر من القبر. فأين بنو قحطان وفتيان عدنان؟ فيهبوا بالنفوس من غمرتها، وينهضوا باللغة من كبوتها، فتلك مفاخر بلادهم، ومآثر أجدادهم، ملء الأمجاد والأغوار، وطلاع الدفاتر والأسفار، وإنها لتطوي بالمرء مراحل العصور والأجيال، وتطل به على عالم الحقائق من ملكوت الخيال. أما والله لولا تنطس بعض المتزمتين [2] وسدهم على اللغة أبواب التعريب والاشتقاق، فحجروها في الحواشي، وأقبعوها في المتون - لما ازورّ الطلاب عنها، وامتلأوا نفورًا منها، وكان العلم كل العلم أن يمضغ المرء كلام غيره، ويلوك أقوال سواه، فيتشدق بالمذاهب العقيمة، ويتبجح بالأمثال السقيمة، وإن قعد به العجز عن إنشاء فقرة، وتصوير فكرة، ولم يغن عنه سواد الحدود والمصطلحات، وما افْتَنَّ فيه من الشواهد والنكات. ولا بِدع فإن الأصول وسيلة والإنشاء غاية، ولشد ما بينهما من شاسع الفرق وواسع البون. وكم بين الماء والسراب، والقشور واللباب! وأما من رزق قريحة وقادة، وبصيرة نقادة، وإحاطة بما لا مندوحة عنه من قواعد اللغة وأصول العربية، ثم راض نفسه على مزاولة أساليب العرب ومناحيهم، وتوفر على مطالعة تراكيبهم ومراميهم، فقد اكتسب من ملكتهم ما أخرجه إلى لهجتهم فبات وما يعترضه عيّ ولا ترتهنه لكنة، ولا تتحيف بيانه عجمة. وهل البلاغة - لعمري - إلا بصقال الديباجة، ومتانة الأسلوب، وحلاوة الأداء، لتكون المعاني أعلق بالخاطر، وأسرى في السمع، وأفعل في النفس؟ أرأيتك - وقد تثقفت الألفاظ المتخيرة، وعرفت أين تضع يدك في سبكها وتأليفها - كيف تهز القلوب وتخلب الألباب، وتملك قياد الأهواء؟ ولله در أبي هلال العسكري إذ قال في الصناعتين: (إن مدار البلاغة على تحسين اللفظ. وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابًا) . وقال ابن الأثير: إن اللفظة الواحدة تنتقل من هيئة إلى أخرى فتحسن أو تقبح. هذه لفظة الأرض فإنها لم ترد في القرآن الكريم إلا مفردة سواء أفردت بالذكر عن السماء كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} (نوح: 17) أو قرنت بالسماء مفردة كما في قوله تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاَّ بِإِذْنِهِ} (الحج: 65) أو مجموعة كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} (إبراهيم: 32) ولو كان استعمالها بلفظ الجمع مستحسنًا لكان هذا الموضع أو شبهه أليق به. ولمّا أراد أن يأتي بها مجموعة قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) وكذلك قول أفصح الخلق لبعض النساء: (ارجعن مأزورات غير مأجورات) . وحسبك أن المعاني المنقولة من لغة إلى أخرى تفقد ماءها، وتفارق صفاءها، وما ذلك إلا لأنها انسلخت من برودها المعلمة، وانخلعت من قوالبها المحكمة. فكانت شبحًا ناحلاً، وخيالاً ماثلاً. وليت شعري ماذا يضر المعاني إذا أجيدت لها المباني، فكانت شرعًا في المتانة، وسواء في الصياغة؟ ولا سيّما وقد جاشت غوارب العجمة، وفشت لوثة اللحن، ومست الحاجة إلى شد أواصر اللغة، وتقويم منآد اللسان. ألا وإنه لمن البرّ بالأدب، والغيرة الصادقة على العرب؛ أن ينسج المتأدب على منوال الفصحاء، ويطبع على غِرار البلغاء، فذلك تاريخ آبائنا يصيح بنا من ورائنا، وكله دموع تترى، لا ألفاظ تتلى {وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) والله الموفق إلى الصواب.

التعريف بكتاب الاعتصام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعريف بكتاب الاعتصام {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 101) . {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101) . العلماء المستقلون في هذه الأمة ثُلة من الأولين، وقليل من الآخرين، والإمام الشاطبي من هؤلاء القليل، وما رأينا من آثاره إلا القليل، رأينا كتاب (الموافقات) من قبل، ورأينا كتاب (الاعتصام) اليوم، فأنشدنا قول الشاعر: قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل ادخل دار الكتب الخديوية وارم ببصرك إلى الألوف من المصنفات في خزائنها، تر أن كثرتها قلة، وكثيرها قليل؛ لأن القليل منها هو الذي تجد فيه علمًا صحيحًا لا تجده في غيره؛ لأنه مما فتح الله به على صاحبه دون غيره. وقد كان كتاب (الاعتصام) من هذا القليل، فأحسنت نظارة المعارف إلى الأمة الإسلامية كلها بإجابة مجلس إدارة دار الكتب الخديوية إلى طبعه. اتفق علماء الاجتماع والسياسة والمؤرخون من الأمم المختلفة على أن العرب ما نهضوا نهضتهم الأخيرة بالمدنية والعمران إلا بتأثير الإسلام في جمع كلمتهم، وإصلاح شؤونهم النفسية والعلمية، ولكن اضطرب كثير من الناس في سبب ضعف المسلمين بعد قوتهم، وذهاب ملكهم وحضارتهم، فنسب بعضهم كل ذلك إلى دينهم، ومَن يتكلم في ذلك على بصيرة يثبت أن الدين الذي كان سبب الصلاح والإصلاح، لا يمكن أن يكون سبب الفساد والاختلال؛ لأن العلة الواحدة لا يصدر عنها معلولات متناقضة، فإذا كان لدين المسلمين تأثير في سوء حال خلفهم، فلا بد أن يكون ذلك من جهة غير الجهة التي صلحت بها حال سلفهم، وما هي إلا البدع والمحدثات التي فرقت جماعتهم، وزحزحتهم عن الصراط المستقيم. من أجل ذلك كان تحرير مسائل البدع والابتداع مما ينفع المسلمين في أمر دينهم وأمر دنياهم، ويكون أعظم عون لدعاة الإصلاح الإسلامي على سعيهم. وقد كتب كثير من العلماء في البدع، وكان أكثر ما كتبوا في الترهيب والتنفير. والرد على المبتدعين. ولكن الفرق التي يرد بعضها على بعض، يدعي كل منها أنه هو المحق، وأن غيره هو الضال والمبتدع، إما بالإحداث في الدين، وإما بجهل مقاصده، والجمود على ظواهره، وما أرينا أحدًا منهم هدي إلى ما هدي إليه (أبو إسحاق الشاطبي) من البحث العلمي الأصولي في هذا الموضوع، وتقسيمه إلى أبواب يدخل في كل واحد منها فصول كثيرة. لولا أن هذا الكتاب ألف في عصر ضعف العلم والدين في المسلمين لكان مبدأ نهضة جديدة لإحياء السنة، وإصلاح شؤون الأخلاق والاجتماع، ولكان المصنف بهذا الكتاب وبصنوه كتاب الموافقات - الذي لم يسبق إلى مثله سابق أيضًا - من أعظم المجددين في الإسلام. فمثله كمثل الحكيم الاجتماعي عبد الرحمن بن خلدون، كل منهما جاء بما لم يسبق إلى مثله، ولم تنتفع الأمة - كما كان يجب - بعلمه. كتاب الموافقات لا ند له في بابه (أصول الفقه وحِكَم الشريعة وأسرارها) وكتاب الاعتصام لا ند له في بابه، فهو ممتع مشبع، ولم يتمه المصنف رحمه الله تعالى. وقد صدَّره بمقدمة في غربة الإسلام وحديث (بدأ الإسلام غريبًا) المنبئ بذلك. ثم جعل مباحث ما كتبه في عشرة أبواب. (الباب الأول) : في تعريف البدع ومعناها (الثاني) في ذم البدع وسوء منقلب أهلها (الثالث) في أن ذم البدع والمحدثات عام، وفيه الكلام على شبه المبتدعة، ومن جعل البدع حسنة وسيئة (الرابع) في مأخذ أهل البدع في الاستدلال (الخامس) في البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما (السادس) في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة (السابع) في الابتداع: يختص بالعبادات، أم تدخل فيها العادات؟ (الثامن) في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان، (التاسع) في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين (العاشر) في الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه المبتدعة. وفي هذه الأبواب مباحث تشتبه فيها المسائل، وتتعارض الدلائل، وتنتفج الشبهات، وتتراءى في معارض البينات، حتى يعز تحرير القول فيها، والفصل بين قوادمها وخوافيها، إلا على مَن كان مثل المصنف في نور بصيرته، وغزارة مادته، وقوة عارضته، وفصاحة عبارته. ومِن أغمض هذه المسائل ما كان سنة أو مستحبًّا في نفسه وبدعة لوصف وهيئة عرضت له، كالتزام المصلين المكث بعد الصلاة لأذكار وأدعية مأثورة يؤدونها بالاجتماع والاشتراك، حتى صارت شعارًا من شعائر الدين، ينكر الناس على تاركيها دون فاعليها، وقد أطال المصنف في إثبات كونها بدعة وأورد جميع الشبه التي دعمت بها، وكر عليها بالنقض فهدمها كلها. وما لي لا أذكر لعلماء الشرع الأعلام، ولأهل السياسة من علماء الحقوق والأمراء والحكام، أهم ما شرحه لهم هذا الكتاب من أصول الإسلام، وهو بحث المصالح المرسلة والاستحسان، من أصول مذهبي مالك وأبي حنيفة النعمان، وبهما يظهر اتساع الشرع لمصالح الناس في كل زمان ومكان؟ بين المصنف وجه اشتباه ما سموه البدع المستحسنة، بالاستحسان الفقهي والمصالح المرسلة، ثُم كَشَفَ كل شبهة. وأزال كل غمّة. فبين أن البدع ليست من هذين الأصلين في وِرد ولا صَدْر، ولا تتفق معهما في علة ولا غرض، فإن البدعة كيفما كانت صفتها استدراك على الشرع وافتيات عليه، وأما مسائل المصالح المرسلة والاستحسان فهي موافقة لحكمته، وجارية على غير المعين من عموم بيناته وأدلته. وقد أورد المصنف ما قيل في تعريف ذينك الأصلين ووضح ذلك بالشواهد والأمثلة، فلو أنك قرأت جميع ما تتداوله المدارس الإسلامية من كتب أصول الفقه وفروعه، لانثنيت وأنت لا تعرف حقيقة المصالح المرسلة والاستحسان، كما تعرفها من هذا البحث الذي أوردها المصنف فيه تابعة لبيان حقيقة البدعة لا مقصودة بالذات. مَن أراد أن يعرف فضل الإسلام وسماحته، وسهولته ومرونته، فليأخذه من ينبوعه، وليستعن على فهمه بهؤلاء الحكماء الذين يشددون في إنكار البدع، ويدعون المسلمين إلى السنة التي كان عليها السلف، ويرون ضلال من يزيد في العبادات عليهم، أشد وأضر من ضلال من ينقص في غير أصول الفرائض عنهم، ويوسعون على الناس في أمور العادات، بناء على أصل الإباحة في الأشياء، وإن ظن كثير من الجاهلين، أن هذا هو عين الجمود في الدين، وجعله دينًا خاصًّا بأهل البداوة، لا يطيق احتماله أهل المدنية والحضارة، والأمر بالضد، ولله الأمر من قبل ومن بعد. كان هذا الكتاب كنزًا مخفيًّا لا توجد منه في هذه الأقطار إلا نسخة بخط مغربي في كتب الشيخ محمد محمود الشنقيطي المحفوظة في دار الكتب الخديوية، فاستخرجه مجلس إدارتها في العام الماضي واقترح طبعه، فوافق ذلك رغبة صاحب السعادة أحمد حشمت باشا ناظر المعارف لذلك العهد، وعهد إليّ بطبعه بشروط بيّنها في الكتاب الذي كتبه إليّ بذلك، وأرسلت إلي دار الكتب الجزء الأول منه منسوخًا نسخًا جديدًا على أوراق متفرّقة لتجمع حروف الطبع عنها. فتصفحت بعضها فألفيت فيها غلطًا وتحريفًا كثيرًا حتى في الأحاديث، فكتبت في حاشية ما جمعت حروفه منها ليكون نموذجًا للطبع تصحيحًا لما ظهر لي غلطه، وتخريجًا لحديث: (بدأ الإسلام غريباً) الذي بنى عليه المصنف مقدمة الكتاب وجعله الأصل في وجه الحاجة إليه. وفسرت فيها بعض الكلم الغامض وأطلعتُ على ذلك صديقي الأستاذ الفاضل السيد محمد الببلاوي وكيل دار الكتب الخديوية الذي يُرجَع إليه في تصحيح الكتب التي تطبع على نفقتها، وقلت له: يعز علي أن يطبع هذا الكتاب النفيس من غير أن يصحح أصله ويعلق عليه شيء. وأنا أتبرع بما أراه ضروريًّا من ذلك، ومطبعتي تتبرع بتصحيح الطبع أيضًا. ولو كنت في سعة من وقتي لخرجت أحاديثه كلها، وبذلت العناية بمراجعة كل نُقُولِه من مظانها، وبغير ذلك من تصحيحه. فقال: نحن نرى من التوفيق أن يطبع هذا الكتاب تحت نظرك وإشرافك، ونرى أنك أجدر وأحق بتصحيحه … ما تيسر لي قراءة شيء من الكتاب في وقت فراغ؛ بل كانت المطبعة تعرض علي الأوراق عند إرادة الاشتغال بطبعها، فكنت أرى الغلط فيه أنواعًا: (أحدها) : ما أقطع بأن صوابه كذا كتحريف بعض الآيات، أو الأحاديث المعزوة إلى مخرجيها، وتحريف أو تصحيف بعض الكلم، فأنا أصحح هذا ولا أذكر في الحاشية ما كان في الأصل إلا قليلاً. (ثانيها) : ما أظن أن صوابه كذا، وهو ما أكتب في الحاشية (لعل أصله كذا) أو ما يفيد هذا المعنى. (ثالثها) : ما أشتبه في أصله: ما هو. فمنه ما أفهم المراد منه بالقرينة، فإما أن أشير إليه في الحاشية، وإما أن أتركه للقارئ. ويقل فيما تركته التحريف الذي لا يفهم المراد منه مطلقًا، أو إلا بعد تأمل طويل. وقد يرى القارئ في بعض المواضع منه كلمات بين هذه العلامات () التي يعبرون عنها بالأَهِلَّةِ أو الأقواس أو بدونها، وقد تكون من حرف صغير، ويرى أن المعنى لا يلتئم إلا بها، ويجزم بأنها من الأصل، وإنما ميزناها بما ذكر ليعلم أنها من المصحح، ويرى في بعض المواضع علامة الاستفهام بين قوسين هكذا (؟) ويشار بها إلى خفاء في تلك المواضع أو غلط لم نهتد إلى أصله. ولكن لم نلتزم ذلك في كل مواضع الغلط المبهم. وقد تركت تصحيح بعض الأحاديث والآثار التي أحفظها من كتب الصحاح والسنن على غير ما وردت عليه في الكتاب، لئلا يكون بعض المحدثين الذين لم نطلع على كتبهم رواها بسياق المصنف. وكتبت بإزاء بعض ذلك علامة المراجعة على أوراق الطبع، مريدًا بذلك أن تعيده المطبعة إليّ للتأمل فيه أو مراجعته في مظانه. وعلمت بعد ذلك أن المطبعة كانت تراجع في بعض ذلك نسخة الكتاب المغربية فإذا رأت المعد للطبع موافقًا لها طبعته ولم تعده إلي، فيفوتني ما أريد من تصحيحه. وجملة القول أنني على ما أقاسي من العناء في تصحيح الكتاب لا أدعي أنه قد تيسر لي تصحيحه كما أحب. وإنما أقول: إنه صُحح تصحيحًا يمكن القارئ من فَهمه، فلا يكاد يخفى عليه منه إلا النادر من المفردات أو الجمل التي لا يخل خفاؤها بفهم المسألة التي عرضت له فيها. فهذا هو الطريق الذي سلكته في تصحيحه، بينته قبل الإتمام، وعسى الله أن يوفقني بالخير إلى زيادة العناية وحسن الختام، وكتبه في 15 شوال سنة 1332. ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا ... ... ... ... ... منشئ المنار وناظر مدرسة دار الدعوة والإرشاد ((يتبع بمقال تالٍ))

ترجمة الإمام الشاطبي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة الإمام الشاطبي من كتاب نيل الابتهاج بتطريز الديباج ديباج ابن فرحون باختصار هو إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي أبو إسحاق الشهير بالشاطبي الإمام العلامة، المحقق القدوة، الحافظ الجليل المجتهد، كان أصوليًّا مفسرًا، فقيهًا محدثًا، لغويًّا بيانيًّا، نظّارًا ثبتًا، ورعًا صالحًا، زاهدًا سُنيًّا، إمامًا مطلقًا، بحّاثًا مدقِّقًا، جدليًّا بارعًا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأئمة المتقنين الثقات، له القَدم الراسخ والإمامة العظمى في الفنون - فقهًا وأصولاً، وتفسيرًا وحديثًا، وعربيةً وغيرها - مع التحري والتحقيق، له استنباطات جليلة، ودقائق منيفة، وفوائد لطيفة، وأبحاث شريفة، وقواعد محررة محققة، كان على قدم راسخ من الصلاح والعفة والتحري والورع، حريصًا على اتباع السنة، مجانبًا للبدع والشبهة، ساعيًا في ذلك مع تثبت تام، منحرفًا عن كل ما ينحو للبدع وأهلها، وقع له في ذلك أمور مع جماعة من شيوخه وغيرهم في مسائل. وله تآليف جليلة، مشتملة على أبحاث نفيسة، وانتقادات وتحقيقات شريفة. قال الإمام الحفيد ابن مرزوق في حقه: إنه الشيخ الأستاذ الفقيه، الإمام المحقق العلامة الصالح، أبو إسحاق. انتهى. وناهيك بهذه التحلية من مثل هذا الإمام، وإنما يعرف الفضل لأهله أهله. أخذ العربية وغيرها عن أئمة، منهم الإمام المفتوح عليه في فنها ما لا مطمع فيه لسواه، بحثًا، وحفظًا، وتوجيهًا، ابن الفخار الألبيري، لازمه إلى أن مات، والإمام الشريف رئيس العلوم اللسانية، أبو القاسم السبتي، شارح مقصورة حازم، والإمام المحقق أعلم أهل وقته، الشريف أبو عبد الله التلمساني، والإمام علامة وقته بإجماع، أبو عبد الله المقري، وقطب الدائرة شيخ الجلة، الأمير الشهير، أبو سعيد ابن لب، والإمام الجليل، الرحلة الخطيب، ابن مرزوق الجد، والعلامة المحقق المدرس الأصولي، أبو علي منصور بن محمد الزواوي، والعلامة المفسر المؤلف أبو عبد الله البلنسي، والحاج العلامة الرحلة الخطيب أبو جعفر الشقوري. وممن اجتمع معه واستفاد منه العالم الحافظ الفقيه أبو عباس القباب، والمفتي المحدث أبو عبد الله الحفار، وغيرهم. اجتهد وبرع، وفاق الأكابر، والتحق بكبار الأئمة في العلوم، وبالغ في التحقيق، وتكلم مع كثير من الأئمة في مشكلات المسائل من شيوخه وغيرهم، كالقباب وقاضي الجماعة الفشتالي، والإمام ابن عرفة، والولي الكبير أبي عبد الله ابن عباد. وجرى له معهم أبحاث ومراجعات، أجلت عن ظهوره فيها، وقوة عارضته وإمامته؛ منها مسألة مراعاة الخلاف في المذهب [1] له فيها بحث عظيم مع الإمامين القباب وابن عرفة. وله أبحاث جليلة في التصوف وغيره. وبالجملة فقدره في العلوم فوق ما يذكر، وتحليته في التحقيق فوق ما يشهر. ألّف تواليف نفيسة، اشتملت على تحريرات للقواعد، وتحقيقات لمهمات الفوائد. منها شرحه الجليل على الخلاصة في النحو في أسفار أربعة كبار، لم يؤلف عليها مثله بحثًا وتحقيقًا فيما أعلم. وكتاب (الموافقات) في أصول الفقه سمّاه: (عنوان التعريف بأصول التكليف) كتاب جليل القدر جدًّا لا نظير له، يدل على إمامته، وبعد شأوِهِ في العلوم، سيّما علم الأصول. قال الإمام الحفيد بن مرزوق: كتاب الموافقات المذكور، من أنبل الكتب، وهو في سفرين. وتأليف كبير نفيس في الحوادث والبدع في سفر في غاية الإجادة، سمّاه (الاعتصام) وكتاب (المجالس) شرح فيه كتاب البيوع من صحيح البخاري. فيه من الفوائد والتحقيقات ما لا يعلمه إلا الله. وكتاب (الإفادات والإنشادات) في كراسين فيه طرف وتحف وملح أدبيات وإنشادات. وله أيضًا كتاب: (عنوان الإنفاق في علم الاشتقاق) وكتاب (أصول النحو) وقد ذكرهما معًا في شرح الألفية. ورأيت في موضع آخر أنه أُتلِف الأول في حياته، وأن الثاني أُتلِف أيضًا. وله غيرها. وفتاوى كثيرة. ومن شعره لما ابتلي بالبدع: بليت يا قوم والبلوى منوعة ... بمن أداريه حتى كاد يرديني دفع المضرة لا جلبًا لمصلحة ... فحسبي الله في عقلي وفي ديني أنشدهما تلميذه الإمام أبو يحيى بن عاصم له مشافهة. أخذ عنه جماعة من الأئمة كالإمامين العلامتين أبى يحيى بن عاصم الشهير وأخيه القاضي المؤلف أبي بكر بن عاصم. والشيخ أبي عبد الله البياني، وغيرهم , وتوفي يوم الثلاثاء ثامن شعبان سنة تسعين وسبعمائة ولم أقف على مولده رحمه الله. (فائدة) : وكان صاحب الترجمة ممن يرى جواز ضرب الخراج على الناس، عند ضعفهم وحاجتهم، لضعف بيت المال عن القيام بمصالح الناس، كما وقع للشيخ المالقي في كتاب الورع. قال: توظيف الخراج على المسلمين من المصالح المرسلة، ولا شك عندنا في جوازه، وظهور مصلحته في بلاد الأندلس في زماننا الآن. لكثرة الحاجة لما يأخذه العدو من المسلمين، سوى ما يحتاج إليه الناس، وضعف بيت المال الآن عنه، فهذا يقطع بجوازه الآن في الأندلس، وإنما النظر في القدر المحتاج إليه من ذلك، وذلك موكول إلى الإمام، ثم قال أثناء كلامه: ولعلك تقول كما قال القائل لمن أجاز شرب العصير بعد كثرة طبخه وصار ربا: أحللتها والله يا عمر. يعني هذا القائل أحللت الخمر بالاستجرار إلى نقص الطبخ. حتى تحل الخمر بمقالك، فإني أقول - كما قال عمر رضي الله عنه: والله لا أحل شيئًا حرمه الله، ولا أحرم شيئًا أحله، وإن الحق أحق أن يتبع {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) . وكان خراج بناء السور في بعض مواضع الأندلس في زمانه موظفًا على أهل الموضع، فسئل عنه إمام الوقت في الفُتْيَا بالأندلس الأستاذ الشهير أبو سعيد بن لب، فأفتى أنه لا يجوز ولا يسوغ، وأفتى صاحب الترجمة بسوغه. مستندًا فيه إلى المصلحة المرسلة. معتمدًا في ذلك إلى قيام المصلحة، التي إن لم يقم بها الناس فيعطونها من عندهم ضاعت. وقد تكلم على المسألة الإمام الغزالي في كتابه فاستوفى. ووقع لابن الفراء في ذلك مع سلطان وقته وفقهائه كلام مشهور، لا نطيل به. وكان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين. ولا يرى لأحد أن ينظر في هذه الكتب المتأخرة، كما قرره في مقدمة كتابه الموافقات. وترد عليه الكتب في ذلك من بعض أصحابه. فيوقع له: وأما ما ذكرتم من عدم اعتمادي على التآليف المتأخرة. فليس ذلك مني محض رأي ولكن اعتمدته بحسب الخبرة عند النظر في كتب المتقدمين مع المتأخرين كابن بشير وابن شاس. وابن الحاجب. ومن بعدهم. ولأن بعض مَن لقيته من العلماء بالفقه أوصاني بالتحامي عن كتب المتأخرين. وأتى بعبارة خشنة ولكنها محض النصيحة. والتساهل في النقل عن كل كتاب جاء لا يحتمله دين الله، ومثله ما إذا عمل الناس بقول ضعيف. ونقل عن بعض الأصحاب: لا تجوز مخالفته. وذلك مشعر بالتساهل جدًّا. ونص ذلك القول لا يوجد لأحد من العلماء فيما أعلم. والعبارة الخشنة التي أشار إليها كان ينقلها عن صاحبه أبي العباس القباب أنه كان يقول في ابن بشير وابن شاس: أفسدوا الفقه، وكان يقول: شأني عدم الاعتماد على التقاييد المتأخرة، إما للجهل بمؤلفيها أو لتأخر أزمنتهم جدًّا. فلذلك لا أعرف كثيرًا منها ولا اقتنيته. وعمدتي كتب الأقدمين المشاهير. ولنقتصر على هذا القدر من بعض فوائده.

دخول الابتداع في العاديات

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

_ دخول الابتداع في العاديات [*] وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر، فخرج أبو داود وأحمد وغيرهما عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها) زاد ابن ماجه: (يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير) وخرجه البخاري عن أبي عامر وأبى مالك الأشعري قال فيه: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز [1] والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، تروح عليهم سارحة لهم. يأتيهم رجل لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غدًا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) وفي سنن أبي داود: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير، وقال في آخره: يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة) . والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير وغيره. وقوله في الحديث: (لينزلن أقوام) يعني - والله أعلم - من هؤلاء المستحلين، والمعنى أن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم - وهو الجبل - فيواعدهم إلى الغد، فيبيتهم الله - وهو أخذ العذاب ليلاً - ويمسخ منهم آخرين، كما في حديث أبي داود كما في الحديث قبل: يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير. وكأن الخسف هاهنا هو التبييت المذكور في الآخر. وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر، وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو غيره، وإنما الخمر عصير العنب النيء، وهذا رأي طائفة من الكوفيين، وقد ثبت أن كل مسكر خمر. قال بعضهم: وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الاسم، ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته. قال: وهذه بعينها شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأحذ بما أوقعوها به يوم السبت في الشِبَاك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا: ليس هذا بصيد، ولا عمل يوم السبت، وليس هذا باستباحة الشح [2] . بل الذي يستحل الخمر زاعمًا (أنه ليس خمرًا مع علمه بأن معناه معنى الخمر ومقصوده مقصود الخمر، أفسد تأويلاً، من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسًا، فلئن كان من القياس ما هو حق، فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل، وهو من القياس الجلي؛ إذ ليس بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم. فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالاً لها لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ، وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيئ، فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح الحرير (للنساء) مطلقًا وللرجال في بعض الأحوال فكذلك الغناء والدف قد أبيح في العرس ونحوه، وأبيح منه الحداء وغيره، وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر؛ فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون، إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة، وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء. وقد خرَّج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع) قال بعضهم: يعني العينة. وروي في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم الحربي عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض يستحل فيه الحِر والخز) يريد استحلال الفروج الحرام، والحِر (بكسر الحاء المهملة والراء المخففة) الفرج، قالوا: ويشبه - والله أعلم - أن يراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل ونحو ذلك بما يوجب استحلال الفروج المحرمة؛ فإن الأمة لم يستحل أحد منها الزنا الصريح، ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل، فإن هذا لم يزل معمولاً في الناس؛ ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالاً، والواقع كذلك؛ فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في أواخر عصر التابعين، في تلك الأزمان صار في أولي الأمر مَن يفتي بنكاح المحلل ونحوه، ولم يكن قبل ذلك من يفتي به أصلاً. ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - المشهور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل له. وروى أحمد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله) فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا كما يشعر أن العينة من الربا. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا ومرفوعًا قال: (يأتي على الناس زمان يُستحل فيه خمسة أشياء: يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها، والسحت بالهدية، والقتل بالريبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع) ، فإن الزيادة المذكورة أولاً قد سنت، وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما باسم الهدية فهو ظاهر، واستحلال القتل باسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسة وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضًا، وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة. قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال: (إن من ضئ ضئ هذا قومًا يقرؤن القرآن لا يتجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويَدَعون أهل الأوثان، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ولعل هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا) الحديث، يدل عليه تفسير الحسن قال: يصبح محرّمًا لدم أخيه وعرضه ويمسي مستحلاًّ ... إلى آخره. وقد وَضع القتل شرعًا معمولاً به على غير سُنة الله وسُنة رسوله المتسمى بالمهدي المغربي الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث، فجعل القتل عقابًا في ثمانية عشر صنفًا ذكروا منها: الكذب، والمُداهنة، وأخذهم أيضًا بالقتل في ترك امتثال أمر من يستمع أمره، وبايعوه على ذلك؛ وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم، ومَن لم يحضر أُدّب، فإن تمادى قتل، وكل من لم يتأدب بما أُدّب به ضرب بالسوط المرة والمرتين، فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل، ومن داهن على أخيه أو أبيه أو من يكرم أو المقدم عليه قتل. وكل من شك في عصمته قتل أو شك في أنه المهدي المبشر به، وكل من خالف أمره أمر أصحابه فعزروه، فكان أكثر تأديبه القتل - كما ترى - كما أنه كان من رأيه أن لا يصلي خلف إمام أو خطيب يأخذ أجرًا على الإمامة أو الخطابة، وكذلك لبس الثياب الرفيعة - وإن كانت حلالاً - فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات بذلك السبب. فقُدم خطيب آخر في ثياب حفيلة تباين التواضع - زعموا -[3] فترك الصلاة خلفه. وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية. قال العلماء: وهو بدعة ظهرت في الشريعة بعد المائتين. ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادي على الباطل كله. وذكر في كتاب الإمامة أنه هو الإمام، وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم: (بُدئ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدئ، فطوبى للغرباء) وقال في الكتاب المذكور: جاء الله بالمهدي وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد؛ وإن به قامت السموات والأرض، وبه تقوم، ولا ضد له ولا مثل ولا ند، انتهى. وكذب فالمهدي عيسى عليه السلام. وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح، وبعد المغرب، فأمر المؤذنين إذا طلع الفجر أن ينادوا: (أصبح ولله الحمد) إشعارًا - زعموا - بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة، ولحضور الجماعة، وللغد، ولكل ما يؤمرون به. وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا، وجميع ذلك إلى [4] إنه قائل برأيه في العبادات والعادات، مع زعمه أنه غير قائل بالرأي. وهو التناقض بعينه، فقد ظهر إذًا جريان تلك الأشياء على الابتداع. وأما كون الزكاة مغرمًا، فالمغرم (ما) يلزم أداؤه من الديون، والغرامات كان الولاة يلزمونها الناس بشيء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره علن النصاب أو عدم قصوره؛ بل يأخذونهم بها على كل حال إلى الموت، وكون هذا بدعة ظاهر. وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشئ عن بدعة الجدال في الدين، فإن من عادة قراءة العلم وإقرائه وسماعه وإسماعه أن يكون في المساجد، ومن آدابه أن لا ترفع فيه الأصوات في غير المساجد، فما ظنك به في المساجد؟ فالجدال فيه زيادة الهوى، فإنه غير مشروع في الأصل، فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين، وهو الكلام فيما لم يأذن في الكلام فيه، كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما، وكمتشابهات القرآن؛ ولأجل ذلك جاء في الحديث عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} (آل عمران: 7) .... الآية، قال (فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذورهم) وفي الحديث: (ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل) وجاء عنه عليه السلام أنه قال: (لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر) وعنه عليه السلام أنه قال: (إن القرآن يصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، ما علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموا منه فكلوه إلى عالمه) وقال عليه السلام (اقرؤا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه) وخرج ابن وهب عن معاوية بن قرة قال: إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال. وقال النخعي في قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} (المائدة: 64) قال: الجدال والخصومات في الدين. وقال معن بن عيسى: انصرف مالك يومًا إلى المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبد الله! اسمع مني شيئًا أكلمك به وأحاجّك وأخبرك برأيي. فقال له: احذر أن أشهد عليك. قال: والله ما أريد إلا الحق. اسمع مني، فإن كان صوابًا فقل به أو فتكلم؛ قال: فإن غلبتني؟ قال: اتبعني. قال: فإن غلبتك؟ قال اتبعتك؛ قال: فإن جاء رجل فكلمناه فغلبنا؟ قال: اتبعناه. فقال له مالك: يا عبد الله! بعث الله محمدًا بدين واحد وأراك تنتقل. وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضًا للخصومات أكثر التنقل. وقال مالك: ليس الجدال في الدين بشيء. والكلام في ذم الجدال كثير. فإذا كان مذمومًا فمن جعله محمودًا وعدّه من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين. ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة، وذلك مظنة رفع الأصوات. فإن قيل: عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك؛ فرفع الأصوات قد يكون في العلم، ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد، وإن كان في العلم أو في غير العلم. قال ابن القاسم في المبسوط: رأيت مالكًا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد. وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين: إحداهما: أنه يجب أن ينزه المسجد عن مثل هذا؛ لأنه مما أمر بتعظيمه وتوقيره. والثانية: أنه مبني للصلاة، وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار، فلأن يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى. وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبة بين ناحية المسجد تسمى البطحاء [5] وقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرًا

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التعظيم فصل [*] وهذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالاً، وقد ذم الله تعالى مَن لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته. وأقوالهم تدور على هذا. وقال تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} (نوح: 13) قال ابن عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته؟ وقال الكلبي: ولا تخافون لله عظمة. قال البغوي: والرجاء بمعنى الخوف، والوقار: العظمة، اسم من التوقير وهو التعظيم. وقال الحسن: لا تعرفون لله حقًّا، ولا تشكرون له نعمة. وقال ابن كيسان. ولا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرًا. وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا خلى أحدهما عن الآخر فسدت العبودية، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد، والله سبحانه أعلم. * * * فصل قال صاحب المنازل رحمه الله: (التعظيم معرفة العظمة مع التذلل لها، وهو على ثلاث درجات: الأول تعظيم الأمر والنهي، وأن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يُعرَّضا لتشدد غال، ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) . هاهنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي؛ (أحدها) : الترخص الذي يجفو به صاحبه عن كمال الامتثال (والثاني) : الغلو الذي يتجاوز به صاحبه حدود الأمر والنهي فالأول تفريط والثاني إفراط، وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين. وكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه عن الحد. وقد نهى الله عن الغُلُو بقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ} (المائدة: 77) ، والغلو نوعان: نوع يخرجه عن كونه مطيعًا، كمن زاد في الصلاة ركعة، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات الكبار التي رُمي بها في المنجنيق، أو سعى بين الصفا والمروة عشرًا، أو نحو ذلك عمدًا. وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار، كقيام الليل كله، وسرد الصيام الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة) يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة فإن المسافر يستعين على قطع مسافة السفر بالسير فيها، وقال: (ليُصَلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد) رواهما البخاري. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثًا. وهم المتعمقون المشددون. وفي صحيح البخاري عنه: (عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبغِّض إلى نفسك عبادة الله) أو كما قال. وأما قوله: (ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) يريد أن لا يتأول في الأمر والنهي علة تعود عليه بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه، كما قيل: أدرها فما التحريم فيها لذاتها ولكن لأسباب تضمنها السكر إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى ... فسيان ماء في الزجاجة أو خمر وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة، وقد حمل طائفة من العلماء أن جعلوا تحريم ما عدا شراب العنب معللاً بالإسكار، فله أن يشرب منه ما لم يسكر. ومن العلل التي توهن الانقياد أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس الأمر فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور. وفي بعض الآثار القديمة: (يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا) وأيضًا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل درجاته أن يضعف انقياده له، وأيضًا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف مثلاً [1] وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله، فقال: أنا أشتغل بالمقصود عن الوسيلة، فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها، وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده، وكل هذا من ترك تعظيم الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا لله، وكم عطلت لله من أمر وأباحت من نهي وحرمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها. * * * فصل قال: (الدرجة الثانية تعظيم الحكم أن لا يُبغى له عوج، أو يُدافَع بعلم؛ أو يرضى بعوض) الدرجة الأولى تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي، وهذه الدرجة تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري، وهو الذي يخصه المصنف باسم الحكم، وكما يجب على العبد أن يرعى حكم الله الديني بالتعظيم فكذلك يرعى حكمه الكوني به، فذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء (أحدها) : (أن لا يُبغى له عوج) أي يُطلب له عوج أو يُرى فيه عوج؛ بل يُرى كله مستقيمًا؛ لأنه صادر عن عين الحكمة فلا عوج فيه، وهذا موضع أشكل على الناس جدًّا. فقالت نفاة القدر: ما في خلق الرحمن من تفاوت ولا عوج، والكفر والمعاصي مشتملة على أعظم التفاوت والعوج، فليست بخلقه ولا مشيئته ولا قدره. وقالت فرقة تقابلهم: بل هي من خلق الرحمن وقدره، فلا عوج فيها وكل ما في الوجود مستقيم. والطائفتان ضالّتان منحرفتان عن الهدى. وهذه الثانية أشد انحرافًا؛ لأنها جعلت الكفر مستقيمًا لا عوج فيه، وعدم تفريق الطائفتين بين القضاء والمقضي والحُكم والمحكوم به هو الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه. وقول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله ومشيئته وما قام به، والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه، وهو المشتمل على الخير والشر والعوج والاستقامة، فقضاؤه كله حق، والمقضي منه حق ومنه باطل. وقضاؤه كله عدل، والمقضي منه عدل ومنه جور، وقضاؤه كله مرضي، والمقضي منه مرضي ومنه مسخوط. وقضاؤه كله مُسالِم، والمقضي منه ما يُسالِم ومنه ما يُحارِب. وهذا أصل عظيم تجب مراعاته، وهو موضع مزلة أقدام كما رأيت، والمنحرف عنه إما جاحد للحكمة أو القدرة أو للأمر والشرع ولا بد، وعلى هذا يحمل كلام صاحب المنازل رحمه الله، أي لا يبتغي للحكم عوج. وأما قوله: (أو يدفع بعلم) فأشكل من الأول، فإن العلم مقدم على القدر وحاكم عليه، ولا يجوز دفع العلم بالحكم. فأحسن ما يحمل عليه كلامه أن يقال: قضاء الله وقدره وحكمه الكوني: لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع المدافعة بينهما؛ لأن هذا مشيئته الكونية وهذا إرادته الدينية. وإن كان المرادان قد يتدافعان ويتعارضان؛ ولكن من تعظيم كل منهما أن لا يدافع بالآخر ويعارض، فإنهما وصفان للرب تعالى، وأوصافه لا يدفع بعضها ببعض، وأن استعيذ ببعضها من بعض. فالكل منه سبحانه وهو المعيذ من نفسه بنفسه، كما قال أعلم الخلق به: (أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) فرضاؤه وإن أعاذ من سخطه فإنه لا يبطله و (لا) يدفعه، وإنما يدفع تعلقه بالمستعيذ، وتعلقه بأعدائه باق غير زائل، فهكذا أمره وقدره سواء، فإن أمره لا يبطل قدره، ولا قدره يبطل أمره، ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه، وهو أيضًا من قضائه، فما دفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره، فلم يدفع العلم الحكم؛ بل المحكوم به، والعلم والحكم دفعا المحكوم به الذي قدر دفعه وأمر به. فتأمل هذا فإنه محض العبودية والمعرفة والإيمان بالقدر والاستسلام له، والقيام بالأمر والتنفيذ له بالقدر، فما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله، ولا دفع مقدور الله إلا بقدر الله وأمره. وأما قوله: (ولا يرضى بعوض) أي إن صاحب مشهد الحكم قد وصل إلى حد لا يطلب معه عوضًا، ولا يكون ممن يعبد الله بالعوض، فإنه يشاهد جريان حكم الله عليه، وعدم تصرفه في نفسه، وإن المتصرف فيه حقًّا مالكه الحق، فهو الذي يقيمه ويقعده ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال، وإنما يطلب العوض من غاب عن الحكم وذهل عنه، وذلك منافٍ لتعظيمه، فمن تعظيمه أن لا يرضى العبد بعوض يطلبه بعمله؛ لأن مشاهدة الحكم وتعظيمه يمنعه أن يرى لنفسه ما يعارض عليه. فهذا الذي يمكن حمله كلامه عليه من غير خروج عن حقيقة الأمر. والله سبحانه أعلم. * * * فصل قال: (الدرجة الثالثة تعظيم الحق سبحانه، وهو أن لا يجعل دونه سببًا، ولا يرى عليه حقًّا، ولا ينازع له اختيارًا) هذه الدرجة تتضمن تعظيم الحاكم سبحانه صاحب الخلق والأمر، والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقتضيه، والأولى تتضمن تعظيم أمره. وذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء: (أحدها) : (أن لا تجعل [1] دونه سببًا) أي لا تجعل للوصلة إليه سببًا غيره؛ بل هو الذي يوصل إليه عبده، فلا يوصِّل إلى الله إلا الله، ولا يقرب إليه سواه، ولا أدنى إليه غيره، ولا يتوصل إلى رضاه إلا به، فما دل على الله إلا الله، ولا هدى إليه سواه، ولا أدنى إليه غيره، فإنه سبحانه هو الذي جعل السبب سببًا، فالسبب وسببيته وإيصاله، كله خلقه وفعله. (الثاني) أن لا يرى عليه حقًّا، أي لا ترى لأحد من الخلق لا لك ولا لغيرك حقًّا على الله؛ بل الحق لله على خلقه. وفي أثر إسرائيلي (إن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! أي حق لآبائك علي؟ ألست أنا الذي هديتهم ومننت عليهم واصطفيتهم ولي الحق عليهم؟) وأما حقوق العبيد على الله تعالى من إثابته لمطيعهم وتوبته على تائبهم وإجابته لسائلهم، فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه، لا أنها حقوق أحقوها هم عليه، فالحق في الحقيقة لله على عبده، وحق العبد عليه هو ما اقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه. وهذا قول أهل التوفيق والبصائر، وهو وسط بين قولين منحرفين قد تقدم ذكرهما مرارًا. والله أعلم. وأما قوله [2] : (ولا ينازع له اختيارًا) أي إذا رأيت الله عز وجل قد اختار لك أو لغيرك شيئًا إما بأمره ودينه، وإما بقضائه وقدره - فلا تنازع اختياره؛ بل ارض باختيار ما اختاره، فإن ذلك من تعظيمه سبحانه. ولا يرد عليه ما قدره عليه من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قدرها لكنه لم يخترها له، فمنازعتها غير اختياره من عبده، وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه. والله أعلم. اهـ (المنار) هذا الكلام لا يسلم على إطلاقه؛ بل له قيد لا بد منه. وقد سبق للمصنف تحقيقه فلهذا اكتفى هنا بالإجمال؛ وإنما نحتاج إلى القيد إذا أردنا (بالاختيار) متعلقه وهو ما اختاره الله لنا من الأمور، وهو المقضي والمقدر. كما هو المتبادر هنا. فهذا إذا كان شرًّا لنا كالأمراض والمظالم والفتن فإنه لا يشرع لنا أن نرضى به؛ بل يجب أن نقاومه وندافع الأقدار بالأقدار، كما قال عمر بن الخطاب بإقرار جمهور من الصحابة - رضي الله عنهم - عندما فر من الشام ولم يدخلها لوباء فيها: (نفرّ من قدر الله إلى قدر الله)

أقوال علماء السلف الأثبات في عقيدة السلف وإثبات الصفات ـ 2

الكاتب: الذهبي

_ أقوال علماء السلف الأثبات في عقيدة السلف وإثبات الصفات (2) (أحمد بن محمد بن حنبل شيخ الإسلام) رحمه الله ثراه [1] وجعل الجنة مثواه المنقول عن هذا الإمام في هذا الباب طيب كثير مبارك فيه، فهو حامل لواء السنة، والصابر في المحنة، والمشهود بأنه من أهل الجنة، فقد تواتر عنه تكفير مَن قال بخلق القرآن العظيم جل منزله، وإثبات الرؤية والصفات والعلو والقدر، وتقديم الشيخين، وأن الإيمان يزيد وينقص، إلى غير ذلك من عقود الديانة مما يطول شرحه، فقال يوسف بن موسى القطان شيخ أبي بكر الخلال: قيل لأبي عبد الله: الله فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه، وقدرته وعلمه بكل مكان؟ قال: نعم هو على عرشه ولا يخلو شيء من علمه. وقال أبو طالب أحمد بن حميد: سألت أحمد بن حنبل عن رجل قال: الله معنا وتلا {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) فقال: قد تَجَهَّمَ هذا، يأخذون بآخر الآية ويدعون أولها، قرأت عليه {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} (المجادلة: 7) فعلمه معهم. وقال في سورة ق: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) فعلمه معهم. قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: إن رجلاً قال: أقول كما قال الله: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره. فقال: هذا كلام الجهمية بل علمه معهم، فأول الآية يدل على أنه علمه. رواه ابن بطة في كتاب الإبانة عن عمر بن محمد عن رجاء عن محمد بن داود عن المروذي. وقال حنبل بن إسحاق: قيل لأبي عبد الله: ما معنى] وَهُوَ مَعَكُمْ [؟ قال: علمه محيط بالكل، وربنا على العرش بلا حد ولا صفة. قال ابن أبي حاتم في كتاب مناقب الإمام أحمد: ثنا محمد بن مسلم ثنا سلمة ابن شديد قال: كنت عند أحمد بن حنبل، فدخل عليه رجل عليه أثر السفر فقال: مَن فيكم أحمد بن حنبل؟ فأشاروا إلى أحمد بن حنبل، فقال: إني ضربت البر والبحر من أربع مائة فرسخ، أتاني الخضر عليه السلام فقال: ائت أحمد بن حنبل فقل له: إن ساكن السماء راض عنك لما بذلت نفسك في هذا الأمر. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: حدث محدث وأنا عنده بحديث: (يضع الرحمن فيها قدمه) وعنده غلام، فأقبل على الغلام فقال: إن لهذا تفسيرًا. فقال أبو عبد الله: انظر إليه كما تقول الجهمية سواء. قال ابن أبي حاتم: ثنا صالح بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يحتج بأن القرآن غير مخلوق، يقول: قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ} (الرحمن: 1-2) فأخبر تعالى أن القرآن من علمه، قال يعقوب الدورقي: قال لي أحمد: اللفظية إنما يدورون على كلام جهم يزعمون أن جبريل إنما جاء بشيء مخلوق. * * * (إسحاق بن راهويه عالم خراسان) قال حرب بن إسماعيل الكرماني قلت لإسحاق بن راهويه قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) كيف تقول فيه؟ قال حيثما كنت فهو أقرب إليك من حبل الوريد، وهو بائن من خلقه. ثم ذكر عن ابن المبارك قوله: هو على عرشه، بائن من خلقه. ثم قال أعلى شيء في ذلك وأبينه قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) رواه الخلال في السنة عن حرب. * * * (الحافظ أبو عوانة صاحب الصحيح) كان من كبار الحفاظ، حمل عن أصحاب سفيان بن عيينة ووكيع. قال الحاكم في ترجمته: سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول: سمعت أبا عوانة رحمه الله يقول: دخلت على إبراهيم المزني في مرضه الذي مات فيه فقلت له: ما قولك في القرآن؟ فقال: كلام الله غير مخلوق. فقلت هلاّ قلت قبل هذا؟ قال: لم يزل هذا قولي وكرهت الكلام فيه لأن الشافعي كان ينهى عن الكلام فيه، يعني البحث والجدال في ذلك. * * * (أبو الحسن الأشعري صاحب التصانيف) قال الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري البصري المتكلم في كتابه الذي سماه (اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين) فذكر فرق الخوارج والروافض والجهمية وغيرهم؛ إلى أن قال: (ذكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث جملة) قولهم الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء عن الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئًا، وأن الله على عرشه كما قال {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وأن له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) وأن أسماء الله لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقرّوا أن لله علمًا كما قال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (النساء: 166) {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} (الإِنسان: 30) وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وقالوا: لا يكون في الأرض من خير وشر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئته كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: 30) إلى أن قال: ويقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل مستغفر) كما جاء الحديث، ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وأن الله يقرب من خلقه كيف يشاء قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) إلى أن قال: فهذا جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله. وذكر الأشعري في هذا الكتاب المذكور في باب (هل الباري تعالى في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان) فقال اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة: منها مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث إنه ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه على العرش كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ولا نتقدم بين يدي الله بالقول؛ بل نقول استوى بلا كيف، وإن له يدين كما قال: (خلقت بيدي) وإنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث. ثم قال: وقالت المعتزلة: استوى على عرشه بمعنى استولى، وتأولوا اليد بمعنى النعمة، وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} (القمر: 14) أي بعلمنا. وقال أبو الحسن الأشعري في كتاب (جمل المقالات) له - رأيته بخط المحدث أبي علي بن شاذان - فسرد نحوًا من هذا الكلام في مقالة أصحاب الحديث تركت إيراد ألفاظه خوف الإطالة والمعنى واحد. وقال الأشعري في كتاب (الإبانة في أصول الديانة) له، في باب الاستواء: فإن قال قائل: ما تقولن في الاستواء؟ قيل: نقول: إن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقال: {إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10) وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إلَيْهِ} (النساء: 158) وقال حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: 36-37) كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (الملك: 16) فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات وكل ما علا فهو سماء، وليس إذا قال كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال عز وجل: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: 16) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش. وقد قال قائلون من المعتزلة والجمهية والحرورية: إن معنى استوى: استولى وملك وقهر، وأنه تعالى في كل مكان، وجحدوا أن يكون على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة. فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة؛ لأنه قادر على كل شيء، والأرض (شيء) فالله قادر عليها وعلى الحشوش، وكذا لو كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال هو مستو على الأشياء كلها، ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الأخيلة والحشوش، فبطل أن يكون الاستواء الاستيلاء. وذكر من الكتاب والسنة والعقل سوى ذلك. وكتاب الإبانة من أشهر تصانيف أبي الحسن، شَهَرَه الحافظ ابن عساكر واعتمد عليه، ونسخه بخطه الإمام محيي الدين النواوي، ونقل الإمام أبو بكر بن فورك المقالة المذكورة عن أصحاب الحديث عن أبى الحسن الأشعري في كتاب (المقالات والخلاف بين الأشعري وبين أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري) تأليف ابن فورك فقال: الفصل الأول في ذكر ما حكى أبو الحسن - رضي الله عنه - في كتاب المقالات من جمل مذاهب أصحاب الحديث، وما أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك. ثم سرد ابن فورك المقالة بهيئتها ثم قال في آخرها: فهذا تحقيق لك من ألفاظه أنه معتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث وأساس توحيدهم. قال الحافظ أبو العباس أحمد بن ثابت الطرقي: قرأت كتاب أبي الحسن الأشعري الموسوم (بالإبانة) أدلة على إثبات الاستواء. قال في جملة ذلك: ومن دعاء أهل الإسلام إذا هم رغبوا إلى الله أن يقولوا: يا ساكن العرش. ومن حلفهم: لا والذي احتجب بسبع. وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله في شكاية أهل السنة: ما نقموا من أبي الحسن الأشعري إلا أنه قال بإثبات القدر، وإثبات صفات الجلال لله من قدرته وعلمه وحياته وسمعه وبصره ووجهه ويده، وأن القرآن كلامه غير مخلوق. سمعت أبا علي الدقاق يقول: سمعت زاهر بن أحمد الفقيه يقول: مات الأشعري رحمه الله ورأسه في حجري فكان يقول شيئًا في حال نزعه: لعن الله المعتزلة موهوا ومخرقوا. قال الحافظ الحجة أبو القاسم ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري، فيما نسب إلى الأشعري) فإذا كان أبو الحسن رحمه الله كما ذكر عنه من حسن الاعتقاد، مستصوب المذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب عند أهل المعرفة والانتقاد، يوافقه في أكثر ما يذهب إليه أكابر العباد، ولا يقدح في مذهبه غير أهل الجهل والعناد - فلا بد أن يحكى عنه معتقده على وجهه بالأمانة، ليعلم حاله في صحة عقيدته في الديانة، فاسمع ما ذكره في كتاب الإبانة، فإنه قال: (الحمد لله الواحد، العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد، المتمجد بالتمجيد، الذي لا تبلغه صفات العبيد، وليس له مثل ولا نديد) فرد في خطبته على المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم [2] الذي تقولون وديانتكم التي بها تدينون؟ قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين، التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج وقمع به المبتدعين، فرحمه الله من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته ورسله وما جاء من عند الله. ورواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. لا نرد من ذلك شيئًا، وأن الله إله واحد فرد صمد لا إله غيره، وأن محمدًا

المراسلة والمناظرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المراسلة والمناظرة ... ... ... ... بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونصلي على رسوله الكريم مَنْ أنصاري إلى الله يا إخواني المسلمين: رحمكم اللهُ وحماكم، وحفظكم ونجّاكم، إن بعض سكان بلدانكم المحروسة قد سمع حالاتي وعرفها، وإني أرى أن أذكر لكم مما أنا عليه لازدياد المعرفة: إني جئت من الهند من مدة تزيد على سنة ونصف إلى لندرة، واطلعت على حالات أهلها في صولهم على ديننا الحق، تكدّرت جدًّا لأنهم يقدمونه بين يدي الناس بوجوه رديّة لينفروهم عن القرب إليه، وذلك بنقلهم إلى الغث سمينه، وإلى الكدر معينه، وإلى الظلمات نوره، وإلى الأخربة قصوره. فهذه بلية عظمى على ديننا الإسلام، ما سُمع نظيرها من قبل. وما وجد مثلها في الأولين. فلما رأيت ذلك عزمت على أن أشمر الذيل لإشاعة التدين القويم، وإعلاء كلمة الحق، وما التوفيق إلا بالله. فالحمد لله ثم الحمد لله، ما انصرمت سنة كاملة إلا ورأيت التوجه إلى ديننا الإسلام. وذلك فضل الله - إن الله على كل شيء قدير - فإنكم قد سمعتم دخول لورد هيدلي في الإسلام، وغيره أيضًا من الرجال والنساء من الأمراء المشهورين، مثل (واي كونت) وابن الأمير الروسي (بور كويت) الذي تزوج ابنة الملك (أعني من أقارب خديو مصر) المسماة صالحة، فقد أسلم على يدي والحمد لله على ذلك، فالآن عدد الذين هم دخلوا في الإسلام ثلاثون شخصًّا. وذلك من فضل الله تعالى. وإن شاء الله تعالى يدخلون في ديننا الإسلام جم كثير؛ لأنه دين الفطرة السليمة. وليس المقصود التام دخول بعض النصارى في الإسلام؛ بل المقصود التام قمع الشبهات، ورفع الأغلوطات، التي نحتوها أعداء الدين. ولذلك أجريت المجلة المسماة (إسلامك ريبويو) والحمد لله تعالى قد قبلت بأحسن وجه، وسلمت طاقتها عند أولي البصائر. ولكن يا سادتي إني وحيد فريد! وإن تبليغ الإسلام وإشاعته بين الخواص والعوام، فرض واجب على كل مسلم ومسلمة. قال الله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) فلا بد من أهل الهمم العالية السنية من إخواني المسلمين أن يوآزروني ويمدوني بحصة من أموالهم لحصول الأجر والثواب في إشاعة ديننا الإسلام، وذلك ازدياد طبع مجلة (إسلامك ريبويو) وإشاعتها مجانًا في جميع الأطراف، فتكون فائدة تامة إن شاء الله تعالى. ثم ترجمنا القرآن الكريم بلسان الإنكليزي أحسن وجه، ونريد طبعه وإشاعته أيضًا، وأما التراجم التي طبعت فإنها محشوة من الأغلوطات [1] لأنها ترجمة المخالفين، وقد فعلوا ما فعلوا. فيا إخواني لا بد من طبع ترجمتها وإشاعتها مع الأصل وتلك لا تكون إلا ببذل المال الجزيل. وإنكم مسلمون وقد بايعتم الله على أن لكم الجنة بأموالكم وأنفسكم. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) وأيضًا إن الإسلام قد شاع أولاً في بلدانكم المحروسة فلها شرفية على سائر البلدان. ولذلك نرجو الإعانة منكم في إرسال حصة من أموالكم لأجل إشاعة القرآن الكريم، وإشاعة (إسلامك ريبويو) قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) . وقال سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (مَن كان في عون أخيه كان الله في عونه) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... خادم الإسلام والمسلمين ... ... ... ... ... ... خواجا كمال الدين مدير إسلامك ريبويو * * * (المنار) نحض من بلغته هذه الدعوة على مساعدة أخينا صاحب هذه المجلة الإسلامية الإنكليزية على إدامة إصدارها. وننصح له بأن لا يطبع ترجمة القرآن، التي نوّه بها إلا بعد عرضها على جماعة من كبار العلماء في مصر أو الهند وإجازتهم إياها. فإن رسالته هذه تدل على ضعفه في اللغة العربية فيخشى أن تكون ترجمته كثيرة الغلط كغيرها. على أن ترجمة القرآن ترجمة تامة تؤدي من المعاني والتأثير ما تؤديه عبارته العربية ضرب من المحال. وحسب من يترجم القرآن للأجانب أن يأتيهم بتفسير مختصر سليم من الحشو وإنما تقوم بذلك الجمعيات لا الأفراد. *** بسم الله الهادي إلى الحق الدين النصيحة إلى إخوتي المسلمين. إنني قد ولدت ونشأت مسلمًا ودرست القرآن وتفاسيره مع العلوم الإسلامية على أعظم علماء سوريا ومصر ورأيت القرآن يشهد بأنه جاء مصدقًا للتوراة والإنجيل ومهيمنًا عليهما أي حافظًا لهما من التغيير والتحريف لكن لدى دراستي للتوراة والإنجيل رأيت القرآن يخالفهما في حقائق كثيرة لا سيّما مخالفته لهما في مسألة الكفارة والفداء التي هي خلاصة الكتاب المقدّس. مع أن القرآن قد تكلم عن القربان منذ زمن آدم وقد أثبتت السنة القربان في عيد الأضحى مع أن جميع القرابين والذبائح التي كانت تقدم في العهد القديم كلها رمز وإشارة إلى الذبيحة الحقيقية (المسيح) الذي قدم نفسه قربانًا فدية عن الخاطئين الذين يؤمنون به وإلا فكيف يعقل أن حيوانًا أبكم يكون فداء عن إنسان عاقل؛ إذ لا بد أن يكون الفداء على الأقل معادلاً للمفتدى إن لم يكن الفداء أثمن منه. يا أيها الأخوة تبصروا في هذا الأمر المهم الذي يتوقف عليه خلاص نفوسكم من الهلاك الأبدي واعلموا أن كاتب هذه الرسالة هو من سلالة نبيكم ونشأ مسلمًا ولكن الله قد أنار بصيرته حتى رأى الحق صريحًا وذلك أن الكتاب المقدس هو كلمته وكتابه الوحيد لم يعتره تغيير ولا تحريف وأنه لا يمكن لأحد من البشر أن يتخلص من الهلاك الأبدي إلا بواسطة كلمة الله المتجسد في أحشاء مريم، وقد اتبعته وآمنت به واعتمدت باسمه تاركًا دين آبائي وأملاكي وأقاربي وأصدقائي؛ لأجل أن أتخلص من الهلاك الأبدي! والآن أدعوكم وأنصحكم بإخلاص ومحبة أخوية لتقرءوا كتاب الله تاركين كل تحزب وتعصب؛ إذ الدين بالاستدلال لا بالإرث عن الآباء وحينئذٍ فالله نفسه يهديكم إلى الصراط المستقيم الذي تطلبونه منه كل يوم مرات عديدة وإذا صعب فهم شيء من الكتاب المقدس على أحدكم فعليه بسؤال الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وهم يجيبونكم عن كل ما ترومونه والله القادر يرشدكم إلى طريق الحق والحياة بنعمته وهدايته آمين. (المنار) جاءتنا هذه الرسالة في البريد بإمضاء متنصر سمى نفسه باسمين، أو اسم جعل نفسه به عبدًا لإلهين، وهو (عبد الله، عبد الفادي) ونحن لا نناقشه فيما ادعاه من النسب. ولا من ترك النشب، فأما دعواه دراسة التفسير والعلوم الإسلامية فلا يبعد أن يكون لها أصل، لأن كثيرًا من الناس يزاول دراسة بعض الكتب عدة سنين ولا يفهم منها شيئًا. ويجوز أن لا يكون له أصل، ويترجح إذا كان الرجل صحيح الفهم؛ لأن من يدرس التفاسير وعلوم الإسلام، لا يمكن أن يثبت مسألة الفداء الأخروي التي صرح بنفيها القرآن ويستدل عليها بالأَضحية والقربان، فالقرآن إنما شرع لنا الفدية في الدنيا فقط، كفدية الصيام لمن يطيقه بمشقة شديدة لهرم أو داء عضال وهي أن يطعم عن كل يوم مسكينًا، وفدية محرمات الإحرام قال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (البقرة: 196) وفداء الأسير، ويُفدى الأسير بمثله أو بمال كما هو المتبع عند جميع الأمم. وأما النجاة في الآخرة فإنما تكون بالإيمان الصحيح والعمل الصالح كما هو منصوص في الآيات الكثيرة. ولا يمكن أن تكون بالفداء. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ} (المائدة: 36) وقال تعالى في شأن يوم القيامة: {وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} (البقرة: 48) والعدل هنا الفدية، وهو بمعنى المعادل. وأما حكمة الأَضحية وما في معناها من النسك فهي التوسعة على الفقراء ومساواتهم بالأغنياء في خير أطعمتهم وألذها. قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) . فمن عرف هذه الضروريات من الإسلام يجزم بأن صاحب هذه النشرة إما كاذب في دعواه أنه كان مسلمًا وأنه قرأ شيئًا من علم الإسلام، وإما أنه قرأ شيئًا وهو يتعمد اليوم تحريفه وتبديله، ويريد أن يغش عوام المسلمين به كما يفعل أمثاله وأقتاله. فعليه أن ينصح نفسه قبل أن ينصح غيره. وأن يعلم أن الدنيا لا تغني عن الآخرة التي لا تنفعه فيها فدية فادٍ ولا شفاعة شافع، إلا أن يؤمن بالله وحده، ويزكي نفسه بالعمل الصالح {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ * فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (المدثر: 48-49) . إن التحريف صار صنعة لدعاة النصرانية حتى إن من يلتصق بهم لأمر ما لا يلبث أن يتقن صنعتهم، ولهذا نرى صاحب هذه الرسالة حرف ما ورد من الفدية في القرآن عن موضعه ووضعه لمعنى طالما صرّح القرآن ببطلانه، كما حرف معنى قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) ومعناه أن القرآن رقيب على ما قبله من الكتب الإلهية يُظهر ما حرف منها ويفضح أصحابه، فجعله بمعنى منع الناس من تحريفه بالفعل لا بإظهار تحريفهم، وكيف يكون مانعًا من شيء وقع قبل نزوله؟ ولا يبعد أن يدعي في رسالة أخرى أن القرآن يثبت التثليث، وينهى عن التوحيد! ! ألم تر أنه ادعى أن خلاصه الكتاب المقدس - أي ما يعزى إلى أنبياء بني إسرائيل من وحي وغيره - لا تخرج عن معنى الكفارة والفداء؟ وهذه دعوى افتحرها القوم الذين التصق بهم، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا خطرت على بال أحد من الأنبياء ولا ممن عاصرهم أو جاء بعدهم من الأحبار، وقد بينا من قبل أصلها ومأخذها فلا حاجة إلى إعادته هنا. وأعجب من هذا وذاك أن مثل هذا الرجل يذكر كلمة (الدين بالاستدلال) فيالله العجب من تهافت نوع الإنسان! !

جيوش الدول المتحاربة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جيوش الدول المتحاربة أنشأ المقطم مقالاً مطولاً عنوانه: (الجيوش المتحاربة: تأليفها وعددها في زمن السلم والحرب) قال في الفصل الذي تكلم فيه عن الجيش الألماني (في عدد الجمعة 7 أغسطس 15 رمضان) بعد تفصيل: (فيكون مجموع الجيش الألماني كله في زمن الحرب خمسة ملايين ومئة وخمسين ألف جندي. ولكن الثقات الحربيين لا يظنون أن ألمانيا تستطيع رصد هذا العدد من الجنود للحرب ويرجحون أنها لا تقوى على رصد أكثر من 4.150.000 إلى 4.500.000 جندي على أكبر تقدير، وقال في آخرها: (ويقول الثقات العسكريون الذين شهدوا مناورات الجيش الألماني: إن الفنون الحربية والحركات العسكرية المتبعة فيه صارت قديمة (!) وإن رجال المدفعية في الجيش الفرنسي أمهر في الرماية منهم في الجيش الألماني. ولكن كلا الجيشين متساويان في سرعة التعبئة. فإن الجيش الألماني يُعبأ كله في تسعة أيام ويوضع على حدود روسيا أو على حدود فرنسا) . وقال في آخر الفصل الذي عقده لجيش فرنسا (في عدد السبت 8 أغسطس) ، (ويبلغ عدد الجيش الفرنسوي في زمن الحرب نحو أربعة ملايين جندي وفيه نحو ثلاثة آلاف مدفع. والجندي الفرنسوي مشهور بإقدامه وكرّه وحماسته وشجاعته ومقدرته على تحمل المشاق وقوة الابتكار الفائقة. ورجال المدفعية الفرنسيون أحسن رجال المدفعيات في العالم في الرماية، وهم متمرنون عليها ولا سيّما على إطلاق المدافع السريعة تمرنًا لا مثيل له في الجيوش الأوربية. وموضع الضعف في الجيش الفرنسوي هو في مدفعيته الكبيرة) . (وتتم تعبئه الجيش الفرنسوي في ثمانية أيام و 12 ساعة؛ أي أنه يعبأ أسرع من الجيش الألماني باثنتي عشرة ساعة) . (وسلاح الجنود بندقية لبل من عيار 13، وهي طراز قديم قليلاً ولكنها أحدث من بندقية موزر المستعملة في الجيش الألماني. أما مدافع الميدان فمن التي قطر فوهتها ثلاث بوصات وهي أحدث من مدافع الميدان في الجيش الألماني أيضًا) [1] . وقال في أواخر الفصل الذي عقده للجيش الروسي: (أما قوته في زمن الحرب فلا حد لها؛ وإنما يقال إنها تبلغ سبعة ملايين ونصف مليون جندي، فهو أضخم جيوش الأرض وأكبرها كلها) . ثم ذكر أن تعبئته تستغرق نحو ثلاثة أسابيع، وأن هذا موضع الضعف فيه. وقال في الفصل الذي عقده للجيش الإنكليزي: إن جملته في زمن السلم في الإمبراطورية كلها 849 و 810 وكان في العام الماضي 729.991 (ثم ذكر أنه سيزاد حتى يبلغ مليونًا ونصف مليون. *** برقيات الحرب ملخصة من المقطم استعداد الدول الكبرى (من لندن 31 يوليو) طلبت الحكومة الألمانية من الحكومة الروسية أن تكف عن تعبئته الجيوش وإلا فإنها تشرع في التعبئة مقابلة لها بالمثل. والظاهر أن روسيا مصممة على التدرع بالحزم ووقوف موقف صحيح العزيمة في المشكلة الحالية. تظن دوائر برلين السياسية أن الحكومة الألمانية تشرع في التعبئة اليوم (الجمعة) والاستعداد في فرنسا وإنكلترا قائم على ساق وقدم، والهمة مبذولة لإعداد كل ما يستطاع بأسرع ما يستطاع. (1 أغسطس) أصدر قيصر روسيا أمره بجعل تعبئه الجيوش عامة في جميع أنحاء الإمبراطورية الروسية، وكانت (من قبل) مقتصرة على خمسين ولاية منها. وقد أجابت ألمانيا على هذا الأمر بإعلان الحكم العرفي في جميع أنحاء الإمبراطورية الألمانية. وينتظر أن يسري الحكم العرفي بعد التعبئة يوم السبت (اليوم) وقد شرعت كل من ألمانيا وفرنسا وروسيا في إرسال الفيالق إلى الحدود من قبيل الاستعداد والاحتياط، أما الاحتياطات التي تتخذ في بريطانيا العظمى فمن أعظم ما يكون. *** إعلان الحرب وبدءها (لندن - 2 أغسطس) علمت وكالة أن تلغرافًا رسميًّا وصل الساعة الثالثة بعد ظهر اليوم وفيه أن الألمانيين غزوا فرنسا واجتازوا الحدود عند سيري (بلدة على الحدود قرب ستراسبورج) . (برلين - 2 منه) غزا جيش روسي بمدافعه وفرسانه من القوزاق بلاد ألمانيا بقرب بيالا. (لندن 2 أغسطس) رسمي: أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا. وقد برح كل من سفير روسيا في برلين وسفير ألمانيا في بطرسبرج مقر وظيفته. وقد شرعت الحكومة الفرنسية في تعبئة جيشها استعدادًا للحرب، وكانت ألمانيا قبل ذلك قد أرسلت أمس (السبت) بلاغًا نهائيًّا إلى روسيا وفرنسا، وأعطتهما مهلة اثنتي عشرة ساعة للإجابة عليه. فكان جواب روسيا وفرنسا عليه جوابًا غير مرضي. وشاع بعد إرسال ألمانيا لبلاغها النهائي أنها مددت هذه المهلة حتى ظهر يوم الاثنين، وتوسط ملك الإنكليز في الأمر فأرسل تلغرافين لقيصر روسيا وإمبراطور ألمانيا ولكن كل المساعي ذهبت أدراج الرياح فيما يظهر. (لندن 4 منه) برح السفير الألماني باريس في الليلة البارحة فتم بذلك قطع العلاقات السياسية تمامًا بين الدولتين. استولى الألمانيون على ثلاث مدن وثلاث جزائر من فرنسا في بحر البلطيك. (لندن 5 منه) رسمي: أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا الساعة السابعة من أمس. (بناء على عدم احترام ألمانيا حياد بلجيكا) . (برلين 5 منه) أعلنت ألمانيا الحرب على إنكلترا (وبدأت الحرب بينها وبين بلجيكا) . (لندن 7 منه) أعلنت النمسا الحرب رسميًا على روسيا. (لندن 13) منه أعلنت إنكلترا الحرب في منتصف هذا الليل على النمسا والمجر.

منع المنار من السودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منع المنار من السودان أمرت حكومة السودان بمصادرة مجلة المنار وإحراق نُسخِها , وما أنذرتنا ولا أخبرتنا؛ بل علمنا ذلك من بعض المشتركين، وكان ذلك في غيبة الحاكم العام، فلمّا عاد من أوربا بعد وقوع الحرب شكونا إليه ذلك، وطالبناه باسم الحريّة الدينية التي امتاز بالعناية باحترامها إنصافنا، ولعله يفعل عن قريب.

صفات البارئ تعالى

الكاتب: الشوكاني

_ صفات البارئ تعالى تحقيق الحق في مذاهب السلف واختلاف الخلف فيها فتوى للإمام الشوكاني رحمه الله تعالى اعلم أن الكلام في الآيات والأحاديث الواردة في الصفات قد طالت ذيوله، وتشعبت أطرافه، وتباينت فيه المذاهب، وتفاوتت فيه الطرائق، وتخالفت النحل؛ وسبب هذا عدم وقوف المنتسبين إلى العلم حيث أوقفهم الله، ودخولهم في أبواب لم يأذن الله لهم بدخولها، ومحاولتهم لعلم شيء استأثر الله بعلمه؛ حتى تفرّقوا فرقًا وتشعبوا شعبًا وصاروا أحزابًا، وكانوا في البداية، ومحاولة الوصول إلى ما يتصورونه من العامة مختلفي المقاصد، متبايني المطالب. فطائفةٌ؛ وهي أخف هذه الطوائف المتكلفة علم ما لم يكلفها الله سبحانه بعلمه إثمًا، وأقلها عقوبة ورجمًا، وهي التي أرادت الوصول إلى الحق والوقوف على الصواب؛ لكن سلكت في طلبه طريقة متوعرة، وصعدت في الكشف عنه إلى عقبة كؤود، لا يرجع من سلكها سالمًا، فضلاً عن أن يظفر فيها بمطلوب صحيح. ومع هذا أصَّلوا أصولاً ظنوها حقًّا، فدفعوا بها آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة نبوية، واعتلوا في ذلك الدفع بشبهة واهية، وحالات مختلفة. وهؤلاء هم طائفتان: الطائفة التي غلت في التنزيه فوصلت إلى حد يقشعر عنده الجلد، ويضطرب له القلب؛ من تعطيل الصفات الثابتة بالكتاب والسنة ثبوتًا أوضح من شمس النهار، وأظهر من فلق الصباح، ظنوا هذا من صنيعهم موافقًا للحق مطابقًا لما يريده الله سبحانه، فضلوا الطريق المستقيمة وأضلوا من رام سلوكها. والطائفة الأخرى هي الطائفة التي غلت في إثبات القدرة غلوًّا بلغ إلى حدّ أنه لا تأثير لغيرها، ولا اعتبار بما سواها وأفضى ذلك إلى الجبر المحض، والقسر الخالص فلم يبق لبعثة الرسل وإنزال الكتب كبير فائدة، ولا يعود ذلك على عباده بعائدة، وجاؤا بتأويلات للآيات البيّنات. ومحاولات لحجج الله الواضحات، فكانوا كالطائفة الأولى في الضلال والإضلال، مع أن كلا المقصدين صحيح، ووجه كل منهما صبيح، لولا ما شانه من الغلو القبيح. وطائفة توسطت [1] ورامت الجمع بين الضب والنون وظنت أنها قد وقفت بمكان بين الإفراط والتفريط، ثم أخذت كل طائفة من هذه الطوائف الثلاث تجادل وتناضل وتحقق وتدقق في زعمها. وتجول على الأخرى وتصول بما ظفرت به مما يوافق ما ذهبت إليه. وكل حزب بما لديهم فرحون. وعند الله تلتقي الخصوم. ومع هذا فهم متفقون فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فكان غاية ما ظفروا به من هذه (الأعلمية) بطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم في آخر أمرهم دين العجائز، وقالوا هنيئًا للعامة! فتدبر هذه الأعلمية التي كان حاصلها أن يهنأ من ظفر لأهل الجهل (؟) البسيط، ويتمنى أنه في عدادهم، وممن تدين بدينهم، ويمشي على طريقتهم. فإن هذا ينادي بأعلى صوت يدل بأوضح دلالة، على أن هذه الأعلمية التي طلبوها الجهلُ خير منها بكثير. فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه، ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته، أن يكون جاهلاً به عاطلاً عنه؟ ففي هذا عبرة للمعتبرين، وآية بينة للناظرين، فهلاّ عملوا على جهل هذه المعارف التي دخلوا فيها بادئ بدء، وسلموا من تبعاتها، وأراحوا أنفسهم من تعبها، وقالوا كما قال القائل: رأى الأمر يفضي إلى آخر ... فصير آخره أولاً وربحوا الخلوص من هذا التمني والسلامة من هذه التهنئة للعامة! فإن العاقل لا يتمنى رتبة مثل رتبته أو دونها. ولا يهنئ لمن هو مثله أو دونه؛ بل لا يكون ذلك إلا لمن رتبته أرفع من رتبته، ومكانه أعلى من مكانه، فيالله العجب من علم يكون الجهل البسيط أعلى رتبة منه. وأفضل مقدارًا بالنسبة إليه! وهل سمع السامعون بمثل هذه الغريبة أو نقل الناقلون ما يماثلها أو يشابهها. وإذا كان حال هذه الطائفة [2] التي قد عرفناك أنها أخف الطوائف تكلفًا، وأقلها تبعة فما ظنك بما عداها من الطوائف التي قد ظهر فساد مقاصدها، وتبين بطلان مواردها ومصادرها، كالطوائف التي أرادت بالمظاهر التي تظاهرت بها كيد الإسلام وأهله، والسعي في التشكيك فيه، بإيراد الشبه وتقرير الأمور المفضية إلى القدح في الدين وتنفير أهله عنه [3] . وعند هذا تعلم أن خير الأمور السالفات على الهدى، شر الأمور المحدثات البدائع [4] ؛ وأن الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون ثم الذين يلونهم، وقد كانوا - رحمهم الله تعالى وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم - يُمرُّون آيات الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يحرفون ولا يؤلون، وهذا المعلوم من أقوالهم وأفعالهم، والمتقرر من مذاهبهم، لا يشك فيه شاك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل، وإن نزغ من بينهم نازغ، أو نجم في عصرهم ناجم، أوضحوا للناس أمره، وبيّنوا لهم أنه على ضلالة، وصرّحوا بذلك في المجامع والمحافل، وحذروا الناس من بدعته، كما كان منهم لمَّا ظهر معبد الجهني وأصحابه وقالوا (إن الأمر أنف) [5] فتبرأوا منه، وبيّنوا ضلالته وبطلان مقالته للناس؛ فحذروه إلا من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة. وهكذا كان من بعدهم يوضح للناس بطلان أقوال أهل الضلال ويحذرهم منها، كما فعله التابعون - رحمهم الله - بالجعد بن درهم ومن قال بقوله وانتحل نحلته الباطلة [6] . ثم ما زالو هكذا لا يستطيع المبتدع في الصفات أن يتظاهر ببدعته، بل يتكتمون بها كما يتكتم الزنادقة بكفرهم. وهكذا سائر المبتدعين في الدين على اختلاف البدع وتفاوت المقالات الباطلة. ولكنا نقتصر ههنا على الكلام في هذه المسئلة التي ورد السؤال عنها وهي مسألة الصفات وما كان من المتكلفين علم ما لم يأذن الله بأنه يعلموه، وبيان أن إمرار آيات الصفات على ظاهرها هو مذهب السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأن كل من أراد من نزّاع المتكلفين، وشذّاذ المحرفين المتأولين، أن يظهر ما يخالف المرور على ذلك الظاهر، قاموا عليه وحذروا الناس منه. وبينوا لهم أنه على خلاف ما عليه أهل الإسلام. فصار المبتدعون في الصفات، القائلون بأقوال تخالف ما عليه السواد الأعظم من الصحابة والتابعين وتابعيهم - في خبايا وزوايا لا يتصل بهم إلا مغرور، ولا ينخدع بزخارف أقوالهم إلا مخدوع، وهم مع ذلك على تخوّفٍ من أهل الإسلام، وترقب لنزول مكروه بهم من حماة الدين من العلماء الهادين والرؤساء والسلاطين، حتى نجم ناجم المحنة، وبرق بارق الشر من جهة الدولة، ومَن لهم في الأمر والنهي والإصدار والإيراد أعظم صولة. وذلك في الدولة المأمونية بسبب قاضيها أحمد بن أبي دؤاد. فعند ذلك أطلع المكمشون في تلك الزوايا رؤوسهم، وانطلق ما كان قد خرس من ألسنتهم، وأعلنوا مذاهبهم الزائغة، وبدعهم المضلة، ودعوا الناس إليها، وجادلوا عنها، وناضلوا المخالفين لها، حتى اختلط المعروف بالمنكر، واشتبه على العامة الحق بالباطل، والسنة بالبدعة. ولما كان الله سبحانه قد تكفل بإظهار دينه كله وحفظه عن التحريف والتغيير والتبديل، أوجد من علماء الكتاب والسنة لهم في كل عصر من العصور من يبين للناس دينهم، وينكر على أهل البدع بدعهم، فكان لهم - ولله الحمد - المقامات المحمودة، والمواقف المشهودة في نصر الدين وهتك المبتدعين. وبهذا الكلام القليل الذي ذكرناه تعرف أن مذهب السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم هو إمرار آيات الصفات على ظاهرها، من دون تحريف لها، ولا تأويل متعسف لشيء منها، ولا جبر ولا تشبيه ولا تعطيل، يفضي إليه كثير من التأويل وكانوا إذا سأل سائل عن شيء من الصفات تَلَوْا عليه الدليل، وأمسكوا عن القال والقيل وقالوا: قال الله هكذا، ولا ندري بما سوى ذلك ولا نتكلف ولا نتكلم بما لم نعلمه ولا أذن الله لنا بمجاوزته، فإن أراد السائل أن يظفر منهم بزيادة على الظاهر زجروه عن الخوض فيما لا يعنيه، ونهوه عن طلب ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالوقوع في بدعة من البدع التي هي غير ما هم عليه وما حفظوه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحفظه التابعون عن الصحابة، وحفظه مَنْ بعد التابعين عن التابعين. وكان في هذه القرون الفاضلة الكلمة في الصفات متحدة، والطريقة لهم جميعًا متفقة، وكان اشتغالهم بما أمرهم الله به، وكلفهم القيام بفرائضه، من الإيمان بالله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصيام والحج والجهاد وإنفاق الأموال في أنواع البر، وطلب العلم النافع، وإرشاد الناس إلى الخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدرة، ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبدهم بالوقوف على حقيقته؛ فكان الدين إذا ذاك صافيًا عن كدر البدع، خالصًا عن شوب قذر التمذهب. فعلى هذا النمط كان الصحابة والتابعون وتابعوهم بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا، فمن قال: إنهم تلبسوا بشيء من هذه المذاهب الناشئة في الصفات أو غيرها، فقد أعظم عليهم الفرية، وليس بمقبول في ذلك؛ فإنّ نُقُول الأئمة المطلعين على أحوالهم العارفين بها الآخذين لها عن الثقات الأثبات، ترد عليه وعليهم وتدفع في وجهه. يعلم ذلك كل من له علم، ويعرفه كل عارف. فاشدد يديك على هذا واعلم أنه مذهب خير القرون ثم الذين يلونهم، ودع عنك ما حدث من تلك التمذهبات في الصفات وأرح نفسك من تلك العبارات التي جاء بها المتكلمون واصطلحوا عليها، وجعلوها أصلاً يرد إليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقاها فقد وافقا الأصول المقررة في زعمهم، وإن خالفاها فقد خالفا الأصول المقررة في زعمهم، ويجعلون الموافق لها من قسم المقبول والمحكم، والمخالفَ لها من قسم المردود والمتشابه؛ ولو جئت بألف آية واضحة الدلالة ظَاهرة المعنى أو ألف حديث مما ثبت في الصحيح - لم يبالوا به ولاء رفعوا إليه رؤوسهم، ولا عدوه شيئًا. ومن كان منكرًا لهذا فعليه بكتب هذه الطوائف المصنفة في علم الكلام. فإنه يقف على الحقيقة ويسلم هذه الجملة ولا يتردد فيها. ومن العجب العجيب، والنبأ الغريب، أن تلك العبارات الصادرة عن جماعة من أهل الكلام التي جعلها مَن بعدهم أصولاً، لا مستند لها إلا مجرد الدعوى على العقل، والفرية على الفطرة، وكل فرد من أفرادها تنازعت فيه عقولهم، وتخالفت فيه إدراكاتهم، فهذا يقول: حكم العقل في هذا كذا، وهذا يقول: حكم العقل في هذا كذا. ثم يأتي بعدهم مَن يجعل ذلك الذي يعقله مَن يقلده ويقتدي به أصلاً يرجع إليه ومعيارًا لكلام الله وكلام رسوله، يقبل منهما ما وافقه ويرد ما خالفه فيالله وياللمسلمين! ويالعلماء للدين! من هذه الفواقر الموحشة التي لم يصب الإسلام وأهله بمثلها. وأغرب من هذا وأعجب وأشنع وأفظع، أنهم بعد أن جعلوا هذه التعقلات التي تعقلوها على اختلافهم فيها وتناقضهم في معقولاتها أصولاً ترد إليها أدلة الكتاب والسنة - جعلوها أيضًا معيارًا لصفات الرب سبحانه، فما تَعَقَّله هذا من صفات الله قال به جزمًا، وما تعقله خصمه منها قطع به. فأثبتوا لله الشيء ونقيضه، استدلالاً بما حكمت به في صفات الله عقولهم الفاسدة وتناقضت في شأنه، ولم يلتف

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (س23و24) من صاحب الإمضاء الرمزي في سمبس برنيو (جاوه) حضرة العلامة الكبير، والإمام الجليل، أستاذنا السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر نفعني الله والمسلمين بوجوده الشريف آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فيا سيدي الأستاذ نرجو من فضيلتكم التكرم علي بأن تجيبوني عن الأسئلة الآتي ذكرها جوابًا مقنعًا، ولكم الفضل والشكر وهي: (أ) ما تقولون في قول الفقهاء: لا يجوز تحليف القاضي ولا الشهود وإن كان ينفع الخصم تكذيبهما أنفسهما؛ لأن منصبهما يأبى ذلك؛ ولأن التحليف كالطعن في الشهادة أو في الحكم. فإذا علم الشاهد أو القاضي أنه يحلف امتنع الأول من الشهادة والثاني من الحكم فيؤدي ذلك إلى ضياع حقوق الناس، وهذا فساد عام، فهل هذا القول صحيح؟ وقد جرت الحكومة الهولندية بتحليف الشهود قبل أن يؤدوا الشهادة سواء كانوا صادقين أو كاذبين فرأى كثير من عمال الحكومة أن ذلك هو الأحسن والأحوط والأوفق لهذا العصر. والمرجو من فضيلة سيدي الأستاذ إبداء رأيه السديد في هذه المسألة بالحجة والبرهان. (ب) هل من العقل والحكمة ومن مقاصد الشريعة الإسلامية ما اشترطه الفقهاء في الهبة من أنها لا تصح إلا بإيجاب وقبول، ولا تلزم إلا بقبض الموهوب له بإذن الواهب؟ قال في بداية المجتهد: وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول عند الجميع، وأما الشروط فأشهرها القبض. أعني أن العلماء اختلفوا: هل القبض شرط في صحة العقد أم لا؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أن من شرط صحة الهبة القبض، وأنه إذا لم يقبض لم يلزم الواهب، وقال مالك: ينعقد بالقول ويجبر على القبض كالبيع. إلى قوله: فمالك، القبض عنده في الهبة من شروط التمام لا من شروط الصحة، وهو عند الشافعي وأبي حنيفة من شروط الصحة. وقال أحمد وأبو ثور: تصح الهبة بالعقد، وليس القبض من شروطها أصلاً، لا من شروط تمام ولا من شروط صحة. اهـ فأي الأصح من هذه الأقوال المختلفة فيها؟ القول باشتراط القبض؟ أم القول بعدم اشتراطه؟ وهل يصح أن يحتج من اشترط القبض في الهبة بحديث أبي بكر أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقًا من مال الغابة فلما حضرته الوفاة قال: والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك. ولا أعز علي فقرًا بعدي منك. وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقًا، فلو كنت جذذتيه واختزنتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال ورث؟ وهل صح ما استدلوا به على أن القبض شرط في صحة الهبة من خبر أنه صلى الله عليه وسلم أهدى للنجاشي ثلاثين أوقية مسكًا فمات قبل أن يصل إليه فقسمه صلى الله عليه وسلم بين نسائه؟ هذا وأرجو فضيلتكم بيان هذه المسائل على قاعدة: (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) . ... ... ... ... ... (م. ب. ع) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... تحليف القاضي والشهود (ج) القول بأن تحليف القاضي والشهود لا يجوز شرعًا لما ذكر من العلل لم يظهر لنا وجه صحته، فقولهم: إن ذلك ما يأباه منصبهما، لا نعرف له مستندًا في الكتاب والسنة، وما يليق بالمنصب وما لا يليق به ليس أمرًا ثابتًا مطردًا دائمًا؛ بل هو مما يختلف باختلاف العرف والعادة ويتغير آنًا بعد آن، كما يعهد من الناس في الأمكنة المختلفة والأزمان. مثال ذلك أن العرف والعادة في مصر والآستانة والشام أن لا يخرج القاضي الشرعي والمفتي وكبار العلماء إلى زيارة أحد بغير عمامة، وهذه عادة قديمة حتى عند بعض العلماء من أعذار ترك الجمعة والجماعة فقد العمامة اللائقة بأمثال هؤلاء. ولكن هذه العادة لا تلتزم في الهند؛ فقد يخرج كبار العلماء من بيوتهم إلى زيارة بعض الإخوان بغير عمائم، وإنما يضعون على رؤوسهم نوعًا من الكُمات الرقيقة: (الكُمة - بالضم - شيء مستدير يوضع على الرأس ومنه ما يسمى في مصر طاقية وفي غيرها عراقية) وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع بعض أصحابه لزيارة وليس على رؤوسهم شيء. وقولهم: إن التحليف كالطعن في الشهادة أو الحكم، فممنوع، وقد يقال: إنه تأكيد لهما، وأما قولهم: إن القاضي والشاهد يمتنعان من القضاء والشهادة إذا علما أنهما يحلفان، فهو من النظريات المنقوضة بما عليه عمل كثير من الأمم الآن. فالحكومة العثمانية والحكومة المصرية قد جرتا على تحليف الشهود ولم يمتنعوا، وعلى تحليف من تسند إليهم المناصب الكبيرة يمين الإخلاص لرئيس الحكومة (السلطان) ولو قالوا: إن التحليف لمن ذكر لا يجب شرعًا، لَمَا وجدنا إلى مخالفتهم سبيلاً؛ ولكن نفي الجواز لا يسلم إلا بدليل شرعي. هذا وإن لتأكيد الشهود شهادتهما بالقسم أصلاً في القرآن كما ترى في شهادة الوصية {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناًّ} (المائدة: 106) {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} (المائدة: 107) وقد قال تعالى بعد بيان أحكام هذه الشهادة معللاً لها: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} (المائدة: 108) إلخ وسيأتي في التفسير قريبًا إن شاء الله تعالى. *** الهبة وما يشترط فيها معنى الهبة عند الجمهور: تمليك بلا عوض، ويرى بعضهم أنه يدخل في عمومها الإبراء من الدين والهدية والصدقة، وإنما يخص بعض الأنواع باسم لإفادة المعنى الخاص الذي انفرد به عن سائر الأنواع، فالصدقة هبة يراد بها ثواب الآخرة والأصل فيها أن تكون للمحتاج. والهدية هبة يراد التودد بها إلى المُهدى إليه، وتكون بين الأغنياء والفقراء؛ لأن التودد يكون بين جميع أصناف الناس. والعمدة فيها العرف؛ فما تعارف الناس عليه كان صحيحًا شرعًا ما لم يكن مخالفًا للشرع. وتحصل بالإيجاب القولي من الواهب والقبول القولي من الموهوب له كما تحصل بالتعاطي وهو إيجاب وقبول بالفعل. وهي تتحقق بالقبض قطعًا. وعدم القبض قد يكون ردًّا وقد يكون توانيًا. فهو جدير بأن يختلف فيه. وليس في الباب نصوص عن الشارع كلف الناس اتباعها في طرق التمليك والتملك. والحديث في هدية النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي جارٍ على مسألة العرف وتحقق الهبة بالفعل أو عدم تحققها، وهو في مسند أحمد من حديث أم كلثوم بنت أبي سليمة، وفي إسناده مسلم بن خالد الزنجي اختلف في توثيقه وتضعيفه. وأم موسى بنت عقبة، قال في مجمع الزوائد: لا أعرفها. وأما أثر عائشة فقد رواه مالك في الموطأ من طريق ابن شهاب عن عروة عنها، وروى البيهقي نحوه عن مالك وغيره. وظاهر الأثر أن عائشة لم تقبل نحلة أبيها فبقيت في يده إلى أن أدركته الوفاة فذكر لها أنه يتركها إرثًا. وأن هذا ليس من باب الاعتصار، وهو رجوع الوالد بما يهبه للولد في حياته، وهو جائز عند أكثر الفقهاء. وما قاله ابن رشد - من أن الهبة لا بد فيها من الإيجاب والقبول عند الجميع - فهو غير صحيح إذا أراد بهما الصيغة باللسان أو الكتابة، فقد نقل العلماء الخلاف في ذلك كالحافظ ابن حجر والإمام الشوكاني وغيره. وتجد تحرير هذه المسألة بدلائلها في جميع العقود في المبحث النفيس الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة العقود، فراجعه في المجلد الثالث من مجوعة فتاواه المطبوعة بمصر، وخص بالتأمل الوجه الثالث في ص 272 - 274.

الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستسحان

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

_ الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان [*] من مباحث كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي. وهو ما عقد له الباب الثامن منه، قال رحمه الله تعالى: هذا الباب يُضطرُّ إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة، فإن كثيرًا من الناس عَدُّوا أكثر المصالح المرسلة بدعًا، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات. وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة، فقالوا: إن منها ما هو واجب ومندوب، وعدُّوا من الواجب كَتْبَ المصحف وغيره، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارئ واحد. وأيضًا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص، ولا كونه قياسًا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية - في زعم واضعيها - في الشرع على الخصوص. وإذا ثبت هذا، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقًّا، فاعتبار البدع المستحسنة حق؛ لأنهما يجريان من وادٍ واحد. وإن لم يكن اعتبار البدع حقًّا، لم يصح اعتبار المصالح المرسلة. وأيضًا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقًا عليه؛ بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال: فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده؛ وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل. وذهب مالك إلى اعتبار ذلك، وبنى الأحكام عليه على الإطلاق. وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح؛ لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة. هذا ما حكى الإمام الجويني. وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتب التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله؛ لكن بشرط. قال: ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد. واختلف قوله في الرتبة المتوسطة، وهي رتبة الحاجي، فرده في المستصفى وهو آخر قوليه، وقبله في شفاء الغليل كما قبل ما قبله. وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله -: فالأقوال خمسة، فإذاً الراد لاعتبارها لا يبقى له في الواقع له [1] في الوقائع الصحابية مستند إلا أنها بدعة مستحسنة (كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الاجتماع لقيام رمضان: نعمت البدعة هذه) إذا لا يمكنهم ردها، لإجماعهم عليها. وكذلك القول في الاستحسان فإنه - على ما [2] المتقدمون - راجع إلى الحكم بغير دليل، والنافي له لا يعد الاستحسان سببًا، فلا يعتبر في الأحكام ألبتة، فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها. فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته كان من الحق المتعين: النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء؛ حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر، بحول الله، والله الموفق فنقول: المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام: (أحدها) : أن يشهد الشرع بقبوله، فلا إشكال في صحته، ولا خلاف في إعماله؛ وإلا كان مناقضًا للشريعة، كشريعة القصاص حفظًا للنفوس والأطراف وغيرها. و (الثاني) : ما شهد الشرع بردّه، فلا سبيل إلى قبوله؛ إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها؛ وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي؛ بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام، فحينئذٍ نقبله؛ فإن المراد بالمصلحة عندنا: ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال: فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى؛ بل برده، كان مردودًا باتفاق المسلمين. ومثاله ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان، فقال: عليك صيام شهرين متتابعين. فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدًا غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له: عليك إعتاق رقبة، لاستحقر ذلك وأعتق عبيدًا مرارًا، فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين. فهذا المعنى مناسب؛ لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر، والمَلك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام. وهذه الفُتْيَا باطلةٌ؛ لأنَّ العلماء بين قائلين: قائل بالتخيير، وقائل بالترتيب، فيقدم العتق على الصيام. فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا، لكنه على صريح الفقه. قال يحيى بن بكير: حنث الرشيد في يمين، فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة. فسأل مالكًا؛ فقال: صيام ثلاثة أيام. واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة. حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء، وشاورهم في مسألة نزلت به؛ فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائم [3] ووطئها في رمضان، فأفتوا بالإطعام، وإسحاق بن إبراهيم ساكت. فقال له أمير المؤمنين: ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه؟ فقال له: لا أقول بقولهم، وأقول بالصيام. فقيل له: أليس مذهب مالك الإطعام؟ فقال لهم: تحفظون مذهب مالك؛ إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين. إنما أمر مالك بالإطعام لمن له مال، وأمير المؤمنين لا مال له، إنما هو بيت مال المسلمين. فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه. اهـ. وهذا صحيح. نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته. فقال يحيى بن يحيى: يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين. فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده، فقالوا ليحيى: ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام؟ فقال لهم: لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة؛ ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود. فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى - رحمه الله - وكان كلامه على ظاهره، كان مخالفًا للإجماع. (الثالث) : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة، فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه. فهذا على وجهين: أحدهما: أن يرد نص على وفق ذلك المعنى، كتعليل منع القتل للميراث، فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه [4] فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض، ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر، فلا يصح التعليل بها، ولا بناء الحكم عليها باتفاق. ومثل هذا تشريع من القائل به، فلا يمكن قبوله. والثاني: أن يلائم تصرفات الشرع، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين، وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة، ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله. ولنقتصر على عشرة أمثلة: (أحدها) : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفقوا على جمع المصحف، وليس ثَمَّ نص على جمعه وكتبه أيضًا؛ بل قد قال بعضهم: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فروي عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: أَرسل إليَّ أبو بكر - رضي الله عنه - مقتل (أهل) اليمامة، وإذا عنده عمر - رضي الله عنه - قال أبو بكر: (إن عمر أتاني فقال) : إن القتل قيد استحرَّ بقراء القرآن يوم اليمامة [5] وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن (قال) فقلت له: هو والله خير. فلم يزل عمر يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري له، ورأيت فيه الذي رأى عمر. قال زيد: فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك. فقلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير. فلم يزل يراجعني في ذلك أبو بكر حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدورهما. فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والعسب واللخاف [6] ومن صدور الرجال. فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة. ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان، فأفزعه اختلافهم في القرآن، فقال لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة: أرسلي إلي بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك. فأرسلت حفصة بها إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى زيد ابن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاصي، وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف. ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم. قال: ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها. ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. فهذا أيضًا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لا يحصل منها في الغالب اختلاف؛ لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات - حسبما نقله العلماء المعتنون بهذا الشأن - فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان، وقال: يا أهل العراق، ويا أهل الكوفة: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها، فإن الله يقول: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ} (آل عمران: 161) وألقوا إليه بالمصاحف. فتأمل كلامه فإنه لم يخالف في جمعه. وإنما خالف أمرًا آخر. ومع ذلك فقد قال ابن هشام: بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه وسلم بما صنعوا من ذلك، ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعًا، فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة، والأمر بحفظها معلوم، وإلى منع الذريعة للاختلاف في أصلها الذي هو القرآن، وقد علم النهي عن الاختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه [7] . وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها، إذا خيف عليها الاندراس، زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم. وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل؛ لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مُغَفّلاً جدًّا إلا من النقل الجلي كما نقل ابن وضاح، أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يُشفى الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي، ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي، وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه، وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين، وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه، فأخذت نفسي بالعناء فيه، عسى أن ينتفع به واضعه، وقارئه، وناشره، وكاتبه، والمنتفع به، وجميع المسلمين، إنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته. المثال الثاني اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حد شارب الخمر ثمانين. وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل. قال العلماء: لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حد مقدر؛ وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزير. ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر - رضي الله عنه - قرّر على طريق النظر بأربعين، ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس فجمع الصحابة - رضي الله عنهم - فاستشارهم، فقال علي رضي الله عنه: من

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 1

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صديق بسم الله الرحمن الرحيم الغرض من هذه المحاضرات إيقافكم على أصول بعض أنواع العلوم الطبيعية والطبية، خصوصًا ما كان منها له مساس بعلم قانون الصحة، فإنه هو المقصد الأصلي الذي نرمي إليه في جميع هذه المحاضرات؛ لأن هذا العلم هو كثمرةٍ شهيَّةٍ ممّا تنتجه شجرة العلوم العصرية، طبيعية كانت أو طبية، والغرض منه معرفة الأصول والقواعد الصحية التي بها يحفظ الجسم من الضعف والانحلال بقدر الإمكان، وكذا من الأمراض المعدية وغير المعدية. وستسمعون مني في سياق هذه المحاضرات تعريب كثير من الألفاظ العلمية، وتطبيق حقائق هذه العلوم على نصوص الديانة الإسلامية الغراء. وهاكم أسماء العلوم التي نريد أن نتكلم عليها بعون الله تعالى: 1 - الكيمياء 2 - الطبيعة 3 - التشريح 4 - الفسيولوجيا [1] 5- الهستولوجيا [2] 6 - البكتيريولوجيا [3] الأمراض المعدية، وغير ذلك. *** نبذة في علم الكيمياء Chemistry الكيمياء القديمة كان الغرض منها معرفة حجر الفلاسفة وهو الجوهر الذي إذا وضع على أي معدن يُصيِّره ذهبًا على زعمهم. ومعرفة إكسير الحياة، وهو الذي كانوا يظنون أنه يعيد الشيخ شابًّا أو أنه يشفي جميع الأمراض. وأما الآن فالغرض من الكيمياء معرفة أصول المركبات وكيفية تركيبها وتحليلها. وهذه الأصول تسمى بالعناصر، والعناصر كثيرة؛ ولكنها الآن لا تتجاوز الثمانين، ومن أهمها الحديد والنحاس والأكسجين والكربون. وأما المركبات فمنها الخشب والسكر والماء وغير ذلك. والراجح عند العلماء الآن أن جميع العناصر هي أيضًا مركبات وكلها ترجع إلى أصل واحد، وهو الأثير الذي هو أبسط جميع الموجودات ومنه ركبت؛ وأصغر أجزاء هذه العناصر تسمى بالجواهر الفردة، وهي التي لا يمكن تقسيمها إلى أقل منها ولو في الذهن. والعناصر جميعًا تنقسم إلى قسمين: معادن وغير معادن؛ فالمعادن هي مثل النحاس والحديد، وغيرها ما ماثل الفحم والكبريت (المسمى بالعمود) والمعادن تختلف عن غير المعادن في أربعة أشياء: (1) أن المعادن لها لمعة خاصة بها، وغيرها ليس كذلك. (2) أن المعادن توصل الحرارة والكهرباء. (3) أن المعادن تقبل الانطراق والتمدد، وغير المعادن لا يقبل ذلك. (4) أن أكسيد المعادن يسمى القاعدة، وأكسيد غير المعادن يتركب منه الحمض. والأكسيد هو ما ينشأ من اتحاد الأكسجين مع أي عنصر من العناصر، مثال ذلك صدأ الحديد فإنه يسمى أكسيد الحديد لتركبه من الأكسجين مع الحديد، والقاعدة سميت بذلك؛ لأنها كالأساس تُبنى عليه الأملاح، والحمض غير العضوي ينشأ من إذابة أكسيد غير المعادن في الماء، واتحاد القواعد مع الحوامض يولد الأملاح. ثم إن أكسيد المعادن الذي يذوب في الماء يسمى (قلوي) ولفظ قلوي نسبة إلى قلي وهي كلمة فارسية معربة تطلق على نبات ينبت بشواطئ البحر يسمى الأشنان، إذا أُحرق تخلف منه رماد يشتمل على كثير من ملح يسمى: (كربونات الصوديوم) ، ومنه يعمل الصابون. وكربونات الصوديوم تسمى بالعربية نطرونًا، ولفظ النطرون أخذ منه اسم العنصر المسمى (صوديوم) فسموه نطريوم، ومن كلمة (قلي) أخذ لفظ قليوم وهو اسم لعنصر (البوتاسيوم) . وأشهر القلويات أكسيد الصوديوم أو النطريوم وأكسيد البوتاسيوم أو القليوم. وإذا أذيب القلوي في الماء تكون منه ما يسمى (هيدرات) أو إيدرات، ومعنى كل منهما (ماء) فإذا قيل هيدرات الصوديوم فمعناه ماء الصوديوم أو بالحري ماء أكسيد الصوديوم. *** أشهر العناصر وأشهر العناصر ما يأتي 1 - الأكسجين. 2 - الهيدروجين. 3 - النيتروجين. 4 - الكلورين. 5 - الصوديوم. 6 - البوتاسيوم. 7 - الكلسيوم. (وهو ما يتركب منه الجير) 8 - الفُسفُور. 9 - الكبريت 10 - الحديد. 11 - الكربون (الفحم) . فالأربعة الأول كلها غازات طيَّارة كالهواء، وهي لا لون لها، ما عدا الكلورين فإنه أخضر اللون، وهو معنى اسمه باليونانية. وأما الصوديوم والبوتاسيوم وإلخ فهي أجسام صلبة. *** العناصر المركبة في الجسم ويتركب من هذه العناصر أجسام أخرى مركبة تدخل في جسم الإنسان وهي تنحصر في خمسة أنواع 1 - الماء 2 - المواد الزلالية 3 - المواد الدهنية 4 - المواد السكرية والنشوية ونحوها 5 - أملاح عديدة أهمها كلوريد الصوديوم (ملح الطعام) وكربونات الكلسيوم (معدن الجير) وسُلفات الصوديوم (كبريتات) . فأما الماء فهو مركب من الأكسجين والهيدروجين ويدخل في جميع أجزاء الجسم، ومنه يتكون أكبر جزء فيه، وهو من أهم ما يلزم لحياة الجسم، بحيث إن الإنسان وأي حيوان آخر إذا امتنع عنه بضعة أيام يموت قطعًا. وأما المواد الزلالية فهي كزلال البيض (بياضه) وهي مركبة من الأكسجين والهيدروجين والنيتروجين والكربون (الفحم) والكبريت. وبعضها يدخل فيه الحديد كالمادة المسماة (هيموجلوبين) وهي الداخلة في كرات الدم الحمراء. ويتركب من المواد الزلالية: العظام واللحم والمخ والنخاع وجميع الأحشاء. وأما المواد الدهنية فهي مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، وتوجد في الغالب تحت الجلد وحول الأحشاء في البطن وغيره. ثم إن هذه العناصر الثلاثة الأخيرة يتركب منها الغلسرين وأحماض عضوية. فالأحماض العضوية هي التي لا تتكون بنفسها إلا في أعضاء النباتات والحيوانات. وباجتماع الغلسرين مع الأحماض العضوية ينشأ الدهن والزيوت الثابتة (مثل زيت السمك وزيت الزيتون) أما الزيوت غير الثابتة فهي مثل زيوت الروائح العطرية، وتركيبها يختلف عن ذلك كثيرًا. وأما المواد النشوية والسكرية ونحوها فتسمى في علم الكيمياء (بالكربوهيدرات) لأنها مركبة من الكربون والهيدروجين والأكسجين، والفرق بينها وبين المواد الدهنية هو في عدد الذرات وفي وضع بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر. والمواد السكرية والنشوية توجد بكثرة في الدم والكبد، فيوجد في الدم سكر العسل وفي الكبد نوع من النشا يسمى النشا الحيواني (الجليكوجين) . واعلم أن الياء والكاف (يك) إذا أضيفتا إلى آخر اسم الحامض دَلَّتَا على أن فيه أكسجين كثيرًا، والواو والزاي (وز) يدلان على أكسجين قليل، ولفظ (فوق) يدل على أن الأكسجين أكثر مما في الحمض المنتهي بالياء والكاف ولفظ (تحت) يدل على أنه أقل الحوامض التي من نوعه في الأكسجين، مثال ذلك: 1ً - فوق حامض الكلوريك: فيه 4 ذرات من الأكسجين. 2ً - وحامض الكلوريك: فيه 3 ذرات من الأكسجين. 3ً - وحامض الكلوروز: فيه 2 ذرات من الأكسجين. 4ً - وتحت حامض الكلوروز: فيه 1 ذرة من الأكسجين. والملح الذي ينشأ من الأول يسمى (فوق كلورات) والذي ينشأ من الثاني (كلورات) والذي ينشأ من الثالث (كلوريت) والذي ينشأ من الرابع (تحت كلوريت) . وكل ياء ودال (يد) يدلان على أن الجسم مركب من عنصرين فقط مثل كلوريد الصوديوم فإنه مركب من عنصرين فقط هما الكلورين والصوديوم، ولأجل تمييز الحوامض عن القلويات يستعمل ورق عباد الشمس Litmus فالحمض يصيره أحمر، والقلوي يصيره أزرق، والملح لا يغير لونه ويسمى (متعادلاً) . *** الاتحاد والمزج بقيت مسألة واحدة تتعلق بموضوع الكيمياء وهي الفرق بين الاتحاد وبين الخلط أو المزج. فالاتحاد معناه الارتباط والانضمام، والخلط والمزج معناهما ظاهر. وهناك في علم الكيمياء ثلاثة فروق كبيرة بين الاتحاد وبين الخلط أو المزج. (1) ففي حالة الاتحاد ينشأ مركب يخالف في صفاته وخواصه وطبائعه صفات أجزائه التي يتركب منها. وفي حالة الخلط أو المزج ليس الأمر كذلك، مثال ذلك الخشب فإن له صفات تغاير صفات عناصره كل المغايرة، وإذا خلطنا السكر مع الفحم بقي كل منهما حافظًا لصفاته وخواصه، وهناك مثال آخر وهو الماء والهواء، فالماء مركب متحد، والهواء مركب ممزوج. (2) أن الاتحاد الكيماوي يكون دائمًا بنسب ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، والنسب في الخلط ليست ملتزمة. (3) أن الاتحاد الكيماوي قد يولد حرارة وكهرباء، والخلط لا يولد شيئًا منها. *** النبذة الثانية في علم الطبيعة (Physics) علم الطبيعة هو علم ظواهر المادة يُبحث فيه عن طباعها وخواصها وقواها فهو علم الظاهر، والكيمياء علم الباطن. أما قوى المادة فمعناها حركات جواهرها (ذراتها) المختلفة، وتنشأ منها أعراض كثيرة أهمها ما نسميه بالكهرباء والحرارة والنور والمغناطيس؛ فإن الأشياء الأربعة ليست إلا حركات مختلفة لذرات المادة. ثم إن المادة لها ثلاثة أحوال: (1) اليبوسة. (2) السيولة. (3) البخارية أو الغازية، ويسمى الجسم في الحالة الأخيرة: الساطع أو الريح أو البخار وبالإفرنجية الغاز. واختلاف هذه الأحوال الثلاثة إنما نشأ من اختلاف مقدار الحرارة الموجودة في كل منها، فذرّات الغاز أشدَّها اضطرابًا وأكثرها حركة وحرارة، وذرات الجامد (اليابس) أقلها حركة وحرارة، وذرات السائل متوسطة بين الحالتين في الحرارة والحركة. فلا يمكننا تحويل الجسم من حالة اليبوسة إلى حالة السيولة إلا بالحرارة ولا يمكننا تحويله من حالة السيولة إلى الحالة الغازية إلا بالحرارة أيضًا. وكذلك الحالة في إذابة جميع الأجسام الجامدة في السوائل فإنها تمتص الحرارة من الأجسام المجاورة لها فإذا أذبنا مثلاً الملح الإنكليزي في الماء أحسسنا ببرودة في الإناء بسبب امتصاص حرارته لأجل الإذابة. والحرارة نوعان: حرارة كامنة وهي منصرفة في تفريق ذرات المادة ولا يمكن الإحساس بها، وحرارة ظاهرة وهي التي يشعر بها الإنسان. *** سنن التجاذب وأنواع التجاذب بين ذرات المادة تجاذب يظهر في أجرامها العظيمة كالكواكب، وفي أجرامها الصغيرة كالحصى، ويشاهد هذا الجذب بين القمر والأرض مثلاً في ماء البحار فيحصل فيه ما يسمى بالمد. ويُسمى هذا التجاذب بأسماء مختلفة باختلاف الأحوال: فالتجاذب بين ذرَّات الجسم الواحد كالحصى يسمى قوة الانضمام؛ وبالإنكليزية Cohesion والتجاذب بين جسمين مختلفين كالجدار وطلائه يسمى قوة الالتصاق؛ وبالإنكليزية Adhesion وبين الأرض وما عليها يسمى قوة الجذب Gravitation وكل ثقل لأي جسم إنما هو ناشئ من هذا الجذب الأرضي. واختلاف الأثقال هو ناشئ عن اختلاف عدد الذرات، فالجسم الثقيل هو ما كانت ذراته كثيرة، والجسم الخفيف هو ما كانت ذراته قليلة. وكل ما نعرفه ونشاهده على الأرض من الأجسام حتى الهواء له ثقل تسبب عن جذب الأرض له. وثقل الهواء على الأجسام يسمى الضغط الجوي، ولقياسه يستعمل البارومتر. أما البارومتر فهي كلمة يونانية معناها: (مقياس الثقل) أي ثقل الهواء وأبسط طريقة لصناعته أن تملأ أنبوبة زجاجية بالزئبق عادة طولها 90 سنتي مترًا وقطرها سنتي واحد ثم تسد بالإصبع وتغطس فتحتها في إناء مملوء بالزئبق ثم يرفع الإصبع فترى أن الزئبق ينزل في الأنبوبة ويترك مسافة فارغة في أعلاها ويكون ارتفاع الزئبق في الأنبوبة عن سطح الزئبق الذي في الإناء نحو 76 سنتي مترًا، والذي رفعه إلى هذه المسافة هو ضغط الهواء على سطح الزئبق الذي في الإناء. ويمكن أيضًا عمل البارومتر بأنبوبة على شكل حرف (ل) مسدودة من طرفها الأعلى ومفتوحة من الأسفل فيبقى الزئبق مرفوعًا كما في الطريقة الأولى. ومن فوائد البارومتر معرفة ارتفاع الجبال وغيرها كالمناطيد؛ لأن الزئبق ينزل في الأنبوبة كلما ارتفعنا لخفة الهواء في الأماكن العالية، وكذلك نعرف منه قرب حصول المطر؛ فإن الهواء ال

الامتيازات والشريعة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الامتيازات والشريعة الإسلامية [*] الأسباب التي تحمل الدول الأوروبية على صيانة الامتيازات الأجنبية في تركيا - الشريعة الإسلامية قائمة على القرآن لا تساوي بين المسلم وغير المسلم. أعلنت الحكومة العثمانية أنها ألغت امتيازات الأجانب في بلادها فاحتجت الدول الأوروبية والولايات المتحدة على هذا العمل الذي خرقت به تركيا المعاهدات الدولية، وعلت الأصوات بالشكوى من الحالة السيئة التي يصير إليها الأجانب في تركيا فيما لو أُلغيت الامتيازات المذكورة وصار الأجانب في تركيا مثل العثمانيين خاضعين للمحاكم الأهلية، ولم يبق لهم الحق على رجوعهم إلى محاكم قنصلياتهم في دعاويهم المدنية والجنائية. وقد عثرنا على مقالة خطيرة في هذا الشأن لأحد الكَتَبَةِ السياسيين في جريدة الصن النيويركية أردنا تلخيصها إتمامًا للفائدة، قال: لا الولايات المتحدة ولا دولة أخرى أجنبية نصرانية ترضى أن رعاياها الذين لهم مصالح في تركيا والذين لسبب من الأسباب اضطروا أن يسكنوا فيها مؤقتًَا أو دائمًا - أن يكونوا خاضعين للمحاكم القضائية القائمة على تعاليم القرآن، فطرائق العدالة الإسلامية شرقية بلفظها ومعناها، وطرائق العقاب الإسلامية بلغت من القساوة مبلغًا عظيمًا بحيث إن الحكومة الأجنبية التي تترك رعاياها تحت رحمة محاكم تركيا الوطنية تخسر ثقة شعبها. وفضلاً عن ذلك أن الأجانب بعد إلغاء هذه الامتيازات لا يكونون تحت رحمة تلك المحاكم الجائرة فقط؛ بل يعرضون نفوسهم لضرائب فادحة فإن الحكومة العثمانية التي تنفق أموالاً طائلة على جنديتها وبحريتها وعليها دين وطني وأجنبي عظيم، وهي منكوبة بأشد أزمة مالية - لا بد أن تضرب في المستقبل ضرائب فادحة على الأجانب في بلادها، بعد أن نضبت مواردها الوطنية بكثرة ما وضعته عليها من الضرائب الباهظة. ولا يقدر الباب العالي أن يمنح الحكومات الأجنبية شيئًا يذكر في مقابل موافقتها على إلغاء الامتيازات الأجنبي في تركيا، فالحكومة الحاضرة في الآستانة غير قائمة على أساس ثابت؛ بل هي دائمًا تحت رحمة أناس مغامرين متهوسين نظير أنور باشا ناظر الحربية السابق (؟) أو المسيطر الحقيقي على تركيا، الذي تلطخت يداه بدم ناظم باشا القائد العثماني الشجاع المقتول بخيانة جبانة. ولذلك باتت الحكومة العثمانية تحت خطر دائم، ولا يبعد أن تقع ثورة في الغد تسقط هذه الحكومة وتلغي الدستور وتنقض كل الاتفاقات التي عقدتها الحكومة السابقة، وتعيد الحكم الاستبدادي بما يرافقه من جور وفظاعة. وما لابد من ذكره أن امتيازات الأجانب في تركيا لم تؤخذ منها بالقوة؛ بل هي منحتها مختارة، ومنشأها احتقار المسلم الشديد لكل من هو غير مسلم، فالإسلام لا يقدر أن يتصور وجود مملكة مختلفة، فهو لا يحسب حسابًا إلا للبلاد التي كل سكانها مسلمون، ويعتقد أن العالم كله سيؤلف في آخر الأمر مثل هذه المملكة. هذا من جهة النظريات، أما من الوجه العملي فالمسلم لا يكترث لوجود غير مسلم في بلاده، ولا يعترف بمساواة غير المسلم به. وبالتالي إن المسلمين لا يهمهم ما يفعله غير المسلمين ويتفكرون به ما زالوا خارجين عن دائرة الإسلام. والذي يستحق الذكر أيضًا أن الإسلام انتشر بالفتح لا بمساعٍ سلمية، وقد استعان المسلم الفاتح على إدارة شؤون البلدان التي فتحها بالطرائق الإدارية التي وجدها مرعية فيها، وقد رأى في تلك البلدان دوائر روحية للنصارى واليهود أبقاها على حالها، وصار الأساقفة والحاخاميون ورؤساؤهم المسؤولون واسطة بينهم وبين الحكام المسلمين. وعلى هذه القاعدة صار الأجانب الساكنون والمتاجرون في تركيا وبلاد فارس ومصر وبقية الممالك الإسلامية تحت سيطرة قناصلهم القضائية أولاً باستمرار العادة، وثانيًا بعقد معاهدات. ولم ينالوا هذا الأمر من باب الامتياز بل من وجه أنهم أحط من أن ينتفعوا بمنافع العدالة الإسلامية القائمة على القرآن. وقد فتحت عن هذه الطريقة شريعة الامتيازات الخارقة العادة التي أعفت السفير الأجنبي وبيته وأملاكه من القضاء العثماني، وتناولت هذه الشريعة رعايا دولته الأصليين والمجنسين بجنسيتها. ومع نقصان قوة المملكة الإسلامية وازدياد قوات الدول الأجنبية كانت امتيازات الأجانب تزداد قوةً وأهمية في البلدان الخاضعة للحكم الإسلامي حتى أصبحت المستعمرات الأجنبية في كل مملكة إسلامية أشبه بممالك صغيرة ضمن مملكة كبيرة. ومن الأدلة على أن الامتيازات الأجنبية في الممالك الإسلامية لم تُنَل بالقوة أن سويسرا والبرتوغال والبلجيك تتمتع في تركيا وبلاد فارس ومصر بنفس الامتيازات التي تتمتع بها الولايات المتحدة وإنكلترا وفرنسا وروسيا وألمانيا وغيرها من الدول العظمى. هذا وإن كثيرين من رجال الحكومة العثمانية نظير أحمد رستم بك السفير العثماني في واشنطون المتعصب لإسلامه الجديد - يقولون: إن قوانين تركيا المدنية والجنائية لا تنقص بشيء عن القوانين الغربية بعد أن وضعها مشترعون عثمانيون وأوروبيون. إنهم مصيبون في قولهم، فالقوانين العثمانية خليط بين نظام نابليون والشريعة الإسلامية وملتقى الأنهر، ولكنها موجودة بالاسم فقط، فإن نجم الدين بك ناظر العدلية في الحكومة العثمانية الجديدة أدرى الناس بهذا الأمر، فقد رفع بالأمس تقريرًا عن الإصلاحات التي أدخلتها حكومته على دوائر الشريعة والقضاة وإنفاذ النظام الجديد، ولما سئل عما إذا كان هذا النظام يساوي بين المسلم والنصراني واليهودي أجاب بكلام لا يحتمل الريب، وقال: (إن هذا الأمر يستحيل على المسلم أن يتصوره فهو لا يفكر به أبدًا) . وبناء على ما تقدم يظهر أن نظام العدل في تركيا ديني غير خاضع لناظر العدلية كما هو في بقية الحكومات؛ بل لشيخ الإسلام الذي ليس رئيس رجال الدين الإسلامي في المملكة العثمانية فقط؛ بل قاضيها الأكبر، فلا مرد لحكمه ولا اعتراض على فتواه. وهو يرأس مرتين في الأسبوع محكمة العدل العليا المتصلة بقصره في إستامبول. ولشيخ الإسلام سيطرة على الأمة والعلماء والمتصوفة، وعلى رؤساء الكليات الدينية والمحاكم القضائية، فكل القضاة في محاكم تركيا العليا والبدائية ينالون مناصبهم منه وهم تحت نفوذ ديني شديد، بدليل أن مرتباتهم المالية تؤخذ من ريع الأوقاف الإسلامية التي هي ثلاثة أرباع العقارات المدنية في المملكة العثمانية، وقد رافقت أُجَّارها من الفلاحين شروط جائرة: منها أن الفلاح المستأجر بعضها إذا مات بدون عقب فأرضه تعاد إلى الأوقاف لأنه لا يقدر أن يتركها لأرملته أو أحد أنسابه. ولا يمكن حمل مفسري الشريعة الإسلامية على جعلها حديثة، أو إقناعهم بأن الأحكام تتغير بتغير الأزمان، وبأن الأزمنة قد تغيرت منذ أربعة عشر قرنًا حين وضع النبي محمد الشريعة الإسلامية في بلاد العرب لتنطبق على حاجات أبناء البادية وسكان الوبر. فشيخ الإسلام في الآستانة والمفتي الأكبر في القاهرة وكل قاض مسلم كبيرًا كان أم صغيرًا يعتبرون الحَيَدَان عن تعاليم النبي محمد خطيئة مميتة أو جريمة ضد الأشياء المقدسة. ومن الأدلة على عدم إمكان تطبيق أحوال النصارى على منطوق الشريعة الإسلامية ما جرى في القاهرة سنة 1910 حين رفض المفتي الأكبر الموافقة على إعدام الورداني قاتل بطرس باشا غالي رئيس الوزارة المصرية والأول مسلم والثاني نصراني قبطي، وكانت حجة المفتي في عدم الموافقة على إعدامه أن الشريعة الإسلامية لا تحكم بإعدام المسلم لقتله نصرانيًّا، فالمسلم الذي يقتل نصرانيًّا لا يعتبر مجرمًا في نظر الشريعة الإسلامية. وقد استغربت الحكومة الإنكليزية هذه الفتوى ولم تعمل بها، وشنقت الورداني غير مكترثة لفتوى المفتي الأكبر الذي ذكر سببًا آخر لامتناعه عن الفتوى بإعدام الورداني فقال: إنه لم يرد في القرآن ذكر للمسدسات، ولا في الشريعة القائمة على الحديث، ولذلك لا يعتبر المسلم بالشريعة المقدسة مجرمًا إذا استعمل المسدس لجرح أو قتل. وزبدة القول: أن فتوى مفتي الديار المصرية في عدم تجريم مسلم يقتل نصرانيًّا، وقول ناظر العدلية العثمانية باستحالة مساواة النصراني واليهودي بالمسلم أمام الشريعة العثمانية - حجة قاطعة تحتج بها دول أوربا والولايات المتحدة في عدم تنازلها عن الامتيازات الأجنبية في تركيا والسماع للباب العالي بإلغائها. *** تفنيد مزاعم السياسي الأمريكاني في الشريعة الإسلامية يتوهم كثير من الشرقيين ولا سيّما المتفرنجين منهم أن كُتاب السياسة والتاريخ وعلماء القوانين والشرائع من الإفرنج لا يكتبون في جرائدهم الشهيرة ومصنفاتهم إلا الحقائق الثابتة التي قتلوها بحثًا وتدقيقًا وتمحيصًا. ويظن الذين يسيئون الظن بالإفرنج ويتهمونهم بالتعصب وغمط حقوق الشرقيين كافة والمسلمين خاصة؛ أنه لا يكاد يوجد فيهم عارف منصف يقول الحق إذا كان لغير قومه لا لهم، ولا حظ لهم فيه، والمحققون المعتدلون يعلمون أن المستقلين فيهم كثيرون، ويظنون أن الأمريكيين منهم أقرب إلى الإنصاف، وأبعد عن الجور والاعتساف فيما يحكمون به على الشرق والإسلام ويصفونهما به؛ لأنه ليس بين الأمريكيين والشرقيين من المنازعات والمطامع السياسية مثل ما بين الأوربيين والشرقيين. وهؤلاء يستغربون مثل هذه المقالة من سياسي أمريكي في جريدة أمريكية شهيرة. بل أقول: قد يستغرب مثل هذه المقالة كل من قرأها من أبناء العربية في مصر وسوريا بقدر احترامه للأمة الأمريكية الجليلة؛ لأنه لا يستطيع أن يبرئ الكاتب من إحدى الخلتين: الجهل أو التعصب الحامل على قول الزور، فإن من لم يعلم من أهل هذه البلاد أن ما حكم به الكاتب على الإسلام زور وبهتان كقليلي الاطلاع من النصارى - يعلم أن ما نسبه إلى مفتي مصر من القول بأن الشريعة الإسلامية لا تحكم بقتل المسلم الذي يقتل النصراني، قول باطل لم يقله ولا يمكن أن يقوله مفتي مصر؛ لأن جميع الكتب التي يستمد منها نصوص الفتوى مصرحة بأن المسلم يقتل بغير المسلم. جعل الكاتب السياسي العلة الأولى لوجوب عدم رضاء الدول بالخضوع للمحاكم العثمانية هي كونها قائمة على تعاليم القرآن وكون المسلم يحتقر غير المسلم ولا يعترف بمساواته له. ماذا عرف هذا الكاتب من أحكام القرآن في العدل والمساواة، ومن أين استنبط حكمه عليه؟ قال الله تعالى في مسألة الحكم بين اليهود وكانوا أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من جميع مَن ناصبوه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) والقسط هو العدل. وقال تعالى في مسألة الحقوق والحكم العام بين الناس كافة من مسلم وغيره: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) قال: بين الناس، ولم يقل: بين المسلمين. وقال في العدل العام والشهادة التي هي ركن القضاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ

تاريخ إعلان الدول الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ إعلان الدول الحرب ذكرنا من قبل إعلان أكثر الدول للحرب، والآن نعيده مستوفى فنقول: أعلنت النمسا الحرب على الصرب في 28 يوليو سنة 1914. وأعلنتها ألمانيا على روسيا في 1 أغسطس، وفي 4 أغسطس أعلنتها على البلجيك وفرنسا وفي منتصف ليل 5 أغسطس أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا. وفي 6 أغسطس أعلنتها النمسة على روسيا، وفي 7 أغسطس أعلنها الجبل الأسود على النمسا. وفي 10 منه أعلنتها فرنسا على النمسا، وفي 12 منه أعلنتها إنكلترا على النمسا. وفي 17 منه أعلنها الجبل الأسود على ألمانيا، وفي 23 منه أعلنتها اليابان على ألمانيا، وفي 26 منه أعلنتها النمسا على اليابان.

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 2

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (2) (المطر) {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (الروم: 48) . المطر يتولد من تصاعد بخار مياه البحار وغيرها، والعمدة في تبخيرها حرارة الشمس. والفرق بين الغليان وبين هذا التبخر التدرجي هو أن التبخر يحصل من سطح السائل فقط، وفي حالة الغليان ينبعث البخار من جميع أجزاء الماء. أما الحرارة اللازمة للتبخر في الحالتين فكميتها واحدة. وتتولد الحرارة أيضًا في مياه البخار من احتكاك بعض ذراتها ببعض ومن احتكاك الهواء بسطح البحر. وعمل الريح ضروري جدًّا لتولد السحاب من البحر، ذلك: (1) أنه باحتكاكه بسطح البحر يولد حرارة تساعد على التبخر. (2) وأنه يحمل معه كثيرًا من ذرات الماء بمجرد هبوبه عليه حملاً آليًّا (ميكانيكيًّا) . (3) وأنه يسوق الهواء الذي شبع بالماء ويرفعه إلى السماء ليحل محله هواء آخر خالٍ من الماء، وبذلك يزداد تبخر البحر، ولولا ذلك لوقفت حركة التبخر لامتلاء الهواء الذي على سطح البحار بالماء. لذلك قال الله تعالى:] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [أي تهيجه وتحركه وترفعه عن سطح البحار كما ترفع التراب عن الأرض. والماء يوجد في الهواء بصور مختلفة أشهرها الطل والضباب والبَرَد والصقيع والمطر. ففي حالة البَرَد والصقيع يكون الماء متجمدًا، وفي حالة الضباب والطل والمطر يكون سائلاً، والفرق بين هذه الأحوال إنما هو في درجة الحرارة فقط. وإذا اجتمعت ذرات الضباب بعضها ببعض سقطت إلى الأرض بصورة طل أو مطر وإذا اجتمعت ذرات البرد بعضها ببعض سقطت إلى الأرض بصورة قطع صغيرة من الثلج تسمى الصقيع. وعليه فلا فرق بين أنواع السحاب سواء أكانت قريبة من سطح الأرض أم بعيدة عنه، فهي على كل حال عبارة عن ذرّات صغيرة جدًّا من الماء السائل أو المتجمد. وفي أثناء سقوط المطر يختلط بالهواء فيذوب فيه بالنسبة التي سبق بيانها، وكذلك يختلط بكل ما يوجد في الهواء من تراب أو أي غبار آخر أو جراثيم مَرَضية أو غير مرضية ... إلخ. ولذلك يتلون المطر في بعض البلاد بألوان مختلفة كالأسود والأحمر بحسب ما يختلط به. فماء المطر وإن كان أنقي ماء في الكون إلا أنه ليس أنقى من الماء المقطر الذي نحصل عليه صناعيًّا. ومن هذه الأجزاء الذائبة في ماء المطر ما هو نافع للحيوانات والنباتات، فإن الهواء الذائب في الماء ضروري للحيوانات البحرية ونافع للحيوانات البرية كالإنسان. فإنه يجعل الماء خفيفًا على معدته، بخلاف ما إذا كان خاليًا من الهواء، وكذلك توجد بعض مواد ذائبة في ماء المطر كانت سابحة في الهواء، فإذا سقطت إلى الأرض نفعت النباتات فتغذت منها، ولا تمتص النباتات شيئًا من الأرض ما لم يذب في الماء. ومن الأشياء المختلطة بالمطر ما هو ضار كالجراثيم المَرَضِيَّةِ. *** الأنهار والعيون إذا نزل المطر إلى الأرض سالت منه أودية على سطحها تسمى بالأنهار وامتصت الأرض جزءًا آخر منه يسيل في جوفها كالأنهار؛ وهو في الحقيقة أنهار باطنية، وجميع هذه الأنهار الظاهرة والباطنة تتجه شطر البحار ونحوها. ومن هذه الأنهار الباطنية تتفجر الينابيع ويستخرج ماء الآبار. فجميع الماء العذب الذي يشربه الحيوان سواء أكان أصله من الأنهار أم من الآبار أو الينابيع هو كله من ماء المطر. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} (الزمر: 21) الآية. وإذا امتصت الأرض الماء أو سال على ظهرها اختلط بجميع ما يوجد فيها من الأملاح وغيرها، ومن ذلك نشأ الاختلاف بين أنواع المياه لاختلاف تربتها، فمنها العذب الفرات ومنها الملح الأجاج، وإن كانت في الأصل كلها عذبة. أما سبب انفجار الينابيع [1] الطبيعية فهو اختلاف في مستويات طبقات الأرض المتنوعة، فإذا كنا في بقعة من الأرض منخفضة عن باقي سطحها سهل انفجار الينابيع فيها بنفسها أو بمساعدتنا، فإن من السنن الإلهية أن السوائل تميل إلى الموازنة فلذا يصعد ماء الينبوع المتفجر حتى يساوي ماء النهر الباطن الذي صدر منه. والآبار نوعان: آبار قريبة وآبار عميقة؛ فالآبار القريبة هي التي يأتيها الماء من الطبقة الإسفنجية [2] الأولى وهي عرضة لأن تتلوث بالمياه القذرة التي على سطح الأرض أو بالمياه القريبة من هذه الآبار كالمراحيض. والآبار العميقة هي التي يأتي إليها الماء بثقب طبقة الأرض البعيدة حتى تصل إلى الطبقة الإسفنجية الثانية، وقد يرتفع الماء بنفسه في هذه الآبار بنوعيها إذا كان مصدره عاليًا وقد نحتاج إلى الآلات لجذبه إلينا. والنوع الثاني من الآبار أبعد عن التلوث من النوع الأول ويسمى بالآبار الأرتوازية نسبة إلى إقليم أرتواز (Artois) بشمال فرنسا حيث حفرت أول بئر سنة 1126. ولأجل صيانة الآبار عن التلوث يجب أن تراعى الشروط الآتية في حفرها: الشرط الأول: أن تكون بعيدة عن جميع المنازل المسكونة بنحو 30 مترًا على الأقل. الثاني: أن لا تكون في الجهة البحرية للمنازل في بلاد مصر؛ لأن المياه الباطنية في مصر تنحدر كمياه النيل من الجهة القبلية إلى الجهة البحرية وعلى ذلك تكون الآبار المحفورة في الجهة البحرية في طريق المياه الملوثة من المنازل. الثالث: أن تكون حيطان (جدران) هذه الآبار صقيلة، وأن تكون الآبار دائمًا مغطاة. ولسهولة الحصول على مياه صحية نقية توجد طريقة أخرى سهلة وهي استعمال الطلمبات الحبشية لنرتون (Norton) وهي مؤلفة من أنابيب معدنية تدق في الأرض إلى بعد عميق جدًّا وتكون الأولى منها ذات طرف دقيق (مدبب) كالمسمار وجميع جوانبها مخرقة إلى بعد نحو قدمين، وفي نهاية هذه الأنابيب من الجهة العليا يركب عليها طلمبة لجذب الماء. والمياه التي تخرج بهذه الطلمبة نقية جدًّا؛ لأنها صادرة من أعماق الأرض البعيدة ولا تتلوث بشيء مما على سطح الأرض أو في داخلها. والأشياء التي توجد في المياه هي كما سبق نوعان: أشياء معلقة، وأشياء ذائبة، أما الأشياء المعلقة فهي توجد في مياه الأنهار بكثرة عظيمة. وأما مياه الآبار فإنها تكاد تكون خالية إلا من الأشياء الذائبة؛ لأنها تصفّى من خلال طبقات الأرض. فالمياه الباطنية إذًا أقل ضررًا للصحة من مياه الأنهار الظاهرة كما لا يخفى، وللحصول على ماء نظيف من مياه الأنهار الظاهرة يجب إما غليها أو تقطيرها أو تصفيتها بالآلات المسماة بالنواضح (المرشحات) وقد يستعمل (الشب) لتنقية الماء وهو لا ضرر فيه والسبب في فعله هذا أنه يتحد مع بعض أملاح الماء مثل: (بيكربونات الجير) فيتكون ما يسمى هيدرات الألومنيوم [3] وهي مادة غروية تريب إلى أسفل الإناء فتحمل معها كل ما كان معلقاً في الماء تقريبًا وبذلك يتنقى. ويوضع الشب في الماء بنسبة جرام إلى كل 14 لترًا من الماء تقريبًا. أما تنقيته بنوى المشمش المُرّ فهي ضارة؛ لأنه قد يتولد منه حامض الهيدروسينيك وخصوصًا إذا كان مقداره عظيمًا وتُرك مدة طويلة، وهذا الحامض هو سم زعاف سريع التأثير جدًّا. وعيب الماء المغلي أنه يشتمل على المواد المعلقة ويكون خاليًا من الهواء وعيب الماء المقطر أنه يكون خاليًا من جميع الأملاح التى كانت في الماء فيكون قليل التغذية للجسم، فإن هذه الأملاح ضرورية للحياة. وعيب الماء المنقى بالشب أنه لا يكون نقيًّا للغاية المطلوبة، وإذا زاد مقدار الشب أفسد طعم الماء، وأحدث عند متعاطيه إمساكًا شديدًا. أما الماء المصفى بالنواضح فهو خير المياه؛ لأنه يكون مشتملاً على الهواء والأملاح اللازمة للجسم ونظيفًا من كل ما يضر تقريبًا. وأنواع النواضح كثيرة فمنها الخابية (الزير) ومنها ما يكون مصنوعًا من الفخار أو الفحم (وهو أردؤها) وقد يستعمل الرمل لتنقية الماء بالنضح أيضًا. والنواضح عبارة عن أنبوبة من الفخار جوفاء يمر في مسامها الماء من ظاهرها إلى جوفها الفارغ، والدافع للماء على هذا المرور هو الضغط عليه. وفي البلاد التي فيها الشركات المائية يندفع الماء بسبب ارتفاع الخزانات التي تضعها هذه الشركات دائمًا في مكان أعلى من المدينة. ويجب تنظيف هذه النواضح كل ثلاثة أيام بغسلها جيداً بالماء والصابون مع شيء خشن كالمسفرة (الفرشة) أو الليف ثم تغلى في الماء لمدة عشر دقائق على الأقل لقتل جميع الجراثيم الساكنة فيها. وأسهل طريقة لتنظيف الخوابي (الأزيار) هي غسلها أولاً بالماء المغلي من الداخل والخارج غسلاً جيدًا، ثم طرحها في الشمس مدة طويلة حتى تجف تمامًا وبذلك يمكن أن تموت جل أو كل ميكروباتها الضارة. أما مرور الماء أو خزنه في أنابيب أو خزانات من الرصاص ففيه ضرر، وهذا الضرر يختلف باختلاف أنواع المياه والمواد الذائبة فيها: فأملاح الكلوريد والنترات تساعد على إذابة شيء من الرصاص في الماء وكذلك الهواء والأحماض؛ فإذا اشتمل الماء على شيء من هذه الأشياء المذكورة - وهو قَل أن يخلو منها - ذاب من الرصاص ما يكفي لإفساد صحة الإنسان. أما الأملاح الأخرى الآتية - وهي السلفات والفسفات والكربونات - فإنها تعوق ذوبان الرصاص في الماء ولذلك قلنا: إن ضرر الرصاص يختلف باختلاف الأشياء الذائبة في الماء. وإذا استمر الإنسان على تعاطي الماء الملوث بالرصاص أدى إلى أعراض مَرَضية كثيرة منها: الضعف، والصغار، والمغص الشديد، وزرقة تشاهد في اللثة، ومرض في الكُلَى. وضعف واضطراب في أعضاء التناسل، وشلل في بعض أعضاء الجسم فيحصل في اليدين ارتخاء يسمى عند الأطباء (الرسغ الساقط) . ولتوقي هذا المضار يجب أن يوضع الماء في خزانات من الحجر أو الحديد ونحوهما وأن تكون المواسير مصنوعة من مثل الحديد المصبوب (الزهر) أو الفخار. (يتبع) ((يتبع بمقال تالٍ)) ... ... ... ... ... ...

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المحبة فصل [1] وهي المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عَلَمها شمر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وَبِرَوْحِ نسيمها تروّح العابدون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنور الذي مَن فقده ففي بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدًا واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم في ظهورها دائمًا إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة؛ إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب، وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب، فيالها نعمة على المحبين سابغة! تالله لقد سبق القوم السعادةَ وهم على ظهور الفرش نائمون. ولقد تقدموا الركب بمراحل، وهم في سيرهم واقفون. مَن لي بمثل سيرك المدلل ... تمشي رويدًا وتجي في الأول أجابوا مؤذن الشوق إذ نادى بهم: حي على الفلاح! وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضا والسماح، وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو بالرواح، تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم، وشكروا مولاهم على ما أعطاهم، وإنما يحمد القوم السرى عن الصباح. فحيهلا إن كنت ذا همةٍ فقدْ ... حدا بك حادي الشوقِ فاطو المراحلا وقل لمنادي حبهم ورضاهم ... إذا ما دعا (لبيك) ألفاً كواملا ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن ... نظرتَ إلى الأطلال عُدْنَ حوائلا ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ... ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا وخذ منهم زادًا إليهم وسِرْ على ... طريق الهدى والفقر تصبح واصلا وأحي بذكراهم سرا إذا ونت ... ركابك فالذكرى تعيدك عاملا وإما تخافن الكلال فقل لها ... أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا وخذ قبسًا من نورهم ثُم سَرْ به ... فنورهم يهديك ليس المشاعلا [2] وحي على وادِ الأراك فقل به ... عساك تراهم فيه إن كنت قائلا وإلا ففي نعمان عند معرَف الـ ... أحبة فاطلبهم إذا كانت سائلا وإلا ففي جمعٍ [3] بليته فإن ... تفت فمتى؟ يا ويح مَن كان غافلا وحي على جناتِ عدن بقربهم ... منازلك الأولى بها كنت نازلا ولكن سَبَاكَ الكاشحون لأجل ذا ... وقفت على الأطلال تبكي المُنازلا فدعها رسومًا دارسات فما بها ... مقيل فجازوها فليست منازلا رسوم عفت تفنى بها الخلق كم بها ... فقيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا [4] وخذ يُمنةً عنها على المنهج الذي ... عليه سرى وفد المحبة آهلا وقل ساعدي يا نفس بالصبر ساعة ... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا أول نقدة من أثمان المحبة بذل الروح، فما للمفلس الجبان البخيل وسومها؟ بدم المحب يباع وصلهم ... فمَن الذي يبتاع بالثمن تالله ما هزلت فيستامها المفلسون، ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة [5] المعسرون، لقد أقيمت للعرض في سوق مَن يزيد، فلم يرض لها بثمن دون بذل النفوس، فتأخر البطّالون، وقام المحبون ينظرون، أيهم يصلح أن يكون ثمناً، فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد {أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ} (المائدة: 54) . لما كثُر المدّعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى، فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي، فتنوع المدعون في الشهود، فقيل: لا تُقبل هذه الدعوى إلا ببينة {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الحبيب في أفعاله وأقواله وأخلاقه، فطولبوا بعدالة البينة بتزكية {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) فتأخر أكثر المحبين وقام المجاهدون، فقيل لهم: إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فهلموا إلى بيعة {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} (التوبة: 111) فلما عرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة من جرى على يديه عقد التبايع عرفوا قدر السلعة وأن لها شأنًا، فرَأَوْا مِن أعظم الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان بالتراضي من غير ثبوت خيار، وقالوا: والله لا نقيلك ولا نستقيلك. فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم: مذ صارت نفوسكم وأموالكم لنا رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعافها معها {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (آل عمران: 169-170) . إذا غرست شجرة المحبة في القلب وسقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب أثمرت أنواع الثمار، وآتت أكلها كل حين بإذن ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى، لا يزال سعي المحب صاعدًا إلى حبيبه لا يحجبه دونه شيء {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) . *** فصل لا تُحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستة، وتنوعت بهم العبارات وكثرت الإشارات بحسب إدراك الشخص ومقامه وحاله، وملكه للعبارة. وهذه المادة تدور في اللغة على خمسة أشياء: (أحدها) : الصفاء والبياض. ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حَبَب الأسنان. (الثاني) : العلو والظهور، ومنه: حَبَبُ الماء وحُبابه، وهو ما يعلوه عند المطر الشديد، وحبب الكأس منه. (الثالث) : اللزوم والثبات، ومنه: حَبّ البعير وأحب: إذا برك ولم يقم [6] قال الشاعر: حلت عليه بالفلاة ضربا ... ضرب بعير السوء إذ أحبا (الرابع) : اللب ومنه حبة القلب للبه وداخله، ومنه الحبة لواحدة الحبوب [7] إذ هي أصل الشيء ومادته وقوامه. (الخامس) : الحفظ والإمساك. ومنه: حب الماء، للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه، وفيه معنى الثبوت أيضًا. ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة، فإنها صفاء المودة وهيجان إرادات القلب للمحبوب، وعُلوّها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزومًا لا تفارق [8] ولإعطاء المحب محبوبه لبَّه وأشرف ما عنده وهو قلبه، ولاجتماع عزماته وإراداته وهمومه على محبوبه. فاجتمعت فيها المعاني الخمسة ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للمسمى غاية المناسبة، الحاء التي هي من أقصي الحلق، والباء الشفهية التي هي نهايته، فللحاء الابتداء، وللباء الانتهاء، وهذا شأن المحبة وتعلقها بالمحبوب، فإن ابتداءها منه وانتهاءها إليه. وقالوا في فعلها [9] حبَّه وأحبَّه قال الشاعر: أحب أبا ثروان من حب تمرة ... ولم تعلم أن الرفق بالجار أرفق [10] فوالله لولا تمره ما حببته ... ولا كان أدني من عبيد ومِشرق ثم اقتصروا على اسم الفاعل من (أحب) فقالوا: مُحِب، ولم يقولوا حاب، واقتصروا على اسم المفعول من (حب) فقالوا: محبوب، ولم يقولوا: مُحَب، إلا قليلاً كما قال الشاعر: ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المُحَب المكرَم وأعطوا الحب حركة الضم التي هي أشد الحركات وأقواها مطابقة لشدة حركة مسماه وقوتها، وأعطوا الحِب - وهو المحبوب - حركة الكسر لخفتها عن الضمة وخفة المحبوب وذكره على قلوبهم وألسنتهم، مع إعطائه حكم نظائره كنِهب بمعنى منهوب، وذِبح بمعنى مذبوح وحِمل للمحمول - بخلاف الحمل الذي هو مصدر - لخفته، ثم ألحقوا به حملاً لا يشق على حامله حمله كحمل الشجرة والولد، فتأمل هذا اللطف والمطابقة والمناسبة العحيبة بين الألفاظ والمعاني، تُطلعك على قدر هذه اللغة وأن لها شأنًا ليس لسائر اللغات. *** فصل في ذكر رسوم وحدود قيلت في المحبة بحسب آثارها وشواهدها، والكلام على ما يُحتاج إليه منها [11] . (الأول) : قيل: المحبة: الميل الدائم، بالقلب الهائم، وهذا الحد لا تمييز فيه بين المحبة الخاصة والمشتركة والصحيحة والمعلولة. (الثاني) : إيثار المحبوب، على جميع المصحوب، وهذا حكم من أحكام المحبة وأثر من آثارها. (الثالث) : موافقة الحبيب، في المشهد والمغيب، وهذا أيضًا موجبها ومقتضاها، وهو أكمل من الحدين قبله، فإنه يتناول المحبة الصادقة الصحيحة خاصة، بخلاف مجرد الميل والإيثار بالإرادة؛ فإنه إن لم تصحبه موافقة فمحبته معلولة. (الرابع) : مَحْو المحب لصفاته، وإثبات المحبوب لذاته، وهذا أيضًا من أحكام الفناء في المحبة، أن تنمحي صفات المحب وتفنى في صفات محبوبه وذاته، وهذا يستدعي بيانًا أتم من هذا لا يدركه إلا من أفناه وارد المحبة عنه، وأخذه منه. (الخامس) : مواطأة القلب لمرادات المحبوب، وهذا أيضًاً من موجباتها وأحكامها، والمواطأة: الموافقة لمرادات المحبوب وأوامره ومراضيه. (السادس) : خوف ترك الحرمة، مع إقامة الخدمة، وهذا أيضًا من أعلامها وشواهدها وآثارها، أن يقوم بالخدمة كما ينبغي مع خوفه مِن ترك الحرمة والتعظيم. (السابع) : استقلال الكثير من نفسك، واستكثار القليل من حبيبك. وهذا قول أبي يزيد، وهو أيضًا من أحكامها وموجباتها وشواهدها، والمحب الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيا منه، ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه. (الثامن) : استكثار القليل من جنايتك، واستقلال الكثير من طاعتك، وهو قريب من الذي قبله؛ لكنه مخصوص بما هو من المحب. (التاسع) : معانقة الطاعة، ومباينة المخالفة. وهو لسهل بن عبد الله، وهو أيضًا حكم المحبة وموجبها. (العاشر) : دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب. وهو للجنيد. وفيه غموض، ومراده استيلاء ذكر المحبوب وصفاته وأسمائه على قلب المحب؛ حتى لا يكون الغالب عليه إلا ذلك، ولا يكون شعوره وإحساسه في الغالب إلا بها، فيصير شعوره وإحساسه به بدلاً من شعوره وإحساسه بصفات نفسه، وقد يحتمل معنى أشرف من هذا، وهو تبدل صفات المحب الذميمة التي لا توافق صفات المحبوب بالصفات الجميلة التي توافق صفاته والله أعلم. (الحادي عشر) : أن تهب كلك لمن أحببت، فلا يبقى لك منك شيء، وهو لأبي عبد الله القرشي. وهو أيضًا من موجبات المحبة وأحكامها، والمراد أن تهب إرادتك وعزماتك وأفعالك ونفسك ومالك ووقتك لمن تحبه، وتجعلها حبسًا في مرضاته ومحابه، فلا تأخذ لنفسك منها إلا ما أعطاك فتأخذه منه له. (الثاني عشر) : أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب. وهو للشبلي، وكمال المحبة يقتضي ذلك، فإنه مادامت في القلب بقية لغيره ومسكن لغيره فالمحبة مدخولة. (الثالث عشر) : إقامة العتاب على الدوام. وهو لابن عطاء. وفيه غموض؛ ومراده أن لا تزال عاتبًا على نفسك في مرضاة المحبوب، وأن لا ترضى له فيها [12] عملاً ولا حالة. (الرابع عشر) : أن تغا

الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان ـ تابع

الكاتب: أبو إسحاق الشاطبي

_ تابع لمقالة الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان فصل [*] فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العلمي في المصالح المرسلة وتبين لك اعتبار أمور. (أحدها) : الملاءمة لمقاصد الشرع بحيث لا تُنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من دلائله. و (الثاني) : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول، فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل، كالوضوء والصلاة والصيام في زمان مخصوص دون غيره، والحج، ونحو ذلك. فليتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المحض المنافي للمناسبات التفصيلية. ألا ترى أن الطهارات على اختلاف أنواعها قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدًّا لما يظهر لبادي الرأي؟ فإنَّ البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط، ودون جميع المخرج فقط، ودون أعضاء الوضوء [1] . ثُمَّ إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء، وغير واجب في قذارتها بالأوساخ والأدران، إذا فرض أنه لم يُحدِث. ثم التراب - ومن شأنه التلويث - يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف. ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها لاستواء الأوقات في ذلك. وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها، فإذا أقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار أيضًا، ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات، وكل ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس، إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على غير ذلك، ثُم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد؛ فإذا دخل المتطهر المسجد أُمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالوتر، أو أربع كالظهر، فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة، وإذا قرأ سجدة سجد واحدة دون اثنتين. ثم أُمر بصلاة النوافل ونهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة، وعلل النهي بأمر غير معقول المعنى، ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف والاستسقاء، دون صلاة الليل ورواتب النوافل. فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولاً؛ لأنه غير مكلف، ثم أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد، والتكبير أربع تكبيرات دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد. فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرًا، كإمساك النهار دون الليل، والإمساك عن المأكولات والمشروبات، دون الملبوسات والمركوبات، والنظر والمشي والكلام وأشباه ذلك؛ وكان الجماع - وهو راجع إلى الإخراج - كالمأكول وهو راجع إلي الضد؛ وكان شهر رمضان - وإن كان قد أنزل فيه القرآن - ولم يكن أيام الجمع، وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس، أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ثم الحج أكثر تعبدًا من الجميع. وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا (؟) إن في هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قد قصده ونحا نحوه واعتبرت جهته، وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة، وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه، سواء علينا أقلنا: إن التكاليف معللة بمصالح العباد، أم لم نقله، اللهم إلا قليلاً من مسائلها ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين المنصوص عليه والمسكوت عنه، فلا حرج حينئذٍ. فإن أشكل الأمر فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل، فهو العروة الوثقى للمتفقه في الشريعة والوزر الأحمى. ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي الله عنه: كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تَعَبَّدُوهَا، فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً، فاتقوا الله يا معشر القراء، وخذوا بطريق من كان قبلكم. ونحوه لابن مسعود أيضًا وقد تقدم من ذلك كثير. ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني، وإن ظهرت لبادي الرأي، وقوفًا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه، فلم يلتفت في إزالة الأخباث، ورفع الأحداث، إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره، حتى اشترط في رفع الإحداث النية، ولم يقم غير الماء مقامه عنده - وإن حصلت النظافة - حتى يكون بالماء المطلق، وامتنع من إقامة غير التكبير والتسليم والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء، ومنع من إخراج القيم في الزكاة، واختصر في الكفارات على مراعاة العدد، وما أشبه ذلك. ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب - إن تُصور - لقلة ذلك في التعبدات وندوره، بخلاف قسم العادات الذي هو جارٍ على المعني المناسب الظاهر للعقول، فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية، نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلاً من أصوله، حتى لقد استشنع العلماء كثيرًا من وجوه استرساله، زاعمين أنه خلع الربقة، وفتح باب التشريع. وهيهات ما أبعده من ذلك! رحمه الله؛ بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع بحيث يخيل للبعض أنه مقلد لمن قبله؛ بل هو صاحب البصيرة في دين الله حسبما بيّن أصحابه في كتاب سيره. بل حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال: إذا رأيت الرجل يبغض مالكًا فاعلم أنه مبتدع. وهذه غاية في الشهادة بالاتباع، وقال أبو داود: أخشى عليه البدعة. (يعني المبغض لمالك) قال ابن مهدي: إذا رأيت أحدًا يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام: ما سمعت أبا داود لعن أحدًا قط إلا رجلين: أحدهما رجل ذكر له أنه لعن مالكًا، والآخر بشر المريسي. وعلى الجملة فغير مالك أيضًا موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية المعنى، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل، فالأصل متفق عليه عند الأكمة، ما عدا الظاهرية، فإنهم لا يفرّقون بين العبادات والعادات؛ بل الكل تعبد غير معقول المعنى، فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلاً عن أن يعتقدوا المصالح المرسلة. و (الثالث) : أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين، أيضًا مرجعها إلى حفظ الضروري، من باب: (ما لا يتم الواجب إلا به) فهي إذًا من الوسائل لا من المقاصد. ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد. أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر من الأمثلة المذكورة وكذلك رجوعها إلى دفع حرج لازم، وهو إما لاحقٌ بالضروري وأما من الحاجي، وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى التقبيح والتزيين ألبتة. فإن جاء من ذلك شيء: فإما من باب آخر منها، كقيام رمضان في المساجد جماعة - حسبما تقدم - وإما معدود من قبيل البدع التي أنكرها السلف الصالح - كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة - وهو من قبيل ما يلائم. وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل، و (ما لا يتم الواجب إلا به ... ) إن نص على اشتراطه، فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب؛ لأن نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه. وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي، فلا يلزم أن يكون شرعيًّا، كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة، فإنَّا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب مطَّرِدًا لصح ذلك، وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها، كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك، وكذلك سائر المصالح الضرورية - إذا ثبت هذا - لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل. وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضًا، وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج، فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف، والأمثلة مبينة لهذا الأصل أيضًا. إذا تقررت هذه الشروط عُلم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل، والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها على التفصيل، وقد مرّ أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق. وأيضًا فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع، بل إنما تتصور على أحد وجهين: إما مناقِضة لمقصوده - كما تقدم في مسألة المفتي للملِك بصيام شهرين متتابعين - وإما مسكوتًا عنه فيه كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به، وقد تقدم نقل الإجماع على اطِّراح القسمين، وعدم اعتبارهما، ولا يقال: إن السكوت عنه يلحق بالمأذون فيه؛ إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع لعدم الملاءمة؛ ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت عنه كالمأذون فيه إن قيل بذلك، فهي تفارقها؛ إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها؛ لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرّح به بخلاف العادات، والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة، وعدم اهتدائها لوجوه التقرّبات إلى الله تعالى وقد أشير إلى هذا المعني في كتاب الموافقات وإلى هذا (؟) . فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إما إلى حفظ ضروري من باب الوسائل، أو إلى الخفيف، فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات؛ لأن البدع من باب الوسائل؛ لأنها متعبد بها بالفرض، ولأنها زيادة في التكليف، وهو مضاد للتخفيف. فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغى باتفاق العلماء، وحسبك به متعلقاً، والله الموفق. وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد، فلم يبق إلا الوقوف عند ما حدّه، والزيادة عليه بدعة، كما أن النقصان منه بدعة وقد مرّ لهما أمثلة كثيرة، وسيأتي آخرًا في أثناء الكتاب بحول الله. *** فصل وأما الاستحسان، فلأن لأهل البدع أيضًا تعلقًا به: فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسِن، وهو إما العقل أو الشرع. أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما؛ لأن الأدلة اقتضت ذلك فلا فائدة لتسميته استحسانًا، ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع، وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال. فلم يبق إلا العقل هو المستحسِن، فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية، لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها، وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن. ويشهد [2] قول مَن قال في الاستحسان أنه يستحسنه [3] المجتهد بعقله، ويميل إليه برأيه (قالوا) : وهو عند هؤلاء من جنسِ ما يستحسن في العوائد، وتميل إليه الطِّبَاع، فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام ما بيّن (؟) إن ثَمَّ من التعبدات ما لا يكون عليه دليل، وهو الذي يسمى بالبدعة، فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح؛ إذ ليس كل استحسان حقًّا. وأيضًا فقد يجري على التأويل الثاني للأصوليين في الاستحسان، وهو أن المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره. وهذا التأويل، فالاستحسان يساعده لبعده، لأنه يبعد في مجاري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له؛ بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق دليل شرعي؛ لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه - وهو الأغلب - فهذا ممَّا يحتجُّون به. وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون، وقد أَتوا بثلاثة أدلة: (أحدها) : قول الله سبحانه: {وَاتَّبِعُوا أَ

الحرب المدنية الكبرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب المدنية الكبرى بلغ العالم المدني في العلوم والصناعات وشئون الاجتماع شأوًا لم تعرف له الأرض نظيرًا، فرماها بقاصمة من الحرب المدنيَّة لم تر لها نظيرًا، فهذه الحرب تشغل اليوم عقول أعرق الأمم في العلم والمدنية، وجميع قواهم وجوارحهم، وما كسبته في الأيام الخالية من علم ومال، وما أنشأته من الآلات وعدد القتال في انتقام عدة أمم ودول من أمم ودول أخرى، وكل دولة مقاتلة تتوسل إلى من بقي على الحياد من الدول لتجذبها إليها، وتجعلها من أحزابها، فلو نال كل فريق من المقاتلين ما يتمناه من مساعدة غيره له لاحترقت الأرض كلها بنار هذه الحرب، وكان البشر كلهم حولها كالفراش يتهافتون فيها. لو فكر كل امرئ من الناس بكنه هذه الحرب، ونكباتها وشرورها، وما تصبه في كل ساعة، بل في كل دقيقة، بل في كل ثانية من أصوات العذاب وصواعق النكال على الألوف من إخوانه البشر، وما يخسره العالم بفقد من تصعقهم من العلماء والحكماء والصناع والزراع، وأرباب البيوت الذين خلفوا وراءهم نساءً وأطفالاً لا عائل لهم من دونهم - لو فكر كل امرئ في ذلك وأعطاه حقه من التصور والتدبر لاضطرب قلبه وحار لبه، وسالت عَبِرته وعظمت عِبرته، ولكن شُغل كل امرئ ما أصابه، أو يتوقع أن يصيبه من شر هذه الحرب عما أصاب غيره، وقلما يوجد أحد في الأرض آمِنٌ من مصائبها، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. إن أبعد الناس عن مواقع القتال وأقربهم إلى الأمن على أنفسهم من نيران مدافعها وبنادقها وأسنة حرابها - لهم فيها شواغل أخرى بما نقصته من مكاسبهم، وما قطعته من موارد أرزاقهم، فقد اضطربت المعاملات المالية في العالم كله منذ بدأت؛ لأن هذه الدول التي أشعلت نارها هي القائمة بمعظم تجارة العالم، والصانعة لأكثر ماعونه ولباسه وسائر أدوات عمله، وما هذا الشاغل عند الأكثرين إلا دون ما لكل منهم من الضلع والميل إلى أحد الفريقين المتحاربين على الآخر، فترى أمثال هؤلاء أكثر تفكيرًا في عاقبة الأحلاف المحاربة من التفكير في عاقبة أمر أنفسهم في معاشهم، وموارد رزقهم، ورزق من يعولونه، لِهوًى لهم في ذلك يرضونه، أو نفع من ورائه يرجونه. هذا وإن الناس يزِنون أخبار الحرب بموازين أهوائهم، ويحكمون في عواقبها بأمانيهم لا بآرائهم، فحكمهم هذا لا يتوقف على معرفة أخبارها الصادقة، ولا على كنه قوات الدول المحتربة , على أن من هذه القوات ما هو معلوم بالتواتر، أو الاستفاضة لا يماري فيه أحد من عوام الناس - دع خواصهم - ومنه أن دولة إنكلترا أقوى دول الأرض في البحر، وأن دولة ألمانيا أقواهن في البر، وثانيتهن في البحر واختلف الناس في المفاضلة بين الدول في الأساطيل الجوية، فذهبت الصحف عندنا إلى أن فرنسا صاحبة السبق في هذا المضمار، وأن لها القدح المعلى فيه، ثم ظهر أن ألمانية هي المبرّزة فيه، كما كنا نظن وفاقًا لكثير من الناس، بل المعلوم بالإجمال عند جماهير الناس في الغرب، وأكثر المتعلمين في الشرق أن ألمانية أشد الدول استعدادًا للحرب، وإتقانًا لنظامها وعُددها وكراعها، وأنه لولا أن إنكلترة تكثرها في أساطيل البحر، لما لها في ذلك من السبق، لسهل عليها أن تسود الأمم كلها بقوتها. هذا وأن جميع الدول الأوربية متقاربة في الاستعداد للقتال، وقلما تسبق واحدة إلى اختراع شيء، أو إحداث عدة، أو إنشاء حصن، وتستطيع إخفاءه زمنًا طويلاً عن غيرها، فإن لكل منهن عيونًا أحد أبصارًا من زرقاء اليمامة، وأشد استراقًا للسمع من الشياطين، ولكل من فنون العلم ودور الصناعات ما يمكنه من مبارة الآخرين في الاستعداد الذي يحتاج إليه لحماية حقيقته، وحفظ مكانته، ولم يكد يبقي للسابقين من مزية على اللاحقين في شيء بل صار الأول آخرًا، وعاد البدء ثنيانًا في كثير من الشؤون، حتى خيف بعد تلك المساواة، أو المقاربة في العلم والعمل أن يستعلي شعب واحد على شعوب أوربا كلها فيسود بذلك العالم كله. الفرنسيس أذكى الأوربيين أذهانًا، وأشدهم إقدامًا، وأسبقهم إلى المحامد يدًا ولسانًا، والإنكليز أرجح الشعوب أحلامًا، وأشدهم حصافةً وإحكامًا، وأمثلهم سياسةً وأعدلهم أحكامًا , فلهذا سبق هذان الشعبان جميع الشعوب إلى استعمار الممالك، والاستمتاع بثروة الأمم في المغارب والمشارق، وقد تنافسا وتناظرا، وتنازلا وتصاولا، فكان الفلج والظفر لأهل الأناة والروية، على أهل الذكاء والأريحية، وبذلك كان للإنكليز المقام الأعلى في العالم منذ عدة أجيال، ويليهم الفرنسيسن في الثروة والاستعمار. ثم نبغ الألمان وبرعوا في جميع العلوم والأعمال والصناعات والتجارة حتى بذوا الفرنسيس والإنكليز في ذلك، فصار النماء النسبي في ثروتهم أعلى من مثله في ثروة أولئك وخيف أن يصير اللاحق سابقًا، والثنيان بدءًا , واشتدت المناظرة، حتى أفضت إلى هذه الحرب الحاضرة. وأما سائر الدول والأمم المحاربة مع هؤلاء فهي أنما حاربت بالتبع لها , وأقواهن الروسية، فهي شديدة الأسر، راسخة الأصل، نامية الفرع، غزيرة العدد، وافرة المدد، ولو كان شعبها كالألمان في العلوم والفنون، لسادت الناس أجمعين، ولكنها دون النمسا وإيطاليا في العلم والصناعة، وفوق الدولة العثمانية التي قنعت من المدنية الأوربية بتقليد الأوربيين في ظواهر النظام والزي وأساليب المعيشة، دون العلوم والفنون التي ترقي الصناعة والزراعة والتجارة، وتنمي الثروة، وتغنيها عن الأجانب فيما تحتاج إليه من أسباب القوة، وأقله معامل السلاح والذخيرة. ولولا أن الأمة العثمانية حربية بالطبع، ولولا موقع عاصمتها الذي تنافس فيه وتحاسد عليه أقوى دول الأرض، فلم يسمح به بعضهن لبعض، ولولا مكانتها من نفوس الشعوب الإسلامية التي كانت توادها لأجله الدولة البريطانية - لولا ذلك كله لأسرعت الدول الكبرى في الإجهاز عليها، بدلاً من هذه المطاولة بنقصها من أطرافها، والاكتفاء بفتح النفوذ الاقتصادي، والسياسي في أحشائها. ولا يسع الباحث أن يغفل عن سائر الدول الصغرى التي اشتغلت نار الحرب في بلادها أولاً، وهي الصرب والجبل الأسود وبلجيكا فجيشهن لا تفضله جيوش الدول الكبرى في الشجاعة، والبلجيكيون من أرقى الشعوب في العلم والصناعة، والتجارة. فجملة القول في المجموعتين المتقاتلين: أن إنكلترة وفرنسة وروسيا وبلجيكا والصرب والجبل الأسود، أكثر من ألمانيا والنمسا والعثمانية رجالاً ومالاً، وأساطيل بحرية وهوائية، ولكن ألمانيا وحدها أعلى منهن استعدادًا ونظامًا، ولولا الأسطول الإنكليزي لرجحت على الجميع رجحانًا ظاهرًا، بل لأمكنها أن تحارب أوربة كلها وتنتصر عليها. بيد أن هذا السبق في الاستعداد، ليس مما ينتظم في سلك الخوارق والآيات، بل يمكن الدول الأحلاف أن يلحقوها به، إذا عجزت في أول العهد عن بطشة فاصلة في فرنسة، أما إذا وقف مدها عند تدويخ بلجيكة، والاستيلاء عليها، وعلى بضع ولايات من شمال فرنسة، وجانب من بولاندة الروسية، فما بعد المد إلا الجزر. فإذا أمكن للحلفاء أن يزيدوا عدد جندهم ويمدوه بما لم تستطع هي مثله عاد لهم الرجحان عليها من قبل في البحر. فمحل الرجاء للحلفاء إنما هو التغلب بالكثرة بقاعدة قول الشاعر العربي: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر أما هذا المدد الذي يكون به الرجحان البري فلا يرجى إلا من قبل بريطانيا العظمى؛ لأن الفرنسيس قد بذلوا كل ما في وسعهم، والروس - وإن كانوا أكثر عددًا - لا يجدون من الذخائر والسلاح ولا من الضباط ما يمكنهم من تجنيد العدد الذي تسمح لهم به كثرتهم، فالإنكليز وحدهم هم القادرون على مضاعفة جنودهم، وعلى إيجاد ما يحتاجون إليه من السلاح والذخيرة لكثرة معاملهم وعمالهم ومالهم، وليس عندهم جندية إجبارية تستغرق العمال، وتوقف حركة الأعمال، وإنما يعز عليهم التعجيل بإيجاد ضباط أكفاء لجيش كبير يجددون تنظيمه تجديدًا، ولكن الإنكليز أهل صبر وأناة، فما لا يدركونه في سنة يرضون بأن يدركوه في سنين، وتاريخهم مرآة أخلاقهم في ذلك , وقد قدر لورد كتشنر ناظر الحربية القائم بتجهيز الجيوش الإنكليزية مدة هذه الحرب بثلاث سنين. بين لنا ما تقدم ما يراه كل الواقفين على الحقائق من أن هذه الحرب ليست إلا المظهر الأجلى للتنازع على السيادة والنفوذ والاستعلاء في الأرض بين الإنكليز وأبناء عمهم الألمان، وسائر الدول تبع لهما في عللها ومعلولاتها، ومقدماتها ونتيجتها. دع البحث في المقدمات فقد انتهى أمرها، وسيحكم التاريخ حكمه العادل فيها، وأما النتيجة فيه أن السيادة العليا في الغرب والشرق ستكون لإنكلترة، أو لألمانية لا محالة ويكون أحلافهما تبعًا لهما فتكون لإنكلترا إذا فازت هي وأحلافها بالنصر التام؛ لأنهم لن ينالوا ذلك إلا بها، ولا تنتهي الحرب إلا وقد انتهكت قواهن من دونها، واستحدثت هي من القوة فوق ما كان لها إذ شرعت بتأليف قوة برية لم يكن لها مثلها في قوت من الأوقات، كما أنها تزيد الأسطول قوةً على قوة، وحينئذ تكون أعظم الدول ربحًا، وأقلهن خسارةً، وإذا كان من بواكر هذا الربح مصر , وقبرص , والبصرة , ومعظم مستعمرات ألمانية في إفريقية , أو جميعها كما هو المنتظر فكيف تكون أواخره. وأما إذا كان النصر التام الألمانية وأحلافها فقد طالما لهجت الجرائد الإنكليزية والفرنسية، وغيرها بأن ألمانيا حينئذ تجعل أوربة كلها تحت سيطرتها، وتنتزع منها جميع مستعمراتها، وأنها بذلك تسود العالم كله، ولعلنا نعود إلى تفصيل القول في نتيجة الحرب على كل تقدير، بقدر ما تسمح به المراقبة الرسمية على الصحف ونلم في ذلك بأماني الشرقيين عامةً، والمسلمين خاصةً؟

إلغاء الامتيازات الأجنبية والحذر من الفتن الأهلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إلغاء الامتيازات الأجنبية والحذر من الفتن الأهلية أخذت الدولة العلية تعبئ جيشها، وتستعد للقتال عقب إعلان الحرب في أوربا، وتضافرت الروايات والآراء على أنها تحارب مع ألمانيا والنسما، وقد كان مقدمات ذلك إلغاؤها للامتيازات الأجنبية، وهي قد آذنت الدول بذلك في شهر سبتمبر، وقد خشي كثير من نصارى السوريين أن يفضي إلغاء امتيازات الدول إلى فتن أهلية في سوريا، فيكف إذا حاربت الدولة روسيا وفرنسا , وإنكلترا الحامية للنصارى في بلاد الدولة، وقد تحدث إخواننا السوريون هنا بذلك، وكثر خوض الجرائد السورية الأمريكية في المسألة، واشتد تشاؤمها، ونقلت عن سفير الدولة في واشنطون كلامًا يؤيد هذا التشاؤم، حتى إنه ليخيل لمن قرأ ما كَتبتْ، أن الفتنة وقعت، أو كربت. أما نحن فإننا نعلم أن هداية الإسلام التي حفظت لغير المسلمين حريتهم في القرون التي كانت دول الإسلام فيها أقوى دول الأرض، لا تزال ذات السلطان الأعلى على نفوس المسلمين، فإذا كانت السياسية قد غلبتها، أو استخدمتها في بعض الأوقات في العدوان الذي تنهى عنه) فلن تستطيع أن تنال ذلك منها في كل وقت، بل نعلم فوق ذلك أن مسلمي سورية صاروا يعلمون أن مصلحتهم القومية والوطنية لن تقوم إلا بتعاونهم مع سائر أبناء وطنهم المشاركين لهم في تلك المصلحة. فالنتيجة إذًا أن دين المسلمين ودنياهم متفقان على نهيهم عن الاعتداء، وحثهم على التعاون والاتفاق، وقد كان للنهضة العربية الحديثة أعظم التأثير في ذلك. وإننا على ثقتنا بما بيّنا قد كتبنا مكتوبات خاصة إلى من نثق بحسن سعيهم في البلاد السورية نذكرهم فيها بما يجب عليهم العناية به الآن، ونشرنا في جريدة الأهرام اليومية التي صدرت في 6 ذي القعدة الماضي (و26 سبتمبر سنة 914) خطابًا عامًّا في ذلك نثبته هنا ليكون أثرًا تاريخيًّا، إذ تأخر صدور هذا الجزء من المنار ومنعت الصحف المصرية من دخول البلاد العثمانية، وهذا نصه: *** إلى إخواني الكرام مسلمي سوريا ] وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ [[*] السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , أما بعد فإنني أحمد إليكم الله - عز وجل - وأصلي وأسلم على رسوله محمد نبي الرحمة , ثم أشكر لكم ما أظهرتموه من النجدة والهمة، في الإخلاص والطاعة للدولة , وبذل الأنفس والأموال والثمرات لها، والكف الموقت عن طلب الإصلاح منها، وتقديركم الحال الحاضرة قدرها، حتى إنكم ساهمتم في هذا أرقى أمم الأرض التي سكتت عن جميع مطالبها ومنازعاتها الداخلية عندما رأت حكوماتها بإزاء الأخطار الخارجية مضطرة لتقلد السلاح، والاصطلاء بنار القتال، فحياكم الله أيها الأخوان , وزادكم نجدةً وأريحةً، واستمساكًا بعروة الدولة العلية، بحسب ما تهدي إليه الشريعة الإسلامية، وتقضيه الوراثة العربية , ولا يتم لكم هذا إلا بالألفة والاتفاق مع أبناء جنسكم ووطنكم من غير أبناء دينكم، الذين ساوت الشريعة بينكم وبينهم في الحقوق العامة، وأوجبت عليكم ما لم توجبه شريعة من العدل والإحسان، وتأكيد الوصية بالجيران. أيها الإخوان الكرام! بلغنا أن الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، قد أخذ ينفث في عقد المودة الجنسية والوطنية ليحلها، وليفصم عروتها، وينقض غزلها، ويزين وسوسته هذه باسم الجامعة الإسلامية، والقيام بالنهضة الدينية، فلا يفتنَنَّكم الشيطان، ولا يخدعنكم باسم الإسلام وتحريف آيات القرآن، فإن بعض الذين يطلبون المال والجاه بهذه الأسماء لا يفهمون مسمياتها، ويستدلون بالآيات، ولا يعقلون مدلولاتها، ألستم تعرفون بينكم ممن يلفظ بالدعوة إلى الجامعة الإسلامية، من لا يعرف عقيدة الإسلام كما يجب، ولا يصلي ولا يصوم؟ ولا نبحث في زكاة أمثال هؤلاء وحجهم، فإنما وجوب الزكاة والحج على مالك النصاب والمستطيع، وربما يدَّعون عدم الاستطاعة. إنكم تعرفون هذا بينكم وإن لمن تعرفون من هذا الصنف أعوانًا في غير بلادكم، هم أشد منهم نفاقًا وأبرع في فن التجارة بالدين، فلا تغتروا بما يقولون ولا بما يكتبون، ورب كلمة حق أريد بها باطل، ومن المسائل المعلومة من الدين بالضرورة أن الله - تعالى - حرم البغي والعدوان حتى إنه قال فيمن يقاتلون المسلمين: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) وإنني أستحي أن أطيل عليكم في سرد الدلائل على تحريم البغي والتعدي؛ لأن هذا مما تعرفه العامة، كما تعرفه الخاصة، فالإطالة فيه تتضمن نسبة الجهل إليكم (وحاشاكم) . نعم إن العامة عرضة للغش والخداع، ولا سيما إذا جاءها الخادع من باب الدين، فيجب على خاصتكم أن تحذر عامتكم من وسوسة المنافقين الذين يبغونكم الفتنة (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها) . وأذكركم بباب آخر من أبواب الخداع , وهو تحريضكم على النصارى بذنب ميلهم إلى الأجانب من أبناء دينهم كراهةً لكم وللدولة العلية لأجل الدين، وربما ينقل إليكم أو تسمعون ما يدل على ذلك، ألا فاعلموا أن هذا إن صح وفرضنا أنه عام فيهم، فإنه لا يبيح لكم الاعتداء على أنفسهم ولا على أموالهم؛ لأن الشريعة الإسلامية لم تضع عقوبةً دنيويةً على الميل والحب والبغض ونحو ذلك من أعمال القلوب، على أن الحكام هم المطالبون بتنفيذ العقوبات، لا أفراد الأمة , ولا نبحث هنا في عذر من يحب الأجانب لإحسانهم إليه وإلى أهل ملته، ومن يبغض الوطني لظنه أنه لا ينجيه من شره وأذاه إلا حماية الأجانب له. إذا وقع أقل عدوان منكم على غيركم في هذه الأيام، تكونون قد أثبتُّم بالفعل أن ترك العدوان قبل اليوم إنما كان خوفاً من الأجانب لا عملاً بهداية الإسلام، ولا قيامًا بحقوق تكافل أهل الأوطان، هذه هي التهمة التي يرمينا بها من يجهل حقيقة ديننا وتاريخنا إذ كانت دولنا أقوى دول الأرض كلها، وكان المخالفون لنا في الدين يفضلون حكم خلفاء المسلمين على حكم أبناء دينهم من الرومانيين. إن لنا في هذه الأيام أفضل فرصة لإقناع أبناء جنسنا ووطننا، بما نتحدث به دائمًا فيما بيننا من حسن نيتنا، ورغبتنا في الاتفاق معهم على كل ما فيه مصلحتنا المشتركة بيننا وبينهم على قاعدة المنار الذهبية: (نتعاون فيما نشترك فيه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) ونحن متفقون في اللغة وفي مصالح البلاد الزراعية والصناعية والتجارية والاجتماعية، فنتعاون على ذلك بغاية الإخلاص، ويعذر بعضنا بعضًا في أمر الدين. ثم إنني أختم الكلام بما بدأته به من حمدكم وشكركم على بَذْلِكُم الجهد في طاعة الدولة العلية، وإثبات كون النهضة العربية نهضة علم وعمران ترتقي بها الدولة العلية، لا نهضة مقاومة ومشاكسة للتركية، ولكنني أذكركم بأن الطاعة الواجبة للدولة إنما هي طاعة أوامرها الرسمية الشرعية، فلا تدعوا العامة تنخدع بدعوى الأوامر السرية أو الشفوية , فضلاً عن أوامر الجمعيات والأحزاب وغيرها، ولاسيما إذا كانت مخالفةً لهداية الشرع، ومصلحة الأمة والوطن (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) والسلام على من اتبع الهدى. ورجح الحق على الهوى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخوكم محمد رشيد رضا منشئ المنار

كيف دخلت الدولة العثمانية في الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كيف دخلت الدولة العثمانية في الحرب؟ لم تلبث الدولة بعد إضرام نار الحرب في أوربا أن أمرت بتعبئة جيشها تعبئةً عامةً، وإن كانت قد (أعلنت الحياد) ثم بثت الألغام في زقاقي الدردنيل , والبسفور , ومنعت المرور منهما بعد أن آوت إلى الآستانة البارجتان الألمانيتان اللتان كان يطاردهما الأسطولان الإنكليزي والفرنسي - وهما الدردنوط غوبن والطراد برسلوا - وكانت دور الصناعة الإنكليزية قد صنعت للدولة بارجتين من أحسن نوع الدردنوط وقرب موعد إرسالهما إلى الآستانة فلما أعلنت إنكلترا الحرب على ألمانيا آذنت الدولة العثمانية بإلحاق المدرعتين بأسطولها، فساء ذلك الدولة العثمانية، وطفقت جرائد الآستانة وغيرها من الجرائد العثمانية تطعن في إنكلترة أشد الطعن، ثم شاع أن الدولة تعد جيشًا في سوريا للزحف على مصر , وإزالة سيطرة إنكلترة عنها، ثم أعلنت الدولة إلغاء الامتيازات الأجنبية فخيف أن يكون ذلك سببًا للاعتداء على رعايا دول الاتفاق الثلاثي اللواتي أنكرن هذا الإلغاء، وحفظن لأنفسهن الحق في العمل الذي يقتضيه ما يترتب على ذلك، وأن يكون ذلك مقدمة الحرب وسببها، ولكن الدولة لم تسئ معاملة أحد من الأجانب بعد إلغاء اميتازاتهم. أما الجرائد في أوربة ومصر فكانت تصور لقرائها أن في الدولة حزبين: أحدهما يميل إلى الحرب مع ألمانية، ورئيسه أنور باشا ناظر الحربية، وثانيهما يميل إلى إنكلترة وفرنسة ويرى إجابة رغبتهما إلى المحافظة على الحياد التام، وأن من أعضاء هذا الحزب الصدر الأعظم سعيد حليم باشا , وجمال باشا ناظر البحرية، وجاويد بك ناظر المالية، بل قال بعضهم: إن من أعضائه طلعت بك ناظر الداخلية أيضًا. كانت إنكلترة أشد دول الأحلاف حرصًا على محافظة العثمانية على الحياد، واتفقت معهن على أن يَضْمَنَّ لها استقلالها إذا هي حافظت على ذلك، ولكن الدولة سئمت ذلك الاستقلال الصوري الذي لا يمنع دول الأجانب أن ينفذن فيها كل ما يتفقن عليه وكثيرًا مما يختلفن فيه، وأن يجعلن بلادها مناطق نفوذ اقتصادي وسياسي، وقد ضمنت لها ألمانية أيضًا الاستقلال، وأن تعاملها معاملة الأمثال، إذا هي انضمت إليها في هذه الحرب، وتقدم إليها ما تحتاج إليه من المال والرجال والذخيرة، فوثق رجال الاتحاد والترقي بذلك، وإن كان يرتاب فيه غيرهم من العثمانيين. وكانت ألمانية قبل هذه الحرب وبعد حرب البلقان أرسلت إلى الآستانة بعثةً عسكريةً لإصلاح الجيش العثماني، فقامت لذلك دولة الروس وقعدت، وأرغت وأزبدت، ثم إنها باعتها البارجتين غوين وبرسلو، وأرسلت إليها كثيرًا من ضباط البحرية، ومهندسيها فحلوا محل البعثة الإنكليزية التي كانت الدولة استحضرتها لإصلاح البحرية إثر مغادرتها الآستانة بعد الحرب، وبذلك اشتد الجفاء بين الدولة وبين إنكلترة وأحلافها، ووقف أسطول إنكليزي فرنسي أمام زقاق الدردنيل مرابطًا مراقبًا للبارجتين الألمانيتين اللتين لم تعتدَّ دول الأحلاف ببيعهما للعثمانية. وبذلك قوي نفوذ الألمان في الجيش العثماني وفي البحرية، حتى قطع دول الأحلاف الصلات السياسية معها (في 30 أكتوبر سنة 1914) على إثر مصادقة بين الأسطوليين العثماني والروسي بلغ الروس أحلافهم أن الأسطول العثماني في البحر الأسود كان هو المعتدي فيها، وأنه ضرب بعض المواني الروسية أيضًا , وبلغ العثمانيون الدول أن الأسطول الروسي هو الذي بدأ بالعدوان، وأن الدولة مستعدة لتلافي الحادثة بالطرق السياسية، وقد طلبت إنكلترة من سفيرها في الآستانة أن يطالب الدولة العثمانية بالتنصل من تبعة العدوان على روسيا , وعزل البعثتين الألمانيتين البرية والبحرية، وإخراج بحارة غوبن وبرسلو الألمانيتين منهما، وأن يمهلها 12 ساعة فإن لم تفعل فليطلب جواز السفر وليغادر الآستانة، وكذلك فعل هو، وسفيرا فرنسا وروسيا وعلى إثر ذلك أطلق الأسطولان الإنكليزي والفرنسي قنابلهما على مدخل الدردنيل، وصارت الدولة حربًا لدول الأحلاف، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.

خاتمة السنة السابعة عشرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة السابعة عشرة نختم السنة السابعة عشرة بمثل ما افتتحناها به من حمد الله الذي لا يحمد على السراء والضراء سواه، وإليه يرجع الأمر كله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإياه نسأل أن يقينا شر هذه الحرب الأوربية، التي عمت رزاياها جميع البرية، فكأنها عقاب من الله - تعالى - للبشر كافةً، لا من أوقدوا نارها خاصةً، فكسدت التجارات، وتعسرت جميع المعاملات، وراقبت الحكومات جميع المطبوعات، وانقطعت المواصلات والمكاتبات بين بعض الأمم والأقطار، وقلت حتى في البلاد التابعة لحكومة واحدة، أو حكومات متحالفة متآلفة. فكان مما أصاب المنار أن انقطع في أثناء السنة عن المملكة العثمانية، وبطلت الثقة بوصوله إلى كثير من البلاد المشرقية والمغربية، وانقطعت عنه الحوالات المالية من خارج هذا القطر وقل من يوفيه حقه أو بعض حقه من أهله؛ لأن الناس اتخذوا هذه الحرب عذرًا لا يستحي من الاعتذار به الأغنياء وكثير من أصحاب الرواتب التي ما زالوا يتقاضونها في أوائل الشهور لم تنقصهم الحرب منها شيئًا , ولا أخرتها عن أوقاتها. قل ما يرد إلى المنار من المشتركين حتى لم يعد يكفي لعُشر نفقاته , ولم يتجدد في أيام هذا الضيق عمل جديد للمطبعة، وغلا ثمن الورق وغيره، وأما نحن فما غيَّرْنا - ولن نغير إن شاء الله - ما جرينا عليه من الوفاء لعمالنا ومعاملينا، فعمالنا يوفون أجورهم في كل أسبوع، ولا نشترى شيئًا إلا ونؤدي ثمنه دفعةً واحدةً، أو أقساطًا مطردةً، وقد أجازت الحكومة المصرية عند بدء الحرب ما تجيزه سائر الحكومات من تأجيل أداء الديون، فلم يحملنا ذلك على تغيير معاملتنا مع أحد. لأجل هذا حسبنا لطول أمد الحرب كل حساب، وخفنا أن نعجز عن الاستمرار على سيرنا هذا عدة سنين، كما يقدر لهذه الحرب بعض العارفين، فارتأينا أوَّلاً أن نصدر أجزاء السنة في سنتين، ونتقاضى الاشتراك بحسب الأجزاء لا بحسب الزمن الذي صدرت فيه، وأشار علينا بعض الأصدقاء الأوفياء بأن ننقص من الأجزاء نصف حجمها، ونبقي الاشتراك على حاله، ثم نعيده إلى ما كان عليه بعد الحرب، فعز علينا العمل بهذا الرأي، ولكننا عزمنا الآن على جعل سنة المنار عشرة أشهر كأكثر المجلات المصرية، وهي سُنَّة سنَّها منشئ مجلة الهلال، ودعاني إليها عقب إنشاء المنار فرغبت عنها حرصًا على كثرة الفائدة، وإيثارًا لها على حب الراحة , وإنما ألجأتْ إليها الضرورة. أما الانتقاد على المنار فما ورد علينا منه شيء لم ننشره، فإن كان أحد كتب إلينا نقدًا لشيء ولم ننشره أو ننشر ما كان أجمع منه معاني في موضوعه فليذكرنا بذلك، مبينًا ما يراه لا يزال منتقدًا إلى الوقت الذي يكتب فيه، فإن نقد الكلام من أسباب تحري الكمال، والله الموفق، وله الحمد على كل حال.

فاتحة السنة الثامنة عشرة للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة الثامنة عشرة للمنار بسم الله الرحمن الرحيم سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26) . سبحانك اللهم وبحمدك، ما أعدل حكمك، وما أجل حكمتك! وما أوسع علمك وما أنفذ مشيئتك {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) . سبحانك اللهم وبحمدك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، أسبغت النعم ظاهرة وباطنة، وأفضت أنوار الكرم بارزة وكامنة، ووهبت العقول والمشاعر، وبينت السنن والشعائر، وأكملت هداية الدين ببعثة محمد خاتم النبيين فَصَلِّ وسلم اللهم عليه وعلى آله الأئمة الطاهرين، وأصحابه الهادين المهديين. اللهم إن نعمك لا تحصى، وقد كفرها الكافرون، وإن صراطك المستقيم لا يخفى، وقد تنكبه الضالون، وإن حكمك لهو الحق وإن عمي عنه المبطلون، وإن عدلك لهو القسطاس وإن جهل الظالمون، {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34) {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} (المؤمنون: 64- 65) . ربنا إنك آتيت أقوامًا الغنى فطغوا وفسقوا عن أمرك، وآتيتهم القوة فبغوا في أرضك، ربنا ليضلوا عن سبيلك، بما أعرضوا عن دليلك، {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا العَذَابَ الأَلِيمَ} (يونس: 88) , {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ العُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الغَالِبُونَ} (الأنبياء: 44) . يا أيها الناس لا خير في الحضارة المدنية، إذا أقيمت على قواعد الأثرة والقوة المادية، ولا خير في العلم ولا في العمران، إذا كانا وسيلة لاستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، أفلا يعلم الذين جعلوا الحق كله للقوة أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، وأنه بعباده رؤوف رحيم وإنما يرحم الراحمين، وأنه يأمر بالعدل والإحسان وخص بمحبته المحسنين، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (غافر: 82) {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (الروم: 9) [*] {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهَّابِ * أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ * جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الأَحْزَابِ} (ص: 9-11) ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) , {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} (الحجرات: 13) لا لتتناكروا وتتخالفوا، {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (الجاثية: 13) لتشكروا لا لتكفروا، ولتصلحوا لا لتفسدوا، وليس الإصلاح في الاستعانة بقوى المواد وخواص الأشياء، على إفساد أمر الناس الذين خلق الله لهم جميع الأشياء، وإنما الإصلاح كل الإصلاح أن تستعينوا بما آتاكم الله من العلم والعرفان، وما هداكم إليه من تسخير القوى الكامنة في الأجسام، على جعل منافعها شَرَعًا بين جميع الناس، وجعل الغاية منها إيصال الشعوب كلها إلى ما يمكن من الكمال. وإن الإفساد كل الإفساد أن تحتكر الشعوب العالمة منافع العلم، وتجعله ذريعة لبغي بعضها على بعض، واستذلال الشعوب الضعيفة في الأرض، وتسخيرها لخدمتها كما تُسَخِّرُ الحيوان الأعجم، بل هم أشد إهانة لمن كرم الله وأكثر تذليلاً، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70) , {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) . يا أيها الإنسان، اتق الله في أمر أخيك الإنسان، ولا تستعل على مَن فَضَّلَك عليه بالعلم والمال، فقد خلت من قبلكم القرون والأجيال، {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} (إبراهيم: 45) ، {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِي القُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الفَرِحِينَ} (القصص: 76) ، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (القصص: 77) , {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المُجْرِمُونَ} (القصص: 78) , {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص: 79) , {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُواًّ فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * َ} (القصص: 80-83) . يا أيها المغرورون بالعلم والقوة، قد عرفتم القوى المادية، فلا تنسوا القوة المعنوية، يا أيها المغرورون بعرفان السنن الكونية والاجتماعية، لا تنكروا سنن العدالة الإلهية، {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ} (آل عمران: 137) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) [1] ، {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص: 59) {أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأعراف: 100) . وأما أنتم يا معشر المستضعفين والمظلومين، فما زلتم شرًّا على أنفسكم من الأقوياء العادين، لا نعم الله شكرتم، ولا دين الفطرة أقمتم، لا سنن لله في الكون عرفتم، ولا على سننه في ارتقاء البشر سرتم، لا بالقوى المادية انتفعتم، ولا بالقوى المعنوية اعتصمتم، فما ظلمكم الله ولا الناس؛ لكن أنفسكم ظلمتم. تطالبون ربكم بما وعد به المؤمنين، ولا تطالبون أنفسكم بما فرضه وما شرطه على المؤمنين، {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 152) ، حرمكم بمخالفة كتابه وسنته في عباده ذلك النصر،] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين [ (الأنفال: 46) {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) , {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) . يا قوم! طالما أنذركم المنار - على رءوس السنين والأحوال - سوء عاقبة ما أنتم عليه من التفريط والغرور والإهمال، وطالما فَصَّلَ لكم في أعقاب الشهور، ما تَخْرُجُون به من الظلمات إلى النور، مبينًا لكم - بآيات القرآن، وأقيسة الميزان وسنن الله في سيرة الإنسان - أن الأمر ليس بالأماني والأحلام، ولا بمجرد الانتساب إلى الإسلام، وإنما هو بالأخلاق والأعمال، والعدل والاعتدال، التي بالإيمان تَبْلُغُ درجات الكمال، وإنما الخلافة في الأرض بالصلاح والإصلاح، والمؤمن المصلح يَرْجُحُ المصلح الكافر بالإيمان، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) , {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13) , {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ِ} (إبراهيم: 14) ,] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم [, {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) . نعم طالما حذركم المنار وأنذركم، بل طالما ذكركم بنُذُرِ ربكم، وبسننه في الذين معكم، والذين خلوا من قبلكم، فتماريتم بالنذر، وتعللتم بالقضاء والقدر، وإنما يعتذر بالقدر من يبرئ نفسه، ويتهم ربه، على أنكم تدعون ربكم أن يبدل فيكم سنته، ويبطل لأجلكم حكمته، وينصركم بالاستبداد الأُنُف، وقطع أسباب القدر، وقد تلوتم ما نزل في حُنَينٍ وأُحُد، إذ نزل بخير سلفكم ما نزل، جزاء العجب والخلاف والفشل، وفيهم خاتم الأنبياء والرسل، أإسلامكم خير من إسلامهم أم لكم براءة في الزبر، {كَلاَّ وَالْقَ

الجهاد الديني في الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجهاد الديني في الإسلام إن أحكام القتال في الإسلام أعدل وأرحم من أحكام القوانين الأوربية فهي الإصلاح الأعظم لهذه المصيبة الاجتماعية. ويظن كثير من نصارى الشرق - تبعًا لأئمتهم في الغرب - أن الجهاد الديني في الإسلام عبارة عن تصدي المسلمين لقتل كل من يخالفهم في الدين. وقد بينا خطأ هؤلاء ووهمهم بالأدلة والآيات البينات. ويدهشنا أن نرى أجدر الناس بالفهم والحفظ والذكر لما كتبناه - كأصحاب الجرائد - قد نسوه وظلوا على رأيهم الموروث بدليل ما كان من توقعهم قيام المسلمين في البلاد العثمانية بذبح إخوانهم في الجنس والوطن، واستغرابهم اتحاد الدولة العثمانية مع دولتين من غير دينها. أعلنت الدولة العثمانية الجهاد الديني فكان المسلمون في بلادها السورية وغيرها أشد اتفاقًا مع غير المسلمين منهم قبل هذا الجهاد. وما ينقل من تعدي الترك والأكراد على الأرمن فسببه - على فرض صحته - المنازعات الجنسية والسياسية، والانتقام منهم لميلهم إلى الدولة الروسية. وأما الجهاد العام في الإسلام فلا يكون إلا دفاعًا ولا يجوز فيه قتال غير المقاتلين المعتدين {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) .

الدعوة إلى انتقاد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى انتقاد المنار جرت عادتنا بأن نُذَكِّر قراء المنار في كل عام بما يجب من الانتقاد الذي هو ضرب من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمساعدة على الدعوة إلى الخير، وبث النصيحة، ونشر العلم، فنحن نطالب كل من قرأ في المنار شيئًا يرى أنه خطأ أن يبين لنا ذلك قولاً أو كتابة مؤيدًا لنقده بما عنده من الدليل، وأما من سمع الإنكار على المنار من بعض الناس سماعًا فينبغي له أن يتثبت ولا يُعَجِّل بموافقة المنكر ومجاراته، حتى يرى ذلك بعينه، أو يقرأه الثقة عليه، فإن من الناس من يفتري الكذب عمدًا، ومنهم من يحرف ما يقرأ حسدًا وضغنًا، ومنهم من يستنبط من الكلام لوازم لا تلزم، على أن لازم المذهب ليس بمذهب. وإننا وايم الله لا نرغب إلى أهل العلم والفهم أن ينتقدوا ما نكتب غرورًا منا بنفسنا، وثقة بأن النقد ينكشف عن خطأ الناقد وصوابنا، بل نعلم أننا كغيرنا من البشر عرضة للخطأ والنسيان، ولجهل الحقائق وضعف البيان، ولا نبرئ أنفسنا إلا من سوء القصد، واتِّباع الهوى عن عمد، وإن لنا في هذه الدعوة أربعة أغراض: الأول: التوسل بها لإصلاح خطئنا، وتقويم عوجنا. الثاني: التعاون على البر والتقوى والإصلاح بضم رأي غيرنا إلى رأينا والاستفادة من علم أهل العلم. الثالث: إقامة الحجة على المغتابين والكذابين الذين يقولون علينا ما لم نقل، وينسبون إلينا ما نحن بُرآء منه، ويعيبون المنار بما ليس فيه. الرابع: التوسل إلى تصحيح خطأ المنتقد إذا كان هو المخطئ. هذا. ومن شاء أن ينشر ما يكتبه علينا من غير تصريح باسمه فله أن يأمرنا بكتمان اسمه. ووضع ما شاء أو شئنا من الأسماء والألقاب في مكانه. وإننا نشترط على المنتقدين ما نشترطه لهم على أنفسنا من الأدب في العبارة ونزيد التزام الموضوع، وعدم الخروج عنه إلى ما ليس منه، ومراعاة الاختصار بقدر الحاجة.

التاريخ الهجري الشمسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التاريخ الهجري الشمسي يعلم القراء أننا شرعنا من بضع سنين بإحياء التاريخ الهجري الشمسي بذكر سنينه في المنار بعد التاريخ الهجري القمري، وقبل التاريخ الميلادي، وقد كنا نكتفي أولاً بذكر السنة تابعة للشهور الإفرنجية الشمسية، بدأنا بهذا في المجلد الثاني عشر (سنة 1327) ثم ارتأينا في أول السنة الخامسة عشرة - سنة 1330 - أن نذكر الشهور الشمسية الهجرية ونعتمد في تسميتها ما اختاره أحمد مختار باشا الغازي في تقويم له بين فيه ذلك. وذلك أن تُسمى الشهور بأسماء الفصول مع الوصف بالعدد، بأن يقال: الخريف الأول الخريف الثاني إلخ. لأن حفظ هذه الشهور يَسْهُل على العوام كالخواص، ومن أسمائها يعرفون مواقعها من السنة من أول العهد باستعمالها، وقد جرينا على هذا الحساب في جماعة الدعوة والإرشاد ومدرستها، وكنا عازمين على طبع تقويم خاص للسنة الهجرية الشمسية. ثم إننا رأينا أن بعض إخواننا من الفارسيين والأفغانيين يستعملون التاريخ الهجري الشمسي؛ ولكنهم يُسَمُّون شهور السنة بأسماء بروج الشمس، فالشهر الأول من السنة هو شهر الميزان وهو أول فصل الخريف الذي وصل النبي صلى الله عليه وسلم في أول يوم منه إلى المدينة المنورة، ولما نبهنا الناس إلى إحياء هذا التاريخ في مصر صار بعض أصحاب التقاويم المصرية يذكرونه في تقاويمهم، وتبعوا الفرس والأفغان في تسمية الشهور. لأجل هذا رأينا الآن أن نجاري هؤلاء وأولئك في هذه التسمية، وأن نكتفي بالإشارة إلى تسمية الشهور بأسماء الفصول بالحروف المقطعة من أولها، وذلك بجعل حرف خ رمزًا للخريف وحرف ش للشتاء وحرف ر للربيع وحرف ص للصيف، ونضيف إلى هذه الحروف الأرقام الدالة على الأول والثاني والثالث. فالقارئ يرى هذا الجزء مؤرخًا في 25 من شهر الدلو (ش2) أي الشتاء الثاني.

سنة المنار الجديدة عشرة أشهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سنة المنار الجديدة عشرة أشهر بَيَّنَّا - في جزء آخر السنة الماضية - أن ما أحدثته حرب المدنية الأوربية من الضيق وقلة الورق اضطرنا إلى جعل سنة المنار الجديدة عشرة أشهر كأكثر المجلات المصرية، مع إبقاء جزء كل شهر ثمانين صفحة. وإذا طالت الحرب وزاد هذا الضيق فربما نضطر إلى تقليل عدد الأوراق أيضًا.

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 3

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (3) (الهواء) يُفْهَم - مما تقدم في الكلام على المطر - أن الهواء يشتمل دائمًا على بخار الماء (الرطوبة) وهذا البخار يقل أو يكثر بحسب درجة حرارة الهواء، فإذا كان الهواء ساخنًا كان أكثر رطوبة من الهواء البارد. وأهم ما يوجد فيه من الأجسام الأخرى فهو: - النيتروجين ... 79.02 الأكسيجين ... ... 0.94 ... ... في المائة تقريبًا وذلك بالحجم لا بالوزن غاز ثاني أكسيد الفحم 0.04 وهي مختلط بعضها ببعض وليست متحدة اتحادًا كيماويًّا كما سبق، وفي الهواء غير ذلك آثار من عناصر أخرى ومركبات لا حاجة هنا لتفصيلها. أما أنواع الهواء بحسب الأمكنة فهي ما يأتي: 1 - هواء البحار- وهو يشتمل على كثير من بخار الماء النقي، ومن أكسجين كثيف يسمى (الأوزون) [1] وهو عبارة عن أكسجين خاثر (مُركز) تشمل كل ذرة منه ثلاث جواهر فردة من الأكسجين، وهواء البحار البعيد عن البر خالٍ من الميكروبات تقريبًا، ومن العفونات والروائح الكريهة، ويكون في الشتاء دافئًا، وفي الصيف باردًا، وذلك لأن الماء يبرد ببطء، ولا يسخن بسرعة، فيبقى أشد سخونة أو برودة من الأشياء المحيطة به فَيُعَدِّل درجة حرارة الجو. فهواء البحار من أنفع الأهوية للصحة، ومفيد لكثير من الأمراض، ولو أنه يشتمل على رطوبة كثيرة فإن ذلك لا يضر فيها. 2- هواء الصحاري - ورطوبته أقل كثيرًا، وهو أيضًا خالٍ من الميكروبات تقريبًا، ومن العفونات وغيرها، وأكسجينه يوجد فيه أيضًا النوع المسمى (أوزون) كهواء البحار، وأما درجة حرارته فهي عالية في الصيف منخفضة في الشتاء، وهو أيضًا نافع للصحة، ومفيد لبعض الأمراض الأخرى. 3- هواء المدن - وهو يشتمل على كثير من الميكروبات [2] ، والغازات الضارة، والعفونات، وغيرها مما يخرج مع نَفَس الحيوان، ومما يتصاعد من النيران وغيرها، ويشتمل أيضًا على رطوبة كثيرة؛ ولكنها ليست نقية، بل مختلطة بكثير مما يتبخر من سطح الأرض من القاذورات، والروائح الكريهة المنبعثة من المراحيض ونحوها، أو من المياه الراكدة الآسنة، ولذلك كان هواء المدن من أفسد الأهوية، وأضرها بصحة الإنسان. 4- هواء الحدائق والغيطان (الحقول ونحوها) وهو من جهة الرطوبة بين هواء الصحاري، وهواء البحار، وميكروباته قليلة جدًّا، وفي النهار يقل منه غاز ثاني أوكسيد الفحم؛ بسبب تنفس الأشجار فهي تستنشق منه غاز الفحم الضار وتترك الأكسجين للإنسان والحيوان. وفي الليل يكون هذا الهواء فاسدًا؛ لأن الأشجار والنباتات تتنفس فيه تنفس الحيوان فإن لم يكن المكان طلقًا أضر هذا الهواء الإنسان ضررًا كبيرًا، وإذا لم يتجدد الهواء ربما يقتله. *** الانتشار والتخلل أو (الاختراق) عُلِمَ - مما تقدم - أن ذرات المادة تحت مؤثرين عظيمين: الأول قوة الانضمام، والثاني قوة الاندفاع، وهي المُعَبَّر عنها فيما سبق بالحرارة الكامنة. فإذا زادت قوة الانضمام عن قوة الاندفاع كان الجسم صلبًا، وإذا تساوت القوتان كان سائلاً، وإذا زادت قوة الاندفاع عن قوة الانضمام كان غازًا. ففي الغازات تميل ذراتها إلى الانتشار في جميع الجهات بقوة الحرارة الكامنة فيها، وهذا هو المسمى في علم الطبيعة بالانتشار، وتلك القوة تُحْدِث ضغطًا على الأجسام المحيطة بالغاز، فهي أيضًا من أسباب الضغط الجوي الذي تقدم ذكره (راجع صفحة 7 من هذا الكتاب) [3] . وكلما كان الغاز خفيفًا كانت قوة الانتشار فيه أشد، فالهيدروجين - وهو أخف من الأكسجين - ينتشر بسرعة أكثر من الأكسجين. وإذا وجد في طريق الغاز المنتشر غشاء ما مما له مسام نفذ الغاز من خلاله وقوة النفوذ هذه تسمى قوة التخلل، أو الاختراق، وتسميها الإفرنج Osmosis، وكما أن الغازات تخترق بعض الأغشية كذلك من الأجسام الصلبة ما يخترقها أيضًا إذا كان ذائبًا، والأجسام بالنسبة إلى قوة الاختراق نوعان: (الأول) أجسام تتشكل بشكل البلورات كالأملاح وهي سهلة النفاذ (الثاني) أجسام لا تتشكل كالمواد الزلالية، والغروية، والصمغية، وهي يتعسر نفاذها، أو يتعذر. فالأجسام الأولى إذا كانت ذائبة في سائل مع الأجسام الأخرى نفذت خلال الأغشية وحدها دون الأجسام الأخرى، وبذلك يمكن فصل هذه عن تلك. وأظهر فوائد سنة الانتشار والتخلل الخمس الآتية: (1) أنه بسبب قوة الانتشار يدرك الإنسان جميع المشمومات. (2) التنفس لجميع الحيوانات البرية، والبحرية، فالأكسجين المنتشر في الهواء والذائب في الماء يندفع بهذه القوة إلى مجاري التنفس (الرئة) في الحيوانات البرية وإلى خياشيم الحيوانات البحرية؛ فيثقب أغشيتها حتى يصل إلى الدم؛ فيتحد به وكذلك الغاز الذي في الدم المسمى (ثاني أكسيد الفحم) يتركه، ويندفع إلى الخارج خلال أغشية الأعضاء التنفسية. والسبب في اتجاه الأكسجين إلى الداخل هو كون ما يوجد منه في الهواء أكثر مما يوجد منه في الدم، - والغازات تميل في انتشارها إلى الموازنة والمساواة، كما تميل السوائل الموجودة في مستويات مختلفة إلى الموازنة أيضًا كما سبق. وكذلك اتجاه ثاني أكسيد الفحم إلى الخارج يكون لهذا السبب بعينه. ويسمى الاندفاع إلى الخارج Exosmose، ويسمى الاندفاع إلى الداخل Endosmose. (3) امتصاص الأغذية من القناة الهضمية في الحيوان، وامتصاصها من جدر الرحم بالأجنة الحيوانية يحصل أيضًا بقوة التخلل، مع مساعدة الخلايا البشرية المبطنة للأغشية، ولذلك تمتص الأملاح مع المواد الزلالية في مثل الجنين بسبب فعل هذه الخلايا، ولولا ذلك لَتعسر نفاذ غير الأملاح أو تعذر. (4) تجدد الهواء وذلك أنه إذا قل الأكسجين في حجرة اندفع أكسجين الهواء الخارجي إلى هذه الحجرة من جميع المنافذ الممكنة حتى لا يخلو الهواء الداخلي من الأكسجين، وإلا لماتت الحيوانات فيه , ولانطفأت المصابيح. (5) فصل بعض المواد الكيماوية عن بعضها في المعامل يكون أحيانًا بطريقة التخلل. *** مأخذ أسماء أشهر العناصر المذكورة آنفًا ومعانيها (1) النيتروجين: لفظ يوناني مركب من كلمتين معناهما (مُوَلِّد النيتر) لأنه يدخل في تركيبه، والنيتر (Nitre) اسم لنترات البوتاسيوم، وهي ملح البارود المسَمَّى أيضا (الملح الصخري) (Saltpetre) ، وكان النيتروجين يُسمى قديمًا (أزوت) ، وهي يونانية أيضًا معناها " عديم الحياة " لأن الحيوانات لا تعيش فيه. (2) الأكسجين: لفظ يوناني مركب من كلمتين معناهما (مُوَلِّد الحامض) لأنهم كانوا يظنون أنه هو السبب الوحيد في الحموضة، أو أنه داخل في تركيب جميع الحوامض؛ ولكنهم علموا بعد ذلك خطأهم، وبقي الاسم بدون تغيير إلى الآن. (3) الهيدروجين: لفظ يوناني أيضا مركب من كلمتين معناهما (مُوَلِّد الماء) لأن كل ذرة من الماء مركبة من جوهرين فردين من الهيدروجين متحدين مع جوهر واحد من الأكسجين، وبعبارة أخرى حجمان من الأول مع حجم واحد من الثاني. *** الكهرباء الكهرباء إحدى قوى المادة العظيمة، وهي عبارة عن حركة مخصوصة في ذراتها، وكان أول الاهتداء إليها في حجر الكهرمان (ويسمى أيضًا الكهرباء) فبدلكه تتولد هذه القوة فيه؛ فيجتذب إليه بعض الأجسام، ولذلك سُميت باسمه، وأول من شاهد ذلك فيلسوف يوناني يسمى ثيلس (Thales) سنة 600 ق. م. وهي تتولد بطرائق عديدة أهمها أربع: (1) الاحتكاك: فإذا دُلِك الزجاج بالحرير تَوَلَّدَ فيه كهرباء من النوع المسمى (بالكهربائية الزجاجية) ، وإذا دُلِك الراتينج (وهو يتولد من الزيوت الطيارة بالتأكسد ويشبه الصمغ) بقماش الصوف المسمى (فلانلا) تولدت فيه قوة كهربائية من نوع آخر تُسَمَّى بالكهربائية الراتينجية. (2) التفاعل الكيماوي: فإذا وُضِعَ عمود من الزنك (الخارصين) ، وعمود آخر من النحاس في حامض الكبريتيك المخفف، ووُصِّل بينهما بسلك حصل التفاعل الكيماوي بين الحامض وبين الزنك، وتولدت قوة كهربائية تسري من النحاس إلى السلك، ومنه إلى الزنك، ومنه إلى الحامض، حتى تعود إلى النحاس ثانية، فكأنها تجري في دائرة كاملة، ويُسَمَّى مجموع ذلك بالخلية الكهربائية. واجتماع عدة خلايا كهذه بحيث يتصل بعضها ببعض، ويتكون منها دائرة تجري فيها الكهرباء تسمى بالبطارية الكهربائية. وكلمة بطارية مشتقة من كلمة (Battre) الفرنساوية ومعناها الضرب أو القرع، وعليه فيمكننا تسمية البطارية بالعربية (القارعة) ، ويشترط في كل الخلايا أن يوجد فيها عمود لا ينفعل بالحامض، وعمود آخر ينفعل به. فمن الأشياء التي لا تنفعل بالحامض النحاس - كما قلنا - والفحم والبلاتين (الذهب الأبيض) والجسم المتفاعل المعتاد هو الزنك. وجميع الأجسام تشتمل على نوعين من الكهرباء ممتزجين معًا وهما: الزجاجية والراتينجية، ويسميان أيضًا الموجبة والسالبة، فإذا اختلف النوعان اتحدا، وإذا اتحدا اختلفا وتنافرا، ففي كل خلية يتولد كهرباء سالب في أعلى الزنك وموجب في أسفله، وفي النحاس يتولد موجب في أعلاه وسالب في أسفله فيتحد موجب النحاس مع سالب الزنك في السلك خارج الخلية، ويتحد موجب الزنك مع سالب النحاس داخل الحامض. ولكن للتسهيل اصطلح العلماء على أن يقولوا إن التيار الكهربائي يسري من العمود غير المنفعل إلى العمود المنفعل، ويسمى الأول عندهم بالقطب الموجب، والثاني بالقطب السالب. (3) التأثير: ومن ذلك أنه إذا وُضِعَ قطب موجب بجوار جسم متعادل (أي فيه النوعان ممتزجان كجميع الأجسام) انفصل السالب، واتحد مع القطب الموجب، وتولدت شرارة كهربائية من اتحاد النوعين، وبقي في الجسم الذي كان متعادلاً نوع واحد فقط وهو الموجب. ومثل هذا الاتحاد المولد للشرارة اتحاد كهربائية السحاب المختلفة النوع بعضها مع بعض، أو مع كهربائية الأرض السالبة فيتولد من اتحادهما نار عظيمة (الصاعقة) ، وصوت مزعج (الرعد) ؛ بسبب تماوج الهواء، وضوء شديد (البرق) وتتولد الكهرباء على سطح الأرض بما يحصل عليه من الاحتكاك، والتبخر والتكاثف، والاحتراق، ونمو النبات. المغناطيس الأرضي: دوران هذه التيارات الكهربائية حول الأرض يكسبها قوة المغناطيس [4] فيجذب قطباها قطبي قطع المغناطيس الأخرى المغايرين لهما (كناموس الكهرباء السابق) فالقطب الشمالي يجذب الجنوبي، والجنوبي يجذب الشمالي؛ وذلك هو سبب اتجاه (إبرة الملاحين المغناطيسية) المسماة باللغة العربية (بيت الإبرة) وباللغة الفرنسية (بوصلة) (Boussle) . وكما أن الكهربائية تتولد بالتفاعل الكيماوي كذلك تتولد في الأجسام الحية من نبات وحيوان، فالعضلة العاملة المتحركة في جسم الإنسان تكون سلبية بالنسبة للعضلة الساكنة. ويوجد من السمك ما فيه كهربائية عظيمة يحس بها الإنسان بمجرد لمسه له كالسمك المسمى (بالرّعاد) . (4) تسخين قطب مصنوع من معدنين مختلفين كالبزموت والأنتيمون يُوَلِّد فيه كهرباء. فهذه هي الطرائق التي يهمنا معرفتها. *** النور النور عَرَضٌ معروف من أعراض المادة يتولد من حركة أجزائها الأثيرية حركة مخصوصة، وهذه الحركة الأثيرية تنبعث من جميع جهات الجسم المضيء في خطوط مستقيمة، ولا يلزم لانتشار النور في الجو سوى هذه المادة الأثيرية بخلاف بعض الأعراض الأخرى كالصوت مثلاً؛ فإنه يلزم له مادة محسوسة كالهواء لنقله؛ ولذلك يصل النور إلينا من الشمس والقمر والنجوم، مع العلم بأن هذه الأجرام مفصول بعضها عن بعض بم

جعل مصر سلطنة تحت حماية إنكلترة

الكاتب: ملن شيتهام

_ جعل مصر سلطنة تحت حماية إنكلترا كان أول عواقب دخول الدولة العثمانية في الحرب الأوربية أن أعلنت إنكلترا إزالة سيادتها الرسمية عن مصر، وجعلها تحت الحماية البريطانية، وتسميتها سلطنة، وتسمية الأمير حسين كامل باشا أرشد أسرة محمد علي باشا سلطانًا عليها. في 19 ديسمبر الماضي ذهب المستر ملن شيتهام متولي أعمال الوكالة البريطانية، والمستر ستورس سكرتيرها الشرقي إلى القصر الذي يقيم فيه الأمير حسين كامل باشا، وقدما إليه بلاغ الحكومة البريطانية المؤذن بجعل القطر المصري تحت حمايتها، وبجعله سلطانًا مِنْ قِبَلِهَا لمصر، وهذه ترجمته بالعربية كما نشر في الجرائد: البلاغ البريطاني يا صاحب السمو! كلفني جناب ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانية العظمى أن أخبر سموكم بالظروف التي سببت نشوب الحرب بين جلالته وبين سلطان تركية، وبما نتج عن هذه الحرب من التغيير في مركز مصر. كان في الوزارة العثمانية حزبان أحدهما معتدل لم يبرح عن باله ما كانت بريطانيا العظمى تبذله من العطف والمساعدة لكل مجهود نحو الإصلاح في تركيا، ومقتنع بأن الحرب التي دخل فيها جلالته لا تمس مصالح تركيا في شيء، ومرتاح لما صرح به جلالته وحلفاؤه من أن هذه الحرب لن تكون وسيلة للإضرار بتلك المصالح لا في مصر ولا في سواها، وأما الحزب الآخر فشرذمة جنديين أفاقين لا ضمير لهم أرادوا إثارة حرب عدوانية بالاتفاق مع أعداء جلالته معللين أنفسهم أنهم بذلك يتلافون ما جروه على بلادهم من المصائب المالية والاقتصادية. أما جلالته وحلفاؤه فمع انتهاك حرمة حقوقهم قد ظلوا إلى آخر لحظة وهم يأملون أن تتغلب النصائح الرشيدة على هذا الحزب؛ لذلك امتنعوا عن مقابلة العدوان بمثله حتى أُرْغِمُوا على ذلك بسبب اجتياز عصابات مسلحة للحدود المصرية، ومهاجمة الأسطول التركي - بقيادة ضباط ألمانيين - ثغورًا روسية غير محصنة. ولدى حكومة جلالة الملك أدلة وافرة على أن سمو عباس حلمي باشا خديوي مصر السابق قد انضم انضمامًا قطعيًّا إلى أعداء جلالته منذ أول نشوب الحرب مع ألمانيا. وبذلك تكون الحقوق التي كانت لسلطان تركية، وللخديوي السابق على بلاد مصر قد سقطت عنهما وآلت إلى جلالته. ولما كان قد سبق لحكومة جلالته أنها أعلنت بلسان قائد جيوش جلالته في بلاد مصر أنها أخذت على عاتقها وحدها مسئولية الدفاع عن القطر المصري في الحرب الحاضرة، فقد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد بعد تحريرها، كما ذكر من حقوق السيادة، وجميع الحقوق الأخرى التي كانت تدعيها الحكومة العثمانية. فحكومة جلالة الملك تعتبر وديعة تحت يدها لسكان القطر المصري جميع الحقوق التي آلت إليها بالصفة المذكورة، وكذلك جميع الحقوق التي استعملتها في البلاد مدة سني الإصلاح الثلاثين الماضية، ولذا رأت حكومة جلالته أن أفضل وسيلة لقيام بريطانية العظمى بالمسئولية التي عليها نحو مصر، أن تعلن الحماية البريطانية إعلانًا صريحًا، وأن تكون حكومة البلاد تحت هذه الحماية بيد أمير من أمراء العائلة الخديوية طبقًا لنظام وراثي يُقَرر فيما بعد. بناء عليه قد كلفتني حكومة جلالة الملك أن أبلغ سموكم أنه بالنظر لسن سموكم، وخبرتكم قد رُئِي في سموكم أكثر الأمراء من سلالة محمد علي أهلية لتقلد منصب الخديوية مع لقب (سلطان مصر) ، وإنني مكلف بأن أؤكد لسموكم صراحة عند عرضي على سموكم قبول عبء هذا المنصب أن بريطانية العظمى أخذت على عاتقها وحدها كل المسئولية في دفع أي تعد على الأراضي التي تحت حكم سموكم مهما كان مصدره. وقد فوضت إليّ حكومة جلالته أن أصرح بأنه بعد إعلان الحماية البريطانية؛ يكون لجميع الرعايا المصريين أينما كانوا الحق في أن يكونوا مشمولين بحماية حكومة جلالة الملك. وبزوال السيادة العثمانية تزول أيضًا القيود التي كانت موضوعة بمقتضى الفرمانات العثمانية لعدد جيش سموكم، وللحق الذي لسموكم في الإنعام بالرُّتب والنياشين. أما فيما يختص بالعلاقات الخارجية فترى حكومة جلالته أن المسؤولية الحديثة التي أخذتها بريطانية العظمى على نفسها تستدعي أن تكون المخابرات منذ الآن بين حكومة سموكم، وبين وكلاء الدول الأجنبية بواسطة وكيل جلالته في مصر. وقد سبق لحكومة جلالته أنها صرحت مرارًا بأن المعاهدات الدولية المعروفة بالامتيازات الأجنبية المقيدة بها حكومة سموكم لم تعد ملائمة لتقدم البلاد؛ ولكن من رأي حكومة جلالته أن يُؤَجَّل النظر في تعديل هذه المعاهدات إلى ما بعد انتهاء الحرب. وفيما يختص بإدارة البلاد الداخلية عليّ أن أُذَكِّر سموكم أن حكومة جلالته طبقًا لتقاليد السياسة البريطانية قد دأبت على الجد بالاتحاد مع حكومة البلاد وبواسطتها في ضمان الحرية الشخصية، وترقية التعليم، ونشره، وإنماء مصادر ثروة البلاد الطبيعية، والتدرج في إشراك المحكومين في الحكم بمقدار ما تسمح به حالة الأمة من الرقي السياسي. وفي عزم حكومة جلالته المُحافَظَةُ على هذه التقاليد بل إنها موقنة بأن تحديد مركز بريطانيا العظمى في هذه البلاد تحديدًا صريحًا يؤدي إلى سرعة التقدم في سبيل الحكم الذاتي. وستُحْتَرم عقائد المصريين الدينية احترامًا تامًّا، كما تُحْتَرم الآن عقائد نفس رعايا جلالته على اختلاف مذاهبهم. ولا أرى لزومًا لأن أؤكد لسموكم أن تحرير حكومة جلالته لمصر من رِبْقَة أولئك الذين اغتصبوا السلطة السياسية في الآستانة لم يكن ناتجًا عن أي عداء للخلافة، فإن تاريخ مصر السابق يدل في الواقع على أن إخلاص المسلمين المصريين للخلافة لا علاقة له البتة بالروابط السياسة التي بين مصر والآستانة، وأن تأييد الهيئات النظامية الإسلامية في مصر والسير بها في سبيل التقدم هو بالطبع من الأمور التي تهتم بها حكومة جلالة الملك مزيد الاهتمام، وستلقى من جانب سموكم عناية خاصة، ولسموكم أن تعتمدوا في إجراء ما يلزم لذلك من الإصلاحات على كل انعطاف وتأييد من جانب الحكومة البريطانية. وعليَّ أن أزيد - على ما تقدم - أن حكومة جلالة الملك تُعَوِّل بكل اطمئنان على إخلاص المصريين، ورويتهم، واعتدالهم في تسهيل المهمة الموكولة إلى قائد جيوش جلالته المكلف بحفظ الأمن في داخل البلاد، وبمنع كل عون للعدو وإني أنتهز هذه الفرصة فأقدم لسموكم أجل تعظيماتي. ... ... ... ... ... ... تحريرًا في 19 ديسمبر سنة 1914 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ملن شيتهام

الاحتفال بنصب الأمير حسين كامل سلطانا لمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بنصب الأمير حسين كامل سلطانًا لمصر جرى هذا الاحتفال في يوم الأحد ثالث شهر صفر الماضي الموافق 20 ديسمبر، وكانت معداته مهيئة قبل ذلك بأيام، أو أسابيع، ورقاع الدعوة إليه قد وزعت في جميع أرجاء القطر، وهذا مقدمة نص البلاغ الرسمي الصادر من قصر عابدين في ذلك: (برح صاحب العظمة مولانا السلطان في منتصف الساعة العاشرة في يوم الأحد 20 ديسمبر سنة 1914 سراي دولة الأمير كمال الدين باشا في موكب فخيم محفوظًا بحراسه، ومن ورائه أصحاب السعادة الوزراء تقلهم مركبتان من مركبات المعية السنية، فأطلقت مدافع القلعة واحدًا وعشرين مدفعًا إيذانًا، وأدت طلبة المدرسة الحربية والجند التحية، وكان الشعب يهتف لعظمته طول الطريق هتافًا متواصلاً، ولما أقبل عظمته على ميدان عابدين ضج له جماهير المدعوين الموجودين بالصيوان المنصوب أمام السراية، وهم مندوبو المديريات، وكبار موظفي الحكومة، وحضرات العلماء، والرؤساء الروحانيين وكبار ضباط الجيش الإنكليزي والمصري، ولما وصلت المركبة السلطانية إلى باب السراي استقبله كل من أصحاب الدولة أمراء العائلة السلطانية، وصاحبي الفضيلة شيخ الإسلام، ومفتي الديار المصرية، وحضرات رئيس ووكيل الجمعية التشريعية، والمستشارين، ووكلاء الوزارات، ورئيس محكمة الاستئناف الأهلية والمختلطة، والنائبين العموميين لدى المحاكم الأهلية والمختلطة ومحافظين وكبار رجال المعية) وتلا ذلك بيان كيفية المقابلات، وما تخللها من الخطب والمخاطبات.

ترجمة برقيات التهاني بين لندرة ومصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة برقيات التهاني بين لندرة ومصر البرقية الأولى من ملك الإنكليز تهنئة إلى صاحب العظمة السلطانية سلطان مصر بالقاهرة في الوقت الذي ترتقي فيه عظمتكم السلطانية منصبها السامي أرغب أن أقدم إلى عظمتكم السلطانية عواطف الوداد المنبعثة عن أكمل إخلاص، مع تأكيدي لكم بأنني لا أنفك عن تأييدكم في سبيل المحافظة على كيان مصر، وضمان رفاهيتها في المستقبل وسعادتها، ولقد دعيتم عظمتكم السلطانية إلى تحمل مسؤولية منصبكم السامي إبان أزمة خطيرة في الحياة الأهلية بمصر، وإني على يقين أنه بمعاونة وزرائكم، وبحماية بريطانية العظمى يتسنى لكم التغلب على كل المؤثرات التي يراد بها العبث باستقلال مصر، وبرفاهة أهاليها، وحريتهم، وسعادتهم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... جورج ... ... ... ... ... ... ... ... ... ملك وإمبراطور *** البرقية الثانية من سلطان مصر شكر أقدم لجلالتكم فائق الامتنان على ما تفضلتم به من شعائر الوداد التي شرفتموني بها، وعلى ما أكدتموه لي من نفيس التعضيد للمحافظة على كيان مصر واستقلالها، ولما كنت على علم تام بالمسؤولية التي أخذتها على عاتقي، وقد عقدت النية على تخصيص كل ما في وسعي لتقدم أمتي، وسعادتها سالكًا مع الحماية في ذلك سبيل الوئام؛ فإنني أعتبر من حسن حظي أن يتاح إليَّ الاعتماد في القيام بهذا العبء على جميل عواطف جلالتكم، وعلى معاونة حكومتها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين كامل *** البرقية الثالثة من لورد كتشنر تهنئة إلى صاحب العظمة السلطانية سلطان مصر بالقاهرة أتشرف بتقديم أَجَلّ مراسم التهاني والاحترام إلى مقام عظمتكم السلطانية بمناسبة ارتقائكم عرش سلطنة مصر، وأسأله تعالى أن يوفق مصر في ظل عظمتكم السلطانية، وبمعاونة ونصائح أصدقائها إلى جعل مستقبلها مقرونًا بالطمأنينة والسعادة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتشنر *** البرقية الرابعة من سلطان مصر شكر إلى لورد كتشنر- لندن كان لتهانئكم الودية - بمناسبة ارتقائي عرش السلطنة - أجمل وقع في فؤادي فأشكركم شكرًا جزيلاً على ما أبديتموه من العواطف والأماني نحو بلادي، وإن ما أعلمه من عظيم اهتمامكم بمصر يجعلني على يقين بأنه يتسنى لها الاعتماد عليكم كما تعتمد على خير أصدقائها. ... ... حسين كامل *** البرقية الخامسة أمنية من اللورد كتشنر إلى رئيس الوزارة حسين رشدي باشا أبادر بإبلاغ عطوفتكم أمانيّ المنبعثة من أكمل عواطف الإخلاص، والوداد نحو مستقبل النظام الذي انفتح عصره في هذا الصباح، وإن ثقتي بحكمة عطوفتكم، وبوطنيتكم تجعل لي الأمل الوطيد باستمرار مصر في طريق السعادة والتقدم. *** البرقية السادسة من رئيس الوزارة شكر واغتباط أشكر جنابكم على جميل تلغرافكم، وأنا على يقين مثلكم بأن مصر في عهد نظامها الجديد ستتابع خطاها في طريق النظام، والارتقاء. وإني لمرتاح إلى ما عندي من الأمل بإمكاني الاعتماد على مودتكم الثمينة أثناء قيامي بأعباء وظيفتي.

تهاني الشعراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تهاني الشعراء نظم أشهر شعراء مصر القصائد في التهاني السلطانية، وفي مقدمتهم إسماعيل باشا صبري وأحمد شوقي بك ومحمد حافظ بك إبراهيم، وامتازت قصيدة شوقي بأنها لم تكن مدحًا وثناء مجردًا كغيرها؛ بل تمثيلاً لشعوره ووجدانه الخاص من حيث هو ربيب بيت الخديوي إسماعيل باشا، وغرس نعمته، ووجدانه العام من حيث هو مسلم مصري، ويشاركه في هذا جمهور المصريين؛ فإذا أثبتناها بنصها أثرًا تاريخيًّا لا نخرج عن سنة المنار في عدم نشر المدائح الشخصية وها هي ذه: الملك فيكم آل إسماعيلا ... لا زال بَيْتُكُمُو يُظِل النيلا لطف القضاء فلم يمل لوليكم ... ركن ولم يشف لحسود غليلا هذى أصولكمو وتلك فروعكم ... جاء الصميم من الصميم بديلا المُلك بين قصوركم في داره ... من ذا يريد عن الديار رحيلا [1] (عابدين) شرف يا ابن رافع ركنه ... عزًّا على النجم الرفيع وطولا ما دام مغناكم [2] فليس بسائل ... أحوى فروعًا أم أقل أصولا أنتم بنو المجد المؤثل والندى ... لكمو السيادة صبية وكهولا النيل إن أحصى لكم حسناتكم ... ملأ الزمان محاسنا والجيلا أحيا أبوكم شاطئيه وابتنى ... مجدًا لمصر على الزمان أثيلا نشر الحضارة فوق مصر وسوريا ... وامتد ظلاًّ للحجاز ظليلا وأعاد للعرب الكرام بيانهم ... وحمى إلى البيت الحرام سبيلا *** حفظ الإله على (الكنانة) عرشها ... وأدام منكم للهلال كفيلا بنيان (عمرو) أَمَّنَتْهُ عناية ... من أن يزعزع ركنه ويميلا وتدارك الباري لواء محمد ... فرعى له غررًا وصان حجولا في برهة يذر الأسرة نحسها ... مثل النجوم طوالعا وأفولا الله أدركه بكم وبأمة ... كالمسلمين الأولين عقولا حلفاؤنا الأحرارُ إلا أنهم ... أرقى الشعوب عواطفا وميولا أعلى من الرومان ذكرًا في الورى ... وأعز سلطانًا وأمنع غيلا لما خلا وجه البلاد لسيفهم ... ساروا سماحا في البلاد عدولا وأتوا بكابرها وشيخ ملوكها ... ملكًا عليها صالحًا مأمولا تاجان زانهما المشيب بثالث ... وَجَدَ الهدى والحقُّ فيه مقيلا *** سبحان من لا عز إلا عزه ... يبقى ولم يك ملكه ليزولا لا تستطيع النفس في ملكوته ... إلا رضا بقضائه وقبولا الخير فيما اختاره لعباده ... لا يظلم الله العباد فتيلا يا ليت شعري هل يحطم سيفه ... للبغي سيفًا في الورى مسلولا سلب البرية سلمها وهناءها ... ورمى النفوس بألف عزرائيلا زال الشباب عن الدسار وخَلَّفُوا ... للباكيات الثكل والترميلا طاحوا فطاح العلم تحت لوائهم ... وغدا التفوق والنبوغ قتيلا الله يشهد ما كفرت صنيعة ... في ذا المقام ولا جحدت جميلا وهو العليم بأن قلبي موجع ... وجعًا كداء الثاكلات دخيلا مما أصاب الخلق في أبنائهم ... ودهى الهلال ممالكا وقبيلا أأخون إسماعيل في أبنائه ... ولقد ولدت بباب إسماعيلا ولبست نعمته ونعمة بيته ... فلبست جزلاً وارتديت جميلا ووجدت آبائي على صدق الهوى ... وكفى بآباء الرجال دليلا رؤيا (عليّ) يا حسين تأولت ... ما أصدق الأحلام والتأويلا وإذا بناة المجد راموا خطة ... جعلوا الزمان مُحَقَّقًا ومُنِيلا القوم حين دها القضاء عقولهم ... كسروا بأيديهم لمصر غلولا هدموا بِوادي النيل ركن سيادة ... لهمو كركن العنكبوت ضئيلا ارَقْه [3] سرير أبيك والبس تاجه ... واكْرُمْ على (القصر المشيد) نزيلا مرت أويقات عليه موحشًا ... كالرمس لا خلوًا ولا مأهولا ليست معالي الأمر شيئًا غائبًا ... عنكم وليس مكانكم مجهولا كم سستموه في الشبيبة مضلعًا ... وحملتموه في المشيب ثقيلا وحميتمو زرع البلاد وضرعها ... وهززتمو للمكرمات بخيلا يا أكرم الأعمام حسبك أن ترى ... للعَبرتين بوجنتيك مسيلا من عثرة ابن أخيك تبكي رحمة ... ومن الخشوع لمن حباك جزيلا ولو استطعت إقالة لعثاره ... من صدمة الأقدار كنت مقيلا *** يا أهل مصر كِلُوا الأمور لربكم ... فالله خير موئلاً ووكيلا جرت الأمور مع القضاء لغاية ... وأقرّها من يملك التحويلا أَخَذَتْ عنانًا منه غير عنانها ... سبحانه متصرفا ومديلا هل كان ذاك العهد إلا موقفًا ... للسلطتين وللبلاد وبيلا يعتز كل ذليل أقوام به ... وعزيزكم يُلْقِي القياد ذليلا دفعت بنافيه الحوادث وانقضت ... إلا نتائج بعدها وذيولا وانفضّ ملعبها وشَاهِدُه على ... أن الرواية لم تتم فصولا فأدمتمو الشحناء فيما بينكم ... ولبثتمو في المضحكات طويلا كل يؤيد حزبه وفريقه ... ويرى وجود الآخرين فضولا حتى انطوت تلك السنون كملعب ... وفرغتمو من أهلها تمثيلا وإذا أراد الله أمرًا لم تجد ... لقضائه ردًّا ولا تبديلا

أثارة تاريخية من مقدمات الحرب المدنية الأوربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أثارة تاريخية من مقدمات الحرب المدنية الأوربية وهي البرقيات التي تبودلت بين العاهلين العظيمين قيصر الألمان وقيصر الروس [1] (1) من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا 28 يوليو 1914 (الساعة 10 والدقيقة 45 مساء) لقد علمت بمزيد القلق خبر الوقوع الذي وقعه زحف الجنود النمساوية على سربية في إمبراطوريتكم. إن التحريض العظيم الذي توالى في سربية منذ سنوات أفضى إلى جناية فظيعة اغْتِيلَ فيها الأرشدوق فرنس فردينند، فالروح الذي حمل السربيين على اغتيال ملكهم وقرينته لا يزال سائداً تلك البلاد، ولا ريب في أنكم توافقونني أننا - أي أنت وأنا - كسائر الملوك لنا مصلحة مشتركة في الإصرار على معاقبة مرتكبي جناية القتل هذه العقاب الذي يستحقونه. على أنني أعلم أيضًا أنه يصعب جدًّا عليكم، وعلى حكومتكم مقاومة مظاهرات الرأي العام، فأنا - تذكارًا للصداقة القلبية التي بيني وبينكم منذ زمان طويل - أبذل كل نفوذي في إقناع النمسا بالاتفاق مع سربية، وإني أعتمد على تأييدكم في مساعيَّ لإزالة جميع الصعوبات التي يُحْتَمَل أن تنشأ. ... ... ... ... ... ... ... صديقكم المخلص وابن عمكم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم (2) من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم قصر بترهوف في 29 يوليو 1914 (الساعة واحدة بعد الظهر) سرني خبر عودتكم إلى ألمانيا، وإني أطلب مساعدتكم في هذه الآونة الحرجة ، فقد أُعلنت حرب معيبة على أمة ضعيفة، وأنا أشاطر روسيا سخطها العظيم، وإني أرى أنني سأعجز قريبًا عن دفع الضغط الواقع عليَّ، وأضطر إلى اتخاذ تدابير تؤدي إلى الحرب. فاجتنابًا لنكبة حرب أوربية أرجو منكم باسم صداقتنا القديمة أن تُفْرِغُوا كل جهدكم في منع حليفتكم من الإفراط في الخطة التي سارت عليها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نقولا (3) من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا 29 يوليو 1914 (الساعة 6 والدقيقة 30 مساء) تلقيت برقيتكم وأنا أشاطركم الرغبة في حفظ السلام ولكن لا أرى أن زحف النمسا على سربية حرب معيبة كما قلت في تلغرافي الأول، فقد علمت النمسا - بالاختبار - أنه يستحيل تصديق مواعيد سربية ما دامت محصورة في الكتابة على الورق. وعندي أنه ينبغي النظر إلى ما تفعله النمسا كأنه سعي للحصول على الضمان الكافي بأن سربية تقوم بمواعيدها، وقد تأيد اعتقادي بما صرحت به النمسا من أنها لا تبغي الاستيلاء على شيء من أملاك سربية. ولذلك أرى أن روسية تستطيع أن تقف موقف المتفرج، فلا تجر أوربا إلى أعظم حرب رآها العالم. وأعتقد أن الاتفاق بين حكومتكم وفِينَّة مستطاع ومرغوب فيه لاسيما وأن حكومتي باذلة الجهد للتوصل إلى هذا الاتفاق كما أخبرتكم في تلغرافي السابق. ولا يخفى أن اتخاذ روسية لتدابير حربية تعدها النمسة تهديدًا لها يعجل وقوع النكبة التي نحاول كلانا اجتنابها، ويحول دون قيامي بمهمة الوسيط التي قبلتها بلا تردد لَمَّا استجرت بصداقتي ومعونتي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم (4) من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا 30 يوليو 1914 (الساعة 1 صباحا) صدرت التعليمات إلى سفيري أن يوجه نظر حكومتكم إلى الأخطار والعواقب الوخيمة التي تنشأ عن تعبئة الجيش، وهذا الذي قلته لكم في تلغرافي الأخير. إن النمسة عبأت جيشها ضد سربية فقط، ولم تعبئ سوى جانب من جيشها؛ فإذا عبأت روسية جيشها ضد النمسا كما يتضح من برقيتكم، وبلاغ حكومتكم تعذر عليَّ القيام بمهمة الوسيط بل استحال، وهي المهمة التي نطتموها بي بروح المودة وقبلتها بناء على طلبكم المعجل. فعبء البت في الأمر واقع على عاتقكم، وأنتم تتحملون عبء تبعة الحرب أو السلم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم (5) من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم قصر بيترهوف في 30 يوليو 1914 (الساعة 1 والدقيقة 20 بعد الظهر) أشكركم من صميم الفؤاد على جوابكم السريع، وإني مرسل تاتيشف اليوم مساء مزودًا بالتعليمات. أما التدابير الحربية التي تُتخذ الآن فقد قر القرار عليها منذ خمسة أيام لمقابلة استعداد النمسا. وإني أتمنى من صميم الفؤاد أن لا تؤثر هذه التدابير في قيامكم بمهمة الوسيط وهي المهمة التي أقدرها حق قدرها؛ فإننا نحتاج إلى توسطكم بالحزم مع النمسا لحملها على الاتفاق معنا. ... ... نقولا (6) من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم 31 يوليو1914 أشكركم من صميم الفؤاد على ما تبدونه من النية التي تدل على وجود بارقة أمل بأن الأمور تنتهي على ما يرام. أما توقيف استعدادنا الحربي فغير مستطاع فنيًّا، وقد اضطرتنا تعبئة النمسا إلى هذا الاستعداد. إننا أبعد الناس عن الرغبة في الحرب، وما دامت المفاوضات في موضوع سربية دائرة مع النمسا فجنودي لا تُقْدِم على عمل ما من أعمال التحرش، وأؤكد لكم ذلك بشرفي إنى موقن تمام الإيقان بنعمة الله، وأثق بأن توسطكم في فِينَّا يُكلل بالنجاح لخير بلدينا، وسِلْم أوربا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نقولا (7) من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا 31 يوليو 1914 (الساعة 2 بعد الظهر) لَمَّا استجرتم بصداقتي، وطلبتم معونتي قبلت أن أتوسط بين حكومتكم وحكومة النمسا، وبينما كنت قائمًا بهذا العمل عبأتم جيوشكم ضد حليفتي النمسا فأحبطتم الرجاء بنجاح توسطي، ومع ذلك فإنني ظللت متابعًا له. وقد تلقيت - الساعة - علمًا من مصدر جدير بالثقة بأنكم شرعتم تتخذون تدابير حربية عظيمة على حدودي الشرقية، ولما كنت مسئولاً عن سلامة إمبراطوريتي فإني مضطر أن أتخذ تدابير مماثلة دفاعًا عنها. ولقد بذلت أقصى ما يستطاع سعيًا لحفظ السِلْم؛ فإذا وقعت النكبة الهائلة التي تهدد عالم المدنية بأسره؛ فإن تبعتها لا تقع عليَّ. ولا يزال منع وقوع النكبة في يدكم، إذ لا أحد يهدد شرف روسية، وقوتها، وكان في طاقة روسية أن تنتظر نتيجة توسطي. إن صداقتي لكم ولإمبراطوريتكم التي أورثنيها جدي على فراش الموت ظلت مقدسة عندي، وقد كنت أمينًا لروسية في محنها، ولا سيما في الحرب الأخيرة. فسِلْم أوربا محفوظ حتى الآن إذا قر قرار روسية على الكف عن التدابير الحربية التي تهدد بها ألمانية والنمسا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم (8) من الإمبراطور نقولا إلى الإمبراطور ولهلم 1 أغسطس 1914 (الساعة 2 بعد الظهر) جائتني برقيتكم، وإني أعلم أنكم مضطرون إلى التعبئة؛ ولكني أطلب منكم الضمان الذي أعطيتكم إياه، وهو أن هذه التدابير لا تنذر بوقوع الحرب، وأننا نظل متابعين مفاوضاتنا لخير البلدين، ومصلحة السِلْم العام العزيز على قلوبنا. إن صداقتنا القديمة العهد، والوطيدة الأركان يجب بمساعدة الله أن تفوز بمنع إراقة الدم، فأنا أنتظر جوابكم بملء الثقة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نقولا (9) من الإمبراطور ولهلم إلى الإمبراطور نقولا برلين في 1 أغسطس 1914 أشكركم على برقيتكم، وقد دللت حكومتكم أمس على الطريق الوحيد لاجتناب الحرب. ومع أني طلبت أن يأتيني الجواب الظهر فلم يأتني حتى الساعة برقية من سفيري تتضمن جواب حكومتكم، لذلك اضطررت إلى تعبئة جيشي. فالطريق الوحيد لمنع وقوع نكبة لا تُوصَف هي ورود جواب صريح جلي من حكومتكم. ولا يسعني أن أهتم بموضوع تلغرافكم قبل أن يأتيني هذا الجواب، وإني مضطر أن أطلب بالاختصار أن تصدروا أوامركم إلى جنودكم بلا إبطاء بأن لا تهجم أقل هجوم على حدودنا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولهلم

فصل الإحصاء من باب التاريخ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فصل الإحصاء من باب التاريخ (مساحة المملكة العثمانية وعدد سكانها) أصدرت الحكومة العثمانية في العام الماضي إحصاء لأملاكها، وعدد سكانها نشرته جريدة " الأهرام " قائلة إنها أخذته عن خريطة أركان الحرب العثمانية وهو كما ترى في الجدول الآتي: اسم الولاية ... ... ... كيلو متر ... ... ... ... نفس إستامبول ... ... ... 7.000 ... ... ... 1.136.000 خداوندكار ... ... 73.800 ... ... ... 1.626.900 آيدين ... ... ... 54.000 ... ... ... 1.396.500 قونيه ... ... ... 102.800 ... ... ... 1.088.000 أطنة ... ... ... 37.200 ... ... ... ... 403.400 أنقرة ... ... ... 67.500 ... ... ... ... 892.900 قسطموني ... ... 49.700 ... ... ... 1.018.900 سيواس ... ... ... 62.800 ... ... ... 1.086.500 طرابزون ... ... ... 30.700 ... ... ... 1.047.700 أرضروم ... ... 51.000 ... ... ... ... 597.000 معمورة العزيز ... 34.300 ... ... ... ... 575.300 بتليس ... ... ... 26.800 ... ... ... ... 398.600 ديار بكر ... ... 35.500 ... ... ... 471.500 وان ... ... ... 40.200 ... ... ... ... 430.000 حلب ... ... ... 78.600 ... ... ... ... 995.800 بيروت ... ... ... 30.500 ... ... ... 533.800 سوريا ... ... ... 61.700 ... ... ... 955.700 بغداد ... ... 141.200 ... ... ... ... 850.000 الموصل ... ... 75.700 ... ... ... ... 700.300 البصرة ... ... 42.700 ... ... ... ... 300.000 الحجاز ... ... 250.000 ... ... ... ... 300.000 اليمن ... ... 200.000 ... ... ... ... 750.000 جزائر البحر الأبيض 7.108 ... ... ... ... 325.900 أزميد ... ... ... 11.200 ... ... ... ... 222.800 بيغا ... ... ... 6.800 ... ... ... ... 129.400 الزور ... ... 85.100 ... ... ... ... 100.000 لبنان ... ... 6.500 ... ... ... ... 399.500 القدس ... ... 21.300 ... ... ... ... 333.000 سيسام ... ... ... 468 ... ... ... ... 52.800 قبرص ... ... 9.600 ... ... ... 221.800 المجموع ... ... 1701777 ... ... ... 19.340.000 (قالت الأهرام) فعدد الأهالي العثمانيين - إذن - هو 18 مليونًا و839 ألف و800 نفس يخرج منهم أهالي قبرص، وهم حسب الإحصاء 221800، وسيسام وهم 52800، ولبنان وهم 39950، والحجاز وهم 300 ألف، واليمن وهم 750 ألفًا، وجزر البحر الأبيض وهم 325900؛ لأن هذه البلاد إما أنها لا تُكَلَّف بالتجنيد، وإما أنها غير خاضعة لحكم الدولة كالجزر، وعدد أهاليها مليونان 741 ألفًا فيكون الباقي 16765700، فإذا أخرجنا منهم الكرد، واليزيدية، والطوائف التي تدفع البدل، والتي تُعْفَى يكون الأهالي الذين يُجَنَّدُون نحو 14 مليونًا على الأكثر، فإذا حسبنا أن الذين يُجَنَّدُون هم 6 بالمائة يكون عدد الجيش الممكن جمعه من الأمة العثمانية 840 ألف مقاتل في وقت الحرب. اهـ. إحصاء جزيرة العرب والولايات العربية (المنار) كنا رأينا هذا الإحصاء في الأهرام، ثم نقلناه عن جريدة أخرى نقلته عنها؛ ولكن رأينا الجمع غير صحيح، فأرسلنا الجدول إلى رئيس تحرير الأهرام فصححه فلم يكن الجمع بعد تصحيحه صحيحًا أيضًا، بل بلغ عدد النفوس 19 مليونًا و340 ألف نفس. إن الدولة لم تحص سكان بلادها إحصاء دقيقًا إلى اليوم، وهي تعني بهذا الإحصاء أهالي البلاد الحضرية الخاضعين لقوانينها كلها، أو بعضها إلا ما يستثنى كقبرص. أي ما تيسر لها معرفة عدده منهم، ولذلك لم تَذْكُر بلاد نجد مع أنها تعدها تحت سيادتها، وجعلت أهل اليمن ثلاثة أرباع المليون على أن بعض وزرائها الذين تولوا اليمن كحسين حلمي باشا كانوا يقولون: إن أهلها ستة ملايين أو يزيدون، ورأيت بعض أهل اليمن يعتقدون أن سكان بلادهم، وبلاد حضرموت أكثر من سكان القطر المصري. هذا وإن سكان الولايات، والمتصرفيات العربية، وهي 12 ولاية ومتصرفية بلغوا بحسب هذا الإحصاء 6.692.000 فإذا كان في ديار بكر، والموصل، وحلب زهاء مائتي ألف من غير العرب كالترك، والكرد، والأرمن يكون مجموع العرب الخاضعين للدولة فعلاً نحوًا من ستة ملايين ونصف أو أقل، وهذا العدد أقل من ثلث مجموع العرب في جزيرتهم وحدها دع ملحقاتها من العراق وما بين النهرين وسوريا وفلسطين، ويمكن أن يعيش في هذه البلاد أكثر من مائة ألف ألف بالسعة، فإن مساحتها أوسع من مساحة الهند الإنكليزية التي يعيش فيها أكثر من ثلاث مائة ألف ألف. بل مساحة جزيرة العرب وحدها تقرب من مساحة الهند إذ كل منهما تزيد على ثلاثة ملايين كيلو متر. وقد قَدَّر صاحب (النخبة الأزهرية في تخطيط الكرة الأرضية) سكان جزيرة العرب وحدها باثني عشر مليون نفس، وهو إنما يعتمد على كتب التقويم الأوربية القديمة التي تعتمد على قاعدة البناء على الأقل، وحسبك نموذجًا من ذلك أنه يقول إن سكان دمشق الشام ستون ألفًا، والمشهور أنهم أكثر من مائتي ألف، وإن سكان طرابلس الشام 13 ألفًا وهم أكثر من تسعة وعشرين. ويمكننا أن نقول إن عرب الولايات، والمتصرفيات العربية ما عدا اليمن، والحجاز لا تقل عن خمسة ملايين ونصف بحسب إحصاء الدولة، وإذا قيل إن عدد الأعاجم فيها أكثر مما قدرنا بنصف مليون قلنا إن البدو فيها لا يقلون عما نفرضه من زيادة هؤلاء. فإذا أضفنا إلى البدو المكتومين من الحضر زاد عدد العرب في تلك الولايات على ستة ملايين، وقد نُشِر في عدد الأهرام الذي صدر في 3 نوفمبر إحصاء آخر لأحد المحررين فيها (ا. س. ن) عَدَّ فيه أهل ولاية بيروت 700.500 وبغداد 950.000 والبصرة 250.000 والقدس 550.000 ولبنان 500.000 وهذه زيادة تبلغ زهاء نصف مليون. فإذا فرضنا بعد ذلك أن سكان الجزيرة 12 مليونًا فقط كما يقول صاحب النخبة الأزهرية على سبيل التقريب كان عدد العرب وحدهم في هذه البلاد كلها كعدد سكان المملكة العثمانية من جميع الأجناس كما رأيت في الجدول. ويقدر كثير من العارفين عدد العرب في تلك البلاد بعشرين مليونًا؛ ولكنهم يستثنون من ذلك أهل حضرموت ونجد وعمان. إحصاء شعوب الهند الإنكليزية نشرت الحكومة الإنكليزية خلاصة إحصاء شعوب الهند في عام 1914. ويؤخذ من هذا الإحصاء أن عدد أهالي الهند الإنكليزية 315.156.396 وهم 5.78 بالمائة من الهنود، و 5.22 من رعايا الإمارات الهندية. ومساحة بلاد الهند تعادل مساحة أوربا كلها ما عدا روسيا؛ ولكن عدد أهالي الهند يزيد على أهالي أوربة ما عدا روسية، وهو يعادل ثلاثة أضعاف أهالي الولايات المتحدة. ومنذ 39 سنة إلى اليوم زاد عدد أهالي الهند 50 مليونًا. أما الذين يدينون بدين الهند الأصليين (؟) فعددهم 217.586.892 وعدد المسيحيين 2.778.204 والباقون من المسلمين. (المنار) نشرت هذا الإحصاء جريدة الأهرام في أثناء السنة الماضية، وتلك عبارتها نقلناها بنصها. وإذا نحن طرحنا عدد الوثنيين، والنصارى من المجموع بقي 94.692.300 وهو عدد المسلمين، وقد كنا سمعنا - من بعض كبراء الهند في أثناء سياحتنا فيها عام 1330 (1912م) - أن عدد المسلمين فيها تسعون مليونًا ونيف؛ ولكنني لا أزال أسمع الناس يقولون ويكتبون أن عددهم سبعون مليونًا، حتى أن مثل هذا القول يُنْقَل عن بعض رجال السياسة من الإنكليز أنفسهم، ولما جاء هذا الإحصاء مطابقًا لما سمعناه من أهل المعرفة في الهند تَرَجَّحَ عندنا أن هذه الأقوال إما مبنية على إحصاء قديم علق بأذهان أولئك القائلين، وإما أن الإنكليز منهم يستثنون بعض الإمارات المستقلة عند ذكر رعاياهم من مسلمي الهند، وغيرُهم يقلدهم في أقوالهم.

خرافات وأوهام في قصور الملوك

الكاتب: عن جريدة الزمان العربية

_ خرافات وأوهام في قصور الملوك [*] يعتقد القراء أن الخرافات والأوهام التي تتخوف منها الطبقة العامة في سوريا، وغيرها من بلدان الممالك المتمدنة (؟) كوجود الجان، وظهور الأرواح والأشباح لا أثر لها في عقول الطبقة المتمدنة من الشعب الأوربي، والحقيقة أن هذه الأوهام التي لا يُسَلِّم بها من العلماء غير شيعة الروحانيين (مناجاة الأرواح) ، وأتباعهم مالئة قصور الملوك، ولها في كل رأس من رءوس سكان القصور ثغرة واسعة. وها نحن (أولاء) مُورِدُون شيئًا عن الاعتقادات الشائعة بالجان والأرواح في قصور ملوك أوربة. تعتقد عائلة (هوهنزولرن) المالكة في ألمانيا أن لها جِنِّيَّتَيْنِ إحداهما بيضاء، والثانية سوداء وإليهما تشير الراية الألمانية، بمعنى أن البيضاء هي جنية الشر، والسوداء جنية الخير. ففي عام 1806 - على ما تفيد الكتب والأوراق القديمة - ظهرت الجنية البيضاء في إحدى نوافذ القصر الملكي، وما كادت تختفي حتى ورد إلى الإمبراطور نبأ يُفيد انكسار الجيش الألماني في (أورستاد) . وقد ظهرت أيضا عام 1884 قبل وقوع تلك الحوادث المشئومة في ألمانية - في حديقة القصر الملكي في برلين. وظهرت أيضا ثلاث مرات في (إنتردنليدن) وفي كل مرة كانوا يحاولون اغتيال غليوم الأول. ولما مات الإمبراطور الشيخ شبعانا من السنين، وكان قد بلغ من المجد حظًّا كبيرًا ظهرت الجنية البيضاء في أحد أروقة القصر الملكي، وما كادت تختفي حتى جاءت الأنباء مفيدة ما قاساه فردريك الثالث من أنواع العذاب، وأصناف البلايا والمحن. وبعد ثلاثة أشهر وقفت في القصر الملكي مكشوفة اليدين، وأنبأت عن موت فردريك الثالث ابن غليوم الأول في (شارلو تبنورغ) بعد توليه الحكم بثلاثة أشهر. وأما الجنية السوداء فقد ظهرت للإمبراطور الحالي في (برانبرغ) في أيام غليوم الأول، وقالت له (ستكون إمبراطورًا قبل أن تتم الثلاثين ربيعًا) وهكذا كان. وفي قصر إنكلترا الملكي جنية بيضاء وظيفتها نقل أخبار الموت فقط (ناعية) ففي عام 1901 عندما ماتت الملكة فكتوريا الشهيرة أخذت (الجنية) تصيح - بشهادة بعض أشخاص موثوق بصدقهم - في داخل القصر الملكي. ويوجد مثل هذه الأرواح والجنيات في القصور التاريخية القديمة، وكثيرًا ما امتنع الملوك والأمراء والأشراف عن سكناها خوفًا من تلك الأرواح الخبيثة الهائلة ففي قصر (باري يوماروي) توجد هذه الأرواح بكثرة، وطالما أعلنت المصائب قبل وقوعها، وعدد كبير من سكان هذا القصر أنبأتهم هذه الأرواح عن انقضاء آجالهم. وبهذه المناسبة نذكر الحادثة التالية التي جرت في القصر المذكور من مضي مائة سنة. كان الدكتور " ولتر " يطبب زوجة مدير القصر، وفي أحد الأيام سأل المدير المذكور عن تلك المرأة الجميلة الحسنة الملابس التي تلوح على مُحياها أمائر الحزن، والتي رآها عند دخوله إلى القصر، فبُغِتَ الرجل وصاح لا لا. لا أريد أن تموت امرأتي، فعجب الدكتور مما ظهر له واستوضحه عن العلاقة بين المرأة وموت زوجة المدير المذكور، فأطلعه على حقيقة هذه السيدة البيضاء الجميلة، ومع أنه لم يكن يرى في مرض زوجة مدير القصر خطرًا على حياتها، فقد ماتت في ذلك اليوم. هذا ما رأينا أن ننقله تفكهة للقراء. ولا يمكننا نفي هذه الحوادث وغيرها مما نطالعه يوميًّا على استحضار الأرواح، وأفعال الأرواح، ولا تصديقه، لأن بين المعتقدين جماعة من العلماء الأعلام كالمستر ستيد وغيره، وبين المكذبين العلماء الطبيعيون على الإطلاق، وغيرهم من المشاهير، ولا تزال لجان العلماء والفلاسفة في أميركا ولندن وباريس وغيرها تبحث بحثًا دقيقًا متواصلاً توصلاً للحقيقة.

الإسلام في إنكلترة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام في إنكلترة فضيلة.... [1] صاحب (المنار) الأغر: يسرني جدًّا أن أبلغ سيادتكم أن مساعي إخواننا المسلمين المبشرين في إنكلترا سائرة في طريق النجاح بدرجة فوق المأمول، ولقد تعود معظمنا إغفال الدعوة إلى الدين الحنيف، بل أهملنا حتى في مقاومة دعاة المسيحية في نفس بلادنا، حتى أني أتخيل أن ذكر وجود مبشرين مسلمين في إنكلترا كافٍ وحده لدهشة غير قليل من القراء، ولا شك في أنه يدهشهم (دهشًا) أكثر أن يعلموا أن هؤلاء المبشرين على قلة عددهم قد نجحوا في نشر نور الإسلام بين عدد ليس بالضئيل من خيرة السيدات، والرجال الإنجليز. يوجد في (ووكنج woking) إحدى ضواحي مدنية لندن جامع صغير يمثل المركز الرئيسي للجالية الإسلامية في بريطانيا العظمى، ويُصْدِر إمام ذلك الجامع مجلة شهرية تُدْعَى (المجلة الإسلامية والهند المسلمة) ، ومع أني لست ممن يرتاحون إلى هذه المجلة نظرًا لخلطها في كثير من الأحايين الدين بالسياسة، فإنه لا يسعني إلا الاعتراف بالخدمة الإسلامية الجليلة التي قامت بها في زمن لا يتجاوز ثلاث سنوات والفضل كل الفضل يرجع إلى حضرة رئيس تحريرها إمام الجامع المشار إليه وإلى أعوانه. ولقد تلقيت العدد الأخير منها (عدد يناير سنة 1915) فوجدت فيه الخبر المفرح الآتي: (في يوم الأحد الماضي 20 ديسمبر 1914 عقدت الجمعية الإسلامية البريطانية اجتماعًا خطب فيه رئيسها سيف الرحمن اللورد هدلي، وقد اعتنقت الإسلام سيدة أخرى وهي السيدة إلينور أني ساكسبي، ومنذ الأسبوع الماضي قد أضفنا إلى قائمة الأخوة الإسلامية النامية باستمرار أسماء ثلاثة أشخاص من الإنجليز) . وفي (هذا) العدد نفسه كتابان عن اعتناق الدين الإسلامي أحدهما من سيدة إنجليزية تُدْعَى آن بامغورد، والآخر من أحد أفاضل الإنجليز وهو المستر إرنست أوتن، وكلاهما ممتلئ بعبارات تستحق التأمل والدرس وخصوصًا من سادتنا المتفرنجين الذين ينسون تعاليم دينهم العالية بمجرد امتزاجهم بالإفرنج، ونظرًا لضيق نطاق المنار الأغر، ولعدم سعة وقتي أكتفي بترجمة كتاب السيدة المشار إليها. وهذا تعريبه: (سيدي محرر صحيفة المجلة الإسلامية والهند المسلمة. لقد صرت في العهد الأخير بفضل مودة صديق مسلم أقرأ بانتظام أهم المؤلفات الإسلامية، وأذكر بينها الكتب الشائقة التي وضعها السيد أمير علي وخصوصًا نشرته عن حقوق النساء في الإسلام فإنها ذات قيمة كبيرة عندي. ومما يستحق الذكر من المؤلفات الأخرى الممتعة التي شاقتني كثيرًا كتاب (الهلال والصليب) تأليف خليل بك خالد، وكتاب (أسرار مصر والإسلام الخفية) تأليف المستر ليدر، وكذلك فصل (البطل كنبي) [2] من قلم كارليل. فكانت صفوة ونتيجة دراستي الدقيقة هذه أني امتلأت إعجابًا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - باعتباره نبيًّا ومصلحًا عظيمًا، وبديانته الديمقراطية السمحة التي يهنيني ويريحني الآن اعتناقها. هذا وإني أعترف بأن الديانة المسيحية المهذبة ديانة جليلة، إلا أني مع ذلك لا يمكنني بأية حال أن أتجاهل أن الإسلام لا يعلم الناس أَسْمَى مبادئ المسيحية فقط بل هو يمتاز أيضًا بدون أدنى شك بمزايا عظيمة لا توجد في المسيحية، وذلك في مراميه الفلسفية، ومبادئه النفسية العالية، وفي القواعد الموضوعة لنظام اجتماعي أدق وأصح. لقد خطر في بالي أن أبعث بهذا الكتاب إلى جنابكم عسى أن لا يخلو علمكم وعلم قراء مجلتكم الغراء بذلك من الفائدة. وختامًا أتشرف بالإمضاء باسمي الإسلامي ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمينة ... ... ... ... ... ... ... ... (الآنسة أ. بامغورلا) كم كانت تكون هذه النتيجة السارة مضاعفة يا سيدي الأستاذ لو تم مشروع الجامع الكبير المَنْوِي بناؤه في عاصمة الإمبراطورية الإنجليزية التي تضم تحت رايتها الملايين من المسلمين في عدة من أنحاء العالم، ولست أدري لأي سبب ضعفت همم المسلمين في مصر والهند وغيرهما من الأقطار الإسلامية عن مواصلة التبرع لهذا المشروع الجليل؛ حتى يمكن تحقيقه في المستقبل العاجل. وكم تكون النتيجة مضاعفة إذا وجد بين سراتنا من يعضد " دار الدعوة والإرشاد " التعضيد اللائق بكلية عظيمة المقصد كهذه؛ حتى يتيسر لكم إرسال الدعاة إلى هذه البلاد، وبفضل علمهم ومعرفتهم بالإنجليزية يرجى لهم حينئذ نجاح كبير هنا، وخصوصًا إذا تيسر لهم إنشاء مجلة بالإنجليزية تشمل صفوة ترجمة ما يصدر في كل عدد من (المنار) الزاهر. وكم تكون النتيجة مضاعفة إذا هزت الأريحية الدينية أحد أمراء أو أغنياء المسلمين فوهب نحوًا من خمسمائة جنيه أو أكثر في سبيل نقل " تفسير المنار " إلى الإنجليزية، فإنه مما يؤسف له جدًّا أن تنتشر بهذه اللغة المؤلفات العديدة ضد الإسلام، ولا ينقل إليها كتاب جليل هو دائرة معارف إسلامية مثل تفسير المنار وما هذا بعزيز على أمراء المسلمين الذين نراهم من أجل الحرب الحاضرة يجودون بمئات آلاف من الجنيهات، أفلا يوجد بينهم من يجود بجزء من مائة من ذلك في سبيل نشر نور السِلْم والإسلام؟ إن من المغالطة أن يقال: إن الإنجليز مثلاً يمنعون أمراء الهند من عمل كهذا، فإن إنكلترا معروفة بمنحها الحرية الدينية الكاملة لجميع رعاياها، وهذا ما لا ينكره نفس أعدائها، بل كان هذا من جملة أسباب ولاء مسلمي الهند لها، فلا يُعْقَل أن يتدخل رجال السلطة من الإنجليز في الهند في شأن ديني محض كهذا، أو يمنعوا أميرًا هنديًّا مسلمًا من التبرع إذا شاء لما فيه صالح دينه. وكذلك لا يُعْقَل أن يفعلوا ذلك في مصر، أو في غيرها من الممالك الإسلامية التي لإنكلترا علاقة بها، وعلمنا وخبرتنا الماضية تؤكد ذلك. إني أوافق فضيلتكم على أن تعلم العربية واجب على كل مسلم، وأن من الحكمة جعل تعليمها إجباريًّا في جميع المدارس، والكليات، والجامعات الإسلامية في كل قطر، حتى يتيسر لكل مسلم أن يعرف دينه من منبعه الأصلي، بغض النظر عن العلم بآداب اللغة العربية الشريفة التي هي لغة القرآن الكريم؛ ولكن إذا تأملنا في المسألة من وجهة التبشير فإننا نجد أن من الضروري أن يُنْقَل إلى اللغات الأجنبية خبرة المؤلفات الإسلامية، وخصوصًا تفاسير القرآن الجليلة المشهودة بسعة العلم، والدقة فيها، فإن هذا عماد المبشر المسلم في نشر دينه بين الإفرنج، ومن العبث أن يقول المبشر الذي يريد اجتذاب القوم إليه: تعلموا يا قوم العربية أولاً وبعدها أُطْلِعُكُم على القرآن، وأذكر لكم أصول الدين الإسلامي. أما نقل القرآن الشريف إلى الإنجليزية، أو غيرها من اللغات الأوربية، فإني أعده جُرْمًا من حيث إن ذلك يؤدي إلى إخفاء ما في لغة القرآن الشائقة من إعجاز البيان، فضلاً عن أن الترجمة تظهر بشكل مشوه غريب يجعل الأوربي - الذي لا يعرف آداب العربية - يعجب من كوننا نعتقد أن القرآن هو كلام الله جل شأنه! ! وإن أي مسلم يطلع على ترجمة القرآن لا يسعه إلا الضحك مع الأسف على الوقت الذي أُنْفِقَ هباء في هذه الترجمة التي لا تؤدي إلى شيء ما من مرامي القرآن العالية الحكيمة. إني أعتقد أن الرجل المحسن الذي يهب مبلغًا كافيًا لترجمة تفسير عصري مثل تفسير (المنار) - ويعلم الله أني لا أقول هذا مجاملة لكم، فإني لست من يخلط الخصوصيات بالعموميات - الذي هو خلاصة كل علم راجح من دماغي إمامين كبيرين، إنما يؤدي خدمة إسلامية وإنسانية فوق كل تقدير، ويَعْلَم أن هذا أمر حيوي ماس كلُّ ذي علم بالمجتمع الأوربي، وكل من عنده غيرة على نشر الدين القويم الداعي إلى المساواة، والإصلاح، وأسمى المبادئ الإنسانية. وإني أُعِدّ من الاعتراضات الغريبة أن يقول قائل: إن نتيجة التبشير الإسلامي ليست بنتيجة مرضية؛ لأن كثيرين ممن يعتنقون الإسلام لا يعتنون بالصلاة، أو الصوم مثلاً، وهما من فراض الإسلام، ويفوت المعترض أن ذلك الأجنبي الذي اعتنق الإسلام قد يجهل العربية، وربما لا يجد من يعلمه تعاليم دينه تفصيليًّا، وقد يكون إسلامه مبنيًّا على نتيجة مطالعته وبحثه كما هو الغالب، أو قد يكون الباعث له على التهاون في أداء فريضة الصلاة أو الصوم هو نفس الباعث للمسلم الأصلي على إغفال ذلك، على أن بياني هذا ليس معناه أني أبرر ذلك التهاون. هذا وإني على كل حال أعتقد أن الإيمان بمبادئ الإسلام - وإن تهاون المؤمن في بعض الفرائض - ليس بخسارة للإسلام [3] ، وبعبارة أخرى إننا إذا استطعنا إغراء الأجانب بالإقناع والدليل (وحملهم) على اعتناق الدين الإسلامي، ووجدنا منهم إيمانًا كليًّا بمبادئه، وسيرًا على فرائضه، ورأينا منهم بعد ذلك إهمالاً في أداء بعض الفرائض كما نرى من كثيرين من المسلمين الأصليين أنفسهم، فلسنا مع ذلك إلا رابحين فلا ينبغي أن يحملنا هذا على الاستياء المتناهي لدرجة أن يقول قائل: إن نتيجة كهذه للتبشير الإسلامي غير مرضية أو لا فائدة منها....! إن رجال الإصلاح كثيرون وفضيلتكم في مقدمتهم، وقد بسطت لكم فيما تقدم بعض آراء لا أشك في أنه يشاركني فيها جميع أعضاء الجالية الإسلامية في إنكلترا ولكن إنفاذكم وإنفاذ غيركم من المصلحين لها يحتاج إلى " المال "، فهل نعيش نحن المسلمين إلى الأبد نعلل أنفسنا بالنجاح والخير حينما نكتشف بابًا جديدًا لذلك، ثم نفشل لأننا لا نجد مفتاحه، وهو غيرة وكرم أمرائنا وسراتنا؟ ؟ لقد صحت الحكمة القائلة: (إن الله لا يساعد الذين لا يساعدون أنفسهم) ولو وضعها كل مسلم نصب عينيه، وعمل بها لكان لنا من المنعة والعز ما نحسد عليه، ولعل كلمتي هذه تصادف آذانًا واعية، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... لندن في 15 يناير سنة 1915 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غير متفرنج (المنار) نشكر للكاتب غيرته على دينه، وحسن ظنه بنا، ونوافقه على آرائه في جملتها، ولكن مسألة الإيمان والعمل تحتاج إلى تفصيل وتمحيص، وأرى أن مسلمي الهند أرجى لخدمة الإسلام من مسلمي مصر، وإن كان يظن بعض الناس أن الإسلام في مصر أقوى منه في الهند علمًا وعملاً، فمسلمو الهند يعملون لنشر الدين وخدمته، ويتعاون العلماء والأغنياء منهم على ذلك على ضعف فيه يُرجى أن يقوى مع الزمان، ولم يوجد في مصر غني بذل مالاً لخدمة دينية محضة، ولا وُجد عالم تصدى لخدمة دينية محضة جديدة إلا شيخنا الأستاذ الإمام في تصديه لإصلاح التعليم في الأزهر وملحقاته إلى أن قام من قام بتأسيس الدعوة والإرشاد وقد لقي هذا المشروع العظيم في مصر أشد المقاومة، وكانت مصلحة الأوقاف الإسلامية قد نفحته بإعانة قليلة 550 جنيهًا في السنة، مع الوعد بمضاعفتها؛ ولكن وزارة الأوقاف الجديدة قد قطعت هذه الإعانة في هذا العام بعد أن منعت نصف ما كان مقررًا للعام الماضي، ويظن كثير من المسلمين أن هذا بإيعاز من الإنجليز، وأنا لا أظن هذا، بل أنا على رأيي القديم في الإنجليز، وهو أن المسلم يستطيع أن يخدم دينه في بلادهم ومستعمراتهم بحرية قلما يجد مثلها عند غيرهم، وما آفة الإسلام إلا منافقو أهله وجبناؤهم، وسيفضح ما نكتبه في تاريخ مشروع الدعوة والإرشاد كثيرًا من هؤلاء المنافقين، ومنهم الذين لا يزالون يكيدون في الخفاء لِيَحولوا دون مساعدة القصر له، وسيرى مسلمو العالم وغيرهم في هذا التاريخ الذي هو تاريخ الإصلاح الإسلامي في هذا العصر مقارنة غريبة بين باشوات الآستانة وباشوات مصر. أما اقتراحكم

مصاب الهند والعالم الإسلامي بالشيخ شبلي النعمانى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب الهند والعالم الإسلامي بالشيخ شبلي النعماني نعى إلينا بريد الهند أشهر علمائها، وأبعدهم شهرة وصيتًا صديقنا الشيخ شبلي النعماني الملقب بشمس العلماء، صاحب المصنفات النافعة، واليد البيضاء في الإصلاح، ختم الله تعالى حياته السعيدة في خاتمة العام الماضي (28 ذي الحجة) وله من العمر 58 سنة، على ما يؤخذ من ترجمته في بعض الجرائد، فإن صح هذا فقد مات في مثل سن الأستاذ الإمام التي مات فيها، إلا أنه كان لنحافة بدنه وشيبته يظن أنه من أبناء السبعين، ولم يكن يظهر على الأستاذ الإمام مثل هذا الكبر وإن عاجله الشيب في سن الشباب، ولعل رائيه كان يظن أنه لم يتجاوز الخمسين، على أن كلاًّ من الشيخين اللذين تساويا في العمر مات وهو شاب في علو الهمة، وقوة العزيمة والنشاط في السعي إلى الإصلاح. كان الشيخ شبلي عالمًا مستقلاًّ لا عالمًا رسميًّا مقلدًا، وكان كأكثر العلماء المستقلين، والحكماء المصلحين، أستاذ نفسه، وتلميذ همته، تلقى قليلاً عن الأساتذة؛ ولكنه بجده واجتهاده صار أشهر نوابغ علماء الهند في هذا العصر. نعم إن فيهم من يُعَدُّون أوسع منه علمًا واطلاعًا في علوم الحديث والفقه والأصول؛ ولكن قلما يوجد من يماثله أو يقاربه في القدرة على نفع الناس بتعليم هذه العلوم أو التأليف فيها، ولا نعرف له ثَم ضريبًا في إتقان اللغة العربية، وطول الباع، وحسن الذوق في فهم منثورها ومنظومها، والقدرة على الكتابة في الموضوعات المختلفة فيها، فأكثر علماء الهند وغيرها من الأعاجم المتأخرين لا يقدرون على الكتابة العربية الفصيحة إلا قليلاً، وإنما قصارى ما يأتي منهم أن يكتبوا شرحًا أو حاشية لبعض الكتب المشهورة، أو يؤلفوا رسالة أو كتابًا جديدًا في بعض العلوم التي يكثرون مدارستها كالفقه والأصول والمنطق والحديث، بحيث يكون جُل ما يكتبونه مقولاً بنصه من الكتب المؤلفة في ذلك، ومن تجاوز ذلك منهم إلى منظوم أو منثور كثر غلطه وتكلفه وجاء بالغَثّ الذي لا يكاد يُفْهَم، وأما الشيخ شبلي فقد كان من نوادر المجيدين منهم: كان قادرًا على الكتابة العربية السليمة من كلفة العجمة في العلوم والفنون والأدب والتاريخ، كما يُعْلَم من نقده تاريخ التمدن الإسلامي وغيره. كان رحمه الله تعالى أمة وسطًا بين أولي التفريط الجامدين على التقاليد القديمة، وبين أهل الإفراط من المفتونين بالتقاليد الحديثة، إذ كان صاحب مشاركة صالحة في العلوم الإسلامية تمكنه من التدريس والتأليف فيها بطريقة استقلالية إذا شاء، وصاحب مشاركة في العلوم الكونية من رياضية وطبيعية واجتماعية عَرَفَ بها حال هذا العصر، وما يحتاج إليه المسلمون فيه، وقد أتقن علم التاريخ إتقانًا لعله لا يوجد في العالم الإسلامي كله من يساويه فيه الآن، وقد دخل في أعمال الحكومة ثم تركها، واشتغل بالتعليم في مدرسة العلوم الكلية في عليكره على عهد مؤسسها السيد أحمد خان الشهير، وكان من أصدقائه، واشتغل بأمر الجمعيات العلمية، وساح في الممالك والأقطار، فكان بعلومه وأعماله، وسعة تجاربه واختباره، وبما أوتيه قبل ذلك من ذكاء الذهن، وعلو الهمة، ومضاء العزيمة، جديرًا بأن يكون من زعماء الإصلاح، وأن يقوم في وجهه من الخصوم من ينبزه بلقب الإفساد، ويرميه بالكفر والإلحاد، كما هي سنة الله تعالى في العباد، وسيعرف أهل وطنه من قيمته بعد وفاته، ما لم يعرفوه له أو يعترفوا به في حال حياته، وسنذكر في الجزء الثاني ما وصل إلينا من ترجمته، وما يعن لنا من البحث فيها، والاعتبار بها، رحمه الله تعالى وأحسن عزاء البلاد الهندية والأمة الإسلامية عنه.

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ كتاب مدارج السالكين كلام الصوفية في الوقت من الجزء الثالث من كتاب مدارج السالكين قال: ومنها الوقت. قال صاحب المنازل (باب الوقت) قال الله تعالى {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (طه: 40) الوقت اسم لظرف الكون، وهو اسم في هذا الباب لثلاثة معانٍ على ثلاث درجات [1] : المعنى الأول [2] حين وجد [3] صادق لإيناس ضياء فضل جذبه صفاء رجاء أو [4] لعصمة جذبها صدق خوف، أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة) وجه استشهاده بالآية أن الله سبحانه قدر مجيء موسى أحوج ما كان الوقت إليه، فإن العرب تقول: جاء فلان على قَدَر. إذا جاء وقت الحاجة إليه، قال جرير: نال الخلافة إذ كانت على قَدَر ... كما أتى ربَّه موسى على قَدَر وقال مجاهد: على موعد، وهذا فيه نظر لأنه لم يسبق بين الله سبحانه وبين موسى موعد للمجيء؛ حتى يقال إنه أتى على ذلك الموعد؛ ولكن وجه هذا أن المعنى جئت على الموعد الذي وعدناه أن ننجزه، والقدر الذي قدرناه أن يكون في وقته، وهذا كقوله تعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} (الإسراء: 107-108) لأن الله سبحانه وتعالى وعد بإرسال نبي في آخر الزمان يملأ الأرض نورًا وهدى، فلما سمعوا القرآن علموا أن الله أنجز ذلك الوعد الذي وعد به، واستشهاده بهذه الآية يدل على محله من العلم، لأن الشيء إذا وقع في وقته الذي هو أليق الأوقات بوقوعه فيه كان أحسن وأنفع وأجدر، كما إذا وقع الغيث في أحوج الأوقات إليه، وكما إذا وقع الفَرَج في وقته الذي يليق به. ومن تأمل أقدار الرب تعالى، وجريانها في الخلق علم أنها واقعة في أليق الأوقات بها، فَبَعَث الله سبحانه موسى أحوج ما كان الناس إلى بعثته، وبعث عيسى كذلك، وبعث محمدًا صلى الله (عليه وعليهم أجمعين) أحوج ما كان أهل الأرض إلى إرساله، فهكذا وقت العبد مع الله يعمره بأنفع الأشياء له أحوج ما كان إلى عمارته. قوله: (الوقت ظرف الكون) الوقت عبارة عن مقارنة حادث لحادث عند المتكلمين، فهو نسبة بين حادثين، فقوله ظرف الكون أي وعاء التكوين فهو الوعاء الزماني الذي يقع فيه التكوين، كما أن ظرف المكان هو الوعاء المكاني الذي يحصل فيه الجسم؛ ولكن الوقت في اصطلاح القوم أخص من ذلك. قال أبو علي الدقاق: الوقت ما أنت فيه، فإن كنت في الدنيا، فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى، فوقتك العقبى، وإن كنت بالسرور، فوقتك سرور، وإن كنت بالحزن، فوقتك الحزن. يريد أن الوقت ما كان الغالب على الإنسان من حاله، وقد يريد أن الوقت ما بين الزمانين الماضي والمستقبل، وهو اصطلاح أكثر الطائفة، ولهذا يقولون: الصوفي والفقير ابن وقته. يريدون أن همته لا تتعدى وظيفة عمارته بما هو أولى الأشياء به، وأنفعها له، فهو قائم بما هو مطالب به في الحين والساعة الراهنة، فهو لا يهتم بماضي وقته وآتيه، بل بوقته الذي هو فيه، فإن الاشتغال بالوقت الماضي والمستقبل يضيع الحاضر، وكلما حضر وقت انشغل عنه بالطرفين فتصير أوقاته كلها فواتًا. قال الشافعي (رضي الله عنه) : صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين: سمعتهم يقولون: الوقت سيف فإن قطعته وإلا قطعك، ونفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل، قلت: يا لهما كلمتين ما أنفعهما، وأجمعهما، وأدلهما على علو همة قائلهما ويقظته! ويكفي هذا ثناء من الشافعي على طائفة هذا قدر كلماتهم. وقد يريدون بالوقت ما هو أخص من هذا كله، وهو ما يصادفهم في تصريف الحق لهم دون ما يختارونه لأنفسهم. ويقولون: فلان بحكم الوقت. أي مستسلم لما يأتي من عند الله من غير اختيار، وهذا يحسن في حال، ويَحْرُم في حال، وينقص صاحبه في حال، فيحسن في كل موضع ليس لله على العبد فيه أمر ولا نهي، بل في موضع جريان الحكم الكوني الذي لا يتعلق به أمر ولا نهي كالفقر، والمرض، والغربة، والجوع، والألم، والحر، والبرد، ونحو ذلك، ويَحْرُم في الحال التي يجري عليه فيها الأمر، والنهي، والقيام بحقوق الشرع، فإن التضييع لذلك، والاستسلام، والاسترسال مع القدر انسلاخ من الدين بالكلية، وينقص صاحبه في حال تقتضي قيامًا بالنوافل، وأنواع البر، والطاعة، وإذا أراد الله بالعبد خيرًا أعانه بالوقت، وجعل وقته مساعدًا له، وإذا أراد به شرًّا جعل وقته عليه، وناكده وقته فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده [5] الوقت، والأول كلما همت نفسه بالقعود أقامه الوقت وساعده. وقد قسم بعضهم الصوفية أربعة أقسام: أصحاب السوابق، وأصحاب العواقب، وأصحاب الوقت وأصحاب الحق، قال: (فأما أصحاب السوابق) فقلوبهم أبدًا فيما سبق لهم من الله، لعلمهم أن الحكم الأزلي لا يتغير باكتساب العبد، ويقولون: مَن أقصته السوابق لم تدنه الوسائل ففكرهم في هذا أبدًا، ومع ذلك فهم يجدون في القيام بالأوامر، واجتناب النواهي، والتقرب إلى الله بأنواع القرب غير واثقين بها ولا ملتفتين إليها، يقول قائلهم: من أين أرضيك إلا أن توفقني ... هيهات هيهات ما التوفيق من قِبَلي إن لم يكن لي في المقدور سابقة ... فليس ينفع ما قدمت من عملي وأما (أصحاب العواقب) فهم متفكرون فيما يختم به أمرهم، فإن الأمور بأواخرها، والأعمال بخواتيمها، والعاقبة مستورة كما قيل: لا يغرنك صفا الأوقات ... فإن تحتها [6] غوامض الآفات فكم من ربيع نورت أشجاره، وظهرت أزهاره، وزهت ثماره، لم يلبث أن أصابته جائحة سماوية فصار كما قال الله عز وجل {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} (يونس: 24) إلى قوله: {يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24) فكم من مريد كَبَا بِهِ جواد عزمه (فخر صريعًا لليدين والفم) وقيل لبعضهم وقد شوهد منه خلاف ما كان يعهد عليه: ما الذي أصابك فقال حجاب وقع، وأنشد: أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر ليس العجب ممن هلك كيف هلك إنما العجب ممن نجا كيف نجا؟ تعجبين من سقمي ... صحتي هي العجب الناكصون على أعقابهم أضعاف أضعاف من اقتحم العقبة: خذ من الألف واحدًا ... واطرح الكل بعده وأما (أصحاب الوقت) فلم يشغلوا [7] في السوابق، ولا في العواقب بل اشتغلوا بمراعاة الوقت، وما يلزمهم من أحكامه، وقالوا: العارف ابن وقته [8] لا ماضي له، ولا مستقبل، ورأى بعضهم الصديق رضي الله عنه في منامه، فقال: أوصني، فقال له: كن ابن وقتك. وأما (أصحاب الحق) فهم مع صاحب الوقت، والأزمان، ومالكهما، ومدبرهما، مأخوذون بشهوده عن مشاهدة الأوقات، ولا يتفرغون لمراعاة وقت وزمان كما قيل: لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلَّى إن للعاشقين عن قصر لليل ... وعن طوله من العشق شغلا قال الجنيد: دخلت على السري يومًا فقلت له كيف أصبحت فأنشأ يقول: ما في النهار ولا في الليل لي فرج ... ولا أطال الليل أو قصر ثم قال: ليس عند ربكم ليل ولا نهار. يشير إلى أنه غير متطلع إلى الأوقات، بل هو مع الذي يقدر الليل والنهار. *** فصل قال صاحب المنازل: (الوقت اسم في هذا الباب لثلاثة معان: المعنى الأول حين وَجْد صادق) أي وقت وجد صادق. أي زمن وجد يقوم بقلبه وهو صادق فيه غير متكلف له ولا متعمل في تحصيله (يكون متعلقه إيناس ضياء فضل) أي رؤية ذلك، والإيناس الرؤية قال الله تعالى {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} (القصص: 29) وليس هو مجرد الرؤية، بل رؤية ما يأنس به القلب ويسكن إليه، ولا يقال لمن رأى عدوه أو مخوفًا " آنسه "، ومقصوده أن هذا الوقت وقت وجد صاحبه صادق فيه لرؤية ضياء فضل الله ومَنِّه عليه، والفضل هو العطاء الذي لا يستحقه المعطى أو يعطى فوق استحقاقه، فإذا آنس هذا الفضل، وطالعه بقلبه أثار ذلك [9] فيه وجدًا آخر باعثًا على محبة صاحب الفضل، والشوق إلى لقائه، فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، ودخلت يومًا على بعض أصحابنا وقد حصل له وجد أبكاه فسألته عنه فقال: ذكرت ما مَنَّ الله به عليّ من السنة ومعرفتها، والتخلص من شُبَه القوم، وقواعدهم الباطلة، وموافقة العقل الصريح، والفطرة السليمة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسرني ذلك حتى أبكاني. فهذا الوجد أثاره إيناس فضل الله ومَنِّه. قوله: (جذبه صفاء رجاء) أي جذب [10] ذلك الوجد، أو الإيناس، أو الفضل رجاء صافٍ غير مكدر، والرجاء الصافي هو الذي لا كدر يشوبه [11] بوهم معاوضة منك، وأن عملك هو الذي بعثك على الرجاء، فصفاء الرجاء يخرجه [12] من ذلك بل يكون رجاء محضًا لمن هو مبتدئ بالنعم من غير استحقاق، والفضل كله له ومنه، وفي يده أسبابه، وغاياته، ووسائله، وشروطه، وصرف موانعه. كل بيد الله لا يستطيع العبد أن ينال منه شيئًا بدون توفيقه وإذنه ومشيئته. ويلخص ذلك أن الوقت في هذه الدرجة الأولى عبارة عن وجد صادق سببه رؤية فضل الله على عبده، لأن رجاءه كان صافيًا من الأكدار. قوله: (أو لعصمة جذبها صدق خوف) اللام في قوله أو لعصمة معطوف على اللام في قوله أو لإيناس ضياء فضل، أي وجد لعصمة جذبها صدق خوف، فاللام ليست للتعليل بل هي على حدها في قولك: ذوق لكذا، ورؤية لكذا. فمتعلق الوجد عصمة، وهي منعة وحفظ ظاهر وباطن جذبها صدق خوف من الرب سبحانه، والفرق بين الوجد في هذه الدرجة والتي قبلها أن الوجد في الأولى جذبه صدق الرجاء، وفي الثانية جذبه صدق الخوف، وفي الثالثة التي تذكر جذبه صدق الحب، فهو معنى قوله: (أو لتلهب شوق جذبه اشتعال محبة) ، وخدمته التورية في اللهيب، والاشتعال، والمحبة متى قويت اشتعلت نارها في القلب فحدث عنها لهيب الاشتياق إلى لقاء الحبيب، وهذه الثلاثة التي تضمنتها هذه الدرجة، وهى الحب، والخوف، والرجاء، هي التي تبعث على عمارة الوقت بما هو الأَوْلَى لصاحبه، والأنفع له، وهي أساس السلوك، والسير إلى الله، وقد جمع الله سبحانه الثلاثة في قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} (الإسراء: 57) وهذه الثلاثة هي قطب رحى العبودية، وعليها دارت رحى الأعمال، والله أعلم. *** فصل قال: (والمعنى الثاني [13] اسم لطريق سالك يسير بين تمكن وتلون؛ لكنه إلى التمكن ما هو يسلك الحال، ويلتفت إلى العلم، فالعلم يشغله [14] في حين، والحال يحمله في حين، فبلاؤه بينهما يذيقه شهودًا طورًا ويكسوه عبرة طورًا، ويريه غيرة تفرق طورًا) هذا المعنى هو المعنى الثاني من المعاني الثلاثة من معاني الوقت عنده، قوله: (اسم لطريق سالك) هو على الإضافة أي لطريق عبد سالك، قوله: (يسير بين تمكن وتلون) أي ذلك العبد يسير بين تمكن وتلون، والتمكن هو الانقياد إلى أحكام العبودية بالشهود والحال، والتلون في هذا الموضع خاصة هو الانقياد إلى أحكام العبودية بالعلم، فالحال يجمعه بقوته وسلطانه، فيعطيه تمكينًا، والعلم يلونه

استفتاء أدباء العصر في بيت من الشعر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استفتاء أدباء العصر في بيت من الشعر ذهب ذاهب، بل كتب كاتب يقول في البيت المشهور الجامع لعيوب الخطيب في أول كتاب البيان والتبيين للجاحظ: مليء ببُهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ ... ومسحة عُثنون وفَتْل الأصابع إن ضبط التفات، وما عطف عليه بالجر غلط، صوابه الرفع فيها كلها على أن (التفات) مبتدأ حُذِف خبره، وما بعده معطوف عليه، فإن كان يوجد أحد يجيز فهمه وذوقه للغة هذا الضبط فليتفضل ببيان ذلك لنا.

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 4

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (4) والحق أن الأعصاب كلها تربط أجزاء الجسم بعضها ببعض، كما تربط أسلاك التلغراف بعض الممالك بالبعض الآخر. تذييل لما تقدم في الإرادة والروح والقوى العقلية قلنا إن سبب حركة القلب لا يعلمه أحد إلا الله تعالى، فهي من الخواص التي وهبها له، وكذلك وهب مثل هذه الحركة الذاتية للخلايا ذات الأهداب المبطنة لبعض الأغشية كالشعب الرئوية، وللخلايا المتحركة ككريات الدم البيضاء وغيرها، ولكن هناك فرقًا بين حركة هذه وتلك؛ فإن حركة الكريات لا نظام لها بخلاف حركة الأهداب فإنها في غاية النظام، وسريعة جدًّا، وهي في انتظامها تشبه انتظام ضربات القلب، فكل هذه الخلايا تتحرك حركة ذاتية لا يعلم لها سبب مطلقًا، وإن كان للبيئة تأثير فيها بمثل الزيادة أو النقصان، ولكن نفس الحركة كأنها بإرادة هذه الخلايا الحية، والحق أنها من أعظم مظاهر إرادتها وحياتها، وهي عامة في كل الخلايا، نباتية كانت أو حيوانية؛ ولكنها تكون أظهر في بعضها من البعض الآخر أو تكون كامنة فيه، وهي أدل على إرادة بعضها من بعضها. ومعنى كون هذه الحركة بإرادة الخلية أنها من عملها الذاتي الذي لا يظهر أن للبيئة تأثيرًا في إيجاده وإنشائه، فمثلاً تشاهد الكريات البيضاء أو بعض الميكروبات تتحرك في السائل الواحد، ثم تسكن، ثم تتحرك بدون أي سبب خارجي، وأحيانًا تتجه إلى جهة ثم تعدل عنها إلى غيرها وهكذا، أي أن عملها يختلف في البيئة الواحدة، ولا معنى للإرادة سوى هذا. وكذلك المخ قد يبدأ العمل، ثم يتركه بدون أي سبب خارجي، لا في الحال ولا في الماضي بحسب ما نعلم، بل بمحض الإرادة والاختيار، وإن عارض ذلك كثير من الفسيولوجيين. فالحق أن الإرادة وحرية العمل، هي أكبر خواص الأحياء، وهي أعظم ما يميزها عن الجماد، وأما زعم بعضهم أن الأعمال كلها ليست إلا أفعالاً منعكسة فهو لا يمكن إثباته، وما هذا الزعم إلا أثر من آثار التعاليم المادية في نفوسهم. هذا ولما كانت حياة الجسم كله متوقفة على حياة القلب، فلا يبعد أن تكون الروح شيئًا مستقرًّا فيه، ولا يبعد أن تكون من عالم الأثير، وبموت القلب تنفصل عنه، ولا نقول إن الخلايا الأخرى حية بغير شيء كهذا، بل نقول إن حياة القلب أو روحه هي أكبرها وأعظمها؛ ولذلك قلنا إن روحه هي روح الإنسان؛ لأن عليها مدار حياته، فهي الروح الرئيسة وغيرها تابع لها. واعلم أن القشرة السنجابية للمخ هي مركز الشعور العام والإدارة والتعقل، وإن كان لكل الخلايا الحية مثل هذه الصفات، إلا أنها فيها في الحالة الأثرية، كما أن الانقباض هو من خواص الخلايا الحية كلها؛ ولكنه في خلايا العضلات أظهر منه في غيرها، وهكذا يقال في سائر الخواص الأخرى للحياة. وهناك علاقة كبرى بين قوة المخ فيما ذكر وبين حجمه، وإذا قارنَّا وزنه بوزن الجسم كله وجدنا أن مخ الإنسان أكبرها بالنسبة إلى جسمه، أما أكبر الأمخاخ على الإطلاق فهو مخ الفيل والحوت. ثم إنك تجد أن مخ الذكي أثقل من مخ البليد والأبله، ومخ الرجل أثقل من مخ المرأة، وقل مثل ذلك في الراقي في العلم والأدب مع المنحط، إلا ما يستثنى من ذلك. وكذلك كثرة التلافيف في القشرة السنجابية، وتعقد تعاريجها، وعمق الميازيب التي بينها كلها أشياء تختلف باختلاف القوى العقلية، فهي تكثر في الإنسان وتقل أو تنعدم في الحيوانات التي هي دونه رقيًّا، وعند ولادة الطفل يكاد المخ يكون غفلاً منها، ثم تكثر إلى زمن الشباب والكهولة، وبعده تقل تدريجيًّا حتى تقارب في أرذل العمر شكل مخ الأطفال. ويلي مخ الإنسان في كثرة التلافيف وتعقدها مخ بعض أنواع القردة. ففي المخ روح الإدراك والشعور، وفي القلب روح الحياة ولا يبعد أنهما أجزاء من روح واحدة، وهذه روح الأحياء ذات الخلية الواحدة (وتسمى الأولى) ، موزعة على جميع أجزائها بالتساوي، وكلما ارتقينا في سلم الأحياء وجدنا أنها موزعة على الجسم بدرجات متفاوتة، كما ترى في الإنسان، والله أعلم، {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) . *** المجموع الدوري للدم ليس الدم في أجسام الحيوانات واقفًا، بل هو دائر فيها، ولله في ذلك حكمتان رئيستان، عليهما مدار حياة الحيوان: (أولهما) توزيع المواد الغذائية وغيرها كالأدوية على جميع أجزاء الجسم، وكذلك توزيع الأكسجين الذي هو ضرورة للاحتراق الداخلي (التفاعل الحيوي) . (وثانيهما) حمل جميع المواد المتخلفة عن التفاعل الحيوي إلى الأعضاء المختصة بإخراجها من الجسم لضررها عن طريق الكليتين، ومن ذلك أيضًا حمل ثاني أكسيد الفحم إلى الرئتين لإخراجه إلى الهواء. والأعضاء المختصة بحركة الدم هي القلب والشرايين والأوعية الشعرية والأوردة. أما القلب فهو جسم مخروطي الشكل موضوع في الصدر بين الرئتين أعلى الحجاب الحاجز وقاعدته إلى الجانب الأعلى الأيمن، وقمته إلى الأسفل الأيسر وهو محاط بغلاف مصليّ يسمى الشغاف ويسميه الأطباء المتأخرون من العرب بالتامور. وفي القلب أربع غرف اثنتان علويتان واثنتان سفليتان، فالأوليان تسميان أذينين والأخريان تسميان بطينين. أما الأذين الأيمن ففيه ينفتح (الأجوف الأعلى) و (الأجوف الأسفل) وهما وريدان عظيمان يجتمع فيهما الدم من الجسم كله ومن البطين الأيمن يخرج شريان كبير يحمل الدم إلى الرئتين. وفي جُدُر الأذين الأيسر أربع فتحات لأربعة أوردة: اثنان منها آتيان من الرئة اليمنى، واثنان من الرئة اليسرى. ومن البطين الأيسر يخرج شريان عظيم يسمى بالإفرنجية Aorta (أورطى) وبالعربية الأبهر، وهو أكبر شريان في الجسم يحمل الدم في فروعه إلى جميع أجزاء الجسم. وبين الأذين الأيمن والبطين الأيمن فتحة لها صمام (غطاء) يسمح بمرور الدم من الأولى إلى الثانية، ولا يسمح بالعكس. وبين الأذين الأيسر والبطين الأيسر فتحة لها صمام أيضًا؛ ولكنها أصغر من الفتحة المتقدمة ووظيفتها كوظيفة تلك. وكل من الشريان الرئوي والأبهر له ثلاثة صمامات تسمح بمرور الدم من القلب إلى الشريان، ولا تسمح بالعكس. وأعظم أمراض القلب هي التي ينشأ عنها تلف هذه الفتحات بحيث تضيق عن المعتاد، أو تسمح برجوع الدم إلى عكس المجرى الطبيعي. والقلب ينقبض من أعلى إلى أسفل؛ فينقبض أولاً الأذينان؛ فيندفع الدم منهما إلى البطينين، ثم ينقبض البطينان؛ فيندفع الدم منهما إلى الشريان الرئوي من الجهة اليمنى للقلب، ويندفع الدم إلى الأبهر من الجهة اليسرى للقلب. وإذا اجتمع الدم الفاسد في الأوردة سار إلى الأجوف الأعلى، والأجوف الأسفل، وانصب في الأذين الأيمن، ومنه إلى البطين الأيمن، ومنه إلى الشريان الرئوي، فالرئتين لينصلح هناك (بخروج ثاني أكسيد الفحم منه، ودخول أكسجين فيه من الهواء) ثم يعود الدم من الرئتين في الأوردة الأربعة التي تصب في الأذين الأيسر، ومن الأذين الأيسر يندفع الدم إلى البطين الأيسر، ومنه إلى الأبهر (الأورطى) ومن الأبهر يوزع على جميع أجزاء الجسم كافة، فيحمل إليها دمًا صالحًا، وتنتهي جميع فروع الأبهر بعروق دقيقة جدًّا يتصل بعضها ببعض كشبكة وهذه العروق هي المسماة بالشعرية تشبيهًا لها بالشعر، وينشأ منها أوردة صغيرة (وهي العروق التي يتجمع فيها الدم بعد مروره على جميع أجزاء الجسم ولونه أسود) وهذه الأوردة الصغيرة يجتمع بعضها ببعض؛ فيتألف منها أوردة أكبر فأكبر حتى تنتهي إلى الأجوف الأعلى والأجوف الأسفل، وهما أعظم وريدين في الجسم. ومن ذلك يُعلم أن الشريان هو العرق الحامل للدم الصالح، والوريد هو العرق الحامل للدم الفاسد، وهذه التسمية صحيحة في الجسم كله ماعدا الشريان الرئوي فإنه يحمل دمًا فاسدًا، وما عدا الأوردة الأربعة الرئوية؛ فإنها تحمل دمًا صالحًا، ولذا رأى المشرحون تعريفًا آخر أصح، وهو أن الشريان هو كل عرق يحمل الدم الخارج من القلب، والوريد كل عرق يحمل الدم الذاهب إلى القلب بقطع النظر عن صلاحه أو فساده. ومما تقدم يُعلم أن الدم في دورته في الجسم كله لا يخرج مطلقًا عن العروق (الشرايين والأوعية الشعرية والأوردة) إلا إذا أصابها حادث تمزقت بسببه فيخرج إذًا منها، وينسكب حولها، ويسمى ذلك بالرض أو الكدم [1] ، وهو الزرقة التي تشاهد في الجسم عند ضربه أو اصطدامه بجسم صلب. ويستثنى من ذلك موضعان ليس فيهما أوعية شعرية، فيسير الدم من الشرايين إلى تجاويف فيهما، ومنها إلى الأوردة وهما الذكر والطحال، وانصباب الدم في هذه التجاويف بكثرة في الذكر تُحْدِث انتصابه. أما الأشياء الصالحة التي في الدم فتخرج مع مائية الدم من خلال جدر الأوعية الشعرية لتعذية جميع خلايا الجسم. وأما الكريات الدموية فهي التي تبقى دائمًا في داخل العروق، إلا في الأحوال الالتهابية، والمواد المائية الخارجة من الأوعية الشعرية تفعل ذلك بطريقة الإسموز الذي سبق بيانه في علم الطبيعة. عدد ضربات القلب والنبض: انقباضات قلب الإنسان تبلغ في الدقيقة الواحدة نحو 70 أو 72 مرة في الذكر ونحو 80 في الأنثى، وهي في الأجنة والأطفال أكثر منها في غيرهم، وتقل في الشيوخ، وقد تزيد هذه الانقباضات في كثير من الأحوال، كما في الخوف الشديد وفي الحميات وغير ذلك، وقد تكون هذه الانقباضات أو الضربات قليلة في بعض الأشخاص بدون مرض، وهي تضعف في بعض الأمراض وخصوصًا قبيل الموت، والدورة الدموية تتم في أقل من نصف دقيقة. وكلما انقبض القلب اندفع الدم منه إلى الشرايين؛ فيحدث فيها امتلاء فجائيًّا وهو المسمى بالنبض، وهو الذي يجسه الأطباء فوق الرسغ وغيره لمعرفة حالة ضربات القلب، والنبض لا يُشْعَر به عادة في الأوردة؛ لأن قوة الضغط إذا وصلت إلى الأوعية الشعرية التي بين الشرايين والأوردة تكون قد قلت، حتى لا يشعر الإنسان في الأوردة بضغط جديد متكرر كما في الشرايين، وعدد مرات النبض في الشرايين تعادل تمامًا مرات ضربات القلب وتحدث بعدها مباشرة، إلا أنها في الشرايين البعيدة تتأخر فترة قصيرة جدًّا عن ضربات القلب. الدم: يوجد في جسم الإنسان عادة 1/13 من وزن جسمه دماء، فيكون القدر الذي في جسم الكهل المعتاد 5 إلى 6 لترات من الدم، وهو سائل أحمر اللون غليظ يتركب ميكروسكوبيًّا من قسمين الأول الكريات، والثاني ماء الدم وهو المسمى بالإفرنجية (plasma) . أما الكريات فهي نوعان: كريات حمراء وهي عبارة عن غشاء رقيق ممتلئ بمادة حمراء زلالية فيها جزء من الحديد تسمى (الهيموجلبين) ، ويختلف شكل هذه الكريات الحمراء باختلاف الحيوانات، ففي ذوات الثدي تكون أقراصًا مستديرة مقعرة من الجانبين ولا نواة لها، ما عدا الجمال فإن كراتها محدبة من الجانبين، وهو الفرق الوحيد بينها وبين الحيوانات الأخرى الثديية. أما في الطيور والزواحف والأسماك وذوات الحياتين، وهي التي تعيش في الهواء والماء [2] ، كالضفادع فكرياتها جميعًا بيضاوية الشكل محدبة من الجانبين، ولها نواة وحجم هذه الكريات كلها يختلف باختلاف الحيوانات، وأعظم منشأ للكريات الحمراء هو العظام الإسفنجية كما سبق، وخصوصًا عظام الضلوع وهي أهم مصدر لها. وأما الكريات البيضاء، فهي خلايا حيوية ولها نواة واحدة أو أكثر وحركة ذاتية، بحيث يمكن أن

الحق والقوة

الكاتب: عن جريدة الأفكار العربية

_ الحق والقوة [*] وبحث فلسفي عنهما بمناسبة الحرب الحاضرة ... أو: درس ضروري لنا نحن السوريين خصوصًا والشرقيين عمومًا الجنرال فون برنهاردي قائد مجرب، له مكانة سامية في الجيش الألماني، كما أنه عالم طبيعي شهير له مصنفات شتى في علم الأحياء (بيولوجيا) يُرْجَع إليها، ويُسْتَقَى منها، وقد أصدر هذا الجنرال كتابًا في سنة 1913 دعاه (المنطق والمبادئ في الحروب) ضمنه آراءه في الحرب، ووجوب الالتجاء إليها عادًّا إياها فضيلة، فكان هذا المؤلَّف موضوع الأحاديث في الأندية العلمية والسياسية في العالم بأسره، وزادت أهميته بعد إعلان الحرب الكبرى الحاضرة؛ لأن كثيرًا من الأعمال الألمانية فيها أتت مصداقًا لما ورد في ذلك الكتاب - كأن أركان حرب ألمانية كلهم هم الذين أنشأوه لا فردًا واحدًا من قوادهم. ولما أكثرت المجلات العلمية والسياسية من البحث في هذا الكتاب، وتعاليمه تصدت مجلة القرن التاسع عشر الشهيرة لنقده، فنشرت مقالة بليغة مسهبة في عددها الأخير عنوانها " الحق والقوة " أردنا تعريبها والتعليق عليها؛ لأننا نحن الشرقيين صرنا أحوج أمم الأرض إلى تعاليم الجنرال فون برنهاردي، وأشدهم افتقارًا إلى من يذيعها بيننا، بعد أن شبعنا من التعاليم الأكليريكية، والمبادئ الخيالية التي أذلتنا، وغيرنا عزَّ، وأفقرتنا، وغيرنا اغتنى، وأضعفتنا، وغيرنا قوي وأفلح. قالت مجلة القرن التاسع عشر: اشتهر كتاب الجنرال فون برنهاردي الأخير لأنه لم يتضمن أبحاثًا سياسية فقط، بل تضمن أيضًا أبحاثا فلسفية، وعمرانية، واجتماعية، تشهد له بالجرأة، وطول الباع، وإننا في نقدنا فلسفةَ الاجتماع، ومبادئها الواردة في ذلك الكتاب نحصر كلامنا فيما له علاقة بالحرب الحاضرة من تلك المبادئ، وأيضًا لما نحن بصدده الآن ننشر أولاً أهم تلك التعاليم التي نرى برنهاردي يبشر بها وهي مقتطفات من كتابه الآنف الذكر: 1- تنازع البقاء: قال: إن التنازع لأجل البقاء هو الناموس الأولي الذي لا مفر منه،لا في المجتمع الإنساني فقط، بل في العالم الحيواني بأسره، وبموجب هذا الناموس لا يمكن إحراز النجاح والارتقاء من دون استئصال العضو الضعيف من المجتمع فالضعيف - إذن - يجب أن يهلك ويفنى. بيد أن المجتمع البشري يختلف عن غيره من المجتمعات الحيوانية في أن الإنسان له حياة فردية، وحياة عمومية معًا، وهذه الأخيرة مرتبطة بالوطن الذي ينتمي الفرد إليه، ولذلك فإن ناموس تنازع البقاء وبقاء الأنسب لا ينطبق تمام الانطباق على الإنسان، كما ينطبق على الحيوان؛ لأن الواحد من الحيوان لا ينظر إلا إلى مصلحته الخاصة فقط، أما الفرد البشري - المرتبط بمجموع الأمة المنتمي هو إليها - فعليه نوع من المسؤولية نحو تلك الأمة من حيث هي مجموع منتظم، والأمة - وهي مجموع أفراد - لا حياة لها إلا بالتنازع أيضًا؛ ولكنها في هذا الجهاد يجب أن تلتجئ إلى نظام موافق، أو شريعة عادلة تسري على الكل من دون تمييز، حتى إذا تعارضت مصلحة الفرد ومصلحة الأمة، كان على الفرد أن يضحي بمصلحته الخاصة إذا اقتضت المصلحة العمومية تضحيتها [1] أي أن المنفعة الشخصية يجب أن تضحي على مذبح المنفعة العمومية عند الحاجة، وفي الهيئات الراقية المنظمة. 2- القوة المحسوسة واجبة لحفظ المجتمع: هذا من النظرة الشخصية الفردية، أما من النظرة العمومية فالمسألة فيها نظر لأن الأمة الواحدة في أثناء معاملاتها مع سائر الأمم لا يجوز لها أن تسير بموجب المبدأ الآنف الذكر، أي مبدأ تضحية الواحد لأجل الخير العام عند الحاجة إلى ذلك بل يجب على الأمة كمجموع منظم أن تفسر الحق والعدالة تفسيرًا آخر يلائم مصلحتها كما سترى. لا يمكن تنظيم أمة ما لم يجتمع عدد كبير من أفراد تلك الأمة تحت لواء المصلحة المشتركة بينهم، ومن العبث اجتماع البشر كلهم في أمة واحدة تحت نظام واحد؛ لأن هذه النظرية لا يمكن تطبيقها. وتأليف أمم صغيرة ضعيفة غير مستحيل غير أن حالة مثل هذه الأمم الصغيرة تستوجب الشفقة؛ لأن وجودها مخالف للناموس الطبيعي، أي أن ليس لها حق الوجود، ودونك البرهان الحسي العملي المعقول: المقدمة المنطقية الأولى: إن البشر مضطرون بحكم نمو عددهم المضطرد إلى تأليف جماعات طبقًا لناموس التعاون؛ ولكن هذه الجماعات تكون متباينة لا في الكمية فقط، بل في الكيفية أيضًا. المقدمة المنطقية الثانية: إن اختلاف العناصر، وعوامل الإقليم، والمناخ وجدت منذ الأزل، وسوف تبقى بحكم الطبع إلى الأبد. النتيجة المنطقية الثابتة: لذلك وجب تباين الأمم بعددها، وأنواعها؛ بسبب تباين الأجناس، والألوان، والأخلاق، والعوامل الطبيعية من جيوغرافية وغيرها من العوامل الخارجية، أي أنه وجب وجود أمم ضعيفة بين أمم قوية بحكم الطبع. ولما كان ناموس تنازع البقاء - وهو ناموس طبيعي ثابت - يجبر الأمم على حفظ كيانها، وعلى تقوية ذلك الكيان على حساب الضعيف من جيرانها [2] ، كان من الضروري وجود ذلك التنازع بين الأمم الضعيفة، والأمم القوية، لذلك قلت إن الأمم الضعيفة تستوجب الشفقة؛ لأنه لا حق لها بالوجود - ومن المستحيل دوام وجودها، وهي عرضة لخطر الاضمحلال في كل حين بسبب التنازع الطبيعي بينها، وبين القوي من جيرانها، ولا بد للقوي من استعمال قوته، وهذا الاستعمال هو الحرب بأبسط معانيه، وأقول - بعبارة أوضح -: إن كل أمة يجب أن تعتمد على القوة، على القوة وحدها، في أثناء معاملاتها العمومية مع سائر الأمم، وإلا كانت أمة ضعيفة عرضة للفناء في كل حين. انتقد الفيلسوف التلياني ماشيافللي مثل هذا التعليم بحجة أنه يرمي إلى اعتبار القوة غاية الوجود لا واسطته؛ ولكن غاية الوجود (هي حماية مصالح الفرد، وترقيتها حتى يصل إلى الدرجة المطلوبة من السعادة، والكمال) وهذه لا يمكن الحصول عليها من دون مساعدة الأمة، والأمة لا يمكن أن تقوم بالحماية والترقية ما لم تكن قوية، وقوتها لا تأتي إلا من حصر محبة بنيها لها وحدها أولاً، وإلا فإنني لا أفهم كيف أن زيدا يحب خير العالم أجمع، وهو لا يحب خير أمته، ووطنه، وجنسه، وعائلاته أولاً. فالواجب الإنساني إذن يقضي على المرء بمحبة جنسه أولاً. إذن أرى أن الناموس المسيحي القائل بالمحبة، والإحسان، والغيرية هو أشرف ناموس في الكون؛ لكنه وُضِعَ لأجل العلاقات الفردية في الأمة الواحدة فقط ولا يمكن تعميمه على الإنسان والإنسانية؛ لأن التعميم مخالف للنواميس الطبيعية الثابتة، والتخصيص أولى، إذ إن الذي لا يحب أخاه القريب، لا يقدر على أن يحب البعيد الغريب، وعلى هذا الرسول بولس ذاته فيلسوف الكنيسة المسيحية، وواضع أهم تعاليمها. 3 - فلسفة العدالة في المعاهدات والحروب: ليست الحرب مقتصرة على اقتتال الجيوش فقط، بل الحرب اصطلاح سياسي يعني وجود أمة تنازع أمة أخرى، سواء كان باستخدام السلاح، أو باستخدام السياسة، والحروب السياسية تعنى مضايقة فريق لفريق آخر بواسطة المعاهدات التجارية، أو المعاملات الاقتصادية من صناعية، وتجارية، وزراعية، وما أشبه. وإذا لم يذعن أحد الفريقين للآخر بحرب السياسة يصير الالتجاء إلى السلاح أمرًا لازمًا، غير أن مسؤولية رجال الحكومة في أثناء الحروب السياسية تقضي عليهم بالمحافظة على مصالح الشعب، وإنماء ثروته، هذه هي الغاية الأولى لهم. أما الواسطة فخاضعة لحكم الظروف، فإذا كانت الظروف تحوجهم إلى إطراح المبادئ النظرية الأدبية جانبًا، فلهم ذلك لأنهم بهذا الانحراف يخدمون المصلحة العمومية لا المصلحة الفردية، وإذا رأوا الخطر محدقًا بالشعب فعليهم مباغتة العدو، والغدر به قبل أن يتم معداته حتى يقضوا على قواه الهجومية والدفاعية، ويأمنوا شر تَنَازُعِه إياهم منافع البلاد، وثمار أراضيها، ومعاملها، وهذا لا يأتي إلا بإنماء القوة المحسوسة وازديادها، ولذلك كانت القوة مظهرًا من مظاهر العدالة؛ لأن الحروب عدل، وبها وحدها تَثْبُت العدالة على أساس متين. وبرهانًا لذلك أقول: لنفرض أن أمة إبان ضعفها خضعت بحكم السيف إلى جارها القوي، وسلمت معه بشروط مكتتبة على ورق سموها معاهدة، ولنفرض أن تلك الأمة الصغيرة صارت قوية على تمادي السنين فرأت أن تلك الشروط التي كانت قد رضيت بها أولاً في أيام ضعفها صارت ثقيلة عليها، تضر بمصالح الشعب في أيام قوتها. فالشعب في هذه الحالة الأخيرة صار يرى ذاته مغدورًا مغبونًا، وإذا هب إلى تمزيق المعاهدة الأولى المجحفة بحقوقه فعمله هذا هو العدل بعينه، ولا يمكن أن ترضى العدالة المجردة بغبن شعب كامل وغدره، ليس ذلك فقط بل إننا لا نقدر أن ندعو الإذعان لشروط مجحفة عدالة وفضيلة، بل إن العدالة تقضي بتمزيق المعاهدة المضرة الجائرة بواسطة المفاوضات السياسية أولاً التي أدعوها حربًا بطيئة كامنة؛ فإذا نجحت فيه، وإلا فاستعمال السيف، والمدفع يصبح أمرًا واجبًا - ولا يمكن أن يوجد الحق ويثبت ما لم يكن مُؤَيَّدًا بالسيف، ومدعومًا بالمدفع وقوة الساعد، ولذلك كانت الحرب فضيلة. أي أن الحرب أمر ضروري للمجتمع الإنساني؛ لأنه رمز العدالة، ومنشئ الشجاعة والجرأة في الأمة، ورفيق الحق والمطالبين به، وإذا تُرِكَت الحرب تجبن الأمة عن المطالبة بحقوقها؛ فتبقى مغبونة مقهورة ذليلة، ومثلها لا يثبت في ميدان تنازع البقاء؛ لأن ناموس بقاء الأنسب يقضي عليها إن عاجلاً أو آجلاً، والأنسب هو الأقوى في كل حال. هذه هي زبدة تعاليم الجنرال فون برنهاردي المدونة في كتابه الجديد (المنطق والمبادئ في الحروب) ودونك مجمل الانتقاد العلمي الفلسفي البديع الذي نشرته مجلة القرن التاسع عشر الطائرة الصيت في عددها الأخير قالت: تعليق مجلة القرن الـ 19 على الكتاب الألماني: ليس الجنرال فون برنهاردي وحده القائل هذا القول، ولا هو من وضع هذه الفلسفة، أي فلسفة القوة والاعتماد عليها وحدها لأجل تثبيت الحق والعدالة، بل إننا إذا أمعنا النظر، نرى أن معظم علماء الألمان وفلاسفتهم قالوا بهذا الرأي ونشروا مثل هذه التعاليم من أرنست هكل العالم الطبيعي المعروف زميل شارلس دارون إلى نياتش المادي الشهير، وغيرهما كثير، وليس من العدل والإنصاف أن نقلل من أهمية هذه التعاليم لمجرد أنها صادرة عن أعدائنا؛ فإن (العلم مشاع بين جميع الأمم وليس لوطنه حدود) فلندرس إذا مبادئ الجنرال برنهاردي، وتعاليمه بكل نزاهة ولنمحصها في بوتقة التحري بقطع النظر عن قائلها. قال أرسطو الفيلسوف اليوناني القديم: إن الفضيلة هي الوسط بين متضادين، أي أن الشجاعة مثلاً هي فضيلة لأنها وسط بين الجبن والتهور، فالجبن رذيلة لأنه دليل الذل، وصغر النفس، والتهور رذيلة أيضًا؛ لأنه دليل الحماقة والكبرياء وكل هذه العيوب الأخلاقية تدل على وجود مرض بعقل المصابين بها، وخصوصًا الغرور والكبرياء [3] ، وقس على ذلك الصدق، والكذب، والحق، والباطل، وما أشبه ذلك من المتضادات. وكم ضل أفاضل من الرجال سواء السبيل؛ لأنهم اتخذوا التطرف ديدنًا لهم فكانوا بإهمالهم الصدق مثلاً يكذبون، وهم لا يدرون، وبتطرفهم بالتمسك بالحق - حسب اعتقادهم - يخدمون الباطل وهم لا يقصدون، والحقيقة أن تعاليم الجنرال برنهاردي مطابقة تمام المطابقة لتعاليم أرسطوطاليس كبير الفلاسفة، لو

بين روسيا وألمانيا

الكاتب: عن جريدة الأفكار البرازيلية

_ بين روسيا وألمانيا [*] وفيه وصية غليوم الأول لحفيده غليوم الثاني يذكر قراء (الأفكار) ما عرّبناه من مدة من تلغراف الإمبراطور غليوم إلى القيصر نقولا، إذ قال له يومئذ: إنه موصى - على فراش موت جده - بالمحافظة على صداقة روسيا. وقد قرأنا مؤخرًا تلك الوصية المشهورة التي أوصى بها الإمبراطور غليوم الأول حفيده إمبراطور ألمانيا الحالي في الساعات الأخيرة من حياته، إذ استدعاه، وزوده بنصائحه، ووصاياه، وما يفرض عليه عمله، والسياسة التي يجب عليه اتِّباعُها إذا تبوأ العرش، وهذا ملخص نص الوصية: إذا كتب لك الحق - سبحانه وتعالى - أن تملك على عرش أجدادك القياصرة فاعتنق الحق والعدل، وبثهما في الرعية، واعتن بالجيش مزيد العناية، واجهد في اكتساب ميل العامة، وحب الشعب الألماني بأسره، واسْعَ في تقرير السلام العسكري والسياسي في داخل المملكة وخارجها، مع مراعاة قوانينها، وشرائعها، وساعد الضعيف، وأعضد العاجز، وساو كليهما بالقوي، حتى لا يكون امتياز ولا حيف، و (حتى) تكون حرية مطلقة في جميع الأديان والمذاهب، تودد إلى الأمم الغربية على إخلاف نزعاتها، وحافظ على اتحاد أوستريا والمجر حليفة جرمانيا الأمينة؛ لأن في هذا الاتحاد موازنة للسياسة الأوربية، ورابطًا بين الدولتين من قديم التاريخ، ولا تحرم البلاد من فوائد السلم وثماره الطيبة المذاق، إذا لم تكن الحرب أمرًا واجبًا فيما لو تعدت على ألمانيا دولة ورامت مهاجمتها أو مهاجمة حليفتها، ولا تستخدم قوة ألمانيا لإثارة حرب عدائية تكون أنت البادئ فيها؛ فإن ألمانيا ليست في حاجة إلى مجد عسكري جديد، ولا إلى افتتاح حديث، حاذر الحرب قدر استطاعتك وإياك، ودولة الشمال، ثابر على اتِّباع خطة المودة الوطيدة نحو قيصر روسيا إسكندر الثالث، ودع ألمانيا أن تسير على خطة السلام والوفاق الحبي مع روسيا، وابذل كل نفيس في سبيل مرضاتها، واستمالة ودها إليك، وأيد الصلات السلمية التي كانت لنا في مدة المائة سنة الماضية في مملكة روسيا جارتنا، فهذه كانت حاساتي (؟) الشخصية التي تنطبق على مصالح ألمانيا) . انتهى هذا بعض ما وقفنا عليه من وصايا الإمبراطور غليوم الأول إلى حفيده الإمبراطور غليوم الثاني، الذي بذل جهده في اتِّباع وتحقيق أماني جده من توثيق عرى الصلات مع جاراته، والممالك المتحالفة معه، حتى تبقى العلائق الودية على سابق حالها غير واهية ولا منفصمة. وقد عرف العالم أجمع ما كان لروسيا من الشأن المهم في حربي عام 1866 مع النمسا، وعام 1870 مع فرنسا، والخدمة الجليلة التي قام بها إسكندر الثاني قيصر روسيا في تسهيل الوحدة الألمانية، وقد عرف ذلك غليوم الأول، كما عرفه وزيره البرنس بسمارك، ولهذا أوصى حفيده غليوم الثاني بتحسين صلاته مع روسيا، ولا يزال العالم يذكر تلغراف غليوم الأول إلى القيصر إسكندر الثاني سنة 1870، إذ قال له (أعترف بأن جل الفضل في فوزي ونجاحي عائد إليك) فضلاً عما كان من أعمال بسمارك في حياة غليوم الأول وفردريك الثالث في تسهيل التقرب إلى روسيا بالرغم من التحالف الثلاثي، ومن مبادئ أوستريا وسياستها البلقانية. وقد كان بسمارك لا يطيب له عيش إلا يوم يأمن نفوذ روسيا، والإمبراطور غليوم الثاني ذاته - بعد قبضه على صولجان الإمبراطورية - زار القيصر الروسي قبل أن يزور حليفتيه النمسا وإيطاليا، كما زار جده غليوم الأول قيصر روسيا يوم تبوأ عرش أجداده، وعمل على تأييد التحالف الشمالي، واهتم في زيادة التقرب من روسيا لتحسين صلات الدولتين، إذ لم يشأ أن يبتعد عنها لما بين الأسرتين المالكتين في روسيا وألمانيا من صلة القربى، فضلاً عن ضرورة الاحترام للوصية السابقة الذكر. ولكن دلكاسه الداهية وزير خارجية فرنسا حالاً مشهور بعدواته لألمانيا، فعين منذ سنة ونصف سفيرًا لدولته في بطرسبرج، واستطاع بدهائه الغريب أن يُفْهِم روسيا أن النمسا ليست بالعدوة الرهيبة لو لم تكن تعضدها ألمانيا، وأن خير طريقة لكسر شوكة النمسا هي إضعاف ألمانيا وساعدته الظروف، والحنكة السياسية، فأبان لروسيا مطامع ألمانيا، وما صنعته مع روسيا في معاهدة برلين وغيرها، وقد نجح دلكاسه في سياسته نجاحًا باهرًا، إذ أضاف إلى الحقد الكامن في قلوب الشعب حقد الحكومة الروسية، فتراخت العلائق بين الحكومتين، وسعى القيصر للتملص من ربقة نفوذ إمبراطور ألمانيا عليه، وخصصت حكومته عشرة مليارات ليرة لنظارة الحربية لسنة 1913، واشترت بتسعة وعشرين مليونًا من الليرات أوتوموبيلات حربية وأضافت عددًا عظيمًا إلى جيشها الهائل، وجعلت الخدمة العسكرية في بعض الفرق أربع سنوات، وأرادت تغيير المعاهدة التجارية بينها وبين ألمانيا، وضربت رسمًا باهظًا على القمح الوارد من ألمانيا إلى فنلندا، وأطلقت سراح الصحافة؛ فأثارت على حكومة برلين عواطف السلافيين، ومكنت الحقد بين الشعبين، وكان المسيو دلكاسه العامل في كل ذلك الذي وصل إلى هذه النتيجة. وكانت الأمة الروسية قد رأت خيلاء الأمة الألمانية؛ فهالها أمرها لاسيما وهي تنظر إليها نظرة جار يود ضرر الآخر، تجارة، وصناعة، وسياسة. أضف إليه الحقد المتولد في قلوب السلافيين ضد الجرمانيين، وتصرف بسمارك نحو روسيا في معاهدة برلين كما قلنا بعد أن كان حليفها سنة 1878، وقلما ترى الآن في روسيا من يحب ألمانيا، حتى من أولئك الذين يجري في عروقهم الدم الألماني أو النمساوي كالبولونيين في بوزين، وفرسوفيا والتشك في برات، والصرب والكروات في إغرام وبلغراد، حتى في طيات قلوب البلغاريين في صوفيا، وهذا الحق المنفجر في جميع جوارح السلافيين أرغم حكومة بطرسبرج على الانتصار للصربيين، وشهر الحرب على النمسا، وقد أرادت حكومة القيصر أولاً أن تتخذ من السلافيين حقدهم لرشق نباله في صدور النمساويين فقط، وذلك لأن ألمانيا قد لعبت دورًا مهما في بلاط روسيا لوجود عدد عظيم من الدوقات الألمانيات في القصر الإمبراطوري - كماريا بافلوفنا قرينة الغراندوق فالديمير وإليزابت فيودوروفنا شقيقة القيصر، ورئيسة دير كبير الراهبات، ودوقيات أولدنبرغ وليستنبرغ، والإمبراطورة ألكسندرا - وعدد عظيم من القواد، والضباط، وولاة الأمور الألمانيي الأصل الذين يشتغلون بجميع قواهم لزيادة متانة العلاقات بين روسيا وألمانيا، عدا عن العلائق الوطيدة الشخصية بين القيصر والإمبراطور، ولأن حربًا عوانًا تقع بين ألمانيا وروسيا لا تفيد الثانية كثيرًا. أما حقد حكومة القيصر على النمسا فكان ولا يزال هائلاً جدًّا؛ لأن فيها إلا أقل من 16 مليونًا من السلافيين تابعين لخمسة عشر مليونًا من الجرمانيين، لذلك ليس من الصعب على حكومة بطرسبورج الضرب على وتر نصرتهم الجنسية، فضلاً عن أن النمسا ما زالت تعرقل سياسة روسيا في البلقان، وكانت الحرب بينها بين روسيا أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه. اهـ.

ترجمة الشيخ شبلي النعماني

الكاتب: حبيب الرحمن خان الشرواني

_ ترجمة الشيخ شبلي النعماني بقلم الشيخ حبيب الرحمن خان الشرواني مترجمة من جريدة (عليكدة إنستيتيوت غازت) بقلم عبد الرزاق من تلاميذ دار الدعوة والإرشاد. انتهت السنة الثانية والثلاثون الهجرية على حادثة فجائية ستُذْكَر في تاريخنا إلى زمن بعيد: أذيع خبر وفاة الشيخ شمس العلماء شبلي النعماني في صبيحة 28 ذي الحجة، أي في الوقت الذي تنير فيه الشمس العالم، ولكن وآسفاه غربت فيه شمس العلم، وأظلم العالم العلمي. (ثم بين الكاتب مجد المسلمين القدماء، وكثرة وجود العلماء والنابغين فيهم الذين كانوا يخلفون السلف، وانحطاط المسلمين الآن، وفقدان الرجال الذين يحلون محل موتاهم، قال: إن في سيرة الشيخ عبرًا ودروسًا للطبقتين: طبقة النابتة الحديثة، وطبقة العلماء، فلو كُتب تاريخه لكان نافعًا للمسلمين، وتوخيًا للفائدة نلمح إلى تاريخه فنقول: الشيخ شبلي النعماني من بلدة أعظم كدة الشهيرة، وهو من أسرة كبيرة، وابن رجل عظيم، لا أعلم سنة ولادته؛ ولكني قرأت ما كُتب في الجرائد من أنه ولد سنة 1857 أي سنة الثورة، وكان من أسباب تقدمه العلمي ذهنه الثاقب، وطبعه السليم، وحرص والده على تثقيفه وتربيته، ووجود أستاذ كامل له كمحمد الفاروق، الذي كان ماهرًا في العلوم العربية والآداب الهندية، أخذ الشيخ شبلي علم الحديث عن العلامة أحمد علي الشهير، وبعد فراغه من التحصيل دخل خدمة الحكومة، ولكنه لم يلبث أن تركها من تلقاء نفسه، ثم قُرر معلمًا للغة العربية في كلية علي كرة، فاتخذ له بيتًا بجوار السيد أحمد خان رئيس الكلية، وكان السيد يبحث في العلوم المختلفة، فاقتبس منه ومن المعلم آرنلد الأستاذ في الكلية معلومات في الفلسفة والعلوم الحديثة، وهو الذي علم الأستاذ المذكور عليه كثيرًا من العلوم الإسلامية واللغة العربية، لهذا كان في تأليف كتاب (الدعوة الإسلامية preachig Islam of) للأستاذ آرنلد يد كبيرة للشيخ. وخرج من الكلية سنة 1898 بعد أن توفي السيد أحمد، وذهب إلى حيدرآباد، وهنالك كانت قد أسست الجمعية العلمية المسماة (السلسلة الآصفية) فتوظف فيها براتب 200 روبية في الشهر (والآن قد زيد فيها مائة فصارت 300 روبية) وألف بضعة كتب باسمها، ثم رتب مشروع كلية حيدرآباد. ولما رجع من حيدرآباد طلبه محسن الملك رئيس الكلية لها ولكنه لم يقبل، ورجح ندوة العلماء عليها، وأقام في مدينة لكهنؤ، فكان فيها عضوًا كبيرًا عاملاً، وفهم مقاصدها حق الفهم، وأراد أن يثمرها فنظم شؤونها، وأصدر مجلة كبيرة باسمها كانت من أشهر المجلات الهندية وأرقاها، وهي لا تزال فخرًا في اللغة الهندية؛ ولكنه لما انتخب رئيسًا للجمعية بعد اعتزال رئيسها الشيخ محمد علي لم يقدر على استخدام الأعضاء كلهم كما استخدمهم سلفه؛ لأنه اشتهر بحرية الرأي والاجتهاد في كل شيء، فخالفه العلماء وظنوا به الظنون، حتى قال بعضهم: إنه دهري ويريد إفساد الجمعية، فلم ينجح في عمله هذا كما ينبغي؛ ولكنه استطاع تنفيذ كثير من مقاصدها. وساح في البلاد الإسلامية في زمن إقامته في الكلية للاستعانة على تأليف تاريخ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بمطالعة الكتب التي لا توجد في الهند، فكان الكتاب من أحسن الكتب التاريخية على طريقة حديثة، وسيكون فخرًا له إلى الأبد، وبعد رجوعه من السفر ذهب إلى رستميد، فمرض هناك مرضًا شديدًا ذهب بصحته الجيدة، فلم تعد إلى الموت. ومن الحوادث المؤلمات في حياته إصابة رجله بالرصاص؛ وسبب ذلك أنه كان جالسًا في حرمه والبندقية في يد زوجة ابنه، فسقطت على الأرض فأصابت ساقه. وآخر حياته مملوءة بمخالفة العلماء له في الندوة؛ ولكنه مع هذا كله ما زال مشغولاً بتأليف تاريخ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأرسل إليّ خطابًا قبل وفاته بقليل وصف فيه تأثير موت أخيه في نفسه، ثم قال: أريد تأسيس دار للمصنفين، ودار لتكميل العلوم أدرس فيها بنفسي التفسير والحديث ويدرس فيها غيري من العلماء الآخرون لعلي أنجح في هذا بعد العجز عن العمل في الندوة التي أضعت وقتي فيها، ولكن جاءت المنية قبل تحقق رجائه، جزاه الله خير الجزاء لأعماله النافعة للمسلمين. *** ترجمة الشيخ شبلي النعماني بقلم عبد الرزاق أحد طلبة دار الدعوة والإرشاد كان الشيخ شبلي النعماني من أكبر علماء الهند قدرًا، وأوسعهم علمًا، وأشدهم غيرة على الدين والأمة، خدم المسلمين زمنًا طويلاً، بدون تعب ولا نصب ولا مبالاة بحوادث الدهر، ومن مزاياه الكثيرة أنه كان نابغًا في علوم عديدة، مجتهدًا في الدين والعلوم العقلية، ماهرًا في تاريخ الشرق والغرب، أديبًا بارعًا في اللغة العربية والفارسية، ينشد الشعر بالفارسية مثل أعظم شعراء العجم، وهو يعد من أئمة اللغة الهندية، وأفصح كتابها، له كتب كثيرة جدًّا في الفلسفة والتاريخ وآداب اللغتين الفارسية والهندية، وفي علوم شتى، وآخر كتاب كان يعنى بتأليفه هو (سيرة النبي صلى الله عليه وسلم) ، ولم يكد يتمم جزءًا منه حتى عاجلته منيته، وهو ابن خمس وستين سنة تقريبًا، هذا الكتاب ليس مثل سائر الكتب التاريخية، بل أراد رحمه الله أن يكتب باستقصاء لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من آثار النبي، وأقوال المتخرسين (؟) إلا أحصاها، وبحث فيها بحثًا فلسفيًّا ليس من ورائه بحث، وكان من اهتمامه بالكتاب المذكور أنه قبل الاشتغال فيه أعلن في الجرائد الهندية أنه يحتاج إلى خمسين ألف روبية (3325 جنيهًا) ليسافر إلى الممالك الإسلامية والإفرنجية، ويطالع في مكاتبها الكتب المؤلفة في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتساءل عمن يساعده بذلك؟ فأجابت طلبه (أميرة بهوبال) التي اشتهرت بالأعمال الخيرية والعلمية، غير أنها لم تأذنه بالسفر لكبر سنه، وما أصابه من المرض، بل وعدت بأن تطلب له جميع الكتب المحتاج إليها، وتعطي 200 روبية شهريًّا لمترجمي الكتب الإفرنجية منها (لأن الشيخ لم يكن عالمًا بلغات العرب) فاشتغل الشيخ بالكتاب ثلاث سنوات، وكمل منه جزء واحد كما ذكر آنفًا. وكان ينتهز الفرص لينفع المسلمين، ومن مآثره أنه نجح في مسألة الوقف على الأولاد عند الحكومة، فأجازته بعد أن كانت أبطلته. ربما يظن ظان أن هذا الشيخ الجليل كان من متخرجي المدارس العالية، ومن أصحاب الشهادات العليا، وليس الأمر كذلك؛ فإنه لم يتعلم في مدرسة ما قط، بل كان يتلقن بعض العلوم المتروكة القديمة في بيوت بعض العلماء، ولم يكن يعلم شيئًا من أحوال العالم المدني، ولكن علامات الذكاء كانت تنطق على سِيمَاه بعظيم مستقبله. ولما كمَّل دروسه غير المنظمة، انتظم في سلك المعلمين في كلية علي كرة الشهيرة، وهنالك ظهر له أنه يوجد عالم غير عالمه، وعلوم غير الفقه والكلام والفلسفة اليونانية، فأخذ يطالع العلوم حتى عُدَّ من أكبر علماء الهند، وفي هذه الأثناء ساح في البلاد الإسلامية كلها ليعرف داء المسلمين ودواءه، وبعد رجوعه إلى وطنه ابتدأ دوره الذهبي؛ لأنه ترك الوظيفة، ولم يعمل شيئًا بعد إلا لإصلاح المسلمين، ولهذا الغرض أخذ على عاتقه مشروع ندوة العلماء، وهي لم تكن شيئًا يذكر قبله، وبهمته العالية ترقت في مدة قصيرة حتى سُمع صوتها في العالم المدني، وتخرَّج فيها العلماء والمربون، وكانت له أماني كثيرة حالت منيته دونها إذا وافته بعد أن مرض نصف شهر، فسقطت بذلك حلقة كبيرة في سلسلة المصلحين، وانطفأ مصباح الهند، فليحزن على فقده المصلحون، والهنود المسلمون، إنا لله وإنا إليه راجعون. (المنار) فقدنا الأستاذ النعماني في عهد هذه الحرب التي حرمتنا رؤيته، ما عدا جريدة عليكدة من جرائد الهند، فلم نقف على شيء من تأبينها وترجمتها له، والشيخ حبيب الرحمن الذي كتب تلك النبذة الوجيزة في جريدة عليكده من أهل العلم والدين، وحزب المصلحين المعتدلين، ولكنه أوجز واختصر حتى أنه لم يذكر لنا مصنفات الشيخ، ولعل أهل مصر وغيرها من البلاد العربية لا يعرفون منها إلا رده الوجيز على كتاب تاريخ التمدن الإسلامي، وما هو إلا عجالة جعلها نموذجًا لبيان ما أنكره من ذلك الكتاب، ولم يرد به الاستقصاء، وكنت رأيت له رسالة في الجزية نشرت بعضها في المجلد الأول من المنار، وهي تدل على اجتهاد في التاريخ وعلوم الدين، ومن سوء حظ المسلمين أن يقوم حزب الجمود في وجوه هؤلاء الأفراد من المصلحين كالشيخ النعماني، ويحولوا بينهم وبين خدمتهم لملتهم وأمتهم، ويضعف أنصار الإصلاح عن إحباط أعمالهم، ومما يذكر بالإعجاب في ترجمته أنه لم يوجد في أمراء الهند وعظمائها رجل عرف قيمة هذا الأستاذ الكبير المصلح، كما عرفته أميرة بهوبال فضلى نساء تلك الأقطار وأقيالها. وسننشر في الجزء التالي كلمة وجيزة من صلة المودة بيننا، وبين الفقيد وكتابًا منه يعلم منه شيء من صلته العلمية الدينية بصاحبة بهوبال، أدام الله النفع بها. ((يتبع بمقال تالٍ))

السر محمد سلطان آغا خان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السر محمد سلطان آغا خان زار مصر في أوائل هذه السنة السر محمد سلطان آغا خان زعيم طائفة الإسماعيلية أقدم طوائف الباطنية، بل إمامهم ومعبودهم، جاءها عائدًا من لندرة عاصمة إنكلترة - حيث يقيم معظم سنته - إلى وطنه بمبي أول ثغور الهند، حيث يقيم مدة فصل الشتاء عادة، وقد نزل ضيفًا على الجنرال غرانفيل مكسويل القائد العام للجيوش البريطانية بمصر، فلقي من الحفاوة والإكرام من الحكومة المصرية، وكبراء الإنكليز ما يليق بمقامه ومكانه من ثقة الدولة البريطانية به، وإخلاصه في خدمته لها. وقد اجتمعت به في دار (مستر ستورس السكرتير الشرقي لدار الحماية الإنكليزية) وتحدثنا أكثر من ساعة في الشؤون المصرية، وأحوال المسلمين في مصر، وفي غيرها من الأقطار، وكان أكثر الحديث أسئلة منه وأجوبة مني، وكنت أحب أن أسأله عن أمور فلم يتسع الوقت لذلك، وتحدثنا بتمني اجتماع آخر، فلم يتيسر؛ ولعل من أسباب ذلك كثرة تنقله في البلاد المصرية، وعدم لبثه في القاهرة بعد ذلك إلا قليلاً. وقد كان أول حديثه الشكوى من قلة عناية المسلمين بالعلم، وسألني عن سبب ذلك، فشرحت له رأيي فيه، ومما ذكرته له في ذلك أن العلم لا يرتقي وترتقي الأمم به إلا بالعمل، ولا سيما العلوم الطبيعية والآلية (الميكانية) التي يشعر عقلاء المسلمين بشدة حاجاتهم إليها، وتوقف مجاراتهم للإفرنج عليها، وأن أسبابا سياسية، واجتماعية حالت دون السير في هذه العلوم على الطريقة العملية التي تتوقف على إيجاد المعامل، ودور الصناعة في البلاد، وأن الحكومات هي ذات الشأن الأول في إيجاد ذلك، وأكثر حكام المسلمين ليسوا منهم، وأما الحكومات الإسلامية المستقلة، فقد كانت الدولة العثمانية، والإمارة المصرية - وهما أقربهن إلى الحضارة - شرعتا في اقتباس العلوم والفنون الأوربية منذ مائة سنة أو أكثر، أي قبل شروع اليابان في ذلك؛ ولكن حال دون استمرارهما على الطريقة العملية ما لا سعة في الوقت لشرحه؛ فزالت المعامل ودور الصناعة التي شرع فيها محمد علي باشا كما اضمحل ما أنشئ من ذلك في الآستانة، مع كون الحاجة إليها أشد، والقدرة عليها أتم، واكتفى الترك والمصريون باقتباس المبادئ الناقصة من هذه العلوم والفنون، وإنما يتوسع قليل منهم بما هم أقل حاجة إليه من غيره كالقوانين، وتاريخ الأمم الأوربية، ولغاتها، مع جهلهم بشريعتهم، وتاريخ ملتهم، وآدابها، ولأجل هذا كان ضرر أكثر المتعلمين أكبر من نفعه، ولما كان الطب لا يكون إلا عمليًّا كان هو أنفع ما اقتبسناه من العلم الحديث، ففي مصر والبلاد العثمانية كثير من الأطباء الذين يخدمون البلاد أَجَلّ خدمة، وكذلك الهندسة فإنها قد أفادت بقدر الحاجة إليها في الأعمال كالري، وسكك الحديد، فالمهندسون المصريون لا يقصرون عن الأوربيين الذين يعملون معهم في هذه البلاد. أما حديثنا عن حالة مصر، ومسألة الحماية الإنكليزية الجديدة فلا يجوز نشره الآن.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار صَدَّق به وصَدَّق له (س1) من صاحب الإمضاء مدير مجلة الأديان في بانجاب بالهند سيدي العزيز: كَتَبْتَ في أحد أعداد المنار (كما سَمِعْتُ) أن هناك فرقًا بين قولنا (صَدَّق له) (وصَدَّق به) ، وقلت إن الأخير يفيد معنى التحقيق والإمضاء، والأول يفيد معنى الإتمام (أي تحقق مضمون الشيء) ، وما استعمله القرآن بالنسبة إلى التوراة والإنجيل هو التعبير الأول، وهذا التفسير هو الجدير بالاعتبار، ويحل الإشكال الذي بين المسلمين والنصارى في مسألة شهادة القرآن لكتبهم، وإني أَعُدُّ لكم فضلاً كبيرًا عليّ إذا أقمتم لي الدليل على هذا الفرق بين العبارتين؛ حتى يتيسر للإنسان أن يقتبسه كلما قام جدال بيننا وبينهم في هذه المسألة، وأملي أن تبادروا بالجواب. ... ... ... ... ... ... ... ... عبدكم (؟) المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شرالي ... ... ... ... ... ... ... ... ... مدير مجلة الأديان (ج) إن ما أشرتم إليه من التفرقة بين صَدَّق به، وصَدَّق له وقع في رسالة الدكتور محمد توفيق صدقي لا في كلام المنار، وما ينشر في المنار لغيرنا لا يصح أن نطالب بالدليل عليه، بل نُسْأَل عن رأينا فيه، والذي يؤخذ من استعمال القرآن لكلمة التصديق، ومااشتق منها، ومن استعمال العرب هو أن " صَدَّق " فعل يتعدى بنفسه كما قال تعالى: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ} (الصافات: 37) ، وأن التصديق يكون بالقول كقولك: صدق فلان فيما أخبر به، ويكون بالفعل، ومثاله أن تقول: إن فلانًا سيفعل كذا، ويقول كيت وكيت - فيفعل ذلك الفعل، أو يقول ذلك القول، فهذا يسمى تصديقًا لما قلته عنه، سواء أراد به ذلك أم لا، كل جائز في اللغة مستعمل فيها، فتصديق نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - للمرسلين عليهم السلام، ولكتبهم يصح فيه الوجهان - يصح أن يراد به إخباره بصدقهم فيما بلغوه عن الله تعالى، وأن يراد به أن بعثته، وصفاته، وأفعاله دلت على صدقهم في البشارة به، وبكل من القولين قال أهل التفسير المأثور والمعقول، والقرائن ترجح أحدهما على الآخر في المواضع المختلفة. ولم يرد صدّق متعديًا باللام فيما نعلم، أما مثل قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} (البقرة: 41) وقوله: {وَهُوَ الحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ} (البقرة: 91) فاللام فيه للتقوية، لا للتعدية، وهو بمعنى قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (الأنعام: 92) ، ومعنى ذلك أنه دال على صدق تلك الكتب فيما بشرت به من بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ناطق بصدق أولئك المرسلين فيما جاءوا به عن الله تعالى، فإن أريد بالتصديق القولي منه فهو لا ينافي ما أثبته في آيات أخرى من تحريف القوم لبعض تلك الكتب الصادقة، ونسيانهم حظًّا منها ومثاله أن يقول قائل لقوم إن فلانًا المؤرخ صادق، وإن ما كتبه لكم من تاريخكم، أو تاريخ كذا صحيح، ولكنكم نسيتم بعض ما جاءكم به فلم تحفظوه، وحرفتم بعض كلمه فلم تبينوه، ولم تستبينوه، هذا هو التحقيق في تفسير الآيات الواردة في هذه المسألة، وقد فصلنا القول فيها في مواضعها من التفسير وأيدناه بالدليل. وأما قولهم: صدق بكذا أو بفلان، فهو ليس من التصديق الذي معناه مجرد إثبات الصدق بالقول أو الفعل، فإن التصديق بمعنى إثبات الصدق يتعلق بالأقوال لا بالأشخاص والأشياء، فإذا أُسْنِد إلى الأشخاص؛ فإنما يُسْنَد إليهم باعتبار مضاف محذوف (فمعنى صَدَّق المرسلين) ، صَدَّق أقوالهم، فإذا عُدِّي التصديق بالباء كان متضمنًا لمعنى الإيمان، فكان تصديق اعتقاد محله القلب، فالتصديق بالنبي هو الإيمان بنبوته، لا قولك بلسانك إنه صادق، ولا فعلك فعلاً يدل على صدق كلام قاله وأما تصديقه فيشمل هذا وذاك، والمُصَدِّق باللسان قد يكون غير مُصَدِّق بالقلب، وحقيقة معنى تضمين فعل معنى آخر هو أن تضم معناه إلى معنى الفعل الأصلي بتعديته إلى ما يتعدى إليه؛ لكي يدل على معناه أولاً وبالذات، وتبقى دلالته على معناه الأصلي مرادة، ولو على سبيل اللزوم والإكمال كقوله تعالى {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُم} (النساء: 2) ، أي لا تأكلوها بضمها إلى أموالكم لتكون ربحًا لكم ككسبكم، وهذا لا ينافي الأكل منها بمخالطة اليتيم، وإشراكه مع الوصي في المعيشة، مع اتقاء الوصي قصد الربح منه، كما أنه لا ينافي ضمها إلى أمواله لحفظها معها لليتيم لا لنفسه. وقد اُسْتُعْمِل التصديق في القرآن متعديًا بالباء في أربعة مواضع: 1- قوله تعالى حكاية لبشارة الملائكة لزكريا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّه} (آل عمران: 39) . 2- قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (الزمر: 33) . 3- قوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} (التحريم: 12) ، أي السيدة مريم عليها السلام. 4- قوله: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} (الليل: 6) ، فكل موضع من هذه المواضع يراد بالتصديق فيه الإيمان المستلزم للتصديق اللساني، والحسنى صفة لمحذوف قيل هو كلمة التوحيد، واختار شيخنا أنه الشريعة والملة. والإيمان يتعدى بنفسه بالباء، وإذا تعدى باللام كان متضمنًا لمعنى الاتباع، كما لا يخفى على من استقرأ استعماله في الكتاب العزيز، وكلام فصحاء العرب والله أعلم. *** أول الخلق وكونه نور النبي صلى الله عليه وسلم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (تأخر كثيرا) (س2) من صاحب الإمضاء في الجامع الأزهر. فضيلة الأستاذ! بعد تقديم اللائق بمقامكم، أعرض على حضرتكم مسألة طالما تكررت على مسامعنا، ولم نفقه لها معنى، وسألت عنها بعض مشايخي بالأزهر، فأجابوا بأنها من مواقف العقول فأرجو من فضيلتكم الشرح عنها. سمعنا أن الأشياء خُلقت من نوره - صلى الله عليه وسلم -، وأنه موجود قبل الكائنات، فما معنى النور الذي خُلقت منه الكائنات؟ ، وكيف يقبل القسمة مع أنه من المكيفات؟ ، وكيف يكون النبي أولاً وآخرًا؟ أجيبوا لا زلتم للدين منارًا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد مصطفى السقا (ج) ما يُذْكَر في الموالد، وبعض الكتب من كون أول الخلق نور النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يصح منه شيء، فما يبنى عليه من الإشكال ساقط، يصدق عليه ما قلناه في الأمر الثاني من جواب السؤال عن عدد صفات الله تعالى، وعلمه بها (في ص 739 م 17) . وتجدون البحث في مسألتكم مفصلاً في (ص865-869) من مجلد المنار الثامن. *** كتاب الجفر وحديث الاستعاذة من الحَوْر بعد الكَوْر (س3و4) من صاحب الإمضاء في جهة أبي كبير (الشرقية) حضرة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار المنير السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فنرجو أولاً التكرم بإفادتنا عن كتاب الجفر المنسوب للإمام علي - كرم الله وجهه - هل هو صحيح أو باطل، وما هي أدلة المثبتين، وما هي أدلة النافين، وما هو رأيكم الخاص. ثانيًا: ما معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (نعوذ بالله من الحَوْر بعد الكَوْر) . ... ... ... ... ... ... ... ... هذا وتنازلوا بقبول فائق احترامي ... ... ... ... ... ... ... ... أبو هاشم علي قريط (ج) أما كتاب الجفر فلا يُعْرَف له سند إلى أمير المؤمنين، وليس على النافي دليل، وإنما يُطْلَب الدليل من مدعي الشيء، ولا دليل لمدعي هذا الجفر. وأما معنى الحديث فقد قال ابن الأثير في النهاية: (نعوذ بالله من الحور بعد الكور) أي من النقصان بعد الزيادة، وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها، وقيل: من الرجوع عن الجماعة بعد أن كنا منهم، وأصله من نقض العمامة بعد لفها. اهـ وفي لسان العرب: يقال كار عمامته على رأسه إذا لفها، وحار عمامته إذا نقضها.

حرب المدينة الأوربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حرب المدنية الأوربية والمقارنة بينها وبين المدنية الإسلامية والفتوحات العربية لقد أرتنا هذه الحرب من ضروب العبر، ما لم يكن يخطر قبلها على قلب بشر، وهتكت لنا من أستار الرياء، ما أرانا كثيرًا من حقائق الأشياء، التي لم يكن يلمحها إلا أفراد الحكماء، فظهر للذكي والبليد، والغوي والرشيد، أن هذه المدنية المادية، مدنية قوة وحشية، وشهوات بهيمية، كانت تخدع الأبصار، وتفتن البصائر بما يدعيه أهلها في زمن السلم من حب الحق، والتحلي بلباس الفضائل، وإقامة ميزان العدل، وثل عروش أئمة الجور والظلم، حبًّا في سعادة الناس، ورغبة في المساواة بين الأفراد والأجناس. وقد كان من مقدمات هذه الحرب بين الدول الكبرى حربان في البلقان، اقترف فيهما البلقانيون من ضروب القسوة، وفظائع العدوان، وتقتيل الشيوخ والوِلْدان، وهتك الأعراض ونهب الأموال، ما لم يعرف التاريخ أقبح منه منظرًا، ولا أسوأ عاقبة وأثرًا، ولم يكن يخطر في بال أحد أن هذه الموبقات يمكن أن يقع مثلها من دولة من الدول الكبرى، ودول العلم، والفنون، والمدنية الرائعة في هذا العصر الذي يفضلونه على جميع العصور، ويسمونه عصر الحضارة والنور، نعم إن أنواره المادية يكاد شعاعها يَذْهَب بالأبصار، ويمكن أن يفضل بها الليل على النهار؛ ولكن يتمثل لك في هذا الضوء عالم المدنية هيكلاً من هياكل الوثنية، قد نصب في محاربة تمثال القوة الحربية، واضعًا إحدى قدميه على الحق، والأخرى على الفضيلة، رافعًا بيمنى يديه راية القهر والسلطة، وبشمالها راية الشهوة واللذة، والناس ما بين راكع له وساجد، ومحرق للبخور ومُقَدِّم للذبائح. قلما كان أحد من الناس يظن أن دول العلم والحضارة تقترف مثل ذلك الظلم والعدوان، وتجترح تلك السيئات التي اجترحتها شعوب البلقان، فجاءت هذه الحرب مكذبة لظن الخير فيها، وأحقت من القضاء بالقسوة والفظاعة عليها شر ما أحقت على من قبلها، إذ كانت أقدر على التنكيل والتدمير من البلقانيين الذين هم عالة عليها، بقدر ما آتاها العلم من أسبابها وآلاتها، فقد جعلت العلم الجدير بأن يكون مصدر العدل والرحمة والسعادة مصدرًا للظلم والقسوة والشقاوة، فهذه دولة ألمانيا الممتازة بسعة العلوم، واتقان الفنون، قد امتازت بما اخترعته من آلات التخريب، وأسباب المنون، وينقل لنا عنها محاربوها ما تقشعر منه الجلود، ويتصدع من هوله الحجر الجلمود، من مدافع تدرك الحصون والمعاقل، وغواصات تنسف البوارج والبواخر، وغازات سامة يتكون منها دخان أخضر، يقتفي آثاره الموت الأحمر، فهو مصداق قول الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: 10-11) . وضعوا للحرب قوانين لتخفيف نكباتها ومصائبها مستمدة محاسنها من الشريعة الإسلامية شريعة العدل والرحمة؛ ولكن ثبت أنهم ما رعوها حق رعايتها، وإنما يعملون بها في بعض الأمور الظاهرة المشتركة بين كل من المتقاتلين كمعاملة الأسرى، ومن أمن منهم أن يُعَاقَب بمثل عاقب به لعجز خصمه، أو لإمكانه إخفاء جنايته، لم يلتزم أحكام قوانين الحرب، وحقوق الدول، ولا معاهداتها احترامًا لها، أو حبًّا في الحق والعدل اللذين تُوضَع القوانين والعهود لأجلهما. فأين حرب هذه الأمم والدول التي خدع الناس كلهم حتى المسلمون بها، وصاروا يباهون بفضائلها، وارتقائها في معارج المدنية الإنسانية بعلومها وفنونها، ومن حرب الصحابة الذين كان أكثرهم أميين؟ تلك الحرب التي لم يعرف التاريخ البشري مثلها في رعاية الحق والعدل والورع، واستعمال الرأفة والرحمة في السر والعلن، بل شهد فيلسوف التاريخ والاجتماع (غوستاف لوبون) للعرب كلهم بذلك فقال: ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب، فبذلك العصر النوراني فليفاخر المفاخرون، لا بعصر الوحشية المنظمة التي جاء بها القرن العشرون. هل نقل ناقل أو قال قائل إن أحدًا من الصحابة - عليهم الرضوان - أو ممن حارب معهم من التابعين انتهك عرضًا، أو قتل شيخًا، أو امرأة، أو غلامًا، أو سلب لأحد من أعدائه مالاً، أو هدم كنيسة أو ديرًا، أو قتل راهبًا، أو قسيسا؟ أو مَثَّل بقتيل، أو أجهز على جريح؟ كيف وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوصيهم بمثل قوله: " انطلقوا بسم الله وبالله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا [1] ، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) رواه أبو داود من حديث أنس بن مالك، وروى أحمد من حديث ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيوشه قال: (اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تُمَثِّلوا [2] ، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع) . ومن وصايا الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - المقتبسة من مشكاة النبوة ما رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث جيوشًا إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتل امرأة، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطع شجرًا مثمرًا، ولا تخرب عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكله، ولا تعقرن نخلاً ولا تحرقه، ولا تغلل ولا تخبن [3] . نعم قد كان يقع قليل من الشذوذ يقابل بالإنكار، إلا إذا دفع إليه الاضطرار، والنادر لا حكم له، روى الشيخان وأصحاب السنن ما عدا النسائي وغيرهم عن ابن عمر قال: وُجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم- فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان. وروى أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن ماجه، وغيرهم عن رياح بن ربيع: أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة غزاها، وعلى مقدمته خالد بن الوليد فمر رياح وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها؛ حتى لحقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، فأفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (ما كانت هذه لتقاتل - وقال لأحدهم - الْحَقْ خالدًا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا) [4] ، وروى أبو داود في مراسيله عن عكرمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: (من قتل هذه؟) فأخبره رجل أنه كان غنمها فلما رأت الهزيمة أهوت إلى قائم سيفه لتقتله به؛ فقتلها قبل أن تقتله. ولا أتذكر قتل امرأة في مغازى النبي - صلى الله عليه وسلم - غير هاتين إلا تلك المرأة اليهودية التي أمرها زوجها أن تلقي الرحى على بعض المسلمين في غزوة بني النضير ليقتلوها فلا تعيش بعده إذ كان موطنًا نفسه على أن يقاتل حتى يُقْتَل ففعلت. وقد كان رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنساء أعظم من ذلك فقد روى ابن إسحاق أن بلالاً مر بصفية وابنة عم لها على قتلى يهود بعد سقوط حصن بني أبي الحقيق، فلما رأت المرأة القتلى صكت وجهها، وصاحت، وحثت التراب على وجهها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبلال " أَنُزِعَت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما؟) . ومن ضروب العبرة في حرب المدنية الأوربية كثرة ما يتقاضونه من البلاد التي يفتحونها من الغرامات، وما يفرضونه عليها من الإتاوات، وقد كان المسلمون الأولون يكلفون أهل البلاد ضيافة ثلاثة أيام، لضرورة الحاجة إلى القوت وعدم تيسر أسبابه بالطرق النظامية المتبعة في هذه الأيام، وأما الجزية والخراج اللذان يفرضونهما على أهل البلاد فهما أقل مما تفرضه كل حكومة من حكومات الأرض على أبناء جنسها في بلادها، دع ما تفرضه الحكومات الأوربية في مستعمراتها، فهو يستغرق معظم غلات أرضها، فلا يبقى لأكثر أهلها منها إلا ما يسد الرمق، ويستعين به على مداومة العمل، وقد قرأنا في الصحف ما فرضه الألمان على أهل بلجيكة من الغرامات، وما حَمَّلُوها من الأثقال، بعد ما حل بهم ما حل من الخزي والنكال، فإذا هو مما تعجز عن حمله الجبال لا الجمال، ولا غرو فإن كل حظ أهل هذه المدنية المادية من الحياة والدافع لها إلى القتال، إنما هو الاستكثار من جمع الأموال، والتمتع باللذة، والعظمة، والسلطة، والجاه، ولو ظفر البلجيكيون بالألمان، لأنزلوا بهم الخزي والهوان، وعاملوهم كما عاملوا أهل الكونغو منذ أعوام، فأين هذا من عفة المسلمين ولا سيما الصحابة الكرام. روى البلاذري في فتوح البلدان عن سعيد بن عبد العزيز قال: بلغني أنه لما جمع هرقل للمسلمين الجموع، وبلغ المسلمين إقبالهم عليهم لوقعة اليرموك ردوا على أهل حمص ما كانوا أخذوا منهم من الخراج، وقالوا: قد شغلنا عن نصرتكم والدفع عنكم، فأنتم على أمركم، فقال أهل حمص: لَولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم، ولندفعن جند هرقل عن المدينة مع عاملكم، ونهض اليهود فقالوا: والتوراة لا يدخل عامل هرقل مدينة حمص إلا أن نُغْلَب ونجهد، فأغلقوا الأبواب وحرسوها، وكذلك فعل أهل المدن التي صولحت من النصارى واليهود، وقالوا إن ظهر الروم وأتباعهم على المسلمين صرنا إلى ما كنا عليه، وإلا فإنا على أمرنا ما بقي للمسلمين عدد، فلما هزم الله الكفرة (يعني الروم، أي الرومانيين) ، وأظهر المسلمين فتحوا مدنهم، وأخرجوا المقلسين، وأدوا الخراج. اهـ. وفي رواية أحفظها ولا أتذكر موضعها الآن أن الصحابة لما ردوا ما كانوا أخذوا من الجزية قالوا إنا كنا أخذناها جزاء حمايتكم والدفاع عنكم، وقد عجزنا الآن عن ذلك، فحلف الأهالي أن أبناء دينهم ما كانوا ليرجعوا مالاً أخذوه ... إلخ. فهل عُهِدَ من فاتح في الأولين والآخرين أن يرد الخراج إلى أهل البلاد التي يفتحها، بناء على أن الخراج لا يباح أخذه إلا لأجل حفظ البلاد والدفع عنها، وأن العجز عن ذلك وإن كان في سبيل الدفاع عن تلك البلاد يُوجِب رد الأموال إلى أصحابها؟ لا لا، إن هذا العدل والورع لم يعرفه البشر إلا من الصحابة - رضي الله عنهم -، فإن كان من وليهم من خلفاء العرب وأمرائهم دونهم، فهم يَفْضُلون سائر الأمم في رفقهم وقناعتهم. كان بنون أمية أحرص العرب على نعيم الملك وسعة العيش، فخرجوا في كثير من أمر السلطة والتصرف في بيت المال عن السنة المتبعة وسيرة الخلفاء الراشدين، وإنما استقام عليها منهم عمر بن عبد العزيز، أما سيرتهم في الغزو، والقضاء بين الناس، وإدارة البلاد فكانوا يتحرون فيها العدل والرحمة، وكذلك كانت سيرة العباسيين في الشرق، والأمويين في الغرب (أي الأندلس) ، ومن شذ عن ذلك لغير سبب حفظ الملك كان مذمومًا، وعرضة للعقاب، وقد تضاعفت ثروة الممالك، واستبحر عمرانها بعد أن انتزعوها من الروم والفرس، بما كانوا يسوسونها به من الرحمة والعدل، ولم يفطن لهذا بعض الكتاب الذي انبرى في هذه الأيام إلى ذم ولاة العرب بكونهم لم يكن لهم هم إلا جباية الخراج، وقوله - في أفراد منهم - إنهم لم يفعلوا شيئًا للبلاد، أو لم يقل فلان المؤرخ إنهم فعلوا شيئًا، وهو يعلم علمًا ضروريًّا أن عدم القول لا يستلزم عدم الفعل، وإن ما سكت عنه زيد يجوز أن لا يسكت عنه عمرو، ويعلم علمًا نقليًّا أن مزية الفاتحين الأولين من العرب هي العدل

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 5

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (5) الفرق بين الهواء الداخل إلى الرئتين والخارج منهما: الهواء الداخل إلى الرئتين تركيبه عين تركيب هواء الجو أعني هكذا: أكسجين ... ... ... ... ... ... ... ... ... 20.96 في المائة [1] نيتروجين ... ... ... ... ... ... ... ... ... 79 في المائة غاز حامض الكربونيك (وهو غاز ثاني أكسيد الفحم) ... 0.04 في المائة بخار الماء ... ... ... ... ... ... ... ... ... كمية مختلفة وحرارة هذا الهواء تختلف باختلاف الجهات والأوقات وغير ذلك. أما الهواء الخارج من الرئتين فتركيبه كما يأتي: أكسجين ... ... ... ... ... ... ... ... 16.03 في المائة نيتروجين ... ... ... ... ... ... ... ... 79 في المائة غاز ثاني أكسيد الفحم ... ... ... ... ... ... 4.40 في المائة بخار الماء ... ... ... ... ... ... ... ... الهواء مشبع به الحرارة ... ... ... ... ... ... ... ... ... كحرارة الجسم فيُفْهَم من ذلك أن النيتروجين لا تتغير كميته لعدم حاجة الجسم إليه من طريق التنفس؛ فيذوب في الدم كما يذوب في الماء، ولا عمل له في الجسم مطلقًا، وفائدة النيتروجين في الهواء تخفيف مقدار الأكسجين فيه، فإننا إذا استنشقنا أكسجين خالصًا احترق جسمنا بسرعة كبيرة، ونحف، واحتجنا إلى مقادير عظيمة من الطعام لتعويض هذا النقص الكبير، فلذا اقتضت الحكمة الإلهية تخفيفه بالنيتروجين نعم إن النيتروجين ضروري لتركيب جميع الخلايا؛ ولكنه يصل إلى الجسم في الطعام، وفي الشراب (كاللبن) لا بطريق التنفس - كما قلنا -. أما الأكسجين الداخل مع الهواء فكميته أكثر من كمية الخارج معه، لأنه يتحد مع هيموجلوبين الكريات الحمراء، ويدور مع الدم فإذا وصل إلى أنسجة الجسم جذبته إليها، واتحدت به وهذا ما يسمى (بالاحتراق الداخلي) أو (التنفس الداخلي) اللازم لحياة الجسم. وإذا اتحد الأكسجين مع أجزاء الجسم تولدت مواد أخرى بقاؤها ضار بالجسم، فتدور مع الدم لتفرزها الأعضاء المختصة بذلك كالكليتين، والجلد في البول والعرق. ومن هذه المواد الناشئة من الاحتراق الداخلي غاز ثاني أكسيد الفحم، والماء وهذا هو السبب في زيادة غاز ثاني أكسيد الفحم، والماء في الهواء الخارج من الرئتين. وقد وجد علماء الفسيولوجيا أن الهواء الخارج من الصدر يشتمل أيضًا على بعض مواد نيتروجينية عضوية؛ ولكنهم لم يكتنهوا إلى الآن ماهيتها، ولا تركيبها وهي السبب في رداءة رائحة هواء الغرف المسكونة، وإذا تنفسها الإنسان مرة أخرى أضر بصحته ضررًا بليغًا يفوق ضرر استنشاق القليل من غاز ثاني أكسيد الفحم؛ فإن هذا الغاز لا يفسد تركيب أي جزء من أجزاء الجسم؛ ولكنه إذا ملأ الجو مات الانسان اختناقًا لعدم وجود الأكسجين فيه. المواد المختلطة بالهواء: ويوجد في الأهوية الفاسدة - غير ذلك أيضًا - مواد أخرى غازية ضارة بالإنسان ضررًا بليغًا، ومن أهمها الهيدروجين المكبرت، وهو الذي يتولد من المراحيض وغيرها، وهذا الغاز يفسد الدم، ويضر بالجسم أيضًا. وكذلك أول أكسيد الفحم فإنه سام جدًّا، وهو يتولد من الاحتراق الناقص للفحم ويوجد في الهواء أيضًا ميكروبات، وذرات مختلفة من التراب، والمعادن، والفحم وغير ذلك، فالميكروبات تحدث أمراضًا عديدة في الجسم الإنساني، وتلك الذرات تحدث أيضًا نزلات شعبية، والتهابات رئوية مزمنة. لهذا كله يجب أن يكون الهواء المستنشق نقيًّا من كل ما تقدم، فلا يكثر فيه أكسيدا الفحم الناشئان من أنفاس الحيوانات والنباتات ليلاً، ومن اشتعال النيران، ويجب أن يكون هواء الأمكنة المسكونة بعيدًا عن المراحيض دائم التجدد، معرضًا للشمس؛ فإنها تقتل كثيرًا من ميكروباته بعيدًا عن الأتربة والمصانع التي تثير غبارًا من المعادن وغيرها. سنة الله في الأكسجين والكربون: ولا يتوهم القارئ - مما سبق - أن كمية الأكسجين في الهواء آخذة في النقص شيئًا فشيئًا بسبب التنفس، وبسبب النيران، فإن الله تعالى وضع لذلك سنة حكيمة بها يبقى الأكسجين في الهواء إلى ما شاء الله، وذلك بأن جعل الورق الأخضر لجميع النبات يحلل (بتأثير أشعة الشمس فيه) غاز ثاني أكسيد الفحم، فيمتص منه الفحم، ويُخْرِج الأكسجين، وهذا الفحم باتحاده مع عناصر أخرى تتركب منه أخشابها، وما فيها من صموغ، وسكر، وزيوت، وغير ذلك؛ فكأن الفحم الخارج من الإنسان، وغيره من الحيوانات ضروري للأشجار، فإذا أكل الإنسان شيئًا من هذه الأشجار عاد إلى جسمه، ثم يحترق فيه؛ فيخرج في الهواء؛ فيعود إلى الشجر، وهكذا كالدائرة. وبحركة الرياح (وهى ناشئة من اختلاف درجة حرارة الهواء) ، وبتماوج ذراته، وانتشارها توجد حركة دائمة في هواء الأرض؛ فتبعثر الأكسجين، وتنشره في جميع الجهات، ولولا ذلك لماتت الحيوانات التي في البقاع الخالية من الأشجار. ومن الخطأ العظيم تغطية الوجه أثناء النوم، وكذلك غلق منافذ الغرفات مع وجود أشخاص فيها، أو مصابيح وغيرها؛ فإن ذلك قد يقتل الإنسان. أما ثاني أكسيد الفحم المتكون من الاحتراق الداخلي؛ فإنه يوجد في الدم لا ذائبًا فيه، بل متحدًا مع عنصر الصوديوم بصورة كربونات الصوديوم، أو بيكربونات الصوديوم؛ فإذا وصل هذان الملحان إلى الرئتين خرج من البيكربونات ثاني أكسيد الفحم بطريق الإكسوسموز، ومما يساعده في خروجه الخلايا المبطنة للحويصلات الرئوية؛ فتفرزه وسبب حصول الإكسوسموز هو نقصان كمية ثاني أكسيد الفحم في الهواء، كما أن السبب في دخول الأكسجين من الهواء في الدم هو أيضًا قلة الأكسجين في الدم عنها في الهواء، وقبل دخول الأكسجين للدم يذوب في الرطوبة التي تغطي جدران الحويصلات الرئوية ومنها يدخل للدم، ويجب أن لا يتوهم القارئ أن كل الهواء الذي في الحويصلات الرئوية يخرج منها أثناء الشهيق فالواقع أنه يخرج جزء منه، ويبقى جزء آخر، وبطريقة الانتشار يسرع أكسجين الهواء إلى الداخل لكثرته، وغاز ثاني أكسيد الفحم إلى الخارج لكثرته أيضًا - كما سبق بيانه -. ثقل غازات الهواء: من تأمل في تركيب الهواء، والفرق بين درجات ثقل غازاته وجد أن النيتروجين من أخفها، وغاز ثاني أكسيد الفحم من أثقلها، فلذا يتكاثر هذا الغاز الأخير بقرب سطح الأرض وفى الحفر، وكلما ارتفع الإنسان نقصت كمية هذا الغاز، وزادت كمية النيتروجين، ولذا كثيرًا ما سمعنا بموت أشخاص هبطوا إلى أماكن منخفضة كالآبار وغيرها. أما الأكسجين فلكونه أثقل من النيتروجين يكثر في الهواء المجاور للأرض، ويقل في جو السماء، يشعر بذلك من توقل (صعَّد) في جبل عالٍ، أو حلَّق في الجو بطيارة. وأعظم علو أمكن للإنسان أن يصل إليه في القباب الطيارة، أو المناطيد، أو الجبال هو 8838 مترًا، أما الصعود بعد ذلك فيؤدي إلى هلاك الإنسان، إما لنقص الأكسجين، أو لانفكاك غازات الدم منه فتَحْدُث أعراضٌ خطرة، ويتعسر التنفس، أو يتعذر بسبب نقص كمية الأكسجين نقصًا عظيمًا فلا يحدث الإندوسموز. زِدْ على ذلك أنه إذا عاش الإنسان بضع دقائق في ذلك المكان المرتفع حصل له نزف من الأنف، أو الرئتين، أو غيرها لقلة ضغط الهواء الجوي على جسم الإنسان، ولتعلم أن الصعود إلى نحو 5000 مترًا لا يوافق جمهور الناس حتى المتعودين لذلك من سكان الجبال. أما ارتفاع هواء الجو فلا يقل عن 300 كيلو متر التنفس الصناعي: إذا بطل تنفس الإنسان بسبب ما كاستنشاق الكلوروفورم، أو الغرق في الماء أو استنشاق غازات الاحتراق، أو غير ذلك مما يبطل التنفس أمكن إعادة الحياة إلى المصاب بطريقة (التنفس الصناعي) ، واستعمال المنعشات، ونحوها بشرط ألا تكون المدة قد طالت، وأن لا تكون أنسجة الجسم قد بدأ فيها أقل شيء من الفساد. أما طريقة التنفس الصناعي فهي أن تزيل كل ما أمكنك إزالته مما قد يوجد في مجاري التنفس، كالماء في الغريق - مثلاً - بأن تقلب المصاب على وجهه، وترفع رجليه إلى أعلا، ثم تضعه على مكان عالٍ لتتمكن منه، وتخفض رأسه، وتخرج لسانه بشدة بمقبض (جفت) ، أو نحوه، ثم تمسك بعضديه، وتجذبهما إلى أعلى رأسه، ثم تخفضهما إلى جنبيه، وتضغط بهما على صدره، ويستحسن أن يساعدك شخص آخر في ذلك الوقت؛ بأن يضغط على بطنه أيضًا ليرتفع الحجاب الحاجز فيحصل الشهيق بسبب ذلك، أما الزفير فإن الذي يحدثه هو جذب الذراعين المذكور هنا، ويتكرر هذا العمل في الدقيقة الواحدة نحو خمس عشرة مرة، ولا يصح اليأس من عودة الحياة إلا بعد مضي نحو ساعة على الأقل، وفي أثناء هذا العمل تُوضَع خرق مبتلة بالماء الحار على القلب، أو يُنَبَّه الحجاب الحاجز بالضرب بمثل المنشفة على قسم المعدة، وينشق المصاب (كبسول الأميل نيتريت) ويحقن بالأستركنين، أو الأثير، أو غيرهما تحت الجلد، ويُحْقَن بجزء من الخمر، أو الكحول في الشرج إلى غير ذلك؛ فإذا فعلت جميع هذه الأشياء باستمرار عادت الحياة - غالبا - خصوصًا إذا كانت ضربات القلب موجودة، ومن أحسن المستنشقات في ذلك الوقت غاز الأكسجين، إن وجد. *** جهاز الهضم مقدمة في الغدة: قبل البدء في الكلام على هذا الجهاز ينبغي أن نبدأ بتعريف كلمة (الغدة) لشدة الاحتياج إليها فيما سيأتي: تطلق هذه الكلمة على ثلاثة أنواع من أجزاء الجسم: (1) الغدة اللمفاوية: وهي عبارة عن شيء كعقدة مركبة من عدة كريات تشبه كريات الدم البيضاء يمسك بعضها بجانب بعض مادة تسمى بالمنسوج الضامّ، ووظيفتها تنقية المواد اللمفاوية من الميكروبات وغيرها، ولذلك نجد كثيرًا منها موضوعًا في طريق الأوعية اللمفاوية بحيث تصب فيها، ثم تخرج منها - كما سبق-. (2) غدة الإفراز: وهي التي تُخْرِج مواد كثيرة من الجسم، بعضها له منفعة خاصة، والبعض الآخر لا نفع له، وإنما تُخْرِجه لضرر إبقائه في الجسم، مثال الأول اللعاب، واللبن، ومثال الثاني البول، والعرق، وقد يكون الشيء المُخْرَج له نفع في الجسم، ويضر بقاؤه فيه كالمرة، وهي المادة الصفراء التي يفرزها الكبد. وتتركب الغدد الإفرازية من غشاء مجهري (ميكروسكوبي) يوجد على سطحه خلايا الإفراز، وتكون طبقة واحدة في الغالب، وتوجد عدة طبقات منها في مكان شهير بالجسم وهو الخصية، وعلى الجانب الآخر من هذا الغشاء المذكور توجد أوعية الدم، ومنها تخرج المواد بطريق الإكسوسموز؛ فتتصرف فيها الخلايا، وتخرج منها مواد كيماوية عجيبة التركيب. أما أشكال هذه الغدد فمنها الكيسي؛ وذلك بأن ينبعج الغشاء إلى جهة الأوعية الدموية؛ فيتكون كيس صغير مبطن بلا خلايا، وله فوهة يخرج منها الإفراز، ومنها الأنبوبي، وهي التي يكون لها تجويف كالأنبوبة، لا كالكيس، ومنها الأنبوبي المتفرع، ومنها عنقودي الشكل، ومنها الملتوي. ويُلاحَظ أن في هذا النوع من الغدد قناة في داخل الغدد الإفرازية، وفيها تجري مفرزاتها كاللبن، والعرق، وغيرها. أما الضرب الأول من الغدد فلا قناة لها وأما الضرب الثالث فهو أيضًا لا قناة له، وهو يشمل عدة أعضاء في الجسم كالطحال (وهو نوع من الغدد اللمفاوية) ، والغدة الدرقية، والغدة السعترية في صدور الأطفال، وغير ذلك مما سيأتي الكلام عليه في فصل خاص. والذي يهمنا في الكلام على الهضم هو الضرب الثاني. تشريح الجهاز الهضمي ووظيفته: يبتدئ هذا الجهاز بالفم، ثم المرئ، ثم المعدة، ثم الأمعاء الصغيرة، فالكبيرة، وينتهي بالدبر، ويصب فيه عدة إفرازات من غدد متنوعة لهضم الطعام ولغير ذلك، وتمر فيه

الحنين إلى الأوطان

الكاتب: الجاحظ

_ الحنين إلى الأوطان كتاب مختصر من أحسن كتب الأدب طلاوة، وأشدها حلاوة، وأرشقها عبارة، وأجودها اختيارًا للآلئ الكلام المنثورة والمنظومة، وأطبعها لملكة البيان في نفس الطالب، وذوق البلاغة من الشاعر والكاتب، وحسبك أنه لإمام أئمة الأدب أبي عثمان الجاحظ، الذي نوه الزمخشري بمكانته العليا من البيان في خطبتي كتابيه أساس البلاغة، والكشَّاف، وهاك هذا النموذج من أوله، قال بعد البسملة: إن لكل شيء من العلم، ونوع من الحكمة، وصنف من الأدب - سببًا يدعو إلى تأليف ما كان فيه مشتتًا، ومعنى يحدو [1] على جمع ما كان متفرقًا، ومتى أغفل حَمَلَة الأدب، وأهل المعرفة تمييز الأخبار، واستنباط الآثار، وضم كل جوهر نفيس إلى شكله، وتأليف كل نادر من الحكمة إلى مثله، بطلت الحكمة، وضاع العلم، وأُمِيت الأدب، ودَرَس مستور كل نادر، ولولا تقييد العلماء خواطرهم على الدهر، ونقرهم آثار الأوائل في الصخر، لبطل أول العلم، وضاع آخره، ولذلك قيل: لا يزال الناس بخير ما بقي الأول يتعلم منه الآخر. وإن السبب على جمع نتف من أخبار العرب في حنينها إلى أوطانها، وشوقها إلى تربها، وبلدانها، ووصفها في أشعارها توقدَ النار في أكبادها أني فاوضت بعض من انتقل من الملوك في ذكر الديار، والنزاع [2] إلى الأوطان، فسمعته يذكر أنه اغترب من بلد إلى آخر أمهد من وطنه، وأعمر من مكانه، وأخصب من جنابه، ولم يزل عظيم الشأن، جليل السلطان، تدين له من عشائر العرب ساداتها وفتيانها، ومن شعوب العجم أنجادها [3] وشجعانها، يقود الجيوش ويسوس الحروب، وليس ببابه إلا راغب إليه، أو راهب منه، فكان إذا ذُكِر التربة والوطن حن إليه حنين الإبل إلى أعطانها [4] ، وكان كما قال الشاعر: إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي ... وأضحى فؤادي نهبة للهماهم [5] حنينًا إلى أرض بها اخضر شاربي ... وحُلت بها عني عقودُ التمائم [6] وألطف قوم بالفتى أهل أرضه ... وأرعاهم للمرء حق التقادم وكما الآخر: يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرا عقدات الأبرق المتقاود [7] وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى وقدمل السُّرى كل واخد [8] وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطًا بسم الأساود [9] فقلت: لئن قلت ذلك لقد قالت العجم: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها توَّاقة [10] ، وقالت الهند: حرمة بلدك عليك كحرمة أبويك، لأن غذاءك منهما وأنت جنين - وغذاءهما منه، وقال آخر: احفظ بلدًا رشحك غذاؤه، وارع حمى أكنك فناؤه، وأولى البلدان بصبابتك إليه بلد رضعت ماءه، وطعمت غذاءه، وكان يقال: أرض الرجل ظئره [11] ، وداره مهده، والغريب النائي عن بلده، المنتحي عن أهله، كالثور النادّ [12] عن وطنه، الذي هو لكل رامٍ قنيصه، وقال آخر: الكريم يحن إلى جنابه، كما يحن الأسد إلى غابه، وقال آخر: الجالي عن مسقط رأسه، ومحل رضاعه، كالعير [13] الناشط [14] عن بلده، الذي هو لكل سبع قنيصة، ولكل رامٍ دريئة [15] ، وقال آخر: تربة الصبا تغرس في القلب حرمة وحلاوة، كما تغرس الولادة في القلب رقة وحفاوة [16] ، وقال آخر: أحق البلدان بنزاعك إليه بلد أمصك حلب رضاعه. وقال آخر: إذا كان الطائر يحن إلى أوكاره، فالإنسان أحق بالحنين إلى أوطانه، وقالت الحكماء: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة، وكرم الفطرة من طهارة الرشدة [17] ، وطهارة الرشدة من كرم المحتد [18] ، وقال آخر: ميلك إلى مولدك، من كرم محتدك، وقال آخر: عسرك في دارك أعز لك من يسرك في غربتك، وأنشد: لقرب الدار في الإقتار خير ... من العيش الموسع في اغتراب [19] وقال آخر: الغريب كالغرس الذي زايل أرضه، وفقد شربه، فهو ذاوٍ [20] لا يثمر، وذابل لا ينضر، وقال بعض الفلاسفة: فطرة الرجل معجونة بحب الوطن - ولذلك قال أبقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه، فإن الطبيعة تتطلع لهوائها، وتنزع إلى عذائها، وقال أفلاطون: غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها، وقال جالينوس: يتروح العليل بنسيم أرضه - كما تتروح الأرض الجدبة ببلل القطر. والقول في حب الناس الوطن، وافتخارهم بالمحال قد سبق، فوجدنا الناس بأوطانهم أقنع منهم بأرزاقهم، ولذلك قال ابن عباس: لو قنع الناس بأرزاقهم، قناعتهم بأوطانهم ما اشتكى عبدٌ الرزقَ، وترى الأعراب تحن إلى البلد الجدب، والمحل القفر، والحجر الصلد، وتستوخم [21] الريف حتى قال بعضهم: أَتَجْلِينَ في الجالين أم تتصبري ... على ضيق عيش والكريم صبور فبالمصر برغوث وحمى وحصبة ... وموم وطاعون وكل شرور [23] وبالبيد جوع لا يزال كأنه ... ركام بأطراف الأكام تمور [24] وترى الحضري يولد بأرض وباء وموتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد أريف من بلاده، وجناب أخصب من جنابه، واستفاد غنى حن إلى وطنه ومستقره ولو جمعنا أخبار العرب وأشعارها في هذا المعنى لطال اقتصاصه، ولكن توخينا تدوين أحسن ما سنح من أخبارهم وأشعارهم، وبالله التوفيق. ومما يؤكد ما قلنا في حب الأوطان قول الله - عز وجل - حين ذكر الديار يخبر عن مواقعها من قلوب عباده فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} (النساء: 66) ، فسوى بين قتل أنفسهم وبين الخروج من ديارهم، وقال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} (البقرة: 246) وقال الأول: عَمَّر الله البلدان بحب الأوطان، وكان يقال لولا حب الناس الأوطان لخربت البلدان، وقال عبد الحميد الكاتب: وذكر الدنيا: نفتنا عن الأوطان، وقطعتنا عن الإخوان، وقالت الحكماء: أكرم الخيل أجزعها من السوط، وأكيس الصبيان أبغضهم للكتاب، وأكرم الصفايا أشدها ولهًا إلى أولادها، وأكرم الإبل أشدها حنينًا إلى أوطانها، وأكرم المهارى أشدها ملازمة لأمها، وخير الناس آلفهم للناس. وقال آخر: من أمارات العاقل بره لإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، ومداراته لأهل زمانه، واعتل أعرابي في أرض غربة فقيل له: ما تشتهي؟ فقال حِسل [25] فلاة وحسو [26] قلات [27] . وسئل آخر فقال: مخضًا [28] رويًّا، وضبًّا مشويًّا، وسئل آخر فقال: ضبًّا عنينًا أعور، وقالت العرب: حماك أحمى لك، وأهلك أحفى بك، وقيل الغربة كربة، والقلة ذلة، وقال: لا ترغبوا إخوتي في غربة أبدا ... إن الغريب ذليل حيثما كانا وقال آخر: لا تنهض عن وكرك فتنغصك الغربة، وتضيمك الوحدة، وقال آخر: لا تجف أرضًا بها قوابلك [29] ، ولا تشك بلدًا فيه قبائلك، وقال أصحاب القيافة [30] في الاسترواح: إذا أحست النفس بمولدها؛ تفتحت مسامها فعرفت النسيم. وقال آخر: يحن اللبيب إلى وطنه، كما يحن النجيب [31] إلى عطنه، وقال: كما أن لحاضنتك حق لبنها، كذلك لأرضك حق وطنها، وذكر أعرابي بلده فقال: رملة كنت جنين ركامها، ورضيع غمامها، فحضنتني أحشاؤها، وأرضعتني أحساؤها [32] ، وشبهت الحكماء الغريب باليتيم اللطيم [33] الذي ثكل [34] أبويه، فلا أم ترأمه [35] ، ولا أب يحدب عليه [36] ، وقالت أعرابية: إذا كنت في غير أهلك؛ فلا تنس نصيبك من الذل، قال الشاعر: لعمري لَرهط المرء خير بقية ... عليه وإن عالوا به كل مركب إذا كنت في قوم عِدًا لست منهم ... فكل ما عُلفت من خبيث وطيب [37] وفي المثل أوضح من مرآة الغريبة - وذلك أن المرأة إذا كانت هديًا في غير أهلها تتفقد من وجهها وهيئتها ما لا تتفقده وهي في قومها وأقاربها - فتكون مرآتها مجلوة تتعهد بها أمر نفسها وقال ذو الرمة: لها أذن حشر وذفرى أسيلة ... وخد كمرآة الغريبة أسجح [38]

سفور النساء واختلاطهن بالرجال وفوضي الآداب بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سفور النساء واختلاطهن بالرجال وفوضى الآداب بمصر في هذه الأيام التي ثبت فيها عن نساء فرنسة كلهن، حتى غانيات باريس منهن، أنهن لبسن ثياب الحداد، بعد رفولهن في تلك الأزياء، التي تُقَلِّدهن فيها سائر النساء، في جميع الأرجاء،وظهرن بمظهر الراهبات الناسكات، وهن أولئك الفاتنات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، اللواتي فتن قلوب الرجال، حتى صاروا يشدون إليهن الرحال، بل يطيرون إليهن على مراكب النار، في سباسب الأرض وأجواز البحار، وتركن المراقص والملاهي والحانات، إلى ساحات القتال والمستشفيات، وإلى دور الصناعة، وأعمال الزراعة، ليخففن عن أمتهن أثقال هذه الحرب الضروس، في هذا العصر العبوس. في هذه الأيام التي مس فيها الضر، وهدد الأمم والدول العسر؛ فكسدت غلات الزراعة، وتعطلت معامل الصناعة، ووقفت حركة التجارة، وقلّ الدرهم والدينار، وغلت أثمان الأشياء، وخاف العقلاء أن يعقب هذه الحرب قحط ومجاعات، تتلوها فتن وأوبئة وثورات، وشعر المبذرون من أهل السعة والثروة، بوجوب الاقتصاد في النفقة خوفًا من سوء العاقبة. في هذه الأيام التي تُدك فيها الحصون والمعاقل، وتُدمر المعابد والمنازل، وتثل العروش، وتذهب باستقلال الشعوب، وتنذر أقوى الدول بأسًا، وأشدهن بطشًا، ذلاًّ بعد عزة، وضعفًا بعد قوة، وفقرًا بعد ثروة، وعبودية بعد حرية. في هذه الأيام - وقد زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان ما لها، وما عسى أن يكون مآلها - انبرى نفر من الشبان والشواب، من المتفرنجين والمتفرنجات في هذه البلاد، يتبارون في تحبير المقالات، وإقامة الحجج والبينات، المؤلفة من مقدمات الشبه والخيلات، على وجوب سفور النساء المصريات، واختلاطهن بالرجال في الملاهي والمجتمعات، وفي عامة الأحوال والأوقات؛ ليشاركن الرجال في حريتهم، ويساهمنهم في التمتع بمحاسن (الطبيعة) ويقتبسن منهم الآداب والأفكار الجديدة؛ ولذلك يسمون مطلبهم هذا (تحرير المرأة) فمرادهم أن المرأة في رق أهلها ثم زوجها، وأنه ينبغي أن تفعل ما تشاء ولا يصح لأحد أن يحجر عليها، ولا أن يصدها عما تُحب وتهوى. يتوهم هؤلاء المساكين أن الفوضى الأدبية التي يرتعون فيها هي الحرية التي ينوه بمدحها الإفرنج، والتي بها وصلوا إلى ما وصلوا إليه من العلم والصناعة، وما أنتجا من الملك والسيادة، ولم يعقلوا أن هذه الفوضى هي التي حلت روابطهم القومية، وأضعفت مقوماتهم، ومشخصاتهم الجنسية، وجرفت ثروتهم إلى البلاد الأجنبية، وجعلتهم غير أهل للاستقلال في إدارة بلادهم، فضلاً عن مد نفوذهم وبسط سلطانهم على غيرهم، ولم يستفيدوا منها إلا الغرور بأنفسهم، وكثرة الدعاوي العريضة بألسنتهم. النساء المسلمات غير مسترقات في مصر، ولا في غيرها، ولا محرومات من التمتع بمحاسن الوجود، وطيبات الدنيا، فأما نساء الفلاحين فأمرهن معروف، وإنهن يشاركن الرجال في كل شيء، ولا يعنيهن طلاب (تحرير المرأة) فيما يقولونه عن النساء المصريات، وأما نساء الموسرين في المدن اللواتي تتوجه إليهن أنظار هؤلاء المحررين، فهن أكثر تمتعًا بزينة الدنيا ونعيمها من الرجال، إلا في أمر واحد فقط، وهو حرية المجاهرة بالفسق، ومعاشرة الرجال ومخادنتهم في الجهر، فالفاسقة منهن لا تفسق إلا وراء الستر، أو في المواخير المعروفة ببيوت السر، ولا تخرج مع خدن لها للتنزه إلا مستخفية، إلا أن تكون مغمولة أو متهتكة. وأما البرقع فهو زي اختارته لنفسها، وزينة تجذب الأنظار إليها؛ لأنه يُظْهِر المحاسن، ويُخْفِي المعايب، وقد اعترف بذلك قاسم أمين، وسبقه إليه الشيخ أحمد فارس الكاتب الاجتماعي الشهير، وقد نظم في البرقع هذين البيتين: لا يحسب الغِرُّ البراقع للنسا ... منعًا لهن عن التمادي في الهوى إن السفينة إنما تجري إذا ... وُضِع الشراع لها على حكم الهوا على أن البراقع كانت في عهد زيارته لمصر ساترة لمعظم الوجه، فكيف لو رأى براقع هذه الأيام التي قلت فيها من مقال سابق: (تلاعبها الأنفاس، وتخترقها أشعة عيون الناس) ؟ وإني لأعجب من المدافعين عن الحجاب كيف يعدون هذه البراقع البيضاء الشفافة من محصلاته،أو متمماته، وما هي إلا من هاتكاته، أو مزيلاته، إلا أن يكون مرادهم رد كل ما يجيء به خصومهم من العبث بعادات الأمة لأجل التفرنج، وزيادة التهتك، كما أني أعجب من اهتمام الآخرين بإزالتها دون غيرها من زينة النساء المدنيات، وهي لا تمنع علمًا، ولا عملاً، ولا صلاحًا، ولا فسادًا، إلا أن يكون مرادهم ترك كل وطني احتقارًا له، واستبدال المشخصات الإفرنجية بالمشخصات الوطنية تعظيمًا لقدرها، أو توهمًا أن تشبهنا بالإفرنج في مشخصاتهم - وهو سهل علينا - يقوم مقام جعل مقوماتنا كمقوماتهم، - وهو ما عَزَّ علينا - فيكون لنا شرف التلهي بقشور مدنيتهم، وقد انحطت هممنا عن اللحاق بهم في لبابها وحقائقها. أو لم يكفهم أننا شرعنا نقلدهم في هذه الظواهر القشرية فتزيّا حكامنا بأزيائهم، وتبعهم الناس بالتدريج المعتاد في مثل ذلك، ثم قلدناهم في الأثاث والرياش والماعون وفي كثير من العادات، وهل كان ذلك كله إلا سببًا لحرف ثروتنا، وانتزاعهم إياها منا، وبعد أن قُضي على صناعتنا، ولم تحل صناعتهم محلها، دع تأثيره في إضعاف ديننا وآدابنا، التي هي مقومات أمتنا، فخرجنا عن كوننا أمة متماسكة بما بينها من الروابط كتماسك البناء المتين، وصرنا كالأنقاض التي لا مالك لها، يأخذها المعمرون فيشيدون بها دورًا جديدة لهم. لماذا لا نعتبر بحال الأمة الإنكليزية التي نالت أعظم سيادة في الأرض بأخلاقها، وصفاتها، وعاداتها، كالثبات، والتروي، والمحافظة على مقومات الأمة ومشخصاتها حتى المفضولة منها، وعدم اقتباس شيء من عادات غيرها، وآدابه، وإن كان أحسن مما عندها، إلا أن يكون بالتدريج البطيء في الزمن الطويل. وجملة القول أن زي النساء المدنيات بمصر هو زي زينة تجذب أنظار الرجال إليهن قلما يوجد زي يفي بهذا الغرض مثله، وهو ليس من الحجاب في شيء، ولعله أبعد الأزياء عن آداب الإسلام وصيانته، فلباس البدويات والقرويات السافرات الوجوه أقرب إلى أدب الإسلام وصيانته منه؛ ولكن الدعوة إلى إزالته بدعوى قبحه - لأنه من الحجاب الضار المذموم بزعم هؤلاء الدعاة، وبروح التفرنج التقليدي الذي يدفعهم إليه - دعوة ضارة مضعفة لمزاج الأمة، صادعة لبنائها الاجتماعي، وإنما تحسن الدعوة إلى تغييره بدعوى مخالفته للآداب الدينية، وشرف الصيانة الإسلامية، وإلى استبداله بزي آخر يجمع بين الجمال والكمال، ولا يُقْصَد به تقليد أحد من الشعوب والأجيال. إن المقلد لا ينفك مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي وأما المطلب الثاني من مطالب أعداء الحجاب - وهو اختلاط النساء بالرجال - فهو الجد الذي يؤبه له، ويهتم به، وحسبك من بيان ضرر الدعوة إليه بروح التفرنج، وأسلوب ذم الحجاب المنسوب إلى الشرع، ما قلناه آنفًا في ضرر الدعوة إلى تغيير الزي، وتأمل في الموضوع نفسه لتدرك ما فيه من الضرر أو النفع. لعل عدد نساء الموسرين في المدن لا يبلغ معشار1/1000 عدد نساء الفقراء اللواتي يبعن في الأسواق والطرقات، أو يخدمن في البيوت، ونساء القرى والبادية وهؤلاء هن اللواتي يوصفن بالحجاب، والجهاد كله في سبيلهن. هذا العدد القليل من النساء يخالط الرجال الأجانب كل يوم في الأسواق، والشوارع، والمتنزهات، وكذا في بعض البيوت، فالنساء المدنيات يشترين بأنفسهن من الرجال كل ما يحتجن إليه من الثياب، والحلي، والأعطار، وأدوات الزينة، حتى ما يستحيا من ذكره، ونرى الكثيرات منهن في ضواحي المدن، ومتنزهاتها يركبن مع الرجال في المركبات، أو يماشينهم في الطرقات، ومنهن السافرة عن وجهها، والمخاصرة لخدنها، وإذا سمعت أخبار بيوت السر من وقائع الشحنة (البوليس) ، أو المختبرين تعلم أن هذه البيوت النجسة كثيرة جدًّا، وأن أخدانها من النساء (المحجبات) ، وعشاقهن من الأفندية، والبكوات، والباشوات، يُعَدُّونَ بالألوف، لا بالمئات، دع ذكر الذين يذهبون بنسائهم إلى أوربة، فيلبسن مدة سفرهن ملابس الإفرنجيات كما يفعل رجالهن، ويجتمعن معهم، أو منفردات عنهم بالرجال في المطاعم، والملاهي، والملاعب، والمراقص، ودع ذكر الذين يُدْخِلون أصدقاءهم من الرجال على نسائهم في بيوتهم، ويأمرونهن بمجالستهم، ومؤاكلتهم وهن حاسرات عن رؤسهن، مبديات لنحورهن، لا سافرات عن وجوههن فقط، بل أقول لك همسًا، ما أخجل أن أجهر به جهرًا: إن المخادنة ذائعة بين التلاميذ والتلميذات. كل هذا كثير شائع في مصر، فما الذي بقي ممنوعًا من اختلاط النساء بالرجال، حتى قام بعض الشبان والشواب ينشدونه ويجاهدون في سبيله في هذه الأيام، التي صدعت بناء الإنسانية أعظم صدع، وحصرت همَّ الشعوب كله في الخوف على استقلالها في الشرق والغرب؟ إنما بقي شيئان اثنان: (أحدهما) أن العرف يحظر على الرجل الأجنبي أن يخلو بامرأة أجنبية من هؤلاء المدنيات (كما يحظر الشرع الخلوة بكل أجنبية بغير عذر شرعي) أو يطلب الانفراد بها بزيارة أو غير زيارة، فمخالفة هذا لا تزال تعد قبيحة في العرف، فلا تقع من غير المتهتكين إلا خفية. (ثانيهما) إن هؤلاء النساء لا يجالسن الرجال في مجالسهم الخاصة في البيوت، ولا العامة في المجامع والملاهي، إلا من شذ. أما إباحة خلوة المرأة بالرجل إباحة مطلقة بغير نكير فلا يكاد يذكرها محاربو الحجاب في مقالاتهم، إذ لا يجدون شبهة يزينونها بها، وإنما يكثرون اللغط في مجالسة النساء للرجال في المجالس الخاصة، والمجامع العامة زاعمين أن ذلك يرقي عقول النساء، ويزيد في علومهن وآدابهن، وهذه أظهر شبهاتهم في هذا الباب، وقد أشرعنا لها طريقًا لا ينكره عرف ولا شرع فيما كتبناه في المجلد الثاني من المنار تقريظًا لكتاب تحرير المرأة، وهو أنه يمكن تحصيل هذه الفائدة بمجالسة النساء في البيوت لمحارمهن من الرجال، كالإخوة، والأعمام، والأخوال، وأولاد الإخوة والأخوات، وبقضاء الأزواج أوقات فراغهم مع نسائهم في البيوت، فلماذا يترك هذا مدعو الحرص على فائدة الاختلاط إن كانوا صادقين؟ وأما المجامع العامة فقلما يوجد في مصر منها ما يفيد النساء فائدة تستحق كل هذا الجهاد، فالمجامع العامة الدائمة هي المعروفة بالقهاوي والحانات، وغير الدائمة منها هي المآتم والأعراس، وقد وجد في البلاد قليل من الأندية الخاصة، وأحاديث الناس فيها كأحاديثهم في الملاهي العامة من كل وجه، ولكن تلقى فيها أحيانًا بعض الخطب والمحاضرات التي لا يفهم بعضها إلا القارئات، وهذه المحاضرات تنشر غالبًا في الصحف، فيمكن لمن يستفدن منها أن يقرأنها فيها، ولا فائدة للنساء في مجامع الرجال سواها، ولكنها لا تخلو من مفاسد. غشيان النساء لهذه المجامع، من أقوى الوسائل لتعرف الفساق بهن وإغوائهم إياهن، والفساق هم الذين يحرصون على هذا الاجتماع بالنساء في الغالب، أما أهل الفضائل والآداب الصحيحة فقليل ما هم، وأكثرهم - ولا كثرة فيهم - لا يحب هذا الاختلاط ولا يميل إليه، فإن وجد فيهم من يرغب فيه للإصلاح الخالص من شوائب الهوى، فمن ذا الذي يعرف هؤلاء الأفراد وهم أندر من الكبريت الأحمر؟ و

الشيخ شبلي النعماني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ شبلي النعماني كان الشيخ شبلي النعماني - رحمه الله وأدام النفع به - ركنًا من أركان نهضة الإصلاح الإسلامي في الهند. ورجال هذا الإصلاح في كل الأقطار الإسلامية أمة وسط بين فريق الجامدين على التقاليد والعادات، التي انتهى إليها أمر جمهور المسلمين بعد فتك التفرق الديني والسياسي بهم، وانتشار البدع والخرافات فيهم، وإضاعة جل ما ترك سلفهم من العلم والمجد التليد، وإعراضهم عن العلم الحديث والمجد الطريف، وبين فريق المتفرنجين الذين أصابوا حظًّا من اللغات الأجنبية، وتلقوا قليلاً من العلوم والفنون الأوربية، فأحدث لهم ذلك غرورًا بأنفسهم، واحتقارًا لأمر أمتهم، فطفقوا يمرقون منها بزلزال عقائدهم وأفكارهم، وتغيير عاداتهم وأزيائهم، فوهت فيهم جميع مقوماتها، ولم يندغموا في أمة من الأمم التي يقلدونها، على أن منهم من يحسبون أنه يمكن جعل أمتهم كلها، مثلهم أو مثلها. المباينة بين الجامدين والمتفرنجين عظيمة، كل منهم يحتقر الآخر ويكرهه، ويعده علة لضعف الأمة وانحطاطها، أولئك يرمون هؤلاء بالكفر والفسوق، ويَنْفرون ويُنَفِّرون منهم ر ومن هذه العلوم والفنون، ويعدونهم آلات الأجانب التي يحللون بها عناصر الأمة ويستعملونها كما يستعملون عناصر الأرض في تنمية ثروتهم، وإعلاء كلمتهم، واستعمار البلاد وجعلها تحت سلطتهم - وهؤلاء يرمون أولئك بالتعصب والجهل، والخرافات والهمجية، التي يجب نسفها لإقامة بناء الحضارة والمدنية، والحق أن كلا منهما مخطئ في شيء، ومصيب في شيء آخر، وله مزايا حسنة، ورزايا ضارة، وأن الأمة لو سارت على رأي كل منهما وحده لم تكن عاقبتها إلا الانحلال والهلاك. وأما حزب الإصلاح، فهو وحده محل الرجاء؛ لأنه يُقَدِّر مزية كل من الحزبين قدرها، ويعرف منافعه ومضاره، ويريد أن يكون معقد الارتباط والاتصال بينهما بإرجاع كل منهما عن خطئه، والسير بالأمة في طريق تحفظ به مقوماتها ومشخصاتها، وتعيد الموروث النافع منها إلى جدته، وتندرج في استبدال النافع بالضار منه، وتقتبس من علوم العصر وفنونه وصناعاته ما لا تقوم لأمة قائمة في هذا العصر بدونه، وليس هذا المقام مقام شرح الإصلاح، ولا بيان أحوال الأحزاب الثلاثة، وإنما ذكرنا هذا لبيان مرادنا من قولنا إن فقيد الإسلام في الهند كان ركنًا من الإصلاح الإسلامي. ولم يكن طلاب الإصلاح إلا أفرادًا من الناشئين في بيت حزب الجمود أو حزب التفرنج، هداهم الله تعالى باستعداد في فطرتهم، وتوفيق في سيرتهم، إلى معرفة الطريقة المثلى لصلاح أمتهم، وكان المعقول أن يكون رجال العلم الديني أقدر على أهل الجمود منهم على المتفرنجين، ولكن كثر ما كان الأمر على غير ذلك؛ وسببه أن كبراء الجامدين من الشيوخ هم أشد حسدًا وبغضًا للمصلح الديني من غيره، فلهذا لم يتم للشيخ شبلي ما كان يريد من الإصلاح في ندوة العلماء، وكان أدنى الناس إلى مساعدته المتدينون من كبراء الدنيا كأميرة بهوبال، وقد أخبرني رحمه الله تعالى أن الأمير الجواد، الذي تفاخر به الهند أمراء المسلمين في جميع البلاد، النواب محمد علي راجا محمود آباد، عرض عليه مبلغًا كبيرًا من المال يدفعه سنويًّا لمدرسة ندوة العلماء بشرط جعلها للمسلمين كافة كمدرسة عليكرة لا خاصة بأهل السنة، وهذا باب عظيم من أبواب الإصلاح ما كان ليشايعه عليه المتعصبون من أعضاء الندوة؛ فلذلك اعتذر للأمير بأن هذا عمل ما حان وقته. وأما الأميرة المحسنة التقية صاحبة بهوبال، التي جعلها الله تعالى بعد المصلح العظيم السيد صديق حسن خان، نصيرة العلم وخادمة الإسلام، فقد كانت ظهيرة للشيخ في جميع ما يخدم به الدين والعلم من الأعمال، وإننا ننشر هنا نص كتاب جاءنا منه، يشير إلى ما كان من صلتها وصلتنا به، وهو: إلى حضرة السيد المحترم ... ... ... متع الله المسلمين بطول بقائه بعد التحية والسلام إني لم أزل أقرأ في الجرائد ما تبذلون من السعي في تأسيس دار العلم والإرشاد، وهذه هي بغيتنا التي كنا ننشدها نحن أهل الندوة، فجعل الله سعيكم مشكورًا، وتوج عملكم بالنجاح، طالما تاقت نفسي إلى زيارة مصر للقائكم، ولكن هيهات فإني قد قُطِعَتْ إحدى رجلي لرصاصة أصابتها فبقيت جليسًا [1] للبيت غير قادر على تحمل أعباء الرحلة والسفر، والأمر الذي دعاني الآن إلى إرسال النميقة أن الأميرة سلطان جهان (بيكم) صاحبة إيالة بوفال [2] خرجت راحلة إلى لندرة للحضور في حلفة تتويج الملك جرج، وهي تريد زيارة البلاد الإسلامية، وتصل في مصر في شهر رمضان. وهي من عظماء بلادنا أعطت مائة ألف روبية لتكميل كلية عليكده، وعينت ثلاث مائة روبية جراية شهرية لندوتنا، وكم لها من أمثال ذلك. ولها شدة عناية بتربية عائلتها؛ ولذلك أرادت أن تجلب إحدى المعلمات المسلمات من مصر المحروسة، وقد كتبت إليَّ أن أكون مساعدًا لها في إنجاح هذا الأمر، فالمرجو من حضرتكم أنها لما تصل إلى قاهرة [3] وتستدعي من حضرتكم الاستشارة والاستعانة، فافعلوا ما يليق بكم من إكرام مثل هذا الضيف الكريم العديم المِثْل، والفضل لكم [4] . ... ... ... ... ... ... ... ... ... شبلي نعماني ... ... ... ... ... ... ... ... في 7 مايو سنة 1911 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ندوة لكهنؤ هذا وإن الفقيد رحمه الله تعالى قد اشترك بالمنار من أول العهد لظهوره، وكان مواظبًا على قراءته معجبًا به، وقد كان له من حسن الظن بصاحب المنار ما حمله على دعوتنا لرئاسة مؤتمر ندوة العلماء السنوي رجاء زيادة إقبال مسلمي الهند على هذا المؤتمر، وما يتبع ذلك من تعضيد الندوة ومساعدتها، وهذا نص كتابه الأول في ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة الفاضل الأستاذ مولانا رشيد رضا أطال الله بقاءه. لا يخفى على أمثالكم أن إغارات جرجي زيدان على أعراض العرب في كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي) أكثر من أن تحصى، وإن كل ما دسَّه وَموَّه به لا أصل له أصلاً، وحين اطلعت على ذلك كاد قلبي أن يتميز من الغيظ غير أني صبرت وأمعنت النظر فيما له نظر، ولما عيل عني الصبر ونأى، قمت على ساق، وألفت رسالة أكشف فيها دسائسه، وهي الآن تطبع، وأريد إرسال ما فُرغ من طبعه منها إليكم لكي تدرجوه في جريدتكم، وكذلك إلى الفراغ منها بأسرها. ومما أنهيه إليكم أن ندوة العلماء في كل عام تعقد محفلاً عامًّا يحضر فيه الخاص والعام، والأمراء والنواب وأهل الحل والعقد، ويكون انعقاده عامنا هذا في أول إبريل سنة 1913، فنحن معشر المعتمدين والآراكين نهوى ونود من صميم قلوبنا أن يكون صدر [5] هذا المحفل العظيم، وواسطة عقده النظيم حضرتكم الشريفة، فإن تشرفونا بالقدوم علينا في الهند، تهرع أهل البلاد الشاسعة إلى هذا المحفل الإسلامي على كل ضامر من كل فج عميق لمقدمكم المبارك إن شاء الله تعالى، ويحصل بعون الله لكم ما أنتم بصدد الاجتهاد فيه من إظهار مقاصد مجلس التعليم والإرشاد، ويعظم بذلك محفل ندوتنا، ويُقَدَّر قَدْرَه، وفي طي رقيمي هذا، أُرسل إليكم خطبة والي الهند، وعميدها؛ فيظهر لكم منها أن الدولة البريطانية لها عناية تامة بندوة العلماء، ولولا ذلك لم تعين لها في كل شهر خمسمائة روبية من خزائنها، فإن عزم جنابكم على تشريفنا بما اقترحناه فلا عليه أن يلاقي سفير الدولة البريطانية في مصر المحمية، وينهي إليه خطبة والي الهند وعميدها في حق ندوة العلماء، وعريضتها عند قدوم الملك المعظم مع ملكته المعظمة قاعدة الهند دهلي، لكي يكون على علم ويستحسن قدومكم علينا، وإن أمكن منكم طلب الإجازة بذلك مرقومة فيها فنعم ذلك، ودمتم أفندم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شبلي نعماني ... ... ... ... ... ... ... 5 جنوري (يناير) سنة 1913 ... ... ... ... ... ... ... ... ندوة العلماء - لكهنؤ جاءنا هذا الكتاب ونحن نستعد لفتح مدرسة (دار الدعوة والإرشاد) فكان المانع من إجابة هذه الدعوة أرجح من المقتضي، إذ كان لا بد من السفر بعد فتح المدرسة بشهر أو أقل - وأنا ناظر موظف لها، والروح المدبر في تأسيسها والقيام بها، ولكن أعضاء مجلس جماعة الدعوة والإرشاد رأوا أن رحلتي إلى الهند خير لمشروعنا؛ لأن إشهاره في مثل ذلك المؤتمر العظيم فقروا في جلسة رسمية إجازتي وإعانتي على ذلك. اقترح الشيخ رحمه الله تعالى عليّ أن أسافر بإجازة من عميد الدولة الإنكليزية هنا، وأرسل إليّ خطبة حاكم الهند العام، الذي ذكر ندوة العلماء بخير لأتوسل بها إلى هذه الإجازة، فكان هذا من بعد نظره وغور فهمه للسياسة، وكان مراده أن تكون هذه الإجازة كتابية فلم يتيسر ذلك، فلقي الشيخ من إنكار والي لكهنؤ عليه دعوتي إلى رياسة مؤتمر الندوة ما لقي، وأمكنه إرضاؤه بما كان أعده لذلك من الحجج، ومنها ما كتبه لورد كرومر في تأبين شيخنا الأستاذ الإمام من مدح حزبه، وخطبة للدكتور مرجليوث الأستاذ الشهير في مدرسة أكسفورد ذكر فيها رأي صاحب المنار في الجامعة الإسلامية بكلام مرضي، وثناء حسن. ونحمد الله أن حقق ظن الشيخ رئيس الندوة، وأعضائها الكرام فينا، إذ كان الإقبال على المؤتمر في ذلك العام مما لم يسبق له نظير من قبل، ورحم الله الشيخ شبليًّا، وأحسن عزاء المسلمين عنه.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (خواطر في القضاء والاقتصاد والاجتماع) بقلم فقيدِ العلم والعمل والجد المرحوم علي أبي الفتوح باشا وكيل نظارة المعارف العمومية المصرية، طبعه بإذن المؤلف نجيب أفندي متري صاحب مطبعة المعارف بمصر في سنة 1331هـ - 1913م على ورق جيد طبعًا نظيفًا فجاءت صفحاته 360. الكتاب مجموعة مقالات كانت متفرقة في الجرائد والمجلات العربية وغير العربية، فجمعت في حياة كاتبها، ومر عليها فأصلح فيها ما أراد، وزاد في بيان المراد، وهو يطلب من ناشره، ومن مكتبة المنار بمصر. جملة مسائل الكتاب مما اشتغل به مؤلفه علمًا وعملاً، فجاءت وافية واضحة مفيدة، ونحن ننقل طائفة عنه من مقالة (الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية) قال: (يظن كثير من الناس حتى من المسلمين أنفسهم أن المبادئ المقررة في الشريعة الغراء لا توافق هذا الزمان الذي بلغ فيه الإنسان من المدنية والحضارة درجة رفيعة، ويتوهمون أن الأحكام والروابط التي في القوانين الحديثة الوضعية لا مقابل لها في الأصول الإسلامية، وأنها بمثابة الاختراعات المادية الجديدة التي أنتجها فكر علماء الغرب لم يسبقهم بها أحد. ولكن الباحث في الفقه الإسلامي ولو قليلاً، لا يلبث أن يغير هذا الظن، ويتحقق من أن أسلافنا بلغوا في الرفاهة وتقرير المبادئ العمرانية والاجتماعية والقضائية شأوًا قلما يجاريهم فيه أحد، إلا أن صعوبة كتب المتأخرين، وكيفية تأليفها، والتواء أساليبها، وتعقيد عباراتها، قد أوصد الباب في وجه من يريد الوقوف على حقيقة الشريعة الغراء من غير المنقطعين لدراستها. ولذلك فإني أشير على من يسلك هذا الطريق أن يقصد المؤلفات القديمة لأنها أسهل موردًا، وأغزر مادة مع خلوها من التعقيد، وتنزهها عن المشاغبات اللفظية، وليترك هذه الكتب الحديثة للمنقطعين لفهمها بدون ملل، ولا حساب للوقت. أذكر هذا على إثر مطالعتي لكتاب الخراج للإمام أبي يوسف المتوفى سنة 182 هجرية، وقد أُلف هذا السفر الجليل برسم أمير المؤمين هارون الرشيد وفيه من النصائح والأحكام ما يجدر بأمراء المسلمين اتباعه والعمل به. عثرت في هذا المؤلف الصغير الحجم على درر كثيرة عمدت إلى نظمها في هذه المقالة، حتى يرى المسلمون ولا سيما المشتغلين منهم بالقوانين الإفرنكية أن المتقدم لم يترك شيئًا للمتأخر، ولعلهم ينكبون على دراسة الشريعة والآداب الإسلامية؛ لأنهما لا ينافيان العصر الحاضر، ولا المدنية الحديثة؛ إذا فهما حق الفهم ودُرسا بعقل وتمييز. وما أجدر الحكومات الإسلامية باستنباط قوانينها وأحكامها من الشريعة مع اختيار القول الأكثر مناسبة للزمان والمكان؛ لتكون هذه القوانين والأحكام أكبر احترامًا في النفوس، وأشد موافقة لأخلاق وعادات من وضعت لهم. ثم أتى بوجوه قانونية وبنود وافقت فيها القوانينُ الوضعية الفقه الإسلامي. *** (كتاب الأنساب للسمعاني) تأليف أبي سعيد عبد الكريم السمعاني، نقله الأستاذ مرغوليوث أستاذ العربية في جامعة أكسفرد بالفوتغرافية عن نسخة محفوظة في المتحف البريطاني، وطُبع سنة 1912 على ورق من أجود الورق على نفقة (تذكار جب) وصفحاته تزيد على 1600 صفحة بالقطع الكبير. وضع السمعاني كتابه هذا في القرن السادس الهجري، فكان عمدة المؤرخين والمحدثين، وقد ذكر في مقدمته فضل علم الأنساب، وجاء بالآيات والأحاديث في ذلك، وعقد فصلاً للحث على هذا العلم، وقد زاد الأستاذ مرغوليوث هذا المعنى إيضاحًا إذ وضع للكتاب مقدمة وجيزة باللغة الإنكليزية بَيَّنَ فيها المراد بعلم الأنساب، واشتهار بعض الأعلام من المحدثين بأنسابهم كالبخاري والترمذي والنسائي مما دعا إلى تعريف الرجال بأنسابهم. وقد ساعد المستر ألسن الأستاذ مرغوليوث، فوضع في هوامش الكتاب دوائر صغيرة قبالة كل سطر، تبتدئ فيه ترجمة أحد المترجمين فأفاد، ولولا ذلك لما أغنى كتابة أكثر الأسماء المترجمة بخط ثخين؛ لأن ذلك لم يلتزم في جميع صفحات الكتاب، إذا لم يكن من نسخ ناسخ واحد، بل يظهر أنه تعاقب عليه عدة نساخ، وخطه دقيق ملزوز بعضه إلى بعض، وينقص بعض كلمه النقط فنتمنى لو يطبع ثانية بالحروف المطبعية بعد مقابلة هذه النسخة بغيرها من النسخ الواضحة الصحيحة كالنسخة التي رآها صاحب المنار في لكنهؤ بالهند فتعم فائدته، فنحن أحوج إلى هذا الكتاب ممن تولوا طبعه، وأحق بإحياء مآثر أسلافنا، وإننا نشكر للأستاذ مرغوليوث هذه الهدية النفيسة كما نشكر لجمعية (تذكارجب) إحياءها هذا الكتاب، وغيره من آثار العرب. *** (شرح السيرة النبوية رواية ابن هشام) طبع هذا الكتاب بمطبعة هندية بمصر سنة 1329، وكتب في طرته ما تقدم، وأنه مطبوع بإرادة (إمبراطور ألمانيا وملك بروسية وملك ورتمبرج) تأليف الشيخِ الإمامِ الحافظ المحدث الفقيه أبي ذر محمد بن مسعود الخشني، استخرجه وصححه بولس برونله، وأبو ذر هذا اسمه مصعب بن محمد كما في القاموس، وهو من علماء الأندلس أخذ عنه الشريشي شارح مقامات الحريري، وكتابه هذا أمالي أملاها في شرح غريب السيرة، وجعله عشرين جزءًا، وكان ينبغي أن تسمى فصولاً، لا أجزاء، وقد طبع طبعًا جيدًا في جزأين من قطع أصغر من المنار، وجعلت أرقام صفحاتها متصلة فيحسن أن يجعل مجلدًا واحدًا فيكون مؤلفًا من 466 ص، وثمن الكتاب عشرة قروش، ويطلب من مكتبة ديمر بمصر. *** (رجال المعلقات العشر) تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني، أستاذ اللغة العربية في مدرستي المكتب السلطاني، والكلية العثمانية في بيروت، وطبع بالمطبعة الأهلية في بيروت سنة 1330 على ورق جيد طبعا نظيفًا، وصفحاته 360 بالقطع المتوسط، وثمنه 12 قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. الكتاب مصدر بمقدمتين، أولاهما: في خلاصة تاريخ العرب قبل الإسلام والثانية في خلاصة تاريخ أدب اللغة العربية في العصر الجاهلي إلى اليوم، وصفحات المقدمة الأولى 16 صفحة، والثانية 30 صفحة، ثم الكلام على رجال المعلقات بالتفصيل، ويتضمن سيرة الشاعر وموته والكلام على شعره ومعلقته وسبب نظمها ونخبة من شعره، وقد ضمنت من الفوائد اللغوية والتاريخية والأدبية ما لا يوجد في غيره، وقد جعله لتلاميذ السنة الرابعة والخامسة في المكاتب السلطانية، والسادسة والسابعة في المكاتب الإعدادية، أو ما يضاهي هذه السنين في المدارس الأهلية. *** (الحنين إلى الأوطان) نشرنا نبذة منه في هذا الجزء وسنقرظه فيما يليه إن شاء الله.

اللغة العربية أقدم اللغات الشرقية وأم المدنية المصرية والبابلية ـ 1

الكاتب: أحمد كمال

_ اللغة العربية أقدم اللغات الشرقية وأم المدنية المصرية والبابلية كنا نستدل على عراقة العرب في المدنية بما روى لنا التاريخ القديم من استعمارهم لمصر في عهد دولة الرعاة (الهكسوس) وغيرهم، واستعمارهم قبل ذلك للعراقين، وما كان لنا في ذلك إلا علم إجمالي، ثم جاءنا علماء العاديات (الآثار القديمة) بالاكتشافات والتحقيقات التي خرجنا بها من حيز العلم الإجمالي إلى حيز العلم التفصيلي، وكان أعظم ما اكتشفوه في حفائر العراق شريعة حمورابي (ملكي صادق) الموصوف في العهدين القديم والجديد بأنه ملك البر، وملك السلام، وكاهن الله العلي، ومن أخبار سفر التكوين أنه بارك على إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وعلى آله، وأن إبراهيم أعطاه العشور، وقد بين هؤلاء العلماء أن شريعة حمورابي كانت عربية، وهي أقدم شريعة من الشرائع التي عرفها التاريخ، وقد زعم بعض علماء الألمان أن التوارة مقتبسة منها (راجع المجلد السادس من المنار) . وقد نشرنا في المجلد الخامس عشر (سنة 1330) خطابًا طويلاً في اللغة العربية لجبر أفندي ضومط أستاذ العلوم العربية في القسم العالي من المدرسة الكلية الأمريكانية ببيروت ألقاه في الاحتفال السنوي لسنة 1911، ثم أتحفنا به، وموضوعه (بحث تاريخي فلسفي في مواطن العربية المضرية، ونسبتها إلى أخواتها من اللغات السامة) ، ومما جاء فيه أن العلّامة رونسن المؤرخ الأثري يُرَجِّح أن المدنية المصرية القديمة لم يكن منبتها مصر، بل جاءتها من العراق، وبلاد العرب (المنار ص 116 م 15) ، وأن الباحثين اتفقوا على أن لغة الآشوريين، وقدماء البابليين واحدة، وأن الآثار البابلية تثبت أن الناطقين باللغة السامية هنالك لم يكونوا من أهل البلاد الأصليين، وإنما جاءوها من مكان آخر، وتغلبوا على أهلها الذين كان لهم مدنية عظيمة إذ كانوا غزاة فاتحين، ثم ترجموا الكثير من آداب أهل البلاد بلغتهم السامية، والظاهر أنهم كانوا من جزيرة العرب (المنار ص 117 م 15) . ثم بَيَّن أن اللغة العربية هي أم اللغات السامية وسيدتها، وأن أرومتها الأولى كانت في اليمن، وحضرموت، وعمان، وأنه انشعب منها فرع إلى بلاد بابل بالعراق فانقسم إلى شعبتين بدوية وحضرية، وأن بعض العمالقة والعاديين من قدماء العرب هاجروا إلى سورية - بعضهم هاجر من العراق لَمَّا اضطهدهم النماردة، وبعضهم هاجر من جزيرة العرب بقصد التجارة والاستعمار - كما هاجر غيرهم من إخوانهم إلى شطوط أفريقية فكان منهم الأمهرية والحبشة - (قال جبر أفندي ضومط) ومن هؤلاء المهاجرين كان العِبْرَانيون، وأمم الشام من الكنعانيين والفينيقيين، وعليه تكون العِبْرَانية، والفينيقية، والعربية (أي المضرية) شعبتين من الفرع العادي، والحمرية، والحبشية من الفرع القحطاني (المنار ص 199م 15) . أقول: فعلى ما تقدم يكون كل من مدنية العراق وسورية ومصر عربي الأصل ثم تولد من ذلك الأصل فروع استقلت واختلفت باختلاف الدول والملل، حتى جاءالإسلام فأرجع تلك الفروع كلها - ما قرب منها عن أصله وما بعد - إلى الفرع المضري، فكأنه عمد إلى أفراد عشيرة كانوا متفرقين متباعدين يحسب كل منهم أنه أجنبي عن الآخر فجمع بينهم، فعادوا إلى الوشيج الجامع فكانوا أسرة واحدة. لكن علامة الآثار، والعاديات المصرية، وإمام اللغة الهيروغليفية في مصرنا الآن أحمد بك كمال أمين دار الآثار المصرية أظهر لنا من الاتحاد بين اللغة العربية واللغة المصرية القديمة ما لم يكن في الحسبان، فقد ألف قاموسًا كبيرًا أورد فيه ألوفًا من الكلمات الهيروغليفية الموافقة للغة المضرية في الغالب - إما موافقة تامة وإما موافقة بضرب من التحريف، أو القلب، والإبدال المعهود مثله في اللغتين، ومن المعلوم أن المدنية العربية القديمة كانت في العاديين والقحطانيين سكان حضرموت، واليمن، وهم الذين استعمروا مصر، والعراق، وسورية، وقد ضاع أكثر لغتهم، ولعلها لو دونت كاللغة المضرية لفسرت لنا من اللغة المصرية القديمة ما لم يُفَسَّر إلى اليوم، حتى فيما نراه يخالف منها المضرية بتحريف، أو قلب، أو إبدال. وكان المشهور عن أحمد بك كمال أنه يرى أن العربية أصل للغة المصرية القديمة المدونة بالقلم الهيروغليفي، ومن لوازم هذا أن أصحاب تلك المدنية كانوا من العرب، ثم إنه رأى نصًّا يدل ظاهره على أن العرب أنفسهم، أو بعضهم من المصريين، فأخذ بظاهره حملاً له على الصدق، وبنى عليه محاضرة ألقاها في مدرسة المعلمين الناصرية في العام الماضي، وذلك النص ما وجد منقوشًا في الدير البحري (مكان بجهة الأقصر) في زمن الدولة الثامنة عشرة (كان زمنها من سنة 1600-1380ق م) ، وهي أرقى دول مصر، وفيه أن المصريين الأولين اشتهروا باسم الأعناء، ولم يبين النص أصلهم، ولا من أين جاءوا، ولكنهم استعمروا الجهة الجنوبية من مصر، وأسسوا المدن بأسمائهم وفيه أن بعضهم هاجر إلى القيروان، وتونس والجزائر، وبعضهم إلى أواسط أفريقية، والصومال، وبعضهم قطع البحر الأحمر إلى بلاد العرب، وانتشر فيها، وسار من هناك إلى جنوب فلسطين، وأُطلق على كل عنو من أولئك الأعناء المهاجرين اسم مُرَكّب تركيبًا إضافيًّا، فصار يقال أعناء كذا، وأعناء كذا ... ولفظ (أعناء) عربي معناه الأخلاط من الناس يكونون من قبائل شتى. أما نحن فنرى أن ذلك النص ربما كان عن عقيدة تقليدية وهمية بأن مصر الموطن الأول للبشر، والأصل الذي تفرعت منه الشعوب والأمم، ويُنْقَل مثل هذا عن قدماء الهنود والصينيين، فهذه تقاليد متعارضة ليس لنا عليها دليل عقلي، ولا نقلي للترجيح بينها، فنجري فيها على قاعدة تعارضت فتساقطت، على أن أولئك الأعناء المجهول أصلهم يجوز أن يكونوا من العرب، وأن يكون من هاجر إلى جزيرة العرب منهم عاد إلى بلاده، وبهذا يجمع بين هذا القول، وقول العلامة رونسن الذي رجح كون المدنية المصرية الأولى قد جاءت من بلاد العرب والعراق، والأمر المتيقن عندنا الآن هو أن لغتنا العربية الشريفة هي لغة قدماء المصريين ومظهر مدنيتهم، ونتيجته أن قدماء المصريين من العرب، أو العرب منهم، فهم أمة واحدة، وكذلك السوريون والعراقيون كما تقدم. وقد رغبنا إلى أحمد كمال بك أن يتحفنا بفصول ملخصة من قاموسه الذي أشرنا إليه، فتفضل بالإجابة وجعل الفصل الأول في بعض الحبوب والنبات وهذا نصه. مقارنة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*] (1) (في بعض الحبوب والنبات والأشجار والأثمار المصرية) وفيه استطراد إلى كلمات أخرى بُر: البر القمح الواحدة بُرّة. قمح: هو اسم عندهم للقمح والخبز، ويميز بينهما برسم النبت عند نهاية الكلمة في الأول، والخبز في الثاني [1] . وجد الكثير منه في المقابر المصرية، فحفظ بالمتاحف، واختبرت حبوبه في الزراعة فلم ينجح، وقد اختبر الكيماويون بعض هذه الحبوب، فوجدوها مدهونة بطلاء حافظ لها على مرور الدهر، ووجد (شُوَينْفُورْت) قمحًا أصغر في الحجم من قمحنا المعروف، وهو يشبه القمح البحري، وكان يُستعمل في الطب والغذاء. حِنت: حنطة هي البر- ج حنط. (بُد) بض بياض: وكلمة البيضاء تطلق في العربية على القمح. فُمو: الفوم هو الحنطة، وقد ذكر في القرآن الكريم. جل: (والجيم تقلب غينا) غلة - ج غلال. شِرت ق سِريْت: سُلت - هو الشعير أو ضرب منه، والشين تقلب سينًا بالمصرية فيقولون شلم بمعني سلّم، واللام تقلب راء، وبالعكس. الشعير عندهم صنفان أبيض وأحمر، ويصنع منه الخبز والجعة، ومن خبزه ما هو محفوظ في المتحف المصري بالقاهرة، ووجدت حبوبه في مقبرة كاهون بالفيوم من عصر العائلة الثانية عشرة؛ لكن حبه أصغر من شعيرنا الآن وكانوا يتخذون من سوقه مزامير. تُرا: ذُرة. بُول: فول - لأن الباء تقلب فاء، كفيوم أصلها بيوم أي اليمّ، وكفأى أصله عندهم بأى. قال هيرودوت في كتابه الثاني: إن المصريين لم يزرعوا الفول في أرضهم، فإذا خرج فيها لم يأكلوه لا نيئًا، ولا ناضجًا، وإن قسوسهم لا يستطيعون النظر إليه؛ لأنهم يرون أنه نجس، ومع ذلك فقد ورد عنهم أنهم كانوا يجففونه، ويحفظونه بدليل قولهم (فول هاف) أي جاف، لأن فاء الكلمة مقلوبة عن الجيم، فلا بد وأن يكون قول هيرودوت هذا غير صحيح، إذ الفول كان ولا يزال من الأغذية المصرية إلى هذا اليوم. عرشان ق. أرشان: بُلسُن واحدته بلسنة. بُلَس. بُلُس:عدس. كمنن: كمون. سَنُّوَت سنوت وهو الشمار أو الكمون. رمان حرمان، إرما - الرّمان. ق. أرمان.ع ريمون، وبالبربرية - أرمون. شجر دخل مصر في عصر العائلة الثامنة عشرة وقت انتشاب الحرب العظيمة مع أهل آسيا في عهد الملك أحمس وقد وجد مع اسمه مرسومًا في صورة البستان التي زين بها (آنا) جدر حجرة قبره بطيبة، وهو الذي توفي أيام (تحوتمس) الأول الذي كان أول فرعون تجول في بلاد الشام، وأخضعها لحكمه، وعليه ربما كان هذا الملك أول من جلب لبلاده هذا الشجر فغرس في البساتين، وهذا لا ينافي معرفة المصريين لاسمه من قبل، وما وجد في المقابر منه أصغر حجمًا من نوعه المعروف الآن فهو شبيه برمان طور سيناء، وكان يُستعمل قشره لقتل الدود، واستعمله القبط للحكة، وصنع منه المصريون شرابًا في عصر الرمسيسيين. دُبَح: دبحو، ضبحي: تفاح - ق. جبح. وهو الشجر المعروف بحسن فاكهته، ويكثر اسمه في القرابين التي يذكر فيها الرمان والزيتون والتين، وتدل النصوص على أن وجوده في أرض مصر كان في عصر العائلة التاسعة عشرة. نُزا لوز: وكذا في العبرية والحبشية ونونها تقلب لامًا، كما في نقب ولقب فالأول مصري، والثاني عربي. بَنرى: لا يزال يعرف في بعض الجهات بالبنور وصحته بَرْني اسم للنخلة وللتمر، ويقال تمر بَرْني ولا تكاد الإضافة تكون في البرني لأن البرني هو التمر وقد ذكر في قول الشاعر: باتوا يعشون القُطَيعاء ضيفهم [2] ... وعندهم البرني في جُلَل دُسم أمَم: عَم عِم ج عمومة، أعُم، أعمام، أعمة - نخل طوال. والألف تنوب عن العين في كثير من الكلمات. عَوَنَت عوانة: نخلة طويلة حُن حُون أهان ج أهنة وأهُن: عرجون التمر ما فوق الشماريخ، والهناء عذق النخل (فالهاء فيهما بدل من الحاء لقرب مخرجيهما) . طمأروي جمار النخل - الجيم والطاء يتناوبان في المصرية كقولهم: طُرًّا بمعنى كُلاًّ، وهاتان الكلمتان مصريتان عربيتان. سر: سلاء ج سلاءة، وأسل الواحدة أسلة: شوك النخل (الراء بدل اللام) ق سوره سوري. زدوتو الزيتون ق جويث جيت. ع. زيت. زِت: زيت وكان يستعمل للإضاءة خصوصًا في المعابد. وجد الكثير من أكاليل الزيتون على رءوس الموتى التي لا يتجاوز تاريخها العائلة المتممة للعشرين، وعليه يظن أن الزيتون لم يغرس في ديار مصر قبل العائلة الثامنة عشرة؛ لكن وجد مذكورًا في نصوص هرم الملك (تبتي) فهو معروف من عهد بناء الأهرام أو قبل ذلك. كرَمَا: كنم: كرم ج كُرُوم، وبالعبرية كرم كامو: كرّام - صاحب الكرم والمعتني به، وأصله كارمو فسقطت منه عين الكلمة لأن الراء والنون واللام تسقط في كثير من الكلمات. ق جمي جمه كارٌج كاريو: أكارج أكرة وأكارون أي حرّاث من أكر الأرض أكرًا وأكره حفرها، وجاء في المصرية والعربية أيضًا: مَنَ: مان الأرض شقها للزراعة، والاسم منه. مَنِ: أُمان: مزارع ويقال أيضًا: سق: شق الأرض، أي فلحها، والسكة الحرث. ق إسكاي. إسخاي. باث: باث (المكان) يبوثه بوثًا حفره باي: فأى فأو

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 6

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (6) (4) اللحم: يؤخذ هذا الصنف من الطعام من الأنعام، والطيور، والحيوانات البحرية، والمعتاد أكله من الحيوانات البرية هي التي لا تأكل اللحم لحكمة ستظهر في الكلام على الديدان المعوية فيما يأتي إن شاء الله. واللحم نوعان: اللحم الأبيض، واللحم الأحمر، فمثال الأول لحم الأرانب، ومثال الثاني لحم الضأن، والأبيض أسهل هضمًا من الأحمر؛ ولكن الأحمر أكثر تغذية لاشتماله على جزء من مادة الهيموجلوبين فتكثر الدم، واللحم يشتمل على جميع الأجزاء الضرورية للجسم تقريبًا، ففيه الماء، والزلال ونحوه من المواد الآزوتية كالجلاتين، والزنثين (xanthin) [1] ، وغيرهما، وفيه أيضًا الدهن والمواد الكربوهيدراتية: الجليكوجين، وسكر العنب، والإينوسيت Inosite [2] وفيه أيضًا أملاح عديدة منها فسفات البوتاسيوم، وملح الطعام، وغيرها، وكل هذه المواد تختلف مقاديرها باختلاف الحيوانات المتنوعة، وهي توجد بكثرة عظيمة في لحم الدجاج، فهو أكثرها تغذية، وفي اللحم أيضًا حامض الساركولكتيك (Sarcolactic [3] إذا كان جديدًا فلذا ينفع في الإسكربوط، ويوجد في الخنزير الشحم بكثرة تفوق سائر أنواع اللحوم الأخرى، فلذا كان أعسر اللحوم هضمًا؛ لأن الشحم فيه يحيط بأليافه العضلية؛ فيحول دون وصول العصارات الهاضمة إليها فيتعب المعدة والأمعاء، وقد يحدث منه القيء أو الإسهال، وربما هيأ الزائدة الدودية للالتهاب؛ ولذلك تكثر إصابتها به في بلاد الإفرنج؛ فإن فساد الهضم من أسباب هذا المرض. وكثيرًا ما تكون الحيوانات مصابة بأمراض متعددة مثل الدرن [4] ، والجمرة الخبيثة، وأنواع كثيرة من الديدان سنذكرها تفصيلاً فيما يأتي، فلذا يجب أن يكون الحيوان المأكول سليمًا من كل مرض، ويجب أيضًا طبخ اللحم جيدًا حتى نقتل فيه الميكروبات، وأكياس الديدان بقدر الإمكان , وأضر ديدان تنشأ من أكل اللحوم هي الديدان التي تنشأ من أكل الخنزير، وهذه حكمة أخرى في تحريمها، ولا يتوهمن القارئ أن الطبخ يزيل جميع أضرار اللحوم المريضة، فإنه إذا قتلت الميكروبات بسبب شدة الحرارة بقيت سمومها، وكلما اشتد الطبخ للتأكد من قتلها زاد تجمد المواد الزلالية، وعَسُر هضمها، على أن الطبخ قد لا يقتل بعض ميكروبات الدرن التي تكون في باطن اللحم؛ لأنه موصل رديء للحرارة. أما لحوم الحيوانات البحرية فمن أسهل اللحوم هضمًا، وقد لوحظ أن الناس الذين يأكلونها بكثرة أقوياء البينة أصحاء، إلا أنه قد يصاب بعضهم بالجذام فلذا ظن بعض الأطباء أن الاقتصار على أكل السمك، أو الإكثار من أكل الفاسد المتعفن منه كالفسيخ مما يهيئ الجسم لقبول هذه المرض الخبيث؛ ولكن ذلك لم يثبت إلى الآن. ومن أنواع الحيوانات البحرية، الحيوانات ذوات الأصداف كالبطلينوس، وهي سهلة الهضم جدًّا، غير أن ميكروب الحمى التيفودية قد يوجد فيها. ومن أنواعها أيضًا السرطان البحري ونحوه، وهي لكثرة أكلها المواد القذرة تضر آكليها بذلك وبشدة عسر هضمها، وأجود أنواع السمك هو الذي يصطاد حيًّا من المياه الجارية النظيفة، والسمك سريع الفساد، فلذا يجب أن لا يترك زمنًا طويلاً بل يؤكل غضًّا غريضًا، ويعرف السمك الغريض (الطازة) بيبس لحمه، وبانتصاب ذيله، والسمك الفاسد المتعفن هو من أضر المأكولات؛ فإنه يتولد فيه من الفساد بعض مواد سمية آزوتية تسمى (Ptomaines) [5] ، وهي شديدة الخطر حتى أن كثيرًا من الناس قُتلوا بسبب أكلهم السردين والفسيخ، ومن لم يمت منهم قد يصاب بالدوار، والصداع، والإسهال، أو القيء، وغير ذلك. أما البطارخ (وتسمى الصُّعْقُر وهي عبارة عن بيض السمك) فهي أقل فسادًا من لحمه، وهي مغذية محرضة لشهوة الطعام، ويشترط أن لا يُكْثِر الإنسان من أكلها في المرة الواحدة، وقيل إن أكلها يمسك البطن، ويمنع الإسهال. والأسماك ذوات الحرشف هي غالبًا ألذ طعمًا، وأسهل هضمًا من التي لا حرشف لها لكثرة دهنها، وقذارة المياه التي تعيش فيها، ولذلك حرمت التوارة أكل ما ليس له حرشف (راجع سفر اللاويين 11: 9 - 12) ومن أسماك الأنهار ما يكون سببًا في إصابة الإنسان بدودة شريطية كما سيأتي تفصيله. ويقال إن أكل الأطعمة الحيوانية الفاسدة مدة طويلة يسبب الإسكربوط، وهو رأي راجح جدًا الآن، وذلك مثل أكل القديد (البسطرما) . (جدول تركيب أشهر اللحوم) المواد ... ... الثور ... العجل الخنزير الحصان الدجاج نوع من السمك ماء ... ... 76.7 ... 75.6 72.6 ... 74.3 ... 70.8 ... 79.3 زلال وجلاتين 20.0 ... 19.4 19.5 ... 21.6 ... 22.7 ... 18.3 شحم ... ... 1.5 ... 2.9 6.2 ... 2.5 ... 4.1 ... 0.7 مواد كربوهيدراتية 0.6 ... 0.8 0.6 ... 0.6 ... 1.3 ... 0.9 أملاح ... ... 1.2 ... 1.3 ... 1.1 ... 1.0 ... 1.1 ... 0.8 (5) الأطعمة النباتية: هذه الأطعمة منها ما يؤكل بلا طبخ كالجرجير، والفجل، وغيرهما، ومنها ما يؤكل مطبوخًا كالبقول وغيرها، وهي في جملتها تشمل كثيرًا من الزلال، والدهن، والمواد الكربوهيدراتية، والحوامض النباتية، وأملاح عديدة، وفيها مادة يتعسر هضمها تسمى (السللولوز [6] ) ، وهي التي يتكون منها جدران خلاياها، وأخشابها، وغير ذلك من أليافها. أما زلالها فيوجد بكثرة في البقول كالقمح، والفول، والعدس، والحمص، ويسمى الزلال الذي يستخرج من القمح باللاتينية - الجلوتين (مادة غروية) ، وهو لا يوجد فيه بشكله المعروف، إلا بعد أن يضاف إليه الماء؛ فيتحد مع ما فيه من المواد الزلالية، ويتولد هذا الصنف المخصوص من الزلال، وهو سهل الهضم، ولذلك كان من الأغذية النافعة المفيدة. وأما الدهن فهو يوجد بكثرة في بعض الثمار كالزيتون، واللوز، وغير ذلك إلا أنه يقل وجوده في بعض البقول كالقمح مثلاً. والزيوت نوعان: ثابتة، وطيارة، فالثابتة هي كالشحم في تركيبها، ويحصل الإنسان عليها بعصر الحبوب بآلات مخصوصة، وسميت ثابتة لأنها لا تتطاير. أما الزيوت الطيارة فهي مركبة من الكربون، والهيدروجين، والأكسجين إلا أن مقادير هذه العناصر، وأوضاعها مغايرة كل المغايرة لتركيب الزيوت الثابتة، ومن أمثلة هذا الصنف من الزيوت زيت القرنفل، ونحوه من الزيوت العطرية ونظرًا لكونها سهلة التطاير تُتحصل بالتقطير، فإذا غُلي الينسون مثلاً في ماء صعد منه الزيت في بخاره، ويمكن الحصول عليه بالأنبيق، أما الماء الذي غلي فيه فلا يبقى فيه من هذا الزيت إلا النادر جدًّا أو لا يبقى فيه شيء. الزيوت الثابتة مغذية ملينة، وتحترق في الجسم فتولد فيه حرارة عظيمة جدًّا، ولذلك يحسن أكلها في البلاد الباردة. والزيوت الطيارة منعشة منبهة للأعضاء كلها؛ فتقوي الهضم، ودورة الدم وتدر البول، وتنفث البلغم من الصدر، وتزيد في قوة الحركة الدودية للأمعاء؛ وبذلك تخرج أرياحها، وتزيل آلامها، وهي مطهرة أيضًا قاتلة للميكروبات؛ فتطهر الشُعب والأمعاء والبول. أما الأملاح التي في النباتات فهي مقادير كبيرة من فسفات البوتاسيوم وفيها أيضًا فسفات الحديد، وهو كثير الوجود في البقول خصوصًا في القمح، فيكثر دم آكله، ويقل في الأطعمة النباتية ملح الطعام؛ فلذا يحتاج إليه النباتيون كثيرًا فيأخذونه من الخارج، وفي الخضر والفواكه أملاح عضوية وحوامض مثل حامض الطرطريك (الدرديك) وهو موجود بكثرة في الليمون والبرتقال (واليوسف أفندي) والكريز وغير ذلك، وحامض التفاحيك موجود بكثرة في التفاح والكمثرى (الإجاص) وحامض الأكساليك [7] ، يوجد في الحماض، والكرنب، والطماطم، والراوند، وغير ذلك من الحوامض، وهي تتحول في الدم إلى كربونات قلوية فتدر البول وتذيب حامض البوليك الذي ينشأ من احتراق المواد الزلالية احتراقًا ناقصًا؛ فينشأ منه النقرس (داء مخصوص في المفاصل) ، والحصوات الكلوية، والمثانية، فهذه الحوامض النباتية تساعد على إزالة حامض البوليك الضار بالجسم. والامتناع عن أكل الخضر زمنًا طويلاً يؤدي إلى ضعف بالجسم، وتقرح باللثة، وحدوث أنزفة متعددة في أنسجة الجسم وخارجه، وهذه الأعراض كلها هي المسماة (بداء الإسكربوط) ولا دواء له إلا الخُضَر، والأغذية غير المتعفنة. ومما تقدم يُعْلَم أن الاقتصار على أكل اللحوم، وغيرها من المواد الحيوانية قد يضر بالجسم، وخصوصًا إذا أكلها الإنسان ولم يروض جسمه بالحركات، أو الأعمال البدنية المتعبة؛ فإن ذلك يقلل احتراق المواد الزلالية الاحتراق الواجب الذي تتحول به إلى (بولينا) ليتيسر للكلى أن تخرجها من الجسم لسهولة ذوبانها، بل يكون الاحتراق ناقصًا؛ فيتولد من المواد الزلالية حامض البوليك الذي يحدث مرض النقرس والحصوات كما سبق، وهذا المرض كثير الحصول للمترفين بسبب إسرافهم في المآكل الزلالية كاللحوم وغيرها، وإقلالهم من الحركات الجثمانية؛ ولذلك يسمى (داء الملوك) وللوقاية منه يجب القصد في أكل المواد الزلالية، والمواظبة على الرياضة البدنية، والإكثار من أكل النباتات من خضر، وفواكه، وغيرها حتى تذيب هذا الحامض الضار (أي حامض البوليك) ، وتخرجه من الجسم. وأكل المواد النباتية بلا طبخ قد تنشأ عنه أمراض كثيرة كالحمى التيفودية، والدوسنطاريا، وبعض الديدان المعوية كالدود الخيطي الذي يوجد بكثرة في المستقيم عند بعض الناس؛ والسبب في تلك الأمراض هو وجود بعض الميكروبات وبويضات الديدان في الطين والماء الذي يسقى به الزرع؛ فتعلق هذه بالنباتات وبذلك تصل إلى الإنسان إذا أكلها بدون تطهير؛ ولذلك يجب غسلها غسلاً جيدًا متكررًا؛ فإن ذلك يزيل كثيرًا من مضارها؛ ولكن الأولى تطهيرها بالغلي لمن أراد أن يصون نفسه صيانة تامة من هذه الأمراض، ويجب في زمن انتشار بعض الأوبئة كالهيضة (الكوليرا) ، والحمى التيفودية أن تغلى جميع هذه المأكولات غليًا جيدًا، أو يترك أكلها حتى ينتهي الوباء. ولما كانت الحوامض كالليمون والخل قاتلة لبعض الميكروبات المرضية كان وضعها على النباتات الخضراء كالخس مثلاً، أو الفجل هو من أحسن الوسائل التي تقي الجسم شر هذه الميكروبات، أما تأثيرها في بويضات الديدان فهو غير وافٍ بالغرض، والراجح أنها لا تقي الإنسان منها مطلقًا. الكلام في الحبوب وأغذيتها وغير ذلك: (أ) القمح: فيه نشاء كثير، وزلال، ودهن قليل جدًّا، والمادة المسماة سللولوز، وأملاح أهمها فسفات الحديد - كما سبق - وماء، أما السللولوز فيوجد أكثره في غلاف حبوب القمح، وهو الذي يُفصل بالطحن والنخل، ويسمى بالنخالة، وأكلها يهيج حركة الأمعاء، ويُحْدِث لينًا؛ فلذا كان نافعا من هذه الوجهة. الطبقة التي تلي غلاف القمح، تشتمل على الجزء الأعظم من الزلال، ولونها أسمر، وأما باطن الحبة ففيه الجزء الأعظم من النشاء. والخبز يُصنع بعجن الدقيق بالماء - كما هو معلوم - فيتحول زلال الدقيق إلى المادة المسماة جلوتين، وإذا أريد الحصول عليها يُوضع العجين في قطعة من الموصلي (الشاش) ، ثم يفرك عدة مرات في الماء؛ فيخرج النشاء الذي في العجين من ثقوب الشاش، وتبقى مادة الجلوتين في داخل الشاش، وهذه يُصنع منها خبز، أو فطير للمصابين بالبول السكري. أما الخميرة: فهي مركبة من خلايا نباتية، وفائدتها إحداث الغول (الكحول) وثاني أكسيد الفحم، وهو المقصود بالذات؛ لأنه يُحْدِث الفقاقيع في العجين؛ فيجعله إسفنجيًّا، وبذلك يسهل هضمه بعد خبزه، وبالخبز يزول ما

نموذج من كتاب كنز الحقائق في فقه خير الخلائق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من كتاب كنز الحقائق في فقه خير الخلائق (فصول متفرقة والعناوين فوقها من وضع المنار) البدعة الشرعية: (فصل) البدعة الشرعية الأمر الحادث في الدين بعد القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، لم يدل عليها دليل من الكتاب والسنة، وكل بدعة ضلالة، وهي كثيرة سيما في عصرنا هذا؛ فإنهم قد أحدثوا في الدين أشياء ما كانت في عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه - كعقد مجلس الميلاد، والقيام عند ذكر الولادة، وإنشاء عيد الميلاد [1] ، وقراءة الفاتحة على الحلواء والطعام، والاجتماع لقراءة القرآن في اليوم الثالث [2] ، وإيصال الثواب إلى الميت بتعيين يوم أو وقت وتسريج السرج على القبور [3] ، وبناء التوابيت [4] ، ونصب الأعلام، وذكر الخلفاء بعد كل ترويحة، وتسمية الصحابة والسلاطين في الخطب، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبيل الأذان والإقامة [5] ، والتثويب والترحيم وأمثالها. علامة أهل الحديث: (فصل) من علامات أهل الحديث الجمع بين الصلاتين حالة الإقامة والصحة لحاجة دنيوية أو دينية، والمسح على الخفين والجوربين، ولو غير ثخينين، والمسح على العمامة، ورفع اليدين في ثلاثة مواطن: عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع، وعند القيام من التشهد الأول، ووضع اليدين على الصدر، والجهر بآمين، وقراءة التسمية أول كل سورة، وقراءة الفاتحة خلف الإمام في كل صلاة، والاعتدال في الركوع والسجود والقومة، وأداء الصلاة، وقراءة السور على وفق السنة. المتفقه والعامي والتقليد: (فصل) إذا كان الرجل يعرف الحديث والقرآن، فيعمل عليهما، ولا يقلد أحدًا من المجتهدين، والعامي الذي لا يعرف الحديث والقرآن يسأل العلماء، ويعمل على قولهم [6] ، والمجتهد يخطئ ويصيب، ومع أخطائه له أجر، ويجوز أن يكون الرجل مجتهدًا في بعض المسائل، ومقلدًا في بعضها، ويجوز له أن يعمل بالرخص، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر واجب على كل مسلم بقدر القدرة، ولا يجوز العنف والتشدد في المسائل الاختلافية. بيعة الصوفية وإلباس الخرقة: (فصل) البيعة الشائعة بين الفقراء لها أصل من الشرع، وهي بيعة التوبة، أما إلباس الخرقة والقلنسوة وأمثالها من مراسم الفقر، فلا تثبت بالنقل الصحيح، ويجب علينا أن نحب أولياء الله كلهم، ونعظمهم من غير أن نفضل بعضهم على بعض، ويجب ترك قولهم إذا خالف الحديث. علامة أهل البدع: (فصل) لأهل البدع علامات، وهي الوقيعة في أهل الأثر، وتسميتهم بالوهابية، والنجدية، والعرشية، والصفاتية، والمجسمة، والمشبهة، وهم بُرَآء من ذلك، لا يصدق عليهم إلا الاسم الواحد (وهو أصحاب الحديث) كثرهم الله وأبقاهم إلى يوم القيامة. باب الأنجاس يطهر البدن والثوب بالماء ولو مستعملاً حتى لا يبقى عين ولا لون ولا ريح ولا طعم، ولو [7] عسر زوال الأثر فلا يضر، ولا يجوز بغير الماء، والخف والنعل بالدلك [8] ، ولو كانت النجاسة رطبة أو يابسة أو غير ذات جرم، والمني طاهر، وغسله وفرك اليابس منه أزكى وأولى، وكذلك الدم غير دم الحيض - ورطوبة الفرج [9] ، والخمر، وبول الحيوانات غير الخنزير، ولا نجس عندنا إلا غائط الإنسان، وبوله، ودم الحيض، وبول الخنزير، وخراؤه، والروث، ولحم الخنزير، وشحمه، والحمار الإنسي، والميتة، فيجب تطهير كل نجس قليله وكثيره حتى الرشاش، وتطهر الأرض باليبس، أو صب الماء عليها، ويطهر البساط الذي لا يمكن غسله بصب الماء عليه، والحديد والمرآة والزجاج بالمسح، والاستحالة مطهرة. (فصل) أيما إهاب دبغ فقد طهر، وشعر الإنسان، والميتة، والخنزير طاهر، وكذا عظمها، وحافرها، وقرنها، ومنقارها. (فصل) لا تنزح البئر بوقوع نجس، أو موت حيوان فيها إذا لم يتغير أحد أوصاف الماء؛ فإن تغير فيجب نزح الماء كله أو إلى أن لا يبقى التغير. (فصل) بول ما يؤكل لحمه طاهر، وكذا سؤره، وجميع الأسآر غير سؤر الكلب، والخنزير ففيه قولان وكذا في ريق الكلب، والعرق كالسؤر.

أهم أخبار الحرب الأوربية والآراء فيها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم أخبار الحرب الأوربية والآراء فيها إن الأخبار الصحيحة والآراء المفيدة لا تكاد تستنبط من الجرائد إلا نكدًا، وإن للمجلات من الأناة والروية في الاختيار ما ليس للجرائد اليومية، ولا غير اليومية أيضًا، وإننا نمحص ما وقفنا عليه من الأخبار والآراء الكثيرة بالجمل الآتية في هذه الحرب: (1) الدول المتحاربة فريقان: دول التحالف الإنكليزي ودول التحالف الألماني (يُنسب كل حلف إلى أقدر دوله التي هي محل رجاء الرجحان له) ، فالأول هو الراجح في الحرب البحرية، حتى أن رجحانه حال دون منازلة الآخر له، إلا ما تغرقه الغواصات من سفنه، والثاني هو الراجح في الحرب البرية إلى هذا اليوم. (2) اتفق رجال السياسة والحرب من الفريق الأول على أن السبب الأول لرجحان الفريق الثاني في الحرب البرية هو كثرة الذخائر والأسلحة عندهم، فتوجهت همة دوله كلها إلى الاستكثار من ذلك، حتى أن إنكلترة أنشأت وزارة خاصة بها سمتها وزارة الذخائر جعلت المئات من المعامل الحرة تحت مراقبتها، فصارت إنكلترة وفرنسة وهما دولتا العلم والصناعة في هذا التحالف تعملان من الذخائر والأسلحة أضعاف ما كانتا تعملان من قبل، ويقدرون أن استعدادهما، واستعداد حلفائهما لا يتم إلا في ربيع السنة القابلة، على أنهم يشترون الذخيرة والسلاح من الولايات المتحدة واليابان بمئات الألوف من الجنيهات. (3) كانت الروسية قد رجحت على النمسة رجحانًا ظاهرًا فانتزعت منها غاليسية، ووصلت إلى أعالي جبال الكربات المشرفة على سهول المجر، وسباسبهم، ولكن ألمانية أنجدتها في ربيع هذا العام بزهاء مليون ونصف مليون من جيشها، فأجلتا الروسية عما كانت استولت عليه من بلادها، وانتزعتا منها ما انتزعتا من مملكة بولندة، وغيرها، ولا يزال لهما الرجحان في مطاردتها، والفضل الأول في ذلك لمدافعهما الضخمة التي تدك أعظم الحصون والمعاقل، ولكثرة ما عندهما من الذخيرة، وقد اتسع ميدان هذه الحرب فامتد من بحر البلطيق في الشمال إلى آخر حدود بولندة في الجنوب، ويقال: إن الألمان يطمعون في الوصول إلى بترغراد (بطرسبرج) عاصمة الروس، والنمساويون مع الألمان يمدون أعناقهم إلى أودسة أعظم ثغور الروس في البحر الأسود. (4) الحرب في الميدان الغربي (فرنسة وبلجيكة) سجال ولكنها حرب مطاولة لا مناجزة، والألمان هم الذين يهاجمون الفرنسيس، والإنكليز، والبلجيكيين في الغالب، والفريقان معتصمان في الخنادق، وقلما يربح أحد من خطوط خصمه شيئًا إلا ويسترده منه الآخر. (5) الحرب بين إيطالية والنمسة سجال أيضًا؛ ولكنها لا تزال بطيئة الحركة ضعيفة التأثير، لا يكاد العالم يشعر بوجودها. (6) الحرب في جوار الدردنيل سجال أيضًا، وهي مناجزة، لا مطاولة، والحلفاء هم المهاجمون في الغالب على أنها حرب خنادق كحرب الميدان الغربي. (7) أخبار الحرب في العراق قليلة جدًّا، ومما لا ريب فيه أن الإنكليز قد استولوا على جزء عظيم من ولاية البصرة. (8) أخبار الحرب في القوقاس وما يسمونه أرمينية أقل من أخبار الحرب في العراق، وأبعد عن الثقة من جميع الأخبار، فإنه لا يعرف منها شيء، إلا ما يذيعه الروس في كل شهر من أخبار معركة كان لهم الرجحان فيها، ومن أخبارها أن ضلع الأرمن في البلاد العثمانية معهم حتى أنهم يقاتلون معهم، وهذا خبر معقول ومنتظر، وكان العثمانيون يقاتلون الروس في بلاد القوقاس الروسية، ومن أخبار الروس الأخيرة أنهم هم استولوا على مدينة (وان) العثمانية بمساعدة الأرمن فيها، ونصبوا عليها واليًا من زعماء الأرمن، ويقال: إن الترك فتكوا بالأرمن فتكًا ذريعًا. (9) إن كل فريق من الأحلاف اجتهد منذ اشتعلت نار الحرب في جذب الدول التي على الحياد إليه، ولو بالعطف والمودة، ففاز التحالف الإنكليزي بانتزاع إيطالية من التحالف الألماني، وحملها على خوض غمرات الحرب معه، وهو يبذل جهده منذ سنة لجذب دول البلقان إلى قتال العثمانية والنمسة ولا يزال البلقانيون بين الإقدام والإحجام، لما بينهم من أسباب النزاع والخصام، ولطمعهم في تراث الترك والنمساويين من جهة، وكراهتهم أخذ الروسية للآستانة وزقاقي البوسفور والدردنيل من جهة أخرى، دع ما للنمسة وألمانية من النفوذ في البلغار، ولألمانية خاصة من النفوذ في الرومان واليونان، فإن ملكي البلغار والرومان من أسرة عاهل ألمانية، وملكة اليونان أخته، فوشيجة الحرم لها تأثير عظيم، ولكن أكثر الشعوب البلقانية أميل إلى التحالف الإنكليزي ولا سيما الشعب اليوناني، فإنه شديد البغض للترك والطمع في كثير من بلادهم، وشديد الميل إلى محاربيهم لذاتهم ولمحاربتهم لهم. (10) قد اختلف الباحثون في عاقبة هذه الحرب ونتيجتها، والمعقول أنه إذا نصر أحد الفريقين نصرًا مؤزرًا، وظفر ظفرًا تامًّا، فإن رأس دوله تكون لها السيادة العليا في أوربة والشرق كله؛ ولكن دول الفريق الآخر أو ما بقي منها تذل وتخزىزمنًا طويلاً تبذل فيه كل ما يستطيع بذله المستضعف المستذل في مقاومة خصمه من الكيد والحيلة إلى أن يستدير الزمان، وتديل له من عدوه الأقدار، وأما إذا طال أمد الحرب حتى ضعف الفريقان، ونفدت قواهما، ولم يرجح أحدها على الآخر بشيء، أو رجح بالدرهم أو القيراط، فلم يكن باستطاعته السيطرة على خصمه، والاستمرار على قهره، فيوشك أن تكون شروط الصلح متعادلة، وتبقى الموازنة بين الدول متقاربة، ويستمر ذلك عشرات من السنين يظهر فيها نبوغ الشعب الذي يفوق غيره في الهمة والاستعداد، وهاك أشهر ما قيل في طمع كل فريق من الآخر إذا انتصر انتصارًا تامًّا أو قريبًا من التام. (11) مقصد دول التحالف الإنكليزي من الحرب الذي لا يكفون عنها باختيارهم ما لم يصلوا إليه، وهو إزهاق الروح العسكري البروسي الذي نفخ في جميع الشعوب الألمانية بالحرب، واعتقاد كونها فضيلة وكمالاًً للبشر ثم حل عقدة الوحدة الألمانية، وإرجاع ممالكها الصغيرة إلى ما كانت عليه قبل الوحدة التي أنشأها البرنس بسمرك سنة 1870، ومنعها من الاستعداد لحرب ثانية، والاستيلاء على الأسطول الألماني، ثم حل إمبراطورية النمسة والمجر، وإعطاء كل دولة من دول التحالف أبناء جنسه منها، وبهذا يستميلون دول البلقان إليهم الآن، لأن في النمسة ملايين عديدة من الرومان، والسلاف، والطليان، وغيرهم، ثم تمزيق المملكة العثمانية، وتقسيمها. ومن البديهي الذي لا يحتاج إلى النص إرجاع بلجيكة كما كانت أما الآستانة والزقاقان العظيمان اللذان على جانبيها، فالأرجح أن روسية لا ترضى بها بديلاً، إن ظفروا ظفرًا نهائيًّا، بعد ما أصابها من الخسارة التي هي أضعاف خسائر سائر حلفائها، ويقال: إن حلفاءها أنفسهم يشترطون تدمير حصون البوسفور والدردنيل، ونزع السلاح منهما، وعدم تسليحهما في المستقبل، وقيل: إن الآستانة تكون منطقة حرة؛ ولكنها إن صارت إلى الروس فلابد أن يغتنموا أول فرصة لتحصين الزقاقين بعد أن يستعدوا لذلك سرًّا. (12) إذا ظفر التحالف الألماني ظفرًا تامًّا، فالمشهور أن ألمانية تريد أن تضم مملكة بلجيكة إلى ممالك الاتحاد الجرماني، ولا يدرى أيراد جعل بولونية مستقلة أم تابعة لها أم للنمسة، ولا بد حينئذ من جعل النفوذ الأعلى في البلقان للنمسة، ويقال: إن ألمانية لا تطمع في أخذ شيء، مما استولت عليه من مملكة فرنسة، إلا سواحل بحر المانش؛ ولكنها تطمع في جميع مستعمراتها الأفريقية الشمالية، وتعطي الدولة العثمانية القوقاس الروسية أيضًا، وقد اشتهر أنها تمنيها بإنشاء إمبراطورية إسلامية كبيرة، ثم إنها تفرض على خصومها غرامة حربية ثقيلة، وأما استعادة ما أخذ من مستعمراتها، فهي من البديهات التي لا حاجة إلى ذكر طلبها لها، هذا أقل ما يقال عنها، وقيل بل هي تطمع في جعل أوربة كلها تحت سيطرتها، لما وجد في مؤلفات غير واحد من رجال العلم والسياسة والحرب فيها من الحث على السعي لجعل العالم كله خاضعًا للنفوذ الألماني، ومستمدًّا من الحضارة الألمانية. ومن الناس من يقول: إن هذه مزاعم افتحرها أعداء ألمانية لينفروا عنها الشعوب التي على الحياد، ويحملوها على مناوأتها، ولكن وجد من النقل عن الألمان ما يدل على ذلك، وهو غير بعيد عن العقل، وشواهد التاريخ، فإن بطرس الأكبر على كونه هو البادئ بتقوية روسية كان يرمي إلى هذا الغرض، ونابليون الأول كان يمني نفسه به، ومن أصول تربية الأمم أن يبث فيها عقيدة تفضيل نفسها على غيرها، وكونها أجدرها بالسيادة والسعادة، وكل أمة لا تعتقد هذا الاعتقاد لا يمكن أن تسود وتعتز؛ ولكن الأمة إذا لم تبن جميع أعمالها الاجتماعية على أساس هذه العقيدة يقتلها داء الغرور، ولا سيما إذا احتقرت غيرها من الأمم، ولم تقدر مزاياها حق قدرها، ومن المحتمل أن يكون بعض علماء الألمان بثوا في أمتهم هذه العقيدة لأجل أن ينهضوا بها في ميادين المسابقة والمباراة للأمم التي سبقتها إلى الاستعمار وغيره، ثم اغتروا بما وصلوا إليه من العلم والثروة والاستعداد الحربي، فقرَّب ذلك إلى عقول كثير من حكامهم وقوادهم أنه يمكن لدولتهم القضاء على قوى الدول الاستعمارية الثلاث (إنكلترة وفرنسة وروسية) وجعلهن تحت سيطرة ألمانية، وحينئذ تمنعهن من تجديد الاستعداد للحرب، فتنفرد بسياسة العالم في الشرق والغرب، ولا يبعد أن تزين لكثير منهم فلسفة حب السيادة أن هذا يكون خيرًا للبشر لأنه يمنع أسباب الحروب بمنع تنافس التحاسد الذي من شأنه أن يكون بين الأقران من الدول، كما يكون بين الأقران من الأفراد، وأن يتخيل هؤلاء الفلاسفة أن العالم لما صار باتصال بعضه ببعض كالأمة الواحدة - وجب أن تكون له دولة واحدة ترجع إليها السلطة العليا، كما ترجع سلطة الولايات من المملكة الواحدة إلى السلطة العليا في عاصمة المملكة، لأن التفرق مدعاة العداوة والشقاق المفضي إلى التقاتل والتفاني. وقد يرد عليهم فلاسفة سائر الأمم بأن ما يزعمونه خيال تولد من اقتران حب السلطة بالغرور بالقوة، وأن حب السلطة غريزي في البشر، فلن ترضى أمة بسيادة غيرها عليها مختارة، ولا سيما الأمم التي تَمَكَّنَ في قلوب أهلها عز الحرية والسيادة، فلا يزال المسود يكيد للسائد، ويتربص به الدوائر، وقد انقرض في الألزاس واللورين جيل، وتجدد جيل، فكان الجيل الجديد كسلفه يكره الألمان، ويحب الفرنسيس، فالفلسفة الحق أن انتظام البشر لا يتم في هذا الزمان إلا ببنائه على قاعدة استقلال الشعوب والأجناس، وأما القوة التي فوض إليها الحكم بين المتنازعين على السيادة في الأرض فلا يمكن أن تظل محتكرة للغالب، فإذا كانت هذه الحرب لا تنتهي بإبطال قاعدة (الحق للقوة) ، وبالرجوع عن فكرة سيادة الأقوياء على الضعفاء، وإكراههم على الخضوع لما يسوسونهم به ويلزمونهم إياه، وبوضع قواعد مضمونة للمساواة العامة بين جميع الشعوب والأجناس يكون بها الأدنى مختارًا في اقتباس العلم والحضارة من الأعلى - إذا لم تنته هذه الحرب بهذا وتضمنه جميع الدول بقانون تتعاهد على تنفيذه بالقوة والاتفاق على قتال المخالف له، فلا شك في كونها تكون أشأم حرب على البشر؛ لأنها لا يمكن أن تفضي إلى رضاء المغلوب بسيادة الغالب، بل تفضي إلى استمالة المغلوبين لغيرهم من الشعوب المغلوبة على أمره

مدرسة دار الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد قد اضطررنا في السنة المدرسية الماضية (سنة 1292 هجرية شمسية) أن نجعل الإجازة الصيفية قبل موعدها بشهر، بقرار من مجلس إدارة الجماعة؛ وسبب ذلك قطع وزارة الأوقاف المصرية ما كانت قررته من الإعانة للمدرسة، وعدم الرجاء في شيء يُذْكَر من التبرعات بسبب العسرة الحاضرة، حتى أن الشيخ قاسم إبراهيم قطع اشتراكه السنوي في جماعة الدعوة والإرشاد قبل الحرب، وقد كنا ننفق على الطلبة بالتقتير في تلك السنة. أما مقدار إعانة الأوقاف فقد كان خمسمائة وخمسين جنيهًا، وقد كنا موعودين من قِبَلَ الديوان بمضاعفته أضعافًا، حتى أن محمد محب باشا الذي عُيِّن أول ناظر للأوقاف - بعد تحويله إلى نظارة - قال لي أمام بعض الفضلاء في داره قبيل سفره إلى الآستانة في رمضان العام الماضي: إنه يمكن إبلاغ الإعانة في هذا العام إلى ألف وسبعمائة جنيه؛ وإنما يمكن الزيادة على ذلك فيما بعدها من السنين، قال ذلك بعد أن دقق النظر في نظام المدرسة، وميزانيتها، وبعد زيارته لها، واختباره لحالها بنفسه. ولو طلبت المبلغ الذي كان مقررًا في أول العام الماضي عقب تصديق الجمعية التشريعية على ميزانية الأوقاف لقبضته؛ ولكنني فضلت حفظه في خزينة النظارة على حفظه في صندوق المدرسة؛ ليؤخذ بالتدريج عند الحاجة إلى الإنفاق ولما طلبت بعضه عند الحاجة إلى الصرف - لقرب دخول السنة الدراسية - امتنع وكيل الأوقاف محمد شوقي باشا من الصرف، معللاً منعه بوجوب الاقتصاد، وقلة الدخل بسبب الحرب، فراجعت رئيس النظار (حسين رشدي باشا) مرارًا فوعد بالمساعدة، وأحالني على عدلي باشا الذي كان نائبًا عن محمد محب باشا في نظارة الأوقاف، ووعد بتوصيته، وبعد عدة مراجعات أمر عدلي باشا بصرف 300 جنيه أقساطًا، وقال لي: إذا كثرت الواردات بعد ذلك ندفع لك الباقي، وقبضت حينئذ ستين جنيهًا من الإعانة. ثم تحولت الأحوال وتغير شكل الحكومة، فأعطى إسماعيل صدقي باشا الذي تولَّى (وزارة الأوقاف) قليلاً، وأكدى (أي منع الباقي) ، فكان مجموع ما قبضته من الإعانة بيدي 135 جنيهًا، وكنت أحلت إدارة أوقاف محمد شريف باشا الكبير على النظارة بأجرة مكان المدرسة بكتاب مني قبلته النظارة، وصارت تدفع ما يستحق من الأجرة أقساطًا شهرية؛ ولكن وزارة إسماعيل صدقي باشا منعت فيما منعته إعطاء بقية الأجرة، كانت الأجرة كلها 130 جنيهًا دفعت وزارة الأوقاف منها 97 جنيهًا ونصفًا، ورجعت عليّ إدارة وقف شريف باشا بمبلغ 32 جنيهًا ونصف جنيه فوفيتها حسابها فعلم من هذا أن مجموع ما صُرِف من إعانة الأوقاف للمدرسة في العام الماضي 232 جنيهًا ونصف جنيه، وهو دون المبلغ الذي كان أمر بصرفه عدلي باشا موقتًا. ولما علمنا أن الوزارة الجديدة قطعت الإعانة كلها ألبتة، غلبنا حسن الظن ورددنا على من أساءه، وقرعنا جميع الأبواب التي هي مظنة الرجاء لإعادته، بحجة أن هذه المدرسة الدينية الخيرية ليس لها دخل ثابت سواه، وأنها أحوج إلى الإعانة من كل المعاهد العلمية والخيرية التي تساعدها وزارة الأوقاف حتى من الجامعة المصرية، ومدارس العروة الوثقَى، والجمعية الخيرية - فألفينا جميع تلك الأبواب موصدة في وجهنا؛ ولكن باب الله تعالى لا يُوصد، فاتكالاً عليه - عز وجل - سنفتح المدرسة في السنة المدرسية القابلة، كما فتحناها في السنة الماضية ولكننا لا ننفق على الطلبة شيئًا، ولا نقبل في القسم الداخلي طالبًا جديدًا إلا أن يأتي الله بالفتح لبعض أبواب رزقه، أو أمر من عنده. أما موعد فتح المدرسة في السنة الدراسية القابلة فسيكون - إن شاء الله تعالى- في أول الخريف الثاني (منزلة العقرب) الموافق منتصف شهر ذي الحجة الحرام خاتمة سنة 1333، فعسى أن تكون السنة القابلة سنة خير ويسر، وإن جاءت بعد شدة وعسر {فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً} (الشرح: 5-6) .

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (كنز الحقائق من فقه خير الخلائق) كتاب في فقه الحديث تأليف العلامة وحيد الزمان الملقب بالنواب وقار نوازجنك بهادر، وطُبع في العام الماضي طبعًا حجريًّا في مطبعة شوكة الإسلام ببلدة بنكلور بالهند على ورق جيد، وصفحاته 243 بقطع المنار، ويباع في مكتبة المنار، وثمنه عشرة قروش. الكتاب مختصر من كتاب مطول للمؤلف اسمه (نُزُل الأبرار من فقه النبي المختار) ، وحسبنا من تقريظه ما يراه القراء في النموذج الذي اُقتبس منه، ونشر في هذا الجزء من يسر مذهب أهل الحديث، على أن فيه مسائل اجتهادية، وأغلاطًا معظمها من الناسخ منها ما يُدْرَك بالبداهة. *** (البيان والتبيين) كُتُبُ أبي عثمان الجاحظ كلها مختارة في الفصاحة والبلاغة عند أهل الأدب، وهذا الكتاب منها أشهر من نار على علم، فهو مستغنٍ عن تقريظ أهل هذا العصر، وحسبهم ما قاله فيه حكيم العرب، وإمام أهل العلم والأدب، عبد الرحمن بن خلدون في الكلام على علم الأدب من مقدمته، وهذا نصه: (سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب، وأركانه أربعة دواوين، وهي (أدب الكاتب) لابن قتيبة، و (كتاب الكامل) للمبرد، و (كتاب البيان والتبيين) للجاحظ، وكتاب (النوادر) لأبي عليّ القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها، وفرع عنها) . وحسبنا من معرفة مكانة الجاحظ في البيان والبلاغة تنويه إمامهما الزمخشري به في خطبة أساس البلاغة، وما كانت الخطب بموضع التنويه بالدهماء؛ ولكن قد يذكر فيها أئمة العلماء والحكماء. طبع كتاب البيان والتبيين بمصر منذ عشرين سنة طبعة رديئة كثيرة الأغلاط، فاضطر الأدباء وطلاب الإنشاء إلى اقتنائها، والاستفادة منها على علاتها، حتى نفدت نسخها، وغلا ثمنها، فسخر الله تعالى في العام الماضي محب الدين أفندي الخطيب المحرر بجريدة المؤيد، وعارف أفندي المحايري لإعادة طبعه، فطبعاه طبعًا حسنًا على ورق حسن، وعُني الأول منهما بتصحيحه، وضبط أشعاره بالشكل، وقد تعب في مراجعتها في مظانها من الدواوين المخطوطة والمطبوعة، وفي كتب اللغة والأدب تعبًا لا يعرف كنهه إلا من عُني بمثل ذلك، وقد جعل ثمنه عشرة قروش من الورق النباتي، و15 قرشًا من الورق الأبيض، ويُطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (الحنين إلى الأوطان) نشر في جزء الشهر الماضي من المنار نموذج من هذا الكتاب مُصَدَّر بعبارة وجيزة في وصفه، والفائدة من مطالعته كمطالعة سائر مصنفات مؤلفه، (الجاحظ) مقرونة بالوعد بتقريظه، وقال صاحب المنار: إن هذا الكتاب يشرح غريزة حب الوطن، التي هي من أقوى غرائز البشر، بأفصح العبارات المأثورة عن أبلغ الأعراب، والشعراء، والكتاب، فهو من هذه الجهة كتاب فلسفة، كما أنه من حيث عبارته أدب ولغة، ومن شواهد حب الوطن عن أهل هذا العصر ما اختبرناه من حال مهاجرة السوريين في مصر وأمريكا وغيرهما من الأقطار، فإننا نراهم على عراقتهم في المهاجرة، والاغتراب، وإثرائهم في بلاد أرقى من بلادهم عمرانًا، وحرية لا يفتئون يحنون إلى أوطانهم على كثرة شكواهم من سوء حالها، وذمهم لحكومتها، (قال) : وقد سمعت أصحاب المقتطف والمقطم يقولون منذ بضع سنين: إننا لم نشتر شيئًا من الأثاث لبيوتنا إلا وكان يخطر في بالنا عند شرائه -: إذا أتيح لنا العود إلى بلادنا فهل يكون هذا مما ننقله أو مما نبيعه؟ . طُبع الكتاب بمطبعة المنار طبعًا متقنًا مضبوطًا على نفقة عبد الفتاح أفندي قتلان مدير مكتبة المنار، وقد تولى تصحيح أصله، وضبطه، ووضع الحواشي، والتفسير لغريبه الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري الشهير، وثمنه قرش ونصف قرش. *** (كتاب المسح على الجوربين، وكتاب الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس) (من تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى، طُبعا معًا في مطبعة الترقي بدمشق الشام سنة 1332 وصفحاتهما 84 صفحة، ويُطلبان من مكتبة المنار بمصر) . هذان الكتيبان المفيدان من آخر ما كتبه عالم الشام، وفقيد الإسلام رحمه الله تعالى، أتمهما في العام الماضي الذي توفي فيه، وموضوع الأول إثبات المسح على الجوربين، وكل ما يستر الرجلين كالنعال السابغة، واللفائف، والتساخين وفيه فوائد كثيرة في الحديث، والأصول، وقد أثبت المسألة بالدليل، ونقل فيها ما يُؤثر عن أئمة الفقه. قال منشئ المنار: وقد سبق لنا الإفتاء بهذا في المنار منذ بضع سنين فكان له أحسن تأثير في تيسير الصلاة على كثير من أهل الترف والنعيم، كما أخبرني بذلك بعض خواص المصريين المصلين، ثم أعدت إثبات ذلك بإيضاح في تفسير آية الوضوء. وأما هذا الكتاب، فقد استقصى كل ما يتعلق بالمسألة، وزاد ما زاد من المسائل الاستطرادية كما هو شأن من يفرد مسألة صغيرة بالتصنيف. وأما الكتاب الآخر فالغرض منها مقاومة ما عليه متأخرو المسلمين من التساهل الذي يشبه الفوضى في أمر الطلاق، ورد ما جرى عليه كثير من الفقهاء من الإفتاء بالطلاق في وقائع كثيرة لا تقوم الحجة على وقوع الطلاق فيها، ومن مباحثه المفيدة التي عمت البلوى بها، مبحث طلاق الغضبان، والسكران، والهازل، والمُكْرَه، والحالف بالطلاق، أو المعلق له يريد الترغيب أو الترهيب دون الطلاق، والطلاق مرة واحدة بلفظ الثلاث، ومبحث وجوب الإشهاد على الطلاق واشتراطه لصحته، ومن قال بذلك من أئمة آل البيت وغيرهم من الصحابة والتابعين. والقاعدة التي بُني عليها هذا الكتاب اللطيف، هي أن النكاح متى وقع وثبت كان أمرًا يقينيًّا، فلا يزول بحكم اجتهادي؛ لأنه ظن لا يزول به اليقين، ولا بخبر أحادي، ولا سيما إذا كان مطعونًا فيه كحديث (ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة) . *** (نقابات التعاون الزراعية نظامها وتاريخها وثمراتها في مصر وأوربة) (طبع على ورق جيد بمطبعة النهضة الأدبية بمصر سنة 1332 صفحاته 245 بحجم المنار) . هذا كتاب جديد من أفضل ثمرات النابتة الجديدة بمصر، ألفه عبد الرحمن بك الرافعي المحامي، فخدم به هذه البلاد خدمة جليلة هي في أشد الحاجة إليها. إن ثناءنا على هذا الكتاب تأييد لرأي صاحب المنار الذي بينه مرارًا في مجلته، وفي الجرائد، وهو أن أحوج ما يحتاج إليه أهل مصر في هذا العصر أمران (أحدهما) حفظ ثروتهم حتى تكون غلة أرضهم، وثمرات كسبهم خالصة لهم، (وثانيهما) تعميم التربية الصحيحة مع التعليم على الوجه الذي تتكون به الأمة، وأنه لا يقوم بهذه التربية مع التعليم إلا الجمعيات الخيرية. فهذان الأمران هما: الركنان اللذان لا يرجى لمصر صلاح، ولا فلاح إلا بهما، وهذا الكتاب مما يرفع بناء الأول منهما، ويَحْسُن منا في هذا المقام أن نعطر تقريظ الكتاب بكلمة ثناء على عمر بك لطفي الذي أحسن الله خاتمة عمره بالعناية بأمر النقابات الزراعية علمًا وعملاً، فكان قدوة صالحة لهذا المؤلف الذي يُعَدّ من تلاميذه. للكتاب فاتحة في موضوعه للمؤلف، ومقدمة لأحمد بك لطفي المحامي، وفيه ثلاثة أبواب، عنوان أولها (التعاون في أوربة) وفيه 14 فصلاً، وعنوان الثاني (التعاون في مصر) وفيه ستة فصول، الأول في نظام الحياة الاقتصادية عند الزراع وعيوبه، الثاني في الدعوة إلى التعاون، وفيه بيان (الدور الأول) من جهاد عمر بك لطفي، والثالث في (الدور الثاني من جهاد عمر بك لطفي، ومنشآت التعاون التي أسسها، والنظام الذي اختاره لها) ، والثالث في أعمال النقابات الزراعية بمصر، والخامس في قانون الخمسة الأفدنة، والسادس في التشريع الجديد للتعاون، وعنوان الباب الثالث (نماذج تعاونية) ، وهذه النماذج تعلم قراء الكتاب كيف يؤلفون النقابات الزراعية حسب القانون؟ ، وكيف يكتتبون لها؟ ، وكيف يكون الشراء والسلف منها؟ إلى غير ذلك من المعاملات. وقد قال المؤلف في فاتحة الكتاب ما نصه: (على أننا بأخذنا بأسباب التعاون نحيي سنة قديمة، فإن نظام التعاون وإن كان بشكله الحديث نظامًا غربيًا جديدًا، إلا أن الفكرة التعاونية في ذاتها، أي فكرة تعاون الأيدي العاملة على القيام بالعمل المشترك، واقتسام أرباحه، وثمراته فكرة قديمة عرفها أجدادنا العرب، فقد أثبت الأستاذ لوابو ليو في كتابه المطول في الاقتصاد السياسي أن القوافل التي كانت تجوب البلاد العربية ما بين الحجاز والشام بقصد المتاجرة ما هي إلا جماعات تعاونية وقتية يتعاون أفرادها على الكسب والتجارة) . *** (الحساب) كتاب وضعه صديقنا محمد عبد الخالق أفندي إسماعيل الطالب في إنكلترة تمهيدًا لكتاب سيضعه في علم الجبر، وقد صَدَّره بمقدمة حث فيها على نشر العلم باللغة العربية (أوسع اللغات) ، وقد طبعه سنة 1332 في مصر بمطبعة البسفور طبعًا نظيفًا على ورق متوسط؛ فجاءت صفحاته 168، ويُطلب من مكتبة المنار بمصر، وثمنه 25 مليمًا. الكتاب جزيل الفائدة، وفيه من الجداول، والرسوم، والأشكال ما يوضح مسائله، وعبارته جزلة فصيحة، فنحث على اقتنائه. *** (كتاب الفوز بالمراد من تاريخ بغداد) تأليف الكاتب الاجتماعي الشهير الأب أنستاس الكرملي صاحب مجلة لغة العرب، طبعه بمطبعة الشاهبندر في بغداد سنة 1339، وصفحاته 76، وثمن النسخة منه خمسة قروش صحيحة، ويُطلب من مكتبة المنار بمصر. والكتاب مستمد من كتب التاريخ العربية، والإفرنجية، ومن اختبار مؤلفه الشخصي، وقد بدأه بتاريخ بغداد من عهد سقوطها على يد هولاكو سنة 655هـ إلى سنة 329 أي سنة (تأليفه وطبعه) وفيه من العبر والعظة بتصرفات الأيام شيء كثير. *** (التقرير السنوي للجمعية الخيرية الإسلامية عن سنة 1914) هذا التقرير كالتقارير السابقة يشمل مشروع أعمال الجمعية، وميزانيتها، ومحضر جلستها العمومية، وفيه زيادة على ذلك أن نُشِرت في أوله صورة الكتاب العالي السلطاني الصادر لهيئة الجمعية المؤرخ في 13 ربيع الأول 1333 و29 يناير سنة 1915 عدد 11، وهذه جملة منه قال بعد التحيات لهيئة الجمعية ما نصه: (هذا وقد اقتضت إرادتي أن يكون لقسم الإعانة بالجمعية نصيب من مساعدة خزينتي الخاصة بفضل الله، كما أنها ستتكفل سنويًّا بالنفقات التي يحتاجها أنبغ طالب من طلبة مدارس الجمعية لإتمام دروسه بأوربة، وأن تخصص ثلاث جوائز للثاني، والثالث، والرابع من التلامذة مكافأة لهم، وتشجيعًا لإخوانهم) ... إلخ. ويؤخذ من هذا التقرير أن الجمعية قد اشترت أطيانًا مساحتها 16 فدانًا وكسورًا، و4 آلاف و7 مئة و48 مترًا و27 سنتيمًا، وقد دفعت ثمنًا للجميع 9 آلاف وخمسمائة و24 جنيهًا و244 مليمًا، وأن النجاح في امتحان القسم الابتدائي من مدارسها زاد على 67 في المئة، ويَسُرّ كل مسلم، وكل محب للخير استمرار نجاح الجمعية وخدمتها للفقراء بالتعليم والإعانات. *** (ذكرى الماضي أو: سياحة في الجبل) مقالات وجدانية خيالية نشرها كاتبها محمد أفندي صبري الطالب بجامعة باريس، وناشر كتاب (شعراء العصر) ، وقد اعتنى بجمعها، وطبعها كتابًا مستقلاً صالح أفندي شكري أحد عمال جريدة المؤيد، وهي تُطلب منه، ومن المكتبات الشهيرة. *** (رواية الفلاح) قصة تمثيلية أدبية وضعها عبد العزيز بك فريد ناظر مدرسة خليل أغا بمصر، وحرر عبارتها الأستاذ الشيخ محمد الجمل أحد مدرسي المدرسة، ووضع أزجالها الشيخ أحمد القوصي، وقد مثلها تلاميذ المدرسة في احتفالها السنوي، وهي مفيدة جدًّا بما تحذر من البذخ والسرف، وتنقب عن العيوب الفاشية في هذا البلد، ومثله

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 7

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (7) العلوق وسبب الذكورة والأنوثة ومدة الحمل: إذا تلقحت البويضة سقطت في الرحم بسبب ما في البوقين من الأهداب؛ وبسبب انقباضهما، ويجوز أن يكون للبويضة أيضًا حركة ذاتية كالأميبا، وأرجح الأوقات لحصول الحمل أن يكون الجماع عقب الطهر - في الأسبوع الأول - من الحيض، ويقال: إن هذا الجماع محرم عند اليهود، وهو من غرائب التشريع. وبويضات المبيض الأيمن يرجح عند بعض العلماء الآن أنها هي التي يتولد منها الذكر، وبويضات المبيض الأيسر يتولد منها الأنثى، ولذلك إذا نامت المرأة على جانبها الأيمن بعد الجماع رجح إتيانها بالذكر، وقد عرف هذه الفائدة ابن سينا كما في قانونه. فإذا كان الجماع بعد حيض متفق مع انفجار بويضة المبيض الأيمن كان النسل ذكرا، وبالعكس. وإذا سقطت البويضة في الرحم علقت بغشائه المخاطي، وابتدأ تكوّن الجنين في داخلها بانقسامها إلى عدة أقسام، ويكون الجنين في بطن أمه محاطًا بالرحم، ثم بغشاءَيْنِ آخرين تابعين لنفس البويضة، وتكبر البويضة كبرًا عظيمًا، وتمتلئ بسائل يحيط بالجنين من جميع جهاته يسمى السائل (الأمنيوسي [1] ) ، ويكون الجنين معلقًا في هذا السائل بحبله السري الملتصق بالمشيمة بجدار الرحم، ويكون رأس الجنين إلى الأسفل غالبًا، وظهره إلى الأمام، ولا يُفْهَم مما تقدم أن عروق الجنين متصلة بعروق الرحم، بل هما متجاوران فقط، بحيث لا تختلط دورتهما الدموية؛ ولكن المواد المغذية تصل من الأم إليه بطريق (الأسموز) ، وكذلك المواد الفاسدة التي تخرج من الجنين تصل إلى دورة الأم بهذه الواسطة أيضًا بلا اختلاط بينهما، ولا يتنفس الجنين في بطن أمه؛ وإنما دمه يتنقى بالطريقة المذكورة، وأول تنفسه يكون عند استهلاله، أي صراخه عند خروجه من الرحم. ومدة الحمل أقلها خمسة أشهر، أو أربعة ونصف، وأكثرها أحد عشر شهرًا وقد يحصل في أحد البوقين حمل، أو في البطن خارج الرحم، وفي هذا الحال قد تحمل الأم جنينها ميتًا عدة سنين؛ ولكن لا تضعه إلا بعملية جراحية. شَبَه الجنين: يقال: إن شَبَه الجنين تابع لمقدار الحيوانات المنوية الملقحة للبويضة، فإذا دخلت بكثرة في البويضة أشبه أباه سواء أكان ذكرًا أم أنثى، وإذا كانت قليلة أشبه أمه كذلك، فإذا كان الجماع بشدة ومقدار المني كثيرًا، وأنزل الرجل قَبْل المرأة كثر دخول الحيوانات المنوية في البويضة فأشبه الولد أباه، إذا كان مقدار المني قليلاً، وأنزلت المرأة قبل الرجل بطلت حركة الامتصاص من رحمها، فنظرًا لذلك ولقلة مقدار المني يصل عدد قليل من الحيوانات المنوية إلى البويضة؛ فيكون الولد شبيهًا بأمه، سواء أكان ذكرًا أم أنثى، ولذلك روى البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد " أي لأنه في هذه الحالة تبطل حركة الرحم في جذب المني إليه؛ فتكون الحيوانات الداخلة فيه أقل مما إذا حصل القذف أثناء حركة الرحم، أي قبل إنزال المرأة، والولد كل مولود ذكرًا كان أو أنثى. النطفة والعلقة وأطوار الجنين وغير ذلك: مما تقدم يُفهم أن الإنسان مخلوق من البويضة الملقحة بحيوانات الرجل، وهذه هي النطفة الأمشاج التي ذكرها القرآن الشريف (76: 2) ، فإن النطفة هي كل ماء قل أو كثر، فمني الرجل نطفة، وبويضات المرأة مع السائل السابحة فيه المنفرز من حويصلات (جراف) ، ومن البوق يسمى أيضًا نطفة، والأمشاج الأخلاط، فاختلاط المني بهذا السائل الذي فيه البويضة هو الضروري للحمل. ولا يتوهمن أحد أن نزول البويضة من المبيض مما تشعر به المرأة، أو تلتذ له بل هو شيء لا تشعر به مطلقًا. ولا يمكن رؤية البويضة بالعين المجردة، وإن كانت من الخلايا الحيوانية الكبيرة، فإن قطرها 0.2 من المليمتر، أما قطر كريات الدم البيضاء فهو 0.01 وقطر الحمراء 0.0075 من المليمتر. واعلم أن الخصيتين تتكونان في الجنين في بطنه خلف البريتون، وتحت الكليتين بقليل، ثم تنزلان شيئًا فشيئًا حتى تكونا في الصَّفَن في الشهر التاسع من الحمل، فإذا وُلد الجنين قبل ذلك في الشهر السادس مثلاً كان الصفن خاليًا منهما. وفي أثناء التكوين تنقسم بويضة المرأة كلها داخل غشائها الذي يتمدد تدريجيًّا كلما كبرت، وكذلك بويضة الحيوانات الثديية، أما بويضة الطيور فينقسم جزء منها فقط - كما تَقَدَّم -. أما العلقة المذكورة في القرآن الشريف، فهي أول أطوار الجنين وتكون مركبة من عدة خلايا صغيرة ككريات الدم لم يتميز شيء من أجزائها، وهذه الخلايا تنشأ من انقسام البويضة بعد التلقيح إلى عدة خلايا فلذا تشبه علقة الدم [2] (clot) خصوصًا التي تتركب من الكريات البيضاء التي تسمى بالإنكليزية (Buffy coat) (راجع ص48 من هذا الكتاب وص 410 من كتاب فسيولوجيا هاليبرتون Halliburton) . فإذا تمت هذه العلقة أخذت تتنوع خلاياها، وتتميز بعض أجزائها عن البعض الآخر، ويكون حجمها في آخر الشهر الأول كحجم بيضة الحمامة وهي (المضغة) لأنها تكون قدر ما يمضغ في الفم، وبعضها مُخَلَّق، والبعض الآخر غير مُخَلَّق كما قال تعالى في سورة الحج (22: 5) ، ومما يظهر في ذلك الوقت الأطراف العليا، والأطراف السفلى، ويتميز القسم الأيمن من القلب عن القسم الأيسر، ثم تظهر آثار العظام الأخرى. وفي الأسبوع السابع يبتدئ ظهور العضلات بعد ظهور العظام المذكورة، وذلك بتنوع الخلايا التي كانت تحيط بالعظام، والمراد هنا الغضاريف التى تصير عظامًا، كما أن المراد بالخمر في قوله تعالى {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف: 36) العنب الذي يصير عصيره خمرًا. فإذا تم نمو الجنين، ووُلد خرج وهو لا يدري شيئًا، ثم يتعلم كل شيء بالتدريج حتى يصير كأنه خلق آخر، فبعد أن كان لا يعي شيئًا يصبح يخترق الحجب بعقله، ويصل إلى الملكوت الأعلى بفكره {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) ومما تقدم تجد أن الأطوار المذكورة في القرآن هي عين الحقيقة، وهاك بيانها كما وردت في سورتي الحج والمؤمنين: (1) طور النطفة: وهي الماء فتطلق على مني الرجل، وعلى السائل الذي تسبح فيه البويضة، وأصله من حويصلة جراف ومن البوق، كما سبق. وفي هذا الطور تُلقِّح الحيوانات المنوية البويضة فتكون النطفة - بعبارة القرآن - أمشاجًا. (2) طور العلقة: وهي انقسام البويضة بعد تلقيحها إلى عدة خلايا متماثلة لا تمتاز واحدة منها عن الأخرى، وتكون كقطعة الدم الجامدة. (3) طور المضغة: وهي البويضة إذا كبرت حتى صارت قدر ما يُمضغ ويكون بعضها مخلقًا، وبعضها غير مخلق، وهو طور التخليق والتكوين الابتدائي (4) طور الإتمام: وذلك يبتدئ بظهور الأجزاء الرخوة كالعضلات التي تكسو العظام، وينتهي هذا الطور بتمام الخلق. (5) طور التربية والتعليم بعد الولادة: وهو المُعَبَّر عنه في القرآن بالخلق الآخر؛ لأن الإنسان الذي كان أحط من الدابة يصبح أرقى الأحياء قاطبة؛ لذلك قال سبحانه جل شأنه: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) . هذا وقد يحصل التلقيح فإذا وصلت البويضة إلى الرحم، وعلقت به وماتت بسبب ما كالتهاب غشائه طردها الرحم أو امتصها، وهذا الامتصاص هو المُعَبَّر عنه في القرآن الشريف (13: 8) بقوله {وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ} (الرعد: 8) وقد يمتص الرحم الجنين، أو أحد التوأمين في أحوال أخرى. أما قوله تعالى {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} (الزمر: 6) فالظلمات إما أن يراد بها ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة الأغشية الجنينية المحيطة بالسائل الأمنيوسي. وإما أن تكون الظلمات هي: ظلمة المبيض الذي تتكون فيه البويضة في داخل حويصلة جراف، ثم ظلمة البوق حينما تتلقح البويضة بالحيوانات المنوية، ثم ظلمة الرحم الذي يتخلق فيه الجنين. وفي أثناء الولادة تنثقب أغشية الجنين، وينسكب ماؤها فيخرج الجنين، ثم تتبعه هذه الأغشية مع المشيمة (وهي أغلظ جزء في الأغشية، وفيها يندغم الحبل السري، ومنها يتغذى الجنين وإليها تخرج فضلات جسمه) وأيضًا تسقط أغشية الرحم، ثم تتجدد بعد الولادة، والجنين في بطن أمه لا يتنفس ولا يأكل ولا يشرب وإنما يأخذ من دم أمه كل ما يحتاج إليه؛ وكذلك لا يتبرز بل تتجمع في أمعائه إفرازات الكبد والأمعاء وتخرج بعد الولادة وتسمى بالعِقي. وقد يبول الجنين في بطن أمه في أشهره الأخيرة، فإن السائل الأمنيوسي وجد فيه مقدار قليل من البولينا بسبب بول الجنين فيه. ومقدار السائل الأمنيوسي نحو لتر أو اثنين عادة، ووظيفته حماية الجنين من الضغط عليه، وحفظه من التصاقه بالأغشية، وتمديد عنق الرحم عند الولادة، وغسل المهبل حينئذ. والجنين يتحرك في بطن أمه بنفسه وبحركتها وهذه الحركات تشعر بها الأم وتبتدئ في الشهر الخامس غالبًا. وقد يحصل حمل فوق حمل بمعنى أنه إذا حصل جماع بعد الحمل الأول ببعض أسابيع يجوز أن يحصل حمل آخر، وهذا غير الحمل التوأمي المشهور، فإن سببه أن تتلقح فيه بويضتان، أو أكثر في وقت واحد، أو وقت قريب، أو يكون للبويضة الواحدة أكثر من نواة، وإذا كانت البويضات من مبيض واحد كانت التوائم من نوع واحد ذكرًا أو أنثى بحسب المبيض اليمين أو اليسار، وتكون التوائم أيضًا من نوع واحد إذا كانت ناشئة من بويضة واحدة ذات نويات متعددة. أسباب العقم: هذه الأسباب عديدة، منها: أن يكون السبب فساد زرع الرجل لمرض في خصيتيه، ومنها مرض المبيضين أو البوقين أو الرحم نفسه، أو وجود إفرازات في المهبل شديدة الحموضة بحيث تقتل الحيوانات المنوية، وأشهر الأمراض التي تُحْدِث العقم في الرجل والمرأة داء السيلان، ومن الأسباب أيضًا الجماع المختلط كما في الزنا، بأن يتوارد عدة رجال على امرأة واحدة، ولذلك قيل في المثل الإنجليزي " لا ينمو العشب حيث يكثر دوس الأقدام ". ومن الأسباب أيضًا ما لم تُعْرَف إلى الآن حقيقته كأن تكون المرأة والرجل سليمين من كل آفة، ومع ذلك لا يأتيان بنسل، فإذا تزوج هذا الرجل امرأة أخرى وتزوجت هي رجلاً آخر أنتج كل منهما. وإذا أريد منع الحمل فلا طريقة أحسن لذلك سوى قتل الحيوانات المنوية أثناء الجماع، وذلك بوضع سوائل أو غيرها في المهبل تكون قتالة لها كمحلول السليماني بنسبة 1 - 2000، ومحلول حمضي من سلفات الكينيين، فتغمس قطعة من القطن بهذه السوائل أو غيرها، وتحشى في المهبل بحيث تسد فوهة الرحم، فهذه الطريقة في الغالب قد تبطل الحمل ما دامت مستعملة فإذا تركت عاد الحمل. مراعاة الصحة في الجماع: الإكثار من الجماع ضار جدًّا مؤد إلى الضعف الجسماني والعصبي، ويُعَرِّض الإنسان إلى أمراض كثيرة كالالتهابات الكلوية، والشلل العام للمجانين، ويحدث الاصفرار، وخفقان القلب وضعفه، فلذا يجب اجتناب الإفراط فيه، والمحمود منه طبًّا هو ما نصوا عليه في كتب الشرع، وهو أنه ينبغي إذا اشتهته النفس اشتهاء حقيقيًّا بدون أن يهيج الإنسان شهوته بمهيج ما، وتختلف الرغبة في الجماع والقدرة عليه باختلاف الأشخاص، ولذلك لا يمكننا تحديد القدر الصحي منه بالضبط، والغالب أنه لا يضر الإنسان إذا أتاه مرة أو مرتين في الأسبوع بشرط أن يكون سلي

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ مقام المشاهدة وعين الجمع [*] الدرجة العليا في المشاهدة والفرق فيها بين التوحيد وتخيلات وحدة الوجود قال [1] : (الدرجة الثالثة مشاهدة جمع تجذب إلى عين الجمع، مالكة لصحة الورود، راكبة بحر الوجود) صاحب هذه الدرجة أثبت عند الشيخ في مقام المشاهدة، وأمكن في مقام الجمع الذي هو حضرة الوجود، وأملك لحمل ما يرد عليه في مقامه من أنواع الكشوفات والمعارف؛ ولذلك كانت مشاهدته مالكة لصحة الورود، أي تشهد لنفسها بصحة ورودها إلى حضرة الجمع، وتشهد كلها لها بالصدق، ويشهد المشهود أيضًا لها بذلك، فلا يبقى عندها احتمال شك ولا ريب. وهذا أيضًا مورد للملحد والموحد، فالملحد يقول: مشاهدة الجمع هي مشاهدة الوجود الواحد الجامع لجميع المعاني، والصور، والقوى، والأفعال الخمسة، والأسماء، وحضرة الجمع عنده هي حضرة هذا الوجود، ومشاهدة الجمع تجذب إلى عينه - قال - وصفة هذا الجذب أن يحل الحق تعالى عقد خليقته بيد حقيقته، فيرجع النور على صورة خليقته إلى أصله، ويرجع العبد إلى عدميته، فيبقى الوجود للحق، والفناء للخلق، ويقيم الحق تعالى وصفًا من أوصافه نائبًا عنه في استجلاء ذاته، فيكون الحق هو المشاهد ذاته بذاته، في طور من أطوار ظهوره وهي مرتبة عبده، فإذا ثبت الحق تعالى عبده بعد نفيه ومحوه، وأبقاه بعد فنائه، فعاد كما يعود السكران إلى صحوه وجد في ذات أسرار ربه، وطور صفاته، وحقائق ذاته، ومعالم وجوده ومطارح أشعة نوره، ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته وعوده إليه، فيرى العبد ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود المنزه الأصل الموهم الفرع، فيؤدي استصحاب النظر إلى أصله، أن الفرع لم يفارقه هو إلا بشكله، والشكل على اختلاف ضروبه، فمعنى عدمي لتعين إمكانه في وجوبه. فانظر ما في الكلام من الإلحاد والكفر الصراح، وجعل عين المخلوق نفس عين الخالق، وأن الرب سبحانه أقام نفس أوصافه نائبة عنه في استجلاء ذاته، وأنه شاهد ذاته بذاته في مراتب الخلق، وأن الإنسان إذا صحا من سكره وجد في ذاته حقائق ذات الرب، ووجد خليقته أسماء مسمى ذاته، فيرى ثبوت ذلك الاسم في حضرة سائر الأسماء المشيرة بدلالتها إلى الوجود (المنزه الأصل) يعني عن الانقسام والتكثر (الموهم الفرع) يعني الذي يوهم فروعه، وتكثر مظاهره، واختلاف أشكاله أنه متعدد، وإنما هو وجود واحد، والأشكال على اختلاف ضروبها أمور عدمية؛ لأنها ممكنة وإمكانها يفنى في وجوبها، فلم يبق إلا وجوب واجب الوجود، وهو واحد وإن اختلفت الأشكال التي ظهر فيها، والأسماء التي أشارت إليه، فالاتحادي يشاهد وجودًا واحدًا جامعًا لجميع الصور، والأنواع، والأجناس فاض عليها كلها فظهر فيها بحسب قوابلها واستعداداتها، وذلك الشهود يجذبه إلى انحلال عزمه عن التقيد بمعبود معين، أو عبادة معينة، بل يبقى معبوده الوجود المطلق الساري في الموجودات بأي معنى ظهر وفي أي ماهية تحقق، فلا فرق عنده بين السجود للصنم، والشمس، والقمر، والنجوم، وغيرها كما قال شاعر القوم [2] : وإن خر للأحجار في البيد عاكف ... فلا تعد بالإنكار بالعصبية وإن عبد النار المجوس وما انطفت ... كما جاء في الأخبار مذ ألف حجة فما عبدوا غيري وما كان قصدهم ... سواي وإن لم يظهروا عقد نية وما عقد الزنار حكما سوى يدي ... وإن حل بالإقرار لي فهي بيعتي وكما قال عارفهم [3] : واعلم أن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله، فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صور ظهر قال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاه} (الإسراء: 23) قال وما قضى الله شيئًا إلا وقع [4] ، وما عبد غير لله في كل معبود، فهذا مشهد الملحد. والموحد يشاهد بإيمانه ويقينه ذاتًا جامعة للأسماء الحسنى، والصفات العلى، لها صفة كل كمال [5] ، وكل اسم حسن، وذلك يجذبه إلى نفس اجتماع همه على الله وعلى القيام بفرائضه، والطريق بمجموعها لا تخرج عن هذين السببين، وإن طوّلوا العبارات، ودققوا الإشارات، فالأمر كله دائر على جمع الهمة [6] على الله، واستفراغ الوسع بغاية النصيحة في التقرب إليه بالنوافل، بعد تكميل الفرائض، فلا تطوِّل، ولا يُطول عليك. وشيخ الإسلام مراده بالجمع الجاذب إلى عين الجمع أمر آخر بين هذا وبين جمع أهل الوحدة وعين جمعهم، لا هو هذا ولا هذا، فهو دائر على الفناء لا تأخذه فيه لومة لائم، وهو الجمع الذي يدندن حوله، وعين الجمع عنده هو تفرد الرب سبحانه بالأزلية بالدوام [7] ، وبالخلق والفعل، فكان ولا شيء، ويكون بعد كل شيء، وهو المكون لكل شيء، فلا وجود في الحقيقة لغيره، ولا فعل لغيره، بل وجود غيره كالخيال والظلال، وفعل غيره في الحقيقة كحركات الأشجار والنبات، وهذا تحقيق الفناء في شهود الربوبية والأزلية والأبدية، وطي بساط شهود الأكوان، فإذا ظهر هذا الحكم انمحق وجود العبد في وجود الحق، وتدبيره في تدبير الحق، فصار سبحانه هو المشهود بوجود من العبد متلاشٍ مضمحل كالخيال والظلال، ولا يستعد لهذا عندهم إلا من اجتمعت إرادته على المراد وحده حالاً، لا تكلفًا، وطبعًا، لا تطبعًا، فقد تنبعث الهمة إلى أمر وتتعلق به، وصاحبها معرض عن غير مطلبه متحلٍّ به، ولكن إرادة السوى كامنة فيه، قد توارى حكمها واستتر، ولما يزل، فإن القلب إذا اشتغل بشيء اشتغالاً تامًّا توارى عنه إرادته لغيره والتفاته إلى ما سواه مع كونه كامنًا في نفسه، مادته حاضرة عنده، فإذا وجد فجوة وأدنى تخلٍّ من شاغله ظهر حكم تلك الإرادات التي كان سلطان شهوده يحول بينه وبينها. فإذا الجمع وعين الجمع مراتب (أعلاها) جمع الهمم على الله إرادة، ومحبة وإنابة، وجمع القلب، والروح، والجوارح على استفراغ الوسع في التقرب إليه بما يحبه ويرضاه، دون رسوم الناس وعوائدهم، فهذا جمع خواص المقربين وساداتهم، (والثاني) الاستغراق في الفناء في شهود الربوبية، وتفرد الرب سبحانه بالأزلية والدوام، وإن الوجود الحقيقي له وحده، وهذا الجمع دون الجمع الأول بمراتب كثيرة (الثالث) جمع الملاحدة الاتحادية وعين جمعهم، وهو جمع الشهود في وحدة الوجود، فعليك بتمييز المراتب، لتسلم من المعاطب، وسيأتي ذكر مراتب الجمع والتمييز بين صحيحها وفاسدها في آخر باب التوحيد من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى والله المستعان. قوله (مالكة لصحة الورود) أي ضامنة لصحة ورودها، شاهدة بذلك مشهودًا لها به، لأنها فوق مشاهدة المعرفة، وفوق مشاهدة المعاينة. قوله (راكبة بحر الوجود) يعني تلك المشاهدة راكبة بحر الوجود، فهي في لجة بحره، لا في أنواره، ولا في بوارقه، وقد تقدم الكلام على مراده بالوجود، وأنه وجود علم، ووجود عين، ووجود مقام، وسيأتي تمام الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى. *** منزلة المعاينة أو مقامها (من مدارج السالكين أيضًا) قال شيخ الإسلام [8] (باب المعاينة) قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلّ} (الفرقان: 45) قلت: المعاينة مفاعلة من العيان، وأصلها من الرؤية بالعين، يقال: عاينه إذا وقعت عينه عليه، كما يقال: شافهه. إذا كلمه شفاها، وواجهه، إذا قابله بوجهه، وهذا مستحيل في هذه الدار أن يظفر به بشر، وأما قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلّ} (الفرقان: 45) ، فالرؤية واقعة على نفس مد الظل [9] لا على الذي مده سبحانه، كما قال: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً} (نوح: 15) وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ} (الفيل: 1) فهاهنا أوقع الرؤية على نفس الفعل، وفي قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} (الفرقان: 45) أوقعها في اللفظ عليه سبحانه والمراد فعله من مد الظل، هذا كلام عربي بين معناها غير محتمل ولا مجمل، كما قيل في العُزَّى: (كفرانك اليوم لا سبحانك * إني رأيت الله قد أهانك) وهو كثير في كلامهم، يقولون: رأيت الله قد فعل كذا وكذا، والمراد رأيت فعله، فالعيان والرؤية واقع على المفعول لا على ذات الفاعل وصفته، ولا فعله القائم به *** فصل قال صاحب المنازل (المعاينة [10] ثلاث (إحداها) معاينة الأبصار (الثانية) معاينة عين القلب، وهي معرفة عين الشيء [11] على نعته علمًا يقطع الريبة، ولا تشوبه حيرة [12] (الثالثة) معاينة عين الروح، وهي التي تعاين الحق عيانًا محضًا، والأرواح إنما طهرت وأكرمت بالبقاء لتعاين [13] سناء الحضرة، وتشاهد بهاء العزة، وتجذب القلوب إلى فناء الحضرة) جعل الشيخ المعاينة للعين والقلب والروح، وجعل لكل معاينة منها حكمًا، فمعاينة العين هي رؤية الشيء عيانًا إما بانطباع صورة المرئي في القوة الباصرة عند أصحاب الانطباع، وإما باتصال الشعاع المنبسط من العين المتصل بالمرئي عند أصحاب الشعاع، وإما بالنسبة والإضافة الخاصة بين العين وبين المرئي عند كثير من المتكلمين، والأقوال الثلاثة لا تخلو عن خطأ وصواب، والحق شيء غيرها، وأن الله سبحانه جعل في العين قوة باصرة كما جعل في الأذن قوة سامعة، وفي الأنف قوة شامة، وفي اللسان قوة ناطقة، فهذه قوى أودعها الله سبحانه في هذه الأعضاء وجعل بينها وبينها رابطة، وجعل لها أسبابًا من خارج، وموانع تمنع حكمها، وكل ما ذكروه من انطباع ومقابلة وشعاع ونسبة وإضافة فهو سبب وشرط، والمقتضي هو القوة القائمة بالمحل، وليس الغرض ذكر هذه المسألة فالمقصود أمر آخر. وأما معاينة القلب فهي انكشاف صورة المعلوم له بحيث تكون نسبته إلى القلب كنسبة المرئي إلى العين، وقد جعل الله سبحانه القلب يبصر ويعمى كما تبصر العين وكما تعمى، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) فالقلب يرى، ويسمع، ويعمى، ويصم، وعماه، وصممُه أَبْلَغُ من عمى البصر، وصممه. وأما ما يثبته متأخرو القوم من هذا القسم الثالث (وهو رؤية الروح، وسمعها وإرادتها، وأحكامها التي هي أخص من أحكام القلب) فهؤلاء اعتقادهم أن الروح غير النفس والقلب [14] ، ولا ريب أن ها هنا أمورًا معلومة، وهي البدن وروحه القائم به، والقلب المشاهد فيه وفي سائر الحيوان، والغريزة وهي القوة العاقلة التي محلها القلب , ونسبتها إلى القلب كنسبة القوة الباصرة إلى العين، والقوة السامعة إلى الأذن، ولهذا تسمى تلك القوة قلبًا، كما تسمى القوة الباصرة بصرًا، قال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (ق: 37) ولم يرد شكل القلب فإنه لكل أحد، وإنما أريد القوة والغريزة المودعة فيه، والروح هي الحاملة للبدن، ولهذه القوى كلها، فلا قوام للبدن، ولا لقواه إلا بها، ولها باعتبار إضافتها إلى كل محل حكم، واسم يخصها هناك، وإذا أضيفت إلى محل البصر سميت بصرًا وكان لها حكم يخصها هناك، وإذا أضيفت إلى محل العقل - وهو القلب - سميت قلبًا، ولها حكم يخصها، وهي في ذلك كله روح، فالقوة الباصرة والعاقلة، والسامعة، والناطقة روح باصرة، وسامعة، وعاقلة، وناطقة، فهي في الحقيقة [15] هذا العاقل الفَهِم المدرك المحب العارف المحرك للبدن الذي هو محل الخطاب، والأمر، والنهي - هو شيء واحد له [16] صفات متعددة بحسب متعلقاته، فإنه يسمى نفسًا مطمئنة، ونفسًا لوامة، ونفسًا أمارة، و

أصول الفقه عند الظاهرية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أصول الفقه عند الظاهرية وهي المسائل التي جعلها الإمام أبو محمد علي بن حزم مقدمة لكتابه (المُحَلَّى) وعناوين المسائل من زيادة المنار مآخذ الإسلام ودلائله: (مسألة) دين الإسلام اللازم لكل أحد لا يؤخذ إلا من القرآن، أو مما يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما برواية جميع علماء الأمة عنه عليه السلام - وهو الإجماع - وإما بنقل جماعة عنه عليه السلام - وهو نقل الكافة - وإما برواية الثقات واحدًا عن واحد، حتى يبلغ إليه عليه السلام، ولا مزيد. قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) ، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) وقال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فإن تعارض - فيما يرى المرء - آيتان، أو حديثان صحيحان، أو حديث صحيح وآية، فالواجب استعمالهما جميعًا؛ لأن طاعتهما سواءٌ في الوجوب، فلا يحل ترك أحدهما للآخر ما دمنا نقدر على ذلك، وليس هذا إلا بأن يستثنى الأقل معاني من الأكثر، فإن لم يقدر على ذلك وجب الأخذ بالزائد حكمًا؛ لأنه متيقن وجوبه، ولا يحل ترك اليقين بالظنون، ولا إشكال في الدين، قد بين الله دينه، قال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وقال تعالى: {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) . *** الحديث المُرْسَل والموقوف والضعيف: (مسألة) والمرسل والموقوف لا تقوم بهما حجة، وكذلك ما لم يروه إلا من لم يوثق بدينه وبحفظه، ولا يحل ترك ما جاء في القرآن، أو صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول صاحب أو غيره، سواء كان هو راوي ذلك الحديث أو لم يكن. والمرسل: هو ما كان بين أحد رواته، وبين غيره، أو بين الراوي وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا يعرف، والموقوف: هو ما لم يبلغ به إلى النبي، صلى الله عليه وسلم. برهان بطلان الموقوف قول الله عز وجل: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) فلا حجة في أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يحل لأحد أن يضيف ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه ظن، وقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) ، وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) . وأما المرسل [1] ، ومن في رواته من لا يوثق بدينه وحفظه - فلقول الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122) فأوجب الله تعالى قبول نذارة النافر للتفقه في الدين، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) وليس في العالم إلا عدل أو فاسق، فحرم الله تعالى علينا قبول خبر الفاسق فلم يبق إلا العدل، فصح أنه هو المأمور بقبول نذارته. وأما المجهول فلسنا على ثقة من أنه على الصفة التي أمر الله تعالى معها بقبول نذارته، وهو التفقه في الدين، فلا يحل لنا قبول نذارته حتى يصح عندنا فقهه في الدين، وحفظه لما ضبط من ذلك، وبراءته من الفسق، وبالله تعالى التوفيق. ولم يختلف أحد من الأمة في أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الملوك رسولاً رسولاً واحدًا إلى كل مملكة يدعوهم الإسلام، وواحدًا واحدًا إلى كل مدينة، وإلى كل قبيلة - كصنعاء والجنَد [2] ، وحضرموت، وتيماء، ونجران، والبحرين، وعُمان، وغيرها، يعلمها أحكام الدين كلها، وافترض على أهل كل جهة قبول رواية أميرهم ومعلمهم، فصح قبول خبر الواحد الثقة عن مثله مبلغًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ترك القرآن أو ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول صاحب أو غيره سواء كان راوي ذلك الخبر، أو غيره فقد ترك ما أمره الله تعالى باتباعه، لقول لم يأمره الله تعالى قط بطاعته ولا باتباعه، وهذا خلاف لأمر الله تعالى. وليس فضل الصاحب عند الله بموجب تقليد قوله وتأويله، لأنه تعالى لم يأمر بذلك؛ لكنه موجب تعظيمه ومحبته وقبول روايته فقط؛ لأن هذا هو الذي أوجب الله تعالى. *** النسخ: (مسألة) والقرآن ينسخ القرآن والسنة، والسنة تنسخ السنة والقرآن، قال الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) ، وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3-4) وأمره تعالى أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (الأنعام: 50) ، وقال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44-47) فصح أن كل ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن الله تعالى قاله، والنسخ بعض من أبعاض البيان، وكل ذلك من عند الله تعالى. *** منع دعوى النسخ والتخصيص والتأويل: (مسألة) ولا يحل لأحد أن يقول في آية، أو في خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت: هذا منسوخ أو هذا مخصوص في بعض ما يقتضيه ظاهر لفظه، ولا أن لهذا النص تأويلاً غير مقتضى ظاهر لفظه، ولا أن هذا الحكم غير واجب علينا من حين وروده إلا بنص آخر وارد بأن هذا النص كما ذكر، أو بإجماع متيقن بأنه كما ذكر، أو بضرورة حس موجبة أنه كما ذكر، وإلا فهو كاذب، برهان ذلك قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ} (النساء: 64) ، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم:4) ، وقال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) ، وقال تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} (البقرة: 75) ، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) . فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ} (النساء: 64) موجب طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أمر به، وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ} (آل عمران: 32) موجب طاعة القرآن، ومن ادعى في آية أو خبر نسخًا، فقد أسقط وجوب طاعتهما، فهو مخالف لأمر الله تعالى في ذلك، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) موجب أخذ كل نص في القرآن والأخبار على ظاهره، ومقتضاه في اللغة العربية، فمن ادعى في شيء من ذلك أن المراد به غير ما يقتضيه لفظه في اللغة العربية فقد خالف قول الله تعالى وحكمه، وقال عليه عز وجل الباطل وخالف قوله عز وجل، ومن ادعى أن المراد بالنص بعض ما يقتضيه في اللغة العربية، لا كل ما يقتضيه فقد أسقط بيان النص، وأسقط وجوب الطاعة له بدعواه الكاذبة، وهذا قول على الله تعالى بالباطل، وليس بعض ما يقتضيه النص بأولى بالاقتصار عليه من سائر ما يقتضيه، وقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} (النور: 63) موجب الوعيد على من قال لا يجب عليّ موافقة أمره،، وموجب أن جميع النصوص على الوجوب، ومن ادعى تأخير الوجوب مدة ما، فقد أسقط وجوب الطاعة لله تعالى، ووجوب ما أوجب الله عز وجل من طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في تلك المدة، وهذا خلاف لأمر الله عز وجل، فإذا شهد لدعوى من ادعى بعض ما ذكرنا قرآنٌ، وسنة ثابتة، إما بإجماع، وإما بنقل صحيح فقد صح قوله، ووجب طاعة الله تعالى في ذلك، وكذلك من شهدت له ضرورة الحس لأنها فعل الله تعالى في النفوس، وإلا فهي أقوال مؤدية إلى إبطال الإسلام، وإبطال جميع العلوم، وإبطال جميع اللغات كلها، وكفى بهذا فسادًا، وبالله تعالى التوفيق. *** إنما الإجماع إجماع الصحابة: (مسألة) والإجماع هو ما تيقن أن جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفوه وقالوا به، ولم يختلف منهم أحد، كتيقننا أنهم كلهم - رضي الله عنهم - صلوا معه عليه السلام الصلوات الخمس كما هي في عدد ركوعها، وسجودها، أو علموا أنه صلاها مع الناس كذلك، وأنهم كلهم صاموا معه أو علموا أنه صام مع الناس رمضان في الحضر، وكذلك سائر الشرائع التي تيقنت مثل هذا اليقين، والتي من لم يقر بها لم يكن من المؤمنين، وهذا ما لا يختلف أحد في أنه إجماع، وهم كانوا حينئذ جميع المؤمنين لا مؤمن في الأرض غيرهم، ومن ادعى أن غير هذا هو إجماع كلف البرهان على ما يدعي ولا سبيل له إليه. (مسألة) وما صح فيه خلاف من واحد منهم - رضي الله عنهم -، ولم يتيقن أن كل واحد منهم - رضي الله عنهم - عرفه ودان به فليس إجماعًا، لأن من ادعى الإجماع هاهنا فقد كذب، وَقَفَا ما لا علم له به، والله تعالى يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) الإجماع بعد الصحابة متعذر: (مسألة) ولو جاز أن يتيقن إجماع أهل عصر بعدهم أولهم عن آخرهم على حكم نص ولا يقطع فيه بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - لوجب القطع بأنه حق وحجة، وليس كان يكون إجماعًا، وأما القطع بأنه حق وحجة فلما ذكرناه قبل بإسناده من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لن تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) فصح من هذا أنه لا يجوز البتة أن يُجْمِع أهل عصر ولو طرفة عين على خطأ، ولا بد من قائل بالحق فيهم، وإما أنه ليس إجماعًا فلأن أهل كل عصر بعد عصر الصحابة - رضي الله عنهم - ليس جميع المؤمنين، وإنما هم بعض المؤمنين، والإجماع إنما هو إجماع جميع المؤمنين لا إجماع بعضهم. ولو جاز أن يسمى إجماعًا ما خرج عن الجملة واحد لا يعرف أيوافق سائرهم أو يخالفهم - لجاز أن يسمى إجماعًا ما خرج عنهم فيه اثنان وثلاثة وأربعة، وهكذا أبدًا حتى يرجع الأمر أن يسمى إجماعًا ما قاله واحد، وهذا باطل، ولكن لا سبيل إلى تيقن إجماع جميع أهل عصر بعد الصحابة - رضي الله عنهم - لكثرة أعداد الناس بعدهم؛ ولأنهم طبقوا ما بين المغرب والمشرق، ولم تكن الصحابة - رضي الله عنهم - كذلك، بل كانوا عددًا ممكنًا حَصْره، وضَبْطه، وضبط أقوالهم في المسألة، وبالله تعالى التوفيق. وقد قال بعض الناس: يعلم ذلك من حيث يعلم رضاء أصحاب مالك، وأصحاب أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي بأقوال هؤلاء (قال عليّ) وهذا خطأ؛ لأنه لا سبيل إلى أن تكون مسألة قال بها أحد من هؤلاء الفقهاء إلا وفي أصحابه من يمكن أن يخالفه فيها وإن وافقه في سائر أقواله. رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة: (مسألة) والواجب إذا اختلف الناس، أو نازع واحد في مسألة ما أن يرجع إلى القرآن، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا إلى شيء غيرهما، ولا يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ولا غيرهم، برهان ذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِي

مقارنة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية ـ 2

الكاتب: حسن كمال

_ مقارنة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية (2) الأثر المصري الذي ذكر فيه اسم بني إسرائيل المحفوظ الآن بمتحف القاهرة - عدد 34025 (وبعض ما فيه من الاتفاق بين لغة قدماء المصريين واللغة العربية) [*] إني تلقيت عن والدي في مدارس الحكومة الدروس الهيروغليفية التي ألقاها في نيف وثلاث سنين، وثابرت بعد ذلك على الاهتمام بها، ولا سيما في أيام العطلة الدراسية، ثم صرفت أيام هذه الإجازة الأخيرة في ترجمة وجه واحد من الحجر الكبير المنقوش عليه اسم بني إسرائيل، وطبقت قدر استطاعتي بين الكثير من ألفاظه على ما يقابلها في اللغة العربية؛ ليعلم وجه الشبه بين اللغتين وجعلت كل كلمة مصرية موافقة للعربية بين علامتين هكذا [] ، فجاء بحمد الله باكورة عمل أزفها لأبناء وطني راجيًا منهم أن يصفحوا عما يرونه فيه من زلة القلم وفقنا الله وإياهم لنشر العلوم والمعارف، آمين. *** وصف الأثر بالإجمال: صنع هذا الأثر الملك (أمنوفيس الرابع) من الأسرة الثامنة عشرة، ونقش على وجه منه وصف بعض أعمال دينية قام بأدائها، ثم جاء من بعده (منفتاح) الذي هو فرعون سيدنا موسى - عليه السلام - على القول الأرجح، وكتب على الوجه الآخر كيفية حربه مع اللوبيين، واستطرد إلى بيان أحوال مصر وقتئذ، مع الإلماع إلى ذكر ولايات أخرى أخضعها لحكمه، وهذا النقش الأخير هو الذي عنيت بترجمته، فظهر لي أن الكاتب المصري تحرى فيه أساليب الإنشاء التي كانت شائعة في عهد الأسرة التاسعة عشرة، وكان السبب في نقشه وتسطيره انتصارًا عظيمًا أحرزه فرعون (منفتاح) على اللوبيين، فأمر بتدوين هذا النصر لتخليد ذكره بين الخلف، وكان ذلك في السنة الخامسة من حكمه؛ لكن عبارات نصه لم تزدنا شيئًا جديدًا عما كتبه عن نتيجة هذه الحرب في نقوش الكرنك، غير أنه تكلم بصراحة هنا عما حصل في أيامه من الفرح، والسرور، والحرية للبلاد المصرية، ولولا النص المنقوش في معبد الكرنك المشروح فيه حوادث هذه الحرب بالتفصيل لما تيسر لنا الوقوف من هذا الأثر على مكانة الفوز المبين الذي ناله منفتاح، ولا على الحالة الحرجة التي وقعت فيها البلاد المصرية عند نشوب هذه الحرب الطاحنة. ومن تأمل معاني العبارات الواردة في نص هذا الأثر النفيس علم بعض أحوال البلاد المصرية وقت السلم، وعلى الأخص العبارة التي ذكر فيها اسم بني إسرائيل المدرجة في آخره؛ لأنها استوجبت توجيه النظر من الأثريين لكونها أول عبارة أخبرتنا بهذا الاسم المشهور في الكتب الدينية. وذلك أنه ورد في الأثر إشارة إجمالية إلى ذكر خضوع بعض الأمم الأجنبية ومن جملتهم بنو إسرائيل؛ لكن العبارة التي ذكر فيها هذا الاسم جاءت في غاية الإيجاز، حتى تعذر علينا استنتاج فائدة كبيرة منها، على أنها صيغت في أسلوب متداول الاستعمال في اللغة المصرية القديمة طالما عبر به عن أمم أخرى في نصوص غير هذا. ومعنى هذه العبارة أن بني إسرائيل (لم تبق لهم بزرة) أي ذرية في الأرض فاجتهد بعض الأثريين في تأويلها، فقالوا: إنها تفيد محو نسل بني إسرائيل بذبح أبنائهم واستحياء نسائهم؛ لكن نرى من جهة أخرى أن هذه العبارة نفسها ذكرت كثيرًا في الآثار المصرية عن أمم أخرى أجنبية كما ترى في الأمثلة الآتية: (الأول) ما جاء في حرب رمسيس الثالث من حكمه لسكان البحر الأبيض في السنة الثامنة من حكمه إذ قال ما ترجمته: (والذين وصلوا حدود بلدي تبدد شملهم، ولم تبق لهم بزرة) . (الثاني) ما جاء في كتاب (دمخن) [1] من أن اللوبيين والسيديين مُزقوا ولم تبق لهم بزرة. (الثالث) ما جاء أيضًا في الكتاب المذكور [2] من قولهم (وصارت بلادهم رمادًا قفرًا بلقعًا فلم تبق لهم بزرة) . (الرابع) ما جاء في حرب رمسيس الثالث، وذلك في السنة الخامسة من حكمه من أن - رئيس عمورة المدعو (جورو ….) لم تبق له بزرة. فيُعلم مما تقدم أن التعبير بلفظ لم تبق له بزرة هو تعبير عندهم لا يراد به في الأثر الذي نحن بصدده محق ذرية بني إسرائيل من هذه الدنيا بذبح الأبناء واستحياء النساء، ومن الواضح الجلي أن موطن بني إسرائيل كان في فلسطين حسب نص الأثر، وأن منفتاح قهرهم فيها وسلب أموالهم كما فعل بغيرهم من الأمم المجاورة لهم بالكيفية المبينة بعد. *** ترجمة الأثر [3] (النهار) الثالث من (أبيب) للسنة الخامسة من حكم (الحر - أي الباشق - القوي المرقي للعدل) الملك منفتاح العظيم (البأس المرقى بقوة) الإله حوريس (القوي) ضارب (البدو) ذو الاسم السرمدي الذي تحدث (الناس بنجداته) في جميع البحار؛ لأنه جعلهم يرون الدنيا كلها (منضمة) له؛ ولأنه استعمل قواته فيما فيه النفع فهو (الصيدن القب - منفتاح - الناب [4] القوي) ذو (البأس) المهلك (لشانئيه) ذو الحسن في شدة (القوة) الذي (ينهض) نهوض الشمس (ليكف) عن مصر ما يحل بها من العواصف، وليجعلها ناظرة لقرص الشمس عند (سطوعه) ، وليدفع جبل النحاس عن أعناق الأهالي [5] فيمنح الحرية للناس الواقعين في الضيق، وليعاف سكان منف من فعل أعدائهم، وليجعل (أسوريس) (أَشِرًا) (أي فرحًا) في (صُيبه) [6] ، الفاتح الذي يفتح الحصون، ويوصل لمعابده أرزاقها، فهو الملك منفتاح الوحيد الذي يطمئن (ألباب) الجم الغفير فيدخل عند رؤيته نفس الحياة في أنوفهم، فهو (السائد) على أرض التمحو [7] ملقي (الهول) السرمدي في (ألباب) المشواش، المذل للوبيين المتوغلين في مصر، حتى جعل (روع) القطر المصري العظيم في (لبهم) ، وجعل مقدمة جيشهم ومؤخره لم يبرح الأرض في سيرهم على أرجلهم، بل ظلوا على أقدامهم واقفين حتى وقعت رماتهم وأقواسهم، وصارت قلوب المسرعين منهم أذلة من المشي، ففكوا قِرَب الماء، وألقوها على الأرض، وأخذت جلودها ورميت. أما الوالي (الخسيس) حاكم لوبيا (فخارت) قواه وهرب تحت (جنح) (الليل) بلا ريشة على رأسه، وكانت رجلاه تسير سيرًا ثقيلاً، وأخذت أمامه (حامته) - أي نساؤه -، ونهبت حبوب محصولاته، فلا (ماء) في القرب (للمعيشة) ، فكانت وجوه (أصنائه تهصص) [8] بعيونهم، ويقتل الواحد من (هداته [9] ثانيه) في حرب نشبت بينهم، وحرقت (أحياؤه) وجميع (أشيائه) من طعام الجنود، ولما وصل بلده تحدث في حقه الكثيرون في جميع (الأرض) فلحقته الخيبة (وخسفته النأنأة) [10] ، وسلبه سوء الحظ (الريشة) - أي من رأسه - فتحدث فيه الكل من سكان مدينته قائلين: إنه تحت (بأو أزوان منف) (أي سيطرة معبوداتها) . لقد (ساوروا) مريري [11] ؛ لأنه كان (بذيئًا) لمنف من ابن إلى ابن (نتج) في أسرته إلى (الأزل) - لذلك مثّل منفتاح بأولاده (وشياه) [12] ، فصار يُضرب به المثل في لوبيا، وأصبحت الذرية يقول بعضها لبعض: لم يُفْعل لنا مثل ذلك منذ المعبود (رع) [13] ، وكان كل كبير يقول لابنه: (اندب لوبيا) - فامتنعوا عن (المشي) ، والسير الطيب (أي التنزه) داخل الحقول فوقف (مشيهم) في يوم واحد، وحرقت التحنو في سنة واحدة، فأعطى المعبود (سوتخ) ظهره لرئيسهم، وتمزقت (أحياؤه) حسب (مشيئة) (هذا المعبود) فلم تبق حاجة - لحمل - (القناة) في هذه الأيام وأصبحت السلامة في (الاختفاء والتعوذ بالبيقرة) [14] وصار (يلوذ) بسيد مصر الكبير منفتاح (الأزر) [15] والانتصار؛ لأنه يحارب وهو عارف (شطنه) [16] ، والذي يعاديه (يعد) خائنًا لا (لب) له - ومن تعدى حدود مصر لا يقيم إلى صباح لأنها (السليلة الوحيدة) للمعبود ... (رع) منذ وجود الآلهة، ولأن (سليله) - أيضًا - هو منفتاح الجالس على (سدة) المعبود (شو) فلا (حجا يقدي ليهوي) بين (ناس مصر) [17] ؛ لأن (عين) كل معبود متجهة في (سه من يعنوها) [18] ولأنها (تعني كاتفيها) [19] ؛ ولأنها تعطي الخير لأولي (البأو) العالمين العارفين لغتهم كلها (الرانون) لأهوائهم - ونالت مصر (باؤا) فخرًا كبيرًا؛ لأن يدها (حبت) - دنت - من رئيس لوبيا فأسرته حيًّا هكذا ظفر الملك المقدس (العادل) أمام المعبود (رع) (بكاتفه) [19] مريري - فاعل (السوء) الذي (سخط) عليه (الزون رب منف [20] فوفاه) - حسابه - في مدينة عين شمس، وبذلك حكم عليه التتسيع المقدس (وهو المؤلف من تسعة آلهة) بسبب (عثوه البذيء) فقال السيد الكلي (أي رئيس الآلهة) سأعطي (الخشيب) [21] لابني منفتاح (القوي اللب الآين) [22] الرءوف المدافع عن منف (المجاوب عن مدينة عين شمس الفاتح (المعني) [23] الذي (يفك) أسارى الكثير من المقيدين في كل بلد، ويعطي (الإطابات) [24] للبرابي (أي المعابد) ، ويدخل (الكندر) [25] أمام (الزون) ويجعل (السراة تقتمي أشياءها) [26] ، ويدخل الفقراء بلادهم) . فقالت الآلهة على مشهد من أرباب مدينة عين شمس بخصوص ابنهم منفتاح ليعط الحياة مثل (رع) (وليجاوب) عن كل من (رديء) - أي اختلس - لأنه (وصي) على مصر لحسبانها جزءًا تابعًا له إلى الأزل - أي الأبد - (ولينجد) أهلها (وليلمأ [27] بالطول) متقاعديها في (لوقته) فتكون أنفاس الحياة (بقوة) ذراعيها (وتخبط الأشياء) [28] للمستحق بلا (جور) ولا (قمأ) والذين (يونّ [29] لبهم) الصغير ويلقون بزور العسف (يحبون) [30] إليك بالأشياء بلا أطفال لهم) هكذا يقال فيهم -وقد (تأياّ) مريري الملعون (الخسيس الخارّ) [31] رئيس لوبيا (ليهوي) في أسوار ملك مصر وسيدها وهو (اللقب) الذي أطلقه المعبود (رع) على (سليله) هذا وهو (الصيدن والقب) [32] منفتاح (المتربع) على (سدته) ويقول يتاح (أي الفتاح) عن لوبيا: إن (خار) لوبيا - أي العاثر بعد استقامته - (ستحصى) جميع بذاته (وتطوف - فوق - نطابه) - أي رأسه - وليجعل في (يد) منفتاح (وليبق ما يقم) [33] مثلما - يفعل - التمساح لأن (الشوشاءة تعنو الشوشاء) في شبكته ولو كان (نابًا) [34] لأن أمون (يلخ بحسه فيطفه) [35] من (يده) ، ويجعله تحت (قوة) منفتاح في أرمنت. وقع (أشر) [36] كبير في مصر (وبرز النهيم) [37] في (مدن) مصر، وتحدث الناس بنجدات منفتاح التي حازها على التحنو - ما أطيبه من (حاكم نجد) [38] ، ما أعظمه من (صيدن بين الأزوان) ، وما أسعده حظًّا (الناب الناهي) اجلس أيها الملك متنعمًا وتكلم (وامش شطنا) على (المتن) [39] فلا (زأد) في (لب النات) [40] فالقلاع تركت ونفسها (والقلائب) [41] فتحت، وأخذ (يطوف الوافدون) الاستحكامات ذات الأسوار (متفيحين) من الشمس حتى تصحى حراسها (والماصعون ينكرون وينامون) [42] وقوم (نوو) و (تكتينوا) يكونون في الحقل (كأبابهم) [43] ، وحيوانات الحقل تترك بلا راع (فتذئ [44] مياه الغدير) ، ولا (صاخب) يصيح في (جنح) - أي من الليل - (هيا إمق الآتي بلغة) الأجنبي [45] (اءت) واذهب (محظوظًا) فلا (نياحة) من (نات مهمومة) قد (عنت) المدن ثانيًا، وسيقم الفلاح محصوله والتفت (رع) إلى مصر فوُلد منفتاح ملك مصر، وشيء له بأن يكون (مناضلاً) عنها، وأن تكون (الولاة منبطحة) - له - وتقول (سلامًا) ، وأن (لا يرفع أحد من البدو نطابه) [46] (فانفكت التحنو وتحفظت) خِيتا [47] (واقتحيت كنعان لوبنتها [48] وعنيت عسقلان) ، وقبض على جزال، وصارت ينعمام عدمًا في الوجود (وانفك الإسرائيليون فلا بزر لهم، وأصبحت فلسطين خلية) [49] لمصر، (والأراضي) كلها (مضمومة) في (حفظ) وكل (أشم وعفه [50] الصيدن القب منفتاح سليل) الشمس معطي المعيشة كل نهار مثل الغورة (أي الشمس) . اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

جواب على استفتاء المنار (جزء 2 مجلد 18) في قول الشاعر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جواب على استفتاء المنار (جزء 2 مجلد 18) في قول الشاعر جدير (كذا) ببهرٍ والتفاتٍ وسعلةٍ ... ومسحة عثنون وفتل والأصابع وإنما قال الشاعر (مَليء ببهرٍ) ، فقوله (جدير) سهو منه في اللفظ، لا في المعنى لأن مليء معناها عنده جدير، أو حري، أو أو، وتفسيره مليء بهذا المعنى هو الذي حمله على استغراب التقدير في البيت مع أنه لم يرد في كتاب من كتب اللغة مليء بمعنى جدير، أو حري، أو ما يصح به معنى البيت بالعطف على بهر، ولم يسمع هذا المعنى حقيقة، ولا مجازًا، إلا إذا استعمله بعضهم وحمله على المجاز من عنده تجوزًا، ولا يخفى أن اللغة سماعية توقيفية لا يحتج بالاصطلاح والاستعمال فيها، وحاصل ما ورد في كتب اللغة أن مليء (؟) من ملئ كسمع فعيل بمعنى مفعول، ومعناه مملوء، ومنه مليء للغني لامتلاء خزائنه بالمال والحسنى القضاء لامتلائهم علمًا وحكمة، فيقال فلان مملوء بالبهر والعي، ولا يقال مملوء بالالتفات، ومسح اللحية، وفتل الأصابع، فإذا سخف المعنى وجب التقدير وإن استقام النظم، وبحث خطأ المعاني وصوابها والحذف والتقدير لذلك مذكور في محله من كتب البلاغة، وإليك خلاصة ما ورد في معنى ملئ بالهمز قال في القاموس ملأه كمنع ملأً ومِلأة بالفتح والكسر، وملّأه تملئة فامتلأ وتملّأ ومليء كسمع أقول (ومليءٌ من ملئَ) هذه، وقال في تاج العروس: ورجل مليء جليل يملأ العين وفلان أملأ لعيني، وهو رجل مالئ للعين، ومنه حديث عمران إنه ليخيل إلينا أنه أشد ملئة، إلى أن قال في آخر المادة وهو ملآن من الكرم ومَليء. فلا وجه لاستغراب التقدير في البيت حينئذ إلا إذا جوزنا قول من يقول فلان مملوء بمسح العثنون وفتل الأصابع، ولم نستسخفه، أو وجدنا معنى لمليء يصح به العطف على بهر، وكان هذا المعنى واردًا في اللغة حقيقة، أو مجازًا، واستعمله من يُعتد ويُحتج به. (المنار) صححنا البيت في الجزء الماضي، فلم يبق محل لما ذكر في هذا الجواب في شأن استبدال كلمة جدير بكلمة مليء، والواجب حصر الكلام في ضبط البيت وبيان معناه بالألفاظ التي ورد فيها. ادعى (المتأدب) المجيب أن حاصل ما ورد في كتب اللغة أن مليء معناه مملوء، وأنه ملئ كسمع، وأنه يصح أن يقال: مملوء بالبهر، ولا يصح أن يقال مملوء بالالتفات ومسح اللحية وفتل الأصابع؛ فلهذا وجب التقدير عنده وهو الذي قال إن التقدير: وله التفات وسعلة ... إلخ، ولا وجه لاستغراب التقدير عنده إلا في الحالتين اللتين ذكرهما في الجواب، وهما عنده في حيز النفي، هذا حاصل جوابه. ما ذكره وبنى عليه جوابه من أن حاصل ما في كتب اللغة أن (مليء) معناه مملوء، وأنه من ملئ كسمع، غير صحيح فما كل مملوء يسمى مليئًا، ولا كل ما أطلق عليه لفظ مليء يصح أن يطلق عليه لفظ مملوء، وإن كان لا يخلو الاستعمال من المناسبة لأصل معنى المادة، ولا مليء من ملئ كسمع قال في لسان العرب: والملاء الزكام يصيب من امتلاء المعدة، وقد ملؤ فهو مليء، ومُلئ فلان وأملأه الله: أزكمه فهو مملوء على غير قياس، ثم قال: وقد ملُوء الرجل يملُؤ ملاءة فهو مَلئ: صار مليئًا، أي ثقة فهو غني مليء بَيِّنُ الملاءِ والملاءةِ - ممدوان - وفي حديث الدين " إذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع " المليء بالهمز الثقة الغني، وقد أولع فيه الناس بترك الهمز، وتشديد الياء، وفي حديث عليّ - كرم الله وجهه -: (لا مليء والله بإصدار ما ورد عليه) . اهـ. وفى القاموس المحيط: والملآء الأغنياء المتمولون، أو الحسنو القضاء منهم، الواحد مليء. اهـ، وقد غفل (المتأدب) المجيب عن قوله (منهم) فظن أن المليء يطلق على الحاكم الحسن القضاء لامتلائه علمًا وحكمة، على أن له أن يقول هذا من تلقاء نفسه تجوزًا، وإن كان في جوابه ما يدل على عدم الجواز، فالقول الثاني من قولي القاموس إن المليء يطلق على الغني الحسن القضاء أي الوفاء لا على كل غني، ومثل هذا لا يجوز أن يقال فيه مملوء، وفسر الجوهري المليء بكثير المال أو الثقة الغني، والفيومي بالغني المقتدر، حكاهما شارح القاموس. وفي مجاز الأساس ما نصه: وما كان هذا الأمر عن ملأ منا أي ممالأة ومشاورة، ومنه: هو مليء بكذا: مضطلع به، وقد ملؤ به ملاءة، وهم مليئون به وملآء. اهـ. هذا حاصل ما ورد في كتب اللغة في الكلمة لا ما قاله المجيب، ومنه يعلم أن أظهر هذه الأقوال في تفسير البيت أن (مليء) فيه بمعنى مضطلع، وحاصل المعنى أن هذا الخطيب الذي يذمه الشاعر لا قوة له على الخطابة، لا اضطلاع له بها وإنما هو مليء مضطلع بصفات العي والحصر كلها، وهي البهر الذي هو انقطاع النفس وتردده من الإعياء والالتفات، ومسح اللحية، وفتل الأصابع، فالمضلع بالأمر هو القوي عليه القادر على احتماله، ويصح أيضًا أن يقال إنه غني وثقة بهذه الصفات، أي لأنه فقير من الفصاحة والبلاغة، وما به تكون الخطابة، أوْ لا ثقة به في ذلك. ومن البديهي أن كلمة مملوء لا تحل محل كلمة مضطلع، ولا كلمة ثقة، ولا كلمة حسن القضاء، أي لما عليه من الحق، بل ولا محل كلمة غني ومزكوم، ولكن معنى الامتلاء يناسب هذا المعنى في الجملة دون معنى المضطلع والثقة، ولم يرد عنهم: إناء أو دلو أو ذق مليء، كما يقال مملوء، فالفرق بين مليء ومملوء مثل الصبح ظاهر. ثم إننا نقول إذا جرى (المتأدب) في فهم كل استعمالات اللغة على الطريقة التي جرى عليها في فهم هذه الكلمة (مليء) فاته الفهم الصحيح في أكثرها، وأعني بهذه الطريقة أن يعمد إلى كلمة من أصل المادة، ويحمل عليها كل معنى حقيقي ومجازي لها، مثال ذلك قولهم: اضطلع بالأمر، أصل معناها الاشتقاقي: احتملته أضلاعه؛ ولكنه يقال في الأمور المعنوية، ومنه قول عليّ - كرم الله وجهه - في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - فاضطلع بأمرك لطاعتك فسروه في كتب اللغة والحديث بقولهم: قوي عليه ينهض به، وليس أمر الوحي والدين مما تحمله الأضلاع، وإنما يحمله العقل والروح ويؤديه اللسان. هذا ما ظهر لنا، فما يقول في البيت أدباء مصر كالشيخ المرصفي، والشيخ محمد المهدي، وإسماعيل باشا صبري، وحفني بك ناصف، وأحمد بك تيمور، وحافظ بك إبراهيم، ومحمد بك المويلحي، وسائر الكتاب والشعراء؟ .

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (الواجب) (مؤلفه الفيلسوف الفرنسي جول سيمون، وقد ترجم الجزء الأول منه بالعربية محمد أفندي رمضان، والشيخ طه حسين، وطُبع بمطبعة الجريدة، وصفحاته 74، وللمترجمين مقدمة وترجمة للمؤلف في بضع صفحات. الكتاب من أشهر كتب الفلسفة التي نقحها عقل ذلك الفيلسوف الفرنسي الشهير وموضوع الجزء الأول المُترجَم منه مبحث الاختيار، ومذهبه فيه كمذهب أهل السنة وسط بين مذهبي الجبرية والقدرية، وقد عقد فيه فصلاً طويلاً للكلام في العادة، ومكان الاختيار منها، وتأثيرها في أعمال الإنسان. *** (شرح ابن عقيل على الألفية) هذا الكتاب من أشهر كتب النحو، وأكثرها تداولاً، وقد طُبع مرارًا كثيرة طبعات لا تستحق الذكر حتى طبعه منذ عامين صاحب المكتبة الأزهرية الشيخ محمد سعيد الرافعي بمطبعة السعادة طبعة جميلة على ورق جيد بقطع أصغر من قطع المنار، وأكبر من قطع رسالة التوحيد، ووضع له في أدنى الصفحات حواشي في إعراب ما يشكل من أبيات الألفية وأبيات الشواهد، وتفسير الكلمات الغريبة في أبيات الشواهد مع عزو الأبيات إلى قائليها، ومتن الألفية في هذا الشرح مضبوط بالشكل الكامل، فنرجو لهذه الطبعة ما تستحق من الانتشار، وهو يُطلب من طابعه، ومن مكتبة المنار بمصر. *** (ديوان الحماسة) أعاد الرافعي أيضًا طبع ديوان الحماسة في مطبعة السعادة، مع شرح غريبة له المختصر من شرح التبريزي، طبعه على ورق جيد، وضبط الأبيات ضبطًا تامًّا نادر الغلط، وقد امتازت هذه الطبعة على طبعته الأولى له بتراجم معظم شعراء الحماسة، وبذكر سبب الشعر، وصفحاته 432 بقطع شرح ابن عقيل ويطلب من طابعه، ومكتبة المنار بمصر. ولعمر الله إن هذا الديوان بهذا الشرح لمن أنفع الكتب لطالب العربية، حتى أنه كاد ليغني عن شرح التبريزي نفسه، وقد عُني الرافعي بتصحيحه عناية عظيمة *** (المزهر) في علوم العربية وأنواعها للعلامة جلال الدين السيوطي (جزآن) وبهذه المناسبة نقول: إن الرافعي أعاد طبع كتاب المزهر النفيس الشهير منذ بضع سنين على ورق جيد بمطبعة السعادة بمصر. *** (دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم) من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هذا الكتاب من جمع ورواية الإمام القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي الفقيه الشافعي المتوفى سنة 454، وهو منقول بالرواية سماعًا من ناسخه عن القاضي سناء الدين أبي عبد الله محمد العامري بمصر نسخه له - من الشريف القاضي الخطيب فخر الدولة أبي الفتوح ناصر بن الحسن بن إسماعيل الحسيني الزيدي، عن أبي عبد الله محمد بن بركات هلال السعيدي اللغوي عن المؤلف. طبع الرافعي هذا الكتاب لأول مرة عن نسخة نفيسة وجدت عند البحَّاثة جميل بك العظم مكتوبة بخط حسن على ورق جيد، مضبوطة بالشكل التام، كتبها محمد بن منصور بن خليفة بن منهال برسم ولده منهال، وفرغ منها في 8 ذي القعدة سنة 611 عن نسخة عليها خط الشريف الخطيب أحد رواة الكتاب، وصورة سماع رواتها، والإجازات بها، طبعه بمطبعة السعادة، وص 208 بقطع ما ذكر آنفًا من مطبوعاته، ويُطلب من طابعه ومن مكتبة المنار. وحسبنا أن نقول: إن هذا الكتاب من نخب كلام أمير المؤمنين الذي أنزل الله الحكمة على قلبه، ونطق بها لسانه، ولا يجهل أحد أن كلام الإمام يعد بعد كلام الله ورسوله في أعلى ذروة البلاغة، والفصاحة، والحكمة البالغة، والآداب الجامعة.

أصول الفقه عند الظاهرية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أصول الفقه عند الظاهرية وهي المسائل التي جعلها الإمام أبو محمد علي بن حزم مقدمة لكتابه (المُحَلَّى) وعناوين المسائل من زيادة المنار (2) أفعال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (مسألة) وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست فرضًا، إلا ما كان منها بيانًا لأمر، فهو حينئذ أمر؛ لكن الائتساء به - عليه السلام - فيها حسن، برهان ذلك هذا الخبر الذي ذكرنا آنفًا من أنه لا يلزمنا شيء إلا ما أَمَرَنا به، أو نهانا عنه، وإن ما سكت عنه فهو ساقط عنا، قال الله - عز وجل -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) *** شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا: (مسألة) ولا يحل لنا اتباع شريعة نبي قبل نبينا، عليه السلام. قال الله - عز وجل -: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، نا وهب بن مرة، نا محمد بن وضاح، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا هشيم، نا بشار، نا يزيد الفقير: أخبرني جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأُحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الناس عامة " فإذا صح أن الأنبياء - عليهم السلام - كلهم لم يبعث أحد منهم إلا إلى قومه خاصة، فقد صح أن شرائعهم لم تلزم إلا من بُعثوا إليه فقط، وإذا لم يبعثوا إلينا، فلم يخاطبونا قط بشيء، ولا أمرونا ولا نهونا، ولو أمرونا ونهونا وخاطبونا لما كان لنبينا - عليه السلام فضيلة - عليهم في هذا الباب، ومن قال بهذا فقد كذَّب هذا الحديث وأبطل هذه الفضيلة التي خصنا الله تعالى بها. فإن صح أنهم - عليهم السلام - لم يخاطبونا بشيء، فقد صح يقينًا أن شرائعهم لا تلزمنا أصلاً، وبالله تعالى التوفيق. *** تحريم التقليد: (مسألة) ولا يحل لأحد أن يقلد أحدًا، لا حيًّا، ولا ميتًا، وعلى كل أحد من الناس الاجتهاد حسب طاقته، فمن سأل عن دينه فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله - عز وجل - في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل عن أعلم أهل بلده بالدين الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا دُل عليه سأله، فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله ورسوله؟ ، فإن قال له: نعم، أخذ بذلك وعمل به أبدًا، وإن قال له: هذا رأيي، أو هذا قياس، أو هذا قول فلان، وذكر له صاحبًا، أو تابعًا، أو فقيهًا قديمًا أو حديثًا، أو سكت أو انتهره، أو قال له لا أدري، فلا يحل له أن يأخذ بقوله؛ ولكن يسأل غيره، وبرهان ذلك قوله - عز وجل -:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ [[1] (النساء: 59) ، فلم يأمر عز وجل قط بطاعة بعض أولي الأمر، فمن قلد عالمًا، أو جماعة علماء فلم يطع الله تعالى، ولا رسوله _ صلى الله عليه وسلم -، ولا أولي الأمر، وإذا لم يردا إلى ما ذكرنا فقد خالف أمر الله - عز وجل -، ولم يأمر الله - عز وجل - قط بطاعة بعض أولي الأمر دون بعض. فإن قيل فإن الله تعالى قال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) ، وقال تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122) قلنا نعم ولم يأمر الله - عز وجل - أن تقبل من النافر للتفقه في الدين رأيه، ولا أن يطاع أهل الذكر في رأيهم ولا في دين يشرعونه لم يأذن به الله - عز وجل -، وإنما أمر تعالى أن نسأل أهل الذكر عما لا نعلم من الذكر الوارد من عند الله تعالى فقط، لا عما قاله [2] من لا سمع له ولا طاعة، وإنما أمر تعالى بقبول نذارة النافر للتفقه في الدين فيما تفقه فيه من دين الله تعالى الذي أتى به رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا في دين لم يشرعه الله عز وجل. ومن ادَّعى وجوب تقليد العامي للمفتي، فقد ادعى الباطل، وقال قولاً لم يأت به قط نص قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، وما كان هكذا فهو باطل لأنه قول بلا دليل، بل البرهان قد جاء بإبطاله، قال الله تعالى ذامًّا لقوم: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ} (الأحزاب: 67) . والاجتهاد إنما معناه بلوغ الجهد في طلب دين الله تعالى الذي أوجبه على عباده، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم أن المسلم لا يكون مسلمًا إلا حتى يُقر بأن الله تعالى إلهه لا إله له غيره، وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الدين إليه وإلى غيره، فإذ لا شك في هذا ففرض عليه أن يسأل إذا سمع فتيا: أهذا هو حكم الله تعالى، وحكم رسوله؟ ، وهذا لا يعجز عنه من يدري بالإسلام ولو أنه كما جلب من (قوقو) ، وبالله تعالى التوفيق. *** استفتاء أهل الحديث لا الرأي: (مسألة) وإن قيل له إذا سأل عن أعلم بلده في الدين: هذا صاحب حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا صاحب رأي وقياس، فليسأل صاحب الحديث، ولا يحل له أن يسأل صاحب الرأي أصلاً، وبرهان ذلك قول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ، وقوله تعالى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) فهذا هو الدين لا دين سوى ذلك، والرأي والقياس ظن، والظن باطل. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، نا أحمد بن سعيد، نا ابن وضَّاح، نا يحيى بن يحيى، نا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) . حدثنا يونس بن عبد الله، نا يحيى بن مالك بن عائذ، نا أبو عبد الله بن أبي حنيفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، نا يوسف بن يزيد القراطيسي، نا سعيد بن منصور، نا جرير بن عبد الحميد عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي قال (السنة لم توضع بالمقاييس) حدثنا محمد بن سعيد بن ثبات نا إسماعيل بن إسحاق البصري، نا أحمد بن سعيد بن حزم، نا محمد بن إبراهيم بن حمون الحجازي، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول (الحديث الضعيف أحب إلينا من الرأي) [3] ، حدثنا همام بن أحمد، نا عباس بن أصبغ، نا محمد بن عبد الملك بن أعين، نا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيه إلا صاحب حديث، لا يعرف صحيحه من سقيمه، وأصحاب رأي فتنزل به النازلة: من يسأل؟ فقال أبي: يسأل صاحب الحديث، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث أقوى من رأي أبي حنيفة. *** رفع الخطأ والنسيان: (مسألة) ولا حكم للخطأ ولا للنسيان إلا حيث جاء في القرآن أو السنة لهما حكم قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب: 5) ، وقال تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286) . *** إنما التكليف بالاستطاعة: (مسألة) وكل فرض كلفه الله تعالى الإنسان، فإن قدر عليه لزمه، وإن عجز عن جميعه سقط عنه، وإن قوي على بعضه، وعجز عن بعضه سقط عنه ما عجز عنه، ولزمه ما قدر عليه منه سواء كان أقله أو أكثره، برهان ذلك قول الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) ، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وقد ذكرناه قبل بإسناده، وبالله تعالى التوفيق. *** لا يقدم الموقت على وقته: (مسألة) لا يجوز أن يعمل أحد شيئًا من الدين موقتًا بوقت قبل وقته، فإن كان موقتًا الأول من وقته، والآخر من وقته لم يجز أن يعمل لا قبل وقته ولا بعد وقته، لقول الله -عز وجل-: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق:1) ، وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا} (البقرة: 229) والأوقات حدود فمن تعدى بالعمل وقته الذي حده الله تعالى له، فقد تعدى حدود الله [4]- حدثنا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا إسحق بن إبراهيم - هو ابن راهويه- عن أبي عامر العقدي، نا عبد الله بن جعفر الزهري، عن سعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قال سألت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: أخبرتني عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . (قال علي) ومن أمره الله تعالى أن يعمل عملاً في وقت سماه له، فعمله في غير ذلك الوقت، إما قبل الوقت، وإما بعد الوقت، فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الله تعالى، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود باطل غير مقبول، وهو غير العمل الذي أمر به. فإن جاء نص بأنه يجزئ في وقت آخر، فهو وقته أيضًا حينئذ، وإنما الذي لا يكون وقتًا للعمل، فهو ما لا نص فيه، وبالله تعالى التوفيق. *** المجتهد المخطئ خير من المقلد المصيب: (مسألة) والمجتهد المخطئ أفضل عند الله من المقلد المصيب، هذا في أهل الإسلام خاصة، وأما غير أهل الإسلام فلا عذر للمجتهد المستدل، ولا للمقلد، وكلاهما هالك، برهان هذا ما ذكرناه آنفًا بإسناده من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) ، وذم الله تعالى التقليد جملة، فالمقلد عاصٍ، والمجتهد مأجور. وليس من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقلدًا لأنه فعل ما أمره الله تعالى به، وإنما المقلد من اتبع دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه فعل ما لم يأمره الله تعالى به، وأما غير أهل الإسلام فإن الله تعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) . *** الحق واحد لا يتعدد: (مسألة) والحق من الأقوال في واحد منها وسائرها خطأ، وبالله تعالى التوفيق، قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ} (يونس: 32) وقال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، وذم تعالى الاختلاف فقال: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} (آل عمران: 105) ، وقال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا} (الأنفال: 46) ، وقال تعالى {تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} (النحل: 89) فصح أن الحق في الأقوال هو ما حكم الله تعالى به فيه، وهو واحد لا يختلف، وأن الخطأ ما لم يكن من عند الله تعالى، ومن ادعى أن الأقوال كلها حق، وأن كل مجتهد مصيب، فقد قال قولاً لم يأت به قرآن، ولا سنة، ولا إجماع، ولا معقول. وما كان هذا فهو باطل ويبطله أيضًا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم- (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) فنص - عليه السلام - أن المجتهد قد يخطئ. ومن قال: إن الناس لم يكلفوا إلا اجتهادهم فقد أخطأ، بل ما كُلفوا إلا إصابة ما أمر الله تعالى به، قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) فافترض - عز وجل - اتباع ما أنزل إلينا، وأن لا نتبع غيره، وألا نتعدى حدوده. وإنما أُجِرَ المجتهد المخطئ أجرًا واحدًا على نيته في طلب الحق فقط، ولم يأثم إذ حرم الإصابة. فلو أصاب الحق أجر أجرًا آخر، كما قال عليه السلام إنه إذا أصاب أجر أجرًا ثانيًا، حدثنا عب

مقارنة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية ـ 3

الكاتب: أحمد كمال

_ المقارنة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*] (3) نص وترجمة الوصفة الطبية المدرجة في القرطاس الطبي المحفوظ بمتحف برلين، وهي التاسعة والتسعون بعد المائة، وكانت كتابة هذا القرطاس في زمن العائلة التاسعة عشرة، واسم الوصفة الطبية بلسانهم (بخر) [1] . لمأة [2] تمشؤ الست لا تمشؤ [3] بُرٌّ [4] وعُضٌّ [5] تفوحهما [6] الست بمائها رفاء [7] مثل البرني [8] والعيش [9] في غلافين [10] ، فإن ذرءا [11] لوفرتهما [12] ، فإنها تمشؤ وإن ذرأ البر فهو ذكر، وإن ذرأ العض فهو ست، وإن عدم الذرء لا تمشؤ. والمعنى: إن أُريد أن يُعرف هل تلد المرأة أم لا تلد، وماذا تلد إن ولدت، فليوضع في غلاف أي إناء شيء من البر، وفي إناء آخر شيء من الشعير، كما يُفعل في نقع التمر والعيش، وتبول المرأة عليهما كل يوم، فإن نبتا معًا فإنها تلد وإن نبت القمح وحده تلد ذكرًا، وإن نبت الشعير وحده تلد أنثى، وإن لم ينبتا لا تلد. ((يتبع بمقال تالٍ))

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 8

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (8) الأعضاء التي لا قناة لها علم مما سبق أن في جسم الإنسان نوعين من الأعضاء: (النوع الأول) : هو الذي له قناة تحمل إفرازه سواء أكان هذا الإفراز صالحًا للجسم، أم ضارًّا به، فمثال الصالح إفراز البنكرياس، ومثال الضار إفراز الكُلية، وتسمى هذه الأعضاء (بالغدد التي لها قناة) ، وإفرازها يسمى (بالإفراز الخارجي) ؛ لأنه يُرى خارجًا منها، ويجري في قنواتها، وأكثر هذه الأعضاء له إفراز آخر يسمى (بالإفراز الداخلي) ، وهو الذي يجري في الأوردة الدموية، أو في الأوعية اللمفاوية، وله فوائد سنذكرها - إن شاء الله تعالى -، مثال ذلك الخصية فإن لها إفراز خارجيًّا، وهو المني يجري في قنواتها المعروفة، وإفرازًا داخليًّا لا يُرى، وله تأثير في بنية الشخص، وهيئته، وصوته، وشعر وجهه، ونحو ذلك من مميزات الذكور التي تُفْقَد بالخصاء. (النوع الثاني) : الأعضاء التي لا قناة لها كالطحال وغيره، وهذه لها إفراز واحد يسمى (بالإفراز الداخلي) له منافع عظيمة في الجسم، وقال آخرون: إن المراد من هذه الأعضاء الأخيرة ليس إفراز مواد نافعة للجسم، بل إخراج بعض فضلاته لضرر بقائها فيه، والظاهر أن كلتا النظريتين صحيحة من بعض الوجوه، ولكن الأولى أكثر قبولاً عند الجمهور الآن من الثانية، وهاك بيان وظيفة تلك الأعضاء التي لا قناة لها: (1) الطحال: عضو شهير، وهو أكبر الغدد التي لا قناة لها، وموضعه في الجهة اليسرى من البطن بين المعدة والحجاب الحاجز، أما وظائفه فخمس: (أولها) تكوين كريات بيضاء للدم. (ثانيها) توليد بعض الكريات الحمراء في بعض الحيوانات. (ثالثها) إتلاف الكريات الحمراء القديمة التي قاربت الفساد. (رابعها) تكوين بعض مواد نيتروجينية كحامض البوليك لإخراجها من الجسم لضرر بقائها فيه. (خامسها) يقوم الطحال بوظيفة مستودع للدم يجتمع فيه إذا انتهى الهضم فيمتلئ به ويكبر حجمه، وإذا ابتدأ الهضم يندفع الدم منه الى المعدة. (2) الغدة الصعترية: غدة مؤقتة تكبر عقب ولادة الطفل إلى نهاية السنة الثانية، إذ يتم نموها، ثم تأخذ في التناقص شيئًا فشيئًا؛ حتى لا يبقى إلا أثرها في زمن البلوغ، موضعها في الجزء الأمامي من الصدر وراء القفص تمتد إلى أسفل العنق، ولونها يميل إلى الحمرة، أو يقرب من السنجابي. ووظيفتها تكوين كريات بيضاء كباقي الغدد اللمفاوية، وفي الحيوانات التي تسبت (Hibern ate) [1] تبقى فيها هذه الغدة الصعترية مدة الحياة كلها، وفي أثناء يقظتها يتراكم فيها جزء عظيم من الشحم، وهذا يستعمل في أثناء سباتها فيأخذ في الاحتراق شيئًا فشيئًا. فيظهر من ذلك أنها تجتمع فيها بعض المواد التي تلزم للحياة في أثناء هذا النوم الطويل في تلك الحيوانات. ويقول بعض العلماء: إنها تولد أيضًا بعض الكريات الحمراء في الأطفال، وإذا أُزيلت هذه الغدة من بعض الحيوانات كالضفادع مثلاً حصل لها ضعف عضلي شديد مع شلل ينتهي بالموت. (3) الغدة الدرقية: تُشاهد في أسفل العنق من الأمام على القصبة الهوائية، وشكلها يشبه الدرقة؛ ولذلك سميت بهذا الاسم، وهي في النساء أكبر منها في الرجال، وفي زمن الحيض تنتفخ قليلاً، وقد تصاب بمرض فتحصل فيها ضخامة عظيمة تسمى بلسان الأطباء (جواتر) Gositre [2] ، وهو مرض عسير الشفاء، ولا يزول غالبًا إلا بعملية جراحية، فيُستأصل من العنق المسماة (بتفاحة آدم) [3] فإن هذه الغدة التي نتكلم عليها هي تحت التفاحة بقليل. أما مادتها فمركبة من منسوج مخصوص مشتمل على حويصلات صغيرة جدًا مملوءة بمادة غروية مركبة من الزلال وعنصر اليود. ووظيفة هذه الغدة أن تفرز إفرازًا داخليًّا له تأثير عظيم في بنية الشخص وقواه العقلية، فإذا مرضت أو استُؤْصِلَتْ في الأطفال وقف جسمهم عن النمو، وأصيبوا بالبله، وإذا أصابها المرض في الكبر حدث للإنسان ما يسمى (بالتورم المخاطي) [Myxoedema] في جسمه؛ فتضخم جميع الأنسجة تحت الجلد حتى يتورم جسمه، ويصاب بالضعف العام في جميع قواه الجسمانية والعقلية؛ ولذلك يجب الاحتراس في أثناء العمليات الجراحية من استئصال هذه الغدة كلها، بل يتحتم ترك جزء منها ليقوم بهذه الوظيفة المهمة. وإنما سمي هذا المرض الأخير بالتورم المخاطي لظنهم أن هذا الورم ناشئ عن زيادة المواد المخاطية تحت الجلد، والحقيقة أن المنسوج الضام الذي تحت الجلد بجميع أجزائه هو الذي يضخم، لا المادة المخاطية التي فيه وحدها. ولعلاج هذه الأحوال يجب استمرار حقن خلاصة من الغدة الدرقية تحت جلد المصاب، أو تستعار له هذه الغدة من أحد الحيوانات، وتلصق بجسمه جراحيًّا (وهي طريقة قليلة النجاح) ، وأحسن من ذلك كله أن يأكل المريض من هذه الغدة ما دام حيًّا. ويوجد للغدة الدرقية أخوات صغيرة بجوارها، أو فيها، والراجح عند بعض العلماء أن التأثير الأعظم في المجموع العصبي وغيره هو لهذه الغدد الصغيرة. (4) الغدة التي فوق الكلية: هي جسم شكله كالقلنسوة المضغوطة من الجانبين يُرى على قمة كل من الكُليتين، أما وظيفتها فأول من اهتدى إليها طبيب إنكليزي يسمى (أديسون) Addiso في سنة 1855م؛ ولذلك سُمي المرض الناشئ من إصابة هذه الغدة باسمه إلى اليوم، وأعراضه ضعف في المجموع العضلي كله، وفي المجموع الدوري للدم، وفي الأعصاب، وإصابة الجلد بلون السمرة بحيث تشبه النحاس. وإذا اُستخلص من هذه الغدة خلاصة، وحُقنت تحت الجلد أحدثت انقباضًا في الأوعية الدموية الصغيرة، فهي لذلك تنفع في منع النزيف، وكذلك إذا وُضِعَتْ هذه الخلاصة على الأغشية المخاطية صيرت لونها أكمد لانقباض الأوعية الدموية فيها ومنعت النزيف، وأشهر الأمراض التي تصيبها هو التدرن. (5) الجسم النخامي أو المخاطي: هو جسم في الدماغ أحمر سنجابي، يُشاهد على السرج التركي للعظم الوتدي من عظام الجمجمة أسفل المخ، ومرض هذا الجسم يُحْدِث ضخامة فظيعة في عظام الأطراف العليا والسفلى، وكذلك في عظام الوجه. (6) الغدة الصنوبرية: هي أيضًا داخل الجمجمة تحت مؤخر الجسم المندمل الموصل بين فصي المخ، في وسطها تجويف صغير، ولم تُعْلَم لهذا الجسم وظيفة إلى الآن، وغاية ما يُعْرَف عنه أنه أثر ضامر لعين ثالثة. وتوجد هذه العين في حال أحسن منا في الإنسان في الأورال (الغطاء) [Lizards] خصوصًا في النوع المسمى بالإفرنجية (هتيريا) [Hatteria] ، وهي فيها مغطاة بالجلد، وفي الحرباء وبعض الزواحف تتصل الغدة الصنوبرية بعين ثالثة في وسط سطح الرأس؛ ولكنها في الحالة الأثرية أيضًا. وهذا العضو هو من أعظم، وأشهر الأعضاء الأثرية التي بني عليها مذهب دارون. (7) الجسم العصعصي: يوجد عند نهاية العصعص، وفيه منسوج ضام مشتمل على كثير من أوعية دموية صغيرة، وهذا الجسم لا تُعْرَف له وظيفة أيضًا (8) الجسم السباتي: هو جسم عند انقسام الشريان السباتي [4] الذي في جانبي العنق الأيمن والأيسر. وهذا الجسم يشبه في تركيبه الجسم العصعصي وهو مثله أيضًا في جهلنا وظيفته جهلاً تامًّا *** الجلد تركيبه ووظيفته يتركب الجلد من طبقتين: العليا تسمى البشرة، والسفلى تسمى الأدمة، وفيهما الشعر، والأظفار، والغدد الدهنية، وغدد العرق، أما البشرة: فهي مركبة من طبقات عديدة، كل منها مركب من خلايا بعضها بجانب بعض كالبلاط. وأما الطبقات السطحية: فهي كالقشور الميتة، وتُفْقَد منها نوياتها، وتنفصل عن الجلد شيئًا فشيئًا، ويحصل نمو البشرة من طبقاتها السفلى، وفي هذه الطبقات ترى المواد الملونة لبعض أنواع البشر، وفيها أيضًا تحفظ المواد التي يستعملها الناس للوشم، وطبقات البشرة تتغذى بالمادة اللمفاوية، ولها مجار دقيقة جدًّا بين خلياتها، ولا يوجد في البشرة عروق للدم؛ ولكن يوجد في الطبقات السفلى منها أعصاب دقيقة جدًّا. وأما الأدمة: فهي مركبة من منسوج ليفي كثيف، وهذه الكثافة تتناقص شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى المنسوج الخلوي الذي تحت الجلد وبه الشحم، وفي الأدمة حلمات صغيرة توجد بكثرة في راحة الكفين، وفي أخمص القدمين، وهي أكبر الحلمات الجلدية، ويكون بعضها بجوار بعض صفًّا صفًّا، وهي السبب فيما نشاهده في جلد الراحة مثلا من القنوات الصغيرة، وهذه القنوات لها أشكال متنوعة في يد كل شخص، بحيث يتعذر وجود شخصين متماثلين فيها من جميع الوجوه؛ ولذلك يختبر بها تحقيق الشخصية. وفي الحلمات الجلدية لفائف من الأوعية الشعرية الدموية، وفي بعض الأجزاء كالأخمصين، والراحتين، وغيرهما أجسام بيضاوية لها علاقة مخصوصة بحاسة اللمس. وفي الطبقات السفلى من أدمة الصفن، والقضيب، وحلمة الثديين ألياف عضلية غير اختيارية، وهي التي تُحْدِث الانكماش في جلد تلك الأعضاء بانقباضها وأما الأظفار: فهي عبارة عن بعض طبقات من طبقات البشرة تنوعت تنوعًا خاصًّا. وأما الشعر: فهو أيضًا طبقات من البشرة تنوعت تنوعًا مخصوصًا، وكل شعرة تنبت من بصيلة في حفرة مخصوصة تسمى الحويصلة الشعرية، والشعر يوجد في جميع أجزاء الجسم بدرجات مختلفة ما عدا الراحتين، والأخمصين، والقضيب، أما لونه فهو ناشئ عن وجود مادة ملونة في خلاياه، وسبب الشيب فقد هذه المادة، وقد يتولد في الشعر فقاقيع هوائية، وهي التي تُظْهِر أن لونه أبيض عند حصول فزع للإنسان مثلاً. وكل حويصلة من حويصلات الشعر لها ليفة عضلية صغيرة تجذبها في بعض الأحوال؛ فينتصب الشعر كما يحصل عند البرد أو الفزع. وأما الغدد الدهنية: فهي غدد كيسية موضعها في الأدمة، وتنفتح قنواتها في أعلى حويصلات الشعر، وهي تفرز مادة دهنية فائدتها تليين الشعر والجلد، وبانسداد هذه الغدد، والتهابها يحصل (حب الشباب) بسبب كثرة إفراز المادة الدهنية في هذا الطور من العمر، وبعد سن الثلاثين يندر وجود هذا المرض. وأما غدد العرق: فتوجد في جميع سطح الجلد، وتكثر جدًّا في الأماكن التي لا شعر فيها كالراحتين، وكل منها عبارة عن أنبوبة ملتفة على نفسها، موضعها في الأدمة أو فيما تحتها - وهو الغالب - وتنفتح قنواتها في سطح البشرة. وأما المادة التي تفرز في داخل الأذن فلها غدد تشبه غدد العرق. وظائف الجلد: (1) أن يكون وقاية للجسم، ومركزًا للحس باللمس. (2) عليه مدار تنظيم حرارة الجسم، كما سبق. (3) يتنفس الجسم منه، فإنه يخرج منه غاز ثاني أكسيد الفحم، ويمتص الجسم أكسجين من الهواء، وهذه الوظيفة في الحيوانات ذوات الجلد السميك ضعيفة جدًّا؛ ولكن لها في ذوات الجلد الرقيق أهمية عظمى، حتى إذا نُزع منها الرئتان عاش الحيوان مدة بالتنفس الجلدي فقط كما في الضفادع. (4) الامتصاص: وهذه الوظيفة لها أهمية في العلاج؛ فإن كثيرًا من المواد إذا وُضعت على الجلد دخلت البنية كالزئبق مثلاً، وكذلك الزيوت وغيرها كثير، فبامتصاص الزئبق من هذا الطريق يمكن معالجة الداء الإفرنجي، وكذلك يُعَالَج الأطفال النحفاء بدلك أجسامهم بالزيوت خصوصًا زيت السمك، وهي طريقة لطيفة لتوقي طعمها المبغوض، ومن هنا نفهم سبب سمن أكثر المشتغلين بمس الزيوت، والشحوم كالجزارين مثلاً؛ فإن أجسامهم تمتص شيئًا منها، والامتصاص بالجلد هو بالضرورة أضعف من الامتصاص بالأغشية المخاطية. (5) الإفراز: ومعناها خروج بعض المواد الضارة بطريق الجلد من جسم الإنسان في العرق وغيره. *** العرق تو

أصناف الأقلام العربية في الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أصناف الأقلام العربية في الإسلام نموذج من كتاب انتشار الخط العربي في العالم الشرقي والعالم الغربي [*] بقي الخط العربي على حالته القديمة غير بالغ مبلغه من الإحكام والإتقان في زمن الرسول، والخلفاء الراشدين؛ لاشتغال المسلمين بالحروب حتى زمن بني أمية فابتدأ الخط يسمو ويرتقي، وكثر عدد المشتغلين به، وفي أواخر أيامهم تفرع الخط الكوفي، وكانت تكتب به المصاحف منذ أيام الراشدين إلى أربعة أقلام اشتقها بعضها من بعض كاتب اسمه قطبة المحرر كان أَكْتَبَ أهل زمانه، ثم اشتهر بعده في أوائل الدولة العباسية رجلان من أهل الشام انتهت إليهما الرئاسة في جودة الخط وهما: الضحاك بن عجلان كان في خلافة السفاح، فزاد على قطبة، وإسحاق بن حماد، وكان في خلافة المنصور والمهدي فزاد بعد الضحاك، وزاد غيره حتى بلغ عدد الأقلام العربية إلى أوائل الدولة العباسية 12 قلمًا، كان لكل قلم عمل خاص وهي: (1) قلم الجليل: كان يكتب به في المحاريب، وعلى أبواب المساجد، وجدران القصور ونحوها، وهو ما يسميه العامة الآن بالخط الجلي. (2) قلم السجلات. (3) قلم الديباج. (4) قلم أسطومار الكبير. (5) قلم الثلثين. (6) قلم الزنبور. (7) قلم المفتح. (8) قلم الحرم: كان يكتب به إلى الأميرات من بيت الملك. (9) قلم المؤامرات: كان لاستشارة الأمراء ومناقشتهم. (10) قلم العهود: كان لكتابة العهود والبيعات. (11) قلم القصص. (12) قلم الخرفاج. ولما ازدان عصر العباسيين بأنوار العلوم والعرفان، وخصوصًا في أيام المأمون، أخذت صناعة الخط تنمو وتنتشر وتتقدم كسائر العلوم التي ضرب فيها المسلمون بسهام نافذة لاحتياجهم إليها؛ فتنافس الكتاب في أيامه في تجويد الخط؛ فحدث القلم المرصع، وقلم الناسخ، وقلم الرياسي [1] نسبة إلى مخترعه ذي الرئاستين الوزير الفضل بن سهل، وقلم الرقاع وقلم غبار الحلبة [2] ، وكان يكتب به بطائق حمام الرسائل، وهكذا كان كل قلم معدًّا لنوع من الكتابة، كما تكتب الآن الإنعامات بالرتب بقلم خاص , والأوراق الديوانية بقلم خاص، وألواح الحجر بخط آخر، وكتب التعليم بآخر. فزادت الخطوط العربية على عشرين شكلاً، وكلها تعد من الخط الكوفي فهو إذ ذاك كان خط الدين والدولة، وقد كان يُكتب به القرآن منذ أيام الراشدين - كما أسلفنا - حتى أواسط العصور الإسلامية (ش4) ، وأما الخط النسخي فقد كان مستعملاً بين الناس لغير المخطوطات الرسمية حتى نبغ الوزير أبو علي محمد بن مقلة المتوفى سنة 328هـ فأدخل في الخط المذكور تحسينًا كبيرًا بعد أن كان في غاية الاختلال، وأدخله في المصاحف، وكتابة الدواوين، وقد اشتهر بعد ابن مقلة جماعة كثيرة من الخطاطين هذبوا طريقته، وكسوها حلاوة وطلاوة، أشهرهم علي بن هلال المعروف بابن البواب المتوفى سنة 413هـ - 1031م، وقد اخترع عدة أقلام، وياقوت بن عبد الله الرومي المستعصمي المتوفى سنة 698هـ وغيرهما كثير، وقد تفرع الخط النسخي المذكور بتوالي الأعوام إلى فروع كثيرة وأصبحت الأقلام الرئيسية في الخط العربي اثنين: الكوفي والنسخي، ولكل منهما فروع كثيرة اشتهر منها بعد القرن السابع للهجرة ستة أقلام بين المتأخرين وهي: الثلث، والنسخ، والتعليق، والريحاني، والمحقق، والرقاع. آية من مصحف كتبه أبو بكر الغزنوي سنة 566 هـ، وتوضيحها: (بسم الله الرحمن الرحيم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى ... } (الإسراء: 1) برز في هذه الأقلام جملة من العلماء، وما زال الخط يتفرع إلى الآن، فقد ظهر بعد هذه الستة الأقلام القلم الديواني، والقلم الدشتي، والقلم الفارسي، وغيره، وبقي الأمر تابعًا لارتفاع الدولة، وانخفاض شأنها (انظر شكل 5) ، فإنه لما تضعضعت خلافة بغداد، وانتقلت الخلافة إلى مصر والقاهرة انتقل الخط والكتابة والعلم إليها، وسرى منها إلى مضافاتها من البلاد التابعة لدولتها وإلى ما جاورها، وما زال الخط في جميع هذه الأماكن آخذًا في الجودة إلى هذا العهد، وصار للحروف قوانين في وضعها، وأشكالها متعارفة بين الخطاطين، وقد حفظ لنا القلقشندي بيانات صحيحة عن أواسط عصر المماليك (أواخر القرن الثامن للهجرة) فذكر في الجزء الثالث [3] من كتابه صبح الأعشى أنواع الخطوط المستعملة في الدواوين، وعلق عليها معتمدًا على نماذج منها نشرت في هذا الكتاب وهي ستة أنواع: (1) الطومار الكامل: ويشتمل على جملة أنواع، وكان يكتب به السلطان علاماته على المكاتبات، والولايات، ومناشير الإقطاع. (2) مختصر الطومار: وهو على نوعين: الثلث والمحقق، وكان يكتب به في عهود الملوك عن الخلفاء، والمكاتبة إلى القانات العظام من ملوك بلاد الشرق. (3) الثلث: وهو نوعان من الثقيل والخفيف. (4) التوقيع: وهو على ثلاثة أنواع، وكانت توقع به الخلفاء، والوزراء على ظهور القصص. (5) الرقاع: وهو على ثلاثة أنواع أيضًا، وكان يكتب به في الرِّقاع جمع رُقعة، وهي الورقة الصغيرة التي تكتب فيها المكاتبات اللطيفة، والقصص، وما في معناها. (6) الغبار: وهو نوع واحد، وكان يكتب به بطائق الحمام، والملطِّفات، وما في معناها، ونرى من الكتابات المنقوشة على الأحجار في أيام المماليك جمال هذا الخط، وبهاءه، وهو وإن كانت حروفه مستطيلة، فهي ربما أجمل مما كانت عليه في أيام العباسيين. ولما آلت الخلافة إلى الأتراك بعد زوال دولة المماليك بمصر، ورثوا بقايا التمدن الإسلامي، فكان لهم اعتناء خاص بالخط، وقد أخذوا في إتقانه على أيدي الأساتذة الفارسيين الذين اعتمدوا عليهم في الآداب والفنون، وقد حفظ الأتراك عدة قرون في مصالح حكومتهم، ودوائرهم الملكية، والعسكرية أنواع الخطوط التي كانت مستعملة في القرون الوسطى، فكان يُعْرَف عندهم في القرن الحادي عشر للهجرة 30 نوعًا تقريبًا إلا أنه أهمل أكثرها أثناء القرنين الثاني عشر، والثالث عشر، ولم يبق مستعملاً منها في الوقت الحاضر إلا ما سنذكره في الفصل الآتي، والأتراك هم الذين أحدثوا الخط الرقعة، والخط الهمايوني، وإليهم انتهت الرئاسة في الخط على أنواعه إلى عهدنا هذا، وقد أخذنا عنهم الخط المعروف بالإسلامبولي ولا يزال الخط يتفرع إلى ما شاء الله عملاً بسنة الارتقاء. *** الأقلام المستعملة الآن (1) الخط النسخي: أما الآن فقد أُهمل الخط الكوفي، وصار الخط النسخي هو الأكثر استعمالاً في كتابة اللغة العربية أينما وجدت، وكذلك في كتابة اللغة التركية، والتترية، والأفغانية، والهندية، وغيرها من لغات العالم الإسلامي، فإنه يستعمل فيها الخط النسخي في الكتب العلمية، وغيرها، وعلى الخصوص في المواضيع الدينية والشرعية كما سيأتي. (2) القلم الفارسي: وهو مشتق من الخط القيراموز المتولد من الخط الكوفي في صدر الإسلام، وتكتب به الآن اللغة الفارسية، ويستعمل غالبًا عند الهنود في كتابة لغتهم الهندستانية (الأوردية) ، وسيأتي تفصيل تاريخه وفروعه عند الكلام على اللغة الفارسية. (3) القلم المغربي: المستعمل في مراكش، والجزائر، وتونس،وطرابلس لكتابة العربية والبربرية معًا، وسيأتي ذكره بالتفصيل عند الكلام على لغات المغرب. (4، 5) القلم الرقعة والقلم الثلث: الرقعة هو خط الدواوين في تركيا، وغيرها، ويغلب استعماله أيضًا في المراسلات الاعتيادية، وقد أسلفنا أنه، والقلم الهمايوني من مستحدثات الأتراك، وهما يُستعملان عندهم إلى الآن، وقد انتشر الرقعة بسلطة الأتراك في جزء من البلدان العربية، ومع أنه مكروه من بعض العرب الخلص لأنه خط تركي [4] ، فهو مستعمل في مصر، والعراق، وسوريا مثل القلم الثلث المستعمل عند الجميع، إلا أن الثلث يستعمل في الزخرفة والتزويق أكثر من استعماله في الكتابة العادية. (6) قلم التعليق: أو الكتابة الفارسية المحرفة، وهو يستعمل في تركيا لكتابة الأوراق، والأعمال القضائية الشرعية، وكذلك في الكتب وخصوصًا في كتب الأشعار والدواوين (ش6) كما سترى عند الكلام على الخط الفارسي. ش 6: قلم التعليق بيت من أشعار الفردوسي الشاعر الفارسي المشهور، ويقرأ هكذا: (همين جشم دارم زخوانتد كان/كه نامم به نيكوبرند برزبان) (7) القلم الديواني: الذي اشتق مباشرة من خط التوقيع القديم وهو على ش 7: القلم الديواني الجلي (القسم الأعلى) والقلم الديواني (القسم الأسفل) ويقرأ القسم الأعلى هكذا: " نشأن شريف عاليشان سامي مكان وطغراى غراي جهان ستان خاقاني نفذ بالعون الرباني والصون الصمداني حكمى أولدركه " نوعين: أحدهما كبير قليلاً، وهو المستعمل في الدواوين السلطانية بتركيا لكتابة المراسيم، والدبلومات Les diplomes (الفرمانات والبراءات) على جميع أنواعها، والآخر أصغر منه، وهو وإن يكن قد قل استخدامه بعض الشيء إلا أنه مستعمل كثيرًا في المحاكم الدينية والشرعية التي تستعمل أيضًا خط التعليق، أما الهمايوني المتقدم ذكره فهو نفسه الخط الديواني الكبير، ويسمى عندهم (جلي ديواني) أي القلم الديواني الجلي (ش7و8) وهو يستعمل لكتابة الفرمانات السلطانية المتعلقة بالوسامات. وتمتد الحروف النهائية في الخط الديواني، وخصوصًا الجيم، والحاء، والخاء، والعين، والغين إذا جاءت في أواخر الكلم، وكذلك أطراف السين، والشين، والصاد، والضاد كما ترى في شكل 9. (8) القلم النستعليق: أو الخط الفارسي المنسوخ، وهو يستعمل عند الفرس وسيأتي ذكره عند الكلام على الخط الفارسي وفروعه. (9) قلم الإجازات: وهو يتألف من الخط النسخي، والخط الثلث بتصرف مع بعض زيادات لا توجد في غيره، وهو يستعمل عند الأتراك أحيانًا. والخط في تركيا لم يزل مشرفًا، وأعمال الخطاطين الكبار أمثال حمد الله المتوفى سنة (936 = 1530) ، وحافظ عثمان المتوفى سنة (1110= 1698 - 1669) لم تزل معتبرة كنماذج تُقَلَّد، أما في البلدان العربية، وخصوصًا في مصر فإن الاعتناء بالخط أخذ في الضعف والإهمال بسبب سرعة انتشار المطابع. *** حروف الهجاء العربية وترتيبها أما ترتيب حروف الهجاء العربية فهو مخالف لترتيب الحروف الأخرى المرتبة على أبجد هوز ... إلخ، وهو الترتيب القديم المعروف عند أكثر الأمم السامية، وأما العربية فتبتدئ هكذا: اب ت ث ... إلخ، مع أن التاء في اللغات الأخرى هي آخر حروفها، وهذا الترتيب حديث في اللغة العربية وضعه نصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر العدواني في زمن عبد الملك بن مروان، وهو مبني على مشابهة الحروف في الشكل، فابتدأ بالألف والباء؛ لأنهما أول الحروف في ترتيب أبجد، وعقبا بالتاء والثاء لمشابهتهما الباء، ثم ذكر الجيم من حروف أبجد، وعقبا بالحاء والخاء للمشابهة، ثم ذكرا الدال، وعقبا بالذال، ولكون الهاء تشبه أحرف العلة في الخاء أخراها معها لآخر الحروف، وقبل أن يذكرا الزاي ذكرا الراء المشابهة لها لتكون الزاي مع باقي أحرف الصفير؛ ولذلك ذكرا السين بعد الزاي، وعقبا بالشين للمشابهة، ثم ذكرا الصاد، وعقبا بالضاد، ثم رجعا للطاء من أبجد، وعقبا بالظاء وأخرا أحرف (كلمن) حتى يفرغا من الأحرف المتشابهة، وذكرا العين، وعقبا بالغين، ثم ذكرا الفاء، وعقبا بالقاف، ثم ذكرا أحرف كلمن والهاء وأحرف العلة. ولكون ترتيب أبجد يختلف عند المغاربة [5] عن ترتيبها عند المشارقة كان ترتيب الحروف عند المغاربة بعد ضم كل حرف إلى ما يشابهه في الشكل هكذا: اب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط

الدولة والألمان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدولة والألمان والسِّكتان المتضادتان الشبيهتان بالجمع بين الكفر والإيمان للسلطان عبد الحميد حسنة عظيمة في البلاد العربية، لا يصدنا عن الاعتراف بها، ما قيل من نيته فيها وغرضه منها، ألا وهي سكة الحديد الحجازية، التي كان يظن ويقال إنه كان الباعث له على إنشائها جعل الحجاز كسائر البلاد العثمانية في الخضوع لحكومته، والتمكن من سوق الجيوش إليها عند الحاجة، والمعروف من رأي كثير من رجال الدولة إزالة إمارة الشرفاء من الحجاز منهم أحمد مختار باشا الغازي، ولا يكون ذلك سهلاً مأمون العاقبة إلا بإتمام هذه السكة، وهذا هو السبب فيما اشتهر من معارضة شرفاء مكة لمد هذه السكة بين الحرمين الشريفين. كنا ولا نزال نرى أن هذه السكة من أكبر الحسنات، على علمنا بما هنالك من الأقوال والظنون والنيات؛ ولكن للسلطان عبد الحميد سيئة من جنس هذه الحسنة يزيد وزرها على أجر هذه - إن حسنت النية فيها - أضعافًا كثيرة لعلها تزيد على سبع مئة ضِعْف، ألا وهي سكة الحديد الألمانية بين الآستانة، والعراق. من شروط هذه السكة أن الشركة الألمانية تملك عشرين ألف متر (20 كيلو) عن جانبيها ملكًا خالصًا، فعشرون ألف متر تمتد من أقصى مغرب المملكة الشمالي إلى أقصى مشرقها الجنوبي، يكوِّن مملكة كبيرة في قلب المملكة العثمانية مساحتها ضعفا مساحة الأرض التي تزرع في المملكة المصرية، وهي منها في أعز مكان، كالقلب من بدن الإنسان، فكما أن القلب مصدر الحياة للبدن، كذلك تكون هذه السكة مصدر الثروة والقوة والعمران في المملكة، فكيف يعيش من يكون قلبه في قبضة أجنبي عنه، وقد كانت بريطانية العظمى على قوتها تعد وصول هذه السكة إلى الكويت، أو البصرة خطرًا على مصالحها التجارية في العراق وخليج فارس، بل خطرًا على ممالكها الهندية، أفلا تكون هذه السكة في قلب مملكة خطرًا عليها؟ بل إنها وهي لغيرنا أعظم الأخطار لو كانت غفلاً عن ذلك الشرط، فكيف تكون مع ذلك الشرط؟ قرأنا في أثناء هذه الحرب أخبارًا عن الألمان تدل على أن امتلاكهم لقليل من الأرض في غير بلادهم أعظم خطرًا عليها مما كان لا يستنبطه إلا أبعد السياسيين رأيًا، وأشدهم فطنة وحذرًا. قد امتلك بعض الألمانيين أرضًا في فرنسة، وبلجيكة فظهر بعد الحرب أنها أعدت في وقت السلم لحرب أهل البلاد التي هي فيها، فكان منها خنادق، وسراديب، ومواضع لنصب المدافع الضخمة، حتى قيل إن مكانًا أعده رجل ألماني في بلجيكة للعب الكرة في داره ظهر بعد الحرب أنه أعد لنصب أثقل المدافع وأقواها، وأنه وضع على البعد المناسب بينه وبين الحصون البلجيكية، وما كان يمكن دكها وتدميرها إلا منه. كنا قرأنا في المقطم أن من شروط التحالف بين ألمانية، والدولة العثمانية أن الأولى لا ترضى بعقد صلح إلا إذا اشترط فيه سلامة أملاك الثانية، وأنها تعطيها خمس الغرامة الحربية التي ترجو أن تأخذها، على كونها هي التي تقدم لها السلاح، والذخيرة، والمال لأجل الحرب، وقرأنا وسمعنا أنها وعدتها ببلاد القوقاس، وغير القوقاس من البلاد الإسلامية، وكنا نفضل على كل هذه العطايا الغيبية لو اشترطت عليها الدولة أن تبطل من شروط سكة الحديد البغدادية امتلاك عشرين ألف متر عن جانبيها، إذا لم يمكن أن تترك لها هذه السكة كلها، فإن كون قلب بلادنا خالصًا لنا أهم وأنفع لنا من ضم بلاد أخرى إليها، فلأن أملك مئة فدان من الأرض ملكًا خالصًا أستطيع أن أعمرها كما يجب، أفضل وأنفع لي من ألف فدان فيها حقوق للأجانب الذين يستطيعون من عمارتها ما لا أستطيع، ويخشى أن يَئُول أمرها كلها إليهم، على أن بلاد الدولة أوسع من بلاد عدة دول من الدول الكبرى، فلو عمرت لكانت غنية بها عن سواها. فنحن نتمنى لو تقترح الدولة على حليفتها القوية أن تعطيها هذه السكة أو تلغي من شروط امتيازها ذلك الشرط لتجعل هذا دليلاً على إخلاصها في محالفتها، ورغبتها في بقائها مستقلة قوية بعد انتصارها معها، وإلا كان الخوف منها أكبر من الرجاء فيها.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (المطبوعات التي باسم دار الكتب الخديوية [1] ) 1- صُبْح الأعشى في كتابة الإنشا هو تأليف الشيخ أبي العباس أحمد القلقشندي المصري، والمراد بكتابة الإنشاء الكتابة الرسمية للملوك والسلاطين، وما يحتاج إليه القائم بها من العلوم والفنون، فهذا الكتاب تاريخ للسياسة، والإدارة العامة، وجميع العلوم، والفنون، والآداب، ولا يمكن بيان كليات فوائده، والتعريف بمجامع مزاياه، إلا في مقال طويل لعل المنار يقوم به بعد إتمام طبع الكتاب، وهو يطبع في المطبعة الأميرية بحروفها الجديدة الجميلة على أجود ورق يوجد بمصر، وقد تم من طبعه أربعة أجزاء من القطع الكامل. صفحات الأول 481، والثاني 477، والثالث 532، والرابع 487، وهو يباع في دار الكتب نفسها، وفي مكتبة المنار وغيرها، وثمن كل جزء منه 15 قرشًا. وهو لا يكاد يزيد عن نفقة الطبع إلا قليلاً، فنحث كل محب للعلم والأدب والتاريخ إلى المبادرة لاقتنائه ومطالعته، أو الإحاطة بما في كل باب، وكل فصل من المباحث النفيسة لأجل الرجوع إليها عند الحاجة لمن لا يتيسر له مطالعة الكتاب كله، أو مطالعة ما يرى نفسه أحوج إلى معرفته. ولما كان هذا الكتاب من قَبِيل الموسوعات التي يطلقون عليها اسم (دائرة المعارف) نقترح على دار الكتب أن تجعل له فهرسًا عامًّا مرتبًا على حروف المعجم. *** 2- الإحكام في أصول الأحكام تأليف الشيخ العلامة سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي الآمدي المتوفى سنة 551 للهجرة. طُبع في مطبعة المعارف طبعًا نظيفًا على ورق جيد، في أربعة أجزاء صفحات الجزء الأول 407، والثاني 495، والثالث 437، والرابع 392، وثمنه 48 قرشًا لكل جزء 12 قرشًا. الآمدي - رحمه الله - من أعلام العلماء وأساطين الحكماء له اليد الطولى في الحديث، وعلم النظر، والخلاف، والفلسفة، قال ابن خلكان: ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه العلوم، وكان العز بن عبد السلام يقول: ما سمعت أحدًا يلقي الدرس أحسن منه كأنه يخطب، وإنْ غَيَّرَ لفظًا من (الوسيط) - للغزالي وكان يحفظه - كان لفظه أمسَّ بالمعنى من لفظ صاحبه، وقال العز أيضًا: ما علمنا قواعد البحث إلا سيف الدين، وقال أيضًا: لو ورد على الإسلام متزندق يشكك ما تعين لمناظرته غير الآمدي، وله مؤلفات في غاية الإتقان والتنقيح منها كتابه هذا (الإحكام) في أصول الفقه، وهو من أبسطها عبارة، وأكثرها تقسيمًا، وأحسنها ترتيبًا، وأجمعها لمسائل الخلاف ودلائلها. وهو كالكتابين المذكورين بعده من الكتب التي طبعت بعناية أحمد حشمت باشا في عهد وزارته للمعارف، وتُطلب كلها من دار الكتب السلطانية ومن مكتبة المنار وغيرها. *** 3- الطراز، المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الأعجاز تأليف (السيد الإمام، إمام الأئمة الكرام، أمير المؤمنين يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم العلوي اليمني) المتوفى سنة 459 للهجرة طبع في مطبعة المقتطف بمصر طبعًا جيدًا على ورق أبيض جيد في ثلاثة أجزاء، صفحات الجزء الأول 435، والثاني ص 408، والثالث 466، وثمنه 36 قرشًا صحيحًا، لكل جزء 12 قرشًا. هذا الكتاب من كتب البلاغة الممتعة، التي ينفق مؤلفوها من سعة، ضم بين قطريه علوم البيان، وجمع بين دفتيه دلائل إعجاز القرآن، والمراد بعلوم البيان علوم البلاغة الثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع، رتبه مؤلفه - رحمه الله - أحسن ترتيب، وجاء على مسائله بالشواهد والأمثلة، حتى سهل ما تناول من مسائل الفن من أقرب السبيل؛ ولذلك قال: إنه يرجو أن يكون متميزًا عن سائر الكتب بأمرين: أحدهما ترتيبه العجيب، وتنسيقه الذي يطلع قارئه من أول وهلة على مقاصد هذا الفن، وثانيهما ما فيه من التسهيل، والتيسير، والإيضاح للمباحث الدقيقة، فهو يجري في الإيضاح والبسط على نسق إمام الفن، وواضعه الشيخ عبد القاهر الجرجاني، وقد اعترف المصنف - رحمه الله تعالى - بأن عبد القاهر هو الواضع لهذا الفن، وأنه لم يطلع على كتابيه فيه، ولعله لو اطلع عليهما لكان أحسن بيانًا، وأغزر فوائد، قال: وأول من أسس من هذا العلم قواعده، وأوضح براهينه، وأظهر فوائده، ورتب أفانينه، الشيخ العالم النحرير عَلم المحققين عبد القاهر الجرجاني، فلقد فك قيد الغرائب بالتقييد، وهد من سور المشكلات بالتسوير المَشيد، وفتح أزهاره من أكمامه، وفتق أزراره بعد استغلاقها واستبهامها، فجزاه الله عن الإسلام، أفضل الجزاء، وجعل نصيبه من ثوابه أوفر النصيب والإجزاء، وله من المصنفات فيه كتابان، أحدهما لقَّبه (بدلائل الإعجاز) ، والآخر لقَّبه (بأسرار البلاغة) ، ولم أقف على شيء منهما مع شغفي بحبهما، وشدة إعجابي بهما، إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم منهما. اهـ. ثم بين موضوع الكتاب وطريقته فيه فقال: ولما كان كل علم لا ينفك عن مبادئ، ومقدمات تكون فاتحة لأمره، ومقاصد تكون خلاصة لسره، وتكملات تكون نهاية لحاله، لا جرم اخترت في ترتيب هذا الكتاب أن يكون مرتبًا على فنون ثلاثة، ولعلها تكون وافية بالمطلوب محصلة للبغية بعون الله. فالفن الأول منها مرسوم المقدمات السابقة نذكر فيها تفسير علم البيان، ونشير فيها إلى بيان ماهيته، وموضوعه، ومنزلته من العلوم الأدبية، والطريق إلى الوصول إليه، وبيان ثمرته وما يتعلق بذلك، من بيان ماهية البلاغة، والفصاحة، والتفرقة بينهما، ونشير إلى معاني الحقيقة والمجاز وبيان أقسامهما، إلى غير ذلك مما يكون تمهيدًا، وقاعدة لما نريده من المقاصد. الفن الثاني منها مرسوم المقاصد اللائقة، نذكر منه ونشير فيه إلى ما يتعلق بالمباحث المتعلقة بالمعاني، وعلومها، ونردفه بالمباحث المتعلقة بعلوم البيان وأقاسهما، ونشرح فيه ما يتعلق به من المباحث بعلم البديع، ونذكر فيه خصائصه وأقسامه، وأحكامه اللائقة به بمعونة الله تعالى ولطفه. الفن الثالث نذكر فيه ما يكون جاريًا مجرى التتمة، والتكملة لهذه العلوم الثلاثة، نذكر فيه فصاحة القرآن العظيم؛ وأنه قد وصل الغاية التي لا غاية فوقها، وأن شيئًا من الكلام وإن عظم دخوله في البلاغة والفصاحة، فإنه لا يدانيه ولا يماثله، ونذكر كونه معجزًا للخلق لا يأتي أحد بمثله، ونذكر وجه إعجازه، ونذكر أقاويل العلماء في ذلك، ونظهر الوجه المختار فيه، إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة، والنكت الغزيرة، التي نلحقها على جهة الردف والتكملة لما سبقها من المقاصد. فالفن الثالث للثاني على جهة الإكمال والتتميم، والفن الأول للثاني على جهة التمهيد، والتوطئة، والسر، واللباب، والمقصد لذوي الألباب، ما يكون مودعًا في الفن الثاني، وهو فن المقاصد، وأنا أسأل الله تعالى بجوده الذي هو غاية مطلب الطلاب، وكرمه الواسع الذي لا يحول دونه ستر، ولا حجاب، أن يجعله من العلوم النافعة في إصلاح الدين، ورجحانًا في ميزاني عند خفة الموازين، إنه خير مأمول، وأكرم مسؤول) . *** 4- الخصائص تأليف أبي الفتح عثمان بن جني طُبع الجزء الأول منه بمطبعة الهلال سنة 1332 هـ، صفحاته 569 ثمنه 15 قرشًا. ابن جني من أساطين أئمة اللغة، وفحولها، وقد قال فيه الباخرزي في دمية القصر: ليس لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات، وشرح المشكلات، ما لأبي الفتح لا سيما في علم الإعراب، ومن قول المتنبي فيه أيضًا: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس، وقال الأستاذ الإمام من كتاب يُعَرِّض فيه بصاحب له وقع فيه عندما أخذ بتهمة المسألة العرابية: وأما فلان فقد أكننته كني، وأدنيته مني، وجعلته في مكان النحو من ابن جني، ثم هو يصرح بسبي ولا يكني. وكتابه هذا (الخصائص) علم، وأدب، وفقه لغة، وفلسفة، لأنه يعطي المُطالع علمًا باللغة العربية، وأساليبها، وآدابها، ويلهمه بلاغة بأسلوبه الذي هو في أعلا ذروة منها. ومن رأيه في (باب القول على أصل اللغة إلهام أم اصطلاح) ما نصه: (وذهب بعضهم إلى أن أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسموعات، كدوي الريح، وحنين الرعد، وخرير الماء، وشحيح الحمار، ونعيق الغراب، وصهيل الفرس، ونزيب [2] الظبي ونحو ذلك، ثم ولدت اللغات عن ذلك فيما بعد، وهذا عندي وجه صالح، ومذهب متقبل. واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذا الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التغوّل على فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة، الكريمة اللطيفة؛ وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يكاد يطمح به أمام غلوة السحر، فمن ذلك ما نبه عليه أصحابنا رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم، فعرفت بتتابعه وانقياده، وبُعْد مراميه وآماده، صحة ما وفقوا لتقديمه منه، ولطف ما أسعدوا به، وفرق لهم عنه، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة، بأنها من عند الله جل وعز، فقَوِيَ في نفسي اعتقاد كونها توقيفًا من الله سبحانه، وأنها وحي. ثم أقول في هذا كما وقع لأصحابنا ولنا، وتنبهوا وتنبهنا، على تأمل هذه الحكمة الرائحة الباهرة. كذلك لا ننكر أن يكون الله تعالى قد خَلَقَ مِنْ قبلنا، وإن بعد مداه عنا، من كان ألطف منا أذهانًا، وأسرع خواطر وأجرأ جنانًا، فأقف بين تين الخلتين حسيرًا، وأكاثرهما فأنكفئ مكثورًا، وإن خطر خاطر فيما بعد، يعلق الكف بإحدى الجهتين، ويكفها عن صاحبتها، قلنا به، وبالله التوفيق) اهـ. أما المذهب الذي تقبله أولاً فهو الذي يرجحه الباحثون في فلسفة الخلق ولغاتهم، وأما ما تعارض رأيه فيه بعد ذلك فهو موضوع آخر، وهو أن ارتقاء اللغة العربية في أبنية كلمها، وقوانين جملها وأساليبها، هل كان بمواضعة واصطلاح من أناس من الأولين بذُّوا مَن بعدهم في العلم والفلسفة والذوق؟ أم كان بوحي إلهامي من الله تعالى؟ ولكل رأي وجه، والمعقول أن الله تعالى ألهم تلك النفوس ذات الذكاء، والذوق أن تجري في كلامها على سنن ترتقي فيها بالتدريج إلى أن وصلت إلى تلك الدرجات العلى التي بين المصنف خصائصها في كتابه. *** 5- الاعتصام كتاب الاعتصام للإمام أبي إسحاق إبراهيم اللخمي الشاطبي، ثم الغرناطي الأندلسي المتوفى سنة 790. طبع طبعًا حسنًا على ورق جيد في مطبعة المنار في ثلاثة أجزاء، صفحات الأول منها 388 ما عدا الفهرس، ومقالة التعريف بالكتاب، وترجمة مؤلفه، وصفحات الثاني 356 ما عدا الفهرس، وصفحات الثالث 280 ماعدا الفهرس، وخاتمة الطبع، وثمن كل جزء منها 10 قروش، ويُطلب من دار الكتب، ومن مكتبة المنار. قد سبق تقريظ هذا الكتاب، وبيان مزاياه في منار العام الماضي، ونقول الآن إننا لا نعلم أن أحدًا ألف مثله في بيان حقيقة البدع، وأقسامها، وأحكامها، فهو ركن من أركان الإصلاح الإسلامي لعله لا يقرؤه مسلم إلا ويكره البدع، وينفر منها، ويحب السنة، ويرغب في الاعتصام بها، على علم وبصيرة تنتفي بهما الشبهات التي راجت والتبست على كثير من المشتغلين بالفقه، لا على العوام وحدهم، فهذا الكتاب أعم مطبوعات دار الكتب نفعًا لا يستغني عنه عالم، ولا عامي من المسلمين. طبعت هذه الكتب للمرة الأولى فهي كنوز علم وأدب قد فُتِحَتْ للطالبين ورياضُ فضلٍ أُدنيت للناس أجمعين؛ ليجتنوا يانع ثمراتها فجزى الله الساعين بطبعها خير الجزاء، ونفع بها، آمين. *** (انتشار الخط العربي) تأليف عبد الفتاح أفندي عبادة صاحب كتاب (سفن الأسطول الإ

البرهان على خروج تارك الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان ـ 1

الكاتب: محمد علي أبو زيد

_ البرهان على خروج تارك الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان [*] جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله أنعم علينا بالإسلام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي قام بتبليغ الدين خير قيام. أما بعد فإن الصلاة والزكاة أهم أركان الدين، وأعظم الشعائر للمسلمين، بهما تزكية النفوس، وصلاح حال الجمهور. جمع الله تعالى كل الخير فيهما؛ لأن من اتصف بهما يتصف بكل فضيلة سواهما. فمن تركهما فلا حظ له في الإسلام، ولا الإيمان، فهلمّ اسمعْ في ذلك نصوص القرآن. ولأقدم لك تعريف الصلاة والزكاة، ومقصود الشارع الحكيم منهما، على طريق السؤال والجواب، عسى أن تأنس به، وترتاح نفسك إلى تدبره، فأعرني سمعك، واستعمل عقلك. س: ما حقيقة الصلاة؟ ج: هي مناجاة الله تعالى، وذكره، ودعاؤه، والخضوع له بالصفة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم. س: لم جُعلت الصلاة بالكيفية المخصوصة، ولم تُترك إلى اختيار المؤمنين؟ ج: لئلا يتشعب الخلاف بين الناس فيها، فيفوت غرض الدين من اتحادهم عليها، المساعدِ لهم على الاتحاد في غيرها. فالناس كلما كثر ما يشتركون فيه كان اتحادهم عليه أقوى، وانجذابهم بعضهم إلى بعض أقرب وأمتن. س: ما دليل وجوبها، وحكمة مشروعيتها؟ ج: قال الله تعالى في سورة العنكبوت: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) . س: كيف تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ ج: انظر إلى نفسك حين تواجه القبلة، وتتهيأ لإقامة الصلاة، فتستفتحها بقولك: الله أكبر، ألا تراك مُلِئت خشية لذكرك ربك وكبرياءه، وغشيتك السكينة لوقوفك بين يدي سيدك مستصغرًا كل شيء دونه، وغاضًّا الطرف عما سواه. فإذا قرأت الفاتحة ذَكَّرتك معانيها بإلهك الذي خلقك بقدرته، وربك الذي رباك على نعمه - رباك لا ليستبد بك، ولا لينتفع منك، بل ليجعلك موضع رحمته، ومحل وإحسانه، وهناك ترى سيدًا عظيمًا، ومالكًا للجزاء وحيدًا، جميع الكون في قبضة يده، وكل العالم تحت تصرفه وقهره، لا إرادة فوق إرادته، ولا ينفع أحد أحدًا عنده، فبينما أنت ترجو رحمته، إذا بك تخاف عذابه، قوته فوق الأسباب، فلا تجد ملجأ إلا إليه، ولا تستعين إلا به، فهو الذي يهديك طريقه المستقيم، ويأخذ بيدك فيه، ما دمت فيه، مرافقًا لأهله الذين أنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، بعيدًا عن طرق المعاندين، والحيرانين، المغضوب عليهم والضالين، أضف إلى ذلك ما في ركوعك وسجودك، وقيامك طوع أمره وقعودك، كل هذا يا مقيم الصلاة يؤثر فيك تأثيرًا، ويأخذ منك مأخذًا كبيرًا، فلا تلبث أن تتربى في نفسك ملكة المراقبة لله، تثبتك على صراطه، وتقيك الوقوع في عصيانه، فإذا مسَّك طائف من الشيطان، أو دعاك داعٍ من الشهوة إلى العصيان، ناداك صوت من ضميرك: اذكر ربك واتقه، واحذر أن يراك حيث نهاك! فإذا أنت من المبصرين. س: يظهر من هذا أن المرء إذا حافظ على إقامة الصلاة تصفو نفسه وتحسن أخلاقه؟ ج: من غير شك، وذلك هو مقصود الدين من تكرار الصلاة كل يوم خمس مرات، وتدبر القرآن فيها. وقد علمت أن الله لم يسقطها عن المؤمنين، وهم في مقاتلة أعدائهم، ولا عن المرضى، وهم في موتهم، وما ذلك إلا لحاجتهم إليها، وعدم استغنائهم عنها، فإنها تشجعهم، وتجعلهم أكثر تحملاً للمشاق، وأقوى صبرًا على الشدائد، وأقرب إلى الرجاء، وأبعد عن اليأس. س: صلينا كثيرًا فلماذا لم تنهنا صلاتنا عما نحن فيه من المنكرات؟ ج: سبب ذلك أننا لم نلاحظ المقصود منها، فغفلنا عن التدبر والخشوع فيها فما لنا من الصلاة الآن إلا اسمها، وليس في مساجدنا منها إلا صورتها ورسمها. وإن شئت فقل: إنها أصبحت عندنا عادة من العادات، التي يقلد فيها الولد أباه، وغيره ممن ينشأ فيهم. وقد وصل الجهل بناس إلى أن يتركوا الصلاة طول حياتهم، اعتمادًا على أنه يمكن إسقاطها عنهم بعد مماتهم بالطريقة المشهورة بإسقاط الصلاة - ذلك بأن يؤتى بمن يسمونهم فقهاء، وهم قراء القبور، الذين اتخذوا القراءة على القبور، والصياح في الجنازات بنشيد البردة وغيرها صناعة، فيحسبوا ما ترك الميت من الصلوات في سني عمره، ثم يطاف عليهم بصرة فيها عدد من النقود، فيقبل كل منهم أن يتحمل عددًا من تلك الصلوات عن الميت نظير مبلغ يأخذه مما في الصرة، حتى إذا تحمل الجميع ما على الميت من الصلوات فرق عليهم عدد النقود، وبهذا يزعمون أن الصلاة سقطت عن الميت، وأن الله عفا عمن تحملوها. وفي هذا من العجب ما ترى، وقد ذكرته ليظهر لك كيف يؤدي الجهل بحكمة الله إلى إضاعة شرعه، والاستهزاء بدينه، وكأن هؤلاء لم يعقلوا أن تارك الصلاة قد صدئت نفسه، وتلوثت روحه، فلم يعد يستحق مقام الكرامة، و {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 38-39) فهل للقبوريين عهد من الله أن يقبل منهم ما يقبلون، ويحط عنهم ما يتحملون؟ فرحماك اللهم! فإن القوم لا يعلمون وعساهم عن ذلك يرجعون. س: عرفنا الصلاة، فما معنى الزكاة؟ ج: الزكاة جزء من مال الأغنياء، يصرف في مصالح المسلمين، كالفقراء والمساكين، وأبناء السبيل، والغارمين، وغير ذلك من مهمات الدين. س: ما دليل وجوبها، وحكمة شرعيتها؟ ج: قال الله تعالى في سورة براءة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} (التوبة: 103) . س: ما معنى التطهير والتزكية بها؟ ج: {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) فكلما كثر جمعه للمال، زاد حبه له، وطمعه فيه، حتى لا يُؤْثِر شيئًا عليه، ولا يكون له هم في سواه، فتنقطع العلائق بينه وبين الله، فتخبث نفسه، فيكسب المال من أي وجه حلالاً كان أو حرامًا، فإذا هو جعل نصيبًا من ماله لله على حبه إياه، استحى أن يكسبه من طريق يبغضه الله، وكان حب الله في نفسه متغلبًا على حب المال، فهذا ينظف النفس من الأرجاس العالقة بها، ويزكيها بإنماء الفضائل فيها. وهذه تزكية روحية، وهناك تزكية أدبية اجتماعية - وهي أن الأغنياء الذين يقبضون أيديهم عن الفقراء يُعَرِّضون أموالهم للسلب، وأعراضهم وأنفسهم للإهانة؛ لأن الفقراء يبغضونهم، ويكيدون لهم، وإذا اشتد الجوع بهم، ولم يجدوا وسيلة لسد الرمق إلا بالاعتداء على الأموال والأنفس اعتدوا، ولا يخفى ما في ذلك من اختلال الأمن، وتزعزع النظام، فيمسي الأغنياء ويصبحون لا يهدأ لهم بال، ولا يرتاح لهم ضمير، فيموتون أو يموت الفقراء جوعًا وذلاًّ، وكل ذلك - كما تعلم - سبب في ضعف الأمة، وانقراضها، فإذا هم بذلوا، وأنفقوا، حفظوا حياتهم، وهدءوا روعهم، وجعلوا الفقراء إخوانهم، يهتمون لهم، ويتعاونون معهم، فببسط أيديهم يتبدل ضعفهم قوة، وتنقلب قلتهم كثرة، أضف إلى ذلك ما يتوفر للأمة فيصرف في منافعها العامة، ومصالحها المدنية، وما يعود عليها من بسط الأمن في ربوعها، وتوثيق عرى المحبة بين أفرادها، وحسبك دليلاً على ذلك أن المسلمين لما تهاونوا في إخراج الزكاة انحلت رابطتهم، وتأخرت مدنيتهم. س: إذا كان في الزكاة ما ذكرت من رابط الود بين الأفراد، ومن مصالح جماعة الأمة، وكانت بذلك من أعظم أركان العمران، فما بالنا نرى الإفرنج وقد استبحرعمرانهم ليس عندهم زكاة مثلنا؟ ج: لعلك لم تنظر إلى ما عندهم من الجمعيات الخيرية، والملاجئ، والمستشفيات المجانية، وغير ذلك مما يُقصد به تحسين حال الأيتام والفقراء، وغير ذلك من المنافع، والمصالح، وهل هذا إلا بمعنى الزكاة عندنا؟ وهل تقوم لأمة قائمة من غير أن يكون فيها هذا الركن الاقتصادي العمراني الجليل؟ ألا تعجب حينما ترى الإفرنج يعرفون قيمة هذا الركن، وقومنا عنه غافلون؟ ألا يزيد عجبك عندما تسمع مقلدة الفقهاء يُعَلِّمُون الناس إسقاط فرضية الزكاة بما يوحي إليهم الشياطين من الحيل؟ ولعلك شاهدت كثيرًا ممن تجب عليهم زكاة المال يأتي قبل الحول الذي تجب بحلوله الزكاة؛ فيتنازل لامرأته عن ماله، ثم بعد أن يفوت الحول يستوهبها إياه، ويزعم أنه بذلك قد خرج عن دائرة المالكين فلم يُكَلَّف وأن حيلته صحت عند الله. وأغرب من ذلك أن الرجل يضع زكاة ماله نقودًا في داخل كمية من الحبوب، ويأتي ببعض المستحقين فيعرض عليه تلك الكمية من الحبوب من غير أن يريه المال المدفون فيها، فيقول له: هذه زكاة مالي فاقبلها، وبعد قبوله إياها يبتاعها منه بضعف ثمنها، فيفرح المسكين، ويرجع المكلف بدفع الزكاة زاعمًا أنه قد تخلص منها، ولم يعد يُسأل عنها. فيا حسرة على هؤلاء الذين فضلاً عن تضييعهم للشريعة، وقضائهم على أحكامها، قد هزئوا بربهم، وسخروا بخالقهم، فاكتسبوا جريمتين بعملهم هذا، إحداهما تضييع دينه، والأخرى الاحتيال عليه، {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ} (إبراهيم: 42) يوم يتقاضاهم الفقراء والمساكين، ويحكم الله بينهم وبين المستحقين، يوم يحمى على أموالهم في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ويقال لهم: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 35) . حكم تارك الصلاة والزكاة: س: حسبنا ما وقفنا عليه من معنى الصلاة والزكاة، وما وراءهما من المنافع وما انطوتا عليه من الحكم، فما حكم تارك الصلاة، أو مانع الزكاة؟ ج: كلاهما مُعْرِض عن الإسلام هادم لأعظم أركانه، وقد ذهب جماهير العلماء إلى وجوب قتله إن لم يتب - قيل كفرا وقيل عقوبة - وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال مانعي الزكاة، والخلاف في كفر تارك الصلاة أقوى. س: كيف يعد تارك عبادة من عبادات الإسلام مرتدًّا عن الدين، تاركًا له؟ ج: لأن الإسلام ليس له معنى إلا الانقياد لله تعالى، فيما يزكي النفوس، ويصلح الاجتماع، وذلك إنما يتجلى في الصلاة والزكاة - كما علمت - وغيرهما تابع لهما، بل من أقام الصلاة وحدها، أقام كل أمر بعدها. س: هذا صحيح وفهمناه مما سبق، فأين الأدلة على أن تارك الصلاة، أو مانع الزكاة خارج عن الملة الإسلامية؟ ج: ذكر الله سبحانه الصلاة، والزكاة في أكثر من خمسين موضعًا من كتابه، وكلها يدل على الاهتمام بهما، وبناء الإسلام عليهما، غير أننا نكتفي هنا بذكر الصريح من الآيات في موضوعنا فنقول: ما جاء في الصلاة وحدها: من ذلك قوله تعالى في سورة الروم {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} (الروم: 30- 32) الآية، وفي قراءة (من الذين فارقوا دينهم) ، فانظر كيف أراك عز شأنه أنه لا يعدل عن إقامة الصلاة إلا المشركون [1] ، ولا يتصف بها إلا المتقون، من أقامها صاحب الدين، ومن لم يقمها فارق الدين، فهي الصفة المميزة، والحد الفاصل بين المسلم والمشرك. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 9

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (9) الراحة والتعب النوم والرياضة الجثمانية النوم: جميع أعضاء الجسم تحتاج للراحة بعد العمل، وذلك بأن المواد الضرورية لحياتها تقل شيئًا فشيئًا بسبب العمل، وكذلك تتراكم فيها فضلات الاحتراق، فبالراحة تجمع من الدم مواد أخرى صالحة لتغذيتها، وتخرج إليه تلك الفضلات المؤذية، وأعظم أنواع الراحة، وأشدها نفعًا للجسم النوم، ففيه يبطل عمل المخ إلا فيما ندر (كالأحلام) ، ويقل ورود الدم إليه، وتقل مرات التنفس، والنبض فتستريح الرئتان والقلب، وكذلك يقل إفراز جميع الأعضاء الأخرى كالبول مثلاً وترتخي جميع العضلات؛ وبذلك تحصل الراحة لها، ولجميع الأعصاب والأعضاء؛ فتتجدد قوى الجسم وينتعش بسببه. قال بعض العلماء: إن المخ في أثناء النوم يكون محتقنًا بالدم، ولكن هذا غير صحيح فإن الدم إنما يكثر وروده إلى الأعضاء وقت العمل، وأما في زمن النوم فيقل الدم من المخ وغيره، ويهرب السائل الذي تحت العنكبوتية إلى القناة الفقرية. وإذا أريد جلب النوم لشخص مصاب بالأرق فأحسن طريقة له أن يجتهد الإنسان في تحويل الدم عن المخ، بأن يترك الشخص التفكير، ويصب الماء البارد على دماغه، ويغسل جسمه بالماء الساخن، أو يضع قدميه فيه، أو يتعب نفسه بمثل المشي وغيره؛ فإن ذلك يجذب الدم إلى العضلات والأطراف، ولمثل هذا السبب يميل الشخص إلى النوم عادة بعد الأكل بسبب ذهاب الدم إلى المعدة. ومدة النوم تختلف بحسب السن ففي الأطفال المولودين حديثًا تستغرق اليوم كله تقريبًا، وفي الغلمان قد تمتد إلى 12 ساعة، وفي الفتيان تكون نحو 9 ساعات، وفي الشبان من 7 إلى 8 ساعات، وفي الشيوخ تكون من 5 إلى 6 ساعات وأحسن وقت للنوم هو الليل بين ذهاب الشفق وطلوع الفجر، أي بعد صلاة العشاء وقبل صلاة الفجر فإن هذا الوقت تكون الظلمة فيه أشد، والسكون شاملاً للبلاد فلا ينبه المخ بمنبه يقلق راحته، ولا يحتاج الإنسان للنوم في النهار إلا في زمن الصيف؛ وذلك لقصر الليل، وطول النهار، واشتداد الحر فيه؛ فيتوارد بسبب ذلك الدم إلى الجلد؛ ولذلك يميل الإنسان إلى النعاس في الحر، ويستحسن أيضًا أن يكون هذا النوم بعد الظهر في مكان بعيد عن الضوضاء، وأن يوجد الإنسان فيه ظلمة بقدر الإمكان بإرخاء ستائره مثلاً، وهذا النوم هو ما يسمى بالقيلولة. وفي التبكير في القيام فوائد عظيمة، منها فوائد اقتصادية كمزاولة الأعمال المختلفة قبل فوات الوقت بسبب قصر النهار في الشتاء، أو فواته بسبب اشتداد الحر في الصيف، وعدم تمكن الإنسان من العمل، ومنها فوائد صحية أهمها الخروج من المكان الذي بات فيه الإنسان إلى هواء أصح؛ فينتعش جسمه بشم نسيم السحر، ومن ذلك تجدون أن فرائض الشريعة الإسلامية في الصلاة موافقة لمصالح الناس الاقتصادية والصحية، على فوائدها الروحية التهذيبية. ويجب أن تكون غرفة النوم خالية من الأثاث بقدر الإمكان، وأن تكون أرضها خشبية، وطلاؤها بالجير فقط، وتكون بعيدة عن الروائح الكريهة، وتدخلها الشمس بالنهار، وكذلك الهواء ليلاً ونهارًا، ولا يصح طلاؤها بغير الجير أو نحوه؛ فإن المواد الأخرى البيضاء، أو ذوات الألوان تشتمل عادة على الرصاص، أو الزرنيخ والنحاس، وهذه المواد تنتشر في هواء الغرفة فتسمم جسم الإنسان، وباستمرار استنشاقها تحدث له أعراض قد تكون خطرة، ويجب أيضًا أن تكون الغرفة جافة؛ فإن استنشاق هواء الغرف الرطبة يؤدي إلى اعتلال الصحة حتى قد تصاب الأطفال بالدفتيريا؛ إذا سكنت في بيوت حديثة البناء حديثة الطلاء، فيجب اتقاء السكنى في هذه المنازل إلا بعد تمام جفافها. هذا ولا يخفى أن الهواء الذي يُستعمل في التنفس، أو في الاحتراق هو أخف لسخونته من الهواء الذي لم يُستعمل فلذا يصعد إلى أعلى الحجرات؛ ولذلك كان من الواجب أن تفتح بعض النوافذ بقرب السقف والتجربة المشهورة المُثْبِتة لصحة هذه النظرية أن يأتي الإنسان بشمعة مشتعلة، ويمسكها بيده، ويقف على باب الغرفة المسكونة، ويضعها عند الباب بقرب الأرض؛ فيجد أن الشعلة تندفع إلى داخل الغرفة بسبب دخول الهواء من هذا المكان، فإذا أمسك الشمعة في أعلى الباب وجد أن الشعلة تندفع إلى الخارج بسبب خروج الهواء من الغرفة، وإذا أمسك بها في منتصف الباب وجد أن الشعلة تثبت في مكانها. ومن ذلك يُعْلَم أن الهواء يدور في الغرف من أعلاها كما قلنا، وينبغي أن لا ينام الإنسان في تيار الهواء أمام النافذة التي يدخل منها؛ فإن ذلك يُحْدِث برودة عظيمة في الجسم تؤدي إلى بعض الأمراض، ويستحسن أن تكون النوافذ التي يدخل منها الهواء أعلى من رأس الإنسان، أي على علو نحو تسع أقدام، وأن تكون نوافذ التصريف ملاصقة للسقف. وينبغي أن لا يبقى أحد في غرفة النوم نهارًا لئلا يفسد هواؤها، وأن تُترك نوافذها مفتحة ليدخل منها الهواء والشمس، ولا يجوز أن يوضع فيها ليلاً أزهار ولا أشجار، وكذلك لا يجوز أن تكون محاطة بحدائق غناء، فإن النبات من نجم وشجر - وإن كان ينقي الهواء في النهار - يتنفس في الليل تنفس الحيوان فيمتص أكسجين الهواء، ويفرز ثاني أكسيد الفحم؛ وبذلك يفسد الهواء، ويجب عدم وضع حيوانات في غرفة النوم؛ فإنها أيضًا تفسد الهواء بتنفسها، وقد تنقل إلى الإنسان بعض الأمراض كالقرَع والأَرَضَة الجلدية؛ فإنهما يصيبان القطط والكلاب، والدفتيريا تصيب القطط كثيرًا، وفي بعض الكلاب ديدان تُخْرِج بيضًا إذا وصل شيء منها إلى بطن الإنسان أحدث عنده أكياسًا عظيمة في الكبد وغيره. ومن أوجب الواجبات أن يُطفأ السراج وقت النوم كما وصى بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن النار من أشد ما يفسد الهواء، بل قد تقتل الشخص بالاختناق، على أنها قد تحدث الحريق، وفي إيقادها إسراف وضرر؛ فإن مجرد وجود النور في الغرفة مما يقلق راحة المخ. أما النور الكهربائي الصادر من بعض المصابيح، وهي المغلقة إغلاقًا تامًّا؛ فإنه لا يحدث أي إفساد للهواء، وهو أيضًا أبعد عن إحداث الحريق من سائر أنواع النور، إلا أن في الاستضاءة به إسرافًا كبيرًا، وهو يقلق راحة النائم أيضًا. ومن القواعد الصحية أن لا ينام الإنسان إلا على الأَسِرَّة، وحكمة ذلك أن يكون أبعد عن الرطوبة، والأقذار، وعن الدواب المؤذية كالعقارب، وكذا عن استنشاق الهواء الفاسد؛ فإن غاز ثاني أكسيد الفحم الذي يتولد من الاحتراق والتنفس، هو أثقل من الهواء؛ ولذلك يكثر بقرب الأرض، وينبغي أن يحيط بالأَسِرّة ما يسمى عندنا بالناموسية (الكلَّة) ؛ وذلك لمنع البعوض فإنه يذهب النوم عن الإنسان، وقد ينقل إليه الملاريا - كما سبق - ولا بد أن يكون الفِرَاش نظيفًا جدًّا خاليًا من جميع الحشرات لما سبق بيانه في باب النظافة. وللإنسان أن ينام على أي جنب شاء بحسب راحته؛ ولكن التزام جانب واحد قد يؤدي إلى ضرر، فإذا التزم الإنسان الجانب الأيمن مثلاً حصل احتقان في أجزاء الجسم اليمنى؛ فتختل الموازنة التي بين جهتيه، وتتعب الرئة اليسرى وتكون الجهة اليمنى من الدماغ عرضة للاحتقان، وربما أدى ذلك إلى الفالج إذا كان الشخص مستعدًّا له، كأن كان كبيرًا وشرايينه متصلبة، وكذلك الحال إذا التزم النوم على الجهة اليسرى، فالأحسن أن يتقلب الإنسان في الفراش، ولكن يفضل الإكثار من النوم على الجهة اليمنى خصوصًا إذا كان في المعدة طعام؛ فإن ضغط الكبد والمعدة على الحجاب الحاجز، وعلى القلب يعوق حركة التنفس، ويضايق الإنسان، ويتعسر أيضًا خروج الطعام من المعدة؛ لأن البواب في جهتها اليمنى، والنوم على الظهر يسبب الشخير والاحتلام فالأولى تركه إلا قليلاً، ولا يجوز النوم على الوجه؛ فإن ذلك يسبب ضغطًا على الأحشاء يضر الإنسان ويضايقه، ولا بد من وضع الرأس على شيء عالٍ كالمخدة بحيث تكون في محاذاة الجسم لمنع احتقان الدماغ. وكذلك ينبغي للإنسان أن لا ينام على طعام كثير؛ فإن النوم يعوق حركة الهضم، وإفراز العصير المعدي، ويتعب المعدة في وقت يجب أن تستريح فيه جميع الأعضاء، وهذا فضلاً عن كون ضغط المعدة، وهي ممتلئة بالطعام على الحجاب الحاجز يحدث ضيقًا يتسبب عنه الكابوس، والأحلام المزعجة، أو الاستيقاظ فجأة كأن الإنسان يخاف من الموت العاجل، ولا سيما إذا كان مصابًا بالربو (ضيق النفس) ، أو بمرض في القلب أو الرئتين، والأحسن أن يكون النوم بعد تمام الهضم في المعدة أي بعد نحو أربع ساعات. وينبغي أن يكون الرأس مغطى بغطاء خفيف لمنع توارد الدم بكثرة إلى المخ، ويرى بعض الناس أن الأحسن كشفه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يغطى الوجه، أما الجسم والأقدام فيجب أن تدفأ جيدًا؛ فإن ذلك يمنع تأثير البرد الضار، ويجلب النوم أيضًا. وإذا عرق النائم وجب عليه تغيير ملابسه بغيرها عقب الاستيقاظ مباشرة، ولا بأس من وضع إناء في حجرة النوم للتبول فيه (مبولة) كما كان يفعل ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن القيام إلى مكان بعيد لأجل البول قد يحدث أرقًا، ويعرض الإنسان لضرر البرد وغيره؛ وذلك الضرر لا شك أعظم من استنشاق بعض تلك الرائحة التي تنبعث من البول. ومن المستحسن أن يبيت الإنسان في فراش وحده لما تقدم بيانه، وأيضًا فإن المبيت مع الزوجة في فراش واحد يحرك الشهوة؛ فيضطر الإنسان إلى الإسراف في الجماع، وفي ذلك ضرر عظيم. هذا ومن الناس من يقوم ويمشي في أثناء نومه، ويأتي بأعمال عديدة لا يقدر أن يأتيها في اليقظة كالمشي على حائط مرتفع، وهذه الحالة قلما تحدث إلا للمصابين ببعض الأمراض العصبية كالمرض المسمى بالهستيريا [1] ، ويسمى هذا النوع من النوم (بالجولان النومي) (somnambulism) . الأحلام وعلم الغيب: الأحلام معروفة، والظاهر من الكتب المقدسة خصوصًا القرآن أن ما يراه الإنسان في النوم قد يكون مطابقًا للواقع، أو لما سيقع كما يستفاد من سورة يوسف مثلاً، وورد في حديث أن الأحلام ثلاثة: (1) هواجس النفس، و (2) وسوسة الشيطان، و (3) الرؤيا الحق، وقال صلى الله عليه وسلم: (رؤيا الرجل الصالح جزء من ست وأربعين جزءًا من النبوة) أي فهي تشبه أن تكون جزءًا من الوحي. وسبب الأحلام الفسيولوجي هو بقاء بعض خلايا المخ يقظة في أثناء النوم. هذا واعلم أن الغيب حقيقي وإضافي، فالحقيقي هو ما ليس له وجود في الكون مطلقًا، ولا يمكن الاستدلال عليه بشيء موجود، وهذا الغيب الحقيقي هو الذي استأثر بعلمه الله تعالى فلا يعلمه أحد إلا بإعلام من الله، وليس كل ما غاب عنك وهو موجود يعتبر غيبًا حقيقيًّا؛ فإن الإنسان خصوصًا في الأعصر الأخيرة أمكنه العلم بأشياء غير واقعة تحت حواسه، ومن أمثلة ذلك تلغراف ماركوني [2] (Marconi) أو التلغراف اللاسلكي، وهو مبني على نظرية شهيرة في العلم الطبيعي، وهي أن هذا العالم مملوء بالأثير، ولولا وجود هذا الأثير ما أمكن الجسم أن يؤثر في جسم آخر بعيد عنه، ففي هذا الأثير تحصل تموجات عديدة ينشأ منها النور، والكهرباء، والأخرى تتأثر به مهما بعدت عنها فإن هذا التأثير الكهربائي يسري في الأثير. وكذلك عُرفت الآن أشياء تخترق حجب المادة الكثيفة، وتصل إلى باطنها بواسطة الأثير أيضًا مثال ذلك أشعة الراديو وأشعة رونتجن Rontgen، وهو عالم ألماني من مدينة ورز

أثارة من تاريخ العرب في الأندلس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أثارة من تاريخ العرب في الأندلس تنبئ عن هدي الخليفة عبد الرحمن الناصر لدين الله،وجمعه بين الدين والدنيا، ومكانة علماء الدين في عهده، وقبوله منهم الإغلاظ في وعظه، وعن سيرة قضاة العدل وعلماء الآخرة الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يخافون في الحق صولة حاكم، على ورع يزينه ظرف ولطف ودعابة لا مهانة فيها ولا سخف، يتمثل ذلك كله في ترجمة الوزير الفتح بن خاقان للقاضي البلوطي في كتابه مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس. قال عفا الله عما تكلف من إبداع، وما صنعه من أسجاع: الفقيه القاضي أبو الحسن منذر بن سعيد البلوطي رحمه الله تعالى أية حركة في سكون، وبركة لم تكن معدة ولا تكون! ، وأية سفاهة في تحلم، وجهامة ورع في طي تبسم، إذا جد تجرد، وإذا هزل نزل، وفي كلتا الحالتين لم ينزل للورع عن مرقب، ولا اكتسب إثمًا، ولا احتقب، ولي قضاء الجماعة بقرطبة أيام عبد الرحمن، وناهيك من عدل أظهر، ومن فضل اشتهر، ومن جور قبض، ومن حق رفع، ومن باطل خفض، وكان مهيبًا طيبًا صارمًا غير جبان، ولا عاجز، ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم، واستمر في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله، ثم ولي ابنه الحكم فأقره، وفي خلافته توفي، بعد أن استعفى مرارًا فما أُعفي، فلم يُحفظ عليه مدة ولايته قضية جور، ولا عدت عليه في حكومته زلة، وكان غزير العلم كثير الأدب، متكلمًا بالحق، متبينًا بالصدق، له كتب مؤلفة في السنة والقرآن والورع، والرد على أهل الأهواء والبدع، وكان خطيبًا بليغًا، وشاعرًا محسنًا، وُلِد سنة ثلاث وعشرين (ومائتين) عند ولاية المنذر بن محمد، وتوفي يوم الخميس لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. (ومن شعره في الزهد) كم تَصابى وقد علاك المشيب ... وتعامى عمدًا وأنت اللبيب كيف تلهو وقد أتاك نذير ... أن يوم الحمام منك قريب يا سفيهًا قد حان منه رحيل ... بعد ذاك الرحيل يوم عصيب إن للموت سكرة فارتقبها ... لا يداويك إن أتتك طبيب كم تراني [1] حتى تصير رهينًا ... ثم تأتيك دعوة فتجيب بأمور المعاد أنت عليم ... فاعملن جاهدًا لها يا رتيب وتذكر يومًا تحاسب فيه ... إن من يذَّكر فسوف ينيب ليس من ساعة من الدهر إلا ... للمنايا عليك فيها رقيب الخطابة في الاحتفالات الرسمية: وذكر أن أول سببه في التعلق في الناصر لدين الله، ومعرفته به وزلفاه، أن الناصر لما احتفل لدخول رسول ملك الروم، وصاحب القسطنطينية بقصر قرطبة الاحتفال الذي اشتهر ذكره، وانبهر أمره، أحب أن تقوم الخطباء والشعراء بين يديه تذكر جلالة مقعده، ووصف ما تهيأ له من توطد الخلافة، ورمي الملوك بآمالها، وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه بإعداد من يقوم لذلك من الخطباء، ويقدمه أمام نشيد الشعراء [2] ، فتقدم الحكم إلى أبي علي البغدادي [3] ضيف الخلافة، وأمير الكلام، وبحر اللغة أن يقام، فقام رحمه الله، وأثنى على الله، وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم انقطع، وبهت فما وصل إلا قطع، ووقف ساكتًا متفكرًا، وتشوف لا ناسيًا ولا متذكرًا. ارتجال العلماء الخطابة حتى في السياسة: فلما رأى ذلك منذر بن سعيد قام بذاته، بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح أبي علي البغدادي بكلام عجيب، ونادى من الإحسان في ذلك المقام كل مجيب، وقال: أما بعد فإن لكل حادثة مقامًا، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإني قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأصغوا لي بأسماعكم، وأمنوا علي بأفئدتكم، معاشر الملأ! إن من الحق أن يقال للمحق صدقت، وللمبطل كذبت، وإن الجليل تعالى في أسمائه، وتصدق بصفاته [4] أمر كليمه موسى صلى الله على نبينا، وعليه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين أن يذكر بنعم الله - عز وجل - عندهم، وأنا أذكركم نعم الله تعالى عليكم، وتلافيه لكم، بخلافة أمير المؤمنين التي آمنت سربكم، ورفعت خوفكم، وكنتم قليلاً فكثركم، ومستضعفين فقواكم، ومستذلين فنصركم، ولاه الله رعايتكم، وأسند إليه إمامتكم، أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم تشعل النفاق، حتى صرتم في مثل حدقة البعير، مع ضيق الحال ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء ، وانتقلتم بيمن سياسته إلى كنف العافية بعد استيطان البلاء، ناشدتكم يا معشر الملأ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها، والسبل مخوفة فأمَّنها، والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها؟ ألم تكن البلاد خرابًا فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته، حتى أذهب عنكم غيظكم، وشفى صدوركم، وصرتم يدًا على عدوكم، بطوية خالصة، وبصيرة ثابتة وافرة، فقد فتح الله عليكم أبواب البركات، وتواترت عليكم أسباب الفتوحات، وصارت وفود الروم وافدة عليكم، وآمال الأقصين والأدنين إليكم، يأتون من كل فج عميق، وبلد سحيق، ولا أحد يحيل بينه وبينكم ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ولن يخلف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده ، وتلك أسباب ظاهرة تدل على أمور باطنة، دليلها قائم، وغيبها عالم {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور: 55) وليس في تصديق ما وعد الله - عز وجل - ارتياب، ولكل نبأ مستقر، ولكل أجل كتاب، فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه، وسلوه المزيد من نعمائه، فقد أصبحتم بين خلافة أمير المؤمنين أيده الله تعالى بالعصمة والسداد، وألهمه بخالص التوفيق سبيل الرشاد، فاستعينوا على صلاح أحوالكم، بالمناصحة لإمامكم، والتزام الطاعة لخليفتكم، وابن عم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فإن من نزع يده من طاعة، وسعى في فرقة الجماعة، وفر من الديانة، فقد خسر الدنيا والآخرة، ألا ذلك هو الخسران المبين. وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين، وصنوف الملحدين، الساعين في شق عصاكم، وتفريق ملتكم، وهتك حرمتكم، وتوهين دعوة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وعلى جميع النبيين والمرسلين، أقول قولي هذا والحمد لله رب العالمين وأنشد يقول: مقال كحد السيف وسط المحافل ... فرقت به ما بين حق وباطل بقلب ذكي ترتمي جنباته ... كبارق رعد عند نقش الأناصل فما دحضت رجلي ولا زل مقولي ... ولا طار عقلي يوم تلك البلابل بخير إمام كان أو هو كائن ... لمقتبل أو في العصور الأوائل وقد حدَّقت نحوي عيونٌ أخالها ... كمثل سهام أثبتت في المقاتل ترى الناس أفواجًا يؤمون داره ... وكلهم ما بين راضٍ وآمل وفود مليك الروم وسط فنائه ... مخافة بأس أو رجاء لسائل فعش سالمًا أقصى حياة معمر ... فأنت غياث كل حافٍ وناعل فقال العلج: هذا والله كبش الدولة، وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه، وثبات جنانه، وبلاغة لسانه. خطبة ارتجالية قربت عالمًا من الخليفة: وكان الخليفة الناصر لدين الله أشد تعجبًا منه، وأقبل على ابنه الحكم، ولم يكن يثبت معرفة عينه، وقد سمع باسمه، فقال الحكم: هذا منذر بن سعيد البلوطي، فقال والله لقد أحسن ما أنشأ [5] ، ولئن أبقاني الله تعالى لأرفعن من ذكره، فضع يدك يا حاكم واستخلصه وذكرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه، فلما انتهى الناصر إلى الجامع بالزهراء ولاه الصلاة فيها والخطبة، ثم توفي محمد بن عيسى القاضي فولاه قضاء الجماعة بقرطبة وأقره على الصلاة بالزهراء. جهر القاضي بإنكار إسراف الخليفة: وكان الخليفة الناصر كَلِفًا بعمارة الأرض، وإقامة معاملها، وتكثير مياهها، واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوة ملكه، وعزة سلطانه وعلو همته، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى ابتناء مدينة الزهراء الشائع ذكره، الذائع خبره، المنتشر في الأرض أثره، واستفرغ وسعه في تنجيدها، وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها؛ فانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه، فأراد القاضي منذر بن سعيد رحمه الله وجه الله في أن يعظه، ويُقَرِّعه في التأنيب، ويقص منه بما يتناوله من الموعظة بفصل الخطابة، والتذكير بالإنابة. فابتدأ أول خطبته بقوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: 128-135) ووصل ذلك بكلام جزل، وقول فصل، جاش به صدره، وقذف به على لسانه بحره، وأفضى في ذلك إلى ذم المشيد والاستغراق في زخرفته، والسرف في الإنفاق عليه، فجرى في ذلك طلقًا، وتلا في ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 109-110) وأتى بما شاكل المعنى من التخويف للموت، والتحذير منه، والدعاء إلى الله - عز وجل - في الزهد في هذه الدنيا الفانية، والحض على اعتزالها، والتبيين لظاهر معانيها، والترغيب في الآخرة وباقيها، والتقصير عن طلب الدنيا، ونهي النفس عن اتباع الشهوات، وتلا من القرآن العظيم ما يوافقه، وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله ويطابقه، حتى بكى الناس وخشعوا، وضجوا وتضرعوا، وأعلنوا الدعاء إلى الله تعالى. فعلم الخليفة أنه المقصود به، والمتعمد بسببه، فاستجدى وبكى، وندم على ما سلف منه من فرطه، واستعاذ بالله من سخطه، واستعصمه برحمته: إلا أنه وجد على منذر بن سعيد للفظه الذي قرعه به، فشكا ذلك إلى ولده الحكم بعد انصرافه، وقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وأسرف في ترويعي، وأفرط في تقريعي، ولم يحسن السياسة في وعظي وصيانتي عن توبيخه، ثم استشاط، وأقسم أن لا يصلي خلفه الجمعة أبدًا، فقال له الحكم: وما الذي يمنعك عن عزل منذر بن سعيد والاستبدال به؟ فزجره وانتهره، وقال: أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعلمه وحلمه - لا أمّ لك - يُعْزَل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون، وإني لأستحيي من الله تعالى أن لا أجعل بيني وبينه شفيعًا في صلاة الجمعة مثل منذر بن سعيد؛ ولكنه وقذ نفسي وكاد يذهبها، والله لوددت أن أجد سبيلاً إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلي بالناس حياته وحياتنا فما أظننا نعتاض منه أبدًا. وعذله قوم من إخوانه لتكنيته لرجل كان يسبه فقال: لا تعجبوا من أنني كنيته ... من بعد ما قد سبَّنا وهجانا فالله قد كنى أبا لهب وما ... كناه إلا خزية وهوانا ومن قوله في الزهد: ثلاث وستون قد حزتها ... فماذا تؤمل أن تنتظر وحل عليك نذير المشيب ... فما ترعوي بل وما تزدجر تمر لياليك مرًّا حثيثًا ... وأنت على ما أ

مقارنة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية ـ 4

الكاتب: أحمد كمال

_ المقارنة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*] (4) الكلمات المبدوءة بهذا الحرف، وهو نسر يقرأ ألفًا، أو كسرة، أو همزة، أو واوًا، وهذا الأخير نادر. أبَّ - أبًّا وأبابَةً وأبابًا: اشتاق إلى الشيء، قالوا: (أبَّ لُبِّ‍ي لمئك) أي اشتاق قلبي إلى رؤيتك (قرطاس رند لوحة 12 سطر 22) ومنها أبابة - قصد. أبخَ - يقابلها في العربية عبق؛ لأن الخاء تنوب عن القاف والكاف، فيقولون خَبٌّ، وكَبٌّ لكف اليد: عبق المكان بالطيب انتشرت رائحته فيه، فيقال في المصرية (أبَخَ شمَّاماتها) أي عبق وانتشر كل ما يشم من الروائح الطيبة، عبق به: لزق، وقالوا: (عبق المعبود منتو في حذتك) أي لحمك، و (عبقت المشاة بالمشاة) أي التصقت والتحمت (عن حجر الملك يعنخي الزنجي) وعبق بالمكان: أقام، نحو قولهم: (عبق الأرضان في عيشة الملك السليمة) أي بقي القُطران وهما الوجه القبلي والبحري في عيشة راضية. أبَخَ - يقابلها في العربية أبَقَ: هرب، قالوا: (تأْبَقُ مُطَوَّل الرِّتْوَة) أي تأبق حال كونك مطولاً الخطوة في سيرك (عن نقوش الملك تيتي) . آبدة - ج أوابد، وهي الطير المقيمة بأرض شتاها وصيفها، يكثر ذكرها في النصوص المصرية، ولا سيما فيما كان على صفائح القبور، ومنه قولهم (آبدة دئيصة) أي سمينة، و (آبدة مائية) والأثريون يصرفونها إلى جماعة الطير، إذ وجد بجانبها رسم طيور متنوعة اتباعًا لقاعدة الخط عندهم؛ لأن كل اسم جنس يرسم بعده بعض أنواعه للدلالة عليه، مثال ذلك كلمة حَمْس - وأصلها في المصرية حمت؛ لأن التاء تنوب عن السين - واحدته خَمْسة اسم لدواب البحر، فتراهم يرسمون بعده ثلاث سمكات متنوعة، كما أنهم يرسمون بعد كلمة " أعضاء " بعض أجزاء الجسم، وبعد كلمة (كراع) - وهو السلاح في اللغتين - بعض أنواع الأسلحة، وهلم جرّا. آبي - قيل عنه في كتب اللغة العربية إنه اسم للأسد، وصوابه النمر؛ لوجود صورة هذا الحيوان مرسومة بعد الكلمة في النصوص المصرية. أتا - عتا عتوًّا: استكبر وجاوز الحد. أتَّ - وبالعربية أثَّ أثاثًا وأثوثًا وأثاثة: التفّ، وكثر، ويقال لها بالقبطية أتا. أتف - وبالعربية عطاف ج عُطُف وأعطفة: السيف (عن العدد 1377) من الجزء الأول من كتاب الجغرافية) . أجاب - وبالقبطية أجب - وجب وجوبًا: سقط ومات، وأصل الوجوب السقوط والوقوع، والوجبة السقطة. أجاب - إجابة وجاب جوابًا: رد الجواب (عن لوح قبر موجود في متحف مدينة مِتّرنيخ) . أجر - وأجراء وأجرية واحده جرو - وهو ولد الكلب. إجَّانة - ج أجاجين هو مركن من خشب، ومنه قولهم (إجانة ماء تخمد اللوب) أي الظمأ (عن قرطاس بريس اللوحة 1 والسطر 5) . آخ أش - مقلوبة ومحرفة عن شيء بالعربية (عن قاموس بروكش الجزء 11 والصفحة 117 والجزء الخامس الصفحة 12) وفي الغالب يقولون: خ - أو - ش بالإمالة بمعنى شيء. آخَ - وفي العربية آق عليهم أوْقًا: أتاهم بالشؤم، فيقولون مَعَتْ (أي العدل) يؤخ عليك لو مشى عن سأوه [1] والمعنى: لو حاد العدل عن وطنه لآق عليك، أي لأتاك بالشؤم (عن شكاية الفلاح الصحيفة 92) . أخط - وفي العربية خطا خطوًا واختطى (عن قرطاس في متحف فينا) . أخط - ويقابله في العربية خطَّ خطًّا: رسم، وخط: كتب، ويقال بالمصرية خَطَّ أيضًا، وهو الأكثر في آثارهم [2] . أخُف - قفية: طعام، ومثلها كفية ج كفى. أدأبهُ - لغة في أتابهُ: أغضبه (عن ورقة بريس اللوحة 6 والسطر 1) . أدَّ - الرجل في الأرض أدًّا: ذهب وسار سيرًا شديدًا (عن رحلة أسنوهيت الصحيفة 44) . أذا - إيذاء: أضر (عن ورقة بريس اللوحة 6 والسطر 1) . أرُ - ألُو: البعيدة المرعى، ويقال إنها عين واحد العِلّيين، وهو اسم لأعلى الجنة، وفي المصرية تُكتب بالراء وباللام (عن نقوش هرم أناس السطر 588) . أرجا - أرجاء جمع رجا، وهو الجانب والناحية، وبالقبطية أفريجو (راجع قاموس بيّره الصحيفة 3 نقلاً عن كتاب بريس) . أرض - ج أرضون وأروض وأراضٍ أرّف - (وتكتب عند المصريين بالعين أيضًا؛ لأن الألف عندهم تنوب عن العين) عَرّف يقال أرَّف الحبل أي عقده، ويقرب منها في العربية أرَّب العقدة: شدها لأن الباء تنوب عن الفاء، ويقابلها في القبطية أَرْفٌ أرب (عن نقوش منتوحُيتِب. أراق - وريَّق: أسال وأهرق. أسد - ويقابلها في العربية زأد - فهي مقلوبة وسينها زاي - زأدًا وزؤدًا: أفزع (عن نقوش هرم أناس السطر 379) ، ويقابلها في اللغتين شَئف وجأف: خاف، هاد في الشيء هيدا أفزع وأكرب، وحذر: أرهب كلها ألفاظ عربية ومصرية. أسْ - هي مقلوب ساء سأوا: عدا، وسأي يسأي سأيًا: عدا في المشي (عن نقوش هرم بيبي السطر 296) . أسَّ - أسًّا: سلح (عن قرطاس برلين الطبي 19، 2) وسلَحَ أيضًا كلمة مصرية وعربية كألفاظ أخرى بمعناها. أَسِىٌّ -: خرثي الدار أي متاعه (عن نقوش إدفو) . آشى - أوشى المكان: ظهر فيه وشيٌ من النبات. أشى - وبالعربية عشا وعسى الليل: أظلم وأغشى يغشي: أظلم. أصِبَ - وبالعربية عَصِبَ عصْبًا: احمرّ في النار (عن كتاب الموتى) . أطاب - للضيف إطابة: قدم له طعامًا طيبًا (قاموس ليفي الجزء 8 ص12) . إطلٌ - وإطالٌ. وأيطل: الخاصرة، الجنب، قال امرؤ القيس في وصف ناقته لها أيطلا ظبي وساقا نعامة أفا - مقصور، وبالعربية فاء فيئًا: أخذ الغنيمة، واغتنمها (عن جريدة السيتشرفت لسنة 1872 ص25) . أفت - أبت الشمس، وآفت لغة في غابت (عن قاموس بروكش الجزء 1 ص 7) أف - أوفًا: أضر وأفسد. أفيَه - كثير الأكل، وبالعربية فَيِّه وفُيَّهَةٌ، والفوه النهم الذي لا يشبع، واستفاه الرجل اشتد أكله بعد قلة يستفيه في الطعام والشراب (راجع قرطاس بريس اللوح 1ص8) . أَقح - وبالعربية أوكح: حفر (عن قرطاس إيرس الطبي عدد 2) . اكهى - حجر لا صدع فيه. أقس - عكس، قُلبت عينه همزة، وفُخمت كافه فصارت قافًا، يقال بالعربية عكس البعير إذا شد حبلاً في خطمه إلى رسغ يده لينزل وعكس الخيل أقذعها (عن تابوت سيتي المحفوظ بمتحف لندرة) . أقّ - عجّ، يقال عجت المرأة صبيها عجًّا لغة في عجته عجوًا، أي أسقته اللبن، ورسم بعد الكلمة امرأة تُرْضِع ابنها. أكَنَّ - الشيء وكنه كنًّا وكنُونا وكننه: ستره في كنه وغطاه وأخفاه وصانه، واكتنى: استتر (عن نقوش الملك بيبي الأول السطر 146) ومنها الكِنّ، وجمعه أكنان وأكنة. أكَّ -: ضاق صدره، ومنه قولهم (أك لبُّه وخسّ حُزَّه) أي ضاق صدره، ونقص لحمه (عن ورقة بريس اللوحة 8 والسطر 12) ألب - ولبَّ لبًّا أقام (عن ص43 من رحلة سنوهيت لماسبرو) . ألَّقَ - وتألق: لمع، وفي المصرية تكتب بالراء أيضًا (عن جريدة مجموعة أعمال العاديات جزء 5 صحيفة 94) . ألكِةً - وبالقبطية أليكو، وبالعربية عُلَّيْقٌ عُلَّيقَى: نبت يتعلق بالشجر (عن القرطاس الثاني السحري) . ألَّ - ألَّة ألاًّ: طعنه بالألة أي الحربة، عن قرطاس أسوريس بمتحف فينا) أمَأ- (بين القوم) : أفسد، مقلوب مأى مأيًا ومأوًا (واوي يائي بالعربية) (عن رحلة سنوهيت السطر 1 من الصفحة 2 لماسبرو) . أمرَّ - الشيء: شده بالمِرار، وهو الحبل، وبالقبطية مُوز. أماه - ماه الشيء وأماهه: خلطه، كلمة تُذْكَر كثيرًا في قراطيس الطب القديمة فيقولون: (يُنْخَز ويماه في المروخ) أي يصحن في الهاون [3] . أمِي - عمي يعمى: ذهب بصره كله من عينيه، قلبت العين همزة. أنأى - إناء أبعد (عن القرطاس السحري السطر 7 من ظهره) . أنأى ونأى وانتأى - حفر أو عمل النؤيا أي الحفرة (عن نقوش مقبرة في الكاب) . أهَد - وفي العربية هود تهويدًا: رجع الصوت في لين، وغنّى (عن تتمة قاموس ليفي ج2) . أهَد - وفي العربية هدَّ البناء هدًّا وهدودًا هدمه: ويقال هدته المصيبة أي أوهنت ركنه (عن كتاب نافيل في إبادة الجنس البشري بالشمس) . أهط - وهط وفي العربية وَهط: الأرض المطمئنة التي تزرع (عن نقوش معبد دندرة) أهَّ - أهًّا وآهَةً: توجّع (عن نقوش دندرة وقرطاس بريس - السطر 1 من اللوح 15) . أوقم - وقم الرجل ووكمه: قهره وأذله، وحزنه أشد الحزن فهو موقوم، ووكم له: اغتم وجزع (عن جريدة السيشر فت لسنة 1878 الصفحة 49) ومنه قولهم (أقوال موكمة لاختلال سخت) [4] آوى (المنزل أو إلى المنزل) وغيره أويًّا نزل به، ولجأ إليه، وتأوّى اجتمع عن قرطاس برلين اللوح 15 / 16) . إي حرف جواب بمعنى نعم (يقع قبل القَسَم في العربية) ويقابله في اللغة العامية (إيوَ) . أيَا - تأيّا (المتعدي بعلى) : انصرف في تُؤَدة (عن نقوش الملك مر نرع السطر 748) . أيِّل - وأيَّلٌ: الأيِّل (وبالقبطية إيول) ، وهو الحيوان المعروف الذي يشبه الوَعْل ((يتبع بمقال تالٍ))

الخطب الدينية ـ 1

الكاتب: القاسمي

_ الخطب الدينية اشتغالنا بانتقادها وإصلاحها: قد كان مما وفقنا الله تعالى له في أثناء الاشتغال بطلب العلم انتقاد خطباء المساجد، ودواوينهم التي يحفظون خطبها، ويقرءونها على المنابر غيبًا، أو في الأوراق المخطوطة أو المطبوعة؛ فإن كل هذه الخطب أو جلها في ذم الدنيا، والتزهيد فيها، والتذكير بالموت، ومدح الشهور والمواسم حتى المبتدعة منها، وأكثر ما فيها من الأحاديث ضعيف أو موضوع، وقد عقدت في كتاب (الحكمة الشرعية) الذي ألفته في ذلك العهد فصلاً طويلاً في الخطابة، بينت فيه حكمتها، ومنفعتها، وكيفية تحصيل ملكة الارتجال فيها، وما ينبغي أن تشتمل عليه الخطب الدينية في المساجد، وأنشأت عدة خطب خرجت فيها من المضيق الذي حبس خطباؤنا فيه أنفسهم، واخترت لأحد الخطباء أحاديث صحيحة وحسنة لديوان أنشأه عزوتها إلى مخرجيها، فكان أول خطيب سمعناه في بلادنا يلتزم الأحاديث الصحيحة والحسنة في خطبه معزوة إلى مخرجيها، على أن التزام الأحاديث في آخر الخطبة غير واجب ولا مسنون، بل هو عادة ينبغي تركها أحيانًا لئلا يظن أنها مشروعة فيكون الالتزام من البدع التي سماها صاحب الاعتصام البدع الإضافية. ثم إننا بعد إنشاء المنار نوهنا فيه بهذه المسألة مرارًا، واتفق لنا أن خطبنا في بعض المساجد خطبًا مرتجلة، مناسبة لحال عصرنا، موافقة لما كان عليه سلفنا الصالح، فكان هذا وذلك باعثًا لكثير من محبي الإصلاح على مطالبتنا بإنشاء خطب إصلاحية تُنْشَر في المنار، عسى أن يقتبسها، أو يقتبس منها الخطباء، فلم نجبهم إلى ذلك؛ لاعتقادنا أن الغرض منه لا يتم إلا إذا جاء من جانب السلطة الرسمية. مثال ذلك أننا أنشأنا خطبة في الاقتصاد في المال، وقضاء الدين اقترحها علينا الشيخ علي يوسف، وأخذها منا، ثم علمنا أنها نُشِرَت في القطر بأمر الحكومة بعد استحسان شيخ الأزهر، وإجازته. وكنا قد مهدنا السبيل إلى مثل ذلك في ديوان الأوقاف؛ ولكن علمنا أنه لا ينفذ إلا إذا اقتنع به الأمير، وأحب تنفيذه، فكنا ننتظر الفرصة لعرض ذلك عليه، وإقناعه به ولم تسنح لنا، ثم شرعنا فيما هو خير من ذلك إصلاحًا، وهو مدرسة الدعوة والإرشاد التي يتربى فيها الخطباء المرتجلون، ولا نزال نعاني في هذه السبيل من تمهيد العقبات، ومكافحة الحساد، وأعداء الإصلاح، ما نرجو أن ينتصر فيه الحق على الباطل، والإخلاص على النفاق. *** ديوان خطب المصلح القاسمي اطلعنا في هذه الأيام على ديوان خطب عالم الشام صديقنا المرحوم الشيخ جمال الدين القاسمي تغمده الله برحمته، وكان أُهْدِيَ إلينا مطبوعًا منذ أعوام، فلم يتح لنا التأمل فيه، فرأيناه أفضل ما نُشِر من دواوين الخطب، بخلوه من البدع والخرافات، ومن الأحاديث الواهية والموضوعات، واشتماله على الموعظة الحسنة التي يحتاج الناس إليها في جميع الأوقات، ولو كان للخطابة والتأليف حرية في بلاد الشام أيام إنشائه رحمه الله تعالى لتلك الخطب لَأودعها كثيرًا من المسائل الاجتماعية والأدبية التي اشتدت الحاجة إليها في هذا العصر، وقد رأينا أن نقتبس بعض مقدمات هذا الديوان النفيس وخطبه فيما يلي فهاكها بنصها: المقدمة الأولى في الهدي النبوي في الخطبة: قال الإمام ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد في هديه صلى الله عليه وسلم في خطبه: كان صلوات الله عليه إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ حتى كأنه منذر جيش، وكان يقصر الخطبة، ويطيل الصلاة، ويكثر ويقصد الكلمات الجوامع، وكان يعلم أصحابه - في خطبته- قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض له أمر أو نهي، وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة، وحضهم عليها، وكان يمهل يوم الجمعة حتى يجتمع الناس، فإذا اجتمعوا خرج إليهم، فإذا دخل المسجد سلم عليهم، فإذا صعد المنبر استقبل الناس بوجهه وسلم عليهم، ثم يجلس ويأخذ بلال رضي الله عنه في الأذان، فإن فرغ منه قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب، وكان في الجمعة يعتمد على عصا أو قوس، وكان منبره صلوات الله عليه ثلاث درجات، وكان يأمر الناس بالدنو منه، ويأمرهم بالإنصات، وكان صلى الله عليه وسلم إذا صلى الجمعة دخل إلى منزله فصلى ركعتين، وفي رواية كان إذا صلى في المسجد صلى أربعًا، وإن صلى في بيته صلى ركعتين. انتهى ملخصًا. الثانية في سنن الخطبة: قال الإمام النووي في الروضة في سنن الخطبة: منها أن تكون على منبر، والسنة أن يكون المنبر على يمين الموضع الذي يصلي فيه الإمام، ويكره المنبر الكبير الذي يضيق على المصلين إذا لم يكن المسجد متسع الخِطة، فإن لم يكن منبر خطب على موضع مرتفع، ومنها أن يُسَلِّم على من عند المنبر إذا انتهى إليه، ومنها إذا بلغ في صعوده الدرجة التي تلي موضع القعود أقبل على الناس بوجهه، وسَلَّم عليهم، ومنها أن يجلس بعد السلام، ومنها أنه إذا جلس اشتغل المؤذن بالأذان، ويديم الجلوس إلى فراغ المؤذن، ومنها أن تكون الخطبة بليغة غير مؤلفة من الكلمات المبتذلة، ولا من الكلمات الوحشية، بل قريبة من الإفهام، ومنها أن لا يطولها، ولا يمحقها، بل تكون متوسطة، ومنها أن يستدبر القبلة، ويستقبل الناس في خطبتيه، ولا يلتفت يمينًا، ولا شمالاً، ومنها أنه يُستحب أن يكون جلوسه بين الخطبتين قد سورة الإخلاص، ومنها أن يعتمد على عصا أو نحوه، ومنها أنه ينبغي للقوم أن يقبلوا على الخطيب مستمعين لا يشتغلون بشيء آخر، حتى يكره الشرب للتلذذ، ولا بأس به للعطش لا للخطيب، ولا للقوم ومنها أن يأخذ في النزول بعد الفراغ، ويأخذ المؤذن في الإقامة، ويبتدر ليبلغ المحراب مع فراغ المقيم. اهـ. الثالثة فيما يكره في الخطبة وفروع أخرى: قال الإمام النووي - رحمه الله - في الروضة، يُكْرَه في الخطبة أمور ابتدعها الجهلة، منها التفاتهم في الخطبة الثانية، والدق على درج المنبر في صعوده، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل أن يجلس، ومنها مبالغتهم في الإسراع في الخطبة الثانية، ويستحب إذا كان المنبر واسعًا أن يقوم على يمينه، ويُكْرَه للخطيب أن يشير بيده، ويُسْتَحب أن يختم الخطبة بقوله: أستغفر الله لي ولكم، وذكر بعضهم أن يستحب للخطيب إذا وصل المنبر أن يصلي تحية المسجد، ثم يصعد، وهو قول غريب وشاذ مردود، فإنه خلاف ظاهر المنقول عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخلفاء الراشدين فمن بعدهم، ولو أغمي على الخطيب فهل يبني غيره على خطبته، أو يستأنفها؟ قولان. اهـ. ملخصًا. ويُكْرَه أن يتخطى المصلي رقاب الناس لما فيه من سوء الأدب، والأذى، ويحرم الكلام في الخطبتين والإمام يخطب، وله الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعها، ويسن سرًّا، ويجوز تأمينه على الدعاء، ورفع الصوت قدام بعض الخطباء مكروه اتفاقًا كذا في الإقناع [1] . الرابعة (حكم تعدد الجمعة) : الحاجة في هذه البلاد في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم، ولا يمكنهم جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها إلى حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة التي لم تشيد لمثلها قد هوَّل فيه السبكي في فتاويه؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة، بل وتسميتها جمعة؛ فإن صيغة فُعُلة في اللغة للمبالغة، وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأفواج يوم الجمعة، ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت، والتي لا تعاد الظهر بعدها، كما أشار له العلامة البجيرمي رحمه الله تعالى، وقد بسطناه في كتابنا (إصلاح المساجد من البدع والعوائد) الخامسة: ما يُسن يوم الجُمُعة: يسن تنظيف يوم الجمعة، وتطيب ولبس أحسن الثياب، وإكثار الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليذكر الرحمة ببعثته، والفضل بهدايته، والمِنَّة باقتفاء هديه وسنته، والصلاح الأعظم برسالته، والجهاد للحق بسيرته، ومكارم الأخلاق بحكمته، وسعادة الدارين بدعوته، صلى الله عليه وعلى آله ما ذاق عارف سر شريعته، وأشرق ضياء الحق على بصيرته، فسعد في دنياه وآخرته. آمين. *** طلائع الخطب النبوية (1) إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله رواه الإمام أحمد، ومسلم، عن ابن عباس. (2) الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونستهديه ونستنصره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصْ الله ورسوله فقد غوى، حتى يفيء إلى أمر الله رواه الشافعي، والبيهقي، عن ابن عباس. (3) إن الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء: 1) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102) ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب: 70-71) رواه الإمام أحمد، والترمذي عن ابن مسعود. ((يتبع بمقال تالٍ))

السيد محمد شفيع آل رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد محمد شفيع آل رضا في ضحوة يوم الإثنين أول أيام العَشْر الأخيرة من شهر رمضان المبارك سنة 1333 هجرية قمرية، وأواخر العشر الأول من شهر الصيف الأول (الدرجة التاسعة من برج الأسد) سنة 1292 هجرية شمسية، الموافق لليوم الثاني من شهر (تموز) 1915 مسيحية، وهب الله تعالى لصاحب هذه المجلة غلامًا سويًّا أطلق عليه اسم (محمد شفيع) . ولد محمد شفيع تام البنية، ممتلئ الجسم، أبيض اللون مشوبًا بصفرة كما هي العادة، أحمر الشعر، أسود العينين إلى زرقة، بارز الجبهة، طويل الغُرة، رافعًا إصبعه السبابة، ولم يلبث أن رضعها، ولم ينقض الأسبوع الأول إلا وقد تبدلت الصفرة حمرة؛ فصار أزهر اللون. فالله أسأل أن ينبته نباتًا حسنًا، ويوفقنا لتربيته تربية صالحة، ويجعله قرة عين لوالديه، وآل بيته وأمته، ويستجيب لنا به وبغيره، ما دعوناه وندعو به من أدعية كتابه {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74)

حال المسلمين مع غيرهم في العصر الأول

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حال المسلمين مع غيرهم في العصر الأول إن حالة الأمم الاجتماعية والسياسية، والأدبية لها شأن كبير في تطبيق الأحكام على الوقائع، وهو ما يسميه علماء الأصول " تحقيق المناط "، ومن عرف التاريخ، وفَقِهَ قواعد علم الاجتماع منه؛ فإنه هو الذي يفقه سبب إعراض الفقهاء والحكام عن قبول شهادة غير المسلمين عليهم، وأحق ما يجب فقهه من تلك القواعد أربع ينبغي التأمل فيها بعين العقل والإنصاف. (أحدها) ما كان عليه المسلمون في القرون الأولى للإسلام من الاستمساك بعروة الحق، وإقامة ميزان العدل، وعدم المحاباة والتفرقة في ذلك بين مؤمن وكافر، وقريب وبعيد، وصديق وعدو. (ثانيها) ما كانت عليه جميع الأمم التي فتحوا بلادها، وأقاموا شريعتهم فيها، من ضعف وازع الدين، وفساد الأخلاق والآداب، وقد قرر ذلك مؤرخو الإفرنج، وغيرهم، وجعلوه أول الأسباب الاجتماعية لسرعة الفتح الإسلامي في الخافقين. (ثالثها) ما جرى عليه الفاتحون من المسلمين من المبالغة في التوسعة على أهل ذمتهم في الاستقلال الديني والمدني، إذ كانوا يسمحون لهم بأن يتحاكموا إلى رؤسائهم في الأمور الشخصية وغيرها - فكان من المعقول مع هذا أن لا يشهدوهم على قضايا أنفسهم الخاصة، وأن يمنعهم نظرهم إلى ما بينهما من التفاوت في الأحوال الدينية، والأدبية التي أشرنا إليها آنفًا من قبول شهادتهم على أنفسهم، مع عدم ثقتهم بتدينهم وعدالتهم. (رابعها) تأثير عزة السلطان، وعهد الفتح الذي كانت الأحكام فيه أشبه بما يسمونه الآن بالأحكام العسكرية، واعتبر ذلك بأحكام دول الإفرنج في أيام الحرب، بل في المستعمرات التي طال عليها عهد الفتح، أو ما يشبه الفتح يتبين لك أن أشد أحكام فقهاء المسلمين وحكامهم على غيرهم هي أقرب إلى العدل والرحمة من أحكام أرقى أمم المدنية من دونهم. وقد عُلم من حال البشر أن الغالب قلما يرى شيئًا من فضائل المغلوب، وإن كثرت، فكيف يرجى أن يرى قليلها الضئيل الخفي؟ والجماعات الكبيرة والصغيرة كالأفراد في نظر كل إلى نفسه، وإلى أبناء جنسه بعين الرضا، وإلى مخالفه بعين السخط، مثال ذلك أن امرأة من فضليات نساء سويسرة دينًا، وأدبًا، وعلمًا راقبت أحوال الأستاذ الإمام، وسيرته مدة طويلة إذ كان يختلف إلى مدرسة جنيف لتلقي آداب اللغة الفرنسية، وكَلَّمَتْه مرارًا في مسائل من علم الأخلاق والتربية، وكانت بارعة ومصنفة فيهما، فأعجبها رأيه، كما أعجبها فضله وهديه، ثم قالت له بعد ذلك: إنني لم أكن أظن قبل أن عرفتك أن القداسة توجد في غير المسيحيين. فمن تأمل ما ذُكِر تجلت له الأسباب المعنوية والاجتماعية التي صدت الحكام والفقهاء عن قبول شهادة غير المسلم على المسلم، وتعجب من سعة أحكام القرآن، التي يتوهم الجاهلون أنها ضد ما هي عليه من الإطلاق وموافقة كل زمان ومكان، فتراهم ينسبون إلى القرآن كل ما ينكرونه على المسلمين من آرائهم، وأعمالهم، وأحكامهم بالحق أو بالباطل، ولو كان المسلمون عاملين بالقرآن كما يجب، لَمَا أنكر عليهم أحد، بل لاتبعهم الناس في هديهم، كما اتبعوا سلفهم من قبلهم، بل لكانوا أشد اتباعًا لهم بما يظهر لهم من موافقة هدايته لهذا الزمان، وموافقتها لأرقى ما وصل إليه من نظام وأحكام، وهذا من أجل معجزاته التي تتجدد بتجدد الأزمان.

إعراب الآية الثانية الذي اضطرب فيه النحاة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعراب الآية الثانية الذي اضطرب فيه النحاة قد تبين مما فصلناه أن الذين عدوا الآيتين في غاية الصعوبة لمخالفة مذاهبهم لهما مخطئون، وأن الواجب رد المذاهب إليهما، لا تأويلهما لتوافقا المذاهب، وأما الذين استشكلوا إعراب جملة من الآية الثانية، وعدوا لأجلها الآية أو الآيات في غاية الصعوبة؛ فإنما أوقعهم في ذلك احتمال التركيب لعدة وجوه من الإعراب، بما فيها من تعدد القراءات، مع اعتيادهم تقديم الإعراب على المعنى، وجعله هو المبين له، وقد استحسنا بعد إيضاح تفسير الآيات بما تقدم أن نذكر ملخص ما قيل في إعراب تلك الجملة نقلاً عن " روح البيان " الذي يلتزم تحقيق المباحث النحوية في جميع الآيات، عسى أن يستغني القارئ به عن مراجعة تفسير آخر، ونبدأ بجواب الشرط لأنه مبدأ ما استشكلوه من الإعراب، قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: {فَآخَرَانِ} (المائدة: 107) أي فرجلان آخران، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} (المائدة: 107) والفاء جزائية، وهي إحدى مسوغات الابتداء بالنكرة، ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته، وهو قوله سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة: 107) وقيل هو خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، وجملة يقومان صفته، والجار والمجرور صفة أخرى، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من ضمير يقومان، وقيل هو فاعل فعل محذوف، أي فليشهد آخران، وما بعده صفة له، وقيل مبتدأ خبره الجار والمجرور والجملة الفعلية صفته، وضمير مقامهما في جميع هذه الأوجه مستحق للذين استحقا، وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي، بل هو مقام الحبس والتحليف، واستحق بالبناء للفاعل على قراءة عاصم في رواية حفص عنه، وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس وأُبيّ - رضي الله تعالى - عنهم، وفاعله (الأوليان) والمراد من الموصول أهل الميت، ومن الأوليين الأقربان إليه، الوارثان له، الأَحَقَّان بالشهادة لقربهما واطلاعهما، وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثمًا، إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف، ومفعول استحق محذوف، واختلفوا في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة؛ ليظهروا بهما كذب الكاذبين، وقدره أبو البقاء وصيتهما، وقدره ابن عطية مالهم وتركتهم، وقال الإمام: إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما؛ وسبب أولويتهما أن الميت عينهما للوصية، فمعنى {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة: 107) خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما، وعلى هذا لا ضرورة إلى القول بحذف المفعول، وقرأ الجمهور {اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ} (المائدة: 107) ببناء استحق للمفعول، واختلفوا في مرجع ضميره، والأكثرون أنه الإثم، والمراد من الموصول الورثة؛ لأن استحقاق الأثم عليهم كناية عن الجناية عليهم، ولا شك أن الذين جُني عليهم، وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة، وقيل إنه الإيصاء، وقيل الوصية لتأويلها بما ذكر، وقيل المال، وقيل: إن الفعل مسند إلى الجار والمجرور، وكذا اختلفوا في توجيه رفع الأوليان؛ فقيل: إنه مبتدأ خبره (آخران) أي الأوليان بأمر الميت آخران، وقيل بالعكس، واعترض بأنه فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة، وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقيل خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني، وقيل بدل من آخران، وقيل عطف بيان عليه، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهم شرطوه فيه حتى مَنْ جَوَّزَ تنكيره، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط، وقيل هو بدل من فاعل يقومان، وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه، حتى يلزم خلوّ تلك الجملة الواقعة خبرًا أو صفة عن الضمير على أنه لو طرح، وقام هذا مقامه، كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطًا، وقيل هو صفة آخران، وفيه وصف النكرة بالمعرفة، والأخفش أجازه هنا؛ لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة، قيل وهذا على عكس، ولقد أمر على اللئيم يسبني فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة، وهذا أُوِّلَ فيه النكرة بالمعرفة، أو جعلت في حكمها للوصف، ويمكن - كما قال بعض المحققين - أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة، وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل (استحق) ، والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة، كما قال الزمخشري، أو إثم الأوليين كما قيل، وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي على في (عليهم) أوجه الأول: أنها على بابها، والثاني أنها بمعنى في، والثالث أنها بمعنى من، وفسر استحق بطلب الحق، وبحق وغلب، وقرأ يعقوب، وخَلَفٌ، وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه (استحق عليهم الأوليين) ببناء استحق للمفعول، والأولين جمع أول المقابل للآخر، وهو مجرور على أنه صفة الذين، أو بدل منه أو من ضمير عليهم، أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة، وقيل التقدم في الذكر لدخولهم في (يا أيها الذين آمنوا) وقرأ الحسن (الأولان) بالرفع، وهو كما قدمنا في الأوليان، وقرئ (الأولين) بالتثنية والنصب، وقرأ ابن سيرين (الأوليين) بياءين تثنية أولى منصوبًا، وقرأ (الأولين) بسكون الواو وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر.

البرهان على خروج تارك الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان ـ 2

الكاتب: محمد علي أبو زيد

_ البرهان على خروج تارك الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد (2) يزيدك بيانًا لهذه الآية قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة) خَرَّجَه مسلم [1] ولا تحتاج بعده إلى شرح وبيان، ومنه قوله تعالى في سورة البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 45- 46) . تراه في الآية جعل الصلاة يُستعان بها، ولم يذكر ما يستعان عليه؛ ليشمل كل الأمور الدينية والدنيوية، وذلك - كما بينا قريبًا - أنها تشغل النفس بذكر الله تعالى فتصقلها كصقل الجلاَّء للمرآة؛ فيرى صاحبها بقربه من ربه ما لا يراه صديء النفس؛ فتقوى فيه الروحانية والمرء متى قويت روحه، قويت إرادته، واشتدت عزيمته؛ فتسهل أمامه كل صعوبة، ويفوز في كل عمل تطلبه الحياة، وهذا كله هو حظ الشارع الحكيم ممن يخضع لأمره، ويؤمن بثوابه وعقابه. وقد أفاد جل شأنه بقوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ} (البقرة: 45-46) الآية، أن الصلاة إنما تكبر وتثقل على من لم يؤمن بالآخرة، ومن لم يصدق بملاقاة ربه وجزائه {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) وحده. وهاهنا نكتة بليغة في قوله: {يَظُنُّونَ} (البقرة: 46) فإنه لم يقل (يوقنون) ليفيد أن الظن - وإن كان لا يغني من الحق شيئًا - يكفي حاملاً للمرء على العمل احتياطًا، ما دام يترجح عنده أنه سيرجع إلى الله فيحاسبه ويجازيه، فكأنه تعالى يقول: إن من يعتقد اعتقاد ظن ورجحان [2] لم يصل فيه إلى درجة اليقين بالبرهان، أنه سيلاقي ربه فيحاسبه ويجازيه، لم تثقل عليه الصلاة ولا تشق، بل يقيمها بنشاط على خشوع وراحة. هذا مبني على سنة الله تعالى في النفس، متى ترجح عندها الأجر والمنفعة في العمل نشطت إليه، وهشت له، وإن كان سخرة أو ضرًّا، كبر عليها، وجزعت منه، وإذا كان ذلك حال الظان - لا يترك الصلاة ولا تثقل عليه إقامتها بل يحافظ عليها ويرتاح بها - فما بالك بالموقن هل يترك الصلاة، أو يثقل عليه شيء منها؟ أم ينتظر أوقاتها، ويقول كما قال الرسول، صلى الله عليه وسلم: (أرحنا بها يا بلال) . ومنه قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام: 92) . جعل سبحانه المحافظة على الصلوات شأنًا من شؤون أهل الإيمان بالآخرة وبالقرآن، وجعل هذا الإيمان داعيًا إليها، وباعثًا عليها، وذلك أن قوله: {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام: 92) يفيد أن الذي يؤمن باليوم الآخر، ويصدق بأن فيه الجزاء الأوفى: الطيب للطيب، والخبيث للخبيث، لا بد أن يصدق بالقرآن، ولا بد أن يكون على تلك الحالة، ومتصفًا بتلك الصفة: المحافظة على الصلاة. واختيار التعبير بالفعل (يحافظون) على الوصف (محافظون) يدل على الدوام والاستمرار، أي أنه لا ينفك عنها في وقت من الأوقات، والآية وما قبلها نص في أن الإيمان بالآخرة يستلزم الإيمان بالقرآن، والإيمان به يستلزم إقامة الصلاة، ومفهومه أن من لم يحافظ عليها كافر، وعلى هذا يكون القرآن قد بين أن الصلاة هي الفارق بين المؤمن والكافر، ويُجلِّي لك هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (بين الكفر والإيمان ترك الصلاة) رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وفي رواية (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) رواه الترمذي، والنسائي وصححه، فتأمل هذه التصريحات في هذه الأحاديث، وانظر التحقيق من النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظة (فقد كفر) وكلها في معنى الآيات التي سمعت. وأزيدك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) رواه البخاري، والنسائي، ومن المعلوم في الشرع أن الذي يحبط عمله هو الكافر، قال تعالى في سورة المائدة: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: 5) فإذا كان تارك العصر كافرًا، فما ظنك بتارك جميع الصلوات؟ ولما جاء وفد ثقيف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسلموا، قالوا: اسمح لنا في أن ندع الصلاة، وألا نكسر أصنامنا بأيدينا فقال: صلى الله عليه وسلم (أما كسر أصنامكم بأيديكم فقد عفوناكم منه، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه، وأنت ترى أن في قوله (لا خير في دين لا صلاة فيه) أن تارك الصلاة لا يعتد بتدينه، وعلى هذا قد درج الصحابة، رضوان الله عليهم. فقد روى الترمذي عن عبد الله بن شقيق [3] أنه قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفرًا إلا الصلاة؛ وذلك لما قدمنا من أن الصلاة أصل، فالمحافظة عليها تستلزم المحافظة على كل الدين. وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يكتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها كان لما سواها أشد إضاعة، رواه مالك وغيره. س: إن ما تقدم من الأدلة كله صريح في أن تارك الصلاة غير مسلم مطلقًا، ولا أراني أشك بعد في ذلك، إذًا ما معنى قول بعضهم: من تركها كسلاً لا يكفر، وما معنى التفريق بين من يتركها بكسل أو غيره؟ ج: لا معنى لذلك إلا مخالفة النصوص الصريحة، وعدم تدبر القرآن، والسنة الصحيحة [4] ، وما دمنا نقول كما قال القرآن: إن المحافظة على الصلوات من شأن المؤمن، ومن صفاته الملازمة له، فالمجرد منها، المتخلي عنها، غير مؤمن ضرورة، لكونه عري من صفة الإيمان الفعلية، على أن الله سبحانه قد صرح بأن الكسل في الصلاة من شأن المنافقين وصفاتهم، فقال عز شأنه في سورة النساء: {إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} (النساء: 142) . وليس المنافقون بأقل من الكافرين، قال تعالى في سورة براءة: {إِنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (التوبة: 67) -أي الخارجون عن الدين - {وَعَدَ اللَّهُ المُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (التوبة: 68) . قرن الله تعالى في هذه الآية المنافقين مع الكافرين، ووعد الجميع معًا الخلود في جهنم والعذاب الدائم، بل قد حطهم عنهم فقال في سورة النساء: {إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} (النساء: 145) . إلى هنا انتهينا من أدلة الصلاة وحدها *** فإليك ما جاء في الزكاة أختها قال الله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (فصلت: 6-7) فتأمل كيف جعل منع الزكاة من صفات المشركين وشأنهم، وإنما كان منعها من شأن المشرك بربه؛ لأنه يؤثر المال على حبه، وقد قرن منع الزكاة بالكفر بالآخرة؛ لأنهم لو كانوا واثقين بخبر الله، ومؤمنين بجزائه، لأنفقوا من مالهم رغبة في ثوابه، وخوفًا من الكي بناره وقال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 35) . (وقال) جل ثناؤه في سورة آل عمران: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) علَّق نيل البر على الإنفاق مما يحب، فمن لم ينفق مما يحب، لا حظ له من البر، والبر نعيم الله ورضوانه فمانع الزكاة - وهي أول مقصود بالإنفاق - محروم من نعيم الله ورضوانه كافر [5] . ولعلك تلاحظ الحكمة في تقييده الإنفاق بأن يكون المنفَق منه محبوبًا عند المنفِق، إذْ المرء لو أنفق لله ما يكره، لا يكون إنفاقه له بسبب حبه إياه، بل يعتبر غرمًا ومظلمة، أو شيئًا كريهًا رغب الخلاص منه بهذه الطريقة رياء، أما لو أنفق من شيء محبوب له، يكون حبه الله قد رجح في نفسه على حبه المال، فدعاه إلى بذل المال على حبه إياه، وهناك يظهر الفضل بالتوحيد والإخلاص. (وقال) تعالى في سورة الأعراف: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} (الأعراف: 156) بيَّن أن رحمته واسعة؛ ولكنها لا تكتب لكل الناس، بل كتابها وإيجابها خاص بالأتقياء المعطين الزكاة، فالذي يمنع الزكاة، تمنع كتابة الرحمة له؛ فلا يكون له حظ فيها بل يكون بعيدًا عنها، ومحرومًا منها. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 10

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (10) سموم الميكروبات: تحدث بنمو كل نوع من الميكروبات مواد عديدة في السائل الذي تربى فيه، ومن أضرها مواد زلالية، ومواد آزوتية تشبه المواد الآزوتية النباتية المسماة [Alkaloids] أي الشبيهة بالقلوية كمادة الإستركنين، وهي مواد تفتك بالأحياء فتكًا ذريعًا مهما تكن قليلة، وهذه المواد تتولد بطريقتين: الأولى أنها تتولد في نفس جسم الميكروب، ثم تخرج منه شيئًا فشيئًا، والثانية أنها تتولد في السائل نفسه؛ وذلك بإفراز الميكروب مادة ثم (خميرة) تشبه الخمائر - المذكورة في الجزء الأول - وهذه الخميرة لها تأثير كيماوي مخصوص في المواد المحيطة بها، فتحدث فيها تركيبًا وتحليلاً ينشأ منه مواد متنوعة. ومن الميكروبات ما يبقى جل سمه في جسمه، ولا يخرج إلا إذا استخلص منه ببعض الطرق العلمية، وذلك مثل ميكروب الطاعون، والكوليرا، والحمى التيفودية، ويسمى مثل هذا السم (بالسم الكامن) (Endotoxin) وفي الجسم المريض تنحل بعض هذه الميكروبات، فتخرج منها سمومها وتسري فيه؛ فتُحْدِث المرض. ومن المواد التي تتولد في السائل الذي يربى فيه الميكروب ما يقتل الميكروب نفسه؛ فإنها قد تولد حامض الفنيك أو الغول (الكحول) أو الخل إلى غير ذلك من المواد التي تُستعمل مطهرات لقتل الميكروبات. الميكروبات والبيئة: تنقسم الميكروبات - باعتبار ما تعيش فيه - إلى ثلاثة أقسام: فمنها ما لا ينمو عادة إلا في الحي [1] ، ومنها ما لا ينمو إلا في الميت، ومنها ما يمكنه أن ينمو في الاثنين معا، فمثال الأول ميكروب الحمى الراجعة، ومثال الثاني بعض ميكروبات الحمى النفاسية، وهي التي تعيش في الدم والسوائل المنتنة التي تتخلف أحيانًا في الرحم عقب الولادة. ومن هذا النوع الميكروبات التي تُحْدِث تحليل جثث الموتى، والتي تفسد اللبن فيخثر، ومنها ما يحول البولينا إلى كربونات النوشادر، والخمر إلى خل، ولهذه الميكروبات فائدة كبرى في العالم؛ فإنها تحول الأجسام المركبة إلى بسائط فتعود إلى عالمي الحيوان والنبات؛ فينتفعان بها؛ ولذلك وجد العلماء طريقة عظيمة لتحليل المواد البرازية؛ فإنها تُلقى في مستودعات مخصوصة؛ فيتسلط عليها في أولاها الميكروبات التي لا تنمو في الأكسجين، وفي الثانية الميكروبات التي تنمو فيه؛ فبذلك تتحلل جميع المواد البرازية، وتستحيل إلى ماء وغاز ثاني أكسيد الفحم، وأملاح النيترات. وهذه الأشياء كلها صالحة للنبات؛ فيسقى بها الزرع، وفيه تتحول مرة أخرى إلى مواد مضاعفة التركيب ضرورية للحيوان والنبات، فكأن نظام هذا العالم موقوف على عمل الميكروبات والنباتات، ولولاها لفسد وبطل. فالنباتات الدنيئة (البكتيريا) تركب قليلاً، وتحلل كثيرًا، والنباتات الكبيرة تركب كثيرًا، وتحلل قليلاً كتحليلها بعض غازات الهواء، فعلى النبات مدار الحياة ومثال الميكروب الذي يعيش عادة في الحي والميت باسيل التيتانوس، وكذلك باسيل الدفثيريا (والتي منها الخناق) فإن هذين الميكروبين يعيشان كثيرًا في الطين، وقد ينتقلان منه إلى الإنسان، إلا أن ميكروب التيتانوس لا يعيش في جسم الإنسان بعد ظهور أعراض هذا المرض إلا قليلاً، ومن طرق وصول ميكروب الدفثيريا إلى الإنسان أنه يكون مختلطًا بالطين؛ فإذا زادت المياه التي في جوف الأرض كما يحصل عند فيضان الأنهار ضغطت على الهواء الموجود خلال الطين فيندفع منها إلى جو المدن حاملاً لهذا الميكروب الخبيث؛ فيصاب كثيرون بهذا المرض. والميكروبات لا تموت ما لم يقتلها شيء، وأكثرها مقاومة للطوارئ ما كان له حبيبات، وهذه الحبيبات نفسها تعيش مدة طويلة من الشهور أو السنين حتى في الأحوال غير المناسبة للحياة كالجفاف والبرد، ولا عجب في ذلك فقد عُرِفَ أن بعض حبوب النباتات الكبيرة عاش نحو مئة سنة. ولا يُعْلَم بالتحقيق أن الحبوب يمكنها أن تعيش (أعني تبقى حية) أكثر من ذلك، وما قيل من أن حبوب بعض الهياكل، أو القبور القديمة نبت بعد ألوف من السنين فهو كذب محض، وقد ثبت أن حبوب القمح تعيش نحو سبع سنين على الأكثر، وعليه فالقمح الذي خزنه المصريون في زمن يوسف عليه السلام كان يمكن إنباته في نهاية السنة السابعة، وأكثر الميكروبات التي لا حبيبات لها تُقْتَل عادة بحرارة 65 سنتغراد في نحو نصف ساعة. وميكروبات التعفن تقتل الميكروبات المرضية عادة، وهذه الميكروبات التعفنية تكون في الغالب من النوع الباسيلي (المستطيل) ، فإذا أصيب إنسان بالتسمم الصديدي الناشئ على الأكثر من البذور السلسلية ومات، فأراد طبيب أن يشرح جسمه عقب الوفاة مباشرة، كان من أشد الخطر على هذا الطبيب أن يجرح ويتلقح جسمه بشيء من الجثة، وأما إذا تركت هذا الجثة زمنًا حتى تتعفن؛ فإن ميكروبات المرض التي فيها تقتلها ميكروبات التعفن شيئًا فشيئًا، حتى تزول من الجثة، وحينئذ لا يكون في تشريحها خطر على حياة الطبيب. أبواب دخول الميكروبات في الجسم: لدخول الميكروبات في الجسم أبواب عديدة، وهي الرئتان (لمثل ميكروب الحمى القرمزية) والجهاز الهضمي (لمثل ميكروب الحمى التيفودية) والجلد (لمثل الزهري) والأغشية المخاطية كأغشية أعضاء التناسل أو العين وغيرها (لمثل السيلان والدفثيريا) . ولا يشترط أن يكون سطح الجسم، أو الأغشية المخاطية مجروحة، فقد يدخل الميكروب من الأماكن ذات الجلدة الرقيقة، أو من مسامها؛ ولكن الجرح أو السحج مما يسهل دخوله كثيرًا كما هو ظاهر. فإذا دخل الميكروب من هذه المنافذ، فمنه ما يبقى في مكان دخوله، ومنه ما يصل إلى الدم، أو المادة اللمفاوية، ويدور معها حيث دارت، وفي كلتا الحالتين يولد الميكروب سمًّا زعافًا، وهو الذي يقتل الحيوانات، ويحدث فيها جميع الحميات، إلا أن بعض هذه الميكروبات يحدث أمراضًا ليست الحمى شرطًا فيها مثل مرض (الكُزاز) . فمثال ما يدور في الدم ميكروب (التسمم الصديدي وميكروب الحمى الراجعة) ومثال الذي لا يدور في الدم (التيتانوس والدفثيريا) فإن ميكروبهما يبقى على الأكثر في مكامن التلقيح إلا أنه بعد الموت قد ينفذ إلى جميع أجزاء الجثة، وإذا نفذ إلى الدم في أثناء الحياة التهمته كريات الدم البيضاء، أو بقي في بعض الأعضاء التي تعتقله فيها، وتقتله غالبًا بخلاياها، كالكبد والطحال. زمن التفريخ: إذا دخل الجسم أي نوع من الميكروبات لا يحدث المرض فيه في الحال، بل لا بد من أن يمكث زمنًا يتراوح بين يوم أو عدة أسابيع أو عدة سنين (كما في داء الكَلَب والجذام) فإنهما أطول الأمراض مدة [2] ، وفي هذا الزمن يتكاثر الميكروب في الجسم، ويحمل عليه بسمومه فإذا بلغت درجة مخصوصة ابتدأ المرض في الظهور، فمن الناس من يختلط مثلاً بمصاب بالجدري، ولا يظهر فيه المرض إلا بعد نحو 12 يومًا عادة، وهذا الزمن يختلف باختلاف الأمراض؛ فإن لكل منها زمنًا مخصوصًا، ويسمى هذا الزمن بزمن التفريخ أو الحضانة. وقد عُرفت ميكروبات كثير من الأمراض، ولبعضها ميكروبات لم تُعْرَف إلى الآن (كالحصبة) ؛ فإن الدلائل تدل على أن لها ميكروبًا لم يُكْتَشَف إلى الآن. وهذه الأمراض التي عرفت ميكروباتها منها ما له ميكروب مخصوص كمرض الدرن، ومرض الحمى التيفودية، ومنها ما يشترك فيه عدة ميكروبات كمرض (التهاب الغشاء المبطن للقلب) ، و (الخراجات) فإنهما يحدثان من ميكروبات مختلفة. أمارات اختصاص الميكروب المعين بالمرض المعين: يدل على اختصاص بعض الميكروبات ببعض الأمراض أمور كثيرة منها: (1) وجود الميكروب دائمًا في هذا المرض. (2) إذا حقن حيوان بهذا الميكروب وكان مستعدًّا للمرض حصل له ووجد هذا الميكروب المخصوص في جسمه. (3) عدم وجود هذا الميكروب في الجسم السليم أو المريض بغير هذا المرض، ويستثنى من ذلك بعض الميكروبات، كالبزور المزدوجة المسببة للالتهاب الرئوي فإنها توجد في فم الصحيح وأنفه،وتوجد أيضًا في غير الالتهاب الرئوي كما في التهاب الشَّغاف (الغشاء المحيط بالقلب الذي يسمونه الآن التامور) وكذلك تستثنى مسألة حاملي الأمراض التي سنفصلها. مصادر الميكروبات: تتصل الميكروبات بالإنسان من عدة جهات (1) الهواء (2) الشراب (3) الطعام (4) التراب (5) سائر أجسام الأحياء، والجمادات كالملابس مثلاً، وسيأتي - إن شاء الله - في باب الحميات بيان طرق وصول الأمراض المختلفة إلى الإنسان تفصيلاً. شرط تأثير الميكروبات والوقاية منها: ما كل أحد يتصل به ميكروب مرض يصاب بذلك المرض، بل هناك وقاية للحيوانات من فتك هذه الميكروبات بها دفعة واحدة، ولولا ذلك لهلكت الأحياء في زمن قصير. وهذه الوقاية (وتسمى أيضًا المناعة) منها ما هو فطري (أي يولد بها الإنسان) ومنها ما هو مكتسب، أما المناعة الفطرية فقد تكون خاصة بالجنس أو النوع كبعض الأمراض، فالجذام مثلاً خاص بالإنسان لا يصيب أي حيوان آخر، وبعض الأمراض يصيب بعض الأنواع دون بعض، كالحمى الصفراء فإنها لا تصيب السود إلا قليلاً، وبعض الأمراض تصيب بعض البيوت (الأسر) أو الأفراد دون البعض الآخر، وكل ذلك لأسباب لا نعلمها على وجه التحقيق، وخير الوقاية ما كان فطريًّا: وقاية الله أغنت عن مضاعفة ... من الدروع وعن عالٍ من الأُطُم ومما يهيئ الجسم للعدوى التعب، والجوع، والبرد، وكل ما ينهك القوى والإدمان على الخمور، إلا أن بعض الأشخاص قد يكونون سليمين من كل عيب، ومع ذلك يصابون ببعض الأمراض، فمثلاً قد نجد أن أسمن الأطفال، وأحسنهم صحة يصابون بالقرمزية، وتفتك بهم كثيرًا بينما الأطفال الآخرون الضعاف لا يصابون بها، أو إذا أصيبوا كانت إصابتهم خفيفة. أما المناعة المكتسبة وما في معناها كالعارضة بسبب يشبه الكسبي فتكون بما يأتي: (1) من الأمراض ما إذا أصيب به الإنسان مرة واحدة حمى جسمه من الإصابة بهذا المرض مرة أخرى كالزهري والحصبة والجدري مثلاً. (2) من الأمراض ما إذا أصيب به الإنسان حمى جسمه من أمراض أخرى تغايره بعض المغايرة، فمنها جدري البقر إذا أصاب الإنسان أو لُقح به حماه من الجدري الإنساني، ومنها الحمى الراجعة إذا أصيب بها شخص حمته غالبًا من التيفوس؛ ولكنها لا تحميه من نفسها. (3) بحقن سم الميكروب، أو مصل يُستخرج من الحيوانات بطريقة مخصوصة، كما في مرض الدفثيريا مثلاً، وبيان ذلك أن يُزرع ميكروب الدفثيريا في سائل (كالمرق) ، ثم يصفى هذا السائل من الميكروب، ويُحقن حصان بجزء صغير من هذا السائل المصفى، ونظرًا لوجود سم ميكروب الدفثيريا في السائل المحقون به يُصاب الحصان ببعض أعراض مرضية خفيفة تزول سريعًا كالحمى وورم في مكان الحقن، ثم يُحقن هذا الحصان بمقدار من السائل أكبر، فأكبر حتى يصل الحصان إلى حالة لا يتأثر معها بهذا السم المحقون فيها؛ وعندئذ يتولد في دمه مادة مضادة لسم الدفثيريا، فإذا أُخذ دم هذا الحصان، واُستخرج مصله كان هذا المصل نافعًا لإفساد سم الدفثيريا، وإذا حقن به الإنسان وقت انتشار هذا المرض حفظه منه لمدة ثلاثة أسابيع عادة؛ وكذلك إذا حقن به المصاب بالدفثيريا نفعه نفعًا عظيمًا، وأدى إلى شفائه. (4) حقن ميكروب المرض نفسه ميتًا، أو بعد إضعاف تأثيره بطرق سيأتي الكلام عليها في داء الكلب، وتسمى المادة المحقونة " باللقاح " ومن ذلك حقن ميكر

الخطب الدينية ـ 2

الكاتب: القاسمي

_ الخطب الدينية (2) شذرة من الخطب النبوية (مقتبس من مقدمة ديوان خُطب القاسمي) والحواشي له إلا ما زدناه بعد اسم المنار (1) أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله تعالى، وأحسن القَصص هذا القرآن، وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير العلم ما نفع، وخير الهدي ما اتُّبِع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الصلاة إلا دَابرًا [1] ، ومنهم من لا يذكر الله إلا هُجْرًا [2] ، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله تعالى، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنياحة من عمل الجاهلية، والغُلول من جثاء جهنم [3] ، والكنز كيّ من النار، والشِّعر من مزامير إبليس [4] ، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، والسعيد من وُعِظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر بآخره، وملاك العمل خواتمه، وشر الروايا روايا الكذب [5] ، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله [6] وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه [7] ، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يتبع السمعة يسمع الله به [8] ، ومن يصبر يضعف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي، أستغفر الله لي ولكم رواه البيهقي عن عقبة بن عامر، والسجزي عن أبي الدرداء، وابن أبي شيبة عن ابن مسعود. *** (2) أما بعد فإن الدنيا خضرة حُلوة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء، ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ فإذا وجد أحدكم شيئًا من ذلك فالأرض الأرض، ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب سريع الرضا، وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا، فإذا كان الرجل بطيء الغضب بطيء الفيء، وسريع الغضب سريع الفيء فإنها بها [9] ، ألا إن خير التجار من كان حسن القضاء حسن الطلب، وشر التجار من كان سيئ القضاء سيئ الطلب، فإذا كان الرجل حسن القضاء سيئ الطلب، أو كان سيئ القضاء حسن الطلب فإنها بها، ألا إن لكل غادر لواءً يوم القيامة بقدر غدرته، ألا وأكبر الغدر غدر أمير عامة، ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند أمير جائر. رواه الإمام أحمد، والترمذي عن أبي سعيد. *** (3) إنما هما اثنتان: الكلام والهدي، فأحسن الكلام كلام الله وأحسن الهدي [10] هدي محمد، ألا وإياكم ومحدثات الأمور فإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ألا لا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم، ألا إن كل ما هو آتٍ قريب، وإنما البعيد ما ليس بآتٍ، إنما الشقي من شقي في بطن أمه، وإنما السعيد من وُعِظَ بغيره، ألا إن قتال المؤمن كفر وسبابه فسوق، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة، ألا وإياكم والكذب، فإن الكذب لا يصلح لا بالجد ولا بالهزل، ولا يَعِد الرجل صبيه ولا يفي له، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإنه ليقال للصادق: صدَقَ وَبَرَّ، ويقال للكاذب: كذب وفجر، ألا وإن العبد يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا. رواه ابن ماجه عن ابن مسعود. *** (4) يا أيها الناس كأن الموت على غيرنا فيها كُتِبَ، وكأن الحق على غيرنا وجب، وكأن الذي نشيع من الأموات سَفْرٌ عما قليل إلينا راجعون، نأويهم أجداثهم، ونأكل تراثهم كأنا مخلدون، قد نسينا كل واعظة، وأمِنَّا كل جائحة، طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن طاب كسبه، وصلحت سريرته، وحسنت علانيته، واستقامت طريقته، طوبى لمن تواضع لله من غير منقصة، وأنفق مالاً جمعه من غير معصية، وخالط أهل الفقه والحكمة، ورحم أهل الذل والمسكنة، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووسعته السنة، ولم يَعْدُ عنها إلى البدعة. رواه أبو نعيم عن علي. *** (5) إن الحمد لله أحمده وأستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على من سواه من أحاديث الناس، إنه لأحسن الحديث وأبلغه، أَحِبُّوا من أحب الله، أحبوا الله تعالى من قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقسى قلوبكم، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله عز وجل بينكم، إن الله يغضب أن ينكث عهده، فالسلام عليكم ورحمة الله. رواه هناد عن أبي سلمة مرسلاً. *** نُخَب من الخطب النبوية في غير يوم الجمعة كان صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يخطب في غير يوم الجمعة لمصلحة تَعْرِضُ، أو منكر يظهر، أو أمر بصدقة أو إصلاح، كما هو معروف في دواوين السنة ولخدمتها (؟) فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل، والذي أدع أحب إليّ من الذي أعطي؛ ولكن أعطي أقوامًا لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكِل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب) رواه الإمام أحمد، والبخاري وغيرهما. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق) رواه الشيخان في صحيحيهما. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد فما بال العامل نستعمله فيأتينا فيقول هذا من عملكم وهذا أُهدي لي، أفلا قعد في بيت أبيه وأمه؛ فينظر هل يهدى له أم لا؟ فوالذي نفس محمد بيده لا يغل أحدكم منها (أي الزكاة) شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه) الحديث (رواه الشيخان) . وقوله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس اتقوا الله فوالله لا يظلم مؤمن مؤمنًا إلا انتقم الله تعالى منه يوم القيامة) . رواه ابن حميد في مسنده. *** من خُطَب الصديق رضي الله عنه الحمد لله رب العالمين أحمده وأستعينه، ونسأله الكرامة فيما بعد الموت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، وسراجًا منيرًا، لينذر من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين، ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد ضل ضلالاً مبينًا، أوصيكم بتقوى الله، والاعتصام بأمر الله الذي شرع لكم وهداكم به، فإنه جوامع هدى للإسلام بعد كلمة الإخلاص، السمع والطاعة لمن ولاه الله أمركم، فإنه من يطع والي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد أفلح، وأدى الذي عليه من الحق، وإياكم واتباع الهوى، فقد أفلح من حُفظ من الهوى والطمع والغضب، وإياكم والفخر، وما فخر من خلق من تراب ثم إلى التراب يعود، ثم يأكله الدود، ثم هو اليوم حي، وغدًا ميت؛ فاعملوا يومًا بيوم وساعة بساعة، وتوقوا دعاء المظلوم، وعُدُّوا أنفسكم في الموتى، واصبروا فإن العمل كله بالصبر، واحذروا فالحذر ينفع، واعملوا فالعمل يُقبل، واحذروا ما حذركم الله من عذابه، وسارعوا فيما وعدكم الله من رحمته، وافهموا تفهموا، واتقوا توقوا، وإن الله قد بيَّن لكم ما أهلك به من كان قبلكم، وما نجا به من نجا قبلكم، قد بين لكم في كتابه حلاله وحرامه، وما يحب من الأعمال وما يكره، فإني لا آلوكم ونفسي، والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله، واعلموا أنكم ما أخلصتم لله من أعمالكم فربكم أطعتم، وحظكم حفظتم واغتبطتم، وما تطوعتم به فاجعلوه نوافل بين أيديكم، تستوفوا بسلفكم، وتعطوا جزاءكم حين فقركم وحاجتكم إليها، ثم تفكروا عباد الله في إخوانكم وصحابتكم الذين مضوا، قد وردوا على ما قدموا فأقاموا عليه، وأحلوا في الشقاء والسعادة فيما بعد الموت، إن الله ليس له شريك، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب يعطيه به خيرًا، ولا يصرف عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره؛ فإنه لا خير في خير بعده النار، ولا شر في شر بعده الجنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلوا على نبيكم محمد، صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته.رواه ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن موسى بن عقبة. *** من خطب الفاروق رضي الله عنه [11] أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله، الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي بطاعته يكرم أولياءه، وبمعصيته يضل أعداءه، فليس لهالك معذرة في فعل ضلالة حسبها هدى، ولا في ترك حق حسبه ضلالة، تعلموا القرآن تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله، فإنه لم تَبْلُغْ منزلةُ ذي حق أن يطاع في معصية الله، واعلموا ن بين العبد وبين رزقه حجابًا؛ فإن صبر أتاه رزقه، وإن اقتحم هتك الحجاب ولم يدرك فوق رزقه، فأدبوا الخيل وانتضلوا وانتعلوا وتسوكوا وتمعددوا [12] ، وإياكم وأخلاق العجم، ومجاورة الجبارين، وأن تجلسوا على مائدة يشرب عليها الخمر وتدخلوا الحمَّام بغير مئزر، وإياكم والصَّغار أن تجعلوه في رقابكم، واعلموا أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر [13] ، ولا يحل لك أن تهجر أخاك فوق ثلاثة أيام، ومن أتى ساحرًا أو كاهنًا أو عرافًا فصَدَّقَه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما، ومن ساءَتْه سيئته، وسرته حسنته فهو أمارة المسلم المؤمن، وشر الأمور مبتدعاتها، وإن الاقتصاد في سنة خير من الاجتهاد في بدعة، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإنه أهون لحسابكم، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية، عليكم بهذا القرآن؛ فإن فيه نورًا وشفاء، وغيره الشقاء، وقد قضيت الذي عليّ فيما ولاني الله عز وجل من أموركم ووعظتكم نصحًا لكم، أقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم رواه الحاكم، وابن عساكر. *** من خطب ذي النورين رضي الله عنه أيها الناس اتقوا الله فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت [14] ، واكتسب من نور الله نورًا لظلمة القبر، وليخش عبد أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرًا، وقد يكفي الحكيم من جوامع الكلم، والأصم يُنَادى من مكان بعيد، واعلم أن من كان الله معه لم يخف شيئًا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده - رواه ابن عساكر - *** من خطب الإمام أبي الحسن علي كرم الله وجهه أما بعد فإن المضمار اليوم وغدًا السباق، ألا وإنكم في أيام عمل، من ورائه أجل، فمن قَصَّر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خيب عمله، ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أر كال

مقارنة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية ـ 5

الكاتب: أحمد كمال

_ المقارنة بين اللغة المصرية القديمة واللغة العربية [*] (5) وصفتان طبيتان مصريتان (الأولى) ورد في القرطاس الطبي الذي نقلت عنه الوصفة الطبية التي نُشرت في الجزء السادس من المنار وصفة أخرى بمعناها، وهي الثالثة والتسعون بعد المئة، وهذا نصها ويليه تفسيره: تمييز ست تمشأ عن ست لا تمشأ بطيكا [1] ينت [2] ويخمط [3] على إرُد [4] التي مشأت ذكرًا يؤري [5] مثل سعم [6] تسعم الست، إن كرأت [7] مشأت وإن زعت [8] (؟) لا تمشأ إلى نح [9] . (المعنى) لتمييز المرأة التي تلد عن المرأة التي لا تلد، يدهق البطيخ، ويخلط على لبن امرأة ولدت ذكرًا، ويجعل طعامًا تأكله المرأة المراد اختبارها؛ فإن قاءت ولدت، وإن حصل لها رياح في المعدة لا تلد ألبتة. (الثانية) وورد فيه أيضًا وصفة أخرى، وهي الرابعة والتسعون بعد المئة، وهذا نصها ويليه تفسيره: بطيكا يخمط على إرُد التي مشأت ذكرًا ويتوج [10] في قطاتها [11] فإن جشأت مشأت، وإن قاست [12] لا تمشأ. (المعنى) بطيخ يخلط على در (أي لبن) امرأة ولدت ذكرًا، ويوتح في فرجها أي يحقن فيه؛ فإن غاثت وتقيأت ولدت، وإن وجدت في جوفها رياحًا لا تلد.

عدل الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عدل الإسلام مقالة لإنكليزية مسلمة ترجمت للمؤيد عن مجلة (إسلاميك ريفيو - أي المجلة الإسلامية) التي تصدر في وكنج بإنكلترة فنشرناها مع تصحيح لبعض الألفاظ وهي: إذا أخلص قلب الإنسان (ضميره) في مطالعة تعاليم الدين الإسلامي وجدها أشد الأديان عدلاً وصدقًا، وقد قضت تعاليم هذا الدين بأن العبد يخلق مجردًا من كل خطيئة، فهو لا يرث ذنوب والديه، ولا خبث أجداده. الإسلام يُعَلِّم أهله الاستقلال الشخصي (الاعتماد على النفس) ويجرد من نفس الإنسان حكمًا عليها، فهو يمكنه خلاص نفسه، أو إهلاكها بأعماله، فإذا عمل الخير، وتحرى الصواب جنى ثمار الجزاء الحق، وإذا عمل سوءًا، يُجزى به. وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (المدثر: 38) وينطوي في معنى هذه الآية كل ما يقتضيه العدل؛ لأن من الظلم أن يتحمل الإنسان أوزار غيره، ويسأل عما ارتكب سواه، وقد قررت جميع الشرائع العادلة الجديرة بهذا الوصف أن من الظلم أن يعد أحد مجرمًا بجريمة غيره، وهذا من أصول الشرعية المحمدية أيضًا، ولا يزال هذا المظهر مظهر السيد المسيح الذي ينظر إليه المسيحيون باعتباره المُخَلِّص للعالم. وإذا ولد الشخص من غير إرادة خاصة فيه، وعجز عن تعرّف مواطن الصواب، ومقاومة الخطأ، كان في عقابه أو إثابته كل ما يتصوره الخيال من الظلم، وكان من العبث نفخ روح العقل والضمير فيه، ولكن تعاليم الإسلام صريحة في أن خالق العالم - وهو ربهم الحق - خلق للإنسان إرادة واختيارًا {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} (البلد: 10) وسيُسْأَل عن نتائج الطريق الذي فضله وسار فيه، فإذا اهتدى صفا ضميره وصفت سعادته، وإذا شقي وسار في الطريق المعوج كانت عاقبة أمره خُسرًا، ولكن الحكم على طفل صغير لا يفرق بين الغث والسمين لا يمكن أن يقال إنه عدل، نعم إنه ليس من العدل ولا من الشجاعة أن يحمَّل أحد أوزار غيره، ثم يُسْأَل عنها، ومتى؟ وُكِّلَ الإنسان بأمر نفسه تعلم وجوب الاعتماد عليها، ومن المحتمل أن العبد إذا علم بأن غيره سيُسْأَل عما اقترفه هو أطاع هواه، ولم يحترم نفسه، فكيف يكون فخورًا بمولده وحياته؟ والجواب على هذا أنه يوجد نوعان من الفخر: الفخر الوهمي الخاطئ، والفخر الصحيح، والأول منهما هو فخر الغطرسة وغش النفس، وهو مقبول الطعم يجعل صاحبه أو صاحبته ينظر إلى الناس بغير العين التي ينظر بها إلى نفسه، ثم يحتقر الجار والفقير، وهي خطيئة فظيعة طالما حض النبي - صلى الله عليه وسلم - على اجتنابها. أضف إلى هذا أن الفخر الخاطئ؛ يكون مجلبة للغيرة والطمع الكاذب، ويملأ أوداج صاحبه بالفخفخة الخارجة عن الحد. والفرق بين هذا الفخر، وبين الفخر الصحيح هو أن الذي يبذل مجهوده في أداء الواجب بإرضاء الله، ومساعدة النوع البشري يثبت في قلبه حب السلام الذي لا يعطيه الله إلا للمجتهدين من عباده، وإذا عمل العبد نهاية الخير لم يسأله الله أكثر من ذلك، ولم يؤاخذه إذا قصر طوقه عما ليس في مقدور أمثاله من البشر، وهو القائل على لسان نبيه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) الإسلام دين حق يُعَلِّم الناس العدل، وأُسست مبادئه على العدل، فهو يحرم الخمر والمقامرة والزنا.

تاريخ ميلاد ولدنا محمد شفيع

الكاتب: إسماعيل بك عاصم

_ تاريخ ميلاد ولدنا محمد شفيع (لصديقي الوفي شيخ الخطباء والمحامين (وكلاء الدعاوي) إسماعيل بك عاصم) . تاريخ ميلاد محمد شفيع نجل حضرة صديقي العزيز الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الزهراء: سر يا بشير التهاني للرشيد وقل ... (بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا) قد لاح نور ابنه نعم الشفيع به ... (وكوكب السعد في أفق العلا صعدا) فرع نما عن أصول طاب عنصرها ... أنعم بمولده أكرم بمن ولدا وكان في رمضان يمن طالعه ... كليلة القدر فيها للنفوس هدى محمد دام يسمو للفضائل عن ... أب يقر به عينًا وقد حمدا عساه يأتي بنفع مثل والده ... وإنه يتحرى مثله رشدا وعاصم عن رضاء عنه أرَّخه ... رشيد بُشراك في نجل سناه بدا سنة 1333 ... ... ... ... ... 514 523 90 83 116 7 الشطران اللذان كل منهما بين قوسين هما مطلع أحسن قصيدة قيلت تهنئة لأحد الخلفاء بميلاد ولده، كما قال صاحب كتاب خزانة الأدب، وقد ضمنهما هنا أحسن تضمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل عاصم

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (كتاب كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة) تأليف الشيخ الإمام العالم الزاهد أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي وهو شرح لحديث (بدأ الإسلام غريبًا) وقد قام بطبعه واعتنى بتصحيحه الشيخ أحمد محمد شاكر، فطبعه بمطبعة النهضة طبعًا نظيفًا على ورق متوسط صفحاته 30، وثمنه قرش واحد، ويُطلب من مكتبة المنار خاصة. *** (كتاب المبادئ النافعة في تصحيح المطالعة) ألفه الأستاذ الشيخ هارون عبد الرازق شيخ رواق الصعايدة بالأزهر عندما كان مدرسًا للعلوم العربية بالمدارس الأميرية، وقد قرر المجلس العالي في اللائحة الداخلية للمعاهد الدينية تدريسه لطلبة السنة الأولى. طبع في المطبعة المصرية في الإسكندرية، وصفحاته 40، وثمنه قرشان. *** (عنوان الظرف في فن الصرف) للأستاذ الشيخ هارون عبد الرازق المذكور ثمنه نصف قرش. *** (الدروس الأولية في العقائد الدينية) طبع للمرة الثانية في المطبعة السابقة الذكر سنة 1326 هجرية، وصفحاته 46 بالقطع الصغير، وثمنه قرش واحد، ومباحثه هي: 1- في حقوق الأستاذ والوالدين. 2- في حقوق الله تعالى. 3- في حدوث العالم. 4- في الوحدانية. 5- إجمال الصفات. 6- أول ما يجب على الخلق لخالقهم. 7- في الوجود والقدم والبقاء إلى آخر مباحث الصفات. 8- في الصفات والأسماء الحسنى. 9- في معرفة الله وطاعته، وفي بعثة الرسل وصفاتهم إلى آخر المباحث التوحيدية المشهورة. *** (الدروس الأولية في السيرة النبوية) طبع للمرة الثانية بمطبعة الجمالية بمصر صفحاته 47 بالقطع الصغير، ومباحثه هي: نسب النبي صلى الله عليه وسلم، ونشأته، وبعثته، وخروجه من الشِّعْب إلى دخول الأنصار في الإسلام، وبيعتي العقبة إلى الهجرة، والهجرة والغزوات وصلح الحديبية، ومرضه صلى الله عليه وسلم، وموته، والاهتداء بهديه، وخلافة الصديق وعمر وعثمان وعليّ، ثم دول الإسلام الكبرى، وفي ولاية مصر من فتحها إلى الآن. *** (الدروس الأولية في الأخلاق المرضية) طبع للمرة الأولى بمطبعة جاليتي بالإسكندرية صفحاته 48 بالقطع الصغير ومباحثه هي: نصيحة الأستاذ لتلميذه، الوصية بتقوى الله، حقوق الله ورسوله، حقوق الوالدين، حقوق الإخوان، آداب طلب العلم، آداب المطالعة والمذاكرة، آداب الرياضة والمشي في الطرقات، آداب المجالس والحديث، آداب الطعام والشراب، آداب العبادة والمساجد، وفضيلة الصدق والأمانة والعفة، والمروءة والشهامة وعزة النفس ... إلخ. هذه الرسائل تأليف الأستاذ الشيخ محمد شاكر الذي كان شيخ علماء الإسكندرية، ثم وكيل مشيخة الأزهر، وثمن كل منها 1 قرش، وتُطلب من مكتبة المنار وغيرها. *** (ديوان غصن النقا) من نظم الشاعر الذكي اللوذعي، الشيخ رشيد مصوبع اللبناني، طبع بمطبعة المقتطف سنة 1915، على ورق جيد صفحاته 88 بالقطع الوسط، ويطلب من مكاتب مصر، ومن ناظمه. عرفنا الناظم من أذكى شعراء العصر، وباريس من أجمل مدن العالم كما هو معلوم بالتواتر، وناهيك بشاعر ذكي عربي أمَّ هذه العاصمة الزاهرة فجمع في مخيلته جمال التصوير المعنوي والحسي، فنظم هنالك ديوانًا فاق ما نظم قبله من الدواوين. جعل الناظم ديوانه هذا هدية إلى الموسيو دلكاسيه نابغة ساسة فرنسة ووزير خارجيتها، وقد نظم معظمه في باريس، فمن قصائده ما مدح به الموسيو بيشون والموسيو دلكاسيه، ومنها ما عنوانه (باريس والجمال) ، و (وداع باريس) ، و (وصف باري وانتقادها) ، و (المحل وباريس) ، و (باريس ووقتها) ، و (في مفتون في باريس) ، و (موحش باريس) وغير ذلك. وحسبنا نموذجًا من الديوان هذه الأبيات التي مدح بها صاحبه الموسيو دلكاسيه ناظر الخارجية الفرنسية، فإنها على كونها تعد من المقاطيع لا القصائد تمثل ذوق الناظم في الغزل والرثاء والمدح والفخر قال: تحكي الإمام اليازجيّ بطلعة ... تزهو وبالقد الرشيق العادل فإذا حزنت عليه قمت مقامه ... فأعدت لي فرحي بذاك الراحل يا طرف إبراهيم أذبلك الثرى ... أسفي على طرف الحبيب الذابل قم وانظر اليوم الرشيدَ فإنه ... يختال مثل السمهري المائل يختال في أكناف دلكاسه الذي ... هز الحسام بوجه ذاك العاهل هذا بفضلك يا حبيب ولم أصل ... لولا التفاتك للوزير الفاضل قلدتني سيف البيان فكان لي ... يوم المنى أمضى جميع رسائلي إن كان بدر الوجه عني آفلاً ... فبدور علمك فيّ غير أوافل حاكاك في الشكل الوزير ودونه ... في ود قلبك كان خير مشاكل فرنا إليّ بأعين مملوءة ... عطفًا علي وكان أكرم باذل وأجل منزلتي وأعجب بي كما ... أُعجبت بي وأشدت بي بمحافل إن كان ركن العلم مال فلا هوى ... ركن السياسة والعلى والنائل

البرهان على خروج تارك الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان ـ 3

الكاتب: محمد علي أبو زيد

_ البرهان على خروج تارك الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان جمع أدلته من الكتاب والسنة / محمد علي أبو زيد الطالب بكلية دار الدعوة والإرشاد (3) فها أنت ذا قد سمعت من الآيات ما يدلك على أن مانع الزكاة مشرك بالله، لأنه آثر المال على الله [1] ، وكافر بيوم المعاد؛ لأنه لو كان عنده جزم بل ظن به لَحَمَلَهُ على الإنفاق، فلا أخالك تشك في أنه محروم من الجنة، وأن {مَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ} (الأنفال: 16) . وهاك أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدالة على ما قلنا، المؤيدة لما ذكرنا. أخرج ابن عساكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أقسم الله تعالى ألا يدخل الجنة بخيل) وفي رواية للخطيب (يحلف الله بعزته وجلاله ألا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل) . وأخرج ابن أبي شيبة، وهناد، والنسائي، والحاكم، والبيهقي عنه - صلى الله عليه وسلم - (لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا) ، وفي رواية لابن عدي: (لا يجتمع الإيمان والبخل في قلب رجل مؤمن أبدًا) . فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين للدين، الناطق عن الله، أراك أن البخيل لا يدخل الجنة، ولم يأت بالخبر إلا مؤكدًا بالقسم عن الله تعالى. ولا يخفى أن البخل خلق في النفس يمنع صاحبه من بذل فضله لمن يحتاج إليه، والشح أشد من البخل، فهو أكثر منعًا منه لصاحبه، وكلاهما ضد للإيمان الذي يحمل صاحبه على بذل روحه في سبيل ربه، فضلاً عن بذل ماله وفضله، فكيف يكون المانع للزكاة مؤمنًا، وهو لم يمنع الزكاة إلا حرصًا على المال، وإيثارًا له، وشحًّا به على الله؟ فلا شك في كفره وحرمانه من الجنة كما أخبر الله ورسوله. وهنا ربما تقول: أتيتنا بآيات في الصلاة وصفت تاركها بالشرك والكفر والنفاق، ولم تصف آيات الزكاة مانعها إلا بالشرك والكفر فقط، فأقول لك: قد جاء في القرآن أيضًا وصف المنافقين بمنع الزكاة، قال عز شأنه في سورة التوبة: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} (التوبة: 67) فقبض اليد هو إمساكها عن الإنفاق الواجب من زكاة وغيرها، وقد علمت حال المنافقين ودرجتهم مما سبق، فلا حاجة إلى الإعادة، وإلى هنا ننتهي من أدلة الزكاة وحدها. وإني أتلو عليك آيات في الصلاة والزكاة معًا (قال) الله تعالى في سورة البقرة: {لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (البقرة: 177) إلى أن قال: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (البقرة: 177) فانظر كيف جعل البر الإيمان بالله واليوم الآخر، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر في الشدائد، وتراه قد ابتدأ بالإيمان، وعقَّبه بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة لأنهما تابعان له، لا ينفكان عنه، ثم ذكر بعدهما الوفاء بالعهد، والصبر في الشدائد، وهما من الأخلاق التي تدعو إليها الصلاة، وتثبتها في النفس، وقد عرفت ذلك فيما تقدم من الحكمة. ولما كان الإيمان يستلزم إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وما يتبعهما من الأعمال والأخلاق، وكان محالاً - بحسب سنة الله تعالى - أن يوجد الإيمان في قلب المرء، ويستقر من غير أن يحرك الجوارح لتلك الأعمال، ذيل الآية بقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} (البقرة: 177) أي أولئك الذي أقاموا الصلاة، فأتوا بها معدلة مقومة، وآتوا الزكاة لمستحقيها بنفس طيبة، واتصفوا بهذه الأخلاق الفاضلة، هم الذين صدقوا في إيمانهم، وهم الذين فعلوا ما يقيهم عذاب ربهم، دون غيرهم، وهذا نص صريح في أن من يدعي الإيمان من غير أن يكون مصليًا لله مزكيًا، تكون دعواه باطلة كاذبة، إذ لم يأت عليها من أعماله بشاهد أو بينة [2] . وقد قضت حكمة الله تعالى أن يكون الإيمان حياة للروح، كما أن الدم حياة للجسم، وكلاهما يحتاج إلى ما يمده ويقويه، فكما أن الدم يطلب بطبيعته أن تأتي له الأعضاء بمواد تجهزها له، وتمده بها ليقوى ويزاد صلاحًا لتقوية الجسم على حاجاته، كذلك الإيمان يطلب عملاً صحيحًا تقوم به الجوارح من الصلاة والزكاة وغيرهما ليغذيه ويزيده قوة؛ فتقوى بقوته الروح، وتستعد بزيادته النفس لأن تكون ملكية صالحة لجوار الله تعالى، وأهلاً للتمتع بجناته ورضوانه. وهذا هو السر في أن الإيمان متى قام بالنفس صرّف الجوارح في العمل حتمًا، وأن الإيمان لا يوجد في قلب امرئ لا يصلي أو لا يزكي، كما سمعت من الآيات التي تقرن الإيمان بالعمل على الدوام، وتكذب من يدعي الإيمان ولا يعمل؛ لأنه لو كان صادقًا لأتى بالصلاة والزكاة التي تصدقه وتشهد له، وقد علمت أن غير الصلاة والزكاة من الفضائل هو تابع لهما بالضرورة؛ ولذلك تجد الآيات تقرنهما بالإيمان، وتذكر غيرهما بعدهما، وفي كثير من الآيات يُستغنَى بذكرهما بعد الإيمان، للإشارة إلى ذلك. (قال) تعالى في وصف المؤمنين في سورة النساء: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} (النساء: 162) . س: لِمَ قال (والمقيمين) فأتى بها منصوبة على غير المألوف لنا من قواعد النحو في العطف؟ ج: لتنبيه الذهن، فهو تخصيص يظهر لك به قيمة المقيم للصلاة، وتأكيد للعناية بها،إذ هي الأصل للفضائل كما أسلفنا، والناهية عن الفحشاء والمنكر، وقد أردفها بأختها الزكاة وجعلهما معًا وسطًا بين الإيمان بالكتب المنزلة من السماء وبين الإيمان بالله وبالجزاء، ليفيد أنهما مظهر الإيمانين، وأن المؤمن لا بد أن يتصف بالصفتين. وكأنه يقول: إن من لم يتحل بالصلاة والزكاة، لا يكون مؤمنًا بالله، ولا خائفًا من عذاب الله، اسمع قوله تعالى في سورة النور: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} (النور: 36- 38) الآية. تجد أنه جعل خوف هؤلاء الرجال من يوم القيامة وهوله، وما يلاقيهم هناك من حسابه، سببًا في ذكرهم ربهم، وإقامة صلاتهم، وإيتاء زكاتهم، كما أن فعلهم الصلاة والزكاة نتيجة ثقتهم بأن الله يشكرهم على فعلهم، ويمتعهم بثمرة أعمالهم، فالآيات تنادي بأن من لم يقم الصلاة، ولم يؤت الزكاة، ولا يخاف ذلك اليوم - يوم الدين - ولا يثق بثواب رب العالمين، إذ النفس مفطورة على فعل الشيء متى ترجح لها فيه الخير، والابتعاد عنه إذا علمت منه الضرر، وهذه قاعدة نفسية، تجرى عليها جميع الأعمال البشرية، فمن ادعى خلافها فهو كاذب، ألا تراك حين تعلم أنك إذا وضعت يدك في جحر الثعبان؛ فإنه يلدغك، أو أكلت طعامًا فيه سم؛ فإنه يقتلك، لا تستطيع بحسب فطرتك أن تقدم عليه البتة، اللهم إلا إذا زال من نفسك هذا العلم بالضرر، أو أصابك شيء في العقل؛ فترجح لك النفع في الموت، ولكن ما دام العقل سليمًا، والضرر مرجحًا؛ فإنك لن يمكنك الإقدام عليه، فارجع إلى وجدانك، وحقق منه ذلك، فإنك لا تشكّ في أن تارك الصلاة ومانع الزكاة، لم يمنعه من أدائهما، إلا ما قام بنفسه من ترجيح الخير في تركهما، وعدم يقينه بأنه سيعذب على عدم المبالاة بهما، ولو قرأت قوله تعالى عقب هذه الآية مباشرة: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} (النور: 39) الآية؛ لرأيت أنه يقابل الآية التي قبلها، ومن المعلوم في سنة القرآن أن يذكر الكافرين، في مقابل المؤمنين، فيريك أن من يتخلى عن تلك الصفات إنما هم الكفار، ولا بد للمؤمنين من الاتصاف بها، فبها يعرفون، وبها يميزون. قال تعالى في سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} (المؤمنون: 1-4) . جعل الفلاح للمؤمنين الخاشعين في صلاتهم، الفاعلين لزكاتهم، فافهم ألا فلاح لغير المؤمن، كما أنه لا إيمان لمن لا يصلي خاشعًا، ويزكي محبًّا. س: عهدنا من القرآن أن يذكر الزكاة بعد الصلاة من غير فصل، فلماذا فصل بينهما هنا بقوله: ( {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 3) ج: لينبهك إلى نكتة جميلة وحكمة جليلة، وهي أن الصلاة التي ليس فيها خشوع لا يعبأ بها وأنها لغو يتنزه المؤمنون عنها، فليكن لك من كلام الله عبرة ترجع فيما تطالبك به نفسك إليه، وتقيس أخلاقك وما تأتي به من الأعمال عليه، فما لك من قسطاس مستقيم يزن الأعمال بالضبط غيره، ولا مقياس صحيح يحدد الصفات بالحق سواه {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ} (الجاثية: 29) ، {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (المؤمنون: 62) . (وقال) تعالى في سورة النمل: {طس تِلْكَ آيَاتُ القُرآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (النمل: 1-3) . (وقال) في سورة لقمان: {الم * تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ الحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (لقمان: 1-5) . تراه هنا قد حصر الفلاح فيهم، وأفادك أمرًا آخر، وهو أن الصلاة والزكاة مع ملازمتهما للإيمان بالآخرة، قد يأتي بهما المرء عن غير داعية الإيمان، إما للرياء أو الإكراه، وحينئذ لا يكون له حظ في هداية القرآن، ولا البشرى بالجنة والرضوان، ومن كان هذا حاله، لا تنفعه صلاته، ولا تقبل منه نفقاته. (قال) تعالى في سورة براءة: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ * فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: 54-55) . أنزل الله ذلك في شأن المنافقين الذين لم تكن صلاتهم عن إيمان؛ فينشطوا إليها، ويرتاحوا بها، ولم تكن نفقاتهم عن إخلاص؛ فينفقوا عن طيب نفس ورغبة في القبول؛ فبذلك كفروا، وجعل الله أموالهم وأولادهم فتنة لهم، ووبالاً عليهم، وسينتقم

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 11

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (11) أنواع أمراض الأحياء الطفيلية الميكروبية هذه الأمراض نوعان: منها ما عُرِفَ ميكروبه باليقين، ومنها ما لم يُعْرَف إلى الآن، ومن أسباب ذلك أن جميع المجاهر أو النظارات المكبرة (الميكروسكوبات) الحالية لا تكشف إلا ما بلغ طول قطره 16.0 من الميكرومليمتر أو أكثر، أما ما قل عن ذلك فلا يمكن رؤيته إلى الآن مطلقًا، ويسمى (بما وراء المجهر) (Ultra-microscopic) وهذه الميكروبات تمر خلال أحكم النواضح (المرشحات) مثل ميكروب الكَلَب وجدري البقر. أما الميكرومليمتر المذكور هنا، ويسمى أيضًا (الميكرون) فهو جزء من ألف من المليمتر، ويُرمز إليه بهذه العلامة (u) في الإفرنجية، وبحرف (مك) في العربية. والميكروبات المعروفة إما نباتية أو حيوانية، كما سبق. الأمراض التي تنشأ من الميكروبات النباتية الحمى التيفودية fever Typhoid: لفظ التيفود يوناني معناه (شبه التيفوس) ، ومعنى كلمة (تيفوس) الصاعقة سميت بذلك الحمى المعروفة؛ لأنها تصعق المريض. هذه الحمى من الحميات الشهيرة المعدية، وتمكث عادة نحو ثلاثة أسابيع، وقد يُنكَس فيها المريض مرة أو أكثر، وأهم مميزاتها طفح قرنفلي، وإسهال مع التهاب، وتقرح في بقع (بايير) ، وفي الغدد المنعزلة للأمعاء، ولإصابة الأمعاء فيها بالتقرح تسمى أيضًا بالحمى المعوية. الأسباب: هذه الحمى لا تُمَيز إلا قليلاً بين الذكر والأنثى، ولكن للعمر تأثيرًا كبيرًا فيها فهي تكثر في سن الشباب إلى 30 سنة، وبعد ذلك تقل كثيرًا، غير أنها قليلاً ما تصيب الأطفال والشيوخ، وإذا أصابت الأطفال كانت الإصابة خفيفة، ومدتها قصيرة، وإضرارها بالأمعاء أقل مما في الشبان. تكثر هذه الحمى بين شهري أغسطس ونوفمبر، أو في فصل الحر والجفاف، وإذا أصيب بها المرء مرة وَقَتْهُ من الإصابة بها مرة أخرى، وميكروبها من الشكل الباسيلي، كثير الحركة بأهدابه، طوله ميكرونان أو ثلاثة، ويتكاثر بالانقسام، ولا حبيبات له، ويوجد بكثرة في البراز وفي البول [1] ، وفي اللعاب أيضًا (في المضاعفات الرئوية) وفي العرق، ويوجد كذلك في قيح الخراجات التي تنشأ من هذه الحمى، وقد ينتقل من الأم إلى جنينها. فإذا وصل هذا الميكروب إلى أي شيء مما يأكله الإنسان، أو يشربه انتشر المرض بين الناس، والذي اكتشفه هو (إيبرت Eberth) سنة 1880، وهذا الميكروب يعيش حتى في الثلج، ولا يقتله عصير المعدة الحامض ويقاوم درجة 44 إلى 45 سنتيجراد مدة طويلة جدًّا؛ ولذلك قد يصل إلى الإنسان من مثل القشدة المثلوجة وغيرها، ويدخل هذا الميكروب كثيرًا في الأسماك الصدفية أي المحار (كأم الخلول) التي تؤكل عادة بلا طبخ، ويعيش فيها الميكروب وهي حية لغاية 18 يومًا بدون أن يظهر عليها عرض ما، وإذا جف الطين وصار بحيث تثيره الريح عاش الميكروب فيه 25 يومًا؛ فينتقل بذلك إلى طعام الإنسان وشرابه، وكذلك الذباب ينقله أيضًا، وقد يعلق هذا الميكروب بالخضروات كالفجل والجرجير ونحوها مما يؤكل غضًّا، فكل هذه الأشياء هي مما ينقل المرض من شخص إلى آخر، وكثيرًا ما تتلوث الآبار، أو الأنهار، أو أنابيب المياه من المراحيض التي يُلقى فيها إفراز المرضى، وقد ثبت أنه يعيش في قذارة المراحيض من 3 إلى 5 أيام؛ ولكن يوجد في هذه المواد القذرة من الميكروبات ما يقتله بعد ذلك. وإذا عُرِّض هذا الميكروب لنور الشمس مات بعد 4 ساعات، وقد يبقى إلى 8 ساعات، وإذا وجد في الأرض مختبئًا عاش شهرين كاملين. ومن الناس من يحمل الميكروب في جسمه عدة أشهر، بل عدة سنوات بعد الشفاء من الحمى، ويكون سببًا في عدوى الكثيرين ببوله وبرازه [2] ، ومن المحقق أن المرارة هي غالبًا مسكن الميكروب في هؤلاء الحَمَلَة (خصوصًا من النساء) وفيها يتكاثر بعد الشفاء (راجع 16 و 17 من هذا الجزء) . والطريق الوحيد للعدوى بهذا المرض هو الجهاز الهضمي؛ فإذا وصل إلى أي جزء منه كالفم مثلاً إذا ذرته الرياح فدخل غباره في جوف الإنسان فمن الجائز أن يصاب بهذا المرض، وإن كان الغالب في العدوى أن يزدرده الإنسان في الطعام أو الشراب. الأعراض: مدة التفريخ تكون في أكثر الأحوال نحو أسبوعين، وقد تكون 5 أيام فقط، أو 22 يومًا، ويبتدئ المرض بإحساس المريض تدريجًا بضعف وتكسر في الجسم، ويسأم العمل، ويشعر بصداع، وآلام في الأطراف والظهر، وبالإقهاء (فقد شهوة الطعام) وقد يحصل له غثيان أو قيء، وفي أغلب الأحوال لا يمكن للمريض أن يعين بالضبط مبدأ لهذه الأعراض بخلاف بعض الحميات الأخرى التي تبتدئ فجأة ويكون الصداع شديدًا (وأكثر شكوى المريض منه) وفي كثير من الأحوال يحصل له إسهال، وقد يحاول المريض في أول الأمر أن لا ينقطع عن عمله إلا أنه في أواخر الأسبوع الأول يضطر إلى ذلك، ويلجأ إلى الفراش، وكذلك تبتدئ الحرارة بالتدريج حتى تصير بعد أيام قلائل نحو 40، ويسرع النبض، وتزداد مرات التنفس، وفي نحو اليوم السابع أو العاشر يكون عند المريض ذهول، وضعف شديد، ويحتقن خداه، ويجف اللسان، ولا يزال يشتكي من الصداع، ويحصل له أحيانًا عرق غزير، أو رعاف، ومن اليوم السادس إلى اليوم الثاني عشر يظهر الطفح القرنفلي المخصوص، وهو نقط أو بقع صغيرة وردية مستديرة مرتفعة قليلاً عن سطح الجلد تزول بالضغط عليها، ولا يحصل فيها نزف كما في التيفوس، وتشاهد هذه النقط على البطن والصدر، وقد تُرى أيضًا على الجنبين والظهر، أو العضدين والفخذين، ويتراوح عددها بين 6 إلى 20 أو 30، وقد تزيد على ذلك بكثير، وفي بعض الأحوال لا يكون لهذا الطفح وجود خصوصًا في مصر، وهو لا يظهر دفعة واحدة بل تدريجيًّا، وتمكث كل نقطة 3 أو 4 أيام، ثم تزول، ويخلفها غيرها حتى نهاية الأسبوع الثالث أو بعده، وبعد الموت تزول هذه النقط. وفي الأسبوع الثاني يكون البطن منتفخًا، وبه آلام، وبالضغط على الحفرة الحرقفية اليمنى يشعر المريض بالألم القليل، وقد يحس الطبيب بقراقر مخصوصة، ويشتد الإسهال؛ ولكن في بعض الأحوال خصوصًا في مصر يكون البطن معتقلاً من أول المرض إلى آخره، وللبراز في هذا المرض رائحة كريهة مخصوصة، ولون أصفر يشبه حساء (شوربا) العدس المصري، وقد يحصل نزف من البطن يكون سببًا في الموت أحيانًا، ويكبر الطحال، ويقل البول. أما الصداع فإنه لا يمكث عادة بعد اليوم العاشر، وقد يصاب بالصمم الوقتي، وفي أواخر الأسبوع الثاني تبتدئ الحرارة في النزول تدريجيًّا حتى تصبح طبيعية، هذا في الأحوال الحسنة. أما في الأحوال السيئة؛ فيشتد الهذيان والنعاس الذي تعقبه الغيبوبة ويحصل الاهتزاز الوتري، وتجتمع الأوساخ على الأسنان والشفتين وغيرهما ويضعف القلب، ويكثر السعال، ويعسر الشفاء. وقد يُنْكَس الإنسان بعد الشفاء من هذا المرض، فإنه لوحظ أن نحوًا من 11 مريضًا في المئة يُنْكَسون، وقد تكون الفترة بين المرة الأولى والثانية 11 يومًا، وفي الغالب تكون مدة النكس مثل المدة في طولها؛ ولكنها أخف منها، وقد ينكس ثانية وثالثة ورابعة. وأهم تغير يحصل في الجسم بهذا المرض هو التهاب بقع (بايير) المذكورة والغدد المنعزلة، وفي اليوم العاشر أو بعده بقليل تتقرح هذه الأجزاء، وقد ينثقب البريتون؛ فتخرق الأمعاء، ويحصل التهاب بريتوني شديد يعقبه الموت، أما التغيرات في بقية الأعضاء فهي كما ذكر سابقًا في المقدمة، وكثيرًا ما يشاهد في التيفود إذا طالت مدته تغير العضلات الذي ذكره (زنكر zenker) فتستحيل أليافها إلى مادة شفافة كالشمع، ثم تتفتت، وتصير حبيبات صغيرة، وبذلك تفسد العضلات، وقد يتولد فيها خراج. المضاعفات والأشكال المختلفة: مضاعفات هذا المرض كثيرة، منها النزلة الشعبية، والالتهاب الرئوي، أو البليوراوي، أو البريتوني، أو السحائي، وغير ذلك كثير. ومن أنواعها ما لا يمكث إلا عشرة أيام، ويسمى بالنوع المجهض (abortive) أو يطول إلى 6 أسابيع، ومن الناس من لا يشعر بالمرض لشدة خفته؛ ولكنه قد تُثقب أمعاؤه فجأة فيموت، وإذا شفي المريض لا تعود إليه قواه العقلية والجسمية إلا تدريجًا؛ فيحتاج في الأحوال البسيطة إلى ثلاثة أشهر من مبدأ المرض إلى تمام نقاهته، أما في الحالات الشديدة، أو المتضاعفة، أو ذات النكس فيحتاج إلى5 أو 6 أشهر من مبدأ المرض. الإنذار [3] : عدد الوفيات بهذا المرض هو من خمس إلى عشرين في المئة، ومن أشد الأشياء خطرًا على الحياة ثقب الأمعاء، والنزف. المعالجة: هي كما سبق في باب الحميات، إنما نُذَكِّر هنا بعدة مسائل: (1) أن لا يُعطى المريض مسهلاً إلا في أول المرض، وأفضل المسهلات عندئذ زيت الخروع، ولا يجوز بحال من الأحوال إعطاء مسهل شديد ألبتة. (2) يجب التزام الراحة التامة على الظهر؛ حتى يتبرز المريض في إناء مفرطح منعًا لكل حركة، ويجب بقاء المريض على الغذاء السائل مدة 10 أيام على الأقل بعد نهاية المرض، والغرض من ذلك كله منع الانثقاب والنزف. (3) من الأطباء من يعطي أدوية مطهرة للأمعاء (كالسالول) والزئبق الحلو بمقادير صغيرة، ولكن نفع هذه الأشياء قليل، وغاية الأمر أنها قد تقلل الإسهال والرائحة الكريهة للبراز. (4) إذا زاد الإسهال عن أربع مرات يوميًّا، وجب العلاج وإلا فلا. (5) لا بأس من شرب الماء بكثرة؛ فإنه منعش، ويغسل سموم الجسم في العرق والبول، وماء الجير نافع جدًّا إذا مُزج باللبن؛ فإنه يسهل هضمه، ويمنع الغثيان، والقيء، ويمسك البطن، ويقوي خلايا الجسم؛ فإن الجير لازم لحياة جميع الخلايا. (6) يُعالج الصداع بوضع الماء المثلوج على الرأس، أو بتعاطي الفيناستين (بقدر5 - 10 قمحات) أو غيره. للوقاية: (1) تطهر جميع مواد البراز والبول وغيرهما بوضع مثل الفنيك عليها بنسبة 5 في المئة لمدة ساعتين على الأقل قبل إلقائها في المراحيض. (2) يُغلى كل ما يستعمله المريض من ملبس، وفرش، وأواني، وغيرها مدة نصف ساعة على الأقل. (3) يجتنب إلقاء أي شيء مما يخرج من المريض، أو يمسه في مجاري ماء الشرب، أو تركه مكشوفًا بحيث ينقله الذباب أو الريح، بل يجب تغطية أواني البراز بخرقة مغمسة بمحلول الفنيك بنسبة 5 في المئة أيضًا منعًا لانتقال الميكروب بواسطة الذباب إلى أهل المنزل. (4) يجب غسل يدي كل من خالط هذا المريض بالماء والصابون، ثم بمحلول السليماني 1 في 1000، أو بمحلول الفنيك، أو بالغول (الكحول) النقي بوضعهما فيه خمس دقائق قبل أن يمس أي شيء من طعامه. (5) في وقت انتشار هذا الوباء يجب غلي كل طعام وشراب، وأحسن طريقة لتطهير الخبز ونحوه إمراره في لهب الكحول، أو وضعه على الفحم الملتهب، وينبغي أيضًا الامتناع عن أكل الخضر كالفجل والجرجير والفاكهة إلا إذا غسلت جيدًا بالماء الغالي، وأزيلت قشورها، وكذلك يجب اجتناب أكل الحيوانات البحرية المذكورة سابقًا واللبن المثلوج. (6) يُلقح السليم بالحقن تحت الجلد بميكروب الحمى التيفودية بعد قتله، وذلك بأن يربى ميكروب التيفود لمدة 42 ساعة، ثم يوضع في محلول الطعام 1 في 100 ويقتل بعد ذلك بحرارة درجتها 53 سنتيجراد لمدة ساعة، وليحترس من رفع الحرارة أكثر من ذلك؛ لأنها تفسد مادة التطعيم، ويحقن المريض مرتين بينهما فترة عشرة أيام، وعدد الميكروبات التي يجب أن تحقن في المرة الأولى 500 مليون، وفي الثانية نحو 1000 مليون، ويوصي بعضهم بحقنة ثالثة من 2000 م

الخطب الدينية ـ 3

الكاتب: القاسمي

_ الخطب الدينية (3) خطبة من خطب القاسمي في النهي عن الحلف بالله والطلاق الحمد لله الذي خلق الخلق على الإطلاق، فاطر السموات والأرض، وباسط الأرزاق، فسبحانه هو العلي الرزاق، لا تنفد خزائنه بكثرة الإنفاق، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الخلاق، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله سيد العالمين بالاتفاق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم التلاق، وسلم تسليمًا. أما بعد أيها الناس، عليكم بالتقوى فإنها ترضي الملك الخلاق، واحذروا من أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم؛ فإن أيمان الحنث تمحق بركة الأرزاق، واحذروا من الحلف بالطلاق؛ فإنه يمين الفسَّاق، فمن حلف بغير الله فقد عظمه، ومن عظم غير الله صار من أهل النفاق، وخالف الكتاب والسنة، ومن خالفهما فليس له في الآخرة من خلاق، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا إلا بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك، وأت الذي هو خير) واعلموا أن من حنث في يمينه؛ فعليه أداء الكفارة وهي عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، فإن عجز فصوم ثلاثة أيام، ولا يجب التتابع في الصيام، ويكفي في الكسوة ثوب أو سراويل أو قميص، يوزع من كل عشرة على المساكين الذين ورد فيهم التنصيص، ومن طلَّق زوجته ثلاث تطليقات شرعيات غير بدعيات فلا تحل لهإلا بنكاح جديد، ومن أمسكها بعد الثلاث فقد خالف أمر الله المجيد، وتعرض للوعيد الشديد، ومن لعب بالطلاق، أو طلق امرأته من غير ما بأس فقد نقض الميثاق، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام غضبان، ثم قال أتلعبون بكتاب الله، وأنا بين أظهركم، وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) وقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) وقال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} (النساء: 34) أي بالفراق، فاتقوا الله عباد الله في النساء وحقوق الزوجية، وقوموا من مكارم الأخلاق مع الأهل بالسنة النبوية، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) واشكروا نعمة الله في الأزواج أيها المؤمنون، فقد قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) . *** خطبة أخرى له في آداب الكسب والمعاش الحمد لله الذي رفع السماء لعباده سقفًا مبنيًّا، ومهد الأرض بساطًا لهم وفراشًا، وكور الليل على النهار، فجعل الليل لباسًا، وجعل النهار معاشًا، لينتشروا في ابتغاء فضله وينتعشوا به عن ضراعة الحاجات انتعاشًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي يصدر المؤمنون عن حوضه رواء بعد وردهم عليه عطاشى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين لم يدعوا (؟) في نصرة دينه تشمرًا وانكماشًا. أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن رب الأرباب، ومسبب الأسباب، جعل الآخرة دار الثواب والعقاب، والدنيا دار التمحل والاضطراب، والتشمر والاكتساب، وليس التشمر في الدنيا مقصورًا على المعاد دون المعاش، بل المعاش ذريعة إلى المعاد ومعين عليه، فالدنيا مزرعة الآخرة، ومدرجة إليها، والناس ثلاثة: رجل شغله معاشه عن معاده فهو من الهالكين، ورجل شغله معاده عن معاشه فهو من الفائزين، والأقرب إلى الاعتدال هو الثالث الذي شغله معاشه لمعاده فهو من المقتصدين، ولن ينال رتبة الاقتصاد، من لم يلازم في طلب المعيشة منهج السداد، ولم ينتهض من طلب الدنيا وسيلة إلى الآخرة وذريعة، ما لم يتأدب في طلبها بآداب الشريعة، وقد ورد في فضل الكسب والحث عليه آيات وأخبار، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 198) ، وقال تعالى: {فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (التاجر الصدوق يُحشر يوم القيامة مع الصديقين والشهداء) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان يسعى على نفسه ليكفها عن المسألة ويغنيها عن الناس فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى على أبوين ضعيفين، أو ذرية ضعاف ليغنيهم، ويكفيهم فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى تفاخرًا وتكاثرًا فهو في سبيل الشيطان) ، وقال عمر رضي الله عنه: لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني، فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، ويجب على التاجر أن ينصح في المعاملة، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولا يحل له أن يثني على السلعة بما ليس فيها، ولا يكتم من عيوبها وخفايا صفاتها شيئًا، ولا يكتم في وزنها ومقدارها شيئًا، ومن خالف ذلك كان ظالمًا غاشًّا، والغش حرام، قال صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) ، وقال تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (المطففين: 1-3) ، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا الكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (الإسراء: 35) وعلى التاجر الرفق في التعامل والإحسان فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله امرأ سهل البيع، سهل الشراء، سهل القضاء، سهل الاقتضاء) وقال صلى الله عليه وسلم: (من أَنْظَرَ معسرًا، أو ترك له أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله) وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56) . *** خطبة له في فضل الأخوة والصحبة والألفة الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص طولاً وامتنانًا، وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخوانا، ونزع الغل من صدورهم فظلوا في الدنيا أصدقاء وأخدانًا، وفي الآخرة رفقاء وخلانًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه واقتدوا به قولاً وفعلاً وعدلاً وإحسانًا. أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن التحاب في الله تعالى، والأخوة في دينه من أفضل القربات، وألطف ما يُستفاد من الطاعات في مجاري العادات، وقد ورد في فضل الأخوة آيات كريمات، وأخبار عاليات، قال الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن أَلِفٌ مألوف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف) ، وعنه صلى الله عليه وسلم: (من أراد الله به خيرًا رزقه خليلاً صالحًا، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه) ، وعنه صلى الله عليه وسلم: (ما زار رجل رجلاً في الله شوقًا إليه، ورغبة في لقائه، إلا ناداه مَلَك من خلفه طبت وطاب ممشاك، وطابت لك الجنة) ، واعلم أن لأخيك عليك في أخوته وصحبته حقوقًا يجب الوفاء بها، فمنها حق في المال، بأن تقوم بحاجته من فضل مالك، أو تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك، وهذه رتبة الصديقين، وحق في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات مع البشاشة وإظهار الفرح، وحق على اللسان في السكوت عن عيوبه، وفي ترك مماراته، وفي النطق بالمحاب توددًا إليه، وتفقدًا لأحواله، وحق في العفو عن الزلات والهفوات، وحق في الدعاء له في حياته ومماته كما يدعو لنفسه، وحق في الوفاء والإخلاص، وذلك بالثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه، وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه، وحق في التخفيف، وترك التكلف والتكليف، فلا يكلف أخاه ما شق عليه، بل يروح سره من مهماته وحاجاته، وجملة حقوق المسلم أن تسلم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تتحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله) فاتركوا الضغائن من قلوبكم والأحقاد، وتصافحوا على المحبة وسلامة الصدر والإيثار وصدق الوداد، وليعتذر كل منكم لأخيه عما فرط منه، ليفوز برضاء الله عنه، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: (رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس، واصطناع المعروف إلى كل بَرّ وفاجر) ، وقال صلوات الله عليه لمعاذ: (أوصيك بتقوى الله، وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة، وحفظ الجار، ورحمة اليتيم، ولين الكلام، وبذل السلام، وخفض الجناح) .

المعرفة بالله تعالى ـ 1

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ المعرفة بالله تعالى بيَّن ابن القيم في باب المعرفة من الجزء الثالث من (مدارج السالكين) الفرق بين المعرفة والعلم لغة وشرعًا من خمسة وجوه، ثم بيَّن معناها في اصطلاح الصوفية، وكلام أئمتهم فيها، ثم شرح ما قاله شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي فيها، ونحن ننقل ما هو خاص بالتصوف،أي ما بعد الفروق الخمسة وهذا نصه: والفرق بين العلم والمعرفة عند أهل هذا الشأن، أن المعرفة عندهم هو العلم الذي يقوم العالم بموجبه ومقتضاه، فلا يطلقون المعرفة على مدلول العلم وحده، بل لا يصفون بالمعرفة إلا من كان عالمًا بالله، وبالطريق الموصل إليه، وبآفاتها، وقواطعها، وله حال مع الله، فتشهد له بالمعرفة، فالعارف عندهم من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في قصوده ونياته، ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة وآفاته، ثم تطهر من أوساخه وأدرانه ومخالفاته، ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته، ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته، ثم جرد الدعوة إليه وحده بما جاء به رسوله، ولم يشبها بآراء الرجال وأذواقهم، ومواجيدهم، ومقاييسهم، ومعقولاتهم، ولم يزن بها ما جاء به الرسول عليه من الله أفضل صلواته، فهذا الذي يستحق اسم العارف على الحقيقة، إذا سمي به غيره على الدعوى والاستعارة [1] . وقد تكلموا على المعرفة بآثارها وشواهدها فقال بعضهم: من أمارات المعرفة بالله حصول الهيبة منه، فمن ازدادت معرفته ازدادت هيبته. وقال أيضًا: المعرفة توجب السكون فمن ازدادت معرفته ازدادت سكينته، وقال لي بعض أصحابنا: ما علامة المعرفة التي يشيرون إليها؟ فقلت له: أنس القلب بالله، قال لي: علامتها أن يحس بقرب قلبه من الله فيجده قريبًا منه، وقال الشبلي: ليس لعارف علاقة [2] ، ولا لمحب شكوى، ولا لعبد دعوى، ولا لخائف قرار، ولا لأحد من الله فرار، وهذا كلام جيد، فإن المعرفة الصحيحة تقطع من القلب العلائق كلها، وتعلقه بمعروفه، فلا يبقى فيه علاقة بغيره، ولا تمر به العلائق إلا وهي مجتازة، لا تمر مرور استيطان، وقال أحمد بن عاصم: من كان بالله أَعْرَفَ، كان له أخوف، ويدل على هذا قوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعرفكم بالله، وأشدكم له خشية "، وقال آخر: من عرف الله تعالى ضاقت عليه الدنيا بسعتها، وقال غيره: من عرف الله تعالى اتسع عليه كل ضيق، ولا تنافي بين هذين الأمرين؛ فإنه يضيق عليه كل مكان لا يساعد فيه على شأنه ومطلوبه، ويتسع عليه ما ضاق على غيره؛ لأنه ليس فيه، ولا هو مساكن له بقلبه، فقلبه غير محبوس فيه، والأول في بداية المعرفة، والثاني في نهايتها التي يصل إليها العبد، وقال آخر: من عرف الله تعالى صفا له العيش، فطابت له الحياة، وهابه كل شيء، وذهب عنه خوف المخلوقين، وأنس بالله، وقال غيره: من عرف الله قرت عينه بالله، وقرت به كل عين، ومن لم يعرف الله تقطع قلبه على الدنيا حسرات، ومن عرف الله لم يبق له رغبة في سواه، ومن ادعى معرفة الله وهو راغب في غيره كَذَّبَتْ رغبتُهُ معرفتَهُ، ومن عرف الله أحبه على قدر معرفته به، وخافه، ورجاه، وتوكل عليه وأناب إليه، ولهج بذكره، واشتاق إلى لقائه، واستحيا منه، وأجلَّه، وعظَّمه على قدر معرفته، وعلامة العارف أن يكون قلبه مرآة إذا نظر فيها رأي فيها الغيب الذي دُعي إلى الإيمان به، فعلى قدر جلاء تلك المرآة يتراءى له فيها الله سبحانه، والدار الآخرة، والجنة، والنار، والملائكة، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كما قيل: إذا سكن الغدير على صفاء ... وجُنب أن يحركه النسيم بدت فيه السماء بلا امتراء ... كذاك الشمس تبدو والنجوم كذاك قلوب أرباب التجلي ... يُرَى في صفوها الله العظيم وهذه رؤية المثل [3] الأعلى كما تقدم، ومن علامات المعرفة أن يبدو لك الشاهد، وتفنى الشواهد، وتنحل العلائق، وتنقطع العوائق، وتجلس بين يدي الرب تعالى، وتقوم وتضطجع على التأهب للقائه، كما يجلس الذي شد أحماله وأزمع السفر على التأهب له، ويقوم على ذلك، ويضطجع عليه، كما ينزل المسافر في المنزل فهو قائم وجالس ومضطجع على التأهب، وقيل للجنيد: إن أقوامًا يدعون المعرفة يقولون إنهم يصلون بترك الحركات من باب البر والتقوى، فقال الجنيد: هذا قول أقوام تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيم، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، وإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله، وإلى الله رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بيني وبينها. ومن علامات العارف أنه لا يطالب، ولا يخاصم، ولا يعاقب، ولا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له على أحد حقًّا، ومن علاماته أن لا يأسف على فائت ولا يفرح بآت؛ لأنه ينظر إلى الأشياء بعين الفناء والزوال؛ لأنها في الحقيقة كالظلال والخيال، وقال الجنيد: لا يكون العارف عارفًا، حتى يكون كالأرض يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب يُظل كل شيء، وكالمطر يسقي ما يحب وما لا يحب، وقال يحيى بن معاذ: يخرج العارف من الدنيا ولم يَقْضِ وطره من شيئين: بكاؤه على نفسه، وثناؤه على ربه، وهذا من أحسن الكلام؛ فإنه يدل على معرفته بنفسه، وعيوبه، وآفاته، وعلى معرفته بربه وكماله وجلاله، فهو شديد الإزراء على نفسه، لهج بالثناء على ربه، وقال أبو زيد: إنما نالوا المعرفة بتضييع ما لهم والوقوف مع ما له، يريد تضييع حظوظهم والوقوف مع حقوق الله سبحانه تعالى؛ فتغنيهم حقوقه عن حظوظهم. وقال آخر: لا يكون العارف عارفًا حتى لو أعطي مُلك سليمان لم يشغله عن الله طرفة عين، وهذا يحتاج إلى شرح، فإن ما هو دون ذلك يشغل القلب لكن يكون اشتغاله بغير الله لله، فذلك اشتغال به سبحانه؛ لأنه إذا اشتغل بغيره لأجله لم يشتغل عنه، قال ابن عطاء: المعرفة على ثلاثة أركان: الهيبة والحياء والأنس، وقيل لذي النون: بم عرفت الله ربك؟ قال: عرفت ربي بربي، ولولا ربي لما عرفت ربي، وقيل لعبد الله بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه، فأتى عبد الله بأصل المعرفة التي لا يصح لأحد معرفة ولا إقرار بالله سبحانه إلا به، وهو المباينة، والعلو على العرش. ومن علامات العارف أن يعتزل الخلق بينه وبين الله حتى كأنهم أموات لا يملكون له ضرًّا، ولا نفعًا، ولا موتًا، ولا حياةً، ولا نشورًا، ويعتزل نفسه بينه وبين الخلق حتى يكون بينهم بلا نفس، وهذا معنى قول من قال: العارف يقطع الطريق بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق، وقيل: العارف ابن وقته، وهذا من أحسن الكلام وأخصره، فهو مشغول بوظيفة وقته عما مضى وصار في العدم، وعما لم يدخل بعد في الوجود، فَهَمُّهُ عمارة وقته الذي هو مادة حياته الباقية، ومن علاماته أنه مستأنس بربه، مستوحش ممن يقطعه عنه، ولهذا قيل: العارف فوق ما يقول، والعالم دون ما يقول، يعني أن العالم علمه أوسع من حاله وصفته، والعارف حاله وصفته فوق كلامه وخبره، وقال أبو سليمان الداراني: إن الله تعالى يفتح للعارف على فراشه ما لم يفتح له وهو قائم يصلي، وقال غيره: العارف تنطق المعرفة على قلبه وحاله وهو ساكت، وقال ذو النون: لكل شيء عقوبة، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله. وقال بعضهم: رياء العارفين أفضل من إخلاص المريدين، وهذا كلام ظاهره منكر جدًّا يحتاج إلى شرح، فالعارف لا يُرائي المخلوق طلبًا للمنزلة في قلبه، وإنما يكون رياؤه نصيحة وإرشادًا وتعليمًا ليقتدي به، فهو يدعو إلى الله بعلمه كما يدعو إليه بقوله، فهو ينتفع بعمله وينفع به غيره، وإخلاص المريد مقصور على نفسه، فالعارف جمع بين الإخلاص والدعوة إلى الله، فإخلاصه في قلبه، وهو يظهر عمله وحاله ليُقتدى به، والعارف ينفع بسكوته، والعالم إنما ينفع بكلامه، ولو سكتوا أثنت عليك الحقائق. وقال ذو النون: الزهاد ملوك الآخرة، وهم فقراء العارفين، وسئل الجنيد عن العارف فقال: لون الماء لون إنائه، وهذه كلمة رمز بها إلى حقيقة العبودية، وهو أن يتلون بتلون أقسام العبودية، فبينا تراه مصليًا إذ رأيته ذاكرًا، أو قارئًا، أو معلمًا، أو متعلمًا، أو مجاهدًا، أو حاجًّا، أو مساعدًا للضعيف، أو مغيثًا للملهوف، فيضرب في كل غنيمة من الغنائم بسهم، فهو مع المتسببين متسبب، ومع المتعلمين متعلم، ومع الغزاة غازٍ، ومع المصلين مصلٍّ، ومع المتصدقين متصدق، فهو ينتقل في منازل العبودية من عبودية إلى عبودية، وهو مقيم على معبود واحد لا ينتقل عنه إلى غيره. وقال يحيى بن معاذ: العارف كائن بائن، وهذا يُفسر على وجوه (منها) أنه كائن مع الخلق بظاهره، بائن عنهم بسره وقلبه، و (منها) أنه كائن بربه، بائن عن نفسه و (منها) أنه كائن مع أبناء الآخرة، بائن عن أبناء الدنيا، و (منها) أنه كائن مع الله بموافقته بائن عن الناس في مخالفته، و (منها) أنه داخل في الأشياء خارج منها، فإن من الناس من هو داخل فيها لا يقدر على الخروج منها، ومنهم من هو خارج عنها لا يقدر على الدخول فيها، والعارف داخل فيها خارج منها، ولعل هذا أحسن الوجوه. وقال ذو النون: (علامة العارف ثلاثة: لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يعتقد باطنًا من العلم ينقضه عليه ظاهر من الحكم، ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك أستار محارم الله) ، وهذا من أحسن الكلام الذي قيل في المعرفة، وهو محتاج إلى شرح، فإن كثيرًا من الناس يرى أن التورع عن الأشياء من قلة المعرفة؛ فإن المعرفة متسعة الأكناف، واسعة الأرجاء، فالعارف واسع موسع، والسعة تطفئ نور الورع، فالعارف لا تنقص معرفته ورعه، ولا يخالف ورعه معرفته، كما قال بعضهم [4] العارف لا ينكر منكرًا، لاستبصاره بسر الله في القدر، فعنده أن مشاهدة القدر والحقيقة الكونية هو غاية المعرفة، وإذا شاهد الحقيقة عذر الخليقة؛ لأنهم مأسورون في قبضة القدر، فمن يعذر أصحاب الكبائر والجرائم، بل أرباب الكفر فهو أبعد خلق الله عن الورع، بل ظلام معرفته قد أطفأ نور إيمانه قوله [5] : باطن العلم الذي ينقضه ظاهر الحكم، فإنه يشير به إلى ما عليه المنحرفون ممن ينسب إلى السلوك؛ فإنهم يقع لهم أذواق ومواجيد وواردات تخالف الحكم الشرعي، وتكون تلك معلومة لهم لا يمكنهم جحدها فيعتقدونها ويتركون ظاهر الحكم، وهذا كثير جدا، وهو الذي نفاه أئمة الطريق على هؤلاء وصواحبهم من كل ناحية، وبدعوهم وضللوهم به، قوله (ولا تحمله كثرة نعم الله على هتك محارم الله) كثرة النعم تطغي العبد، وتحمله على أن يصرفها في وجوهها وغير وجوهها، وهي تدعو إلى أن يتناول العبد بها ما حل وما لا يحل، وأكثر المُنْعَم عليهم لا يقتصرون في صرف النعمة على القدر الحلال بل يتعداه [6] إلى غيره وتسول له نفسه أن معرفته بالله ترد عليه ما انتهبته منه أيدي الشهوات والمخالفات، ويقول: العارف لا تضره الذنوب كما تضر الجاهل، وربما يسول له أن ذنوبه خير من طاعات الجهال، وهذا من أعظم المكر، والأمر بضد ذلك، فيُحتمل من الجاهل ما لا يحتمل من العارف، وإذا عوقب الجاهل ضِعْفًا، عوقب العارف ضِعْفين، وقد دل على هذا شرع الله وقدره، ولهذا كانت عقوبة الحُر في الحدود مثلي عقوبة العبد، وقال تعالى في نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا نِسَا

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (الخلق) مباحث علمية في النفس والعقل، وقواهما، وكُنْه الأخلاق، والعوامل المغيرة لها، وتأثير العقل، والبيئة، والوراثة فيها، وماهية الفضيلة، وتنوع درجاتها في أدوار الحياة، وأنواعها وحدودها، والرذيلة ونشأتها، وأقسامها، ودرئها. تأليف حسن أفندي فتوح بنظارة (وزارة) المعارف، طبع بمطبعة الجمالية بمصر سنة 1330 طبعًا نظيفًا على ورق متوسط بحرف بنط 24، صفحاته 144 بالقطع الصغير، وثمنه خمسة قروش، ويُطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (عظة الناشئين) كتاب أخلاق، وآداب، واجتماع، تأليف الشيخ مصطفى الغلاييني أستاذ اللغة العربية في المدرسة السلطانية في بيروت، طُبع بمطبعة الثبات في بيروت سنة 1330، صفحاته 66 بالقطع الصغير. ومن مباحثه: الإقدام، الصبر، الإخلاص، الشجاعة، الشرف، الهجعة واليقظة، الثورة الأدبية الأمة، والحكومة، الغرور، التجدد، الدين، المدنية، الحرية، الزعامة والرئاسة، السعادة، القيام بالواجب، الثقة، التعاون، التعصب ورثاء الأرض ... إلخ. *** (كتاب الإرشاد إلى تربية العقل) تأليف الدكتور محمود علي السركي طبيب مستشفى المنيا الأميري، طُبع سنة 1913 بمطبعة (الآداب الشرقية) بالمنيا على ورق متوسط، صفحاته 148 بالقطع الوسط، وثمنه 12 قرشًا. من مباحث هذا الكتاب: الفهم والمعرفة، كيفية تحصيل الأعمال، كيفية الملاحظة، كيفية الحكم، كيفية الإحساس، كيفية العمل، الإرادة، كيف تكون علاقة الإنسان مع غيره؟ ، كيف يجب أن يكون الإنسان؟ ، كيف يتجنب الضرر؟ معنى الحياة. *** (جمال الزوجة) تأليف الأستاذ الشيخ مهدي أحمد خليل، طُبع بمطبعة الجمالية بمصر سنة 1333، صفحاته 152 بالقطع الصغير ثمنه 3 قروش، ويُطلب من مكتبة المنار بمصر. جدير بالطلبة والشبان والشابات مطالعة هذا الكتاب فإنه من أفيد ما كتب في هذا الموضوع، وقد توخى كاتبه فيه استعمال المفردات العربية لحلل النساء وحليهن وغير ذلك وشرح هذه المفردات، كما هو دأبه في تصانيفه التعليمية المفيدة فصول الكتاب: نصائح للأمهات، ما يلزم للمولود المنتظر، الاعتناء بصحة الأولاد، التسنين، غذاء الطفل، الإرضاع المختلط، الإرضاع الصناعي، تخفيف اللبن، غلي اللبن وتعقيمه، الفطام، الاعتناء بثدي الأم عند الفطام، وفي كل فصل من هذه بيان وإيضاح وشرح ولا يستغني عنه من يعلم ما يجب عليه لأولاده وأمته ونوعه. *** (قبل الزواج وبعده) تأليف الدكتور دنيسون لايت، الإنكليزي، وترجمه بالعربية محمد أفندي عبد العزيز الصدر وطُبع بالمطبعة الحميدية المصرية بمصر طبعًا نظيفًا، صفحاته 70 بالقطع الصغير، وثمنه 3 قروش. مباحث هذا الكتاب: مستقبل الطفل، متى أتزوج، الميل الشهواني فوائده ومضاره، التشريح الجنسي، الولادة، قانون الزوج، قانون الزوجة، وفي الكتاب جدول لأوقات إرضاع الطفل ومقدار كل رضعة من الماء واللبن من أول عمره إلى الشهر الثاني عشر، فنحث الأمهات والآباء على اقتنائه. *** (تدبير حياة الرضيع الصحية من يوم ولادته إلى يوم الفطام) تأليف الدكتور نجيب أفندي قناوي طبيب عيادة اللادي كرومر للأطفال بالإسكندرية طُبع بمطبعة محمد الكلزه بالإسكندرية سنة 1329 طبعًا نظيفًا على ورق جيد وثمنه ثلاثة قروش، وهو من أنفع الكتب في هذا الباب. *** (جرجي زيدان) كتاب فيه ترجمة حياة جرجي بك زيدان صاحب الهلال، ومراثي الشعراء والكتاب، وحفلات التأبين، وأقوال الكتاب والمجلات والجرائد في الفقيد وآثاره ومكانته العلمية الأدبية، وفي الكتاب رسوم الفقيد شابًّا وكهلاً طُبع بمطبعة الهلال بمصر على ورق جيد سنة 1915 وصفحاته 147. *** (تاريخ آداب اللغة العربية لزيدان الجزء الرابع) طبع بمطبعة الهلال على ورق متوسط سنة 1914 صفحاته 328 بقطع المنار، وثمنه 20 قرشًا، ويُطلب من مكتبة الهلال، ومكتبة المنار بمصر. هذا الجزء هو تتمة أجزاء الكتاب، وبه تمت حياة المؤلف المملوءة جِدًّا ونشاطًا وعملاًً. يشتمل هذا الجزء على تاريخ آداب اللغة العربية، وعلومها، وتراجم العلماء والأدباء والشعراء، ووصف مؤلفاتهم، وأماكن وجودها، من عهد دخول الفرنسيين إلى مصر سنة 1213هـ إلى هذه الأيام، وقد قرظ المنار أجزاء هذا الكتاب الثلاثة، ونشر انتقاد الأستاذ الإسكندري له، وأنصف مؤلفه فيما كتبه عن مؤلفاته. ألحق المصنف بهذا الجزء جدولاً استغرق 6 صفحات في تصحيح الأغلاط التي استفادها من المنتقدين على الأجزاء التي قبله، وذكر منهم الأب لويس شيخو، والأب أنستاس الكرملي، والشيخ أحمد عمر الإسكندري وأحد آل كاشف الغطاء، وعيسى أفندي المعلوف، وهؤلاء نُشرت انتقاداتهم في مجلات المشرق، ولغة العرب، والمنار، والعرفان، وذكر من المنتقدين الذين كاتبوه أحمد بك تيمور، ولكنه لم يذكر الشيخ شبلي النعماني فإنه كاتبه وكتب انتقادًا على تاريخ التمدن الإسلامي في المنار، غير أنه كان في انتقاده شدة غلظة ضاق بها صدر جرجي بك زيدان على سعته. وفي هذا الجدول استدراكات استفادها المؤلف من المطالعة، وفي ذيله ترجمة حياته، وذكر جميع مؤلفاته، وفيه فهرس للأجزاء الأربعة. *** (كتاب أصول علم الاقتصاد) تأليف الأستاذ ووكر الأمريكي، وتعريب محمد حمدي بك السيد من قضاة المحاكم الأهلية، يطبع بمطبعة المنار طبعًا نظيفًا على ورق جيد، وقد صدر الجزء الأول منه في أواخر سنة 1333 وصفحاته 258، وثمنه 20 قرشًا، ولتلاميذ المدارس العليا 15 قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. إن الحالة المالية والاقتصادية بمصر جعلت الحاجة ماسة إلى وجود كتب في علم الاقتصاد، وإلى مدرسين يدرسونه في المدارس، ولا سيما في هذه البلاد التي كثرت فيها الشركات الزراعية والتجارية والصناعية، واتسعت دائرة الأعمال المالية، وإن بلادًا كالبلاد المصرية في حالتها المدنية، وتغلغل الإفرنج فيها، وإدارتهم للمصارف والشركات فيها لا يمكن أن يحفظ أهلها ثروتهم أو أرضهم، فضلاً عن أن ينموها إلا إذا كثر فيهم العارفون بهذا العلم، وبنوا أعمالهم المالية كلها على أصوله التي بنى عليها غيرهم، فوجب على المصريين خاصة، والعرب عامة تناول هذا الفن؛ لأن مصر اليوم هي أرقَى بلاد العرب ثروة؛ فإذا ارتقى هذا العلم فيها يكون ذلك مقدمة لارتقائه في غيرها. يظن كثير من الناس أن الاقتصاد كل الاقتصاد أن لا تنفق كثيرًا، أو أن تدخر من كسبك شيئًا لوقت حاجتك، وهذا وَهْم منشؤه الجهل؛ فإن متناول علم الاقتصاد أوسع من ذلك، وأكبر من أن ينحصر بالتقتير والتضييق على من وسع عليهم في الرزق. وأقل ما يقال فيه إنه علم يبحث في (إيجاد الثروة) وهذه الكلمة تتضمن معرفة طبيعة الأرض، واستعدادها، وكيفية توزيع محصولاتها، وتكوُّن الصناعة وارتقائها، وتأثير العوامل الطبيعية والسياسية والإدارية والمركز السياسي في ذلك، ثم هو يبحث في (إنماء الثروة) وما يلزم لذلك من تأثير الصناعة وإتقانها، وتصرف مديري المصانع، وعمل الصناع، ورأس المال، والقيمة الاعتبارية للنقدين، أو ما يقوم مقامها، والمبادلة، والأرباح، والأقوات، وقيمة الإيجار، والتوزيع، والاشتراك، ومعاملة الدول، وتبادل بعضها مع بعض، ثم ما لاعتصاب العمال، وتأثير القوانين الإدارية والسياسية في ذلك. فالاقتصاد هو ما يُوجِد ثروة الأمة والفرد وينميهما، أي أن تعلم كيفية كسب المال، وكيفية إنفاقه بما يعود عليك وعلى أمتك بالثراء ونعمة العيش. ولما أحس الناس بالحاجة إلى هذا العلم في السنين الأخيرة، كتب فيه بعض الكتاتبين مقالات في الجرائد والمجلات، وترجم آخرون بعض المختصرات، وكان آخر ما ارتقت العناية إليه أن انبرى محمد حمدي بك السيد القاضي بالمحاكم الأهلية إلى ترجمة (أصول علم الاقتصاد السياسي) فأفرغ جهد المستطاع في نقله إلى العربية، مع ما يلزم لذلك من تعريب الاصطلاحات الفنية فأنجزه ترجمة، وأتم طبع الجزء الأول منها، وقد أوشك أن يتم طبع الجزء الثاني، ومن مميزات هذا الكتاب أن المؤلف قد وفى المسائل حقها، وأعطاها من الإيضاح قسطها، وأبرزها في لغة العرب بعبارة سهلة المتناول صحيحة التعبير واضحة المعنى غير متنطع، ولا متقعر. *** (كتاب دروس سنن الكائنات في مدرسة دار الدعوة والإرشاد) دروس علمية طبية إسلامية في الكيمياء، والطبيعة، والتشريح، ووظائف الأعضاء، وقانون الصحة، وعلم الأنسجة للدكتور محمد توفيق صدقي نشرتها مجلة المنار، وطبعتها على نفقتها بمطبعتها على ورق جيد، وقد تم طبع الجزء الأول، فبلغت صفحاته 186 بقطع المنار، وثمنه 5 قروش، ويُطلب من مكتبة المنار وإدارته بمصر. الدكتور محمد توفيق صدقي بحَّاثة منقب، مؤلف محقق، عرفه قراء المنار بآثاره من أول عهده بالكتابة العلمية؛ لأنه قلما كتب شيئًا في غير المنار، ودروسه هذه مبنية على البحث والاطلاع والتحقيق، والجمع بين العلم والعمل، فهي كتاب علمي طبي جدير بأن يدرس في المدارس العربية، ولا سيما الدينية منها؛ لأنه يقرب هذه العلوم من ذهن التلميذ بعبارة عربية سلسلة، التزم فيها تعريب الاصطلاحات العلمية، والتوفيق بين مسائل العلم المحققة ونصوص القرآن والحديث عند الحاجة إلى ذلك، لا لأن المراد مزج العلم بالدين في التعليم كما يتوهم من يرى أن الفصل بينهما بتعليم كل منهما وحده أولى، بل لأن الغرض الأول من هذه الدروس أن يكون لرجال الدين الذين يعدون للإرشاد والتعليم إلمام صحيح بالعلوم التي يحتاجون إليها في التربية والإرشاد من وجهين (أحدهما) تقوية الإيمان بما ترشد إليه هذه العلوم من الآيات على قدرة الله تعالى، وعلمه، وحكمته، ورحمته، ووحدانيته (وثانيهما) العلم بأن الانتفاع بها مطلوب شرعًا لا ممنوع كما يتوهمه الجاهلون، مثال هذا أن توقي ميكروبات الأمراض، والآفات التي تصيب الإنسان والحيوان والنبات، لا ينافي الإيمان بالله ولا التوكل عليه ولا ما نقل في كتب الدين من نفي العدوى الجاهلية، فإذا لم يكن رجال الدين على بصيرة في ذلك، لا يسهل عليهم القيام بوظيفة الإرشاد الإسلامي الذي يجب أن يكون جامعًا بين حقوق الأرواح والأجساد، ومصلحتي المعاش والمعاد. *** (الألفاظ الكتابية) لعبد الرحمن بن عيسى بن حماد الهمذاني، هذا الكتاب غني عن التعريف والتقريظ، وهو أشهر من نار على علم، وقد طُبع مرات بأشكال مختلفة، ولعل آخر طبعة طُبعها هي هذه التي طبعها محمد أمين، ومحمود توفيق بمطبعة الجمالية بمصر سنة 1329 على ورق أبيض بقطع رسالة التوحيد، وجعلا ثمنه أربعة قروش، ويُطلب منهما، ومن مكتبة المنار بمصر. *** (أبو الطيب المتنبي وما له وما عليه) رسالة مقتبسة من كتاب يتيمة الدهر الشهير تأليف أبي منصور الثعالبي، طبعه علي عطية بمطبعة الجمالية بمصر على ورق أبيض صفحاته 112 بقطع الإسلام والنصرانية، وثمنه 1.5 قرش ويُطلب من مكتبة المنار بمصر. موضوع الرسالة ما قيل في شعر المتنبي انتقادًا وتقريظًا وهو ما كتبه الثعالبي في اليتيمة عند الكلام على أبي الطيب وقال في آخره إنه يصلح أن يكون كتابًا مستقلاًّ، وهو القائل في المتنبي: إنه نادرة الفلك، وواسطة عقد الدهر في صناعة الشعر. *** (ديوان عبد الرحمن شكري) طبع الجزء الثالث من هذا الديوان في مطبعة غرزوزي بالإسكندرية سنة 1915، فبلغت صفحاته 74 فيها من القصائد والمقاطيع 55 ثمنه 5 قروش، ويُطل

خلاصة سورة المائدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خلاصة سورة المائدة انفردت هذه السورة بعدة مسائل في أصول الدين وفروعه، وبتفصيل عدة أحكام أُجملت في غيرها إجمالاً، وأكثرها في بيان شؤون أهل الكتاب ومحاجتهم، ونحن نُذَكِّر قارئ تفسيرنا بخلاصتها مراعين مناسبة بعض المسائل لبعض، لا ترتيب ورودها في السورة، وجعلنا ذلك على قسمين: القسم الأول ما هو من قَبِيل الأصول والقواعد الاعتقادية أو العملية (1) أهم الأصول التي انفردت بها السورة، بيان إكمال الله تعالى للمؤمنين دينهم الذي ارتضى لهم بالقرآن، وإتمام نعمته عليهم بالإسلام (راجع ص 154 - 167 ج 6) [*] . (2) النهي عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أُبديت لهم، لما فيها من زيادة التكاليف مثلاً (راجع ص125 - 209 ج7) . وقد علم من الآيات التي نزلت في هاتين المسألتين المتلازمتين أن كل حكم ديني من اعتقاد، أو عبادة، أو حلال، أو حرام لم يدل عليه النص دلالة صريحة ولم تمض به السنة العملية من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فليس من الدين الذي هو حجة الله على كل من بلغتهم دعوة الرسول بحيث يطالبون به في الدنيا، ويسألون عنه في الآخرة، كما فصلنا ذلك في تفسيرهما، مع بيان الفرق بين الأحكام الدينية والدنيوية، وأما ما دل عليه الكتاب أو السنة دلالة غير صريحة - ومنه أكثر ما اختلف أئمة العلم في دلالته - فهو حجة على من فهم منه الحكم، لا على كل أحد كما بيناه في تفسير آية تحريم الخمر. (3) بيان أن هذا الدين مبني على العلم اليقيني في الاعتقاد والهداية في الأخلاق والأعمال، وأن التقليد باطل لا يقبله الله تعالى، كما هو صريح الآية 107 (راجع ص 205 ج7) وتقدم مثلها في سورة البقرة. (4) بيان أن أصول الدين الإلهي على ألسنة الرسل كلهم هي الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أية ملة - من ملل الرسل كاليهود والنصارى والصابئين - فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم في الآخرة ولا هم يحزنون (ص 476 ج6) وتقدم مثل ذلك في سورة البقرة. (5) وحدة الدين واختلاف شرائع الأنبياء ومناهجهم فيه. (6) هيمنة القرآن على الكتب الإلهية (ص 410 ج 6) . (7) بيان عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره بالتبليغ العام، وكونه لا يكلف من حيث كونه رسولاً إلا التبليغ، وأن من حجج رسالته أنه بيَّن لأهل الكتاب كثيرًا مما كانوا يخفون من كتبهم، وهو قسمان: (أحدهما) ما ضاع منه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بناء على الأصل المبين في هذه السورة، وهو أنهم نسوا حظًّا عظيمًا مما ذكرهم الله به بإنزاله فيها (وثانيهما) ما كانوا يكتمونه من الأحكام اتباعًا لأهوائهم مع هذه السورة، ولولا أن محمدًا الأمي مرسل من عند الله لما علم شيئًا من هذا ولا ذاك. (8) عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من الناس أن يضروه، أو يقدروا على صده عن تبليغ رسالة ربه، وهذا من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أيضًا فكم حاولوا قتله فأعياهم وأعجزهم (ص473 ج6) . (9) بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم أفرادها وجماعتها، وأنه لا يضرهم من ضل من الناس إذا هم استقاموا على صراط الهداية، أي لا يضرهم ضلاله في دنياهم؛ لأن الله تعالى لم يكلفهم إكراه الناس على الهدى والحق ولا أن يخلقوا لهم الهداية خلقًا، وإنما كلفهم أن يكونوا مهتدين في أنفسهم بإقامة دين الله تعالى في الأعمال الفردية والمصالح الاجتماعية، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (10) تأكيد وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بما بينه الله تعالى من لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود، وعيسى بن مريم، وتعليله ذلك بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه. (11) نفي الحرج من دين الإسلام (258 و 269 ج6) . (12) تحريم الغلو في الدين، والتشدد فيه، ولو بتحريم الطيبات، وترك التمتع بها، وتحريم الخبائث والاعتداء، والإسراف في الطيبات (488ج 6و17 - 32ج7) . (13) قاعدة إباحة الاضطرار للمحرَّم لذاته فيما يضطر إليه كالطعام، ومنه أخذ الفقهاء قولهم: الضرورات تبيح المحظورات (راجع ص167 ج6) . (14) قاعدة التفاوت بين الخبيث والطيب، وكونهما لا يستويان في الحكم كما أنهما لا يستويان في أنفسهما، وفيما يترتب عليهما، وهذا أصل عظيم من أصول التحليل والتحريم في الطعام وغيره يدل على تعليل الأحكام الشرعية بالحكم والمصالح، وعلى عدم استواء جزاء الخبيث والطيب من الناس عند الله عز وجل (ص122ج7) ، وما كان تعليل الأحكام، وبيان حكمتها، وفائدتها إلا لأجل توخيها- كأحكام الطهارة، وتحريم الخمر، والميسر، وبعض الطعام، وأحكام الوصية، والشهادة، وإقسام الشهداء اليمين - وإنك لتجد الذين يجهلون ذلك لإعراضهم عن حكم القرآن، وأسرار السنة قد جعلوا أمر الوضوء والغسل تعبديًّا محضًا لا يستلزم النظافة فعلاً ولا قصدًا، وزعموا أن تحريم الخمر تعبدي لا يدل على تحريم كل مسكر بناء على رأيهم أن الخمر ما كان من عصير العنب خاصة، فما القول في فهمهم لسائر الأحكام. (15) تحريم الاعتداء على قوم بسبب بغضهم وعداوتهم؛ لأنه يجب على المؤمنين أن يلتزموا الحق والعدل، ولا يكونوا كأهل السياسة المدنية ص128 و274 ج6) . (16) وجوب الشهادة بالقسط، والحكم بالعدل والمساواة بين غير المسلمين كالمسلمين، ولو للأعداء على الأصدقاء، وتأكيد وجوب العدل فيها، وفي سائر الأحكام والأعمال (ص276 و273 و394 و412 و420 ج6) . (17) الأمر المطلق العام في أول السورة بالوفاء بالعقود التي يتعاقد الناس عليها في جميع معاملاتهم الدنيوية من شخصية ومدنية، وهذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة الإسلامية، وهي أن الله تعالى وَكَلَ أمر العقود التي يتعاملون بها إلى عرفهم ومواضعاتهم؛ لأنها من مصالحهم التي تختلف باختلاف الأحوال فلم يقيدهم في أحكامها وشروطها بقيود دائمة إلا ما أوجبه الشرع مما لا يختلف باختلاف الأحوال والعرف كتحريم أكل أموال الناس بالباطل كالربا والقمار، فكل عقد يتعاقد عليه الناس لم يحل حرامًا، ولم يحرم حلالاً مما ثبت بالنص فهو جائز. (18) إيجاب التعاون على البر والتقوى، ومنه تأليف الجماعات الخيرية، والعلمية، وتحريم التعاون على الإثم والعدوان 0 (19) بيان أن الله تعالى جعل الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس في أمر دينهم ودنياهم، فهو جعل تكويني باعتبار، وشرعي باعتبار آخر، وهو يدل على علمه الواسع المحيط بالأشياء والحكم والمصالح والمنافع 0 (20) مسألة موالاة المؤمنين للكافرين، وبيان أن من آيات النفاق، ومرض القلب المسارعة في موالاتهم من دون المؤمنين خوفًا أن تدور الدائرة على المؤمنين فتكون لهم يد عند أعدائهم يستفيدون بها منهم (ص423ج6) (21) تفصيل أحكام الوضوء والغسل والتيمم، مع بيان أن الله تعالى يريد أن يُطَهِّر الناس ويزكيهم بما شرعه لهم من أحكام الطهارة وغيرها، وشمول الطهارة في آية الوضوء لطهارة الظاهر والباطن، وهذا يدل على أن أحكام الطهارة كلها معقولة المعنى، كما أشرنا إليه في المسألة الرابعة عشرة، فيجب أن يتحرى بأداء ما ورد به الشرع ما تتحقق به الحكمة منه، ويدل على أن الوسوسة في الطهارة مذمومة مخالفة لنص الشرع ومقصده. (22) تفصيل أحكام حلال الطعام وحرامه، وما حرم منه لكونه خبيثًا في ذاته كالميتة وما في معناها والخنزير، وما حرم لسبب ديني كالذي يُذبح للأصنام. (23) تحريم الخمر، وهو كل مسكر، والميسر وهو القمار ومنه ما يسمى في عرف الناس اليوم بالمضاربات. (24) أحكام محرمات الإحرام. (25) تفصيل أحكام الصيد للحِلِّ والحُرُم في أوائل السورة وأواخرها. (26) حدود المحاربين الذين يفسدون في الأرض، ويخرجون على أئمة العدل، وحد السرقة، وما يتعلق بالحد كسقوطه بالتوبة بشرطه. (27) أحكام الأيمان وكفارتها، وأيمان الأمناء والشهود. (28) تأكيد أمر الوصية قبل الموت وأحكام الشهادة على الوصية، وفي قضاياها وشهادة غير المسلم على المسلم، والفرق بين الشهادة والإشهاد، وإننا بعد الإطالة في تفسير الآيات في الوصية والشهادة فيها لخصنا مسائلها في 15 مسألة. (29) الأمر بالتقوى في عدة آيات من هذه السورة تدخل في جمع الكثرة؛ لأن صلاح أمور الدنيا والدين يتوقف على التزامها، وإنما يُرجى بتكرار الأمر بها في كل سياق بحسبه. (30) بيان تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله تعالى وحده كما حكاه سبحانه من قول المسيح في ذلك اليوم مقرونًا بتعليلها ودليله، وكون النافع في ذلك اليوم هو الصدق في الظاهر والباطن، جعلنا الله من أهله. *** القسم الثاني ما ورد من الأخبار والحِجاج والأحكام في شأن أهل الكتاب من الآيات في هذا القسم ما نزل في شأن أهل الكتاب عامة، ومنه ما هو في أحد الفريقين خاصة، فمن المشترك وَصْفهم بالغلو في دينهم المستلزم للتعصب الضار، وباتباعهم أهواء من ضل قبلهم من الوثنيين وغيرهم، وبالغرور في دينهم وزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وبأنهم مع ذلك نقضوا ميثاق ربهم، ونسوا حظًّا عظيمًا مما ذكرهم الله به على ألسنة أنبيائهم، ولم يقيموا التوراة والإنجيل كما أوجب الله عليهم، وقد فند دعواهم أنهم أبناؤه وأحباؤه بما يأتي ذكره قريبًا، وبيَّن الله لهم حقيقة الأمر، وهي أنهم بشر ممن خلق الله، لا مزية لهم على سائر البشر في أنفسهم وذواتهم؛ لأن البشر إنما يمتاز بعضهم على بعض بالعلوم الصحيحة والأخلاق الكريمة والأعمال الصالحة، لا بالنسب والانتماء إلى الأنبياء والصالحين وإن كانوا مخالفين لهم في هدايتهم. وذكر من جزائهم على سوء أعمالهم في الدنيا إلقاء العداوة والبغضاء بينهم، وأنه يعذبهم في الدنيا بذنوبهم الشخصية والقومية كغيرهم، وأن ذلك يدحض دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، ودعاهم كافة إلى الإسلام، والإيمان بخاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، الذي بيَّن لهم حقيقة دينهم الذي كان عليه سلفهم، ودحض ما زادوا فيه بالبرهان، وبيَّن بعض ما كانوا يخفون أو يجهلون منه أحسن بيان. ووَصَف التوراة والإنجيل أحسن وصف، وذكر من أخبار التوراة قصة ابني آدم بالحق، ومن أحكامها عقوبات القتل وإتلاف الأعضاء والجروح، ومن أخبار الإنجيل والمسيح ما هو حجة على الفريقين، وبيَّن أن الكتابين أُنزلا نورًا وهدى للناس، وأنهم لو كانوا أقاموهما لكانوا في أحسن حال، ولسارعوا إلى الإيمان بما أنزله الله على خاتم رسله مصدقًا لأصلهما، ومبينًا لما طرأ عليهما، ومكملاً لدين الأنبياء جميعًا، على سنة الله في النشوء والارتقاء، التي هي أظهر في البشر منها في سائر الأشياء؛ ولكنهم اتخذوا الإسلام هزؤًا ولعبًا في جملته وفي صلاته، ووالوا عليه المناصبين له من أعدائه، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم لذلك. ومما جاء في اليهود خاصة نعيًا عليهم وبيانًا لسوء حالهم - أنهم نقضوا ميثاق الله الذي أخذه عليهم في كتابهم ونسوا حظًّا عظيمًا مما ذُكِّروا به، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وتركوا الحكم بالتوراة وأخفوا بعض أحكامها، وحكَّموا الرسول ولم يرضوا بحكمه الموافق لها، وأن من صفاتهم الغالبة عليهم قساوة القلب، والخيانة والمكر، والكذب، وقول الإثم، والمبالغة في سماع الكذب، وأكل السحت، والسعي بالفساد في الأرض، وفي إيقاد نار الفتن والحرب، وأنهم كانوا يقتلون الأنبياء والرسل بغير حق، وتمردوا على موسى إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وقتال الج

كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ مكان الأسباب من الدين فصل من مدارج السالكين في رد ما قاله صاحب المنازل في باب التلبيس قد عرفت أن هذا الباب مبناه على محو الأسباب، وعدم الالتفات إليها، والوقوف معها، ولهذا سمى المُصَنِّف نصبها تلبيسًا، ونحن نقول: إن الدين هو إثبات الأسباب، والوقوف معها، والنظر إليها، والالتفات إليها وإنه لا دِينَ إلا بذلك كَمَا لا حقيقةَ إلا به، فالحقيقة والشريعة مبناهما على إثباتها لا على محوها، ولا ننكر الوقوف معها؛ فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم لا يتم إسلامه وإيمانه إلا بذلك، والله تعالى أمرنا بالوقوف معها بمعنى أنا نثبت الحكم إذا وُجدت وننفيه إذا عُدمت، ونستدل بها على حكمه الكوني، فوقوفنا معها بهذا الاعتبار هو مقتضى الحقيقة والشريعة، وهل يمكن حيوانًا أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع الأسباب؟ فينتجع مساقط غيثها وموقع قطرها، ويرعى في خصبها دون جدبها، ويسالمها ولا يحاربها، فكيف وتنفسه في الهواء بها، وتحركه بها، وسمعه وبصره بها، وغذاؤه بها، ودواؤه بها، وهداه بها، وسعادته وفلاحه بها، وضلاله وشقاؤه بالإعراض عنها وإلغائها، فأسعد الناس في الدارين أقومهم بالأسباب الموصلة إلى مصالحهما، وأشقاهم في الدارين أشدهم تعطيلاً لأسبابهما، فالأسباب محل الأمر والنهي، والثواب والعقاب، والنجاح والخسران، وبالأسباب عُرف الله، وبها عُبد الله، وبها أُطيع الله، وبها تقرب إليه المتقربون، وبها نال أولياؤه رضاه وجواره في جنته، وبها نصروا حزبه ودينه، وأقاموا دعوته، وبها أرسل رسله وشرع شرائعه، وبها انقسم الناس إلى سعيد وشقي، ومهتد وغوي، فالوقوف معها والالتفات إليها والنظر إليها هو الواجب شرعًا كما هو الواقع قدرًا. ولا تكن ممن غلظ حجابه، وكثف طبعه فيقول: لا تقف معها وقوف من يعتقد أنها مستقلة بالإحداث والتأثير، وأنها أرباب من دون الله، فإن وجدت أحدًا يزعم ذلك أو يظن أنها أرباب وإله مع الله مستقلة بالإيجاد، أو أنها عون لله يحتاج في فعله إليها، أو أنها شركاء له فشأنك به، فمزق أديمه وتقرب إلى الله بعداوته ما استطعت، وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله! والإلغاء لما اعتبره! والإهدار لما حققه! والحط والوضع لما نصبه! والمحو لما كتبه! والعزل لما ولاه! ! فإن زعمت أنك تعزلها عن رتبة الإلهية فسبحان الله! من ولَّاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك في عزلها عنها. ويا لله ما أجهل كثيرًا من أهل الكلام والتصوف، حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد إلا إلغاءها ومحوها وإهدارها بالكلية، وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى ولا طبائع ولا غرائز لها تأثير موجبة ما، ولا في النار حرارة ولا إحراق، ولا في الدواء قوة مذهبة للداء، ولا في الخبز قوة مشبعة، ولا في الماء قوة مروية، ولا في العين قوة باصرة، ولا في الأنف قوة شامَّة، ولا في السم قوة قاتلة، ولا في الحديد قوة قاطعة، وأن الله لم يفعل شيئًا بشيء، ولا فعل شيئًا لأجل شيء، فهذا غاية توحيدهم الذي يحومون حوله، ويبالغون في تقريره، فلعمر الله لقد أضحكوا عليهم العقلاء، وأشمتوا بهم الأعداء، ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم، وجنوا على الإسلام والقرآن أعظم جناية، وقالوا نحن أنصار الله ورسوله الموكلون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرسل، ولعمر الله لقد كسروا الدين وسلطوا عليه المبطلين، وقد قيل " إياك ومصاحبة الجاهل فإنه يريد أن ينفعك فيضرك " فقف مع الأسباب حيث أُمرت بالوقوف معها، وفارقها حيث أُمرت بمفارقتها، كما فارقها الخليل وهو في تلك السفرة من المنجنيق (إلى النار) حيث عرض له جبريل أقوى الأسباب، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، ودُر معها حيث دارت ناظرًا إلى مَنْ أَزِمّتها بيديه، والتفت إليها التفات العبد المأمور إلى تنفيذ ما أمر به والتحديق نحوه، وارعها حق رعايتها، ولا تغب عنها، ولا تفن عنها، بل انظر إليها وهي في رتبتها التي أنزلها الله إياها، واعلم أن غيبتك بمسببها عنها نقص في عبوديتك، بل الكمال أن تشهد المعبود، وتشهد قيامك بعبوديته، وتشهد أن قيامك به لا بك، ومنه لا منك، وبحوله وقوته لا بحولك وقوتك، ومتى خرجت عن ذلك وقعت في انحرافين لا بد لك من أحدهما: إما أن تغيب بها عن المقصود لذاته لضعف نظرك وغفلتك وقصور علمك ومعرفتك، وإما أن تغيب بالمقصود عنها بحيث لا تلتفت إليها، والكمال أن يسلمك الله من الانحرافين؛ فتبقى عبدًا ملاحظًا للعبودية ناظرًا إلى المعبود، والله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ((يتبع بمقال تالٍ))

حرب أمم المدنية لا الملل الدينية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حرب أمم المدنية لا الملل الدينية تسمي الجرائد العربية والأوربية هذه الحرب المشتعلة في أوربة حرب الأمم، ولا نرى لها مخالفًا في صحة هذه التسمية، فقد أجمع الناس على أن جميع الأمم الأوربية المتحاربة موافقة لدولها على الاستمرار على هذه الحرب إلى أن يفنى آخر رجل يقدر على استعمال السلاح فيها، ويُنفق آخر دينار في صناديقها، أو تقهر عدوها قهرًا يخضع به لحكمها، ويذعن صاغرًا لشروط الصلح التي تضعها حكومتها، وينقلون لنا أن النساء موافقات للرجال في هذا الأمر، وأن القسيسين والرهبان والاشتراكيين أيضًا متفقون فيه مع رجال الحرب، إلا ما تنقله الجرائد آنًا بعد آن عن بعض النساء والاشتراكيين في ألمانية من الرغبة في عقد الصلح كراهة للحرب، وأطيطًا من أوزارها، وأنينًا من أهوالها وسوء آثارها، ولعل هذا من قبيل ما كانت تنقله في أول الحرب من كراهة الشعب الألماني كله لها ورغبته عنها، وكون عاهله هو الذي ساقه إليها سوقًا، بل دعَّه إليها دعًّا، وكنا أول من خالفهم في ذلك. على أن المعقول الذي لا يُعقل غيره هو أنه يوجد في كل أمة مُحارِبة كثيرٌ حتى من أهل الرأي يكرهون الحرب لذاتها، ويتمنون الصلح على علاته، والمعقول أن يكون أكثر هؤلاء الناس من أفراد الحكماء الراسخين، ومن النساء والاشتراكيين، ومن المتدينين الذين يفهمون أن الديانة المسيحية ديانة سلم وتواضع وزهد في المال والجاه والرياسة والملك - وما أكثر المنتمين إليها على هذا الفهم - فحيث يكثر هؤلاء يكثر الميل إلى الصلح، والجنوح إلى السلم، وإن لم تعن الجرائد بنقل أخبار هؤلاء في بلادها وبلاد أحلافها، لئلا يغتر أعداؤها ويظنون أن أممهم غير متفقة على تأييد حكوماتها، وهي إنما تنقل عن شعوب أعدائها الميل إلى الصلح في سياق ذمها بالعجز والضعف، لا في سياق مدحها بكراهة القسوة والوحشية والإفساد في الأرض، واستقباح الطمع المفضي إلى إهلاك الحرث والنسل؛ ولذلك كانت تقول في أول الحرب: إن الشعوب الجرمانية كارهة له مُكْرَهة عليه، ويوشك أن تخرج على حكومتها وتثور عليها، ثم رجعوا عن ذلك، ووصفوها بضده، فالجرائد السياسية لا تكتب إلا ما يمليه عليها الهوى، فهي تابعة لمهابّ أهوائه تميل معها كيفما أمالتها. إلا أنها صادقة في قولها إن السواد الأعظم من الأمم الأوروبية مؤيد لدولها بمالها ورجالها وإجماعها على الاستمرار في الحرب، إلى أن تنال ما ترجو من النصر، وتكون كلمتها هي العليا، وكلمة أعدائها هي السفلى؛ فإن من يوجد في كل منها من محبي السلم بباعث الدين، أو حب الإنسانية والميل إلى التواضع والقناعة مغلوبون على أمرهم، ووجودهم لا ينافي ما أجمع عليه الكتاب من أن هذه الحرب هي حرب الأمم لا الدول؛ فإن العبرة بالغالبِ، والنادرُ لا حكم له، وقد جرت عادة الناس أن يطلقوا على جملة الأمة ما فشا فيها وثبت لأكثرها من الأعمال، أو اتصفت به من الصفات والأخلاق، ولن تستطيع دولة من دول أوربة الاستمرار على الحرب إذا كان الرأي الغالب في الأمة لا يؤيدها، إلا أن تكون الدولة الروسية التي ليس لأمتها رأي غالب. ومن أعجب ما نقل إلينا عن الحكومة الإنكليزية - ويحسن عده في هذا المقام من فضائلها التي تجري فيها على عرق - أنها حكمت أخيرًا بوجوب التجنيد الإجباري على العزاب، إلا من يرى ذلك مخالفًا لوجدانه واعتقاده، وقد سبق لسلفها مثل ذلك في قانون وجوب التلقيح للوقاية من الجدري، وهذه الفضيلة مما امتاز به الإنكليز على غيرهم، وهم موافقون فيه لقاعدة من قواعد الإسلام تركها حكام المسلمين منذ قرون. إن ما أجمع عليه الناس من تسمية هذه الحرب حرب الأمم قد استثنوا منه الأمة العثمانية بالنقل، كما استثنينا منه بعض الأفراد من كل أمة بحكم العقل، فقد نقلت إلينا بلاغات دول الحلفاء الرسمية، والبرقيات العامة والجرائد الغربية والشرقية، أن الشعب العثماني كاره لهذه الحرب، بل قالوا مرارًا إن السلطان وولي عهده، وسائر أهل بيته، وأكثر رجال دولته كانوا معارضين فيها، وما زالوا كارهين لها، بل قالوا أيضًا إن بعض زعماء جمعية الاتحاد والترقي كانوا وما زالوا كذلك، وإن السبب المباشر لإيذان دول الأحلاف الدولة بالحرب - وهو اعتداء البارجتين الألمانيتين (غوبن وبرسلو) على ثغور روسية - لم يكن بإذن من السلطان، ولا الصدر الأعظم، بل لم يعلما به إلا بعد وقوعه، وقد وعدا سفراء دول الأحلاف بعدم العود إلى مثله، وإن أنور باشا ناظر الحربية هو الذي اتفق مع ألمانية على ضم الدولة إليها في هذه الحرب، فغلب نفوذه على نفوذ غيره من زعماء جمعيته بمساعدة الألمان، الذين كان قد وكل إليهم أمر إصلاح الجيش العثماني بعد حرب البلقان. ولا تزال الجرائد تتخوَّلنا بأخبار كراهة العثمانيين لهذه الحرب في عاصمة الدولة وولاياتها، وما يأتمرون به لإسقاط الحكومة الاتحادية وإنشاء حكومة جديدة تصالح الأحلاف وتتفق معهم، وبسعي صباح الدين أفندي - ابن أخت السلطان - إلى ذلك واتفاق حزبه أخيرًا مع حزب المشير شريف باشا وبعض رجال حزب الحرية والائتلاف على ذلك. أنا لم أُصَدِّق كل ما نشرته الجرائد في هذا الموضوع، وإن كان بعضه رسميًّا، ولا أكذبه كله، وإن كان سنده ضعيفًا واهيًا، وأعتقد أن أهل الحل والعقد من زعماء جمعية الاتحاد والترقي كانوا وما زالوا متفقين مع الألمان، وأن السواد الأعظم من العثمانيين كاره لهذه الحرب في كل مكان، فهي حرب الدولة التي يتولى إدارتها الاتحاديون، لا حرب الأمة العثمانية وإن أقرها المبعوثون، فإن المبعوثين في هذا العهد لا يمثلون الشعوب العثمانية، ولا يعبرون عن رأيها، بل أكثرهم ألسنة لجمعية الاتحاد والترقي، ومظهر لإرادتها. إذا تمهد هذا فاعلم أيها القارئ أنني لم أقصد به المدح أو الذم للأمم المتفقة على الحرب أو المختلفة فيها، ولا التخطئة أو التصويب لموقدي نارها، وإنما أريد أن أثبت أنها حرب المدنية الأوربية الحديثة، لا حرب دينية ولا مذهبية، وهذه المدنية مادية لا روحية، دنيوية لا دينية، وغاية أصحابها ومقصدهم منها هو التمتع بالشهوات البدنية، والعلو والعظمة في الأرض، والتكاثر في الأموال وضروب الزينة، فهي لا تتفق مع شرعة المسيح (عليه السلام) في ورد ولا صدر، ولا تسير في منهاجه في مبدأ ولا غاية، ولو كان روح المسيحية الحق له سلطان غالب في أوربة لما وقعت هذه الحرب البتة، كلا إن روح المسيحية مغلوب على أمره لسلطان المدنية المادية، فموقدو نار الحرب إما من خلص الماديين، وإما من متبعي أهوائهم في فهم الدين، ولكن أهوال الحرب قد أيقظت في جمهور كل أمة منهم شعور الدين، وكثر فيهم من يصلون ويدعون الله أن ينصرهم على أعدائهم، كما هو شأن البشر في حال الكروب والخطوب {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} (لقمان: 32) * {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (يونس: 12) . فهل يَعْتَبِر بهذه الحرب أولئك الخادعون المخدوعون الذين كانوا يعيبون الأديان، بزعمهم أنها مثار البغي والعدوان، ومسعر نيران الحرب بين الإنسان وأخيه الإنسان، وأنه لولاها لآخت المدنية بين الناس، وجمعت بين ما تفرق من الأجناس؟ كلا إن الحياة المدنية هي التي تولد في النفوس المطامع التي لا حد لها، وتقرن التنافس بالتحاسد، وتسوق الحسد إلى البغي والتقاتل، وإن الدين ينهى عن ذلك كله، ولكن الناس كثيرًا ما يخطئون في فهمه، وكثيرًا ما يتعمدون تحريف كلمه عن مواضعه، فهم يسيئون استعماله كما يسيئون استعمال الحواس والعقل وغير ذلك من نعم الله تعالى، فمن مقاصد الدين إزالة الخلاف من بين الناس فاتخذوه سببًا من أسباب الخلاف {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19) فالحرب سُنة من سنن الاجتماع، قد يخفف الدين شرورها بقدر ارتقائه واستمساك أهله به كما بيناه في مقالة نشرناها في الجزء الثالث عنوانها (حرب المدنية الأوربية، والمقارنة بينها وبين المدنية الإسلامية والفتوحات العربية) . وليس للمدنية المادية مثل هذا التأثير في نفسها، فإن وجد في أمم المدنية من يقبح الحرب، أو يقبح ارتكاب القسوة فيها غيرة على العمران، ومحافظة على حقوق البشر غير مهتدٍ في ذلك بتربية الدين، ولا متأثر بفضائله، فهو لا يكون إلا كالتاجر الخوَّان لا يحجم عن صفقة إلا خوفًا من الخسارة، فمتى غلب على ظنه أنه فيها لا يبالي ما يفعل، اللهم إلا الأفراد من الحكماء الذين رجح العقل والفضيلة في نفوسهم على الأهواء، كالفيلسوف هربرت سبنسر الإنكليزي الذي أهدى إليه عاهل الألمان وسامًا علميًّا فلم يقبله منه؛ لأنه قيصر حرب، وهو عدو للحرب، وإياك أن تظن في هذا الحكيم الكبير أنه كان يبغض الألمان بغضًا سياسيًّا لمناظرتهم لقومه، فليس عليهم وعلى الناس بما ادعاه من سبب رفض الوسام، فكان ذلك من الرياء الفِرّسي الذي يغمز به الإنكليز منتقدوهم كما صرحوا به في هذه الأيام [1] ، فإن هذا الحكيم الكبير قد نصح لليابانيين بأن لا يولوا قومه الإنكليز شيئًا من شؤون بلادهم؛ لأن ذلك يكون ذريعة لعبثهم باستقلالهم، فأي استقلال في الرأي وإخلاص في النصح أدل على الحكمة والفضيلة من هذا؟ على أن هذا الفيلسوف لم يكن ماديًّا بل كان يشكو من انتصارالمطامع المادية في البلاد الأوربية - حتى في بلاده - على الفضيلة كما حدثنا عنه شيخنا الأستاذ الإمام، وإننا نذكر في هذا المقام بعض ما دار بين حكيمي الشرق والغرب في زيارة الأول للثاني بداره في 10 أغسطس سنة 1903: بدأ المزور الزائر بسؤاله عما رأى من تغير الأفكار في إنكلترة، وعما دخل الشرق من الأفكار الأوربية، وشكا إليه من سريان الأفكار المادية إلى قومه، وما يخشى من إضعافها للفضيلة، ثم دار بينهما ما يأتي. قال الفيلسوف: الحق عند أوربة للقوة، قال الأستاذ الإمام: هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على تقليد الأوربيين فيما لا يُفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها، قال الفيلسوف: مُحي الحق بالمرة من عقول أهل أوربة، وسترى الأمم يختبط بعضها ببعض ليتبين من هو الأقوى فيكون سلطان العالم، قال الأستاذ: عندي أمل أن همم الفلاسفة واجتهادهم في تقرير مبادئ الحق يحول دون ذلك، فقال الفيلسوف كلامًا يدل على يأسه من ذلك، وقد كتب الأستاذ في مذكرته بعد الإشارة إلى هذه المذاكرة ما نصه: (ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف (الحق للقوة) إلخ؟ جاءت منه مصحوبة بشعاع الدليل، فأثارت حرارة، وهاجت فكرًا، لو جاءت من ثرثار غيره كانت تأتي مقتولة ببرد التقليد، فكانت (تكون) جيفة تعافها النفس فلا تحرك إلا اشمئزازًا وغثيانًا. هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان، وتوفير راحته، وتغزي

الألقاب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الألقاب بحث لغوي تاريخي في الألقاب الرسمية وغير الرسمية منقول من الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة الثالثة من الجزء الخامس من كتاب صُبح الأعشى، وللكلام فيه طرفان، قال: الطرف الأول في أصول الألقاب وفيه جملتان الجملة الأولى في معنى اللقب والنعت، وما يجوز منه ويمتنع أما اللقب فأصله في اللغة النبز، بفتح الباء، قال ابن حاجب النعمان في (ذخيرة الكتاب) : والنبز ما يخاطب به الرجلُ الرجلَ من ذكر عيوبه، وما سَتْرُهُ عنده أحب إليه من كشفه، وليس من باب الشتم والقذف. *** وأما النعت فأصله في اللغة الصفة، يقال: نعته ينعته نعتًا إذا وصفه، قال في (ذخيرة الكتاب) : وهو متفق على أنه ما يختاره الرجل ويؤثره ويزيد في إجلاله ونباهته، بخلاف اللقب، قال: لكن العامة استعملت اللقب في موضع النعت الحسن، وأوقعوه موقعه لكثرة استعمالهم إياه، حتى وقع الاتفاق والاصطلاح على استعماله في التشريف والإجلال والتعظيم والزيادة في النباهة والتكرمة. قلت: والتحقيق في ذلك أن اللقب والنعت يُستعملان في المدح والذم جميعًا فمن الألقاب والنعوت ما هو صفة مدح، ومنها ما هو صفة ذم، وقد عرَّفت النحاة اللقب بأنه ما أدى إلى مدح أو ذم، فالمؤدي إلى المدح كأمير المؤمنين، وزين العابدين، والمؤدي إلى الذم كأنف الناقة وسعيد كرز، وما أشبه ذلك، والنعت تارة يكون صفة مدح، وتارة يكون صفة ذم، ولا شك أن المراد هنا من اللقب والنعت ما أدى إلى المدح دون الذم، وقد اصطلح الكُتاب على أن سموا صفات المدح التي يوردونها في صدور المكاتبات ونحوها بصيغة الإفراد كالأمير والأميري، والآجل والآجلي، والكبير والكبري، ونحو ذلك ألقابًا، وصفات المدح التي يوردونها على صورة التركيب، كسيف أمير المؤمنين، وظهير الملوك والسلاطين، ونحو ذلك نعوتًا، ولا معنى لتخصيص كل واحد منهما بالاسم الذي سموه به إلا مجرد الاصطلاح، ولا نزاع في إطلاق اللقب والنعت عليهما باعتبارين: فمن حيث إنها صفات مؤدية إلى المدح يطلق عليها اسم اللقب، ومن حيث إنها صفات لذوات قائمة بها يطلق عليها اسم النعت. *** وأما ما يجوز من ذلك ويمتنع، فالجائز منه ما أدى إلى المدح مما يحبه صاحبه ويؤثره، بل ربما استحب، كما صرح به النووي في (الأذكار) للإطباق على استعماله قديمًا وحديثًا، والممتنع منه ما أدى إلى الذم والنقيصة مما يكرهه الإنسان، ولا يحب نسبته إليه، قال النووي: وهو حرام بالاتفاق، سواء كان صفة له، كالأعمش، والأجلح، والأعمى، والأحول، والأبرص، والأشج، والأصفر، والأحدب، والأصم، والأزرق، والأشتر، والأثرم، والأقطع، والزمِن، والمُقْعَد، والأشل، وما أشبه ذلك، أو كان صفة لأبيه: كابن الأعمى، أو لأمه: كابن الصوراء ونحو ذلك مما يكرهه قال تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ} (الحجرات: 11) قال: واتفقوا على جواز ذكره بذلك على جهة التعريف لمن لا يعرفه إلا بذلك، ودلائل ذكره كثيرة مشهورة، وهو أحد المواضع التي تجوز فيها الغيبة. *** الجملة الثانية في أصل وضع الألقاب والنعوت المؤدية إلى المدح واعلم أن ألقاب المدح ونعوته لم تزل واقعة على أشرف الناس، وجلة الخلق في القديم والحديث، فقد ثبت تلقيب إبراهيم عليه السلام بـ (الخليل) ، وتلقيب موسى عليه السلام بـ (الكليم) ، وتلقيب عيسى عليه السلام بـ (المسيح) ، وتلقيب يونس عليه السلام بـ (ذي النون) ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُلقب قبل البعثة بـ (الأمين) ووردت التواريخ بذكر ألقاب جماعة من العرب في الجاهلية: كذي يزن، وذي المنار، وذي نواس، وذي رعين، وذي جدن، وغيرهم مما هو مشهور شائع، وكذلك وقعت ألقاب المدح على كثير من عظماء الإسلام وأشرافه كالصحابة رضوان الله عليهم، فمن بعدهم من الخلفاء والوزراء وغيرهم، فكان لقب أبي بكر (عتيقًا) ثم لُقِّب بـ (الصدِّيق) بعد ذلك، ولُقِّب عمر (الفاروق) ، ولُقِّب عثمان (ذا النورين) ، ولُقِّب علي (حيدرة) ، ولُقِّب حمزة بن عبد المطلب (أسد الله) ، ولُقِّب خالد بن الوليد (سيف الله) ، ولُقِّب عمرو بن عمرو [1] (ذا اليدين) ، ولُقِّب مالك بن التيهان الأنصاري (ذا السيفين) ، ولُقِّب خزيمة بن ثابت الأنصاري (ذا الشهادتين) ، ولُقِّب جعفر بن أبي طالب بعد استشهاده (ذا الجناحين) . وأما الخلفاء، فخلفاء بني أمية لم يتلقب أحد منهم، فلما صارت الخلافة إلى بني العباس، وأخذت البيعة لإبراهيم بن محمد لقب بـ (الإمام) ، ثم تلقب من بعده من خلفائهم، فتلقب محمد بن علي بـ (السفاح) لكثرة ما سفح من دماء بني أمية، واختلف في لقبه بالخلافة، فقيل (القائم) ، وقيل (المهتدي) ، وقيل (المرتضي) ، وألقاب الخلفاء بعده وإلى زماننا معروفة مشهورة على ما مر ذكره في المقالة الرابعة إن شاء الله تعالى. ثم تعدت ألقاب الخلافة إلى كثير من ملوك الغرب بعد ذلك، وتلا الخلفاء في الألقاب الوزراء، لاستقبال الدولة العباسية وما بعد ذلك، فلُقِّب أبو سلمة الخلال (وزير السفاح) بـ (وزير آل محمد) ، ولقَّب المهدي وزيره يعقوب بن داود بن طهمان (الأخ في الله) ولَقَّب المأمون الفضل بن سهل حين استوزره (ذا الكفايتين) ، ولَقَّب أخاه الحسن بن سهل (ذا الرياستين) ولَقَّب المعتمد على الله وزيره صاعد بن مخلد (ذا الوزارتين) إشارة إلى وزارة المتعمد والموفق، وكان لقب إسماعيل بن بلبل الشكور (الناصر لدين الله) كألقاب الخلفاء. وكذلك وقع التلقيب لجماعة من أرباب السيوف وقواد الجيوش، فتلقب أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة بـ (أمير آل محمد) ، وقيل (سيف آل محمد) ، وتلقب أبو الطيب بن الحسين بـ (ذي اليمنين) ، ولقب المعتصم بالله حيدر بن كاووس بـ (الأفشين) لأنه أشروسني، والأفشين لقب على الملك بأشروسنة، ولقب إسحاق بن كيداح أيام المعتمد بـ (ذي السيفين) ولقب مؤنس في أيام المقتدر بـ (المظفر) ، ولقب سلامة أخو نجح أيام القاهر بـ (المؤتمن) ، ولقب أبو بكر بن محمد طغج الراضي بالله [2] بـ (الإخشيد) والإخشيد لقب على الملك بفرغانة. ثم وقع التلقيب بالإضافة إلى الدولة في أيام المكتفي بالله، فلقب المكتفي أبا الحسين بن القاسم بن عبد الله [3] (ولي الدولة) وهو أول من لُقِّب بالإضافة إلى الدولة، ولقب المقتدر بالله علي بن أبي الحسين [3] المتقدم ذكره (عميد الدولة) . ووافت الدولة البويهية أيام المطيع لله والأمر جار على التلقيب بالإضافة للدول، فافتتحت ألقاب الملوك بالإضافة إلى الدولة، فكان أول من لقب بذلك من الملوك بنو بويه الثلاثة: فلقب أبو الحسن علي بن بويه بـ (عماد الدولة) ، ولقب أخوه أبو علي الحسن بـ (ركن الدولة) ، وأخوهما أبو الحسين بـ (معز الدولة) ثم وافى [عضد الدولة] من بعده فاقترح أن يلقب بـ (تاج الدولة) فلم يجب إليه وعدل به إلى (عضد الدولة) فلما بذل نفسه للمعاونة على الأتراك، اختار له أبو إسحاق الصابي صاحب ديوان الإنشاء (تاج الملة) مضافًا إلى عضد الدولة، فكان يقال (عضد الدولة وتاج الملة) ولقب أبو محمد الحسن بن حمدان أيام المتقي لله (ناصر الدولة) ، ولقب أخوه أبو الحسن علي بن حمدان (سيف الدولة) . وبقي الأمر على التلقيب بالإضافة إلى الدولة إلي أيام القادر بالله فافتتح التلقيب بالإضافة إلى الدين، وكان أول من لقب بالإضافة إليه أبو نصر بهاء الدولة ابن عضد الدولة بن بويه، زيد على لقبه بهاء الدولة (نظام الدين) فكان يقال (بهاء الدولة ونظام الدين) قال ابن حاجب النعمان: ثم تزايد التلقيب به وأفرط، حتى دخل فيه الكتاب والجند والأعراب والأكراد، وسائر من طلب وأراد، وكره (؟) حتى صار لقبًا على الأصل، ولا شك أنه في زماننا قد خرج عن الحد حتى تعاطاه أهل الأسواق ومن في معناهم، ولم تصر به ميزة لكبير على صغير، حتى قال قائلهم. طلع الدين مستغيثًا إلى الله وقال: العباد قد ظلموني يتسمون بي، وحقك لا أعرف منهم شخصًا ولا يعرفوني! أما الديار المصرية فكان جريهم في الألقاب على ما ينتهي إليهم خبره من ألقاب الدولة العباسية ببغداد، فتلقب خلفاء الفاطميين بها بنحو ألقاب خلفاء بني العباس ببغداد فكان لقب أول خلفائهم بها (المعز لدين الله) ، وثانيهم بها (العزيز بالله) وعلى ذلك إلى أن كان آخرهم (العاضد لدين الله) على ما تقدم في المقالة الثانية في الكلام على ملوك الديار المصرية. وتلقب وزراؤهم وكتابهم بالإضافة إلى الدولة، وممن لقب بذلك في دولتهم (ولي الدولة) ابن أبي كدينة وزير المستنصر، وأيضًا (ولي الدولة) ابن خيران كاتب الإنشاء المشهور، ولما صارت الوزارة لبدر الجمالي تلقب بـ (أمير الجيوش) ، ثم تلقب الوزراء بعده بنحو (الأفضل) و (المأمون) ، ثم تلقبوا بالملك الفلاني، كـ (الملك الأفضل) و (الملك الصالح) ، ونحو ذلك على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وكان الكتاب في أواخر الدولة الفاطمية إلى أثناء الدولة الأيوبية يلقبون بـ (الفاضل والرشيد والعماد) وما أشبه ذلك. ثم دخلوا في عموم التلقيب بالإضافة إلى الدين، واختص التلقيب بالإضافة إلى الدولة كولي الدولة بكتاب النصارى، والأمر على ذلك إلى الآن. *** الطرف الثاني في بيان معاني الألقاب وفيه تسع جمل الجملة الأولى في الألقاب الخاصة بأرباب الوظائف المعتبرة التي بها انتظام أمور المملكة وقوامها، وهي قسمان (القسم الأول) الألقاب الإسلامية، وهي نوعان: (النوع الأول) الألقاب القديمة المتداولة الحكم إلى زماننا، هي صنفان: الصنف الأول ألقاب أرباب السيوف، وهي سبعة ألقاب الأول - الخليفة: وهو لقب على الزعيم الأعظم القائم بأمور الأمة، وقد اُختلف في معناه، فقيل: إنه فعيل بمعنى مفعول، كجريح بمعنى مجروح، وقتيل بمعنى مقتول ويكون المعنى أنه يخلفه من بعده، وعليه مثل قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) على قول من قال: إن آدم عليه السلام أول من عمر الأرض، وخلفه بنوه من بعده، وقيل: فعيل بمعنى فاعل، ويكون المراد أن يخلف من بعده [4] وعليه حمل الآية من قال إنه كان قبله في الأرض الجن وإنه خلفهم فيها، واختاره النحاس في (صناعة الكتاب) وعليه اقتصر البغوي في (شرح السنة) ، والماوردي في (الأحكام السلطانية) قال النحاس وعليه خوطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه بخليفة رسول الله. وقد أجازوا أن يقال في الخليفة: خليفة رسول الله، لأنه خلفه في أمته، واختلفوا هل يجوز أن يقال فيه خليفة الله؟ فجوز بعضهم ذلك لقيامه بحقوقه في خلقه محتجين بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: 165) وامتنع جمهور الفقهاء من ذلك محتجين بأنه إنما يُستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالى باقٍ موجود إلى الأبد لا يغيب ولا يموت، ويؤيد ما نقل عن الجمهور بما روي أنه قيل لأبي بكر رضي الله عنه: يا خليفة الله، فقال لست بخليفة الله؛ ولكني خليفة رسول الله، وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا خليفة الله - فقال: ويلك! لقد تناولت متناولاً بعيدًا! إن أمي سمتني عمر، فلو دعوتني بهذا الاسم قبلت، ثم كبرت فكنيت أبا حفص، فلو دعوتني به قبلت، ثم وليتموني أموركم فسميتموني أمير المؤمنين، فلو دعوتني به كفاك، وخص البغوي جواز إطلاق ذلك بآدم وداود عليهما السلام، محتجًّا بقوله تعالى في حق آدم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 12

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلاميةللدكتور محمد توفيق صدقي (12) الهيضة أو الكوليرا cholera داء وبيل، سريع الانتشار، وأوبئته تفتك بالأمم فتكًا ذريعًا، وكلمة كوليرا من كلمة يونانية معناها المِرّة (وهي إفراز الكبدالمعروف الآن بالصفراء) لأن القيء والبراز يشتملان في أول الأمر على الصفراء، ويسمى هذا المرض باللغة العربية (الهيضة) ويسميه المتأخرون من العرب (الهواء الأصفر) لأنهم توهموا أنه ينشأ من تغير في الجو أو الهواء. ومنبع هذا الداء بلاد الهند بآسية ولذلك يسمى بالهيضة الآسيوية، ومنها انتشر في أقطار المسكونة، وقد دخل مصر عدة مرات. الأسباب: لهذا المرض ميكروب خاص يشبه الضمة اكتشفه (كوخ) سنة 1883، وهو لا يصيب عادة غير الإنسان، وطول هذا الميكروب (ميكرون) واحد أو اثنان، وقد يجتمع منه اثنان فأكثر فيتألف منهما حلزون، وهو متحرك وله هدب واحد غالبًا في أحد طرفيه، ولا حبيبات له وإنما يتوالد بالانقسام. يوجد هذا الميكروب في براز المصابين، وقد يوجد أحيانًا في القيء أيضًا ولا يوجد في الدم، ولا في الأعضاء، ولا الأنسجة، وقد يستمر خروجه مع البراز حتى بعد الشفاء بمدة، وهو يسكن في الأمعاء وأغشيتها المخاطية، وبعد الوفاة قد يوجد في جميع أجزاء الجسم لأنه ينفذ من الأمعاء إليها. يعيش هذا الميكروب في الهواء وفي غيره، والجفاف التام يقتله، وقد يعيش في الطين الرطب إلى 68 يومًا، وفي ماء الشرب عدة أشهر، وفي البراز عدة أسابيع. وحامض العصير المعدي يقتله، ولكن هذا العصير لا يفرز إلا مع وجود الطعام فإذا شرب الإنسان ماء على الجوع خيف عليه العدوى لعدم وجود هذا الحامض حينئذ؛ فيصل الميكروب إلى الأمعاء، وأمراض الجهاز الهضمي أو اضطراباته تهيئ المرء لقبول العدوى به. ولا يميز هذا الداء بين الذكر والأنثى، ويصيب الناس في جميع الأعمار. والفاقة والضعف والإدمان على الخمر مما يهيئ له، وكذلك الإفراط في الطعام الكثير، ويكثر انتشاره في فصلي الخريف والصيف، ولكن البرد يوقف سيره. والإصابة به مرة تحمي غالبًا من الإصابة به ثانية. ولا يصل هذا الداء إلى الإنسان بطريق القناة الهضمية فهو في ذلك كالحمى التيفودية سواء بسواء، ومما ينقله إلى الطعام أو الشراب الذباب والنمل وغيرهما. الأعراض: مدة التفريخ هي يومان عادة أو ثلاثة أيام، وقد تكون أكثر من ذلك أو أقل. وقد يسبق جميع الأعراض إسهال، أو يصاب المرء بخمول وصداع ودوار وطنين وغير ذلك، وتستمر هذه الحالة يومًا أو اثنين أو ثلاثة، ثم يشتد الإسهال دفعة واحدة، وتزول الصفراء من البراز؛ فيصير لونه كحساء الأرز (أي مرق الأرز المغلي) وتسمع في بطن المصاب قراقر كثيرة قلما يكون معها ألم، وبعد الإسهال بساعة أو أكثر يبتدئ القيء؛ فلا يبقى في المعدة شيء ويصير لونه كلون البراز، أي كحساء الأرز أيضًا، ويشتد العطش ويجف اللسان ويبيض، ويتألم المريض من جس معدته، ويصاب بتقلص مؤلم جدًّا في عضلات الساقين والقدمين أو الأيدي والجذع (أي باقي الجسم) ، ثم يصاب المرء بالهمود (الهبوط) فيبرد الجسم ويزرق، وتغور العينان، ويبرد النفس، وتنخفض الحرارة، ويسرع النبض، ويضعف جدًّا، ولا يقدر المريض على الكلام، ويزول الإسهال غالبًا، ولكن القيء يستمر، ويقل إفراز البول أو ينقطع مطلقًا لشدة ضعف الدورة الدموية ولنقص مائية الجسم بالقيء والإسهال، وكثيرًا ما يموت المصاب في هذا الطور. فإذا جاوزه ترتفع الحرارة تدريجيًّا، ويعود لون الجلد إلى أصله، وترتفع العينان بعد الغؤور، ويتحسن النبض، ويفرز البول ويزول الخطر شيئًا فشيئًا، حتى يشفى المريض. المضاعفات والعواقب: كثيرة منها: الالتهاب الرئوي أو البليوراوي، وموت بعض الأجزاء (غنغرينا) وسقوطها كالصفن والقضيب أو الأنف، وظلمة القرنية وتقرحها. الإنذار: تختلف الوفيات من 40 - 60 (في المائة) ، والمرض شديد الخطر على الصغار والشيوخ، ومن كان ضعيف البنية أو سكيرًا. المعالجة: عند ظهور أعراض المرض الأولى تُعطى الأدوية القابضة، وأحسنها الأفيون فإذا اشتد الإسهال والقيء وألم الساقين حُقن المريض بالمورفين [1] تحت الجلد وأُعطي قطعًا صغيرة من الثلج لمصها. أما في طور الهبوط فيُعطى المنعشات المنبهات، وما يملأ العروق مما سبق ذكره في باب النزف (صفحة 55 من الجزء الأول) إما حقنًا تحت الجلد، أو في الشرج، أو في الأوردة، وإما شربًا، ويُدفأ تدفئة جيدة بزجاجات الماء الساخن والأغطية الثقيلة، وبالدلك للأطراف. وقد وجد الماجور (ليونارد روجس Rogers Leonard) أن الحقن بمحلول ملحي في الأوردة، وإعطاء البرمنجنات من الفم قد قلل الوفيات إلى 23 في المئة، وفائدة هذا الحقن أن يزيل الهمود ويقوي القلب، ويعوض الجسم ما فقده من الأملاح، وأما البرمنجنات فيظن أنها تؤكسد سموم ميكروب الكوليرا، وبذلك تبطل عملها وتركيب هذا المحلول الملحي هو 120 قمحة من ملح الطعام، و6 قمحات من كلوريد البوتاسيوم، و4 قمحات من كلوريد الكلسيوم، تذاب كلها في نصف لتر من الماء العقيم، ثم يحقن منها نحو لترين في أحد أوردة الذارع (أعني عرق الباسليق الأوسط وهو الأكحل بالعربية) وتكفي عادة حقنة واحدة، فإذا عاد الهمود عدنا بأخرى، ولكن إذا كان الهمود قليلاً فالأولى الحقن تحت الجلد، وتكون حرارة الحقنة أعلى بقليل من حرارة الجسم الطبيعية. أما طريقة إعطاء البرمنجنات فهي أن يشرب المريض مقادير قليلة من محلول برمنجات الكالسيوم بنسبة نصف قمحة في كل 500 جرام ماء، وتزاد هذه النسبة تدريجًا إلى 4 أو 6 قمحات. الوقاية: خير من العلاج، وتكون بأمور: (1) عزل المرضى، وتطهير مواد قيئهم وبرازهم وسائر ما يستعملونه من ملبس وآنية وفراش إلخ، وإلقاء تلك المواد حيث نأمن تلويثها لأي شيء آخر. (2) غسل الأيدي قبل مس أي طعام، وتطهير جميع ما يأكله الأصحاء، أو يشربونه، أو يستعملونه في ذلك كله من أواني وغيرها بالغلي وخصوصًا ماء الشرب؛ فيجب غليه دائمًا، ويجب تجنب التخم وكل ما يفسد الهضم. (3) إبادة الذباب والنمل ومنعهما من الوصول إلى مفرزات المرضى، ثم إلى طعام الأصحاء وشرابهم. (4) عدم أكل شيء غير مطبوخ في زمن الوباء. (5) عدم الإذن للناقهين بالاختلاط بغيرهم إلا بعد خلو مفرزاتهم من الميكروب بأن يعلم ذلك بالبحث البكتيريولوجي الدقيق، وبعد ذلك يستحمون وتغلى ملابسهم، ويلبسون غيرها جديدًا، وكذلك يبحث عن (الحملة الأصحاء) وهم الذين خالطوا بعض المرضى فوصل الميكروب إلى أمعائهم، ولم يصابوا بالمرض، فهؤلاء يُعزلون وتطهر مفرزاتهم حتى تخلو من الميكروب. (6) أن تدفن الموتى بعيدًا جدًّا عن الأماكن المسكونة بشرط أن لا يتلوث بجثثهم ماء الشرب أو غيره، ويغتسل (المغسِّل) ويطهر يديه بالمحاليل المطهرة، وكذلك تطهر ملابسه بالغلي. هذا ويرى بعض أئمة الدين وجوب الغسل بعد تغسيل الميت لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من غسل ميتًا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ) ولعل المراد بالوضوء هنا غسل اليدين كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (الوضوء قبل الطعام حسنة، وبعد الطعام حسنتان) وهذا كله مما يوافق قواعد الصحة كل الموافقة، ومثل (المغسِّل) كل من قام بدفن الميت أو بتمريضه قبل الوفاة فيجب عليه غسل يديه خصوصًا قبل أكله. (7) يعمل التلقيح الواقي لمن شاء بميكروبات الكوليرا حسب طريقة هافكين (haffkine) فيحقن أولاً سنتيمتر مكعب، وبعد أربعة أيام أو خمسة يحقن غيره أقوى منه، ويصاب الإنسان بعد الحقن بصداع وحمى وانحطاط مدة ثلاثة أيام أو أربعة عقب كل حقنة منهما، وما قيل في عيب الحقن الواقي من التيفود يقال مثله هنا أيضًا. *** الكُزاز - التيتانوس tetanus التيتانوس كلمة يونانية معناها التشنج أو التقلص، وهو اسم داء يسمى بالعربية (الكزاز) . ينشأ هذا الداء من باسيل مخصوص يوجد في الطين وغيره كأوساخ الحدائق والإسطبلات، طوله 4 أو 5 ميكرونات، وثخنه 4. من الميكرون وله أهداب، غير أنه قليل الحركة، ولا ينمو في جو فيه أثر من الأكسجين الخالص، ويتكون في داخله حبيبات عند أحد طرفيه، وهي كروية الشكل، وأغلظ منه حتى شبه العلماء هذا الميكروب عند تكون الحبيبة بمطرقة الطبل. الأسباب: يصيب هذا المرض الإنسان في جميع الأعمار حتى الأطفال الرضع عقب ولادتهم بقليل، وهو كثير في البلاد الحارة، والجنس الأسود أو الأسمر أكثر عُرضة له من غيرهما، وأهم سبب لدخول الميكروب في الجسم إنما هو الجرح أو السحج صغيرًا كان أو كبيرًا حتى لو كان كوخز الإبرة. أما إصابة الأطفال الرضع به فسببها الغالب قذارة ما يقطع به الحبل السري، أو تعرض السرة لشيء قذر. وقد يصيب بعض الناس بدون أن تُشاهد في أجسامهم إصابة، ولعل السبب في ذلك دخول الميكروب من سحج بسيط جدًّا لم يلتفت إليه أحد، أو دخوله من بعض الأغشية المخاطية، فقد شاهد بعض الباحثين حبيباته في رجيع الإنسان، وفي رجيع الأنعام والخيل وغيرها، والإنسان والخيل أكثر الحيوانات إصابة به. وإذا دخل الميكروب من الجرح عاش حيث دخل مدة قصيرة ومات بعد بضعة أيام، وهو لا ينتشر في البنية البتة، وغاية ما يمكنه الوصول إليه هو بعض الغدد اللمفاوية القريبة من الجرح، وجميع الأعراض إنما تنشأ من امتصاص سمومه وحبيبات هذا الميكروب تعيش عدة سنين ولو جفت، وتقاوم درجة 80 سنتجراد مدة ساعة، ولكن درجة الغليان تقتلها بعد خمسة دقائق وحامض الفنيك بنسبة 1 / 20 لا يهلك هذه الحبيبات في أقل من 15 ساعة؛ ولذلك يجب تطهير الآلات الجراحية بالغلي مدة طويلة حتى يُؤمن شره، فقد شوهد كثرة الإصابة بهذا الداء بعد عمل الخزام أو عقب الحقن تحت الجلد أو في العضلات خصوصًا بمادة الكينين لتأثير هذه المادة في كريات الدم البيضاء، وإعاقتها عن قتل هذا الميكروب؛ فيجد بيئة صالحة لنموه، لا سيما وأن الأكسجين الخالص غير موجود في تلك البيئة. وسكان جزائر سليمان في المحيط الأعظم في الشمال الشرقي من أسترالية قد عرفوا شيئًا من هذه الحقائق؛ فلذلك يصنعون سهامًا ويغمسون طرفها في مادة لزجة، ثم يلوثونها بقذارة المستنقعات ويجففونها فتوجد فيها بذور هذا الميكروب اللعين؛ فإذا أصابت شخصًا كانت السبب في موته غالبًا. الأعراض: بعد دخول هذا الميكروب في الجرح ببضعة أيام يشعر المريض بيبس في قفاه، وفي فكيه بحيث يتعسر عليه المضغ، أو أن يفتح فاه، وقد تستمر الحال يومًا أو يومين، وقد ينتقل إلى الطور الثاني بأسرع من ذلك، فتيبس عضلات الجذع يبسًا شديدًا، وتيبس عضلات الأطراف يبسًا قليلاً، ثم يشتد تيبس الظهر وانقباض عضلاته حتى يتقوس، ويكون تقعيره إلى الخلف، وتيبس كذلك عضلات البطن والصدر حتى يتعسر التنفس وعضلات الأطراف السفلى، وأما الأطراف العليا فيكون تيبسها حول الكتفين والمرفقين وتبقى حركة الأصابع ميسورة، وفي هذا الوقت يشتد تقلص الفكين، حتى لا يمكن فتحهما إلا بشق الأنفس، ومع ذلك لا يمكن الفصل بينهما بأكثر من ¼ بوصة، وتتقلص كذلك عضلات الوجه حتى ينشأ من تقلصها ما يشبه الضحك، ويسمى هذا الضحك المؤلم عند الأطباء (ضحك سردينية) وهي تلك الجزيرة المشهورة في البحر الأبيض المتوسط لوجود عشب سام فيها يُذْهِب العقل، ويحدث تشنجًا في عضلات الفم يشبه الضحك. فإذا وصل المرض إلى

المعرفة بالله تعالى ـ 2

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ المعرفة بالله تعالى (2) فصل قال: (الدرجة الثانية معرفة الذات مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات، وهي تثبت بعلم الجمع، وتصفو في ميدان الفناء، وتستكمل بعلم البقاء، وتشارف عين الجمع) نشرح كلامه ومراده أولاً، ثم نبين ما له وعليه فيه، فكانت هذه الدرجة عنده أرفع مما قبلها؛ لأن التي قبلها نظر في الصفات وهذه متعلقة بالذات الجامعة للصفات، وإن كانت الذات لا تخلو عن الصفات فهي قائمة بها، ولا نقول: إن صفاتها عينها ولا غيرها، لما في لفظ الغير من الإجمال والاشتباه، فإن الغيرين قد يراد بهما ما جاز افتراقهما ذاتًا أو زمانًا أو مكانًا، وعلى هذا فليست الصفات مغايرة للذات، ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما دون الآخر؛ فيفترقان في الوجود الذهني لا في الوجود الخارجي، فالصفات غير الذات بهذا الاعتبار؛ لأنه قد يقع الشعور بالذات حال ما يغفل عن صفاتها فتتجرد عن صفاتها في شعور العبد لا في نفس الأمر، وقوله (مع إسقاط التفريق بين الصفات والذات) التفريق بين الصفات والذات في الوجود مستحيل، وهو ممكن في الشهود بأن يشهد الصفة ويذهل عن شهود الموصوف، أو يشهد الموصوف ويذهل عن شهود الصفة، فتجريد الذات أو الصفات إنما يمكن في الذهن فالمعرفة في هذه الدرجة تعلقت بالذات والصفات جميعًا، فلم يفرق العلم والشهود بينهما، ولا ريب أن ذلك أكمل من شهود مجرد الصفة أو مجرد الذات، ولا يريد الشيخ أنك تسقط التفريق بين الذات والصفات في الخارج والعلم بحيث تكون الصفات هي نفس الذات [1] فهذا لا يقوله الشيخ وإن كان كثير من أرباب الكلام يقولون إن الصفات هي الذات، فليس مرادهم أن الذات نفسها صفة، فهذا لا يقوله عاقل، وإنما مرادهم أن صفاتها ليست شيئًا غيرها، فإن أراد هؤلاء أن مفهوم الصفة هو مفهوم الذات فهذا مكابرة، وإن أرادوا أنه ليس هاهنا أشياء غير الذات انضمت إليها وقامت بها، فهذا حق. والتحقيق أن صفات الرب جل جلاله داخلة في مسمى اسمه، فليس اسمه الله والرب والإله أسماء لذات مجردة لا صفة لها البتة، فإن الذات وجودها مستحيل، وإنما يفرضها الذهن فرض الممتنعات، ثم يحكم عليها، واسم الله سبحانه والرب والإله اسم لذات لها جميع صفات الكمال ونعوت الجلال، كالعلم والقدرة والحياة والإرادة والكلام والسمع والبصر والبقاء والقدم وسائر الكمال الذي يستحقه لذاته، فصفاته داخلة في مسمى اسمه، فتجريد الصفات عن الذات والذات عن الصفات فرض وخيال ذهني لا حقيقة له، وهي أمر اعتباري لا فائدة فيه، ولا يترتب عليه معرفة ولا إيمان، ولا هو علم في نفسه، وبهذا أجاب السلف الجهمية لما استدلوا على خلق القرآن بقوله الله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} (الرعد: 16) فأجابهم السلف بأن القرآن كلامه، وكلامه صفاته، وصفاته داخلة في مسمى اسمه كعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره ووجهه ويديه فليس " الله " اسمًا لذات لا نعت لها ولا صفة ولا فعل ولا وجه ولا يدين، ذلك إله معدوم مفروض في الأذهان، لا وجود له في الأعيان كإله الجهمية، الذي فرضوه غير خارج عن العالم ولا داخل فيه، ولا متصل فيه ولا منفصل عنه، ولا محايث له ولا مباين، وكإله الفلاسفة الذي فرضوه وجودًا مطلقًا لا يتخصص بصفة ولا نعت، ولا له مشيئة ولا قدرة ولا إرادة ولا كلام، وكإله الاتحادية الذي فرضوه وجودًا ساريًا في الموجدات ظاهرًا فيها هو عين وجودها، وكإله النصارى الذي فرضوه قد اتخذ صاحبة وولدًا، وتدرع بناسوت ولده، واتخذ منه حجابًا، فكل هذه الآلهة مما عملته أيدي أفكارها، وإله العالمين الحق هو الذي دعت إليه الرسل وعرفوه بأسمائه وصفاته وأفعاله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، موصوف بكل كمال، منزه عن كل نقص، لا مثال له ولا شريك ولا ظهير، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3) ، غني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه بذاته. قوله: (وهي تثبت بعلم الجمع، وتصفو في ميدان الفناء) يعني أن هذه المعرفة الخاصة تثبت بعلم الجمع، ولم يقل (بحال الجمع ولا بعينه ولا مقامه) فإن علمه أولاً هو سبب ثبوتها، فإن هذه المعرفة لا تنال إلا بالعلم فهو شرط فيها، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في الجمع عن قريب، فإذا علم العبد انفراد الرب سبحانه بالأزل والبقاء والفعل وعجز من سواه عن القدرة على إيجاد ذرة أو جزء من ذرة، وأنه لا وجود له من نفسه فوجوده ليس له ولا به ولا منه، وتوالي هذا العلم عن القلب لا يُسقط ذكر غيره سبحانه عن البال والذكر، كما سقط غناه وربوبيته وملكه وقدرته، فصار الرب سبحانه وحده هو المعبود والمشهود المذكور، كما كان وحده هو الخالق المالك الغني الموجود بنفسه أزلاً وأبدًا، وأما ما سواه فوجوده وتوابع وجوده عارية ليست له، وكلما فني العبد عن ذكر غيره وشهوده صفت هذه المعرفة في قلبه، فلهذا قال (وتصفو في ميدان الفناء) استعار الشيخ للفناء ميدانًا، وأضافه إليه لاتساع مجاله؛ لأن صاحبه قد انقطع التفاته إلى ضيق الأغيار، وانجذبت روحه وقلبه إلى الواحد القهار، فهي تجول في ميدان أوسع من السماوات والأرض، بعد أن كانت مسجونة في سجون المخلوقات، فإذا استمر له عكوف قلبه على الحق سبحانه، ونظر قلبه إليه كأنه يراه، ورؤية تفرده بالخلق والأمر والنفع والضر والعطاء والمنع استكملت في هذه الدرجة معرفته، واستكملت بهذا البقاء الذي أوصله إليه الفناء، وشارفت عين الجمع بعد علمه، فغاب العارف عن معرفته بمعروفه، وعن ذكره بمذكوره، وعن محبته وإرادته بمراده ومحبوبه فلذلك قال: (ويستكمل بعلم البقاء ويشارف عين [2] الجمع) ولهذه المعرفة ثلاثة أركان [3] أشار إليها الشيخ بقوله: (إرسال الصفات على الشواهد، وإرسال الوسائط على المدارج، وإرسال العبارات على المعالم) شواهد الصفات هي التي يشهد بها ويدل عليها من الكتاب والسنة وشهادة العقل والفطرة وآثار الصنعة، فإذا تمكن العبد في التوحيد علم أن الحق سبحانه هو الذي علمه صفات نفسه بنفسه، لم يعرفها العبد من ذاته ولا بغير تعريف الحق له بما أجراه له سبحانه على قلبه من معرفة تلك الشواهد والانتقال منها إلى شهود [4] المدلول عليه، فهو سبحانه الذي شهد لنفسه في الحقيقة، إذا تلك الشواهد مصدرها منه فشهد لنفسه بما قاله وفعله وجعله شاهدًا لمعرفته فهو الأول والآخر، والعبد آلة محضة ومنفعل ومحل لجريان الشواهد، وآثارها وأحكامها عليه ليس له من الأمر شيء، فهذا معنى إرسال الصفات على الشواهد، فإذا أرسلها عليها تبين له أن الحكم للصفات دون الشواهد، بل الشواهد هي آثار الصفات فهذا وجه. ووجه ثانٍ أيضًا، وهو أن الشواهد بوارق وتجليات تبدو للشاهد، فإذا أرسل الصفات على تلك الشواهد توارى حكم تلك البوارق والتجليات في الصفات، وكان الحكم الصفات، فحينئذ يترقى العبد إلى شهود الذات شهودًا علميًّا عرفانيًّا كما تقدم قوله: (وإرسال الوسائط على المدارج) الوسائط هي الأسباب المتوسطة بين الرب والعبد التي بها تظهر المعرفة وتوابعها، والمدارج هي المنازل والمقامات التي يترقى العبد فيها إلى المقصود، وقد تكون المدارج الطرق التي يسلكها إليه ويدرج فيها، فإرسال الوسائط التي من الرب على المدارج التي هي منازل السير وطرقه توجب كون الحكم لها دون المدارج؛ فيغيب عن شهود المدارج بالوسائط وقد غاب عن شهود الوسائط بالصفات؛ فيترقى حينئذ إلى شهود الذات، وحقيقة الأمر أن يعلم أن الرب سبحانه ما أطلعه على معرفته إلا بشواهد منه سبحانه وبوسائط ليست من العبد، فهو قادر على قبض تلك الشواهد والوسائد، وعلى إجرائها على غيره؛ فإن الأمر كله له وتلك الوسائط لا توجب بنفسها شيئًا قال الله تعالى لرسوله: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} (الإسراء: 86-87) وقال للأمة على لسانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} (الأنعام: 46) وقال تعالى: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ} (يونس: 16) ويعلم العبد أن ما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله من شواهد معرفته والإيمان به هي معالم يهتدي بها عباده إليه، ويعرفون بها كماله وجلاله وعظمته، فإذا تيقنوا صدقه ولم يشكوا فيه، وتفطنوا لآثار أسمائه وصفاته في أنفسهم، وفي سواهم انضم شاهد العقل والفطرة إلى شاهد الوحي والشرع، فانتقلوا حينئذ من الخبر إلى العيان، فالعبارات معالم على الحقائق المطلوبة، والمعالم هي الأمارات التي يعلم بها المطلوب، فإذا أوصل العارف كل معنى مما تقدم ذكره على مقصوده وصرف همته إلى مجريه وناصبه ومصدره، اجتمع همه عليه، وتمكن في معرفة الذات التي لها صفات الكمال ونعوت الجلال، ومقصوده أن يبين في هذه الأركان الثلاثة حال صاحب معرفة الذات، وكيف ترتب الأشياء في نظره ويترقى فيها إلى المقصود. مثال ذلك أن الشواهد أرسلته إلى الصفات بإرسالها عليها فانتقل من مشاهدتها إلى مشاهدة الصفات والوسائط التي كان يراها آية على المدارج انتقل فانتقل منها إلى المدارج ولم يلقها وإنما تعلق بما هي آية له، والعبارات التي كانت عنده ألفاظًا خارجة عن المعبر عنه صارت أمارات توصله إلى الحقيقة المعبر عنها، فبهذه الأركان الثلاثة يصير من أهل معرفة الذات عنده. قوله: (وهذه [5] معرفة الخاصة التي تؤنس من أفق الحقيقة) أي تُدرك وتُحس من ناحية الحقيقة، والإيناس الإدراك والإحساس قال الله تعالى: {فَإِنْْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: 6) ، وقال موسى: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} (القصص: 29) والمقصود أن العارف إذا علق همه بأفق الحقيقة، وأعرض عن الأسباب والوسائط لا إعراض جحود وإنكار بل إعراض اشتغال ونظر إلى عين المقصود أوصله ذلك إلى معرفة الذات الجامعة لصفات الكمال، والله سبحانه وتعالى أعلم. *** فصل قال: (الدرجة الثالثة معرفة مستغرقة في محض التعريف، لا يوصل إليها الاستدلال، ولا يدل عليها شاهد، ولا تستحقها وسيلة، وهي على ثلاثة أركان: مشاهدة القرب [6] والصعود عن العلم، ومطالعة الجمع، وهي معرفة خاصة الخاصة) إنما كانت هذه المعرفة عنده أرفع مما قبلها؛ لأن ما قبلها متعلقة بالوسائط، والشواهد متصلة إلى المطلوب، وهذه متعلقة بعين المقصود فقط، طاوية للوسائط والشواهد، فالوسائط صاعدة عنها إليه، وهي غالبة على حال العارف وشهوده، وقد استغرقت إدراكه لما هو فيه بحيث غاب عن معرفته بمعروفه وعن ذكره بمذكوره، وعن وجوده بموجوده. فقوله: مستغرقة في محض التعريف والمعرفة صفة العبد وفعله، والتعريف فعل الرب وتوفيقه، فاستغرقت صفة العبد في فعل الرب وتعريفه نفسه لعبده وقوله: (لا يوصل إليها بالاستدلال) يريد أن هذه المعرفة في الدرجة الثالثة لا يوصل إليها بسبب؛ فإن الأسباب قد انطوت فيها، والوسائل قد انقطعت دونها، فلا يدل عليها شاهد غيرها، بل هي شاهد نفسها، فشاهدها وجودها ودليلها نفسها , ول

شرف العلم وشمائل العلماء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شرف العلم وشمائل العلماء نبدأ هذا الباب بقصيدة القاضي عبد العزيز الجرجاني الشهيرة في شرف العلم وأخلاق العلماء وشمائلهم قال: يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أَقْضِ حق العلم إن كان كلما ... بَدَا طمَعٌ صيَّرته لي سُلَّما وما زلت منحازًا بعرضي جانباً ... من الذل أَعْتَدُّ الصيانة مغنما إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما أنزّهها عن بعض ما لا يشينها ... مخافة أقوال العِدَا فيمَ أو لِما فأُصبحُ عن عيب اللئيم مُسلَّما ... وقد رحت في نفس الكريم معظما وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت ... أُقلِّب فكري إثره متندما ولكنه إن جاء عفوًا قبلته ... وإن مال لم أتبعه هلا وليتما وأقبض خطوي عن حظوظ كثيرة ... إذا لم أنلها وافر العِرض مكرما وأُكرم نفسي أن أضاحك عابسًا ... وأن أتلقَّى بالمديح مذمما وكم طالبٍ رقّي بنعماه لم يصل ... إليه وإن كان الرئيس المعظما وكم نعمة كانت على الحُرّ نقمة ... وكم مغنم يعتده الحر مغرما ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأُخدما أأشقى به غرسًا وأجنيه ذلة ... إذا فاتِّباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظَّما ولكن أهانوه فهان ودنَّسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من في الأرض أرضاه منعما ولكن إذا ما اضطرني الضر لم أبت ... أقلب فكري منجدًا ثم مُتْهما إلى أن أرى ما لا أغصُّ بذكره ... إذا قلت قد أسدى إليَّ وأنعما ومما يروى عن الإمام الشافعي في معنى هذا الشعر قوله: العلم مِنْ شرطه لمن خدمه ... أن يجعل الناس كلهم خدمه وواجب صونه عليه كما ... يصون في الناس عرضه ودمه فمن حوى العلم ثم أودعه ... بجهله غير أهله ظلمه وكان كالمبتني البناء إذا ... تمّ له ما أراده هدمه المراد من البيت الأول: أن من خدم العلم حق الخدمة ساد الناس، وكان إمامًا وقدوة لهم، وبذلك يجعلهم خدمًا له باختيارهم، وإنما يكون هذا في الأمم الحية التي تعرف قدر العلم وأهله، وكذلك كان المسلمون في عصر الإمام الشافعي، وهو ما نرى مثاله في أمم الإفرنج اليوم على كثرة علمائهم المبرزين، وقد نهى أحد ملوكهم ولده أن يخاطبه بنعت (الجلالة) في حضرة شاعر الفرنسيس المفلق (فيكتور هيجو) . والمراد من صون العلم في البيت الثاني المفسر في البيت الثالث أن إيداعه غير أهله هو أن تصان العلوم الكمالية التي هي فروض كفاية عن السفهاء فاسدي الأخلاق، فلا يلقن هؤلاء إلا ما يجب عليهم شرعًا لأداء عباداتهم وتصحيح معاملاتهم، ثم يصرفون إلى الأعمال اللائقة بهم؛ لأنهم إذا لُقِّنوا العلوم العالية يتخذونها ذرائع لمفاسدهم، ويضلون الناس بحيلهم وسوء سيرتهم، كما نرى مثاله في رعاع الناس الذين يتعلمون ولا يتهذبون، ثم يصيرون حكامًا أو معلمين. وللإمام شعر آخر في هذا المعنى رواه السبكي في طبقات الشافعية بسنده إلى أبي عمر العثماني قال: لما دخل الشافعي إلى مصر كلمه أصحاب مالك فأنشأ يقول: أأنثر دُرًّا بين راعية الغنم ... وأنثر منظومًا لراعية النعم لئن كنت قد ضُيِّعت في شر بلدة ... فلست مضيعًا بينهم غرر الكلم فإن فرّج الله الكريم بلطفه ... وأدركت أهلاً للعلوم وللحِكم بثثت مفيدًا واستفدت ودادهم ... وإلا فمخزون لدي ومكتتم ومن منح الجهال علمًا أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم وروى السبكي بسند آخر بيتين عن الشافعي ذكر لهما سببًا يدل على قدم التعصب لهؤلاء الأئمة، فقد نقل عن الحافظ ابن منده أن الربيع قال رأيت أشهب بن عبد العزيز ساجدًا وهو يقول في سجوده: اللهم أمت الشافعي، وإلا يذهب علم مالك، فبلغ الشافعي ذلك فتبسم وأنشأ يقول: تمنى رجال أن أموت فإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيّأ لأخرى غيرها فكأن قد ومما روي عنه من الشعر، عند إرادة الهجرة إلى مصر، قوله: لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها أرض المهامه والقفر فوالله ما أدري أَلِلْفَوْز والغنى ... أُساق إليها أم أُساق إلى قبري ومن شعره الذي يذكر في السفر ولوازمه ما روي عن صاحبه المزني قال: قدم الشافعي بعض قدماته من مكة فخرج إخوان له يتلقونه، وإذا هو قد نزل منزلاً وإلى جانبه رجل جالس، وفي حجره عود، فلما فرغوا من السلام عليه قالوا له: يا أبا عبد الله أنت في مثل هذا المكان؟ فأنشأ يقول: وأنزلني طول النوى دار غربة ... يجاورني من ليس مثلي يشاكله فحامقته حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله ويروى أحامقه مكان فحامقته، ومعنى حامقته ساعدته على حمقه كما قال الجوهري , وابن منظور، وأما عاقله فمعناه غالبه في العقل، فيفهم من البيت أن الإمام كان يجاري رفيقه العوّاد في هوسه بضرب العود، ولا يتأتى هذا إلا إذا كان يرى إباحته. أكثر شعر الإمام الشافعي في الحِكم والأخلاق، وروي عن أبي يعقوب البويطي أنه قال له: قلت للشافعي: قد قلت في الزهد فهل لك في الغزل شيء؟ فأنشدني: يا كاحل العين بعد النوم بالسهر ... ما كان كحلك بالمنعوت للبصر لو أن عيني إليك الدهرَ ناظرةٌ ... جاءت وفاتي ولم أشبع من النظر سقيًا لدهر مضَى ما كان أطيبه ... لولا التفرق والتنغيص بالسهر إن الرسول الذي يأتي بلا عِدَة ... مثل السحاب الذي يأتي بلا مطر ومن كلامه في الشكوى من الأغنياء الأغبياء البخلاء: وأنطقت الدراهم بعد صمت ... أناسًا بعد أن كانوا سكوتا فما عطفوا على أحد بفضل ... ولا عرفوا لمكرمة بيوتا وجدير بهذا القول من عبر عن حاله بعد إنفاق جميع ماله بهذين البيتين: يا لهف نفسي على مال أجود به ... على المقلين من أهل المروءات إن اعتذاري لمن قد جاء يسألني ... ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات وقال في الصداقة: صديق ليس ينفع يوم بأس ... قريب من عدو في القياس وما يبغي الصديق بكل عصر ... ولا الإخوان إلا للتأسي عمرت الدهر ملتمسًا بجهدي ... أخا ثقة فأكداه التماسي تنكرت البلاد عليّ حتى ... كأن أناسها ليسوا بناس وقال في مثل ذلك: ليت الكلاب لنا كانت مجاورة ... وأننا لا نرى ممن نرى أحدا إن الكلاب لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهادٍ شرهم أبدا فانْجُ نفسك واستأنس بوحدتها ... تلفى سعيدًا إذا ما كنت منفردا

حال المسلمين اليوم وجماعة الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حال المسلمين اليوم وجماعة الدعوة والإرشاد حضرة السيد الإمام العالم البصير والمصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا. السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فقد طرق سمعي ما وصلت إليه حال جمعية الدعوة والإرشاد ومدرستها من الضعف بسبب نفاد المال القليل الذي جُمع لها وبُخْل المسلمين؛ فأثَّر ذلك في قلبي تأثيرًا محزنًا لقعودنا عن العمل في الوقت الذي نهضت فيه أمم العالم قاطبة، وحيث إن حبل رجائي مع ذلك لم ينقطع من ترك المسلمين لهذه الغفلة وهذا الجمود اللذين أحرجا مركزهم أشد الحرج في الهيئة الاجتماعية - رأيت أن أبعث إليكم بهذه الكلمة راجيًا نشرها في مجلتكم المنيرة قيامًا بالنصيحة الواجبة على كل مسلم، وتذكرة للمستعدين {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) : أتى على المسلمين حين من الدهر كانوا فيه أعزاء ترفرف فوقهم أجنحة الأمن والسعادة، وكانوا خيرًا على أنفسهم وعلى البشر بما وضعوا من النظام القويم، والقوانين العادلة، وبما كانوا يقومون به من الأعمال النافعة لأنفسهم وللناس، ولا عجب فقد كانوا في ذلك متبعين أوامر دينهم الحنيف؛ فلما انحرفوا عنها - كما هو حالهم الآن - شقوا وصاروا شرًّا وبلاء على أنفسهم وعلى البشر، وأصبحوا عالة على الأمم الأخرى في جميع مقومات الحياة، وعبرة لمن يعتبر. على أن أعظم ما تركه المسلمون من هداية دينهم، وكان له الأثر السيئ في عامة شئونهم هو فريضتا (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، و (الدعوة إلى الدين) ، فقد أدى إغفال الفرض الأول إلى انتشار المنكرات والفجور بالتدريج بين المسلمين كافة، وفشو الجهل فيهم بأقبح أشكاله، وأنْ صار الدين غريبًا عن كل أعمالهم، وهذه الأعمال أثرت فيهم أعظم تأثير بالمواظبة عليها، وعدم وجود من يقاومها أو ينكرها، فأَلِفَتْها نفوسهم واستأنست بها، فكانت ملكات وتقاليد وعادات، ولم يقف الشر عند هذا الحد بل بالغ المسلمون في الأمر فالتمس بعضهم نصوصًا من الشرع يستبيحون بها ما أحدثوا في الدين؛ فلما أعياهم ذلك تأولوا كتاب الله وسنة ورسوله بغير ما يؤديان إليه، وطبقوا بعض محدثاتهم عليهما موهمين أنفسهم والناس أنها من الدين وما هي من الدين، وإن هم إلا يكذبون. وكان من عاقبة إهمالهم الفرض الثاني انتشار الأكاذيب عن الدين الإسلامي وتشويه أعدائه لسمعته، وقلبهم لحقيقته، حتى خفيت هذه الحقيقة عن مريديه أو المستعدين لقبوله، وقد فطنت لفوائد الدعوة إلى الدين الأمم المسيحية العظيمة الحية؛ فتألفت عندهم الجمعيات ذات رؤوس الأموال الضخمة التي أوفدت رجال الدين إلى مشارق الأرض ومغاربها وزودتهم بالمال الوفير، وعضدتهم بنفوذها؛ فنجحت أعمالهم في نشر الدين المسيحي حتى بين المسلمين. ألا إن البلاء الذي نزل بالمسلمين لعظيم , وما ينتظرهم منه إن لم يفيقوا من غفلتهم أعظم، وقد صاروا الآن أمام أحد أمرين: إما العمل العاجل السريع، وإما الهلاك الأكيد والسقوط المريع، ولا مخرج من هذا البلاء إلا بالإقلاع عن هذه الخطة الذميمة الضارة، والعمل بقواعد الدين الإسلامي الذي نعتقد أن فيه فلاحنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة، وإن أعظم ما ينبغي البدء به منها إنما هو قيامنا بهذين الفرضين العظيمين (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى ديننا القويم) ولكن لذلك وسائط لابد من إعدادها وتوفيرها في الأمة، إذ إنه لا يستطيع القيام بذلك الواجب إلا أناسي يتخصصون له من أفراد المسلمين، يكونون واسعي الاطلاع بعلوم الدين، واقفين على حقائقه، ملمين بطرف من العلوم الاجتماعية والعصرية على قدر حاجتهم منها؛ كي يمكنهم تقريب ما يريدون من أذهان مخاطبيهم على اختلاف درجاتهم في العلم والاستعداد وتباينهم في الأخلاق والعادات، ولما كان أمثال هؤلاء لا وجود لهم الآن في الأمة الإسلامية أو ما يوجد منهم ليس بالعدد الكافي - قضت الضرورة بإعداد هؤلاء الهداة إعدادًا وإنشائهم إنشاء، وهذا ما فكر فهي أستاذنا زاده الله توفيقًا فاقترح تأسيس جمعية (جماعة الدعوة والإرشاد) ومدرستها الجليلة، وبذلك وصف الدواء لداء الأمة الدفين الذي كاد يودي بحياتها. إن مهمة تعليم فئة من المسلمين ذلك التعليم الخاص، وتربيته تلك التربية الدينية المحضة بين زوابع الفساد التي اكتسحت البلاد لَمِنْ الأعمال التي تتطلب كفاءة عظيمة، واستعدادًا خاصًّا - ولكن الأستاذ الذي لا ينثني له عزم أخذ على عاتقه القيام بإنفاذ المشروع، وحق للمسلمين أن يفرحوا ويتهللوا وقد جاءهم الطبيب الماهر، ولكن ماذا حصل؟ نشر المقترح دعوته بين المسلمين في أنحاء المعمورة كافة، فلبتها طائفةٌ كلٌّ على قدر استعداده وقبوله للمشروع، فكان المال الذي جمع كان قليلاً جدًّا لا يفي بجزء مما يلزم لهذا العمل العظيم، وانقبضت أيدي سائر المسلمين. وأما الأستاذ فقد بسط يده للعمل على قلة وسائله؛ فوُلد المشروع، وقرت برؤيته عيون المخلصين؛ ولكن ذلك المولود ككل مولود حي يحتاج إلى عناية وغذاء كي ينمو ويشتد، غير أن ضنّ المسلمين بالمال كان سببًا في سريان الضعف إليه حتى أشرف على الاضمحلال والعياذ بالله تعالى. ولا يفوتني في هذا المقام ملاحظة التفاوت العظيم في إقبال الشعوب الإسلامية على المشروع، فمع أن المكان الذي اُختير ليكون مقرًّا للجمعية ومدرستها هو مصر فإن قومي المصريين لقلة ما ساعدوا كانوا كأنهم غير مقصودين بالدعوة، حتى أنه ليصح أن يقال مع الخجل العظيم إن الجمعية أسست والمدرسة أنشئت من أموال غيرهم. فأنتم يا مسلمي مصر بوجه خاص أعنيكم بالمقال، إنه غير خليق بكم أن تقفوا ساكنين أمام أعظم مشروع إسلامي، وهو قد أنشئ بينكم واحتمى بجواركم ولكم ثماره وشرفه قبل غيركم، إن اضمحلال هذا العمل - لا قدر الله - يسيء سمعة المصريين كثيرًا، كما أن نجاحه يشرفهم ويرفع قدرهم، ففي هذه الأزمة الكبرى التي يجتازها العالم أجمع، وتدوس فيها الأمم الكبيرة بأقدامها ظهور الأمم الصغيرة أو الضعيفة، ينبغي للشعب المصري الكريم الذي آتاه الله من الاستطاعة على خدمة دينه ما لم يؤت غيره أن يقوم بالعمل الذي ينتظره منه العالم الإسلامي الذي يعده في مقام الإمام المرشد، وهو تعضيد هذا المشروع الذي إذا قوي وعاش سيكون - بإذن الله تعالى - ينبوع حياة للإسلام والمسلمين وأساسًا لسعادتهم المستقبلة. إن المصريين يستطيعون أن يحرزوا هذا الفخر الخالد بالتبرع بشيء من مالهم لا يضرهم إنفاقه، ولا يغنيهم إمساكه، إن المشروع ضروري حيوي ونجاحه يدل على حياة كامنة في جسم الأمة الإسلامية طالما أنكرها عليها محتقروها وحاسدوها، كما أن موته - لا قدر الله - يشمت فينا أعداءنا، ويجعلنا عرضة لهزأ العالم أجمع وسخريته، تقوم الأمم الحية كل يوم بالأعمال العظام والمشروعات الكبرى لأغراض ثانوية أو كمالية، ونجد الأموال تتدفق على القائمين بها من جيوب أهل الغيرة من أهلها، فلا يمضي وقت قصير حتى تُوضع لها أسس وطيدة ودعائم ثابتة، ويجني القريب والبعيد من أفراد الأمة ثمارها، وهذا مشروع واحد أساسي لحفظ حياتنا الدينية والمدنية، وسلاح لدرء الخطر الذي يتهدد كيان الملة الإسلامية، ونور لمحو الظلمة التي خيمت على العقول والقلوب، ورحمة لمنع ما حل بنا من الشقاء والخطوب، فهل يموت رضيعًا وفي جيوبنا درهم؟ وهل نستطيع بعده أن ندعي المروءة والشمم؟ {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (التغابن: 15) . أي قوم، إن المشروع كبير ولا يقوم به إلا أعظم الرجال استعدادًا، وأبعدهم همة، ومثل هؤلاء قليل ظهورهم في الأمة، وإن الأستاذ صاحب الاقتراح بما هو عليه من التقوى والصلاح، وما امتاز به من العلوم الشرعية، وما كسبه من المعلومات الثمينة والاختبار العظيم بسياحاته العديدة في بلاد المسلمين، وما وهبه الله من الاستعداد الفطري النادر المثال، لا ريب أنه أقدر الناس على تنفيذه على الوجه الأكمل، ووضع أسسه الكفيلة ببقائه حتى يستطيع من يخلفه فيه أن يتبع خطواته بغير عناء. إن الرجل ثالث ثلاثة نوابغ لم يوجد لهم نظير من عدة قرون، وقد شهد الأستاذ الإمام بكفاءته وجعله موضع رجائه، فعلى المسلمين كافة والمصريين خاصة أن يستدركوا ما فاتهم من الانتفاع بمواهب سلفيه (جمال الدين) و (محمد عبده) بأن لا يضيعوا الفرصة السانحة الآن، إنكم إن أضعتموها يخشى أن لا تعود قبل عدة قرون. أقول وقولي هو الحق، إنه لو علم المسلمون حق العلم بقدر رجلهم الذي ضحى أمواله وحياته ونفسه في سبيل مصلحتهم، لفدوه بالأولاد قبل الأموال، وبالأنفس قبل الأولاد، لا مراء في أن الأمة الإسلامية أشد الأمم تأخرًا في مضمار الحياتين الدينية والمدنية، وهي لذلك أشدهم افتقارًا للعمل، فإن كنتم أيها المسلمون لا تعملون الآن فمتى تعملون، وإن لم يعجبكم مشروع إمامكم الرشيد، فماذا أنتم من وسائط الحياة والعمل النافع تعدون، وإن كنتم مقتنعين بصلاحية المشروع فمن ذا الذي يقدر على تنفيذه كما ينبغي من بعده أفلا تذكرون؟ أيها المسلمون إن الله غني عني وعنكم وعن العالمين، ولا يتوقف نصر حق على مساعدتنا، فالله يختار لنصرة دينه من يشاء، فإن لم نكن من الموفقين، فيوشك أن يخرج الأمر من أيدينا ويوكل الله به قومًا آخرين، والله غيور على دينه وحافظ له من الزوال، ولا بد أن يتم نوره ولو كره الكافرون، فظهور الدين محقق فإن لم يكن على أيدينا فسيكون على أيدي غيرنا {هَا أَنتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الغَنِيُّ وَأَنتُمُ الفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) ، {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} (إبراهيم: 19-20) فمن ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا يضاعف له القدر؟ ومن يسارع إلى جنة عرضها السماوات والأرض؟ هذا أوان العمل فاعملوا أيها المسلمون، وهاكم طريق النجاح فاسلكوه لعلكم تهتدون 0 يا قوم: أنذرتكم ونصحت لكم وأنا منكم، واقع في التقصير مثلكم، وأنا أدعوكم وأدعو نفسي قبلكم، بالتبرع بما نقدر عليه من مالي ومالكم، لا يستقل مقل عطاء وإن قلَّ، ولا يستكثر مكثر ما يستطيع أن يبذل، وها أنا ذا أخطو الخطوة الأولى في هذه الكَرَّة الثانية، فأدفع على قلة ثروتي خمسة عشر جنيهًا مصريًّا أبغيها ذخرًا عند من خلقني ولم أكن شيئًا، فأقبِلُوا على تجارة لن تبور، وهلموا إلى التبرع بالقليل والكثير، وانظروا إلى ما نحن فيه من المحنة، وادرؤوا السيئة بالحسنة، وأحرزوا بالقيام بتنفيذ المشروع شرفًا تحفظه لكم الأجيال المقبلة، فلا يضيع، ويكون لكم عند الله خير شفيع يوم يقوم الناس وتحشر الجموع 0 هذا وإنصافًا لمجلة المنار الإسلامية، وتقديرًا لخدمتها في سبيل الغرض المقصود للجمعية، أدفع اشتراك خمس سنين سلفًا، وأتبرع باشتراك سنة لمن يبرز في إنشاء أحسن مقالة في أحسن خدمة إصلاحية لخدمة الإسلام والمسلمين، فسدِّدْ اللهم أعمالنا، وأنِر لنا سبيلنا، آمين 0

خاتمة السنة الثامنة عشرة للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة الثامنة عشرة للمنار وحاله في السنة الجديدة بحمد الله نختتم السنة الثامنة عشرة للمنار، كما افتتحناها بحمده وهو الذي يحمد في السراء والضراء وحين البأس، فله الحمد والشكر، والثناء الحسن عودًا على بدء، فقد لطف بنا هذه في العسرة العامة، ورحمنا في هذه الفتنة الطامة، التي لم تصب الذين ظلموا منا خاصة، وغاية ما أصاب إدارة المنار ومطبعتها من تأثير هذه الحرب أن قل دخلها، وفقدت أكثر أصناف الورق بضعة أشهر لقلة الوارد من أوربة، ومضاعفة ثمنه أضعافًا، حتى أن هذه الجزء من المنار بدئ بطبعه في أواخر شهر ذي الحجة سنة 1333، وطُبع بعضه في ربيع الآخر، والكراسان الأخيران منه في شهر رجب سنة 1334. ونحن قد كنا ابتعنا أول سنة 1333 ورقًا يزيد عن حاجة المنار فيها بعد أن أمرنا المطبعة بأن تنقص ألف نسخة مما كان يطبع منه في مقابلة انقطاعه عن الممالك العثمانية وبعض البلاد التي تعذر إيصاله إليها، ثم علمنا في أواخر السنة أن الورق قد نفد؛ لأن الأمر بإنقاص المطبوع ما نفذ، وما ذاك إلا ذهول ونسيان، وما قُدِّر كان، فعهدنا إلى من يجلب لنا الورق من أوربة بطلب طائفة منه، فلم يصل إلينا بعض ما طلبنا إلا بعد بضعة أشهر، وهو لا يكفي لإصدار عشرة أجزاء من المنار، وإن نقصنا من المطبوع ألف عدد أو أكثر. فنحن مضطرون لقلة الورق، وخشية انقطاع وروده كما يتوقع تجار الجلب أن نجعل كل جزء ثمانية كراريس (ملازم) فإذا يسر الله لنا ورقًا نُتِمُّ السنة اثني عشر شهرًا؛ فيكون المجلد التاسع عشر كالثامن عشر، وإلا جعلناها عشرة أشهر فقط، على أن ورقها أغلى ثمنًا من ورق المجلدات الكاملة. هذا وإن قراء المنار في مصر يعلمون أن دخله قد انقطع من عدة ممالك تعذر إرساله إليها في زمن الحرب، فلم يبق له مورد يعتد به إلا منهم، ويعلمون أيضًا أن النفقات قد زادت، وأن كل شيء صار يُشترى بالنقد، فنرجو من مروءتهم العالية أن يتفضلوا بأداء ما عليهم من قيمة الاشتراك؛ فيكون جل الفضل لهم باستمرار هذه الخدمة للإسلام والإنسان، وقد دفعتنا هذه الحاجة إلى تذكير من لم يدفعوا للمنار شيئًا مما عليهم منذ عشر سنين أو أقل أو أكثر، فمنهم من بادر إلى أداء جميع ما عليه، ومنهم من جعله أقساطًا، ومنهم من مطل ولوى، ومن أعرض بجانبه ونأى، وسنبين أحوال هؤلاء في المقالة التي وعدنا بها في تعليقنا على الرسالة المنشورة قبل هذه الخاتمة. ولم يرد علينا في هذه السنة نقد على المنار، ولا نزال نطالب القراء بأن يتعاهدونا بالنصيحة، والحمد لله أولاً وآخرًا.

فاتحة السنة التاسعة عشرة للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة التاسعة عشرة للمنار بسم الله الرحمن الرحيم سبحانك اللهم وبحمدك أنت المحمود على كل حال، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، قوي المِحال عظيم النوال، تعطي من تشاء ولو بغير سؤال، وتحوّل ما شئت من حال إلى حال، قوة بعد ضعف، وغنى بعد فقر، وعز بعد ذل وكل ضد يعقبه ضد، فما رفع الله شيئًا إلا وضعه، ولا وضع شيئًا إلا رفعه، وكل شيء عنده بمقدار {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) . نحمدك اللهم بالغدوّ والآصال، ونصلي ونسلم على محمد خاتم رسلك وآله وصحبه خير صحب وآل، وعلى من تقدمه وتقدمهم من النبيين والمرسلين، ومن تأخر عنهم من الصديقين والشهداء والصالحين، واهدنا اللهم صراطهم المستقيم في الدنيا من الأخلاق والأعمال، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ} (إبراهيم: 31) . أما بعد: فإن المنار يذكر قُراءه على رأس عامه التاسع عشر، بأن يعتبروا بما نزل بأقوى أمم البشر، من آثار عزته تعالى وقوته، ومظاهر عدله وحكمته، الدالة على أنه هو الذي يغير ولا يتغير، ويبدل ما شاء بما شاء ولا يتبدل وأن الأمن من مكره غرور ووبال، والقنوط من رحمته كفر وضلال، وأن القوة لا تغلب الحق، ولكنه قد تكون بالحق وللحق ومن الحق، وأن الحق ليس بمجرد دعوى اللسان، ولا مجرد ما يجري عليه الناس من عرف واصطلاح، فحقق الملك وسياسة العباد، لا يجب أن يورث عن الآباء والأجداد، وإنما أحق الناس بأمر الناس، من كان أنفعهم للناس، وإقامة سنن الله تعالى في الاجتماع {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَال} (الرعد: 17) . ثم يذكرهم على عادته بما طرأ على سير الإصلاح، بعد أن خفتت أصوات المعارضة في جميع الأقطار، وهو شيء حدث في هذه الديار، ذلك بأن فيها كغيرها أناسًا اغتروا بمظاهر القوة المادية، فاحتقروا قوى العقائد والفضائل الروحية، وفتنوا بتقليد الأقوياء بما هو من آفات القوة ومفاسدها، لا من أسبابها ولا من محامدها، كالسرف في الزينة والترف، والانغماس في الشهوات واللذات، وأعجب أمرهم أن منهم من يدعون الدعوى إلى الإصلاح، والصعود بالضعفاء إلى مستوى الأقوياء، أولئك هم الملاحدة المتفرنجون، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وإنما حجتهم على عامة المسلمين، سوء حال كثير من المعممين، وتذللهم للأمراء والحاكمين، وذمهم بعصبية الدين، وإن لهؤلاء الملاحدة لقوة من غيرهم لا من أنفسهم ولكنهم يعتزون بها، وإن منهم من يكيد للمؤمنين مكايد لا يفطنون لها، وإن للمؤمنين لقوة ذاتية ولكنهم غافلون عنها، وإنما بقاء الباطل في غفلة الحق عنه، فإذا قذف عليه دمغه، وإن بقاء الباطل لإلى زوال {وَمَا كَيْدُ الكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} (غافر: 25) . قد كان ملاحدة قطرنا هذا أجبن ملاحدة المسلمين وأخوفهم من إظهار الكفر، على كونهم أجرأهم على الجهر بالفسق، ثم تجرأ أفراد منهم منذ سنين على التصريح به أو ببعض لوازمه في الجرائد، بعد طول العهد على تصريح الكثيرين بذلك في المجالس، ومنهم من ألف كتبًا أو رسائل في ذلك؛ ثم بلغنا في العام الماضي أنهم ألفوا جمعية لأجل التعاون على تشكيك الناس في الإسلام وجذبهم إلى الإلحاد، والطعن في عقائد الدين وآدابه وأحكامه ولا سيما الآداب والأحكام الخاصة بالنساء. وأنشئوا لهم صحيفة لدسّ الدسائس، وبث الوساوس، وتوجيه العناية فيها إلى نابتة المدارس، وبناء دعوتهم على قاعدة التشويه للقديم والصد عنه، والتنويه بالجديد والترغيب فيه، وإن لهم لأنصارًا في القصور والدواوين، وفي المدارس وأكبر معاهد الدين، وقد استفادوا من تقييد حرية المطبوعات بسبب الحرب، ما كفوا به أقلام من تصدّى لإحباط بعض دسائسهم من أهل الحق، وإنهم ليختلبون ألباب المختبلين من الشبان والشابات، بما ينمقون من زخرف الشبهات {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: 204-205) . فبهذا قد وجب على أهل الإصلاح أخذ الأهبة لجهاد جديد، هو أشد من جهاد أصحاب الخرافات والتقاليد، فإن أصحاب الخرافات عزل وهؤلاء الملاحدة مسلحون، وأولئك ضعفاء متفرقون، وهؤلاء أقوياء مجتمعون، وأولئك غافلون متواكلون، وهؤلاء أيقاظ حذرون، فإذا جاهد أهل الإصلاح أباطيلهم بمثل ما يجاهدون به الحق، من الاجتماع والتعاون والحزم، كانوا حزب الله الغالبين {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) , {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر: 51-52) . إن هؤلاء الملاحدة لا يخافون من الأزهر وما يَتْبعه من المعاهد الدينية ما داموا يدّعون الإسلام بألسنتهم، بل لا يعدمون هنالك أولياء وأنصارًا لهم، لما بين نفاق الاعتقاد ونفاق الأعمال، من رابطة التناسب والاتصال، ويقال: إن لجمعية الإلحاد الجديدة ركنًا في الأزهر ركينًا، وإنهم بذلك أوشكوا أن يحدثوا فيه حدثًا مبينًا ولكنهم لم يصيبوا به إلا خذلانًا وفشلاً مهينًا، ولأن كلاً منهما يؤثر المنافع الخاصة ويتوسل إليها بما في يده من المصالح العامة؛ ولأن أكثر الأزهريين، لا يعنون بالنظر في مكتوبات المتفرنجين، وما كل من ينظر فيها، يفهم المراد منها، وما كل من يفهم أن فيها طعنًا على الدين يهتم بالدفاع عنه، وما كل من يهتم منهم بذلك يقدر عليه، وما كل من يقدر عليه يقوم به. لأجل ذلك كله لا يحسب هؤلاء الملاحدة للأزهريين حسابًا، وقد يكذّب الأزهر ظنهم فيه كِذابًا، وإنما يخافون من رجال الإصلاح سواء كانوا من الأزهر أو من غير الأزهر؛ لأنهم أقدر الناس على إظهار عوارهم، وتقليم أظفارهم، ولأن كل ما يزعمونه ويتقربون به إلى الأمة من السعي إلى ترقيتها وتمدينها، قد سبقهم إليه طلاب الإصلاح الإسلامي مع المحافظة على مقوّمات الأمة ومشخصاتها، وإنما أركانها الدين واللغة والعادات والأزياء، وهم يحاولون هدم ذلك كله بلا استثناء. واضرب لهم مثلاً ما قاله أحد الظرفاء مفاكها للأستاذ الإمام - وهو في مرض موته - قال: إن طريقتك في تفسير القرآن قد أضرت الأمة أعظم الضرر! قال الأستاذ لماذا؟ قال: لأنها أبانت للناس أن الدين موافق للعقل والعلم وركن من أركان المدنية، فتعذر علينا ما كنا نحاول من هدمه بدعوى أنه عقبة في سبيل ترقينا في دنيانا. فمن هذه الجملة التي عبر قائلها عن خدمة الأستاذ الإمام العليا للدين وللمسلمين، ينجلي لنا رأي هؤلاء الملاحدة في الإصلاح والمصلحين {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27) . من أجل هذا كانت مدرسة الدعوة والإرشاد قذًى في أعينهم، وشجًى في حلوقهم، وطخًا على قلوبهم، وما زالوا يكيدون لها، حتى حالوا دون أعظم إعانة كانت تنتظرها، وقد كان أشدهم سعيًا وسعاية، أشدهم استهزاء بالدين وزراية، ذلك الذي كلما عنّ مطعن يلوي عنقه ويهز أكتافه، ويُنغض رأسه ويثني أعطافه، ويتبسم ساخرًا، أو يُغرب ضاحكًا - ذلك الذي يعلم رئيسه الآن، أنه يأكل لحم الخنزير جهرًا في نهار رمضان، ولو زدنا في وصفه لعرفه كثير من الناس، وإنما الغرض بيان الصفات والأعمال، وعلى هذه الشاكلة كل أولئك الصّلال، الذين لم يرضوا بسكوت المسلمين لهم على الضلال، حتى تصدوا للعدوان والصيال، {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبَالُ} (إبراهيم: 46) . فهم على ما هم، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} (محمد: 30) وفيما يوجهون إليه القوة والحول، فمنهم من يحاول هدم الإسلام، بالدعوة إلى استبدال لغة العوام بلغة القرآن، ومنهم من يبتغي التشكيك فيه بنشر آراء الماديين، من القدماء والأوربيين، ومنهم من يصد عن مَحَجَّته، بتفضيل ما عرفوا من القوانين على ما جهلوا من شريعته، ومنهم من ينفر عما حُرِمَه من آدابه الروحية والاجتماعية، تلذذا بما حرَّمه من الشهوات الضارة والعادات البهيمية، ومنهم من هم أقصر من هؤلاء نظرًا، وأظلم بصيرة وأفسد ذوقًا، وهم الذين يحتقرون مشخصات أمتهم (كالجبة والعمامة) ويهزءون بها، ويرغبون في الاستعاضة بالأزياء الغربية عنها، ويتوهمون أنهم قد عرجوا بذلك إلى مستوى من فلسفة الذوق والجمال، لا يعرفه إلا من حلق في جو الخيال إلى أوج الكمال، كمخترعات الأزياء الجديدة (المُودَه) من ربات الغنج والدلال، ولو عقلوا ما تجره هذه الفلسفة النسائية أو الصبيانية من الخزي والنكال، أو قرءوا وفهموا ما قاله الدكتور سنوك الهولندي في خطبته في مستقبل الإسلام، لودوا لو كانوا من ربات الحِجال، راجعين عن مذهب السفور ومخالطة نسائهم للرجال، وإنما يلوذ هؤلاء وأولئك بخلابة المقال {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (البقرة: 212) . وجملة القول أننا بعد أن فرحنا بنصر الله - تعالى - لحزب الإصلاح على المبتدعة والدجالين , قد ابتلينا بتكوين حزب للملاحدة المارقين، يواليه أفراد من أغرار الشبان وكهول المنافقين، فإذا ترك هؤلاء وشأنهم، وسكت لهم أهل الحق على ما ينفثون من سموم أباطيلهم تعظم جرأتهم، وتنتشر دعوتهم، وتكبر فتنهم، وليس الاستظهار عليهم بالأمر العسير، فإن حجتهم داحضة، وغواياتهم متناقضة، وغاياتهم متعارضة، يخافون الردة الصريحة، أن تحرمهم احترام الأمة وبعض مناصب الحكومة، فالجريء منهم على التصريح بالكفر على رءوس الأشهاد قليل، وإنما يصرحون غالبًا بما يظنون أنه يحتمل التأويل، كزعمهم أن النبي عليه الصلاة والسلام، أقرَّ العرب على بعض عباداتهم الوثنية؛ لأجل استمالتهم كما فعل بعض البابوات، وهذان من أقبح البهتان، فإن ما أقره الإسلام من مناسك الحج كان من شريعة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، فهو الذي بنى بمساعدة ولده إسماعيل البيت العتيق، وطهره للطائفين

السنة وصحتها والشريعة ومتانتها ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السنة وصحتها والشريعة ومتانتها رد على دعاة النصرانية بمصر تمهيد: في بيان حالنا مع المبشرين: لا يزال دعاة النصرانية (المبشرون) يطعنون على الإسلام بما ينشرون من الرسائل والمقالات، وإنني أتعمد ترك قراءة ما يصل إلي من مجلاتهم ورسائلهم حتى لا أفتح على نفسي باب الرد عليهم، إذ رد الشبهات الموجهة إلى الإسلام إنما يجب على من علمه وجوبًا كفائيًا، وقد كنت أكره الرد عليهم لولا ذلك، وإن كانوا يظنون أنه من مقاصد المنار ومشروع الدعوة والإرشاد الذي أكبروا أمره، على أنه لم ينلهم منه أذًى بقول ولا فعل، وجميع الطلبة في دار الدعوة والإرشاد من قسم المرشدين الذين يعدون لإرشاد العوام لمقاومة الشرور والمعاصي الفاشية فيهم، فقد كثرت في هذه البلاد جناياتهم في الأنفس والأموال والزروع، وفشا فيهم السكر والقمار والفحش. نعم: إن من مقاصد المنار، رد الشبهات عن الإسلام مقاومة للشك والتشكيك فيه، وإنما أكره الجدل، وأكره تعمد مناقشتهم أو فتح بابها عليّ؛ لأنهم هم الذين يتعرضون لها وينتفعون بها، وما أكثرت من محاجة أهل الكتاب في سنتي المنار الأخيرتين إلا في التفسير؛ إذ اتفق بلوغي فيه إلى سورتي النساء والمائدة المدنيتين، وأكثر ما في القرآن من محاجة أهل الكتاب في هاتين السورتين وأقله فيما قبلهما. على أن فيه أيضًا ما أوجبه الإسلام من إنصافهم والعدل فيهم، وبيان مودة النصارى منهم. وقد انتهينا من ذلك، ووصلنا إلى تفسير السور المكية التي خوطب بها المشركون وقلما يذكر فيها أهل الكتاب إلا في سياق بيان سنة الله تعالى في الرسل وأممهم. لهذا كنا نظن أن باب محاجة أهل الكتاب يكون مقفلاً في المنار إلى ما شاء الله، ولكن مجلة المبشرين العربية (الشرق والغرب) نشرت في العدد الذي صدر منها في أول الشهر الماضي (أبريل) مقالة عنوانها (السنة وصحتها) طعنت فيها على السنة النبوية، وزعمت أن طعنها يوجب الريب في الشريعة، وترك العمل بها، وأنها لا قيمة لها في نفسها، وقد جاءتنا المجلة فلم نفتحها، ثم علمنا بتلك المقالة فلم نقرأها، ثم رأينا لهذه المقالة تأثيرًا سيئًا في المسلمين حتى إن منهم من نقلها عن المجلة وطبع كثيرًا من نسخها بمطبعة الجلاتين، ووزعت على الناس، ووصلت إلينا نسخة منها، واقترح علينا كثيرون أن نرد عليها فوجب شرعًا إجابة طلبهم. ومما أكد وجوب الرد ما رأيناه في المقالة من مطالبة ثلاث مئة مليون من أهل السّنّة بالجواب عنها! فلا ندع لهم مجالاً أن يقولوا للمسلمين: إنه لم يستطع أحد من علمائكم أن يدافع عن سننكم وشريعتكم، ولا يرد شيئًا من حججنا عليها! فها نحن أولاء نرد عليهم ردًّا يعلمون ويعلم الناس به أنهم لم يتحروا الأمانة فيما نقلوا من كتبنا، ولم يفهموا ما قرءوا منها وما نقلوا عنها، وأن طعنهم في أبي هريرة - رضي الله عنه - خطأ، وأنه لو صح لم يترتب عليه بطلان الثقة بالسنة، ولا ما رتبوه على ذلك من عدم وجوب طاعة الشريعة، وإنما قصاراه أنهم افتحروا دعاوى نسبوها إلى الإسلام، وردوا عليها بما لا يصلح أن يكون ردًّا. وقد رأينا أن ننقل كلامهم برمته على ما فيه من الركاكة واللغو والضعف، وإطلاق بعض الكلم على غير المعاني التي نطلقها عليها، ولكن لا نناقشهم في شيء من الألفاظ لذاتها، ولا في العبارة من حيث ضعفها، بل في المسائل والمعاني، وقد كان الغرض الأول من نقل عبارتهم بنصها، وعدم تلخيص مسائلها والرد عليها، أن لا يتوهم أحد منهم أو من غيرهم أننا تصرفنا في التلخيص تصرفًا يخل بالمعنى المراد، أو حذفنا منه ما لا يمكن ردّه بنقض ولا انتقاد، واستتبع ذلك بيان أن القوم لا يوثق بنقلهم ولا بفهمهم. ومن المعلوم بالضرورة أنهم ليسوا كالفلاسفة، الذين يبحثون في المسائل؛ لأجل استبانة الحق في ذاته، وإنما يتحرون بالبحث ما يرون فيه سبيلاً للطعن والاعتراض، ومجالاً للتشكيك وإثارة الشبهات، كما يعلم مما يأتي. *** الجملة الأولى من مقدمة الطاعن افتتح طاعنهم مقالته بجملة تتضمن عدة دعاوى هذا نصها: (إن صحة الشريعة قضية لا بد لكل مسلم سني من التسليم بها وذلك متوقف على صحة السنة، فإذا ارتاب أحد في صحة السنة، فليس ثمة داعٍ منطقي يوجب إطاعة الشريعة؛ لأن جانبًا قليلاً منها فقط يتوقف على القرآن، والجانب الأكبر يتوقف على السنة التي اجتمعت في الأحاديث. فإذا ثبت الريب في هذه الأحاديث تزعزعت أركان الشريعة وأركان تابعيها من حنفيّ ومالكيّ وشافعيّ وحنبليّ. وعددهم لا يقل عن ثلاث مئة مليون من الأتباع) . نلخص هذه الجملة من كلامه في ثلاث قضايا ونبين ما فيها. *** القضية الأولى (زعمه إذا ارتاب أحد في السنة ينتفي وجوب طاعة الشريعة) هذه القضية بديهيّة البطلان، فإن الإطلاق في جزاء الشرط يدل على أن المراد من القضية الشرطية أن ارتياب فرد من الأفراد في صحة السنة، يستلزم انتفاء وجوب اتباع الشريعة على جميع الأفراد، وإنما المعقول الموافق للمنطق أن ارتياب الفرد أو ظنه أو علمه، يترتب عليه ما يستلزمه في حق نفسه، ولا يكون ذلك مؤثرًا في غيره ممن لم يرتب ارتيابه أو لم يعلم علمه، وكذلك ارتياب الأفراد الكثيرين. وقد ارتاب بعض علماء أوربة الأحرار في وجود المسيح - عليه السلام -، وزعموا أنه شخص خيالي - أو متخيل - لم يوجد، كما زعم بعض المؤرخين مثل ذلك في هوميروس شاعر أساطير اليونان، فهل استلزم ارتياب أولئك المرتابين فيه انتفاء إيمان مئات الملايين من المسلمين والنصارى وغيرهم بوجوده عليه السلام. *** القضية الثانية (زعمه أن أكثر الشريعة يتوقف على الأحاديث) هذه القضية غير مسلَّمة، فإن الشريعة عندنا تشمل العقائد والعبرة فيها بالدلالة القطعية، وجميع العقائد التي تتوقف عليها صحة الإسلام ثابتة بنصوص القرآن وإجماع المسلمين، وإثبات الألوهية والنبوة منها مؤيد بالبراهين العقلية، ولا يوجد شيء منها يتوقف على أحاديث الآحاد التي يمكن الارتياب في بعضها، وكذلك أصول العبادات كلها قطعية، ثابتة بالقرآن والسنة العملية المتواترة التي لا تتوقف على أحاديث الآحاد. وما ثبت من أحكام العبادات بأحاديث الآحاد ولم يجمع عليه أئمة العلم فلا تتوقف عليه صحة الإسلام، وإن كان صحيحًا في نفسه، وإنما هو مزيد كمال في علم السنة، أما أحكام الشرع في المعاملات، فأكثرها مأخوذ من القواعد والأصول وكذا الفروع الواردة في القرآن، إما بالنص وإما بدلالة النص وفحواه، ومن القياس الذي توسع فيه بعضهم كالحنفيّة فالشافعيّة، والمصالح العامة التي توسع فيها المالكيّة والحنابلة. وأقلها من حديث الآحاد. وما بقي من أركان الشريعة بعد العقائد والأحكام العملية إلا الأخلاق والآداب، وجميع ما ورد في الأحاديث من الحكم والفضائل والآداب فهو مستمد من القرآن الحكيم وشرح له، بل السنة كلها بيان للقرآن لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها وصفت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - بقولها: كان خلقه القرآن. وقد اختلف العلماء في أحكام السنة التي لا تستند إلى نص من القرآن فقيل: إنها بوحي من الله - تعالى -، وإن الوحي لا ينحصر في القرآن، ولكن للقرآن مزايا ليست لغيره من وحي الله إلى خاتم رسله ولا إلى الرسل قبله، أعظمها إعجازه والتعبد بتلاوته. وقيل: إن الله - تعالى - أذن لرسوله بأن يحكم، ويشرع برأيه واجتهاده. ومن تأمل كثيرًا من الأحكام التي استدلوا عليها بالسنة وحدها، يرى لها مآخذ من القرآن، كتحريم الجمع بين المرأة وبين عمتها أو خالتها إلى الزواج، وكتحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، وقد بيّنا ذلك في المنار، كما بينا تفاوت الأفهام في الغوص على دول القرآن، وأين أفهام الناس كلهم فيه من فهمه - عليه الصلاة والسلام -؟ وقد ثبت مع ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقضي في المسائل السياسية والإدارية باجتهاده، ويستشير فيها أصحابه. *** القضية الثالثة (زعمه أنه إذا ثبت الريب في الأحاديث تزلزلت أركان الشريعة) هذه القضية غير مسلَّمة أيضًا، وفيها إجمال وإيهام، فإذا أراد بثبوت الريب في الأحاديث ما أفادته جملته الأولى من ارتياب بعض الأفراد، ولو واحدًا فقد بينا أن هذا لا يترتب عليه إلا ما يستلزمه الارتياب في نفس المرتاب وحده، وإذا أراد ارتياب جميع الناس أو جميع المسلمين في جميع الأحاديث، فهذا ما وقع، ولن يقع ولا يعقل أن يقع، وسنشرح ذلك على وضوحه في نفسه، فإن فرضنا جدلاً أنه يقع فإنما يترتب عليه حينئذ الاكتفاء في الدين بما في القرآن والسنة العملية المنقولة بعمل مئات الألوف وألوف الألوف منذ العصر الأول، ككيفية الصلاة والصيام والحج وغير ذلك، وبما ثبت بالإجماع والقياس الصحيح، ولا ينقص من كتب الشريعة حينئذ إلا الأحكام والحكم التي ثبتت بأحاديث الآحاد وحدها كما بيناه في الكلام على القضية الثانية. وبهذا وذاك يظهر لك بطلان قوله: (تزعزعت أركان الشريعة وأركان تابعيها) ، فإن أراد بأركان الشريعة أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها المرء مؤمنًا، فقد علمت أنه لا يتوقف شيء منها على أحاديث الآحاد، وإن أراد أركان الإسلام الخمسة فكذلك، فإن معرفة هذه الأركان لا تتوقف على ثبوت الأحاديث الواردة فيها، فإنها مُجمع عليها معلومة من الدين بالضرورة، سواء صح ما ورد فيها من الحديث أم لم يصح، على أنه صحيح، ولله الحمد، وإن أراد بأركان الشريعة أو أركان تابعيها أصولها المستمدة منها عند الأئمة الأربعة فقوله أظهر بطلانًا، فإن هذه الأركان أربعة -الكتاب والسنة والإجماع والقياس-، وما ألحق بها عند بعضهم كالمصالح والاستحسان، فالأحاديث جزء من السنة التي هي ركن من الأركان، فالارتياب في هذا الجزء لا يوجب الارتياب في الجزء الآخر منها، وهو ما ثبت بالتواتر عملاً أو قولاً، فكيف يوجب الارتياب في القرآن وكله متواتر، وفي الإجماع والقياس؟ قلنا: إن ارتياب جميع الناس أن جميع المسلمين في جميع أحاديث الآحاد ما وقع، ولن يقع ولا يعقل أن يقع، وبيان ذلك أن المعهود من البشر في كل زمان ومكان أن يصدقوا خبر كل مخبر؛ لأن الأصل الغالب في أخبار الناس الصدق، إلا إذا وجدت علة في الخبر أو المخبر تقتضي الارتياب، كأن يكون الخبر غير معقول أو يكون المُخبِر معروفًا بالكذب. على أننا نرى الناس يصدقون أكثر أخبار الجرائد السياسية والشركات البرقية على كثرة ما عرفوا من كذبهما، واعتقادهم أن لأصحابهما أهواء سياسية يحاولون تأييدها بالحق وبالباطل. فإذا كان هذا شأن البشر في أمثال هذه الأخبار التي تحوم حولها الشبهات في أنفسها، وفي سيرة رواتها، فكيف يعقل أن يرتابوا في صحة جميع الأحاديث التي صححها حفاظ المحدّثين بعد نقد متونها، وإقامة ميزان الجرح والتعديل لكل فرد من أفراد رواتها، وقد علم أنهم لا يقبلون في الاحتجاج حديثًا منقطع الإسناد، ولا حديثًا في رواته مجهول، أو أحد ثبت عليه الكذب أو سوء الحفظ أو النسيان أو مخالفة الثقات الأثبات في روايته؟ ها أنتم أولاء تصدقون أخبار أناجيلكم الأربعة وغيرها من كتبكم، وليس عندكم سند متصل لشيء منها، وقد اختلف علماؤكم ومؤرخوكم في كُتّابها

التعريف بكتابي منازل السائرين ومدارج السالكين وترجمة مؤلفيهما

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعريف بكتابي منازل السائرين، ومدارج السالكين وترجمة مؤلفيهما بيان وجه الحاجة إلى تحرير التصوف ومكانة الكتابين والشيخين منه علماء الإسلام أربعة أصناف: أهل الأثر والمتكلمون والصوفية والفقهاء والتفسير مشترك بينهم، ففي كل صنف منهم مفسرون. ونقول باعتبار آخر: إن علماء الإسلام صنفان: علماء الأثر وغيرهم، أو علماء المنقول وعلماء المعقول، ومن كل صنف مفسرون وفقهاء، ولا يكاد يكون الأثري متكلمًا، وقد يكون صوفيًا في النادر. والأثري الفقيه إذا احتج بالقياس، فإنما يحتج بما كانت علته ثابتة في الكتاب أو السُّنة. ثم إن علم الأثر ينقسم إلى علم الرواية، وعلم الدراية، ولا يتم نفع أحد العلمين إلا بالآخر، فمن أتقن علم الرواية بحفظ الأثر أو الحديث، وضبطه ومعرفة رواته وعلله والتمييز بين الصحيح وغيره منه، ولم تكن له دراية بفهمه والاستنباط كان جل النفع بعلمه لغيره، وهو إذا خاض في معاني الحديث بغير استعداد تام للفهم، فإنه ربما يضل ويُضل كثيرًا، وفي مثله ورد الحديث الصحيح (نضَّر الله امرءًا سمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ورب حامل فقه ليس بفقيه) رواه الترمذي، والضياء من حديث زيد بن ثابت. وفي معناه حديث (نضَّر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فبلغه كما سمعه فرُب مبلَّغ أَوْعَى من سامع) رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان من حديث ابن مسعود. وأما من لم يتقن علم السُّنة من المتكلمين والفقهاء والصوفية فضلالهم، وإضلالهم أشد. وقد وجد في كل طائفة علماء أعلام خدموا الإسلام أجل خدمة، فصالِحو المتكلمين خدموه بدفع شبهات الملاحدة، وكثير من المبتدعة، على أن بعض الشبه والبدع ما جاءت إلا مِن علمهم المبتدَع، وإنما ينتفع بعلمهم مَن جمع بينه وبين علم السُّنة. وصالِحو الصوفية خدموا الإسلام ببيان حِكَم الشريعة وأسرارها وتربية الأخلاق والآداب، ولكن البدع التي حدثت من قِبَلِهِمْ أكثر وأرسخ من سائر البدع التي حدثت في الإسلام، وسبب ذلك الجهل بالسُّنة. والفقهاء خدموا الإسلام باستنباط أحكام العبادات، والحلال والحرام والأحكام المدنية والسياسية والتأديبية، وقد جنى الجاهلون بالسُّنن منهم على الإسلام جناية عظيمة بما أحدثوا بأقيستهم البعيدة عن نصوص الشريعة ومقاصدها من الأحكام الكثيرة المنافية ليُسر الدين، ورفع الحرج منه. تفرق المسلمون بهذه العلوم إلى فرَق وأحزاب كثيرة، كلٌّ ينتحل مذهبًا ينتصر له ويدافع عنه، فكانت جناية الخلاف على الإسلام وأهله أشد ضررًا مما أخطأ به كل فريق منهم. وقد رد بعضهم على بعض ردودًا كان يعدها كل منهم من التعصب أو من باب (مَن جهل شيئًا عاداه) والحق أنه قَلَّمَا يخلو رد طائفة على أخرى من ذلك. ومنشأ الخطأ والضرر الأكبر هو التزام مذهب والرد على مخالفه، فإن هذا هو اتباع الهوى، وأهله هم أهل الأهواء، وإن سموا أنفسهم بأفضل الأسماء، أما أهل الحق الذين لا يدخلون في عموم {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 32) فهم الذين يجعلون كتاب الله - تعالى - وما بيَّنه من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوق الخلاف، بل هو الحَكَم العدل في الخلاف؛ لأنه - تعالى - أخبرنا أنه أنزل الكتاب {لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (البقرة: 213) . وأجدر هؤلاء المهديين ببيان التحقيق الذي يزيل الخلاف من كان جامعًا بين المنقول والمعقول غير متعصب لمذهب من المذاهب التي تُعزى إلى أفراد العلماء. ولم نر في هذا الصنف أوسع علمًا، وأنهض حجة وأقوى عارضة من شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، وتلميذه الإمام المحقق محمد بن أبي بكر الشهير بابن القيم، وابن قيم الجوزية، فقد جمع الله لكل منهما بين الرسوخ في علوم السُّنة حفظًا وفهمًا واستحضارًا واستنباطًا، وبين التمكن من سائر العلوم التي دونت بالعربية، ومذاهب الفرق وأدلتها، فبيَّنا في كتبهما الممتعة ما أخطأ فيه الذين انحرفوا عن الكتاب والسنة من أهل هذه المذاهب، وقد كان ابن تيمية السابق إلى تحرير تلك المسائل، وتلاه ابن القيم، فكان الموضح المكمل لها، والمستدرك لما فاته منها. وأهم ما انفرد به ابن القيم - فيما نعلم - الإطالة بتحرير علوم الصوفية ووضع الموازين القسط لمعارفهم، وأذواقهم ومقاماتهم وأحوالهم بشرحه لكتاب (منازل السائرين) لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي. الصوفية ثلاث: صوفية الأرزاق، وصوفية الرسوم، وصوفية الحقائق، وبدع الفريقَيْن المقلدَيْن يعرفها كل من له إلمام بالسُّنة والفقه. وإنما الصوفية صوفية الحقائق الذين خضعت لهم رءوس الفقهاء والمتكلمين، فهم في الحقيقة علماء حكماء، ولكن ضل بما دخل في الإسلام من باب فلسفتهم الروحية أضعاف من ضل بما دخل على المتكلمين، وغيرهم من باب الفلسفة العقلية، من إلهية وطبيعية. وسبب ذلك ما بيناه آنفًا من جهل بعض شيوخهم بالسنة النبوية، فمن أصول الضلالة التي دخلت على المسلمين من باب التصوف المقابَلة بين الحقيقة والشريعة، وجعل الأمر الكوني القَدَريّ كالأمر الشرعي في كون كل منهما يجب الرضاء به والإذعان والاستسلام له، ومن مفاسد هذا الأصل قولهم: (من نظر إلى الخلق بعين الشريعة مقتهم، ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم) ومن مفاسده الرضاء بعدم مقاومة الأمراض والظلم، وهُضِمَ حقوق الأفراد وحقوق الأمة. ومن مفاسده الجبر وسلب الاختيار، وناهيك بما يتبعه من المفاسد والمضارّ. ومن أصول الضلالة التي دخلت من ذلك الباب جعل الذوق والحال من قَبِيل دلائل الشريعة وأصولها، بل هو عند كثير من غلاتهم الركن الأعظم المقدم على كل ما يعارضه، ومن فروع هذا الأصل ما ابتدعوه من الأذكار والأوراد والسماع، وتعظيم القبور وجعلوه من شعائر الإسلام، فإن عمدتهم فيه أنهم ذاقوا ما أثمره لهم من الحب، والوَجد والخشوع والبكاء والرغبة في الآخرة، ومن أمثالهم (من ذاق عرف) ، وجهلوا أن مثل هذا الذوق حاصل للكفار فيما يأتونه في عبادتهم من الأغاني والأناشيد وآلات الطرب، وما يشاهدونه في معابدهم ومقابرهم من الصور والتماثيل، التي وضعت لسلفهم من النبيين والكهنة وغيرهم من الصالحين عندهم، فإذا كانت العبادة تشرع بالذوق، فقد هُضِمَ حق الوحي، وعُدِمَ أساس الشرع. ومن أصول تلك الضلالات دعوى أن للدين ظاهرًا، وباطنًا مخالفًا لما يفهم الجمهور منه، وهذه الضلالة من ابتداع زنادقة الباطنية، وقد كانت سببا لارتداد كثير من المسلمين، فكونت منهم طوائف، الإسماعيلية والنُّصيرية والدُّروز، والبابية البهائية، والأزلية وغيرهم. ومنها أصل الأصول عند غُلاتهم، وهو ما يعبرون عنه بوحدة الوجود بالمعنى الذي يمثله الكتاب المسمى (بالإنسان الكامل) وأمثاله، هذا الأصل مخالف لنصوص القرآن الصريحة، ولنصوص السنة الصحيحة، وفيه مفاسد كثيرة جدًّا، ولكن من الناس من يفهم وحدة الوجود على غير هذا الوجه. قد افتتنت كل فرقة انشقت من جماعة المسلمين، وأهل كل مذهب خالفوا السنة، وما جرى عليه سلفها الصالح بفتنة تأويل، ما يخالف مذاهبهم وآراءهم من آيات الكتاب العزيز ومتون الأحاديث، حتى إنهم ليؤوّلون السنن العملية، أو يعارضونها بروايات قولية شاذة أو منكرة، وغلاة الصوفية أبرع الفِرَق في التأويل، وأشدهم إسرافًا فيه بعد الباطنية، الذين يشتبهون بهم كثيرًا؛ ذلك لأنهم لا يلتزمون في التأويل ما يلتزمه المتكلمون والفقهاء من عدم الخروج باللفظ عن حقيقته إلا إلى ضرب من ضروب المجاز أو الكناية، بل يزيدون على ذلك باب الكشف، وباب الإشارة وباب الرموز؛ ولذلك نرى كلامهم ممزوجًا بالآيات والأحاديث محرفة عن معانيها الصحيحة التي تدل عليها في اللغة؛ ولأجله نرى كلامهم مقبولاً عند الجماهير من غير تأمل ولا تفكُّر، حتى إن المتكلمين والفقهاء ما عادوا ينكرون عليهم شيئًا كما كان السلف ينكرون على كل من يخالف ظواهر النصوص، أو يبتدع في الدين ما لم يكن في الصدر الأول. فمن تدبر ما ذكرنا عَلِمَ أن تحرير علم التصوف شيء لا يستطيعه إلا من كان راسخًا في علم الكتاب والسنة أتم الرسوخ، وعارفًا بالتصوف معرفة علم وذوق وعمل، وقد ادخر الله - تعالى - هذا للعالِمين العاملين الذائقين المفسرين المحدِّثين- شيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري، ومحقق الإسلام ابن القيم الدمشقي- فالأول عالم أثري، غلب عليه التصوف، والثاني صوفي ذائق، غلب عليه علم السُّنة، جمع الأول زُبدة التصوف جمعًا موجزًا في كتابه (منازل السائرين) وشَرَحه الثاني وبيَّن ما له وما عليه في كتابه (مدارج السالكين) وها نحن أولاء ننقل من كتب العلماء ترجمة وجيزة لكل من الشيخين، ونقفي عليها بالتعرف بكل من الكتابين: *** ترجمة شيخ الإسلام الهروي جاء في حوادث سنة 481 من كتاب (شذرات الذهب) ما نصه: وفيها توفي أبو إسماعيل الأنصاري الحنبلي، عبد الله بن محمد بن علي الهروي، الصوفي القدوة الحافظ أحد الأعلام، توفي في ذي الحجة، وله ثمانون سنة وأشهر. سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي منصور محمد بن منصور الأزدي وخلق كثير، وبنيسابور من أبي سعيد الصيرفي، وأحمد السليطي صاحبي الأصم، وكان قذى في أعين المبتدعة وسيفًا على الجهمية، وقد امتحن مرات. وصنف عدة مصنفات، وكان شيخ خراسان في زمانه غير مدافَع، قاله في العبر. ومن شعره: سبحان من أجمل الحسنى لطالبها ... حتى إذا ظهرت في عبده مدحا ليس الكريم الذي يعطي لتمدحه ... إن الكريم الذي يثني بما منحا وجاء في أول حرف العين من (الكواكب الدرية) في طبقات الصوفية للمُناوي: (عبد الله بن محمد بن علي شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي الحافظ العالم العارف الصوفي صاحب (منازل السائرين) كان إمامًا في التفسير والحديث، حسن السيرة [1] في التصوف والعربية والتاريخ والأنساب، وغير ذلك وكان لا يخاف في الله لومة لائم؛ ولذلك.. [2] في هلاكه مرارًا، فحفظ منهم. وكان آية في التذكير والوعظ. مات سنة إحدى وثمانين وأربعمائة) اهـ. وذكره الحافظ الذهبي في كتاب (العلو) وجعل عنوانه (شيخ الإسلام الأنصاري) ولقبه بالإمام الكبير، على كونه لم ينقم منه سوى تأليفه لكتاب المنازل، وقال فيه ما نصه: (كان أبو إسماعيل آية في التفسير، رأسًا في التذكير، عالمًا بالحديث وطرقه، بصيرًا باللغة، صاحب أحوال ومقامات، فيا ليته لا ألف كتاب المنازل، ففيه أشياء منافية للسلف وشمائلهم، قيل: إنه عقد على تفسير {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الحُسْنَى} (الأنبياء: 101) ثلاث مئة وستين مجلسًا. وقد هدد بالقتل مرات ليقصر من مبالغته في إثبات الصفات، وليكف عن مخالفيه من علماء الكلام، فلم يَرْعَوِ لتهديدهم، ولا خاف من وعيدهم، ومات في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وله خمس وثمانون سنة، سمع من عبد الجبار الجراحي، وأبي سعيد الصيرفي وطبقتهما) . *** ترجمة م

أعظم معركة بحرية بين أعظم أساطيل العالم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أعظم معركة بحرية بين أعظم أساطيل العالم نشرت الحكومة الإنكليزية في3 يونيو1916 بلاغًا رسميًّا في مصر هذا نصه: كما نشر في المقطم وغيره: أعلنت وزارة البحرية البريطانية أنه بعد ظهر يوم الأربعاء في 31 مايو حاول الأسطول الألماني الأكبر أن يخترق نطاق الحصر البحري الذي ضربناه على ألمانيا فجاء من جهة بحر كاتغات قاصدًا دخول البحر الشمال، وكان هذا الأسطول مؤلفًا من أساطيل الدردنوطات والطرادات الكبرى والطرادات والمدمرات ... إلخ. فانبرى له أسطول من الطرادات البريطانية الكبرى تعززه الطرادات والمدمرات واحتدم القتال بين الفريقين وأسفرت المعركة عن خسارة عظيمة من الجانبين. وبعد مدة وجيزة وصل أسطول الدردنوطات البريطانية إلى مكان المعركة فكف العدو عن القتال وعادت بوارجه قاصدة الموانئ الألمانية. وقد أُغرقت البوارج الألمانية التالية وهي: بارجة دردنوط من طرز (كيزر) نسفت نسفًا، وبارجة أخرى من الطرز عينه أُغرقت بنار المدافع. أما الطرادات الألمانية الثلاثة الكبرى التي قاتلت في المعركة - وبينها الطراد العظيم لنزوف، والطراد العظيم درفلنجر على ما يظن - فقد نُسف واحد منها وعُطل الثاني، ووقف عن الحركة، ورُئِيَ الثالث مصابًا بعطل كبير. ورُئِيَ طراد ألماني من الطرادات الخفيفة وهو يغرق، ومما يجدر ذكره أن الألمان اعترفوا بضياع ثلاثة من طراداتهم الخفيفة، وهي فرونلوب وفسبادن وبومون، وغرقت ست مدمرات ألمانية، ونطحت غواصة ألمانية فأغرقت. هذه الخسارة التي أرسل القائد العام للأسطول البريطاني خبرها كما رُئِيَتْ ولكن ثلاث بوارج ألمانية من البوارج الكبرى أصيبت بعطب كبير، والمرجح أن العدو أصيب بخسارة أخرى لم يستطع أسطولنا رؤيتها بسبب صعوبة الرؤية من جراء الأحوال الجوية. والظاهر أن المعركة دارت في آخر الأمر والبوارج الألمانية تجدّ في السير، وقد ساقها البريطانيون أمامهم من السكو إلى مصب نهر الألب. أما خسارة الأسطول البريطاني فهي من الطرادات الكبرى (كوين ماري) و (أندفيتجابل) و (أنفنسبل) ، والطراد (واريور) و (وسبرهوك) و (أردنت) وثلاث مدمرات أخرى ضاعت، ولم يغرق للبريطانيين شيء من بوارج الدردنوط ولا من الطرادات الخفيفة. وقد وقع عبء القتال قبل وصول الأسطول البريطاني الأكبر على قسم من أسطول الطرادات الكبرى البريطانية، فقاتل هذا القسم أسطول العدو الأكبر وأصيب بالخسارة المتقدمة، وهو يقاتل أسطولاً يفوقه كثيرًا في قوة البوارج وعددها اهـ. وقد شرح كل من المقطم والأهرام هذا البلاغ شرحًا، صرحا فيه بأن الطرادات الكبرى التي غرقت من نوع الدردنوط أيضًا، وقد آثرنا شرح الأهرام للخسائر، وهذا نصه: *** خسائر الألمان جاء في البلاغ البريطاني أن الألمان فقدوا بارجتين من طراز (كيزر) [1] إحداهما نسفت نسفًا، والأخرى أغرت بنار المدافع. ومحمول كل بارجة من هذه البوارج 24700 طن، وهي من بوارج الدردنوط الألمانية وسلاحها 10 مدافع قطر 12 بوصة، و14 مدفعًا قطر 6 بوصات، و12مدفعًا ثقل 24 رطلاً و4 ثقل 24 رطلاً، وهي لمقاومة الطيارات، وفيها 5 أنابيب، للطوربيد (الواحدة 20 بوصة) مغمورة بالمياه 4 منها في جانبها، وواحدة في المؤخرة. وقد بنيت بوارج الدردنوط الألمانية التي من طراز (كيزر) (لقب الإمبراطور) سنة 1912- 1913 وعددها خمس، وهي (كيزر) و (فردريك درجروس) و (كيزرين) و (برنس رجنب لويتبولد) و (كوينج ألبرت) ، فإذا كانت اثنتان قد دمرتا على ما جاء في البلاغ يكون الباقي عند الألمان من هذا الطراز ثلاث. وليس عند الألمان أكبر من هذه البوارج سوى ثلاث، محمول الواحدة منها 28 ألف طن، وهي (أرزتس فردريك الثالث) ، وأرزاتس ورث و (T) وأربع محمول الواحدة 25 ألف طن، وهي (أرزاتس براندنبرج) و (كوينج) و (جروس كورفرست) و (مرجراف) . وأما الطرادات الألمانية التي يقول البلاغ إن منها لنزوف ودرفلنجر، فهي من طرادات القتال الكبرى، وليس لدى ألمانية منها سوى ثلاثة وهي (درفلنجر) و (لنزوف) و (أرزاتس هرثا) ، ومحمولها 28 ألف طن وسلاحها 8 مدافع قطر 12 بوصة و12 مدفعًا قطر 6 بوصات، و12 مدفع ثقل 24 رطلاً و5 أنابيب للطوربيد (22بوصة) مغمورة بالمياه أربعة منها في الجوانب وواحدة في المؤخرة. أما الطرادات الثلاث التي يعترف الألمان بضياعها فهي. 1- بومرن ومحمولها 12200 طن، وسلاحها 4 مدافع قطر 11 بوصة و14 مدفعًا قطر6,7 بوصة و 20 مدفعا ثقل 24 رطلا و4 ثقل رطل واحد (أي ثقل مقذوفها) وأربع مدافع رشاشة و6 أنابيب للطوربيد مغمورة بالمياه، في جوانبها وفي المقدمة والمؤخرة. وللألمان من هذا الطراز أربع بوارج أخرى، وهي (دتشلند) و (هنوفر) و (شلسويج هولستين) و (شلسين) . 2- فرونلوب وهو طراز صغير محموله 2715 طنا وسلاحه 10 مدافع 4 بوصات و10 مدافع ثقل رطل، و4 مدافع رشاشة، وأنبوبان للطوربيد مغموران تحت الماء 3- (وستفالن) وهي دردنوط كبيرة ومن طراز (نساو) ومحمولها 1800 طن وسلاحها 12 مدفعًا قطر 11 بوصة و12 قطر 6 بوصات و16 ثقل 24 رطلاً و6 أنابيب للطوربيد في المقدمة والمؤخرة والجانبين مغمورة تحت الماء. ولألمانيا من هذه الطراز أربع بوارج فقط وهي (وستفالن. ونساو. وبوزن ورينلاند) . وخسر الألمان عدا ما تقدم ست مدمرات لم تُذكر أسماؤها، هذه خسارة الأسطول الألماني ولا نستطيع تقدير خسارة الأنفس لعدم التحقق من عدد البوارج والطرادات التي أغرقت تماما بمن فيها، على أنا إذا سلمنا بأنه لم يغرق سوى بومرن وفرونلوب ووستفالن، وهي الثلاث التي اعترف الألمان أنفسهم بضياعها فلا تقلّ خسارتهم في الرجال عن ألف رجل في وستفالن و800 في بومرن و250 في فروتلوب (أي 2050) . *** خسارة البريطانيين أما خسارة الاسطول البريطاني، فإذا بحثنا فيها فإنما نذكر أمورا صحيحة إعتمادا على البلاغ الذي لدينا، فلا وجه للحدس والتخمين وللظن والشك، وهذا بيان الخسائر على ما جاء في البلاغ. وقد ذكرنا سلاحها منذ يومين فلا نعود إلى ذكره اليوم. محمولها ... ... ... ... ... سرعتها ... ... عدد طن ... ... ... ... ... ... عقدة ... ... رجالها كوين ماري ... 28000 ... ... ... 28 ... ... 1000 أنديقا تجبل ... 18750 ... ... ... 25 ... 790 انفنسيل ... 17250 ... ... 26 ... ... 780 دفنس ... 14600 ... ... 23.5 ... ... 850 بلاك برنس ... 13550 ... ... 32.65 ... ... 704 وريور ... 13550 ... ... 22,9 ... ... 704 ــــــــــــــــــ ... ... ... ... ... ... 4828 ... والبارجة كوين ماري هي من أحدث الدردنوطات الكبرى، ولا يوجد أكبر منها في الأسطول البريطاني من حيث المحمول سوى ثلاث قطع، وهي البارجة (ثيجر) ومحمولها 28 ألف طن والبارجة (وورسبيت) والبارجة (فليانت) والبارجة (كوين إليزابث) ومحمول كل منها 27500 طن على أن (كوين ماري) تمتاز عن الثلاث بوارج الأخيرة بسرعتها، فهي تجتاز 28 عقدة في الساعة بينما (كوين إليزابث) و (وورسبيت) و (فليانت) سرعة الواحدة منها لا تزيد على 25 عقدة مثل (كوين ماري) وقد كانت البارجة (كوين ماري) من فرقة الطرادات الكبرى في الأسطول الأكبر. ويظهر أن عبء القتال في هذه المعركة، وقع على الأسطول البريطاني الذي كان في البحر الأبيض المتوسط وهو الآن في البحر الشمالي فإن الطرادات (انديفاتجبل) و (انفنسبل) و (دفنس) و (بلاك برنس) و (ووريور) جميعها كانت من هذا الأسطول، ولضباط هذه البوارج أصدقاء عديدون في الإسكندرية وبورسعيد والسويس وغيرها من موانئ البحر المتوسط، سيحزنون لِما أصابهم، ويأسفون أشد الأسف لفقدهم. وقد ظل (بلاك برنس) مدة طويلة في مياه البحر الأحمر وخليج السويس بعد شبوب هذه الحرب وأسر جملة بواخر من بواخر الأعداء في أوائلها. أما المدمرات الإنكليزية التي غرقت وهي (فرتشون) و (سباروهوك) و (أردنت) و (تيبراري) ، فهذه جميعها من المدمرات الأوقيانوسية، وقد بنيت عام 1913 وطول الواحدة منها 260 قدما، ومحمولها 935 طنا، وسرعتها 3.7 عقدة في الساعة وسلاحها 3 مدافع قطر 4 بوصات وأنبوبان للطوربيد، وعدد رجال الواحدة منها مئة رجل. ولعل الثلاث المدمرات الأخرى التي ضاعت، ولم يذكر اسمها في البلاغ من نوعها أيضًا فتكون خسارة البريطانيين من الرجال في المدمرات نحو 700 اهـ شرح الأهرام. (المنار) ظاهر البلاغ الرسمي أن خسارة الأسطول الإنكليزي أكبر من خسارة الأسطول الألماني. وقد ورد في البرقيات أن الألمان تبجَّحوا وافتخروا بهذه المعركة، وخطب قيصرهم خطبة قال فيها: الآن ألقينا الرعب في أعماق قلوب أعدائنا. ثم وردت برقيات أخرى بأن خسارة الألمان كانت أعظم مما ورد في البلاغ الإنكليزي، وفي بلاغاتهم الرسمية. وقد قال ناظر البحرية البريطانية: إنه جازم بأن خسارة العدو لم تكن أقل من خسارتهم، وإن لم يسهل بيان ذلك بالتفصيل. وصرح هو وغيره بما لا مراء فيه وهو أن الأسطول البريطاني لا يزال صاحب السلطان الأعلى على البحار. *** المنار الدعوة إلى انتقاده جرت عادتنا بأن ندعو قراء المنار في أول كل سنة إلى انتقاد ما يرونه منتقدًا فيه بالشروط التي كررنا بيانها، ونعني بقراء المنار هنا كل من اطلع عليه وقرأ شيئًا فيه، لا المشتركين خاصة، ونعِد بأن ننشر كل ما يكتب إلينا في ذلك بشروطه، وأهم الشروط أن ينتقد القارئ للكلام ما يراه خطأ، ويبين ذلك بالدليل من غير استطراد ولا تطويل. *** حجم المنار في هذه السنة ذكرنا في الجزء الماضي بأن قلة الورق اضطرتنا إلى أن نجعل كل جزء من أجزاء هذه السنة ثمانية كراريس (ملازم) وأننا إذا ظفرنا في أثناء السنة بورق كافٍ نجعل السنة اثني عشر شهرًا، فيكون حجم مجلد هذه السنة من سني الحرب كمجلد التي قبلها. *** مباحث هذا الجزء ضاق هذا الجزء عما وعدنا به فيما قبله، من كتابة مقالة في حال المسلمين الاجتماعية، وحال أغنيائهم وسائر أصنافهم في التعاون على الأعمال النافعة، وسننشر المقالة - إن شاء الله - في الجزأين الثاني والثالث.

العصبية الجنسية التركية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العصبية الجنسية التركية وعاقبة قتل نابغي العرب بسورية لعلنا قد سبقنا جميع الكتَّاب إلى بيان خطر العصبية الجنسية على الدولة العثمانية في عصر الدستور فإننا أشرنا إلى ذلك في أول مقالة كتبناها عند حدوث الانقلاب وإعلان الدستور إذ كان جميع العثمانيين يصفقون طربًا ويحسبون أنهم نالوا السعادة صفوًا من كل كدر، آمنينَ من كل خطر، تلك المقالة التي جعلنا عنوانها (عيد الأمة العثمانية بنعمة الدستور والحرية) ، ونشرناها في (ج 6 م 11) الذي صدر 29 جمادى الآخرة سنة 1326 (28 يوليو و15 تموز) أي بعد إعلان الدستور بأربعة أيام، وقد جاء فيها بعد بيان مزايا هذه النعمة ما نصه: إن أمامنا عقبات كثيرة (منها) ما يتوقع من مقاومة بعض الحكام الظالمين للحرية الجميلة التي يرقص لها طلاب الدستور طربًا ويهيمون بها شغفًا (ومنها) ما هو أقرب إلى الوقوع كالنزاع بين الأحرار المستقلين، وبين المتعصبين والمقلدين، (ومنها) مسألة الجنسية العثمانية، وما يقف في طريقها من جنسيات الشعوب التي يتألف منها جسم الدولة العلية، فمن المطالب بالنظر في ذلك؟ . ثم أنشأنا بعد شهر مقالة أخرى نشرناها (ج7 م 11) أوضحنا فيها خطر اختلاف الأجناس وشدة الحاجة إلى تكوين جنسية عثمانية تتحد فيها جميع الأجناس والملل، وبينا أن الواجب على أحرار الترك وعقلائهم أن يبدأوا بالدعوة إلى ترك العصبية الجنسية (اللغوية) ولا سيما زعماء جمعية الاتحاد والترقي منهم، لأن دعوتهم هي التي يرجى أن تسمع ويستجاب لها، ثم كررنا الكتابة في ذلك كثيرًا. وقد راءى الاتحاديون عقب الانقلاب بإظهار الرغبة في الوحدة العثمانية وكراهة العصبية الجنسية فحمدنا ذلك لهم كتابة وخطابة ولكنهم ما عتموا أن نزعوا ثوب الرياء الشفاف بعد أن استقرت سلطتهم، فنبذوا الجنسية العثمانية وراء ظهورهم، ونهضوا بالجنسية التركية بغلو وإسراف وعجلة خارجة عن طور العقل، فنصحنا لهم أولاً بالكتابة وبينا لهم أن تحويل العربي عن عربية والألباني عن ألبانيته والأرمني عن أرمنيته والرومي عن روميته مما يستحيل في هذا العصر، وأنه لو كان ممكنا لعذرناهم في محاولة تتريك جميع الشعوب العثمانية سياسة لا دينًا. ثم قصدت إلى الآستانة للسعي إلى منع التفرق بين العرب والترك وتأسيس مدرسة الدعوة والإرشاد فيها، ونشرت في جرائدها مقالات العرب والترك المعروفة لقراء المنار فجعلتها تمهيدًا للسعي في الوفاق ومنع سريان التفرق الجنسي، إذ بينت فيها ضرورة اتحاد هذين العنصرين مع محافظتهما على لغتهما، وأنه يجب أن يكونا كعنصري الهواء أو الماء في تكوينهما لحقيقة واحدة، أعني الجنسية السياسية العثمانية، وبينت فيها أسباب الخلاف ومثاراتها في الآستانة، وما أخطأَتْ به وزارات الدولة وجرائد العاصمة وجمعياتها في ذلك فنقم العرب منها، فكان أول من شكر لي هذا السعي، واهتم به ووعد ببذل نفوذه لتلافي الخلاف حسين حلمي باشا الصدر الأعظم في ذلك العهد، وكان من سوء الحظ أن أجل صدارته لم يطل، ولا تزل، أزمة الحكومة بيده، فكان يعدني بتخصيص وقت للبحث معي في هذه المسألة وانقضت السنة التي قضيتها في الآستانة ولم يف بوعده، على أنه وفى لي بعدة جلسات في داره وفي الباب العالي للنظر في المسألة الأخرى، أي مشروع التعليم والإرشاد، ولكن لم يكن لذلك ثمرة. وقد علمت في أواخر أيامي في الآستانة أن الاتحاديين قد صمموا على حل مسألة الجنسيات بالقوة القاهرة، وأنهم بدأوا بالتنكيل بالأرنؤط وسيتلوهم الأرمن والعرب والأكراد، وقد كان هذا أحد الباعثين لي على تلك الحملات الشديدة التي حملتها على جمعية الاتحاد والترقي في المنار، والباعث الثاني هو الديني ولا أبحث فيه الآن. لم أكن أنا الذي قاومت الجمعية بالكلام وحدي بل كانت المقاومة لهم بالقول والعمل على أشدها في الآستانة وسائر بلاد الترك حتى آلت إلى تسلل الألوف من جمعيتهم، ثم إلى قيام الأحزاب في مجلس الأمة عليهم، ثم إلى تأييد الجيش لحزب الحرية والائتلاف في إسقاط وزارتهم، ومما يجب أن يذكر أنهم اعترفوا في أثناء ذلك الجهاد وبعده بأنهم كانوا يريدون تتريك جميع عناصر الدولة وأنهم رجعوا عن ذلك. ولما عادت الوزارة إليهم باغتيال ناظم باشا ناظر الحربية في الباب العالي والقبض على كامل باشا الصدر الأعظم فيه هالنا الأمر وخفنا من وقوع الفوضى في الآستانة والدولة في حال حرب مع البلقان غُلبت فيه على أمرها، ولكن وزارة كامل باشا لم يكن لها حزب يؤيدها، إذ كان حزب الحرية والائتلاف غير متفق معها، ثم عقدت الوزارة الاتحادية الصلح وأنشأت تعقد مع الدول الكبرى الاتفاق تلو الاتفاق على جعل البلاد العثمانية مناطق نفوذ اقتصادي لهن، وتقترض عشرات الملايين منهن، وبدأت بالعراق العربي فاعترفت للإنكليز فيه بما طلبوا من النفوذ والحقوق، فأنكرنا ذلك عليهم أشد الإنكار، ولم يمنعهم ذلك طبعًا من الاتفاق مع فرنسة على نفوذها في سورية إلخ. على أننا لما رأينا البلقانيين قد انتصروا على الدولة في الحرب حتى كادوا يستولون على الآستانة علمنا أن الخطر على الدولة أقوى وأسرع مما كنا نخشى، وأن الدولة إذا كانت قد عجزت عن حفظ الرومللي وهو سياج الآستانة وحصنها أمام البلقان، ومعظم قوتها الحربية هنالك وباقيها على حدود الروس، فلا بد أن تعجز بالأولى عن الدفاع عن بلادنا العربية إذا هجمت عليها دولة قوية. إذ ليس في بلادنا حصون ولا سلاح، وكان هذا الأمر منبها لكثير من أهل الغيرة والفهم من العرب إلى ما سبقهم بعض أذكياء الترك إلى الدعوة إليه وهو وجوب إدارة الدولة من نوع اللامركزية؛ لأن ذلك أدعى إلى عمران كل قطر واستعداده للدفاع عن نفسه عند عجز المركز العام عن الدفاع عنه. تأسس حزب اللامركزية بمصر في أثناء حرب البلقان وسرت دعوته في المملكة العثمانية كلها، ولم يكن للحكومة الاتحادية وجه للشكوى منه؛ لأنه حزب عثماني يحاول الوصول إلى غايته من الطريق القانوني الذي ينتهي إلى مجلس الأمة، وتأسست في أثناء ذلك الجمعية الإصلاحية في بيروت بإذن الحكومة فشذت في موضوع ما طلبته من تعيين مستشارين ومراقبين للحكومة من الأجانب وأنكرنا عليها شذوذها في المنار، ثم أنشئت جمعية أخرى في البصرة صارح رئيسها طالب بك النقيب حكومة الاتحاديين بالإنكار بل بالعداء، وقد كادت الجمعية له فحاولت اغتياله فلم تظفر، ثم حاسنته وكلفته السعي للتوفيق بينها وبين الأمير ابن سعود فبذل جهده في ذلك. ثم تعلقت رغبة كثير من أذكياء العرب بعقد مؤتمر عربي في باريس لإظهار مطالب العرب الإصلاحية للعالم كله، وعهدوا بذلك إلى حزب اللامركزية فعقد المؤتمر وحضره مندوبون من البلاد العربية والجمعيات العربية واختير لرياسته السيد عبد الحميد الزهراوي أحد مندوبي حزب اللامركزية، وكان المؤتمر في غاية الاعتدال في مباحثه وقراراته. حينئذ اهتمت جمعية الاتحاد والترقي وحكومتها بأمر العرب وأوفدت مندوبا من زعمائها إلى باريس للاتفاق مع رئيس المؤتمر على إجابة العرب إلى ما يطلبونه من الإصلاح المعقول، وعقدا ذلك الاتفاق المشهور، ثم قرر مجلس الوكلاء، وصدرت الإرادة السلطانية ببعض مواد ذلك الاتفاق مع الوعد بأن تعطى العرب حقوقًا أخرى بالتدريج، وكل ذلك مدون في كتاب (المؤتمر العربي الأول) ونشر في المنار وفي الجرائد العربية المشهورة، ولكن ما تقرر من ذلك لم يرض جمهور المطالبين بالإصلاح من العرب، وقد عده أكثرهم خديعة مؤقتة من الاتحاديين، وكان فريق منهم أشهرهم الزهراوي وعبد الكريم قاسم الخليل يرجحون إخلاص الاتحاديين وعزمهم على إرضاء العرب دائما، وقد كان من إظهار الاتحاديين الميل إلى العرب أن صار أكبر زعمائهم كطلعت بك يحضرون الاحتفالات التي يقيمها أعضاء المنتدى الأدبي في الآستانة. هذه خلاصة ما كان من أمر الخلاف والوفاق بين العرب والترك أو الاتحاديين منهم خاصة قبل هذه الحرب، فلما وقعت الحرب بين الدول الكبرى وعلم طلاب الإصلاح من العرب أن دولتهم تريد أن تستفيد منها وتوقعوا أن تدخل فيها، كفوا جميعًا عن المطالبة بالإصلاح، وأظهروا الميل إلى تأييدها في كل ما تقرره وإن لم يعتقدوا أنه الصواب حذرًا من المنازعات الداخلية، وقد حبذنا عملهم هذا بمقالة نشرناها في جريدة الأهرام التي صدرت في سادس ذي القعدة 1332 (16 سبتمبر سنة 1914) أي قبل دخول الدولة في الحرب، ثم في منار ذي الحجة أي بعد دخول الدولة في الحرب، وقد قلنا في أول تلك المقالة وهي خطاب لمسلمي سورية ما نصه: ثم أشكر لكم ما أظهرتموه من النجدة والهمة، في الإخلاص والطاعة للدولة، وبذل الأنفس والأموال والثمرات لها، والكف المؤقت عن طلب الإصلاح منها، وتقديركم الحال الحاضرة قدرها، حتى أنكم ساهمتم في هذا أرقى أمم الأرض التي سكتت عن جميع مطالبها ومنازعاتها الداخلية. إلخ. وماذا جرى بعد ذلك؟ ولى الاتحاديون جمال باشا أحد زعمائهم منصب القيادة العامة في سورية فأظهر الميل التام إلى العرب وصار يقرب إليه أذكياء المتعلمين منهم ويحثهم على الاستمساك بعروة عروبيتهم وعثمانيتهم معا، فصدقوه وازدادوا حماسة ورغبة في بذل دمائهم وأموالهم في سبيل الدولة، حتى إذا ما تم له ما أراد من الاختبار، نزع عنه ثوب الرياء والمكر، ولبس لهم جلد النمر، وقتَّلهم تقتيلاً، ونكل بهم أحد عشر شابًّا من خيار شبان المسلمين منهم النابغة محمد الحمصاني وأخوه عبد الكريم قاسم الخليل الذي كان رئيس المنتدى الأدبي في الآستانة، ثم اتصل بالاتحاديين وجعل جُل سعيه إقناع العرب بالإخلاص لهم، فلم نصدق الخبر إلا بعد أن وصل إلى مصر بعض الفارين من الشنق وبعض الأسرى من الجيش وأثبتوا لنا الخبر، ولكننا مع ذلك لم نكتب كلمة إنكار على جمال باشا ولا على شيعته لأجل العلة التي أشرنا إليها آنفا. ثم تواترت الأنباء بشنق أناس آخرين من دمشق وغيرها بتهمة السياسة وقتل آخرين بالرصاص ونفي بيوت كثيرة إلى الأناضول، فثبت عندنا حينئذ أن الاتحاديين اغتنموا فرصة الأحكام العرفية في البلاد، والقبض على الأرزاق والأعناق، لأجل القضاء المبرم على النهضة العربية وإكراه العرب بالقوة القاهرة على ترك لغة أمتهم ودينهم، وعدم المطالبة بحق من حقوقهم، ولكن الثابت في سنن الاجتماع وتاريخ الأمم أن هذه الطريقة من الاضطهاد تؤدي إلى ضد ما يراد منها، وقد كنا قلنا من قبل: إن الإسلام قد أمات العصبية الجنسية في بلاد العرب الحضرية فلا يقدر على إحيائها أحد إلا حكومة الآستانة، ويمكننا أن نقول الآن إنها قد كونت الجنسية العربية الجديدة وجعلتها خالدة، لأنها زرعتها في البدو والحضر وسقتها بالدم، وبالدم استقل من استقل من جميع الأمم، وكنا نخاف منهم هذه العجلة في هذه الأيام لئلا تجيء منافية لمصلحة الإسلام، إذ يخشى أن تكون هذه القسوة في اضطهاد العرب في سورية سببًا ليأس الأمة العربية كلها من الدولة وجزمهم بأنه يستحيل عليهم أن يحافظوا على وجودهم تحت سيادتها، وأن يحمل ذلك عرب الجزيرة على الخروج عليها، خوفًا أن يحل بهم شر مما حل بغيرهم، فإن الترك يحاربون اليمن وعسير ونجد منذ قرون فكل حكامها الحاضرين قد قوتلوا، وأمير مكة لا ينسى لهم ما فعله معهم وهيب بك قبل هذه الحرب إذ حاول

حكم الصيام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكم الصيام وجناية تاركيه على أنفسهم وعلى المسلمين والإسلام الصيام عبادة روحية جسدية، قد شرع لما فيه من المنافع الشخصية والاجتماعية، فهو يروض الأجساد، كما تعطش الزروع وتضمر الجياد، فيفني الرطوبات والمواد الرواسب فيها، التي تصلب الشرايين وتعيق حركة الدم فيها، ويعيد المِعَد المصابة بالتمدد إلى تقلصها وتغضنها، حتى قال بعض الأطباء: إن صيام شهر واحد (كرمضان) يصلح ما أفسده التمدد طول العام، ويمرن المرء على احتمال الجوع والعطش بالاختيار، فيسهلان عليه إذا ألجأه إليهما الاضطرار، في سفر أو سجن أو مجاعة أو قتال، ويشعر الأغنياء المترفين بحاجة الفقراء المعوزين، ويساوي بينهم في هذه العبادة وآثارها كما يساوي بينهم في سائر شعائر الدين. وهو فوق ذلك المربي الأعظم للإرادة، وإنما يتفاضل أعاظم الرجال بما في الإرادة من قوة العزيمة، فلولاها لما استسهل صعب، ولا ثبت شجاع في حرب، ولما أقدم المصلحون على تغيير المنكرات، ولا سيما مقاومة الظلم والاستبداد، ولما ثبت عامل على عمل حتى يتقنه، ولما صبر ذو مصاب على مصابه حتى يأمن خطره، ولما احتفظ أمين بالأمانة، إلا بقدر ما يخاف في الدنيا من عقوبة الخيانة، وناهيك بأمانة الأعراض، والمحافظة على شرف النساء. وهو فوق ذلك مراقبة لله عز وجل وتقرب إليه بما يرضيه من تزكية النفس، وتوجه إلى الكمال الأعلى، والحياة الروحية الفضلى، حياة النبيين والصِّدِّيقين، بل الملائكة المقربين. إن الصائم المسلم هو الذي يحكم سلطان الإرادة بقانون الإيمان على هوى النفس فيمنعها من التمتع بأعظم الشهوات شأنًا عندها، فينال منه الجوع والطعام بين يديه، ويبرح به الظمأ والماء البارد أمام عينيه، ويشتد شوقه إلى ملامسة زوجه وهي منه على طرف التمام وحبل الذراع، فيعرض عن كل ذلك ويتركه بوازع الإيمان، ابتغاء لمرضاة الله تعالى وتحصيلاً للفوائد التي شرع لها الصيام. ألم تر أن الذي يربي إرادته ويحكمها في أشد شهواته وأقواها مدة شهر كامل في كل عام على الأقل جدير بأن لا تنزعه نفسه أكل شيء من أموال الناس بالباطل ولا العبث بشيء من أعراضهم، أو ليس الذي يقدر على ترك أعظم ضروريات الحياة مما أحد الله له وقرب منه متناوله يكون أقدر على ترك ما حرم الله عليه من جنسها ومما هو أدنى منها، وأجدر بأن يغلب هوى النفس الذي يغريه بها، بلى، وإن من الأمثال الإسلامية المشهورة في بعض الأقطار، (إن الذي يزكي لا يُسرق) وهذا أمر معقول كسابقه، فإن الذي يخرج المال من جيبه أو صندوقه طائعًا مختارًا ويؤتيه الفقراء والمساكين ويضعه في غير ذلك من المصارف الشرعية لوجه الله وابتغاء مرضاته بنفع عباده، جدير بأن لا يعصي الله تعالى بتكلف سرقة مال غيره، وهو يعلم أن ذلك سبب لسخط الله تعالى، ولو كان لا يبالي بسخط الله ولا برضوانه بل يؤثر عليه حب المال لحفظ ماله في صندوقه ولم يخرج زكاته فذلك أسهل من إحراز المال بالسرقة. علل الله تعالى فرض الصيام علينا، بأنه هو الذي يعدنا ويؤهلنا للتقوى، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) وإنما التقوى ملكة يقدر صاحبها بوازعها النفسي على اتقاء كل ما يدنس نفسه ويدسيها من ترك واجب، أو اقتراف محظور، ولذلك قالوا: إنها عبارة عن القيام بالواجبات وترك المحرمات، وهذه الملكة كسائر الملكات، تكتسب بالأعمال النفسية والبدنية التي يقوى بها سلطان الإرادة على نزعات الأهواء كما سبق القول، وقد فطن لهذا بعض حكام الغرب، فقال في كتاب صنفه في (تربية الإرادة) : إنه لا مربي للإرادة كالصيام، ولأجل هذا شرع في جميع الأديان. إن أحق الناس بتحصيل هذه الملكة وبسائر فوائد الصيام الروحية والاجتماعية والجسدية من جمعوا بين حكم الله وحكمته فيه وراعوا ذلك حق رعايته، فالإسلام علم وتربية، بنيا على أساس الحكمة والفلسفة، وذلك نص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 151) وقد يستفيد كثير من الناس حكمة العبادة ويجنون ثمرتها، وإن لم يتلقوا بالتعليم أن ذلك هو المصلحة التي شرعت لأجلها، كما يستفيد بعض الناس من شيء يأكله أو يشربه، فيكون من حيث لا يدري شفاء من مرض ألمَّ به أولئك الذين أخلصوا دينهم لله فكان لهم من العلم بكل عبادة أنها تُرضي الله تعالى وأنَّ ترْكها يؤدي إلى سخطه واستحقاق عذابه. ومن الناس من يؤدي العمل تقليدًا ومجاراة لمن نشأ فيهم فيكون عادة له كسائر العادات الشخصية والاجتماعية، لا ينوي به قربة، ولا يشعر له بفائدة، ولا يفكر في حكمة الشارع فيه، فلا يكون لصيامه أثر كبير في عباداته ولا معاملاته ولا عاداته، قد يصوم ولا يصلي، وقد يصوم ويصلي وهو مصرّ على المعاصي، فهو الذي يصدق على صيامه ما قاله بعض الأوربيين في تعريف الصيام، من أنه عبارة عن تغيير مواعيد الطعام، بجعلها في الليل بدلاً من النهار، وإنما كمال الصيام بجعله جنة ووقاية من جميع الآثام، قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم) رواه الشيخان في الصحيحين وأصحاب السنن الأربعة، والرفث صريح الكلام في الوِقاع أو ما يتحدث به الزوجان في تلك الحال، والصخب الجلبة والصياح، فإذا كان مثل هذا مما يمنع في الصيام، فما شأن اقتراف كبائر الآثام؟ على أن مثل هذا الصائم خير من تارك الصيام ولا سيما المجاهر به، فإذا كان مثله كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، فإن مثل تاركي الصيام من أمثال الفساق كمثل من يهدمون القصور والأمصار. يترك الصيام في هذه البلاد أناس كثيرون من طبقتين أو ثلاث طبقات، تتفق وتختلف في بعض الأعمال والصفات: طبقة تحوت الغوغاء الأرذلين، وطبقة أسرى الشهوات المترفين، وطبقة أدعياء المدنية المقلدين، فأما أولئك التحوت السفهاء فإنهم لا يشعرون بقيمة لأنفسهم يشاركون بها سائر طبقات الأمة في شعائرهم الدينية، دع ما هو أرقى من ذلك كالشعور بما يجب من شكر رب العالمين الرحمن الرحيم والتقرب إليه والاستعداد للرضوان الأكبر في دار الكرامة عنده، وغاية ما ورثوه من تقاليد الأديان التي كان عليها آباؤهم الأولون والآخرون تعظيم بعض الموتى ذوي الأضرحة التي خذلت سنة الدين بتشريف بنائها، وجعلها مساجد يصلى إليها ويطاف بها، وبناء القباب عليها واحتفالات الموالد التي هي أعياد ومواسم يحشر الناس إليها بجوار تلك القباب، وزيارة الجماهير للمقابر في ليالي الأعياد وجمع رجب وأيام أخرى من السنة، يرحل فيها إلى القرافات النساء والرجال والأطفال، مشاة حفاة ركبانًا على الحمير والجمال، وما في ذلك من المنكرات الكثيرة المعروفة. وأما هؤلاء المترفون (فمنهم) ملاحدة المتفرنجين الذين هم شر على هذه الأمة من كل عدو لها (ومنهم) أسرى الشهوات الذين ليس لهم من قوة الإرادة ما يقدرون به على مغالبة الهوى وعصيان داعي اللذة، أو حبس النفس على عمل شاق، وهم أشد الناس حاجة إلى الصيام، فإن هذا الإفراط في الترف يضعف البدن كما يضعف النفس، وإذا كثر هؤلاء في أمة فقدت الاستعداد لدفع الأعداء عنها، وللقيام بالأعمال المتبعة التي ترقى بها الأمم والثبات عليها، وقضي عليها أن تكون مستعبدة لغيرها، وأي عار على الفتى الجذع، أو الكهل أو الشيخ الذي لم يدركه الهرم، أكبر من عار الاعتراف بعدم الطاقة على احتمال الجوع والعطش بضع عشرة ساعة يعد له بعدها الشراب المبرد وألوان الطعام الفاخرة، أيها الجذع الناشئ أيها الكهل القارح، أولى لك فأولى، وغير هذا كان بك أولى، كان أولى بك أيها الفتى أن تفخر بالتربية على صفات الرجولية، واعتياد التقشف الاختياري في المعيشة، ومنه أن لا تسرف في التعميم المباح في ليالي رمضان، وأن تصوم من كل شهر عدة أيام، كان أولى بك أيها الكهل أن تكون قدوة صالحة لولدك وأولاد المسلمين، في المحافظة على شعائر الدين، وعلى الآداب والأعمال، التي يبلغون بها درجة الكمال، وأهمها ركوب الصعب، واكتساب ملكة الصبر، وتوطين النفس على مصارعة الحوادث، ومقارعة الكوارث ألا وإن الصيام جد الصيام أول مقدماتها، وأيسر وسائلها. وأما أدعياء المدنية المقلدون فهم الذين يفطرون جهرًا ليقول فيهم غير المسلمين والمنافقون من المسلمين: إنهم (متمدنون) وهذه الطبقةأخس الطبقات فلا ينتحل لها عذر ولا يوجه إليها برهان. عذر الملحد المارق عند نفسه في ترك الصيام أنه فقد الباعث الديني، ولم يترجح عنده باعث تهذيبي، وعذر المترف الشهواني عند نفسه، عجزه عن كبح جماح لذاته، لتحكم الهوى فيها، وضعف الوازع الديني عنها، والجهول السافل من تحوت الناس له عذر هذين الفريقين وعذر آخر وراءهما، وهو أنه لا يخطر في باله ولا يصل علمه إلى ما يعلمه كثير من أفرادهما من معنى كون الصيام ركنًا للدين الذي ينسب إليه، وشعارًا للأمة التي هو منها، وإن العاقل الذي يرى لنفسه قيمة في الوجود يرى شرفه بشرفهما وذله بمهانتهما، وأنه مطالب دينًا وعقلاً بحقوق لهما عليه، وأن دين الأمة من مقومات وجودها، فمن فاته الإيمان الباعث على إقامة أركانه لأجل سعادة الآخرة، لم يسقط عنه احترام شعائره التي هي أقوى روابط الأمة؟ فبهذا العلم يؤاخذ ويطالب كل من أوتي نصيبًا منه، وترتفع المؤاخذة عمن كان نصيبه منه الجهل المطلق حتى إن نفسه لا تتوجه إلى طلبه، ومنهم من يعتذر بأن الصيام يضره وإن كانوا أصحاء الأجسام، بترك ما اعتادوا من النظام في مواعيد الطعام، والصواب أن ما يتوهمون من الضرر في ذلك هو عين النفع؛ لأن التزام تلك العادات أضعف أبدانهم وأنفسهم، حتى صار تغييرهما يؤلمهم أو يضجرهم، وإنما هذا الألم والضجر عرضان لمرض الترف، والصيام علاج له لا مضاعفة. إذا صح أن يكون في الإلحاد عذر للملحد، وفي ضعف الإرادة عذر للمترف، وفي تغيير العادة إيلام للمهفهف، فيا ليت شعري بم يعذر نفسه أو يعتذر عنها من يجاهر منهم بالفطر؟ المجاهرة بالذنب شر من ارتكاب الذنب، لأن ارتكابه سرًّا يجعل ضرره قاصرًا على من اقترفه، وأما المجاهرة به فضررها يتعدى المذنب إلى غيره؛ لأنه يكون قدوة سيئة لمن كان مستعدًّا لاقتراف ذلك الذنب تجرئه على اقترافه، ولأن في الجهر به إذا كان من الشعائر الملّية، كالصيام، احتقارا للملة والأمة التي ينسب المفطر إليها، وإضعافًا لرابطة قوية من الروابط التي تمتاز بها الأمة على غيرها. ها هنا يضحك القارئ من هؤلاء الملحدين، لا تضحكوا إلا على أنفسكم بل ابكوا عليها إن كنتم تعقلون يقولون: إن الملحد ليس من أهل الملة ولا من أفراد الأمة فيُرمى بهذا اللوم ويطالب بالاعتذار عن عمل لا يراه واجبًا عليه، وإنه يعدّ الجهر بالإفطار في رمضان من الشجاعة الأدبية والإسرار به من الضعف والنفاق ونقول: كيف يصدق هذا الكلام على ملاحدة بلادنا وكلهم منافقون يدعون الإسلام ويلتزمون من أحكامه وشعائره، وعادات أهله ما لا ينافي أهواءهم، ولا يعارض شهواته

حال المسلمين الاجتماعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حال المسلمين الاجتماعية ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها [1] (1) الإنسان عالم اجتماعي لا يصل فرد من أفراده ولا شعب من شعوبه إلى كماله المقدر له إلا بالأعمال الاجتماعية التي يتعاون عليها أفراد العشيرة وأهل البلد والوطن وسائر الناس، وعلى قدر هذا التعاون يكون أقرب من الكمال الاجتماعي والبعد عنه، فالأمم بالأفراد والأفراد بالأمم، فهنيئًا للأمة التي تتسم بسعي أفرادها غارب العز والسيادة، وتتنسم ريح القوة والسعادة (ويا ويْح الرجل الذي ليس له أمة) [2] وما كل جمع كبير يستحق أن يسمى أمة، لولا سعة المجاز في الكلام، كقولنا في صور الناس وتماثيلهم: هذا فلان وهذا فلان. المسلمون جمع كبير يطلق عليه اسم الأمة الإسلامية بحسب صورته أو باعتبار ما كان عليه، وإن كان لا يقوم بالأعمال الاجتماعية التي تتحقق بها مقومات الأمم ومشخصاتها، وتحفظ بها مصالحها ومنافعها، وللمنار مقالات كثيرة في بيان هذا الموضوع يطلب أقدمها عهدًا من المجلد الأول منه، ومن أشهرها مقالة في المجلد التاسع عنوانها: حال المسلمين في العالمين، ودعوة العلماء إلى نصيحة السلاطين، كان لها تأثير في الشرق والغرب، وترجمها بالتركية أحد فضلاء الآستانة وطبعها في رسالة مستقلة باللغتين. وقد نطلق على المسلمين اسم الأمة باعتبار ما نرجو أن تئول إليه حالهم، فباعتبار أن ذلك الاستعمال من مجاز الكون بينَّا غير مرة في تلك المقالات أن الإصلاح الإسلامي ينحصر في كلمة تكوين الأمة إذ لا أمة في الحقيقة، وباعتبار أن ذلك الاستعمال من مجاز الأول يتسع مجال الإطلاق، وكثيرًا ما بينا الكلام على تحقق الرجاء، وصرحنا بأن الأمة قد ولدت ولادة جديدة، وأنها الآن في سن الطفولة، وأن ما تتصدى له من الأعمال الاجتماعية إنما كان صغيرًا وعرضة للفشل في الأكثر؛ لأنه من قبيل أعمال الأطفال، وقد شرحنا هذا الموضوع في مقالات نشرت في المجلد الثاني وغيره) [*] وذكرنا في المجلد الرابع أمثلة لطفولية الأمة، وقد حدث بعد ذلك ما هو أعظم منها، وناهيك بسقوط جريدة اللواء العربية وأختيها الفرنسية والإنكليزية، وموت مصطفى كامل باشا مؤسسهن بأموال الأمراء والأغنياء غارقًا في الدَّيْن، وبيع أثاثه ورياشه بالمزاد، ثم سقوط جريدة المؤيد وموت صاحبها غارقًا في الدين أيضًا، ثم سقوط الجريدة وهي جريدة حزب كبير من الأغنياء. فهذه أكبر الجرائد التي أسسها المسلمون في مصر، وكان لكل منها شركة وحزب ورأس مال مؤلف من ألوف الجنيهات وأنصار من أغنياء الأمة وأصحاب الأقلام فيها، وقد بينا وجه العبرة في شأن هذه الجرائد بعد موت الأولى وتبريح الداء بالأخريين في ترجمة الشيخ علي يوسف من المجلد السابع عشر ص 69. وما لي لا أذكر وأذكر في هذا المقام بتلك الفاتحة الوجيزة للمنار التي كانت أول ما كتب منه، ونحمد الله تعالى أنها كانت صورة مصغرة له، قد ارتسمنا ما رسمناه له فيها فلم نخرج عنه، وقد أشرنا فيها إلى سوء حال المسلمين ورغبة سوادهم الأعظم عن ما نقصد إليه بإنشاء المنار من الجد والإصلاح، وإلى وجود أفراد تنبهت أنفسهم لإصلاح الخلل، وتوجهت هممهم لمداواة العلل، وإلى أن الغرض من إنشاء المنار أن يكون لسان حال هؤلاء وحادي ركبهم في سبيل التجديد المطلوب. ثم ظهر لنا أن رجالنا في هذه الفئة كان أكبر منها في نفسها. تيسر لنا بهذا المنار أن نختبر حال المسلمين اختبارًا لا يكاد يتيسر بوسيلة أخرى، وقد كان هذا الاختبار الطويل والعلم التفصيلي مؤيدًا لما كنا عليه قبلهما من الوقوف بين الخوف والرجاء وترجيح الأمل على اليأس ترجيحًا يبعث على الجهاد والثبات على العمل، وهو ما صرحنا به في فاتحة المنار في العدد الأول للسنة الأولى. كان موضوع ذلك الأمل الأول مَنْ أيقظتهم حوادث الزمان وأثرت في قلوبهم آثار حكيم مصر وحكيم الأفغان، ومن على مشربهما من دعاة الإصلاح. ثم زاد عدد هؤلاء المحبين للإصلاح بتأثير المنار، ومنهم صاحب الرسالة التي نشرناها في آخر الجزء الماضي فاستتبعت كتابة هذا المقال، فهو قد اشترك في المنار منذ أنشئ وكان تلميذًا في المدارس، وقد أُشرب قلبه حب الإصلاح فهو فيه على علم ووجدان وإخلاص، ولكنه على علمه وسعة اختياره لما في هذه البلاد من الفسق وفساد الأخلاق أقوى منا رجاء في مسلميها وفي غيرهم، وإننا نخشى أن يضعف ويضمحل هذا الرجاء أو يزول ويحل محله اليأس إذا رأى أن رسالته لم تؤثر، ودعوته لم تجب، فأحببنا أن نذكره بما أشرنا إليه آنفًا مما نشرنا في خوالي السنين، ونؤيده بما في معناه من بيان حقيقة حال المسلمين، لعله يذهب بغرور المبالغ في التفاؤل، ويمسك رمق الرجاء على المهوي إلى اليأس، وينفخ نسمة الرجاء في اليأس، فنقول: إن في المسلمين كثيرًا من بقايا الفضائل الموروثة التي هي تعد من دلائل الحياة الاجتماعية، وكثيرًا من الرذائل والأمراض الروحية الموروثة والحادثة التي هي سبب ما حل بدولهم وأممهم من الرزايا التي يئن منها كل من شعر بها بقدر شعوره، وقد استيقظ في بعضهم هذا الشعور منذ مئة سنة أو أكثر، وتصدى بعض حكامهم وبعض أفرادهم إلى إصلاح ما فسد، وتجديد ما اخلولق وبناء ما انهدم، كما بينا ذلك في فاتحة المجلد السابع عشر، وإنما لم يفلح أحد منهم؛ لأن الحكام القادرين على تنفيذ الإصلاح لا يعرفون طريقه، والأفراد الذين يعرفون كُنْه الإصلاح لا يقدرون على تنفيذه. إنما تنهض الأمة بالإصلاح إذا وجد الاستعداد في الجمهور، ووجد الزعيم القادر على استخدام ذلك الاستعداد، ويمكن بيان هذا الاستعداد العظيم بكلمة واحدة من اصطلاح كتاب الجرائد وغيرهم من المعاصرين وهي التضحية، وما التضحية إلا بذل الأموال والأنفس في سبيل المصلحة العامة وهو ما يعبر عنه القرآن بكلمة الجهاد. ما قام أمر اجتماعي عظيم كالدين والدولة إلا ببذل المال والنفس فمن لم يبذل في سبيل دينه أو دولته ووطنه ما يحتاجان إليه من مال أو نفس فلا دين له ولا دولة ولا وطن، ولذلك جعل الله تعالى هذا الجهاد آية الإيمان بمثل قوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) . نحن لسنا بصدد إصلاح يحتاج فيه إلى بذل النفس، والتعرض لإراقة الدم، وإنما الإصلاح الذي أسس له المنار ثم مدرسة الدعوة والإرشاد إصلاح علمي تهذيبي يقوم بالمال، وإنما أنشأنا هذه المقالة لبيان حال من دعاهم ذلك المخلص الغيور في رسالته إلى النهوض بمشروع الدعوة والإرشاد ومساعدة المنار. ألا وإن الأغنياء أول من يخطر بالبال، في كل مقام يذكر فيه بذل المال وإن أكثر أغنياء بلادنا بل أمتنا كلها أغبياء سفهاء الأحلام، مسرفون في الفسق، بخلاء حتى بما وجب من الحق، أشحة على الخير، لا يكاد يخرج المال من أيديهم إلا على مائدة قمار، أو في حانة خمَّار، أو لبغي وقواد، أو رشوة لحاكم شرير، أو تزلفًا إلى سلطان أو أمير أو مدير، فأكثر ما بذله أغنياؤنا في هذا العصر للجمعيات الخيرية أو المدارس أو جمعية الهلال الأحمر أو جمعية الصليب الأحمر فهو رياء، وتزلف للحكام والأمراء، وهذا مما يعلمه الكاتب وغير الكاتب علمًا ضروريًّا أو كالضروري. وأما غير الفساق المرائين من الأغنياء فهم كسائر الناس، والناس فيما نحن بصدده فريقان: فريق لا يرجى منه خير للإسلام بل يخشى شره، وفريق قلما يُرجى الخير من غيره، فأما الفريق الأول فثلاثة أصناف: ملاحدة المتفرنجين، ومنافقو المعممين، وتحوت الفقراء الجاهلين، الذين لا يكادون يفقهون حديثًا، ولا يعقلون للأمة والملة معنى، وقد بينا في فاتحة هذه السنة من الجزء الأول أن من أولئك الملاحدة والمنافقين من تصدى لمقاومة مدرسة الدعوة والإرشاد ينفث سموم السِّعاية لمنع إعانة وزارة الأوقاف وغير الأوقاف، كما سعى أمثالهم وأقنالهم من قبل في الجمعية الخيرية الإسلامية، حتى زعموا أنها تمد مهدي السودان بالمال لقتال مصر والدولة البريطانية. وأما الفريق الثاني وهو الوسط في شئونه العقلية والنفسية، أو شئونه الاجتماعية أو المعاشية، فيتألف من أصناف يقل فيها الغني الموسع، كما يقل فيها الفقر المدقع، والأغنياء منه ثلاثة أصناف. صنف تربى تربية إسلامية بحسب ما عليه جمهور المسلمين في القرون الأخيرة من مزج السنن بالبدع، والخرافات بالحقائق، فهم لا يفقهون من بذل المال في سبيل البر إلا بناء مسجد ولو في مكان تزيد فيه المساجد على حاجة المصلين، وإنما يكون هذا من الخير إذا لم يبن المسجد على قبر أحد من الصالحين، وإلا كان صاحبه ملعونًا على لسان خاتم النبيين، أو وقف أرض تنفق غلتها على تشييد القبور أو البناء عليها أو حولها وما يكون من المواسم عندها في الأعياد وجمع رجب، وكل ذلك من المعاصي وبدع الضلالة المنكرة التي لا يجوز الوقف عليها، وإن تضمنت إطعام بعض الفقراء الطعام المبتدع لأجلها، فهذا الصنف قلما يرجى منه الآن فائدة للأعمال الإصلاحية كمشروع الدعوة والإرشاد. وصنف آخر تربى أفراده على التفرنج ولكن لم يكونوا كجماهير المتفرنجين الذين لا حظ لهم من حياتهم إلا تقليد الإفرنج في عاداتهم الخاصة بالزينة والطعام والشراب والتمتع باللذة واللهو واللعب كتربية الكلاب والسير بها والركوب معها، بل أودع في نفوسهم الميل إلى الاقتداء بهم في بذل المال للمنافع العامة، لا رياء للجمهور، ولا تزلفًا لحاكم أو أمير، بل لأن ذلك عندهم من اللذات النفسية، أو الشرف والكمال الإنساني، وبهذا ارتقوا عن جمهور الأغنياء الأغبياء السفهاء، ولعل هذه البلاد لا تخلو من أفراد منهم، ومن عساه يوجد منهم فقد يبذل المال للمساعدة على تعليم الموسيقى والتصوير أو الألعاب الرياضية، وقلما يحفل بالإصلاح الديني العلمي إلا إن كان له نزعة دينية أو تهذيبية، وأنى لجماعة الدعوة والإرشاد بالاهتداء إلى مثل هذا وإقناعه بأن مقصدها الأول من مدرستها بث المرشدين في أنحاء البلاد لتعليم العوام ما يزجرهم عن المعاصي والمنكرات، ويزكيهم من أدران البدع والخرافات، حتى تستفيد المدرسة من مساعدته؟ وصنف ثالث هم الوسط الصحيح وهم الذين أوتوا نصيبًا من التربية الدينية والعلم الإسلامي الصحيح، ونصيبًا من حال هذا العصر وما يحتاج إليه المسلمون فيه من الإصلاح، والغني في هذا الصنف أندر منه في سائر الأصناف، والرجاء في مثله لمساعدة الدعوة والإرشاد، أقوى وأشد منه في سائر الناس، إلا أن يغلبه على دينه وعقله البخل الفاحش والشح المطاع، وإيثار وعد الشيطان بالفقر على وعد الله بالمغفرة والإخلاف، وإذا كان الصنفان المذكوران قبل هذا وهما كالطرفين له، مما يصعب إقناع أفرادهما بوجوب المساعدة على الإصلاح الديني العلمي فهذا الصنف لا يحتاج إلى إقناع، ولا يخفى عليه وجود ما يوجد منه في البلاد. ومن أغنياء هذا الصنف من غلب عليهم الترف ودب إلى دينهم الوهَن، فضعفت غيرتهم على إسلامهم الديني، دون إسلامهم الاجتماعي والسياسي، فهم يودون إصلاح حال المسلمين، ويعتقدون أن ذلك لا يرجى إلا من طريق الدين، وإنما يودون أن ينهض بالإصلاح غيرهم، ولا تسمو بهم الهمة

السنة وصحتها والشريعة ومتانتها ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السنة وصحتها والشريعة ومتانتها رد على دعاة النصرانية بمصر (2) (تتمة واستدراك - استنكار المتأخرين لبعض متون أبي هريرة) قد علم مما تقدم أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه راوية ثقة عدل وأنه من نوابغ البشر في الحفظ والضبط لما يحفظ وقوة الذكر (الذاكرة) وعلم أيضا أنه انفرد بأحاديث كثيرة كان بعضها موضع الإنكار أو مظِنَّته لغرابة موضوعها كأحاديث الفتن وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ببعض المغيبات التي تقع بعده، ويزاد على ذلك أن بعض تلك المتون غريب في نفسه، ولو انفرد بمثله غير صحابي لعُدّ من العلل التي يتثبت بها في روايته، كما هو المعهود عند نقاد الحديث أهل الجرح والتعديل، ولذلك ترى الناس ما زالوا يتكلمون في بعض روايات أبي هريرة كما رأى القراء في دروس سنن الكائنات للدكتور محمد توفيق صدقي، وأول كلمة طرقت سمعي في ذلك كانت من تلميذ مسلم في مدرسة غير إسلامية ببلاد الشام، وكان ذلك في أوائل العهد بطلبي للعلم، ومن عرف ترجمة أبي هريرة معرفةً تامةً يجزم بعدالته وبراءته من الكذب على أحد من الناس، بله الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي روى هو وغيره عنه أنه قال: (من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وقد صرحوا بأن هذا الحديث متواتر. ولعل قراء المنار يتذكرون ما علقته على كلام محمد توفيق صدقي في حديث الذباب، وتطرقه فيه إلى الارتياب في رواية أبي هريرة، إذ بينت بالإيجاز أنه لا مجال للطعن في أبي هريرة نفسه وأن حديث الذباب وأمثاله مما يستبعد أن يكون مسموعًا من النبي صلى الله عليه وسلم لا يظهر علة نقلها عن أبي هريرة إلا إذا أحصيت تلك الروايات ولا سيما ما انفرد به أبو هريرة منها، ودقق النظر في أسانيدها ومتونها، وما يمكن طروؤه من الاحتمالات فيها، وأمهات هذه الاحتمالات أربعة: أحدها: أن يكون في رجال السند إلى أبي هريرة من هو مجروح وإن صُحح. ثانيها: أن يكون ذلك الحديث أو الأثر مرويًّا عنه بالمعنى، وقد وقع الغلط من أحد الرواة في فهمه فنقله كما فهمه. ثالثها: أن يكون ما روي حديثًا رأيًا لأبي هريرة أو غيره ممن روى عنه وعده بعض الرواة حديثًا لاجتهاده بأن مثله لا يقال بالرأي، فما قاله العلماء من أن قول الصحابي إذا كان لا يقال مثله بالرأي له حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح على إطلاقه، والناس يتفاوتون في فهم ذلك، فما يعده بعضهم منه لا يعده الآخر منه. رابعها: أن يكون رواه عن أهل الكتاب بالسماع ممن أسلم منهم ككعب الأحبار أو رآه في كتبهم وهو مما لا مجال للرأي فيه فيعده من قَبيل المرفوع من يأخذ ذلك القول قاعدة عامة، وقد ثبت أن أبا هريرة روى عن كعب الأحبار وأن معاوية قال في كعب الأحبار: إنهم كانوا يبلون أي: يختبرون عليه الكذب، وقد تقدم ذلك في هذا المقال نقلاً عن البخاري، وإنني كنت أسيء الظن في روايات كعب الأحبار قبل أن أرى ما رواه البخاري عن معاوية فيه، وكذا وهب بن منبه. ثم إنني بعد كتابة ما تقدم وقبل طبعه رأيت في تفسير سورة النمل من تفسير الحافظ ابن كثير بعد ذكر عدة روايات عن الصحابة في قصة ملكة سبأ مع سليمان عليه السلام ما نصه: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها مُتلقاة عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كراويات كعب ووهب، سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ، وقد أغنانا الله عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة اهـ. فجملة القول في هذه الأحاديث المشكلة إذا كانت مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوفة على أحد رواة الصحابة رضي الله عنهم أبي هريرة أو غيره أن يدقق النظر في أسانيدها أولاً، فإذا كان في الاحتجاج ببعض رجالها مقال كُفينا أمرها، وكذا إذا كان فيها انقطاع أو إرسال، وإلا نظرنا إلى غير ذلك من الوجوه التي يكون بها المخرج كغلط الرواة بسبب النقل بالمعنى أو غيره من الأسباب، وأدهى الدواهي أن يكون الحديث مأخوذًا عن بعض أهل الكتاب بالقبول ولم يُعز إليه، ولا يغرنك قولهم: إن مراسيل الصحابة حُجة، وإن الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم المرفوع، فإذا ثبت أن أبا هريرة مثلاً كان يروي عن كعب الأحبار وأن الكثير من أحاديثه مراسيل، فالواجب أن يتروى في كل غريب لم يصرح فيه بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان من الإسرائيليات أو ما في معناها احتمل أن يكون قد رواه عن كعب وكان هذا الاحتمال علة مانعة من ترجيح إسناد كلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يوقع في الإشكال. لا يتسع هذا الموضع لتحرير هذا البحث بالتفصيل، ولكنا نذكر أهل العلم بحديث يرون فيه أكبر عبرة في هذا المقام وهو حديث الجساسة الذي حدث به تميم الداريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجه مسلم في صحيحه مرفوعًا من طرق يخالف بعضها بعضًا في متنه، فهذا الخلاف في المتن علته من بعض رواة الصحيح، ولا يظهر حمله على تعدد القصة، ثم إن رواية الرسول صلى الله عليه وسلم له عن تميم الداري إن سلم سندها من العلل هل تجعل الحديث ملحقًا بما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه فيجزم بصدق أصله، قياسًا على إجازته صلى الله عليه وسلم أو تقريره للعمل إذ يدل حله وجوازه؟ الظاهر لنا أن هذا القياس لا محل له هنا، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم الغيب فهو كسائر البشر يحمل كلام الناس على الصدق إذا لم تحف به شبهة، وكثيرًا ما صدق المنافقين والكفار في أحاديثهم، وحديث العُرَنيين وأصحاب بئر معونة مما يدل على ذلك، وإنما كان يعرف كذب بعض الكاذبين بالوحي أو ببعض طرق الاختبار أو إخبار الثقات، ونحو ذلك من طرق العلم البشري، وإنما يمتاز الأنبياء على غيرهم بالوحي، والعصمة من الكذب وما كان الوحي ينزل إلا في أمر الدين وما يتعلق بدعوته وحفظه وحفظ من جاء به، وتصديق الكاذب ليس كذبًا، وحَسْبك أن تتأمل في هذا الباب عتاب الله لرسوله إذ أذن لبعض المعتذرين من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وما علله به، وهو قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) . وإذا جاز على الأنبياء المرسلين أن يصدقوا الكاذب فيما لا يخل بأمر الدين ولا يترتب عليه حكم شرعي ولا شيء ينافي منصب الرسالة، أفلا يجوز على من دونهم أن يصدقوا الكاذب في أي خبر لا تقوم القرينة على كذبه فيه، ومن صدَّق شيئًا يجوز أن يحدِّث به من غير عَزْو إلى من سمعه منه، ولكن هذا كان قليلاً في الصدر الأول من الإسلام، فقد ظل المسلمون عدة قرون ينقلون كل شيء بالرواية وإن كان بيت شعر أو كلمة مُجون. تنبيه مهم: إن الأحاديث المشكلة الصحيحة الإسناد قليلة فما رواه أبو هريرة منها قليل من قليل، وما انفرد به منه أقل من ذلك القليل، ولا يتوقف على شيء منها إثبات أصل من أصول الدين، والحمد لله رب العالمين. *** الجملة الخامسة الخاتمة لكلام الطاعن (استنتاجه من جملة دعاويه أن الشريعة لا قيمة لها في نفسها ولا في روايتها) قال بعد سرد ما تقدم عن الشبهات على رواية أبي هريرة ما نصه: هذا هو الرجل الذي وضع مع ابن عباس الشريعة، ولكن ما هي قيمتها؟ إن السؤال مهم جدًّا، ويطلب الجواب عليه من الثلاث مائة مليون سُنّي الموجودين في العالم اهـ بحروفه. اشتملت هذه الخاتمة على دعوى باطلة، واستفهام إنكاري تهكمي، ووجه هذا السؤال فيها إلى ثلاث مئة مليون سني [1] أي إلى كل فرد من أفراد أهل السنة الذين يسكنون في جميع الأقطار، ويتكلمون بعشرات من اللغات، ولماذا؟ لأن السؤال مهم جدًّا في نظر القسيس المبشر المتصدي هو وجمعيته لتنصير كل هؤلاء المسلمين بعد عجزهم عن هذا السؤال المهم جدًّا، بَخٍ بَخٍ. *** الجواب عن الدعوى هذه الدعوى ظاهرة البطلان عند المسلمين وعند من له أدنى إلمام بشريعتهم وتاريخهم من النصارى وغيرهم، سواء أراد بأساس الشريعة أصول أدلتها التي تستنبط منها، وهو الأقرب، أو أصول مقاصدها وهي العقائد والأحكام والآداب، ونستغني عن بيان ذلك بما قلناه في مسألة أركان الشريعة الذي فندنا به القضية الثالثة من قضايا الجملة الأولى من مقاله راجع ص 28 ج1 ثم نقول: إن أبا هريرة وابن عباس ما وضعا أساس الشريعة ولا أركانها، ولا أصولها، ولا فروعها، وإنما رويا لنا كغيرهما من الصحابة الكرام الكثير الطيب من سنة الرسول، وهي ثابتة الأسس والأصول. وقد بينا أن البخاري خرَّج لأبي هريرة 446 حديثًا في صحيحه، ونقول هنا: إنه خرَّج فيه لابن عباس 217 حديثًا، وهذا القدر من روايتهم للأصول الموصولة من الأحاديث لم ينفردا به وإنما شاركهما في رواية الكثير منه غيرهما، ولو أحصينا ما انفرد بروايته أبو هريرة وحده من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه قليلاً جدًّا، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئًا كثيرًا، وأن ما عسى أن تنقصه يمكن أن يعرف حكمه من قواعد الشريعة الثابتة وأصولها القطعية، كقاعدة رفع الحرج والعسر، وإثبات اليسر وترجيحه، وقاعدة كون الأصل براءة الذمة وكون الأصل في كل الخبائث والمضرات الحرمة، وفي كل الطيبات الحِلّ، وكون الضرورات تبيح المحظورات، وغير ذلك مما لا مجال لتفصيله في هذا الرد. *** قيمة الشريعة الإسلامية الجواب عن الاستفهام التهكمي لا أرى شبهًا لسؤال القس الطاعن عن قيمة الشريعة الإسلامية إلا السؤال عن الشمس وما فائدتها للدنيا؟ وعن العافية ما فائدتها للناس؟ وعن الماء والهواء ما فائدتهما للنبات والحيوان؟ سواء كان السؤال سؤال إنكار وتهكم أو سؤال استفهام، وإننا نجيب عن هذا السؤال بجواب مجمل وجيز؛ لأن التفصيل لا يأتي إلا بتصنيف كتاب كبير، فنقول: (1) إن هذه الشريعة هي الشريعة الوحيدة التي ثبتت نبوة من جاء بها بالبرهان العقلي العلمي الثابت الدائم، وملخصه أنه رجل أميّ نشأ بين قوم أُمِّيين بلغ الكهولة ولم يقرأ كتابًا، ولم يكتب سطرًا ولا حرفًا، ولا قال شعرًا ولا ارتجل خُطبة، ولا رَأَسَ قبيلة ولا ساس قرية، ولا انتحل كهانة ولا عَرافة، ولا عرف شيئًا من شرائع الأمم وأديانها، ثم قام في سن الكهولة بدعوى النبوة، وأيد دعواه بكتاب اشتمل على أخبار الغيب الماضية والمستقبلة، وسنن الله في الدين والمدنية، وعلى أصح علوم العقائد الإلهية، المؤيدة بالبراهين العقلية والعلمية، وأصلح علوم الأخلاق والفضائل النفسية والعبادات الجامعة بين المنافع الروحية والجسدية، وأعدل قواعد الشرائع السياسية والمدنية إلخ، ثم إنه اجتث بهداية هذا الكتاب جراثيم الوثنية، وطهَّر الأمم من الخرافات التقليدية وأخلاق الجاهلية، فكان للناس بذلك دين كامل وشريعة عادلة وأمة مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل، ودولة أحيت الحضارة وامتدت من المشرق إلى المغرب في جيل واحد. فكان مثل محمد النبي الأمِّيّ صلى الله عليه وسلم كمثل رجل جاء بلدًا مصابًا بالأوبئة المجتاحة والأمراض المعضلة، وادَّعى أنه طبيب وأيد دعواه بكتاب في الطب والعلاج طهَّر به ذلك البلد كلها من الأمراض والأوبئة، فأصبح أهله متمتعين بكمال الصحة والعافية. فكما يجزم كل عاقل بأنه يستحيل على غير الكامل في علم الطب أن

المجمع اللغوي المأمول

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المجمع اللغوي المأمول دعوة إلى هذه الأمنية وخطوة جديدة على ذكرى بلوغ المقتطف سن الأربعين من حياته المفيدة طالما تشوفت أنفس أهل العلم والأدب من المشتغلين بالتصنيف والإنشاء والترجمة بلسان العرب إلى إنشاء مجمع لغوي للتعاون على خدمة اللغة العربية بالطرق التي تقتضيها حال هذا العصر، وطالما تحدثوا بهذا في أنديتهم وسمارهم، وكثر ما هموا ولم يفعلوا، وما أقدموا ثم أحجموا، وما بدأوا ثم لم يثبتوا، وقد كان عدم تيسر المكان اللائق بهذا العمل من الموانع العائقة لكثير من الذين تمنوه وتحدثوا بشأنه عن مواصلة المذاكرة فيه ومعاودة الاجتماع لأجله، فلما أنشأ الأساتذة المتخرجون من مدرسة دار العلوم ناديهم منذ سنين قليلة تعلقت آمال كثير من الناس بهم، وكان اختيار حفني بك ناصف رئيسًا لناديهم، مقويًا للرجاء فيهم، ثم ما عتم هذا النادي أن خبت ناره، وأطفئت أنواره، ولكن بعد ترك حفني بك لإدارته ومغادرته مدينة القاهرة مرتقيًا في منصبه. لاح لنا أمس بارق أمل جديد، عسى أن نصل في نوره إلى ما نريد، فيكون ذلك من بركات المقتطف المفيد. صدر الجزء الأول من مجلة المقتطف في مثل هذا اليوم أول مايو من سنة 1876 فتم له أمس أربعون سنة، وقد كان مما يخطر على بال كثير من أهل العلم وأنصار النهضة العربية أن يجعلوا هذا اليوم عيدا للمقتطف يحتفلون به الاحتفال اللائق بخدمته للعلوم والفنون بهذه اللغة الشريفة التي لا حياة لنا إلا بحياتها العلمية والفنية، ولكن الحرب الأوربية العامة جعلت العالم كله في مأتم ولا تكون المآتم أعيادًا. وقد كان في مقدمة الذين شعروا بوجوب الاحتفال بالمقتطف صديقنا الأديب الخطيب الشهير إسماعيل بك عاصم المحامي، وقد رأى أن ما يمنع من إقامة الاحتفالات العامة، لا يمنع من اجتماع خاص لتهنئة خاصة، فأعد أمس في دارها الزاهية مأدبة لصاحبي المقتطف دعا إليها صاحب الدولة رئيس الوزارة حسين رشدي باشا وصاحب المعالي عدلي باشا يكن وزير المعارف وصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وصاحبي السعادة يحيى باشا إبراهيم رئيس الاستئناف الأهلي وأحمد زكي باشا كاتب سر مجلس النظار وحضرة صاحب العزة أحمد بك لطفي السيد مدير دار الكتب السلطانية، وبعض أصحاب المجلات العربية المشهورة. انتظم عقد هذه الجماعة عشاء في تلك الدار، المتألقة بالأنوار فكانت سامرًا علميًّا من أرقى السمار، افتتحها حضرة صاحب الدعوة بهذه الأبيات: يا بدورًا قد تجلى ... في سماء العليا سناكم حاكت الأفلاك داري ... حين حياها نداكم فاقبلوا مني دعاء ... أسعد الله مساكم وبعد مسامرات كان جلها في مناقب العرب وما سبق لهم من ترقية العلوم والفنون تحلقوا حول تلك المائدة، فأصابوا مما طيف عليهم به من ألوانها الفاخرة، ثم نهض الداعي الوفي الكريم فألقى خطبة نفيسة في الثناء على المقتطف المفيد، وعلى منشئيه الفيلسوفين الكبيرين الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر، بين فيها خدمته الجليلة للعلم والعربية وذكر أنه أنشئ في بيروت ثم جذبته مصر إليها، وذكر مقالتين نشرتا في الجزء الأول كانتا كالمرآة التي تجلى فيها كماله، مقالة في عمل الزجاج ومقالة في القمر وتشكله منذ يبدو هلالاً إلى أن يكون بدرًا كاملاً، قال: وكذلك كان المقتطف فإنه كالزجاج في صفائه وبهائه، وهو كالقمر بدأ هلالاً ثم صار بدرًا كاملاً وأسأل الله حفظه من المحاق. ثم ذكر بدء معرفته لمنشئ المتقطف من زهاء ثلاثين سنة، وذكر من فضلهما وأخلاقهما ما هو معروف، وأشار في خطابه إلى ما سبق من احتفاله المشكور ببلوغ مجلة المنار عشر سنين، وذكر المنار في سياق الاستدراك على وصف المقتطف بالسبق في خدمة العلوم، ثم قام كاتب هذه السطور فاستأذن الوزير الأكبر بإلقاء كلمة في الموضوع خلاصتها: ورد في الحديث الشريف (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) وقد رأيت صديقنا الفاضل إسماعيل بك عاصم استدرك على ما وصفه المقتطف بأنه المجلة العربية الوحيدة التي قامت بما قامت به من خدمة العلم فذكر المنار وقرنه بالمقتطف وقال: إن للمقتطف فضيلة السبق وذكر أنني أعترف له بذلك كما اعترف لابن معطٍ ابنُ مالك إذ قال في فاتحة الألفية: وهو بسبق حائز تفضيلا ... مستوجب ثنائي الجميلا نعم أعترف للمقتطف بالسبق والتبريز في العلم، وأزيد على ذلك الاعتراف بأنني قد استفدت من المقتطف من أول عهدي بطلب العلم ولا أزال أستفيد منه. إنني لما دخلت المدرسة الوطنية في طرابلس الشام وذلك أول عهدي بطلب العلم رأيت أستاذنا الشهير الشيخ حسينًا الجسر مشتركًا في المقتطف ومواظبًا على قراءته، فكانت تلك أول معرفتي بالمقتطف وصرت أستعيره بعد ذلك وأقرؤه، فاستفدت من مباحثه فوائد عقلية وصحية واجتماعية، ولا أزال أعتمد على ما يكتبه في معرفة أطوار التجدد العلمي العصري. إن المقتطف في نظري مدرسة جامعة سيارة يستفيد منها العالم العربي في كل بلد يقرأ فيه فإن الذين يتعلمون مبادئ العلوم العصرية باللغة العربية، يحتاجون إلى الوقوف على ما يتجدد فيها بالبلاد الغربية، ولا سبيل إلى هذا إلا بالاطلاع على الكتب والمجلات الأوربية التي تصدر في كل عام وهذا لا يتيسر إلا لبعض الأغنياء المتقنين لبعض لغات العلوم الأوربية، فالمقتطف يلخص لنا في كل شهر ما لا يستغني عنه قراء العربية. من حق المقتطف على الأمة العربية أن تحتفل به في الوقت المناسب ونرجو أن يكون ذلك على رأس الخمسين من حياته النافعة. احتفل فريق من المصنفين ببلوغ مطبعة المعارف سن العشرين في خدمة الصناعة وإتقانها فإذا جرينا على سنتهم كان علينا أن نقيم للمقتطف عشرات من الاحتفالات. كان على مروِّجي الصناعة أن يقيموا للمقتطف مثل هذا الاحتفال لا لأن له مطبعة أخرجت للناس من المطبوعات النافعة ما لم يخرجه غيرها فحسب، بل لأن للصناعة بابًا في المقتطف فهو مرشد إلى ترقيتها بجميع فروعها، وكان على المجتهدين في ترقية الزراعة أن يقيموا له احتفالاً آخر لأن للزراعة بابًا فيه مثل باب الصناعة، ومثل هذا يقال في كل علم وفن ولكن صديقنا إسماعيل بك عاصم جمع لنا في هذه الليلة صورة مجملة لما يجب على الأمة مفصلاً. إن أكبر منقبة للمقتطف ومنشئيه أنهما حجة اللغة العربية على من يتوهمون أنها لا تتسع لجميع العلوم العصرية ولا يسهل تعليمها بها، فهذان العالمان الكبيران تعلما العلوم باللغة العربية واشتغلا بالكتابة والتأليف فيها مدة أربعين سنة فأفادا العلم ما لم يفده أحد من المتعلمين منا باللغات الأجنبية. هذا ملخص ما قلته، ثم ألقى أحمد زكي باشا خطبة نفيسة في فضل المقتطف ومنشئيه في خدمة العلم باللغة العربية افتتحها بما هو معروف في الفقه الإسلامي من تقسيم الواجب إلى فرض عين وهو ما يطلب من كل فرد من الأفراد كالصلاة والصيام، وفرض كفاية وهو ما إذا قام به بعض الأفراد سقط الطلب عن الباقين كالفنون والصناعات التي لا يستغني الناس عنها في معايشهم، وقال: إن صاحبي المقتطف هما اللذان قاما بفرض الكفاية من خدمة العلوم والفنون، ثم ذكر أول عهده بالمقتطف وأنه أرسل إليه سؤالاً إلى بيروت ثم عهده برؤية منشئيه وما يحمد من صحبته لهما. وقام أيضا الشاب النجيب إميل أفندي زيدان صاحب مجلة الهلال الغراء فأثنى على المقتطف وذكر أنه تلميذ لتلاميذ منشئيه العلامتين وذكر أن والده وهو أستاذه الأول كان تلميذهما، وكذلك كان أساتذته في المدرسة الكلية من تلاميذهما. ثم قام صاحب مجلة المفتاح الغراء توفيق أفندي عزوز فخطب خطبة أثنى فيها على المقتطف بما هو أهله وذكر استفادته منه كغيره وقال: إن منشئيه العلامتين الفاضلين قد أفادا بأخلاقهما كما أفادا بمجلتهما فهما باتفاقهما وتكافلهما وإخائهما قدوة صالحة لهذه الأمة التي تشكو من التفرق والاختلاف وقلة الثبات ما هو أعظم عائق لها عن القيام بالأعمال النافعة. وبعد ذلك قام العلامة الدكتور فارس نمر فألقى خطابًا بليغًا قال في فاتحته: إنه بلسانه ولسان شريكه وأخيه الدكتور صروف يشكر أولاً لسعادة إسماعيل بك عاصم عنايته بهذه الدعوة ويعتب عليه أنه جعلها بصورة احتفال ومما قاله: إن حضرة رب هذه الوليمة شرف إدارتنا منذ بضعة أيام وهنأنا بمرور أربعين عامًا على مجلتنا المقتطف ودعانا إلى تناول الطعام مع جماعة من علماء مصر وأرباب المجلات العربية الذين دعاهم احتفالاً بذلك فأبنا لحضرته أن الوقت لا يصلح للاحتفالات ولا خدمتنا تستحق هذه العناية ولكن أبت مكارمه ومكارمكم أيها السادة إلا أن تخصونا بالنصيب الأوفر من محاسن هذه الليلة وأن تتحفونا بهذا المدح الذي لا نستحقه فلحضرة صديقنا الفاضل صديق العلم والأدب رب هذه الدار ولدولة الوزير الكبير رئيس الوزراء ولمعالي وزير المعارف ولفضيلة مفتي الديار المصرية ولسعادة رئيس الاستئناف الأهلي ولسعادة سكرتير مجلس النظار وسائر الذين تكرموا بالثناء على المقتطف وذكروه بالخير ولبوا هذه الدعوة إكرامًا له جزيل الشكر من هذين العاجزين. ثم قال: إن المقتطف وإن كان قد أنشئ في القطر السوري فقد كان معظم انتشاره في القطر المصري، وقد لقي من أعاظم مصر أعظم عضد وأرحب صدر حتى أن وزير مصر الشهير المرحوم رياض باشا كان يكاتبه منذ بدء إنشائه، ولما نقلناه من سورية إلى مصر رحب به رحمه الله كما رحب به الوزير الكبير شريف باشا والعالم المرحوم شفيق بك منصور وغيرهم من أعاظم مصر وأكابر علمائها، والأمل وطيد أن خدمة المقتطف على ما بها من الضعف تجد من تأييدكم أيها السادة ما يقويها ويزيدها أضعافا مضاعفة بمؤازرة سائر المجلات والجرائد العربية في عصر مولانا السلطان المعظم الذي حق لنا أن نباهي به سلاطين الشرق والغرب معا على حبه للعلم وإكرامه للعلماء ورغبته في إعلاء منار الأدب وغيرته على نشر المعارف وجوده في سبيل التربية أدامه الله للأمة العربية فخرًا وأدامكم للغة العربية فخرًا. ثم دارت بعد ذلك المذاكرة في مسائل علمية ولغوية أفضت إلى الكلام في شدة الحاجة إلى إنشاء مجمع لغوي في مصر فقال أحمد لطفي بك السيد مدير دار الكتب السلطانية إن أحمد زكي باشا كان قد اقترح علي أن أخصص مكانًا من دار الكتب لذلك، وإني أجبت إلى ذلك فلديّ الآن في المكتبة مكان لائق كانت الجرائد ذكرت أننا فرشناه وأعددناه لراغبات المطالعة من السيدات وليس عندنا سيدات يغشين دار الكتب للمطالعة فنعد لهن مكانًا. فسر جميع الحاضرين بهذا وقابلوه بالثناء ورأوا أن قد زالت به عقبة من عقبات الشروع في تأسيس المجمع اللغوي الذي بينا مكانته من النفوس في أول هذه النقلة وزادهم سرورًا ما رأوه من ارتياح الوزير الأكبر ووزير المعارف للشروع في تأسيس المجمع اللغوي بدار الكتب السلطانية، وأرجو أن نبشر قراء العربية في مقال آخر بتأسيس هذا المجمع بالفعل. وقد امتد هذا السمر المفيد إلى منتصف الليل فانصرف السامرون مثنين على رب المنزل أطيب الثناء.

جمال باشا السفاك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمال باشا السفاك كان جمال باشا من آحاد الضباط الكثيرين المنتمين إلى جمعية الاتحاد والترقي فلم يلبث أن ترقى فوق الهام والرءوس إلى مقام الزعماء على حين قد تدهور أمير الألاي صادق بك عن منصة الزعامة العليا لها وسقط كثير من الضباط وغيرهم ممن مكاناتهم عالية، وإنما ترقَّى جمال بك ببراعته وجرأته على سفك دماء خصوم الجمعية، فهو الذي دبر مكيدة المذبحة الأولى في أدنه إذ كان واليًا لها بعد الدستور، وهو الذي قتل الجم الغفير من كبراء الآستانة المخالفين للجمعية عقب اغتيال محمود شوكت باشا، ولأجل هذا اختارته الجمعية لقيادة فيلق سورية بعد الحرب على كونه لا يزال ناظرًا للبحرية، وما سمعنا في أخبار دولة من الدول أن أحد وزرائها يعطى وظيفة دون الوزارة في بلاد بعيدة عن العاصمة فيكون فيها عدة سنين في أشد أوقات الحاجة إلى قيامه بشئونها وناهيك بوزيري الحربية والبحرية في وقت الحرب ولكن زعماء الجمعية يأخذون المناصب العليا بعلومهم في الجمعية لا بخدمتهم للدولة. نعم إن الجمعية اختارت جمال باشا لأجل أن يتم تنفيذ ما توعدت به سورية من بضع سنين في جريدتها طنين وعبرت عنه بالدش البارد وإنما كانت مذبحة الكرك وتعذيب العرب برضخ رءوسهم بالصخور هي الرشة الأولى من هذا الدش وإننا على علمنا بهذا الإنذار وبما هو أشد منه وأوضح وعلى ذكرنا بعض تلك النذر في مقالات العرب والترك، وغيرها في المنار، قد ارتبنا في أول خبر بلغنا عن شنق جمال باشا لبعض نابغي المسلمين في بيروت، ولا يزال أكثر المصريين يكذبون أخبار التقتيل والنفي التي تكررت بل تواترت، وقد ظفرت جريدة المقطم ببيان لجمال باشا نفسه نشرته في اليوم السابع من شهرنا هذا يصرح فيه بعمله ويحتج له، وهذا ما نشرته: *** بيان من جمال باشا نشر جمال باشا القائد العثماني في سورية البيان التالي بإمضائه في 5 رجب سنة 1334 الموافق 7 مايو سنة 1916 وهذا هو نصه العربي كما نشر بحروفه: لما جرى القصاص على بعض الأشخاص المنتسبين في الحزب المتشكل في مصر والممالك العثمانية تحت تمويه عنوان حرب اللامركزية والذين حوكموا في ديوان الحرب العرفي بعاليه كنت كتبت في البيان الذي نشرته في أوائل أوغستوس سنة 1331 أن التحقيقات جارية بصورة دقيقة بحق أعوانهم الأشرار الذين لم يكن قبض عليهم قبلا. إن الوثائق السياسية التي عثرنا عليها واعتراف عبد الغني العريسي صاحب المفيد الذي ألقي القبض عليه أخيرًا بعد أن ذكرنا في البيان قراره واعتراف سيف الدين الخطيب عضو محكمة بداية حيفا السابق ورفيق رزق سلوم ضابط الاحتياط ورفقائهم الآخرين قد نور المسألة من جميع أطرافها وسيق إلى ديوان حرب عاليه الأشخاص الذين ظهر أن لهم علاقة في هذه المسألة بدرجات متفاوتة مع من تبين أن لهم دخلاً في المساعي الخائنة بتنفيذهم ترتيبات الجمعية وتشبثاتها وأعمالها، وفي ختام التحقيقات والمحاكمات التي أجراها الديوان العرفي في عاليه صدرت الأحكام المقتضاة بحق المظنون فيهم من الموقوفين والفارين كل على حسب اشتراكه في ترتيبات هذه الجمعية التي غايتها ومقصدها سلخ سورية وفلسطين والعراق عن راية السلطة العثمانية وجعلها إمارة مستقلة، فحكم على شفيق بن أحمد مؤيد العظم والأمير عمر ابن الأمير عبد القادر، وعمر بن مصطفى حمد، ورفيق بن موسى رزق سلوم، ومحمد بن حسين الشنطي، وشكري بن بدري علي العلي، وعبد الغني بن محمد العريس، وعارف بن محمد الشهابي، وتوفيق بن أحمد البساط، وسيف الدين بن أبي النصر الخطيب، والشيخ أحمد بن حسين طبارة، وعبد الوهاب بن أحمد الإنكليزي، وسعيد بن فاضل عقل، وبتروباولي، وجريج بن موسى الحداد، وسليم بن محمد سعيد الجزائري، وعلي بن محمد حاجي عمر، ورشدي بن أحمد الشمعة، وأمين لطفي بن محمد حافظ، وجلال بن سليم البخاري بالإعدام لثبوت اشتراكهم في هذه التشبثات بالدرجة الأولى بصورة فعلية، وعلى من تبين دخولهم في الدسيسة بصورة فرعية سالم بن مصطفى مظلوم بالاعتقال بالقلعة خمس سنين وتوفيق بن محمد الناطور ويوسف بن نحيبر سليمان بعشر سنين، وحسين بن خليل حيدر بخمس عشرة سنة، وعلى رياض بن رضا الصلح بنفي مؤبد، وعلى الأمير طاهر بن أحمد الجزائري بعشر سنين في الكريك، وعلى الذين مع كونهم لم يقيموا المقصد والتشبث الحقيق وثبت وجود مساع لهم مع هذه الجمعية بصورة محسوسة إما بسائق الجهل أو التصلف وإنما لم يوجد عليهم وثائق تنور وجدان الهيئة الحاكمة وتثبت مجرميتهم واشتراكهم وهم رضا الصلح وأسعد حيدر بإعادتهما إلى منفاهما، وأعطي القرار بمنع محاكمة وبراءة كل من محمد أفندي كامل الهاشم، إبراهيم القاسم سامي العظم، الشيخ جمال الدين الخطيب، عبد الحميد معلم الرسم، محيي الدين فريحة البيطار حسين صبري، رشدي الغزي، عاصم بسيسو الغزي، عزت الأعظمي، مصطفى الكيلاني، عبد الرحيم حنون، الدقتور حسام الدين، نجيب شقير، الشيخ فتح الله، الدقتور أحمد قدري، سليم الطبارة، جميل الحسيني، المفتي سعيد أفندي الباني، سليم الشمعة، سليم البخاري، فائز الخوري، رشيد الخشيمي، عمر الأتاسي، البكباشي علي رضا، الدقتور أمين قازما، سعيد عدوه، الدقتور عبد الحفيظ اليوزباشي جميل، فريد باشا اليافي، عثمان العظم. ومن الذين صدر بحقهم حكم الإعدام وهم شفيق المؤيد، الأمير عمر، شكري العسلي، عبد الوهاب الإنكليزي، رشدي الشمعة، رفيق رزق سلوم، جرى إعدامهم هذا الصباح في الشام، والآخرون جرى إعدامهم في بيروت، وسائر المجرمين صار سَوْقهم إلى منفاهم وحبوسهم وعلى هذه الصورة تقرر إذًا في سورية وفلسطين السكون والأمن المحتاج إليهما إلى الأبد. وها أنا ذا أنشر الآن من الوثائق المهمة التي كانت أساسًا لهذه التحقيقات ما يكشف الغطاء عن حزب اللامركزية الحقيقي وسيُنشر كتاب حاوٍ جميع الوثائق على حدة مع اعترافات المجرمين المهمة وتاريخ صغير لهذه المسألة. ومن إمعان النظر في هذه الوثائق يفهم أولاً أن هؤلاء الأشخاص قد ضحوا بلا تردد جميع ما لديهم من المقدسات الدينية والوطنية لقاء منافعهم الخسيسة والمادية، إن هؤلاء الأشخاص قد أشركوا مساعيهم ونفوذهم وقدرتهم أعداء الدولة وسعوا في إعداد الطاعة في الداخل تجاه تجاوزات الأعداء في الخارج. ومما هو جدير بالتقدير أن إدارة هذه التشبثات لم تتسع بالنظر لما جبل عليه العنصر العربي النجيب من الصداقة والطاعة والصلابة الدينية العارية عن شوائب الظنون والشكوك بأسرها، بل حصرت بين بعض أشخاص مسلمين ومسيحين لا أهمية لهم ولا يكاد يتجاوز عددهم المائتين من المحكوم عليهم حديثًا وقديمًا وجاهًا وغيابًا. وبناءً على الصلاحية التي تخولني إياها المادة الثانية من القانون المؤرخ في 14 مايو سنة 1331 المتضمن التدابير التي ينبغي للجهة العسكرية التوسل بها في وقت النفير العام ضد الخارجين على الحكومة وإجراءاتها فإني ساعٍ في إبعاد أولئك الأشخاص الذين يتخذون حقوق الدولة ومقدساتها ملعبة في سبيل منافعهم الشخصية مع من لهم علاقة معهم من أسرهم وعائلاتهم من قريب أو بعيد إلى بعض ولايات الأناضول، وقد اتخذت الأسباب الكافلة لإعاشة هذه العائلات ورفاهيتهم في المحال التي ينفون إليها تحت عناية الحكومة السنية وعاطفتها، وسيعطون هناك أراضي وأملاكًا قيمتها تعادل أملاكهم وأراضيهم التي يملكونها في سورية، وإني أوصي جميع الأهلين في سورية وفلسطين بالسكينة والطمأنينة، على أنه من الآن فصاعدًا لم يبق محل لإجراء التعقيبات والإبعاد إلى الولايات العثمانية في حق أحد مطلقًا ما لم تظهر وثائق قوية تدل على خيانته. ... ... قومندان الفيلق الرابع وناظر البحرية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جمال (المنار) كل ما احتج به جمال باشا لسفكه الدماء وإجلائه الناس عن أوطانهم أباطيل، وقد قتل بعد من ذكرهم هنا عددًا ليس بقليل، منهم السيد عبد الحميد الزهراوي الشهير، وأول أباطيله تسمية القتل برأيه ورأي ديوانه العرفي قصاصًا، وإنما القصاص في شرع الله أن يقتل الجاني بمن قتله بغير حق، ومعناه في اللغة يدل على المساواة والمماثلة. ثم إنه يقول: إن التهمة الموجبة للقتل والنفي هي الاشتراك في جمعية غايتها جعل العراق وسورية وفلسطين مملكة مستقلة بعد سلخها من راية الدولة، ونحن نعتقد بطلان هذه التهمة بأدلة كثيرة (منها) أن الحزب الذي جعله أصلاً، للتهمة التي رمى بها هؤلاء الناس له برنامج معروف مطبوع ينطق بكذب تلك التهمة، (ومنها) أن هؤلاء الذين اعترف الباشا بقتلهم في هذا البيان لا يوجد فيهم إلا واحد أو اثنان من الداخلين في هذا الحزب، (ومنها) أننا نعلم باختبارنا لبعضهم واختبار من تثق به للآخرين أنهم لا يجمعهم رأي ولا مودة ولا سكنى ولا معرفة فكيف يتفقون مع ذلك على أمر عظيم كالذي اتهموا به؟ وأما الجرم الأكبر الذي يجمعهم وبه استحقوا العقاب هو أنهم من أذكياء العرب الذين يقولون بوجوب محافظة قومهم على لغتهم وأن يكون لهم حظ من مشاركة الحكومة في إدارة بلادهم، وأن لبعضهم ذنوبًا سابقة لا يغفرها الاتحاديون كإهانة شفيق بك لطلعت بك، والسعي لعدم إقراض أوربة للاتحاديين عشرات من الملايين، يضيعونها وتبقى البلاد رهينة بها للدائنين، وتوثيق أعضاء المنتدى الأدبي في الآستانة عُرى الإخاء بين طلبة العرب في مدارس الحكومة فيها، وإهانتهم لصاحب جريدة إقدام التركية في نشر تلك المقالة التي قال فيها كاتبها: إن الطريقة المثلى للتنكيل بعرب الجزيرة إغراء بعضهم بقتال بعض بالمال؛ لأن العرب تبيع كل شيء بالمال حتى العرض والناموس. ثم إنه يصرح بأنهم أُخِذُوا بالظن فلم تثبت عليهم تلك التهمة باليقين، ولو ثبتت لما جاز قتل أحد منهم بها شرعًا ولا قانونًا؛ لأنها عبارة عن رأي سياسي لم يدع قاتلهم أنهم شرعوا في تنفيذه بالخروج على الدولة في أثناء النفير العام الذي حاكمهم بقانونه، وكيف يعقل أن يقوم نفر قليل كهؤلاء بالخروج على الدولة والسواد الأعظم من قومهم يخالفهم فيه باعتراف جمال باشا نفسه والدولة تحكم بلادهم بالأحكام العرفية القاسية وجميع شبان الأمة وكهولها جنود مسلحون بين يديها؟ ويا ليت شعري ما تلك المنافع المادية الخسيسة التي ضحى أولئك الأذكياء الفضلاء دينهم ووطنهم لأجلها؟ إن كانت ما ذكره من غاية جمعيتهم المزعومة، فتلك غاية سياسة عالية لا مادية خسيسة، وإن كانت غيرها فما هي؟

الكتب المعزوة إلى غير مصنفيها

الكاتب: أبو الأشبال

_ الكتب المعزوة إلى غير مصنفيها بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد فكثير ما طبعت كتب ونسبت إلى أكابر علماء الإسلام، وهم براء منها، إما غلطًا وإما قصدًا لتكون نافقة في البيع أو لإدخال أشياء في دين الإسلام ليست منه، ولا يكون لقائلها من ثقة المسلمين به ما يؤهله لقبول قوله عندهم، فيختبئ وراء اسم أحد الأئمة المقبولين عند المسلمين، وينحله كتابه، وذلك لما ضاق بالزنادقة الأمر وحصرت أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في دواوين معروفة، وبين فيها الصحيح من غيره، فلم يتمكنوا من وضع الأحاديث عليه كما كانوا يفعلون في أول الإسلام قبل تدوين الحديث، ومفسدة هذه الكتب ظاهرة للعيان. رأيت كل هذا فعزمت بحول الله تعالى وقوته على بيان الأغلاط الواقعة في نسبة بعض الكتب المطبوعة إلى غير أهلها نصيحة للمسلمين، وتزكية لأئمة الدين، وخدمة للتاريخ، فكلما عثرت بشيء منها نشرته في مجلة المنار الغراء. ثم إني لا أقصد ببياني هذا طعنًا في أحد من طابعي هذه الكتب فلا يحرجنهم ذلك فإنما قصدي بها وجه الله تعالى، والله الموفق لا هادي إلا هو. (1) من الكتب الدخيلة الموضوعة قصدًا كتاب يسمى (سر العالمين) [1] ألفه أحد الزنادقة من الفرقة الباطنية، ونحله حجة الإسلام أبا حامد الغزالي رضي الله عنه، وأدخل فيه كثيرًا من عقائد الباطنية التي كان الغزالي أشد أعدائها، ومن أكثر العلماء ردًًا على معتقديها، وأدخل فيه كثيرًا من علوم السحر، ثم أراد أن يحقق نسبة الكتاب إلى الغزالي فصار دائما يحيل في بعض المسائل على كتب الغزالي كالإحياء والرد على الباطنية وغيرهما، ويقول: فيما كتبناه في كتاب كذا، أو نحوه، ويذكر كتابًا من تصانيف الغزالي، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يفضحه ويبين كذبه كرامة للغزالي وغيرة على حجة الإسلام فإنه قال في صحيفة 83 من الطبعة المصرية: أنشدني المعرِّي لنفسه وأنا شاب، إلخ، وهذا كذب فاضح، فإن أبا العلاء المعري مات سنة تسع وأربعين وأربعمائة، أي قبل أن يولد الغزالي بسنة أو سنتين، فإنه ولد سنة خمسين، وقيل: سنة إحدى وخمسين وأربعمائة فليحذر الناس من الثقة بهذا الكتاب وأمثاله فهي مفسدة للدين، وليتق الله طابعوها ولا يغرروا بعامة المسلمين وليتحر أحدهم صحة نسبة الكتاب إلى المنسوب إليه. (2) من الكتب المنسوبة قصدًا للنِّفاق كتاب يسمى (كتاب الفوائد المشوق إلى علم القرآن وعلم البيان) نسب إلى الإمام الجليل شمس الدين ابن القيم رضي الله عنه، وهو كتاب لا بأس به فيه فوائد أدبية، ونكت بلاغية، فصيح العبارة، ويظهر أن مؤلفه كان من الكتاب المنشئين، لا العلماء المحققين، أمثال إمامنا ابن القيم، فإن له في بعض المسائل تحقيقات واختيارات سخيفة لا يقولها من شام للعلم بارقة. لو لم يكن لشمس الدين ابن القيم بين أيدينا كتب غير هذا لقلنا كاتب يتسخف ويظن أنه محقق، وأحمق يتكايس ويظن أنه عاقل، ولكن كتب ابن القيم تنادي بقوة نظره، ودقة بحثه، وكثرة علمه، وبُعد غوره، ولله دره من إمام جليل، وحاش لله أن يقول في إعجاز القرآن كما قال مؤلف هذا الكتاب فإنه قال في صحيفة (255) بعد أن حكى الأقوال في وجه الإعجاز ما نصه: قال المصنف عفا الله عنه: والأقرب من هذه الأقاويل إلى الصواب قول من قال: إن إعجازه بحراسته من التبديل والتغيير والتصحيف والتحريف والزيادة والنقصان، فإنه ليس عليه إيراد ولا مطعن، هذا اختياره وحكايته مثل هذا تُغْني عن رده وضرب الأمثال على بطلانه [2] . وأغرب من هذا القول قوله في الصحيفة نفسها بعد أسطر: وقال قوم: إعجازه من جهة أن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة قائمة بالذات وأن العرب إذا اتحدوا بالتماس معارضتهم له والإتيان بمثله أو بمثل بعضه كلفوا ما لا يطاق، ومن هذه الجهة وقع عجزهم وهذا القول أيضا حسن، هذا كلامه بنصه، وإني أترك للقارئ فهم معنى التحدي بالصفة القديمة فذلك مما يقصر على من أدركه. وقد اتصل بي أن النسخة الخطية التي طبع عنها هذا الكتاب كانت نسبته فيها إلى ابن القيم مكتوبة عليها بخط جديد غير خط الأصل فقيل لطابعه لا تنسبه لابن القيم فلعل كاتب هذه لم يتحر النسبة خصوصًا وأن الكتاب غير معروف في كتب ابن القيم، فأبى ونسبه إليه فحسبنا الله ونعم الوكيل. (3) ومما يلحق بهذا وإن لم يكن منه تمامًا ما وقع في مختصر البخاري للزبيدي المسمى التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، فقد كتب على طرته في النسخ المطبوعة بالمطبعة الأميرية والمطبوعة بالمطبعة الخيرية والمطبوعة بالمطبعة الميمنية ما نصه: للحسين بن المبارك الزبيدي، وهذا غلط فإن مؤلفه هو أحمد بن المبارك الزبيدي فشيخ ذكره المؤلف نفسه في خطبة كتابه في إسناده إلى البخاري، وبين المؤلف وبينه ثلاثة شيوخ، والغريب أن كاتب الحواشي التي بهامش النسخة الأميرية ذكر في أول صحيفة منها اسم المؤلف على الصواب، فلا أدري كيف كتب هذا وغفل عما في طرة الكتاب، وأما المطبعتان الأخيرتان فتبعتا المطبعة الأميرية من غير تحرٍّ ولا نظر، وحصل مثل هذا في نسخة شرح الشرقاوي عليه الذي طبع بالمطبعة الميمنية فإنهم طبعوا بهامشه المتن ونسبوه في طرته إلى الحسين بن المبارك الزبيدي مع أن الشارح في أول الخطبة ذكر اسم المؤلف على الصواب انتهى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو الأشبال ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفا الله عنه

دعوة اللجنة التحضيرية

الكاتب: أحمد زكي أبو شادي

_ دعوة اللجنة التحضيرية لمشروع جمعية آداب اللغة العربية بلندن تتشرف اللجنة التحضيرية لمشروع جمعية آداب اللغة العربية بلندن بتوجيه نظركم إلى منافع هذا العمل المسطورة بإيجاز في ذيل هذا الكتاب آملاً من غيرتكم التعضيد المادي والأدبي قدر جهدكم حتى إذا اجتمعت الإعانات الضامنة للنجاح منكم ومن أمثالكم أبرز المشروع إلى حيز الوجود في القريب العاجل تحت رعاية الجمعية الملوكية الآسيوية التي هي من أعظم الهيئات العلمية الباحثة في آداب الشرق، ولا يخفى على حضرتكم المظهر الجليل والفائدة الكبرى من تحقيق هذه الأمنية في أكبر عواصم العالم، وقد لاحظنا أن للمعضدين ميولاً مختلفة ما بين عامل أدبي أو علمي أو وطني وديني، فلعلكم مدفوعون بعامل أو أكثر من هذه العوامل لخدمة آداب اللغة الفصيحة العربية، والسعي في نشرها بواسطة هذه الجمعية الدولية التي تعمل اللجنة على تأسيسها وتوطيد دعائمها. هذا ولو أن الظروف الحاضرة الاستثنائية ربما عدت غير ملائمة، إلا أن فَلاح مثل هذا العمل كما تبين لنا بعد درسه يستدعي بذل مجهولات كثيرة تستغرق زمنًا غير وجيز فمن الصواب إذن عدم التأجيل فحبذا لو ظفرنا بمؤازرتكم لنا، فجلائل الأعمال إنما تقوم بمساعي الجماعة وتساند الأفراد. رئيس اللجنة التحضيرية ... كاتب سر اللجنة ... د. س. مرجليوث ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي مقاصد الجمعية (1) أن تخدم آداب اللغة العربية بجميع الوسائل التي تسمح بها مالية الجمعية. (2) أن تشجع تعلم العربية السليمة في بريطانيا العظمى وأن تنمي في أعضاء الجمعية ملكة الترجمة من وإلى العربية وسواها من اللغات حبًّا في الفائدة العامة. (3) أن تكون واسطة تعارف بين الناطقين بالضاد في بريطانيا العظمى والمستعربين بها، وكذلك بينهم وبين علماء العربية في جميع أقطارها وبين المستعربين في الممالك الأخرى لتبادل المنفعة الأدبية اهـ.

مصابنا بالزهراوي والكيلاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصابنا بالزهراوي والكيلاني فجعتنا الجرائد المصرية في يوم واحد بنعي الصديقين الوفيين المصلحين السيدين الجليلين عبد الحميد الزهراوي شهيد بغي الاتحاديين، ومحمد وجيه الكيلاني شيخ إسلام الفلبين، جاءتنا بذلك في إثر تلك الأنباء التي شقت المرائر، واستنفدت الدموع من المحاجر، أنباء تقتيل جمال باشا لصفوة أبناء سورية وأركان النهضة الاجتماعية فيها، فالآن قد صار الفؤاد في غشاء من نبال، فإذا أصابته سهام أخرى تكسرت النصال على النصال. خسرت أمة الإسلام وديار الشام وحزب الإصلاح بالزهراوي والكيلاني رجلين من أفضل رجال العصر عقلاً وذكاء، وأخلاقًا وعلمًا وأدبًا واهتمامًا بالمصلحة العامة وتقديمًا لها على المصالح الخاصة، وبهذه المزايا تنهض الأمم، وبفقدها تسقط في مهاوي العدم. نبت كل منهما في بيت من أكرم بيوتات القطر السوري شرفًا وسؤددًا وعلمًا ومجدًا، وتربى كل منهما في نشأته الأولى تربية علمية دينية، وأوتي نصيبًا من العلوم والفنون العصرية، واختبر حال الزمان وأهله، وعرف شدة حاجة بلاده إلى التأليف بين المختلفين فيها بالأديان والمذاهب والآراء والمشارب فكانا ركنين من أركان الوفاق، وعاملين من أنفع عوام الإصلاح. فهذا ما اتفق معنا فيه هذان الصديقان الكريمان، وأما ما اختلف فيه نشأتهما وسيرتهما فهو أن السيد الزهراوي قد تمرس بالسياسة في حداثته فغلبته على الاشتغال بغيرها مما كان مستعدًا له كالتوسع والتصنيف في الفلسفة وعلوم الأخلاق والاجتماع، فكان أفضل ما يرجى نفعه فيه ما وصل إليه من انتخاب أهل بلاده إياه نائبًا عنهم في مجلس المبعوثين، ولا أقول ثَمَّ تعيين الحكومة إياه عضوًا في مجلس الأعيان، لأن هذا قد كان بعد جعل الاتحاديين مجلس الأمة بقسميه آلة لجعل ما تقرره جمعيتهم قوانين نافذة، وأعمالاً منسوبة إلى الأمة، وكان الغرض منه خديعته وخديعة العرب به، إلى أن تسنح الفرصة لتنفيذ ما قررته الجمعية من قبل من التنكيل بالعرب والفتك بزعمائهم كما أشرنا إليه في موضع آخر وسنعود إلى بيانه. وأما السيد الكيلاني فقد تخرج بالأعمال الإدارية الشرعية فكان من موظفي مشيخة الإسلام في الآستانة، وبهذا وما سبق من مزاياه كان أفضل من يختار لما اختير له من جعله شيخا للإسلام في جزائر الفلبين، وكان يتقي شر السياسة بالمداراة حتى إنه لما عرج على مصر في ذهابه إلى الفلبين تجاهل معرفة المنار وصاحبه، وهو على مذهبه الإصلاحي ومشربه، لأنه كان يرجو المساعدة من الخديو وحكومته، وكان الخديو مغاضبا لصاحب المنار من بضع سنين، وقد أخبرني بعد ذلك أنه كان يفضل طلب المنار من صديقنا السيد محمد بن عقيل المقيم في سنغافورة على طلبه من مصر، وأنه قد تجدد له من الحاجة إليه في منصبه الجديد ما لم يكن يعلمه من قبل، وسنعود إلى الكلام في سيرة هذين الصديقين إن شاء الله.

مسألة الأزياء والعادات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة الأزياء والعادات من مشخصات الأمم زي الأمة من مشخصاتها ينبغي لها أن تحافظ عليه وأن تحترمه وتحتقر من يحتقره كما تحترم العلم الذي هو شارة حكومتها، فالعلم لا يحترم لشكله ولا للونه أو ألوانه، وليس من العقل ولا من الحكمة أن تذم الأعلام أو تُمدح لشكلها أو ألوانها، وكذلك أزياء الأمم من حيث هي أزياؤها، ولكن بين الزي والعلم فرقًا واحدًا وهو أن الزي يُقصد به من المنفعة ما لا يقصد بالعلم، فإذا اشترك مع العلم في أن كلاً منهما مشخص للأمة مهما يكن شكله ولونه وصفته فإنهما يفترقان في أن بعض الأزياء لا تفي بما يقصد بها من وقاية الجسم من أذى الحر أو البرد أو سهولة القيام بالأعمال العسكرية والصناعية والزراعية. ومن الناس من يرجع في اختيار الأزياء إلى مراعاة الذوق والجمال، ولكن هذا ليس له قاعدة ثابتة، وإنما يستحسن جماهير الرجال في كل أمة ما يختاره كبراؤها وحكامها، وإنما يعنى بالذوق والجمال في زي النساء وهن في كل آونة يستحدثن زيًّا جديدًا يبطلن به ما كان قبله مستحسنًا، ولا يرجع ذلك إلى فضيلة في زي اليوم على زي أمس تثبت بدليل علمي أو عقلي، وإنما فائدة الجديد لهن جذب الأنظار إلى السابقات إليه، وفائدته المالية لتجار الأنسجة وصناعة الخياطة لا تخفى ويقابل ربح هؤلاء من الأزياء خسارة المسرفات فيها، فكم من بيوت خربت بمثل هذا الإسراف. من أكبر جنايات الأفراد على أمتهم أن يحتقر أحد منهم زيها، ويستبدل به زي أمة أخرى تقليدًا وتفضيلاً لها، فإذا كان بعض أزيائها ضارًّا بها، فالواجب في استبدال غيرها به أن يكون برأي أهل الحل والعقد فيها، الذين يراعون في التغيير المنفعة دون التقليد الذي يبث في الأمة الشعور بمهانتها وتفضيل غيرها عليها، وقد وفينا هذا الموضوع حقه من البيان في المنار وقبل المنار في كتابنا الحكمة الشرعية الذي كتبناه في عهد طلب العلم، واقتبسنا منه نبذا في المنار إذ طرقنا باب هذا البحث مرارًا. ولست أبحث الآن في أزيائنا هل يحسن تغيير شيء منها وكيف ينبغي أن يكون التغيير، وإنما أريد أن أقول: إن بعض الإفرنج ينفرون من أزياء الشرقيين ويكرهون أن يأكل في مطاعمهم الخاصة بهم وبالأغنياء المتفرنجين منا من لا يلتزم عاداتهم وآدابهم في الطعام، ومنهم من يرى أن كل من لا يلبس الزي الإفرنجي لا ينبغي أن يأكل في تلك المطاعم، ولهم في ذلك أعذار ومآرب، وقد روت جريدة وادي النيل الإسكندرية أن اثنين من المعممين دخلا مطعمًا إفرنجيًّا فطُردا منه لأنهما معممان , وقالت في لومهما: إنه لا يبعد أن يكونا ذهبا منه إلى آخر مثله لعله يقبلهما. وأشارت أيضا إلى انتقاد صاحب المطعم الإفرنجي، أما نحن فإننا نختص باللوم فريقين من أمتنا: فريق الذين يتصدون لمؤاكلة الإفرنج في مطاعمهم، وهم لا يلتزمون آدابهم وعاداتهم , ومنهم من لا يلتزم الآداب الإسلامية التي هي أرقى الآداب، وفريق المتفرنجين الذين يحتقرون زي أمتهم وعاداتها وآدابها، ويستبدلون بها غيرها تقليدًا للأغيار وتفضيلاً لهم على أنفسهم، ويكونون آلة لإضعاف مشخصات أمتهم ومقوماتها وهم لا يشعرون بما وراء ذلك كما يشعر به غيرهم، ومن أراد أن يعرف رأي الإفرنج في ذلك فليقرأ خطبة الدكتور سنوك المستشرق الهولندي في الإسلام ومستقبله التي ألقاها في جامعة كولومبيا من الولايات المتحدة، وقد نشرنا ترجمتها في المجلد السابع عشر من المنار مع تعليق طويل عليها [1] ، ومن أراد أن يعرف قيمة هؤلاء المتفرنجين في نفس الإفرنج فليقرأ ما كتبه في شأنهم لورد كرومر في كتابه (مصر الحديثة) . من أهان أمته باحتقار شيء من مقوماتها أو مشخصاتها بإزاء احترام ما يقابل ذلك من أمة أخرى فقد احتقر نفسه أشد الاحتقار، وما قيمة الرجل الذي ليس له أمة محترمة في نفسه، ومن ذا الذي يكرم من يحتقر نفسه باحتقار أمته. ومن لم يكرم نفسه لم يكرم ... إذا ما أهان امرؤ نفسه ... فلا أكرم الله من يكرمه يجب على كل من أوتي نصيبًا من الفهم أو حظًّا من الشرف أن يقاوم جهد طاقته كل ما فيه احتقار لأمته مهما يكن رأي المحتقر وقصده، ومن ذلك أن لا يأكل أحد من المصريين في مطعم يهين أصحابه مصريًّا لزيه أو عادته أو غير ذلك، ولا أن يشتروا شيئًا من تاجر يهين مصريًّا، ويجب على أمثال هؤلاء أن يبذلوا جهدهم لمنع الإهانة عن أمتهم وإغنائها عن معاملة كل من يقصر في احترامها، وإنما يتيسر هذا بتعاضد الأندية والجمعيات الأدبية والشركات التجارية. كانت شركات البواخر الإفرنجية في الخط الذي بين الهند وخليج فارس وشط العرب تحتقر المسافرين فيها من العرب والفرس ولا تسمح لهم بالأكل على مائدة الدرجة الأولى فلما أنشأ تجار العرب في بومبي شركة البواخر العربية زال ذلك الاحتقار وبطلت تلك المعاملة. واتفق لي منذ بضع عشرة سنة أنني دخلت مطعمًا سوريًّا في القاهرة وقت العشاء وجلست إلى مائدة من موائده فطلب رجل إنكليزي أن أترك تلك المائدة؛ لأنه يجلس إليها للطعام ولا يحب أن يأكل مع شيخ أزهري، فلم أبالِ بطلبه، فطلب من صاحب المطعم ذلك فاعتذر إليه بأنه لا يمكنه ذلك، وقد سألت عن اسم الرجل وعمله وذكرت ذلك لصديقي مستر متشل أنس الذي كان وكيلاً لنظارة المالية وقتئذ فاستاء من ذلك وكتب كتابًا إلى رئيس ذلك الرجل في مصلحة السكة الحديدية كلفه فيه أن يلزمه الاعتذار إليّ، وأخذت الكتاب بنفسي وعدت راضيًا مكرمًا. ولا يخفى على عاقل أن ما نحتاج إلى اقتباسه من علوم أوربة وفنونها وصناعاتها لا يقتضي هذا التفرنج الذي نذمه ولا يأتي من طريقه بل ينافيه؛ لأن التفرنج تقليد في الأزياء والعادات يحدث التفرق في الأمة وانحلال روابطها واقتباس العلم النافع والعمل الرافع يجب أن يكون بطريق الاستقلال لا التقليد، وأن تراعى فيه حاجة الأمة في العمل ويقصد به ترقية ثروتها وعزة دولتها، ولم نرَ هؤلاء المتفرنجين من الترك والمصريين ساروا على ذلك الدرب وصلوا إلى هذه الغاية، بل هم الذين نسفوا ثروة بلادهم وقطعوا روابطها حتى وصلت إلى ما هي عليه، وليس في بلادهم شيء من العمران إلا وقد كان بعمل الأجانب ومعظم فائدته لهم، وإنما سار على ذلك شعب اليابان الذي شرع في اقتباس الفنون الأوربية بعد الترك والمصريين منا، فكل طلاب العلوم منهم في أوربة يتلقون العلوم العملية، إذ يتلقى الطلاب منا العلوم النظرية والسياسية، وكانوا مثال الجد والعمل والاقتصاد، إذ كان أكثر طلابنا مظهر الفسق والسرف والفساد. وإليك من العبرة هذا المثال: كان بعض الأوربيين والأوربيات مع بعض اليابانيين في بلاد اليابان فخلع ياباني نعله في المجلس، فأنكر عليه ذلك بعض الأوربين؛ لأن خلع النعال أو الجلوس بغير نعلين مستهجن في عاداتهم ولا سيما حيث يوجد النساء، فقال الياباني: أنا ياباني لا أوربي وهذه البلاد يابانية لا أوربية فبأي حق تطالبوننا باتباع عاداتكم في بلادنا والواجب عكسه؟ أو قال كلاما بهذا المعنى، فهذه هي الوطنية لا ما يتشدق به المتفرنجون الذين لا يعقلون عاقبة ما يأتون وما يدعون. قلنا: إن اقتباس الفنون النافعة من الغربيين، وكذا ما يستلزمه من اعترافنا بجهلنا وبحاجتنا إلى علمهم، لا يعد احتقارًا للأمة بل إصلاحًا، ونقول أيضًا: إننا في حاجة إلى الإصلاح في كثير من العادات الضارة، وإن ذلك لا يعد احتقارًا للأمة وطالما كتبنا في ذلك، ومن أبواب المنار الواسعة باب: البدع والخرافات والتقاليد والعادات، وإنما الواجب أن نعتمد في هذا الإصلاح على شريعتنا وهي أكمل الشرائع وآداب ديننا وهي أكمل الآداب.

آراء الخواص في المسألة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آراء الخواص في المسألة العربية واستقلال الشريف في الحجاز في ليالي رمضان وأيام عيد الفطر، تيسر لي أن أعرف من آراء أهل العلم والرأي بمصر في المسألة العربية، واستقلال الشريف أمير مكة في الحجاز ما لم يكن يتيسر في وقت آخر من السنة، لكثرة التزاور في هذه الليالي والأيام، وتوسّع الناس فيها بالكلام كتوسعهم بالطعام، وقد جرت فيما بيننا وبين كثير من أساتذة الأزهر والمدارس العليا وكبار القضاة والمحامين والأطباء، وغيرهم من أهل الرأي مذاكرات، ومحاورات طويلة في هذه المسألة جديرة بأن تنشر وتدون؛ لأنها ربما كانت أهم مسائلنا الحاضرة، ووقائع تاريخنا التي نحفظها لأعقابنا الآتية، فرأينا أن ننشر في المنار أطول محاورة منها وأجمعها للمقاصد، ثم نلخص في الخاتمة صفوة الآراء كلها، وبذلك تتم الفائدة من تلك الأحاديث بغير تكرار ولا عبث، وهذه المحاورة كانت بيننا وبين أستاذ معروف باعتدال الفكر واستقلال الرأي؛ وقد وقعت في اليوم الثاني بعد عيد الفطر، وها هي ذي - ونعبر عن الأستاذ بحرف (ذ) وعن نفسنا بحرف (د) . ذ - ما رأي الأستاذ في استقلال الشريف أمير مكة بالحجاز، فإني رأيت كثيرًا من إخواننا، ومعارفنا لا يعد ذلك أمرًا ذا بال، ومنهم من لم يصدق أخبار الجرائد، حتى إن أخانا الشيخ (أ) قال لي في إحدى ليالي رمضان عقب نشر البلاغ الرسمي عن استقلال الشريف: إنه لا يعرف أحدًا صدق هذا الخبر من قبل، أو؛ لأنه هو لم يصدقه أيضًا إلا بعد نشر البلاغ الرسمي. وإن من الناس من لا يصدق البلاغ الرسمي نفسه! وما أظن أن الأستاذ على رأي هؤلاء، ولا أنك تقول: إن هذا الأمر ليس بذي بال. د- صدقت، إن هذا الأمر لذو بال، وإنه قد شغل مني البال، وهيج البلبال. وإنني مخالف لهؤلاء الناس الذين أصبحوا لا يهتمون بشيء من الأشياء، ولا يصدقون من الأنباء إلا ما يلذ لهم، ولا يقبلون من الآراء إلا ما يوافق أهواءهم؛ ولذلك راج بينهم رأي تلقوه بالقبول، وهو أن الشريف لم يعلن الاستقلال إلا لضرورة إنقاذ البلاد من المجاعة، التي أوقعها فيها الحصر البحري أو كاد؛ فقد امتنع بذلك وصول الأقوات إليها من مصر والسودان والهند، وجل قوتها من هذه البلاد، حتى قيل: إن إردب القمح صار في مكة ببضعة جنيهات، فعذر الشريف في إظهار دعوى الاستقلال جلي ظاهر؛ وهو لا يزال مخلصًا للحكومة التركية في الباطن، وليس له غرض في إيجاد حكومة عربية، ولا طمع في خلافة قرشية، ولولا ذلك لقاتلته الدولة، هذا هو الرأي الرائج في البلد. أما أنا فلا أجزم بقبول هذا الرأي ولا برده، وإن كان معقولاً في نفسه؛ لأني أعلم أنه قد وجد في عالم السياسة مسألة تسمى المسألة العربية، ولكن لم أقف على كنهها، ومبلغ قوتها، ولا على مكانها من الشريف، ومكان التشريع منها، وأعلم أيضًا أن الحجاز ليس فيه الاستعداد المطلوب لإنشاء دولة، ولا القوة التي يتوقف عليها استقلال الخلافة، وحياة أهله موقوفة على الدولة التي تملك التصرف في البحار، والدولة ذات السيادة على بلاد الشام، فإذا مُنع عنه القوت من هنا وهناك مات أهله جوعًا، ثم إن المشهور أن أمراء جزيرة العرب وزعماءها متحاسدون متباغضون {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} (الحشر: 14) ولولا سيطرة الدولة العثمانية عليهم لأفنى بعضهم بعضًا. والشريف - إذا كان يأمن بطش الدولة الآن، فهو لا يجهل أنها إذا بقي لها استقلالها بعد هذه الحرب أمكنها الانتقام منه، وإزالة إمارة الحجاز، وجعلها ولاية عثمانية محضة. وإذا زال استقلالها، وفرضنا أنه أمن على استقلاله من صاحب عسير وصاحب نجد فإنه ليس بالذي يكون الملك المستقل الذي يطلبه العرب، ولا بالذي يجدد الخلافة الإسلامية التي يحرص على استقلالها جميع مسلمي الأرض؛ لأن الاستقلال بأمر الملك والخلافة يتوقف على الثروة والقوة، وأين هما من الحجاز وأين الحجاز منها؟ فلهذه الأفكار تراني مضطربًا في هذه المسألة، وأنا أعلم أن عند (السيد) من أخبار هذه المسألة والاختبار فيها ما ليس عندي، ولا عند أحد من المصريين، فهو أعلم منا بشئون جزيرة العرب وشئون أمرائها، وأعلم منا بظاهر الحركة العربية، وباطنها وأحوال أحزابها وجمعياتها. كما أنه أوسع منا علمًا بأحوال الدولة العلية، وأوسع اختبارًا لها وأكثر تتبعًا لما يتجدد من أخبارها، يعترف له بهذا من يقرأ بروية وإمعان ما يكتبه في هذه المسائل في مجلته، وإنني أود أن أقف على ما عنده في مسألة الحجاز من رأي ورواية بالتفصيل، وقد تعرضت لهذا غير مرة فلم تكن حالة المجلس أو الوقت مما يسمح للسيد بالإفاضة في ذلك؛ فعسى أن نستفيد الآن ما فاتنا من قبل. د - لم أنس أن باب الحديث في هذه المسألة قد فتح بيننا مرتين قبل هذه المرة، فكان الكلام فيها وجيزًا لضيق وقته، على أن الحديث شجون، والإنسان يتذكر في وقت ما ينساه في آخر، فإذا ذكره محدثه تذكر، وإنني لا أبخل على الأستاذ بما عندي في هذه المسألة من رأي أو خير أرى فيهما فائدة له، فإذا حدثته بشيء لم يره كافيًا فله أن يستزيدني من الحديث بالسؤال عما يريد منه، ولا بأس بإعادة شيء مما كنا ألهمنا به من قبل؛ وأبدأ ببيان ما عندي في مسألة استقلال الشريف فأقول: إن الشريف لم يدَّع ملكًا ولا خلافة، فلا كلام لنا في ذلك، وما ذكرته لي من الرأي الذي دار بين كثير من المصريين في سبب استقلاله في الحجاز وتلقوه بالقبول، قد سمعته من غيرك أيضًا. وهو رأي - كما قلت - معقول، وعذر الشريف فيه مقبول، ولا سيما إن كان الاستقلال صوريًّا كما تظنون، فإنه مسئول عند الله، وعند الناس عن إنقاذ سكان حرم الله - تعالى - وحرم رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الهلاك، وإزالة الموانع التي منعت أكثر المسلمين من الحج إلى بيت الله الحرام، ولا سبيل إلى هذا وذاك إلا بإزالة الحصر البحري عن ثغور الحجاز، الذي كان سببه وجود الجنود التركية فيها، فإن دولة إنكلترا كانت صرحت باستثناء سواحل الحجاز من الحصر البحري الذي ضربته على جميع السواحل العثمانية؛ وسمحت بنقل الأقوات من الهند، وغيرها إلى تلك البلاد المقدسة , ثم إنها لما علمت بإرسال أنور باشا لكثير من الجنود التركية إلى الحجاز منعت إرسال الأقوات إليه؛ لأن الجنود يستفيدون منها، وقد كان من المستغرب تموينها لبعض بلاد أعدائها، ولكن تموينها لجيوشها غير معقول، وإنما المعقول ضده، ولولا احترامها للبلاد المقدسة لضربت سواحلها بمدافع أسطولها ولجعلتها من ميادين الحرب أيضًا، ولكن إزالة الشريف أمير مكة للسبب الذي أوجب الحصر، ومنع القوت والحج، مناوأة للدولة التركية أو الاتحادية؛ لأنه تصدٍ لقتال جنودها، ورفع سيادتها عن البلاد التي هو أميرها. فالشريف قد اضطر إلى الاستقلال بالأمر في الحجاز ونبذ سيادة هذه الحكومة الاتحادية ظهريًا، ونحن نخالف مَن يرى أن هذا الاستقلال صوري وأنه كان بالتواطؤ بينه وبين الدولة، ومن يرى أنه لا يزال مخلصًا لهذه الحكومة، وأنها هي راضية عن فعله وعاذرة له فيه؛ لأننا نعلم أن إزالة منع القوت ومنع الحج ليس هو الباعث على هذا الاستقلال، ولكنه من لوازمه، وهنالك بواعث وأسباب أخرى له سنلم بها في حديث. ذ - إذاً لماذا لم تجرد الدولة جيشًا لقتاله؟ ولماذا حاصر هو الجيش التركي حصارًا، ولم يناجزه القتال؟ د - أما الشريف فيمنعه دينه من الإقدام على سفك الدم في أرض الحرمين الشريفين من غير ضرورة ملجئة لا مندوحة عنها، وأما الدولة فالمانع لها من إرسال جيش جديد لقتاله، إما العجز وإما العقل. أما العجز فهو الآن غير بعيد؛ لأن جنود الدولة متفرقون في عدة ميادين من أوربة وعدة ميادين في الأناضول وإيران والعراق وسورية وسيناء فهي لا تستغني عن جيش كبير يصلح ما عطل من سكة حديد الحجاز، ويبقى قسم منه في مواضع متفرقة من الطريق لحمايتها، ويسير قسم منه لإنقاذ حامية المدينة، ثم الزحف منها إلى مكة مع حفظ طرق مواصلاته من مركز تموينه وإمداده في الشام إلى مكة. وأما العقل فيقتضي عدم التصدي لقتال الشريف الآن، حتى في حال القدرة وانتفاء العجز؛ لأن قتاله يُضعِف الدولة في الميادين الأخرى، وربما يستتبع خروج عرب الجزيرة كلهم أو جلهم عليها، فيتسع الخرق على الراقع والسكوت عنه لا يضر الدولة الآن، فإن انتهت الحرب بظَفَرها مع أحلافها، أمكنها أن تتصرف في الحجاز بما تشاء، وإن انكسرت مع أحلافها فلا معنى لاهتمامها بأمر استقلال الحجاز، يفرق المنتصرون حينئذ شمل وحدتها، ويخشى أن يزيلوا ما كان من استقلالها، بل المعقول أن يتمنى كل مسلم من تُرك الدولة كعربها أن تسلم بلاد الحجاز، وسائر بلاد العرب في أيدي الاتحاديين لرجحنا أن العقل يمنعها من قتال الشريف إن لم يمنعها العجز. وأما الاتحاديون فقد جعلوا من أصول سياستهم إضعاف العرب حتى لا يكون لهم حقوق مع الدولة إن بقيت، ولا استعداد للاستقلال بأنفسهم إن سقطت؛ ولسان حالهم مع العرب في هذه الحالة يقول: اقتلوني ومالكًا ... واقتلوا مالكًا معي وقد سمع من أفواههم كثير من طلاب الإصلاح من العرب ما يدل على مثل هذا من مقاصدهم عندما كانوا يتكلمون معهم في حقوق العرب في الدولة وفي أحوال أخرى، ألا ترى أنهم اتخذوا حالة الحرب ذريعة لتنفيذ مقاصدهم في العرب؟ فكان المعقول أن يثبتوا لعرب الولايات صدق وُعودهم بالإصلاح ويفوا لهم بعهودهم التي عقدوها مع السيد الزهراوي عقب عقد المؤتمر العربي، ويزيدوهم على ذلك من الإصلاحات الداخلية ما يملكون به قلوبهم كما ملكوا أبدانهم وأموالهم، فاستعملوها في هذه الحر ب كما شاءوا وفي أمثالنا العربية (عند الشدائد تذهب الأحقاد) ولكن أمثالها لا تصدق على طباعهم وأخلاقهم، بل تضادها وتناقضها، فالشدائد كانت عندهم مظهرة للأحقاد في أقبح مظاهرها وأشنع مناظرها، فبعد أن جنّدوا جميع شبان سورية والعراق وفرقوهم في الميادين البعيدة عن بلادهم كالدردنيل والبلقان والأناضول. وبعد أن صادروا الأموال والغلال في تلك البلاد، طفقوا يقتلون أولي العلم والعرفان وكبار الضباط، وسائر أرباب العقول والأفكار في كل من القطرين) السوري والعراقي (وينفون الكبراء والأغنياء، ويستولون على ديارهم وأموالهم. وبعد أن رأوا مأربهم هذا قد تحقق بغير معارضة ولا مقاومة ولَّوْا وجوههم شَطر الحجاز، لا لأجل الصلاة إلى المسجد الحرام، ولا لأجل الطواف بين الرُّكن والمقام، فإنهم لم يكونوا من الطائفين ولا المصلين، ولكن ليفعلوا في الحجاز ما فعلوا في العراق والشام، حتى إذا تم لهم هذا الأرب، أجهزوا على بقية جزيرة العرب. ذ - إني أعلم أن السيد سيئ الاعتقاد في دين هؤلاء الاتحاديين، وفي سياستهم، وقد قرأت كل ما كتبه في السنين الخالية عنهم، ولكنني رأيته قد سكت عن ذلك الطعن الشديد فيهم بعد حرب البلقان، ثم تنسمت عطفه عليهم من بعض ما كتبه قبيل دخولهم هذه الحرب وفي أثنائها، وكنت أظن أنه كجمهور المصريين لم يصدق أخبار المقطم والأهرام، عن فظائع جمال باشا في بلاد الشام، حتى قرأت المقالة التي نشرتموها في الشهر الماضي، فعلمت أنكم مصدقون لتلك الأخبار، وتتوقعون أن يكون لها تأثير سيئ في الحجاز، وسائر جزيرة العرب. د - نعم: إنني تركت تلك الحملات على الاتحاديين بعد حرب البلقان، وفي أثناء هذه الحرب؛ لأن الح

السيد عبد الحميد الزهراوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد عبد الحميد الزهراوي كان الشهيد السعيد نابغة من نوابغ السوريين، لا يكاد يلزّ به في مجموعة مزاياه قرين، ما عرفت بلاده كنهه، ولا قدَّرته قدره على أنها لم تقصر في تعظيمه وتكريمه، وفي الاحتفال له والحفاوة به أيام سفره وأيام قدومه، إذ عرف الجمهور منه في أواخر سِنِي حياته كما كان يعرف الآحاد. إنه أحد أشراف البلاد المنصرفين لخدمة الأمة بكفاءة، واستعداد من معرفة المصلحة وفصاحة اللسان، والحجة وجرأة الجنان، وما كان لعقل الجمهور أن يدرك كُنه المزايا والفضائل التي بها كان الزهراوي في حقيقة جوهره من الحكماء الربانيين، والفلاسفة الاجتماعيين؛ وإن قضت عليه الأيام بالانتظام في سلك السياسيين، تلك الفضائل التي عرفها له كل من عرفه من العقلاء المنصفين؛ وهي استقلال الرأي وصدق القول وقوة الإرادة والإخلاص في العمل وإيثار الحق على الهوى، وتوجيه الهمم والهمة إلى المصالح العامة، وترجيحها عند التعارض على المنافع الخاصة، بل لم نعلم عنه أنه اشتغل في طور من أطوار حياته لمنافعه الخاصة، وإنما نعلم عنه أنه بدأ حياته العملية منذ بلوغ الرشد بإنشاء (جريدة المنير) السرية التي كان يطبعها في حمص بمطبعة الجلاتين، ويوزعها في البلاد السورية سرًّا لخدمة جمعية الاتحاد والترقي الأولى والسعي معها لإنقاذ الدولة من الإدارة الحميدية المستبدة، فتعلق بالسياسة من ذلك الحين، وظل مشتغلاً بها طول حياته. كان بيننا وبين هذا الصديق العزيز تشابه في النشأة والتربية، ومشاكلة في الاستعداد والغريزة، وتقارب الفكر والرأي، تعارفنا به بالمكاتبة قبل اللقاء ثم كان بعد اللقاء كالمحبة والوِداد، ولم يزدد بالمُعاشرة إلا ثباتًا ورسوخًا، كان كل منا ميالاً إلى الاشتغال بالصلاح الديني والاجتماعي، وعلاقة ذلك بالسياسة لا تخفى، ولكن تيسر لكل منا من أمر الاشتغال بالسياسة أو الإصلاح ما لم يتيسر للآخر، إذ كانت هجرتنا إلى مصر وهجرته إلى الأستانة. وفي سنة 1315 التي أنشأنا فيها المنار كان محررًا في إدارة جريدة (معلومات) العربية في الأستانة؛ وكان ما يكتبه فيها موافقا لمشرب المنار، ووقع بيننا ما يشبه المناقشة في المسائل الإصلاحية (راجع ص 950 من الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول) ثم نفته أفكاره من الأستانة إلى وطنه، وفي سنة 1319 كتب، وهو في دمشق الشام تحت المراقبة السياسية رسائله الاصلاحيه الثلاث (الفقه والتصوف) التي نشرنا أولها في المجلد الرابع من المنار، ثم قرظنا فيه المجموع لما طبع على حدته في مصر، وقد كانت هذه الرسائل أشد مما كنا نكتبه في موضوعها نقدا على سعة الحرية هنا، وشدة الضغط هنالك، فهاجت عليه حَمَلة العمائم في دمشق، وأشد ما أنكروا عليه فيها القول بالاجتهاد وبطلان التقليد، فهيجوا عليه الحكومة فاعتقلته في الشام، ثم أُرسل إلى الأستانة. ولم يكن سبب ذلك التشديد عليه، والإغضاء عمن اتهموا بالقول بالاجتهاد وإبطال التقليد معه غيرة من الحكومة على الفقهاء والصوفية أن يوجَّه إليهما انتقاد، ولا مجرد الإرضاء لمصبية الحشوية الجامدين في الشام، وإنما سببه الباطن أنه كان نشر في المقطم مقالة في الخلافة بإمضاء (ع. ز) وهو إمضاؤه الرمزي لكل ما كان ينشره بمصر، وقد وُجِدَتْ تلك المقالة معه عند القبض عليه، وحاول تمزيقها. وقد أشار الأستاذ الإمام إلى هذه الواقعة في فصل (الإسلام اليوم) من كتاب (الإسلام والنصرانية) وإننا نذكر عبارته هنا لما فيها من تأييد هذا الصديق الشهيد وهي: ألم يسمع بأن رجلاً في بلاد إسلامية غير البلاد المصرية، كتب مقالاً في الاجتهاد والتقليد، وذهب فيه إلى ما ذهب إليه أئمة المسلمين كافه، ومقالاً بيَّن فيه رأيه في مذهب الصوفية، وقال: إنه ليس مما انتفع به الإسلام، بل قد يكون مما رُزِئَ به، أو ما يقرب من هذا، وهو قول قال به جمهور أهل السنة من قبله، فلما طبع مقاله في مصر تحت اسمه، هاج عليه حَمَلة العمائم وسَكَنة الأثواب والعباعب وقالوا: إنه مرق من الدين، أو جاء بالإفك المبين ثم رفع أمره إلى الوالي، فقبض عليه، فألقاه في السجن، فرفع شكواه إلى عاصمة الملك، وسأل السلطان أن يأمر بنقله إلى العاصمة ليثبت براءته مما اختلق عليه بين يدي عادل لا يجور، ومهيمن على الحق لا يحيف إلى آخر ما يقال في الشكوى، فأجيب طلبه لكن لم ينفعه ذلك كله، فقد صدر الأمر هناك أيضًا بسجنه، ولم يُعف عنه إلا بعد شهر، مع أنه لم يقل إلا ما يتفق مع أصول الدين، ولا ينكره القارئ والكاتب، ولا الآكل والشارب) اهـ. أرسل الرجل إلى الأستانة، فاعتقلته السلطة الحميدية هناك أشهرًا، بعد جعله تحت مراقبة الجواسيس زمنًا، ثم أرسل إلى بلده (حمص) ليكون مقيمًا فيها تحت المراقبة لا يبرحها (ويسمى مثله في عرف الدولة الرسمي (مأمور إقامة) فبقي فيها إلى أن فر إلى مصر سنة 1324 وبقي فيها يشتغل بالتحرير في (المؤيد) ثم في الجريدة إلى أن أُعلن الدستور سنة 1327 فعاد إلى سورية فانتخب مبعوثا عن لواء حماه وكان من أمره في المجلس وبعده ما كان. لو كان الزهراوي من طلاب المنافع الشخصية لأمكنه أن ينال منها في عهد عبد الحميد ما نال من كانوا دونه من أرباب الأفكار، وحملة الأقلام الذين استمالهم السلطان عبد الحميد وأعوانه وغمروهم بالأموال والرتب وأوسمة الشرف، ولم يكن جهاده القانوني للاستبداد الذي انقلبت إليه جمعية الاتحاد والترقي بعد الدستور بأضعف من جهاده للاستبداد الحميدي مع الجمعية في إبان صلاحها، ومع غير الجمعية أيضا نصرها في الأيام الأولى من عهد الدستور كما نصرها قبله، وجاهدها بعد أن صار أمر الدولة كله في يدها. ولو كان من طلاب المنافع الشخصية لنال بمسايرة الجمعية منها ما كان يعلم أنه لا ينال بمعارضتها، وما كنت أرى - وأنا في الآستانة - أحدًا من المعارضين للجمعية يرى قوتها فوق ما كانت عليه إلا الزهراوي، كان من أشدهم معارضة لحزب الجمعية في المجلس، وفي جريدة الحضارة التي أسسها في الأستانة، على كونه من أشدهم اقتناعًا بقوة الخصم وبُعدًا عن الغرور بما كان يروى عن ضعفه، فجمله القول فيه: أنه بدأ حياته بخدمة الأمة والدولة، وثبت على ذلك طول حياته، وأن جل عمله كان مع جمعية الاتحاد والترقي؛ فهو بعد تلك المعارضة في زمن المبعوثية، اعتقد أن الدولة صارت بعد الجمعية؛ وأنه لا يوجد في الأمة حزب يُرجى أن ينتزعها منها، فلم يَبق من طريق لخدمة الدولة والأمة إلا طريقها، وهذا الاعتقاد هو الذي حمله على قبول منصب الأعيان أخيرًا، كما سنبينه بالبرهان، وكان جزاؤه من الجمعية التي أفنى حياته في خدمتها أن قتلته شر قتلة، وأبقت جثته مصلوبة في الشام 12 ساعة ليعلم كل عربي يراها، أو يسمع خبرها كيف تكون عاقبة العربي العالم المفكر والخطيب المؤثر والكاتب المحرر عند هؤلاء القوم، الذين جعلوا من أصول سياستهم محو العربية من سورية والعراق، وحتم البداوة على عرب الجزيرة وإيقاع الشقاق الدائم بينهم إلى أن يبيد بعضهم بعضًا؟ كان قبول السيد الزهراوي لمنصب الأعيان من الحكومة الاتحادية مثيرًا لاستياء جمهور طلاب الإصلاح ومحبي الإصلاح للأمة العربية العثمانية وسببًا لسوء الظن فيه، وكثر القول بأنه تحول عن سيرته التي كان عليها طول عمره، فآثر منفعته الشخصية على مصلحة أمته العربية، فتحول ذلك الجمهور الذي كان ينوه به ويصفق له إلى الخوض فيه، ولو كان عقل الجمهور يدرك كثيرًا تلك الفضائل التي وصفناه بها بحق، لما صدق أن مثله يتحول بعد سن الخمسين من عمره إلى ضد ما ثبت عليه من أول نشأته، وما الذنب على العامة في ذلك، وإنما الذنب ذنب خواص الأذكياء والمتعلمين الذين سارعوا إلى الخوص فيه فتبعتهم العامة، وكان يجب عليهم التروي والتثبت في أمر هذا الحدث الجديد. ألهذا العامل المستقل عذر فيه واجتهاد أم لا؟ ثم التثبت والتروي في الطعن بمثل هذا الرجل منهم، إن ثبت لهم أنه مجرم سياسي متعمد، لا مجتهد مصيب أو مخطئ، فإن أول نتائج الطعن في مثله- وقل أن يوجد مثله في طهارة سيرته الشخصية والسياسية- هي زوال ثقة الأمة من زعمائها بقياس أنزه الصادقين على أخس المنافقين، وما أولئك الطاعنون إلا حاسد يذم من الزهراوي ما يتمنى مثله لنفسه، أو نفعي ساء ظنه لسوء نيته وفعله، أو غيور شديد العصبية، قليل الروية، يبادر إلى إرضاء حميته، ولا يحسب حسابًا لعاقبة قوله وعمله. لم يكن الزهراوي من أهل الأهواء، الذين يجعلون مصلحة الأمة والدولة تبعًا للأغراض، وعرضة للعواطف والأحقاد، بل كان يحب العمل المبني على القواعد المعقولة والرغائب المأمولة، فلما رأى أن الاتحاديين يحاولون إصابة أغراضهم الضارة بالأمة العربية وبوحدة عناصر الدولة، بقوة مجلس المبعوثين، أحب أن يحاربهم بسلاحهم، فكان من المؤسسين للحزب المعتدل ثم لحزب الحرية والائتلاف الذي تكون من هذا الحزب الذي أكثر أفراده من العرب، ومن حزب الأهالي الذي أكثر أفراده من الترك، وكان الزهراوي وكيل الرئيس في هذا الحزب، وقد ظفر هذا الحزب بالاتحاديين، فجذب إليه الجم الغفير من مفكريهم وضباطهم، ثم أسقط وزارتهم، واستبدل بها وزارة مختار باشا التي لم تكن هي ولا وزارة كامل باشا التي جاءت بعدها ائتلافية ولا اتحادية، وإنما كانتا على كراهتهما لسيرة الاتحاديين غير معتصمتين بعروة الائتلافيين، ولا موافقتين لهم في كل شيء، ولذلك سهل على الاتحاديين إسقاط وزارة كامل باشا، وقد أخطأ الائتلافيون بعدم جعل الوزارة من حزبهم. وقعت حرب البلقان في أيام وزارة مختار باشا، فانكسرت الدولة فيها، وألفت وزارة كامل باشا لتتدارك أمر الدولة بالصلح، وفي أثناء ذلك جاء الزهراوي مصر قاصدًا الذهاب إلى الأستانة لقرب موعد فتح مجلس المبعوثين وقد أقنعناه بأن لا يتعجل السفر، لما يُخشى من وقوع الفتن بالأستانة، وقد وقع ما كنا نتوقعه بهجوم الاتحاديين على الباب العالي، وقتلهم ناظر الحربية فيه وإسقاطهم وزارة كامل باشا، والقبض على أزِمَّة الحكومة، ولكن صاحبنا كان يصر على السفر، يظن ظنًا كاد أو كان يسميه يقينًا بأن الاتحاديين لا يثبتون أسبوعًا حتى تسقطهم الأمة، وتستبدل بهم غيرهم فأقنعناه بأن يصبر حتى تصدق الأيام ظنه أو تكذبه، وما اقتنع منا إلا بإدلال الصداقة، على أنه كان يرجع عن رأيه إلى رأي صديقه، هذا كما نص على ذلك في كتابه الآتي وإنما صرحت بهذا؛ لأنه من مقدمات الحجة التي أذكرها بعد نشر ذلك الكتاب. وفي أثناء حرب البلقان تأسس حزب اللامركزية بمصر، ولم يدخل هو في الحزب؛ لأنه لم يكن ينوي الإقامة بمصر، وإنما رشحه الحزب لرياسة المؤتمر العربي، لمكانته العلمية والاجتماعية، وموافقته للحزب في مقاصده الإصلاحية، فانتخب رئيسًا في باريس، وعقد معه الاتحاديون ذلك الاتفاق المشهور. كان في مدة إقامته في باريس أيام المؤتمر، وبعدها يكاتب حزب اللامركزية ويعمل برأيه، ولم يسافر إلى الأستانة إلا بعد إذنه، فقد استشار الحزب فخيره بين مصر والأستانة، وكان هو يرجح الثانية، والحزب يرجح الأولى، وكان يكتب من الأستانة إلى رئيس الحزب كل ما يدور هناك في مسألة إعطاء العرب حقوقهم من الإصلاح والوظائف، ويكتب إلى صديقه (كاتب هذا) مثل ذلك، وما وراء ذلك مما كان

البلاغ الإنكليزي الرسمي في شأن العرب والسلطة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البلاغ الإنكليزي الرسمي في شأن العرب والسلطة الإسلامية أرسل قلم المطبوعات البلاغ الآتي إلى الجرائد في القطر المصري مصر في 28 يوليو سنة 1916 نشر في لندن اليوم البلاغ التالي: (منذ سنين والعرب المعذبون بسوء الحكم التركي ينتظرون اليوم الذي يتمكنون فيه من استرجاع حريتهم السابقة، وقد قاموا في الماضي بثورات عديدة ضد الاستبداد التركي في البلاد العربية. وقد أدى سوء تصرف الحكومة الحالية في الآستانة وخضوعها التام لسلطة الألمان إلى دخول تركيا مضطرة في حرب مشئومة، أوصلت الأحوال فيها إلى حد النهاية، فرأى شريف مكة وغيره من الزعماء في البلاد العربية أن الأوان قد آن لخلع النِّير التركي عن أعناقهم والمناداة باستقلالهم. وكانت بريطانيا العُظمى تعطف دائمًا على العرب في أمانيهم، ولكن صداقتها التقليدية لتركيا اضطرتها في الماضي إلى البقاء على الحياد. أما الآن، وقد انضمت تركيا إلى صف الدول الوُسطى، فقد أصبحت بريطانيا العظمى حرة في إظهار عطفها على أولئك العرب الذين انخرطوا في جانب الحلفاء ضد العدو المشترك. على أن بريطانيا العظمى ستبقى محافظةً على سياستها الثابتة في الابتعاد عن أية مُداخلة في الشئون الدينية، وعلى بذل جهدها في بقاء الأماكن المقدسة أمينة من كل طارئ خارجي. ومن النقط التي لا تقبل التغيير والتبديل في سياسة بريطانية العظمى هو أن تبقى هذه الأماكن المقدسة في أيدي حكومة إسلامية مستقلة. ولا يخفى أن أحوال الحرب الحاضرة تلقي العقبات الكثيرة والأخطار في سبيل الراغبين في القيام بفريضة الحج، ولكن العمل الذي قام به شريف مكة يجعل الأمل كبيرًا في اتخاذ التدابير اللازمة التي تمكن الحجاج في المستقبل من زيارة الأراضي المقدسة بسلام واطمئنان) اهـ. (المنار) قد أسمعتنا العاصمة البريطانية عدة أصوات في المسألة العربية والبلاد الإسلامية المقدسة كان أولها برقية لروتر يؤكد فيها أن إنكلترا لا تنوي أن تأخذ شيئًا من بلاد العرب، ولا تسمح لأحد بالاعتداء على شيء من البلاد الإسلامية المقدسة. ثم دار في هذا المعنى، وفي مسألة الخلافة كلام كثير بين أعضاء مجلس الأعيان والنواب، ولكن لم يكن شيء من ذلك بلاغًا رسميًّا في معنى قطعي يوثق بعدم الرجوع عنه كالبلاغ الذي نشرناه اليوم دون جميع ما سبقه مما هو جدير بأن يحفظ أيضًا، وإن لم يبلغ درجة هذا البلاغ في الاعتبار. في هذا البلاغ تصريح قلما يصدر عن دولة، وهو قد صدر عن أدق الدول في تحرير العبارات الرسمية وجعلها مقيدة لغيرها بقيود قلما يستطاع التفلت منها مع بقائها هي في عالم الإطلاق. ألا وهو التصريح بأن من أصول السياسة البريطانية التي لا تقبل التغيير والتبديل بقاء الأماكن الإسلامية المقدسة في يدي حكومة إسلامية مستقلة. ومعنى كون هذا لا يقبل التغيير والتبديل أنه متفق عليه من جميع أحزاب الأمة لا أنه رأي الحكومة الحاضرة، أو حزبها - حزب الأحرار- وحده، فيكون عُرضة للرجوع عنه بتغير الوزارة أو تحولها إلى حزب المحافظين. وبهذا التفسير يظهر غلط الذين قالوا: إنه لا يوجد في السياسة شيء لا يقبل التغيير والتبديل، فيكون هذا النص لغوًا لا معنى له حتى نغتر به. ونقول لهؤلاء: حسبنا أنه لا يتغير ولا يتبدل إلا بتغير رأي الأمة الإنكليزية كلها وهي أثبت الأمم وأبطؤها تغيرًا وتحولاً في كل شيء. على أن أهم ما في هذا التصريح فَحْواه لا نصه، وأعني بفحواه اعتراف الدولة البريطانية باستقلال الدولة الإسلامية التي تستولي على هذه البلاد إذا زالت سيادة الدولة العثمانية عنها بما يُخشى أن يحل بها من قدر الله - تعالى -، فهو يتناول مسألة السلطة الإسلامية في هذه الحالة، وهي أهم ما يهم جميع مسلمي الأرض، وسنكتب فيها مقالاً نبين فيه ما يسمح لنا الوقت ببيانه - إن شاء الله تعالى -.

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار سيدي الأستاذ محرر (المنار) : اطلعت على دعوتكم إلى نقد (المنار) وعلى فاتحة المجلد التاسع عشر فلم يسعني إلا تحرير هذا الكتاب لفضيلتكم ورائدي الإخلاص وتعضيد ما ينفع الناس. فأما عن نقد (المنار) فحسبي أن أقول: إن المجلة التي كادت تبلغ ربع قرن من حياتها لا بد وأن تكون قد جمعت من أسباب الحياة ما فيه الكفاية، وإن ما ألم بها أخيرًا من العسر المالي الذي يرجع بعضه إلى أزمة الحرب ليس غير مجرد مرض عادي إذا عُولج علاجًا ناجعًا عادت إلى المجلة نضرتها السابقة، وعندي أن هذا المرض محصور في اضطراب إدارة المجلة، وفي عدم تمشيها مع الزمن بخلاف عادتها في سالف السنين، ولبيان ذلك أقول: إن إدارة المجلة على ما يظهر لي كثيرة التساهل مع المشتركين، فإني لا أتذكر أني تلقيت أخيرًا من حضرة مدير (المنار) طلبًا بدفع الاشتراك كما هي عادة جميع المجلات الراقية عربية كانت أم إفرنجية. وقد كنت أباهي بشدة تدقيقي في حسابي، ولكن شواغل الحياة متى تعددت أصابت الإنسان بالنسيان وسلبته بعض نظامه مهما يكن يقظًا، فبت ولا أدري بماذا أدين إليكم؟ والنفقة التي تنفقونها في سبيل تذكير كل مشترك مرة في السنة بموعد تجديد اشتراكه لا يساوي شيئًا في جنب الفائدة المادية التي تحصلون عليها. ولولا أن هذه الطريقة الإدارية ذات نتيجة محسوسة لما استمرت على اتباعها جميع الصحف المعتبرة، زد على ما تقدم أن المجلة لا تُرسل إليّ بانتظام وهذا ضار بمصلحتها؛ لأني إذا كنت لا أتردد لحظة في دفع ما تطلبون إلى دفعه حتى، ولو استلمت عددًا واحدًا فقط منها في السنة كلها. معتمدًا على جميع بقية الأعداد منكم متى عدت إلى القاهرة، فلا شك عندي أن كثيرين غيري يتنصلون من الدفع بهذه الحجة، فتكون خسارتكم حينئذ غير قليلة. وهذه نقطة جوهرية يحسن بسادتكم النظر فيها، لأن نظام العمل من أقوى الدعائم لنجاحه. مباحث المجلة في تعريفكم ليست قاصرة على فلسفة الدين بل هي تشمل أيضًا شئون الاجتماع والعمران، ولكنكم قلما تطبقون ذلك. لا أنكر أنكم أحسنتم كثيرًا بنشر المقالات الصحية المفيدة التي وضعها الدكتور توفيق صدقي، كما أن لكم جولات رائقة في غير مباحث الدين، ولكني لا أعرف لكم أبوابًا ثابتة في كل عدد سوى باب تفسير القرآن، بخلاف ما أشاهده في مثل (المقتطف) أو (رعمسيس) أو (الهلال) وبخلاف ما أشاهده في المجلات الدينية المسيحية الراقية التي تصدر بالإنكليزية، حتى كأن تلك المجلات الدينية، تخوض في كل علم، وترمي إلى تطبيق العلم على الدين. ومثل هذا التطبيق في رأي بعض المفكرين تضليل. ولكني لا أرى ذلك إذا كان المطبق مخلصًا في عمله؛ لأن رجل الدين متى اعتقد أن العلم هو أحد أركان الدين، وجب عليه أن يجمع بينهما حتى يخلِّص المعتقدات الدينية من خرافات الجهلاء المدعين الذين يتاجرون باسمها أو يبنون شهرتهم الكاذبة على حسابها، وقد لاحظ كثيرون تحاشيكم إيضاح (المنار) بالصور حتى رسوم من تُوُفُّوا من علماء الإسلام، فعد ذلك دليلاً على كره الإسلام للتصوير في العصر الحاضر أيضًا. وأما عن دار الدعوة والإرشاد التي تقصدون بها تربية أساتذة لتهذيب العامة، ونشر المبادئ الأدبية النافعة والقضاء على أباطيل الأولين، فلا يحاربها رجل بعيد النظر، حتى ولا من أنكر ذات الخالق؛ لأني إذا قلت: إن الطبقة المتعلمة من الأمة قد تجد من تعليمها العالي المبادئ الأدبية الكافية لصيانة أخلاقها، ولو كانت غير متدينة بدين سماوي، فيصعب علي جدًّا أن أتصور جواز هذا الحكم على عامة الناس الذين لا تثمر مبادئ الإلحاد بينهم إلا فوضى أدبية مريعة. فيجب إذن تعضيد رؤساء الأديان الذين يسيرون بها دائمًا إلى الأمام، وقصدهم التعليم والتربية: وإذا عد نفر من السنين يتحقق هذا الحلم. فإذا فرضنا أن تحقيقه في حكم المستطاع - والناس كثيرًا ما يختلفون حتى على البديهات. وفي خلال كل هذا الزمن، يلبث الدين قرين اللغة من مشخصات الأمة ومظهر من مظاهرها - فحري بكل ذي وطنية صحيحة أن يمعن النظر في هذه المسألة الحيوية. هذا وإني لا أذهب مذهب مكاتبكم الفاضل في خاتمة المجلد السابق، بل لا أشك في حسن مستقبل الشرق، ولكل أمة دور من صعود وهبوط، ولا خوف عندي على مثل (المنار) أو (دار الدعوة والإرشاد) فلا بد أن يأتي وقت قريب، يُعطى فيه خليفة الإمام محمد عبده حقه من الإنصاف على ما خدم به الأمم الإسلامية من الإرشاد النافع حتى صارت فتاويه مرجع كل مصلح اجتماعي جريء. وبات (تفسير المنار) معدودًا أعظمَ تفسير للقرآن الشريف لجمعه بين علوم السلف والخلف، ولما تضمنه من خلاصة العلوم الحديثة، التي يجب أن تكون هُدى المفسر لكتاب يعد قانون الله الذي خلق الكون ودبره. فما العلوم الطبيعية إلا خلاصة ما وصل إليه العقل الإنساني في دروس سنن الكائنات بتدقيق وأمانة؛ لهذا كانت تفاسير القرآن التي خطها الجاهلون بهذه العلوم أولى بالتلف منها بالصيانة، فإنها عار للعلم والدين معًا. فاسمح لي إذًا يا سيدي الأستاذ أن أهنئكم على استقبال (المنار) لسنة جديدة من سِنِي حياته المباركة، راجيًا أن تكون فاتحة رقي متواصل له ونجاح ثابت ونصرة للفضيلة والآداب. ... ... ... ... ... ... نادي، مستشفى سانت جورج بلندن ... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي ... ... ... ... ... ... ... ... (طبيب) (المنار) نشرنا رسالتكم برمتها، وإن كان موضوع باب الانتقاد على المنار خاصًّا بانتقاد مسائله دون إدارته. ونشكر لكم تهنئتكم وثناءكم، وكل ما كتبتم بمداد الاستقلال والإخلاص، ولا أنكر ما عرض من الخلل على إدارة المنار ولا سيما إهمال التحصيل، وأذكر من سببه خيانة بعض الوكلاء وتركي الأشراف عليها، وتعدد من تولى أمرها منذ الانقلاب العثماني الذي فتح لي أبواب الأسفار إلى سورية ثم الآستانة، ثم الهند وعمان والعراق، والاشتغال بمشروع الدعوة والإرشاد، وستعود إلى الانتظام في هذا العام - إن شاء الله تعالى -. وأما سبب قلة تنوع موضوعات المنار كتنوع غيره من المجلات فهو أن محرره واحد له أعمال كثيرة أخرى، ومحرروها كثيرون. ولا يتسع هذا الجزء للخوض معكم في سائر المسائل التي أودعتموها في رسالتكم المفيدة.

مناسك الحج أحكامه وحكمه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناسك الحج أحكامه وحكمه بسم الله الرحمن الرحيم {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) , {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158) {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (البقرة: 197) . أما بعد: حمدًا لله والصلاة والسلام على خاتم رسله محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقول محمد رشيد بن علي رضا صاحب مجلة المنار: إنني في شهر ذي القعدة سنة 1334 عزمت على أداء فريضة الحج في خدمة والدتي، وكنت أتمنى ذلك منذ سنين، ولم يتيسر لي لموانع بعضها من قِبَلها، وبعضها من قِبلي، وقد خطر لي قبل السفر من مصر بثلاث ليال أن أكتب شيئًا مختصرًا في أحكام المناسك وحكمها، سهل العبارة، مأخوذًا مما صح في السنة، مع الإشارة إلى أقوى مسائل الخلاف، وأن أطبعه وأوزعه على من أسافر بصحبتهم من الحجاج، تعليمًا للجاهل، وتذكيرًا للغافل، ولكن لم يتيسر لي الشروع فيه إلا في منتصف النهار من اليوم الثاني والعشرين من الشهر - وموعد السفر 24 منه -. *** الحج والعمرة الحج أحد أركان الإسلام الخمسة، وهو عبادة بدنية مالية، والصلاة عبادة بدنية فقط، وكذلك الصيام، والزكاة عبادة مالية فقط، ومعناه القصد إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة؛ لأداء النسك فيه وفيما جاوره من الأماكن الشريفة، وهذا النسك منه أركان وواجبات، وسنن مندوبات ومستحبات. والعمرة كالحج في أركانه وواجباته وسننه إلا الوقوف بعرفة فإنه ركن من الحج غير مشروع في العمرة، وتكون في أشهره وفي غير أشهره كما سيأتي. وهي واجبة عند بعض أئمة العلم، وسنة عند الآخرين ويجوز الجمع بين الحج والعمرة بأن ينويهما، ويلبي الله - تعالى - بهما معًا عند الإحرام، ويسمى هذا (قِرانًا) وأن ينوي الحج وحده ويلبي به ثم يدخل عليه العمرة، ويسمى (إفرادًا) وأن ينوي العمرة وحدها أو مع الحج ثم يتحلل منها بعد أداء أركانها، ثم يُحرم بالحج بمكة، ويسمى هذا (تمتعًا) لأن صاحبه يتمتع بعد التحلل من إحرامه بها ويتمتع به غير المُحْرِم من لبس الثياب والطيب وغير ذلك من محرمات الإحرام، وعليه فدية، وهي ذبح شاة أو صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة أيام إذا رجع من الحج، أو إطعام ستة مساكين من أوسط طعامه، ككفارة اليمين وزكاة الفطر. واختلف علماء السلف والخلف في الأفضل، وأقوى الأقوال في ذلك أن التمتع أفضل مطلقًا، أو لمن لم يَسُق (الهدي) إلى الحرم. و (الهدي) ما يُهدى إلى الحرم من الأنعام ليُذبح فيه تقربًا إلى الله - تعالى -، فمن ساقه من بلده أو طريقه فالأفضل له القِران. وعلى هذا يكون التمتع هو الأفضل والأيسر لأمثالنا - من الحجاج المصريين وغيرهم ممن لا يسوق معه هديًا - أن نُحْرِم بالعمرة وحدها أو مع الحج، ثم نأتي بأركان العمرة كما يأتي بيانه، ثم نتحلل منها فنستبيح كل ما يباح لغير المحرم، ونذبح شاة إذا كان يوم (التروية) - وهو الذي قبل يوم عرفة - نُحْرِم بالحج من مكة، ولمن أحرم بالحج وحده أو بالحج والعمرة معًا أن يتحلل بعمرة، ثم يحرم بالحج كذلك. *** الإحرام والتلبية لكل قطر من الأقطار مكان يسمى (ميقات الإحرام) لا يجوز تجاوزه بغير إحرامٍ الحاجُّ ولا المعتمر، وفي غيرها كقاصد الحرم للتجارة خلاف، فمتى بلغ الميقات أحرم عنده، بأن ينوي الحج والعمرة أو أحدهما، ويلبي بما نواه بأن يقول: لبيك اللهم عمرة أو بعمرة، أو لبيك اللهم حجًّا، أو لبيك اللهم حجًّا وعمرة، أو بحج وعمرة. وتقدم أن الأفضل لأمثالنا الإحرام بالعمرة فقط. ومن أحرم إحرامًا مطلقًا قاصدًا النسك الذي فرضه الله - تعالى - في حرمه من حيث الجملة جاهلاً هذا التفصيل صح إحرامه، وعند أداء المناسك يأتي بواحد من الثلاثة التي ذكرناها. والإحرام بالمعنى الذي ذكرناه - وهو نية النُّسك من حج وعمرة فرض فيهما، وهو ركن عند الجمهور وشرط على الراجح عند الحنفية. ويستحب الاغتسال للإحرام، ولو لحائض ونُفَساء، وكذلك التطيب قبله، وأن يكون بعد صلاة، إما صلاة فرض، وإما صلاة تطوع، وأن يحرم في ثوبين نظيفين - وكونها أبيضين أفضل - وفي نعلين لا يستران الكعبين، وأن يكون أحد الثوبين إزارًا، يُلف على النصف الأسفل من البدن والآخر رداء، يوضع على العاتق ويستر النصف الأعلى منه دون الرأس فإنَّ ستره حرام على الرجال. فلا يجوز للمحرِم لُبس العمامة ولا غيرها مما يوضع على الرأس، ولا لبس القميص والقباء (القُفطان) والبرنس والجُبَّة والسراويل والخف والحذاء، الذي يسمى الجزمة أو الكندرة. ولا ما في معنى ذلك من الثياب المفصلة المخيطة، ومن لم يجد الإزار والرداء أو النعلين لبس ما وجده؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عباس أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب بعرفات يقول: (السراويل لمن يجد الإزار والخفان لمن يجد النعلين) ولا فِدية عليه عند الشافعي وأحمد لأنه لبس ذلك للضرورة، فإذا زالت الضرورة في أثناء النسك، بأن وجد الإزار والنعلين وجب عليه نزع السراويل والخف ونحوهما، فان لم ينزعها وجبت عليه الفدية، وهي شاة يذبحها. وعند أبي حنيفة ومالك تجب عليه الفدية، وإن لبس ذلك للضرورة. ولا بأس بشد المنطقة أو الهميان الذي توضع فيه النقود في الوسط. ولا بأس بعقد الإزار في وسطه أيضًا، وإذا كان يخاف سقوطه بغير عقد يتأكد العقد. والأصل في هذه المسألة حديث ابن عمر في الصحيحين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عما يلبس المحرم من الثياب فقال: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل الكعبين. ولا تلبسوا شيئا من الثياب مسه الزعفران ولا الورس هذا لفظ مسلم. وفي حديث ابن عباس المرفوع، أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يشترط في ترخيصه بلبس الخفين لمن لم يجد النعلين قطعهما. فبعض العلماء حل هذا الإطلاق على حديث ابن عمر، وقال: لا بد من قطعهما، وبعضهم قال: إن حديث ابن عباس ناسخ لحديث ابن عمر؛ لأنه بعده. ولا يجب على الرجل كشف غير الرأس من بدنه، ويجوز له أن يستظل بالمظلة (كالشمسية) وغيرها مما لا يمس رأسه، ولكن يستحب له أن يعرض رأسه للشمس ما لم يتأذَّ بذلك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه - رضي الله عنهم - لم يكونوا يستظلون في الإحرام، وقد رأى ابن عمر رجلا ظُلِّلَ عليه قال له: أيها المحرم أَضْحِ لمن أحرمت له. أي ابرز للشمس لأجل من أحرمت له، ويقال: ضَحَى الرجل، يَضْحَى ضُحًى، وضحا، يضحو، ضَحْوًا، وضَحْيًا، إذا برز للشمس أو أصابته الشمس. وأما المرأة فلم ينهها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا عن وضع النِّقاب على الوجه، ولبس القُفّازين في اليدين، فإحرامها في وجهها ويديها والنقاب ما تستر به المرأة وجهها، فلا يبدو منه إلا محاجر العينين، ومثله البُرْقُع. قال العلماء: فإن سترت وجهها بشيء لا يمسه فلا بأس. وأما ستره عن الرجال بمظلة ونحوها فلا شبهة في جوازه، ويجب إذا خِيفت الفتنه من النظر. ومن أَضَرّه لباس الإحرام، فله أن يتقي الضرر، ولو بتغطية الرأس، ومتى زالت الحاجة إلى ذلك تركه. وأما التلبية فصيغتها المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم-: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) وكان - صلى الله عليه وسلم - يلبي من حين يحرم، يرفع بها صوته، فرفع الصوت سُنة للرجل، فيرفع المحرم صوته بحيث لا يجهد نفسه، والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع نفسها، وكذا جارتها. ومعنى التلبية المبالغة في إجابة دعوة الداعي إلى الحج، ولا يزال العرب يجيبون من يدعوهم إلى شيء بكلمة لبيك، وأول من دعا الناس بأمر الله إلى هذه العبادة إبراهيم - عليه وعلى آله الصلاة والسلام -. وذلك قوله تعالى له: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 27) والرجال هنا جمع رَاجِل، وهو الماشي على رجليه، أي يأتوك مشاةً وراكبين على الرواحل الضامرة البطون التي تأتي من الفِجاج والطرق البعيدة. فمعنى (لبيك اللهم) أنني أجيب الدعوة إلى هذا النُّسُك خاضعا لأمرك متوجها إليك مقيما لخدمتك المرة بعد المرة. والتلبية واجبة عند المالكية، ومسنونة عند الجمهور. وهذه التلبية المأثورة هي العبادة القولية التي تتكرر من أول الإحرام بالنسك إلى الانتهاء منه. ويستحب تجديدها بتجدد الشئون والأحوال كالصعود والهبوط والركوب والنزول واجتماع الناس وتلاقي الرِّفاق. *** دخول مكة والطواف يستحب الاغتسال لدخول مكة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغتسل له وكان يبيت (بذي طُوى) وهو موضع عند الآبار التي يقال لها: آبار الزاهر، فمن تيسر له المبيت فيه والاغتسال فقد أصاب السنة. والأفضل دخول مكة نهارًا، وأن يقصد المسجد الحرام تَوًّا، والأفضل أن يدخل من باب بني شيبة؛ وروي في حديث ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا رأى البيت - أي الكعبة المعظمة -: (اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزد من شرفه وكرّمه، ممن حجه أو اعتمر تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبِرًّا) وروي أن عمر - رضي الله عنه - كان إذا نظر إلى البيت قال: (اللهم أنت السلام ومنك السلام، فحيِّنا ربنا بالسلام) . واعلم أن ما يُذكر في المناسك من الدعاء والثناء، وما يلقنه المطوفون للحجاج قلما يصح فيه حديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنه ما هو من أقوال الصحابة وغيرهم من سلف الأمة. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسمع أصحابه يدعون الله - تعالى - ويثنون عليه في النسك بما يلهمهم الله - تعالى - فيقرهم على ذلك. فعُلم من ذلك أن ما لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك لا يكلفه أحد ولا يمنع منه، ولكن لا يجعل شعارًا عاما يلقنه كل الحجاج ويلتزمونه دائما بصفة خاصة؛ لأن الشعائر لا تثبت إلا بنص الشارع، والظاهر أن الشارع ترك هذا الأمر للناس ليدعو كل منهم ويثني بما يلهمه الله ويخشع له قلبه. ويُسن أن يصلي بعد الطواف ركعتين. والثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل المسجد الحرام يبدأ بالطواف، والطواف الأول من الحاج أو المعتمر يسمى طواف القدوم، وهو واجب عند المالكية، وسنة عند الأئمة الثلاثة. ويراعى في الطواف شروط الصلاة كالوضوء وطهارة البدن والثياب وستر العورة، لما رواه الشافعي والترمذي - واللفظ له - من حديث ابن عباس مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطواف بالبيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلم إلا بخير ووردت آثار في النهي عن كثرة الكلام في الطواف، أي: وإن كان بخير لم تمس إليه الحاجة؛ لأنه يشغل القلب عن الخشوع في هذه العبادة. ولما كانت الطهارة شرطا لصحة الطواف، امتنع الطواف على الحائض والنفساء، فه

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 13

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (13) الدرن TUBERCUlOSiS يراد بهذا الداء تكوُّن أجسام صغيرة في عضو أو أكثر من أعضاء الجسم [1] ويسمي الأطباء المحدَثون هذه الجسيمات بالدرنات أو الدرن [2] وهي تنشأ من باسيل اكتشفه العلامة الألماني كوخ سنة 1882 ميلادية. أوصاف هذا الباسيل: هو عصيات مستقيمة أو منحنية قليلاً طولها نحو 3 ميكرونات وعرضها 5و0 من الميكرن. ذات أطراف مستديرة في كل منها نقطة لامعة أو أكثر ظُن سابقًا أنها حبيبات للميكروب، والحقيقة أنه لا يتوالد إلا بالانقسام وهو عديم الحركة ولا أهداب له (خلافًا لما ذهب إليه بعض الباحثين) ويعيش في الهواء وفي غيره من الغازات، بل في الفراغ، وأحسن حرارة تناسبه ما كانت درجتها 37 سنتجراد، ولكن نموه بطيء جدًّا. تركيب الدرن: تتكون كل درنة من خلايا تحيط بها تشبه كريات الدم البيضاء وفي داخلها خلايا تشبه خلايا البشرة، وفي مركزها خلية أو أكثر كبيرة ذات نويات عديدة. وقد يوجد بين هذه الخلايا منسوج آخر دقيق جدًّا يؤلف بينها. ويوجد الميكروب بين هذه الخلايا أو فيها خصوصًا حول الخلية المركزية الكبرى أو فيها كما في درن الحيوانات. وفي بعض الأحوال تكون هذه الخلية معدومة، وفي البعض الآخر تكون الخلايا البشرية، كذلك فتتكون الدرنة من خلايا كالكريات البيضاء فقط. وقطر الدرنة الواحدة عادة مليمتر واحد أو اثنان. وتشاهد الدرنات في هذا المرض بوضوح في الرئتين أو الكبد أو الكليتين. وكلما كبرت الدرنة مات وسطها، وذلك إما لعدم وصول أوعية الدم إليه أو لسموم الميكروب أو للسببين معًا، فإذا مات الوسط صار مصفرًا وقوامه كالجبن، وهذا الوسط الميت يزداد اتساعًا بينما محيط الدرنة يُغِير على ما أحاط به من الأنسجة، وهلم جرًّا. وهذه الدرنات تنشأ بسبب تهيج العضو بالميكروب فتتكاثر الخلايا حوله بانقسامها إلى عدة أقسام. وتهرع إليها الكريات البيضاء لمقاتلتها فتحيط بها فيصيبها ما ذكر. وباجتماع هذه الدرنات بعضها مع بعض تتكون درنات كبرى فينشأ من ذلك أخرجة (جمع خراج) في العضو المصاب. وقد تتحول إلى مادة كلسية (جيرية) برسوب فسفات الكلسيوم فيها على الأكثر فيموت الباسيل ويُشفى العليل. وهذه الدرنات تحدث تهيجًا في الأعضاء، وقد يكثر حولها المنسوج الليفي الضام. ويجوز أن يغير هذا المنسوج على الدرنة ويطبق عليها فتضمر وتتناقص حتى تستحيل إلى نقطة ليفية، وبذلك يُشفى الدرن أيضًا. أما إذا كانت قوى المريض ضعيفة فتلتهب الأنسجة حول الدرنات وتزداد حالة العليل سوءًا فوق سوء، وفي آخر الأمر تتقيح الدرنات وما حولها ويشترك مع هذا الميكروب ميكروبات أخرى فتتكون أخرجة وكهوف كما يحصل كثيرًا في رئة المسلولين. الأسباب: ميكروب هذا الداء منتشر كثيرًا بين الناس وبعض الحيوانات. ولمعرفة كيفية العدوى به يجب أن نقسم البحث هنا إلى مسألتين: (الأولى) الاستعداد الشخصي: للوراثة تأثير عظيم في العدوى بهذا الداء فإنه يغلب حدوث هذا المرض في أولاد المسلولين. ولا يتوهم أحد أن الذي ينتقل من الوالد إلى ولده وهو الميكروب، بل استعداد خاص فقط، اللهم إلا في أحوال نادرة جدًّا، ولذلك كثيرًا ما يولد الولد في صحة لا بأس بها أو جيدة، ثم يصاب بعد ذلك بالدرن وهناك مهيئات كثيرة للعدوى تسبب نهاكة القُوى فيضعف الشخص عن مقاومة الميكروب فيقهره، وأهم هذه الهيئات: (أ) الازدحام وفساد الهواء بأي سبب كان. (ب) قلة الأغذية. (ج) إجهاد قوى الجسم فوق طاقته بأي عمل كان ككثرة العدْو أو الانهماك في الجماع أو في السهر وجلد عميرة، أو المطالعات الطويلة والمباحث العقلية العنيفة خصوصًا إذا صاحبها الفقر وفساد الهواء. (د) كثرة الحمل والولادة أو الإرضاع. (هـ) كثرة التردد إلى الأماكن الرطبة المظلمة التي يندر دخول الشمس فيها. (و) الحمى التيفودية. (ز) الإسراف في شرب الخمور. (ح) البُوال السكري. (ط) الزُّهَري إذا أهمل حتى أفسد البِنية. هذه هي المهيئات العامة هناك مهيئات أخرى خاصة بالعضو المصاب ويسمونها بالمهيئات الموضعية مثل، كثرة النزلات الشعبية أو الرئوية، وتهيج الرئة ببعض الغازات أو بغبار بعض المعادن وغيرها كما يحصل في المصانع. وللعمر تأثير كبير أيضًا في العدوى، فترى أن الدرن كثيرًا ما يصيب الصغار ففي الأطفال تشاهد كثيرًا إصابتهم بدرن السحايا أو البريتون أو الغدد اللمفاوية أو العظام أوالمفاصل، وفي الشبان كثيرًا ما نشاهد الدرن الرئوي (وهو المسمى بالعربية السل أو الهُلاس) وأما الأشخاص الذين عمرهم فوق الأربعين فتقل إصابتهم بالدرن ولا ينافي ذلك أنه يصيب الشيوخ أحيانًا قليلة، وفي تلك الحال يغلب أن تكون إصابتهم مزمنة أي أن المرض بدأ فيهم قبل الأربعين. (المسألة الثانية) مدخل الميكروب: يدخل الميكروب الجسم من طريق الجلد أو الرئتين أو القناة الهضمية. (أ) طريق الجلد وهو نادر الوقوع غير أنه يشاهد أحيانًا ثُؤلول في أيدي المشرحين لجثث المسلولين، وفي هذا الثؤلول توجد ميكروبات الدرن وقد تنتشر منه إلى الرئتين أو غيرهما. وهناك درن الجلد يسميه الإفرنج [لوبس LUPUS] آخذًا من كلمة لاتينية معناها (الذئب) لأن هذا الداء يصيب كثيرًا الوجه فتتآكل أجزاء كثيرة منه تآكلاً يشبه نهش الذئب، ولكن هذا الدرن الجلدي قل أن ينتشر ميكروبه في الأحشاء. وهذا الطريق الجلدي غير مهم في الغالب. (ب) طريق الرئة وهو طريق مهم جدًّا. ولا يكفي لحصول الداء من هذا الطريق مجرد استنشاق بعض نَفَس المسلول أحيانًا، ولكن يحدث المرض إذا كثر الاختلاط بالمريض والقرب منه حتى يستنشق الإنسان الهواء المشتمل على ذرات تخرج من صدر المسلول أثناء سُعاله فتنتشر في الهواء المحيط به، أما نفسه الهادئ فلا يوجد فيه الميكروب. وإذا بصق المريض على الأرض أو غيرها وجف البصاق تطايرت منه أجزاء فيها الميكروب وتكون خطرًا شديدًا على مستنشقيها. ويكثر وجود الذرات التي فيها الميكروب على بعد نصف متر من فم المصاب فإذا بعدت عنه مترًا ونصف متر فقلَّ أن يصيبك منها شيء. وهناك بعض الحيوانات الداجنة التي تصاب بالدرن كالببغاء، وتكون أيضًا سببًا في العدوى بهذا الداء من هذا الطريق. ومن الحيوانات الأخرى الداجنة التي تكثر إصابتها به الخيل، ويقل وجوده في الكلاب والقطط. (ج) طريق القناة الهضمية، وهو أهم الطرق، فإن كثيرًا من الحيوانات التي تؤكل يوجد فيها هذا الداء؛ إذ إنه كثيرًا ما يصيب البقر والخنازير والدجاج والأرانب وخنازير الهند، أما المعز فقلَّ أن تصاب به، وكذلك الضأْن. ولبن هذه الحيوانات يشتمل كثيرًا على باسيل الدرن إذا أصيبت ضروعها به ولما كانت معرفة الضروع المصابة عسيرة في أول الأمر كان من الواجب اتقاء شرب اللبن إلا بعد غليه مدة خمس دقائق على الأقل. وقد يوجد الميكروب في لحم هذه الحيوانات وأحشائها. ونظرًا لانتشار الدرن في البقر يُشاهد هذا الداء كثيرًا في بطون الأطفال الذين يربون بلبنها، وقد دلت التجارب أن الحيوانات الصغيرة إذا ابتلعت ميكروب الدرن نفذ في جدر أمعائها، وأصاب غدد المساريقا فينشأ عنه مرض هذه الغدد. أو تدرن معوي أو بريتوني، وقد يصل بعد مضي زمن إلى أجزاء الجسم الأخرى فيصيب الغدد العنقية ويحدث داء الخنازير، وقليلاً ما يصيب رئتي الصغار. أما الشبان فإذا نفذ الميكروب خلال أمعائهم لم يصبها بشيء حتى يصل إلى الرئتين فيحدث السل الرئوي. وهذا الفرق يشاهد أيضًا بين الصغار والشبان إذا حقنوا بذرات من الكربون (الفحم) فتبقى في بطن الصغار وتصل إلى رئة الكبار، ومن ذلك استدل بعض العلماء على أن الرئتين قد تصابان بالسل من طريق البطن إذا أكل الشخص لحمًا أو لبنًا مصابًا، بل رجح هؤلاء العلماء أن إصابة الرئتين بالسل من هذا الطريق هي أكثر حدوثًا من طريق التنفس. وفي أكثر الأحوال تكون الإصابة بالدرن موضعية في أول الأمر يعني أنها تكون قاصرة على عضو واحد، ومن ثم قد تنتشر تدريجيًّا إلى الأعضاء الأخرى إما بسير الميكروب خلال الأنسجة أو بسيره في الأوعية اللمفاوية. وهناك درن عام تصاب به فجأة أعضاء كثيرة من الجسم دفعة واحدة، ولكن يكثر في مثل هذا النوع أن يكون مسبوقًا أيضًا بإصابة صغيرة موضعية كدرن الخُصية مثلاً، أو غدد العنق أو غير ذلك. ومما سبق يعلم أن أهم أنواع الدرن اثنان - الدرن العام والدرن الرئوي. *** الدرن العام أو الدخني سمي هذا النوع بهذا الاسم؛ لأن الدرنات تكون منتشرة في جميع أجزاء الجسم تقريبًا وتشبه حبات الدَّخن إذا نثرت فيها. الأعراض: هذه الأعراض تكون في أول الأمر مبهمة فيشتكي المريض من ضعف عام ونحافة وإقهاء (فَقْد شهوة الطعام) وصداع وحمّى، وقد يوجد أثر من الزلال في البول وتسوء حال المريض شيئًا فشيئًا، ثم تظهر أعراض أخرى تعين إصابة الرئتين ككثرة السُّعال والبصق، أو يصاب الشخص بأعراض تعين إصابة البطن كالإسهال المتعاصي والمغص، أو بأغراض أخرى تعين إصابة السحايا كالتشنجات والشلل. والمراد بذلك أن تكون أعراض انتشار الدرن في الأعضاء المذكورة أظهر من انتشارها في غيرها، وإن كانت كلها مصابةً به. ويحصل الموت في مدة تتراوح بين 3 أسابيع إلى 10، ولا يعلم باليقين أن أحدًا أصيب بهذا الداء وشُفي منه. المعالجة: عديمة الجدوى، وإنما تعالج الأعراض فقط، ويعطى المريض السوائل المغذية وبعض المنعشات مع بعض مرَكَّبات الأفيون لتسكين الألم والسعال، ومن المنعشات النافعة جدًّا النوشادر، ويجب أيضًا أن تكون سُكنى المريض في الأماكن التي تكون طلقة الهواء وتتخللها الشمس كثيرًا. *** الدرن الرئوي أو السل هذا الداء يصيب الرئتين بسبب تهييج باسيله لمنسوجها فتتكون الدرنات ويلتهب ما حولها فيتصلب منسوج الرئة، ثم يتقيح ويتحول إلى تجاويف ممتلئة بمِدة وصديد تسمى بالكهوف. ويكون ميكروب الدرن مصحوبًا بميكروبات أخرى من الأنواع البزرية غالبًا إذا حدثت هذه التغييرات المذكورة أخيرًا فإنها تساعده في إحداثها. الأعراض: سير هذا الداء مختلف فبعضه يكون سريعًا والبعض الآخر يكون بطيئًا فيمكث عادة من ستة أشهر إلى بضع سنين. وأهم أعراضه السعال وضيق النفس والبصق الصديدي والنحافة الزائدة والحُمَّى ونزف الدم من الصدر. وتبدأ هذه الأعراض بطرق مختلفة، ففي كثير من الإصابات تبدأ بالسعال وبصق المخاط مع الصديد زمنًا ما، وكثيرًا ما يتوهم الشخص أن داءه من البرد فلا يَعْبأ به كثيرًا في أول الأمر، وفي حالات أخرى تبدأ بالنزف الرئوي، وفي هذه الحالات قد يكون الشخص متمتعًا بالصحة فيندهش بمفاجأة النزف الرئوي له بعد سعال خفيف فيخرج منه بضعة دراهم أو أوقية، وقد يزيد الدم إلى نصف لتر وبعد زمن تظهر باقي الأعراض، وقد يعاوده النزف عدة مرات. وفي حالات قليلة يبدأ المرض بشكل التهاب رئوي أو التهاب بليوراوي مع انسكاب في الصدر. وهناك بعض الحالات التي تبدأ باضطراب في الجهاز الهضمي فيصاب الشخص بالإقهاء مع القيء المتكرر والنحافة، ثم تتم باقي الأعراض المذكورة. *** مضاعفات هذا الداء الجهاز التنفسي: يصاب بالتهاب الحنجرة، فيُبَح صوت المريض، وفي بعض الأحوال النادرة قد يكون ذلك أول ما يلاحظ على المريض. ويصاب هذا الجهاز أيضًا بالتهاب البليورا، كما سبق مع

العرب والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العرب والإسلام والترك الاتحاديون إن قراء المنار بعد الانقلاب العثماني يعلمون أن الجرائد الإسلامية الهندية أول من رمى الاتحاديين بالكفر والإلحاد، وأن المنار كان أول الصحف الإسلامية دفاعًا عنهم، ولما كثر الخلاف في أمرهم رحلنا إلى الأستانة بعد تمهيد مع جمعية الاتحاد والترقي المركزية للقيام بمشروع الدعوة والإرشاد في الأستانة وللسعي في التوفيق بين الترك والعرب، وكانت نواجم الخلاف والتخاصم قد نجمت، وامتدت من العاصمة إلى الولايات. وقد أقمت في الأستانة سنةً كاملة، اختبرت فيها الاتحاديين اختبارًا تامًّا لا أزال أرى في كل سنة من الآيات ما يؤيده، وتقنعني بأنني قد سبقت إلى إدراك ما لم يدركه كله العثمانيون ولا الأجانب. ولو كنت ممن يبيع دينه وقومه بالمال والجاه كالشيخ عبد العزيز جاويش لأمكنني أن أنال في الأستانة من الاتحاديين أنفسهم ما لا مطمع لعربي في نيل مثله، فقد منّاني الاتحاديون أعظم الأماني؛ لأنهم كانوا يظنون أنني ما دافعت عنهم ورددت على من سبق إلى رميهم بالكفر والإلحاد وإفساد هذه الدولة إلا لأن إسلامي سياسي يدور مع المنفعة الشخصية أنَّى دارت. ويعلم قراء المنار أني قد حملت على الاتحاديين بعد عودتي من الأستانة حملات منكرة لم يحمل عليهم أحد بمثلها في الشدة، كما يعلمون أنني لم أكتب شيئًا ينافي مصلحة الدولة العثمانية نفسها، ولا شيئًا ينافي الإخاء الديني بين العرب والترك، فأنا لم أعادِ الدولة ولا التُّرك ببيان فضائح الاتحاديين. بل أعتقد أن كل ما كتبته كان خدمة للإسلام وللدولة، وأن الموافقين لي عليه من علماء الترك وجمهور المتدينين فيهم أضعاف الموافقين لي عليه من العرب؛ لأن الذين كانوا يعرفون مقاصد الاتحاديين الإلحادية من العرب قليلين جدًّا، ولعلهم لم يكثروا إلا بعد أن رأى من رأى خواص العرب في سورية مصلوبين في أعظم مدنها عُمرانًا، وسمع من سمع بأخبارهم ثم بما كان من أمرهم مع الشريف الأكبر أمير مكة المكرمة. وقد كتب بعض العرب العثمانيين من أسرى الحرب وغيرهم مقالاتٍ في مقاصد الاتحاديين وعداوتهم للعرب وللإسلام نشروها في المقطم والأهرام، ظن كثير من المصريين أنها مقالات مصنوعة افتحرها كُتَّاب الجريدتين حتى إن منهم من لم يصدق ما نقل عن كتاب (قوم جديد) وكتاب (اتحاد إسلام) وإنما لم يصدق هؤلاء هذه الأخبار؛ لأنهم لا يريدون أن يصدقوا ما لا يلذ لهم تصديقه، ولو كانوا ذوي غَيْرَة على الدولة والدين وحرص على بقائهما كحرصهم على لذتهم وراحة بَالِهم لتحرّوا وبحثوا عن أصل كل ما يقال في هذا الموضوع؛ ليكونوا على بصيرة من أمر أعظم الأشياء موقعًا من أنفسهم وأهمها لديهم. كان مقصد الاتحاديين خفيًّا ثم عُرف رويدًا رويدًا، ثم اشتُهر وتواترت أخباره في جميع الأمم. وإننا ننقل من ذلك عن جريدة الأهرام ما يأتي: *** الإسلام والجامعة الطورانية كيف يسعى الاتحاديون لملاشاة الحضارة الإسلامية؟ [ *] كتب مراسل شركة (سنترال نيوز) الخاص يقول: في خلال بضع السنوات الأخيرة بدت في بلاد تركيا طلائع حركة جديدة تعرف بنهضة (بني طوران) أو (الطورانية الحديثة) ، وغرضها هدم المدنية الإسلامية وإحياء العصبية التركية على أنقاضها والجمع بين العناصر التركية التترية والشعوب المنتمية إليها، ومنها الأمة البلغارية. أما القائمون بهذا الحركة فهم قوم مشهورون بعدائهم للإسلام وتعصبهم عليه، وكثيرًا ما يجاهرون بأقوالهم وكتاباتهم بذلك الكُره، بحجة أن الإسلام يسعى لقتل العصبية القومية ويحول دون نشوء المدنية التركية؛ ولذلك فهم يسعون لجعل الجنسية التركية مستقلة عن الإسلام كل الاستقلال. ومما يقولونه: إن الإسلام لا محل له في المدنية ولا يمكن أن يعيش طويلاً إلا إذا أدخلت عليه تنقيحات عديدة تلائم المذاهب التركية القومية. ولهذه النهضة وجهتان إحداهما أدبية والأخرى سياسية، فغاية الوجهة الأولى تمجيد الشعوب الطورانية، ونشر تاريخها المجيد، وغاية الوجهة الثانية القضاء على العصبية العربية. فجنكيز خان هو في نظرهم نموذج الملوك ورجال السياسة فكل مملكة ينشئونها يجب أن تقوم على المثال الذي رسمه، وأما العرب في نظرهم فهم مصيبة على الأتراك؛ ولذلك يجب القضاء عليهم أو إدماجهم في العنصر التركي حتى ينسى العالم تاريخهم وتقاليدهم. أما لغتهم فلا بد من محوها وإحلال اللغة التركية محلها في كل صقع وناد. والغريب أن كُتاب الأتراك الحاليين الذين يدّعون بأنهم وطنيون بكل معنى الكلمة ينشرون اليوم المقالات الضافية ويحثون أبناء قومهم على الطواف بجميع أنحاء السلطنة للمناداة بهذه البدعة الجديدة، ومن أغرب ما يُروى من هذا القبيل أن أحد الأتراك طاف حديثًا بسوريا وهو ينادي بهذه الضلالة. والحكومة الاتحادية تؤيد الآن جمعية (بني طوران) وتعززها بالإعانات المالية العديدة، وتسمي تلك الإعانات (بإعانات المالية التركية) وجميع كبار الاتحاديين أعضاء فيها، وهم بعيدون عن الإسلام بُعد الأرض عن السماء، والمسلمون ينكرونهم لما يرون منهم من الاعتداء على حدود الشريعة الغراء. ولا يخفى أن الألمان هم الذين يؤيدون الاتحاديين في هذه السياسة الخرقاء، فقد ثبت لهم الآن أنهم لا يستطيعون إخضاع الإسلام لسياستهم ولا هم نجحوا في إثارة المسلمين الخاضعين لفرنسا وإنكلترا على هاتين الحكومتين. فانقلب زعمهم العطف على الإسلام إلى كره شديد له، وأخذوا يسعون ضده مستعينين على ذلك بالجامعة الطورانية الجديدة. وقد علم العالم أجمع ما كان من أمر المنشورات الألمانية التي اكتشفها الجنرال (سمطس) في موشي والتي كان غرضها سحق الإسلام في المستعمرات الألمانية، ولذلك فألمانيا هي أكبر خطر على الإسلام مع أنها تتظاهر بالغيرة على المسلمين. ليس من ينكر فضل الإسلام على العالم، وما كان لمدنيته من الآثار المجيدة أما الشعوب الطورانية فليس في التاريخ ما يدل على أنها عملت عملاً واحدًا أفاد الإنسانية، بل بالعكس كانت جميع أعمالها تدميرًا وتخريبًا، فالطورانيون لم يستنبطوا شيئًا للمنفعة، بل كانوا حيثما حلوا أخربوا معالم المدنية ومحوا آثارها، واستعبدوا الشعوب التي يقهرونها بأساليب هي في غاية الهمجية. أما ادعاء دعاة الجامعة الطورانية بأن الإسلام قد حال دون نشوء المدنية التركية فغير صحيح، ولا يخفى أن المدنية العثمانية هي خليط من آثار المدنيات العربية والفارسية والبيزنطية، والشعوب الطورانية التي لم تدخل في الإسلام لا مدنية لها على الإطلاق، وإنما هي استعارت شيئًا من الحضارة الصينية، ولو أن السلطة العثمانية قد اعتمدت على المدنية التركية لكانت قد أصبحت في خبر كان منذ أجيال عديدة؛ لأن المدنية التركية كما قلنا، هي تخريبية لا تعميرية، والشيء الوحيد الذي يفوق به الطوراني غيره هو الظلم والجور واضطهاد جميع العناصر التي لا تسبح بحمد الطورانية وتُحَمْدل. وسبب ذلك اعتقاده بأن جميع تلك العناصر وقفت حائلاً بينه وبين تركمان آذربيجان، والقوقاز. هذه رسالة شركة سنترال نيوز، وقد نشرت الصحف الإنكليزية كلها هذه الرسالة وبسطت فيها الكلام بسطًا ضافيًا. ((يتبع بمقال تالٍ))

الإسلام والطورانية الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام والطورانية الحديثة ما يفعله الاتحاديون لمقاومة الإسلام [*] نشرنا منذ بضعة أيام فصلاً عن الإسلام والطورانية الحديثة ضمّناه ما نشرته الصحف الإنكليزية نقلاً عن شركة (سنترال نيوز) الصحافية. وقد وقفنا الآن على مقالة ضافية في هذا الموضوع، نشرتها مجلة الشرق الأدنى فرأينا أن نورد خلاصتها لحضرات القراء، قال الكاتب: بدت طلائع الطورانية في الأستانة في عام 1913 ثم أخذت تمتد وتزداد جلاء حتى أصبحت نهضة عامة في جميع أنحاء السلطة العثمانية. وخلاصة ما يعرف عن هذه النهضة أنها تركية محضة غرضها الأصلي الانفصال عن الإسلام، ولها أغراض أخرى عديدة ينحصر أهمها في ما يأتي: (1) جعل الجنسية التركية مستقلة عن الإسلام. (2) ترقية الروح العسكري في الأتراك. (3) إنشاء علاقات تجارية وغيرها مع مسلمي آذربيجان وروسيا الأسيوية وروسيا الجنوبية. (4) تطهير اللغة التركية من كل ما هو عربي أو فارسي. (5) محو الجنسية العربية وإدماجها في الجنسيات الأخرى. ويرمي القائمون بهذه الحركة إلى جعل التركي يعتقد أنه تركي قبل كل شيء ومسلم بعد ذلك. ويقوم بمساعدة هذه النهضة جمعية (الملة التركية) التي تؤيدها الحكومة الاتحادية بالإعانات المالية. ومن مبادئ هذه النهضة تربية الأجيال الحاضرة والمستقبلة على الروح الطوراني بإنشاء مدارس طورانية بحتة , وبناءً عليه يجب التوسع في تعليم التاريخ باللغة التركية وإنشاء فرقة كشافة (سكوتس) من الأولاد الأتراك تحت إشراف أنور باشا. وقد أُنشئت الآن هذه الفرقة، وشرع الأولاد الذين يتربون تربية عسكرية توطئة لدخولهم في الجيش، أما شارات الفرقة وراياتها فمأخوذة عن رموز ترجع إلى ما قبل الإسلام والأولاد الذين لهم أسماء عربية تُستبدل أسماؤهم بأسماء تركية بحتة. ولهذه النهضة وجهة لغوية أيضًا؛ ولذلك أخذ زعماؤها يترجمون كثيرًا من المؤلفات العلمية والتاريخية إلى اللغة التركية البسيطة، وقد كان في نيتهم أن يترجموا القرآن أيضًا، ولكن علماء الإسلام قاوموا تلك الفكرة بكل عزم وحالوا دون تنفيذها. ويُعزى نشوء هذه النهضة إلى عدة أسباب منها السببين الآتيين وهما: (1) اللغة. لا يخفى أن أحرف اللغة التركية مأخوذة عن الأحرف العربية والاصطلاحات التركية تزداد كل يوم تعقدًا وصعوبة في نظر الطبقة الساذجة. (2) كتاب المسيو (ليون كاهون) عن تاريخ الترك والمغول من أقدم الأزمنة إلى سنة 1405 للميلاد، وقد توجت الأكاديمية الفرنسية هذا الكتاب. واتفق أن ناظم بك سكرتير جمعية الاتحاد والترقي العام، قد قرأ هذا الكتاب فوضع أساسات النهضة الطورانية التي نحن بصددها. ولا شك أن نهضة كهذه مما تهم العالم الإسلامي قاطبةً، وتهم أيضًا إنكلترا وفرنسا وروسيا وإيطاليا اللواتي يحكمن على الملايين من المسلمين، والذي يشجع الاتحاديين على ترويج هذه النهضة اعتقادهم صحة النظرية التي ابتدعها (فمبيري) وهي أن الإسلام يناقض فكرة الجنسية. فالاتحاديون يقولون: إن الإسلام بالاتحاد مع العوامل العربية والفارسية والرومية والبيزنطية قد جعل الأتراك (مسلمين ليفانتيين) وحال دون نشوء حضارتهم. على أن هذه الدعوة هي عكس الحقيقة تمامًا، فإن الأتراك الذين جاءوا أصلاً من حدود الصين وانتشروا في مجاهل آسيا حتى ضفاف (الأوكسوس) لم يكن لهم دين معروف أو حضارة راقية؛ لأنهم كانوا قبائل رُحَّل يؤجرون سيوفهم لكل من يطلب معونتهم. ولم يحاول أحد من قواد الأتراك أن يخضع جميع القبائل التركية. نعم: إن (جنكيز خان) كان يحلم بنشر سلطته عليها، ولكنه لم يفعل. وقد اشتهر بأنه كان يقتبس عن الصين والعجم والعربية وبيزنطة وجرمانيا كل ما كان يروقه فيها من آثار الحضارة. ولاشك أن أهم ما اقتبسه هو الاسلام فالإسلام لم يحُلْ دون نشوء الحضارة التركية؛ إذ لم يكن للأتراك حضارة خاصة بهم وكل ما لدى الأتراك من حضارة هو بفضل الإسلام. ولما كان التركي مشهورًا بروح الخضوع العسكري لمن يقوده، فقد جعل نفسه سيفًا في قبضة الإسلام. إن العنصر الطُّوراني لم يشتهر بشيء من قوة الابتداع. وما تاريخه سوى تاريخ تدمير. فقبائل (بوشي) أخربت مستعمرات بكتريا اليونانية. وقبائل (الهون) اجتاحت رومية الشرقية ورومية الغربية اجتياحًا همجيًّا وقبائل (أفار) سعت لسحق الشعوب السُّلافية في مهدها، و (هولاكور) ردم أقنية بابل، وجعل أخصب بقاع الدنيا بلادًا قاحلة حتى الآن، والعثمانيون أبادوا الحضارة البيزنطية التي ربوا عليها واكتسبوا منها شيئًا من العلم والمعرفة. هذه هي القبائل الطورانية التي تباهي (بأتيلا) الذي كان نقمة الله على العالم، وجنكيز خان الذي سمى نفسه (غضب الله - تعالى -) ولما شرع الألمان يحاربون البلجيك وغيرها من دول أوروبا رأوا أن يقتبسوا أساليب جنكيز وأتيلا وتيمورلنك. ومما يدل على أن العقل التركي ليس عقلاً مستنبطًا أنه لم يأت بمستحدَث في الإسلام. بل هو اتخذ الإسلام ودان به كما هو، ولو كان مخلوقًا مفكرًا لرأيناه بعد انتحاله الإسلامية يزيد عليه أو ينقص منه، ولكنه لم يفعل شيئًا من ذلك لعجز مخيلته عن الاختراع. إمبراطورية تركية ومما تسعى إليه نهضة الطورانية الحديثة إنشاء إمبراطورية حربية واسعة الأرجاء، تضم تحت ألويتها جميع قبائل التتر والمغول الخاضعة لروسيا أو لأية دولة أخرى. (أما الجنسية العربية فيجب إبادتها وإدماجها في الجنسية التركية المحضة؛ لأنها خطر كبير على الجنسية التركية ومن،أمثلة الأتراك من هذا القبيل قولهم: وإذا لم نعامل العرب كما نريد عاملونا بما نستحق) لذلك تراهم يسعون (لتتريك) العناصر العربية بحسب الأساليب البروسية. ومما يستحق الذكر أن جلال نوري بك الكاتب التركي الشهير قال في كتاب حديث ألفه ما يأتي: (إن بلاد العرب ولاسيما اليمن والعراق يجب تحويلها إلى مستعمرات تركية لنشر اللغة التركية التي يجب أن تكون لغة الدين. ومما لا مَندوحة لنا عنه للدفاع عن كياننا أن نحوّل جميع الأقطار العربية إلى أقطار تركية؛ لأن الجيل العربي الحديث قد صار يشعر الآن بعصبيته، وهو يتهددنا بنكبة عظيمة، فيجب أن نحتاط للأمر من الآن) . وكتب أحمد شريف بك مقالة في (طنين) جاء فيها ما يأتي: (لا يزال العرب يلهجون بلغتهم، وهم يجهلون اللغة التركية جهلاً تامًّا، كأنهم ليسوا تحت حكم الأتراك. فمن واجبات (الباب العالي) أن يجعلهم ينسون لغتهم ويجبرهم على تعلم لغة الأمة التي تحكمهم. فإذا أهمل الباب العالي هذا الواجب كان كمن يحفر قبره بيديه؛ لأن العرب لن ينسوا لغتهم وتاريخهم وعاداتهم. بل سيسعون لاسترجاع مجد مملكتهم وإعادة ترميمها على أنقاض دولة الأتراك) . وجاء في نبذة وزعها الأتراك في القوقاز: (إن العرب هم بلية علينا مع أن حصان التركي خير من أي نبي ظهر في العالم) . هذا وقد علقت مجلة الشرق الأدنى على هذه المقالة بتوجيه نظر العالم الإسلامي إلى الخطر الذي يتهددهم إن هم تباطئوا عن الاحتياط لدرء ذلك الخطر.

منشور شريف مكة وأميرها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منشور شريف مكة وأميرها نشرت الجرائد المصرية اليومية في آخر الشهر الماضي منشور شريف مكة وأميرها الذي وجهه إلى العالم الإسلامي، وإنه لَمنشور كُتب بمِداد الحكمة وأصالة الرأي وشرف الغاية، وملخصه أن الشرفاء (أمراء مكة المكرمة) كانوا أول من اعترف بسلطة سلاطين آل عثمان الكرام، لما كانت أحكام دولتهم قائمة على أساس الشرع الإسلامي، حبًّا في الوحدة الإسلامية وكراهة للشقاق وتفرق الكلمة، وأن صاحب المنشور نفسه قد بالغ في الاستمساك بعُروة الدولة حتى إنه حمل بجُنده من العرب على العرب وقاتلهم لأجل الدولة. ثم انتقل من ذلك إلى سيرة فئة الاتحاديين الباغية، فبين أنها قد جنت على الدين والدولة والأمة فانحرفت عن صراط الشريعة، وأبطلت بعض أركان الإسلام وغيرت أحكام القرآن، وحجرت على السلطان حتى منعته من التصرف بشئون خاصته وقصره. ونكلت بالأمة، فلم ترعَ حقوق الإسلام ولا عهود الذمة، وخصت العرب بالاضطهاد، فصلبت في الشام كثيرًا من أهل العلم والرأي والفضل، واستحلت مصادرة الأموال وإخراج النساء المخدَّرات والأطفال من ديارهم وأموالهم ونفتهم إلى بلاد الأناضول من غير ذنب وبغير قيم شرعي. ثم ذكر تقحمهم بالدولة في هذه الحرب وتعريضهم إياها للخطر، وما جنوه على البلاد بذلك، وذكر ما حل بالحجاز من جراء ذلك، وأن الضيق قد بلغ بأهل الدرجة الوسطى إلى بيع أثاثهم ثم بيع خشب بيوتهم حتى الأبواب والسقف. ثم بيَّن أن بلاد الحجاز اضطرت بسبب تلك الجرائم والمفاسد العامة التي اخترعها الاتحاديون إلى إعلان استقلالها بنفسها دونهم حرصًا على دينها وعلى جنسيتها العربية؛ لأن الاتحاديين يتعمدون فساد هذا الدين ومحو هذه الأمة العربية من لوح الوجود. وذكر أن الخاصة التي وضعها الاتحاديون بمكة أرادت ألا تتقدم من أهل البلاد فألقت قذائف مدافعها من حصن جياد على الحرم الشريف فأصابت بيت الله - عز وجل - وقتلت كثيرًا من الطائفين والمصلين فيه. قال (وحسبنا برهانًا على ما تكنه صدورهم نحو الدين والعرب رميهم للبيت العتيق الذي أضافته العزة الأحدية لذاتها السبحانية في قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} (الحج: 26) وهي قبلة المسلمين وكعبة الموحدين بقنبلتين من قنابل مدافعهم التي بحصن جياد أثناء قيام البلاد بالمطالبة باستقلالها، وقعت إحداهما تحت الحجر الأسود بنحو ذراع ونصف، والثانية تبعد عنه بمقدار ثلاثة أذرع التهبت بنارهما أستار البيت حتى هرع الألوف من المسلمين لإطفاء لهيبه بالضجيج والنحيب، واضطرهم الحال إلى فتح باب البيت والصعود إلى سطحه للتمكن من إطفاء اللهيب، وما انتهى أمرهم بهذا حتى عززوا الاثنين بثالثة في مقام إبراهيم، وهذا عدا ما وقع منها في بقية المسجد الذي اتخذوه هدفهم الوحيد في غالب مقذوفاتهم بالقنابل والرصاص، وما زالوا يقتلون الثلاثة والأربعة في نفس المسجد كل يوم حتى تعذَّر على العباد القرب من البيت، وفي هذا من الاستخفاف والازدراء بالبيت وتعظيمه وحرمته ما نترك القول والحكم فيه أيضًا لعموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها) . وهذا المنشور يؤيد ما شرحناه مرارًا في المنار من سيرة هذه الجمعية الباغية في الدولة والأمة، ومن اطلع عليه من قراء المنار يعجب؛ إذ يرى أكثر مسائله في المحاورة التي نشرناها في الجزء الماضي، وسبب ذلك أنها حقائق يعرفها جميع خواص العثمانيين وكثير من عوامهم، فكيف تخفى على أمير مكة المكرمة على مكانته في الذروة العليا من الأمة والدولة، وأهل بيته منهم الأعضاء في مجلس المبعوثين كنجله الشريف عبد الله وفي مجلس الأعيان كأخيه الشريف ناصر. وقد أعجب أهل الفضل بنزاهة المنشور ومحافظته على كرامة الدولة العثمانية وسلاطينها العِظام، وكرامة الشعب التركي أيضًا وحصره السيئات التي يشكو منها جميع العثمانيين وكل غيور على الدولة في سيرة الاتحاديين فيها. ومن حكَّم الروية والإنصاف في سيرة الاتحاديين، يستدل من موافقة هذا المنشور لكثير من المطاعن التي قيلت على أن أخبارها قد بلغت حد التواتر بكثرة مصادرها، فالشريف الأكبر لم يستمد ما ذكره في منشوره من الجرائد المصرية ولا الأوربية، ولعله لم يطلع على شيء منها قبل كتابته، بل يستمد بيِّناته من الأقوال والأعمال الرسمية. مثل ذلك ما ذكره من الشواهد على جنايتهم على الدين وجرأتهما على هدم أركانه والعبث بأحكامه. فإنه ذكر منه أمر سلطتهم العسكرية بإلزام جنودهم المقيمة في الحجاز وغيره من الأمصار الفطر في رمضان، وأمرهم لقاضي مكة بعدم الاعتداد بشهادة المسلمين، بعضهم على بعض إلا ما كتب منها في محكمته، وأما أخبار فَتْكهم بأهل الفضل والنيل من مسلمي سورية تقتيلاً وتصليبًا ومصادرة الأموال، ونفي النساء والأطفال، فلا شك في أخذه إياه من الجرائد السورية الرسمية وغير الرسمية، وإن لم يصرح بذلك. ودليلي على ذلك أن أول كتاب جاءني من وكيل المنار في الحجاز قد نقل فيه عن تلك الجرائد أسماء من قُتِلوا وصُلبوا في الشام من كبراء العرب، ومنهم السيد الزهراوي وشفيق بك المؤيد وغيرهما. وقد تذكرت بهذا أنه لما ذكرت الجرائد المصرية أول نبأ عن صلب فضلاء العرب ببيروت وهم الأحد عشر الذين منهم النابغة محمد الحمصاني وعبد الكريم قاسم الخليل أرسل لي فؤاد برقية من الخرطوم ذكر فها ارتياعه واستفظاعه للخبر، وشكه في صحته والرغبة إلي في إرسال برقية إليه ببيان رأي فيه، وقال: إنه لا يثق به إلا إذا كنت مصدقًا له. فأرسلت إليه برقية قلت فيها: إنني لا أثق بشيء من ذلك. ثم جاءت جرائد أوروبا فجرائد أمريكة تثبت الخبر، وفي جرائد أمريكة العربية السورية نقل له عن جرائد سورية. ثم إنني كنت مارًّا مرة بنظارة الحربية، فرأيت فيها رجلاً قد أسره الإنكليز من سيناء، فسألته عن بلده وعن أخبار سورية فقال: إنه من القدس، وأخبرني بخبر الذين صلبوا في بيروت، فقلت هل تعرفهم؟ قال: لا بل أعرف بعضهم بالاسم، قلت: ممن علمت بخبر شنقهم؟ قال من جريدة القدس الرسمية. لأجل هذا قلت في المحاورة التي نشرت في الجزء الثالث: إن خبر صَلب من صُلب في سورية، قد ثبت عندي بالتواتر. لقيت أول من أمس صديقًا لي من رجال القانون، أعرف منه استقلال الرأي فتكلمنا في هذا الموضع، فقال: إنه يجب أن يجعل نفسه كالقاضي في هذه القضية فلا يحكم فيها. قلت: بل يجب أن تجعل نفسك بمكان المؤرخ المنصف الذي يمحص الأخبار، ثم يجزم بالنفي أو الإثبات، فأنا لم أكن خصمًا للاتحاديين بل كنت صديقًا لهم قبل الدستور وبعده، وكنت أول من دافع عنهم لما حملت عليهم جرائد الهند الإسلامية ورمتهم بالكفر والإلحاد، وإسقاط خليفة المسلمين السلطان عبد الحميد لأجل إبطال الحكم الإسلامي، ولما شاع أمر عَبَثهم بالدين وتعصبهم على العرب وغيرهم تثبت في الحكم عليهم، وذهبت إلى الأستانة فأقمت فيها سنة كاملة معهم ساعيًا في خدمة الإسلام عامة، وفي التأليف بيت الترك والعرب، وعلمت بالاختبار الطويل أن كل ما قيل فيهم، دون الواقع كما بينته في المنار. وجملة القول أن منشور الشريف الذي كان قبل استقلاله في الحجاز أعظم الأمراء العثمانيين هو أعظم الحُجج على ملاحدة الاتحاديين، كما أنه تأييد من سيد العرب لطلاب الإصلاح من العرب، لأنهم بنوا سعيهم على أساس المحافظة على الدولة العثمانية، ومن قواعدهم أن لا يكونوا سببًا من أسباب ضعف الدولة ولا تمزيق وحدتها. وقد انسلخ من الدولة عدة ممالك وولايات بسوء سياسة الاتحاديين: البوسنة وهرسك وطرابلس الغرب ألبانية ومكدونية وكريت وجزائر الأرخبيل الرومي، - دع ولاية البصرة. والولايات الأرمينية والأناضولية التي ذهبت في هذه الحرب - ولم يكن العرب سببًا في زوال شيء منها. فهذه أكبر حججنا على هؤلاء المخربين. ((يتبع بمقال تالٍ))

حال المسلمين الاجتماعية ـ 1

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ حال المسلمين الاجتماعية وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للفاضل الغيور- م. ن - صاحب الرسالة التي نشرت (في ج 10 م 18) . حضرة حكيم الإسلام السيد الإمام الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية. السلام عليكم ورحمة الله. وبعد: فلست صحفيًّا ولا من المشتغلين بالتحرير ولا يسع وقت فراغي كتابة المقالات، وتنسيق العبارات، فإن في أعمالي اليومية لَشُغلاً شاغلاً. فإن أكتب إليكم فإنما أكتب مدفوعًا بعامل القيام بفريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) التي عفا أثرها بين المسلمين؛ إذ لولا صوت المنار الحي المرتفع الذي يدوِّي في الآفاق فيفتق أغشية الآذان، ويرقق حُجُب القلوب ويفتح الأذهان، ويوقظ النائم، وينبه الغافل - لولا ذلك الصوت المنعش للنفوس المحرك للهمم، لصح أن يقال، ولا عتب في المقال: إن الأمة الإسلامية شبح بلا روح. كتبت رسالتي الماضية في موضوع الدعوة والإرشاد، ولم يكن لي غرض سوى العمل بهذه الفريضة، وإقامة الحجة أمام الله - تعالى - على المسلمين الذي تهاونوا فيه وفي كل عمل إسلامي. وإنه وإن لم يكن لدي كبير أمل في أن يقدّم المسلمون في الحال، ما يحتاج إليه المشروع من المال، فقد كان رجائي عظيمًا في النجاح التدريجي الذي يؤدي إلى النجاح التام. ولكني ما كنت أظن أن يكون نصيب هذه الدعوة الصمت والجمود، اللذان يدلان على شدة ما تعاني الأمة الإسلامية من أدوائها الاجتماعية. لذلك حدثتني نفسي بعد طول الانتظار بأن أبعث إليكم بهذه الرسالة الثانية زيادة في التذكير، وتأكيدًا للإنذار والتحذير، ولأبين أن المسلمين غير معذورين في البقاء في هذه البؤرة النتنة، وأن وسائل النجاة والحياة في أيديهم والأمر كله متعلق بمشيئتهم. وهذه هي الرسالة: دعوت المسلمين في رسالتي الماضية لتنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد وما كنت لأدعوهم إلا إلى حق وأوضحت لهم خطورة الحالة التي نحن فيها وما كان لي أن أكذب. وأقمت لهم الدليل على أن المشروع كافل لإصلاح الحال، وما كنت إلا صادقًا. وانتظرت ماذا يكون من أمر هؤلاء وأطلت الانتظار، فألفيتهم صموا عن النداء، واختاروا البقاء في الشقاء، وما كنت مكرهًا لهم على ما تثاقلت عنه نفوسهم ولا إكراه في الحق. إنه لَيحزنني أن تخيب دعوتي، وليس ذلك أنها صادرة مني، فما هي إلا صدًى لأصوات صاحب المشروع ومن نصروه فيه من قبلي. وإنما حزني وأسفي لحرمان الأمة الإسلامية من الخير العظيم الذي كان ينتظرها، إن هي أجابتها، ولكن ما حيلتي، وقد دعوت ونصحت وما فرطت، والأمة أعرضت وجمدت واستكبرت. وقد فشلت دعوة الكثيرين من أهل الغيرة والإخلاص من قبل فلم ينقص إعراض الناس عنها من قدر الحق ولا من قيمة ما دُعُوا إليه شيئًا؛ إذ الحق حي بذاته لا يضره أن يكفر الناس به كما لا يرفعه أن يغلوا فيه. وإن في ضياع صوت أستاذنا العظيم في فضاء غفلة هذه الأمة الجاهلة لَعبرة، وذكرى للمتشائمين المتسرعين. إنه لَيقع الإنسان في الحيرة ويأخذه العجب لخيبة دعوة الحق بين المسلمين، وفيها خيرهم وفلاحهم ونجاح دعوة الشر فيهم، وفي إجابتها هلاكهم وشقوتهم. فما أشد ظلمهم لأهل الحق الذين يغارون على الأمة ويريدون لها الرشاد وظلمهم لأنفسهم باتباعهم أهل الضلال الذين يسعون في الأرض بالفساد. ولقد ودّ المصلحون لو أن الأمة عرفتهم فأنزلتهم منزلتهم وسمعت لقولهم، واقتفت أثرهم فنهضت بهم. لا يسأل هؤلاء الأمة أجرًا على عملهم، فالحق والعمل الصالح أعلا من أن يقوّما بشيء من حُطام الدنيا. وإن أخذوا أجرًا في الظاهر فليس هو في الحقيقة بأجر وما هو من قبيل ثمنٍ لشيء مباع، ولكنه مال يسدون به عَوَزَهم ويستعينون به على عملهم الذي يقومون به لخير الأمة وسعادتها. إنما أجرهم على الذي هو فطرهم، وهو وحده الذي يقدِّر عملهم ويكافئهم عليه في دار غير هذه الدار. أما أهل الباطل والضلال فهم ينفثون السم في النفوس والأرواح بما ينشرون من رأي، ويدعون إليه من عمل، ويسلبون أموال الأمة أجرًا على هذه الضلالات، إنهم لا يرجون عند الله ثوابًا ولا بعد هذه الحياة حياة. فهم لذلك يحتالون على جمع المال بأي وسيلة تمكنهم منه، فهو غرضهم الذي إليه ينتهي الأمل، والسبب الوحيد الذي يحركهم للعمل. هؤلاء هم رسل الشهوات وأعوان الهوى وأولياء الشيطان، وأولئك هم دعاة الفضيلة وناصروا الحق وحزب الرحمن. فيا ليت شِعري، أي الفريقين خير مقامًا وأهدى سبيلاً، ومن منهما أولى بالاتباع وأقوم عملاً وأحسن قيلاً؟ فيا خلف خير أمة أخرجت للناس أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وتندفعون إلى الأوهام والضلالات مختاريين وتستسلمون إلى الشر. وَدَّ كثير من الناس لو يعرفون سبب هذا الجفاء بين المسلمين وأهل الحق والصلاح وهم المحبون الصادقون، وعلة هذه المودة بينهم وبين أهل الباطل والفساد وهم الأعداء الظاهرون. فإنه لا بد لذلك من سبب، ومتى عُرف السبب زال العجب. ليس العيب الذي تقدم ذكره هو الوحيد في المسلمين. وإلا فلماذا يعادي هؤلاء المسلمون أنفسهم، ويعطفون على أعدائهم؟ ولِم يعرضون عن مصالحهم ويسارعون إلى هلاكهم؟ وما الذي حسَّن إليهم الباطل وبغَّضهم في الحق؟ وأي شيء سوغ إليهم ارتكاب السيئات وترك الحسنات؟ ولأي سبب يصافحون الشيطان ويُغضبون الرحمن؟ وما السبب الذي هبط بهذه النفس الإنسانية إلى درك الحيوانية؟ إنه يوشك أن تكون جميع تصرفات المسلمين مخالفة للعقل والنقل وأحوالهم مرذولة غريبة الشكل. وإنما هذه التصرفات والأحوال هي أعراض للمرض العام الذي سكن في جسم هذه الأمة فأضعف قوتها الحيوية وأسدل الحجب على بصيرتها قبحت ما ليس بالقبيح ورأت حسنًا ما ليس بحسن. فمرض الأمة هو سبب كل ما ننكر من ميولها وحركاتها وسكَناتها. فإذا عُرف المرض عُرف السبب. المرض أو السبب هو كما قال السيد الإمام: ضعف استعداد الأمة وحرمانها من الزعيم. وهو قول حق لا ريب فيه؛ إذ لو وُجد الاستعداد والزعيم معًا لنهضت الأمة من كَبْوتها وحييت حياتها الطيبة ولفارقها الشقاء، وزال عنها ما نزل بها من البلاء، ولكن إلى متى نسكت على هذا الضعف فينا ولا نباشر علاج أنفسنا؟ الآن وقد عرف كُنْه المرض الذي أصابنا وسبب الضعف الذي أنهك قوانا، فمن السهل معرفة علاج هذه الحالة أيضًا. إنه وقد أمكن تشخيص الداء، فما علينا إلا أن نَصِف الدواء. لا علاج لضعف استعداد الأمة إلا في أمر واحد، وهو العلاج القديم الذي ثبت صلاحه وتأكد نجاحه واتبع في كل زمان وفي كل مكان، وسار على سننه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تبليغ رسالات ربهم -عز وجل - وكذلك الصالحون من بعدهم. ذلك العلاج هو إقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) . إن الناس أفلحوا وسعدوا ما عملوا بهذه الفريضة، وخابوا وشقوا ما أهملوها. فكما أن داءنا في تركها، كذلك علاجنا في إقامتها. وقد جعل الله - تعالى - العمل بهذه الفريضة شرطًا ضروريًّا لصحة الإيمان، ولهي أعظم ما فرض العليم الحكيم على أتباع أنبيائه - عليهم السلام -، فكانت ولا تزال إقامتها عنوانًا على هداية الناس وسعادتهم، وإهمالها دليلاً على ضلالهم وخسرانهم واستحقاقهم لِلَعْنَتِهِ (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) . تركت الأمة الإسلامية العمل بفريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من عدة أجيال، ففقدت بذلك قوتها الحقيقية التي كانت تحمي بها الأموال والأعراض والعقول والقلوب والأخلاق والدين من فتك الشهوات وهجمات الشياطين وماذا يفعل الأعزل من السلاح، في ميدان النِّزال والكفاح؟ صار أفراد المسلمين بعد ذلك - وقد خفَت صوت الأمة، وارتفع صوت الشهوات والهوى والشيطان، كالعِقد الذي تبعثرت حباته، أو كذرات الرمال التي تتجاذبها الرياح والأهواء المختلفة، فضلّ الناس في الفهم والرأي والعمل ولا مُنْكِر ولا مرشد، وانحلت الرابطة وتفرقت الكلمة، وتناكرت العقول والقلوب، وضاعت الفضيلة، وحلت محلها الرذيلة، واستُبدل الجهل بالعلم، وأوشك أن يكون الدين المعمول به عند الجماهير الآن مجموعة خرافات وأوهام وضلالات، وبدع ومنكرات وتقاليد وعادات. وبالجملة إن الحال قد تحوّل إلى ما يرى كل إنسان، وليس الخبر كالعيان. تلك عاقبة الذين نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به بإهمال هذه الفريضة فتوالدت بذلك في الأمة الأمراض والعلل، التي أضعفت استعدادها للفهم والعمل، فضل فيها صوت المصلح، وخابت دعوة الحق {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: 46) . وإن تعجب فعجب أن يعتذر القادرون على الإصلاح عن إغفالهم ذلك الواجب العظيم بإعراض الأمة عن الحق والخير وانصراف عقول أفرادها وقلوبهم إلى الباطل والشر، ونسوا أن الأمة ما سقطت في هذه الهُوة السحيقة إلا بسبب إهمال هذه الفريضة، كما غفلوا كونها أحوج إلى الإرشاد في هذه الحالة منها في سواها؟ ! إن ما وقع من الأمة من التفريط في جنب الله لا ينبغي أن يُسأل عنه سواها، وإن عليها أن تتحمل وحدها أثقله وتتجرع مرارته {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) . فلا يصح أن يؤدي تفريط الأمة في واجبها إلى تفريط المؤمن في واجب سواء استجاب له الناس أم لم يستجيبوا. ما كان ضعف استعداد الأمة للحياة، أو بعبارة ثالثة ضعف قوتها الحيوية الذي هو نتيجة طبيعية لما كسبت أيديها، كما تقدم ليغير من موقف المصلح أمامها، فهو مطالب على الدوام بأن يصدع بالحق، وإن كان غريبًا عن عقول وقلوب أكثر سامعيه، وأن يقرر الحقيقة، وإن لم يفقهها إلا نفر قليل منهم، ولدعوته مع ذلك حُجة على الطائع والفاسق، وما الأخير لقلة استعداده بمعذور {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: 14) {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: 88) {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: 272) {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ} (المائدة: 99) . وقد دعا كثير من أنبياء بني إسرائيل قومهم إلى الحق فكذبوهم وقتلوهم. وما كذبوهم، وما قتلوهم إلا لأنهم لم يفقهوا دعوتهم أو لم يقبلوها، وكذلك كان شأن الناس مع كثير من المصلحين. فما من دعوة إلى حق إلا وصادفت في أول أمرها إعراضًا عظيمًا ومقاومة كبيرة ممن جاءتهم، حتى قيل: إنه لا أمل في قبولها. ومع ذلك لم يكن ذلك الإعراض وذلك التكذيب وتلك الشدائد لتؤثر في همة أولئك الهداة وعزمهم، أو تُرجعهم عن قصدهم، فمن ذا الذي يجسر أن يقول: إن عملهم كان لغوًا؛ لأن الناس لم يكونوا مستعدين له؟ كلا بل هو كل الحق والصواب وعين ما أمر الله به وأوجبه عليهم، وهو سبب كل ما وجد وما يوجد من خير وإصلاح في العالمين وعلة الحركة والحياة في الناس أجمعين. إن كل دعوة لحق تصيب الغرض سواء أجيبت في الحال أم لم تجب وسواء أدرك لداعي نجاح دعوته في

فوائد شتى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فوائد شتى [*] بسم الله الرحمن الرحيم العمل بالحديث الصحيح قال السِّندي في حواشيه على فتح القدير من كتب الحنفية: الحديث حجة في نفسه، واحتمال النسخ لا يضر فإن من سمع الحديث الصحيح فعمل به، وهو منسوخ فهو معذور إلى أن يبلغه الناسخ، ولا يقال لمن سمع الحديث الصحيح: لا يَعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وفلان، فإنما يقال له: انظر هل هو منسوخ أم لا؟ . أما إذا كان الحديث قد اختلِفَ في نسخه، فالعامل به في غاية العذر، فإن تطرُّق الاحتمال إلى خطإ المفتي أقوى من تطرق الاحتمال إلى نسخ ما سمعه من الحديث. قال ابن عبد البر: يجب على من بلغه شيء أن يستعمله على عمومه حتى يثبت عنده ما يخصصه أو ينسخه، وأيضًا فإن المنسوخ من السنة في غاية القلة حتى عده بعضهم أحدًا وعشرين حديثًا، وإذا كان العامي يسوغ له الأخذ بقول المفتي، بل يجب عليه مع احتمال خطإ المفتي فكيف لا يسوغ له الأخذ بالحديث إذا فهم معناه وإن احتمل النسخ؟ ولو كانت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يسوغ العمل بها بعد صحتها حتى يعمل بها فلان، لكان قولهم شرطًا في العمل بها، وهذا من أبطل الباطل. وقد أقام الله - تعالى - الحجة برسوله - صلى الله عليه وسلم - دون آحاد الأمة، ولا يعرض احتمال الخطإ لمن عمل بالحديث، وأفتى به بعد فهمه إلا وأضعاف أضعافه حاصل لمن أفتى بتقليد من لا يُعلم خطؤه من صوابه، ويجري عليه التناقض والاختلال، ويقول القول ويرجع عنه، ويحكى عنه في المسألة عدة أقوال. وهذا كله فيمن له نوع أهلية، أما إذا لم يكن له أهلية ففرضه ما قال الله - تعالى -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه له المفتي من كلامه أو كلام شيخه، وإن علا فَلأَنْ يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أولى بالجواز، ولو قُدِّر أنه لم يفهم الحديث فكما لو لم يفهم فتوى المفتي يسأل من يعرفها، فكذلك الحديث. انتهى كلام السندي ملخصًا، وقد أطال من هذا النفس العالي - رحمه الله تعالى ورضي عنه -. *** الفقه في الدين والاجتهاد قال الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد من أئمة الشافعية في خطبة (شرح الإلمام) كما نقله عنه السبكي في طبقاته في ترجمته: إن الفقه في الدين منزلة لا يخفى شرفها وعُلاها، ولا تحتجب عن العقول طوالعها وأضواؤها، وأرفعها بعد فهم كتاب الله المنزَّل، البحث عن معاني حديث نبيه المرسل؛ إذ بذاك تثبت القواعد ويستقر الأساس، وعنه يقوم الإجماع ويصدر القياس، لكن شرط ذلك عندنا أن يحفظ هذا النظام، ويجعل الرأي هو المأموم والنص هو الإمام، وترد المذاهب إليه، وترد الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه. وأما أن يُجعل الفرع أصلاً، ويرد النص إليه بالتكلف والتحيّل، ويحمل على أبعد المحامل بلطافة الوهم وسعة التخيل. ويرتكب في تقرير الآراء الصعب والذّلول، ويحتمل من التأويلات ما تنفر منه النفوس وتستنكره العقول، فذلك عندنا من أردأ مذهب وأسوأ طريقة، ولا نعتقد أنه يحصل معه النصيحة للدين على الحقيقة، وكيف يقع أمر مع رجحان منافيه؟ وأنَّى يصح الوزن بميزان مال أحد الجانبين فيه؟ ومتى يُنصف حاكم ملَكَته غضبة الصبية؟ وأين يقع الحق من خاطر أخذته العزة بالحمية؟ .. . إلخ (الفتوى في الإسلام صحيفة 44) . *** السؤال عما لم يقع قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن، ولم يمض به كتاب ولا سنة، وكرهوا للمسئول الاجتهاد فيه قبل أن يقع؛ لأن الاجتهاد إنما أُبيح للضرورة، ولا ضرورة قبل الواقعة، وقد يتغير اجتهاده عند الواقعة فلا يغنيهم ما مضى من الاجتهاد، واحتج في ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) انتهى (الفتوى في الإسلام صحيفة 45) . *** معنى حديث: (إن الله خلق آدم على صورته) سئل أحمد بن عطاء أبو عبد الله الروزبادي المتوفى سنة 369 قال الحافظ ابن عساكر: وفي مروياته أحاديث وهم فيها وغلط غلطًا فاحشًا عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن الله خلق آدم على صورته) فقال: إن الله جل ثناؤه خلق الخلق مرتبة بعد مرتبة، ونقله من حال إلى حال كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} (المؤمنون: 12- 13) - إلى قوله- {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ} (المؤمنون: 14) وخلق آدم ليس على هذه الأحوال، وإنما خلق صورته كما هي، ثم نفخ فيه من روحه؛ فلأجله قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله خلق آدم على صورته) اهـ مختصر تاريخ ابن عساكر جزء صحيفة 394) . *** نشوء علم الفلسفة قال الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في آخر الكلام على الطبقة السادسة من طبقاتهم: وكان في زمان هؤلاء خلائق من أئمة الحديث ومن أئمة المقرئين كوَرْش واليزيدي والكسائي وإسماعيل بن عبيد الله المكي القسط، وخلق من الفقهاء كفقيه العراق محمد بن القاسم، وخلق من مشايخ القوم كشقيق البلخي وصالح المري الواعظ والفضيل والدولة لهارون الرشيد والبرامكة ثم بعدهم اضطربت الأمور، وضعف أمر الدولة بخلافة الأمين - رحمه الله - فلما قتل واستخلف المأمون على رأس المائتين نجم التشيع وأبدى صفحته، وبَزَغ فجر الكلام، وعُرِّبت حكمة الأوائل ومنطق اليونان، وعمل رصد الكواكب، ونشأ للناس علم جديد مُرْدٍ مُهلك لا يلائم عِلم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين، قد كانت الأمة منه في عافية. وقويت شوكة الرافضة والمعتزلة وحمل المأمون المسلمين على القول بخلق القرآن ودعاهم إليه فامتحن العلماء، فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ إن من البلاء أن تعرف ما كنت تُنكر وتُنكر ما كنت تعرف، وتقدم عقول الفلاسفة، ويعزل منقول أتباع الرسل، ويُمارى في القرآن، ويتبرم بالسنن والآثار، وتقع في الحيرة، فالفرارَ الفرارَ قبل حلول الدمار، وإياك ومضلات الأهواء ومجاراة العقول، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} (آل عمران: 101) (تذكرة الحفاظ جزء 1 ص 300) . *** كتاب المهذب للذهبي وجدت بدار الكتب المصرية كتاب (المهذب) للذهبي بخطه، وعلى ظهر المجلد الأول ما نصه بخطه - رحمه الله تعالى -: (المجلد الأول من كتاب المهذب في اختصار السنن الكبير، تأليف الإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي - رحمه الله تعالى - اختصار كاتبه محمد بن أحمد بن عثمان بن الذهبي غفر الله له) وتحت ذلك بخطه - رضي الله عنه - أيضًا ما نصه: قال ابن الذهبي: لم أختصر من أحاديث الكتاب شيئًا بل اختصرت الأسانيد، فإن بها طال الكتاب، وبقيت من السند ما يُعرف به مخرج الحديث، وما حذفت من السند إلا ما قد صح إلى المذكور، فأما متونه فأتيت بها إلا في مواضع قليلة جدًّا من المكرر، قد أحذفها إذا قرب الباب من الباب، وآتي ببعض المتن، وقد تكلمت على كثير من الأسانيد بحسب اجتهادي، والله الموفق. وقد رمزت على الحديث بمن خرجه من الأئمة الستة (خ م د ت س ق) ولم أتمم هذا، فإن فَسَحَ الله في الأجل طالعت عليه الأطراف لشيخنا أبي الحجاج الحافظ إن شاء الله - تعالى -، وهذا أمر بيِّنٌ هيِّن، كل من هو محدث فإنه يقدر على رمز أحاديث الكتاب من الأطراف، وما خرج عن الكتب الستة فقد بينت لك إسناده ومخرجه، فاكشف عليه، إن شئت من كُتب الجرح والتعديل، فالرجال ثلاثة، إما موثَّق مقبول، وإما مضعَّف غير حُجَّة، وإما مجهول، لكن كل قسم من الثلاثة على مراتب في القوة واللِّين والجهالة، انتهى. والنسخة نفيسة جدًّا، كلها بخطه خمسة مجلدات تنقص الثاني، والموجود منها أربعة، وفق الله لنا من يطبعه، وينشره آمين. *** كتاب الجمع بين الصحيحين وجدت بدار كتب رواق الأروام بالأزهر جزءًا من الجمع بين الصحيحين للحميدي وهو السادس، وقد أحببت نقل خاتمته لما فيها من النفائس، قال - رحمه الله تعالى -: (تم جميع الكتاب بحمد الله وعونه، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصًا لوجهه، إنه ولي التوفيق، وهو على كل شيء قدير، وهو حسبي ونِعم الوكيل، ثم قال عقب ذلك: (وهذه الأصول تتصل بآخر ما في الصحيحين من مسند الصحابة - رضي الله عنهم - وهو آخر ما قصدنا إليه من الجمع بين الصحيحين، وتمييز ما اتفقا عليه من المتون المخرَّجة فيهما، وما انفرد به أحدهما منها مستقصًى على شرطنا مرتبًا على ما بدأناه به وبيناه مع الاختصار المعِين على سرعة الحفظ والتذكار، ولم يبق للباحث المجتهد إلا النظر فيها والتفقه في معانيها، ومراعاة حفظها وإقامة الحُجّة بها، فإلى هذا قصد المتقدمون من أئمة الدين في حفظ إسنادها للمتأخرين؛ لتكون حاكمة بين المختلفين وشواهد صدق للمتناظرين - رضي الله عنهم أجمعين ووفق التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين -. فأما إسنادنا في هذين الكتابين فقد روينا كتاب الإمام أبي عبد الله البخاري بالمغرب من غير واحد من شيوخنا بأسانيد مختلفة تتصل بأبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن البخاري، ثم قرأته بمكة - أعزها الله - على المرأة الصالحة كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي غير مرة لعلو إسنادها فيه، كأنا قرأناه على أبي ذر عبد بن أحمد الهروي عن أبي الهيثم بن المكي بن محمد بن زراع الكُشميهني عن أبي عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشير بن إبراهيم الفربري عن أبي عبد الله محمد بن الفرج بن عبد المولى الأنصاري، وهو روايته عن أبي العباس أحمد بن الحسن الحافظ الرازي، سمعه منه بمكة سنة ست وأربعمائة. قال: ثنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه بن منصور الجلودي قال: أنا الفقيه أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن سفيان النيسابوري، قال: سمعته من الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري - رضي الله عنه -. *** فصل (وقد استشرف بعض الطالبين إلى معرفة الأسباب الموجبة للاختلاف بين الأئمة الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - مع إجماعهم على الأصل المتفق المستبين، حتى احتيج إلى تكلف التصحيح في طلب الصحيح، وقرَّبت على هذا الطالب معرفة بعض العُذر في اختلاف المتأخرين لبُعدهم عن المشاهدة، وإنما تعذر عليه معرفة الوجه في اختلاف الصحابة - رضوان الله عليهم - مع مشاهدتهم نزول التنزيل وأحكام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحرصهم على الحضور لديه، والكون بين يديه، والأخذ عنه والاقتباس منه، وهذا الذي وقع لهذا الطالب الباحث قد وقع لمن قبله الخوض فيه والبحث عنه. وخرّج في هذا المعنى بعض الأئمة من علماء الأمة فصلاً رأينا إثباته ههنا (كذا) [1] هذا الشبه عن هذا الطالب الباحث وغيره ممن يخفى ذلك عليه ويتطلع إلى معرفة الوجه فيه، وبهذا الفصل يتصور (كذا) لك كل [2] صورة وقوع ذلك منهم وكيفية اتفاقه لهم، حتى كأنه شاهده معهم) . وهذا أول الفصل المخرّج في ذلك أوردناه بلفظ مصنفه -رحمة الله عليه- (قال لنا الفقيه الحافظ أبو محمد بن علي بن أحمد بن سعيد اليزيدي الفارسي -رضي الله عنه- في بيان أصل الاختلاف الشرعي وأسبابه) . *** سبب القول والفتيا بما يخالف القرآن أو السنة (تطلعت النفس بعد تيقُّنها أن الأصل المتَّفق عليه المرجوع إليه أصل واحد لا يختلف وهو ما جاء عن صاحب الشرع - صلى الله عليه وسلم - إما في القرآن، وإما من فعله أو قوله، الذي لا ينطق عن

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من القليوبية (س 1-7) مِن صاحب الإمضاء بأبي زعبل (من القليوبية) . أستاذي الفاضل، الشيخ محمد رشيد رضا: السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، وقد علمنا وعلم الناس أنكم - حفظكم الله - خليفة الأستاذ الإمام في القيام بأمر الدِّين الخالص، ودحض الباطل عنه، فإن العِلم الدليل، وليس العِلم بالكُمِّ الطويل، وقد طوحتني المقادير إلى بلدة ألعن بلاد الله تربة، يسكنها قوم أحلامهم دِقاق، ودينهم نِفاق، يأخذون من العِلم القشور، ومن الأخبار الموضوعة، ومن العقائد الخُرافية، فهم أشباه الرجال ولا رجال، يُكَفِّرون مَن قال بالمعراج بالروح، ومن أنكر وجود الجنة والنار، ومن نفى رؤية الإله في الآخرة، ومن منع رجوع الشمس بعد مغيبها عند إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدوم العير، وعدم مجيء بيت المقدس بين يديه - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجود الزُّناة وأكلة الربا بين مكة وبيت المقدس، ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ليلة الإسراء كل ذلك لحُجج عنده من أن هذه عقائد لا تثبت إلا بالقطع، وبعض هذه الأشياء لم يجد (كذا) فيه دليل أصلاً، وبعضها قام عليه دليل غير يقينيّ مع قيام دليل العقل على خلافه، ولما كنتم - بارك الله فيكم - أوقفتم أنفسكم على تحقيق مثل هذه المسائل نفعًا للأمة وخدمة للدين، وقد شاهدنا غزارة علمكم وسعة فِكركم وكثرة اطلاعكم ورسوخ ملكتكم العلمية التي قلَّ أن توجد لأحد من مُعاصريكم رجوت أن تكشف لي بَقِيت أبدًا (؟) عن غطاء هذه المسائل وتُرجعها إلى أصولها، وتبرزها في صورتها الحقيقية غير مشُوبة بخرافات المخرِّفين، بأدلتها من العقل أو الكتاب أو السنة المتواترة أو المشهورة، كما هو شأنكم في جميع المسائل، لا زلت ينتفع بك الإسلام والمسلمون. ... ... ... تحريرًا في يوم الثلاثاء 5 شعبان سنة 1334 هـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ولدكم: محمد عليوه (المنار) يؤخذ من هذا الكتاب بضع مسائل، ينبغي بيان الحق فيها، وها نحن نتكلم عليها واضعين لكل واحدة منها عنوانًا. (1) تكفير المسلم بما لم يصح عنده من مسائل الدين قد اعتاد الناس الجرأة على التكفير بغير علم حتى إن بعض المؤلفين في الفقه توسعوا في المكفِّرات، فزادوا الناس جُرأة على تكفير من يخالف مذاهبهم وتقاليدهم، وإن لم تكن من الدين في شيء. وقد بيَّنَّا من قبل أن الأصل في ارتداد المسلم عن دينه هو جَحْده أو تكذيبه شيئًا في حقية شيء يعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء به من أمر الدين؛ إذ يكون بذلك غير مؤمن بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما كان الجهل في دار الإسلام غير عُذر جعل العلماء أمور الدين قسمين: (أحدهما) ما لا يُعذر أحد في دار الإسلام بجهله، وإن كان عاميًّا وهو المُجْمَع عليه، المعلوم من أمر الدين بالضرورة، كفريضة الصلاة والزكاة والحج، وكتحريم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، كالقتل والزِّنا وشرب الخمر والسرقة والكذب والخيانة، فمن جَحَد من هذا القسم شيئًا كفر وعُدَّ مرتدًّا عن دين الإسلام. وإنما يُعذر بجهل بعض هذه المسائل من كان قريب عهد بالإسلام لم يمرَّ عليه من الزمن بعد إسلامه ما يكفي لوقوفه على ذلك، ومن نشأ بعيدًا عن دار الإسلام كشاهق جبل - كما يقولون -. (الثاني) ما شأنه أن لا يعرفه إلا المشتغلون بعلم الدِّين من فروع المسائل وأصول الأحكام وأدلتها، فهؤلاء العلماء يؤاخذون بحسَب عِلمهم، فمن جحد منهم شيئًا من الدِّين يعلم أنه ثَبَت في كتاب الله أو سنة رسوله أو أجمع عليه الصحابة، ولم يكن متأولاً في جحده كان بذلك مرتدًّا كما هو ظاهر. وأما من جحد أو أنكر شيئًا مختلَفًا في أصله أو دليله أو في دلالة ذلك الدليل عليه؛ لأنه لم يصحَّ عنده أو لمعارض رآه أرجح منه بضرب من التأويل فلا يُعدُّ مرتدًّا بذلك، ولكنه إذا انتهى به التأويل إلى مخالفة جماعة السلف الصالح من أهل الصدر الأول عُدَّ مبتدعًا، وإن كان موحِّدًا مقيمًا لأركان الإسلام. ولم يُكفِّر أهل السنة من أنكر خبر المِعراج، ولا من قال: إنه كان بالروح فقط، بل قال بذلك بعض أهل السنة، ولا من قال إن الجنة والنار لم يُخلقا بعدُ وإنما يُخلقان يوم القيامة، ولا من قال: إن المؤمنين لا يرون ربهم في الجنة، فقد قال بذلك جمهور من الجهمية والمعتزلة ولم يكفرهم علماء السلف به، كما ترونه في أشهر كتب العقائد التي تُدرَّس في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية في جميع الأقطار. وإذا كانوا لا يُكفِّرون من يُنكر أصل المعراج إلا إذا أنكر الإسراء المنصوص في القرآن، ولا يكفرون من ينكر رؤية الباري - تعالى - في الآخرة المصرَّح بها في الأحاديث المتفق عليها، فكيف يكفرون من ينكر رجوع الشمس للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد غروبها، والحديث فيه غير صحيح، أو ينكر مجيء بيت المقدس إلى الحجاز وكون المذنبين الذين رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يعذَّبون كانوا موجودين بأجسادهم بين مكة وبيت المقدس، ولا نُصَّ على هذا في كتاب ولا سنة، وما عهدنا أحدًا من علماء المسلمين يجعله من عقائد الدين، وسترى معنى ذلك في المسائل الآتية: *** (2) المعراج روحي أم جسدي قد فصَّلنا القول في مسألة المعراج في المجلد الرابع عشر من المنار فلْيُراجع في ص 644 و 732 منه، وفيه أن عُمدة من قال إن المعراج كان في المنام، حديث شريك عند البخاري. *** (3) رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- بيت المقدس إن رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لبيت لمقدس، ووصفه إياه للمشركين وهو بمكة ليس معناه أن بيت المقدس انتقل إلى مكة، وإنما معناه أنه مَثَل له كما مَثَلت له الجنة في عُرض الحائط، ولفظ الحديث في ذلك كما ورد في حديث جابر في الصحيحين أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لما كذبتني قريش قمت في الحِجْر فجلَّى الله لي بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه) هذا نص حديث الشيخين، ومعنى جلاه أظهره. وقال بعض العلماء: معناه كشف الحُجُب بيني وبينه حتى رأيته. قال الحافظ في الفتح: ووقع في حديث أم هانئ عند ابن سعد (فخُيِّل إليَّ البيت المقدس) [1] فطفقت أخبرهم عن آياته فإن لم يكن مغيَّرًا من قوله: (فجلَّى) وكان ثابتًا، احتمل أن يكون المراد أنه مَثَل قريبًا منه كما قدّم نظيره في حديث: أُرِيت الجنة والنار وتأول قوله: (جيء بالمسجد) [2] أي: جيء بمثاله - والله أعلم. ووقع في حديث شدَّاد بن أوس ما يؤيد الاحتمال الأول، ففيه ثم مررت بِعِير لقريش - فذكر القصة - ثم أتيت أصحابي قبل الصبح، فأتاني أبو بكر فقال: أين كنت الليلة؟ فقال: (إني أتيت بيت المقدس) فقال: إنه مسيرة شهر فصِفْه لي، قال: (ففُتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلا أنبأته عنه) اهـ المراد من عبارة الفتح. وأما لفظ حديث أم سلمة عند مسلم (فرفع الله لي بيت المقدس أنظر إليه) فيتفق مع ما تقدم بمعنى أنه رفع إليه مثاله، وقد غفل من زعم أن بيت المقدس نُقل من مكانه إلى مكة عما يترتب على ذلك من استحالة وجوده عند دار عقيل كما ورد في رواية ابن عباس؛ لأن وضع الجسم الكبير في المكان الصغير الذي لا يبلغ عُشره مُحال، ومن كون وجوده بمكة يستلزم أن يراه جميع الناس، ولو وقع ذلك لَتواتر، ومن كون نقله يستلزم عِلم جميع أهله ومَن حولهم به، ولو وقع ذلك لَتواتر نقله عنهم. وقد غفل من مال إلى ترجيح ذلك اللفظ على ما هو أصح منه وأقرب إلى المعقول عن كل ذلك، واكتفي بأن هذا أبلغ في المعجزة، وأن الله قادر عليه، وهو لم يكن مما وقع به من التحدي، ولا ترتب عليه إيمان أحد. فهل يُبطل الله - تعالى - سنته في الكون عبثًا؟ وهذا التوجيه يحتاج إليه في رؤية بيت المقدس من اعتمد قول الجمهور: إن الإسراء فقط أو الإسراء والمعراج معًا كانا في حال اليقظة بالروح والجسد كمن قال: إن ذلك رؤيا منامية، أو مشاهدة روحية وقعت حال اليقظة؛ لأن سؤال قريش النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يصف لهم بيت المقدس إنما كان في اليقظة قطعًا بغير خلاف. *** (4) رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - المذنبين يعذبون إذا كانت رؤية النبي لبيت المقدس من قَبِيل الكشف الذي يحصل بإدراك النفس للشيء بغير واسطة العينين، أو بجعل الله - تعالى - مثال ذلك أمام العينين فالظاهر أن رؤية من رآهم يعذّبون بذنوبهم من قبيل رؤية المثال بالأولى؛ لأن بيت المقدس من عالم الشهادة، وعذاب المذنبين بما رُوي في الحديث من عالم الغيب ليس له مكان في الدنيا يشاهد بين مكة وبيت المقدس. وكل ذلك من آيات الله التي أراه إياها في ليلة الإسراء. ومن هذا القبيل رؤيته الجنة والنار، وهو يخطب كما رُوي في الصحيحين. وتعبيره عن ذلك في بعض الروايات بأنهما مثلَتا له في الجدار. وقد وصفت الجنة في القرآن بقوله - تعالى - {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (الحديد: 21) فهل تجتمع هي والنار في جدار المسجد؟ وورد أن من أولئك المعذَّبين من تتثاقل رءوسهم عن أداء الصلوات - والصلاة لم تكن شرعت - فقد تمثل له - صلى الله عليه وسلم - عذابهم قبل وقوعه بالنسبة إلى أمته. إن رؤية البشر الروحية لبعض الموجودات الغائبة عن أبصارهم قد تثبت بالتجارب الكثيرة في جميع الأقطار، ومنها ما ثبت للدكتور شبلي شميل من علماء العصر الماديين، وقد ذكرنا في بعض مجلدات المنار خبره مع المريض الذي كان يعالجه، ويسمع منه الأخبار الكثيرة عما يدركه بنفسه غائبًا عن حسه كإخباره عن قريب له في الإسكندرية بأنه سافر منها إلى القاهرة في القطار الذي يتحرك من الإسكندرية في ساعة كذا، ثم إخباره بوصوله إلى محطة القاهرة، وركوبه العربة منها قاصدًا دار المريض، ثم بوصوله إلى باب الدار، وكان الأمر كما قال. وأذكر مما وقع لي من ذلك في الصغر أنني هربت مرة من الكُتَّاب واختبأت في بستان لجدتي، أم والدتي، وكنا نحن مصطافين في بستان لنا يبعد عن هذا البستان مسافة زُهاء ربع ساعة، وكانت جدتي في بستاننا فتمثلت لي خارجة منه حتى كأني أنظر إليها متتبعًا خطواتها من أول الطريق إلى آخره حتى أنني ناديتها عندما وصلت إلى مدخل بستانها وقبل أن تدخله ويقع بصري عليها فأجابتني، وكنت أعتقد أنها تحمل إليّ ما يطيب لي أكله فكان كذلك. ومثل هذا كثير. ولكن ما يقع للأنبياء من ذلك فوق ما يقع لبعض البشر، كذلك المريض وبعض الصوفية، وأكمل منه؛ لأنه يشمل عالم الغيب وما لا يصل إليه غيرهم من عالم الشهادة. *** (5) رجوع الشمس بعد غروبها أو وقوفها للنبي -صلى الله عليه وسلم- يرى السائل تفصيل القول في هذه المسألة في ص 70 من مجلد المنار التاسع وحسبُك منه قولنا هنالك: (إن مسألة رد الشمس له - صلى الله عليه وسلم - قد ورد في رواية ضعيفة من أحاديث المعراج، وورد في رواية أقوى منها في مناقب علي - كرم الله وجهه -. وهذه الرواية وثَّقها الطحاوي في (مشكل الآثار) وتبعه القاضي عياض في الشفاء، وقد تكلم فيها بعض الحُفَّاظ، بل أوردها ابن الجوزي في الموضوعات، وتعقبه في اللآلئ (فإن شئت الزيادة وما قيل في الطعن في الرواية فارجع إلى المجلد التاسع أو إلى الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للإمام الشوكاني. *** (6) وجود الجنة والنار ظواهر نصوص الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة المتفق عليها، تدل على أن الجنة والنار داري الجزاء ل

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 14

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (14) التيوبر كيولين Tuberculin زيادة الياء والنون في هذا اللفظ اللاتيني هي - كما قلنا - للدلالة على المادة أو الأصل الفعال في الدرن [Tubercle] أعني أنه اسم الخلاصة تستخرج من باسيل الدرن نفسه أو مما يربى فيه. فهي نوعان، يسمى بالتيوبر كيولين العتيق والآخر بالتيوبر كيولين الجديد. وأول من أدخل هذا الصنف من العلاج في الطب هو العلامة كوخ سنة 1890 محاولاً بذلك إيجاد دواء شافٍ للدرن بكافة أنواعه، ولكنه لم يتحقق غرضه إلى الآن. أما التيوبر كيولين العتيق فهو عبارة عن السموم التي يفرزها ميكروب الدرن في السائل الذي يربى فيه كالمرق مع الجليسرين، ويتحصل عليه بالتصفية خلال المرشحات لفصل الميكروب عنه فهو في الحقيقة سموم الميكروب التي تخرج من جسمه في السائل المذكور، ويكون لونه أصفر أدكن وقوامه غليظًا , وفائدة الجليسرين حفظه من الفساد. وإذا حقن هذا السائل في الشخص السليم لا يحدث منه شيء، ولكن إذا حقن في إنسان أو حيوان مصاب بدرن في أي عضو من جسمه ارتفعت حرارته وأصابته رِعدة وأحس بتوعك وآلام في مفاصله، وقد يُفْرَز زلال في بوله أو يظهر طفح على جلده ويلتهب المكان المصاب بالدرن. ونظرًا لشدة هذه الأغراض لم يستحسن الأطباء معالجة الدرن بهذه الطريقة، واقتصر بعضهم على استعمالها في معالجة الدرن الجلدي المسمى لوبس (داء الذئب) لأن ما يصيب الجلد من الحقن يمكن مراقبته وتلافيه. زد على ذلك أن تنبيه الجلد المريض بهذا الداء قد يكون نافعًا فيه، ومع ذلك يأبى كثير من الأطباء استعماله حتى في هذا الداء، فاقتصرت فائدة التيوبر كيولين على استعماله في تشخيص الدرن في الأنعام كالبقر فإن السليم منها إذا حقن به لم يصبه بشيء، ولكن إذا حقنت البقرة المسلولة ارتفعت حرارتها أي أصابتها الحمى. واستعماله لتشخيص الدرن في الإنسان لا مسوغ له مع أن هناك طرقًا أخرى تفضله. أما التيوبر كيولين الجديد فهو عبارة عن خلاصة تستخرج من نفس جسم الميكروبات الدرنية، وبعبارة أخرى هو السم الكامن في أجسامها فهو غير السم الذي تفرزه في السائل الذي تُربى فيه. وإذا حقن هذا التيوبر كيولين الجديد أيضًا في السليم لا يحدث منه شيء، وإذا حقن في المريض حدثت أعراض كالأعراض المذكورة آنفًا غير أنها لا تكون عادة مصحوبة بالانفعال الموضعي في مكان الدرن فلا يتنبه ولا يلتهب. وهو قليل الاستعمال لتشخيص مرض الأنعام، ولكن بعض الأطباء يستعملونه في معالجة الدرن الإنساني، وإن خالفهم الآخرون في نفعه، بل منهم من يرى أن ضرره أكبر من نفعه. وإذا حقن تحت الجلد حدث منه خراج، ولذلك اضطر بعض المصانع إلى إزالة بعض المواد التي تشبه الدهن منه، وهي التي يظنون أنها السبب في التقيح وفي عسر امتصاصه. وهناك عدة طرائق لاستعمال التيوبر كيولين العتيق للتشخيص أشهرها أربع وهي: (1) الحقن تحت الجلد. (2) وضعه على الملتحمة عند المُوق، ويبقى الجفنان مفتوحين بضع دقائق، فإذا كان في جسم الشخص أي درن احمرت ملتحمة الجفن الأسفل، وكذلك اللحيمة الدمعية التي في الموق بعد ثلاث ساعات، ويزداد الاحتقان بعد ست ساعات وتَرِم اللحيمة ويكثر الدمع، وتغطى العين ببعض الإفراز (الرمص) ويصل هذا الالتهاب إلى أقصاه بين 6 ساعات و13 ساعة، ثم يأخذ في الزوال بعد يومين أو أكثر، وهذه الطريقة ليست خالية من الخطر على العين. ومحلول التيوبر كيولين الذي يستعمل فيها يكون بنسبة 5. 0 في المائة من الماء المقطر العقيم. (3) بطريق الجلد، وذلك بتلقيح الجلد كما يلقح لأجل الوقاية من الجدري فيحصل التفاعل باحمرار الجلد وتورمه في 24 ساعة ويشتد بعد يومين، وفي اليوم الثالث يبدأ في الزوال، ويتم ذلك في اليوم الرابع. وهذه الطريقة تُستعمل كثيرًا في الأطفال الذين يقل عمرهم عن خمس سنوات. (4) يعمل مرهم من التيوبر كيولين مع [اللانولين Lanoline] [1] (دهن يستخرج من صوف الغنم) بنسبة (1 إلى 1) ويدهن به جزء من الجلد فيلتهب بعد يوم أو اثنين، وقد يظهر فيه دمل أو بثرة. واعلم أنه قد يتأثر الحيوان من التيوبر كيولين ويكون سليمًا إذا سبقت أصابته بالدرن وشُفي منه. وإذا حقن تحت الجلد بمقدار كبير (0.01 السنتيمتر المكعب) ولم يحصل انفعال دل على السلامة من المرض مطلقًا أو على الأقل من المرض الفعال في البنية فلا ينافي ذلك وجود مرض سابق شُفي منه المَحقون. *** الجمرة الخبيثة Anthrax يعرف هذا المرض في الحيوانات باسم (الحمى الطحالية) وهو يصيب الإنسان أيضًا. وينشأ من ميكروب باسيلي يوجد في العضو المصاب وفي الدم والأحشاء والإفرازات، ولا حركة له، وطوله يختلف من 5 مك [2] إلى 20 مك وقد يكون مستقيمًا أو منحنيًا قليلاً، ويتكاثر بالانقسام ويتكون في داخله أيضًا حُبيبات، وهذه إذا انفصلت منه استطالت ونشأ منها الباسيل، ولكن التكاثر بهذه الطريقة الحُبيبية لا يحصل إلا في خارج أجسام الحيوانات. وهذه الحُبيبات تقاوم درجات كبيرة جدًّا من الحرارة فلا يسهل قتلها ولو بالغلي إلا بعد بضع دقائق. يصيب هذا الداء الحيوانات إذا لُقحت بالميكروب بالعض أو بلدغ الحشرات، وقد تصاب أيضًا به إذا أكلت من مرعى تلوث ببراز الحيوانات المريضة. أما إصابة الإنسان به فتكون إما من الحيوانات الحية، ولذلك تصاب به الرعاة كثيرًا وإما من جثث الموتى بهذا الداء - وهو الأكثر - كما يحصل للقصَّابين (الجزارين) والدباغين بتلقيح أجسامهم بالميكروب إذا مست شيئًا من جثة الحيوان. وقد تحصل العدوى من أكل اللحوم المصابة أو من مس الصوف والشعر المأخوذين من الحيوانات المريضة، وقد يصل أيضًا هذا الداء بطريق التنفس بأن يستنشق ميكروبه مع التراب والغبار الذي يتطاير من البضائع الصوفية ونحوها إذا لم يطهر الصوف قبل صناعته. ومن النادر أن ينتقل هذا المرض من إنسان إلى آخر بمجرد اللمس، وقد شوهد المرض بين تجار الخِرق البالية التي تستعمل في صناعة الورق. والحيوانات التي تصاب به هي الإنسان والغنم والمعز والأرانب وخنازير الهند والفئران، وكذلك الخيل والخنازير، أما الكلاب والقطط فلا تصاب به. *** الأعراض لهذا المرض ثلاثة أشكال (1) الشكل الموضعي (2) الشكل الداخلي الرئوي (3) الشكل الداخلي المَعِدي المَعَوي. وفي كلا الشكلين الأخيرين قد يصاب ظاهر الجسم أيضًا، وإنما نشأت هذه الأشكال المختلفة بحسب مدخل الميكروب، فإنه قد يدخل من الجلد أو من الرئة في الهواء المستنشق أو من الجهاز الهضمي مع الطعام أو الشراب. أما الشكل الأول فيشاهد كثيرًا في الوجه أو العنق أو الأيدي بعد جرح أو سحج (خدش) فبعد زمن التفريخ الذي يتراوح بين بضعة أيام وبضع ساعات يحدث أكَلان ولهيب في المكان الملقَّح، ويظهر دمل صغير يمتلئ بسائل رقيق، ثم ينفجر وتموت قاعدة هذه الدمل فتكون سوداء اللون ويتلهب ما حولها من الجلد فيحمرّ ويرم ويتصلب ويمتد تورمه إلى [بوصة] ونصف أو بوصتين أو أكثر، ويتكون حول البقعة السوداء فقاعات صغيرة تستمل على مصل، وتتضخم الغدد اللمفاوية القريبة وتلتهب. وقد يستمر الشخص في عمله ثلاثة أيام أو خمسة ثم يشعر بالحمَّى مع الضعف والانحلال. وقد يعتريه الهذَيان أو العرق الغزير أو الإسهال وينتهي أمره بالموت الذي يسبقه همود شديد. أما الشكل الداخلي فتختلف أعراضه باختلاف الجهاز المصاب، ويتقدمه اضطراب وضيق تنفس واضمحلال وآلام في الأطراف، ثم ترتفع الحرارة فجأة مع أعراضها المعروفة. فإن كانت الرئتان مصابتين إصابة ضيق شديد في التنفس مع إحساس بالاختناق، ويزرقّ جسمه، وتخور قواه، ولكن يكون السُّعال خفيفًا، وإذا بصق فقد يكون البصاق ملوثًا بالدم، ثم يعتريه الهذّيان والغيبوبة فيموت. وفي بعض الحالات قد يبقى إدراك المريض إلى النهاية. وإذا كان الجهاز الهضمي هو المصاب حدث قيء وألم بالبطن وإسهال وخرج بالبراز دم وقد يحصل عسر في الازدراد أو نزف من الحلقوم والفم، وتكون الحمى غير عالية، ويزرق جسم المريض أيضًا ويضيق نفسه ويصاب بالضجر وقد يتخبط كالمصروع قبيل الوفاة. الإنذار: هو سيئ جدًّا خصوصًا في الأشكال الباطنية. المعالجة: تعالج الجمرة الظاهرية باستئصالها كلها وكيّ موضعها إما بالنار وإما بالأدوية الكاوية مثل كلوريد الزنك (الخارصين) أو بالفنيك النقي فتتحسن حالة المريض، وقد يشفى سريعًا. أما الشكل الداخلي فعلاجه قليل الجدوى. ويعالج بالكينين والمنعشات والسوائل المغذية. الوقاية: تكون بالابتعاد عن المصاب وحرق أو تطهير مفرزاته وكل ما لامسه وخصوصًا صوف الأغنام وملابس المرضى، وبقتل الحيوانات المصابة بأيسر الطرق، ثم إحراق جثثها أو دفنها في مكان عميق مع وضع الجير حولها. ومما تجب العناية به أن لا يؤذَن للعمال في مصانع الصوف أو الجلود بمس شيء منهما إلا بعد تطهيره بالطرق الطبية كأن يطهر الصوف مثلاً في أفران البخار، وتُطهَّر الجلود بوضعها في بعض المحاليل المطهرة التي لا تضر بها , واعلم أن كلامنا هذا في مس الجلود قبل دبغها، فإن الدبغ وحده كافٍ لتطهيرها , ويجب على الممرض ومن شاكله تطهير يديه جيدًا قبل الطعام والشراب وتغيير الملابس قبل ذهابه إلى منزله أو مخالطته الأصحَّاء. *** السقاوة والسراجة Glanders مرض عُرف قديمًا حتى وصفه أطباء اليونان والرومان في كتبهم، وهو يصيب الخيل والبِغال والحَمير وبعض الحيوانات الأخرى الداجنة ومنها ينتقل إلى الإنسان أيضًا وسببه ميكروب مستقيم الشكل اكتُشف سنة 1882م يعيش هذا الميكروب في الهواء وفي غيره، وطوله يختلف من ميكرونين إلى خمسة. وهذا الداء قلما يصيب الإنسان، وأكثر من يصاب به خَدَمة الخيل أو الاصطبلات. وكيفية العدوى به أن يلقّح جزء من جلد الإنسان بميكروب هذا الداء في أثناء تنظيف الخيل المصابة أو كشط جلود الموتى منها، وقد يصاب الشخص بسبب عض حيوان له وتلقيحه بلعابه، أو يصاب بسبب عُطاس الحيوان في وجهه فيدخل جزء من مخاط أنفه في عين الإنسان أو أنفه أو فمه. وقيل: إنه ينتقل أيضًا بأكل اللحوم النيئة من الحيوانات المصابة. ومن الجائز أن ينتقل هذا الداء من شخص إلى آخر. الأعراض: لهذا الداء شكلان: (الشكل الأول) الحاد هو المسمى بالعربية السقاوة. يبتدئ ظهور أعراضه بتوعك وصداع وغَثَيان وآلام في الأطراف حتى قد يظن أن الداء هو الرثية [الروماتزم] أو الحمى التيفودية، وقد يوجد ألم بالجنب وضيق في التنفس. وإذا كان الميكروب دخل من الجلد التهب مدخله وورم وصار مؤلمًا حتى يشبه الجلد مرض الجمرة ثم يتقرح وتضخم الغدد اللمفاوية القريبة، وبعد أسبوع أو أكثر يظهر طفح من دمامل صغيرة حمراء تعلوها فقاعات، وهذه تكبر حتى تصير نفاخات كبيرة أو بُثور مختلفة الحجم يسيل منها دم ومدة وصديد، وتلتهب قاعدة هذه البثور وما حولها، ثم تسقط قشورها فيتكون منها قروح، وقد تتكون عقد تحت الجِلد تستحيل إلى خراجات غالبًا. وكثيرًا ما تظهر هذه العقد أيضًا في العضلات. وقد يصيب الداء أيضًا الأغشية المخاطية، وتكون أعراضه سيلان مخاط رقيق في أول الأمر، ثم يغلظ وتصحبه المدة أو الدم وتكون رائحته منتنة، ويكون في الأغشية أيضًا عقد تتقرح حتى تثقب بعض الأجزاء أو تأكل بعض العظام الرقيقة كما يحصل في داخل الأنف. وقد تصاب أيضًا الملتحمة أو الحنج

حال المسلمين الاجتماعية ـ 2

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ حال المسلمين الاجتماعية ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها [*] وفيه بيان حال مشتركي المنار ومساعديه ورأي الأستاذ الإمام والشيخ علي يوسف فيه (2) قد فصَّلنا القول في المقالة الأولى في الغرض الأول الذي رمى إليه (م. ن) في رسالته وهو إعانة جماعة الدعوة والإرشاد. وأما الغرض الثاني مما رمى إليه وهو مساعدة المنار، فقد علم رأينا فيه مما علقناه على رسالته، وهو أننا لا نقبل تبرعه للمجلة ولا تبرع غيره لأنفسنا، فمساعدة المنار تنحصر في أمرين أدناهما أن يؤدي كل مشترك ما عليه من قيمة الاشتراك في كل سنة، وأعلاهما الدعوة إلى الاشتراك فيه واقتناء مجلداته وأداء حقه الذي هو عبارة عن قيمة الاشتراك. وقد وُجد أفراد قاموا بما تيسر لهم من أعلى المساعدة كالنابغة الشهير السيد محمد بن يحيى بن عقيل في سنغافورة، وشهيد العربية السيد الزهراوي الشهير وصديقه الشيخ أحمد نبهان من علماء حمص وفضلائها في بلاد سورية، والكاتب اللوذعي الهادي السبعي في تونس، والفاضل الغيور محمد أفندي عمر في القطر المصري. وإنما ذكرت الهادي السبعي وقد كان وكيلاً للمنار بالعمولة؛ لأنه من الأفراد الذين يقل نظيرهم في علو الهمة وقوة التأثير، وإننا لم نأسف لاضطرارنا إلى ترك معاملة أحد أسفنا لاضطرارنا إلى ترك معاملته لتأخيره المحاسبة والمكاتبة عن أوقاتها زمنًا طويلاً، على أننا لم نهتد بعده سبيلاً إلى تحصيل حقوق المنار من أكثر التونسيين، على ما تفضل به من التبرع بتحصيلها الوجيه الأمثل عبد الجليل الزاووش. وأما أدنى المساعدة وهي أداء حق المنار فمن المشتركين السابقون بالوفاء وهم الذين يؤدون الاشتراك في كل عام وأفضلهم الذين يؤدونه في أوائل السنين وإن لم يُطَالَبُوا أو يُذَكَّرُوا، ويليهم الذين إذا ذُكِّرُوا أو طُولِبُوا أدَّوْا، وإن تُرِكُوا نَسَوْا أو تَنَاسَوْا، ومنهم الذين يلوون ويمطلون، ومنهم من لا يخرج الحق من يده - إلى أمثالنا في حسن التقاضي - إلا نكدًا، وقد يكون أبسط الناس لمن يخاف أذاه أو هجوه يدًا، وقد بينا من قبل أحسن أقطار المسلمين وأصنافهم وفاء وأشدها مطلاً. وإننا نقاسي من مطل الناس أو هضمهم للحق ما هو أوضح برهان على انحطاط أمتنا، وضعف تأثير العلم الديني والدنيوي في نفوس أفرادها، فلا ينبغي أن يغتر أحد بشهرة أحد في علم ولا فلسفة، ولا بظهوره في مظهر صلاح ولا عدالة، بل يجب أن يزن الجميع بميزان النقد، فالناس- كما قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم- معادن كمعادن الذهب والفضة، أي والنحاس والحديد والزنك وغير ذلك، فالمظاهر العلمية أو العملية كالصقال قد يجعل النحاس أو الحديد المصقولين أبهج من الذهب أو الفضة غير المصقولين، ولكنهما إذا تُرِكَا زمنًا طويلاً بغير صقل علاهما الصدأ، وأفسدهما الطبعُ، ولا يضر الحجرين الكريمين ترك صقلهما، فإن صُقِلاَ كان مزيد كمال في جمالهما وبهائهما. وأنشد الغزالي في الإحياء أبياتًا في اختبار مُدَّعِي الزهد والتصوف بالمال: لا يغرنك من المر ... ء قميص رقعه أو إزار فوق عظم ... الساق منه رفعه أَرِهِ الدرهم تعرف ... حبه أو ورعه فإن شئت مثلاً من عِبَر المنار، وما اتفق لنا من مبكيات الاختبار، فأعظم الأمثال التي يجب أن تُضْرَب في هذا المجال رجل من الأغنياء العلماء الشرفاء، يشرح الكتب الشهيرة، ويتحلى بالحجارة الكريمة، ويركب المركبات الفاخرة، تجرها الخيول المطهمة، ثم هو يلوي ويُسَوِّف في اشتراك المنار عدة سنين ثم يقول لوكيل التحصيل بعد المطل الطويل: إنه لا يدفع قيمة الاشتراك؛ لأنه عالم من علماء الدين! فيا لله العجب هل يوجد خزي أخزى من وصف العلم أو الدين بأنه يقتضي هضم حقوق الناس وأكل أموالهم بالباطل، أليس الجهل أفضل من مثل هذا العلم؟ بلى وأستغفر الله من الزيادة على ما قلت. هذا، وإن صنف العلماء المعممين قلما يشترك أحد منهم في جريدة أو مجلة أو جمعية خيرية، ويقل فيمن يشترك في صحيفة لغرض ما أن لا يسعى في السماح له بنصف قيمة الاشتراك أو ما دون النصف، كأنهم يرون أن الصحف يجب أن تُهْدَى إليهم، وإن لم يفيدوا أصحابها بعلمهم ولا بجهلهم، إن كان لهم علم ينفع، أو جاه يشفع، ولكن يقل فيهم أيضًا من يأكل حقًّا ثابتًا عليه لأحد. ومن أغرب ما وقع لنا معهم أن واحدًا منهم كان قد أعجبنا حياؤه وتدينه، فساعدناه في مصلحة من مصالحه مساعدة ذات شأن عنده، فعرض علينا جزاءها أو مكافأة عليها عدة جنيهات، فقلنا: إننا لا نأخذ أجرًا على المساعدة فاشترى بها مجلدات من المنار، ثم إنه تأخر عليه اشتراك عدة سنوات فلما طُولِبَ بها في هذا العام قال: إنه كان دفع الاشتراك عنها سلفًا في تاريخ كذا، فقيل له: إن ما دفعته يومئذ إنما كان ثمن المجلدات السابقة فقال- ويالله العجب مما قال- بل كانت تلك المجلدات هدية من صاحب المنار! ! فإن كان قد قال هذا القول معتقدًا صحته فهل تفكر في السبب الذي حمل صاحب المنار على مساعدته مساعدة تستحق المكافأة وعلى ترك أخذ ما عرضه عليه منها ثم على إهدائه عدة مجلدات من المنار؟ ولعله يتفكر فيعلم أن لا سبب يقتضي ذلك ثم ينصف من نفسه.! ! على أننا مع العلم بهذا الشذوذ من هذا العالم الحيي، وذلك المؤلف الغني، نقول: إن علماء الدين أمثل من علماء الدنيا وفاء، وأسهل قضاء. ذكرت في بعض مجلدات المنار السابقة أن علماء الحقوق من القضاة والمحامين أحسن وفاء من غيرهم. وأن أقل المتعلمين وفاء كتبة الدواوين، وكم من كاتب صغير خير من قاض أو محام كبير، وإنما الناس معادن، يتفاضلون بالأخلاق لا بالعلم ولا بالمناصب، أضرب لذلك مثلاً قاضيًا اشتهر بدقة الفهم، واستقلال الرأي، وحسن الذوق، وانتظام الفكر، وفصاحة القول، وسلاسة الإنشاء، والجمع فيه بين إقناع الفلسفة وتأثير الخيال، حتى صار يعده المدنيون من رجال الإصلاح، وكان مع هذا كله يمنع ما عليه من حقوق الأفراد والجمعيات عامدًا متعمدًا: طلب الاشتراك في المنار بلسانه، ومات وعليه اشتراك عدة سنين أعيا وكيل المنار تحصيلها منه، وكان مشتركًا في الجمعية الخيرية ومن كبار أعضائها فأمر الأستاذ الإمام رئيس الجمعية بمحو اسمه من دفاترها بعد امتناعه من دفع قيمة الاشتراك عدة سنين. وإن لنا الآن عند بعض القضاة والمحامين اشتراك عدة سنين يئس جابي المنار منهم، وطلب من الإدارة قطع المنار عنهم، وقد ساءني ذلك؛ لأن منهم مَن أُجِلُّ نبوغَه ومروءتَه، وألتمس له عذرًا فيما شكا الجابي منه، ويعز عليَّ أن يحشر في زمرة الماطلين، أو يُدَوَّنَ في سجل الهاضمين. وأما الماطلون من الأغنياء الذين لم يصقلهم العلم الديني ولا الدنيوي فهم كثيرون ومطلهم خشن مُشَوَّه. مثاله قول غني من الفيوم اشترك بضع عشرة سنة لجابي المنار في القاهرة: إنني ابتليت بمصائب تمنعني من المطالعة منها موت امرأتي، ومجموعات سني المنار محفوظة عندي في الفيوم فأعطني أجرة البريد لأحضرها لك! ! ولا يسعني السكوت في هذا المقام عن كلمة ثناء على فضل من أنبتت أرض مصر في هذا العصر، بل على من يندر وجود مثلهم في أي مصر وأي عصر، وهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والوزير الكبير مصطفى رياض باشا والنابغة الهمام حسن باشا عاصم، فأما الوزير فقد بينت في فاتحة المجلد الخامس عشر أنه كان أول من أراد التبرع للمنار فاشترك بعشر نسخ تُوَزَّع على الفقراء ثم جعلها خمس عشرة نسخة، وقد أقرها بعده ولده محمود باشا سنة ثم قطعها، وفضل رياض باشا على الأهرام والمؤيد والمقتطف والمقطم مما يعرفه جمهور الأدباء، وأما حسن باشا عاصم فقد كان على وقف حياته على خدمة الأمة أحسن الناس وفاء حتى إنه كان يتحرى أن يكون أول من يدفع الاشتراك للجمعية الخيرية في كل عام على أنه أكثر أعضائها خدمة لها، وكان يدفع اشتراك جميع الجرائد في أول كل عام أيضًا وكان يجيء في إدارة المنار في بعض السنين حاملاً الدراهم بيده. وأما الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى فقد كان أحرص الناس على مساعدة المنار بكل ما تصل إليه طاقته، وكان كثير من الناس يظن في مساعدته له الظنون البعيدة حتى إن منهم من كان يظن أنه هو الذي يكتب ويحرر أكثر ما ينشر فيه، وقد علمنا هذا مما كاشفنا به بعض القراء حين كتبنا في المجلد الرابع أن كل ما ينشر في المنار غير معزو إلى أحد فهو لمنشئه، ومن الناس من لم يرجع عن هذا الظن إلا بعد وفاة الأستاذ. بعد كتابة ما تقدم نظرت في مذكراتي التي كتبتها قبل إنشاء المنار فإذا فيها أنني جئته على موعد في مساء اليوم السادس من شعبان سنة 1315 فعلمت منه أن سليم أفندي الأنسي أخبره بأن بعض الناس جاءوا من طرابلس الشام لإنشاء جريدة. وأنه أجابه بقوله: هل علموا أن الجرائد هنا قليلة؟ وكتبت يومئذ في ذلك ما يأتي: (فعند ذلك كاشفته بعزمي وأخبرته أنه جاءني خبر من طرابلس بأن والي بيروت بلغه أني جئت مصر لأنشئ جريدة أطعن فيها بوكلاء (وزراء) الدولة. وقلت له: المقصد أعلى من الكلام في الشخصيات وإن وكلاء الدولة مُدِحُوا كثيرًا وذُمُّوا كثيرًا فماذا كان من نتيجة المدح والذم؟ (فشرح لي الأستاذ حالة الجرائد في مصر (كما فهمته واختبرته) وقال: إن المصريين أقامتهم الظروف في حالة جعلت أفكارهم موجهة إلى شيء واحد من الجرائد وهو أخبار الحكومة المحلية، وماذا يقال عن الخديوي، وعن الإنكليز ولا يلتفتون إلى ما وراء هذا. وهذا الأمر قد قامت به ثلاث جرائد المقطم والمؤيد والأهرام ... [1] وإذا كتبت في المواضيع الأدبية كالتربية والتعليم أو آداب اللغة لا يلتفت إلى كلامك الناس، فإني لا أعرف أحدًا في مصر من طلبة الأزهر أو المدارس مشتغلاً باللغة وآدابها إلا أن يكون في الزوايا مَن لم يعرف. نعم إن هذا الأمر مهم ومفيد لكنه لا يأتي منه ما يكفي لنفقاته ولا ينبغي التعب وإنفاق المال هكذا. (وفيها أنني ذكرت له هنا ما ذكره لي صاحب الهلال من كثرة مشتركيه وأنه ارتاب في ذلك، وقال: إن المشتركين الذين يدفعون الدراهم قليلون وما كل من يكتب اسمه في دفاتر أصحاب الصحف كذلك. ثم كتبت ما نصه) : (ثم انتقلنا إلى موضوع الأمة ومرضها وأن أنفع الوسائل في معالجتها التربية والتعليم ونشر الأفكار الصحيحة، فقلت: هذا ما حدا بي لإنشاء الجريدة، وإني أسمح أن أنفق عليها سنة وسنتين من غير أن أكسب شيئًا ... فقال: إن كان هذا فهو حسن، وهذا أشرف الأعمال وأفضلها، وأنا إذا كنت على ثقة من مشرب الجريدة فإني أساعدها بكل جهدي) اهـ. ولما كتبت فاتحة العدد الأول أعجبه ما بينته فيها من خطة المنار ومقاصده ولم ينتقد منها إلا كلمة واحدة في حقوق (الأمة على الإمام) قال: إن المسلمين ليس لهم الآن إمام إنما إمامهم القرآن. فتركت تلك الكلمة لأجله. ولم أطلعه على شيء قبل طبعه مما لا يتعلق بشخصه والحكاية عنه إلا بتلك الفاتحة. ثم كانت تزداد ثقته بالمنار وصاحبه (ولا محل لشرح ذلك هنا) ولكنه لعزة نفسه ومحافظته على قيمة كلامه كان يكتفي من الترغيب في المنار غالبًا بمدحه، والشهادة بفائدته ونفعه، دون التصريح بالدعوة إلى الاشتراك فيه، وقلما كان ذلك يجدي؛ لبُعْدِ الناس الموسرين عن الاهتمام بأمر الإصلاح الديني والاجتماعي، قد اشترك في المنار عقب ظهوره الأفراد من أصدقائه ومريديه بترغيبه، واشترك المئات من غيرهم بغير ترغ

رحلة الحجاز ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله - تعالى - أن وفقني في هذا العام لتلبية دعوة أبينا إبراهيم - عليه وعلى آله الصلاة والتسليم - بأداء فريضة الحج وإكمال المناسك بالعَجّ والثَّجّ، ثم أحمده عودًا على بدء أن وفقني للوفاء لوالدتي بالحج معها. بعد أن حالت دونه الأقدار بالأعذار تارة من قِبَلي، وتارة من قِبلها، بل أحمده قبل ذلك كله أن سخّر من سخّر من الدول لإزالة ما أحدثته الحرب الأوروبية العامة من موانع السفر بالبحار إلى الحجاز، ولتكلف إعداد السفن لحمل الحُجاج، بعد أن وُفق الشريف أمير مكة للقيام بأمر استقلال العرب في تلك الأقطار، ولمعاهدة تلك الدول المتصرفة في جميع البحار، فسبحان من سخّر من شاء لما شاء بتوفيق أقدار لأقدار وأظهر حُجته على الخلق في كل عصر من الأعصار، من آيات يزداد بها إيمان المؤمنين، ويحق بها القول على الجاحدين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين، الأمي الذي أرسل لتعليم الأُميين والكاتبين، العربي المبعوث لتوحيد الأمم باللغة والدين، وعلى آله وأصحابه الكِرام، الذين أخذوا عنه المناسك وأحيوا شعائر الإسلام. أما بعد: فإن ركوب الألوف من المسلمين لمُتون البحار، وجذبهم من أقصى المغرب والمشرق لأداء فريضة الحج في هذا العام، يصح أن يُعد من تأييد الله - تعالى - للإسلام، ومن المعجزات الدائمة لخليليه إبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - ومصداقًا لحديث (إن الله سيؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله) وقد ورد بلفظ آخر صرحوا بصحة سنده. أوليس خِذلانه - جلت قدرته - لحكومة الاتحاديين الملحدين، بما أقدموا عليه من التنكيل بالعرب، وانتهاك حرمات الدين، وتوفيقه - عمت رحمته - لأمير مكة ومن معه من المسلمين، بالخروج على البُغاة المارقين، وتسخيره - بهرت حكمته - لدولتي الفرنسيس والبريطانيين الكتابِيِّين، بحمل الحجاج من الغرب والشرق إلى البلد الأمين؟ أليس هذا كله أقدارًا تتابعت وأسرارًا تشايعت، فانجلت عن استجابته - سبحانه وتعالى - لدعوة إبراهيم خليله، وإحياء شريعة محمد عبده ورسوله، بعد ما كاد يظن أن أسباب الحرب الظاهرة، حالت دون تلك الدعوة الطاهرة؟ {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) بلى، وإنها لتؤيد ما روي عن ابن عباس، من تلبية الناس لتلك الدعوة في عالم الأرواح، إذ قام -عليه الصلاة والسلام - بعد فراغه من بناء البيت العتيق، ممثلاً قول الله له: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 27-28) [*] فقد روي عنه ما معناه أن الله تعالى أمره أن ينادي بذلك، وقال له: عليك النداء وعلي البلاغ، وأنه قام في مقامه (المعروف إلى الآن بمقام إبراهيم) وقيل: في الحِجر وقيل: على الصفا وقيل: على أبي قُبيس فنادى يا أيها الناس إن الله قد اتخذ بيتًا فحجوه، فأجابه كل من كتب الله له الحج إلى يوم القيامة قائلين: (لبيك اللهم لبيك) فإن لم تكن هذه الإجابة حقيقية في عالم الأرواح، ولا عبارة عن الإجابة بالقوة ولسان الاستعداد، فهي تمثيل لما تظهره مجاري الأقدار، ومن وراء حُجب الاستقبال، فتشاهده الأجيال في كل حول من الأحوال. لقد كان النزوع إلى حج بيت الله الحرام، هوى ساكنًا في القلب يحركه الموسم في كل عام، وتحول موانع الأقدار دون جذبه البدن إلى تلك المشاعر العِظام، وأهمها ما كان أولى من عدم الأمن على النفس من ظلم الحكومة الحُميدية، ثم ما هو شر منه وأنكى من إلحاد الحكومة الاتحادية، ومنها ما كان في بعض السنين من عدم استطاعته السبيل، أو عَجْز السيدة الوالدة عن الرحيل. فلما دعت الحكومة المصرية المسلمين في هذا العام إلى الحج بألسنة الصُّحف المنتشرة، والتزمت حمل من يحج إلى جدة ذهابًا وإيابًا بأجرة قليلة، تاركة ما كانت تتقاضاه من كل مريد للحج من التأمين المالي، وعلمنا أن هذه الدعوة مبنية على تأمين الشريف أمير مكة للبلاد، وإزالته كل ما كان هنالك من أسباب العبَث والفساد، صادفت هذه الدعوة في أنفسنا أتم الاستعداد والاستطاعة، وانتفاء جميع الموانع دون هذه الطاعة، بل تأكدت داعية الفريضة، بما يُرجى في أثناء أدائها من واجب النصيحة، التي تقتضي الحال الحاضرة أداءها لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فقد علمنا أن طريق الحج، قد مُهّد لمسلمي الشرق والغرب، الذين حالت بيننا وبينهم الحرب، فلا سبيل للتواصل بيننا وبينهم من الطاق ولا من الباب، ولا للتناصح بخطاب ولا كتاب، ونحن الآن أحوج ما كنا إلى التناصح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والتعاون على ما يجب من التقوى والبر. فهل نتوانى في أداء هذه الواجبات، وقد أبيحت لنا في أشرف الأمكنة وأفضل الأوقات، إذ نؤدي المناسك في بيت الله ومشاعره العِظام منى والمزدلفة وعرفات؟ نعم: إن حكومة هذه البلاد آذنتنا بإباحة الحج في هذا العام، فذكرتنا بإيذانها به أذان أبينا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فلبى القلب داعي الله قبل تلبية اللسان وسعي الأقدام،: (لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) فلم نكن ممن يُثنيهم عن هذه التلبية إرجاف المُرجفين، ولا خَرْص الخرَّاصين، ولا إفك المذّاعين. الذين أذاعوا في طول البلاد وعرضها أن من يقصدون الحج في هذا الأوان، يُلقون بأيديهم إلى التهلكة بما أُعد لهم من مدافع التُّرك وطيارات الألمان، ولا قولهم: إن صاحب المنار مرسل مع وفد العلماء الذين أرسلهم سلطان مصر لمبايعة شريف مكة بالخلافة، ولا قول بعضهم: إنه هو الذي يريد ذلك دون العلماء ولا قول بعضهم بالعكس، فالفرائض والواجبات لا تترك لتقوُّل غوغاء الناس، ولا لأوهام العوام والخواص، وحسبي أن أعلم أنني أحجّ لوجه الله - تعالى - منفقًا من مالي الذي أعتقد حله، وقد ادخرته لذلك في هميان منذ سنين، وإنني أبتغي زيادة الأجر عند الله - تعالى - بصحبة والدتي وخدمتها في هذه السبيل، وبما أبغيه من الازدياد من العلم النافع والاختبار والاستفادة من أهل العلم والبصيرة، وبما أنويه من النصيحة لكل من أرى الفائدة في نُصحه من إخواني المسلمين في تلك البِقاع الطاهرة الشريفة، بما أرى فيه الخير والمصلحة لأمتي في أمري دينها ودنياها، لا أُحابي في ذلك شريفًا ولا أميرًا، ولا أغش فيه سُوقة ولا فقيرًا، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. كما قال الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -. على أن حبل الكذب - كما تقول العامة - قصير، ولا سيما إذا كان في شيء كالحج موعده قريب، فسفر الحج في هذا العام كان أقل من خمسة أسابيع، فما أسرع ما ظهر كذب تلك الأقاويل. لم يبق أحد في مصر إلا وقد علم أن حجاج بلاده قد دخلوا المسجد الحرام بمشيئة الله - تعالى - آمنين، وأدوا مناسكهم وقضوا تَفَثَهم محلِّقين رءوسهم ومقصِّرين، وعادوا إلى أوطانهم سالمين مغبوطين، وأن الشريف لم يدْعُ أحدًا من الحُجاج إلى مبايعته، ولا يزال الخطباء يدعون للسلطان العثماني في بلاده، وإن صاحب المنار لم يكن بينه وبين وفد العلماء السلطاني خلاف في أمر المبايعة المخترعة بمصر ولا في غيره، وإنه عاد مع والدته إلى أهله وولده وموطن عمله كسائر الحاجّ؛ إذ لم يذهب مدعو إلى منصب قاضي القضاة ولا مشيخة الإسلام، وها هو ذا يقُصّ خبر رحلته، على جميع من يطلع على مجلته، بما يعهد قراؤها من صدقه وصراحته؛ إذ كان - ولا يزال - يشرح ما طرأ من الفساد على الرؤساء والحكام، وما سرى من الضلال والخرافات إلى العوامّ، غير مبالٍ بسخط الخاصة، ولا مهتم باستمالة العامة {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) . (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

قصيدة في مدح الرسول

الكاتب: محمد توفيق علي

_ قصيدة في مدح الرسول قال محمد توفيق علي [1] من قصيدة له في مديحه - عليه الصلاة والسلام -: هل مر يوم لم يلح في أفقه ... شمس تضيء لنا من القرآن هل هزت الأجيال دين محمد ... فرأته غير مثبت الأركان هل ينكر الثقلان أن نبينا ... كنز العلوم وكعبة العرفان ومثبت التوحيد في أركانها ... بالمعجزات وساطع البرهان ولربما جعل الحُسام نصيره ... في ردع أهل الظلم والطغيان وأعادها نورًا وكانت ظلمة ... دهماء سابغة على الأكوان لو أننا متمسكون بدينه ... لم يرض منا مؤمن بهوان ولَمَا هُزمنا لو تجمعت العدا ... لقتالنا واستظهروا بالجان لكننا فشت المعاصي بيننا ... وتحكمت فينا يد الشيطان توبوا إلى الله الكريم وأصلحوا ... أعمالكم خافوا من النيران وقال في أصحاب السوء: لي أصحاب إذا عاشرتهم ... لا تقل إن عثروا يومًا لعَا [2] يأكلون السحت فيما بينهم ... ليس من جوع ولكن جشعَا يمزجون الخمر بالماء فهل ... مزجوا أن شربوها أدمعَا قعدوا عن كل فخر وعلاً ... لا يحبون التقي الورِعَا كم نهيناهم عن الخمر فلم ... يجدوا من دونها منتجعَا كم زجرناهم عن الفُحش فلم ... يجدوا في غيره متسعَا إنهم قد ظلموا أنفسهم ... فاصفح اللهم عمن رجعَا وقال في ذم الخمر وضررها: خذوا كأسها عني فما أنا شارب ... ولا أنا عن ديني ودنياي راغب لقد حرم الله المُدام وإنني ... إلى الله مما تستحلون تائب لئن بت جبارًا على الأرض قاهرًا ... فلست لجبار السماء أحارب أأشرب سمًّا ناقعًا في زجاجة ... تحوم حوالي شاربيه المصائب لئن شبهوا كاساتها بكواكب ... فكم أنذرتنا بالنحوس الكواكب وإن عصروها من خدود كواعب ... فكم من بلايا جرَّهن الكواعب وقال في تفضيل الماء على الخمر: إذا طاف بالكأس الدِّهاق عليكم ... فما أنا منكم يبرأ الله منكمُ لي الماء وحدي لا أبالي بجمعكم ... رضيتم غضبتم خنتم أو وفيتم فصفق أباريق المداد وهاتها ... زلالاً فنفسي أوشكت تتضرَّم فتلك مدامي لا بنات دنانهم ... وذاك زجاجي لا الزجاج المفدم [3] إذا رقرقت في الكأس ألفيت فضة ... تدفق أو ذوبا من الدر يسجم يقطرها الدن الحلال [4] كأنما ... تتابعها عقد من الدر ينظم يرن رنين العود في كل قطرة ... كأن قيانا تحته تترنم وشتان بين الماء والخمر في فم ... ولكن ذا حِلّ وهذا محرم فمن شاء أن يلقى جهنم قبل أن ... يموت ففي حان المدام جهنم تجاذب روح الشاربين بنشوة ... تكاد لها أحشاؤهم تتضرم ومن خاف ناب الأفعوان ينوشه [5] ... ففي كأسها ناب خفي مسمم يمزق أستار النفوس لُعابه ... ويلطم ناب الشاربين فيهتم [6] منابع أدواء موارد ريبة ... تطول بها البلوى ويقذى بها الفم وطاب لأصحابي من الخمر نتنها ... وأوهمهم شيطانها فتوهموا يقولون: شرب الخمر باب فريضة ... علينا فلسنا إن تركناه نهضم فهلا ترى أنا نموت بتركها ... فقلت لهم موتوا فلا خير فيكم ألم يكفيكم وِردًا كئوس مزاجها ... من الذل والحرمان صاب وعلقم وتضييعكم عز البلاد وهدمكم ... بناء حقيقًا إنه لا يهدم أقامته أطراف العوالي وصانه ... قرونًا على الدنيا الحديد المثلم إذا مالت الدنيا به قام ركنه ... يناصح روق النجم والدهر مرغم ألا أبلغوا أهرام مصر توجعي ... وإن تك لا ترثي ولا تترحم وقولوا لرمسيس بن سيتي أفق لنا ... أتتركنا في ذا الشقاء وتنعم [7]

جمعية آداب اللغة العربية بلندن

الكاتب: أحمد زكي أبو شادي

_ جمعية آداب اللغة العربية بلندن سيدي الأستاذ محرر (المنار) لا أرى بُدًّا- إذا سمحت مكارمكم- من نشر كتابي هذا في (المنار) ولي من ظاهر عنايتكم بهذا المشروع شفيع بذلك، ومن تكرار تحريري في المجلات الأخرى عذر في الركون إليكم، فإن من الضروريات في جميع الأعمال العامة الكبيرة كسب تعضيد مجموع الصحافة لا بصفة وقتية بل بصورة دائمة. فلابد إذن لقلمي العاثر من تكرار الإعلان عن هذا المشروع، ومن أمثال فضيلتكم ترجى المؤازرة الأدبية الوجيهة فيما يذهب بضرر ويجلب فائدة للشعوب المستضعفة التي تذودون عن كرامتها وتناضلون عن حقوقها. أغراض المشروع واضحة جلية، وقد سبق لكم نشرها في (دعوة اللجنة التحضيرية) ، وكلها تدور حول نقطة جوهرية، وهي خدمة اللغة العربية بجميع الوسائل الميسورة، وتحت هذا تنطوي عدة مسائل أدبية اجتماعية وقومية حيوية لا يخطئ في تقريرها المفكر البصير. يتساءل بعض النقاد: لماذا أشركنا معنا- نحن العرب- المستشرقين في عمل كهذا جدير بنا أن نستقل به؟ وهو سؤال غريب؛ إذ ما سمعت أن العلم مقيد بقيود الجنسية، وما من مطلع إلا ويقر مؤلف (تاريخ آداب اللغة العربية) على قوله في مميزات النهضة الأدبية الأخيرة منذ سنة 1798 م إلى الآن: (من العوامل الرئيسية في إحياء آداب اللغة العربية في هذه النهضة اشتراك الإفرنج في درسها ونشر كتبها والتنقيب عن تلك الكتب في مظانها. وليس اهتمام الإفرنج بالآداب العربية حديثًا فإنه يرجع إلى الأجيال الوسطى قبل نهضتهم الأخيرة لإنشاء تمدنهم الحديث) فقوم هذا شأنهم وتلك آثارهم يجب أن تنزلهم منزلة الإكرام، إن لم يكن لحرمة العلم والأدب عامة فلحرمة لغتنا التي هي ديوان أخلاقنا وحضارتنا وآدابنا. فمن الاعتساف ونكران الجميل أن يُنعى علينا هذا التصرف وأن نعاب به. ومن الفكاهة المرة أن يشترط على الطالب علم إفادته عن سيرة رئيس (اللجنة التحضيرية) وسيرة كل عضو من أعضائها قبل أن يتبرع بمليم واحد لهذا العمل (وإن راق لديه كثيرًا) ..! ! ألهذا الحد بلغ بنا التحفظ والتهيب وسوء ظن بعضنا بالبعض الآخر؟ يكفي في الرد على مثل هذا السؤال أن يقال: ليس بين أعضاء اللجنة التحضيرية إلا من يغار على نهضة اللغة، وكلنا طلبة علم نريد ترقية معلوماتنا وتمرين أنفسنا على الترجمة ثم التأليف، وتعويد أقلامنا على لغة مهذبة نقية مع تعيين الكلمات الاصطلاحية العلمية والفنية متحدين لغة الكتابة السليمة التي هي في كل أمة غير لغة العامة. وبعبارة أوضح إننا من أوساط المتعلمين لا ميزة لنا غير اجتهادنا وإقدامنا على أداء واجب تناساه من هم أقدر منا، فلسنا بالفلاسفة ولا بالفحول، كما لا أعرف أننا وضعنا في درجة العوام والغوغاء. ولسنا ممن يصطادون الأموال لنفع جيوبهم، ولا ممن صدرت عليهم أحكام المحاكم الجنائية ولا غيرها، فعلام يتخوف من يروقه العمل من التبرع، وكل قرش وكل جنيه يرسل باسم اللجنة يودع فورًا في (المصرف الأهلي المصري) بلندن؟ وأما الأستاذ مرجليوث فلعل شهادة سواي فيه أولى بالاعتبار. قال مؤسس (الهلال) وقد أوجز كثيرًا كعادته: (ليس بين قراء العربية من لا يعرف الأستاذ مرجليوث لما نذكره من آثار قلمه في خدمة اللغة العربية بالتأليف أو النشر. وقد تلقى علومه في جامعة أوكسفورد وتولى تعليم اللغة العربية فيها من سنة 1889 م، وهو يمتاز على الخصوص بسعة معرفته في اللغة العربية وآدابها. يكاتب أصدقاءه من العرب بأسلوب عربي خالص من شوائب العجمة. وقد نشر رسائل أبي العلاء مع ترجمتها الإنكليزية، وهو عمل لا يستطيعه إلا القابض على ناصية اللغة العربية؛ لأن هذه الرسائل لا يفهمها العربي إلا بمراجعة المعاجم، ونشر آثارًا عربية تاريخية وشعرية، وقطعة بابيروس عربي كانت في مكتبة أوكسفورد. وألف في مشاهد أورشليم ودمشق كتابًا حافلًا بالرسوم والشروح. وله كتاب في سيرة النبي بالإنكليزية. وترجم الجزء الرابع من تاريخ التمدن الإسلامي إلى الإنكليزي، وله مقالات عديدة في المجلة الأسيوية الإنكليزية وغيرها) اهـ. وكتب إلي أحد الفضلاء يسألني عن مزية العمل من الوجهة السياسية (حيث إن مركزنا السياسي الحاضر هو في نظره أهم المسائل) .. مع أننا أبَنَّا مرارًا أنه ليس لهذا المشروع أي صبغة سياسية، وما تطرقت السياسة إلى عمل كهذا إلا أفسدته. ولن يبدل حالتنا السياسية جمعية ولا جمعيتان، فإن العليل لا يبرأ بالإعلان زورًا عن عافيته، بل باستئصال دائه وعلته. ولكن إذا كنا ومعظم الإفريقيين والشرقيين والعرب عامة معدودين في نظر الأوروبيين بمرتبة البهائم، ألا يعد من الحكمة إذن تخفيف هذه الوطأة بإظهار فضائلنا في أدوار نهضتنا العلمية والأدبية وتصحيح الغلط الفاحش الشائع عنا، فكل هذا يمكن تحقيقه بهذا العمل الجامع أيضًا لمزاياه الأدبية البحتة. لو كانت لنا في هذه الديار منزلة من الاحترام لما راجت على حسابنا رواية (قسمة) التي كانت ظلمًا وفضيحة اجتماعية وتاريخية كبرى لنا. ولئن انتقد بشدة تمثيلها مثل القائد الإنجليزي السير سمث دروين رحمة بالآداب العامة، فلعله ولعل كثيرين سواه من علية القوم يعتقدون صحة ما تمثله القصة الخيالية من الكبائر آسفين على حالنا الشائنة.. فيا لَلمصائب! ! وإذا كانت كل من روسيا واليابان رغمًا عن تحالفهما مع إنكلترا يقدرون أن أصدق التحالف ما كان بين الشعوب بعضها مع البعض لا ما بين الحكومات فقط، فأصبحت جريدة (التيمس) تصدر من حين إلى آخر بفضل المساعدة المالية التي تهبها كل من تينك الحكومتين ملحقات ضافية شارحة الحياة الروسية واليابانية بكل أسلوب ووسيلة جذابة للرأي العام الإنكليزي، أيُنعى علينا نحن المرموقين بالازدراء والسخرية الذين لا تربطنا مخالفة ولا جامعة حرة راقية بأوروبا- أيُنعى علينا إقدامنا على عمل كهذا يشمل ما بين أغراضه إزالة سوء التفاهم بين الغرب والشرق أو بالأحرى بين الفرنجة والعرب؟ يقول كولردج: (اللغة عُدة العقل الإنساني الجامعة لغنائم فتوحاته السابقة وأسلحة انتصاراته المستقبلة) ويقول وليم سميث: (اللغة هي ذكرى النوع الإنساني هي عصب حياة ممتد بين جميع العصور يربطها بالوجود المشترك الطويل المترقي) . ويقول هير: (اللغة مقياس الفكر والخلق القومي) ويقول السير هدافي: (ليست اللغة ناقلة الفكر فقط بل هي أيضًا عدة عظيمة صالحة في التفكير) . وفي كل هذه الحكم الغالية الصائبة أحسن جواب لمن تبلغ بهم المغالاة في الانتقاد إلى (الجزع) من غيرة الشبان على لغتهم، قائلين: إن اللغة وسيلة لا غاية (وحرام) أن نُعنى بها هذه العناية..! لا أنكر أني أعتبر اللغة وسيلة لا غاية وإن صلحت أيضًا لأن تكون غاية مطلقة كفن جميل، وما أنا من يدعو إلى الكلام المتوعر المعقد الذي يكلف الذهن المشقة في فهمه ويختم العقل به، ولكن من الواجب علينا أن نصون لغتنا عن الابتذال الذي تدلى إليه معظم المعربين، ومن المفروض علينا أن نتمشى مع الزمن في ترقية الوسيلة التي نتلقى بها العلم دائمًا غريبًا عنا، ومن الحكمة أن نُظهر لغتنا في مظهر عزيز لائق بها (لأنها مقياس الفكر والخلق القومي) على حد قول هير. وفي إغراء الشبان العرب في أوروبا بالعناية بعمل أدبي علمي اجتماعي كهذا ما يصرفهم عن مضيعات الوقت والصحة والمال، وما يساعدهم في دراستهم وفي تهيئة أنفسهم لخدمة أممهم في الحاضر والمستقبل. لا يكابر أحد في أن الأمة إذا ترقت نهضت معها لغتها ونالت احترام الأجنبي لها، لكن اللغة كذلك من أقوى دعائم الرقي، ونهوضها من نتائجه كما أنه من وسائل النهوض العام للأمة، فنهوض الأمة ونهوض اللغة على ذلك حالتان لا تفترقان، وأمران متساندان ونهضتان مرتبطتان. ... ... ... ... ... ... نادي مستشفى سانت جورج بلندن ... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي ... ... ... ... ... ... ... ... (طبيب) (المنار) إن هذا المشروع جليل ونفعه للعرب ظاهر لا يماري فيه إلا أصحاب الوساوس السياسية ولا يصعب إقناع المستقل منهم بالرأي والفهم بفائدته، وإنما يستحيل إقناع أصحاب الأهواء بما يخالف أهواءهم.

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (السيد محمد وجيه الكيلاني) (راجع ص 124 من الجزء الثاني) جاء في جريدة الهدى العربية التي تصدر في نيويورك ما نصه: شيخ الإسلام بالفيلبين ووفاته عند منتصف ليل خامس مايو قضى إلى رحمة مولاه في ريتشمند من أعمال ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة السيد محمد وجيه الجيلاني شيخ الإسلام بجزر الفيلبين، وقد كان قدم هذه البلاد منذ سنة ونصف، وقام أكثر هذه المدة في فيلادلفيا وتردد أحيانًا على واشنطون وعلى نيويورك إلا أن صحته لم تكن حسنة فأقعدته عن التجول كثيرًا، وهذا ما أخر في إتمام مساعيه. كان السيد الجيلاني عالمًا فقيهًا وعلى كثير من التساهل الديني ولد في دمشق وانتقل إلى الآستانة حيث أسندت إليه مراتب دينية عالية. ولما أن بعثت حكومة الولايات المتحدة بعد احتلالها الفليبين وفدًا إلى الآستانة للاتفاق مع سلطان تركيا على تعيين شيخ إسلام يتولى رعاية المسلمين عين السيد الجيلاني لهذه الوظيفة فذهب إلى الفليبين عن طريق سوريا وبلاد العرب وبلاد العجم والهند وكان هناك يقابل أمراء وعلماء الإسلام ويستنهض هممهم في مشروع تهذيبي افتكر به لترقية شؤون مسلمي الفليبين الأدبية. والتقى في مكة بجماعة من هؤلاء المسلمين قادمين للحج فعاد وإياهم، وكانوا يؤدون له إكرامًا أشبه بالعبادة فيسجدون أمامه شأن البرابرة فنهاهم عن ذلك. وحين وصل إلى بلادهم أخذ ينتقل من جزيرة إلى أخرى في الأرخبيل ويدعو قوم المورو المسلمين إلى عقد الاجتماعات فيخطب فيهم حاثًّا على الإقلاع عما يفهمون من الجهاد الديني وهو أن يحلق الواحد منهم شعر رأسه ويحمل سلاحه ويخرج بقصد الإيقاع بالبيض الكفرة ولا يعود حتى يقتل عددًا مفروضًا أو يُقتل هو. وكان السيد الجيلاني مدة إقامته في تلك الجزر على تفاهم تام مع رجال الحكومة الأمريكية الذين كانوا يرجعون إليه في كل مشاكلهم مع الوطنيين المسلمين وساء السيد الجيلاني ما وجد أبناء دينه عليه من الهمجية فأخذ يفتكر في طريقة لتهذيبهم إلا أنه لم يوافق رجال الحكومة الأمريكية هناك على إنشاء مدارس عمومية للحكومة فقال: إن المسلمين لا يطمئنون إلا إذا كان لهم مكتب ملاصق للجامع يدرسون فيه كتابهم الشريف بادئ ذي بدء. ولأجل تحقيق هذه الفكرة قدم إلى الولايات المتحدة وأخذ ينشر المقالات عن أحوال الفليبين في بعض الصحف الأمريكية، وفي الوقت نفسه سعى إلى تأليف جمعية تهذيبية تتولى أمر إنشاء المدارس الإسلامية في الفليبين يكون مركزها الرئيسي في الولايات المتحدة وذات فرع إداري في الفليبين يتولى هو رئاسته نظرًا إلى انقياد المسلمين هناك إليه وتحققهم حسن مقاصده فلا تداخلهم ريبة من مساعي الأمريكيين أو عمد هؤلاء إلى القيام بالمشروع مستقلين. وقد كان السيد الجيلاني يتردد إلى إدارة الهدى حين يزور نيويورك فعرفنا عنه ما سبق بيانه من مقاصده ومساعيه، ولكن وطأة المرض اشتدت عليه في الأشهر الأخيرة فلم نجتمع به أو نعرف شيئًا عن مشروعه. وكان من أمره أخيرًا أنه اضطر لأسباب صحية إلى مغادرة هذه البلاد، وبينما هو في الطريق اشتدت عليه علته في ريتشمند فرجينيا وهناك توفي -تغمده الله بواسع رحمته- اهـ. * * * (إشراف أهل سورية على الفناء والزوال) لقيت في مكة المكرمة الضابط الحر الصدوق خالد أفندي الحكيم الحمصي وكان وصل إليها قبلي بأيام قلائل فارًّا من بلاده بطريق البادية، فسألته عما وصل إلينا من مصادر متعددة من أخبار المجاعة والغلاء ومصادرة السلطة العسكرية للأموال والغلال في طول البلاد السورية الفلسطينية وعرضها، وتنكيلها بالأهالي تقتيلًا وتصليبًا ونفيًا من الديار- هل هو حق كما سمعنا أم هو مبالغ فيه؟ وذكرت له ملخص ما وصل إلينا من ذلك. فقال: إن ما بلغكم دون الواقع وليس الخبر كالمعاينة، وإنني أقدر أنه لم يبق في البلاد من أهلها إلا العُشر. اهـ فإذا طال الأمد على هذه الحال، فسورية صائرة إلى الفناء والزوال، ولا يبعد أن ينقرض أهلها الذين فيها من الأرض قبل انقضاء هذه الحرب. فلا شك في أن مُصابها بحكومتها الطاغية الباغية أعظم من مصاب بلاد البلجيك والصرب والجبل الأسود باجتياح الجرمان لها، وثلها عروش ملوكها، فيجب على السوريين المقيمين في مصر وأوربا وأمريكة أن يسارعوا إلى البحث عن أقرب الوسائل إلى إنقاذ البقية الباقية من أهل وطنهم لعلهم يهتدون إليها ويدخلونها من بابها بعد أن علموا أن دولة الإنسانية (الولايات المتحدة) لم تقدر- وكذا غيرها من الدول التي على الحياد- على ما أحبت من إغاثة هذا الشعب المسكين بالقوت والعلاج، ولا دول الحلفاء المحاربون لدولة الاتحاديين قدروا على إنقاذه بالحرب والكفاح، فإن كان في هؤلاء السوريين من ينتظر هذا الإنقاذ بعد النصر النهائي المأمول، فليعلموا أن أمد الحرب سوف يطول، وأن لسان حال وطنهم ينشد صاحب هذا الأمل ويقول: فلك البقا فلرُبَّ يوم أن تسل ... حتى تراجعني فلا تلقاني * * * (متى تنتهي الحرب وكيف تنتهي) قد أكثر الناس من حديث الصلح في هذه الأيام ونقلت الجرائد لنا عن كثير من قواد دول الأحلاف وساستهم أنهم يرون أن الحرب تنتهي بانتهاء ربيع العام القابل (1917) أو صيفه بناء على أن مد القوة الألمانية قد تحول إلى جزر، وجزر دول الأحلاف قد تحول إلى مد تتدفق ثوائبه، ولا تنتهي عجائبه. كنت التقيت في شهر شوال الماضي بوكيل شركة روتر البرقية في القاهرة فسألني- وقد ذكرت هذه المسألة- عن رأيي فيها فقلت له إذا أصرت إنكلترا على ما عزمت عليه من قهر ألمانية وإرغامها على قبول ما تشترطه مع أحلافها للصلح، وحافظ هؤلاء الأحلاف على عهدهم بأن لا ينفرد أحد منهم بقبول الصلح، فالرأي الراجح أن هذه الحرب تستمر عدة سنين، تنهد فيها قوى جميع المتقاتلين، وتخسر أوروبا الملايين الكثيرة من أفلاذ كبدها، وألوف الملايين من دنانيرها، وعشرات المدن ومئات البلاد من ممالكها. فإن أصغر الأمم الأوروبية وأضعفها تختار الفناء، على قبول الذل والقهر والاستخذاء. وأرى أن الأحلاف لا يمكنهم أن ينتزعوا من ألمانية ما بيدها من مملكة بلجيكة وولايات فرنسية إلا أن تكون خرابًا يبابًا لا حجر فيها ولا مدر، ولا شجر ولا بشر، وبعد أن يُنفق على تخريبها الملايين من الرجال، والقناطير المقنطرة من الأموال، وإذا كنا نرى المحاربين يخربون بلادهم بأيديهم إذا اضطروا إلى تركها لأعدائهم، ولو مؤقتًا كما فعلت روسية وغيرها، فهل ينكر على الألمان العتاة ألا يتركوا بلاد أعدائهم إلا قاعًا صفصفًا؟ أما تقصير أجل الحرب فليس له طريق معقول عندي- إذا أصرت الحكومات على عزمها- إلا قيام الشعوب الأوربية من الفريقين على دولهما. وإلزامها إياهن بصلح يعود فيه كل شيء إلى أصله ولا يتضمن إذلال دولة لأخرى؛ لأن كل دولة وكل أمة أوربية تفضل الفناء على الذل وخدش الاستقلال التام لا الألمان وحدهم. هذا معنى ما قلته يومئذ، ولكن قيام الشعوب على حكوماتها لا يرجى ما دام كل منهم يرجو النصر التام. فصدق على الفريقين قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} (الأنفال: 44) . * * * (تأخر صدور هذا الجزء من المنار) يصدر هذا الجزء بعد يوم تاريخه بشهر وأيام بسبب غيبتنا في سفر الحج مثل هذه المدة ثم اشتغالنا بلقاء المهنئين أسبوعين أو أكثر وعطل حصل بآلة الطبع.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار 8- الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد وتحقيق معنى الظن واليقين والتواتر [*] قال المتكلمون: إن العقائد لا تثبت بأخبار الآحاد؛ لأن المطلوب فيها القطع وأخبار الآحاد لا تفيد إلا الظن، وقد قال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) وإنما تثبت بالأحاديث المتواترة؛ لأنها هي التي تفيد اليقين الذي هو شرط الإيمان. وقد فهم كثير من الناس من هذا القول ما لم يرده المحققون من قائليه فأخطأوا في فهم المراد وفي فهم كلمتي الظن واليقين، فظنوا أن الأحاديث الصحيحة التي رواها الآحاد من الثقات العدول في صفات البارئ -عز وجل- وفي أمور الآخرة لا يجب الإيمان بها شرعًا ولا يضر المسلم تكذيبها، وإن لم يكن عنده شك في صحتها، وبناء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد في نفسها إلا الظن الذي لا يجوز الأخذ به في العقائد؛ لأنه لا يغني من الحق شيئًا. وهذا الظن الذي فهموه من عبارة المتكلمين هو الذي لا يغني من الحق شيئًا وما أظن أن مسلمًا يُعتد بعلمه يقول به، ولعل أول من قال تلك الكلمة أراد بها أن أحاديث الآحاد لا تقوم بها الحجة في العقائد على المنكر لورودها، وإنما تقوم بالتواتر؛ لأنه لا سبيل إلى إنكاره. الظن ضرب من ضروب التصديق بغير الحسي ولا الضروري من المدركات فهو مما تتفاوت أفراده بالقوة والضعف، فمنه ما يكون يقينًا لا تردد فيه، ومنه ما يكون راجحًا مع ملاحظة مقابل مرجوح تارة ومع عدمها تارة، وقيل: إنه يشمل المرجوح أيضًا. فالتصديق المبني على الأدلة النظرية الذي يجزم به المستدل مع عدم ملاحظة احتمال النقيض يسمى ظنًّا، ولكن إدراك الحواس لا يسمى هنا، ولا العلم الضروري كقولنا: النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهذا الحد الذي شرحنا به معنى الظن هو تفسير لقول الأزهري في التهذيب: الظن يقين وشك. وقول ابن سيده في المحكم: هو شك ويقين إلا أنه ليس بيقين عيان إنما هو يقين تدبر، فأما يقين العيان فلا يقال فيه إلا علم. هذا قول أئمة اللغة. وأما قول الفيروزبادي في القاموس: الظن: التردد الراجح بين طرفي الاعتقاد غير الجازم- فهو مأخوذ عن اصطلاح علماء المعقول كالمناطقة والفلاسفة ومثله قول المناوي: الظن الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض ولكن الفيروزبادي لم يسعه إلا أن يزيد على تعريفه قوله: وقد يوضع موضع العلم: بمعنى أنه يستعمل في اللغة بمعنى اليقين. فإن أراد أنه يوضع موضع العلم حتى في الحسيات والضررويات فقوله غير صحيح. واليقين العلم وإزاحة الشك وتحقيق الأمر، وهو نقيض الشك، والعلم نقيض الجهل. قاله في لسان العرب. ثم قال: وربما عبروا بالظن عن اليقين وباليقين عن الظن. وقال الراغب: الظن: اسم لما يحصل عن أمارة ومتى قويت أدت إلى العلم، ومتى ضعفت جدًّا لم يتجاوز حد الوهم. ثم ذكر أن من اليقين قوله تعالى: {وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ} (القيامة: 28) وقوله تعالى: {أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} (المطففين: 4-5) وقوله: {وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} (يونس: 24) وقوله: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} (ص: 24) وإنما يظهر هذا في اليقين اللغوي وهو الاعتقاد الجازم المبني على الأمارات والاستنباط والاستصحاب دون الحس والضرورة - لا اليقين المنطقي المبني على الضرورة أو الحس أو ما يؤدي إليهما بحيث لا يحتمل النقيض. وقد فسر الراغب اليقين بقوله: هو سكون الفهم مع ثبات الحكم. وقال: إنه من صفة العلم فوق المعرفة والدراية. فعلم من قولهم أن اليقين في الأصل هو الاعتقاد الثابت الذي لا شك فيه ولا اضطراب. وأما قولهم بالتعبير به عن الظن والعكس فليس معناه أن كل يقين ظن يقين وإنما معناه أن الظن على مراتب منها ما يرادف اليقين، ومنها ما هو دونه، فبينهما العموم والخصوص بإطلاق، والمشهور في تعريف اليقين عند علماء الدين أنه الاعتقاد الجازم المطابق. واشتراط المطابقة للواقع اصطلاحي خاص باليقين في الإيمان الصحيح، ولعل المطابقة تشترط في العلم فيسمى الجازم بغير الواقع مؤقنًا به لا عالمًا. إذا فقهت هذا فاعلم أن كل اعتقاد يستفاد من السماع يطلق عليه في اللغة اسم الظن باعتبار مأخذ لذاته، واسم اليقين إن جزم صاحبه به، وكذا اسم العلم أن مدلوله حق، ولكن نفس السماع، أي: إدراك الأصوات المحقق لا يسمى ظنَّا بل علمًا. وخبر التواتر إنما يفيد العلم القطعي بضرب من الاستدلال النظري، وإن اعتمدوا أنه يفيد الضروري فإن من شروطه أن يخبر كل واحد من المخبرين الكثيرين عن حسي، أي: عما سمعه بأذنه أو رآه بعينه مثلاً، وأن يقوم الدليل أو القرائن على أنهم لم يتواطؤوا على الكذب، وأن يتحقق ذلك في كل طبقة من الطبقات. وقد اختلف العلماء في العدد الذي يحصل بخبره التواتر مع توفر الشروط التي ذكروها. فاكتفى بعضهم بالآحاد كسبعة وعشرة، واشترط بعضهم العشرات. ولكنهم اتفقوا على أن آيته حصول العلم الجازم بمدلول الخبر. ومثل هذا العلم كثيرًا ما يحصل بخبر الواحد وإن لم يكن متصفًا بالصفات التي اشترطها المحدثون في راوي الحديث الصحيح كالعدالة والضبط وعدم مخالفة الثقات المشهورين فضلاً عن مخالفة الأمور القطعية التي عدوا مخالفتها علامة الكذب ووضع الحديث. مثال هذا النوع من خبر الواحد الذي يحصل به الاعتقاد الجازم وإن لم يكن المخبر به متصفًا بعدالة رواة الحديث أكثر ما نسمعه كل يوم ممن نعاشر ونخالط من أصدقائنا ومعاملتنا وأهل بيوتنا وخدمنا من الإخبار عن أمور معيشتنا كقولهم: حضر الطعام وهيئ الحمام وجاء للزيارة فلان. ومن هذا القبيل كل خبر لا مجال للتهمة فيه. وأما إخبارهم فيما يتهمون فيه فهي التي يُرتاب فيها، ويحتاج إلى القرائن والأدلة في تمييز راجحها من مرجوحها، مثال ذلك مدح النفس والدفاع عنها والطعن في الخصوم، ورواية الغرائب والعجائب، فالأخبار في مثال هذه المسائل يكثر فيها الكذب والخلط، إما بالعمد أو بعدم الضبط أو بسوء الفهم والاستنباط، أو بضعف البيان، أو بتقليد الآباء أو الأموات، وما يتبع ذلك من الوهم، ومن خطأ الحس والرأي. فمن وعى ما ذكرنا وتدبره يعلم منه ما يعلم من نفسه إذا هو فكر في مصادر علمه، والأخبار التي يحدث بها والتي يتلقاها عن غيره، وهو الأصل في إخبار جميع الناس الصدق، وأن الكذب إنما يقع لأسباب عارضة، وأنه هو وسائر الناس يصدقون في كل يوم كثيرًا من أخبار الآحاد حتى غير العدول وتصديقًا جازمًا لا يزاحمه شك ولا احتمال، ولا يخطر لهم فيها النقيض على بال، ومنها ما يجزمون باستحالة وقوع نقيضه عادة وإن جاز عقلاً، كبعض أخبار العدول الثقات الضابطين الخالية من الشبهات، ورجال الحكومة المسئولين في الرسميات. بل أقول: إن من هذه الأخبار ما يجزم العقل بصدقه وامتناع نقيضه، وأعني بالعقل هنا العقل البشري الذي يبني حكمه على الاختيار، ويزنه بميزان رعاية المصالح ودفع المضار، لا عقل واضعي المنطق والفلسفة، الذي يجيز وقوع كل ما يمكن تصوره، ويحصر وقوع المحال في اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما وما يؤدي إلى مثل ذلك حتمًا. وقد تحير هؤلاء في تعريف العلم حتى قال بعضهم: إنه لا يمكن تعريفه. ومن أشهر أقوال مدققي متكلمينا في ملكة العلم: إنها صفة توجب انكشافًا لا يحتمل النقيض. فالعلم بالشيء عندهم لا يمكن نقضه ولا الرجوع عنه، فلو كان هذا العلم شرطًا في كل مسألة من مسائل العقائد لكان الكفر بعد الإيمان محالاً، ولكن قد ثبت وقوع الكفر بعد الإيمان بنص القرآن، فالعلم الذي لا يحتمل النقيض ليس شرطًا لصحة الإيمان، وإنما الشرط أن يكون المؤمن جازمًا بما يعتقد، غير مرتاب ولا متردد، وقول الأستاذ الإمام: الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في الحق كلاهما قليل في الناس. أراد به اليقين المنطقي، وأراد بالرجوع عنه إظهار الجحود والمخالفة كبرًا واتقادًا، فإن اعتقاد نقيض المتيقن ليس في استطاعة الموقن إلا إذا اختلط عقله، واختل فهمه، هذا قليل الوقوع كالرجوع عن الحق كبرًا وعنادًا بعد الإذعان له، إذ أكثر المعاندين للحق المستكبرين عنه الذين قال الله في بعضهم: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُواًّ} (النمل: 14) لم يكن ذلك الجحود منهم بعد إذعان، أو لم يكن استيقانهم على شرط علم الكلام وفلسفة اليونان. وإذا فكر السائل في العلوم النقلية وطريقة أدائها وتعليمها عند البشر من جميع الأمم رأى أن أكثر أخبارها المقطوع بها يتلقاها الآحاد بعضهم عن بعض، فإذا اشترطنا فيها ذلك العلم الكلامي واليقين المنطقي، وأن لا نعد شيئًا منها حقًّا ثابتًا إلا إذا تلقيناه بالتواتر اللفظي، فكيف تكون حالنا في معارفنا التاريخية، وما يُبنى عليها من علومنا الاجتماعية وأعمالنا السياسية، وفي سائر العلوم التي ينقلها بعضنا عن بعض؟ بعد هذا كله أقول: إنه لم يعرف عن أحد من شعوب البشر مثل ما عرف عن المسلمين من العناية بنقد الأخبار النبوية وتمحيصها، وضبط متونها وحفظ أسانيدها، بل كانوا ينقلون الأخبار التاريخية والأدبية والشعر والمجون بالأسانيد المتصلة، ووضعوا كتب التراجم لجميع أصناف العلماء والأدباء كما وضعوها من قَبْل لرجال الحديث، ليسهل طريق العلم بالصحيح وما دونه من ذلك، ولكنهم دققوا في نقد رجال الحديث ما لم يدققوا في شيء آخر، فإذا كان ما صح من الحديث عندهم متنًا وسندًا لا يجزم به فبماذا نثق من أخبار البشر، وإذا كان المسلم منا يصدقها فكيف يمكنه أن يرد مضمونها إذا كان في عقائد الدين، بناء على كلمة عرفية للمتكلمين؟ الحديث الصحيح عند المحدثين: ما ثبت بنقل عدل تام الضبط متصل السند غير معلَّل ولا شاذ وينافي العدالة عندهم ثبوت الكذب، وكذا الاتهام به والفسق والغفلة وكثرة الغلط والجهالة - أي: كون الراوي مجهولاً عند علماء الجرح والتعديل، ولولا هذا الشرط لاخترع الكذّابون أسانيد كثيرة لا أصل لها وخدعوا الأمة بها - وكذا البدعة، فمن كان مبتدعًا لشيء من أمر الدين لم يكن عليه أهل الصدر الأول ليحكم بصحة حديثه، قيل: مطلقًا وقيل: فيما يؤيد بدعته وهو المعتمد، بل لا بد لثبوت ذلك من روايته عن غيره. والضبط عندهم ضبط الصدر وضبط الكتاب، فالأول الحفظ عن ظهر قلب بحيث يتمكن من استحضار ما حفظه متى شاء، فإن غلط أو أخطأ في الأداء لا يعد حديثه صحيحًا، والثاني حفظ الكتاب منذ سمع فيه وصححه على من تلقاه عنه إلى أن يؤدي منه، فإذا غاب عنه غيبة أمكن أن يعرض فيها التغيير والتحريف أو الزيادة أو النقصان لا تعد روايته له ولا منه صحيحة. واتصال الإسناد سلامته من سقوط فيه بحيث يكون كل فرد من رواته قد سمع ذلك المروي من شيخه، ويقابله الانقطاع، وهو أقسام، فالحديث (المنقطع) وهو ما سقط من سنده بعض الرواة لا يعد صحيحًا، إلا أنهم اختلفوا فيما سقط منه من بعد التابعي ويسمونه (المرسل) وذلك كأن يقول التابعي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كذا. فالجمهور يتوقفون فيه، وبعضهم يحتج بمراسيل من عُلم من حاله أنه لا يروي إلا عن الصحابة أو ثقات التابعين كسعيد بن المسيب، دون مَن يروي عن غيرهم كالحسن البصري ومن (الانقطاع) عندهم (التدليس) وهو رواية الراوي عمن فوق شيخه الذي سمع منه بلفظ يوه

الزار وهل اعتقاد تأثير الولي والعفريت فيه شرك جلي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الزار وهل اعتقاد تأثير الولي والعِفريت فيه شرك جلي؟ (س9) مِن أحد المشتركين في القاهرة - ع. م حضرة الأستاذ العلامة المفضال السيد رشيد رضا المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فإني أهنئكم أولاً بسلامة العودة من الأقطار الحجازية المباركة وأدعو لكم الله -سبحانه وتعالى- أن يجعله حجًّا مبرورًا إن شاء الله. سيدي استشكل علي أمر بخصوص ما يسمونه (الزار) الذي يستشفي به بعض (الجاهلات) من النساء من أمراضهن العصبية فأحببت أن أعرضه عليكم راجيًا التكرم بالإجابة ولو تأشيرًا على هذا بصفة خصوصية. (إحدى السيدات مصابة بمرض عصبي: يأتيها غالبًا على نوبات ربو وآلام شديدة بالمعدة والكليتين مع الصداع وسُعال وضعف عمومي شديد، وخصوصًا في ابتداء كل مرة من الحمل، عَرَتها هذه الحالة منذ خمسة عشر عامًا بعد زواجها بقليل ثم إنها على صلاح وتقوى، وقد كانت لا تعتقد بمسألة الزار ولكنها تحت تأثير كلام النساء خصوصًا أقاربها من والدة وأخوات اعتقدت أخيرًا وتوهمت أن أحد الأولياء أو أحد العفاريت هو الذي أصابها بهذا المرض الهستيري من زمن وصممت على عمل حفلة الزار بمصاريف من عند أهلها في منزلهم لا في منزل زوجها الذي عارض في ذلك بشدة لعدم اعتقاده بمثل هذه الخرافات، ولم يرضَ بخسارة دينه في مصاريف باطلة على عقيدة باطلة) . والآن ألا ترى سيادتكم أن اعتقاد هذه السيدة تأثير الولي الفلاني أو العفريت الفلاني يؤدي بها إلى الشرك الجلي، وفي هذه الحالة تصبح محرمة على زوجها المسلم الصحيح (غير الجغرافي أو السياسي) الذي لا يعتقد بتأثير وليّ أو نبيّ؟ فتفضلوا بإفادتي عن ذلك ولو كلفكم الجواب شيئًا من التفصيل. وتفضلوا بقبول مزيد تشكراتي وجزيل ممنونيتي سلفًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (ج) يذكر جمهور علماء الكلام أن الإيمان بوحدانية الأفعال عبارة عن التصديق الجازم بأنه لا فعل لغير الله -تعالى- في الحقيقة، فكل ما يقع في الكون من خير وشر ونفع وضر فهو من فعل الله -تعالى- وحده، ويصرح الأشعرية في كتب العقائد بأن الأسباب الظاهرة للحوادث - ومنها كسب الإنسان وغير الإنسان من الملائكة والجان - لا تأثير لها في نفسها، وإنما يخلق الله المسببات والمكسوبات عندها لا بها، فلا فرق بين النار والماء في حصول الإحراق والإرواء، إلا أن عادة الله قد جرت بخلق الإحراق عند مس النار واتصالها بالجسم القابل للاحتراق وخلق الإرواء عقب خلق شرب الماء، ولكن الشرع أمر بالكسب، كالتداوي والأكل والشرب، فينبغي القيام بالمشروع منه وهو ما جرت سنة الله -تعالى- بجعله سببًا مطردًا، وما كان سببًا غير مطرد كرُقية الملسوع وما في حكمه فإتيانه ينافي التوكل وكمال الإيمان والتوحيد، وما كان دون ذلك مما لم يثبت كونه سببًا ألبتة أو قامت عليه شبهات وهمية باطلة اغتر بها بعض العوام في بعض البلاد -كالزار في بلاد مصر والسودان فلا عذر لمؤمن في الإقدام عليه أي لأنه من الجبت [1] الذي هو عبارة عن خرافات الكهنة والسحرة، ومن اعتقد أن ولي الزار أو شيخه ينفع، ولو بقدرة خلقها الله فيه ومزية أعطاه إياها وأن عفريتة يضر ولو بقدرة خلقها الله فيه أيضًا - فهو عند هؤلاء المتكلمين مشرك بالله -تعالى- فالخطر على منتحلي خرافات الزار وغيرها شديد في مذهب هؤلاء المتكلمين الذين ينتمي إليهم أكثر الخرافيين. وأما مذهب غير هؤلاء من المتكلمين ومحققي أهل الأثر من الحنابلة وغيرهم فهو أن الله -تعالى- جعل الأسباب مؤثرة بخواص من خلقها فيها كالإحراق في النار والإرواء في الماء، ومقاومة سير المرض في الدواء، ومنها إرادة الإنسان وعمله الاختياري، ولكن هؤلاء يقولون كغيرهم: إن الأسباب تعرف بالتجارب والاختيار، وتكون مشتركة بين جميع المجربين من الناس، واتخاذ الأسباب الوهمية مذموم شرعًا وعقلاً، وأنه لا تأثير لمخلوق فيما وراء الأسباب التي جرت سنة الله في الخلق بربط المسببات بها، فمن اعتقد أن غير الله -تعالى- ينفع أو يضر بذاته دون ما جرت به سنته -تعالى- في الأسباب أو بتأثيره في إرادة الله -تعالى- وقدرته، بأن يفعل الله -تعالى- بتأثيره عنده شيئًا لم يكن لولاه ليفعله بمحض إرادته حسب علمه الأزلي- فهو مشرك بالله كافر بوحدانيته، لاعتقاده أن لغيره فعلاً وتأثيرًا معه بقدرته الذاتية - وهو المنفرد بذلك- أو بتأثيره في إرادته - والإله الخالق القديم لا يكون محلاًّ للتأثيرات الحادثة، ويستحيل أن تكون إرادته تابعة لإرادة أحد من خلقه، الذين هم تحت تصرف قدرته وقهره. إذا تدبر السائل هذا ظهر له أن التصديق بخرافة الزار خطر على الدين، وأنه ليس من شأنه أن يقع من أهل التوحيد الصحيح، لا على مذهب المتكلمين، ولا على مذهب الأثريين، وإنما يقع مثله ممن يأخذون دينهم عن أمثالهم من الجاهلات والجاهلين، كغوغاء العوام الذين يقلد بعضهم بعضًا في أمور الدنيا والدين، كالعادات السخيفة والعلاجات الضارة، المبنية على تجارب فاسدة ناقصة. ولكننا مع هذا كله لا نجزم بكفر امرأة تصدق ببدعة الزار، ولا نجعلها به مشركة بالله -عز وجل-، بل يجب أن نحتاط في مثل هذا الحكم، وندفع الجزم به قبل العلم بحقيقة اعتقاد المرأة ولو بالشبهات، كما يجب أن تحتاط تلك المرأة باتقاء التصديق بهذه الخرافات، التي يخشى أن تكون شركًا جليًّا أو خفيًّا ولو على بعض الأقوال، فنقول نحن عملاً باحتياطنا: يجوز على هذه المرأة أن تؤمن إيمانًا جازمًا بأن الله -تعالى- خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل، وأن ما اقتضته إرادته وجرى به قَدَره من ربط الأسباب بالمسببات، هو عامّ مطرد في المخلوقات، وأنه لا قدرة لمخلوق على شيء خارج عن سنته -تعالى- في الكائنات. بل جميع الخلق سواء في العجز عما وراء الأسباب، كما أنهم سواء في جريانها فيهم وخضوعهم لها، وانحصارهم في حظيرة قهرها. ويجوز أن يعرض لها وهي على هذا الاعتقاد مرض فيخبرها من تظن فيهم الصدق وعلم التجربة والاختبار، أن سبب هذا المرض ملابسة عفريت من الجن لها، وأن غيرها قد أصيب بمثله قبلها، وأنهم جربوا له كل علاج فلم ينجح فيه إلا تلك الفعلة الشنعاء وحدها، وأن علة نفعها أن العفريت الذي يلابس المريض في هذا المرض يزعجه ما يكون في حفلة الزار، من الذنوب والأوزار، حتى يلجئه إلى الفرار، بين تلك الأغاني والمعازف، والعزائم والعزائف، والقرابين والذبائح، وما في التضمخ بدمها من الفضائح، ويجوز على هذا المرأة أن تصدق هؤلاء المخبرين الضالين المضلين، ولا سيما بعد اليأس من معالجة الأطباء المشهورين، وأن تعتقد أن ذلك لا ينافي الإيمان؛ لأن طرد الشياطين من الأبدان، كطرد الجراد ونحوه من المزارع والغيطان، فهو من الأسباب الكسبية، التي جرت بها السنن الإلهية، ويجوز أيضًا أن تعلم أن عمل الزار حرام، وأن المستحل لما يعتقد حرمته يعد مرتدًّا عن الإسلام، كالجاحد للمعلوم من الدين بالضرورة من مسائل الإجماع، ثم تقول: إنني لا أستحله، ولكنني آخذ بقول من قال: إن التداوي بالمحرم جائز إذا لم يوجد غيره. فإذا جاز أن تعتقد المرأة ما ذكرنا، وإن كان باطلاً في نفسه فكيف تتجرأ على الإفتاء بردتها، وبطلان عقد نكاحها، وسائر ما يترتب على الردة من الأحكام؟ أما ما يحسن أن توعظ به امرأة تدرك ما ذكرنا فهو أن خرافة الزار القبيحة المنكرة ليست سببًا من أسباب الشفاء من هذا المرض، وإن ما يُدعى من التجربة المثبتة لنفعه باطل، وأنه عُمل لكثيرات فلم يفد، وأن من اتفق أنهن شُفين بعده لم يكن شفاؤهن به بل بأسباب أخرى حقيقية أو وهمية، وأنه لو كان علاجًا نافعًا بالتجربة الصحيحة لعملت به جميع الشعوب التي فاقت غيرها في العلوم والمعارف، المبنية على إتقان التجارب، ولكننا نرى هؤلاء يسخرون من هذه الخرافة وأهلها، التي هي محصورة في مصر والسودان بل في الطبقة الجاهلة من أهلهما، وإذا كان الأمر كذلك فكيف تقدم العمل بخرافة أدنى ما يقال فيها: إنها مشتملة على عدة بدع محرمة في الدين، محتقرة عند جميع المرتقين.

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 15

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (15) المعالجة- يجب البدء بعلاج مدخل هذا الميكروب في الجسم، بأن يعالج الإحليل في الذكر مثلاً علاجًا فعالاً، وتعالج المفاصل بالقلويات وبيودور البوتاسيوم. وينبغي مراعاة القوانين الصحية باستنشاق الأهوية الجيدة وتعاطي الأغذية السهلة الهضم والمقويات كمركبات الحديد وزيت السمك ونحوهما، ويدلك المفصل ببعض المراهم المسكنة أو الزئبقية، أو يدهن بصبغة اليود. وتجب إراحته من الحركة مطلقًا، ولكن بعد زوال الالتهاب الحاد ينبغي دلك المفصل وتكبيسه وتليينه باليد. والعلاج باللقاح أفاد في بعض الأحوال خصوصًا في الإصابات المزمنة أي التي طالت مدتها، والأفضل أن يؤخذ الميكروب من نفس المريض، ولكن هذا العلاج يحتاج إلى مدة طويلة. ويجب البدء بحقن مقادير صغيرة من اللقاح ثم تُزاد بالتدريج، ولا يجوز الحقن الثاني إلا بعد تمام زوال كافة الأعراض التي قد تنشأ من الحقن الأول. وهناك مصل لعلاج هذا الداء أيضًا لا يخلو من الفائدة. *** استدراكان (الأول) جاء في مجلة [اللانست Lancet] الطبية الإنكليزية الصادرة في 12 أغسطس سنة 1916 رأي لأحد أطباء الإنكليز في عدوى الالتهاب السحائي الوبائي، وملخصه: أن ميكروب هذا الداء هو عين ميكروب السَّيَلان- لا شبيهًا به فقط كما قلنا سابقًا- وأن قمل الجسم هو الذي ينقله من شخص إلى آخر إما بامتصاص دم المصاب بالالتهاب السحائي وتلقيح الآخرين به إذا انتقل القمل إليهم. أو بتلوث القمل به مما يسيل من المصاب بالسيلان في ملابسه من الصديد ونقله إلى غيره فيدخل الميكروب تحت الجلد ويسير في الأوعية اللمفاوية إلى السحايا وغيرها كالمفاصل التي قد تلتهب أيضًا في هذا المرض، وأنكر هذا الطبيب انتقال الميكروب في الهواء ودخوله من الفم والأنف. وقال: إن المصاب بالسيلان ذاته عنده شيء من المناعة فلا تصاب سحاياه إلا قليلاً. فإذا صح هذا الرأي- والغالب أنه صحيح- سهلت مقاومة هذا الداء الخبيث وتيسر اجتنابه. ومن هذا الرأي تفهم بعض حكم الاستنجاء وطهارة الثوب ونظافته، ونظافة الجسم بالغسل والحلق، وغير ذلك من شرائع الديانة الإسلامية الغرَّاء التي شرحناها سابقًا. وترى مما تقدم أن القمل يقتل بالحمى التيفوسية والراجعة وبالالتهاب السحائي أكثر مما تقتل العقارب والثعابين. وذلك يحقق أيضًا المثل العامي القائل: (وضع -تعالى- سره في أضعف خلقه) وترى منه أيضًا مقدار الخطر الذي يتهدد كل من يتردد إلى مواخير الفسق، فإن أكثر الزواني مصابات بالسيلان الحاد أو المزمن، وبعضهن يُرى بملابسه وفراشه القمل. (الثاني) إن من أسهل الطرق لتطهير الماء والخضر ونحوها من الميركوبات أن يذاب في الماء [بي سلفات الصوديوم] وتسمى أيضًا [كبريتات الصوديوم الحمضية] بنسبة 2: 1000 ويترك الماء مدة نصف ساعة، فإن حامض الكبريتيك الذي يوجد فيه يقتل تلك الأحياء الدنيئة وأجنة ديدان [البهارسية Mieracidia Cercariae] ولا ضرر من شرب هذا الماء...... وإذا نقعت فيه الخضر مدة نصف وساعة تطهرت كذلك. ويجوز أن تطهر به الأواني الخزفية والزجاجية ونحوها ما عدا المعدنية فإن الأفضل تطهيرها بالغلي. وهذه الطريقة نافعة جدًّا إذا اتبعت في زمن انتشار أوبئة الحمى التيفودية والكوليرا والدوسنطاريا وغيرها مما يتلوث به الماء والخضر، فإنها كافية للتطهير بدل الغلي الذي لا يحسن لبعض الخضر والفاكهة. *** تسمم الدم لهذا الداء ثلاثة أشكال: (الشكل الأول) : أن تدور سموم الميكروبات في الدم، ويسمى ذلك باليونانية [سيريميا Sapraemia] ومعناها حرفيًّا: الدم الفاسد. (الشكل الثاني) : أن تدور الميكروبات مع سمومها في الدم، ويسمى ذلك باليونانية [سبتيسيميا Sepaticaemia] ومعناها حرفيًّا: الدم المتعفن. (الشكل الثالث) : مثل الشكل الثاني غير أنه يزيد عليه بتكون أخرجة في عدة أجزاء من الجسم، ويسمى ذلك باليونانية [بيميا Pyaemia] ومعناها حرفيًّا: الدم الصديدي. وجميع هذه الأشكال تنشأ من ميكروبات الصديد وهي على الأكثر من الشكل البزري، ومنها ما يكون عنقوديًّا أو سلسليًّا. والسلسلية هذه أشدها خطرًا كما سبق ومن الميكروبات العنقودية ما يكون لونه أبيض أو أصفر، ويشاهد ذلك إذا تجمعت منها جموع كثيرة في المزارع الصناعية. وهناك بعض ميكروبات لها أشكال أخرى تحدث الصديد كباسل الصديد الأزرق [Pyocyaneus] ومن ميكروبات الأمراض الأخرى ما يحدث الصديد أيضًا كميكروب الحمى التيفودية والدرن. والميكروبات البزرية المذكورة منتشرة كثيرًا وهي من أكبر ما يخشاه الجراحون في عملياتهم فيتقونها بالتطهير التام بالغلي وغيره، فإنها إذا وجدت أي سحج أو جرح في الجلد أو الأغشية المخاطية دخلت فيه وأحدثت التهابًا فتقيحًا، وتذوب الأنسجة ويتجمع بسببها عدد لا يحصى من الكريات البيضاء فينشأ من ذلك المدة والصديد ونحوهما. فإذا أصابت سطح الجلد نشأت منها الدمامل والبثور ونحوها، وإذا أصابت الأنسجة الغائرة نشأت الأخرجة وما شاكلها، وإذا أصابت الأغشية المخاطية التهبت وحدث منها الزكام ونحوه. وإذا كانت الإصابة صغيرة ومحدودة ولم يدخل الميكروب إلى الدم قل حصول أي توعك أو حمى؛ لأن السموم التي تمتص في البنية تكون حينئذ قليلةً جدًّا، ولكن إذا كان موضع الالتهاب كبيرًا نشأت الحمى بسبب امتصاص سموم الميكروبات في البنية، ونشأ الشكل الأول المذكور هنا، فإذا دخلت هذه الميكروبات إلى الدورة حدث الشكل الثاني، وقد تدخل من أي جرح مهما يكن صغيرًا، وإذا رسب بعض هذه الميكروبات الممتصة في أجزاء الجسم المختلفة تكونت حولها وبفعلها أخرجة. وهذا هو الشكل الثالث. وطريق امتصاص الميكروب في الشكل الثاني هو الأوعية اللمفاوية وفي الثالث الأوردة، وفيها يدخل أيضًا بعض مواد التهابية عفنة مع الميكروب. أما أعراض الشكل الأول فهي ارتفاع حرارة الجسم مع سائر الأعراض الأخرى للحمى، وكذلك أعراض الشكل الثاني والثالث، غير أن المعتاد فيهما أن تبتدئ الحمى برعدة شديدة ويشتد المرض على المريض حتى يكون كالمصاب بالتيفوس، فيعتريه الهذيان والذهول والهمود وكافة الأعراض الشديدة لتلك الحمى، وتكون مدة المرض في هذين الشكلين قصيرة وتنتهي بالموت غالبًا. وفي التسمم الصديدي تكثر الرعدة وتحصل يوميًّا مرة أو مرتين، وفي كل مرة تظهر التهابات فأخرجة جديدة ويكثر العرق عقب كل رعدة ويصاب المريض بالهمود وينحف جسمه بسرعة ويصفر لونه وقد يصاب بالقيء الكثير أو الإسهال، وقد تزول الرعدة بعد خمسة أيام أو ستة. وتكون الحمى في هذا الشكل متقطعة مرتفعة في المساء ومنخفضة في الصباح عادة، وقد تصل إلى الدرجة الطبيعية خصوصًا في أول المرض. وتختلف باقي الأعراض لاختلاف العضو المصاب بالأخرجة، فإن لكل عضو مصاب بها علامات وأعراضًا مخصوصة. ومدة هذا المرض لا تزيد عن ستة أيام غالبًا ولا تمتد إلى ما بعد العاشر كذلك، اللهم إلا إذا أزمن المرض وحينئذ لا تصاب الأحشاء، وإنما تتكون الأخرجة في المفاصل أو تحت الجلد. وإذا شُقَّت كلها وعولجت قد يشفى المريض بعد عدة أسابيع أو أشهر. ومما يساعد على حدوث تلك الأشكال المذكورة عدم الاعتدال وغيره مما يضعف البنية كبعض الأمراض المزمنة مثل التهاب الكلى أو البول السكري، ولكن لا يحصل أي شكل منها ما لم يوجد في الجسم مدخل للميكروب. العلاج - تفتتح الأخرجة وتتطهر وتمض يوميًّا فإن كانت الحمى ناشئة عن امتصاص السموم فقد شفي الجرح وشفي المريض أيضًا، وإن كانت الميكروبات دائرة في الجسم تعثر الشفاء أو تعذر، ويعطى المريض المنعشات والمغذيات وتراعى معه جميع الوسائل الصحية. أما الأدوية فهي قليلة الجدوى، ولكن استعمال الحقن بالمصل المتعدد القوى [Polyvalent] أي المُحضَّر بحقن عدة أنواع من الميكروب أفاد في كثير من الأحوال، وتجب تجربته إذا دخل الميكروبات البنية سواء أحدثت أخرجة أم لم تحدث. الوقاية - من تسمم الدم بجميع أنواعه- أن يتقي الإنسان كل ما يحدث جرحًا أو سحجًا في الجسم وإن كان صغيرًا. فإذا حدث بالرغم من احتياط الإنسان وجبت المبادرة إلى تطهير الجرح وتضميده والمواظبة على ذلك يوميًّا حتى يشفى. ويراعى في ذلك اتباع جميع قوانين علم الجراحة في تطهير الأيدي والآلات والضمادات وغيرها مما يمس الجرح. وإذا تكون خراج في الجسم وجب الإسراع إلى شقه وتطهير جوفه وتصريف ما يتكون فيه من المدة والصديد بأسرع ما يمكن بحيث لا يتراكم فيه شيء منها خوفًا من امتصاص الميكروب أو سمه في البنية. ولعلم الجراحة في ذلك من الوسائل العلمية المعقولة ما فيه الكفاية من شر هذا الداء وقانا الله منه. *** السعال الديكي Whooping Cough مرض يصيب الأطفال كثيرًا بين السنة الأولى والثامنة، وحدوثه للبنات أكثر منه للذكور. وتقل إصابته لمن كان عمره فوق ذلك؛ لأن أكثر الناس يصابون به في صغرهم وهو يحميهم من الإصابة به مرة أخرى بل هو في ذلك أكثر وقاية من الحميات الأخرى ذوات الطفح. ويحدث انتشاره بشكل أوبئة لا تأثير لحرارة الجو أو غيرها فيها، وكثيرًا ما تكون هذه الأوبئة عقب أوبئة الحصبة. هذا المرض ينتقل من شخص إلى آخر بطريق العدوى، فإذا كثر اختلاط الأطفال بالمصابين به انتشر المرض بينهم، وقد يتنقل بواسطة الملابس الملوثة بميكروب هذا الداء إذا أصابها شيء من بصاق المصاب. وكان القدماء يعتقدون عدوى هذا الداء نظرًا لما يشاهدونه من انتشاره بين من يخالط المصاب، ولكن لم يكتشف ميكروبه إلا سنة 1906 والذي اكتشفه باحثان اسمهما [بورديه Bordet] و [جنجو Gengou] . وهذا الميكروب من الشكل الباسيلي يشبه كثيرًا ميكروب النزلة الوافدة غير أنه أطول منها وأغلظ منها، ولا حبيبات له ولا حركة. يشاهد كثيرًا في أوائل المرض في المخاط الثخين الخارج في آخر النوبة من الشُعب الرئوية الصغيرة، وكثيرًا ما يكون مختلطًا بميكروب النزلة الوافدة. الأعراض: - مدة التفريخ نحو عشرة أيام، ويبدأ المرض بإصابات بسيطة بالسعال تشبه السعال الناشئ من التعرض للبرد. وقد يكون هذا السعال مصحوبًا بحمى خفيفة ويستمر إلى نحو سبعة أيام أو عشرة. ثم يُسمع هذا الصياح المخصوص الذي يشبه صياح الديك، ولذلك شبه هذا المرض به، فبينما يكون الطفل المصاب في لعبه تنتابه نوبة من السعال تمتاز بحصول نحو 15 أو 20 مرة من الشهيق المتوالي في زمن 7 أو 10 ثواني ثم يعقبها زفير له هذا الصوت المخصوص، ويتكرر ذلك مرة أو أكثر حتى يخرج من صدر المصاب قطعة صغيرة من البلغم اللزج أو يتقايأ ما في جوفه. والسبب في حصول هذا الصوت اقتراب الحبلين الصوتيين أحدهما من الآخر فيضيق ما بينهما، أو أنهما لا يتسعان بالسرعة المطلوبة حين حصول الزفير. وفي أثناء هذه النوبة يحتقن الوجه أو يزرق وينتفخ وتكاد تخرج العينان منه، ويتدلى اللسان، وقد تخرج الثنايا قيده فيبصق المريض الدم. ويكون الطفل في أثناء ذلك غير قادر مطلقًا على منع هذا السعال، وقد يصاب من شدته بنزف من الأنف (الرعاف) أو من فمه أو يحصل النزف تحت الملتحمة؛ وفي أحوال نادرة يصاب بنزف في مخه، وهذه النوب تحصل بلا سبب معروف وإنما قد يهيجها بكاء الطفل أو إغضابه أو نزع ملابسه. ويقال: إن النوب أكثر في الليل منها في النهار. وعدد مراتها في الليل يتراوح بين مرة واحدة

بلاد العرب وأحوالها منذ الأعصر الخالية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بلاد العرب وأحوالها منذ الأعصر الخالية نشرت مجلة الشرق والغرب التي أنشأها دعاة النصرانية (المبشرون) لبثّ دعوتهم بمصر مقالة تحت هذا العنوان قالت: إن ما أوردته فيها هو نتيجة ما وصلت إليه مباحث العلماء الذين بنوا أقوالهم على ما اتصل بهم من أشتات الروايات ذات الطرق العديدة القديمة (فأخذوها وطبقوها على اعتبارات جغرافية وجيولوجية- قالت- ولعل أشهر علماء الإفرنج الذين عالجوا هذا الموضوع البحاثة (قيطاني) - أو كاتياني كما يعربه آخرون- الإيطالي الذي اشتهر بتصنيفاته العديدة عن العرب والإسلام من وجهة تاريخية اقتصادية، وقد بنينا هذه العجالة على ما جاء في مؤلف من أحدث مؤلفاته) . ونقول نحن: إن هذا المؤرخ الإيطالي قد اشتهر عند الترك وبعض العرب بتشويهه لسيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي أشرف سير البشر؛ لأن الاتحاديين ترجموا ما كتبه فيها بالتركية كما بينا ذلك في منار هذه السنة (ص 163 ج 3) ولكن مباحث هذا المؤرخ المدقق في تاريخنا مما لا نستغني عنه ونود لو تترجم كلها، ونحن ننقل عن هذه المجلة ما اقتبسته عنه من المباحث المهتمة بحالة جزيرة العرب الجيولوجية وطبيعتها الجغرافية، ومهاجرة أهلها منها إلى حيث أقاموا بناء الحضارة القديمة، وهذه عبارة المجلة بنصها لم نصحح منها إلا عبارات قليلة. لقد أثبتت المباحث الحديثة أن الإنسان وجد على الأرض قبل المسيح بألوف من السنين، وأن بلاد العرب كانت مأهولة كأقدم بلاد العالم، فكيف كانت حالة العرب في ذلك العهد الخالي يا ترى؟ لا ريب في أنها كانت تختلف كل الاختلاف عما هي عليه الآن. والمعروف عنها الآن- ومنذ عدة مئات من السنين أيضًا- أنها برِّية قاحلة ذات أرض جرداء خالية من الماء [1] على أنها في الأعصر الجيولوجية كانت على خلاف ذلك. فقد مر على قارتي آسيا وأوروبا زمن كان فيه قسماهما الشماليان أشد بردًا مما هما عليه الآن. وكان الفرق بين الصيف والشتاء أشد وضوحًا مما هو الآن. فكان الهواء في الصيف أكثر امتصاصًا للرطوبة فيزداد به هطل الثلوج في الشمال وهطل الأمطار في الجنوب. وبناء عليه كانت أجزاء عديدة من آسيا وإفريقيا بقاعًا مخصبة جدًّا وهي الآن قفار جرداء، وما الأودية الكاشفة سوى بحار كانت تتدفق فيها الأنهار. ومن تلك البلاد بلاد العرب، فقد كانت سلسلة الجبال التي في غربها تتقي رياح السَّموم وتجري منها أنهر على هضاب أواسط بلاد العرب وتصب في خليج العجم. ومن تلك الأنهار نهر الدواسير الذي كان يجري في وادي الدواسير، وكان منبعه في الهضاب المكية. وكذلك نهر الرماح الذي كان يصب مع نهر الدواسير في خليج العجم. ولا يخفى أن للحالة الجوية تأثيرًا عظيمًا في السكنى، وهذا يبين لك لماذا كانت بلاد العرب مهد الشعوب السامية. وخلاصة ذلك أنه في تلك الأزمنة الطيبة كانت البلاد غاصّة بالسكان بخلاف حالتها الآن. ثم بدأت الأحوال الجوية في نصف الكرة الأرضية الشمالية تتغير بالتدريج فقل امتصاص الهواء للرطوبة وقل هطل الأمطار. وأصبحت البلاد التي بين أوربا والمنطقة الحارة تشعر بذلك التغيير العظيم. وبتمادي الزمن بدأ شمالي إفريقيا وبلاد العرب يجف، فصارت الملاين التي تسكن بلاد العرب تشعر بعدم ملاءمة البلاد لسكناها. ولا حاجة إلى القول بأن الرحيل عن بلاد العرب استغرق ألوفًا من السنين وكان تدريجيًّا، وبهذه الطريقة يمكن تعليل توالي هجرة الشعوب السامية. ولم تكن كلها غزوات أي هجرات ناشئة عن اعتبارات حربية بل كان معظمها ناشئًا عن اعتبارات سلمية بحتة كهجرة الإيرلنديين اليوم إلى أمريكا، وكانت آخر تلك الهجرات أعظمها شأنًا وقد حدثت عند ظهور الإسلام يوم فتحت أبواب بلاد العرب وأخذ سيل المهاجرة يتدفق منها شرقًا وشمالاً وغربًا. وكان لتلك الحركة غايتان تتفقان مع طبيعة البلاد الجغرافية؛ إذ لا يخفى أن شبه جزيرة العرب مقسومة إلى قسمين: (1) البلاد العربية الغربية (وهي اليمن والحجاز) ومنفذها سورية إلى الشمال الغربي ومصر والحبشة على سواحل البحر. (2) الوسط الشرقي ومنفذه الطبيعي العراق وما بين النهرين. أما القسم الجنوبي من بلاد العرب (أي حضرموت) فقائم بنفسه. فسيل المهاجرة من بلاد العرب كان يتدفق إذًا شمالاً إلى فلسطين وسوريا أو غربًا إلى مصر والحبشة. أو شمالاً شرقيًّا إلى العراق ووادي دجلة والفرات. وقد وقعت أول هذه المهاجرات عند أول فجر التاريخ. ثم تبعتها المهاجرات الأخرى في الأزمنة التاريخية المعروفة. (1) المهاجرة الأولى- قبيل فجر هذا التاريخ قام بهذه المهاجرة شعوب سامية نزحوا إلى العراق ومعهم شعوب سومريون فتألفت منهم الأمة البابلية، ويعتقد العلامة (قيطاني- أو- كاتياني) أن المصريين القدماء الذين دخلوا وادي النيل عن طريق البحر الأحمر واستعمروا أولاً مصر العليا كانوا ساميين، وقد هاجروا في نفس الزمن الذي هاجر فيه مواطنوهم إلى العراق. ومما يؤيد هذا الرأي أن في اللغة المصرية القديمة آثار سامية عديدة منها الكاف ضمير المخاطب المفرد المضاف إليه [2] . (2) أما المهاجرة الثانية فقد وقعت في أول عهد التاريخ المعروف أي بين ستة آلاف و2500 قبل المسيح، وكان اتجاه سيل هذه المهاجرة أيضًا إلى شمال العراق وجنوبه ويتضمن حروب سرجون الملك السامي الشهير. (3) وأما المهاجرة الثالثة فقد وقعت من سنة 2500 إلى سنة 1500 قبل المسيح وفي أثنائها نزح الآشوريون الساميون من بلاد العرب وأسسوا مملكة أشور وعاصمتها نينوى على أعالي دجلة، وفي ذلك الزمن عينه نزح الرعاة (الهكسوس) من غربي البلاد العربية إلى مصر وغزا الفينيقيون غربي سوريا واجتاح الكنعانيون فلسطين. (4) هجرة الآراميين: بعد سنة 1500 قبل المسيح وانتشر الأراميون في وادي الفرات وسوريا فأصبحت لغاتهم لغة التجارة؛ إذ كان بيدهم طريق التجارة المار بحلب ومن الشعوب السامية التي لم تنزح من بلاد العرب القبائل الصائبية والحميرية والعرب الذين كانوا يتكلمون العربية الحديثة. وكانت هذه اللغة قد نشأت بتمادي الزمن نشوءًا بطيئًا جدًّا. أما سبب عدم هجرة هذه الشعوب فهو لأن غربي بلاد العرب كان أكثر خصبًا من شرقيها، وقد كان طريقًا للتجارة بين الهند والبحر المتوسط يمر باليمن والحجاز وينتهي إلى غزة وهذا يأتي بنا إلى: (5) ظهور الإسلام. وليس هذا أول مرة ظهرت فيها القبائل المتكلمة باللغة العربية لتستوطن البلاد المجاورة فإن بعضها سبق فاستوطن غسان والحيرة والعراق ومهَّد الطريق للعرب الذين كانوا في أيام محمد -صلى الله عليه وسلم- فعودوها المهاجرة والاستيطان، وكانت بلاد العرب قد ضاقت مرة أخرى بأهلها الساميين الذين اشتهروا بالقوة والبأس والذكاء وكثرة النمو. ومما يدل على ضيق الوسائل الاقتصادية في تلك البلاد بأهلها فقرهم المدقع وعوزهم وعادة وأد البنات عندهم. أما قواهم المتزايدة فكانوا ينفقونها في محاربة بعضهم بعضًا وفي شن الغارات والغزوات إلى أن بدت طلائع تلك النهضة الدينية فجمعت بين القبائل المتخاصمة وجعلتهم يوحدون قواهم ويوجهونها إلى الخارج. وهكذا فتحت أبواب العربية وخرج العرب ليغزوا البلدان في سبيل الله وسبيل الجامعة العربية. وقد كان بين أولئك العرب رجال ذوو صفات ومآرب مختلفة، فمنهم الشديد القوي كعمر، والقائد المحنك كخالد، ومنهم المجازف، ومنهم المسوق إلى الحرب بطمع الأسلاب [3] . على أن عامل الدين هو الذي فتح لهم السبيل ومهده ومنحهم قوة ولكن كان للعوامل الاقتصادية التي أشرنا إليها والتي كانت تؤثر في بلاد العرب منذ أقدم الأزمنة شأن يذكر وكان الجانب الأكبر من جيش محمد -صلى الله عليه وسلم- رجالاً قد دانوا حديثًا بالإسلام فكانوا يقبلون عليه أو يرتدون عنه بسرعة عظيمة؛ لأن معرفتهم كانت ناقصة، ولا شك أن أمثال أولئك ما كانوا ليتمسكوا بعروة الإسلام لولا ما رأوه من الانتصارات التي يؤتاها جيش المسلمين، ولولا انقلابهم من ضيق العيش إلى سعته [4] . وكان في جيش الميدان الغربي مئات من المكيين الذين أيدوا الأمويين فيما بعد ولا يزال المسلمون يقولون حتى اليوم: إنهم لم يكونوا على شيء من الإسلام وأمثال أولئك كانوا يعتبرون أنفسهم في بيئة هي عربية أكثر منها إسلامية. أما حروب الإسلام التي أفضت إلى مزج العرب بأهالي البلاد التي افتتحوها من بخارى شرقًا إلى أسبانيا غربًا فقد كانت عبارة عن مهاجرة هي آخر المهاجرات السامية من شبه الجزيرة بلاد العرب ولم تحدث مهاجرة بعد ذلك أو بمقدار صغير جدًّا لا نزال نشاهد آثاره حتى اليوم وهو ناتج عن نفس الأسباب التي أفضت إلى المهاجرات السابقة أي إمحال بلاد العرب. أما النتيجة فهي ظهور القوة الكامنة في الأمة العربية ظهورًا بيِّنًا واتخاذها مجرى جديدًا وبيئة مثمرة. وقد ذكر الأستاذ هركرونجه أن عرب حضرموت الذين هم أفقر سكان تلك البلاد فكوا القيود التي كانت تربطهم ببلادهم وهاجروا إلى الهند وجزائر الهند الشرقية حيث أظهروا همة عالية ونشاطًا غريبًا. فقد أصبحوا خبيرين بأمور التجارة مع أنهم كانوا يجهلونها في موطنهم الأصلي ولا تزال الأعمال والأشغال تنتقل إلى قبضة يدهم حتى لقد أصبح بعضهم من كبار الأغنياء , ولا ينحصر تفوقهم في الأعمال والمتاجر فقط بل في الأمور العقلية أيضًا. وهذه صورة مصغرة للعرب الذين نزلوا بسوريا وبلاد فارس في المائة الأولى للهجرة. وهي تنطبق على حالة العرب عمومًا منذ ألوف من السنين حتى اليوم، وقد أظهر دولة شريف مكة بنهضته الأخيرة أن العرب لا يزالون يأبون الضيم ويعشقون الحرية والاستقلال، وهم يبذلون كل مرتخص وغالٍ في سبيل الدفاع عن كيانهم. ترى هل نحن على وشك أن نرى من جانب بلاد العرب مباغتات جديدة مدهشة كما رأى العالم منذ مئات من السنين؟

المنشور الهاشمي الشريف الثاني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنشور الهاشمي الشريف الثاني ذكرنا في الجزء الرابع من منار هذه السنة ملخص المنشور الأول الذي خاطب به الشريف الأكبر صاحب مكة المكرمة مسلمي الأرض مبينًا لهم سبب نهضة الحجازيين باستقلال العرب دون متغلبة الاتحاديين واليوم ننقل لهم نص منشور آخر نشر في العدد الحادي عشر من جريدة القبلة الصادر في 21 ذي القعدة سنة 1354 لتعميم فائدته والعناية بحفظه؛ لأن أمثال هذه المنشورات من أهم مواد تاريخنا في هذا العصر، وقد ضاق عنه الجزء الخامس الذي طبع الكثير منه قبل عودتنا من الحجاز، وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية: 29) لقد رأينا دفعًا للالتباس ومنعًا لما عسى أن يحدث من التردد في حقيقة قيمنا ونهضتنا معاشر الحجازيين الموضحة أسبابها في منشورنا الأول أن نردفه بهذه الأسطر ليكون منها لأفاضل العالم عمومًا والمسلمين خصوصًا زيادة الاطلاع على نياتنا ومقاصدنا المتعلقة بكياننا من حيث هو، ملتزمين فيها أقرب المواد عهدًا وأبسطها دلالة. من المعلوم أن عقلاء المسلمين وذوي البصيرة من ساكني الممالك العثمانية وسائر أقطار الدنيا غير راضين عن دخول الدولة العثمانية في الحرب الحاضرة لأسباب جوهرية أجمعوا عليها، منها أن الدولة العثمانية قريبة عهد بالخروج من الحرب الإيطالية أولاً والحرب البلقانية ثانيًا، وقد أصاب جيوشها وخزائنها وكل مرافقها وعامة تشكيلاتها من الضعف والضياع والفناء ما لا يخفى تأثيره على ثروة الدولة خاصة وثروة المملكة وأهلها عامةً، حتى كان الجندي لا يكاد يصل إلى قريته أو إلى مكان عمله ليتحصل على ما يسد به رمقه ورمق أولاده وسائر أهل بيته إلا ويكون قد دُعي إلى التجنيد مرة ثانية. وهكذا شأن الصانع والحمال والمحتطب. فالأمة التي أصيب أفرادها بمثل هذه الكوارث لا نرى حاجة إلى بيان مصيرها ومصير دولتها إذا دفعت بنفسها في هوة حرب جديدة لا تشبه غيرها من الحروب لا سيما وأن واردات الدولة من الضرائب [*] المفروضة على مساعي الأفراد المنكودي الحظ بين تجارية وصناعية وزراعية. هذا أحد أسباب التي حملت عقلاء المسلمين على استنكار دخول الدولة في الحرب الحاضرة وهو سبب مبني على حقيقة الحالة الداخلية في كل بلاد السلطنة. وهنالك أسباب خارجية تتعلق بالجهة التي انحازت الحكومة الاتحادية إلى الحرب معها ضد الفريق الآخر من الدول المشتبكة في الحرب. فإن الدولة العثمانية دولة إسلامية وبلادها مترامية الأطراف كثيرة السواحل فكانت السياسة التي سار عليها سلاطين آل عثمان العِظام من قديم الزمان تحسين الصلات والعلاقات مع الدول التي يسكن ممالكها القسم الأعظم من المسلمين والتي لا تزال صاحبة الأرجحية في البحارة، فلما دخلت الحكومة الاتحادية في الحرب ضد هذه الدول منحازة إلى فريق آخر كثير الطمع واسع الجشع لضيق بلاده عن ساكنيها تشاءم من ذلك أهل النظر والرؤية من المسلمين لعلمهم بما يكون من نتائجه السيئة قبل حدوثها. ولقد كنت من جملة هؤلاء عندما سئلت تلغرافيًّا عن رأيي في هذه الحرب، أجبت بما اقتضاه واجب النصح، وهذا مما أتخذه دليلاً على إخلاصي لهذه الدولة وحرصي على سلامتها وصيانة بيضة الإسلام. وها قد حصل ما كنا نخشاه، وانتهت الدولة إلى ما تخوفناه، وأصبحت حدود المملكة العثمانية اليوم في أوربا أسوار الآستانة تقريبا. وأن طلائع جيوش الروس تخطف الأهالي العثمانيين في ضواحي ولايتي سيواس والموصل، وطلائع الإنكليز تسوق ألوف الأسرى من أبناء هذه المملكة في بادية العريش بعد أن استولت على ولاية البصرة وشطر من ولاية بغداد، ولا شك في أن من تأمل هذه الحالة ورأى أن الحرب لا تزال قائمة على ساق وقدم لا يحتاج إلى كبير عناء في استجلاء النتيجة التي لا تخرج عن أحد أمرين فإما أن نستسلم إلى هذا الخطر الداهم حتى نزول من خريطة العالم أو أن نسعى للخلاص منه، إننا نترك للعالم بأسره التأمل في هذا الجواب عليه، وليس عندنا أقل ريبة في أنهم يعذروننا في نهوضنا الذي جاء في وقته قبل أن تحيط المهالك بالبقية الباقية من هذا الملك فتأخذنا على غِرة. بل إننا لا نتردد في مشروعية نهوضنا ووجوبه علينا. ............. ولو كنا نعلم بأن بقاءنا مرتبطين بهذه الدولة التي أصبحت ألعوبة في أيدي المتغلبين مما ينفعها ويحفظ لها أملاكها لما تحركنا بشيء مما قمنا به، وصبرنا وتحملنا كل ما يحملوننا إياه. ولكن أنى لنا ذلك وقد صار من المقطوع به أننا لو استسلمنا لما هم سائرون بنا إليه لأدى ذلك بنا وبهم إلى هوة الاضمحلال التي تسقط فيها الولايات الأخرى على مرأًى منا ومسمع. نعم: إننا نقول هذا ونترك الحكم فيه إلى إنصاف العالم أجمع، ولكننا لا نستطيع السكوت عن المجاهرة بأن السبب الوحيد لمحو هذه الدولة وإبادة من بقي لها من الرعية وهم سكان الأناضول وغيرهم، إنما هو استرسال المتغلبة من زعماء الاتحاديين وهم أنور وجمال وطلعت وأشياعهم، وخروج الدولة عن خطتها السياسية الأساسية التي وضعها عظماء سواس العثمانيين، وهي خطة موالاة الدولتين المعظمتين بريطانيا وفرنسا التي لا ينكر فوائدها إلا من ينكر التاريخ، ويكفي لمعرفة أخلاق زعماء الاتحاديين ومقدار صدقهم ووفائهم أنه لم يمض غير زمن يسير على عقد القرض الذي ساعدتهم به فرنسا وهم في أشد الحاجة إليه حتى انضموا إلى أعدائها وأعلنوا الحرب عليها، وإننا لا نستدل على ما ذكرناه من أخلاقهم بهذا العمل دون سواه إلا لشهرته المستفيضة بين عموم الناس وقرب عهدنا به، أضف إلى ذلك ما يلقاه الأهالي العثمانيون لا فرق بين مسلمهم وذميهم من ضروب العسف والجور اللذين يحجب ركامهما ضياء الشمس، لا سيما ما ارتكبه القابضون على أزمة الحكومة من هؤلاء المتغلبة وأشياعهم أثناء هذه الحرب من ظلم أهل ذمتنا من الروم والأرمن خلافًا لما جاءت به شريعتنا المطهرة، ثم نهجوا هذا المنهج في أبناء العرب بالشام والعراق وغيرهم مما هو معلوم إلى يومنا هذا كإيقاعهم بأهالي العوالي التي هي إحدى ضواحي المدينة المنورة من سبي مخدرات العرب وسوقهن إلى الثكنات العسكرية بما تأباه الشريعة الإسلامية والشهامة العربية. نعم: إننا قمنا ولا يزال قيامنا ومجاهرتنا بالعداوة والبغضاء مقصودًا بهما أنور وجمال وطلعت وشيعتهم. وإنه ليشاركنا في ذلك كل مسلم عاقل حتى أفراد البيت العثماني، ودليلنا مع مشاركة هذا البيت الجليل اغتيال المتغلبة لعميده الشهيد السعيد ولي عهد السلطنة المغفور له المرحوم يوسف عز الدين. وإننا نتبرأ منهم ونظهر لهم العداوة والبغضاء، ويشترك معنا فيها كل بر وتقي من مسلمي البلاد العثمانية وسائر البلاد الإسلامية، بسبب ما أتوه من الوبال، وما جروه على دولة الإسلام من الاضمحلال، حتى جعلوها ضحيَّة لأغراضهم وغاياتهم النفسية، نبرأ إلى الله منهم ونعلم أنها كلمة حق عليها نحيا وعليها نموت. وكيف لا نقول هذا وأمامنا من عبر الدهر ما نسرده على إخواننا المسلمين ليعلموه ويعوه؟ فإن جمال باشا المتحكم في الشام وأهلها قد أمر سكان ذلك القطر الإسلامي بأن يؤلفوا من مخدِّرات نسائهم جمعية نسائية، ثم أوعز إلى هذه الجمعية أن تأدب له مأدبة في ناديها. وقد تم ذلك بالفعل وحضرها هو ورجال العسكرية والملكية ومن دعاهم من سائر رجاله وأعوانه، وكان النسوة المسلمات أعضاء هذه الجمعية يباشرن إكرام ضيوفهن. وعند ختام الحفلة شرعن في إلقاء الخطب والأناشيد بين تلك الجماهير من الرجال كما نشرت ذلك صحف سوريا على اختلاف مشاربها مظهرة الإعجاب والفخر إرضاء لجمال باشا. فسبحان الله -تعالى- الذي يقول في محكم كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) [1] وقوله تعالى [2] : {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} (النور: 31) إلخ [**] . من هذا يعلم صراحة مراد هؤلاء المتغلبين ومقاصدهم بالشريعة الإسلامية والعادات العربية، وفيه عبرة وذكرى لإخواننا مسلمي البلاد العثمانية وسائر إخواننا في أقطار الدنيا ليتعظوا بذلك ولا يكون سببا لاسترسال هؤلاء الطغاة في انتهاك حرمات الله والجرأة على مخالفة أوامره لجاهٍ يستفيدونه، أو راتب يستزيدونه، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ومن كان قد وهبه الله -تعالى- قوة على تغيير المنكر بيده أو لسانه أو قلبه فليفعل، ومن كان لديه ما يدافع به عن جرأة هؤلاء القوم المتغلبين فليأتنا به فإننا إن شاء الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (سبأ: 24) [3] . ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها ... ... ... ... ... تحريرًا في 11 ذي القعدة الحرام 1334 (المنار) ملخص هذا المنشور أن زعماء الاتحاديين عرَّضوا الدولة للهلاك بالحرب والظلم والبغي والعدوان وعبثوا بدين الإسلام، وظلموا المسلمين والذميين، وأن مسلمي الترك وفي مقدمتهم بيت السلطنة يعلمون ذلك كالعرب ولكنهم غُلبوا على أمرهم، وأن بقاء البلاد الحجازية خاضعة لهم يضرها ويضر أهلها ويوقعهم في الخطر من حيث لا ينفع الدولة ولا يغني عنها شيئًا، وإن الواجب في هذا المقام العمل بما أمر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قوله المروي في مسند أحمد وصحيح مسلم والسنن الأربع: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فان لم يستطع فبلسانه ... ) إلخ، وبذلك عمل صاحب المنشور هو ومن معه من أهل الحجاز فهم في مقدمة أهل الحل والعقد في الأمة ولو لم يكن معه غير أسرته الهاشمية وعصبتهم وأتباعهم من العرب لكفى بهم أهل حل وعقد في مهد الإسلام وأفضل بلاد الأرض، ويليهم في هذه الصفة سائر الأمراء والزعماء في جزيرة العرب، ولم يبق في ديار الإسلام زعماء أحرار غيرهم؛ لأن سائر علماء المسلمين وكبراءهم في الآستانة وغيرها تحت قهر سلطة عسكرية زمامها بأيدي ملاحدة الاتحاديين ونصارى الألمان ولما كان شريف مكة ومن شايعه من العرب قادرين على النهوض لمقاومة منكرات الاتحاديين قاموا بالواجب الإيماني عليهم. وقد صرح في هذا المنشور بأنه إذا ظهر له خطؤه في اجتهاده هذا يرجع عنه. وكفى بذلك حجة على جميع المسلمين. ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة أُهدي إلينا في العام الماضي عدة مطبوعات جديدة من الكتب والصحف لم نجد فراغًا من الوقت لنظر فيها نظرًا يمكننا من إبداء الرأي فيها، وإن منها ما يبخس حقه إذا كتب عنه في المجلات العلمية ما هو بمعنى الإعلان الذي ينشر في الجرائد السياسية، وقد يعد طول الزمان على السكوت عنها، أشد هضمًا لها وبخسًا لحقها، فلهذا رأينا أن التنويه بها، بما تمليه النظرة العَجلى فيها، ربما كان كالثمد يفضل ناجزه المستثمد الصديان، على الغمر النسيء يخاف عليه النسيان، وهو لا يمنع من إعادة النظر فيها إذا سمح الزمان، وهذا ما جاد به الزمن الضنين الآن. *** (كتاب شرح البيع) (في القوانين المصرية والفرنسية. وفي الشريعة الإسلامية) (تأليف محمد حلمي عيسى بك وكيل الإدارة القضائية للمحاكم الأهلية بوزارة الحقانية) شرح فيه أحكام عقد البيع في قانوني المحاكم الأهلية والمختلطة المصرية مستمدًّا من مصادرها - الشريعة الإسلامية والقانون الفرنسي- سالكًا في شرحه مسلك المدقق المستقل بالفهم والرأي. فجاء سِفرًا كبيرًا بلغت صفحاته بضع مئات. وطبعه في العام الماضي (1334) في مطبعة المعارف طبعًا جيدًا على ورق جيد يليق به، وقد أقبل عليه علماء القانون أيّ إقبال، وأحسنت تقريظه الصحف أيّ إحسان. إن هذا المصنَّف من الكتب التي يرجع إلى مثلها الباحثون في فلسفة الشرائع والقوانين، ويعتمدون على نقوله ومباحثه في المقابلة والتنظير بينها وتفضيل بعضها على بعض. فلو أتيح لي أن أوفيه حقه من التقريظ والنقد يعنيني من مباحثه الدقيقة - وهو المقابلة بين الشريعة والقوانين - لكنت قرأت ما أورده من ذلك غكله أو الكثير منه وبينت ما يريني الله من الحق فيما أورده من الأحكام الشرعية التي اعتمد في أكثرها على بعض كتب الحنفية. وما فاته من الأحكام في كتب غييرهم من فقهاء الإسلام. فقد قال في مقدمة الكتاب: إنه جعل المقارنة بين القانون المصري بقسميه وبين الشريعة على كتاب مرشد الحيران الذي ألفه قدري باشا ومجلة الأحكام العدلية التي أوجبت الدولة العثمانية على محاكمها المدنية الحكم بها. وذكر في أسماء الكتب التي كان يراجعها عند الشرح عدة كتب للحنفية والمالكية، ولم يذكر بينها شيئا من كتب فقه الشافعية والحنابلة، على أن كتب هذين المذهبين أجمع لدلائل الكتاب والسنة، وكتب الشافعية منها أشد تنقيحًا، وكتب الحنابلة أوسع طريقًا، فلو أن المؤلف عني بكتب الحنابلة وعلماء الحديث المستقلين كما عُني بكتب الحنفية لكان علمه بالشريعة الإسلامية أوسع، ومقابلته بينها وبين القوانين أصح وأنفع، ومن أجل هذه الكتب كتاب المغني للشيخ موفق الدين ابن قدامة و (المحلى) للإمام ابن حزم و (نيل الأوطار) للإمام الشوكاني. ومن أجلّ الكتب الباحثة في حكم الشريعة (إعلام الموقعين) للعلامة ابن القيم، وأحسن ما كتب في العقود وأنفعه فيما نعلم هو ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيميه ونشر في مجموعة الفتاوى التي طُبعت له، فلعل المصنف يُعنى بالرجوع إلى أمثال هذه الكتب إذا نُقِّحَ الكتاب عند إرادة إعادة طبعه، إن شاء الله تعالى. *** (تاريخ سيناء القديم والحديث وجغرافيتها) (مع خلاصة تاريخ مصر والشام والعراق وجزيرة العرب وما كان بينهما من العلائق التجارية والحربية وغيرها عن طريق سيناء من أول عهد التاريخ إلى اليوم، لمؤلفه نعوم بك شقير مدير قلم التاريخ بوزارة الحربية بمصر، وصاحب تاريخ السودان) وهو مجلد ضخم تزيد صفحاته على 770 طبع بمطبعة المعارف طبعًا جميلاً، وأجمعت الصحف على حسن تقريظه والثناء عليه، وما وفاه أحد منهم حقه، ولا شرح للناس حقيقته وكنهه، وقد كان اسم الكتاب حجابًا يخفي ما وراءه من الحقائق التاريخية والاجتماعية والسياسية والعلمية، المتعلق أكثرها بالعرب والبلاد العربية، من شئونها الغابرة، وحالتها الحاضرة، ولا يزال هذا الحجاب مسدولاً على تلك المخدَّرات، ما أماطته الصحف عن ذلك الوجه، ولا أظهرت كل ما وراءه من الجمال والحسن، على أن كشف الحجاب عن أبكار المعاني، ككشفه عن أبكار المغاني، كل منهما يباح للخاطبين، كما يباح للمحارم من الأهل والأقربين، وما أكثر من يبيحه للناس أجمعين، فما بال أبكار مؤرخنا العربي لا تزال محجوبة عن خطَّابها المتعددين، وذوي قرباها الكثيرين، لذلك الاسم الذي لا يدل إلا على جزء من مسماه، كما حجب استعداد أمتنا العربية بالاستبداد الذي يخشاه، وحجب ما في وطننا العربي من الآثار والمعادن بجهل الحاكم الذي يتولاه؟ ألا أيها الخطاب، لتلك الأبكار العُرُب الأتراب، لقد نصب الله لكم من يرفع عن محاسن وجوههن الحجاب، وإن كان يخفض من أفكار من في مصر من دعاة السفور، الذي يجزم بأنه مزيد من التهتك والفتور، ولكنه قبل رفعه، يبين لكم سبب وضعه، فيقول: إن المؤلف لما أتيح له الوقوف على تلك الحقائق التي يجهلها الأكثرون من تاريخ سيناء عز عليه أن تبقى مجهولة كما هو شأن محبي العلم الذين يتعبون في تحصيله وتمحيصه، فعمد إلى تقييد أوابدها، وقنص شواردها، بعد أن قتل مسائلها بالبحث والتدقيق تقتيلاً، وفصل القول فيها تفصيلاً، فجاء تاريخًا مطولاً لهذه البقعة الغامرة، لم يوضع مثله لأعظم أقطارنا العامرة، فكان مظنة الانتقاد بأنه اشتغال بالكمال من جزئيات تاريخ بلاد أمتنا العربية، قبل الوصول إلى ما يفي بالحاجة من مباحثه الكلية، وكأن مؤرخنا اللوذعي لمح بلحظ الغيب ذلك الانتقاد يجول في مطاوي الأفكار، بعد أن تمثل بين يديه تاريخ سيناء سفرًا من أكبر الأسفار فأراد أن ينظم تلك المباحث الكمالية في سلك الضروريات؛ فوضع للكتاب خاتمة كانت كالمقصد من الوسيلة أو كالنتيجة بعد المقدمات. ذلك بأنه لما كانت سيناء معقد الاتصال والارتباط بين أعظم الأقطار العربية، أعني جزيرة العرب ومصر وسوريا، جعل خاتمة التاريخ التفصيلي لها، خلاصة تاريخ الأقطار التي تحيط بها، ولما كانت فائدة التاريخ هي العظة والاعتبار، وكان الفراغ من هذا الكتاب في إبّان هذه الحرب التي خاضت غمراتها الدول السائدة على تلك الأقطار، والتي يتبدل بها ما يتبدل من أحوال الأمم والأطوار- ذكر قومه الأقربين سوريين ومصريين، ومن وراءهم من العرب أجمعين، بأن أصل أروماتهم واحد وهو الجنس العربي الكريم، والأصل الذي ينتمي إليه أنبياؤهم المرسلون في مللهم ونسبهم واحد وهو خليل الله إبراهيم، وبأن لغتهم واحدة وهي العربية، وكذلك عاداتهم ومصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، وهل يعذر أحد على الرضاء بالخلاف والفرقة، بعد تجارب هذه الجواذب والدواعي إلى الوفاق والوحدة؟ كلا، لا عذر إلا الجهل أو عصبية الجاهلية، وهناك شذرات منه في بيان هذه الحقيقة وحجبها الجلية. قال المصنف في تمهيد خاتمة الحسنى: (1) (إن الباحث في تاريخ مصر والشام والعراق كلما تعمق في البحث وجد أن معظم سكان هذه البلاد كانوا في كل عصور التاريخ -كما هم في هذا العصر- عربًا أو من أصل عربي [1] ، وكان لغتهم العربية أو أختًا لها [2] وعليه فأول الصلات التي تربط هذه البلاد بعضها ببعض وأهمها هي الصلة الجنسية العربية) ثم إنه جاء بزبدة تاريخ هذه البلاد أيضًا لهذه الحقيقة وقد بدأ بخلاصة تاريخ العرب. *** (مهد العرب) (2) ذكر في بيان العرب أن أوجه الآراء في مهد الجنس السامي اثنان (أحدهما) رأي مفسري التوراة، وهو أنه جزيرة العراق. (ثانيهما) رأي بعض علماء التاريخ واللغات والعاديات [3] وفي مقدمتهم العلامة روبرتس سمث الإنكليزي- وهو أن مهده جزيرة العرب (قال) ومنها تفرق في الشرق قبل التاريخ كما تفرق العرب والمسلمون في صدر الإسلام، ولهم على ذلك أدلة لغوية اجتماعية، ومن أدلتهم اللغوية أن اللغة العربية هي أقرب إخوانها- الكلدانية والسريانية أو الآرامية والعبرانية والحبشية- إلى اللغة السامية الأصلية، وإن في الآرامية والعبرانية آثار الحياة البدوية العربية. (ومهما يكن من أمر ذلك المهد فإننا نرى العرب قد أسسوا في جزيرتهم عدة ممالك اشتهرت قديمًا وحديثًا، وخرجوا من جزيرتهم للفتوحات غربًا إلى سيناء ومصر وإفريقيا الشمالية، وشرقًا إلى العراق وتركستان، وشمالاً إلى سورية وآسية الصغرى فأسسوا فيها عدة ممالك قبل الإسلام وبعده. فكان مهد العرب ومسرحهم منذ القديم من المحيط الأتلانتيكي شرقًا وغربًا، ومن أهالي الفرات ودجلة والبحر المتوسط إلى أقاصي السودان شمالاً وجنوبًا) . *** (العرب البائدة في العراق ومصر وسورية) (3) ذكر من تاريخ العرب البائدة أنهم كانوا يسكنون ما بين العراق والعقبة، وينقلون التجارة ما بين بابل ومصر. ثم قال: (وما زالوا حتى ظهر منهم في القرن الثالث والعشرين (قبل المسيح) ملك اسمه [حمورابي] فأسس مملكة قوية عرفت (بدولة حمورابي) بلغت أسمى ما وصلت إليه دولة في العهد القديم من الرقي الأدبي والمادي. واشتهرت على الخصوص بسن الشرائع والقوانين وبناء الهياكل والقصور، واستمرت حاكمة إلى أواخر القرن الـ 21 قبل المسيح) . وذكر مؤرخو العرب أن العمالقة هم الرعاة (الهكسوس) الذين ملكوا مصر في مدة الدول الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة. ويظن الآن أن سكان مصر وإثيوبيا الأولين الذين سكنوا النيل قبل التاريخ هم عرب هاجروا إليه من جزيرة العرب عن طريق سيناء أو غار باب المندب كما سيجيء. هذا وسنرى في تاريخ سورية أن معظم سكانها الأولين هاجروا إليها من جزيرة العرب وأسسوا فيها دولاً شتى) . ثم ذكر خلاصة مفيدة من تاريخ العرب المتعرية والمستعربة من القحطانيين والعدنانيين واستطرد إلى ذكر خلاصة تاريخ ظهور الإسلام وامتداد دعوته وفتوحه ودولة العرب وغيرهم ختمًا بالدولة العثمانية، وما انتهت إليه حالها في عهد طغاة الاتحاديين من اضطهاد العرب والعربية، وتقحمهم بالدولة أخطار هذه الحرب الأوروبية، وحكم عليهم بأنهم أضاعوا بذلك ملكهم مهما تكن عاقبة هذه الحرب. *** (مستقبل جزيرة العرب) (4) وقال في شأن مستقبل جزيرة العرب بعد الحرب ما نصه: (ص 661) (وأما جزيرة العرب، فالطبيعة ورجالها تحميها، وقد أعلن الحلفاء استقلالها تحت يد أمرائها، وأصدر (الجنرال السرجون مكسويل) القائد العام البريطاني بمصر منشورًا وجهه إلى (العرب الكرام) بتاريخ 31 ديسمبر سنة 1914 جاء فيه ما نصه: (إن جلالة الملك جورج الخامس ملك الإنكليز قد أعلن أنه لا يتخذ إجراءات حربية برية أو بحرية في بلاد العرب أو في موانيها ما لم تمس الحاجة إلى ذلك قصد حماية مصالح العرب من اعتداء الترك وغيرهم أو إنجاد من ينهض من العرب للخلاص من ربقة الترك) . وبعد وصف جزيرة العرب وبيان حالها وسكانها في هذا العصر عقد فصلاً ثانيًا لخلاصة تاريخ سورية (ص 675) . (5) بين المؤرخ أن شعوب سورية القديمة هم الآراميون والكنعانيون والحثيون والعبرانيون والفلسطينيون والفينيقيون (قال) (وكلهم هاجروا إليها من جزيرة العرب أو العراق إلا الفلسطينيين) أي والذين هاجروا إليها من العراق كانوا من جزيرة العرب فهاجروا إلى العراق قبل الهجرة إلى سورية , و (أو) في كلامه لمنع الخلو لا لمنع الجمع فالتحقيق أن من عرب الجزيرة من هاجروا إلى سورية توًّا، ومنهم من هاجر إلى العراق توًّا ثم هاجر بعضهم إلى سورية وبعضهم إلى مصر. وبعد أن قال في كل شعب من هؤل

هل البسملة آية من كل سورة أم لا؟

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هل البسملة آية من كل سورة أم لا؟ (س10) من صاحب الإمضاء في العلاقة (شرقية) . بسم الله الرحمن الرحيم تحية من الله مباركة طيبة وسلامه عليكم. وبعد: فلما دلني فضلكم وهداني الاطلاع على ما خط يراعكم إلى ساحة يمكم الذي يغترف منه القاصي والداني سجال العلوم والمعارف فتُروى به الظمأى ويسترشد به المسترشدون - تلك مجلة المنار الغراء التي تتفجر ينابيع الحكمة من بين سطورها - بعثت إليكم رسالتي هذه أستفتيكم في مسألة متعلقة بالبسملة طال بين الأئمة النزاع والمجادلة فيها، وتلك المسألة هي هل (بسم الله الرحمن الرحيم) آية من الفاتحة ومن كل سورة أم لا؟ اختلفوا فيها فذهب كل فريق إلى شق من شقي ذلك الاستفهام ونصب على ما يدعيه الدلائل غير أنه بالاطلاع على شواهد كل يعلم أنها لا تنتج مدعاه، فلقد تركوا الأمر مريجًا وظل كلٌّ يعول على ترجيح مذهبه كائنًا ما كان، غير مبالٍ بسرد الأحاديث المتعارضة، ونقل الآثار المتناقضة، صحيحة كانت أم ضعيفة. قالوا: انعقد الإجماع على أن البسملة آية من القرآن، ويروى ضمن أدلة فريق أثر عن ابن عباس رضي الله عنهما (من ترك البسملة فقد ترك مائة وأربع عشرة آية من كتاب الله عز وجل) مع تصريحهم بأنه لا خلاف في أن البسملة ليست آية من (براءة) حتى لقد نقلوا الإجماع على ذلك، فبين ما رُوي عن ابن عباس وبين ذلك التصريح التناقض الظاهر، إذ مقتضى قوله: مائة وأربع عشرة آية أنها آية حتى من (براءة) وفي الأدلة من ذلك التناقض كثير؛ لهذا لم يهتدِ طالب الحق إليه فبعثت إليكم عسى أن توافوني ببيان شافٍ، وقول فصل تطمئن إليه النفس، كما هو المعهود فيكم لمثل هذا الموقف، أمدكم الله بسديد الرأي، وأعانكم على ما يرفع الإسلام وينفع المسلمين ويعزز الحق إنه هو العزيز الحكيم. (ج) في المسألة أدلة قطعية وأدلة ظنية، والقاعدة في تعارض القطعي مع الظني أن يُرجح القطعي إذا تعذر الجمع بينه وبين الظني، ولولا التعصب للمذاهب من قوم وللأسانيد من آخرين لأجمع المحدثون والفقهاء والمتكلمون على أن البسملة آية من كل سورة غير براءة (التوبة) كما أجمع الصحابة على كتابتها في المصاحف، وكما أجمع القراء السبعة المتواترة قراءاتهم على قراءتها عند البدء في كل سورة غير براءة- فهذان دليلان قطعيان أحدهما خطي متواتر والآخر قولي متواتر يؤيدهما كثير من أحاديث الإثبات الصحيحة، فوجب إرجاع ما ورد من أدلة النفي الظنية إلى الإثبات وإلا فلا يعتد بها، وإن صح سندها. ومنها ترك بعض القراء السبعة لتلاوتها في السورة التي توصل بما قبلها. أما دعوى أنها كتبت في المصاحف للفصل بين السور فلو كانت صحيحة لكتبوها بين سورتي الأنفال وبراءة (التوبة) أيضًا , ومن المعلوم بالقطع أن الصحابة ومن اهتدى بهديهم لم يكتبوا في المصاحف شيئًا غير كلام لله -تعالى-. وأما حديث ابن عباس (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم) رواه أبو داود والحاكم وصححه على شرط الصحيحين والبزار بسندين رجال أحدهما رجال الصحيح - فهو حجة على أن البسملة كانت تنزل مع كل سورة، لا أنها آية كُتبت للفصل بين السور بالاجتهاد، وقد توفي -صلى الله عليه وسلم- ولم يأمر بكتابتها في أول سورة براءة وعللوا ذلك بنزولها بنقض عهود المشركين وبالسيف. وأما أحاديث الإثبات (فمنها) حديث (نزلت عليّ آنفا سورة - فقرأ- بسم الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر) إلخ رواه مسلم والنسائي عن أنس. (ومنها) : سئل أنس: كيف كانت قراءة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: كانت مدًّا ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم - يمد ببسم الله ويمد بالرحمن ويمد الرحيم. رواه البخاري. وفي معناه حديث أم سلمة عند أحمد وأبي داود والدارقطني وقد قرأت الفاتحة كلها بالبسملة. (ومنها) عدة أحاديث لأبي هريرة - قال نعيم المجمر: صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن -الحديث وفيه- ويقول إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- رواه النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، وقال: على شرط البخاري ومسلم، وقال البيهقي: صحيح الإسناد وله شواهد (ومنها) قوله: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قرأ وهو يؤم الناس افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم رواه الدارقطني وقال: رجال إسناده كلهم ثقات، ولكن اختلف غيره في عبد الله بن عبد الله الأصبحي من رجاله. ومن الآثار في المسألة أن عليًّا كرم الله وجهه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين. أي سورة الحمد لله.. إلخ فقيل له: إنما هي ست، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. رواه الدارقطني وقال: رجال إسناده كلهم ثقات. ومنها إنكار الصحابة على معاوية ترك الجهر بها. رواه الشافعي عن أنس والحاكم في المستدرك وقال: على شرط مسلم قال: صلى معاوية بالناس بالمدينة صلاة جهر فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر في الخفض والرفع، فلما فرغ ناداه المهاجرون والأنصار: يا معاوية نقضت الصلاة، أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير إذا خفضت ورفعت؟ فكان إذا صلى بهم بعد ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبر. ولعل المراد الجهر بذلك وإلا لأعاد الصلاة؛ إذ لا يعذر مثله بجهل كون البسملة منها. ويحتمل أن يكون أعادها وإن لم يذكر في هذه الرواية. وأما أحاديث النفي فأقواها حديث أنس: صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبى بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن وله ألفاظ أخرى، ومنها: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. رواه أحمد والنسائي لا القراءة. وفي لفظ لابن خزيمة: كانوا يسرّون إلخ، وقد أعلّ المثبتون حديث أنس هذا بالاضطراب في متنه، وبما رُوي من إثبات الجهر بها عنه وعن غيره، وقال بعضهم: إنه كان نسي هذه المسألة فلم يجزم بها، قال أبو سلمة: سألت أنسًا أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستفتح بالحمد لله رب العالمين أو ببسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك. الحديث رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح. ومن أدلة النفي ما صح في الحديث القدسي من قسمة الصلاة بين العبد والرب نصفين وفسرها -صلى الله عليه وسلم- بقوله: فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله عز وجل: حمدني عبدي إلخ الحديث رواه مسلم وأصحاب السنن الأربعة. والاستدلال بترك ذكر البسملة فيه على عدم كونها من الفاتحة ضعيف، ولو صح لصح أن يستدل به على كون سائر الأذكار والأعمال ليست من الصلاة. والقول الجامع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يجهر بالبسملة تارةً ويسر بها تارةً. وقال ابن القيم: إن الإسرار كان أكثر. وذهب القرطبي في الجمع بين الأحاديث إلى أن سبب الإسرار بها قول المشركين الذين كانوا يسمعون القرآن منه: محمد يذكر إله اليمامة. يعنون مسيلمة الكذاب لأنه سمي الرحمن أو أطلقوا عليه لفظ رحمن بالتنكير كقول مادحه: وأنت غيث الورى لا زالت رحمانا ... وكانوا يشاغبون النبي -صلى الله عليه وسلم- بإنكار تسمية الله -عز وجل- بالرحمن كما علم من سورة الفرقان وغيرها، فأُمر -صلى الله عليه وسلم- بأن يخافت بالبسملة. قال الحكيم الترمذي: فبقي إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة. روى ذلك الطبراني في الكبير والأوسط، وذكره النيسابوري في التيسير من رواية ابن جبير عن ابن عباس، وقال في مجمع الزوائد: إن رجاله موثقون. وصفوة القول: إن أحاديث الإثبات أقوى دلالة من أحاديث النفي. وأولى بالتقديم عند التعارض، وإذا فرضنا أنها تعادلت وتساقطت أو ربح المنفي على المثبت خلافًا للقاعدة جاء بعد ذلك إثباتها في المصحف الإمام في أول الفاتحة وأول كل سورة ماعدا براءة (التوبة) وهو قطعي ينهزم أمامه كل ما خالفه من الظنيات، وقد أجمع الصحابة على أن كل ما في المصحف فهو كلام الله -تعالى- أثبت كما أنزل سواء قرئت الفاتحة في الصلاة بالبسملة جهرًا أو سرًّا أم لم تقرأ، ولا عبرة بخلاف أحد بعد ذلك ولا برواية أحد يزعم مخالفة أحد منهم لذلك. ولا حاجة مع هذا إلى تتبع جميع ما ورد من الروايات الضعيفة والآثار والآراء الخلافية، ومن ذلك أثر ابن عباس المذكور في السؤال، ولولا التطويل الممل بغير طائل لأوردنا كل ما ورد في المسألة رواية ودراية.

ذكرى المولد النبوي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذكرى المولد النبوي كتبنا رسالة في ذكرى المولد النبوي الشريف بيَّنَّا فيها كيفية نشأة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، ومعنى اصطفاء الله تعالى له ولأهل بيته ولقومه ولأمته، وحكمة ظهوره في العرب الأميين دون شعوب المدنية في عهده، وخبر البعثة والدعوة الإسلامية. وسنجعل لها مقدمة نبين فيها ما ينبغي بيانه نطبعها معها على حدة، وهذا نص الذكرى: بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم حمد الشاكرين، أن بعثت فينا محمدًا خاتم النبيين والمرسلين، وأرسلته رحمة للعالمين، واختصصت بمنتك به الأميين وسائر المؤمنين، واستجبت به دعوة إبراهيم، وحققت به بشارة عيسى والنبيين {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (البقرة: 127-129) {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} (الصف: 6) {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (آل عمران: 164) {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الجمعة: 3-4) نحمدك اللهم ونصلي على هذا النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه الذين أقاموا الدين، ومن تبعهم في هداهم وهديهم إلى يوم الدين. أما بعد فإن الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول، عادة أحدثها في القرن السابع الملك المظفر أبو سعيد صاحب إربل، من البلاد التابعة الآن لولاية الموصل، ثم انتشرت هذه العادة في الأقطار، وقد بَزَّت مصر بها جميع الأمصار، والفائدة التي ينبغي أن تُتَوَخَّى [1] في هذا اليوم الذي فَضَلَ الأيام، هي التذكير بخلاصة تاريخ النبي عليه أفضل الصلاة والسلام؛ ليتذكر المؤمنون منة الله عليهم ببعثته، وتتغذى أرواحهم بزيادة الإيمان وكمال محبته، ويحرصوا على إقامة دينه وإحياء سنته. وها نحن أولاء نُشَنِّف الأسماع بفرائد من نسبه وحسَبه [2] ومزايا قومه وعشيرته، وأخبار مولده وتربيته، وكيفية معيشته في نفسه، وزواجه وسيرته مع أهله، تمهيدًا لبيان المقصد الأهم الأعظم، وهو نبأ بعثته صلى الله عليه وسلم؛ مستمدين ذلك من الكتاب العزيز والسنة الثابتة عند المحدثين، وما تمس الحاجة إليه مما أثبته ثقات المؤرخين، معرضين عن الروايات الموضوعات، والواهيات والمنكرات، التي عُني الكثيرون بنقلها لما فيها من الخوارق والغرائب، مبالغة فيما أجازه العلماء من قبول الأخبار الضعيفة في المناقب، ولما يُرْجَى من حسن تأثيرها في قلوب العوام، مع الغفلة عما يُخْشَى من ضد ذلك في نابتة هذه الأيام، على أن لنا فيما لا يُحْصَى من الفضائل والمناقب المشهورة والمتواترة، ما يُغني عن جميع الروايات الضعيفة والمنكرة، وبذلك يعرف قدر الإصلاح العظيم، الذي أرسل الله به هذا النبي الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم. *** قومه ونسبه صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) إذ جعل فيهم النبوة والهداية للمتقدمين والمتأخرين، ثم اصطفى كنانة من آل إسماعيل بن إبراهيم، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى سيد ولد آدم من بني هاشم، فكان آل إسماعيل أفضل الأولين والآخرين، كما كان بنو إسحاق أفضل المتوسطين؛ إذ كانت هداية الأنبياء من بني إسحاق وغيرهم خاصة، وهداية هذا النبي من آل إسماعيل عامة، فبه أكمل الله تعالى الدين، وأتم نعمته على العالمين، كما اقتضته سنته تعالى في النُشوء والارتقاء، التي كانت في البشر أظهر منها في سائر الأحياء. كيف كان اصطفاء الله تعالى لهذه الأصول من الأمة العربية، الذي ثبت في صحيح مسلم وغيره من كتب السنة السنية؟ وبماذا امتاز قوم خاتم الرسل الكرام، فَفَضَلوا به غيرهم من الأقوام، حتى استعدوا به لهذا الإصلاح الروحي المدني العام، الذي اشتمل عليه دين الإسلام، على ما طرأ عليهم من الأمية وعبادة الأصنام، وما أحدثت فيهم غلبة البداوة من التفرق والانقسام؟ الجواب: كانت العرب ممتازة باستقلال الفكر وسعة الحرية الشخصية، أيام كانت الأمم تَرْسُفُ [3] في عبودية الرياستين الدينية والدنيوية، محظورًا عليها أن تفهم غير ما يلقنها الكهنة ورجال الدين من الأحكام الدينية، وأن تخالفهم في مسألة عقلية أو كونية أو أدبية، كما حظرت عليها حرية التصرفات المدنية والمالية. كانت العرب ممتازة باستقلال الإرادة في جميع الأعمال، أيام كانت الأمم مذللة مُسَخَّرة للملوك والنبلاء المالكين للرقاب والأموال، يستخدمونها كما يستخدمون البهائم، ويُصرفونها كما يصرفون السوائم [4] لا رأي لها معهم في سلم ولا حرب، ولا إرادة لها في عمل ولا كسب. كانت العرب ممتازة بعزة النفس، وشدة البأس، وقوة الأبدان، وجرأة الجنان، أيام كانت الأمم مؤلفة من رؤساء أفسدهم الإسراف في الترف، ومرؤوسين أضعفهم البؤس والشظف [5] وسادة أبطرهم بغيُ الاستبداد، ومسودين أذلهم قهر الاستعباد. كانت العرب أقرب إلى فضيلة المساواة بين الأفراد، من غير شرائع تُحْتَرَم بالاعتقاد، ولا قوانين تكفلها قوة الأجناد. أيام كانت الأمم تنقسم إلى طبقات، يرتفع بعضها على بعض عدة درجات، لا بفضائل ذاتية، من علمية أو عملية، بل بحكم وراثة الخلف الطالحين [6] للسلف المستكبرين، باستبداد الملك أو تقاليد الدين. كانت العرب ممتازة بالذكاء واللوذعية، وكثير من الفضائل الموروثة والكسبية. كقِرَى الضيوف، وإغاثة الملهوف، والنجدة والإباء، [7] وعلو الهمة والسخاء والرحمة والإيثار [8] وحماية اللاجئ وحرمة الجار. أيام كانت الأمم مرهقة بالأثرة والأنانية [9] والأنين من ثقل الضرائب والأتاوى [10] الأميرية، ورؤساؤها منغمسين في الشهوات البهيمية، وفساد الأخلاق قد عمَّ الراعي والرعية. كانت العرب قد بلغت أَوْج الكمال، في فصاحة اللسان وبلاغة المقال، وكادت تتحد لغات قبائلها أو لهجاتها العربية، وتسود المُضَرِيَّة منها على الحِمْيَرِيَّة، بما كان لقريش وغيرها من الرحلات التجارية، والأسواق الأدبية، فاستعدت بذلك للوحدة القومية وللتأثر والتأثير بالبراهين العقلية والمعاني الخطابية والشعرية وللتعبير عن جميع العلوم الإلهية والشرعية، والفنون العقلية والكونية أيام كانت الأمم تنفصم عُرَى وحدتها بالتعصبات الدينية والمذهبية، وتتفرق وشائجها [11] بالعداوات الجنسية، وتتمزق دولها بالحروب الأجنبية والأهلية. فتلك أمهات مزايا الأمة العربية، التي أعدها الله تعالى بها للبعثة المحمدية، والسيادة الدينية والمدنية، بعد أن طال العهد على مدنيتهم العادية، واستعمارهم للبلاد الكلدانية البابلية، والبلاد الفينيقية (السورية) والمصرية، التي تشهد له سيادة لغتهم للُّغات السامية، وبقاياها في اللغة الهيروغليفية [12] وبعد أن غلبت عليهم الأمية، وخرافات الوثنية، وعصبية الجاهلية. وجملة مزاياهم أنهم كانوا أسلم الناس فطرة، على كون أمم الحضارة كانت أرقى منهم في كل فن وصناعة. والإصلاح الإسلامي مبني على تقديم إصلاح الأنفس باستقلال العقل والإرادة وتهذيب الأخلاق على إصلاح ما في الأرض من معدن ونبات وحيوان؛ أي إن الله تعالى كان يُعِدُّ هذه الأمة بهذا الإصلاح العظيم، الذي جاء به محمد عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم. *** اصطفاء كنانة وقريش وبني هاشم أما اصطفاء الله لكنانة الشيخ الجليل، من سلالة نبيه الذبيح إسماعيل، فيفسره ما كانت تحفظه العرب من أخبار كرمه ونبله، ومنها أنه كان على سُنة جده إبراهيم الخليل لا يأكل وحده. وقد نقل الحافظ في شرح البخاري أنهم كانوا يحجون إليه لعلمه وفضله. ومما يؤثر عنه من الحِكَم الجلية، كما روي في السيرة الحلبية: رب صورة تخالف المخبرة، قد غرت بجمالها، واختبر قُبح فعالها، فاحذر الصور، واطلب الخبر. فهذا دليل على ما وصف به من العلم والحكمة، وأما حج العرب إليه فإنه دليل على أنه كان بمثابة التعارف، ومعقد رابطة الاجتماع والتآلف. وأما اصطفاء الله تعالى لقريش الميامين الغُرُّ، وهم ذرية فهر بن مالك، وقيل: جده النضر. فقد كان بما آتاهم الله من المناقب العِظَام، ولا سيما بعد سكنى مكة وخدمة المسجد الحرام؛ إذ كانوا أصرح ولد إسماعيل أنسابًا، وأشرفهم أحسابًا وأعلاهم آدابًا، وأفصحهم ألسنة، وهم الممهدون لجمع الكلمة. فقد نقل أهل السير أن مالك بن النضر كان ملك العرب، وأن كعب بن لؤي كان يجمع قومه ويعظهم يوم الجمعة، وكانوا يسمونه يوم العَرُوبَة، وأنهم كانوا يُجِلُّونه في حياته، ثم إنهم أرَّخُوا بموته، وأن قُصَيًّا هو الذي جمع شمل قبائل قريش بمكة؛ إذ كان هو الوارث لمن كانوا يتولونه من خزاعة [13] . وقد تَمَلَّك عليهم فَمَلَّكُوه، إلا أنه قد أقر للعرب ما كانوا عليه. وذلك أنه كان يراه دينًا في نفسه، لا ينبغي له تغييره ولا لغيره من بعده (قال ابن إسحاق) وهو الذي أنشأ الندوة، وجعل بابها إلى الكعبة، وقد أجمعت قريش على طاعته وحبه، فكانت إليه الحِجَابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، ثم وزعت المناصب بعده على الزعماء [14] . وأفضل من ذلك كله ما وُقِّفُوا له في حداثة الرسول من التحالف الذي عُرِف بحلف الفضول؛ إذ تعاقدوا وتعاهدوا أن لا يجدوا بمكة مظلومًا إلا قاموا معه، وكانوا عونًا له على من ظلمه، إلى أن تُرَدَّ مظلمته. وفي حديث الزبير بن العوام عند الطبراني، ومثله حديث أم هانئ في معجمه الأوسط كتاريخ البخاري (فضَّل الله قريشًا بسبع خصال: فضَّلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبد الله إلا قرشيّ [15] وفضَّلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون. وفضَّلهم بأنه نزل فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين، وهي {لإِيلاَفِ قُرَيْ

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 16

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (16) الالتهاب الرئوي الباسيلي ذكرنا فيما سبق أن الميكروبات التي تُحْدِث التهاب الرئة باسيلا اكتشفه [فرد لندر Friedlander] وهذا النوع من الالتهاب شديد جدًّا خطر على الحياة، ويُشَاهد ميكروبه كثيرًا في حويصلات الرئة، وقد تتقيح منه أو تصاب بالغنغرينة (الموت) . *** الدوسنطاريا DYSENTERY كلمة يونانية وضعها أبقراط ثم عُرِّبَت ومعناها [مرض الأمعاء] ويسمى بالعربية الخالصة (الزحار) لأنه يحدث الزحير. وهذا الداء عبارة عن التهاب الأمعاء الغليظة أو القولون، وهو نوعان: (الأول) يحدث في جميع بقاع الأرض خصوصًا في زمن الحرب أو القحط وينشأ من باسيل مخصوص، وهو النوع المراد بالكلام هنا. و (الثاني) كثير الحصول في بلاد الشرق، ويمتاز بطول مدته وبتضاعفه بخراج الكبد، وبكونه ينشأ من نوع من الأميبا (خلية حيوانية وليست نباتية كميكروب النوع الأول) . وهذا النوع سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الأمراض التي تنشأ عن الميكروبات الحيوانية. *** الدوسنطاريا الباسيلية تنشأ - كما قلنا- من باسيل اكتشفه [شيغا Shiga] في بلاد اليابان سنة 1897 وبعد ذلك وجد مثله [كروس Kruse] في ألمانيا، لذلك يسمى بميكروب [ميكروب شيغا كروس] ثم وجد غيرهما أنواعًا أخرى من باسيل الدوسنطاريا مثل [فلكنز] و [سترنج] . هذا الباسيل عديم الحركة ولا حبيبات له، والحرارة التي درجاتها 58- 60 سنتيغراد تقتله سريعًا وكذلك المطهرات، ويعيش في الهواء وفي غيره. ويقتصر وجوده في المرض على أغشية الأمعاء المخاطية ولا يصل إلى الدم. ومن الجائز أن يبقى في الأمعاء مدة بدون أن يحدث ضررًا فيها، ولكنه في العادة يفرز سمًّا يمتص في الدم ثم يفرز منه بواسطة الأغشية المخاطية للأمعاء فيحدث فيها المرض، ومن هذا السم جزء يؤثر في المجموع العصبي فيحدث التهابًا في الأعصاب. الأسباب- هذا النوع من الدوسنطاريا، وإن كان كثير الحصول في البلاد الحارة، إلا أنه قد ينتشر في أوقات مختلفة بشكل وبائي في أي بقعة من بقاع الأرض. ومما يهيئ الجسم لقبول المرض كل ما يضعف البنية كالتعرض للبرد أو البيئة الفاسدة الهواء أو الإصابة بحمى النافض (الملاريا) أو إدمان الخمر أو أكل المواد العسرة الهضم كالفواكه غير الناضجة أو المتعفنة وكذلك الازدحام، ولذلك يكثر هذا المرض بين الجنود وفي السجون والتكايا ونحوها. ومن مضعفات البنية التي تهيئ لهذا المرض ضعف العقل - ولذلك ينتشر بين المجانين- والإمساك المتعاصي. ينتقل الميكروب من المصاب بواسطة البراز الملوث به إلى الشراب أو الطعام أو إلى الأواني وغيرها فيصل إلى أمعاء الآخرين ويُحدث فيهم المرض، فهو في عدواه يشبه الحمى التيفودية سواءً بسواء. ومما ينشره أيضًا بين الناس الذباب والعواصف، فإنها تنقل الميكروب من البراز وتثيره مع الغبار إلى الطعام أو الشراب وغيرهما. ولهذا الداء أيضًا حملة أصحاء كالذين ذُكِروا في باب الحمى التيفودية والدفتيريا. الأعراض- مدة التفريخ تتراوح بين بضعة أيام وأحد عشر يومًا. ويبدأ المرض بالإسهال فيتبرز المصاب من مرتين إلى ست برازًا سائلاً مصفرًّا أو يميل إلى السمرة ويحس بألم في بطنه وتوعك عام وفقد في شهوة الطعام. وبعد ثلاثة أيام أو أربعة تكثر فجأة مرات التبرز حتى تصل إلى عشر أو عشرين بل أربعين فستين أو أكثر. ويكون قدر البراز في كل مرة قليلاً جدًّا يخالطه مخاط ومصل ودم وصديد وبعض أجزاء من الغشاء المخاطي للأمعاء، وقل أن يُشَاهد فيه شيء من مواد البراز الطبيعية، وقد يكثر النزف حتى يتبرز المصاب دمًا خالصًا بسبب احتقان الغشاء المخاطي وتمزق عروقه في أول الأمر ثم بسبب تقرحه بعد ذلك، ويكون له رائحة مخصوصة، ويشتد المغص ويكثر الزحير ويلتهب باب البدن (الشرج) ويكثر بسبب ذلك التبول أيضًا أو يحصل فيه الزحير أيضًا فيميل المصاب إلى إخراج بوله نقطة فنقطة بحيث لا يمكنه الصبر على تجمع القدر المعتاد من البول في المثانة. وهذه الأعراض تؤثر في بنية المريض فينحف ويضعف ويصفر لونه ويبيض لسانه وترتفع حرارته ويصيبه الصداع والدوار والإقهاء والعطش. وفي الحالات البسيطة تخف وطأة المرض بعد ثمانية أيام أو عشرة، أما في الحالات الشديدة فتزداد الأعراض حتى تُنهك قوى المريض ويتقرح الشرج وما حوله من المقعدة، ويصاب بالهمود فتغور عيناه وتزرق أطرافه ويضعف صوته ونبضه حتى يموت. ويكثر في أول الأعراض أن يصاب الشخص بالقيء ويستمر معه بشدة حتى النهاية. ويقل البول أيضًا ولكن لا يوجد فيه زلال غالبًا. وفي بعض الإصابات يزمن المرض فيكون البراز أحيانًا طبيعيًّا وأحيانًا مركبًا من مخاط وصديد ودم مع الرائحة المخصوصة المذكورة، وتستمر تلك الحال أشهرًا عديدة، أو سنوات كثيرة فينحف المريض ويضعف وقد يموت- إذا لم يُعَالج- بنهاكة القوى أو بالمضاعفات كالالتهاب البريتوني من انخراق الأمعاء، أو يصاب بضيق فيها بسبب انقباض آثار التحام القروح. وقد وصف [القصطلاني Castellani] (وهو عالم إيطالي شهير له مؤلف ضخم في أمراض البلاد الحارة باللغة الإنكليزية) نوعًا من هذا المرض سماه [البارادوسنطاريا] وهو أخف من الدوسنطاريا المعتادة وله باسيل قريب من باسيلها. ويحدث المرض بسبب تأثير سم الميكروب في أنسجة القولون كما قلنا أثناء إفرازه من البنية فتموت أجزاء من الغشاء المخاطي وغدده وبعض الأنسجة العضلية التي في جدر الأمعاء فتتقرح، وقد يصل الالتهاب والتقرح إلى الغشاء البريتوني فيلتهب ويلتصق بأجزاء أخرى أو يخترق ويكون سببًا في الموت السريع. زد على ذلك أن المعدة والأمعاء الدقاق قد تصاب أيضًا بنزلة وتلتهب غدد المساريقا وتنتفخ الكبد وتحتقن. المضاعفات- التهاب الأعصاب بسبب تأثير السم فيها والتهاب المفاصل والأخرجة في أجزاء الجسم المختلفة والالتهاب البريتوني من الانثقاب والنزف المعوي الشديد. الإنذار- عدد الوفيات من 30 إلى 80 % ومما ينذر بالخطر سقوط أجزاء كثيرة من أغشية الأمعاء في البراز والنزف الشديد وكثرة القيء والهمود. والمرض قتال للأطفال والشيوخ والضعفاء ومدمني الخمر. المعالجة- يجب على المريض أن يلتزم الراحة في الفراش ويرتاح جيدًا حتى يدفأ وتخصص له آنية التبرز فيها لكيلا يتعب نفسه في الانتقال. فيكون غذاؤه سائلاً سهل الهضم مشتملاً على المواد التي يحتاج إليها الجسم، فيغلى له اللبن خالصًا أو ممزوجًا بماء الجير ويعطى له المرق، ولا بأس من تحلية اللبن بالسكر أو خلطه بقليل من النشا الصافي الذي يطبخ به، أو إعطائه اللبن الخاثر (لبن الزبادي) ولا يجوز أن تكون هذه المواد شديدة البرودة فإنها تهيج الأمعاء، والأفضل أن تدفأ. وتبدأ المعالجة الدوائية بإعطاء المسهلات كزيت الخروع أو الملح الإنكليزي وهو الأفضل، ومن الأطباء من يعطي هذا الملح بمقادير صغيرة كدرهم كل ساعة ليلاً ونهارًا حتى تكثر مواد البراز ويزول منها الدم والمخاط وتنخفض الحرارة ويزول الألم والزحير. ويمكن الاستمرار على تعاطي الملح بهذه الكيفية يومًا أو ثلاثة، ومن النادر أن يحتاج إلى أكثر منها، ثم يكمل العلاج بإعطاء مركبات البزموت [1] والأفيون وبعض المطهرات كالسالول. ويجوز في الحالات الشديدة حقن المريض بالمصل المضاد للزحار كمصل معمل (لسترlister) فيحقن منه 20 سنتيمترًا مكعبًا مرتين في اليوم في الأحوال المعتادة، وفي الأحوال السيئة يجوز الحقن إلى ثلاث أو أربع مرات، ويتكرر ذلك مدة يومين أو ثلاثة. وقد اكتشف حديثًا بعض كيماوي مصر حقنة أخرى يقال: إنها نافعة كثيرًا. والحقن في الشرج نافع في كثير من الحالات، فيحقن الماء المغلي بعد أن تصير حرارته فوق حرارة الجسم الطبيعية بقليل جدًّا، ويحقن كذلك دافئًا محلول البوريك 1% أو محلول حامض الصفصافيك بنسبة واحد إلى خمسمائة وغيرها. وحقن محلول ملح الطعام الدافئ بنسبة 7 إلى ألف نافع جدًّا ومقدار ما يحقن في كل مرة لتر. وهناك محقونات كثيرة لا حاجة إلى استقصائها. فإذا اشتد الألم والزحير يلبس في الشرج أقماع مركبة من الأفيون أو المورفين [2] مع زبدة الكاكاو، ومحلول ملح الطعام المذكور نافع أيضًا لإزالة هذا الزحير، والجلوس في الماء الساخن مريح أيضًا من الزحير وكذلك وضع اللبخ والكمادات الساخنة ونحوها على الشرج. والأفيون يسكن ألم البطن واللبخ الساخنة وإذا أصاب المريض الهمود أعطي المنعشات المنبهات كالقهوة والشاي والخمر، وغير ذلك مما ذكر مرارًا. فإذا تحسنت الحال يزاد طعام المريض تدريجًا كأن يأكل قليلاً من الخبز الهش الإسفنجي الجاف واللحم المفروم جيدًا، وهكذا يزاد الطعام حتى يصير كالمعتاد. وفي طور النقاهة يُعطى له مركبات الحديد والمواد المرة كالكيني بمقادير صغيرة لتقويته. الوقاية - تكون بما يأتي (1) بعزل المرضى وتطهير مواد برازهم بالمطهرات الطبية أو بحرقها ويجب أن تغطى أوانيها بخرقه مبتلة بمحلول مطهر منعًا من نقل الذباب للعدوى. (2) بمنع الناقهين من الاختلاط بالناس حتى تعلم طهارة برازهم من الميكروب بعد البحث البكتبريولوجي ثلاث مرات في ثلاثة أسابيع. (3) بالبحث عن الحملة الأصحاء إذا انتشر الوباء في مكان وعزلهم ومعالجتهم بالمطهرات للأمعاء أو بالحقن باللقاح ونحو ذلك حتى يزول الميكروب منهم. وهؤلاء الحملة هم من كانوا أصيبوا بالزحار أو اختلطوا بمصاب به. (4) بامتناع الأصحاء من شرب أي ماء إلا بعد غليه أو ترشيحه ومن أكل أي شيء إلا بعد غليه أو إزالة قشره أو غسله جيدًا بالماء المغلي أو المذاب فيه كبريتات الصوديوم الحمضية كما سبق. ولا يجوز استعمال الماء غير المغلي حتى لغسل الأواني أو للضوء. (5) بتجنب المواد العسرة الهضم والمسببة لاعتقال البطن، وكذلك يتقى البرد. (6) بإبادة الذباب بقدر الإمكان، وتنظف الطرق وترش جيدًا حتى لا يثار غبارها. (7) من العلماء من يشير على الأصحاء إذا خافوا العدوى بعمل اللقاح، وهو عمل محمود وقد أفاد في كثير من الأحوال، وأشهر من أشار بذلك القصطلاني. *** أمراض الفطر مادورا - أو - قدم مادورا داء Madura Disease هو داء منسوب إلى مدينة مادورا في جنوب بلاد الهند ويوجد كثيرًا في غيرها من البلاد الحارة والمعتدلة. وينشأ من دخول فطر مخصوص في القدم غالبًا (وأحيانا في اليد) وقد يصعد الداء من القدم إلى الساق، ومن النادر أن يصيب الجذع، فينمو هذا الفطر في الجزء المصاب وينشأ من تهيجه للمكان أنسجة مخصوصة تشبه الأنسجة الحمراء التي تتكون في الجروح ويسميها الأطباء المحدثون (بالأزرار اللحمية) ويتقيح المكان المصاب وتتلف أجزاؤه وتتآكل، وقد يصل الداء إلى نفس العظام فيحدث بها النخر وتتكون نواصير يخرج منها صديد وحبيبات سوداء أو سمراء وقد تكون بيضاء أو بيضاء مصفرة تبعًا لنوع الفطر، فإن له أنواعًا كثيرة. ويكون حجم الحبيبة كرأس الدبوس وقد يكون كبيرًا كحبة الحمص. وتتألف الحبيبة من خيوط كثيرة متفرعة ملتف بعضها بالبعض الآخر وهي خيوط الفطر نفسه. فإذا أصيب القدم بهذا الداء ورم وانتفخ أخمصه كثيرًا حتى يتحدب فترتفع الأصابع بسبب ذلك عن الأرض ويَسْوَدُّ الجلد وتظهر به حلمات متعددة ونواصير كثيرة فإذا سُبِرَتْ قد نجدها واصلة إلى العظام النخرة. وإذا أص

مبايعة شريف مكة وأميرها على ملك العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مبايعة شريف مكة وأميرها على ملك العرب جاء في جريدة القبلة التي صدرت بمكة في ثالث المحرم فاتحة هذا العام ما نصه: امتلأت قاعات قصر الديوان الهاشمي العالي صباح أمس بجماهير الأشراف الكرام والعلماء الأعلام والأعيان العظام بحيث لم يبق في بلد الله الأمين ذو حيثية ومكانة عالية إلا وحضر هذا الاجتماع الفخم ليعرضوا على جلالة سيدنا ومولانا المعظم أمنية طالما تمنوا إظهارها من حيز القوة إلى حيز الفعل ألا وهي إقناع جلالته بقبول بيعتهم له ملكًا على العرب ومرجعًا دينيًّا لهم ريثما يقر قرار العالم الإسلامي على رأي يُجمعون عليه في شأن الخلافة الإسلامية. ولما غصت أنحاء القصر العالي بحضرات الأعيان القادمين لهذا الغرض تشرف بالمثول بين يدي جلالة سيدنا المعظم في غرفة أعماله الخاصة حضرة العلامة الورع الشيخ عبد الله سراج رئيس علماء بيت الله الحرام وقاضي القضاة ونائب رئيس الوكلاء الفخام وأنبأ جلالته بحضور هذه الجماهير لعرض بعض المعروضات على مسامعه الكريمة، ولما شرّف جلالته قاعة الاستقبال الكبرى في الديوان الهاشمي العالي استقبل رجال الأمة تلك الطلعة الهاشمية المقدسة بقلوب طافحة بالمحبة والاحترام والإجلال والإعظام، ثم تمثل حضرة العلامة قاضي القضاة بين يدي جلالته نائبًا عن وجوه الأمة كما هي عادته في مثل هذه المواقف من القديم فعرض على جلالته الغرض من تشرف المجتمعين بالوقوف بين يديه وأنهم قد كتبوا عريضة في هذا المعنى يريدون تلاوتها على مسامعه الشريفة فأجابه جلالته بالكلمات الملوكية الآتية: (إنني لم أكن أرى ضرورة شديدة لهذا العمل الذي جئتم من أجله؛ وذلك لما أعلمه من نهوض بلادي بالأمر الذي نهضنا به وشدة إخلاصها له وعضها عليه بالنواجذ، ولم تنحصر هذه العواطف في بلادنا وحدها بل إن لعرب الشام وعرب العراق مثل ما لأهل بلادنا من الحرص على استرداد مجدهم وجمع كلمتهم. وقد وردت لي الرسائل من أعيانهم بذلك، على أن هذا الأمر الذي جئتم اليوم من أجله سينفي كل ما ربما يخطر على بال الذين يجهلون حقيقة أحوالنا من الخواطر البعيدة عن مبادئنا وشيمتنا وأصول ديننا وقوميتنا. وإنني أقسم لكم بالله العظيم أنني لم أرد هذا الأمر الذي تكلفونني به ولم يخطر على بالي عندما قمت معكم بنهضتنا السعيدة، ولكني رأيت كما رأيتم أننا أمام خطر عظيم وخَطْب جسيم ربما قضى علينا القضاء المبرم إذا لم نبادر إلى إزالته. وهنا ارتفع ضجيج الحاضرين بالدعاء لجلالته والإلحاح بقبول الذي جاءوا لأجله، فقال جلالته: إنكم حملتموني أمرًا أنا أعرَف الناس بما يستلزمه من الجهد، وطالما قلت لكم إني واحد من جمهور الأمة أبرم ما يبرمون من حق، وأرفض ما يرفضون من باطل، وأمد يدي لكل من يتفقون على إسناد أمرهم إليه على كتاب الله وسنة رسوله وإذا كان لا مناص مما أردتموه فإني أشترط عليكم أن تعينوني على أنفسكم، وتساعدوني بآرائكم وأعمالكم في كل ما يحقق آمالنا وآمالكم من الخدمة العامة للعرب والمسلمين، وإننا نستعين بالله تعالى في كل ما يحبه من قول وعمل وعليه الاتكال في كل حال. ولما انتهى جلالته من الخطاب الملوكي الذي كان يتخلله دعاء الناس وثناؤهم أخرج حضرة قاضي القضاة العريضة التي أشرنا إليها وأعطاها لحضرة الشيخ عبد الملك مرداد ليتلوها على مسامع جلالته وهذه صورتها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ملك الحق المبين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي العربي سيد الخلق أجمعين، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فإن للعرب المنزلة الرفيعة بين الأمم؛ لأنهم في مقدمة الأقوام الساميين، الذين نشروا في الأرض حقيقة التوحيد وهداية الدين، فدانت الدنيا كلها في كل أزمانها إلى ما أراد الله أن يتمه على ألسنة أنبيائهم العظام من الشرائع الإلهية والسنن القويمة والمحامد الأخلاقية والفضائل والكمالات حتى استنارت الأمم بنورهم واهتدت بهديهم. ولقد فضل الله في كتابه الكريم ولد إسماعيل وآل إبراهيم على العالمين جميعًا، وأنه قد ثبت في صحيح مسلم أن الله اصطفى كِنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى من بني هاشم نبينا وفخرنا وذخرنا جدكم الأعظم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. فبجدكم الأعظم خرجنا من الظلمات إلى النور، وببيتكم الأقدس كان رشادنا بعد الجهل، وأن البيت الذي عدل بنا عن طريق الغواية، إلى طريق الهداية؛ لا يزال ملزمًا بلم شعثنا. وتقويم أودنا، واستلام زمام أمورنا، مهما تجشم من العناء لأجل هنائنا، ومهما تحملتم من الجهد لأجل سعادتنا؛ وما كان لنا أن نلجأ لغير البيت الذي اختاره الله -عز وجل- ولا أن نصطفى قومًا غير الذين اصطفاهم لنفسه وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين) وأنه قال -صلى الله عليه وسلم-: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان [1] . فأنتم قريش بل أنتم الصفوة من هاشم، وإننا ندين الله تعالى يوم الوقعة الكبرى بين يديه بأننا لا نعلم اليوم أميرًا مسلمًا أتقى لله منكم وأشد خوفًا منه وتمسكًا بأوامره وإقامة لشعائره قولاً وعملاً، وأقدر على أمورنا بما يرضي الله عز وجل، ونحن الذين عرفناكم في أيام الرخاء وأيام الشدة وفي حالتي السر والعلن. وإن حولكم أمة برهنت في أدوار كثيرة من أدوار التاريخ على أنها عظيمة المدارك، عالية الهمة، كثيرة الإقدام، حازمة عادلة صبور [2] رحيمة منصفة. ولو أن صفحات التاريخ فقدت من الوجود لكفى في الدلالة على عقلها لغتها التي حيرت أسرارها العقول، وآدابها التي هي خِزانة المعارف، فضلاً عما أقامته من معالم الحضارة في كل بقاع الدنيا القديمة مما لا يزال أثره ماثلاً للأنظار. إن أمة كهذه أثبتت العلوم الحديثة أن تكوين دماغها وارتقاء عقلها لا يقل عن مثله في أرقى الأمم، وبرهن تاريخها على أنها أمة جد وعمل وتفنن وحسن سلوك ومكارم أخلاق، تحفظ الجميل لمن يزديه إليها، وتعرف كل من له يد عليها، لَهي أمة تستحق أن تنتشل من قيودها الثقيلة وتنقذ من وصاية فئة سفاكة مخربة جاهلة مغرورة، ليس فيها استعداد فطري للتحلي بشيء مما تحلى به العرب من المزايا والخصائص، والأخلاق والفضائل؛ وإن من مظالم عصرنا الفادحة رضاء الأمم ببقاء العرب محكومين لتلك الفئة الوضيعة التي تحتاج إلى الحجر عليها، لا أن تكون أمة كأمتنا ذات مجد أثيل وتاريخ وآداب عالية وفضائل سامية راضخة لوصاياها خانعة لجورها، حتى ذاقت صنوف الذل وأنواع الهوان باسم الإسلام الذي تنقض هذه الفئة كل يوم دعامة من دعائمه. وقد ورد من حديث جابر عند أبي يعلى بسند صحيح: إذا ذلت [3] العرب ذل الإسلام. فنحن يا سيد العرب ومنقذ الإسلام من أيدي أعدائه المارقين، نحمد الله إليك الذي أعزنا بك، ونصر جند الله ببركتك وروحانية جدك صلى الله عليه وسلم، ونتقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- بمحاربة من حاربك وموادة من وادّك، وأن مودة آل بيت رسول الله -عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام- هي الأجر الذي سأله على ما هدانا إليه من سعادتي الدنيا والآخرة حيث قال عز من قائل: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) [4] . فانهض يا سيدنا إلى ما شاء الله أن يجريه على يديك من إصلاح شئوننا وولاية أمورنا نحن معاشر العرب الذين يعلقون آمالهم على صلاح دينهم ودنياهم على تبوئك سرير ملكهم. وإننا نبايع سيدنا ومولانا (الحسين بن علي) ملكًا لنا نحن العرب يعمل بيننا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ونقسم له على ذلك يمين الطاعة والإخلاص والانقياد في السر والعلانية، كما أننا نعتبره مرجعًا دينيًّا لنا أجمعنا عليه ريثما يقرّ قرار العالم الإسلامي على رأي يجمعون عليه في شأن الخلافة الإسلامية. نبايعك على هذا يا صاحب الجلالة ونقسم لك بالله العظيم على طاعتك والرضا، بك والانقياد إليك في السر والعلانية. ولك علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقمت الدين، واجتهدت فيما فيه صلاح حال العرب والمسلمين {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 10) . غرة المحرم الحرام سنة 1335. ولما انتهت تلاوة العريضة أقبلت جماهير الحل والعقد من الأشراف والعلماء والأعيان وكبار التجار وسائر ذوي الحيثيات فبايعوا على ذلك بوجوه مستبشرة وقلوب طافحة بالسرور. ثم تقدم حضرة الفاضل الشيخ فؤاد الخطيب فبسط لدى جلالته آمال سورية العربية، وذكر أن أولئك الشهداء الذين سارت بذكرهم الركبان إنما ماتوا من أجل الوحدة العربية، ولتفانيهم في الدفاع عن شعائرهم الإسلامية، وقال: إن سكان تلك الديار جديرون بأن يكونوا من جملة العرب المستقلين المتمتعين برعاية جلالة سيد العرب وملكها. وبايعه بعد ذلك أسوة بسائر العرب على كتاب الله وسنة رسوله. ثم تقدم حضرة الشيخ عبد العزيز مرداد فدعا لهذه الدولة بالعز والسؤدد والارتقاء والفلاح بعناية سيدها ومنقذها جلالة ملك البلاد العربية. فأمن الحاضرون على كل جملة من دعائه. وقبل انفضاض هذه الحفلة الكبرى تفضل جلالة سيدنا الملك المعظم فأجاب استرحام القوم بتعميم البيعة في المسجد الحرام في وقت مخصوص سنعلن عنه في العدد القادم. وذلك إكرامًا لخواطر طبقات الشعب الذي أظهر الرغبة بالاشتراك مباشرة مع من قام عنه بالبيعة وناب منابه في أداء واجباتها. وفي آخر الحفلة تلا حضرة الشاعر الأديب الشيخ عبد المحسن الصحاف خطبة أنيقة بصوت جهوري وأتبعها بقصيدة غراء تناسب المقام اهـ. (المنار) إن سبق أهل العلم والمكانة والرأي في مكة المكرمة إلى هذه المبايعة وما تلاها من مبايعة وفود سائر بلاد الحجاز الذي فصلت خبر جريدة القِبلة في عدد آخر مبني على ثلاثة أسباب: (1) اعتقادهم أن فئة الاتحاديين الملحدة الباغية قد تغلبت على الدولة العثمانية بقوة الثورة والاعتماد على الألمانيين الطامعين في البلاد ووضع الدولة تحت وصايتهم حتى لم يعد للسلطان أدنى استقلال في حكم ولا رأي. (2) أن اعتداء هذه الفئة الباغية على العرب ومحاولتها إهلاكهم كما أهلكت الأرمن بغضًا فيهم وفي دينهم، وامتداد بغيها من الشام إلى الحجاز وما ترتب عليه من الحصر البحري قد اضطر أهل الحجاز إلى إعلان الاستقلال التام كما بيناه من قبل وذلك لا يتحقق إلا بمبايعة الأمة المستقلة لحاكمها أو بتغلبه هو عليها بالقوة، وحكومة الحجاز من النوع الأول المشروع. (3) أن صاحب الحجاز وأهل الرأي فيها يائسون من بقاء استقلال الدول العثمانية، وجازمون بأنها إما أن تكون تحت سيطرة الألمان القاسية، وإما أن تنحصر سلطتها في بعض ولايات الأناضول، فبهذا وجب على العرب أن يسارعوا بعد الاستقلال بما استطاعوا من بلادهم إلى تعيين شكل حكومتهم المستقلة، ويطالبوا الدول المحالفة لهم بالاعتراف باستقلالهم قبل عقد الصلح؛ لئلا تعدهم الدول من أتباع الترك. ونحن قد بينا رأينا في هذه المسألة في خطبتنا التي ألقيناها بين يدي الشريف الأعظم وعلى مسم

مبايعة وفود الأقطار الحجازية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مبايعة وفود الأقطار الحجازية جاء في العدد الرابع والعشرين من جريدة القبلة الذي صدر في 10 المحرم ما نصه: (شهدنا في صباح أول أمس جموع العرب من سلالة مضر وربيعة وقضاعة وقحطان، وإخوانهم من مختلف الأمم والأقطار؛ يهرعون من باب الصفا إلى باب الله الحرام ألوفًا بعد ألوف، ملبين دعوة دينهم ويقينهم، ومجيبين نداء وجداناتهم وضمائرهم، في تقليد أمرهم لأقدر المسلمين على القيام به. ولما كانت الساعة الثانية عربية كان جلالة الملك المعظم قد جاء من القصر الملوكي إلى مدرسته الملاصقة لبيت الله الحرام فدخل إليه منها يحف به آل البيت الأطهار، وعلماء الشرع الأبرار، ووجوه الأمة الأخيار، فتنحت الجموع العظيمة لقرة عينها، وسبب عزها وسعادتها، وحينئذ أعطى حضرة العلامة صاحب المعالي قاضي القضاة ونائب وكيل الوكلاء عريضة أهل الحل والعقد لحضرة الفاضل الشيخ عبد الملك الخطيب ليتلوها على مسامع من لم يسمعها من جمهور الأمة فيكونوا على بينة مما تضمنته من الحقائق الدينية والدنيوية، فصعد حضرة الخطيب على دكة أقيمت أمام رواق الحرم الشريف وقرأها على الجماهير فقابلوها بالجذل والحبور والفرح والسرور. ثم أقبل حضرة قاضي القضاة على يد حضرة صاحب الجلالة الهاشمية ملك البلاد العربية فبايعه بالصيغة التي نشرناها ضمن العريضة في العدد الماضي من القبلة [1] وتبعه حضرات الأشراف والسادة ورجال الدولة والعلماء والأعيان ووفود البلاد فجماهير الأمة على اختلاف طبقاتها. وكان رجال الشرطة يحافظون على النظام بكل دقة وانتباه. وقد رأى حضرة قاضي القضاة بعد أن تشرف بضعة ألوف من الناس بشرف المبايعة السعيدة أن الوقت لا يتسع لاستمرار الألوف الكثيرة في ذلك فطلب منهم أن يجيزوه في أخذ البيعة عنهم فأجازوه إجازة إجماع عام مطلق، فبايع عنهم على مسمع منهم، ثم صعد حضرة الشيخ عبد الملك مرداد على الدكة فدعا بدعاء بليغ خشعت له القلوب وأمّنت عليه الألسنة. وعند ختام الدعاء عاد جلالة ملكنا المحبوب إلى المدرسة فلبث فيها برهة، ثم سار موكبه الفخيم إلى الديوان الهاشمي العالي وجماهير الأمة تهتف له بالنصر والعز والتأييد، وتلاميذ المدارس مصطفة تحت الأعلام العربية المنصورة تنشد أناشيد الحماسة والاستبشار بالمستقبل الباهر السعيد. ولما وصل الموكب الفخيم إلى القصر الملوكي العالي أقبلت ألوف الناس من العظماء الأعيان والتجار ومن في طبقتهم للتشرف بالأعتاب الهاشمية. وأخذ الخطباء والشعراء يتبارون في بيان عواطف الأمة بهذا العيد الأعظم للعرب والإسلام) . (المنار) قد نشرت جريدة القبلة ما وصل إليها من تلك الخطب والقصائد فاستغرق العدد كله. وقد ذكرت أسماء أشهر رجال الوفود من جدة والطائف وغيرهما. وقد علمنا أن كثيرًا من زعماء العرب وفضلائهم في الجزيرة ومصر. قد رفعوا إلى ملك الحجاز رسائل التهاني بالبرق وبالبريد.

احتضار سورية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ احتضار سورية شهادة جريدة القبلة ترجم أحد مراسلي الجرنال دي كير في جنيف مقالة نشرتها جريدة ألمانية في زوريخ- هي (نيوزوريخر زيتويغ) - في 12 أكتوبر الماضي وصفت فيها شقاء سورية ويأسها أو اليأس منها، وإننا ننشر ترجمتها بالعربية نقلاً عن جريدة الأهرام الصادرة في 30 المحرم؛ لأن شهادة الألمان في هذه القضية -وهم أعوان الاتحاديين على تتبير العرب كالأرمن- لا تجرح بالكذب ولا الغلو كشهادة غيرهم. وهذا نصها: (إن الجرائد السورية التي يرقبها الألمان رقابة شديدة صارمة تصف تعاسة تلك البلاد وشقاءها المر المفطر للأكباد، فإذا ضربنا صفحًا عن قتلى الحرب وجرحاها تجد أن الجوع والأوبئة كالكولرا والطاعون والتيفوس إلخ قد أفنت عُشر الأهالي ملكيين وعسكريين. فسورية المعرّضة لكل هجوم برًّا وبحرًا والمتصلة بالآستانة بخط حديدي واحد وهو خط (حلب - أطنة) تحملت من ويلات الحرب ما لم تتحمله بلاد أخرى، وإن لم تكن سورية ميدانًا للقتال، ولم تر المعارك الدموية إلا في حدودها الجنوبية، وهذه المعارك التي جرت لم تغير شيئًا من حالة قناة السويس ولا حالة الحرب بوجه من الوجوه وحال من الأحوال. ولا يذكر التاريخ أن هذه البلاد رأت من النوائب والبلايا منذ غزوة المغول [1] إلى اليوم ما رأته في هذه الأيام. فكثير من الأرض لم يزرع والمحصول لا يكفي للسكان. وفي شتاء عام 1915 بذل بعض السوريين المسلمين والمسيحيين بعض الجهد ليتخلصوا من الحكم التركي الذي ينهكهم، ولكنهم لم يفلحوا وكانت النتيجة أنهم ذبحوا جميعًا (يدرك القارئ أن الجريدة الألمانية تريد أن تبرر الذبح بزعمها أن أناسًا ثاروا على الحكومة مع أن الحكومة التركية لم تقل ذلك) . وزاد في فناء الأهالي واستئصالهم الجوع والطاعون، وسعت السلطة العسكرية أن تعالج الداء (؟) ولكن العلاج جاء متأخرًا وبعد فوات الوقت فلم يكن بالإمكان استخدام دواء ينجع ويفيد. وفتحت في القدس ودمشق وبيروت ويافا قاعات للشاي [2] جعل فيها ثمن الشاي والخبز والماء الساخن قليلاً أو بلا ثمن للفقراء والبائسين. وتألفت جمعيات للقيام مقام الأطباء في معالجة المرض وتنظيف المنازل والحارات والشوارع وعزل المرضى وتوزيع الأدوية التي يستطيعون الوصول إليها. ولكن المستشفيات العسكرية ذاتها ليس فيها أضمدة ولا موازين للحرارة ولا إبر للحقن ولا غير ذلك مما يعالَج به المرضى. ثم ضاعف الأوبئة وجعلها عامة شاملة الجوع والضيق. وقد كانت عائلات كثيرة تستبق حياتها بضعة أيام بقشور الليمون والبطيخ والطماطم إلى أن يمرضوا وتعينهم إحدى جمعيات البر. وقد صدق أحد مراسلينا في القدس بقوله: إن أورشليم المقدسة تنقرض الآن للمرة الثالثة، ولكن انقراضها في هذه المرة هو أتم منه في المرتين السابقتين. والحكومة الحالية التي هي ليست مسئولة كل المسئولية عما هو واقع (؟) تبذل الآن ما هو بوسعها لتدارك هذه الحالة (؟) ويعاونها جميع الناس من جميع المذاهب والجنسيات، وقد أهمل الناس جميع فروضهم الدينية خوفًا على حياتهم كصوم رمضان عند المسلمين وصوم الصيف عند اليهود، وكذلك سلك المسيحيون. وتجتهد السلطة العسكرية في أن توزع الحبوب بالقسط والعدل والمساواة بين المدن والقرى وتمنع الناس من تخزين الأقوات حتى لا تصعد الأسعار. ووزع جمال باشا حديثًا على فقراء دمشق بعض الأكل ولكن الجوع والضيق في المدن الكبرى في حال هائلة لا يستطيع قلم الكاتب وصفها وتصويرها للقارئ. فلا يمكن بحال من الأحوال أن تحول هذه المسكنات الوقتية التي يعالجون بها تلك البلاد دون احتضار الموت والنزع الأخير. فسورية هالكة مائتة لا محالة، ولا مرد لهذا القضاء عنها، وسواء بقيت بيد دولتها أو صارت إلى يد دولة أخرى فإن بعثها من مدفنها أمر مستحيل) . (المنار) هذه شهادة الألمان لحلفائهم بل عليهم. والتبعة والمسئولية في هذه الجنايات الفظيعة على هذا الشعب العظيم ليست كلها على حكومتهم الطاغية الباغية وحدها، وإن كانت أهلكت الحرث والنسل عمدًا، بل يقع سهم كبير منها على أستاذتها ألمانية التي علمتها كيف تأخذ من البلاد جميع الرجال القادرين على العمل والصالحين للنسل من سن البلوغ إلى سن الشيخوخة وتستعبدهم في أشق أعمال الحرب - وكيف تأخذ ما تنتجه الأرض بعمل الشيوخ والنساء والأولاد للسلطة العسكرية مصادرة ونهبًا، ولم تعلمها أن تبقي للأهالي الضعفاء الباقين ما يسد رمقهم وأن توزعه عليهم كما توزع هي الأطعمة في بلادها، ورضيت منها بالفظائع التي لا تحتاج فيها إلى تعليم؛ لأنها غريزة وراثية فيها كقتل العلماء والكتاب ورجال الإدارة حتى لا يبقى في البلاد من يعرف مصلحتها ويطالب بها، وكنفي أرباب البيوت ونهب أموالهم حتى لا يبقى في البلاد غني يلجأ إليه الفقراء والبائسون في وقت الضراء. ولماذا يموت السوريون جوعًا ولم يمت أحد من الألمان جوعًا وغلات سورية أكثر من حاجاتها وغلات ألمانيا دون حاجتها؟ ولماذا تقطع الغلات العثمانية الفيافي والقِفار والجبال والبحار حتى تصل ألمانية في قلب أوروبة وأهلها يموتون جوعًا؟ ولما تستنزف ألمانيا قوة الدولة العثمانية وثروة شعوبها وتسخرها كلها لخدمتها في هذه الحرب ولا تجود عليها بالأدوية التي تعالج به مرضاها وعندها من الأدوية ما يكفي أممًا كثيرة؟ الآن تذكرت الصحف الألمانية سورية بالرثاء، والاعتذار عن أحلافهم السفهاء؟ أبمثل هؤلاء الملاحدة الكفرة الفجرة تريد أن تجذب إليها العالم الإسلامي إلى الاتحاد بخدمتها؟ لقد صدق من قال: إن الألمان أتقنوا جميع العلوم والفنون، إلا علم طباع الأمم وأخلاق الشعوب.

متى يذكر الوطن النوم

الكاتب: شاعر اجتماعي سوري

_ متى يذكر الوطن النُّوَّم؟ للشاعر الاجتماعي السوري المقيم في أمريكة وقد نشرت في صحفها الشهيرة: جلست وقد هجع الغافلون ... أفكر في أمسنا والغد وكيف استبد بنا الظالمون ... وجاروا على الشيخ والأمرد فخلت اللواعج بين الجفون ... وإن جهنم في مرقدي وضاق الفؤاد بما يكتم ... فأرسلَت العين مدرارها ذكرت الحروب وويلاتها ... وما صنع السيف والمِدفع وكيف تجور على ذاتها ... شعوب لها الرتبة الأرفع وتخضب بالدم راياتها ... وكانت تذم الذي تصنع فباتت بما شيدت تهدم ... صروح العلوم وأسوارها نساء تجود بأولادها ... على الموت والموتُ لا يرحم وجند تذود بأكبادها ... عن الأرض والأرضُ لا تعلم وتغذو الطيور بأجسادها ... فإن عطشت فالشرابُ الدم وفي كل منزلة مأتمُ ... تشق به الغيدُ أزرارها لقد شبع الذئب والأجدلُ ... وأقفرت الدُّور والأربُع فكم يقتل الجَحفلَ الجَحفلُ ... ويفتك بالأروع الأروع ولن يرجع القتل من قتلوا ... ولن يستعيدوا الذي ضيعوا فبئس الأُلى بالوغى علموا ... وبئس الأُلى أججوا نارها أمن أجل أن يسلم الواحدُ ... تُطَلُّ الدماء وتفنى الألوف ويزرع أولاده الوالد ... لتحصدهم شفرات السيوف أمور يَحَارُ بها الناقد ... وتدمي فؤاد اللبيب الحصيف فياليت شِعري متى تفهم ... معاني الحياة وأسرارها؟ وحولت طرفي إلى المشرق ... فلم أر غير جبال الغيوم تحول على بدره المشرق ... كما اجتمعت حول نفسي الغموم فأسندت رأسي إلى مرفقي ... وقلت وقد غلبتني الهموم بربك أيتها الأنجم ... متى تضع الحرب أوزارها؟ كما يقتل الطير في الجنة ... ويقتنص الظبي في السَّبْسب كذلك يُجنى على أمتي ... بلا سبب وبلا مُوجب فحتَّام تؤخذ بالقوة ... ويقتص منها ولم تذنب وكم تستكين وتستسلم ... وقد بلغ السيل زُنَّارها وسيقت إلى النّطع سَوق النَّعَم ... مغاويرُها ورجال الأدب وكل امرئ لم يمت بالخذم ... فقد قتلوه بسيف السَّغَب [1] فما حرك الضيم فيها الشمم ... ولا رؤية الدم فيها الغضب تبدلت الناسُ والأنجمُ ... ولما تبدل [2] أطوارها أرى الليث يدفع عن غيضته ... بأنيابه ... وبأظفاره ويجتمع النمل في قريته ... إذا خشي الغدر من جاره ويخشى الهزار على وكنته [3] ... فيدفع عنها بمنقاره فلا الكاسرات ولا الضيغم ... ولا الشاة تمدح جزارها [4] عجبت من الضاحك اللاعب ... وأهلوه بين القنا والسيوف يبيتون في وجَل ناصب ... فإن أصبحوا لجؤوا للكهوف وممن ... يصفق للضارب ... وأحبابه يجرعون الحتوف متى يذكر الوطن النُّوَّم ... كما تذكر الطير أوكارها

ذكرى المولد النبوي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذكرى المولد النبوي [*] (2) البعثة النبوية وجملة سيرته - صلى الله عليه وسلم - قبلها كان -صلى الله عليه وسلم- وسطًا في قومه وأمته، ولكنه أرقاهم بل أرقى البشر في زكاء نفسه وسلامة فطرته، نشأ يتيمًا شريفًا، وشب فقيرًا عفيفًا، ثم كان زوجًا محبًّا لزوجه مخلصًا لها، ولم يتول هو ولا والده شيئًا من أعمال قريش في دينها ولا دنياها، ولا كان يعبد عبادتهم، ولا يحضر سامرهم ولا ندوتهم، ولم ينظم الشعر كما كانوا ينظمون، ولا عُني بالخطابة كما كانوا يعتنون، ولم يؤثر عنه قول ولا عمل يدل على حب الرياسة، أو البحث في شئون السياسة، ولم يشاركهم في شيء من خرافات الجاهلية وضلالات الشرك، ولا من المفاخرات الكلامية وشئون الغزو والحرب، بل كان يحب العزلة، ويألف الوحدة، وروي أنه في حداثته حضر سمرهم مرتين، ألقى الله فيهما عليه النوم. وحب العزلة والانكماش معروف عن كثير من الناس، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يمتاز في نشأته الأولى، على الأتراب، بالتزام الصدق والأمانة وعلو الآداب، فبذلك كان له فيهم المقام المكين، حتى لقبوه بالأمين. على هذا الحال كان -صلى الله عليه وسلم- حين بلغ أشُدّه واستوى، وكملت من جسده السليم ونفسه الزكية جميع القوى- لا طمع في مال ولا سُمعة، ولا تطلَّع إلى جاه ولا شهرة. وكان أول ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح [1] واضحة، ثم حبب إليه الخلاء [2] وكان يخلو بغار حراء [3] فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد [4] ثم يرجع إلى خديجة فيتزود [5] حتى جاءه الحق وهو على هذا الشأن بنزول القرآن عليه في شهر رمضان؛ بأن تمثل له الروح الأمين جبريل، ولقنه عن ربه أفضل التنزيل. قال له: اقرأ. فقال: (ما أنا بقارئ) كرر ذلك ثلاث مرات، وهذا من أمر التكوين لا من تكليف ما لا يُطاق، وكان الملَك بعد كل جواب يغُطّه أي: يضمه إلى صدره ويعصره، حتى يبلغ منه الجهد مبلغه، وحكمة ذلك أن تغلب فيه الروحانية على البشرية، ويستعد لتلقي الآيات الإلهية، فيكون واسطة بين الخلق والخالق، ومنتهى الحاضر ومبدأ الغائب ولما أرسله في الثالثة قال: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) أي: كن قارئًا بعد أن كنت أُمّيًّا، باسم ربك الذي خلق الإنسان الناطقَ من علق ولم يك شيئًا، لا باسمي ولا باسمك، ولا بحولي وقوتي ولا بحولك وقوتك، فهو القادر على جعلك قارئًا لآيات ربك، التي اقتضى جوده وكرمه أن يرسمها بالوحي في لوح قلبك، وعلى تعليمك من الكتاب والحكمة ما لم تكن تعلم، كما علّم الإنسان بالقلم وغير القلم ما لم يكن يعلم، فرجع -صلى الله عليه وسلم- بهذه الآيات إلى خديجة يرجف فؤاده، وقد ارتعد بدنه ولكن حُفظ رشاده، فقال: (زمّلوني زمّلوني) فزمّلوه؛ أي: لففوه بالثياب ودثّروة، حتى إذا ذهب عنه الروع أخبر خديجة الخبر، وقال: (لقد خشيت على نفسي) أي: الهلاك أو الضرر، فقالت له: كلاَّ والله ما يحزنك [6] الله أبدًا، إنك لَتصل الرحم [7] وتحمل الكلّ [8] وتُكسب المعدوم [9] ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق [10] . ثم فتر الوحي ثلاث سنين، قوي فيها الاستعداد واشتد الشوق والحنين. قال: (بينما أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء) وذكر أنه رُعب منه أيضًا. ولكن كان ذلك دون الرعبة الأولى، فرجع إلى أهله فتزمّل وتدثّر، فأُنزل عليه: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر: 1-5) ثم حمي الوحي وتتابع، وبلَّغ -صلى الله عليه وسلم- دعوة ربه فاشتد عليه أذى المشركين وتتايع. [11] فما هذا النبأ العظيم الذي جاءه بعد الأربعين، وما ذلك الأمر العظيم الذي دعا إليه بعد ثلاث وأربعين، فغيّر الله به على يديه تاريخ البشر أجمعين، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم. *** تبليغ الدعوة الإسلامية وخلاصتها إن ذلك اليتيم العائل في حداثته، الراعي الشريف التاجر القنوع في شبيبته، الزوج المخلص لزوجته، الوالد العطوف على بناته وصبيته [12] الأمي الذي لم يقرأ سِفْرًا، ولا كتب سطرًا، ولا شِعرًا، ولا ارتجل نثرًا، الناشئ في الأمة الأمية، التي فرقتها نزعات العصبية، واستحوذت عليها نزعات الوثنية، وغلبت عليها حمية الجاهلية، وأمست عاصمتها الدينية الدنيوية، ذات حكومة شبيهة بالعُرفية، ليس لها رئيس متبوع، ولا قانون مشروع؛ قام فيها يدعوها إلى توحيد يجتث جراثيم الوثنية، بتوحيد الربوبية والألوهية؛ وإلى استبدال الكتاب والعلم بتلك الأمية، واستبدال الحكمة بتلك الجاهلية، وإلى تزكية الأنفس من تلك الخرافات والتقاليد الوراثية، وإلى استعمال عقولها وحواسها في العلم والعرفان، والانتفاع بجميع ما في الأكوان؛ لأن الله تعالى سخرها للإنسان. بل قام يدعوها إلى ما هو أكبر من ذلك شأنًا، وأعم فائدًة ونفعًا، - قام يدعوها إلى كتاب مهيمن على الكتب السماوية، ودين أُنزل لإصلاح جميع البرية، وشريعة عادلة سماوية اجتهادية، تستأصل تلك الفوضى الاجتماعية، وتكفل لهم السعادة الإنسانية، بإعتاقها البشر من رِقّ السيطرة الروحية والسياسية، وجعلهم أحرارًا مستقلين في فهم العقائد الدينية، وأداء العبادات التي يتقربون بها إلى العزة الإلهية. وجعل أمرهم شورى بينهم في الأحكام السياسية والمدنية، وجعل المفاسد وحِفظ المصالح أساسًا للأمور الأدبية والشرعية، وجعل الإخلاص وحسن النية في الأمور الدينية والعادية، مما يستعد به الإنسان للحياة الأبدية، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضًا تقوم به الأفراد وتتعاون عليه الجماعات؛ لأنه سياج الفضيلة ومقوِّم الأخلاق والعادات. وجعل القتال ضرورة تقدر بقدرها، ويُجتهَد في إضعاف ضررها وشرها، فلا يقتل فيها النساء ولا الأولاد، ولا الأُجراء ولا العُباد؛ ولا يمثل فيها بالقتلى [13] ولا يُذَفف على الجرحى؛ [14] ومتى رجحت كفتنا بالإثخان [15] في الأعداء، نكتفي بالأسر عن سفك الدماء، {فَإِمَّا مَناًّ بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد: 4) ، [16] وتزول الضرورة التي أوقدت نارها، وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ جَنَحْنا لَهَا، [17] لأننا أحق بها وأهلها، إلى غير ذلك من ضروب الإصلاح، وأسباب الفوز والفلاح. ومن أهمها أحكام الرق، بما رغب وأوجب فيها من العتق. وأحكام اليتامى والنساء، في الحقوق والإرث والتصرف في الأموال، وحسْبُك من هذا الإصلاح العظيم، قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228) . قام ينبههم بأنه رسول من عند الله إلى جميع الأمم، من العرب والعجم، وأنه أوحي إليه هذا القرآن لينذرهم به ومن بلغ [18] ويتلو عليهم قوله تعالى: {تبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) ؛ ويخبرهم عن الله عز وجل بأنه سينصره عليهم، ويبشر المؤمنين منهم بأنهم هم الذين يحملون دعوته إلى غيرهم، وأن الله سيفتح لهم مصر والشام، ويعطيهم ملك كسرى وقيصر، وأنهم سيكونون هم الأئمة الوارثين، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) . قام - صلى الله عليه وسلم - بهذه الدعوة الكبرى، وذكر بها قومه فأعرض الأكثرون عن الذكرى، ولم يعقل أذكى قريش وأعقلهم لها سببًا إلا الجنون، أو نَبْز الداعي إليها بلقب شاعر أو كاهن مفتون؛ إذ كانوا يعلمون أنه لم يكن لديه شيء من الأسباب والوسائل، لما هو دونها بمراحل؛ لا حول ولا قوة، لا مال لا عصبية لا سليقة في الشعر تجذب القلب، لا تمرّن على الخطابة يؤثر في اللُّب، كما يعلمون أنه طُبِع على الصدق، وعاش طول عمره عيشة الجد، فكان أقرب ما توصف به تلك الدعوة إلى الظنون، أن قالوا: إنها نزعة من نزعات الجنون. ولولا ما أيده الله تعالى به من الآيات والبراهين، وأعظمها هذا القرآن الحكيم والنور المبين، ولولا تصديق الله تعالى إياه بالفعل، كما صدقه بذلك القول الفصل لقال بقولهم ذاك في كل حين من بلغته دعوى تلك الدعوة من المتقدمين والمتأخرين،] ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُون [19] ٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [[20] (القلم: 1-7) . أي برهان على النبوة أعظم من هذا، أميٌّ قام يدعو الكاتبين إلى فهم ما يكتبون وما يقرؤون، بعيد عن مدارس العلم صاح بالعلماء ليمحصوا ما كانوا يعلمون. في ناحية عن ينابيع العرفان جاء يرشد العرفاء، ناشئ بين الواهمين هبّ لتقويم عِوج الحكماء. غريب في أقرب الشعوب إلى سذاجة الطبيعة، وأبعدها عن فهم نظام الخليقة والنظر في سننه البديعة، أخذ يقرر للعالم أجمع أصول الشريعة، ويخط للسعادة طرقًا لن يهلك سالكها، ولن يخلص تاركها. (ما هذا الخطاب المُفحِم؟ ما ذلك الدليل المُلجِم؟ أأقول: ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم؟ لا، لا أقول ذلك، ولكن أقول كما أمره الله أن يصف نفسه: إن هو إلا بشر مثلكم يوحى إليه. نبي صدّق الأنبياء، ولكن لم يأت في الإقناع برسالته بما يلهي الأبصار، أو يحيّر الحواسّ، أو يدهش المشاعر، ولكن طالب كل قوة بالعمل فيما أعدت له، واختص العقل بالخطاب وحاكم إليه الخطأ والصواب، وجعل في قوة الكلام وسلطان البلاغة وصحة الدليل، مبلغ الحُجة وآية الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [21] . كان مثله -صلى الله عليه وسلم- في إثبات ما جاء به مثل رجل في بلد كثرت فيه الأمراض، ولم يكن لدى أهله طبيب ولا علاج، فادّعى أنه طبيب يبرئ العلل، فكذبوه فأثبت دعواه بالعلم والعمل، إذ جاء بكتاب عالج به أولئك المرضى الذين أعضل داؤهم، واختلفت أمراضهم، فشُفُوا وعادت إليهم صحتهم؛ إلا مَن أعرض عن دوائه، حتى هلك بدائه، بل الأمر أعظم من ذلك. ألا إن مداواة أمراض الأمم الروحية والاجتماعية، أعز وأعسر من مداواة الأمراض الجسدية، وتتوقف على علوم كثيرة لا على علم واحد، يُدرس الآن منقولها ومعقولها في كثير من المدارس، وما أكثر من درسها في كتبها، وتلقاها عن أساتذتها، يقدر على إصلاح أمة من الأمم بالعمل بها، فما القول في أميّ نشأ بين أميّين، قام بذلك الإصلاح الذي تغير به تاريخ البشر أجمعين

رحلة الحجاز ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز (2) تابع لما في الجزء الخامس ضربت وزارة الداخلية يوم السبت الخامس والعشرين من شهر صفر (الموافق لأول الميزان 23 سبتمبر) موعدًا لسفر ركب المَحمل المصري من القاهرة إلى السويس وآذنت مريدي الحج بأن يكونوا قبل ذلك اليوم في السويس ليأخذوا فيها أهبتهم ويتبوءوا أمكنتهم من الباخرتين اللتين أعدتها لحملهم إلى جدة. وبينا أنا منهمك في الاستعداد للسفر بشراء ما ينبغي شراؤه، وترتيب ما تقرر حمله، وإعداد ما تحتاج إليه الدار، وإدارة المنار، خطر في بالي أن أكتب رسالة في مناسك الحج أبين فيها أحكامه وحكمها بعبارة سهلة، مأخوذة مما صح في السنة، وأن أطبعها وأحملها معي هدية للحجاج الذين أصحبهم وألقاهم. فشرعت في ذلك وقت الظهر من يوم الأربعاء فكنت أكتب عدة سطور ثم أترك الكتابة عدة دقائق للاشتغال بشيء ضروري. ثم إنني اضطررت إلى ترك الكتابة من ظهر يوم الخميس إلى ضحوة يوم الجمعة، ثم قضيت أصيل ذلك النهار وغسق الليل خارج المكتب والدار، فتعذر الجميع بين إكمال المناسك والسفر في يوم الجمعة فأكملت في هذا اليوم (الجمعة) فكانت أكثر من كراستين وقد ضاق الوقت على طبعهما قبل السفر؛ إذ تعين أن يكون آخر موعد له قبل الظهر بساعة من يوم السبت، فاضطررت بعد جمع حروفهما ليلاً إلى اختصار الأولى بالحذف من عدة مواضع منها، وطبعت بعد أن نمت فلم أتمكن من تصحيحها، فلذلك كثرت أغلاطها، وتعذر على المطبعة أن تجهز لنا ضحوة السبت جميع النسخ فاكتفينا بحمل مئات منها. ركبنا القطار الحديدي مع السيدتين الوالدة والشقيقة قبيل انتهاء الساعة الحادية عشرة من يوم السبت ببضع دقائق، وكان ركب المَحْمل قد سافر في قطار خاص في أول هذا اليوم، وودعنا في المحطة الأهل والإخوان، وخاصة من علم بموعد سفرنا من الخلان، وقد كنا بلونا لوعة الوداع بتعدد الأسفار، وكان أشجاها وداع الوالدين والأقربين والأصدقاء عند الهجرة إلى هذه الديار، ولكنني لم أذق قبل هذا اليوم لوعة توديع الأهل والأولاد؛ لأنني لم أكن في حال سفر من أسفاري السابقة زوجًا ولا والدًا. *** نبذة فلسفية في الوداع وما فيه من تهذيب الطباع قرأت قبل سفري الأول كثيرًا مما قال الأدباء والشعراء في الوداع، وحفظت من أشعارهم ما لا يسهل علي أن أتذكره الآن، ولا أحب أن أشغل بالتطويل في هذا الموضوع قراء هذه المجلة، ولا أن أترك الإلمام به وهو من أهم مسائل علم النفس التي تفيد بصيرة في علم التربية. إنني عند وداع الوالدين وذوي القربى والأصدقاء في سفر الهجرة إلى مصر وجدت في نفسي وفيمن ودّعت منهم مصداقًا لقول الشاعر: لو كنت ساعة بَيْنِنا ما بيننا ... ورأيت كيف نكرر التوديعا لرأيت أن من الدموع محدِّثًا ... وعلمت أن من الحديث دموعا فقد كان الحديث للدموع وحدها؛ لأن لسان الفم حبس فخرس، ولسان العينين انطلق بالكلام المنسجم، وقد كتبت إلى بعضهم بعد الوصول إلى مصر عبارة شعرية كنت شعرت بأنها حقيقة وجدتها في نفسي، وهي أنني وجدت وجد المودَّع ولوعته يساويان وجود جميع من ودعوه وإن كثروا، لأن كل واحد منهم فارق محبوبًا واحدًا وهو قد فارق أحبابًا كثيرين يجد في نفسه من الألم لفراق كل منهم مثل ما يجده ذلك الفرد لفراقه هو، فالصواب أن لكل نوع من أنواع الوجدان والشعور واحدًا يختلف باختلاف أمزجة الناس ويتفاوت في الأفراد بتفاوت ما يثيره في قلوبهم، ولو أمكن أن يوضع للإدراكات النفسية موازين كموازين الحرارة والرطوبة والثقل لعلمنا بها أقصى حد لألم الفراق في نفس العاشق الواله، وفي نفس مثل الزوج، والوالدة والوالد، وهو إنما يبلغ حده الأقصى إذا كان الفراق بعيد الشُّقة، أو عرضة للهلاك. أو شدة المشقة، كسفر ابن زريق من بغداد إلى المغرب في ذلك العصر، فهو لولا الخوف من الفراق الأبدي لمن أحب لما قال في وداعه يومئذ قول العاشق الممثل لما في فؤاده، لا قول الشاعر المصور لما في خياله: ودعته وبودي لو يودعني ... طيب الحياة وإني لا أودعه كم قد تشفع بي ألا أفارقه ... والضرورات حال لا تشفعه وكم تشبث في يوم الرحيل ضُحًى ... وأدمُعي مستهلات وأدمعه لا أكذب الله، ثوب العذر منخرق ... عني بفرقته لكن أرقعه ذلك بأن وداع الأحباب عند سفر قاصد (قريب) إلى خير مرجوّ في حرم آمن، ليس كالوداع في سفر بعيد يضعف فيه الأمل، فيما يثيره من الوجد والألم. بل أقول: إن الأنفس تهوى بعض الآلام الخفيفة، وتجد في باطنها لذة خفيفة كلذة العاشق المُستكنّة في هجر محبوبه إياه هجر دلال أو هجر مَلال، بما فيه وما يتلوه من تهييج عواطف الحب والوجد والاشتياق، الذي يشبه كد الذهن وإتعابه في حل المسائل العلمية العويصة، أو إجهاد البدن في بعض الأعمال الواجبة أو الرياضيات المستحبة، في أن كلاًّ من ذلك جامع بين الألم واللذة، أو ربما يترتب عليه من لذة الشكوى والعتاب كما قالت عليّة بنت المهدي: وأعذب أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب إذا لم يكن في الحب سُخط ولا رضًا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب وإذا كان لكل شعور ووجدان نفسي غاية وحد فسواء كان السبب الذي يبلغ به منتهى حده واحدًا أو متعددًا، وإذا كان الغلو في حب الوالد أو العشق أو غيرهما من شأنه أن يترتب عليه بلوغ تلك الغاية وهو قلما يكون إلا في حب الآحاد من الأولاد والأحباب فإن الحب المتفرق على المحبوبين المتعددين من جنس واحد كالأولاد أو من عدة أجناس لا يكاد يكون إلا دون الحد الأقصى- إذا كان ما ذكر كما ذكر وهو ما نراه، فتلك القاعدة الشعرية التي كنت كتبتها لا تصدق بالاطراد، بل الأكثر أن لوعة الفراق المتفرقة على الكثيرين تكون دون اللوعة المقصورة على الأفراد. هذا وإن سفرنا إلى الحجاز سفر قاصد لأداء فرض لازم في عام يقل فيه عدد الحجاج فتسهل فيه مراعاة الحكومة لصحتهم، والبلاد سالمة من الأوبئة فالرجاء قوي بأن تؤدى الفريضة فيه بالسهولة في مدة شهر واحد. ففراق الأهل والصحب في مثل هذا السفر ليس من شأن وداعه أن يثير منتهى الأشجان، وينطق الدموع ويخرس اللسان، وناهيك بمن كان مثلي مسافرًا مع أشد الناس حبًّا له -والدته وشقيقته- وكم ودع الناس بعضهم بعضًا في مثل هذه الحال ضاحكين مسرورين، وكذلك ودعنا الأهل والأصدقاء في محطة مصر ودخلنا القطار، ولما وقفت في النافذة وقدم إلي محمد شفيع ونُعمى لأجل القُبلة الأخيرة، اضطربت عاطفة الأبوة في جميع أعماق النفس، فاضطرمت لوعة فراقهما في سُويداء القلب، ففاضت العينان، واعتقل اللسان، وخانتني تلك الإرادة التي كنت أكابر بها الأشجان، والعزيمة التي تعودت أن أملك بها أزِمة الوجدان، حتى عند الصدمة الأولى بموت الأخوة والإخوان، وما ذاك إلا أن ألم توديع الأولاد مشوب بلذة، لا تستجمع لمقاومته كل قوة الإرادة، وألم مثل تلك الصدمة، هو الذي توجه لاحتماله كل العزيمة. تذكرت في هذا المقام ما قاله صديقنا عبد الحميد الرافعي شاعر طرابلس الشام في توديع أولاده عند سفر له إلى الآستانة، وهو قوله من قصيدة: لست أنسى ساعة البين وما ... هي إلا فَكّ روح من جسد رمت فيها الصبر لكن لم أطق ... وحبست الدمع لكن لم يكد وبروحي غررًا قبلتها ... لجبين الحُسن منها مستمد من صغارٍ كاللآلي لجلجلت ... منهم الألسن والجفن اطّرد بعضهم أبكاه مرأى من بكى ... ليس يدري قطّ ما اليوم وغد والذي لاح له معنى النَّوى ... أطبق الدمع عليه فارتعد هل سمعتم يالقومي عاشقًا ... أَنِسَ الظبي به وهو شرد ليتني فارقت عيني والحشا ... قبلما فارقت أهلاً وولد أودعوني عندما ودّعتهم ... حسرة كانت من الموت أشد كلهم ينشدني قرب اللقا ... حاسبًا للعَوْد أيامًا تُعَدّ والذي لا يعرف النطق غدًا ... نُطقه الإبما بعين أو بيد وما بيني وبين هذا الصديق إلا أن سفري خير من سفره، وولدي أصغر من ولده، فقد كان بعض ولده يفهم معنى الفراق والسفر، ونُعمى لم تكن أتمت السنة الثالثة، وشفيع كان في أول الشهر الخامس عشر، وكان سبب سفره أن الشيخ أبا الهُدى الشهير غضب عليه غضبة مضرية، قطعت عليه موارد الرزق بعزله عن أعمال الحكومة، فرحل إلى الآستانة يستعطفه ويسترضيه، عسى أن يعود بجاهه إلى عمله أو عمل يفوقه أو يساويه، معلق القلب بين الفوز بالأمل، وبين الخِزي والفشل، لا يدري أيعود كما رجا أهله بعد أيام تُعَدّ، أو بعد شهور أو سنين لا تعد، حسب القاعدة المطردة في كل عمل يطلب من حكومة الآستانة! فأين السفر إلى تلك العاصمة، لطلب الرزق من أولئك الباخلين المخلفين؛ من السفر إلى مكة المكرمة، لطلب المغفرة والرحمة من أرحم الراحمين؟ لقد كان ذلك الشاعر جديرًا بأن لا تعود إليه السكينة، إلا بعد أن ينقلب إلى أهله بما يرجو من الوظيفة. وأما هذا الكاتب فقد عادت إليه سكينته بعد سير القطار بساعة زمانية، وإنما كان يفكر أحيانًا فيما يرجو من الاهتمام بصحة ولديه في غيبته، واستشارة الطبيب حتى عند الحوادث التي لم يكن يستشيره في مثلها، وقد ضعف التفكر في ذلك وفي غيره من أمور الدنيا منذ الإحرام إلى التحلل التام منه بأداء المناسك كلها، حتى كأن الإنسان يدخل بمجرد الإحرام في عالم آخر. والعِبرة فيما بيناه من فلسفة الوداع أن نذكّر القارئ بأن ألمه هو أول فوائد السفر المهذبة للنفس ولا سيما نفس الوالد، وقد غفل عنها من حصر ذلك في خمس فوائد. وإنني رأيت لبعض من آثر العُزبة وبعض من حُرم النسل يظنون أن الولد من منغصات العيش في الدنيا؛ لأن غبطة النفس به، وقُرّة العين برؤيته، ولذة الأمل بطول عمره وحسن مستقبله، لا توازي وداعه عند السفر، والحذر عليه من الموت أو المرض والضرر، دَعْ هَمّ الوالد في تربيته وتعليمه في حياته، والخوف من سوء حاله بعد مماته، ولا سيما إذا كان قليل المال، وكثر عليه العيال. وما هذه الظنون، إلا من أوهام الكُسالى والمحرومين، إلا أن عدم إقدام فاقد المال أو قليله على الزواج، له وجه في هدي الشرع وآراء الناس. وأما ما يدخل في موضوعنا منها وهو لوعة الوداع ومرارة الفراق، وما يتلوها من حرارة الاشتياق، فهو من أعظم فوائد نعمة الأولاد على الوالدين في تهذيب أنفسهم، وتثقيف عواطفهم، وإعلاء هممهم، وتقوية أريحيتهم، وهي على ما فيها من الفوائد، حلوة الطعم في ذوق الوالد، كما يستحلي العشاق تجنِّي الحبيب، ويقولون: ضرب الحبيب زبيب، ولو قيل للمشتاق: أتحب أن تخمد حرارة هذا الشوق في قلبك فتمسي لا تذكر من تشتاق ولا تحنّ إلى لقائه؟ لقال: لا. وفي معناه قول قيس العامري: وقالوا: لو تشاء سلوت عنها ... فقلت لهم: وإني لا أشاء ذلك بأن ما يهيج الوجد مما يشبه نغمات الألحان، المثيرة للأشجان، والمحركة للأحزان، على شهداء الحق في سبيل الإيمان أو الأوطان، الحافزة إلى الأخذ بثأرهم، والرغبة في اقتفاء آثارهم، وهي مما يرغب فيه الفضلاء، ويحث عليه الحكماء؛ وأن بكاء الفراق، الذي يُرجى بعده التلاق، كالبكاء من خشية الله -عز وجل- يحسبه من لم يذق طعمه عذابًا وألمًا، وما هو إلا نعيم وغِبطة، ولذلك قال من ذاق فعرف: أهل الليل في ليلهم، أطيب نفسًا من أهل اللهو في لهوهم. وقال بعضهم: لو يعلم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف، ولا تكمل تربية أحد إلا بركوب الصعاب وحمل الآلام والأثقال. وأبعد تلك الظنون بل الوساوس عن الحقيقة وأوغلها في ال

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 17

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (17) الأمراض التي تنشأ عن الميكروبات الحيوانية النافض أو الملاريا Malaria لفظ ملاريا أصله بالإيطالية كلمتان [aria mal] ومعناهما (الهواء الفاسد) سميت به هذه الحمى لتوهم الناس في زمن التسمية أن سببها فساد الهواء. يطلق هذا اللفظ على أنواع من الحمى تنشأ عن ميكروب حيواني من نوع [البيروتوزوا Protozca] (راجع صفحة 28 من هذا الكتاب) يعيش في دم الإنسان وينتقل من شخص إلى آخر بنقل بعض أنواع البعوض (النموس) ويسمى هذا الميكروب بالإفرنجية [Plasmodium] أو [أميبا الدم Ioemamoeba] وإنما قلنا: إنه يعيش في دم الإنسان؛ لأنه لم يعرف إلى الآن أنه يعيش في دم حيوان آخر من ذوات الثدي، ما عدا أنواعًا شبهه يعيش في دم بعض أنواع القردة ويُحدث لها حمى. تمتاز أخف أنواع هذه الحُمّى التي تحدث في أكثر البُلدان المعتدلة بتقطعها؛ بمعنى أن نوبها تفصل بعضها عن بعض بفترات يكون فيها المصاب كأنه سلم منها، أعني أنها لا تكون مستمرة كالحميات العفنة الأخرى، فتستمر النوبة بضع ساعات ثم تزول وتعود في اليوم الثاني أو في اليوم الثالث [Tertian] أو في الرابع [Ouartan] والنوع الذي يعود في اليوم الثالث هو الأكثر حدوثًا في الأقاليم المعتدلة. أما الذي يعود في اليوم الرابع فيكثر حصوله في بعض بلدان إيطالية والهند. وهناك أنواع أشد مدة الحمى فيها أطول وتعرف في إيطالية بالحمى الصيفية الخريفية [autumnal - Aestiv] وفي البلاد الحارة (بالحمى المستمرة أو الخبيثة) ويكثر انتشار هذه الحمى في الأقاليم التي بين خطي 63 شمالي خط الاستواء و57 جنوبيَّه. الأسباب - قلنا: إن الذي ينقل ميكروب هذه الحمى هو البعوض؛ فلذا توجد هذه الحمى حيث يوجد البعوض ويكثر، وتختفي أو تنعدم حيث لا يوجد، أعني أن حرارة الجو وكثرة الرطوبة والمستنقعات التي يتوالد فيها البعوض هما أعظم الأسباب لانتشار هذه الحمى. وجميع الأجناس البشرية عرضة للإصابة بها، ولكن السود أقل في ذلك من البيض. وهي تصيب الإنسان في جميع الأعمار. ومما يهيئ المرض ضعف الصحة والتعرض لرطوبة أو لحرارة الشمس الشديدة أو الإفراط أو التفريط في الأكل أو الشرب. وقد يمكن الميكروب في الدم ولا يحدث الحمى، وإنما يسبب ضعف الصحة وفقر الدم أو ضخامة الطحال، ولا يستمر بقاؤه في الدم إلى أكثر من ثلاث سنين إذا لم تتكرر العدوى به. ولهذا الميكروب أنواع، ثلاثة منها على الأقل تعيش في دم الإنسان، والأخرى في دم الطيور. وقد اكتشف ما يعيش منها في الإنسان بين سنة 1881 و1890. وهذه الأنواع الثلاثة تعيش داخل كريات الدم الحمراء وتتغذى بها فتمتص مادتها الهيموغلوبينية ويحولها إلى حبيبات ملونة (سوداء أو سمراء مصفرة) [1] . يمكن اعتبارها كأنها براز لها، فإذا كبرت خلية الميكروب انقسمت إلى عدة أقسام (تتراوح بين 6- 15 أو 20) وانفجر غشاء الكرية الحمراء فتخرج هذه الأجسام وتسبَح في الدم ثم تخترق كريات الحمراء وتسكنها وتفعل بها ما فعلته في الأولى. وكثير منها تقتله خلايا الطحال أو غيرها أو خلايا الدم البيضاء. وعند تمام نمو خلية الميكروب وانقسامها إلى عدة أقسام ترتفع حرارة المصاب؛ لأن الميكروب حينئذ يخرج سُمّه فيدور مع الدم. ومن ذلك ترى أن هذا الميكروب اللعين يفسد الصحة بإتلافه الكريات الحمراء التي عليها مدار التنفس وبإفرازه سمًّا يحدث الحمى، وهناك ضرر ثالث وهو إفرازه سمًّا آخر يذيب كريات الدم الحمراء فيتعب الكبد ويكثر من إفرازه الصفراء ويكثر الإسهال، وقد يبول المريض بولاً أحمر مشتملاً على مادة الدم الذائبة فيه- كما سيأتي- فتلتهب الكلى بسبب ذلك. ولا يلزم من دخول هذا الميكروب إلى الدم أن يحدث للمصاب ما ذكر فإنه قد يقتل ولا يصاب الشخص بشيء، وقد يكمن في الطحال إلى أن تضعف قوة مقاومة الجسم له فتظهر حينئذ أعراض الحمى، وقد تتغلب البِنْية بعد ذلك على الميكروب فتبيده وتحصل للجسم مناعة تقيه شره مرة أخرى. وهذا الميكروب قد يصيب الأجنة في أرحام أمهاتها غير أن ذلك نادر جدًّا. أما البعوض الذي ينقل العدوى من شخص إلى آخر فهو من النوع المسمى [Anopheles] وميكروب الملاريا لا يضره بشيء إذا دخل جسمه. واعلم أن ذَكَر هذا البعوض لا يمص الدم بل الأنثى فقط، وهي التي تحمل العدوى. ومدة حياتها تزيد عن شهر في الغالب. وتضع كل أنثى نحو 100 بيضة على سطح الماء طول كل بيضة نحو نصف ملليمتر أو ملليمتر كامل. وبعد يومين أو ثلاثة يفقس. وإذا كان الجو حارًّا فقست قبل ذلك، وتعود الأجنة في الماء وهي المسماة بالعلق، وبعد عدة أيام (13-23) تصير بالتطور بعوضة. ويمتاز هذا النوع من الأنواع الأخرى بما يأتي: (1) أن أنثاه لا تلسع الإنسان غالبًا ولا تمص دمه إلا ليلاً. (2) أن شواربها [Palpi] طويلة مثل منقارها [Prboscis] الغليظ. (3) أنه توجد في أجنحتها نقط مسودة بخلاف أجنحة الأخرى فإنها رائقة. (4) أن جسمها أطول وأنحف. هو مستقيم بخلاف الأخرى فإنها أغلظ وإذا وقفت على الحائط رأيت ظهرها محدودبًا. واعلم أن بعوضة الملاريا لا تنقل العدوى إلى بعوضة أخرى، فلا يوجد الميكروب فيها إلا إذا أخذته من الإنسان بامتصاص دمه. وإذا امتصت البعوضة دم المصاب لقحت [2] بعض خلايا الميكروب الخلايا الأخرى التي تتطور وتصل غدد اللعاب في البعوضة لتخرج منها أثناء وَخْز شخص آخر فتعديه بالملاريا، ومدة هذا الطور الذي يقضيه الميكروب في جوف البعوضة تختلف من 6- 16 يومًا بحسب حرارة الجو. والبعوضة لا تطير عادة من مواطنها إلى أبعد من نصف ميل إنكليزي. الأعراض- تكون نوب هذه الحمى في أول الأمر غير منتظمة غالبًا، ولعل السبب في ذلك أن الميكروبات التي تدخل الجسم تكون من أنواع مختلفة، فتتغلب البنية على أقلها عددًا، وبذلك ينفرد بالجسم نوع واحد وهو الأكثر عددًا، وفي بعض الأحيان يبقى نوعان أو ثلاثة. طور التفريخ يتراوح بين 3 أيام و12 يومًا، وهو طويل في الأشكال المنتظمة، قصير في غيرها، وقد يحصل المرض بمجرد التلقيح. وفي بعض الأحوال تتقدم الحمى بعض أعراض أخرى كالتوعك والصداع وآلام بالأطراف وغثيان وغيرها. ((يتبع بمقال تالٍ))

المنشور الهاشمي الشريف الثالث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنشور الهاشمي الشريف الثالث نشر في عدد الحادي والثلاثين من جريدة القِبلة الذي صدر في 4 صفر. بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) الحمد لله الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، والصلاة إلى سيدنا محمد صاحب الهداية الباقية ما بقيت العصور وكرت الدهور، وعلى آله وأصحابه الذين قاموا بعزائم الأمور، وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد: فقد حان لنا أن نخاطب أبناء بلادنا خاصتهم وعامتهم، وكبيرهم وصغيرهم، وحاضرهم وباديهم في حقائق الأمور التي كنا فيها، والحالة التي صرنا إليها، والواجبات التي حتمت علينا مقتضيات الدين والقومية والإنسانية أن نقوم بها حق القيام. فإنه لم يبق فيهم -ولله الحمد- من يخفى عليه أمر هؤلاء الأغرار الذين تسلطوا على المملكة العثمانية فأحلوا فيها ما أحلوا وحرموا ما حرموا، مما قدمت الإشارة إلى بعضه في منشورَيْنا السابقَيْن. واتخذوا دين الله لهوًا ولعبًا، وسلبوا السلطة من أيدي أهلها. وتصرفوا بالمملكة تصرفًا أضاعوا به من بلادها في بضع سنوات ما تزيد مساحته على مساحة بضع ممالك عظيمة في أوربا. وآذوا عباد الله بالقتل والشنق والتعذيب والتغريب ومصادرة الأموال وانتهاك الأعراض بما لا يحيط به العد والحصر. ولعل أرض الحرمين الشريفين كانت أقل الممالك العثمانية ابتلاء بمصائبهم ومفاسدهم. لا عن تكريم منهم لمشاعرها المقدسة، ولا رأفة منهم بأهلها، أو لأن الحجازيين أحب إليهم من سكان الروملي والأناضول والشام والعراق، بل لما سخرنا لله له من الوقوف لهم موقف النصح تارة والدفع بالتي هي أحسن أحيانًا، على أمل أن يصبح الذي بيننا وبينه عداوة كأنه ولي حميم. بذلنا ما في الوُسع لدفع الأذى عن هذه الديار بالطريقة المتقدمة، ولم نألُ جهدًا في تخفيف ظلمهم عن المسلمين وأهل ذمتهم في كل أنحاء المملكة، وحملهم على اجتناب كل ما ينكره الناس عليهم، وإقناعهم بخطر أعمالهم وما ستئول إليه من ضياع البلاد وهلاك العباد، وكنا نخلص النصح لرجالهم في الآستانة بمكاتبات محفوظة لدينا صورها وأعدادها وتواريخها، لا سيما في السنين الأخيرة. ومن المتيسر لكل إنسان أن يطلع عليها، وكذلك كنا ننصح لولاتهم هنا بطريق المشافهة والمخاطبة، وأوفدنا بعض أولادنا إلى الآستانة لهذا الغرض. ولكنهم لم تزدهم دعوتنا إلا ظلمًا وطغيانًا، وبغيًا وعدوانًا. ومما زاد مسئوليتنا بين يدي الله عز وجل، ثم أمام واجب الوطنية والقومية، ما وقع فيه قومي وأبناء جلدتي من الشدة التي لا تحتمل، حتى أمست بلادنا بسبب أولئك الأغرار الجاهلين منقطعة عن كل أقطار الدنيا، وأن قلب المؤمن لا يرضى في حال من الأحوال رؤية جيران بيت الله الحرام وهم يموتون من الجوع والعري على قوارع الطريق. وذلك مما هو معلوم لدى الخاص والعام والبدوي والحضري، ولا ريب أن أهل بلادنا لم ينسوا تلك الحالة المؤلمة والهلكة التي لمستها الأيدي وعاينتها الأبصار؛ لأن الحَوْل لم يحُلْ عليها بعد. وما كانت شدتها بالذي يستحق أن ينسى. حينئذ استخرنا الله عز وجل للقيام في وجوه الأئمة الظالمين والمخربين الملحدين، فرارًا من عاقبة قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه في حديث صحيح: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه) وقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث الطبراني: (خذوا على أيدي سفهائكم من قبل أن يَهلكوا أو يُهلكوا) وقوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الطبراني أيضًا بحديث صحيح: (أيما والٍ ولي شيئًا من أمر أمتي فلم ينصح لهم كنصيحته لنفسه كبَّه الله تعالى على وجهه يوم القيامة في النار) وقوله -عليه الصلاة والسلام- فيما رواه الطبراني أيضًا بحديث صحيح: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به) وقوله -صلوات الله عليه وسلامه- فيما رواه أبو داود في سننه: (خيركم المُدافع عن عشيرته) وقد خار الله لنا أن ننهض بأمتنا للأخذ على أيدي الظالمين، وإجلاء السفهاء المارقين، عن البلاد والعباد. طالبين لهم ما طلبناه لأنفسنا من جعل هوانا تبعًا لما جاء به - صلى الله عليه وسلم-، ودفع السوء عن عشائرنا وجماعتنا العربية التي صارحها هؤلاء الأغرار بعداوة جنسيتها ولغتها وتقاليدها وراحتها وهنائها في كل ما ظهر وما بطن من أقوالهم وأعمالهم. وها إن ما كنا نسمعه وتسمعونه من ضروب ظلمهم وبَغْيهم في عرب الشام والعراق، لم يسلم منه أهل المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فقد تواترت الأنباء بمضاعفة بغيهم وظلمهم فيها، وأخذوا في شنق النفوس البريئة وصلبها، مستعملين ضروب الوحشية الطورانية، وشرعوا بتشغيل بعض من وقع في أيديهم من سكان العوالي بالأشغال الشاقة بعد الفظائع الشنيعة التي أجروها لهم من قبل. ثم شنقوا أخيرًا ثلاثة من أعيان المدينة المنورة، وبدأوا بتجنيد الأهالي بالقوة، حتى استنجد بعض أهالي المدينة المنورة المكيين لينقذوهم مما هم فيه. فأي مروءة ترضى لحاكم مهما كان ظالمًا أن يسُلّ سيف حقده وضِغْنه وانتقامه في سكان المدينة المنورة الذين آثروا جوار النبي -صلى الله عليه وسلم- على كل لذائذ الدنيا، وصاروا أمانة الله في يد من يحكمهم، وإذا كان حقد المتغلبة وضغنهم قد وصل بهم إلى حد أن يمدوا أيديهم بالأذى العامة سكان المدينة المنورة الذين لا حول لهم ولا طَوْل في جانب القوة العسكرية المتسلطة عليهم فإن أولى بهم أن يخرجوا لقتال أولادي الأربعة ومن معهم من أفلاذ أكباد العرب، فهنالك موضع الشجاعة والقوة لا في قتل الأهالي الأبرياء والمجاورين الضعفاء، وها إن جيوش الحق زاحفة عليهم من أربع جهات لا من جهة واحدة، مجيبة داعي الله بالأخذ على أيدي الظالمين، وتأديب الملاحدة المارقين. وإنه لا يفوتنا بهذه المناسبة أن نعلن أمتنا المخلصة بسرورنا من غيرتها الإسلامية وحميتها العربية، وشكرنا لها على ما أبدته حتى الآن من البساطة والرجولية والشمم العربي ومشاركتها الفعلية في طرد المتغلبة المارقة من عقر دارنا وحصون بلادنا. فسطرت بذلك صفحة ذهبية جديدة في تاريخ البلاد العربية المجيدة واستحقت أن تكون صاحبة الفخر الأعظم باسترداد الاستقلال التام الدائم لبلادها ما دامت السماء والأرض إن شاء الله تعالى. وإن نظرة واحدة فيما كانت بلادنا عليه بالأمس وما صارت إليه بحول مُحوّل الأحول كافية لترديد شكر الله تعالى منا جميعًا على جزيل آلائه، وعظيم نعمائه فقد أبدلها من العسر يسرا، ومن الخوف أمنًا ومن الضعف قوة، وكانت مقدّراتها تحت تصرف وصيّ جاهل لا يراعي فيها إلاًّ ولا ذمة فأزاحه الله عنها. وصارت حكومتها منها وفيها، وفتحت لرجالها على اختلاف طبقاتهم أبواب العمل لإدارتها، واستعمال عقولهم وذكائهم ومواهبهم في تحسين أحولها، كما فتح لأبنائهم الطريق القويم إذا جدُّوا في إدراك الفضائل وتحصيل الكمالات، حتى يبلغوا بقدرة الله عز وجل سعادة الدنيا بتولي المراتب العالية في دولتهم، والمناصب الجليلة في حكومتهم؛ ويحصلوا على سعادة الآخرة بإيفاء ما يجب علينا من خدمة وفود الله وحجاج بيته الحرام، واستحصال جميع الأسباب التي تستلزمها راحتهم من كل الوجوه، وإن عزائم حكومتنا معقودة للنهوض بأمر المعارف على أساس قويم يضمن تهذيب ناشئة البلاد -إن شاء الله تعالى- على الوجه الذي أشرنا إليه. وإن كل ما حصل حتى الآن ليس إلا جزءًا قليلاً مما ستناله البلاد من الخير التدريجي الدائم، وإن كان كثيرًا بالنسبة إلى ما نحن فيه من التدابير الحربية، وبالنسبة إلى الوقت القصير الذي تمتعت فيه الأمة بالاستقلال. ومما لا يختلف فيه اثنان أن تأسيس الممالك يحتاج أن تبذل فيه كل طبقات الأمة ما تستطيعه من السعي والجهد والعمل، وأن يقوم كل فرد من أفرادها بما يحسنه من وسائل المساعدة للنهضة العامة، حتى يتم الخير العمم على أيديهم جميعًا فتشترك الأمة كلها في نتائجه بعد اشتراكها في مقدماته. وبهذا تقيم الأمة صُروح المجد، وتهيئ لممالكها أسباب الهناء والسعد. وأهم ما ينتظر من الأمة إخلاص النية والتناصح والتعاضد والدفاع عن الحق والمصلحة القومية والوطنية، فقد ورد في صحيح مسلم وسنن أبي داود والنسائي ومسند أحمد: (إن الدين النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) وفي صحيح مسلم: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يكذبه ولا يحقره، التقوى هاهنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) وفي سنن الترمذي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (يد الله على الجماعة) فبالتعاون والتآزر والتناصح تنجح الأمم وتفوز في معترك الحياة وتكتسب رِضى الله ورضى الخلق، وبهذا يأمرنا ديننا الإسلامي الحنيف، فلنكن مسلمين حقيقة، ومن كان مع الله كان الله معه، وإن ما نالته جيوشكم حتى الآن من النصر والفوز لم يكن بالإخلاص والنية الصالحة واستئصال شأفة الإلحاد والفساد، وشتان بين من يؤسس بنيانه على التقوى ومن يؤسس بنيانه على شفا جُرُف هارٍ. وإن من باب التحدّث بالنعم الإلهية، والتوفيقات الصمَدَانية، ما ترونه من أني لم أضنّ بنفسي وراحتى وحياة أولادي، على الدفاع عن راحة أبناء جلدتي ومصلحة بلادي، وذلك لما علمته من أن الخدمة لا تتم إلا بأن يعمل لها كلٌّ بما يستطيع. ومن نِعم الله تعالى على بلادنا هذه العربية اتفاق مصالحها مع مصالح من والاها من حلفائها، وإعلانهم العطف عليها في آمالها وأمانيها، وتصريحهم بأن من النقط التي لا تقبل التغيير والبديل بقاؤها في أيدي حكومة إسلامية مستقلة أمينة من كل طارئ خارجي. وإن من مقتضى أخلاقنا الإسلامية التي منها الاعتراف بالجميل شكر حلفائنا الكرام على إخلاصهم في صداقتنا وحسن سيرتهم معنا وبذلهم الوُسع فيما فيه خير هذه البلاد. وأنا سنحرص على دوام ما يؤيد هذه المنافع المتبادلة إلى ما شاء الله. ونستنهض همة أمتنا في الختام إلى العمل على حفظ ما بأيديهم من نعم الله السابغة، والاستمرار فيما أخذوا به من أسباب النهوض والتقدم؛ لأن الزمان الحاضر زمان جِدّ وعمل، وقد خاضت كل الأمم في معامع الحروب والخطوب تأمينًا لمصالحها وبقائها، وضحت كل مرتخص وغالٍ في سبيل عزها ومجدها، وإننا لجديرون بأن نكون في مقدمة الطامحين إلى إحياء الأمجاد، والسير في سبيل الأجداد، ورفع شأن البلاد، واجتناب كل ما يخل بنعمة حاضره، وسعادة مستقبله، ومن جهة ثانية فإني أحث قومي على الاقتصاد والأخذ بأسبابه وترك البطالة المنهي عنها في الدين الإسلامي، ولنا مُعتبَر في الحث وشدة المثابرة في وسائل الاكتساب مهما كان حكمنا على حالة بلادنا في الوقت الحاضر من جهة ما يظهر في النظرة الأولى من قلة أسبابها الاقتصادية، ولكن مباشرة العمل ستبين لكم أنها تأتي بثمرات لم تكن في الحُسبان، فيكون بها تعديل الحاجة وتهوين الضرورة التي أحست البلاد بها في الشهر الأول بل في الأسبوع الأول من وقوع الحصر. وإنه لم يبق لأحد عذر في الت

عاقبة الحرب ومكانة بريطانية العظمى منها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عاقبة الحرب ومكانة بريطانية العظمى منها كتبنا في أول العهد بالحرب مقالة نشرت في (ج 12م17) الذي صدر في آخر ذي الحجة سنة 1332 بينَّا فيها من استعداد الفريقين المتقاتلين ومن مقاصدها ما ظهر لنا بعد سنتين أنه أصح من كل ما نشر في الصحف مخالفًا له. وقد رأينا أن نعيد أواخر تلك المقالة للمقارنة بينه وبين كلام حديث العهد، نشر في جريدة التيمس، وهذا نص عبارتنا في تلك المقالة: (فجملة القول في المجموعين المتقاتلين أن إنكلترة وفرنسة وروسية وبلجيكة والصرب والجبل الأسود أكثر من ألمانية والنمسة والعثمانية رجالاً ومالاً وأساطيل بحرية وهوائية، ولكن ألمانية وحدها أعلى منهن استعدادًا ونظامًا، ولولا الأسطول الإنكليزي لرجحت على الجميع رجحانًا ظاهرًا، بل لأمكنها أن تحارب أوربة كلها وتنتصر عليها. بيد أن هذا السبق في الاستعداد ليس مما ينتظم في سلك الخوارق والآيات بل يمكن لدول الأحلاف أن يلحقوها به إذا عجزت في أول العهد عن بطشة فاصلة في فرنسة. أما إذا وقف مدها عند تدويخ بلجيكة، والاستيلاء عليها وعلى بضع ولايات من شمال فرنسة وجانب من بولاندة الروسية، فما بعد المد إلا الجزر، فإذا أمكن للحلفاء أن يزيدوا عدد جندهم ويمدوه بما لم تستطع هي مثله عاد لهم الرجحان عليها في البر، كما سبق لهم الرجحان عليها من قبل في البحر. فمحل الرجاء للحلفاء إنما هو التغلب بالكثرة بقاعدة قول الشاعر العربي: ولست بالأكثر منهم حصًى ... وإنما العزة للكاثر أما هذا المدد الذي يكون به الرجحان البري فلا يُرجى إلا من قِبَل بريطانية العُظمى؛ لأن الفرنسيس قد بذلوا كل ما في وسعهم، والروس-وإن كانوا أكثر عددًا- لا يجدون من الذخائر والسلاح ولا من الضباط ما يمكنهم من تجنيد العدد الذي تسمح لهم به كثرتهم، والإنكليز وحدهم هم القادرون على مضاعفة جنودهم، وعلى إيجاد ما يحتاجون إليه من السلاح والذخيرة؛ لكثرة معاملهم وعمالهم ومالهم، وليس عندهم جندية إجبارية تستغرق العمال، وتوقف حركة الأعمال، وإنما يعز عليهم التعجيل بإيجاد ضباط أكفاء لجيش كبير يجددون تنظيمه تجديدًا، ولكن الإنكليز أهل صبر وأناة، فما لا يدركونه في سنة يرضون بأن يدركوه في سنين، وتاريخهم مُرة أخلاقهم في ذلك. وقد قدر لورد كتشنر ناظر الحربية القائم بتجهيز الجيوش الإنكليزية مدة هذه الحرب بثلاث سنين. تبين لنا مما تقدم ما يراه كل الواقفين على الحقائق من أن هذه الحرب ليست إلا المظهر الأجلى للتنازع على السيادة والنفوذ والاستعلاء في الأرض بين الإنكليز وأبناء عمهم الألمان، وسائر الدول تبع لهما في عللها ومعلولاتها، ومقدماتها ونتيجتها. دع البحث في المقدمات فقد انتهى أمرها، وسيحكم التاريخ حكمه العادل فيها، وأما النتيجة فهي أن السيادة العُليا في الغرب والشرق ستكون لإنكلترة أو لألمانية لا محالة، ويكون أحلافهما تبعًا لهما، فتكون لإنكلترة إذا فازت هي وأحلافها بالنصر التام؛ لأنهم لن ينالوا ذلك إلا بها، ولا تنتهي الحرب إلا وقد انتهكت قواهن من دونها، واستحدثت هي من القوة فوق ما كان لها؛ إذ شرعت بتأليف قوة برية لم يكن لها مثلها في وقت من الأوقات، كما أنها تزيد الأسطول قوة على قوة، وحينئذ تكون أعظم الدول ربحًا وأقلهن خسارة، وإذا كان من بواكر هذا الربح مصر وقبرص والبصرة ومعظم مستعمرات ألمانية في إفريقية أو جميعها كما هو المنتظر فكيف تكون أواخره؟ وأما إذا كان النصر التام لألمانية وأحلافها فقد طالما لهجت الجرائد الإنكليزية والفرنسية وغيرها بأن ألمانيا حينئذ تجعل أوروبة كلها تحت سيطرتها، وتنتزع منها جميع مستعمراتها، وأنها بذلك تسود العالم كله، ولعلنا نعود إلى تفصيل القول في نتيجة الحرب على كل تقدير، بقدر ما تسمح به المراقبة الرسمية على الصحف ونلم في ذلك بأماني الشرقيين عامة والمسلمين خاصة [1] . هذا ما كتبناه منذ سنين وعدة أشهر، وأما ما جاء في جريدة التيمس مؤيدًا له فهو ما نشر في جزء المقتطف الذي صدر في آخر ديسمبر من السنة الماضية الموافق 5 صفر الماضي، وهذا نصه بحروفه إلا ما غيرته المطبعة من تأنيث أسماء الدول وأوربة بالتاء: *** رأي الإنكليز في عاقبة الحرب إن الألمان لجأوا إلى الدفاع بعد الهجوم في كل الميادين تقريبًا والحلفاء يفوقونهم في كل شيء عددًا ومادّة ما عدا القوة العقلية، وفي يدهم زمام البحار فهم يضيقون على الألمان تضييقًا لا يضعفه علم ولا تقوى على احتماله حمية وطنية مهما عظمت. وما من دولة محايدة يُؤْبَه لها إلا وهي تفضل الانضمام إليهم. وستكون العاقبة لنا حتمًا، ولكنها قد لا تزال بعيدة، فإن ألمانية لم تُقهر حتى الآن. تجنبت بوارجها القتال قبل أن يُقضى عليها. نعم: أُقفلت أسواق المسكونة في وجهها وأوصدت أبواب البحار أمام سفائنها؛ وقد حدث مثل ذلك لنابليون بونابرت في معركة الطرف الأعز، ولكنه بقي في أوج مجده وبقيت ملوك الأرض تخطب وُدّه وتتسابق إلى نيل رضاه. والإنسان يعيش في البر لا في البحر والدولة البرية التي تتسلط على نصف أوربة وتمتد سلطتها من البلجيك إلى الأناضول لا يمكن إذلالها بقوة بحرية؛ لأنها لا تزال تستورد ما تحتاج إليه من البلدان الواسعة التي تحت سطوتها. ولا مُشاحة في أن إيصاد البحار دون ألمانية قد أضر بها كثيرًا ولكن الضربة القاضية لا تكون إلا في البر. هذا ما حدث في الماضي وما سيحدث في المستقبل (المقتطف: وقد مثلت ذلك مجلة لندن بصورة وقف فيها الجنرال جوفر الفرنسوي أمام أمير البحر جاليوك الإنكليزي وقال: نِعِمَّا ما فعلت، ولكن الضربة القاضية تكون في البر لا في البحر- كما ترى في الصورة التالية) [2] . ولقد أخطأنا في إلقاء اعتمادنا كله على قوتنا البحرية وإهمالنا لقواتنا البرية فكنا كالخِراف أمام الذئاب لمَّا ذهبنا لمحاربة ألمانية في فرنسا؛ لأننا اعتدنا الراحة والرفاهة فأسأنا إلى أنفسنا وإلى أوروبة كلها بإهمالنا قوتنا البرية. وسبيلنا الآن أن نعلم أن قوة ألمانية الحربية لم تضعف حتى الآن ولا دليل على أنها لا تستطيع مواصلة الحرب وإمداد جنودها بالرجال والسلاح سنة أخرى أو سنتين. من المحتمل أن قيادة جيوش الألمان جعلت منذ الربيع الماضي تُخفي عدد قتلاهم وجَرحاهم ولا تذكر إلا القليل منه حالَمَا رأت أننا نعنى بذلك ونبني عليه أحكامنا. ولها غرض آخر وهو أن لا يعلم الشعب الألماني ما حل برجاله. ومع ذلك فإنها لم ترسل إلى ميدان القتال حتى الآن إلا القليل من مُجندي سنة 1917، ولم ترسل أحدًا من مجندي سنة 1918. وهي تستطيع أن تجند كل سنة نحو نصف مليون من الشبان. وكثيرون من الجرحى يُشفون ويعودون إلى ميادين القتال. وقد يكون عندها الآن مليونان من الرجال المستعدين لحمل السلاح وإنجاد الجنود المقاتلة. ولا جِدال في أنها خسرت هي والنمسا خسارة فادحة في الصيف الماضي، ولكن خسارتهما هذه لا تستلزم أن يطرحا سلاحهما حالاً ويطلبا الصلح ناهيك عن أن التزامهما خطة الدفاع تقلل خسارتهما من الرجال وتمد أجل الحرب كثيرًا. فلا ينبغي لنا أن نتوانى بل يجب علينا أن نزيد همة وإقدامًا ونوالي الهجوم نحن وحلفاؤنا ونُكثر من سبك المدافع والقنابل وإعداد الجنود ونستعين بكل رجال الإمبراطورية البريطانية. وما دامت حكومتنا قد أقرت التجنيد الجبري، ووزعت إدارة الأعمال على الأكْفَاء من الرجال فلا يهمنا بعد الآن من يدخل الوزارة أو من يخرج منها. وستنتهي هذه الحرب حينما تتأكد ألمانية أنها تخسر كثيرًا بإطالتها ولا تستفيد شيئًا منها، ولكن ما من أحد يعلم متى يكون ذلك. من المرجح أن أُولي الأمر في ألمانيا علموا الآن هذه الحقيقة ولكن يصعب عليهم أن يجاهروا بها قبلما تدور الدائرة على قُوادهم في معركة كبيرة فاصلة لا سيما وأن الشعب الألماني قد استهوي وأُقنع أن الفوز في يده فيصعب عليه أن يصدق الآن ما يناقض ذلك) . (المقتطف) واستطرد الكاتب إلى ما يجب على الأمة الإنكليزية فِعله بعد أن يعقد النصر للحلفاء فقال: إن الحرب ستنتهي يومًا ما فكيف يكون حالنا حينئذ؟ إذا اعتبرنا قوانا البرية والبحرية وخيرات بلداننا فسنصير أعظم دولة حربية في المسكونة، ونكون مُعتمد حلفائنا ونمتلك ما مساحته مليون ميل مربع من مستعمرات الألمان، ويكون عندنا جيش محنَّك من الجنود والضباط يعد بالملايين، ويزيد تفوقنا البحري عما كان قبل الحرب، وتتحقق الأمم كلها أن إمبراطوريتنا مرتبطة بعضها ببعض، عراها لا تنفصم، وشعوبها لا تُقهر، وفِعالها خليق بماضيها المجيد. ولقد كان ضعفنا العسكري شوكًا في جنب جنودنا في السنوات الأخيرة وهو من أكبر الأسباب لنشوب هذه الحرب إلا أن ذلك قد مضى وانقضى. ولكننا قد نخسر كل ما اكتسبناه الآن إذا قامت فينا وزارة تطلب أن نطبع سيوفنا سككًا ورماحنا مناجل قبل أن يحين الزمان الصالح لذلك. فيجب علينا أن نكون على حذر مدة خمسين سنة إلى أن تزول هذه الحرب وما أثرته في النفوس ويعود الأمن والسلام إلى نصابيهما. وعلينا أن نحذر الغرور الخمول؛ لئلا نضيِّع ثمار الظَّفَر، فقد أُعطينا زعامة حلفائنا فصارت زعامة أوروبة لنا بحق مكتسب، فلا ينبغي لنا أن نحل محل ألمانية فنكون قوة حربية مستبدة مثلها؛ لأننا أصحاب البوارج والرجال والأموال ونتوخى التفوق الحربي على غيرنا. بل يجب أن يكون غرضنا النفع العام وخدمة نوع الإنسان. أما البحر فيجب أن يبقى لنا التفوق فيه، وأما البر فيجب أن يكون عندنا من القوة ما يكفي لحماية ثغورنا وبلداننا مهما اختلفت تصاريف الزمان. ولا نخدعنّ أنفسنا بأن القوة البحرية كافية وحدها كما فعلنا فيما مضى. يجب أن نمرن شبابنا كلهم على استعمال السلاح، لا لكي يضرموا نار الحرب به بل لكي يمنعوا إضطرامها ويحملوا كل أملاكنا ومستعمراتنا ويحفظوا تاريخ أسلافهم المجيد. والفوز في الحروب والتغلب على المكارم مغروسان في نفوسنا حتى إن جنودنا الذين دارت الدائرة عليهم في أول الحرب واضطروا أن يعودوا القهقرى أمام العدو لم يكن يخطر لهم أن يتفكروا إلا بأن الفوز سيكون لهم أخيرًا، وقد قامت هذه العزائم كل مدة الحرب وستبقى أشرف ميراث نورِّثه لذريتنا من بعدنا) . (المقتطف) هذا ولم نكد ننتهي من كتابة هذه السطور حتى طير إلينا البرق أن ألمانية عزمت أن تجعل بلادها كلها معملاً للأسلحة والذخائر الحربية أو أن تحسب البلاد كلها محلاًّ تجاريًّا كبيرًا وتستخدم كل ما في بلادها من الأيدي العاملة ومعدات العمل لخدمة الجيش، وأن لا تكتفي باستخدام الرجال والأسرى بل تستخدم النساء أيضًا، ويقال: إنها عزمت على تجنيدهن أيضًا. وأن إنكلترة قررت إنشاء إدارة للتموين يرأسه رجل مطلق التصرف يحق له أن يرغم الناس على الاقتصاد، وأنها حظرت على السكان إتلاف المواد الغذائية واستعمال السُّكَّر في الكماليات، وطحن الدقيق على الأسلوب الذي يزيل منه المادة السمراء فتقل تغذيته. اهـ ما نقلناه عن المقتطف من ترجمته وتعليقه. ومَن قابل ما نقله عن جريدة التيمس التي هي أعظم الجرائد الإنكليزية مكانة ومعرفة بما قلناه في أول العهد بالحرب في شأن ظَفَر إنكلترة وحلفائها يجده شيئًا واحدًا.

الحركة الطورانية الجديدة في بلاد تركيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحركة الطورانية الجديدة في بلاد تركيا [*] ننقل هذه المقالة عن العدد 18 والعدد 19 من جريدة القبلة الغرّاء مع تصحيح بعض الألفاظ: قرأنا في جريدة (نبر إست) الإنكليزية الصادرة في أول ذي القعدة مقالاً خطيرًا (؟) تحت عنوان الحركة الطورانية الجديدة فترجمناها (؟) إلى لغتنا العربية الشريفة ونشرناها على صفحات القبلة، لعل فيها عِبرة ومُزْدَجرًا فإن أسرار الاتحاديين، والحمد لله قد ذاعت وشاعت حتى أصبحت حديث الشرق والغرب. وإن وراءها لأشد منه أو أفظع، وأدهى وأمرّ، وسيعلم النازحون عن المملكة العثمانية من حقائق الاتحاديين الطورانيين ما علمه العرب العثمانيون قبل ذلك بأعوام فاستعدوا للدفاع عن كيانهم وعن دينهم، وبعضهم سادرون في غفلاتهم هائمون في أودية الأوهام والأضاليل، وإليك ترجمة المقال المذكور: ظهرت في تركيا حركة جديدة عرفها القوم باسم (بني طوران) أعني طوران الجديدة، وقد نبتت في الآستانة سنة 1331 ثم أخذت تنتشر في أجزاء كثيرة من السلطنة، وقد امتازت هذه الحركة بكونها مقصورة على فئة مخصوصة غايتها توحيد القومية التركية بالعنصرية الجنسية دون الروابط الدينية الإسلامية. وإليك بيان الغايات التي ترمي إليها في مساعيها وأعمالها: أولها: أن تجعل الأتراك أمة قائمة بذاتها مستقلة عن الدين الإسلامي تمام الاستقلال حتى يتهيأ لها أن تربي فيهم ذلك الشعور القومي الذي ذكره الدكتور ألفرد نونج في مقالة نشرها تحت توقيعه في جريدة (أندرنوخ) الألمانية على إثر حديث دار بينه وبين زعماء الاتحاديين [1] . ثانيها: ترقية الروح العسكري التركي فقط [2] . ثالثها: إنشاء العلاقات التجارية وغيرها من الصلات بين مسلمي بلاد العجم الشمالية (آذربيجان) وبلاد روسيا في آسيا والأجزاء الجنوبية منها. رابعها: تطهير اللغة التركية من الألفاظ العربية والفارسية ومن آداب هاتين اللغتين. ولهذه الجمعية التركية مَطمع آخر ترمي إليه وإن لم تجهر به رسميًّا وهو تتريك العرب وإدغامهم في الترك حتى لا تبقى لهم قومية قائمة بذاتها. وأكبر آمال هذه الجمعية أن تجعل التركي العثماني يعد نفسه تركيًّا قبل كل شيء، وأما كونه مسلمًا فيعد عنده من المسائل الثانوية التي لا تهمه كثيرًا. أما هذه الجمعية فإنها تقوم بتلك الأعمال بإيعاز من السلطة الحاكمة التي تؤيدها بكل وسيلة ممكنة وتدفع لها كل ما يلزمها من المال لأجل بلوغ هذه الغاية، وهم يسمونها (ترك أوجاغي) أي: جمعية الوطن التركي. وهي تقوم الآن بنشر دعوتها والقيام في أعمالها بهمة فائقة. أما الأطفال الترك فإن المدارس الطورانية التي شُرع في إنشائها كفيلة بأن تغرس في نفوسهم تلك الروح التركية الجديدة. وقد بذلوا غاية الجهد في تدريس التاريخ القومي للطورانين، وأفرغوا كل عناية لنشره في المدارس العالية، وحضوا الطلاب على التنافس فيه والتهافت عليه، وأخذوا بتأليف قوة كبيرة من فتيانهم سموها بالتركية (إيزجي) أي: قافة الأثر. ووضعوها تحت رعاية أنور باشا وهم يدربونها على الفنون العسكرية حتى تكون قادرة على الانضمام للجيش العامل وتفوق غيرها من أبناء العناصر الأخرى كالعرب والأكراد واللاز ونحوهم , ولهذه القوة الصغيرة علامات مخصوصة وشارات معينة وألقاب معروفة، وكلها تركية قديمة يرجع تاريخها إلى ما قبل العصر الإسلامي. أما الأولاد الذين أسماؤهم مأخوذة من العربية فقد استبدلوا بها ألفاظًا تركية محضة بدعوة أن الكشافة تركية خالصة وأن أسماءها يجب أن تكون كذلك إتمامًا للقومية ورعاية للجنسية، ومن الأسباب التي عملت على إيجاد هذه الحركة أمور علمية ولغوية؛ لأن الاتحاديين شرعوا في نقل كتب كثيرة من علمية وتاريخية إلى لغتهم فكان لها في نفوسهم تأثير. وقد تفانوا في ذلك حتى عزموا على ترجمة القرآن الكريم إلى التركية واستعماله في العبادة بها لا باللسان العربي، ولكن العلماء المسلمين من جميع النِّحل حتى بعض التُّرك أنفسهم عارضوا في ذلك أشد معارضة. وقد طبع الاتحاديون كتبًا كثيرة لتأييد المبدإ العُنصري، ومن ذلك الروايات الكثيرة التي وضعوها وأهمها (بني طوران) وهي الرواية التي كتبتها إحدى نسائهم المطالبات بحقوق الانتخاب واسمها (خالدة خانم) وقد حبَّذت فيها تلك الحركة الجنسية ونوهت بمطالب السيدات وحقوقهن، ولا ريب أن مثله مسألة المطالبة بحقوق النساء، وما يقوم به الأتراك من نشر دعوتهم والحث على العودة إلى مدينة طوران من شأنه أن يعيد إلى مخيلة الإنسان ذكرى ما هو معروف عن الأقوام الطورانية وما كانت عليه من الأحوال الاجتماعية؛ لأن استبدادهم بالنساء وما ألحقوه بهن من ضروب القسوة والظلم يفوق ما فعلته جميع شعوب الأرض في العصور المظلمة. يقال: إن الحركة التركية بدأت بالظهور تحت صور شتى وأسباب مختلفة أولها اللغة التركية ومحاولة كتابتها بما يخالف الأحرف العربية حتى تعذرت قراءتها على كثيرين. على أن هذا الأمر لا شأن لنا به على الإطلاق. وهنالك أسلوب آخر أعني به توطيد العلاقات مع مسلمي روسيا والقوقاس دون غيرهم من سائر المسلمين بحجة أن هذه الأقوام ربما كانت من أصل تركي أو أن تتريكها ممكن في الأقل، ولكن ذلك لم ينقذهم من خطر الاندماج في العرب وخسران قوميتهم ما دام للإسلام سلطان على النفوس [3] ولذلك عالجوا أمرهم بإحياء اللغة التركية والسعي في استلالهم عن سواها. أما الباحث الثالث الذي شدد عزائمهم فهو كتاب تلاه [4] الدكتور ناظم المرخص المسئول لجمعية الاتحاد فكان كالجذوة أصابت يابسًا؛ لأنه أوقد في نفوسهم نار الحماسة والحمية. وذلك الكتاب مؤلَّف تاريخي وضعه الموسيو ليون كوهين بالفرنساوي عن آسيا والأتراك في منغوليا وأصلهم منذ سنة 1405 ميلادية، وقد صدر ذلك الكتاب سنة 1896. وبما أن الجمعية العلمية الفرنساوية قرظته وخصته بالعناية فقد حل عند الاتحاديين مكانًا رفيعًا فنقلوه إلى التركية بعبارات بالغوا فيها ما استطاعوا ولم يلتفتوا ألبتة إلى صحة بعض الأحكام والآراء المذكورة في الكتاب بل عدّوا ذلك أمرًا ثانويًّا بالنسبة لخطتهم المرسومة. ومن البديهي أن من مقتضيات تلك الحركة استقلال العنصرية التركية دون الإسلام تمام الاستقلال وانفصالها عنه أشد الانفصال، وإن ذلك لأمر خطير عند المسلمين وغيرهم من الدول العظمى مثل روسيا وفرنسا وإيطاليا وإنكلترا؛ لأن لهذه الدول عددًا كبيرًا من الرعايا المسلمين، وذلك ما يجعل لهذا الانقلاب أهمية كبيرة في الشرق والغرب. وهذه الحركة كما يقولون، مقصورة على جمعية الاتحاد والترقّي ومبنية على نظرات أستاذهم المجري فمبري لما علق في ذهنه من المزاعم القديمة البالية من أن الإسلام ينافي الوطنية [5] , ويزعم الاتحاديون أن الإسلام باختلاطه مع التقاليد والمؤثرات العربية والفارسية واليونانية والبيزنطية قد حوَّل الترك إلى عنصر شرقي مسلم ليس له مدنية (كلتور) خاصة به، وهم يقولون: إن هذه الحقائق تحملهم على الاهتمام بمصيرهم والتفكير في عاقبة أمرهم وزيادة العناية في تمييز الحياة الوطنية التركية عن الإسلام. أما تيار المهاجرة التركية فقد بدأ منذ أوائل عهد النصرانية في آسيا من بلاد الصين والأكسوس. وكانت ديانتهم في ذلك الزمن على افتراض أنهم كانوا يدينون بدين خاص ما يسمونه اليوم (السامانزم) أي: العبادة الوثنية [6] . وكانت مدينتهم مؤلفة من المبادئ البسيطة المعروفة عند القبائل الرحّالة المنتشرة في أواسط آسيا كما يقضي بذلك مركزهم الجغرافي وحالتهم الاقتصادية والمحيطة بهم. ولم يكن لهم من المزايا غير الصفات الحربية، ولم يكن لهم من الشرف القومي أيضًا سوى ما يستعيرونه من شرف الأمة التي تستخدمهم بالدراهم للمحاربة في صفوفها، وكانوا يُعرَفون بالطاعة لكل من أطعمهم وتولى قيادتهم في ساحة القتال. ولا مُشاحّة أن التركي لم يستطع تجوُّز تلك الحدود من تِلقاء نفسه. ولم يكن للتركي دين خاص به ولم يعمل شيئًا لترقية شئونه وبلوغ درجة رفيعة من المدنية، ولم يحاول الترك قط أن يمتزجوا ببقية أجناس قومهم، وإن كان جنكيز المغولي قد حدّث نفسه بهذا الأمر وجعله نُصْبَ عينيه وأكبر آماله. ولم يكن التركي يقتبس من المدنية إلا ما تلجئه الأحوال الضرورية إليه لاحتكاكه بها كرهًا كما وقع له مع المدنية الصينية فالفارسية فالعربية فالرومية فالألمانية. ولا يقع في وهم أحد أن ما استعاره التركي من مدنيات أولئك ولا سيما مدنية الإسلام قد حال دون بلوغه (كلتور) مدنية خاصة به [7] وأن التركي لم يُظهر في عصر من العصور مقدرة خاصة أو استعدادًا طبيعيًّا لأجل النهوض وإظهار مدنية يستقل بها عما كان يقترضه اقتراضًا ويقلده تقليدًا مضحكًا. وفي الحقيقة أن العثمانيين من بين قبائل التركمان أقل الناس لياقة لتمثيل أمة يدلك على ذلك أن الأناضول عدا ما فيه من قبائل اليودوك والتركمان خالٍ من آثار القبائل التركية الأصلية؛ لأن القومية التركية فيه ليست إلا لفظة أوجدتها الأحوال السياسية. وليس الدم التركي فيها سوى قطرة صغيرة في بحار تلك الدماء المتحدرة من الأقوام والشعوب القديمة الراجعة في تاريخها إلى ما وراء تأسيس القسطنطينية بأجيال كثيرة كاليونان القدماء والفريجيين والغلاطيين والآشوريين والكاريانس والحيثيين، وتلك الدماء هي التي تحركت في أعصاب ذلك المزيج المسمى بالعثماني فأوجدت فيه ميلاً للزراعة وحرثة الأرض، ولا سيما العناية بالبحرية في القرن السادس عشر. وقد كان من جملة العوامل التي حفظت وجود الأتراك حتى اليوم بصفة شعب معروف أمران: الدين والطاعة العسكرية. فإذا ذهب الإسلام من تركيا، فماذا عسى أن يبقى لها. وقد أجاب عن ذلك أصحاب (قوم جديد) فقالوا: إنه سيبقى لهم أتراك طوران والإسلام بصورة جديدة فيكون دينًا وطنيًّا أهليًّا. على أن شعب طوران لم تظهر عليه دلائل الابتكار والاختراع فيستطيع قلب الإسلام رأسًا على عقب وجعله كما تشاء عنصريته الطورانية: وكما يزعم أقطاب القوم الجديد، وكل ما في الأمر أن للطورانيين سبقًا في التدمير والتخريب والقتل كما فعل جدهم هولاكو فقد دمر الترع المائية التي كانت في العراق وجعل بقاعه المخصبة مجدبة حتى اليوم. أما الطورانيون العثمانيون فقد نسفوا المدنية البيزنطية الزاهرة، ومثلهم جنكيز السفاح الذي ملأ بُخارى بغيًا وظلمًا وقد لا يصدق الناس أن تيمور كان من الفرسان وأن جنكيز من أقطاب السياسة. ولقد أفاض المسيو كوهين في وصف المزايا العسكرية الطورانية، ولكنه لم يذكر شيئًا عن فظائعها إلا أن الدكتور بيسلر أصلح ذلك الخطأ فبين ما كانت تستعمله تلك البطون الطورانية من ضروب القسوة والظلم مع جميع الأمم الخاضعة لأحكامهم، وليس للتركي لذة أو اهتمام خاص في الأمور الدينية؛ ولذلك لم يبذل شيئًا في خدمة الإسلام الذي جمد بين يديه فلم يتقدم خطوة؛ ولذلك يستصعب العارفون قدرة (قوم جديد) على جعل الإسلام تركيا محضًا. ومما لا ريب فيه أن التركي يخاف العرب أشد خوف ويدأب في استعمال كل الوسائل لجعلهم أتراكًا ومحو قوميتهم تقليدًا لما فعله شولرويك هولستين مع ولايات الدانمرك التي انضمت لألمانيا. ولقد صرح بذلك جلال نوري بك في أحد كتبه فقال: (إن البلاد العربية بأسرها ول

تأثير الصحافة في أخلاق الأمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأثير الصحافة في أخلاق الأمة سيدي الأستاذ صاحب المنار بمناسبة مقالكم الصريح عن حال المسلمين الاجتماعية ومكان الأغنياء وسائر الطبقات منها ربما جاز لي أن أتعرض بكلمة وجيزة لمسألة حيوية مرتبطة بهذا الموضوع وهي تأثير الصحافة في أخلاق الأمة. بديهي أن الصحافة من الموازين التي تقاس بها درجة الرقي في شعب من الشعوب، كما أنها إحدى المكيفات له وأحد عوامل الإصلاح إذا قبض على زمامها من لهم خبرة به. ليس من الصعب على الإنسان إذا فحص حالة الجرائد في قطر من الأقطار أن يقرر حكمًا تقريبيًّا عن مبلغ نهضة أهل ذلك القطر وشكل مزاجهم، كذلك ليس من الصعب التنبؤ بمستقبل الحركة الفكرية في أمة ما استنتاجًا من مشرب صحافتنا التي هي أشبه بمرب ومهذب لها. والدارس لحال الصحافة في وادي النيل لا يتيسر له التفاؤل الحسن عن تقدمنا في الآداب والأخلاق. عودت الصحافة المصرية الرأي العام على قبول المدح يُزَفّ لمستحقه ولغير مستحقه بغير حساب، وعوّدت الجمهور على أن لا يعمل عملاً بغير جزاء مادي أو غير مادي أقله المدح سطورًا لا تعد، فأصبحنا وليس بيننا مَن يعرف مبدأ التضحية ويعمل به إلا شواذ شقوا بسمو أخلاقهم , وضاعت أتعابهم ومجهوداتهم النبيلة , وصار لا يعرف الإحسان إلا الأقلية الضئيلة الصالحة، ومن عداها من المتظاهرين بالبر فمنافقون تضطرهم إلى ذلك الرهبة من الرؤساء والحكام، أو متأخرون يرغبون في الإعلان عن أنفسهم بما ينفقونه. وليس من الغريب بعد هذا إذا أصبحت جميع مشروعاتنا الخيرية عُرضة للفشل، كما أنه ليس من المدهشات أن يتصدى بعض الناس للقيام بعمل خيري دون أن يكون لهم في الواقع غَيْرة عليه بل كل قصدهم الإعلان عن أنفسهم سواء نجح العمل أم لم ينجح. ويتبع كل هذا بطبيعة الحال إساءة الظن من بعضنا ببعض، وتعثرنا في أعمالنا، وتسابقنا إلى شهرة كاذبة وغرور باطل، وإغراق أخلاق الأمة ومصالحها في هذا التيار. لم يقتصر كرم الصحافة بالإطراء المتناهي على العُمَد والأعيان بل شمل أيضًا رجال مهنة الطب الشريفة وخلطت الشخصيات فيه بالعموميات فأصبحت أنهار الصحف مزدانة يوميًّا بالإعلانات الفخمة عن الأطباء مما يَندى له جبين الحر، ومما ضر سُمعة هذه المهنة الجليلة في القطر المصري. وبعد هذا وذاك تشكو الصحف من المتاجرين بالطب من أهله ومن غير أهله. فكم قرأت من أوصاف المدح لأطبائنا ما لا يقال مثله لأوزلر أو رولستون أو أرلخ أو كارلس أو لين أو أوجل أو غيرهم من فطاحل علماء الأطباء بأوروبا! وأتذكر أني زرت وطني منذ ثلاث سنوات وكنت لا أزال حينئذ طالب علم فكتبت عني وقتئذ إحدى الصحف العربية الكبرى بالقاهرة ما لا يجوز أن يكتب إلا عن ذي منزلة علمية كبيرة! واضطررت على كره مني أن أحرر كتاب عتاب شديد اللهجة إلى صديقي المحرر.. ولا تزال الصحف تعوّد طلبة العلم الناشئين حب الظهور الضار ولا سيما الطلبة في أوروبا. وإنني مع اعترافي بأن منا بعض المتفوقين الحاصلين على شهادات علمية عالية جليلة المنزلة وهم قليلون، وأن منا بعض المتفوقين على أقرانهم الأوروبيين في امتحانات المسابقة للجوائز العلمية وشهادات الشرف وهم أقل وأندر، أرى أن كل هذا لا يجيز للصحف أن تبالغ في فوز فائز وتنعته بأكبر النعوت التي لا تناسب مركزه؛ لأن هذا مُزر بكرامتها وكرامة الممدوح ومؤد إلى فساد أخلاق الناشئة. فهذه يا سيدي الأستاذ علة من علل اجتماعية كثيرة سببتها الصحافة بتهاونها بدل أن تقضي عليها وعلى أمثالها بالموعظة الحسنة والقدوة الصالحة، وأدت إلى الكثير مما تشكو ويشكو منه الغيورون المصلحون الذين لا نعرف أقدارهم إلا متى حرمنا من مساعيهم فنندم بُرهة على التفريط حين لا ينفع الندم، ثم نستمر في ضلالتنا، ومعظم الصحف تجارية في ذلك حرصًا على مودتنا لها، بدل أن تزجرنا وترشدنا حبًّا في نفعنا. فحبّذا لو وجهتم عنايتكم بالإصلاح شطر رصفائكم الأفاضل مرة قبل أن يستفحل الداء فقد أشرفنا على عهد لا يكاد يستطيع شريف النفس أن يضمن النجاح لعلمه بعقله وجدّه في هذه الفوضى ما لم يقرن ذلك بالإعلان عن نفسه والسمسرة في هذا السبيل. وإذا كان أحد أسباب هذا المصاب الجهل وضعه- الأخلاق فثاني الأسباب هو انحطاط الصحافة. ... ... ... ... ... ... نادي مستشفى سانت جورج بلندن ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد زكي أبو شادي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (طبيب) (المنار) أحسن الكاتب وأصاب، ولا رجاء في إرجاع الصحف بالنقد إلى مَحجة الصواب؛ لأن أكثر أصحابها لا يقصدون الإصلاح، وجميعهم يقصدون الكسب والجاه، والذين يميلون إلى الإصلاح منهم يتحرون في كلامهم ما لا يسوء القُراء كالمسائل النظرية والإرشاد المجمل. ثم هي تمدح من يستحق الذم، وتسكت عما يجب من النقد. ولا يتسع هذا التعليق الوجيز للإطالة في تأييد رأي الكاتب في جنايتها على الأخلاق، ولكنني أنقل فيه كلمة تغني عن مقالات: حدثني شيخنا الشيخ حسن الجسر عن حكيمنا السيد جمال الدين الأفغاني وكان قد لقيه في الآستانة بعد إنشاء جريدة طرابلس الشام التي كان الشيخ شريكًا ومحررًا فيها، ولكن مقالاته فيها لم تكن تعزى إليه قال: قال لي السيد: إن جريدتكم (طرابلس) قد جمعت بين الكفر والإيمان، ترى في صدورها مقالة في مدح الصِّدق وذم الكذب مثلاً وأكثر ما فيها بعد تلك المقالة كذب - وأشار إلى ما يذكر كل عدد من إطراء رجال الدولة والحكومة وغيرهم من الوجهاء- فقلت له: إن مدير الجريدة يفعل هذا على سبيل التقية (وذكر الشيخ أنه تنصَّل من مهنة الصحافة) فقال له السيد: التقية مذهب الشيعة.. وأنكر على الشيخ تنصُّله من الصحافة وقال: أنا صحفي. ثم قال وهو المراد: إننا لا نخطو خطوة واحدة إلى الإمام إلا إذا أعطينا كل ذي حق حقه فسمينا العالِم عالمًا، والمُصلح مصلحًا، والمفسد مفسدًا..

جمعية النهضة النسائية بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية النهضة النسائية بمصر اجتمع عدد من كرائم السيدات الوطنيات في 27 يناير الماضي في منزل حضرة السيدة الفاضلة حرم صاحب العزة إسماعيل بك عاصم المحامي الشهير فألَّفن جمعية أدبية غايتها السعي في ترقية المرأة الشرقية والاهتمام بمستقبلها بعد هذه الحرب. وقد افتتحت الحفلة حضرة ربة المنزل بالكلمات الآتية: أبدأ قولي بحمد الله، والصلاة والسلام على من اصطفاه وبعد: فإني يا سيداتي ويا أخواتي الأعزاء أراني وأنا في موقفي هذا منشرحة الصدر بتشريفكن منزلي إجابة لدعوتي بالحضور إلى هذه الحفلة المراد بها البحث في ترقية المرأة الشرقية لتساوي أختها الغربية في الحضارة والارتقاء. أقول: الارتقاء ويعلم الله لا أريد بقولي هذا أنها في انحطاط أو مهضومة الجانب أو أنها لا تصلح للرقي، حاشا، فالمرأة الشرقية كانت ولا تزال عزيزة الجانب أهلاً لكل فضيلة غير أنها ينقصها الآن إتقان العلم والعمل به إتقانًا ينهض بها إلى منزلة أسمى مما نحن عليه؛ لأن العلم وحده لا يكفي. ومثال ذلك أن كثيرات من أهل الطبقات الراقية أمثال حضراتكن أدخلن بناتهن المدارس وصرفن المصاريف الجمّة فتراهن يتكلمن باللغات وبأيديهن الشهادات ولكنهن إذا اجتمعن فلا حديث لهن إلا الأزياء والخياطات والحرائر والدنتيلات والإعجاب بالأزياء الحديثة. هذا هو الموضوع الأكثر رواجًا بيننا الآن. فماذا يؤخرنا إذًا يا حضرات الفاضلات وكلكن من المتعلمات الراقيات -ولله الحمد- عن النهوض نهضة علمية عملية والتعاضد جميعًا على البحث فيما يلزم هذا الرقي، ونحن الآن في عصر النور والإصلاح. فلهذا قد اجتمعنا للمذاكرة في هذا الشأن الخطير وتقرير ما يلزم للهداية إلى الطريق التي توصلنا إلى هذا الغرض الشريف كقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ} (آل عمران: 104) وإني أسأل الله أن يكلِّل عملنا هذا بالنجاح، وأن يوفقنا جميعًا إلى ما فيه النفع والإصلاح. وإن شاء الله سألقي في الاجتماع القادم محاضرة أدبية أبين فيها الأدواء وما يلزم لها من الدواء لترقية الأخلاق والأفكار والله المستعان. ثم دعت الكاتبة المجيدة صاحبة مجلة فتاة الشرق الزهراء للخطابة في موضوع ترقية أخلاق المرأة الشرقية فألقت خطابًا مفيدًا كان له أجمل وقع في نفوس السيدات وصفقن لها مِرارًا وما زِلن يتسامرن ويتجاذبن الحديث في مواضيع أدبية مفيدة ثم انصرفن شاكرات ربة المنزل على السعي في هذه النهضة المفيدة، وقد وعدن بالمداومة على الحضور فيها.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (تصحيح كتاب الأغاني) كان علاّمة اللغة وإمامها في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي قد صحح في نسخته من كتاب الأغاني بالمطبعة الأميرية كثيرًا من الأغلاط التي كان يعثر عليها عند المطالعة والمراجعة وزاد عليها في بعض الأجزاء بعض الفوائد والأبيات من الشعر كتبها على الهوامش فعُني (محمد أفندي عبد الجواد الأصمعي) بجمع تلك التصحيحات والزوائد من نسخة الشنقيطي بعد أن صحح بها نسخة المكتبة الزكية بإذن واقفها أحمد زكي باشا وإرشاده، وأضاف إليها تصحيحات وزوائد أخرى لأحمد زكي باشا من نسخته، وطبع ذلك كله مبينًا مكان الغلط وتصحيحه من طبعة المطبعة الأميرية وطبعة السياسي، وأضاف إلى ذلك استدراكات على فهرس الكتاب، فبلغ المطبوع سبعين صفحة كبيرة كصفحات الأغاني، وكل من ينظر في كتاب الأغاني المطبوع من أهل العلم باللغة وفنونها يجزم بأن فيه من الغلط الكثير الذي لم يذكر في هذه التصحيحات ما لا يخفى مثله على الشنقيطي، لذلك جزمت بأن الشنقيطي لم يصحح الكتاب كله بل بعض ما كان يعثر عليه عند المراجعة أو المطالعة. ولكن جامع التصحيحات ظن أنه صححه كله بقصد، وأن تصحيح زكي باشا جاء كالاستدراك عليه، فهو مما خفي عليه أو مما ذهل عنه، وإنني أؤيد رأيي بشاهد واحد بل شواهد كثيرة في قصيدة واحدة وهي قصيدة أبي دلامة الفائية المنشورة في ص 130 من جزء الأغاني التاسع من طبعة السياسي، ففي هذه القصيدة أغلاط لا تحتمل التأويل، وهي منشورة في الجزء الأول من العِقد الفريد، ومن راجعها عليه يرى بين ما فيه وما في الأغاني اختلافًا كثيرًا وزيادة ونقصًا، والشنقيطي كان مطلعًا على العقد الفريد، فلو كان ملتزمًا تصحيح الأغاني لصحح غلط القصيدة وأشار إلى ما خالفت رواية الأغاني فيه رواية العقد، ومن التصحيف فيها قول الشاعر: وطالما اختلفت صيفًا وشاتية ... إلى معلمها باللوح والكتف صحفت كلمتا (صيفًا وشاتية) في الأغاني بجعلهما (ضيفًا وشانية) ومن التحريف فيها قوله: والحق طرف والعين في طرف ... حرفت فيها كلمة العين المراد بها النقد بكلمة الطين؟ هذا وإننا نشكر للأديب الأصمعي هذه الخدمة التي لا يُنقص من قدرها ما ذكرنا من الحقيقة، وننصح لكل مقتنٍ لكتاب الأغاني بتصحيح نسخته على هذه الجداول. *** (تصحيح كتاب لسان العرب) كتاب لسان العرب لابن منظور الإفريقي أعظم معاجم اللغة التي أتحفتنا بها المطابع، ولكن فيه غلطًا مطبَعيًّا كثيرًا، على كونه قد طُبِعَ بالمطبعة الأميرية التي هي خير المطابع العربية تصحيحًا، وأذكر أنه لما سافر الأستاذ الإمام سفره الأخير إلى تونس والجزائر وصقلية وأوربة أنابني عنه بتصحيح كتاب المخصص مع الشيخ محمد محمود الشنقيطي (رحمهما الله تعالى) فكان هذا يذكر لي في أثناء التصحيح كثيرًا من أغلاط لسان العرب التي اعتمد عليها مصححو المطبعة الأميرية في تصحيح المخصص فأخطئوا، وقليلاً من الأغلاط التي أخطأ فيها ابن منظور نفسه في النقل أو الاعتماد على بعض الروايات المرجوحة في اللغة. وقد انتدب صديقنا أحمد بك تيمور الباحث اللغوي الشهير بتدقيقه وسعة اطِّلاعه لجمع ما تيسر له من تلك الأغلاط وتصحيحها، وكان ينشر ذلك في مقالات متفرقة في جريدة المؤيد ومجلتي الضياء والآثار، ثم جمع شمل تلك المقالات وزاد عليها ما عثر عليه بعد نشرها، وأذن لمحمد أفندي عبد الجواد الأصمعي بطبع ما جمعه وحرره منها- وهو القسم الأول من التصحيح- فطبعه ووعد بنشر ما اطلع عليه من تصحيحات الإمام الشنقيطي والشيخ حمزة فتح الله والشيخ إبراهيم اليازجي والشيخ محمود مصطفى والشيخ محمد البلبيسي أيضًا، فنشكر له هذه العناية. *** (الكوكب) جريدة سياسية أدبية أسبوعية تصدر في القاهرة بشكل كراسة من قطع الكتب الكبير ذات ثماني صفحات مطبوعًا طبعًا جميلاً بحروف المطبعة الأميرية الجديدة، وموضوعها تنشيط الحركة العربية ودعوة سائر عرب الجزيرة إلى القيام بمثل ما قام به عرب الحجاز للقضاء على سلطة الترك وتقليص ظلهم غير الظليل عن سائر البلاد العربية، والظاهر أن لها موارد خاصة تستقي منها أخبار مساوئ الترك وفظائعهم في سورية والعراق وكذا فظائع حلفائهم الألمان في أوربا، وأنها كانت توزع في بلاد العرب دون مصر، وأول عدد ظهر منها في مصر هو السابع عشر فقرَّظه المقطم، ثم اطلعنا عليه وعلى أعداد مما صدر بعده. وثمن كل عدد من هذه الجريدة قرش مصري صحيح (10 مليمات) .

ربح صندوق التوفير

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ربح صندوق التوفير (س 11) من صاحب الإمضاء بمصر بسم الله الرحمن الرحيم سيدي الأستاذ الجليل حفظه الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإننا كثيرًا ما سمعنا من الناس إباحة وضع الأموال في صناديق التوفير بالبريد وأخذ الفوائد منها، وذلك مما لا شك أنه الربا المحرّم بإجماع المسلمين لا نعلم بينهم خلافًا، ثم إذا ناظرناهم فيه استندوا إلى أن الأستاذ الإمام -رحمه الله وغفر له- أفتى بجوازه في فتوى رسمية، ولما كنا لم نرَ هذه الفتوى ولم نعلم وجهها وكنتم أخص الناس بالإمام وأعلمهم بأقواله وفتاويه لجأنا إليكم لتبينوا لنا فتوى الإمام، وهل هي لا تعارض الكتاب والسنة ثانيًا، خصوصًا وأن المجالس الحسبية قررت وضع أموال القاصرين في هذه الصناديق بناء على هذه الفتوى المزعومة كما يقولون، وليكن بيانكم شافيًا وافيًا كما هو دأبكم إن شاء الله تعالى. ... ... ... ... كتبه أبو الأشبال ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفا الله عنه بمنه *** (ج) إن كان للأستاذ الإمام فتوى رسمية في مسألة صندوق التوفير فهي توجد في مجموعة فتاويه بوزارة الحقانية ومنها تطلب، وأنا لم أر له فتوى في ذلك ولكنني سمعت منه في سياق حديث عن مقاومة الخديوي له وما حاصله: أن الحكومة أنشأت صندوق التوفير في مصلحة البريد بدكريتو خديوي (أمر عال) ليتيسر للفقراء حفظ ما زاد من دخلهم عن نفقاتهم وتثميره لهم، وقد تبين لها أن زُهاء ثلاثة آلاف فقير من واضعي الأموال في صندوق البريد لم يقبلوا أخذ الربح الذي استحقوه بمقتضى الدكريتو. فسألتني الحكومة هل توجد طريقة شرعية لجعل هذا الربح حلالاً حتى لا يتأثم فقراء المسلمين من الانتفاع به فأجبتها مشافهة بإمكان ذلك بمراعاة أحكام شركة المضاربة في استغلال النقود المودعة في الصندوق، فذاكر رئيس النظار الخديوي في تحوير الدكريتو الخديوي وتطبيقه على الشرع فأظهر سموه الارتياح لذلك. ولما قال له رئيس النظار: إننا استشرنا المفتي في ذلك غضب غضبًا شديدًا، وقال: كيف يبيح المفتي الربا؟ لا بد أن أستشير غيره من العلماء في ذلك. ثم جمع سموه جمعية من علماء الأزهر في قصر القبة وكلفهم وضع طريقة شرعية لصندوق التوفير ليظهر أمام العامة بأنه هو المحامي عن الدين والمطبق للمشروع على الشريعة، وأن الحكومة كانت عازمة على إكراه المسلمين على أكل الربا بمساعدة المفتي لولا تداركه الأمر. وقد وضع له العلماء مشروعًا قدمته المعية لنظارة المالية. (قال) وإن نظارة المالية عرضت عليّ ذلك المشروع لإقراره -أو قال للتصديق عليه- فوجدته مبنيًّا على ما كنت قلته للحكومة شفاهًا. هذا ما سمعت منه -رحمه الله تعالى- وأظن أنه قال: إن أولئك العلماء كانوا من فقهاء المذاهب الأربعة أو الثلاثة ولا أجزم بذلك. ومهما تكن صفة الطريقة التي وضعها العلماء لاستغلال أموال التوفير فلا يظهر عدّها من الربا المُجمع على تحريمه وهو ربا النسيئة الذي كان في الجاهلية، وقد بينه الإمام أحمد لما سئل عن الربا الذي لا يشك فيه بمثل ما بينه غيره من أخذ الزيادة في مقابلة التأجيل فقال: هو أن يكون له دَيْن فيقول له- أي: إذا حل أجَل الدين - إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن لم يقض زاده هذا في المال وزاده هذا في الأجل. وذكر الفقيه ابن حجر في الزواجر أن الإنساء فيه كان بالشهور، ولهذا كان يتضاعف ويخرب البيوت.

شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وتطهير قلبه من حظ الشيطان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وتطهير قلبه من حظ الشيطان (س 12) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية. سيدي الحكيم قدوة العلماء وتاج الفصحاء. من لا أسميه إجلالاً وتَكرمة ... فقدره المعتلي عن ذاك يغنيني أتطفل على مائدتكم العلمية التي أبهرت العقلاء وأعجبت الفصحاء لما عليها من أصناف المعارف الحية وأنواع التعاليم الصحيحة- راجيًا من علو آدابكم ومكارم أخلاقكم أن تفسحوا لي المقام، فإن لي قلبًا يصبو إلى ما يفوه به فوكم من الدُّرَر، وما ينطق لسانكم من الحِكم والعِبَر وما ينزه قلمكم من الفكر. في هذه الأيام كثر الجدال حتى كاد يُفضي إلى الهلاك في مسألة (انشقاق صدر الرسول -عليه الصلاة والسلام- وإخراج قلبه وتطهيره من حظ الشيطان الذي وجد معه من يوم أن ظهر على الأرض ونزل من بطن أمه وامتلائه حكمة) اختلفت آراء القوم وتباينت في تلك المسألة فمن مصدِّق عليها مقر بحدوثها ومن مكذب لها مفنِّد لا يلوي إلا على ما يثبته البرهان ويقبله الوجدان ويقر به العقل الرجيح - أما المصدق لها فأدلته ما جاء في البخاري بما معناه: أن النبي بينما كان يلعب في الصغر مع أقرانه؛ إذ نزل عليه جبريل فصرعه وشق صدره فأخرج قلبه وطهره من خبائث الشيطان أو بالأحرى من موضع يوسوس له فيه الشيطان وملأ قلبه نورًا وحكمةً. ولم يكتف جبريل بشق صدره مرة بل شقه مرات تبعًا لازدياد الحكمة ونموها فيه كلما كبر حتى كان ليلة الإسراء، وهو نائم ناداه من أحد الثلاثة منادٍ (كما يقول البخاري) فقام إليه وأتى، فإذا جبريل، وقد أفرج صدره ونظف قلبه ثم أسرى به- وقد قال النبي بما معناه: كل مولود يستهل معه الشيطان. فسئل: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: (حتى أنا، ولكني تغلبت على شيطاني) قال الله تعالى في سورة الحج: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج: 52) الآية. وأما المكذب لها فإنه باقٍ على تكذيبها، وها هو قد كتب إليكم؛ ليسترشد بنور علمكم الساطع لاعتقاده بأنك الزعيم الأكبر للمسلمين. تلك هي المسالة التي أرجو من حضرتكم إما تأييدها لنسير على مقتضاها، وإما نفيها وبذلك تنتفي الشُّبه والأباطيل التي تشوه سُمعة الرسول -عليه الصلاة والسلام- والأمل وطيد في أن يكون الرد سريعًا لا زلت محفوظًا من الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم الخاضع ... ... ... ... إسماعيل حسن خليه *** (ج) لا بد أن يكون مرادكم بتكذيب المسألة تكذيب الرواية أو الروايات الواردة فيها التي أوردتم بعضها بالمعنى فخالفتم اللفظ والمعنى، وقرنتم به آية الحج وليست من معناه في شيء بل معناها أن الرسل والأنبياء إذا تمنوا لا يتم لهم موضوع أمانيهم بسبب وسوسة الشيطان للناس ولا محل لتفصيل ذلك هنا. وقد صرحتم بأن سبب التكذيب اعتقادكم أن مضمونها يعد طعنًا في سمعة الرسول - صلى الله عليه وسلم- يجب أن ينزه عنه. ولكن لا ينبغي لمسلم أن يرد حديثًا مرويًّا إلا بعلة في سنده، أو معارضة ما هو أقوى منه لمتنه بشرطه، ومن أشكل عليه فهم شيء من الأحاديث فعليه أن يبحث ويسأل لا أن يرده بهواه، ويكذب من لا يعرف سيرته من الرواة. وإننا نورد هنا مما روي في هذه المسألة أصحها سندًا ونبين ما في أسانيدها ومتونها مما يمكن أن يتعلق به من ينفي وقوع شق الصدر حقيقة، ثم نبين ما ينبغي أن توجه به المسألة على تقدير صحة وقوعها فنقول: روى حديث شق الصدر في الصغر مسلم - لا البخاري- قال: حدثنا شيبة بن فروخ حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أن رسول -صلى الله عليه وسلم- أتاه جبريل وهو يلعب مع الغِلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقًا فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأَمَه ثم أعاده في مكانه وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره (أي: مرضعته حليمة السعدية) فقالوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون. وأقول: إن في هذا السند مقالاً قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب في شيبان بن فروخ: صدوق يهِم (أي يخطئ) ورُمي بالقدر. قال أبو حاتم: اضطر الناس إليه أخيرًا. من صغار التاسعة. وقال في شيخه حماد بن سلمة: ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، وتغير حفظه بآخره، ومن كبار الثامنة اهـ. وقال في تهذيب التهذيب بعد ثناء الأئمة عليه: وقال البيهقي: هو أحد أئمة المسلمين إلا أنه لما كبر ساء حفظه؛ فلذا تركه البخاري، وأما مسلم فاجتهد، وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ اثني عشر حديثًا ذكرها في الشواهد. ثم قال الحافظ: وقال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث، وربما حدث بالحديث المنكر. وأقول: يؤخذ من هذا الكتاب ومن ميزان الاعتدال أنهم أنكروا من روايته عدة أحاديث شاذة في الصفات قيل: إنها دُست في كتبه. هذا أصح ما رُوي في هذا الباب، وقد علمت ما في سنده، ثم إن أنسًا لم يرفعه وما كل ما يرويه الصحابي عن مجهول يُحتج به بل يفرق في روايته بين أحكام الدين وبين الأخبار عما كان قبل الإسلام؛ إذ يمكن أن ينتهي الخبر إلى بعض المشركين، وقد رُوي خبر شق الصدر عن حليمة السعدية مرضعته -صلى الله عليه وسلم- من طرق أخرى عند أهل السيَر والطبراني والبيهقي وأبي نعيم وابن عساكر كلها دون طريق مسلم منها الضعيف والموضوع كرواية البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس عن أبيه من طريق محمد بن زكريا الفلاني وكان كذابًا يضع الحديث. ورواية أبي نعيم وأبي إسحق وغيرهما عن عبد الله بن جعفر عن حليمة من طريق جهم بن أبي الجهم. قال الذهبي: لا يُعرف، له قصة حليمة السعدية. فإذا كان السائل يرى أن هذا الحديث لا يصح لما رآه في متنه غير لائق بمنصب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد علم أيضًا أن في سنده مقالاً، وليس هو من عقائد الدين ولا من أحكامه القطعية. وقد ورد خبر شق الصدر في أحاديث المعراج أيضًا المروية في الصحيحين والسنن وغيرها، وقد استشكلها بعض العلماء فنورد منها ما لا بد منه لبيان هذه المسألة. أحاديث قصة المعراج في الصحيحين مدارها على أنس بن مالك، فمنها ما رواه بنفسه، ومنها ما رواه عن غيره. وقد ذكر في بعضها شق الصدر دون بعض، فأما حديث أنس فلم تُذكر قصة شق الصدر في طريق من طرقه إلا طريق شريك بن عبد الله بن أبي نمر عنه وهو في صحيح البخاري وتفسير ابن جرير، قال أنس: ليلة أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، وقال أحدهم: خذوا خيرهم [1] ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى [2] فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبرئيل فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أبقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشوًّا [3] إيمانًا وحِكمة فحشى به صدره ولغاديده- يعني عروق صدره- ثم أطبقه ثم عرج به. إلخ الحديث، وفي آخره (واستيقظ وهو في المسجد الحرام) وهذه الرواية صريحة في أن ذلك كله كان في النوم وليس فيها ذكر لحظ الشيطان، واحتج بها من قالوا: إن المعراج كان رؤيا منامية. وأولها من قال: إنه كان في اليقظة بالروح والجسد. ولا يحتاج إلى تأويلها من قالوا: إنه مشاهدة روحية. وفي نسخة من صحيح البخاري (فاستيقظت) بدل واستيقظ، وهي كما قال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري التفات من الغيبة إلى حكاية قول النبي -صلى الله عليه وسلم -والتور الذي ذكر أنه كان في الطست إناء صغير يُشرب فيه. وفي رواية شريك هذه مخالفة لغيرها في عدة أمور استشكلوها وأنكروها عليه وغلطوه فيها أهمها قوله: (ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى) مع أن الثابت في الصحيح أن آية (ثم دنا) نزلت في جبريل - عليه السلام- وهاك ما في فتح الباري للحافظ ابن حجر في ذلك: قال الخطابي: ليس في هذا الكتاب- يعني صحيح البخاري- حديث أشنع ظاهرًا وأبشع مذاقًا من هذا الفصل فإنه يقتضي تحديد المسافة بين أحد المذكورين وبين الآخر وتمييز مكان كل واحد منهما- هذا إلى ما في التدلي من التشبيه والتمثيل له بالشيء الذي تعلق من فوق إلى أسفل (قال) فمن لم يبلغه من هذا الحديث إلا هذا القدر مقطوعًا عن غيره ولم يعتبره بأول القصة وآخرها اشتبه عليه وجهه ومعناه، وكان قصاراه إما رد الحديث من أصله، وإما الوقوع في التشبيه، وهما خطتان مرغوب عنهما. وأما من اعتبر أول الحديث بآخره فإنه يزول عنه الاستشكال فإنه مصرح فيهما بأنه كان رؤيا لقوله في أوله: (وهو نائم) وفي آخره (استيقظ) وبعض الرؤيا مثل يضرب ليتأول على الوجه الذي يجب أن يصرف إليه معنى التعبير في مثله، وبعض لا يحتاج إلى ذلك بل يأتي كالمشاهدة. (قال الحافظ بعد نقل ما تقدم) قلت: وهو كما قال، ولا التفات إلى من تعقّب كلامه بقوله في الحديث الصحيح: (إن رؤيا الأنبياء وحي) فلا يحتاج إلى تعبير؛ لأنه كلام من لم يُمعن النظر في هذا المحل. فقد تقدم في كتاب التعبير أن بعض رؤى الأنبياء يقبل التعبير. وذكر الحافظ الأمثلة من الصحيح على تأويل النبي -صلى الله عليه وسلم- لبعض الرؤى بغير ظاهرها. ثم ذكر أن الخطابي تُعقّب في جزمه بأن ما ذكر كان في المنام وقوله: إن القصة بطولها إنما هي حكاية يحكيها أنس من تلقاء نفسه لم يعزها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا نقلها عنه ولا أضافها إلى قوله، فحاصل الأمر في النقل أنها من جهة الراوي إما من أنس، وإما من شريك فإنه كثير التفرد بمناكر الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرواة انتهى- أي كلام الخطابي، ثم أطال الحافظ البحث فيه، ولا يعنينا من بحثه إلا قوله بأن للحديث حكم المرفوع؛ لأنه مرسل صحابي فيما لا مجال للرأي فيه، ويفسر هذا ما يأتي. وأما ما رواه أنس عن غيره مشتملاً على مسألة شق الصدر فليس في الصحيح منها إلا حديث مالك بن صعصعة الأنصاري المرفوع الذي رواه أنس عنه ولم يرو أحد عنه غيره. وأوله كما في البخاري (بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحِجر- مضطجعًا، قال الحافظ: زاد في بدء الخلق (بين النائم واليقظان) إذ أتاني آتٍ فقد قال: سمعته يقول: - فشق ما بين هذه إلى هذه.. [4] فاستخرج قلبي، ثم أُتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أُتيت بدابة دون البغل) إلخ الحديث. والظاهر أن أنسًا روى هذه القصة غير مرفوعة عن مالك هذا فصرح باسمه مرة وأرسلها مرة أو مرارًا عند ما كان يحدّث بها وذكر في بعض المرار ما سكت عنه في بعض. وهذه تؤكد أن القصة كانت في النوم وتضعف تأويل المئولين إلا من قال بحصولها مرة في اليقظة ومرة أو أكثر من مرة في الرؤيا إن أثبت ذلك. وقد روى أنس مسألة شق الصدر في أحاديث المعراج عن أبي ذر مرفوعة في الصحيحين قال: كان أبو ذر يحدّث أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانً

بدع الجمعة والأذان وختم الصلاة والجنازة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بدع الجمعة والأذان وختم الصلاة والجنازة (س 13- 20) من صاحب الإمضاء بطملاي مركز منوف مديرية المنوفية. بسم الله الرحمن الرحيم وبعد فهذا من عبد الرحمن أحمد الصعيدي إلى دار الدعوة والإرشاد بمصر يتشرف بالإفادة عما سيذكر: في هذا العهد ظهر عندنا رجل ينهانا عما سيأتي: 1- قراءة سورة الكهف جهارًا داخل المسجد يوم الجمعة. 2- والأذان المسمى عندنا بالأول من يوم الجمعة. 3- والأذان الثاني داخل المسجد بين يدي الخطيب. 4- الترقية. 5- التبليغ في الصلاة. 6- ختام الصلاة جهارًا في المسجد. 7- الصلاة والسلام على النبي عقب الأذان. 8- السير مع الجنازة بالذكر جهارًا وقراءة البردة. وحيث إننا نفعل كل ما ذكر من منذ وجدنا بالدنيا، وهذا الرجل يجتهد في إبطال ذلك ولا نعلم إذا كان عمل هذا من البدع فنتركه أم من الدين فنتبعه. نرجو الإفادة مع التوضيح وإفتائنا عما ذكرناه؛ لأن في نفوسنا (ريبًا) من ذلك؟ وقال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وحِبّه وسلم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مقدمه ... عبد الرحمن أحمد الصعيدي الجواب عن هذه الأسئلة [*] 1- قراءة سورة الكهف جهارًا داخل المسجد يوم الجمعة- بدعة ليس لها دليل من كتاب الله ولا من سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ولم تؤثر عن سلف الأمة الصالح. ولكن لقراءتها يوم الجمعة بدون تقييد بالجهر وبكونها في المسجد أصلاً ضعيفًا، قال الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار: من أقوى ما ورد في قراءة الكهف يوم الجمعة حديث أبي سعيد الخدري عند الحاكم في التفسير والبيهقي في السنن (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين) وقد أورده الحاكم من طريق نعيم بن حماد عن هشيم عن أبي هاشم وصححه، ولكن قال الذهبي في الميزان: بل نعيم بن حماد ذو مناكير. أقول: بل جُرح بأكثر من هذا، وقد وردت أحاديث أقوى من هذا في قراءة آل عمران وهود في يوم الجمعة، فلماذا لا يعمل بها هؤلاء الناس المواظبون على قراءة الكهف إن كان غرضهم العمل بالأحاديث لا اتباع العادة. ثم إن الإتيان بالعبادة المشروعة على وجه مخصوص وفي وقت معين لم يرد في الشرع ما يدل عليهما في كيفية الأداء المبنية على الاتباع، وظهور ذلك يجعل ما ليس من شعائر الدين شعارًا. وهذا ما يسميه الشاطبي في الاعتصام بالبدعة الإضافية وسيعاد ذكره قريبًا، دع ما في رفع الصوت بقراءة الكهف أو غيرها في المسجد عند اجتماع الناس للصلاة من التهويش على المصلين وهو غير جائز، وقد صرح الفقهاء بمنع الجهر بالتلاوة في المسجد إذا كان فيه من يصلي وأنه حرام. وفي حديث أبي سعيد الخدري: (اعتكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال: ألا إن كلكم مناج لربه فلا يؤذ بعضكم بعضًا ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة) رواه أبو داود. 2- الأذان الأول يوم الجمعة، أحدثه عثمان في خلافته وأقره الصحابة (رضي الله عنهم) وما رواه ابن أبي شيبة عن ابن عمر أنه قال: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، فالأظهر أنه استعمل البدعة هنا بمعناها اللغوي لا للإنكار، ومعناه أنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قيل: ويحتمل أنه للإنكار؛ أي: لأن مقتضى إكمال الدين في عهده -صلى الله عليه وسلم- أن لا يزاد في العبادات ولا سيما الشعائر بعده شيء، وإنما الاجتهاد في مسائل المعاملات والمصالح التي تختلف باختلاف الزمان والمكان لا العبادات وشعائر الإسلام التي لا يدخل فيها القياس الذي احتجوا به لفعل عثمان (رضي الله عنه) ويمكن أن يُجاب عن هذا بأن الأذان للإعلام بالوقت وسيلة للصلاة اجتهادية لا عبادة مقصودة لذاتها، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- استشار المسلمين في أمر هذه الوسيلة واستحسن ما كان منهم من رأي ورؤيا؛ فلأجل هذا رأى عثمان والصحابة أن هذه المسألة يصح العمل فيها برأي أولي الأمر إذا احتيج إلى ذلك. فلما حدثت الحاجة بكثرة المسلمين وعدم تبكيرهم إلى المسجد على نحو ما كانوا يفعلون في عهده -صلى الله عليه وسلم- أمر عثمان المؤذن أن يؤذن بهم للجمعة على الزوراء - وهي موضع أو دار له بسوق المدينة- وأبقى ما كان من أذان المسجد عند جلوس الإمام على المنبر كما كان إبقاء للعبادة كما كانت. قال السائب بن يزيد (رضي الله عنه) فيما رواه عنه البخاري وأبو داود والنسائي: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء ولم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- غير مؤذن واحد. وفي رواية أخرى لهم زيادة فثبت الأمر على ذلك. والمراد بقوله: النداء الثالث هو الأذان الأول، فهو أول بالنسبة إلى تقديمه في العمل وثالث بالنسبة إلى حدوثه بعد الأذانين المشروعين لكل صلاة، أعني الأذان والإقامة، وكانوا يطلقون عليهما (الأذانين) على طريق التغليب أو لأن الأول إعلام بوقت الصلاة والآخر إعلام بالشروع فيها، ولكنهم إذا ذكروا الإقامة وحدها لا يسمونها أذانًا بل إقامة. والمرجح المختار عندنا في هذه المسألة أن يتبع الناس في كل حالة ما كان عليه السلف الصالح، فإذا علمنا أن المصلين اجتمعوا في المسجد على نحو ما كانوا عليه في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) اكتفينا بأذان المسجد، وإذا كانت الحال كما كانت في عهد عثمان وعلمنا أن الأذان الأول على المنارة أو في السوق مجلبة للمصلين فعلناه. ولا ينبغي لمسلم أن ينكر على أهل مسجد ما يختارونه من هذه الفعلين؛ إذ لا يصح أن يكون ما حدث في عهد عثمان ناسخًا لما قبله، ولا أن يكون ضلالة من بعض الراشدين أقره عليها الصحابة، فليتق الله مَن تُحدثه نفسه بهذا الإنكار. وليعرف قيمة نفسه أولاً، وأما قول السائل: لم يكن له -صلى الله عليه وسلم- غير مؤذن واحد فهو خاص بأذان الجمعة. 3- الأذان الثاني داخل المسجد بين يدي الخطيب- فيه أن فعله بين يدي الخطيب وبالتلقين المعهود في بعض المساجد بدعة لا فائدة فيها ولا نعرف الحامل لمبتدعها عليها. وقد علمنا علم مما قلنا آنفًا في مسألة الأذان الأول أن الأذان الثاني وهو الذي كان على عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما يكون إذا جلس الإمام على المنبر كما صرح به السائل في حديثه الصحيح. وأما مكانه فقد روى الطبراني فيه أن بلالا ً كان يؤذن على باب المسجد. وذكره الحافظ في فتح الباري محتجًّا به وهو المشهور. 4- الترقية المعهودة في يوم الجمعة بدعة لا نعرف لها أصلاً من كتاب ولا سنة ولا اجتهاد أحد من الأئمة وإنما أحدثها بنو أمية وأنكرها الفقهاء من جميع المذاهب. (راجع المنار ص 31 م6) وقد استفتي شيخ الجامع الأزهر منذ بضع عشرة سنة في بعض المسائل المتعلقة بالجمعة مما تقدم فأفتى بأنها بدع منكرة. وقد أشار الأستاذ الإمام إلى هذه الفتوى ومقاومة بعض أصحاب النفوذ السياسي لها بقوله في كتاب الإسلام والنصرانية (ص 139من الطبعة الثانية) فقال: (سأل سائل الأستاذ شيخ الجامع الأزهر عن حُكم عمل من الأعمال الجارية في المساجد يوم الجمعة، ومنزلة الشيخ من الرياسة في أهل العلم بالدين منزلته فأفتى بما ينطبق على السنة، وما يعرفه العارفون بالدين، وقال: إن العمل بدعة من البدع يجب التنزه عنها. أيظن أن المستفتي أمكنه العمل بمقتضى الفُتيا؟ كلا، حدث قيل وقال، وكثرة تسآل، ودخلت السياسة، ثم قيل: إن الزمان ناصر الحقيقة وقد وجدنا الأمر كذلك من قبلنا، وسكت السائل وماذا يصنع المجيب؟ اهـ. 5- التبليغ في الصلاة هو رفع المؤذنين أصواتهم بالتكبير للإحرام وأذكار الانتقال لإعلام من لم يسمع صوت الإمام ولا يراه عند إحرامه وانتقاله من ركن إلى آخر: وله أصل في السنة بما كان من صلاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرض موته آخر جماعة؛ إذ صلى قاعدًا والناس خلفه قيام وأبو بكر (رضي الله عنه) يبلغهم تكبيره. وقد صرح علماء المذاهب المشهورة بجواز التبليغ إذا احتيج إليه، فإن لم يُحتج إليه كان بدعة منكرة. على أن للمؤذنين فيه بدعًا كثيرة كفعلهم له جماعة ورفعهم أصواتهم أكثر مما ينبغي متحرين فيها حُسن النغم وإطالتهم المد حتى يضطر الإمام إلى انتظارهم أو سبقهم فينتقل إلى السجدة الثانية قبل فراغهم من تكبيرة السجدة الأولى مثلاً، وقد بين الفقهاء ذلك، وأطال فيه وفي غيره من هذه المسائل صاحب المدخل رحمه الله تعالى. 6- ختام الصلاة جهارًا في المساجد بالاجتماع ورفع الصوت من البدع التي أحدثها الناس فإذا التزموا فيها من الأذكار ما ورد في السنة كانت من البدع الإضافية وقد تساهل فيها كثير من مقلِّدة الفقهاء وأطال العلامة الشاطبي الكلام في إنكارها في كتابه الاعتصام، ونقلناه عنه في المنار فليراجعه من شاء. وهذه البدعة قد انتشرت في الأقطار الإسلامية منذ بضعة قرون حتى عمت الغرب والشرق والجنوب والشمال، ولما أنكرها من أنكرها في الأندلس كثر فيها القيل والقال، وقد كنت فطنت لها قبل أن أرى لأحد من العلماء كلامًا فيها فتركتها في أواخر زمان الطلب ولكنني لم أترك الأذكار الواردة بل كنت أقولها وأنا منصرف من الصلاة، ولم يخطر في بالي أن أنهى عنها أحدًا، ولا أنها يصح أن تسمى بدعة. ولما كنت في عليكده من الهند سنة 1330 قدموني للخطبة وإمامة الجمعة فلما فرغت من الصلاة لم أستطع الانصراف ولا التحول من شدة الازدحام في المسجد ولا رأيت أحدًا من الناس انصرف ولا قام لصلاة ولا غيرها، ثم خلص إليّ شاب من طلاب العلوم الدينية فأخبرني أن الناس ينتظرون أن يسمعوا مني أذكار ختم الصلاة ليتبعوني فيها ويقوموا إلى صلاة السنة البعدية وغيرها من شئونهم، قلت: إن هذا غير مشروع، قال: ألم يرد في الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول بعد السلام: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام) قلت: نعم قد صح أنه كان إذا سلم لم يقعد إلا بمقدار ما يقول ذلك (رواه مسلم) ولكن لم يصح أنه كان يقول ذلك رافعًا صوته ليسمعه الناس ويقولونه بقوله، وأنا قد قلت ذلك سرًّا. ولما جئت بيروت عند منصرفي من الهند أقمت فيها أيامًا كنت أقرأ درسًا بعد الظهر في مسجد المجيدية من كل يوم، فشُغل المؤذن بعد صلاة الجمعة يومًا عن الأذكار والأدعية التي جرت العادة برفع صوته فيها واتباع جمهور المصلين له، شغلته عنها صلاة الجنازة، فظل كثير من الناس ينتظرونه متلفتين إلى اليمين وإلى الشمال، فبدأت الدرس ببيان الحق في هذه المسألة وهو أنه ليس من السنة أن يجلس الناس بعد الصلاة لقراءة شيء من الأذكار والأدعية المأثورة ولا غير المأثورة برفع الصوت وهيئة الاجتماع كما اعتادوا في الأقطار المختلفة، وأن هذه العادة صارت عند الناس من قبيل شعائر الدين التي يُنكر على تاركها والناهي عنه، وإنكار تركها هو المنكر. وأن ما ورد في بعض الأحاديث من الأذكار كقول: (اللهم أنت السلام) إلخ والاستغفار والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل يُستحب أن يقوله الأفراد سرًّا في أي حالة يكونون عليها بعد الصلاة من قيام وقعود ومشي وأن الاجتماع لذلك والاشتراك فيه ورفع الصوت بدع هوَّنها على الناس التعود، ولو دعاهم أحد إلى مثل هذه ال

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 18

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (18) أما نوبة الملاريا فلها ثلاثة أطوار: (1) طور البرودة- يشعر المريض بتعب وسآمة وصداع وآلام في الظهر وبرودة- وتبتدئ الرِّعدة فينكمش في فراشه ويرتجف جميع جسمه وتصطك أسنانه ويزرقّ وجهه وأنامله وينتصب شعر جسمه كما يحصل من شدة البرد أو الفزع ويصغر النبض ويُسرع ويضطرب ويتوتر، ويكون التنفس سريعًا غير عميق. ويكون سطح الجلد باردًا حقيقة، ولكن إذا وُضع مقياس الحرارة في الفم أو في الدُّبر أو تحت الإبط رأينا الحرارة مرتفعة، فإنها تبدأ في الزيادة قبل الرعدة بدقائق، بل بساعة أو ساعتين أحيانًا؛ وإنما ينشأ الإحساس ببرودة سطح الجسم من انقباض أوعية الدم فيه. ويكون مقدار البول كثيرًا ولونه رائقًا وكثافته قليلة. ويستمر هذا الطور نصف ساعة أو ساعتين. وترتفع الحرارة بسرعة في آخره إلى ما بعد 40 سنتيجراد. (2) طور السخونة- يبدأ بالإحساس بالسخونة التي تعم الجسم كله فتزداد الحُمَّى، وتتمدد الشرايين، ويتوتر النبض ويسرع ويمتلئ، ويحتقن الوجه، ويتصدع الدماغ. وفي بعض الحالات يهذي المريض أو يعتريه الذهول. ويكون البول في هذا الطور قليلاً قاتمًا كثيفًا. وكثيرًا ما تظهر [النملة Herpes] حول الفم. ويستمر هذا الطور 3-4 ساعات. (3) طور العَرق- يتندى الجسم أولاً بالعَرق بعد شدة جفافه ويعُم الجسم كله ثم يصير غزيرًا ويستمر ساعة أو ساعتين أو ثلاثًا فيشعر المريض حينئذ بالراحة ويترطب لسانه، وتنخفض الحرارة أولاً بالتدريج، ثم تسرع حتى تصير طبيعية ويعود المصاب إلى حالته الصحية الأولى. ويكون البول في هذا الطور كثيفًا جدًّا وتُرَسب فيه أملاح كثيرة من حامض البوليك. ولا تحصل جميع هذه الأطوار لكل مصاب، بل قد تقتصر النوبة على واحد منها أو اثنين، فمثلاً قد يشعر ببرودة خفيفة تعقبها سخونة مدة ساعتين أو ثلاث ولا يحصل عرق، وقد يبرد ويعرق ولا يشعر بسخونة، وقد يعرق فقط مع ارتفاع خفيف في الحرارة. أما الأطفال فيندر أن يحصل لهم رِعدة بل يصابون بدلها بتشنج خفيف (وقد لا يلاحظ) أو بتشنج شديد. وفي الأحوال المعتادة يكبر الطحال في طور البرودة والسخونة حتى قد يحس به تحت الضلوع. وتحصل أول نوب الحمى هذه إما في الصباح أو وقت الظهر، أما النوب التي تليها فلا تكون دائمًا في وقت النوبة الأولى بل قد تتأخر عنها شيئًا فشيئًا حتى تحصل في المساء أو في الليل، وقد تتقدم عنها شيئًا فشيئًا حتى تحصل قبل الفجر، ويسمى النوع الأول بالمتقهقر والثاني بالمتقدم. والأحوال المعتادة من هذه الحمى غير مميتة في الغالب إلا للأطفال الصغار أو الشيوخ أو السُّقماء. وقد يتمدد الطحال منها حتى ينفجر وينسكب الدم في تجويف البطن، وقد ينزف الدم في منسوج الطحال نفسه ويتكون فيه خراج فينفجر في تجويف البريتون. ومضاعفات مثل هذه الأحوال ليست بكثيرة، وأشهرها النزلة الشعبية والرُّعاف والبول الزلالي والآلام العصبية فوق الحاجب. أما الأحوال الخبيثة المسماة [بالصيفية الخريفية] فلا تكون نوبها منتظمة ولا متقطعة إلا أحيانًا قليلة تكون الفترة فيها قصيرة، ويقل حصول الرعدة للمصاب، وكثيرًا ما يعتريه اليرقان والغثيان والقيء والإسهال، حتى قد تشتبه هذه الحمى بالحمى التيفودية، وقد تطول مدتها إلى ثلاثة أسابيع وتنتهي كثيرًا بالموت الذي يسبقه الهذيان أو الغيبوبة أو الاضطرابات الهضمية أو البول الزلالي أو النزف الدموي أو الهمود (الهبوط) . ومن الأنواع التي يتأثر منها المجموع العصبي بشدة نوع يمتاز طول الغيبوبة فيه حتى تمكث نحو 12 ساعة أو أكثر، ويكون الشخص كأنه مصاب بنزف في مخه، ومنها نوع يشتد فيه الهذيان والهيجان. وقد شوهد بعض أحوال يركن فيها المصاب كأنه ميت حقيقة فيقف تنفسه ويضعف نبضه وضربات قلبه حتى لا يمكن إدراكهما. واعلم أن هذه الحمى إذا تكررت نوبها جعلت الشخص سقيمًا عليلاً مصفرًّا (لإبادة ميكروبها للكريات الدموية الحمراء) ويعتريه الدُّوار، وقلة الميل للطعام وآلام بالعضلات والمفاصل والضعف والاستسقاء) ، ويضخم الطحال والكبد أو يكثر منسوجه الليفي ويتيبس ويضمر، وقد يصاب الشخص بالجنون أو بالتهاب الأعصاب أو بطنين الآذان أو الصمم أو فقدان الشم أو الذوق. التشخيص- إن أحسن الطرق للتحقق من شخص هذه الحمى البحث في الدم عن ميكروبها بواسطة المجهر. وليحترس من إعطاء الكينين للمريض قبل عمل هذا البحث فإن هذا الدواء يُذهب الميكروب من الدم. ويختفي الميكروب أيضًا من الدم في الأنواع الخبيثة وقت انخفاض الحرارة، أعني في الفترات التي بين نوب الحمى وأحسن الأوقات لمشاهدته في تلك الأنواع هو أن يبحث في الدم عند ابتداء النوبة وقت صعود الحرارة. أما في الأنواع الحميدة فيكون الميكروب أكبر وأظهر في الفترات التي بين نوب الحمى. المعالجة- الغرض الذي يُرمى إليه هو قتل الميكروب وإخراج سمومه من الجسم وإراحة المريض مما يحدثه من أعراض الداء، وأحسن الأدوية وأشهرها لقتل هذا الميكروب هو [الكينين Quinine] [1] وأشهر أملاحه الكبريتات، وهي مادة بيضاء خفيفة شديدة المرارة قليلة الذوبان في الماء فتذوب فيه بنسبة 1: 800 ولكنها سهلة الذوبان فيه بإضافة أحد الحوامض إليه. ومقدار تعاطيها في اليوم 20- 30 قمحة تقسم على ثلاث دفعات، والأفضل أن تكون الدفعة الأخيرة قبل ميعاد حضور النوبة نحو ست ساعات، ولا مانع من إعطائها بعد طعام الفطور والغذاء والعشاء ككثير من الأدوية الأخرى. وإذا قاءها المريض مزجت بقليل من الأفيون أو حقنت في المستقيم أو تحت الجلد، والأفضل أن تحقن داخل عضلات الألية، وأحسن الأملاح للحقن في الشرج أو تحت الجلد هو [هيدروبروميد الكينين الحمضي] فإنه سهل الذوبان في الماء ولا يتهيج منه المكان المحقون، وجرعته من قمحتين إلى عشر أو 15 قمحة. و [البوكينين Euquinine] وهو إتيل كربونات الكينين يكاد يكون عديم المرارة ولا يضر المعدة ولا الأعصاب، ولذلك كان أحسن دواء للأطفال والنساء. وجرعته تختلف من 5 إلى 10 قمحات بحسب السن. ويجب الاستمرار على تعاطي الكينين مدة بعد زوال الحمى؛ لأن بعض الميكروبات قد ينجو من فعله ويختفي في الطحال، ثم يعود إلى الظهور ويكثر فيحدث النكس، فلذا يجب الاستمرار على تعاطيه بعد الشفاء بمقادير يعينها الطبيب (كخمس قمحات في اليوم) لمدة ثلاثة أشهر على الأقل. وهناك بعض أدوية أخرى نافعة في الملاريا، ولكنها أقل قيمة من الكينين مثل مركبات الزرنيخ. وكثيرًا ما يحدث من الكينين أعراض ضارة مثل طنين الآذان والصداع والصمم، وقد تُتقى هذه الأعراض بتقليل مقداره أو إبطاله مؤقتًا أو إعطاء حامض الهيدروبروميك أو الجويدار لمنع الاحتقان الناشئ من الكينين. الوقاية- تكون: (1) بردم المستنقعات. (2) وبإبادة البعوض وذلك بصب زيت البترول على المياه التي توجد فيها البويضات والعلق لقتلهما، ويكون ذلك بنسبة أوقية لكل 15 قدمًا مربعة من سطح الماء. (3) وباتقاء لذع البعوض بمثل الكلة (الناموسية) وخصوصًا بالليل وهو وقت لذع هذا النوع من البعوض في الغالب. (4) وبدوام استعمال الكينين في الأقاليم التي تكثر فيها الملاريا (بمقدار خمس قمحات يوميًّا) . *** حمى البول الأسود Fever Blackwater تحدث هذه الحمى في الأقاليم الحارة التي تكثر فيها الملاريا لمن أقام بتلك البلاد سنة على الأقل فأكثر أو للذين أصيبوا بالملاريا، ويقل حصولها لغير هذين السببين. بحث الأسباب تفصيلاً- ذهب العلماء في حقيقة سبب هذه الحمى مذاهب أهمها: (1) أنها نتيجة إصابة شديدة بالملاريا. (2) أنها ملاريا متضاعفة بإصابة الكليتين. (3) أنها نتيجة ميكروب مجهول. (4) أنها ملاريا مع عامل آخر كتسمم الجسم بمثل الكينين أو بسُمّ مرض من الأمراض كالإفرنجي وغيره، أو كالتعرض للبرد. الأعراض- تتقدمها آلام في الأطراف والدماغ وتوعّك ثم رعدة فقيء صفراوي فبول أحمر أو أسود بسبب ذوبان مادة الكريات الحمراء فيه، ويكون فيه زلال كثير، وترتفع الحرارة إلى 40 سنتجراد فأكثر ثم تنخفض قليلاً بعد بضع ساعات، ثم ترتفع مع رِعدة أخرى، وهلم جرًّا. ويُصاب المريض باليرقان، ويضخم الطحال والكبد ويتألم المصاب من جسهما. وفي الحالات البسيطة تزول الأعراض بعد نحو أسبوع، وأما في الشديدة فيستمر القيء ويقل البول أو يبطل إفرازه ويصاب المريض بالغيبوبة أو الهمود ويموت. وعدد الوفيات بهذا المرض هو من 16 إلى 50 في المئة. المعالجة- تكون بحسن التمريض والعناية بالمصاب والإكثار من شرب السوائل لإدرار البول، وتعطى المنعشات المقويات للقلب، ولا يعطى المريض الكينين إلا إذا وجد ميكروب الملاريا في الدم، وحينئذ يعطى أي ملح من أملاحه غير الكبريتات فإنها تساعد على إذابة الكريات الحمراء، ويكون مقدار أي ملح قليلاً متكررًا. *** الدوسنطاريا الأميبية Dysentery Amoebic قلنا: إن الدوسنطاريا نوعان: نوع ينشأ من ميكروب نباتي (وقد سبق الكلام عليه في صفحة 102 من الجزء الثاني من هذا الكتاب) والآخر ينشأ من ميكروب حيواني وهو المراد بالكلام هنا. وكلمة [أميبا Amoeba] يونانية معناها (المتغير) تطلق على حييوين دقيق ذي خلية واحدة دائم التغير لشكله بما يرسله من جسمه في جميع الجهات من الأرجل [الكاذبة [2] Pseudopodia] التي يتحرك بها حركة ذاتية، وهو من أبسط الحيوانات المسماة [الحيوانات الأولى Protozoa] . يتسلق الإنسان ثلاثة أنواع من الأميبا: (1) نوع يوجد في فمه إذا أصاب أسنانه النقد (التسويس) (راجع ص 68 من الجزء الأول) . (2) ونوع يسكن الجزء الأعلى من الأمعاء الغلاظ، والظاهر أنه لا ضرر منه. (3) والثالث هو أميبا الدوسنطاريا هذه. وهذا الأميبا يشاهد في براز المصاب وفي المدة التي قد تتكون في الكبد [3] بسبب هذا المرض، وأكثر وجوده يكون في المواد المخاطية التي يتبرزها المريض وقت اشتداد المرض؛ أي في زمن حدته. قُطر هذا الميكروب الحيواني هو من 25- 35 ميكرونًا؛ أي أن حجمه كحجم ثلاث أو أربع كريات حمراء من كريات الدم. وهو يثقب الغشاء المخاطي للأمعاء الغلاظ ويسكن تحته ويتكاثر ويحدث المرض، وقد يصل إلى الأوعية اللمفاوية أو الأوردة فيسير فيها. أسباب الدوسنطاريا الأميبية- يوجد هذا النوع من الدوسنطاريا في الأقاليم الحارة والمعتدلة كمصر، ولا ينتشر بشكل وبائي كالنوع الآخر السابق. وتنتقل الأميبا بواسطة الماء الذي يتلوث في براز المصاب أو بواسطة الأطعمة الملوثة به أيضًا خصوصًا الخضر. ويصيب المرض جميع الأجناس البشرية إذا تعرضت للعدوى، وكذلك الصغار والكبار بلا تمييز بينهم، غير أن الظاهر أنه يصيب الذكور أكثر من الإناث لقلة تعرض هؤلاء له من أولئك , ولهذا النوع أيضًا حملة كالنوع الأول يوجد الميكروب في أمعائهم ولا تحدث لهم أعراضه. الأعراض- لا تختلف أعراض هذا النوع كثيرًا عن أعراض النوع الباسيلي الذي سبق ذكره إلا في أشياء قليلة، وهي أنه لا يكون ابتداؤه مفاجأة بل تدريجيًّا في الغالب، وتكون مدته أطول فإنه يميل لأن يكون مزمنًا، وتكون الحمى فيه أقل، وكذلك الاضطراب العام، وتكثر نكساته ولا يمنع ذلك من أن يكون أحيانًا شديدًا جدًّا ومميتًا بسرعة، وترتفع الحمى ويقلّ البول ويكثر الزلال فيه. ومن الناس من توجد في أمعاءه قروح ناشئة على هذا الميكروب، ومع ذلك لا تظهر عليه

الجمعيات الاتحادية لتكوين العصبية التركية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجمعيات الاتحادية لتكوين العصبية التركية كتب بعض شبان العرب المتعلمين في مدارس الدولة العثمانية بالآستانة مقالات في الجرائد في موضوع هذا العنوان، ثم رأينا في كتاب (ثورة العرب) الذي صدر بالعربية من عهد قريب كلامًا مختصرًا مفيدًا في ذلك فنقلناه عنه؛ لأجل الاعتبار به وإثبات ما يحتاج إلى الرجوع إليه من تاريخ هذا الانقلاب الخطر. قال المؤلف تحت عنوان (المعول الاتحادي العظيم) ما نصه: أنشأ الاتحاديون جمعية تركية عظيمة سموها جمعية (ترك أوجاغي) - أي طائفة الترك أو العائلة التركية- وجعلوا غايتها محو الإسلام وتتريك العناصر العثمانية، ومركزها في الآستانة ومصاريفها من تخصيصات وزارتي الأوقاف والداخلية ومن المشيخة الإسلامية أيضًا وهي منتشرة في كل بلدة وقرية في الأناضول والقوقاس وتركستان وتراقية ومكدونية ولها أربعة فروع لكل منها مهمة خاصة به وهذه الفروع هي: أولاً: (ترك يوردي) - أي: المملكة التركية- ومهمته العناية بالآداب التركية بطرق شتى أهمها (تطهير) اللغة التركية من الكلمات العربية وجعلها لغة مغولية بحتة وتأليف الكتب القومية بهذه اللغة وتعليمها في المدارس ونشرها في البلاد التركية وكتابتها بحروف منفصلة لكي يبقى بينها وبين اللغة العربية أقل شبه [1] . ووظيفة أعضاء جمعية (ترك يوردي) مقاومة كل كاتب تركي أو غير تركي لا يرى رأيهم ولا يعتقد معتقدهم، ونشر الكتب القومية والأناشيد الحماسية بين الترك وتدريسهم التاريخ التوراني القديم وإفهامهم أن الترك أعظم أمة في العالم اختارتها الأقدار لسيادة الأمم. وقد جرى لهم حوادث عديدة مع فريق من عقلاء الترك أنفسهم كعلي كمال بك والدكتور رضا نور بك ولطفي فكري بك وغيرهم، فاتهموا هؤلاء بالخيانة وتهددوهم بالقتل، وقالوا: إن العنصر التركي يتبرأ منهم وأنهم من أصل يوناني وأنه لا وطنية لهم ولا قومية ولا شرف. ثانيًا: (ترك درنيكي) - أي: ثبات الترك- ومهمته بث الفكرة القومية في الترك العثمانيين وغير العثمانيين بشكل لم يسبق له مثيل في تواريخ الأمم [2] . وأعضاء ترك درنكي من غلاة الاتحاديين وأشدهم كرهًا للعناصر ورغبة في تتريكها والقضاء على الفكرة القومية فيها. وهم على جانب عظيم من الهمة والنشاط، ولكن الغرور أعمى أبصارهم وأسدل ستارًا من الجهل على عقولهم فكانت ثمرة نشاطهم شرًّا على الدولة ووبالاً [3] . ثالثًا: ترك بلكيشي- أي العلم التركي- ومهمة أعضائه ترجمة الكتب العلمية إلى اللغة التركية القديمة، ونشر هذه اللغة بين الترك وبث الفكرة القومية التركية في تركستان والقوقاس وربطهما بدولة الاتحاديين برباط سياسي متين. رابعًا: (ترك كوجي) - أي: القوة التركية- ومهمته العناية بصحة الترك وتقوية أجسامهم ونشر الألعاب الرياضية بينهم. ويشترط للدخول في جمعية (ترك أوجاغي) أو في أحد فروعها أن يكون طالب الدخول تركيًّا وأن يدفع رسمًا شهريًّا، وأن يتعهد ببذل حياته ونشاطه وماله لإعلاء شأن الترك وبسط سيادتهم على الأمم الأخرى وأن يغير اسمه باسم توراني يُعرف به بين أصحابه، فمن كان اسمه أنور مثلاً صار يُعرف اليوم بين أصحابه باسم أيشلداق- أي: أنور بالتركية القديمة- ومن كان اسمه محمدًا أو سليمًا أو حسينًا أو سعيدًا صار اسمه اليوم تيمورًا أو جنكيز أو هلاكو أو غورز إلخ. وقد بدَّل كل الضباط الاتحاديين أسماءهم بأسماء تورانية، وكذا رجال الحكومة الحالية؛ لأنهم كلهم من جمعية (ترك أوجاغي) ويعرفون بين أصحابهم الترك بأسماء تورانية غير أسمائهم التي يعرفهم بها غير الترك. وقد أنشأت جمعية ترك أوجاغي وفروعها أندية عديدة في جميع المدن والقرى التركية لتدريس تاريخ الترك القديم ولا سيما تاريخ هلاكو وأوغوز وجنكيز خان وبث الفكرة التركية في الأمة التركية وجعلها تعتقد بتفوقها على الأمم الأخرى في كل شيء. وعينت هذه الجمعية ثلاثة أيام في الأسبوع لتعليم النساء التركيات التاريخ القديم وبث الفكرة العنصرية فيهن وحملهن على العناية بتربية أطفالهن تربية قومية تركية. وتبرعت وزارة أوقاف المسلمين أخيرًا بخمسين ألف ليرا عثمانية لجمعية (ترك أوجاغي) لأجل تأليف تواريخ مفصلة لهلاكو ووأغوز وجنكيز وتيمور لنك. وأندية (ترك أوجاغي) محرّم دخولها على غير الترك، فكل من يودّ أن يدخل إليها يجب عليه أن يُظهر للبواب ورقة عليها اسمه وتاريخ ولادته، وقد سعت جمعية ترك أوجاغي أخيرًا في ترجمة القرآن الكريم إلى التركية القديمة مع خطبة الجمعة والأدعية الدينية وغيرها مما يوجب الدين الإسلامي تلاوته باللغة العربية، وعزمت على نزع أسماء الصحابة من الجوامع لاعتقادها أن وجود هذه الأسماء العربية في الجوامع والأماكن المقدسة مما يُضعف الفكرة القومية في الترك. وليست المدارس العثمانية رشدية كانت أو إعدادية مَلَكية أو عسكرية إلا فروعًا من فروع جمعية (ترك أوجاغي) وكذلك جمعية الاتحاد والترقي وجميع الجمعيات السياسية والعلمية والدينية والأدبية التي تأسست في الآستانة والأناضول قبل الحرب الأوروبية وبعدها. وقد أدخلت الحكومة في برنامج مدارسها العالية ولا سيما المدرسة الحربية ومدرسة أركان الحرب في الآستانة درس تاريخ التورانيين وعلومهم الحربية وآدابهم ونظاماتهم، وعهدت إلى أحمد أغايف بك وخالد ضياء بك وحمد الله بك في إلقاء محاضرات يومية في هذه المواضيع على تلامذة المدارس الحربية ومدارس الحقوق والطب والهندسة وغيرها وترسيخ الفكرة التركية في نفوسهم. واستعاض التلامذة في جميع المدارس الابتدائية والإعدادية والعالية من الكتب العصرية بمجموعة (ترك يوردي) - المملكة التركية- وكتاب ترك قليجي- السيف التركي- وتاريخ توازن، وتاريخ تيمور لنك وهلاكو وجنكيز خان وغيرهم. وفي كل يوم يجتمع تلامذة المدارس الحربية في ساحات مدارسهم ويستلون سيوفهم وينشدون نشيدهم الوطني الذي يبتدئ بهذه الأبيات: جنكز خانك بايراغي ... آنلي شانلي صانلاندي آيت خانك بايراغي ... حربده بويله أكلاتدي أي: لقد تموجت أعلام جنكيز خان في جو المجد والشرف وأرشدنا أعلام آيت خان إلى نهج هذا الطريق المجيد في الحرب. إلخ. والأغرب من هذا كله الدعاء الجديد الذي ألفته جمعية (تورك يوردي) وجعلت الترك يستعملونه في منازلهم ومدارسهم، وقد قررت أخيرًا استعماله في الجوامع في الآستانة والأناضول، وهذه ترجمته: (أيها الإله القادر على كل شيء أنعم على الترك بالصحة والعافية وأحسن إليهم بذئب أبيض [4] واشملهم برعاية مولانا السلطان الأعظم. (وأنت يا مملكة توران الجميلة المحبوبة أرشدينا إلى الطريق المؤدية إليك؛ لأن جدنا أوغوز الكبير ينادينا. (أيها الإله القادر على كل شيء أنر طريق توران أمامنا، واجعل أمتنا كالورد الناضر واهدنا الصراط المستقيم) . *** الأناشيد الحماسية في الجيش أما الجيش العثماني فمعظم ضباطه وجنوده الترك من الاتحاديين ومن المنتسبين إلى جمعية ترك أوجاغي، وهم يحتقرون الضباط والجنود من أبناء العناصر العثمانية الأخرى ولا يسمون الدولة إلا الدولة التركية، وينفرون من تسميتها الدولة العثمانية لاعتقادهم أن البلاد العثمانية غير التركية ليست إلا مستعمرة فتحها الترك بالسيف. وهذا نموذج من الأناشيد الحماسية التي يتزعمون بها في الجيش: بزتر كزسن تركلكه أمانتسك ... هيج قورقمه هب أولورسي ويرميز ... أي: نحن ترك وأنت (يا آسيا) أمانة بيد الترك فلا تخشى شرًّا؛ لأننا نفديك بأرواحنا. أي ترك كنجي يتيشيرارتق أو يومه ... قوش كويلينك أمداديدورمه نه ... أي: انهض أيها الفتى فقد نمت طويلاً وأسرِع في الحال إلى إمداد بلاد أجدادك. جنكيز خانك بايراغي ... آنلي شانلي صانلاندي آيت خانك بايراغي ... حربده بويله أكلاتدي وقد سبقت ترجمته. انتقامي آله مزسك تركلك بزه نافله ... صوصتره لم بايقوشلري يتيشر بو ولوله ... أي: لا يحق لنا أن نُدعى أتراكًا ما لم ننتقم من أعدائنا. فلنسكت اليوم عن نعيقه وليكفنا ما سمعناه من الضجيج والنحيب. يورييالم أيلرى يه أتلاية لم طاغ تبه ... باطلاتالم بومبالري جانلر كيرسون يرلره أي: هلموا إلى الأمام فستنبط أمامكم الجبال والآكام وتتفجر قنابل الديناميت وتفغر الأرض فاها لابتلاع النواقيس والأجراس. آل بايراغك التنده انآ لرم يورودي ... كوك بايراغك التنده يكي توران بيودي ... أي: لقد سار أجدادنا إلى المجد تحت العلَم الأحمر الذي هو مصدر عظمة توران الجديدة. يورين طاغلر اينيسين التون اردوشان ويرسون ... آل بايراق! يا نعينلر اوزرنده يوكسلسك ... أي: سيروا لتنبسط الجبال وتكسبنا جيوش التاي [5] الشرف فإن مجدنا سيشاد تحت العلم التركي على الأنقاض والحرائق. بزايغورز دونميز قونا غمز طاغ اوه ... تركز بزمدراسيا تركز هيمز ... أي: نحن سعداء فلا نرجع عن سيرنا إلى الأمام؛ لأن مسكننا الجبال والبِطاح نحن ترك وآسيا كلها لنا نحن أتراك أتراك كلنا. كيف يعلمون الأمة هذا نموذج من الأناشيد التركية الوطنية التي يترنم بها الترك في ميادين القتال على مسمع من جنود العرب وضباطهم. وإلى القراء نموذج من الخطب والدروس التي يلقيها على التلامذة العثمانيين في مدارس الدولة أساتذة من أعضاء جمعية (ترك أوجاغي) عينوا برواتب باهظة لتتريك أبناء العناصر العثمانية. قال أستاذ التربية العسكرية في المدرسة الحربية في الآستانة في درس ألقاه على صف الضباط بعد إعلان الحرب العثمانية بأيام ما خلاصته (أي خلاصة ترجمته) : (أود أيها السادة أن ألقي عليكم كلمة في غاية الأهمية بمناسبة الحوادث العظيمة التي وقعت في الغرب فأظهرت لنا معاشر الترك أمورًا لم تخطر في بالِنا من قبل وعِبرًا ينبغي أن نعتبر بها. فإن البلجيك الصغيرة تجاسرت على محاربة ألمانيا العظيمة ووقفت بجيش لا يزيد على مئة ألف جندي أمام أعظم جيش ذكره تاريخ بني البشر فحالت دون القضاء على حليفتها فرنسا. لذلك لا يسعنا نحن الترك أعداء البلجيك إلا أن نطأطئ رؤوسنا إجلالاً لها واحترامًا لجيشها الباسل. ولكن أتعلمون أيها الأصدقاء لماذا وقفت البلجيك تيار الجيش الألماني العظيم؟ وقفته لأنها كانت تحاربه باسم القومية وباسم الوطن. أوَ تعلمون لماذا عظمت فرنسا وإنكلترا وألمانيا ومدن العالم وصرن أعلى أمم الأرض مقامًا وأكثرها ثراءً؟ لأنهن خضن معترك الحياة باسم القومية لا باسم الدين. فعلينا أيها الأعزاء أن نظهر من الآن وصاعدًا أمام العالم بصبغة القومية المقدسة، وأن نضرب بالعصبية الدينية عرض الحائط. ونحن أيها السادة أتراك، وإني لأعجب من تسميتنا عثمانيين. فمن هو عثمان الذي ننتسب إليه؟ إنه تركي جاء من آلتاي واجتاح هذه البلاد بجيشه التركي فانتسابنا إلى أصله أشرف من انتسابنا إليه. ولقد خُدعنا بجهل أسلافنا في الماضي، فبئس الأسلاف الذين أنسونا قوميتنا، إنكم أيها الأعزاء ستلحقون بالجيش قريبًا وستكونون أساتذة جنودنا الأبطال. فعلموهم أنهم ترك وأنهم إذا حاربوا العدو من أجل الترك وتحت العلم التركي ينتصرون عليه ويحرزون ما أحرزته البلجيك من المجد والفخر. وتأكدوا أن التركية خير لنا من الإسلام وأن التعصب للجنسية من أكبر فضائل الهيئة الاجتماعية. فأجابه أحد ضباط العرب قائلاً: (تعلم أيها القائد أن للأمم الشرقية تقا

رحلة الحجاز ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز (3) باخرتا الحُجَّاج - المنصورة والنجيلة استأجرت الحكومة للحجاج باخرتي (المنصورة والنجيلة) وهما من أقدم سفن شركة البواخر الخديوية- وأما المحمل المصري فقد حمل مع أميره وعسكره على سفينة حربية إنكليزية- ولما كنا آخر من جاء السويس من الحجاج علمنا من أصدقائنا الموظفين في هذا الشأن أن المنصورة أسرع الباخرتين، وأنه لم يبق في الدرجة الأولى منها موضع لي وللسيدتين؛ لأن وفد العلماء المرسل إلى الحج على نفقة سلطان مصر المعظَّم قد ركب المنصورة قبل مجيئنا، وتسابق إليها الناس، وقد يوجد فيها موضع واحد لي، وأن النجيلة تفضل المنصورة بأنها أقل منها نودانا، وأنه يمكن أن نجد في الدرجة الأولى منها بيتًا أو مخدعًا (قمره) خاصًّا بنا. فنزلنا فيها مع رفيقنا في يوم الأحد لأربع بقين من ذي القعدة، وقد علمنا بعد سفرها أنها أبطأ بواخر الدنيا سيرًا. قيل لنا: ليس فيها ضوء كهربائي ولا أجراس ولا مقاعد للاستراحة إلا كراسي المائدة في الدرجة الأولى، ولكن المِخدع الذي خصص لنا فيها واسع جدًّا قلما يوجد في البواخر الكبيرة مثله في سعته، وهو مُعدّ لنوم ستة أو سبعة، وفيه عدة نوافذ. ثم إن ربانها سالم أفندي البدن من أحسن الناس أخلاقًا وعناية بالحجاج، وهو من أقدم المستخدمين بهذه البواخر، وقد حج مرارًا، وطبيبها مهذب حسن المعاشرة وهو طلياني يتكلم بالعربية العامية بطلاقة ولهجته فيها سورية، فنشكر لهذين الرئيسين في الباخرة حسن عشرتهما وعنايتهما بنا خاصة وبسائر الحجاج أيضا، ولا نبخس خدم الباخرة حقهم من الثناء على حسن خدمتهم. ولعل باخرتنا كانت تفضل المنصورة فيما عدا سرعة السير. وقد زارنا في الباخرة قبل سفرها محافظ السويس، ثم صار إلى المنصورة لزيارة وفد العلماء السلطاني فيها. *** حجاج باخرتنا النجيلة وأنسنا في الباخرة بصحبة كثير من ركاب الدرجتين الأولى والثانية وحمدنا صحبتهم وعشرتهم، وأخص بالذِّكر منهم عالمًا من أكبر علماء القطر المصري وأديبًا من أفضل أدبائه. أما العالم فهو الأستاذ الشيخ عبد الفتاح الجمل شيخ علماء بورسعيد وقد كنت أسمع له ذكرًا حسنًا فرأيته فوق ما كنت أسمع علمًا وفضلاً وهدْيًا وأدبًا وإنصافًا في المذاكرة واستقلالاً في الفهم، وله مشاركة حسنة في التاريخ والأدب ومعرفة أحوال العصر، ولعله يندر وجود مثله في علماء مصر. وأما الأديب فهو محمد توفيق علي (اليوزباشي) في الجيش المصري، وهو يفضل من نعرف من أدباء مصر وضباطها في الأخلاق الدينية والمحافظة على العبادات، وكثرة النظم في ذم الفواحش والمنكرات. وقد كان معه والدته، وهي امرأة تقية زكيه الفطرة، واتفق أن كان مخدعهما ملاصقًا لمخدعنا فكانت والدتي وشقيقتي تأنسان بإلمامها بهما وصحبتها لهما، وهي أقل منهما دوارًا، وأكثر على مشقة البحر اصطبارًا، وقد حجت قبل هذه المرة. وكذلك كنت أنا آنس به، فقد كنا أكثر الرفاق تلازمًا قلما نفترق إلا في وقت النوم، وكان أكثر حديثنا وسمرنا أول الصحبة في الشِّعر والأدب وأقلها في المسائل الدينية والعلمية والشئون الاجتماعية، إلا إذا حضر المجلس الأستاذ الجمل، فإن الحديث يكون بعكس ذلك كما كان في أواخر العهد بالصحبة. وقد وزعت بعض نسخ المناسك على حجاج الباخرة قبل أن أقرأها وأصحح أغلاطها وبعضها بعد ذلك، ولما علم الناس أنها بغير ثمن كثر الطلب لها حتى من الأميين فصرت أشترط على من يأخذها من القارئين، أن يقرأها لمن يجاوره من الرفاق الأميين، وكان انتشارها في المركب سببًا لكثرة اختلاف الحجاج إلينا للسؤال عن أحكام النسك ولا سيما واجبات الإحرام. كان سفرنا من مصر في أول الميزان وقد بدأ هواء الخريف المعتدل بطرد هواء الصيف الحار ويجليه عن أفق مصر، وكأن ما كان يرحل منه عن مصر يذهب إلى الحجاز ليحل محل هواء صيفه الذي هو أشد منه حرارة، لذلك كنا كلما أوغلنا في الجنوب نشعر بأن جونا يرجع بنا القهقرى إلى الصيف، فكان عامة من في السفينة لا يكادون يبرحون ظهرها إلا إلى حاجة غير النوم؛ إذ كان جميع ركاب الدرجة الثالثة ينامون على الظهر، وكذلك بعض ركاب الدرجة الثانية، وكان جل ركاب الدرجة الثالثة ينامون على الظهر وكذلك بعض ركاب الدرجة الثانية، وكان جُلّ ركاب الدرجة الثالثة من أدنى طبقات المصريين قد دعَّهم إلى الحج دعًّا ما كان من عناية الحكومة ببعث حجاج يحجون وحملها الأغنياء على مساعدة الفقراء على الحج بالمال، فوق ما كان من تسهيل سائر الأسباب، فكان أكثرهم يقطعون أوصال الليل باللهو واللعب والغناء والطرب، ومنه ما يسمونه في اصطلاح أهل الطرق بالذكر، وهو أن يقف جماعة يتثنون ويرقصون ويصيحون بأصوات منكرة: أُه أُه أو هو هو، أو حيّ حيّ على صوت مغنٍّ يغنيهم ببعض الأغاني الحديثة أو الأشعار القديمة، فيكونون بذلك من الذين اتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا وأقبح اللهو وأنكره وأقربه من غضب الله وأبعده عن مرضاته ما جعل دينًا، فهؤلاء الذين يسمون أنفسهم ذاكرين الله يظنون أنهم خير من الذين يتغنون ببعض الأغاني لأجل التسلي عن فراق الأهل والولد مثلاً، وما ذلك اللهو الذي سموه ذكرًا إلا معصية، وما هذا اللهو الذي ظنوه حرامًا أو مكروهًا إلا مباح، ولَهُمْ في ذكرهم هذا شرّ مكانًا ممن قال فيهم بعض العلماء: أقال الله حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي ولذكرهم هذا دون الذِّكر مع الغفلة أو الغيبة الذي قال فيه الشيخ محيي الدين ابن عربي: بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنطمس البصائر والقلوب ومن مظاهر الدين الباطلة في هؤلاء العوام ما كان يمثله رجل منهم شر تمثيل: كنا نسمع كل ليلة صوتًا منكرًا أجشّ ينادي به صاحبه السيد البدوي بألقابه المشهورة في هذه البلاد، ويكثر من ذلك، ويلح فيه بعد نوم الناس متنقلاً على ظهر السفينة من مكان إلى مكان، وكثيرًا ما كان يقف بالقرب من بعض نوافذ مخدعنا فيزعج السيدتين وينغص عليهما نومهما، ولما تكرر ذلك منه بحثنا عنه، فإذا هو بزي أهل الطريق المتصنعين الذين يراؤون الناس بلحاهم وثيابهم وحركاتهم وأصواتهم، فتلطفنا في وعظه وإقناعه بترك ذلك الصياح، ولكنه أقل منه ولم يتركه ألبتة. هذا وإننا لما حاذينا رابغ آذن ربان السفينة الحجاج ببلوغ ميقات الإحرام فطفقوا يُحرمون، وإننا نرجئ الكلام على الإحرام الآن لنذكره في هذه الرحلة مع غيره من أعمال المناسك متصلاً بعضها ببعض، ونسترسل في وصف السفر فنقول: *** الوصول إلى جدة وصلت المنصورة إلى ثغر جدة ضحوة يوم الأربعاء وهو التاسع والعشرون من ذي القعدة، ولم يلبث ركابها أن ينزلوا منها، وأما باخرتنا النجيلة فوصلت عشاء ليلة الخميس فلم تستطع التقدم إلى موقف البواخر من الميناء لكثرة الصخور الخفية هنالك فأرسلت في مكان بعيد عنهن، وإنما دخلت الميناء وأرست في مكان بعيد عنه، وإنما دخلت الميناء وأرست فيه ضحوة يوم الخميس، فكان تأخر ركابها عن ركاب أختها 24 ساعة، والسفن ترسى على بُعد شاسع من البَرّ في ذلك الثغر لرقة الماء وكثرة الصخور، فلما رأت الوالدة والشقيقة ذلك عراهما الغم؛ لأن الدوار يشتد عليهما في الزوارق الصغيرة ذات الشّرع أو المجاديف ويؤلمهما طول المسافة فيها، وخافتا أن لا تصلا إلى البر إلا بحالة لا ترضيهما، ولكننا لم نكد نستعد للنزول إلا وكان صديقنا الكريم الشيخ محمد نصيف زكيل سيدنا الشريف الأعظم صاحب الحجاز [1] قد جاء الباخرة في زورق كهربائي أو بخاري (لنش) مع جماعة من سراة جدة وكبرائها لأجل استقبالنا، وقد أخبرونا بعد السلام أنهم قد نزلوا أمس للسؤال عنا في باخرة المنصورة، ثم إننا بعد استراحة الزائرين نزلنا وأنزلنا معنا في الزورق ما خف من متاعنا وصغر حجمه، وأرسلنا ما بقي في مراكب النقل الشراعية. وكان الرفيقان الشيخ خالد ومحمد نجيب أفندي قد نزلا في بعضها، - فسار بنا الزورق كالسهم فوصلنا بغاية الراح، ونزلنا ضيوفًا مكرمين في دار صديقنا الكريم الشيخ محمد نصيف، وهي دار فسيحة واسعة الحجرات كثيرة النوافذ، تفيض عليها الشمس من دور جدة، وكان الهواء معتدلاً في هذا الثغر، لا يُشتكى برد منه ولا حر، وقد بلغني الصديق المضيف، تحية سيدنا الشريف، وصدر أمره العالي إليه بالعناية بنا وكان قد بلغ الديوان الهاشمي العالي موعد وصولنا كما بلغه مندوبه بمصر خبر سفرنا بالبرق ثم بلغ مضيفنا بمكة خبر وصولنا بالمسرة (التليفون) وتكلمت به مع إخواننا محرري جريدة القبلة. وفي صبيحة اليوم التالي ورد على مضيفنا في البريد من المقام لهاشمي الأعلى رقعة شريفة هذا نصها: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نومرو 195 وكيل شرافة مكة المكرمة وإمارتها بجدة معتمدنا الأعز: كتابك رقيم 27 الجاري، وصل وعلم ما له لا سيما من خصوص السيد رشيد رضا فقد أرسلنا وبتاريخه كان قصدنا نشعرك بالاستعداد لمقابلته بما يقتضي له من الحفاوة وللمعلومية تحرر 29 ذي القعدة سنة 1334. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحسين بن علي لم نكد نستقر في الدار إلا وأقبل الزائرون المهنئون يفدون علينا أفرادًا وجماعات وفي مقدمتهم الشيخ مصطفى فهمي معاون نائب الحضرة الهاشمية في جدة جاء بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن سيادة رئيسه الشريف محسن معتذرًا عنه بالاشتغال بشئون المَحمل المصري. وقد تذكرنا فتذاكرنا بعد التحية والسلام، فيما كان من تلاقينا أول مرة منذ بضعة أعوام، ذلك أنني زرت سورية عقب إعلان الدستور العثماني سنة 1327 فأقمت فيها أشهرًا ثم عدت إلى مصر على سفينة فرنسية من شركة المساجري، واتفق أن كان في هذه السفينة مصطفى بك فهمي هذا قاصدًا بورسعيد للسفر منها إلى الحجاز فرأى اسمي بين ركاب الدرجة الأولى ولم يرني على مائدتها ولا على ظهرها مع الركاب؛ لأنني أصبت بدوار خفيف لزمت لأجله مخدعي، ولم يكن معي أحد فيه، فسأل عني فدل عليّ فالتقينا وتعارفنا، قال لي: إن سيادة أمير مكة الجديد سيدنا الشريف حسين طلبني لأكون كاتب السر له وكان موظفًا بولاية حلب في عمل لا أذكره الآن وإنني لما علمت بوجودك هنا رغبت في لقائك واغتنام الفرصة في الاستفادة من رأيك فيما ينبغي لبلاد الحجاز من الإصلاح في عهد الدستور فإن أميره الجديد لا بد أن يوجه همته إلى إصلاح عظيم في هذه البلاد المقدسة، وأنت أولى من يستنار برأيه في هذا الأمر. فذكرت له ما خطر في بالي في ذلك الوقت القصير من وسائل حفظ الأمن ونشر العلم وإصلاح حال البدو وسكة الحديد الحجازية، وتواعدنا على المكاتبة في كل ما يتجدد من الشئون بتجدد الأعمال، وقد بدأ بالوفاء بوعده بعد وصوله إلى مكة المكرمة بمدة وجيزة، فكتب إلي كتابًا ذكر فيه أنه عرض ما سمعه مني من الآراء على سيد الجميع فصادف القبول والارتياح، وقد أجبته بما اقتضته الحاجة، وكان من غرائب عهد الدستور أنني أرسلت إليه كتابًا مسجلاً فيه كلام يتعلق بخدمة الدولة وتمكين سيادتها في البلاد العربية فأعيد إلي هذا الكتاب ولم توصله إليه إدارة البريد التركية، ولا يزال عندي وقد وعدته بإطلاعه عليه عندما التقينا في جدة لأنه كان في أوراقي، ولكن لم يتيسر

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (كتاب الحرب الأوربية.. أو فلسفتها) لا أعرف أحدًا من العامة ولا من الخاصة يصدق جميع ما يُنشر في الجرائد من أخبار الحرب والسياسة ولا أكثره، وإنما يصدق الناس ما يوافق عقولهم، وآخرون ما يوافق أهواءهم. وأهل البصيرة يعلمون أن أصحاب الجرائد في بلادنا لا يعرفون جميع الحقائق التي يعرفها أصحاب الجرائد في أوربة، وأنه لا يباح لهؤلاء ولا لأولئك أن ينشروا كل ما عرفوا، فإن ما ينشر في الجرائد في هذه الحال يراد به عند جميع الأمم ما يترتب عليه من التأثير، ولا تمحيص الحقائق ولا تدوين التاريخ، وإنما يرجى أن تدون الحقائق بعد الحرب بسنين، بأقلام أركان الحرب وأحرار المؤرخين. وأجدر الناس بإظهار الحقائق في كل زمن هم الحكماء ورجال الإصلاح الاجتماعي والتحقيق التاريخي، وإذا قلت: إن (غوستاف لوبون) هو أشهر حكماء الاجتماع وفلاسفة التاريخ في هذا العصر لا أكون مبالغًا، فإنه قد اشتهر في الشرق كما اشتهر في الغرب بما ترجم من كتبه الاجتماعية باللغات الشرقية ككتاب تطور الأمم، وكتاب روح الاجتماع، وبما كتبه في تاريخ أعظم أمم الشرق؛ ككتاب حضارة العرب وكتاب حضارة الهند. وقد كتب كتابًا في فلسفة هذه الحرب بين فيه مناشئها النفسية، وأسبابها الخفية والجلية، وكيفية تولدها ونمائها وسيرها في كل أمة من الأمم المتقاتلة، وكونها معلولة لعلل خفية ما كان في استطاعة أحد أن يحول دون ترتبها عليها، ولم تكن بإرادة دولة من الدول ولا ملك من الملوك، خلافًا للكثيرين الذين غلطوا في ذلك. ومن مباحث الكتاب بيان انقلاب الطرق الحربية والعواطف التي توقظ داعية الحرب، وتأثير الأغلاط النفسية والحربية فيها، وإيقاظها للشعور الديني والطرق الحربية الألمانية وتأثيرها، ونتائج الحرب مجهولة وعقبات الصلح، وغير ذلك من الفوائد مستنبطًا مسائله وقواعده من الوثائق الرسمية، وأجدر الأخبار بالثقة. مثل هذا الفيلسوف الكبير يكتب ما يعتقد، وقد بدأ التمهيد الذي جعله مقدمة الكتاب بقوله: (ليس غرضي من هذا الكتاب درس حوادث الحرب الأوربية، وإنما الذي أرمي إليه استقصاء الظواهر النفسية التي أدت إليها والتي رافقتها منذ نشأتها، فإن تدوين وقائعها بإنصاف وإخلاص ليس بميسور لنا اليوم. وإن الأهواء لا تزال متسلطة على نفوسنا، ولا يتسنى للأجيال التي تخلق التاريخ أن تدونه. ولا بد من فترة تمرّ بعد انتهاء المآسي البشرية حتى يتمكن الإنسان من اكتشاف سرها وإدراك حقيقتها، فإن التاريخ لا يُنصف إلا الموتى) . ومن أراد أن يستفيد من هذه الحرب علمًا وفلسفة وعِبرة وبصيرة فعليه بهذا الكتاب، وهو قد ترجم بالعربية وطبع في مطبعة الهلال. *** (كتاب ثورة العرب- مقدماتها وأسبابها ونتائجها) ألّف هذا الكتاب عضو من أعضاء بعض الجمعيات العربية، هو سوري أقام في الآستانة عدة سنين، وفي مصر عدة سنين لا عمل له إلا الاشتغال بالسياسة، والأقطاب التي تدور عليها مباحث الكتاب تنحصر فيما يأتي: الحرب الأوربية والشرق. المسألة الشرقية وفروعها. المسألة العربية وأدوارها , العرب والترك في الماضي. العرب والاتحاديون، تأليف الجمعيات العربية وأسبابه. المؤتمر العربي الأول ونتائجه. نيات الاتحاديين ومعداتهم، الاتحاديون والإسلام والعرب، تفاقم الخطب، وانفجار البركان. المبايعة بالملك على العرب. مستقبل العرب. ما من مسألة من مسائل هذا الكتاب إلا ولدينا علم تفصيلي فيها. وقد قرأت نبذًا متفرقة منه لأقف على منهاج مؤلفه فيه، فظهر لي مما قرأت ومما أعلم من أخلاق المؤلف وآدابه أنه اجتهد وتحرى الحق فيما كتبه بحسب ما وصل إليه علمه وفهمه مما رأى وروى، ومما سمع وقرأ. ومما بينه في كتابه أن أذكياء العرب قد ألجأتهم سيرة الاتحاديين وسيرهم بالدولة والأحداث التي حدثت في عهد دستورهم إلى تأليف الجمعيات والأحزاب للمحافظة على مقومات أمتهم وترقيتها في عهد الدستور في ظل الدولة العثمانية مع الإخلاص لها والحرص على دوام الارتباط بها وقد صدق. نقلنا في هذا الجزء فصلاً من فصول الكتاب وربما ننقل عنه غيره، وقد بلغت صفحاته246 صفحة من قِطع المنار، وثمن النسخة منه عشرة قروش صحيحة. *** (المذابح في أرمينية) كتيب للشيخ فائز الغصين بيّن فيه ما رآه بعينيه وسمِعه بأذنيه من رجال الحكومة الاتحادية الطورانية وضباطها من حوادث وأخبار الفتك بالأرمن. والكاتب من أبناء رؤساء عشائر العرب في حوران تخرج في مكتب الدولة الملكي بالآستانة، وانتظم في سلك حكومتها الإدارية، وقد كان حظه من تنكيل حكومته بأمثاله من نجباء العرب النفي إلى أرضروم، ولكنه سجن في ديار بكر بضعة أشهر وهي قطب الرحى لتلك الأحداث، وفيها وفي طريقها رأى وروى ما دوّنه في كتيبه من الفظائع التي تقشعر منها الجلود، ثم تيسر له الفرار إلى البصرة ثم إلى الحجاز فمصر وغرضه من الكتاب تبرئة الإسلام والمسلمين من قتل أحد بغير حق ولا سيما النساء والأطفال وبيان أن تبعة مذابح الأرمن في أعناق الحكومة الاتحادية دون سواها. *** (الكنز المفقود) قصة خيالية كُتبت ببعض اللغات الإفرنجية وترجمتها باللغة العربية الكاتبة المشهورة (ماري نجار) وغاية مؤلفها منه بيان شأن المرأة المهذبة، وأن جمال المرأة وذكاءها وثروتها لا تغني عنها شيئًا إذا لم تكن مقرونة بالتهذيب. ولذلك قدمتها إلى الصحف العربية التي يُعنى أصحابها (برفع شأن المرأة ومساواتها بالرجل وتشجيعها على رفع صوتها والسماح لها بنشر أفكارها على صفحاتها) وصفحات القصة 235 من القطع الصغير، وثمن النسخة منها 5 قروش.

استدارة الزمان والنسيئة في الحج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استدارة الزمان والنسيئة في الحج (س 21) من أحد قراء المنار من كبراء مكة المكرمة. الذي أحيط به علمَ حضرة الفاضل الأستاذ أني أستفسر عما رسخ بفكري عند تلاوة قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} (التوبة: 36) قال صلى الله عليه وسلم: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حُرُم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان) قال أبو الفضل شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني في فتح الباري بشرح صحيح البخاري: (المراد بالزمان النسبة، وقوله: كهيئته أي: استدار استدارة مثل حالته.. ولفظ الزمان يطلق على قليل الوقت وكثيره، والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار) فلا يخفى أن مفهوم منطوق الحديث الشريف (استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض) مع ما تضمنه شرح ابن حجر بقوله: المراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل، حيث يستوي الليل والنهار، إن وقت الوقوف بعرفة لا يكون إلا في ذلك اليوم الذي تحل فيه الشمس برج الحمل لا يتقدم ولا يتأخر، وإذا تقدم أو تأخر دخلت النسيئة معنًى؛ إذ لا غرو أن وقت الوقوف من بعد ذلك اليوم لم يقع في ذلك الوقت؛ لأنه لا أقل من تأخر كل عام عشرة أيام بحسب الفصول على حساب الأشهر الهلالية. فإن قلتم: هذا أمر مقرر مشى عليه الصحابة والتابعون من بعده -صلى الله عليه وسلم- وهلُم جرًّا إلى الآن، وعليه جاء في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة: 189) إن المعتبر في الحج الأشهر الهلالية. قلنا حينئذ: يترتب على هذا أنه لا فائدة لما أفهمه منطوق الحديث الشريف، وهو لا ينطق عن الهوى، ولا معنى لما شرحه ابن حجر في قوله في ذلك اليوم الذي حلت فيه الشمس برج الحمل. وهذا إذا كان السؤال في الآية الشريفة عن الهلال فقط، وأما إذا جرينا على أن السؤال كان عن جميع الأهلة حيث دخلت الشمس في هذا الجمع فحينئذ السؤال قد توجه للاشتباه، حيث إن ما ذكر من مفهوم الآية والحديث المتقدم ذِكرهما يؤيد أن المراد بقوله: والحج أن ميقات الحج الشمس حينما تحل في برج الحمل، أفتونا مأجورين آمين. (ج) ليس في منطوق الحديث الشريف ولا مفهومه أن استدارة الزمان هي وقوع تاسع ذي الحجة في أول يوم من برج الحمل، ولا ذلك مطابق للواقع. وإنما أخذه الحافظ من قول بعض العلماء لا من حديث آخر فقال في شرح الحديث من كتاب بدء الخلق من الفتح: وزعم يوسف بن عبد الملك في كتابه تفضيل الأزمنة أن هذه المقالة صدرت من النبي -صلى الله عليه وسلم- في شهر مارس وهو آذار وهو برمهات بالقبطية، وفيه يستوي الليل والنهار عند حلول الشمس في برج الحمل. اهـ، ومنه يعلم أنه ذكر هذا البيان الواقع، ولا أدري من أين أخذ الحافظ أن تاسع ذي الحجة وافق في تلك الليلة دخول الشمس في برج الحمل، فهو لم ينقل عن يوسف بن عبد الملك ذلك. والواقع أن أول ذي الحجة من تلك السنة، وهي العاشرة كان يوم الخميس كما ثبت في كتب الحديث وهو يوافق 27 فبراير وثاني برمهات، وفي بعض كتب التقويم أن أوله الجمعة 28 فبراير 3 برمهات، وعلى كل من الحسابين يكون دخول الشمس في برج الحمل بعد اليوم التاسع، وهب أنه كان فيه فما ذِكرهم له إلا بيان للواقع. وكل من موافقة وقوع الوقوف في أول يوم من برج الحمل وموافقة عام حجة الوداع لأول عام انتظم فيه حساب السنين في إثر تكوين السموات والأرض بهذه الحالة لا دخل له في فريضة الحج. على أننا إن سلَّمنا أن هذا المفهوم المدَّعى في السؤال هو مفهوم الحديث نقول: إنه مفهوم مخالفة، اشترط من يحتجون به أن لا يعارضه ما هو أقوى منه من منطوق أو مفهوم موافقة، وهذا المفهوم يعارضه الكتاب والسنة؛ إذ لو جعل الحج في فصل الربيع تابعًا للحساب الشمسي لخرج من الأشهر الحرم المعلومات عند العرب بالتواتر من عهد إبراهيم وإسماعيل اللذين فرض الله الحج على ألسنتهما وهو قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ} (البقرة: 197) إلخ وهن الأشهُر المتواليات في حديث الاستدارة. وكانت حكمة جعل الحج في الأشهر الحرم أن يأمن الحجاج على أنفسهم في ذهابهم إلى مكة وإيابهم منها إلى أوطانهم فلا يُغير عليهم أحد من الأعراب كعادتهم. وأما فائدة الحديث فهي تقرير إبطال النسيء ولوازمه. قال تعالى بعد الآية المذكورة في أول السؤال: {ِإنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: 37) وهو ما جروا عليه من تأخير بعض الأشهر الحُرُم إلى غيره؛ أي استحلال الشهر الحرام نفسه، وتحريم شهر آخر بدلاً منه لما كانوا يرون من الحاجة إلى الإغارة في الشهر الحرام. مثال ذلك أنهم كانوا يؤخرون تحريم القتال في المحرَّم الذي يعودون فيه من الحج إلى صفر، ويعلنون ذلك في (مِنى) قبل انصرافهم من الحج، وإذا احتاجوا أخروا صفر إلى ربيع، وهلُم جرًّا حتى استدار التحريم على شهور السنة كلها. وروي أن القلمس بن أمية بن عوف نسأ لهم الشهور أربعين سنة، فترتب على ذلك أنهم أحلوا جميع ما حرم الله، وأخروا الحج عن وقته الذي شرعه الله فيه حتى إن السنة التاسعة التي حج فيها أبو بكر بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كان الوقوف فيها في شهر ذي القعدة كما قال مجاهد، وتلتها حَجة الوداع فكان فيها الوقوف في ذي الحجة، وهو الشهر الذي فرض الله الوقوف فيه. فكانت استدارة الزمان أن رجع حساب الحج إلى أصله، وحُرِّم النسيء ألبتة، فزال السبب الذي كان يتأخر فيه الحج من الأشهر المعلومات التي فرصه الله فيها. وأفاد الحديث أن هذا الحساب حقيقي صحيح في نفسه ليس فيه من خطأ النسيء شيء. وقد قرأت بعد كتابة ما ذكر ما كتبه الحافظ على الحديث في تفسير سورة براءة فإذا به قد نقل هذا المعنى عن الخطابي. وأما ما ذكرتم من الفرق بين الهلال والأهلة فلا نعلم له مأخذًا من اللغة ولا أصلاً من الروايات، فالأهلة جمع هلال وهو اسم للقمر عندما يبدو في أول ليلة من الشهر إلى ثلاث ليالٍ، وقيل: إلى سبعٍ، وفي الليلتين الأخيرتين أو الثلاث الأخيرة منه. فإذا كان هذا اللفظ لا يطلق مفردًا على الشمس، فكيف تدخل الشمس في مفهوم جمعه؟

ذكرى المولد النبوي ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذكرى المولد النبوي [*] (3) خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك الليلة من داره إلى دار أبي بكر، ثم خرجا متزودين من خوخة [1] فيها واستخفيا في الغار المعروف بغار ثور [2] ، وكانا قد استأجرا دليلاً ماهرًا من المشركين ليرحل بهما، وأعطياه راحلتيهما وأمَّناه على سرهما [3] وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فكتم أمرهما ووافاهما في الميعاد، ولما علمت قريش بخروجهما، خرجت بالقافة في طلبهما [4] حتى إذا ما انتهوا إلى باب الغار، صرف الله عنه القلوب والأبصار، وفي الصحيحين أن أبا بكر قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى ما تحت قدميه لأبصرنا. فقال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا) ولما كان بعد ثلاث جاء الدليل فرحل بهما، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة فهاجر معهما، وكانت نار الطلب قد خمدت عنهما، وجعل المشركون لمن جاءهم بهما دية كل واحد منهما، وقد كان ما كان من حِفظ الله وإكرامه لهما. ولما بلغ الأنصار خروجه -صلى الله عليه وسلم- من مكة، كانوا يخرجون صبيحة كل يوم ينتظرونه في الحَرّة [5] ولا يرجعون إلى الديار، إلا بعد أن تغلبهم الشمس على الضلال [6] حتى وافاهم بقباء [7] يوم الإثنين ثامن ربيع الأول فتلقوه بالإكرام، وقام فيها مدة أربعة أيام، وكان نزوله في بني عمرو بن عوف، وبنى فيها مسجدها الذي أسس على التقوى من أول يوم، ثم دخل المدينة يوم الجمعة عند دخول الشمس في بُرج الميزان، وهو أول الاعتدال الخريفي في الزمان، فكان ذلك رمزًا لما في شريعته من الاعتدال، وكونها آخر الشرائع الإلهية التي يبلغ بها الدين غاية التمام والكمال، وقد أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فجمع بهم في المسجد الذي في بطن الواد، ثم ركب فأخذوا بخطام ناقته: هلم إلى العدد والعدة والمنعة والسلاح [8] . فقال: (خلوا سبيلها فإنها مأمورة) وكلما مرت بدار من دور الأنصار رغبوا إليه في النزول عليهم وهو يقول: (دعوها فإنها مأمورة) وما زالت تمر بدار بعد دار، إلى أن بركت في موضع مسجده اليوم من دور أخواله بني النجار [9] فبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فأدخله في بيته، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (المرء مع رحله) وأقام في منزل أبي أيوب حتى بنى حجرته ومسجده، واستحضر في أثناء ذلك أهل بيته من مكة المكرمة [10] ولم يفرح الأنصار بشيء كفرحهم بقدومه -صلى الله عليه وسلم- ومثله عودته إليهم بعد الفتح الأعظم [11] وأي شرف وفخر وسعادة في الحياة وبعد الممات، أعظم من هذه السعادة التي افتخر بها شاعرهم بهذه الأبيات: ثوى في قريش عشرة حجة ... يذكر لو يلقى حبيبًا مواتيا [12] ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم يرَ من يؤوي ولم ير داعيا [13] فلما أتانا واستقرت به النوى ... وأصبح مسرورًا بطَيْبة راضيا [14] وأصبح لا يخشى ظلامة ظالم ... بعيد ولا يخشى من الناس باغيا [15] بذلنا له الأموال من حِلّ مالنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا [16] نعادي الذي عادى من الناس كُلهم ... جميعًا، وإن كان الحبيب المصافيا [17] ونعلم أن الله لا رب غيره ... وأن كتاب الله أصبح هاديا [18] *** أخلاقه وسيرته بعد الهجرة مع المؤمنين وحاله مع أهل الكتاب والمشركين كان -صلى الله عليه وسلم- أكرم الخلق أخلاقًا، وأعلاهم فضائل وآدابًا، امتاز بذلك في عهد الجاهلية، فكيف يدرك كنهه بعد النبوة، وقد خاطبه العلي العظيم، بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) وكان جامعًا بين اللُّطف والتواضع والدماثة، وبين العزة والوقار والمهابة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه [19] ، وجامعًا بين الرأفة والرحمة والحياء، وبين الشجاعة والحزم والمضاء، فكان في حومة الوَغى أثبت الناس، وكانوا يلوذون به إذا اشتد البأس [20] حتى إنه ثبت وحده في يوم أُحد، ولكنه لم يقتل بيده غير أُبي بن خلف [21] وإنما كان يدافع عن نفسه وغيره دفاعًا، ويرشد المقاتلين بالتدبير والتثبيت إرشادًا، ولم يكن ينتقم لنفسه، ولا يُحابي في الحق عشيرته ولا أبناء جنسه، وكان على حلمه الواسع، لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان أجود من الريح المرسلة، والسحب المنهملة، وكان أعظم الناس صبرًا، وأحسنهم لله وللناس شكرًا [22] ، وكان يجب اليُسر ويأمر به، ويكره العُسر ويَنهى عنه [23] ، يأكل من الطعام ما وجد، لا يأبى المستلَذ منه نسكًا. ولا يتحراه تنعُّمًا وترفًا، ولكنه كان يعتني بأمر الماء [24] ، ويحب الطِّيب والنساء، وكان يُكثر الوصية بهن وباليتامى والأرقّاء، ليمحو من أنفس الناس احتقار الضعفاء. كان -صلى الله عليه وسلم- يربي المؤمنين بالقرآن، وبما آتاه الله من الخُلق العظيم والعرفان، فآخى بين المهاجرين والأنصار، حتى إنهم كانوا يتقاسمون المال والعقار، وألَّف الله به بين قلوب الأوس والخزرج فأصبحوا بنعمته تعالى إخوانًا، وكانوا في الجاهلية أعداء لا يألو أحدهما الآخر بغيًا وعدوانًا، وكان يشاور أصحابه في الأمر، ويساوي بينهم في الإقبال والبشر، ويوقِّر كبيرهم ويرحم صغيرهم، ويُكرم فقيرهم، ويعود مريضهم، ويشيِّع ميتهم، ويقبل هديتهم، ويجيب دعوتهم، ويكون معهم كأحدهم. فأما اليهود من أهل الكتاب، الذين كانوا في تلك الرحاب، فقد وادعهم وأقرهم على دينهم، وأمنهم على دمائهم وأموالهم، على أن لا يحاربوه، ولا يُظاهروا ولا يوالوا [25] عدوهم عليه، وأن لهم النصر على المؤمنين، وينفقون معهم ما داموا محاربين، وأن لهم دينهم وللمسلمين دينهم، سواء في ذلك مواليهم وأنفسهم، ولكنهم ما لبثوا أن نقضوا عهده، وظاهروا عليه عدوه. وأما المشركون فاشتدت عداوتهم له، وكانوا حربًا له ولمن آمن به، فلم يشتفوا بإخراجه وإخراجهم من ديارهم وأموالهم، وما كان من تعذيبهم لمواليهم وضعفائهم ونسائهم، لأجل إرجاعهم عن الإسلام، إلى ما كانوا عليه من عبادة الأصنام، حتى صارحوهم البغي والعدوان، فلم يكن للمسلم أمان على نفسه في مكان، إلا أن يمنعه أحد الأقوام، أو يصدهم عنه الشهر الحرام أو المسجد الحرام، على أن قريشًا صدتهم عن البيت، بعد أن قلدوا الهدي وأحرموا بالعمرة سنة ست [26] ، حتى صالحهم -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية [27]- والإسلام على ما صار إليه من المنعة والقوة-[28] ، على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس من مؤمنين وكافرين، وأن يرجع عنهم ذلك العام، ويُخلُّوا بينه وبين مكة في العام المقبل ثلاثة أيام، وأن يرد عليهم من أتاه من أصحابهم ولو بقصد الإسلام، ولا يردوا عليه من أتاهم من الصحابة الكرام، وكان -صلى الله عليه وسلم- قد رأى في المنام، أنه قد دخل المسجد الحرام، فظن المسلمون أن تأويل الرؤيا يكون في تلك السنة، ولذلك اشتد عليهم الاستياء من الصلح حتى خيفت عليهم الفتنة [29] لولا أن الله تعالى أنزل عليهم السكينة، وعجل لهم بعض ما وعدهم، ثم من المغانم الكبيرة [30] وذلك برهان على إيثاره -صلى الله عليه وسلم- للسلام، وما كانت حروبه إلا دفاعًا وتأمينًا لدعوة الإسلام، وكان أكبر فوائد ذلك الصلح اختلاط المسلمين بالمشركين، وإسماعهم القرآن وتبليغهم حقيقة الدين، وإرسال الرسل لتبليغ الملوك المجاورين [31] فصار الناس يدخلون فيه آمنين مقتنعين، وأظهر الإسلام في هذه الهدنة مَن كان يخفيه بين المشركين خوف الفتنة، وحسبك أنه تعالى أنزل سورة الفتح، في تعظيم شأن هذا الصلح؛ مبينًا ما فيه من الحِكَم والمصالح، ومشتملة على أخبار الغيب والوعد بالنصر والمغانم، فسماه فتحًا مبينًا، وأعقبه كما وعد نصرًا عزيزًا؛ إذ كان تمهيدًا لفتح مكة، الذي أتم به النعمة، وازداد المؤمنون بذلك إيمانًا، وصار الناس يدخلون في دين الله أفواجًا. وكان فتح مكة سنة ثمانٍ، وفي سنة عشر حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، التي هدم فيها قواعد الشرك والجاهلية وقرَّر قواعد الإسلام، وعلَّم الألوف أحكام المناسك [32] ، وأمر بأن يبلِّغ الشاهد منهم الغائب، وأشهَد الله تعالى المؤمنين على أنه بلغ ما نزل إليه وبينه تبيينًا، وأنزل تعالى عليه في مساء عرفة: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أقام في مكة بعد بدء التبليغ عشر سنين، يدعو إلى أصول الإيمان وكليات الدين، وتزكية النفس بتطهيرها من أدران الرذائل، وتحليتها بأحاسن الأخلاق وعقائل الفضائل، واستعمال نعم الله تعالى من بدنية وعقلية، وسماوية وأرضية، فيما تظهر به حِكَمه وتشاهد آياته في الخلق، وتتسع به العلوم التي يعرف بها الحق وتكثر موارد الرزق، صابرًا مع السابقين من المؤمنين، على الاضطهاد والأذى من المشركين، ثم دخل الإسلام بالهجرة في عهد الحرية، وتكونت له قوة العصبية، وجاء الوحي فيه مفصلاً لما أجمل في السور المكية من الأحكام، وبيان الحلال والحرام، وبينت السنة النبوية جميع فروع العبادات، وكل ما يحتاج إليه من النصوص والقواعد للسياسة وفروع المعاملات، فبذلك كله أكمل الله الدين، وأتم نعمته على المؤمنين، وقد تربى على ذلك الألوف من المهاجرين والأنصار، فنشروا هذا الدين القويم في الأقطار والأمصار، فأروا أمم الحضارة والأديان القديمة، من العدل والرحمة والسيرة القويمة، ما لم يروا مثله بأعينهم، ولا رووا نظيره عن أحد من قبلهم، وقد كانت مدة التشريع بعد الهجرة، كمدة التبليغ بعد البعثة [33] فبعد حجة الوداع بثلاثة أشهر [34] قبض الله تعالى إليه نبيه المصطفى، ورسوله المجتبى، ورفع روحه الطاهرة إلى الرفيق الأعلى، فتوفي -صلى الله عليه وسلم- تاركًا للأمة ما إن تمسكوا به لن يضلوا من بعده، كتاب الله وسنته في تبيينه وعترته العاملين بهما من أهل بيته [35] وكذا خلفاؤه الراشدون [36] وعلماء أصحابه به العاملون [37] مؤسسًا لهم أمة عظيمة، ودولة عادلة رحيمة، وحكومة شوروية حكيمة، قيدت فيها سلطة الفرد، بالشريعة العادلة وسيطرة أهل الحل والعقد [38] مبشرًا بأن ملكها سيعم الشرق والغرب، وينتظم ملك كسرى وقيصر، وأنه يظل عزيزًا ما أقاموا الحق واعتصموا بالعدل، فإذا وسدوا الأمر إلى غير أهله، فلينتظروا ساعتهم المضروبة لفقده [39] ، وبأنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق قوَّامة على أمر الله، إلى أن تقوم الساعة ويأتي أمر الله [40] . وقد تم كل ما بشر به وأنذر، ولا تزال آيات نبوته تتجدد وتتكرر، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًّا عن قومه، ورسولاً عن أمته، وصلى الله وبارك عليه، وعلى أهل بيته الطاهرين [41] ، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

علماء بغداد في القرن السادس ومكانتهم في الوعظ والتذكير

الكاتب: ابن جبير الأندلسي

_ علماء بغداد في القرن السادس ومكانتهم في الوعظ والتذكير قال الرحًّالة ابن جبير الأندلسي بعد أن وصف بغداد بأنها أمست بالنسبة إلى ما كانت كالطَّلل الدارس، وانتقد أخلاق أهلها ومعاملتهم وغرورهم ببلدهم ما نصه: أستغفر الله إلا فقهاءهم المحدثين، ووعاظهم المذكّرين، لا جرم أن لهم في طريقة الوعظ والتذكير، ومداومة التنبيه والتبصير، والمثابرة على الإنذار المخوف والتحذير، مقامات تستنزل لهم من رحمة الله تعالى ما يحط كثيرًا من أوزارهم، ويسحب ذيل العفو على سوء آثارهم، ويمنع القارعة الصماء أن تحل بديارهم، لكنهم معهم يضربون في حديد بارد، ويرومون تفجير الجلامد، فلا يكاد يخلو يوم من أيام جمعاتهم من واعظ يتكلم فيه، فالموفق منهم لا يزال في مجلس ذكر أيامه كلها، لهم في ذلك طريقة مباركة ملتزمة، فأول من شاهدنا مجلسه منهم الشيخ الإمام رضي الدين القزويني رئيس الشافعية، وفقيه المدرسة النظامية، والمشار إليه بالتقديم في العلوم الأصولية، حضرنا مجلسه بالمدرسة المذكورة إثر صلاة العصر من يوم الجمعة الخامس لصفر المذكور، فصعد المنبر وأخذ القراء أمامه في القراءة على كراسي موضوعة، فتوقوا وشوقوا وأتوا بتلاحين مُعْجِبة، ونغمات مُحرجة مطربة. ثم اندفع الشيخ الإمام المذكور فخطب خطبة سكون ووقار، وتصرف في أفانين من العلوم من تفسير كتاب الله عز وجل، وإيراد حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتكلم على معانيه، ثم رشقته شآبيب المسائل من كل جانب، فأجاب وما قصر، وتقدم وما تأخر، ودُفِعت إليه عدة رقاع منها، فجمعها جملة في يده وجعل يجاوب على كل واحدة منها وينبذ بها إلى أن فرغ منها، وحان المساء فنزل وافترق الجمع. فكان مجلسه مجلس علم ووعظ وقورًا هينًا ليِّنًا، ظهرت فيه البركة والسكينة، ولا سيما آخر مجلسه، فإنه سَرَتْ حميا وعظه إلى النفوس حتى أطارتها خشوعًا، وفجرتها دموعًا، وبادر التائبون إليه سقوطًا على يده ووقوعًا، فكم ناصية جزَّ، وكم مَفْصِل من مفاصل التائبين طبق بالموعظة وحزَّ، فبمثل مقام هذا الشيخ المبارك تُرحم العُصاة، وتُتغمد الجُناة، وتُستدام العِصمة والنجاة، والله تعالى يجازي كل ذي مقام عن مقامه، ويتغمد ببركة العلماء الأولياء عباده العاصين من سخطه وانتقامه، برحمته وكرمه، إنه المنعم الكريم لا رب سواه ولا معبود إلا إياه. وشهدنا له مجلسًا ثانيًا إثْر صلاة العصر من يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر المذكور، وحضر ذلك اليوم سيد العلماء الخراسانية، ورئيس الأئمة الشافعية، ودخل المدرسة النظامية بهزّ عظيم وتطريف آماق تشوقت له النفوس، فأخذ الإمام المتقدم الذكر فيه وعظه مسرورًا بحضوره ومتجملاً به، فأتى بأفانين من العلوم على حسب مجلسه المتقدم الذكر، ورئيس العلماء المذكور هو صدر الدين الخجندي المتقدم الذكر في هذا التقييد المشتهر المآثر والمكارم، المقدم بين الأكابر والأعاظم. ثم شاهدنا صبيحة يوم السبت بعده مجلس الشيخ الفقيه الإمام الأوحد جمال الدين أبي الفضائل ابن علي الجوزي بإزاء داره على الشط بالجانب الشرقي وفي آخره على اتصال من قصور الخليفة وبمقربة من باب البصلية آخر أبواب الجانب الشرقي، وهو يجلس به كل يوم سبت، فشاهدنا مجلس رجل ليس من عمرو ولا زيد، وفي جوف الفَرَا كل الصيد، آية الزمان، وقرة عين الإيمان، ورئيس الحنبلية، والمخصوص في العلوم بالرتب العلية، إمام الجماعة، وفارس حلبة هذه الصناعة، والمشهور له بالسبق الكريم في البلاغة والبراعة، مالك أزمة الكلام في النظم والنثر، والغائض في بحر فكره على نفائس الدُّر. فأما نظمه فرضيّ الطباع ومهياريّ الانطباع، وأما نثره فيصدع بسحر البيان، ويعطل المثل بقس وسحبان، ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر ويبتدئ القراء بالقراءة وعددهم نيَّف على العشرين قارئًا، فينتزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القرآن يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات، إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصلها عددًا، أو يسميها نسقًا، فإذا فرغوا أخذ هذا الإمام الغريب الشأن في إيراد خطبته عجلاً مبتدرًا، وأفرغ في أصداف الأسماع من ألفاظه دررًا، وانتظم أوائل الآيات المقروآت في أثناء خطبته فقرأها، وأتى بها على نسق القراءة لها لا مقدمًا ولا مؤخرًا، ثم أكمل الخطبة على قافية آخر آية منها، فلو أن أبدع مَن في مجلسه تكلف تسمية ما قرأ القراء به آية آية على الترتيب لعجز عن ذلك، فكيف بمن ينتظمها مرتجلاً، ويورد الخطبة الغراء بها عجلاً؟ {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} (الطور: 15) إن هذا لهو الفضل المبين. فحدِّث ولا حرج عن البحر، وهيهات ليس الخَبَر عنه كالخُبْر، ثم إنه أتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ، وآيات بينات من الذكر، طارت لها القلوب اشتياقًا، وذابت بها الأنفس احتراقًا، إلى أن علا الضجيج، وتردد بشهقاته النشيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها، ويمسح على رأسه داعيًا له؛ ومنهم من يغشى عليه، فيرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هولاً يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة، فلو لم نركب ثبج البحر، ونعتسف مفازات القفر، إلا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل لكانت الصفقة الرابحة، والوجهة المفلحة الناجحة، والحمد لله على أن مَنَّ بلقاء من يشهد الجمادات بفضله، ويضيق الوجود عن مثله، وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل وتطير إليه الرقاع فيجاوب أسرع من طرفة عين، وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء لا إله سواه. ثم شاهدنا مجلسًا ثانيًا له بُكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر بباب بدر في ساحة قصور الخليفة ومناظره مشرفة عليه، وهذا الموضع المذكور هو من حرم الخليفة، وخص بالوصول إليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته ومن حضر من الحرم، ويُفتح الباب للعامة فيدخلون إلى ذلك الموضع، وقد بسط بالحصر وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس، فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور، وقعدنا إلى أن وصل هذا الحَبْر المتكلم فصعد المنبر وأرخى طيلسانه على رأسه تواضعًا لحرمة المكان، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوقوا ما شاؤوا، وأطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة، وقد أحصينا لهم تسع آيات، من سور مختلفات، صدع بخطبته الزهراء الغراء وأتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات، ومشَّى الخطبة على فقرة آخر آية منه في الترتيب إلى أن أكملها، وكانت الآية: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} (غافر: 61) فتمادى على هذا السين؛ وحسَّن أيَّ تحسين، فكان يومه في ذلك أعجب من أمسه، ثم أخذ في الثناء على الخليفة والدعاء له ولوالدته، وكنى عنها بالسِّتر الأشرف، والجناب الأرأف، ثم سلك سبيله في الوعظ، كل ذلك بديهةً لا رويةً، ويصل كلامه في ذلك بالآيات المقروآت على النسق مرة أخرى، فأرسلت وابلها العيون، وأبدت النفوس سر شوقها المكنون، وتطارح الناس عليه بذنوبهم معترفين، وبالتوبة معلنين، وطاشت الألباب والعقول، وكثر الوله والذهول، وصارت النفوس لا تملك تحصيلاً، ولا تميز معقولاً، ولا تجد للصبر سبيلاً، ثم في أثناء مجلسه ينشد بأشعار من النسيب مبرحة التشويق؛ بديعة الترقيق، تشمل القلوب وَجْدًا، ويعود موضعها النسيبي زهدًا. وكان آخر ما أنشده من ذلك، وقد أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك الكلام. أين فؤادي أذابه الوجد ... وأين قلبي فما صحا بعد يا سعد زدني جوًى بذكرهم ... بالله قل لي فديت يا سعد ولم يزل يرددها والانفعال قد أثر فيه، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه، إلى أن خاف الإفحام فابتدر القيام، ونزل عن المنبر دهشًا عجلاً، وقد أطار القلوب وجلاً، وترك الناس على أحرّ من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر، فمن معلن بالانتحاب، ومن متعفر في التراب، فيا له من مشهد ما أهول مرآه، وما أسعد من رآه، نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز به بنصيب من رحمته، بمَنِّه وفضله. وفي أول مجلسه أنشد قصيدًا نيرًا لقبس عراقي النفس في الخليفة أوله: في شغل من الغرام شاغل ... من هاجه البرق بسفح عاقل يقول فيها عند ذكر الخليفة: يا كلمات الله كوني عوذة ... من العيون للإمام الكامل فلما فرغ من إنشاده، وقد هز المجلس طربًا ثم أخذ في شأنه، وتمادى في إيراد سحر بيانه، وما كنا نحسب أن متكلمًا في الدنيا يعطى من ملكة النفوس والتلاعب بها ما أُعطي هذا الرجل، فسبحان من يخص بالكمال من يشاء من عباده لا إله غيره. وشاهدنا بعد ذلك مجالس لسواه من وُعاظ بغداد ممن نستغرب شأنه بالإضافة لما عهدناه من متكلمي الغرب، وكنا قد شاهدنا بمكة والمدينة شرَّفهما الله مجالس من قد ذكرناه في هذا التقييد فصغرت بالإضافة لمجلس هذا الرجل الفذ في نفوسنا قدرًا، ولم نستطب لها ذكرًا، وأين تقعان مما أريد، وشتان بين اليزيدين، وهيهات الفتيان كثيرًا، والمثل بمالك يسير. ونزلنا بعده بمجلس يطيب سماعه، ويروق استطلاعه، وحضرنا له مجلسًا ثالثًا يوم السبت الثالث عشر لصَفَر بالموضع المذكور بإزاء داره على الشط الشرقي فأخذت معجزاته البيانية مأخذها، فشاهدنا من أمره عجبًا، صعد بوعظه أنفاس الحاضرين سحبًا، وأسال من أدمعهم وابلاً سكبًا، ثم جعل يردد في آخر مجلسه أبياتًا من النسيب شوقًا زهدّيًا وطربًا، إلى أن غلبته الرقة فوثب من أعلى منبره والهًا مكتئبًا، وغادر الكل منتدمًا على نفسه منتحبًا، لهفان ينادي يا حسرتا واحربا، والنادبون يدورون بنحيبهم دور الرحى، وكل منهم بعد من سكرته ما صَحَا، فسبحان من خلقه عبرة لأولي الألباب، وجعله للتوبة أقوى الأسباب، لا إله سواه.

الدكتور شبلي شميل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدكتور شبلي شميل في اليوم الأول من هذه السنة الميلادية سنة (1917) اغتالت المنية الطبيب النطاسي، الحكيم الاجتماعي، العالم الطبيعي، الأديب الكاتب، الناظم الناثر، الدكتور شبلي شميل الشهير بتصانيفه ومقالاته العلمية والاجتماعية في المجلات والجرائد العربية والفرنسية. كان شبلي فذًّا نادر المثل في مجموعة علومه وأعماله وأفكاره وأخلاقه والذي يحملنا على ترجمته أنه كان من طلاب الإصلاح المدني والتجديد الاجتماعي المخلصين- وقليل ما هم - لا من الذين اتخذوا العلم ذريعة لجمع المال ولا وسيلة لجاهٍ كما هو شأن السواد الأعظم من المتعلمين، فهو لم يدخر مالاً، ولم يتأثل عقارًا، ولم يصرف جُلّ أوقاته للكسب، بل كان اشتغاله بالأمور الاجتماعية أكثر من اشتغاله بالطب، ومثل هذا يكون مؤثرًا في أهل جيله تأثيرًا نافعًا أو ضارًّا لا كالذين يعدون من العلماء بورقة شهادة يحملها كل منهم بيده، ونرى أنه يعيش عمرًا طويلاً ثم يموت كما يموت العصفور لا يترك أثرًا في جيله يُنسب إليه. لهذا نذكر عن هذا الرجل أهم ما نرى فيه العبرة من ترجمته فنقول: كان أول من نشر مذهب دارون باللغة العربية وانتصر له وناضل دونه؛ إذ كان رجال الدين ولا سيما الكاثوليك الذين نشأ شميل على مذهبهم يعدون هذا المذهب من دعائم الكفر، ولم يكتف الرجل بذلك بل كان يصرح قولاً وكتابة بالتعطيل والإلحاد، ولم يتجرأ أحد قبله على ما تجرأ عليه من ذلك فيما نعلم مع كثرة الذين زاغت عقائدهم من المتعلمين على الطريقة الأوربية الحديثة. ومن الغريب أن نرى المحامين عن النصرانية وكتبها الدينية كاليسوعيين (الجزويت) لم يتصدوا للرد على الدكتور شميل كدأبهم في الرد على أمثاله من كتاب الشرق والغرب، وقد كانت مجلتهم (المشرق) واقفة بالمرصاد والهلال وغيرهما من الصحف المنشرة كلما نشر فيها شيء يخالف الدين أو المذهب الكاثوليكي ردوا عليه أشد الرد. فإذا كان الجزويت لم يشنعوا على الدكتور شبلي شميل كما شنعوا على من لم يجهر بمثل ما جهر به فلا عجب إذا سكت عنه من دونهم عصبية وعناية بهذا الأمر، وأكبر ما بلغنا من مقاومة بعض القسيسين له أنهم كانوا ينهون بعض الناس سرًّا عن دعوته لمعالجة مرضاهم. وجمهور المتعلمين على الطريقة العصرية من السوريين في مصر وسورية وأمريكة يحبون الدكتور شميل ويعدونه من دعاة الإصلاح الاجتماعي المخلصين، ومنهم من يغلو فيه، أما النصارى منهم - وهم الأكثرون- فلا يرون عدم تدينه مانعًا من إصلاحه الاجتماعي؛ إذ لا علاقة للدين بذلك عندهم، ولا شك في كون هذا من تساهلهم الذي قاربوا به الإفرنج، وأما المسلمون فلا يرون مروقه من عقيدته التي نشأ عليها مبعدًا له عنهم؛ لأنها ليست عقيدتهم فهو في نظرهم طبيب عالم اجتماعي غير مسلم، ولكنه أقرب من غيره من المخالفين لهم إلى التساهل والإنصاف لحريته واستقلال فكره. وله أصدقاء من مسلمي مصر لعلهم يزيدون على أصدقائه من مسلمي سورية الذين لا يعرفه أكثرهم إلا بالسماع. وأما مذهب داروِن فقد تكلم بعض علماء المسلمين فيه وفي مخالفته لظواهر النصوص في خلق آدم -عليه السلام-، ولم يجعلوا ذلك ردًّا على الدكتور شميل؛ لأنه لم يكن صاحب المذهب، وقد سبق أشياخنا إلى الرد على مذهب دارون، وأول ما رأيناه في ذلك ما أبرزه لنا الأستاذ الإمام في ترجمته لرسالة أستاذي الذي تخرجت على يديه الشيخ حسين الجسر في الرسالة الحميدية فهو قد لخص هذا المذهب وبين أن دلائله في أصل البشر ظنية لم تصل إلى درجة القطع، وأنها لو ثبتت وصارت يقينية لا تكون حجة على الإسلام لإمكان تأويل ظواهر النصوص الواردة في الكتاب والسنة في خلق آدم. وقد أقر أكابر علماء سورية شيخنا على تلك الرسالة وترجمت بالتركية فأقرها علماء الترك، وكافأه السلطان عبد الحميد على خدمته للإسلام بها برتبة علمية عالية وراتب شهري. ورغب إليه أن يكون من شيوخ قصره فاعتذر وعاد إلى طرابلس الشام بعد أن أقام في قصر يلدز عدة شهرًا ضيفًا مكرمًا عند السلطان. وأما علماء الأزهر فقد اطلع كثير منهم على الرسالة الحميدية وأعجب بها. ولكن لم نسمع أن أحدًا منهم كتب في موضوعها شيئًا. بينا رأي المسلمين الذين يعرفون الدكتور شبلي فيه، وأنهم كانوا يرونه أقرب إلى التساهل والإنصاف، وبيان ذلك أنه كان يقول: إنه لا يوجد دين اجتماعي يتفق مع مصالح البشر المدنية إلا دين القرآن. سمعت هذا منه غير مرة. وأخبرني أنه طالما خطر في باله أن يجمع ما في القرآن من الآيات الواردة في المسائل الاجتماعية والأدبية ويفسرها تفسيرًا علميًّا اجتماعيًّا. وأنه قد حاول هذا الجمع فصعب عليه تجريد ما أراده لما في القرآن من المزج بين هذه المسائل والمسائل الروحية الأخروية. وقال لي: إنك أقدر مني على تجريد ما أريد، فلو فعلت لكان تفسيري نافعًا لك فيما تتوخاه من التوفيق بين الإسلام والعلم العصري والحضارة العصرية، ومن نشر محاسن الإسلام بين الناس؛ لأن ألوفًا من الناس يقرؤون تفسيري ولا يقرؤون تفسيرك. وأما رأيه في نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو أنه كان يفضله على جميع البشر، وقد كتب إليَّ منذ تسع سنين كتابًا أودعه أبياتًا من الشعر في ذلك هذا نصه: إلى غزالي عصره السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار. أنت تنظر إلى محمد كنبيٍّ فتجعله عظيمًا، وأنا أنظر إليه كرجل وأجعله أعظم , ونحن وإن كنا في الاعتقاد (الدين أو المبدأ الديني) على طرفي نقيض فالجامع بيننا العقل الواسع والإخلاص في القول، وذلك أوثق بيننا لعُرَى المودة. ... ... من صديقك الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شميل (الحق أولى أن يقال) دع من محمد في سدى قرآنه ... ما قد نحاه للحمة الغايات إني وإن أكُ قد كفرت بدينه ... هل أكفرن بمُحْكم الآيات أوَما حوت في ناصع الألفاظ من ... حكم روادع للهوى وعِظات وشرائع لو أنهم عقلوا بها ... ما قيَّدوا العمران بالعادات نِعْمَ المدبر والحكيم وإنه ... رب الفصاحة مصطفى الكلمات رجل الحِجَا رجل السياسة إنه ... بطل حليف النصر في الغارات ببلاغة القرآن قد خطب النهى ... وبسيفه أنحى على الهامات من دونه الأبطال في كل الورى ... من سابق أو لاحق أو آت وقد نشرنا هذا الكتاب والأبيات في (ج1 م11) في معرِض الرد على البرنس كايتاني في زعمه أن نجاح النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في كفاءته من حيث هو سياسي محنَّك أكثر من نجاحه من حيث هو نبي، وأن حُنْكَته وسياسته أفادا أكثر من إفادة القرآن. رددنا على صاحب هذا القول وعلى المؤيد الذي نقل كلامه وأقره وعلى الدكتور شميل فيما زعمه من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من حيث كونه رجلاً منه من حيث كونه نبيًّا. وسألنا الله تعالى أن يهديه إلى الباقي من مزايا كتابنا ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- وهو المهم الأعظم المتعلق بأمر الدين والآخرة الذي أشار إليه في البيت الأول، وكفر به في البيت الثاني، فقد صرح لنا بأن مراده بلُحمة الغايات أمور الآخرة. إن الدكتور شبلي شميل قد اهتدى بالاطلاع على القرآن الحيكم إلى ما فيه من الحكم الروادع للهوى والشرائع والموافقة لأصول العمران حتى في هذا الزمان. وبالاطلاع على سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كونه قد فاق جميع أبطال البشر وعظمائهم، ويدخل فيهم عنده أكابر الأنبياء -عليهم السلام- وكبار الساسة وقواد الحروب وأهل الفصاحة والأدب. فلو أن الدكتور تأمل فيما اهتدى إليه من هذين الأمرين وكان مؤمنًا بالله تعالى لجزم بكونه نبِيًّا مرسلاً من عنده عز وجل؛ لأن ما امتاز به كتابه وما امتاز به شخصه على جميع البشر من سابق أو لاحق أو آتٍ إنما كان بعد أن بلغ أربعين سنة في الأُمية بين أهل الشرك والجاهلية فهل يُعقل أن تحدث هذه المزايا العلمية العملية الأدبية العمرانية الحربية السياسية الاجتماعية لرجل في سن الكهولة دفعة واحدة؟ كلا إن هذا لا يعقل أن يكون إلا بوحي وتأييد من الله عز وجل. ولكن كثيرًا من الباحثين في مثل هذه المسألة يبحثون فيها من جهة واحدة منصرفين عن سائر الجهات فلا يحيطون بسائر أطراف المسألة، والصوارف عن أمثال هذه المباحث كثيرة، أظهرها: كون إنكار الأديان عندهم من القضايا المسلمات، وكنت أرى أن للدكتور شبلي شميل مانعًا قلما يشاركه فيه غيره في بلاده وهو عدّه الجرأة على التصريح بالتعطيل مزية من المزايا العظيمة التي انفرد بها، وحب الامتياز من غرائز البشر الراسخة، فمن رأى نفسه قد انفردت بشيء منه قلما يفكر ويبحث في شيء من شأنه أن يذهب بما انفرد به، على أن رجال الدين الذين على مذهب أسرته الذي نشأ عليه ثم ارتد عنه قد حكموا بأنه تاب من ردته وعاد قبل الموت إلى دينه ومذهبه الأوَّلَيْن، ولذلك جنَّزوه وصلوا عليه في كنيستهم ودفنوه في مقابرهم، وجماهير الناس يرتابون في ذلك أو يجزمون بخلافه ويعدون هذا من غرائب تساهل الكاثوليك. كان الدكتور شبلي شميل من دعاة الاشتراكية وهو مستقل برأيه فيها غير مقلد لطائفة من طوائفها، وكان ماديًّا في آرائه وأفكاره إلا أنه كان متحليًا بكثير من الأخلاق الحسنة المحمودة التي يضاد بعضها ما تقتضيه الأفكار المادية التي غلبت على عقله وخياله، كالرأفة والسخاء والصدق والوفاء والنجدة والمروءة والشجاعة وغير ذلك. وإن تحلي بعض المعطلين بالفضائل من أقوى الشبهات على الدين في هذا العصر، فإننا نسمع كثيرًا من المرتابين أو الراسخين في الكفر يقولون: أيّ حاجة للناس في الدين وإننا نرى كثيرًا من المصلين الصائمين منغمسين في المعاصي والرذائل، بل ترى كثيرًا من رؤساء الأديان الرسميين كذابين طماعين أدنياء بخلاء لا يُرجى منهم معروف، ونرى فلانًا وفلانًا مما لا دين لهم متحلين بالأخلاق الفاضلة والآداب العالية والسبق إلى عمل المعروف، وقد أجبت عن هذه الشبهة في المنار غير مرة واتخذت تأبين الدكتور فرصة لبيان ذلك للجمهور. في اليوم المتمم للأربعين من تاريخ وفاته أقام النادي السوري في القاهرة حفلة تأبين للدكتور الذي هو من نوابغ السوريين بلا خلاف، أجاب الدعوة فيها مئات من أهل العلم والأدب والوجاهة من سكان القاهرة على اختلاف مذاهبهم ونِحلهم فغصَّ النادي بهم، وافتتح الجلسة رئيسها أحمد حشمت باشا بخطبة وجيزة أطرى فيها المؤبَّن إطراءً كبيرًا. ثم دعي الدكتور يعقوب صروف إلى الكلام في علم الدكتور شميل، وهو أعلم الناس به وبعلمه فجاء من ذلك بخلاصة جمعت فأوعت. ثم دُعيت إلى الكلام على أخلاقه فقلت ما خلاصته على ما أتذكر الآن: (أشكر لإدارة النادي السوري اختيارهم إياي للكلام في أخلاق الدكتور شبلي شميل، فإن الكلام في الأخلاق أحب إليَّ؛ لأن أثرها في حياة الناس العملية أعظم من أثر العلم؛ لأن العلم يبين طرق العمل، والأخلاق هي التي تبعث عليه وتهدي إلى الغاية منه، فحُسن الأخلاق هو الذي يجعل العلم نافعًا وسوء الأخلاق قد يجعله ضارًّا، ولذلك شبه حكماؤنا علم فاسد الأخلاق بالسيف في يد المجنون، وإننا نرى مبلغ تأثير ضرر العلم بسوء استعماله في الحرب الأوروبية الحاضرة التي كان الموقد لنيرانها بعض الأخلاق المذمومة من الطمع والكبر وحب العلو واستعباد الأقوياء للضعفاء. على أن العمل النافع لا يرتقي إلا بالعلم، وما ساد بعض الأمم على بعض إلا بالعلم، {ه

عمران بغداد في القرن الثالث وصف دار الخلافة فيها

الكاتب: الخطيب الحافظ

_ عمران بغداد في القرن الثالث وصف دار الخلافة فيها نشرنا في هذا الجزء أَثارة من تاريخ بغداد العلمي الديني في القرن السادس بعد تخريب التتار لعمرانها وننشر هنا أثارة أخرى من تاريخ عمرانها قبل ذلك سَبَق لنا نشره في (ص 285 م 13) منقولاً عن تاريخ مدينة السلام للخطيب الحافظ قال: حدثني أبو حسين هلال بن المحسن قال: كانت دار الخلافة التي على شاطئ دجلة تحت نهر معلّى قديمًا للحسن بن سهل ويسمى القصر الحسني، فلما توفي صارت لبوران بنته فاستزلها المعتضد بالله عنها فاستنظرته أيامًا في تفريغها وتسليمها، ثم رمَّتها وعمرتها وجصصتها وبيضتها وفَرَشتها بأجلِّ الفرش وأحسنه، وعلقت أصناف الستور على أبوابها وملأت خزائنها بكل ما يخدم الخلفاء به، وزينت فيها من الخدم والجواري ما تدعو الحالة إليه. فلما فرغت من ذلك انتقلت وراسلته بالانتقال، فانتقل المعتضد إلى الدار ووجد ما استكثره واستحسنه، ثم استضاف المعتضد بالله إلى الدار مما جاورها كل ما وسعها به وكبرها وعمل عليها سورًا جمعها به وحصَّنها، وقام المكتفي بالله بعده ببناء التاج على دجلة، وعمل وراءه من القباب والمجالس ما تناهى في توسعته وتعليته، ووافى المقتدر بالله فؤاد في ذلك وأوفى مما أنشأه واستحدثه، وكان الميدان والثريا وحير الوحوش (بستانها) متصلاً بالدار، كذا ذكر لي هلال بن المحسن أن بوران سلمت المعتضد الدار إلى المعتضد، وذلك غير صحيح؛ لأن بوران لم تعش إلى وقت المعتضد، وذكر محمد بن أحمد بن مهدي الإسكافي في تاريخه أنها ماتت في سنة إحدى وسبعين ومئتين، وقد بلغت ثمانين سنة ويشبه أن تكون سلمت الدار إلى المعتمد على الله والله أعلم. حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هرون المنجم قال: حدثني أبي قال: قال أبو القاسم علي بن محمد الجواري في بعض أيام المقتدر بالله، وقد جرى حديثه وعظُم أمره وكثرت الخدم في داره: قد اشتملت الجريدة إلى هذا الوقت على أحد عشر ألف خادم خَصيّ، وكذا من صقلبي ورومي وأسود، وقال: هذا جنس واحد مما تضمه الدار فدع الآن الغلمان الحجرية وهم ألوف كثيرة والحواشي من الفحول. وقال أيضًا: حدثني أبو الفتح عن أبيه وعمه عن أبيهما أبي القاسم علي بن يحيي أنه كانت عدة كل نوبة من الفراشين في دار المتوكل على الله أربعة آلاف فراش، قالا: فذهب علينا أن نسأله كم نوبة كانوا؟ حدثني هلال بن المحسن قال: حدثني أبو نصر خواشاذة خازن عَضُد الدولة قال: طفت دار الخلافة عامرها وخرابها وحرمها وما يجاورها ويتاخمها فكان ذلك مثل مدينة شيراز. قال هلال: وسمعت هذا القول من جماعة آخرين عارفين خبيرين. ولقد ورد رسول لصاحب الروم في أيام المقتدر بالله ففرشت الدار بالفُرُش الجميلة وزينت بالآلات الجليلة ورتب الحجاب وخلفاؤهم، والحواشي على طبقاتهم على أبوابها ودهاليزها وممراتها ومخترقاتها وصحونها ومجالسها، ووقف الجند صفين بالثياب الحسنة وتحت الدواب بمراكب الذهب والفضة، وبين أيديهم الجنائب على مثل هذه الصورة، وقد أظهروا العدد الكثير والأسلحة المختلفة فكانوا من أعلى باب الشماسية إلى قريب من دار الخلافة، وبعدهم الغلمان الحجرية والخدم الخواص الدارية والبرانية إلى حضرة الخليفة بالبزة الرائقة، والسيوف والمناطق المُحلاة وأسواق الجانب الشرقي وشوارعه وسطوحه ومسالكه مملوءة بالعامة النظارة [1] وقد اكترى كل دكان وغرفة مشرفة بدراهم كثيرة، وفي دجلة الشذاءات والطيارات والذباذب والزلالات والسمريات [2] بأفضل زينة وأحسن ترتيب وتعبئة، وسار الرسول ومن معه من المواكب إلى أن وصلوا إلى الدار ودخل الرسول فمر به على دار نصر القشوري الحاجب ورأى ضففًا كثيرًا ومنظرًا عظيمًا فظن أنه الخليفة وتداخلت له هيبة وروعة حتى قيل له: إنه الحاجب، وحمل من بعد ذلك إلى الدار التي كانت برسم الوزير وفيها مجلس أبي المحسن علي بن محمد بن الفرات يومئذ فرأى أكثر مما رآه (عند) نصر الحاجب ولم يشك أنه الخليفة حتى قيل له: هذا الوزير، وأجلس بين دجلة والبساتين في مجلس قد عُلقت ستوره واختيرت فروشه ونصبت فيه الدسوت وأحاط به الخدم بالأعمدة والسيوف، ثم استدعي بعد أن طِيف به في الدار إلى حضرة المقتدر بالله وقد جلس أولاده من جانبيه فشاهد من الأمر ما هاله ثم انصرف إلى دار قد أُعدت له. حدثني الوزير أبو القاسم علي بن الحسن المعروف بابن المسلمة قال: حدثني أمير المؤمنين القائم بأمر الله قال: حدثني أمير المؤمنين القادر بالله قال: حدثتني جدتي أم أبي إسحاق بن المقتدر بالله أن رسول ملك الروم لما وصل إلى تكريت أمر أمير المؤمنين المقتدر بالله باحتباسه هناك شهرين ولما وصل إلى بغداد نزل دار صاعد ومكث شهرين لا يؤذن له في الوصول حتى فرغ المقتدر بالله من تزيين قصره وترتيب آلته ثم صف العسكر من دار صاعد إلى دار الخلافة، وكان عدد الجيش مئة وستين ألف فارس وراجل، فسار الرسول بينهم إلى أن بلغ الدار، ثم أُدخل في أزج [3] تحت الأرض فسار فيه حتى قبل بين يدي المقتدر بالله وأدى رسالة صاحبه ثم رسم أن يطاف به في كل الدار وليس فيها من العسكر أحد ألبتة، وإنما فيها الخدم والحُجّاب والغِلمان السودان، وكان عدد الخدم إذ ذاك سبعة آلاف خادم منهم أربعة آلاف بيض وثلاثة آلاف سود، وعدد الحجاب سبع مئة حاجب، وعدد الغِلمان السودان غير الخدم أربعة آلاف غلام قد جعلوا على سطح الدار والعلالي، وفتحت الخزائن والآلات فيها مرتبة كما فعل بخزائن العرائس، وقد علقت الستور، ونظم جوهر الخلافة في قلابات على درج غُشيت بالديباج الأسود. ولما دخل الرسول إلى دار الشجرة ورآها كثر تعجبه منها، وكانت شجرة من الفضة وزنها خمس مئة ألف درهم عليها أطيار مصوغة من الفضة تصفر بحركات قد جعلتها فكان تعجّب الرسول من ذلك أكثر من تعجبه من جميع ما شاهده. قال لي هلال أبي الحسين بن أم شيبان الهاشمي وذكر أبو الحسين أنه نقله من خط الأمير وأحسبه الأمير أبا محمد الحسين عيسى بن المقتدر بالله قال: كان عدد ما عُلق في قصور أمير المؤمنين المقتدر بالله من الستور الديباج المذهبة بالطرز المذهبة الجليلة المصورة بالجامات والفيَلة والخيل والجمال والسباع والطيور والستور الكبار البصنائية والأرمنية والواسطية والبهنسية السواذج والمنقوشة والدبيقية المطرزة ثمانية وثلاثين ألف، وعدد البسط والنخاخ [4] الجهرمية والدرابجردية والدورقية في الممرات والصحون التي وطئ عليها القُواد ورُسل صاحب الروم من حد باب العامة الجديد إلى حضرة المقتدر بالله سوى ما في المقاصد والمجالس من الأنماط الطبري والدبيقي التي لحقها النظر دون الدوس اثنان وعشرون ألف قطعة، وأدخل رسل صاحب الروم من دهليز باب العامة الأعظم إلى الدار المعروفة بخان الخيل، وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمس مئة فرس عليها الجِلال الديباج بالبراقع الطِّوال، وكل فرس في يد شاكري بالبزة الجميلة، ثم أدخلوا من هذه الدار إلى الممرات والدهاليز المتصلة بحير الوحش، وكان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أُخرجت إليها من الحير قطعان تقرب من الناس وتشممهم وتأكل من أيديهم. ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشي على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار فهال الرسل أمرها، ثم أخرجوا إلى دار فيها مئة سبع: خمسون يمنة وخمسون يسرة كل سبع منها في يد سبَّاع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد. ثم أخرجوا إلى الجوسق المحدث وهي دار بين بستانين في وسطها بركة رصاص قلعي حواليها نهر رصاص قلعي أحسن من الفضة المجلوة، طول البركة ثلاثون ذراعًا في عشرين ذراعًا، فيها أربع طيارات لطاف بمجالس مذهبة مزينة بالدبيقي المطرز وأغشيتها بدبيقي مذهب، وحوالي هذه البركة بستان بميادين فيه نخل قيل: إن عدده أربع مئة نخلة وطول كل واحدة خمسة أذرع قد لبس جميعها ساجًا منقوشًا من أصلها وإلى حد الجُمَّارة بحلق من شبه مُذهبة وجميع النخل حامل بغرائب البسر الذي أكثره حلال لم يتغير، وفي جوانب البستان أترجّ حامل ودستنبو ومقفع وغير ذلك. ثم أخرجوا من هذه الدار إلى الشجرة، وفيها شجرة في وسط بركة كبيرة مدورة فيها ماء صاف وللشجرة ثمانية عشر غصنًا لكل غصن منها ساحات كبيرة عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة، وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب، وهي تتمايل في أوقات ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر، وكل من هذه الطيور يصفر ويهدر، وفي جانب الدار يَمنة البركة تماثيل خمسة عشر فارسًا على خمسة عشر فرسًا قد ألبسوا الديباج وغيره وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد في الناورد خببًا وتقريبًا وفي الجانب الأيسر مثل ذلك. ثم أدخلوا إلى القصر المعروف بالفردوس فكان فيه من الفرُش والآلات ما لا يُحصى ولا يُحصر كثرة، وفي دهاليز الفردوس عشرة آلاف جوشن مذهبة معلقة ثم أخرجوا منه إلى ممر طوله ثلاث مئة ذراع قد علق من جانبه نحو عشر آلاف درقة وخوذة وبيضة ودرع وزردية وجُعبة محلاة وقِسيّ، وقد أقيم نحو ألفي خادم بيضًا وسودًا صفين يَمنة ويَسرة، ثم أخرجوا بعد أن طِيف بهم ثلاث وعشرين قصرًا إلى الصحن التسعيني وفيه الغلمان الحجرية بالسلاح الكامل والبزة الحسنة والهيئة الرائعة وفي أيديهم الشروخ والطبرزينان والأعمدة. ثم مروا بمصاف من عليه السواد من خلفاء الحجاب والجند والرجالة وأصاغير القواد ودخلوا دار السلام وكانت عدة كثير من الخدم الصقالبة في سائر القصور يسقون الناس الماء المبرد بالثلج والأشربة والفقاع ومنهم من كان يطوف مع الرسل ولطول المشي بهم جلسوا واستراحوا في سبعة مواضع واستسقوا الماء فسقوا. وكان أبو عمر عدي بن أحمد بن عبد الباقي الطرسوسي صاحب السلطان ورئيس الثغور الشامية معهم في كل ذلك وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة ووصلوا إلى المقتدر بالله وهو جالس في التاج مما يلي دجلة بعد أن لبس بالثياب الدبيقية المطرزة بالذهب على سرير آبنوس قد فرش بالدبيقي المطرز بالذهب، وعلى رأسه الطويل ومن يَمنة السرير تسعة عقود مثل السبح معلقة ومن يَسرته تسعة أخرى من أفخر الجواهر وأعظمها قيمة غالبة الضوء على ضوء النهار وبين يديه خمسة من ولده ثلاثة يمنة واثنان يَسرة. ومثل الرسول وترجمانه بين يدي المقتدر بالله فكفر له (أي: سجد) وقال الرسول لمؤنس الخادم ونصر القشوري وكانا يترجمان عن المقتدر لولا أني لا آمن أن يطالب صاحبكم بتقبيل البساط لقبلته، ولكنني فعلت ما لا يطالب رسولكم بمثله؛ لأن التكفير من رسم شريعتنا، ووقفا ساعة وكانا شابًّا وشيخًا، فالشاب الرسول المتقدم، والشيخ الترجمان وقد كان ملك الروم عقد الأمر في الرسالة للشيخ متى حدث بالشاب حدث الموت، وناوله المقتدر بالله من يده جواب ملك الروم، وكان ضخمًا كبيرًا فتناوله وقبَّله إعظامًا له وأُخرجَا من باب الخاصة إلى دجلة وأُقعدا وسائر أصحابهما في شذا من الشذاوات الخاصة وصعدا إلى حيث أنزلا فيه من الدار المعروفة بصاعد، وحمل إليهما خمسون بدرة ورقًا في كل بدرة خمسة آلاف درهم وخلع على أبي عمر عدي الخلع السلطانية، وحمل على فرس ورك

خاتمة السنة التاسعة عشرة للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة السنة التاسعة عشرة للمنار بحمد الله تعالى نختتم المجلد التاسع عشر جاعلين حجمه وعدد أجزائه كما بيَّنَّا في خاتمة المجلد الذي قبله؛ لأن الورق قد قلّ وروده وزاد غلاء ثمنه حتى إن ما كنا نشتريه قبل الحرب بمئة قد صار ثمن مثله أربعمائة أو خمسمائة. وقد جرينا في إصدار أجزاء هذا المجلد على ترتيب الشهور الذي اضطررنا إليه العام الماضي حتى إننا بدأنا بطبع هذا الجزء في الشهر السادس من سنة1335 إذ كان هو الشهر العاشر لسنة المجلد التي كان بدؤها شهر شعبان سنة 1334، ولكنا اضطررنا بعد طبع أكثره إلى تأخير إصداره إلى شعبان، وكان من أسباب ذلك وعكة عرضت لنا، وتلتها وثأة أصابت يدنا اليمنى، ومنها مرض عرض لمن يتوقف عليه العمل في المطبعة، وأقوى الأسباب أنني لم أكن أكره مثل هذا التأخير في هذه السنين النحسات التي حجب فيها المنار عن قرائه في بلاد كثيرة فقلَّت الاستفادة منه وقلَّ دخله من حيث كثرت نفقته ونفقتنا، لم أكن أكره هذا ولم أكن أتعمده، فلما عرضت الأسباب له لم أجتهد في مقاومة ما يمكن مقاومته منها، فإذا رحم الله تعالى البشر فصرف عنهم شر هذه الحرب عن قريب وعادت المياه إلى مجاريها، فلنا الرجاء بأن نتدارك ما فات بإصدار جزئين في كل شهر إلى أن تعود سنة المنار إلى ما كانت عليه من غير أن تنقص مجلداته عن عدد سنيِّه القمرية، وإذا أراد الله أن يطول أجل الحرب، فالأرجح أن نتعمد تأخير بعض الأجزاء من المجلد العشرين إلى أن ينتهي بانتهاء سنة 1336 فيضيع بذلك مجلد من حساب السنين القمرية، ولا تلبث مجلدات المنار أن توافق عدد سنيها الشمسية، ونحن إنما نتقاضى اشتراك المنار عن المجلدات لا عن السنين فلا يضر المشتركين تأخر بعض الأجزاء. على أن بدء المجلد العشرين سيكون في التاريخ الذي بدأ فيه الجلد التاسع عشر فلا تأخير جديد. هذا وإن ما كنا قد ادخرناه من الورق لهذا المجلد قد اضطررنا إلى استعمال بعضه لمطبوعات أخرى (كذكرى المولد النبوي) فلم يكن كافيًا، وقد وُفقنا لابتياع طائفة أخرى من ورق خير من ورقه لأجل المجلد العشرين تكفيه إذا صدر بحجم هذا المجلد فلا يخشى أن يتوقف صدوره من عدم الورق، وإن انقطع الوارد عن مصر انقطاعًا تامًّا، وليس هذا الانقطاع ببعيد؛ إذ اشتدت وطأة الحرب فقد علمنا من أخبار أوروبة أن أعظم دول الصناعة تشكو من قلة الورق، وقد نقصت صحفها من عدد أوراقها وقيل: إن بعضها سيحتجب أو يبطل صدروه، فما القول في بلادنا التي تجلب كل الورق الذي تحتاج إليه من أوروبة، وقد تضاعف ثمنه هنالك وتضاعفت أجرة نقله، وما كل ما ينقل يصل بل تُغرق الغواصات بعض السفن التي تحمله. فعسى أن يكون علم المشتركين بهذه الأحوال باعثًا لهم على أداء قيمة الاشتراك بلا مطل ولا تسويف. ونذكِّر المشتركين الكرام بشيء ربما يغفل الكثيرون عنه، هو نفقة الجباة أو وكلاء التحصيل فإن الذي كان يرضى بعشرين في المئة مما يجمعه أصبح لا يرضى بخمسة وعشرين، وقد طاف بعض إخواننا في بعض البلاد طوفة للتحصيل على نفقتنا فبلغت نفقته أربعين في المئة مما جمعه، ويا ليته جمع من كل مدينة أو قرية جميع ما يطلب من مشتركيها واستغنى عن العودة إليها بقية العام. كلا إن بعضهم لوَّى وسوَّف وطلب النظرة مع الميسرة لا إليها، فإذا كان أهل كل بلد لا يؤدون ما عليهم إلا بعد أن يسافر إليهم الجابي مرارًا بمثل تلك النفقة أو ربما دونها قليلاً فماذا يبقى لصاحب الصحيفة في مقابلة سائر النفقات، ثم ماذا يبقى له بعدها في مقابلة عمله لأجل نفقته؟ فمن تأمل هذا نهاه قلبه (ضميره) أن يسوّف في أداء ما عليه، وأن يلجئ الجابي إلى تكرار العودة إليه، وإن كان قد اعتاد الإرجاء والتسويف. *** الانتقاد على المنار لم يكتب إلينا في هذه السنة انتقاد ما على شيء من مباحث المنار إلا ما كتبه بعض إخواننا من إخبارنا بكراهة كثير من الناس لما يُكتب في المنار من الفلسفة السياسية (كذا كتب بعضهم) وقد كلمنا غير واحد من الإخوان في ذلك مشافهة وصرحوا بأن ما يكرهون من المنار هو طعنه في الحكومة التركية الاتحادية على علاتها التي يصدق أخبارها السوءى بعضهم دون بعض، وتأييده للحركة العربية الحجازية. وقد أجبت عن هذا الانتقاد بأنني كتبت في ذلك ما أعتقد أنه حق وأن بيانه واجب عليّ لملَّتي وأمتي، وسيعلم من لا يكره أن يعلم أنني كنت ناصحًا مخلصًا وعلى حق وصواب، وقد كنت كتبت لهذا الجزء مقالة تاريخية طويلة للمسألة العربية بينت فيه إخلاص العرب للدولة إلى أن اضطرتهم الحكومة الاتحادية إلى ما اضطرتهم إليه من مقاومة بغيهم، ضاق عنها هذا الجزء، وستُنشر في الأول من المجلد العشرين -إن شاء الله تعالى-. وانتقد بعض الإخوان والمحبين شدة العبارة التي انتقدنا بها بعض الشبان الذين ذهبوا إلى الحجاز وأخلوا فيه بالواجبات، وفاهوا بالمنكرات قائلين: إن بعض الناس قد أولوها بغير ما قصد بها من النصح، ثم علمنا أن ذلك التأويل كان في بلد نحن من أشد الناس إخلاصًا له وغيرة عليه؛ إذ عد الانتقاد طعنًا في حكومة الحجاز نفسها، واقترح علينا أن نصرح بغرضنا من ذلك النقد فنقول: إننا لم نكن نظن أنه يخطر ببال أحد يقرأ المنار أو يعرف مشربنا في الجملة أننا نقصد بتلك العبارة غير النصح لمن اعتادوا التهاون بأمور الدين أن يراعوا الفرق بين البلاد المقدسة وغيرها، وأن لا يجعلوا أنفسهم حجة لأهل الحجاز -ولا لغيرهم- على رجال النهضة الجديدة وطلاب الإصلاح للأمة العربية فتبطل الثقة بهم، وربما يكون سببًا لسوء الظن بالحكومة العربية الجديدة إذا انتظم أولئك المنتقدون فيها، على أن ما حكيناه عن بعضهم كان قبل تأسيس هذه الحكومة فليس في عبارة الانتقاد ذِكر لها ولا لكون المنتقدين انتظموا في سلك خدمتها، وكلامنا صريح في هذا لا يكاد يتبادر إلى الذهن غيره، وقد كنا نُسدي مثل هذه النصيحة لمن نراه من أولئك الشبان قبل سفرهم ولكن يتعذر رؤية كل من يسافر لهذا الغرض فتعين النصح بالكتابة، ونحن العرب أحوج الناس إلى الوحدة والاتفاق ونبذ الخلاف والشقاق والاجتهاد في جعل الحكومة التي تجددت لنا في أحسن حال ممكنة، وهذا ما نقصده من نصحنا، والله يعلم حُسن نيتنا. ونُقل إلينا أن بعض الناس استنبط من عبارة المنار في هذا الموضوع أننا نقول بوجوب لباس الإحرام على كل من يسافر إلى مكة ولو بقصد التجارة، وهذا من سوء الفهم، ومعاذ الله أن نقول بذلك، وإنما يجب لباس الإحرام على من قصد الحج أو العمرة دون غيره. ومن شأن المتدين أن يغتنم فرصة ذهابه إلى الحرم فيحج أو يعتمر، وأسأل الله تعالى أن يوفق كلاً منا للقيام بما يجب عليه، والإخلاص فيه، والحمد لله أولاً وآخرًا.

فاتحة السنة العشرين للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة السنة العشرين للمنار بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله تعالى وأشكر له توفيقه وتأييده، حمدًا يوافي نعمه وشكرًا يكافئ مزيده، وأصلي وأسلم على خاتم أنبيائه ورسله، ورحمته العامة المرسلة وحجته القائمة على خلقه، محمد النبي الأمي العربي الذي بعث في الأميين؛ ليعلمهم الكتاب والحكمة ويجعلهم الأئمة الوارثين، ويُصلح بهم فساد الأمم والشعوب المتعلمين وغير المتعلمين، وعلى عترته آل بيته الطاهرين، وأصحابه الذين نشروا دعوته بين العالمين، وعلى التابعين لهم في هدايتهم وهديهم إلى يوم الدين. أما بعد: فقد دخل المنار في العام العشرين، داعيًا إلى الاعتصام بحبل الله المتين، والاهتداء بنوره المبين، والاستمساك بسنة رسوله الأمين، والسير على منهج السلف الصالحين، مبينًا أن الخير كل الخير في اتباع مَن سلف، وأن الشر كل الشر في ابتداع مَن خلف؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين فلا يقبل زيادة كمال، فالزيادة فيه كالنقص منه خزي وضلال، وإنما الناقص الذي يحتاج دائمًا إلى الإكمال والإصلاح، ما كان من أوضاع البشر عرضة للنقص والفساد، مثبتًا أن ضعف الشعوب الإسلامية إنما جاء من عملهم بعكس هذه القضية، أعني الابتداع في الأمور الدينية، واتباع مَن قبلهم في الأمور الدنيوية. فالأمم في ارتقاء دائم، وهم في جمود ملازم، غلب عليهم الجهل المركب، فهم للعلم يدعون، ورُزِئوا بالفقر المدقع، وهم في الدنيا طامعون، وخنعوا للضيم والذل، وهم معجبون متكبرون، وخضعوا لظلم المتغلبين وهم بالمُلك والسيادة مفتونون {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات: 69-70) . خسروا أنفسهم، فخسروا كل شيء، وهل خسران النفس إلا فقْد استقلالها في الفهم والعلم والحكم؟ ، وتقليد الآباء والأشياخ المتأخرين في جميع أمور الدنيا والدين؟ ، فالتحقيق أنهم مقلدون حتى في الابتداع؛ لأنهم فقدوا ملكة الاستنباط والاختراع؛ وقد ساروا بحسب الظاهر على الطريقة الثابتة بالعقل والاختبار، وهي كون علوم المتأخرين وفنونهم أجدر بالثقة والاعتبار، سنة الله في التدريج والارتقاء، على أنهم يعتقدون بحق أن متقدمي هذه الأمة خير من متأخريها في جميع العلوم والأعمال؛ لأن الخلف لم يسيروا على سنة السلف في الاجتهاد والاستقلال؛ ولو ساروا عليها لفاقوهم في كل ما هو من كسب الناس. وهم إنما يقلدون المتأخرين؛ لأنهم لا يرون أنفسهم أهلاً لاتباع المتقدمين، إذ يزعمون أن المتأخر أضعف من المتقدم عقلاً وفهمًا، وربما اعتقدوا أنه أقل قوة وأنحف جسمًا، وأن هذا التفضيل منحة إلهية وهبية، لا يمكن إدراكه بالأسباب الكسبية، غافلين عن سنة الله تعالى في سائر الأمم والأجيال، وسبق المتأخرين للمتقدمين في جميع العلوم والأعمال، حتى أن الله تعالى سخر لمراكبهم الهواء، كما سخر لها الماء، وسخر لها من البحار لججها وأعماقها، كما سخر لها متونها وأمواجها، بل سخر الله تعالى لهم ما في السماوات وما في الأرض، فما كان مسخرًا لغيرهم بالقوة صار مسخَّرًا لهم بالفعل. فما بال جماهير المسلمين لا يسمعون ولا يبصرون، ولا ينظرون ولا يتفكرون، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) . كل ما هو مسخر للبشر، وكل ما هو من كسب البشر، فهو قابل للارتقاء، إذا لم يجمد الأبناء فيه على ما ورثوه عن الآباء. وكل ما ينفع الناس من العلوم والفنون والأعمال، فهو مما يتناوله كسبهم وتصرفهم بمقتضى الاستعداد الخاص والتسخير العام، إلا الدين الإلهي، والوحي السماوي، وقد أكمل الله لنا الدين، كما ثبت بنص الكتاب المبين، فما بالنا قد ابتدعنا فيه كثيرًا من الشعائر، كمواسم الأيام الفاضلة والموالد، وكثيرًا من العبادات التي لا أصل لها من السنة والكتاب، كأذكار أهل الطرق وما استحدثوا من الأوراد والأحزاب، بل ما بالنا نبني المساجد على ما نشرّف من القبور، ونوقد عليها السرج والشموع؟ ! ، ونحن نعلم أن فاعلي ذلك ملعونون على لسان الرسول، بل ما بالنا نطوف بهذه القبور كما نطوف ببيت الله، وندعوها مع الله أو من دون الله، ونحن نعلم من كتاب الله ومن سنة رسول الله - أن هذا عبادة لها من دون الله؟ ، أنتبع في هذا عمل الآباء المتأخرين، ونحن نتلو ويُتلى علينا قول الله تعالى في المشركين، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) . إنا لندعو الناس إلى عقيدة السلف ونحن بها موقنون، ونرشد من بَلَغَتْه الدعوة إلى سيرتهم الدينية ونحن على طريقتها إن شاء الله مستقيمون، وإنما نورد في باب التفسير وغيره من المنار بعض تأويلات الخلف للآيات والأخبار، وما قد يخالف مذهبهم من الآراء العصرية، وخاصة في مقام الدفاع عن القرآن والسنة النبوية؛ لأن الضرورة ألجأت إليها، بتوقف إقامة الحجة، أو دحض الشبهة عليها، فإن المنار ليس خاصًّا بالمذعنين للكتاب والسنة من المؤمنين، بل يكتب لهم ولغيرهم من المبتدعين والمنافقين والكافرين، ومنهم المنكر الجاحد، والمجادل المعاند، ومنهم المشتبه المغرور بشبهته، والمرتاب المتردد في ريبته، وحسبنا من الفلج أن نقنع بتأويل الخلف، من تعذر إقناعه بتفويض السلف، وأن ندحض الشبهة برأي جديد، إذا أعيا دحضها برأي تليد، إذ يكفي في صحة الإيمان الجزم بأن كل ما جاء به الرسول عن ربه فهو حق، وفي صحة الإذعان موافقة السلف في مسائل الإجماع العملية وما لا يحتمل التأويل من النص، ولا حرج في دين الفطرة فيما اقتضته الفطرة من تفاوت الأفهام، مع صحة قواعد الإيمان وإقامة أركان الإسلام، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرّ أصحابه على مثل ذلك في مسائل الأحكام، كتارك الصلاة والمصلي بالتيمم للجنابة، والمختلفين في صلاة العصر يوم بني قريظة [1] . ورُب فهم جديد يؤيد دين الحق أعظم التأييد، ومن مزايا القرآن أنه لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، وأن من آياته ما يظهر في زمان دون زمان، وهل يظهرها إلا أفهام أهل العرفان، الذين هم حجة الله في أرضه، على الجاهلين والجاحدين من خلقه، ولن يخلوا عنهم عصر من الأعصار، وإن خلت منهم بعض البلاد والأمصار، وكم من عالم ينتفع بعلمه الغائب البعيد، ويحرم منه القريب العتيد {قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (الأنعام: 149) . تلك دعوة المنار، التي رددت صداها الأقطار، فكانت كالبرق المبشر بما يتلوه من المطر، في نظر سليمي العقول صحيحي الفِطَر، وكالصواعق المحرقة على أهل البدع، ومتعصبي الأحزاب والشيع، وقد آذانا لأجلها الظالمون، فصبرنا لله وبالله، ولم نكن كمَن أُوذي في الله فجعل فتنة الناس كعذاب الله، وجهل علينا بعض أحداث السياسة المغرورين، وبعض أدعياء العلم الجامدين، فقلنا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} (القصص: 55) ، وكاد لنا أعداء الدعوة كيدًا خفيًا، أضرّ بنا ضررًا جليًا؛ إذ حُجب المنار عن كثير من قرائه الأخيار، وحرمنا بذلك وبغيره كثيرًا من المال، وحسبنا أن حَمِدَ الدعوة كل مَن عرفها من طلاب الإصلاح، وأهل الروية والاستقلال، وأما الأزهريون خاصة، فقد كانوا أزواجًا ثلاثة، فقليل من الشيوخ وكثير من الشبان - يرون أن المنار من ضروريات الإسلام في هذا الزمان، وكثير من الشيوخ والشبان يكرهون منه حمد الاستقلال وذم التقليد، ورمي جماهير علماء العصر بالجمود والتقصير، والسواد الأعظم منهم مشغولون بأمور معيشتهم، وبمطالعة دروسهم ومناقشات طلبتهم، عن النظر في مثل المنار لتقريظ أو انتقاد، وعن كل ما يتجدد في الدنيا من إصلاح وإفساد، وقد دخل المنار في السنة العشرين، ولم ينتقده أحد من الأزهريين، إلا أنه قام في هذا العام شاب متخرج في الأزهر، فنشر في بعض الجرائد الساقطة مقالات سبَّ فيها صاحب المنار وكفَّر، بانيًا ذلك على زعمه أنه أنكر كون آدم أبًا لجميع البشر، على أن المنار قد صرح بإثبات هذه الأبوَّة تصريحات، آخرها ما في الجزء الأول من المجلد التاسع عشر، وزعمه أنه فضَّل شبلي شميل على الخلفاء الراشدين، ويعلم كذب هذا الزعم مما نشرناه في شميل من ترجمة وتأبين، ومَن لا يَزَعه هديُ القرآن، عن السب والكذب والبهتان - قد يَزَعْه عقاب السلطان؛ لهذا رفع أحد كبار المحامين عنا أمر هذا الطعن إلى محكمة الجنايات، بعد أن أنذرْنا بذلك كاتب المقالات، ونصحنا له بلسان بعض ذوي رَحِمه وصحبه، بأن يستحلنا تائبًا من ذنبه، فلم يزده ذلك إلا إصرارًا على الذنب، وتماديًا في الطعن والسب، ولكنه جنح في المحكمة للسلم، وطلب - هو وصاحب الجريدة - من رئيسها الصلح، على أن يعتذروا عما اتهما به من المطاعن الشخصية، ويعترفا باحترام عقيدة صاحب المنار وآرائه الدينية، وأمضيا عبارة في ذلك أُثبتت في محضر القضية، وقد قبلنا ذلك منهما، وكان خيرًا لهما لو فعلاه من تلقاء أنفسهما، على أنهما عادا إلى هذيانهما، ولا قيمة عندي لمثل هذا الكلام، فإنه مما يقال لصاحبه: سلام، وإنما ذكرناه في فاتحة المنار التي نشير فيها عادة إلى ما تجدَّد في تاريخ الإصلاح، تمهيدًا لذكر ما قيل إنه ترتب على تلك القضية، من تأليف جمعية أزهرية، لأجل البحث عن أغلاط المنار الدينية والعلمية، وبيانها للناس وللحكومة المصرية؛ ذكرت ذلك الجريدة التي وقفت نفسها على الطعن في صاحب المنار، متوهمة أنه سيترتب عليه إبطال المجلة أو إخراج صاحبها من هذه الديار؛ لأن عند أعضاء هذه الجمعية من حقائق العلوم الأزهرية، ما ليس عند صاحب المنار، الذي تلقى العلم في البلاد السورية؛ ... فنقول للواهمين، ولمن يمدونهم في غيهم من المغرورين: إنا نعلم من كُنه علم الأزهر ما لا تعلمون، فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) . إننا ندعو إلى الله على بصيرة، ونكتب ما نكتب عن علم وبينة، ولكننا كغيرنا عرضة للخطأ والغلط، كما هو شأن غير المعصومين من البشر؛ فلهذا ندعو قراء المنار في كل عام، إلى أن يكتبوا إلينا بما يرونه فيه من الأغلاط والأوهام، لننشره فيه، فيطلع عليه جماهير قارئيه، وإنا لنتمنى أن تؤلَّف لجنة من علماء الأزهر، تقرأ مجلدات المنار التسعة عشر، وتُحصي ما تراه من الأغلاط المتفق عليها، بقدر ما يصل إليه علمها وفهمها، وأن تتحرى في ذلك ما يليق بكرامة أهل العلم، من صحة النقل والتروي في الحكم، واجتناب الطعن والبذاء، والسخرية والاستهزاء، وإننا نَعُدُّ ذلك إذا سمت إليه همة بعض الأزهريين - أعظم خدمة للمنار، يُخدم بها العلم والدين، ونعِد بأن ننشر لهم ما يكتبونه فرحين مغبوطين، مقرين إياهم على ما نراه فيه من الصواب،

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الرقيق الأبيض والأسود (س1) من صاحب الإمضاء في قليوب حضرة صاحب الفضيلة والإرشاد وصاحب المنار المنير؛ تحيةً وسلامًا، وبعد: أعرض على مسامع فضيلتكم المسألة الشرعية الآتية، وأرجو نشرها في باب السؤال والجواب المفتوح في المنار المنير خدمة للشرع الشريف، لا حرمنا الله منكم وها هي: ما قولكم - دام فضلكم - في مسألة الرقيق الأبيض والأسود ومسألة مشتراه في الزمن الماضي قبل مقاومة الحكومات لهذه العادة. وهل هذا البيع حرام أم حلال شرعًا، وما الفرق في الدين الإسلامي بين العبد والحر، وما هي ميزة الحر على العبد في الدين. وهل سواد (العبد) من الإقليم القاطن فيه أو منحة إلهية للفرق بين الحر والعبد. وما يستحقه العبد في الميراث الشرعي إذا كان من والد حر وله إخوة أحرار؟ وكيف كان البيع في زمن الجاهلية وزمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن الخلفاء الراشدين وما هي حجتهم في ذلك؟ نرجو الرد على هذه الأسئلة كما عودتمونا ذلك، ولفضيلتكم الشكر سلفًا، وفي الختام أهدي فضيلتكم أزكى تحياتي وسلامي. ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه أحمد حسين فراج ... ... ... بعيادة الدكتور محمد عبد الحميد بك الخصوصية بقليوب (ج) الظاهر أن السائل يظن أن كل مَن كان أسود اللون فهو عبد رقيق وكل مَن كان أبيض اللون أو قريبًا من الأبيض - كالأصفر والأسمر - فهو حر وأن الرقيق الأبيض عبارة عما هو معروف في القطر المصري من الاتِّجار بأعراض البنات اللواتي يحتويهن المشتغلون بهذه التجارة، وهن صغيرات بضروب من الإغواء والحيل. والصواب أن الأصل الفطري أن يكون جميع البشر أحرارًا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص: منذ كم تعبَّدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ! ، وإنما الرقّ أمر عارض أحدثه تحكُّم الأقوياء في الضعفاء، فكانوا يقتلون الأسرى ثم عطفوا عليهم فاستبدلوا الاسترقاق بالقتل، وكان عامًّا لجميع أقطار الأرض الآهلة بالبشر، وقد أقرته الشرائع القديمة كلها، حتى صار من شئون العمران وضروريات الحياة الاجتماعية، وقد جاء الإسلام، وهو على هذه الحال، فلم يكن من الحكمة أن يبطله دفعة واحدة، كما أبطل الربا والفواحش والتبني؛ إذ لو أبطله لتعطَّل كثير من أمور المعايش والأعمال، فشرع الأحكام لإزالة مفاسده كإذلال العبيد وإهانتهم وتحميلهم من العمل ما لا يطيقون، حتى نهى الشارع أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي، وجعل العبيد إخوانًا لسادتهم، وأمر بأن يطعموهم مما يأكلون وأوجب عتقهم في الكفارات وغير الكفارات من الأسباب المعروفة في كتب السنة والفقه، وجعل العتق - من غير سبب - قربة من أفضل القربات، حتى أن من العتق ما يوجبه الشرع بغير اختيار المالك، ومنه أن مَن مثَّل بعبده بقطع عضو أو تشويه - أعتق عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (مَن لطم مملوكَه أو ضربه فكفارته أن يعتق) رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن عمر، وقد عمل به ابن عمر، وروياهما والترمذي عن سويد بن مقرن قال: (كنا بني مقرن ليس لنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خادم واحدة، فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعتقوها، قالوا: ليس لهم خادم غيرها، قال: فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها) وإنما أبقى أصل استرقاق الأسرى والسبي من الكفار في الحرب الدينية مباحًا؛ لأنه قد تقتضيه المصلحة، حتى مصلحة السبي نفسه أحيانًا. مثال ذلك أن تقتل رجال قبيلة في الحرب ولا يبقى منهم أحد يستطيع أن يقوم بأمر النساء والذراري؛ إذ لم تكن الشعوب والقبائل في الأزمنة الماضية -ولا هي الآن كلها أيضًا - ذات دول غنية كدول أوربة وما يشبهها في النظام الاجتماعي، فإذا أخذ الغالبون السبي في مثل تلك الحالة وربوه على ما يوجبه الإسلام من الرفق والتكريم، وتسروا النساء حتى صرن أمهات أولاد لهم يُعتقن بمجرد موتهم - فلا شك أن هذا قد يكون خيرًا لهم من تركهم هائمين على وجوههم. على أن الإسلام لم يوجب ذلك، بل شرع لنا أن نمن عليهم بإطلاقهم بلا مقابل كرمًا وإحسانًا وأن نفدي بهم أسرانا، إن كان لنا أسرى عند قومهم، كما قال في سورة القتال: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4) . وإذا عرفت أصل الرق الشرعي علمت أن ما اشتهر عن النخاسين من شرائهم بعضَ بنات الشركس من آبائهن الفقراء لبيعهن في الآستانة وغيرها، ومن شرائهم أو خطفهم لأولاد السودانيين أيضًا - كله باطل، فالأب لا يملك بيع أولاده. ومَن دونه من الأقارب أوْلَى بأن لا يجوز له ذلك، والمشتري لأمثال هؤلاء لا يملكهم شرعًا، ويجب على الحكام إبطال مثل هذا الرق قطعًا؛ لما يترتب عليه من مفاسد التسري والتوارث وغير ذلك من الأحكام الباطلة. وأما سواد السود من الناس فهو من تأثير الإقليم كما هو مشهور، وقد سكن كثير من العرب - الذين يغلب عليهم اللون القمحي في البلاد الاستوائية وما يقرب منها - فأثَّر ذلك في جلودهم؛ حتى صاروا أقرب إلى الزنوج منهم إلى البيض، وسكن كثير منهم في البلاد الشمالية الباردة وما يقرب منها؛ فصار بياضهم كبياض أهلها. وأما الفرق بين الحر والعبد في الدين الإسلامي فهو أنه لا فرق بينهما في الإيمان وتقوى الله تعالى والعمل الصالح وفضائل الدين وآدابه والجزاء عند الله تعالى، وكم من عبد مملوك تقي خير عند الله من ألف حر، ولكن المملوك لما كان لا يملك المال عند الجماهير ولا يملك التصرف في نفسه لتقيده بخدمة مالكه - كان له بذلك أحكام خاصة لا يحتاج السائل إلى معرفتها كلها، فمنها ما هو تخفيف عليه، ككونه لا تجب عليه الجمعة عند الجمهور خلافًا للظاهرية - وتصح منه إجماعًا - ولا الجهاد ولا الحج، وإذا حج بإذن سيده أو معه صح منه ذلك وأثيب بقدر إخلاصه وقيامه بالمناسك على وجهها ولا تجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يملك المال، ويترتب على عدم ملكه المال أنه لا يرث ولا يورَّث، وحدّه نصف حدّ الحر، ويترتب على عدم ملكه التصرف بنفسه أنه لا يلي الولايات العامة كالقضاء، ولا الخاصة كالنكاح والوصاية على اليتيم، وكل مسألة من هذه المسألة وأشباهها مفصلة في كتبها وأبوابها من كتب الفقه. وفي بعضها خلاف بين الفقهاء. وأما بيع الرقيق فكبيع غيره مما يملك، وحسب السائل هذا البيان المختصر. *** العوام والخواص (س2) من الحاج عبد العزيز. ن. وفي بلد جكجاكرتا (بجاوه) . نرجو من فضلكم أن ترشدونا في تعريف العام والخاص، هل العام مَن لم يعرف اللغة العربية في فصاحتها وبلاغتها، والخاص مَن يعرفها؟ أو مَن هم؟ (ج) العامّ اسم فاعل من العموم وهو الإحاطة والشمول، والخاصّ اسم فاعل من الخصوص وهو إصابة بعض الشيء أو الأفراد دون بعض. يقال: نزل المطر فعمّ الأرض فهو عامّ أو خصّ بلد كذا فهو خاص. والسائل لا يسأل عن هذا، وإنما يسأل عن معنى العامّيّ والخاصّيّ، واحد العامة والخاصة. فالعامّيّ هو المنسوب إلى عامة الناس أي سوادهم الذين لا خصوصية لهم فيهم، ويقال لجماعتهم العوامّ، والخاصّيّ المنسوب إلى خاصة الناس وهم كبراؤهم وزعماؤهم كالعلماء الأعلام وكبار الحكام وأهل الفضل والجاه، ويقال لجماعتهم الخواص. وعلماء اللغة العربية في جاوه يصح أن يكونوا من خواص أهلها، وأما كونهم هم الخواص وحدهم فلا يتحقق إلا إذا كان أهل البلاد يخصونهم بالاحترام والتكريم ويفضلونهم على سائر الناس، ويعدون مَن عداهم سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد ولا كرامة.

مقدمة لذكرى المولد النبوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة لذكرى المولد النبوي فيها بيان تاريخ الاحتفال بالمولد وحكمه شرعًا بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وآله وصحبه ومَن والاه. أما بعد: فإن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قد صار عادة عامة، وقد اختلف في كونها بدعة حسنة أو بدعة سيئة كما سيأتي، والمشهور أن المُحْدِث لها هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب الملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل [1] أحدثها في أوائل القرن السابع أو أواخر القرن السادس، فإن السلطان صلاح الدين ولاه على إربل في ذي الحجة سنة 586 وتوفي سنة 630. وقد كان سخيًّا متلافًا صاحب خيرات كثيرة، وكان ينفق على الاحتفال بالمولد ألوفًا كثيرة، ففي تاريخ ابن خلكان أنه كان ينصب له مقدار عشرين قبة من الخشب، كل قبة منها أربع طبقات أو خمس طبقات، له قبة منها والباقي للأمراء وأعيان دولته، وكانوا يزينون هذه القباب في أول شهر صفر بأنواع الزينة الفاخرة، وكان يكون في كل قبة جوق من الأغاني وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، بل كانوا لا يتركون طبقة من الطبقات بغير جوق من تلك الأجواق. وكان الناس يتركون كل عمل في تلك الأيام، فلا يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران على القباب. قال ابن خلكان: فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم شيئًا كثيرًا زائدًا عن الوصف وزفَّها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي حتى أتى بها إلى الميدان ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد [2] عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير، وفي جملتها شمعتان أو أربع - أشك في ذلك - من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل. فإذا كانت صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة، وهم متتابعون، كل منهم وراء الآخر، فينزل من ذلك شيء كثير، لا أتحقق عدده. ثم ذكر عرضه الجند وتوزيعه تلك الخلع بعد ذلك على الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ومد السماط. وكان قد ذكر قبل ذلك أن الناس كانوا يأتون هذا الموسم في إربل من بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم وتلك النواحي، فلا يزالون يتواصلون من شهر المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول. لخصت هذا من تاريخ ابن خلكان الذي وصف ما رآه بعينيه؛ لأن ما يُعمل بمصر الآن يشبه ما كان يعمل في إربل، إلا أنه دونه عظمة ونفقة، فهَهُنا تنصب قباب أو خيام النسيج الجميلة لعزيز مصر ولوزارات حكومته ولبعض الوجهاء في دائرة واسعة ويختلف إليها الناس من أول شهر ربيع الأول، يسمعون في بعضها وعظ الوعاظ، وذكر أرباب الطرق المعروفة. ويرأس الاحتفال شيخ مشايخ طرق الصوفية، ويقيم بجانب خيمته مأدبة فاخرة في مساء اليوم الحادي عشر من الشهر، يحضرها كبار العلماء وكثير من الوجهاء، ويكون الاحتفال الأكبر في الليلة الثانية عشرة في خيمته فيجتمع فيها مَن حضر المأدبة، ويؤمها الأمراء والوزراء، حتى إذا ما انتظم جمْعهم حضر عزيز مصر بحاشيته، وتقرأ بين يديه قصة المولد، فيخلع على مَن يقرأها خلعة سنية، وتدار بعد قراءتها كؤوس الشراب المحلّى وصواني الحلوى الجافة. ثم ينصرف العزيز إلى خيمته وهي بجانب قبة شيخ الشيوخ، فيمكث فيها ساعة زمانية، يشاهد في أثنائها زينة الألعاب النارية، ثم ينصرف وينصرف الأمراء والوزراء، ويظل الناس يطوفون على تلك الخيام المزينة بالأنوار الكهربائية وغير الكهربائية عامة ليلتهم. وفي ضحوة ذلك اليوم يحضر نائب العزيز قبة شيخ الشيوخ فتعرض عليه مواكب الصوفية، يتقدم كلَّ طريقة شيخُها، وهم يهللون أو يتلون الأوارد، ويقف كل منهم أمام شيخ الشيوخ قليلاً، فيحييه، ثم ينصرف. وقد استحسن جماهير المسلمين الاحتفال بالمولد في مشارق الأرض ومغاربها ويجتمعون لقراءة قصته في المساجد، ومنهم مَن يجعل لها دعوة خاصة في البيوت، وهذه لا تتقيد بجعلها في تاريخ الميلاد النبوي، ولكن أنكر هذا الاحتفال بعض العلماء، وعدَّه بدعة مذمومة؛ لأنه عُدَّ موسمًا وشعارًا دينًا وعبادة غير مشروعة، يظن العوام أنها مشروعة؛ ولما يقترن به من المنكرات الأخرى. وقال بعضهم: إنه بدعة حسنة؛ لأنه عبارة عن الشكر لله تعالى على وجود خاتم أنبيائه وأفضل رسله بإظهار السرور في مثل اليوم الذي وُلد فيه، وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار، وقد ألف الجلال السيوطي رسالة في عدِّه بدعة حسنة في جواب مَن سأل عن حكمه شرعًا، وعرفه بقوله: هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدإ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما وقع في مولده من الآيات، ثم يمد لهم سماط، فيأكلون، وينصرفون من غير زيادة على ذلك. وذكر أن الحافظ ابن حجر سُئل عنه، فأجاب بقوله: أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن جرد في عمله المحاسن، وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، ومَن لا فلا. ثم بيّن أن الحافظ خرجه على حديث الصحيحين في صيام عاشوراء شكرًا لله تعالى على إنجائه فيه موسى نبيه، وإغراق فرعون عدوه، قال: فيُستفاد منه الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من بروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم؟ وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء ومَن لم يلاحظ ذلك لا يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، وتوسع قوم، فنقلوه إلى أي يوم من السنة، وفيه ما فيه. فهذا ما تعلَّق بأصل عمله. وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من الإطعام وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير والعمل للآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن ما كان من ذلك مباحًا بحيث يتعين للسرور بذلك اليوم - لا بأس بإلحاقه وبه وما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع وكذا ما كان خلاف الأولى. اهـ. وقد يقال: لماذا لم يقم بهذا الشكر أحد من الصحابة والتابعين ولا الأئمة المجتهدين ولا أهل القرون الثلاثة الذين شهد الشارع لهم بالخيرية؟ فهل كان صاحب إربل التركماني ومَن تبعه أعلم وأهدى منهم وأعظم شكرًا لله تعالى؟ ويقال مثل هذا في تخريج الحافظ ابن رجب إياه على تعليل صيام يوم الإثنين بأنه يوم وُلد فيه صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي مزيد بيان لحجة المخالف. وخرجه السيوطي على أصل آخر استنبطه من تخريج شيخه الحافظ، وهو ما رواه البيهقي من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقّ عن نفسه بعد النبوة، (قال) : مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته، كما كان يصلي على نفسه؛ لذلك فيستحب لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه الآيات وإظهار المسرات. اهـ. وهذا تخريج ضعيف من وجوه: (أحدها) أن هذا الحديث منكر كما قال راويه البيهقي، بل باطل كما قال النووي في شرح المهذب. (ثانيًا) أنه لو صح لكان دليلاً على استحباب عقّ الإنسان عن نفسه ولم يقل بهذا أحد. (ثالثها) جعل قولهم: إن العقيقة لا تعاد حجة على الحديث على تقدير صحته، مع كون عبد المطلب عقّ عنه صلى الله عليه وسلم. (رابعها) أنه لو كان تشريعًا لعمل به الصحابة وغيرهم وقال به أئمة الفقهاء أو مَن بلغه منهم. (خامسها) أن يوم البعثة كان أوْلَى بهذا الشكر من يوم الولادة؛ لأن النعمة والرحمة إنما كانت برسالته صلى الله عليه وسلم بنص قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) . وحجة المنكرين في هذا الباب أن كل بدعة دينية تعد من العبادات المحضة أو تُجعل من شعائر الدين - فهي محظورة؛ لأن الله تعالى أكمل الدين وأجمعت الأمة على أن أهل الصدر الأول أكمل الناس إيمانًا وإسلامًا، وأن كل بدعة ليست من هذا القبيل - كالمنافع الدنيوية والوسائل التي يقوَّى بها أمر الدين والدنيا كالمدارس والمستشفيات والملاجئ الخيرية التي يثاب صاحبها بحسن نيته فيها - فإنها تعد بدعة حسنة، والتحقيق أن هذه لا تسمى بدعة شرعية، وإنما يطلق عليها اسم البدعة لغةً، فلا تدخل في عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم من الحديث الصحيح عند مسلم: (شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ؛ لأن موضوع الحديث المحدثات في أمر الدين، ولكنها تعد من السنن الحسنة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (مَن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة) -الحديث (وهو في صحيح مسلم أيضًا) فقد رَغَّبَ أمته بهذا الحديث في الاختراع النافع لها في دينها ودنياها، ولكن ليس لأحد أن يخترع في الدين نفسه شيئًا. ثم إن البدعة الدينية إما أن تكون اختراع عبادة أو شعارًا دينيًّا لا أصل لهما وإما أن تكون تخصيصًا لعبادة مشروعة بزمان معين أو مكان معين أو هيئة معينة لم يخصصها بها الشارع. ومن هذا النوع عَدَّ الفقهاء صلاة الرغائب في رجب وصلاة ليلة النصف من شعبان من البدع المذمومة. قال النووي في المنهاج: وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. وقد سمّى الشاطبي هذا النوع بالبدع الإضافية، وسمى النوع الأول البدع الحقيقية. وأطال في بيان ذلك في كتابه (الاعتصام) وفصله تفصيلاً. هذا، وإن ما يعهد من الاحتفال بالمولد ليس عبادة مأثورة عن الشارع يؤتى بها على الوجه المشروع، ولا هو عمل دنيوي محض، بل يجمعون فيه عبادات يأتون بها أو ببعضها على وجه غير مشروع، وبين لعب ولهو، بعضه مباح وبعضه محظور، وقد كان يكون في احتفال القاهرة خيام يرقص فيها النساء المتهتِّكات مكشوفات الصدور والبطون، كما يحصل دائمًا في غيره من احتفالات الموالد - كالموالد الحسيني والمولد البدوي - وما هو شر من ذلك، ولكن قد أبطل هذا كله من الاحتفال الذي يكون في القاهرة، ولله الحمد. وقد حاول مَن ذكرنا من العلماء تخريجه على أصل شرعي بإبطال ما يكون فيه من اللهو والاقتصار فيه على عمل الخير، ولولا تخصيص تلك العبادة بالزمان والمكان والصفات المخصوصة التي تشبه بها الشعائر والعبادات المشروعة وتلتبس بها - لما احتيج في تخريجه إلى ما تكلفوه. وأما اجتماع الناس في مثل القباب والخيام التي تنصب في العباسية، وتزين بالمصابيح والأنوار الكهربائية، وإظهار البهجة والسرور، بذكرى مولد ذي الضياء المعنوي والنور، وذكر إخراج الله الخلق بهديه من الظلمات، وما آتاه من الهدى والآيات - فهو في نفسه من المباحات، المقرونة بالمستحبات والمندوبات، بشرط أن يخلو من البدع والمنكرات، وأن لا يعد من الشعائر الدينية ولا من العبادات، فإذا كان بحيث يظن العامة أنه مطلوب شرعًا حرم فعله قطعًا، بل كان بعض الصحابة يتركون بعض ا

استدراك على الحواشي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استدراك على الحواشي شاعر الأنصار - صاحب الأبيات المذكور بعضها في قصة الهجرة - هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس قد ترهّب، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وهمَّ بالنصرانية، فلما جاء الإسلام أسلم وهو شيخ كبير، وله شعر كثير، وعاش نحوًا من 120.

المسألة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ّالمسألة العربية مقالة للتاريخ الإسلام والجنسية العربية. إبراهيم الخليل عربي. الأُخوَّتان الدينية والجنسية. اتفاق الإسلام والجنسية العربية. مصلحة المسلمين وغيرهم من العرب في تجديد الدولة العربية واحدة. مصلحة المسلمين الأعاجم ورأيهم في ذلك. استقلال لبنان لم يكن عقبة في طلب العرب للاستقلال. لم ينهض العرب للاستقلال في عهد عبد الحميد. اتهام الخديو والإنكليز بالميل إلى استقلال العرب. حال أمراء الجزيرة وزيدية اليمن وزعماء الولايات العربية في ذلك. الخلافة عند أهل الزيدية وأهل السنة. السبب الحقيقي لسكون العرب وسكوتهم هو الإسلام وأوربة. إزالة الإسلام للعصبية الجنسية. إجماع العرب على المحافظة على الدولة ويأسهم منها. استقلال الحجاز. اتفاق الحلفاء على استقلال الشعوب، أو تفويض أمر حكمها إليها. إنني عربي مسلم أو مسلم عربي؛ فأنا قُرشي عَلوي، من ذرية محمد النبي العربي، الذي ينتهي نسبه الشريف إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وملته الحنيفية هي ملة جده إبراهيم، أساسها التوحيد الخالص، وإسلام الوجه لله تعالى وحده، {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (البقرة: 130) ، اقرأ الآيات إلى قوله: { ... وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133) ، فإسلامي مقارن في التاريخ لعربيتي، وإن من الناس مَن هو أقدم نسبًا في الإسلام، ومَن هو أقدم نسبًا في العربية، وهم مَن عدا الإسماعيليين من متقدمي العرب ومتأخريهم. وأما الإسماعيليون منهم فتاريخ عربيتهم وإسلامهم واحد؛ إذ كان أول أب لهم في العرب مسلمًا، وقد يقال: إن إسلامهم أقدم إذا كان إبراهيم صلى الله عليه وسلم غير معدود من العرب على ما هو المشهور في كتب التاريخ من أن أول العرب المستعربة إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وكأنهم عدّوه كذلك؛ لأنه وُلد في بلاد العرب، ونشأ فيهم فلم يكن له لسان غير اللسان العربي. ولكن التاريخ يثبت لنا أن أباه إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يتكلم باللغة العربية، كما يؤخذ من التاريخ العربي والتاريخ المستنبَط من الآثار القديمة، أما مأخذ ذلك من التاريخ العربي فهو أنه أقام في بلاد العرب زمنًا، أقام فيه الدين وبنى البيت العتيق الذي هو أقدم بيت وُضع لعبادة الله وحده في الأرض، فمن البديهي أنه كان يعلِّمهم الدين بلسانهم، ويخاطبهم به، وأما مأخذ ذلك من الآثار القديمة المكتشفة في هذا العصر موضحة للتاريخ القديم، فهي أن علماء الآثار بينوا لنا أن مدينة الكلدان كانت عربية،وأن حمورابي الذي كان ملكهم وصاحب شريعتهم في عهد إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان عربيًّا، وقد اكتشفت شريعته في بلاد العراق منقوشة على عمود من الحجر الأصم، فكانت باللغة العربية لذلك الزمان. وقد جاء في سفر التكوين - أول أسفار العهد القديم عند أهل الكتاب - أن حمورابي هذا كان في زمن إبراهيم، وأنه كان يُدعى ملك السلام وكاهن الله العلي، وأنه بارك إبراهيم، وأن إبراهيم أعطاه عشرًا من كل شيء (راجع: تك 14: 18) . قلت: إنني عربي مسلم. فأنا أخ في الدين لألوف الألوف من المسلمين من العرب وغير العرب، وأخ في الجنس لألوف الألوف من العرب المسلمين وغير المسلمين. أما دليل الأخوة الدينية فقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وأما دليل الأخوة الجنسية فالآيات المتعددة في سورة الأعراف والشعراء المصرحة بكون الأنبياء المرسلين إخوة لأقوامهم المشركين. ولما كان شعيب عليه السلام قد أرسل إلى قومه أهل مدين وإلى أصحاب الأيكة من غير قومه - اختلف التعبير عنه، فقد قال تعالى في سورة الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 85) ، أي: وأرسلنا إلى مدين أخاهم في النسب شعيبًا ... إلخ. وقال في سورة الشعراء {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} (الشعراء: 176-178) ولم يقل أخوهم شعيب، كما قال في عاد {أَخُوهُمْ هُود} (الشعراء: 124) وفي ثمود {أَخُوهُمْ صَالِحٌ} (الشعراء: 142) - مثلاً - لأنه لم يكن من جنسهم. وإنني أحمد الله عز وجل أن جعل مصلحة العرب السياسية في عصرنا موافقة لمصلحة المسلمين السياسية، كما أبينه في هذه المقالة، ولو تعارضتا لقدمت ما يوجبه عليَّ ديني، على ما تقتضيه مصلحة أبناء جنسي؛ لأنني أرجو بديني سعادة الدنيا والآخرة، وأنا موقن بذلك، ولا أرجو بخدمة جنسي وحده إلا الدنيا وحدها، وما أنا على يقين من إدراكها، على أنني راضٍ بما آتاني الله منها، أما وقد اتحدتا فخدمة جنسي خدمة لديني، ينفعني في الآخرة إن لم ينفعني في الدنيا، وأنا مؤمن بهذا، وإن كان يخفى على كثير من إخواني المسلمين. * * * (مصلحة العرب والمسلمين في الدولة العربية) إنما مصلحة العرب السياسية أن يكون لهم دولة مستقلة، وهذا أمر بديهي لا يختلف فيه عاقلان، فالعرب أمة من أقدم أمم الأرض وأعرقها في الاستقلال، ذات مجد عظيم، ومدنية عالية في التاريخ القديم والحديث، ولغة ممتازة في لغات العلم والأدب، وشريعة هي أعدل الشرائع المنزلة للبشر، وقد ضعفت هذه الأمة الكريمة، وضعفت مزاياها ولغتها، وأُهمل معظم شريعتها، وكادت تفنى بفنائها، كل ذلك لعدم وجود دولة مستقلة لها؛ إذ يستحيل أن ترتقي أمة بغير دولة. إن السواد الأعظم من العرب يَدينون دين الإسلام واللغة العربية هي لغة هذا الدين، فلا تصح لمسلم عبادة بغير هذه اللغة، فبالدولة العربية تحيا لغة القرآن، وتحيا بحياتها شريعة الإسلام. فمن البديهي إذًا أن يكون الخير كل الخير للمسلمين في هذه الدولة إذا وُجدت، وإن عقلاء المسلمين من غير العرب يعلمون هذا، ولكنهم يرونه الآن متعذرًا أو متعسرًا، ويخشون كما كان يخشى مسلمو العرب أن يكون السعي له مفضيًا إلى إضعاف الدولة العثمانية التي لم يبق للمسلمين دولة غيرها، فيكون مثل الساعين كمثل مَن له دار تكنه، فهدمها ليبني خيرًا منها، فعجز عن البناء وأمسى في العراء معرضًا لما يجني على حياته! ، ولكن جمعية الأغرار المغرورين (جمعية الاتحاد والترقي) ما زالت تهدم من آمال العرب في بقاء الدولة، وفي كون بقائها خيرًا للإسلام والمسلمين، حتى دعتهم بل دعَّتهم [1] إلى طلب الإصلاح في الجملة، ثم إلى طلب اللامركزية، ثم إلى استقلال الحجاز، ولا يعلم غير الله ما تكون عاقبة ذلك؛ لأن العالم كله في طور تغيُّر وانقلاب مجهول، ولكن المعلوم قطعًا أن ما حصل في بلاد العرب هو نتيجة طبيعية لسيرة الاتحاديين، لم يكن في استطاعة أحد دفعه كما يعلم مما يأتي. وأما غير المسلمين من العرب فهم الآن كالمسلمين ليس لهم دولة؛ ولأن يكون لأبناء جنسهم دولة خير لهم من أن يكونوا تابعين لدولة أعجمية، لا يشاركونها في النسب ولا في اللغة ولا في العادات والتقاليد ولا في الوطن الجغرافي [2] ولا في الدين، ولا لدولة أعجمية، يشاركها بعضهم في الدين والمذهب أو في الدين دون المذهب دون سائر مقومات الأمم ومشخصاتها، وهم يعلمون أن الدين أو المذهب لا يحملها على جعْلهم مساوين لأبناء جنسها ووطنها، وإن كانوا من غير أبناء دينها ومذهبها، ولا يضرهم أن تكون العربية في هذه الدولة الأغلبية للمسلمين من أبناء جنسهم، فإن أفراد البشر وجمعياتهم يتآلفون ويتعاونون على مصالحهم بكثرة ما يشتركون فيه من مقومات الأمم ومشخصاتها، وما يشترك فيه المسلمون وغيرهم من العرب من المقومات والمشخصات كاللغة والعادات والآداب والمصالح والمرافق الوطنية أكثر مما يشترك فيه غير المسلمين من العرب مع الإفرنج الموافقين لهم في الدين، بله الترك المخالفين لهم حتى في الدين، ودين الإسلام دين مساواة في الحقوق وحرية تامة في العقائد. وقد ارتقى غير المسلمين في أرقى دول العرب الإسلامية مدنية إلى أعلى المناصب، حتى كان وزراؤهم وأطباؤهم يزاحمون الخلفاء العباسيين بالمناكب، وإذا كان لغير المسلمين أغلبية في بقعة من البلاد العربية كجبل لبنان - فإنه يمكنهم أن يكونوا مستقلين مع ارتباطهم واتحادهم بالمملكة العربية فيها استقلالاً إداريًّا واسعًا خيرًا من الاستقلال الذي نالوه منذ نصف قرن. لو نهض زعماء العرب إلى السعي للاستقلال لما تعذر عليهم إرضاء اللبنانيين منهم بذلك، وإزالة جميع ما في البلاد من أسباب الخلاف. ولو تعذر عليهم إرضاء اللبنانيين في أوائل العهد بالسعي لَما كان ذلك موجبًا لتركه واليأس منه. ولا أطيل في بيان هذا وكشف غواشي الأوهام عنه؛ لأنه يخرج بي عن المقصد من هذا المقال، وأكتفي منه بتذكير الملمّ بتاريخ سورية الحديث بتلك الحركة العربية التي حدثت في سورية أيام كان مدحت باشا زعيم الترك الأكبر واليًا عليها؛ فإنهم يتذكرون أن اللبنانيين كانوا في طليعة العاملين، وبرهاننا على هذا قصيدتا اليازجي البائية والسينية. لأجل هذا كان سكون العرب العثمانيين وسكوتهم في الأجيال الأخيرة - التي تحركت فيها عصبيات الأجناس وهبت لطلب الاستقلال - مثارًا لعجب مَن لم يعرف سبب ذلك السكون من العقلاء. * * * (اتهام الترك للعرب) كان الترك يتهمون العرب بالميل إلى الاستقلال دونهم والسعي لذلك، وأنه لا يمنعهم منه إلا ضعفهم وعجزهم أمام قوة الترك. وقد ذكرت في مقالات (العرب والترك) التي كتبتها في الآستانة ونشرتها في جرائدها ثم في المنار أنني لا أعرف لهذه التهمة أصلاً إلا ما كان من افتراء جواسيس السلطان عبد الحميد وطلاب المنافع عنده أو استغلال أوهامه، بل أقول: إن هذه التهمة لم تكن معقولة في عهد السلطان عبد الحميد؛ لأن النهوض بأمر الاستقلال إما أن يكون من جانب الأمة بما تتوسل به إليه من الجمعيات السياسية والعصابات المسلحة، ولم تتصدَّ الأمة العربية لذلك ألبتة، وإما أن يكون من جانب الأمراء المستقلين بالإدارة في بعض الأقطار أو من دونهم من الزعماء أصحاب العصبية، ولم نعلم أن أحدًا من أمراء جزيرة العرب أو من الزعماء في الولايات العربية العثمانية - كان مظنة أو موضعًا لهذه التهمة؛ إذ لا توجد شبهة يُعتمد عليها في ذلك. إلا أن المفسدين كانوا يتهمون خديو مصر عباس حلمي باشا بذلك، فكان يُسمع لهم؛ لأن مصر بلاد عربية غنية بالمال والرجال، وقد تصدى رأس حكومتها الأخيرة محمد علي باشا لحرب الدولة العثمانية، فقهرها واستولى على سورية والحجاز وتوغل في الأناضول ولولا الدولة الإنكليزية لاستولى على سائر مملكتها، ولكن عباس حلمي باشا لم يكن ليطمع بمثل ما طمع به جده الأعلى، بل ولا بمثل ما كان يطمع به جده الأدنى (إسماعيل باشا) من الاستقلال السياسي بمصر والسودان فقط لمكان الاحتلال الإنكليزي، الذي جعل السلطة الفعلية في مصر بيد إنكلترة دونه؛ ولهذا كان الموسوسون والجواسيس يزعمون أنه على اتفاق مع الإنكليز في هذا الأمر، وكان كثير من المصريين وغيرهم يصدق ذلك، ومنهم من لم يرجع عن هذا التصديق إلا بعد نشر كتاب (عباس حلمي الثاني) للورد كرومر؛ إذ صرح فيه بأن حياة عباس مع الاحتلال كانت حياة خلاف وشقاق لا يُرجى معه اتفاق. إن المطلعين على الحقائق يعلمون علم اليقين أن عباس حلمي باشا

مسألة استقلال الشعوب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة استقلال الشعوب نشر (المقطم) في العدد الذي صدر منه في 23 شعبان (13 يونيو) مقالة عنوانها: (الصلح الدائم وكيف يُنال؟) قال فيها ما نصه: وضعت روسية الديمقراطية على بساط البحث مسألة الغرض من الحرب الحاضرة في أواسط الشهر الماضي، فحملت الدول المتحاربة على إعلان قصدها وغايتها، وحثت الأمم الكبيرة والصغيرة على بسط آمالها وأمانيها، وكانت روسية أولى الدول التي أعلنت غايتها من الحرب، فقالت: إنها لا تتوخى ضم الأملاك وتقاضي الغرامات الحربية، وإن غرضها الأساسي الوحيد إنما هو إبرام صلح وطيد الأركان على أساس استقلال الأمم الكبيرة والصغيرة وتحقيق آمالها القومية العادلة وتخويلها حقًّا من أقدس حقوقها وهو أن تحكم نفسها بنفسها وتختار شكل الحكومة التي تلائم أخلاقها وعاداتها. وقام المسيو ريبو بعد ذلك، فأعلن رغبة فرنسة في إبرام صلح عادل أساسه استقلال العناصر. ثم وقف في مجلس النواب الفرنسوي وقفته التاريخية المشهورة، فجاهر في جلسة 4 يونيو الحالي بأن فرنسا لا ترمي من هذه الحرب إلا إلى استرجاع الإلزاس واللورين اللتين سُلختا عنها سنة 1871، رغم إرادة سكانهما، ومنح الأمم الكبيرة والصغيرة الاستقلال التام. ووافقت بريطانيا العظمى على قرار حليفتيها العظيمتين إذا كان مبدأ عدم ضم الأملاك، وتقاضي الغرامات الحربية يعني رد المسلوب والتعويض من الخسارة التي نزلت بالأمم التي اعتُدِي عليها. وقد وافانا روتر أمس بنص المذكرة الكبيرة الشأن التي أرسلها الدكتور ولسن رئيس الولايات المتحدة إلى روسية وبيَّن فيها أغراض أميركا من هذه الحرب، فقال: (إنها لا تروم الربح المادي ولا التوسع ولا تقاتل لجرّ مغنم، ولكن لتحرير الشعوب في كل مكان، ومساعدتها على النهوض والارتقاء في ظل الاستقلال من غير تسلط متسلط عليها، وإن المشاكل الحاضرة يجب أن تسوَّى طِبقًا لمبدأ واضح جلي، وهو أنه لا يصح إجبار شعب من الشعوب على أن يعيش في ظل حكم لا يريده، ولا إجراء تعديل في الكون إلا فيما يؤدي إلى توطيد أركان السلام وسعادة الأمم، فيصير إخاء البشر حينئذ حقيقة واضحة وقوة فعالة لصون الحياة من اعتداء المستبدين وطمع الطامعين) . هذه غاية الولايات المتحدة من الحرب، وذلك هو الغرض الوحيد الذي وضعه الحلفاء كلهم نصب عيونهم، وأعلنوا غير مرة عزمهم الأكيد على الوصول إليه مهما كلفهم الأمر، وبديهي أن الولايات المتحدة لم تخُض غمار الحرب الحاضرة إلا بعد ما اتفقت مع الحلفاء على تحقيق هذا المبدأ الشريف العادل، فإن المسيو بريان رئيس الوزارة الفرنسوية سابقًا أرسل إليها - باسم الحلفاء جميعهم - مذكرة مسهبة في 3 ديسمبر الماضي، قال فيها: إن للحرب الحاضرة ثلاثة أغراض: أولها: إعطاء الأمم الكبيرة والصغيرة حريتها واستقلالها. وثانيها: نيل التعويض من الخَسارة التي نشأت عن اعتداء ألمانية الفظيع. وثالثها: الحصول على ضمان وافٍ لمنع وقوع الحرب في المستقبل. على هذا الأساس تم الاتفاق بين الحلفاء والولايات المتحدة، ومن أجل هذه الغاية الشريفة فقط بذلت أمريكة رفاهية شعبها، والأموال الطائلة التي كانت تنهال عليها من أوربة. فالمجد لها والفخر لرئيسها العظيم نصير الإنسانية وحامل لواء الحرية والعدل في العالم. اهـ. * * * وجاء في (المقطم) الذي صدر في 24 شعبان (14 يونيو) ما نصه: خطة روسية دعا وزير خارجية روسية مندوبي الصحف إلى مقابلته، وبسط لهم خطة روسية الحاضرة، وقال ما خلاصته: ترمي روسية الجديدة الحرة إلى إبرام الصلح العام في أقرب آن على أساس تحرير الأمم وتخويلها حقَّ انتقاء شكل حكوماتها وعدم ضم الأملاك وتقاضي الغرامات الحربية من الأعداء، وهي تتوخى من مواصلة الحرب أمرين: أولهما: الحصول على صلح شريف يزيل الضغائن والأحقاد من بين الأمم المتحاربة. وثانيهما: استقلال الشعوب استقلالاً تامًّا وجعْلها قوة عظيمة لصون الحرية ومنع اعتداء المعتدين في المستقبل. إن الخطأ الذي ارتكب في حرب السبعين لا يجوز أن نرتكب مثله اليوم، فسكان الإلزاس واللورين الذين سُلخوا عن فرنسا - رغم إرادتهم - لم ينسوا وطنهم الأصلي إلى الآن، وكانت مسألتهم من أسباب الحرب الحاضرة؛ لأن الظلم لا يُنسى مهما تقادم عهده؛ لذلك ترى روسية الحرة أن تشيد الصلح المقبل على أساس العدل وحرية الشعوب الكبيرة والصغيرة. لا أنكر أن الحكم السابق ارتبط بمعاهدات سرية مع بعض الدول، وأن هذه المعاهدات أقلقت الديموقراطيين الروس لاعتقادهم بأنها ترمي إلى التوسع وضم الأملاك، فألحّوا على الحكومة المؤقتة في نشرها في الحال خوفًا من وقوع الشقاق بين أحزاب الأمة، ولكن هذا الطلب لا يتفق مع مصلحة روسية؛ لأنه يؤدي إلى قطع صِلاتها بحلفائها وإكراهها على إبرام صلح منفرد، مع علمها أن الصلح الوحيد الذي يلائم مبادئها هو الصلح العام على أساس استقلال الأمم الكبيرة والصغيرة استقلالاً تامًا، فالواجب على روسيا في هذه الحال أن تنسى الماضي، وتنظر إلى المستقبل فقط بعد الانقلابات العظيمة التي طرأت على الكون كالثورة الروسية، ودخول الجمهورية الأميركية العظمى في الحرب. وهذه الانقلابات ستؤثر أعظم تأثير في ديمقراطية الأمم المتحالفة، ولا سيما أن صِلاتها بممثلي تلك الديمقراطية على أحسن ما يُرام. وبديهي أن مهمتي الأساسية في وزارة الخارجية هي التوفيق بين الديمقراطية الروسية وديمقراطية الأمم الغربية على أساس يكفل السلم للعالم. ولكن تحقيق هذه المهمة يتعذر علينا إذا أحجمنا عن القيام بالعهود التي قطعناها لحلفائنا. أما مسألة ضم الأملاك فلا تخطر على بال أحد منا، وليست المعارك التي تخوض غمارها الآن إلا معارك دفاعية ترمي إلى طرد العدو من البلاد التي احتلها في روسية والبلجيك وفرنسة وسربية ورومانية ونيل الأمم الكبيرة والصغيرة حريتها واستقلالها. هذا كل ما أستطيع أن أقول الآن عن غرض روسية، والخطة التي تنهجها لتحقيق آمالها وأمانيها. انتهى. * * * وجاء في (المقطم) الذي صدر في يوم السبت 18 رجب (19 مايو) : غرض بريطانية العظمى من الحرب لندن في 17 مايو إن الخطبة التي خطبها اللورد روبرت سسل في مجلس النواب في الليلة البارحة تعد هنا - وفي سائر بلدان الحلفاء - من أهم ما قيل في بيان غرض بريطانية العظمى من الحرب. فتح المستر سنودن باب المناقشة وردّ اللورد روبرت سسل عليه، فقال: إن عبارة (عدم الضم) راجت كثيرًا وتناقلتها الأفواه. ثم شرع بطرق أبواب هذا الموضوع بابًا فبابًا، واستهل البحث بذكر بلاد العرب، فقال: ليس في الدنيا رجل يشير علينا بأن نبذل نفوذنا لرد بلاد العرب إلى تحت سلطة الأتراك (هُتاف) ، ثم إن أعظم ضم لأرمينية بأوسع معنى السيادة والإمبراطورية - يفيد شعبها الذي عانى الويلات والنكبات بما اقترفه الأتراك به من الجرائم، وما يقال عن أرمينية يقال مثله عن سورية وفلسطين. ثم انتقل إلى الكلام عن مستعمرات ألمانية في إفريقية، فقال: إننا لم نهجم على تلك المستعمرات لننقذ أهلها الأصليين من سوء الحكم، ولكن أتريدون أن نعيدهم إلى ألمانية بعد ما أنقذناهم منها؟ ! ، فهتف المجلس له هتافًا شديدًا لما قال: إن بدني يقشعرُّ إذا فكرنا في رد أولئك الوطنيين إلى حكم الحكومة التي ارتكبت بهم ضروب القسوة. وماذا أقول عن بولندا وهل فيكم مَن يعترض على إنشاء مملكة بولندية مستقلة. وماذا أقول عن الإلزاس واللورين وهل مَن يقول (؟) إن ألمانية بعدما أخذت ولايتين من فرنسة لا يجب أن تردهما إليها (هتاف) . وعندنا أيضًا الولايات الإيطالية الداخلة في حكم النمسا، فهل توافق الحكومة البريطانية على عدم رد هذه الولايات إلى إيطالية وسكانها من الإيطاليين. ثم طرق اللورد روبرت بابًا آخر من أبواب الموضوع، وأشار إلى عبارة (عدم عقد الصلح مع آل هوهنزلرن) ، فقال إن في هذه العبارة كثيرًا مما يُستصوب، وهي مقبولة عند عامة البريطانيين، ولكن الفطنة قد تقتضي بعدم اتخاذها قاعدة لتعريف سياستنا الوطنية. قال: وقد سمعنا البعض يقولون: (لا غرامة حربية) فهل يراد أن لا تعطَى البلجيك غرامة؟ وماذا يكون نصيب سربيا وولايات فرنسة الشمالية؟ وهل يسعنا أن نغضي عن تعويض ما دُمر من البواخر التجارية؟ أما أنا فلست مستعدًّا للموافقة على ذلك. وعقبه المستر إسكويث، فخطب خطبة كان لها وقع عظيم فقال: إن عبارة (عدم الضم) التي وردت في بعض التصريحات الروسية - لم تُفهم تمامًا لعدم وجود معجم وافٍ للغةِ السياسة الدولية، ولكني لا أعتقد أن زعماء روسية وحكامها المسئولين استعملوها بغير المعنى الذي نسلم به نحن. ولكن لضم البلدان أربعة معانٍ مختلفة يمكن استعمالها لها: (فالمعنى الأول) أن هذه الحرب إذا أريد أن تؤدي إلى صلح وطيد الأركان فيجب أن تسفر عن ضم بعض البلدان لتحرير الشعوب الراسفة في قيود الظلم وأغلال الاستبداد (هتاف) ، وهذا أمر مشروع، وإلا فإن الأغراض التي امتشقنا لأجلها الحُسام في هذه الحرب لا تُنال أو يُنال جانب منها فقط إلا إذا قام الحلفاء حق القيام بعمل هذا التحرير بضم البلدان (هتاف) ، قال: وإني واثق أن رجال حكومة روسية الجديدة لا يحتجون على ضم البلدان إذا كان هذا هو الغرض منه. (والمعنى الثاني) يسري على البلدان التي تحوي جنسيات فُصلت عن أصولها، مثال ذلك بلاد الترنتينو فضمها إلى إيطالية ضروري لراحة ضمير العالم المتمدن (هتاف) . ثالثًا (كذا) أن الضم قد يكون من الأمور المطلوبة لنقل ملك أو أرض لأجل الاحتفاظ بمواقع حربية تكون ضرورية لا للهجوم بل للدفاع، ووقاية البلاد من هجوم في المستقبل. ويبقى (الوجه الرابع) أي الضم بمعنى فتح البلدان للتوسع والتبسط للسؤدد السياسي بالربح الاقتصادي، وهذا أمر لا يلقى شيئًا من التأييد في البرلمان البريطاني ولا في بريطانية العظمى ولا بين حلفائها (هتاف) . ومتى جلونا هذا الإبهام فهل يبقى خلاف بيننا وبين أصدقائنا ديمقراطِيِّي روسية على القواعد العامة التي يجب مراعاتها في الكلام عن الصلح؟ ! أما أنا فلا أعتقد بوجود شيء من الفرق (اسمعوا اسمعوا) - روتر. * * * وجاء في المقطم الذي صدر في 21 رمضان (10 يوليو) ما نصه: غاية الحلفاء من الحرب رد فرنسة وإنكلترة على المذكرة الروسية أرسلت الحكومة الروسية المؤقتة في شهر أبريل الماضي مذكرة خطيرة الشأن إلى دول الحلفاء، بسطت فيها غايتها من الحرب، وألحت عليهم في إعلان أغراضهم الحقيقية منها. وقد نشرنا المذكرة الروسية في حينه، ورأينا الآن أن نوافي القراء برد فرنسة وإنكلترة عليها لما فيه من الدلالة على حسن نيات الحلفاء وسمو مبادئهم نبل مقاصدهم، وهو الجواب الذي وصل إلى بتروغراد في أواخر شهر يونيو الماضي. قالت فرنسة في مذكرتها: (جواب فرنسة عن مذكرة روسية) اطلعت حكومة الجمهورية الفرنسوية بارتياح عظيم على المذكرة التي سلمها إليها سفير روسية في باريس باسم الحكومة المؤقتة، وشاركتها في الثقة التامة بكل ما يتعلق بتحسين موارد روسية الاقتصادية وزيادة قوتها الحربية أو السياسية ثم رأت أن تعلن ما يأتي: إن فرنسة لم تفكر في استعباد شعب من الشعوب حتى أعدائها الحاليين، ولكنها تريد أن يزول الخطر الذي يهدد العالم وأن يُعاقَب المجرمون الذين أضرموا نار هذه الحرب الهائلة، وكانوا عارًا ع

المجمع اللغوي المصري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المجمع اللغوي المصري [*] لقد تم تأليف هذا المجمع في دار الكتب السلطانية، وهذا هو القانون الذي وضعه لبيان أعماله اللغوية وأنظمته الداخلية. عملاً بالمادة الثانية من القانون المتضمنة تأليف لجان لوضع مصطلح كل علم أو فن - قد قرر المجمع في جلسته المنعقدة يوم أول يونيو سنة 1917 تأليف اللجان الآتية، وألفت فعلاً، وهذه هي أسماؤها: 1- لجنة الجغرافيا والتاريخ والآثار والملابس والأواني والملاحة والتجارة. 2- لجنة الطب والعلوم الطبيعية عدا علم النبات. 3- لجنة المنطق والفلسفة والعلوم الاجتماعية. 4- لجنة الفقه والقانون. 5- لجنة العلوم الرياضية والفنون الجميلة والصناعة والزراعة وعلم النبات. 6- لجنة اصطلاحات الدواوين. أما أعضاء المجمع فهم الآتية أسماؤهم، وقد رُتِّبت بحسب الترتيب الأبجدي بالحروف الأولى فيها: حضرة صاحب الفضيلة الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر رئيس المجمع وحضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية وكيل وحضرات أحمد لطفي السيد بك مدير دار الكتب السلطانية كاتب السر، والسيد محمد الببلاوي وكيل دار الكتب مساعد كاتب السر، وحضرات الشيخ أحمد إبراهيم والشيخ أحمد الإسكندري وأحمد برادة بك وأحمد تيمور بك وصاحب السعادة أحمد زكي باشا وأحمد سليمان بك والدكتور أحمد عيسى بك وأحمد كمال بك وإسماعيل رأفت بك وحفني ناصف بك وعبد الحميد فتحي بك وعبد الحميد مصطفى بك وصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن قراعة وعثمان فهمي بك والدكتور فارس نمر ومحمد أمين واصف بك والشيخ محمد رشيد رضا والشيخ محمد شريف سليم ومحمد عاطف بركات بك والشيخ مصطفى العناني والدكتور يعقوب صروف، وهذه صورة قانون المجمع: الفصل الأول في غرض المجمع المادة الأولى: غرض هذا المجمع خدمة اللغة العربية وخصوصًا وضع معجم وافٍ بحاجة الزمن، شامل اصطلاحات العلوم والفنون والصناعات. المادة الثانية: يكلف المجمع لجانًا أو أفرادًا جمع مصطلح كل علم أو فن وإعداده ولكل لجنة أو فرد أن يطلب من المجمع أن يدعو إلى الانضمام إليه من يرى دعوته من الاختصاصيين ويعرض ما تم من ذلك على المجمع لبحثه وتقرير ما يراه وإذا تم جزء صالح للنشر جاز نشره على حدة قبل إتمام المعجم. المادة الثالثة: للمجمع أن يزيد في اللغة للضرورة ويراعي في الزيادة دفع الحرج. المادة الرابعة: يستبدل بالكلمة العامية أو الأعجمية التي لم تُعرَّب من قبلُ غيرها من الألفاظ العربية الموضوعة للدلالة على معناها فإذا لم يهتدِ المجمع إلى كلمة عربية وضع كلمة عربية للدلالة عليها أو أقر الكلمة العامية أو عرَّب الكلمة الأعجمية مع مراعاة المادة الثالثة. المادة الخامسة: يكون وضع الكلمات بطريق المجاز والاشتقاق أو النحت أو غير ذلك مما يقع إجماع على منعه ويفضل الأخذ من الكلمات المهجورة تقليلاً لاشتراك المستعمل. المادة السادسة: تُذكر الكلمات من المعجم بمعانيها القديمة ويضاف إليها استعمالها في المعاني الجديدة التي يقرها المجمع، وينبّه على ما كان من وضع المجمع. * * * الفصل الثاني في أعضاء المجمع المادة السابعة: يؤلف المجمع من ثمانية وعشرين عضوًا، منهم ثلاثة يعرف أحدهم اللغة العبرية، والثاني الفارسية، والثالث السريانية زيادة على معرفة كل منهم للغة العربية. المادة الثامنة: متى خلا مركز أحد الأعضاء فلكل عضوين أن يرشحا خلفًا وتعرض أسماء المرشحين ثم يدور عليهم الانتخاب على حسب المادة الثالثة عشرة ويشترط في قبول المرشح أن ينال انتخاب ثلثي الأعضاء الحاضرين على الأقل. المادة التاسعة: للمجمع أن ينتخب أعضاء مراسلين بالطريقة التي ينتخب بها الأعضاء ويكون لهم حضور الجلسات وليس لهم أصوات في القرارات. المادة العاشرة: مَن أعان المجمع من أعضائه المراسلين أو غيرهم إعانة لغوية يُعتدّ بها ذُكر اسمه في ثبت واضعي المعجم. * * * الفصل الثالث في إدارة أعمال المجمع المادة الحادية عشرة: تقوم بالأعمال الإدارية للمجمع لجنة مؤلفة من الرئيس والوكيل وكاتب السر ومساعده. المادة الثانية عشرة: يُنتخب أعضاء اللجنة من بين أعضاء المجمع لمدة سنة، ويجوز إعادة انتخابهم. المادة الثالثة عشرة: يكون الانتخاب بالاقتراع السري وبالأغلبية المطلقة للأعضاء الحاضرين في جمعية عمومية، يحضرها ثلثا الأعضاء على الأقل، فإن لم يحضر ثلثا الأعضاء تم الانتخاب في الجلسة التالية مهما كان عدد الأعضاء فيها. المادة الرابعة عشرة: يدير الرئيس أعمال المجمع ويدعو لجانه ويقدم إليها موضوعات البحث ويهيمن على تنفيذ قرارات المجمع. وهو عضو بالقانون في كل لجنة من لجان المجمع يشترك مع أيها شاء. المادة الخامسة عشرة: يقوم الوكيل مقام الرئيس عند غيابه في كل ما له من الحقوق وما عليه من الواجبات. المادة السادسة عشرة: على كاتب السر ومساعده تحرير محاضر الجلسات وتسجيلها في سجل خاص بعد التصديق عليها، وهما مكلفان بمراسلات المجمع وحفظ أوراقه ونشر أعماله التي يتقرر نشرها. * * * الفصل الرابع في نظام الجلسات المادة السابعة عشرة: ينعقد المجمع مرتين في كل شهر على الأقل ويجتمع فوق العادة بناءً على طلب يكتبه خمسة من أعضائه أو بناءً على طلب الرئيس. المادة الثامنة عشرة: يعين المجمع في شهر أكتوبر من كل سنة الأيام التي ينعقد فيها كل شهر إلى نهاية شهر مايو. المادة التاسعة عشرة: إذا لم يستطع أحد الأعضاء حضور جلسة وجب أن يعتذر وتتلى الاعتذارات عند افتتاح الجلسة. المادة العشرون: كل عضو غاب أكثر من ست جلسات متواليات من غير عذر يقبله المجمع يعتبر مستقيلاً ويستبدل به غيره بالانتخاب. المادة الواحد والعشرون: في غير الأحوال المنصوص عليها يكون الاجتماع صحيحًا متى حضره ربع الأعضاء. المادة الثانية والعشرون: للمجمع أن يستعين باختصاصين يدعوهم لحضور جلساته عند النظر في البحوث المتعلقة بمعارفهم الخاصة المادة الثالثة والعشرون: تعقد الجلسات برئاسة الرئيس أو الوكيل عند غيابه وإذا غاب كلاهما انعقدت الجلسة برئاسة أكبر الحاضرين سنًا. المادة الرابعة والعشرون: في غير الأحوال المنصوصة في القانون تكون قرارات المجمع بالأغلبية النسبية. المادة الخامسة والعشرون: للمجمع أن يعيد المناقشة في قرار سابق إذا طلب ذلك ثمانية من الأعضاء. المادة السادسة والعشرون: لا يجوز تغيير مادة من هذا القانون إلا بطلب مكتوب يقدمه خمسة من الأعضاء، مبينة فيه أسباب التغيير يُقرأ في المجمع، ثم ينظر في جلسة تالية ولا يكون التغيير صحيحًا إلا إذا اتفق عليه سبعة عشر عضوًا. المادة السابعة والعشرون: كل خلاف يقع في تفسير مادة من مواد القانون يعرض على المجمع لتقرير ما يُتَّبع في ذلك. * * * (تنبيه) مقالة المسألة العربية كُتبت في العام الماضي، وأشير إليها في تقريظ جريدة (القبلة) ، ج6، 190، الذي صدر في 30 المحرم سنة 1335 ثم حذف منها، وزدنا في آخرها ذكر (استقلال الشعوب) .

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار فسخ عقد النكاح بالعيب في أحد الزوجين (س3) من صاحب الإمضاء في العلاقمة بالشرقية بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين إلى القائم بأمر ربه المعتضد بحجة الله البالغة صاحب مجلة المنار أرفعه مستفتيًا فضيلتكم بعد حمد الله حق حمده والصلاة والسلام على خير عباده سيدنا محمد وعلى آله ومَن تبعه وتحية الله وسلامه عليكم. أيها الأستاذ النبيل السيد السند: يا صاحب الفضيلة بينما نقرأ ما يتعلق بالمرء وزوجه من بقاء النكاح وفسخه في الكتب التي للأئمة الثلاثة الشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم؛ إذ رأينا فيها أنه ليس لأحد الزوجين أن يفسخ النكاح لعيب بالآخر إلا بالجنون والجذام والبرص، ويسميها الأئمة - ومن تبعهم - العيوب المشتركة فتوقفنا في حصر العيوب المشتركة التي يفسخ بها النكاح في الثلاثة الآنفة الذكر، مع وجود ما يماثلها في الضرر، بل ربما كان أشد وأولى مما ذكروا بالفسخ كالسل والزهري وغيرهما من الأدواء المستحدثة، وبعد البحث والتنقيب لم نعثر على قول لا في الكتب التي بأيدينا ولا ممن سألناهم ممن يظن فيهم أنهم لا يتقيدون بما تقع عليه أبصارهم من المنصوص، فبعثنا إليكم بتلك الرسالة مستفتين: هل تجري الأدواء المستحدثة مجرى ما نصوا عليه لمشاركتها له في علة الحكم، فتكون مقيسة عليه، فيفسخ بها النكاح أو يقف الأمر عند حد المنصوص، وهنا تساؤل: أيّ فرق بينها وبينه؟ وإذا كان ما نص عليه الفقهاء مأخوذًا من دليل فما هو؟ هذا ما نرجو أن تجيبوا عنه بفصل القول الذي نعهده فيكم ويعهده العقلاء أجمع، أمدكم الله بالعلم النافع وهدانا الله وإياكم إلى ما يوصلنا إلى مرضاته وسلوك سبيله القويم، إنه سميع قريب عليم. ... ... ... ... ... ... ... أحمد عطية قوره من العلاقمة (ج) ليس في هذه المسألة نص صريح في الكتاب ولا في السنة الصحيحة وحديث زيد بن كعب بن عجرة الآتي فيه مقال، وليس فيه تصريح بالفسخ لأجل البرص. ولكن فيها آثارًا عن بعض الصحابة والتابعين مستندة إلى أصول الشريعة الثابتة من منع الغش ونفي الضرر والضرار، وحينئذ لا وجه لحصر العيوب فيما ورد في تلك الآثار؛ إذ لا دليل على الحصر وإن ورد عن بعضهم عبارة فيه فتلك العبارة ليست مما يحتج به مَن ذكرتم من الفقهاء كما يُعلم من أصولهم، ومذاهبهم ليست متفقة كما ادَّعيتم. وقد حرر المسألة العلامة المحقق ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) في فصل مستقل قال: (فصل) في حكمه صلى الله عليه وسلم وخلفائه في أحد الزوجين يجد بصاحبه برصًا أو جنونًا أو جذامًا أو يكون الزوج عِنِّينًا في مسند أحمد من حديث يزيد بن كعب بن عجرة [1] رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار فلما دخل عليها فوضع [2] ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضًا فانحاز [3] عن الفراش، ثم قال: (خذي عليك ثيابك) ولم يأخذ مما آتاها شيئًا. وفي الموطأ عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: أيما امرأة غُرّ بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها المهر بما أصاب منها وصداق الرجل على مَن غره [4] وفي لفظ آخر: قضى عمر رضي الله عنه في البرصاء والجذماء والمجنونة إذا دخل بها فُرق بينهما والصداق لها بمسيسه إياها وهو له على وليها. وفي سنن أبي داود من حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: طلق عبد يزيد أبو ركانة [5] زوجته أم ركانة ونكح امرأة من مزينة، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها، ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية، فذكر الحديث ... ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له: طلِّقْها، ففعل، قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله قال: قد علمت، راجعها، وتلا:] ْيَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ [ (الطلاق: 1) ، ولا علة لهذا الحديث إلا رواية ابن جريج له عن بعض بني أبي رافع وهو مجهول ولكن هو تابعي وابن جريج من الأئمة الثقات العدول، ورواية العدل عن غيره تعديل له ما لم يعلم فيه جرح، ولم يكن الكذب ظاهرًا في التابعين ولا سيما التابعين من أهل المدينة ولا سيما موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا سيما مثل هذه السُّنة التي اشتدت حاجة الناس إليها، لا يظن بابن جريج أنه حملها عن كذاب ولا عن غير ثقة عنده ولم يبين حاله. وجاء التفريق بالعنّة عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود وسمرة بن جندب ومعاوية بن أبي سفيان والحرث بن عبد الله بن أبي ربيعة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم، لكن عمر وابن مسعود والمغيرة - رضي الله عنهم - أجلوه سنة، وعثمان ومعاوية وسمرة - رضي الله عنهم - لم يؤجلوه، والحرث بن عبد الله - رضي الله عنه - أجله عشرة أشهر. وذكر سعيد بن منصور: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الله بن عوف عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث رجلاً على بعض السعاية، فتزوج امرأة وكان عقيمًا، فقال له عمر رضي الله عنه: أعلمتَها أنك عقيم؟ ، قال: لا. قال: فانطلقْ فأعلمْها، ثم خَيِّرْها، وأجَّل مجنونًا سنة، فإن أفاق، وإلا فرق بينه وبين امرأته. فاختلف الفقهاء في ذلك، فقال داود وابن حزم ومَن وافقهما: لا يفسخ النكاح بعيب ألبتة، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يفسخ إلا بالجب والعنة خاصة. وقال الشافعي ومالك يفسخ بالجنون والبرص والجذام والقرن والجب والعنة خاصة. وزاد الإمام أحمد عليهما: أن تكون المرأة فتقاء منخرقة ما بين السبيلين، ولأصحابه في نتن الفرج والفم وانخراق مجرى البول والمني في الفرج والقروح السيالة فيه والبواسير والناصور والاستحاضة واستطلاق البول والنجو والخصي وهو قطع البيضتين والسل وهو سل البيضتين والوجء وهو رضهما وكون أحدهما خنثى مشكلاً، والعيب الذي بصاحبه مثله من العيوب السبعة والعيب الحادث بعد العقد وجهان. وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى رد المرأة بكل عيب ترد به الجارية في البيع، وأكثرهم لا يعرف هذا الوجه ولا مظنته ولا مَن قاله، وممن حكاه أبو عاصم العباداني في كتاب طبقات أصحاب الشافعي، وهذا القول هو القياس أو قول ابن حزم ومَن وافقه. وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية دون ما هو أولى منها أو مساوٍ لها فلا وجه له، فالعمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو إحداهما أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش وهو منافٍ للدين، والإطلاق إنما ينصرف إلى السلامة فهو كالمشروط عرفًا، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمَن تزوج امرأة، وهو لا يولد له: أخبرْها أنك عقيم وخيِّرْها، فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هذا عندها كمال بلا نقص. والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم الله ورسوله مغرورًا قط ولا مغبونًا بما غُرَّ به وغُبِنَ به. ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدله وحكمته وما اشتمل عليه من المصالح لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول، وقُربه من قواعد الشريعة. وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: أيما امرأة تزوجت وبها جنون أو جذام أو برص فدخل بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها وعلى الولي الصداق بما دلس كما غره. وَرَدُّ هذا بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر رضي الله عنه من باب الهذيان البارد المخالف لإجماع أهل الحديث قاطبة، قال الإمام أحمد: إذا لم يقبل سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه فمَن يُقبل؟ ، وأئمة الإسلام جمهورهم يحتجون بقول سعيد بن المسيب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بروايته عن عمر رضي الله عنه؟ وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه يرسل إلى سعيد يسأله عن قضايا عمر رضي الله عنه، فيفتي بها، ولم يطعن أحد قط من أهل عصره - ولا مَن بعده ممن له في الإسلام قول معتبر - في رواية سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه ولا عبرة بغيرهم. وروى الشعبي عن علي كرم الله وجهه: أيما امرأة نُكحت وبها برص أو جنون أو جذام أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها، إن شاء أمسك وإن شاء طلق، وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها. وقال وكيع عن سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنهم قال: إذا تزوجها برصاء أو عمياء فدخل بها فلها الصداق ويرجع به على مَن غره. وهذا يدل على أن عمر رضي الله عنه لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص والحصر دون ما عداها، وكذلك حكم قاضي الإسلام حقًّا، الذي يُضرب المثل بعلمه ودينه وحكمه - شريح رضي الله عنه، قال عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين رضي الله عنه: خاصم رجل إلى شريح، فقال: إن هؤلاء قالوا لي: إنا نزوجك أحسن الناس فجاؤوني بامرأة عمياء، فقال شريح: إن كان دلس لك بعيب لم يجُز. فتأمل هذا القضاء وقوله: إن كان دلس لك بعيب كيف يقتضي أن كل عيب دُلِّسَتْ به المرأة فللزوج الرد به. وقال الزهري رضي الله عنه: يرد النكاح من كل داء عضال. ومَن تأمل فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب إلا رواية رُويت عن عمر رضي الله عنه: لا ترد النساء إلا من العيوب الأربعة الجنون والجذام والبرص والداء في الفرج، وهذه الرواية لا نعلم لها إسنادًا أكثر من أصبغ وابن وهب عن عمر وعلي رضي الله عنهما وقد رُوي عن ابن عباس ذلك بإسناد متصل ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عنه. هذا كله إذا أطلق الزوج، وأما إذا اشترط السلامة أو شرط الجمال فبانت شوهاء، أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزًا شمطاء، أو شرطها بيضاء فبانت سوداء، أو بكرًا فبانت ثيبًا. فله الفسخ في ذلك كله، فإن كان قبل الدخول فلا مهر، وإن كان بعده فلها المهر، وهو غرم على وليها إن كان غرَّه، وإن كانت هي الغارة سقط مهرها أو رجع عليها به إن كانت قبضته. ونص على هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه، وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما (إذا) كان الزوج هو المشترط. وقال أصحابه: إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها إلا في شرط الحرية إذا بان عبدًا فلها الخيار، وفي شرط النسب إذا بان بخلافه وجهان. والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها، بل إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى؛ لأنه لا تتمكن من المفارقة بالطلاق، فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره فلأن يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى، وإذا جاز لها أن تفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة لا تشينه في دينه ولا في عرضه وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به فإذا شرطته شابًّا جميلاً صحيحًا فبان شيخًا مشوهًا أعمى أطرش أخرس أسود، فكيف تلزم به وتمنع من الفسخ؟ هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع وبالله التوفيق. وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن، وهو أشد إعداءً من ذلك البرص اليسير، وكذلك غيره من أنواع الداء العُضَال [6] وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته وحرم على مَن ع

رحلة الحجاز ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز [1] (4) السفر إلى مكة المكرمة في صبيحة يوم السبت سافر ركب المحمل المصري من جدة قبل شروق الشمس، وفي ضحوته سافرت الوالدة والشقيقة ومعهما الصديق الكريم الشيخ خالد النقشبندي والصهر الحميم محمد نجيب أفندي وقد استأجرنا لهم أربعة جِمال بجنيهين، اثنان للركوب واثنان لحمل المتاع (العفش) وأرسلت حكومة جدة معهم جنديين عربيين من جنود الشريف الهجانة للخفارة وزوَّدهم صديقنا ومضيفنا الشيخ محمد نصيف بأنفس الزاد الكافي. وتأخرت عنهم لإتمام ما كنت بدأت به من كتابة نبذة من التفسير للمنار لإرسالها مع البريد من جدة مع كتابة ما لا بد من كتابته إلى مصر. ثم سافرت بعد صلاة العصر من هذا اليوم على حمار استأجرته بمائة قرش عثماني ولم أكد أظفر به لولا مساعدة الأصدقاء؛ لأن المغاربة والمصريين قد سبقوا إلى استئجار جميع حمير البلد أو أكثرها! وسافر معي جنديان من هجانة العرب بأمر الحكومة لأجل التكريم لا الحفظ؛ فإنها واثقة بأمن الطريق، وركب معي الشيخ محمد نصيف والشيخ مساعد اليافي مدير الشرطة في جدة وبعض الأصدقاء مشيعين مودعين ثم عادوا عند غروب الشمس إلى جدة، وقد زودني الصديق المضيف بالزاد النفيس الكافي كما زود الآل والصحب واختار لي شابًّا نشيطًا من أهل جدة للخدمة في الطريق وأخذ الحمار في مكة وأدركنا في الطريق أحد الحجاج المصريين على حمار، فرافقنا. * * * (العناية بأمر الماء في السفر) ولم أهتم لنفسي إلا بملء إبريقي المعدني الذي يحفظ ما يودع فيه من بارد وحار زمنًا طويلاً بقطع الثلج وملء قربة من الماء النقي. ذلك بأني أعنى بأمر الماء ما لا أعنى بأمر الطعام ولا سيما في السفر، ولا يشق عليّ فقْد شيء من طيبات الدنيا التي اعتدتها إلا الماء البارد النقي. وهذا الإبريق من نوع الرَّوَّايات الوارد (أوعية الماء للسفر) الإفرنجية التي يسمون واحدها (ترموس) وأكثر هذا النوع عمودي الشكل، وهو يحفظ ما يودع فيه من بارد وحار يومًا وليلة بالتقريب، وإبريقي الذي ذكرت يخالفها في الشكل والجودة؛ فهو نوع جيد يحفظ الثلج أو الجليد عدة أيام لا يذوب منه إلا القليل، وقد ملأته بالثلج مرة في طرابلس الشام وسافرت قاصدًا مصر، فبِتّ في بيروت ليلتين وفي البحر ليلتين، بعدها لم أحتجْ فيها إليه؛ لأنني أعده لشرب الليل والماء المثلوج متيسر في الباخرة عامة النهار وناشئة الليل. وقد اتفق أن كان منزلي (القمرة) من الدرجة الأولى بجانب مستودع الماء المثلوج للباخرة، وفي ضحوة اليوم الخامس نزلنا في محجر الإسكندرية الصحي فتعاهدت الإبريق فإذا بالثلج فيه لم يذُب إلا بعضه. وقد كان هذا الإبريق هدية من سلطان مسقط السابق السيد فيصل رحمه الله تعالى - ولم أَرَ هذا النوع إلا عنده - أهداه إليَّ عند سفري من مسقط سنة 1330؛ إذ رأى أنني حين كنت في ضيافته لم أسأل عن شيء إلا عن الماء المثلوج. وكان عنده آلة لصنع الثلج، ولكنها كانت معطلة في فصل الشتاء، وكان وصولي إلى مسقط في أول فصل الربيع والشمس في برج الحَمَل (شهر أبريل - نيسان) ، فأمر بإصلاح الآلة واستعمالها قبل الموعد المعتاد عندهم لأجلي. ووضع عندي في دار الضيافة إبريقًا من هذا النوع الذي نتكلم عنه ليتيسر وجود الثلج عندي في كل ساعة من الليل والنهار، ولما سافرت وجدت مع متاعي في الباخرة إبريقًا آخر منه جديدًا لم يُستعمل من قبل، فاستفدت منه في سفري ذاك، وكان أكبر نفعه في السفر من البصرة إلى بغداد في شط العرب ودجلة؛ إذ قلّ الثلج في الباخرة بين العمارة وبغداد، ثم نفد، ثم في السفر من بغداد إلى حلب ولا يوجد الثلج بينهما إلا في مدينة دير الزور وهي بين العراق وسورية، وكان شأننا في تدبير ماء الشرب في ذلك الطريق - التي قطعناه في 18 ليلة في مركبات (عربات) سفرية تسير على ضفاف الفرات لا تبعد عنه في بعض الأحيان إلا قليلاً- أننا كنا كلما نزلنا منزلاً في المساء نبادر إلى تقطير الماء في قدور من الفخار، ثم نبرده بهواء الليل الجاف البارد في أكواز (قلل) الماء البغدادية وفي قلة معدنية مغشَّاة بقِماش يبلل بالماء، فيبرد المعدن بضرب الهواء له، ويبرد الماء ببرده - وهذه القلة أهداها إليّ الطبيب النطاسي محمد عبد الولي في مدينة لكنهو بالهند - وكنت قبل الإدلاج في آخر الليل أملأ الإبريق المعهود من هذا الماء وترمسًا آخر عموديًّا من النوع المعروف لكثرته في هذه البلاد، كان أهداه إليَّ صديقي السيد يوسف الزواوي أكبر سروات مسقط بعد بيت السلطان فيها، فكنت أشرب في بكرة النهار من هذا وأدخر ذاك إلى العشي؛ لأنه أحفظ، والتغير فيه أبطأ. وقد انكسر العمودي معي في حماه، ولا أسف عليه؛ لأن مثله كثير، إلا أنه أثر من صديق، ثم انكسر الأول في مصر فآلمني كسره لطرافته وفائدته ولكونه أثرًا من ذلك السلطان الكريم - سقى الله لحده - ولكن نجله البر الوفي صديقي السيد نادر قائد الجيش الأول لسلطنة مسقط أهداه إليّ إبريقًا آخر عوضًا عنه، وهو الذي كان معي في الحجاز وكان ما حملت فيه من الثلج كافيًا لي بين جدة ومكة، إلا أن ماء قربة الجلد تغير في الطريق؛ لأنها كانت بعيدة العهد بالاستعمال. وسبب حفظ الترمس لما يودع فيه مدة طويلة هو أنه مؤلف من إناءين، أحدهما وهو الظاهر معدني وثانيهما زجاجي، باطنه كالمرآة وظاهره مُغشّى بمادة من المواد البطيئة التوصيل للحرارة والبرودة، ويوضع الزجاجي في باطن المعدني منفصلاً عنه، ويكون الاتصال بينهما من أعلى الفوهة ولهذه الفوهة صمام (سداد) من الفلين على رأسه قطعة من معدنه الأبيض ويكون فوقها غطاؤه المعدني المتصل به، فإذا رفع الصمام قليلاً أمكن صب الماء من بلبل الإبريق. أطلت في مسألة الماء ليستفيد مما كتبت مَن يعنون بأمر صحتهم ورفاهيتهم في السفر. والعناية بأمر الماء محمودة، بل ضرورية، فالماء الرديء يكون سببًا لأمراض كثيرة؛ إذ الماء يحمل من جراثيم الأمراض والأوبئة ما لا يحمل غيره، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل ما وجد ولا يذم طعامًا ولكنه لم يكن يشرب من كل ماء يوجد، بل كان يستعذب له الماء من آبار السقيا وهي على مسافة يوم من المدينة أو أكثر، وكان أحب الشراب إليه العذب البارد. والماء الذي يوجد بين جدة ومكة في القهاوي - أي الأكواخ التي يأوي إليها المسافرون للاستراحة وشرب القهوة والشاي - كله قذر، فلا أصله جيد ولا أوانيه نظيفة، وماء بحرة - التي ينزل فيها جميع الحجاج للاستراحة - رديء غير عذب. ويقال إن بالقرب منها بئرًا لا بأس بمائها، ولكن لا يسهل إلا على الأقلين الوصول إلى شيء منها. فمن الضروري للمسافر الذي يُعنَى بصحته أن يحمل ما يكفيه من الماء بين جدة ومكة في سفره من كل منهما إلى الأخرى، وللشقادف قلل من الفخار يربطونها في مؤخرتها، فيكون ماؤها مقبولاً ولا سيما في الليل. * * * (القهوات في طريق مكة والدكرور) نزلنا بعد المغرب في أول قهوة من القهوات التي أشرنا إليها آنفًا، فأذنت وصليت المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا، وصلى معي الرفاق، وشربت الماء المثلوج وشرب الرفاق القهوة وبعد أن استرحنا قليلاً أعطيت صاحب القهوة عنهم أضعاف المعتاد، فدعا لنا، وركبنا حُمُرنا وركب الجنديان هجانهما، وسرينا لا نرى من الحجاج في الطريق إلا سودان الدكرور مشاة على أرجلهم رجالاً ونساءً وأطفالاً، يحمل الرجال حرابهم والنساء أطفالهن على ظهورهن وما لديهن من المتاع والزاد على رءوسهن، وكنا نرى بعضهم نيامًا على جانبي الطريق، فهم ينامون إذا تعبوا، فإذا استيقظوا في أي ساعة في ليل أو نهار مشوا، لا يخافون اللصوص ولا قُطاع الطريق، وقد قيل لنا: إنه لا يتعرض لهم أحد بسوء؛ لأنه لا يكاد يوجد معهم شيء له قيمة ينتفع به اللصوص من الأعراب هنالك؛ فأكثرهم عراة لا يملكون من اللباس ما يزيد على ستر العورة ولباس جميع رجالهم ونسائهم الأبيض وهم مع ذلك يدافعون عن أنفسهم دفاع الأبطال بحرابهم السودانية، فلا يُستهان بهم مع كثرتهم؛ فإنهم منتشرون طول الطريق، لا تبعد ثلة منهم عن أخرى إلا قليلاً، واللصوص قلما يكونون كثيرين إلا إذا كانوا يقصدون سلب القوافل الكبيرة. * * * (أمن الطريق وحادثة اعتداء) وقد كان الطريق في هذا الموسم آمنًا مطمئنًّا، لم يبلغنا أنه وقع فيه اعتداء على أحد إلا ما حدث بالقرب منا، فإننا سمعنا قبل انتهاء الثلث الأول من الليل صوت طلق رَصاص استفز الحارسين اللذين معنا، فسألتهما: ما هذا؟ قالا: قوم. وهم يعنون بكلمة القوم اللصوص وقطاع الطريق، وأشارا علينا بأن نسرع في السير ما استطعنا، ونقصد قهوة كنا نرى ضوءها فننزل فيها، وتركانا مسرعين بهجانهما إلى الجهة التي سمع منها صوت الرصاص، وطفقنا نحن نلكز حمرنا مسرعين بها إلى تلك القهوة، فبلغناها بعد جهد وعناء فاسترحنا فيها ساعة، وشرب رفيقاي الجندي والمصري الذي ألفَيْناه في الطريق الشاي، ورأينا هناك أناسًا من الفقراء يطلبون من القهوة طعامًا. ثم جاء الجنديان مع رجل آخر، فأخبرا أن القوم - قطاع الطريق - الذين سمعنا صوت رصاصهم قد شرّدوا بعيرين للرجل الذي عاد معهما ولرفيق له، وكانا عائدين من جدة بعد بيع ما كانا حملاه إليها، وأن خفراء الطريق ما زالوا يقتفون أثرهم، وقال الرجل: إنه لم يَرَ هو ورفيقه إلا لصًّا واحدًا، ولكنه مسلح وهما أعزلان. * * * (النزول ببحرة) وبعد استراحة الجنديين وشربهما الشاي أكرمت صاحب القهوة واستأنفنا السرى، فبلغنا (بحرة) في منتصف الليل تقريبًا ورأينا أنوار ركب المحمل المصري بالقرب من الخصاص التي يأوي إليها الحجاج وغيرهم من المسافرين، والخصاص جمع خص، وهي البيوت من عيدان الأشجار أو القصب أو غيره من النبات وهي هنالك كثيرة تسع الألوف الكثيرة من الناس، وعلى جانبي الطريق سوق منها، فيه الحوانيت والقهوات وإن شئت قلت: الخانات أو الفنادق لإيواء المسافرين، فيجد المسافرون فيها الماء والخبز واللحم والبيض وأنواعًا أخرى من الأغذية وقهوة البن والشاي، والموسرون من المسافرين قلما يحتاجون إلى شيء منها؛ لأنهم يحملون زادهم من جدة أو مكة لعلمهم بأن ما يوجد هنالك غير نظيف ولا جيد. والخصاص التي وراء هذه السوق التي في الطريق العام عبارة عن دور يتألف كل منها من عدة بيوت، يمكن أن يجعل بعضها للنساء وبعضها للرجال ولها مراحيض وراء المساكن. وقد نزلنا في قهوة كبيرة كنا أُوصِينا بالنزول فيها، فاسترحنا فيها ساعتين كاملتين وكنا قد جُعنا فأكلنا مما نحمل من لحوم الضأن والدجاج والسمك والخضر والحلوى والفاكهة وشربت الماء المثلوج وحمدت الله تعالى حمدًا كثيرًا. وأحببت أن أعرف أين نزل جماعتنا فتعذر عليّ ذلك. * * * (السُّرَى من بحرة ومسألة أمن الطريق) ولما أردنا استئناف السرى استأذنني الجنديان في البقاء ببحرة؛ لأنهما يريدان العودة صباحًا إلى جدة، وجاءاني بجنديين عربيين من المشاة، فقالا: هذان من جنود سيدنا الموكلين بحراسة الطريق وهما يقومان مقامنا، فسرينا ومشيا أمامنا، يحمل كل منهما بندقية من الماوزر على كتفه شادًّا مِنطقة من رصاصها المنضود في وسطه، وهو حافي القدمين، ليس عليه إلا قميص قصير، فسألت أحدهما عن أمن الطريق، فقال: إن الأمن تام ولا خوف عليكم في الطريق، قلت: أرأيت إذا هجم علينا قوم كثيرون فماذا ت

اقتراح عظيم في الإصلاح الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اقتراح عظيم في الإصلاح الإسلامي يود بعض الموسرين من المستمسكين بعروة الكتاب والسنة لو يعرفون أمثالهم من الفقراء والمساكين المتجنبين للمعاصي والبدع، المحافظين على الفرائض والسنن؛ ليؤدوا إليهم ما يجب من زكاة المال وزكاة الفطر وغيرهما من الصدقات؛ إذ لا تطيب أنفسهم لصرفها إلى فاسق ولا مبتدع ولا مجهول الحال؛ لما يعلمون من فشوّ البدع والضلال، وكثرة المعاصي والنفاق، دعْ المجاهرة بالكفر والإلحاد، فالصدقات المفروضة التي يُتقرَّب بها إلى الله تعالى لإقامة دينه، يتحرى صرفها إلى من ينفقها في طاعته، أو فيما أباحه لعباده من الطيبات، لا في المعاصي والمحرمات، ولا في البدع والخرافات، فإذا كانت صدقة التطوع يجوز بذلها لكل مؤمن وكافر - من ذمي أو مستأمن أو معاهد - فصدقة الفرض ليست كذلك؛ لذلك اقترح علينا بعض هؤلاء الموسرين أن نحصي مَن نعرف، ومن يتيسر لنا أن نعرفهم من المؤمنين المذعنين المعتصمين، من فريق الموسرين وفريق المستحقين للزكاة من الفقراء والمساكين، والمؤلفة قلوبهم والغارمين، ومن يلم بإدارة المنار من أبناء السبيل، وأن نكون واسطة التعارف والتعاون بين الفريقين؛ لأن وقوف كل فرد من الموسرين على هؤلاء المستحقين متعذر، وأن منهم من تعدد تأخيرهم الزكاة عن وقتها زمنًا طويلاً أو قصيرًا لأجل ذلك. ولعمري إن هذا اقتراح جليل، ولكن القيام به على حقه عسير غير يسير، وإذا علم الناس أن بعض الناس يعطون صدقاتهم لمجتنب كبائر المعاصي والبدع والمحافظين على الفرائض والسنن - يكثر المدّعون لذلك وحاملو الشهادات من العلماء والوجهاء على صحة دعواهم، وأخذ الشهادات على هذا سهل على أكثر الناس في هذا العصر، فإن كثيرًا من محبي الصدق يستحلون أن يشهدوا لمن يدعي مثل هذه الدعوى إذا كانوا لم يروا منه ما يصدقها ولا ما يكذبها، وأما غيرهم فلا يتحامى شهادة الزور وقول الباطل في ذلك، ومنهم من يرى أنه يتقرب به إلى الله تعالى بمساعدة الفقير على تحصيل قوته. وإننا على ما نعلم من العسر في ذلك سننظر فيه ونجتهد في القيام به بقدر الطاقة، ونرجو من إخواننا الصادقين إعانتنا على ذلك.

السنة الرابعة للحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السنة الرابعة للحرب دخلت الحرب في السنة الرابعة من عمرها، فشاب لأهوالها الوِلدان، وهي لم تزدد إلا شبابًا! وخمدت بها نار حياة الأمم، ولم تزدد نيرانها إلا شبوبًا، وكان أهم أحداث عامها الثالث في الميادين الشرقية ثورة الروس على حكومتهم القيصرية، وإسقاط القيصر نقولا عن عرشه، واعتقاله مع زوجه وولده، ثم نفيهم إلى سيبرية؛ حيث كانت حكومته المستبدة تنفي الألوف من أحرار السياسيين، والعلماء والكتاب النابغين! وأكبر العبر في هذا الانقلاب العظيم أن طلاب حكومة الشعب الشورية من الروس عجزوا عن جمع كلمة أحزابهم على شكل آخر لحكومتهم، فانشقت العصا، وتفرقت الشيع، وتعددت الثورات والفتن الداخلية حتى في الجند، وقد كانت الحكومة الجديدة المؤقتة أمسكت عن الحرب عقب الثورة، وأمسك عنها أعداؤها، حتى ظن أن هنالك هدنة، ثم هجمت في هذا الصيف على النمسة، فشدد الألمان الهجوم عليها، واستولوا على كثير من ولاياتها، وأعظم ما استولوا عليه قيمة عندهم (ريغا) . يلي هذا ما حدث قبله من دخول دولة رومانية في الحرب واستيلاء الجرمان على عاصمتها، وقسم كبير من بلادها وخروج الملك والحكومة منها، وإقامتهم في روسية، ويليه استيلاء الإنكليز في الربيع الماضي على مدينة بغداد عاصمة المدنية العربية في الشرق، وتهنئة الملوك ورؤساء حكومات الأحلاف لملكهم بهذا الظفر. وأما الميدان الغربي الأعظم فأهم أحداثه أن الإنكليز والفرنسيس ما زالوا يكاثرون الألمان في المدافع والذخيرة وغيرهما، حتى كثروهم فيها كما كثروهم في عدد الجيوش، وأن الألمان قد جلوا عن قسم عظيم من أرض فرنسة وامتنعوا وراءه في خط أقصر من الخط الأول سموه خط هندنبرج نسبة إلى قائدهم العام، وقد استولى الحلفاء على ذلك القسم، بعد أن صار معظمه خرابًا يبابًا كما توقعنا من قبل، وحاربوا الألمان عند انسحابهم منه حربًا عوانًا، ربحوا فيها كثيرًا من الأسرى والمدافع، ولا تزال الحرب في هذا الميدان سجالاً.

تاريخ هذا الجزء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ هذا الجزء صدر الجزء الأول من هذ المجلد في شوال؛ فوجب أن يكون الثاني جزءَ ذي القعدة، وكان جَعْل تاريخه سلخ شوال خطأً.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حكمة تحريم الدم المسفوح (س8) من صاحب الإمضاء بمصر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا ما قولكم دام فضلكم في الدم المنصوص على تحريمه في القرآن الشريف مقيدًا بالمسفوح مرة، وغير مقيد مرارًا، وما الحكمة في تحريمه؟ أفيدونا الجواب ولكم الثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... طبيب جمعية الرفق بالحيوان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن ذهني (ج) الدم المسفوح هو الذي حرم الله شربه وأكله، وهو الذي يراق من الحيوان بذبح أو جرح أو غيرهما، وتقييده بالمسفوح هو الذي نزل أولاً في سورة الأنعام، وما نزل بعده مطلقًا فهو محمول على ذلك المقيد بقيده. واحترز بالقيد عن الجامد كالطحال، وعما يخالط اللحم من المائع القليل فإنه لا يسفح. وقد بينا في تفسير آية محرمات الطعام من سورة المائدة أن حكمة تحريمه أمران: أحدهما: أنه خبث تستقذره الطباع السليمة، فوجب التنزه عن جعْله غذاءً للمؤمنين الطيبين الذين لا يليق بهم إلا الطيبات. وثانيهما: أنه ضار؛ لأنه عسر الهضم، ويشتمل على كثير من الفضلات العفنة، وكثيرًا ما يشتمل على جراثيم الأمراض والأدواء الخطرة. فإن سهل على بعض البارعين في العلوم الطبية معرفة مثل هذا واتقاء ضرره فهو لا يسهل على جميع البشر من البدو والحضر المخاطَبين بهذا الدين العام. وتتمة الكلام على ذلك في (ص 134 و 135 من جزء التفسير السادس) . * * * الكتابة وطريق تحصيلها ومكان القرآن والحديث منها (س9) من صاحب الإمضاء بمصر أستاذي الفاضل الشيخ رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله؛ وبعد؛ فإنا نعلم مكانتكم من العلم في هذا البلد؛ لذلك نرجو الإجابة على ما يأتي: إن فن الكتابة والتحرير الذي أحياه فينا الأستاذ الإمام ما زال يتصعد درجات الكمال، حتى إنه ليخيل للناظر في كتابات هذا العصر أنه بين أولئكم الأعراب البائدين أو العباسيين المتحضرين حسب اختلاف درجات الكتّاب. وقد توافقت آراء الكاتبين على أن أقوم طريق إلى الكتابة النظر في كلام العرب وحفظ الجيد منه والنسج على منواله. وإنا نجد أحسن كلام في جزالة الألفاظ ومتانة الأسلوب وعلو المعنى كتاب الله تعالى وحديث رسوله، وإنا نحفظ الكتاب وكثيرًا من السنة، ومع ذلك أرانا لا نجيد شيئًا من الكتابة، بل لم نصل فيها إلى الدرجة الوسطى من ذلك. وقد بلغنا أن بعض النصارى كان يحفظ القرآن لهذا الغرض، وينتفع به، فبأي عين نظر إليه ذلك النصراني حتى انتفع به وما بالنا ضللنا هذا الطريق في حين أننا أولى به؟ ! وكم من رجل ما حفظ شيئًا من القرآن ولا عرف شيئًا من السنة غير أنه زاول كثيرًا من اللغة العربية هو قليل بالنسبة لكتاب الله وسنة رسوله، وبهذا طال باعه فيها، وذهب فيها مذاهب آبائها الأولين. فاللهم هيئ لنا ما يرشدنا إلى الصواب. وإنا نرجو الاهتداء بهديك والاستنارة بمنارك إن شاء الله، فأجبنا عن ذلك، وما السبب فيه على صفحات المجلة لفائدة القراء، ولكم الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد عليوة (ج) كان الناس في أول العهد بالنهضة العلمية والأدبية التي جددها الإسلام للعرب يطلبون اللغة العربية من أهلها بالتلقي والمشافهة، ولما سرت العُجمة إلى الأمصار العربية بكثرة مخالطة العرب للعجم فيها - صار أبناء العرب ومواليهم من العجم يرحلون إلى الأعراب في البوادي، فيقيمون عندهم زمنًا طويلاً يتلقون عنهم العربية الخالصة من شوائب العجمة، ويحفظون أشعارهم ويروونها، كما يحفظون ويروون الكتاب والسنة، فيتلقاها عنهم طلاب العلم والآداب في الأمصار، بالرواية والدراية والاستظهار، ولما استنبطوا منها الفنون لأجل ضبطها وفهمها، وبيان أسرارها وفلسفتها - وصاروا يتدارسون هذه الفنون في المساجد والدُّور والقصور، مع تطبيق قواعدها على الشواهد من الكتاب العزيز والسنة، وأقوال العرب وأشعارهم المحفوظة، فيجمعون بين مَلَكَة اللغة وذوقها، وبين فنونها وفلسفتها، ومنهم من كان يضم إلى ذلك العلوم الشرعية والعلوم العقلية والكونية، ولا يَحُول رسوخ ملكاتهم في العلوم والفنون دون رسوخ ملكة اللغة في منثور ولا منظوم، وقد انسلخ القرن الخامس للهجرة والعلماء البلغاء كثيرون، حتى إذا ما تغير منهج التعليم، وأسلوب التأليف، وقل الحفظ والحفاظ، وكثر الاختصار في الكتب وما اقتضاه من البحث في الألفاظ - ضعفت ملكة اللسان، وسقطت مكانة البيان، وصار جهابذة علماء الشرع واللغة، والمصنفون في فنون الفصاحة والبلاغة - لا يستطيعون التفلت من عقل اصطلاحات علومهم وفنونهم البعيدة عن الأسلوب العربي، إلا إلى أسجاع متكلفة أو عجمة أو عجرفة، ومَن شاء قايس بين عبارة الزمخشري في الكشاف وعبارة الفخر الرازي في التفسير الكبير، وبين عبارة عبد القاهر في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز، وعبارة السعد التفتازاني في المطول والمختصر، فإذا كانت عبارة العلامة التفتازاني في دقتها وتحريرها نائية عن براعة عبارة الإمام الجرجاني في فصاحتها ورشاقة أسلوبها، وإذا كانت عبارة الإمام الرازي - على بسطها وإيضاحها - تكاد تعد ركاكة عامية في جنب عبارة العلامة الزمخشري في متانتها وعلو أسلوبها، فما القول في المتأخرين الذين يعدون منتهى العلم الاستعداد لفهم كلام مثل الرازي والتفتازاني، بل القدرة على المناقشة فيه، وإيراد الاحتمالات والأجوبة في معانيه؟ ! أتى على الأمة العربية بضعة قرون وهي في تدلٍّ وضعف في اللغة، لا يمضي عليهم قرن ولا عام إلا والذي بعده شر منه، وما سببه إلا تنكُّب سبيل الأولين في حفظ الكثير من الكلام العربي الحر الفصيح وفهمه، ومعارضة أسلوبه في نثره ونظمه، فكان إذا اتفق لأحد منهم ذلك بإلهام الفطرة، أو إرشاد أحد من بقية أهل المعرفة، فصار كاتبًا بليغًا، أو خطيبًا مفوهًا، أو شاعرًا مجيدًا - أحال الباحثون ذلك على ندور في الاستعداد، يكاد ينتظم في سلك خوارق العادات، حتى إن ذلك النابغ نفسه يظل غافلاً عن السبب، دعْ مَن كان بعيدًا عنه أو كان منه على كثب. بلغ الجهل من أكثر أهل هذه القرون بهذه المسألة كل هذا ولم تكشفه عنهم سيرة سلفهم، ولا ما يؤثر من العلم وطريقة التعليم عنهم، ولا ما شرحه الحكيم عبد الرحمن بن خلدون في القرن الثامن في ذلك وفي هذه المسألة بخصوصها عند الكلام على اللغة العربية وفنونها وآدابها، وتحصيل ملكة البيان فيها، فقد وَفَّاهَا حقها في اثني عشر فصلاً من مقدمته المشهورة وهي الفصل السابع والثلاثون وما بعده إلى الخمسين، ذلك بأنه كتب ما كتب والأمة في طور يقل فيها من يقرأ مقدمته، فيفقه ويعتبر، ولم يكن كل من يفقه بالذي يقدر على تلافي الخطْب، والسير بالأمة في الطريق القصد، وقد استبد بأمر الأمة الأعاجم الجاهلون، وقل العلماء المستقلون وساد المقلدون. أما هذه النهضة الأخيرة فقد كان حكيمنا السيد جمال الدين مقتدح زنادها، وشيخنا الأستاذ الإمام قائد جيادها، ولكن السائل بالغ في إطراء المعاصرين من كتابها، فنظمهم في سلك الأولين، من الفحول المقرمين، وما هم إلا عيال على بعض المولدين، على قلة ما يحفظون من المفردات، وكثرة ما يخطئون في المركبات. وأما سؤاله عمن حفظ القرآن من النصارى استعانة به على تحصيل ملكة البلاغة - وهم ثلة من المتقدمين، وأفراد من المتأخرين - بأي عين نظروا إليه وكيف صار بعضهم بليغًا دون كثير ممن حفظه من المسلمين وأضاف إليه شيئًا من الأحاديث؟ ، فجوابه أنهم نظروا إليه بعين طالب الفصاحة والبلاغة، لا بعين طالب الدين والهداية، والأمور بمقاصدها، وإنما يستفيد كل امرئ من كل شيء مفيد بقدر ما تتوجه إليه إرادته من فوائده، وتحصيل ملكة البيان في العربية لا تتوقف على حفظ القرآن الكريم، ولكن حفظه يكون مزيد كمال فيها لمَن حفظه وقصد منه ذلك؛ لأنه أبلغ الكلام العربي وأعلاه أسلوبًا، وإن كان أسلوبه معجزًا لا يمكن أن يُحتذَى مثاله، ومن حفظه لا يقصد ذلك منه لا يستفيد شيئًا من بلاغته، كما أنه إذا لم يقصد الاهتداء به لا يستفيد من هدايته، ومن هنا تعلم أن حفظه وحده لا يكفي في تحصيل ملكة البيان في اللغة العربية، بل يتوقف ذلك على ممارسة الكثير من كلام بلغاء العرب في العهدين الجاهلي والإسلامي أو العهد الثاني فقط، وإن هذه الممارسة هي الأصل في تحصيل ملكة البيان؛ لأنها هي التي تُحتذَى وقدر القرآن الكريم أو ضعفه لا يكفي خلافًا لما تُظهره عبارة السائل وما قيل في القرآن يقال مثله في الأحاديث النبوية وإن كان أسلوبها غير معجز؛ وذلك أن المحفوظ منها قليل، وأكثرها جمل مختصرة، فلا تنطبع في نفس حافظها ملكة التصرف في جميع الأغراض والمعاني. ومن لم يقصد استفادة البلاغة منهما لم يستفد منها شيئًا. وإن من حفاظ القرآن عندنا مَن لا قصد لهم من حفظه إلا تجويد ألفاظه وتوقيع آياته على الأنغام الموسيقية؛ ليُعجبوا أو يُطربوا مَن يستأجرونهم لقراءته في المآتم أو ليالي رمضان، ومن الناس من لا ينظر فيه إلا بقصد البحث عن آية يمكن التشكيك فيها، بحملها على غير ما أريد منها، ولا يعجزه أن يجد ذلك، وقد ذم بعض الشعراء وجهًا أبيض أزهر فشبَّهه برئة الحيوان، وذم ابن الرومي الورد فشبّهه بما ننزه عنه هذا الكلام. (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) .

رحلة الحجاز ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز (5) مقامنا بمكة قبل الحج تقدم أنني دخلت مكة ضحوة يوم الأحد (وهو الثالث من أيام ذي الحجة بحسب تقاويم مصر وهو ما ثبت لدى حكومة مكة بعد وكانوا يعدونه الرابع في تقاويمها) وإنني كنت متمتعًا بالعمرة إلى الحج، وإنني لم أتجاوز يوم الأحد دار السيد الزواوي التي جئتها بعد الطواف والسعي إلا مساءً؛ إذ جئت المنزل الذي أُعد لي من قِبَل الأمير - أحسن الله كرامته - وإنني لم أخرج منه إلا ليلاً بعد وصول السيدة الوالدة والرفاق إلى قصر الأمير للتشريف بزيارته. ولقيت في القصر نجله النجيب صديقي الشريف عبد الله، وليس في مكة من أنجاله النجباء سواه؛ إذ كان قد وجَّه الأمراء الثلاثة عليًّا وفيصلاً وزيدًا إلى فتح المدينة المنورة والأمير عبد الله إلى فتح الطائف، وتقدم أن فتح الطائف قد تم على يديه قبيل قدومنا، وأنه دخل مكة منصرفًا عنها في وقت دخولنا. وفي اليوم الثاني - وهو يوم الاثنين رابع ذي الحجة - علم الناس بوصولي إلى مكة مع الحجاج المصريين، وذكرته جريدة القبلة في عددها الخامس عشر الذي صدر فيه، فأقبل الكثيرون من الشرفاء والعلماء والوجهاء بزيارتنا وفي مقدمتهم الأمير الشريف عبد الله وبعض مَن يشار إليهم بعد، وبقينا إلى يوم التروية - وهو يوم الجمعة ثامن ذي الحجة - لا عمل لنا إلا عبادة الله تعالى، وأخصها التطوف ببيته، وإلا لقاء الناس في الدار وفي الحرم والاستفادة من مذاكراتهم. وقد كنت مدة إقامتي بمكة ضعيف البدن بنزف دم كان قد عرض لي، لم يسبق لي مثله، فكنت لا أستطيع الطواف إلا في وقت الأصيل ووقت السحر، وثقل عليَّ الحر، على أنه لم يكد يتجاوز الدرجة 35 من ميزان سنتكراد إلا قليلاً، ولم أكن أجد راحة في جسمي إلا حيث كانت راحة روحي، وما ذاك إلا في الحرم الشريف. ولا يوجد في بطن مكة مكان كالحرم يتخلله الهواء لسعته وكثرة الفجاج الموصلة إليه من الجهات الأربع، ولولا أن وصفه مبين بالتفصيل - في كتب المتقدمين والمتأخرين من المؤرخين والرحالين - لوصفته في هذه الرحلة الوجيزة. وكنت أصلي الفجر كل يوم بجانب مقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام، وأصلي المغرب والعشاء في الجانب الشرقي من الحرم مع صديقنا الشريف أبي نمي الذي يعشق فضله وأخلاقه كثير من فضلاء المصريين؛ إذ عرفوه بإقامته في القاهرة عدة سنين، وكانت داره في مصر بجوار دارنا من شارع درب الجماميز، واتفق أن زاويته في جدار الحرم الشريف بالقرب من باب إبراهيم - وكذا داره - فهي بجوار المنزل الذي أُنزلنا فيه كما علم مما تقدم. وكان خدمه يفرشون له في كل أصيل سجادة أو سجادتين تجاه زاويته، حيث يصلي مع بعض أصحابه، وكنت أنا والسيد الزواوي منهم، وكنا نجيئه في الأصيل، ونخرج بعد صلاة العشاء. لم أجد قوة على رد كل مَن زارني ولم أتمكن من إحصائهم، فنويت أن أرجئ النظر في ذلك إلى ما بعد الانتهاء من أعمال النسك، ولكنني زرت فوزي بك البكري من سروات دمشق الشام في داره وعبد العزيز بك المصري في منزله وكلاً من الشيخ كامل قصاب أحد علماء الشام ومحب الدين أفندي الخطيب وفؤاد أفندي الخطيب في إدارة جريدة القبلة، وكلهم يعملون فيها، وكثر التلاقي بيني وبين هؤلاء، والحديث معهم في الشؤون السياسية الحاضرة، ونعرف أخبار الحجاز منهم. ولم أدخل دار أحد من المكيين زائرًا إلا زاوية الشريف أبي نمي ودار الشيخ محمد صالح الشيبي فاتح بيت الله الحرام (ورئيس مجلس الشيوخ في الحكومة الجديدة كما يأتي) ، ثم لم يتيسر لي بعد الحج زيارة أحد ممن زارني، كما يعلم مما يأتي إلا نائب الشرع الشريف الشيخ يونس أفندي، فإنني زُرته في المحكمة الشرعية، وكنت عرفته مجاورًا في رواق الشوام بالأزهر، إذ كان يحضر دروس الأستاذ الإمام، وزرت الشيخ عبد الملك الخطيب من أدباء مكة قبل السفر منها بيوم واحد. وكنت أود أن أزور الشيخ عبد الله سراج قاضي القضاة ووكيل رئيس النظار في الحكومة الجديدة، وأخلو به في داره ساعة للمذاكرة في الشئون الحجازية، فلم أجد فرصة لذلك، وكان قد تفضَّل بزيارتي في دار الضيافة الهاشمية، وأثنى لي على تفسير المنار، وطلب مني جميع ما طُبع منه. وقد رأيت أنه في أقرب منزلة من ثقة الأمير، وقلما جئت قصر الإمارة إلا ورأيته معه، أو منتظرًا لقاءه. وأما الشيخ الشيبي فهو كبير بني شيبة حَجَبَة الكعبة المعظمة، ووارثي مفتاحها في الجاهلية والإسلام، وبيتهم من أكبر بيوت قريش بعد بيوتات الهاشميين عامة والعلويين منهم خاصة، وهم يُنسبون إلى شيبة بن عثمان بن أبي طلحة، وهو ابن عم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة الصحابي الذي فتح باب الكعبة للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ودخلها معه كما في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة والسير والتاريخ. وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر قال: (أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح على ناقة لأسامة بن زيد حتى أناخ بفناء الكعبة، ثم دعا عثمان بن طلحة، فقال: (ائتني بالمفتاح) ، فذهب إلى أمه، فأبت أن تعطيه، فقال: والله لتعطينَّه، أو ليخرجنَّ هذا السيف من صلبي (يعني أنه يقتل نفسه بطعن بطنه به، حتى ينفد من ظهره) ، قال: فأعطته إياه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فدفعه إليه، ففتح الباب. وظاهر هذه الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فتح الباب، وورد التصريح بذلك في رواية عنه أيضًا، سندها ضعيف في تاريخ مكة للفاكهي قال: (أي ابن عمر) كان بنو أبي طلحة يزعمون أنه لا يستطيع أحد فتح الكعبة غيرهم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح، ففتحها بيده. ولكن روى عنه البخاري من طريق فليح أنه قال: وقال لعثمان: (ائتنا بالمفتاح) ، فجاءه بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل. وفي هذه الرواية أيضًا أنه كان مردفًا لأسامة على القصواء، وهي ناقته صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى للبخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد الحديث. وقال الحافظ في الفتح: روى عبد الرزاق والطبراني من جهته من مرسل الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان يوم الفتح: (ائتني بمفتاح الكعبة) فأبطأ عليه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره، حتى إنه ليتحدَّر منه مثل الجمان من العرق، ويقول: (ما يحبسه؟ !) فسعى إليه رجل وجعلت المرأة التي عندها المفتاح وهي أم عثمان واسمها سلافة بنت سعيد تقول: إن أخذه منكم لا يعطيكموه أبدًا، فلم يزل بها، حتى أعطت المفتاح، فجاء به، ففتح، ثم دخل البيت، ثم خرج منه، فجلس عند السقاية. فقال علي: (إِنَّا - يعني بني هاشم - أُعطينا النبوة والسقاية والحجابة، ما قوم بأعظم نصيبًا منا) . فكره النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، ثم دعا عثمان بن طلحة، فدفع المفتاح إليه. ثم قال الحافظ: وروى ابن عائذ من مرسل عبد الرحمن بن سابط (وهو ثقة) أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع مفتاح الكعبة إلى عثمان، فقال: (خذها خالدة مخلدة، إني لم أدفعها إليكم، ولكن الله دفعها إليكم، لا ينزعها منكم إلا ظالم) ، ومن طريق ابن جريج أن عليًّا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اجمع لنا الحجابة والسقاية، فنزلت {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) ، فدعا عثمان، فقال: خذوها يا بني شيبة خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، ومن طريق علي بن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني شيبة كلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف) . اهـ. والظاهر أن ذكر بني شيبة ههنا غلط من النُّسَّاخ، صوابه: يا بني أبي طلحة؛ فإن عثمان بن طلحة هذا هو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة كما تقدم، وكانوا كلهم يدعون بني أبي طلحة نسبة إلى جدهم أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي. وقد ذكر الحافظ في ترجمة كل من عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة بن عثمان من (تهذيب التهذيب) من عبارة الأصل عن مصعب الزبيري أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع المفتاح إليهما معًا، وقال: (خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة، لا يأخذها منكم إلا ظالم) وذكر عن ابن سعد عن هوذة بن خليفة عن عوف عن رجل من أهل المدينة: دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح شيبة بن عثمان، فأعطاه المفتاح، وقال: (دونك هذا، فأنت أمين الله على بيته) وذكر الحافظ هذين الحديثين في ترجمة شيبة من الإصابة أيضًا، ثم قال: وذكر الواقدي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها يوم الفتح لعثمان، وأن عثمان ولي الحجابة إلى أن مات، فوليها شيبة، واستمرت في ولده. اهـ. وهذا هو الصواب، وقد استمرت في ولده إلى اليوم، وبهذا حفظ نسبهم، وعظم حسبهم، وقد نزعها منهم بعض أمراء مكة، ثم عادت إليهم كما يؤخذ من بعض كتب التاريخ. أقول: ولأهل هذا البيت أن يفخروا على جميع الناس بهذه الوظيفة القديمة الثابتة من قبل الإسلام، التي أقرها الله تعالى ورسوله لهم في محكم القرآن، وبأن إقرارها لهم كان سبب نزول الآية العظيمة التي هي قاعدة أصول الأحكام، عليها مدار إصلاح الأنام، وهي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) كما تقدم آنفًا. وذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور من تخريج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج، بمعنى ما تقدم، وفيه أنه قال: وقال عمر بن الخطاب: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية -فداؤه أبي وأمي - ما سمعته يتلوها قبل ذلك. وذكر هو والحافظ ابن كثير رواية طويلة في هذا المعنى عن ابن عباس أخرجها ابن مردويه عنه من طريق الكلبي عن أبي صالح، وفيها أن العباس رضي الله عنه حاول أخذ المفتاح، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل له الحجابة مع السقاية، فأنزل الله الآية في ذلك. قال الحافظ ابن كثير - بعد ذكر هذه الرواية -: وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسواء كانت في ذلك أو لا فحكمها عام. اهـ. وذكر علماء الحديث والسير أن عثمان بن طلحة أسلم في هدنة الحديبية هو وخالد بن الوليد وهاجرا، وأن شيبة أسلم عام الفتح. الشيخ محمد صالح الشيبي: هذا، وإنني لم أَرَ فيمن رأيت رجلاً تمثل رؤيته فصلاً من تاريخ قريش في الجاهلية والإسلام وتاريخ بيت الله الحرام إلا كبير الشيبيين الشيخ محمد صالح، وهو رجل جليل المنظر، لطيف المعاشرة، حسن المفاكهة، له مشاركة في العلوم الإسلامية، والآداب العربية، وحظ من المدنية العصرية، ورأيته على مشربي في العناية بأمر الماء النقي البارد، فهو لا يشرب من ماء عين زبيدة التي يشرب منها أهل مكة، بل يستعذب له الماء من بئر في ضواحيها - كما كان يستعذب الماء من آبار السقيا للرسول الأعظم، صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ويثلج له الماء في داره، وعنده روايا إفرنجية من نوع الترمس الأسطواني المشهور، يحمل له فيها الماء المثلوج مع قطع من الجليد المصنوع، إذا خرج هو منها إلى سفر قريب كعرفة أو جدة. وقد أقام في الآستانة زمنًا وهو يعرف اللغة التركية. رخاء المعيشة بمكة: وعلى ذكر الثلج أذكر من خبر رخاء المعيشة في مكة المكرمة أن أهل هذا البلد الأمين يتمتعون أبدًا بدعاء إبراهيم صلى الله عليه وآله وسلم، الذ

وفاة الشيخ سليم البشري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفاة الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر في الضحوة الكبرى من يوم الجمعة لأربع خلون من شهر ذي الحجة الحرام تُوفي الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر عن عمر ناهز المائة سنة وقيل جاوزها، وكان قبل يومين من وفاته سليمًا معافى، وقد نعته إدارة المعاهد العلمية في الأزهر إلى رؤساء الحكومة والجرائد اليومية، بما نصه: أصيب المسلمون في مصر بفقد شيخ المسلمين وكبير علماء الدين حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر ورئيس المجلس الأعلى للمعاهد العلمية والدينية الإسلامية. توفي إلى رحمة الله قبيل ظهر اليوم (الجمعة 21 سبتمبر 1917) بعد ما لزم الفراش يومين، كان من قبلهما ينهض بأعباء المعاهد الدينية ويلقي دروسه العالية في الأزهر بعزم فتيّ، لا تنال منه الشيخوخة، ولا يدركه هرم. وستشيع جنازة الفقيد غدًا السبت 22 سبتمبر 1917، الساعة 11 صباحًا من محطة كُبري الليمون مارة بشارع كامل، فشارع الموسكي إلى الجامع الأزهر، حيث يجتمع وفود المشيعين من العلماء والطلاب وغيرهم للصلاة عليه. ثم تسير الجنازة إلى مدافن السادات المالكية بقرافة الإمام مارة بشارع الغورية فشارع المغربلين فشارع محمد علي ويلقي صاحب العزة حافظ إبراهيم بك على قبر الفقيد مرثاة من نظمه. أحسن الله عزاء المسلمين في فقيدهم الجليل وتولاه برضوانه ورحمته. كانت وفاته في داره بالحلمية من ضواحي مصر وبدئ الاحتفال بتشييع جنازته في الوقت الذي ذُكر في النعي، وقد وصفت ذلك جريدتا الأهرام والمقطم بالتفصيل، قالت الأهرام: فجيء بالجثة من الحلمية إلى كبري الليمون بقطار خاص يصحبها أنجال الفقيد وأحفاده وآله وجمهور من العلماء والأعيان. وكان في انتظارها في محطة كبري الليمون نفسها من الداخل جمهور عظيم من كبار العلماء والموظفين الملكيين والعسكريين والأعيان والتجار والمحامين، يتقدمهم حضرة صاحب السعادة حسن عبد الرازق باشا وكيل الديوان العالي السلطاني بالنيابة عن صاحب العظمة السلطانية، والكولونِل ر. ف. هربرت بالنيابة عن القومسير العالي البريطاني، وحضرة صاحب المعالي إبراهيم فتحي باشا وزير الأوقاف العمومية بالنيابة عن رئيس الوزراء والميجر هـ. م. جريفس أحد أركان الحرب في الجيش البريطاني بالنيابة عن القائد العام، فاللواء السيد علي باشا مساعد الأدجونانت الجنرال بالنيابة عن وزير الحربية، فالقائم مقام إدواردس بك بالنيابة عن سردار الجيش، فحضرة صاحب المعالي محمود شكري باشا رئيس الديوان العالي السلطاني، فحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت مفتي الديار المصرية. (ثم ذكرت وكلات الوزارات بأسمائهم وكبار الموظفين الوجهاء بالإجمال وخيَّالة البوليس، فجمهور الطلاب الأزهريين وطلبة مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة ماهر باشا) . ثم وصفت الجريدة السير بالجنازة إلى الأزهر والصلاة عليها فيه وتأبين الفقيد كما بلغت، ومنه أن المؤذنين كانوا يرتلون في المآذن التي مرت فيها الجنازة - وكذا في صحن الأزهر - آيات الأبرار، أي الآيات التي وردت في وصفهم من سورة الإنسان، وهي قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} (الإِنسان: 5) ... إلخ. وأقول: إن هذا من البدع الخاصة بكبار رجال العلم الديني، ومَن يُنزلونه منزلتهم؛ ولذلك يظن الكثير من غير المسلمين ومن المسلمين الجاهلين الذين لا يعرفون السنن والبدع أنه من شعائر الدين. وللمؤذنين في قراءة هذه الآيات طريقة رديئة، لو لم تكن قراءتها والاجتماع لها في المآذن والمساجد بدعًا لكانت هذه الطريقة في التلاوة كافية في وجوب الإنكار عليهم ووجوب منعهم من ذلك على القادر؛ ذلك أنهم يقطعون الآيات قطعًا، يقرأ بعضهم كَلِمًا منها، يسكت في غير مواضع الوقف منها، فيتم بعض آخر ما بدأ كما يفعل الممثلون للقصص في الملاهي، فيفصلون بين الصفة والموصوف، والعامل والمعمول، يقول بعضهم: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ} (الإِنسان: 5) ، فيقول آخرون: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} (الإِنسان: 5) ، ثم يقول بعضهم: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} (الإِنسان: 6) ، فيقول آخرون: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} (الإِنسان: 6) ، وهكذا يفرقون في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} (الإِنسان: 7) بين (يومًا) وما وصف به، ولو تدبروا الآية لخافوا أن يعذبهم الله تعالى في ذلك اليوم على هذا التمزيق في قراءة كتابه. ومن غريب الاتفاق أننا اقترحنا في جزء المنار الماضي على شيخ الأزهر أن يسعى لإبطال البدع من المساجد، ولم يكد نوزع الجزء إلا وقد قضى الشيخ نحبه، فعسى أن يقوم بذلك خلفه. ثم قالت الأهرام: وكان الناس من وطنيين وأجانب وقوفًا بالعشرات والمئات على جانبي الطريق، يحيون الفقيد في مشهده، ويترحَّمون عليه. ثم ذكرت وصول الجنازة إلى الجامع الأزهر في منتصف الساعة الأولى بعد الظهر والصلاة عليه وقراءة الشيخ محمد الحملاوي قصيدة من نظمه في رثاء الفقيد. وتلاه الشيخ محمد أبو العيون بتأبين منثور، أشير إليه بأن يختصره لأجل التعجيل بالدفن المطلوب شرعًا، ففعل. ثم حملت الجنازة من الأزهر، والمؤذنون يكررون الآيات التي تقدم الكلام عليها إلى مقابر المالكية من قرافة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وبعد مواراتها التراب أنشد محمد حافظ بك إبراهيم مرثيته، وتلاه الشيخ محمد فراج المنياوي بتأبين نثري، أساء فيه الإطراء، فجعل فيه الفقيد من الخلفاء الراشدين، بل فضَّله عليهم في التعبير. ثم عزى جمهور المشيعين أبناء الفقيد، وانصرفوا. *** (مرثية محمد حافظ بك إبراهيم) أيدري المسلمون بمن أُصيبوا ... وقد واروا سليمًا في التراب هوى ركن الحديث فأي خطب ... لطلاب الحقيقة والصواب موطأ مالك عزى البخاري ... ودع لله تعزية الكتاب فما في الناطقين فم يوفي ... عزاء الدين في هذا المصاب قضى الشيخ المحدث وهو يملي ... على طلابه فصل الخطاب ولم تنقص له التسعون عزمًا ... ولا صدته عن درك الطلاب وما غالت قريحته الليالي ... ولا خانته ذاكرة الشباب أشيخ المسلمين نأيت عنا ... عظيم الأجر موفور الثواب لقد سبقت لك الحسنى فطوبى ... لموقف شيخنا يوم الحساب إذا ألقى السؤال عليك ملقٍ ... تصدى عنك برك للجواب ونادى العدل والإحسان أَنَّا ... نزكي ما يقول ولا نحابي قفوا يا أيها العلماء وابكوا ... ورووا لحده قبل الحساب فهذا يومنا ولنحن أولى ... ببذل الدمع من ذات الخضاب عليك تحية الإسلام وقفًا ... وأهليه إلى يوم المآب *** التعازي: ونشرت جريدتا الأهرام والمقطم تعزية برقية من نائب الملك لمدير المعاهد الدينية، وأخرى للشيخ طه البشري أكبر أبناء الفقيد، صرح فيهما بأن نعي الفقيد قد شق عليه كثيرًا، ودعا له بالرحمة والرضوان، وبرقيتان أُخريان بمعناهما من كبير الوزراء، صرح فيهما بأنه أسف جدًا لعدم إمكان تشييعه الجنازة بشخصه. وقد تألف وفد من أنجال الفقيد ومراقب الأزهر رأسه المدير العام للمعاهد الدينية الشيخ عبد الرحمن قراعة لأداء الشكر لرؤساء الحكومة وكبراء البريطانيين الذين اشتركوا في تشييع الجنازة بالذات، أو بإنابة الوكلاء عنهم والمعزين، فبدءوا بقصر عابدين، وسجلوا أسماءهم في (دفتر التشريفات) ، ثم نائب وزير الحربية، وإدواردس بك لشكر السردار، ثم الجنرال كليتون لشكر القائد العام للقوات البريطانية بمصر على إرساله مندوبًا لتشييع الجنازة، ثم وكيل الأوقاف لشكره وشكر الوزير، وأرسلوا برقيات شكر إلى نائب الملك ورئيس الوزراء وقومندان المحروسة ومحافظ العاصمة وحكمدارها. *** (ترجمة الفقيد) نشرت جريدة الأهرام ترجمة وجيزة للفقيد، قيل إنها مستمدة من أهل بيته ملخصها: أنه (وُلِدَ حوالي سنة 1243 أو 1244 في محلة بشر بمركز شبراخيت، ولما شبَّ حضر إلى مصر لتلقي العلم، وأقام تحت رعاية شيخه الشيخ بسيوني البشري من شيوخ المسجد الزينبي، وأنه تعب في طلب العلم تعبًا شديدًا، ولقي من الدهر مقاومات عظيمة، وأنه كان يتعبد في المسجد الزينبي ليلاً، ويذهب إلى الأزهر نهارًا لتلقي الدروس، وأن خاله عُين أمينًا لكساوي المحمل في أول ولاية سعيد باشا، فخرج معه إلى الحجاز حاجًّا، وبعد أن أدى فريضة الحج عاد إلى مصر، وبقي يشتغل بالتدريس حتى سنة 1273 تقريبًا) . وإن أول عهده بالوظائف أن (عُين إمامًا لمسجد إينال بمرتب 90 فضة في الشهر) ، وفي سنة 1291 مات الشيخ علي العدوي فنِيط به التدريس في المسجد الزينبي بدلاً منه بمرتب مئة قرش في الشهر، وعين وكيلاً عن شيخ المسجد الزينبي لحداثة سنه، وهو الشيخ أحمد الصفتي الشيخ الحالي، وبقي كذلك إلى آخر ولاية إسماعيل باشا، ثم عين إمامًا وخطيبًا لمسجد زين العابدين، ثم شيخًا للمالكية بعد وفاة الشيخ عليش، ثم شيخًا للأزهر لأول مرة في سنة 1901، وكانت مدتها أربع سنين. وذكر من حبه للعلم وإيثاره له أن تلميذه قدري باشا عرض عليه وظيفة بثلاثين جنيهًا، فأبى مفضلاً الانقطاع إلى تعليم العلم. ولم يذكر تلك الوظيفة، فالظاهر أنه لم يكن يمكن الجمع بينها وبين التعليم. وذكر مسألتين من خلائقه: إحداهما أنه كان اختار الشيخ أحمد المنصوري شيخًا لرواق الصعايدة، فأبى قاضي مصر إقامته ناظرًا على أوقاف الرواق، فأصر صاحب الترجمة على تعيينه دون غيره (ورأى في العدول إهدارًا لرأيه، وبالغ في التشبث برأيه حتى فضَّل ترك المشيخة على التجاوز عن حقه المفروض بحكم القانون) ، والثانية أنه لما جدد المسجد الزينبي رأى رئيس مهندسي الأوقاف أن ينقل القبر المنسوب إلى السيدة زينب بما فيه، فعارضه الشيخ، وأعلمه أن ذلك مخالف للشرع من وجوه عديدة، وانتهى الخبر إلى الخديو محمد توفيق باشا، فأمر بإبقاء القبر في مكانه، وترضَّى الشيخ، فتم له ما أراد، ولما كانت نشأة الشيخ الدينية قد كانت في جوار ذلك الضريح وصار قيِّمًا له عدة سنين ظل محافظًا على تكريمه طول عمره، ولا ندري أكان يعتقد أن السيدة زينب مدفونة في هذا المكان كما يظن عامة المصريين أم كان يرى أن نسبة القبر إليها كدفنها فيه؟ وفي هذه الترجمة أغلاط وقصور. وقد علمنا من عالم من أكبر تلاميذ الفقيد وأعلمهم بترجمته أنه سمع منه أنه وُلد في سنة 1237، وأنه جاء مصر في سنة 1245 أو 1247، وأقام عند خاله الشيخ بسيوني شلتوت المؤذن في مسجد السيدة زينب. ثم قضت الحال أن أرسله الخال إلى الأزهر. وقد رأينا في جريدة وادي النيل التي تصدر في الإسكندرية - وهي أرقى جريدة للمسلمين في هذا القطر - نعيًا للفقيد، وشيئًا من حاله، يبلغ زهاء نصف عمود، بدأه بقوله: (نعت العاصمة الأستاذ الشيخ سليمًا البشري شيخ الجامع الأزهر عن عمر طويل، قضى شطره الأكبر في خدمة العلم، وقضى أواخره في ولاية المشيخة الأزهرية غير مرة. وكان رحمه الله في ولاية المشيخة ذا أنصار يحفون من حوله، وخصوم كثيرين يأخذونه بأمور ليس من المناسب ذكرها ... ) ، ثم ذكر أن علماء الأزهر متفقون على أنه أعلمهم بالحديث وأن طريقته في قراءته أنه كان يقرأ الحديث أولاً على سبيل التبرك، ثم يقرؤه أحد الطلبة بصوت جهوري، ثم يشرحه الشيخ بما شاء الله من علمه. أقول: وهذه المزيَّة له مشهورة سمعتها من كثير

شيخ الأزهر الجديد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شيخ الأزهر الجديد لما تُوُفِّيَ الشيخ البشري كثر القيل والقال في الأزهر في ترشيح خلف له، وسرى ذلك إلى سائر معاهد العلم الديني للأزهر وإلى غيرها، واشتهر أن الأزهريين رشحوا أربعة أشياخ: كل منهم له حزب رَشَّحَه، وسعى له سعيه، وقد كتب بعضهم مقالات إلى الجرائد يطعن فيها ببعض، منها ما نُشر، ومنها ما لم يُنشر، واتسع الوقت للخوض في ذلك بأن البشري توفي قُبيل عطلة عيد الأضحى، ولم يتعين الخلف له إلا بعد انتهائها، فقد صدرت الإرادة بتعيين الشيخ محمد أبي الفضل الجيزاوي شيخ معهد الإسكندرية شيخًا للأزهر ورئيسًا لمجلس المعاهد الدينية الأعلى في يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من شهر ذي الحجة الحرام، وهو أكبر علماء المالكية بعد البشري سنًا، ومن أشهر علماء الأزهر في العلم والمحافظة على آداب الشيوخ وشمائلهم، ويقال إنه في العقد الثامن من العمر، وقد سبق له الاشتغال بإدارة الأزهر؛ إذ كان أحد أعضاء مجلس إدارته في مشيخة الشيخ حسونة النواوي، ثم عين وكيلاً للأزهر، وبعد قليل من الزمن عيّن شيخًا لمعاهد الإسكندرية. فنهنئه بأكبر منصب يرتقي إليه شيوخ العلم الديني بمصر، ونسأل الله تعالى أن يوفقه، ويسدده فيه، ويجعل لإحياء علم السنة، ومقاومة البدع أفضل حظ من عنايته.

ما قيل في فتح الإنكليز لبغداد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عبر التاريخ ما قيل في فتح الإنكليز لبغداد قالت جريدة (المقطم) في فاتحة مقالة طويلة نُشرت في صدر العدد الذي صدر في 19 جمادى الأولى سنة 1335 - 13 مارس سنة 1917: قُضي الأمر في العراق، وسقطت بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين، ومباءة مجدهم، وعُنوان فخرهم، واستولى البريطانيون على منبت أثلة المنصور والمهدي وهارون الرشيد والمأمون، وموئل العلماء والشعراء والأدباء في عصر الشرق الذهبي الحديث، أي ذكرى تهيج في خاطر العربي إذا ذكر اسم بغداد والزوراء ودار السلام؟ بل أي مجد يتحلى لعينيه عند سماع اسمها من دولة عظيمة الأركان، متينة البنيان، قامت على العدل والنظام والعلم والأمان، وشعب ناهض ناشط لطلب العلم وإتقان الصناعة وترويج التجارة، وتوسيع نطاق الزراعة وبسط السيادة، وإضاءة مصباح العلم لتمزيق دياجير الظلام، بغداد دار العلم والمجد، وبغداد مقر العظمة والثروة وبغداد عاصمة العرب وقاعدة الشرق. هذا إرث مجيد ظل بيد الشرقيين اثني عشر قرنًا شاهدًا ناطقًا بعظمة أسلافهم يناوح خرائب بابل وآثار نينوى، حتى صار أمره إلى الاتحاديين، فضاع منهم، كما ضاع سواه، وصارت بغداد في يد مَن يعرف قيمتها، ويقدرها حق قدرها. هذا ميراث العرب الكرام أخذه الاتحاديون، كما يأخذ الصبي الكرة، وقذفوا به، كما يقذف بها، فأفلت من يدهم، وهم يسيرون الجيوش إلى بلدان أوربة فاتحين، وثغور تركيا وكبار مدنها تسقط الواحدة بعد الأخرى، هذه سُنَّة الله في خلقه، وقد سخر الاتحاديين لإنفاذ مشيئته وإنزال قضائه ". ثم قال في فاتحة العدد الذي صدر في 22 جُمادى الأولى بعد كلام، علل فيه تسمية الجرائد الإنكليزية بغداد مدينة الشعر والخيال بأنهم أخذوا ذلك من كتاب ألف ليلة وليلة، الذي هو أشهر كتاب عند الإنكليز بعد التوراة والإنجيل: أما العرب فينظرون إلى بغداد من وجهة أخرى، وإن لم يغفلوا وجهة الشعر والخيال، فالعرب في مقدمة الأمم التي تجلّ الشعر والشعراء، ولكن العرب يرون في بغداد القديمة عنوان مجد جنسهم، ورمزًا إلى أكبر شأو بلغته حضارتهم، ويذكرون أن عصرها الأول كان عصرهم الذهبي؛ إذ منها انبلج صُبح العلم في العصور الحديثة، فأضاء الشرق والغرب. إن العرب يرون في بغداد الأولى مقر العلم والحكمة، وخزانة معارف الشرق، ومدرسته التي نبغ فيها العلماء والأطباء والفلاسفة والفلكيون والكيماويون والشعراء والكُتاب واللغويون والمهندسون برعاية العباسيين، وعناية أفاضل خلفائهم، ولا سيما المأمون الذي كان عضد العلم وسند العلماء. قال السر هنري رولنصن المؤرخ الشهير كلامه عن بغداد ما نصه: وقد نافست بغداد قرطبة في الآداب والعلم والصناعة والفنون، فكان لهاتين المدينتين سيادة العالم من هذا القبيل. أما في التجارة والثروة فإن قرطبة لم تبلغ شأو بغداد. وكانت بغداد عاصمة الإسلام الدينية والعاصمة السياسية لمعظم بلدانه، لما كان الإسلام ركن حضارة الدنيا. هذه هي بغداد كما يراها العرب الذين يعرفون تاريخ قومهم، ويحفظون ذكر عظمة جنسهم، ويتحسرون على أيام الرشيد والمأمون، ويتمنون لو أتيح للعرب أن ينهضوا مثل نهضتهم في ذلك العصر السعيد، ويتعاونوا على رفع شأنهم بإتقان العلم وتنشيط الصناعة والتفاني في تأييد المجموع. كانت بغداد لسلطنة العرب كلندن اليوم لسلطنة البريطانيين، فكانت مركز قوتهم، ومجمع علمهم، وركن صناعتهم، وسوق تجارتهم، ومجلس حكومتهم، وكان خلفاؤها ينظرون في الجهات الأربع ويعلمون أن الرياح كيفما هبت فإنها تهب عليهم من ولاياتهم وممالكهم، حتى لقد قال الرشيد - يخاطب السحابة -: (أمطري حيث شئت فإن خيركِ يأتيني) . إن بغداد صارت الآن للعرب مدينة الشعر والخيال؛ إذ لا سبيل إلا بهما إلى تمثُّل عظمتها الماضية، أما في عصر العرب الذهبي فقد كانت بغداد جامعة لأبهة الملك وشرف العلم ومجد الصناعة وعظمة التجارة وإتقان الفنون وبراعة النظام، فكان الخيال والشعر فيها تفكهة يلطفان من أخلاق أهلها، وهم في طلب العلى جادون، وإلى التقدم والارتقاء والنجاح ناشطون، وفي ذلك يقول أحد شعرائهم: بغداد أيتها الجياد فإنها ... أنجى وأقرب للشؤون وأنجح ولله در ذلك المستشرق القائل [1] : في بلاد سكانها من صميم العرب الذين عُرفوا بالعزة والأَنَفَة والشمم، ودانت لهم الأقطار، ففتحوا الممالك، ودوخوا الأمصار في غابر الأعصار، وأنشؤوا لهم في التاريخ مجدًا خالدًا، وذكرًا باقيًا، فذاع فضلهم، وطارت شهرتهم، وتناقلت الركبان أخبارهم، هناك جنة عدن، وهناك جنات النعيم، كانت رافلة في حُلل الهناء والرخاء أيام كانت إنكلترة وألمانية فيافي وقِفَارًا، وكان أهلهما غارقين في بحار الجهل، يتخبطون في دياجي الظلام، بلادكم - أيها العرب - هي التي أزهرت فيها الحضارة، وأينعت الفنون، وأثمر الأدب، وعمرت دور العلم والفلسفة، وهي البلاد التي انبعث منها نور الدين، وألبَست العالم ثوب الرفاهية والسعادة. ترى هل يكون للعرب نصيب من يقظة العالم بعد الحرب، ويد في نهضته القادمة، فيحل الجد محل الخيال، وتطلق العقول والقلوب مما أصابها من الفتور، وتنزل هذه الأمة المنزلة التي تجدر بها في مجالس الشعوب؟ ، أو تظل تعود ببصرها القهقرى إلى عصور مضت، وأيام انقضت، تتغذى بالذكرى، وتصعد الأنفاس الحرّى. اهـ.

حجم المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجم المنار اضطرنا انقطاع ورود الورق وغلاؤه المضاعف الفاحش إلى تصغير حجمه رجاء الزيادة في أجزائه، وهو ضرورة تقدر بقدرها، وعسى أن لا يطول أجلها.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حكم تارك الصلاة (س8) من صاحب الإمضاء بمصر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الفاضل السيد رشيد رضا المحترم؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فأرجوكم تعريفنا على صفحات المنار الأغر عن حكم تارك الصلاة بغير عذر في نظر الشرع، وهل الأحاديث التي وردت بخصوص ترك الصلاة تؤخذ على ظاهرها، أو فيها ما يحتمل التأويل كما يقال؟ أما ما أعلم من الأحاديث الواردة في تارك الصلاة أو المتخلف عنها، فهو الموضح بعدُ، فإن كان هناك أخرى أرجو التفصيل بإيضاحها في الإجابة. قال - صلى الله عليه وسلم -: 1- (بين العبد والكفر - وفي رواية الشرك - ترك الصلاة، فإذا تركها فقد أشرك. وحوضي كما بين أيلة إلى مكة أباريقه كعدد نجوم السماء له ميزابان من الجنة كلما نضب أمداه، مَن شرب منه شربة، لم يظمأ بعدها أبدًا، وسيرده أقوام ذابلة شفاههم، فلا يطعمون منه قطرة واحدة، مَن كذب به اليوم لم يصب منه الشراب يومئذٍ) . 2- (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمَن تركها فقد كفر) (يريد طبعًا العهد الذي بيننا وبين الكفار) . 3- (مَن ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) . 4- (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله) . 5- (والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة، فيؤذن لها، ثم آمر رجلاً، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) . فأرجو بعد النظر في هذه الأحاديث التكرم بتفهيمنا درجة صحتها، وعما إذا كان في ظاهرها شيء يحتمل التأويل، خصوصًا في لفظة الكفر أو الشرك. هذا، والسبب الذي ألجأني إلى عرض سؤالي هذا على فضيلتكم هو ذلك التهاون الغريب في أمر الصلاة بين مَن يسمون أنفسهم مسلمين الآن، وظنهم أن تاركها لا يخرج عن كونه عاصيًا بسيطًا مثل باقي العصاة، مفتوحة له أبواب التوبة في أي وقت شاء فيه الصلاة، وذلك بالرغم مما ورد في أمرها في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة من التشديد والوعيد؛ لذلك أرجو أن تكون الإجابة مفصلة الشرح، لعلها تكون فصل الخطاب فيما عليه شبابنا المسلمون المتفرنجون من الحيرة في حكم تارك الصلاة بغير عذر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي علي مهيب ... ... ... ... ... ... ... ... بتفتيش عموم التلغرافات (ج) يجد السائل في المجلد الثامن عشر من المنار ما يغنيه عن تفصيل القول في هذه المسألة، وهو رسالة للشيخ محمد أبي زيد من طلبة دار الدعوة والإرشاد، اسمها (البرهان على خروج الصلاة ومانع الزكاة من الإيمان) ، نُشرت في ص 505, 562, 586 وما بعدها، أورد فيها كثيرًا من الآيات التي استدل به على كفر مَن ذكر، وبعض الأحاديث المؤيدة لدلالتها على ذلك، وذكرنا فيما علقناه في حواشيها وما ذيلناها خلاف العلماء في المسألة والجمع بين الأقوال. وإن أدري أيريد السائل الآن أن أتوسع في شرح المسألة، واستيفاء ما ورد فيها من النصوص لزيادة الإيضاح، وتكرار تذكير التاركين لهذه الفريضة التي هي عماد الإسلام؟ أم لم يقرأ تلك الرسالة، وما علقناه عليها؟ وقد يستدل بما أورده من الأحاديث - وسؤاله عن غيرها - أنه لم يقرأ الرسالة، على أنه من أشد قراء المنار عناية بهذه المسائل كما نظن، فنحثّه أولاً على مراجعتها وقراءتها، ونرشده إلى كتابين جليلين في المسألة أحدهما (كتاب الصلاة) لإمام السنة أحمد بن حنبل رضي الله عنه، و (كتاب الصلاة وأحكام تاركها) لناصر السنة ابن القيم رحمه الله تعالى، والكتابان مطبوعان معًا. فإذا أشكل عليه - بعد الاطلاع على ما ذُكر - أمر فليسأل عنه. وأما الحديث الأول مما أورده في السؤال فصدره الخاص بالصلاة في صحيح مسلم وأكثر كتب السنن، والثاني رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي والنسائي والثالث والرابع والخامس في الصحيحين وغيرهما إلا الثالث، فقد رواه البخاري دون مسلم، ومما قيل في الخامس إنه في تهديد جماعة من المنافقين، وإنه في صلاة الجمعة خاصة أو الجماعة مطلقًا، فالأحاديث التي أوردها في الموضوع كلها صحيحة. وقد ورد في معناها أحاديث أخرى. وإنني أذكر كلمة وجيزة في المسألة تفيد السائل فضل فائدة في المسألة، وإن كان يمكنه مراجعة المجلد الثامن عشر من المنار والاكتفاء بما فيه؛ لأنه من قدماء المشتركين الذين يحفظون المنار، وقد تكون ضرورية للذين اشتركوا في المجلد التاسع عشر والمجلد العشرين ومَن يتعذر عليه مراجعة ما أحلنا السائل على مراجعته. إن الكفر والظلم والفسق وما اشتق منها قد استعملت في لغة الكتاب والسنة استعمالاً أعم وأوسع من الاستعمال الاصطلاحي الذي جرى عليه المتكلمون والفقهاء فهؤلاء قد جعلوا الكفر مقابلاً للإيمان والإسلام، فالمسلم الصحيح الإيمان قد يكون عندهم فاسقًا وظالمًا، ويطلق عليه هذان اللقبان، ولكن لا يطلق عليه لقب كافر، وفي لغة الكتاب والسنة تطلق هذه الألفاظ على ما يقابل الإيمان والإسلام، وعلى بعض كبائر المعاصي التي اختلف أئمة الفقهاء والمتكلمين في كفر مرتكبها بمعنى خروجه من ملة الإسلام كالصلاة، وكذا على ما أجمعوا على أنه غير كفر بهذا المعنى كالنياحة من الميت، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت) ، وأهل الأثر يتبعون النصوص في ذلك ويقولون بكفر كل من أسند إليه الكفر أو وصف به في الكتاب والسنة، وما كل كفر عندهم خروج من الملة، بل هنالك كفر دون كفر، وهم ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين. وأهل المذاهب يتبعون مذاهبهم في كل مسألة، فيفرقون بين النصوص يؤلون بعضها، ويأخذون ببعض اتباعًا؛ لمَن قلدوهم لا للنصوص. والتحقيق الجامع بين النصوص أن مَن كان مؤمنًا صحيح الإيمان مسلمًا صادق الإسلام لا يُخرجه عن ملة الإسلام تركه لصلاة كسلاً أو ارتكابه لكبيرة من المنهيات بجهالة يتوب منها، ولكن الإيمان الصحيح هو إيمان الإذعان والخضوع الفعلي لأوامر الله ونواهيه، الذي به يكون المؤمن مسلمًا. وقد يكون المرء مؤمنًا غير مذعن كإبليس، ومَن قال الله تعالى فيهم من أئمة الكفر: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا} (النمل: 14) ، ومَن قال فيهم: {فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (الأنعام: 33) ، وغير هؤلاء. وهل يعقل أحد ينصف من نفسه أن يكون من أولئك المؤمنين المذعنين مَن يترك عماد الدين وأعظم أركان الإسلام بغير مبالاة، ويصر على ذلك غير مكترث للآيات والأحاديث الكثيرة في الأمر بها والترغيب فيها، والبيان لفوائدها ومكانتها العليا من الدين والترهيب والزجر عن تركها والوعيد الشديد عليه، وتسميته كفرًا في أحاديث صحيحة، ظاهرها أن المراد به كفر الاعتقاد، لا كفر النعمة أو كفر العمل، كما قيل. وممن قال بكفر تارك الصلاة من أئمة السلف إمام الأئمة علي كرم الله وجهه، وقد أوَّل الجمهور الأحاديث الواردة في ذلك بما أشرنا إلى بعضه آنفًا. وحملها بعضهم على الاستحلال ولا خلاف في كفر من استحل حرامًا مجمعًا على تحريمه معلومًا من الدين بالضرورة كترك الصلاة والزكاة من الفرائض وكفعل الزنا وشرب الخمر من المحظورات. واستحلال الشيء هو عدُّه حلالاً كما قال ابن منظور في لسان العرب. فإذا كان المراد به الاستحلال بالفعل وهو أن يكون المحرم عند مرتكبه كالحلال في عدم تحرجه من فعله ولا احترامه لأمر الله ونهيه، حتى كأنه لم يفعل شيئًا - فهذا هو الذي لا يعقل أن يصدر من مؤمن. وإن كان المراد اعتقاد أن الشرع أحله فهذا مُحال على نشء بين المسلمين. ولا أعرف لإمكان الجمع بين الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وبين ترك فريضة منه أو ارتكاب محرم إلا صورة واحدة، وهي الغرور بالأماني كالمغفرة والشفاعة وجعل الفاسق ذلك كالمقطوع به، وقد كشفنا الشبهة عن وجه هذا الغرور مرارًا في التفسير، والله أعلم.

رحلة الحجاز ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز (5) عرفات وحدودها: كل من عرفة وعرفات (بفتح العين والراء فيها) اسم لتلك البقعة الشريفة من الأرض، التي هي أشهر البقاع عند ألوف الألوف من البشر. وعرفات اسم مفرد يُنَوَّن كأذرعات وليس جمعًا لعرفة، وجُوِّز أن يكون أشير بصيغة الجمع إلى كون كل مكان أو قسم من تلك البقعة يتحقق فيه معنى التعارف أو التعرف الذي عُللت به التسمية كما يأتي قريبًا. ويحتمل أن يكون بعض قدماء العرب مد فتحة الفاء وأشبعها في الشعر، ثم كثر فصار اسما مستقلاًّ، ونظيره قول الشاعر في عُرَنَة (بضم العين وفتح الراء والنون) : أبكاك دون الشعب من عرفات ... بمدفع آيات إلى عرنات وقول عمر بن أبي الكنات الحكمي المغني: عفت الدار بالهضاب اللواتي ... بين توز فملتقى عرنات وظاهر عبارة لسان العرب أنهما موضعان، قال: وعرونة وعرنة موضعان، وعرنات موضع دون عرفات إلى أنصاب الحرم، قال لبيد: والفيل يوم عرنات كعكعا ... إذ أزمع العجم به ما أزمعا اهـ وأقول: ليس دون عرفة موضع يسمى عرنات غير بطن عرنة الذي يذكره جميع العلماء. وأخطأ مَن قال: إن عرفة مولَّد ليس بعربي صحيح. ومَن قال: إنه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة، وإنما يقال: إنه يوم عرفة بمعنى أنه يوم الوقوف بها، كما يقال: يوم التروية، وليس كيوم عاشوراء. وقد ورد اسم عرفة في الأحاديث الصحيحة علمًا للبقعة وكذا في كلام الصحابة، وسيأتي شيء منها، وعليه جرى العلماء والفقهاء، فكلهم يطلقون اسم عرفة على تلك البقعة الشريفة، فلا يغترنَّ أحد بعبارة القاموس المُوهِمة، ولا بقول مَن توهم ذلك من المتأخرين، وزعم أنه مقتضى كلام الراغب، وإنما قال الراغب: (ويوم عرفة يوم الوقوف بها) ، أي بالبقعة المخصوصة التي اسمها عرفة وعرفات. قيل إنها سميت بذلك؛ لأن آدم وحواء تعارفا بها بعد هبوطهما من الجنة، وقيل لقول جبريل لإبراهيم عليهما السلام، لما علمه المناسك، وأراه المشاهد: أعرفت أعرفت؟ قال: عرفت عرفت. وقيل: لأنها مقدسة معظمة، كأنها عرّفت، أي طيبت بالعطر. وقيل: لأن الناس يتعارفون فيها، وقيل: لتعرُّف العباد فيها إلى الله تعالى بالعبادة والدعاء. والقولان الأولان يتوقفان على نقل صحيح، والأخيران أظهرُ معنىً، ويعدون تعارف الناس هنالك من حِكَم الحج التي شُرع لأجلها، والواقع أن التعارف بين الحجاج لا يتيسر في عرفة، كما يتيسر في منى؛ لأن وقت عرفة قصير، فإن المجمع عليه منه يمتد من وقت الظهر إلى وقت المغرب، ولا يجزئ الوقوف قبل الزوال عند أحد من العلماء إلا ما رُوي عن الإمام أحمد من أن وقت عرفة من فجر يومها. ويجوز الوقوف في ليلة العاشر عند غير الشافعية، فأنَّى يتيسر التعارف بين أفراد ذلك الجمع الكبير في ذلك الوقت القصير، مع ما يشرع فيه من ذكر الله تعالى ودعائه، المقصود في هذه المعاهد لذاته. وستأتي للبحث تتمة. وحدود عرفة معروفة للناس بما يتناقلوه بالتواتر عن المواضع التي يحصل الفرض بالوقوف فيها. وذكر العلماء المتقدمون لها حدودًا، منها قول بعضهم: الحد الأول ينتهي إلى جادة الطريق المشرق، والثاني ينتهي إلى حافات الجبل الذي وراء أرضها، والثالث ينتهي إلى الحوائط (أي البساتين) ، التي تلي قرية عرنة، وهذه القرية على يسار مستقبل القبلة في عرفة، والرابع إلى وادي عرنة بضم العين وفتح الراء والنون، وعرنة ونمرة (بفتح فكسر) ليستا من عرفة، ولا من أرض الحرم والمالكية يجيزون الوقوف بعرنة، ويحتج عليهم الجمهور بحديث: (عرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عرنة، ومزدلفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن محسر، ومنى كلها منحر) ، رواه مسلم وغيره. ومُحَسِّر (بكسر السين المهملة مشددة) ، وبطن محسر وعرنة، كل منهما وادٍ فاصل بين المزدلفة ومنى. وقالوا: حد الحرم من المأزمين (بكسر الزاي) وهو مضيق بين عرفة ومزدلفة، وهناك علمان مبنيان في أول حدود عرفة، جُعلا علامة على حد الحرم، فما كان شرقيهما من عرفة وما وراءها فهو من الحل، وما كان قبلهما من جهة الغرب من بطن عرنة ومزدلفة ومنى فهو من الحرم، ويوجد ميلان آخران في أول حد مزدلفة من جهة الغرب، فما بين العلمين والميلين هو وادي عرنة. وفي الجانب الجنوبي من العلمين مسجد نمرة المعروف بمسجد إبراهيم بقرب الطريق الممتد من منى إلى الطائف ويسمى أيضًا مسجد نمرة ومسجد عرنة. قال الغزالي: ونمرة هي بطن عرنة دون الموقف ودون عرفة. اهـ. وظاهر حديث نزول النبي صلى الله عليه وسلم بنمرة أنها أدنى عرنة لا كلها. وفي كتب اللغة أن نمرة هي الجبل الذي عليه أنصاب الحرم عن يمينك إذا خرجت من المأزمين تريد الموقف. قال شارح القاموس: كذا في التكملة. وقيل: الحرم من طريق الطائف على طرف عرفة من نمرة على أحد عشر ميلاً. اهـ. وقد نقل هذا في معجم البلدان وفيه بعده: وقيل نمرة على أحد عشر ميلاً. اهـ أي من مكة. فالتحقيق الذي عليه الجمهور أن المسجد لم يكن من عرفة، وقول بعض الناس فيه (مسجد عرفة) بالفاء من باب ما جاور الشيء أُعطي حكمه أو نُسِبَ إليه، ولذلك نسب بعضهم عرفة إلى مكة وبعضهم إلى منى. وقال بعضهم: إن بعضه من عرفة وبعضه من عرنة، وذلك بعد أن زِيد فيه كما سيأتي. وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية في مناسك الحج - بعد ذكر استحباب المبيت بمنى ليلة عرفة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم - ما نصه: ويسيرون منها إلى نمرة عن طريق ضب من يمين الطريق. ونمرة كانت قرية خارجة عن عرفات (أي فخربت كما صرح غيره) من جهة اليمين فيقيمون بها إلى الزوال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسيرون منها إلى بطن الوادي وهو موضع النبي صلى الله عليه وسلم الذي صلى فيه الظهر والعصر وخطب، وهو في حدود عرفة ببطن عرنة. وهناك مسجد يقال له مسجد إبراهيم، وإنما بُني في أول دولة بني العباس. اهـ. المراد منه هنا. وقال الغزالي في (الإحياء) : وأما مسجد إبراهيم عليه السلام فصدره في الوادي وأخرياته من عرفة، فمَن وقف في صدر المسجد لم يحصل له الوقوف بعرفة. ويتميز مكان عرفة من المسجد بصخرات كبار فُرشت هناك. اهـ. قال الزبيدي عند شرح أول هذه العبارة من شرح الإحياء: وجدت بخط الإمام الفقيه الشيخ شمس الدين بن الحريري ما نصه: وقد وقع للفقهاء في نسبة هذا المسجد لإبراهيم الخليل عليه السلام كلام، وقد نسبه إليه جماعة منهم ابن كج وابن سراقة والبغوي والقاضي حسين والأزرقي وتبعهم الشيخ النووي وجماعة من المتأخرين، وادعى الإسنوي أنه خطأ، وإنما هو شخص اسمه إبراهيم من رءوس الدولة المتقدمة، كما قاله غير الإسنوي، فالتبس بالخليل عليه السلام. وردَّ الأذرعي هذا بأن الأزرقي من أعلم الناس بهذا، وقد نسبه إلى الخليل عليه السلام، قال: (وعلى تسليم أن يكون قد بناه مَن ذُكر فلا يمتنع أن يكون منسوبًا من أصله إلى الخليل عليه السلام، إما لأنه صلى هناك، أو اتخذ مصلى للناس، فنُسب إليه) اهـ، وأقول: نعم، لا يمتنع ذلك عقلاً، ولكننا لا نثبته إلا بنقل صحيح، فأين هو؟ ! وقال الزبيدي - عند شرح آخر تلك العبارة -: قال النووي في زوائد الروضة: الصواب أن نمرة ليست من عرفات، وأما مسجد إبراهيم (عليه السلام) فقد قال الشافعي رحمه الله إنه ليس من عرفة، فلعله زِيد بعده في آخره، وبين هذا المسجد وبين موقف النبي صلى الله عليه وسلم بالصخرات نحو ميل. قال إمام الحرمين: وتطيف بمنعرجات عرفات جبال وجوهها المقبلة من عرفة. اهـ. وقال صديقنا محمد لبيب بك البتانوني في الرحلة الحجازية التي ألفها في سنة 1328 - بعد وصفه لمنى وانتقاله إلى وصف الطريق منها لمزدلفة فعرفة - ما نصه: ومن ثَمَّ يضيق الوادي، ويسمى بوادي محسر، حتى إذا وصل إلى المزدلفة، وهي على مسافة ساعتين من منى (؟) أخذ في الاتساع مرة أخرى. وهناك ترى على يمينك المشعر الحرام الذي يجب الوقوف عنده في النزول من عرفة. وفي هذه الجهة مسجد على جبل قزح عمَّره السلطان قايتباي، ومن هناك يضيق الوادي ثانيًا ويسمى بوادي عُرَنة (بضم العين وفتح الراء والنون) حتى إذا قرب من مسجد نمرة (ويسمى مسجد عرفة أو مسجد إبراهيم) انفتحت أرجاؤه إلى الشمال والجنوب. وهذا المسجد كبير قد أحاطت به البواكي (يعني الأروقة) في جهاته الأربع من داخله. وعمّره قايتباي عمارة تُشكر. ونصفه الغربي (الذي إلى مكة) في الحرم والنصف الآخر في الحل وبواسطة مجرى ماء يسير إليه زمن الحج من مجرى عين زبيدة. وفي شمال هذا المسجد بقليل إلى الشرق ترى العلمين وهما عمودان من البناء بعيدان عن بعضهما (أي أحدهما بعيد عن الآخر) بارتفاع خمسة أمتار في عرض نحو ثلاثة، قد أقيما في فضاء الوادي للدلالة على حدود عرفة من الغرب وهنالك نجد الجبل قد حلق على الوادي وقفله أمامك من الشرق (أقفله أي سده) بشكل قوس كبير وهو ما يسمونه جبل عرفة. وعلى طرف القوس من جهة الجنوب الطريق إلى الطائف على كرا، وفي طرفه من جهة الشمال لسان يبرز إلى الغرب يسمونه جبل الرحمة، وسفحه الجنوبي هو حد عرفة من الشمال. اهـ. صفة جبل الرحمة بعرفات: قال ابن جبير الأندلسي في رحلته: (وعرفات بسيط من الأرض مد البصر، لو كان محشر الخلائق لوسعهم، يحدق بذلك البسيط الأفيح جبال كثيرة. وفي آخر ذلك البسيط جبل الرحمة، وفيه وحوله موقف الناس، والعلمان قبله بنحو الميلين، فما أمام العلمين إلى عرفات حل وما دونهما حرم، وبمقربة منهما مما يلي عرفات بطن عُرنة، الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عنه) - ثم قال -: (وجبل الرحمة المذكور منقطع عن الجبال، قائم وسط البسيط، وهو كله حجارة منقطعة بعضها عن بعض. وكان صعب المرتقى فأحدث فيه جمال الدين [1] المذكورة مآثره في هذا التقييد - أدراجًا وطيّة من أربع جهاته، يصعد فيها بالدواب الموقورة وأنفق فيها مالاً عظيمًا. وفي أعلى الجبل قبة تُنسب إلى أم سلمة رضي الله عنها، ولا يعرف صحة ذلك، وفي وسط القبة مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه. وحول ذلك المسجد المكرم سطح محدق به فسيح الساحة جميل المنظر، يشرف منه على بسيط عرفات، وفي جهة القبلة منه جدار، وقد نُصبت فيه محاريب يصلي الناس فيها. وفي أسفل هذا الجبل المقدس عن يسار المستقبل للقبلة دار عتيقة البنيان في أعلاها غرف (وفي نسخة غرفة) ، لها طيقان تُنسب إلى آدم صلى الله عليه وسلم وعن يسار هذه الدار في استقبال القبلة الصخرة التي كان عندها موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في جبل متطأمن) . أقول: هذا الجبل هو جبل إلال (بوزن هلال) قال ابن دريد في وصف الحاج: ينوي التي فضلها رب العلى ... لما دحا تربتها على البنى [2] حتى إذا قابلها استعبر لا ... يملك دمع العين من حيث جرى [3] ثمت طاف وانثنى مستلمًا ... ثمت جاء المروتين فسعى [4] ثمت راح في الملبين إلى ... حيث تحجى المأزمين ومنى [5] ثم أتى التعريف يقرو مخبتًا ... منازلاً بين إلال فالنقا [6] موقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة: اتفق الرواة على أنه صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم عرفة بمنى ورحل منها بعد طلوع الشمس، حتى جاء نمرة، فأقام بها إلى وقت الزوال، ثم جاء بطن الوادي، فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح، فوقف على الموقف من عرفة، وعلى أن المكان الذي وقف فيه، وأشار إليه في الحديث هو المكان المعروف عند الصخرات. وقال: (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف) ، والمراد أنه لم يقف هنالك لمزية لذلك المكان على غيره في أداء النسك، بل يص

الحرب والصلح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب والصلح كثر الخوض في حديث الصلح في السنة الماضية، وقد كانت دول التحالف الجرماني هي التي بدأت بطلب فتح باب المفاوضة في الصلح وكلفت ألمانية الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية قبل انضمامه إلى محاربيها أن يتوسط بين المتقاتلين في الصلح، فكتب مذكرة في ذلك ردت عليها إنكلترة أشد الرد، ورفضتها كل الرفض، وتبعها حلفاؤها بالطبع. ثم إن البابا أرسل رسالة إلى جميع الدول المتقاتلة من الفريقين، دعاهم فيها إلى المبادرة إلى حقن الدماء وعقد الصلح على قاعدة جعْل قوة الحق الأدبية بدلاً من قوة الجيش المادية، وتحديد التسليح البري والبحري والجوي، وحرية البحار وحقوق الشعوب وعدم ضم شيء من أملاك بعضها إلى بعض، وعدم أخذ غرامة حربية وجعل التعويض عن الخراب بالتعاون، وقاعدة التحكيم الإجباري فيما يقع بين الدول من المسائل الخلافية. فلم يستحسن هذه المذكرة من دول التحالف البريطاني إلا حكومة روسية المؤقتة التي سبقت إلى اقتراح قاعدة (لا ضم ولا غرامة) وقد رد الدكتور ولسن على المذكرة ردًّا طويلاً، وافقه عليه سائر الحلفاء، أهم ما فيه أن حكومة ألمانية الحاضرة حكومة أتقراطية لا تثق الحلفاء بعهودها، فيعقدوا معها صلحًا، فالأساس الأول لقواعد الصلح عندهم تحويل هذه الحكومة إلى ديمقراطية تنطق باسم الشعب، فإن لم يبادر الألمان أنفسهم إلى قلب حكومتهم وثل عرش آل هوهنزلرن المؤيد بالقوة العسكرية والاستعاضة عنها بحكومة ديمقراطية فإن الحلفاء هم الذين يفعلون ذلك بالقوة القاهرة، وحينئذ يتم الصلح الحقيقي الذي يستريح به البشر من مصائب الحرب، وقد أيدت الحلفاء الرئيس في رده، وأثنت جرائدها عليه [1] إلا أن بعض الجرائد الإنكليزية كالتيمس - أنكرت منها تفرقة الرئيس بين الحكومة الألمانية والشعب الألماني؛ إذ جعل وزر الحرب على الحكومة وحدها، قالت: (ولكن الشعب الألماني قابل الحرب بحماسة عظيمة، وإن لم يكن هو الذي أعلنها وقد وافق نوابه على جميع الاعتمادات الحربية، وقابلت صحافته الفظائع الجرمانية بهُتاف شديد) . ونقول: إن الظاهر لنا أن الرئيس ولسن يرمي بتبرئة الشعب الألماني من تبعة الحرب وإظهاره الاكتفاء بإسقاط حكومته الإمبراطورية - إلى إغرائه بثورة داخلية على حكومته الممتازة بكونها جهة الوحدة لقوتها وقوة أحلافها، فإن تم هذا تنتهي الحرب في أقرب زمن بأقل خسارة. أما دول التحالف الجرماني فقد قابلت مذكرة البابا بالابتهاج، فأما ألمانية فقد أرسل وزير إمبراطوريتها ردًّا جميلاً إلى وزير خارجية الفاتيكان بأمر مولاه الإمبراطور، بدأه بقوله: (إن جلالته ينظر بعين الاحترام والشكر والسرور إلى المساعي التي يبذلها قداسة البابا لتقصير أجل الحرب وتخفيف وطأتها ... ) إلخ، وتبجح بأن مولاه مازال نصير السلم منذ تبوأ العرش، وبأنه يوافق على أن الشروط التي قالها قداسته من الأمور التي يجب أن تظهر في المفاوضات المقبلة، وبأنه: (ليس في العالم شعب يتمنى الصلح على أساس إصلاح ذات البين بين الأمم وإحلال الإخاء والمساواة محل البغض أكثر من الشعب الألماني) . (وقال) : (فإذا أدركت الأمم المشربة بهذه المبادئ أن الاتفاق خير من الشقاق فإنها تستطيع أن تسوي جميع المشاكل الحاضرة وتمنع وقوع الحروب في المستقبل بإنالة جميع الشعوب ما يلزم لحياتها وسعادتها، فعلى هذا الأساس وحده يحتمل أن يبرم الصلح الدائم الذي يقرب بين الأمم وينهض بالبشرية نهضة كبيرة من الوجهتين المعنوية والاقتصادية. وهذه الثقة هي تحملنا على الاعتقاد أن أعداءنا يجدون في المبادئ التي أعرب عنها قداسة البابا أساسًا تمهيديًّا للصلح المقبل بشروط تلائم روح العدل وموقف أوربا الحالي) . اهـ بنص ترجمة المقطم (في 19 ذي الحجة الماضي) . ورد إمبراطور النمسة الجديد (كرلوس) بنفسه ردًا مشربًا بمنتهى التعظيم والاحترام والقبول؛ لأنه هو الإمبراطور الكاثوليكي الوحيد، ولكنه لم يَفُهْ بكلمة ما تدل على اعترافه بحقوق الأمم والشعوب. وكذلك كان رد الدولة العثمانية على المذكرة بإمضاء السلطان محمد رشاد ردًّا مشربًا بالتعظيم والاحترام، وصرح فيه بالموافقة على القواعد الأساسية التي اقترح أن يبنى عليها الصلح والاستعداد لدرس الطرق التي تؤدي إلى تسوية المشاكل الدولية في إبان مفاوضات الصلح، (قال) : (وإننا نصرح بذلك، وأمام أنظارنا الضمان الكافي على استقلال الأمم وحريتها وارتقائها؛ لأننا رأينا في اقتراح قداستكم أساسًا متينًا للصلح العمومي الدائم وطريقة حسنة لحقن الدماء) . وقال - قبل ذلك -: (لقد أُكرهنا على خوض غمار الحرب دفاعًا عن حريتنا وارتقاء بلادنا. وهذه الغاية الشريفة هي الغاية الوحيدة التي نحارب الآن من أجلها، والتي تكفل لنا المحافظة على حقوقنا واستقلالنا التام في بلادنا وعلى حدودنا القومية) . اهـ من ترجمة المقطم التي نُشرت في عدد 8 المحرم - 25 أكتوبر الماضي. وقد جزم ساسة الحلفاء بأن البابا لم يسعَ هذا السعي إلى الصلح إلا بتوسل ألمانية والنمسة إليه، وأن سبب ذلك الشعور بالضعف والعجز عن الاستمرار على القتال، وأن الغرض منه إغراء الميَّالين إلى الصلح في بلاد أعدائهم من الاشتراكيين وغيرهم بحمل حكوماتهم على عقد الصلح، فما من أمة محاربة إلا وفيها كثير من محبي السلم ودعاته. أما رأي هؤلاء الأحلاف في مسألة الأمم والشعوب فقد بيناه في الجزء الأول، وأما مسألة الغرامة فقد صرحت جرائدهم - ناقلة عن أقطاب ساستهم - أن من أهم شروط الصلح عندهم أن يؤخذ من الجرمان عوض عن البلاد التي خربوها في بلجيكة وفرنسة والبلقان، بعد جلائهم عن هذه البلاد كلها، ومنها رد الإلزاس واللورين إلى فرنسة. وقد جاءت برقيات روتر في 5 المحرم (22 أكتوبر) بنص خطبة طويلة بليغة من خطب لويد جورج رئيس الوزراء البريطانية ألقاها على ملأ عظيم في لندن، كان غرضه الأول منها الحث على الاقتصاد في جميع النفقات واستطرد فيها إلى الكلام في مسألة الصلح، فقال - بعد التصريح بأنه لا يرى في جو السياسة شروطًا تؤدي إلى صلح وطيد الأركان -: (ولكن الشروط الوحيدة المحتملة الآن تؤدي إلى هدنة مسلحة تفضي إلى حرب أشد هولاً من هذه. إن هذه الحرب مخيفة، ولكن ما كشفته من الرزايا التي يحتمل وقوعها في البر والبحر والجو أشد هولاً وأعظم رعبًا؛ فلهذا طلب من الذين يلحون في عقد صلح مبتسر - إذا صح أن هنالك مَن يلح فيه-أن يمعنوا النظر فيما يحتمل وقوعه إذا وقع صلح غير مُرضٍ) ، ثم قال: (يجب علينا في أثناء البحث في شروط الصلح أن نضع نصب عيوننا الغرض العظيم من هذه الحرب، فإن المسألة ليست مسألة تعديل حدود أملاك إلا حيث تقتضي حقوق القوميات هذا التعديل، ولا هي مسألة غرامات إلا حيث تكون الغرامات للتعويض من ضرر، ولكنه في الدرجة الأولى مسألة القضاء على مبدأ فاسد باطل استعبد أوروبة، وأوقع الخوف في قلوب أهلها، أو كاد لو أُتيح له الفوز) (هُتاف) . إن العدو الحقيقي هو روح الحرب الذي نشأ وترعرع في بروسيا، هذا الروح الذي يرمي إلى جعْل العالم مكانًا تتسلط فيه القوة البهيمية تسلطًا لا ينازع فيه أحد، بدلاً من عالم تسكنه ديمقراطيات حرة مرتبطة معًا بعرى السلم الشريفة، وقد أقيم لهذا الروح هيكل يُعبد فيه في بتسدام [2] ، فلا سلم في العالم، ولا حرية إلا إذا دكّ هذا الهيكل، وشتت شمل كهنته، وألبسوا ثوب العار إلى الأبد (هتاف) . وعلقت الرجاء بأننا نتمكن في السنة الحالية من القضاء على هذه القوة الهائلة، وكنا جميعًا ننتظر حركة حربية عظيمة من جميع الجهات تتجه إلى العدو، وتنيلنا هذه الأمنية، ولكن تضعضع قوة روسيا الحربية الموقت، لا أقول إنه خيّب الآمال، ولكنه أجل تحقق الرجاء على أن الزمان في جانبنا.ا. هـ المراد منه. (المنار) إن الحرب السياسية من قولية وعملية أعظم من الحرب الآلية من برية وبحرية، وقد ظهر من براعة البشر في الحرب القلمية، ما هو أدل على الحذق والذكاء من براعتهم في اختراع الآلات والأساليب الحربية، ومن براعة الإنكليز المعهودة في السياسة أن قذفوا الألمان بالدول والأمم، بإزاء قذف غواصات الألمان لبواخرهم بالحمم، حتى صار أعظم دول أمريكة الشمالية وأمريكة الجنوبية حربًا لهم، بل آذنتهم دولة الصين بالحرب أيضًا، فصار عدد نفوس الأمم المحاربة لهم بالذات، وبالتبع زُهاء ألف وخمسمائة مليون، وهم لا يزيدون مع أحلافهم على مئة وخمسين مليونًا، وقد صرحت الجرائد بأن الجيش البريطاني المقاتل في الميدان الغربي وحده لا يقل عن ثلاثة ملايين، وأن الجيش الألماني المقاتل بالفعل لا يكاد يتجاوز أربعة ملايين. وصرحت مرارًا بأن الإنكليز وأحلافهم متفوِّقون على الجرمان في السلاح والذخائر وجميع مواد الحرب أضعافًا كثيرة، بل جاء في برقية لمكاتب المقطم بباريس في 30 مايو الماضي أن الجنرال ز. لندن قال في مقالة له: (يظهر أن النمسة وبلغارية وتركية استنفدت جميع قواتها، وصارت على آخر رمق، وأن هذه الدول الثلاث ما كانت لتثبت لولا همة ألمانية ونشاطها، ولكنها ستتلاشى بنفاد قوتها، وتطرد الوهن إليها) ، وقال عن الجيش الألماني: (إن عدد فرقه كان في شهر إبريل الماضي مئتين وتسع فرق من المشاة، وهذا العدد يساوي عدد المشاة من البريطانيين في ميدان فرنسة، فللفرنسويين والإنكليز التفوق على ألمانية) .ا. هـ نعم، إنهم خسروا قوة روسية، ولكن يقابلها انضمام الولايات المتحدة إليهم، وهذه الدولة أغنى دول الأرض الآن، وهي تقرض الحلفاء المال بمئات الملايين في كل شهر، وتقدم لهم من الذخائر والأغذية والمواد الضرورية للحرب ما خفّ به الحمل الثقيل عن عاتق الإنكليز. ففي مقطم 21 المحرم (7 نوفمبر) مقالة افتتاحية، قال فيها: إن الحكومة البريطانية أقرضت حلفاءها ألفًا ومئتي مليون من الجنيهات، وهي تجود عليهم بالبواخر والفحم والصوف والقطن والزيت والفولاذ، وغير ذلك من المواد الخام التي تكثر في بلادها وفي مستعمراتها. ثم ذكر أن لها في الميدان الغربي نحوًا من ثلاثة ملايين مقاتل. هذا، وإن الأخلاق ركن من أعظم أركان الحرب؛ لأن جميع أعمال البشر من آثار أخلاقهم، فالصبر والثبات في الحرب واجتماع الكلمة خير من كثرة الجيوش، فتأمل تعليل النصر في النص الكريم: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) ، وقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ... } (الأنفال: 45) إلى قوله { ... وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) ، ومعنى كونه تعالى مع الصابرين أن سُنته في خلقه قد جرت بجعْل الصبر من أعظم أسباب الغلب والنصر، ولا سيما إذا صحبه الإيمان بالله عز وجل والثقة به والتوكل عليه، وبمجموع ذلك فاز المسلمون من قبل، فغلبوا الأمم الكثيرة بالفئات القليلة. والصبر والثبات والتعاون من الأخلاق التي امتازت بها الأمم الإنكليزية على كثير من الأمم منذ أجيال؛ لذلك كانت أخلاقهم أنفع لأحلافهم من أموالهم ومتاعهم، فولاهم لم يثبت على حرب الألمان أحد، وهؤلاء الألمان أقران لهم، وأقتال في ذلك، فحرب الأخلاق بينهما هي الجها

مختارات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مختارات من الجرائد (الطعن في رئيس وزراء الإنكليز) الطعن في العظماء والمصلحين في الأمم سُنة من سنن الاجتماع، حوادثها كثيرة في التاريخ، وقد اتهمت جريدتان من الجرائد الإنكليزية مستر لويد جورج رئيس وزرائهم - الذي أظهرت الحرب كفاءته وتفوقه على الأقران - فزعمت أنه فَرَّ من لندن إلى فرنسة عند علمه بإحدى غارات الطيارات الألمانية على العاصمة، وقد كذَّبت الحكومة الجريدتين، فلم تعتذرا عن كذبهما، فرفع الوزير عليهما دعوى لسوء تأثير طعنهما في العامة. وقد عجبنا مما أظهرته الدعوى من كثرة ما سبق من الطعن في الوزير، وهو موضع العبرة التي أردنا ضمها إلى أمثالها من حوادث التاريخ. فقد جاء في مقطم 24 المحرم - 10 نوفمبر، من مقالة في شرح هذه القضية ما نصه: ولما عرضت القضية قال المحامي عن المستر لويد جورج إن موكله يقول: إنه لو كان ما عَزَتْه الجريدتان والشركة عليه طعنًا شخصيًّا في شخصه فقط لرأى أن كرامته ومقامه كرئيس وزراء بريطانيا العظمى يقضيان عليه بأن يتغاضى عنه، ويكتفي بتكذيبه في الصحف التي نشرته، فإن المستر لويد جورج استهدف في حياته السياسية لما لم يستهدف له سياسي آخر من الحملات والمطاعن الشخصية والسياسية، فقابلها كما يجب على الساسة أن يقابلوها، أي أنه عدَّها من الأمور التي لا مناص للسياسي من الاستهداف لها في حياته السياسية. قال المحامي: والمستر لويد جورج يعذرني إذا قلت: إن خصومه ما كانوا يخرجون من مناضلته فائزين. على أن الذي يهم رئيس الوزارة في قضيتنا هذه هو سوء الوقع الذي يقع في نفوس الجمهور من اتهامه كذبًا بالجبن، فقد بلغه أن الناس - ولا سيما في القسم الشرقي من لندن - ساءهم خبر مغادرة كبير وزرائهم للندن للتخلص مما تعرضوا له، ولما كانت هذه التهمة كاذبة لجأ الرئيس إلى المحاكم لينفي فيها على رءوس الأشهاد هذه التهمة الباطلة، ويُطْلع مواطنيه على الحقيقة. ثم ذكر المقطم أن الوزير لما حضر المحكمة وحلف اليمين ألقى عليه المحامي أسئلة أجاب عنها، منها السؤال الآتي مع جوابه: س: ألم أفهم منك أنه لو كان الطعن شخصيًّا موجهًا إلى شخصك فقط لما رفعت هذه القضية؟ . ج: كنت أكتفي بنفي الخبر الذي روته الجريدتان؛ لأني لو سِرت على قاعدة رفع القضايا على كل مَن يطعن فيَّ لما أتيح لي أن أفعل شيئًا آخر. * * * (الإسرائيليون وفلسطين) ترجمة برقية خصوصية للمقطم من مكاتبه بلندن أيدتها برقيات روتر. لندن؛ الجمعة في 9 نوفمبر الساعة 3 بعد الظهر. ذكرت جريدة (جويش كرونكل) أن المستر بلفور وزير الخارجية البريطانية كتب إلى اللورد روتشلد يقول ما نصه: " يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك أنها تنظر بعين الرضى والارتياح إلى المشروع الذي يراد به أن ينشأ في فلسطين وطن قومي لشعب اليهود، وتفرغ خير مساعيها لتسهيل إدراك هذا الغرض. ولكن ليكن معلومًا أنه لا يُسمح بإجراء شيء يُلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي للطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين الآن، أو بالحقوق التي يتمتع بها اليهود في البلدان الأخرى وبمركزهم السياسي فيها ". مكاتبكم بلندن. * * * (مظاهرة الصهيونيين لتحقيق أمانيّهم في فلسطين) جاء في مقطم 16 المحرم - 13 نوفمبر ما نصه: قال وكيلنا الإسكندري أمس: أقام الإسرائيليون - ولا سيما الصهيونيين منهم - احتفالاً كبيرًا أمس في حديقة رشيد بالإسكندرية على إِثْر البيان الذي أبلغه المستر بلفور إلى اللورد روتشلد في شأن تحقيق أماني الإسرائيليين بجعْل فلسطين وطنًا قوميًّا لهم. وقد ألقى بعض خطبائهم في هذا الاحتفال خطبًا تناسب المقام، فشكروا للحلفاء عامة، ولبريطانيا خاصة هذا الوعد الشريف، آملين تحقيقه في القريب العاجل. ثم طاف المحتفلون - وهم في أحسن نظام في شوارع المدينة الكبرى - تتقدمهم الموسيقى وفرقة الكشافة الإسرائيلية، وهم فرحون جذلون بتلك البشرى السارة هاتفون للحلفاء، ولبريطانية العظمى بدوام النصر والظفر. اهـ. * * * (معركة غزة ونتائجها) نشر المقطم تحت هذا العنوان البرقية الآتية: باريس في 8 نوفمبر: إن سقوط غزة من الحوادث التي يمكن أن تنشأ عنها نتائج عظيمة جدًّا، والتي تعد مقدمة لأفول نجم تركيا في الأماكن المقدسة، وتحرير البلاد التي هي مهد الديانة المسيحية. وقد قطعت المواصلات التركية تمامًا مع القوات التي تحارب في بلاد العرب، وصار مصير (المدينة) معروفًا من الآن، وقد احتلت إنكلترا - حليفة ملك الحجاز - كل العراق تقريبًا، وجنوبي بلاد فلسطين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (هافاس)

ما قيل في سقوط بغداد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما قيل في سقوط بغداد (2) نشر المقطم في عدد 28 جُمَادَى الأولى سنة 1335-22 مارس 1917 ترجمة منشور الجنرال مود الذي خاطب به أهل بغداد عقب دخولها فاتحًا باسم ملكه واسم الشعوب التي يحكمها، وقد بدأه ببيان أن غرضهم من الحرب كسر العدو، وإخراجه من البلاد، فمجيء جيوشهم العراق؛ لذلك لا (كما يأتي الغازي الفاتح والعدو الطامع) ، ثم ثنى بذكر تخريب الأجانب للبلاد من عهد هولاكو واستبدادهم فيها، ثم قال: إن جلالة ملكي وشعوبه والأمم العظيمة المحالفة له يرومون لكم السعادة والرخاء وإحياء العصر القديم، لما كان الخصب منتشرًا في دياركم، تضيء العالم بنبراس الآداب والعلم والفنون، ولما كانت بغداد إحدى عجائب الدنيا. إن بين شعبكم وأملاك ملكي علاقات مصلحية وثيقة؛ فقد تعامل تجار بغداد وتجار بريطانيا العظمى منذ مائتي سنة بتمام المودة والصداقة، وجنى الفريقان الربح، أما الألمان والترك الذين نهبوكم فقد اتخذوا بغداد منذ 20 سنة مقرًّا لمهاجمة قوة بريطانيا العظمى وحلفائها في إيران وجزيرة العرب، فلم يسع الحكومة البريطانية إلا أن تكترث لما يقع في بلادكم الآن وفي مستقبل الأيام، فإن الواجب والمصلحة للشعب البريطاني وحلفائه يقضيان على الحكومة أن لا تسمح بأن يتكرر في بغداد ما فعله الترك والألمان في إبان الحرب. ثم خاطب أهل بغداد خاصة، فذكر لهم أن حكومته يهمها يسرهم التجاري وسلامتهم من الظلم والجور مؤمّنًا إياهم من إرهاقها لهم بأحكام أجنبية عنهم، قال: بل هي ترجو أن تحقق آمال فلاسفتكم وحكمائكم وكُتابكم؛ فتزهو بغداد وتزهر وينشط أهلها ويتمتعون بثروتهم ومقتنياتهم في ظل النظام الذي يطابق شرائعكم المقدسة وأمانيكم القومية، وذكَّرهم ثانية بظلم الأجانب واستقلال الحجاز. وختم المنشور بدعوتهم إلى الاشتراك في إدارة شئونهم الملكية مع مندوبي بريطانيا العظمى، الذين يصحبون الجيش البريطاني (قال) : فتتحدوا مع بني جنسكم في الشمال الشرقي والجنوب والغرب على تحقيق آمال العرب. ثم نشر المقطم مقالة في عدد 29 جمادى افتتحه بعبارة طويلة من مقالة لمستشرق بريطاني، دعا العرب فيها إلى اليقظة وطلب الحرية والاستقلال (هي المقالة التي نشرها المقطم في شهر سبتمبر من العام الماضي، وأشار إليها في المقالة التي نقلنا عنه معظمها في آخر الجزء الماضي) ، هذا نصها: هل انحط العرب اليوم أو فسدت أحسابهم وضعفت همتهم؟ ، كلا، لا هذا ولا ذاك؛ فهمتهم لا تزال كبيرة، وأحسابهم لا تزال صحيحة، وهم حافظون لأنسابهم وقد صانوا ما زانهم به الله من قوة وبأس وهمة ونشاط ومضاء عقل وأصالة رأي وشجاعة وإقدام وأخلاق كريمة وسماحة وجود وإحسان، ولكني رأيتهم غارقين في بحور الفاقة، وقد تولاهم التفرق واشتد بهم الانقسام؛ فدانوا لسواهم وخضعوا. وبعد ما كانوا سادة صاروا مسودين، فهل يبقون - بعد أن تضع الحرب أوزارها - كما كانوا لما أضرم أوارها. تشتت شمل العرب ودالت دولتهم منذ عصفت في بلادهم عاصفة هولاكو المغولي واجتاحها السلجوقيون رعاة طوران، فضاع استقلال العرب وباتوا رعية لسواهم، فذلوا بعد العز، وافتقروا بعد الغنى وخيم الجهل على بلادهم بعد ما كانت مطلع الشمس العلم والعرفان، حتى طلع صبح اليوم الذي تفك فيه قيود الأمم المقهورة، فهل يعتبر العرب بما يقع الآن في أنحاء الدنيا، ويجمعون كلمتهم ويبتغون الوحدة القومية لهم ولأبنائهم بعدهم. لقد كان العرب أعداء أنفسهم، فأوسعوا مجال الانقسام بينهم، ولولا ذلك لما تسلط عليهم شعب أدنى منهم وأحط، فالعرب لا تعوزهم الشجاعة، ولا تنقصهم الأخلاق الكريمة، وقد امتد ملكهم من بحر الروم إلى سور الصين، فضُربت الأمثال بنجدتهم، وتحدثت الأمم ببأسهم وشدتهم، ولا يزالون - كما كانوا - من أشد الناس نخوة وأعظمهم حمية، وهم كرمل البحر في الكثرة، فكيف يرضون بالذل، ولا يطمعون بالاستقلال ومساواة الشعوب العظيمة والتمتع بأطايب الحياة ورغد العيش والهناء؟ ! لست أدعو العرب لأن يكونوا سفاحين كالألمان ولا ظالمين كالترك، ولكنني أتمنى لهم أن يكونوا أحرارًا في بلادهم، وأن يطيبوا نفسًا وعيشًا، ويعودوا إلى سابق عهدهم، فينيروا العالم بأنوار حكمتهم وعلمهم، وفلسفتهم وصناعتهم، كما فعل أسلافهم الكرام من قبلهم. إني أسمع صوتًا ينادي من السماء، ويقول: انهضوا يا أبناء عدنان، ويا سلالة قحطان، وأفيقوا من سنة النوم فقد غلبت عليكم ألف عام! ثم قفَّى المقطم على هذه النبذة بالتنويه بمنشور الجنرال مود والثناء عليه، ولكنه هفا هفوة كبيرة في المقابلة بينه وبين ما خاطب به الحجاج أهل العراق؛ إذ وصفهم بالنفاق والشقاق، والفرق بين الحالين عظيم.

المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الجديدة لدينا كثير من مطبوعات السنتين الماضيتين - على قلة المطبوعات في هذا الزمن - لم نفرغ للنظر في شيء منها لنبين مزيَّته، أما وقد طال الأمد فسنذكرها بالاختصار، وأقل حقوق أصحابها الإعلان، ونبدأ بذكر صحيفتين مصريتين: (المجلة السلفية) علمية أدبية أخلاقية تاريخية اجتماعية، تصدر مرة في كل شهر، صاحبها ومديرها عبد الفتاح أفندي قتلان، سنتها عشرة أشهر، وقيمة الاشتراك فيها 20 قرشًا في القطر المصري، و8 فرنكات في الخارج تُدفع مقدمًا، وقد تمَّت سنتها الأولى، فكانت 216 صفحة، وأكثر ما نُشر فيها مختارات من الكتب العربية للشيخ طاهر الجزائري. وهذا وجه تسميتها بالمجلة السلفية. (الحال) جريدة إخبارية اقتصادية قضائية تاريخية، تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، صاحبها ومديرها خليل بك صادق، وقيمة الاشتراك فيها مائة قرش في السنة. وَفاتَهُ أن يذكر في صفتها أنها فكاهية؛ فروح فكاهة صاحبها تتجلى في كل ما يُنشر فيها. *** ترجمة الشيخ سليم البشري أرجأنا بقية هذه الترجمة إلى جزء آخر.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل واتخاذها (س9) من صاحب الإمضاء الرمزي في سنغافوره. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله. ما قول الأستاذ المرشد مولانا السيد محمد رشيد رضا -أرشده الله ورضي عنه - في حكم عمل الصور من الجص والأحجار والمعادن مجسمة، وفي حكم عملها بالحفر أو القلم أو بآلة حبس الظل (الفوتغراف) غير مجسمة، هل هو جائز مطلقًا، أو في بعض الصور، وما الدليل على ذلك؟ وهل تقولون بحرمة ما صُنع للعبادة والتعظيم فقط، أم تذهبون إلى كون التحريم خاصًّا بالزمن المتقدم خوفًا من أن يكون ذريعة إلى عبادة الصور، أما الآن فلا يحرم لانسداد الذريعة؟ وهل يدل على ذلك ترْك الصحابة ما وجدوه في إيوان كسرى من الصور مع صلاتهم فيه؛ لأنها لمحض الزينة أم لا؟ وما حكم الاقتناء لها ولو لحاجة، والنظر ولو لضرورة عسر الاحتراز، أو لكونها عند مَن لا يحرمها؟ أفتونا على صفحات مناركم مأجورين، ولا زلتم قبلة الإفادة، وللصواب موفَّقين، وبإمداد الله مُعانين. حرره في سنقفوره - د. هـ. ن. (ج) سبق لنا قول وجيز في هذه المسألة واقتضت الحال الآن بسط المسألة بالتفصيل، وهو يتوقف على إيراد الأحاديث الصحيحة الواردة فيها، وملخص ما فهمه العلماء المشهورون منها , وقد استوفى الإمام البخاري جُل ذلك في كتاب اللباس من صحيحه، فنعتمد في النقل على ما ورد فيه، فنذكره بغير عزو إليه غالبًا، ونعزو ما ننقله عن غيره لزيادة فائدة فيه، ونعتمد في تلخيص أقوال العلماء على ما أورده الحافظ ابن حجر في الفتح؛ فإنه أجمع الكتب التي نعرفها لذلك ولأمثاله، وإن نقلنا شيئًا عن كتاب آخر نعزوه إليه. * * * الأحاديث الصحيحة في التصاوير والمصوِّرين 1- عن مسلم (هو ابن صبيح أبو الضحى واشتهر بكنيته) ، قال: كنا مع مسروق في دار يسار بن نمير (هو مولى عمر بن الخطاب وروى عنه) ، فرأى في صُفَّته [1] تماثيل، فقال: سمعت عبد الله (هو ابن مسعود) ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: إن أشد الناس عذابًا عند الله المصوِّرون) ، وفي رواية مسلم: (كنت مع مسروق في بيت فيه تماثيل، فقال مسروق: هذه تماثيل كسرى؟ ، فقلت: لا، هذا تماثيل مريم) ، ثم ذكر الحديث. 2- عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم) . 3- عن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: (إني أصور هذه الصور، فأفتني فيها، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل مصوّر في النار، يجعل له بكل صورة نفسًا فتعذبه في جهنم) . وقال: فإن كنت لا بد فاعلاً فاصنع الشجر، وما لا نفس له. ورواه مسلم وأحمد وفي بعض الروايات أن السائل رجل من أهل العراق أراه نجَّارًا، وفي بعضها أنه قال له: إنما معيشتي من صنعة يدي، وأنه عندما ذكر له الحديث انتفخ غيظًا، فرخص له بما ذُكر، ونص المرفوع في رواية أخرى: (مَن صوَّر صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ) ، قال الحافظ ابن حجر وفي رواية أبي سعيد بن أبي الحسن: (فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا) ، واستعمال حتى هنا نظير استعمالها في قوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف: 40) ، وكذا قولهم: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب، ثم ذكر أن هذا أمر تعجيز لا من تكليف ما لا يُطاق، وأنه استشكل في حق المسلم؛ لأنه يدل على الخلود، وأنه يتعيّن تأويله بإرادة الزجر الشديد، وأن ظاهره غير مراد. اهـ ما ذكره الحافظ ملخصًا، وأقول: الأوْلى أن يُحمل على المشركين الذين يصنعون ما يُعبد لعبادته كما يُعلم مما يأتي. 4- عن عمران بن حطان عن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه. التصاليب جمع تصليب وهو مصدر سمي به ما كان فيه صورة الصليب من ثوب أو غيره، ونقضه أزاله، والإزالة تكون بنحو الطمس والحك واللطخ والقطع، وقد ذكر البخاري هذا الحديث في (باب نقض الصور) وذكر الحافظ في وجه مطابقة الحديث للترجمة أنه استنبط من نقض الصليب نقض الصورة التي تشترك مع الصليب في المعنى، الذي هو سبب التحريم، وهو عبادتهما من دون الله. 5- عن أبي زرعة قال: دخلت مع أبي هريرة دارًا بالمدينة فرأى في أعلاها مصورًا يصور، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ... ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرة) . في هذه الرواية حذفٌ عُلم من رواية أخرى، وهو: (قال الله عزوجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق...... إلخ) ، رواها مسلم، وفيها أن الدار دار مروان، وفي رواية له: تُبنى لسعيد أو لمروان، قال ابن بطال: فهم أبو هريرة أن التصوير يتناول ما له ظل، وما ليس له ظل؛ فلهذا أنكر ما يُنقش على الحيطان، يعني ابن بطال أن هذا الفهم غير صحيح، من حيث إن التشبيه في الحديث القدسي لا ينطبق عليه، فإن الله تعالى خلق ذوات ماثلة لا نقوشًا في الحيطان ونحوها، ويمكن أن يقال أيضًا: إن صنع التماثيل ذات الظل - التي شددوا فيها - لا تعد من هذا الظلم إلا إذا قصد صانعها أن يخلق كخلق الله، وقد فسروا (ذهب يخلق) بقصد، وهو رواية حديث ابن فضيل، ويؤيده حديث عائشة الآتي (وهو التاسع) ، إذ قال: (يضاهون بخلق الله) ، وفي رواية مسلم: ( ... يشبهون بخلق الله) ، وإنما يكون هذا بالقصد. 6- عن ابن عباس عن أبي طلحة رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تصاوير) . 7- عن عبد الله بن عمر قال: وعد جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، فراث (أي أبطأ) عليه، حتى اشتد على النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج، فلقيه، فشكا إليه ما وجد، فقال: (إنا لا ندخل بيتًا فيه صورة ولا كلب) هكذا أخرجه البخاري مختصرًا، وهو عند مسلم من حديثي عائشة وميمونة أوضح، وفي الأول: (ثم التفت فإذا جرو كلب تحت سريره، فقال: يا عائشة، متى دخل هذا الكلب ههنا؟ فقالت: والله ما دريت به. فأمر به، فأخرج، فجاء جبريل ... ) ... إلخ، وفي الثاني: (ثم وقع في نفسه جرو كلب تحت فسطاط لنا، فأمر به، فأخرج، ثم أخذ بيده ماءً، فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل ... إلخ) ، وظاهر الحديثين أن امتناع جبريل كان بسبب وجود الكلب؛ إذ ليس فيهما ذكر للصور، وفي الأول أنه رأى الكلب عَرَضًا، ولم يكن عالمًا بوجوده، وفي الثاني أنه كان عالمًا به، وتذكره بعده إبطاء جبريل، وفيهما الخلاف بين السرير والفسطاط، والأول معروف، والثاني بيت من شعر دون السرادق، وقال النووي: أصله عمود الأخبية، والمراد به في الحديث بعض حجال البيت، فيطابق حديث عائشة. اهـ بالمعنى. وفي القصة حديث أبي هريرة عند أحمد وأبي داود والنسائي والترمذي وصححه كابن حبان والحاكم وهو: (أتاني جبريل فقال: أتيتك البارحة، فلم يمنعني أن أكون دخلت إلا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في البيت كلب، فمُر برأس التمثال الذي على باب البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر، فليقطع، فليجعل منه وسادتان منبوذتان توطآن، ومر بالكلب فليخرج) ، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الكلب جرو كان للحسن والحسين تحت نضد لهم، وفي رواية النسائي: (إما أن تقطع رءوسها، وإما أن تجعل بسطًا توطَّأ) والنَّضَد بفتحتين: ما ينضد من متاع البيت، يجعل بعضه فوق بعض، وما ينضد عليه ذلك المتاع من سرير وغيره، فهو يطابق حديث عائشة من هذا الوجه. ظاهر هذا الحديث أن الواقعة كانت في بيت علي وفاطمة، وظاهرُ حديثِ كُلٍّ من عائشة وحفصة أنها كانت في بيتها. ومن الاضطراب في هذه الروايات أن حديث ابن عمر صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج، فلقى جبريل خارج البيت، وظاهر حديث عائشة أن جبريل دخل البيت بعد إخراج الكلب، وصرحت عائشة وحفصة بأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الكلب قبل لقاء جبريل بعد رؤيته، أو تذكره، وصرح أبو هريرة بأن جبريل هو الذي أخبره به، واقترح عليه إخراجه، وعادة العلماء أن يجمعوا بين أمثال هذه الروايات المتعارضة بتعدد الوقائع، وعليه يترجَّح أن يكون ما رواه أبو هريرة وقع أولاً، فعلم منه النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل لا يدخل مكانًا فيه كلب؛ ولذلك أمر بإخراج الكلب بعد ذلك لما رآه أو تذكره، لعلمه مما سبق أنه هو سبب تأخر جبريل، ولكن في حديثي عائشة وحفصة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم سبب تأخُّر جبريل عليه السلام؛ لأنه سأله عنه، فقال - في حديث عائشة -: (منعني الكلب الذي كان في بيتك ... إنا لا ندخل ... ) ... إلخ. وذكر النووي في سبب الامتناع أربع علل: 1- كثرة أكل الكلاب للنجاسات. 2- قبح رائحتها، أي رائحة بعضها. 3- أن بعضها يسمى شيطانًا، وهو الأسود القبيح المنظر. 4- النهي عن اتخاذها، ولهذا الأخير قال الخطابي: إن الامتناع خاص بما نُهي عنه، دون المأذون فيه ككلب الماشية والزرع والصيد، وخالفه النووي، فقال بالتعميم في الكلاب، ولكنه خص الملائكة بملائكة الرحمة. 8- عن أنس رضي الله عنه قال: (كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أميطي عني؛ فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي) ، أميطي: أي نحِّي وأزيلي، وفيه حذف المفعول، ورواية مسلم: (أزيليه) . 9- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر، وقد سترت بقرام لي على سهوة لي فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم هتكه، وقال: أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت: فجعلناه وسادة أو سادتين) . وفي رواية للبخاري في المظالم، ( ... قالت: فاتخذت منه نمرقتين، فكانتا في البيت يجلس عليهما) ، وفي رواية لمسلم: ( ... فجعلته مرفقتين، فكان يرتفق بهما في البيت) ، وفي لفظ أحمد: فقطعته مرفقتين، فلقد رأيته متكئًا على إحداهما، وفيها صورة، والنمرقة والمرفقة: الوسادة كما سيأتي. 10- وعنها أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بالباب فلم يدخل، (قالت) : فقلت: أتوب إلى الله مما أذنبت. قال: ما هذه النمرقة؟ ! قلت: لتجلس عليها وتوسدها. قال: إن أصحاب هذه الصور يعذَّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصور) وفي رواية مسلم: (اشتريتها لك؛ تقعد عليها، وتوسّدها) . والفقرة المرفوعة منه: (إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة) . 11- وعنها قالت: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، وعلقت دُرْنُوكًا فيه تماثيل فأمرني أن أنزعه، فنزعته، هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم: ( ... وقد سترت على بابي درنوكًا، وفيه الخيل ذات الأجنحة) ، وفي لفظ آخر عنده: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي، وقد سترت نمطًا فيه تصاوير، فنحاه، فاتخذت منه وسادتين) وستور الدرنوك، والنمط جنس واحد كما سيأتي. 12- عن بشر بن سعيد عن زيد بن خالد (الجُهني الصحابي) عن أبي طلحة (زيد بن سهل الأنصاري) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه الصورة) (وفي نسخة (الصور) وفي أخرى (صور) قال بشر: ثم اشتكى زيد (أي ابن خالد) فعُدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة (وفي نسخة صور) ، فقلت لعبيد الله الخولاني ربيب ميمونة زوج النبي صلى ال

رحلة الحجاز ـ 7

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز (6) صفة الوقوف بعرفات: بلغنا عرفات في وقت السحر، فألفينا الخيام قد ضُربت لنا وفُرشت، فنزلنا فيها، ولما طلع النهار وجدنا أنفسنا بالقرب من مسجد الصخرات، حيث كان موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورأينا أكثر الحجاج في هذا الجانب من بسيط عرفات وسائر الجوانب والأجواز خالية، وفي بعضها قليل من الحجاج، ولبعض حجاج الأقطار مواضع خاصة يقفون فيها كل عام، كما يرى القارئ في صورة الموقف من الفصل السابق. ويقف كثير من عرب الجزيرة في جبل الرحمة ويصعده كثير من حجاج الأقطار الأخرى كما علم مما تقدم. وكانت خيام الشريف في موضعها المعتاد من وسط ذلك البسيط، وكان السبب في بُعدها عن مسجد الصخرات وموقف الإمام أن يسهل على أي فريق من الحجاج الوصول إليه للزيارة أو الشكوى في زمن قصير. وإنني - بعد كتابة ما تقدم من وصف عرفات - اطَّلعت على كتاب دليل الحج لمحمد باشا صادق المصري المهندس، أحد ضباط أركان الحرب، الذي طُبع سنة 1313، فإذا فيه: إن مساحة البقعة المستوية من عرفات (كيلو متر مربع) ، أي نحو ألفي ذراع بذراع الآدمي - وهو من رؤوس الأصابع إلى المرفق - والذي يتراءى للنظر أنه أوسع من ذلك، وهذا المكان لا يسع مئات الألوف من الحجاج، ولكن كثيرًا منهم يقفون في جبل الرحمة وفي غيره مما إلى ذلك البسيط من الجبال، وجبل الرحمة يرى في المساء مكتظًا بالحجاج من سفحه إلى قنته. وارتفاعه نحو من ستين ذراعًا (30 مترًا) ، وطوله قريب من ستمائة ذراع (300 متر) ، كما قال محمد صادق باشا، قال: وأعلى هذا الجبل سطح مستوٍ مبلط بالحجر، مربع في نحو عشرين مترًا، وفي وسطه مصطبة، طولها سبعة أمتار في (عرض) سبعة، وارتفاعها متر ونصف، وفي ركنها الغربي عمود، ارتفاعه أربعة أمتار في عرض مترين، يُرى من أسفل الجبل كمنار للطريق. اهـ. وأقول: إن هذا منار لا كالمنار، ولا يُشترط في مسمى المنار لغةً أن يُوضَع في أعلاه أو أثنائه نور، وإنما هو العلم الذي يُهتدَى به، وهذا المنار يراه حجاج الآفاق من الجهات المختلفة. قد فاتنا لقلة الحجاج رؤية منظر من أعظم المناظر المؤثرة في النفس، المحركة لشعور الخشوع والعبودية في القلب، وهو رؤية تلك البقعة الشريفة غاصَّة بالشعوب الوافدة من جميع أقطار الأرض، ملبّين داعين، باكين خاشعين، يجأرون إلى الله عز وجل على اختلاف لهجاتهم، الناشئة عن اختلاف لغاتهم، يرددون الأذكار المأثورة بالعربية، ويدعون الله ما شاءوا بلغاتهم المختلفة. قال صديقنا محمد لبيب بك في رحلته - بعد وصف عرفات والكلام على الوقوف -: عند وصول الحجاج إلى هذا الوادي ينزل ركب المحملين (أي المصري والشامي) بخيامهم قريبًا من جبل الرحمة، يليهما مضارب الحجاج على اختلاف أجناسهم، وعلى سفح عرفة من عاليه إلى جبل الرحمة - ترى حجيج الأعراب محتشدين إلى جوف الجبل، بعضهم فوق بعض كالبنيان المرصوص. أما باقي الحجيج فإنه ينصب الخيام في بطن الوادي الذي يزدحم إليه الناس حتى لا تكاد ترى فيه مكانًا خاليًا من واقف وقاعد، وجمالهم وحميرهم مربوطة بجوارهم، وترى الكل في صعيد واحد؛ حتى يتعذر على الإنسان السير إلى جهة أراد، ولو لضرورة في نفسه، ولو كان مولانا الشريف يأمر بتقسيم وادي عرفة إلى أحذية أفقية (أي أمكنة متحاذية كالصفوف) ، يقسمها شارع رأسي، ويخصص كل حذاء لسكنى جماعة من الحجيج وجمالهم من ورائهم. وتوضع لذلك علامات من البناء، لا يتجاوزها الحجاج في وضع مضاربهم، ولا الجَمَّالة في ربط جمالهم، ويعين لهذا النظام مَن يحفظه مع الدقة - لكان له شكر الله والملائكة والناس أجمعين. وفي سعة الوادي ما يضمن لدولته إقامة الكل على الراحة التامة؛ لأن هذا التزاحم إنما سببه التقرب من مجرى الماء ومن السوق الذي تراه بجوار مسجد الصخرات (ويباع فيه بعض الأغذية الضرورية) ، وربما كان لتزاحمهم سبب آخر، وهو خوفهم من الأعراب الذين يكون لهم من ذلك الرحاب عون على النهب والسلب، وبسبب هذا التزاحم يضل الناس عن أمكنتهم إذا تركوها لأمر ما؛ ولذلك تراهم ينادون بعضهم - أي أنفسهم - إما بأسمائهم أو بألفاظ اصطلح عليها أهل كل جهة، حتى إذا سمعها واحد منهم أجابه بصوت عالٍ وقصد مصدر الصوت. وهذه الحركة لا تكاد تنقطع مدة الإقامة بعرفة. اهـ. وأقول: إننا لم نشاهد شيئًا من ذلك لقلة الحجاج، وهذا يؤيد ما قلنا من قبل إن التعارف بين الشعوب في عرفة لا يتيسر. وذكر ابن جبير الأندلسي في رحلته أن الجمع الذي كان في عرفات في سنة حجه - وهي سنة 579 - لا شبيه له إلا الحشر، وأن المحققين من الأشياخ المجاورين زعموا (أنهم لم يعاينوا قط في عرفات جمعًا أحفل منه، وأنه ما رؤي - من عهد الرشيد الذي هو آخر مَن حج من الخلفاء - جمع في الإسلام مثله) . ثم قال: (فلما جمع بين الظهر والعصر يوم الجمعة المذكور وقف الناس خاشعين باكين وإلى الله عز وجل في الرحمة متضرعين، والتكبير قد علا، وضجيج الناس بالدعاء قد ارتفع، فما رُؤي يوم أكثر مدامع، ولا قلوبًا خواشع، ولا أعناقًا لهيبة الله خوانع خواضع، من ذلك اليوم. فما زال الناس على تلك الحالة والشمس تلفح وجوههم إلى أن سقط قرصها وتمكن وقت المغرب وقد وصل أمير الحاج مع جملة من جنده الدارعين ووقفوا بمقربة من الصخرات عند المسجد الصغير المذكور وأخذ السَّر واليمنيون مواقفهم بمنازلهم المعلومة لهم في جبال عرفات المتوارثة عن جدّ فجدّ من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لا تتعدى قبيلة على منزل أخرى، وكان المُجتمِع منهم في هذا العام عددًا لم يجتمع قط مثله، وكذلك وصل الأمير العراقي في جمع لم يصل قط مثله، ووصل معه من أمراء الأعاجم الخُرَاسانيين، ومن النساء العقائل المعروفات بالخواتين (واحدتهن خاتون) ومن السيدات بنات الأمراء وكثير ومن سائر العجم عدد لا يحصى، فوقف الجميع، وقد جعلوا قدوتهم في النفر الإمام المالكي؛ لأن مذهب مالك رضي الله عنه يقتضي أن لا ينفر حتى يتمكن سقوط القرصة ويحين وقت المغرب، ومن السر واليمنيين مَن نفر قبل ذلك. فلما أن حان الوقت أشار الإمام المالكي بيديه ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعًا ارتجت له الأرض، ورجفت الجبال، فيا له موقفًا ما أهول مرآه، وأرجى في النفوس عقباه، وجعلنا الله ممن خصه فيه برضاه، وتغمده بنعماه، إنه منعم كريم حنان منان) . اهـ. المراد منه. * * * وقوفنا بعرفات وتأويل رؤيا صادقة: زرت في أثناء النهار الأمير الشريف مع بعض الإخوان فجئت سرادقه راكبًا فرسًا لبُعده عن موقفنا. ورأيت سوق عرفة وهي بقرب مجرى عين زبيدة كما يُعلم من الصورة التي نشرناها. ولما رأيت مجرى عين زبيدة هنالك ووجدتها تنحدر بقوة في مجاريها الواسعة المبنية، تذكرت رؤيا كنت رأيتها بمصر قبل ثورة الحجاز، وكتبتها وذكرتها لكثير من الناس: رأيت في جمادى الأولى سنة 1334 أنني في مكة المكرمة ومعي رفيق لي، فدخلنا المسجد الحرام، ثم أردنا أن نخرج لحاجة لنا فسمعنا أذان العصر، فقلت لرفيقي: لا ينبغي لنا أن نخرج، وقد أدركتنا الصلاة إلا بعد أدائها في المسجد، وبينما أنا جالس في المصلى بالقرب من الكعبة المعظمة رأيت الشريف حسينًا أمير مكة جالسًا أمامي من جهة يميني قريبًا مني واعتقدت أنه جاء ليصلي بالناس إمامًا، فالتفت إليَّ من جهة يساره وقال لي: أبطأت علينا، إننا منذ زمن ننتظر قدومك إلينا. وبعد أن خرجنا - ولم أره صلى ولا أننا صلينا معه - رأيت معي بعض رجاله، وأننا ذاهبون بأمره إلى أحد دوره - أي غير دار الإمارة - لأكون فيها ضيفًا عليه، وبَيْنَا نحن نسير غربًا جنوبيًّا رأيت في شارع واسع ممتد من الجنوب إلى الشمال ماءً غزيرًا صافيًا مندفعًا بقوة في مجرى واسع مبنِيٍّ بالحجارة، وله فرع إلى الغرب وفرع إلى الشرق، فوقفت متعجبًا من قوة جريان ذلك الماء وقلت في نفسي: أهذا ماء عين زبيدة؟ ، ما سمعنا أحدًا من الحجاج ذكره بهذا الوصف، وهذه القوة في الجريان لا تكون إلا بقوة دافعة كالكهربائية أو البخارية. ورأيت في الطريق دارًا جديدة ممتازة بين دور مكة ببياضها من الخارج، علمت أنها خاصة بنساء الشريف، وخطر في بالي أن دار الضيافة التي خُصصت لي سأكون فيها قبل مع الشريف عبد الله أحد أنجال الأمير. هذا ما رأيته في نومي قبل ثورة الحجاز بعدة أشهر، ولما حدثت الثورة وأعلن الاستقلال خطر في بالي أنه ربما كان تأويل رؤياي إصلاحًا جديدًا تحيا به مكة ويمتد إلى سائر الجهات كامتداد ذلك الماء الذي رأيته؛ فإن الله تعالى يقول: {وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) ، ولما جئت مكة حاجًّا ظهر لي من تأويل الرؤيا أنه كان معي رفيق، وأنني كنت ضيفًا للأمير، وأنه رحب بي أحسن ترحيب، وكان ينتظر مجيئي، وأن دار الضيافة كانت في الجهة الغربية من الحرم الشريف، وأن الشريف عبد الله زارني في هذه الدار، وأنني رأيت دارًا بيضاء قيل لي: إنها دار حرم الأمير الخاص، وأن الناس تحدثوا بأنه سيبايَع بالخلافة والإمامة الخاصة قد تؤول بالإمامة العامة، وكل منهما كان متوقعًا، ولم يقع وأما مصدق الرؤيا في مسألة الماء فلم أشاهده في اليقظة على نحو ما رأيته في النوم إلا في عرفات، فالمجرى المبني وطوله وامتداده يشبه الذي رأيت إلا أن سرعة اندفاع الماء وقوته كانتا دون ما رأيت في النوم، والفرق يسير، فهذه الرؤيا من أوضح الرؤى، وأجلاها تأويلاً، وهي حجة على الذين ينكرون الرؤى الصادقة. * * * الحالة الروحية في الوقوف والنفر: إن الحالة الروحية لا تبلغ الكمال في عرفات ظاهرًا وباطنًا إلا في أصيل ذلك اليوم العظيم، ففي أول النهار يعرض لأكثر الناس شواغل تشغل حواسهم وجوارحهم وأفكارهم، منها ضروريات الأكل والشرب، ومنها رؤية المناظر الجديدة من تلك البقعة الجامعة لشعوب كثيرة، وما يحيط بها من الخيال، فهذه المناظر تشغل كثيرًا من الناس بصورتها، وشكا في أول العهد برؤيتها، عن معناها وحكمة كوْن السير إليها والوقوف فيها عبادة لله تعالى، وفي أثناء النهار يأكل الناس طعامهم، ويستريح أكثرهم في خيامهم ومضاربهم، أو في ظلال الجبال، ولا سيما إذا كان الحر شديدًا، فإذا جاء وقت العصر جمعوا متاعهم وشدوا رحالهم وفرغوا قلوبهم للذكر والدعاء، وازدحموا عند موقف الخطيب من جبل الرحمة، حرصًا على سماع الخطبة، أو الاشتراك مع الألوف من إخوانهم في التكبير والتلبية، وقد بينَّا في المناسك أن الشرع لم يجعل لعرفة ذكرًا ولا دعاءً خاصًّا، بل ترك ذلك للأفراد. ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي بعرفة في الخطبة ولا في غير الخطبة، ولكن صح أنه كان يلبي بين المشاعر ذهابًا وإيابًا، وهي منى ومزدلفة وعرفة. ودعا على ناقته بعرفة رافعًا يديه، ولم يرد في الصحاح نص ذكره ولا دعائه، واستحسن العلماء ذكر ما ورد في الضعاف كقول: (لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير) روي عن عدة من الصحابة مرفوعًا، وإنه خير ما يقال. قضينا جل نهار عرفة بذكر الله والدعاء وتيسر لي - والحمد لله - الاغتسال فيه، وصلينا الظهر والعصر جميعًا في مسجد الصخرات، ورأينا هنالك خطيب عرفة وهو نائب الشرع بمكة وقد صعد بناقته، فاستوى على تلك الصخرة من جبل الرحمة ذات التاريخ الإسلامي العظيم، وقد أحاط ب

الحرب والصلح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب والصلح عقدت الهدنة بين الروس وأعدائهم وألف الفريقان لجنة من مندوبي كل دولة منهما للبحث في شروط عقد الصلح، وفي عدد جريدة الأهرام - الذي صدر في 11 ربيع الأول - أن وزير خارجية الألمان الذي رأس الجلسة الأولى جعل الغرض من الاجتماع إعادة الصلات الاقتصادية والأدبية إلى ما كانت عليه قبل الحرب. وأن الوزير الروسي (كامنف) تلا برنامج حكومة الروس المعروف الذي تقترح جعْله أساسًا للصلح العام، وخلاصته أن يكون الصلح بلا ضم ولا غرامة. وأن يُعطى كل شعب تحكمه أمة أخرى الحرية والاستقلال، إما بالاعتماد على رأيه بعد سحب القوة الغاصبة من بلاده، وإما بالاعتماد على الرأي الذي أظهرته صحافة ذلك الشعب وجمعياته. وتعد حكومة روسية مواصلة القتال لتقتسم الشعوب الغنية الشعوب الصغيرة الفقيرة جريمة لا تُغتفر! ثم قالت الأهرام: وقد جاءنا اليوم بيان أتم عن مطالب الروس: (1) العدول عن كل ضم وفتح بالقوة. (2) إعادة استقلال البلاد التي اجْتِيحت. (3) منح كل عنصر الحق بأن يختار الحكم الذي يريده. (4) التفادي عن ضرب الغرامة الحربية وتقرير التعويض على الأفراد. (5) إنشاء صندوق دولي من أموال الجميع لدفع التعويضات. ثم ذكرَتْ أمرًا ثالثًا أُعلن في الجلسة وهو (رغبة الألمان بأن يشترك جميع المتحاربين بمفاوضات الصلح حتى تقررت دعوة مندوبي فرنسا وإنكلترة وإيطالية والولايات المتحدة إلى المفاوضات) . ومن الناس من يرتاب في إخلاص الدولة الألمانية في إظهار ارتياحها إلى دخول جميع الحلفاء في مؤتمر الصلح ولا يرتابون في إخلاص النمسة، ويرى هؤلاء أن إيعاز الأولى إلى حكومة (البولشفيك) الروسية التي لم يعترف بها الحلفاء بأن تدعوهم إلى الاشتراك معها في مفاوضات هذا الصلح في بلادها يراد به اضطرار الحلفاء إلى الإباء والرفض، ويؤيد ذلك ما قاله السنيور (أورلندو) رئيس وزارة إيطالية في خطابه بمجلس الشيوخ وهو: إنه قد حان الوقت لكشف الغطاء عن ألاعيب دولتي الوسط اللتين تبذلان كل وسيلة لشد عزائم شعوبهما ولتسويد صفحة خصومهما بادعائهما أنهما تريدان الصلح وأن الحلفاء يرفضونه. فالحلفاء هم الذين يريدون الصلح وهم وحدهم يريدونه ولكنهم يريدونه على شكله الممكن أن يجعله صلحًا عادلاً شريفًا دائمًا باتفاقات جلية صادقة. أما إمبراطوريتا الوسط فإنهما تتبعان خطة غريبة، تطلبان بها من الحلفاء أن يعودوا إلى مواصلتهما على يد حكومة لم يعترف بها الحلفاء؛ لأنهما حكومة وقتية إلى أن تجتمع الجمعية الدستورية؛ ولأن شطرًا كبيرًا من روسيا لم يعترف بها. هذا من حيث الشكل، وأما من وجهة الجوهر في مقترح الصلح فإن مندوب البولشفيك يظن أن باستطاعته أن يقول إن الشطرين الأولين من مقترحات الصلح مقبولان، وهما أولاً إعادة الممالك التي فقدت استقلالها من جراء الحرب، وثانيًا الجلاء عن الأراضي التي احتلت مع العدول عن الضم، وإنكم لترون أن في هذا القول ضلالاً، ففي الحقيقة أن الشطر الثالث المتعلق بالشعوب الخاضعة لأمم ليست منها - لم يقبله الألمان والنمسويون. (وضرب لذلك مثل أمانيهم القومية والإلزاس واللورين) . ثم رغب الخطيب في بيان ضرر العودة إلى الحالة القديمة؛ لأنه ليس في هذا القول ضمانة إذا ما قبل الشرطان اللذان قال بهما البولشفيك أولاً؛ لأن إمبراطوريتي الوسط أعلنتا أنهما لا تنويان إزالة الاستقلال السياسي من البلاد التي احتلتاها فلفظة (الاستقلال السياسي) لا تنفي الاعتداء على الاستقلال الآخر كالاستقلال الاقتصادي مثلاً؛ ولأنها لا تتضمن أيضًا عودة المملكة المستقلة إلى جميع أراضيها كاملة. أضف إلى ما تقدم أن لفظة (استقلال الشعوب) هي لفظة مبهمة لا تزيل الشكوك وما تضمره دولتا الوسط من المطامع فإنهما تقولان: إنهما لا تريدان ضمًا بالقوة، ومعنى ذلك أنهما تنويان ضمًّا بغير قوة. فمتى إذن يمكن أن يوصف الضم بالقوة؟ ، فالجواب على ذلك أن الأمر معلق على وجود القوة وعلى شكل الخيار الذي يعرض على الشعوب الموجودة تحت نير الغازي، أضف إلى هذا هل يعتبر الضم ضمًّا عند ما لا يمكن ذكر الضم بالقوة في المعاهدات الدولية. فبالصيغة التي تعرضها دولتا الوسط صيغة مبهمة تتحمل الريب والشكوك، وتدلنا على أننا لا نزال بعيدين جدًّا عن المبدأ الأول الذي يمنع كل الضم) اهـ المراد منه نقلاً عن عدد 4 يناير من الأهرام. وقد أفادت البرقيات المنشورة بهذا التاريخ أن مفاوضات الصلح أوقفت؛ لأن ألمانية تزعم أن شعوب الولايات أو الممالك الأربع التي انتزعتها من الروسية - وهي البولندية والكورلندية واللتوانية والأستونية - قد جهرت برغبتها في الانضمام إلى ألمانية فيجب أن تكون ألمانية، وإن الروس ينكرون عليها ذلك، وإن وزير خارجيتهم تروتسكي خطب في اللجنة المركزية لحزب العمال والمجندين فأنكر ذلك أشد الإنكار؛ لأن إظهار الشعب الرغبة في مسألة الحكم لا يكون صحيحًا مع وجود الاحتلال الأجنبي والقوة العسكرية. وفي برقية لروتر من لندن وردت في 2 يناير أن اللجنة أقرت الوزير الخطيب على خطابه، ووضعت قرارًا بفحواه، قالت في آخره: فنحن ندافع عما لبولندا ولتوانيا وكورلندا من الحق في بت مصيرها، والحكم في مستقبلها بتمام الحرية، ونقول لشعوب النمسا وألمانيا وبلغاريا وتركيا اذكروا أن التعجيل في عقد صلح ديمقراطي يتوقف عليكم، فقد سالت دماؤكم وأصابكم الإعياء والجهد في حرب عديمة المثيل، فلا تسمحوا لدعاة السلطة والفتح من النمسويين والألمان أن يحاربوا روسية الثورية لإخضاع بولندا ولتوانيا وكورلندا وأرمينية. (المنار) قد سبقنا فبيَّنَّا في الجزء الأول من هذا المجلد ما قررته الروسية ورئيس الوزارة الإيطالية اليوم في مسألة حرية الشعوب واختيارها لكل الحكومة الذي ترضاه لنفسها، وبينا في الجزء الرابع - الذي قبل هذا - أهم ما يشترط الحلفاء للصلح. وبعد كتابة ما تقدم وإعداده للطبع جاءنا البرق بخطبة رئيس الوزارة البريطانية، ثم بخطبة رئيس الولايات المتحدة، وهما أصرح ما قاله الحلفاء في أسباب الحرب وشروط الصلح، ويعد ناسخًا لكل ما يخالفه * سيد القول ما يقول الرئيس * وسيعلم منهما حقيقة غرض الحكومة الألمانية، وهل هي تريد الصلح حقيقة فيما تتخذه من الوسائل الصورية له كما يقال، أم تريد به إيقاع الشقاق بين أعدائها كما قال رئيس الحكومة الإيطالية، أو إقامة الحجة عليهم بأنهم هم طلاب الحرب والفتح كما يظن كثير من الناس. ولعل هذه الصراحة من الحلفاء تضطرها إلى التصريح بشروط الصلح التي ترضاها، فإنها لما تصرح بشيء إلا طلب حرية البحار. ونسأل الله تعالى أن ينصر الحق والعدل وحرية الشعوب المستضعفة على الباطل والظلم وقوة الاستبداد والاستعباد، ويكشف عنها حجب الخداع والرياء. إن ربي سميع الدعاء.

تنبيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنبيه اضطررنا إلى تأخير تتمة الشيخ سليم البشري.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حكم التصوير وصنع الصور والتماثيل واتخاذها (تابع لما في الجزء الخامس) (ملخص ما تقدم من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء في شرحها وفقهها) أما الأحاديث فتلخص في سبع مسائل: (1) أن المصورين يعذبون يوم القيامة ويكلفون إحياء ما صنعوا تعجيزًا، ووصفهم بالظلم الشديد لقصدهم مضاهاة خلق الله. (2) لعن المصور كما لُعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال فيهم: إنهم كانوا يصورون الصالحين منهم، ويضعونها في معابدهم، ووصفهم بأنهم شر الخلق. (3) إنكار نصب الستور التي فيها الصور والتماثيل وهتكها أي إزالتها. (4) تعليل الإنكار تارة بأننا لم نؤمر بكسوة الحجر والطين، وتارة بكونها في المصلى تعرض للمصلي في صلاته، وتارة بعدم دخول الملائكة بيتًا فيه صورة أو كلب. (5) اتخاذ الثياب التي فيها الصور وسائد ومرافق واستعمال النبي صلى الله عليه وسلم لها مع بقاء الصورة فيها، كما صرح به في رواية الإمام أحمد. (6) أن تغيير الصورة الحيوانية بما تصير به أشبه بالشجر - كقطع رأسها - يبيح اتخاذها. وفي معناه فتوى ابن عباس للمصور العراقي. (7) نقض التصاليب وإزالتها. وأما الآثار عن الصحابة والتابعين في المسألة: (فمنها) استعمال زيد بن خالد الصحابي للستر الذي فيه الصور، وهو أحد رواة حديث: (إن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه صورة إلا رقْمًا في ثوب) ، فهو لم يشترط أن يكون الثوب الذي فيه الصورة مهانًا. (ومنها) اتخاذ أحد أعاظم أئمة التابعين القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه الحجلة التي فيها تصاوير القندس والعنقاء، وهو ربيب عمته عائشة الصديقة، وأعلم الناس بحديثها وفقهها، وقد روى عنها حديث النمرقة. (ومنها) استعمال يسار بن نمير مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وخازنه - الصور في داره. وقد روى عن عمر وغيره، وهو من الثقات كما قال ابن سعد وابن حبان. (ومنها) صنع الصور في دار مروان بن الحكم أو سعيد بن العاص وكل منهما ولي إمارة المدينة، وكانا من التابعين، روى الشيخان عن الأول ومسلم عن الثاني، وهو خير من الأول. وقد انتقد على البخاري روايته عن مروان، وأجابوا عنه بأنه ثقة في الحديث وإنما ذنوبه عملية سببها السياسة، أعاذنا الله من شرها وشر أهلها. وعمل مروان لا قيمة له في الاحتجاج إلا أنه يدل على أن التصوير كان مستعملاً في عصر الصحابة، ولكن أبا هريرة أنكر ما رآه في داره، وكان من أعلم الصحابة بأحداث بني أمية، وأخبر بعضها قبل وقوعها. وكذلك أنكر ابن عباس على المصور العراقي تصويره للحيوان، وأفتاه بتصوير النبات. وأما أقوال العلماء في شرحها وفقهها، فمنهم مَن شدد فيه ومَن خفف، وأشهر المشددين من محققي الفقهاء من القرون الوسطى أبو بكر ابن العربي والنووي فقد جزما بتحريم التصوير مطلقًا، وإن كان الأصل أن ما حلّ اتخاذه واستعماله حل صنعه. وقال الأول: إن ما له ظل كالتماثيل ذات الأجسام يحرم اتخاذه بالإجماع، وبين الحافظ ابن حجر أن حكاية الإجماع غير صحيحة؛ لتصريح الجمهور بحل لعب البنات لصحة الحديث بذلك، ونقل عن القرطبي حكاية قولين فيما لا يتخذ للإبقاء كتماثيل الفخار، وجعل إلحاق ما يصنع من الحلوى بالفخار وبلعب البنات محل تأمل. وأقول: إن تماثيل الحلوى التي تصنع بمصر في أيام الموالد أقل بقاءً مما يصنع من الفخار؛ لأنها لا تلبث أن تؤكل، وهي تؤخذ للأطفال كلعب البنات، فالقول بحلها أظهر من القول بحل ما يتخذ من الفخار، وأما ما لا ظل له من الصور فحكيا في اتخاذه أربعة أقوال: (1) الجواز مطلقًا، (2) المنع مطلقًا، (3) تحريم ما كانت الصورة فيه تامة، وجواز ما قطع رأسها أو تفرقت أجزاؤها، (4) جواز ما يُمتهن دون ما كان معظمًا كالمعلق. وقد رجَّحا الثالث ورجَّح الحافظ ابن حجر الرابع. وقد علم من هذا التفصيل كلام المحققين بالإجمال. ومن التفصيل فيه قول الحافظ: مذهب الحنابلة جواز الصورة في الثوب، ولو كان معلقًا إلا أن يكون على جدار، ومذهب القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه أن ما لا ظل له لا بأس باتخاذه مطلقًا، فقد صح أنه كان في بيته بمكة حجلة فيها تصاوير كما تقدم، ومنه حمل أبي علي الفارسي الوعيد بعذاب المصورين على المشبهة الذين يعتقدون أن لله تعالى صورة كصور خلقه، تعالى عن ذلك، وجعل الحافظ ابن حبان حديث امتناع الملائكة من دخول بيت فيه صورة خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل بعضهم إياه خاصًّا بملائكة الوحي ومقتضاهما أنه انقطع، وجعله الكثيرون خاصًّا بملائكة الرحمة، وخصَّصه بعضهم بالصفة، كما تقدم في (ص 229) ، ومنتهى التخفيف قول بعضهم: إن الوعيد على تحريم التصوير خاص بمن كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وأما الآن فلا. وردّه ابن دقيق العيد كما قال الحافظ في الفتح. والتحقيق أن الأصل في الوعيد على التصوير قسمان: أحدهما: لا يتحقق إلا بالقصد، وهو مضاهاة خلق الله كما تقدم في الكلام على الحديث. وثانيهما: لا يُشترط فيه قصد علة الحصر، وهو كما يؤخذ من حديث كنيسة الحبشة، ومما صرح به المحققون من المتقدمين والمتأخرين في شرحه وشرح غيره، وهو سد ذريعة عبادة صور الأنبياء والصالحين وغيرهم، ومثله الوعيد على بناء المساجد على القبور، لا فرق بينهما ألبتَّة. فيأتي فيه ما قاله الحافظ في شرح الحديث من (باب بناء المسجد على القبر) من صحيح البخاري، وهو كما في آخر (ص 235) من جزء المنار الماضي. وقد تقدم أن المنع من ذلك إنما هو في حال خشية أن يضع بالقبر ما صنع أولئك الذين لُعنوا. وأما إذا آمن ذلك فلا امتناع. وقد يقول بالمنع مطلقًا مَن يرى سد الذريعة، وهو هنا متجه قوي. اهـ. ويمكن أن يقال: إن سد الذرائع يختلف باختلاف الأزمنة وباختلاف أنواع الصور ولما كانت التماثيل والصور المعظمة في الجاهلية تعظيم العبادة هي صور ذات الأنفس أذن ابن عباس رضي الله عنه للمصور الذي استفتاه بتصوير الشجر وما لا نفس له. ولما صارت صور ذات الأنفس لمجرد الزينة، وزالت مظنة العبادة - اتخذ بعض أئمة السلف بعض الصور في بيوتهم، كما ترك الصحابة الصور في إيوان كسرى. ولا نقول: إن ذريعة تعظيم الصور -تعظيم ديانة وعبادة - قد زال في هذا الزمن، وإن علة التحريم انتفت، كما قال مَن جعل التحريم كالمنسوخ لجعْله خاصًّا بالعصر الأول؛ إذ لا شك في أن تصوير الأنبياء والأولياء، وكل مَن يغلو في تعظيمه العوام، أو اتخاذ تماثيل لهم قد يفضي إلى العبادة. كما رأينا نظير ذلك في تعظيم قبور الصالحين الذي جاء مصداقًا لحديث الصحيحين: (لتتبعن سَنَن مَن قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع ... ) إلخ، ولكن الناس شددوا في سد ذريعة عبادة الصالحين بتعظيم صورهم، وتساهلوا في سد ذريعة عبادتهم بتعظيم قبورهم ببناء المساجد عليها، والطواف بها، والتماس جلب النفع ودفع الضر بالتمسح بها ودعاء مَن دُفن فيها. ومَن تأمل الأحاديث وآثار السلف في مسألة تشييد القبور وتجصيصها، وحظر اتخاذها مساجد ووضع السرج والستور عليها، ومسألة التصوير واتخاذ الصور بجعلها في البيوت والستور ونحوها - يتجلى له أن علة النهي عن الأمرين واحدة، ألا إنها في القبور أشد وأعم، وقد جمع الأمر بإزالتهما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويتَه) وفي رواية: (أن لا أدع قبرًا مشرفًا إلا سويتُه ولا تمثالاً إلا طمستُه) بإسناد الأفعال إلى ضمير المتكلم، أي بعثني على أن لا أدع ... إلخ. وطمْس التمثال محو صورته التي يُشْبه بها الحي ويحصل بتشويهه أو قطع رأسه دون إزالة عينه؛ لأن ذلك كافٍ في إخراجه عن صفة المعظم عبادةً. وأما تسوية القبر فإزالة لعينه؛ لأن المراد بها تسويته بالأرض، أي جعله مساويًا لها. ولكن أجاز الفقهاء رفع القبور قدر شبر، كما رفع الصحابة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما. وقدر بعض مَن رأى القبر الشريف من السلف ارتفاعه بأربعة أصابع، نقله الحافظ في الفتح، والظاهر أنه اعتمده، وقال الشافعي في الأم: (ورأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يُبنَى) . قال النووي - عند نقله في شرح مسلم: ويؤيد الهدم - قوله: (ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته) . اهـ. وأما الخلف من العوام والحكام فخالفوا جميع الأحاديث والآثار في المسألة الأولى، ولكنهم ظلوا يشددون المسألة الثانية إلى أن عمت البلوى بها في هذا العصر، فصاروا يتساهلون في أمر اتخاذ التصاوير للزينة وللأنس بصور الأقربين والمحبين، وصار العلماء يسمحون للمصورين بتصويرهم، حتى أكابر شيوخ الأزهر وقضاة الشرع والمفتين، ولكنهم لا يزالون يشددون في صناعة التصوير نفسها على كثرة منافعها، وشدة الحاجة إليها في غير ما تساهل الجمهور في اتخاذه من أعمالها. سألني بعض العلماء البصراء في طرابلس الشام مرة عن التصوير؛ إذ قلت: إنه يعد الآن من أركان العمران والحضارة، هل له فائدة يُعتدّ بها شرعًا؟ فإن ما فتن به الناس من زينة التصاوير ليس بالأمر النافع الذي يرخص في هذه الصناعة لأجله، ولو في غير ما تُخشى عبادته أو تعظيمه تعظيمًا دينيًّا، فقلت له - على البداهة، ولم يكن قد سبق لي تفكّر في حصر فوائد التصوير -: إن له أنواعًا من الفوائد في حفظ اللغة، وإيضاح كثيرمن العلوم والفنون وفي الأعمال العسكرية والإدارية والسياسية، وذكرت له من الأمثلة على ذلك ما يأتي: (1) إننا نرى في كتب اللغة أسماء كثير من الأشياء كالنبات والحيوان وغيرهما غير مفسرة بما يعرف به المسمى مَن لم يكن يعرفه باسمه ذاك، بل يقولون حيوان معروف أو طائر معروف وصاحب القاموس المحيط يكتفي بحرف (م) المختزل من كلمة معروف، وهذا تقصير كبير في حفظ اللغة، ولو وضعت صورة الشيء عند اسمه كما كان يفعل قدماء المصريين وكما تفعل أمم الحضارة الآن - لكان ذلك أحسن حفظ للغة، ولا يغني عنه الوصف بالكلام؛ لأن بعض الأجناس تتشابه فلا يسهل التمييز بينها بالقول، بل يتعسر أو يتعذر وصف أي جنس من أجناس المخلوقات وصفًا يمكن أن يعرفه به كل مَن سمعه. (2) يترتب على الجهل بأجناس بعض الحيوان جهل ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية كأحكام ما يحل أكله منها، وما لا يحل، وأحكام جزاء الصيد على المحرم وغير ذلك. (3) إن للتصوير فوائد عظيمة في علوم التاريخ الطبيعي والطب والتشريح الإنساني والحيواني وفروع هذه العلوم قد صارت كثيرة في هذا العصر، ويتوقف إيضاح الحقائق فيها - تأليفًا وتعليمًا - على الصور التي تظهر بها جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة، صحيحة ومريضة، فإتقان هذه العلوم يتوقف عليها. (4) للتصوير فوائد عظيمة في الأعمال الحربية، فلا يمكن لمَن يتركه أو يقصر فيه أن يقاتل أعداءه بمثل ما يقاتلونه به، ولا أن يعد لهم ما استطاع من قوة، فمنها تصوير المواقع والطرق والبلاد والجيوش، وما لديها من السلاح والذخيرة، ومنها تصوير مَن يشتبه في أمرهم أن يكونوا عيونًا وجواسيس، وتقتضي الحكمة أن يُجعلوا تحت المراقبة، ومنها تصوير مَن يحتاج إلى تحقيق شخصيتهم؛ لئلا يشتبهوا بغيرهم. (5) للتصوير فوائد عند حكومات هذا العصر في الأعمال السياسية والإدارية كأعمال الجواسيس وحفظ الأمن وغير ذلك وتفصيل ذل

رحلة الحجاز ـ 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز (7) طواف الإفاضة: بعد ذلك ركبت دابتي وقصدت مكة المكرمة فطفت طواف الإفاضة وهو طواف الركن الذي لا يتم الحج بدونه، وفي أثناء طوافنا شرع أهل مكة في صلاة العيد ورأيت الأمير يصلي معهم مأمومًا. وكان الرجال يصلون في الجهة الغربية من الكعبة المعظمة والنساء في الجهة الجنوبية وهن كثيرات جدًّا، ثم سعينا بين الصفا والمروة وهو من أركان الحج وقد سعيت في هذه المرة ماشيًا. وقد اختلفت الروايات: هل طاف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة في حجة الوداع مرة أو مرتين؟ ففي حديث جابر عند مسلم أنهم طافوا بينهما مرة واحدة قبل عرفة، وفي حديث عائشة أنهم طافوا مرتين أي عند القدوم وبعد طواف الإفاضة، ورجح المحققون من علماء الحديث رواية جابر، وقالوا: إن ما ذكر في حديث عائشة مُدْرَج من كلام الزهري لا من كلامها، فمذهب المحدثين أن السعي لا يتكرر، ويقول كثير من الفقهاء: إن لكل نسك سعيًا لا يُسقطه السعي بعد طواف القدوم، وإن السعي للعمرة لا يغني عن السعي بعد طواف الإفاضة للحج، ولم يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم العيد يوم النحر بمكة ولا بمنى، كما أنه لم يصلِّ الجمعة بعرفة؛ لأنه مسافر، ولم يكن يصليهما في السفر، وقال بعض العلماء: إن رمي جمرة العقبة للحاج كصلاة العيد لغيره فصلاة العيد لا تُطلب منه، وإن كان مكيًّا. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لإقامة السنة على الوجه الأكمل في حجة أخرى أو حجات كثيرة. هذا، وإنني بعد الطواف والسعي جئت منزلنا بمكة واستحضرت حلاقًا فأخذ شعر رأسي كله بالآلة المعروفة بالمكنة أخذًا أقرب إلى الحلق منه إلى التقصير ثم عدت إلى منى وقد تحللت من الحج تحللاً كاملاً، ولله الحمد أولاً وآخرًا، وإياه نسأل أن يجعله حجًّا مقبولاً وسعيًا مشكورًا. وقد بقي من أعمال الحج التي لا يُشترط فيها الإحرام. رمي بقية الجمار وذبائح النسك: الجمار بالكسر والجمرات بالتحريك: جمع جمرة وهي في أصل اللغة: واحدة الجمر من النار، والحصاة، والقبيلة التي تصبر لقراع القبائل، وكل قوم يصبرون لقتال مَن قاتلهم لا يحالفون أحدًا، ولا ينضمون إلى أحد. قيل سميت جمرات المناسك بمنى بهذا الاسم؛ لأنها تُرمَى بالجمار أي الحصى، وقيل لأنها مجمع الحصى التي ترمى شبهت باجتماع القبيلة على مَن ناوأها. وقال أبو العباس: أصلها من جمرته ودهرته إذا نحيته، والتجمير: رمي الجمار، والمجمر (كالمعظم) : موضع رمي الجمار. فأما جمرة العقبة فهي في عقبة منى التي ينحدر منها السائر إلى مكة على جانب الطريق، وأما الجمرة الوسطى والصغرى فهما في وسط الطريق الذي يشق منى نصفين، وتعرف مواقعهما من صورة منى (خريطتها) وفي موضع كل من الوسطى والصغرى بناء يقرب من شكل المنارة أو المسلة، قليل الارتفاع، حوله حظيرة مستديرة، وكانت دارنا عند الجمرة الوسطى من جهة الشمال، وهي أفسح دار هنالك. وقد بينا كيفية رمي الجمار وحكمته في مناسك الحج، كما بينا حكمة ذبائح النسك. وكنا نذبح كل يوم من أيام منى فنأخذ حاجتنا ليومنا، ونتصدق بالباقي، وقد كانت الذبائح في السنين الخالية تزيد على حاجة أهل البلاد ومَن حولهم من الأعراب لكثرتها، وأما في هذا العام فهي لا تكاد تكفي فقراء الحرم. ((يتبع بمقال تالٍ))

الحالة السياسية في الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحالة السياسية في الحجاز في أواخر سنة 1334 أتممنا بفضل الله مناسكنا، فنحمد الله تعالى، ونسأله أن يتقبل منا، وإذ فرغنا من حديث المناسك فيحسن أن نتم فوائد هذه الرحلة بما يمكن بيانه الآن من أخبار الحجاز الاجتماعية والسياسية، التي تعد من أعظم الأحداث التاريخية، ثم ببعض الطُرَف الأدبية من المختارات الشعرية، ونبدأ بذكر إنشاء الحكومة الجديدة في مكة المكرمة، فنقول: لما شعر بالاستعداد لتأليف هذه الحكومة أصحابنا اللاجئون إليها، الذين يعدون من أصحاب الشأن أو العمل فيها - اختلفت آراؤهم فيما يُنتظر أن تكون عليه، وما ينبغي أن يكون مسلكهم في هذه الحال على كل تقدير يتصوره الذهن، وقد استحسنوا أن يجتمعوا ليلاً، ويكاشفوني بآرائهم، ويتعرفوا رأيي (والمستشار مؤتمن) ، ففعلوا. ومما يعد من الغريب عند كثير من الناس - أن ما كان يجول في أذهان أهل البلاد المختلفة بمكة في هذه المسألة هو عين ما كان يجول في أذهان أهل مصر من الآراء والظنون. ثم ماذا كان؟ علمنا يوم الخميس سابع ذي الحجة أنه قد تألفت فيها حكومة جديدة، على الوجه الذي نُشر بعد الحج في العدد السابع عشر من جريدة (القبلة) بتاريخ 15 ذي الحجة سنة 1334، وهذا نصه: الحكومة العربية الجديدة ما أزِفت الساعة السادسة من نهار الخميس الماضي سابع ذي الحجة حتى اكتظت دار الحكومة بأكابر العرب وعِليتهم انتظارًا لتشريف رجال الحكومة العربية الجديدة، ولما كانت الساعة السابعة وصل صاحب السمو الأمير عبد الله ومعه سائر الوكلاء، فصدحت الموسيقى بالسلام الشريف، وأخذت الجنود النظامية المرصوصة على جانبي الطريق السلام العسكري. ولما استقر بحضراتهم المكان في ندوة الحكومة - قرئ المرسوم الشريف الصادر من جلالة سيدنا المليك المعظم إلى حضرة العلامة المِفضال الشيخ عبد الله سراج بتعيينه قاضيًا للقضاة ووكيلاً لرئاسة الوكلاء، وتعيين زملائه حضرات الوكلاء العظام. وهذه صورة المرسوم الشريف: (المرسوم الشريف بتأليف هيئة الوكلاء) حضرة العالم الكامل الشيخ عبد الله سراج إنه لما كانت مصالح الرعايا وانتظام شؤون المجتمع وتوفر أسباب العمران لا بد لها من دواوين يتوزع عليها النظر في الحكومة، وما هو في معنى ذلك من المصالح العامة والخاصة، ويتعين بها أساس الوظائف الذي تُبنى عليه المسؤولية وتكوين حكومة لبلادنا المحروسة. وبالنظر إلى ما تحققناه فيكم من الكفاءة والاستقامة - عزمنا بعد الاستعانة بالله عز وجل على توجيه منصب قاضي القضاة لعهدتكم، وتعيينكم وكيلاً عن رئيس الوكلاء العظام، وقد اخترنا لبقية الوكالات حضرات الذوات الآتية أسماؤهم، وهم: ولدنا عبد الله بن الحسين لوكالة الخارجية، ويكون وكيلاً عن وكيل الداخلية، وعبد العزيز بن علي رئيس أركان حرب ووكيلاً عن وكيل رياسة الجند مع ترفيع درجته عن رتبته الحاضرة، والشيخ علي مالكي وكيلاً للمعارف، والشيخ يوسف بن سالم رئيس البلدية سابقًا وكيلاً للمنافع العمومية، والشيخ محمد أمين مدير الحرم الشريف سابقًا وكيلاً للأوقاف، مع بقائه في نظارة أمور الحرم، وكلما يتعلق بوظيفته الشريفة، والشيخ أحمد بن عبد الرحمن باناجه وكيلاً للمالية. وذلك لما توسمناه من درايتهم واستعدادهم للسهر على مصالح البلاد وأهلها على ما يُرضي الله، وإننا ننتظر منكم المبادرة إلى تأسيس الدوائر والدواوين الرسمية، وتعيين العمال والموظفين لها، وأرجو الله سبحانه أن يجعلنا مظهر توفيقه وهداه، في كل ما يحبه ويرضاه. في 7 ذي الحجة الحرام سنة 1334 هـ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين *** ثم تُلي مرسوم شريف آخر بتأليف مجلس الشيوخ الأعلى، وهذا نصه: (المرسوم الشريف بتأسيس مجلس الشيوخ الأعلى) وكيل رئيس الوكلاء وقاضي القضاة مولانا وفقه الله؛ بما أننا قد استنسبنا تعيين هيئة أطلقنا عليها اسم (مجلس الشيوخ) ، وجعلنا وظيفة هذا المجلس النظر في كل ما يتعلق بمنافع البلاد، والمراقبة على أعمال الدواوين والدوائر الرسمية، وإبداء الرأي فيما تعرضه الدوائر على مقام وكيل رئيس الوكلاء، وسيقرر فيما بعد صلاحية هذا المجلس العالي، فقد جعلنا رئيسًا له جناب الفاضل الأجلّ فاتح بيت الله الحرام الشيخ محمد صالح الشيبي. وأعضاءه حضرات الأفاضل الأجلاء: مفتي الشافعية السيد عبد الله بن محمد صالح الزواوي , ومفتي المالكية الشيخ عابد بن حسين, والشيخ عبد القادر بن علي الشيبي, ونائب الحرم السيد إبراهيم بن علي, ووكيل شيخ السادة السيد محمد بن علوي السقاف والشيخ عبد الله علي رضا, والشيخ علي بن عبد الله الشرباصي والشيخ أبو بكر بن محمد خوقير وذوي السيادة والشرف حمزة بن عبد الله الفعر وفنن بن محسن وسليمان بن أحمد بن سعيد وناصر بن شكر ولتبليغهم ما ذُكر اقتضى تحريره. في 7 ذي الحجة سنة 1334. اهـ ما نُقل عن جريدة القبلة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف مكة وأميرها ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسين *** ولما علم الناس بتأليف الحكومة الجديدة كان حديثها شغلهم الشاغل، وكانوا ينتظرون أن يسمعوا يوم الجمعة ثامن الشهر شيئًا جديدًا في تعيين شكلها، واستحسن بعض الإخوان الذين رأوا من إكرام الأمير مثواي أن أطلب التشرف بمقابلة خاصة؛ أتوسل بها إلى عرض ما عرفوا وحمدوا من رأيي في شكل هذه الحكومة، ففعلت، نلت الحظوة في أول الليل على سطح في أحد جوانب قصر الإمارة، وتوسلت بذكر ما تم من تأليف مجلس الوكلاء إلى السؤال عن شكل الحكومة، كيف يكون؟ ، فتفضَّل الأمير - بتواضعه المعهود - قائلاً: هذا ما نحب أن نأخذ رأيكم فيه، فذكرت رأيي مفصلاً تفصيلاً، ولكنني لم أسمع كلمة ولا رأيت إشارة تدل على استحسان ولا على إنكار، ثم استأذنت، وانصرفت. قلت: إن جمهور الناس من المكيين والحجاج كانوا ينتظرون أن يسمعوا يوم الجمعة شيئًا جديدًا، فلم يسمعوا، وكان مَن صلى الجمعة في المسجد الحرام من المصريين على مقربة من المنبر، يلقون السمع إلى الخطيب عند الدعاء، فسمعوه بآذانهم يدعو للسلطان محمد رشاد، وخرج الناس من المسجد الحرام، ولم يقع ما كانوا يتوقعون من المبايعة بالخلافة بين الركن والمقام، فزال بذلك ما زال من الظنون والأوهام. ثم عاد الناس إلى الحديث في هذه المسألة في مساء يوم العيد بمنى، وأُشيع أن المبايعة يحتمل أن تكون ضحوة غد في أثناء الاحتفال المعتاد في سرادق الأمير؛ ذلك بأن العادة قد مضت بأن تكون ضحوة اليوم الأول من أيام منى موعد تهنئة الأمير الشريف بالعيد، وإتمام المناسك، فكان يحضر لديه والي الحجاز وقائد الجند فيه، وأمير الحج الشامي والمصري، وكبار الشرفاء والعلماء وكبراء رجال الحكومة ووجهاء مكة المكرمة والحجاج، ويُتلى الفرمان السلطاني الذي يعهد فيه إلى الشريف بالنظر في شؤون الحج وحفظه في الحجاز ... ، ويخلع الوالي على الأمير الخلعة السلطانية. ولما أشيع ما أشيع جاءني أولئك الأصحاب ليلاً للمذاكرة في الأمر، وبعد طول التشاور فيه اقترحوا عليَّ أن أذهب إلى مخيم الإمارة لاكتشاف الحقيقة؛ إذ قيل إن جمهور رجال الحكومة الجديدة وشرفاء مكة ووجهاءها يرون وجوب المبايعة بالخلافة، وإن سيدنا الأمير مخالف لهم في ذلك، ويرى ترك ذلك إلى جماعة المسلمين في سائر الأقطار، وقد بيّن هذا المعنى بعد ذلك في بعض المنشورات الهاشمية. ولما كان منزلنا بعيدًا عن مخيم الإمارة، وكان الإخوان يعلمون أن الأمير لا يسهر كثيرًا - جاؤوني بجواد كريم، فركبته، وأسرعت إلى السرادق الخاص، فقيل لي: إن سيدنا قد نام، وسألت عن نجله الأمير عبد الله، فقيل إنه قد نام أيضًا، فعدت أدراجي إلى إخواني، فأخبرتهم بذلك، وانصرفنا إلى مضاجعنا. بِتُّ ليلتي أفكر في هذه المسألة، ولم يبقَ لي من أعمال النسك ما يشغل قلبي عنها، وكان رأيي في مسألة الخلافة هو ما قيل لي في هذه الليلة عن رأي الأمير دون من حوله، وقد أكبرته لذلك، وكان أعجبني من منشوريه الأولين جعْل عداوته لفئة الاتحاديين المتغلبة لا للشعب التركي ولا للدولة العثمانية أيضًا - وكذلك كانت الثورة في أول عهدها - وكنت أرى أن مبارزته العداوة للفئة المتغلبة قد يقف بغي زعمائها على العرب عند حد ما اجترح جمال باشا من الموبقات التي هي شر لدولته، وكذا لجمعيته، لا خير لهما كما توهم، وأن نفع الحركة الحجازية محصور في هذه الفائدة المرجوة، وفي إغاثة جيران بيت الله من المجاعة والهَلَكَة المخيفة، وفي الاحتياط لما يجب إذا سقطت الدولة، وأرى أنه يجب السعي لتحقيق ذلك بدون ارتكاب إثم يُرْبِي شرُّه على خيره، وكنت أشرت إلى رأيي هذا، وإلى حسن ظني في الأمير الشريف في مقال المحاورة الذي نُشر في المنار قبل الحج، وقبل العزم عليه، ذلك ما بت أفكر فيه، ولما أصبحنا أسرع الناس إلى مكان الاحتفال مشرقين، وتأخرت إلى الضحوة الكبرى، فألفيت سرادق الإمارة غاصًّا بالناس، وكذا الفجوة التي أمامه، ولو لم يرني بعض مَن يعرفنني هنالك لما تيسر لي اختراق ذلك الجمع الكثيف، والنفوذ إلى المجلس الهاشمي الشريف، ولكن رآني مَن فرَّج لي فرجة بين الناس، دخلت منها إلى أن بلغت الحلْقة الكبيرة، وجلست على كرسي أُخلي لي فيها، وكان الناس من مصريين ومكيين قد شرعوا في إلقاء الخطب والقصائد في التهاني والأدعية، فرأيت أن ألقي خطبة في بيان الحقيقة التي عرفتها بالبحث والاختبار، والآراء التي أنتجتها تلك الأفكار، أشير فيها إلى آراء الناس من الحجازيين والآفاقيين، وكنت قد بلوت أخبارهم، واكتنهت معرفتهم وأفكارهم، وأذكر ما لديَّ من الرأي في المسألة الحجازية، وما يشترط في ذلك بقدر ما يسعه المقام، فلما فرغ مَن كان يتكلم قبل مجيئي استأذنت، فأذن لي، فقمت، وقلت - ما ملخصه كما نُشر في جريدة القبلة -: وكل ما يوضع فيها بين الأهلَّة هكذا () فهو من قبل جريدة القبلة - كما هو ظاهر - إلا الآيتين الكريمتين في أولها - فهما من أصل الخطبة. *** خطبتنا السياسية في منى أيها المسلمون الكرام، من سكان حرم الله وحجاج بيته الحرام، إنكم تعلمون أن الإسلام دين سيادة وسلطة، وأن شريعته أُنزلت ليقيم أحكامَها أهلُه؛ لقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) على التأويل المشهور للآية، وتعلمون أن الله تعالى قد جعل هذا الدين عربيًّا؛ إذ أنزل القرآن - الذي هو أصله وأساسه - باللغة العربية على لسان النبي الأمي العربي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وقد بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا} (الرعد: 37) ، فهذه الآية أخص من الآيات الناطقة بإنزال القرآن عربيًّا؛ لأنها مصرحة بأن حكم هذا الدين عربي، مع العلم بأن كتابه المتعبَّد به عربي، وهذه البلاد العربية هي مهد هذا الدين، ومهبط وحيه، ومشرق نوره، وكان أهلها هم السابقين إلى تلقيه، والاهتداء به، ثم تبعهم فيه غيرهم من عرب الحجاز، فسائر هذه الجزيرة العربية. ثم حمله العرب إلى سائر الأقطار، ونشروه فيها، فامتد في الجيل الأول منهم، حتى عَمَّ نوره الشرق والغرب، وأروا الأمم بإقامة أحكامه من العدل والرحمة ما لم يعرفوا، ولم يسمعوا له نظيرًا، كما اعترف بذلك المنصفون من الإفرنج وغيرهم. ثم طر

ترجمة الشيخ سليم البشري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة الشيخ سليم البشري بقي مما ينبغي أن يُذكر في ترجمته، ما انفرد به دون أمثاله من شيوخ الأزهر كإنكاره كتابةً على الدولة العثمانية الفتك بالأرمن في أطنة، وكرئاسته لاحتفال اللجنة السورية التي عُقدت في دار التمثيل الأميرية لإعانة طلبة العلم السوريين في الأزهر، تلك اللجنة التي قال - في حمدها بحق -: إنها مسيحية، ليس فيها إلا مسلم واحد تسعى لإعانة مسلمين ليس فيهم نصراني واحد! وغير ذلك من الأمور المدنية العصرية، ولم يتيسر لنا جمع ما كتب في ذلك بوقته من الجرائد، ولم يذكره أحد في ترجمته.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار التمثيل العربي اشتغال المرأة المسلمة به وتمثيل قصص الأنبياء (س10) من صاحب الإمضاء بمصر بسم الله الرحمن الرحيم إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا جمعتني النوادي بطائفة من المتعلمين الذين قلما يخلو مجلسهم من البحث وبأية مناسبة دار بيننا ذكر التمثيل العربي وبسطنا على بساط بحثنا: (1) المرأة المسلمة والتمثيل، (2) تمثيل روايات الأنبياء عليهم السلام عمومًا وخاتمهم خصوصًا، فقرَّ رأي فريق منا على جواز ذلك كله؛ إذ لا تتم أدوار التمثيل وفصوله إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مراسح التمثيل. وأي مانع يمنع تمثيل روايات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عمومًا وخاتمهم خصوصًا، وهو لم يخرج عن كونه درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل مَن يصادفه أو يجد له أثرًا، ومنع فريق آخر كل ذلك، وعدَّه نوعًا من التقليد الإفرنجي، الذي يستحوذ على بعض البسطاء، فيعدونه مفتاح تمدن الأمة، في حين أنه شر عليها وعلى أخلاقها الذاتية. فهذا ما كان من الفريقين، أما أنا - كاتب هذه السطور- فقد أعلنت الحيدة حتى أسترشد برشدكم، أو أستنير بفُتيا مناركم والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه محمد محمد سعفان ... ... ... ... ... ... ... طالب بمدرسة القضاء الشرعي (ج) قلت: هدانا الله وإياك محجة الصواب في الحكم، وعصمنا أن نقْفو ما ليس لنا به علم -إن بعض الأندية جمعك بطائفة من المتعلمين البحَّاثين، وإنهم ذكروا (التمثيل العربي) فاختلفوا في جواز اشتغال المرأة المسلمة به، وفي جواز تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عامة وخاتمهم خاصة، فقالت طائفة منهم بجواز الأمرين، وعللوا الأول (بأن أدوار التمثيل وفصوله لا تتم إلا بالمرأة، فإذا جوزنا التمثيل جوزنا ظهور المرأة المسلمة على مراسح التمثيل) وعللوا الثاني بأنه (درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ، وقل من يصادفه أو يجد له أثرًا) وقالت طائفة أخرى بمنع الأمرين وعدّوه من التقليد الإفرنجي الضار، الذي يغتر به الأغرار، وقلت إنك وقفت حتى تستفتي المنار، فهاك ما أفهمه في المسألتين بالاختصار: لم يأتِ فريق المجيزين بشيء من العلم، يدل على ما جزموا به من الحكم، فإن سلمنا لهم أن التمثيل لا يتم إلا بالمرأة - لا نسلم لهم أن جوازه يستلزم جواز اشتغال المرأة المسلمة به، بل نسألهم ماذا يعنون بهذا التمام؟ وهل يعتد به شرعًا؟ ولماذا لا يُستغنى فيه بالمرأة غير المسلمة التي تستبيح من أعماله ما لا يباح للمسلمة؟ وبأي حجة جعلوا القول بجواز التمثيل الذي ينقصه وجود المرأة المسلمة أصلاً بنوا عليه القول بجواز اشتغالها بالتمثيل؟ وهل يعدوا التمثيل المطلق أن يكون مباحًا أو مستحبًّا بشرط خلوِّه من فعل الحرام وذرائع الفساد، واشتماله على الوعظ النافع والإرشاد؟ أَوَليس الصواب أن يقال - والأمر كذلك - إن التمثيل الذي يتوقف على قيام المرأة المسلمة ببعض أعماله على الوجه المعروف في دور التمثيل بمصر غير جائز؛ لأن ما توقف على غير الجائز فهو غير جائز، أو لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح؟ إن اشتغال المرأة المسلمة بالتمثيل المعروف يشتمل على منكرات محرمة، (منها) : ظهورها على أعين الرجال متبرجة كاشفة ما لا يحل كشفه لهم من أعضائها كالرأس والنحر وأعالي الصدر والذراعين والعضدين، وتحريم هذا مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فلا حاجة إلى ذكر النصوص فيه. (ومنها) الاشتراك مع الرجال الممثلين في أعمال تكثر في التمثيل - وإن لم تكن من لوازمه في كل قصة - كالمعانقة والمخاصرة والملامسة بغير حائل. (ومنها) غير ذلك من المنكرات التي تشتمل عليها بعض القصص دون بعض كالتشبه بالرجال، وتمثيل وقائع العشق والغرام المحرم بما فيه من الأعمال المحرمة لذاتها، أو لكونها ذريعة إلى المحرم لذاته، ولا أنكر أنه يمكن للكاتب العالم بأحكام الشرع وآدابه أن يكتب قصة تمثيلية يودع بعض فصولها أعمالاً شريفة وأقوالاً نافعة إذا مثَّلتها امرأة مسلمة تبرز في دار التمثيل غير متبرجة بزينة، ولا مبدية لشيء مما حرم الله إبداءه من بدنها، ولا آتية بشيء من أعمال الفساد ولا من ذرائعه؛ فإن تمثيلها يكون بهذه الشروط مباحًا أو مستحبًا. مثال ذلك أن تؤلف قصة في الترغيب في الحرب للدفاع عن الحقيقة وحماية البلاد عند وجوبها باعتداء الأعداء عليها، ويذكر فيها ما رُوي عن الخنساء رضي الله عنها في حثّ أبنائها على القتال بالنظم والنثر. فمَن ذا الذي يتجرأ على القول بتحريم ظهور امرأة تمثل الخنساء في مثل تلك الحال، التي هي مثال الفضيلة والكمال؟ ! ولكن إمكان وضع مثل هذه القصة - وهو من الممكنات التي لم تقع - لا يُبنى عليه القول بإطلاق جواز ما هو واقع من التمثيل المشتمل على ما ذكرنا، وما لم نذكر من المنكرات المحرمة والمكروهة شرعًا. وأما تمثيل قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقد عللوه بأنه درس وعظ مؤثر، يعنون أن كل ما كان كذلك فهو جائز، وهذه الكلية المطوية ممنوعة، وتلك المقدمة الصريحة غير متعينة؛ فإن هذه القصص قد توضع وضعًا منفرًا، فلا تكون وعظًا مؤثرًا، وإن من الوعظ المؤثر في النفوس ما يكون كله أو بعضه باطلاً، وكذبًا وبدعًا، أو مشتملاً على مفسدة أو ذريعة إليها، ويُشترط في جواز الوعظ أن يكون حقًّا لا مفسدة فيه، ولا ذريعة إلى مفسدة. وبناءً على هذا الأصل ننظر في هذه المسألة من وجوه: (أحدها) أن العُرف الإسلامي العام يعد تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إهانة لهم، أو مزريًا بقدرهم، ومما أعهد من الوقائع في ذلك أن بعض النصارى كانوا أرادوا أن يمثلوا قصة يوسف عليه السلام في بعض المدن السورية، فهاج المسلمون لذلك، وحاولوا منعهم بالقوة، ورُفع الأمر إلى الآستانة فصدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع تمثيل تلك القصة وأمثالها، فإن قيل: إن بعض مسلمي مصر - كأولئك المتعلمين القائلين بالجواز - لا يعدون ذلك إهانة ولا إزراءً؛ إذ لا يخفى على مسلم أن إهانة الانبياء أو الإزراء بهم أقل ما يقال فيه: إنه من كبائر المعاصي، وقد يكون كفرًا صريحًا وردَّة عن الإسلام، نقول: إنما العبرة في العرف بالجمهور الذي تربَّى على آداب الإسلام وأحكامه، لا بالأفراد القلائل ومَن غلبت عليهم التقاليد الإفرنجية حتى صاروا يفضلونها على الآداب الإسلامية، كذلك القاضي الأهلي الذي حكم ببراءة أستاذ مدرسة أميرية غازل امرأة محصنة وتصبَّاها، وكاشفها بافتتانه بجمالها، حتى هجره الرُّقاد، وواصله السهاد، فشكت المحصنة هذه الوقاحة إلى زوجها، فرفع الزوج الأمر إلى قاضي العقوبات طالبًا تعزير ذلك العادي المفتات، فكان رأي القاضي أن مغازلة المحصنات الحسان وتصبيهن، يحتمل ذلك الكلام الذي يفسدهن على أزواجهن، ولا يقتضي سجنًا ولا غرامة، ولا تأنيبًا ولا مَلامةً؛ لأنه إظهار لحب الحسن والجمال، وهو من ترقّي الذوق وآيات الكمال، ولكن ما رآه هذا القاضي المتفرنج حُسنًا وكمالاً رآه السواد الأعظم من المسلمين نقصًا قبيحًا، وأنكروه عليه في الجرائد، حتى منعتها مراقبة المطبوعات من التمادي في الإنكار، واستأنف الزوج الحكم، فنقضه الاستئناف، وحكم بأن كلام ذلك الأستاذ جريمة منافية للآداب، ولو حاول بعض أجواق التمثيل تمثيل قصة أحد الرسل الكرام، عليهم الصلاة والسلام - لرأوا من إنكار العلماء والجرائد ما لا يخطر ببال أولئك الأفراد الذي يرون جوازه، ولو وقع مثل ذلك في بلد لم تذلل أهله سيطرة الحكام لما كان مثارًا للفتنة، ولتصدي الناس لصد الممثلين بالقوة، بل يغلب على ظني أن أكثر الناس يعدون تمثيل الأمراء والسلاطين، وكبار رجال العلم والدين، مما يُزري بمقامهم، ويضع من قدرهم، وأن أحدًا من هؤلاء الكبراء لا يرضَى لنفسه ذلك. (الوجه الثاني) أن أكثر الممثلين لهذه القصص من سواد العامة، وأرقاهم في الصناعة لا يرتقي إلى مقام الخاصة، فإن فرضنا أن جمهور أهل العرف لا يرون تمثيل الأنبياء إزراءً بهم على إطلاقه، أفلا يعدون من الإزراء والإخلال بما يجب لهم من التعظيم أن يسمى (السي فلان) أو (الخواجة فلان) إبراهيم خليل الله أو موسى كليم الله أو عيسى روح الله أو محمدًا خاتم رسل الله؟ فيقال له في دار التمثيل: يا رسول الله ما قولك في كذا، فيقول: كذا …، ولا يبعد - بعد ذلك - أن يخاطبه بعض الخلعاء بهذا اللقب في غير وقت التمثيل على سبيل الحكاية، أو من باب التهكم والزراية، كأن يراه بعضهم يرتكب إثمًا، فيقول له: مدد يا رسول الله! ألا إن إباحة تمثيل هؤلاء الناس للأنبياء قد تؤدي إلى مثل هذا، وكفى به مانعًا لو لم يكن ثَمَّ غيره. (الوجه الثالث) تمثيل الرسول في حالة أو هيئة تزري بمقامه ولو في أنفس العوام، وذلك محظور وإن كان تمثيلاً لشيء وقع. مثال ذلك أن يمثل بعض هؤلاء الممثلين المعروفين يوسف الصديق عليه السلام بهيئة بدوي مملوك تراوده سيدته عن نفسه، وتقدّ قميصه من دبر، ثم يمثله مسجونًا مع المجرمين. ويتجلى النظر في هذا الوجه ببيان مسألة من أعظم المسائل التي يغفل عنها أمثال أولئك الباحثين الذين ذكرهم المستفتي، وهي أن الرسل عليهم الصلاة والسلام بشر ميَّزهم الله تعالى بما خصَّهم به من الوحي، وهداية الخلق إلى الحق، وقد كانت بشريتهم حجابًا على أعين الكافرين حال دون إدراك خصوصيتهم، فأنكروا أن يكون الرسول بشرًا مثلهم، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق. وروي عن المسيح عليه السلام أن النبي لا يُهان إلا في وطنه وقومه، وقال بعض العلماء في هذا المعنى: أزهد الناس في الولي أهله وجيرانه. أي لأنهم قلما يرون منه إلا ما هو مشارك لهم فيه من الصفات والعادات، وأما ما يمتاز به من دقائق الورع والتقوى والمعرفة بالله تعالى، فمنه ما هو سلبي لا يفطنون له، ومنه ما هو خفي لا يدركونه؛ ولذلك احتِيجَ في إيمان أكثر الناس بالرسل قبل الارتقاء العقلي إلى الآيات الكونية، وبعده إلى الآيات العلمية (كالقرآن الحكيم من الأمي) ، والذين يؤمنون بالرسل من بعدهم يسمعون من أخبار آياتهم وخصائصهم وفضائلهم أكثر مما يسمعون من أخبار عاداتهم وصفاتهم البشرية؛ وبذلك يكون تعظيمهم وإجلالهم لهم غير مشوب بما يضعف الإيمان بهم من تصور شؤونهم البشرية. على أن الواجب أن يعرفوا منها ما يحُول دون الغلو في التعظيم والإطراء الذي يرفع به الغلاة الأنبياء إلى مقام الربوبية والإلهية والتفريط في ذلك كالإفراط، فتمثيل أحوال الأنبياء وشؤونهم البشرية بصفة تعد زراية عليهم وإزدراء بهم، أو مفضية إلى ضعف الإيمان والإخلال بالتعظيم المشروع - مفسدة من المفاسد التي يحظرها الشرع، فكيف إذا أضيف إليها كوْن التمثيل في حد ذاته يعد في العرف العام تنقيصًا أو إخلالاً ما بما يجب من التكريم، وكوْن الممثلين من عوام الناس، وقد علمت ما في هذا وذاك. (الوجه الرابع) أن من خصائص القصص التمثيلية الكذب، وأن الكذب على الأنبياء ليس كالكذب على غيرهم، فإذا جاز أن يسند إلى أسماء لا مسميات لها كلام تُقصد به العظة والفائدة، كما يحكون مثل ذلك عن ألسنة الطير والوحش، وهو ما احتج به الحريري في فاتحة مقاماته على جواز وضعه لها، وإذا صح أن يقاس على ذلك إسناد مثل

رحلة الحجاز ـ 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز (8) أيام منى ولياليها وأقوال الشعراء فيها نصوص الشرع في أيام منى: قال عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (البقرة: 203) . أجمع العلماء على أن الأيام المعدودات في هذه الآية هي أيام منى التي تسمى أيام التشريق. قيل: إن سبب تسميتها بذلك أنهم يشرّقون فيها لحوم الأضاحي؛ أي: يقددونها ويبرزونها للشمس. وقيل: لأن الهدايا والضحايا لم تكن تنحر فيها إلا بعد شروق الشمس، وقيل: هو مأخوذ من قول الجاهلية: أشرق ثبير، كيما نُغير. أي ادخلْ يا ثبير في الشروق؛ لكي نسرع في الدفع إلى منى للنحر، ذلك بأنهم كانوا لا يفيضون من المزدلفة إلا بعد شروق الشمس ووقوعها على جبل ثيبر أعظم تلك الجبال، فأُمرنا بمخالفتهم بالإفاضة قبل الشروق. وقيل: لأنها أيام تشريق لصلاة يوم النحر، فصارت تبعًا له، وأطلقوا التشريق على صلاة العيد، وسموا مصلى العيد مشرّقًا. والجمهور على أن هذه الأيام هي الثلاثة التي تلي يوم عيد النحر وأدخله بعضهم فيها، ولكن تخيير المتقي بين التعجيل في يومين أو التأخر إنما هو في أيام منى الثلاثة التي بعد يوم العيد. ووصفت أيام منى الثلاثة أو الأربعة بالمعلومات في قوله عز وجل في الحجاج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 28) وتطلق الأيام المعلومات على أيام عشر ذي الحجة الأوائل أو التسع التي آخرها يوم عرفة. روى أحمد ومسلم والنسائي عن أبي نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل) ، وفي رواية ضعيفة عند غيرهم زيادة: (وبعال) بعد شرب. والبعال والمُباعلة: الملاعبة بين البعلين (الزوجين) ، ومعناها صحيح؛ فإنه يحل في أيام منى كل ما كان محرمًا بالإحرام حتى التغشِّي، وإنما يحل بعد طواف الإفاضة الذي تتم به أركان النسك كلها. والمراد بالأكل: الأكل من لحوم الأضاحي المطلوب بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} (البقرة: 58) وغيرها من الطيبات؛ فإن هذه الأيام أيام عيد وسرور، شُرع فيها الجمع بين التمتع باللذات المباحة، حتى اللهو بالحراب وسماع الغناء، وبين ذكر الله تعالى وشكره على إنعامه بها وبالتوفيق لإقامة النسك. وشعار هذه الأيام من الذكر التكبير ويستحب رفع الصوت به والاشتراك فيه عقب الصلوات وفي عامة الأوقات والأمكنة؛ فقد روى سعيد بن منصور وأبو عبيد (أن عمر رضي الله عنه كان يكبر في قبّته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيرًا) وذكره البخاري في الصحيح تعليقًا. وأصح ما ورد في صيغته ما أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن سلمان، قال: (كبروا: الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرًا) وروي عن الصحابة والتابعين التكبير ثلاثًا ومرتين وزيادة التهليل. والظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الناس بصيغة مخصوصة في التكبير والذكر في العيدين وأيام منى، كما أنه لم يأمرهم بأذكار وأدعية معينة في الطواف والسعي والوقوف بعرفة ليأتي كل فرد أو جماعة بما شاؤوا، فلا بأس إذًا بما استحدث الناس من الذكر وصيغ التكبير مما لم يرد عن السلف، وإن أشار بعض العلماء إلى استنكاره لذلك كأنه يراه من البدع باستحداث صفة لعبادة تعد من الشعائر، وهو ما سماه بعضهم بالبدعة الإضافية. وإنما يتجه هذا إذا التزموه جهرًا بغير زيادة ولا نقصان، ويتأكد إنكاره إذا صار بحيث تظن العامة أنه واجب أو مندوب بهذا الوصف. وقد ذكر الإمام الشافعي في الأم أن التكبير المشروع في العيدين هو كلمة (الله أكبر) ، وأن التثليث في بدئه مستحب وأن لكل أحد أن يزيد من الذكر ما شاء. وكذلك التكبير والدعاء والتضرع عند رمي الجمار، يرمي كل جمرة بسبع حصيات مكبرًا مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والوسطى فيطيل القيام، يدعو ويتضرع ولا يطيل عند جمرة العقبة. هكذا كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وروي تقدير قيامه صلى الله عليه وسلم عند الجمرتين بقدر سورة البقرة. وكانت ذبائح النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة من الإبل، جاء بثلاث وستين منها معه من المدينة وجاء علي كرم الله وجهه بالباقي من اليمن، وقد نحر النبي صلى الله عليه وسلم 63 بيده الكريمة فكانت إشارة إلى سِنِي حياته الشريفة، وأمر عليًّا فنحر الباقي. وأمر صلى الله عليه وسلم بأخذ بَضعة (بفتح الباء: قطعة) من كل بدنة، فجعلت في قدر، فطبخت، فأكل هو وعلي منها، وشَرِبَا من مرقها. كلمة تاريخية أدبية في أيام منى: سمعنا من الشريف في منى كلمة جديرة بالحفظ والتدوين، قال: كانت أيام منى أول الإسلام من أطيب أيام الحياة - أي لما تقدم بيانه من الجمع بين اللذات الروحية والبدنية والاجتماعية - فلما قربت المواصلات بين الأقطار الإسلامية البعيدة صار ينتقل الوباء إلى الحجاز مع الحجاج الموبوئين، فيكون أشد فتكه عند اجتماع الناس في منى، فصارت أيام منى أيام غم وكدر، يتعثر الناس فيها بالموتى في كل مكان، وتعد الحكومة لها الألوف الكثيرة من الأكفان، ونحمد الله أنه لم يمُت فيها أحد في هذا العام، لا بمرض وبائي ولا بمرض عادي. اهـ بالمعنى. أقول: من الشواهد المؤيدة لهذه الكلمة التاريخية كثرة ذكر منى في أشعار المتقدمين الغزلية والتغزُّل بالنساء عند رمي الجمار فيها، وندرة مثل ذلك في غيرها من المشاعر، وعند غير رمي الجمار من الشعائر؛ ذلك بأن ما تقدم لنا شرحه من تأثير الإحرام ولباسه في القلب وتأثير رؤية المشاعر العظام والطواف بها والوقوف فيها أيضًا - كل ذلك مما يصرف الحاج عن كل ما عداه، ولا يدع في قلبه فراغًا واسعًا لغير ذكر الله، لا ذكر الحسان، ولا ذكر الأهل والولد والإخوان، فالتجلي الإلهي في جميع المشاعر - أثناء أداء جميع المناسك - تجلِّي هيبة وجلال، إلا منى؛ فإن التجلي فيها تجلي أُنس وجمال، ولا تنسَ ما ذكرناه آنفًا من تحلل الحاج فيها من الإحرام، واستباحته ما كان محرمًا من الأعمال، وكونها أيام عيد يستحب فيها التمتع بالطيبات، وزدْ على ذلك أن لياليها هي الليالي التي يكمل فيها نور القمر، وأن هواءها اللطيف يحبب إليك السمر. رفقًا بها أيها الزاجر ... قد لاح سلع وبدا حاجر وخلها تسحب أرسانها ... على الرُّبا لا راعها ذاعر واذكر أحاديث ليالي منى ... لا عدم المذكور والذاكر * * * لهف نفسي لليالٍ سلفت ... آه لو ترجع هاتيك الليالي لا تقل لي بمنى تُعْطَى المُنَى ... بمنى كان من القوم انفصالي * * * صحبي مَضَوْا فمدامعي ... منهلة في إثر صحبي ما فَوّق الهجران سهـ ... ـمًا فانثنى عن قصد قلبي كلا ولا نادى الجوى ... إلا وكنت أنا الملبي ولقد وقفت على منى ... لولا المنى لقضيت نحبي وأشعار الشعراء بالتغزل بالنساء في منى ورميهن الجمار كثيرة، من أحسنها قول الشريف الرضي - وهو من التغزل الخيالي النزيه -: من معيد لِيَ أيا ... مي بجزع السمُرات [1] ولياليَّ بجَمْع ... ومِنىً والجمرات [2] وظباء حاليات ... كظباء عاطلات [3] رائحات في جلابيـ ... ـب الدجا مخمرات [4] راميات بالعيون الـ ... ـنجل قبل الحصيات أَلِعَقْر القلب راحوا ... أم لعقر البدنات [5] كيف أودعت فؤادي ... أعينًا غير ثقات أيها القانص ما أحـ ... ـسنت صيد الظبيات فإنك السِّربُ وما ... زُوِّدت غير الحسرات يا وقوفًا ما وقفن ... في ظلال السلمات [6] موقفًا يجمع فتيا ... ن الهوى والفتيات تشاكى ما عنانا ... بكلام العَبَرات نظرٌ يشغَل منا ... كل عين بقَذاة [7] كم نأى بالنفر عنا ... من غزال ومهاة [8] آه من جيدٍ إلى الدا ... ر كثير اللفتات [9] وغرامٍ غير ماض ... بلقاء غير آت فسقى بطن منى والـ ... ـخَيْف صوب الغاديات [10] وزمانًا نائمَ العذَّ ... ال مأمون الوُشاة في ليالٍ كاللآلي ... بالغواني مُقمرات غرست عندي غرسَ الـ ... شوق ممرورَ الجناة [11] أين راقٍ لغرامي ... وطبيب لشَكاتي [12] ومن التغزُّل الخيالي في منى وغيرها من معاهد النسك وأعماله ما قاله أبو محمد عبد الله بن محمد التنوخي في قصيدته التي مدح بها ثقة الدولة يوسف بن محمد بن الحسين القضاعي صاحب صقلية الروم وهو: ولما التقينا محرمين وسيرُنا ... بلبيك ربًّا والركائبُ تعسِف [13] نظرت إليها والمطيُّ كأنما ... غوار بها منها معاطسُ رعَّف [14] فقالت أما منكنّ مَن يعرف الفتى ... فقد رابني من طول ما يتشوَّف [15] أراه إذا سرنا يسير حذاءنا ... ونوقف أخفاف المطيّ فيوقف فقلت لتِربيها ابلغاها بأنني ... بها مستهام قالتا نتلطف [16] وقولا لها يا أم عمرو أليس ذا ... مِنًى والمُنى في خَيْفه ليس يُخلف [17] تفاءلت في أن تبذلي طارف الوفا ... بأن عنّ لي منك البنانُ المطرَّف [18] وفي عرفات ما يخبر أنني ... بعارفة من عطف قلبك أسعف [19] وأما دماء الهَدي فهي هُدى لنا ... يدوم ورأي في الهوى يتألّف [20] وتقبيلُ ركنِ البيت إقبالُ دولة ... لنا وزمانٍ بالمودة يعطف فأوصلتا ما قلته فتبسَّمت ... وقالت أحاديثُ العِيافة زُخرف [21] بعيشي ألم أخبركما أنه فتى ... على لفظه بُرْد الكلام المفوّف [22] فلا تأمنا ما استطعتما كيد نطقه ... وقولا ستدري أينا اليوم أَعْيَف [23] إذا كنت ترجو في مِنى الفوز بالمُنى ... ففي الخيف من إعراضنا نتخوَّف وقد أنذر الإحرام أن وصالنا ... حرام وأنَّا عن مزارك نصدف [24] وهذا وقذفي بالحصى لك مخبر ... بأن النوى بي عن ديارك تقذف [25] وحاذر نِفاري ليلة النفر إنه ... سريع، فقل مَن بالعيافة أعرف [26] فلم أر مثلينا خليلي مودة ... لكل لسان ذو غِرارين مُرهف [27] ومما قيل في أيام منى ولياليها ما رواه صاحب الأغاني عن معبد المغني الذي يُضرب به المثل، قال: أتيت أبا السائب المخزومي - وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة - فلما رآني تجوَّز أي خفف الصلاة، وقال: ما معك من مبكيات ابن سريح؟ قلت له: ولهنَّ بالبيت العتيق لُبانة ... والبيت يعرفهن لو يتكلم لو كان حيَّا قبلهن ظعائنا ... حيا الحطيمُ وجوههن وزمزم لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة ... وهمو على سفر لعمرك ما همو متجاورين لغير دار إقامة ... لو قد أجدّ تفرّق لم يندموا فقال لي: غنِّه فغنيته، ثم قام يصلي فأطال، ثم تجوز إليَّ، فقال: ما معك من مطرباته ومشجياته؟ ، فقلت: قوله: لسنا نبالي حين ندرك حاجة ... ما بات أو ظل المطي معقلا فقال لي: غنه فغنيته، ثم صلى وتجوز إلي، وقال: ما معك من مرقصاته؟ فقلت: فلم أَرَ كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفتنَّ ذا هوى [28] فقال: كما أنت حتى أثمر لهذا بركعتين. وأما التغزُّل في نساء معروفات في وقائع ومشاهد كانت هنالك فكثيرة ولزير النساء الشهير عمر بن أبي ربيعة الشاعر القرشي كثير - منها قوله في أيام منى: ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها ... وموقفي وكلانا ثَم ذو شجن وقولها للثريا وهي باكية ... والدمع منها على الخدين ذو سَنن [29] بالله قولي له في غير معتبة ... ماذا أردت بطول المكث في اليمن إن كنت تطلب دينًا أو رضيت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمن قال ابن سريج المغني: ما ظننت أن الله عز وجل ينفع أحدًا بشعر عمر بن أبي ربيعة، حت

المتفرنجون والإصلاح الإسلامي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المتفرنجون والإصلاح الإسلامي (1) يكثر ذكر المتفرنجين في المنار وغيره، والتفرنج مشتق من اسم الإفرنج أو الفرنجة، وهذه الصيغة تُبنى لمعانٍ: (منها) التكلف كتجلد فلان وتشجع وتخشع، وتجرع الشراب إذا تكلف الجَلَد والشجاعة والخشوع وشرب ما يكره، و (منها) تحصيل الشيء بالتدريج كتعلم الحساب. وكل من هذين المعنيين ظاهر في استعمال كلمة التفرنج وما يُشتق منها، فالمتفرنجون هم الذين يقلدون الإفرنج فيما يستحسنونه من العادات وغيرها بالتكلف أولاً، ثم يتوسعون في ذلك بالتدريج، حتى انتقل بعضهم من التقليد في مشخصات الأمم التي تقوى بها روابطها كالعادات في الأزياء والأكل والشرب وآداب المجلس، إلى ما هو من مقوماتها التي تبقى ببقائها وتفنى بفنائها كاللغة والدين والشريعة وأصول الآداب والروابط الاجتماعية المنزلية والقومية. وهؤلاء المتفرنجون فريقان: (أحدهما) مَن كان تفرنُجهم أثر التعليم المصري والتربية الإفرنجية التي حببت إليهم ما لقنوه وتربوا عليه من مقومات القوم ومشخصاتهم قبل أن يلقنوا ما لأمتهم من ذلك، ويتربوا عليه كما يجب، فكانوا كما قال الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكَّنا (وثانيهما) مَن يتفرنجون تقليدًا للفريق الأول من قومهم الحكام والأغنياء تقربًا إليهم، وانتظامًا في سلكهم، وتمتُّعًا بمثل زينتهم ولذتهم، فهم مقلِّدة المقلدين، بغير شبهة ولا دليل، إنما كان سبب فشو هذا التفرنج في المسلمين المدارس الإفرنجية والمدارس الوطنية الرسمية وغير الرسمية، التي أنشئت لتقليد الإفرنج في تربيتهم وتعليمهم بغير بصيرة ولا علم بموضع الحاجة، على حين كان العلم بمقومات الأمة الإسلامية ومشخصاتها قد قلّ وضعف بضعفها السياسي والاجتماعي، وما بقي منه أمسى مشوبًا بما ليس منه من البدع والدخيل، وساءت طريقة تعليمه، وأهملت فكرة التربية عليه بالتخلُّق والعمل، وقد قلت - في المنار - غير مرة: إنني لا أعرف في الدنيا مدرسة تعلم فيها اللغة العربية التعليم الفطري، الذي به تكون مَلَكَة في ألسنة المتعلمين، بحيث يفهمون كلامها الفصيح في كل كتاب، ويقدرون على الإتيان به محاورة وخطابة وكتابة بغير تكلف، كما تعلَّم اللغات الإفرنجية في بلاد أهلها، ولا على مقربة من ذلك كما تعلم في بلادنا، ولا أعرف مدرسة يعلم فيها الإسلام تعليمًا يُفهم به كتابه وسُنته وما فيهما من العقائد والأحكام والحِكَم والآداب فهمًا صحيحًا، يتمكن به المتعلمون من بيانه بالقول والكتابة، وإثبات قضاياه والدفاع عنه بالدليل والحجة، ولا مكانًا يتربى فيه النشء على أخلاقه وآدابه العالية، وإنما المدارس الإسلامية التي تدرس فيها العربية والدين معاهد تعالج فيها كتب في فنون العربية والعلوم الشرعية مما صُنِّفَ بعد ضعف العلم الاستقلالي أو موته قلما يوجد فيها من وضع الأئمة المجتهدين شيء، ولكن يقرأ في بعضها قليل من كتب التفسير بقصد التبرك الذي لا يعقل معناه لا بقصد الاهتداء، وكل ما يقرأ من الكتب في مدارس البلاد العربية يفسر باللغة العامية، وفي مدارس البلاد الأعجمية (كالهند والفرس والترك) يترجم بلغاتها. في أثناء هويّ الأمة الإسلامية في هذه الهاوية من الجهل من عدة قرون كان الإفرنج يصعدون في مراقي العلم الاستقلالي والتربية الاجتماعية على علم ونظام، يهتدون فيه بسنن الله في خلق الإنسان والأكوان، وقد جعلوا لكل علم وكل فن ولكل صناعة وعمل جماعات تُعنى بترقيته وإتقانه، حتى إن الجمعيات الدينية فيهم تملك ألوف الألوف من النقود الذهبية. ولكن كان جُلّ ارتقائهم في العلوم والفنون المادية والمالية والحربية وطرق استعمار الممالك واستخدام الشعوب لمنافعهم، وأقله في الفضائل الدينية والأدبية التي ترجح الحق على القوة، والعدل على الشهوة، حتى خاف عاقبة ذلك عليهم حكماؤهم وعقلائهم، وقال أكبر وأشهر فيلسوف اجتماعي فيهم، وهو هربرت سبنسر، لأكبر وأشهر حكيم فينا، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - ما معناه أن ضعف الفضيلة وتغلُّب الأفكار المادية على أوربة سَتَدُعُّها (أي تدفعها بعنف) إلى حرب مجتاحة ليظهر أيّ أممها الأقوى، فيسود العالم. {إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} (العلق: 6-7) وإنه ليبغي أن رآه قوي واستعلى، وإن مظاهر الغنى والقوة لغَرَّارة خداعة، فالفقراء يعظمون الأغنياء، وإن منعوهم رفدهم، وهضموهم حقهم، والضعفاء يخضعون للأقوياء، وإن أرهقوهم عسرًا، واستذلوهم عدوانًا وظلمًا، ولا يزال بعض الشعوب على إرث ما من سلفهم الذين عبدوا الملوك، واتخذوهم آلهًة وأربابًا، وإن زالت تلك الدعوى وعفت مظاهرها الباطلة، فيظهر أثر هذا الإرث في كثير من أفرادها، وإن تبوءوا مقاعد الرياسة فيها، وأما ولوع الأمم المغلوبة على أمرها بتقليد الغالبين - في كل ما يسهل التقليد فيه من العادات وشئون الحياة - فهو سُنة من أظهر سنن الاجتماع، وقد بسط الكلام فيها حكيمنا ابن خلدون في مقدمته، فهي لا تخفى على قراء العربية، الذين يعنون بالأمور الاجتماعية، والتقليد في الأمم كالتقليد في الأفراد، هو توطين لنفس المقلد على أن يكون تابعًا للمقلد في بعض ثمرات اجتهاده، غير طامع في مساواته، فهو يستلزم تعظيمه له واحتقاره لنفسه وقومه. إن المقلد لا ينفكّ مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي قد يشتبه أمر بعض المتفرنجين بما يدعو إليه المصلحون من الاعتبار بما أوتي الإفرنج من العلوم والفنون، وما أتقنوا من الأعمال، والبحث في أسباب ذلك وطرقه، والاستقلال في اقتباس ما تحتاج إليه أمتهم منه، لتقوى به، وتكون أمة عزيزة قوية مثل أممهم، وإنما تقوى الأمة إذا حافظت على ما كانت به أمة كاللغة والآداب والعادات والشرائع التي تمتاز بها، وإذا كان بعض العادات باطلاً ضارًّا، فينبغي إزالته وتغييره بالحكمة والموعظة الحسنة، والتربية العملية النافعة، بشرط أن لا يشوب ذلك شيء من تحقير الأمة في أنفس أهلها، ولا إذلالها بإشعارها باستعلاء غيرها عليها، وأن لا تُحْمَلَ على تقليد أجنبي عنها، وإنما تلقَّن الحكمة مع إقناعها بفضلها ونفعها، وبأنها يجب أن تكون أحق بها وأهلها، كما ورد في حديث أبي هريرة عند الترمذي: (الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحق بها) ، ومن المتفرنجين مَن يدعي هذا الإصلاح، ويتوهم أنه صادق؛ لأنه لا يميز بين الإصلاح والإفساد، ومنهم مَن يدعيه بمحض الكذب والرياء، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: 204-205) . إن الفرق بين المتفرنج المقلد وبين المصلح المستقل مما يخفى على غير العارفين بالحقائق، ومن هؤلاء العارفين لورد كرومر الذي كان عميد إنكلترة في مصر، فقد بيَّن في كتابه (مصر الحديثة) من فضائح المتفرنجين المصريين ما فيه أكبر عبرة لمَن يعتبر منا، وإن كان لم يكتبه لأجلنا، ولا نحن عرفنا كيف نستفيد منه، وقد أشار إلى مذهب المصلحين الإسلاميين فيما يستحدثون لقومهم من شئون الحضارة بما قاله في أحد تقاريره عن مصر عند ذكر وفاة الأستاذ الإمام، وهو أن الشيخ وحزبه المعتدل يشترطون في ذلك المحافظة على أصول الإسلام، خلافًا لمن لا يبالون في هذه السبيل بالدين ولا ما دونه من مقومات الأمة التي نشؤوا فيها. ولا يرجى من أجنبي غير مسلم أن يقول في كلمة استطرادية أكثر من هذا، في بلد له السيطرة على حكومته، وجل من تعتمد عليهم حكومته من رجالها هم المتفرنجون، كما بيَّن ذلك اللورد نفسه في كتابه (عباس الثاني) . المتفرنجون أصناف، فمنهم المعتدلون والغلاة، ومن الغلاة: المارقون من الدين الذين يحاربون أصوله وفروعه، وينفثون سموم الكفر والفسق في أهله، والمارقون الذين لا يحبون أن يعرف حالهم، فلا يتكلمون في أهل الدين ولا يحبون أن يتكلم هؤلاء فيهم، إما لاعتقادهم أن فشوَّ الكفر مفسدة تزيد أمتهم ضعفًا وفسادًا، وإما لكراهتهم للخوض في أمثال هذه المسائل وما تجرُّه من القيل والقال، ومن المعتدلين: الثابتون على عقيدتهم التي نشأوا عليها، والذين لهم ضرب من الآراء الجديدة فيها، وإنما تفرنج هؤلاء في أبدانهم، لا في عقلهم ووجدانهم، ولا نحاول استقصاء ما يكون به التفرنج وأصناف أهله في أفراده، بل نقول بالإجمال: إنه قسمان: صوري ومعنوي، ظاهري وباطني، والمعنوي الباطني، يستلزم الصوري الظاهري، وأما هذا فلا يستلزم ذاك، ولكنه يؤثر فيه بعض التأثير، فكل منهما يمد الآخر في ذلك وفي غيره ويستمد منه؛ لذلك ترى بين أصحاب كل قسم من التعارف والتآلف ما لا نجده بينهم وبين المخالفين لكل منهم، فهو لذلك يسري في الأمة سريانًا تدريجيًّا، لا يشعر به الجمهور، وإنما يفطن له الأفراد من العارفين بشئون الاجتماع المراقبين لسير الأمم وتقلبها، وما يطرأ عليها من التغيير. أما ما يشعر به الجمهور ويتألم له من بعض شذوذ الغلاة من هؤلاء المتفرنجين وجهر بعضهم في إنكار ما عليه الأمة من العقائد أو العادات المحترمة فمثله فيه كمثل العامي الجاهل الذي يُصاب بالداء الإفرنجي، يتألم لكل قرحة تعرض له من أثر الداء ويطلب لها الدواء، ولكنه لا يعرف خطر الداء في عامة بدنه، ولا فعله في تسميم دمه، ولا يطلب له العلاج في غير أوقات التألم من الأعراض الحادثة، ولا يصبر على تناول الأدوية التي يرجى أن تنقي دمه من ذلك السم في الزمن الطويل. ترى هذا الجمهور الذي ضربنا له المثل يصيح ويشكو قولاً وكتابةً عند كل صوت يجهر بمخالفة دينه وآدابه وعاداته: فلان كفر، فلان فجر، وأما العالم بشئون الاجتماع فهو كالعالم بالطب أو بحفظ الصحة، كلاهما يهتم بالعلل العامة وأسبابها والعلاج الذي يستأصلها لا بأعراضها التي تظهر تارة وتخفى أخرى. ويا ليت الجمهور يتبع الطبيب الاجتماعي الذي يستصرخه عند كل صيحة تؤلمه من مهاجميه في عقائده أو غيرها من مقوماته الملية، كما يتبع مريض البدن طبيب الأبدان، إذًا لسهل التوقي من خطر هؤلاء الذين تقطعت الأسباب وانفصمت العرى التي تربطهم بأمتهم، وتعذر عليهم الاتصال بأمة أخرى يكونون أعضاءً حية فيها، ففقد جمهورهم الشعور بالحياة القومية والملية، فأمسى لا يهتم إلا بلذَّاته الشخصية، ومنها أن يكون محترمًا مكرمًا بين مَن يعيش معهم، فهو يدعوهم إلى أن يكونوا مثله مُدَّعِيًا أن ذلك خير لهم، كما أنه يكون عونًا لكل ذي سلطان عليهم، يساعده على كل ما يريده منهم، ومن دون هذا الجمهور أفراد يعز عليهم أن لا يكون لهم أمة، فهم لشدة حاجتهم إلى الأمة التي انفصلوا منها في الباطن يريدون أن يجذبوها إليهم، ويجعلوها أمة أخرى بمقومات ومشخّصات مذبذبة، لا هي إسلامية صحيحة ولا هي إفرنجية خالصة؛ ليكونوا أعضاءً رئيسة لها في هذا الخلق الجديد المتخيل، بعد أن صاروا فيها كالأعضاء الأثرية وزوائد الأظفار والأشعار التي جرت العادة بقصها وإلقائها، وهؤلاء الأفراد الذين يفكرون في تكوين الأمم قليلون، ولكن الذين يلغطون بهذه ا

نقد ذكرى المولد النبوي

الكاتب: ن. هـ. د.

_ نقد ذكرى المولد النبوي لصاحب الإمضاء الرمزي (الموضع الأول) في صفحة [1] (ي) من المقدمة حققتم أن عمل المولد بالشكل المعروف بدعة، وأنكم تتحامون عن عمل شيء باسم المولد، فأحسنتم، وأجدتم. ثم ذكرتم أن البكري دعاكم، فتوسلتم بإجابة الدعوة إلى تنفيذ فكرة استبدال الضار من الموالد بالنافع، فهل هذه الفكرة غيَّرت حكم هذه البدعة، وأخرجتكم من المُحْدَثِينَ؟ ، لا أظن ذلك، بل لا أرى وضع المولد يليق بأمثالكم، القائمين بالإصلاح ومحاربة البدع، وخصوصًا على الصورة التي طُبع عليها مختومًا كل فصل منه بالصلاة البتراء، فلو اكتفيتم بنشره في المنار مع الإرشاد إلى جعْل تلاوته بصورة الخطابة لربما كان أنسب، وعن الصورة المألوفة أبعد. (الموضع الثاني) في أول الصفحة الرابعة من ذكرى المولد ذكرتم ما لفظه: كيف كان اصطفاء الله تعالى لهذه الأصول من الأمة العربية، الذي ثبت في صحيح مسلم وغيره من كتب السنة السنية، وبماذا امتاز قوم خاتم الرسل ... إلخ. العبارة في ذوقي السقيم غير مستقيمة، ولم يظهر لي صلاحية شيء مما بعدها للجواب عن (كيف كان) ، وجميعه جواب عن (وبماذا امتاز) ، فحذف السؤال الأول والاقتصار على الثاني لعله أظهر. (الموضع الثالث) في الصفحة الخامسة قولكم: أيام كانت الأمم مرهقة بالأثرة والأنانية والأنين من ثقل الضرائب ... إلخ، لعل الأولى حذف لفظ (والأنين) ، أو إبداله بلفظ (وتأن) ؛ ليصح العطف، أو ليكون أوضح. (الموضع الرابع) في الصفحة السابعة قولكم: أما اصطفاء الله لكنانة فيفسره ... إلخ، وقولكم: وأما حج العرب إليه فهو دليل ... إلخ، لعل الأولى: اصطفاء الله لكنانة يعلم مما كانت تحفظه العرب من أخباره ... إلخ، وحج العرب إليه دليل ... إلخ، بحذف لفظ (أما) ولفظ (فهو) . (الموضع الخامس) في الصفحة الثامنة ذكرتم بالحواشي تفسير الندوة بالشورى، وخصصتموها بإجالة الرأي بعد البعثة للائتمار به صلى الله عليه وآله وسلم هكذا، والمعروف أن الندوة محل الشورى مطلقًا، وأن الذي بناه قصي وجعل بابه للكعبة، كما نقلتموه في الصفحة نفسها عن ابن إسحاق، وكذلك فسرتم اللواء براية قريش، وأنه كان يسمى العقاب، والمعروف أن العقاب اسم راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في القاموس صفحة 107. (الموضع السادس) قولكم في الصفحة التاسعة: (كان ذلك كله من ارتقاء قريش، واستعداد العرب للإسلام، ولكن هذه القوى المعنوية كلها وجهت لمعاداته عليه وآله أفضل الصلاة والسلام) ، لعل حذف هذه العبارة المشعرة بغاية الهجو والموهمة أن جميع قريش وجهَّوا جميع قواهم لمقاومته أولى وأليق؛ لأن السياق في مدح قريش، وشرح المزايا التي فضلوا واستعدوا بها للإصلاح الروحي والمدني؛ ولأن الواقع خلاف ذلك، فليس كل قريش وجهوا قواهم لمعاداته صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ منهم السابقون للإسلام مع إخفائه لمصلحة الذبّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأبي طالب رضي الله عنه، ومنهم السابقون له المتحمّلون لمشاقّ التعذيب كآل ياسر، ومنهم السابقون القائمون بنصرته صلى الله عليه وآله وسلم ونشر دعوته، والذب عن حوزته، المؤثرون له صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسهم، القائمون بمساعدته بكل ما في وسعهم، كحمزة وعلي وخديجة وأبي بكر وغيرهم من أجلاء الصحابة الذين هجروا وطنهم رغبة في صحبته، وملازمة خدمته صلى الله عليه وآله وسلم، بل منهم - مع عدم إسلامه في أول البعثة - من تحمل مشاق الحصر مع بني هاشم في الشعب إيثارًا لنصرته صلى الله عليه وآله وسلم ومساعدته، على أن الإسلام ما اعتزَّ ودخل في طور القوة والمَنَعَة إلا بعد إسلام مَن تأخر منهم، فكانوا القائمين بنصرته، ونشر دعوته صلى الله عليه وآله وسلم، الباذلين أرواحهم في حماية بيضته في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته، وسيبقون - إن شاء الله - كذلك إلى قيام الساعة، ولعل الحكمة في ذلك رفع التهمة عن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم، ولله در العلامة الشيخ عبد العزيز الزمزمي، حيث أشار في همزيته لذلك، فقال: خيرة الله من قريش وما أد ... راك مَن هم مكانة وعَلاء نسب بالعلا علا فتراءت ... درر الأفق تحتها حصباء شرف شامخ الذرى وفَخَار ... ثابت صبر الجبال هباء أنزل الله في قريش لإيلاف ... قريش فزادهم آلاء شرف الله قدرهم بنبي ... خلقوا من نجاره شرفاء واصطفاهم لأجله واجتباهم ... فغدوا سادة به نجباء ذبّ عنهم صونًا لهم ورعاهم ... وحماهم ممن نوى الأسواء أظهر الله فضلهم من قديم ... بحديث في فضلهم عنه جاء ثم لما جاء النبي إليهم ... أبطئوا عنه لا قلى وجفاء كيف يجفونه وقد ألف الله ... عليها ضبابها والظباء لكن الله وحده قد تولى ... نصره حفلة به واعتناء لو تولوه داخل الشك قومًا ... عاينوا حزب نصره القرباء فقضى الله ما قضاه إلى أن ... شاد أركان دينه والبناء دخلوا فيه مرعبين فصاروا ... فيه للناس قادة رؤساء جعل لمصطفى الإمامة فيهم ... إذ رآهم لخودها أكفاء ورثوا الأمر بعده فأقاموا ... اعوجاجًا من العدا وانحناء (الموضع السابع) في الصفحة العاشرة قولكم: فجملة ما امتاز به آله صلى الله عليه وآله وسلم ... إلخ. لعل ثبوت بعد الآل عن الأمور الحربية والرياسة لا يصح قبل الإسلام ولا بعده. أما قبل الإسلام فلمنافاته ما قدمتموه من أن الندوة واللواء والسفارة والأعنة والقبة من المناصب المختصة بهم، وكلها من الأمور الحربية، ولمنافاته أيضًا ما قدمتموه من أن كنانة كان مثابة التعارف، وأن مالكًا وقصيًّا ملكا العرب، فهل الرياسة غير هذا؟ وأما بعد الإسلام فلمنافاته ما هو معلوم من حملهم لألوية القتال وقيادة الجيوش لمحاربة الأعداء في بدر وأحد وخيبر وحنين، بل لم تَدُرْ رحى الحرب في المعارك المشهورة إلا على محور الآل، فهم قطب رحاها بلا جدال، وهم الثابتون معه صلى الله عليه وآله وسلم في المواضع التي فَرَّ فيها الأبطال. فهل الأمور الحربية التي بعدوا عنها غير هذا؟ ولله در أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي، حيث يقول - كما نقله في الاستيعاب -: لقد علمت قريش غير فخر ... بأنَّا نحن أجودهم حصانا وأكثرهم دروعًا سابغات ... وأمضاهم إذا طعنوا سنانا وأرفعهم لدى الضراء عنهم ... وأبينهم إذا نطقوا لسانا وقولكم في الصفحة المذكورة؛ ولذلك غُلِبُوا على الرياسة حتى بعد الإسلام ... إلخ تغلب الغير عليهم في الرياسة بعد الإسلام لا يستلزم بُعْدَهُمْ عنها، وعدم استحقاقها، وإلا لنا في ما تواتر عن علي وابنيه الحسن والحسين من قيامهم بطلب الخلافة، واحتجاجهم على مَن قاومهم بالبراهين، ومحاربتهم للطاغية معاوية وأذنابه، وانضمام الصحابة - إلا مَن شَذَّ - إلى علي وابنيه عليهم السلام. ربما يقال: إن الدليل على ذلك كوْن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يولي غيرهم، ويتركهم، فالجواب عن ذلك أن التولية منه صلى الله عليه وآله لأشخاص كعمرو بن العاص وعدم توليته لآخرين كأبي بكر وعمر لا يمكن أن يكونا دليلاً على استحقاق الأول للخلافة وعدم استحقاق الآخرين؛ لأن ذلك من وقائع الأحوال المطروقة باحتمال أن يكون كل من التولية وعدمها لمقاصد مهمة: فمن مقاصد التولية تأليف قلب المولَّى أو استجلاب ود عشيرته، (ومنها) إزالة نفور الناس عنه لاستقذارهم له، من حيث تلطخه بحمئة عداوة النبي والمسلمين، (ومنها) قصد إبعاده للسلامة من دسائسه {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} (التوبة: 47) ، ومن مقاصد عدم التولية لأشخاص قيامهم بحراسة النبي والذب عن حوزته ومساعدته، (ومنها) قيامهم بتلقي أحكام الشريعة ليبلغوها للأمة وخصوصًا آل بيته، فهم هالة طلعته، وثقات أمته، وهم العدول المعصوم اتفاقهم، المشهود بأنهم والقرآن في قَرَن إلى قيام الساعة، رضوان الله عليهم أجمعين. وقولكم - في آخر الصفحة -: فهو أنفى للشبهة عن رسالته صلى الله عليه وآله وسلم، قد يقال: إنه لو كان فيما ذكر محل شبهة لكان لتفضيلهم والأمر بالصلاة عليهم وفرض مودتهم وموالاتهم وفرض الخمس لهم أكبر شبهة وأعظم تهمة، وليس الأمر كذلك، والله أعلم. (الموضع الثامن) في الصفحة الثالثة عشرة ذكرتم بعض أولاد عبد المطلب والمقام يقتضي استيعابهم؛ لأن الاقتصار في محل البيان يوهم الحصر، وزيادة سطر لا تطول به القصة. (الموضع التاسع) في الصفحة الثلاثين ذكرتم أنه صلى الله عليه وآله وسلم لقي من قومه أشد الجحود والإيذاء ... إلخ، لعل الأوْلى: من زعماء قومه الذين أشقاهم الله؛ فصدوه عن تبليغ دعوة ربه، ومنهم عمه أبو لهب القائل ... إلخ، لما قدمناه من قيام كثير من قومه بمساعدته وإجابة دعوته. (الموضع العاشر) في الصفحة الحادية والثلاثين ذكرتم أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الناس أن يحموه للقيام بهذا الأمر، فلم يحمِهِ من قريش أحد ... إلخ، لعل الأولى: كان يدعو الناس إلى أن يعضِّدوا مَن يحمونه؛ ليقوم بهذا الأمر، فحال زعماء الشرك دون ذلك محاولة لإطفاء نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، فهدى الله للإيمان به ستة نفر من أهل يثرب ... إلخ لما تقدم أيضًا. (الموضع الحادي عشر) في الصفحة السابعة والثلاثين ذكرتم أنه صلى الله عليه وآله وسلم ثبت وحده في يوم أحد ... إلخ، والذي أذكره أنه ثبت معه بضعة نفر من قريش وبني هاشم وكذا في حُنين، وهذه منقبة لهم، يحسن ذكرها إشعارًا بمزايا الاصطفاء التي ذكرتموها. (الموضع الثاني عشر) في الصفحة الحادية والأربعين ذكرتم في الخاتمة أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقام بمكة بعد بدء التبليغ عشر سنين، والمشهور أنها بضع عشرة سنة، ثم ذكرتم في الصفحة الثانية والأربعين حال الإسلام في تلك المدة وما لاقاه صلى الله عليه وآله وسلم مع السابقين من المؤمنين وصبرهم على الاضطهاد ... إلخ، ثم دخول الإسلام في عهد الحرية ... إلخ، ولم تذكروا دخوله في عهد القوة والمنعة بعد فتح مكة بدخول قريش واتباع العرب لهم مع أن ذلك هو مظهر مزايا الاصطفاء، فلعل إلحاقها يكون في المستقبل إن شاء الله تعالى. (الموضع الثالث عشر) في الصفحة الثالثة والأربعين ذكرتم في الحواشي حديث الثقلين ثم قلتم: وفسر زيد أهل بيته بمَن تحرم عليهم الصدقة ... إلخ، ثم قلتم - ويقول آخرون -: هم علي وذريته من فاطمة عليهم السلام ... إلخ، وظاهر تقديمكم تفسير زيد، والتعبير في مقابله بلفظ: يقول آخرون - يُشعر باعتماد ما قاله زيد رضي الله عنه. ولعل الصواب ما يقوله الآخرون، كما حققه شيخ مشايخنا العلامة مولانا السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي في كتابه (رشفة الصادي) . ولعل ملخص ما حققه العلامة ابن شهاب أن المراد بأهل البيت - في آية التطهير -: علي وفاطمة والحسن والحسين عند جمهور العلماء وأكابر أئمة الحديث المعتد بروايتهم ودرايتهم، وأن الأدلة تضافرت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمصير إلى تفسير مَن أُنزلت عليه الآية متعين. دعوا كل قول غير قول محمد ... فعند بزوغ الشمس ينطمس النجم فمن ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي من طرق عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: في بيتي نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33) وفي البيت فاطمة

رحلة الحجاز ـ 10

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة الحجاز (9) النفر من منى إلى مكة: لما كان يوم النفر رمينا الجمرات لآخر مرة، وفي الأصيل شددنا الرحال ونفرنا من منى هابطين إلى مكة المكرمة حامدين لله شاكرين له ما وفقنا لإتمام مناسكنا، راجين من فضله وإحسانه أن يكون حجنا مبرورًا، وسعينا مشكورًا، وعلمنا مُثابًا، ودعاؤنا مُستجابًا، ويالله ما أحلى الشعور الذي يستولي على المرء في أثناء هذا النفْر، فإنه على فراقه لذلك المعهد القدسي الذي وصفنا في الفصل السابق ما له في النفس من عظيم الأنس - تراه يفارقه قرير العين مطمئن القلب جمّ السرور فرحًا بفضل الله ورحمته، وذلك شأن الإنسان بعد إتمام كل عمل من الأعمال النافعة التي يهتم بأمرها، يفرح في عاقبة إتمامه بقدر ما كان من عنايته به وتعبه فيه، وبقدر مكانة العمل نفسه من نفسه، وما يرجو من فائدته ونفعه، سواء كان ذلك في دنياه أو دينه، فمَن لم يألُ جهدًا في أداء المناسك أفاض من منى وهو بحيث وصفنا من الغبطة الروحية، والسكينة والطمأنينة، التي يعبر عنها بعض الناس براحة الضمير، ومن قصر في شيء من تلك الأعمال، ولو بترك العزيمة والأفضل خالج غبطته وطمأنينته بعض التمني ولوم النفس: ليتني فعلت كذا، وسأفعل كذا في حج آخر إن شاء الله تعالى كما تمنى بعض رفاقنا لو باتوا الليل كله في المزدلفة معي. المقام بمكة بعد الحج: قد كنت أرجأت أمورًا مما أنوي عمله في مكة إلى ما بعد الحج: (منها) ما أشرت إليه قبلُ من زيارة جميع الذين تفضلوا بزيارتي ولم تتيسر لي زيارتهم قبل الحج، (ومنها) زيارة كثير من المعاهد التاريخية والآثار النبوية في مكة وضواحيها؛ إذ لم أشأ أن أخلط ذلك بأعمال النسك كما يفعل بعض العوام الذين يعدون بعض ذلك من أعمال النسك أو من الأعمال المطلوبة شرعًا ولو لغير النسك، ولا يطلب شيء من ذلك شرعًا، لا وجوبًا ولا ندبًا، إلا من كانت له نية صالحة في شيء من ذلك وجاء به على وجه يعرفه الشرع ولا ينكره، (ومنها) شراء أشياء كثيرة مما يباع في مكة وضواحيها بعضها لأنفسنا، وبعضها لأجل إهدائه لأصدقائنا، (ومنها) وهو أهمها شرح ما عندنا من الحقائق في الحالة السياسية الحاضرة لمن يجب شرحها له بعد أن كنا فتحنا أبواب بعض مسائلها، فكان الحديث في أكثرها إجماليًّا ولا يغني فيها إلا البيان والتفصيل. لم نلبث أن بدا لنا ما لم نكن نحتسب، وفاجأنا ركب المحمل المصري بسفره يوم الخميس 14 ذي الحجة من مكة المكرمة إلى جدة، وعلمنا أنه قرر ركوب البحر في ثاني يوم وصوله إليها، ولو سافرنا معه لما أمكننا أن ندرك شيئًا مما نريد من مكة، فعزمنا على التخلف عنه يومًا واحدًا، وهو منتهى ما نملك من التأخير، وماذا عسى يغني عنا اليوم الواحد مما كنا نقدر له أسبوعًا كاملاً لا نستكثره عليه؟ ، على أننا أدركنا في ذلك اليوم - بتوفيق الله تعالى وعناية المحبين - ما لا يدرك إلا في أيام، فابتعنا بعض ما نحب من الحُلي والحُلَل من منسوجات الهند الموضونة وغير الموضونة وبعض منسوجات الشام وبلاد الترك والصين وغير ذلك مما يشتري مثله الحجاج عادة، وكان الفضل في شراء ذلك في وقت قصير مع أمن غبن التجار لنا فيه لصديقنا الشيخ حسين با سلامة، وهو من أشهر أدباء مكة وتجارها، وقد تركنا ما كنا نبغي من الزيارات بأنواعها، ولكن الله تعالى منّ علينا بما هو خير منها كلها، وهو التشرُّف بدخول بيته العتيق المعظم والصلاة والدعاء فيه. دخول الكعبة المعظمة: دخلت المسجد الحرام في وقت الضحى من يوم الجمعة (15 ذي الحجة) ، فوجدت باب البيت العتيق المعظَّم مفتوحًا، وفيه بعض شبان آل الشيبي الكرام، فرأيت الفرصة سانحة للتشرف بالدخول فيه، والوقت هادئ لا يكدر صفوه احتفال ولا ازدحام، وكان يرافقني الشيخ حسين با سلامة، فبلغ من هنالك من الشيبيين رغبتي، فقابلوها بالقبول والارتياح، فتوضأت من بئر زمزم، وأدلى الشيبيون لي السلم، فصعدت، فدخلت متذكِّرًا دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، متمثّلاً حاله في ذلك اليوم العظيم يوم الفتح، ففاجأني من الهيبة والخشوع والبكاء ما لم يسبق له نظير، ووقفت زمنًا لا أستطيع فيه الإحرام بالصلاة ولا النطق بالتكبير، وقد ذكر لي رفيقي با سلامة في هذه الحال المكان الذي صلى فيه صفوة الله من خلقه وَعَيَّنَهُ بالإشارة على حسب ما بيَّنه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، فصليت فيه ركعتين هما أرجى ما أحتسبه عند الله تعالى من التطوع، ثم صليت في كل جهة من الجهات الثلاث الأخرى ركعتين. ودخول الكعبة ليس من مناسك الحج خلافًا لما حكاه القرطبي عن بعض العلماء، واختلفت الرواية في دخول النبي صلى الله عليه وسلم البيت وصلاته فيه، والتحقيق الذي جمع به بين الروايات الصحيحة المتعارضة أنه دخله في عام الفتح لا في حجه ولا في عمرته، وأنه صلى فيه ركعتين بين العمودين المقدمين جاعلاً الباب وراءه وبينه وبين الجدار الذي صلى إليه ثلاثة أذرع بذراع الآدمي تقريبًا لا تحديدًا، وليس من السنة تتبع المواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيها، ولا مواقفه في النسك كما تقدم في الكلام على موقفه في عرفات، وكذا سائر عباداته، ولم يُرْوَ عن أحد من علماء الصحابة أنه فعل شيئًا من ذلك إلا عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) ، فهو فعل غير مشروع وغير ممنوع، إلا أن يؤتَى به على وجه يكون به بدعة، وهو جعله كالمشروع بالتزامه أو بالاجتماع عليه كالشعائر، فإذا خلا من شبهة البدعة كان كبير الفائدة لذي اللب؛ لما فيه من حسن الذكر الذي يخشع له القلب، ولعله لم يشرع لئلا يترتب عليه الحرج الشديد بالتزاحم؛ ولتعذر فعله على العدد الكثير، كما لو أراد كل حاج أن يقف حيث وقف صلى الله عليه وسلم, ولسد ذريعة الشرك؛ إذ يُخشى على ضعيف العلم بالدين أن يغلو فيه، فيجعل للرسول شركة في العبادة التي يتتبع آثاره فيها {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: 5) ، وإنما ذلك بتوجيه الوجه وإسلامه إليه وحده في العبادة. * * * وداع الأمير وصفاته علمت أن أمثل الأوقات لوداع الأمير ما بعد صلاة الجمعة، فقصدت عقب الصلاة حجرته التي يصلي فيها، وهي في جدار الحرم الجنوبي، فألفيته جالسًا في القسم الخارجي من الحجرة، وفي حضرته بعض الكبراء، وفي مقدمتهم رئيس الوكلاء والشيخ محمد صالح الشيبي الكبير رئيس مجلس الشيوخ، وكان معي السيد عبد الله الزواوي وكيل المجلس، وعلمنا أنه كان في القسم الداخلي، حيث صلّوا الجمعة نجله الشريف عبد الله وكيل الخارجية مع بعض الناس. فلما دخلت على الأمير تلقاني بالحفاوة والإكرام، فاستلمت يده لتقبيلها، فحاول تواضعه التمنع من ذلك، ولما جلسنا تفضَّل بكلمات من المجاملة كادت تذيبني خجلاً، ونكتفي من كلامه بما دون الإطراء الذي تقتضي الحال حذفه، وهو قوله موجهًا الخطاب للحاضرين: هذا فلان ... صاحب المنار، كلكم تعرفونه، وتعرفون ما له من الغيرة والإخلاص والجهاد في خدمة الإسلام. وهو قد جاءنا في هذا العام حاجًّا. وكنا نتمنى أن يبقى عندنا، ولكنه صاحب عمل كبير في مصر، وهو قد رأى وعرف كل شيء عندنا، وظهر له أننا إلى الآن لم نقف أمام عتبة عمل من الأعمال (وكان ذكر في سياق حديثه ما ينوي من ضروب الإصلاح العلمي والعملي) ، التي لا بد لنا منها، وأن همنا محصور في إخراج المتغلِّبة من بلادنا، ولا يتم ذلك إلا بفتح المدينة المنورة، فمتى تم لنا ذلك، وأردنا البدء بالإصلاح الذي نبغيه فإننا نرجو من غيرته أن لا تمنعه أعماله في مصر من إجابتنا إلى ما نطلبه من معاونته وإرشاده، وهو الآن يقدر أن يخدم حركتنا في مصر أكثر مما يخدمها هنا لو أقام بيننا. فلما أتم كلامه شكرت له ما أراه مبالغة في حسن الظن والمجاملة، وذكرت أن هذا التواضع عن كمال الرفعة قد أخجلني، حتى عقد لساني، ولم يَبْقَ لي إلا أن أقول: إنني أعد نفسي كجندي صغير مستعد في كل آن لخدمة دينه وأمته بالإخلاص، وأعاهدكم أمام بيت الله تعالى، على أنني لا أُدعى إلى عمل أستطيعه في خدمتهما إلا وأبذل فيه كل جهدي ما دمت معتقدًا أنه حق، وإنه لا يثنيني عن ذلك منفعة شخصية ولا أهل ولا ولد، فإنني نشأت على العمل بما يوجبه عليَّ اعتقادي، ويطمئن إليه قلبي، ثم قمنا، وتقدمت لوداعه، ومحاولة تقبيل يده، فأخذ بيدي، وتوجه بي إلى بيت الله عز وجل من حيث يرى من نافذة المكان، وقال: أسأل رب هذا البيت أن يجمعنا، ولا يجعل هذا آخر العهد بيننا، ثم ودعت الحاضرين، وانصرفت حامدًا شاكرًا. صفات الأمير وشمائله: قد آن أن أذكر في هذه الرحلة بعض ما علمته واستنبطته من صفات هذا الأمير الجليل، ومزاياه التي يوافق ذِكرها مقتضى الحال، فأقول: إنه حوى جل أخلاق ملوك الشرق وأمرائه العظماء، وانفرد بصفات ورثها من أجداده الشرفاء، فمن ذلك قِرى الضيوف وإجازة الوفود، وعزة النفس والثقة بها والاعتماد عليها، والثبات والإصرار على ما يأخذ به، ويجري عليه، فقد تتزلزل الجبال دونه، ولا يتزلزل، وشدة الحذر، وسوء الظن الذي عدّ من أزكى الفطن، حتى كان نصب عينيه قول الشاعر: وإنما رجل الدنيا وواحدها ... مَن لا يعول في الدنيا على رجل ولذلك تراه ينظر في كل شيء من شؤونه الخاصة، وشئون البلاد العامة، حتى أمور المنزل وشؤون الضيوف والوفود ونفقاتهم، ومصالح البدو وصلاتهم، وقد أعطاه الله تعالى قوة غريبة، فهو يشتغل بالنظر في ذلك كله عامة النهار، ولا يشكو مللاً ولا تعبًا، وقد كلمته في مسألة الاشتغال بالجزئيات، ووجوب نوطها ببعض العمال، وجعل وقته الثمين خاصًّا بالمصالح العامة والأمور الكلية، ووضع نظام لذلك، فقال: إن هذا ضروري لا مندوحة عنه، ونحن لا نزال نجري على نظامنا القديم، والتحول عنه إلى غيره لا يتأتَّى إلا في زمن غير قصير، قلت: نعم، وإنما الغرض وضع النظام له والبدء فيه. ومن أخلاقه وشمائله توخِّي التواضع في القول والفعل، مع المحافظة على الوقار وأبَّهة الملك، والأدب العالي في مخاطبة الجليس ومجاملته، مع الإشارة إلى ما تقتضي الحال من معارضته، وهو على آدابه وتواضعه شديد الوطأة على المجرمين والمخالفين السياسيين، يأخذهم بأشد العقاب الذي يرهب كل من تحدِّثه نفسه بأن يعمل على شاكلتهم، لا يخاف في ذلك لومة لائم. (ومنها) العفة والنزاهة فهو مقتصد في تمتُّعه بالطيبات، عزوف النفس عن الانهماك في الشهوات، (ومنها) الشجاعة والإقدام على مكافحة الأخطار، لا يخاف الموت على نفسه ولا على ولده؛ ولذلك جعل أنجاله الأربعة قوادًا لجيوشه، يكافحون المهالك بأيديهم، ويناطحون الموت بنواصيهم. وهو يحب وطنه (الحجاز) حبًّا عظيمًا، ويكرم الحفاة العراة من أعرابه تكريمًا، وطالما نوهنا بما علمنا من براعته في سياستهم وحفظ الأمن بينهم، وقد رأيناه يقضي في مقابلتهم عدة ساعات من كل نهار وهم يدمرون عليه بما اعتادوا من الحرية والاستقلال. أما معارفه وآراؤه في السياسة والأمور الاجتماعية فليس الخوض فيها من مقتضى الحال في هذا الوقت، ولم يكن يسهل العلم بتفصيلها من المذاكرات القليلة التي دارت بيني وبينه، وإن كنت كلمته فيها بحرية واستقلال قلما يكلمه بمثلهما أحد؛ لأنه قليل الكلام، لا يطيل المراجعة والحوار في المسائل ليعلم كُنه غروره في

مصائب الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصائب الحرب ] وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [[1] يشتغل بأعمال هذه الحرب - حرب المدنية - عشرات ألوف الألوف من الرجال ومئات الألوف من النساء كان أكثرهم يشتغل بأعمال الزراعة والصناعة والتجارة، فيكثرون من نتاج الأرض، ومن إيصال حاج بعض الناس إلى بعض، فيعم به الرخاء وغضارة العيش، ويزداد المال في أيدي الناس، وقد قدر عدد قتلى المعارك في أربع سنين بعشرات آلاف ألف، وعدد المشوّهين من الجِراح بخمسة وعشرين، أو 30 ألف ألف، وحل محلهم مثلهم أو أكثر منهم، فتضاعفت خسارة البشر بالحرمان من فوائد أعمالهم، فنقصت الأموال والثمرات بنقص الأنفس، ثم بهلاك الكثير منهما، ومن الأنفس بحرب الغوَّاصات التي ابتدعتها مبتدعة أكثر رزايا التدمير والتقتيل - ألمانية - فقد رقت صناعة هذه السفن الغواصة، حتى صارت تحمل المدافع، وتقطع تحت الماء ألوفًا من الأميال والفراسخ، وحيثما التقت بسفينة تحمل عروض التجارة، أو تنقل الناس من بلد إلى آخر، أرسلت عليها وابلاً من قذائف المدافع أو سهامًا الطوربيل، فجعلتها كعصف مأكول، لا تفرق بين سفن المحاربين وسفن الأمم التي على الحياد، ولا بين حاملة الجنود وعدد الحرب وحاملة العروض وأهل السلم من الرجال والنساء والأولاد، أرادت بذلك أن تحرم إنكلترة وأحلافها من ثمرات سيادة البحار، بعد أن شدد هؤلاء عليها خناق الحصار، فآذت الأمم كلها، وأكثرت من عدد أعدائها. كانت جوائح الغواصات سببًا في اشتداد الضيق، وامتداد الغلاء الفاحش إلى جميع أقطار الأرض، وقد كان هذا القطر المصري في السنتين الأولى والثانية من سِنِي الحرب أقل الأقطار غلاءً، وأكثرها رخاءً؛ لأن أرضه زراعية خصبة يمكنها أن تنتج من الأقوات ما يزيد عن حاجة أهلها، وكان المخزون فيه مما يرد إليه من الخارج كالفحم الحجري والأنسجة والمواد والأدوات اللازمة للزراعة والصناعة كثيرًا، وثمنه معتدلاً، وقد غلا ثمن القطن منذ السنة الثانية، فربحت البلاد عشرات من الملايين، قضت منها كثيرًا من ديونها، فلما اشتد حرب الغواصات قلّ كل ما يرد من الخارج، وتضاعفت أثمانه أضعافًا، وتبع ذلك غلاء غلاّت البلاد ومواردها، حتى بلغ ثمن إردب القمح في الشتاء الماضي خمسة جنيهات، ويباع الآن الرِّطْل المصري من السمن بأربعة عشر قرشًا وخمسة عشر، وبلغ ثمن أقة زيت الزيتون أربعين قرشًا، فصار مساويًا للسمن بعد اشتداد غلاء السمن، وكان قد زاد عنه، إلا أنه قد ورد منه أخيرًا على الإسكندرية عدة قناطير من كريت، فنزل الثمن قليلاً. ورطل اللحم البحري يباع في القاهرة بثمانية أو تسعة قروش، وأقة العنب بِيعت بأربعة قروش فخمسة فستَّة، وقِسْ عليه سائر الفاكهة. وقد سَعَّرَتْ الحكومة المصرية أكثر مواد الغذاء، فكان تسعيرها إياها سببًا لزيادة الغلاء، ولم نر أهل هذه البلاد اتفقوا على مخالفة الحكومة وعدم الاكتراث لها بشيء كما فعلوا في تسعير الأقوات. فمن الثابت أنها لم تنقص من ثمن شيء إلا وزادوا فيه عما كانوا يبيعونه به قبل تسعيرها إياه، اللهم إلا زيت البترول فهو الذي استطاعت الحكومة أن تنفذ أمرها فيه تنفيذًا مطردًا. وقد كان ثمن رطل اللحم قبل تسعيره 6 قروش أو 6 ونصف قرش، فلما رفعته الحكومة إلى هذا القدر ارتقى سعره كما علمت. وكان ثمن رطل السمن 9، فصار بعد جعلها إياه نحوًا من ذلك بزهاء ضعفيه. وكان ثمن أقة زيت القطن المكرر كثمن رطل السمن، فصار شأنه شأن السمن في التسعير والغلاء، وقس على ذلك سائر الأشياء. وأما ما يرد إلى القطر من الخارج فقد تضاعفت أثمانه إلى ما شاءت أطماع تُجاره التي لا حد لها، فتضاعف ربحهم، وعظمت ثروتهم، وكلما غلوا في الغلاء غلا أهل الفَنَع والثراء في الشراء، وقد بلغنا أن أغنى أمم الأرض من الأوربيين والأمريكيين ترك موسروها في أثناء هذه الحرب جميع ما يعد في العرف من الكماليات، واكتفى الأغنياء منهم بالحاجيات، ومن دونهم بالضروريات، حتى ترك أكثرهم شرب الخمور التي كان بعضهم يعدها ضرورية، وكسدت عندهم تجارة الترف والزينة، وشذَّ أغنياء هذا القطر، فاشتد تباريهم في اتخاذ الحلي والحلل، وتنافسهم في الأثاث والرياش، وأرهق مَن دونهم من أهل الطبقة الوسطى عسرًا، فنسأله تعالى أن يجعل لهم مع هذا العسر يسرًا.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة إن الاضطرار إلى تقليل صحائف المنار على كثرة مواده حال دون تقريظ المطبوعات الجديدة في هذه السنة وما قبلها، أو التنويه بذكرها للإعلام بها، وذلك حق لأصحابه على مَن يهدونها إليهم من أصحاب الصحف الدورية حَقَّهُ العُرْفُ، وأوجبه التعاون على نشر العلم، ولقراء هذه الصحف من الحق على أصحابها أن يعلموهم بما يتجدد في صناعة المطبوعات من الصحف والمصنفات، ويبيّنوا لهم قيمتها المعنوية قبل بيان قيمتها المالية، بالتقريظ الصحيح، والنقد النزيه، وإننا نحب أن نؤدي الحقين، ونقوم بواجب النصح للفريقين، ولكن يتعذَّر علينا تارة ويتعسر تارة قراءة ما يُهدَى إلينا من هذه المطبوعات، أو قراءة طائفة من كل منها، تكفي لصحة الحكم في أمرها، ولا نحب أن نكون كمَن ينظر في فهرس الكتاب، فيختار منه ما يظن أن فيه تقصيرًا أو خطأً، فيراجعه، وينتقد منه ما يراه محلاً للانتقاد، أو يختار موضعًا يوافق رأيه فينقله، ويخصه بالثناء، ولا كمَن يثني على كل كتاب يُهدى إليه ثناءً مجملاً، أو ينشر ما يرسله إليه صاحب الكتاب إطراء مفصلاً، وخير من هذا وذاك أن يعرِّف صاحب الصحيفة بالكتاب تعريفًا تاريخيًّا، بذكره وذكر اسمه واسم مؤلفه وموضوعه ووصف حجمه وورقه وطبعه، وهو ما نجري عليه أحيانًا، وقد نزيد عليه بيان قيمته المعنوية أحيانًا، وإن من الكتب ما يعرف الجمهور قدره في الجملة بمجرد ذكره أو وصفه، وإننا نراجع الآن ما أُهدي إلينا في هذه المدة، ونذكر ما يقع في يدنا منه فيما بقي من أجزاء منار هذا المجلد. *** (جرجي زيدان "1861-1914 ") (ترجمة حياته. مراثي الشعراء والكُتاب. حفلات التأبين. أقوال الجرائد والمجلات في الرجل وآثاره) . نشر هذا الكتاب إميل أفندي زيدان نجل جرجي بك زيدان ووارث الهلال من بعده، مؤلَّفًا من ص 147 بحجم الهلال، مطبوعًا بمطبعة الهلال في سنة 1915، وهذا الكتاب مستغنٍ عن الوصف والتقريظ. *** (مبادئ علم السياسة) كتاب لخصه سليم أفندي عبد الأحد الكاتب المشهور من بعض الكتب الإنكليزية لمجلة الهلال، فطبعته في سنة 1915، وجعلته ملحقًا للسنة الثالثة والعشرين من مجلة الهلال. وهو ثلاثة أقسام: (أولها) في الدولة: حقيقتها ونشوؤها وسلطتها وصلتها بغيرها وأنواع الدول في القديم والحديث. (ثانيها) نظام الحكومة: سلطتها بأنواعها وأنظمتها وسياستها وإدارتها وأحزابها وغير ذلك. (ثالثها) الحكومة والاجتماع: وفيه ذكر المذاهب الفردية والاشتراكية والأنظمة الحاضرة. أما حاجة اللغة العربية إلى مثل هذا الكتاب فشديدة لكثرة القراء الذين يهتمون بالأمور السياسية، وقلة ما في اللغة من موادها. وأما طبع الكتاب فنظيف وورقه جيد، وصفحاته 130 بشكل المنار والهلال. *** (خلق المرأة) كتاب ألفه بالفرنسية هنري ماريون الذي كان أستاذًا في كلية الآداب بباريس وترجمه بالعربية إميل أفندي زيدان صاحب الهلال، وجعله ملحقًا للسنة السادسة والعشرين. وقد طالعته كله، فألفيت كاتبه من أعدل الكتاب الأوربيين في هذا الموضوع، وأرجو أن أكتب شيئًا في بيان ما استفدته منه، وقد طبع بمطبعة الهلال طبعًا حسنًا، ولكن على ورق غير جيد، والعذر قلة الورق، وكثرة الثمن، وصفحاته 119. *** (الصبي: بحث في الأخلاق والتربية في قالب روائي) كتاب ألفته إنكليزية اسمها (ماري كورلي) وعني بترجمته بالعربية عبد العزيز أفندي صدقي من موظفي وزارة المعارف والتزم طبعه نجيب أفندي متري صاحب مطبعة المعارف، وقد طبع الجزء الأول منه في العام الماضي في 128 صفحة. أما المترجم فشاب نبيه يتوخى أن ينفع بلاده بما يترجم، وليس ممن لا هَمَّ لهم من الترجمة أو التأليف إلا الكسب، فيختارون ما يلذ للجمهور، لا ما ينفعه، وعبارته حسنة، ولكن فيها ما فيها من ضعف أساليب الجرائد وغلطها، وذلك ما يعز أن يسلم منه كاتب عصري، وهو - على ما أظن - غير مغرور بها على علمه بأنها تفضل عبارات أكثر مترجمي القصص التي تُنشر في هذه الأيام، بل يحب الترقي والكمال في الترجمة والإنشاء، ولا طريق لذلك إلا عرض ما يترجم وينشئ لنقد بعض علماء اللغة والأدب ومتأنقي الكتاب قبل نشره أو بعده ولو بالجعل والجزاء. وأما غرضه من ترجمة هذه القصة فقد بيّنه في مقدمتها وهو إكمال ما ينقص البلاد من القصص الجدية الجامعة بين لذة المطالعة والفائدة النافعة في تربية الأسرة، وقد شرح ذلك شرحًا جميلاً في صفحتين ونصف صفحة. تصفحت هذا الجزء فألفيته مفيدًا كما قال المترجم ولكن البلاد ليست فارغة خالية من مثله كما ادعى، كيف وقد طبع فيها كتاب (التربية الاستقلالية) مرتين وأوشكت نسخ الطبعة الأخيرة أن تنفد، وهو إذا قوبل بما ظهر من كتاب (الصبي) يظهر أنه أعم فائدة وأفضل، وأسلم من لغو القصص وأبعد، ومما أعجبني من الفوائد التي انفرد بها كتاب الصبي أو خالفه فيها غيره - بيان كراهة الشعب الإنكليزي لتعليم أولاده وتربيتهم في مدارس أجنبية، فإن مؤلف كتاب التربية الاستقلالية (إميل القرن التاسع عشر) - وهو فرنسي - قد استحسن أن يُربَّى الطفل الفرنسي في البلاد الإنكليزية؛ لأن التربية فيها أفضل، وأن يعلم ويربى في بلاده إذا صار يافعًا؛ لينشأ فرنسيًا وطنيًّا صادقًّا، ثم يكمل علومه في البلاد الألمانية؛ لأن العلوم العالية أرقى فيها وأكمل. وأما مؤلفة كتاب الصبي أو قصته فهي تقول في التعليم في المدارس الأجنبية ما قال مالك في الخمر، وتجعلها أدهى من الساعة وأمرّ؛ فقد ذكرت أن أم (الصبي) الجاهلة - التي جعلتها مثلاً للتربية الفاسدة - قد اختارت له مدرسة أجنبية، يتعلم فيها من اللغات والعلوم العقلية والجسمية، وما يؤهله لكل عمل في الحياة، على قلة الأجر والنفقات، ثم ذكرت أن الصبي ارتاع لهذا الاختيار الذي يُخرجه عن كونه إنكليزيًّا: (إذ كان وجدانه يحدثه أن المدارس الأجنبية تبدل جنسيته وأخلاقه) ، ثم قالت: (إن الصبي ذكر ذلك لشيخ كبير مختبر، يعرف البلاد الأجنبية، فحذره من ذلك، وأنذره سوء عاقبته بقوله: إن المدارس الأجنبية لا تخرّج إنكليزيًّا مطلقًا، إنك تذهب إلى الخارج شابًا ظريفًا مؤدبًا كما أنت الآن، ولكنك لا تعود بتلك الصفات، ستعود وقد تعلمت الكذب والنفاق والمخادعة، فعندما تتحدث تنهق كالحمير، وعندما تسير تقفز كالضفادع، وسوف تخاف من الماء البارد، ولا يمكن للناظر إلى وجهك أن يقول: إنك إنسان حي، إنك أجنبي متَّسخ حقير، هذا ما ستكونه) اهـ.

رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [*] لما وصل إلينا هذا النقد في بريد الشرق الأقصى كان أول ما خطر في بالنا قبل أن نقرأه أنه يجب علينا إذا وجدناه كله أو جلَّه صحيحًا أن نشهد لصديقنا الناقد بالتدقيق والتحقيق، وأنه بزَّ فيهما علماء مصر وغير مصر من البلاد الإسلامية التي اطَّلع كثير من علمائها على كتاب (ذكرى المولد النبوي) ، فلم يروا فيه بعض ما رآه هو من الخطأ، ثم قرأنا النقد، فرأينا أكثره خطأً محضًا، وأقله ما له وجه أو شبهة، وها نحن أولاء نبين ذلك بما يحتمله المقام من التفصيل، مع اتقاء ما يمل من التطويل. *** (الموضع الأول) تأليف الكتاب هل هو بدعة قد غفل الناقد عما حررناه في المقدمة من كون البدعة في احتفال المولد إنما هي مجموع ما يعمله الناس من خلط العبادات الدينية باحتفالات الزينة واللهو ... إلخ ما ذكرنا في صفحة (ي) من المقدمة، وقد صرحنا فيها بأن قراءة قصة المولد عبارة عن قراءة شيء من الحديث والسيرة النبوية، لا يُنكَر منها إلا جعْلها من الشعائر الدينية الموهمة أنها مشروعة، أي بالتوقيت والاجتماع وغير ذلك. فغفل عن ذلك وجعل هذا العمل العلمي المفرد عين ذلك المجموع المركب، ومن العجيب أنه ادَّعى أننا ختمنا كل فصل من ذكرى المولد بما سماه (الصلاة البتراء) ، غافلاً عن كون أهم فصوله - وهو فصل تبليغ الدعوة - لم يُختم بصلاة بتراء، ولا غير بتراء، وكذلك فصل مناهضة الدعوة، وإلجاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة، ومثلهما الخاتمة. أما قولي في آخر تلك الصفحة: إنني كنت أتحامى كتابة قصة المولد لما ذكرت من الأسباب الثلاثة - فهو حكاية عن رأيي في هذه المسألة في السنين الخالية، وأما ما أنفذته إثْر ما كان من المذاكرة بيني وبين البكري فهو ما ترجَّح عندي بعد ذلك وهو كتابة مصنف وجيز في خلاصة تاريخ المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته، وحقيقة دعوته، وكليات دينه وشريعته - يكون دعوة إلى الإسلام، وردًّا لما فشا في قصص الموالد من الأباطيل والأوهام، وأن أنشره مع بيان ما به تكون قراءته فريضة أو فضيلة محمودة، وما يكون بدعة مذمومة، فتكون بذلك فوائد نشره مضاعَفة، وإني أعتقد أن هذا العمل واجب شرعًا، ولو فصَّلت أدلتي على ذلك لما خفيت على أحد، ولكن لا حاجة إلى هذا التفصيل. على أن آخر عبارة الناقد لهذا الموضع تفيد إجازة هذا التأليف ونشره في المنار؛ إذ حصرت النقد في طبعه منفردًا، وختم فصوله بالصلاة البتراء، ويعني بها ما تُرك فيها الصلاة على الآل؛ لأنه - فيما يظهر - ينكر ذلك، ويراه بدعة محظورة، ويلتزم قرن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على الآل، ولو فيما ينقله عن غيره كما يراه قراء نقده فيما نقله عن ذكرى المولد، وهذا من التحريف في النقل، ولا يخفى حكمه. ونحن لا ننكر أن الصلاة على الآل تبعًا للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة في الصلاة وكذا في خارجها، ونحن نفعلها في التشهد من الصلوات دائمًا، وفي غيره أحيانًا، ولم يقم عندنا دليل على التزامها ولم يصح عندنا نقل عن السلف من الصحابة وعلماء التابعين ولا أئمة آل البيت بذلك، وإنما تلتزمها فرقة الشيعة، وقليل من غيرها، والتزامها أقرب إلى البدعة من تركه؛ لأن الأصل في البدعة مخالفة ما كان عليه أهل الصدر الأول بشرطه، وأما طبع الكتاب وحده فهو كطبعه في المنار، والناقد نفسه يقترح أن يطبع مرة أخرى يُراعَى فيها ما رأى تنقيحه في نقده كما تقدم آنفًا. * * * (الموضع الثاني) الفرق بين الامتياز وما به الاصطفاء سألنا في الكتاب: كيف كان اصطفاء الله تعالى لتلك البطون من العرب، وبِمَ امتازوا على غيرهم، حتى كانت أمتهم بهم أفضل الأمم، وأشد استعدادًا لذلك الإصلاح الكامل العام، الذي جاء به صفوة البشر منهم عليه أفضل الصلاة والسلام؟ وأجبنا عن ذلك بما شهدت به التواريخ العامة من امتياز الأمة العربية على سائر الأمم من بدء التاريخ إلى عصر الإصلاح الأعظم بالبعثة المحمدية، وبما عُرف في تاريخ العرب أنفسهم من امتياز كنانة فيهم وامتياز قريش في بني كنانة، وامتياز بني هاشم في قريش، فعلم بهذا أن اصطفاء كل بطن منهم كان بما امتاز به من المزايا والصفات والأحوال التي كان عليها، وأن ذلك كان إعدادًا لهم لجعْل صفوة الأصفياء في خير بطن منهم، ولقيامهم بدعوته، ونشرهم لهدايته، ولم يتأمل الناقد ذلك؛ فوقع فيما وقع فيه، مما لم يخطر لغيره من الكُتَّاب وعلماء اللغة عندنا ببال؛ إذ لم يفطن لكون ما به الامتياز هو سبب الاصطفاء أو نفس الاصطفاء. * * * (الموضع الثالث) إنكار عطف واقتراح آخر أنكر الناقد علينا في جملة (كانت الأمم مرهقة بالأثرة والأنانية والأنين من ثقل الضرائب) من الصفحة الخامسة أن عطف الأنين على الأثرة غير صحيح أو غير واضح، واختار حذفه أو وضع فعل الأنين المضارع موضع المصدر، قال: ليصح العطف أو ليكون أوضح، ونقول إن لإنكاره دون اقتراحه وجهًا وجيهًا، ولكنه لم يبينه، وهو أن الباء في قولنا (بالأثرة) للسببية أو للآلة، وكل من الأثرة والأنانية سبب للرهق الذي أُرِهقته تلك الأمم أو آلة له، وأما الأنين فهو أثر السبب أو الآلة وليس منه، والوجه أن يقال (تأن) بغير عطف. * * * (الموضع الرابع - أما جوابها) بيَّنَّا وجوه اصطفاء كنانة وقريش وبني هاشم على غيرهم من العرب بأسلوب أما وأما، فأنكر الناقد ذلك في كنانة بجعله هنا خلاف الأولى، زاعمًا أن الأولى حذف (أما وجوابها) ، وبدء الكلام هكذا: اصطفاء الله لكنانة يعلم مما كانت تحفظه العرب ... إلخ، ولم يبين وجه هذه الأولوية، فندعها إلى القراء يحكمون فيها بعلمهم وذوقهم. * * * (الموضع الخامس) ندوة قريش ورايتها " العقاب " زعم الناقد أننا في هامش الصفحة الثامنة فسَّرنا الندوة بالشورى، وخصصناها بإجالة الرأي للائتمار بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة، وأن المعروف ما ذكرناه عنها في صلب الكتاب، وقد فهم ذلك من قولنا: (التي اجتمعوا فيها بعد البعثة للائتمار به صلى الله عليه وسلم) وبديهي أن وصفها بذلك لا يدل على ما فهمه من التخصيص، وإنما تلك غفلة ظاهرة منه. وأما إنكاره قولنا: إن العقاب راية قريش، وقوله: إن المعروف أنها راية النبي صلى الله عليه وسلم كما في القاموس، فما كان له أن يرسله بدون مراجعة لكتب التاريخ والحديث؛ إذ كلمة القاموس وحدها لا تكفي للفصل في مثل هذه المسألة، وهو يعلم أن ما في القاموس مشهور لا يعرف عامة الناس غيره لذكره في السيرة النبوية، وأشعار الشعراء كقول صاحب الهمزية: فغدا ناظرًا بعيني عقاب ... في غزاة لها العقاب لواء فكان ينبغي له - والأمر ما ذكرنا - أن يقول: إن مجيء هذه العبارة من صاحب المنار على خلاف المشهور لا بد له من أصل، ثم يراجع لعله يقف على هذا الأصل، ويحكم فيه حكمه. أشهر معاني العُقاب (بضم العين) أنه طائر من الجوارح التي تصيد، (ومنها) الحرب نقله في اللسان عن كراع، (ومنها) العَلم الضخم نقله الجمهور، قال في اللسان: والعقاب الذي يعقد للولاة شُبِّهَ بالعقاب الطائر وهي مؤنثة أيضًا. ونقل صاحب العقد الفريد في كتاب النسب عن ابن المنذر هشام بن محمد السائب الكلبي أن الذين انتهى إليهم الشرف من قريش - فوصلهم بالإسلام - عشرة رهط من عشرة أبطن، كان لكل منهم منصب ومكرمة من المكارم التي كانت لقريش - وهي التي ذكرناها في الصفحة 8 - قال: فكان من هاشم العباس بن عبد المطلب يسقي الحجيج في الجاهلية، وبقي له ذلك في الإسلام، ومن بني أمية أبو سفيان بن حرب، كانت عنده العقاب راية قريش، وإذا كانت عند أحد أخرجها إذا حميت الحرب فإذا اجتمعت قريش على أحد أعطوه العقاب، وإذا لم يجتمعوا على أحد رَأَّسُوا صاحبَها، فَقَدَّمُوهُ. اهـ المراد منه. ويؤخذ من كلام علماء التاريخ والعاديات أن طائر العقاب شعار قديم للعرب وقد عبر بعضهم عنه بالصقر، وإنما الصقر في اللغة: اسم لكل ما يصيد من جوارح الطير، فالظاهر أن قريشًا سمت راية الحرب الكبرى بالعقاب من ذلك، وأما كون رايته صلى الله عليه وسلم تسمى العقاب فلم يثبت في حديث صحيح، ويحتمل أن يكون سبب هذا القول أن بعضهم أطلق هذا اللفظ على رايته الكبرى بمعناه اللغوي العام، الذي هو العلم الضخم، ففهم آخرون من الإطلاق أن العقاب اسم علم لها. وقد لخص الحافظ ابن حجر في شرح: (باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وسلم) - من صحيح البخاري ما ورد في كتب السنة في ذلك، وحكى هذا القول بصيغة التمريض والتضعيف، وقد رأينا أن نذكر عبارته برمتها؛ لأنها فصل الخطاب في مسألة هذا الباب، قال: اللواء بكسر اللام والمد هي الراية ويسمى أيضًا العلم وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تُحمل على رأسه. وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية، فاللواء ما يُعقد في طرف الرمح، ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح. وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء العلم الضخم والعلم علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، وجنح الترمذي إلى التفرقة فترجم بالألوية وأورد حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض. ثم ترجم للرايات، وأورد حديث البراء أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء مربعة من نمرة، وحديث ابن عباس كانت رايته سوداء ولواؤه أبيض أخرجه الترمذي وابن ماجه وأخرج الحديث أبو داود والنسائي أيضًا ومثله لابن عدي من حديث أبي هريرة ولأبي يعلى من حديث بريدة، وروى أبو داود من طريق سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء، ويجمع بينها باختلاف الأوقات. وروى أبو يعلى عن أنس رفعه: (إن الله أكرم أمتي بالألوية) ، وإسناده ضعيف، ولأبي الشيخ من حديث ابن عباس: (كان مكتوبًا على رايته لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وسنده واهٍ. وقيل كانت له راية تسمى العُقاب سوداء مربعة، وراية تسمى الراية البيضاء، وربما جعل فيها شيء أسود اهـ. * * * (الموضع السادس) توجيه قوى قريش لمعاداته صلى الله عليه وسلم أنكر الناقد قولنا - في الصفحة التاسعة: إن قُوى قريش المعنوية وُجهت كلها لمعاداته صلى الله عليه وسلم - بأنها مُشعرة بغاية الهجو وموهمة أن جميع قريش وجهوا جميع قواهم لمقاومته صلى الله عليه وسلم، وبأن هذا مخالف للسياق وللواقع، ثم نَوَّهَ بفضل قريش بما نَوَّهَ به. ونقول في الجواب: (أولاً) إن ما يتضمنه الكلام من هجو فهو خاص بجاهلية قريش التي ذمها الله ورسوله والمؤمنون، فقد فعلوا ما فعلوا وهم مشركون، وما زال أكثرهم مشركين أكثر مدة البعثة، وما صاروا يدخلون في الإسلام أفواجًا إلا بعد فتح مكة، ويأس مَن بقي من زعمائهم بعد الحرب من الرياسة، وأي جرم أجدر بالذم والهجو مما فعله من إيذاء الله ورسوله وفتنة المؤمنين وإخراجهم من ديارهم، وقتالهم في دار هجرتهم، وذلك لا يقتضي ذم المؤمنين منهم ولو بعد الإيذاء، فقد كان خالد بن الوليد أشد كُماتهم نكايةً في قتال المسلمين، ثم صار أشدهم نكايةً وبلاءً في قتال أعدائهم الكافرين. و (ثانيًا) إن ما كان من كفر أكثرهم وإيذائهم لا ينافي ما ذكرنا من استعداد جمهورهم للإسلام بما ذكرنا من مزاياهم؛ فإن سبب الكفر والإيذاء كبرياء الرؤساء المعروفين وحيلولتهم بي

المتفرنجون والإصلاح الإسلامي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المتفرنجون والإصلاح الإسلامي (2) (قاعدة إصلاح قانون الأحوال الشخصية) كان من أمر الحكومة المصرية بعد إعلان إنكلترة حمايتها عليها، وإلغائها منصب القاضي الشرعي الأكبر الذي كان يعين من قِبَل الدولة العثمانية عليها - أنها شرعت في أمر كان إنفاذه في أيام ذلك القاضي متعذرًا، وهو تأليف لجنة من علماء الأزهر وبعض المدرسين في مدرسة القضاء الشرعي ومدرسة الحقوق، يرأسها وزير الحقانية لوضع قانون للأحوال الشخصية الخاصة بأحكام الزواج وما به كالطلاق والفسخ والعدة والنفقة، تستمد مواده من فقه المذاهب الأربعة المشهورة، ولا تتقيد بمذهب الحنفية وحده، بل يجعل القانون الذي كان وضعه قدري باشا الحنفي هو الأصل، ويؤخذ من فقه المذاهب الأخرى ما تراه اللجنة أيسر وأكثر انطباقًا على مصلحة الناس في هذا العصر. وطالما تمنى طلاب الإصلاح في هذا القطر وغيره مثل هذا التيسير، ولكن ما جرت عليه الحكومة المصرية منتقَد من وجوه أخرى بيناها في مقال لم يتيسر لنا نشره، وقد كاشفنا ببعضها بعض أُولِي الشأن، وأهمها جعْل الأحكام الشرعية قانونًا، وما يترتب على ذلك؛ فالقانون إذا أُطلق في هذا المقام ينصرف في العرف إلى ما يقابل الشرع من الأحكام، ويتوقف الحكم به على إقرار مجلس الوزراء إياه، وصدور أمر الحاكم العام (الدكريتو أو المرسوم السلطاني) به، ويلزم من ذلك جعْله تشريعًا جديدًا من هذه الحكومة، يحكم به باسمها، على أنها هي الواضعة له، وينفذه وزير من وزرائها، لا يشترط أن يكون مسلمًا، وكون القضاة يطبقون الحكم على ما يفهمون من نصوصه - وإن كانت سقيمة - لا تدل على ما قصدته اللجنة دلالة واضحة (قد اطلعنا على بعض ما وضع من هذا القانون، فوجدنا فيه عبارات كثيرة في غاية الضعف والركاكة) ، وكونه سيُشرح كما شرح غيره من القوانين، فتُستنبط الأحكام من عبارته (النص الحرفي) ، فيستعين بشرحه القضاة ووكلاء الدعاوي على فهم المراد منه، والعمل بما يفهمون من ذلك، ولما كنت منتقدًا لهذا الوضع بهذه الصورة لم أبين رأيي في مواده، عند ما أرسل إليَّ وزير الحقانية الجزء الأول الذي تم منه، كما أرسله إلى كثير من علماء الشرع والقضاة والمحامين من شرعيين وأهليين؛ لأن إبداء الرأي في ذلك يتضمن إقرار أصل العمل والموافقة عليه، ولست مقرًّا له ولا موافقًا. وقد انتقد كثير من أهل العلم بعض مواد هذا القانون في الجرائد، واقترح بعض مَن أُرسل إليهم ما تم منه اقتراحات، عُرضت على اللجنة العلمية المشتغلة بوضعه، وعلمت أن بعض المحامين الأهليين اقترحوا على وزير الحقانية اغتنام هذه الفرصة لإبطال تعدد الزوجات، وتقييد أحكام الطلاق! ، بنحو ما كان اقترحه قاسم بك أمين فيما كتبه في المسألة التي يسمونها (تحرير المرأة) ، وإن أدري أُعرضت أمثال هذه الاقتراحات على اللجنة، أم التزمت الوزارة عرض ما هو منصوص في كتب المذاهب الأربعة؟ وقد كثر بحث المتفرنجين - وخاصة علماء الحقوق منهم - في مسألة قانون الأحكام الشخصية، وحديثهم في وجوب جعْله مطابقًا لآراء الذين يسمونهم (الفئة الراقية) - يعني المتفرنجة - وقد عني بهذه المسألة أحمد أفندي صفوت وكيل نيابة (الدلنجات) ، فألف فيها رسالة، خرج فيها عن الموضوع إلى ما هو أعم منه وأكبر، وأهم وأخطر، وهو نسخ نصوص الشريعة الإسلامية كلها، وإبطال قواعدها وأصولها التي هي موضوع علم أصول الفقه، ووضع أصول أخرى لها يراها الواضع مرقية لهذه الأمة الإسلامية من حضيض الهمجية القديمة التي كان عليها سلف المسلمين وخلفهم بزعمه ووهمه - إلى قمة الترقي المدني الجديد الذي صعدت إليه الأمة المصرية أو الفئة الراقية منها، التي يجب عنده أو ينتظر أن يتبعها غيرها. وقد ألقى هذه الرسالة بصفة خطبة - أو محاضرة كما سماها - على جمهور كبير من هذه الفئة بقاعة المحامين بالإسكندرية (في 5 أكتوبر سنة 1917) تحت رئاسة المحامي أنطون بك سلامة، ثم طُبعت ووزعت على الناس، وألقي إليَّ نسخة منها، فوجب عليَّ الرد عليها شرعًا، وذلك ما رغب ويرغب فيه كثير من محسني الظن بي، كما بينت ذلك في مقالة الجزء الذي قبل هذا. إن مواضع النقد والبحث في هذه الرسالة (أو المحاضرة) ثلاثة أهمها: القواعد الجديدة التي وضعها هذا الباحث لنسخ الشريعة الإسلامية بهدم أصولها القديمة كلها. ويليه المسائل المراد إصلاحها من قانون الأحكام الشخصية، وهي أربعة ذكرها مجملة في ص 5: (1) حرية المتعاقدين ولزومية العقد على الطرفين. (2) عدم التناقض مع قاعدة الحرية الشخصية المقررة في قانون العقوبات. (3) رسمية عقد الزواج والطلاق. (4) تسهيل إجراءات الدعوى. ويلي هذين مسائل متفرقة في موضوع الترقي الذي يدعيه هو وأمثاله، ويطلب تغيير أصول الشريعة وفروعها لأجله، ونبدأ بالأول الأهم، فنبين رأيه في أصول الشريعة، وقواعده التي وضعها لنسخها، ونتبعها بنقدها العلمي الشرعي فنقول: أصول الشريعة ورأيه فيها: قال في أول الصفحة 21 ما نصه (أصول الشريعة: الكتاب والسنة والإجماع والقياس. أما القياس فنصرف النظر عنه؛ لأننا سنقيس بأنفسنا على أحكام الأصول الأخرى) ، يعني أنهم سيقيسون على الأصول التي يشرعونها بأنفسهم؛ بناءً على أن لهم حق التشريع في الأحكام الشخصية كالأحكام المدنية والعقوبية التي تشرع الحكومة فيها ما تشاء بإرشاد المسيطرين عليها، كما سيأتي بيانه، ومنها ما يأخذونه عن قوانين الإفرنج كما هي. مثال ذلك قاعدة الحرية الشخصية المقررة في قانون العقوبات، ومن أحكامها أن الأنثى متى تجاوزت السنة الرابعة عشرة يجوز لها أن تعاشر مَن تشاء بلا قيد ولا شرط ولا رباط شرعي، وليس لوالدها حق إرجاعها عن غيها لداره، كما صرح بهذا مؤلف الرسالة في الصفحة الثامنة وغيرها. وكما أنه لا يجوز لوالد بنت الخامسة عشرة فما فوقها أن يردها ويمنعها عن غيها إذا اختارت أن تكون خدنًا لأحد الفساق، أو بَغِيًّا تعرض نفسها للزنا في المواخير والأسواق، كذلك لا يجوز لقاضي الشرع ولا للسلطان أو نائبه - أن يردها عن هذا الحق الذي حقه لها القانون، ولماذا؟ ! لأن القانون أباحه. أما ما أباحه الله في كتابه فلكل حاكم أن يحرمه عندهم، كما سيأتي قريبًا. قال: (وأما الإجماع) وحجتهم فيه حديث: لا تجتمع أمتي على ضلال، فنقسمه إلى قسمين: إما إجماع العلماء أو حكم ولي الأمر السابق (كذا) وعلى حسب قواعد نظامنا القضائي لا نتقيد برأي مهما أجمع عليه الشُّراح إلا أن نوافق على إجماعهم! وأما ما يقرره الحاكم بصفته صاحب السلطة التشريعية - فيمكن لخلفه أن يلغيه طبقًا لقاعدة أن السلطة التشريعية تملك أن تلغي ما تقرره طبعًا لا تأثير لشخصية الحاكم. (كذا) ، وقد استشهد لهذه القاعدة بأن لكل سلطان أن يلغي ما وضعه من قبله، وجعله إلغاء الإجماع من هذا القبيل، ثم قال: إن المتأخرين هم الذين جعلوا الإجماع حجةً؛ رضاءً منهم بتحكيم السابقين (قال) : " ونحن الآن نرفض حكم المتأخرين والسابقين " أي أنه يرفض أحكام جميع المسلمين من السلف والخلف، ولكنه ادعى أنه يتقيد بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فانظر كيف يتقيد بذلك! ، قال في ص 22: (السنة) أريد أن أبحث القرآن من قبل؛ لأن حكم اتباع السنة ناتج من حكم القرآن. القرآن بصفته كتاب الله قد أودع فيه كل حكم شاء أن يفرض على كافة المسلمين في جميع العالم اتباعه، فالذي تُرك ولم ينزل في القرآن تُرك ليكون للفرد حرية التصرف فيه ولولي الأمر الرأي في تقييده بحسب ما يراه لازمًا لمصلحة الجمهور. فالرسول بصفته ولي الأمر حاكم الأمة وقاضيها كان إذا سئل عن أمر حكم فيه وهذه الأحكام إما صدرت في مسائل فردية خاصة فتقيدت بها وإما صدرت من الرسول لتكون قاعدة وحكمًا عامًّا وفي هذه الحالة تكون بمثابة قانون صدر من صاحب السلطة التشريعية ونفس هذه السلطة يملكها الحاكم في كل زمن بعده فيملك إلغاء ما تقرر بمقتضاها. وإذًا أستنتج أن السنة إما أنها تخصصت بحوادث فردية فصارت أحكامًا قضائية في طبيعتها، وإما تعممت في شكل قواعد وقوانين فصارت تشريعًا صادرًا من ولي الأمر لزمنه، وإذا ظهر من بعدُ للاحقين من أولياء الأمر مصلحة للناس في تغييرها أو إلغائها كان ذلك ولا حرج. وهذا كله خاص بالأحكام المدنية فقط دون الدينية. ولا يتناقض في شيء قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) ؛ إذ إننا إذا رأينا لزومًا للخروج عن السنة لمصلحة فلا يكون ذلك غير طاعة، بل شيئًا آخر، وبديهي أن الرسول لو كان في هذا العصر لاختلفت سنته فيه، ولو لم يُسأل ما أبدى حكمًا! (الكتاب) قلت في الكلام عن السنة: إن الله أودع الكتاب كل حكم شاء أن يفرض على كافة المسلمين في كل زمان اتباعه. فيكون الكتاب بذلك مقيدًا للمسلمين فيما أمر. وبهذه المناسبة أعيد القول أنْ ليس لأي حكم لم يرد في الكتاب حكم الفرض الواجب العمل به. وما زاد عن الكتاب من سنة أو إجماع حكمه الجواز، إذا شاء قام به الفرد، وإن لم ير مصلحة في ذلك فله العدول عنه. والأحكام الواردة في القرآن - عدا المبادئ الأصولية العامة - على ثلاثة أقسام: (1) ما حرم عمله. (2) ما أوجب عمله. (3) ما أُجيز. ثم بيَّن أن حكم القسم الأول أن لا يُتعرَّض له، ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه، كتحريم الأم والأخت والجمع بين خمس أزواج. ومرمى الشيء غرضه، والمراد أن يعتبر الغرض من الحكم لا الحكم نفسه، فهو إذًا كالقسم الثاني. وحكم القسم الثاني أن يبقى منه ما تتحقق به الحكمة المقصودة منه. ومثَّل له بإيفاء العدة والإشهاد على عقد الزواج. (قال) : (فلا حرج في أن نصل إلى الغرض المقصود من أفيد الطرق وأخصرها) ، وعدَّ جعل العقد رسميًا مغنيًا عن الإشهاد، ومرور أكثر مدة الحمل على الطلاق مغنيًا عن التقيد بالتربص ثلاثة قروء، أي ومثل ذلك ما إذا علم عدم الحمل بالاطلاع على ما في الرحم بالأشعة التي تشفّ الجسم (أي تجعله شفافًا) كالأشعة المعروفة بأشعة رونتجن؛ فبذلك يمكن إلغاء العدة على قاعدته! ثم قال - بعد التمثيل الذي ذكرناه بالمعنى -: (وبذلك ينقض وجوب التقييد بالمعاني الحرفية للألفاظ القانونية الواردة في القرآن) ، وأما حكم الثالث - وهو ما جعله القرآن جائزًا كتعدد الزوجات - فهو أن الإنسان مخير فيه، ولكن لكل حكومة أن تحرم منه بالقوانين الوضعية ما تشاء. هذا رأي أحمد أفندي صفوت في أصول الشريعة الإسلامية ذكر أنه يقوله ويقترحه بصفته مسلمًا! ، وهو هدم لأصول الشريعة كلها، لا يوافقه عليه مسلم في الأرض، وهو مسلم، وسنبين ذلك بالدليل في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

السيد الهمام ـ آل رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد الهمام - آل رضا في آخر الساعة الثانية بعد النصف من ليلة الخميس لثمانٍ بقين من شهر ذي القعدة الحرام الحالّ (الموافق لحلول الشمس في الدرجة الخامسة من برج السنبلة سنة 1296 هـ ش - 29 أغسطس) قد وهب الله جل ثناؤه لصاحب هذه المجلة غلامًا سويًّا أزهر اللون جميل الخلق كأخيه (محمد شفيع) إلا أنه أوسع غُرة وأنحف بنية، فسميناه الهُمَام (بضم الهاء وتخفيف الميم) ، فنحمد الله ونشكره على ما حبانا به من مزيد نعمه، ونسأله تعالى أن يجعل له أوفر نصيب من اسمه، حتى يكون قرة عين لنا ولأمته وقومه، ومثل ذلك لأخيه وأخته، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) .

رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [1] (الموضع الثامن) أولاد عبد المطلب أنكر الناقد ذكرنا في (ص13) بعض أولاد عبد المطلب دون بعض، وقال: إن المقام يقتضي استيعابهم؛ لأن الاقتصار في محل البيان يوهم الحصر، ونجيب عن ذلك بأن المقام لا يقتضي استيعاب ذكرهم؛ لأن الكتاب ليس في تاريخ بني هاشم، وإنما هو خُلاصة سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته وكليات دينه ومزايا ملته، وذكرنا من أولاد عبد المطلب والده صلى الله عليه وسلم، وأعمامه الذين لهم شأن عظيم في سيرته، وهم: أبو طالب والعباس وحمزة رضي الله عنهما، ولكن العبارة قد توهم غير المطَّلع على تاريخهم أن هؤلاء جميع ولد عبد المطلب؛ ولذلك نقحَّنا العبارة في نسختنا الخاصة التي يُعتمد عليها في الطبعة الثانية هكذا: (ووُلد لعبد المطلب أولاد كثيرون، أشهرهم أبو طالب والعباس وحمزة وعبد الله) ، وما الحاجة إلى ذكر كبراء المشركين الضالين بعد سكوتنا عن ذكر أشهرهم أبي لهب؟! * * * (الموضع التاسع) ما لقي صلى الله عليه وسلم من جحود قومه وإيذائهم أنكر الناقد علينا إسناد الجحود والإيذاء إلى قوم الرسول صلى الله عليه وسلم، واقترح أن يصحح بقوله: فلقي أشد الجحود والإيذاء من زعماء قومه الذين أشقاهم الله، واحتج على ذلك بما قدمه من قيام كثير من قومه بمساعدته، وإجابة دعوته صلى الله عليه وسلم، ونجيب عن هذا بما أجبنا به عن ذاك الذي قدمه، وأهمَّه أننا اهتدينا في هذا التعبير بالقرآن المجيد، فقد قال تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحَق} (الأنعام: 66) ، ولم يقل: زعماء قومك؛ ولهذا الاستعمال نظائر فيه، وفي كلام العرب، ولا يعقل أن يشترط في لغة ما أن لا يسند إلى القوم إلا ما يفعله كل فرد من أفرادهم؛ إذ لا يمكن العلم بهذا إلا في قوم محصورين، عملوا عملاً شاهده منهم مَن أخبر عنهم، وذلك نادر، وإنما المعروف أنه يسند إلى القوم ما يفعله الجمهور، وإن أنكره مَن لا يؤثر إنكاره لضعفهم أو قِلَّتهم، وكذا ما يفعله البعض، ولم ينكره الجمهور كقتل اليهود للأنبياء، وعقر ثمود للناقة، وتفصيل الرد على هذه المسألة يُعلم مما يأتي في الكلام على الموضع العاشر والموضع الحادي عشر. * * * (الموضع العاشر) حمايته صلى الله عليه وسلم للقيام بالدعوة أنكر الناقد علينا قولنا في (ص 31) إنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو الناس لحمايته للقيام بهذا الأمر، فلم يَحْمِهِ من قريش أحد، واقترح أن تصحح العبارة، أو تنقح بقوله: (كان يدعو الناس إلى أن يعضدوا مَن يحمونه للقيام بهذا الأمر، فحال زعماء الشرك دون ذلك ... ) إلخ، وهذا وما قبله من تلك العصبية، وغرضه أن ينزه قريشًا مما ذكر، وبسنده إلى زعماء الشرك على الإبهام. والجواب عنه يعلم مما تقدم بالإجمال، وأما التفصيل فهو في كتب الحديث والسيرة النبوية، أيها راجع القارئ يجد فيه أن قريشًا اشتد إيذاؤها للرسول صلى الله عليه وسلم بعد هلاك عمه أبي طالب، وأنه خرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة بهم من قومه - وهذه عبارة ابن هشام عن ابن إسحاق - وأنه كان يعرض نفسه على القبائل، فيردونه، حتى أجابه وفود الأنصار - رضي الله عنهم - وفي حديث عمرو بن مسلمة عند البخاري: أن العرب كانت تقول: دعوه وقومه؛ فإن ظهر عليهم فهو نبي صادق، ولو كان فيمن آمن من قومه قوة ومنعة لما احتاج إلى ذلك، بل كان يدعو القبائل إلى الإسلام فقط، وهذا أمر مشهور متفق عليه، ولم نَرَ قبل هذا النقد الغريب أحدًا بلغت منه العصبية لقريش، حتى في شر ما كانت عليه في جاهليتها هذا المبلغ، وسنزيد هذا بيانًا في الرد على الموضع الآتي: (الموضع الحادي عشر) ثباته صلى الله عليه وسلم في أحد ومَن ثبت معه قلنا في الكلام على شجاعته وثباته عليه الصلاة والسلام من (ص37) إنه ثبت وحده يوم أحد، فأنكر الناقد علينا ذلك، وقال: إنه يذكر أنه ثبت معه بضعة نفر من قريش وبني هاشم، (قال:) وكذا في حنين، وهذه منقبة لهم يحسن ذكرها إشعارًا بمزايا الاصطفاء التي ذكرتموها. اهـ. والجواب أن الأحاديث الصحيحة تثبت أنه صلى الله عليه وسلم انفرد بالثبات في الغزوتين بالذات، وثبت معه أفراد بالتبع، فالأوْلى أن يعطف يوم أحد على يوم حنين، أو يكتفي بالثاني، فإنه ثابت في الصحيح بلفظه، فلا غرو أن يُذكر في مثل هذا السياق، وإن قيدوه بما سيأتي للجمع بين الروايات، ففي بعض ألفاظ حديث أنس في صحيح البخاري أنه: (لما كان يوم حنين أقبلت هوازن وغطفان وغيرهم بنَعمهم وذراريهم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من الطلقاء (هم الذين أسلموا في مكة يوم الفتح) ، فأدبروا عنه، حتى (بقي وحده) ، فنادى يومئذ نداءين، لم يخلط بينهما، التفت عن يمينه فقال: يا معشر الأنصار؟ قالوا: لبيك يا رسول الله، نحن معك. ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار. قالوا: لبيك يا رسول الله، نحن معك) الحديث. ويؤيده حديث البراء في الصحيحين، وهو أنه: (سئل: أَوَلَّيْتُمْ مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا ... ) - الحديث - وفي رواية: (أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر.....) وفي رواية أنه: (سئل: أتوليت يوم حنين؟ قال: أما أنا فأشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يولِّ، ولكن عجل سرعان القوم، فرشقتهم هوازن، وأبو سفيان بن الحارث آخذ برأس بغلته البيضاء) الحديث، وأبو سفيان هذا هو ابن عمه صلى الله عليه وسلم (الحارث بن عبد المطلب) ، وكان خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قادم إلى مكة فاتحًا، فأسلم، وحسن إسلامه. وروى ابن أبي شيبة من مرسل الحكم بن عتيبة: (إنه لما فر الناس يوم حنين لم يبقَ معه صلى الله عليه وسلم إلا أربعة نفر ثلاثة من بني هاشم ورجل من غيرهم: علي والعباس بين يديه وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعِنان وابن مسعود من الجانب الأيسر، قال: وليس يُقبِل نحوه أحد إلا قُتل) ، واختلفت الروايات فيمن ثبتوا معه على أقوال: 9 أو 10 أو 12 أو 80 أو دون 100 أو 100، بضعة وثلاثون من المهاجرين، والباقون من الأنصار، وهذا الأخير تفصيل رواية أبي نعيم في دلائل النبوة، ويروى عن العباس رضي الله عنه أنه أنشد في ذلك: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وقد فر مَن قد فر عنه فأقشعوا وعاشرنا وافى الحِمام بنفسه ... لما مسه في الله لا يتوجعُ قال الحافظ في الفتح: ولعل هذا هو الثبت ومَن زاد على ذلك يكون عجّل في الرجوع فعُد فيمن لم ينهزم، وكان أول مَن ولَّى وانهزم الطلقاء من قريش، الذين دخلوا الإسلام يوم الفتح، وما كلهم بصادق، وقال العلماء: ما كل مَن ولَّى يومئذ كان فارًّا من القتال، بل منهم مَن كان متحرفًا لقتال، أو متحيزًا إلى جهة أو فئة لأجل القتال، وبعضهم جرفه التيار وهو لا يدري أين ذهب، وقالوا في الجمع بين رواية ثباته وحده، ورواية ثبات القليل معه - أن هؤلاء كانوا في خدمته، وكان هو المهاجم وحده، وهم يتبعونه من ورائه، حيث توجه، فتوجه إلى قتال المشركين، ولما رأى ما رأى من اختلاط الحابل بالنابل نادى الأنصار، فلبوه، فكان النصر بهم، وإن كان فضل المهاجرين وثباتهم لا يُنكر، وكانت مزية بني هاشم أن أكثر العشرة - أو الاثني عشر - الذين ثبتوا معه أولاً منهم، وكان منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وعثمان بن طلحة، وما لبث جمهور الصادقين أن تبينوا الأمر، فصاروا يتراجعون. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاز الغنائم العظيمة في هذه الغزوة - قسمها في قريش بين المهاجرين الذين أسلموا قبل الفتح، والطلقاء الذين أسلموا يوم الفتح، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فوجد بعضُهم لذلك، فقال بعضهم: إذا كانت شديدة فنحن نُدعَى، ويُعطَى الغنيمة غيرنا، وقال بعضهم: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشًا، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فجمعهم صلى الله عليه وسلم في قبة أدم (جلد) ، وسألهم عما بلغه عنهم، فسكت بعضهم، وقال فقهاؤهم: أما رؤساؤنا - يا رسول الله - فلم يقولوا شيئًا، وأما ناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: كيت وكيت، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم - وفي رواية: إن قريشًا حديث عهد [2] بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أَجْبُرهم وأتألفهم - أما ترضون أن يرجع الناس بالدنيا، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوتكم؟! ، قالوا: بلى، وفي رواية: أنه خطبهم، فذكَّرهم فضل الله به عليهم بالهداية والتأليف بينهم والغنى ثم قال: ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار، ولو سلك الناس واديًا وشعبًا، وسلكت الأنصار شعبًا لاخترت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار والناس دثار ... ... إلخ، وقد بيّن العلامة ابن القيم الحِكَم في غزوة حنين في الهزيمة، ثم في النصر وقسمة الغنائم، ومنها أنه صلى الله عليه وسلم لم يعطِ كبار المهاجرين من الغنيمة كالأنصار، فيراجع في (زاد المعاد) ولخصه الحافظ في الفتح. وأما ثباته وحده صلى الله عليه وسلم يوم أحد فهو ظاهر قوله تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} (آل عمران: 153) - فقد اتفقوا على أنه نزل في هزيمتهم يومئذ، قال الحسن البصري: (فروا منهزمين في شعب شديد، لا يلوون على أحد، والرسول يدعوهم في أخراهم: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، ولا يلوي عليه أحد) وروي نحوه عن ابن عباس وعطية العوفي وقتادة، إلا الجملة الأخيرة فقد انفرد بها الحسن، وقد اختلفت الروايات فيمن ثبت معه صلى الله عليه وسلم، وظاهر بعض الروايات الصحيحة أن الناس تولوا، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير أبي طلحة زيد بن سهل الأنصاري يناضل عنه، فكان ثباته معه لأجله، فيصح أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم ثبت وحده يومئذ؛ لأن ثباته كان بشجاعته الذاتية، وثبات أبي طلحة؛ لأنه رآه ثابتًا، فوجب عليه أن يناضل عنه بسهامه، ولما رآه غيره فعلوا مثل فعله، فقد كان سبب الهزيمة الأكبر إشاعة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلبث أن تراجع الناس إليه لما علموا ببقائه - فِدَاه أبي وأمي - صلى الله عليه وسلم، فالسابقون إلى ذلك عُدوا من الثابتين معه، واختلف في عددهم؛ لأن كل راوٍ ذكر مَن رآه أو علم بوجوده معه، فلا تنافي بين رواياتهم، ففي حديث أنس عند البخاري: لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طلحة بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم مجوّب (أي مترّس) عليه بجحفة له، وكان أبو طلحة رجلاً راميًا شديد النزع (أي رمي السهم) ، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثًا، وكان الرجل يمر معه بجعبة من النبل، فيقول: (انثرها لأبي طلحة) ، (قال:) ويشرف النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى القوم، فيقول أبو طلحة: بأبي أنت وأمي، لا تشرفْ يصبْك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سليم (هي أم أنس) ، وإنهما لمشمِّرتان، أرى خدم سوقهما [3] تنقزان القرب على متونهما، تفرغانه في أفواه القوم [4] ، ثم ترجعان، فتملآنها، ثم تجيئان، فتفرغانه في أفواه القوم،ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة إما مرتين، وإما ث

المتفرنجون والإصلاح الإسلامي ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المتفرنجون والإصلاح الإسلامي (3) الإسلام وأصول الشريعة قد عُلِمَ - مما تقدم في المقالتين الأوليين - أن من المتفرنجين مَن يدعو المسلمين إلى هدم أصول الشريعة الإسلامية كلها، والاستعاضة عنها بقوانين يضعها حكام كل قطر مستقل بآرائهم، وإن استمدوا أصوله وفروعه من قوانين أمم أخرى مخالفة للمسلمين في عقائدهم وآدابهم وعاداتهم ومصالحهم، وأن من هؤلاء المتفرنجين مَن يلبس على المسلمين بما يدعوهم إليه من إفساد دينهم وهدم شرعهم الذي هو أعظم مقومات أمتهم الرابطة بين شعوبهم بما يُلبس دعوته من ثوب الإصلاح، وإن أغرب أحوالهم المتناقضة أن بعضهم يتكلم باسم الإسلام، ويدعي إمكان الجمع بينه وبين نبذ أصوله كلها استهجانًا لها؛ بزعم أنها وُضعت لقوم لم يرتقوا إلى الكمال الإنساني الذي ارتقى إليه هؤلاء المتفرنجون، ومن أهم أصوله إباحة السِّفَاح بالبغاء، أو اتخاذ الأخدان لكل عذراء تجاوزت السنة الرابعة عشرة، أي صارت بنيتها مستعدة لهذا التمتع المفسد للصحة، الجالب للأدواء القاتلة، المقلل لنسل الأمة، المشوه لآدابها، المُوقِع للعداوة والبغضاء بين أفرادها وبين أسرها. جهر بهذا صاحب الخطبة أو الرسالة التي نرد عليها في هذه المقالات بما تقدم بيانه في المقالة الثانية مع الوعد بالرد عليه، وإننا نبدأ الرد في كلمة وجيزة في بيان ما يناسب المقام من تعريف ما يكون به المسلم مسلمًا؛ ليعلم هل يمكن الجمع بين الإسلام وبين ما جاء به، ودعا إليه أحمد صفوت أفندي من حيث هو مسلم، وإن كنا قد بينا هذا في المنار من عهد قريب؛ لئلا يقع بعض الجاهلين فيما يعده جميع المسلمين كفرًا، وهو لا يدري، فنقول: الإسلام والكفر: إن الإسلام الصحيح عبارة عن الإذعان النفسي والخضوع الفعلي لجميع ما جاء به محمد خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، مع الاعتقاد الجازم بأن كل ذلك حق وخير، وأن كل ما يخالفه باطل وشر، سواء كان ذلك الجزم بدليل قطعي أو إقناعي أو بغير دليل كما هو رأي الجمهور في صحة إيمان المقلدين. فمَن أذعن بالفعل ظاهرًا - وهو غير مؤمن بما ذكر - فهو منافق، ومن اعتقد وأيقن ولم يذعن فهو جاحد مجاهر، كما قال تعالى - في قوم فرعون -: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل: 14) . وإن الإذعان والخضوع لبعض ما جاء به الرسول دون بعض - كفر كالإيمان ببعضه دون بعض، قال تعالى - فيمن خالفوا بعض أحكام كتابهم الدنيوية -: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) ؛ ولذلك أجمع أهل الحل والعقد من الصحابة بعد التشاور على قتال مانعي الزكاة وعدّوهم مرتدين عن الإسلام. وليس منه مخالفة بعض الأوامر والنواهي بجهل أو تأوُّل أو جهالة، كغلبة غضب أو شهوة مع الإذعان النفسي في عامة الأحوال، والعمل فيما سوى هذه الشواذ، فإن الجاهل يرجع إذا زال جهله بالعلم الصحيح، والفاسق يتوب إذا زالت جهالته بذكر الله وتذكُّر الوعد والوعيد {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء: 17) . فهذا هو الإسلام الذي لا يعتد المسلمين بدين مَن خالفه، ولا يعدونه منهم، فلا يرثونه، ولا يرثهم، ولا يحل لهم أن يزوجوه مسلمة منهم، ولا أن يدفنوه في مقابرهم. ثم إن ما جاء به الرسول قسمان: قطعي الرواية والدلالة وغير قطعي، وقد بينا حكم كل منهما في تفسير الجزء الماضي من المنار. ومن القطعي المعلوم من الدين بالضرورة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، ويلزمه أن شرع الإسلام باقٍ ما بقي البشر، لا ينسخه شيء، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مَن كان في عصره من المسلمين أن يبلغوا مَن بعدهم، ولم يفرق أحد من سلف المسلمين وخلَفهم بين مَن بلغتهم دعوته صلى الله عليه وسلم منه في عصره ومَن بلغته من غيره بعده. فمَن يدعي الإسلام ويزعم أن ما جاء به الرسول من أحكام الشرع لم يكلف اتباعه فيه كله إلا الذين كانوا في زمنه؛ لأنه كان حاكمهم، وأن مَن بعدهم لا يكلَّفون إلا اتباع ما تشرعه لهم حُكَّامهم، سواء كانوا منهم أو من غيرهم، وأنه لا فرق بين هؤلاء الحكام وبين الرسول في كونهم شارعين يجب اتباع أحكام شرعهم في الأمور الشخصية والمدنية والتأديبية على سواء، وينسخ المتأخر منهم ما شرعه من قبله، مَن يدعي ما ذكر - فقد جاء بدين جديد معارض لدين الإسلام مع انتحاله لاسمه، ولا يعتد أحد بإسلامه إلا مَن استجاب له وقبل دعوته، كما فعلت فرق الباطنية قديمًا وحديثًا، فإنهم حرَّفوا أصول الإسلام وفروعه، وشرعوا من الدين ما لم يأذن به الله، فلم يعتد المسلمون بانتحالهم لقب الإسلام في الظاهر، بل سموهم بأسماء أخرى كالإسماعيلية والدروز والنصيرية والبابية والبهائية، ولم يُبِحْ مسلم سني ولا شيعي ولا خارجي أكل ذبائحهم ولا تزويجهم ولا التزوج منهم؛ لأنهم أبعد عن الإسلام من أهل الكتاب، الذين يبيح السواد الأعظم من المسلمين أكل ذبائحهم والتزوج منهم، فكيف بالتوارث الذي لا يحل بين المسلمين وأهل الكتاب؟ ! فيجب على قائل ذلك القول وعلى مَن صدَّقه أن يرجعوا عنه؛ إذ قد قالوه عن جهل بحقيقة الإسلام، وعسى أن يكونوا قد فعلوا، فنحن أحرص الناس على عدم إخراج أحد ينتمي للإسلام من حظيرته، وإنما نبين الحقيقة عند الحاجة في نفسها، ولا نحكم على شخص معين بها ولا بلوازمها، وإنما نعين الأشخاص على الحكم على أنفسهم، وعلى معرفة حكم الله فيمن يعرفون حالهم، سواء كان في مسألة الشارع والتشريع أو في غيرها. ومن الأصول المجمع عليها بين المسلمين أن لا حكم لغير الله بعد ورود شرعه، وسيأتي الكلام في ذلك ومَن كان في قلبه شبهة من ذلك القول الناقض لهذا الأصل فيجب عليه أن يبحث حتى يزيلها، ويطمئن قلبه بوجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما ثبت عنه من أمر الشرع، وسنرد الشبهات التي ذكرها أحمد أفندي صفوت في بحث الكتاب والسنة. بعد هذه المقدمة - التي وفينا فيها بوعدنا في آخر المقالة الثانية - نبدأ بنقل كلام أحمد أفندي صفوت على الترتيب الذي ذكرناه في تلك المقالة، فنقول: القياس من أصول الشريعة: القياس ليس من الأصول التي أجمع عليها المسلمون، بل الفقهاء فيه فريقان: أحدهما يُثْبته وهم الجمهور، ومنهم المقتصد فيه، والقائل بأنه ضرورة تقدر بقدرها، ومنهم المقتصد فيه، والمبالغ في التوسع، وثانيهما ينكره وهم الظاهرية. وقد بينا حجج الفريقين وتحقيق الحق في ذلك في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) الآية [1] والقياسيون لم يقولوا بالقياس إلا بما ظهر لهم من الدليل عليه من الكتاب والسنة. والظاهرية لم ينفوا القياس إلا لاعتقادهم أن نصوص الكتاب والسنة وقواعدهما مغنية عنه. وأما غلاة المتفرنجين فإنهم يردون القياس؛ لأنه مبني على كتاب الله وسنة رسوله، لا لأنهم يستغنون عنه بنصوصهما كالظاهرية من علماء السنة، بل هم يرغبون عنهما بالذات، وعنه بالتبع لهما، ويستبدلون بأصولهما وأحكامهما أحكامًا أخرى يقيسون عليها، صرح بذلك أحمد أفندي صفوت في خطابه، كما نقلناه في المقالة الثانية عن ص 21 من رسالته، قال: (أما القياس فنصرف النظر عنه؛ لأننا سنقيس بأنفسنا على أحكام الأصول الأخرى) أي الأصول التي تشرعها لهم حكوماتهم، كأصل الحرية الشخصية في القانون المصري، وتقدم بيان ذلك والتمثيل له في المقالة الثانية، ولا نطيل القول في هذه المسألة؛ لأنها غير مقصودة لذاتها؛ ولأن رده القياسَ الفقهيَّ ليس لدليل شرعي ولا عقلي على فساده، ولا لكونه ينافي الحق والعدل، وسيأتي له ذكر في الكلام بعد. *** الإجماع من أصول الشريعة: قد اختلف علماء أصول الفقه الإسلامي في الإجماع الاصطلاحي الذي عرفوه بقولهم: (هو اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته على أمر من الأمور) ، فقال بعضهم بعدم إمكانه، وبعضهم بعدم إمكان العلم به وبعضهم بعدم إمكان نقله إلى مَن يحتج به وبعضهم بعدم كونه حجة، والإمام أحمد والظاهرية لا يحتجون إلا بإجماع الصحابة، ويستدل العلماء - الذين يحتجون بالإجماع الاصطلاحي، وهم جمهور سائر المذاهب - بآيات من القرآن وأحاديث فهموا منها إثبات حجية الإجماع، أدناها مرتبة في الرواية حديث ابن عمر: (لن تجتمع أمتي على الضلالة) ، كما رواه الطبراني في الكبير عنه، أو (لا تجتمع أمتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومَن شذَّ شذ إلى النار) كما رواه الترمذي عنه، وقد نوزعوا في دلالة ما استدلوا به على إجماعهم الاصطلاحي، وقد حررنا بحث الإجماع، وما يقوم الدليل عليه منه في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ... } (النساء: 59) ، وبينا هنالك أن أصول الشريعة الإسلامية أصح وأعدل وأفضل من جميع الحكومات الشوروية التي يسمونها في عرف هذا العصر بالنيابية وبالديمقراطية [2] . وأما غلاة المتفرنجين فيردون إجماع المسلمين من الصحابة وغيرهم بغير علم ولا فهم؛ لأنهم يرغبون عن كل ما هو إسلامي قديمًا أو حديثًا إلى قواعد تشريعهم الجديد، الذي نذكر بعض مسائله في الأحكام الشخصية من هذا البحث لا لمخالفة الإجماع للعدل أو للمصلحة؛ فشأنهم فيه شأنهم في القياس كما تقدم آنفًا. قال لسانهم أحمد أفندي صفوت في خطابه المعهود: وأما الإجماع وحجتهم فيه حديث: (لا تجتمع أمتي على ضلال) [3]- فنقسمه إلى قسمين: إما إجماع العلماء أو حكم ولي الأمر السابق، وبحسب قواعد نظامنا القضائي لا نتقيد برأي مهما أجمع عليه الشراح، إلى أن نوافق على إجماعهم! . اهـ، فجعل حكم ولي الأمر السابق داخلاً في معنى الإجماع، وما هو منه في شيء، وفسر إجماع العلماء بما يتفق عليه شراح كتب الفقه من الآراء - كما هو المتبادر من عبارته - وهذا الإطلاق باطل، كما علم من تعريف الإجماع الذي ذكرناه آنفًا. ثم إنه زعم أن المتأخرين هم الذين جعلوا الإجماع حجة رضاءً منهم بحكم السابقين! (قال) : (ونحن نرفض حكم المتأخرين والسابقين) فهو بعد قوله: إن علماء المسلمين يستدلون على حُجية الإجماع بالحديث الذي ذكره، ولم ينازع في دلالته على ذلك - يرفضه بصفته مسلمًا، ويدعي أن المتأخرين وحدهم هم الذين جعلوه حجة. وذلك دليل على أنه لا يعرف معنى الإجماع ولا تاريخه، وأنه لا يفهم معنى ما يقوله، وما يكتبه بالعربية، دع ما فيه من الخطأ والغلط اللغوي، فهو إذًا لا يرفض شيئًا من أصول الشريعة - دع فروعها التي هي تبع لها في الرفض - لأنه لا دليل عليه، ولا لأن دليله معارَض بما هو أقوى منه، ولا لأنه غير مطابق لمصلحة المسلمين في هذا العصر، وإن كان هو وأمثاله يزعمون ذلك بغير علم - بل لأنه يستبدل بما شرع الله وبكل ما يبنى ما يشرعه الناس، وإن اختلف ف

الشيخ عبد الكريم سلمان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ عبد الكريم سلمان في أثناء شهر شعبان من هذا العام فجع القطر المصري بعالِم من أنفع علمائه، وأديب من أبرع أدبائه، وكاتب من أبلغ كُتابه، وقاضٍ من أعدل قضاته، أحد أعضاء النهضة الإصلاحية (الشيخ عبد الكريم سلمان) ، تغمده الله برحمته. ولد الفقيد في قرية (جنبواي) إحدى قرى مديرية البحيرة من أبوين كريمي الأخلاق، أما الوالد فألباني الأصل، وأما الوالدة فعربية المحتد، وكان بين بيته وبيت الأستاذ الإمام تعارف أهل الجوار، فلما جاورا في الأزهر تعاشرا معاشرة الأهل لا الطلاب، ولما خرجا إلى ميدان العمل تعاونا تعاون أخلاء الأصحاب، المتفقين في الآراء والمقاصد والآداب، وعاشا ما عاشا متوادين موادة اللدات والأتراب، ثم ما فرق الموت بينهما مدة التفاوت في العمر، حتى جمع بينهما تحت التراب، فعسى أن يكون هذا مُصْلِيًّا لذلك المُجَلِّي إلى دار الثواب، وأن يجمعنا الله بهما في دار الكرامة يوم المآب. لعل الشيخ عبد الكريم كان أذكى ذهنًا من الأستاذ الإمام، ولكن هذا فاقه ففاته في الجد والاجتهاد، وتسديد سهام الإرادة إلى كل مراد، والعادة أن أكثر الأذكياء يكونون قليلي العناية والاجتهاد في الأعمال العقلية التي توكل إلى رأيهم واختيارهم (كطلب العلم في مثل الأزهر) ، والسبب الخفي لذلك أنهم لا يشعرون بما يشعر به مَن دونهم في الذكاء إلى التعب في التحصيل، إلا مَن كان له من نفسه حافز يحفزه إلى مقصد عظيم، وكان الأستاذ الإمام من هؤلاء؛ فإنه طلب العلم بباعث ديني قوي، نمَّاه في قلبه سلوك طريق التصوف قبله، كما فصَّلناه في ترجمته، فكان وهو يسكن مع الشيخ عبد الكريم في حجرة واحدة - يقضي جُلَّ ليلته في المطالعة، ويحاول الشيخ عبد الكريم هو وغيره أن يحملوه على مشاركتهم في سمرهم وما يلهون به فيه فيعييهم ذلك منه، ولو كان للشيخ عبد الكريم مثل جده وعزيمته لكان للأمة منه نابغة طار صيته في الأقطار، وبلغ من الشهرة ما تبلغه شمس النهار، على أنه مشى الهُوينا فسبق الأقران، فكان الأستاذ الإمام البدء من مريدي السيد جمال الدين وكان هو الثنيان [1] . كان أول عمل تولاه الأستاذ الإمام هو رئاسة تحرير الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) وإدارة المطبوعات، فكان الشيخ عبد الكريم عضُده الأول في قلم محرريها، ثم كان خلَفه بعد اعتزاله العمل باعتقاله مع زعماء العُرابيين إثْر احتلال الإنكليز لمصر، فوضع اسم (عبد الكريم سلمان) في ذيل الجريدة موضع اسم (محمد عبده) ، وظل في عمله هذا إلى أن أُلغي القسم الأدبي من الجريدة، واستغني عن عمله في المطبوعات بعد عودة الأستاذ الإمام من منفاه. ولما شرع الأستاذ - بعد استقراره بمصر - في إصلاح التعليم في الجامع الأزهر كان الشيخ عبد الكريم ساعده الأيمن في ذلك من أول العمل إلى آخره، وهو هو مؤلف كتاب (أعمال مجلس إدارة الأزهر في عشر سنين) ، كتبه عقب استقالتهما من مجلس إدارة الأزهر، وطبعناه ونشرناه قُبيل وفاة الأستاذ الإمام، بعد اطلاعه عليه وإجازته له، ومنه يعلم قيمة عمل الشيخين في إقامة هذا الركن العظيم من أركان الإصلاح الإسلامي، وعبارته تشهد لهما بما كانا عليه من الإخلاص والتواضع والبُعد عن التبجح والدعوى. فكفى الشيخ عبد الكريم فضلاً وكرامة أن كان عشيرًا وديدًا للأستاذ الإمام في أول نشأته العلمية وعضوًا عاملاً معه في النهضة الإصلاحية الأولى التي توسل إليها بإدارة المطبوعات، وفي الحركة الإصلاحية الثانية التي توسل إليها بإصلاح التعليم في الأزهر، وتفصيل ذلك في سيرة الأستاذ الإمام. ولقد تخرج مع الأستاذ الإمام على يد السيد جمال الدين كثير من الأزهريين في الأفكار والكتابة والخطابة، كان في مقدمتهم إبراهيم بك اللقاني، واشتغل معهما في المطبوعات أفراد منهم، أشهرهم من الأحياء: سعد باشا زغلول وإبراهيم بك الهلباوي، ومن الموتى: سيد أفندي وفا، ولكن ترك كل أولئك زي العلم الديني، واستبدلوا به الزي الإفرنجي العثماني، فكان أكثرهم - بعد الثورة العرابية - محامين في المحاكم الأهلية، ولم يجد الأستاذ الإمام مَن يشتغل معه في الإصلاح بعد العودة إلى مصر إلا مَن حافظ على الزي الأزهري وهو الشيخ عبد الكريم. وبهذا يُعلم تأثير تغيير الزي في الشئون الاجتماعية. بعد خروج الفقيد من خدمة المطبوعات جُعل عضوًا (قاضيًا) في المحكمة الشرعية العليا، فكان فيها قدوة صالحة في تحري العدل، والاستقلال في الرأي، ومن آيات ما وصفناه به من شدة الذكاء أنه ولي القضاء بمذهب الحنفية في المحكمة العليا الاستئنافية، وهو شافعي لم يتمرن على الأعمال والأحكام القضائية في المحاكم الابتدائية، فلم يعجزه أن يضرب مع أكبر القضاة بكل سهم، ويكون سبَّاقًا إلى إصابة الحق والعدل في الحكم، وكان له من الشهرة في المحكمة ما هو جدير به. نعم، إنه كان قد سبق له دراسة بعض كتب الحنفية في الفروع والأصول، كما شهد له الشيخ عبد القادر الرافعي وغيره من كبار فقهائهم. ولئن وُجد في زمن الفقيد أفراد يساهمونه في فضيلة استقلال القضاء، وآحاد يجارونه في حلبة الأدب والإنشاء، وآخرون يسبقونه بالتوسع في بعض العلوم، أو الإغراب في بعض شوارد الفنون - فقد كاد يكون نسيج وحده في أفضل ما يتفاضل فيه الناس، بعد ما يتعلق بالباطن من معرفة الله، وكمال الإيمان والإخلاص، أعني مكارم الأخلاق، وما يلزمها من محاسن الأعمال والآداب، فقد كان ممتازًا بالوفاء لإخوانه، والإخلاص لأخدانه وخِلانه، والمروءة والنجدة في قضاء حاجات قاصديه، وإن لم يكونوا من أصحابه ومحبيه، وأما أصحابه فكان أسبقهم إلى عيادة مريضهم، وتشييع ميتهم، وإصلاح ذات بينهم، وتهنئتهم بكل نعمة تحدث لهم، وكان ربما يسافر من بلد إلى آخر للعُتبى بين متغاضبين، والتأليف بين متباغضين، وإزالة الجفاء بين أسرتين؛ وكان له من الحذق في الاستيعاب ما يسل به السخائم، ومن اللطف في العتاب ما يستخرج به الحفائظ، فلا تكاد تتعاصى حية على رقيته، أو تأبى عقدة أن تنحل بنفثته. ومن سوء حظ المسلمين أن أسرع إليه اليأس من صلاح حالهم، فأقعده في آخر عمره عن مساعدة أعمال الإصلاح العام لهم، وقد كان الأستاذ الإمام عناه بقوله لي في أول العهد بمقدمي إلى مصر: (إن لي أملاً كاملاً، وهنا رجل آخر له نصف أمل!) . ثم لم يلبث هذا النصف أن ذهبت به وقائع الأيام، حتى كان يصرح بذلك، ويحتج عليَّ وعلى الأستاذ الإمام قائلاً: سترى ما ينتهي إليه أملكما في هذه الأمة الميتة، وما يبلغه إصلاحكما من هذه الشعوب الفاسدة، وله كلمة في هذا المعنى قالها لأستاذنا الشيخ حسين الجسر، ألبَسها كعادته ثوب الدعابة والهزل، وقد كنا بدار الأستاذ الإمام، نتحدث فيما أشيع من رغبة الأمة اليابانية في التديُّن بدين الإسلام، قال الشيخ حسين الجسر: إذًا يُرجى أن يعود إلى الإسلام مجده، قال الفقيد: دعهم؛ فإني أخشى إذا صاروا منا أن نفسدهم قبل أن يصلحونا! ذكرت هذا في ترجمة الرجل لما فيه من العبرة المحزنة. وإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. كان الفقيد طويل القامة، عظيم الجثة، قوي البنية، فاعتراه منذ سنين مرض في المعدة، طال عهده وما نقه منه إلا وقد ذهب سمنه، وهزل بدنه، وضعف قلبه، حتى توفي فجأة بسكتة قلبية، وكان يعزى أصدقاؤه آل محمود في بلدة الرحمانية، فنقلت جثته إلى مصر، وصلي عليه في الجامع الأزهر، ودُفن بجوار صديقه الأستاذ الإمام، تغمدهما الله بالرحمة والرضوان، وقد حضر تشييع جنازته وليالي مأتمه مَن لا يُحصى من العلماء والوجهاء ووفود البلاد من الوجهين البحري والقبلي، مُظهرين لمكانته العالية من أنفسهم ومعزين لنجله المهذب حسان أفندي، وللفقيد مقالات كثيرة في موضوعات شتى متفرقة في الصحف كالوقائع المصرية ومجلة الآداب وجريدتي المؤيد والمقطم، ولكن يقل فيها ما هو موقَّع منه أو معزوّ إليه، وفي الاستطاعة جمع طائفة كبيرة منها إن وُجد مَن يُعنَى بذلك. فعسى أن يأذن نجله بذلك لمَن شاءه، جاعلاً له حق طبعه ونشره لإحياء ذكرى والده وحفظ أثره.

حسن جلال باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حسن جلال باشا كان حسن باشا جلال - المتوفى في 18 جمادى الأولى الماضي - من رجال العلم والعمل والفضيلة ومكارم الأخلاق الإسلامية، ففي سيرته من العبرة وحسن الأسوة ما يتوخى المنار نشره، ولم يكن ترْكُنا لترجمته عقب موته تعمدًا كتركنا تراجم أكثر مَن يموت من أرباب المناصب والرتب العلمية، والمظاهر الدنيوية، العارين مما يتوخاه المنار وإنما تركناها؛ لأن ما نعلمه من سيرته قليل مجمل، وكان توفيق أفندي أبو طالب رئيس كتاب محكمة مصر الأهلية قد أخبرنا بأنه شرع في كتابة ترجمة له، فانتظرنا صدورها للأخذ عنها، وأكثر ما نرويه خلاصة منها. وُلد الفقيد بمصر في أربع خلون من شعبان سنة 1271، ولما بلغ سن التعليم أدخل في مدرسة خليل آغا، فكان الأول من طلبتها في جميع فصولها، فمهد له ذلك دخول مدرسة دار العلوم التي أُنشئت في سنة 1278 بطريق الاستثناء لفقده بعض شروطها، فعني وجدّ إلى أن حصَّل ما كان ينقصه منها، وفي سنة 1292 جعل مدرسًا بالمدرسة التجهيزية بعد أداء الامتحان المشترط لذلك، وفي سنة 1295 اختير لتدريس اللغة العربية لأبناء فاضل باشا، فرافقهم إلى سويسرة، وتعلم فيها اللغة الفرنسية، وكان يتردد فيها على وزير مصر الشهير مصطفى رياض باشا دون جميع مَن هنالك من المصريين (إذ كانوا يجتنبون لقاءه لمغاضبته للخديوِ إسماعيل باشا) ، فلما اعتزل إسماعيل وولي توفيق، وعاد رياض إلى وزارة مصر - أرسل الفقيد إلى أوربة لتحصيل علم الحقوق على نفقة الحكومة، فنال شهادة الحقوق، وعاد إلى مصر، وخدم القضاء مساعدًا للنيابة، فقاضيًا، فوكيلاً لبعض المحاكم، فرئيسًا لعدة منها، آخرها محكمة الإسكندرية تولاها عشر سنين ونصف سنة، فمستشارًا في محكمة الاستئناف، وكان آخر راتبه الشهير فيها مئة جنيه. ومن خدمته للعلم أنه كان عضوًا في المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية وعضوًا في اللجنة الإدارية لمدرسة القضاء الشرعي. هذه السيرة الرسمية - التي تتطلع لتحصيل مثلها أعناق أكثر المتعلمين - ليست مما نحفل بذكرى أصحابها في المنار، وإنما فضل الرجل عندنا في سيرته العملية وأخلاقه وآدابه الدينية التي فضل بها الجم الغفير من أمثاله رجال القضاء، وممن يعد فوقهم في المنصب والجاه كالوزراء والأمراء. كان الرجل محافظًا على أوامر دينه ونواهيه من سن الصبا إلى سن الشيخوخة، لم يُفتن في شبابه بمعاصي الشهوات، ولا في كهولته بمنكرات العظمة والكبرياء، ولا في شيخوخته بدناءة الطمع والحرص على المال، ولم تزلزل الإقامة في البلاد الأوربية ما نشأ عليه من الآداب الإسلامية، ولم تفسد عليه عفته وورعه، ولم تحوله عن زيه العلمي ولا عاداته، حتى إنه كان يتورع عن أكل ذبائح النصارى لكثرة الملاحدة فيهم، ويذهب من محل إقامته إلى جزار يهودي في مكان بعيد، يشتري منه اللحم، ويعالجه لنفسه. وروى أبو طالب عن بعض عشرائه من شبان المصريين طلاب علم الحقوق في فرنسا أنهم أغروا به امرأة بارعة الجمال لتراوده عن نفسه، وجعلوا لها عشرة جنيهات إن هي فتنته عن عفته، فجاءت حجرته متبرجة بما استطاعت من زينة، وطرقت الباب، ففتح لها، وسألها قبل الدخول عن حاجتها، فضحكت ضحكة دلّ ومداعبة، ورأرأت رأرأة مغازلة وملاعبة، وحاولت الدخول عليه، ومدت يدها إليه، فدفعها بعنف، وأغلق دونها الباب، فرجعت خائبة تجهر بالهُجر والسباب! ومما رواه من سيرته أنه كان أبر الناس بوالديه، وأوصلهم لرحمه، وأحفاهم بإخوانه وأصدقائه، وأشدهم عناية بكل مَن له عهد وصلة به، مرضت والدته بمصر أيام كان مقيمًا في الإسكندرية رئيسًا لمحكمتها، فكان يعودها كل أسبوع حاملاً معه ملاءات فراشها كاملة النظافة والكي، ويتولى ترتيب ذلك وفرشه بيده، وكان - وهو يطلب الحقوق في أوربة - يرسل إليها في كل شهر جزءًا من راتبه. وبلغني أنه كان ينفق ثلث الراتب، ويرسل إليها الثلث، ويجعل الثلث الثالث للكتب، وما زال محبًّا للكتب باحثًا عن نفائسها المخطوطة طول عمره، وكنت أراه في أواخر عمره يختلف إلى صغار باعة الكتب، ويجلس عندهم باحثًا عما عساهم التقطوه من بعض التركات، أو أصحاب الحاجات. قال أبو طالب: وكان وفيًّا بالعهد؛ فقد عرف في (قنا) يوم ولي القضاء فيها بدالاً مصريًّا متوسط الحال، كان يشتري منه حاجته، فلما عاد إليها وهو مستشار سأل عنه، فقيل له إن حالته تضعضعت، وتجارته كسدت، وهو الآن يبيع المراوح، فلم يمنعه ذلك من زيارته، وتعهُّد شأنه كلما ذهب إلى قنا، ولا تسلْ عن اغتباط ذلك البدال بمثل هذه الزيارة؛ فإنها كانت أشهى إليه من رد ثروته، بل شبابه عليه. اهـ. وأفضل ما يؤثر من مناقبه مبالغته في الاستقلال والعدل في القضاء، حتى إنه لم يكن يقبل شفاعة، ولا حديثًا في قضية رُفعت إليه، ولا في ترقية عامل تحت رياسته، كما أنه لم يكن يكلم أحدًا من أصدقائه القضاة ولا غيرهم في مثل ذلك. وقد اشتهر بذلك، حتى لم يكن أحد من أقرانه ولا ممن فوقه من المناصب يطمع أن يكلمه في شيء من ذلك، وله مواقف ووقائع تؤثر في ذلك، ذكر بعضها أبو طالب. ويعجبني مقاله في إثْر هذه المناقب، وهو: ولقد أغفلت التوسع في حياة الفقيد القضائية وذكر الحوادث التي اتفقت له دالة على مبلغ ما كان عليه من الفقه في القضاء والعدل والشجاعة مكتفيًا بأن المعاصرين أحاطوا بكل هذه الأحوال، ويلوح لي أن كتابة تاريخه المعاصر بالتفصيل فيه من الصعوبة ما لا يظهر لأول وهلة؛ ولذلك اقتصرت على هذا الإلماع اليسير. وما كنت لأطمع أن يكون كل المصريين كحسن باشا جلال؛ فهذا من المحال قطعًا، ولا أرجو أن يكون واحد في الألف كذلك، بل الذي آمله أن يتصفح هذه الورقات بإمعان، وأن لا يستصغروا شأن الحوادث التي سقتها هنا مثالاً من أخلاقه؛ عسى أن يحتذي حذوه ويهتدي بهدْيه نفر من الأمة؛ ليعملوا كما عمل، لعل الله يبعث فيها الحياة الحقيقية، التي لا يُظهرها إلا مثل هذه الأخلاق؛ فإن الذي يعيش الآن بين ظهراني المصريين لا يمكنه أن يتجاهل العلماء العديدين في كل علم وفن فمصر ليست فقيرة من هذا النوع؛ إذ للقضاء رجال وللطب آخرون وللهندسة والزراعة مثلهم ولكل مطلب من مطالب الحياة قوم يشغلهم شأنه، وما ينقص المصريين إلا شأن واحد وهو الأخلاق؛ فإن ذوي الأخلاق الفاضلة قليلون بالنسبة لمجموع الأمة ومدارسها ومعاهدها. وإني - على قدر معلوماتي القاصرة - لا أرى بابًا لهذه الأخلاق إلا النفس التي بين جنبي كل حي من الأمة، فما عليه إلا أن يروّضها على الفضائل التي شاعت في الكتب وتداولتها ألسن الصغار، وغفلت عنها عقولهم، فإن أصغر كتاب مدرسي فيه بيان لأصول الفضائل، ولو مرنت النفوس مِرَانًا حقيقيًّا عليها لتغيرت الأحوال تغيرًا عظيمًا في وقت قصير. أما ما نعيش الآن فيه من حيث الأخلاق وآداب المعاملات - فمما يعجز عن وصفه أكبر كاتب بليغ، وإني لَيحزُنني جدًّا أن أجهل مصدر هذا الداء الوبيل الذي تفشى تفشيًا مزعجًا؛ فإن ابن عشر سنين يبرز في النفاق والمداهنة على ابن الستين! ، فنحن نتقدم فيها، ولكنه تقدم معكوس؛ لأن كل مَن أتقن هذا النفاق عُدَّ ظريفًا كيِّسًا، وقد عم جمود الإحساس والعواطف كثيرًا من هذه الطبقات في هذه الأمة ذات المجد القديم والتاريخ العظيم، التي تحتاج إلى شيء بسيط حتى تكون من أرقى الأمم؛ وذلك باعتدال أبنائهم في أحوالهم وأقوالهم وعملهم بلا إفراط ولا تفريط؛ لأن الحالة الوسطى تكاد تكون معدومة، وقد دعت الحياة فيها: وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوني بيان عندها وخطاب وعندي أن إصلاح شأن هذه الأمة - التي سهلت طباعها وزكت نفوسها ولان جانبها وسهل قيادها - لا يأتي إلا بحسن اختيار العاملين من أبنائها من أصغر عامل عمومي وهو الخفير إلى أكبر موظف وهو الوزير، فما كل النفوس بصالحة للخدمة العامة التي تتطلب صفات خاصة تظهر في صاحبها من أول نشأته، فإذا صح انتقاء هؤلاء أصبحت مصر في زمن قليل فردوس الأرض؛ لأن هذه الأمة سريعة التقليد لحكامها. اهـ المراد. (المنار) لقد هدي هذا الكاتب إلى ما يجب من العبرة في هذه السيرة الحسنة بعبارة تدل على أنه عني بتهذيب أخلاقه وتربية نفسه، حتى ظن أن ذلك يسير على أكثر الناس المتعلمين. وهيهات هيهات، إنهم عن السمع لمعزولون، وعن الحاجة إلى تزكية النفس لغافلون، وهذا التعليم المعروف لا يزيدهم إلا غفلةً وإعراضًا عنها، ولن يكون ذلك إلا بانقلاب يتغير به نظام التربية والتعليم، ويكون أمرهما موكولاً إلى أصحاب الفضيلة والحكمة من الأمة، وأين هم؟ ! وكيف السبيل إلى تفويض الأمر إليهم؟ ! وأما اختيار أمثالهم لأعمال الحكومة فمَن يقدر عليه ويُعنى بتنفيذه؟ ! ههنا محل التأمل للمتأملين.

التحول في ميادين الحرب وقرب أجل الصلح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التحول في ميادين الحرب وقرب أجل الصلح هجم الألمان في أول فصل الربيع من هذا العام على الجيوش الإنكليزية في شمال الميدان الغربي هجومًا لم يسبق له نظير، كانوا يضربون به جميع خطوط القتال بمدافعهم في وقت واحد، ويمطرون البلاد الواقعة وراء هذه الخطوط وابلاً من مدافعهم إلى مسافة 28 ميلاً، وكان غرضهم الفصل بين الجيوش الإنكليزية وبين الفرنسية والأمريكية؛ للتمكن من سحق الأولى، والتفرغ بعدها للأخرى، أو تخضع لطلب الصلح بلا شرط ولا قيد. وما كاد يتم لهم مبدأ ما يحاولونه، حتى حدث في خطة دول الأحلاف أعظم حادث، انعقد الإجماع على وجوبه من قبل، لولا ما عارضه من تقدم المانع على المقتضي، وهو توحيد القيادة لجميع جيوش دولهم، وبذلك يتمكن الفرنسيس من وصل ما انقطع من التواصل، ومزج الجيوش بعضها ببعض. ثم هجم الألمان هجومين آخرين عظيمين، بلغ من تقدُّمهم بهما أن قطعوا نهر المارن، وساروا على مقربة من باريس التي كانوا يضربونها كل يوم بمدافع بعيدة المرمى. وكان الناس يتوقعون زحفهم عليها في الأسبوع الثاني من شهر شوال، وهو الثالث من شهر يوليو (تموز) ؛ لأن وزراء الأحلاف كانوا يصرحون بأن تفوق الألمان عليهم في العَدد والعُدد عظيم، وأن الخطر لا يزول إلا إذا انقضى فصل الصيف، وحالت أمطار الخريف دون استمرار شدة القتال، وهم ثابتون مصابرون لعدوهم، فإذا تم ذلك لهم زال الخطر، ودالت الدولة لهم بكثرة الجيوش الأمريكية، التي ستكون في صيف السنة القابلة مساوية لجميع الجيش الألماني. بينما ينتظر الناس ذلك إذ فاجأهم خبر شروع الألمان في التقهقر المنظم من جنوب المارن إلى شماله، ثم من جنوب ألاين إلى شماله، وكان يظن أن ذلك لخطة حربية، يعقبها هجوم أشد مما قبله، ولما استمر التقهقر ظن قوم أنه يقصدون خط هندنبرج ليشتوا فيه، كما فعلوا في العام الماضي، وأنهم في أثناء ذلك يجمعون جيشًا من الحكومات الروسية التي آذنت الأحلاف بالحرب، وظن آخرون أن سبب التقهقر اتفاق سري على الصلح، وقوى هذا الظن ما نقلته البرقيات عن طلعت باشا من أنه قال - عقب اجتماع سياسي مع رجال الدولتين الجرمانيتين -: إنه لم يبقَ لاستمرار الحرب فائدة، وإن الصلح سيعقد قبل حلول فصل الشتاء من هذا العام. ثم مازال الألمان يتقهقرون، والأحلاف يتأثَّرونهم، ويحتلون البلاد التي يغادرونها حتى آخر الشهر، وقد ظهر في برلين وغيرها مبادئ انقلاب سياسي، ربما كان هو السبب الباطن للازورار والانكماش. وأما الترك فكانوا يدافعون دفاع المستميت عن كل بقعة أخذها الروس من بلادهم التركية، أو الإنكليز من بلاد العرب في العراق وفلسطين، حتى إذا جاء هذا الشهر فاجأتنا الأنباء بأن الجيش الإنكليزي في فلسطين شرع يزحف في الأغوار والأنجاد، من تلك الأرض الحصينة الخالية من الماء، فاستولى في 12 ذي الحجة (18 سبتمبر) على خطوط الترك الأمامية في جلجلة والطيرة وطولكرم وفي 13 منه تقدم حتى بلغ العفولة وفي 14 منه بلغ بيسان وجنين ونابلس والسامرة وما جاء 17 منه إلا واحتلوا حيفا وتبعتها عكا وفي 19 منه احتلوا طبرية وسمخ وعمان، وبلغ عدد مَن أسروا من الجيش التركي أربعين ألفًا، ولم نسمع في أثناء ذلك بمقاومة تُؤثَر، ولا بعدد من القتلى يُذكَر، وما زالوا يوغلون في ولايتي سورية وبيروت شمالاً من الجانب الغربي، ويحاذيهم جيش الأمير فيصل العربي من الجانب الشرقي، حتى دخلوا دمشق في 25 منه، وكان الترك قد أجلوا عنها، وتألفت فيها حكومة مؤقتة. ولا شك في أن الترك قد قرروا ترك سورية كلها لأهلها، والانكماش إلى بلادهم التركية تمهيدًا لطلب الصلح. فإذا يئس الاتحاديون من ولاياتهم العربية فإنهم يفضلون بيعها لأعدائهم، أو تركها لهم غنيمة باردة على إبقائها لأهلها العرب كما هو معروف عنهم، ولكن الأمر لم يبق في أيديهم، فهم قد قتلوا أنفسهم، وقطعوا أوصال سلطنتهم (إمبراطوريتهم) بسيف العصبية الجنسية الذي سلّوه على غير الترك من الأجناس. أما أخبار الصلح ومقدماته فأولها أن النمسة نشرت في ثاني ذي الحجة مذكرة رسمية في عاصمتها، بينت فيها أنها أرسلت إلى الدول المتحاربة اقتراحًا تدعوهم فيه إلى إرسال مندوبين من كل منهم إلى بلد من البلاد التي على الحياد للمفاوضة السرية في أمر الصلح، وتمهيد السبيل إلى الاتفاق الممكن في ذلك. وفي 21 منه علمنا أن الحكومة البلغارية طلبت الصلح، وعقد الهدنة، وأن رئيس وزارة هذه الحكومة عرض الأمر على معتمد الولايات المتحدة، فأشار عليه بوجوب قبول شروط الحلفاء للهدنة بدون بحث؛ لأنهم يريدون بالشدة فيها الأمن من كل خطر في المستقبل، ولكنهم يراعون في شروط الصلح العدل والإنصاف على قواعد الجنسية، فقبل نصحه. وروت البرقيات أيضًا أن المعتمد نفسه سافر إلى مركز قيادة الحلفاء وحضر توقيع الهدنة وأن الترك سيحذون حذو البلغار. ولم ينقضِ اليوم الأخير من ذي الحجة إلا والبرقيات العامة تتلاقى في جواء أرجاء العالم بأن الدولة الألمانية نفسها خاطبت الرئيس (ولسن) برغبتها ورغبة حليفتيها النمسة وتركية في الصلح على الأصول والشروط التي وضعها هو. فسبحان محول الأحوال، ونسأله أن يحول حالنا إلى أحسن حال.

خاتمة المجلد العشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد العشرين بحمد الله نختم المجلد العشرين من المنار، وله الحمد والشكر على نعمة التوفيق والثبات، وقد جعلنا أجزاء هذا المجلد عشرة كأجزاء المجلد الذي قبله، ولكنا اضطررنا إلى تصغير حجمها من الجزء الخامس وما بعده؛ لأن الحرب اشتد غليان سعيرها، وجميع الأشياء اشتد غلاء سعرها، وقد ذكرنا في أول خاتمة المجلد السابق أن ما كنا نشتريه من الورق بمئة صار ما سعره 400 أو 500، ونقول في هذه الخاتمة: إنه تضاعف بعد ذلك إلى 1000، بل إلى 1600 أما السعر الأول، فقد علمناه بأنفسنا، وأما السعر الآخر فيما نقل إلينا، وقد غلت أثمان سائر الأشياء أيضًا، حتى الأغذية الوطنية التي بيَّنَّا ثمنها في الجزء الثامن، فلنا العذر في تصغير حجم المنار مع عدم الزيادة في قيمة الاشتراك، وقد فعل مثل فعلنا أصحاب الجرائد والمجلات في جميع الآفاق. هذا، وقد أخرنا البدء بهذا الجزء الأخير إلى شهر ذي الحجة، كما أخرنا ما قبله من أجزائه [1] وأجزاء ما قبله من سني الحرب، فأدغمنا في سنيها الأربع سنة من سني المنار؛ إذ لم نُصدر في هذه السنين الأربع إلا ثلاثة مجلدات، وبذلك وافقت مجلدات المنار عدد سنيه الشمسية في الجملة، وذلك ما توقعناه في خاتمة المجلد التاسع عشر من تأثير استمرار الحرب، فقد صدر أول عدد من سنة المنار الأولى في 22 شوال من سنة 1315، ويوافق ذلك منتصف الشهر الأول من سنة 1898 الميلادية. فعلى هذا يكون قد تم لنا المجلد العشرون في السنة العشرين الميلادية، ولكن قبل تمامها. والمرجو أن يتم الصلح العام بين الأمم المتحاربة في العام الذي نستقبله، وأن يتيسر لنا فيه أن نزيد في حجم المجلد الحادي والعشرين، وإن كان لا يرجى أن يعود ثمن الورق إلى ما كان عليه قبل الحرب إلا بعد سنين، فإن عود الرخص إلى المصنوعات إنما يكون بالتدريج البطيء. *** (الانتقاد على المنار) ورد علينا في هذا العام ذلك الانتقاد الطويل على (ذكرى المولد النبوي) ، وقد نشرناه برمته في الجزء الثامن والرد عليه في التاسع والعاشر، وبقي له بقية تُنشر في السنة الجديدة. وورد علينا انتقاد آخر لمسألة أبوي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعمه أبي طالب، التي ذُكرت استطرادًا في الكلام على أبي إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم من هذا المجلد. فالناقد ممن يجزمون بنجاة الأبوين الشريفين وأبي طالب خلافًا لما روي في الصحيحين وغيرهما، وكل ما ذكره في مسألة الأبوين قد تقدم في بحثنا، وأما إيمان أبي طالب فانتقد علينا عدم ذكر ما ورد في إيمانه من الروايات الضعيفة، ولم يكن الكلام في تاريخه فنستوفي كل ما جاء فيه، وإنما كان في بيان حكمة ما ورد في كتاب الله وحديث رسوله الصحيح في معنى التصريح بكفر أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقد صرحنا بحظر اعتداء بيان النصوص وحكمها وأحكامها في ذلك إلى ما يعد إيذاءً للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لأحد من أهل البيت الذين من ذريتهم، وإن أقوى ما يستدل به على نجاة الأبوين الشريفين في الآخرة وأرجاه هو ما ورد في امتحان الله تعالى لأهل الفترة في الآخرة ونجاة بعضهم به، ومَن أجدر منهما بذلك؟ ، ونتمنى أن نجد أدلة أقوى من هذا، فإن وجدنا شيئًا نشرناه مغبوطين، وإلا سكتنا مؤمنين مفوّضين، ولا نرتاح إلى الرد على المنكرين، فحسبنا بيان ما ظهر لنا أنه الحق المبين، وهو خلاف ما نهوى، فما نحن للهوى بمتَّبِعين، {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (النحل: 9) ، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فاتحة المجلد الحادي والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الحادي والعشرين بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لمن عز وقدر، وغلب فقهر، وخلق كل شيء بقدر، وصلاةً وسلامًا على خاتم رسله محمد الذي بعثه رحمةً للبشر، ونذيرًا للأسود والأحمر، وأنزل عليه أحسن الحديث والسير، والمواعظ والعبر، فاعتز وساد من اهتدى بآياته وادَّكر، وشقي من أعرض وكفر، ولا تزال ميزانًا لسير البشر، في البدو والحضر {كَلاَّ وَالْقَمَرِ * وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ * إِنَّهَا لإِحْدَى الكُبَرِ * نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 32-37) . أنذر المعتزين بقوة الأجناد والاستعداد للحرب والجلاد، المغترين بكثرة الأموال والأولاد، وسعة الملك وعمران البلاد، سنته التي خلت في العباد، الباقية إلى يوم التناد، في سوء عاقبة البغي والفساد، والفحش والسفاد، ذَكَّرَهُمْ بما عاقب به مَن قبلهم، ثم أنذرهم عذابًا يبعثه عليهم من فوقهم، أو يثيره بهم من تحت أرجلهم، أو يلبسهم شيعًا بتنازع أطماعهم في الأرض، ويذيق بعضهم بأس بعض، فتماروا بالنذر، واتكلوا على ما أوتوا من القوى والحيل، اتكلوا على قوة العلم والنظام ويا لها من قوة، اتكلوا على قوة الدخان السام والآلات الحربية، اتكلوا على الغواصات، والمدرعات، والنسافات، والمدمرات البحرية، اتكلوا على قوة الأموال من المواد والنقود الذهبية، اتكلوا على قوة المكر والخداع والتجسس والمكايد السياسية، أعد كل ما استطاع من قوة لخذل الحق واتباع الهوى، متكلاً على ما كانوا يسمونه توازن القوى، لاعتقاد الجميع أن الحق للقوة , أو أن القوة تغلب الحق، ثم منى كل نفسه بالنصر وأنه صاحب الحق {وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ} (المؤمنون: 71) {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلائِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ * أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ * بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر: 43-46) . نسوا أن علم الله فوق كل علم، وقوله: {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) نسوا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوةً وأشد بأسًا وتنكيلاً, نسوا سنته في قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) وسنته في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} (الإسراء: 4-5) إلى آخر تلك الآيات والعبر وأمثالها من الأمثال والنذر {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} (القمر: 4- 5) . إن سنن الله - تعالى - في نوع الإنسان، كسننه في سائر الأكوان: حق وعدل، ورحمة وفضل، إلا أن الناس يبغون على أنفسهم، ويجنون على فطرتهم، فيضر الفرد أو الجمع منهم ليضر، ويضر لينتفع ويُسَر, أو لينفع ويَسُر، فيعود ضرره عليه، ويحفر لأخيه أخدودًا فيقع فيه، يفرِط أو يفرِّط أناس في شهواتهم البدنية، فتنتابهم الأمراض الجسدية، فإذا عرفوا بذلك سنن الله تعالى فيها، وحكمته في قوادم أسبابها وخوافيها، كانت فائدة الأمراض أعظم من غوائلها، ونفعها أكبر من ضررها، ويفرِط قوم ويفرِّط آخرون في الشهوات الاجتماعية، فيعبثون بالحقوق المشتركة والروابط المعنوية، فيهيج البغي والعدوان بين القبائل والشعوب وتشتعل بينهم نيران الحروب، فتكون فتنةً وبلاءً للجميع، وإن ظهر ذلك أولاً في فريق دون فريق، ثم تكون العاقبة للمتقين، والنقمة على الباغين والعادين {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} (الحج: 60) و (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) والظالم سيف الله ينتقم به , ثم ينتقم منه {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِي} (هود: 102) وما كان يظن بأدق الأمم بحثًا في السنن الإلهية, وأوسعها علمًا بالشؤون الاجتماعية، أن تكون أشد عدوانًا وبغيًا، من أشد القبائل غباوةً وجهلاً ولكن كان مَثَل هذه الأمم كمَثَل الأطباء الذين تفتك بشبابهم الأمراض والأدواء , لإفراطهم في شُرب المسكر، وإسرافهم في الفحشاء والمنكر، وهم أعلم الناس بضررها، وأبلغهم لسانًا في التحذير من خطرها، وذلك برهان قطعي على أن علوم البشر أجمعين، لا تغني في إصلاح حال البشر عن هداية الدين، دين الإذعان واليقين الحاكم على الإرادة، لا دين التقليد الذي لا يخرج عن حكم العادة، وإن ضل من اغتر بعلومهم فكفر، وفسق عن أمر ربه وفجر وجهل حكمة الله وصنعه في خلق البشر, فقال بفنائهم وببقاء الحجر والمدر {فَإِذَا بَرِقَ البَصَرُ * وَخَسَفَ القَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة: 7-13) . لقد أتى على أمم الشمال الغربية حين من الدهر لم تكن شيئًا مذكورًا، إذ كان أهل الجنوب الشرقيون يملأون الآفاق علمًا ونورًا، لا يزال بعضه مرويًّا مأثورًا، أو مرئيَّا منظورًا، وذهب البعض الآخر هباءً منثورًا، ثم أتى عليها أحقاب نالت فيها بالعلم والصناعة ملكًا كبيرًا، وتبوأت من تراث ملوك الشرق جنات وقصورًا، وزخرفًا وحريرًا، وثلت عروشًا رفعها العدل والعلم، ثم وضعها الجهل والظلم فدمرها تدميرًا، فكانت سيف الانتقام الإلهي منتضىً مشهورًا، ولكن استكبر أهلها في أنفسهم، وعتوا عتوًّا كبيرًا, ولم يقيموا الميزان الذي يتبجحون به مينًا وزورًا ولو غيَّر أهل الجنوب ما بأنفسهم, لغير الله ما حل بهم، ولكن أوشك أن يدور الزمان، ويعود الأمر كما كان {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر: 49-50) . تعارضت بين دول الشمال المطامع، وتنازعوا على ما يصيبون في الجنوب والشرق من المنافع، فحكم القضاء في قضيتهم المدافع، وكان عذاب ربك واقعًا ما له من دافع، فقتلوا من أبنائهم في أربع سنين , أضعاف من قتلوا في حروب المطامع في عدة قرون، وخسروا في هذه السنوات من الأموال أضعاف ما ربحوا من جميع الأجيال {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 45-46) ولولا أن خلق الإنسان من عجل، لما استبطأ عدل الله في الأمم والدول، فمن ذا الذي كان يظن من المستعجلين، أو المستبطئين , أن يرى العالم في القرون الطويلة ما أرته هذه الحرب في أربع سنين: ثُل عرش قياصرة الروس القاهرين، وأبعد القيصر وأهل بيته إلى حيث كان يَعتقِل نابغي العلماء والسياسيين، وتمزقت كبرى سلطنات (إمبرطوريات) الأرض إلى بضع جمهوريات يسفك بعضها دماء بعض، فثُل عرش السلطنة النمسوية , وتمزقت إلى عدة حكومات جمهورية، وتدهور عن عرشه أعز عاهل على وجه هذه الأرض، بعد أن كاد يقضي على أكثر أمم الشرق مع الغرب، وهو النافذ الحُكم والإرادة في أوسع أمم الأرض علمًا، وأدقهم نظامًا وأمتنهم حكمًا، فكان سقوطه كسلك انقطع فتناثرت الفرائد، إذ سقط ملوك الجرمان وأمراؤهم واحدًا بعد واحد، وأجبر قبله على الاستقالة ملك اليونان، وتلاه كل من ملكي البلغار والرومان، وتقلص ظل الترك عن بلاد العرب والأرمن والأكراد، التي سفك طغاتهم الاتحاديون فيها الدماء، وأكثروا فيها الفساد {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} (الفجر: 13-14) {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ} (آل عمران: 26) , {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى للبشر} (المدثر: 31) . ومن أكبر العبر أن الله أنقذ أوربة من ظهور الألمان عليها وما كان يُحذر من سيطرتهم على مستعمراتها بعد إجلائهم عنها، على يد أقل الشعوب الكبرى استعدادًا للحرب والجلاد، وأبعدها عن طلب السيادة على الشعوب والطمع في البلاد، وهو شعب الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان له من الفلج بقوة الحق المعنوية، فوق ما كان له من الظفر بترجيح قوى الأحلاف الجندية والمادية، فإن دعوة رئيسه (الدكتور ولسن) إلى بناء صلح الأمم على ما وضعه من قواعد الحق والعدل العام، واستقلال الشعوب والأقوام، والمساواة بين الأقوياء والضعفاء، والأولياء والأعداء - هو الذي زلزل نظام الشعوب الجرمانية الراسخ البناء، وأظهر الاشتراكيين الضعفاء منهم على أولئك الجبارين من الملوك والأمراء، فكان به الظفر للقوة الأدبية على تلك القوة العسكرية والمالية التي أعدت لمقاومة البرية , {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: 118-119) فعلم بذلك أن القوة للحق، أو أن قوة الحق فوق قوة الباطل {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) وإنما بقاء الباطل في نومة الحق عنه، أو خداعه للحق حتى يوهمه أنه له أو معه أو شعبة منه، أما وقد استيقظ الحق من رقدته، صرع الباطل وهو في عنفوان قوته , فلم يبق إلا أن يجرده من قوة المكر والخداع، التي هي عتاده الآن في الهجوم والدفاع، والكر في ميادين الأطماع {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} (المدثر: 18-23) . قتل الإنسان ما أكفره، إذا مسه الضر لجأ إلى الحق والعدل، والرحمة والفضل، فإذا نجا منه استبدل الكفر بالشكر، ولجأ إلى الخديعة والمكر {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ * هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَي

الانتفاع بالرهن هل هو ربا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتفاع بالرهن هل هو ربا؟ س1 من محمد فاضل محمد، أحد مشتركي المنار بسنجرج (منوفية) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله (أما بعد) فما يقول الأستاذ الفاضل الإمام الهمام السيد محمد رشيد رضا - حفظه الله - في الانتفاع بالأطيان المرهونة المسمى عند الفلاحين (بالغاروقة) هل هو من الربا المحرم الداخل تحت قولهم: (كل قرض جر نفعًا فهو ربا) أو يقاس على الظهر والدر في قوله صلى الله عليه وسلم: (الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا , ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا) الحديث، أم أن هذا الحديث لا يقاس عليه شيء غير الذي ورد فيه؟ الرجا أن تفيدونا بالجواب ولكم حسن الثواب. تحريرًا في (5 ربيع الأول سنة 1337) ج - إن ما ذكر من الانتفاع بالرهن ليس من الربا، وجملة (كل قرض جر نفعًا فهو ربا) رويت حديثًا، ولم يصح , بل قيل بوضعه كما بينا ذلك في المنار من قبل (ص362 م10) في حديث الصحيحين، وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم زاد في قضاء الدين على الأصل، وعده من حسن القضاء، وإنما تكون الزيادة ربًا إذا كانت مشروطةً في العقد، وأما الانتفاع بالرهن فالحديث الذي أوردتموه فيه رواه البخاري في صحيحه وأكثر أصحاب السنن وغيرهم، وورد بألفاظ أخرى، ولكن الانتفاع بالرهن فيه في مقابل النفقة عليه لا في مقابل الدين، وقد قال بعض الأئمة بالأخذ به في الرهن الذي يحتاج إلى نفقة مطلقًا، واشترط بعضهم فيه امتناع الراهن من تلك النفقة , ومنع أكثرهم الانتفاع بالرهن مطلقًا , وأجابوا عن الحديث بما لا محل لبيانه هنا، وبعضهم يجيز انتفاع المرتهن بالرهن بإذن الراهن، وهو الذي جرت عليه جمعية علماء الحنفية، التي وضعت للدولة مجلة الأحكام العدلية، ومن الناس من يجري في هذه المسألة على طريقة بيع الوفاء، وهو معروف، ومقرر في المجلة أيضًا.

مبادئ الانقلاب الاجتماعي الأكبر وحرية الأمم ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مبادئ الانقلاب الاجتماعي الأكبر وحرية الأمم (1) شروط الصلح العالمي أو صلح الأمم العام التي وضعها، وأعلنها الدكتور ولسُن رئيس جمهورية الولايات المتحدة في أول سنة 1918 , وقبلتها حكومات الحلفاء، ثم رضيت الحكومات المحاربة لهن بجعلها قواعد للصلح العام (وذلك قبل التعديلات التي اقتضت الحال إدخالها عليها) منقولةً عن الجرائد المصرية، ومصححةً على نسخة التيمس الصادرة في 11 يناير سنة 1918. 1- إبرام اتفاقات الصلح علانيةً، وإعدادها علانيةً، وبعد عقدها لا تبرم اتفاقات خاصة من أي نوع كان مما يتناول الشؤون الدولية، ولكن الهيئات السياسية تعمل دائمًا جهارًا، وعلى مرأًى من العالم. 2- حرية الإبحار في البحر خارج حرم السواحل مطلقةً من كل قيد (حرم السواحل 6 أميال) سواء كان في زمن السلم، أو في زمن الحرب إلا في حالة إقفال البحار كلها أو بعضها بأمر دولي عام تنفيذًا لاتفاقات دولية. 3- إزالة الحوائل الاقتصادية جهد ما تصل إليه الطاقة، وتقرير المساواة في الصِّلات التجارية بين جميع الأمم التي ارتضت الصلح وتشاركت في تأييده. 4- إعطاء الضمانات الكافية وأخذها، بأن يُنقص سلاح كل بلد على أقله مما يتفق مع أمن البلاد في داخلها. 5- التسوية الحرة المقرونة بالتساهل والنزاهة التامة للدعاوي الاستعمارية، يكون مبناها الاحترام التام للمبدأ الذي يجعل مصلحة الشعوب ذات الشأن مساويةً للدعاوي النزيهة التي تدعيها الحكومة المنوي تقرير صفتها, أو عنوانها. 6- الجلاء عن الأراضي الروسية كلها، وتسوية كل مسألة تتعلق بروسيا على وجه يضمن لها أحسن المعاونة وأوسعها من جميع أمم الأرض بحيث تقدم لروسيا الفرصة الموافقة لتقرر دون حائل ولا مانع عرقلة تقدمها السياسي، والقومي، ويكفل لها بكل إخلاص قبولها في حجر الأمم الحرة بالأنظمة التي تختارها هي لنفسها، بل يقدر لها فوق قبولها المساعدة التي قد تحتاج إليها أو تتمناها من كل وجه. والمعاملة التي تعامل بها روسيا من الأمم شقيقاتها في الأشهر المقبلة تكون الدليل الناصع على حسن مقصدهن، وعلى معرفتهن حاجات روسيا بصرف النظر عن مرافقهن الخاصة، بل الدليل على عطفهن المعقول وكرمهن. 7- العالم كله موافق على قصد الجلاء عن البلجيك وترميمها دون أقل سعي للنقص من سيادتها التي تتمتع بها كسائر الأمم الحرة، ولا يقوم عمل من الأعمال كهذا العمل في إعادة ثقة الأمم في القوانين التي وضعتها هي ذاتها وجعلتها دستورًا لصِلاتها المتبادلة، وبدون هذا العمل يتهدم بناء القانون الدولي، وتضيع قيمته إلى الأبد. 8- تحرير جميع الأراضي الفرنساوية، وترميم جميع المناطق المجتاحة، والغرم الذي أصاب فرنسا من بروسيا في عام 1871 فيما يتعلق بالألزاس واللورين، وهو الغرم الذي كدر صفو العالم في مدة خمسين سنةً تقريبًا - يجب أن يعوض عليها حتى تعود ضمانة السلم لمصلحة الجميع. 9 - تعديل الحدود الطليانية يجب أن يتم طبقًا لمبادئ قومية واضحة كل الوضوح. 10- تعطى لشعوب النمسا وهنغاريا التي تريد أن ترى مقامها بين الأمم ثابتًا ومضمونًا، كل التسهيلات لزيادة استقلالها الإداري. 11- رومانيا وصربيا والجبل الأسود يجلى عنها، والأراضي المحتلة ترمم، ويضمن لصربيا طريق إلى البحر، وصِلات الدول البلقانية تكون متبادلةً، ومعينةً بنصائح ودية، وتجري هذه الصلات على قاعدة التقاليد العنصرية المقررة تاريخيًّا، ويجب البحث الجد في الضمانات الدولية للاستقلال السياسي والاقتصادي وصيانة الأملاك لدول البلقان. 12- الأقاليم التركية من أملاك السلطنة العثمانية الحاضرة يجب أن يضمن لها سلطان وطني وطيد، ولكن الأمم الأخرى التي هي الآن تحت الحكم التركي يجب أن تضمن لها حياة أمن لا ريب فيه، وفرصة للتدرج في الاستقلال الإداري لا شائبة فيها أبدًا، وأما الدردنيل فيجب أن يظل مفتوحًا دائمًا كطريق حرة لبواخر جميع الأمم ومتاجرها، تحت حماية جميع الدول. 13- يجب إنشاء دولة بولونية مستقلة، وهذه الدولة تتألف من جميع الأراضي التي لا يجادَل بأن سكانها من البولونيين، وتضمن لهذه الدولة طريق إلى البحر، ويضمن باتفاق دولي استقلالها السياسي والاقتصادي كما تضمن سلامة أملاكها وأراضيها. 14- يجب أن تؤلف من جميع الأمم عصبة عامة باتفاقات معينة يكون الغرض منها تبادل الضمان للاستقلال السياسي، وصيانة الأملاك على حد المساواة للأمم الصغيرة والكبيرة. (2) خطبة الرئيس ولسن في عيد استقلال الأميركيين مترجمة عن عدد التيمس الذي صدر في 12 يوليو سنة 1918 في اليوم الرابع من يوليو (تموز) الماضي احتفلت الولايات المتحدة الأميركية بعيد استقلالها، فوقف الرئيس ولسن عند قبر وشنطون على جبل فرنون وخاطب المجتمعين حوله قائلاً: يسرني أن آتي معكم إلى هذا المحل الاستشاري القديم البعيد عن الضوضاء؛ لأخاطبكم قليلاً بمغزى هذا اليوم الذي هو عيد حرية أمتنا، المكان منفرد، والهدوء تام فيه، وهو لا يزال بعيدًا عن ضوضاء العالم كما كان في تلك الأيام الخطيرة الشأن حينما كان الجنرال واشنطون يأتيه مع الرجال الذين اشتركوا معه في إنشاء الأمة الأمريكية، كانوا يتطلعون إلى العالم من هذا المكان، فرأوه بعين الخيال التي تنظر إلى المستقبل، رأوه بعين أبناء هذا العصر التي لا يرضيها ماضٍ تنفر منه النفوس الأبية، ولذلك لا نشعر بأن هذا المكان موقف رجل ميت ولو كان قبره أمامنا , فإنه المكان الذي عُمل فيه عمل عظيم، عمل حي، هنا وعد الناس وعدًا عظيمًا، قولاً وفعلاً، فالذكرى التي تحيط بنا في هذا المكان وتبث النشاط في نفوسنا هي ذكرى ذلك الرجل العظيم الذي لم يكن موته سوى خاتمة مجيدة لحياة مجيدة. ومن هذه الأكمة الخضراء نتطلع بأعين باصرة إلى العالم المحيط بنا، ونتصور الوسائل التي يجب أن تحرر نوع الإنسان، ومما لا ريب فيه أن وشنطون وشركاءه أثبتوا بأخلاقهم وأعمالهم أنهم لم يكونوا يقولون ويفعلون لأجل فريق من الناس خاصةً، بل لأجل الشعب كله، فعلينا نحن أن نثبت أنهم لم يقولوا ولم يفعلوا لأجل شعب واحد، بل لأجل العالم أجمع، لم يكن اهتمامهم بأنفسهم ولا بمصالح الملاك والتجار وأصحاب المصالح الأخرى الذين كانوا يعاملونهم في فرجينيا وما إليها شمالاً وجنوبًا، بل بالشعب كله الذي كان يرغب في نزع الامتيازات التي تميز ذوي المقامات العليا ونفي الخاصة وإبطال سلطة حكامهم الذين لم يختاروهم للحكم عليهم. لم يكن لوشنطون ومشيريه منافع شخصية، ولا طلبوا امتيازات خاصةً، وإنما أرادوا أن يكون كل إنسان حرًّا، وأن تكون أميركا ملجأً يلجأ إليه كل من يريد من أمم الأرض أن يشاركهم في حقوق الأحرار ومزاياهم. فبهدي أولئك الفضلاء نهتدي معتقدين أن اشتراكنا في هذه الحرب هو ثمرة الغرس الذي غرسوه، والفرق بيننا وبينهم أنه قسم لنا من حسن حظنا أن نشترك مع أناس من كل أمة في ما تؤمن به حريتنا وحرية كل الأمم، ويسرنا جدًّا أنه أتيح لنا أن نفعل ما كان أسلافنا يفعلونه لو كانوا في مكاننا، ويجب أن ينال العالم كله ما نالته أميركا في العصر الذي أتينا لنتذكره ونستمد الإلهام منه. لا شبهة في أن هذا المكان من أصلح الأماكن لأن نلتفت منه إلى عملنا، ونوطن أنفسنا على القيام به، وهو من أصلح الأماكن لأن نبين للأصدقاء الذين ينظرون إلينا، وللحلفاء الذين كان من حسن الحظ أن شاركناهم في العمل ما هو الدافع الذي يدفعنا إليه، وما هي الأغراض التي نرمي إليها. فهذا ما نراه في هذه الحرب التي خضنا غمارها. إن أغراض الخصمين منها واضحة بينة في كل فصل من فصولها، ففي الجهة الواحدة نرى أمم العالم التي اشتركت في الحرب فعلاً، والأمم التي تئن من السيادة، ولكنها لا تستطيع المقاومة. أممًا كثيرة في كل أقطار المسكونة، ومنها أمم روسيا التي تقوض بنيانها الآن. وفي الجهة الأخرى نرى قواد جيوش ورؤساء حكومات لا يرمون إلى نفع عام، بل إلى نفع خاص، إلى مطامع شخصية لا ينتفع بها أحد غيرهم، وأسيادًا شعوبهم كالوقود في أيديهم، وحكومات تخشى من شعوبها، ولكنها متسلطة عليهم تتصرف في دمائهم وأموالهم كما تشاء، وفي دماء كل الشعوب التي تتسلط عليهم وأموالهم، حكومات ترتدي حلل سيادة قديمة غريبة عن عصرنا ومعادية له. فهذه الحرب الزَّبون الناشبة بين الماضي والحاضر وشعوب الأرض تستشهد في معتركها لا بد من أن تكون فاصلةً حاسمةً لا مهادنة فيها، ولا مراضاة ولا توسط، ولا هوادة. الحلفاء يحاربون لأجل أغراض أربعة، ولا يلقون السلاح من أيديهم قبل أن تتحقق كلها: (الأول) : ملاشاة كل قوة استبدادية تستطيع أن تزعزع أركان السلم إذا أرادت ولو سرًّا، وإذا كانت ملاشاة القوى الاستبدادية غير مستطاعة وجب على الأقل إضعافها، حتى تعجز عن الضرر. (الثاني) : تسوية كل خلاف سواء كان في أرض أو سلطة أو مصلحة اقتصادية أو علاقة سياسية، على مبدأ (رضا الشعب) الذي تتعلق به تلك التسوية مباشرةً، لا على مبدأ المصالح المادية والمنافع الشخصية التي تنال شعبًا آخر، أو تنال قومًا يرغبون في تسوية أخرى لتعزيز سيادتهم أو نفوذهم الخارجي. (الثالث) : تسليم الشعوب كلها بأن معاملة بعضهم مع بعض خاضعة لمبادئ الشرف والاحترام لناموس العمران الذي يخضع له سكان كل الممالك العصرية، وأن علاقاتهم بعضهم مع بعض خاضعة للقانون القاضي بأن كل العهود والوعود يجب أن تحفظ حفظًا تامًّا بلا دسيسة ولا مخادعة ولا ضرر ولا ضرار، ولتوثيق عرى الثقة التامة على أساس الاحترام المتبادل والحقوق المتبادلة. (الرابع) : إنشاء نظام للسلم يجمع قوة الأمم الحرة لمقاومة كل معتد على الحق، ويحفظ السلم والعدل بإقامة محكمة من الرأي العام يخضع لها الجميع، ويكون لها حق الفصل في كل خلاف يقع بين الأمم، ويتعذر عليهم فضه. هذه الأغراض العظيمة يمكن التعبير عنها بجملة واحدة، وهي أننا نطلب سلطان القانون المؤسس على رضا الرعايا، والمؤيد برأي البشر المنظم، وهذه الأغراض العظيمة لا تنال بالبحث والتوفيق بين مطالب رجال السياسة، وما يشيرون به لتوازن القوة لحفظ مصالح الأمة، وإنما تنال بما يصمم عليه العقلاء الذين يتوخون العدل والحرية. ويلوح لي أن هواء هذا المكان سيحمل صدى هذه المبادئ إلى كل الأنحاء، هنا قامت قوات حسبتها الأمة العظيمة التي وجهت لمقاومتها عصيانًا على سلطتها الشرعية، ولكنها رأتها بعد ذلك خطوةً في تحرير شعبها كما هي خطوة في تحرير شعب الولايات المتحدة، وقد وقفت الآن لأتكلم والفخر ملء نفسي، والأمل والثقة ملء جوانحي، عن نشر هذا العصيان - بل هذا التحرير - في أقطار المسكونة. إن حكام بروسيا الذين عميت بصائرهم أثاروا قوًى لا يعرفون قدرها، قوى إذا ثارت لا يمكن إخمادها؛ لأنها مدفوعة بعزم وحزم لا فتور لهما؛ لأن النصر معقود بناصيتهما. *** (3) وجوه الحرب أو مقاصدها وجمعية الأمم خطبة الدكتور ولسن في نيويورك منقولة عن عدد التيمس الذي صدر في 4 أكتوبر سنة 1918 خطب الرئيس ولسن في نيويورك قبل فتح باب الاكتتاب في قرض الحرية الرابع بستة آلاف مليون ريال فقال: إنه لم يعمل منبر الخطابة ليروج القرض، فإن لترويجه رجالاً ونساءً لا تني همتهم ولا يفتر ولاؤهم، وقفوا أنفسهم بحماسة على عرضه على مواطنيهم في جميع أنحاء البلاد، وسيكون النجاح

مستقبل سورية وسائر البلاد العربية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مستقبل سورية وسائر البلاد العربية 1- البلاد المحررة هذا إعلان رسمي من قِبل الحكومتين البريطانية والفرنسوية، نُشر بهذا العنوان في الجرائد المصرية اليومية في يوم الجمعة 8 نوفمبر سنة 1918 -4 صفر سنة 1337: إن الغرض الذي ترمي إليه فرنسة وبريطانية العظمى بمواصلتهما في الشرق تلك الحرب التي أثارها الطمع الألماني - هو تحرير الشعوب التي طالما ظلمها الترك تحريرًا نهائيًّا، وتأسيس حكومات ومصالح أهلية تُبنى سلطتها على اختيار الأهالي الوطنيين لها اختيارًا حرًّا، وقيامهم بذلك من تلقاء أنفسهم. وتنفيذًا لهذه النيات قد وقع الاتفاق على تشجيع العمل لتأسيس حكومات ومصالح أهلية في سورية والعراق اللتين أتم الحلفاء تحريرهما , وفي البلاد التي يواصلون العمل لتحريرها، وعلى مساعدة هذه الهيئات والاعتراف بها عند تأسيسها فعلاً، والحلفاء بعيدون عن أن يرغموا سكان هذه الجهات على قبول نظام معين من النظامات , وإنما همهم أن يحققوا بعونهم ومساعدتهم النافعة حركة الحكومات والمصالح التي ينشئها الأهالي لأنفسهم مختارين حركةً منتظمةً , وأن يضمنوا لهم قضاءً عادلاً واحدًا للجميع , وأن يسهلوا انتشار العلم في البلاد، وتقدمها اقتصاديًّا وذلك بتحريك همم الأهالي وتشجيعها , وأن يزيلوا الخلاف والتفرق الذي طالما استخدمته السياسة التركية. ذلك هو ما أخذت الحكومتان المحاربتان على نفسيهما مسئولية القيام به في البلاد المحررة. *** 2- البر بالمواثيق نشر المقطم يوم الاثنين 23 ديسمبر 1918، و19 ربيع الأول 1337 ما نصه: تلقينا في الأسبوع الماضي العدد 11 من جريدة المستقبل الغراء الصادر في باريس يوم 30 سبتمبر الماضي، فقرأنا فيه ما يأتي: (جاء في برقية رسمية من لندن هذا النبأ الذي طربت له أفئدة أبناء سورية، ولبنان) : لندن في 35 سبتمبر: إن الجيوش البريطانية التي تؤازرها جنود فرنسية قد وصلت الآن إلى حدود البقاع الراجع أمر تهيئة سكانها للحكم الذاتي إلى فرنسة طبقًا للاتفاق الإفرنسي البريطاني المبرم عام 1916. فبرًّا بالمواثيق ترى الحكومة البريطانية والحكومة الإفرنسية أيضًا أنه من اللازم تنظيم الإدارة المؤقتة في هذه البقاع طبقًا لاتفاق عام 1916, وأن السلطة العسكرية البريطانية الموجودة هناك تبر بالمواثيق بر الحكومة البريطانية بها وستوضع قريبًا هنا على بساط البحث مسألة إدخال هذا الاتفاق في طور العمل) انتهى بحروفه. *** 3- إعلان اتفاق سنة 1916 المذكور في باريس إن جريدة المستقبل التي تصدر في باريس لخدمة فرنسة في مستعمراتها الأفريقية وسائر البلاد العربية، ويديرها أفراد من مسيحيي لبنان وسورية يعبرون عن أنفسهم باسم (الجمعية السورية المركزية) قد بينت أمر هذا الاتفاق الذي أشار إليه فيما نقل عنها المقطم منذ سنة كاملة وصَدَرَ العدد 9 منها في 27 ربيع الأول سنة 1336 -10 يناير سنة 1918 مزينًا بطبعه بالحبر الأحمر والأزرق، مُصدّرًا بمقالة افتتاحية في مستقبل سورية الذي صرح به في الجمعية السورية ممثلا الحكومتين البريطانية والفرنسية، ذلك بأن الحكومة الإنكليزية أوفدت (السير مارك سايكس) المشهور إلى باريس فضمت إليه حكومتها (المسيو جان فو) ممثلاً لها ليصرحا في الجمعية السورية باتفاقهما، فعقدوا فيها اجتماعًا حضره بعض أعضاء مجلسي النواب والشيوخ الفرنسيين، ونائب بطرك الكاثوليك في فرنسة، وأعضاء الجمعية السورية، وهم المسيو شكري غانم رئيسها الأول , والمسيو أنيس شحادة رئيسها الثاني , والدكتور جورج سمنه كاتم أسرارها العام , والمسيو نجيب مكرزل أمين صندوقها - واعتذر يوسف أفندي سعد أحد أعضائها عن الحضور بانحراف صحته - ورأس الجلسة المسيو (فرنكلان يوبون) أحد أعضاء مجلس النواب، وبعد افتتاحه الجلسة ألقى المسيو شكري غانم خطبةً، ذكر فيها حبهم لفرنسة وإعجابهم بإنكلترة , والتوازن بين الدولتين، وأنه هو أساس (ما اصطلح الرأي العام على تسميته باسم جمعية الأمم) (؟) وقال: (إن في هذا التوازن ضمانًا للشعوب الصغيرة؛ لأنه يكفل استقلالنا بصفة أكيدة، بعد تحريرنا من رق الأتراك الشنيع، ويجعل لنا مقامًا رفيعًا برعاية فرنسة وعونها، وبمصادقة إنكلترة) إلخ. ثم تلاه السير مارك سايكس فحث في خطابه السوريين على الاتحاد ونبذ الخلاف، والاتفاق على القاعدتين الآتيتين اللتين زعم أن في استطاعة جميع أجناس سورية وأديانها الاتفاق عليهما (؟) وأن الواجب على السوريين الذين يتمتعون بالحرية في أوربة وأمريكة ومصر أن يرفعوا أصواتهم بهما؛ لأن الذين في البلاد مكرهون على الصمت، وهما قوله: 1- يجب بادئ بدء قلب الحكم التركي المشئوم، لأن ما هو - بإجماع الآراء - فاسد في أرمينية , غير صالح لسورية. 2- ثم يجب أن تنتظروا من فرنسة أن تأتيكم بالمساعدة التي لا غنى للشعب المظلوم عنها، وهو في حاجة إليها كي يقدر على السير بنفسه في طريق الحياة، وينبغي أن تتطلبوا ضمانات من الدول المتمدنة في العالم لئلا تخضعوا مرةً أخرى لحكم الأتراك الذي صار بكم إلى الفقر وإلى الشقاق. وتلاه المسيو غو ممثل الحكومة الفرنسية فقال: أيها السادة (إنه ليسرني أن أؤكد لكم برخصة من وزير الخارجية الجمهورية - بعد النصائح الرشيدة التي سمعتموها من فم السير مارك سايكس ممثل الأمة الحليفة - أن فرنسة وإنكلترة متفقتان تمام الاتفاق على تحرير الشعوب غير التركية من النير التركي في آسيا الصغرى، مهما كانت أديان هذه الشعوب وأجناسها وتهيئتها لمستقبل أحسن من ماضيها) . وقد صممت الدولتان الحليفتان العزم - بعد طرح كل فكرة ترمي إلى السيطرة الاستعمارية - على هداية الشعوب التي تتكلم العربية وغيرها من اللغات، والساكنة في الربوع التي تمتد من الجبال الأناطولية إلى بحر الهند، وللسير بها في طريق الاستقلال بالحكم، وفي سبيل الحضارة، مع احترام العقائد الدينية وحقوق الوطنيات، وستعمل كل من الدولتين في منطقة نفوذها، وسيكون الدور الذي تمثله فرنسة وإنكلترة دور دليل لتحسين حالة المستقبل، ودور حكم بين الجماعات الدينية والجنسية، والأولى مستعدة للقيام بهذا الدور في الشمال، والثانية في الجنوب. إننا نرغب في أن يحيط مواطنوكم كلهم علمًا بهذا الاتفاق الولائي المعقود بين الدولتين الحرتين الكبريين حتى يقدروه حق قدره، ولا سبيل إلى تحقيق مستقبل مجيد - وقد أهلتهم له عذاباتهم الماضية، وثِقتهم بمصير وطنهم - إلا بالاتفاق وبنبذ الشقاق الناتج من حكم الأتراك. وإنني أدعوكم إلى تحية فجر هذا المستقبل لسورية ولغيرها من البلدان التي تتكلم بالعربية، شاملين في تحياتنا بريطانيا العظمى وفرنسة وسورية) اهـ. ثم إن مسيو شكري غانم فاه بكلام خلاصته أن السوريين الذين في مصر كثيرون , وهم أرقى السوريين علمًا وثروةً وأشدهم اختلافًا، فينبغي للسير مارك سايكس السعي لاتفاقهم على الأمرين اللذين دعا إليهما , أي: بنفوذ حكومته هنا، ولم يقل مسيو شكري غانم هذا القول إلا لعلمه بأن السواد الأعظم من السوريين هنا مخالفون له في رأيه ورأي جمعيته، وأنهم لا يرون أنفسهم غير أهل للاستقلال التام، ولا يطلبون نصب وصي عليهم حتى يؤهلهم له؛ لأنهم يعتقدون أنهم راشدون لا سفهاء ولا معتوهون. *** 4- دخول المسألة العربية في طور جديد بعد ذلك الاتفاق دخلت المسألة في طور جديد بما وضعه الدكتور ولسن رئيس الولايات المتحدة من الشروط لصلح الأمم، وما فسرها به في تلك الخطب، فصار أمر الشعب العربي في كل قطر منوطًا به ومفوضًا إليه باتفاق الدول، ولم يبق للافتيات عليه من سبيل، إلا أن يجني على نفسه، فالدول وأحرار أممها يقولون له: إن أمره بيده، والمستعمرون الطامعون يقولون له: قد قضي الأمر في شأنه، فما عليه إلا أن يساعدهم على تمدينه وسبر بلاده. هذا، وإننا قد بينا من قبل أن الشروط لصحة مثل هذا الاعتراف والإقرار، أن لا يكون تحت سيطرة عسكرية، ولا ضغط سلطة تنافي الاختيار، وأن يكون من المقر المعترف على علم بأن أمره بيده، وأن قضيته لم يقض فيها، ولن يقضى فيها إلا برأيه (راجع ص 48 - 59، و499، و246 من المجلد 20) . بعد هذا نقول: من المقرر الذي لا ريب فيه أن مسألة الولايات العربية العثمانية ستعرض على مؤتمر الصلح، وما يقرره فيها هو الذي ينفذ - وأن الدولة العثمانية ستطلب أن تكون مستقلةً في إدارتها الداخلية عملاً بالشروط ال 12 من شروط الرئيس ولسن التي قبلت الصلح بها، وقد نقلت التيمس في شهر نوفمبر أن مجلس النواب العثماني قرر أن تكون الولايات العربية مستقلةً تحكم نفسها كما تشاء بشروط الارتباط بالسلطان وحده، والظاهر أن المراد بذلك أن تكون تحت سيادته باعترافها له بالخلافة، لا تحت سيادة الباب العالي ومجلس الأمة - وأن إنكلترة، وفرنسة ستطلبان تقسيم سورية والعراق على حسب اتفاقهما في سنة 1916 , وكل هذا وذاك ينافي تحرير البلاد واستقلالها، خلافًا لما أذاعته البرقيات والجرائد عن دول الحلفاء من أول سني الحرب إلى آخرها، ولقواعد ولسن وخطبه المفسرة لها، المصرحة بوجوب استفتاء كل شعب في أمره والعمل برأيه في حكم بلاده، وهذا الاستفتاء لم يقع. فالحق أن أمرهم بيدهم من كل وجه، ولهم أن يطلبوا ما يبغونه - بدافع الفطرة والعقل - من الاستقلال التام المطلق من كل قيد، وهو ما أجمع عليه زعماؤهم وعقلاؤهم، وقتل في سبيله شهداؤهم، فإذا فاتتهم هذه الفرصة واختاروا العبودية على الحرية والاستقلال بخداع دعاة الاستعمار، كانوا في حكم من بخع نفسه بيده بل كانوا قاتلين لأمتهم بأسرها، وملعونين في تاريخها وتاريخ الأمم كلها. قلنا: وإن أهل المعرفة يقترحون كلما أمكنهم التصريح بمطالب البلاد الصريحة المعقولة التي لا يختلف فيها إلا المخدوعون أو المأجورون. والمرجو من الرئيس ولسن العظيم، ومن أحرار سائر الأمم الذين لا ينخدعون بمكايد المستعمرين، ولو كانوا من أمتهم - أن ينصروا الحرية الكاملة، فيحرروا الشعب العربي كغيره تحريرًا تامًّا بجعل أمره بيده , ولله الأمر من قبل، ومن بعد. ((يتبع بمقال تالٍ))

رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي [1] الموضع الثالث عشر آل البيت [2] نقل الناقد ما ذكر في حاشية ص 43 من ذكرى المولد من القولين في تفسير حديث زيد بن أرقم- رضي الله عنه- أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين تحرم عليهم الصدقة، وقول غيره. هم علي وذريته من فاطمة عليهم السلام، واستنبط من تقديمنا القول الأول وإبهام القائلين بمقابله ترجيحَه , وتعقبه بقوله: (ولعل الصواب ما يقوله الآخرون كما حققه شيخ مشايخنا العلامة مولانا السيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي) كما قال: (إن المراد بآل البيت في آية التطهير: علي وفاطمة والحسن والحسين) وهو قول جمهور العلماء وأكابر أئمة الحديث المعتد بروايتهم ودرايتهم. وإن الأدلة تضافرت بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمصير إلى تفسير من أنزلت عليه متعين (ثم بين ذلك بحديث أم سلمة المعروف في تفسير آية التطهير، وأشار إلى حديث عائشة بمعناه , وذكر أن جميع ذرية فاطمة داخلة في ذلك إلى يوم القيامة، وأن الأحاديث مصرحة بذلك، ومثل بحديث الجمع بين القرآن والعترة، وبحديث أهل بيتي أمان لأهل الأرض) وجزم بأن ذلك دالٌّ قطعًا على أن هذه السلالة الطاهرة هم أهل البيت المطهرون المرادون بكل ما ورد في فضل أهل البيت من الآيات والأحاديث، وأنهم عدول هذه الأمة وأحد الثقلين المأمور بالتمسك بهما، قال: (وقد أجمعت الأمة على ذلك) . وأقول (أولاً) : إنني لم أرد بتقديم قول زيد ترجيحه، ولا بتأخير قول الآخرين تضعيفه؛ لأنني لست بصدد ذلك, وإنما أخرت ما أخرت لأبني عليه ما ذكرته بعده من الثناء والمناقب، وهذا سبب من أسباب التأخير معهود في أساليب الكلام الفصيح ما كان له أن يفهم منه الترجيح , و (ثانيًا) : إن ما ذكره من التصويب وادعى أنه هو التحقيق، وأن الأحاديث الصحيحة ناطقة به والأمة مجمعة عليه - فيه نظر ظاهر، ولا أحب أن أعبر عنه بما دون ذلك، فالأحاديث الصحيحة في الآل والذرية والعترة كثيرة، والخلاف فيها كثير، والمتبادر من آية التطهير أنها في نساء النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها تعليل لما قبلها من الأوامر والنواهي الخاصة بهن، وما بعدها خطاب لهن كالذي قبلها، فلا يمكن أن يكون هذا التعليل أجنبيًّا في وسط الكلام، ولا يمكن أن يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير آية بما ينافي أساليب البلاغة، فكيف بما ينافي المتبادر من اللغة؟ وقد بينت هذا في المنار من قبل. ولولا التعصب الذي أوقع أدق علماء اللغة وفرسان بلاغتها في الغلط أحيانًا، لَما كان يقبل أحد له شمة من العربية أن يقول فيما نزل نصًّا قاطعًا في خطاب معين: إنه في غير ذلك المخاطب المعين، حتى إنه يشمله بعمومه خلافًا للأصل الذي جرى عليه جميع العلماء. قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) : هذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول هذه الآية وسبب النزول داخل فيه - قولاً واحدًا - إما وحده، على قول، أو مع غيره، على الصحيح، اهـ، ويريد بالصحيح: ما جرى عليه أهل الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولفظ (أهل البيت) هنا عام يدخل فيه كل منتسب إلى ذلك البيت، ولكن المخاطب منهم في الآية نساؤه صلى الله عليه وسلم، وهُن أهل البيت السكني المتبادر هنا، وأهل بيت الرجل وآله يطلق على بيت القرابة وعلى أتباعه، ومنه قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} (غافر: 46) وقول عبد المطلب يوم الفيل: وانصر على آل الصليـ ... ـب وعابديه اليوم آلك ولا يمكن أن يراد هذا الأخير من الآية لقرينة الخطاب.. ومثله (آل) القرابة لولا ما ورد من في الحديث من إدخاله صلى الله عليه وسلم أهل العباء فيهم خبرًا أو دعاءً, والدعاء هو الذي ثبت في الصحيح. وأما حديث أم سلمة فمضطرب المتن، ومخالف لمنطوق الآية، وفي أسانيد طرقه كلها علل تمنع الاحتجاج به، فكيف يمكن ترجيح مفهومه على منطوق القرآن؟ وفي حديث علي عند النسائي , وأبي هريرة عند أبي داود مرفوعًا: (من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا آل البيت فليقل: اللهم صل على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين , وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد) فقد عَطف آل البيت) على الأزواج والذرية , والأصل في العطف المغايرة. إنني لا أحب أن أطيل الكلام في مناقشة الناقد في هذه المسألة من عندي، بل أستغني عن ذلك بأن أنقل له أوسع ما رأيته في تفسير آية التطهير وأجمعه لأقوال أهل السنة والشيعة؛ ليعلم مكان ما ادعاه من اتفاق العلماء أو إجماع الأمة من الصحة، وهو ما أورده الشهاب الآلوسي في روح المعاني تفسيرًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) . قال: استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن، والرجس في الأصل: الشيء القذر، وأريدَ به هنا عند كثير الذنب مجازًا، وقال السدي: الإثم , وقال الزجاج: الفسق, وقال ابن زيد: الشيطان , وقال الحسن: الشرك , وقيل: الشك , وقيل البخل والطمع , وقيل: الأهواء والبدع , وقيل: إن الرجس يقع على الإثم , وعلى العذاب , وعلى النجاسة , وعلى النقائص , والمراد به هنا: ما يعم كل ذلك، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف , و (ال) فيه للجنس أو للاستغراق، والمراد بالتطهير، قيل: التحلية بالتقوى، والمعنى على ما قيل: إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم، ويحليكم بالتقوى تحليةً بليغةً فيما أمركم. وجوز أن يراد به الصون, والمعنى: إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم الرجس ويصونكم من المعاصي صونًا بليغًا فيما أمر ونهى جل شأنه، واختلف في لام (ليُذهب) فقيل: زائدة وما بعدها في موضع المفعول به لـ (يريد) فكأنه قيل: يريد الله إذهاب الرجس عنكم، وتطهيركم. وقيل: للتعليل. ثم اختلف هؤلاء، فقيل: المفعول محذوف , أي: إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب، أو: إنما يريد منكم ما يريد ليذهب، أو نحو ذلك، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما: الفعل في ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء، واللام وما بعدها خبر , أي: إنما إرادة الله تعالى للإذهاب، على حد ما قيل في (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) فلا مفعول للفعل. وقال الطبرسي: اللام متعلق بمحذوف تقديره: وإرادته ليذهب , وهو كما ترى، وهذا الذي ذكروه جارٍ في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} (النساء: 26) {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 71) وقول الشاعر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان ونصب (أهل) على النداء، وجوز أن يكون على المدح، فيقدر: أمدح، أو أعني، وأن يكون على الاختصاص، وهو قليل في المخاطب، ومنه: (بك الله نرجو الفضل) وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق و (ال) في (البيت) للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه، أي: بيت النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم , والظاهر أن المراد به بيت الطين والخشب، لا بيت القرابة والنسب، وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل , وحينئذ فالمراد بأهله نساؤه صلى الله - تعالى - عليه وسلم المطهرات؛ للقرائن الدالة على ذلك من الآيات السابقة واللاحقة، مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه سوى سكناهن، وروى ذلك غير واحد: أخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نزلت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ} (الأحزاب: 33) إلخ في نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصةً. وأخرج ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ (خاصةً) وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية: ليس بالذي تذهبون إليه، إنما هو نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. وروى ابن جرير أيضًا أن عكرمة كان ينادي في السوق أن قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) نزل في نساء النبي عليه الصلاة والسلام. وأخرج ابن سعد عن عروة {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ} (الأحزاب: 33) قال: يعني أزواج النبي صلى الله - تعالى - عليه وسلم. وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات - باعتبار الإضافة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم - بيت واحد، وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات، وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب: 53) دفعًا لتوهم إرادة بيت زينب لو أُفرد من حيث إن سبب النزول أمر وقع فيه، كما ستطلع عليه، إن شاء الله تعالى. وأورد ضمير جمع المذكر في (عنكم) و (يطهركم) رعايةً للفظ الأهل، والعرب كثيرًا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك رعايةً للفظ، وهذا كقوله - تعالى - خطابًا لسارة امرأة الخليل - عليهما السلام - {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ} (هود: 73) ومنه - على ما قيل - قوله سبحانه: {فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} (طه: 10) خطابًا من موسى عليه السلام لامرأته , ولعل اعتبار التذكير هنا أدخل في التعظيم. وقيل: المراد هو صلى الله - تعالى - عليه وسلم، ونساؤه المطهرات - رضي الله تعالى عنهن - وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة والسلام عليهن. وقيل: المراد بالبيت: بيت النسب، ولذا أُفرد ولم يُجمع كما في السابق واللاحق. فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معًا في الدلائل عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله - تعالى - عليه وسلم: (إن الله - تعالى - قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسمًا، فذلك قوله - تعالى -: (وَأَصْحَابُ اليَمِينِ ... وأصحاب الشمال) فأنا من أصحاب اليمين , وأنا خير أصحاب اليمين، ثم جعل القسمين أثلاثًا فجعلني في خيرها ثلثًا، فذلك قوله تعالى [3] : {وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} (الواقعة: 9-10) فأنا من السابقين , وأنا خير السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل , فجعلني في خيرهم قبيلة وذلك قوله - تعالى -: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله - تعالى - ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتًا , فجعلني في خيرها بيتًا، فذلك قوله - تعالى -: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب) فإن المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النَّسبَي. واختلف في المراد بأهله، فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم: جميع بني هاشم ذكورهم وإناثهم، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم , وهذا هو المراد بالآل عند ا

التقاضي والتخاصم في رسالة آدم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقاضي والتخاصم في رسالة آدم الحسد غريزة قديمة في الثقلين، كان أول مظهر عرف لها في التاريخ المأثور حسد إبليس أبي الشياطين - لعنه الله - لآدم أبي البشر عليه السلام، وكان ينبغي أن يكون أطهر البشر من هذه الخليقة الذميمة أهل العلم الديني، ولكن ثبت في بعض الآثار أنهم أشد تغايرًا من التيوس في زروبها كما ثبت بالاختبار أنهم أشد تحاسدًا من النساء الضرائر في بيوتها. وقد لبس الحسد الإبليسي في هذا العام وما قبله ثوبي زور من الغيرة على آدم عليه السلام. ثوبان ظهر بهما بعض محبي الظهور من شبان الأزهريين، وإنما فصلهما وخاطهما بعض شيوخهم المعروفين، فأما الثوب الأول: فهو تكفير من يقول بأن قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) ليس نصًّا قطعيًّا في كون هذه النفس (المنكرة) هي آدم، وفي كونه هو أصل جميع البشر - وإن كان يقول بهذا عملاً بدلالة الظواهر - وعدم قبول إسلام أحد من القائلين بتعدد أصول البشر، أو الشاكين في صفة تكوينهم، وقد بينا في المنار كيف كان عاقبة المفترين في هذه المسألة (راجع ص 6 م20) . وأما الثوب الثاني: فهو تكفير من يقول: إن رسالة آدم غير ثابتة بنص قطعي، بل القول بها معارض بظواهر بعض الآيات، وبحديث الشفاعة المتفق عليه؛ فإن خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم يروي فيه عن آدم أن نوحًا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض، ذكر هذه المسألة في مجلس خاص بدمنهور الشيخ محمد أبو زيد من مريدينا طلاب دار الدعوة والإرشاد، فانبرى لتكفيره والتشهير به صاحب الثوب المستعار، ثم ألبس الثوب من رفع عليه دعوى حسبة إلى قاضي دمنهور الشرعي ليحكم بردته ويفرق بينه وبين زوجه، فكان مَثَله مع مفصل الثوب ولابسه الأول كَمَثَل من تعلم السحر من هاروت , وماروت {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} (البقرة: 102) . نظر في الدعوى قاضي دمنهور، فكان فقهه فيها كفقه لابس الثوب وخائطه، فحكم بردة الرجل وفرق بينه وبين زوجه، فأحدث هذا الحكم هزةً واضطرابًا في القطر المصري كله، وأظهر الناس استنكاره في جميع الجرائد، وبيَّن أهل العلم وجوه خطأه في المجالس والمدارس، وانزعجت له وزارة الحقانية، فحظرت النظر في أمثال هذه الدعوى على المحاكم الشرعية، إلا أن يكون بعد اطلاع الوزارة على الدعوى، وأخذ الإذن الخاص بالنظر والحكم فيها، وهذا ملخص الحكم المشار إليه: صورة ملخص الحكم الصادر في قضية الشيخ أبو زيد سئل الشيخ عما يعتقده في رسالة ونبوة آدم فقال: (إن آدم ليس نبيًّا ولا رسولاً بنص قطعي، وإنما نبوته ورسالته ظنيتان، هذا ما نطقت به وما أعتقده إلى الآن) . الحكم والأسباب حيث إن نبوة سيدنا آدم - عليه السلام - ثابتة بالكتاب والسنة وبالإجماع ومعلومة من الدين بالضرورة، لذا كفر جاحدها. قال في كتاب العقائد النسفية: أول الأنبياء آدم عليه السلام، وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام. أما نبوة آدم فبالكتاب والسنة والإجماع، أما بالكتاب الدال على أنه أمر ونهي، مع القطع بأنه لم يكن في زمنه نبي آخر، فهو بالوحي لا غير، وكذا بالسنة والإجماع، فإنكار نبوته على ما نقل عن البعض يكون كفرًا، وفي الفتاوى الهندية، جزء ثاني: من يقول: آمنت بجميع الأنبياء، ولا أعلم أن آدم نبي أم لا: يكفر، كذا في العتبية، ولم يحك خلافًا، وفيها أيضًا: رجل قال لغيره: إن آدم عليه السلام نسج الكرباس، فقال له الغير: فحينئذ نحن أولاد النساج، فهذا كفر، وما ذاك إلا يكون استخفافًا بالنبي؛ لأن هذه العبارة لو قيلت لولي من أولياء الله ما ترتب عليها الكفر، وفي الجزء الأول من (مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر) ويكفر بقوله: لا أعلم أن آدم عليه الصلاة والسلام نبي أم لا. وحيث إن المنصوص عليه شرعًا أن المرتد عن دين الإسلام ينفسخ نكاحه في الحال ويفرق بينه وبين زوجته وحيث إن الشيخ محمد أبو زيد قد نطق بما يوجب الردة لإنكاره نبوة ورسالة آدم عليه السلام , وإن هذه عقيدته كما أقر بذلك، وبذا ارتد عن دين الإسلام , وانفسخ نكاحه بزوجته فلانة , فوجب التفريق. (لهذا) فرقنا بين الشيخ محمد أبو زيد المذكور، وزوجته. (المنار) هذا نص الحكم كما وصل إلينا، وهو على ما فيه من خطأ في العبارة ظاهر البطلان بعدم انطباقه على الدعوى من جهة الصورة، وبعدم صحة ما استدل به القاضي - فأما الأول: فإن الشيخ أبا زيد قد صرح بأن نبوة آدم ورسالته ثابتتان بالأدلة الظنية، وهذا ليس إنكارًا لها كما زعم القاضي, وإلا كان القاضي نفسه منكرًا لمعظم أحكام الشريعة التي يحكم بها بين الناس في مسائل الأبضاع والأموال، والكفر والإيمان، فإن معظمها ظني بغير نزاع، وقد صرحوا في العقائد النسفية وشروحها أن الأدلة الظنية كافية في العقائد، وأما الثاني: فهو أن الردة إنما تكون بجحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وهو ما لا يخفى على أحد من عوام المسلمين وخواصهم, ونبوة آدم ورسالته ليست كذلك، فما نقله عن الفتاوى الهندية في التكفير بها غير صحيح، وقد قصر القاضي فيما يجب عليه من كشف شبهة المدعى عليه ومن استتابته. *** إلغاء الحكم في قضية سيدنا آدم بحكم محكمة الاستئناف الشرعية الصادر في أول ديسمبر سنة 1918 منقول عن جريدة وادي النيل عرضت قضية سيدنا آدم المعروفة على محكمة الإسكندرية الكلية الشرعية أمس برئاسة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى سلطان , وكان الزحام شديدًا جدًّا، وقد حضر الجلسة جمهور كبير من المحامين الأهليين والشرعيين والعلماء، وكان المدعى عليه الشيخ محمد أبو زيد حاضرًا ومعه اثنان من المحامين، وكان المدعي الشيخ محمد صالح الزواوي حاضرًا ومعه محامياه. وبعد استكمال الإجراءات النظامية سمعت المحكمة كلام المحامين، ثم سألت المدعى عليه: تريد المحكمة أن تتبين رأيك في نبوة آدم. - إن نفسي مطمئنة إلى أنه نبي, ونظري في النصوص هو الذي اطمأنت به نفسي. - قلتَ في مذكرتك في الصفحة التاسعة: (فما بال هؤلاء يطلبون حكمًا شرعيًّا من قاضٍ مسلم يعتقد أن نبوة آدم ورسالته ليستا من العقائد في شيء؟) - إنهما ليستا من العقائد التي تثبت بالنص القطعي، وهذا تعريف أصولي اتبعته في جهات من المذكرة [1] . - جاء في المذكرة ما يدل على أنك ترى الأدلة ظنيةً. - إن كلامي لا ينافي اعتقاد النبوة، فإنه لا مانع من أن آخذ من الأدلة الظنية شيئًا ترتاح به نفسي ويطمئن إليه ضميري، وإن أدلة نبوة آدم عليه السلام، وإن كانت ظنيةً في اصطلاح الأصوليين، فإني مرتاح إليها، وليس هناك خلاف بين ما أقوله الآن، وما قلته فيما مضى. وبعد هذا أخذ فضيلة الرئيس يفيض في نصائحه، وكان الأسف والحزن آخذين من نفسه فقال: أخجلتمونا أمام الناس أعظم خجل، فالإفرنج مشتغلون بما يفيدهم، وأنتم مشغولون بما لا يفيد، ألستم ترون الكسل والكذب اللذين يتفشيان في الأخلاق حتى كادا يقتلانا؟ أفما كان الأولى أن نعالج هذين الدائين وغيرهما من الأدواء المنتشرة بيننا؟ لقد كان الأولى أن يكتب القلم الذي كتبت به هذه المذكرة فيما ينفع الأمة فيقول لها: اتحدو، لا تحاسدوا، لا تتباغضوا, اعملوا كما يعمل غيركم، اطلبوا العيش بعزة النفس، لا بالمذلة للأمراء وغير الأمراء، نرجو يا رجال الدين أن تعالجوا الأدواء المنتشرة بين المسلمين. وبعد أن فرغ من هذه النصائح الثمينة استحلف رجال الدين أن ينبذوا الشقاق وصغائر الأمور، وقال: إنني أعرف الآن أنكم حزبان أتيا ليسمعا ما نقضي به في هذه القضية، فأرجو أن تخرجوا متحدين، ثم قامت المحكمة للمداولة، ثم عادت فأصدرت الحكم، وهذا نصه: بعد سماع أقوال الخصوم والاطلاع على ملف القضية الابتدائية، وبعد المداولة، وللأسباب التي هي: - استئناف حاز شكله القانوني فهو مقبول. - المقرر شرعًا أن الكفر هو تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء مما علم مجيئه به من الدين علمًا ضروريًّا بحيث يستوي فيه الخاصة والعامة، كالتوحيد وأركان الإسلام , وألحقوا به كفر العناد , أو ما يدل على الاستخفاف لتضمن ذلك معنى الجحود. - نبوة آدم، وإن دل عليها الكتاب والسنة واتفق عليها العلماء، ولم يعرف بينهم خلاف فيها , فإنكارها بأي شكل كان ضلال ومخالفة لما عليه المسلمون، إلا أنها ليست من ضروريات الدين بحيث يعرفها الكافة، كالصلاة والصوم، بل هي من الأمور النظرية , والقول بأنها معلومة من الدين بالضرورة دعوة غير مقبولة. - منكر شيء من الأمور النظرية مستندًا إلى شبهة - ولو غير صحيحة - لا يُحكم عليه شرعًا بالكفر على ما هو الحق الذي يجب العمل به في مذهب الحنفية، ذلك لأن الكفر نهاية في العقوبة، فلا يكون إلا عن نهاية الجناية، وذلك بإنكار الثابت بالنص القطعي الخالي من الشبهة والاحتمال من الكتاب والسنة المتواترة , أو الإجماع القولي الثابت تواترًا، ولذلك قالوا: لا يُفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن، أو كان في عدم كفره رواية ضعيفة ولو في مذهب غيرهم، وأجازوا مع الكراهة إمامة أهل البدع في الصلاة، وهم ممن يعتقدون خلاف المعروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا معاندة، بل بنوع شبهة إن كانت فاسدةً حتى الخوارج الذين يستحلون دماء وأموال مخالفيهم من المسلمين , أو ينكرون صفات الله، وقالوا: لا نكفر أهل البدع ببدعتهم لكونها من تأويل وشبهة وللنهي عن تكفير أهل القبلة والإجماع على قبول شهادتهم، وذلك ما لم ينكر أحد منهم شيئًا من المعلوم ضرورة. وفي الفتاوى الصغرى: (الكفر شيء عظيم) وفي جامع الفصولين: (لا يُخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، وما يشك في أنه ردة لا يحكم بها؛ إذ الإسلام الثابت لا يزول بالشك، إن الإسلام يعلو) وقال صاحب نور العين: إن المسائل الإجماعية تارةً يصحبها التواتر كوجوب الخمس، وقد لا يصحبها إلا بكفر جاحدها (؟) لمخالفته التواتر لا الإجماع (ثم نقل أنه) إذا لم تكن الآية أو الخبر المتواتر قطعي الدلالة , أو لم يكن الخبر متواترًا , أو كان قطعيًّا ولكن فيه شبهة , أو لم يكن إجماع الجميع , أو كان ولم يكن إجماع جميع الصحابة , أو لم يكن قطعيًّا بأن لم يثبت بطريق التواتر , أو كان قطعيًّا لكن كان إجماعًا سكوتيًّا - ففي كل هذه الصور لا يكون الجحود كفرًا. ومن كل هذا ترى العلماء - رضوان الله عليهم - قد احتاطوا نهاية الاحتياط في عدم تكفير المسلمين. ما ورد من الآيات والأحاديث في نبوة آدم عليه السلام، وكذا الإجماع عليها، كل ذلك لم تتوفر فيه تلك القيود، وهذا ما يجب التعويل عليه دون ما عداه، وعليه يكون حكم محكمة أول درجة في غير محله، ويتعين إلغاؤه. وكيل المستأنف قال: إنه مكتف بالأدلة الموجودة بمحضر القضية الابتدائية , وهي أدلة غير منتجة للدعوى خصوصًا وقد قرر المستأنف عليه اليوم أنه يعتقد تمام الاعتقاد بنبوة آدم عليه السلام. لهذا، تقرر قبول هذا الاستئناف شكلاً، وفي الموضوع بإلغاء ما حكمت به محكمة أول درجة، ورفض دعوى المدعي) اهـ. (المنار) هذا الحكم هو الحق وما ذكره القاضي الفاضل في أثناء كلامه

حجم المنار والجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجم المنار والجزء الأول من المجلد الحادي والعشرين بدأنا بهذا الجزء في ربيع الأول، واضطررنا إلى تأخيره زهاء شهرين، وقد زدنا فيه كراستين على ما قبله ونرجو أن نزيد فيما يصدر بعد الجزء الثالث إذا ورد ورق جديد على مصر في هذه المدة، وأن يصدر مطردًا بلا انقطاع، وقد أخرنا المقالة الرابعة من مقالات (المتفرنجون والإصلاح الإسلامي) ولعلها تنشر في الجزء التالي له مع ترجمة (باحثة البادية) وتأبينها وشيء من تقريظ المطبوعات الحديثة.

المتفرنجون والإصلاح الإسلامي ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المتفرنجون والإصلاح الإسلامي [*] (4) قد بينا في المقالة الثانية رأي أحمد صفوت أفندي [1] في الكتاب والسنة والإجماع والقياس من أصول الشريعة , وتكلمنا في المقالة الثالثة على أصلي الإجماع والقياس، وأرجأنا الكلام على الأصلين الأولين بالتفصيل إلى هذه المقالة فنقول: أحكام السنة ملخص ما نقلناه من خطبة الرجل في أحكام السنة (ص407 م20) أنها قسمان: خاص: وهو ما كان من قبيل أحكام المحاكم في القضايا الفردية , وعام: وهو ما كان من قبيل القواعد والقوانين لزمنه صلى الله عليه وسلم، وزعم أن كلاًّ من القسمين قد ثبت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصفته حاكم الأمة وقاضيها , أي: لا بكونه رسول الله - تعالى - والمبلغ عنه، وأن لكل حاكم يجيء بعده حق الحكم والتشريع الذي كان له في الأحكام المدنية، وله أن يغير ويلغي من تلك الأحكام ما يرى مصلحة الناس في تغييره وإلغائه. ونقول: إن هذا الذي قرره مخالف لما جرى عليه المسلمون منذ ظهر الإسلام إلى هذا اليوم، فهو مشاقة للرسول واتباع لغير سبيل المؤمنين، وخروج عن إجماعهم الحقيقي، لا العرفي عند الأصوليين فقط، ولكنه يقرره بصفته مسلمًا كما قال، وقد علم مما بيناه في المقالة الثالثة مكانه من الإسلام. أما المسلمون فهم متفقون على أن الحكم لله وحده {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (الأنعام: 57) وأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عن الله تعالى، وأُمر أن يحكم بين الناس بما أراه الله فيما أنزل الله من الكتاب والميزان، والمراد بالميزان: العدل والقسط، والموازنة بين أحكام النصوص في القياس والرأي، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: 48) الآية، وقال: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} (الشورى: 17) وقال عز وجل: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25) وقال تبارك اسمه: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقد أمر الله المؤمنين بما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وقال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) أي: ولا يكسبنكم بغض قوم وعداوتهم لكم أو بغضكم لهم، جريمة ترك العدل فيهم، بل يجب أن تعدلوا فيمن تبغضون ومن يعاديكم، كما يجب أن تعدلوا فيمن يحبكم وفيمن توالون على سواء، فالعدل واجب لذاته لا يختلف باختلاف من يحكم بينهم ومن يعاملون. قلنا: إن المسلمين اتفقوا على أن الحكم لله وحده , أي: هو له لذاته؛ لأنه هو رب العباد الذي يعلم ما فيه الخير والمصلحة لهم، والذي يجب عليهم الخضوع والانقياد له، ولهم العز والشرف في ذلك، وليس لبشر أن يعلو على جماعة البشر، فيكون سيدًا مسيطرًا عليهم بقوته أو عصبيته رضوا أم سخطوا؛ لأن هذا ذل وعبودية لا تجب عليهم إلا لربهم وخالقهم، ولذلك جعل الله الرسل معلمين هادين، لا جبارين ولا مسيطرين. وقد اختلف العلماء في أحكام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: هل كانت كلها بوحي من الله، أم كان بعضها بالاجتهاد والقياس؟ وهل أذن الله له أن يحكم برأيه فيما لم يُوحَ إليه فيه شيء لا بالنص ولا بالاقتضاء أم لا؟ وقد جعل الله تعالى أمر المؤمنين شورى بينهم، حتى إنه أمر الرسول نفسه بمشاورتهم في الأمر، وإنما أوجب عليهم طاعة أولي الأمر منهم بالتبع لطاعة الله ورسوله، فلا يطاع أحد منهم في معصيته و (إنما الطاعة بالمعروف) كما ثبت في الحديث الصحيح [2] ، بل قال تعالى في آية المبايعة للرسول: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12) وبهذا يعلم الفرق بين طاعة الرسول وطاعة غيره من أولي الأمر، وقد فصلنا ذلك في تفسير {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) [3] فما قرره أحمد أفندي صفوت من مساواة الرسول صلى الله عليه وسلم بغيره من الملوك والسلاطين في التشريع - باطل مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين , وكذا للمعقول، فطاعة الرسول من أصول الإيمان، واستحلال مخالفته والقول بنسخ آحاد الحكام لأحكامه وشرعه، كفر صريح، بل يشترط في صحة الإيمان الإذعان لحكمه والرضا به ظاهرًا وباطنًا {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) [4] . هذا وإننا نرى هؤلاء المتفرنجين يقتدون بأئمتهم الإفرنج في كل شيء ضار، ولا يقتدون بهم في احترام سلفهم من رجال القانون والمشترعين ورؤساء الحكام , وناهيك بالإنكليز والأمريكان منهم، فإنهم لا يزالون يحافظون على أقوال سلفهم، وحكامهم ما لم يضطروا إلى تركها اضطرارًا، ومن ذلك ما يطرق مسامعنا كثيرًا في هذه الأيام من تكرار مذهب (منرو) واستمساك أهل الولايات المتحدة بعروته حتى إن منهم من يقاوم به مشروع جمعية الأمم الذي هو أشرف مشروع يعلو به قدر أمتهم ورئيسهم إذا هو نجح في تنفيذه، وإلا كان الأمر بالعكس أو الضد. وتراهم مع هذا يقولون: إنه يجب الوقوف به عند حد مذهب (منرو) الذي من مقتضاه: عدم تدخل حكومتهم في شؤون العالم القديم في مقابلة عدم السماح بالتعرض لشؤون العالم الجديد تحقيقًا لقول (منرو) (أمريكا للأمريكيين) أفليس كل من يوصف بالإسلام أجدر بالاستمساك بأقوال نبيه من استمساك هؤلاء الناس بمن لا يساوي قلامة ظفره من زعمائهم؟ أما إنه كان ينبغي ذلك المنسوب إلى دينه أو قومه , وإن لم يكن مؤمنًا به! إلا أنهم جهلوا الدين وفوائده الروحية والدنيوية، فأرادوا التفلت منه مع البقاء على الاستفادة من الانتساب إليه، على ما تقدم بيانه في المقالة الأولى. وقد وقع في بعض ما نقلناه في المقالة الثانية من كلام أحمد صفوت أفندي: أن الخروج عن السنة لمصلحة لا ينافي طاعة الرسول التي فرضها الله تعالى على المؤمنين. وفيه أن دعوى الخروج للمصلحة يتوقف على معرفة السنة وجعلها هي الأصل المتبع بعد كتاب الله تعالى , وعدم الخروج عن شيء منها إلا بعد أن يثبت لأهل الحل والعقد من المؤمنين في بعض المسائل أنه عرض من أحوال العصر ما يجعل العمل بالسنة في تلك المسألة مُخلاًّ بالمصلحة العامة , ومفضيًا إلى مفسدة راجحة , أو حرج وعسر مما رفعه نص الكتاب العزيز بحيث يظهر لأهل الحل والعقد أن ترك السنة - والحالة هذه - منطبق على القواعد الشرعية المقررة في إباحة الضرورات للمحظورات وتقديرها بقدرها , وارتكاب أخف الضررين إذا كان لا بد من أحدهما، ولكننا نرى هؤلاء المتفرنجين لا يدرسون شيئًا من كتب السنة ألبتة، بل يقبلون ما يخالفها من المفاسد ويدْعون إليه , وينسخون به سننًا كثيرةً ونصوصًا في كتاب الله صريحةً , كقاعدة الحرية الشخصية التي كررنا ذكرها في المقالات السابقة من جهة إباحتها للزنا واستحسانه وإبطال أحكام شرعية كثيرة لأجله. على أنه قال بعد ذلك عند الكلام على الكتاب: إن ما زاد عليه من سنة أو إجماع، فحكمه الجواز: إن شاء قام به الفرد، وإن لم ير مصلحةً في ذلك فله العدول عنه. فجعل السنة وإجماع الأمة، كآراء أفراد الناس وأقوالهم، وإن كانوا من الجهال والأنذال. فإن الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من حيث وجدها، فهل وجدت أمة من أمم الأرض تجعل أحكام أنبيائها وحكم حكمائها وإجماع علمائها وحكامها وزعمائها - كآراء تحوت الناس وغوغائهم يتبع كل فرد فيها رأيه وهواه، فإن رأى مصلحةً له في شيء منها كان له أن يأخذ به، وإن لم ير له فيه مصلحةً رده؟ أما إنه لو رزئ البشر بمثل هذا الرأي الأفين من أول نشأتهم لكانوا أدنى منزلة من جميع أنواع الحيوان، ولم يتكون منهم قبيلة ولا شعب ولا أمة؛ لأن الشعوب والأمم إنما تتكون بما يفعل ماضيها في مستقبلها، وسنة الارتقاء فيها أن يبني الخلف على أساس السلف , فيحفظوا من الماضي أمثل ما اهتدى إليه العلماء والفضلاء , ويزيدوا عليه ما يزيد مقومات الأمة ومشخصاتها قوةً وتمكينًا. القرآن أصل الأصول للشريعة جعل أحمد صفوت أفندي أحكام القرآن المجيد ثلاثة أقسام: المحرم , والواجب , والجائز. وقال: إن حكم الأول: أن لا يُتَعَرض له ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه، ومثَّل له بتحريم نكاح الأم والأخت والجمع بين خمسة أزواج، وحُكم الثاني: أن يبقى منه ما تتحقق به الحكمة المقصودة منه، ومثل له بإيفاء العدة والإشهاد على الزواج، وحكم الثالث: أن الإنسان مخير فيه، وأن لكل حكومة أن تحرم منه بالقوانين الوضعية ما تشاء، ومثَّل له بتعدد الزوجات. أما كلامه في حكم الأول - وهو ما حرمه الله في كتابه - فمجمل غامض؛ فإن قوله: (ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه) يجعله كالقسم الثاني؛ لأن مرمى الشيء هو الغرض الذي يقصد به , وهو عين حكمته، وإذا كان المراد مراعاة حكمته دون نصه لا يبقى معنى لقوله: لا يتعرض له، وقد حرم الكتاب الربا والزنا وجعل للزنا عقابًا بقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (النور: 2) الآية، فهل يجعل هذا العقاب على فعل الزنا نفسه , أم على مرمى تحريمه والغرض الذي حُرم لأجله؟ وما هو ذلك المرمى؟ هل لكل أحد من أفراد الناس أو من رؤساء الحكام أن يعين ذلك المرمى ويعلق الحكم به؟ فإذا فهم أحد الأفراد أن الغرض من تحريم الزنا ما يترتب عليه من ضرر اختلاط الأنساب, أو التعادي بين الناس , أو قلة النسل , أو حدوث بعض الأمراض - فهل له أن يستبيح منه ما يأمن هو ذلك الضرر فيه؟ وإذا اعترف بعض الناس للقاضي المسلم بالزنا فهل يوقف إقامة الحد عليه حتى يعلم أن زناه قد ترتب عليه مرمى التحريم؟ وما يقال في الزنا يقال في محرمات النكاح، كالأم والبنت والأخت، فقد يدّعي أفراد المكلفين أو القضاة أن لذلك غرضًا ومرمى هو الذي تمتنع مخالفته , وأن التحريم يزول بزواله، وعند ذلك يمكن استباحة جميع ما حرمه الله تعالى لمن شاء. وأما حكم الثاني - وهو ما أوجبه الله تعالى في كتابه - فقد بين المراد من بقاء ما تحقق به الحكمة المقصودة منه بالمثلين اللذين ذكرهما، وهو أن حكمة العدة براءة الرحم من الحمل , وحكمة الإشهاد على الزواج إعلانه، قال: (فلا حرج في أن نصل إلى الغرض المقصود من أفيد الطرق وأخصرها) وعَدَّ جعل عقد الزواج رسميًّا مغنيًا عن الإشهاد، ومرور أ

انتشار الإسلام بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ

الكاتب: محمد عبده

_ انتشار الإسلام بسرعة لم يُعهد لها نظير في التاريخ هذا فصل من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام - أكرم الله مثواه - قال: كانت حاجة الأمم إلى الإصلاح عامةً، فجعل الله رسالة خاتم النبيين عامةً كذلك، لكن يدهش عقل الناظر في أحوال البشر عندما يرى أن هذا الدين يجمع إليه الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها في أقل من ثلاثين سنة، ثم يتناول من بقية الأمم ما بين المحيط الغربي وجدار الصين في أقل من قرن واحد، وهو أمر لم يعهد في تاريخ الأديان، ولذلك ضل الكثير في بيان السبب، واهتدى إليه المنصفون، فبطل العجب. ابتدأ هذا الدين بالدعوة كغيره من الأديان، ولقي من أعداء أنفسهم أشد ما يلقى حق من باطل، أوذي الداعي صلى الله عليه وسلم بضروب الإيذاء، وأقيم في وجهه ما كان يصعب تذليله من العقاب لولا عناية الله، وعذب المستجيبون له وحرموا الرزق، وطردوا من الدار، وسفكت منهم دماء غزيرة، غير أن تلك الدماء كانت عيون العزائم تتفجر من صخور الصبر، يثبت الله بمشهدها المستيقنين، ويقذف بها الرعب في أنفس المرتابين، فكانت تسيل لمنظرها نفوس أهل الريب، وهي ذوب ما فسد من طباعهم، فتجري من مناحرهم جري الدم الفاسد من المفصود على أيدي الأطباء الحاذقين في جهنم {لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ} (الأنفال: 37) . تألبت الملل المختلفة ممن كان يسكن جزيرة العرب وما جاورها على الإسلام؛ ليحصدوا نبتته، ويخنقوا دعوته، فما زال يدافع عن نفسه دفاع الضعيف للأقوياء , والفقير للأغنياء , ولا ناصر له إلا أنه الحق بين الأباطيل والرشد في ظلمات الأضاليل، حتى ظفر بالعزة وتعزز بالمنعة، وقد وطئ أهل الجزيرة أقوام من أديان كانت تدعو إليها، وكانت لهم ملوك وعزة وسلطان , وحملوا الناس على عقائدهم بأنواع من المكاره , ومع ذلك لم يبلغ بهم السعي نجاحًا، ولا أنالهم القهر فلاحًا. ضم الإسلام سكان القفار العربية إلى وحدة لم يعرفها تاريخهم، ولم يعهد لها نظير في ماضيهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أبلغ رسالته بأمر ربه إلى من جاور البلاد العربية من ملوك الفرس والرومان، فهزأوا وامتنعوا وناصبوه وقومه الشر، وأخافوا السابلة وضيقوا على المتاجر، فغزاهم بنفسه وبعث إليهم البعوث في حياته، وجرى على سنته الأئمة من صحابته، طلبًا للأمن وإبلاغًا للدعوة، فاندفعوا في ضعفهم وفقرهم يحملون الحق على أيديهم وانهالوا به على تلك الأمم في قوتها ومنعتها وكثرة عددها واستكمال أهبتها وعددها، فظفروا منها بما هو معلوم، وكانوا متى وضعت الحرب أوزارها واستقر السلطان للفاتح عطفوا على المغلوبين بالرفق واللين، وأباحوا لهم البقاء على أديانهم وإقامة شعائرها آمنين مطمئنين، ونشروا حمايتهم عليهم يمنعونهم مما يمنعون منه أهلهم وأموالهم، وفرضوا عليهم كفاء ذلك جزءًا قليلاً من مكاسبهم على شرائط معينة. كانت الملوك من غير المسلمين إذا فتحوا مملكةً أتبعوا جيشها الظافر بجيش من الدعاة إلى دينها، يلجون على الناس بيوتهم , ويغْشون مجالسهم ليحملوهم على دين الظافر، وبرهانهم الغلبة وحجتهم القوة، ولم يقع ذلك لفاتح من المسلمين، ولم يعهد في تاريخ فتوح الإسلام أن كان له دعاة معروفون لهم وظيفة ممتازة يأخذون على أنفسهم العمل في نشره، ويقفون مسعاهم على بث عقائده بين غير المسلمين، بل كان المسلمون يكتفون بمخالطة من عداهم ومجاهدتهم في المعاملة , وشهد العالم بأسره أن الإسلام كان يعد مجاملةً المغلوبين فضلاً وإحسانًا عندما كان يعدها الأوربيون ضعةً وضعفًا. رفع الإسلام ما ثقل من الإتاوات، ورد الأموال المسلوبة إلى أربابها، وانتزع الحقوق من مغتصبيها، ووضع المساواة في الحق عند التقاضي بين المسلم وغير المسلم، بلغ أمر المسلمين فيما بعد أن لا يقبل إسلام مِن داخلٍ فيه إلا بين يدي قاضٍ شرعي بإقرار من المسلم الجديد أنه أسلم بلا إكراه ولا رغبة في دنيا. وصل الأمر في عهد بعض الخلفاء الأمويين أن كَرِه عمالهم دخول الناس في دين الإسلام لما رأوا أنه ينقص من مبالغ الجزية، وكان في حال أولئك العمال صد عن سبيل الدين لا محالة، ولذلك أمر عمر بن عبد العزيز بتعزير مثل أولئك العمال [1] . عرف خلفاء المسلمين وملوكهم في كل زمان ما لبعض أهل الكتاب، بل وغيرهم من المهارة في كثير من الأعمال، فاستخدموهم وصعدوا بهم إلى أعلى المناصب حتى كان منهم من تولى قيادة الجيش في أسبانيا. اشتهرت حرية الأديان في بلاد الإسلام حتى هجر اليهود أوربا فرارًا منها بدينهم إلى بلاد الأندلس وغيرها. هذا ما كان من أمر المسلمين في معاملتهم لمن أظلوهم بسيوفهم، لم يفعلوا شيئًا سوى أنهم حملوا إلى أولئك الأقوام كتاب الله وشريعته، وألقوا بذلك بين أيديهم وتركوا الخيار لهم في القبول وعدمه، ولم يقوموا بينهم بدعوة، ولم يستعملوا لإكراههم عليه شيئًا من القوة، وما كان من الجزية لم يكن مما يثقل أداؤه على من ضربت عليه، فما الذي أقبل بأهل الأديان المختلفة على الإسلام، وأقنعهم أنه الحق دون ما كان لديهم حتى دخلوا فيه أفواجًا، وبذلوا في خدمته ما لم يبذله له العرب أنفسهم؟ . ظهور الإسلام على ما كان في جزيرة العرب من ضروب العبادات الوثنية، وتغلبه على ما كان فيها من رذائل الأخلاق وقبائح الأعمال، وسَيره بسكانها على الجادة القويمة - حقق لقراء الكتب الإلهية السابقة أن ذلك هو وعد الله لنبيه إبراهيم , وإسماعيل وتحقيق استجابة دعاء الخليل {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} (البقرة: 129) وأن هذا الدين هو ما كانت تبشر به الأنبياءُ أقوامَها مِن بعدهم، فلم يجد أهل النصفة منهم سبيلاً إلى البقاء على العناد في مجاحدته، فتلقوه شاكرين وتركوا ما كان لهم بين قومهم صاغرين، أوقع ذلك من الريب في قلوب مقلديهم ما حركهم إلى النظر فيه، فوجدوا لطفًا ورحمةً وخيرًا ونعمةً، لا عقيدة ينفر منها العقل - وهو رائد الإيمان الصادق - ولا عمل تضعف عن احتماله الطبيعة البشرية، وهي القاضية في قبول المصالح والمرافق، رأوا أن الإسلام يرفع النفوس بشعور من (اللاهوت) يكاد يعلو بها عن العلم السلفي ويلحقها بالملكوت الأعلى ويدعوها إلى إحياء ذلك الشعور بخمس صلوات في اليوم، وهو مع ذلك لا يمنع من التمتع بالطيبات، ولا يفرض من الرياضات وضروب الزهادة ما يشق على الفطرة البشرية تجشمه، ويَعِد برضا الله ونيل ثوابه حتى في توفية البدن حقه، متى حسنت النية وخلصت السريرة، فإذا نزت شهوة أو غلب هوى كان الغفران الإلهي ينتظره متى حصلت التوبة وكملت الأوبة. تبدت لهم سذاجة الدين عندما قرأوا القرآن ونظروا في سيرة الطاهرين من حامليه إليهم، وظهر لهم الفرق بين ما لا سبيل إلى فهمه، وما تكفي جولة نظر في الوصول إلى علمه [*] فتراموا إليه خفافًا من ثقل ما كانوا عليه. كانت الأمم تطلب عقلاً في دين فوافاها، وتتطلع إلى عدل في إيمان فأتاها، فما الذي يحجم بها عن المسارعة إلى طلبتها والمبادرة إلى رغيبتها؟ كانت الشعوب تئن من ضروب الامتياز التي رفعت بعض الطبقات على بعض بغير حق، وكان من حكمها أن لا يقام وزن لشؤون الأدنين، متى عرضت دونها شهوات الأعلين، فجاء دين يحدد الحقوق ويسوي بين جميع الطبقات في احترام النفس والدين والعِرض والمال، ويسوغ لامرأة فقيرة غير مسلمة أن تأبى بيع بيت صغير بأية قيمة لأمير عظيم مطلق السلطان في قطر كبير، وما كان يريده لنفسه، ولكن ليوسع به مسجدًا، فلما عقد العزيمة على أخذه مع دفع أضعاف قيمته رفعت الشكوى إلى الخليفة، فورد أمره برد بيتها إليها مع لوم الأمير على ما كان منه ‍!! عدل يسمح ليهودي أن يخاصم مثل علي بن أبي طالب أمام القاضي، وهو من نعلم من هو، ويستوقفه معه للتقاضي إلى أن قضى الحق بينهما، هذا وما سبق بيانه مما جاء به الإسلام هو الذي حببه إلى من كانوا أعداءه، ورد إليه أهواءهم حتى صاروا أنصاره وأولياءه. غلب على المسلمين في كل زمن روح الإسلام، فكان من خلقهم العطف على من جاورهم من غيرهم، ولم تستشعر قلوبهم عداوةً لمن خالفهم إلا بعد أن يحرجهم الجار، فهم كانوا يتعلمونها ممن سواهم، ثم لا يكون إلا طائفًا يحل ثم يرتحل، فإذا انقطعت أسباب الشغب تراجعت القلوب إلى سابق ما ألفته من اللين والمياسرة، ومع ذلك - بل وغفلة المسلمين عن الإسلام , وخذلانهم له وسعي الكثير منهم في هدمه بعلم وبغير علم - لم يقف الإسلام في انتشاره عند حد، خصوصًا في الصين وفي أفريقيا، ولم يخل زمن من رؤية جموع كثيرة من ملل مختلفة تنزع إلى الأخذ بعقائده على بصيرة فيما تنزع إليه، لا سيف وراءها ولا داعي، وإنما هو مجرد الاطلاع على ما أُودِعه، مع قليل من حركة الفكر في العلم بما شرعه، ومن هذا تعلم أن سرعة انتشار الدين الإسلامي وإقبال الناس على الاعتقاد به من كل ملة، إنما كان لسهولة تعقله ويسر أحكامه وعدالة شريعته، وبالجملة لأن فطر البشر تطلب دينًا وترتاد منه ما هو أمس بمصالحها وأقرب إلى قلوبها ومشاعرها، وأدعى إلى الطمأنينة في الدنيا والآخرة، ودين هذا شأنه يجد إلى القلوب منفذًا وإلى العقول مَخلَصًا بدون حاجة إلى دعاة ينفقون الأموال الكثيرة والأوقات الطويلة ويستكثرون من الوسائل ونصب الحبائل لإسقاط النفوس فيه، هذا كان حال الإسلام في سذاجته الأولى وطهارته التي أنشأه الله عليها، ولا يزال على جانب عظيم منها في بعض أطراف الأرض إلى اليوم. قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه: إن الإسلام لم يعطف على قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف، فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى اليدين والسيف بالأخرى، يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل السيف بينه وبين حياته، سبحانك هذا بهتان عظيم! ما قدمناه من معاملة المسلمين مع من دخلوا تحت سلطانهم هو ما تواترت به الأخبار تواترًا صحيحًا لا يقبل الريبة في جملته، وإن وقع اختلاف في تفصيله، وإنما شهر المسلمون سيوفهم دفاعًا عن أنفسهم، وكفًّا للعداون عنهم، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك ولم يكن من المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم، فكان الحوار طريق العلم بالإسلام، وكانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه. لو كان السيف ينشر دينًا فقد عمل في الرقاب للإكراه على الدين والإلزام به مهددًا كل أمة لم تقبله بالإبادة والمحو من سطح البسيطة، مع كثرة الجيوش ووفرة العدد وبلوغ القوة أسمى درجة كانت تمكن لها، وابتدأ ذلك العمل قبل ظهور الإسلام بثلاثة قرون كاملة , واستمر في شدته بعد مجيء الإسلام سبعة أجيال أو يزيد، فتلك عشرة قرون كاملة لم يبلغ فيها السيف من كسب عقائد البشر مبلغ الإسلام في أقل من قرن، هذا ولم يكن السيف وحده، بل كان الحسام لا يتقدم خطوة إلا والدعاة من خلفه، يقولون ما يشاءون تحت حمايته، مع غيرة تفيض من الأفئدة، وفصاحة تتدفق عن الألسنة, وأموال تخلب ألباب المستضعفين، إن في ذلك لآيات للمستيقنين. جلت حكمة الله في أمر هذا الدين ‍! سلسبيل حياة نَبَعَ في القفار العربية، أبعد بلاد الله عن المدنية، فاض حتى شملها فأ

مستقبل سورية وسائر البلاد العربية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مستقبل سورية وسائر البلاد العربية [*] (5) خطب مؤسسي اتفاق سنتي 1916 و1917 خطبة مسيو بيكو في دمشق ألقى موسيو بيكو معتمد فرنسا السامي في سورية هذه الخطبة في حفلة أعدت له ولزميله السير مارك سيكس في النادي العربي بدمشق ونشرت جرائدها ترجمتها , فنقلها المقطم في عدد 23 ربيع الآخر- 25 يناير (ك2) الماضي عن (المقتبس) الدمشقية، وهذا نصها: أيها السادة لم أكن أنتظر بعد أن قضيت أيامًا عديدةً وساعات كثيرةً في السفر على متن القطارات والسيارات أن أصل إلى دمشق فأشهد هذه الحفلة الجميلة التي ضمت خير الرجال والشبان، بيْد أني لم أستغرب هذا الأمر من صديقي السير مارك سايكس الذي عودني أن يفاجئني بهكذا حفلات مستغنمًا هذه الفرصة التي سنحت لأهنئ الحكومة العربية بما نالته من الاستقلال الذي جاهدت الأمة العربية وقاتلت في سبيله. انضمت الحكومة العربية إلى الحلفاء زمن الحرب وقاتلت معهم لكونها عرفت قدسية المبدأ الذي يقاتلون عنه، فهي بعملها هذا تستحق الشكر , وإنني باسم فرنسة أشكر الأمة العربية والحكومة العربية لجهادهما. انتهى دور الحرب , ودخلنا في دور جديد دور العمل والاجتهاد , ولا أظن أن الدور الجديد يقل في خطورة شأنه عن دور الحرب، خصوصًا وأن أعداءنا وأعداءكم لا يزالون موجودين، فلذلك يجب أن نكون متفقين متحدين. أخذت برقيةً بالأمس من فرنسة جاء فيها أن الأمير فيصل قابل المسيو كلمنصو مقابلةً طويلةً انتهت باتفاقهما على جميع المبادئ والآراء ولم يوجد بينهما أثر من آثار الاختلاف. اتحدنا زمن الحرب وعملنا معًا للوصول إلى النتيجة، فلذلك يجب أن لا يكون اتحادنا وقتيًّا , بل ثابتًا وطيدًا لتنال الأمة العربية ثمرة أتعابها وتقطع مع دول الحلفاء العقبات ويكون مبدأ تمدنها ورقيها. إننا نرى في الزمن الحاضر زمن المذاكرات الصلحية كثيرًا من الأعداء ونصادفهم أينما حللنا وذهبنا. إن هؤلاء الأعداء أتراك يعملون للمصلحة التركية ولقد شاهدناهم يعملون أعظم الأعمال في أوربة ضدي أنا والسير مارك سايكس. شاهدناهم في دار نظارة الخارجية يقولون للفرنسويين: لا تؤمنوا للعرب ولا تصدقوهم , ولا تنتظروا منهم أن يؤلفوا حكومةً , وسمعناهم يقولون للإنكليز: لا تتفقوا مع الفرنسويين ولا تمدوا يدكم إليهم , ولا تساعدوا العرب. فلذلك يجب أن نعرف هؤلاء الدساسين فيما يتكلمون به. قال أحد الخطباء: إننا الآن في دور جديد وعلينا واجبات جمة. لقد صدق أيها السادة فإن الأمم التي كافحت مع العرب للوصول إلى هذه النتيجة نتيجة الظفر القطعي , قد ولد فيها فكر جديد وشعور جديد لم يكونا لها من قبل، ذلك الشعور شعور الاستقلال والحرية للأمم. يجب أن تقاوموا كل من يخالف هذا المبدأ إن كان تاجرًا يعمل لرواج سلعته , أو صحافيًّا يشتغل لترويج صحيفته , وأن تُدكُّوا كل المصاعب والعقبات التي تحول دون اتفاق الشعوب العربية , أي: كل من ينطق بالعربية؛ لأن الأديان لا تكون مانعة للاتحاد , ولا تسمعوا للمفسدين الذين يحاولون تفريق وحدتكم وكلمتكم. إن فرنسا لم تخُض غِمار هذه الحرب لصد دعاية الألمان عن بلادها فقط، بل لتأييد مبدأ الحرية والاستقلال , ولنرى كل أمة تعيش متمتعةً بالاستقلال وأن يكون لها الحق باختيار طريقة الحكم الذي تريده. التحابُّ مطلوب , وخصوصًا بين الأمم التي حاربت جنبًا لجنب , وإن فرنسا لا تميل قط إلى الرجل الذي يأتيها ويقول لها: إني أحبك أكثر من وطني؛ لأنه منافق لا يعرف أن يحب , فنرده ونقول له: اذهب وحب وطنك أولاً. وإن أعظم سرور لفرنسا هو أن ترى الأمة العربية متحدةً متفقةً , والحكومة العربية مستقلةً , وإنها - أي: فرنسا - مستعدة لمساعدتها، وإذا كلفت أوربا فرنسا أن تساعد الحكومة العربية فهي مستعدة لإيفائها بإخلاص , ويسرنا أن نرى الحكومة والأمة العربية ناجحةً ناميةً بإذن الله اهـ. *** خطبة السير مارك سيكس في دمشق وألقى السير مارك سيكس خطبة في تلك الحفلة نفسها , وقد نقل المقطم ترجمتها في عدد 25 ربيع الآخر 27 يناير عن جريدة البلاغ البيروتية الغراء وهو: يا سعادة الحاكم , ويا حضرات المجتمعين: سأتكلم بصعوبة هذه الليلة، فقد سمعت أمرين أوقعاني في الاضطراب , فالأمر الأول: أنني سمعت أحد الخطباء يقص على حضراتكم تاريخ حياتي , ويظهر أنه حفظ شيئًا منه حتى خشيت أن يتكلم عن سيئاتي , ولكنني أقول بكل ارتياح: إن معلوماته كانت قاصرة من هذه الجهة، والأمر الذي أحرج مركزي ذكره أنني طفت البلاد العربية التي تبلغ مساحتها 7000 ميل ولا أقدر أن أخطبكم باللغة العربية، ووصفني خطيب آخر بالبطل الساكت وهذا الوصف جيد ومطابق جدًّا إذا كان موجهًا لقائد عسكري، ولا يكون مطابقًا إذا نعت به أحد السياسيين؛ لأن السياسي متكلم بالطبع. لا أفيد الشرق بهذا الكلام، وإنني أريد أن ألقي عليكم أمرًا هذه الليلة: إن يومكم هذا يوم مشهود؛ إذ سيُفتح فيه مؤتمر الصلح (على ما أظن) الذي ستقرر فيه أعمال مهمة , وتدبر فيه شؤون الكون لمدة قرنين. منذ أربع سنين والحرب العامة تبتلع كبار العالم ومشاهيرهم وإننا نخون عهد إخواننا الذين ذهبوا ضحيتها - ولا أظنهم يقلون عن 5 - 6ملايين- إذا لم نعمل بتؤدة , لا فرق عندي في المحلات والأماكن التي لقوا بها حتفهم فالنتيجة واحدة وهي مفارقتهم هذا العالم سواء قضى الفرنسوي بفرنسا , أو قضى البريطاني في فلندر أو في العراق أو في هذه البلاد بلادكم، أو قضى ذلك البحري الذي كان يقطع أجواز البحار وهو أعزل من السلاح يحمل الميرة إلى المحاربين في أنحاء المعمورة، في البر أو البحر، أو من رجالكم الذين جاهدوا في سبيلكم، أو كانوا من النساء والأولاد الذين أخرجوا من ديارهم في المدينة المنورة وأرمينية , وقتلوا في الصحراء. فإن كل واحد من هؤلاء مات بسبب واحد ولغاية واحدة، وعلينا أن نعتقد أن هؤلاء الأبرياء لم يكونوا سوى ضحية القصد الذي ماتوا في سبيله وهو أن الشعوب المظلومة أيامها , وأن العالم ينال سلامًا عامًا دائمًا، تلك هي الغاية العظمى التي ماتوا لأجلها، ولنأت الآن إلى تشريح أقسام هذه الغاية، ومنها ما هو أمامنا. هذه مدينتكم دمشق التي كانت مطلع التمدن في الزمن الماضي أصبحت متأخرةً خربةً، وبعبارة أخرى متقهقرةً، وهذا المكان ربما كان ملك أحد أولئك الأقوام الذين ضحوا بأنفسهم، وإذا نظرنا إلى هذه البلاد نظرةً عامةً لا نرى سوى خرائب , ونشاهد آثار الحكم الجائر خلال 400 سنة تحكم فيها الأتراك، وإذا أمعنا النظر أكثر من ذلك نجد شيئًا آخر لم يتمكن التركي نفسه من تخريبه. إن هذا الميل الطبيعي إلى الاتجار والاستثمار الذي بنى تدمر , والشجاعة والحكمة اللتين اتصف بهما العرب، وتلك الصفات صفات الشجاعة والإقدام التي كانت ملازمة لخالد بن الوليد - لا تزال للجندي العربي، وإن الرجولية والشهامة التي اتصف بها صلاح الدين لا تزال للعرب. إن الميل إلى الشعور والآداب الذي أوجد الشعر القديم , وكان الباعث على وضع كتب التصوير والنقوش التي تعلمناها نحن منكم لا تزال موجودة عندكم، وإن الميل إلى العلم الذي شيدت أركانه في بغداد وقرطبة , والذي نقلناه نحن الأوربيين عنكم لا يزال لكم. إن الطبيعة قد وهبتكم هذه الهبات التي فطرتم عليها، فلا التركي ولا العفريت ولا الشيطان يستطيع نزعها منكم. والآن أنتقل إلى الأمر الآخر، إن هذه الهبات موجودة لديكم أولاً وآخرًا؛ فإن العرب هم الذين أفاضوا روح التمدن على العالم كله ونشروا ضياء العلم الساطع، ولكن - ويالسوء الحظ - إن زمن النور الذي انبثق من جانب العرب كان قصير المدى. دققوا في التاريخ واسألوا أسفاره تخبركم أن الممالك العربية كانت قصيرة الأعمار لم يمتد زمن ملكها طويلاً، فلم يَسُد الهاشميون ولا الأمويون ولا العباسيون أكثر من قرن أو قرنين , وتأملوا أن هارون الرشيد ذلك الخليفة الذي مات حاكمًا لجميع البلدان قد أباد ولداه ذلك الملك العظيم، فعليكم أن تحاذروا الوقوع في هذا الأمر , ولا تدعوا نهضتكم تكون قصيرة العمر. إن تمدنكم السابق كان مثل ينبوع ماء عذب تفجر في الصحراء فوق أرض رملية صخرية، فلم يمض عليه قليل حتى أنبت أزهارًا ونباتات , ثم علت الغزالة فأحرقت تلك الأزهار , وعادت تلك القفار إلى حالها , وهذا كان خطؤكم العظيم. في رايتكم شارة سوداء فلتكن هذه الشارة رمزًا يذكركم بالماضي ويحذركم من الوقوع فيه , ويدعوكم للاجتماع والاتحاد، فكفاكم 400 سنة قضيتموها في الظلم والاستبداد، لقد مضى هذا الدور والحمد لله، فقابلوا المستقبل بثبات وعزم وشجاعة وانظروا إلى باطن الأرض , وتأملوها واستخرجوا كنوزها ومخبئاتها. انظروا إلى القرى، انظروا إلى كثرة وفيات الأطفال، انظروا إلى هذه الطرقات الخربة، انظروا إلى هذه العاصمة العظيمة , وإلى أية حال وصلت من الخراب مع أنها ربما كانت أغنى دولة في العالم. إذا أحببتم إحياء هذه الأراضي فهي تحتاج إلى جميع قواكم , وقوانا نحن الحلفاء أيضا؛ لنحيا حياةً طيبةً سعيدةً طويلةً لا قصيرةً تتجاوز المائة أو المائتين أو الثلاثمائة قرن [كذا ولعل أصله سنة] وأرجوكم بعد ذلك أن تضعوا ثقتكم في أمر واحد، هذا الأمر هو الفكر الجديد الذي انتشر في أوربا. اعلموا جيدًا أن السياسة الأوربية قد تغيرت نحو الشرق , وأن السياسة السرية والاستعدادات الحربية التي قادت أوربا إلى هذه الحرب الطاحنة قد ذهب زمنها , وأنه توجد روح جديدة تنتشر في أوربا، وأن الأوربيين لا يفكرون في توسيع ممالكهم بل في تمدين الأمم الذين حاربوا لاستقلالهم. وأرجو منكم قبل الجلوس أن تفكروا جيدًا في مستقبل أبنائكم الذين لم يولدوا بعد، وفي أجدادكم الذين ماتوا من قبل, والسلام عليكم اهـ. *** خطبتا بيكو وسايكس في حلب زار علي رضا باشا الركابي الحاكم العسكري للشام والمسيو جورج بيكو مندوب فرنسا والسير مارك سايكس مندوب إنكلترا مدينة حلب فأقام نادي العرب حفلةً إكرامًا لمسيو جورج بيكو ممثل حكومة فرنسا حضرها الشريف ناصر , والحاكم العسكري العام , ورجال الحكومة العربية , وكثير من ممثلي دول الحلفاء وجم من العلماء والأدباء والرؤساء الروحيين والأعيان، فابتدأ الكلامَ رئيسُ النادي مُرحبًا بالقوم وتلاه أحمد أفندي الأبري فألقى خطابًا بديعًا , ثم خطب بالفرنسية يوسف أفندي سركيس , ونهض بعده مسيو جورج بيكو وألقى خطابًا بالإفرنسية عربه أمين أفندي غريب هذه خلاصته [1] : خطبة مسيو بيكو حضرة الحاكم العام وأيها السادة: أشكركم كثيرًا لأنكم سمحتم لي اليوم بأن آتي وأحمل سلام فرنسا الظافرة إلى ممثلي الحكومة العربية العظيمة؛ إذ ليس لنا بهجة في هذا الظفر أعظم من رؤية مثل هذا المحفل، فهو بداية عمل كريم نتج عن الحرب , هو انتهاء الاستبداد التركي وتقرير الحرية لشعب عظيم يديره رجال عظام. كل يعلم ما هي الأسباب التي جعلت هذه الحرب حربًا خاصةً بفرنسا، إذ قد كان منذ سبع وأربعين سنة في جنبنا جرح غير مندمل وكان لا بد لنا من الانتقام، ولكن كنا نجتنب الحروب لشدة هولها على الإنسانية، فلما جاء اليوم الذي تجمعت به القوى البربرية في العالم اضطررنا إلى محالفة قوى التمدن إبقاءً عليه من الشر المحدق به فانضمت إلينا إنكلترا ثم العرب ثم إيطاليا ثم أميركا , وبغية كل منهم الوصول إلى يوم يأمن فيه ك

الدولة العربية القادمة

الكاتب: عن جريدة المقطم

_ الدولة العربية القادمة [*] هذا عنوان مقالة افتتاحية للتايمس في 7 فبراير عربناها فيما يلي: (شهد فيصل الأمير الحجازي جلسة المؤتمر في باريس أمس وبسط قضية أمته , ويندر أن يكون بين المواضيع التاريخية ما يجهله الجمهور في (بريطانيا) جهله لتاريخ العرب وما قد يكون لهم من الشأن كأمة في المستقبل، وقد كان السير مارك سيكس أعظم رجال الدولة البريطانية اهتمامًا بوصف البواعث التي حملت البريطانيين على تعضيد العرب في حربهم الطويلة مع الترك. إن الإمبراطورية العربية القديمة التي كانت تمتد في أوج عزها من بغداد إلى قرطبة (المقطم: كذا في الأصل والصواب أنها كانت تمتد من بلاد فارس إلى قرطبة) كانت أفضل حكومة قامت بين انحطاط الإمبراطورية الرومانية ونشوء أوربا الحديثة , ولعلها كانت أمتن جسر للحضارة في العصور الوسطى، وكان منشأ هذه الإمبراطورية في الحجاز الذي تكلم الأمير فيصل باسمه في باريس، وكان للإمبراطورية العربية تهذيب وحضارة خاصان بها خلافًا للسلطة العثمانية، ومما اختلفت به عن السلطة العثمانية أيضًا أنها عرفت كيف تنتفع أعظم انتفاع بجميع العناصر التي اتصلت بها حتى لقد دعي عصر عظمتها وعزها العصر الذهبي للشعب اليهودي , والحقيقة أن وجوه الشبه بين العرب واليهود لا تقتصر على ما بينهما من القرابة وصلة الرحم , بل تتناول ما بينهما من الشبه العظيم في تاريخهما، فقد أضاع اليهود قوميتهم بالنزاع الشديد الذي وقع بينهم وبين الإمبراطورية الرومانية , فحل العرب محل اليهود , وصاروا قادة الأفكار بين الشعوب السامية، ثم سقط العرب فريسةً للمغول الذين غزوا بلادهم , واستولى الترك على الميراث الذي ورثه العرب من اليهود، وقد كان الأنبياء اليهود أنبياءً عربًا , وعند الشعبين كثير من الأخبار , والأقاصيص التقليدية التي يشتركان فيها , وبينهما شبه كثير في تاريخهما، فقد فقدا قوميتهما وانفصل الواحد عن الآخر بتبعيتهما السياسية للبلاد التي اختارها للإقامة فيها. والمأمول أن يعالج المؤتمر مشكلة التصرف في أملاك تركيا التي أخذت منها ويعدها وحدةً كاملةً، فهنالك العرب كما تقدم , ويليهم اليهود وآمالهم القومية في فلسطين , وبعدهم الأرمن، فمستقبل الشرق يتوقف كثيرًا على ما يكون من الاتفاق بين هذه الأجناس الثلاثة التي سيكون لها أوطان قومية في القريب العاجل , ومصير كل منها يهم الآخرين , فإذا أبدل الحكم العثماني الذي حافظ - ولو في الظاهر- على وحدة تلك الأنحاء مع أنه لم يفعل شيئًا لترقيتها ماديًّا أو أدبيًّا أو عقليًّا، إذا أبدل هذا الحكم بمنافسات ومناظرات محلية كان هذا الإبدال مصابًا. إن المرء يتطلع إلى جامعة عربية تمتد من دمشق إلى بغداد , ولها منافذ تجارية إلى البحر المتوسط والبحار الشرقية، وقد لا تكون إمبراطوريةً واحدةً متجانسةً , ولكن يمكن أن تكون ولايات متحدة , وتكون هنالك دولة (أجنبية) منتدبة , ويرجح أن هذه الإمبراطورية الجديدة تستعين كثيرًا بمقدرة يهود فلسطين، كما استعانت إمبراطورية العرب القديمة بيهود أفريقية وأسبانيا , فيجد اليهود بذلك لمقدراتهم مجالاً جغرافيًّا أوسع من فلسطين التي هي ليست سوى بلد صغير، وحينئذ تتحد أعمال الشعبين في إنهاض الشرق من كبوته. ويشترط لبلوغ هذا الغرض شرطان جوهريان , الأول: أن تنال اليهودية ميراثها التام في فلسطين فلا يكون في الدنيا مسألة اسمها (فلسطين الشهيدة) والثاني: أن يتملص يهود فلسطين من نفوذ الأعمال المالية عليهم فلا ينصرفوا إلى اغتراف موارد الشرق المادية , بل يتخذوا لأنفسهم ضربًا من الحضارة الصحيحة من البلاد نفسها , ويوجهوا همهم إلى إنشاء تهذيب حقيقي خاص بها يطابق المبادئ السامية الإنسانية التي وضعتها جمعية الأمم, وتحقيق هذه الأمنية يهم العرب كما يهم اليهود تقريبًا) اهـ.

الأمير فيصل في المؤتمر

الكاتب: عن جريدة المقطم

_ الأمير فيصل في المؤتمر [*] نشرت (المورننج بوست) في 8 فبراير التلغراف التالي لمكاتبها الباريسي وهو: (ظل الأمير فيصل يتكلم في مجلس العشرة عشرين دقيقةً، فكان أوجز المندوبين الذين سمع المجلس أقوالهم، وكان وقع كلام الأمير شديدًا في نفوس أعضاء المجلس حتى قال أحد هؤلاء الأعضاء: إن وقع كلامه كان كوقع كلام المسيو فنزيلوس، وكان الأمير يتكلم بالعربية، والكولونيل لورنس يترجم كلامه إلى الإنجليزية , ثم ينقل ترجمان كلام هذا إلى الفرنسوية، وكان الأمير يتكلم ببلاغة وحكمة وفاز فوزًا كبيرًا؛ لما ذكَّر سامعيه بأن مملكته دامت في عالم الوجود تسع مائة سنة. وخلاصة أقواله: أن والده ملك الحجاز لا يطلب أن يضم شبرًا واحدًا من الأرض إلى مملكته، ولكنه يطلب للعرب - ويريد بالعرب الشعوب التي تتكلم العربية - حق تعيين مصيرهم بحسب نظام التوكيل الدولي , وهو النظام الذي يعتقد أن البريطانيين مستعدون لتطبيقه على عرب الحجاز (؟) ولكنه لا يصر على توكيل دولة دون أخرى , ولا ينطق باسم عرب أفريقية، ولا يعارض الفرنسويين إلا حيث يحتمل أن يعارض الفرنسويون في مطالب الذين كانوا حلفاء دول الاتفاق أكثر من ثلاثة أعوام. ومما هو جدير بالذكر هنا أن فيصلاً طَلَب العِلم في الآستانة في حكم عبد الحميد وقضى أعوامًا في مدارسها , فهو لا يجهل تاريخ السياسة الأوربية الحديث، والصحف الفرنسوية تراعي قواعد اللياقة والمجاملة معه إذا استثنينا بضع جرائد لا يعتد بها. وليس ثمة تنافر جوهري بين مصالح إنكلترا ومصالح فرنسا، ولكن يجب حل هذه المسألة بأسرع ما يستطاع , وعندي أن هذا هو تعليل قرار المجلس الفجائي على أن يسمع أقوال الأمير. وقد وصفت جريدة (الغلوي) الأمير فيصلاً بقولها: إنه عميل للحكومة البريطانية , ذكي غيور , وقالت: إنها مقتنعة بأن المستر لويد جورج سيخفف من حدته، واهتمت به الصحف الأخرى، ولكنها اهتمت أيضا بالكولونيل لورنس اهتمامها بالأمير. وحادَثَ الأمير فيصل مندوب جريدة إكسلسيور، فأشار إلى الأقوال غير الصحيحة التي قالها الصحافيون الفرنسيون والبريطانيون عنه وعن المسألة العربية بالإجمال , ثم قال: (إن الحجاز لا يطمع بالتوسع وبسط السيادة ولا يرمي إلى ملك الشرق الأدنى , ولا يروم فتح البلدان) ثم قال: (وجل ما أطلبه هو تطبيق قاعدة الدكتور ولسن الخاصة بحق الشعوب في تعيين مصيرها على العرب في آسيا الصغرى، إن تحرير العرب لا يلاشي النفوذ الموجود، أو الذي يسعون لإيجاده في سورية , ولكنه يرقي هذا النفوذ بالطرق السلمية باجتناب كل نزاع قد ينشأ عن مقاصد ضم الأملاك المستور بستار كثيف أو شفاف، فالعرب يطلبون أن يعاملوا كما يُعامَل اليونان والصربيون والبلغاريون الذين خلُصوا مثلهم من استبداد الترك) اهـ.

رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رد المنار على الناقد لذكرى المولد النبوي تتمة [1] الموضع الرابع عشر افتتان آل البيت بالغلاة فيهم أشار الناقد إلى قولنا في حاشية ص43 من ذكرى المولد بعد الثناء على آل البيت النبوي العلوي: وإن فتن الكثيرون منهم بغلاة المحبين، فكانت فتنتهم لهم أعم وأدوم من فتنة الأمراء الظالمين؛ إذ كان من أثرها في ذريتهم أن ترك أكثرهم العلم والأعمال النافعة استغناءً عنهما بشرف النسب غافلاً عن قول جدهم علي المرتضى- كرم الله وجهه -: (قيمة كل امرئ ما يحسنه) إلخ، وقال: (ولعل المناسب: وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه وترك العلم والأعمال النافعة غافلاً عن قول جده علي، إلخ؛ لأن إثبات الفتنة للأكثرية ينافي آية التطهير كما لا يخفى) . ونقول في الجواب: إننا لم نثبت الفتنة للأكثرين منهم، بل للكثيرين، وإنما ذكرنا أن أكثر ذريتهم - أي: المتأخرين منهم - تركوا العلوم والأعمال النافعة للأمة استغناءً عنهما بشرف النسب، وهذا أمر مشاهد معروف في الأقطار كلها؛ فإنك قلَّما تعد في بطن من بطونهم المشهورة المعظمة بنسبها علماءً محققين يؤخذ عنهم العلم والدين، أو رؤساء جمعيات ومصالح يرجع الناس إليهم في أمور دينهم ودنياهم، فإذا كان هذا هوالواقع فهو حجة على أن الآية الكريمة ليست بالمعنى الذي يقول به الناقد، وإن لم يكن هو الواقع فليرده بسرد أسماء العلماء الأعلام منهم في الحجاز واليمن وسائر البلاد العربية والعجمية، وبيان نسبتهم العددية إلى الجاهلين المثبتة أنهم هم الأكثرون عددًا، وقد عُلم مما أوردناه في تفسير الآية من الجزء الماضي أن الآية في أفق غير أفق هذه المسألة. فالتحقيق أن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} (الأحزاب: 33) إلخ، تعليل لما قبله من الأوامر والنواهي التي خوطب بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وما قرنت به من الوعد بمضاعفة الأجر على الطاعة والوعيد بمضاعفة العذاب على المعصية، أي إن الله تعالى لا يريد بذلك إعناتكم والتضييق عليكم يا أهل البيت، وإنما يريد به إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم بحملكم على امتثال ما أمركم به والانتهاء عما نهاكم عنه، فهو كقوله تعالى في تعليل الأمر بالوضوء والغسل والتيمم: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6) . خاتمة النقد في العترة والسنة أشار الناقد إلى ما ذكرناه في تلك الحاشية من اختلاف الرواية في حديث الثقلين؛ إذ فسر الثقل الثاني في بعضها بالعترة وفي بعضها بالسُّنة، وقال: يظهر للعاجز أن رواية الأبدال المذكورة على حذف مضاف، أي: حملة سنتي، فتكون مخصصةً للرواية الأولى، كما أن الأولى مخصصة للثانية، فالمعنى: حملة سنتي الذين هم من عترتي، أو عترتي حملة سنتي، وأيضًا يظهر أن المراد بالطائفة من أمته التي لا تزال ظاهرةً على الحق قوَّامة على أمر الله إلى أن تقوم الساعة: هم عترته الحاملون لسنته، والله أعلم. أقول: إن هذا الجمع بين الروايتين قوي في المعنى ضعيف في اللفظ؛ فإن حذف المضاف لا يجوز إلا حيث تدل عليه القرينة، كقوله تعالى: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} (يوسف: 82) وأما قوته في المعنى فظاهرة، وذلك عين ما أردناه بقولنا في أصل ذكرى المولد: (فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم تاركًا للأمة ما إن تمسكوا به لن يضلوا من بعده: كتاب الله وسنته في تبيينه، وعترته العاملين بهما من أهل بيته) وأقول الآن: إنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وقد هدم الناقد بقوله هذا جل ما كان بناه من جعل معنى هذين الحديثين وما ماثلهما عامًّا شاملاً للسلالة العلوية الفاطمية، من وُجد منها ومن يوجد إلى يوم القيامة. حتى إنني استغربت منه قوله في نقد الموضع الرابع عشر: (وإن فتن بعضهم واغتر بشرف نسبه) إلخ، بعد ما تقدم من تعصبه في المواضع السابقة لكفار قريش من أجلها، على أنه وإن أطلق ما يدل على ذلك بالإجمال، فإنه لا يعتقده إذا فكر فيه بالتفصيل، ولا نعرفه إلا محبًّا للحق وخادمًا للعلم وساعيًا إلى الإصلاح، وما ذاك إلا أثر شدة الحب، بأَولى الناس وأجدرهم بالحب. وإذا كان الصحيح عنده ما قال أخيرًا، فإنني أسأله سؤال مستفيد مخلص أن يدلني على من يعرف من أفراد هذه الطائفة التي ورد الحديث فيها من أهل هذا العصر عسى أن يكون لنا بهم من ولاء العلم والأدب وصلة القرابة والنسب، ما يعيننا على التعاون معهم على خدمة العلم والدين، والله يتولى الصالحين اهـ الرد.

باحثة البادية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ باحثة البادية وحفني ناصف (1) وفاتهما وترجمتهما (باحثة البادية) لقب للأديبة الشهيرة (ملك) كريمة حفني ناصف بك، اختارته لتوقيع ما كانت تنشره من مقالاتها وشعرها في الجرائد كما يفعله كثير من المتنكرين والمتنكرات في الشرق والغرب، توفيت لعشر خلون من المحرم فاتحة هذا العام، ثم احتفل بتأبينها في اليوم الثاني من شهر ربيع الأول، وقد كان شهر وفاتها وما بعده من الفترة التي لم يصدر فيها المنار، وشهر تأبينها ضاق عما أعد له، فرجونا فيه بأن نكتب شيئًا في ترجمتها وتأبينها في هذا الجزء. وفي هذه الفترة بين الجزئين توفي والدها الأسيف، وكان قبل وفاتها مريضًا فضاعف الحزن عليها المرض حتى صار حرضًا انتهى بالموت، وكان سبب موتها هي الانتقال من الفيوم إلى القاهرة، وهي مصابة بالنزلة الوافدة لأجل مواساته في إثر انكشاف كارثة كانت سبب مرضه أو سبب شدته، فأصيبت بما ضاعف النزلة، فكانت القاضية، وقد خسر القطر المصري - بل الأمة العربية - بوفاتهما ركنين من أركان النهضة العربية للرجال والنساء معًا، كما يتضح ذلك لغير العارف بفضلهما من أهل الأقطار البعيدة، مما تثبت من ترجمتها الوجيزة. باحثة البادية هي كبرى أولاد حفني بك ناصف، عُني بتربيتها وتعليمها وهي في شرخ الشباب وزمن الجهاد في إصلاح التعليم وترقية الآداب، وضعها في المدرسة السَّنية، التي هي أرقى مدارس البنات الأميرية، فكانت أول ابنة مصرية نالت شهادتها الابتدائية، ثم انتقلت من القسم الابتدائي إلى قسم المعلمات العالي، فجدت حتى نالت شهادة هذا القسم فيه، وكانت الأولى أيضًا، وكان من مبادي التوفيق أن كان من أساتذتها في القسم الأول الشيخ حسن منصور وفي القسم الآخر الشيخ أحمد إبراهيم، وهذان الأستاذان في الذروة العليا من مدرسي علوم اللغة العربية وفنونها في مصر، علمًا وآدابًا وأخلاقًا وحذقًا في التعليم، ثم إنها اشتغلت بالتعليم في المدرسة نفسها، فكانت خير معلمة كما كانت خير متعلمة، امتازت بالذكاء النادر، والجد والاجتهاد، والتنزه عما ينتقد من عادات الفتيات في هذه البلاد، فتم لها بالتعليم ركنان من أركان العلم، أو طوران من أطواره الثلاثة التي لا ينضج عالم إلا بمجموعها، وثالثها الكتابة والتأليف الذي وجهت إليه عنايتها بعد زواجها، واختيارها بنفسها شؤون الحياة الزوجية وتدبير المنزل، ولم ينقصها من الخبرة التي تؤهلها لمرتبة الإصلاح النسائي على وجه الكمال، إلا الحرمان من صفة الأمومة والقيام على تربية الأولاد، فسبحان من تفرد بالكمال، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. ثم إن والدها زوَّجها برضاها من عبد الستار بك الباسل أحد زعماء العرب المصريين وشيوخهم، وهو وأخوه الأكبر حمد باشا الباسل رئيسا قبيلة الرماح المقيمة بجوار الفيوم، وقد امتاز هذان الأخوان في عربان الديار المصرية وغيرهم بالجمع بين فضائل البداوة ومحاسن الحضارة، والتنزه عن رذائلهما، فمن الأولى: الوفاء والسخاء والنجدة والمروءة وقري الضيف وإغاثة الملهوف، ومن الثانية: محبة العلم والأدب وأهلهما والاطلاع على شؤون الاجتماع والعمران، ولهما مشاركة في هذا وما يتعلق به من مسائل التاريخ القديم والحديث والقوانين، زادتها معاشرتهما للطبقة العليا من العلماء ورجال الحكومة والسياحة في أوربة وبعض البلاد الشرقية اتساعًا وصقلاً، ولكن هذه المزايا التي اجتمعت لزوجها وسعة الرزق التي هي في نظر أكثر النساء خير منها ومن النبوغ في أي علم من علوم الدين والدنيا، كان يظن أن سيعارضها ما هو أقوى منها في نظر فتاة مصرية تعلمت التعليم العالي، وهو زي عبد الستار بك العربي من الشملة البيضاء والطربوش المغربي، ذلك بأن وجهة التعليم بمصر أوربية يقصد بها فرنجة المصريين كما قال لورد كرومر، ومن شأن اللواتي يتعلمن ويتربين على هذه الطريقة أن ينفرن من كل ما هو وطني محض من الزي والعادات، ويفضلن كل ما هو تقليد للإفرنج منها، حتى إن بعض بنات الوجهاء المتعلمات لا يقبلن زوجًا لأنفسهن إلا من كان حاملاً لشهادة عالية من أوروبة، لذلك استغرب كثير من الناس رضاء (ملك ناصف) بقرين لها من شيوخ العرب، وإن كان بيته أرقى من بيت أبيها ثروةً، وأوسع معيشةً. كما يرى القارئ هذا فيما ننقله في هذه الترجمة من تأبين تلميذة الفقيدة وصديقتها (نبوية موسى) التي هي تلوها في الذكاء والتحصيل، وما ذاك إلا أن فطرة (ملك) وتربيتها المنزلية وهدي أستاذيها في المدرسة حالا دون إفساد التفرنج للبها، واستحواذ زخرفه على قلبها، وبذلك كانت جديرةً بمعرفة قيمة رجل من كرام أمتها، لم يخطبها إلا لعلمها وحسن تربيتها، ففضلته على الشبان المتفرنجين المتطرسين، المتورنين الذين انسلوا من شرف الصيانة وفضائل الدين. وجدت الفقيدة من قصر الباسل أجمل منظر يتجلى فيه ذوق المرأة وعلمها بتدبير المنزل، ووجدت من عبد الستار أوفى زوج تهنأ معه الحياة الزوجية لأديبة مثلها يتساهمان تفضيل المزايا المعنوية على المظاهر الصورية , ووجدت من حريته الأدبية ما مكنها من نشر أفكارها الإصلاحية، ويقل أن يوجد في المسلمين حتى المتفرنجين منهم من يرضى لزوجه أن تنشر آراءها في الصحف المنتشرة، وتتصدى لمناظرة أرباب الأقلام فيها، بل أكثر البنات اللواتي يتعلمن في مثل بلاد أوربة ينتهي بالزواج اشتغالهن بالعلم فلا يجدن بعده وقتًا للتأليف ولا لإنشاء المقالات للصحف، ولذلك كانت آثار النساء القلمية قليلةً جدًّا بالنسبة إلى عدد المتعلمات منهن في كل أمة إذا قوبلت بآثار الرجال بالنسبة إلى عددهم، ولكن عقيلة الباسل لم تجد من بيتها وبعلها إلا التنشيط على الكتابة والنشر. لآل الباسل هؤلاء ثلاث دور آهلة. (إحداها) : بجوار مزارعهم وقبائلهم من مديرية الفيوم بالقرب من مدينة الفيوم وتعرف بقصر الباسل، وهي سكنهم الأصلي، وفيها يكونون في أكثر أوقاتهم. و (الثانية) : بمدينة الفيوم نفسها. و (الثالثة) : في القاهرة يقيم فيها حمد باشا أيام انعقاد الجمعيات التشريعية التي هو أحد أعضائها، ومن يتعلم من ولده في المدارس، ويختلف إليها هو وعبد الستار بك أيامًا من كل شهر لمصالح لهما في العاصمة، وللقاء أصدقائهما فيها، ويلم بها أزواجهما أيضًا، وقد حُبب لابنة حفني المقام في قصر الباسل لما فيه من اجتماع محاسن الحضارة والبداوة، وصفاء العيشة الخلوية مع رفاه العيشة الحضرية وزينتها، وتسنى لها فيه اختبار حال الفلاحين المقيمين بقرية قصر الباسل، وسكان الخيام من البدو المخيمين بجواره، فكانت تعاشر نساء الفريقين، وتتعرف على حال حياتهن الزوجية، ومن ثم انتزعت لنفسها لقب (باحثة البادية) . ظهر اسم (باحثة البادية) أول مرة في صحيفة (الجريدة) سنة 1326 في ذيل اقتراح بناء مدفن لعظماء رجال مصر، فرددنا على هذا الاقتراح في المنار ردًّا دينيًّا رجحنا أن المقترح رجل متنكر فقلنا في أول الرد: نشر هذا الاقتراح بتوقيع (باحثة البادية) وما هو إلا خيال باحث في الحاضرة، أو تمني متفرنج في العاصمة، إلخ (راجع ص380 م11) وقد أخبرني عبد الستار بك من عهد غير بعيد أنها أرادت يومئذ أن ترد على المنار، واستشارته في ذلك فأشار عليها بأن لا تفعل قائلاً: إنك لن تستطيعي أن تجادلي كاتبًا من أئمة الدين في مسألة دينية كهذه ... ثم إنه علم منها بعد ذلك أنها استنبطت من ذلك أنه يكره لها أن تكتب في الصحف مطللقًا، فصرح لها بأن ظنها هذا خطأ، وأنه لا يكره أن تكتب ما ترجى فائدته، فكان هذا بدء حياتها الإصلاحية وخدمتها العامة، فالعامل في هذه الحياة الاستعداد الفطري، ثم دار النشأة وروحها الوالد الذي نبين كنهه في ترجمته، ثم المدرسة وروحها من ذكرنا من الأساتذة، ثم دار الزوج وهو روحها، وقد ذكرنا من أمر هذا العامل الأخير ما يعرف به قدر تأثيره في هذه الحياة، فهذه العوامل هي التي كونت (باحثة البادية) في حياتها التي تتجلى للقارئ في مقالاتها الخالدة وآثارها الباقية، ولما لم يجتمع ذلك لغيرها من بنات مصر في هذا العصر كانت في مسلمات مصر نادرةً شاذةً. مقالاتها وآثارها القلمية كتبت مقالات كثيرة، ونظمت بعض القصائد والمقاطع من الشعر، وألفت عدة خطب في محافل اجتمع فيها مئات من كرائم النساء في القاهرة، وشرعت في تأليف كتاب في حقوق النساء في الإسلام وفي أوربة لم يتم، وقد نشر أكثر ما كتبت في الجريدة وجمع بعضه في كتاب سمي (النسائيات) وطبع الجزء الأول منه في سنة 1328 , فقرظه نفر من الأدباء والعلماء، وقد ذكرت في تأبينها أن آثارها القلمية تدور على بضعة أقطاب، أو تدخل في ستة أبواب: (الأول) : تربية البنات، وتعليمهن في البيوت والمدارس. (الثاني) : المرأة - تأثيرها في العالم - تأثيرها الخاص في زوجها وولدها وأهلها - ما ينبغي لها في كل طور من أطوار حياتها - أحوال القرويات والبدويات والمدنيات - المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الإفرنجية - الجمال والعادات والأزياء. (الثالث) : الزواج - سنه - حقوق الزوجين والعشرة بينهما - تقصير كل منهما فيما يجب عليه - تزوج المصريين بالأجنبيات. (الرابع) : الحجاب والسفور. (الخامس) : الرجال والنساء - جناية كل منهما على الإنسانية بجنايته على الآخر - وظائف كل منهما - مزايا كلٍّ ومساويه. (السادس) : شجون وشؤون عامة، كوصف البحر، والعيشة الخلوية والجمال، وأقلها شوارد شعرية في الحال الاجتماعية السياسية. وقيمة هذه الآثار ومزيتها التي استحقت به الفقيدة الترجمة في المجلات العلمية والإصلاحية، وتأبين فضلاء الرجال لها في حفلة عامة، هي في نظري أنها إصلاحية جاءت وسطًا بين آراء المحافظين الجامدين على كل قديم، والمتهافتين كالأطفال على كل جديد، وأن الكاتبة مستقلة فيها غير مقلدة. (للترجمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (منتخبات في أخبار اليمن) من كتاب (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم) لنشوان بن سعيد الحميري. أما كتاب شمس العلوم فقد قال صاحب كشف الظنون فيه ما نصه: (شمس العلوم في اللغة ثمانية عشر جزءًا لنشوان بن سعيد الحميري اليمني المتوفى سنة 573 ثلاث وسبعين وخمسمائة، سلك مسلكًا عربيًّا يذكر فيه الكلمة من اللغة فإن كان لها نفع من جهة ذكره، وذكر في كل مادة أبواب الكلمة واستعمالاتها ثم اختصره ابنه في جزئين وسماه: (ضياء الحلوم في مختصر شمس العلوم) أول شمس العلوم: (أما بعد مستحق الحمد) إلخ اهـ ولم يتكلم على المختصر، وفي مقدمات كتاب المنتخبات كلام عنه وعن مؤلفه ونسخه وسماعه، ومما ذكر فيها عن المختصر: (الجزء الأول) من كتاب المختصر من شمس العلوم، ودواء كلام العرب من الكلوم، إملاء القاضي السيد أديب الأدباء وقدوة النجباء، إمام الأئمة وسراج الظلمة: أبي عبد الله محمد بن نشوان بن سعيد الحميري طول الله تعالى مدته، وأعلى في الدارين درجته) . وأما هذه المنتخبات فتدل أن الكتاب معجم لغوي أدبي تاريخي، لكن رأينا عناية صاحب المنتخبات خاصة بما في الأصل من لغة حمير وتاريخها، ولا سيما ملوكها وأمرائها وشعرائها وسائر تاريخ اليمن، وفي مادة (س ن د) منه صورة حروف المسند، وهو خط حمير، قال: وهو موجود كثير في الحجارة والقصور، وكان يكتب حروفًا مقطعةً كالخطوط الإفرنجية، ولكن يفصل بين الكلم بالصفر عندهم وهو حرف الألف في خطنا. طبعت هذه المنتخبات في مطبعة (بريل بليدن) سنة 1916، وكتب على طرتها بعد ما تقدم من اسم الكتاب المنتخبة منه، واسم مؤلفه (وقد اعتنى بنسخها وتصحيحها عظيم الدين أحمد) وصفحاتها 119، وإذا أضيف إليها صفحات الفهارس كان المجموع 163 صفحةً، وهو من الكتب التي طبعت على نفقة أوقاف ذكرى مستر جب الشهير، وله مقدمات وتعليقات على الكتاب بالإنكليزية، وطبعت في الجانب الأيسر فيها كلام عن مؤلفه ورواته واختلاف نسخه. *** (كتاب العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية) الكتاب من تأليف الشيخ علي بن الحسن الخزرجي، وقد عني بتصحيحه وتنقيحه الشيخ محمد بسيوني عسل المصري، وطبع على نفقة أوقاف ذكرى مستر جب بمطبعة الهلال بمصر سنة 1332 هـ - 1914، وأهدي إلينا الجزء الثاني منه منذ أشهر، ولكن لم يرسل إلينا الجزء الأول، وصفحات الجزء الثاني 320 وهي بقطع المنار وبضم الفهارس إليها تبلغ الصفحات 486 وهو يدخل في ثلاثة أبواب، الأول منها في أخبار الدولة المجاهدية، والثاني: في قيام الدولة الأفضلية ووقائعها، والثالث: في قيام الدولة الأشرفية الكبرى وبعض أيامها، وعسى أن لا نحرم من الجزء الأول وأن نوفق إلى كتابة نبذة في بني رسول عند تقريظه. *** (حضارة العرب) كتاب علمي وجيز صغير الحجم، كبير الفائدة، جمع فيه واضعه أسعد أفندي داغر خلاصةً من تاريخ العرب في الجاهلية والإسلام في أربعة فصول: (الأول) : في تاريخ عرب الجاهلية، أو العرب قبل الإسلام. (الثاني) : في تاريخ العرب بعد الإسلام من عصر الخلفاء الراشدين إلى العصر العثماني التركي وفيه نبذة في صفات العرب وأخلاقهم وعاداتهم وملابسهم وآدابهم وآداب الأكل عندهم. (الثالث) : في علوم العرب اللغوية والدينية والأدبية والعقلية والكونية والرياضية والسياسية والاقتصادية. (الرابع) : في فنون العرب الحربية والبحرية والعمرانية، والجميلة. وقد قال المؤلف في خاتمة كتيبه الجميل: (يرى القارئ مما تقدم أننا أوردنا في هذا الكتاب بعض مفاخر العرب بغاية ما يمكن من الإيجاز، وأننا اقتصرنا على كليات علومهم دون جزئياتها وفروعها؛ لأننا لو أردنا الإحاطة بها كلها لاحتجنا إلى مجلدات ضخمة، وقد جعلنا غايتا من هذا المؤلف الصغير الإشارة إلى ما أحدثه العرب من الاكتشافات والاختراعات، وما لهم من الآثار الخالدة في عالم الفنون والصناعة، وما وضعوه من العلوم، وما استدركوه فيها على المتقدمين من تصحيح أو تكميل مما ثبتت صحته وتناوله الخلف من بعدهم، وهو ليس إلا نقطةً من بحر، أو جزءًا من كل) . وفي الكتاب زهاء تسعين رسمًا، بعضها للأناسي المشهورين وأولهم حمورابي صاحب أقدم شريعة عرفت في التاريخ البشري، وبعضها للمدن والقصور والمساجد، وغيرها من المباني، وبعضها للنقود والكتابة والأواني والنسيج والآلات الحربية والعلمية، كالمنجنيق والإصطرلاب والمرصد، وبعضها للأقطار والممالك، وهو ما يسمونه الخرائط، وهو محرف مأخوذ من مادة (خرت الأرض) وهو معرفة مضايقها وأنحائها. كل هذه الرسوم وتلك المسائل الكثيرة قد أودعت في أقل من مائة وخمسين ورقةً من قطع أصغر من قطع المنار، فقال بعض المنتقدين: إن هذا فهرس لا كتاب، وهذا قول خطأ ليس بصواب، فإن الفهرس عناوين ناقصة، وهذه مسائل وقضايا تامة، وعندي أن وجود مثل هذا الكتاب في أيدي القارئين من هذه الأمة العربية ضروري؛ لأنه خلاصة وجيزة لتاريخ أمتهم المدني يسهل فهمهما وتعميمها بين جميع الطبقات والأصناف حتى يكون جمهور الأمة على علم إجمالي بمآثر سلفه ومفاخرهم، يُرجى أن يبعثهم على إحياء مجدهم وتجديد عهدهم. وينتقد على الكتاب أن بعض مسائله غير محررة، وسبب ذلك أنها ذكرت على سبيل النموذج لا التحرير والتحقيق، ومن ذلك التفرقة بين بعض العلوم والفنون، وذكر أعظم رجالها وأئمتها، ويتبع ذلك التساهل في التعبير كقوله في الكلام عن التصوف: قيل: التصوف نسبة إلى الصوف، أراد أن يقول إن التصوف مشتق من الصوف، أو أن الصوفي منسوب إلى الصوف الذي كان يلبسه. وفيه أغلاط طبعية لم تذكر في آخر الكتاب من جدول التصحيح ككلمة (الذكاة) وصوابها (الزكاة) وكلمة (الفاني الباقلاني) وصوابها (القاضي الباقلاني) كلاهما في ص 153 , ومثل هذا غير مقلل من فائدة الكتاب التي بيناها، وقد طبع الكتاب بمطبعة هندية بالقاهرة سنة 1336 وتوجه مؤلفه باسم الأمير فيصل الشهير - جعله تقدمةً له - فنال منه جائزةً سَنيةً، وهو يباع في مكتبة المنار وغيرها، وثمن النسخة منه 35 قرشا. *** شذرات (لقب السيد والسي) ابتدع بعض الجرائد العربية المحدثة في زمن الحرب إطلاق لقب: (السيد) على كل أحد، وجعله بدلاً من كلمة أفندي التركية، و (مسيو ومستر) الإفرنجيتين، فأنكر ذلك السواد الأعظم من العرب، المسلمين والنصارى جميعًا؛ لأن أكثر المسلمين يخصون بهذا اللقب آل بيت الرسول عليه وعليهم الصلاة والسلام، وبعضهم يجعله للحسينيين منهم، ويخص الحسنيين بلقب (الشريف) ولا يشذ عن هذا التخصيص إلى استعمال هذا اللقب لتعظيم كل من يراد تعظيمه إلا القليل من الشاميين والأقل من غيرهم، ويرى بعض الباحثين أن الأصل في ذلك نزعة ناصبية أو يزيدية، وأما النصارى فيخصون بهذا اللقب سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام، وبعض كبراء رجال الدين كالبطرك والمطران، وقد سبق المغاربة والمصريون إلى استعمال كلمة (السيّ) في هذا المقام، ويظن كثيرون أنها مختصرة من كلمة السيد، والصواب أن هذا لفظ مستقل، مكسور السين مشدد الياء، ومعناه: المثل، ومثناه: (سيَّان) مستعمل، وجمعه: أسواء كشبه ومثل، وأشباه وأمثال، وهو جدير بأن يعمم في الاستعمال. *** خسارة سورية من رجال العلم والدين خسرت سورية في أثناء هذه الحرب أكبر رجال الدين فيها علمًا وهديًا وأخلاقًا: الشيخ عبد الرزاق البيطار، والشيخ محمد كمال الرافعي الطرابلسي، وإننا ننتظر من أوليائهما أن يوافونا بمذكرتين من تاريخهما نستعين بهما على ترجمتهما.

أعراب الشام في القرنين السابع والثامن للهجرة الشريفة

الكاتب: القلقشندي

_ أعراب الشام في القرنين السابع والثامن للهجرة الشريفة جاء في الكلام على المملكة الشامية من الجزءِ الرابع من (صبح الأعشى) بيان عن العربان التابعين لها، وبطون العرب أولو الإمرة فيهم، نلخص منه ما يأتي، قال: البطن الأول آل ربيعة من طيئ من كهلان من القحطانية وهم بنو ربيعة بن حازم بن علي بن مفرج بن دَغْفَل بن جراح، وقد تقدم نسبه مستوفًى مع ذكر الاختلاف فيه في الكلام على ما يحتاج إليه الكاتب في المقالة الأولى. قال في (العِبر) : وكانت الرياسة عليهم في زمن الفاطميين - خلفاء مصر - لبني الجراح، وكان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح، وكان من إقطاعه الرملة، ومن ولده حسان وعلي ومحمود وحرار، وولي حسان بعده فعظم أمره، وعلا صيته، وهو الذي مدحه الرياشي الشاعر في شعره، قال الحمداني: وكان مبدأ ربيعة أنه نشأ في أيام الأتابك زنكي صاحب الموصل، وكان أمير عرب الشام أيام طغتكين السلجوقي صاحب دمشق، ووفد على السلطان نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام فأكرمه وشاد بذكره. قال: وكان له أربعة أولاد، هم فضل ومراد وثابت ودغفل، ووقع في كلام المسبحي أنه كان له ولد اسمه بدر، قال الحمداني: وفي آل ربيعة جماعة كثيرة أعيان لهم مكانة وأبهة، أول من رأيت منهم مانع بن حديثة , وغنام بن الطاهر، على أيام الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب. قال: ثم حضر بعد ذلك منهم إلى الأبواب السلطانية في دولة المعز أيبك والي أيام المنصور قلاوون زامل بن علي بن حديثة، وأخوه أبو بكر بن علي، وأحمد بن حجي وأولاده وإخوته، وعيسى بن مُهنا وأولاده وأخوه، وكلهم رؤساء أكابر وسادات العرب ووجوهها، ولهم عند السلاطين حرمة كبيرة وصيت عظيم، إلى رونق بيوتهم ومنازلهم. من تلق منهم تقل: لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري ثم قال: إلا إنهم مع بعد صيتهم قليل عددهم، قال في (مسالك الأبصار) : لكنهم كما قيل: تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها: إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل ولم يزل لهم عند الملوك المكانة العلية والدرجة الرفيعة، يحلونهم فوق كيوان وينوعون لهم جناس الإحسان، قال الحمداني: وفد فرج بن حية على المعز أيبك، فأنزله بدار الضيافة، وأقام أيامًا، فكان مقدار ما وصل إليه من عين وقماش وإقامة - له ولمن معه - ستةً وثلاثين ألف دينار. قال: واجتمع أيام (الظاهر بيبرس) جماعة من آل ربيعة وغيرهم، فحصل لهم من الضيافة خاصة في المدة اليسيرة أكثر من هذا المقدار، وما يَعلم ما صُرف على يدي من بيوت الأموال والخزائن والغلال للعرب خاصة إلا الله تعالى. واعلم أن آل ربيعة قد انقسموا إلى ثلاثة أفخاذ هم المشهورون منهم، ومن عداهم أتباع لهم وداخلون في عددهم، ولكل من الثلاثة أمير مختص به. (الفخذ الأول: آل فضل) : وهو فضل بن ربيعة المقدم ذكره، وهم رأس الكل وأعلاهم درجةً وأرفعهم مكانةً، قال في (مسالك الأبصار) : وديارهم من حمص إلى قلعة جعبر إلى الرحبة، آخذين إلى شقي الفرات وأطراف العراق حتى ينتهي حدهم قبلة بشرق إلى الوشم، آخذين يسارًا إلى البصرة، ولهم مياه كثيرة، ومناهل مورودة: ولها منهل على كل ماء ... وعلى كل دمنة آثار ثم نقل المؤلف بعد هذا نبذةً من (مسالك الأبصار) في تشعب بني فضل إلى شعب كثيرة، وأن أفضل بيت من بيوتهم في عهد مؤلفه (آل عيسى) وفروعه، وقوله فيهم: وهؤلاء آل عيسى في وقتنا هم ملوك البر فيما بعد واقترب، وسادات الناس ولا تصلح إلا عليهم العرب. قال المؤلف: وأما الإمرة عليهم فقد جرت العادة أن يكون لهم أمير كبير منهم يولى من الأبواب السلطانية، ويكتب له تقليد شريف بذلك، ويلبس تشريفًا أطلس أسوة النواب إن كان حاضرًا، أو مجهز إليه إن كان غائبًا، ويكون لكل طائفة منهم كبير قائم مقام أميره عليهم، وتصدر إليه المكاتبات من الأبواب الشريفة إلا أنه لا يكتب إليه تقليد ولا مرسوم. قال في (مسالك الأبصار) : ولم يصرح لأحد منهم بإمرة على العرب بتقليد من السلطان إلا من أيام العادل أبي بكر أخي السلطان (صلاح الدين يوسف بن أيوب) . ثم ذكر بعض أمرائهم، وموالاة بعضهم للتتار، وشؤونهم مع سلاطين مصر. وبعد انتهاء الكلام على الفخذ الأول من آل ربيعة، قال: (الفخذ الثاني من آل ربيعة: آل مرا) ، نسبةً إلى مرا بن ربيعة. وقال في (مسالك الأبصار) : ديارهم من الجيدور والجولان إلى الزرقاء والخليل إلى بصرى، ومشرقًا إلى الحرة المعروفة بحرة كشت، قريبًا من مكة المعظمة إلى شعباء إلى نيران مزريد إلى الهضب المعروف بهضب الراقي، طاب لهم البر وامتد لهم المرعى أوان خصب الشتاء، فتوسعوا في الأرض، وأطالوا عدد الأيام واليالي حتى تعود مكة المعظمة وراء ظهورهم، ويكاد سهيل يصير شامهم، ويصيرون بوجوههم مستقبلين الشام، وقد تشعب آل مرا أيضًا شعبًا كثيرةً، وهم آل أحمد بن حجي , وفيهم الإمرة، وآل مسخر وآل نمي وآل بقرة وآل شماء. وممن ينضاف إليهم ويدخل في إمرة أمرائهم: حارثة والخاص ولام وسعيدة ومدلج وقرير وبنو صخر وزبيد حوران - وهم زبيد صَرخَد - وبنو غني، وبنو عرقال، ويأتيهم من عرب البرية آل ظفير، والمفارجة، وآل سلطان، وآل غري، وآل برجس، والحرسان، وآل المنيرة، وآل أبي فضيل، والزراق، وبنو حسين الشرفاء، ومطين، وخثعم، وعدوان، وغزة. قال: وآل مرا أبطال مناجيد ورجال صناديد وأفيال) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ((الإسراء: 50) لا يعد منهم عنترة العبسي , ولا عرابة الأوسي، إلا أن الحظ يحظ بني عمهم (بأكثر) مما يحظهم، ولم تزل بينهم نوب الحرب ولهم في أكثرها الغلب. قال الشيخ شهاب الدين أبو التتار محمود الحلبي - رحمه الله -: كنت في نوبة حمص في واقعة التتار جالسًا على سطح باب الإصطبل السلطاني بدمشق، إذ أقبل آل مرا زهاء أربعة آلاف فارس شاكين في السلاح على الخيل المسومة والجياد المطهمة وعليهم الكرغندات الحمر الأطلس المعدني والديباج الرومي، وعلى رءوسهم البيض، مقلدين بالسياف، وبأيديهم الرماح كأنهم صقور على صقور، أمامهم العبيد تميل على الركائب ويرقصون بتراقص المهارى، وبأيديهم الجائب التي إليها عيون الملوك قمورًا، ووراءهم الظعائن والحمول، ومعهم مغنية لهم تعرف بالحضرمية طائرة السمعة، سافرةً من الهودج وهي تغني: وكنا حسبنا كل بيضاء شحمةً ... ليالي لاقينا جذامًا وحِمْيرا ولما لقينا عُصبة الغلبة ... يقودون جردًا للمنية ضمرا فلما فزعنا النبع بالنبع [1] بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا سقيناهم كأسًا سقونا بمثله [2] ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا وكان الأمر كذلك، فإن الكرة أولاً كانت على المسلمين، ثم كانت لهم الكرة على التتار، فسبحان منطق الألسنة ومصرف الأقدار. (الفخذ الثالث من آل ربيعة: آل علي) وهم فرقة من آل فضل المقدم ذكرهم ينتسبون إلى علي بن حديثة بن عقبة بن فل بن ربيعة، قال في (مسالك الأبصار) : وديارهم مرج دمشق وغوطتها، بين إخوتهم آل فضل وبني عمهم آل مرا، ومنتهاهم إلى الحوف والجبابنة إلى السكة إلى البرادع. قال في (التعريف) : وإنما نزلوا غوطة دمشق حيث صارت الإمرة إلى عيسى بن مهنا وبقي جار الفرات في تلابيب التتار، قال في (مسالك الأبصار) : وهم آل بيت عظيم الشأن، مشهور السادات، إلى أموال جمة ونعم ضخمة ومكانة في الدول علية، وأما الإمرة عليهم فقد ذكر في (مسالك الأبصار) أنه كان أميرهم في زمانه رملة بن جماز بن محمد بن أبي بكر بن علي بن حديثه بن عقبة بن فضل بن ربيعة، ثم قال: وقد كان جده أميرًا ثم أبوه، قلد الملك الأشرف (خليل بن قلاوون) جده محمد بن أبي بكر إمرة آل فضل، حين أمسك مُهنا بن عيسى، ثم تقلدها من الملك الناصر أخيه أيضًا حين طرد مهنا وسائر إخوته وأهله. قال: ولما أمر رملة كان حدث السن، فحسده أعمامه بنو محمد بن أبي بكر، وقدموا على السلطان بتقادمهم، وتراموا على الأمراء وخواص السلطان وذوي الوظائف، فلم يحضرهم السلطان إلى عنده ولا أدنى أحدًا منهم، فرجعوا بعد معاينة الحين بخفي حنين، ثم لم يزالوا يتربصون به الدوائر وينصبون له الحبائل، والله تعالى يقيه سيئات ما مكروا، حتى صار سيد قومه وفرقد دهره، والمسود في عشيرته، المبيض لوجوه الأيام بسيرته، وله إخوة ميامين كبرًا، هم أمراء آل فضل وآل مرّا، وقد ذكر القاضي تقي الدين ابن ناظر الجيش في (التثقيف) : أن الأمير عليهم في زمانه في الدولة الظاهرية برقوق كان عيسى بن جماز اهـ المراد منه. هذا تعريف وجيز بآل فضل وآل مرّا من عرب الشام، ثم ذكر القلقشندي في الجزء الثاني عشر من صبح الأعشى في الكلام على من يولى عن الأبواب السلطانية بمصر ممن هم خارج دمشق أمراء العربان، وأنهم طبقتان، الطبقة الأولى من يكتب له منهم تقليد في قطع النصف (بالمجلس العالي) وهو أمير آل فضل خاصةً سواء كان مستقلاًّ بالإمارة أو شريكًا لغيره فيها، وبعد أن ذكر صورة تقليدين لهؤلاء -أعني أمراء آل فضل- ذكر أن الطبقة الثانية التي تلي طبقتهم من عرب الشام هي التي يكتب لها بالإمرة مرسوم شريف لا تقليد، وأنهم مرتبتان، المرتبة الأولى من يكتب له في قطع النصف، وهم ثلاثة: (الأول) : أمير آل علي. (والثاني) : التقدمة على عربي آل فضل وآل علي. (والثالث) : أمير آل مراء، وذكرا نموذجًا مما يكتب لكل منهم. وسننشر من ذلك ما فيه العبرة لمن يقابل أمثال هذا وذاك بما صارت إليه عرب الشام وغيرهم من بعد استيلاء الترك على مصر والشام إلى هذه الأيام، فقد كانت قبائل الأعراب قوةً عظيمةً للدول المصرية والشامية فأضعفتها الدولة التركية، وما كان سبب ذلك إلا محافظة الترك على عجمتهم وتعصبهم لتركيتهم، على ما كانت عليه من الفقر والعداوة، فإنه لم تدون لها المعاجم ويُبدأ بجعلها لغة علم إلا في النصف الثاني من القرن الماضي (الثالث عشر للهجرة) بعد ضعف الدولة ودبيب الانحلال فيها، ولو حافظت على العرب والعربية لما حل بها وبالإسلام ما يبكيان منه في هذه الأيام، وسنبين ذلك بالجلاء التام. ((يتبع بمقال تالٍ))

معاهدة الصلح ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ معاهدة الصلح (1) وضع رؤساء وزراء الحلفاء مع الدكتور ولسن رئيس الولايات المتحدة شروط صلح بينهم وبين الحكومة الألمانية في مجلد ضخم، ونشرت خلاصتها شركة روتر في برقية وردت من لندن في 7 مايو، وهذه ترجمتها العربية: هذه خلاصة رسمية لمعاهدة الصلح، وهي تتألف من مقدمة وصفية، وديباجة وخمسة عشر فصلاً: المقدمة الوصفية للخلاصة إن نص معاهدة الصلح الذي سلم إلى الألمان الآن، يراد به أولاً: تبيان الشروط التي بها وحدها يقبل الحلفاء والدول المشتركة معهم أن يعقدوا الصلح مع ألمانيا , وثانيًا: إيجاد التدابير الدولية التي ابتكرها الحلفاء لمنع وقوع الحروب في المستقبل وتسوية أمور البشر، ولهذا السبب الأخير أدمج في المعاهدة عهد جمعية الأمم والاتفاق الدولي الخاص بالعمل والعمال. على أن المعاهدة لا تبحث إلا نادرًا في المشاكل الناشئة عن تصفية الإمبراطورية النمسوية، ولا في أملاك الدولتين المعاديتين: التركية والبلغارية، إلا في ما يقيد ألمانية بقبول التسويات المقبلة التي يستقر عليها قرار الحلفاء فيما يتعلق بهاتين الدولتين. وتقسم المعاهدة إلى 15 فصلاً، فالفصل الأول يحتوي على عهد جمعية الأمم التي عينت لها وظائف في مواضع شتى من المعاهدة، والفصل الثاني يصف حدود ألمانية الجغرافية ابتداءً من المنطقة الشمالية الشرقية من حدود البلجيك الحالية. ويتألف الفصل الثالث من 12 مادة يشترط فيها على الألمان قبول التغيير السياسي الذي تقضي به المعاهدة في أوربا، وهذا الفصل يقضي بإنشاء دولتين جديدتين: دولة التشك والسلوفاك، ودولة بولندة. وينص على الاعتراف بهما، وينقِّح قاعدة سيادة البلجيك ويغير حدودها، وينص على إنشاء أنظمة جديدة من الحكم في لكسمبرج ووادي السار، ويرد الإلزاس واللورين إلى فرنسة، ويقضي باحتمال إضافة أملاك إلى الدنمرك، ويجبر ألمانية على الاعتراف باستقلال النمسة الجرمانية , وقبول الشروط التي توضع للدول والحكومات التي نشأت منذ الثورة الروسية. ويبحث الفصل الرابع في التعديل السياسي للبلدان الواقعة في خارج أوربة , والتي تأثر مركزها بالحرب، وفيه تنازل عام في ألمانية عن أملاكها وحقوقها في الخارج، وأن تسلم إلى الحلفاء مستعمراتها والحقوق التي اكتسبتها في أفريقية بالاتفاقات الدولية المختلفة، ولا سيما عقد برلين سنة 1885، وعقد بروكسل سنة 1895 التي عينت نصيب كل من الدول الأوربية في قلب أفريقية، ويتضمن هذا الفصل اعتراف الدول بالحماية البريطانية على القطر المصري، وينقض عقد الجزيرة الذي كان خطوةً من خطوات سياسة الاعتداء الألمانية التي أوصلت إلى الحرب. ويتضمن الفصل الخامس شروط الصلح العسكرية البرية والبحرية والجوية، وتحديد جيش ألمانية وأسطولها، ويقضي بإلغاء التجنيد الإجباري في ألمانية توطئةً لجعل هذا الإلغاء عامًّا. وينص الفصل السادس على أنه يجب على جميع الدول الموقعة للمعاهدة أن تصون قبور قتلى الحرب، ويتضمن بيان كيفية إعادة أسرى الحرب إلى أوطانهم. والفصل السابع خاص بأمور التبعة والعقاب، وهو ينص على محاكمة الإمبراطور ولهلم. وفي الفصل الثامن بيان كيفية التعويض المطلوب من ألمانية، وفيه نصوص خصوصية عن الأوراق، ومفاخر الحرب التي أخذها الألمان في الحروب السابقة. ويتضمن الفصل التاسع المواد المالية، وهي تختص بتنفيذ ما اشترط في الفصل السابق. والفصل العاشر طويل جدًّا كثير الوجوه، وهو يحتوي على النصوص الاقتصادية ويؤيد المعاهدات والاتفاقات الدولية المختلفة التي ليست بذات صبغة سياسية كالمعاهدات الخاصة بالبوستة والتلغراف والقوانين الصحية، وبالإجمال جميع الاتفاقات التي تقيدت بها الدول المتمدنة قبل الحرب، وقد أضيف إلى هذا الفصل نصوص خاصة للتحكم في تجارة الأفيون والعقاقير التي تماثله. وأما الفصل الحادي عشر فخاص بالملاحة الجوية. وفي الفصل الثاني عشر مواد تبحث في المراقبة الدولية على الموانئ، والترع والأنهار وسكك الحديد، وفيه نصوص خاصة على قنال كيال. والفصل الثالث عشر يتضمن الاتفاق الدولي الخاص بالعمل والعمال. وأما الفصل الرابع عشر فيحتوي على الضمانات اللازمة لتنفيذ المعاهدة. والفصل الخامس عشر عبارة عن مجموعات من المواد المختلفة، منها الاعتراف بما يعقد بعد هذه المعاهدة من معاهدات الصلح، وتأييد أحكام محاكم الغنائم. والمواد الأخيرة تبحث في إبرام المعاهدة وموعد الشروع في تنفيذها، وقد جاء فيها أن النص الفرنسوي والنص الإنكليزي للمعاهدة يعدان رسميين يعول عليهما. ديباجة المعاهدة في الديباجة بيان وجيز لأصل الحرب، وطلب ألمانية للهدنة، ويلي ذلك أسماء الدول الموقعة للمعاهدة، والتي تمثلها الدول الخمس العظمى، أي: ولايات أميركا المتحدة والإمبراطورية البريطانية وفرنسة وإيطالية واليابان ومعها البلجيك وبوليفية والبرازيل والصين وكوبا وإكوادور واليونان وغواتيمالا وهايتي والحجاز وهندوراس وليبريا ونكارغوى وبناما وبيرو وبولندا والبورتغال ورومانية وسربية وسيام والتشك سلوفاكيا وإرغواي من إحدى الجهتين وألمانية من الجهة الأخرى. ويلي ذلك أسماء المندوبين عن هذه الدول، وبعدها هذه العبارة: (وبعد ما تبادل هؤلاء المندوبون أوراق اعتمادهم المعلمة لسلطتهم، ووجدت هذه الأوراق وافيةً اتفقوا على ما يأتي: تنتهي الحرب في الساعة التي يبدأ فيها بتنفيذ هذه المعاهدة، وتستأنف العلاقات النهائية بحسب أحكام هذه المعاهدة مع ألمانيا، ومع كل دولة من دولها من جانب الحلفاء والدول المشتركة معهم) . الفصل الأول في جمعية الأمم [1] العضوية: يكون أعضاء الجمعية من الدول الموقعة لهذا العهد، وسائر الدول التي تدعى إلى الانضمام إليه، وعلى هذه الدول أن ترسل طلب انضمامها من غير قيد ولا شرط في خلال شهرين، ويجوز قبول أي دولة أو مستعمرة مستقلة، أو كانت مستعمرة إذا وافق على قبولها ثلث أعضاء هيئة الجمعية، ويجوز لأية دولة كانت أن تنسحب من الجمعية إذا أعلنت عزمها على ذلك قبل الانسحاب بسنتين، وكانت قد قامت بجميع عهودها الدولية. كتابة السر: تنشأ هيئة دائمة لكتابة سر (سكرتارية) الجمعية في مركزها الذي سيكون مدينة جنيف. هيئة الجمعية: تتألف هيئة الجمعية من مندوبي أعضاء الجمعية، وتجتمع هذه الهيئة في مواعيد معينة، ويكون الاقتراع بالدول (أي: لا بعدد المندوبين) ولكل دولة من أعضاء الجمعية صوت واحد، ولا يجوز أن يتجاوز عدد مندوبيها ثلاثةً. مجلس الجمعية: يتألف مجلس الجمعية من مندوبي الدول الخمس العظمى (إنكلترة وفرنسة وإيطالية والولايات المتحدة الأمريكية واليابان) مع مندوبي أربع دول أخرى من الدول الداخلة في الجمعية، وتختارهم هيئة الجمعية من وقت إلى وقت. ويجوز للمجلس أن يُشرك دولاً أخرى معه بالانتخاب، ويجتمع مرةً واحدةً في السنة على الأقل، وأما الدول الداخلة في الجمعية والتي ليس لها مندوبون في المجلس، فتُدعى إلى إرسال مندوب عنها متى بحث المجلس في أمور تهم مصالحها، ويكون الاقتراع في هذا المجلس بالدول، ولكل دولة صوت واحد ومندوب واحد، ويجب أن تكون قرارات الهيئة والمجلس بالإجماع إلا فيما يختص بطرق العمل والتنفيذ، وبعض أمور أخرى نص عليها في عهد الجمعية وفي معاهدة الصلح، ففي هذه تكون القرارات بالأكثرية. التسليح: يصوغ المجلس الخطط الخاصة باتفاق السلاح؛ لتوضع موضع البحث والنظر والقبول، وتنقح هذه الخطط مرةً كل عشر سنوات، ومتى تم الاتفاق عليها لا يجوز لدولة تكون عضوًا في الجمعية أن تتجاوز قدر السلاح المعين لها من غير موافقة المجلس، ويتبادل الأعضاء المعلومات الوافية عن السلاح والتسلح والبيانات العسكرية، وتكون للمجلس لجنة دائمة تمده بالمشورة في الأمور العسكرية البرية، والبحرية. منع وقوع الحرب: إذا وقعت حرب أو بما خطر من وقوع حرب، فالمجلس يجتمع للبحث في ما يجب اتخاذه من العمل المشترك، ويتعهد أعضاء جمعية الأمم بأن يعرضوا مسائل النزاع بينهم للتحكيم أو التحقيق، وأن لا يلجئوا إلى الحرب إلا بعد صدور الحكم بثلاثة أشهر، ثم إن الأعضاء متفقون على تنفيذ حكم التحكيم، وعلى عدم محاربة الخصم الذي يذعن له من الفريقين المتنازعين، فإذا أبى أحد الأعضاء (الدول) تنفيذ الحكم، فالمجلس يعرض التدابير التي يلزم اتخاذها. ويضع المجلس الخطط لإنشاء محكمة دولية، والمحكمة تحكم في المنازعات بين الدول وتقدم المشورة، فالأعضاء (الدول) الذين لا يريدون عرض قضاياهم على التحكيم يجب أن يقبلوا حكم المجلس أو الهيئة، فإذا اتفق أعضاء المجلس - ما عدا مندوبي الفريقين المتنازعين - اتفاقًا إجماعيًّا على حقوق أحد الفريقين، فالأعضاء (الدول) يسلمون بأنهم لا يحاربون الفريق المنازع الذي يذعن لما يشير المجلس به، وفي هذه الحالة يكون لمشورة الهيئة باتفاق جميع أعضائها (الدول) الممثلين في المجلس، وبأكثرية بسيطة من الباقين (أي: من الدول الصغرى التي لها 4 مندوبين في المجلس) - ما عدا الفريقين المتنازعين - قوة القرار الإجماعي من المجلس، وفي كلتا الحالتين إذا لم يتيسر الوصول إلى الاتفاق المطلوب فالأعضاء يحفظون لأنفسهم الحق في فعل ما يرونه لازمًا لصون الحق والعدل. والأعضاء (الدول) الذي يلجأون إلى الحرب غير مكترثين للعهد، يحرمون كل اتصال وعلاقة بسائر الأعضاء (الدول) وفي هذه الأحوال يبحث المجلس في الأعمال العسكرية البرية والبحرية التي يمكن للجمعية أن تعملها لحماية العهد، ويقدم التسهيلات للأعضاء (الدول) التي تعاون في هذه المهمة. صحة المعاهدات: جميع المعاهدات أو العهود الدولية التي تبرم بعد إنشاء جمعية الأمم يجب أن تسجل في كتابة السر (السكرتارية) وتنشر، ويجوز لهيئة الجمعية أن تشير على أعضائها (دولها) من حين إلى حين بإعادة النظر في المعاهدات التي لم تعد صالحةً للعمل، أو التي يكون في تطبيقها خطر على السلام، والعهد يقضي بنقض جميع المعاهدات التي تعقد بين الدول الموقعة له، والتي تناقض نصوصه، ولكن ليس في العهد ما يمس صحة المعاهدات الدولية، كمعاهدات التحكيم أو الاتفاقات المحلية، كمذهب (منرو) لأجل صون السلام وتوطيد أركانه. نظام التوكيل: إن الوصاية على الشعوب التي لا تستطيع حتى الآن الوقوف وحدها يعهد فيها إلى الأمم الراقية التي هي أصلح من سواها للقيام بشؤون هذه الوصاية، والعهد يعترف بثلاث درجات من الارتقاء تقتضي أنواعًا مختلفةً من التوكيل وهي: (ا) : الشعوب التي من قبيل شعوب السلطنة التركية، وهي التي يمكن أن يعترف باستقلالها مؤقتًا بشرط أن تستمد المشورة والمساعدة من دولة موكلة يسمح لتلك الشعوب بأن يكون لها صوت في اختيارها [2] . (ب) : الشعوب التي هي من قبيل أهل أفريقية الوسطى، وهذه تدار أمورها بواسطة دول موكلة بشروط يوافق عليها أعضاء جمعية الأمم بالإجمال، وفي بلاد هذه الشعوب يتساوى جميع أعضاء الجمعية في التجارة، ويحظر فيها بعض المساوئ، كالنخاسة وبيع السلاح والمسكرات، ويمنع إنشاء القواعد العسكرية البرية والبحرية والخدمة العسكرية الإجبارية. (ج) : الشعوب الأخرى التي من قبيل سكان القسم الجنوبي الغربي من أفريقية وجزائر الباسفيك الجنوبي، فهذه تدار أمورها أحسن

ترجمة السيد عبد الحميد ابن السيد محمد شاكر ابن السيد إبراهيم الزهراوي ـ 1

الكاتب: أحمد نبهان الحمصي

_ ترجمة السيد عبد الحميد ابن السيد محمد شاكر ابن السيد إبراهيم الزهراوي [1] وُلد هذا الفقيد - رحمه الله تعالى - سنة ألف ومائتين وثمانٍ وثمانين للهجرة الشريفة بمدينة حمص من أسرة كريمة، ينتهي نسبها إلى الإمام الحسين ابن السيدة الطاهرة البتول فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - ولما أتم السادسة من عمره وضعه والده في المكتب فتعلم القراءة والكتابة والحساب واللغة التركية على يد شيخه الشيخ مصطفى الترك، ثم نقله والده إلى المكتب الرشدي بحمص، فأتقن وبرع في دروسه حتى أتمها، ففاق أقرانه وتقدم رفاقه وأترابه، وكان في خلال تحصيله موضع الإعجاب بتؤدته وترويه وحسن خلقه وتحصيله، وبعد إكمال دروسه خرج من المكتب المُومَى إليه حاملاً شهادة التحصيل، وعكف دائبًا على تحصيل العلوم بأنواعها، فقرأ فنون العربية بأقسامها على بعض شيوخ بلده، والفقه الحنفي على أستاذه الشيخ حسن الخوجة، والحديث والتفسير والعقائد على محدث زمانه الشيخ عبد الساتر أفندي الأتاسبي , ومنه أخذ الإجازة بقراءة الحديث وروايته، وقرأ الأصول والكلام والمعقول على الشيخ عبد الباقي الأفغاني نزيل حمص المتوفى فيها، وكان رحمه الله تعالى يجهد نفسه على التحصيل ومطالعة الكتب المطولة في كل فن حتى بلغ شأوًا قصر عنه أقرانه. بعد أن أتم دروسه على أساتذته كما تقدم سافر إلى الآستانة سنة 1308 بقصد السياحة، فأقام فيها برهةً وجيزةً، ثم سافر منها إلى مصر محط رحال العلماء، فحل نزيلاً في دار نقيب الأشراف وقتئذ السيد توفيق البكري، وهناك اجتمع بكثير من الفضلاء والأدباء، وجرت بينه وبينهم مطارحات شعرية على البداهة فكان محل إعجاب الجميع، ثم رجع إلى وطنه حمص عن طريق بيروت فالشام. بعد مكثه في بلده بضعة شهور أصدر جريدةً سماها (المنير) كان ينشر في كل عدد منها مقالات في الإمامة وشروطها، وينتقد أعمال الحكومة الجائرة منبهًا لها على سوء العاقبة إن دام هذا الجور والعسف [2] ، وكان يطبعها على مادة غروية على حسابه ويرسلها مجانًا إلى البلدان بواسطة البريد، لذلك اتصلت أبحاثها بمسامع الحكومة، فكانت تصدر التلغرافات الرمزية إلى المراكز بمنع هذه الجريدة كغيرها مما ينبه الأذهان وينشط الكسلان حسب العادة المألوفة في ذاك الزمان. وفي سنة 1313 سافر ثانية إلى الآستانة بقصد التجارة، فاتخذ مخزنًا هناك في محل يسمى (سلطان أوطه لر) ولما كان مخلوقًا للعلم والحكمة والإصلاح لا للتجارة، ثقلت عليه أعمال التجارة فتركها وعكف على مطالعة الفنون والعلوم في دور الكتب العمومية، وقلما خلت منها واحدة من مراجعته لأكثر كتبها. في غضون تلك الأيام طلبه صاحب جريدة (المعلومات) طاهر بك؛ ليكون محررًا لجريدته (المعلومات العربية) فباشر العمل بكل همة ونشاط، فكان يكتب فيها المقالات الأدبية والإصلاحية التي لم يكن يتجرأ أحد في البلاد العثمانية على نشر مثلها مع شدة المراقبة على الجرائد في ذلك الحين [3] ، ثم أخذ تحت المراقبة من قِبل السلطان عبد الحميد؛ لأنه زار سفارة إنكلترة هو وإسماعيل كمال بك الألباني الشهير مع آخرين مظهرين ارتياحهم لانتصاره على البوير، فساء السلطان أن ألف وفد سياسي في الآستانة لعمل نفذه ولم يعلم هو به إلا بعد وقوعه، ثم عين إسماعيل كمال واليًا لطرابلس الغرب بقصد إبعاده عن الآستانة إلى حيث لا يستطيع عملاً سياسيًّا، بل حيث يسهل الانتقام منه، فلم يقبل، فاسترضته الحكومة حينئذ فلم ينخدع، فلما أعيتهم الحيل فيه صرفوا النظر عنه، وعُين المترجَم في ذلك الوقت قاضيًا لأحد الألوية فلم يقبل أيضًا، وكان القصد من هذا التعيين كالأول خشية أن تسري كهربائية أفكاره المتنورة إلى غيره. وبعد أن أوقف تحت المراقبة أربعة أشهر، أرسل إلى دمشق الشام (مأمور إقامة) تحت المراقبة براتب خمسمائة قرش كل شهر. وفي خلال إقامته بدمشق كتب رسالةً في الإمامة، بين شروطها التي ذكرها الفقهاء والمتكلمون، ورسالةً في الفقه والتصوف نقد فيها بعض المسائل فيهما، وبَحَثَ في الاجتهاد شأن من سبقه في مثل هذا النقد والبحث، فلما اطلع على هذه الرسالة بعض المعاصرين الجامدين، أغروا العامة به زاعمين أنه مخالف للدين، فضج الناس وقتئذ عن غير روية؛ لأنهم أتباع كل ناعق، وكان الوقت عصر جمعة من أيام رمضان [4] ، وحشدت العامة من كل فج، فكادوا أن يوقعوا بالمترجَم شرًّا لولا أن تداركته العناية الإلهية، وذلك مما يدل على شجاعته وإخلاص يقينه بربه حيث كان غريبًا وحيدًا عن عشيرته في بلد غير بلده، وقد أثار بعض المتصفين بصفة العلم هذه الفتنة باسم الانتصار للدين، والله يعلم المفسد من المصلح. شاع الخبر فبلغ الوالي يومئذ، وهو ناظم باشا، فخشي أن ينالوا منه نيلاً، فحسمًا للفتنة وتخليصًا لصاحب الترجمة من شرهم، وتسكينًا لحميتهم استجلبه محافظةً على حياته وأوقفه (أي: حبسه حبسًا سياسيًّا لا يخل بكرامته) ليقف على حقيقة الأمر، ثم إنه أحضر أولئك المحرضين، وجمعه بهم في مجلس خاص للمباحثة في موضوع الرسالة، وطلب منهم إثبات ما زعموه من أنها مخالفة للدين، فما قامت لهم حجة مقنعة على دعواهم، بل كانت حجته هي الدامغة. عندما يئسوا من الوصول إليه بالأذى من هذا الطريق، أوحوا إلى الوالي ما لفقوه من الإيحاءات السياسية بحقه حتى ألجأوا الوالي لمراجعة الآستانة في أمره، فجاء الأمر بطلبه إليها، فأرسل محفوظًا عن طريق بيروت (وكانت مدة إقامته بدمشق سنةً وستة أشهر) فبقي في الآستانة تحت الحفظ ستة أشهر، ثم أرسل محفوظًا إلى وطنه حمص (مأمور إقامة) بالراتب المذكور، وكانت إعادته عن طريق ميناء الإسكندرونة فحلب فحماه فحمص. قضى مدةً عند أهله، فضاق صدره، ففر هاربًا إلى مصر - معهد الحرية - عن طريق طرابلس الشام سنة 1320، وبعد وصوله ببرهة وجيزة رغب إليه صاحب جريدة المؤيد أن يكون محررًا فيها، فاستلم الوظيفة وكتب ما كتب فيها من المقالات المفيدة، ثم ألف بعض كبراء القطر المصري حزبًا سموه حزب الأمة، وأنشأوا جريدةً له سموها (الجريدة) فدعوه إلى التحرير والتنقيح فيها، فلبى طلبهم وداوم على عمله حتى حصل الانقلاب العثماني وأُعلن الدستور، فطلبه إخوانه بحمص ليكون نائبًا عنهم في مجلس النواب (المبعوثين) فأجابهم حبًّا بخدمة الأمة والوطن، فانتخب هو وخالد أفندي البرازي مبعوثين من لواء حماة، فذهب إلى الآستانة فكان صوته في المجلس من أعلى الأصوات وأقواها في إقامة الحجة وإيضاح المحجة. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الشيخ محمد كامل الرافعي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ محمد كامل الرافعي (1) في أواخر العام الماضي فجعت طرابلس الشام، وهي غارقة مع سائر البلاد السورية في طوفان مصائبها بوفاة أفضل علمائها وأعلم فضلائها، مَثَل الفضيلة والإخلاص الأعلى في هذا العصر، وذكرى السلف الصالح في ذلك المصر، أصدق أصدقائنا وأخلص أوليائنا الشيخ محمد كامل ابن الشيخ عبد الغني الرافعي الطرابلسي الشهير. ولد الفقيد في طرابلس الشام سنة 1272 أو 1270 , ولما بلغ سن التمييز أقرئ القرآن الكريم وتعلم مبادئ الخط والحساب في أحد مكاتب الصبيان، ثم دخل المكتب الرشدي العثماني، أي: المدرسة الابتدائية الرسمية للحكومة، فتعلم فيها مبادئ اللغة التركية وما يدرس بها من مبادئ الفنون الرياضية وغيرها، ومنه النحو والصرف للغتين العربية والتركية، وعلم الحال وهو عبارة عن العقائد والعبادات الدينية والآداب، ثم تلقى العلوم العربية والدينية على أعلم علماء العصر الذين بذت طرابلس بهم كل مصر: والده والشيخ محمود نشابه والشيخ حسن الجسر، فقد كان وجود هؤلاء في طرابلس مصدقًا لقول المتنبي: أكارم حسد الأرض السماء بهم ... وقصرت كل مصر عن طرابلس ولما كانت الرحلة في طلب العلم مزيد كمال في التعليم - كما قال الحكيم ابن خلدون - لما فيها من حفز الهمة والانقطاع إليه بمفارقة الأهل والأحبة، وكان حب عشيرة الرافعية للأزهر وتعلقهم به يفوق ما يعرف من ذلك عند غيرهم من أهل طرابلس وغيرها من البلاد الإسلامية؛ لأن الرافعي الذي يرحل من طرابلس إلى مصر لا يشعر كغيره بمفارقة وطن ولا بغربة عن الأهل والسكن، لأن أكثر عشيرته يقيمون في مصر، فهو في الهجرة المؤقتة إليها يجمع بين فوائد الغربة وأنس القرابة والقربة - رحل الفقيد إلى مصر في سنة 1297 وجاور في الأزهر سنين لم أقف على عددها، وكان أشهر شيوخه فيه، كبير الرافعية وأفقه فقهاء الحنفية: الشيخ عبد القادر الرافعي، والشيخ محمد الشربيني الشافعي الشهير الذي أدركنا الناس أخيرًا يضعونه في الذروة من علماء الأزهر في كل علم وفن يدرس فيه، وفي المحافظة على أخلاق علماء الدين، والشيخ عبد الهادي الإبياري الشافعي الشهير بالجمع بين العلوم الدينية والتفنن في أدبيات اللغة العربية، والشيخ أحمد الرفاعي المالكي الشهير الذي كان خير مزية له أنه كان آخر من قرأ جميع كتب السنة الستة في الأزهر. وهؤلاء الشيوخ الكبار لم يكونوا يفوقون شيوخه الثلاثة في طرابلس في علم من العلوم ولا فن من الفنون، ولا في أخلاق الدين وفضائله إلا أن يكون ما اشتهر عن الشيخ عبد القادر الرافعي من سعة الاطلاع والتحقيق في فقه الحنفية. وإننا نقدم على ترجمة الفقيد تعريفًا وجيزًا بشيوخه الثلاثة في طرابلس؛ لأننا رأينا لكل منهم أثرًا واضحًا في سيرته العلمية والعملية والأدبية. *** الشيخ محمود نشابه أما الشيخ محمود نشابه فقد أقام في الأزهر زهاء ثلاثين سنةً، طالبًا ومدرسًا وأتقن جميع ما يدرس فيه حتى علم الجبر والمقابلة الذي هُجر بعد عهده، ثم قضى بقية عمره المبارك في طرابلس في تدريس تلك العلوم، فتخرج به كثيرون، وكان شيخ الشافعية والحنفية جميعًا، وقلما أتقن أحد فقه المذهبين مثله، وقد أدركته في أوائل الطلب وقرأت عليه الأربعين النووية، وأجازني بها قبل الشروع في طلب العلوم، ثم كنت أحضر درسه لشرح البخاري في الجامع الكبير وأقرأ عليه صحيح مسلم وشرح المنهج بداره، وحضرت عليه طائفة من شرح التحرير، وهو في فقه الشافعية كالمنهج، وما عرفت قيمته وتفوقه على جميع من لقيت من علماء الإسلام في علومه إلا بقراءة صحيح مسلم عليه، فإنني كنت أقرأ عليه المتن فيضبط لي الرواية أصح الضبط من غير مراجعة ولا نظر في شرح، وأسأله عن كل ما يشكل علي من مسائل الرواية والدراية، فيجيبني عنها أصح جواب، وكنت أراجع بعض تلك المسائل بعد الدرس في شرح مسلم وغيره، ولا أذكر أنني عثرت له على خطأ في شيء منها، وكان إذا راجعه بعض تلاميذه أو غيرهم في غلط وقع فيه، يقبله بدون أدنى امتعاض لِما تحلَّى به من الإنصاف والتواضع وغيرهما من الأخلاق المحمدية. أعطاني شرحه للبيقونية في مصطلح الحديث بخطه، فرأيته استعمل في فاتحته لفظ الفالح بمعنى المفلح، فراجعته فيه فأمرني أن أصلحه وأصلح كل خطأ من قبيله، ورأيته ارتاح لذلك وسُر به. وكانت معيشته معيشة الزهاد لا يبالي بزينة الدنيا ولا زخرفها، ولا يحفل بحكامها وكبرائها، كان في طرابلس متصرف من أهل العلم، اسمه عارف باشا، وكان يزوره علماؤها إلا الشيخ، فذهب المتصرف لزيارته في داره فرده عن الباب ولم يأذن له بالدخول. خرجت مرةً معه للرياضة في ضواحي البلد فما كدنا نحاذي دار الحكومة بجوار تل الرمل حتى تعب الشيخ، فالتفت إلي وقال: يا سيد رشيد أعندك كِبر؟ قلت: أرجو أن لا يكون عندي كِبر، قال: إذًا اقعد معي على الأرض هنا لنستريح، فقعدنا بجانب الطريق. وقد رثيته بقصيدة، أذكر منها هذه الأبيات للدلالة على ما كان له من المكانة في نفسي وقتئذ مع القول بأن هذه المكانة لم تتغير إلى اليوم: شيخ الشيوخ إمام العصر أوحده ... ووارث المصطفى فينا ونائبه فلك الطريقة أو در الحقيقة في ... يم الشريعة راسيه وراسبه ومرجع الكل في حمل النصوص وفي ... حل العويص إذا أعيت مصاعبه رب الحقائق مكشاف الدقائق محـ ـمود الخلائق مَن جلَّت مواهبه من حلقت هامة الأفلاك همته ... وزاحمت منكب الجوزا مناكبه من لا تُحدّ بتعريفٍ معارفه ... وليس تحصى بتنقيب مناقبه من كان عن خشية الله منكسرًا ... ولان عن رفعة للناس جانبه من أحيت السنة الغرا مآثره ... وأفنت البدعة السودا قواضبه وما قواضبه إلا يراعته ... والكتب كم ألفت منها كتائبه ومنها: خطب أصاب فؤاد الشرق فانفطرت ... مرارة الكون وارتاعت مغاربه قد مزق الإفك العلمي أطلسه ... ومن مكوكبه انقضت كواكبه ومنهج العلم أمسى اليوم مسلكه ... وعرًا تجوب مجاهيلاً جوائبه وصدر (شرح البخاري) ضاق فيه وكم ... قامت على (مسلم) تبكي نوادبه لئن بكى تابعو النعمان مذهبه ... فالدين من بعده ضاقت مذاهبه هذا (ابن إدريس) بعد الشيخ قد درست ... دروس مذهبه وارتاع طالبه ومنها: لله مثوًى ببطن الأرض مد به ... بحر تفيض بلا جزر ثوائبه [1] مثوى حوى منه ذا فضل لقد حسدت ... ترابه من أخي العليا ترائبه مثوى لقد حفظ الثأر الأثير على ... ثراه إذا ظفرت فيه رغائبه لئن دفنَّا به شخص الكمال ضحى ... فالروح طارت إلى عدن نجائبه *** الشيخ عبد الغني الرافعي وأما والد الفقيد الشيخ عبد الغني الرافعي فقد حصل العلوم والفنون الدينية واللغوية في طرابلس ودمشق الشام , وأشهر شيوخه في طرابلس الشيخ نجيب الزعبي الجيلاني، ولا أعرف شيوخه في دمشق، ومن المعروف المشهور أنه كان فيها يومئذ نفر من أكبر علماء الإسلام في العالم، وكان الشيخ لوذعي الذكاء، يُحصِّل في سنة ما لا يُحصِّله الأكثرون في سنين، وقد امتاز بين فقهاء عصره بالجمع بين النبوغ في علوم الشرع والتصوف والأدب، فكان فقيهًا مدققًا، وصوفيًّا مصفًّى، وأديبًا شاعرًا ناثرًا، وله في كل ذلك ذوق خاص. سلك طريق الصوفية على الشيخ رشيد الميقاتي الشهير سلوكًا صحيحًا بالرياضة الشديدة ومداومة الذكر حتى رأى من الأسرار والعجائب الروحية ما لا محل لذكر شيء منه في هذا التعريف الاستطرادي، وكان عالي الهمة قوي العناية شديد المواظبة فيما يأخذ فيه من علم أو عمل، على غير المعهود من أكثر مفرطي الذكاء أمثاله، سمعت منه أنه قرأ كتاب (أدب الدنيا والدين) ثلاثين مرةً، وقرأ إحياء العلوم للغزالي مرارًا كثيرةً، لا أذكر عنه عددها. أدركناه في شيخوخته قوي الجسم والعقل والذاكرة، وكان جميل الصورة كأن وجهه ورد يحيط به الياسمين من شيبته الناصعة، وكان يلبس أحسن الملابس ويأكل أطيب المآكل، ويسكن دارًا مزينةً بالنقش والأثاث الجميل، وتزوج في شيخوخته بكرًا رزق منها أولادًا، وكان يُرى في سن السبعين أنه لم يفقد من مزايا الشباب شيئًا، ولم يشغله رخاء العيش عن اشتغال القلب واللسان بذكر الله ومذاكرة العلم. وَليَ إفتاء طرابلس وهو أعلى منصب لرجال العلم في عرف الدولة العثمانية، وولي القضاء لولاية اليمن، ولم يكن في مكانه من الرياسة والجاه يمتنع من وضع يده بيد رجل فقير يلبس الأسمال البالية، ويمشي معه في السوق إذا كان له مزيةً من علم أو صلاح؛ إذ كانت أخلاقه أخلاق كبار الصوفية، ومظهره مظهر كبار رجال الدنيا، ولكنه ما كان ليجلس بجانب الطريق العام على التراب أمام دار الحكومة كما فعل الشيخ محمود نشابه. أذكر مما سمعت من أخبار تصوفه أنه سافر من بلده - وهو في مقام التوكل - ولم يكن معه شيء من الدراهم، فيسر الله الأمر ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن أخبار أدبه أنه لما سافر إلى الآستانة، لقي في الباخرة بعض رجال العلم والأدب، فلما عرف الرجل فضله قال له: فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت تكفيك منه جرعة الوشل فأجابه على الفور ببيت من هذه القصيدة (المعروفة بلامية العجم) : أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلى قِبلي ولما لم يعرف له رجال الآستانة قيمته أراد التحول عنها إلى مصر، فأرسل إلى الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري رسالة برقية يتوسل بها إلى توفيق باشا عزيز مصر في ذلك العهد، وهي هذان البيتان: قالت لي النفس الأبية مذ رأت ... في الروم ضاع اسمي وضل رشادي سر بي لدار الفضل مصر لعله ... يهديك للتوفيق عبد الهادي وأذكر مما رأيت من إنصافه وتواضعه أنه كان عندما يزورنا في القلمون يعهد إلي أن أقرأ عليه شيئًا من إحياء العلوم؛ لأنني كنت مولعًا بمطالعته من قبل الشروع في طلب العلم، فانتهيت في القراءة مرةً إلى فصل في الحاكايات التي يذكرها أبو حامد الغزالي - رحمه الله تعالى - في بعض الأبواب، كحكايات المتوكلين والأسخياء، فاستوقفني الشيخ وقال: إنني مستغرب لحشو المصنف - قدس سره - هذه الحكايات في هذا الكتاب، وكله علم وتحقيق لولا هذه الحكايات! قلت: إنني أرى هذه الحكايات من أهم مقاصد الكتاب، فإنه كتاب تربية، وإنما تتم التربية بالتأسي والقدوة، فالترغيب في السخاء بالآثار المروية والحِكم المعقولة لا يبلغ تأثيره وحده ما يبلغه ما نرى في هذا الكتاب وغيره، من ذكر حكايات الأجواد من السلف، وإنما كمال التربية في الجمع بين الترغيب بالقول والقدوة بالفعل، فقال لي: أعيذك بالواحد * من شر كل حاسد * إنني أقرأ هذا الكتاب من قبل أن تُخلَق، وقد قرأته مرارًا وأنا أفكر في هذه المسألة وأنتقدها على المؤلف، ولم يخطر في بالي هذا الغرض الواضح الذي لا شك أنه كان يرمي إليه، رضي الله عنه. ولم يكتف الشيخ - قدس الله روحه - بهذا الثناء بل كان يذكر هذا الجواب في كل مجلس من مجالسه العلمية والأدبية عقبه، ويقول لمجالسيه وأكثرهم من تلاميذه ومريديه: إنني كنت مستشكلاً هذه المسألة منذ عشرات من السنين، وقد حلها لي هذا الغلام النابغ النابه على البداهة، أو ما هذا معناه بالاختصار. وقد استفاد من إقامته في اليمن فوائد عظيمةً، منها أن مذاكراته ومناظراته لعلماء الزيدية - مع ما علمت من إنصافه - قوى في نفسه ملكة الاستقلال في فهم الدين وفقه الحديث، عرف سيرة الإمام الشوكاني فاقتنى كتابه (نيل الأوطال وشرح منتقى الأخبار) ولما عاد إلى طرابلس كان يقرأه درسًا للنابغين

باحثة البادية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ باحثة البادية تتمة ترجمتها (2) حقيقتها النفسية ومذهبها الإصلاحي إن ما بيناه من خبر نشأتها وتربيتها، وما أشرنا إليه من آثارها القلمية هما كالعلة والمعلول والمقدمات والنتيجة، في ظهور صورتها النفسية العقلية وسيرتها العملية، فثبت عندنا أن باحثة البادية ذات رأي ثابت ومذهب كوّنه العلم والبحث في تربية النساء المسلمات وتعليمهن وما يجب أن يقمن به من الإصلاح الاجتماعي في العالم الإسلامي في هذا العصر، وإنها كانت داعية إصلاح منبعثةً بِغَيْرَةٍ نفسية إلى نشر مذهبها، والحمل على اتباعه، ومناضلة المخالفين له. قبل أن نبين حقيقة هذا المذهب نقول: إن هذه مَنقبة للمُترجَمة لم تسبقها إليها امرأة في مصرها في عصرها، ولعلي لا أبالغ إذا قلت: في أمتها العربية كلها، بل هذا مما يقل في الرجال بله النساء، وقد غفل عن معرفة هذا لها من رثوها وأبَّنوها في الصحف، وفي حفلة التأبين التي نذكرها بعد؛ لأن مثل هذه الدقائق لا يلتفت إليها الشعراء والخطباء، ولا أكثر كتاب الصحف. كتب كثير من الرجال والنساء في المسائل التي كتبت فيها باحثة البادية في هذا العصر، ولا نجزم بأن أحدًا منهم صاحب مذهب ثابت له حافز من نفسه للدعوة إليه والدفاع عنه إلا قاسم بك أمين وباحثة البادية، لا أنكر أن من أولئك الكاتبين من هم أوسع اطلاعًا وأفصح عبارةً من باحثة البادية، وأن منهم من له رأي ثابت فيما كتب خطأً كان أو صوابًا، ولكنه مقلد فيه لغيره حتى في الاستدلال، ومزيتها على أمثال هؤلاء أنها قد ارتقت إلى طبقة أهل الإصلاح وأصحاب المذاهب الاجتماعية. لما شبت حرب المناظرة والجدال في المسألة التي سموها تحرير المرأة، وجعل أساس عقيدتها ما سموه السفور أو رفع الحجاب - كنا نرى مقالات كثيرةً لمقلدة المحافظين على الحجاب، وأخرى لمقلدة التفرنج طلاب السفور، هؤلاء متهوكون في فتنة التشبه بالإفرنج، ظانين أنهم في التشبه بهم في أهون الأمور وألذها يكونون مثلهم حتى في غير ما تشبهوا بهم فيه، وأولئك متمسكون بكل ما تعودوه ودرجوا عليه، ولا سيما إذا كان له شيء من صبغة الدين، خائفون أن يكون في التحول عنه انحلال أمتهم بذهاب مقوماتها أو مشخصاتها، وإن لم يكونوا على علم بأن للأمم مقومات ومشخصات تقوى بالاعتصام بها، وتنحل بانحلالها، وأن ما يحافظون عليه وينافحون دونه منها؛ لأن ذلك الخوف وجداني مبهم لا علمي مبين، فنرى جمهورهم يظن أن ما جرى عليه أكثر نساء المدن، وبعض نساء القرى من وضع البراقع على أفواههن هو الحجاب الشرعي. لم تكن باحثة البادية من هؤلاء ولا من أولئك، بل كان لها مذهب وسط مبني على أصلين، أحدهما: وجوب التزام النساء جميع ما قرره الإسلام من عقيدة وأمر ونهي، وثانيهما: اقتباس جميع ما تحتاج إليه المرأة المسلمة من الفنون والنظام والأعمال؛ للقيام بما يناط بها عند ما تكون زوجًا لرجل وأُمًّا لولد ورئيسةً لمنزل، أو منقطعةً لإتقان علم أو عمل على ما تقتضيه حالة العصر من مجاراة الأمم العزيزة القوية في مضمار الارتقاء. إن تسمية هذا المذهب وسطًا بين نزغات المتفرنجين ورغبات المحافظين على القديم على علاته، يشعر بتفضيله، وناهيك بقاعدة: (خير الأمور أوساطها) المسلَّمة عند الجمهور، وقد رويت حديثًا مرفوعًا، أخرجه السمعاني في ذيل تاريخ بغداد عن علي - كرم الله وجهه - بسند مجهول، ولكن معناه يؤيد بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} (البقرة: 143) مع قوله في آية أخرى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) وبما تقرر في علم الأخلاق من كون الفضائل أوساطًا بين أطراف، هي الرذائل، كالجود بين طرفي البخل والإسراف. ويمكن بيان ذلك في هذا المذهب بطريقة علمية مستمدة من سنة الله تعالى في أجساد الناس وأنفسهم وعقولهم، ذلك بأن لله تعالى في تسلسل أفراد الناس (وغيرهم من الأحياء) بعضهم من بعض، سنتين متقابلتين: سنة التباين، وسنة التوافق والتوارث، فبمقتضى سنة التوافق يشبه الابن أباه، والفرع أصله، في بعض صفاته الجسدية والنفسية، وبمقتضى سنة التباين يخالفه في بعض تلك الصفات، فلا يوجد أحد يماثل أباه أو غيره من أصوله في كل شيء، أو يخالفه ويباينه في كل شيء، ولولا هاتان السنتان لكان كل فرد من الأفراد التي يتولد بعضها من بعض مباينًا لغيره، كأنه نوع من جنس لم يوجد منه غيره , أو لكان جميع البشر كأبيهم الأول في كل شيء، بحيث يتعذر التفرقة بين اثنين منهم في سن واحدة، فسبحان الخلاق العليم الحكيم. ثم إن لله تعالى سنتين كهاتين السنتين في سيرة الناس العملية وحياتهم الاجتماعية، وهما سنة المحافظة والتقليد، وسنة الاستقلال والتجديد، وحكمة الله تعالى في جعل مقدار ارتقاء البشر في العلوم والأعمال على اجتماع هاتين السنتين، كحكمته في جعل مدار وجود الأجناس والأنواع على تينك السنتين، ولو قلد كل أحد مَن قَبله في كل ما وجدهم عليه، لكانت حياتهم العملية متماثلةً كحياة النحل والنمل من الحشرات التي تعيش بالاجتماع والتعاون، ولو خالف كل أحد مَن قبله في كل شيء واستقل بجعله جديدًا، لخرج الإنسان بذلك عن كونه عالمًا اجتماعيًّا يرتقي بالتعاون وبناء الجديد على القديم مع التحسين فيه، ولما تكونت الأمم والشعوب، ولا ارتقى علم ولا عمل ولا صناعة، فالأمم تتكون بما يشترك أفرادها فيه من العلوم والأعمال التي تطبع في أنفسها ملكات وأخلاقًا وأذواقًا خاصةً تكون من أقوى مقوماتها التي تفصلها من غيرها، ولا يتكون للأمة خلق جديد في أقل من جيل، وقلما يكمل لها خلق أو ذوق خاص في الفنون والصناعات في أقل من ثلاثة أجيال، كما يقول بعض علماء الاجتماع. بعد هذا البيان التمهيدي لبيان قيمة مذهب باحثة البادية في مسألة تربية النساء المسلمات في هذا العصر، أقول: إن أكثر الذين خاضوا في هذه المسألة يجهلون هذه الأصول، فكان منهم من غلبت عليه سنة التقليد والمحافظة على القديم برمته، وهو لا يدري أن الاقتصار عليه ضار على أنه محال، ومنهم من غلبت عليه سنة حب التجديد لكل شيء وإبطال كل قديم، وهو لا يدري أنه مفسدة على أنه مطلب لا ينال، وجهل الأكثرون من الفريقين أن التطورات الجديدة الطارئة على الأمة التي تدعوها إلى تغيير شيء من ماضيها، وتحدث التعارض والتدافع بين الفريقين المذكورين يجب أن يتروى في أمر تيارها، فلا يساعدها على جرفه للماضي الذي صار من مقومات الأمة، ولا يقاوم بمحاولة منعه من أي تغيير في شؤونها، وإن كان إزالة ضار واستبدال نافع به، لهذا نرى من المتفرنجين - طلاب التجديد بغير علم صحيح ولا فطرة معتدلة - مَن يستعجلون في هدم عقائد الدين وشعائره، وفي التصرف في اللغة تصرفًا يخرجها عن أصولها وقواعدها وفي تغيير الأخلاق والآداب الاجتماعية بسفور النساء ومخالطتهن للرجال في المجامع والملاهي والحانات والمراقص، وما الدافع لهم إلى هذا إلا ما يرون فيه من اللذة والتمتع والتشبه بالإفرنج فيما يشكو منه حكماؤهم وفضلاؤهم. كان قاسم بك أمين مستقلاًّ معتدلاً في فريق مقلدة التفرنج، وخصمه محمد طلعت بك حرب مستقلاًّ معتدلاً في فريق مقلدة التدين والتعود، ثم ظهرت باحثة البادية مستقلةً معتدلةً، تجاذبها الفريقان، كل منهما يعدها من حزبه فيما توافقه فيه، غير مشدد عليها بالإنكار فيما تخالفه فيه، فبهذا التفصيل الوجيز تعرف قيمة هذه المرأة المسلمة العربية المصرية الفاضلة، وأنها فوق قيمة من توصف بأنها كاتبة ناثرة شاعرة، أو خطيبة ماهرة، فمزيتها في نساء قومها أنها مصلحة مستقلة معتدلة. الاحتفال بتأبينها تحدث بعض من حضر مأتم الباحثة من المفكرين في استحسان إقامة حفلة تأبين لها، تكون مظهرًا لتكريم الرجال للنساء، وترغيبًا لهن في العلم النافع، والسيرة الزوجية الصالحة، ثم تألفت لذلك لجنة برياسة شيخ الأدباء إسماعيل صبري باشا، كان أول عملها أن عرضت على السير عدلي باشا يكن وزير المعارف جعل حفلة التأبين تحت رئاسته، فقبل مرتاحًا، ولما كان الراغبون في التأبين والرثاء كثيرين، اضطرت اللجنة إلى اختيار ثلاثة من الخطباء، وبضعة من الشعراء الذين يحضرون الحفلة، واختارت من رسائل التأبين والرثاء كلمةً وجيزةً بليغةً لصديقة الفقيدة نبوية موسى ناظرة مدرسة البنات الأميرية في الإسكندرية، وقصيدة لأحمد أفندي الكاشف الشهير. ثم اختارت أن يكون الاحتفال في قاعة الخطابة الكبرى من دار المدرسة السعيدية التي كانت دار الجامعة المصرية، وضربت موعدًا لذلك الساعة الرابعة من مساء يوم الجمعة ثاني ربيع الأول، ولم يكد يجيء الموعد حتى غصت تلك القاعة الفسيحة بأهل العلم والأدب والوجاهة وطلاب الأزهر والمدارس التجهيزية والعالية، وكان المنظِّم للمكان والمراقب لنظام الاحتفال علي بك حسني ناظر المدرسة السعيدية وهو عريق في ذلك وأصيل، وقد اعتذر عن حضور الحفلة عدلي باشا بانحراف ألمَّ بصحته، وحضرها وكيل نظارة المعارف الذي تولى المساعدة نيابةً عن الوزير في جعلها في أحد معاهد الوزارة. وكان أول الخطباء إبراهيم بك الهلباوي المحامي الشهير، وموضوع تأبينه ترجمة الفقيدة، فذكر كل ما ينبغي ذكره في ذلك بفصاحته وطلاقته التي تشبه بالسيل المدرار وتدفق الأنهار، وألم بما دار من الجدل والمناقشات في تعليم المرأة وحجابها، وعد باحثة البادية حجةً على المنكرين، وقد اضطرب الحاضرون عند ذكر مسألة الحجاب، وكاد بعضهم يقاطع الخطيب ويصرحون بأن الفقيدة حجة على طلاب السفور؛ لأنها فاقت جميع المتعلمات في مصر , وهي محافظة على حجابها الشرعي، وناصرة للقائلين به. وتلاه الشيخ مصطفى عبد الرازق كاتب سر مجلس الأزهر والمعاهد الدينية الأعلى، فتلا خطبةً فصيحة العبارة، موضوعها الغرض من إقامة هذا الحفل، وهو تكريم النابغين المستحقين للتكريم من الرجال والنساء، لما في ذلك من حسن الأسوة والترغيب في العلم والعمل النافع للأمة، وألمَّ بذكر النهضة الحديثة في التعليم وتربية البنات، وما للشيخين الأستاذ الإمام محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان من الجهاد واليد البيضاء في ذلك، واستغرب من تقصير أصدقاء الشيخ عبد الكريم الذين هم من كبراء الأمة فيما كان ينبغي من الاحتفال بتأبينه، وما كان ينبغي لغيرهم أن يتقدم عليهم في الدعوة إلى ذلك، ونوه بما كان من نجاح باحثة البادية في العلم والدعوة إلى إصلاح حال المرأة، وما كان من صلاحها في نفسها واشتهارها بعلو الآداب والتقوى الذي استحقت به مثل هذا الاحتفال. وتلاه كاتب هذه السطور وكان موضوع خطابته: نبوغ باحثة البادية، وانتظامها في سلك المصلحين، وآيات ذلك من مقالاتها وخطبها، وقد بدأت بذكر أولياتها الذي تقدمت الإشارة إليه، وذكرت أن منها أن أول مكان خطبت فيه هو هذه القاعة التي كان تأبينها فيها أول احتفال في مصر بتأبين امرأة، ثم ذكرت نحوًا مما تقدم في الترجمة من أخبار نشأتها وتعليمها وتربيتها، واستنبطت منه أن مدارس البنات الأميرية - وغير الأميرية بالأولى - لا يرجى أن تخرج مثلها؛ لأن نبوغها كان بمجموع تلك الأسباب التي ذكرتها، لا بالمدرسة السَّنية التي تعلمت فيها، وإلا لرأينا في كل سنة عددًا من المتخرجات مثلها، ذلك بأن التع

أمراء أعراب الشام في القرن الثامن

الكاتب: القلقشندي

_ أمراء أعراب الشام في القرن الثامن وما كان يكتب لهم من تقليد الإمارة من سلاطين مصر جاء في (ص118) من الجزء الثاني عشر من كتاب (صبح الأعشى) في بيان ما يكتب من الطبقة الأولى من أمراء عربان الشام ما نصه: تقليد بإمرة آل فضل وهذه نسخة تقليد بإمرة آل فضل [1] كتب به للأمير شجاع الدين فضل بن عيسى عوضًا عن أخيه مهنا، عندما خرج أخوه المذكور مع (قراسنقر الأفرم) ومن معهما من المنسحبين، وأقام (هو) بأطراف البلاد، ولم يفارق الخدمة، في شهور سنة اثنتي عشرة وسبعمائة من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي , وهو: الحمد لله الذي منح آل فضل في أيامنا الزاهرة بحسن الطاعة فضلاً، وقدم عليهم بتقديم الإخلاص في الولاء من أنفسهم شجاعًا، يجمع لهم على الخدمة ألفةً، وينظم لهم على المخالصة شملاً، وحفظ عليهم من إعزاز مكان بيتهم لدينا مكانةً، لا تنقض لها الأيام حكمًا، ولا تنقض لها الحوادث ظلاًّ. نحمده على نعمه التي شملت ببرنا الحضر والبدو، وألهجت بشكرنا ألسنة العجم في الشدو والعرب في الحدو، وأعملت في الجهاد بين يدينا من اليعملات ما يباري بالنص، والعنق الصافنات في الخبب والعدو، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة ندرأ بها الأمور العظام، ونقلد بيمنها ما أهم من مصالح الإسلام لمن يجري بتدبيره على أحسن نظام، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث من أعلى ذوائب العرب وأشرفها، المرجو الشفاعة العظمى يوم طول عرض الأمم وهول موقفها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كرمت بالوفاء أنسابهم، وأضاءت بتقوى الله وجوههم وأحسابهم، صلاةً لا تزال الألسن تقيم نداءها، والأقلام ترقم رداءها، وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد فإن أولى من أجنته الطاعة ثمرة إخلاصه، ورفعته المخالصة إلى أسنى رتب تقريبه واختصاصه، وألف بمبادرته إلى الخدمة الشريفة قلوب القبائل وجمع شملها، وقلده حسن الوفاء من أمر قومه، وإمرتهم ما يستشهد فيه بقول الله تعالى: {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح: 26) من ارتقى إلى أسنى رتب دنياه بحفظه دينه، ودل تمسكه بأيمانه على صحة إيمانه وقوة يقينه، ولاحظته عيون السعادة فكان في حزب الله الغالب وهو حزبنا، وقابلته وجوه الإقبال فأرته أن المغبون من فاته تقريبنا وقربنا، ورأى إحساننا إليه بعين لم يطرفها الجحود، ولم يطرقها إعراض السعود، فسلك جادة الوفاء، وهي من أيمن الطرق طريقًا، واقتدى في الطاعة والولاء بمن قال فيهم بمثل قوله: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً} (النساء: 69) . ولما كان المجلس العالي ... هو الذي حاز من سعادة الدنيا والآخرة بحسن الطاعة ما حاز، وفاز من برنا وشكرنا بجميل المبادرة إلى الخدمة بما فاز، وعلم مواقع إحساننا إليه، فعمل على استدامة وبلها واستزادة فضلها، والارتواء من معروفها الذي باء بالحرمان (منه) من خرج عن ظلها، مع ما أضاف إلى ذلك من شجاعة تبيت منها أعداء الدين على وجل، ومهابة تسري إلى قلوب من بعد من أهل الكُفر سوى ما قرب من الأجل - اقتضت آراؤنا الشريفة أن نمد على أطراف الممالك المحروسة منه سورًا مصفحًا بصفاحه، مشرفًا بأسنة رماحه. فرسم بالأمر الشريف العالي لا زال يقلد وليه فضلاً، ويملأ ممالكه إحسانًا وعدلاً، أن يفوض إليه كيت وكيت، لما تقدم من أسباب تقديمه، وأومئ إليه من عنايتنا بهذا البيت الذي هو سر حديثه وقديمه، ولعلمنا بأولويته التي قطبها الشجاعة وفلكها الطاعة ومادتها الديانة والتقى وجادتها الأمانة التي لا تستزلها الأهواء ولا تستفزها الرقى. وليكن لأخبار العدو مطالعًا، ولنجوى حركاتهم وسكناتهم على البعد سامعًا، ولديارهم كل وقت مصبحًا، حتى يظنوه من كل ثنية عليهم طالعًا، وليُدم التأهب حتى لا تفوته من العدو غارة ولا غِرة، ويلزم أصحابه بالتيقظ لإدامة الجهاد الذي جرب الأعداء (منه) مواقع سيوفهم غير مرة، وقد خبرنا من شجاعته وإقدامه وسياسته في نقض كل أمر وإبرامه، ما يغني عن الوصايا التي ملاكها تقوى الله تعالى، وهي من سجاياه التي وصفت وخصائصه التي ألفت وعرفت، فليجعلها مرآة ذكره وفاتحة فكره، والله تعالى يؤيده في سره وجهره بمنه وكرمه إن شاء الله تعالى. *** مرسوم بإمرة آل فضل وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل فضل، كتب بها للأمير حسام الدين (مهنا بن عيسى) من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، وهي: الحمد لله الذي أرهف حسام الدين في طاعتنا بيد من يمضي مضاربه بيديه، وأعاد أمر القبائل وإمرتهم إلى ما لا يصلح أمر العرب إلا عليه، وحفظ رتبة آل عيسى باستقرارها لمن لا يزال الوفاء والشجاعة والطاعة في سائر الأحوال منسوبات إليه، وجعل حسن العقبى بعنايتنا لمن لم يتطرق العدو إلى أطراف البلاد المحروسة إلا ورده الله تعالى بنصرنا وشجاعته على عقبيه. نحمده على نعمه التي ما زالت مستحقةً لمن لم يزل المقدم في ضميرنا، المعوَّل عليه في أمور الإسلام وأمورنا، المعين فيما تنطوي عليه أثناء سرائرنا، ومطاوي صدورنا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً توجب على قائلها حسن التمسك بأسبابها، وتقتضي للمخلص فيها بذل النفوس والنفائس في المحافظة على مصالح أربابها، وتكون للمحافظ عليها ذخيرةً يوم تتقدم النفوس بطاعتها وإيمانها وأنسابها، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث من أشرف ذوائب العرب أصلاً وفرعًا، المفروضة طاعته على سائر الأمم دينًا وشرعًا، المخصوص بالأئمة الذين بثوا دعوته في الآفاق على سعتها، ولم يَضِيقوا لجهاد أعداء الله وأعدائه ذرعًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا بصحبته الرتب الفاخرة، وحصلوا بطاعة الله وطاعته على سعادة الدنيا والآخرة، وعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، فلم يزحزحهم عن ظلها الركون إلى الدنيا الساحرة، صلاةً تقطع الفلوات ركائبها، وتسري بسالكي طرق النجاة نجائبها، وتنتصر بإقامتها كتائب الإسلام ومواكبها، وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد، فإن أولى من تلقته رتبته التي توهم إعراضها بأيمن وجه الرضا، واستقبلته مكانته التي تخيل صدودها بأحسن مواقع القبول التي تضمنت الاعتداد من الحسنات بكل ما سلف، والإغضاء من الهفوات عما مضى، وآلت إليه إمرته التي خافت العطل منه، وهي به خالية، وعادت منزلته إلى ما ألِفته لدينا من مكانة مكينة، وعرفته عندنا من رتبة عالية، مَن أمنت شمس سعادته في أيامنا من الغروب والزوال، ووثقت أسباب نعمه بأن لا يروع مريرها في دولتنا بالانتقاص ولا ظلالها بالانتقال، وأغنته سوابق طاعته المحفوظة لدينا عن توسط الوسائل، واحتجت له مواقع خدمه التي لا تجحد مواقفها في نكاية الأعداء، ولا تنكر شهرتها في القبائل، وكفل له حسن رأينا فيه بما حقق مطالبه وأحمد عواقبه وحفظ له وعليه مكانته ومراتبه، فما توهم الأعداء أن برقه خبا حتى لمع، ولا ظنوا أن ودقه أقلع حتى همى وهمع، ولا تخيلوا أن حسامه نبا حتى أرهفته عنايتنا، فحيثما حل من أوصالهم قطع، وكيف يضاع مثله وهو من أركان الإسلام التي لا تنزل الأهواء ولا ترتقي الأطماع متونها، ولا تستقر [2] الأعداء عند جهادها، واجتهادها، في مصالح الإسلام حسبها ودينها. ولما كان المجلس العالي ... هو الذي لا يحول اعتقادنا في ولائه، ولا يزول اعتمادنا على نفاذه في مصالحنا ومضائه، ولا يتغير وثوقنا به عما في خواطرنا من كمال دينه وصحة يقينه، وأنه ما رفعت بين يدينا راية جهاد إلا تلقاها عرابة عزمه بيمينه، فهو الولي الذي حسنت عليه آثار نعمنا، والصفي الذي نشأ في خدمة أسلافنا، ونشأ بنوه في خدمتنا، والتقي الذي يأبى دينه إلا حفظ جانب الله في الجهاد بين يدي عزيمتنا وأمام هممنا - اقتضت آراؤنا الشريفة أن نصرح له من الإحسان بما هو في مكنون سرائرنا ومضمون ضمائرنا، ونعلن بأن رتبته عندنا بمكان لا تتطاول إليه يد الحوادث، وتبين أن أعظم أسباب التقدم ما كان عليه من عنايتنا وامتناننا أكرم بواعث. فلذلك رسم أن يعاد إلى الإمرة على أمراء آل فضل ومشايخهم ومقدميهم، وسائر عربانهم، ومن هو مضاف لهم ومنسوب إليهم على عادته وقاعدته. فليجر في ذلك على عادته التي لا مزيد على كمالها، ولا محيد عن مبدئها في مصالح الإسلام ومآلها، آخذًا للجهاد أهبته من جمع الكلمة واتحادها، واتخاذ القوة وإعدادها، وتضافر الهمم التي ما زال الظفر من موادها والنصر من أمدادها، وإلزام أمراء العربان بتكميل أصحابهم، وحفظ مراكزهم التي لا تسد أبوابها إلا بهم، والتيقظ لمكايد عدوهم، والتنبه لكشف أحوالهم في أرواحهم وغدوهم، وحفظ الأطراف التي هم سورها من أن تسورها مكايد العدا، وتخطف من يتطرق إلى الثغور من قبل أن يرفع إلى أفقها طرفًا، أو يمد على البعد إلى جهتها المصونة يدًا، وليبث في الأعداء من مكايد مهابته ما يمنعهم من القرار ويحسن لهم الفرار، ويحول بينهم وبين الكرى لاشتراك اسم النوم وحد سيفه في مسمى الغرار. وأما ما يتعلق بهذه الرتبة من وصايا قد ألفت من خلاله وعرفت من كماله، فهو ابن بجدتها وفارس نجدتها وجهينة أخبارها وحلبة غايتها ومضمارها، فيفعل من ذلك كله ما شكر من سيرته وحمد من إعلانه وسريرته، وقد جعلنا في ذلك وغيره من مصالح إمرته أمره من أمرنا، فيعتمد فيه ما يرضي الله تعالى ورسوله، ويبلغ به من جهاد الأعداء أمله وسوله، والله الموفق بمنه وكرمه والاعتماد. *** مرسوم شريف بإمرة آل علي ثم جاء في (ص124) مما يكتب إلى المرتبة الأولى من الطبقة الثانية ما نصه: وهذه نسخة مرسوم شريف بإمرة آل علي، كتب به للأمير عز الدين (جماز) بعد وفاة والده محمد بن أبي بكر، من إنشاء المقر الشهابي ابن فضل الله، وهي: الحمد لله الذي أنجح بنا كل وسيلة، وأحسن بنا الخلف عمن قضى في طاعتنا الشريفة سبيله، ومضى وخلي ولده رسيله، وأمسك به دمعة السيوف في خدودها الأسيلة، وأمضى به كل سيف لا يرد مضاء مضاربه بحيلة، وأرضى بتقليده كل عنق وجمّل كل جميله. نحمده على كل نعمة جزيلة وموهبة جميلة، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ترشد من اتخذ فيها نجوم الأسنة دليلة، وتجعل أعداء الله بعز الدين ذليلة، وأن محمدًا عبده ورسوله الذي أكرم قبيله، وشرَّف به كل قبيلة، وأظهر به العرب على العجم، وأخمد من نارهم كل فتيلة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً بكل خير كفيلة، وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد، فإن دولتنا الشريفة لما خفق على المشرق والمغرب جناحها، وشمل البدو والحضر سماحها، ودخل في طاعتها الشريفة كل راجل ومقيم في الأقطار وكل ساكن خيمة وجدار، ترعى النعم بإبقائها في أهلها وإلقائها في محلها، مع ما تقدم من رعاية توجب التقديم، وتودع بها الصنائع في بيت قديم، وتزين بها المواكب إذا تعارضت جحافلها وتعارفت شعوبها وقبائلها، واستولت جيادها على الأمد وقد سبقت أصائلها، وتداعت فرسانها وقد اشتبهت مناسبها ومناصبها ومناصلها، وكانت قبائل العربان ممن تعمهم دعوتنا الشريفة وتضمهم طاعتنا التي هي لهم أكمل وظيفة، ولهم النجدة في كل بادية وحضر وإقامة وسفر وشام وحجاز وإنجاد وإنجاز، ولم يزل (لآل علي) فيهم أعلى مكانة، وما منهم إلا من توسد سيفه وافترش حصانه، وهم من دمشق المحروسة رديف أسوارها وفريد سوارها، والنازلون من أرضها في أقرب مكان، والنازح

خلاصة معاهدة الصلح ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خلاصة معاهدة الصلح [1] (2) الفصل الرابع في المواد السياسية في خارج أوربا حقوق ألمانية في خارج أوربة: تتنازل ألمانية في خارج أوربة لدول الحلفاء والدول المشتركة معها عن جميع الحقوق والامتيازات في البلاد التي لها أو لحلفائها، وتتعهد أن تقبل التدابير التي تتخذها دول الحلفاء الخمس بشأن ذلك. المستعمرات والأملاك وراء البحار: تتنازل ألمانية لدول الحلفاء والدول المشتركة معها عن أملاكها الواقعة وراء البحار، مع كل ما لها من الحقوق والامتيازات فيها، وتنتقل جميع الأموال المنقولة وغير المنقولة التي للإمبراطورية الألمانية أو لأية دولة من دولها إلى الحكومة التي تكون صاحبة السلطة هناك، ولهذه الحكومات أن تتخذ ما تستصوب من التدابير لإرجاع الرعايا الألمان من هناك إلى أوطانهم، والشروط التي تشترط على الرعايا الألمان من سلالة أوربية إذا أرادوا البقاء وامتلاك الأملاك والاتجار، وتتعهد ألمانية بأن تعوض من الخسارة التي أصابت الرعايا الفرنسويين في الكمرون أو على حدودها بفعل ولاة الأمور الألمان الملكيين والعسكريين والأفراد الألمان من أول يناير 1900 إلى 1 أغسطس 1914 , وتتنازل ألمانيا عن جميع الحقوق التي اكتسبتها باتفاق 4 نوفمبر 1911 و28 سبتمبر 1912 , وتتعهد بأن تدفع إلى فرنسا جميع الودائع والحسابات والسُّلف التي حصلت عليها بموجب هذين الاتفاقين، وذلك بحسب التقدير الذي تقدره لجنة التعويض، وتتعهد ألمانيا بأن تقبل وتنفذ النصوص التي تضعها دول الحلفاء، والدول المشتركة معها للاتجار بالسلاح، والمعسكرات في أفريقية، وعقد برلين العام 1885 وعقد بروكسل العام 1810 أما الحماية السياسية لأهالي المستعمرات الألمانية السابقة فتناط بالحكومات التي تدير أمور تلك المستعمرات. الصين: تتنازل ألمانية للصين عن جميع الامتيازات والغرامات التي نالتها باتفاق البوكسر المبرم سنة 1901 , وعن جميع المباني والأرصفة والقشلاقات والحصون وذخيرة الحرب والبواخر وآلات التلغراف اللاسلكي، وسائر الأملاك العمومية - ما عدا المباني التي للوكالة السياسية والقنصلية - في منطقة امتياز الألمان في نيان تسن وهنكو , وفي سائر الأملاك الصينية ما عدا كياوتشو وتقبل أن ترد على حسابها إلى الصين جميع الآلات الفلكية التي أخذتها سنة 1900 , وسنة 1901 على أن الصين لا تتخذ إجراءات للتصرف بالأملاك الألمانية في حي السفارات في بكين من غير رضا الدول الموقعة لاتفاق البوكسر، وتقبل ألمانيا إلغاء امتيازاتها في هنكووتسيان تسن، وتقبل الصين أن تفتحهما لاستعمال الأمم، وتتنازل ألمانية عن كل دعوى على الصين أو أية دولة أخرى من دول الحلفاء والدول المشتركة معها في ما يختص باعتقال رعاياها في الصين، أو إخراجهم منها، أو ضبط المصالح الألمانية، أو تصفيتها هناك في 14 أغسطس سنة 1917 , وتتنازل بريطانية العظمى عن أملاكها في منطقة الامتياز البريطاني في كنتون , ولفرنسا والصين معًا عن ملكية المدرسة الألمانية في منطقة الامتياز الفرنسوي في شنغاي. سيام: تعترف ألمانية بأن جميع الاتفاقات المبرمة بينها وبين سيام , وفي جملتها حقوق الامتيازات الأجنبية زالت من 22 يونيو 1917, وأن جميع الأملاك العمومية الألمانية في سيام تنتقل ملكيتها إلى سيام بلا عوض ما عدا دور الوكالة السياسية والقنصليات، أما الأملاك الألمانية الخصوصية فتعامل طبقًا لنصوص المواد الاقتصادية (في المعاهدة) وتتنازل ألمانية عن كل دعوى لها على سيام تختص بضبط بواخرها ومصادرتها وتصفية أملاكها وأموالها واعتقال رعاياها. ليبريا: تتنازل ألمانية عن جميع الحقوق التي اكتسبتها بالاتفاقات الدولية التي أبرمت في 1911 - 1912 بشأن ليبريا , ولا سيما الحق في تعيين سنديك للجمارك، ولا تدخل في كل مفاوضة مقبلة لإرجاع ليبريا إلى سابق منزلتها، وتعد في حكم المقوض جميع المعاهدات التجارية والاتفاقات المبرمة بينها وبين ليبريا، وتعترف بحق ليبريا في تعيين شروط إقامة الألمان في بلادها ومنزلتهم فيها. المغرب الأقصى: تتنازل ألمانية عن جميع الحقوق والامتيازات التي نالتها بعقد الجزيرة , والاتفاقات الفرنسوية الألمانية في سنة 1909 وسنة 1911, وبجميع المعاهدات والاتفاقات التي أبرمتها مع السلطة الشريفية (المغربية) وتتعهد بأن لا تتعرض لأية مفاوضة تدور على المغرب الأقصى بين فرنسة وسواها من الدول، وتقبل جميع النتائج الناتجة عن الحماية الفرنسوية هناك، وتتنازل عن امتيازاتها الأجنبية، ويكون للحكومة الشريفية الحرية التامة في التصرف نحو الرعايا الألمان، ويكون جميع الأشخاص المشمولين بالحماية الألمانية خاضعين لقانون البلاد، ويجوز أن تباع جميع الأموال الألمانية المنقولة وغير المنقولة، وفي جملتها حقوق التعدين بالمزاد العلني، ويعطى الثمن للحكومة الشريفية، ويخصم من المطلوب لها من التعويض، وعلى ألمانية أيضًا أن تتخلى عن مصالحها في بنك الدولة في المغرب الأقصى، وتتمتع جميع البضائع المغربية التي تدخل ألمانية بالامتيازات التي للبضائع الفرنسوية. مصر: تعترف ألمانية بالحماية البريطانية التي بسطت على مصر في 28 ديسمبر 1914 , وتتنازل اختيارًا من 4 أغسطس 1914 عن الامتيازات الأجنبية فيها، وعن جميع المعاهدات والاتفاقات المبرمة بينها وبين مصر , وتتعهد أن لا تتعرض لأية مفاوضة تدور على مصر بين بريطانيا العظمى والدول الآخرى. وفي هذا القسم نصوص تختص بالقوانين التي تسري على الرعايا الألمان والأموال الألمانية، وعلى قبول ألمانية لكل تغيير يعمل في مجلس صندوق الدين، وتقبل ألمانية أن تنتقل إلى بريطانيا العظمى السلطة التي كانت ممنوحةً لسلطان تركيا السابق لضمان حرية الملاحة في قنال السويس، والإجراءات التي تتبع في أموال الرعايا الألمان في مصر جعلت مشابهةً للإجراءات المتبعة في المغرب الأقصى وسواه من البلدان، وتعامل البضائع المصرية الإنكليزية التي تدخل ألمانية، بمثل المعاملة التي تعامل بها البضائع البريطانية. تركية وبلغارية: تقبل ألمانية جميع التدابير التي تتخذها دول الحلفاء والدول المشتركة معها مع تركية وبلغارية في ما يختص بالحقوق والامتيازات والمصالح التي تطالب ألمانية أو رعاياها بها في تينك البلدين، ولم ينص عليها في مكان آخر. شانتنغ: تتنازل ألمانية عن جميع الحقوق والامتيازات التي لها، ولا سيما في كياوتشا، وعن سكك الحديد والمناجم والأسلاك التلغرافية البحرية التي أحرزتها بالمعاهدة التي أبرمتها مع الصين في 6 مارس 1898 وباتفاقات أخرى. أما في شانتنغ , فجميع حقوق ألمانية على سكة الحديد من تسنغ ثاو إلى تسن انفو , وفي جملتها حقوق التعدين، وحقوق الاستغلال تنتقل إلى اليابان أيضًا، وكذلك أسلاك التلغراف البحري الممتدة من تسنغ ثاو إلى شنغاي وشيفو , فهذه أيضًا تنقل إلى ملكية اليابان بلا مقابل، وتستولي اليابان على جميع أملاك الدولة الألمانية المنقولة وغير المنقولة في كياوتشا، بلا مقابل. الفصل الخامس في الشروط العسكرية البرية والبحرية والجوية إنه توطئة للشروع في إنقاص سلاح الأمم إنقاصًا عامًّا تتعهد ألمانية مباشرةً بأن تسير على المواد العسكرية البرية والبحرية والجوية التالية، وهي: الشروط البرية: تنص الشروط العسكرية البرية على تسريح الجيوش الألمانية، وتنفيذ القيود العسكرية الأخرى بعد إمضاء المعاهدة بشهرين (ويكون ذلك الخطوة الأولى نحو نزع السلاح الدولي) وتلغى الخدمة العسكرية الإجبارية في بلاد ألمانية، وتدخل قوانين للتجنيد على قاعدة التطوع في قوانين ألمانية العسكرية، تقضي بتجنيد صف الضباط والجنود لمدة لا تقل عن 12 سنةً متواليةً، وتشترط أن يخدم الضباط 25 سنةً، ولا يحالوا إلى المعاش قبل أن يبلغوا الخامسة والأربعين، ولا يسمح بإنشاء احتياطي من الضباط الذين خدموا في الحرب، ويكون مجموع رجال الجيش الألماني مائة ألف لا يزيد عدد الضباط فيهم على أربعة آلاف، ولا يجوز تأليف قوة عسكرية غير هذه القوة، ويمنع منعًا خاصًّا زيادة موظفي الجمارك والغابات أو البوليس، وتعليمهم تعليمًا عسكريًّا، وتكون وظيفة الجيش الألماني صون النظام الداخلي ومراقبة الحدود، وعلى قيادته العليا أن تحصر عملها في المهام الإدارية، ولا يسمح بأن يكون لها هيئة أركان حرب عامةً، وينقص عدد المستخدمين الملكيين في وزارة الحربية والمصالح المشابهة لها إلى عُشر ما كان في سنة 1913 , ولا يجوز أن يكون لألمانية أكثر من سبع فرق من المشاة، وثلاث فرق من الفرسان , وفيلقين من أركان الحرب، ويقفل ما يزيد عن حاجة الجيش من المدارس العسكرية ومدارس الضباط، وتلاميذ المدارس الحربية إلخ، ويقتصر في قبول التلاميذ الذين يعينون ضباطًا على سد المناصب التي تفرغ في الجيش. أما صنع السلاح والذخيرة ومهمات الحرب في ألمانية، فيقتصر فيه على بيان يبنى على قاعدة المقدار اللازم لجيش، كالجيش المتقدم، ولا يجوز إنشاء احتياطي من السلاح والذخيرة، فجميع الأسلحة والمدافع والمهمات الموجودة فوق الحد المعين يجب أن تسلم إلى الحلفاء للتصرف فيها، ولا يجوز لألمانية أن تصنغ غازات سامةً، ولا سوائل ناريةً، ولا يسوغ لها استيرادها، ولا يجوز لها أن تصنع دبابات ولا أتوموبيلات مدرعةً، وعلى الألمان أن يبلغوا الحلفاء أسماء جميع المصانع التي تصنع الذخيرة والسلاح، ومواقعها وبيان مصنوعها؛ لأجل الحصول على موافقة الحلفاء عليها، ويجب إلغاء الترسانات التي لحكومة ألمانية، وصرف مستخدميها، وأما الذخيرة التي تصنع لاستعمالها في الاستحكامات فتقتصر على 1500 طلقة لكل مدفع من المدافع التي من عيار 10.5 سنتمتر فما دون و 500 طلقة لكل مدفع من المدافع التي هي أكبر من ذلك، ويحظر على ألمانية أن تصنع السلاح والذخيرة لبلدان أجنبية، واستيرادها من الخارج، ولا يجوز لألمانية أن تحافظ على الاستحكامات، أو تنشئ استحكامات في أرض ألمانية واقعة على أقل من خمسين كيلو مترًا شرقي الرين , ولا يجوز لها أن تُبقي في الشقة المذكورة قوات مسلحةً، لا دائمةً ولا وقتيةً، ويحافظ على الحالة الحاضرة في ما يختص بالحصون القائمة على الحد الجنوبي والشرق الأصلي للإمبراطورية الألمانية، ولا يجوز إقامة المناورات العسكرية في (الشقة المذكورة) ولا إنشاء مبانٍ دائمة للمساعدة على تعبئة الجيش، ويجب نزع السلاح من الاستحكامات في خلال ثلاثة أشهر بعد المعاهدة. الشروط البحرية: تنص الشروط البحرية على أنه في خلال شهرين لا يجوز أن تتجاوز قوات ألمانية البحرية ست بوارج من طراز (ديتشليندا ولوترنجن) وستة طرادات خفيفة، و12 مدمرةً، و12 نسافةً، أو ما يساوي هذا العدد من السفن التي تحل محلها، ولا يجوز أن يكون في هذه القوات البحرية غواصات، أما سائر البوارج فتوضع في الاحتياطي أو تخص بالأعمال التجارية، ويجوز لألمانية أن تُبقي على قدم الاستعداد عددًا معينًا من السفن التي تلتقط الألغام إلى أن يتم التقاط الألغام في بعض المناطق المعينة في البحر الشمالي وبحر البلطيق، وبعد انقضاء شهرين (على إمضاء المعاهدة) لا يجوز أن يتجاوز مجموع رجال الأسطول الألماني 15 ألفًا، منهم 1500 من الضباط وصف الضباط على أعظم تق

فائدة في هدي القرآن في المعاهدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فائدة في هدي القرآن في المعاهدة من عجائب حِكم القرآن وعلومه أن كل زمان يظهر منها ما لم يكن ظاهرًا فيما قبله كظهوره فيه، كما فصلناه في تفسير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ} (الأنعام: 65) ، ومن هذا القبيل قوله تعالى بعد الأمر بالإيفاء بعهد الله من سورة النحل: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: 92) إلى قوله: {وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} (النحل: 94) الآية، الأيمان بالفتح: العهود والمواثيق، والدَّخَل بالتحريك: ما دخل الشيء من أسباب الفساد، كالخديعة والحيلة، والعبارات التي يراد تأويلها، وتحريفها عن ظواهرها في العهود وسنبين ذلك بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

المسألة السورية والأحزاب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألة السورية والأحزاب بينما كان العرب في سورية والعراق يُمنون أنفسهم بالنجاة من طغيان الطورانيين , وما سامهم جلادهم جمال باشا وغيره من سوء العذاب إلى نعيم الاستقلال الصحيح والحرية التامة، ويتلذذون بما يقرءون في المنشورات والجرائد التي تنقلها إليهم العيون، أو تنثرها عليهم الطيارات (كالقبلة والمقطم والكوكب) كان السير مارك سايكس والموسيو بيكو (صديقا العرب) يضعان أصول الاتفاق بين دولتيهما على اقتسام هذه البلاد بينها، ويضعان لها خارتةً [1] تحدد منطقة كل قسم منها، كما فعل غيرها من رجال دول الأحلاف في بلاد الترك أيضًا، وقد كان أول من كشف النقاب عن أسرار هذه المعاهدات السرية، أحرار الروس لما أسقطوا حكومتهم القيصرية ونشروا أسرارها المطوية. وقد اشتهر أمر معاهدة تقسيم ولايات سورية والعراق بين فرنسة وإنكلترة , وكثر كلام الجرائد الأوربية والعربية فيه، ولما ظهرت شروط الرئيس ولسن واتفقت الدول المتحاربة على جعلها أساسًا للصلح باعتبار ما فسرها من خطبه التي نشرنا أهمها من قبل، كان يُظَن أنها تنسخ هذه المعاهدة ونظائرها من المعاهدات السرية التي وضعت لاستيلاء الأقوياء على بلاد الضعفاء نسخًا تامًّا، ولكننا وجدنا أن عهد عصبة الأمم الذي يحسب الرئيس ولسن أنه غيَّر به نظام الدول والأمم، ونقل البشر من طور سافل إلى طور عالٍ من الحرية والسلام - قد أجاز تقسيم بلاد الشعوب الضعيفة بين الأقوياء، بشرط أن يسمى تصرف كل دولة فيما تأخذه منها وصايةً وتوكيلاً، لا حمايةً ولا امتلاكًا ولا استعمارًا، وزاد على ذلك أن الشعوب الراقية من أولئك الضعفاء التي يعترف باستقلالها مؤقتًا بشرط قبول هذه الوصاية (أي: بشرط أن لا تكون مستقلةً) يسمح لها بأن يكون لها صوت في اختيار الدولة الموكلة بها؛ ليكون ذلك حجةً عليها، وإذا احتج الضعيف على هذا بأنه مناقض لما قاله ولسن وأمثاله من كبار رجال دول الحلفاء من أن أحد أغراضهم الرئيسية من الحرب تحرير الشعوب المغلوبة واستقلالها، إذ هو عبارة عن وضع اسم جديد للاستعمار والاستعباد يخدع الجاهلين ويصرفهم عن المقاومة - قال له من عساه يتعطف بالجواب: ليس المراد من تحرير الشعوب غير الأوربية جعلها حرةً كالأوربيين، كما يفهم البلداء الذين يفسرون الألفاظ بما يرونه في معاجم اللغة المخالفة لمعاجم السياسة، وإنما المراد منه إنقاذها من حكامها الظالمين، وجعلها تحت سيادتنا العادلة التي هي أفضل للشعب الضعيف من الحرية المطلقة التي لا يقدر على القيام بأعبائها وشؤونها، وإذا كان ما قارب الشيء يُعطى حكمه، فما القول في ما هو أفضل منه؟ فإذا قيل: إن صحت هذه النظرية، فاسترقاق الراقين في الحضارة من الأفراد لمن دونهم خير لهم من الحرية، فلماذا تحرمون استرقاقهم؟ ثم لماذا تبيحون حرية الفسق والفجور للشعوب الجاهلة، وأنتم ترون ما يجني عليها فشو الزنا والسكر من الأمراض والفقر وفساد البيوت (العائلات) والأمة؟ إن قيل هذا سكت لسان المقال، وصاح لسان الحال: قتل امرئ في غابة ... جريمة لا تغتفر وقتل شعب آمن ... مسألة فيها نظر كان أولو الإلمام بالسياسة من السوريين يعتقدون منذ آذن دول الحلفاء الدولة العثمانية بالحرب، أن انتصارهم يفضي إلى تقسيم بلادها بينهما على قاعدة مطامعهم القديمة فيها بأن تكون الآستانة لروسية وسورية لفرنسة، والعراق لإنكلترة، ولم تكن أقوال رجال السياسة منهم أنهم يبغون تحرير الأمم والشعوب مضعفةً لاعتقادهم هذا، ولكن منهم مَن حسَّن الظن بالرئيس ولسن إذ نادى بهذه الحرية وبوجوب تعميمها وتعميم العدل وعدم التفرقة بين من يجب أن يعدل فيهم، إذ حسبوا ذلك ناسخًا لما جرت عليه أوربة من وجوب حصر حرية الشعوب في أقوامها دون الشعوب الآسيوية والأفريقية، ومنهم من لم يحسن الظن به، ولم يفضله على ساسة أوربة في شيء، وربما كان هؤلاء السيئو الظن هم الأقلين من أهل الإلمام بالسياسة، وكان سائرهم على رأي عامة شعبهم، وعامة سائر الشعوب من حسن الظن والرجاء، إلى أن ظهر عهد عصبة الأمم فقال المتمرسون بالسياسة: إن قواعد ولسن وخطبه لم تأت بشيء جديد إلا زيادة كليمات في معجم السياسة الخادع، وظل أكثر العامة يفهمون أن المراد من مساعدة الدول الموكلة للشعوب ليس إلا عبارةً عن إمدادها بما يعوزها من المال والسلاح وغيره كما يرون من مساعدة إنكلترة لحكومة الحجاز الموالية لها. هذا، وإن من المعلوم المشهور أن لكل من الفرنسيس والإنكليز صنائع وأولياء من السوريين يلقون إليهم بالمودة، فطائفة من الموارنة من صنائع فرنسة وأوليائها، ولها أفراد من الطوائف أخرى قد اجتهد رجالها في تكثير عددهم بعد احتلال سورية، وطائفة من الدروز من صنائع إنكلترة وأوليائها، وكذلك اليهود صاروا من أوليائها بوعدها إياهم بجعل بيت المقدس وما حوله من سورية الجنوبية وطنًا قوميًّا لهم، يرجون أن يستعيدوا فيه ما فقدوا من الملك، وقد استمال رجالها بعد احتلال هذه البلاد كثيرًا من أفراد الطوائف الأخرى، واستمال إليها الأمير فيصل كثيرًا من المسلمين، زد على ذلك أن جمهور المتعلمين بالمدارس الفرنسية يفضلون فرنسة على إنكلترة، والمتعلمين بالمدارس الإنكليزية والأمريكانية يفضلون أمريكة وإنكلترة على فرنسة، وللدين والمذاهب تأثير عظيم في تفضيل دولة على دولة وأمة على أمة، ودعاة الدين والمذاهب ما زالوا يتبارون في جذب قلوب من يربونهم ويعلمونهم في مدارسهم إلى أنفسهم، وينفرونها من المخالفين لهم. لم يكن للدولة التركية أدنى عناية بمقاومة دعاة النفوذ الأجنبي في بلادها، ولا اهتمام بمعارضته بمثله فيها، ولا في بلاد أولئك الأجانب أو مستعمراتهم بالأولى، وليس لغيرها من أمم المشرق الإسلامية ولا غيرها دولة ولا إمارة لها دعاة يستميلون الناس باسم الدين، ولا باسم الحضارة ولا المصالح، لهذا كان الذين ينفرون من الترك بالتأثير الأجنبي أو بسبب الظلم وسوء الإدارة - والذين يتوقعون إفضاء ما عليه الترك من سوء الإدارة إلى سقوط دولتهم، واقتسام الدول الكبرى لها - لم يكن أحد من هؤلاء ولا أولئك يفكر في مستقبل بلاده، ولا تتمثل له إحدى الدول الأوربية الطامعة مسيطرةً عليها، متمتعةً بخيراتها، مستخرجةً لكنوزها. كان الأمر كذلك إلى أن قام الاتحاديون الطورانيون من الترك ببث دعوة الجنسية التركية، ومحاولة تتريك جميع الخاضعين لحكمهم من الأجناس الأخرى بالقوة القاهرة، حتى دَعُّوا هذه الأجناس دعًّا إلى المحافظة على جنسياتها، وإحياء ما أماته الجهل والإهمال من لغاتها، ثم إلى التفكر في حريتها واستقلالها، فلما اتخذ الاتحاديون الحرب ذريعةً إلى تنفيذ خطتهم في القضاء على العرب في سورية والعراق بالقوة القاهرة، وشرعوا ينكلون بهم تقتيلاً وتصليبًا وتغريبًا ومصادرةً وتخريبًا - كما فعلوا بالأرمن والروم - واشتعلت نار الثورة العربية في الحجاز , وانضوى أميره إلى دول الأحلاف المحاربة للترك والجرمان - تعلقت آمال السوريين الذين يسامون سوء العذاب في سورية وغيرهم من العراقيين بأن تكون لهم دولة عربية، يكون المؤسس لها ملك الحجاز، وكان النصارى كالمسلمين في تمني ذلك؛ لأن الشدائد التي ذاقوها بأنهم عرب قد أزالت كل خلاف وشقاق كان بينهم. ولما احتل الحلفاء سورية بعد جلاء الترك عنها، وأخذ جزء من جنوبيها عنوةً أقاموا فيها ثلاث حكومات عسكريةً على قاعدة معاهدة سنة 1916: حكومة إنجليزية في سورية الجنوبية (فلسطين) لأنها منطقة إنكلترة، وحكومة فرنسية في سواحل سورية الشمالية؛ لأنها منطقة فرنسة، وحكومة عربية في الداخلية؛ لأنها منطقة العرب، وكانت كل حكومة تبث نفوذها في منطقتها حتى اعتقد المتمرسون بالسياسة من أهل البلاد في كل منطقة أنها صارت ملكًا خالصًا لمحتلها، مهما يكن الاسم الذي يسمى به هذا الملك، وكانت كل حكومة تشدد في منع الاتصال بين كل قسم من سورية وبين مصر بشدة المراقبة على البريد، وشدة التدقيق في منع السفر من أحد القطرين إلى الآخر، إلا لمن يوثق بمشايعته للحلفاء في سياستهم ثم لمن يوثق بأنه لا يخالفهم ولا يشتغل بسياسة غير سياستهم، ذلك بأن من في مصر أجدر بمعرفة حقائق السياسة وخفاياها من أهل سورية وسائر أقطار الشرق الأدنى، ولكن الأخبار والأفكار كانت تنقل بالتدريج بتلقين بعض ضباط الجيش العربي وغيرهم من خدمة الحكومة العربية الذين كانوا يترددون بين مصر والحجاز وسورية، ثم بتلقين غيرهم، وبما كان يحمل كل من الرسائل، فعرف بذلك الكثيرون من أهل سورية حقائق المسائل، وكان مما ترتب عليه قوة رجائهم بما يحبون من الاستقلال التام، وضعف أملهم وتغير رأيهم في ارتباط سورية بحكومة الحجاز، فلم يعد يرغب في هذا أحد يعتد به من الذين عرفوا حقيقة الحال، ولكن الأمير فيصلاً نجح بلطفه وسخائه وبمظاهرة الإنكليز له في تأليف حزب كبير يرغب في جعله ملكًا لسورية مستقلة. *** الأحزاب السورية من فقه ما تقدم لم يعجب مما يراه من كثرة اختلاف السوريين في أمر بلادهم، كما يعجب من لا يعرف من شؤونهم سوى الظواهر التي تتجلي له في جرائدهم ومجلاتهم، وبراعتهم في التجارة بمصر وأوربة والممالك الأميركية، وإدارتهم لبعض أعمال الحكومة المصرية، والسودانية. قال عالم أوربي لشاب سوري من تلاميذه: إنني وقفت على كثير من شؤون السوريين الاجتماعية وغيرها، وحضرت بعض أنديتهم ومحافلهم، فلم أر بيننا وبينهم فرقًا يذكر؛ لهذا أخذ مني العجب مأخذه، لما علمت أن كثيرًا منهم يطلبون أن يكون وطنهم تحت حماية أو وصاية أجنبية، هذه خطة خسف وضِعة لا يرضى لنفسه بمثلها من نعلم أنهم أدنى من السوريين في كل علم وعمل، وأقل شعورًا بمعنى الحرية والشرف. ولو علم هذا العالِم أن مصدر هذا الخسف والضعة بعض أولئك الذين إذا رآهم تعجبه أجسامهم، وإن يقولوا يسمع لقولهم، دون الجمهور السوري الأعظم الذي لم يسلبه التفرنج ولا التعصب الديني ما عرف به السوريون وسائر العرب من الشمم والإباء، ثم علم سائر ما أشرنا إليه من أسباب الخلاف - لما احتقر السوريين كافةً بما صدر عن الأقلين منهم بعذر من الأعذار التي أشرنا إليها في هذا المقال أو بغير عذر. من جراء ذلك ألف السوريون في البلاد وفي الممالك الأمريكية ومصر عدة أحزاب وجمعيات كلها تطلب الاستقلال لسورية برمتها متحدةً غير متجزئة، ومنها فلسطين ولبنان، إما وحدها وإما متحدة مع العراق وجزيرة العرب، وبعض اللبنانيين منهم يطلب أن يكون لبنان مملكةً مستقلةً، ويُضَم إليه معظم ولاية بيروت وجزء من ولاية الشام مما يكثر فيه النصارى بحيث يكون أكثر الأهالي منهم، فتكون البلاد السورية مملكتين: الساحلية منهما مسيحية، والداخلية إسلامية. بهذا صرح لي بعض كبرائهم، وأدبائهم، فما الظن بما يصرح به بعضهم لبعضهم؟ ثم إن طلاب الاستقلال لسورية من هؤلاء السوريين المهاجرين منهم من يطلبه تامًّا مطلقًا ناجزًا، كحزب الاتحاد السوري بمصر وبعض الأحزاب والجمعيات في الممالك الأمريكية الموافقة لهذا الحزب، ومنهم من يطلب استقلالها إداريًّا تحت وصاية إحدى الدول الأوربية الكبرى، أو الولايات المتحدة. وأما السوريون الذين في البلاد، فالسواد الأعظم منهم

السيد الزهراوي

الكاتب: أحمد نبهان الحمصي

_ السيد الزهراوي تتمة ترجمته بقلم صديقه الشيخ أحمد نبهان الحمصي في أول سنة من مبعوثيته وقعت حادثة 31 مارث الشهيرة، فحوصر المجلس من قِبل العسكر بحجة الارتجاع عن الدستور، وهددوا المبعوثين بالرصاص حتى إنه قتل أحدهم (محمد بك أرسلان) مبعوث اللاذقية رميًا بالرصاص في باب المجلس، ومنهم من رمى نفسه من أحد النوافذ العالية حتى تحطم خوفًا على نفسه من القتل، وفر كثير من المبعوثين حفظًا لحياتهم، وبقي المترجم - رحمه الله تعالى - مع بضعة أشخاص ثابتي الجأش، غير مبالين بتلك القوة الهائلة التي تهددهم، وهم يخابرون المراكز بالتلفون ويذكرون الوقعة وما هم فيه، حتى كادت تلك القوة أن تقضي على بقية المبعوثين، ثم خرج المترجم يخترق صفوف العساكر بلا اكتراث، حتى وصل إلى منزله وانفض الجمع. هذا الثبات في مثل هذا الموقف الحرج مما يدل على شجاعته وقوة يقينه. على أثر هذه الحادثة التي شاع خبرها حتى بلغ الرومللي مكبرًا , زحف محمود شوكت بجيوشه ليضرب الآستانة؛ لحماية الدستور، ولينكل بالارتجاعيين وينتقم ممن أثاروا هذه الفتنة، فأرسلت الحكومة إذ ذاك هيئةً مؤلفةً من الأعيان والمبعوثين لمقابلة الباشا وإبلاغه حقيقة الحال، فكان صاحب الترجمة من أعضاء تلك الهيئة الموقرة، فاستقبلوه في (إياستفانوس) من ضواحي الآستانة، وأوقفوه على جلية الخبر الشائع، ولطفوه في سمعه حتى سكت غضبه وسكن جأشه ودخل بغير إزعاج لأحد. وفي أثناء تلك المدة - أعني الدورة الأولى لمجلس المبعوثين - أصدر المترجم جريدةً عربيةً في الآستانة، سماها (الحضارة) بشركة شاكر بك الحنبلي , ثم انسحب هذا الأخير منها إذ تعين متصرفًا للواء عكا بعد إنذار الحكومة له. وكان السبب في إنشاء تلك الجريدة أنه لما بلغ الاتحاديون ما بلغوا من الأثرة والاستبداد وتسميم الأفكار بالجرائد التي أنشأوها لبث أفكارهم السوءى، وتصويرهم المحال بصورة الحقائق - تأسس الحزب الحر المعتدل لمعارضتهم، وكان معظم مؤسسيه من مبعوثي العرب، وحزب الائتلاف وكان معظم مؤسسيه من الترك، ثم امتزج الحزبان باسم حزب الحرية والائتلاف، وكان المترجَم من مؤسسي الحزبين المذكورين لمعارضة حزب الاتحاد والترقي، فأصدر جريدته (الحضارة) باللغة العربية للمحافظة على مبدئه الثابت، وهو الاعتدال المحض حتى كان رفاقه يلومونه لشدة هذا الاعتدال والتروى، وحتى إن كبار الاتحاديين كانوا يعجبون من اعتداله مع معارضته لرأيهم، وكان كثير منهم يقول: ليت جميع المعارضن مثل هذا الحر المعتدل. ... ... ... ... * والفضل ما شهدت به الأعداء * وفي أثناء تلك المدة أيضًا وقع اضطراب واختلال في الروملي، فعينت الحكومة يومئذ لجنةً من الأعيان والمبعوثين للكشف عن أحوال تلك البلاد، وكان المترجم - رحمه الله - من أعضاء تلك اللجنة. وفي أثناء مدته نشبت الحرب في طرابلس الغرب , فصعد المترجم منبر الخطابة في المجلس وهيج الخواطر وحرك السواكن ثم أجهش في البكاء، فقال له بعض الحاضرين من المبعوثين: لا تبكِ فإننا سنستردها، فقال: أنا لا أبكي على طرابلس الغرب، ولكنني أبكي على الروملي وسورية والحجاز والعراق. من تأمل هذه الجملة الجوابية منه يعلم أنه قد لمح من وراء حجب الغيب ما سيكون في المستقبل استنباطًا حدسيًّا من سوء تدبير من بيدهم الحل والعقد، وقد اتفق مثل هذا لغيره من أصحاب الروية، والحدس، فوقع ما توقعوه، ولله الأمر من قبل ومن بعد. في مدة إقامته في الآستانة سواء كان مبعوثًا أو لم يكن، كان بيته مجمع الفضلاء والأدباء على اختلاف لغاتهم، والكبراء مع تفاوت رتبهم، يستمدون من آرائه السديدة، عرف هذا من شاهده بالعيان حتى كانت جلساته على مراتب، لكل فريق وقت يقضيه، فيأتي فريق آخر حتى تنقضي الساعة السابعة بل الثامنة من الليل. وكان مع كل هذا لا يأخذه ملل ولا ضجر ولا سآمة مما يدل على سعة صدره، وحسن مجلسه. في أواخر هذه الدورة للمجلس حصلت مناقشة بشأن المادة 35 من القانون الأساسي، ووقع الخلاف الشديد حتى آل الأمر إلى فض المجلس وتجديد الانتخاب ثانيةً، فعاد المترجم - رحمه الله تعالى - إلى وطنه وزيارة أهله وذويه، فأوحت الحكومة الاتحادية إلى جميع المراكز، وأوعزت للحكومات أن يكون انتخاب المبعوثين ممن لا يخالف رأيهم، وكانت تواصل التلغرافات والمندوبين للمراكز بالوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، ولهذه الأحوال وشدة الضغط ما تمكن الأهالي من انتخاب المترجم؛ لأن حريتهم سلبت حتى امتنع كثير من التصويت. على أثر ذلك سافر إلى الآستانة للقيام بأشغال الجريدة، فانعقد المجلس من مبعوثين صار تعيينهم من قِبل الاتحاديين في الباطن، وإن كان في الظاهر بالانتخاب. ثم تغلب حزب الائتلاف على حزب الاتحاد وتشكلت الوزارة، ففضوا ذلك المجلس الجديد، فعاد المترجَم إلى وطنه، فوقعت حرب البلقان، فصرف النظر عن الانتخاب إلى أن تضع الحرب أوزاراها. في ذلك الأوان سافر إلى مصر فانتخب من حزب اللامركزية المؤلف هناك رئيسًا للمؤتمر الذي انعقد في باريس؛ لأجل مطالبة الحكومة التركية بإصلاح بلاد العرب وإعطاء هذه الأمة المهضومة حقها القانوني المهضوم، وقد طبعت مقررات المؤتمر والخطب التي ألقيت فيه، فلا حاجة إلى بيان ذلك. وفي أثناء إقامته في باريس كان محل إعجاب الجميع في اعتداله، فإذا طالعت تلك المقررات المطبوعة، وتلوت ما فاه به - رحمه الله - حكمت له بذلك الاعتدال، وبأن ذلك الإعجاب به كان بحق، وحسبك شهادة الأجانب، فإن جريدتي المانان والطان - وهما من أكبر الصحف الفرنسية وأشهرها - قالتا كما نقلته الجرائد المصرية والسورية في ذلك الحين: (إن السيد عبد الحميد أفندي الزهراوي كان للمؤتمر بمثابة الدماغ من الجسد) وذلك بمناسبة ترؤسه للمؤتمر وحسن إدارته له. وكان مدة إقامته في باريس موضع التبجيل والاحترام، واجتمع بالمسيو بيشرن ناظر خارجية فرنسة في مقر النظارة، فأعجب به غاية الإعجاب وأنزله منزلة الإكرام. بعد إتمام وظيفة المؤتمر انفض أعضاؤه وبقي المترجَم - رحمه الله تعالى - هناك مع نفر من رفاقه، مطالبين بالإصلاح العربي، فاضطرت الحكومة الاتحادية للتحيل على جلبهم، فأرسلت مِن قِبلها مدحت باشا شكري البك، الكاتب العمومي لمركز الاتحاديين، والمرحوم عبد الكريم الخليل للسعي لإرضائهم ورجائهم؛ خدعةً ومكرًا منها، فعادا بالخيبة وما نالا غايةً ولا مقصدًا، فأعادوهما ثانيةً وأدنوا لهما بوعد جماعة المؤتمر بإجابتهم إلى ما يلزم من الإصلاحات للبلاد العربية، فوعدا وأقسما بالأيمان على ذلك، فحضر عندها المترجَم إلى الآستانة اعتمادًا على أيمانهم الكاذبة المبنية على الخداع والمكر، وعين عضوًا في مجلس الأعيان ليشرف على إنجاز وعدهم، فبقي ينتظر تلك المواعيد الفارغة (وناهيك بمهارة الأتراك بالمواعيد) إلى أن نشبت الحرب العامة بسوء تدبير الرؤساء الذين أهلكوا الحرث والنسل، وضيعوا ذلك الملك العظيم من أيديهم، وكان من لوازم ذلك إعلان الإدارة العرفية في البلاد، فجعل جمال باشا قائدًا عامًّا في سورية بصلاحية واسعة لتنفيذ أوامر الجمعية الخادعة بالإصلاح الذي كانت تنويه، وهو الانتقام من مُتنوري أبناء العرب ونابغيهم، واتخذوا الحرب فرصة لتنفيذ ما تكنه صدورهم من الضغائن على هذا الجنس الشريف. صلب المترجم بدمشق الشام مع جملة من وجهاء البلاد السورية بلا محاكمة ولا سؤال عن شيء، وذلك ليلة السبت رجب سنة 1334 هجرية , و23 نيسان سنة 1916 ميلادية، وكان لسان حاله يقول: يا جزع نح وابك واندب جثة خلقت ... من يوم (قالوا بلى) للضنك والمحن وحي أهلاً وجيرانًا وآونةً ... حي الرفاق وحي سائر الوطن حبًّا بصالحهم أصبحت فديتهم ... ليقطفوا ثمرًا من راحتي جني *** (صفاته) رحمه الله كان مستجمعًا لصفات الكمال، وقورًا، ذا ذهن حاد وفكرة واسعة وذاكرة عجيبة، يتوقد ذكاءً، وملامحه أكبر دليل على ذلك، واسع الصدر سليمه، لين الجانب، بطيء الغضب، لا يقابل أحدًا بمكروه، لا يمل من جليسه كيف ما كان، ولا جليسه من محادثته، يعاشر كل إنسان على قدر علمه، أكثر أحاديثه في مجالسه بما يعود بالفائدة، لا يستغيب أحدًا، ولا يحب أن يُغتاب أحد بحضوره، قليل الكلام الفارغ، كثير التفكر، أبي النفس، شجاعًا، شديد الصبر على الشدائد، قوي اليقين بربه تعالى، كريم الخلق، جميل الخلق والهيئة، يحبه من يراه لأول وهلة، عفيف النفس، لا يبالي بزخارف الدنيا، بعيد عن الكلف، شديد البحث والتدقيق في المسائل، يتتبع الأدلة والمستندات، وقافًا عند الحق، يحب أن تكون الحجة مع غيره ما أمكن، معتدلاً في شؤونه كلها، متمسكًا بمبادئه، محافظًا عليها، عرف ذلك منه كل من عاشره حق المعاشرة. *** مكتوباته، رحمه الله كتب في مواضيع عديدة كلها فوائد، منها ما حوته جريدته (الحضارة) التي أصدرها في الآستانة ثلاث سنين، ومنها مقالات في التربية كان ينشرها في جريدة (ثمرات الفنون) البيروتية قبل إعلان الدستور، ومنها ما نشرته المؤيد، والمعلومات العربية، والجريدة، والمنبر، وخلافها من الجرائد المصرية والسورية، وكتب في مجلة المنار عدة مقالات، وله كتاب (نظام الحب والبغض) نشر منه في المنار عدة فصول، وما أكمله لموانع سياسية، ومنها رسالة في الفقه والتصوف، وهي التي نوهنا بها قبلاً، وأخرى في الإمامة، ورسالة ترجمة السيدة خديجة، سلك فيها مسلكًا غريبًا لطيفًا، أبدع فيه كل الإبداع، وأتى بكل ما يستطاع، من طالعها حق المطالعة يقف على مقدرة هذا المترجم واطلاعه وسلامة ذهنه وسلامة قلمه ودقة فكره ونزاهة سره، ولا سيما الأبحاث الأخيرة منها، وقد طبعت بمطبعة المنار، وكانت نيته أن يجعلها الحلقة الأولى لسلسلة تاريخية، فحالت دون ذلك أشغال قامت مانعًا عن إخراج هذا الفكر إلى حيز الوجود، ومنها رسالة في النحو، وأخرى في المنطق، وغيرها في علوم البلاغة: المعاني والبيان والبديع، وكتاب في الفقه بأسلوب قريب المأخذ سهل العبارة يدعم مسائله بالأدلة الدامغة [1] ، وله محاضرات كان يلقيها في بيروت وحمص أيام ذهابه إلى الآستانة وعودته منها. وله مكتوبات غير ما ذكر، بقيت مسودةً بخطه، اغتالتها أيدي الأتراك عندما أرسل من الآستانة إلى (عاليه) مركز الديوان العرفي الذي أسسه جمال باشا المخذول. وله شعر لطيف في كل باب من أبواب الشعر، ومساجلات مع بعض أصحابه، ومراسلات كلها رقاق. من ألطف شعره، القصيدة العصماء في موضوعها وحسن أسلوبها ورقة معناها، وقد أثبتُّها برمتها ليقف المطالع على رسوخ قدمه - رحمه الله تعالى - وبعد أفكاره وحسن يقينه واعتقاده، وهي هذه: لا تكذبنا يا بصر ... لا تخدعينا يا فكر إن الحقائق تحت طي النـ ... ـشر فوق المنتظر لكن برؤيتها دعاوي النـ ... ـاس تعبي من حصر وسوى سراب لم يروا ... والآل كم غر النظر أنى التصور يا حجا ... للسر في هذي الصور الكون مبني على الـ ... ـحركات كل في قدر مجموع ذر يقتضي ... كل لها ضم الأخر والأرض تجمعنا فنحـ ... ـسب أنها إحدى الكبر والشمس تعربنا لنا ... فنظنها المعنى الأغر صور تغيّر لا نعي ... صفةً لها غير الغير ويجل مصدر أمرها ... عن أن تحيط به الفكر هو مصدر بوجوده ... تقضي اشتقاقات الأثر وتحيرت في ذاته ... وصفاته فطن غرر والخبرة المثلى التبا

الشيخ محمد كامل الرافعي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ محمد كامل الرافعي (2) ورث المترجم من والده عفة النفس، وحسن الهدي والسمت، والصفاء وحسن النية، وحب التصوف وإخلاص الصوفية - ولكنه لم يتسن له من السلوك ما تسنى له، والاشتغال بآداب اللغة، فكان منثوره كمنثوره، وقلت عنايته بالمنظوم، فلم يبلغ فيه شأو الوالد، وإنما بلغها وفاقها أخوه عبد الحميد بك شاعر طرابلس المشهور، وقد أشرت إلى ذلك في رثاء الوالد: وإن غدا فيه كل الفضل مجتمعًا ... فقد تفرق في أبنائه النسلا فللمعارف والإرشاد كاملهم ... من حالف العلم فيه الهدي والعملا وفي البلاغة كم (عبد الحميد) سما ... وللتحدي بها آي البيان تلا وكان أيضًا يحذو حذو والده في التأنق في مطعمه وملبسه، حتى إنه كان يتولى شراء ذلك بنفسه، وإذا لم يعجبه ما يريد من الخضر والفاكهة، وغيرها في السوق القريبة من داره يذهب بالخادم إلى سوق أخرى، فكان من أهنأ الناس معيشةً جامعًا بين التمتع بالطيبات وتقوى الله تعالى، والرضا بما قسمه له، ولكنه ترك التأنق في الملبس في أواخر عمره. وورث من أستاذه الشيخ محمود نشابه حب الاستقصاء والتحقيق في العلم، فكان بعد زمن الطلب والتلقي عن الشيوخ، عاكفًا على مطالعة أشهر الكتب وأعوصها، إما وحده وإما بالمشاركة مع بعض أصدقائه من أهل العلم، كالشيخ محمد الحسيني والشيخ محيي الدين الحفار والشيخ عبد اللطيف نشابه نجل الشيخ محمود نشابه. لما بدأت بطلب العلم ألفيته يطالع مع صديقه الشيخ محمد الحسيني الذي هو أشهر علماء طرابلس اليوم، أشهر كتب المنطق والأصول والكلام، كسلم العلوم، ومسلم الثبوت، والمواقف، والمقاصد، ولم أدرك زمن حضوره دروس الشيوخ إلا درس (نيل الأوطار) على والده، ولم يتمه. والفصل بينه، وبين أستاذه الشيخ محمود نشابه أن أستاذه، وأستاذنا هذا وقف في العلوم عند غاية فهم أشهر الكتب التي تلقاها في الأزهر , والتي قرأها للطلبة، فرضي لنفسه بما صححه فقهاء القرون الوسطى ومتكلموها ومفسروها ومحدِّثوها، وغيرهم من علماء اللغة والمعقول، وكان يصرف سائر وقته في العبادة، وأكثر عبادته تلاوة القرآن، وأما المترجم فقد طلب العلم من سن التمييز إلى منتهى الأجل، فلم تكن نفسه تقف في العلم عند غاية، وإذا لم تطمئن بما قاله أشهر المدققين، وما صُحح في أشهر الكتب المتداولة، يظل يبحث وينقب إلى أن يصل إلى ما يرتاح له ويقتنع به، ولهذا كان يبحث ويسأل دائمًا عما يطبع في مصر والهند من الكتب الجديدة، ويستحضر ما يعجبه ويرجو فائدته منها، فهو أول من أطلعنا على مؤلفات السيد حسن صديق خان ملك بهوبال، وعلى (زاد المعاد في هدي خير العباد) المطبوع في الهند، وعلى (سلم العلوم) و (مسلم الثبوت) و (روح المعاني) وغيرهما من مطبوعات الهند ومصر. وورث من أستاذه الشيخ حسين الجسر الميل إلى الوقوف على حالة العصر العلمية والاجتماعية والسياسية، والعناية بمطالعة المجلات والجرائد والاقتناع بشدة حاجة المسلمين إلى مجاراة الأمم الغربية في العلوم والفنون التي عليها مدار العمران والقوة في هذا العصر، مع المحافظة على أصول ديننا وهديه، وآدابه التي تفضل كل ما عليه تلك الأمم، وغيرها ما لم يخالفها، وكثير مما هي عليه موافق لها أو مقتبس منها، فكان المترجم بهذه المزايا محبوبًا محترمًا عند العوام والخواص من المسلمين وغيرهم، ولو أنه وفق لِنزْع قلادة التقليد من عنقه، ووجّه عنايته إلى حل مشكلات المسائل بالاستقلال التام في الفهم بدلاً من كثرة مراجعة الكتب، لكان بما أوتي من الجد والاجتهاد والإخلاص والإنصاف في البحث، آية في التحقيق وحل المشاكل! على أنه كان على مقربة من ذلك. ولولا أن شغل بعمل الحكومة عن التدريس والتصنيف، لكان للأمة من سعة اطلاعه وفقه نفسه وحسن بيانه عدد غير قليل من العلماء الذين يجمعون بالتخرج على يديه بين العلم والعمل للأمة والملة، ومن المصنفات النافعة التي يخرج بها علمه وفهمه من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، ومن محجبات الصدور إلى سافرات السطور، فإنه - رحمه الله تعالى - كان من الأولين الذين طلبوا العلم لله، لا للمال ولا للجاه، وقلما تصدى طلابهم للتدريس والتصنيف إلا بنيتهما وباعث الرغبة فيهما، وآية ذلك أن ترى أكثر تلاميذهم يهينون العلم في سبيلهما، وأكثر تصانيفهم خالية من كل ما تصلح به الأنفس وتهذب به الأخلاق، وفاقد الشيء لا يعطيه. *** أخلاقه وآدابه وأما أخلاق الرجل وآدابه، فقد كانت المثل الذي يضرب للأسوة، والإمام الذي ينصب للقدوة: عفة وصيانة، صدق وأمانة، جود وسخاء، عزة وإباء، نجدة ومروة، شجاعة وفتوة، رأفة ورحمة، وفاء وعلو همة، وناهيك بصبره وثباته، وبحبه الخالص، وبإخلاصه لذي رحِمِه وإخوانه، فقد كان للأسرة الرافعية الكثيرة العدد في القطرين الشامي والمصري كالوالد العطوف والأم الرءوم، يقوم لكل منهم بما تقتضيه حاله من غنى وفقر، وصحة ومرض. كان من زار طرابلس من المقيمين في القطر المصري منهم يرى من حفاوته به، وإقامة المآدب النفيسة له، والعناية بخدمته، والقيام بشؤونه ما لا ينتظر مثله من والد حفي ولا ولد بار تقي، ولا صديق غني وفي، ولا أمير سخي أبي. توفي أخوه أحمد أفندي في اليمن , وكان حاكمًا إداريًّا في بعض بلادها العثمانية، وترك غلامًا وجارية صغيرين حضنتهما أمهما، ثم بلغه أنها تزوجت، فخاف أن يكون ذلك مضيعةً لهما، فأخذ إجازةً من الحكومة وسافر إلى اليمن؛ لأجل إحضارهما وتولي تربيتهما، وبعد البحث عنهما في اليمن علم أن زوج أمهما رحل بها وبهما إلى العراق عاملاً للحكومة، فسافر إلى العراق في المحيط الهندي في فصل الصيف، إذ يشتد اضطرابه واصطخابه حتى إن أمواجه لتجرف الناس عن ظهور البواخر أحيانًا، فيضطر البحارة العاملون على الظهر إلى ربط أنفسهم بالحبال، وفي مثل ذلك البحر في ذلك الزمن يظهر للمسافر أنه لا مبالغة في تشبيه التنزيل للموج بالجبال، فما حدّث به المترجم وغيره أن السفينة عندما تقع بين موجتين ترى كأنها في واد عميق من أودية الجبال، وقد عجب كل من لقيه في سفره هذا من أهل اليمن والعراق - كأهل وطنه السوري - من شدة غيرته وعلو همته وتفانيه في سعيه لكفالة هذين الولدين، وما كان من غبطته وسروره بالظفر بهما بعد ما كابده في سبيلهما من المشاق والأهوال، وبذل ما يفوق طاقته من المال. وقد قال فيه أخوه الصغير (وهو لأب) : (والله لم يمضني فقد أبي كفقدي أخي، فقد كفاني غصص اليتم بعطفه وبره وإحسانه، ثم أدبني فأحسن تأديبي بقوة روحه وسعة فضله وبيانه) اهـ. أقول: كذلك كان عطفه ووفاؤه لأصدقائه وإخوانه، يكاد يضاهي بره وإحسانه بذي قرباه ورحمه، فكانت داره مثابةً لهم في كل وقت من ليل أو نهار، ولكن عنايته بهم كانت أشد وزيارته لهم أكثر، وقد أجمع على حبه والاعتراف بفضله والثقة بإخلاصه، النصارى كالمسلمين، ولم نر دارًا من دور علماء الدين في طرابلس كداره، يتردد عليها أهل الوجاهة والأدب من جميع الطوائف، ولا يظن القارئ أن سائر علماء طرابلس جفاة أو متكبرون، أو ضُرب على أبواب دورهم حجاب من التعصب الديني فلا يزورون ولا يزارون، كلا إنهم بالرقة واللطف مشهورون، ولكن الفقيد كان ممتازًا فيهم وفي سائر الناس بما ذكرنا من الشمائل والصفات، كما أنه كان ممتازًا بين رجال الدين بالعناية بشؤون السياسة والعمران؛ لأن نفسه كانت تعشق جميع المعارف والحقائق، وتطلب فيها الكمال. كتب إليَّ أخوه عمر أفندي صاحب العبارة التي ذكرناها آنفًا، وهو أصغر إخوته وأشدهم عشقًا لمذهبه واستعذابًا لمشربه، جملةً بمعنى ما تقدم في وصفه، قال: كان رحمه الله على صحة موفورة من العلم والفضل ومكارم الأخلاق، عَزوفًا عن اللغو واللهو، ولوعًا في البحث والدرس، كثير التنقيب عن نفائس الكتب واقتنائها، والوقوف على نوادر مسائلها، فكانت داره لذلك ناديًا لأهل العلم ينتابونه من كل جانب للمذاكرة والمحاورة والإفادة والاستفادة، وقد كان - رحمه الله - شديد الاهتمام بالعالم الإسلامي والأمم الإسلامية لحد لا يوصف، فتراه دائمًا مستطلعًا طلع أخبارهم، متسائلاً عن أحوالهم وأطوارهم، فكان إذا سمع خيرًا استبشر وتهلل، وإن سمع شرًّا بات بليلة الملسوع يتأسف ويحوقل، وكان شديد العناية والعطف على أهله وقرابته، كثير الوفاء لأصدقائه وذوي مودته، وناهيكم بما نُكب به في سبيل تمسكه بمودة الصديق الوحيد والأستاذ الكامل الرشيد، وذلك في أواخر أيام السلطان عبد الحميد، وأما إيتاؤه ذوي القربى واليتامى من أهله، فحدث ولا حرج، فقد كان يلقب نفسه بأبي العشيرة والقبيلة (رحمه الله) نظرًا لكثرة ما كان يهتم للقريب والبعيد عنه من أهله المنتشرة في سورية ومصر وبلاد الله أجمع. ولولا تعهده إياي مدة اليتم في الصبا، وأيام نكبتي السياسية في دور الشباب لهلكت، وايم الله، ولولا غرسه في نفسي حب الفضيلة والالتحاق بأهلها لما كنت لمثلكم عاشقًا، وبكم طروبًا. (كان - رحمه الله - صبورًا على اللأواء والضر، ولقد خسرت طرابلس بوفاته عالمًا كريمًا وبارًّا رحيمًا، بكاه المسلم وغير المسلم؛ لصلابته في دينه وعلمه وفضله وثباته العجيب في مبدئه الحق، وهو حب الحق ونصرته بكل وسيلة وذريعة، ولكثير من المسيحيين النبلاء عندنا حب له بوجه خاص نظرًا لما عرفوا من حريته وشجاعته وصدق وطنيته، ولولا مخافة التطويل لأقمت لكم على ذلك ألف دليل، وحسبي مع ذلك أن أقول: إن مجاهرة المرحوم بكل ما كان يعتقد من حق صريح، ووقوفه في وجه الظلمة الطغاة من كبار رجال الحكومة البائدة في عهد عبد الحميد ومن بعده، بل وإحسانه إلى مواطنيه المسيحيين على اختلاف طبقاتهم بالتأمين والتطمين لهم أيام الحرب العامة كلما هم بهم شيطان من شياطين الحكومة، أو طرأ عليهم حادث من حدثان يطرأ على الأمة - قد عرفهم بكثير من مزايا الإسلام، وفضل علمائه العاملين....) . (ويلي هذا كلام قطعه المراقب من الكتاب) . *** مودة المترجَم وولايته لصاحب المنار كان بين آل بيتنا وبين الرافعية في طرابلس مودة ورثها الأب عن الجد، ولكنها مع بعض الأفراد أقوى من بعض، فكان الشيخ عبد الغني أحب شيوخهم إلى والدي، ونجله المترجم أحب شبانهم إليه، لذلك كنت منذ الشروع في طلب العلم أتردد عليه وأحب مذاكرته على شدة إعراضي عن معاشرة الناس، محافظةً على سلامة الفطرة والأخلاق، وقد وجدته أقرب المشتغلين بالعلم إلى ذوقي؛ لحبه التصوف وعنايته بكتبه، وكنت لا أعرف من كتب الصوفية إلا إحياء العلوم للغزالي - رحمه الله تعالى - فشوقني إلى كتب الشعراني وكان مغرمًا بها، وأعارني المتن والعهود الكبرى والطبقات، فألفيتها دون الإحياء، فكنت أعرف منها وأنكر، وكنت أحضر في بعض الأوقات دروس مطالعته الخاصة التي بينتها من قبل، وألقي السمع إلى بعض المسائل في الكلام والأصول، فإذا فهمتها ذكرت له ولرفيقه رأيي في الخلاف فيها، فإذا تبين له بعد البحث ومقابلة الدلائل أن ما قلته هو الراجح، قال لي: من أين جئت بهذا الرأي وأنت لم تحضر درسًا واحدًا في هذا الفن، ولا سمعت هذه المسألة وأمثالها من قبل؟ فكنت أقول له: إنني رجعت إلى نفسي، فوجدتها لا تعقل الحق إلا فيما قلته، أو ما هذا ما معناه، ولما تكرر ذلك صار يبتدأني أحيانًا بالسؤال، فيذكر مسألةً مشكلة

قرار المؤتمر السوري العام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قرار المؤتمر السوري العام وَعَدنا في مقال (المسألة السورية والأحزاب) بأن ننشر نص قرار المؤتمر السوري الذي قدمه للجنة الاستفتاء الدولية، وهذا هو النص العربي الأصلي الذي قدمت ترجمته بالإنكليزية: (إننا نحن الموقعون أدناه بإمضاءاتنا وأسمائنا أعضاء المؤتمر السوري العام المنعقد في دمشق الشام , والمؤلف من مندوبي جميع المناطق الثلاث: الجنوبية والشرقية والغربية، الحائزين على اعتمادات سكان مقاطعاتنا وتفويضاتهم من مسلمين ومسيحيين وموسويين، وقد قررنا في جلستنا المنعقدة في نهار الأربعاء المصادف لتاريخ 2 تموز (يوليو) سنة 1919 وضع هذه اللائحة المبينة لرغبات سكان البلاد الذين انتدبونا، ورفعها إلى الوفد الأميركي المحترم من اللجنة الدولية. (أولاً) : إننا نطلب الاستقلال التام الناجز للبلاد السورية التي يحدها شمالاً جبال طوروس , وجنوبًا رفح , فالخط المار من جنوب الجوف إلى جنوب العقبة الشامية والعقبة الحجازية , وشرقًا نهر الفرات فالخابور , والخط الممتد شرقي أبي كمال إلى شرقي الجوف، وغربًا البحر المتوسط - بدون حماية ولا وصاية. (ثانيًا) : إننا نطلب أن تكون حكومة هذه البلاد السورية ملكيةً مدنيةً نيابيةً تدار مقاطعاتها على طريقة اللامركزية الواسعة، وتحفظ فيها حقوق الأقليات على أن يكون مَلِك هذه البلاد الأمير فيصل الذي جاهد في سبيل تحرير هذه الأمة جهادًا استحق به أن نضع تمام الثقة بشخصه، وأن نجاهر بالاعتماد على سموه. (ثالثًا) : حيث إن الشعب العربي الساكن في البلاد السورية هو شعب لا يقل رقيًّا من حيث الفطرة عن سائر الشعوب الراقية، وليس هو في حالة أحط من حالات شعوب البلغار والصرب واليونان ورومانيا في مبدأ استقلالها - فإننا نحتج على المادة الثانية والعشرين الواردة في عهد جمعية الأمم، القاضية بإدخال بلادنا في عداد الأمم المتوسطة التي تحتاج إلى دولة منتدبة. (رابعًا) : إذا لم يقبل مؤتمر الصلح هذا الاحتجاج العادل لاعتبارات لا نعلم كنهها، فإننا بعدما أعلن الرئيس ولسن أن القصد من دخوله في الحرب هو القضاء على فكرة الفتح والاستعمار - نعتبر مسألة الانتداب الواردة في عهد جمعية الأمم عبارةً عن مساعدة فنية واقتصادية، لا تمس باستقلالنا السياسي التام، وحيث إننا لا نريد أن تقع بلادنا في أخطار الاستعمار، وحيث إننا نعتقد أن الشعب الأمريكي هو أبعد الشعوب عن فكرة الاستعمار، وأنه ليس له مطامع سياسية في بلادنا، فإننا نطلب هذه المساعدة الفنية والاقتصادية من الولايات المتحدة الأميركية على أن لا تمس هذه المساعدة باستقلال البلاد السياسي التام، وعلى أن لا يزيد أمد هذه المساعدة عن عشرين عامًا. (خامسًا) : إذا لم تتمكن الولايات المتحدة من قبول طلبنا هذه المساعدة منها، فإننا نطلب أن تكون هذه المساعدة من دولة بريطانيا العظمى على أن لا تمس باستقلال بلادنا السياسي التام ووحدتها، وعلى أن لا يزيد أمدها عن المدة المذكورة في المادة الرابعة. (سادسًا) : إننا لا نعترف بأي حق تدعيه الدولة الإفرنسية في أي بقعة كانت من بلادنا السورية، ونرفض أن يكون لها مساعدة أو يد في بلادنا بأي حال من الأحوال. (سابعًا) : إننا نرفض مطالب الصهيونيين بجعل القسم الجنوبي من البلاد السورية - أي فلسطين - وطنًا قوميًّا للإسرائيليين، ونرفض هجرتهم إلى أي قسم من بلادنا؛ لأنه ليس لهم فيها أدنى حق، ولأنهم خطر شديد جدًّا على شعبنا من حيث الاقتصاديات والقومية والكيان السياسي، أما سكان البلاد الأصليون من إخواننا الموسويين، فلهم ما لنا وعليهم ما علينا. (ثامنًا) : إننا نطلب عدم فصل القسم الجنوبي من سورية المعروف بفلسطين، والمنطقة الغربية الساحلية التي من جملتها لبنان عن القطر السوري، ونطلب بأن تكون وحدة البلاد مصونةً لا تقبل التجزئة بأي حال كان. (تاسعًا) : إننا نطلب الاستقلال التام للقطر العراقي المحرر، ونطلب عدم إيجاد حواجز اقتصادية بين القطرين. (عاشرًا) : إن القاعدة الأساسية من قواعد الرئيس ولسن التي تقضي بلغو المعاهدات السرية، تجعلنا نحتج أشد الاحتجاج على كل معاهدة تقضي بتجزئة بلادنا السورية، أو كل وعد خصوصي يرمي إلى تمكين الصهيونيين من القسم الجنوبي من بلادنا، ونطلب أن تلغى تلك المعاهدات والوعود بأي حال كان. هذا وإن المبادئ الشريفة التي صرح بها الرئيس ولسن لتجعلنا واثقين كل الثقة في أن رغائبنا هذه الصادرة من أعماق القلوب، ستكون هي الحسم القطعي في تقرير مصيرنا، وإن الرئيس ولسن والشعب الأمريكي الحر، سيكون عونًا على تحقيقها فيثبتون الجلاء مصداق مبادئهم السامية وغاياتهم الشريفة نحو البشرية بنوع عام، وشعبنا العربي بنوع خاص، وإن لنا الثقة الكبرى في أن مؤتمر السلم يلاحظ أننا لم نثر على الدولة التركية التي كنا وإياها شركاء في جميع الحقوق التمثيلية والمدنية والسياسية إلا لأنها تحاملت على حقوقنا القومية فيحقق لنا رغائبنا بتمامها، فلا تكون حقوقنا قبل الحرب أقل منها بعد الحرب، بعد أن أرقنا من الدماء ما أرقناه في سبيل الحرية والاستقلال، ونطلب السماح لنا بإرسال وفد يمثلنا في مؤتمر السلام للدفاع عن حقوقنا الثابتة تحقيقًا لرغباتنا، والسلام) اهـ.

الدولة العثمانية بعد الهدنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدولة العثمانية بعد الهدنة اشترط دول الحلفاء في مهادنة الدولة العثمانية أن يكون لهم الحق في احتلال جيوشهم للبلاد، والمواقع العسكرية التي يتوقف تنفيذ شروط الهدنة على احتلالها، كتأمين تسريح الجيش وإعادة الأسرى، وجعلوا هذا الشرط وسيلةً لاحتلال كاد يكون عامًّا شاملاً لجميع الولايات التركية بعدما احتلوا جميع الولايات العربية في سورية والعراق , ومن البديهي أن هذا الاحتلال يمكِّنهم من تسريح جميع الجنود العثمانية إلا ما يراه الحلفاء نافعًا لهم في حفظ الأمن تحت إدارتهم، كالشرطة وأعوانها، ومن جمع السلاح، بحيث يكون تقسيم البلاد بينهم سهلاً سائغًا، لا مشقة فيه ولا خسارة، ولم يكتفوا بجعل هذا الاحتلال لجيوش الدول الكبرى الظافرة، بل انتهوا في إذلال الدولة والشعب التركي إلى الإذن لجيش من اليونان أن يحتل ولاية أزمير أهم الولايات التركية بعد ولاية الآستانة , فطفق هؤلاء يستذلون أهلها، فكانت هذه النكاية حافزةً للترك إلى الخروج مما خنعوا له أولاً من احتلال الآستانة وغيرها، فهاجت الآستانة وماجت، واجتمع مئات الألوف في الميدان بين مسجد أياصوفيا ومسجد السلطان أحمد , واحتجوا أشد الاحتجاج على عمل الحلفاء، واحتج السلطان محمد وحيد الدين نفسه عليه بأن أعلن الاستقالة من الخلافة والسلطنة، وأبى ولي عهده أن يقبل المبايعة لنفسه، واضطر السلطان إلى البقاء في (دسته) وتألفت العصابات المسلحة في ولاية أزمير وغيرها من الأناضول لقتال اليونان، فحملتهم خسائر عظيمة، ثم عزم الترك في الأناضول على مقاتلة كل جيش يحتل بلادهم أو يجعلها تحت حماية أجنبية، وهو المتبادر من عمل أوربة , وفر أنور باشا وغيره من الضباط إلى القوقاز، فتولوا تأليف العصابات لقتال الإنكليز الذين احتلوا بعض تلك البلاد، والمساعدة على نشر البلشفية في أمم الشرق الإسلامية. بهذه العصابات التي ينتمي أكثر قوادها إلى جمعية الاتحاد والترقي التي لم تدع في الجيش أحدًا من غير رجالها ذا قيمة، أخذت الجمعية تبني لها مجدًا جديدًا في البلاد بعد أن ظن أكثر الناس أنه قضي عليها بسوء عاقبة الحرب التي أهلكت بها الدولة والأمة، وبما تلا الهدنة من فرار أكبر زعمائها واعتقال الباقين، وبما للسلطان محمد وحيد الدين الذي كان يمقتها أشد المقت من النفوذ الخاص الذي يعرفه له أهل المكانة من الترك وغيرهم، حتى وصفه عربي وجيه كان مقيمًا في الآستانة وعرفه حق المعرفة بقوله: إنه جمع بين ديانة أبيه عبد المجيد , وشجاعة عمه عبد العزيز , ودهاء أخيه عبد الحميد، وقال عربي آخر مختبر: إن مشربه تجديد حياة الدولة بالمحافظة على مكانتها الإسلامية والعناية بالترقي المدني، وإبطال التقاليد الضارة، ويرى العارفون بشؤون الدولة الآن أنه راض في الباطن من مؤسسي العصابات، كمصطفى كمال باشا وغيره، وإن كانوا غير خاضعين لحكومة الآستانة الخاضعة لاحتلال الحلفاء. فالحرب الآن في الأناضول مستعرة كروسية، ونيران الفتن في البلقان مستورة برماد دقيق تنكشف من تحته تارةً بعد أخرى، وجميع أمم الأرض مضطربة جائعة، وسبب ذلك كله مؤتمر الصلح الأعرج الأعشى، الذي اكتفى بعقد الصلح مع ألمانية ليقيدها بقيود تمكنه من التصرف في سائر الأمم بما يهوى، ومعاهدة الصلح معها لم يُظهر رضاءه عنها أحد إلا الحكومة الإنكليزية الواضعة لها، ولا يعلم عاقبة ذلك أحد إلا الله تعالى، فنسأله سبحانه اللطف بعباده المهضومي الحقوق، والإدالة ولهم من ظالميهم الطامعين، آمين.

ذات بين الحجاز ونجد أو الخرمة والوهابية والمتدينة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذات بين الحجاز ونجد أو الخرمة والوهابية والمتدينة في هذا الصيف كثر خوض الجرائد الأوربية والعربية المصرية والسورية في المسألة العربية، وذكرت أنه وقع بين الوهابيين التابعين لابن سعود أمير نجد والحجازيين، حرب سببها الخلاف في المذهب، انتصر فيها الأولون انتصارًا فاصلاً في (تربة) فنكّلوا بجيش الأمير عبد الله نجل ملك الحجاز , وأخذوا جميع ما كان معه من المدافع والسلاح والذخائر، ثم أذيع أنهم احتلوا مكة المكرمة , وإن ملكها لما شعر بقرب وصولهم إليها أخلاها لهم وسافر إلى جدة , فأقام فيها واستجار بحليفته بريطانية العظمى، وكثر حديث الناس في هذا المعنى، وكان مما ذكرته هذه الجرائد أن الوهابية مصلحون في الإسلام، وتربة هذه (بضم ففتح) قرية في الشرق الجنوبي من مكة والطائف , وفي الغرب من وادي تربة الشهير الذي قال فيه صاحب معجم البلدان: إنه وادٍ بالقرب من مكة على مسافة يومين منها. أما أخذ النجديين مكة المكرمة فهو كذب، صرح بتكذيبه كل من الوكالة العربية الهاشمية بمصر , ودار الحماية الانكليزية، وأما وقوع القتال وانكسار جيش الأمير عبد الله في (تربة) وأخذ جميع أسلحته، فقد ثبت رسميًّا كما فصل في برقية وردت من عدن. وأما ما علمناه في المسألة من ثقات الضباط الذين كانوا في الحجاز وغيرهم، فهو أن النزاع والقتال كان بين حكومة مكة وبين الشريف خالد صاحب (الخرمة) وهي قرية في الشرق الشمالي من مكة قريبة من وادي تربة، والشريف خالد هذا من شرفاء مكة وعشيرة الإمارة فيها، وكان قد استنجد لمساعدة الشريف علي على فتح المدينة المنورة فلبى، وهو الذي أسر أشرف بك أشقى الفدائيين الاتحاديين إذ كان مرسلاً بمبلغ كبير من الجنيهات المجيدية إلى الأمير ابن الرشيد , ثم وقع الخلاف والنفور بين الشريف علي قائد الجيش العربي المحاصر للمدينة المنورة، وبين الشريف خالد، فعاد الثاني إلى الخرمة، وصار ملك الحجاز يرسل الحملة بعد الحملة لقتاله فيظفر بها، وينضم إليه الكثير من بدوها ويدخلون في جماعة الإخوان المتدينة الذين نذكر خبرهم قريبًا، ولما سلّم الترك المدينة المنورة إلى جيش الأمير علي بعد عقد الهدنة بين الدولة العثمانية والحلفاء، ألَّف الشريف عبد الله حملة من الجيش النظامي الذي كان محاصرًا لها فيها عشرات من الضباط زيدت مرتباتهم، وجهزت بأنواع الأسلحة الجديدة من المدافع الجبلية والرشاشة وغيرها وبالديناميت. قال بعض الضباط الذين كانوا في الحجاز: إن هذه أعظم حملة يمكن لحكومة الحجاز أن تكافح بها الشريف خالدًا، فإذا كسرها تيسر له الاستيلاء على مكة المكرمة إذا شاء، ثم بلغنا ما تقدم من أن جيش ابن سعود هو الذي كسر الحملة، ثم نقل إلينا أن الحملة المنظمة استظهرت على الشريف خالد، فأمرها ملك الحجاز بالزحف على نجد، فعند ذلك أرسل الأمير ابن سعود بجيوشه لقتالها فظفرت بها، ثم زحفت تقصد مكة حتى قيل: إنها وصلت إلى وادي الليمون وأن ملك الحجاز استنجد بالحكومة الانكليزية على ابن سعود، فسألت الأمير ابن سعود عما يريده من الحجاز، فأجاب بأنه هو أحق بحكم الحجاز من شرفاء مكة، وأن أكثر أهله يفضلونه عليهم لعلمهم بعدله، وشكواهم من ظلم جميع الشرفاء واستبدادهم مع ما كان من سيطرة الترك عليهم، وأنه مع هذا لا يبغي الاستيلاء عليه، وإنما يطلب أن يكون (وادي تربة) هو الحد الفاصل بينه وبين نجد، وأن تعترف به الحكومتان حتى لا تعتدي واحدة منهما على ما وراءه، وأن يكون لحكومة نجد معتمد في مكة ينظر في مصالح رعاياها، ويراجع حكومتها في شأنهم، فإن شريف مكة كثيرًا ما يظلمهم، وفي بعض السنين يصدهم عن أداء فريضة الحج فلا يسمح لهم بها، فرأى الإنكليز أن هذين المطلبين حق، فوعدوا ابن سعود بأن يتوسطوا بينه وبين ملك الحجاز فيهما بشرط أن يمتنع هو وجميع أتباعه من المتدينة من التعدي على الحجاز. وبلغنا أيضًا أنهم خاطبوا ملك الحجاز في ذلك، فأبى أن يعترف لنجد لها بحدود، أو يقبل منها معتمدًا، والظاهر أن الإنكليز يظاهرونه لإعلانه موافقته لسياستهم في بلاد العرب. المتدينة والوهابية يعلم الملايين من البشر - بعضهم بالمشاهدة والاختبار، وبعضهم بالروايات الثابتة بالتواتر - أن الأعراب (البدو) في الحجاز وغير الحجاز قد عادوا إلى شر مما كانوا عليه في الجاهلية من الغزو والسلب والنهب والقتل حتى للحجاج المحرمين في أرض الحرم والأشهر الحرم، وأنهم يستحلُّون ذلك ويسمونه كسبًا، وأن لهم شرائع وأحكامًا عرفيةً مخالفةً للشرع لا يرضون الحكم بدونها، وأن أكثرهم لا يصلون ولا يصومون، ومن يحج منهم لا يلتزم أحكام الشرع في الحج ولا يعرفها، ولا يمنعه الإحرام بالحج عن القتل والسلب والنهب إن قدر عليه، ولا شك في أن من كان كذلك، فهو ليس بمسلم ولا ذي دين، هذا ما هو مشهور عنهم ويظن كثير من الناس أنهم كلهم على ذلك، وهذا خطأ عظيم، فإنه يصدق عليهم في هذا العصر ما بينه الله - عز وجل - من حال أسلافهم في عصر التنزيل، وهو أن منهم الكافر والمنافق والمؤمن الصادق، ولكن كفر الكافرين منهم كله - أو جله - عن جهل بضروريات الدين التي لا يعذر أحد بجهلها، ولعله لا يوجد فيهم شيء من كفر العناد والجحود. وأما الذين عادوا إلى الدين من أعراب الحجاز وما حوله، فالفضل في هدايتهم لشيوخ السنوسية ودعاة علماء نجد. أما السنوسيون فقد كان لهم في نشر طريقتهم شرة (أي: نشاط وقوة) تلتها فترة، وأما النجديون فقد بلغنا أن شرتهم ونشاطهم بلغا أشدهما في هذه السنين الأخيرة، ويسمون من يستجيب لهم: المتدينة، ويقابلهم من لا دين لهم يهتدون به، وهم الذين لا يعرفون عقيدة الإسلام ولا شرائعه، ويستبيحون الغزو والسلب والنهب لمجرد الكسب، وبلغنا أن الدعاة يبينون في دعوتهم هذه الحقيقة لكشف غرور من يظن من أولئك الأعراب أن تسمية أنفسهم مسلمين يغني عنهم شيئًا، فيذكرون لهم أن الإسلام علم وعمل، فمن لا علم له بحقيقة عقيدته - وأساسها التوحيد الخالص وتنزيه الله تعالى ووصفه بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم - ولا بأحكام أركانه وشرائعه، وأن من لا يذعن لأحكامه بعد العلم بها، فليس منه في شيء، وأن من مات من آبائهم وأجدادهم غير عالم بذلك ولا مذعن له بالعمل من مستبيحي القتل والسلب، فقد مات كافرًا. حال المتدينة واشتراكيتهم الاختيارية وبلغنا أن من استجاب لدعوة هؤلاء الدعاة من الأعراب يتوب عن الكسب بالغزو والنهب، ويتحولون عن البداوة، فيبنون البيوت ويغرسون الشجر ويزرعون، ويأخذون بتعلم القراءة والكتابة حتى قبل التحضر، فتراهم يحملون ألواح الكتابة على ظهور الإبل يتعلمون بها، ولا يبعد أن تجد فيهم من يقول، كما قال أحد أعراب شنقيط: قد اتخذنا ظهور العيس مدرسةً ... بها نبين دين الله تبيانا وإن التعاطف والتعاون بينهم يشبه ما كان في صدر الإسلام بين المهاجرين والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - فقد روينا عن أحد المختبرين من أهل مكة المكرمة أن الرجل منهم إذا كان عنده ألف شاة وكان يكفيه لنفسه وعياله نصفها أو ربعها مثلاً، فإنه يبذل الباقي كله لمصلحة الإخوان. ولا يمكن حملهم على قتل أحد إلا بحجة دينية، فإذا قنعوا بأن القتال واجب شرعًا وشرعوا فيه، فإنهم يندفعون بشجاعة واستبسال، وينفق كل في سبيله كل ما تصل إليه يده من المال، على حين نرى غيرهم لا يقاتل إلا مأجورًا، فإذا وجد من يزيد في أجره على من يقاتل معه ليقاتله، فعل. وبلغنا أن دعوتهم تغلغلت في جميع قبائل نجد والحجاز وعسير , وأطراف هذه البلاد وما جاورها، حتى إن قبيلتي غامد وزهران الحضريتين طلبتا مرشدين من علمائهم. ما ينتقد على المتدينة هذا مجمل ما بلغنا من خبرهم من المختبرين المعجبين بنهضتهم، الذين يرجون تجديد الإسلام في الجزيرة بهذه الحركة، ولا نجد بدًّا من ذكر انتقاد بعض رواة خبرهم غلوهم في كثير المسائل، وتشديدهم فيها إلى أنهم يحرمون بعض المباحات، ويجزُون على بعض الذنوب بأشد العقوبات، وآفة ذلك جهل بعض الدعاة بالأحكام الشرعية تفصيلاً، وهو جهل لا يرجى تلافيه إلا بالتوسع في العلم الشرعي، فإن الذي يأخذ الدين بقوة يرجع إلى ما يعلم من أحكامه وهدايته. وخصوم هؤلاء المتدينة ينبزونهم بلقب الوهابية الذي وضعته السياسة لأهل نجد وسمته مذهبًا، وقد حدثني ثقة عن عالم من أهل الحديث رآه في مكة، وكان في نجد أن علماء نجد ينتقدون على المتدينة غلوهم في الدين والجهل بكثير من أحكامه التي لا غنى لمسلم يقيم دينه عنها، وسبب ذلك أنه لا يوجد في نجد من الدعاة والمعلمين الراسخين في علم السنة ومذهب الإمام أحمد من يكفي لتعليم هذه القبائل الكثيرة التي تركت تقاليد الجاهلية، وانتظمت في سلك المتدينة، وإننا رأينا أكثر الذين ينصفون الوهابية في الأمصار الإسلامية يقولون: لا شك في أنهم مجددون للإسلام في بلاد العرب، ولكنهم غلاة متشددون، ولشدة تمسكهم بظواهر النصوص وأخذها بقوة بدوية، لا يشعرون بأنهم غلاة متشددون. *** حقيقة الوهابية ومذهبهم ترى في كتب التاريخ الحديث أن لفظ (الوهابية) يطلق على أتباع الشيخ محمد ابن عبد الوهاب العالم السني الشهير - الآتي ذكره - المجدد للنهضة الدينية في نجد، وقد اتخذ أمير نجد تلك النهضة في إبان ظهورها وسيلةً للاستيلاء على بلاد الحجاز التي طال عليها عهد الظلم والجهل، ولم يظهر فيها مصلح علمي ولا إداري. فانبرت حكومة الآستانة لمناهضته وإخراجه من الحجاز الذي هو مناط عظمتها وسلطتها الإسلامية، واستعانت على ذلك بحكومة محمد علي باشا الفتاة؛ إذ كانت عاجزةً عن تولي ذلك بنفسها. وأرادت أن تشوه تلك الحركة الإصلاحية فأذاعت أنها عبارة عن إحداث مذهب جديد مبتدع في الإسلام مخالف لمذاهب أهل السنة، وأغرت أنصارها من العلماء الرسميين والمفتين بالرد على هذا المذهب وتضليل أهله أو تكفيرهم. وهم ينكرون كل مذهب في الأصول غير مذهب السلف الصالح، ويتبعون في الفروع مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه، ولكن الدولة العثمانية والحكومة المصرية كانتا أقدر منهم على إقناع أكثر أهل بلادهما بأنهم يتبعون مذهبًا جديدًا، وأن محمد علي باشا كان مجاهدًا ناصرًا للإسلام بقتالهم، وإن كان أصدق مؤرخي عصره، وهو الشيخ عبد الرحمن الجبرتي يثبت ضد ذلك في سيرته، وفي وصف جيشه وجيشهم، فأما كلامه في سيرته فكثير، وأما ما رواه عن المقارنة والمقاتلة بين الجيشين، فحسبك منه ما ذكره في أول حوادث سنة 1227 عند ذكر الذين انهزموا من عسكر محمد علي، ورجعوا إلى مصر، وهو: رواية الجبرتي في الوهابية وعسكر محمد علي (ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدَّعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة، وفيهم من لا يتدين بدين ولا ينتحل مذهبًا؟ وصَحِبتنا صناديق المسكرات، ولا يُسمع في عرضينا أذان ولا تقام به فريضة، ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين، والقوم (يعني الوهابية) إذا دخل الوقت أذن المؤذنون، وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع، وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائمة أذن المؤذن وصلوا صلاة الخوف، فتتقدم طائفة للحرب، وتتأخر الأخرى للصلاة، وعسكرنا يتعجبون من ذلك؛ لأنهم لم يسمعوا به فضلاً عن رؤيته، وينادون في معس

الوحدة العربية ودعوة ملك الحجاز إلى قتال الوهابية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوحدة العربية ودعوة ملك الحجاز إلى قتال الوهابية قويت في هذا القرن وحدة الأجناس، ولا سيما الذين يجمعهم وطن واحد، ويتعارفون بلغة جامعة، وتوجهت همم المشتغلين بالسياسة والشؤون العامة إلى ترقية أقوامهم وجمع كلمتهم ووحدة حكومتهم، وكان من أمر العرب التابعين للدولة العثمانية في ذلك ما فصلنا القول فيه من قبل. ونقول الآن: إن ثورة مكة المكرمة وإعلان أميرها الحسين بن علي الخروج على متغلبة الاتحاديين الطورانيين، ثم على دولة الترك بجملتها في عهد الحرب الأوربية، بل البشرية الكبرى قد أطمع بعض أهل الغيرة والإخلاص من العرب باتخاذ ذلك وسيلةً إلى جمع كلمة عرب الجزيرة والاستعانة بوحدتهم واتفاقهم على إنقاذ عرب سورية والعراق من ظلم الاتحاديين واضطهادهم إياهم في زمن الحرب، والتعاضد معهم بعدها على ما يرتقي به الجميع سواء انتصر أحلاف الدولة العثمانية وظلوا مرتبطين بها، أو انكسرت بانكسارهم وفصل بينهم وبينها، وزاد في طمعهم هذا إعلان الزعيم العربي الثائر أن ثورته عربية جنسية لا تفرق بين المسلمين وغيرهم من العرب، ومما نقل عنه وعن أنجاله قواد جيوشه، وانتشر في جميع الأقطار التي يقطن فيها الناطقون بالضاد قوله: إننا كنا عربًا قبل موسى وعيسى ومحمد , أي: فيجب أن نقيم وحدتنا العربية التي كانت قبلهم، صلوات الله وسلامه عليهم، فلا تكون مللهم حائلةً دون ذلك. لهذا سعى إليه بعض هؤلاء الطامعين في جمع الكلمة بأن يعقد اتفاق بين شريف مكة , والأمير ابن سعود صاحب نجد , والإمام يحيى صاحب اليمن , والسيد الإدريسي صاحب عسير على قاعدة الاعتراف لكل منهم باستقلاله في بلاده، والتعاون بينهم على دفع العدوان الأجنبي ورفع شأن الجنس العربي في بيان كان قد وضع قبل الحرب، ووصل خبره إلى الشريف بعد إيصاله إليهم واستحسانهم له، والعلم برغبتهم في الوقوف على تفصيله، والبحث في طريقة تنفيذه، ولم يعلم رأيه فيه قبل الثورة، ولما عرض عليه بعدها وقد ظهرت شدة الحاجة إليه، وسئل أن يشرع في تنفيذه، قال: إن سعيه إليه يحمل عندهم على خوفه من الترك وقصد الاستعانة عليهم لا على الإخلاص، وأنه يرى تأجيله إلى أن يفتح المدينة المنورة , ولا يبقى للترك شيء في الحجاز، ولكن روى عنه بعض عماله أنه تكلم بعد هذا السعي في المسألة، فقال كلامًا حاصله احتقار أولئك الأمراء والأئمة وكون سلطتهم اليوم ستزول غدًا، أي: سيزيلها هو. ثم صرنا نرى في أعداد تلقى إلينا من جريدة القبلة (بعد قطعها المبادلة مع المنار على إثر منع الحكومة الهاشمية دخوله في الحجاز) مقالات ومنشورات في الطعن في أهل نجد، والدعوة الدينية إلى قتالهم، ثم بلغنا خبر إرسال حكومة مكة الهاشمية الحملة بعد الحملة لقتال الشريف خالد في الخرمة، ثم بلغنا بعد تسليم المدينة المنورة بأشهر خبر القتال بين الجيش الذي كان محاصرًا لها، وبين النجديين أنفسهم، فكان ذلك مثار حزن شديد في قلبنا وقلب كل عربي يحب وحدة قومهم واتفاقهم، وكل مسلم يكره التعادي والتقاتل بين أبناء دينه , بل ذلك مما يحزن كل شرقي يكره أن يستعبد الغربيون الشعوبَ الشرقية، وأن تكون هذه الشعوب هي التي تمهد لهم السبيل إلى ذلك بتعاديها وتقاتلها، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وإننا نثبت في هذه الفصول التاريخية المحزنة ما نشر في جريدة القبلة من ذلك، فمنها المنشور الرسمي الذي صدر به عدد القبلة الذي صدر في غرة ربيع الأول من هذه السنة ننقله عن الجرائد، وهو: منشور ملك الحجاز أعلنا في منشورنا الصادر يوم الأربعاء 9 شوال سنة 1336 الذي نشرته (القبلة) في عددها 202 الصادر يوم الخميس 24 شوال سنة 1336 عن البدع والزيغ الديني الذي تلقنه أهل الخرمة - القرية المعروفة الكائنة في شرق مكة المكرمة، وفي الشرق الشمالي من الطائف , وتبعد عنه نحو الثلاثماية فرسخ - من بقايا منتحلي العقيدة الوهابية من ساكني بعض قرايا نجد المكفرين لكل العالم الإسلامي بالاحتمالات المعلومة الساقطة عقلاً ونقلاً، التي من جملتها زيارة روضته صلوات الله عليه وسلامه، كما يشهد عليهم اجتناب كل فرد ينسب إلى اعتقاد تلك الأضاليل لزيارته صلوات الله عليه وسلامه، وكشارب التنباك وحامل السبحة، ونحو ذلك، وأن لابد للرجل أن يعترف بأن أباه وجد جده ماتوا على غير الإسلامية , وها أن مجتهديهم قد أتونا في هذه المرة أيضًا بتكفير من يضحك أو يروي الشعر أو من يحدو، إلى غير ذلك من الأباطيل التي تبين ماهية علمهم، وكوقوعهم فيما يرمون به أهل السنة والجماعة باعترافهم على أنفسهم بالنفع والضر بالعصا، بقولهم: إنها تنفع وتضر، ومحمد زاده الله شرفًا وتعظيمًا. . . إلخ، وجهلهم أن معاشر أهل السنة بصرف النظر عن أنهم لا يقولون بذلك - والعياذ بالله - فإنهم يعتقدون ما هو أعم وأبلغ مما تزعمه المبتدعة المذكورة، كاعتقادنا بأن الماء لا يروي والطعام لا يشبع والنار لا تحرق، ولا تقطع السكين إلا بقدرته وإرادته جل شأنه وعلا، وإننا لا نريد إلا فيما أراده الصديق الأكبر والفاروق الأعظم - رضوان الله عليهما - من الإلحاح في دفنهما عندما أدرك كلاًّ منهما الأجل عند قدميه الشريفين صلوات الله عليه وسلامه، وهذا على سبيل الاختصار، فليتأمل. وعليه، وعلى ما أشرنا إليه في منشورنا البادئ الذكر أعلاه من عزمنا على الرفق في معاملاتهم، والتباعد عن كل ما يؤدي إلى سفك الدماء وصيانتها، ولكن أبت تلك الضلالة وذلك الزيغ عن منتحليهما إلا الإصرار على المقاومة، كما يعلم من الوقائع التي نشرتها جريدة (القبلة) من قبيل الحوادث، ولتجاوز جرأتهم بواقعة يوم السبت الماضي الموافق 20 صفر سنة 1337 على مركز المؤن الكائنة في (عشيرة) وتشجيعهم بالمدد الوارد إليهم من إخوان بدعتهم برفق سلطان بن بجاد المعروف لديهم بسلطان الدين، وغيره من عرفائه، رأت الحكومة - وهي لا تشك بأنها في ضمن قوله صلوات الله عليه وسلم: يؤجر المرء رغم أنفه [1]- أن تقوم بمقابلة أولئك المبتدعة بالمثل مباشرة، بالأصالة عن نفسها، وبالنيابة عن كافة المسلمين مع مراعاة الرفق أيضًا لمحو هذه البدعة خدمةً للدين، وتنزيهًا له مما في هذا الزيغ والضلال , وسلامة البلاد من سيئاته، والله ولي التوفيق اهـ. في هذا المنشور تصريح بأن التخاصم كان أولاً بين الخرمة وحكومة الحجاز، كما تقدم في أول هذه الفصول، وأن أهل الخرمة ساعدهم غيرهم بعد ذلك، وما ذكر في المنشور من بدع الوهابية نسب إلى بقايا منهم في بعض قرى نجد، وهذا لا يبيح إطلاق القول في تكفير أهل نجد كلهم ولا جملتهم ولا يبيح قتالهم، وإنما على حكومتهم أن تنظر في أمر من ضل منهم، وإن صحت الرواية على ظاهرها. وقد اطلعنا على منشور صدر بعد هذا العدد الذي صدر من جريدة القبلة في 8 جمادى الأولى ووقع أعلاه (باسم الحسين بن علي) وهذا نصه: منشور كريم بسم الله الرحمن الرحيم ] وَمَا يُبْدِئُ البَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ [[*] الحمد لله رب العزة، من استهدى به هداه، ومن توكل عليه كفاه، والصلاة والسلام على خيرته ومجتباه، وآله الطهر، وأصحابه الميامين الغر، ما كمد حسود وجحود. أما بعد فقد ضاق ذرع حسادنا، ونضبت جعبة تلفيقات مخترعات إفكهم، فأصبحوا لا يجدون ما يقولون، ولا يفقهون بما علينا به يفترون، إلا إشاعتهم في هذه الخطرة بأن العرب مختلفو الرأي متفرقو الكلمة، أدى بهم اختلافهم إلى القتال وشبوب نار حربه بينهم؛ لإثبات عدم كفائتنا معاشر العرب أمام العالم الذي أعلن - والثناء لله - ثقته بنا وحسن ظنه فينا إلى الدرجة التي لا نرى من حاجة للبحث عنها، كما أنا لا نرى أيضًا البحث عن تلك المختلقات الساقطة بطبعها بالوفود الذي لا يخلو شهر من قدومهم علينا من أقاصي البلاد على مرأى ومشهد العامة إلا إن أرادوا تجدد دعوى مبتدعة الوهابية المذكورة الذين نشر أمرهم غير مرة على صحائف (القبلة) فنحن نحرر منشورنا هذا علاوةً على ما سبق؛ ليعلم القاصي والداني بأنه متى تحقق لدينا عدم نجاح خطة الدفاع أمام مبادئتهم، فلا بد للسلطان من قتالهم بكل موجوديته، ويعتبره من أشرف الوظائف وأهمها مصلحة لا لإرادة ملك أو حرصًا على رياسة كما بيناه في الحفلة العمومية الأخيرة، وصرحنا لمن حضرها بأنكم إن رأيتم من هو أرشد وأصلح مني للأمر، فهذه يدي ممدودة لعهده، وأيدنا قولنا هذا بالحجج المعلومة لدى حضارها، ولكن يقاتلهم للقصد والغاية التي زحفت من أجلها على مركزهم جيوش مولانا محمد علي باشا الأكبر طاب ثراه، ولسلامة وصيانة البلاد من كفر وفسوق وعدوان أمثال هذه الخارجة، وشوائب خروجهم عن الإسلامية، فإنه بصرف النظر عن تكفيرهم لمن سواهم من العالم الإسلامي، ونيلهم من سيد الأولين والآخرين مَن وَصَفَه جلت قدرته بأنه عزيز [2] عليه، وأنه رحمة للعالمين، فتبجحهم بقولهم: إن العالم سيبعث شاء المولى أو لم يشأ - والعياذ بالله - وهو عز من قائل يقول: {قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (عبس: 17) نعم - قتل الإنسان ما أكفره - إلى قوله عظمت قدرته: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ} (عبس: 21-22) الآية، كفاية للمتبصر، لا يبقى بعد هذه المجاهرة بهذه الشناعة متأمل، فليعتبر وليتهم بعد أن اعتقدوها وأمثالها أكنته صدورهم، لينظر إليهم كسائر المنتحلين والمعتقدين من المسلمين وسواهم (كذا) ولكنهم تظاهروا بها، وأباحوا دماء من لم يجب دعاتهم على اعتقادها وأمثالها، وبدأوهم بالقتال، واستحلوا أموالهم وأنفسهم، فكيف لا يقال والحالة هذه بقتالهم، أم كيف نتحاشى عن إعلانه بمنشورنا على صحيفة القبلة أولاً , ثم إردافه بأنا على ما قلناه وصرحنا به المرة بعد الأخرى بأن مبايعتنا بالذات أو بالواسطة إذا رأوا المصلحة في سوانا، فهذه أيدينا وأولادي لعهد من يريدونه مبسوطة، وإن لم نكن كذلك فنبرأ من الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ونكن من الذين عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهذا منا كما يعلم الله سبحانه وتعالى حرصًا على رابطة جامعة أقوامنا أن يفتنهم الأُجراء ومبغضو تجدد مجد وسؤدد علياء الأسلاف باتهامنا ونسبتنا بحب الرياسة والحرص على الجاه، وهو العليم الخبير، فلا تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تعملون اهـ. في 5 جمادى الأولى سنة 1337. (المنار) هذان المنشوران الرسميان قليل من كثير مما نشرته جريدة القبلة التي هي لسان ملك الحجاز باسمه واسمها في تكفير الوهابية أو النجديين، والدعوة إلى قتالهم باسم الدين تارةً، واقتداءً بمحمد علي باشا تارةً أخرى، ومن العجيب أن يسمي ملك الحجاز (محمد علي) مولاه!! ويجعله قدوةً له في قتال أهل نجد، بناءً على أنه قتال لا يطلب به ملك ولا جاه، كأن محمد علي من الخلفاء الراشدين المهديين الذين خلفوا الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين!! فعسى أن يراجع تاريخ الجبرتي المعاصر له الذي كان يدون أخباره عند حدوثها يومًا بعد يوم ليعلم مبلغ علمه بالدين وعمله به، وأن يقرأ قانونه (قانون الكرباج) الذي طبع في المطبعة الأميرية منذ أول العهد بتأسيسها، وهو مع هذا يتكلم في تكفير القوم بلسان العالم المستدل، ومحمد علي كان أميًّا لا عاميًّا فقط، ويتكلم في وجوب ذلك عليه باسم من ولي إمامة المسلمين،

احتجاج السوريين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ احتجاج السوريين صورة التلغراف الذي أرسلته الجمعيات السورية إلى سمو الأمير فيصل , إلى الرئيس ولسن , إلى المستر لويد جورج , إلى رئيس مؤتمر السلم، إلى السنيور أورلاندو , إلى ممثلي الحلفاء في العاصمة، إلى الحاكم العسكري العام، إلى اللجنة الأمريكية، إلى محمد رستم بك حيدر نائب سمو الأمير فيصل في مؤتمر السلام، إلى حبيب بك لطف الله مندوب الاتحاد السوري في باريس: نحن الموقعون أدناه نحتج على ما صرحت به اللجنة الأميركية في جنوبي سورية باسم مؤتمر السلام من لزوم تسمية دولة تنتدب للوصاية على بلادنا، وإننا نرفع احتجاجنا هذا إلى دول الحلفاء الذين ما زالوا يصرحون أنهم ما حاربوا إلا لتحرير الشعوب ونصرة المظلوم، ونطلب منهم أن يبروا بوعودهم من ترك تعيين مصير بلادنا لنا، ونصرح للملأ أجمع أننا لا نطلب سوى الاستقلال التام، بلا حماية ولا وصاية ولا إشراف، ولا أقل شيء يمس باستقلالنا الخارجي والداخلي، وبالختام نؤمل أننا لواثقون بعدالة دول الحلفاء الكرام التي اعترفت بالاستقلال التام لكثير من الشعوب اليوم، وأيدت مبدأ القومية والمساواة بكل قواها، بأن تنصف شعبًا حارب مع الحلفاء جنبًا لجنب من أجل الاستقلال التام. عن الاتحاد السوري: واثق المؤيد، عبد الرحمن شهبندر، سعد الدين المؤيد نصوح المؤيد، هشام المؤيد. عن الاستقلال العربي: عبد القادر العظم، جميل مردم، أحمد قدري، يوسف سليمان مخيمر، أحمد مريود، رضا مردم. عن جمعية النهضة الأدبية: سامي البكري، عبد الرحمن السفرجلاني، نديم الصواف، يحيى الشماع. عن العهد السوري: عبد القادر كبوان، أبو النصر اليافي، أسعد المالكي، حسني البرازي. عن العهد العراقي: جميل لطفي المحمد العراقي، إسماعيل نامق، رشيد الخوجة. عن المؤتمر السوري: منيح هارون (اللاذقية) عادل الطائع (اللاذقية) مظهر رسلان (حمص) سعيد حيدر (بعلبك) معين الماضي (فلسطين) فائز الشهابي (حاصبيا) عبد القادر الخطيب (دمشق) محمد المدرس (حلب) . عن جمعية النهضة الفلسطينية: سليم عبد الرحمن، الحاج إبراهيم، محمد صالح المعمادي. عن الجمعية البقاعية: عجاج الهمياني، عوض البقاعي. عن الشبيبة البيروتية: محمد الصانع، أحمد مختار الفاخوري. عن التعاون الخيري: محمد الياسين، عارف الدوهجي. عن الإسعاف الخيري: عبد الرحمن الدوالبي، أحمد صبري. عن جمعية الأطباء: حسام الدين أبو السعود، مرشد خاطر. عن جمعية الصيادلة: منير المحايري، حسني الهبل. عن جمعية المحامين: نجيب الحكيم، سعيد حيدر. عن النداء الخيري: شكيب كحالة، صالح الجيلاني. عن جمعية المعلمين: محمد أبو الخير القوطي، عجاج البقاعي. عن جمعية طلاب المدارس: عبد القادر سري، مصطفى الرفاعي. عن جمعية الإخاء العلوية: أديب التقي البغدادي، محمد مرتضى. عن خريجي المدارس العالية: المهندس درويش أبو العافية، الزراعي عمر شاكر. عن جمعية فتيان الجزيرة: عثمان قاسم (صاحب الاستقلال العربي) أحمد فؤاد المحاسني، سعيد الحافظ، رشدي الصالح ملحس (مدير جريدة الاستقلال العربي) أديب الصفدي. عن النادي التجاري: لطفي الحفار، سعيد عبيد، ياسين دياب. عن الجمعية الزراعية السورية: هاشم العمري، صبحي الحسيني. عن النقابة الصحافية: خير الدين زركلي (صاحب المفيد) أسعد داغر (صاحب العقاب) عجاج البقاعي (صاحب الانقلاب) أبو الهدى اليافي (صاحب الكنانة) . عن الحرف والنقابات: محمد كوكس، محمد البرم. عن جمعية نهضة الطباعة العربية: سعدي العمري، محمود الجيلاني.

الاشتراكية والبلشفية والدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاشتراكية والبلشفية والدين كثر ذم البرقيات والصحف الأوربية في البلشفية التي فشت في روسية وما جاورها من أوربة وآسية، فوُصفت بأنها عبارة عن فوضى وهرج وسفك دماء وانتهاك أعراض وسلب أموال بغير قانون ولا نظام، ونرى جميع الدول الراقية خائفة من سريانها إلى بلادها، وغلبتها على أنظمتها وقوانينها ودينها وآدابها، فكان هذا الخوف والحذر مما أوجب الريب في صدق ذلك الذم والقدح فيها؛ لأن تلك الفضائح المخالفة لكل دين، المستقبحة في كل عقل، المباينة لكل أدب وعلم - لا يُخشى أن تهدم كل دين وأدب ونظام وسنة الله في بقاء الأمثل والأصلح التي هي أساس الاجتماع. وقد عهد الناس من لسان السياسة ذم الحسن ومدح القبيح، وغير ذلك من قلب الحقائق، لهذا نرى الناس يرجون من البلشفية خيرًا، وإن لم يعرفوا حقيقتها، ويودون لو يعرفون معناها، ويقفون على أنظمتها. تحارب إنكلترة وأحلافها البلشفية بالقول والفعل والمال والدين، وقد كلفت الشيخ محمد بخيت مفتي مصر , فأفتى في جواب سؤال بأن البلشفية محرمة في الإسلام وفي كل دين؛ لأنها عبارة عن الإباحة المطلقة للدماء والأموال والأعراض، وجعلها عين (المزدكية والزردشتية) التي ظهرت في أمة الفرس، فرد عليه كثير من الكتاب الأزهريين وغير الأزهريين من الجهة التاريخية والدينية وغير الدينية، وكثر خوض الجرائد المصرية في ذلك، ولكن الحكومة المصرية أخذت صورة فتواه الخطية بآلة التصوير الشمسي، ونقشتها في لوح معدني، وطبعت عنها نسخًا كثيرةً لم يوزع شيء منها في مصر، فالظاهر أنها توزع في بعض البلاد الإسلامية الآسيوية التي سرت إليها البلشفية. وقد كثر سؤال الناس إيانا عن رأينا في البلشفية ما حقيقتها؟ وهل هي ضرر وشر محض كما تقول السياسة والفتوى؟ أم هل هي خير عام أو خير خاص بقوم وشر على آخرين؟ فنقول: إن الذي فهمناه من مجموع ما اطلعنا عليه في البلشفية أنها هي عين الاشتراكية المقصود منها إزالة سلطان أرباب الأموال الطامعين وأعوانهم من الحكام الناصرين لهم الذين وضعوا قوانينهم المادية على قواعد هضم حقوق العمال في بلادهم، واستعمار بلاد المستضعفين من غيرهم، وأن معناها الحرفي (الأكثرية) فالمراد منها أن يكون الحكم الحقيقي في كل شعب للأكثرية من أهله، وهم العمال في الصناعة والزارعة وغيرها، وذلك بعد إسقاط سلطة أرباب الثراء والكبراء المشايعين لهم، وقد فعلوا ذلك في روسية بعد إسقاط دولة القياصرة الطاغية الظالمة التي لم يمنع مدعي الحكوماتِ الديمقراطية من الفرنسيس والإنكليز ظلمُها وطغيانُها من محالفتها والاتفاق معها على اقتسام بلاد العثمانيين والفرس، وقد قام في البلاد مِن بقايا أولئك القيصريين مَن يناوئهم ويقاتلهم على السلطة، ومن شأن أهل السلطة في كل بلاد أن يقاوموا الخارجين عليهم فيها بما يمكنهم من الشدة والبأس، سواء كان ذلك الخروج بحق أو بغير حق، فإذا كان للمطاعن الشديدة في قسوة البلشفيين هنالك أصل - كما هو الظاهر - فهذا أحد سببين له، وهو سبب لا تستطيع حكومة أن تبرئ نفسها من مثله، والسبب الثاني: هو أنهم لم يكونوا متمرنين على الأحكام، وكان الزمن زمن فوضى وفتن وفقر، عجزوا عن جعل قسوتهم وشدتهم بنظام يمكن لأهله أن يسموها به بضد اسمه. ونحن نجزم بأن أعماله وأنظمتهم لا يعقل أن تكون موافقةً لأحكام الإسلام، ولا للمسلمين المذعنين لدينهم أن يتبعوهم فيها، ولكن ليس خاصًّا بهم. بل جميع القوانين الوضعية المتبعة في أوربة، وكذا في الشرق كمصر والدولة العثمانية - فيها ما يخالف الشرع الإسلامي، والمسلمون يتمنون نجاح الاشتراكيين نجاحًا يزول به استعباد الشعوب - وكلهم العمال - وإن كانوا ينكرون عليهم، كما ينكرون على غيرهم كل ما يخالف الشرع، على أنهم غير مطالبين عندنا بفروع الشريعة ما داموا غير مسلمين. وإننا ننشر هنا مقالةً توضح ما أشرنا إليه من مقاصد القوم، رأيناها في جريدة (سورية المتحدة) التي تصدر في المكسيك , وهذا نصها: اقرأ أيها التاجر الكبير ما أكتبه اليوم بإمعان وحكمة، فإن خطر الاشتراكية يحدق بكل هذه الكرة الأرضية! تقول الأمثال اللاتينية: (إن صوت الشعب هو صوت الله) أعني أن الأكثرية متى أرادت الحصول على حاجة ضرورية لها أخذتها عنوةً واقتدارًا؛ لأن الأكثرية هي الحقيقة، والحقيقة هي القوة التي لا تقاوم. تمر الدقائق، والساعات، والأيام، وفي كل يوم تمثل أمامنا روايات عديدة تفهمنا أن الحق للقوة، وهذه القوة هي الأكثرية، كما رأينا في الحرب التي أقامتها ألمانيا. إن شعوب الأرض حسبت أن ألمانية تظلم الشعوب والإنسانية بالحرب التي شهرتها على فرنسة , وبلجيوم , وسربية , وانقلبت الأكثرية عليها، ولم تخش قوتها العسكرية ولا استعداداتها الحربية من غواصات شيطانية وطيارات جهنمية ومدافع ضخمة وبعيدة المرمى، بل حملت عليها من كل حدب وصوب حتى أصبحت الأكثرية ضد ألمانية، وهذه الأكثرية هي الحقيقة، كما أشرنا في بدء كلامنا. والرأي العام اليوم أو الأكثرية هو الاشتراكية - والأكثرية هي ترجمة كلمة (بولشفيكي) الروسية - وهذه تطلب بناء أركان ضخمة، ودعائم ثابتة عادلة للسلام العالمي، وشروط حسنة للعمال في كل أقطاب الأرض. قلنا: إن معنى كلمة (بولشفيكي) هي الأكثرية، وهذه هي الاشتراكية التي نحسبها من الأخطار المقبلة. لا يعجب القارئ إذا قلنا له: إن 99 في المائة من سكان الكرة الأرضية هم من الاشتراكيين أو البلشفيكيين، وهؤلاء هم الشعب الذي تقول الأمثال: إن صوته هو صوت الله، وهذا الشعب هو الذي يقلب الحكام ويثل العروش ويسقط الملوك، وهو الذي يحمي أموال الغني ونساءه وبناته وأملاكه ومواشيه ومعامله ببنادق أفراده، ويضحي بحياته في سبيل إكثار أموال الأغنياء وزيادة أرباحهم. العمل الشغل، هو نصيحة الآباء لأبنائهم. وفي المدارس يسمع التلامذة من معلمهم صدى هذه الكلمات مرات عديدة في كل يوم من أيام حداثتهم، وكذلك الحكام يحثون الشعب على العمل؛ لأن به سعادة البلاد وبعكسه خرابها. قلنا: إن الشعب العامل هو 99 في المئة من كل سكان الأرض، وقلنا: إن عليه تتوقف سعادة البلاد وخرابها، وإنه هو الذي يُرسَل في الحروب لإقرار الأمن ولإغاثة المظلوم ومحاكمة الظالم، أفلا يجب على الأقل أن تقدس حقوقه وتحترم ويحصل على حاجياته الضرورية؟ تقطع العلائق الودية بين دولة وأخرى، ويكون سبب ذلك طمع الواحدة ببقعة أرض غنية بالمعادن أو خصبة للأخرى، وتكون هذه البقعة لأحد الأغنياء فتسوق الأولى شعبها برمته لساحة الحتف، والفناء؛ دفاعًا عن تلك البقعة لتحفظها للغني. وتسوق الثانية كل شعبها لساحة الموت والدمار لتنزع تلك البقعة وتبيعها من متمول آخر في بلادها. يترك العامل فأسه أو محراثه أو منشاره أو مطرقته، ويترك زوجته وأولاده وعائلته وبيته عرضةً للجوع والعري والإهانة، ويعتقل البندقية لملاقاة الموت الزؤام بين لعلعة المدافع وصفير البنادق ودوي انفجار الألغام وصليل السيوف وانفجار ينابيع الدماء - للدفاع عن أموال الغني وأرضه ومناجمه ومعامله، والغني يخطر مشمخرًا بين النمارق الوثيرة يعاقر كؤوس الخمور، ويتربع فوق الطنافس الناعمة لمداعبة ناحلات الخصور. يفعل الشعب كل هذا باسم الوطن، وهو لا يملك من هذا الوطن شروى نقير، فيعود من المجزرة البشرية مقشعر الشعور شائب الرأس ناحل الجسم عليلاً، فيجد أولاده وزوجته فريسة الجوع والبرد والإهانة، فتقول له الحكومة: اذهب واشتغل، وهكذا يقضي العامل الفقير أيام حياته بين الفأس والمحراث، لا يكسب من وراء عمله أجورًا عادلةً، ولا يحصل إلا على اليسير من رديء الغذاء وفضلات الكساء. مضت العصور والأجيال، والشعب يتحمل كل هذا الشقاء والعناء ويحاول كسر نير الأغنياء الفولاذي، فتضربه الحكومات، وهن شريكات الأغنياء بجرائمهم ومعاصيهم، فيرضى بجورهم عن خوف ورهبة، لا عن عدل ورحمة. أما الآن، فالشعب هو غير ما كان عليه بالأمس، فهو الذي يقبض على القوة المسلحة ويدير حركتها، ويقبض على السلاح والذخائر والخطوط الحديدية والمواصلات، ومئة مليون روسي في أخصب بقع الأرض وأغناها بالمعادن وزيت البترول والفحم الحجري، تؤيد مطالب العامل وتؤلف أول حكومة شعبية في الأرض، دعك أن شعوب أواسط أوربة أعلنوا انضمامهم للحكومات الشعبية، وكذلك نرى العمال في فرنسة وإيطالية وسويسرة وفي كل أوربة وأميركة وآسية يطلبون إسقاط حكوماتهم وإنشاء حكومات شعبية (بولشفيكية) وهم لا يخشون حكوماتهم؛ لأن منهم الجندي والبندقية بيده، ومنهم البحار والسفينة وكل ما بها يتقيد بأمره، ومنهم سائق القطارات وصانع المدافع والقذائف، بل إن كل شيء بيده، وعليه يتوقف انقلاب الحركة الأرضية والثورة العامة؛ لإيجاد العدالة وإقرار السلام، ولا يتم هذا إلا بإنشاء الحكومات الشعبية التي تشعر بحاجات الشعب وتعترف بلوازمه. نعم، إنه لا يستطاع إنشاء حكومات شعبية إلا بعد أن تتبعثر ثروة الأغنياء، وذلك لمقاومتهم ومناوأتهم لمطالب الشعب العادلة، فيضطر هذا لأخذها بالقوة والإرغام، فيتضرر الأغنياء في كل أقطاب المسكونة، ولكن الشعب لا يظلمهم بذلك، بل إن طمعهم بإبقاء سيطرتهم المطلقة ينتج لهم هذه النتيجة.

صورة البيان الذي قدمته عائلات الشهداء للجنة الأميركية في دمشق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صورة البيان الذي قدمته عائلات الشهداء للجنة الأميركية في دمشق وقابلت هذه اللجنة يوم تقديمه إننا بالنظر لاتصالنا العائلي بشهداء سورية نستطيع أن نبين أمام حضراتكم رغائبهم المقدسة التي هي ركن النهضة العربية السورية، والأساس الذي بنيت عليه ثورتنا، والاجتماعات التي كانوا يعقدونها في بيوتنا مع أصحابهم والأحاديث التي كانت تدور في خلواتهم كانت ترمي دائمًا إلى رفع الأمة السورية والحصول على استقلالها التام، لهذه الغاية كانوا يعملون، ولتحقيقها فادوا بأنفسهم، وعلى دمائهم أرادوا أن يبنى أساسها، إن هذه الروح الشريفة هي المخيمة على الشعب السوري اليوم، وهي التي تدير زعماء سورية وترشدهم في أعمالهم، وها نحن أولاد عائلات أولئك الشهداء نطلب من ممثلي الشعب الأميركي الكريم الذي يعرف معنى الشهادة في سبيل الوطن أن يحققوا الآمال التي عقدناها عليهم، ويبلغوا الدكتور ولسن حامل لواء الحرية أننا لا نريد إلا الاستقلال التام، وكتاب الإيضاحات السياسية الذي وضعه أحمد جمال باشا؛ ليبرر فيه جناياته التي اقترفها في سورية هو شاهد عدل على الغاية السامية التي كانوا يجدُّون للحصول عليها.

خلاصة معاهدة الصلح ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خلاصة معاهدة الصلح [1] (3) الفصل السادس في أسرى الحرب أسرى الحرب: تتولى لجنة تؤلف من مندوبي الحلفاء ومندوبي الحكومة الألمانية مع لجان فرعية محلية - إعادة أسرى الحرب الألمان والملكيين المعتقلين إلى أوطانهم، ويرد الأسرى الملكيون والمعتقلون من الألمان إلى أوطانهم بلا تأخير بواسطة الحكومة الألمانية وعلى حسابها، والذين حكم عليهم لذنوب ارتكبوها ضد النظام العسكري، قبل 1 مايو سنة 1919 يردون إلى أوطانهم، ولو لم يكملوا المدة المحكوم بها عليهم، ولكن هذا لا يسري على الجرائم المختلفة للنظام العسكري، ويحق للحلفاء أن يبقوا عندهم ضباطًا مختارين من الألمان إلى أن تسلم الحكومة الألمانية الأسرى الذين ارتكبوا جرائم ضد قوانين الحرب وعرفها، ويحق للحلفاء أن يتصرفوا بما يستصوبون مع الرعايا الألمان الذين لا يرغبون في العودة إلى أوطانهم، ويشترط في كل مسألة إعادة الألمان إلى أوطانهم الإفراج المعجل عن رعايا الحلفاء الذين لا يزالون في ألمانية , وعلى الحكومة الألمانية أن تسهل على لجان التحقيق جمع المعلومات عن أسرى الحرب المفقودين، ومعاقبة الموظفين الألمان الذين أخفوا رعايا الحلفاء. وعلى الحكومة الألمانية أن ترد إلى الأسرى من الحلفاء جميع أموالهم، ويتبادل الفريقان المتعاقدان المعلومات عن الأسرى الذين ماتوا وقبورهم. القبور: يحترم الحلفاء وحكومات ألمانية قبور جميع الجنود والبحارة المدفونين في أملاكهم ويعترفون باللجان المعينة للعناية بها، ويساعدونها في مهمتها ويسهلون التسهيل المستطاع في نقل الرفات والدفن. * * * الفصل السابع في تبعة جنايات الحرب يتهم الحلفاء علانيةً الإمبراطور السابق ولهلم الثاني (بارتكابه الجريمة العظمى ضد الآداب الدولية وحرمة المعاهدات) وسيطلب من الحكومة الهولندية تسليم الإمبراطور السابق، وتؤلف محكمة خاصة من قاضٍ واحد لكل دولة من الدول الخمس العظمى، وتهتدي هذه المحكمة بأسمى المبادئ في السياسة الدولية، ويناط بها مهمة تعيين العقاب الذي ترى وجوب إنزاله، ويؤلف الحلفاء محاكم عسكرية لمحاكمة المتهمين بارتكاب أفعال خرقوا بها قوانين الحرب وعرفها، وعلى الحكومة الألمانية أن تسلم جميع الأشخاص المتهمين بهذه التهم، وتعين كل دولة من دول الحلفاء محاكم كهذه لمحاكمة الذين ارتكبوا أمورًا جنائيةً ضد رعاياها، ويحق للمتهمين ان يعينوا المحامين عنهم، وتتعهد الحكومة الألمانية أن تقدم جميع الأوراق والمعلومات التي يقتضي إبرازها. * * * الفصل الثامن في التعويض والرد إن الحكومات المشتركة تلقي على ألمانية وحلفائها تبعة كل خسارة وعطل أصابا الحلفاء والدول المشتركة معهم ورعاياهم من جراء الحرب التي سيقوا إليها باعتداء ألمانية وحلفائها، وإن ألمانية تسلم بتبعتها وتبعة حلفائها، ومع أن الحلفاء والحكومات المشتركة معهم يعترفون بأن موارد ألمانية لا تفي بتعويض هذه الخسارة وذلك الضرر لنقص مواردها الناتج عن المطالب الأخرى المنصوص عليها في المعاهدة، فإنهم يتقاضون منها التعويض من كل عطل أصاب الأهالي في الفئات السبع الكبرى التالية، وهي: (أ) العطل الحادث عن الأذى البدني للأهالي بسبب الأعمال الحربية المباشرة وغير المباشرة، وفي جملتها إلقاء القنابل من الجو. (ب) العطل الذي أصاب الأهالي، وفي جملته التعرض للبرد والجوع في البحر من جراء أعمال القسوة التي أمر العدو بها، والعطل الذي أصاب الأهالي في الولايات المحتلة. (ج) الضرر الحادث من إساءة معاملة الأسرى. (د) الخسارة التي نزلت بشعوب الحلفاء، وهي ممثلة بالمعاشات والإعانات الممنوحة لعائلات الجنود إذا حولت إلى رأس مال عند إمضاء هذه المعاهدة. (هـ) العطل الذي أصاب الأملاك والأموال غير المهمات العسكرية البحرية والبرية. (و) الضرر الذي أصاب الأهالي بالسخرة. (ز) الخسارة الحادثة من البلص والغرامات التي فرضها العدو. وعلاوةً على ذلك تتعهد ألمانية بأن ترد جميع المبالغ التي اقترضتها البلجيك من الحلفاء بسبب خرق ألمانية لمعاهدة 1839 , وذلك لغاية 11 نوفمبر 1918 ولهذا الغرض تسلم ألمانية في الحال إلى لجنة التعويض 5 في المئة ذهبًا وسندات تستحق في سنة 1926 (المقطم: يظهر أنه سقطت عبارة هنا، والمرجح أنه جاء فيه ذكر ألف مليون جنيه سندات) أما جملة المطلوب دفعه من ألمانية - كما هو مبين في كشف العطل والضرر - فيعين ويبلغ إليها بعد أن تُسمع أقوالها بالإنصاف، ويكون تسليمه إليها من لجنة التعويض التي للحلفاء قبل 1 مايو 1921 وفي الوقت عينه يقدم كشف الدفعات التي يتعين على ألمانية دفعها في خلال ثلاثين سنةً لتوفية ما عليها، وهذه الدفعات عرضةً للتأجيل إذا طرأ عليها بعض الطوارئ، وتعترف ألمانية اعترافًا قاطعًا لا رجوع فيه بما لهذه اللجنة من السلطة التامة، وتقبل أن تمدها بجميع المعلومات اللازمة، وتسن القوانين لتنفيذ قراراتها، وتقبل أن ترد إلى الحلفاء النقود وبعض الأشياء التي تمكن معرفتها. ومن الأمور المعجلة التي يطلب من ألمانية عملها في سبيل رد الشيء بها تدفع في خلال سنتين ألف مليون جنيه إما ذهبًا أو بضائع أو بواخر، أو غير ذلك من أشكال الدفع المعينة، وهذا المبلغ يدخل في سند الألف مليون جنيه المشار إليه في ما تقدم ولا يكون علاوةً عليه، مع العلم بأن بعض المصروفات، كمصروفات جيوش الاحتلال وثمن الطعام، والمواد الخام قد تحسم اتباعًا لما يستصوب الحلفاء. ولجنة التعويض في تقدير مَقْدِرة ألمانية على الدفع في الآجال المعينة تفحص نظام الضرائب في ألمانية أولاً، والغرض من ذلك أن تجعل المبالغ التي يطلب من ألمانية دفعها للتعويض عبئًا على جميع إيراداتها قبل أن يصرف من هذه الإيرادات شيء في تسديد فائدة ديونها الداخلية، أو استهلاك شيء منها، وثانيًا: لتتأكد اللجنة أن اللجنة الألمانية هي بالإجمال بالغة من الكبر النسبي مبلغها في بلاد أية دولة من الدول التي لها مندوبون في اللجنة، هذا والتدابير التي يحق للحلفاء والدول المشتركة معهم اتخاذها إذا تقاعدت ألمانية باختيارها عن دفع الأقساط المطلوبة، والتي تعترف ألمانية بأنها لا تعد أعمال حرب - تشمل القيود الاقتصادية والمالية ومقابلة الشيء بمثله، وبالإجمال جميع التدابير التي تعدها الحكومات المذكورة لازمةً في تلك الأحوال، وتتألف هذه اللجنة من مندوب عن كل من الولايات المتحدة وبريطانية العظمى وفرنسة وإيطالية والبلجيك , ومندوب عن سربيا واليابان يحل محل مندوب البلجيك حينما يقع ما يمس مصالح إحدى هاتين الدولتين، ثم إن سائر دول الحلفاء يحق أن يكون لها مندوبون في اللجنة متى نظر في مطالبها ودعاويها من غير أن يكون لها حق الاقتراع، وتجيز اللجنة الألمانية أن تقيم البينة على مقدرتها على الدفع وتوسع لها المجال لإبداء حججها، ويكون مركز هذه اللجنة في باريس وهي تضع نظام إجراءاتها وتعين موظفيها ومستخدميها، وتكون لها الرقابة العامة على مسألة التعويض كلها، وتصير الوكيل الوحيد للحلفاء لاستلام التعويض والدفع وحيازته وبيعه وتوزيعه. وتكون قرارات اللجنة بالأكثرية، وإنما يشترط الإجماع في المسائل التي تمس سيادة حليف من الحلفاء، وإعفاء ألمانية من جميع عهودها أو من بعضها وتعيين مواعيد بيع السندات الصادرة من ألمانية وكيفية بيعها وتوزيعها وصرفها وتأجيل الدفعات السنوية بين سنة 1921 وسنة 1926 إلى ما وراء 1930 وتأجيل الدفعات بعد سنة 1926 لمدة ثلاث سنوات وتغيير أسلوب تقدير العطل والخسارة وتفسير الشروط. ويجوز للدول سحب مندوبيها من هذه اللجنة إذا أعلنت عزمها على ذلك قبل وقوعه باثني عشر شهرًا، ويجوز للجنة أن تطلب من ألمانية أن تعطيها من وقت إلى وقت على سبيل الضمان والتأمين سندات لتسديد المطلوبات التي لم تسددها، ولهذا الغرض ولأجل بيان مجموع المطلوب من ألمانية تُطَالَبُ الآن بأن تقدم سندات تعترف فيها بالمبالغ المطلوبة منها، وهي ألف مليون جنيه إنكليزي تدفع قبل انقضاء أول مايو 1921 بلا فائدة، وألفا مليون جنيه إنكليزي بفائدة 2.5 في المئة بين 1921 و 1926، ثم تصير الفائدة 5 في المئة، ومال الاستهلاك 1 في المئة، ويبدأ الدفع سنة 1926 , وتتعهد ألمانية بأن تعطي سندات بألفي مليون جنيه إنكليزي آخر بفائدة 5 في المئة، وبشروط تعينها اللجنة فيما بعد. وتكون الفائدة على هذه الديون التي على ألمانية 5 في المئة إلا إذا عينت اللجنة فائدةً أخرى في المستقبل، والدفعات التي لا تدفع ذهبًا يمكن للجنة أن تقبل فيها بدلاً من الذهب أملاكًا وبضائع وحقوق اتجار وامتيازات إلخ، ويجوز للجنة أن تصدر للدولة صاحبة الشأن شهادات تمثل السندات أو البضائع التي أخذتها من ألمانية، ومتى انتقلت السندات من حيازة اللجنة، ووزعت على الدول يعتبر أن ما يساوي قيمتها من دين ألمانية أوفى. البواخر: تعترف الحكومة الألمانية بأنه يحق للحلفاء أن يطالبوها بتعويضهم من جميع البواخر التجارية وسفن الصيد التي فقدت أو عطلت بسبب الحرب، وأن يطلبوا منها أن تبدلها بما يساويها طنًّا بطن، وطرزًا بطرز بمثله، وتقبل أن تسلم إلى الحلفاء جميع البواخر الألمانية التي حمولتها من 16000 طن فصاعدًا ونصف بواخرها التي حمولتها بين 1600 طن، و 1000 طن وربع بواخر الصيد (سفن الصيد) وتسلم هذه البواخر كلها بعد شهرين للجنة التعويض مع عقود التنازل الدالة على نقل ملكية البواخر خاليةً من كل شبهة. وعلاوةً على ذلك من قبيل التعويض تقبل ألمانية أن تبني بواخر لحساب الحلفاء إلى قدر لا يتجاوز 255 ألف طن في السنة، في السنوات الخمس التالية، وترد جميع البواخر النهرية التي أخذتها من الحلفاء، ويكون ردها في خلال شهرين وكل خسارة تكون قد أصابت هذه البواخر تعوضها ألمانية بإعطاء جانب من بواخرها النهرية لا يتجاوز عشرين في المئة منها. الولايات المخربة: تتعهد ألمانية بأن تقف مواردها الاقتصادية على تعمير الولايات التي غزتها، وتكون للجنة التعويض السلطة بمطالبة ألمانية بتعويض ما دمر بتسليم الحيوانات والآلات إلخ الموجودة في ألمانية، وصنع المهمات المطلوبة للتعمير مع مراعاة حاجات ألمانية الداخلية الضرورية. الفحم إلخ: على ألمانية أن تسلم إلى فرنسة مدة عشر سنوات من الفحم ما يساوي الفرق بين ما كان يستخرج سنويًّا من الفحم من مناجم (التور وباد كاله) وما يستخرج منها سنويًّا لمدة نحو عشر سنوات، ثم إن ألمانية تعطي لفرنسة الخيار لمدة عشر سنوات بأن تسلم سبعة ملايين طن من الفحم سنويًّا لفرنسة علاوةً على ما تقدم، وتسلم ثمانية ملايين طن للبلجيك، وتسلم إيطالية فحمًا يختلف مقداره من 4.5 مليون طن في سنة 1919 و1920 إلى 8.5 مليون طن في سنتي 1923 و1924 بأثمان تعين حسب ما هو وارد في المعاهدة، ويجوز أخذ فحم الكوك بدلاً من الفحم على نسبة 3 أطنان منه لأربعة أطنان من الفحم، ونص أيضًا على تسليم البترول وقطران الفحم وسلفات الأمونيا إلى فرنسة لمدة ثلاث سنوات، وللجنة السلطة بأن تؤجل تسليم هذه المقادير أو تلغيه إذا كان تسليمها يعرقل مطلوبات الصناعة في ألمانية. الأصباغ والعقاقير: تعطي ألمانية اللجنة حقًّا بأن تأخذ من الأصباغ والعقاقير - وفي جملتها الكينا - نصف الموجود منها في ألمانية في و

لا قوة إلا بالاتحاد

الكاتب: الوليد بن عبد الله بن طعمة

_ لا قوة إلا بالاتحاد [1] كونوا جميعًا يا بني إذا اعترى ... خطب ولا تتفرقوا آحادا تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرا ... وإذا افترقن تكسرت أفرادا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أكثم بن صيفي أنشد الحكيم العربي هذين البيتين عندما شعر بدنو الأجل، فلخوفه على أولاده من التفرق دعاهم لسماع وصيته الأخيرة، وكان قد استحضر لضامةً من السهام، فطلب إليهم أن يكسروها، فلم يقدر واحد منهم على كسرها، ثم بددها، فاستسهلوا كسرها، فقال لهم: كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم كما عجزتم عن كسرها، فإذا تفرقتم سهل كسركم، وضاع قدركم، وهان أمركم. فيا حبذا لو ائتم العرب بشعر حكيمهم، وانتصحوا بأنفع النصائح، إذًا لما فقدوا الملك والخلافة، واشتغلوا عن االحوادث والحدثان بأحاديث خرافة، فبين التنازع والتقاطع خربوا مملكتهم بأيديهم، وقد كانت أعظم مملكة طلعت عليها الشمس، وبينما كانوا أسياد الشعوب إذا هم عبيد الترك والروم، لكنهم صبروا على الأعادي، وسبروا غور العوادي، فوقاهم تعلقهم بأهداب عروبتهم، وتمسكهم بأستار كعبتهم، فحفظوا بكتبهم وأقلامهم ما كان دونه تكسير سيوفهم وتنكيس أعلامهم، فالحمد لله على بقاء القوة كامنةً في صدورهم ليبنوا قصورهم على قبورهم، وإن في حفاظهم على العصبية أساس الوحدة العربية. لا قوة بلا اتحاد، ولا اتحاد بلا اتفاق، وإنما الاتفاق بحسن التفاهم وصدق التساهل، وذلك ميسور للذين رجحت أحلامهم وكرمت أخلاقهم، فعلى العرب أن يتفقوا ويتحدوا بالتي هي أحسن؛ لتلافي التي هي أقبح، وإلا اعتلَّت عربيتهم وانحلَّت عصبيتهم، فأصبحوا لا يعرفون أوطانًا ولا يرفعون أعلامًا، السيل الأوربي يكاد يطغى عليهم ويفرقهم كما تفرقت أيدي سبأ، وإنه لأكثر خطرًا وأشد هولاً من سيل العرم الذي أجحف التبابعة ومزق ملكهم، فليبنوا له من لسانهم وقرآنهم سدًّا أمتن من سد مأرب، وما استناموا إلى الأوربيين رأوا منهم أصلالاً وثعابين، وكفى بنكبة إخوانهم عرب الغرب عبرةً وإنذارًا، ومن فظائع الصليبيين في الماضي يعرفون مقدار فجائعهم في الآتي، فما أقرب الغد من الأمس، والخطر أدنى من قاب قوسين، الفرنج يضربون أخماسًا لأسداس، ويستضعفون العرب لتخاذلهم، فلا قوة لهم إلا باتحادهم وتوحيد حُكامهم وبلادهم. قيل إن زرقاء اليمامة كانت تبصر الشيء من مسير ثلاثة أيام، فجهز حسان ابن تبع جيشًا وسار إلى غزو قومها جديس، فصعدت ونظرت إلى الجيش، فرأت كل رجل قد حمل شجرةً ليلبسوا عليها، فقالت: أتتكم يا قوم الأشجار، أو أتتكم حمير!! فلم يصدقوها ولم يستعدوا حتى صبحهم حسان فاجتاحهم، وإني لقومي نذير لئلا يحل بهم ما حل بقوم الزرقاء، لقد علموا أن بين زرق العيون وسودها عداوة جراثيمها في العروق، فكيف يركن العربي إلى الفرنجي، وهو العدو الأزرق، وبينهما من المباينة ما لا يزول بالملاينة؟ فليحذر العرب خشونة القلانس بعد ليونة الملامس، إن الفرنج يصانعونهم لينالوا منهم أربًا، ثم يقولون: لا نعرف عربًا، المثل يقول: من جرب مُجرَّبًا كان عقله مُخرَّبًا، فأي شعب لم يجربهم ويتأكد أن أعمالهم تخالف أقوالهم، فإذا دخلوا أرضًا مزقوها، وإذا حكموا أمةً فرقوها، وبعد ما تركز أعلامهم وتغرز أقدامهم، يستبدلون العنف من الرفق، والقوة من الخدعة، فويل للعرب من الفرنسيس والإنكليز إذا لم يوحدوا كلمتهم توحيدهم لله. لو حفظ العرب عصبيتهم في الإسلام، كما حفظوها في الجاهلية لظلوا حتى اليوم أهل السيادة والقيادة، لكنهم أضاعوا الدولة والخلافة بتحكيم الغرباء، وتسليم الأمور إلى الدخلاء، فأصبحوا محرومين من ملك بني على أجسادهم وأكبادهم، وصار إلى الفرس والترك والأكراد ما فتحته سيوف أجدادهم، والبلية من سياسة الخلفاء الخرقاء بتقديم العجم على العرب، واعتمادهم على المماليك في السياسة والحرب، فلو جعلوا الأحكام للعرب دون غيرهم لصانوا شرفهم وشرف العروبة والخلافة، وقد ظنوا دولتهم إسلاميةً تقوم بالمسلمين من جميع الشعوب، فما كان الإسلام شافعًا لهم عند نزوة الشعوبية ونعرة العصبية، وهكذا أسقطوا العرب وأبعدوهم فسقطوا؛ إذ لا حماة للدولة إلا الذين بنوها، والدولة التي يتربع في دستها الأجانب صائرة إلى انحلالها واضمحلالها. لما قتل باغر التركي المتوكل على الله، رثاه المهلبي بقصيدة قال في آخرها، يخاطب بني العباس: فلو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم السادة المركوزة الحشد قوم هم الجذم والأنساب تجمعكم ... والمجد والدين والأرحام والبلد لقد صدق المهلبي ‍‍!! فليس للمرء إلا أهله وقومه في الشدة. إن معن بن زائدة الشيباني قاتل المنصور مع ابن هبيرة نصرةً لبني أمية، فاشتد طلب المنصور له وهدر دمه، فاختفى زمنًا طويلاً، وبعد ما قتل المنصور أبا مسلم ثار عليه الراوندية وقصدوا قصره؛ ليقتلوه، فبرز البطل العربي معن بن زائدة متلثمًا وقاتل العصابة الفارسية وحده حتى ظفر بها ومزق شملها. فتمردُ الفرس على الخليفة العربي أنساه العداوة، فصان وقار الخليفة والعرب، وبما عنده من النخوة العربية والغيرة العصبية، ركب مركبًا خشنًا وأبلى بلاءً حسنًا، فلو كان حول الخلفاء حاشية وجند من أحرار العرب لما تطاولت إليهم أيدي الغلمان والمماليك، وقد كان سقوط الدولة العربية لبعد العرب عنها وتفرقهم وانقسامهم، فالدولة لا تقوم إلا باتحاد الأُصلاء وإبعاد الدخلاء. عسى أن يكون للعرب عبرة من الماضي، فيجددوا ويؤسسوا دولةً عربيةً خالصةً، فحينما تخلو من الشوائب تجلو كل النوائب، ويصير العربي سيدًا، وإليه العقد والحل، والنهي والأمر، فتصدر الأحكام، وتتصدر الحكام من العرب للعرب في كل أرض شرفت بالعروبة، وتشرفت بالاستعراب، وبحكم الشرع يكون فيها عربيًّا كل مولود ومكتوب ومصكوك، وتظللها الراية التي طلعت من بطحاء مكة سوداء خضراء بيضاء، لقد كان سوادها وقارًا، واخضرارها رجاءً، وبياضها هدًى وسلامًا، فتحتها يجب أن يتم اتحاد العرب في الشرق والغرب، وهي المشْرَع وإليها المهْرَع، ولا عزة للمسلمين من غير العرب إلا بها؛ لأنها راية الخلافة العظمى، فما أحراهم بأن يتراجعوا إليها، ويقسموا إليها اليمين عليها مستعربين لغةً كما استعربوا دينًا، إن باندماجهم في أمة الرسول شرفًا لهم فوق كل شرف، هكذا تنبسط الدولة العربية الكبرى، ولها جناح في المشرق وجناح في المغرب، فيرسو أصلها وتمتد فروعها بجيش مرصوص وأسطول مرصوف، فتظل عربيةً عرباءَ لا دخلاء فيها ولا غرباء. على العرب أن يحققوا هذه الأماني، ولو كانت دونها المنايا، تاريخهم مكتوب بدم أجدادهم، فليكتبوا بدمهم وصيةً لأولادهم، فإذا عجزوا عن إتمام خطتهم أتمها الآتون بعدهم، فللشعوب آجال تقصر عندها أجيال، وما كان العرب ليخشوا محذورًا إذا طلبوا محظورًا، إنهم جبارون أصحاب بأس وبطش ونجدة وشدة، فلو كانوا متحدين متعاونين لسدوا كل ثغرة، وصدوا عدوًّا له شر فمرة، فطالما حاربت قبائلهم دولاً ذوات جحافل وأساطيل، فأطلقوا الأعنة وشرعوا الأسنة تجاه قذافة النار، فكانت سواعدهم أشد من فوهات المدافع وأفتك، تشهد لهم أعداؤهم بالبسالة والنصر، والفضل ما تشهد به الأعداء. أجل إن الأعاجم يرهبونهم على افتقارهم وتفرقهم، فكيف إذا وحدوا أوطانًا واتحدوا أعوانًا، حينئذ تكون لهم أيام كأيام حليمة وذي قار واليرموك والقادسية وشريس وعروبة، فما أكبر ذلهم في خضوعهم للترك والروم بعد شرف راسخ ومجد بازخ، وقد كانوا في جاهليتهم أسيادًا وأبطالاً، فلم يجسر الغزاة على وطء أرضهم، وهي كعرينة الأسود، فوقف غزاة الفرس واليونان والروم متأهبين متهيبين على حدود البادية الرهيبة، وظلت الأمة العربية بكرًا حرةً في رمالها وجبالها. كانت قوة العرب بشدة اتحادهم وصحة اعتقادهم لا بكثرة العدة والعدد، فقد كسرت شراذمهم جيوشًا جرارةً، وفتحوا في ثمانين سنةً ما لم يفتحه الرومان في ثماني مئة، وكانوا يتغلبون بصبرهم وإقدامهم واتحادهم على القواد المجربين، والأجناد المدربين، فحكموا مائة مليون من البشر، وعددهم لا يربي على مئة ألف، وكانت أوامر الخلفاء تصدر في دمشق وبغداد وتنفذ في الهند والصين , والأندلس، وقد حدد أبو تمام دولة الخلافة في أيام المعتصم ببيت من قصيدة مدحه بها، قال: فاعقد لهارون الخلافة إنه ... سكن لوحشتها ودار قرار فالصين منظوم بأندلس إلى ... حيطان رومية فملك ذمار هذه حدود الدولة العربية التي شيدها جبابرة العرب، فهدمها مماليكهم وما رممها صعاليكهم، وقد كان أوائلهم متنسكين، فأصبح أواخرهم باللذات متمسكين، ولما صاروا أحزابًا غدت مملكتهم أقسامًا، فطمع بها الطامعون، وليس للفتنة قامعون، وكانوا متحاسدين في الرئاسة، متخالفين في السياسة، فضعفوا بتقاتلهم وتخاذلهم، وعاونوا أعداءهم على نفوسهم، وما فقدوا ملكهم إلا لأنهم أرادوا أن يكونوا جميعهم ملوكًا وأمراء، وتلك عزة عربية لا تزال حتى اليوم حائلةً دون اتفاق أمرائهم. لا تقوم للعرب قائمة حتى يوم الدين إذا لم يعتصبوا على الأجانب، وربما ذهبت لغتهم وأخلاقهم وأوطانهم بعد ذهاب دولتهم، فللروم كرة بعد كرة في حرب صار فيها العربي حريبًا. إن في قصيف المدافع مواعظ لهم، فليتهم يتعظون وإن يكونوا ضعفاء في الحكم لتكن لهم قوة من بغض أعدائهم وحب بعضهم لبعض، إن من البغض لقوة أكبر من قوة الحب عند اصطدام المنازع، فإياهم والاغترار بمواعيد الأوربيين، فالأفاعي مالسة جلودها، حادة نيوبها، إنهم يظهرون لينًا حتى إذا فازوا وحازوا، قبضوا بأيدٍ من حديد، فلا تنعتق الأمة الضعيفة من الرق ولا تنطلق من الأسر، وقد حجروا عليها وحجزوا سلاحها، يصنعون السلاح، وكالسلع يبيعونه، أحقر الجمهوريات الأميركية وأصغر الممالك الأوربية، فبيعه حلال عندهم لأهل الجبل الأسود وأوربة وأهل البرغواي في أميركة، ولكنه محرم على الشعوب الأفريقية والآسيوية التي ملكوا نواصيها، وبعد شك سلاحهم ينزعون ما عندها من السلاح، ويمنعونها من أن تصنع أو تشترى، فتصبح عزلاء تحت رحمتهم، وقد أحاطت بها القلاع والمدافع، فويل للعرب إذا علق العرق الفرنجي بأرضهم، فامتد واشتد. لقد ناموا مستسلمين إلى الأقدار، والأوربيون ينصبون أشراكًا ويطرحون شباكًا، ولما استيقظوا أبصروا الأساطيل تدمر ثغورهم، والمدافع تحصد صفوفهم، فأيقنوا أن لا طاقة لهم عليها بسيوف رقيقة ورماح دقيقة، وقد جنى الأتراك على نفوسهم وعلى العرب؛ لأنهم ضعفوا وأضعفوهم معًا، فوثب الفرنسيس والإنكليز عليها وعاثوا في بلادهم وعبثوا بحرمتهم، فهلا علم العرب أن لا حق إلا للقوة وبالقوة، وأن لا قوة بلا اتحاد؟ لا ريب بأنهم ضعفاء اليوم، ولكن لهم قوة باتحادهم فوق قوة السلاح، فليجمعوا آمالهم وعواطفهم كلما جمع الأوربيون قواصف تنثر قذائف، فبعد الحفيظة والحفاظ يرون فجر الحرية منبلجًا، وجيش العبودية منفلجًا، وإذا توسلوا بالقوة الأدبية توصلوا إلى القوة المادية، فعلى هذا المنهج سار الذين كانوا من المغضوب عليهم والضالين، فلتتوغل العروبة نفوسهم كلما توغل الفرنج بلادهم، فإما أن يعيشوا عربًا وإما أن يموتوا عربًا. أليس من الغبن والحيف أن تلم أحدث الأمم شعثها، ولا ترى أقد

التطور السياسي والديني والاجتماعي بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التطور السياسي والديني والاجتماعي بمصر لا ينتقل شعب من طور إلى طور أعلى منه أو أدنى إلا بسير إليه مقدر في الواقع ونفس الأمر تقديرًا تكون المسببات بقدر الأسباب، وسواء كان ذلك السير بتأثير حوادث الزمان وتقلب شؤون الاجتماع التي لا يشعر جمهور الشعب بها ولا يفطن لما يترتب عليها من العواقب النافعة أو الضارة، وإنما يشعر أفراد منه ببعض أحداث التغيير في الأعمال والعادات، فيحمدها أناس ويذمها آخرون، ولا يصل نظر الحامد ولا الذامّ إلى ما سيكون من مستقرها في مستقبل الأيام، أو كان السير بنظام موضوع لغرض مقصود، وقواد من الزعماء ألفوا الجمعيات وحزبوا الأحزاب ونقحوا أنظمة التربية وبرامج التعليم، أو كان مذبذبًا بين هذا وذاك. أما الحال الأولى فهي حال تطور الشعوب الجاهلة التي ليس فيها زعماء حكماء يقودونها في سيرها على علم بسنن الكون وشؤون الاجتماع، بل ينتقل إليها تغير الآراء وتجدد الأفكار والأنظار من شعوب أخرى على سبيل الاتفاق، أو على سبيل القصد من تلك الشعوب، كما هو شأن الشعوب القوية المستعمِرة مع الشعوب الضعيفة التي تطمع هي في بلادها، فإنها تتعمد إحداث التغيير في عقائدها وآرائها وعاداتها بالقدر الذي تحل به روابطها الاجتماعية، وتفسد عليها مقوماتها ومشخصاتها القومية، فتصبح مقسمةً على نفسها، ويجد الطامع فيها ما يطلب من الأعوان له عليها آنًا بعد آن. قال اللورد سالسبوري: إن مدارس المبشرين أول خطوة من خطوات الاستعمار، فهي تحدث في البلاد التي تنشأ فيها انقسامًا وتفريقًا بين أهلها يفقدون به وحدتهم، فيكونون عونًا للمستعمِر على أنفسهم -أو ما هذا مؤداه- وجاء في الجزء الكبير الذي خصصته مجلة (العالم الإسلامي) الفرنسية في مبحث (فتح العالم الإسلامي) [1] : إن المدارس التي أنشأها المبشرون في الآستانة وغيرها من البلاد العثمانية قد كان تأثيرها في حل المسألة الشرقية أعظم من عمل جميع سفراء الدول ومعتمديهم السياسيين [2] . وأما الحال الثانية: فهي حال الشعوب العلمية الراقية ذات الزعماء الحكماء الذين يعرفون أمراض الاجتماع وعلله، فيداوون أمراضه ويصلحون خلله، ويكملون نقصه بما يهديهم إليه العلم بسنن الله في خلقه، فيزداد كمالاً، أو يعجزون عن ذلك، فيعود إلى الضعف والفساد. وأما الحال الثالثة: فهي حال الشعوب المخضرمة بمشابهتها للجاهلة الساذجة من وجه، وللعلمية من وجه آخر، وهي الشعوب الضعيفة ذات العلم التقليدي الناقص، كأهل البلاد التي بثت فيها تعاليمهم وآراءهم، فتبعتها تقاليدهم وعاداتهم، فتفرق أهلها شيعًا وأحزابًا مختلفةً متدابرةً، يعد كل منها الآخر ضارًّا للبلاد ومفسدًا لأهلها، وتكون فيها زعماء بالتكلف والتحزب يعملون للكسب والشهرة لا للمصلحة العامة، بل يجاهدون من هم أولى بالزعامة وأقدر على النهوض بالأمر منهم إلى أن يغلب فريق منهم الآخر باستمالة الرأي العام إليه. ليس المقام مقام بيان شؤون كل شعب من هذه الشعوب على التفصيل، وإنما المراد من هذه المقدمة تذكير القارئ بأن ما نعنيه بالتطور - وهو انتقال الأمة من طور إلى طور - إنما يكون بسير اجتماعي، منه ما هو صناعي، كالذي يكون بسعي زعماء الأمم الراقية، ومنه ما هو طبيعي ظاهر لبعض أهل البصيرة والعلم، أو خفي لا يُعلم به إلا بعد ظهور أثره، كتفجير الينابيع بعد تجمع الماء بالسريان في باطن الأرض، أو بين الجلي والخفي، كسير الظل. ثم إن سير السنن الاجتماعية الذي يكون به التطور قد يكون بطيئًا لا ينتهي إلى غايته إلا في عدة أجيال، وقد يكون سريعًا بما يُحدث في العالم من كبر أحداث الاجتماع، كظهور الاسلام في العرب الأميين، الذي أحدث أكبر انقلاب اجتماعي في جميع العالم القديم، فكان له ذلك الأثر العظيم في آسية وأفريقية وأوربة بإحياء موات العلم ودارس الحضارة، وكالثورة الفرنسية التي زلزلت ما كانت عليه دول أوربة من الاستبداد والاستعباد، وكحرب المدنية العامة الأخيرة التي زلزلت جميع الأمم والشعوب أشد زلزال، ومخضت العالم البشري مخضًا لم يتم تكوين زبده إلى الآن، وجميع الأمم والشعوب شاخصة الأبصار، متلعة الأعناق، مصيخة الأسماع، ترتقب النتيجة التي يجتهد أولو الأطماع المتداعون على افتراس الشعوب الضعيفة، كتداعي الجياع إلى القصاع في جعلها شر بلاء أصيب به البشر بعد أن ملأوا الأرض صياحًا بأنهم ما حاربوا إلا لتحرير البشر. كانت مصر مستقلةً استقلالاً داخليًّا تامًّا تحت سيادة الدولة العثمانية - التي لم يكن لها أدنى تدخل في إدارة مصر الداخلية - وكانت أوربة كلها مصدقةً على هذا الاستقلال وتناولها في البلاد معتمدون سياسيون، وكان الاحتلال الإنكليزي الذي وقع بطلب أمير البلاد ورضاء الدولة صاحبة السيادة موقتًا لم ينازع في استقلال البلاد، ولا في سيادة الدولة عليها، ووعدت الدولة وعودًا رسميةً كثيرةً بأنه لا بد من الجلاء عنها وتركها لأهلها، ولكنها في أثناء الحرب أعلنت الحماية عليها وجعلتها ميدانًا حربيًّا، وأباحت لسلطتها العسكرية أن تتصرف فيها تصرف المالك، فلما عقدت الهدنة هب المصريون للمطالبة باعتراف إنكلترة وسائر الدول - التي تعقد الصلح بين الأمم - لها بالإستقلال التام، وتألف وفد منها للسعي إلى ذلك اختار سعد باشا زغلول الشهير بصدق الوطنية والشجاعة الأدبية وقوة العارضة، وسعة المعارف في القوانين، رئيسًا له، وأخذ الوفد وثائق كثيرة من الألوف من المصريين الذين يمثلون الرأي العام المصري باستنابته عنهم، كأعضاء الجمعية التشريعية ومجالس المديريات والبلديات، وسائر طبقات الأهالي، وطفق يخاطب بذلك الحكومة البريطانية والرئيس ولسون , وسائر الدول بواسطة وكلائها السياسيين، ثم عقد الوفد اجتماعًا عامًّا في دار وكيله حمد باشا الباسل خطب فيه الرئيس والوكيل وغيرهم في بيان حقيقة المسألة المصرية، وما تطلبه البلاد من الاعتراف لها بالاستقلال، وأراد الرئيس عقد اجتماع آخر في داره، فمنعته السلطة العسكرية البريطانية من ذلك، ثم اعتقلته مع الوكيل المذكور وعضوين آخرين من أعضاء الوفد، هما: محمد باشا محمود سليمان وإسماعيل صدقي باشا، وأرسلتهم إلى مالطة، فهاجت الأمة المصرية لذلك هياجًا، وقامت بمظاهرات عظيمة في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المدائن، وهاج الفلاحون وقبائل العربان، وقطعوا أسلاك البرق وقلعوا خطوط حديد السكك، ودمروا بعض محطاتها، حتى صار الهياج ثورةً عامةً، واستقالت وزارة حسين رشدي باشا احتجاجًا على مصادرة الحرية الشخصية، بنفي من ذُكر من أعضاء الوفد، وتعذر على السلطة تأليف وزارة جديدة. وكان حسين رشدي قد طلب قبل ذلك كله من الحكومة الإنكليزية الإذن له، ولعدلي باشا وزير المعارف بالسفر إلى إنكلترة لمفاوضة أولي الأمر فيها بما سيكون عليه شكل الحكومة بعد الحرب التي عاونت البلادُ المصرية وحكومتها فيها السلطة البريطانية أعظم معاونة شملت زهاء مليون شاب مصري، ساعدت السلطة الإنكليزية العسكرية على الأعمال الحربية في فلسطين حتى إنها كانت تسمي الحملة التي فتحت القدس الشريف (الحملة المصرية) وهذا الفتح هو الذي قال فيه المستر لويد جورج رئيس الوزارة الإنكليزية: إنه آخر حرب صليبية، وساعدتها كذلك في العراق , وفي مواضع أخرى، وناهيك بالمنافع المالية بأنواعها , ولكن الحكومة الإنكليزية أرجأت طلب الوزيرين أولاً، ثم أرادت أن يسافرا فأبيا إلا أن تأذن للوفد المصري بالسفر أيضًا، فصدر الأمر من لندن بالإذن لهما ولمن شاء من المصريين، ومنهم الأربعة المعتقلون في مالطة. فلما ظفر المصريون بالإذن لوفدهم بالسفر، نظموا مظاهرات أخرى، اشترك فيها جميع طبقات الأهالي حتى النساء المخدرات، فكن يطفن بسياراتهن ومركباتهن المزينات بالأعلام والرياحين، ويهتفن مع الهاتفين: لتحيى مصر، ليحيى الاستقلال التام: ليحيى سعد باشا زغلول، ليحيى أعضاء الوفد المصري إلخ. وقد حاولت السلطة العسكرية البريطانية منع المظاهرات الأولى والآخرة فلم تفلح، حتى إنها أطلقت رصاص البنادق والمدافع الرشاشة مرارًا على المتظاهرين، فلم يثنهم ذلك عن تكرار المظاهرات، بل منهم من قاوموا الجنود، وقتلوا منهم كثيرين، ولكن من قتلهم الجنود أكثر بالطبع، وقد قدرت السلطة من قتل في الشوارع بزهاء ألف نسمة منهم الكبير والصغير، وليس غرضنا من هذه الخلاصة تحرير تاريخ هذه الحوادث، ولا وصفها وصفًا شعريًّا لأجل التأثير، وإنما غرضنا أن نجعلها مقدمةً لما هو مقصدنا بالذات لما ترتب عليها من التطور الديني باتفاق المسلمين والقبط، وجعل الجامع الأزهر معهد السياسة الأكبر في مصر، والتطور الاجتماعي بدخول النساء في المظاهرات السياسية وإلقائهن الخطب في الشوارع والأسواق، فهذا أهم ما يُعنى به المنار.

دولة الكلام المبطلة الظالمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دولة الكلام المبطلة الظالمة إن المعقول المتبادر من حكمة الله في نعمة النطق، ومزية الكلام التي ميز بها الإنسان وفضله من سائر أنواع جنسه الحيواني، هو أنها التعبير عما في النفس من العلم؛ ليتعاون الناس بإفضاء كل بما في نفسه إلى غيره على تكميل علومهم، وتحسين أعمالهم , ولكن الأشرار منهم كفروا هذه النعمة بما أساءوا من استعمالها في الكذب والإفك والخلابة، حتى قال بعض الأذكياء: إن حكمة الكلام وفائدته إخفاء ما في النفس، وصرف الأذهان عن الحقائق. وقد أجمع الناس على ما هدت إليه الأديان، وقرره الحكماء من مدح الصدق والصادقين، وذم الكذب والكاذبين، إلا ما قيل في حال التعارض بين مفسدة الكذب في مسألة معينة، ومفسدة أخرى أكبر منها، كالكذب على صائل ظالم يريد قتل بريء محترم الدم بما يصرفه عن قتله بإنكار المكان الذي يوجد فيه، أو غير ذلك، والإسلام يهدي في مثل هذه الحال إلى التفصي من الكذب بالتعريض، ففي حديث عمران بن حصين في البخاري: (إن في المعاريض مندوحة عن الكذب) ولكن كثيرًا من الناس ينظمون في سلك هذا الاستثناء ما ليس منه، كالتعارض بين الصدق وما يخشونه من فوت بعض شهواتهم ومطامعهم غير المشروعة به، فيستبيحون الكذب للتوسل به إلى تلك الشهوات والمطامع الشخصية أو القومية. اللصوص وقطاع الطرق والشطار المحتالون، وشهداء الزور، وأصحاب الدعاوي الباطلة ووكلاؤهم، كل أولئك وأمثالهم يكذبون لأجل مطامعهم الشخصية، ورجال السياسة من الأمراء والوزراء والسفراء، ومَن دونهم من الوكلاء السياسيين وكُتابهم وجواسيسهم، كل أولئك يكذبون لأجل مطامع دولتهم ومنافع أممهم، والفريقان يذمان الكذب مع الذامين، ويمدحان الصدق مع المادحين، ولا يعترف أحد منهم بأنه يكذب لدفع الضرر عن نفسه أو قومه، أو لجلب النفع لهم، كما يعترف من كذب تصريحًا أو تعريضًا لدفع الصائل الظالم عن البريء إلا أن يكون الاعتراف من بعض المشتركين في هذا الإثم لبعض، أو لمن يعلم حالهم ممن له صلة بهم. من عجيب أمر الانسان أن الكذب والإفك وقول الزور وطمس معالم الحق وتشييد صروح الباطل، لم يكن مقصورًا على المتكالبين على الشهوات الدنيوية والمطامع المالية والسياسة، بل تجاوزهم إلى رجال الأديان ورجال المذاهب من أهل الدين الواحد، وهم أجدر بالصدق والتزام الحق، ولكنهم جعلوا الدين الذي موضوعه الهدى وتزكية النفس بالاعتقاد الصحيح والفضائل، وسيلة للمال والجاه، فصاروا كطلاب المنافع الشخصية بالسرقة والغصب ونحوهما، وطلاب المنافع السياسية بالبغي والعدوان على الأمم والشعوب. وأعجب أمر هؤلاء وأغربه أن فيهم أناسًا يتعمدون الكذب على خصومهم، واستباحة أفحش ما حرمه دينهم في سبيل عداوتهم، لا يبتغون بذلك مالاً ولا جاهًا، بل يقصدون التقرب به إلى إلههم، معتقدين أنه يرضيه كل ما فيه إيذاء أعدائه، وإن كان من الباطل والشر الذي حرمه على أبنائه وأحبائه في معاملة بعضهم لبعض، ومن كان يظن في ربه وإلهه حب الباطل والشر والرضاء بهما، فكيف يطمع منه عدوه بالتزام حق أو عمل خير؟ ‍! أولئك الذين يقولون: إن المقاصد والغايات الحسنة، تبيح الوسائل المحرمة والمبادي السيئة، وإن الباطل قد يوصل إلى الحق، والشر قد يؤدي إلى الخير، أي إنهم يختارون أن يكونوا مبطلين أشرارًا، مجرمين في الحال؛ ليصيروا أخيارًا في المآل. إذا كان علماء الأديان وأولياؤها، وشيع المذاهب وأنصارها، يؤلفون الكتب ويدونون الأسفار في تضليل المجادلات والمشاغبات؛ ليؤيد كل فريق منهم ما يوصف به وينتمي إليه منها، فهل يكثر على عبيد المال وعشاق العظمة والجاه ومنهومي اللذات والشهوات، ومفتوني السلطة والسيادة، أن يقلبوا جميع الحقائق، ويستحلّوا جميع المحارم في سبيل التمتع بتلك اللذات، والعلو في تلك الدرجات، والإشراف على الأمم والشعوب بالأمر والنهي، وغير ذلك من التصرف والتشريع الذي هو شأن الرب عز وجل؟ إن دولة الكلام المؤيدة بجحافل الكذب والزور والبهتان والإفك، والافتراء والإخلاق والاختراق والخلابة والتمويه والتلبيس والتدليس تترقى بترقي الحضارة، وتتدلى بتدليها، وتتسع باتساع دائرة العلوم والمعارف، وتضيق بضيقها، فهي مساوقة لدولة الأحكام مؤيدة لها. الكذب شر الرذائل على الإطلاق، فهو مفسد الأديان والتواريخ، ومزيل الثقة بين الأفراد والجماعات، ومولد الفتن والحروب بين الأمم، وقلما تستغني رذيلة من الرذائل، أو فتنة من الفتن عن شد أزرها بالكذب، أو أحد جنوده وحملة بنوده، وما ألجأ الناس إلى الكذب على شدة قبحه، وفحش ضرره، والإجماع على ذمه إلا عدم التناصف بينهم، وترك تحكيم العدل فيما تتعارض فيه منافعهم، وتتنازع منازعهم، والأصل في ذلك أن الضعيف هو الذي يكذب على القوي الذي لا ينصفه أو لا يواتيه، والقوة والضعف أنواع شتى، فكم من قوي في شيء، ضعيف في غيره، فإذا رأيت السيد يكذب على عبده، والمخدوم على خادمه، والأمير على السوقة، فلا تظن أن هذا جاء على خلاف الأصل، فإن في هؤلاء السادة المخدومين والأفراد الحاكمين ضعفًا في الأخلاق، وقبائح الأعمال، فيتحرون كتمانها عن خدمهم وأتباعهم، فلا يجدون وسيلةً لذلك إلا الكذب أو التلبيس والتمويه، فيلجأون إليه صاغرين. الحكومة المستبدة تعلم الشعب الضعيف الخاضع، الكذب والرياء حتى يصير ملكةً له يفسد عليه أمور دينه ودنياه، وقلما يحتاج رجال هذه الحكومة إلى الكذب على شعبهم المسكين؛ لأنه خاضع لكل ظلم، قابل لكل ضيم، وإنما يكذب الضعيف على القوي الجائر الذي لا يرضى بالحق، ورُب قوي في شيء، ضعيف في غيره، فيكذب فيما هو ضعيف فيه، ومن هذا النوع حكومات الأمم القوية بالعلم والنظام والأحزاب السياسية، فكل حكومة من هذه الحكومات تكذب على نواب أمتها ورؤساء أحزابها في كل ما تعلم أنه لا يرضيهم من أعمالها الاستعمارية وسياستها الخارجية وغير ذلك، ويستتبع ذلك الكذب على أهل المستعمرات، وإلباس كثير من الأعمال ثوب زور والكذب على أهل العلم والرأي لا يرجى أن يروج له إلا بلبس الحق الذي نخشى مغبة ظهوره، وكذلك كذب الحكومات القوية بالعلم والاستعداد الحربي بعضهم على بعض؛ فلذلك صار الكذب فنًّا من أدق الفنون وركنًا من أركان السياسة. وليعتبر القارئ في ذلك بما نشرناه من قبل من أقوال أقطاب ساسة الحلفاء، وكبار وزرائهم في الأسباب الحاملة لدولهم على الحرب، وأساسها حرية الشعوب واستقلالها، ومن خطب الرئيس ولسن في ذلك، ووجوب تعميمه في جميع الأمم والشعوب في الشرق كالغرب، ومن قواعدها الأربع عشرة التي وضعها لبناء صرح الصلح العادل عليها، فقبلها المتحاربون. ثم (ليعتبر) بمعاهدة الصلح الكبرى التي ننشر خلاصتها في المنار، وبما تنقله البرقيات والجرائد الأوربية من التنازع والمساومة بين الحلفاء على اقتسام البلاد التي نص في معاهدة الصلح على الاعتراف لها بالاستقلال المطلق مع اشتراط قبول المساعدة التي ترضاها بنفسها من الدولة التي تختارها لمساعدتها، وما ذكر لفظ المساعدة إلا لجعله محللاً لامتلاك البلاد واستعباد أهلها باسم جديد يزعمون أن معناه لا ينافي الاستقلال المقرر والقواعد التي بني عليها، وإذا شئت تفصيل هذا الإجمال، فانظر ذلك المقال الذي كتبناه منذ بضعة أشهر في (الاستقلال) وتعذر نشره وقتئذ في كل من مصر والشام. ((يتبع بمقال تالٍ))

ذات بين الحجاز ونجد ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذات بين الحجاز ونجد عود على بدء (2) كتبنا ما رآه القراء من الفصول تحت هذا العنوان، ونحن في أشد الحزن والامتعاض مما كان قد بلغنا من أنباء هذه الفتنة، وهو أن الحرب ستستأنف بين الحجازيين والنجديين باسم الدين، وأن الجنود الهندية الإنكليزية ستمد الأولين , فقد ذهب فريق منها لأداء فريضة الحج، وروي أنها ستذهب بعد الحج إلى الطائف بحجة زيارة عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) فخشينا أن يكون المراد من الطائف ما وراءه، وهو نجد , ونحن من أدرى العرب والمسلمين بسوء عاقبة مثل هذا القتال في هذه الأيام، فكان قصدنا مما كتبناه أن ندرأ هذه الفتنة من أقرب الطرق وأرجاها، وهو الإقناع العلمي أو القوة العملية. أما الإقناع، فمن ثلاثة أوجه , (أحدها) : ما بيناه من أن ما جُعل سببًا للقتال لا يصح، وذلك أن ما يُتهم به كل فِرق من مخالفة بعض أصول الدين من العقائد، والأعمال التي يعدها كفرًا إذا صح بعضه أو كله، فإنما يكون من بعض الأفراد لا من الجميع، وهو في نظر المنطقي والأصولي مشترك الإلزام، فالحَكَم المنصف يقول لكل واحد من الخصمين: إنك تتهم خصمك بمثل ما يتهمك به، فأنت تجزم بكفر الكثيرين في بلاده بأدلة تقيمها من الشريعة على أن كذا وكذا من الأقوال والأفعال كفر، وهو يجزم بكفر الكثيرين في بلادك بأقوال وأفعال أخرى، يقيم الأدلة الشرعية على كونها كفرًا، وكل منكما من أهل القبلة الذين يؤمنون بأن جميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الدين حق، إلا أنكم اختلفتم في الفهم، فتكفير كل منكما للآخر متأول فيه، لا طاعن في الإسلام نفسه، ولا سبيل إلى ظهور حجة أحد منكما على الآخر إلا بالعلم وحرية البيان والنشر مع الأدب في القول اهتداءً بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) الآية، وأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فقد تساهل مع المشركين؛ لأجل حرية الدعوة، وليس لأحد أن يدعي أن من كفر بسوء فهم وقلة علم وفساد تأويل، وهو يؤمن إجمالاً بأن جميع ما جاء به الرسول حق - أسوأ حالاً وأجدر بسوء المعاملة من المشرك المجاهر الذي كذب الرسول وقاتله، فليؤمِّن كل منكما الآخر في بلاده، ويجتهد ما استطاع في تعليمه وإقناعه، والحق يعلو ولا يعلى. (الوجه الثاني) أن المجادلة بالتي هي أسوأ، وهي الوقيعة والتقريع، والسب والتكفير، لا تأتي إلا بالنتيجة التي هي أسوأ، وهي العداوة والبغضاء التي يخفى معها الحق إن فرضنا أنها - أي: المجادلة - اشتملت عليه، ذلك بأن المخاطب بها يشغله التألم بتحقيره عن التأمل في غيره من معاني الكلام الذي يعتقد أنه صادر عن سوء نية، فلا يقصد به إظهار حقيقة، وما تعصب أكثر الناس لآرائهم الشخصية أو المذهبية إلا بسبب المراء وسوء أسلوب الجدال من المخالفين لهم. بل الأمر أعظم من ذلك: نبغ في علماء المسلمين إمام مجتهد، واسع العلم، قوي الحجة، شديد العارضة إلا أنه كان حديد المزاج، وقد ألف كتابًا في الفقه، قرن فيه كل مسألة بالحجة عليها، والرد على المخالف فيها بعبارة فصيحة وأسلوب جلي، كان مظهرًا لما وصفناه به آنفًا من الصفات التي منها حدة المزاج، فكان في عبارته من الحمز في اللمز، واللذع في الصدع، ما كان سببًا لإعراض جماهير الأمة عن الاستفادة منه والأخذ عنه، ولولا ذلك لكان أتباعه أكثر من أتباع غيره من أئمة الفقه المشهورين، أو مساوين لأكثرهم تابعًا، ذلك الإمام أبو محمد ابن حزم صاحب كتاب (المحلى) الذي شهد سلطان العلماء العز ابن عبد السلام الشافعي الأصل الذي شهد له العلماء بالاجتهاد المطلق، بأنه أحسن ما كتب المسلمون في الفقه، ولم يقرن به إلا كتاب (المغني) للشيخ الموفق الحنبلي. (الوجه الثالث) : إذا كان المراء والمجادلة بالتي هي أسوأ تثمر العداوة والبغضاء وشدة استمرار الخلاف، فكيف تكون ثمرة القتال بين فريقين يقتتلان بسبب الاختلاف في فهم الدين؟ وهل كان قتال محمد علي باشا للوهابية، الذي يريد التأسي به ملك الحجاز سببًا لرجوعهم عما كانوا عليه في ذلك الوقت، وعادوا إليه الآن حتى نعود إلى قتالهم؟ كلا. وأما ما أشار إليه الملك في بعض منشوراته من وجوب ذلك على السلطان، فهو لا يظهر في الواقعة الحاضرة، لا من حيث موضوع التهمة التي تقدم القول فيها، ولا من حيث السلطان الذي يجب عليه ذلك، وهو الإمام الحق المجتهد في أصول الدين وفروعه، المقيم لأحكامه وحدوده بسلطته التي يخضع لها سواد المسلمين مع الاعتصام باستشارة أهل الحل والعقد، وملك الحجاز - سدده الله ووفقه - لم يدَّع هذا المقام لنفسه، بل ترك أمر الخلافة إلى الرأي الإسلامي العام، فأنصف بذلك إنصافًا حمده الخاص والعام في جميع أقطار الإسلام، وهو يعلم أيضًا أن مملكته الحجازية لا تصلح الآن لإقامة خلافة فيها، لا خلافة حقيقية مستوفاة الشروط، ولا خلافة تَغَلُّب، أما الأول فظاهر من جميع وجوهه، وأما الثاني فلأنها أضعف من جميع البلاد المستقلة التي حولها، فهي لا تقدر أن تحفظ نفسها بنفسها، وليست مقرًّا لجماعة أهل الحل والعقد من علماء المسلمين وزعمائهم وقوادهم الذين تثق الأمة بهم إذا بايعوا حاكمها باختيارهم، ولا حاجة إلى بسط هذه المسألة في هذه العجالة التي نقصد بها درء الفتنة، فإذا اقتضت الحال بسطها بسطناها في مقال طويل لا يدع مجالاً لشبهة مشتبه، وما قيل في الحجاز يقال في نجد على ما لا يجعل التفاوت بينهما. وإذا كان الأمر كما ذكرنا، فالمرجو من حاكمي البلادين أن يتفقا على إقفال باب الفتنة الذي فتحه الشيطان بينهما، ولا يدعا للأجنبي وسيلةً لتقوية نفوذه في البلاد المقدسة وحرمها، فإن شجر بينهما خلاف، فليحكما فيه من يرضياه من أهلهما وجيرانهما. وأما القوة الفعلية التي رأيناها أهلاً لإصلاح ذات بينهما، إذا هما لم ينصفا من أنفسهما، فهي قوة جيرانهما أهل اليمن وعسير، فالواجب عليهما أن يتصديا لهذا الأمر، وأن يطلب الفريقان حكمهما فيه عملاً بآيتي سورة الحجرات اللتين ذكَّرناهما بهما في الفصول السابقة {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات: 9) إلخ، بل يجب على أئمة هذه الجزيرة الإسلامية الشريفة وأمرائها أن يعقدوا بينهم المحالفة التي اقترحها عليهم بعض أهل البصيرة من المسلمين على قاعدة اعتراف كل منهم للآخر باستقلاله في بلاده، وعدم اعتداء أحد منهم على حدود الآخر، واتفاق الجميع على كبح جماح المعتدي وعقابه، وتعاونهم بالأولى على مقاومة كل أجنبي يعتدي على أي بلد من بلادهم، ألا وليتذكروا ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، ويتداركوا ما قصر فيه مَن قبلهم، وإلا فقد قرب عهد زوال سلطتهم، وتغلغل النفوذ الأجنبي في جزيرتهم، ولا يكونوا كحكومة مراكش الجاهلة الغبية التي أنذرناها في السنة الأولى للمنار مثل ما ننذرهم اليوم، فتمارت بالنذر، حتى ضاع استقلالها، ألا وليعلموا أن جزيرتهم هذه معقل الإسلام ومأزره، فإذا مكنوا الأجنبي منها بتخاذلهم كانوا لعنةً على لسان كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها إلى يوم القيامة. *** كتاب كشف الشبهات [*] بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين اعلم رحمك الله أن التوحيد هو إفراد الله بالعبادة وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده، فأولهم نوح عليه السلام، أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا، وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسَّر صور هؤلاء الصالحين: أرسله إلى قوم يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله، ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله، يقولون: نريد منهم التقرب إلى الله، ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين، فبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين أبيهم إبراهيم، ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله لا يصلح منه شيء لا لملَك مقرب ولا لنبي مرسل فضلاً عن غيرهما، وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يرزق إلا هو، ولا يُحيي إلا هو ولا يميت إلا هو، ولا يدبِّر الأمر إلا هو، وأن جميع السموات ومن فيهن والأرض ومن فيها كلهم عبيد، وتحت تصرفه وقهره. فإذا أردت الدليل على أن هؤلاء الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون لها فاقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: 31) وقوله: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُون} (المؤمنون: 84-89) وغير ذلك من الآيات. إذا تحققت أنهم مقرون بهذا ولم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا (الاعتقاد) كما كانوا يدعون الله سبحانه ليلاً ونهارًا، ثم منهم من يدعو الملائكة؛ لأجل صلاحهم وقربهم إلى الله ليشفعوا له، أو يدعو رجلاً صالحًا مثل اللات، أو نبيًا مثل عيسى. وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على هذا الشرك ودعاهم إلى إخلاص العبادة كما قال تعالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقال: {لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} (الرعد: 14) - وتحققت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدعاء كله لله والنذر كله لله والذبح كله لله والاستغاثة كلها بالله وجميع العبادات كلها لله: وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام، وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله بذلك هو الذي أحل دماءهم وأموالهم. وعرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون وهذا التوحيد هو معنى قولك: لا إله إلا الله فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكًا أو نبيًا أو وليًا أو شجرة أو قبرًا أو جنيًا، لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يعلمون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك، وإنما يعنون بالإله ما يعني: المشركون في زماننا بلفظ السيد فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها، والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالنطق بالكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه

خلاصة معاهدة الصلح ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خلاصة معاهدة الصلح [1] (4) الفصل العاشر في المواد الاقتصادية الجمارك: تتضمن المعاهدة مواد تفصيليةً لمنع ألمانية من التمييز، مباشرةً أو غير مباشرة بين متاجر الحلفاء والبلدان المشتركة معهم، وتظل هذه النصوص نافذة المفعول خمس سنوات إلا إذا مدها مجلس جمعية الأمم، وهنالك نص وقتي يقضي بأن يدخل المالية بلا رسوم ما، مقادير معينة من محاصيل ومصنوعات الإلزاس واللورين ولكسمبرج , والأملاك التي تنازلت ألمانية عنها لبولندا , أما الرسوم الجمركية التي تفرضها ألمانية على الواردات من بلاد الحلفاء في الحال فلا يجوز أن تتجاوز أدنى الرسوم التي كانت مفروضةً سنة 1914، وبعد ستة أشهر يجوز لألمانية أن ترفع رسومها الجمركية، بشرط أن تتقاضاها على السواء، على واردات الحلفاء إلا فيما يختص بأشياء قليلة معينة، معظمها حاصلات زراعية، فهذه تظل القيود الموضوعة لها نافذةً لمدة 2.5 سنة أخرى، ويحق للحلفاء أن ينفذوا نظامًا جمركيًّا خاصًّا في الولايات التي يحتلونها. البواخر: تتمتع بواخر الحلفاء بما تتمتع به بواخر ألمانية أَولى الدول بالمراعاة في ألمانية لمدة لا تقل عن خمس سنوات، ويستمر هذا النص نافذًا بعد ذلك، بشرط أن يعامل الحلفاء ألمانية به إلا إذا عدله مجلس جمعية الأمم، أما فيما يختص بصيد السمك والاتجار ببواخر السواحل وقطر السفن، فألمانية تعامل الحلفاء معاملة أولى الدول بالمراعاة للمدة المنصوص عليها فيما يختص بالرسوم الجمركية، وهنالك نص يقضي على ألمانية بالاعتراف بشهادات البواخر، والمواضع التي تسجل فيها بواخر الدول التي ليس لها سواحل بحرية. المناظرة المجحفة: تتعهد ألمانية بأن تحمي متاجر الحلفاء من المناظرة المجحفة، وأن تلغي خصوصًا استعمال المركات المقلدة، والإشارات الدالة على أصل المصنوع (كذا) وتحترم - على شرط التبادل في المعاملة - القوانين والقرارات القضائية الصادرة من بلاد الحلفاء والحكومات المشتركة معهم فيما يختص بأسماء الخمور والمشروبات الروحية، وهي الأسماء المستعملة حيث تعصر هذه الخمور وتستقطر هذه المشروبات. معاملة الرعايا: لا يجوز لألمانية أن تقيد رعايا الحلفاء وأملاكهم وأموالهم (في بلادها) بقيود لم تكن موجودةً عندها قبل الحرب، ولا ضرائب كذلك إلا إذا فرضت مثل هذه القيود والضرائب على رعاياها، ويحظر عليها أيضًا أن تضع قيودًا تقيد بها الأعمال، إذا لم تكن هذه القيود عامةً لجميع الجانب في بلادها، ويعمل بهذه النصوص خمس سنوات، وتتجدد لمدة لا تتجاوز خمس سنوات أخرى إذا قررت ذلك أكثرية مجلس جمعية الأمم، وتزول الرعوية الألمانية عن كل شخص صار من رعايا إحدى دول الحلفاء، أو إحدى دول الحكومات المشتركة معهم. الاتفاقات بين ألمانية ودول الحلفاء: جدد نحو أربعين اتفاقًا كانت مبرمةً من قبل بين ألمانية وبعض دول الحلفاء، ولكن اشترطت شروط خصوصية على إعادة قبول ألمانية في بعضها، ومن ذلك: الاتفاقات الخاصة بالبريد والتلغراف، ولا يجوز لألمانية أن تمسك عن الموافقة على الاتفاقات الخصوصية التي تبرمها الدول الجديدة، وعليها أيضًا في مسألة اتفاق التلغراف اللاسلكي أن تقبل بالقوانين الوقتية التي ستبلغ لها، والموافقة على الاتفاق الجديد متى صيغت مواده، وفي الاتفاقات الخاصة بمصايد السمك في البحر الشمالي وبيع المسكرات فيه تكون المراقبة على سفن الصيد التي لشعوب الحلفاء، وإقامة النظام بينها من حقوق سفن دول الحلفاء دون سواها لمدة لا تقل عن خمس سنوات، وتفقد ألمانية الحق الذي مُنحته بالمادة الثالثة من معاهدة سامواي المبرمة سنة 1899 وغيرها من المعاهدات، وتتنازل خصوصًا عن حقها في تعويضات البوكسر بعد تاريخ دخول الصين في الحرب. المعاهدات بين ألمانية ودولة من دول الحلفاء: يجوز لكل دولة من دول الحلفاء إذا شاءت أن تجدد إحدى معاهداتها مع ألمانية إذا كان تجديدها لا يناقض معاهدة الصلح، وذلك بأن تعلن عن عزمها على ذلك قبل وقوعه بستة أشهر، وتنقض المعاهدات التي أبرمتها ألمانية منذ أول أغسطس 1914 مع سائر دول الأعداء، أو قبل ذلك أو بعده، مع رومانية وروسية , أو الحكومات الواقعة في بلاد روسية، كما كانت، وتلغى الامتيازات التي منحت للرعايا الألمان بالضغط والتشديد، ويتمتع الحلفاء بالامتيازات الممنوحة بالمعاهدات التي أبرمتها ألمانية مع دول الأعداء الأخرى قبل 1 أغسطس 1914، وبالمعاهدات التي أبرمتها ألمانية مع دول المحايدين في أثناء الحرب. الديون السابقة للحرب: تنشأ مكاتب تصفية في خلال ثلاثة أشهر في ألمانية وفي بلاد كل دولة من دول الحلفاء، والحكومات المشتركة معها تتولى وضع الخطط لتسوية الديون السابقة للحرب (المعرب: سقط في الأصل هنا عبارة أو بضع كلمات) وكل تسوية من هذا القبيل تتم بواسطة هذه المكاتب، وتحظر تسوية هذه الديون مباشرة، ثم إن توزيع الأموال الناتجة من بيع أموال العدو وأملاكه يتم بواسطة هذه المكاتب، وعلى كل دولة أن تحمل تبعة العهود المالية التي على رعاياها نحو رعايا دول الخصم إلا إذا كان المدين في حكم المفلس عند وقوع الحرب. ويدور البحث في المطلوبات بين مكتبي التصفية التابعين للبلدين صاحبي الحق، فإذا لم يتم الاتفاق بينهما تحال القضية إلى التحكيم، أو إلى محكمة التحكيم المختلطة التي نص على تأليفها فيما يلي , والمبالغ المطلوبة لرعايا كل بلد تدفع من مكتب التصفية في البلاد المذكورة وهو يقيد على البلاد نفسها الديون المطلوبة من رعاياها، وتدفع الديون بنقود البلاد لمخالفة صاحبة الشأن، وأما سعر الكمبيوتر الذي يجري عليه فالسعر الذي كان دارجًا في البلاد نفسها قبل وقوع الحرب بين تلك البلاد وألمانية بشهر، هذا إذا لم يكن في العقد التجاري بين العاملين نص خاص على كيفية الدفع، ولكل دولة من دول الحلفاء الخيار في الاشتراك في هذا النظام. أملاك الأعداء وأموالهم: كل ما عمل من التصفية والمراقبة ونحوهما في بلدان الحلفاء وألمانية بشأن أملاك الأعداء وأموالهم ومتاجرهم بحكم تدابير الحرب الاستثنائية يثبت في هذه المعاهدة بشرط تعويض ما فقد من أملاك وأمول رعايا الحلفاء التعويض الذي تقرره محكمة التحكيم المختلطة، والذي يؤخذ من أموال الرعايا الألمان التي تكون في حيازة حكومة الطالب، أما التعويضات المطلوبة للرعايا الألمان فهذه تدفعها ألمانية. كل قضية للتصفية والمراقبة ونحوها في ألمانية توقف، وإذا كانت أملاك وأموال رعايا الحلفاء لم تصفّ تمامًا فإنها ترد إلى رعايا البلدان التي لم تصفَّ الأموال الألمانية فيها، والتي يمكن أن تطلب رد أموالها وأملاكها بواسطة الحكومة الألمانية من الأشخاص الذين صارت تلك الأموال والأملاك في حيازتهم، وهنالك نصوص على حماية ما رُد من الأملاك والأموال والمتاجر في ألمانية ووقايته في المستقبل، ويحفظ الحلفاء لأنفسهم حق الاحتفاظ بجميع الأملاك والأموال الألمانية في بلدانهم وتصفيتها، والصافي من بيعها في أثناء الحرب وبعدها يعتبر لحساب ألمانية، وتسدد به كل دولة مطلوب رعاياها عن أموال وأملاك لهم في ألمانية، أو في ديون لهم قبل الألمان. العقود: إن العقود (الكونتراتات) المبرمة بين رعايا الحلفاء والرعايا الألمان قبل الحرب تعد بالإجمال ملغاةً من تاريخ وقوع الحرب بين الفريقين، ويستثنى من هذا الحكم العقود الخاصة بنقل أموال منقولة أو غير منقولة إذا كانت هذه الأموال سلمت فعلاً، وإيجارات الأراضي والبيوت، وعقود الرهن والكفالة، وامتيازات المناجم، والعقود المبرمة مع الحكومات والمجالس العمومية، وعقود التأمين , وقد نص على عقود التأمين نصًّا مفصلاً فيما يلي: ويحفظ الحق في تنفيذ العقود التي ترى الدولة المحالفة أن تنفيذها في المصلحة العامة بشرط دفع تعويض عادل إذا اقتضت الحال، تعينه محكمة التحكيم المختلطة , ونظرًا إلى الصعوبات الدستورية فيما يتعلق بالولايات المتحدة والبرازيل واليابان، تستثنى هذه البلاد الثلاث من النصوص الخاصة بالعقود المبرمة قبل الحرب، ولا تعد عقود التأمين من الحريق منحلةً بوقوع الحرب، ولو لم تكن رسوم التأمين قد دفعت، ولكنها تعتبر منقوضةً في ميعاد دفع القسط السنوي الأول الذي يستحق بعد إبرام الصلح بثلاثة أشهر. أما عقود التأمين على الحياة فلا تنحل لسبب وقوع الحرب فقط لكن في الأحوال التي انقطع فيها دفع الرسوم بسبب تنفيذ القوانين الحربية يحق للمؤمن أن يطالب القيمة (البوليصة) التي تستحقها عند تاريخ الكف عن الدفع، ويجوز إعادة التأمين واستئنافه إذا دفعت الرسوم المتأخرة مع فوائدها. أما عقود التأمين البحري فتعد محلولة بوقوع الحرب إلا إذا كان الضرر قد سبق وقوعه، فإذا كان هذا الضرر مغطى بتأمين أخر العقد، بعد ابتداء الحرب تعد البوليصة الجديدة كأنها حلت محل البوليصة القديمة، فإذا لم يكن قد وقع ضرر قبل الحرب، فالرسوم التي دفعت تسترد , وألغي اتفاقات التأمين إلا إذا كان الغزو قد حال دون وجود المؤمن لمن يؤتيه على ما يريد , ويجوز لكل دولة من دول الحلفاء، والدول المشتركة معها أن تلغي جميع عقود التأمين المبرمة بين رعاياها وشركة تأمين ألمانية، ويجب على الشركة أن تسلم من أموالها وموجوداتها جانبًا يكون على نسبة بوالص التأمين هذه. تنشأ محكمة تحكيم مختلطة بين كل دولة من دول الحلفاء وألمانية تتألف من عضو تعينه كل من الحكومتين ورئيس يختاره مجلس جمعية الأمم إذا لم تتفق الدولتان على تعيينه، أو يعينه قبل تأليف جمعية الأمم رئيس الاتحاد السويسري الحالي، وتفصل المحكمة في جميع النزاعات المتعلقة بالعقود المبرمة قبل تاريخ معاهدة الصلح بين رعايا الحلفاء والرعايا الألمان في كل ما لا يدخل في اختصاص محاكم الحلفاء والدول المشتركة معهم، أو المحاكم عامةً. الملكية الصناعية: أعيدت الحقوق الخاصة بالملكية الصناعية والأدبية، وما يتعلق منها بالفنون الجميلة , أما الحقوق التي للألمان فعرضة لنتيجة التدابير الحربية الخاصة التي اتخذها الحلفاء , وقد حفظ حق فرض شروط وقيود على حقوق الطبع وامتيازات الحصر الألمانية للمصلحة العامة، وكذلك حق السعي في حمل ألمانية على إنجاز عهودها، ويمكن تمديد الوقت لإنجاز الإجراءات الرسمية في مسألة امتيازات الحصر، والحصول على الحقوق بموجب المعاهدات الدولية، وجميع الرخص التي كانت قبل الحرب تلغى إلا ما كان منها بين أميركا وألمانية ولكن يبقى لصاحب الرخصة حق المطالبة برخصة جديدة بشروط توضع خصيصًا، ولا تجوز المطالبة بتعويض من ضرر حدث في أثناء الحرب إلا بين الدولتين المذكورتين. الأفيون: تتعهد الدول الموقعة على هذا، والتي لم تمض معاهدة الأفيون المعقودة سنة 1912، ولا وافقت عليها بأن تنفذها الآن. * * * الفصل الحادي عشر في النقل الجوي الطيران: يكون لطيارات الحلفاء والدول المشتركة معهم حق الطيران في جو ألمانية أو النزول في أرضها، وحق استعمال ميادين الطيران الألمانية أسوةً بالطيارات الألمانية، وتعامل من حيث وسائل النقل الداخلية في ألمانية معاملة أكثر الأمم مراعاةً، وتوافق ألمانية على قبول الشهادات التي يصدرها الحلفاء بشأن جنسية الطيارات وكفاءتها للطيران،

الاستقلال ما هو

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاستقلال.. ما هو [*] الاستقلال ما الاستقلال، وما أدراك ما الاستقلال؟ الاستقلال كلمة تدور في هذه الأيام على ألسنة الشعوب والأقوام، فيظن أنها مما يشترك في فهم كنهه الخواص والعوام، وما الظن إلا من بعض الآثام. الاستقلال كلمة من كلم السياسة، وهي من أسماء الأجناس المنقسمة إلى أنواع، كالاستقلال السياسي، والاستقلال الإداري، والاستقلال الاقتصادي، وكان يظن أن إطلاق لفظ الاستقلال أو وصفه بالتام يشمل جميع أنواع هذا المسمى بحيث يكون الشعب الذي يطلبه لنفسه وتعترف به الدول حرًّا في جميع أنواع التصرف في حكومته، لا فرق بينه وبين الدول الكبرى كإنكلترة وفرنسة أو الصغرى كسويسرا والبرتغال، وقد كانت الدولة العثمانية من الدول الكبرى المعترف لها بالاستقلال التام المطلق ولكنا رأيناها عاجزة عن زيادة ضريبة المكس والجمرك على ما يرد من صادرات الممالك الأجنبية، وعاجزة عن تنفيذ قانون وضعته للمواد الكحولية، أقره مجلس الأمة وصدرت به الإرادة السنية، ذلك بأن الدول الكبرى عارضت في هذا وذاك، وما فتح للدول باب الافتيات عليها إلا تلك الامتيازات التي كان أصلها منحةً من القوي للضعيف وعطفًا عليه وتساهلاً في معاملته عملاً بهداية الشرع الإسلامي، ورأينا في أثناء هذه الحرب تصرفًا أغرب من هذا. ذلك التصرف الذي قام به دول الأحلاف في بلاد اليونان المستقلة، تم الاستقلال باعترافهم حتى أفضى إلى خلع ملكهم وإخراجه من بلادهم، وحجتهم في ذلك أنه خالف دستور البلاد وهم ضامنون له. ما كل من يلوك كلمة الاستقلال بفمه أو يرسمها بقلمه بين كلمه فهو مدرك لمعناها عند أهلها. وما كل من يدعي أنه يطلب الاستقلال لقوم فهو مخلص لهم ساع لخيرهم، بل رُب ساعٍ لاستقلال قوم في الظاهر، وهو إنما سعى لاستعبادهم، سواء كان منهم أو أجنبيًّا عنهم، من كان في شك من ذلك فليعتبر بما نقلته إلينا البرقيات والصحف عن سياسة أوربة في أثناء هذه الحرب من وضع هذه الكلمة في موضعها أو تحريفها عنه. قال رئيس الوزارة لإيطالية في خطاب ألقاه في مجلس الشيوخ عند البحث في مسألة احتلال الجرمان للبلاد الروسية، والبحث معها في الصلح على قاعدة (استقلال الشعوب كلها، وعدم الضم والغرم) ونقلته الجرائد المصرية في أوائل يناير (ك2) 1918 ما ترجمته بالعربية: (إن دولتي الوسط أعلنتا أنهما لا ينويان إزالة الاستقلال السياسي من البلاد التي احتلَّاها. فكلمة (الاستقلال السياسي) لا تنفي أي اعتداء على الاستقلال الآخر كالاستقلال الاقتصادي مثلاً ولا تضمن أيضًا عودة المملكة المستقلة إلى جميع أراضيها كاملةً. أضف إلى ما تقدم أن كلمة (استقلال الشعوب) كلمة مهمة لا تزينها الشكوك وما تضمره دول الوسط من المطامع، فإنهما تقولان أنهما لا تريدان ضمًّا بالقوة، ومفهوم ذلك أنهما تريدان ضمًّا بغير القوة، فمتى يمكن إذًا وصف الضم بالقوة؟ الجواب من ذلك أن الأمر معلق على وجود القوة وعلى شكل الخيار الذي يعرض على الشعوب الموجودة تحت نير الغازين) اهـ المراد منه. ونزيد عليه أن الوزير صرح بأن الشعب الذي يراد استفتاؤه في أمره وحكم نفسه لا يعتمد على رأيه إلا بعد سحب القوة الأجنبية المحتلة لبلاده. وكما يتلاعب السياسيون بلفظ الاستقلال تفسيرًا أو تأويلاً واستنباطًا من العوامل والنعرات والقيود التي يجرونها عليه، يتلاعبون أيضًا بما يقابله من ألفاظ الضم والفتح والحماية والرعاية والاحتلال الموقت وغير الموقت، والمساعدة. ولمَّا اقترح أحرار الروس وجوب بناء عقد الصلح على قاعدة استقلال جميع الشعوب الكبيرة والصغيرة وعدم الضم والغرامة، أي عدم ضم أي دولة بنفسها شعبًا من بلاد غيرها، ودول التحالف الجرماني يومئذ في أوج مجدها - استحسنت حكومة الولايات المتحدة وكذا دول الحلفاء هذه القاعدة، وطفقوا يتباحثون فيها. إلا أن مستر سكويث رئيس الوزارة البريطانية قال: مستر لويد جورج بين أن لضم البلاد في معجم (قاموس) السياسة أربعة معانٍ: (1) ضم بعض البلدان لتحرير الشعوب الراسفة في قيود الظلم وأغلال الاستبداد وهو أمر مشروع، وعدَّه من أغراض القتال لهم. (2) ضم البلاد التي تحتوي على أجناس فُصلت عن أصولها بإرجاع الفرع إلى أصله. (3) الضم لأجل الاحتفاظ بمواقع حربية تكون ضرورية للدفاع لا للهجوم. (4) الضم بمعنى فتح البلدان للتوسع والتبسط للسؤدد السياسي والربح الاقتصادي، وقال: إن هذا الأخير وحده لا يلقى شيئًا من التأييد في بريطانيا ولا بين الحلفاء. ونقول: إن هذا الأمر لا يعرف إلا بالنية؛ إذ لا يدعيه أحد في هذا العصر، بل كل من حاول أخذ شيء من أرض غيره يدعي حسن النية فيه ويحاول تعليقه على أحد الثلاثة الأولى من معانيه وهو ما أنكره رئيس الوزارة الإيطالية على ألمانية والنمسة فيما أشرنا إليه من خطبته آنفًا. ومتى كانت السياسة من الأمور التعبدية ومقامات الصوفية حتى يحكم فيها أو عليها بحسن النية؟ كلا! إنها تأويلات السياسة التي تجعل الحرام حلالاً، والحلال حرامًا (يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا) فمن تدبر كلام الوزيرين الايطالي والبريطاني يظهر له أنه لا ينبغي للعاقل البصير أن يغتر بظاهر كلام السياسيين إذا أطلقوا كلمة (الاستقلال) أو الحرية و (تحرير الشعوب والأمم) فيظن أنها تنافي ما يقابلها، أو يضادها من الاستعباد أو لاستعمار، أو الضم باسم الحماية، أو الرعاية، أو المساعدة الموقتة أو المطلقة، فإن المتكلم يستعمل عندهم استعمالات مجازية، ويختلف معناها حتى بما لا يمكن اطلاع أحد عليه وهو النية، فإن قيل لهم: إن الأصل في الألفاظ المطلقة أن تحمل على معانيها الحقيقية تفصوا من ذلك بصرف اللفظ عن حقيقته بالقرائن اللفظية، أوالمعنوية. فإذا طلب شعب من الشعوب من مؤتمر الصلح الاعتراف باستقلاله مع مساعدة بعض الدول له على النهوض بشؤون استقلاله، كان ذلك عندهم دليلاً على أنه يطلب استقلالاً مجازيًّا، أي: تصرفًا ناقصًا مقرونًا بمساعدة أجنبية من شأنه أن يأول إلى الاستقلال التام الحقيقي الذي هو عبارة عن نهوضه بأمر حكومته وحده على حد {أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف: 36) أي عنبًا يأول أمره إلى أن يكون خمرًا إذا هو لم يفسد فيستحيل خلاًّ. فإذًا يجب أن يقيد الطلب الذي يراد به الحقيقة بوصف الاستقلال بالتام المطلق الناجز. وبعدم شيء ينافيه ويُعد قرينة على مجازيته، وأن يصرح الشعب الطالب بأن لا يقبل أن يكون لدولة من الدول صفة رسمية لا قولية ولا فعلية ولا امتياز في بلاده، وأن يكون أمر أمته بيدها وحكمها نيابيًّا لا يعتد فيه إلا بما يقرره مجلس نوابه فيها. بهذا البيان يظهر لغير المتمرس بالسياسة ما يراه من التناقض أو التعارض في الاتفاق الفرنسي البريطاني على بلاد الشعوب العثمانية غير التركية، كبلادنا العربية المعبر عنه باتفاق سنة 1916 الذي أعلنه بباريس السير مارك سايكس باسم الحكومة الإنكليزية، والمسيو غو باسم الحكومة الفرنسية في أواخر ديسمبر (ك1) من تلك السنة ثم أعلنته الحكومتان رسميًّا في 8 نوفمبر (ت2) من السنة الماضية فقد صرح ممثل إنكلترة بباريس (بأنه لا يعقل أن يستقل الحجاز وتبقى سورية غير مستقلة، وصرح عقيبه ممثل فرنسة في خطبته بأن الدولتين متفقتان على تحرير الشعوب غير التركية من النير التركي في آسية الصغرى مهما كانت هذه الشعوب وأجناسها وتهيئتها لمستقبل أحسن من ماضيها، وللسير بها في طريق الاستقلال بالحكم وفي سبيل الحضارة مع احترام العقائد الدينية وحقوق الوطنيات، وستعمل كل من الدولتين في منطقة نفوذها، وسيكون الدور الذي تمثله فرنسة وإنكلترة دور دليل لتحسين حالة المستقبل ودور حكم بين الجماعات الدينية والجنسية والأولى مستعدة بهذا الدور في الشمال والثانية في الجنوب) اهـ. فعلم من هذا التصريح أن التحرير الذي يقولونه هو تحرير مقيد بكونه خاصًّا بإزالة سلطة الترك لا مطلق. وأن الاستقلال الذي وعدوا به عبارة عن قيادة البلاد في طريق الاستقلال، لا الاستقلال الحقيقي الناجز، ونستغني بهذا عن شرح البلاغ الذي نشر في 8 نوفمبر، والجمع بين ما فيه من تعارض بين إعطاء أهل البلاد السورية والعراقية حق الاختيار لشكل حكومتهم، وبين ضمان الدولتين للجميع قضاءً عادلاً واحدًا، ومساعدة الحكومات والمصالح الأهلية على الأمور العلمية والاقتصادية، وإزالة الخلاف والتفرق من بينهم، فإن هذا لا يكون إلا بتوليهما إدارة البلاد. هذا وإنما ذكر لفظ (الاختيار) في البلاغ لتطبيقه على قواعد الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة التي وضعها لصلح الأمم، فإنه صرح بأنه يجب استفتاء كل شعب في أمره، وأن لا تحكم بلاده إلا بما يختاره لها، وأنه ليس لدولة من الدول حق تمتاز به في بلاد غيرها بدعوى المصالح السياسية والأدبية، أو الاقتصادية، ولا بأية دعوة أخرى، وبأنه يجب تأسيس عصبة من الأمم تضمن تنفيذ شروط الصلح ودوام السلم، وحقوق الأمم المستضعفة، وتقوم بما يلزم لها من المساعدة. وقد قرأنا أخيرًا في البرقيات والجرائد الباريسية تصريحًا لرئيس الوزارة الفرنسية بأن مسألة الولايات العثمانية العربية وغيرها ستعرض على مؤتمر الصلح فيكون حكمه فيها هو الفصل، وأن وفاق سنة 1916 كان وفاقًا موقتًا والحالة الحاضرة فيه موقتة أيضًا. وقد كتب هذا الرئيس كتابًا بهذا المعنى نشر في العدد 120 من جريدة (المستقبل) التي تصدر في باريس بالعربية لخدمة الحكومة الفرنسية. بعد هذا كله نعجب لبقاء بعض السوريين مختلفين في أمر مستقبل بلادهم، وزعم بعضهم أن وفاق سنة 1916 كالقضاء الإلهي المنزل، لا يتحول ولا يتزلزل، فيجب إظهار الرضا به والسبق إلى نيل الزلفى عند الحكومة التي فوض إليها أمرهم بزعمهم، ومن مقاومة آخرين لهؤلاء بطلب تفويض أمر تنظيم البلاد إلى دولة أخرى غير الدولة التي يزعم أولئك أنها صارت أو ستصير مالكة أمرهم، وقصارى ذلك التنازع والتفاضل بين دولتين، بحجة ارتكاب أخف الضررين، وما أغنانا عن كل منهما، فكيف نتخير فيهما؟ وأعجب من هذا أن كل فريق يزعم أنه يطلب الاستقلال والخير لوطنه في الحال والاستقبال ولا شك في أن فيهم المخلصين وغير المخلصين. ويسرنا أن السواد الأعظم من أهل البلاد لا يرضى لنفسه إلا الاستقلال التام الناجز، والحرية الكاملة الناجزة لا مجرد الإطلاق من قيد سلطة ضعيفة عاجزة لتحل محلها دولة قادرة، وإنما كان بعضهم يغش أو يغلط فقيَّد رغبته بقيود يحسبها نافعةً غير ضارة، ولكن الأمر قد انكشف وظهر فلا يخفى إلا على أكمه لا يبصر القمر ‍!! وشرط صحة إقرار العلم: الاختبار. فالواجب الآن أن يكسر المقيد قيده الذي تقيد به قبل العلم بأن أمره بيده وحرية القول والكتابة في الإقرار والتوكيل والإنابة. ذلك بأن يستأنف زعماء البلاد بطريقة منظمة التوقيع على طلب الاستقلال التام المطلق، وجعل حكومة البلاد نيابيةً (ديمقراطيةً) تبني أحكامها على أساس العدل والمساواة وحفظ حقوق الفئات القليلة العدد من أهل البلاد، وأن يضمن لها ذلك جمعية الأمم لا دولة من الدول وأن يرفع ذلك بالبرق والبريد إلى مؤتمر الصلح وإلى الرئيس ولسن، وأن ينيب هؤلاء الزعماء الذين يسعون لذلك واحدًا من كل ولاية يمثلون الطوائف من الملل المختلفة، وإرسال

مدرسة دار الدعوة والإرشاد (دروس سنن الكائنات) ـ 19

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مدرسة دار الدعوة والإرشاد دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (19) المعالجة - إذا حقن [*] المصاب بالسلفرسان (Salvarsan) (وهو المسمى 606 والجديد منه يسمى 914) بمقدار20. جم إلى 30. جم انخفضت الحرارة وذهبت الحلزونيات من الدم في ظرف 7 ساعات أو 14 أو 20 ساعة على الأكثر زد على ذلك أن هذه الحقنة قد منعت حصول النكس في المصابين بنسبة 92 في المئة. وإذا لم يحقن عولجت هذه الحمى بمثل معالجة الحميات الأخرى. فيلزم المريض الفراش في غرفة متجددة الهواء نقيته، وتعطى له الأغذية السائلة. وإذا اشتدت الحرارة عولجت بالماء البارد، كما سبق في الحميات الأخرى، ومما يخفف الصداع وضع الكمادات الباردة على الرأس. وإذا كان المريض متألمًا من الكبد أو الطحال وضعت الكمادات الساخنة عليهما، وإذا عرق المريض عرقًا شديدًا وجب تنشيف جسمه في الحال، ويقاوم الهبوط الذي قد يحصل عند البحران بالتدفئة والمنبهات المنعشات. وفي أواخر الفترات بين نوب الحمى يحسن تغذية المريض بجميع الأطعمة الجيدة، وتعطى له المقويات ليتحمل نكس المرض إذا حصل. الوقاية - تكون بالنظافة التامة واتقاء القمل وغيره من الحشرات، كالقردان وإبادتها بكافة الوسائل الفعالة كليلي ونحوه. *** الإفرنجي Syphilis تكلمنا في الجزء الأول من هذا الكتاب (ص 128 - 130) على هذا المرض بشيء من الإيجاز ونريد الآن أن نفصل القول في ميكروبه وطرق تشخيصه العملية وكذلك في معالجته الحديثة. أما ميكروبه فيسمى بالإفرنجية] pallida Spirochaeta [والكلمة الأولى يونانية بمعنى (الحلزوني) والثانية لاتينية بمعنى الأكمد (الباهت) لتعسر رؤيته بالمجهر، فإنه من أدق الميكروبات الحلزونية، وقد اكتشف هذا الميكروب سنة 1905 ميلادية، وهو طويل دقيق سريع الحركة ملتوٍ على نفسه نحوًا من 6 - 14 طية وينتهي بطرفين وهدبين دقيقين جدًّا، يبلغ طوله نحوًا من 4 إلى 20 مك [1] وعرضه (35. 0) من الميكرون، وهو من نوع الحييوينات الأولى] Protozoa [. يوجد هذا الميكروب في جميع القروح الإفرنجية الأولى والثانية وفي أنواع الطفح الثانوي المختلفة، وفي غير ذلك. فتراه مثلاًً في العقد اللمفاوية القريبة من القروح أو من الطفح، وقد نجده أحيانًا في الدم وفي الطحال. أما في الطور الثالث من الإفرنجي وهو الذي كانوا يعتبرونه غير مُعدٍ فوجوده ليس بالسهولة التي في الطورين الأولين، ومع ذلك تمكن مشاهدته في محيط الأورام الصمغية، لا في وسطها غالبًا، وكذلك يشاهد في غير ذلك من الإصابات الإفرنجية الثلاثية مثل التهاب الأبهر (الأورطي) وفي قشرة المخ في مرض الشلل العام للمجانين، ويستمر وجوده بعد الطور الأول في الجسم إلى سنين عديدة، ويوجد في الإفرنجي الوراثي كثيرًا بالدم والأحشاء، كالكبد والطحال والرئتين. واعلم أن هذا الميكروب إذا تلقح به الجسم أخذ عدة ساعات حتى ينتشر فيه، ولذلك وجد بعض الباحثين [متشنيكوف Metchnikoff] أنه إذا لقح بعض أنواع القردة بالميكروب ثم دهن موضع التلقيح (بمرهم الزئبق الحلو) أمكن منع العدوى حتى بعد مضي 18 ساعة من التلقيح. والمطهرات تقتل هذا الميكروب، وكذلك الحرارة التي درجتها من 52 ستيجراد فصاعدًا، والمعالجة بالزئبق، وبـ 606، أو 914 تذهب الميكروب من الجسم، أو تقلله. أما تشخيصه - فمن أسهل طرقه أن يؤخذ جزء من إفراز القروح، ويوضع على لوح من ألواح المجهر الزجاجية، ويلون بالحبر الهندي المعتاد، ويبسط على اللوح حتى يكون طبقةً دقيقةً، فإذا جفت ونظر إليها بالمجهر رأيت الحلزونيات فيها بسهولة، هذا والداء في أطواره الثلاثة الأولى المعتادة قل أن يتعسر على الطبيب معرفته، ولكن الصعوبة في معرفته حينما ينشأ عنه في آخر أطواره فسادُ بعض الأعصاب أو الشرايين بسمه الذي يحدث فيها تلفًا أو التهابًا مزمنًا فيتسبب من ذلك أنواع من الشلل وتصلب في الشرايين، وغير ذلك من الأعراض العضالة التي يتعذر علاجها في أكثر الأحوال، وأحسن الطرق لمعرفة الداء حينئذ ببحث مصل دم المصاب، أو جزء من السائل المخي النخاعي بطريقة [وزرمان Wassermann] الألماني، وهي مبنية على بعض حقائق بكتيريولوجية يحب أن نبينها قبل وصف هذه الطريقة، فنقول: إنك إذا حقنت حيوانًا بسم ميكروب، أو بالميكروب نفسه، أو بخلايا دم، أو بغيره، أو بأي مادة أخرى زلالية تولدت في البنية [مادة مضادة Anti - body] للمادة المحقونة، ولذلك تسمى المادة المحقونة [مولدة الضد Anti - gen] فمثلاًً إذا حقنت حيوانًا بمقدار غير مميت من سم ميكروب الدفتيريا تولد في دمه شيء مضاد لسم الدفتيريا، وحماه من أذاه - كما سبق بيان ذلك - وإذا حقنت الميكروب تولد في الدم ما يذيبه ويبيده، وإذا حقنت كريات حمراء تولد فيه ما يذيبها أيضًا، وكذلك إذا حقنت خلايا أو غيرها تولد فيه ما يحلها ويذيبها [2] وهلم جرًّا، واعلم أن المادة المتولدة لا تكون مضادةً إلا لما ولدها لا لغيره، فإذا كانت المادة المحقونة دم الأرنب مثلاً كانت المادة المتولدة مضادةً له لا لدم الحصان مثلاً، ولا لميكروب ولا لغيره و [المادة المضادة Anti - body] التي تولدت لا تذيب المادة المحقونة مولدة الضد [مولدة الضد Anti - gen] إلا بمساعدة مادة أخرى تكون عادةً في دم الحيوان المحقون، وتسمى المادة [المساعدة أو المكملة Complement] ووجودها في الدم طبيعي لا حادث، فإذا سخن الدم أو مصله حتى صارت درجة حرارته 55 - 60 سنتجراد فسدت المادة المساعدة وبطل عملها، وأصبحت المادة المضادة وحدها لا تذيب المادة المولدة للضد، وتفسد المادة المساعدة أيضًا بغير التسخين كما سيأتي بيانه. إذا علمت ذلك فاعلم أن المصاب بالإفرنجي توجد في دمه مادة مضادة للمرض، وهي التي تولدت في البنية بسبب تلقحه بهذا الداء، ونحصل على هذه المادة بأخذ جزء من مصل دم المصاب، أو جزء من سائل النخاع الشوكي له، فإذا مزج هذا المصل أو هذا السائل بمادة [مولدة الضد] للإفرنجي، وبعبارة أخرى: المادة التي إذا حقنت في شخص ولدت ما يضاد الإفرنجي، أو بعبارة أصرح: مادة مشتملة على ميكروب الإفرنجي ككبد جنين امرأة مصابة بالإفرنجي مثلاً، فإذا مزج هذا المصل أو السائل المشتمل على مضاد الإفرنجي] body -[Anti بجزء من هذا الكبد المولد للضد]-gen Anti [كان لهذا المزج خاصية إفساد المادة المساعدة [Complenment] التي توجد في دم أي حيوان وإبطال عملها في الإذابة، فإذا أضيف لدم هذا الحيوان الذي أفسدنا مادته المساعدة مادة مع مادة مولدة للضد، لما أمكن لهذا الدم أن يقوم بعمله في الإذابة. ولبيان هذه الطريقة عملاً ليتمكن القارئ من فهمها، نقول: لفحص شخص يُظن أنه مصاب بالإفرنجي يؤخذ من أحد أوردته 5 - 10 سنتي مترًا مكعبًا من الدم، أو مقدار أكبر من ذلك بقليل من سائل النخاع الشوكي بالبزل القطني، ويمزج مصل هذا الدم أو السائل النخاعي بكبد جنين مصاب بالإفرنجي، ويضاف عليهما جزء من مصل دم أحد خنازير الهند، وهو مشتمل بطبيعته على تلك المادة التي سميناها [بالمادة المساعدة Complement] ويترك هذا المزيج مدة ساعة في حرارة درجتها 37 سنتجراد. هذا ونكون قد استحضرنا من قبل أرنبًا وحقناه عدة مرات بدم ثور حتى تتولد فيه مادة مضادة (مذيبة) لكريات دم الثور، وهي كما قلنا لا تذيبه إلا بوجود المادة المساعدة التي تكون معها في الحالة الطبيعية، ونأخذ دم هذا الأرنب، ونزيل منه بالتسخين المادة المساعدة - كما سبق بيانه - ليبقى عندنا دم فيه المادة المضادة فقط لدم الثور، ونضيف على دم هذا الأرنب بعدئذ ذلك المزيج المذكور سابقًا (وهو مصل الإنسان المشتبه في إصابته بالإفرنجي مع كبد الجنين مع مصل خنزير الهند المشتمل على المادة المساعدة بدل التي أضعناها بالتسخين من دم الأرنب) ونضيف إليه أيضًا جزءًا من دم الثور، ثم نسخن جميع هذا الخليط حتى تصير درجة الحرارة 37 سنتجراد، ونبقيه في هذه الحرارة ساعتين، فإذا وجد مصل الإنسان المشتبه في إصابته توجد فيه حقيقة المادة المضادة للإفرنجي لأفسدت هي ومادة كبد الجنين المادة المساعدة على الإذابة التي بدم خنزير الهند، وحينئذ لا تذوب كريات دم الثور بدم الأرنب، ويستنتج من ذلك أن الشخص الذي نفحصه مصاب بالإفرنجي، أما إذا ذابت كريات دم الثور علمنا أن هذا الإنسان ليس مصابًا بالإفرنجي، ولذلك لم يفسد مصله المادة المساعدة على الإذابة التي بدم خنزير الهند. هذه هي طريقة (وزرمان) علمًا وعملاً، وهي أهم الطرق الآن لتشخيص الإفرنجي، ويجب معرفتها على كل طبيب، ولذلك توسعنا في ذكرها هنا. وهي تنجح إذا عُملت في أثناء الطور الأول من الإفرنجي بعد 5 - 8 أسابيع من حصول العدوى، وتنجح أيضًا في الطور الثاني في 95 في المئة، وفي الثالث في 75 في المئة، وفي الإفرنجي الكامن (الذي لم تظهر أعراضه) في 50 في المئة، وكذلك تنجح في الأمهات اللاتي يلدن أطفالاً مصابين بالإفرنجي الوراثي، وهن في الظاهر سليمات منه، وذلك بنسبة 70 أو أكثر في المئة منهن. وفي الأطوار الأخيرة الإفرنجية التي ينشأ منها الشلل العام للمجانين وداء اختلال الحركة المسمى أيضًا [بسل النخاع [3] Dorsalis Tabes] تنجح هذه الطريقة في كافة الأحوال تقريبًا (أي نحو 100 في 100) سواء أعملت بمصل دم المصاب، أو بسائل النخاع الشوكي، أما في الحالات التي يصاب فيها المخ أو النخاع بالأورام الصمغية الإفرنجية فنجاحها قليل. هذا وإذا علمنا أن مصل الإنسان يشتمل بطبيعته على مادة تذيب كريات دم الغنم، وكذلك يشتمل على المادة المساعدة على الإذابة - إذا علمنا ذلك أمكننا اختصار تلك الطريقة السابقة باستعمال دم الغنم بدون الاحتياج لدم خنزير الهند ولا لدم الأرنب والثور، بل نضيف فقط لمصل الإنسان كبد جنين مصاب بالإفرنجي ودم الغنم. على أنه قد وُجد أيضًا أن كبد الجنين غير ضروري فإن مواد أخرى يمكن أن تعمل عمله كخلاصة أي كبد سليم، أو قلب، أو أحشاء، أو أنسجة أخرى وغير ذلك كثير، كمحلول الكولسترين [Cholesterin] واللسثين [Lecithin] ومن ذلك يعلم أن المادة التي نبحث عنها في مصل الإنسان ليست هي المادة المضادة للإفرنجي بالمعنى الصحيح بل هي مادة أخرى مخصوصة توجد في الدم إذا أصيب الشخص بالإفرنجي، فوجودها يدل على الإصابة، والعكس بالعكس. وإذا عولج الشخص قد تصبح طريقة (وزرمان) غير ناجحة في التشخيص، ولكن من الغريب أنه إذا حقن حينئذ بحقنة (606) تعود فتصبح ناجحةً، وذلك يدل على أنه لم يشف تمامًا من الداء، وعليه فلا يمكن الاعتراف بطهارة شخص من هذا الداء إلا إذا عملت طريقة (وزرمان) بعد هذه الحقنة التي تسمى حينئذ (الحقنة المحرضة) على نجاح الطريقة [Provocative] . المعالجة - نظرًا لتعسر تطهير البنية من هذا الداء يجب أن تكون مدة المعالجة طويلةً جدًّا وإلا لما خلص الجسم من الميكروب وسمومه , وهناك ثلاثة أنواع من الأدوية لها نفع عظيم جدًّا في هذا المرض: (1) الزئبق ومركباته و (2) يودور البوتاسيوم، و (3) بعض مركبات الزرنيخ، وأشهرها حقنة 606 و914. أما المعالجة بالزئبق واليودور فهي قديمة، ولذلك لا نريد أن نتكلم عليها هنا لأنها معروفة مشهورة، وإنما نريد أن نتكلم على معالجته الحديثة بالمركبات الزرنيخية فنقول: قد وفق العلامة أرلخ [Ehrlich] هو ومساعده هاتا [Hata] [4] سنة 1909 ميلادية إلى تركيب كيماوي زرنيخي نافع في هذا المرض، سمياه 606؛ لأنهما وفقا إليه بعد عمل تجارب عديد

ترجمة الشيخ عبد الرزاق البيطار

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ ترجمة الشيخ عبد الرزاق البيطار بقلم حفيده الشيخ محمد بهجة البيطار (عبد الرزاق بن حسن بن إبراهيم بن حسن بن محمد بن حسن البيطار الدمشقي) في عاشر ربيع الأول من سنة 1335 فجعت دمشق الشام بوفاة أكبر وأشهر علمائها وأعلامها، علامة الأقطار الأستاذ الجد سيدي الشيخ عبد الرزاق البيطار - رحمه الله ورضي عنه - ولقد كانت وفاته خسارة عظمى على المسلمين والإسلام، وإليك نبذة يسيرة من ترجمة حياته. *** مولده وتحصيله ولد المرحوم بمحلة الميدان من دمشق الشام سنة ألف ومائتين وثلاث وخمسين سنة 1253، تعلم القراءة والكتابة، ثم حفظ القرآن الكريم وجوده على الشيخ الفاضل أحمد الحلواني شيخ قراء الشام، ثم حفظ المتون في مبادئ العلوم على والده العلامة الجليل المتفنن الشيخ حسن البيطار وكان يحضر دروسه الخاصة والعامة، ثم في أول رمضان سنة 1272 توفي والده - رحمه الله - فقرأ على شقيقه الأكبر الشيخ محمد فقه أبي حنيفة النعمان، رضي الله عنه. وأخوه هذا كان أمين فتوى دمشق يوم كان مفتيها العلامة الشهير محمود أفندي حمزة، وأخذ عن شقيقه الثاني العلامة الشيخ عبد الغني علم القراءات، ثم لازم دروس العلامة المحقق الشيخ محمد الطنطاوي , فأكمل عليه العلوم العربية والشرعية، وتوسع في المعقول والمنقول، وأخذ عنه علم الميقات والفلك والحساب، ثم صحب العارف بالله تعالى الأمير عبد القادر الجزائري فقرأ عليه جملةً من كتب الحقائق، وأعظمها الفتوحات المكية. *** صحبته للأمير عبد القادر لازم فقيدنا المرحوم الأمير الملازمة التامة، وأخذ عنه الفصل بالعدل في القضايا العامة، ولقد كان يَردِ على الأمير - قدس سره - كثير من الخصومات بين الخلق، إذ كان هو المرجع للناس في دمشق، فكان يحولها إليه، ويحيل أصحابها عليه، فيكون قوله الفصل بإجراء الحكم على سنة العدل، ولقد استفاد المرحوم من أخلاق السيد وآدابه، حتى عد ثاني الأمير في حياته، وعهد إليه بتربية أولاده وتعليمهم، وكنت أسمع من أصدق أصدقاء المرحوم علامة الشام الثاني فقيد الإسلام شيخنا الشيخ جمال الدين القاسمي - رحمه الله - أن أدب الأستاذ أدب الملوك، قلت: صدق - رحمه الله - ويعرف ذلك كل من جلس إليه وسمع حسن عبارته، ورأى لطف إشارته. *** صدعه بالحق وتأثير أفكاره كان عصر المرحوم الذي تلقى فيه دروسه الشرعية عصر جمود على القديم، وتلقي الأقوال بالتسليم من دون تمحيص للصحيح من السقيم، فاستمر فقيدنا على طريقة معاصريه متأثرًا بها إلى ما بعد الخمسين، ولقد سمعته في منزله يقول لعلامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي لما كان نزيل دمشق سنة 1333، وقد جاء ذكر أحد أئمة الإسلام العظام: كنا أيام التحصيل عند شيوخنا إذا ذكر مثل هذا الإمام نظنه رجلاً خارجًا عن دائرة الإسلام. ثم ألهمه الله - تعالى - الأخذ من الكتاب والسنة، وعدم قبول رأي أحد من دون حجة، كما كان على ذلك السلف الأمة، وكما أوصى جميع الأئمة - رضي الله عنهم - بعدم الأخذ بقولهم إلا بعد معرفة دليلهم، فصار يأخذ الأحكام والدلائل، ويقبل قول الحق من أي قائل، ويصدع به ولا يخاف في الله لومة لائم. فإن كان العلم الصحيح أخذ المسائل بأدلتها - كما يقولون - فهو في بلاد الشام من أول العلماء بلا شبهة ولا مراء، لأنه أول من أخذ بالدليل وجاهد في هذا السبيل، ورفع فوق رءوس أهل الحق راية السنة والتنزيل. وكان رحمه الله - تعالى - فصيح اللهجة، قوي الحجة، غزير المادة، وكان لدى مناظريه البطل المغوار والبحر الزخار، لا يشق له غبار. وما ناظره أحد إلا واعترف له بالسبق في هذا المضمار، وكان له مع صديقه المرحوم القاسمي مساجلات علمية ومحاورات أدبية، تشف عن سعة علم وأدب جم. وكان له في المسائل القريبة أساليب في الإقناع غريبة، فمنها أن بعضهم زعم مرةً أنه يجب القيام، عند ذكر ولادة الرسول عليه الصلاة والسلام - وجوبًا بدعيًّا - تعظيمًا له صلى الله عليه وسلم وألف في ذلك رسالةً، وحملها للفقيد ليكتب له عليها تقريظًا، فاعتذر إليه، فألح عليه، وأخيرًا قال له الأستاذ المرحوم: أنت مقصودك من هذه الرسالة أنه إذا قيل ولد الرسول عليه الصلاة والسلام يجب القيام؟ قال: نعم، قال: والذي لا يقوم عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم؟ قال: يكون آثمًا لأنه ترك واجبًا، قال: أكلما قيل: ولد الرسول صلى الله عليه وسلم يجب ذلك؟ قال: نعم، فعندئذ قال له الأستاذ: ها أنا ذا قد ذكرت لك ولادته صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم لم تقم؟ فقال له: لأنه لا يوجد هنا الآن مولد، فأجابه الأستاذ: أنت إذًا تقوم تعظيمًا لما اشتمل عليه المولد لا لمن ولد! فخجل ولم يجب، ثم أرشده الأستاذ إلى أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم الحقيقي باتباعه في أقواله وأفعاله ونشر هدايته التي جاء بها عن ربه مشتملةً على سعادة خلقه. *** خَلْقُهُ وخُلُقه كان المرحوم طويل القامة جميل الطلعة والهيئة، جليل الهيئة والوقار، يكاد سنا برق جماله وجلاله يذهب بالأبصار، كلامه السحر الحلال، وأدبه ألعب بالعقول من الغيث في الحقول، أما رقة شمائله - رحمه الله تعالى - فلا أعلم له بها نظيرًا في العلماء الأعلام من بني الإسلام، ولقد كان الأستاذ القاسمي - رحمه الله - مولعًا بسمو أخلاقه، ومعجبًا بعظيم آدابه، وناهيك بذوق الجمال الذي كان معدن اللطف والظرف، وقال لي مرةً بعض الأفاضل: ليت الأستاذ يكتب لنا رسالةً في الأخلاق يستمليها من صفاته وآدابه فتكون أنفع ما كُتب في هذا الفن، ولقد قلت مرةً لأستاذنا القاسمي - رحمه الله تعالى -: إني قد عرفت كثيرًا من العلماء، وخالطتهم فلم أجد أكرم منكما أي هو والأستاذ الجد، رحمهما الله تعالى - عشرةً ولا أرق عاطفةً، ولا أخف روحًا، ولا ألطف حديثًا، مع ما رزقتما من سعة العلم والفضل، فأنا لا أريد أن أفارق مجلسكما ولو إلى النعيم، ولا أمل حديثكما ولو استمر سنين، فقال لي: لهذا السر نحن لا نأنس بغيرنا كما نأنس ببعضنا ولا نسر إذا كنا منفردين. وقال لي مرةً رب السيف والقلم الأمير محيي الدين باشا الجزائري نجل الأمير عبد القادر - رحمهما الله تعالى - ما معناه: إن للمرحوم أدبًا ممتازًا وكلامًا جذابًا أكسبه ثقة الأمراء ومحبة العظماء، ونزل من نفوسهم منزلةً رفيعةً لا يدانيه فيها أحد من العلماء. وكان - رحمه الله تعالى - يراعي في مجلسه الطبقات، ويعطي كل إنسان نصيبه من الالتفات. ومن عجيب أمره - قدس الله روحه - أنه كان يجلس إليه العالم والكاتب والشاعر والزارع والصانع، والتاجر في مجلس واحد فيتبادل الأفكار والآراء مع كل واحد منهم بعلمه، ويفيده به الفوائد الجمة حتى يخرج الكل من عنده فرحين مسرورين. وكان - رحمه الله تعالى - واسع الصدر جدًّا، كريمًا مضيافًا، يغضب للحق ولا يغضب لنفسه أبدًا، وكان يتحمل من الناس فوق ما يتحمل، ومن سعة صدره وشدة تحمله أنه مهما اشتد به الغضب لمسألة ما فلا يبدو شيء على أسارير وجهه. والحاصل أنه ليس في وسعي أن أحيط بمكارم أخلاقه، وحسبي أن أقول: إنه كان بها قدوةً، وكان مصداق قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) . *** صحبة عالم الشام له وثناؤه في درسه عليه وما كتبه عنه في حادثة سنة 24 كان أشد الناس صحبةً للمرحوم وملازمةً له صديقه الأبر الشيخ جمال الدين القاسمي، فهو صاحبه ومريده العظيم الذي كان له معه أدب الولد البار مع أبيه، قرأ عليه رسالةً في الفلك، وكان ينسخها دروسًا بخطه، ويكتب على هامشها تقرير الأستاذ بنصه، ولقد حضرت على المرحوم القاسمي مع تلاميذه دروسه في بيته وجامعه ومدرسته نحو ثلاث سنوات، فندر جدًّا أن يمر يوم يذكر لنا فيه الأستاذ المرحوم إلا ويقرر لنا فيه عظمته، أو يطرفنا بنادرة مما اتفق له معه أو مع غيره، وإذا ذكره في الدرس فيذكره دائما بلفظ شيخنا، وكان يعده عالم الشام، وأذكر أنَّا كنا مرةً نقرأ عليه في فن البيان (باب القصر) فقال في مثال قصر الصفة على الموصوف قصرًا ادعائيًّا: لا عالم إلا الشيخ عبد الرزاق البيطار، قال: مع أنه يوجد غيره ممن يسمون بالعلماء، ولكن مع حشو وجمود فلا يعتد بعلمهم. وأخبرني عم والدي المفضال شقيق المترجَم سيدي الشيخ محمد سليم البيطار بأنهم لما كانوا في مصر سنة 21 كان مفتي الديار المصرية الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - يجل الأستاذ المرحوم كثيرًا، ولا يتقدمه أبدًا، حتى ظن بعض أفاضل العلماء في مصر بأن الأستاذ الإمام قد تلقى العلم عن المرحوم أيام كان في بلاد الشام. وإليك ما كتب عنه الأستاذ القاسمي بخطه في حادثة سنة 24 التي جرت للمترجم مع بعض العلماء بشأن قبور الأنبياء والأولياء بتزوير بعض السفهاء، قال: إن الشيخ عبد الرزاق البيطار - ذاك العالم الجليل - ممن اشتهر بالإنكار على أرباب الخرافات، وممن يقاوم بلسانه وبراهينه تلك الخزعبلات، فإنه ممن لا تأخذه في إبانة الحق لومة لائم، ولا يصده عتب عاتب، ولا قومة قائم، وله صدع بالحق عجيب، وعدم محاباة ومداراة، وكل ما يروى من حكايات (المتمفقرين) فإنه يزنه بميزان العقل، فإن أباه رده جهارًا وقابل قائله بالصد إنكارًا، وطالما صرح بالسخرية ممن ينادي من يعتقد فيه العامة من الأموات، ويستشفع به في قضاء الحاجات، ويعرفهم ما قاله السلف في هذا الباب من أنه أمر ما أذن الله به، إذ أمر بدعائه وحده! فدعاء غيره مما لا يرضاه، كما صرح به في غير آية من كريم الكتاب، وقصده ترقية العامة عن نداء أحد إلا الله، وتعليق القلب بالخالق تبارك وتعالى. انتهى. *** صبره واحتسابه مر على فقيدنا المرحوم - كما مر على فطاحل الرجال وأساطين العلم والحكمة قديمًا وحديثًا - كثير من المصائب والفتن، فكان بها مثالاً للصبر والثبات، وإنما كانت تدار تلك التدابير السيئة بيد بعض المدلسين والمفسدين، ومن لا خلاق لهم من الجامدين، وإليك بعضها: اتهم بتأسيس مذهب جديد، وبتسليم سورية لنجد , ومصر للإنكليز، وذلك سنة 24 وكان مما قاله لوالي سورية إذ ذاك (هو شكري باشا , وكان رجلاً عاقلاً جدًّا) : هل سورية ومصر - يا حضرة الوالي - تُفاحتان في جيبي حتى أسلمهما؟ ثم إن كان في إمكاني أن أتصرف بهما وأسلمهما لغيري فلم لا أبقيهما لنفسي؟ ووراء ذلك فإن كان يتيسر لمثلي تسليمهما فرجل أقدر مني يسلم البلاد العثمانية كلها للأجانب، وأين الحكومة وقوتها؟ فخجل الوالي وقال: أنا أعلم أن هذه وشايات وأراجيف لا أصل لها، ولكني دعوتك عندي من أجل أن آنس بك، وأفطر هذا المساء معك وكان ذلك في رمضان سنة 24. وفتشت كتبه وداره مرات متوقعين أن يعثروا عنده على بعض أوراق سياسية أومخابرات سرية فيسجنوه أو ينفوه، ولكن طاش سهمهم فإن الأستاذ - رحمه الله - لم يشتغل بالأمور السياسية , ولم تكن كتب العلم تنزل عن يده إلا لحاجة ضرورية. *** زهده في الوظائف وبعده عنها وخدمته للعلم كان المرحوم بعيدًا عن التربع في المناصب، والاغترار بالمظهر الكاذب، ولقد عرض عليه - إذ كان في الآستانة سنة 14 - من قِبل المشيخة الإسلامية الإفتاء أو القضاء في مدينة من أمهات المدن السورية، فرفض كل وظيفة غير خدمة العلم الصحيح، ونشره في طبقات الأمة بالتعليم والإرشاد والتصنيف، ولكن تأثيره - كما قال عالم الشام جمال الدين - أكبر من أثره، كحكيم الإسلام جمال الد

الشيخ محمد كامل الرافعي ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ محمد كامل الرافعي (3) حبه للمنار وإيذاؤه فيه قلنا: إن المودة بيننا وبين الفقيد كانت موروثةً ثم قويت بما كان بيننا من المشاكلة في حب العلم والتصوف، ثم ازدادت قوةً بتصدينا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بالدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي في طرابلس الشام، حيث كان - رحمه الله وأحسن مثوبته - أقوى المدافعين والأنصار، فلما أنشأنا المنار وتصدت الحكومة الحميدية لمقاومته وإيذاء قرائه بدسائس بعض المقربين من السطان - كان هو أقوى الثابتين على الانتصار له والمجاهرين بولاء صاحبه. منعت الحكومة الحميدية إدخال المنار إلى ممالكها منذ سنته الأولى بإرادة سلطانية، فكان يرسَل في البُرُد الأجنبية ويقرأه الناس في زوايا بيوتهم سرًّا منفردين ثم يخفون نسخه في المخابئ، وكان هو وحده يقرأه على من يسمر معه في حجرة الضيوف والسمار ويحمله في جيبه إلى دار الحكومة، ويضعه في درج مكتبه لينظر فيه عند سنوح فرصة فترات العمل، فلما اشتد الضغط والإيذاء لقرائه وفتشت بيوت المتهمين بقراءته كان نصيبه من الجزاء أن حبس في دار الحكومة مع بعض إخواننا، فصبر على هذه المحنة صبر الكرام، ولم يداهن الحكومة الظالمة بقول ولا فعل. وقد سيم قبل ذلك أن يرد على المنار، أو ينكر على صاحبه مسلكه في شرح خرافات أهل الطريق ومفاسد الظلمة وتقصير العلماء فيما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأبى مصرحًا بأن هذا الذي يقوله المنار هو الحق وأنه أدى به النصيحة التي هي روح الدين وقوامه، وأوعز بمثل هذا الرد إلى كثير ممن يرون رأيه في المنار وصاحبه، ومنهم من يدعي صحبته ومودته فسمعوا وأطاعوا، وكانت جريدة طرابلس ميدانًا واسعًا لجولان أقلامهم، وكل منهم يعتذر لمثل الفقيد من إخواننا الصادقين بأنه مُكره لا مختار يخشى إيذاء رئيس زبانية الجلاوزة، وغضب المتصرف، فإن أمن شرهما في نفسه وماله وشرفه لمكانة له في بلده فلا يأمن من شر المحرك لهما من ضفاف البسفور، ومنهم من زعم أنما كُتب عن لسانه في تلك الجريدة كذب وأنه لا يجرؤ على التكذيب. وكان في جميع الأوقات والأحوال راضيًا عن جميع مباحث المنار وآرائه الدينية والأدبية والاجتماعية والسياسية مؤيدًا له فيها مناضلاً كل ما يسمعه من نقد أو اعتراض عليها، وكان يرجح ما يحققه المنار من قواعد العقائد ومشكلات الفقه ومسائل التصوف على جميع ما خالفه من أقوال المتقدمين والمتأخرين، وإن عظمت شهرتهم وضخمت ألقابهم. ولما جئت طرابلس عقب إعلان الدستور العثماني بذل منتهى طاقته واجتهاده في الحفاوة بي، وكانت مدة إقامتي في داره أضعاف مدة إقامتي في دار أمي وأبي، وكان يتفنن لي كل يوم باختيار أطايب الطعام، وأنواع الحلوى، وأصناف الفاكهة، لتجديد الرغبة فيها، وإثارة الشهوة لها، وأمن الملل من المتكرر منها، وكان فوق ذلك كله يغتنم فرص خلو المكان من الزائرين - وقلما كان يتفق ذلك إلا عند المنام وبعد صلاة الفجر - فيطرح علي مشكلات المسائل العلمية التي تعرض له في مطالعته لأشهر الكتب، وغير ذلك مما يفكر فيه من الأمور السياسية تارةً والروحية أخرى. إنني لم أعرف أحدًا من الناس أشد من هذا الرجل حرصًا على العلم، وحبًّا للحق، وإخلاصًا في القلب، وصفاءً في النفس، وبعدًا عن الهوى، وبغضًا للدعوى، وسلامةً من الشكوى، فهو على مخاللته إياي، ومكاشفته لي بكل ما يجول في ذهنه، ويعلق بقلبه لم أره في يوم من الأيام شكا إليّ بغض أحد له، أو بغضه لأحد إلا ما كان يؤلمه من غفلة الناس وإعراضهم عن الحق، وعدم قبولهم دعوة الإصلاح؛ حبًّا فيهم وحرصًا على هدايتهم. فمن كان متحليًا بهذه الصفات لا يستغرب منه الرغبة المخلصة في الاستفادة من كل من يراه أهلاً للإفادة العامة أو الخاصة، وإن كان يفضله في كل ما عدا ما يستفيده منه، فكيف يكثر منه طلب الفائدة بمنتهى الصفاء والإخلاص ممن غرس في قلبه حسن الاعتقاد فيه من أول نشأته، ولم يزل ذلك الغرس ينمى ويترعرع حتى صار شجرةً عظيمةً ثابة الأصل سامية الفرع يانعة الثمر الذي هو أحب الثمار إليه وإن كرهه من يخالفه في ذوقه ولم يتح له مثل عنقوده. كتبت هذا، وأنا في خجل من كتابته حتى كاد يصدني عنه، وما كان أشد تريثي في المضي فيه ولولا النية الصالحة في كتابته لما غلبت خجلي بقوة الإرادة التي يغلب بها الرجل كل ما يتعارض فيه الشعور النفسي والمصلحة الراجحة، وإنني لأشد خجلاً من تنفيذ شيء آخر يتعلق بترجمة هذا الرجل الكامل مما يقتضيه تاريخ الإصلاح ورجاله، وهو نشر مقال من مكتوباته إلي، وسأراجع طائفةً منها، ثم أرى هل يمنعني الخجل مما فيها من الإطراء عن نشرها أم لا. وجملة القول في الفقيد أنه لا يختلف أحد ممن يعرفه في أنه أفضل أسوة في الخير، وأكمل مثال في هذا العصر للفضيلة، فهو من شهداء الحق على الخلق، وقد حدث بفقده فراغ لا يملأه ألوف الرجال، فنسأله تعالى أن يحشرنا وإياه مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (أصل العالم) مباحث فلسفية في الجغرافية الطبيعية، صفحاته 35 بالقطع المتوسط، طبع في مطبعة الفنون الجميلة سنة 1916 على نفقة إدارة مجلة الرشديات، على ورق كورق الصحف السيارة. اسم الكتاب يدل على موضوعه وعلو كعب مؤلفه الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري في الأبحاث الفلسفية وينوه بمكانه، وسبب تأليفه أن الشيخ عبد العظيم فهمي الضرير الطالب بالجامع الأحمدي سأل المؤلف أسئلةً كانت لديه مشكلة وذلك بعد أن قرأ شيئًا من مؤلفات الأستاذ الجوهري فأجابه بما أدى إلى مباحث: 1- كروية الأرض. 2- ما وراء الطبيعة. 3- تكوين العالم. 4- مخاطبة لطالب العلم وفيها حال الإنسان الأولى. 5- الحالة الثانية. 6- الحالة الثالثة، وكلها في أصل الموجودات. *** (الولاء في نقد ذكرى أبي العلاء) صفحاته 71، طُبع في مطبعة المعاهد بمصر سنة 1335 طبعًا متقنًا على ورق جيد. وضعه الكاتب المحقق حسن أفندي حسين انتقادًا على كتاب (ذكرى أبي العلاء) للدكتور طه حسين، وذكر في المقدمة الأسباب التي حدت به إلى وضع هذا الكتاب فقال: إن منها (أن الكتاب - ذكرى أبي العلاء - خاص في موضوعه، وأن الدكتور هو الذي عني بإخراجه ودعا الجمهور لمناقشته، وأعلن أنه على استعداد للذود عن أثره) إلخ، وقد قسم النقد إلى قسمين: نقد من حيث الموضوع، ونقد من حيث اللغة، ومع التزام النزاهة قال في الخاتمة: (قد استعرنا من تعبيرات الشيخ طه أكرمها فخاطبناه باللسان الذي كان يخاطب به المنفلوطي , وجعلنا هذه الجمل بين هاتين العلامتين (-. و -.) لنحفظ له حقه في ذلك، وليعلم القارئ أنا آدب من أن نستعين بالسباب، ولكن بضاعة الشيخ طه رُدت إليه) والكتاب ثمين غني بمباحثه على قصره، جدير بمن اطلع على كتاب (ذكرى أبي العلاء) أن يطلع عليه بل ومن لم يطلع على ذلك الكتاب أن يقرأه، ويطلب من ناشره حسين أفندي مصطفى بشارع شواربي باشا رقم 3 بالقاهرة , ومن المكاتب الشهيرة بمصر. *** (تاريخ الأتراك العثمانيين) الأول والثاني والثالث طبع بمطبعة الواعظ بمصر سنة 1335 وصفحات الأول 70 والثاني 144 والثالث 80. هذا الكتاب مجموعة محاضرات حسين أفندي لبيب أستاذ التاريخ بمدرسة القضاء الشرعي بمصر نقله عن الإنكليزية، ونكتفي في تقريظه بإيراد مقدمته، وهي باختصار: (وبعد، فهذه أبحاث مستفيضة في تاريخ الأتراك العثمانيين استخرجناها من أمهات تواريخ الأوربيين، وعمدة مؤلفات المستشرقين مما لم يتيسر نشره قبل الآن بين جمهور المتعلمين، وقد عجلنا بطبعها هذه الطبعة المؤقتة استنجازًا لفائدة الطلاب والمدرسين، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها أعدنا طبعها على أسلوب جميل وورق نبيل بحرف صقيل، ثم زدناها بالتعليقات والشروح فائدةً، وأضفنا إليها ما يكون قد توفر لدينا من الفصول الشيقة والموضوعات الممتعة، وحليناها بالصور، وزدناها من الخرط. ويرى المطلع على هذه الفصول أننا عنينا بنقل وصف حضارة العثمانيين، ولم نقصر البحث على تراجم السلاطين، وذكرنا من أحوال عامتهم في السلم بقدر ما عنينا بشرح أعمال خاصتهم في السياسة والحرب، بحيث يجمع هذا الكتاب بين دفتيه صورةً كاملةً لنشأة الأمة العثمانية ونموها، وتدرجها في سبيل الارتقاء، ثم سقوطها. وقد جعلنا عملنا هذا في ثلاثة أجزاء قصرنا الأول والثاني منها على التاريخ السياسي والاجتماعي إلى القرن التاسع عشر الميلادي، وجعلنا الجزء الثالث وقفًا على تاريخ اللغة التركية وأدبائها وشعرائها، ووصف الحكومة العثمانية في سائر أدوارها، ومدينة القسطنطينية والسراي السلطانية في غابر عزها، وسالف مجدها، ثم أردفنا ذلك بوصف ما طرأ على العثمانيين في الأعصار الحديثة من الانقلابات الدستورية، والتطورات الأدبية والسياسية مما أدى بهم إلى أليم حوادث الأيام الحالية. هذا وإننا قصدنا أن لا نستقل برأي، ولم نختر الميل إلى جانب بل كنا وسطاء صدق، وسفراء حق بين مؤلفي الكتب الأوربية وقراء اللغة الشريفة العربية) . *** (الآباء والبنون) قصة تمثيلية ذات أربعة فصول صفحاتها 115 بالقطع الكبير طبعتها شركة الفنون في نيويورك سنة 1917. هذه الرواية جديرة بالاحتذاء إن لم نقل بالاقتداء؛ لأنها مثلت حالةً من حالاتنا وعادةً راسخةً فينا، وهي من وضع مخائيل أفندي نعيمة المؤلف البارع، أوضح فيها كيف يتطرق إلى البيوت الفساد من حيث يراد الإصلاح، وقد أودع في كثير من فصولها الكلم والجمل العامية - لتكون تمثيلاً حقيقيًّا، وتصويرًا شمسيًّا للأخلاق والعادات، وإنني أحب أن أسر إلى المؤلف بكلمة، وهي أن تكرار نشر الروايات والقصص باللغة الفصحى، أو الفصيحة القريبة من لغة العامة - إذ إن معظم كلم العامة فصيح خصوصًا في بلادنا السورية - بين العموم يقوّم من لغة العامة، ويقربها من الفصيح، ويسهل فهم ما يلقى إليها من المواضيع المتنوعة، فإنا كثيرًا ما نسمع الأطفال في مصر والشام يتغنون بما يسمعونه في المراسح فاهمين ما يقولون، ولأن نرفع العامية إلى مستوى الفصحى خير من أن ننزل بالفصحى إلى حضيض العامية، وأرجو منه أن يعيد الكرة على ذنب الساق على الساق للنابغة أحمد فارس الشدياق. *** (تاريخ الفلسفة) في المنطق وما بعد الطبيعة طبع الطبعة الأولى بالمطبعة المصرية سنة 1918 على ورق جيد صفحاته 228 بقطع المنار وحرف بنط 20. وضعه بالإنكليزية صديقنا محمد بك بدر العضو بالمجمع العلمي بأدنبرج، ومحرر دائرة المعارف الإسلامية بلندن، الحائز شهادة الشرف من الدرجة الأولى في الفلسفة العامة والفلسفة الإسلامية وتاريخ المذاهب الفلسفية، وتاريخ العرب في الأندلس , والتاريخ السياسي للإسلام، وتاريخ الآداب الإسلامية من جامعة بن بألمانية، وكاتم أسرار لجنة الوفد المصري، ونقله إلى العربية حسن أفندي حسين وصدره بمقدمة له. ثمنه خمسون قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (ديوان عبد الله بن الدمينة) طبع في مطبعة المنار سنة 1337 طبعًا جيدًا صفحاته 59 بقطع المنار وحروفه، مطرز الحواشي، بشرح كثير من الكلم اللغوية، مصححًا على النسخة الشنقيطية. أبرز هذا الديوان من ثنايا الكتب المدفونة، وأطلعه من أصداف الجواهر المكنونة كل من صديقنا السيد محمد الهاشمي البغدادي، وولدنا محيي الدين رضا فخدما بذلك الأدب والتاريخ؛ لأن من حاجة المتأدب أن يطلع على شعر عبد الله بن الدمينة الذي نظمه في زهو اللغة العربية، وإبان المدنية الإسلامية لا سيما وأن شعره يكاد يكون في موضوع واحد هو الغزل أو النسيب، ومن بغية وعاة تاريخ آداب اللغة العربية أن يقرءوا هذا الديوان ليتجلى لهم تطور اللغة، وليروا عيث الوراقين وعبث القصاصين ببنات قرائح الأدباء الأولين، فإن من يطلع على قصة (مجنون ليلى) وعلى هذا الديوان يرى أن كثيرًا من غرر أبياته قد نسب إلى ذلك المجنون، فمن ذلك قوله في القصيدة الأولى (أنين المحب) : أحقًّا عباد الله أن لستُ صادرًا ... ولا واردًا إلا علي رقيب وقوله منها: وهل ريبة في أن تحن نجيبة ... إلى إلفها أو أن يحن نجيب وقوله منها: وإني لا أستحييك حتى كأنما ... علي بظهر الغيب منك رقيب إلى غير ذلك مما يطول إيراده، فهل تواردت هذه المعاني على خاطرَيْ ابن الدمينة والمجنون العامري؟ أم لا مجنون بخصوصه بل مجانين الحب كثير في كل عصر وقبيل، ومنهم ابن الدمينة؟ ومما ينسب إلى ليلى في قصة المجنون قول أميمة في هذا الديوان أثناء عتاب وحوار قولها: وأنت الذي أخلفتني وعدتني ... وأشمتَّ بي من كان فيك يلوم وأبرزتني للناس ثم تركتني ... لهم غرضًا أُرمى وأنت سليم فلو أن قولاً يكلم الجسد‍! قد بدا ... بجسمي من قول الوشاة كلوم والديوان يطلب من مكتبة المنار , وثمنه 5 قروش والبريد قرش. *** (المواكب) نظرات شاعر ومصور في الأيام والليالي، طبع في مطبعة (مرآة الغرب) في نيويورك سنة 1919 طبعًا جيدًا على ورق في غاية الجودة صفحاته 48. الكتاب من مؤلفات جبران خليل جبران الشاعر الخيالي المطبوع، والمصور البارع الشهير، وهو قصيدة أبياتها 81 بيتًا من البسيط يقابل كل قطعة في الوضع ستة أبيات من قصيدة من مجزوء الرمل، لكل أربعة أبيات منها قافية، وللبيتان اللذان يليان الأربعة قافية أخرى، وفصل بينهما بصورة متقنة ترمز إلى الموضوع في ثنتي عشرة من هذه المواكب التي هي سبعة عشرة محاورةً، قد ختم القصيدة الثانية بعشرين بيتًا جعلها خاتمةً لها، لكل بيتان منها قافية. ثم إن القصيدة تنطق بلسان واعظ محنك قد خبر الأيام وعجم عود الزمان وحلب الدهر أشطره، وكلف بصرف الدهر فقام يعظ بما ينفثه من الحِكم مبينًا أسرار الحياة، والقصيدة الثانية هي رد ناشئ في ريعان الشباب ألف المعيشة الخلوية في غاب الحياة (الطبيعة) حيث السذاجة والهدوء، مصطحبًا الناي داعيًا إلى هجر ضوضاء المجتمع، والخلود إلى عيشته الراضية الهادئة البعيدة من مفاسد المدنية، وأضاليل السياسة، وخرافات المذاهب وبدعها، وهاك أنموذجًا منها، قال الشيخ الفيلسوف - المحاورة، أو القطعة الرابعة عشرة صفحة 40 في الروح: وغاية الروح على الروح قد خفيت ... فلا المظاهر تبديها ولا الصور فذا يقول هي الأرواح إن بلغت ... حب الكمال تلاشت وانقضى الخبر كأنما هي أثمار إذ نضجت ... ومرت الريح يومًا عافها الشجر وذا يقول هي الأجسام إن هجعت ... لم يبق في الروح تهويم ولا سمر كأنما هي ظل في الغدير إذا ... تعكر الماء ولت وامّحى الأثر ضل الجميع فلا الذرات في جسد ... تثوي ولا هي في الأرواح مختصر فما طوت شمال أذيال عاقلة ... إلا ومر بها الشرقي فتنتشر وقد وضع نسيب عريضة الكاتب المتقن مقدمةً لهذا المؤلف كانت كالمفتاح لمقالة الشاعر جبران خليل جبران، وما كل من قدم مقدمةً كالنسيب، وما كل كتاب كالمواكب، فإذا قلت: إن جبران خليل جبران هو معري هذا الزمان، فأرجو أن لا أكون مجازفًا. *** (الساق على الساق في ما هو الفارياق) أو أيام وشهور وأعوام في مجد العرب والأعجام، صفحاتة 422 بالقطع الوسط خلا الخاتمة وجدول بيان المترادف المتجانس، وإهداء الكتاب، طبع ثانية في مطبعة رمسيس بمصر على ورق أبيض جيد وورق عادي سنة 1919. هذا الكتاب من أشهر مؤلفات النابغة العلامة اللغوي أحمد فارس , وقد صدره بهذين البيتين: تأليف زيد وهند في زمانك ذا ... أشهى إلى الناس من تأليف سفرين ودرس ثورين قد شُدا إلى قرن ... أقنى وأنفع من تدريس حبرين وكان قد طبع في باريس سنة 1270 هـ، وجعل الفهرس في أوله، ثم صورة إهداء الكتاب، ثم التنبيه من المؤلف قال فيه بعد الحمدله: (وبعد، فإن جميع ما أودعته في هذا الكتاب فإنما هو مبني على أمرين، أحدهما (إيراد غرائب اللغة ونوادرها) إلخ، (والأمر الثاني ذكر محاسن النساء ومذامهن إلخ) وفي هذا يقول في الفاتحة: غيري من الوصاف في ذا صنفوا ... لكنهم لم يحسنوا التصنيفا إذ كان ما قالوه مبتذلاً ولم ... يتقص منهم واصف موصوفا لكن كتابي - أو أنا- بخلاف ذا ... نكفي الجفي الحسد والتعريفا لا عيب فينا غير أنك ترى ... صنوًا لنا في فننا وحريفا ثم مقدمة مفيدة لناشر الكتاب رافائيل كحلا [1] ثم فاتحة الكتاب فالكتاب الأول إلى الرابع، ثم بيان ما في الكتاب من الألفاظ المترادفة والمتجانسة وهو جدول مفيد للكاتب والحاسب والطبيب والاجتماعي والمؤلف والمترجم، أو هو زبدة ما يعني اللغوي، والأديب من هذا الكتاب , ثم (ذنب ا

عاقبة حرب المدنية الأوربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عاقبة حرب المدنية الأوربية كتبنا في أثناء هذه الحرب مقالات بينا فيها أسبابها وعللها، وحكمة الخالق فيها، وفظائعها وشرورها، والمقابلة بينها وبين الحروب الإسلامية التي امتازت بالرحمة، وبجعل الحرب ضرورةً تقدر بقدرها، وبتحريم القسوة والفظائع فيها، والمقابلة والمقارنة بين الدول المتحاربة في الاستعداد والمزايا، وصرحنا فيها بأن عاقبتها ستكون انفراد إحدى الدولتين الرئيسيتين في الحلفين الكبيرين: الجرماني والإنكليزي - وهما ألمانيا وإنكلترة - بالسيادة والعظمة في العالم وفاقًا لقول الفيلسوف هربرت سبنسر الشهير للأستاذ الإمام: إن ضعف الفضيلة وتغلُّب الأفكار المادية في أوربة سيدفعان دولها إلى حرب عامة طامة ليعلم أيها الأقوى ليسود العالم. ومما بيناه في بعض تلك المقالات أن ألمانية أتقنت الاستعداد للحرب إتقانًا يمكنها من محاربة أوربة كلها، وأنها فاقت جميع الدول في السلاح والنظام، وأن أعداءها يفوقونها بالكثرة التي تعد من أعظم أسباب الغلبة، كما قال الشاعر العربي: ولست بالأكثر منهم حصا ... ولكن العزة للكاثر وقد كان من أمر هذه المكاثرة أن إنكلترة ألبت على ألمانية أكثر دول الأرض في الشرق والغرب من العالمين القديم والجديد، وإنما كان ذلك بعلو كعبها على الألمان وغيرهم في الدهاء السياسي الذي هو أدق علوم البشر، وأصعب أعمالهم مركبًا، وأوعرها مسلكًا، وقد قلت مرةً لصاحب لي من الألمان المستشرقين كان يحاورني وأحاوره في المقارنة بين قومه وبين الإنكليز، وما بينهما من المناظرات: إنني مقتنع بأنكم فقتم الإنكليز في جميع العلوم والفنون والأعمال حتى التجارة إلا ما هو أهم من ذلك كله، وأعظم - وهو السياسة - فإنني أرى أن الإنكليز يفوقونكم فيها - , فقال: صدقت. وقد ذكرتني هذه الكلمة التي قلتها منذ بضع سنين بكلمة في معناها قلتها منذ بضع عشرة سنة في مجلس بدار أحد أصدقائنا بمصر (مات من حاضريه لطيف باشا سليم , وحسن باشا عاصم , وجرجي بك زيدان , وبقي صاحب الدار، وأحد الباشوات) قال صاحب الدار في ذلك المجلس: إنه بلغه أن ألمانية عقدت مع روسية محالفة سرية على إنكلترة، وسيترتب على هذه المحالفة إخراج الإنكليز من مصر , ومن الهند أيضًا، فقلت له: لا تغتر بهذا الخبر فإن إنكلترة كانت - ولا تزال - تضرب بعض الأمم ببعض، وتكون هي الرابحة فهي كما قال مسلم بن الوليد: كالسيل تحذف جلمودًا بجلمود. إنني لم أصدق هذا الخبر في ذلك الوقت، ثم تبين في أثناء هذه الحرب مما اكتشف من أسرار القيصرية الروسية أن له أصلاً، وأن مشروع المحالفة وضع، ثم عَرَضَ ما حال دون إتمامه! فإن كان هذا وقع بعد ذلك الزمن الذي أخبرنا فيه ذلك المخبر به فمن الجائز أن تكون مقدماته ووسائله قد سبقته بسنين، والذي نقصده من العبرة في هذه السياسة هو أن الإنكليز غلبوا ألمانية على روسية فحالفوها على الترك والفرس , ثم جعلوها باتفاقهم مع حليفتها فرنسة فديةً لهما في هذه الحرب، فكانت مصب نقمة ألمانية الحربية في ريعان قوتها وعنفوان أسرتها. وكذلك تعبث الأمم العليمة الحكيمة بالأمم الجاهلة الخرقاء، فتجعلها فديةً لها، كما فعل الحلفاء بأمم أخرى، وكما فعل الألمان بالترك. وقد كان أعجب مظاهر قدرة إنكلترة السياسية تسخير دولة الولايات المتحدة الأمريكية لإنقاذها، وإنقاذ حلفائها من جحيم الألمان العسكري بعد أن عجزت أوربة كلها، ومن ظاهرها من أمم آسية وأفريقية وأمريكة الجنوبية عن فل حدهم وإيقاف طغيان مدهم، وهي الدولة التي جعلت من قواعد سياستها ترك مشاكل العالم القديم لأهله، وعدم مشاركته في شيء منه، رقَتْها إنكلترة رُقْيتين استخرجت بهما حيَّتها من جُحرها، وزحزحتها عن قاعدة سياستها، إحداهما دعوتها إلى إنقاذ حرية الأمم والشعوب من السيطرة الألمانية التي تهدد العالم بالاستعباد، والثانية دهاء اليهود ونفوذهم المالي في تلك البلاد، وقد وعدتهم إنكلترة بأن يكون جزاؤهم إعادة ملك إسرائيل إلى مملكة سليمان في الأرض المقدسة بالرغم من أنوف العرب أصحاب البلاد، ومن الملتين الإسلامية والنصرانية، وسكت لها على هذا الوعد أشد ذوي التحمس الديني من البروتستنت والكاثوليك حتى الجزويت منهم، وأما المسلمون فلم يصدهم ذلك عن مساعدتها على فتح البلاد المقدسة بالجيوش التي جهزوها باسم شريف مكة سليل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحب الحجاز بقيادة بعض أبنائه، فهل كان باستطاعة أحد من دول الأرض أن يفعل مثل هذا، أو يفكر في إمكانه؟ لا! ولكن الإنكليز فعلوا ما لم يكن يخطر في بال بشر فاستردوا هذه البلاد وما حولها من المسلمين الذين غلبوا قلب الأسد ملك الإنكليز وسائر ملوك أوربة في الحرب الصليبية بمساعدة الجيوش الإسلامية. طوع المستر لويد جورج وزير إنكلترة الأكبر هذه الدولة بالرُّقْيتين اللتين ذُكرتا فجعلت ثروتها الكبيرة ومواردها الغزيرة، وجنودها الكثيرة وقفًا على إنقاذ الحلفاء من ألمانيا، بل هاجمت ألمانية بقوة أكبر وأعظم من كل هذه القوى: قوة الدعوة إلى الصلح المبنيّ على اتفاق الأمم والشعوب على العدل العام، والحرية الشاملة لجميع الأنام، وإبطال ما جرت عليه الدول القوية في العصور الخالية من المحالفات السرية على هضم حقوق الأمم المستضعفة، وغير ذلك من أصول الحق والعدل التي ما زال الأقوياء يهدمونها بمعاول القوة، ومنها وجوب حرية البحار، وجعل الإنكليز وغيرهم فيها سواء. قام الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة يحارب ألمانية بهذه القوة الأدبية المعززة لتلك القوى الحربية والمالية، ففاه بتلك الخطب الطنانة الرنانة، ووضع للصلح تلك القواعد الجذابة الخلابة، ففعلت في زمر الاشتراكيين والعمال الألمانيين فعل السحر، ولا سيما قاعدة حرية البحار في زمني الحرب والسلم، فخرجوا على حكومتهم السياسية، وثاروا في وجه قوتهم العسكرية وهي في أوج انتصارها وذروة فخارها: أمرت أسطولها بأن يهاجم الأسطول البريطاني، فاعتصب بحارته وأبوا الامتثال، وهدد زعماء الاشتراكيين قواد الحرب باعتصاب جميع العمال، أو يطالبوا عقد الصلح على قواعد الرئيس (ولسن) العادلة إذ هي أفضل من نصر عسكري يؤرث الأحقاد، ويورث السياسة الجائرة، وإنما أسست جمعياتهم، وتحزبت أحزابهم لمقاومتها، وقد سنحت لهم الفرصة فقالوا لا نضيعها، ولم يقنعهم القول بأن هذا خداع؛ لأن الأمريكيين غير متهمين بالكيد ولا بالأطماع، فاستمهلتهم الحكومة ريثما تسحب جيوشها وكراعها، وذخائرها من قلب فرنسة فأمهلوها، وكان ما كان من أمر طلب الهدنة، واشتراط الحلفاء فيها إضعاف جميع قوى الألمان الحربية في البر والبحر حتى لا يستطيعوا العود، فمن المنتصر؟ أميركة في الظاهر، وإنكلترة في الباطن، بل المنتصر إنما هم رجال السياسة الإنكليزية وحدهم، فهم الذين أقنعوا الولايات المتحدة بوجوب مؤازرة القضية المشتركة فسقطت على يدها ألمانية، وساعدهم على ذلك صلف الألمان وغرورهم واحتقارهم الولايات المتحدة. وهم الذين والوا شريف مكة فكان عاملاً قويًّا لسقوط الترك، وهم المتصدرون لإدارة دفة سياسة العالم بعد التمهيد لها واقتحام ما يقوم أمام هذه الإدارة من العقبات، ومن ذلك إقناع الولايات المتحدة باسم خدمة الإنسانية، وتأييد المدنية بالإشراف على تركية، والنهوض بالجمهورية الأرمنية، ويتولون هم إدارة البلاد العربية من برقة إلى العراق فعمان - ما خلا سورية الشمالية فإن إدارتها جعلت لفرنسة تنفيذًا لمعاهدة سايكس بيكو من جهة، وحتى لا تأوب فرنسة بصفة المغبون، وترضى من الغنيمة بالإياب من جهة أخرى - والبلاد الفارسية المتصلة ببلوجستان فالهند فالتبت. الإنكليز يحتلون سورية الجنوبية (فلسطين) ويعملون فيها عمل الحاكم المطلق، ويمهدون السبيل لمهاجرة الصهيونيين إليها ليكونوا حكامًا فيها تحت حمايتهم. ويحتلون العراق ويعملون فيه عمل المالك بلا معارض، وقد أسسوا للسواحل العربية الحجازية واليمنية محافظةً سموها (محافظة البحر الأحمر) وأرسلوا بعثةً إلى الإمام يحيى - ولكنها أسرت قبل الوصول إليه - وأرسلوا بعثةً أخرى إلى السيد الإدريسي للاتفاق معه، وعقدوا اتفاقًا مع حكومة إيران نشر في الجرائد فشكت منه الصحافيون ورجال السياسة، واحتجوا بأنه مخالف لعهد (عصبة الأمم) إذ كانت المسألة السورية معلقةً بأنواط تلك الوسائل المشار إليها، كما تحدث أولئك الرجال وتلك الجرائد بالمسألة المصرية، وبما للمصريين من الحق في المطالبة باستقلالهم وحريتهم، ولم تفتر تلك الشقشقة حتى تم الاتفاق على العود إلى تنفيذ معاهدة سنة 1916. وقد ظهر رجحان السياسة الإنكليزية على السياسة الفرنسية في البلاد التي كانت تظن فرنسة أن سياستها فيها أرجح لما لها فيها من الصنائع والوسائل، فقد كان طلاب المساعدة الأمريكية فالإنجليزية من أهالي البلاد أضعاف طلاب المساعدة الفرنسية، فلم يبق لفرنسة بد من اللجأ إلى إرضاء إنكلترة، والرضا منها بتنفيذ معاهدة سنة 1916 بمقابلة تصرفها المطلق في مصر وسائر بلاد العرب والعجم. جرى كل ما ذكر على طريقة السياسة الأوربية المعروفة المألوفة من تصرف الأقوياء في الضعفاء، والعلماء في الجهلاء، بعد أن ذهبت جعجعة خطب الرئيس (ولسون) في الهواء، وهو ما كنا نتوقعه من وراء هذا النصر، ونحدث به من كلمناه في عواقب الحرب، وخاصةً إخواننا العرب المغرورين من السوريين والعراقيين، ولا غرابة في غرور أطفال أغرار في مهد السياسة، والحركة العربية الحجازية في بدء ظهورها تُكبِّرها في أعينهم بعض الجرائد. فإن قال قائل: إن كتاب الله قد أثبت أن العاقبة للمتقين، وقد فسر علماؤنا التقوى بأنها عبارة عن أداء المأمورات وترك المنهيات، فهل كان الإنكليز - بهذا المعنى - هم المتقون، حتى كانت عاقبة هذه الحرب لهم بنفوذ الكلمة وعلو المنزلة، والتصرف في أرض الله الواسعة؟ نقول: إن قول الله - تعالى - لا ريب فيه، وإن كلام العلماء في تفسير التقوى صحيح ولكنه مجمل، فمن فهم منه أن المراد بفعل المأمورات: الوضوء والصلاة والصيام ولو على غير الوجه الذي شرعه الله - تعالى - وأن ترك المنهيات خاص بترك الخمر والزنا والسرقة وما أشبه ذلك - فهو قصير النظر ضعيف الفهم!! التقوى أعم من ذلك وهي تختلف باختلاف ما تطلب فيه، كما بيناه في مواضع من تفسير المنار، ونبهنا أهل العصر إلى تقصير المفسرين وغيرهم من علمائنا في بيان ما في الكتاب والسنة من الأصول الاجتماعية، ومسائل السياسة والعمران. فالتقوى المكررة في قوله - تعالى - {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} (المائدة: 93) غير التقوى في معاشرة النساء المكررة في سورة الطلاق، وغير التقوى في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المائدة: 96) فلكل مقام خصوصية هي المقصود الأول من المعنى العام، والتقوى في قوله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) غير ما ذكر كله، فالأولى والثانية في أحكام

نموذج من كتاب الفلسفة السياسية

الكاتب: غوستاف لوبون

_ نموذج من كتاب الفلسفة السياسية تأليف المؤرخ الفيلسوف غوستاف لوبون الفرنسي والترجمة لعبد الباسط أفندي فتح الله البيروني عقد المؤلف الباب الأول من كتابه هذا لبيان أغلاط قومه في الفلسفة السياسية الاستعمارية، وجعل موضوع الفصل الأول منه بيان المبادئ والقواعد التي جروا عليها في الاستعمار فقال: مبادينا الاستعمارية لا ريب في أن المنازعات الاقتصادية بين الغرب والشرق ستكون من شواغل الفكر الجدية في القرن العشرين، وستستتبع من الخراب والدم المهراق أكثر مما استتبعته حروب الأزمنة الخالية، وسيكون للمستعمرات في هذه الخصومات القائمة بين مدنية ومدنية الشأن الكبير، وإذا لم يبق اليوم من يمتري فيما لنا من المصلحة في الاحتفاظ بمستعمراتنا، فليس في وسعنا أن لا نبالي بما يتعلق بها من هذا القبيل. إن إدارة المستعمرات التي أنشأتها الأمم الأوربية تقوم على قواعد جد جلية. وإذ كانت هذه القواعد من بنات التجربة كان ينبغي أن تكون هي هي لدى الجميع، بيد أنها تختلف اختلاف الأمة عن الأخرى. قد يكون في هذا التعبير عن اختلافها شيء من المبالغة لأن طرق الاستعمار التي تسلكها الدول الأوروبية يمكن ردها إلى اثنتين، نسلك الأولى منهما نحن الإفرنسيين وحدنا، والأخرى يسلكها أعداؤنا من الأمم، وإنما تنشئ المستعمرة كل أمة لتستفيد منها وتبقى لها، أما نحن فإننا نترفع عن أمثال هذه الأفكار السخيفة، ولكن لا يبرح بالنا أن وظيفتنا هي إتحاف شعوب الأرض بمنافع المدنية، لذلك نرى أن نحكم فيهم بأوضاعنا وأفكارنا، تلك الأوضاع والأفكار التي هم - وياللأسف - مجمعون على إبائها، وإذا كنا موقنين بما لنا من الحق الصحيح فإنا نصر على العمل بمذاهبنا، وسنظل كذلك حتى يقوم لنا من الفشل المتواتر دليل قوي على أن مبادئنا الاستعمارية العظمى إن هي إلا أغلاط محزنة في كلتي جهتيها: النظرية والعملية على حد سواء. عقدت في كتابي (مدنيات الهند) فصلاً بينت فيه أصول الإدارة التي تعمل بها إنكلترة في فتح مستعمراتها وتدبير شؤونها خصوصًا الهند، وكيف أن هذه المستعمرة قد أخضعت بأموالها ورجاله نفسها، وبأي حكمة هي مسوسة، وكيف يمكن أن تذهب هذه الإمبراطورية العظيمة ذات يوم من أيدي المتغلبين عليها إذا هي حملت على مبدأ واحد من مبادئ الفلسفة السياسية الخاطئة، وإذا كنت مضطرًّا إلى الاختصار فسأقصر البحث في هذا الفصل على الآراء الرائجة في فرنسة لسياسة أدنى مستعمراتنا إلينا، وهي الجزائر , وعلى النتائج التي يؤدي إليها العمل بتلك الآراء. إن الكتابات عن الجزائر لا تعد، غير أن كتابين منها كتبهما مؤلفان مضطلعان بالأمر، فضمناهما الوسط من الآراء المقبولة، أحدهما ألفه العلامة (لوروابوليو) من أساتذة مدرسة فرنسة، والآخر ألفه موسيو (فينيون) من قدماء الأفاضل الإفرنسيين. ليس من غرضي في هذا الفصل التحقيق بالتفصيل عن نتائج استعمارنا الجزائري، ولكن أقصد إلى بيان قيمة الفلسفة السياسية التي كان - وسيكون - عليها مدار العمل في إدارة البلاد زمنًا طويلاً فيما أرى، وسيكون انتقادي للمبادئ فقط لا للرجال العاملين بها، لأن الذي يتصرف برجال الدولة هي الضرورات السياسية لا النظريات العلمية، ولما كانت الضرورات عبارة عن بنات الآراء فإلى الآراء ينبغي أن توجه المؤاخذة لا إلى المكرهين عن احتمالها، إذ ليس في استطاعة الواحد منهم أن يتولى الحكم بدونها، وأما تغييرها ففي غاية من الصعوبة؛ لأن الشعب الإفرنسي الذي هو بحسب الظاهر أدنى إلى الانقلاب من كل شعب قد يكون في الحقيقة أكثر شعوب الكون تمسكًا بالقديم. إن الجزائر تساوي فرنسة في مساحتها ولكنها قليلة السكان، يقطنها ستة ملايين من المسلمين المخلصين لأوضاعنا على رواية التقارير الرسمية، ولكن الحق الواقع أن هذا الإخلاص محتاج في تمكنه إلى جيش مؤلف من 60000 رجل أعني قدر الجيش الذي يستخدمه الإنجليز لاستبقاء طاعة 250 مليون هندي، منهم 50 مليون مسلم [1] هم أكثر مهابةً وأصعب مراسًا من أهل الجزائر إخوانهم في الدين. ثم إن بين سكان الجزائر المسلمين ثمانمائة ألف من الأوربيين نصفهم فرنسيس فقط، والنصف الآخر أسبان وطليان ومالطيون إلخ، هذه العناصر الأوربية على اختلاف أصولها لا تتزاوج مع المسلمين وإنما تتزواج فيما بينها، ولا تلبث أن يتكون منها شعب ذو أخلاق متميزة مصالحه ستكون بالطبع أدنى إلى مصالح الجزائر منها إلى مصالح أم الوطن [2] تلك التي هي بمثابة صيرفي - كما هو الظاهر حتى الآن - دأبه أن يمنح البلاد سككًا حديديةً، ومؤسسات عموميةً وعطايا مختلفةً. والمسلمون الذين هم القسم الأعظم من أهل الجزائر يحتوي سوادهم على سلالات من كل فاتح من فاتحي أفريقية، ويظهر أن جمهورهم ثلثاه من البربر والثلث الآخر من العرب، وبين الفريقين فوارق ولكنها ضئيلةً، أهمها ما به ينقسمون إلى بدو وحضر، وسترى فيما يأتي - خلافًا للرأي الشائع - دليلاً على أن كلاًّ من العرب والبربر، منهم البدو ومنهم الحضر. وأما كتاب (موسيو لوروابوليو) فيمكن تلخيصه بكلمة واحدة تعرب عن الفكرة السائدة في فرنسة بشأن الجزائر وهي: فرْنَسَة المسلمين، أي إنحالهم عادات الفرنسيس وأخلاقهم، والطريقة السياسية التي سلكت حتى الآن لفَرْنَسَة هؤلاء المسلمين، أو الاستيلاء عليهم بالفتح المعنوي تشبه مناهج الأمريكان الأولى في معاملة أولئك الحمر الجلود؛ إذ كانوا يغتصبون أرضهم التي فيها صيدهم، ثم يتركونهم يموتون كما يشاءون جوعًا، هذه هي طريقتنا الإدارية في الاكتساح على وجه التقريب، ولقد أجاد في وصفها مسيو فينبون إذ قال: لما رأت الدولة أن الولاة يصادرون قسمًا من أرض القبائل عقب كل ثورة حسبت أن العدالة تمكنها من منح أحاسن تلك الأراضي للمستعمرين بعد صد أربابها الوطنيين عنها. وكلما انتشر العنصر الأوربي كان الوطنيون يُطردون عن تراث آبائهم بحيث أمسى الكثير من القبائل بعيدًا عن الناحية التي كانت وطنًا له. وأما نتائج مثل هذه السياسة التي استمرت أكثر من ثلاثين سنةً فلا يمكن أن تكون مبهمةً: وهي أن العربي الذي رأى نفسه في رجوع مستمر لم يبق له شيء من الثقة بأن يجني ثمرة عمله، ولم يعد يفكر في إتقان حرثه ولا تحسين أرضه، والذي حُرم أرض قبيله المزدرعة ومُنع حق الانتفاع بموارد الماء، لم يعد يستطيع الصبر على المحْل وقلة القوت وموتان الماشية وانقراضها، وكل هذه الآلام والمصائب ما كانت إلا لتذكي الضغن في قلب الوطني على المستعمر وتزيد في انفراج مسافة الخلف بينهما. وأما قرار مجلس الشيوخ الذي صدر سنة 1863 وأعلن حق تمليك الأراضي للقبائل التي كانت متصرفةً فيها - فلم تكن فيه نهاية لطريقة دفع القبائل وصدها عن أراضيها، ولكنه غير اسمها وهيئتها إذ صارت تسمى اليوم باسم (الاستملاك لأجل المنافع العمومية [3] ) وتمتاز هذه الطريقة بخاصتين: إعطاء الأرض إلى المستعمر بعد سلبها من الوطني، وتكوين مناطق أوربية محضة يزاح عنها الوطني، وإن كان من المالكين، ويُقضى عليه بعد انتزاع ملكه بالفقر، نعم إن مالك الأرض الأول يعوض عن أرضه ببدل نقدي تعينه المحاكم وهو يترواح بين 50 -60 فرنكًا لكل هكتار أي أنه يبدل بثلاثين أو أربعين هكتارًا من الأرض التي كانت تؤتيه كل موارد العيش الرغد مدة حياته مقدارًا من المال (1500 - 2000) فرنك لا يكاد يقوم بأوده عامًا واحدًا أو عامين. وكان الاستعمار الرسمي أغرب أشكال التنفيذ لسلطة الحكومة القادرة على كل شيء في الجزائر، أما لو تقرأ تاريخه في الكتاب الذي اقتبست منه الشاهد المتقدم إذن لرأيت نتائج إقطاع تلك الأراضي مجانًا كل فئة من الساقطين الذين لا توازي قابليتهم لحرث الأرض إلا كفاءتهم لتعليم اللسان السانسكريتي، ولرأيت نتائج إنشاء تلك الضياع الرسمية التي صارت اليوم قاعًا صفصفًا. هذه التجربة المهلكة وما استلزمته من النفقات الباهظة لم تكن كافيةً لهداية عمالنا؛ لأن أحدهم قد طلب منذ بضع سنين خمسين مليونًا لينتزع بها من العرب أملاكًا ينشئ فيها ضياعًا مكان الضياع التي أذلها وأشقاها الخراب، ولكن دار الندوة - ولحسن الحظ - ردت اقتراحه هذا لأنه - ولا ريب - يدعو المسلمين إلى الثورة ويحتفر هوةً جديدةً تتردى فيها ملايين أم الوطن [4] . ألا وإن في عرض مثل هذا الاقتراح والبحث فيه - حتى أوشك أن يستجاب له - لدليلاً على أن الرأي الاستعماري الإفرنسي لا يزال في الدرجة السفلى من التثقيف. ولا عجب إذا كلفتنا الجزائر المبالغ الجسام بفضل أمثال هذه التجارب لأن ما أنفقناه عليها يقدر بأربعة مليارات عدا جبايتها نفسها، فهل ترانا أمَّنَّا البلاد على الأقل بهذا المقدار من الأموال المبذولة؟ إذا صدقنا بذلك فلا ينبغي أن ننسى أن علينا أن نقوم بنفقة جيش عظيم ليحفظ فيها السلام حفظًا ما. منذ فتح الجزائر تَناوَبَ سياسَتَنا الاستعمارية مبدآن كان يرجح الواحد منهما على الآخر تبعًا لحركة الرأي العام، أما إحداهما فهو انتزاع ملكية العرب ودفعهم إلى الصحراء، وأما الآخر فجعلهم (فرنسيسًا) بحملهم على أوضاعنا. غير أن العرب لم يندفعوا بما أقاموا من الحجة البالغة، وهي أن الصحراء لم يعد فيها معاش لأحد، وقبل أن يرضوا بالموت جوعًا جعل الملايين منهم يعارضون بالمقاومة، فلا هم قبلوا التفرنج، ولا هم رضوا بالاندفاع لأنه لم يوجد حتى الآن شعب تمكن من تغيير وضعه المعنوي من أجل انتحاله وضع أمة أخرى فكلتا الطريقتين ممقوتتان، والانتقال من إحداها إلى الأخرى لا يرجى منه إصلاح لهما، وبناءً على هذا فستظل سلسلة هذه التجارب المدمرة تزداد حلقةً بعد حلقة إلى أن يأتي يوم يهتدي فيه حكامنا، فيعترفون أن أبسط حل لهذه المشكلة وأقله مؤنةً وأوفره حكمةً، هو أن يتركوا للبلاد المفتتحة أوضاعها وعاداتها وشكل حياتها وعقائدها، كما تفعل الأمم المستعمِرة كلها خصوصًا الإنكليز والفلمنك. أما هذا الحل فقد يكون الآن ضربًا من المحال لأن الرأي العام ضد له بدليل ما ترى من سلوك أهل الحل والعقد فينا، وما نجد من الأفكار المنبثة في الجرائد والمؤلفات. ولما كنا نحن أهل الغرب قد أطلقنا من قيود العقائد الدينية [5] فإنا نظن الأمر كذلك في أرجاء العالم كافةً، وقليل من المؤلفين الأوربيين الذين أدركوا أن أمر الدين في الشرق فوق كل الأمور، فإن الأوضاع المدنية والسياسية والحياة الاجتماعية والقروية هي عند أتباع محمد , كما هي لدى أتباع صاوا وبوذه مرجعها إلى الشريعة الدينية، والأكل والشرب والنوم والحرث، كلها أفعال عبادة عند أهل الشرق. ولقد أدرك الإنكليز ذلك حتى إنهم رغم تصلبهم في مذهبهم البروتستانتي ليرممون في الهند معابد الوثنيين، ويجرون على كهنتها الوظائف الواسعة على حين يضنون على رسل دينهم بأدنى مساعدة، وإنك مهما تحريت لا تعثر برجل واحد تحت سماء إنكلترة يؤيد القول بأن دمار المستعمرة أولى من تعطيل مبدأ. ولقد كان ينبغي أن يكون أساس سياستنا حماية الدين الإسلامي، والاستظهار بذوات النفوذ من جمعياته الدينية، وتأييد سلطة الفقهاء عوضًا عن مناجزتها وإضعافها، إن أول (مقيم) إفرنسي في تونس كان من نوادر الحكام المضطلعين بشؤون الشرق فقد دل على مبلغه من الحصافة في السياسة؛ إذ طلب إلى باي تون

تقرير لجنة مشيخة الأزهر الشريف المؤلفة لفحص مشروع تعميم التعليم الأولي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير لجنة مشيخة الأزهر الشريف المؤلفة لفحص مشروع تعميم التعليم الأَوَّلِي [*] بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الكبير شيخ الجامع الأزهر يا صاحب الفضيلة بما لك من الحق الشرعي والرياسة الكبرى الدينية في الديار المصرية، أصدرت أمرك إلينا بتعيين لجنة منا لفحص مشروع تعميم التعليم الأولي مع تقريره الذي أصدرته لجنة وزارة المعارف العمومية المؤلفة بالأمر الوزاري في 30 مايو سنة 1917، والذي فرغت من وضعه في 25 نوفمبر سنة 1918 طالبةً أن ينفذ العمل به من أول أبريل سنة 1920 ريثما تأخذ الحكومة العدة لتنفيذه. وها نحن أولاً نتشرف برفع تقريرنا هذا إلى فضيلتكم شاملاً لما عنَّ لنا في الموضوع، والله الهادي إلى سواء السبيل: (1) اللجنة ترحب بمشروع تعميم التعليم الأولي من حيث هو تعميم لتعليم طبقات الأمة بأسرها، وتعتبره بدء خير جديد للأمة المصرية في سائر شؤونها ومصالحها الدينية والدنيوية، قال الله - تعالى -: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (الزمر: 9) . (2) خلاصة المشروع من الوجهة التي تهمنا هو أن يعمل كل مجلس مديرية في المديريات، وكل سلطة معادلة له في المحافظات على إيجاد مدارس أولية في كل مدينة وقرية تضم كل سنة عددًا من البنين والبنات الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والحادية عشرة بنسبة واحد في المائتين من مجموع السكان وذلك بأن تأخذ 4% من البنين و 2.5% من البنات حتى تكون نتيجة هذه المدارس بعد عشرين سنة تعليم 80% من مجموع البنين و50 في المائة من مجموع البنات بالقطر المصري، وذلك يعادل 10 في المائة من مجموع السكان يتلقون في تلك المدارس دراسةً مناسبةً وفق منهج خاص تضعه وزارة المعارف العمومية أو تقره، ويشمل على الأقل تعليم الديانة، والقراءة والكتابة، والحساب، وغير ذلك من المواد التي يعينها وزير المعارف العمومية (فقرة 45 و47 ومادة 1 و2) [1] . *** تأثير المشروع من الوجهة الدينية إن تعليم القرآن للأطفال، والعمل على حفظهم له في هذه السن (من سن ست سنوات إلى إحدى عشرة سنة) أمر جرت عليه الشعوب الإسلامية منذ التاريخ الإسلامي لا سيما الشعوب العربية، وخاصةً منها القطر المصري حتى قال ابن خلدون في الفصل 32 الذي كتبه في هذه الموضوع (اعلم أن تعليم الولدان للقرآن صار شعارًا من شعار الدين أخذ به أهل الملة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن، وبعض متون الحديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات) ومعلوم أن الولدان هم أبناء هذه السن التي يقضي المشروع بالاستيلاء عليهم فيها، ويكون القضاء على حفظ القرآن فيها، ولا ندري كيف غاب ذلك عن لجنة الوزارة، وهي بنفسها تقول في تقريرها المرفق بالمشروع (فقرة 59) عن المستر (لكي) في كتابه (الديمقراطية والحرية) ج2 ص62 (والقاعدة الوحيدة التي يعول عليها أن يجعل الشارعون نصب أعينهم رغبات الأمة وميولها كيفما تنوعت أشكالها، وأن يسعوا إلى تحقيقها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً) [2] . (3) بل رمى أحد الأعضاء بهذا العنوان، كما جاء في التقرير (فقرة 83) [3] إلى أبعد من ذلك حيث لفت أنظار اللجنة قائلاً: إن الإعفاء من الخدمة العسكرية لحفظ القرآن القاضي به قانون القرعة الصادر في سنة 1902 عقبة في سبيل التعليم الأولي، ونحن مع دهشتنا من هذا الحكم لبعد المسافة ما بين سن القرعة، وسن المشروع نعجب من موافقة اللجنة بإجماع عليه حتى قالت بالفقرة 87 (أن نجاح هذا المشروع أو أي مشروع آخر يرمي إلى ترقية التعليم الأولي يتوقف على إزالة هذا العائق الذي يصرف الناس عن الاهتمام بالتعليم الأولي) [4] . (4) من حيث إن المشروع يقضي باستيلاء وزارة المعارف تدريجيًّا مع الهيئات الإدارية التي تشاركها على 80 في المائة على الأقل من أبناء المسلمين من سن ست سنوات إلى إحدى عشرة سنة - فهو يقضي على المعاهد الدينية من أساسها؛ لأن ينبوع المعاهد هو تلك المكاتب الأهلية التي تقوم بتعليم القرآن الكريم وحفظه؛ ولا يمكن لقانون الأزهر والمعاهد الدينية أن يتخلى عن شرط حفظ القرآن؛ لأنه شرط ضروري لمن ينتسب للمعاهد الدينية، ويتلقى علوم الدين التي تستمد كلها من القرآن. كما يقضي ذلك المشروع أيضًا على جميع الوظائف الشرعية التي يشترط في مبدئها حفظ القرآن الكريم، وما جاء في (الفقرة 90) [5] من تقرير لجنة الوزارة (أن من يرغب من النشء في الانتظام في تلك المعاهد الدينية فلديهم متسع من الوقت بعد إتمام مقرر المدارس الأولية - أي بعد السنة الحادية عشرة إن فرض نجاحه فيها - للوصول إلى غرضهم هذا بالتعلم في مدارس إعدادية يشرف عليها رجال الدين) غير كاف في الإجابة، ولا مذلل لتلك العقبة التي يضعها المشروع في سبيل المعاهد الدينية لوجوه: (أ) المدارس الإعدادية التي تحيل عليها لجنة الوزارة هي شيء لا في عالم الوجود ولا في عالم المشروعات، فضلاً عن كون تعميمها في جميع المدن والقرى حتى تقوم بحاجة البلاد من تخريج القدر الكافي لطلاب المعاهد الدينية، ومن وجود الحفاظ بها - أمر لا يكاد يكون ممكنًا، ولا يبلغ درجة انتشار المكاتب الأهلية الحالية التي تقوم بذلك الآن. (ب) إذا فرض أن التلميذ الذي يريد الانتظام في سلك المعاهد الدينية لم يساعده الحظ، ورسب في بعض امتحاناته السنوية بتلك المدارس الأولية، ثم التحق بالمدارس الإعدادية المذكورة؛ ليتمكن من الالتحاق بالمعاهد الدينية - فكم يكون قد بلغ من السن عند الخروج منها؟ وهل يسمح له الحظ دائمًا من التمكن من تتميم الدراستين بالمدارس الأولية والمدارس الإعدادية قبل فوات السن المحدودة للدخول في المعاهد الدينية، أو يحال بينه وبينها؟ ثم إذا صح أنه تمكن من الدخول في المعاهد في آخر سنة يسوغ القانون الدخول فيها للطالب، والمعاهد الدينية أقل مدة التعليم فيها خمس عشرة سنة، فلا ينتهي الطالب من دور التعليم إلا وهو في طريق الكهولة، وهذا ما لا يرضاه رجال الإصلاح. (ج) باعتبار أن آخر سنة للتلميذ في هذه المدارس الأولية هي السنة الحادية عشرة من عمره إذا فرض نجاحه فيها، وأنه يحتاج إلى مدة أخرى يقضيها في حفظ القرآن ليتمكن من الانتظام في المعاهد الدينية - يكون المشروع قد حاف حيفًا ظاهرًا على قانون المعاهد في تضييق دائرة من ينتسبون إليها بعد أن كانت من سن عشر سنوات إلى سبع عشرة سنة (مادة 61) من قانون الأزهر، وحال بين الآباء وبين إعدادهم أبناءهم للتعلم في باكورة شبابهم بالمعاهد الدينية، وقد دل البيان الرسمي بدفاتر الانتساب بالقسم الأولي من المعاهد الدينية على أن الذين ينتسبون بالسنة الأولى يوجد بينهم عدد كبير من أبناء الإحدى عشرة سنة والاثنتي عشرة سنة. (د) إن وجود الحرية التامة التي يتمتع بها الآباء الآن في تعليم أبنائهم القرآن الكريم في هذه السن (من ستة إلى إحدى عشرة) هو الوسيلة الوحيدة في التمهيد للانتظام بالمعاهد الدينية، وبعبارة أخرى: لحياة المعاهد الدينية، والوسيلة في صيانة حفظ القرآن بين الأمة؛ لأن الحفظ بعد هذه السن يكاد يكون مستحيلاً، والمثل الشهير في ذلك عند الشعب (الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر) . (هـ) إن وجود حملة القرآن الكريم مستظهرين له أمر ضروري اقتضته الشريعة الغراء على سبيل فرض الكفاية في كل أمة لا سيما في مصر (التي تعتبر - لمركزها الديني ووجود الأزهر فيها - كعبة لسائر الشعوب الإسلامية) ليقوموا بفريضة كيفية الأداء والتجويد للقرآن، وإتقان رواياته وأحكامه، ومعرفة رسمه، وليحفظوه على الأمة، وينقلوه بطريق التواتر من جيل إلى جيل. فضلاً عن أن من خصائص أولئك الحفاظ أيضًا ما جرت به العادة في منتديات المسلمين ومجتمعاتهم العامة والخاصة من تلاوة آيات الكتاب الحكيم عند اقتضاء الظروف والعادات القومية؛ ليعظوا النفوس ويذكروا الأمة بكتابها المقدس الكريم، وما فيه من هدى وإرشاد وحث على مكارم الأخلاق، ولا يتأتى للأمة المصرية القيام بالفريضة المذكورة، والمحافظة على تلك العادة القومية الإسلامية ما لم تبق الوسيلة التي تُمكِّن الأبناء من حفظ القرآن في أول تعليمهم وعهد مرونتهم. (6) توجد بالقطر المصري أوقاف جمة مرصودة على تعليم القرآن الكريم للأطفال بطريق الحفظ له غيبًا (وتفتيش الوادي مشهور) وتقضي أوامر الشريعة الغراء باحترام شروط الواقفين، حتى قال العلماء: (شرط الواقف كنص الشارع) فلا بد من تنفيذ هذه الأوقاف على الوجه المنصوص بها، ولا يجوز بحال أن يصرف ريع تلك الأوقاف في غير هذا النوع من التسليم، والمشروع باستيلائه على 80 في المائة من البنين يقضي بتعطيل تلك الأوقاف وصرفها في غير ما رصدت له، وبعبارة أخرى: يقضي بتعطيل أوامر الشريعة الغراء في تنفيذ هذه الأوقاف في سبيلها، بل يصرف الناس عن مثل هذا العمل البار (الوقف على التعليم) الذي قام بنهضة كبرى في سبيل التعليم الأولي بمصر، وقد اعترفت لجنة الوزارة في (الفقرة 25) [6] أن أقوى البواعث على تعليم الشعب المصري إلى وقتنا هي البواعث الدينية، وإذًا يحسن بالمشروع المذكور أن يكون أساسه الذي يعتضد به هي تلك البواعث؛ ليكون أنجح له في سبيله لا أن يقاومها ويقضي عليها. وترى اللجنة أن إيجاب حفظ القرآن الكريم في تلك المدارس، وجعله أساسًا فيها (نظرًا لشدة تعلق الشعب المصري بمبادئه الدينية) هو أقرب وسيلة لترغيب الأمة في تلك المدارس التي ستعاني الحكومة في الترغيب فيها الصعوبات الجمة. (يتلى) ((يتبع بمقال تالٍ))

خلاصة معاهدة الصلح ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خلاصة معاهدة الصلح [*] (5) الفصل الثاني عشر في المواصلات الموانئ وطرق الملاحة وسكك الحديد: يطلب من ألمانية أن تمنح حرية الانتقال والنقل للأشخاص والبضائع والسفن، ومركبات سكك الحديد إلخ التي تأتي من بلاد الحلفاء، والدول المشتركة معهم، أو تذهب إليها مارةً بأرض ألمانية، وأن تعاملها كما لو كانت ألمانية صرفةً، والبضائع التي تمر بألمانية (ترنسيت) تعفى من الرسوم الجمركية، وتكون أجرة النقل معتدلةً، ولا تتوقف تسهيلات أو دفع رسوم ما على نوع الراية التي تخفق على السفن سواء كان ذلك مباشرةً أو بواسطة، ووضعت تدابير تمنع التمييز بين دولة وأخرى بمراقبة البضائع المنقولة، وكل تمييز ممنوع على الإطلاق. ويعجل في نقل البضائع الدولية، وخصوصًا ما كان منها قابل التلف، ويحافظ على المناطق الحرة في الموانئ الألمانية، وتقدم التسهيلات اللازمة لمطالب التجارة بلا تمييز في الجنسية، ولكن يسمح بفرض رسوم معينة قليلة في موانئ نهر الألب الحرة , وتحسب جميع الأنهر من مقر نهر فلتافا , وملتقى نهري مولدو , وفلتافا تحت براغ، ونهر لاودر من ملتقاه بنهر الأوبا , ونهر النيمن تحت جرودنو , والدانوب تحت الم - هذه كلها تحسب أنهرًا دوليةً هي وروافدها الواقعة ضمن هذه المنطقة، وتعامل أملاك جميع الدول وأعلامها مثل معاملة رعايا البلاد الواقعة على ضفاف تلك الأنهر وأملاكها، وسائر ما يخصها، وقد اتخذت تدابير مختلفة لتأمين التسهيلات، ودفع أجور معتدلة، والملاحة بإشراف جمعية الأمم، واللجان الدولية، وهذه اللجان تعقد في مستقبل قريب لوضع مشروعات بتنقيح المعاهدات الحاضرة التي يراد بقاؤها نافذة المفعول وقتيًّا. ويطلب من ألمانية أن تسلم جزءًا من سفنها النهرية، ورفاصاتها، والمهمات الأخرى بعد ثلاثة أشهر من إعلانها بذلك. أما من جهة الدانوب فإن اللجنة القديمة تعاد إليها السلطة التي كانت لها قبل الحرب، ولكن لا تُمثل فيها إلا بريطانية العظمى وفرنسة وإيطالية ورومانية، وأما المنطقة الخارجية من اختصاص اللجنة فتعين لها لجنة دولية لإدارة أمور الدانوب لا على كله إلى أن يُتوصل إلى تسوية المسائل تسويةً نهائيةً، ونص على حفر قنال بين الدانوب والراين إذا قر الرأي على حفرها في مدة 25 سنة، ووضعت مواد خاصة بنهري الراين والموزل وتبقى معاهدة 1868 نافذة المفعول إجمالاً مع بعض تعديلات مهمة، ويكون مقر اللجنة المركزية ستراسبرج , وتعين فرنسة رئيسها، ولما كانت هولندة من جملة الدول الموقعة لهذه المعاهدة فإن التعديلات المشار إليها تعرض عليها، وتسلم ألمانية إلى فرنسة بعد ثلاثة أشهر جزءًا من رفاصات موانئ الراين وسفنها، أو أسهمًا من أسهم شركات الملاحة فيه وكذلك جزءًا من الأبنية والرفاصات، وما أشبه ذلك مما كان للألمان في ميناء روتردام في 1 أغسطس سنة 1914، أو أسهمًا من أسهم شركاتها فيه، ويكون لفرنسة الحق التام على حدودها في استخدام ماء الراين للترع، وما شاكل ذلك، وعمل الأعمال اللازمة لاستخدام مائه في إدارة حركة الآلات بشرط أن تدفع مالاً معينًا، وبشرط موافقة اللجنة. وتتكفل ألمانية بأن لا تحفر ترعًا على ضفة النهر اليمنى المناوحة للحدود الفرنسوية، وبأن تمنح فرنسة بعض الامتيازات على ضفته اليمنى لبناء بعض المباني الهندسية مقابل دفع تعويض، ويجوز لسويسرة مثل هذا في أعالي النهر، وإذا استقر رأي البلجيك في خلال 25 سنة على حفر ترعة بين الراين والموزل، وجب على الحكومة الألمانية أن تحفر ما وقع منها في أرضها طبقًا للتصميمات التي تضعها الحكومة البلجيكية، وتوزع النفقة على الحكومات المختلفة المختصة، ولا يجوز لألمانية أن تعارض اللجنة فيما إذا شاءت أن توسع دائرة اختصاصها بحيث تشمل نهر الموزل الأسفل بموافقة حكومة لكسومبرج والراين الأعلى بموافقة حكومة سويسرة والترع الجانبية التي يراد حفرها لتحسين الملاحة , ويجب على الحكومة الألمانية أن تؤجر جمهوية التشك , والسلوفاك مدة 99 سنة أماكن في مينائي همبرج وستتن تكون مناطق حرة. سكك الحديد: نصت المواد الخاصة بسكك الحديد على أن البضائع التي ترسل بين بلدان الحلفاء وألمانية، أو بطريق ألمانية لها الحق في أعظم المراعاة، وبحثت في بعض رسوم سكك الحديد، فقالت: إنه إذا وضع اتفاق جديد لسكك الحديد بدلاً من اتفاق برن المعقود سنة 1890 وجب على ألمانية أن تعمل به، وقبل وضعه تعمل باتفاق برن، وتشترك في تسيير قُطُرات للركاب والبضائع بين بلاد الحلفاء بطريقها وبشروط موافقة، وتسيير قُطُرات للمهاجرين أيضًا، وتجهز مركبات سكك الحديد بآلات تمكنها من الاندماج في قُطُرات البضائع التي للحلفاء من غير تغيير لنظام السبنسات، ويفعل الحلفاء مثلها، ونصت أيضًا على تسليم أنظمة الخطوط في الأراضي المنتقلة، وتسليم مقدار معتدل من المركبات لاستعمالها فيها، ويعهد إلى لجان خاصة في تشغيل الخطوط التي تصل ما بين قسمين من بلاد واحدة , وتجتاز في طريقها بلادًا أخرى , أو الخطوط الفرعية التي تمر من بلاد إلى أخرى، وإذا لم تكن هناك اتفاقات خاصة، فعلى ألمانية أن تسمح بممثل هذه الخطوط، أو إصلاحها حسب الاقتضاء لتكون هناك خطوط منتظمة بين بلد من بلاد الحلفاء وآخر، هذا إذا طلب ذلك منها في خلال 25 سنة بموافقة جمعية الأمم. والدول المتحالفة تدفع النفقات. توافق ألمانية بطلب حكومة سويسرة والحكومة الإيطالية على نقض معاهدة 1909 الخاصة بطريق نفق سان غوتر، ويوضع بدلاً منها اتفاق وقتي تنفذ ألمانية بموجبه تعليمات تصدر باسم الحلفاء من حيث نقل الجنود والمهمات والذخيرة، وما أشبه ذلك، ونقل المؤنة إلى بعض الجهات، وإعادة وسائط النقل العادية، وخطوط البوستة، والتلغراف. توافق ألمانية على الانتظام في كل اتفاق عام يعقد على أمور النقل وطرق الملاحة والمواني، وسكك الحديد الدولية بموافقة جمعية الأمم في مدة خمس سنوات من عقده، ويعهد في تسوية كل خلاف إلى جمعية الأمم، أما بعض المواد الخاصة، كالمواد التي تنص على المعاملة المتساوية في مسائل مرور البضائع ونقلها، فهي عرضةً لتنقيح جمعية الأمم لها في خلال خمس سنوات، وإذا لم تنقح فإنما تنفذ على كل دولة من الدول المتحالفة التي تسمح بمعاملة متبادلة. قنال كيال: تكون قنال كيال حرةً ومفتوحةً أمام البوارج والبواخر التي لجميع الأمم إذا كانت في حالة سلم مع ألمانية، وتعامل رعايا جميع البلدان وبضائعها وسفنها بالمساواة من حيث استخدام القنال، ولا تؤخذ رسوم ما إلا الرسوم اللازمة لحفظ القنال وإصلاحها، ويعهد في هذا إلى ألمانية، وإذا نقضت هذه الشروط، أو جرى خلاف عليها فللدول المختصة أن ترفع المسألة إلى جمعية الأمم، وتطلب تعيين لجنة مختلطة. *** الفصل الثالث عشر في العمل والعمال الاتفاق الخاص بالعمل والعمال: ينص هذا الاتفاق (أولاً) على عقد مؤتمر دولي كل سنة لعرض إصلاحات في أمر العمل والعمال توافق عليها الدول التي تتألف جمعية الأمم منها، و (ثانيًا) على إنشاء هيئة إدارة تنفيذية تعد مذكرات للمؤتمر وإنشاء مكتب دولي للعمال لجمع المعلومات والتقارير وتوزيعها، ويكون رئيس هذا المكتب مسئولاً أمام الهيئة الإدارية، و (ثالثًا) على أن يكون المؤتمر السنوي مؤلفًا من أربعة مندوبين عن كل حكومة: اثنين عن الحكومة نفسها، وواحد من أرباب الأعمال، وواحد عن العمال، ولكل مندوب أن يعطي صوته مستقلاًّ، وللمؤتمر أن يوافق بأكثرية ثلثي أعضائه على الاقتراحات أو صور الاتفاقات الخاصة بمسائل العمل والعمال، ومتى تمت الموافقة عليها تعرضها الحكومات صاحبة الشأن على الدوائر المختصة لسن قوانين بها، أو ما أشبه ذلك، فإذا وافقت عليها هذه الدوائر المختصة وجب على الحكومات صاحبة الشأن أن توقعها وتنفذها، فإذا أهملت حكومة من الحكومات هذه الواجبات فللهيئة الإدارية المذكورة أن تعين لجنة تحقيق تحكم بما ترى، ولجمعية الأمم المتحدة أن تتخذ تدابير اقتصادية ضد الدولة المخالفة , و (رابعًا) على اتخاذ تدابير خاصة لمنع كل خلاف يقع مع دستور الولايات المتحدة أو غيرها من الدول التي في حكمها، و (خامسًا) على البلاد التي هواؤها وأحوالها الصناعية المتأخرة، وغير ذلك من أحوالها الخاصة تجعل أحوال العمل والعمال فيها مختلفةً اختلافًا جوهريًّا عن أحوال غيرها، وعلى المؤتمر في أحوال مثل هذه أن يراعي هذا الاختلاف عند وضع أي معاهدة، وقد ألحق بهذا الاتفاق بروتوكول بأن يعقد الاجتماع الأول في واشنطن في السنة الجارية، وبتعيين لجنة دولية لهذا الغرض، وفيه أيضًا جدول للبحث في موضوعات الاجتماع الأول، ومن جملتها مبدأ جعل ساعات العمل ثمانيًا في اليوم، ومسألة العمال العاطلين، واستخدام النساء والأولاد في الصناعات الخطرة خصوصًا. وألحق بالجزء الخاص باتفاق العمال عهد من الدول الموقعة على هذه المعاهدة بشأن تنظيم أحوال العمل، ومبادئه التي يجب على جميع البلدان الصناعية أن تسعى في تطبيقها عليها بقدر ما تسمح به ظروفها الخاصة بها، وبين هذه: أن لا يحسب العمال مجرد سلعة. حث أصحاب الأعمال والعمال في الاتحاد على كل علم مشروع. أن يُدفع إلى العمال أجور توافق أحوال المعيشة في زمانهم ومكانهم. جعل ساعات العمل ثمانيًا في اليوم، أو ثمانيًا وأربعين في الأسبوع حيث لم يعمل بذلك حتى الآن، جعل ساعات الراحة في الأسبوع أربعًا وعشرين على القليل، وفي جملتها الأحد، حيث يمكن ذلك. إلغاء تشغيل الأولاد، وحصر تشغيل الأحداث بحيث يسمح لهم بالاستمرار على الدرس والرياضة اللازمة. جعل أجرة الرجال والنساء متساويةً حيث العمل متساوٍ. أن يراعى في شروط العمل القانونية في كل بلاد معاملة جميع العمال الذين فيها معاملةً اقتصاديةً عادلةً. أن تضع كل بلاد نظامًا للتفتيش يقصد به حماية العمال، وتشترك النساء فيه. *** الفصل الرابع عشر الضمانات غرب أوربة: ضمانًا لتنفيذ المعاهدة تحتل جنود الحلفاء والدول المشاركة لهم البلاد الألمانية الواقعة غربي نهر الراين ورؤوس الكباري، مدة خمس عشرة سنة، فإذا نفذت ألمانية شروط الصلح بصدق وإخلاص انجلت جنود الحلفاء عن بعض البقاع، وفي جملتها رأس الكبري الذي عند كولونيا، وبعد مضي خمس سنوات تنجلي عن بقاع أخرى، ومن ضمنها رأس الكبري في كيلنز بعد عشر سنوات، وعن الباقي - وفي جملته رأس الكبري عند ماينز - بعد 15 سنة، وإذا رأت لجنة التعويض الدولية أن ألمانية قصرت في إنجاز عهودها كلها أو بعضها مدة الاحتلال، أو بعد مضي الخمس عشرة سنة - عادت جنود الحلفاء فاحتلت حالاً تلك البقاع كلها أو بعضها، وإذا أنجزت ألمانية جميع عهودها الخاصة بالمعاهدة الحالية قبل مضي الخمس عشرة سنة، فإن الجنود المحتلة تجلو عن أرضها حالاً. شرق أوربة: وكذلك تعود جميع الجنود الألمانية الموجودة الآن شرقي الحدود الجديدة حالما يرى الحلفاء أن الساعة ملائمة لذلك , ويجب عليها أن تمتنع عن كل مصادرة، وما أشبهها، وأن لا تتعرض لتدبير من التدابير الدفاعية التي تتخذها الحكومات الوقتية المختصة. احتلال الأراضي: كل مسألة خاصة باحتلال الأراضي لا تنص عليها هذه المعاهدة تسوى بموجب معاهدات تعقد فيما بعد، ويكون لها مفعول هذه المعاهدة وتأثيرها.

الرحلة السورية الثانية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (1) تمهيد هاجر صاحب هذه المجلة من الديار السورية إلى الديار المصرية في شهر رجب سنة 1315 عقب انتهائه من طلب العلم في طرابلس الشام , وأخذه شهادة التدريس (العالمية) لأجل القيام بعمل إصلاحي للإسلام والشرق، لا مجال له في بلد إسلامي عربي غير مصر، والاستعانة عليه بصحبة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) والاقتباس من علمه وحكمته، والوقوف على نتائج اختباره وسياحته وعمله مع حكيم الشرق وموقظه من رقدته (السيد جمال الدين الأفغاني) قدس الله روحهما. وكنت قبل ذلك أمني نفسي بالالتحاق بالسيد الحكيم ولزامه ومرافقته في ترحاله وإقامته، فلما توفاه الله - تعالى - إليه نَضَيت عني رداء التمني والتواني، وقلت: لئن فاتني لقاء المعلم الأول فلن يفوتني لقاء الثاني [1] ، وأنشأت (المنار) في أواخر تلك السنة، ولم أكن أنوي أن أشتغل بالسياسة، ولا بالإصلاح من طريقها، بل بالإصلاح الفكري والنفسي والاجتماعي، ولكن السياسة السوءى عدوة الإصلاح ترى بقاءها بفقده، وحياتها بموته، فهي لا تترك القائم به إذا هو تركها، وقد كان دعاني عبد القادر أفندي القباني صاحب جريدة (ثمرات الفنون) إذ كاشفته في بيروت بعزمي على السفر إلى مصر وإنشاء صحيفة إصلاحية فيها - إلى رياسة التحرير لجريدته، فقلت له: ليس في البلاد حرية تمكنني من ذلك، قال: اترك الطعن في السلطان، واكتب في الأخلاق والآداب ما تشاء، فلا تجد مانعًا ولا معارضًا، قلت: أرأيت إذا بحثت في الكذب الذي هو شر الشرور على الإطلاق، وبينت أن أكبر أسباب فشوه وانتشاره هو الاستبداد المانع من قول الصدق، والمعاقب على التزام الحق، أيمكنني أن أنشر هذا في الجريدة، وأكون آمنًا من عقاب الحكومة؟ قال: كلا، إن أمثال هذه المباحث لا يمكن نشرها في غير مصر! فعجل بالسفر ولا تخبر بعزمك أحدًا لئلا يصل الخبر إلى الوالي فيمنعك منه. صادرت حكومة سورية العدد الثاني من المنار بعد توزيعه، لمقالة فيه عنوانها (القول الفصل في سعادة الأمة) ليس فيها ذكر لحكومتها ولا لغيرها من الحكومات بسوء، ثم صدرت إرادة السلطان عبد الحميد بمنع المنار من دخول مملكته في الشهر السادس من عمره، وتلا ذلك اضطهاد والدي وإخوتي لأجلي بعد خيبة سعي السياسة لإخراجي من مصر، وعرض ما أحب من المناصب والوظائف العلمية أو غيرها في ديار الشام أو غيرها، وبذلك حرمت من زيارة وطني إلى أن أعلن الدستور سنة 1327 فزرته عقب إعلانه إذ كانت البلاد ترقص به طربًا، والناس يحتفلون فيها لإظهار سرورهم بالخطب والأناشيد، ويحتفون بمن يعود إليهم من المهاجرين المجاهدين، والأحرار المنفيين وأشباه المنفيين، ويتحاورون ويتناجون بما يجول في خواطرهم من الأماني والآمال، وما يرجون من كبار الأعمال، ويقدسون جمعية الاتحاد والترقي، ويطرون من عرفوا أسماءهم من زعمائها، ويكرمون كل من لقوا من أعضائها. قد علم قراء المنار في ذلك العهد أنني كنت بإعلان الدستور مسرورًا لا مغرورًا، وراجيًا خائفًا، لا راجيًا متمنيًا، ولكنني رأيت الناس في البلاد العثمانية سكارى من تأثير ذلك الانقلاب، أكثرهم يحسب أن البلاد سعدت سعادةً لا شقاء بعدها وأقلهم منزعج ممتعض لما فاته من المال والجاه في ظل الحكومة الحميدية، وهم أعوان تلك الحكومة وجواسيسها، وقد أشرت إلى أسباب خوفي ومثاراته في أول مقالة كتبتها في الترحيب بالانقلاب، وأهمها توقع استبداد رجال الثورة من الاتحاديين، وقيامهم بالعصبية الجنسية، ودعوى (الحاكمية التركية) والغلو في الحرية. لذلك كانت نصيحتي لأهالي بلادي السورية التي أبثها في الأندية والسمار وأوادعها أكثر الخطب السياسية والأدبية - هي تذكيرهم بما يجب من العناية بالعلم واللغة العربية والتهذيب والثروة؛ ليكونوا أحياءً أعزاءً بأنفسهم، وعضوًا رئيسًا في بنية دولتهم، وقد رجوت أن أجد ثلةً من الشبان المفكرين، والكهول المحنكين أولي عزيمة وشكيمة، وأخلاق قوية، ينهضون بذلك متعاونين، فلم أجد عند أحد أملاً في العمل للأمة من طريق الأمة، بل وجدت الأعناق كلها متلعةً إلى الحكومة، والآمال كلها موجهةً ومحصورةً فيها، فحزنت حزنًا شديدًا، ونبهت الجمهور إلى غرورهم بالحرية الموهومة والسعادة التي يتمنونها من إعلان الدستور في مجالس كثيرة، كان أوضحها وأظهرها خطبة ألقيتها في نادي الجمعية العثمانية في بيروت في احتفال كبير دعيت إليه، عرَّضت فيها بتلك الاحتفالات العظيمة بالحرية، وشبهتهم فيها (بعاشق أم عمرو) إذ هام صبابةً بها، وهو لم يرها ولا شاهد شيئًا من محاسنها، وإنما سمع رجلاً ينشد في الطريق: يا أم عمرو جزاك الله مكرمةً ... ردي علي فؤادي أينما كانا فاستنبط من هذا البيت أن أم عمرو أجمل النساء، وأجدرهن بأن تعشق فعشقها، ثم لم يلبث أن أخذه من الحزن والجزع لفراقها بقدر ما أصابه من الشغف، والصبابة بها، لبيت آخر من الشعر سمعه من رجل آخر مار في الطريق فاستنبط أنها ماتت، وهو: لقد ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار هكذا صرخت بأولئك الجماهير إنني أخشى أن تكونوا رقصتم طربًا وهمتم سرورًا بحرية متخيلة موهومة، وأن ينتهي الأمر بيأسكم منها وبكائكم عليها قبل أن تروها وتتمتعوا بما ترجون من السعادة بها، وهكذا كان، ووقع ما كان عندي ولم يكن عند الجمهور في الحسبان، ولم يحل الحول على تلك الحرية الاتحادية، وتقديس جميع الشعوب العثمانية لرجال جمعية الاتحاد والترقي، حتى نجم في الجمعية قرنا الاستبداد والعصبية التركية، فنطحت بهما الحرية والدستور وآمال الشعوب العثمانية فيهما حتى قضت عليهما فلم يبق لهما في البلاد العثمانية عين ولا أثر، وما انقطعت آمال هذه الشعوب من الدولة التي دانوا لسلطانها عدة قرون إلا وتجددت لهم آمال أخرى في حياة الاستقلال القومي، بل صاروا يفضلون الزوال على الخنوع لاستبداد هذه الجمعية المغرورة المتهورة المتكبرة. كانت الدولة العثمانية في القرون الأخيرة، التي قويت فيها دول أوربة واعتزت وتواطأت على استعباد الشعوب الآسيوية والأفريقية - هي الدولة الإسلامية الوحيدة المعترف لها بالحقوق الدولية معهم، لذلك كان حرص المسلمين على بقائها وإعلاء شأنها عظيمًا جدًّا، وكان تعلق الشعوب الإسلامية بها أكبر قوةً لها في نظر دول أوربة بما كانت تتقي إيقاظ شعورهم السياسي بما يوحيه إليهم من الوحدة والاستقلال، ولم تكن لهذه الدولة هذه القيمة إلا بكون بلاد العرب التي هي مهد الإسلام وموطن نشأته الدينية والمدنية جزءًا طبيعيًّا منها، ولكن الاتحاديين المستكبرين احتقروا العرب وبلادهم ودينهم، فلم يرقبوا فيهم إلاًّ ولا ذمةً، ولا دينًا ولا حرمةً، فاضطهدوهم وأذلوهم، وحاولوا إبطال لغتهم التي هي لغة كتاب الله ودينه استغناءً عنها، ومحاولةً لنسخها باللغة التي جعلوها لغة (حاكميتهم الملية) وجعل بلادهم الخصبة كسورية والعراق تركيةً محضةً، وجزيرتهم مستعمرةً للترك يتصرفون فيها تصرف المالك في عقاره، والسيد في عبيده وإمائه. فلما رأيت هذه السياسة الاتحادية السوءى رحلت إلى الآستانة دار الملك ساعيًا لتلافي خطرها، وإيقاف ما كاد يستشري من ضررها، قبل أن يتسع الخرق على الراقع، فمكثت في دار الملك سنةً كاملةً أطَّلع طلع القوم بمحاورة زعمائهم ووزرائهم، ومذاكرة علمائهم وعقلائهم، وما عدت من تلك العاصمة إلا وأنا موقن بأن هذه الجمعية ستقضي على هذه الدولة، وأن اضطهادها بسلطة الحكومة للعرب سيعيد إليهم عصبيتهم الجنسية التي فقدوها في بلاد حضارتهم كسورية والعراق، وعولت على السعي لجعل القاعدة التي يرفع عليها بناء النهضة العربية هي العلم والثروة والوحدة؛ حتى لا تتوقف حياتهم على حياة الدولة، ولا يموتوا بموتها، مع الحذر من أن يكونوا - باختيارهم - سببًا من أسباب سقوطها، والاجتهاد في موالاة الشعب التركي، والتعاون معه على مكافحة النزعات الإلحادية والنزعات المادية، وقد أسس في أثناء إقامتنا في الآستانة (المنتدى الأدبي) لجمع كلمة شبان العرب المشتغلين بتلقي العلوم والفنون في مدارسها، والتعاون على طلب العلم والتعارف، والتآلف في سبيل الارتقاء. بعد العودة من الآستانة بأشهر رحلت إلى (الهند) فمسقط فالكويت فالبصرة فبغداد فسورية، واتفق بعد وصولي إلى سورية أن ظفر حزب الحرية والائتلاف في الآستانة بحزب جمعية الاتحاد والترقي في مجلس المبعوثين، وما كان الفلج لهذا الحزب إلا بتألفه من أحرار العرب ومنصفي الترك، وكانا حزبين فاتحدا وصارا حزبًا واحدًا، فرأيت السواد الأعظم من السوريين فرحين مغبوطين بخذلان الاتحاديين بقدر ما رأيت قبل ثلاث سنين من اغتباطهم وافتخارهم بالانتماء إليهم، وانتمى الأكثرون منهم إلى الائتلافيين خصومهم، وخفتت أصوات من بقي من أتباعهم، فكان الألوف من الناس يجتمعون في الأندية والمحافل يتبارون في إلقاء الخطب والقصائد في الطعن فيهم والتشفي منهم، بعد أن كانت تلقى في الفخر بهم والثناء عليهم، وابتغاء الزلفى عندهم والوسيلة إليهم. ثم أديل لهم من خصومهم الائتلافيين في عاصمة الملك، فنكلوا بهم شر تنكيل ولم ينج من زعماء هؤلاء الخصوم إلا من فر متنكرًا إلى أوربة أو مصر (ومنهم أميرالألاي صادق بك , والأستاذ حسن صبري أفندي ورشيد بك ناظر الداخلية) وكان ذلك كله في أثناء حرب البلقان التي انكسرت فيها الدولة العثمانية حتى كادت دولة البلغار الجديدة تأخذ القسطنطينية منها عنوةً، ولولا ما أصاب الدولة منها من الضعف والوهن، وما كان في أثنائها من سحب قواها العسكرية من الولايات العربية - لانتقم الاتحاديون ممن أظهروا لهم العداوة في البلاد العربية، ولا سيما الذين ألفوا الجمعيات الوطنية، كما انتقموا من أعدائهم في العاصمة، ولكنهم لضعفهم أسروا الكيد وكظموا الغيظ والضغن، وأظهروا الميل إلى الإصلاح، والجنوح إلى الصلح، وكان من أمرهم في إبان انعقاد المؤتمر السوري في باريس ما هو معروف، وفي استمالة طالب بك النقيب بعد محاولة اغتياله أن توسلوا به إلى الاتفاق بينهم، وبين الأمير ابن سعود. وقبل الانتهاء من تمثيل دور الاتفاق بينهم وبين ممثلي الحركة السياسية من العرب في العاصمة (وفي مقدمتهم أصدق أخلائنا، وأشعري سياستنا: السيد الزهراوي , ويافعة شبابنا: عبد الكريم الخليلي) اشتعلت نار الحرب الأوربية الكبرى، ولم يلبثوا أن أصْلَوا الدولة العثمانية سعيرها، وأحرقوها بشرر شرورها، وفي أثنائها اختاروا لقيادة فيلق سورية (منبت النهضة العربية) أشد زعمائهم قسوةً وأغلظ قوادهم قلبًا وأضراهم بسفك الدماء: أحمد جمال باشا الذي نكل بخصومهم الائتلافيين في العاصمة ذلك التنكيل الفظيع، ومنحوه السلطة المطلقة، فخادع أهل البلاد أولاً بإظهار الميل إلى العرب، والرغبة في مساعدة النهضة العربية، وجعلها عونًا وظهيرًا للنهضة التركية، تأييدًا لما يضمهما من الجامعة الإسلامية، وما زال يفتل منهم في الذروة والغارب، إلى أن عرف أصحاب الأفكار الدينية والفصاحة المؤثرة، وأولي المبادئ الثابتة والعزائم الصادقة، ثم في الخدمة إلى أن الجيوش من البلاد، وقذف ببعضها جيوش الروسية في حدودها الزمهريرية، وألقى بالبعض ا

سورية بعد التحرير

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ سورية بعد التحرير (لا تدعوا إلى الفتنة فإن أسرع الناس إلى القتال أقلهم حياء من الفرار) الأحنف بن قيس أذكى أوار هذه الحرب الضروس قوم ظنوا أن لهم بها أجرًا ومغنم، وأضرم نارها أقوام دعوا إليها دعاء مؤملين دفع مغرم، وساعد فيها شعب آخر ليمنع اقتراف المأثم، ويحول دون فناء العالم، خدمة للإنسانية التي تتألم، دارت رحاها خمس دورات، وجرت جيادها خمسة أشواط، وقطب رحاها ثابت، وقصب السبق أُحرز- أو كاد - فوضعت السذاجة الأشعرية مبادئ لإخماد ثورتها، وإسكان براكينها رحمةً بالإنسانية، فانقادت الفضيلة الشخصية لتلك المبادئ السامية فانجلى المغير عن أراضٍ احتلها، وسلم الصياصي التي كان قد أحكم بناءها، وظن أن فجر سعادة الإنسانية قد تنفس، وأن قد تساوت الأمم والشعوب في الواجبات والحقوق، وانتشر لواء الحرية، وطوي عَلَم الاستعباد، ماذا جرى بعد أن وضعت الحرب أوزارها؟ تناول ذلك الدهاء العمْري تلك المبادئ فحولها عن وضعها بالتأويل والتحريف، واستخلص منها معاهدةً للصلح كانت علةً لجميع الحروب المنبثقة من تلك المعاهدة، وستكون سبب حروب المستقبل وخراب العالم [1] فإذا كانت مبادئ ولسن محكمةً عادلةً فإن المعاهدة مخشربة جائرة، جاس قوم خلال ديار قوم آخرين فاستباحوا بيضتهم، وانتهكوا حرمتهم، والله من ورائهم محيط. أجلبت أمم بخيلها ورَجِلها على الوادعين الساكنين الآمنين من جيرانها فكانوا إلى الفتنة أسرع من اختطاف البازي، أو هَوي العقاب، فلما صرحت الرغوة عن اللبن الصريح، واستبان الراجل من الراكب، وتميز الأجرب من الصحيح، نكصوا على أعقابهم فولوا الدبر غير معقبين. أيقظت المبادئ (الولسنية) أممًا وشعوبًا من سباتها، وفتحت للمرضى باب الشفاء، وللموتى باب الحياة - وإن يكن المؤولون قد أوردوا معظم الشعوب شعوبًا وجعلوا الخير المأمول منها مقلوبًا - فإن دم الحياة قد دب في الأجسام، وتيار الانفلات من سلطة المستعمرين قد تمشى في العقول وتسرب إلى القلوب، وتقرب ما كان قد تباعد، وانفلق صبح شعوبية راقية من بلاد كانت أعرق الأمم بالأرستوقراطية، بل لم يكن يدين بعبادة البشر - أو الملوك - الأحياء أحد على وجه البسيطة إلا ما كان في روسية (منبعث النور الآن) . وكان من تلك الأمم والشعوب من تحفز للوثبة، وأعد للاستقلال العدة الأمة العربية بأسرها، وخصوصًا أهل الشام والعراق وشبه الجزيرة منها. كونت هذه الأمة الأحزاب، وألفت الجماعات، ووضعت الأنظمة والقوانين لإدارة حركتها، والقيام بمهمتها، ثم توطيد نهضتها، وإنماء علومها وثروتها، وأول مظهر من مظاهرها قيام ملك الحجاز على أسياده وأبناء دينه (الترك) دفاعًا عن أبناء وطنه وجلدته - قام بالثورة وشد عضدَه فيها بنوه ومِن ورائهم الأمة العربية في مهاجرها وأوطانها، وانسل من بقي من شبان العرب في الجيش التركي، فانضموا إلى هذه الحركة طمعًا بتأسيس مملكة عربية تضم جناحي الجزيرة إلى قلبها. قام الثائرون قومتهم، وساعدوا الأحلافَ: حاضرُهم وباديهم، على كسر شكيمة الترك وخضد شوكة الاتحاديين منهم، فانجلى الترك عن العراق والشام والحجاز بعد أن قتلوا النابغين من شبان العرب، وألبسوا أهل القطرين (الشام والعراق) لباس الجوع والخوف، وساموهم أنواع التعذيب والخسف. فرح أهل البلاد العربية بتقلص ظل الترك عن ربوعهم، وخصوصًا النابهين منهم - اللهم غير الحكماء والعقلاء - بناءً على موعدة وعدها الأحلاف للملك حسين ابن علي أخذت بها معاهدة إن كانت كمبادئ ولسن فإن معاهدة (سايكس بيكو) لها كمعاهدة فرسايل لتلك. قد ضمنت معاهدة الشريف مع الحلفاء استقلال سورية والعراق على شروط وقيود حفظت للمحررين حقوقا قديمة وحقوقًا حديثة، وحددت معاهدة سنة 1916 مناطق النفوذ لكل من دول الأحلاف، فكان من جراء ذلك التقسيم الذي تعاني سورية وحدها مضضه وتتجرع غصصه، تقسيم غير عقلي ولا شرعي، ولا طبيعي، تقسيم جعل بأس الأهلين بينهم شديدًا، ووضع في قلوب المحتلين بعضهم لبعض ضغنًا جديدًا، ومزق أحشاء البلاد كل ممزق، تقسيم يستحيل معه دوام الراحة، وتمكين الاستعداد للرقي الذاتي، والاستقلال للترقي، ويعرقل مهمة الانتداب، ويشل يد الاستقلال. (مَن غَالَب الطبيعة غُلب) بأي وسيلة تقسم بلاد متصلة الحدود مشتركة المنافع متحدة اللغة إلى ما يسمى المنطقة الغربية؟ ثم تقسيم هذه المنطقة إلى لبنان والساحل، ومنطقة شرقية، ومنطقة جنوبية، أو مملكة صهيونية. خلق الله هذه المملكة من الأرض متصلةً متداخلةً بعضها ببعض، وخرقت لها السياسة ممالك، ونسبت إليها أقوامًا ليسوا في العير ولا في النفير. أحيت السياسة من ثنايا الدهر وطيَّات الزمان اسم الفينيقيين، وأحدثت فكرة الصهيونيين بعد أن محيت فينقية من لوح الوجود، وزلزلت طوارق الحدثان ملك اليهود، وبدلت الأرض غير الأرض. دعت الحاجة إلى إحياء الفوارق الدينية، وبعث العصبيات المذهبية، بعد أن أزال ظلم الاتحاديين كوامن الأحقاد، واتحدت الأمة أيما اتحاد. جرى كل هذا، وادعاء الإصلاح لا يزال قائمًا، وقضية الاستقلال معترف بها، ولكن النفوس ملت الوعود بعد أن طالبت بالقيام بالعهود قبل أن يتسع الخرق على الراقع وتزهق الأنفس وترى الديار بلاقع. لذلك عقد المؤتمر السوري في دمشق , وأعلن استقلال سورية جمعاء [2] استنادًا على الحقوق الطبيعية والقومية والجغرافية والسياسية، واعتمادًا على المبادئ (الولسنية) واعتراف الأحلاف بهذا الاستقلال. ثم اجتمع مؤتمر عراقي في دمشق فأعلن استقلال العراق وانتخاب الأمير عبد الله نجل الملك حسين ملكًا عليه. تناقلت الصحف والبرق خبر هذا الاستقلال، ولم يعترف به الحلفاء بعد، وقد رأينا أن نثبت هنا مقالةً نقلتها إحدى الصحف المصرية عن مجلة (الرفيو) تحت العنوان الآتي: استقلال البلاد العربية (كنا أول من نادى بوجوب الاعتراف باستقلال البلاد العربية، وقد نشرنا في اليوم الثاني لقرار مؤتمر دمشق ما يؤخذ منه صراحةً أن من حسن السياسة أن تعترف فرنسة وإنكلترة بالأمير فيصل ملكًا على سورية والعراق وفلسطين، فعاند البعض وكابر وأنكر علينا هذا القول، ولكن الحوادث جاءت الآن مؤيدةً لنا، ونرى أيضًا أن الذين يديروا دفة السياسة في بلاد الحلفاء اقتنعوا الآن بوجوب تحقيق رغبة الشعوب العربية. إن المعاهدة التركية التي سيضعها مؤتمر سان ريمو ستعين حدود المملكة التركية، وتفصل منها عشرة ملايين من العرب الذين اشتركوا في هذه الحرب مع الحلفاء ضد تركيا فاستحقوا بذلك أن ينالوا الحرية والاستقلال بلا شرط ولا قيد، أعني أنه يجب على الحلفاء أن يتنازلوا عن كل تفويض أو وكالة على هذه البلاد، وبهذه الكيفية يعود السلام الدائم إلى هذه البلاد فلا نعود نسمع فيها قعقعة السلاح، ولَدَى النظر في تنظيم آسية الصغرى يجب أن لا تترك الشعوب العربية ألعوبةً في يد المصادفات السياسية. إن تكوين مملكة عربية قوية يضع حدًّا لكل هذه الاضطرابات، ويعيد الأمن والسلام إلى هذه الربوع الشاسعة، ويضع أيضًا مستقبلها الاقتصادي. وفي هذه الحالة تكون فرنسة أول من يستفيد من نمو الزراعة وازدياد التجارة والصناعة التي لها فيها مركز ممتاز من قديم لا يجب تضييعه، إننا في الغالب نترك مزاحمينا الأكثر مباراةً ونشاطًا يسبقوننا إلى اغتنام الفرص، ولكن إذا جرينا على سياسة مخالفة لهذا الرأي فسيسبقنا غيرنا، ولا ندهش يومًا إذا وجدنا أنفسنا في عزلة عن الاتحاد الأوربي، كما حدث في المسألة الروسية وغيرها، وقد علمتنا التجارب في الماضي أن ننتفع بها على الأقل في هذا الوقت، وأن نتبع في آسية الصغرى الاحتراس والإقدام، بحيث إذا تأخرنا قدمًا عن البلاد العربية فلا عذر لنا إذا ضاع نفوذنا الاقتصادي. إن إنكلترة التي ترقب الحوادث عن بُعد تستعد الآن للتنازل عن دعواها في العراق، وإننا ننصح لها بأن تسرع في ذلك، ولا ننسى أن حلفاءنا من أصحاب التجربة الذين يعرفون كيف يغتنمون الفرص، والذين متى رأوا أنه لا يمكنهم العمل بخلاف ذلك ينفذونه طبقًا للظروف، وهي حكمة سياسية) . (ومن المرجح أن اعترافنا باستقلال سورية سيقابل في شمالي أفريقية بكل سرور وابتهاج، وسيوطد نفوذنا فيها. ولا بد أن تبتهج جميع الأمم أشد الابتهاج إذ ترانا نعامل بالرفق والاعتبار إخوانها الذين يسكنون بين البحر الأبيض المتوسط والخليج الفارسي) . (ونحن نلاحظ مع الارتياح أن إنكلترة تحبذ هذه الخطة) . (وها نحن نشعر بتغيير محسوس في لهجة الجرائد الفرنسية من بضعة أيام مما يجعلنا نرحب بهذا التغيير الذي يفتح أعين من بيدهم زمام السياسة الخارجية ليروا الحقيقة، وهذا ما اتبعته الجرائد الفرنسية الكبرى، ولكن يجب عليها أن لا تقف في نصف الطريق، وأن تستمر المجاهدة، ومتى صار الاعتراف باستقلال سورية يجب علينا المساعدة في تأييده؛ لتحيا حياةً مضمونةً) . (إن فرنسة تظهر عظمتها بضمانة حقوق وحرية كل فرد، وبذلك ستنال ثمار حكمتها وحذقها) . (ومن المحقق أن التدابير القديمة التي لا تزال توجهها ضد الملك فيصل ستحفظ لفرنسة محلاًّ غير لائق في الحكومة السورية، وقد بين ذلك الجنرال نوري بك الذي أوفده الملك فيصل إلى باريس ليوضح لحكومات الحلفاء مركز سورية والعراق، وعلى الخصوص قرار مؤتمر دمشق في حديث له أفضى به آخر هذا الشهر لمندوبي الصحف الفرنسية، وفي الاستطاعة أن نعتمد على شرف الملك فيصل، وفوق ذلك فإن سورية دائمًا في حاجة إلى فرنسة، فلذلك يجب أن نتأكد أننا سنقابَل دائمًا في سورية كأصدقاء يمكن الإصغاء باحترام إلى نصائحهم واقتراحاتهم، وستحفظ لنا مستقبلاً زاهرًا في هذه المملكة التي تسمى - بحق - شقيقة فرنسة في مدنيتها القديمة، والتي لا تطلب إلا أن تعيش الآن عيشةً راضيةً تحت ظل ومساعدة الحلفاء، وسيجد صناعنا وتجارنا وأساتذتنا في البلاد العربية ميدانًا واسعًا لإظهار نشاطهم ومقدرتهم ومشروعاتهم) . (وإذا تقرر الاعتراف باستقلال سورية والعراق فسيحفظ في فلسطين منطقة خاصة تحت الرقابة البريطانية، ومعلوم أن فلسطين تشمل الأماكن المقدسة، وعددًا عظيمًا من اليهود مختلطًا بأجناس مختلفة تعيش معًا في الشرق، فيجب اتخاذ ما يكفل حقوق كل واحد في هذه المنطقة، واحترام الأماكن المقدسة التي يقدسها العموم، ولا يوجد ما يبرهن على عدم كفاءة العرب لأخذهم هذه المسئولية على عاتقهم؛ لأن الشعوب العربية تحترم أكثر من غيرها حقوق وعادات وعقائد الآخرين الذين يستظلون ظلها) . (إن فرنسة لا يمكنها أن تمد يدًا لتقطع أوصال البلاد العربية، بل يجب عليها أن تعمل مع حلفائها بما يطابق رغبات الشعوب، مثل هذه الرغبة ستجلى في حل مسألة لبنان، ومؤتمر دمشق والملك فيصل يعترفان - ولا يد للبنان - بالحق في أن يفصل في شأنه ويعرب عن مصيره، ولأهل لبنان الحق في تأليف مملكة أو جمهورية، وأن يضعوا شرائعهم بحرية تامة، وكل رجائنا أن لا يكره اللبنانيون على الانضمام إلى حكومة سورية) . انتهى ما نقلناه عن مجلة الريفيو. وذكرت نحوه جرائد أوربية أخرى، وقد أوضح مؤتمر (سان ريمو) المقصود من الانتداب والوصاية، وأيد اتفاق الأحلاف على مخلفات الرجل (المتوفى) وسواء أكنا استقلاليين أم كنا احتلاليين فإنه ليؤلمنا تأخ

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة [*] (ديوان إيليا أبو ماضي) (الجزء الثاني) صفحاته 192 بالقطع الكبير، طبع على ورق جيد بمطبعة (مرآة الغرب) في نيويورك سنة 1919. شعر إيليا أبو ماضي معروف لدى فريق الأدب عامةً وقراء المنار خاصةً، فهو يطرق المواضيع المتنوعة من سياسية واقتصادية وأخلاقية وأدبية وقصصية، وقد حمل ديوانه هدية إلى أحد أفاضل أدباء السوريين، وكتب له جبران خليل جبران الكاتب الاجتماعي الكبير مقدمةً في الشعر والشاعر والخيال آية في الإبداع والوصف، فهي إيحاء من طبيعة الوجود. ومن قصائده (فلسفة الحياة) أم القرى - أو متفرد الجمال في الوصف، و (الشاعر والأمة) في السياسة، و (نوم الأمة وغفلتها) وكذلك قصيدة (وداع وشكوى) التي يصف بها سفره إلى (نيويورك) لكنه أنحى على شعبه وبلاده باللائمة في هذه القصيدة، وظهر بمظهر اليائس من عودة مجد الأمة إليها؛ لتقاعسها واستبداد حكومتها، فمنها قوله: وطن أردناه على حب العلى ... فأبى سوى أن يستكن إلى الشقا كالعبد يخشى بعد ما أفنى الصبا ... يلهو به ساداته أن يعتقا شعب كما شاء التخاذل والهوى ... متفرق ويكاد أن يتمزقا لا يرتضي دين الإله موفقًا ... بين القلوب ويرتضيه مفرقا لم يعتقد بالعلم وهو حقائق ... لكنه اعتقد التمائم والرقى ومنها: وحكومة ما أن تزحزح أحمقًا ... عن رأسها حتى تولي أحمقا إلى أن يقول: بغداد في خطر ومصر رهينة ... وغدًا تنال يد المطامع جلقا ومنها في الدولة: ضعفت عزائمها ولمَّا ترعوي ... عن غيها حتى تزول وتمحقا ولو شئت أن أختار من شعر إيليا لَأثبتُّ منه هنا شيئًا كثيرًا، وإن شئت قلت: كان عليّ أن أُثبت معظم قصائد الديوان. *** (ديوان العقاد) الجزء الأول منه، صفحاته 127 بقطع المنار، طبع بمطبعة (البسفور) بمصر سنة 334 هـ، ويطلب من مكتبة المنار. ناظم هذا الديوان محمود أفندي العقاد المشهور بفضله وأدبه ونثره ونظمه وحرية ضميره، وقد صدّر ديوانه هذا بمقدمة في تأثير الآداب في نهوض الأمم، وفرق فيها الأدب إلى فرقين: أدب ذكاء، وأدب طباع. وعلق الرجاء وناطه بالثاني منهما. لست - وقد طال العهد على تقريظ ديوان العقاد - بمقرضه الآن أو مقرظه ولكنني أشير إليه إشارةً، وأنتظر صدور الجزء الثاني منه. من غرر قصائد هذا الديوان قصيدة (الحب الأول) التي عارض بها قصيدة لابن الرومي أبياتها 193، وموشح (سباق الشياطين) ومن مقاطعيه (في الحياة) : قالوا الحياة قشور ... قلنا فأين الصميم قالوا شقاء فقلنا ... فأين يبغى النعيم إن الحياة حياة ... ففارقوا أو أقيموا و (تنازع الفردوس) : يتحاسدون على الهباء فما لهم ... لا يحسدون البر فيما يؤجر نقموا على الكفار أن تركوا لهم ... أجر السماء وأنكروا ما أنكروا لو كان ما وعدوا من الجنات في ... هذي الحياة لسرهم من يكفر و (ضيق الأمل) : شر ما يلقى الفتى أجل ... ضيق عن واسع الأمل ولشر منهما أمل ... ضيق عن فسحة الأجل ومنها (الزمن) : إن يومًا يمر هيهات هيها ... ت يفادي الطريق بعد ذهابه نحن نستدفع الزمان فإن فا ... ت أخذنا بالذليل من جلبابه يا له زائرًا يُحمل إذا جا ... ء ويُفدى بالروح عند ذهابه *** الأزاهير المضمومة في الدين والحكومة صفحاته 398 بالقطع الوسط، طبع سنة 1338 هـ في مطبعة هندية بمصر (بنط 24) مضبوطًا بالشكل الكامل، على ورق جيد. مؤلف هذا الكتاب هو المعلم أمين ظاهر خير الله الشويري اللبناني ابن صديقنا المأسوف عليه المعلم ظاهر خير الله صليبا، وقد صدّره بهذين البيتين: هذا الكتاب حوى علمًا ومعرفةً ... بطاعة الله في جهر وإسرار من اصطفاه دليلاً في مناهجه ... يحز بدنيا وأخرى خير أوطار وافتتحه برسائل: أولاها بعرض الكتاب على ملك الحجاز، والثانية أمر الملك بتقديم الكتاب إلى نجله الأمير فيصل (ملك سورية) والثالثة والرابعة والخامسة: معاملات ومراجعات بشأن الكتاب، ثم تقرير المجمع العلمي (بقلم الشيخ عبد القادر المغربي) ثم (تقدمة الكتاب) إلى ملك الحجاز وأنجاله. أول الكتاب (ثم حقائق لا بد منها وهي) ثم ديباجة الكتاب، فالفصل الأول في وجود الله، ثم بقية الفصول إلى الرابع والعشرين، وكلها في فلسفة الوجود والتدين والدين، وعلاقة الإنسان بالخالق، وحكمة خلق الإنسان، إلى غير ذلك مما ينتظم في سلك مباحث كلامية أو لاهوتية أدبية، جعلها دعائم ومقدمات لما يريد بناءه وتثبيته من ضرورة الدين لصلاح الدارين، وهي الشطر الأول من الكتاب , وأما الشطر الثاني وهو المقصود بالذات من الكتاب، فيبتدئ بالفصل 25 (الدين أساس العمران) و26 (تدين رأس الحكومة) إلى الفصل 48، ثم الذيل، وهو فصلان: الأول (لا بد للحكومة من دين) والثاني (دين الحكومة العربية الإسلام) . والمطَّلع على هذا الكتاب يعجب بفضل مؤلفه وشدة عنايته به، مدفوعًا بباعث التدين الحقيقي، وحب الوطن وخدمته، وبلوغ الجهد في خدمة الأمة العربية، وقد أفرغ وسعه في جمع المسائل، وإيراد الأدلة عليها من عقلية ونقلية، فجزاه الله عن العربية وأهلها خير الجزاء. هذا وإننا نتمنى لمؤلفه هذا الرواج لتعم فائدته، وتجزل عائدته.

مذكرات الدكتور صدقي في فلسفة الوجود

الكاتب: محمد توفيق صدقي

_ مذكرات الدكتور صدقي في فلسفة الوجود [*] ننشر هذه المذكرة هنا في فلسفة الوجود، وإثبات الخالق جل شأنه، وقد كتبتها بعد تفكر طويل وبحث عميق، وسترى فيها - إن شاء الله تعالى - أقوى دليل على وجود الخالق بحيث إنك تجد فرقًا بين قوة هذا الدليل، وقوة دلائل العلوم الرياضية وغيرها، فنقول: بديهيات لا بد من ذكرها قبل الدليل الضدان لا يجتمعان، وقد يرتفعان - النقيضان لا يجتمعان، ولا يرتفعان - الترجيح بدون مُرجِّح محال - واجب الوجود هو ما لا ينفكُّ عنه الوجود لا أزلاً ولا أبدًا، فهو قديم باقٍ - الجائز هو ما يجوز عليه الوجود والعدم، ولا يُرجَّح وجوده إلا بمرجح، أو موجد، أو سبب - المستحيل هو ما لا يُتَصور في العقل وجوده - إيجاد الموجود تحصيل حاصل. *** نظرة في الكون هذا الكون مركب من مادة وصورة، فالمادة كل ممتد أو متحيز، والصورة إما خيالية لا توجد إلا في الذهن أو المخيلة، كصورة الإثير مثلاً، ونسميها أيضًا الهيئة أو الحالة، وإما وجودية تُدرك بالحواس كشكل أي جسم معتاد، وقد تسمى المادة بالجواهر أو الذات، وهي ما قام بنفسه، وتسمى الصورة بالعَرَضِ، أو الصفة الإضافية، وهي ما قام بغيره، ويستحيل قيامه بنفسه. وإذا استرسلنا في التفكير والفرض فقد نجوز أن يكون أصل العالم غير ممتد وغير متحيز، بأن كان في حالة أو هيئة لا يمكن أن نتصورها بعقولنا؛ لأننا لا نتصور إلا المتحيز، وإنما نسلم بذلك جدلاً لكيلا يطرأ على دليلنا الآتي احتمال منا أو ضعف بأي وجه من الوجوه. أما الذات أو الجوهر: فليس في مقدور البشر إيجاده أو إعدامه، وأما العرض أو الهيئة أو الحالة: فهي مما تتعلق بها قدرة البشر إيجادًا وإعدامًا. فمثلاً: قد نجمع من المادة أصنافًا، ونوجد منها بيتًا أو غيره، ثم نهدمه، فنحن قادرون على إيجاد الهيئة أو الحالة، ولسنا قادرين على إيجاد المادة نفسها. الحالة أو الهيئة أو الصورة: مهما فرضناها أو تخيلناها فهي كلها أمور ثبوتية مغايرة للذات أو المادة، ولذلك توجد وتُعدَم بدون أن يصيب المادة من ذلك شيء، فهي أمر زائد عليها، وإن كانت قائمةً بها، ولو كانت عينها لعدمت المادة بعدمها، وهذه الأعراض لها وجود، فإنها لو كانت عدمًا محضًا لكانت زيادتها عدمًا؛ لأن زيادة العدم عدم فتكون الحالة زائدة على الذات وغير زائدة، وهو محال. فتلخص من ذلك أن حالة المادة هي أمر وجودي زائد على الذات، وهي قابلة للعدم، فتكون جائزة الوجود، فلا يرجح وجودها إلا بمرجح - أي سبب موجود - فلا تكون قديمةً؛ لأن الإيجاد معناه الخلق بعدم العدم، والقديم: ما لم يُسبق وجودُه بعدم، فهو موجود دائمًا، وإيجاد الموجود تحصيل حاصل، وهو محال. وعليه فهذه الحالة حادثة، وكذلك كل حالة زائلة، والمادة لا يمكن تصورها بلا حالة حادثة فتكون هي أيضًا حادثةً [1] ، وإلا كانت مجردةً عن كل حالة، وهو محال، أو تكون موجودةً ومتقلبةً في حالات حادثة لا أول لها وهو محال أيضًا [2] إذ تقلبها في هذه الحالات يدل على الانتهاء منها قبل كل حالة، وكونها لا أول لها يستلزم عدم إحصائها أو تناهيها، والانتهاء مما لا نهاية له محال؛ لأنه تناقض. *** وجود الخالق فالمادة حادثة، وكل حادث لا بد له من مُحدث، وهو الله - تعالى - وإلا جاز الترجيح بدون مرجح، وهو محال. (قدم صفات الله تعالى) الواجب: قديم الذات قديم الصفات غير متغير، والقدرة هي هي بعد الخلق، كما كانت قبله، والخلق عمل عمله الله لم يحدث تغييرًا في ذاته أو صفاته مطلقًا، وليس بحركة، ولكنا لا ندرك كنه هذا العمل (الخلق) ولا كنه الخالق، ولا كنه المخلوقات. وخلق الأزلي محال؛ لأن الخلق معناه الإيجاد بعد العدم، والأزلي لم يسبق وجوده بعدم فهو موجود دائمًا، وإيجاد الموجود تحصيل حاصل. كذلك إيجاد حوادث في الأزل لا أول لها؛ لأن إيجادها يستلزم إحصاءها وحصرها، وإحصاء ما لا يُعدُّ مُحال، لذلك قال تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (الجن: 28) . (نفي الجسمية عن الله تعالى) لو كان الله - تعالى - متحيزًا لكان مركبًا من جواهر فردة، والجوهر الفرد ما ليس له امتداد مطلقًا [3] ، وله وضع معين، وحيث أنه لا فرق بين وضع ووضع، بل كلها بالنسبة للجوهر سواء، فوجوده في واحد منها دون غيره: إما لعلة أو لغير علة، فإن كان لغير علة فذلك ترجيح بدون مرجح، وهو محال، وإن كان لعلة (أي سبب أو موجد) فلا يكون وجود الجوهر في الوضع المعين قديمًا؛ لأن القديم هو ما لم يسبق وجوده بعدم فهو موجود دائمًا، فلا يكون محتاجًا لسبب يهبه الوجود، لكن المفروض هنا احتياجه للسبب، فيكون محتاجًا له غير محتاج له، وهو تناقض، وما نشأ ذلك إلا من فرض احتياج الله - تعالى - إلى الوضع المعين، فهو غير محتاج للوضع المعين، ولا للمكان، وليس بمتحيز أصلاً {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُواًّ كَبِيراً} (الإسراء: 43) . *** الأفول والحدوث اعلم أن الأفول المذكور في القرآن الشريف على لسان إبراهيم - عليه السلام - يدل على الحدوث؛ لأن معناه الغياب، وهو يدل إما على تحرك الآفل، أو على أنه محدود غير محيط بخلقه، وإلا لم يمكن للأرض أن تخرج بمن عليها عن تأثيره وسلطانه، فإن كان متحركًا فهو حادث، وإن كان محدودًا غير محيط بكل شيء فهو ملتزم لوضع معين، وكل ما كان كذلك كان حادثًا كما تقدم برهانه، فالآفل على كل حال حادث، وصدق الله، وخليله عليه السلام. (وحدانية الله تعالى) ثبت بالبرهان المذكور في كتابي (الدين في نظر العقل الصحيح) وبما يأتي أيضًا: وهو أن اختصاص أحد الآلهة بخلق جزء دون غيره تخصيص بدون مخصص، وإن كان ذلك بعد تشاور أو مفاوضة واتفاق، فإما أن يؤثر ذلك في العلم القديم والإرادة، أو لا يؤثر، فإن أثر فالعلم حادث، وحدوثه يستلزم حدوث الذات، وإن لم يؤثر فلا فائدة فيه مطلقًا، ويكون اختصاص كل بما خلقه تخصيصًا بدون مخصص أيضًا، ولا يلتئم ما خلقه هذا مع ما خلقه ذاك إلا نادرًا أو اتفاقًا (صدفةً) فيفسد نظام هذا العالم البديع، ويذهب كل إله بما خلق، ويعلو بعضهم على بعض. *** المعلوم (1) إما واجب، وهو ما لا ينفك عنه الوجود لا أزلاً ولا أبدًا، لا بد أن يكون أمرًا ثبوتيًّا سواء كان ذاتًا أو صفةً، جوهرًا أو عرضًا، إذ لا معنى لوجود المعدوم. (2) وإما جائز، وهو ما يجوز أن ينفك عنه الوجود إذا وجد، ولا يوجد إلا بموجد. (3) وإما مستحيل، وهو ما لا يمكن وجوده أزلاً ولا أبدًا. ********** (يوجد صورة هنا) ***************** أما استحالة الحركات في الأزل فلأن معناه دخول حركات في الوجود لا عداد لها، ودخولها هذا يستلزم انحصارها وعدها، وعد ما لا يعد تناقض باطل، فلا يجوز ذلك عقلاً ولا فعلاً. وهناك ثلاثة أسئلة: (1) ألا يجوز أن يكون سكون المادة في الأزل واجبًا، ثم صار جائزًا؟ قلت: هل صار جائزًا فجأةً؟ أم تدريجًا؟ فإن كان فجأةً لزم الترجيح بدون مرجح والمعلول بدون علة، وإن كان تدريجًا لزم وجود تغيرات في الأزل، وهو محال. وإن قيل: إن الزمان - على فرض وجوده - هو الذي فعل ذلك، قلت: إن كانت قوة الزمان حدثت فجأةً أو تدريجًا، قلنا فيها ما قلناه آنفًا. (2) إن كان سكون المادة جائزًا فلا توجد الحركات في الأزل لعدم وجود القدرة على تحريكها أزلاً، فما تقول في ذلك؟ قلت: إن كلامنا في المادة من حيث هي بقطع النظر عن أي اعتبار آخر، فهل يجوز عليها التحرك من حيث هي أم لا؟ فإن جازت الحركة عليها عقلاً من حيث هي جاز عقلاً وجود حركات في الأزل مع أن ذلك محال عقلاً، فكأن الحركات تجوز عقلاً ولا تجوز، وإن كان لا يجوز عليها عقلاً الحركة في الأزل كان سكونها واجبًا، ولم يوجد العالم. (3) إنك تقول ما ملخصه: إن قدرة الله لا يمكنها أن توجِد الحوادث في الأزل، كما تقول: إن قدرة المادة لا تقدر على تحريكها في الأزل، فما الفرق بين القولين، وهل العالم يجوز عليه من حيث هو الوجود في الأزل، أو لا يجوز؟ قلت: إن العالم لم يكن له وجود مطلقًا في الأزل حتى يرد علينا هذا السؤال بخلاف المادة عندكم فهي مفروض وجودها أزلاً فهذا، الفرق بين القولين. ملاحظة: سمي المتحيز بالمادة - لغةً - لأنه ممتد ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدكتور صدقي ... ... ... ... ... ... ... 27 نوفمبر سنة 1919

معاهدة الصلح مع تركية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ معاهدة الصلح مع تركية خلاصتها في يوم 12 مايو سنة 1920 عقدت في (قاعة الساعة) بوزارة الخارجية الإفرنسية جلسة ذات خمس دقائق حضرها سفير إنكلترة , وسفير إيطالية , وسفير اليونان , ومندوب بلجيكا , ومندوب اليابان , ومندوب الحجاز , ومندوب الصين , ومندوب البرتغال , ومندوب رومانية , ومندوب التشك سلوفاكية , ومندوب الصرب، ورئيس الوفد الأرمني، وبعد التئام المجلس أدخل المسيو فوكير الوفد التركي يرافقه ضابط إيطالي فقام الجميع، وبعد أن جلس رئيس الوفد توفيق باشا في المكان المعد له، وإلى جانبه وزير الداخلية رشيد باشا , وفخر الدين بك وزير المعارف، والدكتور جمال باشا وزير النافعة والأشغال، قال الموسيو ميللران رئيس وزارة فرنسة: حضرات مندوبي السلطنة العثمانية: (إن الدول الحليفات نِطْنَ بي أن أقدم لكم هذا المشروع للمعاهدة، وهن يطلبن منكم قبوله، وقررن أن تكون المناقشة كتابةً، فتفضلوا بتقديم ملاحظاتكم مكتوبةً لتجابوا عليها كتابةً، ولكم مدة شهر لتبلغوا ملاحظاتكم، وإننا مستعدون منذ الآن بأن نتلقى كل مستند ترون إبلاغه لنا) . وبعد أن أتم خطابه مبينًا بأن تركية هي التي أطالت زمن الحرب على الأحلاف إلخ، قدم الموسيو فوكير نسخةً من مشروع معاهدة الصلح لرئيس الوفد، فرد الرئيس بهذه الكلمة: (الوفد يحفظ لنفسه الحق بأن يرد على الدول الحليفات في الموعد المضروب بعد أن يدرس شروط الصلح التي قدمت إليه درسًا دقيقًا) . وهاك الخلاصة التي نشرتها صحف باريز ولندن من المعاهدة: *** الشروط السياسية الآستانة يسلم الفريقان بتأييد سيادة تركية على الآستانة , ولكن على شرط هو أنه إذا أخلت تركية باتباع أحكام المعاهدة، أو المعاهدات، أو الاتفاقات الملحقة بها لا سيما ما يتعلق بحماية الأقليات - فإن للدول المتحالفة تعديل القرارات السابقة، وتتعهد تركية بأن تقبل كل التدابير التي تتخذ بهذا الشأن. البواغيز تفتح طريق الملاحة بالمستقبل في البواغيز - أي: الدردنيل وبحر مرمرا والبوسفور - في زمن الحرب وزمن السلم لجميع المراكب التجارية والحربية، وللطيارات المائية البحرية والتجارية بلا تمييز بين الرايات، ولا تكون مياه تلك البواغيز موضوعًا للحصر البحري، ولا يجوز إتيان أي عمل فدائي فيها إلا فيما يلزم لإنفاذ قرار من قرارات عصبة الأمم، وستنشأ لجنة للبواغيز للقيام بالمراقبة عليها، وستخول الحكومتان التركية واليونانية تلك اللجنة السلطة اللازمة من لدنهما، وتؤلف اللجنة من ممثلين معتمدين من الولايات المتحدة (إذا رغبت حكومة واشنطن في ذلك، ومتى أبلغت موافقتها بهذا الشأن) ومن السلطنة البريطانية، وفرنسة، وإيطالية، واليابان، وروسية (إذا اعتُرف بروسية عضوًا في عصبة الأمم وبعد ذلك الاعتراف) ومن اليونان، ورومانية، وبلغارية (إذا اعتُرف ببلغاريا عضوًا في عصبة الأمم، وبعد ذلك الاعتراف) ولكل دولة أن تعتمد ممثلاً واحدًا لها، ولكن يكون لكل من ممثلي الولايات المتحدة، والسلطنة البريطانية، وفرنسة، وإيطالية، واليابان، وروسية صوتان، ولكل من ممثلي سائر الدول صوت واحد، وللجنة أن تستخدم سلطتها مستقلةً عن السلطة المحلية، ويكون لها رايتها الخاصة، وميزانيتها الخاصة، ونظامها المستقل، وهي مكلفة إنفاذ جميع الأعمال اللازمة لتحسين سبل الملاحة في البواغيز، وفي مداخل الموانئ ولها مراقبة سير السفن، وقطرها، ورسوها، وكذلك المراقبة اللازمة في ثغري الآستانة، وحيدر باشا لتنفيذ النظام المنصوص عليه في الشطر عن المعاهدة الخاص بالموانئ، والطرق المائية، والخطوط الحديدية. وفي حالة الاعتداء على حرية المرور بالبواغيز قد ورد نص خاص يقتضي باستنجاد اللجنة بممثلي الدول المحتلة في الآستانة، وهؤلاء الممثلون يقررون بالاتفاق مع القومندان البحري والعسكري لقوات الحلفاء التدابير الواجب اتخاذها، وللجنة أن تقتني الأملاك، أو أن تقوم بالأعمال الدائمة التي تراها لازمةً. أما الوسائل المالية فستتوافر بواسطة القروض التي تكون بضمان الرسوم التي يحق لها جبايتها على البواخر التي تمر بالبواغيز، وهناك أحكام تنقل إلى لجنة البواغيز السلطة الممنوحة لمجلس الصحة الأعلى، وغيره من الهيئات، وتقرر علاقاتها مع الشركات صاحبة الامتيازات الخاصة بالمنائر والأرصفة والأحواض إلخ، وللجنة أن تنظم قوة بوليس، وتحيل كل مخالفة للقوانين إلى المحاكم القنصلية، أما الرسوم التي تضعها على السفن فيجب أن تكون واحدةً أيًّا كان الميناء الخارجة منه المراكب أو المسافرة إليه، وأيًّا كانت رايتها، وجنسية صاحبها. وهناك نصوص أشبه بالنصوص الواردة باتفاق سنة 1888 الخاص بقناة السويس بشأن مرور السفن الحربية دون أي قيد خاص بالدولة المحاربة، التي تعمل لإنفاذ قرار من قرارات عصبة الأمم. كردستان تقبل تركية سلفًا بمشروع استقلال محلي للأراضي التي يقطنها أكثرية من الأكراد شرقي الفرات , وجنوبي أرمينية , كما ستحددها لجنة مؤلفة من الإنكليز والفرنسويين، والإيطاليين، ويكون مركزها في الآستانة، وهذا المشروع يصون حقوق الآشوريين، والكلدانيين، والأقليات الأخرى الجنسية، والدينية في تلك الأراضي، ولتوقع المعاهدة تعديلاً لحدود تركية المتاخمة لإيران. وإذا طلب الأكراد في تلك المنطقة استقلالهم من عصبة الأمم في موعد معين فإن هذا الاستقلال المعين يمنح لهم إذا أوصت به العصبة، وحينئذ يجوز للأكراد القاطنين في الجزء من كردستان الذي كان تابعًا حتى الآن لولاية الموصل أن ينضموا إلى الدولة الكردية المستقلة. أزمير تقبل الحكومة التركية بنقل التمتع بحقوق سيادتها على أزمير والمنطقة المتاخمة لها كما هي معينة في الخريطة الملحقة بالمعاهدة إلى الحكومة اليونانية، ويرفع العلم التركي على حصن من حصون أزمير الخارجية دلالةً على السيادة العثمانية، وتكون الحكومة اليونانية مسئولةً عن إدارة المنطقة، ويجوز لها إبقاء جنود فيها لصيانة النظام كما أنه مرخص لها إدخال تلك المنطقة في نظامها الجمركي، ويجب عليها إنشاء برلمان محلي على قاعدة التمثيل النسبي للأقليات، وهذا المشروع الواجب عرضه على مجلس عصبة الأمم يدخل في طور التنفيذ بعد موافقة أكثرية المجلس عليه، ويجوز تأخير الانتخابات المحلية لمدة معينة تتم عودة السكان الذين أبعدتهم السلطة التركية، وهناك أحكام خصوصية ترمي إلى حماية الأقليات، وجنسيات السكان في البلاد، والخارج، وإلى إيقاف الخدمة العسكرية الإلزامية، وإلى الاحتفاظ بحرية العمل، واستخدام تركية لمرفأ أزمير وقد نص على أنه لا يجوز للحكومة اليونانية أن تقدم على ما من شأنه إنزال قيمة النقود التركية، وستحمل منطقة أزمير شطرًا مناسبًا من الدين العثماني، وبعد مضي خمس سنوات يجوز للبرلمان المحلي أن يطلب من عصبة الأمم ضم منطقة أزمير إلى مملكة اليونان، ويحق لمجلس العصبة أن يستشير الأهلين فإذا منحوا حق الانضمام إلى اليونان فإن تركية ترضى منذ الآن بالتنازل عن جميع حقوق سيادتها إلى اليونان. اليونان تتنازل تركية لليونان عن حقوقها واختصاصاتها على الأراضي الواقعة في تركية أوربة خارجًا عن الحدود المبينة في الخريطة الملحقة بالمعاهدة، وعلى جزر أميروس، وتنيدس، وليموند، وصامطراس، ومدله، وصاموس، ونيكاريا وصاقس، وعلى جزر أخر من بحر الأرخبيل، تقبل حكومة اليونان مبدئيًّا في منطقة البواغيز نفس التعهدات المأخوذة على تركية، وتنص بعض المواد على معاهدة أخرى توقعها اليونان لحماية الأقليات الجنسية، والدينية، واللغوية في أملاكها الحديثة، ولا سيما في أدرنة , ولصيانة حرية تجارة المرور، ومعاملة تجارة سائر الأمم على قاعدة المساواة، وتتحمل اليونان أيضًا بعض تعهدات مالية. أرمينية تعترف تركية بأرمينية كدولة حرة مستقلة، وترضى بتحكيم رئيس الولايات المتحدة بشأن التخوم بين تركية وأرمينية في ولايات أرضروم , وطرابزون , ووان , وبتليس، وبشأن منفد لأرمينية على البحر، وتذكر المعاهدات واجبات أرمينية، وحقوقها فيما لو ألحق بها قرار رئيس الولايات المتحدة أملاكًا تركيةً، أما تحديد التخوم بين أرمينية والكرج , أو آزربيجان فيكون موضوع اتفاق يعقد بين تلك الحكومات الثلاث، ويجب على أرمينية توقيع معاهدة على حدة تضمن فيها حقوق الأقليات، وحرية تجارة المرور إلخ. سورية والعراق وفلسطين يعترف المتعاقدون بسورية والعراق كدولتين مستقلتين بمقتضى المادة 22 من عهدة عصبة الأمم، أما من الوجهة الإدارية فتكون تلك البلاد خاضعةً لآراء ومساعدة دولة منتدبة إلى أن تصبح قادرةً على حكم نفسها بنفسها، وستعين الدول المتحالفة الكبرى الحدود، وتختار المنتدبين، ويعهد أيضًا بإدارة فلسطين إلى دولة منتدبة طبقًا لأحكام المادة 22 من عهدة عصبة الأمم، وتعين الدول المتحالفة الكبرى الدولة المنتدبة، وتحدد التخوم، وقد أثبت التصريح الأصلي الذي صرحته الحكومة البريطانية في 8 نوفمبر سنة 1917 , ووافقت عليه الحكومات المتحالفة بشأن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وستكلف لجنة خاصة تختار رئيسها عصبة الأمم بدرس وتسوية جميع المسائل الخاصة بالطوائف الدينية المختلفة في فلسطين. أما حدود الانتداب فستعينها الدول المتحالفة الكبرى، وتعرضها على موافقة مجلس عصبة الأمم. الحجاز تعترف تركية كما اعترف الحلفاء بالحجاز كدولة حرة مستقلة، وتنقل إليها حقوق سيادتها على الأراضي الواقعة وراء حدود السلطنة العثمانية القديمة قبل التخوم التي ستحدد فيما بعد للحجاز. وبالنظر للصفة المقدسة المعترف بها من جميع المسلمين لمكة والمدينة، يتعهد ملك الحجاز بأن يدع الدخول إليهما حرًّا وسهلاً لمسلمي جميع الأقطار الذين يقصدونهما للحج، أو لأي غرض ديني آخر، وسيعمل أيضًا على احترام الأوقاف. وقد وضع قرار أيضًا لضمان المساواة التجارية التامة في أراضي الحجاز للدول الجديدة المؤلفة من تركية ولسائر الدول. مصر والسودان وقبرس تتنازل تركية عن جميع حقوقها واختصاصاتها على القطر المصري ابتداءً من 5 نوفمبر سنة 1914، وتعترف بحماية بريطانية العظمى على القطر المصري المعلنة في 18 ديسمبر سنة 1914، وقد وضعت نصوص خاصة بالأمور الآتية: اكتساب الأتراك الجنسية المصرية، وترك الحرية للأتراك في اختيار الجنسية التركية، ومعاملة مصر والرعايا المصريين وبضائعهم، ومراكبهم، وحماية بريطانية العظمى للرعايا المصريين في الخارج، والتنازل لبريطانية العظمى عن السلطات المخولة لسلطان تركية بالاتفاق في الخارج، والتنازل لبريطانية العظمى عن السلطات المخولة لسلطان تركية بالاتفاق المعقود في الآستانة في 29 أكتوبر سنة 1888 بشأن قناة السويس، وكيفية معاملة الأملاك الخاصة بالحكومة التركية، وبالرعايا الأتراك في القطر المصري، تنازل تركية عن المطالب التي قدمتها بشأن الويركو الذي كانت تدفعه مصر، وقبول بريطانية العظمى تحمل المسئوليات التي كانت على تركية من جراء القروض التركية التي كانت بضمانة ويركو مصر. ويأخذ المتعاقدون عهدًا بالاتفاق المبرم بين الحكومتين البريطانية والمصرية في 19 يناير سنة 1899، وبالاتفاق الإضافي المبرم في 10 يوليو س

وصف بلاد العرب الجنوبية التي يسميها اليونان العربية السعيدة

الكاتب: عبد الله المغيرة

_ وصف بلاد العرب الجنوبية التي يسميها اليونان العربية السعيدة يراد بالعربية السعيدة اليمن وما جاورها، وسميت بذلك لكثرة خيراتها بالنسبة إلى البادية في الشمال، فكأنهم يريدون بها بلاد العرب العامرة، أو الخضراء، ويحدها عندهم خليج العجم من الشرق - ويسمونه خليج العرب - وبحر العرب من الجنوب، والبحر الأحمر من الغرب ومن الشمال البادية، وهي بادية الشام والعراق , والعربية الحجرية (بلاد بطرا) فيدخل في اسم العربية السعيدة اليمن وحضرموت والشحر وعمان واليمامة ونجد. وأما العرب فيريدون باليمن الجزء الجنوبي من جزيرة العرب , وهو يقسم عند العرب الأقدمين إلى 48 مخلاف، والمخلاف ينقسم إلى مدن وقرى، ويوجد فيه الأودية والجبال والسدود، وقد فصل الهمداني كل مخلاف بقراه وأوديته وجباله في كتابه (صفة جزيرة العرب) . ما قاله اليونان عن تاريخ اليمن: لم يدون اليونانيون وسواهم من أمم التاريخ كتابًا في تاريخ اليمن، أو تاريخ غيرها من بلاد العرب، ولكنهم ذكروه عرضًا في أثناء كلامهم في الجغرافية العامة والرحلات وغيرها، وأكثر اليونان ذكرًا لبلاد العرب سترابون , وبلينيوس , وبريليوس , وبطليموس، ذكر كل منهم مدنًا وأممًا وأحوالاً أخرى من أحوال بلاد اليمن، بعضها يوافق ما ذكره العرب، والبعض الآخر يخالفه، وذكروا مدنًا وأقوامًا ولم يعرفها العرب، أي أنها لم ترد في تاريخهم أو جغرافيتهم، وأهم هؤلاء الأقوام هم (المعينيون) وذكروا الطرق التجارية، ووصفوا الأحوال الاجتماعية، فترى بين ما ذكره اليونان من الأمم والمدن أممًا لم يذكرها العرب، أو ذكروها عرضًا بما لا يستحق الذكر، والمعينيون لم يعرفهم العرب، وهم عند اليونان أمة عظيمة ذات تجارة واسعة وشأن كبير، ومثلهم (القوريون) و (الجبائيون) . ومن المدن التي نوهوا بها (مأرب) ولم يذكرها العرب إلا في عرض الكلام عن سدها وانفجاره. كانت اليمن في أصل نظامها تقسم إلى (محافد) وهو يشبه نظام الإقطاع في الأجيال الوسطى لأوربة , وكانت الأقيال [1] في اليمن يتعاطون التجارة، ولتوسط بلاد اليمن، والهند , والحبشة , ومصر , والشام، والعراق كانوا ينقلون التجارة بين هذه البلدان بعد دخولها إلى جزيرة العرب بالقوافل بطرق خاصة. *** الدولة المعينية تنبه العلماء إلى هذه الدولة كما ذكره اليونان عنها، فقال استرابون في كلامه عن بلاد اليمن (يشمل القسم الجنوبي من جزيرة العرب أربعة شعوب: المعينيون وعاصمتهم (قرنا) [2] والسبأيون وعاصمتهم (مأرب) وذكر في مكان آخر أن المعينيين يحملون التجارة إلى (بطرا) مدينة الأنباط , وذكر بلينيوس أن المعينيين يقيمون في بلاد كثيرة الغابات والأغراس، وذكرهم أيضًا ديونيوس , وبطليموس، وأطروا سلطتهم وسعة تجارتهم، ولم يكن العلماء يعرفون (معين) فذهب بعضهم إلى أن المراد بلفظ (معين) منى , وهو بقرب مكة، وقال آخرون غير ذلك حتى وفق المستشرق (هاليفي) إلى ارتياد بلاد الجوف الجنوبي شرق صنعاء , واكتشف أنقاض معين، وقال الهمداني في كتاب الإكليل (محافد اليمن: مراقش ومعين، وهما بأسفل جوف الرحب) ولا يظهر أنها كانت دولة حرب وفتح، بل كانت دولة تجارة مثل إخوانهم الفينيقيين على شواطئ سورية , ودولة الأنباط في بطرا، وأكثر دول اليمن على هذه القاعدة - أي: تجارية - وكانت طرقها التجارية ممتدةً في أواسط جزيرة العرب بين تلك البحار، وانتشرت سيادتهم ومستعمراتهم إلى أعالي الحجاز شمالاً بدليل ما وقفوا عليه من النقوش في العلاء - قرب وادي القرى - وفي الصفاء وفي حوران وغيره. *** الدولة السبأية لم يعلم الوقت الذي تأسست فيه الدولة السبأية، ولكنه قد ثبت أنهم أنشأوا في اليمن دولةً كبرى جاء ذكرها في أخبار آشور منقوشًا في آجرّة للملك (سرجون الثاني) سنة 705 قبل الميلاد ذكر فيها أنه أخذ الجزية من (يثعمر) السبأي، فيدل هذا القول على وجود السبأيين في بلاد العرب في القرن الثامن قبل الميلاد، ولكن الراجح عند العلماء اليوم أن سرجيون لم يصل بفتوحه إلى اليمن، والظاهر أن السبأيين كانوا يدفعون الجزية عن تجارتهم في شمال جزيرة العرب حتى يؤذن لهم بالمرور إلى شواطئ البحر المتوسط , وخصوصًا إلى غزة؛ لأنها فريضة تجارية قديمة، وقد اتسع ملكهم، ولا يراد بسعة الملك أنهم دوخوا البلاد كما فعل اليونان والرومان، أو كما فعل العرب بعد الإسلام؛ فإن سبأ ليست دولة فتح، بل هي دولة قوافل وتجارة، ولا تجد للفتح ذكرًا في آثارها إلا قليلاً خلافًا للآشوريين والمصريين معاصريها، فإنك لا تكاد تقرأ على آثارهم غير قولهم: فتحت , غلبت , وحملت الغنيمة. وأما السبأيون فأكثر ما وصل إلينا من أخبارهم: بنيت، ووقفت، ورممت. وإنما يراد بسعة ملكهم نشر نفوذهم وسعة تجارتهم، وذكرت مملكة سبأ في التوراة أيام سليمان في القرن التاسع قبل الميلاد، ويتضح من ذلك أنهم أقدم من مملكة سليمان أيضًا. *** حضارة اليمن القديم بعد ما تحقق أن دولة حمورابي عربية علم أن العرب من أسبق الأمم إلى الحضارة والمدنية؛ لأنهم أنشأوا الدول وشادوا المدن، ونظموا الحكومات وسنوا الشرائع، وبنوا المدارس والهياكل، ورقوا الهيئات الاجتماعية لترقية شأن المرأة منذ أربعة آلاف سنة. ونقتصر هنا على مدنية عرب اليمن، وقد رأيت أنهم كانوا أهل حضارة ودولة لا تقل عن دول معاصريهم في آشور وفينيقية ومصر، وابتنوا المدن وشادوا القصور والهياكل، وتبسطوا في العيش، لكن تمدنهم لم يكن حربيًّا كتمدن الآشوريين والفرس والمصريين، بل كان تجاريًّا كتمدن الفينيقيين فكانوا واسطة التجارة بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، فانقطعوا لأعمالهم وتفرقوا لاستثمار أرضهم بغرس الشجر، وزرع الحبوب، وحفر المناجم، واصطناع العطور والأطياب، وركوب القوافل في القفار، والسفن في البحار؛ لنقل السلع، وتوالت أجيال منهم كانوا هم وحدهم تجار العالم كإخوانهم الفينيقيين، وقد تعاصروا حينًا، وتعاونوا على ذلك دهرًا طويلاً. على أن التمدن لم يرد له ذكر في كتب العرب إلا قليلاًً، وإنما ذكره اليونان عن التاريخ القديم، واكتشفه العلماء من آثار المدن، وما قرأوه على أطلالها من أخبارها، وقلما كانوا يعتنون بتنظيم الجند لقلة الحرب والفتوح، وإنما كانوا يجمعون الرجال في استخدامهم لبناء المدن أو القصور أو إنشاء السدود، وقد ضرب اليمانيون نقودًا نقشوا عليها صور الملوك وأسماءهم، وأسماء المدن التي ضربت فيها بالحرف المسند، وزينوها برموز سياسية أو اجتماعية، كصورة البوم أو الصقر أو رأس الثور رمزًا للزراعة، أو صورة الهلال، وهو رمز ديني عندهم، وكانوا يركبون المركبات تجرها الخيول أو الأفيال. كانت الأمة في اليمن مؤلفةً من أربع طبقات: الجند المسلح لحفظ النظام، والفلاحون لزراعة الأرض، والصناع والتجار، ولكل فئة حدود لا تتعداها، ولا ينتقل أحد منها إلى سواها. *** الصناعة ليست جزيرة العرب بلادًا صناعيةً، وإنما صناعتهم تحضير بعض أصناف التجارة، والبخور واللبان والطيوب وغيرها، وكان ذلك مشهورًا عنهم بين الأمم القديمة لا يشاركهم فيه أحد. قال هيرودتس: وبلاد العرب فيها وحدها الخور، والمر، والقرفة، والدارصيني، واللاذن، والعرب يجنون كل هذه الأشياء، وبلاد العرب زكية الرائحة حيث ما سرت. *** الزراعة من يَجُب بلاد العرب ير أن بلاد المعينيين والسبأيين قد تغيرت معالمها فيستغرب ما يسمعه عن ثروة تلك الأمم وسعة سلطانها؛ إذ لا يرى فيها إلا قليلاً من الناس، وكانت على عهد ذلك التمدن بساتين ورياضًا فيها الأغراس من الأشجار والرياحين والحنطة والأزهار، وكانت الزراعة في رقي حسن مع مشقة الري في بلاد لا أنهر فيها إلا ما يخزنونه بالسدود من أمطار الصيف فبلغ من رغبتهم في العمران وعلو همتهم أنهم أنشأوا سدودًا كالجبال يحجزون بها المياه في الأودية حتى ترتفع، ويسقون بها المرتفعات، ويصرفون الماء إليها من نوافذ حسب الحاجة، كما يفعل بخزانات هذه الأيام، فالعرب أول من اصطنع الخزانات وهي السدود، وأعظمها سد (مأرب) وسنذكره. وذكر (استرابون) أن بلاد سبأ أخصب بلاد العرب، وعد من محصولاتها المر، والبخور، والقرنفل، والبلسم، وسائر العطريات فضلاً عن النخيل والغاب. ووصف الهمداني (وادي ظهر) باليمن، وقد شاهده فذكر أن فيه نهرًا عظيمًا يسقي جنبات الوادي، وعليها من الأعناب نحو عشرين نوعًا، وفيه أصناف الفواكه الأخرى. *** المعادن التعدين، أي: استخراج المعادن من بطن الأرض. اشتهرت بلاد العرب بمعادنها وجواهرها عند القدماء، وإن ظهر ذلك غريبًا الآن لتقلب الأحوال وتحول الأزمان، ولكن التاريخ أصدق شاهد على ما كان في جزيرة العرب من الثروة في جوفها فضلاً عن سطحها، كان فيها كثير من مناجم الذهب والفضة، والحجارة الكريمة، وكان ذلك من أهم أسباب طمع الفاتحين في ذلك العهد، وقد شبهها بعضهم بكاليفورنيا هذا الزمان لكثرة مناجهما، وأقدم هذه المناجم في بلاد (مدين) ولها شهرة واسعة في التاريخ القديم حتى ألف بعضهم كتبًا في معادنها وذهبها، وذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب، وياقوت في معجم البلدان، وغيرهما كثيرًا من مناجم الذهب بعضها في اليمن، والبعض الآخر في اليمامة، ومنها معدن (نحب) في ديار بني كلاب، ومعدن (بيشا) ومعدن (قضاعة) في اليمن، و (ذهب خولان) الوارد ذكره في التوراة باسم حويلة في اليمامة، وكثير من المعادن خصص لها الهمداني فصلاً سماه (معادن اليمامة) وهي معدن الحسن، وهو معدن ذهب عزير، ومعدن (الحفير) بناحية (عماية) وهو معدن ذهب عزير أيضًا، ومعدن (الضبيب) عن يسار (هضب القلب) ومعدن (الثنية) ثنية ابن عاصم الباهلي , ومعدن (العوسجة) ثم معدن (شمال الفضة والصفر) ومعدن (نياس) ومعدن (العقيق) ومعدن (المحجة) ومعدن (العمق) بين (فيميه) ومعدن (الهجيرة) ومعدن (بني سليم) ومعادن كثيرة أخرى. وقول العرب (معدن كذا) يراد به معدن الذهب إلا إذا عرفوه بالفضة، أو الصفر، أو غيرهما، وفي بلاد العرب سوى مناجم الذهب مناجم الجواهر الأخرى كمعدن الفضة في (الرضاض) الذي لا نظير له، وفي (نقم) معدنا فصوص (البقران) ويبلغ المثلث منها مالاً كثيرًا، وهو أن يكون وجهه أحمر فوق عرق أبيض فوق عرق أسود، والبقران ألوان ومعدنه بجبل (أنس) و (السعوانية) من سعوان واد جنب صنعاء وفيه أيضًا فص أسود بعرق أبيض، ومعدن (بشهارة وعبشان) من بلاد (حاشد) والبلور يوجد في مواضع فيها، وأشياء أخرى يطول شرحها، وهذه الأشياء لا يوجد لها نظير في بلاد الهند، والهندي بعرق واحد وليس بثلاثة. دع مغاوص اللؤلؤ بالبحرين. *** الأسداد الأسداد هي جدران ضخمة كانوا يقيمونها في عرض الأودية؛ لحجز السيول ورفع المياه لري الأراضي، كما يفعل أهل التمدن الحديث في بناء الخزانات، وإنما عمد العرب إلى بناء الأسداد لقلة المياه في بلادهم مع رغبتهم في إحياء زراعتهم فكثرت هذه الأسداد: سد (مأرب) و (ربوان) و (شحران) و (لحج) إلخ. *** الحضارة أهل اليمن حَضَرٌ من أقدم زمانهم، فهم أهل مدن وقصور ورياش، لبسوا الحر، وافترشوا الحرير، واقتنوا آنية الذهب والفضة، واغترسوا الحدائق، قال (أغاثر سيدس) : وللسبأيين في منازلهم ما يفوق التصديق من الآنية والماعون على اختلاف أشكالها من الفضة والذهب، وعندهم الأسرة، والموائد من ا

تقرير لجنة مشيخة الأزهر الشريف المؤلفة لفحص مشروع تعميم التعليم الأولي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير لجنة مشيخة الأزهر الشريف [*] المؤلفة لفحص مشروع تعميم التعليم الأَوَّلِي (7) توجد تحت مراقبة الأزهر الشريف وبعض المعاهد الأخرى كتاتيب، أساس التعليم فيها حفظ القرآن، وتسمى تلك الكتاتيب التحضيريات لأنها تؤهل البنين للانتظام في تلك المعاهد الدينية، ويبلغ متوسط تلامذة تلك الكتاتيب 2500، وقد صرفت مشيخة الأزهر في العام الماضي مكافأةً سنويةً لألف تلميذ من الكتاتيب التابعة للأزهر، وبلغ مجموع تلامذة التحضيريات التابعة لمشيخة معهد الإسكندرية 1101 في بعض السنين، وفي استيلاء المشروع على تلك النسبة من مجموع أبناء الأمة استيلاء على تلك التحضيريات التابعة للمعاهد أو محو لها وصد للذين يريدون تعليم أبنائهم القرآن الكريم من العلماء وغيرهم. (8) إن جميع الفوائد الخُلُقية والعقلية والتهذيبية والسياسية والاجتماعية إلخ إلخ التي أفاضت لجنة الوزارة في بيانها وترتيبها على تعليم الطفل - هي بنفسها مترتبة بدرجة مضاعفة جدًّا إذا كان أساس التعليم في تلك المدارس الأولية هو حفظ القرآن الكريم، أو على الأقل حفظ نصفه، وتعتقد اللجنة بحق أنه إذا بذلت الحكومة مجهودًا في هذا المشروع جاعلةً نصب عينها حفظ القرآن الكريم، والعناية بتعليم الديانة الإسلامية لأبناء المسلمين - تكون قد أنبتت الجيل المستقبل نباتًا حسنًا، ورفعت الأمة المصرية إلى مكانها اللائق بها بين الشعوب الإسلامية، وأهدت إليها - من حيث إنها شعب إسلامي - روحًا عاليةً في حياتها الأدبية والاجتماعية بما تغرسه في نفوس الأبناء من المثل الأعلى للتهذيب الإسلامي. ولأجل أن تكون اللجنة غير مظنون بها أنها مدفوعة في هذا القول بمحض الميل الديني من غير نظر إلى الإصلاح - تستلفت اللجنة نظر الحكومة إلى أن الأحداث المجرمين الذين تتزايد نسبتهم كل سنة حسب الإحصاء الرسمي لا يكاد يوجد بينهم حدث ممن تعلموا في مدارس القرآن واستظهروا جانبًا منه، فكيف إذا انضم إلى ذلك متممات الوسائل الإصلاحية التي يقتضيها المشروع. ولا يفوت للجنة أن تنوه بأنه يوجد عدد غير قليل من رجال البلاد المعدودين لم يتعلموا إلا التعليم الأولي في تلك المكاتب المعهودة، وقد أفادهم حفظ القرآن في فاتحة حياتهم تهذيبًا في الأخلاق، وتنويرًا في العقل، وتثقيفًا في الحكم. (انظر آخر الفقرة 15 من تقرير لجنة الوزارة) [1] حتى صارت الحكومة والبلاد تعتمد عليهم في كثير من شئونها الأدبية والاجتماعية خصوصًا في فض الخصومات، وحل المشكلات، وهذا أكبر ما ينتظره رجال الإصلاح من نتيجة ذلك المشروع، فكيف إذا عني بتعميم تلك المكاتب في أنحاء القطر، وزيد في تنظيمها وإصلاحها مع المحافظة على جعل أساس التعليم فيها هو حفظ القرآن الكريم، كما هو الآن؟ . (9) إن بذل الحكومة المصرية عنايتها في تعميم تعليم الشعب وتربيته على مبادئه الإسلامية بما في ذلك حفظ القرآن الكريم الذي اعتاده من ثلاثة عشر قرنًا - يدرأ عن الشعب أخطارًا اجتماعيةً وأضرارًا جمةً، أقلها تلك الفوضى الأخلاقية التي ينزع إليها النشء، واتساع مسافة الخلف بينهم وبين آبائهم المحافظين على مبادئهم الدينية، وبذلك يقع الانشقاق في الأسرات، ويترتب عليه الأضرار الاجتماعية التي لاحظتها لجنة الوزارة (في الفقرة 17) [2] وليس هناك خلف أشق للعصا وأضر على الهيئة الاجتماعية من نشء يخرج على أمته، وينسلخ من دينه بما يسمى الآن التعليم الحر، أو حرية العقيدة، ومما يثمره التعليم الأولي على أساس تلك المبادئ الإسلامية القضاء على حركة الجرائم والجنايات التي ضجت التقارير الرسمية من فشوها وزيادتها كل عام، أو تخفيض نسبتها تخفيضًا كبيرًا على الأقل، وتلك فائدة كبرى طالما بذلت الحكومة مجهودات جمةً للحصول عليها، وها نحن أولاء نرى الناس الذين يحفظون شيئًا من القرآن يتناهون ويتواعظون في أسواقهم، ومعاملاتهم الاجتماعية والأدبية بقولهم: هذا حرام، وهذا حلال، وقال الله، وقال الرسول. فإذا بطل هذا ببطلان حفظ القرآن من الكافة ضاعت الأمانة وفسد الأمن، وفاض الغش والنفاق بين الأفراد بعضهم مع بعض، وبين الأفراد وحكومتهم، ووقعت الحكومة في سائر فروعها الإدارية والاقتصادية والسياسية في مشكلات من الأمور لا تتناهى، فكل ما يقال عن فوائد تعميم تعليم الشعب لا يكون صحيحًا وافيًا بالغرض إلا بشرط كون التعليم على المبادئ الإسلامية. بذلك قضت طبيعة الشعب المصري الذي له ثلاثة عشر قرنًا في الإسلام، وعلى دلت التجربة في تربيته. (10) إن من القواعد الهامة التي تترتب على جعل حفظ القرآن الكريم أساسيًّا في التعليم الأولي تمرين النشء على النطق الصحيح، وضبط الألفاظ العربية تمرينًا فعليًّا، فهو من جهة أخرى خدمة كبرى للغة العربية، ولا سيما أنها لغة البلاد الرسمية. (11) نص قانون الأزهر والمعاهد الدينية (بالمادة 139) على أن المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية هو المختص بوضع لائحة نظام إدارة المكاتب التحضيرية التابعة للمعاهد الدينية (والكتاتيب) والمشروع يقضي صريحًا بأخذ هذا الحق جملةً من سلطة المعاهد الدينية، ورفع يدها عن تلك المكاتب الدينية بمحوها، أو صبغها بصبغة أخرى. (12) وتختم اللجنة قولها بإبداء النتيجة التي تراها في الموضوع، وهو أن يجعل من مواد التعليم الأساسية في هذه المدارس حفظ القرآن الكريم، وترى اللجنة لضمان حراسة هذا الشعار الإسلامي في تلك المدارس الأولية وجوب اشتراك رياسة المعاهد الدينية في وضع منهج الدراسة لها، ومراقبة سير التعليم فيها، ولا غضاضة في ذلك على الوزارة، فقد جاء في تقرير لجنتها أن حكومة بلجيكة - بعد طرق شتى - رأت أن الأوفق جعل التعليم الديني في مدارسها إجباريًّا تحت مراقبة الكنيسة، ومعلوم أن تعليم الديانة في القطر المصري يبتدئ للبنين في حفظ القرآن الكريم. وتنوه اللجنة هنا بمنهج التعليم الذي أقره المجلس العالي للمعاهد الدينية بجلسة 25 مارس سنة 1905 للتحضيرات التابعة لمعهد الإسكندرية، ومقدار أثره الجليل في مدة وجيزة، وإقبال الشعب عليه حتى طلب أصحاب المدارس الأهلية في تلك المدينة الاندماج في نظام تلك التحضيرات، ودخلوا طوعًا تحت مراقبة مشيخة المعهد، وأتت تلك التحضيرات بالنتيجة الهامة، ولم تكن فائدتها قاصرةً على مجرد التأهيل للالتحاق بالمعهد، بل نفعت الذين اقتصروا عليها واشتغلوا بأشغال عمومية، وذلك لما تُعلِّمه تلك التحضيرات مع حفظ القرآن الكريم من المواد الهامة النافعة في الحياة العملية كالخط والحساب والجغرافيا واللغة العربية، وقواعد الصحة، وعلم الأشياء، وقد نصحت مشيخة المعهد كثيرًا في تقاريرها الرسمية أن يحذو أصحاب المكاتب والمدارس الأهلية في أنحاء القطر المصري على هذا المنهج الذي دلت التجربة على نجاحه، فضلاً عن ملاءمته لطبيعة الشعب المصري، وميول الآباء. ونادت المشيخة المذكورة أولي الشأن الذين يعنون بمصلحة التربية والتعليم أن يأخذوا بيد هذا النوع من التعليم، ويقضوا على الأمية والجهل حتى ينهضوا بالبلاد إلى ما تستحقه من الرقي والكمال. وتبدي اللجنة بمناسبة هذا الموضوع ملاحظتها على وزارة الأوقاف في تلك المبالغ الهائلة التي تدفعها سنويًّا إلى وزارة المعارف العمومية لتدير لها كتاتيبها، ومعلوم أن تلك المبالغ إنما هي من ريع الأوقاف المرصودة على حفظ القرآن الكريم ولكن وزارة المعارف لم تُعِر ذلك التفاتًا لما أن اختصاصها هو إحياء المعارف العمومية، وليس لها اختصاص بالشئون الدينية اختصاص المكلف بالشيء المسئول عنه بدليل أن أكثر ما صنعته في منهج الدراسة الذي وضعته لتلك المكاتب سنة 1916 فيما يختص بمادة القرآن قولها عند مقرر كل سنة (يحفظ من القرآن ما يمكن) (الاستمرار على حفظ ما يمكن من القرآن) بينما هي تبسط القول في التشديد والعناية بالمواد الأخرى. وإذا كان هذا تساهل منهج الدراسة في القرآن فكيف يكون تساهل المعلمين فيه؟ وهل يمكن بعد ذلك القول بأنه يوجد في تلك المكاتب من يحفظ جزءًا واحدًا من القرآن فضلاً عن حفظ جميعه الذي وُقفت عليه تلك الألوف؟ هذا ما عنَّ لنا، والله يوفق الأمة إلى ما فيه الخير والصلاح، وتفضلوا يا صاحب الفضيلة بقبول فائق احترامنا. ... ... ... ... ... ... ... ... توقيع أعضاء اللجنة محمد أحمد الطوخي , محمود أبو دقيقة , محمد علي خلف الحسيني , يوسف أحمد نصر الدجوي , محمد عبد السلام القباني (تم)

الرحلة السورية الثانية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (2) لما عقدت الهدنة بين دول الأحلاف والدولة الألمانية منَّى نفسه كل من له أهل في سورية، وكل من يهتم بشئونها الاقتصادية والسياسية أن يسافر إليها في أول فرصة، وصاروا ينتظرون الإذن بالسفر إليها، وعودة البواخر التي تنقل الركاب وعروض التجارة إلى سابق عهدها. وبعد طول الانتظار وقع الإذن مقيدًا بشروط عسيرة، ومقيدًا بقيود ثقيلة زمامها بأيدي السلطة العسكرية المتصرفة في الشؤون السياسية والاقتصادية في العالم تصرفًا مطلقًا، والمراقبة على مواصلات البر والبحر، فكان مثلي لا يطمع أن يكون من السابقين إلى رؤية وطنه، والقيام بشيء من خدمته، أو مواساة أهله فيه وعشيرته، بل تعذر عليّ إيصال ثلاثة (طرود) من الأقمشة إلى فقراء أهل بلدتي (القلمون) الذين ذهب الجوع والعري في أيام الحرب بثلثيهم، فإنني بعد أن ابتعت القماش ظللت عدة أشهر أسعى إلى إرساله بإذن من السلطة الفرنسية التي أعطيت الإشراف على المواصلات والنقل في البحر مع بقاء السلطة العليا في البر والبحر للسلطة الإنكليزية بحق القيادة العليا للجيوش المحاربة في سورية الجنوبية (فلسطين) والشمالية، ثم بواسطة لجنة المجاعة التي أرسلت بمساعدة السلطة الإنكليزية كثيرًا من المواد الغذائية والأقمشة , وبعد إعطائي الطرود للجمعية بأشهر تمكنت هي من إرسالها إلى وكيلها في بيروت فبقيت فيها أشهرًا، ثم أرسل بعضها إلى طرابلس ففقد بعضه، ولم يصل باقيها بعد إلا بعد وصولي إليها في خريف العام الماضي، فكان ما أردت أن يكسى به الفقراء في شتاء سنة 1919 كساءً لهم في شتاء السنة التي بعدها. احتلت جيوش الأحلاف جميع البلاد السورية، وطفقوا يمهدون السبل لتوطيد نفوذهم وسلطانهم فيها على قواعد معاهدة سنة 1916: الإنكليز في الجنوب، والفرنسيس في الغرب الشمالي، والعرب الحجازيون في الشرق منه، ولكن مراقبة المواصلات بين سورية وبين مصر وسائر الأقطار كانت مشتركةً بين الفرنسيس محتلي المنطقة الغربية، والإنكليز المحتلين للمنطقة الجنوبية وحدهم، والمشاركين للعرب والفرنسيس في احتلال المنطقتين الأخريين، ولم يكن للعرب من هذه المراقبة شيء. فلم يكن لي أن أزور البلاد بنفوذهم بل كتب إلي علي رضا باشا حاكم المنطقة الشرقية العسكري كتابًا ذكر فيه أنهم ينتظرون قدومي كانتظار الظمآن للماء، وأنه طلبني وهو يتعجب من عدم استجابتي، فكتبت إليه أنه لم يبلغني ما ذكر من طلبهم إياي، وأن أمر سفري ليس بيدي.. . ثم أخبرني بعد لقائه في الشام أنه طلبني خمس مرات. إنني لم أطمع في الإذن لي بزيارة سورية إلا بعد استفتاء اللجنة الأميركانية أهل سورية في شكل الحكومة التي يرضونها لبلادهم، والدولة التي يختارونها لمساعدتهم. وعلة هذا ظاهرة لا تحتاج إلى بيان، فلما سنحت لي الفرصة بعد هذا الاستفتاء وإظهار الشعب رأيه، سعيت إلى أخذ الجواز بالسفر إلى الشام من طريق سينا وفلسطين، فتيسر لي مع المساعدات أخذ هذا الجواز في مدة ثمانية عشر يومًا بعد أخذ عهد كتابي علي بأمور سلبية ترجع إلى أمر واحد، وهو عدم القيام بتهييج سياسي. *** السفر من القاهرة سافرت من القاهرة مساء الجمعة السابع عشر من شهر ذي الحجة ختام سنة 1337 (الموافق 12 سبتمبر أيلول سنة 1919) ولما جئت محطة السكة الحديدية وجدت فيها صديقي رفيق بك العظم جاء لتوديعي فيمن جاء من الأصدقاء، فأخبرني أنه قد جاءت برقية من دمشق تفيد أن الأمير فيصلاً (ملك سورية اليوم) قد سافر من الشام عن طريق حيفا ليسافر منها إلى أوربة فساءني ذلك جد الاستياء؛ لأن لقاء الأمير في ذلك الوقت كان هو المرجح الأول لسفري إلى دمشق مباشرةً دون بيروت وطرابلس، ولعله لو أخبرني بذلك قبل شروعي في السفر لأرجأته، ولكن إبطال العمل بعد الشروع فيه مفسد للعزيمة مضعف للإرادة، وقد قال تعالى لرسوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (آل عمران: 159) وقال عز وجل: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (محمد: 33) . ركبت القطار السريع، فسار بسم الله في الساعة 6 والدقيقة 15، فوصل إلى محطة القنطرة الساعة 10 والدقيقة 15 , أي بعد أربع ساعات تقريبًا، وهنالك نقل الحمالون متاعنا إلى حيث تنظر الجوازات، وبعد التوقيع عليها ينقل المسافرون ومتاعهم في سيارات نقل تجتاز الجسر الذي وضع هنالك على ترعة السويس إلى مواقف قطار سيناء وفلسطين في الضفة الشرقية، وقد علمت أن خط مصر اتصل بعد ذلك بخط فلسطين فاستراح المسافرون من ذلك النقل المزعج، وصلت إلى محطة فلسطين فإذا بديع أفندي الحوراني ضابط قلم المخابرات ينتظرني فيها لأجل مساعدتي، فتولى هو أخذ تذكرة السفر لي بالدرجة الأولى، ووضعي في مركبة ليس فيها زحام، وهو نجل إبراهيم الحوراني العالم الأديب البيروتي الشهير، فما رأيته فيه من المروءة والأدب يجري فيه على عرق راسخ ووراثة ثقفت بالتربية والتعليم، وعلمت منه أنه كان يتوقع حضوري يوم الخميس في القطار الذي يقوم من القاهرة الساعة 11 قبل الظهر. لم يكن السفر في الدرجة الأولى من قطارات هذه السكة بالأمر اليسير، وكنت علمت ذلك مما كتبه سليم أفندي سركيس الكاتب الشهير في جريدة الأهرام عن رحلته قبلي إلى الشام، فإنه ذكر أنه أخذ تذكرةً للركوب في الدرجة الأولى، فأركبوه في الدرجة الثالثة؛ لحاجة الضباط الإنكليز إلى الدرجة الأولى والثانية!! لذلك سعيت إلى توصية من السلطة العسكرية الإنكليزية بأن أركب في الدرجة الأولى فعلاً، فنلتها، ونفذها الحوراني - أحسن الله مكافأته - وثمن هذه التذكرة 282 قرشًا مصريًّا صحيحًا يركب بها المسافر إلى نهاية الخط، وهو مدينة حيفا. سافر بنا القطار الساعة 11 والدقيقة 35 وكان سيره بطيئًا ووقوفه كثيرًا، وعلمنا في الصباح أنه تأخر ساعتين عن موعده، وفي ضحوة النهار (السبت) وقف تجاه مدينة غزة الشهيرة التي أحدثت فيها الحرب خرابًا عظيمًا، ووصل إلى (اللد) الساعة 8 والدقيقة 15، وسار منها الساعة 9 وبضع دقائق، فوصل إلى حيفا الساعة 12 والدقيقة 15 نهارًا، فإذا كان القطار تأخر بنا ساعتين - كما قيل - تكون مسافة سينا وفلسطين إلى حيفا تسع ساعات وثلث ساعة، وهذا الخط قد أنشأته السلطة العسكرية في أثناء الحرب بسرعة عجيبة اقتضتها الضرورة، فلم يكن متقَنًا، وقد علمت أنه يحتاج إلى إصلاح يكون به الخط أقوم وأقصر. قطعنا نصف نهار يطوي بنا القطار أغوار سورية الجنوبية (فلسطين) وأنجادها، فلم نر شيئًا من أرضها يدل على العناية الفنية في إنشاء البساتين والكروم إلا ما في مزارع اليهود الصهيونيين، ورأينا ما مررنا به من الزيتون خاليًا من الحب؛ لأن موسمه في السنة الماضية كان عظيمًا. السفر من حيفا بسكة الحديد الحجازية انتقلنا عقب وصولنا إلى حيفا من قطار سينا وفلسطين إلى قطار سكة الحديد الحجازية، ومركباته أحسن من مركبات ذاك، وأخذ بعض الحمالين لي تذكرة السفر منها إلى (معان) في الدرجة الأولى بمائة قرش وستة قروش مصرية صحيحة، وتحرك القطار الساعة 12 والدقيقة 35، فوصلنا إلى طبرية (س3 ق 15) وبعد تجاوزها صار سيره في أودية يهبطها، وجبال يتسلقها، وكان يقف مرارًا لسوء الوقود وخلل الآلات، وليس في مركباته مصابيح، فكنا أول الليل في ظلام، ثم طلع القمر فأنسنا به، ووصل القطار إلى معان (س12 ق30) فكانت المسافة 12 ساعة، وقد قيل لنا أنه تأخر عن موعده ساعتين كسابقه. وفي محطة معان مطعم كبير للمسافرين، والقطار مكث فيها ريثما يتعشى من شاء من المسافرين، ويأخذ القطار (طعامه وشرابه) من الفحم والماء، وقد مكثنا نصف ساعة أو أكثر تعشينا فيها، ثم استأنفنا السير إلى دمشق، فبلغناها (س2 وق20) أي قبل الفجر. دمشق وفنادقها بعد وصولنا إلى محطة دمشق ببضع دقائق كنا في فندق (فيكتوريا) وهو أقرب الفنادق إلى المحطة وأشهرها وأغلاها أجرةً، فلم أجد فيه غير حجرة في الدور الأول لا يتخللها الهواء ولا النور، أبيْتها فوُعدتُ بتبديلها في النهار، وسألت الخدم عن حمام الفندق فقيل: إنه ليس فيه حمام ولا رشاش ماء (دوش) ولا حنفية ماء لغسل اليدين والرأس!! فغسلت رأسي في طشت الحجرة، وتوضأت وصليت المغرب والعشاء جمع تأخير، ونمت ما بقي من اليل. ولما أصبحت استنجزت الوعد بتغيير الحجرة، فلم أجد حجرةً صحيةً بل قيل لي: إن بعض النازلين فيها سيسافرون فتخلو حجرهم، ولما حضر طعام الغداء والعشاء وجدت الماء على المائدة غير مثلوج فسألت: ألا يوجد في الشام ثلج؟ قيل: بلى إن فيها ثلجًا وجليدًا طبيعيًّا وصناعيًّا، ولكن صاحب الفندق منع استعماله اقتصادًا، فعزمت على الخروج من هذا الفندق بعد رؤية أشهر الفنادق الكبرى واختيار أمثلها، ولكنني لم أستطع الخروج في اليوم الأول؛ لأن بعض من رآني أخبر غيره بأنني جئت الشام ونزلت في (فيكتوريا) فجاء كثير من الوجهاء لزيارتي، وفي اليوم الثاني كان الزائرون أكثر، ولكنني انتهزت فرصة طفت فيها على الفنادق القريبة، فرأيت أمثلها فندق الشرق (أو الخوام) الملاصق لفندق فيكتوريا، فانتقلت إليه، وفضلته بوجود مكان فيه للاستحمام، ووجود الماء في بعض مراحيضه، ووجود باحة خلوية في وسطها بركة ماء ووجود الماء المثلوج فيه، وأي المزايا خير من مزايا الماء والهواء؟ نعم إن فندق فيكتوريا ومثله فندق (دمسكوس بلاس) أدفأ في الشتاء من فندق الخوام، والأول أنظف، ولكن القيود فيه أشد وأثقل. الزيارات وردُّها وأحاديثها زارني من لا أُحصي من رجال الحكومة والعلماء والأدباء والوجهاء، فمنهم من عرفتهم بشخوصهم أو مناصبهم، ومنهم من لم أعرف، وما كان رد الزيارة لكل منهم ممكنًا، وليس عند أهل الشام من التسامح والتساهل في هذا الأمر ما عند أهل مصر وأهل بيروت، فاكتفيت برد الزيارة إلى الحاكم العسكري العام والقاضي والمفتي، وبعض العلماء والوجهاء الذين عرفتهم كمحمد فوزي باشا العظم , وعبد القادر باشا المؤيد، واعتذرت للآخرين في الجرائد مع الشكر لهم، وأما خواص إخواننا وأصدقائنا فقد جمعتنا بهم المآدب والسمّار في مجالس حافلة من دورهم العامرة كدار الأستاذ الشيخ كامل قصاب ودار البيطار ودار المارديني وغيرها، وكان جل حديثنا في تلك المجالس البحث في أهم المسائل الدينية والعلمية والاجتماعية، وقد عودني الناس من أول العهد بدخولي في الحياة العلمية إلى اليوم أن يسألوني عن المشكلات الدينية، ولا سيما المسائل التي يتعارض فيها الدين مع العلوم والفنون وشؤون العمران، وقد كان حظي من هذا في رحلتي هذه على ما أعهد في سائر البلاد، ولكن أكثر مباحث الناس معي في هذه الرحلة كان في المسائل السياسية: ما هو واقع منها وما يتوقع. معاهدة سنة 1916 اتفق أن أعلن كل من دولتي إنكلترة وفرنسة عقب وصولي إلى الشام أنهما اتفقتا نهائيًّا على تنفيذ معاهدة (سايكس وبيكو) المعروفة بمعاهدة 1916، وأن إنكلترة ستخرج جنودها من المنطقتين الشرقية والغربية من سورية، وتترك الأولى للجيش العربي الحجازي، والثانية للجيش الفرنسي، وما كان حملها للأمير فيصل على السفر إلى أوربة في هذه المرة إلا تمهيدًا لهذا العمل. وكان أهل سورية عامةً يظنون قبل هذا الإعلان أن الدولتين الحليفتين قد عدلتا عن تنفيذ تلك المعاهدة لما رأوه من التنازع بين رجالهما في النفوذ أيام وجود اللجنة الأمري

استقلال سورية والعراق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استقلال سورية والعراق انتهت الحرب العامة الطامة باحتلال جنود الأحلاف من العرب والإنكليز والفرنسيس لسورية وجعلها ثلاث مناطق: جنوبية، وهي متصرفية القدس الممتازة ومتصرفيتي نابلس وعكا من ولاية بيروت (وأطلقوا عليها اسم فلسطين) وشرقية، وهي ولايتا الشام وحلب ما عدا سواحلها، ثم أضيفت إليها متصرفية الزور الممتازة، وغربية، وهي بقية ولاية بيروت ومتصرفية لبنان الممتازة وإسكندرونة، وأطنه. ولما كانت القيادة العليا لجيوش هؤلاء الأحلاف في سورية للإنكليز احتلوا المنطقة الجنوبية وحدهم، وشاركوا العرب في احتلال المنطقة الشرقية، والفرنسيس في هذه المنطقة الغربية والشمالية، ولكنهم تركوا لكل منهما إدارة منطقته فلم يكونوا يتدخلون في أمرها إلا عند الحاجة لِمَا للقيادة العليا من حق الإشراف، ثم لما اتفقوا مع فرنسة على تنفيذ معاهدة سنة 1916 المشهورة نهائيًّا أجلوا جنودهم من هاتين المنطقتين، وتركوا للجيش العربي الذي يقوده الأمير فيصل السيطرة التامة في منطقته، وللجيش الفرنسي السيطرة التامة في منطقته. وكانوا قبل إعلان هذا الاتفاق وإجلاء الجنود الذي ترتب عليه، قد طلبوا الأمير فيصلاً إلى أوربة لأجل الاتفاق معه على تنفيذ معاهدة سنة 1916، فمكث بضعة أشهر في إنكلترة وفرنسة، ثم عاد إلى سورية ليوقف زعماء البلاد وممثليها على نتيجة ما وقف عليه، ويستشيرهم في ما يجب أن يكون عليه حكمها، وينتهي إليه مصيرها؛ ليعود إلى أوربة ويقرره مع حلفائه، وبعد مباحثات طويلة سرية وجهرية استقر الرأي على إعلان استقلال القطرين السوري والعراقي، وأن يتولى ذلك المؤتمر الذي سبق تأسيسه لكل منهما في ما بينهما بالتعاون. فأما المؤتمر العراقي فأعضاؤه في دمشق حيث تأسس، وأما المؤتمر السوري فكان أعضاؤه المنتخبون من المناطق الثلاث قد تفرقوا في البلاد بعد اجتماعهم الأول لمقابلة اللجنة الأميركية وإعلامها برأي الأمة السورية في أمر حكمها، وهو الاستقلال التام الناجز، ورفض كل حماية ووصاية أجنبية، وترجيح طلب المساعدة الفنية التي لا تمس الاستقلال من الولايات الأميركية المتحدة، ثم اجتمع أكثرهم مرةً ثانيةً للحفاوة بالأمير فيصل عند عودته المرة الأولى من أوربة مبشرًا البلاد بأنه تقرر فيها مبدئيًّا أن تكون البلاد مستقلةً استقلالاً تامًّا، وراغبًا إليهم أن يوكلوه في تقرير مصيرها وكالةً مطلقةً، فتقرر جمع المؤتمر ليوقفه الأمير على ما يعلم من كنه الحالة العامة، ويترك له حق تقرير ما يراه باسم الأمة السورية. كان لحزب الاستقلال العربي أجمل السعي لهذا المشروع الجليل، وكان في هذه الأثناء يعقد الاجتماعات كل ليلة للبحث في مقدمات إعلان الاستقلال وعمل المؤتمر، وما يُعده له من الوسائل، وفي تأليف الحكومة الأولى التي سيقررها ويعلنها. ولما اجتمع أكثر أعضاء المؤتمر قرر أن يعقد جلساته في النادي العربي، وحضر الأمير فيصل جلسته الأولى، ومعه أركان حكومته، وألقى الخطاب التالي على مندوبي الأمة ومن حضر الجلسة من كبار رجال العاصمة، وغيرهم. خطاب سمو الأمير أيها السادة: (في الوقت الذي قرب فيه حل المسألة التركية حلاًّ نهائيًّا في مؤتمر الصلح رأيت أن أدعوكم مرةً أخرى لتقرير مصير البلاد حسب رغائب الأهلين الذين رأوا فيكم الكفاءة للنيابة عنهم في مثل هذا الوقت العصيب. فقد وعد مؤتمر السلم أن ينظر في رغبة الشعوب بل حتم على نفسه بأن يقرر مستقبل كل أمة حسب إرادتها ورغائبها تحقيقًا للمبادئ السامية التي خاض لأجلها الحلفاء غمار الحرب العظمى. فالرئيس ولسن ذكر في خطابه في (مون فرنون) في 4 تموز سنة 1918 المادة الآتية: كل مسألة أرضيةً كانت أو سياسيةً أو اقتصاديةً أو دوليةً، يجب أن تحسم على موجب الأساسات المستندة إلى حرية قبول الشعب ذي العلاقة رأسًا بتلك المسألة لا إلى القواعد النفعية المادية، أو المصالح التي يتطلبها شعب أو أمة أخرى لأجل تأمين نفوذها الخارجي أو سيادتها. وقد ذكر جميع رؤساء الحكومات المتحالفة أقوالاً لا تقل في معاني استقلال الشعوب عن أقوال الرئيس ولسن في هذا الصدد، ونشرت حليفتانا إنكلترا وفرنسا منشورًا في 7 تشرين 1918 أكدتا لنا فيه استقلال بلاد العرب المنشود. أيها السادة: لما كانت هذه الحرب حرب حرية واستقلال، حربًا جاهدت فيها الأمم ذَبًّا عن كيانها السياسي - دخل فيها صاحب الجلالة والدي المعظم في صفوف الحلفاء بعد أن استوثق من العرب في الجزيرة وفي سورية وفي العراق، فقاتلوا قتالاً شهد لهم فيه أعاظم رجال أوربا السياسيين والعسكريين، وأثنوا على شجاعتهم وبسالتهم غاية الثناء، ولا بد أن يحفظ التاريخ أعمالهم الجليلة في إبان الحرب التي استمات فيها الحجازي والسوري والعراقي، وإني واثق بأن الأمة العربية ستنال من المغنم ما ناله غيرها من حلفائنا الذين نالوا الظفر على الأعداء. إن هذا الظفر لم يكن عسكريًّا فقط، بل هو سياسي قبل كل شيء؛ لأنه ظفر الحق على القوة، والحرية على الاستبداد! فقد انتشرت اليوم فكرة الاستقلال بين الشعوب ونقشت على أفئدتهم، فلن تزول بعد الآن. استحق العرب حريتهم واستقلالهم بفضل الدم الطاهر الذي سفكوه، وبفضل ما قاسوه من أنواع العذاب والقهر، فالأمة العربية لا تقبل اليوم أن تستعبد. كما أني أعتقد أنه ليس هنالك أمة تريد استعبادها، فرحلاتي الرسمية العديدة إلى أوربا والأحاديث والكتابات التي جرت بيني وبين ساستها، لم تُبق في نفسي مجالاً للشبهة والتردد في نوايا حكوماتها الحسنة. أيها السادة: إننا لا نطلب من أوربا أن تمنحنا ما ليس لنا به حق، بل نطلب منها أن تصدق على حقنا الصريح الذي اعترفت لنا به كأمة حية تريد حياةً حرةً واستقلالاً تامًّا , ونود أن نعيش مع سائر الأمم المتمدنة على غاية من الولاء والمحبة الخالصة , فسياستنا في المستقبل ستكون سياسة صلح وسلم مبنيةً على الثقة المتقابلة والمنافع المتبادلة , وبكلمة واحدة: سياسة تتفق مع مصالح الأمة ومنفعة السلم العام , فالعرب لا يستنكفون عن تبادل المنافع بينهم وبين الأمم المتمدنة، ولا يرفضون صداقة من يريد صداقتهم على شريطة أن لا يمس ذلك بكرامتهم , ولا يخل باستقلالهم السياسي التام. أيها السادة: إن وظيفتكم اليوم عظيمة، ومهمتكم كبيرة، فأوربا تنظر إلينا عن كثب، وستحكم لنا أو علينا بالنسبة إلى الخطة السياسية التي سنسير عليها، والأعمال التي سنقوم بها في المستقبل. فدولتنا الجديدة التي قام أساسها على وطنية أبنائها الكرام هي في حاجة اليوم إلى تقرير شكلها أولاًّ، ووضع دستور لها يعين لكل منا - آمرنا ومأمورنا - حقوقه ووظائفه في حياتنا المستقبلة التي أرجو أن يكون ماؤها الجد والعمل والإقدام. وقبل أن أختم كلامي في هذه الجلسة الخالدة أريد أن أذكركم بإخوانكم العراقيين الذين جاهدوا معكم، وأبلوا بلاءً حسنًا في سبيل الوطن، وبالواجب الذي يتحتم علينا في أمر التضامن والتعاضد لنعيش حياةً سعيدةً قويةً. وأقرئكم السلام العربي الخالص متمنيًا لكم التوفيق والنجاح في مساعيكم الوطنية، والسلام عليكم) اهـ. وبعد أن انتهت الخطبة حيا الأمير المؤتمر، وحثه على العمل بما تقضي به الحال من الجد والنشاط، ثم انصرف بين التصفيق والهتاف، وكان خبر افتتاح المؤتمر قد انتشر في أنحاء العاصمة، فأدركت الأمة أن ساعة تقرير المصير قد أزفت فقامت بمظاهرة عظيمة أمام المؤتمر طالبةً الوحدة والاستقلال التام، وقد أرسل المتظاهرون باسم الأمة كتابًا إلى المؤتمر تلاه الكاتب العامة على الأعضاء، وجاء فيه ما خلاصته: (إن الأمة صاحبة الكلمة الأولى في تقرير مصيرها تطلب من المؤتمر الذي يمثلها في هذه الساعة العصيبة أن يعلن استقلال البلاد بحدودها الطبيعية استقلالاً تامًّا، وأن يأخذ على عاتقه تبعة الدفاع عنه، ويشرف على تأليف حكومة ديمقراطية مسئولة أمامه ريثما تتم الانتخابات المقبلة لمجلس النواب، وإذا شاء أن يعلن سمو الأمير فيصل المعظم ملكًا على البلاد فليعلنه ملكًا دستوريًّا ديمقراطيًّا عادلاً، إلى غير ذلك من المطالب والاقتراحات) . ثم إن الأعضاء انتخبوا الرئيس الدائم وأعضاء ديوان الرياسة للمؤتمر، وكانت الجلسة الأولى برياسة رئيس موقت، فكان الرئيس هاشم بك الأتاسي، ثم ألفت لجنة لوضع رد على خطاب الأمير، ولم يحضر كاتب هذه السطور الجلسة الأولى إذ كان قبلها بأيام زار مدينة بيروت، وفي أثناء زيارته لها انتخبه أهلها نائبًا عنهم في المؤتمر انتخابًا قانونيًّا، وعاد إلى العاصمة مع أكثر مندوبي بيروت في يوم الأحد 17 جمادى الآخرة، وحضر الجلسة التي عقدت في مسائه فقرئت فيها مضبطةً انتخابه وقبلت، واشترك في المناقشة في الرد على خطاب الأمير وتقريره، وهذا نصه: رد المؤتمر على خطاب الأمير (يا سمو الأمير المعظم! بكل فخر وابتهاج سمع المؤتمر السوري العام الممثل للأمة السورية خطاب سموكم الذي شرحتم به الغاية النبيلة، وأبنتم موقف البلاد تجاه الأزمات الحاضرة، وأعربتم عن حسن نية الحلفاء وأقطاب السياسة إزاء استقلال البلاد العربية عامةً وسورية خاصةً، استنادًا على عهودهم ووعودهم. إن الأمة العربية في الأوطان والمهاجر يا سمو الأمير لم تقم جمعياتها وأحزابها السياسية في زمن الترك بمواصلة الجهاد السياسي، ولم ترق دم شهدائها الأحرار، وتثر على الحكومة التركية إلا طلبًا للاستقلال التام والحياة الحرة بصفتها أمةً ذات كيان سياسي ومدنية خالدة وقومية خاصة لها الحق في أن تحكم نفسها بنفسها، وقد دخلت الحرب العامة في جانب الحلفاء استنادًا إلى عهودهم المقطوعة لجلالة الملك والدكم المعظم، وللوعود الرسمية السياسية التي جاهر بها أقطاب سياستهم، واقتناعًا بتحقيق مبادئ الرئيس ولسن السامية المقررة لحرية الشعوب واستقلالها، وحفظ مصالحها، وإعطائها الحق في تقرير مصيرها كما تفضلتم في خطاب سموكم العالي، وإن ما قام به جلالة والدكم المعظم، وما قمتم به سموكم من الأعمال الجليلة كان أعظم عامل في الظفر وانتصار القضية العربية، مما أوجب ابتهاج العرب عامةً، والسوريين منهم خاصةً الذين جاهدوا معكم حق الجهاد في سبيل الوصول إلى هذه الغاية المقدسة غاية الحرية والاستقلال التام. لذلك كان الواجب الأول المتحتم على هذا المؤتمر الذي يتكلم بلسان الأمة ويعبر عن عواطفها وآمالها - ترتيل آيات الشكر والثناء على جهاد جلالة والدكم المحمود، وجهاد سموكم، وتكرار الدعاء بتوفيق جلالته وسموكم وسمو إخوتكم آل بيتكم الكريم الذين اشتركوا معكم في سبيل استقلال البلاد وتحريرها، وكانوا معكم أكبر عون لهذه الأمة في تحقيق آمالها ورغائبها. على أن وقوفكم وقفة الأبطال في ميادين الحرب لم يكن أعظم من وقوفكم موقف الدفاع عن قضيتنا الحقة في ميادين السياسة الخارجية الذي خلد لكم في بطون التاريخ أفضل الأثر. إن تنويه سموكم بالظفر الذي تم للعالم، وأنه لم يكن عسكريًّا فقط، بل هو سياسي قبل كل شيء؛ لأنه ظفر الحق على القوة، والحرية على الاستبداد - قد أثلج صدور أعضاء المؤتمر الذين اجتمعوا في هذه العاصمة بصفتهم ممثلي الأمة؛ ليقتطفوا من حدائق الحرية ثمرة جهادها المقدس، وقد زادنا اطمئنانًا تص

رزء إسلامي عظيم ـ وفاة الدكتور صدقي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رزء إسلامي عظيم وفاة الدكتور صدقي في أوائل شهر شعبان من هذه السنة 1338 فقد الإسلام رجلاً من أفضل رجاله دينًا وتقوى، وأقوى أنصاره حجةً، وأخلصهم نيةً، صديقنا الصفي الوفي وولينا وطبيب أسرتنا الدكتور محمد توفيق صدقي، المعروف عند قراء المنار في مشارق الأرض ومغاربها بمقالاته الكثيرة المفيدة من دينية وعلمية، تغمده الله برحمته، وحشره مع الذين أنعم الله عليهم من أهل كرامته، وأكثر في هذه الأيام المصابة بالقحط في الرجال من أمثاله. توفاه الله بمصر، وكاتب هذه السطور (منشئ المنار) في دمشق , واتفق أن منع البريد فلم أعلم بها إلا بعد زهاء خمسة أسابيع فعظم عليّ وقع المصاب وعلى كل من علم به من إخواننا أهل العلم والدين في الشام , ولم أستطع كتابة تأبين، ولا ترجمة له في شهر رمضان لاشتغالي بأعمال رياسة المؤتمر السوري، وقراءة درس في الجامع الكبير الأموي، والتهاب عرض لي في اللوزتين كان كلما خف يعود إلى التهيج والازدياد برفع الصوت في كل من الدرس وضبط نظام جلسات المؤتمر، وتلخيص مذكراته وطلب الأصوات على اقتراحاته حتى اضطررت إلى ترك الدرس في أفضل أوقاته، وهي العشر الأخير من رمضان، مع مشقة الصيام، وقلة المنام، وصرف وقت من الليل والنهار فيما لامندوحة عنه من لقاء الناس، حتى إنني لم أقرأ في رمضان هذا العام أكثر من ثلاث ختمات من القرآن، على أنني قرأت في رمضان العام الماضي أكثر من عشر ختمات. من غريب الاتفاق أن كانت وفاته قريبة العهد بوفاة تِربه وصِنوه في النشأة العلمية والدينية، الطبيب عبده إبراهيم الذي عَد موته نذيرًا له بالموت بمثل مرضه، وقرب اللحاق به. كتب إلي وكيلي وابن عمي السيد عبد الرحمن عاصم أنه لما علم بمرضه عَادَه وسأله عن حاله فقال: إنني محموم، وإذا كانت هي هذه الحمى تيفوسية فأنا ميت بها لا محالة. وكثيرًا ما كان ينعي نفسه في السنة التي عاشها بعد صنوه عبده إبراهيم حتى أنه في حالة صحته كان يقول: لا أدري من يربي ولدي عمر؟ وكان شرع في كتابة مقال في العقائد وأخره لينقحه وينشره في المنار، فأعطى ما كتبه إلى أهله وعهد إليهم بأن يرسلوه إلي إذا هو مات، ويبلغوني عنه إذنه لي بتصحيحه كعادته فيما يقبل في حياته من التنقيح في المعنى، إلا ما يقتنع بصحته أو يوافق نظره، فأرسلوا ما كتبه إلى الإدارة بعد وفاته، وقد نشر في هذا الجزء، وذكر لابن عمي أنه عُهد إليه بتحرير المجلة الطبية التي أنشأتها جمعية الأطباء بمصر، وقال له: ما زال المنار يرفعني حتى جعلني كاتبًا. وسنكتب له ترجمةً علميةً بعد مراجعة مجلدات المنار التي نشرت فيها مقالاته ومناظراته الدينية لبعض علماء مصر والهند، إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

القرآن كلام الله لا كلام جبريل ولا محمد عليهما السلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القرآن كلام الله لا كلام جبريل ولا محمد عليهما السلام (س1) من الشيخ محمد عريقات , وإمام مسجد عز الدين في (برنبال) غربية. حضرة صاحب الفضيلة مولانا رشيد الأمة، ومرشدها الأوحد: أعرض على فضيلتكم مسألةً علميةً أرجو التكرم بإفادتي بالقول الفصل فيها، ولكم جزيل الثواب. وهي مسألة المنزل من القرآن هو اللفظ والمعنى، أو المعنى فقط، وعبر باللفظ محمد عليه السلام، أو جبريل , كما ذكره الباجوري على الجوهرة عند قول الناظم (ونزه القرآن، أي: كلامه إلخ) مع ترجيحه للقول الأول الذي هو اللفظ والمعنى معبرًا عنه بالراجح، مع أنهم ذكروا في الأصول من شروط الترجيح التساوي في القوة، فلا ترجيح بين القطعي والظني، بل يقدم القطعي اتفاقًا، والمتبادر لي أن من المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله حقيقةً، وأنه المعجز الأكبر المتحدى به حقيقةً، كما لا يخفى هذا، ونصوص القرآن والسنة الناطقة بنزول القرآن بلفظه ومعناه كثيرة جدًّا لا تخفى على فضيلتكم، كقوله - تعالى -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا} (فصلت: 44) إلخ، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (يوسف: 2) ومثلها كثير في القرآن، وقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} (القيامة: 16) إلخ، وقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (المزمل: 5) إلخ , وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: 23) وقوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (المدثر: 25-26) إلخ، وقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} (مريم: 97) إلخ، وقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: 106) وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (النحل: 101) وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195) ثم قال بعدها: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 198-199) إلخ، وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} (الطارق: 13-14) , وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 3-4) وتتبع الآيات يطول ذكره، ولا يخفى على فضيلتكم. ومن السنة حديث متواتر ألا وهو قوله عليه السلام: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) فهل يعد ذلك القول بالقول الثاني والثالث كفرًا، كما هو ظني، أم لا؟ وهل القول بهما الآن يعد كفرًا قطعًا، كما هو اعتقادي، أم لا؟ أرجو التكرم بالقول الشافي، والجواب الكافي بالمنار الأغر في أقرب فرصة لا برحتم ملجأ للسائلين ونورًا مبينًا للمستضيئين، آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء (المنار) ورد هذا السؤال منذ سنة ونصف، وطال الأمد على نشره والجواب عنه فأعاده صاحبه بالعبارة الآتية في أوائل هذا العام إذ كنا في سورية، وهذا نصه: فضيلة إمام العصر الوحيد، مولانا الأستاذ السيد محمد رشيد، نفع الله به الأمة، وكشف به كل غمة، آمين. هل القرآن كلام الله، أو كلام محمد، أو كلام جبريل؟ وإذا كان المقطوع به المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله - تعالى - فما الداعي للخلاف الذي ذكره السيوطي في الإتقان بأن المنزل من القرآن هو اللفظ والمعنى، أو المعنى فقط وعبر عنه محمد عليه السلام باللفظ العربي، أو المعنى فقط أيضًا، وعبر عنه جبريل باللفظ العربي، وكذا ذكره الباجوري على الجوهرة مرجحًا الأول، والأمير على الجوهرة أيضًا، والخضري في مقدمة التفسير، والآلوسي في تفسير {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) الآية، فهل هذا الخلاف له أصل مقبول معقول منقول، أو أنه مدسوس على أهل الملة؟ وكيف يكون له أصل مع أن اعتقاد ظاهره كفر؟ هذه مسألة من أهم أصول الدين، ولا تقليد في الأصول فما بقي إلا أن تقوموا بتحقيق الحق وإزالة حجب الحيرة عنه، وتتكرموا بإفادتنا بالمنار أو بالبريد، ولكم الشكر، لا برحتم عضد الحق، ونوال السائلين، آمين. (ج) إن الذي ندين الله - تعالى - به عن علم يقيني راسخ هو أن هذا القرآن العربي المكتوب في المصاحف، المقروء بالألسنة باللغة العربية هو كلام الله - تعالى - المعجز للبشر ولغير البشر من الخلق، وأنه ليس لجبريل روح القدس منه إلا تبليغه عن الله - عز وجل - لخاتم الرسل عليه الصلاة والسلام كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له منه إلا تبليغه عن الله - تعالى - لمن أرسل إليهم، فجبريل عليه السلام تلقاه من الله - عز وجل - بالصفة التي تليق به - تعالى - ولا يعلمها من خلقه إلا جبريل، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقاه من جبريل بالوحي الذي لا يعرف كنهه إلا الرسل الذين تلقوا مثله عن جبريل، والصحابة سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما سمعه منهم التابعون، ومن تبعهم إلى عصرنا هذا، وكما يسمعه بعضنا من بعض بأصواتنا البشرية لا فرق بين قراءتنا له وقراءة من قبلنا إلا بما نعلمه من التفاوت في التجويد وحسن الأداء. وإنه ليعسر تعريف الكلام بحد جامع مانع تعرف به حقيقته منه كما يعسر تحديد مثله من الحقائق المعلومة بالضرورة، ومما يحسن أن يقال في تعريفه في الجملة أنه صفة من صفات العالِم، وشأن من شؤونه يتمثل به علمه في نفسه، وفي الخارج، وما يتمثل به العلم في الخارج من الكلام يصل به إلى غير صاحبه فيعلم به من يصل إليه من علم ذي الكلام ما تمثل له بصوت وحرف، أو بكتابة ورسم، أو بغير ذلك، فالإنسان منا يتكلم في نفسه فيهيئ فيها ما يريد أن يقوله لزيد أو عمرو، وينظم الشعر، ثم ينطق به, أو يكتبه، ثم يقرأه، وربما كتب شيئًا، ولم يقرأه، وإذا نطق بالكلام المتمثل في نفسه رسم نطقه في الهواء بصورة أو صفة غير التي يرسم بها في الصحف، فمن سمعه أدرك بسمعه مما رسم في الهواء عين ما هو مرسوم في لوح نفسه بصورة أخرى، وكذلك من رآه في الصحيفة يدرك مما رسم فيها غيره ما قام بنفس المتكلم، وتمثل فيها من ذلك. وقد اخترع البشر في العصر الأخير وسائل لأداء الكلام وتبليغه لم يكن يعرفها ولا يعقلها أهل العصور السابقة، كالتلغراف السلكي، والتلغراف الهوائي، أو اللاسلكي، وكل منهما مظهر من مظاهر الكلام النفسي ووسائل أدائه، ويسمى كلامًا حقيقيًّا لا مجازيًّا، وينسب كل كلام إلى من صدر عنه، وكان مجلى كلامه النفسي، فالجملة من كلام زيد من الناس يتناقلها الناس بألسنتهم وأقلامهم، وبآلات التلغراف والتلفون، وكل منهم يقول: إنها كلام زيد، فالكلام ما يتمثل به علم العالِم لنفسه أو لغيره، واختلاف صفة التمثيل للنفس ولغير النفس لا تمنع إطلاق اسم الكلام على كل منهما حقيقةً، فمن يرى في القرطاس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... يقول: إن هذا كلام امرئ القيس، ومن يسمع ذلك من لسان أي إنسان يقول ذلك , ولم يقل أحد من العرب في هذا القول الذي كتب وعلق على الكعبة , ثم كتب في الصحف وقرأه الناس: إن لفظه المرسوم في الصحيفة هو كلام الراسم، وإن الذي أنشد على الناس منه هو كلام المنشد، وإن معناه لامرئ القيس فقط، أو إن ما تمثل من هذا النظم في نفس امرئ القيس هو شعره، وما نقرأه في الكتب أو من حفظنا لمعلقته هو كلامنا، ولا إن هذا كلامه مجازًا، وذلك كلامه حقيقةً، بل أجمعوا على أن هذه القصيدة كلامه، وأنه ليس لرواتها بالقول والكتابة حظ منها إلا النقل لكلام غيرهم. وإذا قدر البشر على تمثيل كلامهم النفسي بعدة مظاهر لا يختلف مدلولها عن مدلول ما في أنفسهم، فالله - تعالى - أقدر منهم على إبلاغ كلامه النفسي لرسله من الملائكة والناس بما يليق باستعداد كل منهم، فلا غرو من أن يكون لوحيه للملائكة صفة غير صفة وحيه للرسل من البشر فيما يكلمهم به بغير واسطة المَلَك، وأن يكون لما يسمعه النبي من الملك صفة غير صفة ما يسمعه الملك من الرب - سبحانه وتعالى - ولكن الكلام واحد في جميع مظاهره لا يختلف باختلاف طرق أدائه وتبليغه، كما نعرفه في الكلام المسموع بالآذان، والمقروء في الصحف، والمأخوذ من آلة التلغراف السلكي أو الهوائي، ومثله المرسوم في الهواء، أو ما تكيف به الهواء، وبهذا المثال يظهر للمتأمل أن تجلي كلام الله - تعالى - في الألسنة والصحف والهواء وآلات التلغراف، وفي اللوح المحفوظ، وفي أنفس الملائكة والبشر - لا يخرجه عن كونه كلامه - تعالى - ولا يقتضي أن تكون صفة الكلام النفسية له - تبارك وتعالى - مشابهةً لصفة الكلام في أنفس البشر، أو غيرهم من خلقه - تعالى - ولا أن يكون تكليمه للملائكة ولموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، كتكليم بعضنا لبعض، ولكن مؤداه واحد، فالذي نقرأه أو نكتبه في المصاحف هو عين ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فتلقاه عنه بهذه اللغة العربية وهذا الأسلوب المعجز الذي يعجز عليه الصلاة والسلام كغيره من البشر عن مثله بمقتضى ملكته العربية، ولذلك نرى أسلوبه غير أسلوب الحديث، ونظمه غير نظمه، بل يكثر في الحديث من الألفاظ المترادفة، والصيغ المفردة غير ما في القرآن كلفظ (عرفة) وهو لم يذكر في القرآن إلا بلفظ (عرفات) ولفظ الصوم، وإنما ذكر في القرآن لفظ (الصيام) . ولو كان ما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من كلام الله - تعالى - هو معاني القرآن دون عبارته، لكان القرآن كلامه صلى الله - تعالى - عليه وآله وسلم، لا كلام الله تعالى؛ لأن الكلام هو العبارة التي تتجلى فيها المعاني من علم المتكلم، ومن أخذ عن غيره علمًا من العلوم ففهم منه القواعد والمسائل، ثم كتب في ذلك كتابًا، فإن ما في الكتاب من الكلام ينسب إلى كاتبه، لا إلى أستاذه الذي تلقى عنه تلك المعاني التي دونها في كتابه، والقرآن كلام الله - تعالى - نسب إليه في آيات كثيرة، كقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} (التوبة: 6) وفي أحاديث متعددة، وأجمع على ذلك المسلمون، وإنما اختلف المتكلمون منهم في نظريات فلسفية في تعريف الكلام النفسي واللفظي، وفي كونه من الصفات التي تقوم بذات الله - تعالى - أو التي لا تقوم بها. تولَّدَ منها شبهات يصادم بعضها بعضًا، وكل ما خالف منها ما فهمه جمهور السلف الصالح من نصوص الكتاب والسنة فهو مردود على أهله بالنقل القطعي الذي لا مصادم له من البرهان العقلي. وأول من أحدث هذه النظريات في الإسلام الجعد بن درهم وجهم بن صفوان، ونصرت المعتزلة نظريات جهم، وانخدع ببعضها كثير من أهل السنة، وكان الإمام أبو الحسن الأشعري من نظار المعتزلة، ثم رجع إلى مذهب أهل السنة، ولكنه لم يترك نظرياتهم المخالفة للسلف كلها دفعةً واحدةً، ومذهبه في مسألة الكلام الإلهي لم يكن عين مذهب السلف ولا غيره من مذهب المعتزلة والجهمية , وقد تبعه فيها كثير من كبار النظار، كالقاضي أبي بكر الباقلاني , وأشهر المصنفين في الكلام من أتباعه

ترجمة الطبيب محمد توفيق صدقي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة الطبيب محمد توفيق صدقي نعي إلينا صديقنا الصفي الوفي الطبيب النطاسي محمد توفيق صدقي، ونحن في دمشق الشام بعيدين عن إدارة المنار واشتغال عنها بأعمال المؤتمر السوري الذي اختارنا لرياسته هنالك، فكتبنا للمنار نبذةً وجيزةً في تأبينه نشرت في الجزء الثامن منه، ووعدنا بكتابة ترجمة مفصلة له، وبعد عودتنا إلى مصر اطلعنا على ترجمة تاريخية له في العدد السادس من المجلة الطبية الذي صدر في شهر مايو سنة 1920 فرأينا أن ننقلها في المنار، ثم نقفي عليها بما نعلم من ترجمته العلمية الإصلاحية، وهذا نص ما نشر في المجلة الطبية: المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي (ننعي اليوم إلى أهل الأدب والطب سواءً رجلاً من أندر الرجال، وعالمًا من العلماء الذين قضوا حياتهم في مزج الطب بالعلم الشرعي، وتطبيق المبادئ الإسلامية على أصول العلم الحديث، ألا وهو المغفور له الدكتور محمد توفيق صدقي الطبيب بمصلحة السجون بالقاهرة. ولد المرحوم في 24 شوال سنة 1298 هجرية الموافق 19 سبتمبر سنة 1881 فلما بلغ أشده [1] دخل المكتب فاستظهر القرآن الكريم، وذلك هو السر في ميله إلى الأبحاث الدينية، وتطبيقها على مبادئ العلوم العصرية، وفي انطلاق لسانه وجري قلمه، فمن حفظ القرآن فقد وضع يده على أعنة البيان، ثم دخل المدرسة الابتدائية، ونال إجازتها سنة 1896، ثم دخل المدارس الثانوية، ونال إجازتها عام 1900، ثم دخل مدرسة الطب، ونال إجازتها عام 1904، وكان متقدمًا على أقرانه فاستحق أن تشكره وزارة المعارف على اجتهاده بمكتوب خاص مؤرخ في 2 يوليو سنة 1904 فلما أن أتم دروسه وتخلص من عناء الامتحانات انطلق كالجواد المصلي في أبحاثه، موليًا وجهه شطر ما تشبعت به نفسه وامتلأ بحبه عقله وقلبه، وكان مجال الكتابة أمامه فسيحًا فكان يكتب تارةً في المجلات العلمية كالمنار، وتارةً في الجرائد السيارة كالمؤيد واللواء والشعب والعلم، وغيرها من أمهات الصحف اليومية، يضرب في كل مبحث بسهم صائب حتى بلغ ما كتبه من المقالات والرسائل عددًا كبيرًا عدا المؤلفات الممتعة، فمن مقالاته: 1- تحريم الخنزير ونجاسة الكلب. 2- مقالات الدين في نظر العقل الصحيح. 3- الناسخ والمنسوخ. 4- الإسلام هو القرآن وحده. 5- تاريخ المصاحف. 6- كلمة في الرق في الإسلام. 7- رسالة الخلاصة البرهانية على صحة الديانة الإسلامية. 8- ماء النيل ومضاره. 9- الربا ورأيي فيه. 10- الطلاق في الإسلام. 11- بحث في تعدد الزوجات. 12- الماديون والإلهيون فلسفة صحيحة. 13- الإصلاح الإسلامي في جملة مقالات. 14- القرآن والعلم. 15- خوارق العادات في الإسلام. 16- حجاب المرأة في الإسلام. 17- نظرة في السماوات والأرض. 18- القرابين والضحايا في الأعياد. 19- سن الزواج بالفتيات. وكثير غيرها من المقالات الخاصة بالديانات، ومن كتبه: 1- كتاب دين الله في كتب أنبيائه. 2- الجزء الأول والثاني من دروس سنن الكائنات ألفه لمدرسة دار الدعوة والإرشاد، وبالجملة فقد كان فقيدنا كاتبًا متفننًا يمزج العلم بالدين في أكثر كتاباته. وأما ما تقلب فيه من الوظائف، فإنه عقب أن نال جائزة الطب في عام 1904 تعين طبيبًا بمستشفى قصر العيني، ثم انتقل منه إلى وظيفة طبيب في سجن طره في سنة 1905، ورقي طبيب درجة أولى في سنة 1911، وأنعم عليه بالنيشان المجيدي الخامس سنة 1913، ثم نقل إلى سجن مصر ثم إلى إصلاحية الأحداث عام 1914، ثم مرض بالتيفوس، وكان مرضه شديد الوطأة عليه لم يمهله إلا أسبوعًا حتى فارق الحياة الدنيا منتقلاً إلى جوار ربه في يوم الأربعاء من شهر إبريل سنة 1920 الموافق اليوم الثاني من شهر شعبان المعظم سنة 1338، فرحمه الله وغفر ذنوبه) اهـ. (المنار) إننا نستغفر الله - تعالى - كل يوم مرارًا، أي: نسأله أن يغفر ذنوبنا، ونعتقد أن كل بشر محتاج إلى مغفرة الله - تعالى - وعفوه، وإننا على هذا الاستغفار والاعتقاد فقد استغربنا من المجلة الدعاء لهذا المترجم بالمغفرة بعد الرحمة دون غيره ممن ذكرت خبر وفاتهم في هذا العدد من الأطباء، وهم أربعة ختمت الكلام في تراجمهم الوجيزة بالدعاء لهم بالرحمة الواسعة، والدعاء بالمغفرة للمترجَمين غير معهود في الجرائد والصحف، فكان هذا وما ذكر قبله من التخصيص سببين للاستغراب، والمتبادر لنا أن القلم جرى بهذا التخصيص بغير قصد فليس تعريضًا بأن المترجَم كان من المعروفين بارتكاب الذنوب، بل هو معروف بالصلاح والتقوى، وممتاز بين الأطباء وغيرهم من أهل العصر بذلك. *** سيرة الفقيد العلمية والإصلاحية وشيء من سيرة تِربه الطبيب عبده إبراهيم لا يعنى المنار بترجمة أحد من الموتى إلا إذا كان في ترجمته عبرةً في الإصلاح الديني أو الاجتماعي، فهو لا يحفل بترجمة أرباب المناصب والمظاهر الدينية ولا الدنيوية إذا خلت من هذه العبرة، وقد يهتم بسيرة من ليس له مظهر كبير إذا كانت مشتملةً على ما يفيد القراء منها، وصديقنا الطبيب محمد توفيق صدقي لم يكن من أصحاب المناصب الدنيوية، ولا من الخاملين المغمولين، بل كان -رحمه الله تعالى - من طبقة الوسط التي هي خير الطبقات، وأهل الطبقة العليا في المناصب والمظاهر الدنيوية يقل أن يوجد فيهم رجل من أولي الفضيلة والإصلاح، وأقل هؤلاء من ارتقى إلى المناصب العالية بسيرته الإصلاحية، كشيخنا الأستاذ الإمام. كان الفقيد يقرأ المنار منذ كان تلميذًا في المدرسة الخديوية، وقراءة المنار هي التي بعثت ما في فطرته من الاستعداد للبحث والنظر والاستدلال في العلم والدين كما كان يقول، وكان صديقه ورفيقه في المدرسة عبده إبراهيم على شاكلته في هذا الاستعداد، ولكنه لم يوفق للكتابة كصنوه الروحي وتربه صاحب الترجمة، فلم يكن له آثار تكون له ترجمةً إصلاحيةً خاصةً، ولكنه كان مصلحًا في آدابه وأخلاقه ومناظراته وسيرته في أهله ووطنه، ومن البر بهذين الأخوين الروحيين أن نمزج سيرة أحدهما بسيرة الآخر. كان أول ما كتبه محمد توفيق صدقي من المباحث الدينية العلمية مقالات (الدين في نظر العقل الصحيح) التي نشرت في المجلد الثامن من المنار (ص 330، و417، و693، و132، و771) وقد علقنا عليها بعد الانتهاء من نشرها هذه الجملة في (ص782، و783 م8) . (المنار) السبب في كتابة هذه المقالات هو أن كاتبها كان يحب البحث عن كل ما يعرض له من الشبهات على الدين، وهو تلميذ في مدرسة الطب، ولهذه الشبهات مصدران: التعليم الجديد، ودعاة النصرانية الذين يعرضون لتلاميذ المدارس بأبلغ مما يتصدون لغيرهم، وكان له رفيق في المدرسة اسمه عبده أفندي إبراهيم عرفناهما منذ سنين إذ كانا يرجعان إلينا في بعض مباحثهما، ويعرضان علينا أهم ما يشتبه عليهما كمسألة الروح، والبعث، وغير ذلك، وكنت أظن أنه لا يوجد في مصر من يطلب العلوم الدينية لأجل الاقتناع والإذعان والقدرة على الإقناع والبيان، إلا هذان التلميذان، وأحدهما مسلم والآخر قبطي، كانا يأخذان المسألة من مسائل الاعتقاد فيدققان فيها النظر، ويتناصفان في المناظرة إلى أن يتفقا على أن الحق فيها كذا، فما خرجا من المدرسة إلا وقد خرج المسلم من شكوكه في دينه، ودخل القبطي في الإسلام البرهاني الصحيح. فهو المسلم على بصيرة تامة وفهم لبراهين الدين وحكمه، ثبتنا الله وإياه. وهذه المقالات هي صورة اعتقادهما الذي هداهما إليه ربهما بعد إطالة النظر والاستدلال عدة سنين، وأكثر ما فيها من المسائل في الألوهية والنبوة وفهم القرآن مقتبس من رسالة التوحيد للأستاذ الإمام، ومن التفسير المقتبس عنه في المنار، ومن مقالات أخرى في المنار، لا تقليدًا بل اقتناعًا بالنظر والاستدلال، وللكاتب مسائل كثيرة هداه إليها البحث والتنقيب ومراجعة كتب المسلمين والإفرنج لا سيما في رد شبهاتهم كما رأيت، وهو يدعو من خالفه في شيء مما كتبه إلي المناظرة بشرط أن يكون الحكم بينهما الدليل القطعي، وما هو إلا العقل والقرآن والسنة المتواترة؛ لأن المقام مقام تأييد الاعتقاد، وهو لا يكون بأخبار الآحاد، ولا بتقليد الآباء والأجداد. وكأني ببعض الشيوخ المقلدين، وقد أنكروا عليه بعض المسائل التي انفرد بها، أو وافق بعض العلماء المخالفين للجمهور كمسألة ابن السبيل، ومسألة النسخ، فالهَيِّن الليِّن منهم يعذره، والجامد المتعصب يغلظ عليه، وإن كان قد خرج بهذه الطريقة من الشك إلى اليقين، وخرج صاحبه من النصرانية ودخل في الإسلام، وإن تقاليدهم لتقصر عن ذلك، ولو راجعهم في شبهاتهم لما رجع إلا بالجحود والإلحاد {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) اهـ ما نشرناه يومئذ في المنار (سنة 1323) . هذا ما نشر في المنار من مبدأ سيرة هذين الفرقدين منذ 15 حولاً، وإنني أزيده إيضاحًا بما علمته منهما في ذلك العهد: كان كل منهما قد عرض له الشك في دينه فلم يكونا موقنين ولا مكذبين، والشك هو الذي حملهما على البحث والنظر على قاعدة أبي حامد الغزالي: من لم يشك لم ينظر إلخ، ولكن ما كل من يشك ويتحير، يبحث وينظر، وما كل من يبحث وينظر، يجدّ ويخلص ويثبت حتى يعلم ويوقن، وإنما ذلك شأن أصحاب الفِطر السلمية، والأنفس الكريمة، وما أكثر من كان حول هذين التلميذين في مدرسة الطب من التلاميذ الشاكين الراضين بشكهم وحيرتهم، التاركين للنظر والاستدلال حتى انتهى بهم ذلك إلى التعطيل والإلحاد، ويحسبون أنهم في ذلك على علم، وإنما هم في غمرة من الجهل. بدأ ذانك التلميذان الفاضلان بحثهما فيما عرض لهما من الشبهات على أصول الدين المطلق: - وهي الألوهية والرسالة والبعث - ثم جعلا من وقتهما مواعيد معينةً للبحث في كل أصل من هذه الأصول فبدءا في مسألة وجود الخالق وتوحيده وصفاته، وكانا يراجعان في ذلك بعض كتب الكلام، وبعض مباحثه في غير كتبه الخاصة كتفسير الرازي , ويرجعان إلى كاتب هذه الترجمة و (صاحب المنار) فيما يشكل عليهما فهمه أو تستعصي شبهته، فانتهى بهما البحث والنظر إلى الإيمان اليقيني بوجود الله - تعالى - ووحدانيته واتصافه بصفات الكمال، وتنزهه عن كل نقص، ثم شرعا في النظر والاستدلال على بعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فرسالة خاتمهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكون القرآن كلام الله - تعالى - وعلى البحث والجزاء، فثبت عندهما كل ما ذكر في زمن طويل. ومما أتذكره من شبهاتهما وشذوذهما في أثناء البحث في مسألة الروح والبعث أنهما كانا قبل أن أقنعتهما بوجود الروح للبشر مستقلة في وجودها، قد اقتنعا بعقيدة البعث الجسدي فكان هذا من أغرب ما عرض لهما من الشذوذ. وبعد أن صح إيمانهما نظرًا واستدلالاً بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر بقي لهما شبهات مشكلة في بعض آيات القرآن لمخالفة بعض المباحث العلمية والتاريخية لها فزالت بالتدريج، وأذكر أن المرحوم عبده إبراهيم جاءني مرةً وجلس إلي في مكتبي، ثم أخرج المصحف الشريف من جيبه، وقال لي: إنني مستشكل في آيات معدودات وضعت عليها علامات فأحببت عرضها عليك رجاء إزالة الإشكال، ثم طفق يتلوها علي، وكلما تلا آيةً عرفت وجه استشكاله إياها، ففسرتها له بما يزيل إشكاله ويقنعه، حتى إذا ما أتمها قال بصوت مؤثر منبعث من أعماق قلبه: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله) . وأخبرني أنه غير عازم على إثبات إسلامه في المحكمة الشرعية؛ لأنه مؤمن مسلم لل

الرد على جريدة القبلة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرد على جريدة القبلة جاءتنا رسالة لأحد علماء نجد في الرد على ما نشر في جريدة القبلة من الطعن في دين الملقبين بالوهابية من أهل تلك البلاد، وفي هذه الرسالة أن لصاحبها رسالةً أخرى في الرد على تلك الجريدة نشرت قبلها، وقد اقترح علينا نشر هذه الرسالة، فحال دون ذلك عدة موانع، أهمها: شدة عبارتها في التشنيع على المردود عليه، وكوننا نرى أن التمادي في هذه الردود ضرره أكبر من نفعه، ولكننا نذكر منها عبارةً في الرد على ما جاء في المنشور الذي نشر في تلك الجريدة وسبق لنا نقله عنها في الجزء الخامس من هذا المجلد (21) من قوله: (فتبجحهم بقولهم: إن العالمَ سيبعث، شاء المولى أو لم يشأ) وقوله: إنهم تظاهروا بهذه الشناعة (وأباحوا دماء من لم يجب دعاتهم على اعتقادها وأمثالها وبدأوهم بالقتال، واستحلوا أموالهم وأنفسهم، فكيف لا يقال والحالة هذه بقتالهم) هذه عبارة المنشور بحروفها. وإننا عندما اطلعنا على هذه التهمة دهشنا؛ لأن اعتقاد وقوع كل شيء في العالم بمشيئة الله - تعالى - وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن من المسائل الإجماعية التي لم تدخل في باب من أبواب الخلاف التي بولغ فيها بين الوهابية وخصومهم، ورأينا هذه الرسالة قد أنشئت للرد على هذه التهمة بعد مقدمة وجيزة فيما كان من قيام الشيخ محمد عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - بتجديد الدين في بلاد نجد وغيرها، وإرجاع الجماهير من العرب الذين كانوا على جاهلية شر من الجاهلية الأولى إلى الكتاب والسنة قولاً واعتقادًا وعملاً. قال الكاتب في الرد على قول المنشور: (فتبجحهم بقولهم: إن العالم سيبعث) بعد تصحيحه بأنهم يقولون: (إن الله سيبعث العالم) لا إن العالم سيبعث - بصيغة الفعل المجهول - ما نصه: (نعم إننا نتبجح بذلك ونعتقده وندين الله به؛ إيمانًا بالله وباليوم الآخر، وتصديقًا لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من ذلك عن ربه، ولا ينكر ذلك ويشك فيه إلا كافر معاند) ثم أورد عشر آيات من القرآن الكريم في إثبات الاستشهاد والحجة، وذكر أن الآيات في ذلك كثيرة. ثم قال: (وأما قوله عنا: إننا نقول: شاء المولى أو لم يشأ، فهذا من الكذب والبهتان ... وقول الزور {مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) وبعد تشنيع القول على قائله شرع يناقشه في عبارته، فقال في قوله: (إن العالم سيبعث) إنه يوهم ببنائه للمجهول أن الباعث للعالم غير الله - تعالى - شاء المولى ذلك أو لم يشأه، والله - سبحانه وتعالى - لا غالب له، ولا مكره له، ولا إله غيره، ولا رب سواه {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} (مريم: 93) إلخ ما أورده من الآيات في ذلك، وفيما روي عن السلف في تفسيرها، ثم شرع يناقشه فيما رد به على هذه التهمة الباطلة، وأورد في أثناء ذلك آيات كثيرةً في قيام الساعة والبعث. ثم انتقل من ذلك إلى تفنيد قوله: (وأباحوا دماء من لم يجب دعاتهم على اعتقادها وأمثالها) , فقال: إن هذا من الزور والبهتان. وكذَّب أيضًا قوله: إنهم بدأوهم بالقتال، فقال: بل هم الذين بدأونا وزحفوا علينا بالجنود الهائلة العظيمة، والكيد الشديد والعدد والعدة التي ما عليها من مزيد، واستحلوا دماء المسلمين الذين كانوا في (بلدة تربه) وأموالهم واستباحوا نساءهم، وأكثروا في البلد الفساد {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} (الفجر: 13) بشرذمة قليلة من سرايا المسلمين {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} (الأعراف: 119) إلخ ما أورده في وصف تلك المعركة. نكتفي بهذه الجملة من رسالة الرد، ونعتذر للكاتب عن نشرها كلها بأنه يزيد نار الخلاف والتفرق اشتعالاً بما فيه من شدة الطعن، ونحن نريد إطفاء هذه النار وإصلاح ذات البين، وإنما لخصنا منها ما لخصنا ليعلم أصحاب جريدة القبلة أن ما نقل إليهم في ذلك كذب، وتَقوُّل على النجديين حتى لا يثقوا بعدُ بهذه النقول، ويتبينوا إذا جاءهم فاسق بأمثال هذه الأنباء، كما أمر الله تعالى. وإننا نرجو من الفريقين الكف عن طعن بعضهم في بعض، كما اقترحنا عليهم من قبل، والاكتفاء في مسائل الخلاف بالحجة والبرهان {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة: 7) .

الرحلة السورية الثانية ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (3) مخمصة الحرب وسوء أثرها لم أسمع من أهل دمشق من أخبار الجوع والعري إبان مخمصة الحرب إلا قليلاً من كثير مما سمعت من أهل لبنان والساحل، فدمشق كجزيرة في بحر عظيم من الجنات، والبساتين، وأجنادها ورساتيقها، وذات خصب عظيم، ولم يكن للترك من السلطات على إهراء غلالها في حوران وجبل الدروز ما كان لهم على غلال لواء طرابلس وحمص وحماه , بل كانوا يشترون القمح من الدروز بالثمن الغالي، ويدفعون ثمنه من الذهب الأحمر، لا من ورق النقد الذي ما كان يروج إلا بثلث قيمته أو ربعها، فلهذا لم يكن شد خناق المجاعة على أهل دمشق محكمًا كخناق لبنان وبيروت وسائر السواحل؛ لذلك كان أكثر من مات فيها جوعًا من الذين هاجروا إليها لا من أهلها، على أن الكثير منهم قد باعوا أثاث بيوتهم وجميع ما يملكون، وبذلوه في ثمن القوت. وأما ما جرى في السواحل وجنوب لبنان، ولا سيما قضائي التن وكسروان منه فهو فوق ما كانت تشرحه الجرائد في مصر , ويظنه أكثر أهلها من المبالغات التي يقصد بها الطعن في حكومة الترك، فالحق أن كل ما وصفته كان دون الذي وقع، وقد ثبت عندي أن بعض الناس كانوا يأكلون ما يجدونه في المزابل والطرق رطبًا يمضغ، أو يابسًا يكسر، وأخبرني في بيروت من رأى بعض الأولاد الصغار رأوا رجلاً قاء في الطريق فتسابقوا إلى قيئه وتخاطفوه فأكلوه، وثبت عندي أكل الناس الجيف حتى ما قيل من أكل بعض النساء لحوم أولادهن، والعياذ بالله تعالى. وأخبرني كثيرون في بيروت وطرابلس أن الناس كانوا يرون الموتى في الشوارع والأسواق، والمشرفين على الموت من شدة الجوع، ولا يبالون بهم ولا يرثون لأنين المستغيثين منهم، فقد قست القلوب وكزت الأيدي حتى من الذين كانت تتضاعف ثروتهم من الاحتكار الذي ضاعف البلاء وعظم به الشقاء، فقد كان هؤلاء وغيرهم من الموسرين تستطاب لهم الألوان المتعددة، وكانوا يقيمون المآدب للولاة وقواد الجيوش الذين صبوا كل هذا العذاب على الأمة والبلاد حتى الطاغوت جمال باشا، وأما حفاوتهم بأنور باشا ومن زار البلاد السورية معه فلم يسبق لها نظير في أيام الرخاء، وكان الحكام ورؤساء البلديات يهتمون بنقل جثث الموتى والمشرفين على الموت من الطرقات التي يمر فيها أنور باشا أو جمال باشا أو والي بيروت؛ لئلا يتألم شعوره الحجري برؤية ذلك، وأنى تتألم الصخور؟ وقد قيل لي: إن بعض الوجهاء قال لأنور باشا على مائدة جمعت أفخر ألوان الطعام من خبز الحوارى [1] واللحوم والحلوى والفاكهة: إننا في ظل عدل الدولة العلية ورحمتها نتمتع بكل هذه الطيبات، أو ما هذا معناه. ثبت في آيات القرآن الحكيم أن الشدائد تمحص المؤمنين وتمحق الكافرين , وقد ثبت أن شدائد هذه الحرب ما زادت أكثر الناس في كل البلاد إلا فسادًا وفسقًا وفجورًا، وكان الأغنياء والفقراء في ذلك سواءً إلا من عصم الله: الأغنياء ازدادوا قسوةً وبخلاً وإسرافًا في الشهوات وكفرًا بنعم الله وإعراضًا عن شكرها، والفقراء استباحوا جميع الفواحش، وتركوا جميع الفرائض مع الاعتراض على الله عز وجل، حتى إنهم تركوا فريضة الصيام مع فقد الطعام، فلم يكن المسلمون (جنسيةً) ينوون الصيام في رمضان، وإن كانوا في شك أو ظن راجح بأنهم لا يجدون في النهار ما يأكلون، ومهما يُصِب أحدهم من لماج - هو أدنى ما يؤكل - كان يلتقمه، ولو قبيل غروب الشمس، ولم يكن الباعث على ذلك عدم الطاقة على احتمال الجوع، بل مراغمة الشارع ومعاندة الخالق سبحانه , وكانوا يصرحون بذلك، وأكثر ما نُقل منه نُقل عن النساء اللواتي هن أشد إذعانًا للدين وخضوعًا لشعوره، وأكثر محافظةً على الصيام: كانت إحداهن تقول: لا أصوم له ولا أصلي له وقد فعل بي كذا وكذا، والأخرى تقول: ليرجع لي ولدي من القبر أو من العسكر أصم له. ومثل هذا كثير , فأمثال هؤلاء ليسوا من المؤمنين الشاكرين الصابرين، فتمحصهم الشدائد وتطهرهم، بل من الكافرين بدين الله ونعمه كلهما أو أحدهما. فزادتهم رجسًا إلى رجسهم ومحقتهم، بل محقت أممهم بهم. وقد بغضت إليهم سيرة الحكومة السوءى فيهم خدمة العسكرية، ولولا ذلك لفضلوها على تلك المجاعة القاتلة التي كان سببها مصادرة المواد الغذائية لأجل الجند، أو باسم الجند، وكأين من أسرة كبيرة انقرض جميع أفرادها إلا من دخل الجندية منهم وسلموا أو سلم بعضهم، وقد حدثونا عن أسرة كبيرة في ميناء طرابلس كانت مؤلفةً من 27 نسمة دخل الجندية سبعة شبان منهم فسلموا كلهم، وهلك العشرون من كبار وصغار، وما هلكوا إلا جوعًا، وأمثال هذه الحكايات كثيرة. وميتة الجوع شر من ميتة القتل في الحرب؛ فإن أكثر الذين يقتلون في الحرب هذا الزمان تزهق أرواحهم في طرفة عين بغير ألم يذكر، وإنما الذي يذكر تألم الجرحى وتشويههم على شدة العناية بمعالجتهم، وأما موتى الجوع فلا يموتون إلا بعد آلام بدنية ونفسية شديدة طويلة الأمد، فيهزلون ويضوون أولاً من قلة الغذاء ثم بفقده، حتى إذا ما وَهَت قواهم الحيوية، وضعف تماسك عضل أبدانهم دب فيها الورم كما يدب في جثث الموتى، ومنهم من يصاب قبل ذلك بالكلب، أو ما يشبهه، ومن يعتريهم الجنون، والعياذ بالله - تعالى - ولا فائدة الآن في إطالة وصف هذا الرجز الأليم. *** فائدة التدين في الشدائد من أعظم فوائد التدين في هذه الحياة الدنيا أنه يخفف آلامها، ويهون على النفس مصائبها، وذلك ثبت بالنظر والتجربة معًا، ويعرفه المتدينون والملاحدة المعطلون جميعًا، وقد سمعنا بآذاننا بعض المعطلة الذين أصيبوا بالأمراض المزمنة ونحوها من المصائب العظيمة يتمنون لو كانوا مؤمنين ليكون لهم بعض العزاء والسلوى باحتساب الأجر عند الله - تعالى - ورجاء النعيم في الدار الآخرة، فإنهم يعرفون هذه الفائدة من فوائد الدين بالنظر العقلي، والعلم بغرائز البشر، وبما يشاهدون من صبر المؤمنين وجزع المعطلين. وليست هذه الفائدة لمن يدينون دين الحق الخالص من شوائب الشرك خاصةً بل هي عامة يجدها في نفسه كل من يؤمن بأن للعالم إلهًا، وأن بعد هذه الحياة الفانية حياة دائمة، يثيب الخالق فيها المؤمنين الشاكرين، ويعذب الكافرين المجرمين، وإنما أعني إيمان الإذعان لهذا السلطان الأعلى على العقل والوجدان، وإن كان تقليديًّا قائمًا على غريزة الفطرة، غير مؤيد بالبرهان والحجة، ولا شك في أن الذين فقدوا هذه الفائدة اللازمة للدين في أثناء المخمصة وغيرها من مصائب الحرب على شيء من الإيمان الإذعاني البرهاني لا الفطري، وكل ما كانوا عليه من الدين لا يعدو التقاليد الجافة التي لا منشأ لها في النفس غير التعود بمحاكاة الأهل والأقربين ومجاراة المعاشرين، وما يوافق منها أحكام الإسلام عند المستحلين لاسمه فإنما يوافقها في صورته لا في روحه وحقيقته. ألم تر أنهم كانوا يعللون تركهم للصلاة والصيام بما يدل أنهم يظنون في الله غير الحق ظن السوء، وأن الله - تنزه وتعالى - محتاج إلى صلاتهم وصيامهم، فهم لا يبذلون لها ما يحتاج إليه منهم إلا إذا بذل لهم ما يحتاجون إليه منه جزاءً وفاقًا {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (الزمر: 7) {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل: 40) {فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 43) . *** مهانة هذه الأمة ودناءتها ألا إن أعضل أدواء هذه الأمة هو السفالة والمهانة والخمود والضعة، وما شئت فاذكر من الكلم المقابل لعلو الهمة والعزة والرفعة، فالمؤمن ضعيف في إيمانه، والكافر دنيء في كفره، والباذل مُراءٍ في بذله، والبخيل غبي في بخله، والعفيف خامل في عفته، والشهواني سافل في تمتعه، والقنوع عاجز في قناعته، والمشتغل بالعلم مقلد في علمه، والصالح بليد في صلاحه، حتى إن محب الجاه والعظمة فيها ذليل في عجبه وكبريائه، فلا تجد شعبًا من شعوبها ولا حزبًا من أحزابها ولا جمعيةً من جمعياتها، بل لا تكاد ترى فردًا من أفرادها ذا مقصد عالٍ كبير يبذل في سبيله النفس والنفيس بعزيمة قوية وإرادة ثابتة، وحكمة راسخة، لا يثنيه عن السعي له حيف وقع، ولا خوف من خطر يتوقع، إلا ما قام به الشعب المصري بعد أربعين سنةً من نبات النواة التي ألقاها في أرضه مصلح الشرق وحكيمه في هذا العصر السيد جمال الدين الأفغاني، وتعاهده بعده خليفته الأستاذ الإمام، طيب الله ثراهما. وأما الشعوب العثمانية فقد مسخ الحكم التركي أخلاقها وأفكارها بسوء الإدارة، وفساد التربية، والتعليم في المدارس، وزادهم اختلاف أساليب التربية والتعليم في المدارس الأجنبية فسادًا، ولا سيما في سورية حيث تكثر هذه المدارس. وتفصيل القول في بيان هذا الأمر من الجهتين الاجتماعية والدينية لم يأت أوانه، إنما أذكر في هذا الفصل كلمةً وجيزةً فيما كان من إفساد الأخلاق والآداب برزايا الحرب ومخمصتها، وجرائر السلطة العسكرية وقسوتها. اشتعلت نيران الحرب فاستباحت الدول المتقاتلة لأنفسها إبطال الشرائع والقوانين في زمنها، وجعل الحكم الفصل لأمراء العسكر وقواد الجيوش لا في ميدان القتال فقط، ولا على الجنود خاصةً، بل وسعت حدود سلطتهم حتى شملت كل ما يحتاجون إليه للحرب من أموال الناس وأقواتهم ومواشيهم ودوابهم ومركباتهم وأنفسهم، وأي شيء لا يحتاجون إليه، وهم بشر حاجهم حاج البشر، وهم الذين يقدرون الحاجة ويحكمون وينفذون، لا استئناف لحكمهم ولا راد لأمرهم ‍‍!! وإنما كانت تتفاوت تصرفاتهم في غصب أموال الناس ومتاعهم باسم الشراء وتقدير الأثمان ودفعها أو تأجيلها - بتفاوت تربيتهم الدينية والنظامية، وتختلف باختلاف أحوال من يتصرفون فيهم من أبناء جنسهم أو الخاضعين لحكمهم من غيرهم، وأغرب ما نقل إلينا من أخبار جور ضباط الترك في سورية أنهم كانوا يأخذون من البزازين ما يصلح للجند من نسيج القطن والصوف، وما لا يصلح لهم حتى ما هو خاص بالنساء من الحرير والشنوف والمناديل والقفافيز والجوارب الحريرية والأعطار. هلعت أفئدة الناس من كل الأمم في أول العهد بالحرب، واستيقظ الشعور الديني في قلوب طال نومه فيها كأنه ميت لا أثر له في شيء من أعمال الحياة، وحدثنا من كان بباريس من المصريين أن الكنائس صارت في ذلك العهد تضيق على رحبها بالمصلين الخاشعين لله بعد أن كانوا يُلِمون بها إلمام السائح الراغب في رؤية الآثار وتعرف الأطوار، فلا يرون فيها حتى في أوقات الصلاة من أيام الآحاد إلا بعض العجائز والأطفال. ومما عرفنا من أخبار بلادنا السورية ممن فر إلى مصر في أثناء الحرب، ومما كان يصل إلى الجرائد الإفرنجية والمصرية أن مصائب الحرب أزالت ما كان بين الملل والطوائف من نفور وضغن، وأشعرت قلوبهم عواطف التراحم والتعاون، فكان صاحب الرغيف يقسمه بينه وبين الفاقد لمثله من صاحب أو جار قريب أو بعيد، ولا يضن بمقاسمة الجائع المجهول بل ذا القربى والرحم. فلما طال الأمد ورأى الناس ما رأوا من سوء تصرف القواد الجبارين، والحكام الظالمين، والأغنياء المترفين، دبت إليهم عدوى القدوة ا

استقلال مصر وحقوق إنكلترة فيها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استقلال مصر وحقوق إنكلترة فيها على أثر انتهاء الحرب الكبرى، وإعلان الهدنة سعى سعد باشا زغلول الزعيم الكبير الشهير مع بعض أصدقائه إلى نائب ملك الإنكليز بمصر السير ريجلند ونجت طالبين منه إلغاء الحكومة العرفية، ورفع المراقبة على الصحف، فناقشهم مناقشةً صرحوا له في خلالها بعزمهم على السعي لاعتراف حكومته وغيرها باستقلال البلاد المصرية، وحرية المصريين، ثم إن سعد باشا ألف وفدًا لأجل القيام بهذا السعي بمصر وأوربة وكل مكان يمكن السعي النافع فيه، وأخذ الوفد وثائق بتوكيل الأمة له بذلك من أعضاء الجمعية التشريعية، وغيرها من الجماعات، وأفراد الزعماء، ثم نشر الوفد منشورات بَيَّنَ فيها مراده، وبلغ معتمدي الدول العظمى ورئيس جمهورية الولايات المتحدة ذلك، وتبرع أغنياء الشعب بعشرات، بل مئات الألوف من الجنيهات له للاستعانة بها على السعي الذي انتدب به، وكان من أمر الوفد وما ترتب على تأليفه وأعماله ومعاملاته ما بيناه في مقالة، عنوانها (التطور السياسي والديني والاجتماعي بمصر نشرت في الجزء الخامس من هذا المجلد (ص 274) فليراجعها غير الواقف على ذلك من غير أهل هذه البلاد، ونقفي عليه بأنه لما صدر أمر الحكومة الإنكليزية العليا بالإذن للزعماء الأربعة، (وهم الباشوات، سعد، وحمد الباسل، ومحمد محمود، وإسماعيل صدقي , ولمن شاء من أعضاء الوفد وغيرهم بالسفر إلى حيث شاءوا من أوربة، فسافر الأربعة إلى فرنسة , وتبعهم آخرون من مصر إلى باريس , وأرادوا رفع قضية مصر إلى مؤتمر الصلح فلم يسمع لهم قولاً، ولم تكن الجرائد الفرنسية تنشر لهم ما يريدون نشره، ولكنهم ثبتوا على جهادهم حتى أسمعوا الصم قضيتهم. ثم إن الحكومة البريطانية ارتأت أن ترسل إلى مصر وفدًا يرأسه اللورد ملنر لأجل مذاكرة كبراء المصريين، والوقوف على آرائهم في إدارة بلادهم، والاتفاق معهم على وضع نظام لاستقلال إداري واسع مع بقاء الحماية البريطانية، فلم يكد هذا النبأ يصل إلى مصر حتى بث أنصار الوفد المصري الدعوة في طول البلاد وعرضها إلى رفض قبول هذا الوفد، ووجوب مقاطعة الأمة له، وعدم مذاكرته والبحث معه، وإعلامه بأن الأمة مجمعة على تفويض أمرها إلى الوفد المصري الذي يرأسه سعد باشا زغلول، ولم يصرف ذلك الحكومة البريطانية عن إرسال لجنة ملنر إلى مصر، ولكن المصريين نجحوا في مقاطعتها، وكان يوجد في البلاد أفراد يرون أن البحث معها مفيد، وأن مقاطعتها ضارة، ولكنهم لم يستطيعوا مخالفة الأكثرية الساحقة فأقامت اللجنة مدةً طويلةً لم يراجعها أحد من الجماعات والأفراد في شيء، ولكن اللورد ملنر استحسن أن يفتح باب المذاكرة مع أفراد من الكبراء بزيارته إياهم في بيوتهم، والحديث معهم بصفة غير رسمية، ولا مبنية على الاعتراف بالحماية، فزار شيخ الجامع الأزهر، ومفتي الديار المصرية، وبعض الكبراء فلم يسمع من أحد إلا كلمةً واحدةً، وهي تفويض الوفد المصري بطلب الاستقلال التام فلا بد من مراجعته في ذلك. ثم عاد وفد ملنر إلى إنكلترة , وراسل سعد باشا في أمر الاتفاق على المسألة المصرية، فاشترط سعد باشا أن تكون المذاكرة مبنيةً على قاعدة استقلال مصر استقلالاً تامًا، ورفع الحماية عنها مع ضمان مصالح إنكلترة فيها فاتفقا على ذلك، وجاء الوفد (لندن) عاصمة إنكلترة، فقوبل بالترحاب من لجنة ملنر ومن الحكومة، وبعد عقد جلسات كثيرة سرية بين اللجنتين وضعت قواعد للتفاق لم يقبلها الوفد المصري؛ لأنها لا تضمن الاستقلال التام المطلق الذي وكلته البلاد بطلبه، ولم يرفضها؛ لأن فيها استقلالاً تامًّا لكنه مقيد بمعاهدة تضمن لإنكلترة حقوقًا عظيمةً تقيد مصر بقيود ثقيلة، وتسكت عن إلحاق السودان بمصر، فارتأى الوفد أن يرسل أربعة مندوبين لاستشارة الأمة، والاستنارة برأيها في مشروع هذه المعاهدة، فإن قبل الرأي العام أن تكون هذه القواعد أساسًا لوضع المعاهدة بين الحكومتين استأنف الوفد المذاكرة مع لجنة ملنر لوضعها؛ على أنه يشترط لقبولها نهائيًّا موافقة مجلس الأمة البريطانية (البرلمان) عليها من قبل إنكلترة، وموافقة مجلس منتخب من الأمة المصرية عليها من قبل مصر. استقبلت الأمة المصرية مندوبي وفدها في الإسكندرية , والقاهرة بحفاوة عظيمة، وقد نشروا عليها ما جاؤوا به من قواعد الاتفاق، ووقفوا على الرأي العام فيها بالمذاكرات الشفوية مع الجماعات التي تمثل طبقات الأمة، ومع الأفراد الكثيرين من الأفراد المشهورين، وبما نشروا في الجرائد، وإننا نبدأ بنشر بلاغ المندوبين، وما أوضحوه، ثم نقفي عليه ببيان رأي الأمة فيه. *** بلاغ من مندوبي الوفد المصري في قواعد الاتفاق بين إنكلترة ومصر في الطور الحاضر للمسألة المصرية قد يكون من مقتضيات التقاليد، ومن الأكثر مناسبة لمهمة أعضاء الوفد المنتدبين إلى مصر أن لا تنشر بنصوصها القواعد التي اعتبرت أساسات للاتفاق المرغوب فيه بين بريطانيا العظمى وبين مصر قبل أن تأخذ هذه القواعد نهائيًّا شكل معاهدة رسمية ممضاة من معتمدي الحكومتين على الطريقة العادية - ولكن الحالة النفسية للرأي العام المصري من حيث تعطشه للوقوف على نصوص تلك القواعد، والرغبة في جعلها مهمة الأعضاء المندوبين من قبل الوفد أقل صعوبةً، وأكثر إنتاجًا - كل ذلك يجعل نشر تلك النصوص برمتها وعلى حالها أمرًا ضروريًّا، كما يجعل تكرير البيان للمهمة المذكورة آنفًا أمرًا غير عديم الفائدة حتى يقر في النفوس أن الغرض المقصود ليس هو أخذ رأي الأمة نهائيًّا في هذا الاتفاق؛ إذ محل ذلك هو أن يكون بعد إمضاء المعاهدة لا قبله، وأمام الجمعية الوطنية التي تنتخب خصيصًا لهذا الغرض، بل المقصود هو أن يستنير الوفد برأي موكليه حتى يعلم إذا كان الرأي العام موافقًا على أن هذه القواعد في مجموعها تصلح أساسًا للمعاهدة. 1- مذكرة بقواعد الاتفاق 1 - لأجل أن يبنى استقلال مصر على أساس متين دائم يلزم تحديد العلاقات ما بين بريطانيا العظمى ومصر تحديدًا دقيقًا، ويجب تعديل ما تتمتع به الدول ذوات الامتياز في مصر من المزايا وأحوال الإعفاء، وجعلها أقل ضررًا بمصالح البلاد. 2 - ولا يمكن تحقيق هذين الغرضين بغير مفاوضات جديدة تحصل للغرض الأول من ممثلين معتمدين من الحكومة البريطانية، وآخرين معتمدين من الحكومة المصرية، ومفاوضات تحصل للغرض الثاني بين الحكومة البريطانية، وحكومات الدول ذوات الامتيازات، وجميع هذه المفاوضات يرمي إلى الوصول إلى اتفاقات معينة على القواعد الآتية: 3 - أولاً: تعقد معاهدة بين مصر وبريطانيا العظمى تعترف بريطانيا العظمى بموجبها باستقلال مصر كدولة ملكية دستورية ذات هيئات نيابية، وتمنح مصر بريطانيا العظمى الحقوق التي تلزم لصيانة مصالحها الخاصة، ولتمكينها من تقديم الضمانات التي يجب أن تعطى للدول الأجنبية لتحقيق تخلي تلك الدول عن الحقوق المخولة لها بمقتضى الامتيازات. ثانيًا: تبرم بموجب هذه المعاهدة محالفة بين بريطانيا العظمى ومصر تتعهد بمقتضاها بريطانيا العظمى أن تعضد مصر في الدفاع عن سلامة أرضها، وتتعهد مصر أنها في حالة الحرب حتى ولو لم يكن هناك مساس بسلامة أرضها أن تقدم داخل حدود بلادها كل المساعدة التي في وسعها إلى بريطانيا العظمى، ومن ضمنها استعمال ما لها من المواني وميادين الطيران، ووسائل المواصلات للأغراض الحربية. 4 - وتشمل هذه المعاهدة أحكامًا للأغراض الآتية: أولاً: تتمتع مصر بحق التمثيل في البلاد الأجنبية، وعند عدم وجود ممثل مصري معتمد من حكومته تعهد الحكومة المصرية بمصالحها إلى الممثل البريطاني وتتعهد مصر بأن لا تتخذ في البلاد الأجنبية خطةً لا تتفق مع المحالفة، أو تُوجِد صعوبات لبريطانيا العظمى، وتتعهد كذلك بأن لا تعقد مع دولة أجنبية أي اتفاق ضار بالمصالح البريطانية. ثانيًا: تمنح مصر بريطانيا العظمى حق إبقاء قوة عسكرية في الأرض المصرية لحماية مواصلاتها الإمبراطورية، وتعين المعاهدة المكان الذي تعسكر فيه هذه القوة، وتسوي ما تستتبعه من المسائل التي تحتاج إلى التسوية، ولا يعتبر وجود هذه القوة بأي وجه من الوجوه احتلالاً عسكريًّا للبلاد كما أنه لا يمس حقوق حكومة مصر. ثالثًا: تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية مستشارًا ماليًّا يعهد إليه في الوقت اللازم بالاختصاصات المالية التي لأعضاء صندوق الدين، ويكون تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في جميع المسائل الأخرى التي قد ترغب في استشارته فيها. رابعًا: تعين مصر بالاتفاق مع الحكومة البريطانية موظفًا في وزارة الحقانية يتمتع بحق الاتصال بالوزير، ويجب إحاطته بجميع المسائل المتعلقة بإدارة القضاء فيما له مساس بالأجانب، ويكون أيضًا تحت تصرف الحكومة المصرية لاستشارته في أي أمر مرتبط بتأييد القانون والنظام. خامسًا: نظرًا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها إلى الآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التداخل بواسطة ممثلها في مصر لتمنع أن يطبق على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها أن لا تستعمل هذا الحق إلا حيث يكون مفعول القانون مجحفًا بالأجانب. *** صيغة أخرى لهذه المادة نظرًا لما في النية من نقل الحقوق التي تستعملها الآن الحكومات الأجنبية المختلفة بموجب نظام الامتيازات إلى الحكومة البريطانية تعترف مصر بحق بريطانيا العظمى في التدخل بواسطة ممثلها في مصر لتمنع أن ينفذ على الأجانب أي قانون مصري يستدعي الآن موافقة الدول الأجنبية، وتتعهد بريطانيا العظمى من جانبها بأن لا تستعمل هذا الحق إلا في حالة القوانين التي تتضمن تمييزًا مجحفًا بالأجانب في مادة فرض الضرائب، أو لا تتفق مع مبادئ التشريع المشتركة بين جميع الدول ذوات الامتياز. سادسًا: نظرًا للعلاقات الخاصة التي تنشأ عن المحالفة بين بريطانيا العظمى ومصر يمنح الممثل البريطاني مركزًا استثنائيًّا في مصر، ويخول حق التقدم على جميع الممثلين الآخرين. سابعًا: الضباط والموظفون الإداريون من بريطانيين وغيرهم من الأجانب الذين دخلوا خدمة الحكومة المصرية قبل العمل بالمعاهدة يجوز انتهاء خدمتهم بناءً على رغبتهم، أو رغبة الحكومة المصرية في أي وقت خلال سنتين بعد العمل بالمعاهدة، وتحدد المعاهدةُ المعاشَ أو التعويض الذي يمنح للموظفين الذين يتركون الخدمة بموجب هذا النص زيادةً على ما هو مخول لهم بمقتضى القانون الحالي. وفي حالة عدم استعمال الحق المخول بهذا الاتفاق تبقى أحكام التوظف الحالية بغير مساس. 5 - تعرض هذه المعاهدة على الجمعية الوطنية للتصديق عليها، ولكن لا يعمل بها إلا بعد إنفاذ الاتفاقات مع الدول الأجنبية على إبطال محاكمها القنصلية، وإنفاذ الأوامر العالية المعدلة لنظام المحاكم المختلطة. 6- يعهد أيضًا إلى الجمعية الوطنية بمهمة وضع قانون نظام جديد تسير حكومة مصر في المستقبل بمقتضى أحكامه، ويتضمن هذا النظام أحكامًا تقضي بجعل الوزراء مسؤولين أمام الهيئة التشريعية، وتقضي أيضًا بحرية الأديان لجميع الأشخاص، والحماية الواجبة لحقوق ا

خاتمة المجلد الحادي والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الحادي والعشرين باسم الله وحمده نختتم المجلد الحادي والعشرين لمجلتنا (المنار) ، وقد صدر الجزء الأول منه بتاريخ 29 ربيع الأول سنة 1337، وهذا الجزء الأخير منه وإن كان قد بُدِئ بتحريره في أواخر شهر ذي الحجة سنة 1338 وجعل تاريخه آخر أيام هذا الشهر الذي ينتهي به هذا العام - لا يصدر إلا في أواخر شهر صفر من سنة 1339، فعلى هذا يكون هذا المجلد المؤلف من عشرة أجزاء قد صدر في مدة 23 شهرًا، ونكون قد أضعنا من عمر المنار سنة كاملة في زمن الحرب، وسنة أخرى في عهدي الهدنة والصلح اللذين كانت فتنهما وبلاياهما أعظم من فتن ما قبلهما. أما السنة الأولى فقد تعمدنا إدماجها في سني الحرب وَبَيَّنَّا أن سبب ذلك مالي اقتصادي، وأما السنة الأخرى وهي الأخيرة فقد كان سبب إضاعتها رحلتنا إلى سورية ومكثنا فيها سنة كاملة مضطرين غير مختارين، واهتمامنا بعد العودة في إصلاح ما اختل من أمر المطبعة في بضع سنين فقد سافرت إلى سورية في السابع عشر من شهر ذي الحجة الحرام سنة 1337 ناويًا أن أقيم فيها شهرًا واحدًا، وعدت إليها في 19 ذي الحجة سنة 1338 فكان من المقضي عليَّ أن أقيم فيها سنة كاملة كنت في أكثر أيامها عاجزًا عن العودة إلى مصر، وكان هذا العجز في أوائل هذه السنة وفي آخرها بأسباب لا أملك دفعها مع السعي إليه (وسأبين ذلك في الرحلة السورية إن شاء الله تعالى) . ولما خرجت من القاهرة كان الجزء الخامس من المنار المؤرخ في غاية ذي القعدة من تلك السنة قد طبع معظمه ومادة الجزء السادس موجودة مُعَدَّة للطبع ولكنهما صدرا بعد عدة أشهر من بدء سفري مطبوعين طبعًا رديئًا جدًّا، كثيري الغلط، وبعد أشهر أخرى صدر الجزء السابع فكان أحسن طبعًا وهو مفتتح بمقالة كتبتها في بيروت في شهر المحرم 1338 وأرسلتها إلى مصر في منتصف ربيع الأول مع أحد المسافرين إليها فهذه الثلاثة الأجزاء هي كل ما صدر من المنار، وأرسل إلى سورية وأنا فيها في مدة سنة كاملة، ولما عدت وجدت الجزء الثامن قد طبع أيضًا وبدئ بطبع الجزء التاسع الذي كنت كتبت له التفسير وغيره في الشام منذ عدة أشهر وأرسلته إلى مصر في البريد. وبعد استراحة بضعة أيام عزمت على إصدار الجزئين التاسع والعاشر معًا في شهر المحرم من سنة 1339 وإصدار الجزء الأول من المجلد الثاني والعشرين فيه أيضًا، وشرعت في تحريره، وفي تجديد ما خلق أو بلي من أدوات المطبعة وشراء حروف جديدة لها، وتكثير العمال فيها، فعرض موانع حالت دون إنجاز العمل (منها) الاضطرار إلى إتمام كتابيين كان قد طبع أكثرهما، وإلى الشروع في طبع كتاب ديني عهد إلى المطبعة بطبعه في أثناء سفري ولم يتيسر لها الشروع فيه لما يحتاج إليه طبعه من النظام والتصحيح والمقابلة على النسخ القديمة (ومنها) وهو أهمها أن بعض العمال قد خرجوا من المطبعة بإغراء سماسرة السوء. وقد سبب اختلال أمر المطبعة في أثناء الحرب وامتداده إلى هذه الأشهر من الأواخر من هذه السنة أنها كانت كالمعلقة لا عمل فيها يبعث ربحه على العناية ولا يمكن إقفالها وتعطيلها؛ لأن المنار يطبع فيها، وكانت النفقة عليها أضعاف ما يأتي من المشتركين فيه لما بيناه في السنين السابقة، وهو علة عدم إرجاعه إلى حجمه الأول ولا سيما مع بقاء غلاء الورق. ذلك عهد قد انقضى بأرزائه وخسائره، ونحمد الله على السلامة من غوائله، ثم على الدخول في عهد جديد نرجو أن يكون خيرًا مما سبقه من سني الرخاء والسعة، وإن كان العالم كله لا يزال يشكو غلاء كل شيء، من مواد المعيشة والصناعة، والزراعة، وما يتبع ذلك من غلاء الأجور واعتصاب العمال، فإننا نقرأ في وجه هذه العسرة العامة {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح: 5-8) . فما من نوع من أنواع هذا العسر إلا وينهزم أمام يسرين يتبعانه، فقد كان ثمن ورق الطبع زاد في زمن الحرب على ما كان عليه قبلها 15 ضعفًا أو أكثر وهو على غلائه اليوم حتى في معامله في أوربة قلما يزيد على خمسة أضعاف، ولدينا في المطبعة الآن كتب كثيرة قد عهد إلينا بطبعها منها الصغير والوسط والكبير الذي يزيد على عشر مجلدات، فالدواعي متوفرة على توسيع عمل المطبعة وإتقانها وإتقان طبع المنار وإصداره في أوقاته. وسنعيد المنار في كل جزء من أجزاء المجلد الثاني والعشرين إلى حجمه الأول، فيكون عشرة كراريس، وقد ابتعنا له ورقًا من أجود الورق، وسيكون معظمه من الحرف الجديد الذي تكون به مادته أوسع، وسنُعنى بهذه المادة إن شاء الله تعالى. الدعوة إلى الانتقاد على المنار: إننا ندعو جميع من يطلع على المنار من علماء الدين وغيرهم من أهل العلم والرأي أن يكتبوا إلينا بما يرون فيه من الخطأ في المسائل الدينية وغيرها، أو ما ينافي مصلحة أمتنا وأوطننا التي نعيش فيها، ونعد المنتقدين بنشر كل ما يرسل إلينا من نقد مع بيان رأينا فيه بشرط أن يكون النقد مختصرًا مؤيدًا بالدليل نزيه العبارة كما فصلنا ذلك في المجلد السابع عشر وما قبله من المجلدات؛ فيراجع في فواتحها أو في خواتيمها. ونُذكِّر عامة قراء المنار بأن يطالبوا كل من يسمعون منه انتقادًا في المنار بكتابته وإرساله إلى صاحبه لينشره فيه، فيطلع قراؤه عليه وعلى ما يقرن به من قبول أو رد، ويأخذوا بما يرونه الحق، وإلا خيف أن يبقى من لا يعرفون ذلك الخطأ على ضلالهم، وهذا لا يرضي من هو واثق من صحة انتقاده مخلص فيه. وليعلموا أن كل منتقد يأبى أن يكتب انتقاده ويرسله إلينا فهو فاسق مغتاب، أو جاهل مرتاب، دعاه الحسد أو حب الشهرة الكاذبة إلى الطعن فاستجاب، ومن كان هكذا فهو مأزور وإن فرض أنه أصاب، وأما من اجتهد وهو حسن النية فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد كذلك وأصاب فله أجران، كما ورد في الحديث، فنسأل الله تعالى أن يجعلنا من المجتهدين المخلصين، وأن يوفقنا للصواب ويثيبنا أفضل ما أثاب المتقين وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فاتحة المجلد الثاني والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الثاني والعشرين بسم الله الرحمن الرحيم سبحانك الله وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فنحمدك بما حمدت به نفسك في كتابك، ونصلي ونسلم على أنبيائك ورسلك {الحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} (النمل: 59) وتحياته المباركات وصلواته الطيبات على خاتم رسله محمد المصطفى، وآله المطهرين وأصحابه الحنفا، وعلى من اتبع هديهم واقتفى {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: 70) . سبحانك اللهم وبحمدك، حكمت فعدلت، وقدرت فهديت، وانتقمت فقهرت، فلك الحمد في السراء والضراء وحين البأس، لا قنوط من رحمتك ولا يأس، فأسألك من رحمتك العامة للعالمين، ومن رحمتك الخاصة للمسلمين، ووفقني اللهم للقيام في هذا المنار بالنصيحة الحق، النافعة لكل من بلغته من الخلق، ووفق اللهم أئمة هذه الأمة وأمراءها، وقادتها وزعماءها إلى ما تخرجها به من ظلمات هذه الفتن إلى النور الفائض من مطالع آياتك البينات، المنبسط شعاعه على الخلق بسننك في سير البشر ونظام الكائنات، ليعلموا أن الغلو في الدين، مضيعة للدنيا والدين، وأن الغرور بالدنيا مهلكة للمغرورين، وأن سنة الله تعالى في رد الفعل إلى سواء الصراط، يتعاقب في سبيله التفريط والإفراط، {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) . سبحانك الله وبحمدك، أريتنا من آياتك في أنفسنا وفي الآفاق ما يتبين به الحق، لمن زكت فطرته واستنارت بصيرته من الخلق، فوفقنا لمعرفة ما نراه منها في هذا الزمان، معرفة اعتبار وحكمة وإيمان، كما وفقت لذلك آباءنا الأولين، وسلفنا الصالحن؛ لنكون كما كانوا من الأئمة الوارثين، الجامعين بين سيادة الدنيا وهداية الدين، إذا أوغلنا في الدين نوغل برفق فلا نغلو غلو المغرورين، وإذا حكمنا بين الناس نحكم بالعدل فلا نعلو علو الجبارين، وإذا تصرفنا بما أحللت لنا من الزينة والطيبات من الرزق نتصرف تصرف الشاكرين، فلا نستأثر بالنعمة أثرة المسرفين، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ} (النحل: 83) . سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا آياتك فإن جحدها أقوام فقد عرفناها وما نحن لها بجاحدين، وعرفتنا نعمتك فإن يكفر بها الأكثرون فما نحن بها بكافرين، وقد أنزلت عقابك الحق بالباغين الجبارين، وبالمترفين المسرفين، وبمن ذل لكبريائهم ودان لطغيانهم من الجاهلين المفرطين، فاجعل اللهم ذلك عبرة وموعظة لنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وارفع اللهم مقتك وغضبك عنا، فقد آن أن يستدير الزمان، ويتجدد إعجاز القرآن، فيتوب الفاسقون، ويوقن المرتابون ويؤمن الجاحدون {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 1-7) . سبحانك اللهم وبحمدك، أريتنا من جهل أعلم الناس بشؤون خلقك، ما أقمت به الحجة البالغة على صدق قولك وإحاطة علمك، فقد غلب الروس الذين كانوا يعدون الخطر الأكبر على الإسلام، كما غلبت الروم في عهد ظهور النبي - عليه الصلاة والسلام -، ثم غلبت الشعوب الجرمانية، وظهر جهلها بما كانت به أعلم الشعوب من الفنون الحربية، ثم ظهر جهل أعلم الأقوام بجمع الثروة وحفظ المال فكانوا من الخاسرين، وظهر جهل أعلم الأمم بشؤون الإدارة والاستعمار فكانوا من الخائبين {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِءُونَ} (الروم: 10) . سبحانك اللهم وبحمدك أنت الواحد القهار، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار، الكبرياء رداؤك، والعظمة إزارك، من نازعك فيهما قصمته، وقد صرفت عن آياتك الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق، مغترين بما استدرجتهم به من شدة القوة وسعة الرزق، فلم يعتبروا بما حل من قبلهم ممن كانوا أشد منهم قوة، ولم يتعظوا بما أنزلت من آيات الوحي وشرعت من هدي النبوة، واجعل ذلك تربية للمستضعين المتفرقين، وقهرك إياهم سلامًا ورحمة لجميع العالمين، يعلو بها الحق على الباطل، ويقضي بها العدل على الظلم، ويغلب القصد والاعتدال والإيثار، على السرف والأثرة والاستكبار، فقد ضاق البشر ذرعًا بطمع الأغنياء المسرفين، وطغيان الرؤساء الجبارين، الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، واستكبروا على العباد فاستعبدوا الجماعات والشعوب للأفراد، {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ * أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} (الأعراف: 97-100) . لقد أَنْذَرْنا أكابر الساسة في مثل هذه الفاتحة منذ عامين، أن ترك تنفيذ قواعد العدل العام وحرية الأمم لا بد لها من إحدى العاقبتين، بقولنا: إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، وانقلاب بلشفي شره مستطير، أو تعود الحرب جذعة، بهذه السياسة الخُدَعة الخُبَاة الطلعة {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر: 10) ، {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الغَرُورُ} (فاطر: 5) ، وقد صدقت الآيات ولم تغن النذر، واتبع المنذرون أهواءهم وكل أمر مستقر، فهذه الأرض تضطرم بنيران الفتن والفساد، والانقلاب البلشفي كل يوم في ازدياد، وإنما هو شر على منهومي المال، ومستعبدي الأقوام ومذلي الأقيال، وقد يشقى ناس فيسعد بشقائهم آخرون، وتثل عروش قرى عاتية فيرثها قوم آخرون {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِياً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} (الزخرف: 32-33) . إن الناس لن يكونوا أمة واحدة، ولن تخضع الأمم منهم لأمة واحدة، ويا أيها المثرون المترفون والرأسماليون الطامعون، إن طلب الزيادة ينتهي بالوقوع في النقصان، وإن السواد الأعظم من البشر لا يرضى أن يكون عبدًا خادمًا لأفراد من الأعيان، وإن سنة رد الفعل سيكون لها القول الفصل، والحكم العدل، ولكن المجرمين يرون العدل عقابًا والمساواة بين الناس عذابًا، فكيف إذا سبقه الجزاء على الظلم السابق، والإفراط الماحق، وكان تنفيذه على المعاندين، بمثل القسوة التي كانوا يسومونها الضعفاء المساكين؟ وإن تبتم قبل أن يحاط بكم فهو خير لكم {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأحقاف: 27) . وأنت يا أيتها الأمة الأمية التي عاودها الارتكاس في عصبية الجاهلية، إلام هذا التفرق والانقسام، بعد تلك السعادة بالوحدة والاعتصام؟ وحتام تلدغين من الجحر الواحد مرارًا عديدةً، وقد حذرت من المرتين، وسمعت النذر بالأذنين، ورأيت العبر بالعينين، ولمست العواقب باليدين؟ وإلى متى تغترين بالمظاهر والألقاب، وتدعين الفرص تمر بك مر السحاب؟ تداعت عليك الأمم كما أخبرك النذير؛ إذ كان لهم منك أي ولي وظهير، ورأيت الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون: نخشى أن تصيبنا دائرة. وابتغوا عندهم العزة والثروة، فكانت كرتهم الخاسرة؛ لأنهم خسروا بولايتهم الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين، وإن كانوا عنه لمن الغافلين {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ} (المؤمنون: 53-56) . فيا قوم إني لكم ناصح أمين، على علم بالحق المبين من هداية القرآن، وأحوال الزمان، أن لا تعبدوا إلا الله، ولا تيأسوا من روح الله {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} (هود: 3) أخاف عليكم عذاب يوم القيامة الأولى، قبل عذاب يوم القيامة الأخرى، يوم الخزي والنكال، بفقد بقية الاستقلال، فقابلوا أولياء الشيطان، بما أمركم به الرحمن، من غير تحريف ولا تصحيف في القرآن، ولا تغرنكم أيمان أئمة ليس لهم إيمان، ولا يصدنكم عن آيات الله سبب ولا نسب، ولا رغب ولا رهب، ولا ورق ولا ذهب، فقد برح الخفاء وانكشفت الظلمة، فلا يكن أمركم عليكم غمة {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الأنعام: 135) . وما لي لا أخص بالتذكير قومي وعشيرتي، بعد التذكير العام لجميع شعوب أمتي، بما يشد أسر الجماعة ويضع عنها إصرها، ويحكم أواصر الجامعة ويرفع لها ذكرها، وهم لا يزالون أشد تلك الشعوب تخاذلاً وتواكلاً، وأضعفهم تعاونًا وتكافلاً، وأكثرهم تباغيًا وتفاشلاً، وتماحكًا وتماحلاً، وأقلهم تحالفًا وتناصرًا، وتظافرًا وتظاهرًا، اتحد مسلمو مصر مع القبط فيما يفيد في الدنيا ولا يضر بالدين، وتعاون مسلمو الهند كذلك مع الوثنيين، وتناصر مسلمو الترك مع الروس أعدى أعدائهم الأولين، ولكن تعذر الاتفاق في الجزيرة بين أبناء الدين الواحد، واللغة الواحدة والوطن الواحد، كما تعذر الاتحاد في قطر آخر بين السهل والجبل، بل بين بلد وبلد، ولولا أن هذه الأمة مرحومة لأبسلت بذنوبها، وهلكت بتفريطها في أمرها، ومن رحمة الله بها أن باب التوبة لا يزال مفتوحًا في وجهها، وأن مسالك النجاة ما فتئت مرجوة لها، فما عليها إلا أن تأتي البيوت من أبوابها، وتطلب

مأتم عاشوراء واقتحام الشيعة النار فيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مأتم عاشوراء واقتحام الشيعةالنار فيه س1 من صاحب الإمضاء في زنجبار إلى حضرة جناب الأفخم العلامة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا المحترم دام إقباله. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سيدي بِطَيِّ الأحرف ورقة قطعناها من الجريدة الرسمية بزنجبار أحببنا أن نطلعكم عليها، مضمونها أن الشيعة الإمامية الاثنا عشرية يوقدون في ليلة العاشرة من المحرم في حفرة طويلة عريضة نارًا قوية ويمرون فوقها ولا تحرقهم، وكنا قبل نسمع بهذا العمل أنه في الهند، وهذه السنة شاهدنا بأعيننا هذا العمل بطرفنا. ويزعمون أنها معجزة من معجزات أهل البيت، وكذلك يزعمون أن شجرة في الهند يخرج منها دم في كل شهر محرم، وقد كثر من إخواننا الشيعة بطرفنا مثل هذه الأشياء، ولولا أن بين أيدينا كتب العلامة ابن تيمية قدس الله روحه لكان أكثر الناس تشيعوا، وقد عرفناكم بذلك لأجل أن تبينوا لنا الحقيقة على صفحات المنار حتى ينجلي ما التبس علينا، ولكم من الله الأجر، ومن خلقه الشكر، والسلام. من صغيركم صلاح الدين بن ناجي بن علي الكسادي من زنجبار في 23 المحرم سنة 1339. ترجمة ما نشر في جريدة زنجبار الرسمية الإنكليزية أرسل إلينا الوصف الآتي للأعياد المحلية لعاشر المحرم ولعله يلذ القراء: من المعلوم الذي لا شك فيه أن تذكار استشهاد الحسين هو من أهم الأعياد الإسلامية؛ لأن أول صدع عظيم حدث في الإسلام كان بناءً على هذا الحادث، أعني مسألة الحق بالخلافة. تحتفل فرقة الشيعة في زنجبار كل سنة باستشهاد الحسين بشعور انفعالي عظيم ذي تأثير شديد، ففي ليلة العاشر من المحرم يضرب المخلصون صدورهم ورؤوسهم، ويخوضون في النار وهم ينادون باسم محمد والحسين بنغمة مؤثرة تبكي الناظرين، بل تحزن صدر السنيين، وغيرهم من المتفرجين، ولا يصاب أحد من المخلصين بضرر، ثم ذكرت الجريدة الرسمية أن عاشوراء هذه السنة كانت أول فرصة حدث فيها الاحتفال باقتحام النار في جزيرة زنجبار اهـ. (ج) إن اقتحام بعض أفراد الشيعة الإمامية النار في الاحتفال بذكرى استشهاد الإمام الحسين السبط - عليه السلام - في عاشوراء له نظير عند بعض المنتمين إلى الطريقة الرفاعية وغيرها من طرق المتصوفة، ومنهم من يحمي حديدة في النار حتى تحمر ثم يلحسها بلسانه حتى تبرد ويزول احمرارها، وكثير من الناس المنتمين إلى أديان ومذاهب ونحل مختلفة في أقطار كثيرة يأتون بأعمال غريبة في نظر جماهير الناس. وهذه الأعمال الغريبة التي تتناقل جميع الأمم أخبارها ثلاثة أنواع: (أحدها) صناعة الشعوذة التي يحذقها بالتعلم والتمرن وخفة الحركة أناس كثيرون، فيأتون من الأعمال ما يعجز عنه غيرهم، وقد تخيل إلى الناظر الشيء على غير صورته أو حقيقته، كأن ترى لسان أحدهم يصيب النار وهو لا يمسها بل يقرب منها ويلقي لعابه عليها، وأسهل من ذلك اقتحام نار موقدة بسرعة لا تكفي لعلوق النار بالمقتحم، وقد رأينا بعض الصبيان في بعض قرى سورية يتبارون في اقتحام نار يوقدونها، وقلما تعلق بثوب أحد منهم. (النوع الثاني) غرائب حقيقية يستعان عليها بالعلم بخواص الأشياء كعلم الكيمياء والكهرباء وغيرهما، وإنما تكون غرائب عند الجاهل بأسبابها، وكذلك النوع الأول، إنما يراه غريبًا من يجهل تلك الصناعة وما فيها من الحيل والتخيل. (النوع الثالث) غرائب مصدرها تأثير النفس الإنسانية بقوة إرادتها وغيرها من الخواص الروحانية كاستعدادها للعلم ببعض الأمور الواقعة أو المستقبلة من غير طريقي الحس والفكر، وهذا النوع يتفاوت أهله فيه تفاوتًا عظيمًا بالاستعداد الفطري وبالرياضة الروحية. والمتكلمون يطلقون على كل ما جاء على خلاف المعروف المعهود مما لا يعرف له سبب كلمة (خوارق العادات) ، ويعدون منها الآيات التي يؤيد الله تعالى بها رسله - عليهم السلام - ويسمونها المعجزات، والخوارق الحقيقية لا تتكرر كثيرًا؛ لأن ما يتكرر هو عادي؛ لأنه يعود كما بدأ، وكل ما كان من علم أو صناعة أو قوة نفسية تستخدمها الإرادة البشرية فهو من جنس المعتاد ويتكرر؛ لأن صاحبه يفعله بإرادته واختياره، وانحصاره في أفراد وفئات من الناس هو كانحصار سائر الصناعات والعلوم في متعلميها ومزاوليها وقوة الاستعداد الجسدي في أهلها. وأما آيات الرسل التي أيدهم الله تعالى بها للدلالة على صدقهم في دعوى الرسالة عنه فليست مما تتعلق به قدرتهم وإرادتهم بحيث يأتونها متى شاؤوا كسائر أفعالهم الاختيارية ولا مما يتلقى بالتعليم، ولذلك أمر الله تعالى خاتم رسله الذي أكمل دينه به أن يجيب من اقترحوا عليه الآيات بقوله: {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ} (العنكبوت: 50) بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} (الإسراء: 93) ولكنها من شؤونه تعالى يجريها على أيديهم متى شاء، إما بغير كسب منهم ألبتة كإعجاز القرآن وعصا موسى، وإما مقارنة لكسب ما منهم يأتونه بإذنه ليس له من التأثير في خرق العادة إلا الصورة؛ كرمي نبينا - صلى الله عليه وسلم - المشركين بقبضة من الرمل على البعد منهم أصابت أعينهم على كثرتهم وبعدهم عنه واختلاف أوضاعهم وحالاتهم عند الرمي، وذلك قوله تعالى له: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) ومن هذا القبيل إبراء الأكمه والأبرص وإحياة الموتى لعيسى - عليه السلام - وإن جاز أن تكون قوة روحانيته الوهبية هي المؤثرة بإذن الله تعالى فيه، وكرامات الأولياء أكثر ما تكون من النوع الثالث للغرائب. وأما السحر فليس من خوارق العادات في شيء، وإنما هو صناعة تؤخذ بالتعلم والتمرن وتدخل فيما ذكرنا من أنواع الغرائب المعتادة التي يقصد بها الكيد والمكر والخداع، ولذلك اتهم فرعون السحرة بأن ما فعلوه مع موسى مكر مكروه في المدينة متواطئين عليه، وقال تعالى لموسى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (طه: 69) وقال في تأثير كيدهم وشعوذتهم فيه: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} (طه: 66) وذكر أن هاروت وماروت كانا يعلمان الناس السحر ببابل، وخوارق العادات لا تكون بالتعلم كما تقدم؛ وفاقًا لما قاله الشيخ محيي الدين بن العربي. إذا تدبر السائل ما تقدم علم أن ما ذكره من اقتحام بعض الشيعة للنار هو مما ذكرنا من العادات المكررة، والشجرة التي زعموا أنها تقطر دمًا في شهر المحرم لا وجود لها، فأنا لم أسمع بها قبل ورود هذا السؤال، لا في بلاد الهند أيام كنت فيها ولا في غيرها، ولما جاء هذا السؤال سألت بعض أفاضل الشيعة الذين يعرفون الهند وإيران والعراق، فقال: لم نسمع بذكر هذه الشجرة في الهند ولا في إيران ولا في العراق. وهذه الأقطار الثلاثة هي مواطن الشيعة الإمامية ومأوى الملايين منهم، وفيها معاهدهم الدينية الكبرى، فكيف يجهل فيها أمر هذه الشجرة ويعرف في زنجبار وحدها؟ ‍‍! وهب أن ما ذكر من اقتحام النار لا دخل فيه لصنعة ولا خفة وأنه كرامة لأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأي دخل في ذلك لمذهب الإمامية ومقتض لترك غيره إليه؟ وهل هو إلا مذهب موافق لسائر مذاهب المسلمين المعروفة في أكثر مسائل العبادات والمعاملات، ومخالف لها في مسائل قليلة كما يخالف بعضها بعضًا، وجميع أصحاب المذاهب الإسلامية يجلون آل بيت رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ويحبونهم ويوالونهم ويرون أنهم أهل لكل كرامة من الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا ما شذ فيه بعض الخوارج الذين يتبرؤون من أمير المؤمنين علي المرتضى - كرم الله تعالى وجهه - ومن أفراد آخرين من الصحابة وأئمة الدين. وأس الإسلام ما أجمع عليه المسلمون ولا سيما في الصدر الأول، وكل ما وقع فيه الخلاف بين أئمة العلم والفقه فهو من المسائل غير القطعية في الدين التي يختلف فيها الاجتهاد، ولا ينحصر الصواب فيها بفرد من الأفراد، وفي كل من المنتمين إلى المذاهب المنتشرة صالحون وطالحون، وأبرار وفجار، فإن أوتي أحد الصالحين من أهل مذهب منها كرامة فلا وجه لجعلها حجة في ترجيح مذهبه على سائر المذاهب في جميع المسائل الخلافية ولا في بعضها، ولو كان حجة لاستغنى به عن الاجتهاد والاستدلال. *** استطراد في تفرق المسلمين والعبرة بمأتم عاشوراء سبق لنا البحث في أمثال هذه المسائل مرارًا، وإنه ليحزننا أننا لا نزال في أشد الحاجة إلى تكرير تذكير عامة إخواننا المسلمين من جميع المذاهب في جميع الأقطار بأنه قد آن لهم أن يتركوا هذا التغاير والتناظر في المذاهب الذي أضعف الدين، وفرق كلمة المسلمين، فإن المصائب العامة المشتركة أفصح معلم، وأحكم مؤدب، وقد توالت عليهم نذرها، ووضحت لهم عبرها، ولا سيما في هذه السنين، {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) بلى قد رأى الأكثرون ما لم يكونوا يرون، ولكنهم لا يزالون يعمهون، وقد أضاعوا معظم الفرص، ولا يزال لديهم مجال للعمل، فإن أضاعوا بقية الفرصة فهم هالكون. قد كانت ذكرى قتل الحسين وإقامة المآتم له مما يقصد به غلاة الساسيين من الباطنية وأتباعهم زيادة التفريق بين المسلمين، وتأريث الضغائن والأحقاد بينهم، استرسالاً مع تلك الدسائس المجوسية التي دست في الصدر الأول الكيد للمسلمين الذين أزالوا ملك المجوس وسلطانهم الديني وملكهم الكسروي، وكان جميع الصادقين في الإسلام من شيعة آل البيت النبوي وغيرهم غافلين عن ذلك جاهلين به، وظل بعض المتعصبين يقصد بمثله في بعض الأوقات تقوية العصبية والتذكير بأخذ الثأر من المعتدين الظالمين، ولكن من هم اليوم؟ وإعادة الحق إلى الأئمة الوارثين، وأين هم اليوم؟ فعل العباسيون ببني أمية فعلتهم، وفعل العبيديون بالعباسيين فعلتهم، وصار المسلمون دولاً كثيرة أحاط بها الخطر منذ قرنين أو أكثر، فأي استعداد اتخذ لذلك في مجموع الأمة الإسلامية، أو في أي مملكة من ممالكها؟ أين هم من العمل بما صح مِن أن مَنْ مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية؟ لقد مزقوا نسيج الوحدة، ولم يبق من الجامعة الدينية في أي جماعة منهم إلا أسباب الفرقة، ولقد صار هذا المأتم كسائر ما أحدث المسلمون المختلفو المذاهب من الاحتفالات باسم الدين، عادات تقليدية تشبه الملاهي التي يجتمع الناس لسماع القصص التاريخية والخيالية، بل هي أقل فائدة وأكبر ضررًا من تمثيل القصص المذكورة في الأمم الحية. لو كان المسلمون يعيشون عيشة الجد لجعلوا الاجتماع في عاشوراء لذكرى مولد الإمام الحسين - عليه رضوان الله وسلامه - وسيلة سياسية لإحياء المقصد العظيم الذي بذل هذا السبط الشهيد السعيد حياته العالية الغالية في سبيله، لا حدثًا دينيًّا يزيد تفريق الكلمة، ولا لعبًا بالسلاح والنار وندبًا بالخطب والأشعار لا يبعث على إقامة حق، ولا تجديد ملك، بل هو إما أن يضر وإما أن لا ينفع، ذلك المقصد الذي لم ترتق أمة من الأمم الراقية في هذا العصر إلا على أيدي رجال من أهله يصح أن يسموا حسينيين بما كان من استهانتهم بالحياة الدنيا في سبيل دك سلطان الظلمة المستبدين بأمتهم، وإقامة سلطة عادلة مقيدة برأي الأمة مكانها، ذلك هو الإمام الأعظم

خطبة للشيخ محمد أبو زيد

الكاتب: محمد أبو زيد

_ خطبة للشيخ محمد أبو زيد خطبها في الاحتفال برأس السنة الهجرية سنة 1339 ... ... ... ... وفيها اتفاقية الصلح بين الرسول وخصومه أحمد الله تعالى ثم أقول: في هذا الأسبوع توالت الأعياد الثلاثة: العيد المصري (عيد النيروز) والعيد العبري، والعيد الهجري، وتوالي هذه الأعياد يبشرنا بأن الخير سيتوالى على مصر وأبنائها. *** الحوادث مرجع التاريخ جرت عادة الأمم على أن تؤرخ بالحوادث، فإذا كانت لها حادثة مهمة جعلتها مبدأ لتاريخها، انظر العرب قبل الإسلام كانوا يرجعون إلى الحوادث في التاريخ، فيقولون: عام الفيل، ويوم الحرب الفلانية، وانظر المسيحيين جعلوا تاريخهم حادثة الشهداء الذين اضطهدهم الرومان وأبوا إلا أن يموتوا ضحية دينهم ومبدئهم. *** فوائد الاحتفال بالأعياد وفي الاحتفال بالأعياد فوائد ينبغي لنا أن نراعيها، منها إحياء ذكرى العاملين وتخليد آثارهم لنقتدي بهم في خلقهم وعملهم، ومنها ارتباط الحاضر بالماضي ارتباطًا يجدد للأمة قوتها، ويحفظ لها شخصيتها، ومنها تربية الشعور والعواطف على الاتحاد والتعاون؛ فيشعر كل فرد في الاجتماع بأنه قوي بقوة المجتمعين، مؤيد بروحهم، وروح الاجتماع معروف تأثيرها في النفوس والأعمال. ثم من الفوائد كذلك أن تحاسب الأمة نفسها على ما عملته في الماضي وما تعده للمستقبل، فتنظر كما ينظر التاجر في آخر كل سنة مقدار الربح أو الخسارة، فإن كان عندها ضعف في الداخلية أو الخارجية، ورأت نفسها قد قصرت فيما مضى فإنها تتوب إلى الله تعالى وتعمل على تقوية هذا الضعف، وتحترس من أن تقع في مثله في المستقبل، وإن رأت أنها لم تقصر وأنها قوية متقدمة، فإنها تشكر الله الذي وفقها، ثم تستزيد من الأعمال الرابحة المقدمة. *** هجرة النبي حادثة عظيمة هذا وإن هجرة النبي حادثة عظيمة، إذ كانت سببًا في إحداث إصلاح عظيم وفتحًا لباب استقلال جديد، وقبل أن أبين هجرته أذكر حكمة إرساله وإرسال من سبقه من الرسل - صلوات الله عليهم - أجمعين. *** حكمة إرسال الرسل خلق الله الناس أحرارًا مستقلين، فاقتضت حكمته - وهو وليهم وإليه يرجع أمرهم - أن يربيهم تربية عملية تثبت في نفوسهم ما فطرهم عليه من الحرية والاستقلال، فاختار منهم رسلا ًمربين لا تذل نفوسهم لشهوة أو هوى، ولا تضعف إرادتهم أمام سلطة أو استبداد، وأرسلهم بالتعاليم الهادية إلى سعادة الدنيا والآخرة. ولو رجعنا إلى ما كان يدعو إليه كل رسول لوجدناهم متحدين في الدعوة، وكلهم يدعو إلى التوحيد {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) وفي هذا منتهى العزة للنفوس؛ إذ إنها لا تستعبد إلا لربها الذي يربيها على نعمه، ويواليها بفضله وإحسانه، والله سبحانه لم يجعل جنسًا عبدًا لجنس، ولم يفاضل بين عباده إلا بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13) ، فالأكرم عند الله من يتخلق بأخلاق الله، فلا يستبد بالناس ولا ينقص من حريتهم، والله تعالى قد أرسل الرسل تأييدًا لهذا المبدأ، مبدأ السير بالناس إلى الحرية لإخراجهم من الاستبداد. *** موسى الرسول في مصر وصاحب الهجرة تعلمون حادثة موسى لما أرسله الله لإنقاذ بني إسرائيل من استعباد فرعون، قال الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 5) . وما كانت الظلمات إلا السلطات الاستبدادية التي أماتت إرادة القوم، وقضت على حريتهم وإيمانهم، وما النور إلا الاستقلال الذي فيه يحيا الشعور وينمو الإيمان وتقوى الإرادة. كذلك قال الله لرسوله محمد: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (إبراهيم: 1) . *** إيذاء المشركين إياه إذا علمنا أن الله بعث الرسل لهدم قواعد الاستبداد والظلم، ونشر مبادئ المساواة والعدل، فإننا نعلم السبب في الإيذاء الذي كان يفعل بهم، والعقبات التي كانت توضع في طريقهم، وذلك أن المستبدين بالشعب المتحكمين في رقبته يخشون من كل مبدأ يزلزل استبدادهم، ويخافون من كل عمل يوجد المساواة بينهم وبين المغلوبين لهم، المقهورين بسلطتهم، فلذا تراهم عندما يشعرون بمصلح يأخذون في محاربته ويسعون في صده عن سبيله بكل ما يستطيعون. *** الحيلولة بينه وبين الشعب ولعلمهم بأن الشعب يتأثر بهذه المبادئ تجدهم يحرصون على أن يحولوا بين هذا المصلح والشعب، فالشعب المحكوم بالاستبداد مهما جَبُن ومهما ضَعُفت إرادته فإنه باستماعه مبادئ الحرية وتكريرها على نفسه تنبعث فيه روح العمل لها فيخشى المستبدون ذلك، ولا يمكنون المصلح منه، وانظر قول الله في أعداء الرسول لما كانوا يرونه متصلاً بالشعب يتلو آيات القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فصلت: 26) . *** صبر النبي وقوة إرادته وأخيرًا تضايقوا منه [1] فرجعوا إلى عمه أبي طالب، وكانت صلته به تحميه من القتل، فقالوا: قل لابن أخيك يرجع عما هو فيه، وإلا نكون في حل مما نوقعه به. فلما عرض عليه عمه ذلك تحمس وقال: والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما رجعت عن دعوة ربي حتى أبلغها أو أموت دونها. فنعمت هذه الروح العالية، وبُعِثَت هذه المبادئ الغالية. *** سبب هجرته لما مات عمه تآمر الخصوم على قتله، فأوحى الله إليه بأن يهاجر إلى يثرب حيث يجد الأنصار والمساعدين فيعمل على تقوية نفسه ونشر مبادئه طوعًا لربه. في الله والأوطان سعي مهاجر ... لله لم يجبن ولم يتأثم لم يرض يثرب بعد مكة موطنًا ... إلا خضوعًا للمليك الأعظم ما زال فيها غاديًا أو رائحًا ... أبدًا يحن إلى الحطيم وزمزم علم النبوة والمفاخر كلها ... وخلاصة الشرف الذي لم يثلم علمتنا حب البلاد عقيدة ... لا يعلم الإيمان ما لم تعلم ولقد هديت من الضلالة أمة ... لولاك لم تنهض ولم تتقدم وألنت جانبها وصعب شكيمها ... بروائع الآيات لا بالمخذم وأخذت من ميسورها ما يتقى ... بقليله غيظ الفقير المعدم وعقدت في عنق القوي ضمانة ... تغني الضعيف عن الظبى والأسهم كانت هجرته سببًا في أنه قابل ناسًا تمكن من نشر دعوته فيهم وتقوَّى بنصرتهم، وكان على الدوام يحن إلى دياره التي احتلها الخصوم وأخرجوه منها. *** مفاوضة في الصلح بين الرسول وخصومه ذهب الرسول في أربع مائة وألف من أصحابه إلى مكة في السنة السادسة من الهجرة، كي يزورها ويعتمر فيها، فيشرح صدره بها ويخفف من حنينه إليها، ولما قرب منها أرسل العيون والجواسيس لتستطلع له حال الخصوم، وتبلغه ما هم فيه من الاستعداد، ولما شاور الرسول أصحابه قالوا: ما جئنا مقاتلين، فإن منعونا قاتلناهم. وبايعوه على ألا يفر منهم أحد، فمنعهم الخصوم وحاصروهم، وبعد مناوشات ومضاربات وقعت بينهم، رأى الرسول أن جيشه لا يقوى على الجيش الذي أمامهم [2] ، وأن الصلح خير لهم، فدارت المفاوضات بين الطرفين على إبطال الحرب عشر سنين، ويباح للرسول أن يأتي مكة في كل عام آمنًا حرًّا. *** الخصم يملي الشروط ويضع القيود وقد وضع الخصم شروطًا وقيودًا أملاها بنفسه في اتفاقية الصلح. *** اتفاقية الصلح وشروطها قالوا: لا تكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فإنا لا نعرف الرحمن من هو، واكتب: باسمك اللهم. فكتب، قالوا: لا تكتب: هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله، فإنا لا نقر بأنك رسول الله، ولو أقررنا لما منعناك فاكتب محمد بن عبد الله. فكتب، قالوا: من يأتي منا مسلمًا إليك ترده إلينا، وأما من يأتي منكم إلينا فلا نرده. فرضي وكتب، قالوا: لا تدخل مكة هذا العام، ولا بد أن ترجع إلى عام آخر لئلا يتحدث العرب بأن قد ضُغِطَ علينا. فكتب، قالوا: إذا دخلت بعد هذا العام، فتدخل بسلاح الراكب وتكون السيوف في القرب. فقبل الرسول كل هذه الشروط بعد تحققه من تشبث الخصوم وتمسكهم بها، وكان الصحابة ينتقدونها ويعترضون على كل شرط منها، فيقنعهم الرسول بالقبول للحاجة. وقد اشتد اعتراضهم لما وصلوا إلى أن من جاء إليهم مسلمًا يردونه ومن ذهب منهم لا يرد إليهم، فقالوا: كيف نرد من يأتي مسلمًا ونحن ندعو إلى الإسلام؟ وكيف لا يرد إلينا من يذهب منا؟ حتى المساواة في ذلك لا نحصل عليها؟ فقال الرسول: (من ذهب منا فقد أبعده الله، ومن جاءنا ورددناه فالله يجعل له فرجًا ومخرجًا) يعني هذا تحكم القوي في الضعيف وللضرورة أحكام. هكذا أملى المشركون شروط الاتفاقية حسب إرادتهم وقبلها الرسول كلها على ما فيها من الإجحاف ليكون حرًّا في دخول مكة كل عام فيتمكن من الاختلاط بالشعب، ويبث فيه ما يشاء من المبادئ والتعاليم، ويتمكن من إعداد القوة التي يحفظ بها الحق، وكان قبل هذا لا يمكن أحدًا من المسلمين أن يجهر بعقيدته خوفًا من المشركين وفتنتهم وعذابهم وشدتهم [3] . *** حكم القرآن في الاتفاقية وقد أنزل الله في هذه الاتفاقية الآيات المبينة أنها فتح ونصر ومغانم، قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} (الفتح: 1- 3) وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} (الفتح: 18- 20) فتأمل قوله: فعجل لكم هذه، يعني سيكون لهم مغانم كثيرة من وراء هذه المغانم التي كسبوها بالاتفاقية، وما الاتفاقية إلا باب لتلك المغانم الكثيرة ووسيلة للوصول إليها، ولقد كان ما وعد الله تعالى، وتحقق نظر الرسول وأصحابه في صلاحية الاتفاقية؛ إذ تم لهم فتح مكة والاستيلاء علي بلادهم من جميع جوانبها والتحكم فيها بكل حرية واستقلال بعد سنتين اثنتين من إمضاء المعاهدة {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} (الفتح: 27) ، وقد أفاض بعد ذلك على العالم من مبادئه العالية ما ترون في تاريخ الإسلام والحضارة الإسلامية، وبالإجمال كانت هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - جديرة بأن تكون مبدأ التاريخ الإسلامي، وإنها لحادثة اهتز العالم لها ونتج عنها الانقلاب الكبير في عالم المدينة وسنة الحرية والاستقلال. *** اقتداؤنا بالرسول وإنا نحمد الله إذ قد اقتدينا بالرسول واقتفينا أثره في الهجرة التي هاجرها وفدنا المصري فاستحق بها فخرًا، ونال من أجلها كرمًا وأجرًا، فالله تعالى يوفقه للأصلح فيما يتفق عليه لتقدم المصريين وتحر

محاربة البدع

الكاتب: محمد أبو الفضل

_ محاربة البدع مشيخة الجامع الأزهر أرسل إلينا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر رسالة بهذا العنوان مع كتاب خاص منه ذكر فيه أنه سئل عما يسميه بعض أهل الطرق (اسم الصدر) ، فأجاب بكتابة هذه الرسالة أو الفتوى، وأرسلها إلينا لأجل نشرها تعميمًا للفائدة وإرشادًا للأمة، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أما بعد، فإنكم تسألون عما يفعله الآن بعض أهل الطرق من أبناء هذا العصر، من اجتماعهم صباح مساء، يرددون لفظ (أه، أه) يعتقدونه اسمًا من أسماء الله، ويقولون: إنهم بذلك يذكرون الله سبحانه ويسمون ذلك: (اسم الصدر) . والجواب: أن هذا اللفظ المسئول عنه (أه) بفتح الهمزة وسكون الهاء ليس من الكلمات العربية في شيء، بل هو لفظ مهمل لا معنى له مطلقًا، وإن كان بالمد فهو إنما يدل في اللغة العربية على معنى التوجع، وليس من أسماء الذوات، فضلاً عن أن يكون اسمًا من أسماء الله الحسنى التي أمرنا أن ندعوه بها، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وقوله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) . وقد أجمع العلماء على أن أسماء الله تعالى وصفاته توقيفية [1] ، ولا يجوز لنا إطلاق اسم عليه تعالى أو صفة لم يكن ورد بها الشرع، كما أنهم أجمعوا على أنه لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع بجواز التعبد به. ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخرج من هذه الدار حتى أكمل الله لنا على يديه الدين، وأتم لنا النعمة، كما قال تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وفي الصحيحين عن عائشة، عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وفي لفظ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) وفي صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته: (إن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) [2] ، ومن تأمل قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وتدبر هذا الوعيد الشديد اقشعر جسمه أن يذكر الله أو أن يدعوه بعد ذلك بغير أسمائه التي سمى بها نفسه، وأذن لنا في تسميته بها على يد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والإلحاد في الأسماء هنا على ثلاثة معان: الخروج بها عما وضعت له من المعنى الشرعي، تحريفها عن لفظها الوارد شرعًا، إدخال ما ليس منها فيها كموضوع السؤال، وكما نقل المفسرون هنا من علماء اللغة أن الملحد العادل عن الحق، والمدخل فيه ما ليس منه. فثبت بذلك بطلان عمل هؤلاء العوام الذين انتشروا في المدن والقرى يجمعون الناس، ويعقدون المجالس على ذلك ويتخذون ذلك وِردًا موقوتًا زاعمين أنهم يتقربون بذلك إلى الله، وفي ذلك إضلال للعامة ونشر لسنة سيئة فيهم؛ لأنه تعبد بما لم يتعبدنا الله به، وتسمية لله بغير أسمائه، نعوذ بالله من فعل ذلك أو الإعانة عليه أو السكوت عنه. ومهما قال زعماء تلك البدعة من قولهم: إنهم وجدوا مشايخهم كذلك. فليس في ذلك برهان لهم في الدنيا، ولا مخلص لهم عند الله يوم القيامة من عذابه، كيف وقد قال علماء الصوفية أنفسهم: كل ما لم يستند إلى الكتاب والسنة فهو باطل؟ وقالوا: إذا لم يستند كشف الولي إلى الكتاب والسنة فهو كشف شيطاني. لا: الولي غير معصوم. وورد مثل هذا القول أيضًا عن أبي الحسن الشاذلي - رضي الله عنه -، وأجمعوا على أنه لا يجوز العمل بالكشف ولا الإلهام والمشاهدة إلا بعد عرضه على الكتاب والسنة، وما يقولونه أيضًا من الاستدلال على بدعتهم هذه بقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (التوبة: 114) فليس من الاستدلال في شيء، بل هو بقول الجاهلين أشبه؛ لأن الآية ليس معناها أنه كان يذكر الله بلفظ (أه) كما يفعلون بل معناها - كما قال المفسرون - أنه كان مشفقًا رحيمًا، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. 25 المحرم 1339م ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أبو الفضل وقد نشرت هذه الفتوى في الجرائد اليومية فرد عليها بعض المنتسبين إلى الطريقة الشاذلية برسالة نشرت في جريدة الأهرام هذا نصها: الرجوع إلى الحق فضيلة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أما بعد، فأسأل الله تعالى أن يهدي إلى حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أزكى صلاة وأتم سلام، وأن يعم بذلك سائر الأنبياء والمرسلين وآل كل والتابعين. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) . قال المفسرون: أسماء الله تعالى كلها حسنى؛ لأنها تدل على معاني الكمال الإلهي سواء وردت في القرآن فقط كاسم الله تعالى القريب والمحيط والبديع والأحد وأحكم الحاكمين وخير الفاصلين وذي العرش وذي الطول، وغير ذلك مما ورد في الذكر الحكيم خاصة، أو جاءت به السنة أيضًا، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن لله تسعًا وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة. الله الرحمن الرحيم) الحديث أو وردت به السنة، وإن لم يرد في القرآن، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الديان لا يموت) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا) وقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أدعيته: (يا حنان يا منان) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى جميل يحب أن يرى أثر نعمته على عباده) وقد ورد هذا الاسم في خريدة التوحيد للدردير فهو الجليل والجميل والولي وغير ذلك مما تفردت به السنة خاصة، وليس في القرآن صراحة، فليس المراد بالأسماء الحسنى خصوص التسع والتسعين، وإلا لزم عليه معارضة الأحاديث بعضها لبعض كما لا يخفى، وذلك لا يعقل. إذا علمت ذلك علمت أننا مأمورون أن ندعو الله تعالى بكل اسم ثبت وروده عن الشارع - صلى الله عليه وسلم - مطلقًا. ومما تأكد ثبوته ذلك الاسم العظيم الذي اتخذه السادة الشاذلية من ضمن أذكارهم وهو اسم الله تعالى (أه) جل جلاله، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى مريضًا كان يئن في حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فنهاه بعضهم عن الأنين وأمره بالصبر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (دعوه يئن فإنه يذكر اسمًا من أسمائه تعالى) ونقل العلامة الحفني في حاشيته على الجامع الصغير للجلال السيوطي عند الكلام على الاسم الأعظم قال: إن اسم الله تعالى (أه) هو الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى. وقال الإمام الفخر الرازي في تفسيره في شرح البسملة: اختلف العلماء في الاسم الأعظم، ويرجح عندي أن (أه) هو اسم الله الأعظم لاشتماله على سر الإشارة وتكوين الكائنات وظهور التجليات. وذكر العلامة العزيزي في شرحه على الجامع الصغير أيضا أن اسم الله تعالى (أه) هو اسم يلهمه الله تعالى للعبد عند تجليات الجلال. وقال الشيخ الأمير في حاشيته على متن (غرامي صحيح) : إن (أه) من أسمائه تعالى. وصحح ذلك، وروى الحاكم في مستدركه حديثًا يذكر فيه أن (أه) اسم عظيم من أسمائه تعالى يلهمه الله تعالى لمن أحب من عباده؛ لأنه سر من الأسرار التي لا يطلع عليها إلا المقربون من المؤمنين. وقال الأستاذ الباجوري في حاشيته عل جوهرة التوحيد - عند قول الناظم: حتى الأنين في المرض كما نقل -: ينبغي للمريض أن يقول (أه) فإنه اسم من أسمائه تعالى، ولا يقول: أخ، فإنه من أسماء الشيطان. فقد ثبت بالدليل النقلي أن (أه) اسم عظيم من أسماء الله الحسنى أمرنا سبحانه أن ندعوه بها، فحينئذ لا إلحاد ولا تحريف - نعوذ بالله من ذلك -، وإذًا ليس اسم (أه) مهملاً لا معنى له مطلقًا، كما قيل، بل معناه منزه عن الإهمال، جليل عند أهل الإنصاف، ولو تتبعنا الآثار والأخبار الواردة في الاستدلال على صحة هذا الاسم لما وسعتنا الصحف، وفي هذا القدر كفاية، لمن سطعت عليه أنوار الهداية، ونسأل الله تعالى العناية وحسن الختام، بجاه سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الفقير ... ... ... ... ... ... ... أحمد وافي الشاذلي الأزهري نشر هذا الرد في عدد الأهرام الصادر في 26 المحرم، ولم ينشر من قِبل مشيخة الأزهر رد عليه، ولكن كتب إلى الأهرام الرد الآتي فنشر في العدد الذي صدر في 2 صفر، وهذا نصه: رد على رد أصدرت هيئة مشيخة الأزهر الأعلى بيانًا أنكرت فيه على بعضهم بدعًا مستهجنة لم تؤيدها الأحاديث الصحيحة المتن، القوية الحجة المتعارضة مع روح الدين الناصع، المنتشرة في بلاد هي كعبة العلم وحجة العارفين في اللغة والدين، وانبرى أحدهم وسطر في صحيفتكم الغرَّاء كلمة لا نرى مندوحة من الرد عليها إحقاقًا للحق الذي لا ينكره إلا المكابرون، وإنا لا نطيل الشرح في هذا الباب، وإنما نورد الوجوه الآتية كي لا نضل الطريق السوي، وحتى لا يتسلط بعضهم على السذج من الأمة، فيدخلون في الدين ما هو براء منه. أولاً: إن ما أورده حضرة الكاتب من عزو حديث أبي هريرة الذي فيه: قال الرسول الكريم لمعارضي المريض على أنينه: (دعوه يئن..) هذا العزو إلى صحيح مسلم كذب محض، وإلا فليأتنا حضرته بالنص الصريح في صحيح مسلم، وهو كثير متداول بين الأيدي كُرِّرَ طبعه مرارًا وتعددت طبعاته، وكلها خلو من هذا الحديث، فليتفضل حضرته بذكر الصحيفة التي تتضمن هذا الحديث. ثانيًا: إن الحديث المذكور مدون في الجامع الصغير، وعزاه صاحب الجامع إلى الرافعي، فهو حديث لا تقوم عنده حجة؛ لأنه لم يُخَرَّج في الكتب الصحيحة ولم يصححه أحد من المحدثين. ثالثًا: لو فرضنا أن هذا الحديث صحيح، فلا يدل على بدعتكم هذه، فإن الرسول إنما أشفق على المريض وتركه يئن، فإن صح أن لفظة (أه) اسم من أسماء الله تعالى؛ فأسماء الله الحسنى معروفة، ولا حاجة إلى عدها في هذا المقام، وحسبنا أن يكون ما أوردتموه إشفاقًا على المرضى، فلا يجب أن يكون ساريًا على الأصحاء وإقناع السذج منهم بأن لفظ (أه) اسم من أسماء الله، والله بريء مما تنسبونه إليه جلت أسماؤه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فهمي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بالإسكندرية *** تعليق المنار على الفتوى والرد عليها الفتوى ودعامة الإصلاح إن فتوى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر مشتملة على بيان أساس الدين، وأصل الإصلاح الأعظم فيه، وإن كانت في بيان بطلان بدعة خاصة، قد ابتلي أهل الطرق بكثير من مثلها، ومما هو أبعد عن هدي الدين منها كما شرحناه في مواضع من المنار، وهذه الأصول تقضي على جميع البدع، فقيمة الفتوى أكبر وأعظم من إثباتها؛ لكون ما يسمونه (اسم الصدر) والتعبد به بدعة ليست من الدين في شيء. ذلك الأساس الراسخ والأصل الثابت الذي هو جدير بتدبر المسلمين هو قول الشيخ: إن العلماء قد أجمعوا على أنه لا يجوز لنا التعبد بشيء لم يرد الشرع بجواز التعبد به. فهذا الأصل ثان للأصل الأول الذي جاء به جميع رسل الله - صلى الله علي

تاريخ فنون الحديث ـ 1

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

_ تاريخ فنون الحديث [*] (1) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل من السنة تبيانًا للكتاب، ونورًا يهتدي به أولو الألباب، وبعث إليها من الحفاظ المتقنين، والرواة الصادقين، والنقدة الباصرين، من قام بصادق خدمتها، وحفظ عليها جلال حرمتها، ونفى عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين [1] ، وصانها من إفك المفترين، ودغل الدجالين، فحفظت على مر العصور، من يد الدثور، وصينت - بعناية الله - من أرباب الفجور، فلله مزيد الحمد والمنة على ما حفظ من معالم دينه وسبل رشاده، وعلى صفيه وخليله محمد بن عبد الله صلواته وسلامه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد، فإن من لا علم له بالكتاب والسنة لا حظّّ له من الملة الحنيفية، والشرعة المحمدية، وليس له من نور الهداية ومصباح النبوة ما يهتدي به في دياجير الشبهات، وظلمات الترهات، وإن صدره لغفل من برد اليقين، وعقله بمعزل من إصابة الحق المبين، وقلبه خلو من واعظ الإيمان وخشية الديان، فالخير كل الخير في اتباع الكتاب والسنة واقتفاء هديهما، والاغتراف من بحرهما الواسع، وجودهما السابغ، ولا شيء أهدى للنفوس وأجلب لسعادتها، وأرجى لطهارتها، من تفهم هذين الصنوين والعكوف على درسهما، وتدبر معانيهما، والنفوذ إلى مغزاهما، فهناك طهارة القلب، وصفاء العقل، وكمال النفس. فكان خليقًا بالعلماء ورواد الدين أن يجعلوا مقصدهم الأسمى وغايتهم القصوى معرفة هذين الأصلين، والاستظلال بظل هاتين الدوحتين، والاحتماء بحماهما وابتغاء الهداية من سبيلهما، ولكن - واأسفاه - صرفوا عنهما العناية، وولوا وجوههم نحو الفروع وما إليها، وتحكموا بها في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فآثروا الفروع على الأصول، وقدموا آراء الرجال على قول الله وقول الرسول، وما ذلك إلا إغماص لمقام الكتاب والسنة، وتغال في وضع الآراء مواضع النصوص، وإنه لخطأ - لو يعلمون - عظيم تنكره أصولهم، وتأباه عليهم - لو أنصفوا - عقولهم. ومن عجيب أمرهم أن يعدوا من كبار المفسرين مَنْ درس مثل تفسير الجلالين أو النسفي دون أن تكون له ملكة فهم في القرآن وذوق يدرك به سر فصاحته وكمال اقتدار على تطبيقه على سير الناس ومعاملاتهم، وأعجب من ذلك أن يعدوا بخاري زمانه ومسلم أوانه مَن مر على صحيح البخاري مر السحاب دون أن يطلق لنفسه العنان في تفهم الأحاديث واستنباط الأحكام، ومقارنة ذلك بأفهام المتقدمين وما استنبطوه منها، وأين صحيح البخاري من كتب الصحاح والمسانيد والأجزاء التي يكاد يخطئها العد ولا يضبطها الحساب؟ وإن من المضحكات المبكيات أن نسأل كثيرًا من العلماء عن أسماء الكتب الستة فلا يحير جوابًا، كأن ذلك ليس لديه من الدين في ورد ولا صدر، ولا قبيل أو دبير، فلا حول ولا قوة إلا بالله. تنكرت معالم الدين وطبق الجهل على المنتسبين إليه، وسادت الفروع وعبدت لها الأصول، وأنكر على المؤثر لها، المقتفي هديها، فزال جلال الدين من النفوس، وكاد يرحل من دول القضاء، ويهاجر من أرض المعاملات. فكل ذلك دعاني لأن أجعل رسالتي التي أقدمها لمدرسة القضاء الشرعي في السنة الختامية، في تاريخ فنون الحديث، والكشف عما طرأ عليها من جمع وتصنيف، وترتيب وتهذيب، وشرح وتبيين حتى تتمثل لك - أيها القارئ الكريم - صورة واضحة ترى فيها كتب السنة ماثلة، وتلمح في ثناياها تلك الخدمات الجليلة التي أداها للسنة سلفنا الصالح، وتبصر في أساريرها رفيع مقام السنة، وناصع بياضها وجليل أمرها، وإني وإن لم أسبق إلى هذا النوع من الكتابة، حسب ما أعلم، ولم يمهد أحد قبلي صعابه، فإن أملي في الله عظيم، ورجائي في واسع فضله كبير أن يسدد لي خطاي، ويوفقني لمسعاي، ويمدني بروح من عنده يهديني بها قصد السبيل، إنه نعم المولى ونعم النصير. *** معنى تاريخ السنة السنة في اللغة: الطريقة المسلوكة، من سننت الشيء بالمسن إذا أمررته عليه حتى يؤثر فيه سنًّا؛ أي: طريقًا، وهي إذا أطلقت تنصرف إلى الطريقة المحمودة، وقد تستعمل في غيرها مقيدة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) رواه مسلم، وتطلق في عرف الشرعيين على قول النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، عدم إنكاره لأمر رآه أو بلغه عمن يكون منقادًا للشرع فهي مرادفة للحديث، وأعني بتاريخها الأداوار التي تقلبت فيها من لدن صدورها عن صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم إلى أن وصلت إلينا من حفظ في الصدور، وتدوين لها في الصحف، وجمع لمنشورها وتهذيب لكتبها ونفي لما اندس فيها، واستنباط من عيونها، وتأليف بين كتبها، وشرح لغامضها ونقد لرواتها، إلى غير ذلك مما يعرفه القائمون على خدمتها والعاملون على نشر رايتها. *** أدوار تاريخ السنة حفظها في الصدور، تدوينها مختلطة بالفتاوى، إفرادها بالتدوين، تجريد الصحيح، تهذيبها بالترتيب والجمع والشرح، فنون الحديث المهمة، وتاريخ كل علم، وأحسن المصنفات فيه. وسنعقب ذلك بخاتمة فيها مسائل قيمة. *** مكانة السنة من الكتاب قبل أن نشرع في موضوعنا نقدم لك بين يديه فصلاً نبين فيه مكانة السنة من الكتاب ومنزلتها منه حتى تنجلي لك مكانة الموضوع الذي نحن بصدده، فنقول وبالله توفيقنا وعليه اعتمادنا: إن للسنة عملين: 1- تبيين الكتاب. 2- والاستقلال بتشريع الأحكام. أما الأول؛ فلقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) ، فلا سبيل إلى العمل بجل الشرائع التي تضمنها الكتاب إلا ببيان من المعصوم يفصل مجملها، ويوضح مشكلها، ويعين محتملها، ويقيد مطلقها، وكيف تراك مصليًا إذا وقفت إلى ما نطق به الكتاب فحسب، ولم تعرض على السنة فتتعرف أوقاتها وعدد ركعاتها وسجداتها وما يقيمها أو يبطلها إلى سائر أحكامها وكثير أنواعها؟ وما الذي تخرجه من مالك زكاة إذا لم تسترشد بكتاب الصدقات من السنة؟ ثم كيف تؤدي مناسك الحج إذا لم تأتس بالرسول في قاله وحاله يوم أن حج بالناس حجة الوداع، فلا جرم كان القرآن في حاجة إلى السنة ورحم الله الأوزاعي إذ يقول: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب. ولا عجب في ذلك، فإن المجمل في حاجة إلى البيان، ولا كذلك المفصل. وأما الثاني؛ فلقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الحشر: 7) ، وقوله جل شأنه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (المائدة: 92) إلى غير ما آية، وكيف ننكر استقلال السنة بتشريع الأحكام وقد أخرج أبو داود والترمذي عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (يوشك رجل منكم متكئًا على أريكته يحدث بحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله) زاد أبو داود: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه) ، وقد حرمت السنة نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، وحرمت الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، وأوجبت رجم المحصن، إلى كثير مما ملئت به مدونات فقه الحديث والكتب الجامعة لأحاديث الأحكام، كبلوغ المرام لابن حجر، والمنتقى للمجد ابن تيمية، وشرحه نيل الأوطار للشوكاني. ولا تنس ما في السنة من آداب وآخلاق وقصص ومواعظ ورقائق وعقائد، وإن كانت لا تعدو شرح الكتاب. وجملة القول أن الكتاب والسنة ينبوع هذا الدين المتين، ومعتمد المسلمين وناموس المشرعين. *** الدور الأول حفظ السنة في الصدور لم تكن السنة في القرن الأول - عصر الصحابة وأكابر التابعين - مدونة في بطون الكتب، وإنما كانت مسطورة على صفحات القلوب، فكانت صدور الرجال مهد التشريع النبوي ومصدر الفتيا ومنبعث الحكم والأخلاق. ولم يقيدوا السنة بكتاب لما ورد من النهي عن كتابتها، روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني فلا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، قال كثير من العلماء: نهاهم عن كتابة الحديث خشية اختلاطه بالقرآن، وهذا لا ينافي جواز كتابته إذا أمن اللبس، وبذلك يحصل الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده) وقوله عام الفتح: (اكتبوا لأبي شاه) ، وإذنه لعبد الله بن عمرو بتقييد العلم، ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم بادر الصحابة إلى جمع ما كتب في عهده في موضع واحد وسموا ذلك (المصحف) واقتصروا عليه ولم يتجاوزوه إلى كتابة الحديث وجمعه في موضع واحد كما فعلوا بالقرآن الكريم، وصرفوا همهم إلى نشره بطريق الرواية، إما بنفس الألفاظ التي سمعوها منه صلى الله عليه وسلم إن بقيت في أذهانهم، أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم، فإن المقصود بالحديث هو المعنى، ولا يتعلق في الغالب حكم بالمبنى بخلاف القرآن، فإن للألفاظ مدخلا ًفي الإعجاز، فلا يجوز إبدال لفظ منه بآخر، ولو كان مرادفًا له؛ خشية النسيان مع طول الزمان، فوجب أن يقيد بالكتابة، وأما السنة فتقييدها مباح ما أمن الاختلاط. فأنت تراهم سلكوا مسلك الجمع بين هذه الأحاديث المتضاربة، لكن نظرت لابن القيم في كتابه (زاد المعاد) أثناء الكلام على قصة الفتح ما يأتي: وفي القصة أن رجلاً من الصحابة يقال له: أبو شاه قام فقال: اكتبوا لي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاه) يريد خطبته. ففيه دليل على كتابة العلم، ونسخ النهي عن كتابة الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه) ، وهذا كان في أول الإسلام خشية أن يختلط الوحي الذي يتلى بالوحي الذي لا يتلى، ثم أذن بالكتابة لحديثه. وصح عن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب حديثه، وكان مما كتبه صحيفة تسمى الصادقة، وهي التي رواها حفيده عمرو بن شعيب، عن أبيه، عنه، وهي من أصح الأحاديث، وكان بعض أئمة أهل الحديث يجعلها في درجة أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، والأئمة الأربعة وغيرهم احتجوا بها. وإلى القول بالنسخ أميل: ذلك أن القرآن وإن كان بدعًا في أسلوبه، فريدًا في نظمه يمتاز على غيره بالإعجاز، لكن المسلمين في أول الإسلام كانوا حديثي عهد بنزوله، وكان النازل منه يسيرًا، فلم تكن ميزته المثلى قد توطنت النفوس جد التوطن، ولا تمكنت فيها فضل التمكن، فكان من الممكن أن يشتبه على من دون فرسان البلاغة الوحي المتلو بغير المتلو، فوجب التمييز بالكتابة، فلما مرنوا على أسلوبه، وطال عهدهم بسماعه وتلاوته حتى أصبحوا إذا سمعوا الآية تتلى أو السورة تقرأ أدركوا لأول كلمة تقرع أسماعهم أن ذلك وحي الله المتلو، ولم يحم الاشتباه حول نفوسهم، لما مرنوا على ذلك أَذِن لهم بكتابة الحديث لأمن اللبس. ولعل من دواعي النهي عن كتابة الحديث أولاً، ثم الإذن بكتابته ثانيًا أن العارفين بالكتابة كانوا في غربة الإسلام قليلين فاقتضت الحكمة قصرهم على كتابة القرآن، فلما توافر عددهم أَذِن صلوات الله وسلامه عليه بكتابة الحديث

الدعوة إلى انتقاد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى انتقاد المنار إننا ندعو من يطلع على المنار من علماء الدين وغيرهم من أهل العلم والرأي أن يكتبوا إلينا بما يرون فيه من الخطأ في المسائل الدينية وغيرها، أو ما ينافي مصلحة أمتنا وأوطاننا التي نعيش فيها، ونعد المنتقدين بنشر كل ما يرسل إلينا من نقد مع بيان رأينا فيه، بشرط أن يكون على الوجه الذي بيناه في خاتمة المجلد 21 وفيما قبله. ونذكر عامة قراء المنار أن يطالبوا كل من يسمعون منه انتقادًا في المنار بكتابة انتقاده وإرساله إلى صاحبه لينشره فيه، فيطلع قراؤه عليه وعلى ما يقرن به من قبول أو رد، ويأخذوا بما يرونه الحق، ويعلموا أن كل منتقد أبى أن يكتب انتقاده ويرسله إلينا فهو فاسق مغتاب، أو حاسد كذاب.

الاتحاد والاقتصاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاتحاد والاقتصاد كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، ميزان سياسة الأمم ونظام الاجتماع، كثر في هذا العصر تشدق الخطباء بذكرهما، وشرح الكُتاب لفوائدهما، ولما يفقه الدهماء حقيقة معناهما، بل لما يُحط أكثر العلماء والزعماء منا خبرًا بهما؛ لأن فقه الحقائق وإحاطة الخبر لا يحصلان إلا بطول التجارب في الحوادث، والاصطلاء بنيران الكوارث، بعد تلقي الحكمة بالتعليم، والتربية على سلوك الصراط المستقيم. كنا منذ أنشأنا المنار في أواخرسنة 1315 للهجرة قد جعلنا أهم ما ندعو إليه القراء في مصر وسائر البلاد أن يجعلوا جل عنايتهم في إصلاح شؤونهم بالتربية الملية التي تكوّن أمة متحدة، والاقتصاد الذي تكون به الأمة غنية تتصرف بثروتها في القيام بمصالحها كما تشاء، بثثنا هذه الدعوة في (المؤيد) في ذلك العهد؛ إذ كنا نكتب فيه مقالات بإمضاء (م. ز) وبغير إمضاء، ثم أعدنا بثها في (الجريدة) في أول العهد بظهورها في مقالة عنوانها: (إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج) نشرناها أيضًا في الجزء الثاني للمجلد العاشر من المنار الذي صدر في صفر سنة 1325. ونحمد الله تعالى أن رأينا في هذه السنين آيات الاتحاد في هذه البلاد العزيزة، ورأينا من نتائجه قرب الحصول على الاستقلال الذي نعتقد أنه لا ينال إلا به، بل نقول: إن الاتحاد بغير استقلال خير من الاستقلال بغير اتحاد؛ لأن الاتحاد يأتي بالاستقلال المفقود، وفقده يذهب بالاستقلال الموجود، فالواجب الآن على كل مصري أن يكون أحرص على تعزيز الاتحاد والتكافل الذي وقع منه على نيل الاستقلال الذي يرجى به ويتوقع، فإن الاتحاد إذا ثلم وانفصمت عروته قبل بدو صلاح ثمرته نفضت الشجرة، أو خرجت الثمرة شيصًا لا غناء فيها، وإذا انتكث فتله بعده، زال أثره بزواله، فإذًا لا استقلال ابتداءً ولا بقاء إلا بالاتحاد. ولما كان لكل كثرة دائرة منظمة جهة وحدة تضبطها وتعرف بها، وكان الوفد المصري هو عنوان الاتحاد الذي ارتقت إليه البلاد وممثله، وجب على الشعب المصري المتحد أن يظل متمسكًا بحبله معتصمًا بعروته، ولا سيما بعد الذي ظهر من كفاءته وأمانته، وإلا كان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وناهيك به جهلاً وأفنًا وخسرانًا. ثم ليعلم علم تدبر أنه لا قوام لاستقلال الأمم وحريتها إلا بالثروة، ولا ثروة إلا بالاقتصاد، وأن الاقتصاد السياسي، متوقف على الاستقلال الاقتصادي، ونحن مقصرون في سبيل هذا الاستقلال تقصيرًا إذا لم نبادر إلى تداركه كنا من الهالكين. إن للكسب والإنفاق علومًا وفنونًا اتسع نطاقه في هذا العصر اتساعًا عظيمًا؛ لأنها قطب الرحى لمدنية الأمم والشعوب وعزتها ورفاهتها وسيادتها، وقد برّزت بها الأمم الشمالية الغربية، فاستعمرت أو استعبدت به الأمم الشرقية والجنوبية، حتى ظن كثير من القاصرين أن الشعوب والأجناس أو الأقاليم الغربية، أعظم استعدادًا بطبيعة العرق وخاصية الجنس من الشعوب الشرقية، ويبطل هذا القول ما هو معلوم من أن اليهود أرقى أهل الأرض في جميع هذه العلوم والفنون والأعمال والمترتبة عليها، أينما وجدوا وحيثما حلوا من أقطار الأرض، وهم شعب شرقي محافظ على نسبه ودمه، وكذلك الشعب الياباني في الشرق الأقصى قد جارى الغربيين فيها من عهد قريب. ولكن الأمر الغريب أن المسلمين في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا يزالون مقصرين في هذا المضمار، وبهذا التقصير أضاعت أكثر دولهم ملكها، وأمسى الباقي لها بين براثن الخطر، ويضيع أكثر أفرادهم ملكهم في البلاد التي يزاحمهم فيها غيرهم، فإن كان جل ثروة مصر وسورية والعراق لا يزل بيدهم، فما ذلك من كسبهم بعلومهم وفنونهم، وإنما ذلك إرث رقبة الأرض تسلسل فيهم؛ لأنهم أكثر السكان المالكين لها، فهذه مصر أقدر البلاد العربية على اقتباس العلوم والفنون المالية وغيرها، وأكثرها نفقة عليها نراها مقصرة في هذا الاقتباس، فجميع من يعيش فيها من الشعوب الأوربية واليونانيين والسوريين يفوقون المصريين في العلوم والفنون المالية الاقتصادية، وفي إدارة المال بالتجارة وغيرها، وفي الاقتصاد وحفظ الثروة من التبذير والضياع، بل القبط من المصريين يفوقون المسلمين في ذلك عملاً، وثروتهم النسبية تفوق ثروة المسلمين، وأكثر أعمال الحكومة المالية في أيديهم وأيدي الأوربيين والسوريين، بل أكثر المسلمين يعتمدون على كتبهم في إدارة ثروتهم على أن المسلمين أشد إسرافًا في الإنفاق وتبذير الأموال منهم ومن سائر الشعوب التي نعرف أحوالها. من فطن لهذا من علماء الاقتصاد يعلله بادي الرأي بأن الدين الإسلامي هو السبب في الأمرين، وهذا التعليل يضاهي في البطلان تعليل من عساه يقول: إن الدين المسيحي هو سبب ثراء نصارى الغرب وسعة عيشهم وشدة سطوتهم وجبروتهم، والحق أن كلاًّ من النصارى والمسلمين مخالف لهدي دينه ونصوص كتابه في الأمرين، فالإنجيل يهدي إلى المبالغة في الزهد والقناعة والتواضع والخضوع لكل سلطان، وينص على أن الغني لا يدخل ملكوت السماوات، والإسلام دين سيادة واقتصاد، وجمع بين مطالب الروح والجسد، كما بينا ذلك وفصلناه مرارًا كثيرة، ومن نصوصه فيما نحن بصدده قوله تعالى في أوائل سورة النساء: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5) ؛ أي: جعل عليها مدار قيام مصالحكم ومرافقكم وحفظها وثباتها، وقوله في صفات المؤمنين من أواخر سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) ، ونهى في وصايا سورة الإسراء عن المبالغة في قبض اليد وبسطها في الإنفاق، وعن التبذير وسمى المبذرين إخوان الشياطين، وهذه الوصايا هي أمهات أصول الدين وفضائله وآدابه، وهي تشمل الوصايا العشر التي في التوراة ما عدا بطالة يوم السبت وتزيد عليها، وفي السنة وصايا وأحكام كثيرة في ذلك. فالمسلمون مخالفون لدينهم فيما اعتادوا من الإسراف في النفقات، وهذا إذا كانت فيما أبيح لهم من الزينة والطيبات، فكيف إذا كانت في المحرمات؟ ولا سيما الفواحش الثلاث المفسدات للفطرة المخربات للديار؛ السُكْر والزنا والقمار، وهم على هدمهم بذلك لدينهم يهدمون كل ما يبنى من صرح استقلالهم، وإنني لم أر ولم أسمع من أخبار البشر أن شعبًا منهم يعادي النقد الذي هو ميزان الأعمال والقوة في الاجتماع البشري كالشعب المصري، فالمصري أسرع الناس بذلاً لما يصل إلى يده من النقد، فالمتمتعون بالزينة واللذات ينفقون في سبيلهما ما تصل إليه أيديهم من كسب وقرض، ولو بالربا الفاحش، وغير المتمتعين يشترون بما تصل إليه أيديهم من كسب وقرض بالربا أرضًا أو عقارًا، ولا يبالي أكثر الفريقين أن يشتري الشيء بأضعاف ثمنه، وإن استدان الثمن بالربا الفاحش؛ لأن النقد أحقر الأشياء في نظره، ولذلك ترى أكثر المصريين على سعة ثروتهم الزراعية مرهقين بالدين، فيجب على الزعماء والعلماء والخطباء وكتاب الصحف أن يتعاونوا على درء هذا الخطر بوسيلتي العلم والعمل، وإلا ظل المنتجون منهم كالأجراء الأجانب؛ لأن جل ما ينتجون يتسرب إلى صناديق المصارف المالية ومنائر المرابين وجيوب أصحاب الحانات والمواخير وموائد القمار وتجار عروض الزينة والترف، وبعبارة أخرى أن جل ثروة البلاد تخرج منها إلى البلاد الأجنبية. ومن الضروري أن يبادروا إلى تأليف جمعية اقتصادية يكون من أعمالها إرسال بعض الطلاب المستعدين إلى معاهد العلم في أوربة لأجل الأخصاء في علم الاقتصاد السياسي وسائر الفنون المالية والصناعات الضرورية، ولا سيما الغزل والنسيج، ثم جعلهم معلمين لهذه الفنون والصناعات وعاملين بها، والاستقلال المنتظر يزيل إن شاء الله ما كان من الموانع دون مثل هذا، وإنني رأيت في الهند معامل عظيمة للمنسوجات الأوربية - دع المنسوجات الوطنية الخاصة بأهل البلاد - وجميع عمال هذه المعامل من الوطنيين، إلا أنني رأيت في معمل كبير في بمباي رجلين من الإنكليز وظيفتهما اختيار نقوش النسيج، ويكون أهم أعمال هذه الجمعية وشعبها تعميم النقابات الزراعية في البلاد وتأليف الشركات للمشروعات الاقتصادية المختلفة، ويكون منها السعي لإرشاد جمهور الأمة إلى الاقتصاد، وجعل ثروة البلاد قوة لها، وضمانًا لاستقلالها بنفسها وحريتها في التصرف بثروتها.

نصيحة اقتصادية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نصيحة اقتصادية إن هذا الغلاء الشديد الذي تئط من حمله جميع الأمم - الذي كانت الحرب سببًا طبيعيًّا [1] له، وابتدع له الطامعون من التجار وغيرهم أسبابًا صناعية وحيلاً كثيرة - قد بلغ مده الغاية في حده، ولم يعد للعمران قِبل باحتماله، ومن المقطوع به في علم الاقتصاد أن الأشياء التي قلت بقلة الأيدي العاملة لاشتغال ألوف الألوف من البشر بالحرب عن الزراعة والصناعة ستكثر بعد عود تلك الأيدي إلى العمل، فتجد المستهلكين للأقوات والمصنوعات قد قل عددهم؛ إذ أهلكت الحرب خمسة وثلاثين مليونًا من البشر منها 12 مليونًا في ميادين القتال على أوسط تقدير، والباقي فيما تولد عنها من الأدواء والأمراض والمجاعات كما قيل، ويوجد عشرات الملايين أو مئات الملايين من البشر في الشرق لا يزال يتعذر إيصال البضائع الأوربية إليهم، فلا بد إذًا أن تهبط أثمان البضائع والأقوات هبوطًا عظيمًا ربما كان فوق تقدير المقدرين. فالواجب على كل عاقل حريص على ماله أن يتبع القاعدة المعقولة التي جرينا نحن عليها وكنا نوصي الناس بها، وهي أن لا يشتري أحد شيئًا ما قبل عودة الأسواق إلى الأسعار المعتدلة إلا إذا كان لا غنى له عنه، وبعد البحث عن أسعاره في عدة مواضع، ولا يغترن أحد بعد اليوم بحيل التجار بادعاء تنزيل الأثمان مؤقتًا، ودعوتهم إلى ما يسمونه الفرصة العظيمة أو (الأوكازيون) ، فإن هذه الفرص ليست بمؤقتة، وإنما هم مضطرون إلى الهبوط بها إلى ما دونها، فهم يغتنمون فرصة حاجة الناس إلى الشيء وألفتهم للغلاء قبل الهبوط الشديد العام المنتظر، فالغنم لهم والغرم على من يصدقهم. بدأ أحذق التجار ينقص أسعار البضائع بالتدريج، ولا سيما المنسوجة، وظل أغبياء الطامعين مصرين على نهب الناس بتلك الأسعار الفاحشة، بل علمنا علم اليقين أن بعض الذين أعلنوا للناس وجوب اغتنام الفرصة بالنقص المؤقت من سعر البضائع قد زادوا في سعرها بما كتبوا على بطائقها كما كانوا يفعلون في زمن الحرب والهدنة، ولكن قلَّ مَن ينخدع بعد اليوم بهؤلاء القادة المستحقين للإفلاس والفقر.

الجود والإحسان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجود والإحسان والمقابلة فيهما بين نساء الإنكليز اليوم ونساء الصحابة - رضي الله عنهم - نشرت جريدة (المقطم) منذ بضعة أشهر ما يأتي: قابل أحد أغنياء لندن محافظها من أيام، وأبلغه أنه مستعد للتبرع بمائة وخمسين ألف جنيه لإنشاء حديقة في لندن تدعى حديقة النصر، وقد وعد هذا المحسن أن يتبرع بكل ثروته، وتقدر بأكثر من مليون للأعمال الخيرية قبل وفاته. واجتمع المؤتمر الإنكليزي الكاثوليكي في لندن؛ لاستنداء الأكف لمساعدة الرسالات الدينية الخارجية وخطب الخطباء، قالت (الديلي مايل) : فأخذت النساء ينزعن حليهن، ويلقينها في العلب والبرانيط التي أديرت على المجتمعين، وتبرع كثيرون بحوالات كتبوها بأقلام استعارها بعضهم في الاجتماع، وبعض هذه الحوالات بألف جنيه، وبعضها بثماني مائة، والبعض بخمس مائة، وقدر ما اجتمع من الساعات ذات السوار والحلي الأخرى بمئات الجنيهات، ونزعت إحدى الحاضرات الحلية التي على حذائها، وتبرعت أخرى بأزرار اللؤلؤة التي على بلوزتها، وتبرعت أخرى بقرطين صغيرين من الذهب والألماس نزعتهما من أذنيهما، وكان المجموع الأول 1745جنيه اهـ. *** الاعتبار بهذا الخبر ذكرنا تبرع نساء الإنكليز بحليهن لمساعدة نشر دينهم ما ورد في الصحيحين من مثل ذلك عن نساء الصحابة - رضي الله عنهن - ففي (باب عظة النساء) من كتاب العلم عند البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: (أشهد على النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج ومعه بلال، فظن أنه لم يسمع النساء فوعظهن وأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم، وبلال يأخذ في طرف ثوبه) . وهذا الوعظ للنساء كان في يوم عيد الفطر، خص النبي فيه النساء بالموعظة بعد الخطبة العامة لظنه أنه لم يسمعهن؛ لأنهن كن يصلين ويجلسن وراء الرجال، وأخرج البخاري الحديث في (باب موعظة الإمام النساء يوم العيد) ، من كتاب (العيدين) عن جابر في تفسير سورة الممتحنة عن ابن عباس، ويؤخذ من مجموع الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم شق صفوف الرجال بعد خطبة العيد حتى أتى النساء، فقرأ عليهن آية المبايعة، ثم قال لهن: (هل أنتن على ذلك؟) فأجابته واحدة عنهن: نعم. ولما أمرهن صلى الله عليه وسلم بالصدقة قال لهن بلال: هلم لكن فدًا أبي وأمي، فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال، وزاد في رواية لمسلم الخلاخيل، فأما الأقراط، فهي حلي الآذان، وأما الفتخ وهي جمع فتخة، فحلق تلبس في أصابع اليدين والرجلين. والعبرة فيما تقدم من وجوه: أهمها أن الإفرنج اليوم أقرب منا إلى هداية ديننا وسيرة سلفنا الصالح في أمور كثيرة، وأهمها حياة الدين والغيرة عليه، والبذل في سبيله، ومشاركة النساء للرجال في حضور العبادة في المسجد مع الرجال، وسماع المواعظ والتعاون على المصلحة الملية العامة، ولا يبعد أن يعود نساؤنا إلى شيء هداية دينهن اقتداءً بالمحسنات من نساء الإفرنج كما يقلد الكثيرات منهن المسيئات الآن في الأمور المنتقدة، ومتى دبت الحياة في الأمة يحيا فيها كل ما يتعلق بحياتها الاجتماعية.

تاريخ فنون الحديث ـ 2

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

_ تاريخ فنون الحديث (2) إفراد الحديث بالتأليف من مبتدأ القرن الثالث في أول هذا القرن أخذ رواة الحديث في جمعه طريقة غير التي سلفت؛ فبعد أن كانوا يجمعونه ممزوجًا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، أخذوا يفردونه بالجمع والتأليف، ثم من أئمة الحديث من جمع في مصنفه كل ما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير تمييز بين صحيح وسقيم، ومنهم من أفرد الصحيح بالجمع؛ ليخلص طالب الحديث من عناء السؤال والبحث، وكان أول الراسمين لتلك الطريقة المثلى شيخ المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري، فجمع في كتابه المشهور ما تبين له صحته، وكانت الكتب قبله ممزوجًا فيها الصحيح بالعليل بحيث لا يتبين للناظر فيها درجة الحديث من الصحة إلا بعد البحث عن أحوال رواته والوقوف على سلامته من العلل، فإن لم يكن من أهل البحث، ولم يظفر بمن يتعرف منه درجته بقي ذلك الحديث مجهول الحال عنده، واقتفى أثر البخاري في ذلك الإمام مسلم بن الحجاج القشيري وكان من الآخذين عنه، ثم ارتسم خطتهما كثيرون. وإن ذلك القرن الثالث لأجلّ عصور الحديث وأسعدها بخدمة السنة، ففيه ظهر كبار المحدثين وجهابذة المؤلفين وحذاق الناقدين، وفيه أشرقت شموس الكتب الستة التي كادت لا تفلت من صحيح الحديث إلا النزر اليسير، والتي عليها يعتمد المشرعون، وبها يعتضد المناظرون، وعن محياها تنجاب الشبه وبضوئها يهتدي الضال، وببرد يقينها تثلج الصدور. وبانسلاخ هذا القرن يكاد يتم جمع الحديث وتدوينه، ويبتدئ عصر ترتيبه وتهذيبه، وتسهيله على رواده وتقريبه. وقبل أن نأتي على المشهور من كتب السنة في هذا القرن نعقد فصلاً نكشف فيه عن طرق التصنيف في الحديث حتى نكون على بينة من تأليفه: طرق التصنيف في الحديث للعلماء في تصنيف الحديث وجمعه طريقتان (إحداهما) التصنيف على الأبواب، وهو تخريجه على أحكام الفقه وغيره، وتنويعه أنواعًا، وجمع ما ورد في كل حكم وكل نوع في باب بحيث يتميز ما يتعلق بالصلاة مثلاً عما يتعلق بالصيام، وأهل هذه الطريقة منهم من اقتصر على إيراد ما صح فقط كالشيخين، ومنهم من لم يقتصر على ذلك كأبي داود والترمذي والنسائي، (ثانيتهما) التصنيف على المسانيد، وهو أنه يجمع في ترجمة كل صحابي [1] ما عنده من حديثه سواء كان صحيحًا أو غير صحيح، ويجعله على حدة وإن اختلفت أنواعه، وأهل هذه الطريقة منهم من رتب أسماء الصحابة على حروف المعجم كالطبراني في المعجم الكبير، والضياء المقدسي في المختارة التي لم تكمل، وهذا أسهل تناولاً، ومنهم من رتبها على القبائل فقدم بني هاشم، ثم الأقرب فالأقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب، ومنهم من رتبها على السبق في الإسلام، فقدم العشرة ثم أهل بدر، ثم أهل الحديبية، ثم من أسلم وهاجر بين الحديبية والفتح، ثم من أسلم يوم الفتح، ثم أصاغر الصحابة سنًّا، وختم بالنساء، وقد سلك ابن حبان في صحيحه طريقة ثالثة مرتبة على خمسة أقسام وهي: الأوامر، والنواهي، والأخبار، والإباحات، وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم، ونوع كل واحد من هذه الخمسة إلى أنواع، والكشف في كتابه عسر جدًّا، وقد رتبه بعض المتأخرين على الأبواب، وعمل له الحافظ أبو الفضل العراقي أطرافًا [2] ، وجرد الحافظ أبو الحسن الهيتمي زوائده على الصحيحين في مجلد. ولهم في جمع الحديث طرق أخرى (منها) جمعه على حروف المعجم، فيجعل مثلاً حديث: (إنما الأعمال بالنيات) في حرف الألف، وقد جرى على ذلك أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس، وابن طاهر في أحاديث كتاب الكامل لابن عدي، (ومنها) جمعه على الأطراف، وذلك بأن يذكر طرف الحديث، ثم يجمع أسانيده إما مع عدم التقيد بكتب مخصوصة أو مع التقيد بها، وذلك مثل ما فعل أبو العباس أحمد بن ثابت العراقي في أطراف الكتب الخمسة. ومن أعلى المراتب في تصنيف الحديث تصنيفه معللاً؛ بأن يجمع في كل حديث طرقه واختلاف الرواة فيه، فإن معرفة العلل أجلّ أنواع علم الحديث، وبها يظهر إرسال بعض ما عد متصلاً، أو وقف ما ظن مرفوعًا، وغير ذلك من الأمور المهمة، والذين صنفوا في العلل منهم من رتب كتابه على الأبواب كابن أبي حاتم وهو أحسن لسهولة تداوله، ومنهم من رتب كتابه على المساند كالحافظ الكبير يعقوب بن شيبة البصري [3] ، فإنه ألف مسندًا معللاً غير أنه لم يتم، ولو تم لكان في نحو مائتي مجلد، والذي تم منه مسند العشرة والعباس وابن مسعود وعتبة بن غزوان وبعض الموالي وعمار، ويقال: إن مسند علي منه في خمس مجلدات. ويقال: إنه كان في منزله أربعون لحافًا أعدها لمن كان عنده من الوراقين الذين يُبيضون المسند، ولزمه على ما خرج من المسند عشرة آلاف دينار (خمسة آلاف جنيه مصري تقريبًا) قال بعض المشايخ: إنه لم يتم مسند معلل قط. هذا، وقد جرت عادة أهل الحديث أن يفردوا بالجمع والتأليف بعض الأبواب والشيوخ والتراجم والطرق. أما الأبواب، فقد أفرد بعض الأئمة بعضها بالتصنيف كباب رفع اليدين في الصلاة، أفرده البخاري بالتصنيف، وباب القضاء باليمين مع الشاهد أفرده الدارقطني بالتصنيف، وأما الشيوخ فقد جمع بعض العلماء حديث شيوخ مخصوصين كل واحد منهم على انفراده، فجمع الإسماعيلي حديث الأعمش، وجمع النسائي حديث الفضيل بن عياض، وأما التراجم فقد جمعوا ما جاء بترجمة واحدة من الحديث كمالك عن نافع عن ابن عمر، وكسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة. وأما الطرق فقد جمعوا بعض طرق الأحاديث، كحديث قبض العلم؛ جمع طرقه الطوسي، وحديث (من كذب علي متعمدًا) جمع طرقه الطبراني وغير ذلك. *** كتب السنة في القرن الثالث أشهر الكتب في القرن الثالث: صحيح البخاري [4] ، وصحيح مسلم [5] ، وسنن أبي داود [6] ، وسنن النسائي [7] ، وجامع الترمذي [8] ، وسنن ابن ماجه [9] ، ومسند الإمام أحمد بن حنبل [10] ، والمنتقى في الأحكام لابن الجارود [11] ، ثم مصنف ابن أبي شيبة [12] ، وكتاب محمد بن نصر المروزي [13] ، ومصنف سعيد بن منصور [14] ، وكتاب تهذيب الآثار لمحمد بن جرير الطبري [15] ، وهو من عجائب كتبه، ابتدأ فيه بما رواه أبو بكر الصديق وتكلم على كل حديث وعلته وطرقه وما فيه من الفقه واختلاف العلماء وحججه واللغة، فتم مسند العشرة وأهل البيت والموالي، وقطعة من مسند ابن عباس، والمسند الكبير لبقي بن مخلد القرطبي [16] رتبه على أسماء الصحابة، روى فيه عن ألف وثلاثمائة صحابي ونيف، ثم رتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه، فجاء كتابًا حافلاً مع ثقة مؤلفه وضبطه وإتقانه، ومسند عبيد الله بن موسى [17] ، ومسند إسحاق بن راهويه [18] ، ومسند ابن حميد [19] ، ومسند الدارمي [20] ، ومسند أبي يعلى الموصلي [21] ، ومسند ابن أبي أسامة الحارث بن محمد التميمي [22] ، ومسند ابن أبي عاصم أحمد بن عمرو الشيباني [23] ، وفيه نحو خمسين ألف حديث، ومسند ابن أبي عمر، ومحمد بن يحيى العدني [24] ، ومسند أبي هريرة لإبراهيم بن حرب العسكري [25] ، ومسند الإمام علي لأحمد بن شعيب النسائي [26] ، ومسند العنبري إبراهيم بن إسماعيل الطوسي [27] ، والمسند الكبير للبخاري، ومسند مسدد بن مسرهد، [28] ومسند محمد بن مهدي [29] ، ومسند الحميدي [30] ، ومسند إبراهيم بن معقل النسفي [31] ، ومسند إبراهيم بن يوسف الهنجاني [32] ، ومسند مالك لأحمد بن شعيب النسائي [33] ، والمسند الكبير للحسن بن سفيان [34] ، والمسند المعلل لأبي بكر البزار [35] ، ومسند ابن سنجر [36] ، والمسند الكبير ليعقوب بن شيبة [37] ، ولم يؤلف أحسن منه لكنه لم يتم ومسند علي بن المديني [38] ، ومسند ابن أبي عزرة أحمد بن حازم [39] ، ومسند عثمان بن أبي شيبة [40] ، وكتب المسانيد كثيرة جدًّا، وفيما ذكرنا كفاية إن أردت زيادة، فانظر كشف الظنون تجد فيه بعض الحاجة. تنبيه: كتب المسانيد دون كتب السنن في الرتبة، جرت عادة مصنفيها أن يجمعوا في مسند كل صحابي ما يقع لهم من حديثه صحيحًا كان أو سقيمًا، ولذلك لا يسوغ الاحتجاج بما يورد فيها مطلقًا، واستثنى بعض المحدثين منها مسند الإمام أحمد بن حنبل. *** كتب السنة في القرن الرابع الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين من رواة الحديث وحملته هو رأس سنة ثلاثمائة، وقد رأينا فيما سلف أن القرن الثالث أسعد القرون بخدمة السنة وتمحيصها ونقد رواتها، وكل من أتى بعد ذلك فَعالَةٌ على المتقدمين إلا قليلاً يجمع ما جمعوا، ويعتمد في نقده على ما نقدوا، لذلك كانت كتب السنة في القرن الثاني والثالث تمتاز في الأكثر بأولية الجمع فيها دون الأخذ عن غيرها، وهذا ما دعاني إلى أن أفرد كتب السنة في القرن الرابع بالذكر دون أن أدمجها مع كتب السنة في القرن الثالث. أشهر الكتب في القرن الرابع المعاجم الثلاثة: الكبير، والصغير، والأوسط للإمام سليمان بن أحمد الطبراني [41] رتب في الكبير الصحابة على الحروف، وهو مشتمل على نحو خمسمائة وعشرين ألف حديث، ورتب في الأوسط والأصغر على شيوخه على الحروف أيضًا، ولقد رتب الكبير الإمام علاء الدين علي بن بلسبان الفارسي [42] ترتيبًا حسنًا، وسنن الدارقطني [43] ، وصحيح أبي حاتم محمد بن حبان البستي [44] ، وصحيح أبي عوانة يعقوب بن إسحاق [45] ، وصحيح ابن خزيمة محمد بن إسحاق [46] ، وصحيح المنتقى لابن السكن سعيد بن عثمان البغدادي [47] ، والمنتقى لقاسم بن أصبغ محدث الأندلس [48] ، ومصنف الطحاوي [49] ، ومسند ابن جميع محمد بن أحمد [50] ، ومسند محمد بن إسحاق [51] ، ومسند الخوارزمي [52] ، ومسند أبي إسحاق إبراهيم بن نصر الرازي [53] . وسنعقد لكل كتاب من كتب السنة الشهيرة في القرنين الثالث والرابع فصلاً يعرف به، ويبين درجة أحاديثه، وما لقيه من عناية، مبتدئين في ذلك بمسند الإمام أحمد رضي الله عنه. *** مسند الإمام أحمد بن حنبل مسند الإمام أحمد كتاب جليل من جملة أصول السنة، يشتمل على أربعين ألف حديث، تكرر منها عشرة آلاف، ومن أحاديثه ما ينوف على ثلاثمائة حديث ثلاثية الإسناد (أي: بين راويها والرسول ثلاثة رواة) . درجة حديثه: روى أبو موسى المديني عن الإمام أحمد أنه سئل عن حديث فقال: انظروه، فإن كان في المسند، وإلا فليس بحجة، كأن الإمام يرى صحة كل ما ساقه في مسنده، لكن عبارته ليست صريحة في أن كل ما فيه حجة، إنما هي صريحة في أن ما ليس فيه ليس بحجة، لكن ثم أحاديث مخرجة في الصحيحين وليست فيه، والحق أن الكتاب فيه كثير من الأحاديث الضعيفة، بل ذكر ابن الجوزي في موضوعاته خمسة عشر حديثًا من المسند لاحت له فيها سمة الوضع، وذكر الحافظ العراقي تسعة، لكن أجاب عن هذه الأحاديث الحافظ ابن حجر في كتابه (القول المسدد في الذب عن المسند) ، وقال في كتابه تعجيل المنفعة برجال الأربعة: ليس في المسند حديث لا أصل له إلا ثلاثة أحاديث، أو أربعة، منها حديث عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة زحفًا قال: ويعتذر عنه، لأنه مما أمر بالضرب عليه، فترك سهوًا، أو ضرب عليه وكتب من تحت الضرب، ويعجبني ما قاله العلامة ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة) ، شرط أحمد في المسند أن لا يروي عن المعروفين بالكذب عندهم، وإن كان في ذلك ما هو ضعيف، قال: ثم زاد ابن أحمد زيادات على المسند ضمت إليه، وكذلك زاد أبو بكر القطيعي، وفي تلك الزيادات كثير من الأحاديث الموضوعة، فظن من لا علم عنده أن ذلك من رواية أحمد في مسنده. شرحه واختصاره: شرح المسند أبو الحسن بن عبد الهادي السندي [54] نزيل المدين

الاقتداء في الصلاة بمتخذي الوسطاء والشفعاء عند الله وما يتبع ذلك في حقيقة الإسلام والارتداد عنه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاقتداء في الصلاة بمتخذي الوسطاء والشفعاء عند الله وما يتبع ذلك في حقِيقة الإسلام والارتداد عنه س2 جاءنا هذا السؤال من جماعة الموحدين في دمياط ومعه عنوان واحد منهم لنجيبه، فرأينا أنه يجب نشره والجواب عنه في المنار، وهو: حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد رشيد رضا صاحب إدارة المنار العامرة. تحية إخلاص تحدوها إليكم روح الإسلام، وبعد، فلما كانت ثقتنا لا تنحصر بغير عالميتكم؛ لسعة اطلاعها بنور الإله الواحد الهادي إلى الصراط المستقيم سيما في معضلات الأمور التي يتوقف صلاح الدين عليها، رجوناكم للسؤال الآتي وهو: هل تصح الصلاة خلف متخذي الشفعاء والوسائط من مسلمي هذا الزمان أم لا تصح؟ وفي الختام نلهج جميعًا بتكرار الرجاء ونردده باسم الدين الإسلامي الحنيف أن لا يضن الأستاذ الإمام على طائفة تقلب وجهها في السماء لهفًا بالجواب على هذا السؤال وافيًا. هذا وإن أمكن الأستاذ الإمام نشر الجواب في المجلة الطائر ذكرها بين أقطار المشارق والمغارب فبها وياحبذا، وإلا فنرجوه جميعًا ألا نحرم من الرد بالعنوان طيه، ولكم من الله تعالى الشكر والأجر إن شاء الله، والسلام. الموحدون بدمياط. (ج) الظاهر أن السائلين يعنون بمتخذي الشفعاء والوسطاء عند الله من يصدق عليهم قوله تعالى في مشركي العرب: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) ، وإنهم مرتابون في الاقتداء بهم في الصلاة مع هذا الشرك الصريح؛ لأنهم يأتونه عن جهل ويحسبون أنه طاعة لله وعمل بدينه، وهم مؤمنون إجمالاً بالله، وبأن كل ما جاء به عنه خاتم رسله محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو حق، وإيمانهم بذلك إيمان إذعان؛ لأنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحجون بيت الله من استطاع منهم إليه سبيلاً، فموضع الإشكال على هذا ما يصدر عنهم من العبادة الشركية لغير الله تعالى؛ كدعاء الموتى من الصالحين والتمسح بقبورهم، والطواف بها وببعض النبات والجماد لشفاء الأمراض وتفريج الكروب وتوسيع الرزق، وغير ذلك من الأعمال والاعتقادات المنافية للتوحيد الذي جاء به الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وهو أن لا يعبد إلا الله، وأن يخلص له الدين وحده، فلا يدعى معه أحد - هل هي من أعمال الشرك المجمع عليها، المعلومة من الدين بالضرورة، فلا يعذر الجاهل بها كما يقول المتكلمون والفقهاء، أم هي مما يخفى على غير العلماء الأعلام، العارفين بحقيقة ما كان عليه الصدر الأول من قواعد الإسلام، فيعد الجاهل بها والمتأول فيها معذورًا، وإسلامه وما يترتب عليه من الأعمال صحيحًا؟ ثم إذا كان أس الدين مما يعذر جاهله، وهو توحيد العبادة وإخلاصها لله تعالى بالتوجه إليه فيها وحده، ولا سيما الدعاء الذي هو مخها ولبابها، فأي قاعدة من قواعده، أو ركن من أركانه المبنية على هذا الأس لا يعذر الجاهل بها أو المتأول لها؟ وأين إجماع الأمة على أن التوحيد الخالص شرط لصحة الصلاة والصيام وسائر العبادات، لا يعتد بشيء منها بدونه مع سائر أصول الإيمان القطعية المعلومة من الدين بالضرورة؟ إننا نعلم بالاختبار الدقيق أن كثيرًا ممن يدعون غير الله تعالى يجهلون كثيرًا من هذه الأصول الاعتقادية والعملية، وأن منهم من التاركين لأركان الإسلام كلها أو بعضها والمرتكبين لكبائر الإثم والفواحش المصرين عليها بدون مبالاة بأمر ولا نهي، ولا انتفاع بذكرى ولا زجر، ومنهم من اعتاد بعض الأعمال الدينية المشروعة والمبتدعة اعتيادًا، ولكنه لا يعرف الخشوع والخوف والرجاء إلا عند تلك القبور وذكر أصحابها، أو نحوها مما يعظمون تعظيم عبادة وتدين، وإن لم يسموه كله أو بعضه عبادة، ومن هؤلاء وأولئك الذين يدعون هؤلاء الموتى خاشعين معتقدين أنهم يقضون حوائجهم بأنفسهم ولا يخطر في بالهم غير ذلك، ومنهم من يسمي دعاءه توسلاَ واستشفاعًا، ولا سيما إذا أنكر عليه، وهذا عين ما حكاه القرآن عن مشركي العرب، ولم يعتدّ بإيمانهم حتى يتركوه، وقال فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) ، ومن هؤلاء الذين يعدون هذا تأولاً المذعنون للأمر والنهي الملتزمون للفرائض المتأثمون من المعاصي، وفيهم وقع الإشكال فيما يظهر؛ لأن تكفير المؤمن المتأول المعين فيه خطر عظيم، ولا سيما في هذا الزمان الذي ترك أكثر أهله علم الدين على الوجه الذي كان معروفًا عند سلف الأمة أهل الحق. وإننا نمهد للجواب التفصيلي الشافي تمهيدًا نراه ضروريًّا فنقول: 1- إن قواعد العقائد وأصول الإيمان وأحكام الإسلام والردة المجمع عليها والمسائل الاعتقادية والفرعية المختلف فيها كلها مقررة في الكتب، وإن كل مسلم مكلف أن يعرف الفرائض العينية منها، وأن يبذل جهده فيما في تطبيق الوقائع والنوازل التي تعرض له على ما عرف، ومن ذلك الجهد سؤال العارفين واستفتاء المفتين فيما يشكل عليه من ذلك إلى أن يهتدي إلى الحكم المنطبق على الواقعة، فهذا اجتهاد عملي يطالب به العوام كالعلماء، كالاجتهاد في القِبلة في حالة البعد عن الكعبة المشرفة، وعدم المحاريب المتواترة. وإن لأحوال الزمان والمكان تأثيرًا عظيمًا في هذا الاجتهاد العملي؛ من مظاهره أنك ترى الناس يستنكرون البدع عند ظهورها أشد الاستنكار، وربما بالغوا في ذلك فجعلوا المباح محظورًا كالبدع في العادات والماعون والأزياء، وكم كتب بعض المشتغلين بالعلم رسائل وكتبًا في تحريم بعض هذه المستحدثات في أول العهد بظهورها، كالأحذية الشائعة التي تسمى في مصر بالجزم (جمع جزمة) ، وفي الشام بالكنادر واللساتيك، ومنها ما يسميه الفريقان (البوتين) ، وإذا شاعت المنكرات الدينية وعمت تصير عند الجمهور كالمباحات، بل يجعلون بعضها في عداد المسنونات والشعائر الدينية، ولا سيما في هذا الزمان الذي تُرك فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أكثر البلاد التي يقطنها المسلمون، بل صار كثير من المحظورات المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة من المباحات في حكم القانون المتبع كالربا والزنا وشرب الخمر، فمن يعيش في أمثال هذه البلاد لا يكون نظره في تطبيق الأعمال على القواعد والأحكام الشرعية كمن يعيش في بلاد نجد التي لا يكاد يرى فيها شيئًا من أمثل هذه المنكرات فَاشِيًا مألوفًا، ولا يسمع فيها بحكم من حاكم غير مستند إلى نص من كتب الفقه المعتبرة، لذلك ينقل عن بعض عوامهم تكفير مرتكب بعض المعاصي ولو غير قطعية، وفي مصر لا يكفر التارك لجميع أركان الإسلام والمستبيح لأكبر الفواحش بالإصرار على المجاهرة بها بلا مبالاة. 2- قد اختلف مصنفو الكتب الكلامية والفقهية اختلافًا واسع النطاق في مسائل الكفر والردة من حيث الأدلة ومن حيث تطبيقها على الأعمال والناس، وناهيك بتشديد من ناطوا هذه المسائل باللوازم القريبة والبعيدة للأحكام القطعية أو الظنية القوية كمن كفروا من حقر عالمًا، أو قال أو فعل ما ينافي احترام كتاب شرعي أو فتوى شرعية بالإلقاء على الأرض، أو القول ببطلان الفتوى أو عدم قبولها؛ إذ عدوا أن إهانة الفقيه أو فتواه أو الكتاب تستلزم إهانة الشرع، وأن عدم الإذعان والاحترام للفتوى يستلزم رفض الشرع والدين، وقد يعدون من الإهانة وعدم الاحترام ما ليس منه في الواقع، أو في عرف الفاعل وقصده، ويوجد في هذه الكتب - ولا سيما تصانيف المتأخرين منها - من الأقوال ما لا يمكن إثباته شرعًا، وفي بعضها تأييد للبدع المخلة بأصول الدين وفروعه. 3- قد وقع من جراء ما ذكر ما نراه ونشكو منه في هذه البلاد من الفوضى في العلوم الدينية وتطبيقها على الأعمال المجرئة لأحد المنتمين إلى طريق المتصوفة الغارقين في البدع على كتابة رد على فتوى لشيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بالباطل حاول فيه جعل البدعة التي أنكرها الشيخ بالدليل دينًا متبعًا وعبادة مشروعة، واستدل على ذلك بأحاديث لا تدل عليه ولا هي بصحيحة فيستدل بها على فرض دلالتها على ما ذكر، ونشر رده الباطل في صحيفة يومية مشهورة قرأها ألوف من الناس، وسكت علماء الأزهر على ذلك إلى أن أنكره على المتصوفي بعض أهل الغيرة من الإسكندرية كما علم ذلك من جزء المنار الماضي. ذلك بأن شيخ الأزهر - وإن كان رئيس علماء الدين في الأزهر وسائر معاهد التعليم الديني في هذا القطر - ليس له رياسة دينية مطلقة عند المسلمين فيما يأمر به وينهى عنه أو يفتي به، وإن وافق الحق لا شرعًا ولا قانونًا ولا مواضعة عرفية، وليس من أعمال مشيخة الأزهر نشر الدين بتلقين عقائده وآدابه وأحكامه لعامة المسلمين المكلفين بطريقة منتظمة، فيكون من أثر ذلك أن السواد الأعظم قد تلقى دينه عن مصدر واحد موثوق به، بحيث نجزم بأن كل ما كان معلومًا من الدين بالضرورة في صدر الإسلام وسائر القرون التي جزم فيها علماء الأصول والفروع بأن من جحد شيئًا مجمعًا عليه من هذه المعلومات يكون كافرًا، بل نعلم بالاختبار أن السواد الأعظم من المسلمين في هذه البلاد أميون، وأن المتعلمين في غير المعاهد الدينية من الأهالي أكثر من المتعلمين فيها، فأما الأميون فأكثرهم لم يتلق عقيدته من عالم ولا متعلم، بل يسمع بعضهم من بعض أقوالاً وأمثالاً وحكايات بعضها من عقائد الإيمان، وبعضها من أضاليل أهل الكفر وخرافات أهل الشرك، وأما المتعلمون في المدارس الدنيوية فكثير منهم تعلموا في مدارس دعاة النصرانية التي أنشئت لتحويلهم عن دينهم، ومنهم من تعلموا في مدارس الحكومة وغيرها، أو في أوربة، وجميع المدارس الدنيوية يبث فيها من التعاليم ما ينافي الدين أو يوقع الريب في بعض عقائده، ولا يكاد يوجد فيها مدرسة يلقن المسلم فيها أصول دينه على الوجه الحق المؤيد بالدلائل التي تدحض الشبهات الواردة عليه من العلوم الأخرى، وأما المتعلمون في الأزهر وما يتبعه من المعاهد فأكثرهم يجيء من بلاد الأرياف ومزارعها متشبعًا بما عليه العوام من الخرافات والأوهام، فتمر عليه السنون وهو يعالج مبادئ النحو والفقه التي لا تنزع من نفسه شيئًا من الخرافات والبدع التي عرفها وألفها، ثم يحضر دروس العقائد المعروفة في هذه المعاهد وهي مختصرات أو ملخصات من كتب جدلية جافة فيما يجب اعتقاده في الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر تحرك الشبهات ولا تكاد تزيد مدارسيها إيمانًا ولا عملاً صالحًا، ولا تمييزًا للبدع من السنن ولا ترغيبًا في طلب رضوان الله وترهيبًا من عقابه، وقد يوجد في بعضها مدح لاتباع السنة وسيرة السلف وذم لِمَا ابتدع بعدهم كقول الجوهرة: وكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف ولكن لم يذكروا في شروحهم وحواشيهم عليها خلاصة ما حوت دواوين السنة من أحاديث الاعتصام وآثار الصحابة فيه، ولا ما ورد عن السلف من اجتناب البدع والزجر عنها، بل لا تخلو أمثال هذه الشروح والحواشي مما يخالف السنة ويؤيد البدعة وأهلها عن قرب أو بعد، كاحتياج الراد على فتوى شيخ الأزهر في هذه الأيام بما في بعضها من قولهم: إن (أه) من أسماء الله تعالى، كما يوجد ذلك في بعض كتب الفقه والفتاوى أيضًا، ومنه قول بعضهم باستحباب وضع الستور على قبور الصالح

شرح قاعدة لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شرح قاعدة لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب وبيان عدم كفر المبتدع في الدين جاهلاً أو متأولاً (1) هذه القاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة الذين يصدق عليهم هذا القول، لا من يسمون أنفسهم بهذا الاسم ليتميزوا من المعروفين بأسماء أخرى، وهي تذكر في بعض العقائد، وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية تحقيقًا نفيسًا مطولاً فيها ذكره في سياق تخطئة الرافضة في سب الصحابة - رضي الله عنهم -، وبيان أن الرد عليهم وعلى كل مخطئ في الدين يجب أن يقصد به بيان الحق وهداية الخلق دون التشفي والانتقام، وذكر أن الكلام في هذا مبني على مسألتين وبين ذلك بما نصه: إحداهما: أن الذنب لا يوجب كفر صاحبه كما تقول الخوارج، بل ولا تخليده في النار، ومنع الشفاعة فيه كما تقوله المعتزلة. الثانية: أن المتأول الذي قصد متابعة الرسول لا يكفر ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ، وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية، وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفروا المخطئين فيها، وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا يعرف عن أحد من أئمة المسلمين، وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع الذين يبتدعون بدعة ويكفرون من خالفهم فيها؛ كالخوارج والمعتزلة والجهمية ووقع ذلك في كثير من أتباع الأئمة كبعض أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وقد يسلكون في التكفير ذلك، فمنهم من يكفر أهل البدع مطلقًا، ثم يجعل كل من خرج عما هو عليه من أهل البدع، وهذا بعينه قول الخوارج والمعتزلة والجهمية، وهذا القول أيضًا لا يوجد في طائفة من أصحاب الأئمة الأربعة ولا غيرهم، وليس فيهم من كفر كل مبتدع، بل المنقولات الصريحة عنهم تناقض ذلك. ولكن قد ينقل عن أحدهم أنه كفر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده أن هذا القول كفر ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يكفر كل من قاله مع الجهل والتأويل [1] ، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع كما بسطناه في موضعه، وإذا لم يكونوا في نفس الأمر كفارًا لم يكونوا منافقين، فيكونون من المؤمنين، فيستغفر لهم ويترحم عليهم، وإذا قال المسلم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) ، يقصد كل من سبقه من قرون الأمة بالإيمان، وإن كان قد أخطأ في تأويل تأوله، فخالف السنة أو أذنب ذنبًا، فإنه من إخوانه الذين سبقوه بالإيمان فيدخل في العموم، وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفارًا، بل مؤمنين فيهم ضلال وذنب يستحقون به الوعيد كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون في النار. فهذا أصل عظيم ينبغي مراعاته، فإن كثيرًا من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم، بل أول ما خرجوا عليه وتحيزوا بحروراء وخرجوا عن الطاعة والجماعة، قال لهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: إن لكم علينا أن لا نمنعكم من مساجدنا ولا حقكم من الفيء. ثم أرسل إليهم ابن عباس فناظرهم، فرجع نحو نصفهم، ثم قاتل الباقي وغلبهم، ومع هذا لم يسب لهم ذرية، ولا غنم لهم مالاً، ولا سار فيهم سيرة الصحابة في المرتدين كمسيلمة الكذاب وأمثاله، بل كانت سيرة علي والصحابة في الخوارج مخالفة لسيرة الصحابة في أهل الردة، ولم ينكر أحد على علي ذلك، فعلم اتفاق الصحابة على أنهم لم يكونوا مرتدين عن دين الإسلام. قال الإمام محمد بن نصر المروزي: وقد ولي علي - رضي الله عنه - قتال أهل البغي، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ما روى، وسماهم مؤمنين، وحكم فيهم بأحكام المؤمنين، وكذلك عمار بن ياسر. وقال محمد بن نصر أيضًا: حدثنا إسحاق بن راهويه، حدثنا يحيى بن آدم، عن مفضل بن مهلهل، عن الشيباني عن، قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: كنت عند علي حين فرغ من قتال أهل النهروان فقيل له: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. فقيل: فمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم. وقال محمد بن نصير أيضًا: حدثنا إسحاق، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن عامر بن شقيق، عن أبي وائل قال: قال رجل: من دعي إلي البغلة الشهباء يوم قتل المشركون؟ فقال علي: من الشرك فروا. قال: المنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قال: فما هم؟ قال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم فنصرنا عليهم. قال إسحاق: حدثنا وكيع، عن أبي خالد، عن حكيم بن جابر قال: قالوا لعلي حين قتل أهل النهروان: أمشركون هم؟ قال: من الشرك فروا. قيل: فمنافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً. قيل: فما هم؟ قال: قوم حاربونا فحاربناهم وقاتلونا فقاتلناهم. قلت: الحديث الأول وهذا الحديث صريحان في أن عليًّا قال هذا القول في الخوارج الحرورية أهل النهروان الذين استفاضت الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذمهم والأمر بقتالهم، وهم يكفرون عثمان وعليًّا ومن تولاهما، فمن لم يكن معهم كان عندهم كافرًا ودارهم دار كفر، فإنما دار الإسلام عندهم هي دارهم. قال الأشعري وغيره: أجمعت الخوارج على تكفير علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ومع هذا قاتلهم علي لمَّا بدأوه بالقتال فقتلوا عبد الله بن خباب، وطلب علي منهم قاتله، فقالوا: كلنا قتله، وأغاروا على ماشية فقتلوا الناس، ولهذا قال فيهم: قوم قاتلونا فقاتلناهم، وحاربونا فحاربناهم. وقال: قوم بغوا علينا فقاتلناهم. وقد اتفق الصحابة والعلماء بعدهم على قتال هؤلاء، فإنهم بغاة على جميع المسلمين سوى من وافقهم على مذهبهم، وهم يبدؤون المسلمين بالقتال، ولا يندفع شرهم إلا بالقتال، فكانوا أضر على المسلمين من قطاع الطريق، فإن أولئك إنما مقصودهم المال، فلو أعطوه لم يقاتلوا وإنما يتعرضون لبعض الناس، وهؤلاء يقاتلون الناس على الدين حتى يرجعوا عما ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة إلى ما ابتدعه هؤلاء بتأويلهم الباطل وفهمهم الفاسد للقرآن، ومع هذا فقد صرح علي - رضي الله عنه - بأنهم مؤمنون ليسوا كفارًا، ولا منافقين، وهذا بخلاف ما كان يقوله بعض الناس كأبي إسحاق الإسفرائيني ومن تبعه يقولون: لا نكفر من يكفرنا، فإن الكفر ليس حقًّا لهم، بل هو حق لله، وليس للإنسان أن يكذب على من يكذب عليه، ولا أن يفعل الفاحشة بأهل من فعل الفاحشة بأهله، بل ولو استكرهه رجل على اللواطة لم يكن له أن يستكرهه على ذلك، ولو قتله بتجريع خمر أو تلوط لم يجز قتله بمثل ذلك، لأن هذا حرام لحق الله تعالى، ولو سب النصارى نبينا لم يكن لنا أن نسب المسيح، والرافضة إذا كفروا أبا بكر وعمر فليس لنا أن نكفر عليًّا، وحديث أبي وائل يوافق ذينك الحديثين، فالظاهر أنه كان يوم النهروان أيضًا. وقد روي عنه في أهل الجمل وصفين قول أحسن من هذا، قال إسحاق بن راهويه: حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: سمع علي يوم الجمل ويوم صفين رجلاً يغلو في القول، فقال: لا تقولوا إلا خيرًا إنما هم قوم زعموا أنَّا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم. فذكر لأبي جعفر أنه أخذ منهم السلاح فقال: ما كان أغناه عن ذلك. وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا أحمد بن خالد، حدثنا محمد بن راشد، عن مكحول: أن أصحاب علي سألوه عمن قتل من أصحاب معاوية: ما هم؟ قال: هم المؤمنون. وبه قال أحمد بن خالد، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن عبد الواحد بن أبي عون، قال: مر علي - وهو متكئ على الأشتر - على قتلى صفين، فإذا حابس اليماني مقتول فقال الأشتر: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين عليه علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمنًا. قال علي: والآن هو مؤمن. قال: وكان حابس رجلاً من أهل اليمن من أهل العبادة والاجتهاد. قال محمد بن يحيى: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا مختار بن نافع، عن أبي مطر قال: قال علي: متى ينبعث أشقاها؟ قيل: من أشقاها؟ قال: الذي يقتلني. فضربه ابن ملجم بالسيف فوقع برأس علي - رضي الله عنه - وهَمَّ المسلمون بقتله، فقال: لا تقتلوا الرجل، فإن برئت فالجروح قصاص، وإن مت فاقتلوه. فقال: إنك ميت. قال: وما يدريك؟ قال: كان سيفي مسمومًا. وبه قال محمد بن عبيد، حدثنا الحسن - وهو ابن الحكم النخعي - عن رياح بن الحارث قال: إنا لبوادٍ، وإن ركبتي لتكاد تمس ركبة عمار بن ياسر، إذ أقبل رجل فقال: كفر والله أهل الشام. فقال عمار: لا تقل ذلك فقبلتنا واحدة ونبينا واحد، ولكنهم قوم مفتونون، فحق علينا قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وبه قال ابن يحيى. حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن الحسن بن الحكم، عن رياح بن الحارث، عن عمار بن ياسر قال: ديننا واحد وقبلتنا واحدة ودعوتنا واحدة، ولكنهم قوم بغوا علينا فقاتلناهم. قال ابن يحيى: حدثنا يعلى، حدثنا مسعر، عن عبد الله بن رياح بن الحارث قال: قال عمار بن ياسر: لا تقولوا: كفر أهل الشام، قولوا: فسقوا، قولوا: ظلموا. قال محمد بن نصر: وهذا يدل على أن الخبر الذي روي عن عمار بن ياسر أنه قال لعثمان بن عفان: هو كافر. خبر باطل لا يصح؛ لأنه إذا أنكر كفر أصحاب معاوية وهم إنما كانوا يظهرون أنهم يقاتلون في دم عثمان، فهو لتكفير عثمان أشد إنكارًا، (قلت) : والمروي في حديث عمار أنه لما قال ذلك أنكر عليه علي - رضي الله عنه - وقال: أتكفر برب آمن به عثمان؟ وحدثه بما يبين بطلان ذلك القول، فيكون عمار إن كان قال ذلك متأولاً قد رجع عنه حين تبين له أنه قول باطل. ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم، وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة كانوا يصلون خلف نجدة الحروري، وكانوا أيضًا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم كما يخاطب المسلمُ المسلمَ، كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل، وحديثه في البخاري، وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة، وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن كما يتناظر المسلمان، وما زالت سيرة المسلمين على هذا ما جعلوهم مرتدين، كالذين قاتلهم الصديق - رضي الله عنه - هذا مع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم في الأحاديث الصحيحة، وما روي من أنهم شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه؛ في الحديث الذي رواه أبو أمامة. رواه الترمذي وغيره؛ أي: أنهم شر على المسلمين من غيرهم، فإنهم لم يكن أحد شرًّا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى، فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة، ومع هذا فالصحابة والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين، ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل، بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة , وهكذا سائر فرق أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة وغيرهم، فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين

دعوة عرب الجزيرة العربية إلى الوحدة والاتفاق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعوة عرب الجزيرة العربية إلى الوحدة والاتفاق بسم الله الرحمن الرحيم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 103-105) . ثبت في القرآن المجيد في التواريخ التي دوّنها علماء العرب وغيرهم من الأمم قديمًا وحديثًا، ومن العاديات (الآثار القديمة) التي اكتشفت في أقطار مختلفة أن العرب من أقدم أمم الأرض حضارة وعمرانًا ورسلاً وشرائع، حتى إنهم استعمروا أقدم البلاد مدنية كمصر وسورية والعراق، فلهم في حضارة الفراعنة والفينيقيين والكلدانيين العرق الراسخ، والمجد الشامخ، فإن لم تكن تلك الأمم فروعًا مهم، فلها وشائج أرحام مشتبكة بهم، من قبل أن مزجها الإسلام بهم في الدين واللغة والنسب بألوف السنين. فمن ذلك ما حكاه في القرآن المجيد عن قوم عاد: {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ} (الفجر: 7-8) ، كقول نبيهم هود في مبانيهم وقوتهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: 128-130) ، وقوله في نسلهم وزرعهم وضرعهم: {أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 133-134) ، وبيانه لهم أن هذه النعمة يزيدها الرجوع إلى الله بالإيمان وترك المعاصي نماء وقوة {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هود: 52) ، وما حكاه عن ثمود وقول رسولهم صالح لهم في تذكيره بنعم الله عليهم: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 61) ، وقوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} (الشعراء: 146- 149) ، وما قصه لنا عن سبأ في سورتها كجناتهم عن اليمين والشمال، واتصالها بالقرى المباركة في أرض الشام، ونظام السير المقدر بالأوقات، وحفظ الأمن فيها بالعدل والنظام، وذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ: 18) ، وناهيكم بقصة ملكتهم مع نبي الله سليمان، وكونها أوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك في ذلك الزمان، مع القوة والحكم بالشورى دون الاستبداد. ومن ذلك ما أثبته الذين اكتشفوا آثار الكلدانيين في العراق وشريعة مَلكهم حمورابي من كون شريعتهم عربية ودولتهم عربية، وهذا الملك كان يسمى ملك البر والسلام، وفي سفر التكوين من أسفار التوراة أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أعطاه العشور؛ إذ كان من رعيته وأنه بارك إبراهيم، فدل هذا على أن إبراهيم - صلى الله عليه وعلى آله - كان عربيًّا أيضًا. ومن ذلك ما اكتشفه أحمد بك كمال العالم الأثري المصري من امتزاج اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) باللغة العربية الدال على أحد أمرين، إما أن العرب وقدماء المصريين من عرق واحد، وإما أن العرب قد استعمروا مصر وحكموا فيها قبل دولة الرعاة العربية المعروف خبرها في تاريخ مصر، فكان للغتهم الأثر الخالد في لغتها. هذا إلماع تاريخي وجيز لمدنية العرب وقوتهم وعمرانهم في التاريخ القديم منذ ألوف السنين، وإن في لغتهم الغنية الراقية الواسعة دلائل أخرى على ذلك متعددة المناهج واضحة المسالك. قد ضعفت الأمة العربية بعد تلك القوة، وبدت بعد تلك الحضارة، وخرب معظم بلادها بعد ذلك العمران، وغلبت عليها الأمية، وكادت تعمها الجاهلية الوثنية {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (الحج: 45) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ، ومر على هذا الضعف قرون وتعاقبت عليه أجيال، حتى ظن الظانون أن هذه الأمة هرمت وقاربت الزوال، فلا تقوم لها قائمة ولا يتجدد لها شباب. ثم جاء الإسلام فجمع شملها بعد فرقة وشتات، وألف بين قلوب قبائلها وأفرادها بعد عداوة تأرثت بها الأضغان وتحكمت فيها الثارات، وأخرجها من ظلمات الجاهلية والأمية، إلى نور العلم والحكمة والنظام والمدنية، وجعل لها المكانة الأولى بين أمم الأرض في السيادة والرياسة، والكلم العليا في الحكم والسياسة، فورثت ملك القياصرة والأكاسرة في الشرق، وامتد سلطانها في القرن الأول من حدود الهند إلى المحيط الغربي وهو آخر ما كان يعرف من اليابسة في الغرب، وأحيت في هذه الممالك الواسعة العلوم والفنون، ورقت الصناعة والزراعة، وسلكت السبل الجديدة للتجارة، فسادت شريعتها جميع الشرائع، وعلت لغتها جميع اللغات، وفاقت آدابها جميع الآداب. ولكن حظ جزيرتها من هذا العمران كان قليلاً، ثم دب إليها الخراب، وعاد أكثر أهلها إلى البداوة والأمية والجاهلية، أو ما يقترب منها، بل صاروا دون الجاهلية في بعض الصفات والمزايا حتى اللغة، فأنى لبدو الجزيرة وحضرها في هذا العصر بما يقرب من تلك الملكة العليا في الفصاحة والبلاغة التي جعلت لكتاب الله المعجز تلك المكانة في عقولهم وقلوبهم؟ حتى إن كان أحدهم ليسمع السورة أو الآية منه فيخر ساجدًا، وتتحول عقائده وأخلاقه وعاداته بهدايته إلى ضدها. عاد أهل الجزيرة إلى جاهلية يضرب بعضهم رقاب بعض بعد ألف الإسلام بينهم، فكانوا بنعمة الله إخوانًا، ويرتزق قويهم بسلب ضعيفهم بعد أن كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفرقوا دينهم فصاروا شيعًا تكفر كل شيعة منهم الأخرى أو تفسقها بعد تلك الوحدة العظيمة، جاهلين أو غافلين عن قول ربهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، وما في معناه من الآيات والأحاديث. إن هداية القرآن هي التي جمعت كلمة العرب على ما كان من تفرقهم وتعاديهم في الجاهلية، وهي التي جعلتهم أئمة الأمم في العلم والحكم والآداب والعدل في إثر إخراجهم من تلك الأمية، وما أصابهم ما أصابهم بعد ذلك من التفرق والتعادي والجهل والفقر إلا بتركها، ولن تعود إليهم تلك النعم إلا بعودهم إليها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) . ولكن وحي شياطين التفريق، قد زين بزخرف القول لكل فريق، أن كل شيعة تجمعها راية مذهب، فإنما الواجب عليها أن تعمل بقول علمائه وحكامه، ولا يجوز لها أن تهتدي بكتاب الله وسنة رسوله، وإن اختلفوا في الرأي، وتنازعوا في الأمر، خلافًا لقوله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ، وشبهتها على هذه المخالفة أن الاهتداء بكتاب الله المنزل، فتح لباب الاجتهاد المقفل، فاختلفوا في أصل الاهتداء بالكتاب، الذي أنزله الله تعالى لإزالة الاختلاف: من غص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يفعل من قد غص بالماء إن الله تعالى أرسل رسله لهداية خلقه {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) ، فكيف يؤخذ بقول العلماء أو الأمراء الذين يبغي بعضهم على بعض، فيما تنازعوا واختلفوا فيه من الأمر، إذا لم يرجعوا إلى الأصل الجامع، ويحكموه في الخلاف الواقع، وهو يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ، ثم يعلل ذلك تعليلاً بقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ؛ أي: أحسن عاقبة ومآلاً من كل ما عداه، فكيف لا يكون خيرًا من اتباع أهوائهم، في تحكيم آرائهم، والرد إلى أقوال زعمائهم وعلمائهم، على أن هذا الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، وذلك الاهتداء بهما، لا يستلزمان الاجتهاد الأصولي المطلق الذي أقفلوا بابه، فقد كان عوام السلف الصالح مهتدين بهما، ولم يكن كل واحد منهم إمامًا مجتهدًا في استنباط جميع الأحكام، كأئمتهم المشهورين وعلمائه الأعلام. نعم إن الشيخ محمد عبد الوهاب قد جدد دعوة الدين في بقاع نجد، فرجع الألوف بها عما كانوا عليه من الجاهلية والشرك، وعادت تنتشر دعوته في جميع جزيرة العرب التي يتعذر إصلاحها وجمع كلمتها بغير الدين، ولو تم ذلك لتجدد أمر الإسلام في جميع أقطار المسلمين، ولكن حال دون ذلك فتنتان: (أولاهما) مقاومة السياسة لها، و (الأخرى) غلو الكثير من القائمين بها، فالأولى إذاعة الساسة في العالم كله أن هذه دعوة ابتداع في الدين، والغلاة أيدوا هذه الإذاعة بما اشتهر عنهم من الغلو، ولا سيما تكفير من عداهم من المسلمين، ولهذه التهمة أصل، وقد بينا الحقيقة في هذه المسألة من قبل، وغرضنا من الإلمام بذكرها الآن، بيان استعداد العرب للصلاح والإصلاح بدعوة الإيمان، إذا قام بها من يدعو بها بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما أمر القرآن، وتذكير الغلاة من المتدينة بأن لا يغلو في دينهم ولا يقولوا على الله إلا الحق، ولا يحرموا ما لم يحرم الله ورسوله بالنص أو اقتضاء النص، وأن يعذروا كل مخالف لهداية الدين بالتأول أو الجهل، ويعتمدوا في بث الدعوة على نشر العلم والعمل به على قاعدة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) ، وأن لا يكفروا أحدًا من أهل القبلة بذنب، وأن يفرقوا بين الجهل بشيء مما يجب الإيمان به عن جهل، وإن عد بعضه الفقهاء كفرًا ردة، وكفر العناد وتكذيب الرسول الذي كان عليه مشركو الجاهلية في زمن البعثة، فإذا علموا هذا وعملوا به لا تلبث الدعوة أن تعم الجزيرة وغيرها، ويسقط كل من يعارضها حرصًا على الزعامة وحب الرياسة. هذا وإن لما أصاب الجزيرة من الشقاق والشقاء سببًا أصيلاً وراء الخلاف الديني للبغي، وهو حب الرياسة وعلو بعض الزعماء على بعض، وسببين عارضين وهما الجهل والفقر، وإزالة السببين العارضين من الأمور الكسبية القريبة المنال، وإنما الشقاء كل الشقاء في الشق

الخيال في الشعر العربي ـ 1

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ الخيال في الشعر العربي (1) يرتفع شأن الشعر ونقضي لصاحبه بالبراعة والتفوق على غيره بمقدار ما يحرز من بناء محكم ومعنى بديع، وقد حدق فلاسفة الأدب أنظارهم إلى الوجوه التي تملك بها المعاني شرف منزلتها وحسن طلعتها، أو تأخذ منها الألفاظ متانة نسجها وصفاء ديباجتها. ومن أجمل الفنون التي يرجع النظر فيها إلى جهة المعنى صناعة التخييل، وهي الغرض الذي جردت القلم للبحث عنه في هذه الصحائف متحريًا أسلوبًا لا يشتكي منه القارئ طولاً ولا قصرًا. ولا أدعي أن هذا الفن مما ضل عن أولئك الفلاسفة فلم يعرجوا على مكانه، أو صعب عليهم مراسه فلم يسوسوه بفكر ثاقب وبيان فاصل، فإن كثيرًا من علماء البلاغة قد ولوا وجوههم شطره حتى توغلوا في طرائقه، وكشفوا النقاب عن حقائقه، ومن أبعدهم نفوذًا في مسالكه الغامضة، وأسلمهم ذوقًا في نقد معانيه وتمييز جيدها من رديئها الإمام عبد القاهر الجرجاني صاحب كتاب أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز. وما كان لي سوى أن أعود إلى مباحثه المبثوثة في فنون شتى، فأستخلص بقدر ما تسمح به الحال لبابها، وأولف بين ما تقطع من أسبابها، ولا تجدني - إن شاء الله - أحكي مقالهم دون أن أعقد بناصيته، أو أبث خلاله، أو أضع في ردفه جملاً تلبسه ثوبًا قشيبًا، أو تنفخ فيه روحًا كانت هادئةً. *** الشعر يعرف العربي في جاهليته كما عرف بعد أن نسل إليه العلم من كل حدب أن الكلام ينقسم إلى شعر ونثر، والميزة المحسوسة لكل أحد أن الشاعر لا يحثو عليك الألفاظ جزافًا مثلما يفعل الناثر، وإنما يلقيها إليك في أوزان تزيد في رونقها، وتوفر لذتك عند سماعها، ومن هذا ذهب بعضهم في حد الشعر إلى أنه كلام مقفى موزون، وهذا مثل من يشرح لك الإنسان بأنه حيوان بادي البشرة منتصب القامة، فكل منهما قصر تعريفه على ما يدرك بالحاسة الظاهرة، ولم يتجاوزه إلى المعنى الذي يتقوم الحقيقة ويكون مبدأ لكمالها، وهو التخييل في الشعر، والنطق في الإنسان. فالروح التي يعد بها الكلام المنظوم من قبيل الشعر إنما هي التشابيه والاستعارات والأمثال وغيرها من التصرفات التي يدخل لها الشاعر من باب التخييل، وليس الوزن سوى خاصة من خواص اللفظ المنظور إليها في مفهوم الشعر بحيث لا يسميه العرب شعرًا إلا عند تحققه، وإطلاق الشعر على الكلام الموزون إذا خلا من معنى تستطرفه النفس لا يصح إلا كما يصح لك أن تسمي جثة الميت إنسانًا، أو تمثال الحيون المفترس أسدًا. والمنثور من الكلام يشارك الشعر في اشتماله على الصور الخيالية، ولكن نصيب الشعر منها أوفر، وهو بها أعرف، كما يمتاز بأحد أنواع التخييل، وهو ما لا يتوخى به صاحبه وجه الحقيقة، وإنما يقصد به اختلاب العقول ومخادعة النفوس إلى التشبث بغير حق يدعوك كما قال ابن الرومي إلى أن تطوي جناحيك على جذوة من الحقد: وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى ... وبعض المزايا ينتسبن إلى بعض فحيث ترى حقدًا على ذي إساءة ... فثم ترى شكرًا على واسعي القرض وقال آخر يزين لك أن تدرج نفسك في كفن الذل وتواريها في حفرة من الخمول: لذ بالخمول وعذ بالذل معتصمًا ... بالله تنجو كما أهل النهى سلموا فالريح تحطم إن هبت عواصفها ... دوح الثمار وينجو الشيح والرتم ولاختصاص الشعر بهذا النوع من التخييل أطلق بعض المشركين من العرب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - اسم الشاعر؛ ليلقوا في أوهام السذج أن كلامه من نوع ما يصدر عن الشعراء من الأقوال المموهة والتخيلات الباطلة. فهم يعلمون أن القرآن بريء من النزعة التي عهد بها الشاعر، وهي عرض الباطل في لباس الحق؛ لأنه إنما ينطق بالحكمة، ويجادل بالحجة، ولا يخفى عليهم أنه مخالف للشعر في طريقة نظمه، فإن للشعر عروضًا يقف عنده، ووزنًا ينتهي إليه، والقرآن يصوغ الموعظة وينفق الحكمة بغير ميزان، ولكن ضافت عليهم مسالك الجدال، وانسدت في وجوههم طرق المعارضة، فلم يبالوا أن يتشبثوا بالدعاوي التي يظهر بطلانها لأول رأي، كما قالوا عنه: إنه مجنون. وهم يشهدون في أنفسهم أنه أبلغهم قولاً، وأقواهم حجة، وأنطقهم بالحكمة. وأما الآيات التي وافقت بعض الأوزان فهي على سلامتها من بهرج التخيلات لا تجد الموافق منها للموزون قد استقل بنفسه، وأفاد المعنى دون أن تصله بكلمات من الآيات السابقة أو اللاحقة، والكلام المؤلف من الموزون وغير الموزون لا يصح لأحد أن يسميه شعرًا ليقدح به في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} (الحاقة: 41) . *** التخييل عند علماء البلاغة ينقسم التصرف في المعاني - على ما يقول الشيخ عبد القاهر الجرجاني - إلى تحقيق وتخييل، والفارق بينهما أن المعنى التحقيقي ما يشهد له العقل بالاستقامة، وتتضافر العقلاء من كل أمة على تقريره والعمل بموجبه كقول المتنبي: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم فمعنى هذا البيت مما تلقاه العقلاء بالقبول، ووضعوه بمقدمة ما يتنافسون فيه من الحكم البالغة، وكذلك اتخذه الأمراء الراشدون قاعدة يشدون بها ظهر سياستهم، ويستندون إليها في حماية شعوبهم، ومن الذي يجهل أن حياة الأمم إنما تنتظم بالوقوف في وجه من يتهافت به السفه على هدم شرفها والاستئثار بحقوقها؟ والتخييلي هو الذي يرده العقل، ويقضي بعدم انطباقه على الواقع، إما على البديهة كقول بعضهم: لو لم تكن نية الجوزاء خدمته ... لما رأيت عليها عقد منتطق فكل أحد يدرك لأول ما يطرق سمعه هذا البيت أن الكواكب لا تنوي ولا تنتطق ولا تخدم، وأن تلك النجوم المتناسقة في وسط الجوزاء مركبة فيها من قبل أن يصير الممدوح شيئًا مذكورًا أو بعد نظر قليل كقول أبي تمام: لا تنكري عطل الكريم من الغنى ... فالسيل حرب للمكان العالي نهى المخاطبة في صدر البيت عن إنكارها لفاقة الكريم وفراغ يده من المال، وأخيرًا في العجز بأن السيل لا يستقر على الأماكن المرتفعة، وهذا المعنى في نفسه صحيح، ولكن الفاء في قوله: (فالسيل حرب) أفصحت بأن السبب في عدم توفر حطام الدنيا لدى الكريم هو كون الماء إذا وقع على الأماكن العالية لا يلبث أن ينحدر إلى ما انخفض عنها من وهاد وأغوار، وهذا إنما وصل إلى الذهن بتخييل أن رفعة القدر بمنزلة المكان الحسي، وأن المال بمنزلة الماء الدافق ينساق إلى الرجل فيقضي منه وطره، ثم يرسله إن شاء إلى بني الحاجات. فيكون القول بأن مكانة الكريم لارتفاعها جعلت المال يمر على يده، ثم ينطلق بالبذل والإنفاق - يستند إلى أن الماء لا يتجمع على ما صعد على وجه الأرض من أكمات وهضاب، وهذا القياس ضرب من التخييل لا يجول في العقل إلا ريثما ينظر إلى أن السبب في عدم استقرار الماء على الأماكن العالية كونه جرمًا سيالاً لا تتماسك أجزاؤه وتثبت في محل إلا إذا أحاط بجوانبه جسم كثيف، وليس للدراهم والدنانير هذه الطبيعة حتى يلزم أن تمر على يد الكريم، ثم تنصب منها إلى من كانوا أدنى منه منزلة. ويفهم من وجه التفرقة بين القسمين أن مجرد الاستعارة عندهم لا يدخل في قسم التخييل، وقد صرح الجرجاني بهذا في كتاب أسرار البلاغة ناظرًا إلى أن المستعير لا يقصد إلا إثبات معنى اللفظة المستعارة حتى يكون الكلام مما ينبو عنه العقل، وإنما يعمد إلى إثبات شبه بين أمرين في صفة، والتشابه من المعاني التي لا ينازع العقل في صحتها. *** التخييل عند الفلاسفة يقول الفلاسفة: إن من بين القوى النفسية قوة تتصرف في صورالمعلومات بالتركيب تارة والتفصيل مرة أخرى، ويسميها فلاسفة العرب إذا لم تخرج عن دائرة التعقل مفكرة، ويقال في عملها: تفكر. فإن تصرفت بوجه لا يطابق النظر الصحيح سموها مخيلة، ويقال في عملها: تخيل أو تخييل. فمثال ما يأخذ من العقل مأخذ القبول قول القاضي عياض: انظر إلى الزرع وخاماته ... تحكي وقد ولت أمام الرياح كتيبة خضراء مهزومة ... شقائق النعمان وفيها جراح فالشاعر التفت إلى ما في حافظته من الصور المناسبة لهيئة زرع أخضر يتخلله شقائق النعمان، وقد أخذت الرياح تهب عليه من جانب، فيميل إلى آخر ميلاً يتراءى للعين أنه حركة ينتقل بها من مكانه، فوقع خياله على الجيش والملابس الخضراء والجراحات التي تنال الجيش المقاتل، فألف بينها، ثم جعل سيره إدبارًا وانهزامًا ليوافق حالة جيش ظهرت فيه الجرحى بمقدار ما في المزارع الخضراء من شقائق النعمان. ومثال ما لا يثق به النظر، ولا يدخل في حساب الأقوال القائمة على التحقيق قول الشاعر: ترى الثياب من الكتان يلمحها ... نور من البدر أحيانًا فيبليها فكيف تنكر أن تبلى معاجرها ... والبدر في كل وقت طالع فيها أبصر معاجر من يتحدث عنها وقد أخلقت فحاول أن يلتمس وجهًا يجعل ذلك الإخلاق من شواهد حسنها، أو يسد فم العاذل حتى لا يغض من شأنها، فتصور طلعة القمر وانساق إليه ما يدور بين الناس من أن الثياب التي يمج عليها القمر أشعته يسرع إليها البلى، ثم ادّعى مبالغًا في التشبيه أن وجهها قمر، وبنى على هذا أن تعجب ممن ينكر تأثيره في معجرها بالإخلاق، ففي هذا التصرف ادّعاء أن وجهها قمر، وهذا مما يألفه العقل؛ لأنه بمنزلة التشبيه، ولا مفر من قبوله متى تحقق الوجه الجامع بين طرفيه، والمعنى الذي للعقل أن يلتفت عنه إنما هو دعوى أن معجرها أخلق بعلة كونه مطلعًا لوجهها المسمى بالقمر على وجه المجاز. *** ماذا نريد من التخييل يفهم من صريح المقالة الفلسفية أن المفكرة والمخيلة اسمان لقوة واحدة، وهي التي تتصرف في المعلومات بالتفصيل والتركيب، وإنما تغير اسمها بحسب اختلاف الحال، فعندما يكون زمامها بيد العقل يسمونها مفكرة، وعندما تنفلت منه يسمونها مخيلة. وإذا عرفت أن التمثيل والاستعارة من عمل هذه القوة باتفاق علماء النفس، فلو جرى طائفة من الناس على إطلاق التخيل أو الخيال عندما تتصرف هذه القوة تصرفًا تصوغ به معنى مبتدعًا سواء أنس به العقل أو تجافى عنه لم يكونوا صنعوا شيئًا سوى تغيير الاصطلاح وإدخال القسمين تحت اسم واحد. وإطلاق لفظ التخيل أو الخيال في صدد الحديث على المعاني الصادقة والتصورات المعقولة لا يحط من قيمتها أو يمس حرمتها بنقيصة، فإن علماء البلاغة أنفسهم قد أطلقوه على ما يأتي به البليغ في الاستعارة المكنية من الأمور الخاصة بالمشبه به ويثبته للمشبه، فقالوا: الأظفار أو إضافتها في قولك: (أنشبت المنية أظفارها) ، تخييل أو استعارة تخييلية، وأطلقوه في الفصل والوصل حين تكلموا على الجامع بين الجملتين، وقسموه إلى: عقلي، ووهمي، وخيالي، وأطلقوه في فن البديع على تصوير ما سيظهر في العيان بصورة المشاهد، ولم يبالوا في جميع ذلك أن يضربوا لها أمثلة من الكتاب العزيز وغيره من الأقوال الصادقة. فيسوغ لنا حينئذ أن نساير أدباء العصر، ونتوسع في معنى الخيال والتخييل، ولا نقف عند اصطلاح القدماء من الفلاسفة أو علماء البلاغة، حيث خصوا بها ما لا يصادق عليه العقل والمخالفة في الاصطلاح، ما دامت الحقائق قائمة والمقاصد ثابتة بحالها لا يبعد عن تبديل العبارة وتغيير الأسلوب. يقول الناس عندما يسمعون بيتًا أو أبياتًا لأحد الشعراء: هذا خيال واسع. أو: هذا تخيل بديع. فيفهم السامع لهذه الكلمات وما يماثلها أن لصاحب هذا الشعر قدرة على سبك المعاني وصوغها في شكل بديع، ولو قالوا: (ما أضيق هذا ال

محاربة البدع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاربة البدع تتمة الرد على المعترض على فتوى شيخ الأزهر قول الفخر الرازي في اسم الله الأعظم: 4- ذكر المعترض أن الفخر الرازي قال في شرح البسملة من تفسيره ما نصه: اختلف العلماء في الاسم الأعظم، ويرجح عندي أن (أه) هو الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب لاشتماله على سر الإشارة وتكوين الكائنات وظهور التجليات. ونقل الحافظ ابن حجر أنه نقل عن بعض الصوفية أن الضمير (هو) هو الاسم الأعظم، ونحن ننقل هنا نص عبارته في تفسير الفاتحة في هذه المسألة؛ ليعلم الناس أن ما عزاه المعترض إليه هو خلاف ما ذهب إليه، وليعلم المعترض نفسه أن ما اعتمد من كتب أهل الطريق في هذه المسألة لا يوثق بنقلها، ولا يعلم أهلها، فنقول: ذكر الرازي في المسألة الحادية عشرة من الباب الثالث من أبواب تفسير البسملة أن الاسم الموضوع لذات الخالق واجب الوجود يجب أن يكون أعظم الأسماء وأشرفها، قال: وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة، وهو اسم الله الأعظم، ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانية والروحانية. ثم قال: المسألة الثانية عشرة: القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه، وذكر أن (الأول) ذو الجلال والإكرام، وضعفه. و (الثاني) هو الحي القيوم، وضعفه. و (الثالث) قول من يقول: أسماء الله كلها عظيمة لا يجوز وصف واحد منها بأنه أعظم. وضعفه. (ونقول: إن ذكره سهو؛ لأن التقسيم والأقوال لمثبتي الاسم الأعظم والقائلين به) ثم قال: القول الرابع: إن الاسم الأعظم هو قولنا (الله) وهذا هو الأقرب عندي؛ لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم الْعَلَم في حقه سبحانه، وإذا كان كذلك كان دالاًّ على ذاته المخصوصة (اهـ) بحروفه من الصفحة 62 من الجزء الأول المطبوع بالمطبعة الخيرية سنة 1307، ومنه يعلم بعض الفرق بين الرازي والحافظ ابن حجر في سعة الاطلاع. ثم إن الرازي جعل الأسماء الإلهية بحسب دلالتها على ما وضعت له أقسامًا، فصلها في أبواب وفصول، وجعل الفصل التاسع من الباب السابع (في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة وهي أنا وأنت وهو، عندما تقع في الكلام دالة على الله تعالى، وقد أطال في هذا الفصل الكلام في الضمير (هو) بكلام جله من نظريات الصوفية والفلاسفة، وذكر له إحدى عشرة فائدة، واستنبط بعد ذلك أن الذكر به أعظم الأذكار، ولكنه لم يقل: إنه هو الاسم الأعظم، ولعله صرح به في كتاب آخر من كتبه. ولكنه لم يذكر أن (أه) من أسماء الله تعالى ألبتة. واستنباطه هذا مردود شرعًا فإنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة الذكر بأسماء الله تعالى مفردة غير واقعة في كلام مركب له معنى، والضمير (هو) ليس من أسماء الله تعالى ولا يدل بنفسه على ذات الله تعالى ولا على صفة من صفاته، وإنما يدل على ذلك كما يدل على غيره إذا وقع في الكلام ضميرًا راجعًا إليه، ويحسن أن نذكر نظريته ونبين بطلانها، وملخصها: أن نداء الله تعالى بكل اسم من أسمائه يدل على وصف يتضمن الدعاء والسؤال المناسب لمعنى ذلك الاسم، فمن قال: يا رحمن؛ كان معناه: ارحم، ومن قال: يا كريم؛ كان معناه أكرم، إلخ، ثم قال: (وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليًا عن السؤال والطلب، أما إذا قال: يا هو كان معناه خاليًا عن الإشعار بالسؤال والطلب، فوجب أن يكون قولنا: (هو أعظم الأذكار) اهـ. ونقول: إن هذا الكلام باطل مقدماته ونتيجته، فليس أشرف الأذكار ما كان خاليًا عن دعاء الله تعالى وسؤاله، بل الدعاء أعظم العبادة كما صح في الحديث (الدعاء هو العبادة) وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) ، رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد، وأصحاب السنن الأربعة والحاكم من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا، وصححه الحاكم والترمذي وأبو يعلى في مسنده من حديث البراء، وهو على حد حديث (الحج عرفة) رواه أحمد وأصحاب السنن وصححوه، ومعناهما أن معظم الحج وركنه الأعظم عرفة، ومعظم العبادة أو روحها ولبابها الدعاء، ويفسره حديث أنس (الدعاء مخ العبادة) رواه الترمذي من طريق عبد الله بن لهيعة قاضي مصر ومحدثها وعالمها، وفيه مقال معروف، ولذلك جعله الحافظ مؤيدًا لما ذكرناه في تفسيره بعد أن عزاه إلى الجمهور، وروى الترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث أبي هريرة رفعه (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء) . ولما كان الدعاء ركن العبادة الأعظم ومعظمها ومخها صار يطلق ويراد به العبادة مطلقًا كما قالوه في تفسير كثير من آيات القرآن حتى صار بعض الناس يظن أن الصيام يسمى دعاء مثلاً، وقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) ، أفرأيت من عمل بهذه الآية فذكر الله داعيًا له بأسمائه خير أم من ألحد فيها فصار يقول: هو هو هو، أو يا هو يا هو، وهي عبادة لم تَرِد في كتاب الله ولا في سنة رسوله، ولا رويت عن السلف الصالح؟ وهي مع ذلك فاسدة في لغة الكتاب والسنة، فإن الضمير وحده لا يسمى كلامًا ولا يكون له معنى إلا إذا وقع في كلام يكون له فيه مرجع، ومثله ما إذا كان جوابًا لسؤال يعرف فيه المرجع بالقرينة، ولا يدخل عليه حرف النداء ولا على الضمير المخاطب الذي يوجه إليه النداء، فلا يقال: يا أنت. وحرف النداء يتضمن معنى الدعاء أو النداء، ويؤول بالفعل، ولذلك جعلوا المنادى من المنصوبات وكل من أنت وهو ضمير رفع منفصل. ولو صح نداء الغائب من الخلق وعهد في كلامهم بالضمير المنفصل أو غيره لما كان ذلك بالذي يصح في نداء الخالق الذي لا يغيب عنهم، وقد روى الشيخان وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم) ، والصوفية الصادقون العارفون أجدر من غيرهم بملاحظة الشهود والحضور، والرازي رحمه الله لم يكن صوفيًّا، وإنما ينقل كلامهم ويتصرف فيه، ولو سلمنا له قوله: إن أشرف الذكر ما كان خاليًا عن معنى الدعاء؛ لما كان ذلك مستلزمًا التسليم له بجعل الذكر بضمير الغيبة - على فرض جوازه وصحته - هو المتعين في تحصيل ذلك الذكر، بل نقول حينئذ: إن المتعين ذكره تعالى باسمه الذي جزم هو تبعًا للجمهور بأنه اسم علم للذات الواجب الوجود وأن جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا تجري عليه، ورجح هو أنه اسم الله الأعظم كما سبق النقل عنه، وهو اسم الجلالة (الله) ونتبع فيه المأثور، فنجعله بكلمة التوحيد لا مفردًا، فقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: (أفضل الذكر لا إله إلا الله) رواه الترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم بسند صحيح من حديث جابر بن عبد الله، ثم نقول: إن القرآن قد جعل اسم الرحمن مرادفًا لاسم الجلالة في عدة مواضع، كقوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) ?وذكر في عدة آيات في سياق الضر والعذاب في الدنيا والآخرة، كقوله تعالى حكاية عن الناصح لقومه باتباع المرسلين: {إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} (يس: 23) ، وقوله في حكاية إنذار إبراهيم لأبيه: {إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ} (مريم: 45) ، وقوله: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَداًّ} (مريم: 75) ، وهذه أبعدها عن التأويل. فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى واسع الاطلاع، ولا سيما في العلوم العقلية، ولكنه كثير الخطأ، ولا سيما فيما يختص بعلوم السنة وآثار السلف، وكلامه في تفسيره المشهور كثير التعارض والتناقض، وكثيرًا مما نتعقبه في تفسيرنا، وإننا ننقل هنا من كلامه ما هو حجة عليه فيما ذكره من تفضيل ذكر الله وندائه بضمير الغيبة، وهو قوله في سياق رد قول جهم في مسألة إطلاق مثل كلمة شيء على الله تعالى من تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) قال: الحق في هذا الباب التفصيل، وهو أنا نقول: ما المراد من قولك أنه تعالى شيء وذات وحقيقة؟ إن عنيت أنه تعالى في نفسه ذات وحقيقة وثابت وموجود وشيء، فهو كذلك من غير شك ولا شبهة، وإن عنيت به أنه هل يجوز أن ينادى بهذه الألفاظ أم لا؟ فنقول: لا يجوز لأنا رأينا السلف يقولون: يا الله يا رحمن يا رحيم - إلى سائر الأسماء الشريفة - وما رأينا ولا سمعنا أن أحدًا يقول: يا ذات يا حقيقة يا مفهوم يا معلوم، فكان الامتناع عن مثل هذه الألفاظ في معرض النداء والدعاء واجبًا لله تعالى، والله أعلم اهـ. ثم قال: المسألة الرابعة، قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) يدل على أنه تعالى حصلت له أسماء حسنة، وأنه يجب على الإنسان أن يدعو الله بها، وهذا يدل على أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية، ومما يؤكد هذا أنه يجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال يا سخي، ولا أن يقال: يا عاقل يا طبيب يا فقيه، انتهى بنصه، ونقول: ومثله: يا هو يا هو، فإنه لم يقله أحد من السلف الصالح ولا هو جائز في لغة الدين وأولى منه بالإنكار (أه) فإنه ليس من هذه اللغة، وإنما هو من اللغة السريانية كما قيل. يقول المعترض على سائر العلماء: 5- قد تبين مما تقدم أن نقل المعترض على فتوى شيخ الأزهر عن صحيح مسلم ومستدرك الحاكم وعن الفخر الرازي كذب، وبقي ما نقله عن حاشية الحفني على الجامع الصغير، وشرح العزيزي له، وعن حاشية الشيخ الأمير على متن غرامي صحيح وحاشية الباجوري للجوهرة، فنقول فيه أولاً: إن ما نقله عن الأولين هو في شرح حديث الأنين في المرض، وقد علمت أنه لا يصح، وفي شرح حديث: (اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى) هكذا ذكر المعترض ولم يذكر تتمة الحديث وهي (دعوة يونس بن متى) ، وهذه التتمة تنفي ما يزعمه المعترض، وهذا الحديث عزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى ابن جرير عن سعد وبجانبه علامة الضعف، وأورد قبله حديث (اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث سور من القرآن، في البقرة وآل عمران وطه) ، وعزاه إلى ابن ماجه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة وعلم عليه السيوطي في جامعه بالصحة، وذكر غيره أن في سنده هشام بن عمار، وهو مختلف فيه على أنه نص في خلاف ما يريد المعترض إثباته. أما ما ذكره العزيزي في شرحه للجامع الصغير، فقد نقل عن العلقمي عشرين قولاً في الاسم الأعظم، أولها إنكاره، وثانيها أنه مما استأثر الله بعلمه، والعشرون ألم، ويعلم باقيها مما أوردناه عن الحافظ وليس فيها أن (أه) منها وتبعه الحفني في ذلك. وأما كلامهم في حديث الأنين فقد قال المناوي في شرحه له عند قوله: (فإن الأنين من أسماء الله تعالى) ما نصه: أي لفظ (آه) من أسماء الله تعالى، لكن هذا تتداوله الصوفية ويذكرون له أسرارًا، ولم يرد به توقيف من حيث الظاهر. وأما الحفني فقد شرح الحديث في الجزء الثاني من حاشيته على الجامع الصغير (ص 27 من الطبعة ا

الرحلة السورية الثانية ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (4) طرابلس والقلمون ما حزنني من سوء حال بلاد سورية الاجتماعية والأدبية شيء كما حزنني حال طرابلس والقلمون حيث نشأت وترعرت، فقد كانت طرابلس خير المدن السورية في العلوم الشرعية والأدبية، والعيشة الراضية الهنية، كما كانت القلمون خير البلاد الصغيرة في ذلك، أو (سيدة القرى والمزارع) كما وصفت في السجل الأعظم (دركنار) لبلاد الدولة العثمانية في الباب العالي كما روي لنا، وذلك أن جميع أهلها كانوا سادة شرفاء، وأتقياء نجباء، قد ولدت ولله الحمد فيها، ونشأت في بيت الكرم والمجد الأثيل منها، فكنت من أول العهد بالتمييز أرى العلماء والأدباء والحكماء والوجهاء تغشى دارنا، وتعشو إلى ضوء نارنا، بل كنت أرى فيها الضيوف من بلاد المحلة مكرمين على اختلاف مللهم ومذاهبهم، وكان مسجدها عامرًا دائمًا بإقامة شعائر العبادة وقراءة دروس العلم والوعظ، وقد عشت ما عشت فيها ولم أر أحدًا ارتكب فاحشة أو شرب مسكرًا، أو أتى منكرًا إلا ما كان ينسب إلى أفراد قلائل من ارتكاب سرقة الفاكهة أوالزيتون والليمون، وما كان يقع بين بعض المتخاصمين والمتنازعين من التضارب بالعصي أحيانًا وبالمدى نادرًا، وقلما رأيت شيئًا من ذلك بعيني. وإني قد شببت فيها وأنا أعتقد أن الذين يقترفون كبائر الإثم والفوحش في الدنيا أفذاذ قليل عددهم في كل مكان، وأكثرهم في المدن أو البوادي، ولذلك كنت أجتنب معاشرة أكثر الناس في طرابلس عندما كنت أطلب العلم فيها، على ما ذكرت من فضلها على غيرها، حتى إنني إلى اليوم لا أعرف جميع أسماء الذين قضيت معهم السنين الطوال في المدرسة، وكانت مدارس العلم يومئذ عامرة وطلابه كثيري العدد، وكانت دور أهل العلم والأدب أندية وسمارًا تكثر فيها المطارحات العلمية، والمساجلات الأدبية، ولم تكن الخمر معروفة في شيء من ملاهيها العامة (القهاوي) ولا الرقص، وكل ما كنت أعلمه في هذا أن في حارة النصارى ملهى في بستان اسمه الزهرية يشربون فيه الخمر، ويختلف إليه بعض أهل الدعارة من المسلمين، ولكنني لم أر في أثناء إقامتي فيها لطلب العلم من السكارى إلا عبدًا أسود وشابًّا وطنيًّا من فقراء السوقة يبيع الحمص المملح والملبس بالسكر، وإنما نسمع أحيانًا بعض أخبار الفساق من المنكرين عليهم والقادحين فيهم؛ إذ يغلب عليهم التستر ويندر فيهم التهتك، كاجتماع بعض أهل الدعارة في مجالسهم الخاصة في بيوتهم، على مائدة الخمر، أو شربها على مائدة الطعام، وإنما كان يفعل هذا من المسلمين أكثر الموظفين من الترك حتى بعض قضاة الشرع، وكان هؤلاء الموظفون يحرصون على إغواء وجهاء المسلمين الذين يعاشرونهم بإغرائهم بالشرب معهم كدأب أهل السكر في كل مكان، وقل من كان يستجيب لهم من قرنائهم أو مرؤوسيهم ولو بقبول الكأس من أيديهم مرة واحدة، ومن طرقهم في ذلك ما سمعته في دارنا من أحد المتصرفين، فقد سألنا: أليس المسكر المحرم قطعًا هو خمر العنب وما عداه فإنما يحرم منه القدر المسكر؟ فأي حرج إذًا في شرب ما عدا هذا القدر من سائر الأشربة ولا سيما ما لا يسكر إلا كثيره كالبيرة؟ فقلنا له: تلك شبهة لبعض الفقهاء في النقوع الذي كانوا يسمونه نبيذًا، والحق أن كل مسكر خمر يحرم قليله وكثيره كما ثبت في النص المؤيد بالقياس والخبر. وإذ كنت أكتب في مثل هذا للاعتبار به، وليكون تاريخًا تعرف بمثله أسباب التطور الاجتماعي في البلاد، فإنني أذكر واقعة في هذا الباب هي أكبر ما كان يتحدث به الناس في مدينتنا (طرابلس الشام) ، ويفخرون به، وهي بين مدحت باشا الوزير الشهير ودرويش أفندي الشنبور. كان درويش أفندي هذا رجل طرابلس الكبير، بل رجل سورية الممتاز في عصره بالعلم بالقوانين وحسن الإدارة والتصرف في حل المشكلات، حتى إن أمور إدارة لواء طرابلس كانت بيده يتصرف فيها كما يشاء، وهو عضو في مجلس الإدارة، رأيه فيه بحكم القانون كرأي غيره من الأعضاء، فكان أصحاب الحاجات يولون وجوههم شطر داره دون أمثاله من الأعضاء، بل دون الرؤساء من المتصرف التركي المولى من نظارة الداخلية إلى من دونه من رؤساء الإدارة، وكذا رؤساء الجند فيما يقيدون فيه بالإدارة كأخذ العسكر بنظام القرعة المعروف، فلم يكونوا يستطيعون أخذ أحد إلا برأيه، لذلك كان له حساد كثيرون، فلما جاء مدحت باشا واليًا على سورية كثر السعاة بدرويش أفندي الشنبور لديه الذين يرمونه بالاستبداد بأعمال الحكومة، وكونه لم يترك لأحد من رجال الدولة اسمًا ولا عملاً في لواء طرابلس، وأنه هو نفسه لا يمكنه أن يكون له اسم سمي، ولا قدر على ذلك اللواء إلا بإخراجه من مجلس الإدارة وجعله حلس بيته، وقد أثرت هذه السعاية في نفسه، فلما جاء طرابس في دورة التفتيش المعتادة كان استقباله لدرويش أفندي استقبال المرتاب المختبر فلما سمع كلامه أحب الخلوة به، فسمع منه من الأنباء والآراء ما أكبره في عينه، وأحله في أعلى مقام من الثقة به، والكلام مظهر العلم والعقل والرأي، {فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} (يوسف: 54) ولم يكن يستطيع مفارقته إلا وقت النوم، وكان الوزير مبتلى بشرب الخمر كأكثر رجال الدولة، وكان درويش أفندي لا يشربها كسائر وجهاء طرابلس، ولا سيما أصحاب الزي العلمي أمثاله، فاجتهد مدحت باشا في حمله على الشرب لتطيب له معاشرته ولا يرى نفسه صغيرًا أو حقيرًا في عينه وعين نفسه بارتكابه لهذا المنكر مع من ينكره في نفسه لتحريمه، وقد كان مدحت باشا مسلمًا محترمًا لدينه كما يقال، ولكن السكر بلاء قلما يستطيع تركه من ابتلي به، عرّض لدرويش أفندي أولاً فنبا له وأعرض، كأنه لم يفهم مراده، فكاد له مكيدة سلم منها بحسن بادرته، وقوة إرادته، ذلك أنهما كانا في متنزه من متنزهات ضواحي المدينة اسمه (بركة البداوي) فطلب الوزير الخمرة، فأخذ لنفسه كأسًا وناول درويش أفندي كأسًا أخرى وقال له: نشرب على اسم مولانا السلطان الأعظم. فأخذ الكأس درويش أفندي وقال على البداهة: كأس من يد أفندينا مدحت باشا باسم مولانا الأعظم أمير المؤمنين لا ينبغي أن تصب في الجوف وتخالط القذر بل مكانها الرأس، وصب الكأس على عمامته البيضاء، فأعجب مدحت باشا بهذه البداهة والكياسة، وزاده هذا الثبات كرامة عنده ومكانة في نفسه. هذه الحالة التي كانت عليها طرابلس إلى عهد طلبي للعلم فيها وهجرتي منها هي التي ضاعفت آلامي لما رأيت هذه المرة ما رأيت من سوء حالها، وسريان عدوى المجاهرة بالتهتك فيها، وقد بدأ ذلك فيها في أوائل العهد بالحكومة الدستورية الاتحادية، ثم كان لمفاسد الحرب ثم للاحتلال الأجنبي تأثير بعد تأثير في استشراء فساده كما بيناه في النبذة الثالثة من هذه الرحلة (ج9 م21) حتى إن طرابلس صارت دون بيروت ودمشق في الحالة العلمية والأدبية الإسلامية، فقد خلت من تلك الحلقات الواسعة من طلاب العلم ومن تلك المحافل والسمار التي كانت آهلة بأهل الهيئة والوقار من العلماء والوجهاء من الطبقات المختلفة الذين كانت آراؤهم تضطر الغرباء من حكامهم وغيرهم إلى احترامهم دع أهل البلد الذين هم كبراؤه، وكذلك كان شأن شيوخ أهل بيتنا في القلمون، بل لم أر مجلس وقار في مكان ما مثل المجالس التي كان يحضرها كبير أسرتنا السيد الشيخ أحمد عم والدي، فقد كان أوجه الوجهاء من علماء طرابلس ورجال الحكومة وغيرهم يجلونه لما كان عليه من الجد والوقار والتقوى حتى إنه لم يكن أحد يشذ في جلوسه ولا في ضحكه ومزاحه في حضرته، بل يلزمون الاعتدال والأدب الشرعي، وقد اتهم رجل صالح من طرابلس بفاحشة أو مقدماتها، وكان ممن يترددون على القلمون مع بعض العلماء فلم يتجرأ بعدها أن يتراءى أمامه طول حياته، وماذا أقول عن صاحب تلك الشيبة الرائعة الذي قال فيه نقاده المعاصرون الشيخ عبد الفتاح الزغبي نقيب أشراف طرابلس وخطيب جامعها الكبير إلى اليوم: آخر من أدركنا من الصديقين عمي الشيخ أحمد، وأنا لم أكن هنالك أستطيع تعمد النظر في وجه أحد متهم بالفسق ولا السكوت على منكر منذ كنت غلامًا أمرد، وقد شذ في حديثه معي تاجر في طرابلس بقول لا يعد منكرًا شرعًا إذا حسنت فيه النية، فتركت الشراء منه والنظر إلى دكانه، بل المرور أمامها ما دام فيها. نعم إنني كنت أول من انتقد من المسلمين ما كان عند الوجهاء من التكلف في اللقاء والسلام والقعود والقيام، وأول من ترك عادة الجلوس على الركب في بدء الجلوس معهم، وإن فعل ذلك بعض كبار السن والقدر لأجلي، ولكنني أقول الآن: إن مجالسهم كانت خيرًا من مجالس أكثر أولادهم وأحفادهم الذين تركوا غير ذلك من آدابهم العالية لا المتكلف منها فقط مفتونين بزخرف حرية الفسق الذي يخشى أن يضيع عليهم دنياهم ودينهم، فيكونوا من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. أصيبت طرابلس بالعقم من العلماء والفضلاء والزعماء، فلا خلف فيها في العلم والرشد للشيخ محمود نشابه والشيخ عبد الغني الرافعي والشيخ عبد الرزاق الرافعي، والشيخ عبد الله الصفدي ودرويش أفندي الشنبور والمفتي مصطفى أفندي كرامي الذين أدركناهم في شيخوختهم، ولا للشيخ حسين الجسر والشيخ عبد الله البركة والشيخ نجيب الحامدي والشيخ خليل صادق الذين أدركناهم في كهولتهم. وإنما بقي أفراد من الطبقة التي قبل طبقتنا أوسعهم علمًا وفهمًا وإفادة الشيخ محمد إبراهيم الحسيني وقد جهلت مدينته قيمته فلا ينتفع به إلا أفراد قليلون من بقايا الطلاب، ومنهم الشيخ محيي الدين الحفار والشيخ عبد اللطيف نشابه، وأفراد آخرون من طبقتنا ورفاقنا في الطلب، وأكثر هؤلاء وأولئك قد تركوا الدرس والتدريس، واجتنبوا الكتابة والتصنيف، ومنهم من يشتغل بأمر الدنيا من تجارة وزراعة لكساد بضاعة العلم، ولم أر في هذه الزورة لطرابلس أحدًا من رفاقي لا يزال مغرمًا بالمطالعة والكتابة إلا الشيخ محمد رحيم والشيخ عبد المجيد أفندي المغربي، وليس لأحد منهما ولي في عمله ولا ظهير. وأما القلمون فلم يبق فيها أولو بقية يستفيد الناس منهم إلا عمي أبو عبد الرحمن عاصم، فهو يقرأ دروسًا في مسجدنا في بعض الأحيان لمن عساه يوجد فيه، ولكنه في عامة أوقاته معتزل للناس، لا يكاد أحد يراه إلا في صلاة الجماعة، وقد انقرض ثلثا أهل القرية وحال الباقين شر مما كانت عليه، وقد كنت قبل الهجرة إلى مصر أقرأ لهم التفسير ونهاية المحتاج في فقه الشافعية والزواجر، وغير ذلك من كتب التوحيد والمواعظ والرقائق، وبلغني أنه وجد فيهم رجل يتجرأ على المجاهرة بالفواحش وارتكاب منكرات السلب والنهب، ويستعين على ذلك برشوة الحكام، وأما طرابلس، فقد صار الكثيرون فيها يجاهرون بذلك، ومنهم من يدعو الأجانب إلى داره ويقدم لهم الخمور فيها، ولكن تيقظ بعضهم لتدارك الخطر كما بيناه في النبذة الثالثة التي قبل هذا من الرحلة، فليحفظ الناس هذا، ولينتظروا عاقبة هذا التغيير، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ونسأل الله تعالى أن يتوب عليهم ويجعلهم خيرًا مما كان عليه سلفهم ويغير ما بهم إلى خير منه. ((يتبع بمقال تالٍ))

حقيقة التصوف ومكانه من الشرع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حقيقة التصوف ومكانه من الشرع (س3) من صاحب الإمضاء السلام عليكم ورحمة الله إلى فضيلة مولانا وراشدنا السيد رشيد رضا وقع نظري على بعض الأعمال الدينية في بلدي المسمى بالسنبلاوين مما من أجله أرجو أن تعرفونا حقيقة التصوف، وهل له قوانين وقواميس غير ما بينته الشريعة المحمدية؟ وإذا كان هو ما جاءت به الحنيفة، فما الحاجة إليه والقرآن والسنة بين يديه؟ وإن كان مخالفًا فمن أقر المبتدئ فيه عليه، ومن أين استنبط ذلك المخترع تلك الطرق التي توصل إلى الله كما يعبرون؟ ولعمري إن صح هذا كان لله طريقان: طريق بينه على لسان رسوله الكريم في كتابه المبين، وآخر قد هدى إليه بعض عباده المهتدين. وإنما دعاني إلى سؤالكم، والاستنارة بمناركم، ما أخشاه من كسوف شمس شريعتنا في ذلك الأفق (أفق الصوفية) فإني أرى من ينسبون إليه ويدعونه قد ولعوا بمقتضياته وشغفوا به حتى أنستهم الأذكار والأوراد التي يتغنون بها في الساحات والأنحاء ومبالغاتهم في الشيوخ والأولياء - أنساهم ذلك أساس الدين وكبد الشريعة (التوحيد) وهذا طبق ما أراه غريزة في بعض النفوس من الشغف بالكماليات، وربما سحبت ذيول النسيان على الواجبات غشًّا منها لأصحابها، وأنهم قاموا بما فرض عليهم، وارتقوا إلى أن وجب عليهم ما ندب إليه الدين، وزجًّا منها بهم إلى زمرة المقربين الذين امتثلوا وأمضوا أوامر الدين. وإن سبق لكم هذا، فأرجو من فضيلتكم إعادته باختصار، وذلك كما تعلمون لقرب عهدنا بالمنار، لا زلتم مصدر الرشد وأهل الفضل والوقار. ... ... ... ... ... ... ... ... حسين محمد حسين النجار ... بمدرسة القضاء الشرعي (المنار) التصوف مصدر تصوف الرجل - أي صار صوفيًّا أي: أحد أفراد الطائفة المعروفة بالصوفية، وأشهر الأقوال في المنسوب إليه أنه الصوف؛ لأنهم كانوا يلتزمون لبسه وقيل: إنه كلمة سوفا أو سوفي باليونانية، ومعناها الحكمة، وذهب الحافظ ابن الجوزي في كتابه (تلبيس إبليس) أنه نسبة إلى صوفة وهو لقب الغوث بن مرّ بن أدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر؛ لأنه قد اشتهر عند العرب أنه أول من انقطع إلى الله تعالى لعبادته عند بيته الحرام، وتسلسل ذلك في ولده، فصار لقب (صوفة) يطلق على كل منهم، وناطت العرب به وبهم من بعده إجازة الناس بالحج من عرفة ومنى، وهي الإفاضة منهما، فكانت لا تفيض منهما حتى يفيض صوفة، فإذا حانت الإجازة تقول: (أجيزي صوفة) ، وكان سبب هذه التسمية أن أم الغوث كان لا يعيش لها ولد، فنذرت لئن عاش لتعلقن برأسه صوفة ولتجعلنه ربيط الكعبة، ففعلت، فقيل له ثم لولده من بعده صوفة. نقله عن السائب الكلبي. قال الحافظ المذكور: كانت النسبة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام والإيمان فيقال: مسلم ومؤمن، ثم حدث اسم زاهد وعابد، ثم نشأ أقوام تعلقوا بالزهد والتعبد فتخلوا عن الدنيا وانقطعوا إلى العبادة واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها، وأخلاقًا تخلقوا بها، ثم ذكر نسبتهم التي لخصناها عنه آنفًا. ثم قال في تاريخه ومبدئه: هذا الاسم ظهر للقوم قبل سنة مائتين، ولما أظهره أوائلهم تكلموا فيه وعبروا عن صفته بعبارات كثيرة، وحاصله أن التصوف عندهم رياضة النفس ومجاهدة الطبع برده عن الأخلاق الرذيلة، وحمله على الأخلاق الجميلة من الزهد والحلم والصبر والإخلاص والصدق إلى غير ذلك من الخلال الحسنة، ثم ذكر أن أوائلهم كانوا على ذلك حتى لبس عليهم الشيطان، فكان أول تلبيسه أن صدهم عن العلم، وأراهم أن المقصود العمل، فلما انطفأ مصباح العلم تخبطوا في الظلمات، فمنهم من غلا في ترك الدنيا وهي قوام مصالح الخلق، ومنهم من أغري بتعذيب النفس بالجوع والعري والفقر الاختياري، ومنهم من غلبت عليهم الخيالات، حتى قالوا بالحلول والاتحاد، وكانوا يعنون بالنظافة والتنطع في الطهارة، وراجت عليهم لقلة العلم الأحاديث الموضوعة، وذكر بعد هذا تصانيفهم وما فيها من الغلو في الدين والأحاديث الباطلة، ثم انتقل إلى بيان ضروب التلبيس عليهم وما خالفوا فيه الشرع عن جهل أو تأول وأطال في ذلك، وكتابه هذا جدير بأن يطبع. ولشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية فتوى في الصوفية والفقراء نشرناها في ج10 م12 من المنار، ثم طبعناها في رسالة على حدتها لتعميم نفعها، وقد ضعف فيها القول بنسبتهم إلى صوفة؛ لأنها قبيلة كانت في الجاهلية ولا وجود لها في الإسلام ورجح نسبتهم إلى الصوف، وقال: إن لفظ الصوفية لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك، وقال: إن أول ظهورهم كان في البصرة؛ لأنه كان فيها من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف، ونحو ذلك مما لم يكن في سائر الأمصار، ولهذا كان يقال: فقه كوفي وعبادة بصرية. وذكر بعض أحوال الصوفية ووزنها بميزان الشرع وسيرة السلف الصالح كعادته، فبين الراجح من الشائل فيها، وإن الناس فيهم بين ذام يرميهم بالابتداع والخروج عن السنة، وبين غال يدعي أنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، وأن الصواب هو الوسط، وهو أنهم كغيرهم من الطوائف مجتهدون، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ولكن انتسب إليهم طوائف من أهل البدع والزندقة، ثم بين أن كلامه في صوفية الحقائق الأولين، وأنه حدث بعدهم صنفان وهم صوفية الأرزاق الذين يقيمون في الخوانك ويأكلون فيها ما وقف على الصوفية، وصوفية الرسم الذين همهم تقليدهم في اللباس والآداب الوضعية، ويسهل على السائل أن يراجع هذه الفتوى ويقرأها، ويقرأ ما كتبه ابن خلدون في مقدمته إن لم يكن قرأه، فإن أكثره صواب. وإننا قد ذكرنا في تاريخ الأستاذ الإمام عيون ما ذكره هؤلاء المحققون في بيان حقيقة الصوفية، وزدنا عليهم مسائل مهمة استنبطناها من كتبهم، ومن كتب التاريخ أجملناها في ورقتين مثل أوراق المنار ملخصها أن الصوفية طائفة انقطعت إلى الزهد في الدنيا والعمل للآخرة برياضة النفس وتربية الإرادة، والأخذ بالعزائم ومحاسبة النفس وحسن النية والمبالغة في العبادة، وغايتهم الوصول إلى تجريد التوحيد وكمال المعرفة بالله تعالى، ثم ادعى حالهم من ليس منهم غشًّا وتلبيسًا، ولبس لباسهم من تناقض حاله حالهم دعوى وتقليدًا، وإن رياضة النفس وتزكيتها تثمر للصادق فيها علمًا وعرفانًا بسنن الله في الأرواح وأسرار قواها، وأحوالاً وأذواقًا غريبة غير مألوفة ولا معروفة لغير أهلها (منها) التأثير بقوة الإرادة في بعض أمور الكون كشفاء مريض، وتنفير من الشر وجذب إلى الخير، ويسمونه التأثير بالإرادة أو الهمة، (ومنها) معرفة بعض الأمور من غير طريق الحس أو الفكر، وهو مايسمونه الكشف، (ومنها) الغوص على دقائق أسرار الشريعة وحكمها، وصفات النفوس البشرية وقواها وعللها إلخ، ومنها غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره هنا. وإن هذا التصوف برياضة النفس قد سبق المسلمين إليه قدماء الهنود والصينين واليونان، وقد سرى إلى المسلمين كثير من بدع أولئك الأقوام وضلالاتهم وشعائرهم وشاراتهم كالسبح والأعلام، حتى إنهم أخذوا عنهم فلسفة وحدة الوجود فصارت غاية الطريق عندهم، وبث الباطنية في التصوف ضلالات أخرى شر أصولها التأويل البعيد للآيات والأحاديث وطامة الإذعان لكل ما يأمر به السالكين شيوخهم، وإن كان منكرًا، وعدم الإنكار عليهم في شيء، وكانت الباطنية تقصد بهذا التعاليم إفساد دين الإسلام وإبطاله، وإزالة ملكه بالدسائس التي وضعها عبد الله بن سبأ اليهودي وجمعيات المجوس السرية التي بثت في المسلمين دعوة الغلو في التشيع لآل البيت، والطعن في أعاظم الصحابة؛ لإفساد دين العرب وتقويض دعائم ملكهم بالشقاق الداخلي؛ لتتمكن تلك الجمعيات بذلك من إعادة ملك المجوس وسلطان دينهم اللذين أزالهما العرب بالإسلام، ولولا هذان الأصلان - التأويل والطاعة المطلقة - لما راجت الضلالات والبدع في هذه الطائفة؛ لأن أصل طريقتها تزكية النفس بالعلم والعمل الشرعيين مع الصدق والإخلاص والأخذ بالعزائم ومحاسبة النفس حتى على الخواطر، ومن المأثور المشهور عن أئمة الصوفية قولهم: التصوف أخلاق، فمن زاد عليك في الأخلاق زاد عليك في التصوف. ومن قواعد الإسلام المنصوصة المعلومة منه بالضرورة أنه (لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف) وهذا اللفظ من حديث مرفوع في الصحيحين وغيرهما عن علي - كرم الله وجهه -، وفوقه قول الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في آية المبايعة: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12) . ثم بينا هنالك أنه لا سبيل إلى تصفية التصوف من البدع إلا بتحكيم الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح فيه قبولاً وردًّا بعد بيان أن الضلالات والبدع المتغلغلة في كتب الصوفية قسمان - ما أخذه الباطنية من صوفية البراهمة واليونان ودسوه في التصوف الإسلامي، وليس له أصل في الكتاب ولا في السنة إلا ما زعموه من التأويلات المخالفة للغة والشرع - وما أحدثه بعض شيوخ الطريقة من الأوراد والشعائر الدينية المخالفة للسنة في ذاتها وأصلها، أو في صفتها وطريقة أدائها، حتى إن بعض كبار الفقهاء والمتكلمين روجوا بعض هذه البدع والآراء بالتأويلات، والتوسع فيما جوزه بعضهم من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ولم يراعوا ما اشترطه المحققون في هذا من الشروط - فترى مثل الغزالي من أكبر أئمة علماء الكلام والفقه يرغب في بعض العبادات المبتدعة مستدلاًّ عليها بهذه الأحاديث الواهية أو الموضوعة دع ما يتعلق منها بالاعتقاد. مثال ذلك صلاة الرغائب في رجب، وصلاة ليلة نصف شعبان ذكرهما الغزالي في الإحياء مستدلاًّ عليهما بما ورد فيهما وهو موضوع، وقد قال فيهما النووي في منهاجه: وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان. ولم يكن النووي أعلم بفقه الشافعي من الغزالي، بل قال بعض العلماء: إن كتب الشيخين الرافعي والنووي مأخوذة من كتبه التي حرر بها المذهب كما قال فيه وفيها بعضهم: حرر المذهب حبر ... أحسن الله خلاصه ببسيط ووسيط ... ووجيز وخلاصه ولكن النووي كان أعلم منه بالسنة، فإن الغزالي لم يتوسع في علم السنة إلا في آخر عمره (ونعمت الخاتمة التي وفقه الله لها بحسن نيته وإخلاصه له الدين) ولعله لم يؤلف بعد ذلك شيئًا. فهذا مثال ما أخذوا فيه بالموضوع، ومما أخذوا فيه بالضعيف الواهي - وهو أكثر - دعاء الوضوء، قال في المنهاج: وحذفت دعاء الوضوء؛ إذ لا أصل له. وهو يعني الدعاء الذي ذكره الرافعي تبعًا للغزالي، واعتذر الشمس الرملي شارح المنهاج عنه بأنه يعني أنه ليس له أصل صحيح، أو لم يكن مستحضرًا لما ورد فيه من حديث ضعيف ورد من طرق، والضعيف يعمل به في الفضائل ما لم يشتد ضعفه فيما له أصل صحيح كلي، ولكن لا يستدل به على السنية، هذا ما أذكره عنه بالمعنى، وذكر أن والده الشهاب الرملي اعتمد دعاء الوضوء، وأقول: إن النووي نفى ورود شيء من السنة في دعاء الوضوء في مواضع من كتبه، ومنها الأذكار، وتعقبه صاحب المهمات فقال: ليس كذلك، بل روي من طرق منها عن أنس رواه ابن حبان في ترجمة عباد بن صهيب، وقد قال أبو داود: إنه صدوق قدري. وقال أحمد: ما كان بصاحب كذب. وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: لو لم يرد فيه إلا هذا لمشى الحال، ولكن بقية ترجمته عند ابن حبان: كان يروي المناكير عن المشاهير حتى يشهد المبتدئ في هذه الص

شرح قاعدة لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شرح قاعدة لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب (2) تتمة كلام شيخ الإسلام وهو في الاختلاف في الدين ثم المختلفون المذمومون كل منهم يبغي على الآخر، فيكفر بما معه من الحق مع علمه أنه حق، ويصدق بما مع نفسه من الباطل مع علمه بأنه باطل، وهؤلاء كلهم مذمومون، ولهذا كان أهل الاختلاف المطلق كلهم مذمومين في الكتاب والسنة، فإنه ما منهم إلا من خالف حقًّا واتبع باطلاً، ولهذا أمر الله الرسل أن تدعو إلى دين واحد وهو دين الإسلام، ولا يتفرقوا فيه، وهو دين الأولين والآخرين من الرسل وأتباعهم، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ} (الشورى: 13) ، وقال في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 51-53) ؛ أي: كتبًا اتبع كل قوم كتابًا مبتدعًا غير كتاب الله، فصاروا متفرقين مختلفين؛ لأن أهل التفرق والاختلاف ليسوا على الحنيفية المحضة التي هي الإسلام المحض الذي هو إخلاص الدين لله الذي ذكره الله في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} (البينة: 5) ، وقال في الآية الأخرى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) ، فنهاه أن يكون من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، وأعاد حرف (من) ليبين أن الثاني بدل من الأول، والبدل هو المقصود بالكلام، وما قبله توطئة له، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} (هود: 110) إلى قوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) ، فأخبر أن أهل الرحمة لا يختلفون، وقد ذكر في غير موضع أن دين الأنبياء كلهم الإسلام، كما قال تعالى عن نوح: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ} (يونس: 72) ، وقال عن إبراهيم: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (البقرة: 131-132) ، وقال يوسف: {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) ، {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} (يونس: 84) ، وقال عن السحرة: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} (الأعراف: 126) ، وقال عن بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (النمل: 44) ، وقال: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} (المائدة: 44) ، وقال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَننَا مُسْلِمُونَ} (المائدة: 111) ، وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد) وتنوع الشرائع لا يمنع أن يكون الدين واحدًا وهو الإسلام، كالدين الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فإنه هو دين الإسلام أولاً وآخرًا، وكانت القبلة في أول الأمر بيت المقدس، ثم صارت القبلة الكعبة، وفي كلا الحالين الدين واحد وهو دين الإسلام، فهكذا سائر ما شرع للأنبياء قبلنا، ولهذا حيث ذكر الله الحق في القرآن جعله واحدًا وجعل الباطل متعددًا كقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153) ، وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) ، وقوله: {اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (النحل: 121) ، وقوله: {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (الفتح: 2) ، وقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} (البقرة: 257) ، وهذا يطابق ما في كتاب الله من أن الاختلاف المطلق كله مذموم، بخلاف المقيد الذي قيل فيه: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ} (البقرة: 253) ، فهذا قد بين أنه اختلاف بين أهل الحق والباطل كما قال: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} (الحج: 19) ، وقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر في حمزة عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلي وعبيدة بن الحرث ابني عميه والمشركين الذي بارزوهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة. وقد تدبرت كتب الاختلاف التي يذكر فيها مقالات الناس عملاً مجردًا مثل كتاب المقالات لأبي الحسن الأشعري، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني ولأبي عيسى الوراق أو مع انتصار لبعض الأقوال كسائر ما صنفه أهل الكلام على اختلاف طبقاتهم، فرأيت عامة الاختلاف الذي فيها من الاختلاف المذموم، وأما الحق الذي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه، وكان عليه سلف الأمة، فلا يوجد فيها في جميع مسائل الاختلاف، بل يذكر أحدهم في المسألة عدة أقوال، والقول الذي جاء به الكتاب والسنة لا يذكرونه، وليس ذلك لأنهم يعرفونه ولا يذكرونه، بل لا يعرفونه، ولهذا كان السلف والأئمة يذمون هذا الكلام، ولهذا يوجد الحاذق منهم المنصف الذي غرضه الحق في آخر عمره يصرح بالحيرة والشك [1] إذا لم يجد في الاختلافات التي نظر فيها، وناظر ما هو حق محض، وكثير منهم يترك الجميع ويرجع إلى دين العامة الذي عليه العجائز والأعراب، كما قال أبو المعالي وقت السياق: لقد خضت البحر الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي. وكذلك أبو حامد في آخر عمره استقر أمره على الوقف والحيرة بعد أن نظر فيما كان عنده من طرق النظار أهل الكلام والفلسفة، وسلك ما تيسر له من طرق العبادة والرياضة والزهد، وفي آخر عمره اشتغل بالحديث بالبخاري ومسلم، وكذلك الشهرستاني مع أنه كان من أخبر هؤلاء المتكلمين بالمقالات والاختلاف، وصنف فيها كتابه المعروف بنهاية الإقدام في علم الكلام وقال: قد أشار علي مَن إشارته غُنم، وطاعته حتم، أن أذكر له من مشكلات الأصول، ما أشكل على ذوي العقول، ولعله استسمن ذا ورم، ونفخ في غير ضرم. لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعًا كف حائر ... على ذقن أو قارعًا سن نادم فأخبر أنه لم يجد إلا سائرًا شاكًّا مرتابًا، أو من اعتقد ثم ندم لما تبين له خطؤه، فالأول في الجهل البسيط {كظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} (النور: 40) ، وهذا دخل في الجهل المركب ثم تبين له أنه جهل فندم، ولهذا تجده في المسائل يذكر أقوال الفرق وحججها، ولا يكاد يرجح شيئًا للحيرة، وكذلك الآمدي الغالب عليه الوقف في الحيرة، وأما الرازي فهو في الكتاب الواحد، بل في الموضع منه ينصر قولاً، وفي موضع آخر منه، أو من كتاب آخر ينصر نقيضه، ولهذا استقر أمره على الحيرة والشك، ولهذا لما ذكر أن أكمل العلوم العلم بالله وبصفاته وأفعاله ذكر على أن كلاًّ منها إشكال [2] وقد ذكرت كلامه وبينت ما أشكل عليه وعلى هؤلاء في مواضع، فإن الله قد أرسل رسله بالحق، وخلق عباده على الفطرة، فمن كمل فطرته بما أرسل الله به رسله وجد الهدى واليقين الذي لا ريب فيه ولم يتناقض، ولكن هؤلاء أفسدوا فطرتهم العقلية وشرعتهم السمعية بما حصل لهم من الشبهات والاختلاف الذي لم يهتدوا معه إلى الحق، كما قد ذكر تفصيل ذلك في موضع غير هذا. والمقصود هنا أنه لما ذكر ذلك قال: ومن الذي وصل إلى هذا الباب، ومن الذي ذاق من هذا الشراب: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وقال: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات {ِإلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10) {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ، وأقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} (طه: 110) ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وهو صادق فيما أخبر به أنه لم يستفد من بحوثه في الطرق الكلامية والفلسفية سوى أن جمع قيل وقالوا، وأنه لم يجد فيها ما يشفي عليلاً أو يروي غليلاً، فإن من تدبر كتبه كلها لم يجد فيها مسألة واحدة من مسائل أصول الدين موافقة للحق الذي يدل عليه المنقول والمعقول، بل يذكر في المسألة عدة أقوال، والقول الحق لا يعرفه فلا يذكره، وهكذا غيره من أهل الكلام والفلسفة ليس هذا من خصائصه، فإن الحق واحد ولا يخرج عما جاءت به الرسل، وهو الموافق لصحيح العقل وفطرة الله التي فطر عليها عباده، وهؤلاء لا يعرفون ذلك بل هم {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا} (الروم: 32) ، وهم مختلفون في الكتاب {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (البقرة: 176) . وقال الإمام أحمد في خطبة مصنفه الذي صنفه في محبسه في الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولته على غير تأويله قال: (الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بن

تاريخ فنون الحديث ـ 3

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

_ تاريخ فنون الحديث (3) المستدرك على الصحيحين للحاكم قد أودع الحافظ محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري [1] في كتابه المستدرك ما ليس في الصحيحين مما رأى أنه على شرطهما، أو شرط أحدهما [2] ، أو ما أدى اجتهاده إلى تصحيحه، وإن لم يكن على شرط واحد منهما، مشيرًا إلى القسم الأول بقوله: هذا حديث على شرط الشيخين أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم. وإلى القسم الثاني بقوله: هذا حديث صحيح الإسناد. وربما أورد فيه ما لم يصح عنده منبهًا على ذلك، وهو متساهل في التصحيح، وقد لخص الحافظ الذهبي [3] مستدركه، وأبان ما فيه من ضعيف أو منكر - وهو كثير - وجمع جزءًا في الأحاديث الموضوعة التي وجدت فيه، فبلغت حوالي مائة، قال الذهبي: في المستدرك جملة وافرة على شرطيهما أو شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك نحو نصف الكتاب، وفيه نحو الربع مما صح سنده وفيه بعض الشيء، وما بقي وهو نحو الربع فهو مناكير واهيات لا تصح، وفي بعض ذلك موضوعات. وهذا الأمر مما يتعجب منه، فإن الحاكم كان من الحفاظ البارعين في هذا الفن، ويقال: إن السبب في ذلك أنه صنفه في أواخر عمره، وقد اعترته غفلة. وقال الحافظ ابن حجر: إنما وقع للحاكم التساهل؛ لأنه سود الكتاب لينقحه فعاجلته المنية، ولم يتيسر له تحريره وتنقيحه. وقال كثير من المحدثين: إن ما انفرد الحاكم عن أئمة الحديث بتصحيحه يبحث عنه ويحكم عليه بما يقضي به حاله من الصحة أو الحسن أو الضعف اهـ. *** المستخرجات على الصحيحين قبل أن نذكر المستخرجات على الصحيحين نذكر معنى الاستخراج، فنقول: الاستخراج أن يعمد حافظ إلى صحيح البخاري مثلاً، فيورد أحاديثه واحدًا واحدًا بأسانيد لنفسه غير ملتزم فيه ثقة الرواة من غير طريق البخاري إلى أن يلتقي معه في شيخه، أو فيمن فوقه إذا لم يكن الاجتماع معه في الأقرب، وربما ترك المستخرِج أحاديث لم يجد له بها إسنادًا مرضيًّا، وربما علقها عن بعض رواتها، وربما ذكرها من طريق صاحب الأصل، وقد اعتنى كثير من الحفاظ بالتخريج، وقصروا ذلك في الأكثر على الصحيحين، لكونهما العمدة في هذا الفن، وللمستخرجات فوائد، منها ما قد يقع فيها من زوائد في الحديث؛ لأنهم لا يلتزمون ألفاظ المستخرج عليها، ومنها علو الإسناد؛ إذ رواية الحديث عن صاحب المستخرج عليه أبعد من روايته عن طبقته أو شيوخه، وقد يقع فيها التصريح بالسماع مع كون الأصل معنعنًا، أو بتسمية مبهم في الأصل، ولا يحكم للزيادات الواقعة في المستخرجات بالصحة إلا إذا كان سند المستخرج إلى الشيخ الذي التقى فيه مع مصنف الأصل صحيحًا متصلاً، وقد يطلق التخريج على عزو الحديث إلى من أخرجه من الأئمة كقولنا: أخرجه البخاري. للحديث الذي يوجد في صحيحه. ومن الكتب المستخرجة على جامع البخاري المستخرج لأبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني [4] ، والمستخرج لأبي بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي [5] ، والمستخرج لأبي بكر أحمد بن محمد البرقاني شيخ الفقهاء والمحدثين [6] . ومن المستخرجات على صحيح مسلم تخريج أحمد بن حمدان النيسابوري [7] ، وتخريج أبي عوانة الإسفراييني [8] ، وتخريج أبي نصر الطوخي [9] ، والمسند المستخرج على مسلم للحافظ أبي نعيم الأصبهاني. *** المجتبى لأبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي [10] لما صنف النسائي سننه الكبرى أهداها إلى أمير الرملة، فقال له: أكل ما فيها صحيح؟ فقال: فيها الصحيح والحسن، وما يقاربهما. فقال: ميز لي الصحيح من غيره. فصنف له السنن الصغرى وسماه المجتبى من السنن. ودرجته في الحديث بعد الصحيحين؛ لأنه أقل السنن بعدهما ضعيفًا، وأما سننه الكبيرة فكان من طريقته أن يخرج فيها عن كل شخص لم يجمع على تركه، وإذا نسب إلى النسائي رواية حديث، فإنما يعنون روايته في مجتباه، وقد شرح المجتبى شرحًا وجيزًا الحافظ جلال الدين السيوطي [11] ، وكذلك شرحه أبو الحسن محمد بن عبد الهادي السندي الحنفي [12] اقتصر فيه على حل ما يحتاج إليه القارئ والمدرس من ضبط اللفظ وإيضاح الغريب والإعراب، شأنه في شرح الكتب الستة، على أن شرحه أوسع من شرح السيوطي [*] ، وقد شرح سراج الدين عمر بن علي بن الملقن الشافعي زوائده على الصحيحين وأبي داود والترمذي في مجلد. *** سنن أبي داود سليمان بن أشعث السجستاني [13] قال أبو سليمان الخطابي في كتابه معالم السنن: اعلموا - رحمكم الله - أن كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في علم الدين كتاب مثله، وقد رزق القبول من كافة الناس فصار حكمًا بين فرق العلماء وطبقات العلماء على اختلاف مذاهبهم، فلكل منه ورد ومنه شرب [**] ، وعليه معول أهل العراق وأهل مصر وبلاد المغرب وكثير من أقطار الأرض. قال أبو داود رحمه الله: كتبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة ألف حديث فانتخبت منها أربعة آلاف حديث وثمانمائة ضمنتها هذا الكتاب، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث: أحدها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الأعمال بالنيات) ، والثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) ، والثالث قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يكون المؤمن مؤمنًا حقًّا حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه) ، والرابع: (الحلال بيّن والحرام بيّن) الحديث، وقال: ما ذكرت في كتابي حديثًا أجمع الناس على تركه، وما كان به من حديث فيه وهن شديد قد بينته، ومنه ما لا يصح سنده، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح، وبعضها أصح من بعض، وهو كتاب لا ترد عليك سنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا وهي فيه، ولا أعلم شيئًا بعد القرآن ألزم للناس أن يتعلموه من هذا الكتاب، ولا يضر رجلاً أن لا يكتب من العلم شيئًا بعدما يكتب هذا الكتاب. إلى آخر كلامه في رسالته إلى أهل مكة، وقد اشتهر هذا الكتاب بجمعه لأحاديث الأحكام، وفيه كثير من المراسيل، وكان يحتج بها من تقدم الشافعي؛كسفيان الثوري ومالك والأوزاعي. *** شروحها شرح هذه السنن كثيرون من أفاضل العلماء؛ شرحها الإمام الخطابي [14] في كتابه معالم السنن، وقطب الدين أبو بكر اليمني الشافعي [15] في أربع مجلدات كبار، وأبو زرعة أحمد بن عبد الرحيم العراقي [16] ، كتب من شرحه سبع مجلدات إلى أثناء سجود السهو، وشرح زوائده على الصحيحين ابن الملقن في مجلدين، وشرح السنن شهاب الدين الرملي [17] . *** مختصراتها قد اختصرها زكي الدين المنذري [18] ، وأسمى مختصره المجتبى، وقد شرحها السيوطي بكتابه زهر الربا على المجتبى، وهذب المختصر ابن قيم الجوزية الحنبلي [19] ، وشرح مهذبه شرحًا جميلاً ذكر فيه: إن الحافظ المنذري قد أحسن في اختصاره، فهذبته نحو ما هذب هو به الأصل، وزدت عليه من الكلام على علل سكت عنها، إذ لم يكملها، وتصحيح أحاديثه والكلام على متون مشكلة لم يفتح معضلها، وقد بسطت الكلام على مواضع لعل الناظر لا يجدها في كتاب سواه. قال ابن كثير في مختصر علوم الحديث: إن الروايات لسنن أبي داود كثيرة يوجد في بعضها ما ليس في الأخرى. *** الجامع الصحيح لمحمد أبي عيسى الترمذي [20] قال أبو عيسى الترمذي - رحمه الله تعالى -: عرضت هذا الكتاب على علماء الحجاز والعراق وخراسان فرضوا به واستحسنوه. وقال: ما أخرجت بكتابي هذا إلا حديثًا قد عمل به بعض الفقهاء. فعلى هذا كل حديث احتج به محتج، أو عمل بموجبه عامل أخرجه، سواء صح طريقه أو لم يصح، لكنه تكلم على درجة الحديث، وبين الصحيح منه والمعلول، كما ميز المعمول به من المتروك، وساق اختلاف العلماء، فكتابه لذلك جليل القدر جم الفائدة كما أنه قليل التكرار. *** شروحه قد شرحه محمد بن عبد الله الإشبيلي المعروف بابن العربي المالكي [21] ، وأسمى شرحه (عارضة الأحوذي في شرح الترمذي) ، وشرحه الحافظ محمد بن محمد الشافعي [22] ، شرح نحو ثلثيه في عشر مجلدات ولم يتمه، وقد كمله زين الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي [23] ، وشرحه عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي في عشرين مجلدًا، وقد احترق شرحه في الفتنة، وكذلك شرحه السيوطي والسندي، وشرح زوائده على الصحيحين، وأبي داود عمر بن علي بن الملقن [24] . *** مختصراته منها الجامع لنجم الدين محمد بن عقيل [25] ، ومختصر الجامع لنجم الدين سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي [26] . *** سنن محمد بن يزيد بن ماجه القزويني [27] عد بعض الحفاظ أصول السنة خمسة يعني كتب البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود، وعدها بعض آخر ستة بضم سنن ابن ماجه إلى الخمسة السالفة، وأول من فعل ذلك ابن طاهر المقدسي [28] ، ثم الحافظ عبد الغني [29] في كتاب الإكمال في أسماء الرجال، وإنما قدموا سنن ابن ماجه على الموطأ؛ لكثرة زوائده على الخمسة بخلاف الموطأ، قال بعض المحدثين: ينبغي أن يجعل السادس كتاب الدارمي فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة [30] ، وإن كان فيه أحاديث مرسلة وموقوفة. وقد جعل بعض العلماء كرزين السرقسطي [31] سادس الكتب الموطأ، وتبعه على ذلك المجد بن الأثير في كتاب جامع الأصول، وكذا غيره. قال الحافظ المزي: إن كل ما انفرد به ابن ماجه عن الخمسة فهو ضعيف. ولكن قال الحافظ ابن حجر: إنه انفرد بأحاديث كثيرة وهي صحيحة، فالأولى حمل الضعف على الرجال. *** شروح سنن ابن ماجه شرحها كمال الدين محمد بن موسى الدميري الشافعي [32] في خمس مجلدات، وأسمى شرح الديباجة ولكنه مات قبل تحريره، وشرحها إبراهيم بن محمد الحلبي [33] ، وجلال الدين السيوطي في شرحه مصباح الزجاجة، وكذلك السندي، وقد شرح سراج الدين عمر بن علي بن الملقن زوائده على الخمسة في ثمان مجلدات، وسمى شرحه ما تمس إليه الحاجة على سنن ابن ماجه. *** باقي كتب السنة الصحيحة غير الكتب الستة مما أسلفت يتبين لك أن الصحيحين لم يستوعبا كل الصحيح، وكذلك الأصول الخمسة أو الستة، وإن كان الزائد عليها قليلاً، قال الإمام النووي: الصواب قول من قال: إنه لم يفت الأصول الخمسة إلا النزر اليسير. وها نحن أولاء ندلي إليك بباقي الكتب الشهيرة الجامعة للصحيح في القرنين الثالث والرابع: فمنها صحيح محمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري [34] ، وصحيحه أعلى مرتبة من صحيح بن حبان تلميذه؛ لشدة تحريه، حتى إنه يتوقف في التصحيح لأدنى كلام في الإسناد، ومنها صحيح أبي حاتم محمد بن حبان البستي [35] ، واسم مصنفه التقاسيم والأنواع، والكشف على الحديث منه عسر؛ لأنه غير مرتب على الأبواب ولا المسانيد، وقد رتبه ابن الملقن، وجرد أبو الحسن الهيتمي زوائده على الصحيحين في مجلد، وقد نسبوا لابن حبان التساهل في التصحيح إلا أن تساهله أقل من تساهل الحاكم في مستدركه، ومنها صحيح أبي عوانة يعقوب بن إسحاق [36] ، وصحيح المنتقى لابن السكن سعيد بن عثمان [37] ، وسنن الإمام الحافظ علي بن عمر البغدادي الشهير بالدارقطني [38] ، والمنتقى في الأحكام لابن الجارود عبد الله بن علي [39] ، والمنتقى في الآثار لقاسم بن أصبغ محدث الأندلس [40] . *** كتب الأطراف كتب الأطراف هي ما تذكر طرفًا من الحديث يدل على بقيته، وتجمع أسانيده إما مستوعبة أو مقيدة بكتب مخصوصة، فمن ذلك: أطراف الصحيحين للحافظ إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي [41] ، ولأبي محمد خلف بن محمد الواسطي [42] ، قال الحافظ بن عساكر: وكتاب خلف أحسنهما ترتيبًا ورسمًا، وأقلهما خطًا ووهمًا. وهو في دار الكتب السلطانية أربع مجلدات، ولأبي نعيم أحمد بن عب

نقد مشروع تعميم التعليم الأولي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نقد مشروع تعميم التعليم الأولي نشرنا في ج 7، 8 من م21 تقريرًا لمشيخة الأزهر في نقد تقرير لجنة التعليم الأولي بوزارة المعارف لهذا المشروع، وقد طبع في هذه الأيام تقرير آخر في شأن هذا التقرير لصديقنا عبد الله أفندي أمين ناظر مدرسة المعلمين للتعليم الأولي في مديرية الجيزة، وهو ممن طلب مراقب التعليم العام منهم إبداء آرائهم فيه، وقد رأينا أن نقتبس بعض فصول هذا التقرير المفيدة، ولما كان الفصل الأول منه قد عقد لنقد تسع فقرات بينت فيها اللجنة سوء حال التعليم العام في القطر المصري، ووجه الحاجة إلى تعميم التعليم الأولي - رأينا أن ننشر أولاً هذه الفقرات، وهي التي انتقدها، ونقفي عليها بنشر رأيه فيها، وفي كل منهما فوائد ذات قيمة ثمينة لمن يعنيهم أمر التربية والتعليم، قالت اللجنة مخاطبة وزير المعارف: الفقرات 4-12 من تقرير اللجنة 4 - ونعم ما قالت معاليكم فاتحة جلسات هذه اللجنة حين بينتم أن (فشو الجهل بين جمهور الأمة يؤثر تأثيرًا سيئًا في حال البلاد، وأن ضرره لا يقتصر على إضعاف الأفراد وتأخيرهم، بل يكون مانعًا كبيرًا وعائقًا عظيمًا في سبيل الرقي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ويقضي على أعظم ضروب الإصلاح في مهدها، فلا تثمر ثمرتها ما دام معظم من يشملهم نفعها لا يفهم حقيقتها ولا يدري كيف يستفيد منها. 5- والأمثلة على ذلك كثيرة متوافرة في جميع فروع الأعمال الإدارية؛ لأن الحكومة تضطر في جميع أعمالها إلى أن تسبق بمراحل واسعة حال التعليم التي عليها جمهور الأمة، فمنها: في الزراعة: الوسائل التي تتخذ لمنع قلة محصول القطن، مقاومة دودة القطن ودودة اللوز، اتباع الطرق واستعمال الآلات الحديثة في الزراعة، إدخال أصناف جديدة من المزروعات في البلاد، توسيع نطاق التعاون في الشؤون الزراعية، زيادة العناية بالحيوانات، توخي الطرق الفنية في استعمال الأسمدة إلخ. في الصحة العمومية: نشر القوانين الصحية الأولية بين الناس فيما يتعلق بهم وبمنازلهم والبلدان التي يقطنون بها، تحسين حال المساكن، وضع تصميمات للمدن والقرى، تقرير أنظمة لتنظيف المدن والقرى، إصلاح موارد مياه الشرب، تقليل نسبة الوفيات في الأطفال، تحسين وسائل العناية بالنساء والأطفال من الوجهة الطبية، التدابير التي تتخذ عند انتشار الأمراض المعدية وغيرها مما يستدعي السرعة في تداركه، استئصال شأفة الأمراض المتأصلة في البلاد كالبول الدموي (البلهارسيا) والرمد. في الأشغال العمومية: المصارف، إصلاح البور من الأراضي، تعمير الأراضي غير المسكونة، إنفاذ أوامر المناوبات وغيرها من أعمال الري. في التعليم: ترقية أبسط أنواع التعليم الزراعي والفني. في الأمن العام: ضبط الجرائم والتبليغ عنها، ويدخل في ذلك الرشوة، ومنع جرائم الأحداث وصيانتهم من الفسق، منع سم المواشي، مقاومة الهرب من الخدمة العسكرية، والعمل على إصلاح الجيش والشرطة (البوليس) ، إصلاح طرق الردع بالعقوبة. في القضاء: إنشاء محاكم الأخطاط وغير ذلك مما له أثر في إصلاح القضاء. في الإدارة: توسيع سلطة مجالس المديريات والمجالس البلدية في إدارة شؤون البلاد، توسيع نطاق الضرائب المحلية، الاستعانة في المسائل الفنية بمشورة المصالح الأميرية المختصة، الاحتياط لمنع نشوب الحريق بالقرى، إقناع الجمهور بفوائد التدابير التي تتخذها الحكومة كقانون خمسة الأفدنة ونحوه، إنشاء حلقات القطن، تحديد مقدار الأراض التي تخصص بزراعة القطن، تسعير المواد الغذائية، إنفاذ أوامر لجنة مراقبة التموين، قانون المستنقعات والبرك إلخ. في الشؤون الاقتصادية: بث روح الاقتصاد والعمل على تقليل ديون الفلاحين، مقاومة كنز الأموال بلا تثمير، توسيع نطاق صناديق الادخار (التوفير) وأعمال المصارف (البنوك) التجارية، رفع شأن الزراع والتجار المصريين حتى يستغنوا عن الوسطاء من الإفرنج، ترقية الصناعات، تأسيس صناعات جديدة إلخ. في الشئون الاجتماعية: ترقية شأن المرأة، الاهتمام بالطفل، مقاومة الشحاذة والشرود (التشرد) ، تحسين أحوال المعيشة في بلاد الأرياف والترغيب فيها. هذه أمثلة عدة، لا نحتاج في سردها إلى خبرة خاصة، وهي قليل من كثير من وجوه الإصلاح الإداري والاجتماعي التي تقوم بها الحكومة الآن، وجلي أن أول عامل يتوقف عليه نجاحها إنما هو تحرير الشعب من ربق الجهل وانتشاله [1] من هوة الأمية. 6- وقد جاء في ملحق السير إلدن غورست بكتاب (إنجلترا في مصر) تأليف اللورد ملنر بعد أن تكلم على عدم بلوغ الحكومة النجاح المنشود في بعض فروع الإدارة ما ترجمته (على أن السبب الحقيقي يرجع إلى ما هو أبعد من ذلك، وليس هناك علاج ناجع دائم الأثر إلا النهوض بالشعب عامة وتهذيبه، وإنما يكون ذلك بانتهاج خطة سديدة في التعليم سداها بعد النظر ولحمتها الخبرة السياسية) (صفحة 413) . 7- وقال المسيو شارليتي مدير التعليم العام في تونس في خطبة ألقاها بمؤتمر أفريقية الشمالية سنة 1908 ما يأتي: إن التقدم الاقتصادي مرتبط بجميع شؤون الحياة على اختلاف أشكالها، بيد أن الناس لا يستطيعون الوصول إلى هذا التقدم والانتفاع بمزاياه إلا إذا تربوا تربية تسهل لهم فهم كنهه وتقربه في أذهانهم؛ فإن مسألة التعليم من أدق الأمور وأشقها، وخاصة في بلد يجب فيه قبل بلوغ أسباب الحضارة الحديثة اجتياز جميع مراحل الطريق الطويلة التي خلفتها عصور الجهل المطبق، فإذا لم يتيسر حل هذه المسألة حلاًّ تامًّا؛ فلا أقل من الاقتراب من ذلك الحل باتخاذ جميع الوسائل التي يتناولها التعليم والتهذيب والقدوة الحسنة. 8- وقال الدكتور لورنس بولز الذي كان يشغل وظيفة نباتي بوزارة الزراعة في كتابه: مصر وطن المصريين، صفحة 214 ما ترجمته: إن ما لأرض مصر من الخصب والقوة لا يزال كامنًا دفينًا؛ إذ هي لم تخط بعد خطوات تذكر نحو القيام بعملها الطبيعي، وهو إنتاج المحصولات الزراعية، وإرسالها إلى العالم بأسره، ومما لا يعتوره شك أن وادي النيل سيصير في يوم من الأيام من أعظم الممالك الزراعية محصولاً؛ لأن به من مختلف الأجواء ما يناسب كل نوع من أنواع المحصولات المختلفة باختلاف تربة الجهة التي تنمو فيها، ويربطها جميعًا نهر النيل الذي هو منبع وجودها ومصدر حياتها، ومن هذه البقاع ما ستبقى الزراعة فيه أزمانًا طويلة الأمد على الحال الفطرية التي تشاهد في الغابات، ومنها ما يرقى حتى ينتج أنفس المحصولات، ونحن إلى الآن لم نألف افتقار الأعمال الزراعية إلى المهارة الفنية، غير أن مشاهدة ورقة بديعة من تبغ هافانا، أو القطن الذي يكفي الرطل منه لصنع خيط طوله 200 ميل أو النباتات التي تزرع خاصة لاستخراج العقاقير الطبية تكفي لإقناع كل متردد في عظيم فائدة المهارة الفنية في الزراعة وجليل أثرها، فالزراعة التي من هذا القبيل؛ أي: الزراعة التي تحتاج إلى مهارة فنية، لها في مصر من الأحوال الملائمة ما ليس في مملكة أخرى، وقد يرى في بديهة الأمر أن في هذا القول شيئًا من الغلو، ولكنا لم نقله جزافًا، ولكي تنتفع مصر بهذه المزايا الطبيعية يجب أن يكون بها من العمال من يستطيعون أن يعملوا بعقولهم وأيديهم معًا، لذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن حاجات المستقبل ستكون كفيلة بإيجاد طائفة جديدة راقية من المصريين؛ أي: بإيجاد شعب يجمع توقد القريحة إلى ما كان لأجداده من قوة الأجسام) وليس هذا الانتقال المنتظر في المستقبل مقصورًا على القطر المصري، فإن وزارة المعارف الإنجليزية تقول في رسالة عنوانها (مسألة المدارس الريفية) : إن عصر القوى العضلية قد فات، ونحن الآن في عصر انبثق فيه فجر العقول. 9- وقد قدم للحكومة أخيرا تقريران من لجنتين ألفتا بأمرها: الأولى برئاسة حضرة صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا للنظر في توسيع نطاق التجارة والصناعة، والثانية برئاسة جناب اللفتننت كولونل بلفور للنظر في تعديل نظام مصلحة الصحة العمومية بمصر، وجلي أن ضروب الإصلاح المقترحة في هذين التقريرين ستلقى في الخطوة الأولى من إنفاذها عقبات كبيرة؛ لجهل الناس غاياتها النبيلة. 10- فقد جاء في تقرير لجنة توسيع نطاق التجارة والصناعة ما يأتي: إن ما سبق لنا ذكره من البيان المختص بالصناعة الصغرى المصرية لهو حجة قائمة وشاهد ناطق على ما بالبلاد من النقص الذي تئن منه أنين الثكلى، وترزح تحت أثقاله، فإن خلو الأعمال من النظام والترتيب واستهانة العمال بإتقان عملهم من الأمور الدالة على ضعف التعليم ونقص تهذيب الأخلاق. فإذا سأل سائل: ما حال القطر من حيث التعليم العام والتربية الخلقية؟ كان الجواب أن أقل بحث في هذا الموضوع يكفي للحكم بأن ما يتبع الآن من الخطط في التربية والتعليم في مصر يقصر عن الوصول بالبلاد إلى الغرض السامي المقصود منهما، وعن النهوض بها من الوجهة الخلقية؛ إذ مما لا نزاع فيه مطلقًا أن التعليم لم يعم حتى الآن جميع طبقات الأمة، وأن التربية المنزلية لا تقتصر مساوئها على نقصها وتنكبها الغرض المنشود، بل إنها مبنية على أساس فاسد غير وطيد الأركان، فهي بدلاً من تعويد النشء النظام وحسن التدبير تولد في نفوسهم الإسراف وسوء الإدارة في الأعمال، وهي تبث فيهم روح الكسل والإهمال، وتصرفهم عن الجد والنشاط، وهي تغرس فيهم التردد في الأمور أو قلة العناية بها وعدم النظافة، وما أشبه ذلك من النقائص التي تقف حجر عثرة في سبيل تقدم البلاد من الوجهة المعنوية، وبذا تعوق تقدمها من الوجهة الحسية أيضًا. ولما كان من واجب هذه اللجنة اقتراح جميع الوسائل التي تؤدي إلى أقصى درجات الرقي الاقتصادي، فهي تتشرف بلفت نظر الحكومة إلى ضرورة الإسراع في إنفاذ مشروعها المختص بتعميم التعليم الأولي، وتوجيه مزيد العناية إليه، وترى اللجنة أيضًا أن من الواجب عليها التنبيه إلى ضرورة بذل مزيد العناية بأمر التربية وتقويم الأخلاق وإصلاح أحوال البيئة المنزلية خاصة، فإن تربية المرأة في هذا المقام من عوامل رقي الأمة بأسرها) . 11- وأوردت لجنة النظر في تعديل نظام الصحة العمومية قولاً موجزًا في وصف الحال الحاضرة في مصر فقالت: من المعلوم أنه لا يتيسر رفع شعب من الشعوب إلى المنزلة التي فيها يعرف لنفسه حقها، ما دام الجو الذي يعيش فيه ملوثًا بالأقذار، فإننا إذا أجلنا النظر في أنحاء مصر وجدنا أن معظمها تعلوه الأوساخ، وتحط فيه رحالها الأقذار، فهي كما كانت في قديم الزمان ملطخة بالأمراض على اختلافها، ولا أمل في أن يقوم أهلها بما عليهم من رفع شأن بلادهم ما دامت الأمراض تثقل عواتقهم وتخيم على رؤوسهم، إن نسبة الوفيات في الأطفال رائعة، فثلت أبناء الأمة يموت وهو في سن الطفولة وغضارة الحياة، هذا إلى أن انتشار الحشرات والهوام بين الفلاحين لم يقل على الرغم مما ثبت حديثًا من أن القمل وسيلة لنقل التيفوس والحميات الراجعة التي تفتك بالأهلين فتكًا ذريعًا. وقد أشارت اللجنة بوجوب شن غارة شعواء للقضاء على الجهل والقذارة، واستئصال شأفة المرض والبؤس، ومما يلفت النظر أنها ذكرت الجهل أولاً، ولم تعلق أملاً كبيرًا على إصلاح الحال الصحية إصلاحًا وافيًا بالغرض بتلقين أسباب ذلك لمن بلغوا سن الحلم، فقد قالت: فإن الحقائق التي وقفنا عليها تدل دلا

الخيال في الشعر العربي ـ 2

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ الخيال في الشعر العربي (2) التخييل التحضيري تتداعى المعاني بوسيلة التذكر للأسباب التي كنا بصدد البحث عنها، ثم المخيلة تنتخب منها ما يناسب الغرض، وهذا العمل - أعني الانتخاب - يسميه علماء النفس تخييلاً تحضيريًّا؛ لأنه العمل الذي تتمكن به المخيلة من استحضار العناصر المناسبة للمرام. تقتصر المخيلة عند الانتخاب على ما يدعو إليه الغرض، حتى إنها تأخذ الجسم مقطوعًا من بعض الأعضاء التي لا مدخل لها في المعنى، فتتصور الجواد بغير قوائم كما قال المتنبي: أتوك يجرون الحديد كأنما ... أتوا بجياد ما لهن قوائم والعقرب بغير ذنب كما قال أبو هلال: تبدو الثريا وأمر الليل مجتمع ... كأنها عقرب مقطوعة الذنب وربما انتزعت العضو من بين سائر الجسم كما أخذ ابن هانئ اليد، فقال: ولاحت نجوم للثريا كأنها ... خواتيم تبدو في بنان يد تخفى وأخذ ابن المعتز القدم فقال: وارى الثريا في السماء كأنها ... قدم تبدت من ثياب حداد وأخذ آخر القلب فقال: نقل الجبال الرواسي من مواطنها ... أخف من رد قلب حين ينصرف *** التخييل الإبداعي بعد أن تنتخب المخيلة ما يليق بالغرض من العناصر تتصرف فيها بالتأليف إلى أن ينتظم منها صورة مستطرفة، ويسمى هذا التصرف تخييلاً إبداعيًّا، أو اختراعيًّا. ويجري هذا التخييل في التشبيه والاستعارة وغيرها. فالتشبيه قد تحذف أداته كما في قول النابغة: فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وعمل الخيال فيه هو إحضار صورة المشبه به - أعني الشمس والكواكب - وإلغاء وجوه التباين بينها وبين المشبه - أعني الممدوح - وبقية الملوك، حتى يدعي اتحادهما، ويصح الإخبار بأحدهما عن الآخر، وبنى على هذا الادّعاء أن ليس للملوك مظهر، ولا تقوم لهم أمام هذا الملك سمعة، فإن الكواكب يتقلص ضوءها ويغرب عن العيون مشهدها عندما تتجلى الشمس في طلعتها الباهرة. وأما ما تذكر فيه أداة التشبيه، فلا أستطيع أن أعده في قبيل الخيال جملة، كما أني لا أعزله عنه في كل حال، فإن كان فيه إخراج المعقول في صورة المحسوس، أو المحسوس في صورة المعقول، أو إخراج الخفي إلى ما يعرف بالبداهة، أو إخراج الضعيف في الوصف إلى ما هو أقوى فيه، فتصح إضافته إلى الخيال؛ إذ له الأثر القوي في تقريره. وأما عقد المشابهة بين أمرين متفقين في وجه الشبه من غير تفاوت، كالتشبيه الذي يساق لبيان الاتحاد في الجنس أو اللون أو المقدار أو الخاصية، فلا يصح نسبته إلى الخيال الشعري، وإن وقع في كلام مقفى، وإنما هو مما ينظر فيه الباحث عن الحقائق كالفيلسوف أو الطبيب. فلو اتفق أن وقف فتى بجانب ظبي وانطلقا في فسيح من الأرض، ولم يفت أحدهما صاحبه قيد شبر، فبدا لك أن تتحدث عنهما فقلت: ولو في نظم (كان فلان في سرعة عدوه كالغزال) لم يكن في هذا التشبيه شيء من الخيال؛ لأن عقد المشابهة بينهما في هذا الحال يشاركك فيه كل من شاهد الواقعة، وإنما يمتاز التخيل بمثل قول الشاعر: وفي الهيجاء ما جربت نفسي ... ولكن في الهزيمة كالغزال حيث إن الخيال بحث عن صورة المشبه به وهو الغزال، وانتقاها من بين سائر الصور المتراكمة في الحافظة، ثم تصور انطلاق المنهزم وهو الشاعر نفسه، وبالغ في مقدار سرعته إلى أن وقع التشابه بينه وبين الغزال. وإن أردت أن تفرق بين التشبيه الذي يدخل في التخيل، والتشبيه الذي هو حائد عن طريقته، فانظر إلى قول المجنون: كأن القلب ليلة قيل يفدى ... بليلى العامرية أو يراح قطاة غرها شرك فباتت ... تعالجه وقد علق الجناح فترى الخيال هنا قد تجول حتى تصيد معنى القطاة، ووقع على الشرك، ثم انتزع منهما هذه المعاني وهي وقوع القطاة في الشرك، وعلوق جناحها به، ومعالجتها له كي تتخلص منه، وضم بعضها إلى بعض، فانتظم ذلك المعنى المركب، وانعقدت المشابهة يبنه وبين حال القلب الذي وقع في حب العامرية، فأخذ يرتجف وجلاً من لوعة الفراق. ولو نظر شاعر إلى أزهار مفتحة بمكان منخفض من الأرض، وقال مثلاً: هذه الأزهار في منظرها ... وشذاها مثل أزهار الربا لاستبردت شعره لأول وهلة، وأخذت تهزأ به كما هزأت بقول الآخر: كأننا والماء من حولنا ... قوم جلوس حولهم ماء بيد أن ذلك التشبيه نفسه لو يصدر من العالم بالنبات في الرد على من يدعي أن هذه الأزهار ليس لها لون ولا نفحات عاطرة، كالأزهار التي تنبت على الربا لأصغيت إليه سمعك، وتلقيته منه بكل وقار، وما ذاك إلا لأن الأول قاله بوصف كونه شاعرًا، ولم يأت فيه على عادة الشعراء بشيء من التخييل، وأما الثاني فإنما ألقاه إليك في صدد البحث عن الحقيقة، فلا تنتظر منه أن يصله بشيء من عمل الخيال. والاستعارة يصنع فيها الخيال ما يصنع في التشبيه المجرد من الأداة، إلا أنها تعرض عليك المشبه في صورة المشبه به على وجه أبلغ، ولا سيما إذا أضيف إليها بعض معان عهد اختصاصها بنوع المشبه به، أعني ما يسميه البيانيون ترشيحًا، ومن أبدع ما نسج على منوالها قول البارودي: من النفر الغر الذين سيوفهم ... لها في حواشي كل داجية فجر إذا استل منهم سيد غرب سيفه ... تفزعت الأفلاك والتفت الدهر أراد الشاعر وصف قومه بأنهم أولو الصرامة التي تفرج الكرب المدلهمة، والسطوة التي يرهبها كل خطير، فساق إليك هذا الغرض في صورة تنظر منها إلى سيوفهم كيف تجرد حول الليلة الفاحمة، فيسطع نور الفجر الواضح في جوانبها، وترى فيها الحسام الواحد كيف يسل من جفنه فترتعد الأفلاك ذعرًا، ويلتفت له الدهر حذرًا خيل إليك أن الداهية ليلة ظلماء، وأن الفرج الذي ينبعث من مطلع سيوفهم صبيحة غراء، وعبر عن الأولى باسم الداجية، وعن الثانية باسم الفجر، وهذا التعبير الملوح إلى ذلك التخييل هو الذي يعنيه البيانيون بقولهم: استعارة مصرحة. ثم خيل الفلك إلى صورة من له قلب يفزّع، والدهر في صورة من له وجه يلتفت، والتصريح باسمهما بعد هذا التخييل يدخل به الكلام فيما يطلقون عليه لقب الاستعارة بالكناية، ويمكنك أن تفهم الفجر في البيت لمعان السيوف، وتألقها المشاهد بالأبصار على نمط قول بشر: سللت له الحسام فخلت أني ... شققت به لدى الظلماء فجرًا ولكنك تضيع من يدك ما أفاده الوجه الأول من أن النجدة في جانبها، والظفر مقرون بطالعها؛ إذ لا يلزم من لمعانها في حواشي الداجية أن تطعن في لبتها، وتقلبها بالفوز عليها إلى صبيحة مسفرة [1] . ومن التخييل الذي لا يدخل له الشاعر من طريق تشبيه أو مجاز ما تشهد لصاحبه بالحذق في الصناعة، وأنت تشعر بأنه عرض عليك الموهوم في حلية المعقول كقول الطائي: ولا يروعك إيماض القتير به ... فإن ذاك ابتسام الرأي والأدب أخبر عن الشيب بأنه ابتسام الرأي والأدب الذين هما محبوبان ومحترمان لكل أحد ابتغاء أن تأنس العين لرأيته، ولا تنظر إليه نظر الازدراء به، وليس هذا من قبيل التشبيه؛ إذ لم يكن للرأي والأدب ابتسام يعهده السامع حتى يقصد الشاعر إلى تشبيه الشيب به، بل أراد أن يخيل لك أن الشيب ابتسام في الواقع، ولهذا تجد في نفسك ما يناجيك بأن صورة هذا المعنى غير مطابقة للحق، وإن استحكم تأليفها ودق مأخذها. ومنه ما يستملحه الذوق ويسعه نظر المحقق، وتجد هذا في قول زهير: لو نال حي من الدنيا بمكرمة ... أفق السماء لنالت كفه الأفقا فهذا البيت لم ينسج على منوال تشبيه أو مجاز، وليس لك أن تطرحه من حساب التخيلات المقبولة، وبلوغ كف الممدوح الأفق لا يتفق مع النظر الصحيح، غير أن تعليقه على حصوله لإنسان من قبل، وإيراده عقب حرف الشرط الدال على امتناعه قد خلصه من زلة الكذب وجعله في منعة من أن ينبذه العقل إلى القضايا الوهمية. *** فنون الخيال يتصرف الخيال في المواد التي يستخلصها من الحافظة على وجوه شتى، ولا يسع المقام استيعابها وتقصي آثارها، فنلم لك بمهماتها وما يصلح أن يكون بمنزلة أصل تتفرع عليه تفاصيلها: أحدها تكثير القليل؛ كقول عمرو بن كلثوم: ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا فإنه اطرد في حلية الفخر حتى وصل إلى التعبير عن منعة الجانب، والسطوة التي لا يفوتها هارب، فخطر له أن يثبت له ولقومه من القوة ووسائل الفوز ما يرهبون به عدوهم، فذكر أنهم ملؤوا البر جندًا حتى لم يبق فيه متسع، ويملؤون ظهر البحر بالمنشآت من السفن؛ ليدل بهذا على أنهم لا يبالون بالعدو من أي ناحية هجم، ولا يتعاصى عليهم إدراكه في أي موطن ضرب بخيامه. والذي صنع خيال الشاعر في هذا البيت أنه تجاوز في الإخبار بكثرة قبيلته وسفنه حد الحقيقة، وتطوحت به نشوة الفخر إلى أن تخيل أن البر قد غص كما تغص الثكنة بجنودهم، وأن البحر يتموج بسفنهم كموج السماء المصحية بكواكبها الزاهرة. ومنها: تكبير الصغير كقول بشر يصف (وقعة الأسد) حين قسمه بالضربة القاضية على شطرين: فخر مضرجًا بدم كأني ... هدمت به بناءً مشمخرا فقد تخيل عندما سقط الأسد إلى الأرض دفعة أنه أتى إلى بناء شامخ ونقضه من أساسه، فانقضت أعاليه على أسافله، فالخيال هو الذي بلغ بجثة الأسد إلى أن جعلها في العظم بمقدار بناء ارتفعت شرفاته حتى اتخذت من السحب أطواقًا. ومنها: تصغير الكبير كقول المتنبي: كفى بجسمي نحولاً أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني وقوله: ولو قلم ألقيت في شق رأسه ... وخط به ما غير الخط كاتب فالصب وإن تقلب على فراش الهجر أمدًا طويلاً، وأكل الوجد من لحمه حتى شبع، وشرب من دمه حتى ارتوى، لا يصل في نحافة جسمه إلى أن يسعه شق رأس القلم أو يخفى عن عين الناظر إليه، وإن كانت عشواء، وإنما هو الخيال أخذ يستصغر ذلك الجسم حتى ادعى في البيت الأول أن مخاطبته للناس هي التي تهديهم إلى مكانه فيبصرونه، ولولاها لبقي محجوبًا عن أبصارهم وإن وقف قبالتهم، وادعى في البيت الثاني أنه لو وقع في شق اليراعة، وانطلقت به اليد في الكتابة لاستمر الخط بحاله. ومنها: جعل الموجود بمنزلة المعدوم كقول المتنبي: ومطالب فيها الهلاك أتيتها ... ثبت الجنان كأنني لم آتها وصف نفسه بالإقدام على مواقع الردى واقتحام الأخطار بجنان ثابت وعزم لا يتزلزل، حتى تخيل لقلة المبالاة بها وعدم الفزع لملتقاها أنه لم يكن قد خاض غمارها، ورآها كيف تنشب أظفارها، وإنما نشأ هذا الخيال من جهة أن الخطوب المدلهمة لا يسلم من روعتها والدهشة لوقعتها في مجرى العادة إلا من حاد عن ساحتها، وجذب عنانه عن السير في ناحيتها. ومنها: تصوير الأمر بصورة حقيقة أخرى، ولها في هذا المقام أربعة أحوال: أحدها: تخيل المحسوس في صورة المحسوس كما في قول زهير: يجرون البرود وقد تمشت ... حميا الكأس فيهم والغناء تمشي بين قتلى قد أصيبت ... مقاتلهم ولم تهرق دماء فهذا الشعر يصور لك من دارت نشوة السكر والغناء برؤوسهم، فأجهزت على البقية من شعورهم، في صورة قتلى لم تهرق دماؤهم، بل زهقت نفوسهم بمثل خنق، أو سقاء سم دب دبيب الخمر في مفاصلهم. ثانيها: تخيل المعقول في صورة المحسوس كما في قول الشاعر: مررت على المروءة وهي تبكي ... فقلت علام تنتحب الفتاة فقالت كيف لا أبكي وأهلي ... جميعًا دون خلق الله ماتوا تصور المروءة في زي فتاة، فتسنى له أن يسند إليها البكاء ويعقد بينه وبينها هذه المحاورة. ثالثها: تخيل المعقول في معنى المعقول، وهذا كمن تخيل المذلة في معنى الكفر فقال: أمطري لؤلؤًا جبال سرنديب ... وفيضي أجبال تكرور تبرا منزلي منزل الكرام ونفسي ...

الأخبار والآراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأخبار والآراء (تفرق العرب واختلافهم في جزيرتهم) كان لما كتبناه في الجزأين الأخيرين بشأن العرب وجزيرتهم استحسان عظيم عند أولي الرأي والغيرة من قراء المنار، ومثله ما كتبناه في المجلد الحادي والعشرين في مسألة الخلاف بين الحجاز ونجد، تبين لنا ذلك من حديث من كلمنا في هذه المسألة في سورية؛ إذ كنا فيها عند نشر ذلك، ثم من كلمنا في مصر في هذا وذاك. وأكبر مصائب العرب بأئمتهم وأمرائهم أنهم قد ازدادوا تفرقًا وتعاديًا وعدوانًا وتقاتلاً بقدر اشتداد الحاجة إلى الاتفاق والتواد والتعاون فيما بينهم، وقد رأينا في جريدة القبلة المكية التي هي لسان حال حكومة الحجاز ورأيها مقالاً في التعادي والتقاتل بين العرب السعوديين ومن يتصل بهم من عرب نجد والكويت واليمن، وبين عرب عسير الإدريسيين وعرب اليمن العليا التابعين للإمام يحيى، وهذه الجريدة تلقي تبعة ذلك على الإمام ابن سعود وعلى السيد الإدريسي اللذين كان بينهما وبين الشريف والملك حسين من التعادي والتقاتل ما كان. نحن عرب نغار على جميع العرب، ومسلمون نفضل بلاد الحجاز على سائر بلاد العرب والعجم، ونهتم بأمر حفظها وصيانتها فوق اهتمامنا بسائر بلادنا وأوطاننا، وقد حرم الله تعالى مكة على لسان نبيه وخليله إبراهيم، والمدينة على لسان خاتم رسله وسيد ولد آدم محمد -عليهما وعلى آلهما الصلاة والسلام - فلا يجوز أن يقع في هذين الحرمين قتل ولا قتال، ولا أن يكونا موضعًا للمنازعات الحربية ولا السياسية؛ لأنه قد تفضي إلى الحرب. لما وقع التقاتل بين الحجازيين والنجديين اقترحنا على إمامي أقوى الحكومات الإسلامية العربية المجاورة للحرمين التصدي لإصلاح ذات البين، ولو بقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، ولكن مثل هذا الاقتراح لا ترجى فائدته بالإخلاص الذي يطلبه المسلمون الذين ليس لهم هوًى ولا منفعة بنصر إحدى الطائفتين على الأخرى، وإننا نخشى أن نرى الحرمين في يوم قريب ميدان قتال يتعذر إقامة ركن الحج في أثنائه، وتنتهك فيه حرمة بيت الله تعالى وحرمه، أو حرم رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فلعلنا في ذلك نعرض على أهل الرأي والحصافة والمكانة من المسلمين الاقتراح الآتي: * * * (اقتراح لصيانة الحرمين الشريفين من الحرب وعمرانها وأمنهما) للقطر الحجازي صفة لا يشاركه فيها قطر آخر من أقطار الدنيا، فكل قطر سواه لأهله الامتياز فيه على غيره بالحكم والتصرف في حكومته وأرضه ومرافقه، ولحكومته أن توالي وتعادي وتحارب وتعاهد من تشاء، وتمنع من دخوله عند الحاجة من تشاء، وتأذن فيه لمن تشاء بحسب قوانينها والقانون الدولي العام. وأما الحجاز ففيه حرم الله وحرم رسوله اللذين حرم الله فيهما ما لم يحرم في غيرهما، كأكل الصيد وترويعه وقطع الشجر وغيره من النبات، وشرع فيه من العبادة ما لم يشرعه في غيره، فأوجب على مسلمي جميع الأقطار الحج والعمرة فيه، وندب الرسول صلى الله عليه وسلم شد الرحال إلى مسجديه وجعله؛ أي: القطر - خاصًّا بالمسلمين كمعابدهم، لا يباح لغيرهم الإقامة فيه كما أوصى صلى الله عليه وسلم في مرض موته، وامتن الله على عباده بجعل جوار بيته حرمًا آمنًا، وجعله مثابة للناس وأمنًا وقال فيه: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} (آل عمران: 97) ، وقال: {وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) ، وقد ورد في التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين أن خلق الله فيه سواء، لا فرق بين المقيم بمكة وغيره ممن يحجه من سائر الأقطار، وأنه يجب على أهل مكة أن لا يمنعوا أحدًا من الحاج مشاركتهم في سكنى بيوتهم، وحرم بعض السلف أخذ الأجرة منهم، وكرهها بعض آخر، بل رووا في ذلك أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي، وتوفي من بعده أبو بكر وعمر، وما كانت رباع مكة تدعى إلا السوائب، من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، وكانوا ينهون أن يكون لبيوتها أبواب؛ لئلا يكون منعًا من دخولها، وليس هذا الاقتراح بالذي يتسع لنقل الروايات ومذاهب الأئمة فيها، وربما خصصنا له مقالاً بعد. وقد روي عنهم في تفسير الإلحاد والظلم في الحرم تشديد عظيم، فلم يخصوه بارتكاب ما حرمه الله هنالك مما حرمه في غيره وما لم يحرمه إلا فيه، بل جعلوا من معناه مضاعفة السيئات، وكون الصغيرة في غيره كبيرة فيه، حتى شتم الخادم، وكذلك الهم بالسيئة والعزم عليها ولو قبل الوصول إلى مكة، وفي الحديث: (احتكار الطعام بمكة إلحاد) ، وفي رواية: في الحرم، بدل مكة، وقال ابن عباس: (تجارة الأمير بمكة إلحاد) . قصر المسلمون فيما يجب عليهم للحجاز، فلم يقوموا به حق القيام، ولم ينفذوا وصية الرسول الأخيرة فيه، وهو المقصود الأهم من وصيته في جزيرة العرب، حتى زعم بعض العلماء أنه هو المراد بها، خلافًا للمتبادر من لفظ الحديث، ولا مراء في أن الحاجة إلى العناية به في هذا الزمان أشد من كل الأزمنة الماضية من وجوه كثيرة - ليس هذا محل شرحها - فأكثر مسلمي هذا العصر تابعون لحكومات غير إسلامية تهتم بحمايتهم وشؤونهم في سفرهم إلى الحجاز، فإذا وقع فيه قتال، فإنها تمنعهم من أداء فريضة الحج في أثنائه، وإذا كان لحكومة الحجاز ما لسائر الحكومات من حق قطع العلاقات الودية وإعلان الحرب على أي دولة يقع بينها وبينها ما يقتضي ذلك، فإن هذا يبيح للدولة المحاربة لها الهجوم على الحرمين والاستيلاء عليهما، أو حصرهما ومنع الأقوات وغيرها عنهما، كما أنه قد يدعو الدول الأجنبية إلى منع رعاياها المسلمين من السفر إليه للحج، ولا سيما إذا كانت معادية، وكل هذا ينافي مصلحة المسلمين العامة، وليس فيه منفعة دينية ولا دنيوية ترجح على المفاسد الكثيرة التي اكتفينا بالإشارة إليها عن شرحها وتفصيل القول فيها. وإنما المصلحة الإسلامية العامة أن يكون الحرمان الشريفان وسياجهما من البلاد قطرًا حرًّا مسالمًا لجميع الأمم والدول؛ ليكون مصونًا من الاعتداء عليه وانتهاك حرمته، ويكون ركن الحج من أركان الإسلام قائمًا أبدًا، بل ليتحقق وإنما جعل الله تعالى إياه حرمًا آمنًا، وكونه لجميع المسلمين سواء العاكف فيه والبادي، لا تعدي فيه ولا إلحاد. فنقترح على أهل الغيرة الإسلامية من مسلمي الحجاز وسائر الأقطار أن يسعوا إلى هذه المصلحة سعيها، وهي تتوقف فيما نرى على وضع نظام لحكومة الحجاز يبنى أساسه على جعل الحجاز قطرًا سلميًّا على الحياد، لا تكون حكومته خصمًا ولا عدوًّا لدولة من الدول، ولا حكومة من الحكومات، فلا تعتدي ولا يعتدى عليها، ولا تخاف ولا يخاف منها، وأن تسعى هذه الحكومة بمساعدة أهل النفوذ من مسلمي جميع الأقطار إلى حمل جميع الحكومات المجاورة لها وسائر الحكومات التي لها رعايا مسلمون يركبون متون البحار ويشدون الرحال إلى الحرمين الشريفين للنسك والعبادة فيهما، ونظن أن جميع الدول تجيب إلى هذا ولا تعارض فيه. نعرض هذا الاقتراح مجملاً على العالم الإسلامي، وفي مقدمته حكومة الحجاز وأشراف الحرمين وعلمائه؛ لبيان الآراء التفصيلية فيه بنشرها في الصحف الدورية، والمنار مستعد لنشر ما يأتيه فيه، وإن كان لا بد من التذكير ببعض التفصيل فيه فليكن اقتراح إنشاء محكمة إسلامية بمكة، يكون لكل قطر إسلامي حق تمثيله فيها بعضو من علماء الشرع المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية التي يستقبل المتبعون لها هذا البث في صلاتهم، ويحجونه لأجل محاكمة من يعتدي في تلك البلاد على مال غيره أو بدنه، أو عرضه أو شرفه، ومنه الطعن في المذاهب، فإن ضمان حرية كل منتم إلى مذهب من مذاهب المسلمين في تلك البلاد التي لهم حق أداء النسك فيها يستلزم أن لا يطعن أحد منهم في مذهب الآخر، وهو من أكبر الإلحاد في الحرم. بل إذا قيل: إنه ينبغي أن يكون لجميع الشعوب الإسلامية حق المشاركة في تأمين هذا القطر المقدس وحمايته، ومراقبة إقامة الشعائر فيه مع منع الظلم، كما أن عليهم أن يتعاونوا على كفاية أهله الحاجة، وإغناء أعرابه عن التعدي، وعلى نشر الدين والعلم فيهم، وجعل المسجدين الأشرفين مثابة للناس في العلم وفي العبادة جميعًا - إذا قيل هذا كله رجونا أن يتقبله جميع المؤمنين الصادقين بقبول حسن ويتكاتفوا على القيام به حق القيام. لعل الملك حسينًا يقبل هذا الاقتراح ويبادر إلى تنفيذه برأي كبار الشرفاء والعلماء في مكة المكرمة بأن يضموا له مشروع النظام وينشر في جريدة القبلة، وترسل منه نسخ إلى المدن الإسلامية الكبرى في الشرق والغرب والجنوب والشمال لأخذ رأي أهل العلم والخبرة فيه، ويضرب موسم الحج القابل موعدًا لتنفيذه بعد جمع الآراء وتمحيصها فيه بعرضها على لجنة تؤلف من خيار حجاج هذه الأقطار علمًا ورأيًا، وحينئذ يكون سعي هؤلاء المسلمين لموافقة الحكومات على حياده وأمنه مرجو النجاح في أقرب وقت. وإننا نرى أن هذا المشروع إذا تم يسهل ما اقترحناه في الجزء الذي قبل هذا من إنشاء مجلس تحكيم لما يقع من الخلاف بين أمراء العرب إذا وفقوا لعقد الاتفاق الذي يتمناه لهم كل عربي، بل كل مسلم يفقه الإسلام ويغار على مصالح أهله، بأن يكون هذا المجلس في مكة المكرمة، بل يترتب عليه تعاون جميع المسلمين على عمران الحجاز وتسهيل طرقه وتكثير موارده وتموين أهله ونشر العلم فيه، وغير ذلك من المصالح والمنافع، والله الموفق. * * * (كلمة للصحف الإسلامية) نرجو من حرفائنا الكرام أصحاب الصحف الإسلامية في جميع الأقطار أن يبينوا رأيهم في هذا الاقتراح، ويحثوا قراءهم على القيام بما يرونه فيه.

وثائق تاريخية في المسألة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وثائق تاريخية في المسألة العربية نشرنا في مجلدات المنار (19، 21) عدة وثائق وحوادث يصح أن يرجع إليها في تاريخ ما يسمى المسألة العربية، وسننشر في هذا المجلد وثائق أخرى من رسمية حقيقة أو حكمًا، وغير رسمية ما يعتمد في ذلك، ونذكرها بالعدد. (1) (كتاب من ملك الحجاز إلى نائب ملك الإنكليز في مصر) هذا الكتاب نشر في العدد 291 من جريدة القبلة الذي صدر بمكة المكرمة في 23 رمضان سنة 1338 الموافق 10 يونيو سنة 1920 بعد مقدمة وجيزة، ويليه تعليق عليه في الافتخار به من قبل الجريدة، ونحن ننقله عن هذا العدد، وإن نشر بعده مرة أخرى، وهذا نص ما جاء فيه تحت عنوان: (الأسى والحزن) : إذا تأملنا ما هو واقع في ساحل البلاد على البحر المتوسط وشماليه مما تنقله الصحف وترويه البرقيات من الحوادث والبواعث تجد أن قولنا: (الأسى والحزن) لا يفي عن تعبير تلك الحالة، وليس لنا ما نقوله عنها إلا: ينتقم الله من أنور وطلعت وإخوانهم ومن نحا نحوهم وآلهم وشيعتهم، لنا ولكل سكان الدولة التركية من سلطانها إلى راعي غنمها بما جروه على تركيا؛ بإلقائها في هاويتهم الحاضرة التي لا يعلم شأن نتيجتها والتي تنقل لنا تفاصيلها صحف العالم بأسره مما يجعلنا في دعة وسكون، أن لا نتكلم أو نبحث عما كانت ترمينا به سهام الأغراض على اختلاف نزعاتها مما يجعلنا أن نقول: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} (التوبة: 105) . ولحسن الحظ متعنا بالوقوف على صورة تحرير من مولانا المنقذ [1] بتاريخ 20 ذي القعدة سنة 1336 نفس علينا مآله شيئًا مما نجده عن حالة البلاد العربية، وما يقال عن قيامها وخروجها عن المهالك (الأنورية) والجنايات (الطلعتية) وهذه صورة الكتاب: (صورة تحريرنا لفخامة نائب الملك بمصر بتاريخ 20 ذي القعدة سنة 1336) ما رأيته خصوصًا بهذا الأثناء من اعتناء فخامتكم وتأكيداتها في إزالة أسباب دواعي سوء التفاهم الذي لا أرتاب بأن المقصود بذلك الاعتناء هو صيانة تأثر حسيات مخلصكم خاصة، لذا ولما تكونه المواد البسيطة أيضًا من ذلك المعنى رأيت أن أتبين من حكومة جلالة الملك في الأساس المقرر مع عظمتها في النهضة، وما بنيت عليه من مواد الاتفاق المقدم بطيه بيانها بأني ما طلبت للبلاد أمام حكومة جلالة الملك ما طلبته من المواد التي تعهدت عظمتها بها رغبة مني في تأسيس حكومة، أو تشكيل دولة لأستأثر بحاكميتها أو حرصًا على جاهها أو رياستها لكن عندما دعتني بريطانيا إلى ما دعتني إليه، وعلمت أن مقاصدها بهذا أيضًا تأمين مصلحة المسلمين عامة والعرب خاصة، لم يسعني إلا الإجابة وطلبي أقله تلك المواد المؤدية في اعتقادي لما يأتي: أولاً: لحفاظة الكيان للعالم الإسلامي بالنظر لما حل وما سيحل بتركيا. ثانيًا: صيانة العظمة البريطانية من الاستهداف مما سترمى به عكس مقاصدها. ثالثًا: سلامتي من الاتهام بالتواطؤ معها ضد الأساس المقصود بالنهضة. نعم، إني لم أجد من جناب الفاضل الأديب المستر أستورس عند اجتماعي بحضرته في السنة الأولى بجدة، ثم بعده بحضرة الشهم الهمام السير مارك سايكس، ثم في السنة الماضية بالقومندان الهمام هوغورت الموقر ما يشير إلى ما يخالف أو يخل بتلك المقررات، غير أن ما في طبيعة مشروعنا وتتماته الحياتية من الرقة وما يتصادف من بعض حالات يستدعي سياقها زيادة تعين الأمر وتأكد الحقيقة عن الحدود فقط، وإلا باقي المواد فإنا لنعجز عن أداء شكر الوفاء بها شكرًا يملأ الخافقين، خصوصًا أمر الإعانات عما لو فهمت الغلط في مقرراتنا المذكورة أساسًا أو حدث ما يوجب تعديلها الأمر الذي لا أقول: إنه يمس كيان العالم الإسلامي. ولكني أظن، وبعض الظن إثم أنه لا يخلو من شيء من ذلك. هذا على فكري الخصوصي، فمتى أضفنا عليه تظاهر عجزي بعدم حصول ما كان يؤمل من النتائج؛ يتحتم علي الانسحاب من الأمر والتنازل عنه؛ لاعتقادي الشخصي أن تعديل مقرراتنا المذكورة بصرف النظر عما في إخلاله بالغايات المقصودة الأساسية، وعرضتنا لحذر موادنا الثلاثة آنفة البيان وطمس صحيفة تاريخي، فهو يزيل ويسقطني من ثقة واعتماد بلادي وأقوامي الأقربين حينما يظهر لهم عكس تلك المقررات التي أعلنتها لهم، وصرحت بها شفاهًا وتحريرًا في ظرف هذه المدة، وأسست عليه الأعمال، وأكون خدعت نفسي وغششتكم يا أصدقائي بما وراء هذا من اضطراب البلاد بالفتن والثورات ونحوها مما لا يمكن لي معه حتى الاستفادة لذاتي، وما يزيل حسن كل ظن حكومة جلالة الملك بي، وأكيد إخلاصي يجبرني أن أقول من الآن: إن مبادي هذه الخطرية على وشك التحسس بها بالنسبة للطلبات المتكررة المختلفة عن أمرهم بإعلان استقلال بلادهم، ولم أجد ما أدفعهم به إلا قولي: إن استقلالي هو استقلال عموم أنحاء البلاد. ولكنهم يقيموا الحجة على دفعي هذا بأوجه أخر، وعليه فإن كان ولا بد من التعديل، فلا لي سوى الاعتزال والانسحاب، ولا أشتبه في مجد بريطانيا أن يتلقى هذا منا، إلا أنه أمر يتعلق بالحياة لا لقصد عرضي، ولا لفكر غرضي، وإنها لا ترتاب في أني وأولادي أصدقاؤها الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء. ثم تعينوا البلاد التي تستحسن إقامتنا فيها بالسفر إليها في أول فرصة، وإن رأت ذلك، ولكن مشاكل الحرب الحاضرة تقتضي بتأجيله إلى ختامها، فحقوق الوفاء والجميل يفرض علينا الثبات أمام ما سيتضاعف علينا من التهمات ونحوه من العموم مما لا مقاومة لدينا أمامها إلا حسن النية، فالأمر إليها، أما عطف الأمر وتعليقه بمؤتمر الصلح، فالجواب عليه من الآن بأن لا علاقة لنا به، ولا مناسبة بيننا وإياه حتى ننتظر منه سلبًا أو إيجابًا، ولو قرر المؤتمر المذكور أضعاف مقرراتنا، وكان ذلك عن غير وساطتكم وقبلناها، فنكون من المطرودين من رحمة الباري جل شأنه الرقيب على قولي هذا، الذي أتوسل إليه بكل آلائه أن يتولانا جميعًا بعنايات رأفته الأحدية، وقبول ما أقدمه لفخامتك في الختام من جزيل احتشامي هو من سجايا شيمكم , انتهى. * * * (القبلة) بالطبع إنا لا ندري ما كان من الرد على هذا التحرير السامي، ولا عن مواد الاتفاق، ولكنا ندري أنه بأدنى تأمل بسيط يتضح أن هذا التحرير لم يدع نقطة مادية أو معنوية تتعلق أساسًا بأساس (النهضة) وسائر محتوياتها، وما بنيت عليه في ذاتها وما يتعلق بالعالم سواء في الماضي أو الحال أو الاستقبال، لا، بل بالاختصار نقول: إنه أحصى ذرات كل ما يتعلق بها بسائر الأوجه. فماذا عسى أن يقول القائلون في هذا التنبؤ السياسي ونزاهة الضمير عن الذاتيات والشخصيات في كل ما يتعلق بنفس (النهضة) أو بالعالم؟ وكيف لا نقول بهذا التنبؤ في التحرير العالي، وهو صادر منذ سنتين تقريبًا؟ فليتأمل المتأملون، وفي هذا فليتنافس المتنافسون، ولمثله فليعمل العاملون. نعم، كيف لا نقول ذلك ونحن نرى الأمم الأخرى تتباهى بالجزئية مما احتواه تحرير مولاه المنقذ؟ فلا عجب على (القبلة) أن تقول: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: 61) . ومتى كانت الأعمال على مثل هذا الأساس فلا علينا من الوسواس والخناس من الجنة والناس اهـ تعليق جريدة القبلة) اهـ. (المنار) نشرنا كل ما تقدم بحروفه، ومتى عادت حرية النشر إلى ما كانت عليه نقول في هذه الوثيقة التاريخية وأمثالها كلمتنا التي نظن أنها لا تخطر لأحد من محزري جريدة القبلة على بال. 2 - 3 - 4 (حديث الأمير فيصل، رواية حكومة مكة عن معاهدتها مع إنكلترة، رواية الوزارة البريطانية فيها) جرى حديث للأمير فيصل مع صاحب جريدة المفيد الدمشقية في الشام يتضمن ذكر بعض الوثائق الرسمية بين والده ملك الحجاز وبريطانية العظمى، نشرته هذه الجريدة في عددها الذي صدر بدمشق في 26 جمادى الأولى سنة 1338 (الموافق 15 شباط (فبراير) سنة 1920) بعنوان: (حديث سياسي مع سمو الأمير فيصل، وثائق رسمية لم تنشر حتى الآن) ، وهذا نصه: (مقدمة جريدة المفيد) لا ريب في أن كل عربي تهمه مصلحة البلاد العامة يتطاول إلى الوقوف على سير السياسة العربية، ويود معرفة ما قام به سمو الأمير فيصل، وما هو موقف سموه تجاه السياسة الأوربية وجلالة والده الملك المعظم والأمة العربية جمعاء، والسوريين خاصة؟ وقد تشرف أحد صاحبي هذه الجريدة يوسف بك حيدر بمقابلة سموه، فجرى بينهما حديث تضمن من الوثائق السياسية ما لا مندوحة من نشره، وإحاطة القراء بدقيقه وجليله، وإلى القراء ما دار بينهما: ابتدأ أحد صاحبي الجريدة فقال للأمير: رأينا يا صاحب السمو في العدد المؤرخ بثامن جمادى الأولى 1338 من جريدة القبلة الصادرة في مكة المكرمة إعلانًا رسميًّا يقول به والدكم صاحب الجلالة الهاشمية أن لديه معاهدات من الحلفاء الكرام تقضي باستقلال البلاد العربية جميعها، وأن جلالته ينشرها للملأ عند الحاجة، فهل لسموكم أن توضحوا لنا ما هي هذه المعاهدات وما تحوي؟ سمو الأمير: إن المعاهدات التي يذكرها صاحب الجلالة ما رأيتها، وقد طلبت منه مرارًا أن يجعلها سلاحًا لي إذا كانت موجودة، ولا أعلم ما سبب تأخيره إرسالها إليّ، واكتفاء جلالته بإرسال صورة اتفاقية يقول: إنها نسخة من تلك المعاهدة، وها أنا أعطيك تلك الصورة ويمكنك نشرها، وهذا نصها بحروفها: (صورة ما تقرر مع بريطانيا العظمى بشأن النهضة) [*] 1- تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، وتكون حدودها شرقًا من بحر فارس، ومن الغرب بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات، ومجتمعه مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس ما عدا مستعمرة عدن، فإنها خارجة عن هذه الحدود، وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود بأنها تحل محلها في رعاية وصيانة تلك الحقوق وتلك الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد. 2- تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي مداخلة كانت بأي صورة كانت في داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعد بأي شكل يكون، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد بعض الأمراء فيه تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع ذلك القيام لحين اندفاعه، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أي: لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية. 3- تكون البصرة تحت أشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة الجديدة المذكورة تشكيلاتها المادية، ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود يراعى فيه حالة احتياج الحكومة العربية التي هي حكمها قاصرة في حضن بريطانيا، وتلك المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال. 4- تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية من الأسلحة ومهماتها والذخائر والنقود مدة الحرب. 5 - تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو ما هو مناسب من النقاط في تلك المنطقة؛ لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد لعدم استعدادها اهـ. قال سمو الأمير: ولكني مع الأسف حينما كنت في لوندرة قدمت هذه الصورة إلى رئاسة الوزارة، فأنكرت وجودها كل الإنكار، وقالت بأنه لا يوجد عهد ولا كتاب كعهد ينطق بمثل هذ

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار النيل والفرات وتعدية التعزية وأهل الفترة (س4-6) من صاحب الإمضاء في بلدة - العلاقمة - مصر حضرة الأستاذ العلامة صاحب الفضيلة منشئ مجلة المنار الغرّاء. سلام عليكم ورحمة الله، أما بعد، فهذه رسالة نذكركم فيها بما أرسلناه إلى فضيلتكم سابقًا راجين أن تجيبونا عما تتضمنه من الأسئلة بما نعهده فيكم من شافي الجواب وفصل الخطاب. الأول: روى الصحيحان من حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يحدث عن الجنة: إن بها نهرين ظاهرين هما النيل والفرات، وإن منبعهما في أعلى سدرة المنتهى، ونهرين باطنين ينبعان من أصل السدرة، وقد أصبح مما لا ريب فيه أن كلاًّ من النيل والفرات له منابع خاصة، فلا نستطيع التوفيق بين الحديث وبين ما أثبته العلم الحديث، حتى لقد قال بعض الناقدين في الحديث من العلماء: إنه موضوع؛ إذ ليس بعد العيان من دليل، وقوى ذلك اضطراب روايات الحديث خصوصًا ما روي عن أم هانئ أنها صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم بات عندها، ومعلوم أنه لم يكن قبل الإسراء عشاء، مع اتفاق أهل السير على أنها لم تسلم إلا يوم الفتح أو بعده. الثاني: نقلتم في أحد المجلدين (الرابع أو الخامس) عن إمام اللغة الشيخ الشنقيطي رحمه الله أن عزى من التعزية بالميت لا تستعمل إلا متعدية بـ (عن) خلافًا للمشهور من تعديتها بالباء، ولكن العرب قد استعملوها متعدية بالباء، قال شاعرهم في رثاء محمد بن يحيى (بلسان الندى والجود) : فقالا أقمنا كي نعزى بفقده ... مسافة يوم ثم نتلوه في غد الثالث: يكاد أهل السنة يتفقون على أن أهل الفترة ناجون، وإن غيروا وبدلوا وعبدوا الأصنام، فكيف يتفق هذا مع ما ورد في صحيح مسلم من عدم الإذن للنبي صلى الله عليه وسلم في الاستغفار لأمه، وما ورد في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم لأعرابي: (إن أبي وأباك في النار) ، وهل ما يروونه في تعذيب حاتم وامرئ القيس وغيرهما صحيح يعول عليه أم لا، مع ملاحظة عدم قرينة تدل على تأويل الأب بالعم في الحديث السابق؟ ولماذا لم يكن أبواه صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة الناجين؟ هذا، ونرجو من فضيلتكم عدم إرجائها حتى لا تحوجونا إلى تذكير آخر، واقبلوا منا في الختام التحية والمودة الخالصة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الأخ المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد عطية قورة الجواب عن الأول: خروج النيل والفرات من سدرة المنتهى وكونهما من الجنة: في حديث أنس عن مالك بن صعصعة أنه صلى الله عليه وسلم لما ذكر سدرة المنتهى قال: (وإذا بأربعة أنْهُر: نهران باطنان، ونهران ظاهران. فقلت: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات) ، وفي رواية أخرى لحديث المعراج عند البخاري (فإذا في أصلها أربعة أنهار) وفي رواية (يخرج من أصلها أربعة أنهار) ، وقد اختلفت الروايات في سدرة المنتهى، ففي بعضها أنها في السماء السادسة، وفي بعضها أنها في السابعة، وفي أخرى أنها في الجنة، وقال القاضي عياض: هي في الأرض. وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع إليها، وفي بعضها أنها هي رفعت إليه حتى رآها، وفي رواية شريك لحديث المعراج في كتاب التوحيد من صحيح البخاري: أنه رأى في السماء الدنيا نهرين يطردان، فقال له جبريل: هما النيل والفرات. فروايات حديث المعراج مضطربة المتن في هذه المسألة وغيرها، كثيرة التعارض والاختلاف كما بيناه منذ سنين. والظاهر أن من أسباب الاضطراب والاختلاف في هذه الأحاديث روايتها بالمعنى، ولم ير جمهور العلماء المتقدمين حاجة إلى ردها بالاضطراب، ولا تأويل هذه المسألة فيما أولوا، قالوا: لأنها لا تنافي العقل. وفاتهم أنها تخالف ما هو أقوى من دلالة العقل الذي يكثر غلطه في النظريات وهو الحس، فإن الألوف من الناس رأوا منبع النيل والفرات بأعينهم، وفي مصر كتاب مطبوع فيه رسم بحيرات النيل التي ينبع منها ومجراه من أوله إلى مصبه في البحر المتوسط. قال النووي في شرح مسلم: قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها. زاد الحافظ في شرح البخاري: وهما بالمشاهدة يخرجان من الأرض، فيلزم منه أن يكون أصل سدرة المنتهى في الأرض. ورد النووي قول القاضي بظاهر معنى الحديث، وكونه لا يمنعه عقل ولا شرع، ثم ذكر النووي في شرح حديث أبي هريرة عند مسلم في المسألة: (سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة) ، إن سيحان وجيحان في بلاد الأرمن، الأول نهر أذنه (أطنه) والثاني نهر المصيصة، ثم نقل عن القاضي عياض في تأويل الحديث أن الإيمان عم بلاد هذه الأنهار، وأن الأجسام المتغذية بمائها صائرة إلى الجنة، ثم قال: والأصح أنها على ظاهرها، وأن لها مادة من الجنة. واحتج بحديث المعراج اهـ، وقال بعضهم: إن المراد بكون النيل والفرات من الجنة هو التشبيه لمائهما بماء الجنة في عذوبته وحسنه وبركته؛ أي: فوائده على طريق المبالغة، وهذا لا تكلف فيه إذا فسر به حديث أبي هريرة بأنها من الجنة، ولكن الاستعارة لا تظهر في روايات أحاديث المعراج إلا بتكلف، ولعل سبب ذلك روايتها بالمعنى، ويسهل الخطب على القول بأن حديث المعراج كان بيانًا لرؤيا منامية، أو مثالاً لمشاهدة روحية والله أعلم. *** مسألة تعدي التعزية بالباء: البيت الذي ذكر السائل في رثاء محمد بن يحيى البرمكي ليس من كلام العرب، بل لا أصدق أنه من كلام أهل ذلك العصر إلا إذا وجدته مرويًّا في كتب المتقدمين، على أن الباء فيه لا يتعين أن تكون للتعدية، بل الظاهر أنها للسببية، أي: أقمنا لكي نعزى بسبب فقده، على أن معاجم اللغة ذكرت الفعل لازمًا لا متعديًا بـ (عن) ولا بالباء، وللباء وجه قياسي كما علمت. *** أهل الفترة وأبوا النبي صلى الله عليه وسلم في نجاة أهل الفترة خلاف مشهور، وقد استثنى المثبتون لها من ورود النص بأنهم من أهل النار في الأحاديث التي ذكرها السائل وغيرها، وإلا كانت هذه الأحاديث حجة عليهم، وقد شرحنا مسألة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في تفسير {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} (الأنعام: 74) الآية، فيراجع في المجلد العشرين من المنار أو المجلد السابع من التفسير. *** كعب الأحبار س7 من صاحب الإمضاء في (زنجبار) حضرة العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سيدي سؤالنا عن العلامة كعب الأحبار الذي نسمع بأحاديثه الكثيرة، وكان عالمًا عند اليهود، ثم أسلم على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاش إلى زمن معاوية، ومات وعمره 200 سنة، أهو شخص حقيقي أو وهمي؟ ... ... ... ... ... ... ... ... صلاح ناجي الكسادي (ج) كعب الأحبار شخص حقيقي معروف في كتب الحديث وتواريخها، وقد اختلفوا في تاريخ إسلامه، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: والراجح أن إسلامه كان في خلافة عمر. وروي عنه أن سبب تأخر إسلامه أن أباه كان كتب له كتابًا من التوراة وأمره بالعمل به دون غيره، وختم على سائر كتبه، وعهد إليه ألا يفض الخاتم، فلما رأى ظهور الإسلام وانتشاره فض الخاتم، فرأى في الكتب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته فأسلم، ونقل عن ابن سعد أنه مات سنة 32، وعن ابن حبان في الثقات أنه مات سنة 34، وأنه بلغ مائة وأربع سنين، وقد عدلوا روايته، وذكروا أنه روى عنه بعض الصحابة ابن عمر وأبو هريرة وابن عباس وابن الزبير ومعاوية، ولكن قال فيه معاوية: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب. رواه البخاري عنه في صحيحه، وأوّله بعضهم أن المراد عدم وقوع ما يخبر به لا اختلاقه الكذب. *** أفضل النبيين والسؤال بحقه (س8 و9) ومنه حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا المحترم زيد في مجده، سيدي، السلام عليك ورحمة الله، وبعد، فالمرجو من فضيلتكم أن تبين لنا الجواب عن السؤال الآتي وهو: قد نص القرآن الكريم على أفضلية بعض النبيين على بعض في الدرجات، ولم نر فيه آية تدلنا صريحًا على من هو أفضلهم، وما هو نوع التفضيل، فإذا كان الأفضل محمدًا، فما الدليل؟ وبماذا كان أفضل؟ ثم إذا دعا أحد هكذا: (اللهم إني أسألك بحق أو بجاه محمد سيد المرسلين أن تسهل لي رزقي أو تغفر لي ذنبي) ، مثلاً، فهل هذا الدعاء جائز شرعًا، أو يعد ذلك شركًا؟ أفيدونا أثابكم الله. (ج) : هنا سؤالان لا سؤال واحد، وإننا نجيب عنهما باختصار لما سبق لنا في موضوعهما من التفصيل في عدة مواضع: فضل نبينا على سائر النبيين عليه وعليهم الصلاة والسلام: الفضل في اللغة: الزيادة، وأفضل الشيئين أو الشخصين مثلاً ذو الزيادة في الصفات والمزايا والخصائص والأعمال الشريفة التي من شأنهما الاشتراك فيها، فتكون موضوع التفاضل، فالأنبياء منهم المرسلون وغير المرسلين، والمرسلون أفضل بما خصوا به من الرسالة، وقد كان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة بشرع مؤقت يليق بحالهم واستعدادهم للهداية، حتى استعد جميع البشر للهداية الكاملة العامة، فبعث الله محمدًا خاتم النبيين للناس كافة، وأكمل به دينه الذي بعث به من سبق من رسله، وأتم نعمته عليهم، فكان رحمة عامة للعالمين، وإنما تكمل الأشياء بخواتيمها، فكان أفضلهم بعموم بعثته وشمول هدايته وكمال الدين على لسانه ويده وحفظ كتابه وآيته، وهذه مزايا تتعلق بموضوع الرسالة، والقرآن ناطق بكل منها، ولهذا قال في تفسير قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) أنه هو المراد بالبعض، والتلميح قد يختار على التصريح إذا كانت قرائن الحال معينة له، وقال شيخنا الأستاذ الإمام: إن نكتة ذكره بين موسى وعيسى عليهم الصلاة في قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ} (البقرة: 253) هي التنبيه لكونه هو الوسط، كما قال: إنه جعل أمته وسطًا، وخير الأمور أوساطها. وقد كانت شريعة موسى مشتملة على المبالغة والشدة في الأحكام الجسدية والأمور المادية، وتعاليم عيسى مشتملة على المبالغة في أحكام الزهد والمواعظ الروحية، فجاءت شريعة محمد وتعاليمه وسطًًا في كل منهما، كما بيناه بالتفصيل في مواضع من التفسير وغير التفسير من أبواب المنار، ولما كانت أمم الرسل المعروفة في زمن بعثته محصورة في أمة موسى وعيسى، كان ذلك من أقوى القرائن اللفظية على أن من رفعه الله درجات هو النبي الذي بعث بعدهما؛ لأن حمله على نبي انقرضت أمته ولم يبق أثر لشريعته بعيد وغير مفيد، وتتنزه بلاغة القرآن وهدايته عن ذلك. سؤال الله بحق خاتم رسله وجاهه سؤال الله تعالى ودعاؤه هو روح العبادة وركنها الأعظم، والقاعدة التي تلي توحيد الله، وعدم إشراك أحد معه في العبادة هي أن عبادته تكون بما شرعه سبحانه فقط؛ أي: اتباعًا لا ابتداع فيه، ولم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله المتبعة التي صحت بالنقل والعمل عن السلف الصالح أن يسأل سبحانه شيئًا بحقوق أحد من خلقه عليه، وإن كان من عباده المكرمين الذين جعل لهم حقًّا عليه جزاءً على أعمالهم، ولا بجاهه عنده،

ما وراء القبر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما وراء القبر حديث مع أديصن عن الحياة والموت قابل كاتب أمريكي المستر أديصن العالم الأمريكي المشهور واستطلعه رأيه في نبأ نشرته الصحف الأمريكية، وفحواه أنه يبحث ويفتش لعله يفوز برفع الحجاب عن حقيقة ما تصير إليه نفس الإنسان بعد الموت، ويؤيد ذلك بالدليل العلمي، وقد نشرت خلاصة هذا الحديث في مجلة (السينتفك أميركان) المعروفة بتدقيقها العلمي، وقدمته بمقدمة من عندها قالت فيها: (إذا كان رجل في مقام لودج أو أديصن يهتم بموضوع ما، فإن الجمهور يبالغ في الاهتمام بما يقول وبما يرجو أن يفعل، وعليه؛ فلما أذيع منذ أيام أن أديصن يجرب تجارب لمناجاة الموتى فسحت الصحف مجالاً واسعًا لهذا النبأ يفوق ما يستحق بالنسبة إلى الدرجة العليا التي بلغتها أعمال أديصن من التقدم العلمي، وقد أصابت فيما فعلت؛ لأن القراء اهتموا مزيد الاهتمام بمجرد علمهم أن أديصن يشتغل بهذه المسألة) إلى أن قالت: وأهم ما في الأمر أن أديصن رغم الأراجيف التي قد تذيعها الصحف عن هذه المسألة وعلاقته بها يسعى ليعود بنا إلى الموقف الصحيح في أمر الحياة بعد الموت وبقاء الأنفس وإمكان مخاطبة الموتى. وهذه صورة الحديث، قال الكاتب: إن أديصن الذي استنبط المصباح الكهربائي والفونوغراف والصور المتحركة وبطرية النكل والحديد والدينامو الكامل وغيرها من المكتشفات والمخترعات التي تدخل أعمالنا اليومية سيوجه سعيه وجهده إلى أمر يفوق كل اكتشاف واختراع بما لا يقاس، فإن في العالم نحو 1500 مليون نسمة سيدركهم الموت عاجلاً أو آجلاً، ولكنهم يجهلون كل الجهل مصيرهم بعده، ومثل ذلك يقال عن مجيئنا إلى هذه الدنيا، وعليه؛ فالحياة والموت لا يزالان سرًا من الأسرار ولغزًا من الألغاز التي لم تفتح بها على مخلوق. منذ بضعة أسابيع شاع أن هذا المخترع العظيم يعد طريقة أو آلة لمخاطبة الذين انتقلوا من هذا الوجود إلى وجود آخر أو عالم آخر، فنشرت صحف أميركا وأوربا أن توماس أديصن اندمج في صفوف الروحانيين الذين بينهم الآن كثيرون من كبار العلماء والمؤلفين والمخترعين والطبيعيين والمهندسين ورجال الدين وغيرهم، ووصف الكتاب الفرنسويون الواسعو الخيال آلة أديصن بأنها محطة تلفونية أو مكتب تلغراف أو ما أشبه يقصدها الناس ليخاطبوا منها أرواح أحبائهم وأصدقائهم في العالم الآخر بطريقة عاجلة أكيدة. وليس في الناس أحد أشد أسفًا من المستر أديصن على إذاعة أخبار مثل هذه، فقد قال لي في حديثي معه: إني لا أستطيع تصور شيء يسمونه الروح، تصور شيئًا لا ثقل له ولا صورة مادية ولا حجمًا، وبعبارة أخرى تصور غير شيء، أنا لا أستطيع أن أعتقد أن الأرواح يمكن أن ترى في أحوال معينة وتحرك الموائد أو تقرع عليها أو تعمل أعمالاً سخيفة مثل هذه، وكل ما قيل من هذا القبيل حديث خرافة. وأقول هنا إنه إنما قابلني لإزالة ما علق بالأذهان من الإشاعات التي شاعت عن غرضه من البحث والتنقيب في هذا الموضوع، ولا تزال الآلة التي شاع أنه يصنعها في دور التجربة والامتحان، وقد طلب مني أن أعلن ما يأتي، قال: فكرت منذ مدة في اختراع آلة أو أداة يمكن أن يستخدمها أو يؤثر فيها الذين غادروا هذا الوجود إلى وجود آخر أو عالم آخر، والآن اسمع وعِ ما أقول لك، أنا لا أدّعي أن شخصياتنا تنتقل إلى وجود آخر أو منطقة أخرى، ولا أدّعي علم شيء في هذا الموضوع؛ لأني لا أعلم شيئًا فيه، ولا أحد من الناس يعلم، ولكني أدَّعي أنه يمكن صنع آلة بالغة من الدقة مبلغًا بحيث إنه إذا كان أناس في عالم آخر يريدون مخاطبتنا في هذا العالم فإن هذه الآلة تكون أوفى بهذا الغرض من تحريك الموائد والنقر عليها أو غير ذلك من الوسائل السخيفة المعروفة. والحق يقال: إن سخافة هذه الوسائل هي التي تحملني على الشك في صحة مناجاة الموتى التي يدعونها، فلست أدري لم يضيع الأشخاص الذين في العالم الآخر وقتهم في تحريك مثلث من الخشب على مائدة عليها حروف الهجاء، وما غرضهم من تحريك الموائد؟ هذا كله يظهر لي أنه من الأعمال الصبيانية حتى لا أستطيع أن أبحث فيه بعين الجد والاهتمام، وعندي أنه إذا شئنا أن نتقدم تقدمًا حقيقيًّا في البحث العقلي، وجب أن نقدم عليه بالآلات العلمية وبالطرق العلمية كما نفعل في الطب والكهربائية والكيمياء وغيرها. وأما ما أريد أن أعمله فهو أن أجهز الباحثين في المباحث العقلية النفسية بآلة تلبس عملهم لباسًا علميًّا، وهذه الآلة ستكون مثل مصراع أو تشبه مفتاحًا صغيرًا يستطيع به رجل واحد ضعيف القوة أن يفتح مصراعًا تدار به آلة قوتها 50 ألف حصان، وستكون آلتي على هذا المثال حتى إن أصغر قوة تكبر بها كثيرًا فتساعدنا على بحثنا، ولا أقول أكثر من ذلك عن ماهيتها، وقد مضت عليّ مدة وأنا أشتغل بتفاصيلها، وكان يعاونني في عملي هذا صديق فتوفي منذ حين، ولما كان يعلم ما أنا ساع إليه فالواجب أن يكون أول من يقدم على استعمال هذه الآلة إن استطاع ذلك. واعلم أني لا أدعي أني أعلم شيئًا عن بقاء الشخصيات بعد الموت، ولا أعد بمخاطبة الذين انتقلوا من هذا الوجود، وإنما أقول: إني ساع في تجهيز الباحثين النفسيين بآلة قد تساعدهم في عملهم كما يساعد المكرسكوب رجال الطب في مباحثهم، وإذا عجزت هذه الآلة عن أن تكشف لنا شيئًا خارق العادة فإني أفقد كل ثقة وإيمان ببقاء الشخصيات بعد الموت كما نعرفه في هذا الوجود. ومما يقال عن المستر أديصن أنه لا يصدق المذاهب المعروفة في الحياة والموت؛ لأنه يعتقد أنها فاسدة الأساس. قال لي باسطًا مذهبه فيهما: عندي أن الحياة كالمادة غير قابلة للفناء، فقد كان في هذا العالم مقدار معين من الحياة على الدوام، وسيبقى هذا المقدار كما هو على الدوام، فإنك لا تستطيع خلق الحياة ولا إبادتها ولا مضاعفتها. وفي اعتقادي أن أجسامنا مركبة من ملايين من الكائنات المتناهية في صغرها، وكل منها حي مفرد ويرتبط بعضها ببعض لتكوين الإنسان. ونحن نقول عن أنفسنا: إن كلاً منا شخص واحد قائم بنفسه، ونتكلم عن الهرة أو الفيل أو الحصان أو السمكة كأن كلاً منها فرد قائم برأسه. ولكني أرى أن طريقة التفكير هذه فاسدة الأساس، فإن هذه الأشياء كلها تظهر أنها بسيطة مفردة؛ لأن الكائنات الحية التي تتألف منها أصغر من أن ترى حتى بأعظم المكبرات. وقد يعترض على هذا الرأي بأنه إذا كانت هذه الكائنات الصغيرة إلى هذا الحد فلا يمكن أن تكون مؤلفة من أعضاء مختلفة تستطيع القيام بالأعمال التي سأذكرها. فأقول في الرد على ذلك: إنه لا حد لصغر الأشياء، كما أنه لا حد لكبرها واكتشاف الألكترون خير جواب على مثل هذا الاعتراض، فقد ظهر لي بالحساب أنه يمكن وجود حي متقن التركيب والتنظيم مؤلف من ملايين من الألكترونات الصغيرة التي لا ترى بما نعرف من المكبرات. وهناك دلائل كثيرة تدل على أننا نحن الخلائق البشرية يتصرف كل منا تصرف جماعة من الأحياء لا تصرف حي واحد، وهذا ما يحملني على اعتقاد أن كلاًّ منا يحتوي على ملايين من الأحياء، وأن أجسامنا وعقولنا تمثل أفعال الكائنات التي تتألف منها. ولننظر الآن في السبب الذي يحملني على القول بأنه لا بد أن تكون أجسامنا مؤلفة من هذه الكائنات. خذ بصمة إبهامك كما يفعل البوليس في بصم أباهم المشبوهين، ثم أزل خطوط إبهامك بحرقها بالنار، فمتى نما الجلد ثانية تجد أن خطوطه لم تتغير ألبتة عما كانت عليه قبل احتراقه، وقد امتحنت ذلك بنفسي حتى تحققته، هذا سر من الأسرار ما فتئ مغلقًا حتى الآن، تقول لي: إن هذا عمل الطبيعة، وهو جواب يراد به التفصي لا غير؛ إذ لا معنى له، بل هو وسيلة لإسكات السائل بذكر كلمة فارغة مكان الجواب. إن كلمة (طبيعة) ما أقنعتني قط، أما جوابي أنا فهو أن الجلد لم ينبت ثانية، كما كان أولاً بمجرد الاتفاق، بل إن هناك من وضع رسوم النمو الثاني وعني بمطابقته لرسوم النمو الأول من كل وجه وأنت لا تعلم شيئًا من تلك الرسوم، فإن دماغك لم يشترك في هذا العمل، وهنا تدخل الكائنات المشار إليها وتشترك في العمل، وأنا أعتقد جد الاعتقاد أنها تحوك نسيج جلد الإبهام بمزيد العناية، مستعينة على رسم التفاصيل الدقيقة بذاكرتها العجيبة. ولزيادة الإيضاح أقول: لنفرض أن كائنًا من سكان المريخ هبط إلى هذه الأرض، ولنفرض أن بصره ليس دقيقًا كبصرنا، وأن أصغر شيء يمكنه أن يراه بعينيه هو جسر (كُبْري) مثل جسر بروكلن فهو إذًا لا يرى أجسامنا، وقد يحسب الجسر المذكور شيئًا طبيعيًّا، كما نحسب نحن العشب أو الرمل أو المعادن وغيرها من الأشياء الطبيعية، ولنفرض أنه هدم جسر بروكلن وذهب ثم عاد بعد سنين، فمر من هناك فوجد جسرًا جديدًا مكان القديم وعلى مثاله، فهل يقوده الفكر الصحيح إلى افتراض أن الجسر الجديد نما بنفسه مكان القديم، وعلى مثاله، أو إلى افتراض أنه مد ثانية بفعل فاعل عاقل، لا ريب أن الفرض الثاني أقرب إلى العقل. هذا هو الموقف الذي يجب أن نقفه نحن بإزاء الكائنات الحيوية، والمسألة كلها مجرد افتراض وتخمين كما لا يخفى، فقد يكون 95 في المائة من تلك الكائنات التي تتألف أجسامنا منها عمالاً، والخمسة الباقية مديرة للعمل وقد يكون غير ذلك، ومهما يكن من الأمر فإن مجموعها هو الذي يكون شكل أجسامنا الطبيعي وصفاتنا العقلية وشخصياتنا وما أشبه ذلك. وهذه الكائنات هي الحياة بعينها، وهي لا تفتأ تعمل وترمم أنسجة أجسامنا وتشرف على وظائف أعضائنا، فإذا أصيب الجسم بطارئ أفضى إلى موته كأن يكون مرضًا عضالاً أو عارضًا أو هرمًا، فإن هذه الكائنات تفارقه ولا تترك وراءها إلا بناءً خاويًا خاليًا، ولما كانت عمالاً لا تكل ولا تمل، فإما أن تدخل جسم إنسان آخر أو تبدأ العمل في صورة أخرى من صور الحياة وأشكالها، وسواء كان هذا أو ذاك فإن هذه الكائنات محدودة العدد، وهي نفسها عملت كل شيء في عالمنا هذا، ولكن تعدد التراكيب التي تتألف منها هو الذي أوقعنا في الخطأ، فحسبنا أن لكل مولود حياة جديدة. وهذه الكائنات خالدة لا تموت، فإنك لا تستطيع إفناءها، كما لا تستطيع إفناء المادة، وجهد ما هناك أنك تستطيع تغيير صورة المادة لا غير، فقد كان مقدار الذهب والحديد والكبريت والأكسجين وغيرها في بدء العالم كما هو الآن بلا زيادة ولا نقصان، نعم إننا نستطيع التغيير في تركيب مركبات هذه العناصر، ولكننا لم نظفر بتغيير نسب بعضها إلى بعض. وهذا هو حال الكائنات الحيوية، فإننا لا نستطيع إفناءها بل نغير صورها وأشكالها، وقدرتها متعددة الضروب حتى يصعب علينا تمييز أعمالها في كل الأحوال. وعليه لم يستطع العلماء حتى الآن أن يرسموا حدًّا بين الأشياء الحية وغير الحية، وقد يكون أن هذه الكائنات تمتد إلى الجماد وتعمل فيه، وإلا فما الشيء الذي يجعل البلورات تتكون على أشكال هندسية محددة؟ والآن نأتي إلى مسألة الشخصية، أنت لكربورا (اسم الكاتب) وأنا أو أديصن؛ لأن في كل منا مجموعًا من الكائنات يختلف عن مجموع الآخر، فقد أثبت الطب باثنتين وثمانين عملية جراحية شهيرة عملت حتى الآن أن مركز شخصيتنا هو في تلفيف من تلافيف الدماغ اسمه تلفيف (بروكا) ، ومن العقل والصواب أن نفرض أن مركز مقر الكائنات التي تدير حركاتنا وتشرف عليها إنما هو في ذلك التلفيف، فهو الذي يشعرنا بالتأثيرات العقلية وبشخصيتن

تاريخ فنون الحديث ـ 4

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

_ تاريخ فنون الحديث (4) الجوامع العامة (أ) منها جامع المسانيد والألقاب لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي [1] جمع فيه بين الصحيحين ومسند أحمد وجامع الترمذي، وقد رتبه أحمد بن عبد الله المكي [2] . (ب) ومنها جامع المسانيد والسنن لأقوم سنن، للحافظ إسماعيل بن عمر الوشي الدمشقي المعروف بابن كثير [3] جمعه من الصحيحين وسنن النسائي وأبي داود والترمذي وابن ماجه ومن مسانيد أحمد والبزار وأبي يعلى والمعجم الكبير للطبراني. (ج) ومنها مجمع الزوائد للحافظ أبي الحسن علي الهيتمي [4] جمع فيه زوائد مساند أحمد وأبي يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة وموجود منه بدار الكتب ثماني مجلدات، وقد شرع بطبعه من زهاء 20 سنة ولعله تم. (د) ومنها مصابيح السنة للإمام حسين بن مسعود البغوي [5] جمع فيه 4484 حديثًا من الصحاح والحسان ويعني صاحبها بالصحاح ما أخرجه الشيخان، وبالحسان ما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما، وما كان فيها من ضعيف أو غريب بينه، ولا يذكر ما كان منكرًا أو موضوعًا. وقد اعتنى العلماء بها عناية عظيمة فشرحوها شروحًا كثيرة، وكملها محمد بن عبد الله الخطيب وذيل أبوابها، فذكر الصحابي الذي روى الحديث، والكتاب الذي أخرجه وزاد على كل باب من الصحاح والحسان فصلاً ثالثًا عدا بعض الأبواب، وكان ذلك سنة 737 فجاء كتابًا حافلاً وأسماه مشكاة المصابيح، وقد شرح المشكاة كثيرون. (هـ) ومنها جمع الجوامع في الحديث لعبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي جمع فيه بين الكتب الستة وغيرها، وقد قصد في كتابه جمع الأحاديث النبوية بأسرها، قال المناوي: إنه مات قبل أن يتمه، ولقد اشتمل كتابه على كثير من الأحاديث الضعيفة، بل الموضوعة، وقد هذب ترتيبه علاء الدين علي بن حسام الهندي المتوفى بمكة سنة 975 في كتابه كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، وقد اختصر السيوطي كتابه في الجامع الصغير وزوائده. (و) ومنها إتحاف الخيرة بزوائد المسانيد العشرة لأحمد بن أبي بكر البوصيري [6] أفرد فيه زوائد مسانيد أبي داود الطيالسي والحميدي ومسدد وابن أبي عمرو وإسحاق بن راهويه وابن أبي شيبة وأحمد بن منيع وعبد بن حميد والحارث بن محمد بن أبي أسامة وأبي يعلى الموصلي، أي ما زاد من أحاديثها على الكتب الستة وهو مرتب على مائة كتاب. *** الكتب الجامعة لأحاديث الأحكام (أ) منها الإلمام في أحاديث الأحكام لابن دقيق العيد [7] ، جمع فيه متون الأحكام وشرحه، ولكن لم يكمل شرحه، ويقال: إنه لم يؤلف في هذا النوع أعظم منه. (ب) ودلائل الأحكام من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن شداد الحلبي [8] تكلم فيه على الأحاديث المستنبطة منها الأحكام في الفروع، ويقع في مجلدين. (ج) ومنتقى الأخبار في الأحكام للحافظ مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني المعروف بابن تيمية الحنبلي [9] انتقاه من صحيحي البخاري ومسلم، ومسند الإمام أحمد، وجامع أبي عيسى الترمذي، والسنن للنسائي، وأبي داود، وابن ماجه، واستغنى بالعزو إلى هذه المسانيد عن الإطالة بذكر الأسانيد، وإنه لكتاب قيم شرحه الإمام المجتهد الشوكاني محدث اليمن [10] شرحًا مسهبًا بلغ ثمانية أجزاء جمع فيه من فقه الحديث ما لعله يعز عليك في كتاب آخر، وقد أسمى شرحه نيل الأوطار، طبع بمصر ونفدت نسخه. (د) وبلوغ المرام من أدلة الأحكام، للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني [11] وممن شرحه شرحًا وجيزًا صديق حسن خان [12] بلغ شرحه مجلدين، طبع ونفدت نسخه. وقد اشتمل بلوغ المرام على ألف وأربعمائة حديث من أحاديث الأحكام، وهو كتاب عظيم القدر طبع في مصر وفي الهند مع حواشي للسيد أحمد حسن الدهلوي المعاصر، بيّن فيها علل الأحاديث المعلولة وخلاصة المعنى. *** كتب أخرى من الكتب النفيسة في الحديث (المختارة) لمحمد بن عبد الواحد المقدسي [13] التزم فيها الصحة، فصحح أحاديث لم يسبق إلى تصحيحها، ولم يتم الكتاب، وقد رجحه بعض الحفاظ على مستدرك الحاكم، ومنها (السنن) كتابا الكبير والصغير، كتابان لأحمد بن حسين البيهقي [14] قيل: لم يصنف في الإسلام مثلهما، قال ابن الصلاح: ما تم كتاب في السنة أجمع للأدلة من كتاب السنن الكبرى للبيهقي، وكأنه لم يترك في سائر أقطار الأرض حديثًا إلا وقد وضعه في كتابه. ومنها بحر الأسانيد للإمام الحافظ الحسن بن أحمد السمرقندي [15] جمع فيه مائة ألف حديث، رتبه وهذبه ولم يقع في الإسلام مثله. ومنها الترغيب والترهيب للحافظ المنذري [16] ، وهو من أحسن الكتب طريقة في جمع الحديث وبيان درجته، وليت كتب الحديث كلها على نمطه، وهو مطبوع. *** ترتيب كتب الحديث في الصحة قد بينا فيما سلف درجة كل كتاب من كتب السنة الشهيرة في الصحة، وها نحن أولاء ندلي إليك بفصلٍ جمّ الفائدة عظيم العائدة ينجلي لك فيه ترتيب كتب السنة من حيث الصحة لتكون على بينة من أمرها، فنقول وبالله توفيقنا: قد قسم الجمهور الحديث الصحيح بالنظر إلى تفاوت الأوصاف المقتضية للصحة إلى سبعة أقسام كل قسم منها أعلى مما بعده، فالأول ما أخرجه البخاري ومسلم ويسمى بالمتفق عليه، والثاني ما انفرد به البخاري، والثالث ما انفرد به مسلم، والرابع ما كان على شرطهما مما لم يخرجه واحد منهما، والخامس ما كان على شرط البخاري، والسادس ما كان على شرط مسلم، والسابع ما صححه أحد الأئمة المعتمدين، وترجيح كل قسم من هذه الأقسام السبعة على ما بعده إنما هو من قبيل ترجيح الجملة على الجملة، لا ترجيح كل واحد من أفراده على كل واحد من أفراد الآخر، فيسوغ أن يرجح حديث في مسلم على آخر في البخاري إذا وجد موجب الترجيح، ولقد كتب الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله المُحدّث الدهلوي [17] في كتابه (حجة الله البالغة) فصلاً في طبقات كتب الحديث نورد لك خلاصته، قال: طبقات كتب الحديث أربع: فالطبقة الأولى منحصرة بالاستقراء في ثلاثة كتب: الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم. والطبقة الثانية كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين، ولكنها تتلوها، كان مصنفوها معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ والتبحر في فنون الحديث، ولم يتساهلوا فيها، وتلقاها من بعدهم بالقبول، واعتنى بها المحدثون والفقهاء، وذاعت بين الناس كسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي، وهذه الكتب مع الطبقة الأولى اعتنى بأحاديثها رزين بن معاوية العبدري السرقسطي في تجريد الصحاح، وابن الأثير في جامع الأصول، وكاد مسند أحمد يكون من هذه الطبقة. والطبقة الثالثة مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم وفي زمنهما وبعدهما، جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف والمعروف والمنكر والغريب والشاذ والخطأ والصواب والثابت والمقلوب [18] ، ولم تشتهر في العلماء ذلك الاشتهار وإن زال عنها اسم النكارة المطلقة، ولم يتداول ما تفردت به الفقهاء كثير تداول ولم يفحص عن صحتها وضعفها المحدثون كبير فحص، ومنها ما لم يخدمه لغوي لشرح غريب، ولا فقيه بتطبيقه على مذاهب السلف، ولا محدث ببيان مشكله، ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله، ولا أريد المتأخرين المتعمقين، وإنما كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث فهي باقية على استتارها وخمولها، كمسند أبي يعلى، ومصنف عبد الرازق، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة، ومسند عبد بن حميد، ومسند الطيالسي، وكتب البيهقي والطحاوي والطبراني، وكان قصدهم جمع ما وجدوه من الحديث لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل. والطبقة الرابعة كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين الأوليين، وكانت في المجاميع والمسانيد المختلفة فنوهوا بأمرها، وكانت على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون، ككثير من الوعاظ المتشدقين وأهل الأهواء والضعفاء، أو كانت من آثار الصحابة والتابعين، أو من كلام الحكماء والوعاظ خلطها الرواة بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - سهوًا أو عمدًا، أو كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح، فرواها بالمعنى قوم صالحون لا يعرفون غوامض الرواية، فجعلوا المعاني أحاديث معروفة أو كانت مفهومة من إشارات الكتاب، والسنة جعلوها أحاديث منفصلة برأسها عمدًا، وكانت جملاً شتى في أحاديث مختلفة جعلوها حديثًا واحدًا بنسق واحد، ومظنة هذه الأحاديث كتاب الضعفاء لابن حبان والكامل لابن عدي وكتب الخطيب وأبي نعيم والجوزقاني وابن عساكر وابن النجار والديلمي، وكاد مسند الخوارزمي يكون من هذه الطبقة، وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفًا محتملاً، وأسوؤها ما كان موضوعًا أو مقلوبًا شديد النكارة، وهذه الطبقة مادة كتب الموضوعات لابن الجوزي، أما الطبقة الأولى والثانية فعليهما اعتماد المحدثين، وأما الثالثة فلا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث، نعم ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد، وقد جعل الله لكل شيء قدرًا، وأما الرابعة فالاشتغال بجمعها أو الاستنباط منها نوع تعمق من المتأخرين، وإن شئت الحق فطوائف المبتدعين من الرافضة، وغيرهم يتمكنون بأدنى عناية أن يلخصوا منها شواهد مذاهبهم، فالانتصار بها غير صحيح في معترك العلماء بالحديث اهـ. ولأبي محمد علي بن أحمد بن حزم الظاهري [19] مقالة في ترتيب كتب الحديث، جرى فيها على ما ظهر له في ذلك، ذكرها في كتاب مراتب الديانة، وقد أورد السيوطي خلاصتها في كتاب التقريب، فقال: وأما ابن حزم فإنه قال: أولى الكتب الصحيحان، ثم صحيح سعيد بن السكن [20] والمنتقى لابن الجارود [21] والمنتقى لقاسم بن أصبغ [22] ، ثم بعد هذه الكتب كتاب أبي داود [23] وكتاب النسائي [24] [*] ، ومصنف قاسم بن أصبغ، ومصنف الطحاوي [25] ، ومسند أحمد [26] ، ومسند البزار [27] ، وأبي بكر [28] وعثمان [29] ابني أبي شيبة، ومسند ابن راهويه [30] ، والطيالسي [31] ، والحسن بن سفيان [32] ، والمستدرك للحاكم [33] وكتاب ابن سنجر [34] ، ويعقوب بن شيبة [35] ، وعلي بن المديني [36] ، وابن أبي عزرة [37] ، وما جرى مجراها من الكتب التي أفردت لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بعدها الكتب التي فيها كلامه وكلام غيره. ثم ما كان فيه الصحيح فهو أجل مثل مصنف عبد الرزاق [38] ، ومصنف ابن أبي شيبة، ومصنف بقي بن مخلد القرطبي [39] ، وكتاب محمد بن نصر المروزي [40] ، وكتاب ابن المنذر [41] ، ثم مصنف حماد بن سلمة [42] ، ومصنف سعيد بن منصور [43] ، ومصنف وكيع بن الجراح [44] ، ومصنف الرزبالي، وموطأ مالك،وموطأ ابن أبي ذئب [45] ، وموطأ ابن وهب [46] ، ومسائل أحمد بن حنبل، وفقه أبي عبيد [47] ، وفقه أبي ثور [48] ، وما كان من هذا النمط مشهورًا كحديث شعبة [49] ، وسفيان [50] ، والليث [51] ، والأوزاعي [52] ، والحميدي [53] ، وابن مهدي [54] ، ومسدد [55] ، وما جرى مجراها، فهذه طبقة موطأ مالك، بعضها أجمع للصحيح منه، وبعضها مثله، وبعضها دونه، ولقد أحصيت ما في حديث شعبة من الصحيح فوجدته ثمانمائة حديث ونيفًا مسندة، ومرسلاً يزيد على المائتين، وأحصيت ما في موطأ مالك وما في حديث سفيان بن عيينة فوجدت في كل واحد منهما من المسند خمسمائة ونيفًا مسندة، وثلاثمائة مرسلاً ونيفًا، وفيه نيف وسبعون حديثًا قد ترك مالك نفسه العمل بها، وفيها أحاديث ضعيفة وهَّاها جمهور العلماء. *** تاريخ علوم الحديث الأخرى إلى هنا كانت العناية موجهة إلى تاريخ الحديث من حيث الكتب الج

الخيال في الشعر العربي ـ 3

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ الخيال في الشعر العربي (3) حال المعنى والتخييل قد يصوغ الشاعر المعنى لأول الخطاب في صورة خيالية، فلا يدركه إلا من صفت قريحته ورقت حاشية ألمعيته ككثير من الأشعار الواردة على طريق المعميات والألغاز، أو من سبق إليه ما يهديه إلى المراد، ويساعده على فهمه من قرينة حال أو مقال كبعض المحاورات التي يقصد فيها المتخاطبان إلى إخفاء الغرض وكتمه عمن يصغي إلى حديثهم أو يطلع على رسائلهم. وقد يصرح بالمعنى ثم يدخل به في طريق التخييل، وهذا إما أن يخرج الصريح بالتخييل فيفصل المعنى، ويضع بإزاء كل قطعة منه صورة خيالية كما قال العتابي يصف السحاب: والغيم كالثوب في الآفاق منتشر ... من فوقه طبق من تحته طبق تظنه مصمتًا لا فتق فيه فإن ... سالت عزاليه قلت: الثوب منفتق إن معمع الرعد فيه قلت منخرق ... أو لألأ البرق فيه قلت محترق مثل الغيم الضارب في الأفق بالثوب المنشور، ثم أخذ يقرن كل حال من أحواله بما يقابلها من أحوال الثوب، فجعل إمساكه عن المطر مظنة الصحة والمتانة، وانسكاب الغيث من خلاله منبثًّا بتفتقه، ومعمعة الرعد إعلانًا بانخراقه، ووميض البرق شظايا من اللهب تؤذن باحتراقه، وإما أن يستوفي المعنى بالصراحة، ثم يأتي بمثاله الخيالي متواصل الأجزاء، وهذا كقول بعضهم: رأيتكم تبدون للحرب عدة ... ولا يمنع الأسلاب منكم مقاتل فأنتم كمثل النخل يشرع شوكه ... ولا يمنع الخراف ما هو حامل استقصى المعنى الصريح وهو تظاهرهم بالأهبة للحرب وقعودهم عن قتال عدوهم وافتكاك ما سلب من حقوقهم، ثم ضرب له المثل على نسق واحد بالنخل يشرع نصالاً مسنونة من الشوك، كالمتأهب للذود بها عما يحمل من الثمار، فيعمد الخراف لها ويجتنيها بأجمعها دون أن يناله ذلك الشوك بأذى. ومن أبدع ما جاء على هذا النمط قول ابن رشيق القيرواني: رجوتك للأمر المهم وفي يدي ... بقايا أمني النفس فيها الأمانيا وساوفت لي الأيام حتى إذا انقضت ... أواخر ما عندي قطعت رجائيا وكنت كأني نازف البئر طالبًا ... لأجمامها أو برجع الماء صافيا فلا هو أبقى ما أصاب لنفسه ... ولا هي أعطته الذي كان راجيا وإما أن يصرح لك بالمحل الذي يجعله مناطًا للحديث عنه، ثم يسوق القول كله على طريق التخييل كقول بعضهم: إني وإياك كالصادي رأى نهلاً ... ودونه هوة يخشى بها التلفا رأى بعينيه ماء عز مورده ... وليس يملك دون الماء منصرفا فقد أراك أول الشعر أنه يرد الحديث عن حاله مع المخاطب، ثم اطرد في مجال التخييل الذي أفاد به؛ إذ الحاجة تحثه على القرب منه، والخطر المعترض في سبيله ينصح له بالإحجام عنه، ومن أبدع الوصف المنسوج على هذا المثال قول شرف الدين التيفاشي: أما ترى الأرض من زلزالها عجبًا ... تدعو إلى طاعة الرحمن كل تقي أضحت كوالدة خرقاء مرضعة ... أولادها در ثدي حافل غدق قد مهدتهم مهادًا غير مضطرب ... وأفرشتهم فراشًا غير ما قلق حتى إذا أبصرت بعض الذي كرهت ... مما يشق من الأولاد من خلق هزت بهم مهدهم شيئًا تنبههم ... ثم استشاطت وآل الطبع للخرق فصحت المهد غضبى وهي لافظة ... بعضًا على بعض من شدة النزق أسباب جودة الخيال لا مشاحة أن النفوس تختلف بفطرتها في صحة الذوق وقوة التذكر فيكون من أسباب التفاوت في جودة الخيال ما هو عائد إلى الفطرة، والغرض في هذا المقام إنما هو البحث عن الأمور التي تؤثر في جودة الخيال وتبسط في نطاقه من خارج، ومدارها على أمرين: أحدهما: تردد النظر في مظاهر المدنية، فإن امتلاء حافظة الشاعر من المناظر المختلفة والصور التي لا تدخل تحت حصر تجعله أغزر مادة حتى إذا عرض له معنى اقتضى الحال إيراده في طريقة الخيال لا يعوزه متى التفت إلى حافظته أن يلاقيه منها ما يساعده على العمل بسهولة، ثم إنه لغزارة مادته وسعة مجاله تكون مخيلته أكثر عملاً في إنشاء المعاني وإبداعها، وكثرة العمل مما تترشح به هذه القوة النفسية، فيكون صاحبها أقدر على صناعة التخيل وأرسخ فيها ممن كانت بضاعته مزجاة وحافظته في إملاق. ومن جهة أن غزارة المادة تساعد على كثرة العمل الذي هو الإبداع، وكثرة العمل تقوى بها النفس في صناعة التخييل أمكن للشاعر المدني أن يفوق الشاعر البدوي أو القروي في تخييل معان اشتركوا في العلم بالعناصر التي تنتزع منها الصور الخيالية. يبلغ تأثير المدنية في تهذيب المخيلة إلى أن يكون الفرق بين عملها في حال البداوة وعملها بعد أن تحضن صاحبها الحضارة أوضح من نار على علم، فهذا علي بن الجهم الذي قال للخليفة: أنت كالكلب في حفاظك للعهد ... وكالتيس في مراعي الخطوب هو الذي يقول: فقلن لنا نحن الأهلة إنما ... نضيء لمن يأوي إلينا ولا نقري بيد أنه قال البيت الأول أيام كان يسكن البادية، وقال البيت الثاني بعدما نزل بغداد وتراصف في حافظته من الصور والمعاني ما رقت به حاشية طبعه وجعل قريحته تنسج من المعاني البديعة برودًا ضافية. ثانيهما: الحرية؛ إذ لا شبهة أن الاستبداد الأعمى يطبع الناس على الجبن ويلقي في أفئدتهم رهبة تحملهم على أن يجعلوا بينهم وبين الأقوال التي تسخط لها الحكومة القاسية حاجزًا لا يدنون منه، فيضيق بذلك مجال الشاعر، وربما تنكب الخوض في الاجتماعيات، حذر الوقوع في السياسيات، ومن ذا ينكر أن الخيال الذي يسخره صاحبه في كل غرض ويطلق له العنان في كل حلبة يكون أبعد مرمى وأحكم صنعًا من خيال الشاعر الذي حصرته السياسة في دائرة ورسمت له خطة لا يفوتها؟ ولقد كنت أعرف ناسًا شبوا تحت سلطة تكره للأديب أن يفتح لهاته في الأحوال السياسية، فصرفوا معظم حياتهم في التردد على الغزل والمديح والرثاء، وفاضت عليهم قرائحهم في هذه الأغراض بمعان رائقة، ولما سمح الوقت بالكلام في مقاصد اجتماعية أو سياسية وقف بهم الخيال في عقبة كؤود، أو أتوا بها في نسج واهٍ وهيئة متخاذلة. فالخيال حر في عمله لا تملك السلطة المستبدة مرده، ولكنها تمنعه من أن يتجول على مراكب الألسنة والأقلام، وهذا ما يثبط الشاعر عن إطلاق خياله للعمل، ولا يرخي له العنان إلا في أغراض يسعه الحال لأن يخاطب بها الناس نطقًا أو كتابة. فذانك سببان لأن يكون الخيال بديع الصنع في كل غرض يتوجه إليه، وههنا أمر آخر إذا اتفق للشاعر حال تصديه للنظم في غرض يكون له أثر جلي في سهولة التخيل وبعد الرمية إلى المعاني الغامضة وهو الإحساس والتأثر. فمن الشعراء من يتكلم عن مشاهدة وتأثر نفسي، كأن يرى البطل يلقي بنفسه في مواقع الخطوب، أو العالم كيف يتدفق بالحكمة البالغة، أو الجواد كيف يبسط يده بالنوال فيشعر بإعظامه ويأخذ في مديحه وتمجيده، ويرى الجبان كيف تصفر أنامله من ذكر الحرب، أو الجاهل كيف يتمضمض باللغو أو الباطل، أو البخيل كيف يشد على الدينار رباطًا فوق رباط فيشعر في نفسه بمهانته ويتصدى لهجائه، ويموت من يعز عليه من قريب أو صديق أو أستاذ، فيشعر بالتفجع والأسف، وتتفجر قريحته برثائه، وتحل بصديقه فاجعة فيحس بالإشفاق عليه، فيأخذ في تسليته وتهوين وقعها عليه بالعزاء الجميل، ويدخل الروضة الفيحاء فيتمتع بمرأى أزهارها وتلحين بلابلها، فيهب في صدره ابتهاج وأنس، ويسترسل في وصفها وذكر ما راقه من مشاهدها، ومن الشعراء من يسوقه إلى الشعر باعث طمع أو خوف أو حياء، ومن الجلي أن الإحساس والتأثر مما يفتح أمام الخيال طرقًا قلما يبصر بها من يحمل نفسه على الشعر المجرد الطمع أو الخوف أو الحياء، فانظر إن شئت مثلاً إلى قصيدة أبي الحسن الأنباري التي يقول في مطلعها: علو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إحدى المعجزات فتجد فيها تخيلات فائقة، والذي ساعده على ذلك فيما أحسب أنه أنشأها عن تفجع وإعظام بالغ؛ لأنه رثى فيها الوزير ابن بقية يوم قتله عضد الدولة مصلوبًا، فنظمه لها، وهو لا يرتجي من ورائها فائدة، بل يوجس في نفسه الخيفة من أن يناله عضد الدولة بالعقوبة عليها، يشعر بأن الباعث له على إنشائها التلهف والإخلاص. ولو نظرت إلى القصائد التي يخاطب بها الشعراء الملوك تهنئة بانتصار أو فتح، وقستها بالقصائد التي يخاطبونهم بها تهنئة بعيد مثلاً، أو بمولود أو بناء قصر لوجدت الأولى أجود خيالاً؛ لأن انتصار الدولة مما يبذر في نفوس الأمة فرحًا، ويثير فيها عاطفة إجلال لمن جرى النصر على يده، وليست الثانية بهذه المكانة، إذ طلوع العيد على الأمير وازدياد ولد له، أو تشييده لقصر لا تهتز له نفس الشاعر حتى تطير به في جو الخيال، ويقتنص ما يلذه الذوق من بدائع الأفكار، وانظر إن رمت الوثوق بهذا إلى قصيدة أبي تمام التي يهنئ فيها المعتصم بفتح عمورية: السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب فإنه ذهب بمعانيها مذاهب خيالية لا تطلع له على ما يحاكيها في القصائد التي لم يستفزه لها غير ما يرجوه من النوال. وكذلك الشاعر الذي يريد أن يتبرأ من جناية تعزى إليه، أو يحاول أن يزيل ما في نفس السلطان من ضغينة أو نية سيئة، فإنه يبتكر من المعاني ما لا يبتكره في القصائد التي يمدحه بها وهو مقبل عليه. ربما يخوض الشاعر في غرض إنما دعاه إليه مجاراة غيره ومباراته في مضمار البيان، فيبلغ مبلغ من انساقوا إليه عن إحساس وعاطفة نفسية، ويقع على تخيلات جيدة، ولكن أمثال هذه التخيلات تنهال على ذي التأثر النفسي بدون تعسف حينما يحتاج الآخر إلى أن يحث إليها قريحته ويجاذبها وهي كالمتعاصية عنه. *** بماذا يفضل التخييل عرف مما سبق أن التخييل يدور على انتقاء مواد متفرقة في الحافظة، ثم تأليفها وإبرازها في صورة جديدة، فيرجع فضله والبراعة فيه إلى ثلاث مزايا: إحداها: أن يكون وجه المناسبة بين تلك الجواهر، أعني المواد المؤلفة منها صورة المعنى، غامضًا، فمزية من يتخيل الكواكب أزهارًا باسمة في روضة ناضرة دون مزية من يقول: وضوء الشهب فوق الليل باد ... كأطراف الأسنة في الدروع فإن المشابهة بين الكواكب والأزهار لا تغيب عن كثير من الناس، أما التشابه بين النجوم وبين أطراف الأسنة اللامعة عند نفوذها في الدروع لا يحوم عليه إلا خيال بارع. ولا فضل لمن يرى الشمعة فيحاكيها بالرمح إذا قسته بمن ينظر إليها فيقول: كأنها عمر الفتى ... النار فيها كالأجل فإن محاكاتها بالرمح لا تكاد تخفى على ذي بصر، وإنما الخيال الفائق هو الذي ينتقل منها إلى العمر والأجل حيث يشعر بالمناسبة الدقيقة بينهما، وهو أن الأجل يدنو من الإنسان حيناً فحينًا، ويتقاضى عمره رويدًا رويدًا إلى أن تتقلص عنه أشعة الحياة كلهيب الفتيلة يدب في جسم الشمعة وينتقصها قليلاً قليلاً إلى أن يأتي على آخرها، وتذهب في الجو هباءً منثورًا. ثانيتها: أن يكون التخييل مبنيًّا على ملاحظة أمور متعددة، فالصورة التي يراعى في تأليفها ثلاثة معان مثلاً تكون أرجح وزنًا وأنفس قيمة من الصورة التي تبنى على رعاية معنيين، فمن الشعراء من يصور لك الرمح شهابًا ثاقبًا، فهل يحق لك أن تساويه بمن يخيله لك، ورؤوس الأعداء منصوبة على طرفه بالغصن يوم يكون مكللاً بالثمار؟ كما قال ابن عمار يخاطب المعتصم صاحب المرية: أثمرت رمحك من رؤوس كماتهم ... لما رأيت الغصن يعشق مثمرًا يقف الناس في تصوير الحرب بمعنى الرحى عند قولهم: دارت رحى الحرب، وكان عمرو بن كلثوم أبسطهم في هذا التخييل باعًا حيث يقول في وصف الحرب: متى ننقل إلى قوم رحاها ... ي

الأهل والعيال

الكاتب: المغربي

_ الأهل والعيال وهو فصل من كتاب (الأخلاق والواجبات) للمغربي ذكرنا في الفصول السابقة واجبات الشخص منفردًا، ونريد أن نذكر في الفصول التالية واجباته مجتمعًا مع غيره من أبناء جنسه، وأول اجتماع له من هذا القبيل اجتماعه مع أهله وعياله. وأهله: زوجته، وعياله: أولاده، وإذا كانوا أغنياء انضم إليهم خادم يكفيهم مؤونة العمل، ويقال للمجموع المؤلف من هؤلاء الأفراد في اللغة العربية: (عيِّل الرجل) - بتشديد الياء - وفسروه بقولهم: هم أهل بيته الذين يتكفل بهم ويمونهم من أزواج وأولاد وأتباع، وقد اصطلح كتاب هذا العصر على تسميتهم بالعائلة، مع أن كلمة (عائلة) في أصل وضعها اللغوي بمعنى فقيرة تأنيث (عائل) فقير، و (العيلة) الفقر، و (عال) افتقر. وبحث الواجبات العائلية يتضمن بيان ما يجب على الشخص نحو أفراد عائلته المذكورين، ويدخل فيهم أحيانًا من يعوله من غيرهم كأبيه وأمه أو يتيم يكفله أو امرأة تأوي إلى كنفه، وتعيش على نفقته. وقد وجدت العائلة على وجه البسيطة من يوم وجدت المرأة بجانب الرجل، وولدت له أولادًا، والأعمال التي يراد لها كل من الرجل والمرأة في عائلتهما تختلف باختلاف حال الأمة التي يعيشان فيها بداوة وحضارة، رقيًّا وانحطاطًا، ويغلب في الأمم المتحضرة أن تكون وظيفة المرأة إدارة الأعمال البيتية، كما تكون وظيفة الرجل العمل خارجه، فهو يشتغل ويتعب ويستثمر أتعابه ثم يلقي بهذه الثمرات إلى زوجته، ويتكل في هنائه العائلي وراحته المنزلية عليها، فالزوجة هي الرئيسة العاملة في المنزل، أما الزوج فهو بمثابة رئيس شرف له، وقد جاء التصريح بذلك في الحديث الشريف مذ قال - صلى الله عليه وسلم -: (كل نفس من بني آدم سيد: فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها) . فانظر كيف جعل سيادة البيت للمرأة وخصها بها، وإن كان لرجلها سيادة أخرى لا تنكر، وإذا كانت المرأة هي سيدة البيت ورئيسته كان من أول واجبات الزوج أن يحسن انتخاب تلك الرئيسة، فيختارها من ذوات العقل والدين والتربية الصالحة، فإنها إذا توفرت فيها هذه الشروط أصبح المنزل فردوس الرجل، ومظهر كرامته في قومه، والمنبت الخصب لذريته وأولاده، ومن ثم كان للمنزل والعائلة المقام الأول في نظر علماء الاجتماع، حتى جعلوا نظام الحياة المنزلية أساسًا لنظام الحياة الاجتماعية في الأمة كلها، فإذا فسد النظام الأول فسد النظام الثاني، وانحطت الأمة على أثره، والعكس بالعكس. قالوا: وإذا دخلت إحدى المدن كان لك أن تحكم على ارتقاء العائلة فيها بمجرد نظرك إلى حالة سكانها وما هم عليه من الأطوار والأخلاق في أسواقهم وحوانيتهم ومحافلهم وقهاويهم وسائر مظاهرهم الاجتماعية، فإذا رأيتهم هنا على نظام أدبي ثابت حكمت باستحكام النظام الأدبي في بيوتهم وعائلاتهم؛ لأن هذا أصل ذاك، وإلا فلا. قلنا آنفًا: إن (المنزل) هو المغرس الأول للذرية والأولاد، فهم ينقلون منه إلى المغرس الثاني - أعني (المدرسة) - ومنها إلى ساحة التجارب والعمل والسعي في خدمة أمتهم ووطنهم، فإذا طابت تربة المغرس الأول (العائلة) طابت إذ ذاك ثمار أبناء الأمة، وغزرت محصولات عقولهم وأخلاقهم، وإن خبثت تلك التربة خبثت الثمار، وقبحت الآثار، وساءت الأخبار. وقال بعض علماء الاجتماع المعاصرين: إن أحقر المنازل إذا تولت رئاسته امرأة مدبرة بشوش كان ملؤه الراحة والهناء والسعادة، وكان فيه أشرف العواطف العائلية، كان عزيزًا لدى الرجل لما يستلزمه من دواعي السرور، كان ملاذًا للقلب وملجأً من عواصف الحياة، كان خير مكان للراحة من عناء الأشغال ومتاعب الحياة، كان في الشدة مسليًا وفي الرخاء فخرًا، وفي كل حال نعيمًا، فالمنزل الصالح إذن خير معاهد التربية لا للشباب وحده بل للكهل أيضًا، وفيه يتعلم الشاب والكهل البشاشة والصبر وضبط النفس وتدرك روح الحياة ومعنى الواجب. فلتنظر الأمم كيف تضع نظام عائلاتها على أساس وطيد ثابت، ولينظر الآباء واجبهم الشرعي والاجتماعي من هذا القبيل. وأول واجب عليهم حسن اختيار سيدة المنزل، وقد ورد في الأحاديث النبوية الحض على العناية باختيارها لينجب أولادها، ويطيب العيش معها، وقد امتن حكيم من حكماء العرب على أولاده في قيامه بهذا الواجب نحوهم مذ قال: وأول إحساني إليكم تخيري ... لماجدة الأعراق باد عفافها ومن الواجبات العائلية أيضًا العناية بتربية الأهل والعيال وتعليمهم ما به صلاح أمرهم، وتثقيف عقولهم، وبهذا المعنى فسروا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} (التحريم: 6) ؛ أي: حولوا بينهم وبين شقاء العذاب بما تعلمونهم إياه من ضروب الحكمة والعلم النافع، وبهذا المعنى أيضًا ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم) . يخاطب قومًا يريدون ممارسة بعض الأعمال، فأمرهم بالانصراف عنها إلى ما هو أهم منها وهو أن يرجعوا إلى نسائهم وأولادهم فيعلموهم. وحض الشارع على التخلق بالأخلاق الفاضلة إن لم يكن لذاتها؛ فلأنها تكون وسيلة إلى تخلق أفراد العائلة بها فقال - صلى الله عليه وسلم -: (عفوا تعف نساؤكم، وبروا تبركم أبناؤكم) . فمن عف عن فعل القبيح كان خليقًا أن تعف نساؤه، ومن بر أباه كان جديرًا أن تبره أبناؤه. أما أحاديث الحض على حسن معاملة الأهل والعيال والرفق بهم وترك الغلظة عليهم، فكثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم [1] خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) . (إن من أكمل [2] المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله) . (خير الرجال من أمتي الذين لا يتطاولون على أهليهم، ويحسنون إليهم، ولا يظلمونهم) . (إن الله سائل كل راع عما استرعاه أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته) أي: يسأله كيف كان صنيعه بهم ومعاملته لهم حسنة أم قبيحة؟ فيجازى بحسب ذلك. (كان - صلى الله عليه وسلم - في بيته ألين الناس وأكرم الناس، ضحاكًا بسامًا) . (كان - صلى الله عليه وسلم - أرحم الناس بالصبيان العيال) . (من كان له صبي فليتصاب له) . أي: ليتنزل أن يفعل في ملاعبته فعل الصبيان تطييبًا لنفسه، وإدخالاً للسرور على قلبه، وروي: (أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج مع أصحابه ذات يوم إلى طعام دعوا له، فإذا بابن بنته الحسين وهو صبي يلعب مع صبية في السكة، فاستنتل رسول الله أمام القوم - أي انفرد عنهم وتقدمهم -وأقبل على الحسين، فطفق يفر مرة ههنا ومرة ههنا، ورسول الله يضاحكه، ثم أمسكه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى تحت فأس رأسه - أي قفا رأسه من تحت قذاله - وأقنعه - أي رفعه - وجعل يقبله وقال: (أنا من حسين وحسين مني، أحب الله من أحب حسينًا) . أما حسن معاشرته لنسائه الطاهرات، فالسنة مستفيضة به، من ذلك ما روي في الصحاح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا على باب حجرتي، والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد، وهو يسترني بردائه أنظر إلى لعبهم، وكان يقول لي: كفى؟ فأقول: لا، حتى اكتفيت) ، ومن جملة الرفق والعناية بالأهل والعيال ما ورد في الحديث وهو: (كان - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يدع أحدًا من أهله في يوم عيد إلا أخرجه) - يعني أنه كان في صبيحة أيام الأعياد يخرج كل واحد من أفراد عائلته إلى خارج المدينة حيث يجتمع المسلمون لصلاة العيد في مصلاها الخاص، فيصلون ويشاهدون الناس في هذا الاجتماع الحافل، فيدخل عليهم السرور والفرح برؤية ذلك. (مشيك إلى المسجد وانصرافك إلى أهلك في الأجر سواء) . سوّى في الأجر والثواب بين المشيتين: مشي الرجل إلى عبادة ربه، ومشيه راجعًا إلى مسامرة عائلته، وكأن الشارع - صلى الله عليه وسلم - في قوله هذا يعرض بأولئك القساة الذين لا يجعلون من أوقاتهم نصيبًا مفروضًا لمعاشرة عائلاتهم، بل ينفقونها جزافًا في أماكن اللهو والبطالة، وبذلك تسوء عيشة العائلات وتتنغص حياتها، بل ربما أدى بها الأمر أحيانًا إلى المفاسد وقبيح الأعمال. ومن الواجبات العائلية ترفيه العائلة، والتوسعة عليها بالنفقة، وإعداد ما يلزم لها من وسائل الراحة والهناء، ومرافق الحياة والعيش، وقد حض الشارع - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في أحاديث كثيرة منها: - (ليس منا من وسّع الله عليه ثم قتر على عياله) . - (شر الناس المضيق على أهله) . - (أول ما يوضع في ميزان المرء إنفاقه على أهله) . أي: إن النفقة عليهم من أول الأعمال التي يثاب عليها. (دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا ذلك الذي أنفقته على أهلك) . - (أطعم زوجك إذا طعمت، واكسها إذا اكتسيت، ولا تقبح الوجه ولا تضربه) [3] . ينهى عن ضربها وكل ما يؤذيها، وعن تقبيح وجهها، فلا يواجهها بقبيح القول وفظيع الشتم، أو المعنى: لا يقول لها: قبح الله وجهك. وهو شتم مألوف بينهم، نهى الشارع عنه بخصوصه. - (الويل كل الويل لمن ترك عياله بخير، وقدم على ربه بشر) . في هذا الحديث تحذير لأرباب العائلات الذين يجمعون المال حلالاً وحرامًا سدًّا لحاجات عائلاتهم، وإشباعًا لنهماتهم، فهو - صلى الله عليه وسلم - يقول: يالتعاسة ذلك الأب الذي يترك عائلته بعد موته في سعة من الرزق وبحبوحة العيش من مال جمعه حرامًا لهم ثم يقدم على ربه يوم القيامة وهو مثقل بتبعات ذلك المال الذي جمعه وخان الناس فيه، فيعذبه الله عليه، ويكون قد أشبه الشمعة التي تضيء للناس وتحرق نفسها، فإذا كانت التوسعة على العيال واجبًا عائليًّا على رب العائلة فإن تحري الإنفاق عليها من المال الحلال هو أيضًا واجب عائلي عليه، تجدر به مراعاته والانتباه إليه. وأما الأولاد والصبيان فهم ثمرة الحياة، وريحانة البيت، وأمل العائلة، والغاية المقصودة من الزواج، قال - صلى الله عليه وسلم -: - (بيت لا صبيان فيه لا بركة فيه) . - (ريح الولد من ريح الجنة) . - (الولد ريحان الجنة) . لكن ينبغي للآباء والأمهات أن يعلموا أن أولادهم ليسوا مِلكًا لهم كملكهم أشياءهم، وأنه لم تمنحهم العناية الإلهية لهم؛ ليكونوا بمثابة متاع أو قطعة زينة في البيت ينافس بها، ويحرص عليها، وتتلذذ النفس بالنظر إليها فحسب، وإنما خلقوا ليقضوا زمن الصبوة في حجر العائلة ثم يخرجوا منها أحرارًا مستقلين، ويضافوا مددًا إلى الرجال العاملين. فالعائلة إذن مكلفة بتربية الطفل وتهيئته جسمًا ونفسًا وخلقًا للقيام بوظائفه المختلفة في خدمة قومه ووطنه، وإن العناية بالأولاد وتربيتهم هذه التربية الصالحة من أكبر واجبات الأبوين التي يفرضها الشرع ونظام الاجتماع عليهم، كما أن إهمالهم والتفريط في تربيتهم من أكبر الجنايات التي يمقتها الشرع وتعاقب عليها القوانين المدنية [4] ، قال - صلى الله عليه وسلم -: - (أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم، فإن أولادكم هدية الله إليكم) . ولا يخفى أن الشكر على الهدية إنما يكون في تقبلها بفرح، ثم العناية بها والمحافظة عليها، كما أن التفريط فيها كفران لحق من أهداها، وباعث على غضبه ونقمته. - (لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع) [5] . حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية، وأن لا يرزقه إلا حلالاً طيبًا) . هذه أهم علوم الرجل [6] في ذلك العهد، ومنها الرماية بالسهام، أما اليوم فقد اختلفت الأحوال وتبدلت

مختارات من الجرائد الغربية في حل المسألة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مختارات من الجرائد الغربية في حل المسألة الشرقية جاء في جريدة الباتري (الوطن) في 17 مايو سنة 1919 نهاية الدولة التركية - عدم عقد شروط صلح معها - تقسيم الولايات العثمانية. تقسيم الدولة قالت النيويورك هرالد في عددها الصادر هذا الصباح: إن من المرجح عدم عقد شروط صلح مع تركية وإن كان ذلك غير مطابق للقواعد المرعية، لا أن المؤتمر يفكر بكل اهتمام في هذا الأمر مرتكنًا على أن تركية لم يعد لها حكومة دولية حقيقة، وإنه لم يبق للعالم المدني إلا الانتفاع بتركية الدولة العثمانية. ستنال اليونان أكبر جزء من تركية أوربة، وأما الآستانة مع مضايق البحر فتتبع لعصبة الأمم تحت وصاية أمريكة التي تعطى في هذا الإبان نفسه الوكالة على أرمينية إلى أن تصير هذه البلاد صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها. ثم إن اليونان سيصيبها جزء ليس بالقليل من آسية الصغرى، وأما باقي ولايات هذه الجهة فتكون تحت وكالة فرنسة وإيطالية بالنيابة عن عصبة الأمم، وإنكلترة تأخذ بلاد العراق وفرنسة تأخذ سورية، أما العرب فقد قرر الحلفاء منحهم الاستقلال. *** وراثة الخلافة إن انحلال تركية أوجد مسألة أيلولة الخلافة، كما أنه وضع حدًّا لنهاية نفوذ فرنسة في الشرق، لقد كان لنا عدة قرون أكبر نفوذ بسياستنا الودية مع تركية، وقد حلت ألمانية محلنا عندما أهملنا المحافظة على هذا النفوذ، وكان في إمكاننا استرجاع مكانتنا الأولى على أثر صولة النصر، إلا أننا لم نغتنم هذه الفرصة، بل قبلنا تسوية مجحفة بمصالحنا، فما يكون نصيب فرنسة بالنسبة إلى البلاد المتسعة التي وضعت تحت وصاية إنكلترة وأمريكة؟ إن ما خصص لنا إنما هي سورية بعد استثناء تليسيا وفلسطين منها وحرمانها من البوغازين المهمين - أعني بهما ثغري إسكندرونة وحيفا. *** وجاء في جريدة لافنير (المستقبل) في 18 مايو سنة 1919 تعديل الخريطة إعادة نظام النمسة وانحلال تركية عزم المؤتمر على فحص المسألة التركية، وقد بدأ هذا الفحص بإرسال مدرعات وجيوش دولية لاحتلال أزمير التي تقرر ضمها إلى اليونان، وتم ذلك فعلاً. تقرر أيضًا ضم سورية إلى فرنسة، ولكن لم ينفذ هذا القرار وجعل العراق وفلسطين تابعتين لإنجلترة، وقد تم ذلك، ثم ينتظر إلحاق إضالية وقونية بإيطالية والآستانة وأرمينية بأمريكة. أما التركي فإنه يحسب تخويل الشعب حق تقرير مصيرها قد صار إزالته من الخريطة، والمأمول أن هذه المخالفة لمشروع عصبة الأمم لا تتم؛ لأنه ليس من حسن السياسة تحريك عواطف الوحدة الإسلامية في أنحاء العالم وإضمارها في الآستانة. كان لدى الدول فرصة وحيدة لوضع تركية تحت سيطرة دولية، ثم رُئي اتباع طريقة أخرى، وهي تقسيم البلاد وتجنيسها بجنسية الحكومات التي لها عليها حق الوكالة أو الوصاية، لا حق التملك الحقيقي. إننا بتضحية تركية وبتشريح هذه المملكة أوجدنا أوجهًا للنزاع وللشقاق بين دول أوربة في المستقبل؛ إذ إن الرجل المريض سينقل عدوى مرضه إلى أوربة، ولأجل تعميم العدوى دخلت أيضًا أمريكة في المرسح، ولنا أن نتساءل: ما شأن أمريكة في تركية؟ ولماذا لم تكلف الدول صاحبة الشأن حماية مضايق البحر؟ هل تدخلنا نحن في مراقبة ترعة بنما؟ إن الحل الوحيد هو عدم تخصيص الآستانة لدولة معينة من الدول، وإذا كان لا بد من وضع مراقبة على تركية، فليس ثمت أحسن طريقة من جعل هذه المراقبة دولية مشتركة، وكل طريقة أخرى تكون مخالفة للعدالة وللروح العصري والصوالح الأوربية في الشرق. *** وجاء في جريدة الفيجارو في 18 مايو سنة 1919 الإرث العثماني بعد انكسار ألمانية العسكري وانهزام دولتي تركية والنمسة والمجر أصبحت هاتان الدولتان الأخيرتان مزعزعتي الأركان، وتولد عن ذلك مسألة من أصعب المسائل وأعقدها، ألا وهي تسوية الإرث العثماني. إن سقوط الدولتين المذكورتين أنقذ الشعوب التي ليس لها رغبة، ولم يعد لها صبر على احتمال نير الحكم الاستبدادي الذي رزحت تحته أجيالاً طويلةً. فالذين تؤول إليهم تركة تركية هم أولاً اليونان الذين بعد أن تخلصوا من ذاك الملك الخائن انضموا إلى قضية الحلفاء، ثم الأرمن الذين بسبب السياسة الخرقاء الموعز بها من عمال الألمان قاسوا أشد أنواع العذاب، وأوشكوا أن ينقرضوا، ويَليهم السوريون إلخ. فاليونان القاطنون في تركية أوربة سينضمون إلى دولتهم التي ستتسع كثيرًا على أثر هذا الانضمام، كما أن ولاية أزمير، حيث يكون العنصر اليوناني، ستنضم أيضًا إلى دولة اليونان بناء على التوكيل المعطى هذه الدولة، وبحسب الشروط المعينة لذلك. وأما مشروع إنشاء أرمينية الكبرى مع ضم أطنة ومرسين إليها ليكون لها منفذ على البحر المتوسط، فالمنظور أن أمريكة تكون الوصية على هذه البلاد كي تساعدها على ارتقائها ونموها، كما أنها ستكون على الراجح هي الوصية على الآستانة وعلى المضايق التابعة لها أيضًا، فإذا قبل الرئيس ويلسون هذه الوكالة باسم الشعب الأمريكي لا يكون قبوله نافذًا ونهائيًّا، إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي عليه. وفرنسة تكون الوصية على سورية بالنظر لعلاقتها القديمة بها، لكن لا بد أن تكون هذه الوصاية شاملة للبلاد السورية بأكملها وليس على سورية مقسمة، ولا ريب في أن المخابرات التي جرت في ذلك كان فيها بعض التراخي من قبل فرنسة، لكن من الضروري أن تؤيد حقوقنا بكل حزم وعزم. بلاد الأناضول ستعطى لإيطاليا مع ميناء أضاليا ثم إن فلسطين والعراق يكونان تحت مراقبة إنجلترة. هذا هو التقسييم الذي تم الاتفاق عليه بادئ بدء، وبقي في آسية الصغرى جزء مأهول بسكان أتراك يحتوي على بروسة وأنقرة، وقد طلب من فرنسة حماية هذا الجزء؛ لأن بروسة حيث يقيم السلطان تكون عاصمة المملكة العثمانية الجديدة، ونتمنى أن لا يتبع الحلفاء سياسة التجزئة في آسية الصغرى، والذي نراه هو أن تكون دولة تركية المقبلة تحت إشراف مستشارين أورباويين، وبمعاونتهم. (المنار) هذا نموذج مما كان ينشر في جرائد الحلفاء منذ عامين، بيانًا للرأي العام في بلادهم عقب الحرب التي كانوا فيها هم المنتصرين، وكان أكثر الناس من جميع الأمم يظنون أن ما تقوله هذه الجرائد هو القول الفصل الذي لا مرد له؛ لأنه صدى سياسة دولهم المنتصرة التي لها الدهر عبدٌ والزمان غلام، وقد وضعوا المعاهدات لجعل تلك الأماني حقوقًا ثابتة، ولكن الزمان جاء بما لم يكن في حسبان أحد من الخطوب والمشكلات، التي عجز جميع دهاة السياسة عن حل عقدة واحدة من عقدها الكثيرة، وقد جف ريقهم من كثرة ما نفثوا فيها، ودميت أظافرهم من تكرار محاولتهم لها، فكان ذلك حجة بالغة على جهل المغرورين بالقوة والعظمة الباطلة، الذين يرتكسون في البأس عند سماع كل صيحة هائلة {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) .

أماني المبشرين أو مخادعتهم للموسرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أماني المبشرين أو مخادعتهم للموسرين كتبت إحدى الجرائد التبشيرية الأمريكية مقالاً للدكتور صموئيل م زويمر المعروف في مصر تحت هذا العنوان: الإسلام يرحب بالنصرانية إن الجاحدين من أهل الإسلام أصحبوا الآن مبشرين في الشرق الأدنى، وإن دور الأولياء والكهنة قد انقضى، فأصبح المسلمون يرحبون بالإنجيل المسيحي. هذا ما كتبه الدكتور صموئيل زويمر من القاهرة إلى (الإنتليجنسر) مبينًا أن الاضطراب السياسي في الشرق الأدنى لم يكن ناجمًا عن عوامل اقتصادية، أو رغبة في الحكم الذاتي بقدر ما كان ناجمًا عن عدم القناعة الدينية، وقد أقام برهانًا على أقواله أن اللورد رادستوك الموظف في جمعة الشبان المسيحيين YMCA قد ألقى عدة مواعظ دينية في المدن والقرى المصرية إبان الاضطرابات الأخيرة، قوبلت بكل ترحيب وحفاوة، بالرغم من تلك الاضطرابات السياسية، ومن ظهور بزته الإفرنجية، فيدل هذا على أن الفرص سانحة جدًّا للتبشير بين الطبقات كافة، والمسلمين الذين يمثلون المجموع الأعظم خاصة، وإن الأبواب التي كانت مستعدة بأن تفتح أصبحت الآن مفتوحة على مصراعيها لقبول الدعوة؛ لأن الأبحاث اللاهوتية ابتدأت تأخذ طورًا جديدًا في الوقت الحاضر، وأصبحت صفات السيد المسيح تمحص في الجرائد اليومية، ومما يشجع على ذلك أننا نرى إقبالاً لم يسبق له مثيل على تعاليم المسيح من تلاميذ المدارس الابتدائية، حتى معلمي الجامع الأزهر وكافة طبقات الشعب، فقد جاء في مؤلف لأحد علماء الإسلام في القاهرة فصل عن السيد المسيح، بين فيه الكاتب جلال المسيح وتأثيره العظيم على التاريخ. إن الإسلام لا يعترف رسميًّا بصلب المسيح وآلامه، فأصبحت خشبة الصليب هي العثرة في سبيل أبحاثهم، ولكن هذه التعاليم لم يعد يستغربها عقل المسلم. قد نكون عرضةً لنسيان أن الشرق الأدنى نال قسطه من (جثسيماني) (مكان في القدس حيث دفن المسيح) ، فإن الحرب قد حفرت حفرًا عميقة في حياة البشر وقلوبهم، حيث نرى الملايين من الأيتام والأرامل ولا نرى بيتًا في تركيا إلا ونشاهد فيه فراغًا. غلب الإسلام في ساحة الحرب فأصبح مخدوعًا في مظاهره، مضطربًا في برنامجه، وعليه فإنه أصبح ناضجًا مستعدًّا لقبول التعاليم المسيحية؛ إذ بات يفهم أن الله لم يعد يحارب لأجل الإسلام كما كان يحارب قبلاً، وإن تلك الخطط الثوروية والمطالب التي كانوا يلبسونها ستارًا من الوطنية لإذلال غير المسلمين من الشعب لم تجدهم نفعًا، فإن اليهودي رجع إلى فلسطين، وأصبح المسيحي في مصر وسوريا يرفع رأسه بعد أن كان ذليلاً مهينًا. إن المسلمين أنفسهم يدرسون حياة محمد وتعاليمه درس الناقد، وإن ما جاء في تفسير القرآن الذي كان ينشر تباعًا في مجلة المنار التي هي من أمهات المجلات في القاهرة دليل على ما ذكرناه. إن الطلاء الأبيض ابتدأ يزول، فالمتعلمون من المسلمين يقرؤون الكتب الإفرنسية والإنكليزية، وعلى الأخص كتابات (لامنس) و (كايتاني) و (موير) و (ماكوليوت) وغيرهم، ثم إن (س خدا باخش) من (كلكتا) ترجم مؤخرًا كتاب الدكتور (ويل) في تاريخ الإسلام، ونشره باللغة الإنكليزية منتقدًا التربية الإسلامية أكثر مما كان ينتقدها في خطاباته ومحاضراته الشائقة، غير هياب ولا وجل، وعليه فإن الفرصة سانحة للتبشير وبث التعاليم المسيحية، كيما ننتاش النابتة، ونخلص المرأة المستعبدة، ثم نبث معنى الحياة الزوجية. قد يرى المبشرون في هذا الجهاد أنصارًا لهم من الفئة المتعلمة من المسلمين الذين أصبحت ميولهم وأفكارهم غير متجانسة مع ديانة آبائهم. الرق قضي عليه، والحجاب في حالة القضاء عليه، وأما تعدد الزوجات وشريعة الطلاق فإن الظروف الحاضرة كفيلة بزوالها. انتهى. (المنار) يغلب على ظننا أن الغرض الأول من هذه الكتابة استنداء أكف الموسرين من الغيورين على تنصير المسلمين ليجودوا بالمال، ولا يبعد أن يكون الكاتب مغرورًا متمنيًا يرى أن أمانيه حقائق ثابتة كالسياسيين الذين يظنون أنهم قضوا على الإسلام بكسر الدولة العثمانية، واقتسام البلاد العربية، والحق أن المسلمين كانوا قبل الأحداث التي ذكرها أشد تعظيمًا للمسيح عليه السلام منهم الآن، وأن أوربة قد جنت بهذه الحرب الوحشية، وبمعاهدات الصلح على المسيحية وعلى المدنية الغربية أقبح جناية، فأصبحت جميع الأمم الشرقية نافرة منها أشد النفور، فإن لم يكن الكاتب شعر بهذا إلى اليوم، وهو ما لا نظنه، فلينتظر، فإنا منتظرون.

مسألة فناء النار أو انتهاء عذاب أهلها ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة فناء النار أو انتهاء عذاب أهلها راجعَنا أفراد من قرّاء المنار فيما نقلناه عن كتاب (حادي الأرواح) في مسألة الخلاف في فناء النار وبقائها، وما رجوناه من إقناعه لبعض المنكرين لعدم نهاية عذابها مع عدم تضرر المؤمنين بقول الجمهور به، ورأينا بعضهم فهم من كلام ابن القيم أنه يرجح القول بفناء النار ويختاره، وإننا وافقناه على ذلك بما قفينا عليه، ولم نر أحدًا منهم فهم قولنا حق الفهم، ولا قوله، وقد تيسر لنا إفهام من كلمنا في ذلك مشافهة حتى اتفقنا فيه رأيًا. وكتب إلينا بعض إخواننا في ذلك مستعظمًا للأمر، ظانًّا أنه كلام يهدم الدين، ويؤيد شبه المرتدين، ويجرئ العصاة والفساق على ارتكاب الفواحش والمنكرات، وقد كتبنا إليه بعض التوضيح لقولنا، والتذكير بما لعله ذهل عنه، وفتحنا له باب الرد على ما أنكره وإزالة شبهات من يظن أنه يفتتن به، فشرع في ذلك، ثم رأينا أن نبين له ولغيره من القُرَّاء المسائل الآتية، ونذكرهم ببعض ما سبق لنا من القول في أمثال هذه المسائل: 1- إن المسألة خلافية بين المسلمين لا إجماعية، وقد نقل الإمام الطحاوي فيها ثمانية مذاهب في عقيدته، عزا اثنين منهما إلى أهل السنة: أحدهما أن الله تعالى يبقيها ما يشاء ثم يفنيها، والآخر قول الجمهور المشهور، وابن القيم لم ينقل إلا سبعة أقوال، وقد ذكر الخلاف في كثير من كتب العقائد والتفسير والحديث، ومقتضى كلام الطحاوي أن مذهب بعض الصوفية فيها كمذهب الجهمية ليس من مذاهب السنة. 2- إن الطحاوي لما ذكر القولين اللذين عزاهما إلى أهل السنة قال: ولينظر في دليلهما. فجاء بعده ابن القيم وبسط دلائلهما، ولم يجزم بهذا ولا ذاك، بل فوّض الأمر فيه إلى إرادة الله ومشيئته، وهو قول 8 أو 9 لأهل السنة. 3- إن المنار لم ينشر مطويًّا، فالكتب التي ذكر فيها الخلاف متداولة بين الناس، ولا سيما الدر المنثور في التفسير بالمأثور للحافظ السيوطي، وشرح عقيدة السفاريني، وما زاد حادي الأرواح على غيره إلا تلك المسائل الدقيقة في حكم الثواب والعقاب، ورحمة الله تعالى وحكمته في الجزاء، والتفرقة بين صفات الذات كالحكمة والرحمة، وصفات الأفعال كالرزاق والمحيي والمميت والمنتقم، وهي التي نوهنا بفضله وأثنينا على سعة علمه ومعرفته لأجلها دون أصل المسألة المشهورة قبله. 4- إننا قد بينا غير مرة في المنار أن المعتمد عندنا في التفسير وأصول الدين وفروعه ظواهر النصوص مجتمعة، وفي اختلاف العلماء ما كان عليه جمهور السلف إن علم بالنقل الصحيح، وإننا إذا أوردنا في المنار أقوالاً أخرى فإنما نقصد بذلك دفع بعض الشبهات عن الدين أو تقريب بعض مسائله إلى بعض من لا يقنعهم غيره بحسب اختبارنا، وعلى هذه القاعدة جرينا في تفسير آية الأنعام، فإن فيها بعد ذكر الخلود الاستثناء بمشيئة الله تعالى، وتعليل هذا الاستثناء بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 83) وقد فوضنا إليه سبحانه الأمر في ذلك، وبينا أن مشيئته في ذلك مجهولة لنا، ولا يعلمها حق العلم غيره سبحانه، وإنما تتعلق بما يقتضيه علمه وحكمته، ووعدنا بتحرير الدلائل في المسألة عند تفسير آيتي سورة هود فيها. وقد سبق لنا تحقيق مثل هذا التفويض في تفسير قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام في قومه: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (المائدة: 118) ، وبينا فيه ضعف من اضطرب فيه من المفسرين؛ لصراحة العبارة في جواز المغفرة لمن اتخذه وأمه إلهين من دون الله، ومنه أقوال بعض مفسري الأشعرية باستحسان غفران الشرك، كما صرح به أبو السعود والآلوسي، وأطنب الرازي في ذلك وأتى بعدة وجوه في تأييد مذهبهم رددناها عليه أقوى رد بفضل الله علينا، وبينا وجه تذييل الآية بصفتي العزة والحكمة دون المغفرة والرحمة بما لم نطلع على مثله لأحد. 5 - إن قيل: إنه تعالى بيّن في سورة النساء أنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فهذا تقييد للمشيئة ينقض قول الأشعرية. قلنا: إنما يدل هذا على أن العقاب على الشرك حتم مقضي، ولكنه لا يدل على أنه سرمدي لا نهاية له، بل هذه مسألة أخرى، وجمهور العلماء يقيدون المشيئة بغير هذا النص أيضًا؛ إذ صرحوا بأنه لا يغفر لمن يوحد الله ولا يشرك به إذا لم يؤمن بملائكة الله ورسله واليوم الآخر، ولا لمن جحد أي أمر مجمع عليه معلوم من دين الإسلام بالضرورة، ويؤولون النص في جواز غفران ما دون الشرك كالنص في خلود متعمد القتل في جهنم بناءً على مذاهبهم، فأكثر التأويل لتصحيح المذاهب المتبعة، لا للجمع بين النصوص وتقديمها على جميع المذاهب، والآيات تثبت إطلاق المشيئة إلا أنها لا تعارض غيرها من صفات الله ومدلول كلامه. 6- إن مرادنا بقولنا: إن هذا البحث لا يضر المؤمنين بقول الجمهور مقلدين كانوا أو مستدلين - ظاهر جلي، وهو أنهم يردون القول المخالف لمن قلدوهم أو لدلائلهم، فلا يترتب عليه أثر في أعمالهم، ونزيد على ذلك أنه لا يضر أحدًا من المؤمنين مطلقًا، وإن سامه؛ لأن جواز تعلق مشيئة الله تعالى بانتهاء عذاب الكفار بعد لبثهم في النار أحقابًا لا يصح أن يكون سببًا لترك المؤمن الصادق لشيء من الواجبات، ولا لارتكابه لشيء من المحرمات، ولكن في كتب الفقه والكلام والمواعظ والأدب وخطب المنابر كثيرًا من الأقوال التي أزالت حرمة الأوامر والنواهي من قلوب الجم الغفير من الناس، وكان من أثرها ما نراه من ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وفشو السكر والزنا والقمار، كالكلام في تخلف الوعيد والعفو والمغفرة والكفارات والشفاعات والكرامات، وقد شرحنا ذلك مرارًا، ورددنا شبهات الضالين فيها، وبينا ما له أصل منها وما هو موضوع باطل كحديث إعتاق ستمائة ألف عتيق من النار في كل ليلة من رمضان، ولم يكتف خطباء الفتنة وعلماء التقاليد بتلقين الدهماء هذه الموضوعات، بل تصدى بعضهم لرد ما يرد عليها كأنها من أصول الدين، كقول بعضهم: إذا كان عدد عتقى رمضان يزيد على عدد مسلمي الأرض كلهم، ولا سيما في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الله تعالى يكمله من الجن. وإنني بما اتفق لي من الاختبار الواسع للناس، وبقدر ما أوتيت من العقل والفهم أجزم بأنه يندر أن يكون الخوف من العذاب الأبدي سببًا لاستجابة كافر لدعوة الدين، بل هذا قلب للمعقول؛ لأنه يتوقف على التصديق بالعذاب المذكور قبل الإيمان بالرسول وبما جاء به، وهذا قلما يقع إلا لأفراد من المعاندين كبعض كبراء مشيخة قريش في زمن البعثة. 7- لا أنكر أن بعض المارقين والملاحدة المشاغبين قد تزيدهم أمثال هذه المباحث رجسًا إلى رجسهم من حيث تزيد المؤمنين إيمانًا بالله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ} (البقرة: 26) الذين فسقوا من نور الفطرة والاستعداد للهداية، كما تفسق الرطبة من قشرتها، وإنما أرجو أن يهتدي بهذا البحث بعض المرتابين من أهل النظر الذين يؤمنون بأن للعالم إلهًا عظيمًا حكيمًا، وربًّا رؤوفًا رحيمًا، وإن من حكمته الجزاء على الأعمال النفسية والبدنية، وإن جزاءه عدل وفضل، ويستحيل عليه الجور والظلم، وهم ينظرون ويتفكرون، وإذا ظهر لهم الحق يقبلونه وله يذعنون، وأما أولئك المارقون المستهزئون من أهل الرقاعة فلا يلتفت إليهم، ولا يبالي عاقل بأمرهم، إلا أن يشفق عليهم ويحزن لكونهم من أمته أو أبناء جنسه. 8- إن الشبهة التي أشرنا إليها ليست واردة على بقاء دار العقاب التي تسمى النار والجحيم والهاوية وجهنم وغير ذلك من الأسماء، فقد تبقى وينقلب عذابها عذبًا كما زعم الشيخ محيي الدين بن عربي وشيعته، أو لتعذيب خلق آخر من المكلفين مثلاً، ولا على أصل العقاب فيها، فطالما أقنعنا المنكرين لهذا بأنه حق وعدل، وإنما يقول أصحابها وهم من المنتسبين إلى أديان مختلفة: إن المختبر لأحوال البشر يعلم علمًا يقينيًّا أن أكثرهم ينشأ متدينًا بالدين الذي نشأ عليه بين قومه وأهل ملته تقليدًا لهم وتسليمًا، ثم يعرض لبعضهم الشك والريبة في دينه وفي سائر الأديان بالتبع، ويتفق لبعض آخر الاطلاع على دين آخر والاقتناع بحقيته فيتبعه، ولكن يقل جدًّا أن يظهر لأحد حقية دين ويجحد به كبرًا وعنادًا، كما وقع لبعض كبراء أقوام الرسل - عليهم السلام - في عصرهم، ثم إن المتدينين يعملون بما يعلمون من أديانهم على تفاوت عظيم بينهم في العمل، سببه تأثير التربية والقدوة، وطريقة التعليم له، ويعلم أيضًا أن بعض المرتدين عن أديانهم بشبهات نظرية أو علمية يؤمنون بالله ولا يشركون به شيئًا، وأن بعض المتدينين بالأديان الكتابية كغيرها يشركون بعبادة الله تعالى أشياء كثيرة من الأحياء والأموات، كما أن بعض المرتدين أحسن من بعض المتدينين أخلاقًا وأعمالاً، وأنفع منهم للناس وللأوطان، ويقولون: إننا مع هذه الحال نرى أهل كل دين يقولون: إن الموافقين لهم في دينهم؛ لأنهم ولدوا فيهم وتربوا بينهم - هم وحدهم أصحاب النعيم المؤبد الذي لا نهاية له، وأن جميع المخالفين لهم سيكونون في عذاب أليم مؤبد لا نهاية له، سواء عرفوا حقيقة دينهم أو جهلوها، بل يعلم أكثر أهل البصيرة والاختبار أن أكثر المخالفين لهم لا يعرفون حقيقة دينهم، وأن من يعرف شيئًا منه يقل من يعرفه على وجهه عندهم، وأن ليس كل من يعلم شيئًا منه على حقيقته يقوم عنده الدليل على صحته، ونتيجة ما تقدم أن أكثر أفراد البشر مقلدون في دينهم لمن تربوا معهم وتعلموا منهم، وأن غير الأكثر أهل نظر واستدلال يرجحون ما ثبت عندهم بحسب درجات نظرهم واستدلالهم على غيره في العقائد والأعمال، فالذي أصاب الحق من المقلدين لا فضل له في إصابته؛ إذ لا عمل له فيه ولا اجتهاد، والمقلدون في هذه الأعصار إنما يتبعون جمهورًا مقلدًا، فلا يكاد يتفق لأحد منهم أن يصيب الحق في جميع المسائل، وإذا كان التقليد حجة لصاحبه فيما وافق الصواب، وعذرًا فيما خالفه كما يقول أكثر أهل كل ملة في أنفسهم، فلماذا كان ذلك خاصًّا بهم، والله رب الجميع وهو الحكم العدل. ثم إنهم يقولون لأهل كل دين: أنتم قد تفرقتم في دينكم وكنتم شيعًا تحكم كل شيعة على الأخرى بالكفر أو الابتداع والضلال، فإذا كان الواجب على جميع البشر أن يتبعوكم، وكان كل من لا يدين بدينكم خالدًا في العذاب بالمعنى الذي تقولون، فأي مذاهب الشيع يجب عليهم الأخذ به لينجوا من الهلاك الأبدي؟ إن قصارى قول كل شيعة، بل كل فرد منكم أن من يدين الله بدينه ويموت على عقيدته هو الناجي المثاب بالنعيم الأبدي، وإن عاش العمر الطويل قبله على غير ذلك، وإن كل من مات على غير عقيدته يخلد في العذاب الأليم الأبدي، وإن عاش العمر الطويل قبله على الإيمان بالله وحده وبالبعث والحساب وعمل البر والإحسان بتعاليم دين آخر أو باجتهاده. فمورد الشبهة بعد هذا البيان أن أكثر أفراد هذا الإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم، وكرمه وفضله على كثير من خلقه تفضيلاً إنما خلقهم تعالى لأجل أن يعذبهم عذابًا شديدًا أليمًا مهينًا أبديًّا تمر الألوف والملايين من الأحقاب والقرون وهو لا يزداد إلا شدة واستمرارًا، وإن هذا العقاب جزاء عا

القرآن المتواتر والقرءات السبع وخاصة قراءة حمزة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القرآن المتواتر والقراءات السبع وخاصةً قراءة حمزة س10-11من الشيخ عبد القادر حمزة من كفر الشيخ عامر بسم الله الرحمن الرحيم إلى سيدي الأستاذ الإمام السيد محمد رشيد رضا السلام عليك وعلى سائر الأسرة والأحباب (وبعد) ، فأعرض على نور علمكم مسائل أشكلت علي مآخذها وتعارضت أدلتها؛ لتنيروا لنا سبيل الحق فيها على صفحات مناركم، أو في كتاب خاص إليّ - أطال الله حياتكم لهداية المسلمين آمين -: 1- تواتر القرآن مجمع عليه من جميع طوائف المسلمين، فهل هذا التواتر هو لما اتفق عليه القراء - وهو جمهور القرآن - ويكون ما اختلفوا فيه صحيحًا غير متواتر لاختلافهم فيه من جهة؛ ولأن كل قراءة جاءت عن واحد وعرفت به وأضيفت إليه، كقولهم: قراءة حفص، قراءة حمزة، قراءة ابن كثير مثلاً؟ أو أن كل قراءة من هذه القراءات متواترة قد شارك كل قارئ منهم في قراءته من لا يحصى من أمثاله غير أن المصنفين اقتصروا على واحد من رواة القراءة، وهذا عذب لولا ما يكدر صفوه من اتهام المسلمين بالإهمال في بيان تواتر كتابهم الذي هو أصل دينهم، ويكدره أيضًا صنيع الطبري، وهو إمام في القراءة والتفسير والحديث والفقه، من رده في تفسيره لكثير من القراءات التي يسمونها سبعية: كقراءة حمزة: فأزالهما الشيطان عنها، من سورة البقرة، وقراءة ابن عامر: (وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلادِهِمْ شُرَكَائهُمْ) (الأنعام: 137) ، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة في تفسيره، والرجل أجلّ من أن يقول في قراءة متواترة: إنها مردودة لكذا، ولإجماع الحجة من القراء على خلافها. 2- في ترجمة حمزة بن حبيب الزيات من كتاب ميزان الاعتدال للذهبي، وتهذيب التهذيب للعسقلاني نقل كلام الحافظ في رد قراءة حمزة ككراهة يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل لها، وتمني عبد الرحمن بن مهدي سلطانًا يوجع به ظهر من يقرأ بها، وحكم أبي بكر بن عياش بأنها بدعة، وبإعادة صلاة من يصلي خلف القارئ بها إلخ مما لا يقوم في وجهه قول الثوري أن حمزة لم يقرأ حرفًا إلا بأثر، فلا يدفع ذلك قدح النقاد فيها؛ لأن في الآثار الصحيح والمعلول، فيقال فيها: إنها بدعة. ويوجع ظهر من قرأ بها وتبطل الصلاة خلفه إلخ؛ لأنها رويت بآثار معلولة غير صحيحة، فكيف من هنا يكون حمزة شيخ القراء أو أحد السبعة وينعقد الإجماع بآخره على تلقي قراءته بالقبول كما زعم الحافظ الذهبي اهـ. الجواب: ثبت في الصحاح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كلما نزل عليه شيء من القرآن يقرؤه على أصحابه فيحفظه من يحفظه ممن حضر منهم، ويأمر كتاب الوحي بكتابته وحفظه، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ كل ما أنزل عليه في الصلوات فيسمعه الصحابة - رضي الله عنهم - في الجهرية منها، وكانوا هم يقرؤون في صلواتهم وغيرها ما حفظوه، وثبت أيضًا أن جبريل أمين الوحي عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان في كل سنة؛ أي: كان كل منهما يعرض على الآخر كل ما نزل من القرآن، وأن جبريل أقرأه القرآن على حرف واحد، فاستزاده حتى أقرأه على سبعة أحرف، وإن المعارضة في آخر رمضان من عمره - صلى الله عليه وسلم - كانت مرتين؛ أي: بالسبعة الأحرف. وثبت أيضًا أنه كان في الصحابة طائفة كبيرة يوصفون بالقراء؛ لعنايتهم بحفظ القرآن وكثرة قراءته، وأنه قد جمعه كله في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعة من الخزرج بالتلقي قراءة وكتابة، وهو أقوى ما وجه به الحصر في الخبر الوارد في ذلك، ومن المعلوم بالبداهة أن المهاجرين كانوا أشد عناية بحفظه، ولا سيما السابقين الأولين. وثبت أيضًا أنه لما استحر القتل (اشتد وحمي) بالقراء في قتال مسيلمة الكذاب باليمامة خشي عمر أن يقتلوا في كل مكان فيقلوا، فأشار على أبي بكر بجمع القرآن كتابة، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت كاتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجمعه، فجمعه مما كانوا يكتبونه فيه من الحجارة الرقاق، وعظم الكتف، وعسب النخل، فجمعه في الصحف بالترتيب الذي تلقوه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت هذه الصحف عند أبي بكر، ثم عند عمر مدة حياتهما، ثم عند حفصة أم المؤمنين إلى أن نسخت عنها المصاحف بأمر عثمان في عهد خلافته، وبعث بها إلى الآفاق؛ ليرجع إليه القراء والحفاظ حتى لا يختلفوا في القرآن فيضلوا كما ضل من قبلهم. وقد أجمع المسلمون سلفًا وخلفًا على أن كل ما وافق رسم المصحف الإمام الذي كتب في خلافة عثمان بإقرار علماء الصحابة واتفاقهم من القراءات المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواية صحيحة بعبارة عربية فصيحة - فهو قرآن، وقد توفرت الداوعي على تواتر ذلك كله بما ذكر عن أهل الصدر الأول، ثم بما كان يخص به الخلفاء وعمالهم حفاظ القرآن من العطايا، واختلاف الروايات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سببه الأحرف السبعة التي نزل القرآن بها، وقد اختلف العلماء في معناها، والمختار أنها أوجه القراءات، وهي كما بينا في التفسير قسمان: أحدهما لفظي، كقطع الهمزة ووصلها والإمالة ومقابلها، وتذكير بعض الكلم وتأنيثها مما تختلف به لغات قبائل العرب ولهجاتها، وسببه تسهيل قراءة القرآن عليهم، وثانيهما معنوي وهو ما أفاد معنى جديدًا بتغيير القراءة كـ (مَلِك يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة: 4) ، و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) ، فإن الملك في اللغة هو: المتصرف بالتدبير والحكم، والمالك: المتصرف بالأعيان، ولا ملك ولا مالك يوم الدين غير الله تعالى، ومما انفرد به تفسيرنا دون جميع ما اطلعنا عليه من التفاسير توجيه القراءات وبيان فوائدها اللفظية والمعنوية. وقد ذهب بعض العلماء أن القراءات السبعة المشهورة هي الأحرف السبعة التي ثبت في الصحيح نزول القرآن بها. ورد ذلك المحققون، فالصحيح أنها منها لا كلها، واختلفوا في المصاحف هل هي جامعة للأحرف السبعة أم كتبت بحرف واحد، أم بعدة أحرف وهي الموافقة للرسم؟ وهذا الأخير أظهر هذه الأقوال، ولا يتضمن إضاعة شيء من القرآن؛ لأن الأحرف السبعة لم تكن كلها حتمًا على كل مسلم، وإنما كان الكثير منها رخصة حتى لا تشق قراءة القرآن على غير قريش من العرب، فإنه نزل بلغة قريش ورخص لغيرهم قراءته لما يسلس على ألسنتهم، وهي رخصة عارضة قد زال سببها منذ العصر الأول بغلبة لغة قريش، وتربية أولاد المسلمين من جميع العرب والعجم على القراءة بها، وبقي المروي من غيرها أثرًا علميًّا، فما وافق منه رسم المصحف مع صحة روايته وعربيته ثبت كونه قرآنًا دون غيره، وقد عني العلماء بجمع كل ما ثبت من ذلك، ومنهم من يرجح ما صح عنده بالرواية من تلك القراءات، ويرد غيره كابن جريرالطبري، وقد يكون صحيحًا عند غيره بشروطه الثلاثة، ومثله من أنكر بعض قراءات حمزة في مثل إطالة المد والإمالة وتخفيف الهمزة، كالأئمة الذين ذكروا في السؤال؛ لعدم ثبوت روايتها عندهم، فعدم ثبوت بعض الأحرف السبعة عند بعض العلماء لا ينافي ثبوتها عند آخرين حتى بالتواتر، وقد كان عصر هؤلاء العلماء عصر الرواية ومبدأ عصر التدوين والتصنيف الذي صار يسهل فيه العلم بالمروي لغير الرواة بمراجعة الكتب التي ثبتت نسبتها إلى مؤلفيها الثقات كدواوين السنة وغيرها. وقد نقل الحافظ في شرح حديث الأسبعة الأحرف من الفتح أقوال المحققين فيها وفي القراءات ومنه في سياق كلام لابن أبي شامة: والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها. وذكر أمثلة من ذلك، ثم ذكر عن ابن أبي هاشم أن السبب في اختلاف القراءات السبع وغيرها أن الجهات التي وجهت إليها المصاحف كان بها من الصحابة من حمل عنه أهل تلك الجهة، وكانت المصاحف خالية من النقط والشكل (قال) : فثبت أهل كل ناحية على ما كانوا تلقوه سماعًا عن الصحابة بشرط موافقة الخط، وتركوا ما يخالف الخط امتثالاً لأمر عثمان الذي وافقه عليه الصحابة لما رأوا في ذلك من الاحتياط للقرآن، فمن ثم نشأ الاختلاف بين قراء الأمصار مع كونهم متمسكين بحرف واحد من السبعة (يعني لغة قريش) . وقال مكي بن أبي طالب: هذه القراءات التي يقرأ بها اليوم، وصحت رواياتها عن الأئمة جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن. أي: لا كلها ولا واحد منها فقط. وجملة القول أن العلماء الذين صنفوا الكتب في القراءات والمصاحف والحديث قد أحصوا كل ما روي عن الصحابة في القرآن والقراءات والتفسير من متواتر ومشهور وشاذ، ولكن العمدة في ثبوت القرآنية ما تواتر ولو في بعض الأمصار دون بعض، والقاعدة الكلية فيما جروا عليه في إقراء الناس في الأمصار هي كما قال الكواشي: كل ما صح سنده واستقام وجهه في العربية ووافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبعة المنصوصة (أي: في الحديث) ، فعلى هذا الأصل بني قبول القراءات عن سبعة كانوا أو سبعة آلاف، ومتى فقد شرط من هذه الثلاثة فهو الشاذ، اهـ. ثم إن المشهور عند علماء الأصول والفقهاء أن القراءات السبع المسندة إلى القراء السبعة الذين اشتهروا في الأمصار بالإقراء: (أبي عمر، ونافع، وابن كثير، وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي) متواترة، ولكن استثنى بعضهم منها ما ليس من قبيل الأداء، كصفات المد والإمالة وتخفيف الهمزة التي خولف فيها الأصل، كما ترى في جمع الجوامع. وصرح بعضهم بأن بعض رواياتهم في هذا غير متواترة؛ لأنها مروية عن الآحاد، أو من طرق ضعيفة، وأن القاعدة العامة التي ذكرنا عبارة الكواشي فيها آنفًا محكمة في هذه القراءات كغيرها، ونقل الحافظ هذا المعنى عن شرح المنهاج للسبكي وعن أبي شامة، وقال في آخر هذه النقول: ونحن وإن قلنا: إن القراءات الصحيحة إليهم نسبت، وعنهم نقلت، فلا يلزم أن جميع ما نقل عنهم بهذه الصفة، بل فيه الضعيف لخروجه عن الأركان الثلاثة، ولهذا ترى كتب المصنفين مختلفة في ذلك، فالاعتماد في غير ذلك على الضابط المتفق عليه اهـ. فعلى هذا يكون مثل هؤلاء القرّاء السبعة كمثل أصحاب الكتب الستة في السنن من حيث شهرتها وكثرة المتلقين لأحاديثها عنهم، وإن كانوا لم ينفردوا بروايتها، ولا كانت تكون مجهولة لو لم يدونوها في كتبهم، ومن حيث إن ما صححوه منها لم يقلدهم العلماء به تقليدًا، بل كان جميع ما دونه الشيخان في صحيحهما معروفًا عند جماهير المحدثين من شيوخهما وغيرهم في عصرهما وبعد عصرهما، ومرويًّا عن غيرهما، وقد ناقشهما بعضهم في توثيق بعض رجالهما، وفي غير ذلك مما هو معروف، وطعن بعض المحدثين في بعض قراءات بعض القرّاء كحمزة لا ينافي صحة قراءته مطلقًا، ولا صحة ما أنكروه منها، كطعن بعضهم في صحة بعض أحاديث البخاري واتفاق سائرهم بعد هذا الطعن على صحة ما طعن فيه كله أو أكثره، ذكر الحافظ الذهبي في الميزان الخلاف في جرح حمزة وتعديله في قراءته، فعظم السائل أمر الجرح دون التعديل، ومنه قول أبي حنيفة: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض، وقراءة الأعمش عند رؤيته مقبلاً قوله تعالى:] وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ [وقول الإمام (الحج: 34) سفيان الثوري: ما قرأ حمزة حرفًا إلا بأثر. وقد بين أبو بكر بن عياش مراد من قال: إن قراءته بدعة؛ بقوله: لما فيها من المد المفرط والسكت والإمالة واعتبار الهمزة

ذكاة الحيوان والصيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ (ب) ذكاة الحيوان والصيد (س12-13) منه 1- ورد في الصحيح التذكية بالحجر، فهل كان ذلك حَزًّا أو صدمًا، وهل في معنى الحجر في ذلك المحدد الكليل كمعول الزراع (الفأس) ومعول النحت إذا أنهر الدم بالصدم الشديد، والطرق عند فقد المدية الحديدة، فيحل بذلك الحيوان، ويغتفر للضرورة عدم إحسان القتلة لعدم السكين؟ 2- جاء فيه أيضًا النهي عن حذف البندق لعلة أنه لا يصيد صيدًا ولا ينكي عدوًّا، وجاء فيه التفصيل في صيد المعراض، فأحل ما أصاب بحده، وحرم ما قتل بعرضه، فماذا ترون فيما حدث الآن من الصيد بمقذوف البارود، فهل يلحق بمحذوف البندق مع أنه يصيد وينكي أو يفصل فيه نظير تفصيل المعراض، فيقال: إن صِيدَ صغير الحيوان كالأرانب والطير بما يسمونه رشًّا، وهو ما كان في حجم حبة القمح مثلاً - حل، إلحاقًا بحد المعراض وما كان بأكبر؛ لم يحل، إلحاقًا بعرضه، وكذلك في كبار الحيوان فما صيد بمثل البندقة حل، وما صيد بمقذوفات المدافع لم يحل. أرشدني أرشدك الله إلى ما فيه رضاه. الجواب: من فقه جملة ما ورد في الكتاب والسنة في تذكية الحيوان وصيده، وأن أصل معنى التذكية في اللغة: إماتة الحيوان بقصد أكله، وحقيقته: إزالة حرارته الغريزية؛ كما قال الراغب في مفردات القرآن - علم أن الشرع لم يجعل للتذكية صفة معينة هي شرط لحل أكل الحيوان، ولكنه حرم التعذيب وأمر بالإحسان في كل شيء حتى القتلة والذبحة، وقد فصلنا ذلك فيما كتبناه في تأييد فتوى للأستاذ الإمام في المجلد السادس، ثم لخصناه في تفسير آية محرمات الطعام من سورة المائدة، فليراجعه السائل يجد فيه غَنَاء - إن شاء الله تعالى - وأما ما اشتبه فيه من الفرق بين الصيد بالبندق والرش والرصاص يعرف حكمه من حديث صيد المعراض، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعدي بن حاتم إذ سأله عنه: (إذا رميت بالمعراض فخزق فكُل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكل) والرش والرصاص كما في حديث الصحيحين يخزق دون بندق الطين، وأما المدافع الكبيرة فلا يصطاد بها، ولكن قد تصطاد آجال الغزلان وبقر الوحش بالمدفع الرشاش (المتراليوز) ، والمعراض عصا محذذة الرأس أو الطرفين، وقد يكون في طرفها حديدة كانوا يرمون به الصيد فيقتله، وفي لفظ لحديث عدي عند البخاري: (ما أصاب بحده فكله، وما أصاب بعرضه فهو وقيذ) قال: وسألته عن صيد الكلب فقال: (ما أمسك عليك فكل، فإن أخذ الكلب ذكاة) ، ونقل الحافظ في شرحه عن الإمام الأوزاعي وغيره من فقهاء الشام حل ما قتل بعرضه أيضًا، وقال البخاري: وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن اهـ. فحديث أخذ الكلب ذكاة، وقول ابن عباس: ما أعجزك من هذه البهائم بما في يديك، فهو كالصيد وفي بعير تردّى في بئر فذكِّه من حيث قدرت عليه (وهو في البخاري) دلائل على ما فسرنا به الذكاة. هذا وإن كثيرًا من علماء الشرق والغرب قد أفتوا وألفوا الرسائل في حل صيد بندق الرصاص بعد حدوثه، فمن علماء الحنفية الشيخ محمد بيرم من علماء تونس الأعلام، ومن علماء الحديث الإمام الشوكاني الشهير من مجتهدي اليمن، والسيد صديق حسن خان صاحب النهضة العلمية الدينية الاستقلالية الحديثة في الهند، فإنه قال في باب الصيد من كتابه (الروضة الندية، شرح الدرة البهية) للشوكاني ما نصه: وقد نزل - صلى الله عليه وآله وسلم - المعراض إذا أصاب فخزق منزلة الجارح، واعتبر مجرد الخزق كما في حديث عدي بن حاتم المذكور - وكان ذكر رواية الصحيحين له - وفي لفظ لأحمد من حديث عدي قال: (قلت: يا رسول الله، إنا قوم نرمي، فما يحل لنا؟ قال: يحل لكم ما ذكيتم، وما ذكرتم اسم الله عليه فخزقتم فكلوا) ، فدل على أن المعتبر مجرد الخزق، وإن كان القتل بمثقل فيحل ما صاده من يرمي بهذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص؛ لأن الرصاص تخزق خزقًا زائدًا على خزق السلاح، فلها حكمة، وإن لم يدرك الصائد بها ذكاة الصيد إذا ذكر اسم الله على ذلك، وعبارة الماتن (الشوكاني) في حاشية الشفاء: أقول: ومن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص، فإن الرصاصة يحصل بها خزق زائد على خزق السهم والرمح والسيف، ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة. وذكر مثالاً لذلك، وما روي من النهي عن أكل ما رمي بالبندقة، كما في رواية من حديث عدي بن حاتم عند أحمد: (ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت) فالمراد بالبندقة هنا هي التي تتخذ من طين فيرمى بها بعد أن تيبس، ثم ذكر بعده الخذف بالحصى وكونه مثل بندقة الطين.

حقيقة الصيام وحكمة فوائده

الكاتب: عن جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

_ حقيقة الصيام وحكمة فوائده [*] ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [[*] الدين هداية روحية مدنية، ورابطة اجتماعية أدبية، والصيام ركن من أركانه الدينية، وشعيرة من شعائره الملية، ورياضة من رياضاته النفسية والبدنية، تتربّى به الإرادة، ليكون لها السلطان على الهوى والعادة، وبهذا يكون سببًا لتحصيل ملكة التقوى، وهي اتقاء ما حرم الله في السر والنجوى، وفي العلانية بطريق الأولى. ذلك بأن الصيام حرمان للنفس من التمتع بشهوتي الطعام والشراب والشهوة الموجِبة للغسل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية العبادة التي شرعها الله تعالى لهداية عباده وتربيتهم بما يساعد هداية الفطرة السليمة والعقل على كبح جماح الشهوات المفسدة لهما، فمن راض نفسه على ترك الشهوات الضرورية المباحة، كالطعام الحلال عند الجوع، والماء الزلال على الظمأ، والملامسة الزوجية مع قوة الداعية يكون أقدر على اجتناب الشهوات المحرمة الضارة، كأكل أموال الناس بالباطل، والتعدي على أعراضهم وغير ذلك، ولا سيما إذا كان ذلك الترك للضروريات تقصد به طاعة الله تعالى وتكتسب به ملكة مراقبته، فيكون الوازع نفسيًّا في الفعل والترك، وكفى بذلك عزة للنفس وطاعة للرب، فهذه غاية الصيام من حيث هو هداية روحية وعبادة دينية. وأعظم فوائده من حيث هو رياضة بدنية إزالة مرض تمدد المعدة أو تخفيفه، وهو مرض قلما يسلم منه أحد من المترفين وغيرهم من معتادي الامتلاء من الطعام والشراب، وإفناء الفضلات والمواد الراسبة التي هي سبب أمراض كثيرة، ولا سيما تصلب الشرايين الذي يوهن القوى ويعجل الهرم. وأعظم فوائده الاجتماعية أنه يساوي بين الملوك والسوقة وبين الأغنياء والفقراء، ويذكر الواجد الموسر بحاجة العادم المعسر، ويلزم أفراد الأمة النظام الدقيق في مواعيد أكلهم؛ إذ يتناوله الملايين منهم في وقت واحد. هذا تعريف الصيام وغايته الشريفة وفوائده العظيمة مجملة موجزة، وليس هو عبارة عن تغيير مواقيت الأكل بجعلها بالليل بدلاً من النهار كما يزعم الجاهلون بحقيقته، الغافلون عن سره وروحه، وقد قال أحد حكماء الغرب في كتاب ألَّفه في تربية الإرادة: إن أقوى ذرائع تربية الإرادة الصيام، ولذلك شرع في جميع الأديان. وهذا موافق لما ذكرنا من نص القرآن. وقوة الإرادة أعلى ما يتفاضل فيه الناس من صفات النفس وجميع الرجال العظام كانوا من أولي الإرادات القوية والعزائم الثابتة، فمن كان قوي الإرادة في أصل الفطرة زادته تربيتها بالصيام وغيره كمالاً فيها، وحملته على توجيهها إلى إقامة الحق والثبات على الفضائل، ومن خلق ضعيف الإرادة، بضعف المزاج وسوء الوراثة، أصلحت هذه التربية من فساده حتى يفوق ويفضل من أفسد سوء تربيته، ما كان صالحًا من سلامة فطرته. ينال الصائم من فوائد الصيام بقدر ما يقصد مما يعقل منها، وفاقًا للقاعدة الشرعية المعقولة: (الأمور بمقاصدها) فلا يقال: إننا نرى كثيرًا من الصائمين ليس لهم حظ يذكر من تلك الفوائد، وفي الحديث الصحيح: (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع) [2] ومثل هذا كمثل الدواء الذي اتفق الأطباء على فائدته في معالجة بعض الأمراض أو الوقاية منها بشروط يشترطونها إذا تناوله ما لم تتحقق فيه تلك الشروط لجهله بها، أو حرم فائدتها بسبب آخر، أو استفاد منه ثم أفسد تلك الفائدة، كمن فسدت أمعاؤه فعالجها بدواء مطهر أزال الفساد ثم أتبعه بطعام غليظ قبل تمام الشفاء، وهكذا شأن من يصوم عن الحلال من طعام وشراب مجاراة للناس لا احتسابًا لوجه الله وطلب مرضاته بتهذيب نفسه، ثم يأكل أموال الناس بالباطل أو ينال من أعراضهم، أو يصيب غير ذلك من المحرمات، وفي الحديث الصحيح في الكتب الستة: (الصيام جُنَّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث ولا يصخب، فإذا شاتمه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم) (والجنة بضم الجيم: الوقاية) . ولهذا المعنى كانت النية شرطًا في صحة الصيام وسائر العبادات، وقال - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه البخاري في فاتحة صحيحه، وليست النية المفروضة في العمل إلا ملاحظة الغرض المراد منه والباعث عليه، لا قصد نفس العمل بتصوره عند الشروع فيه كما قال الكثيرون، فإن هذا أمر ضروري في كل عمل اختياريّ؛ إذ لا يمكن الشروع فيه مع غفلة النفس عنه وعدم توجهها إليه، ولكن نص على طلبه في الصيام بوجه خاص؛ لأنه أمر سلبي وهو ترك الشهوات المعلومة، والترك هو الأصل، فلا يتوقف على قصد إلا إذا عارضت داعية الفعل داعية استمرار الترك، وهذا إنما يكون بعمل نفسي وهو ترجيح الترك وقصد الاستمرار عليه، ولهذا احتيج في جعل الترك المخصوص - وهو الصيام - في الزمن المعين - وهو النهار - إلى توجه خاص قبل الشروع؛ ليكون عبادة مستغرقة لهذا الزمن، وهو معنى حديث حفصة في السنن الأربع: (من لم يُجمِع الصيام قبل الفجر فلا صيام له) أي: من لم يعزم عليه في الليل لا يصح منه، فنية نفس الصيام هي العزم على كف النفس عن المفطرات مدة النهار، وهي غير النية فيه التي تصاحب هذا العزم، فهذه أخت الاحتساب، وهو الإخلاص لله وابتغاء مرضاته وثوابه بالإتيان بالعبادة على الوجَهِ الذي شرعها الله تعالى لأجله، وهو في الصيام ما تقدم بيانه في فاتحة هذا الكلام، وفي الحديث المتفق عليه في الكتب الستة: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) ، وفي رواية: (إيمانًا واحتسابًا ونية) ، وقد يصوم الإنسان رياءً أو تطببًا أو تعودًا لا تعبدًا، والتعبد بالصيام لا ينافي قصد منافعه البدنية والاجتماعية، من حيث إن الله هدانا إليها؛ لأنه شرع لنا العبادة لمنفعتنا لا لإعانتنا وإتعابنا. فينبغي لكل مؤمن أن يلاحظ بصيامه باعث الإيمان بالله والإذعان لدينه الذي شرعه لخير العباد؛ لأنه غني عنهم وعن صيامهم وسائر أعمالهم، وأن يلاحظ طلب مرضاته وثوابه بطاعته، وشكره على جعل تربيته له وهدايته لمنافعه في الدنيا سببًا لنيل نعيمه وكرامته في الآخرة، وأن يتذكر عند التألم من الجوع والعطش أن الله تعالى يريد أن يهذبه ويقوي عزيمته باحتمال الآلام التي تطلق اختيارًا، حتى يسهل عليه حمل مثلها، وما هو أشد منها إذا اضطر إليه اضطرارًا ، وحتى يكون إنسانًا كاملاً لا تعبث به الشهوات الجسدية ولا الأهواء النفسية، وإن عبد الشهوة التي لا يستطيع مخالفتها يجني على بدنه فينهك صحته، ويجني على ماله فيتلفه، ويجني على عرضه فيثلم شرفه، ويجني على وطنه فيضيع حقوقه، ويجني على دينه فيخسر دنياه وآخرته. وينبغي للصائم إذا كان ملكًا أو أميرًا أو غنيًّا كبيرًا أن يلاحظ في صومه فوق ما ذكر أن الله تعالى يحب أن يهذب بهذا الصيام نفسه بإشعاره المساواة بينه وبين الضعفاء والفقراء من العمال والصناع، لكي يتقي الكبرياء والبخل والقسوة، ويزداد علمًا بقيمة ما أوتيه من الجاه والحرمة، وما امتاز به من النعمة، فيشكر الله تعالى على ذلك باحترام من دونه، والإفاضة على الفقراء والمساكين من فضل ماله، فيحبه الله ويحببه إلى خلقه، ويرضي كل ذي حق بحقه، وإن لم يفعل هو وأمثاله هذا يحنق الفقراء عليهم، وربما يمدون أيدي الأذى إليهم، بل ذلك واقع ومنذر بأعظم انقلاب اجتماعي في الأرض، ولا يدرؤه إلا الاهتداء بالإسلام، ولا سيما إقامة ركني الزكاة والصيام، كما ينبغي للصائم الفقير والخامل الذي لا يؤبه له أن يعلم أن الله قد ساوى في هذه العبادة وغيرها بينه وبين الملوك والأمراء وكبار الأغنياء تكريمًا له بدينه، كما أوجب عليهم أن يشاركوه بفضل أموالهم، فيكرم نفسه ولا يرضى لها بالذلة والمهانة. ما أجمل الصائمين عندما يتحلقون حول موائد الطعام المرفوعة عند أناس، وصِحَافه الموضوعة على الأرض عند آخرين، وهم ينتظرون في كل قطر وكل بلد تلك الدقيقة أو الثانية التي يسمعون فيها صوت المدفع أو كلمة المؤذن، والأحشاء خاوية، والشفاه ذابلة، واللهاة جافة، ولا أحد يمد يده إلى ما أمامه من كأس دهاق، وأنواع ذواق [3] ، حتى إذا ما طرق المسامع ذلك الصوت المنتظر، امتدت الأيدي إلى ما أعد لها مثل اللمح بالبصر، وانطلقت في أثرها الألسنة بالثناء والدعاء: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله تعالى [4] . وفي الحديث المتفق عليه: (للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه) ، وليست الفرحة عند الفطر بإعطاء النفس الحيوانية حقها وشهوتها المحللة لها فقط، وإن كان هذا حاصلاً ولا غضاضة فيه، بل الأصل في هذه الفرحة ما يشعر به كل من أدَّى عملاً شريفًا عند إكماله له، ولا سيما إذا كان شاقًّا وانتقل منه إلى ما يلذ وترتاح له النفس، وقد جعل الله تعالى لصيام كل يوم لذة، وجعل عاقبة صيام الشهر كله عيدًا، كما جعل يوم إتمام أركان الحج عيدًا؛ لأن في كل من الصيام والحج مشقة بدنية مقرونة بلذة روحية. يا حسرةً على الخاسر المحروم من هذه النعمة الروحية والرياضة البدنية والرابطة الإسلامية، تعس عبد الشهوة، تعس ضعيف الإرادة، الذي يفطر في شهر رمضان، ويقطع هذه الصلة بينه وبين ربه، ويفصم عروة هذه الجامعة التي تربطه بأخوة الملايين من أهل دينه، فإذا كان يفطر؛ لأنه يشق عليه ترك طعامه وشرابه ودخانه مثلاً، فما أشبهه بالعجماوات من الأنعام والحشرات، وليتأمل ما أجمع عليه علماء التربية في هذا العصر في نظام الكشافة من الولدان، وكيف يروضون أبدانهم باحتمال التعب وركوب أنواع المشاق، وإذا كان ترك الصيام إرضاء للملاحدة والمرتدين، ويرضى أن يكون من مقلدتهم العميان المنكوسين، الذين قال فيهم الشاعر: عُميُ القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدًّا فهو شر مكانًا وأضل سبيلاً، وإن غش نفسه أو غشه شياطينه بانتحال الألقاب الخادعة الخاطئة الكاذبة كالحرية والمدنية واستقلال الفكر وتحكيم العقل، ولو حاسب نفسه بفكر مستقل وعقل سليم من الغرور، وتلبيس الأهواء والشهوات، لعلم أنه مغرور يغش نفسه ويخدعها بهذه الأسماء التي يستر بها نقصها وعبادتها لشهواتها. الإفطار في رمضان بغير عذر معصية من الكبائر، واستحلاله واستقباحه والإنكار على شرعه للناس كفر بواح، والمجاهرة به معصية أخرى من أكبر الكبائر؛ لأن ضرر الإفطار وحده قاصر لا يتعدى المفطر، وضرر المجاهر متعد، فإن المجاهرة استهانة بالشرع، وهدم للشعيرة الدينية التي يشترك المسلمون فيها ويمتازون من غيرهم، حتى كأن المفطر ليس منهم، وقدوة سيئة لضعفاء الإيمان أقوياء الشهوات البهيمية تجرؤهم على الفطر وعدم المبالاة بالدين ولا باحترام المسلمين، فالمجاهر بهذه الجريمة من الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويسعون في الأرض فسادًا بإزالة المقوّمات المعنوية والمشخصات الاجتماعية التي تمتاز بها أمتهم وتستقل دون غيرها، وبالفسوق من الآداب والفضائل الشخصية التي ترتقي بها نفوس أفرادها، وتحفظ حقوق جماعاتها. أي أمة تعيش عزيزة كريمة بغير آداب ولا فضائل؟ وكيف يمكن أن تبنى الفضائل على غير قواعد الدين؟ وإذا كان الدين أقوى روابط ال

تاريخ فنون الحديث ـ 5

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

_ تاريخ فنون الحديث (5) كتب الجرح والتعديل الكتب المؤلفة في الجرح والتعديل ذات مسالك مختلفة فمنها خاص بالثقات أو الضعفاء أو المدلسين، ومنها جامع لكل أولئك، ثم منها ما لا يتقيد برجال كتاب معين أو كتب مخصوصة، ومنها ما يتقيد بذلك، ونحن ذاكرون من كل نوع كتبه المشهورة بتوفيق الله وإرشاده. 1- الكتب الجامعة بين الثقات والضعفاء: من الكتب المشتملة على الثقات والضعفاء جميعًا طبقات محمد بن سعد الزهري البصري [1] ، وهو من أعظم ما صنف، يقع في خمسة عشر مجلدًا، جمع فيه الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وقد اختصره السيوطي في كتابه إنجاز الوعد المنتقى من طبقات ابن سعد، وكذلك طبقات خليفة بن خياط [2] ، ومسلم بن الحجاج [3] ، وتاريخ ابن أبي خيثمة [4] ، وهو كثير الفوائد، وتواريخ البخاري [5] ، وهي ثلاثة: كبير، وهو على حروف المعجم، وابتدأه بمن اسمه محمد، وأوسط، وهو على السنين، وصغير. ولمسلمة بن قاسم ذيل على الكبير، وهو في مجلد، ولابن أبي حاتم [6] جزء كبير انتقد فيه على البخاري، وله الجرح والتعديل مشى فيه خلف البخاري، وللحسين بن إدريس الأنصاري الهروي [7]- ويعرف بابن خرم - تاريخ على نحو التاريخ الكبير للبخاري، ولعلي بن المديني [8] تاريخ في عشرة أجزاء حديثية، ولابن حبان [9] كتاب في أوهام أصحاب التواريخ في عشرة أجزاء أيضًا. ولأبي محمد بن عبد الله بن علي بن الجارود كتاب في الجرح والتعديل، ولمسلم رواة الاعتبار، وللنسائي التمييز، ولأبي يعلى الخليلي [10] الإرشاد، وللعماد بن كثير التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل، جمع فيه بين تهذيب المزي وميزان الذهبي مع زيادات وتحرير في العبارات، وهو أنفع شيء للمحدث والفقيه التالي لأثره، ومنها تاريخ الذهبي، والتكملة في أسماء الثقات والضعفاء لإسماعيل بن عمر المعروف بابن كثير الدمشقي [11] وطبقات المحدثين لعمر بن علي بن الملقن [12] ذكر فيها المحدثين إلى زمنه، والكمال في معرفة الرجال له. 2- كتب الثقات: منها كتاب الثقات للعجلي [13] ، وكتاب الثقات لخليل بن شاهين، والثقات لأبي حاتم بن حبان البستي، وكتاب الثقات الذين لم تذكر أسماؤهم في الكتب الستة لزين الدين قاسم بن قطلوبغا [14] ، وهو كبير في أربع مجلدات. ومن هذا النوع الكتب المبينة لطبقات الحفاظ، وقد ألف فيها جمع، فمنهم الذهبي، وابن الدباغ [15] وابن المفضل وابن حجر العسقلاني، والسيوطي ذيل على تأليف الذهبي، وتقي الدين بن فهد، وذيل مؤلفه محمد بن محمد الهاشمي [16] . 3- كتب الضعفاء: منها كتاب الضعفاء للبخاري، والضعفاء والمتروكين للنسائي، ولأبي الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي [17] وكتابه كبير، وقد اختصره الذهبي ثم ذيله كما ذيله علاء الدين مغلطاي [18] ، والضعفاء لمحمد بن عمرو العقيلي [19] ، وكتابه مفيد، وللإمام حسن بن محمد الصنعاني ولمحمد بن حبان البستي وكتابه كبير، ولأبي أحمد بن عدي كتاب الكامل وهو أكمل الكتب في ذلك وأجلها، وعليه اعتماد الأئمة وله ذيل يقال له: الحافل لأبي العباس أحمد بن محمد الإشبيلي المعروف بابن الرومية [20] ، والضعفاء للدارقطني وللحاكم، ولعلاء الدين المارديني [21] ، وميزان الاعتدال للحافظ الذهبي، وهو أجمع ما جمع، طبع في الهند ثم بمصر، وقد ذيل عليه الحافظ زين الدين العراقي في مجلدين، وقد التقط منه الحافظ ابن حجر من ليس في تهذيب الكمال وضم إليه ما فاته في الرواة وتراجم مستقلة في كتابه المسمى لسان الميزان وله كتابان آخران، وهما تقويم اللسان وتحرير الميزان، ويوجد عدا ذلك كتب كثيرة. 4- كتب المدلسين: أول من أفرد المدلسين [22] بالتصنيف الإمام حسين بن علي الكرابيسي [23] صاحب الشافعي، ثم صنف فيه النسائي ثم الدارقطني، ونظم الذهبي في ذلك أرجوزة، وتبعه تلميذه أحمد بن إبراهيم المقدسي، فزاد عليه من جامع التحصيل للعلائي شيئًا كثيرًا مما فاته، ثم ذيل الحافظ زين الدين العراقي [24] في هوامش كتاب العلائي أسماء وقعت له زائدة، ثم ضمها ولده ولي الدين إلى من ذكره العلائي وجعله تصنيفًا مستقلاً، وزاد فيه من تتبعه شيئًا يسيرًا، وصنف إبراهيم بن محمد الحلبي [25] كتابه التبيين في أسماء المدلسين زاد فيه عليهم قليلاً، وجميع ما في كتاب العلائي ثمان وستون نفسًا، زاد عليهم ابن العراقي ثلاث عشرة نفسًا، وزاد عليه الحلبي اثنتين وثلاثين نفسًا، وابن حجر العسقلاني تسعًا وثلاثين نفسًا، فجملة ما فيه اثنتان وخمسون نفسًا ومائة وللسيوطي رسالة في أسماء المدلسين. 5- المصنفات في رجال كتب مخصوصة: منها رجال البخاري لأحمد بن محمد الكلاباذي [26] ، ورجاله أيضًا لمحمد بن داود الكردي [27] ، ورجال مسلم لأحمد بن علي المعروف بابن منجويه [28] ، ورجاله أيضًا لأحمد بن علي الأصبهاني [29] ، وممن جمع بين رجالهما محمد بن طاهر المقدسي [30] جمع بين كتابي ابن منجويه والكلاباذي، وأحسن في ترتيبه على الحروف، واستدرك عليهما، وكذلك جمع بينهما هبة الله المعروف باللالكائي [31] وممن أفرد رجال السنن لأبي داود حسين بن محمد الحباني [32] ، وجمع رجال الموطأ السيوطي، ورجال المشكاة لصاحبها محمد بن عبد الله الخطيب، ورجال الأربعة: موطأ مالك، ومسند الشافعي، ومسند أحمد، ومسند أبي حنيفة، لابن حجر العسقلاني، ورجال السنن الأربع، سنن الترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه، لأحمد بن أحمد الكردي [33] ، وممن جمع رجال الكتب الستة أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن سرور المقدسي [34] في كتابه الكمال في معرفة الرجال، وتهذيبه لجمال الدين يوسف بن الزكي المزي [35] وهو كتاب كبير يقع في ثلاثة عشر مجلدًا لم يؤلف مثله، وإكمال التهذيب لعمر بن علي بن الملقن [36] وزوائد الرجال على تهذيب الكمال للسيوطي، وللتهذيب مختصرات كثيرة، منها الكاشف للحافظ الذهبي قال فيه: هذا مختصر في رجال الكتب الستة: الصحيحين، والسنن الأربع مقتضب من تهذيب الكمال للمزي اقتصر فيه على ذكر من له رواية في الكتب الستة دون من عداهم مما في كتاب المزي، ومنها تهذيب التهذيب لابن حجر، وهو أكمل من كاشف الذهبي، وقد أضاف إليه ابن حجر بعض التراجم التي عثر عليها، كما اختصره في كتابه تقريب التهذيب، وقد جمع الحافظ أبو المحاسن الدمشقي [37] في كتابه التذكرة رجال العشرة. *** (ج) وفيات المحدثين كثير من الكتب الجامعة لرجال الحديث يتعرض في الأكثر لذكر الوفيات، وقد أفرد الوفيات بالتأليف جمع من العلماء، فقد ابتدأ أبو سليمان محمد بن عبد الله الحافظ بجمع وفيات النقلة من وقت الهجرة، فوصل إلى سنة 338، ثم ذيل على كتابه أبو محمد بن عبد العزيز الكتاني الحافظ [38] ، ثم ذيل على الكتاني هبة الله بن أحمد الأكفاني ذيلاً صغيرًا، ويشتمل على نحو عشرين سنة، وصل فيه إلى سنة 485، ثم ذيل على الأكفاني علي بن مفضل المقدسي [39] إلى سنة 581، ثم ذيل على ابن المفضل عبد العظيم بن عبد القوي المنذري [40] ذيلاً كبيرًا في ثلاث مجلدات سمّاه التكملة لوفيات النقلة، ثم ذيل على المنذري تلميذه عز الدين أحمد بن محمد إلى سنة 674، وذيل على عز الدين أحمد بن أيبك الدمياطي إلى سنة 749، وذيل على ابن أيبك الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي [41] ، والكل مرتب على حسب وفياتهم في السنين والشهور لا على ترتيب حروف الهجاء. ومن الكتب المفردة بوفيات النقلة تاريخ البرذالي القاسم بن محمد الدمشقي [42] ، وقد ذيل عليه تقي الدين بن رافع من سنة 737 إلى سنة 774، وذيل ذيل تقي الدين بن حجر، ومنها: وفيات الشيوخ لمبارك بن أحمد الأنصاري، ولإبراهيم بن إسماعيل المعروف بالحبال [43] كتاب الوفيات. *** (د) معرفة الأسماء والكنى والألقاب من رواة الحديث من يكون مشهورًا باسمه دون كنيته، أو لقبه، أو مشهورًا بكنيته أو لقبه دون اسمه، وقد ألف العلماء في بيان أسماء ذوي الكنى، وبيان كنى المشهورين بالأسماء، وكذلك ألفوا في بيان ألقاب ذوي الأسماء، كما ألفوا في نحو ذلك حتى لا يشتبه راوٍ بآخر، ولا يظن لقب شخص أو كنيته اسمًا لثان، فيعد الثقة ضعيفًا، أو الصادق كاذبًا أو يعكس الأمر. فممن ألّف في النوع الأول علي بن المديني والنسائي والحاكم وابن عبد البر وكثيرون غيرهم، وللحافظ الذهبي كتاب المقتنى في سرد الكنى، وهو من أجلّ الكتب المؤلفة في هذا النوع. وممن كتب في بيان كنى المعروفين بالأسماء أبو حاتم بن حبان البستي، وممن صنف في الألقاب أبو بكر الشيرازي [44] وأبو الفضل الفلكي في كتابه منتهى الكمال، وابن الجوزي [45] ، وابن حجر العسقلاني. *** المؤتلف والمختلف والمتفق والمفترق والمشتبه من الأسماء والأنساب من الأسماء والأنساب ما يأتلف في الخط صورته، ويختلف في اللفظ صيغته، كسَلام بتخفيف اللام وسلام بتشديدها، ويسمى المؤتلف والمختلف، ومنها ما يتفق خطه ولفظه، ولكن يفترق شخصه كالخليل بن أحمد اسم لعدة أشخاص، ويسمى المتفق والمفترق، ومنها ما تتفق فيه الأسماء خطًّا ونطقًا وتختلف الآباء أو النسب نطقًا مع ائتلافها خطًّا، أو بالعكس كمحمد بن عقيل بكسر القاف، ومحمد بن عقيل بفتحها، وشريح بن النعمان، وسريج بن النعمان، الأول بالشين المعجمة والحاء المهملة، والثاني بالسين المهملة والجيم، ويسمى هذا النوع بالمشتبه. ومعرفة هذه الأنواع مهمة، قال علي بن المديني: أشد التصحيف ما يقع في الأسماء، ووجهه بعضهم بأنه شيء لا يدخله القياس ولا قبله شيء يدل عليه ولا بعده؛ ولأنه يخشى أن يظن الشخصان شخصًا واحدًا إذا اتفقت الأسماء، وفي ذلك ما فيه من الخلط بين الرواة. ولقد ألّف المحدثون في كل هذه الأنواع، فصنف في النوع الأول أبو أحمد العسكري، لكنه أضافه إلى كتاب التصحيف له، ثم أفرده بالتأليف عبد الغني بن سعيد [46] فجمع فيه كتابين: كتابًا في مشتبه الأسماء، وكتابًا في مشتبه النسبة، وجمع شيخه الحافظ الدارقطني [47] كتابًا حافلاً، ثم جمع أحمد بن علي الخطيب [48] ذيلاً سمّاه المؤتلف تكملة المختلف، ثم جمع الجميع أبو نصر علي بن هبة الله بن ماكولا [49] وجعله كتابًا حافلاً سمّاه الإكمال، واستدرك عليهم ما فاتهم في كتاب آخر جمع فيه أوهامهم وبينها، وكتابه من أجمع ما جمع في ذلك، وهو عمدة كل محدث بعده، وقد استدرك عليه محمد بن عبد الغني المعروف بابن نقطة الحنبلي [50] ما فاته أو تجدد بعده في مجلد ضخم، ثم ذيل عليه منصور بن سليم [51] في مجلد لطيف، وأبو محمد بن علي الدمشقي [52] ، وذيل على ذيلهما علاء الدين بن مغلطاي [53] ، لكن أكثره في أسماء الشعراء وأنساب العرب، وقد جمع الذهبي في ذلك كتابًا مختصرًا جدًّا اعتمد فيه على الضبط بالقلم، فكثر فيه الغلط والتصحيف المباين لموضوع الكتاب، وقد وضحه الحافظ ابن حجر في كتابه تبصير المنتبه بتحرير المشتبه، وهو مجلد واحد ضبطه بالحروف وزاد عليه شيئًا كثيرًا مما أهمله الذهبي، أو لم يقف عليه، وقد ألف فيه أيضًا يحيى بن علي المصري المؤرخ [54] ومحمد بن أحمد الأبيوردي [55] ،وعبد الرزاق المعروف بابن الغوطي [56] في كتابه تلقيح الأفهام في المختلف والمؤتلف، وعلي بن عثمان المارديني [57] . وممن ألف في النوع الثاني أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتابه المتفق والمفترق، وكذلك ألف الخطيب في النوع الثالث في كتابه تلخيص المتشابه، ثم ذيل عليه هو أيضًا بما فاته، وكتابه كثير الفائدة. *** علم ناسخ الحد

الخيال في الشعر العربي ـ 5

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ الخيال في الشعر العربي (5) التفاضل في التخييل أتينا في الفصل الذي كنا بصدد تحريره على الوجوه التي تفضل بها صور المعاني التخييلية، أعني غرابة الجامع بين الأجزاء المؤلفة، ثم التوسع في الخيال وبعده عن البساطة مع الالتئام بالذوق السليم، فينصح لمن انتصب للموازنة بين الشعراء في التخييل أن يتخذ هذه الوجوه مدخلاً للحكم وأساسًا يبني عليه في التفضيل. تعقد الموازنة تارةً بالنظر إلى معنى خاص يتناوله كل من الشاعرين، وهذا إما أن تتحد الواقعة فيه أو تختلف، وتارةً تجري في غرض خاص يصوره كل منهما بغير ما يصوره به الآخر، فهذه ثلاث حالات تضاف إليها حالة رابعة، وهي المفاضلة بين الشاعرين يختلفان معنًى وغرضًا، وحالة خامسة وهي أن تقام الموازنة بين الشاعرين على أن يقضى لأحدهما بالأفضلية المطلقة. الحالة الأولى: أعني ما تعقد فيه الموازنة بالنظر إلى معنًى خاص والواقعة واحدة؛ كقول أبي عبد الله بن الزين النحوي يصف بركة نثر عليها الياسمين: نثر الغلام الياسمين ببركة ... مملوءة من مائها المتدفق فكأنه نثر النجوم بأسرها ... في يوم صحو في سماء أزرق [1] فإذا قِسته بقول علي بن ظافر في هذه البركة نفسها: زهر الياسمين ينثر في الماء ... أم الزهر في أديم السماء ظل يحكي عقود در على صدر ... فتاة في حلة زرقاء رأيت كلاًّ من الشاعرين شبَّه الياسمين بالنجوم بادية في السماء، وتشبيه ابن الزين في هذا الوجه أجود؛ لأنه ذهب به الخيال إلى تفاصيل لم يأت عليها ابن ظافر، فإذا التفت إلى تشبيه ابن ظافر في البيت الثاني رأيت خطور هيئة النجوم والسماء عند مشاهدة الياسمين يطفو فوق الماء، أقرب من خطور عقود الدر تتقلدها الفتاة المتبرجة في حلة زرقاء، فيكون تشبيه علي بن ظافر أجود؛ لندرة المشبه به وقلة ابتذاله بمشاهدة كل ذي عين باصرة، ولولا أن ابن الزين أسند نثر النجوم إلى الغلام، ونبه على كثرة الياسمين بقوله: نثر النجوم بأسرها لانتفت عنه المزية، وكان تشبيهه من التخيلات الموضوعة في طريق كل من خطر على باله أن يذهب في تصوير المعنى من باب التشبيه، ومن هذا الضرب قول ابن المنجم يصف مطلع الهلال عند غروب الشمس: وعشاء كأنما الأفق فيه ... لازرود مرصع بنضار قلت لما دنت لمغربها الشمس ... ولاح الهلال للنظار أقرض الشرق صنوه الغرب دينارًا ... فأعطاه الرهن نصف سوار مع قول ابن قلاقس ولم يطلع على ما قاله ابن المنجم: لا تظنوا الظلام قد أخذ الشمس ... وأعطى النهار هذا الهلالا إنما الشرق أقرض الغرب دينارًا ... فأعطاه رهنه خلخالاً فقد سار الشاعران في التخييل على طريق واحد، وزاد ابن المنجم على ابن قلاقس نظرة في السوار فلم يأخذ منه إلا المقدار الذي يطابق حال الهلال وهو الشطر، فكان تخيله أحكم وقعًا. الحالة الثانية: وهي ما تكون الواقعة فيها مختلفة كقول بعضهم: خلقنا لهم في كل عين وحاجب ... بسمر القنا والبيض عينًا وحاجبا مع قول ابن نباتة: خرقنا بأطراف القنا في ظهورهم ... عيونًا لها وقع السيوف حواجب فقد اتفق الشاعران على تصوير المعنى وهو تأثير السيوف والرماح في أجسام الأعداء، ولكن تصوير ابن نباتة أجود؛ لأنه يزيد على الأول بما فيه من الإيماء إلى انهزامهم وتوليهم بظهورهم حتى تصنع فيها الرماح والسيوف عيونًا وحواجب. ولا يغيب عنك أن تفضيل بيت ابن نباتة إنما يتم إذا تماثلت الواقعتان، أو كان كل من البيتين صادرًا عن تخييل محض، وأما إذا قصد كل من الشاعرين وصف الواقع، وكان الأعداء المشار إليهم في البيت الأول لم ينهزموا، بل ثبتوا للطعن في وجوههم إلى أن وقعوا على مضاجعهم، أو لم ينلهم السلاح بعد أن ولوا مدبرين - لم يكن لك أن تفضل عليه بيت ابن نباتة من جهة التخييل، وإن أشار إلى معنى يعود إلى مدح قومه بالشجاعة والمهارة في الطعن والضرب. ومن قبيل هذا الضرب قول عبد الرحمن الفنداقي في وصف حال الندى وتقاطره من زهر النرجس: والندى يقطر من نرجسه ... كدموع أسكبتهن الجفون وقول ابن زيدون في مثله: تلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندى فيه حتى مال أعناقا كأن أعينه إذ عاينت أرقي ... بكت لما بي فجال الدمع رقراقا ومما يفضل به هذان البيتان على بيت الفنداقي إيماؤهما إلى سبب إرسال الأزهار للمدامع، وهو معاينتها لأرق الشاعر وإشفاقها عليه. الحالة الثالثة: وهي ما يقصد الشاعر أن فيه إلى غرض واحد ويختلفان في المعنى الذي يصورانه فيه، ومثال هذا أن يكون الغرض وصف شخص بالندى، فيقع الاختلاف في الفريق الذي يقرر به هذا الوصف كما قال بعضهم: سألت الندى هل أنت حر فقال لا ... ولكنني عبد ليحيى بن خالد فقلت شراء قال: لا بل ... وراثة توارثني عن والد بعد والد وقال الآخر: ولما رأيت البحر في الجود آية ... ومن جوده الدر الثمين المقلد سألته من في الناس علمك الندى ... فقال أمير المؤمنين محمد ومثل هذا مما يرجع بالتفضيل فيه إلى القوانين السابقة، فما كان أقل خطورًا على الذاكرة، أو أوسع نطاقًا في التخييل، أو ألذ وقعًا على الذوق، فهو المشهود له بمزية الرجحان، ومن الجلي أن تشبيه الكريم بالبحر من المعاني التي وعاها كل قلب وتناولها كل لسان، فصاحب البيتين الأخيرين بنى محاورته على أمر اشتهر ذكره عند الحديث في هذا الغرض، وإنما زاد عليه شيئًا من التخييل، فتكون المحاورة الأولى أبدع؛ لأنها قائمة من أول حالها على شعور غريب فضلاً عمَّا امتازت به من الإيماء إلى دعوى قصر الندى على الممدوح، وهذا ما يجعلها أبلغ في الدلالة على ما يرمي إليه الشاعر من غرض الوصف بالسخاء. ويدخل في هذا القسم قول عنترة: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المتبسم مع قول بعضهم: ولقد ذكرتك في السفينة والردى ... متوقع بتلاطم الأمواج وعلى السواحل للأعادي جولة ... والليل مسود الذوائب داجي فعلت لأصحاب السفينة ضجة ... وأنا وذكرك في ألذ تناجي فغرض الشاعرين واحد؛ وهو أنهما ذكرا الحبيب في حال تقتضي لشدة هولها عظم خطرها دهشة القلب وتفرغه لانتظار الفرج أو الاحتيال على وسيلة النجاة، وإنما يصح لنا أن ندخل للمفاضلة بين الشعرين إذا كانا من التخييل المحض، فنقول: إن شعر عنترة أبلغ؛ لأنه صور ذكره للحبيب في حال انتشاب الخطر به حيث ترتوي الرماح وتقطر السيوف من دمه الذي هو مادة حياته، ثم تمنى زيادة الاتصال بالسيوف التي هي مهبط العطب حين خيلت له ثغره الباسم ببريقها، أما شاعر السفينة فأقصى غمراته توقع الهلاك بما أحاط به من أسبابه القريبة مزية من تذكر الحبيب، وقد أنشب به الردى مخالبه أعظم من مزية من يتذكره وهو يبصر الخطر ولم يبسط إليه يده، فإن كان كل من الشاعرين حكى واقعة عرضت له في حياته فلا تفاضل بينهما إلا من جهة تأليف اللفظ وصفاء ديباجته. الحالة الرابعة: وهي ما يختلف فيه الشعران معنًى وغرضًا، وعقد المفاضلة في مثل هذا النوع قلما يخطر على بال الأديب، ولو قصد إلى ذلك لوجد المسلك وعرًا؛ إذ من المحتمل أن يكون كل من الشعرين ورد على أبدع غاية ممكنة في المقصد الذي سيق إليه، وإن كان أحدهما أوسع نطاقًا في الخيال، فلو نظرت إلى قول بشار: كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه سهل عليك الدخول إلى المفاضلة بينه وبين قول ابن المعتز: وعم السماء النقع حتى كأنها ... دخان وأطراف الرماح شرار ولو عمدت إلى الموازنة بينه وبين قول أحمد بن دراج يصف حالة وداعه لزوجته وابنه الرضيع: تناشدني عهد المودة والهوى ... وفي المهد مبغوم النداء صغير عيي بمرجوع الخطاب ولحظه ... بموقع أهواء النفوس خبير أو قول بعضهم: لئن بكيت دمًا والعز من شيمي ... على الخليط فقد يبكي الحسام دما لم تجد الطريق إلى التفضيل أمرًا ميسورًا، وليس لك أن تعول على ابتهاج النفس واهتزازها وتجعل تفاوته ميزانًا للتفاضل؛ لأن شدة الابتهاج لسماع الشعر قد تكون تابعة للعواطف والأهواء، فمن رقت عاطفته لولده الصغير حتى كاد قلبه يذوب لنظراته المكحولة بالتبسم يهتز لقول أحمد بن دراج: ولحظه بموقع أهواء النفوس خبير. بأشد مما يهتز لغيره، ومن لم يذق حلاوة العطف على البنين، وكان كلفًا بمواقع الحروب، مغرمًا بالحديث عن آثارها يلتذ ببيت بشار أكثر من التذاذه ببيت ابن دراج وما ذكر بعدهما. فلا أنكر أن يكون بين التخيلات المختلفة في المعنى والغرض فرق جلي، وتفاوت واسع من جهة التركيب أو الغرابة، فيبني عليه الأديب حكمه بالتفضيل، وإنما أعني أن الأشعار المتفقة في معنى أو غرض تجد المدخل للمفاضلة بينها سهلاً؛ إذ يتبين لك التفاوت بينها في التركيب أو الغرابة من غير إطالة نظر، وعلى فرض اتحادهما في ذلك يمكنك الرجوع إلى وقعها على حاسة الذوق وأخذها بالروح التي يتقوم بها المراد من الكلام. وأما المختلفة في المعنى والغرض فيتيسر القضاء فيها متى كان التفاوت بينها جليًّا، وأما إذا كانت في مراتب متقاربة في الغرابة والتركيب والتمكن من روح المعنى أو الغرض الذي أفرغ فيها، فباب الحكم فيها لا يطرقه إلا الماهرون في هذه الصناعة حيث وصلوا إلى أن هذا الشعر لم يتجاوز في الغرض الذي عبر عنه الدرجة الوسطى مثلاً، وأن الآخر انتهى في وجهته إلى غاية ليس وراءها مرتقى. وقد يكون مناط التخييل أمرًا واحدًا، ويختلف نظر الشاعرين بتوجه أحدهما إلى حال أو صفة قد أخذ نظر الآخر بغيرها فيصير التخييل بهذا من قبيل التخييل في أمرين مختلفين في خفاء التفاضل بينهما، وهذا كما قال الوزير أبو فارس يصف النهر من جهة منظره: فنضنض ما بين الغروس كأنه ... وقد رقرقت حصباؤه حية رقطا وقال أبو القاسم الأبرش يصفه من جهة خريره: وقال النهر يشكو من حصاه ... جراحات كما أن الجريح وقد يجيد أحد الشاعرين من جهة الغرابة، ويجيد الآخر من حيث التركيب كقول الصنوبري يصف الشمعة: كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل مع قول الأرجاني يصفها أيضًا: تنفست نفس المهجور إذ ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يذكيها فإن تشبيه الشمعة حين تدب فيها النار وتتناقص شيئًا فشيئًا إلى أن تذهب في الجو هباءً منثورًا بعمر الفتى حين ينقضي ساعة فساعة إلى أن يلتقي الأجل بآخر نفس منه فيعود إلى الفناء، تشبيه أدق وأخفى من تشبيهها بصَبٍّ ذكر عهد الخليط فقدحت الذكرى في مهجته وجدًا بات يحترق بلوعته الملتهبة، ولكن هذا التشبيه أوسع نطاقًا وأحلى مساقًا. وربما فاق أحدهما من جهة الغرابة، وفاقه الآخر من جهة المطابقة لحال المعنى، كقول ابن الخطيب يصف ليلة: وعشت كواكب جوها فكأنها ... ورق تقلبها بنان شحيح وقول عنترة: أراعي نجوم الليل وهي كأنها ... قوارير فيها زئبق يترجرج فتشبيه ابن الخطيب أدق وأخفى، وتشبيه عنترة أشد مطابقة لحال النجوم. الحالة الخامسة: وهي ما يجري فيه تفضيل أحد الشاعرين على آخر بإطلاقه، وهذا لا يستقيم إلا ممن أتى على معظم شعرهما حتى عرف الذين يستوفي في تخيلاته شرائط الجودة أكثر من غيره، ولا سيما إذا اهتدى للمقياسة بينهما في كثير من المعاني أو الأغراض التي يتفقان فيها. ومن الخطأ الحكم بتفوق شاعر على غيره لمجرد تخييل بديع يتفق له في بيت أو أبيات، فربما ترجح شاعر في معنى مرة، وفاقه غيرُه في معان أخرى، فلا يصح لك متى وقفت على قول ابن زمرك: وجرد من غم

بحث أبدية النار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بحث أبدية النار حضرة مولانا السيد السديد، الأستاذ الأكبر محمد رشيد رضا، أدام رشده الرب الفعال لما يريد، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد اطلعت على جزئي المنار الأغر الأول والثاني من المجلد الثاني والعشرين، فألفيت بهما وجوه الفرق بين الجنة والنار المنقولة عن ابن القيم - رحمه الله - بدوام الجنة وفناء النار، بخلاف ما عليه المسلمون [1] من دوامهما معًا بدوام الله تعالى، وهو الحق الموافق للمعقول والمنقول والحكمة، وأما الشُّبَهْ التي ذكرها ابن القيم فما هي إلا سراب، وقد عجبنا من تحسين فضيلتكم لتلك الوجوه وأنها تفيد المارقين، وأنها الموافقة للغة دون الاصطلاح الكلامي مما كاد يكون صريحًا في الميل لها، ومما زادني عجبًا قول فضيلتكم في نهاية تعقيبها بأنها تنفع المارقين، ولا تضر المؤمنين بقول الجمهور مستدلين أو مقلدين، فكيف الجمع بين متنافيين في عقيدة يجب توحيد الحق فيها [2] ، على أن ابن القيم نفسه لم يجزم بتلك الوجوه بدليل قوله عقبها: (فإن قيل: فإلى أين انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف مضاعفة؟ قيل: إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (هود: 107) إلخ، وليس في هذه الآية ما يدل على فناء النار أصلاً، وإذا جاز تأويلها مع آيات التأبيد الكثيرة فأي مانع يمنع من تأويل قوله تعالى في الجنة: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود: 108) بأنه غير مقطوع ما دامت الجنة، كما قيل في العذاب، فالفرق بينهما تحكم بدون موجب أصلاً، ودعوى أن الجنة مقتضى صفات الذات والنار مقتضى صفة الفعل ليست بشيء؛ لأن العذاب الدائم مقتضى صفة القهر الدائمة كما سيأتي، وقد ذكر ابن القيم تلك الوجوه أيضًا في كتابه شفاء العليل، وتوقف فيها ثم قال إثرها: أو من كان عنده فضل علم فليحدثه. إشارة إلى عدم كفايتها في الدلالة مع الاجتهاد في تحسينها كل التحسين بذكر أشياء حسنة في نفسها لكنها بعيدة عن المقصود، ولقد وجدنا تلك الوجوه يناقض بعضها بعضًا، فتارة يذكر فيها استحالة دخول الكافر الجنة كقوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف: 40) وتارةً تجيز العفو عن الكافر بعد تطهيره بمكثه طويلاً في العذاب وبعد فناء النار، ولا معنى للعفو والتطهير إلا إدخاله الجنة بعد ذلك، فخالف في ذلك صريح قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} (النساء: 48) هذه بعض ملاحظاتي على ذكر تلك الوجوه الفاسدة والشبه الكاسدة بمجلة المنار الأغر، ولم يكن بد من البحث وراء الحقيقة، فنقول بالاختصار: إن تلك الوجوه ترجع إلى خمسة أمور: أولها: مخالفة أبدية النار للعقل، ثانيها: النقل لا يفيد الأبدية، الثالثة: الأبدية مخالفة لكون دائرة رحمة الله أوسع من دائرة غضبه، رابعها: لا مانع من توبة الكافر بعد طهارته بالعذاب ولو بعد حين، خامسها: مخالفة الأبدية للحكمة. وسنبين بطلان الجميع إن شاء الله، فنقول: أما الأول: فهو أن هؤلاء الكفار لما زاولوا الكفر أو المعاصي عنادًا أو إهمالاً مرة بعد مرة مع الإصرار عليها حتى صارت ملكة راسخة، فهم خبثت ذواتهم خبثًا دائمًا، وأصروا على كفرهم وعصيانهم أبد الآباد، وعزموا على أن يدوموا عليه ولا يتركوه بحال من الأحوال، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} (الأنعام: 28) ودعوى أن ذلك بالوقوف فقط، وعدم العذاب بالفعل [3] مردود بأنه لا فرق بين رؤية العذاب واقتحامه، على أنهم لم يطلبوا الرجعة عند رؤيته فقط بل طلبوها مرارًا بعد مكثهم في العذاب؛ لقوله تعالى زجرًا للقائل منهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} (المؤمنون: 99-100) ، وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} (المؤمنون: 107-108) ، ونحو ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الصدد، فكان دوام العذاب جزاءً وفاقًا على قدر الجريمة والمعصية، ألا ترى لو أن ملكًا وضع قانونًا لرعيته بيّن فيه عقاب كل جريمة، واقتضى نظام رعيته، وأمن كل واحد منهم على نفسه وماله وعرضه أنه جعل عقوبة جريمة القتل مثلاً السجن الدائم مع الأشغال الشاقة، وأعلن ذلك على رعيته، ثم ارتكب بعد ذلك واحد منهم تلك الجريمة، فعاقبه عليها بمقتضى قانونه الذي علم الجاني قبل إقدامه على الجناية، فالعقل لا يستقبح ذلك، بل يعده العقلاء عدلاً وحسنًا، فكذلك صنع الله الحكيم في خليقته جعل عقاب الكفر عذابًا أليمًا دائمًا في دار الآخرة؛ لأنه جحود بنعمة من لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته، وقد بين كل ذلك على لسان رسله، ونصب الأدلة في الأنفس والآفاق، ووعد أولئك الكفار أنهم إن تابوا - أي: في الدنيا - يغفر لهم ما قد سلف فضلاً وكرمًا، وقال سبحانه: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} (الأنفال: 38) ، ثم إنه لا شك أن الملك إذا وضع قانونًا وجعل فيه لكل جريمة عقابًا، فإذا لم يجزم الناس بأن ذلك الملك يوقع عقاب كل جريمة على فاعلها كان جعل تلك العقوبات في ذلك القانون عبثا ولا يفيد فائدته المطلوبة، ولولا قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) ما كان العقل يجيز العفو عن غير المشرك، ولكنه حيث قال - وقوله الحق - قلنا بجوازه. وأما الثاني: فلا شك أنه جاء ما لا يحصى في القرآن والسنة المتواترة مما يدل على خلود الكفار في النار والعذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها، ودعوى عدم صراحة الآيات والأحاديث في دوام العذاب، فهو بفرض تسليمه يرد بأنها: إن لم تكن صريحة فيه فهي فيه ظاهرة، وقد صرح الأصوليون بأن دلالة الظواهر الكثيرة على ما يظهر منها قطعية، على أن قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} (المائدة: 37) بعد قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} (المائدة: 37) كما ينفي موتهم فيها مع بقائها ينفي فناءها حيث وصف نفس العذاب الحاصل بالنار بأنه مقيم؛ أي: دائم، ولولا هذه النكتة لم يكن له فائدة بعد قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} (المائدة: 37) كما لا يخفى. وأما الثالث: فمبني على أن الكفار أكثر من المؤمنين كما يقتضيه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ} (هود: 17) فيكون المعذبون الخالدون أكثر من المنعمين، فكيف تكون دائرة رحمته أوسع من دائرة عقابه؟ نقول: إن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم فقط، وبنو آدم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور والولدان: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} (المدثر: 31) , {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 8) فيكون أهل الرحمة أكثر أهل من أهل الغضب، على أن أهل النار مرخومون في عذابهم، فإن ما عند الله من كل شيء لا يتناهى، وبعض الشر أهون من بعض، وهم مختلفون في العذاب، وإن ظن كل واحد من أهلها أنه أشد الناس عذابًا، لكن الكلام إنما هو في الواقع ونفس الأمر، على أن الجميع ما داموا في دائرة الوجود والحياة فهم في دائرة رحمة الله والفيض العميم، فإن كلاًّ منهما من النعم التي يحافظ عليها الإنسان ويتجشم لأجلها أبشع الأدوية. وأما الرابع: فلم يقل أحد: إن التوبة تنفع في الآخرة، فأما من تاب في هذه الدار - دار العمل - من الكفر، فقد أبدل الكفر القبيح بضده الحسن اختيارًا منه، وامتثالاً لأمر الله تعالى، فهناك كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها العمل أو يضر، ويمكن للعبد باختياره أن يتدارك ما فاته من الأعمال الحسنة، وأن يندم على ما عمله من الأعمال القبيحة فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن، قال تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود: 114) فلا بدع في مغفرة الله جودًا وكرمًا ورحمة وفضلاً، وأما في الدار الآخرة التي هي دار الجزاء على الأعمال، لا دار عمل فلا تنفعهم التوبة أصلاً، فقد اختلفت الداران وامتاز الفريقان {فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) وانتهى الأمد بعد الذي ضربه الله على لسان رسله للعمل وقبول التوبة، وقد رأينا في هذا أن الدواء ينفع وقتًا محدودًا، فإن فات ذلك الوقت واستحكم الداء فلا ينفع الدواء. وأما الخامس: وهو أهمها، فسنبين بعون الله تعالى من وجوه الحكمة في دوام عذاب الكفار وعدم فنائها ما يكون ناقضًا للأساس الذي بنى عليه ابن القيم تلك العلالي من مخالفة دوام العذاب للحكمة، فنقول: أما حكمة النهي عن الشرور والوعيد عليها؛ أي: وعيد الكفار بتأبيد العذاب وغيرهم بالعذاب المؤقت فهي إرادة تقليل وقوعها حتى لا يفسد الكون ويتم له ما قدر من الأجل، ونحن نرى المؤمن المصدق بوعيد الله ورسوله تصده الشهوات والشياطين عن الانزجار بالوعيد مهما بلغ من الشدة والصرامة؛ اغترارًا بكون العذاب مهما طال ينقطع، فكيف بالكافر المكذب بالوعيد إذا كان العذاب الذي توعد به منتهيًا؟ أفيصح أن يكون توعدهم به زاجرًا لهم عن كفرهم كزجر الوعيد بالعذاب الدائم؟ أفيبعد أن يكون العليم الحكيم قد علم أنه لو لم يجعل عذابهم دائمًا لما آمن من الناس من يكون إيمانهم مانعًا من مصير الكون إلى الخراب والفساد قبل انتهاء الأجل المقدر له؟ ثم في دوام عذاب الكفار دوام ظهور آثار طائفة من أسمائه تعالى كالقهار والمنتقم، كما أن في بقاء نعيم المؤمنين بقاء آثار جملة أخرى منها كالجواد والكريم، ومعلوم أن جميع مدلولات أسمائه تعالى صفات كمال يجب بقاؤها له، وفناء النار وأهلها ينافي ذلك، ولا جائز أن يقال: يمكن أن يخلق بعد هذا الفناء خلق يكلفون، فيعاقب المخالف منهم، فيكون مظهر أسماء القهر؛ لأن هذا لم يقل به أحد ولم يدل عليه دليل [4] . ثم من المعروف المألوف أن الإنسان بعد طول النعيم عليه يصير نعيمه كأحد العادات، ليس فيه كبير لذة، وإذا كان مسبوقًا بآلام نسيت الآلام بتتابع النعيم، فلو فنيت النار وأهلها لخفت لذة أهل الجنة وقلت قيمة نعيمهم في نظرهم بعد طول العهد، فكان في دوام تعذيب الكفار الذي استحقوه بكفرهم الذي لا حد لخبثه بعد إقامة الحجج وإزاحة الأعذار دوامًا عظيمًا اغتباط المؤمنين بنعيمهم، واستمرار كمال شكرهم لربهم ومعلوم أن المؤمنين أكثر جدًّا من الكافرين؛ إذ منهم الملائكة الذين لا يحيط بعشر معشار عشرهم إلا خالقهم جل وعلا، وقد تقرر في العقول أن إيجاد الشر القليل لأجل الخير الكثير خير، وقد اعترف هو (ابن القيم) بنحو ذلك فظهر أن لدوام عذاب الكفار عدة حكم: 1- جعل العقاب بحيث يترتب على العلم به غايته التي أريد لأجلها من منع انتشار الكفر إلى حد يفسد الكون قبل أجله المسمى. 2- جعل العقاب مناسبًا للجريمة في عدم التناهي؛ لما علم من أن خبث الكفر لا حد له. 3- دوام ظهور آثار الأسماء الإلهية التي بها تتحقق الألوهية. 4- دوام ابتهاج المنعمين بنعيمهم بالمقايسة بينه وبين ما فيه المعذبون، وقد يشير إلى هذا قوله تعالى: {وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَ

الرحلة السورية الثانية ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (5) حال مسلمي بيروت الاجتماعية قد أصاب مسلمي بيروت في سني الحرب ما أصاب سائر الطوائف في جميع البلاد من تأثير مفاسدها التي أشرنا إليها في الفصول السابقة، ولكن حسنت حالهم الاقتصادية فسبقوا غيرهم بمراحل، وهم وإن كانوا مع إخوانهم في الوطن فرسي رهان في البراعة بالتجارة، قد امتازوا على النصارى واليهود في زمن الحرب بكون نقودهم في صناديقهم، وجل نقود أولئك في المصارف الأوربية التي انقطعت المعاملة بينها وبين البلاد العثمانية، وبكواتهم أجرأ على المجازفة، فاتسع علمهم وعظم ربحهم، واشتروا أملاكًا عظيمة في بيروت ولبنان، وليس هذا ما نبغي من عقد هذا الفصل، وإنما عقدناه للإلمام بحالهم العلمية والاجتماعية. كانت بيروت في السنين الخالية دون دمشق وطرابلس في العناية بالعلوم الغربية من شرعية وأدبية، وإنما كان يمتاز في الجيل والأجيال الواحد بعد الواحد كالشيخ محمد الحوت الكبير الذي فاق علماء سورية المتأخرين بالعناية في علم الحديث، والشيخ أحمد البربير في اللغة والأدب، وانتهت الشهرة في الجيل الماضي إلى ثلاثة من فقهائهم وأدبائهم: الشيخ عبد الباسط الفاخوري المفتي، والشيخ يوسف الأسير، والشيخ إبراهيم الأحدب، وهذا طرابلسي المولد والنشأة، واختار الإقامة في بيروت بعد أن تخرج في طرابلس بالشيخ عبد الغني الرافعي الشهير، وليست بيروت الآن بأقل من طرابلس في عدد طلبة العلوم الشرعية والعربية، ولا في أضعفهم فيها، ولكن دمشق تفضلهما بما سنذكره بعد. وأما الحال الاجتماعية، فقد تجدد فيها للمسلمين ثلاثة أمور ذات شأن كبير: (أحدهما) في ترقي النساء المدني، و (الثاني) الاستعداد للاتفاق مع النصارى والاتحاد الوطني معهم، و (الثالث) الميل إلى مجاراة من حولهم في التعليم والتربية الملية، وإننا نقول في كل منها كلمة: مسلمات بيروت كانت المسلمات في بيروت أشد محافظة على التقاليد القومية من أمثالهن في سائر المدن السورية، فلم تؤثر فيهن عوامل التفرنج الذي غلب على نساء النصارى، لا النافع الصالح منها ولا الضار المفسد ولا عوامل التترك الذي سرى إلى مسلمات دمشق، فكن أشد مسلمات سورية جمودًا، وكان رجالهن راضين بذلك، ثم رغبوا في تعليم البنات، فأنشؤوا لهن مدارس ابتدائية، وأنشأت الحكومة العثمانية مدرسة للبنات في بيروت، كان جميع تلميذاتها من المسلمات؛ لأن النصارى لا يرغبون إلا في مدارس الإفرنج، ثم وجد في بعض شبان المسلمين الذين تعلموا في المدارس الأوربية والأمريكية وأثَّر فيهم التفرنج ميل فَرْنَجَةِ النساء كان الرأي الإسلامي العام يقاومهم فيه، وما زال صديقنا الأستاذ الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت زعيم هؤلاء المقاومين على عنايته بتعليم البنات، وإشرافه عليه في عدة مدارس، حتى إنه شديد الإنكار على تعليمهن العزف بآلة (البيانو) التي لا يكاد يخلو منها بيت من بيوت الطبقات الوسطى في مصر، دع الطبقات العليا في الثروة، ولما عني الاتحاديون من الترك بإفساد آداب مسلمات سورية جريًا على خطتهم التي جعلوا من أوائل قواعدها أن الأمة لا يمكن تحولها من حال إلى حال إلا بهدم عقائدها وأخلاقها وآدبها وتقاليدها، وجهوا كثيرًا من هذه العناية إلى مسلمات بيروت، وحاولوا تعويدهن السكر والتهتك مع مخالطة الرجال، فكان الرأي العام وتشدد المفتي وأنصاره مضعفًا لتأثير هذه العاصفة التي كان يخشى أن تدمر الدين والآداب تدميرًا لا تقوم للأمة بعده قائمة إلا بإصلاح جيل جديد إذا تيسرت وسائل الإصلاح. لا شك في أن عاداتنا وتقاليدنا القومية في النساء والرجال؛ منها ما هو حسن، وهو بقايا آداب الشرع وإصلاح الدين، ومنها ما هو قبيح ضار يجب تغييره بالتدريج، وفي أن ما يراد من التغيير والتجديد في الأمة؛ منه ما هو حسن نافع لا يمكن للأمة الإسلامية أن تجاري سائر الأمم في سعة العيش والعزة والاستقلال بدونه، ومنه ما هو قبيح ضار مفسد لأمري الدين والدنيا جميعًا، ومن سنن الاجتماع المطردة في البشر أن الإفراط في الأمور المتقابلة تظهر به مزية الوسط المعتدل بينهما، وأن استعداد الجمهور الأعظم هو الذي يرجح أحد الطرفين المذمومين، أو الوسط المحمود في العمل، والذي رأيته أن حظ بيروت في المسألة النسائية كان أقرب في هذا الطور إلى الاعتدال. في كل طبقة من المحافظين والمتفرنجين والمتوسطين إفراط وتفريط واعتدال فغلاة الاتحاديين أمرهم فرط؛ إذ كانوا يرون التعجيل بإبطال جميع العقائد والعبادات والعادات، وتكوين الأمة تكوينًا جديدًا في كل شأن، وزعيمهم الدكتور ناظم وطلعت باشا، وكان من المعتدلين منهم أنور باشا؛ إذ كان يرى احترام الشعائر الدينية والاستفادة من الرابطة الإسلامية، بدلاً من قطع روابطها، ويعتقد بعض عارفي أمره أنه صار بمقامه في برقة صحيح العقيدة، محافظًا على الصلوات إيمانًا واحتسابًا لا سياسة ورياء، وبذلك اتسعت مسافة الخلف بينه وبين أولئك الغلاة وزعيميهم، ومن رجالهم المعتدلين عزمي بك الذي كان واليًا على بيروت في زمن الحرب، وقد رأيت الناس فيها معجبين بما كان عليه من الحزم والعزم والعدل والدقة في النظام، ويرون أنه لو كان عند الدول كثير من أمثاله لفاقت بها دول أوربة. وجه عزمي بك عنايته في بيروت إلى ترقية المسلمات في الحضارة العصرية بالتدريج الذي تؤمن معه الفوضى الأدبية وتعويدهن حضور مجامع الرجال العلمية والأدبية وسماع ما يلقون فيها من الخطب المفيدة والشعر العصري، وإسماعهم ما تجود به قرائح المتلعمات منهن، ومشاركتهن لهم في الأمور الاجتماعية، ولولا أن وجد في بيروت أحمد مختار بك بيهم يساعده على ذلك لضاع عزمه وخاب سعيه على ما أوتي من قوة إرادة وسلطة كادت تكون مطلقةً. كان لأحمد مختار بك بيهم جماعة من المرايا لم تجتمع في وطنه لغيره في عصره، كان على كرامة بيته ومكانة عشيرته ذكي الفؤاد طلق اللسان جريء الجنان صادق الوطنية والغيرة القومية عالي الهمة كبير المروءة حسن المعاشرة عارفًا بزمانه وفيًّا لأصدقائه، فكان بذلك من زعماء مسلمي بيروت الذين يرجع إليهم في المهمات، كما كان محترمًا عند سائر الطوائف بآدابه وحسن معاشرته، فكان الناس يحبونه ويحترمونه ويحسنون الظن بإخلاصه حتى فيما ينكرونه من شذوذ بعض أعماله وميله إلى التفرنج، فلم يكونوا يتهمونه بأنه يقصد بهذا إضعاف مقومات أمته ومشخصاتها الملية ولا تقوية النفوذ الأجنبي فيها، فهذه المكانة التي كان يعرفها لنفسه في قومه جرأته على مواتاة عزمي بك ومساعدته على ما قصد إليه، بل استعان كل منهما بنفوذ الآخر على عمل يريانه نافعًا للمسلمين، بل لا بد لهم منه في حياتهم المدنية العصرية، بل كانا يريان أن نساء المسلمين لا بد أن يتركن الحجاب ويجارين غيرهن من نساء الملل في الحضارة العصرية، وأن الخير لنا أن نبني ذلك على أساس متين؛ أي: جامع بين مصلحة الدنيا وصلاح الدين، وإلا فعل التيار العصري فعله فينا بغير اختيار منا، فكان إثمه أكبر من نفعه. أنشأ الزعيمان ناديًا للنساء في سنة 1335 (1917م) وألّفا له جمعيةً من كرائم المتعلمات منهن باسم (جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات) ، ثم أسس هؤلاء الكرائم مدرسةً لتعليم البنات، وكان النادي يعقد اجتماعات نسائية يحضرها النساء والمستحسنون لهذا العمل من الأدباء والأطباء، ويلقون فيها الخطب والدروس التي اصطلح كتاب العصر على تسميتها بالمحاضرات، ويسمون من أعضاء النادي الكرائم ما يلقينه فيه ويتحدثون معهن في المسائل الأدبية والاقتصادية والصحية وتدبير المنزل والتربية، وإنما يكن مع الرجال سادلات على وجوههن النقاب الإسلامبولي الأسود، لا سافرات، ويجلسن في جانب والرجال في جانب، فهن قد سبقن في بدايتهن نساء مصر إلى هذه المحافل والمجامع التي كان يتمناها قاسم أمين وإخوانه من زهاء ربع قرن مع مبالغتهن في الحجاب وكثافة النقاب، حتى إن بعض الأوانس من أعضائه حضرن حفلة ذكرى مرور قرن على المعلم بطرس البستاني في الجامعة الأمريكانية ببيروت، وألقت فيها عنبرة سلام وعادلة بيهم فيها ما جادت به قرائحهن في الموضوع على الجم الغفير من الرجال والنساء. دعاني أحمد مختار بك - رحمه الله -[1] إلى زيارة هذا النادي وإلقاء النصائح والحكم فيه تعضيدًا له وإرشادًا للسيدات المسلمات، فإنهن يتمنين الاستفادة مني كالرجال، وقد جرت العادة بأن ألقي في بعض مساجد بيروت ومجامعها خطبًا ودروسًا في كل زيارة من زياراتي لها، فأجبته إلى ذلك. زرت النادي أولاً، ثم أجبت دعوته إلى إلقاء نصيحة عامة فيه، وكان هذا في يوم مشهود حضره بالدعوة كثير من النساء والرجال، ومنهم من لم يكن يلم به، ولا يسمح لأحد من أهل بيته بالإلمام به، وألقيت فيه خطابًا مطولاً ذكرت فيه خلاصة وجيزة عن حال النساء في مصر، وفوائد نهضتهن وغوائلها، وما ينبغي للمسلمات السوريات في بيروت وغيرها من الاعتبار بها، وبينت فيه حالة العصر الاجتماعية، وما ينبغي للمرأة المسلمة فيه من الجمع بين فضائل دينها وآدابه ومعرفة ما يجب عليها لبيتها ووطنها وأمتها، وما يجب من تقديم الأهم فالأهم، وهو تدبير المنزل وتربية الأولاد وما يتوقفان عليه من العلوم الكثيرة، فنال هذا الخطاب استحسان جميع الأحزاب المختلفة في هذا الموضوع، وإنني أنشر هنا ما ألقته رئيسة (جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات) التي تدير المدرسة والنادي السابق ذكرهما ترحيبًا بي، وسأنشر في فرصة أخرى بعض ما ألقي في حفلاته السابقة؛ ليقف قراء المنار على أفكارهن ودرجة تقدمهن. *** ترحيب الرئيسة الفاضلة سيدات النبل وسادة الفضل إن جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات ترحب اليوم بضيفها الكريم العالم الفاضل صاحب السيادة الأستاذ رشيد رضا، فهو الخطيب البليغ الذي طالما لهجت الألسن بذكر مناره الذي أضاء العالم الإسلامي بأبحاثه العلمية المفيدة، وقد رأيناه عند اجتماعنا به للمرة الأولى في مدرستنا خير نصير للمرأة؛ إذ أفاض علينا من بعض حكمه ما يجعلنا نزداد نشاطًا بأن نعيد مجد السلف الصالح، فنستمد منه تلك القوة الأدبية والمعارف السامية التي طالما تاقت النفوس إليها، ونضم إلى ذلك ما يلائم حالتنا وتقاليدنا من الرقي العصري، فحبًّا بالاستفادة من ينابيع علمه وفضله، فقد قامت هيئة جمعيتنا بدعوة حضرته ليلقي على مسامعنا محاضرة علمية تكون خير ذكرى يحفظها نادينا لسيادته. فباسم جمعيتنا أقدم الشكر لسماحته، ولكل من يعاضد صروح العلم والأدب، ونخص منهم بالشكر حضرة الوطني الغيور الوجيه الفاضل السيد عارف النعماني الذي تبرع بمبلغ مائتي ليرة لمدرستنا لتصرف في سبيل تعليم الفتيات البائسات اللواتي يدعين إلى الله بأن يديمه عضدًا للإحسان، فسلام على كل روح أوقفت لإعلاء الوطن وأهله. ... ... ... ... ... ... بيروت 12 ربيع سنة 1338 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... خديجة بربير *** خطبة النابغة الفاضلة الآنسة عنبرة سلام سيداتي الكريمات وساداتي الأفاضل خلق الإنسان للجهاد في هذه الحياة، فهو لا يزال يكافح الخطوب وينازل العثرات، فتارة يروح تحتها، وتارة تكون له الغلبة عليها، وهو دائمًا في نزاع مستمر مع القوى المحيطة به، ولكنه إما أ

المسألة المصرية في طورها الأخير

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألة المصرية في طورها الأخير سبق لنا القول في تأليف سعد باشا زغلول للوفد المصري، وفي لجنة لورد ملنر وما كان من أمرها مع الوفد ولجنة الوفد التي جاءت من باريس لعرض المشروع على الأمة وخلاصة رأي الأمة فيه. ثم إن تقرير لجنة ملنر صدر رسميًّا بنصه في 12 جمادى الآخرة هذه السنة (20 فبراير سنة 1921) وفيه فوائد وعبر كثيرة، ربما نلم بشيء منها في فرصة أخرى، وتلا صدوره بلاغ رسمي من الحكومة البريطانية هذا نص ترجمته: القاهرة في 26 فبراير سنة 1921 إلى حضرة صاحب العظمة السلطان بسراي عابدين يا صاحب العظمة لم أتأخر عن إبلاغ حكومة جلالته الرأي الذي أبديتموه عظمتكم مرارًا عن ضرورة وصول الحكومة إلى قرار في موضوع اقتراحات ملنر يتفق مع أماني مصر والشعب المصري، تلك الأماني التي اشتهر عطف عظمتكم عليها. ويسرني أن أبلغ عظمتكم قرار حكومتي، وإني متأكد أن هذا القرار يطابق رأي عظمتكم، وهي تعيين وفد رسمي لأجل الشروع في تبادل الآراء مع حكومة جلالته فيما يختص بالاتفاق المنوي عقده. وإني أود بصفة خاصة أن أوجه نظر عظمتكم إلى روح حسن النية الذي أظهرته حكومتي بقَبولها التساهل في أمر إلغاء الحماية قبل المفاوضات الرسمية. وستقدرون عظمتكم أن هذا التساهل الكبير دليل صريح على الأهمية التي تعلقها حكومتي على إقامة علاقاتها مع الشعب المصري على أساس ودي دائم، وهذا نص قرار حكومتي الذي كلفت إبلاغه إلى عظمتكم. إن حكومة جلالة الملك بعد درس الاقتراحات التي قدمها اللورد ملنر استنتجت أن نظام الحماية لا يكون علاقة مرضية تبقى فيها مصر تجاه بريطانية العظمى، ومع أن حكومة جلالته لم تتوصل بعد إلى قرارات نهائية فيما يختص باقتراحات اللورد ملنر، فإنها ترغب في الشروع في تبادل الآراء في هذه الاقتراحات مع وفد يعينه عظمة السلطان للوصول إذا أمكن إلى إبدال الحماية بعلاقة تضمن المصالح الخصوصية التي لبريطانية العظمى، وتمكنها من تقديم الضمانات الكافية للدول الأجنبية، وتطابق الأماني المشروعة لمصر والشعب المصري، وإني أغتنم هذه الفرصة، فأكرر لعظمتكم تأكيد احترامي الفائق. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... اللنبي وبناءً على هذا البلاغ والاتفاق غير الرسمي في لندره على أن يكون عدلي باشا يكن هو رئيس الوزارة التي تتولى تأليف الوفد الرسمي الذي يعقد الاتفاق بين إنكلترة ومصر - استقالت وزارة محمد توفيق باشا نسيم، وألف عدلي باشا الوزارة بالأمر السلطاني كما ترى: الأمر السلطاني لعدلي باشا يكن بتأليف الوزارة عزيزي عدلي يكن باشا لقد كان من أقوى بواعث السرور لدينا إبلاغ أمتنا المحبوبة قرار الحكومة البريطانية الذي تبلغ إلينا بواسطة حضرة صاحب المقام الجليل مندوبها السامي فيما يتعلق بإلغاء الحماية، وتعيين وفد رسمي من جانبنا للمفاوضة في وضع اتفاق بين البلدين، وإنا لنبتهج لهذا القرار الذي فتح الطريق لتحقيق الأماني القومية. وبما لنا في ذاتكم من الثقة الكاملة قديمًا، وما نعهده فيكم من الرويَّة الصائبة التي تستدعيها مهام الأمور، قد اقتضت إرادتنا السلطانية توجيه مسند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرئاسة الجليلة لعهدة لياقتكم، وأصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ بتأليف هيئة وزارة جديدة تقوم باتخاذ الوسائل السياسية التي تقتضيها الظروف الحاضرة وعرض مشروعه لجانبنا لصدور مرسومنا العالي به. وإني أضرع إلى الله عز وجل بأن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا ورعايانا بالخير والسعادة بحوله تعالى وقوته. ... ... ... 6 رجب سنة 1339 (16 مارس سنة 1921) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فؤاد جواب حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا يا صاحب العظمة: أتقدم لعظمتكم بجزيل الشكر على ما أوليتموني من الثقة العالية؛ إذ تفضلتم بتكليفي بتأليف الوزارة في الظروف الحاضرة، وشرفتموني بتقليد رتبة الرئاسة، لقد كان لي من جليل عواطف عظمتكم أكبر مشجع على قبول تلك المهمة، ووضع إخلاصي كله في خدمتكم، وفي خدمة البلاد. لذلك أتشرف بأن أعرض على عظمتكم أسماء الوزراء الذين تتألف منهم الوزارة، وقد قبلوا مشاركتي في العمل، حتى إذا صادف ذلك الاستحسان العالي، يصدر الأمر الكريم بالتصديق عليه. حسين رشدي باشا نائب مجلس الوزراء. عبد الخالق ثروت باشا وزير الداخلية. إسماعيل صدقي باشا وزير المالية. أحمد زيور باشا وزير المواصلات. جعفر والي باشا وزير المعارف العمومية. أحمد مدحت يكن باشا وزير الأوقاف. محمد شفيق باشا وزير الأشغال العمومية والبحرية. نجيب بطرس غالي باشا باشا وزير الزارعة. عبد الفتاح يحيى باشا وزير الحقانية. إن الوزارة ستجعل نصب عينيها في المهمة السياسية التي ستقوم بها لتحديد العلاقات الجديدة بين بريطانيا العظمى وبين مصر الوصول إلى اتفاق لا يجعل محلاًّ للشك في استقلال مصر، وستجري في هذه المهمة متشبعة بما تتوق إليه البلاد، ومسترشدة بما رسمته إرادة الأمة، وستدعو الوفد المصري الذي يرأسه سعد زغلول باشا إلى الاشتراك في العمل لتحقيق هذا الغرض. ومما يوجب الارتياح أن تصريح الحكومة البريطانية بأن المفاوضات ستجري على أساس إلغاء الحماية من شأنه أن يسهل مهمة الوزارة من هذه الوجهة، فإن ذلك التصريح الذي يدل على حسن استعداد بريطانيا العظمى مما يدعو إلى الأمل بأن المفاوضات التي ستحصل بهذه الروح ستفضي إلى اتفاق محقق للأماني الوطنية، وتكون فاتحة عصر جديد بين البلدين شعاره المودة وتبادل الثقة، وسيكون للأمة على لسان الممثلين لها في الجمعية الوطنية القول الفصل في هذا الاتفاق. وبما أن هذه الجمعية ستكون أيضًا بمثابة جمعية تأسيسية، فإن الوزارة ستأخذ على عاتقها تحضير مشروع دستور موافق للمبادئ الحديثة للأنظمة الدستورية، وستحاط الانتخابات لهذه الجمعية بكل الضمانات التي تكفل تمام حريتها، وتنظم بكيفية تحقق تمثيل رأي الأمة تمثيلا ًصحيحًا. وفي هذا المقام تعرب الوزارة عن اعتقادها بأن الظروف الحاضرة تبرر الإسراع في الرجوع إلى النظام العادي، وبأنها ستتمكن بفضل نفوذ عظمتكم من رفع الأحكام العسكرية وإلغاء الرقابة في القريب العاجل، وإنا نعتمد على حكمة الأمة في تسهيل هذا العمل الذي يحقق نجاحه أعز أماني الوزارة. وإننا لندرك حق الإدراك ما تحتاج إليه البلاد من الإصلاحات الكبرى، بيد أننا لتمسكنا باشتراك الأمة في وضعها نمتنع عن كل تغيير جوهري قبل تنفيذ النظام النيابي الجديد، على أننا بتأييد عظمتكم لنا سنعنى بإدارة أمور البلاد، وننشط في خير الطرق وأصلحها للمحافظة على مرافقها وتوسيع نطاق رقيها، وستكون المسألة الاقتصادية الحاضرة موضوع اهتمامنا العظيم. هذا، وإن الوزارة على يقين من أن هذا المنهاج يوافق المقاصد التي ما زالت عظمتكم تصبو إليها لخير رعاياها، وهي ما تشعر به من عبء المسئولية الملقاة على عاتقها، تأمل الوصول بمهمتها إلى النجاح المنشود، معتزة بعطف وتعضيد عظمتكم، ومعتمدة على ثقة البلاد. وإني لعظمتكم العبد الخاضع المطيع، والخادم المخلص الأمين. القاهرة في 7 رجب سنة 1333 (17 مارس 1921) عدلي يكن وقد قابل الشعب هذا البيان بالسرور والابتهاج لتصريحه بالسعي إلى الاستقلال الذي لا شك فيه بالاتفاق مع الوفد الذي يرأسه سعد باشا زغلول وفقًا لرغائب الأمة، بل تنفيذًا لطلبها، وإلغاء الأحكام العرفية التي كان قد اشتد ختامها بمحاكمة الوطنيين الذين اتهموا بالإرهاب والانتقام من المخالفين لهم في إثر مظاهرات سنتي 1919 و1920 وحكم بالإعدام على أفراد منهم في مقدمتهم عبد الرحمن بك فهمي سكرتير الوفد المصري ذو المكانة العالية في وطنيته، ولكن بدل بحكم الإعدام الحكم عليه بالأشغال الشاقة خمس عشرة سنة، وقد سميت هذه الوزارة وزارة الثقة، وقام الشعب لها، وفي مقدمتهم طلبة المدارس الذين هم دمه الحي وعصبه الحساس بمظاهرات عظيمة، وقد بلغت رئيس الوفد المصري سعد باشا زغلول بيانها الوزارة، ودعته لتأييدها في عملها - وكان في باريس - فعاد بمن بقي معه من أعضاء الوفد؛ ليتولى العمل في الوطن بعد أن يقف على حال الشعب وآرائه بعد أن غاب عنه زهاء عامين، فتلقته البلاد بضروب الحفاوة والاحتفال ما لم يسبق لها نظير فيها، وربما عز نظيره في غيرها أيضًا، فكان ذلك أكمل مظاهر الوحدة، وإجماعًا من السواد الأعظم على زعيم واحد، ولكن جراثيم التفرق والاختلاف التي لحق بها الوفد في أوربة فجعلته فريقين: أحدهما يظاهر عدلي باشا، والآخر يظاهر رئيسه، لم تلبث أن فعلت فعلها قبل أن تتم الاحتفالات بالرئيس، وسنبين ذلك بما يزيل كل تلبيس ضللت الصحف به الجمهور. ((يتبع بمقال تالٍ))

أسئلة مغربية من عاصمة البلاد الإسبانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة مغربية من عاصمة البلاد الإسبانية (س12-14) الحمد لله ... فضيلة العلامة الأستاذ الشريف السيد محمد رشيد رضا الحسيني، حيَّاكم الله. توجد جماعة من المسلمين بأسبانيا دعتها دواعي اقتصادية وسياسية أن يكون لباسها اللباس الإفرنجي بسائر أنواعه من البرنيطة وغيرها. ولقد اطلعتُ على فتوى العلامة المقدس الأستاذ الإمام مفتي الديار الإسلامية بمصر برّد الله ضريحه وأسكنه من الجنان فسيحه، إلا أن الجماعة المذكورة على مذهب الإمام مالك رضي الله عنه، وعمدة كتب المالكية الفقهية هو مختصر أبي الضياء خليل وما كتب عليه، والشيخ المذكور يقول في كتاب الردة (وشد زنار) كتب عليه الزرقاني ما نصه: ونحوه مما يختص بالكافر كلبس برنيطة نصراني وطرطور يهودي إن سعى بذلك للكنيسة، قال بناني محشيه: المراد ملبوس الكفار الخاص بهم، وكلام المصنف إن فعل ذلك محبة في ذلك الزي وميلاً لأهله، وأما إن فعل هزلاً ولعبًا فهو محرم اهـ. نحن نريد زيادة إيضاح في المسألة سواء كان ذلك داخل المذهب المالكي أو خارجه من بقية المذاهب الفرعية، وذلك فيما يتعلق باللباس لا من جهة الحب فيه والميل لأهله، بل من جهة الاقتصاد والتسهيل ليس إلا. كذلك نريد بيان الحكم في مسألة الصيام والإفطار على حساب النتائج المصرية والتونسية لتعذر رؤية الهلال علينا هنا في حينه، والشيخ خليل يقول: (لا بمنجم) فهل يجزئ الصيام والإفطار بمقتضى تلك النتائج أم لا بد من الرؤية أم ماذا. وكذا نريد الحكم في حلق اللحى، هل يحل شرعًا أم لا، وإذا كان يحل فهل الحديث الوارد في الموطأ الذي من ضمنه (أعفوا اللحى وقصوا الشوارب) صحيح أم لا، وإذا كان صحيحًا فما حجة من يحلقها من المسلمين بما فيهم من حَمَلَة الشريعة الإسلامية في جل الأقطار؟ وحيث شاء الله تعالى انفرادكم في هذا العصر بالتوسعة في العلوم الدينية وغيرها، وتمكنكم من زمام الفتاوى، أملنا من فضيلتكم الكريمة إنارة ظلمتنا على صفحات مجلة المنار، أفتونا مأجورين ولكم الفضل سلفًا، والله المسئول أن يديمكم مصباحًا يستضاء به في الإسلام بجاه النبي عليه الصلاة والسلام. ... ... ... ... ... مدريد في 22 فبراير سنة 1921 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مخلص الود لكم ... ... ... ... ... ... ... محمد البلغيثي العلوي الحسني تمهيد للأجوبة عن هذه الأسئلة تشديد الفقهاء وعاقبة تقليدهم اعلم - أيدنا الله وإياك بروح منه، وجعلنا من المعتصمين بهداية كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح من هذه الأمة الوسط - أن فقهاء المذاهب كلها قد توسعوا في فروع الشريعة بأقيستهم واختلاف أفهامهم وتأثير الأزمنة والأمكنة التي كانوا فيها، فجعلوا الحنيفية السمحة التي رفع الله منها الحرج وبناها على أساس اليسر دون العسر من أعسر الشرائع فهمًا، وأثقلها على البشر حملاً، حتى هجر جل أهلها دراستها، وترك أكثرهم العمل بأكثر أحكامها، وما جاء هذا كله إلا من توسع هؤلاء المصنفين في تلك الكتب المطولة في الفقه التي يقل فيها ذكر القرآن والأحاديث النبوية، ويكثر فيها قال فلان، وصحح فلان، ورجح فلان، ومن معجزات هذا الدين أن كل ما صح في كتاب الله تعالى وما بينه من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في منتهى اليسر والسماحة، كما صح في وصف هذه الشريعة، وكل ما أشرنا إليه من العسر إنما هو اجتهاد من أولئك المصنفين في الفقه بعد عصر السلف الصالحين وأكثرهم غير مجتهدين، ولا على سيرة من ادعوا اتباعهم من المجتهدين، فمن تقيد بتقليد هؤلاء يتعذر أو يتعسر عليه أن يكون مسلمًا قائمًا بأمر دينه كما يجب، ولقد كان الأعرابي في عصر السعادة يسلم بين يدي الرسول ويتعلم دينه في مجلس واحد، ويقسم أنه لا يزيد على ما علم بوجوبه عليه ولا ينقص منه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (أفلح إن صدق) أو (دخل الجنة إن صدق) كما ورد في الصحيحين وغيرهما. وأنت تعلم أن الأئمة المجتهدين من علماء الأمصار المتبعين لم يجيزوا لأنفسهم أن يكونوا شارعين، وأن يكون كلامهم دينًا يتبع؛ لأن من انتحل هذا فقد جعل نفسه شريكًا لرب العالمين كما بيناه في التفسير من هذا الجزء والذي قبله، وإنما استنبطوا ما استنبطوا لأجل فتح أبواب الفهم في النصوص مع إرشاد الناس إلى أنه لا يجوز لأحد أن يقلدهم فيه، وإنما يعمل به من ظهر له مع النظر في الكتاب والسنة أنه هو الحق الذي شرعه الله، وقد بين ذلك المزني صاحب الإمام الشافعي في أول مختصره الفقهي بقوله بعد البسملة: اختصرت هذا الكتاب من علم محمد ابن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله؛ لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه، وبالله التوفيق. وكان جميع الأئمة على هذا، ولو لم يكونوا عليه لما صح أن يكونوا أئمة هادين مهتدين، وقد دخل القعنبي على الإمام مالك، وهو في مرض موته فرآه يبكي فسأله عن سبب بكائه، فأخبره أنه ما بلغه من أن الناس يعملون بأقواله مع أنه قد يقول القول ثم يظهر له خطؤه فيرجع عنه، فقد خشي أن يضل الناس به عن شرعهم ونصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأذكرك مع علمك بهذا أن مذهب المجتهد عبارة عن الطريق الذي سلكه في فهم الشريعة من الدلائل وأصول الاستنباط المعروفة في الأصول، فهذا ما يصح للفقيه على مذهبه أن يجري عليه إذا كان مقتنعًا بصحته، وليس معناه أن يأخذ فروعه المستنبطة فيجعلها أصولاً للدين يستنبط منها أحكامًا ويقيس عليها أخرى بحسب فهمه، ويسمي هذا شرع الله في الإيمان والكفر وعبادة الله والحلال والحرام، مع ما عظم من أمر التشريع وجعل انتحاله واتباع منتحله من الشرك والافتراء على الله، وبهذا تعلم أن هؤلاء المقلدين المؤلفين في الفقه ليسوا مُتَّبعين - في كل ما قالوه في كتبهم - لمذاهب الأئمة الذين يدَّعون أن هذا الفقه فقههم. مثال ذلك: أن مذهب الإمام مالك اتباع نصوص الكتاب والسنة في العبادات والوقوف مع ظواهر النصوص وفهم أهل الصدر الأول لها وعملهم بها، ولا سيما أهل المدينة في زمنه، دون الدوران فيها مع العلل والحِكم، وما يسمونه المعنى المناسب، ومذهبه في أحكام المعاملات والعادات مراعاة مقاصد الشرع والمصالح العامة المعروفة من أصوله لا مجرد ظواهر الألفاظ كما بينه العلامة الشاطبي في الاعتصام وغيره، وهو معروف مشهور عنه، وترى بعض الفقهاء خرجوا عن أصل مذهبه المذكور في مسائل كثيرة من العبادات بحجة اتباعه والعمل به، وأكتفي بشاهد من الشواهد على ذلك: رأيت رجلاً مالكيًّا معممًا لا أعرفه يذكر لفقيه مالكي أعرفه ما ذكره هؤلاء من الشروط في ماسح الخف، وفي الخف الذي يجوز المسح عليه ككونه من الجلد وكونه مخروزًا، وأنه إذا كان ملصقًا لا يجوز المسح عليه إلخ. فقلت له: ما الدليل على هذه الشروط في المذهب؟ قال: قاعدة الإمام مالك في الاتباع في العبادات، والتزام ما ثبت في الكتاب والسنة، وهكذا كانت الخفاف في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: إن هذا مخالف لمذهب الإمام مالك كل المخالفة، فإنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة أن الخف الذي يجوز المسح عليه يجب أن يكون جلدًا وأن يكون مخروزًا، ولا دليل أن الخفاف كلها كانت كذلك، وإذا ثبت كونها كذلك بالفعل فذلك لا يدل على الشرطية لا عند أهل الاتباع المحض ولا عند أهل الرأي في التعبد، مثال ذلك المطابق له المسح على العمامة، قد ثبت في السنة، فهل يشترط في مسحنا العمامة أن تكون كعمامة الرسول صلى الله عليه وسلم في صفات نسيجها ككونها من القطن أو الصوف؟ وكونه من نسيج اليمن أو غيرها وكون طولها كذا ذراعًا؟ إن من الأصول التي لا يتمارى فيها عاقلان أن أمثال هذه الصفات والأحوال التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في لباسهم وأكلهم وشربهم وهيئاتهم حتى في وقت أداء العبادة لا تعد من فرائض الدين، ولا من شروط صحة العبادة، ولا من المندوبات الشرعية لمجرد كونهم عليها، وإنما يتحقق كون الشيء واجبًا أو شرطًا أو مندوبًا بنص شرعي يدل عليه دلالة صحيحة، والجمهور لا يعدون فعله صلى الله عليه وسلم دالاًّ على الوجوب إلا إذا كان بيانًا لمجمل. وجملة القول أن جماهير المصنفين من خلف هذه الأمة قد خالفوا سلفها وعسروا يسر شريعتها حتى أدخلوا الأمة في جحر الضب الذي حذرهم منه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (ولتتبعن سَنَن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) وقد صبر المسلمون قرونًا على الحبس في جحر الضب، ثم ضاقوا به ذرعًا حتى خرج بعضهم منه من غير الباب الذي دخلوا منه، فمرقوا من الإسلام وحسبوا أنه هو جحر الضب لا سواه، وأنه لا قبل لهم به، ودعاة الإصلاح يريدون أن يخرجوهم إلى حقيقة الإسلام وهو الباب الذي دخلوا منه إذ أوهمهم المعسرون أنه هو الإسلام، وما الإسلام إلا القرآن وسنة الرسول في بيانه على الوجه الذي كان عليه جماعة السلف الذين أمر رسول الله بلزوم جماعتهم، فكان إجماعهم حجة فيما اتفقوا على أنه دين. وفي هذا المقام أحتج على المقلدين بعلم إمام من الأئمة المجتهدين وأجعله شاهدًا ثانيًا على ما ذكرته من معنى مذاهبهم ومخالفة من يدعون اتباعهم لها. قال الإمام الشافعي - رحمه الله - في أول باب الإجماع من رسالته بعد تفصيل الكلام في الكتاب والسنة: وقامت الحجة بما قلت بأن لا يحل لمسلم علم كتابًا ولا سنة أن يقول بخلاف واحد منهما. فقال: لا يحل لمسلم، ولم يقل: لمجتهد، وهو نكرة منفية تفيد العموم، ثم بين في هذا الباب لمن سأله عن الحجة على العمل بالإجماع أن الجماعة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بلزومها هي جماعة الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهم الذين لا تعزب سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عامتهم (أي جملتهم وسوادهم الأعظم) وقد تعزب عن بعضهم، وقال في آخر الفصل: فلم يكن للزوم جماعتهم معنى إلا ما عليه جماعتهم من التحليل والتحريم والطاعة فيهما. وهذا ظاهر كالشمس، وهو غير الإجماع الأصولي الذي لا تقوم عليه حجة. إذا تمهد هذا فهاك أجوبة الأسئلة: الجواب عن مسألة الزي إن ما قاله الفقهاء في الزنار ونحوه لا ينطبق على حالكم في لبس ثياب الإفرنج؛ لأنها ليست من الزي الديني ولا تلبسونها بالقصد الذي قالوه، ونوضح المسألة ببعض ما سبق لنا تفصيله في المجلد الأول والسادس وغيرهما فنقول: إن الإسلام لم يقيد المسلمين بزي خاص، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس زي قومه الذي كانوا عليه في الجاهلية في عامة أيام رسالته، وقد عرض له لبس أزياء غيرهم من الأمم فلبسه بيانًا للجواز كالجبة الرومية من لباس النصارى كما ثبت في الصحيحين، وجبة الطيالسة الكسروانية من ملابس المجوس كما ثبت في صحيح مسلم، فالأصل في الأزياء الإباحة كأمثالها من العبادات، وقد تعتريها الأحكام الخمسة بما يعرض عليها من دفع ضرر يقيني أو ظني، أو وقوعه، أو تحصيل نفع كذلك، ومما سبق لنا بيانه غير مرة أن بعض كبار العقول من المسلمين قد تنبهوا ونبهوا لما في مسألة الزي من التأثير السياسي والاجتماعي فكرهوا أن يقلدوا غيرهم من الأمم في أزيائهم في أثناء الفتوحات العربية وغيرها؛ لئلا يندغموا في الأمم التي فتحوا بلادها بسبب قلتهم فيها، ولأن

الحقائق الجلية في المسألة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحقائق الجلية في المسألة العربية مقال للعبرة والتاريخ تمهيد ومقدمة كتبنا في سنة 1334 (1916) مقالاً عنوانه (المسألة العربية - مقالة للتاريخ) لم يتيسر لنا نشره إلا بعد زهاء سنة كاملة من وقت كتابته، فنشر في الجزء الأول من المجلد العشرين بعد أن أشرنا إليه في تقريظ جريدة القبلة من جزء المنار الذي صدر في آخر المحرم سنة 1335 (من المجلد التاسع عشر) ولكن بعد أن حذفت منه المراقبة الإنكليزية ما حذفت، وأكرهتنا على تبديل ما كرهت، ولا أعني بالمراقبة الإنكليزية مراقبة قلم المطبوعات في وزارة الداخلية المصرية التي كان يرأسها إنكليزي أمر بالتشديد في مراقبة المنار بما لا يشدد في مراقبة سائر الصحف؛ لأنه في اعتقادهم أشد تأثيرًا في أنفس المسلمين بما له من النفوذ الديني [1] وإنما أعني مراقبة السلطة الإنكليزية التي تحول إليها مراقبة المطبوعات في الداخلية ما يكتب في مسائل معينة من أهمها المسألة العربية والحجاز. على أننا راعينا في تلك المقالة مقتضى الحال وأحكام الزمان، فسكتنا عن بعض الحقائق وبيَّنا بعضها بالتصريح، واضطررنا في البعض الآخر إلى الإيماء والتلويح، وأننا نذكر في هذا المقال الذي نكتبه بعد إلغاء المراقبة على الصحف في مصر بعض الحقائق ونرجئ بعضها إلى فرصة أخرى، قاصدين مع بيان حقائق التاريخ الموعظةَ والذكرى، فنقول: إننا كنا نتوقع وقوع الحرب الأوربية الكبرى قبل وقوعها بزمن بعيد، - ولا سيما بعد حرب البلقان - خلافًا لجماهير المفكرين الذين كانوا يستبعدونه أو يحيلونه ظنًّا منهم أن الدول العظمى وصلت إلى درجة الكمال في العقل والفضيلة ومراعاة المصالح الإنسانية العامة، بحيث يحلون جميع المشكلات بالأساليب السياسية دون الحرب، ولم يصدق هؤلاء بإمكان وقوع هذه الحرب إلا بعد اشتعال نارها بالفعل. وكنا نعتقد أن الدول الأوربية الاستعمارية تريد الاستعجال بحل المسألة الشرقية اغتنامًا لفرصة تهور الاتحاديين وتنفيرهم للعناصر العثمانية بغلوهم في العصبية التركية، وقد شرحنا هذا الاعتقاد في المقالات العشر التي كتبناها بعنوان (المسألة الشرقية) بمناسبة استيلاء إيطالية على سواحل برقة وطرابلس الغرب ونشرناها في المؤيد ثم في المنار، وكان نشرها في المؤيد مثيرًا لبعض وكلاء الدول الأوربية وحاملاً لهم على مراجعة العميد البريطاني بمصر، وإيعاز العميد إلى رئيس الوزارة المصرية بإيذان صاحب المؤيد بالأمر، ووجوب مطالبته إياي بتخفيف الحملة عن الدول بجملتها، وحصر الكلام في إيطالية ومسألة طرابلس. وقد حملنا في المنار على الحكومة الاتحادية بما كانت وضعته من أساس الاتفاق مع الدولة البريطانية على جعل العراق منطقة نفوذ اقتصادي لها، ومشروع الاتفاق مع فرنسة على مثل ذلك في سورية، كما حملنا عليها في اتفاقها السري مع إيطالية واعتقدنا أن الاتحاديين يريدون تنفيذ وعيدهم في العرب بعد أن أنذرنا غير واحد من زعمائهم بأنهم يبيعوننا ويُرَقُّون شعبهم بثمننا، ولأجل هذا اندفع العرب العثمانيون إلى طلب الاستقلال الإداري من الدولة لولاياتهم على طريقة اللامركزية. ولما أعلنت ألمانية الحرب على روسية جزمنا بأن قد وقعت الحرب العامة المنتظرة، وأن دولتنا ستصلى نارها مع ألمانية لما كنا نعلم من الروابط بين زعماء الاتحاديين وبينها، وتوقعنا أن تكون الحرب سببًا لحمل حكومة الاتحاديين على تنفيذ ما كانوا يمنون به العرب من الإصلاح وإعطاء الحقوق عقب المؤتمر العربي الأول بباريس، لأن الشدائد هي التي تذهب الأحقاد، وتبعث على الإخلاص في الاتحاد، وخفنا أن يكون ما أحدثوه من العصبية الجنسية سببًا للتنازع الموجب للفشل، ولأجل هذا كتبنا تلك المقالة التي نشرناها في الأهرام ثم في المنار بوصية الشعب العربي بأن يسكت في أثناء الحرب عن مطالبة الدولة بالإصلاح، ويكون مع الترك يدًا واحدة وكلمة واحدة فيما تقتضيه حالة الحرب من حصر كل القوى في الاستعداد للظفر، وكان لها ما كان من القبول والتأثير الحسن. *** وعد الإنكليز باستقلال العرب ومساعيهم معنا في هذه الأثناء بلغنا بعض رجال الدولة البريطانية هنا بأن حكومتهم عزمت على العطف على العرب ومساعدتهم بنفوذها الأدبي عند الدولة العثمانية على ما يطلبون من الإصلاح إذا بقيت الدولة على الحياد الذي تتظاهر به، وأما إذا انضمت إلى ألمانية في الحرب فإنها تساعدهم على الاستقلال وتكوين دولة عربية. ولما اصطلت الدولة بنار الحرب وقع الرعب في قلوبنا، وكان أخوف ما نخاف عليه بلادنا العربية؛ لأنها خالية من الحصون والمعاقل الحربية، وبعيدة عن مركز القوة والسلاح في الدولة، ولم نلبث أن استدعانا بعض رجال الدولة البريطانية هنا، وبلغونا ثانية أن دولتهم قررت باتفاق الأحزاب مساعدة العرب على الاستقلال في جميع بلادهم، وأنها لا تبغي أخذ شيء منها، وإذا اضطرت إلى محاربة الترك فيها فإنها تترك لهم كل ما تَدخُله منها بعد إخراج الترك منه، وأنهم يحبون أن يعرف العرب هذا ويكونوا مطمئنين آمنين على أنفسهم من جانب البريطانيين، فلا يتخذونهم أعداء، وقد جاءنا نبأ من مصدر عالٍ في السودان بمثل ما بلغنا بمصر عن بلاغ من لندن، ثم أطلعونا على منشور يريدون نشره في البلاد العربية بهذا المعنى، فلم نر عبارته مفيدة ما وعدونا به، بل هي إيهام محض، فاقترحنا عليهم أن يصرحوا فيه بالمراد تصريحًا لا يحتمل التأويل، ككونهم يتعهدون باستقلال هذه البلاد إذا ظفروا في الحرب، وبحمل حلفائهم على ذلك، وبعدم أخذ شيء من البلاد العربية، لا باسم الفتح والامتلاك، ولا الحماية ولا الاحتلال، ولا بأي اسم من أمثال هذه الأسماء، وبأنهم يخرجون من البلاد التي دخلوها كالفاو والبصرة، والتي سيدخلونها من بعد بلا شرط ولا قيد. وبعد التشاور بينهم ومراجعة حكومتهم العليا بلندن في ذلك حذفوا هذه القيود، وكانوا يرجون منا مساعدةً بناء على تلك الوعود، فكتبنا لهم مذكرة بعد مذكرة في الاحتجاج على ما ظهر لنا منهم، وبيان خوف العرب على بلادهم من إنكلترة دون سواها واعتقادهم أنها هي الخصم لهم، وتحذيرهم من الغرور بما تكتب جرائدهم وبعض الجرائد المداهنة لهم من وصفهم بأنهم أصدقاء العرب، وأن العرب أصدقاؤهم، وبيان مكان الدولة العثمانية من الإسلام والمسلمين، وما هم مستهدفون له من عداوة العالم الإسلامي لهم، وفي مقدمته مسلمو الهند وجعلهم إلبًا واحدًا عليهم إذا هم استولوا على بلاد العراق وسورية، ومنها البلاد المقدسة وما يترتب على ذلك من صيرورة الحجاز تحت رحمة تصرفهم مع محاربتهم للدولة التي يعترف لها السواد الأعظم من المسلمين بأنها دولة الخلافة، إذ يعتقدون حينئذ حقية ما تتهم به دولتهم من عزمها على إزالة الحكم الإسلامي من الأرض، وأن السلطة الإسلامية في نظر المسلمين أهم المهمات، وثانية عقيدة التوحيد؛ لأنها سياجها وحفاظها، وأن هذا هو السبب في تعلق مسلمي الأرض بالدولة العثمانية وحبها. وبَيَّنَّا لهم في أول تلك المذكرات أن الاستيلاء على البلاد العربية وحفظ السلطة الأجنبية فيها ليس بالأمر السهل، ولا بالمركب المذلل، بل يحتاج إلى قوة برية كبيرة جدًّا لمنع الثورات إلخ. كان غرضنا من هذه المذكرات إقناع الدولة البريطانية بأنه لا يمكن لها أن تقنع العالم الإسلامي بأن قتالها للدولة العثمانية ليس عدوانًا على الإسلام وسلطانه لأجل تقليص ظله من الأرض، بل لتحيزها إلى أعدائهم الألمان عليهم وعلى أحلافهم - إلا إذا أعطت العهد والميثاق بالاعتراف باستقلال البلاد العربية التي هي مهد الإسلام، وفيها معاهده المقدسة: الحرمان الشريفان والمسجد الأقصى في القدس، ومعاهد العلم ومشاهد الأئمة للشيعة في النجف وكربلاء وهي مظهر حضارة الإسلام العربية، وموطن الخلافتين الأموية والعباسية، مع بيان ما في ذلك من الفوائد السياسية والاقتصادية والأدبية التي شرحناها لهم بالصدق الخالي من شوائب الإيهام، وستنشر هذه المذكرات في يوم من الأيام، مع مكتوبات أخرى في المسألة عظيمة الشأن. خاب سعينا إلى ما سعينا إليه من عهد أو وعد رسمي بذلك، ولم نغتر بالإيهامات التي كانت تصدر أحيانًا من برقيات روتر وأقوال بعض الجرائد الإنكليزية بوعد بريطانية العظمى بالعطف على العرب، وما ينتظر من سعادة البلاد العربية إذا تحررت من سلطة الترك، وإعادتها مجد هارون الرشيد والمأمون، وعلمنا مما دار بيننا وبين رجالهم الذين بمصر، ومن مذاكراتنا مع السر مارك سايكس الذي أرسلته السلطة العليا من لندن إلى مصر والعراق لدرس المسألة العربية سنة 1915 - أن القوم ثابتون على طمعهم في بلادنا، وهو ما كنا نعلمه قبل الحرب بسنين كثيرة، ونوهنا به في المنار مرارًا، وكان لهم طمع في مساعدتنا إياهم على إقناع العرب بما أشرنا إليه آنفًا، ولو بكتابة شيء ما في جريدة الكوكب التي أنشئت لأجل هذا الخداع، فخاب أملهم فينا كما خاب أملنا فيهم. *** ما كان بين الإنكليز وأمراء العرب ولى الإنكليز وجوههم شطر أمراء العرب وزعمائهم في الجزيرة والعراق وسورية للاستعانة بهم على مناوأة الدولة العثمانية بالخروج عليها أو خذلانها، فأعرض عنهم إمام اليمن، ووالى الدولة في الحرب كما عاهدها في السلم، وواتاهم أمير نجد وسيد عسير على الوقوف على الحياد، ووالاهم شريف مكة بإعلان استقلال الحجاز ومقاومة طغمة الاتحاد والترقي الطاغية الباغية أولاً، ثم بمناوأة الدولة ومحاربتها ومساعدة الجيش الإنكليزي على فتح بيت المقدس والشام، وقد انخدع أهل سورية والعراق بهذه الموالاة والمحالفة، وصدقوا التغرير الذي كان يوجه إليهم في المنشورات والجرائد، ولا سيما جريدة الكوكب، ووافق ذلك شدة طغيان الاتحاديين وتنكيلهم بعرب سورية والعراق تقتيلاً وتصليبًا وتغريبًا وتعذيبًا، فوجد المضطهدون منهم مهربًا وملجأ من العذاب، ففروا إليه بآمال كبيرة إذ ظنوا أن حوادث الزمان قد مهدت السبيل بهذه الحرب واشتغال الدول الأوربية الطامعة بعضها ببعض لاستقلال البلاد العربية وإعادة حضارة العرب الزاهية العالية التي يفتخر بها التاريخ، ولعمري إن الفرصة قد كانت سانحة لو وجد في البلاد العربية زعماء أكفاء يغتنمونها من غير أن يجنوا على الجامعة الإسلامية بإسقاط الدولة العثمانية. *** ثورة الحجاز والاتفاق مع بريطانية كانت حركة الشريف الأولى في الحجاز من النتائج التي تقتضيها المقدمات التي سبقتها بحسب سنة الاجتماع، وكان يمكن أن يكون أقل ما يقال فيها ما قلناه عقب حدوثها، إما أن تنفع وإما ألا تضر، وأكبر ما يرجى منها أن تتخذ وسيلة لجمع كلمة العرب في الجزيرة وتنظيم القوة لحفظ البلاد العربية من السقوط تحت سلطة دولة أجنبية إذا غُلبت الدولة بالتبع لانكسار حليفتيها الكبريين ألمانية والنمسة، وكان هذا ما يجب القيام به على من استطاع إليه سبيلاً من كل عربي وكل مسلم أيضًا، ولو كان من الترك الذين يهمهم شأن الإسلام. ولما ذهبت إلى الحجاز عقب ثورته لأداء فريضة الحج صرحت لأميره (وملكه اليوم) برأيي وما أعجبني من جعل خروجه وعدائه خاصًّا بالاتحاديين الذي فرقوا الكلمة ونكلوا بالعرب السوريين وغيرهم في الوقت الذي هم أحوج فيه إلى ا

قرار لعصبة الأمم في الانتداب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قرار لعصبة الأمم في الانتداب قررت لجنة عصبة الأمم المختصة بالنظر في الوصايات العليا المفروضة على الأقطار المنفصلة من الدولة العثمانية في 8 دسمبر (كانون الأول) سنة 1920 التحفظات الآتية لتقدمها للهيئة العامة وهي: (1) لا يسمح للدولة المنتدبة باستخدام وسيلة لزيادة قواتها العسكرية. (2) يجب على الدولة المنتدبة أن لا تستخدم القوة التي يمنحها إياها الانتداب لتعبث هي أو أصدقاؤها بموارد البلاد الطبيعية وتستعمرها لحسابها الخاص أو لحسابهم. (3) يوضع نظام أساسي لجميع الأقطار ذات الوصايات العليا وتنظر فيه عصبة الأمم (الهيئة العمومية) قبل تنفيذه. (4) يجب أن تنشر جميع صكوك الوصاية قبل أن ينظر المجلس فيها.

مصابنا بولدنا الهمام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصابنا بولدنا الهمام فُجِعنا في الليلة الرابعة عشرة من شهر شوال بوفاة ولدنا الصغير (الهمام) بعد مرض طويل، بل أمراض متوالية: أولها وعكة برد ورطوبة، تلاها سعال عادي انقلب سعالاً ديكيًّا حرمه المنام والطعام عدة أسابيع، إذ كان يقيء ما يأكله غالبًا؛ فضعف جسمه وقل احتماله، وأصابته في هذه الحال الحصبة، وانتهت بالتأثير المعهود لها في الأمعاء، وكل ذلك من موانع قبول الغذاء، وبقي أيامًا كثيرة لا يطلب إلا الماء، فلله ما أخذ ولله ما أعطى، إن العين تدمع والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا (همام) لمحزونون (إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها) اللهم اجعله فرطًا لنا وذخرًا، واجعل مصابنا به أجرًا ورحمة، ولا تجعله فتنة، واجعلنا من الصابرين المهتدين.

تاريخ هذا الجزء من المنار وما بعده

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ هذا الجزء من المنار وما بعده بدأنا بتحرير هذا الجزء وطبعه في أوائل رمضان، ثم عرض لنا في أواخر رمضان وأوائل شوال من انحراف الصحة ومرض جميع الأولاد، وسهرنا على تمريضهم ثم وفاة صغيرهم الهمام، ما اقتضى تأخير صدوره إلى آخر شهر شوال، وقد بقي من المجلد أربعة أجزاء تصدر - إن شاء الله تعالى - في أواخر الأشهر الآتية: ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وصفر، فيكون أول جزء من المجلد الثالث والعشرين في ربيع الأول، كما صدر أول جزء من هذا المجلد فيه.

الخيال في الشعر العربي ـ 6

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ الخيال في الشعر العربي (6) الغرض من التخييل عادة النفس الارتياح للأمر تشاهده في زي غير الذي تعهده به، والتخييل يأتيها من هذا الطريق، فيعرض عليها المعاني في لباس جديد ويجليها في مظهر غير مألوف. فللتخييل فائدة عامة لا تتخلى عنه وهي تحريك نفس السامع لتلقي المعنى بارتياح له وإقبال عليه، ولو كان من قبيل الحديث المألوف أو المعلوم بالبداهة، وانظر إن رمت الثقة بهذا إلى قول الشاعر: أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح فالمعنى الذي صيغ البيت لتأديته أننا أخذنا نتناوب الحديث والإبل تسير مسرعة في الأباطح، وهذا كما رأيته معنى مبذول وحديث لا يختص به عابر سبيل دون آخر، ولولا أن الشاعر أورده في هذه الصورة التي خيلت إليك بطاحًا تتدفق بسيل من أعناق المطايا - لم ينل عندك هذا الموقع من الحظوة والاستحسان. قد يكون للمعنى في ذاته وجه يدعو نفس السامع إلى النفور عنه، وصناعة التخييل تبقي له أثرًا لذيذًا في النفس، فتأتيها اللذة من ناحية غير الناحية التي يجيء منها النفور، فلو سمع أشياع ابن بقية قول عمارة اليمني شامتًا به وهو مصلوب: ونكس رأسه لعتاب قلب ... دعاه إلى الغواية والضلال لوجدوا لهذا البيت في أنفسهم ألمًا بليغًا يدخل عليها من جهة القدح في كرامة رجل امتلأت صدورهم بإجلاله، وهذا الألم لا يمنع من أن يبقى للبيت في نفوسهم أثر لذة تسري إليها من جهة التخييل، وإن كانوا لها كارهين، ومما قلت في بعض الخاطرات: قد يهذب السياسي حاشية ظلمه فيكون كالبيت البليغ يؤثر في نفس من يهجي به لذة وألمًا. قد يبدو لك أن هذه الفائدة العامة إنما تتحقق فيما إذا كان المعنى معروفًا للسامع من قبل التخييل، كوصف حال القمر والكواكب والبرق والسحاب والرياض والأنهار، والمقلة والثغر، والقلم والدواة، أو حال الرجل من كرم وشجاعة وعلم، وغيرها من الخصال. إذ يصح أن يقال: إن التخييل قد عرض على السامع هذه المعاني في صور حديثة. وأما الوقائع والأحوال المجهولة فلم يعرفوا لها صورة من قبل حتى تعد الصورة الخيالية جديدة، وتحدث في النفس لذة زائدة عن لذة العلم بأصل المعنى. والجواب أن المعنى الذي تتلقاه من الشاعر دون أن تسبق لك معرفة به قد يلقيه إليك بوجه صريح، ثم يدخل به في الخيال كما هي الطريقة الشائعة في التشبيه والتمثيل، وعُد التخييل في هذا صورة جديدة بالنسبة إلى الصورة التي نقشها التصريح أولاً مما لا تعتريك فيه شبهة. وقد يلقيه لأول الخطاب في صورة خيالية، وهذا مما يصح عده في الصور المستجدة، إذ للمعاني صور أصلية وهي التي ترتسم في النفس لأول ما تدرك المعنى بمشاهدة أو وجدان، فالنفس تشعر حال تلقيها للصورة الخيالية أن للمعنى الذي تحمله إليها صورة أخرى هي الصورة البسيطة التي يعبر عنها بالقول الصريح. ولعلك تقول بعد هذا: إن صور المعاني تختلف ما اختلفت العبارات سواء كانت تصريحية أو تخييلية، فالصورة التي يعطيها قولك: زيد يكتب، غير الصورة التي يفصح عنها قولك: زيد يخط بالقلم على القرطاس، وكل منها صريح لا مدخل فيه للخيال، وإذا كان التخييل يلذ للنفس من جهة أنه يكسو المعنى لباسًا جديدًا، فيمكن لنا أن نصوغ للمعنى عبارة صريحة غير التي يعرفها المخاطب، فيأخذ بها صورة جديدة، ولا يفوز التخييل بهذه الفائدة ويختص بها دون التصريح. والجواب أن الصورة التي تنشأ من العبارات الصريحة وإن تفاوتت في مواقع البلاغة واختلفت بالإيجاز والإطناب - لا تعد كما تعد الصورة الخيالية غريبة عن المعنى المراد، ألا ترى أنك تعرض المعنى الواحد في صور خيالية متعددة والشعر واحد، فيجد السامع عند كل صورة داعية لذة، ولو ألقيت المعنى في عبارة صريحة ثم بدا لك أن تخرجه في عبارة أخرى تشاكلها في الصراحة والمخاطَب واحد - لقيت في نفس المخاطب سآمة؛ لأنك لم توافها بصورة غريبة تخيل بها أنك تعبر عن معنى غير ما ألقيته عليها أولاً. فلا أنكر أن الصورة في العبارات الصريحة تتفاوت بحسب اختلاف العبارات في كيفية تأليفها ومقدار ما تشتمل عليه من المعاني الزائدة عن أصل المراد، وإن هذا الاختلاف هو الذي يجعلها متفاضلة في مقامات البلاغة، وإنما أذهب إلى أن تلك الصور وإن أحكمت فسقتَها وأضفتَ إليها من المعاني ما يرتفع به شأنها لا تهيج في نفس السامع هزة الطرب التي تثيرها العبارات الخيالية. فالعبارات الخيالية تشارك العبارات الصريحة في جودة نسجها واشتمالها على المعاني التي ترتقي بها في مدارج البلاغة، وتزيد عليها بإراءتك المعنى في صورة بديعة تتعشقها النفس وتهتز لوقعها طربًا. ثم إن التخييل لا يخلو في أكثر أحواله من صوغ المعنى في صورة ما تكون معرفة المخاطَب له أقوى وفهمه إليه أسرع، وهذا مما يجعل أنس النفس أوفر وارتياحها له أكمل. ولا أحسبك تقع من هذا الوجه في شبهة أو تقف في حيرة حين ترى الوجه السابق يقتضي أن لذة التخييل جاءت من غرابة الصورة، وهذا يقتضي أن انبساط النفس لها جاء من جهة إلفها وكثرة التردد عليها، فإن غرابتها بالنظر إلى المعنى المراد لا تنافي أن تكون معرفتها بهيئاتها أو عناصرها أجلى لدى المخاطب في ذاتها، فالشاعر الذي يقول: كأن شعاع الشمس في كل غدوة ... على ورق الأشجار أول طالع دنانير في كف الأشل يضمها ... لقبض فتهوى من فروج الأصابع قد خيل إليك حال تدفق الأشعة وقت الغداة وتجليها على الأوراق في صبغتها الصفراء في صورة دنانير يضم عليها الأشل يده ليقبض عليها، فتنساب من بين أصابعه متساقطة إلى الأرض. وهذه الصورة - بالنظر إلى مساق الحديث وهو حال الأشعة - غريبة، ولكنها في نفسها جلية، إذ السامع للبيتين وإن لم يشاهد من قبلهما دنانير تتناثر من يد الأشل فإن المواد المؤلفة منها الصورة كالدنانير ويد المرتعش من أوضح معلوماته. وللتخييل بعد هذا أغراض خاصة يرمي إليها الأدباء ويتفاوتون في التمكن منها، ولا يسع هذا المقال سوى أن نلم بمهماتها فنقول: قد يقصد الشاعر من التخييل تقوية الداعية إلى الأخذ بالشيء حيث يصوره بصورة ما لا يُستغنى عنه، كما قال بشار: فلا تجعل الشورى عليك غضاضة ... فإن الخوافي قوة للقوادم ضرب المثل للشورى في تثبيت الرأي وإقامته على وجه السداد بالخوافي من الجوانح حيث تساعد القوادم على الطيران، وهذا التمثيل يلقي في نفس السامع أنه محتاج إلى الشورى حاجة القوادم إلى الخوافي، ويؤكد داعيته إلى العمل على سنتها أو الحث على الثبات والصبر على الأمر حيث يخرجه في مثال ما لا يمكن بطبيعة هذه الحياة الخلاص منه، كما قال بشار أيضًا: إذا كنت في كل الأمور معاتبًا ... صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه فالأبيات مسوقة في الإرشاد إلى تحمل ما يصدر عن الإخوان من جفاء أو هفوة، فضرب لهم المثل بالمشارب حيث لا مندوحة للإنسان عن ورودها، وهي لا تصفو له سائر حياته، بل يصادفها في بعض الأحيان كاشفة له عن وجه كالح وماء كدر يلجئه الظمأ إلى الشرب منها وإغضاء الجفن عن أقذائها، فهذا التمثيل يريك أنك لا تستطيع أن تعيش مستقلاًّ عن الإخوان، وأن ليس في طبيعتهم أن يسيروا في مرضاتك بحيث لا تلاقي منهم طول حياتك إلا ما يلائم طبيعتك ويوافق بغيتك، ومقتضى هذا أن تشد يدك بعرى صحبتهم وتغضي عما يعرض لهم في بعض الأوقات من جفاء أو يزلون فيه من عثرات. أو التحذير مما يرغب فيه، كما قال أبو نواس: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق لو ذهب إلى ذم الدنيا صراحة وهي حلوة خضرة، لم يأخذه السامع بمأخذ التسليم، وأنكر أن يكون في لذيذ المذاق جميل المنظر الحذر منه، فعدل إلى إخراج الذم في مثال يريه كيف يتزيى الشر بزي الخير، ويظهر المؤذي في بهجة ما يعد نافعًا، أو تخفيف الرغبة فيه وتقليل الاهتمام به كما قال المعري: وإن كان في لبس الفتى شرف له ... فما السيف إلا غمده والحمائل فمن تمثلت له الملابس بمنزلة الغمد والحمائل من السيف لم يطمح بنظره إلى تنميقها أو يجهد سعيه في اتخاذها من النسيج الفاخر، وإنما يصرف همته إلى ما تسمو به النفس من علم وفضيلة، كما أن البطل لا يعبأ بالغمد والحمائل وإنما يقبل على السيف فينفق وسعه في إجادة صنعه وإرهاف حده. أو التسلية، كقول صاحبنا الأمير شكيب يسلي البارودي وهو في المنفى: إن يحجبوك فما ضر النجوم دجى ... ولا زرى السيف يومًا طي أغماد لا بأس إن طال نجز السعد موعده ... فأعذب الماء شربًا في فم الصادي أراد أن ينفث في نفس مراسله كلمة تحل منها عقدة الضجر وتطرد عنها غيم الوحشة، فذكره بأن ما جرى عليه من التغريب والإخفاء عن أعين من ألفوه وألفهم قد ابتليت بمثله الكواكب فلم يمسها بنقيصة، ومنيت به السيوف فلم يضع من قيمتها فتلاً، ورام بعد هذا تخفيف ما عساه أن يساور قلبه من لوعة الحنين إلى الوطن والهم بما طال عليه من الأمد، فأقام له مثالاً من حال الماء حيث يكون مذاقه في فم من بعد عهده به - وهو الظمآن - ألذ وأشهى. ومما صنعت في غرض التسلية: بثثت شعاع علمك في نفوس ... تسوق إليك ما اسطاعت حقوقًا كذا الأقمار تكسو الأرض نورًا ... ولولا الأرض مالقيت خسوفًا أو إزالة ما يخالط النفس من النفور عن الأمر، أو عده عيبًا كما قال الفرزدق: تفاريق شيب في الشباب لوامع ... وما حسن ليل ليس فيه نجوم ضرب المثل للشعر الأسود تتخلله شعرات من الشيب بحال ليل داجٍ تتألق في سمائه الكواكب ليخيل أن الشيب مما يحدث في الخلقة حسنًا ويزيدها بهجة حتى يضع الأنس به مكان التجافي عنه، ومن هذا القبيل قول قابوس: يا ذا الذي بصروف الدهر غيَّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر أما ترى البحر تطفو فوقه جيف ... وتستقر بأقصى قعره الدرر وفي السماء نجوم لا عِداد لها ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر أو الدلالة على أن الذي تحكي عنه صفة قد بلغ فيها غاية قصوى؛ لتستدعي له في نفس المخاطب إجلالاً وإشفاقًا أو تحقيرًا له أو جفاء عنه، ويرجع إلى هذا الغرض كثير من التخييلات الواردة على طريق المبالغة في المديح والفخر والاعتذار والهجاء والوشاية، وأمثلتها كثيرة الدوران في كتب الأدب والبيان. وقد يكون المعنى مما لم تتداوله الأفكار، وليس من البعيد أن يلاقيه المخاطب بالتعجب الذي هو مطية الإنكار، فيجيء التخييل عقب هذا كما يقول أبو تمام الأندلسي: لا يفخر السيف والأقلام في يده ... قد صار قطع سيوف الهند للقصب فإن يكن أصلها لم يقو قوتها ... فإن في الخمر معنى ليس في العنب ادَّعى في البيت الأول أن القطع الذي عهدت به السيوف قد انتقل إلى الأقلام التي تهزها يد ممدوحه، فلم يبق للسيوف خصلة تفاخر بها، وليست هذه الدعوى من الجلاء بحيث تفتح لها النفوس باب القبول بسرعة، وأول ما يطعن فيها أن الأقلام مشتقة من القصب وهي أوهن من العصا، دع السيف ومضاءه، فاحتاج إلى تأييدها بما يدفع الشبهة ويحشرها في زمرة الأقوال المسلمة، فضرب لها المثل في البيت الثاني بالخمر التي هي عصارة العنب، وقد امتازت عن بقية العصير بإطفاء نور العقل وإطلاق اللسان يخبط في فلاة الهذر خبط عشواء فصارت بهذه الخاصية حقيقة قائمة بنفسها، ومالكة لقوة لم تكن في جنسها. وقد يكون المعنى مما تألفه ال

الطور الجديد للمسألة المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الطور الجديد للمسألة المصرية بدأنا مرة بعد أخرى بكتابة مقال مفصل في المسألة المصرية، ثم كنا نترك نشره لسبق الجرائد اليومية إيانا إلى نشر مقالات كثيرة في معنى ما كتبنا ما غادرت متردمًا، بل جاءوا بالذرة وأذن الجرّة، كما قيل في المثل، فإن كان أكثر ما كتب لم يخل من تحرّف لجدل أو تحيز إلى فئة، فذلك أحرى باستقصاء أصول المسألة وفروعها، فنكتفي إذًا باستخلاص الزبد من المخيض واستنباط النتيجة من المقدمات، بكلمات وجيزة تحز في المفصل، وتعطي قارئها من الموعظة والاعتبار والحكم، ما لعله لا يجده كله في غيرها. *** مقدمة وتمهيد (1) قد سبق الذكاء الفرنسي الدهاء الإنكليزي إلى معرفة مكانة مصر من ارتباط الشرق بالغرب وما فيها من ينابيع الثروة، فمد إليها حسامه نابليون الأول نابغة عصره في الذكاء والإقدام، ولكن الدهاء الإنكليزي قطع ذلك الساعد الذي مد الحسام، ثم أعانت العلوم والفنون الفرنسية محمد علي الكبير على تكوين دولة جديدة عربية، فعارضتها إنكلترة بنفوذ الدولة التركية، حتى وقفت مدها وأرجعتها إلى ما وراء حدها، ثم تعاون الدولتان على إرهاق مصر في زمن إسماعيل، ثم سبقت أدهاهما إلى احتلالها في عهد توفيق. (2) كانت نهضة مصر في عهد محمد علي مادية محضة، الحاكم الأعلى لها شارع ومنفذ، ومالك يتصرف في البلاد وأهلها تصرف السيد المالك بماله وعبيده، وما كان يرجى أن تتكون في ظل هذا الحكم بهذا العصر أمة، ولا أن تعتز دولة، بل يهدم مستبد مفسد ما بناه مستبد مصلح، كما هدم إسماعيل المبذر ما أسسه محمد علي المعمر، حدثني المرحوم حسن عبد الرزاق باشا أن قيمة أطيان القطر المصري كلها ما كانت تزيد في آخر مدة إسماعيل عما كان عليه وعلى البلاد من الدَّين للأجانب. (3) إن غايات الأضداد تتصل بمباديها، ففي عهد إسماعيل الذي انتهى إليه الاستبداد في محق ثروة البلاد وإفساد الأخلاق - زرع ونبت غرس الإصلاح الاجتماعي والسياسي والأدبي بإرشاد حكيم الشرق وموقظه السيد جمال الدين الأفغاني مؤسس الحزب الوطني الأول في مصر، ومعلم الكتابة والخطابة والسياسة والفلسفة، ولكن بريطانية العظمى كانت بالمرصاد لهذا الإصلاح المعنوي، فناوأته كما ناوأت ذلك الإصلاح المادي، فأغرت توفيق باشا بنفي السيد جمال الدين من البلاد بعد أن كان قد عاهده - وهو ولي العهد - على العمل بما اقترحه من الإصلاح، ومنه جعل حكومة البلاد نيابية، وتعميم التعليم وغير ذلك، ولكنه قال عند خروجه من مصر: إنه ترك فيها مَن يُتم ما بدأ، وهو مريده الذي أحاط بمبادئه ومقاصده الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده. (4) تجدد في البلاد عهد الإصلاح المادي والمعنوي معًا في أول إمارة توفيق؛ إذ تولى الوزارة مصطفى رياض باشا ذو الفطرة الطاهرة والوطنية الصادقة التي لم تر مصر في تاريخها الحديث وزيرًا يدانيه في مجموع أخلاقه وفضائله واستقلاله وعدله وإصلاحه الإداري، وإن وجد فيها من الوزراء وغيرهم ألوف فاقوه في العلوم القانونية بأنواعها مع المشاركة في بعض الفنون التي لم يكن يعرفها، فقام هو بإصلاح المالية والإدارة خير قيام، وولى الشيخ محمد عبده إدارة المطبوعات ورئاسة تحرير الجريدة الرسمية، فتوسل الشيخ بهذا إلى إصلاح لغة الصحف والدواوين، ثم إلى إصلاح التعليم الرسمي وغير الرسمي كما فصلناه في ترجمته وترجمة رياض باشا، ولكن كان من سوء حظ مصر أن وقف سير هذا الإصلاح بالثورة العرابية المشئومة بانتهائها بالاحتلال الأجنبي قاتل الأمم ومفسد الشعوب ومذل البشر. (5) توسل الإنكليز إلى الاحتلال بطلب أمير البلاد توفيق واستدراج السلطان صاحب السيادة عليها واستخدام اسمه ونفوذه، وخداع أوربة بإيهامها أنهم يقصدون حماية رعاياها وحفظ أموالها ومصالحها، وطمأنوا هؤلاء وأولئك بأن الاحتلال مؤقت لا تقصد بريطانية العظمى فيه لنفسها نفعًا، ولا تنوي سيادة ولا أثرة، وإنما تنوي خدمة مصر وأوربة والإنسانية، وياطالما خدعوا البشر بمثل هذا الإيهام، ولم تعرف عامة أمم الأرض رياءهم وخداعهم إلا في هذه الأيام، ثم طفقوا يمكنون نفوذهم بالتدريج، ويسيطرون على الإدارة والقضاء والتعليم، ويفسدون أخلاق العامة بالإباحة التي يسمونها الحرية الشخصية، وأخلاق الخاصة بخدمة الحكومة ذات الرواتب العظيمة، ويمنون على الشعب بأنهم المنقذون له من ظلم الترك وأعوانهم، والمعدون له للاستقلال الذاتي، حتى إذا ما استعد له تركوا له بلاده، نعم إنهم ساعدوا ما كانت البلاد متوجهة إليه من إصلاح الري وترقية الزراعة لتكون البلاد ينبوع ثروة لهم، ولكنهم ندموا أخيرًا أنهم لم يحولوا دون تحصيل بعض الأهالي للثروة الواسعة في بلادهم كما يعلم مما يأتي: (6) ظل الإنكليز يمهدون السبل لضم مصر إلى مستعمراتهم مدة ثلث قرن وينتظرون الفرص كدأبهم، حتى إذا ما اشتعلت نار حرب المدنية المادية الملعونة وآذنوا الدولة العثمانية بالحرب، انتحلوا لأنفسهم ما كان لها من السيادة على مصر، وأعلنوا حمايتهم عليها، وأطلقوا أيديهم في رجالها وأموالها وغلالها، وحميرها وجمالها، بل تصرفوا في كل شيء للحكومة وللأمة واستخدموه في حرب الدولة العثمانية صاحبة السيادة الشرعية على البلاد التي لم تكن تستخدم في سيادتها أحدًا في نفسه ولا تصادره في شيء من ماله، حتى إن الحملة التي وجهت إلى فتح فلسطين في آخر حرب صليبية - كما وصفها رئيس الوزارة البريطانية لويد جورج - قد سموها الحملة المصرية، وقد كانت هذه التسمية حقًّا، وإن قصد بها معنى آخر خفي - وهو الأخذ بثأر قلب الأسد وسائر الصليبين الذين كسرهم مسلمو مصر وغيرها بقيادة صلاح الدين (قدَّس الله روحه) وانتزاع البلاد المقدسة من المسلمين بحملة مصرية جل العاملين فيها من شبان مسلمي مصر، وجل المال الذي أنفق فيها على السكك الحديدية وغيرها من مال مسلمي مصر. كما أنه تم بمساعدة أشهر الأمراء المنسوبين إلى نبي الإسلام عليه وآله من دونهم الصلاة والسلام، ولو قصدوا بالتسمية معناها الحق، لما صح أن يجازوا المصريين عليها بالرق، بل لوجب أن يشركوهم بهذا الفتح ويجعلوا لهم حظًّا من حكم البلاد التي فتحوها كما جعلوا لأنفسهم مثل هذا الحظ بل أكبر منه في حكم السودان بحجة أنهم شاركوا مصر في فتحها الثاني له بعد إجبارها على تركها إياه، وإن كان خصوا أنفسهم في هذه الشركة بالغنم، وحملوا المصريين فيها الغرم، كما بيَّناه في مقالة خاصة على إثر الاتفاق على هذه الشركة بينهم وبين بطرس باشا غالي الذي لا يملك من أمر السودان شيئًا، وذلك بعد أن امتنع مصطفى باشا فهمي رئيس النظار عليهم أن يجعل ذلك الاتفاق بقرار من مجلس النظار محتجًّا بأن هذا حق الدولة العثمانية صاحبة السيادة على البلاد وحدها، وكان هذا الامتناع أكبر منقبة لمصطفى باشا فهمي تدل على شرفه ونزاهته واستقلاله، على ما كان من ضعف إرادته معهم واستسلامه. الحماية البريطانية والوزارة الرشدية (7) أعلنت بريطانية العظمى الحماية على مصر بالاتفاق والمواطأة مع وزارة رشدي باشا التي كان عدلي باشا أحد أركانها، وهذه الوزارة هي التي مكنت للإنكليز في البلاد، ومكنتهم من استخدام كل ما تملك الحكومة والأمة من الأعيان والمنافع والأناسي والدواب والأنعام، ولولاها لما استطاع الإنكليز أن يستخدموا زهاء ألفي شاب مصري، وينتفعوا بما يقدر بألوف الألوف الكثيرة من الجنيهات، وقد نقل عنها أنها لم تفعل ذلك إلا عن موعدة وعدوها إياها، وهي منح البلاد الاستقلال الإداري بعد انتهاء الحرب، وما كان رجالها أول من خدعته الوعود البريطانية، فنقول: إنهم لا يفقهون السياسة وأخاديعها، ولما انتهت الحرب وزال الخطر عن بريطانية العظمى وأحلافها، وشعرت بأن أزمة سياسة العالم صارت في قبضة يديها، قلبت لمصر ظهر المجن وشرعت تمهد السبيل لضمها إلى أملاكها، والإجهاز على لغتها العربية التي طالت محاربتهم لها واستبدال اللغة الإنكليزية بها، وجعل السلطان الغالب في هيئتي حكومتها التشريعية والتنفيذية للإنكليز وغيرهم من الأوربيين، والقبض على ناصية الثروة والمواصلات التي هي شرايين الحياة الإدارية والمالية في الأمة، وقد ظهرت مبادئ هذه المقاصد في عمل اللجنة التي أُلفت لوضع نظام لإلغاء الامتيازات الأجنبية، وحصر النفوذ الأجنبي في البريطانيين، وقد كان عدلي باشا عضوًا فيها، فلما رأت ذلك وزارة رشدي ظهر لها أن هلاك مصر بالاستعباد للإنكليز واقع على يديها، فكبر عليها الأمر، وسدت في وجهها منافذ الحيل، حتى ظهرت مبادئ النهضة الوطنية الجديدة على يد سعد باشا زغلول ورجاله. تأليف سعد الوفد ومساعدة رشدي وعدلي (8) إن خبر تأليف سعد باشا للجنة وطنية تسعى لاستقلال مصر باسم الوفد المصري معروف، ومشايعة وزارة رشدي باشا له غير مجهولة، وقد كانت قيمة مساعدتها حتى السلبية ثمينة، وأعني بالسلبية عدم مقاومته عند أخذ وثائق التوكيل من ممثلي الأمة للوفد بطلب الاستقلال التام، وقد حاول مستشار الداخلية الإنكليزي منع هذه الوثائق، فلما لم يستطع استخدام الوزارة فيه كان عمله أبتر ناقصًا، فكان هذا من أظهر الشواهد على عجز الإنكليز عن التصرف في الأمة بأنفسهم، فهم لم يعملوا شيئًا ضارًّا ولا نافعًا إلا بأيدي المصريين، ولم تكن مساعدة الوزارة لسعد باشا عن تواطؤ وتعاهد على السعي معه إلى الاستقلال التام الذي التزمه؛ إذ لم تكن ترجو هذا، وإنما رأت أن قيامه بهذا الأمر يكون وسيلة لها إلى أحد الأمرين: إما الحصول على استقلال إداري واسع مع الارتباط بالإمبراطورية بالحماية أو السيادة على ما كانت وعدت به عند إعلان الحماية، وإما إثبات وطنية أفرادها لتعلم الأمة أن موافقتها للدولة البريطانية على إعلان الحماية ومساعدتها إياها على استخدام قوى الحكومة والأمة في الحرب كان عن اجتهاد في خدمة البلاد يغفر لها خطأها فيه حسن النية والتكفير عنه بمساعدة الأمة على طلب الاستقلال. الاستعداد للاستقلال وأسبابه (9) إن استعداد الأمم للانقلابات الاجتماعية التي يظهر بها انتقالها من طور إلى طور، إنما يتم بأعمال شتى في أزمنة مختلفة تكون كالمقدمات للنتيجة، فلا يعلم عند النظر في كل منها منفردًا ما سيفضي إليه أو ما سيترتب عليه عند اتصاله بغيره على وجه مخصوص، وإن رجال الاستعمار من الإفرنج يراقبون الشعوب التي يسودونها ليحولوا بينها وبين الأعمال التي تجتمع بها كلمتها، فتكون أمة مستقلة بالاستعداد بالقوة، الذي لابد أن يتبعه الاستقلال بالفعل، فيصرفونها عن هذه الأعمال ويشغلونها بضدها بقدر علمهم واجتهادهم، وقد يخونهم العلم فيعملون بأنفسهم لإعداد الأمة للاستقلال ما لا تستطيع عمله أو ما لا يأتي منها وهم لا يشعرون، فلم يكن لورد كرومر (وقد كان أوسع إنكليز مصر علمًا وخبرًا وحزمًا) يعلم بأن إباحته للمصريين حرية الانتقاد على حكومتهم وأعظم رجالها سيكون سببًا من أسباب جمع كلمتها إذ كانت الحكومات هي السالبة لاستعداد الشعب بمصر، والحائلة دون جعله أمة، وإنما كان منتهى اجتهاده في ذلك أن سقوط هيبة الحكومة الوطنية وزوال سلطانها يجعل المصريين خاضعين للإنكليز خانعين لهيبتهم وحدهم، وهم الذين لا يطمع أحد في إضعاف سلطان

السياسة ورجال الدين في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السياسة ورجال الدين في مصر يعلم رجال الاستعمار ما لا يعلم رجال الدين في البلاد المستعمرة بالفعل أو بالقوة، من سلطان الدين على الأرواح، وتأثيره في الإرادة الباعثة على الأعمال. فهم يعنون أدق العناية في كل شعب يظله سلطانهم بإزهاق روح دين الشعب الذي على غير دينهم أو تحويله عن مذهبه إذا كان مخالفًا لمذهبهم ويبثون فيه دعاة مذهبهم الديني ويؤيدوهم بما لديهم من حول وقوة، ومن مناهضتهم لدين الشعب إبعاد رجاله عن أعمال الحكومة ومناصبها، وتحري جعل أصحاب الوظائف الشرعية الخاصة بهم لأحد ثلاثة رجال: إما رجل منافق فاسد الأخلاق ليكون بعمله حجةً على الشرع ومنفرًا عن الدين، وإما رجل زكي ميال للإصلاح، يشغلونه بالوظيفة وراتبها ورجاء الترقي فيها، عن عمل حر لا تسهل مراقبته فيه وصده عنه، ولا يقبلون مثل هذا إذا كان لهم مندوحة عنه، وإما رجل مشهور بصلاح أو علم ولكنه فقير جبان حريص على رزقه، فيستفيدون من شهرته عند الحاجة. كذلك يحولون بين المستمسكين بعروة الدين والغيرة عليه وبين الترقي في مناصب الحكومة إذا انتظموا في سلكها بمقتضى نظام البلاد من حيث يكلون أمر مناهضة التعليم الديني ومراقبة المتدينين من عمال الحكومة - ولا سيما عمال وزارة المعارف - إلى أهل الدين المتعصبين له منهم. ولا يثقون إلا بمن يُظهر لهم عدم المبالاة بدينه ويواتيهم فيما يعلم من مقاصدهم ونياتهم في ذلك. ومن الشواهد على ذلك أن مستر دنلوب الذي جعلوه مسيطرًا على وزارة المعارف في معظم عهد الاحتلال هو قسيس من رجال المذهب البروتستانتي، وهل يطمع عالم من الأزهر بأن يكون وزيرًا بجانبه أو رئيس إدارة أو قلم تحت سيطرته؟ لا لا. ومن الشواهد الجلية أيضًا منع مجلة المنار من السودان ومصادرة نسخها التي أرسلت مسجلة وإحراقها بالنار، وذلك قبل الحرب التي أوجدت في زمنها المراقبة على الضعف في كل مكان، وقد علمنا من الثقات الذين كانوا في السودان أن المنع كان إجابة لرغبة بعض المبشرين، وقد شكونا الأمر إلى السر ونجت باشا إذ كان الحاكم العام للسودان فما أشكانا، وهو هو المعدود من أوسع الإنكليز صدرًا وألينهم عريكة وأكثرهم مداراة واستمالة للناس. وأكبر الشواهد عندنا على ذلك ما تفلت من قلم لورد كرومر في كتابه (عباس الثاني) وهو هو الواسع الصدر الذي ضمن الحرية الشخصية في طول مدته ضمانًا تامًّا كان من أكبر أسباب شهرة الإنكليز الحسنة في الشرق كله، تفلت من قلمه في هذا الكتاب ما شف عما كان منطويًا عليه من التعصب الديني الذي كان يخفيه بالرياء الفريسي الذي يوصف به البريطانيون، وأظهر للناس أن من أصول سياستهم ظلم كل مسلم تربى تربية إسلامية وتخلق بأخلاق الإسلام، بإبعاده عن مناصب الحكم في بلاده، وحصر هذه المناصب في المتفرنجين بالتربية الأوربية الذين رماهم اللورد نفسه في كتابه (مصر الحديثة) بأقبح النعوت ونبزهم بشر الألقاب، وهاك تصريح منه في ذلك: قال اللورد في أواخر الفصل الرابع من كتابه هذا بمناسبة الكلام على استقالة وزارة رياض باشا الأخيرة ما ترجمته: (إن فشل تجربة رياض باشا لقَّنتني درسًا هو أن لا فائدة من محاولة قيادة الرأي العام الإسلامي في مصر بواسطة رجل مثل رياض باشا. على أن التجربة كانت في غير محلها فلو أنها نجحت لكانت الحالة السياسية تغيرت تغيرًا حسنًا إلا أنها لسوء الحظ فشلت فشلاً تامًّا) . (ولو جربت مرة ثانية تكون نتيجتها فشلاً ثانيًا، فإن من الواضح أن المسلم غير المتخلق بأخلاق الأوروبيين لا يقوى على حكم مصر في هذه الأيام، لذلك سيكون المستقبل الوزاري للمصريين المتربين تربية أوربية) . فهذا قوله في رياض باشا الذي لم يتولَّ الوزارة في هذا العصر رجل مثله في عدله وحسن إدارته وإخلاصه، وقد أثنى عليه لورد كرومر في خطبته الشهيرة (بالأوبرة الخديوية) وفي أحوال أخرى بما لم يثن على غيره، ولكن ذنبه عنده أنه كان يراعي الشعور الإسلامي ويحافظ على كرامة الإسلام. وقد اعتذرت مجلة المقتطف عن تصريح اللورد في كتابه هذا بمثل هذا الكلام - ولم تذكره - بأنه كتب كتابه هذا لقومه ولم يخطر بباله عند كتابته أنه سينشر في مصر وغيرها من بلاد الشرق. وهذه السياسة قد لقنها المسيطرون البريطانيون للموظفين المصريين بالعمل، فصار يعرفها كل أحد، وكان من تأثير ذلك ما لا محل لشرحه هنا، وإنما غرضنا أن نثبت أن المسلمين حقيقة وهم المؤمنون بعقائد الإسلام، المتخلقون بأخلاقه المحافظون على شعائره وعباداته، الحريصون على مجده وكرامته - لم يبق لهم حظ كبير من حكومة بلادهم، ولا سيما إذا تربوا في المعاهد الدينية كالأزهر والتزموا زي علماء المسلمين. وغرضي من بيان هذه الحقيقة أن أذكر الغافل عنها بأنها أقوى أسباب بُعد علماء الأزهر في عهد الاحتلال عن الاشتغال بالمصالح العامة وسياسة البلاد، وكان الإنكليز يظنون أنهم أمنوا بهذا منهم القيام بنعرة قومية للمطالبة بحقهم من الحكم في بلادهم بدلاً من الأجانب الذين افتاتوا عليهم فيها، وحلوا محلهم في كل فروع أعمال حكومة بلادهم ومصالحها، وإن من أكبر أسباب كراهة الإنكليز لسعد باشا زغلول كونه جاور في الأزهر في حداثته عدة سنين ولكنهم لم يظفروا بطائل من نبزه بلقب التعصب الديني على حسب عادتهم (رمتني بدائها وانسلت) لأنه قد اشتهر بالتساهل الديني بما لم يشتهر به غيره من الوزراء وكان هو الوزير الذي أدخل تعليم الدين المسيحي في مدارس الحكومة في عهد وزارته للمعارف فجاء بعمل لا نظير له في حكومة من حكومات أوربة نفسها دع غيرها، والقبط يعرفون ظاهره وباطنه، ويعتقدون أنه إذا تم الاستقلال لمصر على يده وكان صاحب النفوذ اللائق به في حكومتها المستقلة فإن حظهم منها سينيلهم ما لم ينالوا في عهد الاحتلال. وقد كان الإنكليز آمنين من انقلاب سياسي في البلاد بسعي الذين يتربون على الطريقة الإفرنجية - ولا سيما الإنكليزية - لاعتقادهم أن هؤلاء لا يهمهم غير أهوائهم وشهواتهم الشخصية، فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون، وجاءت النهضة الحديثة من قِبل الشبان الذين نشأوا في المدارس الأوربية التربية، سواء كانت بمصر أو أوربة وانتقلت من هؤلاء إلى الأزهريين وغيرهم من شبان المعاهد الدينية، فكان لهؤلاء الشبان ولقليل من الشيوخ تأثير يذكر في نهضة سنة 1919، ولما سكنت الحركة وكان من الضغط على كثير من رجالها وشبانها في عهد وزارة توفيق باشا نسيم ما كان وُضع للأزهريين وسائر طلاب المعاهد الدينية نظام خاص حظر على أهلها أن يشتغلوا بالسياسة وفرض على المشتغلين بها منهم عقابًا ليس هذا محل بيانه. ولما تنفس الزمان لمصر في هذا العام وسمحت السياسة بما سمحت به من المظاهرات للوزارة العدلية ثم لسعد باشا زغلول على أمل اتفاقه معها في العمل، كان لعلماء الأزهر ظهور لم يكن لهم من قبل. فقد ظهر في ميدان الوطنية السياسية الشيخ محمد بخيت الذي كان من أقوى أنصار الاحتلال في عهد إعلان الحماية الإنكليزية على البلاد، وقد ولي منصب إفتاء الديار المصرية فخدم السلطة المحتلة به أي خدمة، فبرأيه ورأي شيخ الأزهر في ذلك العهد حذفوا اسم السلطان العثماني من خطبة الجمعة مع اعتراف البلاد له بمنصب الخلافة، ولم تجد بريطانية في إمبراطوريتها الهندية من رجال الدين كهذين الشيخين تستعين بهما على حذف اسم الخليفة من الخطبة، وهما اللذان أكرها علماء الأزهر على إعانة الصليب الأحمر. وانفرد المفتي الشيخ بخيت بإصدار تلك الفتوى الطويلة العريضة في تقبيح البلشفية والتنفير منها حسب اقتراح السلطة المحتلة، وقد سبقت جريدة التيمس الإنكليزية إلى إخبار العالم بالفتوى البخيتية وبموضوعها قبل صدورها بمدة طويلة ولذلك قامت عليه قيامة الجرائد الوطنية ورد عليها الأزهريون وغيرهم. ولما اشترك الأزهريون بالحركة الوطنية عند قيام الوفد بها كان الشيخ بخيت حربًا لهم حتى قيل: إنهم هددوه وأسقطوه في مظاهراتهم وطعنوا فيه بخطبهم وأسمعوه ما يكره في نفس الأزهر في أثناء تشييع جنازة الأستاذ الشيخ إبراهيم القاياني رحمه الله تعالى. وأما في هذه الكَرة فقد اتفق مع الشيخ عبد الحميد البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية على الاحتفال بسعد باشا في دار الثاني الواسعة وانضم إليهما كثير من الشيوخ المدرسين في الأزهر، فكانوا من أرفع أنصار سعد باشا صوتًا. ولما اشتد الخلاف بين سعد ووفده والوزارة العدلية مال الشيخ بخيت بأعوانه من الشيوخ إلى تأييد الوزارة مع حفظ خط الرجعة مع سعد أو الصلة به، وسعد يرى تأييد الوزارة منتهى القطيعة له وللوفد بل للأمة، فمن أيدها لا يبقى له حبل ولا خيط يصله به، فمن ثم عد الشيخ خصمًا وهدم ما بناه في هذه المدة القصيرة من المنزلة الوطنية، وكثر طعن السعديين فيه من حيث صار العدليون يكبرون مقامه ويلقبونه مع أنصاره من الشيوخ بأئمة الدين الذين يجب تقليدهم في السياسة كما يقلَّدون في الدين. ولكن زعيم هؤلاء الأئمة أو إمامهم لم يلبث أن جنى على نفسه جناية أدبية تؤثر في صيت مثله ومقامه ما لا تؤثر الجنايات القانونية، ذلك بأن الشيخ بخيتًا افترض تألم الأمة المصرية على اختلاف أحزابها من نبز بعض الإفرنج لها بلقب التعصب الديني من جرَّاء ما سمي حادثة الإسكندرية؛ إذ زعموا أن بُغض المصريين للأجانب بسبب مخالفتهم لهم في دينهم هو الذي حملهم على الاعتداء عليهم - افترض ذلك فنشر مقالة بليغة في فلسفة التعصب، اعتقد أن سيكون لها أكبر وقع في قلوب جميع أحزاب الأمة وطبقاتها لما فيها من الحقائق المتجلية في أبهى معرض من البلاغة والفصاحة بجمعها بين الجزالة وعلو الأسلوب والسهولة التي تتناولها أفهام العامة. فهي تشرح معنى التعصب وتبين كنهه وأسبابه ودواعيه وكونه من سنن الاجتماع والعمران سواء كان مناطه الجنس والنسب، أو اللغة أو الوطن أو الدين، وأنه كغيره من الغرائز والملكات الإنسانية له حد اعتدال يكون نافعًا للأمم والشعوب بالتزامه والوقوف عند حده، وطرفا إفراط وتفريط يَعرِض الضرر للأمة بتجاوز حد الاعتدال إلى أي منهما، فالاعتدال في التعصب أن يكون تعاون الجماعة أو الأمة الذين تجمعهم رابطة على ما يحفظون به حقوقهم ومصالحهم ويرفعون به شأنهم في العلوم والأعمال التي يرتقي بها البشر وتتنافس فيها الأمم من غير تقصير فيما ينبغي لذلك، يحول دون الغاية وهو التفريط، ولا إسراف يحمل على ظلم الخارج عن هذه الرابطة والاعتداء عليه لأنه مخالف، وهو الإفراط. وكل من تجلت له هذه الحقيقة من مرآة الشعب المصري يجزم بأنه لا يزال أقرب إلى التفريط فيما ينبغي له من حفظ جامعته القومية والوطنية وإعلاء شأنها بمساماة الشعوب العزيزة، منه إلى الإفراط الحامل على العدوان على المخالفين وهضم حقوقهم، كما يفعله جميع المستعمرين من الإفرنج، فنشر المقالة في هذا الوقت كان عملاً نافعًا من وضع الشيء في محله في الوقت المناسب له. ولكن المقالة ليست من إنشاء الشيخ محمد بخيت الناشر لها في الأهرام، ولا هو بالذي يقدر على كتابة مثلها في أسلوبها، ولا تحرير الحقيقة التي شرحت فيها، بل هي من مقالات الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) الشهيرة التي نشرت في جريدة (العروة الوثقى) التي أنشأها هو وأستاذه موقظ ا

المعتصم بالله آل الرضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المعتصم بالله آل الرضا قد وهب الله تعالى لصاحب هذه المجلة غلامًا سويًّا سمَّاه المعتصم بالله، وكانت ولادته عند مطلع الفجر من يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ذي القعدة الحرام الماضي، والشمس في 25 من برج السرطان (ص1) سنة 1299 هجرية شمسية (الموافق 18 يوليو (تموز) سنة 1921 ميلادية، فنسأله تعالى أن يحييه حياةً طويلةً طيبة، وينبته نباتًا حسنًا صالحًا، ويجعل له من اسمه أوفر نصيب فيكون قرة عين لوالديه وآله وأمته، وأن يستجيب دعاءنا عند مصابنا بأخيه الهمام قبل ولادته بأربعة أسابيع فيكون خلفًا صالحًا لذلك الفرط المتقدم الذي ظهر عليه في طفوليته من أمارات الذكاء والنجابة والفصاحة ما يندر ظهوره من مثله، فيكون خيرًا منه في ذلك كما وعد الصابرين المحتسبين، وأن يجعلنا على ذلك من الشاكرين، آمين.

خواطر الأستاذ الشيخ محمد الخضر

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ خواطر الأستاذ الشيخ محمد الخضر 1- إن كبر عقلك فأصبح يعلمك ما لم تعلم، واتسع خيالك فبات يلقي عليك من الصور البديعة ما يلذه ذوقك، فأنت ما بين أستاذ يمحض نصيحته، ونديم لا تمل صحبته. 2- يبسط الشجر ظله للمقيل، ويقف بقناديل الكهرباء على سواء السبيل أفتجير أنت من البؤس وهو أحر من الإمضاء، وتوقد سراج حكمة يهدي بعد موتك إلى المحجة البيضاء. 3- حسبت العلم ضلالاً فناديت إلى الجهل، وآخر يزعم التقوى بلهًا فكان داعية الفجور، ولولا ما تلقيانه في سبيلنا من هذه الأرجاس، لكنا خير أمة أخرجت للناس. 4- هذه الدنيا كالعدسة الزجاجية في الآلة المصورة، تضع الرأس موطئ القدم وترفع القدم إلى مكان الرأس، فزنوا الرجل بمآثره، لا بما يبدو لكم من مظاهره. 5- يصنع الصائغ الحلي، وتصنع ما تتجمل به النفوس في محافك العلى، فإن ظللت تتهافت على صانع الخواتم والسلاسل، فاعلم أنها ما برحت لاهية عن هذه المحافل. 6- سميتَ الاستخفاف بالشرع حرية، فقلتُ: برع في فن المجاز فتهكَّمَ بمن أصبح عبدًا للهوى، وسميتَ النفاق كياسة فقلتُ: خان الفضيلة في اسمها، أو خانه النظر في فهمها. 7- كان لسان الدين ابن الخطيب جنة أدب تجري تحتها أنهار المعارف فآتت أكلها ضعفين، ولكن تنفست عليه السياسة ببخار سام فخنقته، وشبَّت نار الحسد في القلوب القاسية فأحرقته. 8- سِرتَ والنور أمامك فانطَلَقَ ظِلُّك على إثرك، ثم وليته قفاك فكان الظل يسعى وأنت على إثره، وهكذا العقل يستقبل الحقيقة فيتبعه الخيال، فإذا أدبر عنها انقلب الخيال إلى إمام، وقاده في شعاب الباطل بغير لجام.

الوثائق التاريخية في المسألة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوثائق التاريخية في المسألة العربية [*] (5) مذكرة الأمير فيصل في مؤتمر الصلح جاء في عدد جريدة الطان الذي صدر في 10 فبراير شباط سنة 1919 تحت عنوان (نشرة اليوم) ما ترجمته: مطامع الحجاز من الأسف أن نضطر إلى العودة إلى البحث عن الحجاز، إن سكرتير الوفد الحجازي قد رد على النشرة التي نشرتها الطان مساء يوم الخميس أي (6 الشهر) بكتاب طلب إلينا نشره، فلا يسعنا والحالة هذه إلا تلبية طلبه. كتب إلينا عوني عبد الهادي يقول: إن جريدة الطان نسبت إلى ملك الحجاز مرامي توسع لم تدُر في خَلَده ألبتة. ويردف سكرتير الوفد تكذيبه هذا بالتأكيدات القطعية بقوله: إن الملك حسينًا لم يفكر قط بجعل مكة عاصمة جميع البلاد العربية التي تملصت أخيرًا من النير التركي، فهو يفهم أحسن من أي شخص آخر الأسباب التي لا يمكن للحجاز بسببها أن تتعرض للأمور السياسية الخاصة بهذه البلاد، فالمناقضة والإبهام إذن والحالة هذه ليستا في الميل والرغبة في ضم البلاد التي أظهرها ملك الحجاز، بل هي بالأحرى في الشدة التي استعملتها بعض الصحف ونسبت بها إلى هذا الملك أفكارًا ودعاوي لم تخطر على باله. إن ملك الحجاز لم يعلن الحرب على تركيا إلا لتخليص إخوانه في الجنسية الذين كانوا يقاسون ظلم الترك من النير المخيف الذي كان يثقل كاهلهم كما يتضح من المنشورات التي أذاعها فيما بعد، فهي لا يظهر منها أنه بانضمامه إلى الحلفاء ضد تركيا - التي ارتمت في أحضان ألمانيا وحلفائها - يرمي إلى سياسة التوسع، بل صرَّح مرارًا عديدة بأنه لا يرغب في ضم شبر أرض من البلاد العربية إلى مملكته سواء كان من سورية أو العراق، بل الفكر الذي يرمي إليه هو أن يرى كل هذه البلاد التي مسها الضر الشديد من جرَّاء فظاعة الترك حرة مستقلة، وهو غير مرتبط بأية وثيقة كانت - خصوصية أو عمومية - مع أية دولة كبرى، ويرغب في أن تُترك الشعوب العربية حرة لتقرير مصيرها طبق مبادئ الدكتور ولسون. هذا ما قاله السكرتير حسين (عوني) عبد الهادي. على أن فرنسا وحدها تشعر بالرغبة في تأمين الحرية للشعوب العربية خصوصًا منهم سكان سورية التي كانت تحميهم سابقًا في الوقت الذي لم تكن حقوق الأمم رائجة فيه بعد، وجريدة الطان نفسها بتوجيهها الأنظار إلى الحجاز الذي يحاول أن يوسع سلطته على سورية إنما أرادت أن تدافع عن حرية العرب السوريين، ثم إن سكرتير الوفد الحجازي يؤكد أن الحجاز لا يروم أن يضم إليه شبر أرض من البلاد العربية لا من سورية ولا من العراق. وجوابنا على هذا: إن واجبات اللياقة والضيافة لا تسمح لنا أن نجيب على هذه التصريحات باللهجة التي وضعت فيها، ومن حسن الحظ أن مندوبي الحجاز أنفسهم هم أخذوا على أنفسهم الرد عليها، فلنترك لهم الكلام بتحليل مستند حرره أنفسهم. إن هذا المستند الذي قد يمكننا طبعًا نشره على عِلاته إذا أرادوا، قد نُشر بعنوان (مذكرة من الأمير فيصل) الذي هو ابن ملك الحجاز ورئيس المندوبين الحجازيين الموجودين الآن في باريس وقد جعل تاريخها أول يناير سنة 1919 وقدمها إلى الدول العظمى بمناسبة المؤتمر، وهي بيان للمطالب الحجازية أفرغت في قالب من الوضوح والبلاغة يعودان بالمدح والثناء على الذي حررها، وإننا ليَسُرُّنا - والحق يقال - أن ننشر للجمهور بيانًا واضحًا بدرجة هذا البيان، وسيطلع كل شخص ذي ذمة عليه بكل سهولة دون أن يحوجنا إلى تفسير كل دقائقه. مذكرة فيصل لمؤتمر الصلح الأول استهل الأمير فيصل مذكرته ببيان الأقسام المختلفة التي يدعوها آسيا العربية، فقسمها إلى ستة أقسام ورتبها الترتيب الآتي: (سورية والعراق والجزيرة والحجاز ونجد واليمن) ، وقال أنها تختلف اختلافًا كثيرًا بعضها عن بعض ويتعذر دمجها في دائرة حكومية واحدة، ولذلك حاول أن يعين المصير الذي ينبغي أن يكون لكل واحدة منها. ابتدأ أولاً بسورية فقال ما يأتي: إننا نعتقد أن سورية، هذه المقاطعة الصناعية الزراعية التي يقطن فيها عدد وافر من السكان من طبقات ثابتة هي بلاد متقدمة تقدمًا كافيًا من الوجهة السياسية، يمكنها معه أن تقوم بأعباء أمورها الداخلية، ونرى أيضًا أن الاستشارة والمعاونة الأجنبية ستكون عاملاً يمينًا جدًّا لنمونا القومي ونحن مستعدون لصرف ما يلزم من النقود في مقابل هذه المعاونة ولا يسعنا أن نضحي في مقابلها أي جزء كان من الحرية التي أحرزناها قبلاً بأنفسنا وبقوة سلاحنا اهـ. وعلى ذلك فإن سورية بناءً على مذكرة الأمير فيصل ستُمنح استقلالاً ذاتيًّا بما يتعلق بأمورها الداخلية ويدمج في خدمتها إخصائيون من الأجانب بدون أن يسمح لأية دولة أجنبية أن يكون لها أقل نفوذ في البلاد، فمن يا ترى يقوم بأعباء علائق سورية الخارجية؟ الجواب على ذلك أن الظواهر تدل بأن ملك الحجاز يقوم بهذه المهمة وناهيك بما جاء في المذكرة من عبارة (نمونا القومي) وعبارة (الحرية التي أحرزناها بأنفسنا) كأن الحجاز وسورية لا تكونان في نظر العالم سوى دولة وحكومة واحدة. ثم انتقلت المذكرة من سورية إلى العراق والجزيرة، يعني إلى جزئي مقاطعة بين النهرين، وهنا أقرت النيابة الحجازية برنامجًا مخالفًا تمام المخالفة للأول، نعم إنها قد طلبت أن تكون الحكومة عربية (بالمبدأ أو الروح) إلا أنها لم ترفض تدخل دولة أجنبية، فقد جاء في المذكرة: (إن العالم يرغب في سرعة استثمار ما بين النهرين، ولذلك نرى أن شكل الحكومة في هذه البلاد لا بد أن يكون مستندًا إلى الرجال والموارد المادية التي تقدمها دولة أجنبية عظمى) اهـ. إن في هذا تنازلاً لبريطانيا العظمى التي حفظت لنفسها السهر على ما بين النهرين في الوقت الذي كانت تعترف فيه لفرنسا بحق السهر على سورية. ثم جاء بعد ذلك ذكر المقاطعات الثلاث الواقعة في نفس شبه جزيرة العرب وهي الحجاز واليمن الواقعتين على ساحل البحر الأحمر ونجد التي هي المنطقة الداخلية، فلم يسلم الأمير فيصل بمذكرته فتح باب المناقشة في مصير هذه البلاد، وبين بعد ذلك أن الحجاز ستبقى محكومة طبق الطرق العرفية وقال: إننا نقدر هذه الطرق تقديرًا يفوق تقدير أوروبة لها، ولذلك نطلب المحافظة على استقلالنا التام، وأما اليمن ونجد فالأرجح أنهما لا تعرضان مسألتهما على مؤتمر الصلح، وهما سيتناقشان في مسائلهما بعضهما مع بعض ويقومان بترتيب علائقهما مع الحجاز وغيره. إن هذه اللهجة ترجعنا سنة إلى الوراء؛ إذ يخيل لسامعها أنه يسمع (الهر كولمن) يتكلم عن مصير كورلندة الروسية. بقيت مقاطعة فلسطين فقد قالت عنها المذكرة الحجازية: إن الأكثرية العظمى من أهالي هذه البلاد عربية، وإن العرب متفقون مبدئيًّا اتفاقًا تامًّا مع اليهود (غير أن العرب لا يسعهم أن يخاطروا وأن يأخذوا على أنفسهم مسئولية الاحتفاظ بالتوازن في خليط العناصر والأديان الذي كان على الدوام في هذه المقاطعة الوحيدة يدفع العالم للمشاكل، إن العرب يتمنون أن يعطى مركز ممتاز في هذه المقاطعة لموكل عظيم في الوقت الذي تمنح البلاد فيه حكومة محلية نيابية تقوم بإنماء عمران البلاد من الوجهة المحلية) اهـ. البرنامج الحجازي يقضي بتعرض دولة عظمى في كل من فلسطين وما بين النهرين، وليس هناك حاجة لبيان أن في هذا تنازلاً للمصالح الإنكليزية. إن هذه المطابقة لا تبرهن - كما كان قد صرح كاتب أسرار مندوبي الحجاز - على أن ملك الحجاز غير مرتبط بأي نوع من الوثائق الخصوصية مع أية دولة. وقد اختتم الأمير فيصل مذكرته بقوله: (إنني بتشديد الإشارة إلى الفروق الموجودة في حالة بلادنا الاجتماعية لا أود أن أقول بأن هناك اختلافًا حقيقيًّا في المرامي والمصالح المادية والمعتقدات أو الأخلاق على وجه يجعل ارتباطنا متعذرًا، إن أهم عقبة يجب علينا تذليلها هو الجهل المحلي الذي تقع معظم مسئوليته على عاتق الحكومة التركية) اهـ. فالمقصود إذًا تشكيل حكومة واحدة ينبغي إعداد أساسها بجمع شمل كل البلاد العربية التابعة للسلطنة العثمانية القديمة تحت زعامة ملك الحجاز الموجود في مكة، إن الإنسان إذا أمعن النظر في هذه الطلبات الرسمية تمكن من تقدير تكذيب ما أرسله إلينا كاتم أسرار مندوبي الحجاز حق قدره عندما كتب إلينا: إنه لم يدر في خلد ملك الحجاز ألبتة أن يجعل مكة عاصمة للبلاد العربية التي تملصت من النير التركي. وعلى هذا فقد برح الخفاء وظهرت سياسة الحجاز التي كانت مفرغة في قوالب المبادئ الويلسنية كما كانت سياسة الحدود الألمانية في مقاطعة أوكرانيا وبلاد البلطيق، كأنها مشروع لضم البلاد أو من قبيل وضع إمبراطورية بدوية مكان إمبراطورية تركية. إن مذهب الوحدة العربية يخدم مطامع فئة قليلة من النفعيين العرب والأوروبيين كما كان مذهب الوحدة الألمانية يخدم مطامع السلطة البروسية العسكرية، فإذا كان هناك رغبة في نشر السلام في الشرق فينبغي اجتناب الوقوع في هذه الحبائل، إن الوحدة العربية إذا كانت ممكنة التحقيق، فإنها لا تكون بالفتح والسيطرة، ولا بالجمعيات السرية أو المساعدات المالية المستنكرة، بل لا يمكن تأسيسها إلا أن تجتمع فيما بعد الحكومات التي قد تكون تعلمت فيما بعد كيفية الحكم الذاتي وتكون أقبلت وأدركت بكل حرية منافعها المشتركة. إن كل سياسة أخرى تكون جائرة وعمياء من شأنها أن تثير في العالم الإسلامي حركات تقضي مصلحة حلفائنا البريطانيين العظمى أن يجتنبوها اهـ. كلام الطان التي توغلت في الاستنباط لما لقومها من الطمع في استعمار سورية، واندفعت هي وغيرها من الجرائد الفرنسية تحذر الإنكليز من تأسيس جامعة عربية تمتد إلى إفريقية وتعيد سلطان الإسلام الذي تتبجح هذه الجرائد بأن الحلفاء تركوه كالطير المقصوص الجناح من مملكة مراكش إلى مملكة الآستانة، وكانت في غنى عن تحذير الإنكليز، فهم أحذر من الفرنسيس وأدهى، وإنما يريدون السيطرة على جميع بلاد العرب ليحولوا دون تأسيس الجامعة العربية والفرنسيين يخافون عاقبة ذلك أكثر مما يخافون من ارتقاء عرب آسية ومصر أن يسري إلى سائر عرب إفريقية، فمن حماقة هذه الجرائد أنها تنفر العرب من أمتها من غير فائدة تجنيها من ذلك، فالإنكليز يسخرون من نصائحها ويعملون ولا يقولون. (6) استسلام الحجاز لبريطانية العظمى جاء في آخر مقالة افتتاحية من عدد 240 من جريدة (القِبلة) الذي صدر بمكة في 15 ربيع الأول سنة 1337 ما نصه: وها مقطمنا الأغر ينقل لنا في عدد 9038 الصادر بتاريخ 26 صفر 1337 من تصريحات أم صحف العالم ولسان حال الشعب البريطاني الذي أثبت فضله على العالم ومنته على مجتمعه ولا حرج بمواقفه وثباته واقتداره السياسي والحربي والمالي أمام أهوال سنيننا هذه الأربع من حسن نواياها وآمالها وما تريده ثقة واعتمادًا على معاشر العرب بقولها من بحث سياستنا القديمة التي كانت ترمي إلى تسييد تركية وشد أزرها على أعدائها، وأخذنا نحاول البحث عن بديل حر يحل محل السلطنة العثمانية البالية الفاسدة، ومن هؤلاء الأبدال الذين يحلون محل تركيا العرب أما سواهم ففلسطين الجديدة وأرمينية الجديدة. نرحب ونؤهل ونسهل بمن أنزلنا محل ثقته، وتوسمنا بالأهلية لمصادقته، ولا ريب فإن على مثل هذا يتنافس المتنافسون، ولمثله فليعمل العاملون. ألف ألف أهلاً وترحيبة وأضعافها شكر لمحسن الظن، وإنا لا نجيب

فناء النار والرد على ابن القيم ـ 2

الكاتب: عبد الظاهر محمد

_ فناء النار والرد على ابن القيم (2) قسَّمنا الموضوع في الكلام على فنائها ثلاثة أقسام: الأول في الآثار التي استشهد بها العلامة ابن القيم على فنائها، الثاني على الآيات الثلاث، الثالث على مقتضى الصفات ومجال العقل فيها: أما الأول فقد تكلمنا عليه في النبذة الأولى، وبَيَّنا أن الآثار لا تصح عن عمر ولا عمن روى عنه من الصحابة، رضي الله عنهم. وقُلنا: حتى لو صح لما كان حجة في هذه المسألة الكبرى الاعتقادية، وأما الكلام على الآيات الثلاث فمداره على تحقيق معنى الخلود المستثنى منه أولاً، والمشيئة ثانيًا، والمقصود من الاستثناء ثالثًا، وهل هذه الآيات من المحكم أو من المتشابه. أما الخلود المذكور في هذه الآية (آية الأنعام) و (آية هود) وجميع آيات القرآن، فهو لا يعرف إلا من كتب اللغة، وقد رأينا لسان العرب الذي هو أكبر قاموس وأعظم معجم عربي يقول: (الخلد) دوام البقاء في دار لا يخرج منها: خلد يخلد خلدًا وخلودًا: بقي وأقام، ودار الخلد: الآخرة، لبقاء أهلها فيها. اهـ. ومما يدل على أنهم يستعملون الخالد مجازًا فيما لا يبقى لطول مدته قول صاحب اللسان: والمخلد من الرجال: الذي أَسَنَّ ولم يَشِب، كأنه مخلد لذلك. وخلُد يخلُد خلدًا وخلودًا: أبطأ عنه الشيب كأنما خلق ليخلُد، قال: والخوالد: الأثافي في مواضعها، والخوالد: الحجارة والجبال والصخور لطول بقائها بعد دروس الأطلال اهـ. فانظر إلى قوله فيمن أبطأ عنه الشيب (كأنما خلق ليخلد) وقوله (لطول بقائها) للأثافي والحجارة والجبال، فإنهم شبهوها بما لا يبقى ولا يزول وتصوروا فيها - لطول البقاء - ما يصح أن يطلق عليه لفظ الخلود الذي لم يوضع إلا لدوام البقاء، كما ذكر معناه الأول أول المادة، ومنه تعلم أن الفناء مناقض له كل التناقض لأنه قطع البقاء الذي أخبر الله به وعدًا ووعيدًا في سبعمائة آية من كتابه في الجنة والنار، ففرق قوم بين الأخبار بدون دليل يصار إليه ويقوم حجة على خصمهم. تقول لهم: يا قوم - هداكم الله - في كل من الجنة والنار قال الله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} (النساء: 57) و] خَالِدِينَ فِيهَا [دون أبدًا، فبأي شيء فرقتم بين الخلودين والأبدين، فلا تجد إلا تعليلات واهية وكلامًا طويلاً ضرره أكثر من نفعه كأنهم لم يجدوا غير الخلاف صناعة، ولا سوى الكلام بضاعة حتى اضطر أن يجاريهم من لم يكن منهم - ابن قيم الجوزية - وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأما الأبد فقال في اللسان في مادة أبد: والأبد: الدائم، والتأبيد: التخليد، وأبد بالمكان يأبِد - بالكسر - أبودًا: أقام به ولم يبرحه اهـ. فعلى هذا لا يستدل بما اصطلح عليه الناس (كالمصريين) في التأبيد إذ جعلوا له مدة محدودة، ولم ينزل القرآن بلغتهم ولا عبرة باصطلاح ولا عرف يخالف أصل اللغة التي نزل بها كلام الحكيم الخبير. فاسمع لقوله تعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ} (الأنبياء: 34 - 35) فانظر كيف قابل الخلد بالموت الذي هو الفناء وتأمل معناه تجده كما قال صاحب اللسان: إنه دوام البقاء، فكأنه يقول لرسوله: وما جعلنا لبشر من قبلك دوام البقاء أفإن مت فهم الباقون، كل نفس ذائقة الموت إلخ. وهذه الجملة الثانية مؤكدة لمعنى ما قبلها، فغفر الله لنا ولهم وهدانا وإياهم سواء السبيل. وإذ قد عرفنا [1] معنى الخلود الوارد في الآية، وإنه هو الذي به علمنا دوام بقاء المؤمنين في الجنة كما علمنا به دوام الكافرين في النار، وأنه هو الأول في الألفاظ الدالة على معنى البقاء والأبد بعده في الترتيب، ولا يعرف في اللغة لفظ أدل على البقاء منهما في المخلوقات على ما أظن. وأما ما ذكر في الأساس من مثل قولهم: رزقك الله عمرًا طويل الآباد بعيد الآماد، فهو مبني على التوسع وتصوير ما لا يكون في حيز الكائن على حد قول الشاعر: (وتخافك النطف التي لم تخلق) [2] ومثل هذا كثير في قولهم [3] ، ولكننا نسائلهم في أصل وضع الخلود والأبد، وقد عرفت معناهما عن اللسان فيما تقدم [4] على أن الله تعالى أخبر بكل لفظ مفيد الدوام والبقاء عن كلتا الدارين كلا الفريقين، فقال:] لهم فيها دار الخلد [وقال:] عذاب مقيم [. إذا عرفنا ما تقدم أمكننا أن ننظر في الاستثناء المذكور في آية الأنعام جاعلين نصب أعيننا ما ورد في آيات الله تعالى من وعده للمؤمنين ووعيده للكافرين وكذلك الأحاديث الصحيحة المصرحة بخروج عصاة المؤمنين من النار، أما الآيات المصرحة بدخول الكافرين النار فهي كثيرة وعلى كثرتها محكمة لا ناسخ فيها ولا منسوخ ولا متشابه [5] ولا يصح أن نؤول كل هذه الآيات ونركب كل صعب وذلول حتى نجعلها كلها من باب الرعد الذي ليس وراءه شيء لننظمها في سلك آية وجد فيها ذوو الشُّبه ما يوافق أهواءهم ويثبطون به همم غيرهم ويشغلون به الأفهام، وكم مُني الإسلام بهم ونفذت فينا سهامهم حتى اختلفنا في كتابنا كما اختلفوا في كتابهم، وكان ذلك قدرًا مقدورًا. قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 128) فالمعنى: خالدين فيها يا أهل النار (وهم من مرَّ ذكرهم) إلا ما شاء الله من هذا الخلود، أن يخرجهم من داره؛ لأنه حكيم لا يخلد إلا الكافر الذي أخبر عنه في كثير من آياته، عليم بما يخرج من أهل الإيمان الموحدين، فالآية قد جمعت وعدًا ووعيدًا، وكثيرًا ما يذكر الله في آياته أحدهما بعد الآخر على حد قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (الأعراف: 42،41،40) ، وكقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} (مريم: 59- 60) فما يخبر سبحانه بوعيد وإنذار إلا ويعقبه بوعد وبشارة: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: 31) فلما أنذر قومًا في هذه الآية بالخلود في النار على استمتاع بعضهم ببعض وموالاة بعضهم بعضًا وكان بعض المؤمنين الذين أَلَمُّوا ببعض الذنوب ولحقهم من الوصف شيء يحزنهم ذلك حتى يؤديهم إلى اليأس، لا جرم استثنى الله تبشيرًا لهم وإخبارًا بحكمته وعلمه وعدله في آية واحدة، ولا يبعد هذا بهم فقد ورد أن بعض الصحابة لما سمع قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} (الأنعام: 82) قالوا: وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (ذاك الشرك) وقرأ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) فلولا أن فسرها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآية الأخرى ليئسوا وقنطوا، ومثل ذلك ما جرى عند نزول قوله تعالى: {وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ} (البقرة: 284) إلخ، ثم أنزل الله لهم: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) إلخ. إذا تقرر هذا وعلم أن الإنذار في آية (الأنعام) بالخلود شديد، وأن السكوت عليه قصور لو كان في كلام الناس لعد معيبًا، فكيف بأبلغ الكلام الذي أنزل رحمة للعالمين؟ فهل بعد هذا يستنكر ذو فهم وتأمل في كلام الله أن يجمع بين وعد ووعيد ونذارة وبشارة في آية واحدة، على أن النذارة بالخلود لمن يستحقونه كما أشار بذلك الحكيم للحكماء الذين يفهمون وأن البشارة لمن يستحقون ممن عرفنا خبرهم في القرآن والأحاديث، والله أعلم بهم وبما اقترفوا وجزاء ما كانوا يقترفون، هذا ما أفهمه في الآية مع استحضاري الآيات الأخرى والأحاديث ولم يشف غليلي ما رأيته من وقف المتوقف وتأويل المتأول، وهذا هو وجه الاستثناء لا ما قالوا من أنه يأتي على ما في القرآن، حاش لله أن يكون خبر واحد يهدم بناء أخبار أدعمت على العلم والحكمة حتى لو كان مجردًا عما أشرنا إليه من وجوه البلاغة والإعجاز، ولَأن نؤوله ليوافقها لكان أسهل من أن نؤولها كلها. ومن العبر أنه قد حضر عندي أخ في الله من أهل العلم وتحاورنا في الموضوع فكان هو فنائيًّا وأنا بقائيًّا، فما زال يؤول كل آية جئت بها دالة على البقاء بحذق وبراعة (على طريقة الأزهريين) حتى جئت له بآية الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ} (الأعراف: 40) الآية، فوجم فقلت: ماذا؟ أجب، فقال: انتظر، ثم بعد هنيهة قال - ويا ليته ما قال -: نعم هو كما قال الله تعالى ما دامت النار لا يدخلون الجنة ولكنها ستفنى، فقلت: ثم ماذا بعد ما تفنى أيدخلون الجنة وتزول الاستحالة بفناء النار؟ فضحك من تأويله، فلينظر الناصح لنفسه البصير بكلام ربه وليجعل الرحمة في محلها كما أخبر الله بها عن نفسه، وينظر إلى المشيئة بعين الحكمة ولا ينظر إلى صفة دون صفة بعين عشواء، وإذ قد ألمعنا إلى ذكر شيء من وجوه الاستثناء فلنتكلم على المشيئة المستثناة , وإن كانت هي أحق بالكلام قبل الاستثناء لذكرها أول الفصل ثانية. أخبرنا الله تعالى في آيات كثيرة أن مشيئته موافقة لحكمته، وأنه لا يشاء عبثًا ولا ظلمًا قال تعالى:] يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [[6] (الإِنسان: 31) فهذه الآية تدل دلالة صريحة لا مجال للشك فيها على أنه لا يدخل في رحمته إلا غير الظالمين، وإنما الذي عرَّفَنا أنه لا يشاء إلا هم قوله: ] والظالمين أعد لهم عذابًا أليما [فالناس قسمان: ظالم وعادل، والدار داران: جنة ونار، فلما ذكر الظالمين وما أعد لهم عرفنا أن القسم الذي شاء إدخاله في رحمته ضدهم وهم المؤمنون أو المقسطون أو كما تسميهم، أفلا يصح أن ننزل المشيئة المذكورة في آية (الأنعام وهود) على هذا التقسيم الظاهر، وأن الله لا يشاء فناء النار الذي يهدم كل زجر ووعيد في القرآن ويُطمِع كل ذي كفر وبهتان وجبار عنيد وشيطان. ومثل هذه الآية قوله تعالى: {لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} (الفتح: 25) فهل يظن عاقل أن معنى هذا: يدخل الله كافرًا الجنة أو مؤمنًا النار، أم أنه لا يفعل إلا ما اقتضته حكمته التامة، وأن مشيئته في هذه الآية وفي أمثالها مقيدة بمثل آية:] هل أتى على الإنسان حين من الدهر [وغيرها مما سنذكره، قال تعالى: {وَمَن يُهِنِ اللَّهُ ف

القياس في اللغة العربية ـ 1

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ القياس في اللغة العربية للأستاذ العلامة محمد الخضر (1) الحمد لله الذي جعل العربية أشرف لسان، وأنزل كتابه المحكم في أساليبها الحسان، والصلاة والسلام على من بهر البلغاء بلهجته البارعة، وعلى آله وصحبه العاملين على منوال حكمته الرائعة، أما بعد، فقد كنت أيام دراستي لعلم العربية أَمُرُّ على أحكام تختلف فيها آراء علمائه فيقصرها أحدهم على السماع ويأذن الآخر في القياس عليها، دون أن يذكروا الأساس الذي قام عليه الخلاف، فأرى التمسك بمثل هذه الأقوال من التقليد الذي لا ترتاح إليه النفس، ولا سيما حين أذكر أن كثيرًا من أصحاب هذه الأقوال قد تلقوا العربية من كتب يمكننا الاستقاء منها، فأخذت ألفت نظري إلى الأصول العالية التي يراعونها في أحكام السماع والقياس حتى ظفرت بقواعد وقفت على تفاريق منها في صريح كلامهم وانتزعت شذورًا أخرى من موارد أحكام جزئية تقصيت آثارها في أبواب شتى. ولمَّا شرعت في مدينة دمشق بمطالعة بعض الكتب العربية (كمغني اللبيب) بمحضر طائفة من أذكياء الطلبة، كنت أذهب في تقرير مسائل السماع والقياس على تلك الأصول التي لم تدخل بعد في سلك التأليف، وعند هذا اقترح عليَّ أولو الجد منهم جمعها وتحريرها ليكونوا على بينة منها خلال المطالعة، فطاوعتهم على ما اقترحوا حتى تكاملت في مقالات تشرح حقيقة القياس وتفصل شروطه وتحرر مواقعه وأحكامه. *** تمهيد لا يكون الكلام عربيًّا فصيحًا إلا إذا صحَّت مفرداته واستقام تأليفها، أما صحة مفرداته ففي النطق بحروفه على مقتضى الوضع من غير أن تُغيَّر بنقص أو زيادة أو إبدال أو قلب في هيئة ترتيبها أو حال حركتها وسكونها، وأما استقامة تأليفها فبانطباقها على أسلوب نسجت عليه العرب في مخاطباتها، ولا تتحقق هذه المطابقة إلا برعاية أحكام التقديم والتأخير والاتصال والانفصال والحذف والذكر. وهل نتوقف في إطلاق الكلم وتأليفها على معرفة وضعها الخاص ونظمها الوارد بحيث لا نستعملها حتى يثبت لدينا من طريق الرواية كيف نطق بها العرب، أو أبقى واضع اللغة طريق القياس مفتوحًا فيسوغ لنا أن نلحق الكلم بأشباهها في هيئة مبانيها أو نسق تركيبها ونُسَوِّي بينها في الأحكام إذا أعوزنا السماع. هذا موضع تشعبت فيه أنظار الباحثين في العربية، فبعد اتفاقهم على العمل بالقياس وتضافر عباراتهم على أنه من مآخذ اللغة غلا بعضهم في التعلق به واتسع في مجاله إلى ما يخرج بالكلام عن صبغته العربية، وضيَّق آخرون الغاية إلى حد يقرب من موقف الجامد على الرواية في أوضاع الكلم وتصرفاتها. وقد انتبذ المحققون بين هذين الطرفين مسلكًا يبقي على اللغة شعارها ويبسط في نطاقها بمقدار ما يتسوغه ذوق آكل الشيح والقيصوم. ولا تجد عالمًا مفردًا أو أهل بلد اطردوا في هذه الجادة ولم يحيدوا عنها في قضية فكانت جميع أقوالهم في محل الاعتدال، بل ترى القول الحق والقياس الوسط يدور بين مذاهبهم فيصيبه هذا تارة ويحرزه مخالفه تارة أخرى، وذلك شأن العلوم التي يُستند في تقرير قوانينها إلى اجتهادات العقول. *** الحاجة إلى القياس وضعت اللغات ليعبر بها الإنسان عما يبدو له من المآرب ويتردد في ضميره من المعاني، ومن البَيَّن جليًّا أن المعاني تبلغ في الكثرة إلى أن تضيق عنها دائرة الحصر، وتنتهي دونها أرقام الحاسبين، فلم يكن من حكمة الواضع سوى أن وضع لبعض المعاني ألفاظًا عينها كالسماء والمطر والنبات، ولوح إلى البقية بمقياس تصاغ الكلم في قوالبها فتدخل في زمرة ما هو عربي فصيح. ولولا هذه المقاييس لكانت اللغة أضيق على المتكلم بها من مفحص قطاة، فيقع في نقيصة العي والفهاهة، ويكثر من الإشارات التي تخرج به عن حسن السمت والرصانة، ويرتكب التشابيه محاولاً بها تقريب المرام من فهم المخاطب لا كما يستعملها اليوم حلية للمنطق ومظهرًا من مظاهر البلاغة. ولو فرضنا صحة أن يوضع لكل معنى لفظ يختص به كأن نجنح إلى أن منشئ اللغة هو مبدع الخليقة لكان الحرج الذي تقع فيه اللغة أن تضيق المجلدات الضخمة عن تدوينها، وتعجز النفوس الناطقة عن حفظ ما فيه كفايتها. فالقياس طريق يقرب به تناول اللغة ووسيلة تمكن الإنسان من النطق بآلاف من الكلم والتراكيب دون أن يقرن سمعه أو يحتاج في معرفتها إلى مطالعة القاموس أو اللسان. وربما يلوح لك أن الألفاظ المرادفة تغني عن القياس في الكلم المفردة لو صرفها الواضع إلى المعاني التي لم يعين لها أسماء. فنقول: إن للمترادفات مجالاً فسيحًا وأثرًا بليغًا في الفصاحة والبلاغة، فلا يصح أن تكون العربية عارية منها، ثم إنها على كثرتها لا تبلغ أن تسد مسد القياس في مثل المصادر والأفعال والأوصاف المشتقة وجموع التكسير، فضلاً عن كون الكثير من هذه المترادفات إنما نشأت من لغات متعددة. *** ما القياس؟ يُسند القياس أحيانًا إلى العرب أنفسهم فيكون من قبيل التنبيه على علة الحكم الثابت عنهم بالنقل الصحيح، كما قال النحاة: أُعرب الفعل المضارع قياسًا على الاسم، وعَمِلَ اسمُ الفاعل قياسًا على الفعل، ودخلت الفاء خبر الموصول في مثل قولهم: (من يأتيني فله درهم) قياسًا للموصول على الشرط. ويضاف تارة إلى الباحثين عن أحوال اللفظ العربي، فيراد منه أحد معانٍ ثلاثة: (أحدها) : أن تعمد إلى اسم ورد استعماله في معنى يشتمل على وصف يناسب التسمية كالخمر، فتعديه إلى معنى آخر تحقق فيه ذلك الوصف وتجعله من مدلولاته كالنبيذ تعده فيما يتناوله اسم الخمر حيث كان يخمر العقل ويستره، وهذا النوع من القياس هو الذي يعنيه المحققون من الأصوليين بقولهم: لا تثبت اللغة بالقياس. (ثانيها) : إلحاق اللفظ بأمثاله في حكم ثبت لها باستقراء كلام العرب حتى انتظمت منه قاعدة عامة كصيغة التصغير والنسب والجمع ورفع الفاعل وبناء العلم والنكرة المقصودة في النداء. (ثالثها) : إعطاء الكلم حكم ما ثبت لغيرها مما هو مخالف لها في نوعها كما أجاز الجمهور ترخيم المركب المزجي، قياسًا على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث، وأجاز ابن مالك حذف العائد المجرور في الصلة إذا تعين حرف الجر؛ قياسًا على حذفه في الجملة الخبرية، والمعنيان الأخيران هما موقع النظر ومجال البحث في هذه المقالات، وآثرت للفرق بينهما التعبير عن الأول بالقياس الأصلي وعن الثاني بقياس التمثيل. وللكلم أحوال في نفسها، وأحوال من جهة ما يقترن بها، فيتوجه النظر في القياس إلى الأحوال العارضة لها من حيث مبانيها المفردة كاشتقاقها ووسعها ثم إلى الأحوال الجارية عليها من جهة نظم بعضها في سلك بعض، وترجع أحوال النظم إلى الاتصال والانفصال والتقديم والتأخير والحذف والذكر والعمل والإعراب والبناء والاستعمال، فكان المقصد من هذا التحرير يدور على البحث في القياس الأصلي والقياس التمثيلي ومباحث مشتركة بينهما. *** المقالة الأولى في القياس الأصلي ما يقاس عليه: يَجمع اللسان العربي تحت اسمه لغات شتى، ولكنها تختلف فيما بينها اختلافًا يسيرًا مثل اختلافها في بعض أحوال الكلم من حركة وسكون، أو إعراب وبناء، أو إعمال وإهمال أو ترتيب حروفها أو إبدال بعضها من بعض، أو الزيادة والحذف. تتفاوت هذه اللغات بالجودة وفصاحة اللهجة، وجميعها مما يصح القياس عليه. قال ابن جني في الخصائص: اللغات على اختلافها كلها حجة والناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وقال أبو حيان في شرح التسهيل: كل ما كان لغة لقبيلة صح القياس عليه، وقال البطليوسي في شرح الفصيح: المشهور في كلام العرب: ماء ملح، ولكن قول العامة: مالح، لا يعد خطأ وإنما هو لغة قليلة. ومن اعتمادهم على هذا الأصل كان الصحيح عندهم جواز القياس في تقديم عامل (كم) الخبرية عليها؛ لأنه لغة حكاها الأخفش عن بعض العرب. ويعتمد في تقرير الأحكام اللفظية على أقوال الجاهلية كامرئ القيس وزهير، والمخضرمين كحسان ولبيد، والإسلاميين كالفرزدق وجرير وذي الرمة، أما المحدثون ويدخل في زمرتهم بشار بن برد وأبو نواس وأبو تمام فلا يعول في الاستشهاد على أوضاع الكلم وأحوالها التركيبية على شيء من منشآتهم أو منظوماتهم، ولهذا ترى النحوي يسومهم سوء التخطئة والتلحين حيث وقعوا فيما يخالف القواعد المسلَّمة وإذا كان الحكم الذي لم تطابقه عبارتهم من مواقع الخلاف أقام لهم العذر بأنهم قد بنوا كلامهم على المذهب الضعيف، ثم إذا عثر على صنيعهم الصادر من الجاهليين أو الإسلاميين لا يسعه إلا أن يقضي فيه بالشذوذ أو يقتحم في تصحيحه طريقة التأويل. وقال الزمخشري في كشافه بعد أن استشهد بشعر لأبي تمام: وهو إن كان محدثًا لا يُستشهد بشعره في اللغة، فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه. وتلقى هذه المقالة الشهاب بسماع المقلد فقال في شرح الدرة: اجعل ما يقوله المتنبي بمنزلة ما يرويه. وقد كشفنا فيما كتبناه في حياة اللغة العربية عن وجه الخطأ في هذه المقالة، وكيف يحتج بأقوال هؤلاء وقد عثروا في أغلاط كثيرة لا يستطيع أحد السبيل إلى تخريجها على محمل صحيح، فهذا أبو نواس يقول: وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس والصواب في مصدر نزع عن الشيء: إنما هو النزوع وهذا أبو تمام يقول: لعذلته في دمنتين تقادما ... ممحوتين لزينب وسعاد والصواب: تقادمتا وهذا المتنبي يقول: فإن يك بعض الناس سيفًا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول والصواب في جمع بوق: بُوَق - كصُرد - أو أبواق. ومن لا يعتمد في تقرير أحكام اللفظي على استعمال المحدثين يرى أن استناد بعض المتأخرين في تصحيح بعض الكلم إلى استعمال أحد أهل العلم غير سديد، يرد بعضهم على صاحب القاموس في قوله: (الأنموذج لحن) بأن الزمخشري سمَّى كتابًا له بالأنموذج، والنووي عبَّر به في المنهاج عند قوله (أنموذج المتماثل) وهو رد غير مبني على أصول العربية؛ إذ لا حجة إلا في كلام من ينطق بالعربية عن سليقة، وهذا الشرط لا يتحقق في أبناء المائة الخامسة كالزمخشري أو المائة السابعة كالإمام النووي رضي الله عنه، وكم من إمام في العربية ينطق أو يؤلف بعبارة تخالف مذهبه الصريح، أفلم يشترط ابن هشام في كتاب (المغني) لدخول هاء التنبيه على الضمير كون خبره اسم إشارة؟ ولم يحتفظ بهذا الشرط، فقال في خطبة الكتاب نفسه (وها أنا بائح) ووقع صاحب القاموس في هذه الهفوة بعينها فشرط لاتصال حرف التنبيه بالضمير ما شرطه ابن هشام من الإخبار عنه باسم إشارة ولم يقم على ما شرط فقال في خطبة كتاب القاموس (وها أنا أقول) . ويؤكد لك عدم صحة الاحتجاج بما يستعمله علماء العربية أن صاحب القاموس صرَّح بأن كلمة (بعض) لا تدخلها اللام وهو يعلم كما نقل عقب هذا الحكم أن سيبويه والأخفش قد استعملاها في كتابهما. ونحتج بالكتاب الحكيم ونعمل بالقياس على ظواهره ما طابقت مقتضى البلاغة ولا نتبع سبيل الذين يحيدون به إلى جانب التأويل انتصارًا لما سبق إلى ظنونهم وتقرر في مذاهبهم من أحكام فقهية أو عربية. قال الفخر الرازي في تفسيره: إذا جوزنا إثبات اللغة بشعر مجهول فجواز إثباتها بالقرآن العظيم أولى، وكثيرًا ما نرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهول فرحوا به، وأنا شديد التعجب منهم فإنهم إذا جعلوا

الرحلة السورية الثانية ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (6) ذكرنا في النبذة الخامسة التي نشرت في الجزء الخامس أن مسلمي بيروت قد تجدد لهم ثلاث حالات اجتماعية، وتكلمنا على الأولى منهن وهي المتعلقة بالنساء، فبقي أن نقول كلمة في كل من الحالتين الأخريين وفاءً بالوعد. اتفاق المسلمين والنصارى الحالة الثانية: الميل إلى الاتفاق مع النصارى وهذه ليست جديدة بالمعنى المتبادر من الكلمة، وهو أنها حدثت بالتطور الذي أحدثته الحرب الأخيرة وما تولد منها، بل كانت من تأثير تطور سابق عليها نبه العرب كغيرهم إلى المحافظة على جنسيتهم، وكان السوريون أسبق العرب إلى التنبه والبحث في ذلك من حيث إن لهم وطنًا خاصًّا له حدود ومصالح خاصة قلما تشاركهم فيها الأقطار العربية الأخرى وأهله مؤلفون من أصحاب ملل ومذاهب يرجع أكثرها إلى فريقين: محمديين ومسيحيين، بحيث يتوقف عمران البلاد وارتقاؤها على تعاون الفريقين وإن كان أكثر مجموع أهالي البلاد في غير لبنان من الأولين، كما أن أكثر رقبة الأرض لهم. فالحق أن للشعور بالحاجة إلى الاتفاق بين المسلمين والنصارى عدة محركات: الحرب، وثلاثة قبلها وواحد بعدها، والأخير الذي سبق إلى ذهننا عند كتابة النبذة الخامسة من الرحلة، أما المحرك الأول فهو الدستور الذي علق الآمال بوطنية جديدة عثمانية تقضي على دسائس التفرق في المصالح الوطنية بين الملل والنحل، ولكن لم تلبث هذه الآمال أن خابت فكانت خيبتها بمحرك أقوى وهو اضطهاد الاتحاديين للعرب واجتهادهم في صرف قوى الدولة إلى تقوية الجامعة التركية أو الطورانية، وإكراه سائر الشعوب العثمانية على الاندغام فيها بمحو لغتهم وجميع مميزاتهم القومية والوطنية، ولا سيما السوريين والعراقيين من العرب، وتلا هذا المحرك الثالث وهو حرب البلقان التي انكسرت فيها الدولة انكسارًا حرَّك المطامع الأوربية المستعدة للوثوب على البلاد العربية لاستعمارها، وعلى إثر ذلك تألف حزب اللامركزية في مصر والجمعية الإصلاحية في بيروت من المسلمين والنصارى، وباتفاق الحزبين مع بعض شبان السوريين المشتغلين بتلقي العلم في أوربة تكوَّن المؤتمر السوري وجُعلت رياسة إدارته لحزب اللامركزية؛ لأنه أقوى الأحزاب وأطهرها وأعمها. وأما الحرب فقد كانت بويلاتها ومصائبها محركًا إنسانيًّا وطنيًّا للتعاطف والتراحم كما وصفنا في هذه الرحلة ووصف غيرنا من الكتاب في الجرائد السورية في جميع الأقطار. وأما المحرك الأخير وهو الاحتلال فقد كان يجب أن يكون - بعد تلك المحركات الممهدة أو المؤسِّسة - هو المتمم للبناء، ولكنه كان هادمًا للأساس والقواعد وراجعًا بهؤلاء السوريين المساكين إلى شر مما كانوا عليه قبل تلك التطورات أو المحركات الدافعات لكل فريق إلى السعي للاتفاق مع الآخر وتكوين جامعة وطنية، وقد كان كل فريق مؤاخذًا في هذا اللوم الذي كان مظهرًا لفقد التربية الوطنية والقومية وتغليب التعصب الديني على كل ما سواه حتى كأنه - أو لأنه - قد صار غريزة أو ملكة راسخة لا تزول إلا بجهاد طويل ينقرض فيه جيل ويتجدد جيل. ذلك بأن الاحتلال المختلط الذي تلا جلاء الترك عن سورية كان مذبذبًا، فقد سبق الأمير فيصل بجنوده ورجاله إلى احتلال البلاد باسم الحكومة العربية ورفع على معاهد الحكومة في مدنها علمه العربي الحجازي، وكان الأهالي قد سبقوا إلى تأليف حكومة وطنية مؤقتة وتلاه الاحتلال المختلط المثلث تحت قيادة الإنكليز، فالقسمة المثلثة فالقسمة الثنائية، ولما جاء رجال فيصل أولاً خضع لهم الجميع ورفعت الحكومة اللبنانية علمه على دار الحكومة في بعبدا وكانت المبشرات بالثورة العربية والحكومة العربية الجديدة التي ستنقذ البلاد من الترك قد تغلغلت في البلاد بسعي الدولة البريطانية فكان مجيء رجال فيصل واستيلاؤهم على مصالح الحكومة منتظرًا وعدَّه الأهالي أمرًا متفقًا عليه بين الحلفاء - ومنهم ملك العرب - فتلقاه النصارى كالمسلمين بالرضاء والتسليم. وههنا ظهر تقصير المسلمين وجهلهم بالسياسة وطبائع الاجتماع؛ إذ شكّلوا الحكومة السورية المؤقتة أولاً والحكومة العربية ثانيًا من أنفسهم ولم يطلبوا كبراء النصارى في الجاه والعلم إلى التشاور والاشتراك في تأليفها، وقد بحثت في هذه المسألة في بيروت وغيرها فاعترف لي بعض من ذاكرت فيها من المسلمين بالتقصير، وأنه لم يكن سوء نية إذ لم يكن عن تشاور بين المسلمين أنفسهم حتى قال: إنهم استأثروا بالأعمال وتعمدوا أن يكونوا وحدهم حكام البلاد، بل كانت الأعمال في ذلك فردية فكل من يطمع في وظيفة يسعى إليها، وإنما كان جل السعي إلى ذلك من أفراد المسلمين لما سبق لهم من التصدي لخدمة الحكومة والتعلم في المدارس العثمانية الرسمية لأجل ذلك، وقلما كان النصارى يتصدون لذلك ويستعدون له أو يدخلون مدارس الدولة التي هي الوسيلة إليه، ولو كان للمسلمين حزب سياسي منظم لما فاته أن يغتنم هذه الفرصة لإتمام ما تأسس في تلك التطورات العربية من أسباب الاتفاق ودواعيه، نعم إنه كان في البلاد جمعية سياسية سرية لها علاقة وارتباط بالأمير فيصل، ولكن أكثر أفرادها من الشبان الذين لم ترتق بهم السياسة إلى مثل هذا الفكر. لم تكد تستقر الحكومة العربية الفيصلية بالاحتلال العربي حتى تبعها الاحتلال المختلط من الإنكليز والفرنسيس الذي قسم سورية الشمالية إلى منطقتين غربية ساحلية احتلتها الجنود الفرنسية وجعلت لها السيطرة عليها تحت رياسة القيادة الإنكليزية المحتلة معها، وشرقية داخلية احتلتها الجند العربي باسم حكومة الحجاز وإن كان الجند نفسه مختلطًا والمنظم منه مؤلفًا من السوريين والعراقيين، وقد جعل له السيطرة في هذه المنطقة تحت رياسة القيادة البريطانية أيضًا، وكان هذا التقسيم مقدمة لتنفيذ اتفاق سنتي 1916، 1917 وقد اعتمدت السلطة الفرنسية في إدارة المنطقة الغربية على صنائعها من النصارى - ولا سيما الموارنة منهم - فأكثرت من الموظفين من هؤلاء فكانت كثرتهم مخرجة لمثل عددهم من المسلمين؛ لأن أكثر أعمال الحكومة كانت بأيديهم من عهد الترك، ورأى النصارى أن الدولة قد دالت لهم فرضوا بذلك وسُرّوا به، ولم يكن للمسلمين يد عندهم في تلك الأيام القليلة التي صار أمر الحكومة إليهم فيها فأعرضوا عن المسلمين، بل صاروا يؤذونهم بالقول والفعل واعتزوا عليهم وعتوا عتوًّا كبيرًا لم يفعل المسلمون شيئًا منه في دولتهم التي تعد بالأيام لا بالشهور ولا بالسنين، ونسوا كل ما كان قبل ذلك من حرص المسلمين على الاتفاق معهم قبل الحرب العامة حتى رضوا أن يكون لهم نصف الأعضاء في مصالح الحكومة المنتخبة وغير المنتخبة، وذلك فوق ما تقتضيه النسبة العددية العادلة التي تجري عليها جميع الدول الراقية، وما كان من عطفهم عليهم وتضامنهم معهم في زمن الحرب، وقد اشتهر ما وضعوه من الأناشيد في ذم المسلمين وإهانتهم وإنشادها في الشوارع والأسواق في بيروت في يوم عيد الفصح، ولولا أن اعتصم المسلمون بالصبر والحلم لوقعت يومئذ مقتلة فاضحة تعد سبة لسورية ما بقي الدهر. على أن المسلمين لم يكونوا قد يئسوا من سعي فيصل إلى استقلال جميع سورية وجعل حكومتها عربية، بل كان رجاؤهم في ذلك عظيمًا، وقد شهد لهم بعض كبراء الضباط الإنكليز على المسيحيين ولا نحب أن نشرح ذلك ونطيل فيه لئلا يعد انتصارًا مِنَّا لأهل ملتنا، ونحن إنما نكتب لأجل التأليف والاتفاق لا لتقوية الشقاق، وغرضنا أن نقول: إن مسلمي بيروت شعروا في هذه الحالة بشدة حاجة البلاد في هذه المنطقة إلى الاتفاق بينهم وبين النصارى على الوحدة الوطنية ولكن لم يجدوا منفذًا للسعي، ويقابل ذلك في المنطقة الشرقية - حيث يقل المسيحيون - أن المسلمين كانوا والحكومة في أيديهم يجتهدون في استمالة النصارى وإشراكهم في كل عمل ويودون إعطاءهم فوق ما يريدون بحسب النسبة العددية وقد جرت الأحزاب السياسية على إزالة الصبغة الإسلامية من الحكومة إرضاءً لهم، وظهر أثر ذلك في المؤتمر السوري والقانون الذي وضعه للحكومة السورية العامة المتحدة فأنا أذكر هذا وذاك لا لتسجيل الذنب الأكبر على النصارى وتصغير ذنب المسلمين أو تبرئتهم بل لأُثبت به إخلاصهم في الميل إلى الاتفاق. وقد كتبت وأنا في بيروت عدة مقالات في جريدة الحقيقة بإمضاء (السيد) دعوت فيها إلى الاتفاق بالحجج الناهضة والأساليب الجاذبة، واجتناب كل ما ينفر من الغاية المقصودة، فظهر لها تأثير في زيادة ميل المسلمين إلى الاتفاق ولم يظهر لها في النصارى إلا أثر ضعيف في بعض شبان المدرسة الأمريكانية الجامعة، وقيل لي: إن آخرين من الأحرار المستقلين قد سُروا بها ولكن لم يستجب للدعوة منهم أحد، ولولا أن كانت تلك المقالات فائضة من روح الإخلاص والإنصاف والتلطف في الدعوة لوجد فيها المتعصبون من القوم والذين يخدمون سياسة التفرقة مآخذ للرد عليها ولكنهم لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، وقد نقل إلينا أن الاستعداد للاتفاق يقوى بعمل الزمان عامًا بعد عام، حقق الله الآمال. *** التربية الملية مع التعليم العصري لقد نام المسلمون نومة اجتماعية أطول من نوم أهل الكهف وأثقل الموقظات التي تصخ الأسماع تتوالى من حولهم كالصواعق وقد ضرب على آذانهم فهم لا يسمعون، ولما بُعثوا وجدوا ما يعرفون من سير البشر قد تبدل فصار على غير ما يعهدون: رأوا الغربيين قد سادوا العالم وتولوا إدارة شؤونه في بلادهم وبلاد غيرهم من حيث يشعر أولئك الأغيار ومن حيث لا يشعرون، فحاروا في أمرهم لا يدرون ما يصنعون. ماذا يعملون؟ ولماذا لا يدرون؟ وكيف يُعذر بهذا الجهل المسلمون؟ القرآن يصيح بهم من فوقهم {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وشواهد هذه القاعدة الاجتماعية القطعية بين أيديهم وعن أيمانهم وشمائلهم. صفات الأنفس التي يتوقف تغيير أحوال الأمم بتغيرها هي ما يبعث على الأعمال من علوم وأخلاق، وهما يكتسبان بالتعليم والتربية كما ورد في حديث: (العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) فأما العلوم النظرية والفنون العملية، فصناعات آلية، ترتقي بارتقاء العمران، وليس لها دين ولا وطن، بل يتبع فيها سير العمران واختلاف الزمان، وأما الأخلاق والملكات النفسية، التي تتجدد بها حياة الأمم الاجتماعية فهي تختلف باختلاف الأمم في المقومات والمشخصات الملية والقومية، وتراعى فيها الغرائر القومية والوراثة الجنسية، فـ (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة) هم كذلك في أفرادهم، وفي جماعاتهم وأقوامهم، فالقوم يعرض لهم القوة والضعف، والعز والذل، كما يعرض للمعدن الصقل والصدأ، والتربية والتعليم للأفراد والأقوام كالصقال للمعدن الذي يظهر رونقه الفطري ويزينه ويعظم الانتفاع به، ولا يقصد به تبديل جنسه ونوعه بتحويله إلى نوع آخر، فلماذا لم يُجارِ المسلمون الغربيين في أساليب التربية الملية والتعليم المدني ومدارسهم بين أيديهم في ديارهم، ولا سيما بيروت منها؟ فأعظم المدارس التي أسسها الإفرنج فيها المدرسة الإنجيلية الأمريكانية والكلية اليسوعية، فلماذا لم يقتدوا بهم بتأسيس مدرسة قرآنية أو مدرسة محمدية؟ على أن سائر المدارس التي أسسها الإفرنج

سورية عربية أولا وآخرا

الكاتب: شكيب أرسلان

_ سورية عربية أولاً وآخرًا [1] للعالم الكاتب السياسي الكبير الأمير شكيب أرسلان (في البيان) قبل أن ينجلي الأتراك عن سورية كان جميع أهلها عربًا ولم نكن نسمع فيها بسرياني وعبراني إلا من قبيل العاديات (الآثار العتيقة) وكثيرًا ممن برزوا لنا الآن بالحلة السرنانية كانوا من صميم القحطانيين يومئذ؛ وذلك لأن مقصد مثل هؤلاء كان إخراج الترك حتى يحل محلهم إحدى الدول الأجنبية، فلما خرج الترك وجاءت محلهم دولة عربية تريد تحرير البلاد باسم العرب وتنفي كل من يريد أن يغشى البلاد من غير العرب - جدَّت عند بعض هذه الفئة القليلة من أهل سورية نغمة لم تكن معهودة من قبل وهي: إننا نحن سريانيون غير عرب، وإن لغتنا هي السريانية وإنما غلب علينا اللسان العربي منذ قرون ولكن بقيت لنا فيه لهجة خاصة تُشعر بكوننا سريانًا، ويا ليتهم قصروا دعواهم على هذا القول فكنا نوافقهم على كون هذه الفئة القليلة هي سريان ولكن طمحوا إلى دعوى أعرض من ذلك وهي أن سورية كلها سريانية، وإنما بدخول العرب الفاتحين تعلَّم أهلها اللسان العربي وهذا غاية ما في الأمر. تكررت أقاويلهم هذه سواء في جرائد عربية اللغة أو أجنبية اللغة، والعرب قلما يحفلون بها لخروجها من التاريخ وإمعانها في التحكم وكونها غلطًا أو مغالطة، فأوهم ذلك بعض إخواننا من أبناء البلاد أنهم على حق فيما يدعون فيه. ومن هذا القبيل رسالة طالعناها آخرًا تحت عنوان (الحقيقة ضالتنا المنشودة) حاول فيها الكاتب أن يثبت كون سورية سريانية لا عربية وأنه لا ينبغي أن يثقل هذا القول على العرب إذ ليس فيه مساس بكرامتهم، وكما لا يغض العرب أن نقول: إن الفرنسيس ليسوا عربًا، الإنكليز ليسوا عربًا، الإيطاليون ليسوا عربًا، فكذلك قولنا: إن السوريين ليسوا عربًا وإنما هم سريان. توفرت على ذلك الأدلة التاريخية والأركيولوجية والأثنولوجية إلخ، والاعتراف بالحق أولى. إلى غير هذا من الأقاويل التي كنا نحب أن نطوي عنها كشحًا كما طوى هو عن مناظر حدث عنها. إلا أنه لما كان جاء من باب التاريخ والحقائق العلمية، وكان من الفضلاء المستقْرِين للخبر والأثر المغرمين بالسير والنظر - كما يظهر من كتاباته - أحببنا أن نخوض معه عُباب هذا البحث متوخين فيه الوجهة العلمية الصرفة معتمدين على التاريخ، لكن التاريخ المحقق الممحص لا المخيل ولا المخمن، لأن الحقائق لا تكون بالظنون بل بالأدلة، وبعد ذلك نترك للقارئ المنصف ناشد الضالة التي أشار إليها الكاتب في رأس رسالته الحكم على نسب الأكثرية من أهل سورية أهو عربي أم سرياني. نقول أولاً: إن العرب والسريان و (العبرانيين) هم جميعًا من الشعوب السامية؛ لأنه قد اتفق المؤرخون الأثبات على كون الساميين قسمين (أحدهما) : الساميون الشرقيون وهم البابليون، والآشوريون بعد ذلك، فالساميون الكنعانيون وهم الذين كانوا في فلسطين قبل اليهود والكنعانيين سكان سواحل سورية، أي الفينيقيين واليهود والآراميين والسريانيين وآراميو فلسطين الذين نطق بلغتهم السيد المسيح عليه السلام والتدمريون والنبط. ثانيًا: الساميون الجنوبيون وهم العرب، وهؤلاء قسمان: الشماليون وهم عدنان، والجنوبيون وهم قحطان، والعرب البائدة وعرب المهر وأهل جزيرة سوقطرة وينضاف إليهم السامون والأفريقيون وهم الحبشة وهؤلاء ثلاثة أقسام: وهم اليتغري والتارينة والأمارينة، وكذلك من الساميين أقباط مصر وهم والصوماليون والجبرت من جنس واحد. فالسريانيون إذًا هم والعرب من فروع شجرة واحدة متدانية الأغصان، يدل على ذلك تقارب ما بين لغتي الفريقين حتى لقد يفهم العربي بعض السرياني بدون تعلم، بل بمجرد السماع لشدة ما بين اللغتين من الشبه، ولقد اعترف بذلك الكاتب صاحب تلك المقالة ولكنه تجنب في الموضوع ذكر سبب هذه المشابهة، وهو اتحاد الأصل ووشيجة الرحم بين العرب والسريان، فنسبة السريان إلى العرب ليست أبدًا من قبيل نسبة الفرنسيس ولا الإنكليز ولا شعب من الشعوب الأوربية إلى العرب، بل هي نسبة أبناء عموم السلالة بحيث إن الفرق بينهم هو كالفرق بين الفرنسوي والإيطالي أو الإسبانيولي ممن تجمعهم اللاتينية أو هو أقل من ذلك. ثالثًا: إن أكثر المستشرقين الأوروبيين لا يرون في أكثر الأمم السامية إلا بطونًا من العرب، وإن السريانيين هم في الحقيقة الآراميون، وإن الآراميين كان فيهم عرب كثير؛ لأنه ليس المقصود بالآراميين شعبًا ذا عرق واحد، بل معنى كلمة الآراميين: سكان البلاد العالية، كما أن معنى كلمة الكنعانيين: سكان السهول، كما أنه في أواسط آسيا يوجد الإيرانيون والطورانيون، وقد يتوهمونهم شعبين منفصلين نَسَبًا، والحال أن معنى الإيرانيين: سكان الحواضر، ومعنى الطورانيين: سكان البوادي، ولقد ثبت كون العرب سكنوا سورية من على عنق الدهر راحلين إليها من الجنوب فدخل منهم من سكان السهول في الكنعانيين واندمج من سكان الجبال في الآراميين، وهؤلاء الآراميون لم يَتَسمَّوا سريانًا إلا فيما بعد، سمَّاهم بذلك اليونان. وادّعاء الكاتب أن السريانيين السوريين هم السريان أهل بابل وآشور - ولهذا هو يفتخر بمدنيتهم - هذا فيه ما فيه، فإن المؤرخين لا يخلطون بين السريان والآشوريين كما خلط حضرته جهلاً أو تجاهلاً لغرض في النفس. رابعًا: ذهب الأستاذ (سبرنغر) الألماني في كتابه (حياة وتعاليم محمد صلى الله عليه وسلم) وكتابه الآخر الشهير (جغرافية بلاد العرب القديمة) إلى أن جزيرة العرب هي مهد جميع الساميين، وممن ذهب إلى ذلك من فحول العلماء: الأستاذ سايس الإنكليزي في كتابه (أجرومية اللغة الآشورية) ومثله الأستاذ شرودر الألماني أعلن هذا الرأي في مجلة الشرق الألمانية، ومثله الأستاذ رايت في كتابه (أجرومية الألسن السامية) وهو المدرس بكلية كمبردج، ثم العلامة ماكس مولر قال هذا القول نفسه وغير هؤلاء من العلماء والمحققين ذهبوا إلى أن جزيرة العرب هي مهد الأمم السامية بأسرها فيكون السوريون بحكم الضرورة عربًا في الأصل كما لا يخفى، وذهب آخرون إلى أن أصل الأقوام السامية هو من إفريقية هاجروا إلى جزيرة العرب وفيها نشأوا ونموا وتقرمت مميزاتهم ومنها خرجوا إلى سائر الأقطار، ومن أصحاب هذا القول روبرت سميث الإنكليزي وبارتون الأمريكاني وغيرهما، وعلى كلا المذهبين يكون مرجع السوريين إلى العربية. خامسًا: في عهد العائلة المصرية السادسة أنفذ قائد فرسان من مصر لارتياد أراضي سورية فلم يجد هناك سوى الكنعانيين، ولم يقف يومئذ على أثر للفلسطينيين ولا للعبرانيين هذا في كتاب العلامة الهولندي تيل، وإن كثيرًا من المؤرخين البحاثين لا يرون في الكنعانيين إلا بطنًا من العرب، ثم إن المصريين الأقدمين حاربوا جيلاً اسمهم الشاسو في جهات سيناء وجنوبي سورية وهذا الجيل كان عربيًّا. سادسًا: الفينيقيون هم في سورية قبل السريان وقبل الآراميين وقد ذكر هيرودتس أن قسمًا من الفينقيين جاءوا إلى جهة خليج فارس كما أن العلامة الإنكليزي بينت أجرى حفريات كثيرة في جزيرة البحرين استنتج منها كون الفينيقيين هم من هناك، وأن قسمًا آخر من الفينيقيين جاءوا من سواحل البحر الأحمر، وعلى كلا الحالين فهم عرب من نفس جزيرة العرب، وبعد أن يثبت كون الفينيقيين عربًا لا يبقى محل للنزاع في عروبية القسم الأعظم من أهل سورية ولا في الدرجة العليا التي يحلها العرب في تاريخ المدنية قبل الإسلام فضلاً عما بعده. سابعًا: الأنباط هم عرب يمانيون وقد كانت لهم في سورية دولة وصَوْلة ومدنية ضخمة تدل عليها آثارهم وأخبارهم، وكانت لهم جرش وصرخد وتدمر ووادي موسى (بترا) وإن لم يكن من صنعهم سوى وادي موسى {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} (الشعراء: 149) لكفى، فكيف وهناك جرش وما فيها وتدمر التي كانت عروس المشرق، ومن الأنباط الحوريون الذين يقال لهم العمالقة كانوا جنوبي نهر الأردن. ثامنًا: عند مجيء إبراهيم الخليل إلى سورية كان في هذه البلاد عنصران أحدهما الحتيت في الشمال، والثاني العرب الكنعانيون والعموريون الكنعانيون في الجنوب، وقد وجد إبراهيم ملكي صادق، الملك الموحد الذي كان نظير إبراهيم يعبد العلي الأعلى، وأدى إليه إبراهيم العشر. وإن العلامة هبرخت مؤلف كتاب الحفريات الأثرية في القرن التاسع عشر يذهب إلى أن ملكي صادق كان عربيًّا، فلينظر الإنسان في أي دور كان العرب ملوكًا ودولات في سوريا. تاسعًا: اتفق المؤرخون على كون أساس المدنيات القدمى هو الديانة والتجارة وكل الآثار تنبئ عن أن أكثر مراسم الديانة في سورية آتية من جنوبي جزيرة العرب، وأهم مراسم اليهودية مأخوذة من ديانة (مدين) وهي يمانية بحتة، والفينيقيون سكان سيناء كانوا عربًا من اليمن أيضًا. هذا ومن اطلع على كتب (ولهاوزن) الألماني و (روبرت سميث) الإنكليزي المؤرخين البحاثين في الأمور الدينية - يرى أن أكثر هذه المسماة بالطقوس آتية من جزيرة العرب. كما أن المؤرخ الأميركاني هارون بورتون ذهب إلى أن كل الأديان السامية هي من العرب. أما التجارة فمن المقرر أن أكثرها كان مع اليمن، وأنها كانت سبب سعادة سورية حتى أن ثروة سليمان بن داود الشهيرة كان معظمها من الاتجار مع اليمن، ولا يخفى أنه باستمرار القوافل بين اليمن وسورية كثر طراء العرب على الديار السورية وأوطنوها وتمكنوا وتشعبوا فيها. عاشرًا: وُجد الضجاعمة من عرب اليمن في حوران وجنوبي سورية قبل الإسلام بأحقاب متطاولة، وفي زمن النبي إيليا - أي قبل المسيح بنحو ستمائة سنة - جاء القائد نعمان العربي من الشام يستشفي من البرص عند اليشع تلميذ إيليا، ثم كان بنو سليج وكانوا يحكمون حتى أبواب مدينة دمشق، أما الغساسنة وهم من الأزد من عرب اليمن أيضًا فقد كانوا في فلسطين والشام وتدمر وكانت لهم القوة والصولة وبقيت عنهم الآثار الباهرة واستمر ملكهم نحو ستمائة سنة فيما أتذكر، إلى أن ظهر الإسلام. فأنت ترى تعاقب الدول العربية على سورية من أيام الكنعانيين وملكي صادق إلى الأنباط والعمالقة والفينيقيين إلى الضجاعمة إلى الغساسنة، وكل من هذه الأمم انبسطت وامتدت وتركت ملايين من الذراري في أرض سورية. حادي عشر: كان الغالب على سورية العنصر الوارد إليها من الجزيرة العربية قبل الإسلام فكيف من بعده؟ ! وقد جاء العرب المسلمون وفتحوا البلاد واندفق سيل المهاجرة من كل حدب واستمر ثلاثة عشر قرنًا إلى اليوم، ومما قرره علماء التاريخ أن الحواضر السورية تكسب كثيرًا من البوادي حتى أن بعضها قد ينقرض لولا طراء البادية، وليس ورود العرب على سورية وإيطانهم سورية هما من قبيل الحدس والتخمين، وأن ذلك عقلاً لا بد أن يكون هكذا، بل مئات ألوف من أهل سورية الآن يحفظون أنسابهم ويعرفون أنفسهم أنهم عرب ومنهم من عنده كتابات خطية تثبت دعواه ومنهم من يعتمد على التواتر، ومنهم من انقطعت به أسباب العلم عن معرفة أصله، ولكنك تعرفه عربيًّا من سحنته. ثاني عشر: أما كون أهل سورية أسلموا لدن الفتح العربي، فنريد عليه دليلاً واحدًا، نريد تاريخًا أو نصًّا مبينًا أو قرينة قاطعة، لا يكفي في ذلك مجرد الظن؛ لأن الظن لا يغني من الحق شيئًا، نعم إننا لا نستبعد أن يكون كثير من الأفر

ترجمة فقيد العلم والإصلاح أحمد فوزي عمران

الكاتب: محمد بسيوني عمران

_ ترجمة فقيد العلم والإصلاح أحمد فوزي عمران بقلم شقيقه محمد بسيوني عمران في (جاوه) حضرة العلامة المِفضال، ذي الفضل والكمال، سيدي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر متّعني الله والمسلمين بوجوده الشريف. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أكتب إليكم اليوم ويدي مضطربة وقلبي مملوء حزنًا وأسى، والهموم مسدلة على القلوب لما رُزِئنا بل رُزئت به (سمبس) كلها من فقد شقيقنا العزيز أحمد فوزي عمران ليلة الخميس الواقعة في 27 شعبان المعظم سنة 1339 الموافقة 5 مايو سنة 1921. ألا إن مصيبتنا في فقيدنا المرحوم كبيرة كما كان رجاؤنا فيه لإصلاح الأمة كبيرًا، لما رزقه الله تعالى من الأخلاق القويمة والصفات الكريمة، فكان رحمه الله مخلصًا قوي الإيمان، قائمًا بالواجبات، منزهًا عن الفواحش والمنكرات صادقًا في الجد والهزل، عالي الهمة، قوي الإرادة، ساعيًا في مصلحة الأمة، محبًّا للعمل، متواضعًا ناصحًا أمينًا، صابرًا حليمًا، عزيز النفس، مكرمًا محبوبًا من أقاربه وأصحابه وقومه وجميع من عاشره من مختلفي الأجناس. ولكن الله سبحانه وتعالى لم يحقق رجائي ورجاء الأمة فيه، فلله ما أعطى ولله ما أخذ، إنا لله وإنا إليه راجعون، ألا إلى الله تصير الأمور. وُلد - رحمه الله تعالى - يوم السبت غرة شعبان المعظم سنة 1306 ولما بلغ ست سنوات من عمره علمه والدنا الشيخ محمد عمران مهراج أمام قاضي (سمبس) قراءة القرآن الشريف، ثم أدخله في مدرسة الحكومة الهولاندية ليتعلم فيها الكتابة الملاوية ومبادئ الحساب، وأنا يومئذ في مكة المكرمة أطلب العلم فيها، ففاق رحمه الله في المدرسة أقرانه وتقدم عليهم، ولما أتم دروسه فيها لم يلبث أن طلبته الحكومة معلمًا في هذه المدرسة، وفي سنة 1328 قويت رغبته في تعلم اللغة العربية والعلوم الدينية وكنت أنا منذ سنتين ونصف جئت من سفري من مكة المكرمة فقلت له: إن أردت أن تتعلم اللغة العربية وعلومها والعلوم الدينية والدنيوية (العصرية) فاذهب إلى مصر وأنا أذهب معك، فاتفق رأينا وطلبنا من الوالد رحمه الله الإذن بالسفر إلى مصر رأسًا لأجل طلب العلم فيها، فلم يستطع مخالفتنا في ذلك، وأخبر الوالد - رحمه الله - مولانا السلطان محمد صفي الدين بمرادنا فسرَّه ذلك الخبر وقال له: إنا نرجوا أن يكون ولداك نبراسًا لبلادنا. وفي شهر ذي القعدة الحرام سنة 1328 سافرت أنا والفقيد - رحمه الله - وأحمد سعود وسعد علي من أهل بلدنا إلى مصر القاهرة ذاكرين اسم الله وناوين طلب العلم فيها، وفي يوم 13 ذي الحجة الحرام سنة 1328 وصلنا إلى مصر القاهرة ونزلنا في بيت مصلح الأمة العالم العلامة مولانا السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، فإننا لم نكن نعرف غيره من الناس في مصر، ولا محل لرجائنا في تحقيق أملنا تحصيل ما سافرنا وهاجرنا إليه غير هذا المصلح العظيم، وما كنت أعرفه ولا أرجو ما رجوناه إلا بعد قراءتي المنار، فإني اشتركت فيه منذ سنتين قبل سفرنا إلى مصر، وقد قابلنا في محطة مصر شقيقه الفاضل السيد صالح رضا وكان السيد صاحب المنار ينتظرنا في منزله الشريف، ولما دخلنا وسلَّمنا عليه قابلنا بحفاوة وإكرام على عظم قدره وعلو مقامه، وأكرم مثوانا وضيافتنا ولم ننتقل من بيته إلا بعد أيام - جزاه الله عنَّا خير الجزاء - وكان أول ما سألني عن أحوال مسلمي جاوه وملايو فأخبرته بما علمت، وظهر لي أنه متأسف من انحطاطنا في الأمور الدينية والدنيوية وأنه مهتم بأمورنا الدينية بل والدنيوية، ولم يكن أحد منا يعرف اللغة العربية سوى كاتب هذه الأسطر. وكنا نود لو نقرأ على السيد ونتعلم منه العلوم العربية والدينية وغيرها من العلوم العصرية، ولكن لم يجد وقتًا لذلك لكثرة أشغاله واشتغاله بما هو أكبر من إقرائنا وتعليمنا من الإصلاح الديني والدنيوي العام، ومع ذلك لم تفُتنا إراشاداته وإفاداته وذلك قبل تأسيس مدرسة دار الدعوة والإرشاد، وأما بعد تأسيسها وفتحها فقد كنتُ أنا والفقيد - رحمه الله - نحضر دروس التفسير والتوحيد التي ألقاها السيد في المدرسة، ولم نحرم ولله الحمد ما كنا نوده ونتمناه، وكنت أنا والفقيد - رحمه الله - نتعلم في الأزهر الشريف ويأخذ كل منا معلمًا خصوصيًّا بأجرة وبغير أجرة. وكان - رحمه الله - يقرأ النحو والصرف والفقه ويشتغل بحفظ اللغة العربية، ولم يمكث سنة واحدة بمصر إلا وهو يعرف النحو والصرف وينشئ باللغة العربية، ثم أُسست مدرسة دار الدعوة الإرشاد بالروضة بجهة مصر القديمة وكان ناظرها ومديرها العلامة صاحب المنار، ودخلت أنا والفقيد - رحمه الله تعالى - في هذه المدرسة المباركة بعد امتحاننا فيما اشترطته في طلابها من العلوم التي تعلموها. وكان الفقيد - رحمه الله تعالى - يُجاري طلبة المدرسة المصريين الذين طلبوا العلم في الأزهر نحو ثماني سنين في العلوم التي تعلم فيها غير أنه رحمه الله لم ينطلق لسانه بالتكلم باللغة العربية انطلاق ألسنة المصريين، وفي سنة 1331 سافرت إلى وطننا (سمبس) والفقيد لم يزل يطلب العلم في المدرسة، ويشتغل بالمطالعات والمذاكرات والمكاتبات، ثم خرج من المدرسة واتخذ معلمين خصوصيين لم يفارقهما حتى سافر إلى (سمبس) أول سنة 1335 وكان قصده التوجه أولاً إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ثم إلى وطنه ولكن لم يحصل على إذن الحكومة المصرية في السفر إلى الحجاز (كانت الأيام أيام الحرب الأوربية الهائلة التي كانت الإنكليز تخاف فيها السياسة) وكان - رحمه الله - متهمًا بالاشتغال بالسياسة لما وجدته الحكومة المصرية من بعض كتبه إليّ، الذي فيه ذِكر أخبار الحرب، وكان لا يكتب إليّ إلا باللغة العربية. ولما وصل الفقيد رحمه الله تعالى إلى (سمبس) أحبه مولانا السلطان وازداد رغبة في إنشاء مدرسة تعلم فيها اللغة العربية وعلومها والعلوم الدينية والدنيوية كالجغرافية والحساب، وأمر الفقيد بتأليف نظام للمدرسة المرغوب وجودها في سمبس، فألف رحمه الله نظامًا بموجب الأمر السلطاني مقتبسًا من نظام مدرسة دار الدعوة والإرشاد. وفي شهر ذي القعدة الحرام سنة 1336 تأسست في (سمبس) والحمد لله مدرسة عربية دينية تسمى (المدرسة السلطانية) وكان ناظرها ومديرها وأكبر أساتذتها فقيدنا المرحوم المأسوف عليه، فكان الإقبال على هذه المدرسة أطال الله عمرها عظيمًا من أهل البلد، فأدخلوا فيها أبناءهم وبناتهم حتى خرج كثير من طلبة مدرستي الحكومة وانتظموا في سلك تلاميذها، ومن يوم تأسست المدرسة وفتحت كان وما زال رحمه الله يشتغل بالتعليم فيها إلى 10 رجب الفرد سنة 1338 الموافق 1 مارس سنة 1920 فإنه - رحمه الله - استأذن مولانا السلطان في السفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة. وفي 23 رجب سنة 1338 الموافق 13 أبريل سنة 1920 سافر رحمه الله إلى سنغافورة فإلى مكة المكرمة، وقبل أداء فريضة الحج حصل له فيها نزيف شديد من فمه فذهب مسرعًا إلى طبيب الحكومة الحجازية وفحصه ثم فحصه وعالجه طبيب جاوي أرسلته الحكومة الهولاندية إلى مكة وقال له: إن هذا الداء هو السل وإنك لا بد أن تسافر سريعًا إلى جاوه، وبعد أن أدَّى رحمه الله فريضة الحج سافر إلى سمبس ولم يمكنه السفر إلى المدينة المنورة طبعًا، وفي يوم الإثنين الواقع في 5 صفر 1339 وصل رحمه الله إلى وطنه وهو لم يزل مريضًا نحيفًا وبعد أسبوع ذهب إلى سنكاوغ (إحدى قرى سمبس) لأجل التداوي عند طبيب الحكومة الهولاندية فقال له الطبيب الهولاندي: إنك لا بد أن تعالج في بتاوي فإني لا يمكنني أن أعالجك هنا وفي 30 صفر 1339 سافر إلى بتاوي ودخل إلى أحد المستشفيات هنالك ثم نقل إلى مستشفى في بوقر وكان لا ينقل إلى هذا المستشفي إلا من تقدمت صحته، وفي 8 رجب 1339 وصل رحمه الله تعالى راجعًا من بتاوي إلى سمبس فسررنا سرورًا عظيمًا لأنا ظننا أنه قد شفي شفاءً تامًّا إذ لم نر فيه إلا سعالاً قليلاً، وفي يوم 16 شعبان 1339 عاوده نزيف الدم وازداد مرضًا، وفي ليلة الخميس عند الساعة الثانية ونصف عربية الواقعة في 27 شعبان سنة 1339 خرجت روحه الطاهرة بعد أن نطق بالشهادتين فحصلت الضجة والجزع والحزن من أقاربه خاصة ومن الناس عامة، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم. كان رحمه الله تعالى أديبًا، وخطيبًا واسعًا، وشاعرًا قليلاً، وكان له في العلوم العربية نصيب وكذا في العلوم الرياضية والعصرية والدينية، وتدل على ذلك مقالاته التي كتبها باللغة العربية والملاوية، وكان محررًا بجريدة الاتحاد الملاوية التي كانت تصدر بمصر القاهرة، وكان رحمه الله يقرأ المنار من يوم عرف العربية وكان آخر قراءته له الجزء الثاني من المجلد الثاني والعشرين وله مقالة نشرها المنار أيام كان بمصر، ومن أثر اجتهاده وحسن طريقته في التعليم أن تعلم وفهم في مدة سنتين عدة أشخاص من تلامذته اللغة العربية والنحو والصرف فهمًا مكنهم من قراءة وفهم الكتب العربية السهلة العبارة ومن الكتابة باللغة العربية على أنهم لم يكونوا يعرفون شيئًا من اللغة العربية قبل دخولهم المدرسة، ولذلك لما وصل الفقيد رحمه الله من سفره تمنى كل من تلاميذ المدرسة ذكورًا وإناثًا أن يعود إليها معلمًا ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، وإن إرادة الله فوق كل إرادة وقدرته تعالى نافذة وليس لنا إلا الرضاء والتسليم لحكمه وقضائه. وقد قال كثير من الناس بعد وفاة المرحوم: إن المدرسة تموت قريبًا، فإنه ليس فيها معلمون أكفاء، والسبب الأول في موتها عدم الأموال التي تحيا بها، والمسلمون بخلاء ضعفاء في الأحوال المالية. هذا وإنني ذكرت ما ذكرت من الإطراء والثناء على شقيقي رحمه الله، وهو حق إن شاء الله تعالى، ولا فائدة لي وله في ذلك ما لم يستحقه، وشهد له بذلك جميع من عرفه من أهل العلم والفضل الذين يقدرون الفضيلة حق قدرها كما تشهد له به آثاره التي لا موضع لذكرها هنا. سمبس برنيو الغربية في 9 شوال سنة 1339 الموافق 16 يونية 1921 ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران

تقريظ المطبوعات

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات [1] ٌ ... (كتاب تنوير البصائر بسيرة الشيخ طاهر) صفحات هذا الكتاب 159 بقطع رسالة التوحيد ومواضيعه 53 وقد طبع بدمشق الشام بمطبعة الحكومة العربية السورية (السابقة) سنة 1339 على ورق جيد، ويطلب من مؤلفه الشيخ محمد سعيد الباني بدمشق الشام. (شيء من مواضيع الكتاب) المقدمة: من المؤلفين والكُتَّاب من يفترص لما يريد إذاعته فرصة سانحة، فيبدي فيها بعض ما يريد نشره، ومؤلف هذا الكتاب الشيخ محمد سعيد منهم؛ لأنك إذا قرأت الكتاب وأردت أن تأخذ منه سيرة الفقيد مجردة، كما يحب المؤلف، لا تكاد تثبت منه الربع وأما الثلاثة أرباع الباقية فهي مواضيع وآراء في الإصلاح والتراجم والنقد، فهذه المقدمة وهي من ص5-14 ليس فيها شيء من سيرة المترجَم له، بل هي مقالة في الدين ولزومه والبدع المبتدعة إلخ. أعماله وآثاره: ذكر في هذا الموضوع ما كان من أعمال الفقيد من الاجتهاد في إصلاح الكتاتيب والمدارس الرشدية وبعض مؤلفاته وما عدا ذلك فهو في انتقاد العلم وكتبه إلخ. استثارته دفائن اللغة العربية: هذا الموضوع في أربع صفحات لم يكن فيها شيء عن الفقيد يزيد على نصف صفحة على أنه لم يذكر فيه شيئًا من تلك الدقائق ولا ما استثاره منها وبعثه من مرقده، فهل كان كتاب (المخصص) من جملة ما أحياه؟ عنايته بإحياء التاريخ: هذه النبذة استغرقت من الكتاب ما يقرب من أربع صفحات لم يكن فيها شيء عن الفقيد سوى ما ملخصه (عني فقيدنا بإحياء التاريخ وإرشاد المسترشدين وغيرهم إلى مزاولته ودراسته وإنعام النظر به وبفلسفته والدلالة على كتبه المفيدة والسعي وراء نشرها وطبعها) وما عدا ذلك فكلام في علم التاريخ وفوائده ولم يذكر ما أحياه من التاريخ والعمران ولا ما نشره منه. سعيه وراء التوفيق بين الدين والعلم والعمران: هذا الموضوع استغرق ما يزيد على 16 صفحة ليس فيها عن الفقيد سوى ما يقل عن صفحتين نسب فيه للفقيد ما لم يعرف عنه وما لم يدعه هو لنفسه (انظر ص49) وإلا فليقل لنا المؤلف أين مناظرات الفقيد أو كتاباته في الاجتماع والعمران ومحاجته المحافظين على القديم؟ وإرشاد الطالبين وتعليم الجاهلين. وكيف كان داعية إصلاح والمؤلف نفسه يقول ما ملخصه: (ولما رأى جدب الزمان من حكماء الأخلاق وساسة الإرشاد، وأن معالم الأخلاق طمست ودراستها قد درست، وأن وظيفته وهي الدعاية إلى الإصلاح العام لم تمكنه من التفرغ لإرشاد السالكين وعظة الغافلين وتربية الأحداث إلخ) . انظر ص29. دعوته إلى الأخلاق والتربية: هذا الموضوع أخذ 11 صفحة كان في الفقيد منها 3 صفحات نسب فيها للمؤلف ما ليس فيه وذكر صحبته وحبه للمستشرقين وحبهم إياه والمزاورة بينه وبينهم وسرد أسمائهم. فأنت ترى أن الكتاب عبارة عن مجموعة مقالات جعل في كل واحدة منها كلمات في المترجم له رحمه الله تعالى وهذه براعة من المؤلف أشكره على التفطن لها، ولكنني آخذ عليه - عملاً بقوله قبيل الخاتمة ص142- (ومن وجد غلطًا في بعض ما عزوته للفقيد.. . فليتفضل عليَّ بتصحيح غلطي) إلخ، وبعد الاطلاع على (المدخل) و (المقدمة) ما يأتي فأقول: أولاً: إن الكتاب بمجموعه لا يصدق عليه اسمه ويصعب جدًّا أخذ تاريخ حياة الشيخ طاهر منه، وأن أخذ ما أورده المؤلف من هذه الترجمة لتشتتها بين أطوائه وفي ثناياه على أنها لا تكون صورة صحيحة للفقيد. ثانيًا: نسب المؤلف للشيخ تلاميذ ومريدين، ولم يدلنا على أحد منهم والظاهر لنا أنه - رحمه الله - لم يكن ذا قدرة على التعليم فإننا نعلم أنه أقام شهورًا عدة نزيلاً عند بعض السوريين في السويس وأراد أن يعلم أحد أولادهم النحو، وقد رأينا وعاشرنا هذا التلميذ وهو لا يعرف الفاعل من المفعول، فأين هم تلاميذ الشيخ طاهر - رحمه الله - وأين أمكنة دراسته وتدريسه؟ ثالثًا: لم يذكر المؤلف ما كان له من الآثار في الآثار (العاديات) غير أنه (تعلم كثيرًا من الخطوط الكوفي والمشجر والعبراني وغيرهم ليتسنى له دراسة الآثار الدارسة ونبشها من عالم الدثور إلى عالم الظهور) . رابعًا: لم يذكر ما كان من عمل الفقيد في التوفيق بين العلم والدين إلخ، غير أنه كان من علماء كذا وكذا وما لم يدع الشيخ طاهر لنفسه شيئًا منه في حياته وأنه تبادل الآراء مع المستشرقين وأنه كان بينه وبينهم صداقة إلخ، انظر ص49 و50. وكذلك قل عن بقية المباحث، ولو أردنا نتبع الكتاب من أوله إلى آخره ما زدنا القراء فائدة ولا المؤلف بصيرة وفيما أوردناه كفاية. وإليك ترجمة الشيخ طاهر رحمه الله مختصرة مفيدة صحيحة كما وصفها أحد أفاضل علماء الشام ممن له معرفة تامة بالفقيد بعد أن قرأتها عليه إذ قال لي: إنها صورة حقيقية مختصرة للشيخ طاهر فأقول: الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي حياته وموته ونشأته العلمية هو الشيخ طاهر ابن الشيخ محمد صالح أحد مهاجرة الجزائريين ومفتي المالكية بدمشق الشام، ولد في دمشق سنة 1268 ونشأ في حجر والده وتلقي مبادئ العلم عنه في بيته، ثم اتصل بالشيخ عبد الغني الميداني فحضر عليه علوم العربية والفقه إلخ، وهو أستاذه الوحيد، وكان له شغف بالمطالعة والمراجعة حتى صار له مشاركة حسنة في جميع العلوم العربية وعني بقراءة الخطوط العربية وخاصة الكوفي منها وتلقى شيئًا من اصطلاحات الهندسة والفلسفة عن بعض ضباط الجند العثماني حتى لم يعد غريبًا عن الهندسة النظرية، وكان ذا حافظة جيدة وذاكرة حسنة لا يغيب عن ذهنه ما قرأه في بعض الكتب من نكتة غريبة أو نادرة، ومع هذا لم يكن يعتمد على ذاكرته بل كان يضع في كل موضع فيه مسألة يحب الرجوع إليها من الكتب علامة من قطع الورق حتى إنه إذا قرأ كتابًا ترى نُتف الورق بارزة منه، وكثيرًا ما كان يكتب رقم الصفحة واسم الكتاب على قطع من ورق تكون في جيبه الذي هو سفطه (محفظته) وجرابه وكان حريصًا على تلك النكت حتى أنه كان يستطرد لوضعها في مؤلفاته، ولو في غير موضعها، وتوفي في دمشق يوم 14 من ربيع الآخر سنة 1338 ودفن فيها رحمه الله تعالى. (هيئته وزيه وعيشته وأخلاقه) كان - رحمه الله - قمحي اللون واسع العينين غائرهما نحيف الجسم أبيض اللحية رث البزة غير مُعتنٍ بنظافة ثيابه، وكان لباسه ما تسميه أعراب الشام (شبر) ويسمى في مصر (قفطانًا) وفي الشام (قنبازًا أو غنبازًا) فوقه جبة أو جبتان ويتعمم بعمامة من الأغباني، وكان كثيرًا ما يلبس الثوب مرة واحدة فلا يخلعه حتى يبلى ولا يدع الشمسية (المظلة) صيفًا ولا شتاءً ويضع على عينيه منظارًا لتقريب البعيد، فإذا أراد القراءة في كتاب رفعها، وكانت له جيوب في جبته كالخرج. وكان حديد المزاج ضيق العطن ضعيف المنة، تغلب عليه الوحشة ولعله كان يحس من نفسه بذلك إذ كان يحاول أن يستر الاستياء بمزاح مع جلسائه ومباسطة، وكان كثير الحديث عن علماء دمشق وأعيانها والإسهاب فيما كان عليه معاصروه فيها من الخب والختل والدهان وما كان يدسه هو من الدسائس ليخلص أو يخلص شخصًا، أو ليروَّج مشروعًا خيريًّا من شرهم، ولولا أنه كان يجاهر بذلك في أكثر مجالسه ويفخر به ويعبر عنه بالدسائس الطاهرية، لما استحسنَّا ذكره وقد علمنا علم اليقين أن من دسائسه ما كان للإيقاع لا للإنقاذ. وكانت عيشته عيشة الزهاد مع الحرص على الوقت وكان يقضي عامة ليله في المطالعة على ضوء مصباح من البترول ثم رأى أن ينتفع بنوره وحرارته معًا، فكان يأتي بقدر صغيرة فيضع فيها شيئًا يريد طبخه يحكم وضعها فوق المصباح معلقة ويقدر لنضجه ساعات يتعاهده عند انتهائها، وكان أحيانًا يطبخ القهوة في القدر ويشرب منها عدة أيام وربما تعفن وجهها من طول المكث. وكان لا ينام في الليل بل يأتي بيته بعد العشاء ويطالع في الكتب أو يكتب عامة ليله وينام بعد صلاة الصبح إلى العصر وكان ولوعًا بالدخان والشاي والقهوة جميعًا مفرطًا في كل منها، ولم يكن حريصًا على المال. كان خلقه التعفف والكرم مع الحاجة لا يميل إلى الطمع ولا الدناءة، وقد اشتدت به الحاجة في آخر أيامه في مصر فباع معظم كتبه من أحمد باشا تيمور وكانت نفقته من ثمنها، وكان يتصدق في كل يوم بملاليم (أعشار القرش) يعدها لذلك، وقلما يصدر عن مجلسه وارد بفائدة علمية؛ لأنه لم يكن يذكر بين الناس شيئًا من وسائل العلم لا مفيدًا ولا مناظرًا ولا مذكرًا ولا سائلاً ولا مجيبًا، وإذا سأله مستفيد عن شيء أحاله على المراجعة وربما دله على المظان إن كان يرى أنه يستحق ذلك، وكان يرمي إلى مقاصده من طرف خفي بدهاء. وربما أوعز إلى بعض جلسائه ليوسط بالأمر يريده، وكان إذا استرسل بالمباسطة أفرط فيكثر من الحركات ويغرب بالضحك حتى يخرج عن وقار الشيوخ. وكان متصلبًا في رأيه لا يرجع عنه ولو إلى الصواب، حكى لي شيخ عالم فاضل أطال عشرة الشيخ طاهر أنهم اختلفوا في كلمة لغوية، فكان الشيخ طاهر على رأي تبين بعد المراجعة أنه كان مخطئًا ولم يرجع إلى الصواب. (مؤلفاته) إرشاد الألباء، مدخل الطلاب إلى فن الحساب، قصص الأنبياء، الفوائد الجسام في معرفة خواص الأجسام، مد الراحة إلى علم المساحة، الجواهر الكلامية في العقيدة الإسلامية، الجوهرة الوسطى، رسالة في العروض. وقد أراد أن يجعل هذه الكتب مدرسية، وكلها طُبعت في سورية ومنها ما أعيد طبعه مرات، وله مؤلفات أخرى وهي كتاب التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريقة الإتقان، طبعه بمطبعة المنار ووقفت على طبعه وعنيت بتصحيحه بإذنه، وكتاب توجيه النظر في الأصول طبعه له الخانجي بمصر وكتاب التعريب إلى أصول التقريب، طبع بمصر بمطبعة النهضة بمصر وشرح خطب ابن نباتة وأمنية الألمعي، وكتاب في التعليم الابتدائي وتفسير القرآن الحكيم، ولعل هذه الأربعة الأخيرة لم تطبع إذ لم نرها وكان هو المحرر للمجلة السلفية التي صدرت في آخر أيام حياته بمصر وكان يودعها نبذًا من مقتطفاته العلمية ومن كناشته (مفكراته) وكانت تلك المجلة تنوه بكناشته وقد وعدت بطبعها فيما أتذكر، وله كتاب (تقويم المجلة السلفية) وإن لم يصدر باسمه. (علمه وعمله) لم يشتهر الفقيد أو عرف بعلم من العلوم ولا تصدى لتدريس شيء منها، فلم يُعلم له تلميذ عالم أخذ عنه العلم، غاية ما عُرف به أنه كان ذا اطلاع على أسماء كثير من الكتب حتى قال بعضهم: إنه نسخة من كتاب كشف الظنون أو الفهرست، وأنه وإن لم يحص ما أحصى كتاب من هذين، ولكنه كان يعرف مواضع كثير من الكتب وفيها كثير مما يحب نشره ويجب طبعه ولكنه كان يبخل على الوراقين بإرشادهم إليها إذ يرى أنهم لا يستحقون ما ينالونه من الربح بطبعها، وكانت له ميزة فنية في معرفة الخط الكوفي أرشده إليها مقابلة آي القرآن المكتوبة على بعض المساجد والأضرحة في دمشق ومصر وكتاب معرض الخطوط للآباء اليسوعيين وله إلمام بالحروف العبرية، وما نشر من مؤلفاته إذا دل على سعة اطلاع، فإنه لا يدل تحرير وإبداع ولا على تفقه في العلم أو تمكن منه. وأما عمله فإنه كان قد تولى التعليم في المدرسة الظاهرية ثم عين مفتشًا للمدارس الابتدائية العثمانية في سورية فكان فيها مثالاً للنشاط والذكاء والنصيحة. ومن عمله أنه سعى لدى مدحت باشا الوزير العثماني الإداري الشهير عندما كان واليًا على سورية بإصدار أمره بجمع الكتب العلمية المخطوطة المبعثرة في المدارس العلمية والمساجد بدمشق، فكانت مكتبة مفيدة، وجمع من البيوت ما أمكن جمع

الإسلام وسياسة الحلفاء

الكاتب: عن مجلة الفجر التونسية

_ الإسلام وسياسة الحلفاء نقلنا هذه المقالة عن الجزأين 9 و10 من المجلد الأول من مجلة (الفجر) التونسية الغراء. في أوائل العام الماضي ظهر في عالم المطبوعات كتاب تحت العنوان أعلاه للدكتور (إنسباطو) المستشار السياسي بوزارة خارجية إيطالية نقلته إلى اللغة الفرنسية الكاتبة البليغة الآنسة (ماقالي بدانام) فأحببنا تلخيص ما حواه هذا الكتاب المهم لقراء (الفجر) ليكونوا على خبرة بما تخطه اليوم أقلام المفكرين الاجتماعيين في القارة الأوربية في المباحث الهامة الخاصة بأحوال الممالك الإسلامية. قال الدكتور إنسباطو: لا يخفى أن السياسة الاستعمارية لا يمكن أن تكون واحدة في كل الجهات والأقاليم وأنها تختلف طبعًا باختلاف الممالك وتباين عادات وأخلاق سكانها مع مراعاة مصلحة كل مستعمر بانفرادها وعقائد أهاليها وانتمائهم المذهبي. بخلاف السياسة العامة، فإنها واحدة في جميع الأنحاء؛ لأنها مرتكزة على معرفة أحوال الإسلام الأساسية التي لم تتغير قط؛ إذ بالرغم من الهجمات الخارجية والانقسامات الداخلية، فإن الإسلام من حيث جوهره لم يتبدل لما للمدنية التي تولدت منه من الصبغة العالية، ذلك لأن الإسلام كان أحسن طريقة للوفاق والتآخي بين الأمم التي اعتنقته على اختلاف عنصرياتها وتباين أجناسها فهو أهم سبيل للتعارف الروحي، وهذا هو سر قوته وسرعة انتشاره إلى اليوم انتشارًا حار فيه فطاحل العلماء، ومن هنا ندرك أهمية الثمرة التي يجنيها السياسي الحاذق الذي يعرف كيف يستخدم تلك الآلة الدقيقة بنباهة وفطنة، ولا شك أن درس حقائق الدين الإسلامي على هذه الصورة سيعين على إزالة جميع الخرافات التي يروجونها ضد الإسلام وأخص منها بالذكر ما يسمونه بالبانسلامزم (التعصب الإسلامي) الذي يصورون به الإسلام في شكل هيئة مخيفة تترصد الفرص للقضاء على الكفار، بيد أن الإسلام يظهر لمن عرف أسراره في زي مخالف لذلك على خط مستقيم حيث إنه المدنية الوحيدة التي اكتنفت في صلبها كل العقول على تباين مشاربها، وأفسحت مجالاً واسعًا لكل المساعي الصادقة ولو اختلفت طرائقها، كيف لا والإسلام دين التسامح والكرم الإنساني وهما صفتان ما وجدتا في قوم أو مدنية إلا ونهضتا بها إلى أرقى وأحسن الدرجات الاجتماعية؟ ولا ينقص الأمم الإسلامية اليوم لبلوغ تلك المرتبة العالية إلا مساعدة أمة أوربية لا تخفى تحت كلمات الرقي والتهذيب والحرية والأخوة التي تنشرها على الويتهانية (الاسترقاق السياسي والاقتصادي) الذي تنفر منه كل نفس أبية. إذن فلا خوف مما يسمونه (بالبانسلامزم) ليس هو إلا آلة مرعبة اتخذها أولئك الانتفاعيون الذين يدَّعون معرفة الإسلام وهم عنه بعيدون، وما الحوادث المنسوبة (للبانسلامزم) إلا حركات فكرية عادية لا خوف منها بل ربما أفادت المدنية بكيفية مهولة لو استخدمت لهذه الغاية الشريفة، ولذا لم يعد هناك موجب للسياسي الأوربي أن يعني بغير مركز العالم الإسلامي الاقتصادي، ذلك لأن الإسلام من حيث هو قوة عاملة في الحياة الاقتصادية يقدر أن يغني أو يفقر الممالك التي لها علاقة به. ثم نظر الدكتور إنبساطو نظرة إجمالية في الأساليب الاستعمارية التي تسلكها الدول الأروباوية بمستعمراتها، فأبدى رأيه في كل منها ومما قاله في هذا الشأن: إن سياسة فرنسة بالممالك التابعة لها وإن نالت الأرجحية نظرًا لما امتازت به عن غيرها من حرية الإدارة والتسامح الفكري إلا أنها تفتقر إلى فكرة إدارية واسعة بدونها لا يمكن الحصول على الثمرة المطلوبة من الأعمال العظيمة التي قامت بها هناك، ثم قال: إنه يجب أن ترتكز سياسة البلاد الإسلامية على معرفة نظامات الإسلام معرفة دقيقة، ومن هنا انتقل المؤلف إلى درس السلطة في الإسلام والقواعد التي تستند إليها، فأتى في هذا البحث العويص بأفكار دلت على تضلعه من الفقه الإسلامي وتاريخ المسلمين فقال: (إن القرآن الشريف وأعمال الخلفاء الراشدين هي الأصول التي قامت عليها الديانة الإسلامية وحياة الأمم الخاضعة لأحكامها وإن من أراد أن يفهم شؤونهم وحملهم على المشاركة السياسية يجب عليه أن يقبل مبدئيًّا كافة قواعد دينهم لأنه لا سبيل إلى التفاهم مع المسلمين إلا إذا عُرفوا كما هم لا كما يُراد أن يكونوا، والصعوبة الوحيدة التي تعترض السياسي في هذا الطريق إنما هي التمييز بين ما لا يتبدل في الإسلام وبين ما هو قابل للتغيير والتطور والانطباق على الحالات الحياتية الجديدة، لأن هذا الدين له خاصية أساسية يجب أن لا نغفل عنها أبدًا وهي ملاءمته لكل الظروف بدون خروج عن حدوده الأصلية وصلوحيته لكل الأجيال والأقاليم والأخلاق، ومن الغلط أن نعتقد أن المذاهب الأربعة المضبوطة من حيث شكلها هي قواعد مؤبدة تقضي على الإسلام بالانكماش والجمود، بل إنها قابلة للانطباق على نواميس الحياة العصرية ولا يصعب التوفيق بينها وبين المدنية الحديثة - ذلك لأن سنة النبي تمثل تلك الصفة العالية التي اختص بها الإسلام ألا وهي ملاءمته لجميع الشعوب والأجناس مهما اختلفت منازلها وألوانها، إلا أنه يجب على الباحث الأوربي أن يتجنب الآراء الضالة والأغلاط النفسانية الناشئة عن عدم فهم السنة على حقيقتها، ولذلك تحتم على حكومة الخلافة اليوم إلغاء كل ما قيل أو قرر في الإسلام بعد عهد الخلفاء الراشدين، ولا أقصد بذلك أنه يجب إعدام أو إهمال أو مس هيكل العالم الإسلامي الذي وهب العالم أكثر القوانين دوامًا وأدقها من عدة وجوه، ولكن حيث إن حكومة الخلافة سنية بكل معنى الكلمة فإنها تستفيد من آثار كل المشرعين الذين منهم الأئمة الأربعة وتسلخ منها ما تراه موصلاً لنهوض الأمم الإسلامية وسُلَّمًا ترقى به للحياة والمدنية العصرية) . ومن هنا انتقل المؤلف إلى درس مسألة الجهاد على اختلاف أطوارها وشروطها فقال: إن الحرب مستحيلة قانونًا بين الأفراد والأمم التي لها اتفاقات مع المسلمين، وإن عقد معاهدات معهم طبق أصول الشريعة المطهرة تضمن لنا السلم المطلق مع كافة أشياع النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - المنتشرين في العالم أجمع، الخاضعين لتعاليم الكتاب والسنة المحمدية، ثم بسط القول على أركان الإسلام التي يجب على الدول الغربية احترامها وبالأخص الحج إلى البيت الحرام، وختم كتابه البليغ بشرح مسألة الخلافة ودار الإسلام فقال: لا يمكن أن تحل مسألة الخلافة حلاًّ أوربيًّا، لأنها مسألة دينية بحتة وليس لغير المسلمين حق في فصلها وإنهائها، ولا يجوز لأوربة المسيحية حملهم على تسويتها أو إكراههم على ذلك بوجه من الوجوه، وعلى كل حال فالخليفة يجب أن يكون حرًّا بدار الإسلام الأمر الذي يستلزم استقلال المدن الثلاث، وهي مكة والمدينة والقدس وكذا الآستانة العلية عن كل سلطة مسيحية، وليست المشاكل التي ظهرت في الشرق بعد معاهدة سيفر إلا نتيجة تعامي إنجلترة عن التصديق بهذا المبدأ المسلم، ومن هنا تخلص الدكتور إنسباطو إلى إبداء رأيه في السياسة التي ينبغي سلوكها مع المسلمين فحقق أن الفاصلة بينهم لا توجب التباغض والعداء؛ لأن التباين في تصور الحياة ومظاهرها لا يمنع الثقة والمودة بين الأمم، كما أكد وجوب الاعتراف بيقظة المسلمين وبأحقية تطلعهم إلى الرقي العلمي والاجتماعي قائلاً: إن انتباههم أمر طبيعي وفي مقدرتهم ومن واجبهم الاشتراك معنا في سبيل المدنية العامة، وأن يبذلوا لهذه الغاية من الكد والاجتهاد ما بذلوه في صفوفنا مدة الحرب من الشجاعة والإقدام، ويرى الكاتب أن تحقيق هذه الأماني لا يتم إلا بواسطة الطبقة المنورة من المسلمين تلك الطبقة العديدة الأفراد المنتشرة في كافة البلاد الشرقية التي تقاسي من العذاب ألوانًا بسبب الظروف الاجتماعية الحرجة المحاطة بها إلى الآن فإذا أنجدنا هؤلاء المفكرين وأيدنا رغائبهم فإننا نجد منهم أثمن مساعدة سياسية ويعتقد الدكتور إنسباطو أنه يجب للحصول على ذلك أن نساعدهم على درس مؤلفاتهم بطريقة عصرية وأن نفتح لهم أبواب المدنية الغربية؛ لأنهم سيكونون دعائم السياسة الإسلامية وأكبر العاملين لإنهاض المجتمع الإسلامي لفائدتهم ولفائدة الأمم الأوربية المشرفة عليهم لا ضدها، ولكن هذا يتوقف على أن تدرك أوربة المسيحية أن واجبها يقضي عليها بإضاءة العالم الإسلامي بنور المدنية والعرفان إذ لا سبيل لأن نجد بين المسلمين أشياعًا متفانين في مصلحتنا بالوسائط التي استعملتها أوربة إلى الآن كالتجنيد الجبري وبث الدعوة بالصور والنشريات واستخدام أعوان لا همَّ لهم إلا اكتساب المال أو امتلاك الذمم بوسائل الإرضاء على اختلاف أنواعها لأن الأمم الإسلامية لا يمكن لها ولا ترضى أن تقبل بالتضحية لغاية مغايرة للغاية التي ترمي إليها، وهنا أضع القاعدة الأساسية لاتفاقنا مع الإسلام راجيًا أن تُسمع نصيحتي وأن تكون كقانون ثابت لا يتبدل، وهي أن تسمح أوربة للمسلمين بأن يعملوا لصالحهم ولصالح الإسلام، ويومئذ يصبح الإسلام ليس المساعد المهم في أعمالنا التمدنية فقط بل الصديق والحليف الذي يقلب بيقينه المكين العوالم ويحرك الجبال. اهـ. (المنار) لم نر لأحد من كُتاب الإفرنج كلامًا مثل الدكتور إنسباطو جمع بين الحق والمصلحة المشتركة التي لا يمكن التوفيق بين الشرق والغرب بدونها، فهذا الكلام مبني على علم صحيح بالإسلام والمسلمين ونصيحة حكيمة للإفرنج المستعمرين، ولكن أهل الشَّرَه والنَّهَم من هؤلاء المستعمرين قلَّما ينظرون في كلام أمثال هؤلاء العلماء الناصحين، والواجب على العقلاء مِنَّا أن يتعاونوا مع أمثاله في سبيل خدمة الإنسانية بهذه الطريقة السلمية، فإن لم يقبلها المنهومون اليوم فسيندمون غدًا.

القضاء والقدر في نظر الغربيين

الكاتب: عن مجلة الفجر التونسية

_ القضاء والقدر في نظر الغربيين مقالة منقولة من الجزء الخامس مجلد مجلة (الفجر) الأول عني نخبة من علماء الإفرنج بالبحث في أسباب رقي الإسلام وعلل انحطاطه، ودوّنوا لذلك الكتب الضخمة واستفرغوا المجهودات الجمة وأنفقوا الأوقات الشاسعة، فكانت نتيجة مباحثهم مسفرة على أن رقي المسلمين واعتلاء كلمتهم في الأعصر المتقدمة وسرعة انتشار الدين الحنيف في أطراف المعمورة إنما الفضل فيه لبساطة تعاليم الدين ووضوحها وموافقتها للفطرة التي فطر الله عليها الإنسانية، فبساطة تعاليم الدين ونزاهة غرضه وسمو مبادئه قد جلبت إليه أقوامًا دخلوا فيه أفواجًا، وهرعوا إلى اعتناقه زرافات ووحدانًا، فأصبحوا بنعمته إخوانًا، وعلى تأييد أعوانه ولحماية بيضته أنصارًا وأخدانًا. اهتدوا بهديه وأشرقت على قلوبهم شمس رشده التي أضاءت لهم سبل السداد، وأنارت لهم طرق الحق والإرشاد، فانتشروا في أطراف المعمورة يسعون في تشريك الأمم في هذا النور العظيم، ويعملون على إيقاظ الشعوب الذين كانوا ينامون في ليل من الجهل بهيم، وشهد التاريخ ودلت الأنباء وأجمعت كلمة المؤرخين المنصفين على أنهم كانوا في تلك الأثناء رائدهم الصدق والإخلاص، وقائدهم العدل والإحسان، ودليلهم في أعمالهم البر والتسامح والرفق ببني الإنسان، أما الصفات التي ساد بها فحدِّث ما شئت عن ثبات وجَلَد ويقين في النجاح وصبر على السرَّاء والضرَّاء، وشكر في حالتي الشدة والرخاء، وسواء لديهم أطاب عيشهم أم حلَّ بهم ألم اللأواء، هذا إلى عزم يقد الجبال، واتحاد في السر والإعلان، وتظافر على المصالح واعتصام بحبل الله في جميع الأحوال، هذه الصفات العالية إذا انطبعت في نفوس وهمم عربية زكية عرفنا بها سر تقدم المسلمين وأدركنا منها أسباب انتشار نفوذهم وسيطرتهم بسرعة البرق على أهم أرجاء العالم في ذلك التاريخ. على أن أولئك العلماء الذين أشرنا إليهم في طالع هذا الفصل قد نظروا أيضًا نظرة نقد واعتبار في الأسباب التي قضت على المسلمين بالتقهقر في بعض الجهات وما هي العوامل التي أفضت إلى تقلص ظل نفوذه من كثير من الأقاليم والولايات، (هذا ومرادهم هنا النفوذ الإسلامي فقط لا الدين والقومية اللذان لم يتغير من جوهرهما شيء كما كنا بيَّناه في مقال قبل هذا) فأطبقوا على أن ذلك نتيجة لازمة تأول إليها كل أمة أخلدت إلى الترف ومالت إلى الراحة وجرت في أعقاب الشهوات وأهملت الأخذ بأسباب الحزم وتقاعست عن مجاراة الأمم الراقية في حلبات العمل. فمنهم من يعزو الفشل الذي حَلّ بالمسلمين لتعاليم دينهم التي يتوهمون أنها تأمر بالرضا بالمقدور والاستسلام للأمر المقضي، وهو وهمٌ شائع عند كثير من الإفرنج، وقد اعتنى بدحض ذلك أكابر علمائهم، وإلى القارئ الكريم مقتطفات من كلامهم تقوم أنموذجًا على ما وصلوا إليه من بعد الغور في المباحث العلمية، ودقة النظر في الأحوال الاجتماعية. قال (بارتلمي سانت إيلير) المؤرخ الفرنسي الشهير الذي ولي وزارة الخارجية حوالي سنة 1881 في القضاء والقدر: (ومنهم من يتوهم أن الدين الإسلامي يأمر أشياعه بالكسل والفتور وإرسال الحبال على الغوارب والاستسلام للمقدور، وهو وهمٌ أدَّى إليه قلة التثبت وإعمال الروية في فهم أسرار هذا الدين. رأينا فيما تقدم في فصل سيرة النبي عليه السلام حركته المستمرة وثقته بنفسه واعتماده عليها وما كان توكله على الله بأقل صدقًا، لكن كان يكتنفه حدود معقولة ولم يتعد قط إلى ذلك التعامي المذموم الذي يفرضه العجز والبصر لا القضاء والقدر، القرآن يأمر المسلمين بالإذعان التام والاستسلام لمشيئة الله الأمر الذي أوجب عليهم التحلي بالاسم الذي يحملونه وبه يفتخرون، لكننا لم نعثر في تعاليم هذا الدين، ولا في سنة النبي على ما يشعر بخلع أشرف المدارك النفسانية (الإرادة) وتعطيلها عن العمل. وليست الإحالة على المقادير إلا ضلة من ضلالات النفوس الضعيفة تغلَّب عليها الكسل وناءت بحمل واجباتها فاستنامت للأقدار، وحكمتها في نفسها تفعل ما تشاء وتختار، عندي أن هذا الفتور الذي عم المسلمين إنما كان ناشئًا عن عوائد الترف والإخلاد للراحة والنعيم فهو عجز عن العمل لا عقيدة، وعلى كل حال فليس القرآن هو الذي يدعو إليه، اللهمَّ إلا إذا أرادوا تفسير بعض الآيات على غير ما اشتملت عليه حقيقة. الإسلام شعور يدرك به الإنسان ضعفه وعجزه وافتقاره لخالقه ووجوب الخضوع له والركون لعليائه، ولكن ليس ثم ما ينبئ بنبذ أجمل قوة وأشرف موهبة اختصنا بها الباري سبحانه وهي الإرادة) . (وقد تكلم في هذا الموضوع قبلنا (فيل وسبرنج) فلنجمع صوتي إلى أصواتهما ونقول: إن هذا الدين لدين عمل لا فشل رغم معتقد الجمهور) . وقال غستاف لوبون الفيلسوف الشهير صاحب كتاب (سر تطور المادة) في كتابه (حضارة العرب) ما يأتي: القرآن لم يأمر الناس بترك السعي والعمل أو الانسلاخ عن خوض غمرات التنافس الحيوي، فهو في هذا الموضوع لم يأت بأكثر مما في الكتب السالفة (التوراة) مثلاً. يعترف نخبة من الفلاسفة أن مجرى الأمور لا يلحقه تبديل، ونظام الخليقة بيد مبدعة لا يعتريه تغيير، فقد قال لوثر، منقح الديانة المسيحية: تتفق معظم آيات الكتاب في صعيد واحد على مناسبة (الحكم الحر arditre Lidre) وهذه الآيات لا أحصي لها عددًا بل هي الكتاب بأجمعه، وهذه عقيدة القضاء والقدر مفعمة بها الكتب الدينية لكل الأمم، وقد اعتنى بها الأقدمون واعتبروها قوة دونها قوى الرجال والآلهة والحوادث التي سطرتها لا يشكون في وقوعها، فهذا (أوديب) حين أخبره الكاهن أنه سيقتل أباه ويتزوج بأمه حاول عبثًا إيقاف هذا الأمر، فطفق يقدم النذور وأنواع القربات للآلهة بدون جدوى إلى أن ضربت الأيام بضرباتها، فإذا هو متزوج بأمه قاتل أباه كما هو مشهور، فالنبي العربي صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء عجاب، فإنه لم يخالف طريقة مُتقدميه ولا طريقة من بعده أي علماء العصر الحاضر فإنهم يقولون كما قاله لابلاص وبنيتر: إن علم (الله) يكتنفه في طرفة عين القوى والأسرار التي في الطبيعة على اتساعها وتباعد أطرافها ويحيط خبرًا بأحوال الكائنات التي وضعت فيها كبيرها وصغيرها دقيقها وجليلها من شأنه أن لا يفوته شيء وأن يكون علم المستقبل لديه كعلمه الماضي. ثم إن عقيدة القضاء والقدر الشائعة في فلسفة الشرقيين وديدن بعض فلاسفة العصر هي نوع من الصبر والجلد على تلقي مكاره هذه الحياة ودرع حصينة لمكافحة النوائب والمضاضات، وقد كان العرب عاملين بهذه العقيدة في جاهليتهم، ثم استمر عليها المسلمون ولم تدخل في شيء من ارتقائهم ولا من انحطاطهم اهـ. (المنار) إن ما شرحناه من حقيقة معنى القدر في القرآن ينقض بناء عقيدة الجبر التي اتبعنا بها سنن من قبلنا وفتن بها كثير من المتكلمين والصوفية، فكان لها ذلك التأثير الذي حسبه كثير من علماء الغرب من الإسلام وما هو منه، بل سرى إلى أهله ممن قبلهم كما فطن لذلك بعض المحققين منهم.

بحث لغوي في براءة القرآن الشريف من بعض الألفاظ الأعجمية

الكاتب: أحمد كمال

_ بحث لغوي في براءة القرآن الشريف من بعض الألفاظ الأعجمية [1] للعالم الأثري المحقق أحمد بك كمال لا يزال أصل اللغة العربية مجهولاً، أي ليس في كتبها ما يدل على المرجع الذي ترجع إليه ألفاظها، وقد وفقني الله إلى تمهيد السبيل المؤدي إلى ذلك، أي إلى إرجاع كل كلمة إلى أصلها وإلى تدوين قاموس اللغة تدوينًا مؤسسًا على أصول ثابتة تظهر اللغة بمظاهرها الحقيقية، والذي حملني على ذلك ما ظهر من نقوش قديمة محفورة على جدران معبد الدير البحري في طيبة الغربية وإزاء لُقُصر من الغرب تدل على أن المصريين القدماء أرادوا تخليد ذكرأصلهم فأثبتوه بالحفر على آثارهم قائلين إن أجدادهم يُدعَون الأعناء (جمع عنو) أي أنهم أقوام من قبائل شتى اجتمعوا في وادي النيل وأسسوا فيه مدنًا كثيرة منها مدينة عين شمس، ويقال لها بالمصرية العين (الجنوبية) ومنها العين الجنوبية وهي أرمنت ومنها عين التي سميت فيما بعد دندره، ولما نموا وكثروا وتفرقوا في الجهات المجاورة لوادي النيل ففريق منهم وهو المعروف باسم أعناء الحنو أو اللوبيين توجهوا إلى بلاد القيروان وتونس والجزائر وسكنوا فيها، وفريق آخر يسمى أعناء المنتو هاجر إلى بلاد الصومال واجتاز البحر الأحمر إلى بلاد العرب وانتشر ممتدًّا إلى فلسطين. وفريق ثالث يسمى أعناء السيتو سكنوا القسم الجنوبي من مصر حيث جنادل النيل، وفريق رابع يقال له أعناء الكنوز وهم أهل النوبة، وهكذا تفرق الأعناء وتوطنوا في الجهات التي ذكرناها وبثوا فيها لغتهم مدة من الدهر فكانت لغة البلاد التي تتكلم إلى الآن بالعربية، فاللغة المصرية أي لغة قبائل الأعناء التي سكنت مصر وما جاورها من الأقاليم هي أصل اللغة العربية بلا مراء بنص النقوش المذكورة آنفًا، وقد نزل القرآن الشريف بهذه اللغة العربية ونص على ذلك نصًّا صريحًا في آيات كثيرة. قال المفسرون: إن في القرآن الشريف كلمات غير عربية لكنها لا تخرجه عن العربية كما أن الكلمة العربية إذا وردت في القصيدة الفارسية لا تخرجها عن كونها فارسية، وأنا أخالف هذا القول مخالفة كلية لما سأذكره بعد. هذا وقد جمع المرحوم الشيخ حمزة فتح الله جميع الكلمات الواردة في القرآن الشريف ويقال إنها أعجمية وطبعها بأمر نظارة المعارف العمومية سنة 1902 ميلادية وها أنا ذا أخالفه في ذلك مبينًا أنها عربية لورودها في اللغة المصرية القديمة التي هي أصل العربية كما ترى فيما يلي: (1) أكواب وأباريق: من سورة الواقعة (56: 18) قال الشيخ رحمه الله: الأولى نبطية والثانية فارسية، ومن المعلوم أن اللغة النبطية قريبة من القبطية التي ترجع إلى لغة الأعناء. وأكواب جمع كوب، وردت في اللغة المصرية بلفظ (قب وقوب وقبو) وبالعبرية (كب) وبالقبطية (كاب وكابي وكيبي) وهي مشتقة من مادة (قأب) الواردة في اللغة المصرية القديمة، وفي العربية أيضًا بمعنى شرب فيقال: قأب الماء: شربه، أو شرب كل ماء الإناء، ويقال: إناء قوأب وقوأبي: كثير الأخذ للماء، ورجل مقأب: كثير الشرب، كما يقال: كاب يكوب كابًا: شرب بالكوب، فالكلمة مصرية عربية كما يتضح من موادها المذكورة في القواميس العربية. أما أباريق فهي جمع إبريق، وليست بفارسية بل هي مصرية وجدت مكتوبة في حجر نقش بأمر أحد ملوك الحبشة وعثر عليه في دنقلة فبقيت في العربية بهذا اللفظ، وقد جاء القرآن الشريف بها قال تعالى: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} (الواقعة: 18) أي من ماء طاهر، والكأس وردت أيضًا في المصرية والعبرية بهذا اللفظ، وورد أيضًا في المصرية (كاز) وفي القبطية (كاجي) بمعنى الكوز، ومن ثم تعلم أن (إبريق وكأس وكوز) كلمات مصرية وعربية ليست من الأعجمية في شيء. (2) أب: وردت هذه الكلمة في نقوش معبد دندرة وعلى جدران مدينة آبو كما وردت في قرطاس إبرس، وفي القاموس المحيط: الأب: الكلأ أو المرعى أو ما أنبتت الأرض والخضر فهي إذن عربية لا أعجمية. (3) سري: قال الشيخ رحمه الله: إنه نهر بالسريانية أو القبطية أو اليونانية، وفاتَه كما فات غيره من المفسرين أنه مشتق من (سرى يسري وسرى به) فاشتق منه (سرى) أي النهر لمسيره وجريانه، وقد وردت (سرى) في المصرية بهذا المعنى في لوحة الإحصاء وجاء في العربية أيضًا: ظرى يظري: جرى الماء وبطنه لم يتمالك لينًا. فلعلها لغة في (سرى) بقلب الظاء سينًا لقرب المخرج، فهي قريبة منها في المعنى لقرينة الجريان، وعلى كل حال فمادة الكلمة عربية ومصرية، وليست بأعجمية كما قال المفسرون. (4) هيت: قال الشيخ رحمه الله: معناها (هلمَّ) بالقبطية أو السُّريانية أو الحورانية أو العبرانية، والحقيقة أنها من: هيت به: صاح به ودعاه، وهيت لك وقد يكسر أوله أي هلم، ووردت (هيت) بمعنى أقبل، وذُكرت في العربية والمصرية أيضًا بغير التاء، فيقال في العربية: هيا، أي: أسرع وأقبل على كذا، وعليه فهي عربية محضة خلافًا لما قاله المفسرون. (5) رس: قال الشيخ رحمه الله: الرس: البئر، أعجمية، مع أنها وردت في القاموس المحيط وغيره من معاجم اللغة أنها البئر المطوية بالحجارة، وبئر كانت لبقية من ثمود كذبوا نبيهم، ورسوه في بئر أي دفنوه، إذ من معاني (رس) الحفر والدس ودفن الميت، وقد ذكرت كثيرًا في النصوص المصرية القديمة، وكثيرًا ما تلحقها تاء التأنيث ومعناها البئر المُعدَّة لدفن الموتى؛ إذ كان من عادة المصريين القدماء أن يدفنوا موتاهم في آبار ينحتونها في الجبال والسهول، فهي عربية ومصرية بحتة. (6) قط: قال تعالى في سورة ص: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحِسَابِ} (ص: 16) قال الشيخ رحمه الله: أي كتابنا، بالقبطية، وجاء في القاموس للفيروزآبادي: قط بالكسر: الصك وكتاب المحاسبة، جمعه قطوط، والقطَّاط أي الخراط، وهو من مادة (قط) أي قطع عامة وعرضًا، أو قطع شيئًا صلبًا كالحقة، وفي المصرية: قط وجمعه قطوط، أي: كاتب، والقط والقطَّاط: الخراط أو الخطاط (راجع مفردات دارمان الصحيفة 135) وهي في المصرية من مادة (قط) أي قطع النقوش في الأحجار أي حفرها بقلم الحفر؛ لأن (قط وخط) معناهما في المصرية واحد وهي الكتابة بالحفر أي رسم الشيء بالقطع أو الخرط، فالمصرية تظهر حقيقة المعنى في الكلمتين، وكان من عادة المصريين في كتابة نقوشهم أن يرسم الكاتب النصوص بالمداد الأحمر على الجدران في المعابد أو المقابر أو نحوها، ومتى أتمها أتى القطاط فيقطعها بقلم الحفر شيئًا فشيئًا حتى يتم حفرها كما يُفعل الآن في النقش على الأحجار، هذا هو المعنى الأصلي لقط وخط، فالقطاط لغة في الخطاط أي النقار أو النحات أو النقاش، وقد يطلق عليه الآن في عرف العامة ويقرب من هذا المعنى (القديدي) والجمع (قديدون) أتباع العسكر من الصناع كالعشاب والبيطار (قاموس المحيط) وكالنحات لأنه اسم مشتق من مادة (قد) أي قطع مثل: قط، فالكلمة إذن عربية لا حظ لها من العجمة. (7) يم: في قوله تعالى: {فَغَشِيَهُم مِّنَ اليَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} (طه: 78) قال الشيخ رحمه الله: معناها البحر بالسُّريانية أوالعبرانية أو القبطية. وهي كلمة مصرية وردت بهذا المعنى في اللغة المصرية القديمة تطلق على النيل وعلى البحر ويقال لها في القبطية: أيام وأيوم وأيوم بإمالة عين الكلمة في اللفظ الثالث، وذكر في القاموس المحيط: اليم: البحر، ويُم بالضم فهو ميموم: طرح فيه. فهي عربية، بل عريقة فيها لوجودها مذكورة بلفظها ومعناها في المصرية ثم القبطية. (8) يحور: في قوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} (الانشقاق: 14) قال الشيخ رحمه الله تعالى: يرجح أنها بالحبشية، والحال أنه فعل متصرف من (حار) بمعنى رجع ونقص، وحاوره يحاوره: تراجع في الكلام، وحار يحار حيرة أي نظر إلى الشيء ولم يهتد، فهي مادة عربية محضة وذكرت في المصرية بلفظها ومعانيها في قرطاس سلير وقرطاس إنسطاسي وقرطاس هرس وفي الدنكميلر وفي مدحة النيل لماسبيرو. (9) سينين: في قوله تعالى من سورة التين: {وَطُورِ سِينِينَ} (التين: 2) وهو جبل بالشام ويقال له أيضًا: (طور سيناء) في سورة (المؤمنون) في قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ} (المؤمنون: 20) قال الشيخ: إن الأولى والثانية معناهما بالحبشية: الحسن. والحقيقة أن أصلهما في المصرية والعربية من مادة (أن) كذا وأنان وأنين ومأنان، ثم ألحق بها السين فصارت سيناء وسينين، أي: حسن. هذا ما أيدته اللغة المصرية القديمة ووجد مطابقًا للعربية، وقد جاء في القاموس المحيط: سنَّن النطق، أي: حسنه، ورجل مسنون الوجه: مملسه. وهي مؤنث (سني) من مادة (سنيت) فهذا يؤيد أن (سينين وسيناء) لفظان عربيان بلا نزاع. (10) قيوم: في قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} (البقرة: 255) قال الشيخ رحمه الله: معناه الذي لا ينام بالسريانية، وفي المحيط: القيوم والقيام الذي لا ند له من أسمائه عز وجل، وهو مشتق من مادة قام قومًا وقيامًا، وقد ورد هذا اللفظ في المصرية وذكره إرمان في مفرداته (الصحيفة 136) فقال: قيوم: صفة، وإله أوجد نفسه بنفسه سماه اليونان (كاميفيس) والكلمة مركبة في المصرية من لفظين معناهما (قيم الأم) أي زوج الأم، أي زوج وأم في آن واحد أوجد نفسه بنفسه، ثم ركب تركيبًا مزجيًّا فصار صفة يراد بها الموجد لنفسه، فهو ليس من مادة قام العربية والمصرية، بل هو كلمة قائمة بذاتها عريقة الأصل في كلتا اللغتين. ... ... ... ... ... ... وسيأتي الكلام على سائر الألفاظ ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحقق أحمد كمال ((يتبع بمقال تالٍ))

الخيال في الشعر العربي ـ 7

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ الخيال في الشعر العربي (7) أطوار الخيال كان العرب زمن الجاهلية يعيشون في مواطن لا يشهدون فيها غير مناظر فطرية كالكواكب وبعض النبات والحيوان أو مرافق حيوية ووسائل حربية كالرحى والجفنة والرمح والحسام، ولصفاء قرائحهم وسلامة أذواقهم أضافوا إلى هذه الحقائق ما يخطر على ضمائرهم ويدركونه بحاسة وجدانهم من المعاني التي لا تنالها الحواس الظاهرة كالحب والبغض والرضاء والغضب، ونسجوا منها على مثال التخيل صور بديعة. وإن رأى المدني اليوم أن معظم تلك الصور من التخيلات القريبة، فعُذرهم في ذلك أنهم لم يدخلوا في مسالك الفلسفة ولا عودوا أنفسهم التنقيب عن المعاني الغامضة، وإنما كانوا ينطقون بالشعر على البداهة، فمن وقفت له على معنى رائع كقول النابغة: وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع فقد لفظته قريحته عفوًا وانساق إليها بدون إجهاد نظر، ومن ثم كانت أمثال هذا التخييل البديع نادرة في أشعارهم، ولو كانوا ممن يذهب في صوغ المعاني إلى إزعاج الفكر وحثه على استخراجها من مغاصها العميق كما يفعل المولدون لظفرنا لهم بنظائر لا تحصى، ثم إن التخييل كسائر الملكات والصنائع إنما تترقى شيئًا فشيئًا، وتتكامل يومًا فيومًا. فتطلَّع لزهير بن أبي سلمى مثلاً على تخيلات لا تظفر بها في أشعار من تقدموه بأمد بعيد، فالعهد الذي يعبر فيه هذا الشاعر عن معنى أن من لم يُجٍب إلى الأمر الصغير يقع تحت وطأة الأمر الخطير بقوله: ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم يكون من أوائل العصور التي ظهر فيها التخيل الشعري، فإن هذه الغاية من حسن البيان لا يدركها الناس بفطرتهم إلا بعد أن يتقلبوا في سبيلها أطوارًا ويقضون في السير إليها أحقابًا، كما أن ابن سفر الأندلسي لو نشأ في البيئة والعصر اللذين نشأ فيهما زهير لم يسهل عليه أن يصف نهر إشبيلية الذي يصعد فيه المد مسافة بعيدة ثم يحسر بقوله: شق النسيم عليه جيب قميصه ... فانساب من شطيه يطلب ثاره فتضاحكت ورق الحمام بدوحها ... هزؤا فضم من الحياء إزاره ثم بزغت شمس الإسلام وكان من أساليب القرآن في الدعوة أن ضرب الأمثال الرائعة وصاغ التشابيه الرائقة والاستعارات الفائقة والكنايات اللطيفة، ويضاف إلى هذا ما كان ينطق به الرسول عليه الصلاة والسلام من الأقوال الطافحة بالأمثال والاستعارات والكنايات التي لم تخطر على قلب عربي قبله، فكان مطلع الإسلام مما زاد البلغاء خبرة بتصريف المعاني وترقى بهم إلى رتبة سامية في صناعة الخيال. أخذ الخيال يتقدم بخطوات أوسع مما كان يسير به في الجاهلية، ولكن الأدباء إلى أواخر عهد الدولة الأموية لم يحيدوا عن طرقه المعهودة ويغيروا أساليبه تغييرًا يحس به كل أحد، فلو قال قائل أن عبد الله بن الدمينة أو عمر بن أبي ربيعة أو جَميلاً أو كُثيرًا شاعر جاهلي - لم يكن لك أن تدخل إلى مغالبته وإبطال دعواه بإقامة الحجة من مناهج تخيلاتهم، كأن تجلب له من أشعارهم أمثلة ينكشف بها جليًّا أنهم ساروا في التخيل على نمط لم تنسج عليه الجاهلية، ولكنك إذا نظرت في مجموعة الشعر الجاهلي ثم وازنته بمجموعة الشعر الإسلامي تيقنت أن الخيال قد بعد شأوه واتسع نطاقه؛ لأنك تقف على تصرفات كثيرة من تشابيه مبتكره واستعارات لم يحم عليها شعراء الجاهلية، وإن كانت مفرغة في قوالبهم مرسومة على خططهم. ثم ظهر في أوائل عهد الدولة العباسية مثل بشار بن برد وأبو العتاهية وأبو نواس وعبد السلام الملقب بديك الجن فأصبحت مسافة الفرق بين الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي واضحة لكل من له أدنى تعقل، فلو ادعى مدعٍ أن عبد السلام الملقب بديك الجن شاعر جاهلي لكفاك أن تتلو عليه نبذة من شعره الذي أوغل فيه إلى حد يبدو عليه أثر التصنع كالبيت الذي أعجب به أبو نواس وقال له عندما اجتاز به وهو بحمص أنك قد فتنت به أهل العراق، أعني قوله يصف الخمر: موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها وجاء بعد هؤلاء ابن المعتز وابن الرومي ومسلم بن الوليد وأبو تمام وقد استحكمت عرى المدنية وتجلت لهم الحضارة في أجلى مظاهرها، فكانوا أكثر ممن تقدمهم تفننًا في صناعة التشبيه والاستعارة وما يلحق بهما من تصرفات الخيال كالتورية والمقابلة وحسن التخلص من غرض إلى آخر، وهذا لا يمنعك من أن تقضي للسابقين بأنهم أقوى عارضة وأدرى بصناعة الشعر من ناحية سبك الألفاظ ومتانة بنائها. وبعد أن عني الناس بالنظر في شؤون الكون وسلكوا في البحث عن أسراره طريقًا فلسفيًّا أخذ الخيال الشعري يعمل في الحقائق الفلسفية ويجري وراء الفكر كالمسعف له في تصوير تلك المعاني الغامضة كما تراه في مثل قصيدة ابن سينا في النفس، المفتتحة بقوله: هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع وقصيدة المعري المفتتحة بقوله: غير مجد في ملتي واعتقادي ... نوح باك ولا ترنم شاد وقول أبي بكر بن الطفيل يصف حال الروح والجسد: نور تردد في طين إلى أجل ... فانحاز علوا وخلى الطين للكفن يا شد ما افترقا من بعد ما اجتمعا ... أظنها هدنةً كانت على دخن إن لم يكن في رضا الله اجتماعهما ... فيالها صفقة تمت على غبن وفي هذه الصبغة خرج كثير من أشعار الصوفية كما تراه فيما ينسب إلى الشيخ محيي الدين بن عربي وابن الفارض. وقام بإزاء هذا المنزع الفلسفي أن الشعراء عندما اتسعت دائرة العلوم الإسلامية ونقلت العلوم النظرية إلى العربية مد بعضهم يده إلى قضايا هذه العلوم واصطلاحاتها وخلط بها تصرفاته الخيالية كقول أبي تمام: خرقاء يلعب بالعقول حبابها ... كتلاعب الأفعال بالأسماء وقول حيص بيص: لا تضع من عظم قدر وإن كنـ ... ـت المشار إليه بالتعظيم ولع الخمر بالعقول رمى الخمـ ... ـر بتنجيسها وبالتحريم وقول ابن الخطيب: ونقطة قلب أصبحت منشأ الهوى ... وعن نقطة موهومة ينشأ الخط وكذلك كانوا يقتبسون من سائر العلوم والصنائع حتى راق لكثير من المتأخرين أن يجعلوا قصائدهم كنموذج يلوح به إلى علوم شتى. ومما حدث من ممارسة هذه العلوم إيراد التشبيه في أساليب منطقية كقول بعضهم: لو لم يكن أقحوانًا ثغر مبسمها ... ما كان يزداد طيبًا ساعة السحر ومن تقصى أثر الشعر العربي ولاحظ الأطوار التي تدرَّج فيها الخيال، أخذ في نفسه قوة تساعده على الفصل في بعض الأبيات أو القصائد التي يتنازع الرواة في نسبتها إلى قائلها، فالقصيدة التي جاء في أثنائها: قالت لِطيفِ خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تُنقص ولا تَزِدِ فقال: خلفته لو مات من ظمأ ... وقلت قف عن زلال الماء لم يَرِدِ يعزوها بعضهم إلى الوليد بن اليزيد. ومن لاحظ أن القصيدة جمعت فنونًا من الخيال لا يفحص عنها ويجمعها في نظم واحد إلا شاعر نشأ أيام دخل التصنع في الشعر وهو عهد الدولة العباسية - أعرض عن هذه الرواية وذهب إلى أن تكون كما قيل لأبي القاسم بن طباطبا المتوفى سنة 345 أو ذي القرنين بن حمدان المتوفى سنة 428. ترقى التخيل يوم دخل الشعر في طور التصنع ولكن التصنع هو الذي جر إلى استعارات مكروهة وتشابيه سمجة أيضًا، فقد اقتحم أبو تمام والمتنبي ومن بعدهم في هذا الغرض مساوئ لم يرتكبها الجاهلية، فالعربي الصميم - وإن كان معظم تخيلاته ساذجة - لا يعالج قريحته ليستنبط لك منها مثل قول أبي نواس: بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح أو قوله: ما لرِجل المال أضحت ... تشتكي منك الكلالا وتمادى الشعر ما بين تخيل فطري وتخيل فلسفي وتخيل علمي إلى هذه الأعصر، وإن كان النوع الأول هو الغالب في النظم والمألوف في التخاطب لأن التخيلين الفلسفي والعلمي، إنما يليقان بكلام يوجه به إلى الخاصة من الناس وأما التخيل الفطري فيصلح لخطاب الخاصة والجمهور. والضرب الفلسفي لا يعد في الحقيقة تطورًا في نفس التخييل وإنما هو تطور لَحِقَه من جهة دخوله في منزع جديد أعني الخوض في حقائق وسنن كونية على طريقة النظر العميق.

القياس في الاشتقاق

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ القياس في الاشتقاق تابع ما نشر في الجزء الثامن ص616 ومن الأصول التي يراعونها في الكف عن القياس وعدم الأخذ بالأمثلة القليلة في تقرير أحكام هذا الباب: قاعدة تجنب ما يوقع في لبس واشتباه، ولهذا لم يُجز الجمهور صوغ فعل التعجب واسم التفضيل من الأفعال المزيدة؛ لأن الصيغة لا تسع إلا الحروف الأصلية، وإذا سقطت الحروف الزائدة عميت على السامع معانيها الخاصة كالمطاوعة والتكثير والمشاركة والطلب، فيضيع بعض المعاني وتخلو العبارة عن الفائدة المطلوبة، فما ذهب إليه الأخفش والمبرد من إباحة اشتقاق أفعل التفضيل من جميع المزيد - غير مستقيم، وإنما أجاز سيبويه اشتقاقه مما جاء على وزن (أفعل) خاصة اعتمادًا على أن ما روي من شواهده قد بلغ من الكثرة مبلغًا يجعل مأخذ القياس عليه سائغًا. ودخل ابن عصفور إلى هذه المسألة من باب النظر فأجاز القياس في (أفعل) خاصة كما يقول سيبويه، ولكنه شرط أن تكون همزته لغير النقل نحو: أظلم الليل، وأقفر المكان؛ لأن (أفعل) الذي تكون همزته لغير النقل (يعني التعدية) لا يزيد على معنى الثلاثي وهو الدلالة على مجرد الحدث فلا تُدخل زنة التعجب أو التفضيل خلل في المعنى، وهذا التفضيل وإن كان أقرب إلى الأصول لم يقبله الشاطبي بدعوى أن الإجماع قد انعقد على ثلاثة مذاهب، والإجماع لا يُخرق ولو في الأحكام اللفظية. ومما يجري على قاعدة تجنب اللبس: منعهم من صوغ التفضيل والتعجب من المبني للمجهول؛ لأن صوغهما منه يؤدي إلى التباس وصف الفاعل بما يقصد به المفعول، وقد حقق النظر من أجاز صوغهما من الأفعال اللازمة لصيغة المجهول نحو (عني وزهي وهزل وأرعد وأغمي وغم وأهل ونخي) إذ لا يعرض عند إيرادها في إحدى الصيغتين التباس. ويدخل في هذا الصدد اشتقاق (فعيل) بمعنى (مفعول) نحو: قتيل وجريح وصريع، فقد وقف فيه بعضهم عند حد السماع وأغلقوا دونه باب القياس، وفصَّل آخرون فمنعوا القياس فيما ورد منه (فعيل) بمعنى (فاعل) نحو: علم وسمع، حيث ورد اسم فاعله على (فعيل) فقالوا: عليم وسميع، وأباحوه فيما عدا ذلك، وقد تخلصوا بهذا التفصيل من المحذور الذي تحاشاه الذاهبون إلى منع القياس بإطلاق، وهو التباس وصف المفعول بوصف الفاعل. فأصل الاحتراز عن اللبس والإيهام في اللغة مكين، بيد أنه لا يخلو كسائر القواعد الوضعية من جزئيات تأتي على خلافه كالأسماء المعتلة العين، نحو: مختار ومنقاد، والفعل المضاعف، نحو: يضار ويشاد، فإن هذه الصيغ تطلق في وصف الفاعل والمفعول ويعول في فهم ما يراد منها على قرينة حال أو مقال، ومثل هذا مما دار على ألسنة الفصحاء وشاع حتى لم يبق ريب في صحة اطراده تفسح له مجال القياس ويبقى غيره مما فيه إبهام المراد على أصل المنع حتى ينهض دليل السمع بجوازه، فإذا وقع النزاع على اشتقاق يحصل معه احتمال بخلاف المراد، فالأصل بيد المانع حتى يقيم المجيز الشواهد الكافية للقياس. ومما يوردونه عذرًا في الحكم - ترد به أمثلة كثيرة ويأبون جعله قياسًا مطردًا - الاستغناء عنه بصيغة أو صيغ أخرى، كما قال الرضي ناقلاً عن سيبويه: إن باب (فعلته) الذي تضم فيه العين للمغالبة مسموع بكثرة ولا يصح القياس عليه للاستغناء عنه بنحو (غلبته) وربما تعلقوا بهذا الوجه في استثناء بعض ألفاظ تشملها قاعدة، فيصرحون بالمنع من إجرائها على القاعدة استغناء عنه بصيغة أو جملة تسد مسد الحاجة إليها، كما قال سيبويه في الكتاب: لا تقول العرب في (قال يقيل) (ما أقيله) استغناء عنه بنحو (ما أكثر قائلته) كما قالوا: تركت ولم يقولوا ودعت. والذي نرى أن إبطال القياس في مثل المسألة الأولى - أعني باب المغالبة - بعلة أنه مستغنى عنه بصيغة أخرى - غير سديد وإنما المدار على قلة ما ورد منه وكثرته، فإذا كانت الشواهد المروية منه بحيث بلغت ما يكفي للاعتداد به في وضع القواعد صح جعله قياسًا مطردًا، وليس غنى اللغة بما تملكه من صيغة أو صيغ تفيد معنى خاصًّا بمانع من أن يضم إليها طريق آخر يزيدها سعة على سعتها، فترادف المفردات والصيغ على غرض واحد في اللغة ليس بعزيز. وأما المسألة الثانية، أعني الاستغناء عن قولك (ما أقيله) بمثل (ما أكثر قائلته) فهي راجعة إلى الكشف عن وجه إهمال العرب للصيغة الأولى، وقد تعرضنا فيما سلف إلى حكم اللفظ الذي تتناوله قاعدة، ولم نسمع في كلام العرب ما يدل على أنهم نطقوا به على وفقها، وذكرنا الفرق بين ما يدور في محاوراتهم بكثرة فنقتفي فيه أثرهم ولا نخرج في تصريفه عن الوجه المنقول عنهم، وبين ما لا يكون كثيرًا شائعًا فيسوغ لنا أن نصرفه وننطق به على ما تقتضيه القواعد دون توقف على سماع. وكأن الأمثلة التي ذكر سيبويه في (الكتاب) وابن جني في (الخصائص) أن العرب استغنت عن تصريفها بصيغ أخرى، وجعلوا التلفظ بها على طبق القاعدة خطأ - كانت في نظرهما من القسم الأول وهو ما لا نتجاوز فيه حد الرواية، والوقوف في الألفاظ الدائرة في المخاطبات بكثرة عند وجهها المسموع وعدم إجرائها في سبيل القاعدة لا يعد في غرائب اللغة العربية، فإن في غيرها من اللغات الأخرى كاللسان الألماني مصادر تتصرف على وجوه تخالف القواعد المعروفة، ويصرح علماؤهم بوجوب التلفظ بها على تلك الوجوه الشاذة ويعدون المتكلم بها على نمط القاعدة قد تعدى حد اللغة وارتكب خطأ فاحشًا، بل ترى من أسماء التفضيل المتداولة في ذلك اللسان ما شذ عن القاعدة إلى أن ركبوه من حروف غير حروف الوصف الأصلي، على نسق ما يقول علماء لغتنا أن الخلد - وهو الفار الأعمى - يجمع على مناجد أو مناجذ. وتصرف العرب في بعض أسماء الأجناس فاشتقوا منها أفعالاً وأوصافًا فقالوا: تقمص وتجورب وتحجر واستنسر البغاث واستنوق الجمل، وقالوا: أحنك الشاتين أو البعيرين وفلان آبل الناس، أي أشدهم تأنقًا في رعي الإبل، وقد رأى علماء العربية أن الأمثلة الواردة في هذا الغرض لا تكفي لفتح باب القياس فوقفوا فيه عند حد السماع، وكثيرًا ما ينكرون على من ينتزع فعلاً من غير مصدر كما اعترضوا على القطب الرازي في قوله: (والشيخ في الشفاء ثلث القسمة) بدعوى أن لفظ (ثلث) محدث لم ينطق به العرب، ولم يلتفتوا إلى قياسه على ما صح لغة من قولهم خمس وسبع وأمثالهما، حتى استشهد له السيلكوتي بحديث: (شر الناس المثلث) يعني الساعي بأخيه، يهلك نفسه وأخاه وإمامه , ولم أر من حام على القول بجعل مثل هذا مقيسًا إلا عبد اللطيف البغدادي فإنه اعترف في كتاب التكملة بأن لفظ التجنيس والمجانسة مولد وأجازه على وجه القياس وقال هو من لفظ الجنس كالتنويع المأخوذ من لفظ النوع. وإطلاق التصرف بمثل هذا للإفراد فيصنع كل على انفراده من أسماء الأجناس وأشباهها ما يبدو له من أفعال وأوصاف يفضي إلى إلقاء الجمل مركبة من ألفاظ لا يألفها المخاطبون أو يتعاصى عليهم فهم ما يقصد منها، واللغات الأجنبية يجري فيها الاشتقاق من أسماء الأجناس أحيانًا، ولكن الذي يقوم بذلك جمعيات علمية تصوغ الكلمة وتضعها في ديوانها اللغوي وتنشرها بين الناس. *** القياس في وضع أسماء الأجناس يقول ابن فارس في طالعة تأليفه المسمى بالصاحبي: إن اللغة قد قر قرارها فلا نعلم لغة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم حدثت، فإن تعمَّل اليوم لذلك متعمل وجد من نقاد العلم من ينفيه ويرده، ولم يبلغنا أن قومًا من العرب في زمان يقارب زماننا أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه، فكنا نستدل بذلك على اصطلاح كان قبلهم، وقد كان للصحابة من النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به وما علمناهم اصطلحوا على اختراع لغة أو إحداث لفظة لم تتقدمهم. وقال في مبحث آخر من ذلك الكتاب. ليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير ما قالوه ولا أن نقيس قياسًا لم يقيسوه؛ لأن في ذلك فساد اللغة وبطلان حقائقها. أغلق ابن فارس الباب في وجه من يريد إحداث كلمة وإدخالها في سلك اللغة ولكنه يبيح لأصحاب العلوم والفنون الاصطلاح على كلمات ينقلونها من معانيها اللغوية ويضعونها بإزاء معان خاصة، بيد أنه يفرق بين الوضع العربي والوضع العلمي فيسمى الأول اسمًا لغويًّا والثاني اسمًا صناعيًّا. والحق أن اللغة في حاجة إلى أن يبقى الطريق إلى وضع أسماء الأجناس مفتوحًا مثلما بقي طريق وضع الأعلام الشخصية يسلكه الناس فيما يزداد لهم من الولد أو يحدثونه من الضيعات والقرى، فإن الأعصر ما برحت تكشف لنا من معان لم تظهر أيام كانت اللغة تتسع وتنمي بالألفاظ التي تجري على ألسنة الناطقين بها عن سليقة المتلقين لها من أفواه المرضعات ورعاء الشاء، وليس من الممكن أن نصرف ألسنتنا عن التعبير عن هذه المعاني بعد أن اندمجت في متاع البيت والتصقت بما يتخذه الناس من الملابس ويمتطونه من المراكب ويرتفقون به من وسائل الحياة. ومما يشوه وجه المقالة أو القصيدة أن نضع في نسقها أسماء هذه المعاني الموضوعة في قالب لغة أجنبية ونتلفظ بها على علاتها من غير تهذيب وسبك يؤلف بينها وبين ما هو عربي أصيل. فالعربية توسع صدرها لاقتراض الاسم من لسان آخر، ولكن بعد تنقيحه وصبه في قالب يطابق موضوعاتها الأصلية، وهي مع ذلك في سعة وغنى بما ملكته من المواد الغزيرة والتصاريف التي تساعد على أن نستمد منها أسماء لأي معنى خرج إلى حيز الوجود. وإنما يستقيم هذا العمل إذا نهضت له جماعة ذات اطلاع واسع وأذواق سليمة فيتخيرون أو يشتقون للمعاني الحديثة أسماء مقبولة، فيبقون على هذا اللسان حياته ويحفظونه من أن يتسع فوق فاقته فتتسرب إليه قطع من لغة أخرى. ((يتبع بمقال تالٍ))

انتباه الشرق

الكاتب: عن جريدة يقظة العرب الأمريكية

_ انتباه الشرق [1] العرب وطيش سهم المستعمرين. سورية وفلسطين. اليمن وعمان. الأناضول ومعاهدة سيفر. أذربيجان والأفغان. شمال أفريقية. لا جرم أن الشرق قد بدأ ينتبه من غفلته ويثيب من رقدته، ويهب من سباته العميق ويستفيق من كابوسه الثقيل، وأن ذلك قد لاحت تباشيره منذ وضعت الحرب أوزارها، وظهرت مخايله في كل صقع من أصقاع الشرق بصورة لا تقبل المغالطة، ولا تحتمل المراء، بحيث شعرت أوربا شعورًا تامًّا بأن شرق اليوم هو غير شرق الأمس، وأن الحرب العامة قد تمخضت بحوادث لم تكن في حسبانها، وربما تلد انقلابات كان يجوز أن يستأكل فصالها القرون والأحقاب فعجلت الحرب في توليدها ببضع سنين، فكان الظفر الذي ظن الغالبون أنه سيلقي إليهم بمقاليد الأرض بحذافيرها ويؤمِّنهم على تراثها بدون معارض ولا منازع، هو مبدأ انحلال سلطاتهم الملفقة من قوى الأمم الأخرى وفاتحة انتشار أسلاكهم المنظومة بمجاهيد المستضعفين في الأرض ومصداق قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (الأنعام: 44) ولا بد أن يأتي يوم يقول فيه الشرقيون: طالما أحزنتنا نهاية الحرب العامة بما انتهت به وخلو الجو للدول المستعمرة تلقي بجرانها على من تشاء وتهضم حق من تشاء وتظن الأحرار قد أصبحوا لها خولاً وعبيدًا. ولكن صدق علينا وعليهم قوله عز وجل: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) . فقد ظن المستعمرون قبل كل شيء أنهم يخدعون الأمة العربية بمواعيد الاستقلال حتى تنفصل عن الأمة التركية ويقع بأس إحداهما بالأخرى مما يوفر على المستعمرين الأموال والرجال، حتى إذا انفصل العرب عن الترك بعد ذلك وجدوا أنفسهم بين براثن أولئك الخلابين الخداعين وأطبق هؤلاء عليهم قواهم طبقًا بعد طبق يقتسمون بلادهم فيما بينهم تقاسم لا يسار للجزور وينقضي الأمر وينتهي النزاع، وإذا تنجز العرب ما تقدم لهم من المواعيد لم يعِ من صنعته الخلابة ومهنته الكذب والرياء أن يجاوب أولاً بالألفاظ التي قد جاوب بها من قبيل: استقلال وتحرير وترقية وتنمية، وسيطرة وقتية ووصاية أبوية، وإرشاد إلى وقت بلوغ الأشد، وغير ذلك من الخزعبلات التي لا يخجل أمثالهم من أن يجعلوها شباكًا للصيد وخطاطيف للقبض، فإن لم تنفع هذه الألفاظ ولم تنجح هذه العناوين الضخمة في إخفاء المرام وتهوين المصاف فيكون الجواب صرحه برمحه بالسيف والمدفع، والطيارة والدبابة، وغير ذلك من الآلات المهلكة والنيران المحرقة، ويقال: إن ذلك إنما هو موت لأجل الحياة، وقطع للأعضاء الفاسدة لسلامة الجسد، وتخريب من أجل المدنية، وهمجية لأجل الإنسانية. ولكن ساء في هذه النوبة فأْلُهُم وكذب خالهم ورأوا من العرب ما لم يكن يخطر لهم على بال إذ وجدوا هذه الأمة بعد انفصالها عن الأمة التركية أشد نفورًا من حكومة الأجنبي مما كانت من قبل، وما وضعت الحرب العامة أوزارها من جهة وظن الحلفاء الغالبون أن البلاد قد بردت لهم عفًوا صفوًا - حتى لقحت الحروب في الشرق الأدنى والأوسط من الجهة الأخرى، وقام العرب ينادون يا للثارات ممن نكثوا بالوعود وخفروا العهود ‍! وتورطت إنكلترا في العراق في حرب زبون لم يعد لها نهاية، فبقيت سنتين ونصف سنة توالي البعوث على البعوث وتلف الزخوف على الزخوف وتكور الطيارات على الدبابات والدبابات على الطيارات وتحرق القرى وتنسف المنازل وتهلك الحرث والنسل وبلغ عدد جنودها في العراق 120 ألف مقاتل، وبلغت نفقاتها السنوية هناك 50 مليون ليرة إنكليزية وهي لا تفوز بطائل ولا تصل إلى غاية تذكر ولا تزداد من أهل تلك البلاد إلا بغضًا وعدوانًا وسخيمة وشنآنًا إلى أن يئست من تدويخ العراق بالسيف، وبعد أن كانت لا تعير مطالب أهل العراق أدنى بال، وكانوا يشكون إليها فيشكون إلى غير مصمت [2] عادت هي تستصرخ الملك فيصل وذويه إلى حمل العراق على قبول حكومة وطنية يكون لهم فيها الاستقلال الداخلي ويكون لإنكلترة النيابة الخارجية وعادوا هم لا يرضون بهذه الدرجة من الاستقلال ويريدونه تامًّا ويتنجزونه باتًّا مطلقًا، ولا يرضخون للإنكليز إلا عن بعض مسائل اقتصادية لا غير مع أن العراق قبل الحرب العامة لم يكن يحسب أحد أنه ينطوي على مثل هذه القوة، ولا أنه يقتضي لتدويخه أكثر من توابير معدودة، ولكن الحرب العامة أضاعت كل حساب وأتت من ظهر الغيب بما كان يظن من الأحلام. ومثل ذلك سورية التي كانت تظن فرنسا أنها تقبض عليها بمجرد خفوق العلم الفرنسوي على ثكنة بيروت، قد كلفت فرنسا إلى الآن أزيد من 100 مليون ليرة وعشرات ألوف من العساكر، ولم تكسب من وراء ذلك سوى زيادة الأحقاد والإحن وإلقاح العداوات والفتن وكون من كان يناويها قبل الاحتلال قد ازداد برأيه يقينًا وبمذهبه استبصارًا ومن كان يميل إليها قبل أن خبرها من قريب وقارفها تحت العمل قد تحول عنها تحولاً فات فيه أعداءها الأصليين، واتفقت كلمة الجميع على طلب الاستقلال التام، ولو كان كل يسعى به إلى ناحية وطنه، فاللبناني ينادي باستقلال لبنان والسوري ينادي باستقلال سورية، والفلسطيني ينادي باستقلال فلسطين، وليس من كل هؤلاء من يرضى بسيطرة فعلية لفرنسا أو إنكلترا أو لغيرهما، بل غاية ما هناك عدة مأمورين من باعة الذمم وتجار الضمائر وعدة صحف من قبيل الربابات المعروفة عند البدو، أو زمور الأعراس يعزف عليها العازف لمن شاء ولمن بيض البخت على رأي أصحاب هذه الآلات، فهؤلاء لا يزالون يتشدقون بلفظة (انتداب) ويتمنطقون بكلمة (إرشاد) وعبارات مموهة وجُمل مزخرفة من قبيل (الأخذ باليد في معترك الحياة) ومن طائفة (تسديد الخطوات إلى السير في طريق التقدم) وما أشبه ذلك من الكلمات الفارغة المخالفة للواقع وتشدقهم يدوم ما دامت يد فرنسة في حلوقهم وما دام سيفها مسلولاً أمام أعينهم، فأما ولا بد لفرنسا وقد بلغ دينها 388 مليارًا أي أربى على مجموع ثروتها العمومية بكثير (لأن مجموع ما تملكه فرنسة لا يزيد على 280 مليارًا) من أن تعجز عن متابعة بذل المبالغ الطائلة على جيش احتلال سورية كما عجزت عن متابعة غزو كليكية، فبمجرد تقلص الظل العسكري من هناك تحس فرنسا بخيانة هؤلاء الذين إذا كانوا خونة لأوطانهم، فهم أولى بأن يخونوها هي وأن لا يصدُقوها القول ولا ينخلوا لها النصيحة، وأن يقلبوا لها ظهر المجن عند أول غرة لائحة، وسواء كان مثل هؤلاء معها أو عليها فلن يقدروا أن يؤثروا شيئًا في تحويل مجرى الأحوال العامة إذ لا بد لأهل سورية من نيل استقلالهم التام الناجز المحقق بالفعل العالي عن المماطلة المرتفع عن المغالطة، ولا بد لفرنسا من الرجوع في أمر سوريا لا إلى رأي (السوسياليت) فقط بل إلى رأي كثير من الحزب المعتدل، بل إلى رأي (المسيو بوانكاره) نفسه وهو القيام في سورية بمهمة استشارية محضة، بل كيف تقلبت الأمور فالعرب لن يتركوا سورية لفرنسة، ولا بد من أن يأتي اليوم الذي ترجع فيه فرنسة إلى طريقة إنكلترة في العراق، بل إلى أقل منها على حين يكون ما تركته من الحقد في قلوب العرب حائلاً دون كل امتزاج مانعًا من كل هوادة بين الفريقين. وأما فلسطين، وما أدراك ما فلسطين؟ ! فإن إنكلترة قد ظنت مجرد إعلان معاهدة الصلح ووصايات عصبة الأمم والأمر الملكي الصادر لأهل فلسطين بتقرير هذه البلاد وطنًا قوميًّا لليهود وفقًا لتصريحات (بلفور) في أواخر أيام الحزب - ظنت كل هذا كافيًا للفَتِّ في أعضاد الفلسطينيين والفل من غروب عزائمهم بحيث يستنيمون إلى الطاعة ويخلدون إلى السكون على قلة عددهم ونقصان شرائط انتقاضهم، فرأت من هذه الجهة أيضًا لمحًا باصرًا، وحملت من حماية اليهود أمرًا إدًّا وسوف تعلم هي ويعلم اليهود أنهم يحاولون قلع الجبال ولا يحصلون على أدنى طائل، وأن الفلسطينيين كالسوريين والعراقيين وكالمصريين من قبل، لن يفتأوا ناصبين للإنكليز العداوة حتى يقلعوا عن سياسة الاتجار بالأمم، ويفهموا خطر اللعب بالعهود والمواثيق ويعرفوا أن الأمة العربية هي كلها من وراء الفلسطينيين لا تدع بلادهم مجالاً للأطماع ولسان حالها يقول: ودون عداوتي كلأ جداع. انظر إلى اليمانيين الذين خالت إنكلترا أن الإحاطة ببحرهم وقطع الاتصال بينهم وبين الدولة العثمانية مدة سنين يكون كفيلاً بنزولهم على حكم الإنكليز وصرم حبال آمالهم في الدولة والخلافة، فكان الأمر على عكس ما ظنت، وبعد أن كان اليمانيون تحتاج الدولة إلى بسط سيادتها عليهم إلى أربعين أو خمسين طابورًا بصورة دائمة انقلبوا بأسرهم عثمانيين بدون عساكر بين أظهرهم وقاموا هم مقام العساكر وشدوا روابط تابعيتهم للدولة والخليفة عن ذي قبل، ورفضوا أن يسمعوا بشيء من جميع هذه المعاهدات التي تعقد في باريز ولندرة ولم يكتفوا بالمرابطة في منطقة عدن ومنع الإنكليز عن الخطو إلى الأمام قدمًا واحدًا حتى حصروهم في مرسى الحديدة الذي كانوا احتلوه، بل اضطروهم إلى الجلاء عن الحديدة بما أجهضوهم طول هذه الأشهر بالقتال غدوًّا ورواحًا وكانت إنكلترة راسلت حضرة الإمام يحيى مرارًا وعرضت عليه (الاستقلال) الذي أعلقت بأحابيل وعده كثيرًا من أمراء العرب فلم يغتر كغيره، وأجابها بأنه لا يبرح عثمانيًّا هو وقومه وجميع أهل اليمن من تهامتها إلى نجودها، ومن حضرموتها إلى عسيرها، ولن يقبل أن يطأ الإنكليز شبرًا واحدًا من أرض اليمن ولا أن يتدخلوا بين أهل اليمن وبين الخليفة العثماني الذي لا يعرفون سواه، ولما كان قد عجم الإنكليز عود الإمام يحيى ورأوا من صلابته حذروا من التصريح بشيء في أمر اليمن في معاهدة سفرس خشية سرعة التكذيب وازدياد الخطب، ولكن حضرة الإمام خاطب السلطان محمد وحيد الدين والي الآستانة وأكد له استمساكه بعروة خلافته وبقاء جميع اليمانيين من شافعية وزيدية في حوزة طاعته، وقريبًا نطلع القرَّاء على صورة كتاب حديث العهد قد ساعدنا الحظ بالاطلاع عليه صادر عن الإمام المتوكل على الله يحيى حميد الدين وكتاب آخر من محمود نديم بك الوالي العثماني الذي كان في اليمن ولا يزال واليًا فيها باسم الدولة العثمانية، صادرًا هذا الكتاب عن محلته في مناخة منبئًا بزحفه على باجل والحديدة بناءً على طلب سادات وأشراف تهامة [3] مما جاءت فيما بعد تلغرافات الجرائد الإنكليزية مؤيدة له، بل رواية على حوادث تلك النواحي، مما زاد على ما جاء في الكتاب المذكور. وانظروا إلى العثمانيين الذين ظن الإنكليز أنهم يحملون أمير مسقط على تجريدهم من سلاحهم فكان منهم أنهم خلعوا ذلك الأمير وحصروه في مسقط وما زالوا في الثورة حتى أقلعت إنكلترة عن مزاعمها هذه وتركوا لهم سلاحهم وعاشوا طول أيام الحرب أحرارًا لم تقدر إنكلترة أن تتعرض لهم بأدنى سوء ولا يزالون على استقلالهم التام بحماية ضيوفهم. أما مصر فإننا سنفرد لثورتها ونهضتها مقالاً مخصوصًا، ولكن نقول هنا بالجملة إنها نالت ثمانين في المائة من مطالبها، هذا من جهة العرب، وأما من جهة الترك فكانت فرنسة تظن أنها تبتزهم ولاية أطنة الحصينة وأنهم بتتابع حروبهم

الخمر

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ الخمر فشو الخمر، مؤاخذة العلماء، أضرار الخمر الجسدية، أضرارها العقلية، أضرارها الاجتماعية، أضرارها الاقتصادية، أضرارها الأدبية. يكني المسلمون الخمر (أم الخبائث) وما أجدرها بهذه الكنية، ومن أسمائها عند العرب (الإثم) قال الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم تفعل بالعقول وقد حرَّمها بعض العرب على نفسه قبل الإسلام لغوائلها ومضارها، ومنهم عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - قال: لا أشرب شيئًا يذهب بعقلي، ويضحك عليَّ من هو أدنى مني. ثم جاء الإسلام فتدرج في التنفير منها إلى تحريمها وفرض الحد على شاربها، وقد سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عند تحريمها: فماذا نفعل بالخمر؟ فقال: (أهريقوها) فكانت شوارع المدينة كمجاري السيل مما أريق فيها من الخمرة. وما زال العقلاء والفضلاء في بلاد الغرب يشكون من فشوها وانتشار الأمراض وقتل الوقت وإضاعة المال بسببها حتى سنَّت الولايات المتحدة الأمريكية قانونًا في أول سنة 1920 يحرم صنعها والاتجار بها ودفعت بما كان مخزونًا لديها إلى خارج بلادها حتى خشيت كندة وهي أقرب البلاد إليها من فشو هذه السموم في بلادها فحرمت استيراد الخمور من الخارج إلى حد محدود، فاندلق سيل هذه الطامة الجارف إلى اليابان وفشا فيها فشوًّا فظيعًا، وكانت حكومة روسية قبل ذلك منعت شرب نوع من الخمور يسمى (أبسنت) فحرمته غير واحدة من دول الغرب لشدة ضرره. وربما حرمت الخمر فيما بعد في جميع الأمم الغربية، وناهيك بجماعات مقاومة المسكرات فيها، ولكن البلاد التي تعرف بأنها إسلامية مثل مصر والشام وتونس والجزائر لم يبدُ منها أية حركة ولم تنزعج أي انزعاج لهذا الخطب الجلل. فإن قلت: إن هذه البلاد إسلامية ولكنها ليست بدار إسلام، أي أن حكوماتها غير إسلامية، بل هي ذات شرائع غير شريعة الإسلام يتدارسها قضاتهم ومحاموهم ويحكمون بها، وليس فيها تحريم الخمر فليس لأهلها شيء من الأمر، فأقول: (إن صح منك الهوى أرشدت للحيل) لو أن الغيرة على الدين الإسلامي بقي منها بقية عند من يسمون أنفسهم علماء الدين لتوسلوا إلى منع هذه الموبقات بكل وسيلة وسلكوا إليه كل طريق. هل سمعت بأن أحد الشيوخ طلب تعديل لائحة أو قانون لتقويم الأخلاق؟ ألم يبلغ العلاَّمة (فلان) أن ابنه الأستاذ (فلان) سكير؟ ألم يعلم عَلَم الأعلام بأن ربيبه من أفسد الناس أخلاقًا؟ أو لم يشاهدوا مِن أمامهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم مِن مفككات روابط الأخوة ومفسدات الأخلاق بسبب الخمر وغيرها من الموبقات ما لو ألقي على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وسوء المنقلب. كيف تسنى لرجال الدين في بلدة (أورنبورغ) - فيما أتذكر- أن طلبوا من الوالي الروسي بأن يصدر أمرًا إداريًّا يحتم إقفال الحانات في نهار رمضان، أيام الحكومة القيصرية، فأصدر بذلك أمره بعد الاستئذان من العاصمة (بطرسبرج) وأن يلقي القبض على من يرى من المسلمين مفطرًا في رمضان ويؤتى به إلى الإمام فإن اكتفى بوعظه وإرشاده وإلا سجن يومًا أو يومين، كذلك صدر الأمر بإقفال الحانات أيام عيد رمضان وقتئذ بطلب علماء الدين. وهذا الشرطي الفرنسي يلقي القبض على المسلم المفطر في رمضان في دمشق ويرسله إلى المحكمة لتقتص منه، فهل طلب مشايخنا منفردين أو مجتمعين إيصاد حانة أو ماخور مما في جوار المساجد والمعابد تنفيذًا للقانون المصري الذي يحظر ذلك، دع عن مطالبتهم الحكومة بسن قوانين جديدة لحفظ الآداب؟ قد كان يرجى ذلك أو بعضه لو كانوا يعلمون أن مكانتهم الدينية توجب عليهم ذلك من طريق الدين والأدب والاقتصاد. ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى للخمر مضار في الأفراد والجماعات من صحية وعقلية واقتصادية وأدبية إلخ، وقد ذمها كل عاقل حتى من كان ولوعًا بها، وها نحن أولاء نذكر أهم أضرارها: أضرار الخمر الجسدية 1- منها الخمول والهبوط اللذان يحدث منهما زيادة التنبه في الأعصاب ويهُبان بالسُّكر فيتناول شيئًا من الخمر فينهض به من خموله ويرفع من هبوطه الجسدي والعصبي ولسان حاله ينشد قول أبي نواس: وداوني بالتي كانت هي الداء ... ولكنه لا يلبث أن يعود فيتولاه الخمول والانحطاط ثانية بحكم رد الفعل. وبحكم أن بعض المدمنين من الغربيين قال عن نفسه أن أول كأس شربها إنما كانت ليزيل بها همًّا عراه، وكل ما شربه بعدها كان ليزيل به ما أسأرته الكأس الأولى من الهموم قال المتنبي: إذا استشفيت من داء بداء ... فاقتل ما أعلك ما شفاكا وقد سبقه إلى ذلك المدمن العربي القائل: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها 2- ومنها فساد المزاج واعتلال الصحة؛ لأنها تحدث أمراضًا مهلكة وأدواء معضلة (منها) السل الرئوي الذي قيل: إن سُبع الوفيات في العالم بسببه، وإن ستين في المائة من أموات أبناء العشرين من المسلولين، وكأمراض الكبد والرئتين والكليتين، وقد قال أحد الأطباء: إن تسعة أعشار المصابين بهذا المرض من السكارى والسكر هو السبب في مرضهم (ومنها) أمراض النخاع الشوكي والعضلات الدموية مما يتسبب منه الرئية (الروماتيزم) وتصلب الشرايين (ومنها) فقر الدم، ومنها تلبك المعدة؛ لأن السكير يكثر أكله ويضعف هضمه (ومنها) تمدد المعدة واسترخاؤها. *** أضرار الخمر العقلية 1- من أضرار الخمر العقلية الخُمار (بوزن غراب) الذي يدعو الشارب إلى المعاودة فالإدمان. 2- ومنها فساد الأخلاق لاختلال اعتدال القوى النفسية. 3- ومنها اختلال نظام العقل فالانفلات من كل قيد من قيود الوقار والحكمة. وما أحسن ما أجاب به مجنون دعاه سلطان الذي شرب الخمر ليشربها معه فقال: (أنت شربتها لتكون مثلي، فأنا أشربها لأكون مثل من؟) بل هي جنون، قال ابن الوردي: واهجر الخمرة إن كنت فتى ... كيف يسعى في جنون من عقل 4- ومنها الذهول العصبي والنوبات الهستيرية. أضرار الخمر الاجتماعية 1- من أضرار الخمر الاجتماعية ضعف النسل فانقراضه؛ لأن مدمني الخمر كثيرًا ما يصابون بالعقم، ومن يلد منهم فإنما يلد نسلاً ضعيفًا دميمًا أو أبله معتوهًا، وقد يتدلى النسل حتى ينقرض، وقد قال بعض ساسة الأوربيين وحكمائهم: إن انقراض الأمم المتوحشة سيكون بفتك الأشربة الروحية بهم. 2- ومنها فساد التربية المنزلية؛ لأن السكير لا يلتفت إلى تربية أولاده، وإذا وكِّل أمر تربية الأولاد إلى المربين ذهبت مقومات الأمة وتقاليدها خصوصًا في بلاد كهذه البلاد التي يقصد بتربية ناشئتها إلى تربية خاصة تمسخ الأمة مسخًا وتجعلها بين بين، فلا هي جاهلة ولا هي متعلمة، وتحملها أوزارًا من زينة الأوربيين وأزيائهم تكون هي الذاهبة بمشخصاتهم ومقوماتهم. 3- ومنها سد باب النبوغ والاختراع في الصناعات والزراعة؛ إذ إن السكارى لا يشغلهم شاغل عن مواصلة الشرب، فإن كان السكير من أرباب المصانع فسد نظام مصنعه، وإن كان من أصحاب الأرض اختل نظام زراعتها، فإننا نرى كثيرًا من أهل الثراء الذين لا يعرف السكير منهم موضع أرضه ولا ماذا أصلح فيها الزراع أو أفسدوا، ومنهم من لا يعلم من أحوال ملكه شيئًا، أو يكل ذلك إلى مدير العمل والكاتب والجابي، وكثيرًا ما أثرى أمثال هؤلاء من غفلة أولئك الذين أصبحوا فقراء لم ينالوا من ثروتهم إلا ما تعودوه من السكر الذي يلجئهم إلى التسول، ومنهم كثير في مصر تعرفهم بسيماهم، نرى أمثال هؤلاء وهم على ما وصفنا. 4- ومنها إيقاع العداوة والبغضاء بين أعضاء الأسرة الواحدة وأفراد الأمة مما يفكك روابطها ويفت في عضدها، ويجعل بأسها بينها شديدًا، فكم تقاطع الأَخوان وتفرق الزوجان وانفرط عقد الإخوان وعُق الوالدان وأُهمل أمر الولدان بسبب بنت الحان؟ أضرار الخمر الاقتصادية حقًّا إن داء مصر في المسكرات لدويٌّ، إذ إن معدل ما يشربه المصري يزيد على ضعفي ما يشربه الفرنسي ‍!! وبلاد الفرنسي تنتج له من الخمر ما يشربه ويتجر به في الخارج، ولكن مصر لا تصدر خمرًا خارج حدودها ولا تنتج ما يستهلكه أهلها فضرر الخمر الاقتصادي فيها أكثر منه في كل بلد في المعمور لذلك يثري الخمار في مصر بسرعة، فمن أضرارها الاقتصادية: 1- إسراف المدمنين فيها إسرافًا كثيرًا ما ذهب بكل ما يملكون وتتسرب أموال الأمة إلى البلاد الأجنبية بسبب ذلك، ولم يقتصر ذلك على الريع والإنتاج فحسب، ولكنه تعدى إلى رقعة الأرض فكم من المزارع والتفاتيش والضياع والعِزب والأباعد تحولت إلى الخمارين والقوادين من أبناء يونان. 2- إن المقدر أن تحريم الخمور في الولايات المتحدة يوفر لأهاليها أربع مائة مليون جنيه في السنة مما كان ينفق في الخمر ووسائلها، إذًا ماذا يقدر أن يوفر تحريم المسكرات لأهل مصر؟ إنه لا يقل عن 61 مليون جنيه في السنة إذا قُدِّر أن المصري لا ينفق في سبيل الخمر أكثر من أربع جنيهات في السنة وأنا أرجح أنه ينفق ثمانية جنيهات في هذه السبيل، وإذا فرض صحة هذا الترجيح فإن تحريم الخمر في هذه البلاد يوفر أيضًا لأهلها 122 مليون جنيه في السنة تضاف إلى رأس مال الأمة. 3- إنقاص رأس المال، والتمادي في استهلاك رأس المال هو الانتحار الاقتصادي السياسي، وهذه حالة مفزعة ظهر أثرها في مصر ظهورًا بينًا، نعم إذا بحثت في أسباب ذهاب الثروة وانتقال الأموال الثابتة إلى الأجانب فلا ترى إلا سببًا واحدًا هو الخمر، وهي رسول الميسر وداعيته - إذ قلما ترى سكيرًا غير مقامر - فظهر مصداق قوله تعالى: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} (البقرة: 219) وأي إثم أكبر من هذا الإثم الذي هو مجلبة خسران الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. 4- ومنها استهلاك معظم الإنتاج وبعض رأس المال وتسربه إلى خارج البلد وأي انحطاط اقتصادي أدنى من هذا الانحطاط؟ . أضرارها الأدبية 1- من أضرارها الأدبية: ذهاب الحشمة والوقار، فإن السكير لا قيمة له بين أهله وولده وحشمه وجيرانه. 2- ومنها قتل الوقت في الحانات وتوالي الشراب وذلك مما يذهب بالاحترام الشخصي ويخل بالمكانة الأدبية. 3 و4- ذهاب الحياء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ولا حياء لمن لا دين له ولا دين لمن لا صلاة له، وذكر الله جلاء القلب ونور الروح ومصباح المدلج. لم أُرد بهذه العجالة أن أضيف إلى المنار بحثًا أهمله، فقد أنحى المنار على المهلكات - ومعها الخمر - من أول نشأته، وأبعد ما أذكره ما في المجلد الرابع في ص881 - 890 وفي ص 897 وأقربه ما في الجزء الثاني من التفسير. صالح مخلص رضا

شذرات أدبية

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ شذرات أدبية [*] 1- آداب المكاتبة أو المجاملة والقناعة كان محمد بن حازم الشاعر جار سعيد بن حميد [1] الكاتب الطوسي فهجاه لأمرٍ كان بينهما، فبلغ سعيدًا هجوُه فأغضى عنه مع القدرة، ثم إن محمدًا ساءت حاله فتحول عن جواره، فبلغ ابن حميد ذلك فبعث إليه عشرة آلاف درهم وتخوت ثياب وفرسًا بآلته ومملوكًا وجارية، وكتب إليه: (ذو الأدب يحمله ظرفه على نعت الشيء بغير هيئته، وتبعثه قدرته على وصفه بغير حليته، ولم يكن ما شاع من هجائك فيَّ جاريًا إلا هذا المجرى، وقد بلغني من سوء حالك وشدة خلتك ما لا غضاضة به عليك مع كبر همتك وعظم نفسك، ونحن شركاء فيما ملكنا ومتساوون فيما تحت أيدينا، وقد بعثت إليك بما جعلته - وإن قل - استفتاحًا لما بعده وإن جل) فرد ابن حازم جميعه ولم يقبل منه شيئًا وكتب إليه: وفعلت بي فعل المهلب إذ ... غمر الفرزدق بالندى والدثر فبعثت بالأموال ترغبني ... كلا ورب الشفع والوتر لا أقبل النعماء من رجل ... ألبسته عارًا على الدهر *** 2- آداب المعاشرة إني ليهجرني الصديق تجنبًا ... فأريه أن لهجره أسبابا وأخاف إن عاتبته أغريته ... فأرى له ترك العتاب عتابا وإذا بليت بجاهل متغافل ... يدعو المحال من الأمور صوابا أوليته مني السكوت وربما ... كان السكوت عن الجواب جوابا ... ... ... ... ... ... ... ... ... الناشئ الأصغر [2] *** 3- التقسيم العجيب لُح كوكبًا وابدُ غصنًا والتفت ريمًا ... فإن عداك أسماؤهما لم تعدُك السيما وجه أغر وجيد زانه جيد ... وقامة تخجل الخطى تقويما يا من تجل عن التشبيه صورته ... أأنت مثلتَ روح الحسن تجسيما؟ لو شاهدتك النصارى في معابدها ... ممثَلاً ربعت فيك الأقانيما ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حبوبي [3] 4- ومنه في وصف مغنٍ رنا ظبيًا وغنى عندليبًا ... ولاح شقائقًا ومشى قضيبا بعض الشعراء في عصر الثعالبي [4] 5- ومنه بدت قمرًا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرًا ورنت غزالا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المتنبي [5] 6- ومن الإبداع في هذا وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفًا واستللن خناجرا تَصَدَّيْنَ لي يومًا بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصير غادرا سفرن بدورًا وانتقبن أهلة ... ومسن غصونًا والتفتن جآذرا وأطلعن في الأجياد بالدر أنجمًا ... جعلن لحبات القلوب ضرائر ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الزاهي [6] *** 7- الانحياز إلى العدو عداوة إذا المرء عادى من يودك صدره ... وكان لمن عاداك خدنًا مصافيا فلا تسألن عما لديه فإنه ... هو الداء لا يخفى بذلك خافيا ... ... ... ... ... ... ... ... ... صعصعة بن ناجية وأخذه بعضهم فقال: إذا صافى صديق من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الرجاء *** 9- رثاء برذون كان لمحمد بن عبد الملك برذون أشهب لم يُرَ مثله فراهة وحسنًا فسعى ساعٍ إلى المعتصم ووصف له فراهته فبعث المعتصم إليه فأخذه منه فقال ابن عبد الملك يرثيه: كيف العزاء وقد مضى لسبيله ... عنا فودعنا الأحم الأشهب ومنها: فالآن إذ كملت أداتك كلها ... ودعا العيون إليك لون معجب واختير من سر الحدائد خيرها ... لك خالصًا ومن الحلي الأغرب وغدوت طنان الحديد كأنما ... في كل عضو منك صنج يضرب وكأن سرجك إذ علاك غمامة ... وكأنما تحت الغمامة كوكب ورأى علي بك الصديق جلالة ... وغدا العدو وصدره يتلهب ومنها: أضمرت منك اليأس حين رأيتني ... وقوى حبالي من قواك تقضب ورجعت حين رجعت منك بحسرة ... لله ما فعل الأحم الأشهب *** 10- توافق الخاطرين بين الشاعرين خرج جرير والفرزدق مرتدفين على ناقة إلى هشام بن عبد الملك الأموي وهو يومئذ بالرصافة، فنزل جرير لقضاء حاجة فجعلت الناقة تتلفت فضربها الفرزدق وقال: إلام تلتفتين وأنت تحتي ... وخير الناس كلهم أمامي متى تَرِدي الرصافة تستريحي ... من التهجير والدبر الدوامي ثم قال: الآن يأتيني الفرزدق فأنشده هذين البيتين فيقول: تلتفت إنها تحت ابن قين ... إلى الكيرين والفأس الكهام متى ترد الرصافة تخز فيها ... كخزيك في المواسم كل عام فجاء جرير والفرزدق يضحك، فقال: ما يضحكك يا أبا فراس؟ فأنشده البيتين الأولين، فأنشده جرير البيتين الآخرين فقال الفرزدق: والله لقد قلت هذين فقال جرير: أما علمت أن شيطاننا واحد؟ (يتلى)

رد جريدة القبلة على الحقائق الجلية في القضية العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رد جريدة القبلة على الحقائق الجلية في القضية العربية نشرنا في الجزء السادس من المنار ذلك المقال المطوَّل في تلخيص حقائق المسألة العربية فكتب أحد المتملقين لأمراء مكة في جريدة الأهرام يؤاخذنا على نشر ذلك المقال الذي زعزع الثقة ممن اتخذهم هو وأمثاله زعماء للعرب مشايعة للسياسة الإنكليزية التي سخرتهم لمساعدتها على تقويض صرح أكبر دولة إسلامية يعتز بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها والثأر لملك الإنكليز قلب الأسد ومن كان معه من الصليبيين من المسلمين، وفتح القدس واستعمار سائر بلاد العرب، ولم يستطع هذا الكاتب أن ينقض قضية أو يكذب كلمة من مقالنا، وإنما كانت مقالته عبارة عن لوم وتثريب، وتهكم وأكاذيب، زعم فيها أن صاحب المنار ادَّعى أنه كان في دمشق ثاني الملك فيصل وأن المؤتمر السوري كان آلة بيده، ولو صح أن المقال كان يتضمن هذه الدعوى وأنها دعوى باطلة لما كان ذلك بدافع شيئًا من إنكارنا على أمراء مكة ما أنكرناه عليهم باسم الشرع والدين والمصلحة العربية. وقد كان من جناية ذلك الكاتب على زعمائه الذين أراد الدفاع عنهم أنه حملنا وحمل غيرنا على كتابة مقالات في المسألة العربية ونشرها في تلك الجريدة اليومية التي يقرأها ألوف من الناس لا يقرءون المنار فعرفوا جناية أولئك الأمراء على الإسلام والعرب وأنه لا يملك أحد من أشياعهم أن ينقض من الحقائق التي أثبتها المنار شيئًا. ثم إننا اطّلعنا على العدد 510 من جريدة القبلة التي تصدرها حكومة الحجاز في مكة المكرمة الذي صدر في 18 ذي الحجة الحرام سنة 1339 فرأينا في صدره مقالة في الرد علينا مكتوبة بذلك القلم المعروف لكل المطلعين على تلك الجريدة بإنشائه الغريب فرأيناها كما كتب إلينا بعض من اطّلع عليها قبلنا ونحن في مدينة جنيف من بلاد سويسرة من أوربة إذ قال: وجدتها بمكان سحيق من السخافة يكفي في الرد عليها نشرها فرأينا أن ننشرها ونرد عليها، وإن كان رأي صاحب هذه العبارة صحيحًا لأن سائس جريدة القبلة مغرور مفتون بكل ما يكتبه، فينبغي أن نريه قيمة ما كتب بما فيه عبرة وفائدة لقرَّاء المنار وهذا نصها: *** أأعجمي أم عربي؟ تحقق لدينا في هذا الأسبوع احتدام غيظ وغضب وعداوة وبغضاء مولانا.. ومصباح ظلامنا.. . رشيد رضا - على سيدنا مولانا المنقذ وأنجاله مما رأيناه في عدد (13500) من (أهرامنا) الأغر من كرته بالتنديد المعلوم الشكل والماهية. وعليه فلا يسعنا أن نأتي بشيء في الموضوع إلا بيانًا بأن الروابط التي يزعمها حضرته تجعلنا نسترحم عواطف مدارك إرشادات كمالاته العفو والصفح، ولا نظن أن عظم جريمة سيدنا المنقذ وأنجاله في نظره ينسيه: {وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (آل عمران: 134) أقله أن العظمة والكبرياء والمدارك والإحاطات التي وصف بها ذاته المعظمة وحصرها في شخصه وتميزه دون سواه بتلك الفضائل والجلائل تأبى شهامتها المبادأة بأبسط من ذلك التعريض (الذي هو على طرفي نقيض) حتى بالأجانب فضلاً عمن تزعم أنك من عنصرهم، وهذا لا نشك أنه من نجابة دستور شعور تلك السجايا والمزايا. ومع ذا فلا نظن أن نجابة دستور ذلك الشعور تحظر علينا أن نسائل مولانا (الذي أفهمتنا بياناته المذكورة بكل صراحة أنه أصبح اليوم مرشد الأمة الأوحد، وهاديها الفرد الأمجد) أولاً: أهو عربي أم أعجمي؟ وإذا كان الأول فليسلسل وثائقه إلى الفخيذة التي يريد أن ينتمي إليها، وسؤالنا هذا هو ليتضاعف قدره، وتترادف كبرياء عظمته لدينا، ليس إلا. ولا بأس أن نشفع طلبنا هذا بقولنا: إن نجابة شعور ذلك الدستور تقضي علينا أيضًا بأن نكتفي عن البحث في الموضوع بما أورده أحد قرّائنا الأفاضل مما أدرجته (القبلة) في عددها الذي قبل العدد الماضي المتضمن الرد على عداء مصباح الظلام ومرشد الأنام بقوله: (يعرض الأستاذ بأمرائنا في شؤون المسألة السورية، فنقول له: عساه أن يتأمل مواقفهم وأعمالهم الناتجة بإخراجهم (بقدرة الباري) للجنرال ليمان فون سندرس - وما أدراك ما سندرس - من سورية ويطبقها على نتائج مواقف حضرته التي أدت إلى تسليم تلك البلاد للجنرال غورو. ولا يمكن الشيخ رشيد رضا أن ينكر هذا وهو القائل بأنه كان الآمر الناهي في دمشق يولي من يشاء ويعزل من يشاء من الوزراء ويقرب من يشاء ويبعد من يشاء، إلخ , انتهى. فإذا تأمل رشيد بل وكل متأمل هاتين النتيجتين اللتين جمعتا فأوعتا القضية من مبدئها إلى منتهاها بعد تطبيقهما ومقايستهما على ما ذكر - تظهر الخلاصة الجوهرية التاريخية التي يريدها الشيخ رشيد بقوله: (الحقائق الجلية في تاريخ القضية العربية) عنوان مقالة تنديده بسادتنا. فهل وراء إخراج سادتنا وقادتنا على مرأى من حضرته والعالم لسندرس وألمانيته وإدخال مولانا الأستاذ وهيأته كما ذكر لغورو وافرنسيته حقائق تاريخية عن سوريتنا وحوادثها؟ أو محل يقتضي بحث أي مؤرخ فيها؟ ربنا لا تضلنا بعد إذ هديتنا. لا ندري - وأبيكم - كيف فات على تلك العظمة وكبريائها بأن الكثير حتى من البسطاء أدرك ما في إظهار تلك العظمة والأنانية لهذا العداء والبغضاء ومصارحتها به أثر ما يزعمه المبشرون عن كيفية الاعتداء على صديقنا غورو وجعلهم يحكمون بأن تلك المظاهر بالتعريض والنيل من أشبالنا [1] وسراتنا هو فصل من تلك الفصول وبقلة من تلك الحقول؟ فليتأمله. أما بحثه عن عدائنا للترك، فقد أجاب عنه طليعنا في عدد (13504) من أهرامنا بقوله للشيخ رشيد: لقد أخطأت في إشارتك على جلالة ملك الحجاز حسب تصحيحك الأخير بعداوة الاتحاديين التي أدت إلى محاربتهم وهذه أدت لمحاربة الأتراك لكون الأمة التركية كانت تأتمر بأمر الاتحاديين، ولم يكن بالإمكان سوى ذلك، فهل للسيد الأستاذ أن يبرهن عمّا إذا كانت العداوة لا تؤدي إلى الخصومة والخصومة إلى القتال، سيما إذا كان ذلك بين عنصرين وفي زمن حرج كالزمن الذي سافر فيه الأستاذ إلى الحجاز أثناء الحرب العامة؟ وما حمل جلالة ملك الحجاز لمناوئتهم إلا ما كان يسمعه عن ظلم جمال وقتله خيرة أبناء سورية وما كنتم تكتبونه في المنار من التحريض ضد الاتحاديين بعد عودتكم من الآستانة وما كان يذكره في الجرائد العربية طلاب الإصلاح في سورية، فعل ما فعل ولكن الظروف الأخيرة عاكسته وتخلى عنه حلفاؤه بعد أن داسوا حقوق الشعوب الضعيفة ولم يراعوا عهودًا ووعودًا، فالقوة القاهرة اليوم لا تمنع أمة بأسرها من المطالبة بحقها المشروع والذود عنه يومًا ما , انتهى. ومع هذا فلا بأس من أن نشفع ذلك بقولنا أيضًا: إنه يعز علينا أن أنانية تلك العظمة والكبرياء تنقض اليوم ما قالته بالأمس، فإن منارنا ومظهر فخارنا، كما أنه موجود لدينا ضروري أنه موجود أيضًا لدى كثير من قرائه، فإنه مشتمل على الغارات الشعواء التي شنها مولانا على الترك بما هو معلوم. ومع ذلك فلا بد أن هناك دواعي وأسبابها لهذا التخليط والتخبط والتغليظ لا تدركها إلا أنانية تلك العظمة والكبرياء، غير أننا والحالة هذه نلتمس إحاطة مداركها إرشاد العالم إلى من يجب أن يتبعوه الآن: أهم يقتدون بأنقرة أم القسطنطينية؟ والله يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم. ويحسن بنا أن نلفت أنظار المتأملين والمدققين إلى ما نقلته البرقيات الأخيرة وكثير من الصحف عن عزم الكماليين على إخلاء أنقرة وانتقالهم إلى قيصرية ليطبقوا هذا النبأ على استعجال الشيخ رشيد بضربه المثل بهم في مباحثه التنديدية بسادتنا في كفاءة الزعامة وقيامهم بشؤونها ولا نظن - إن صح تركهم لأنقرة - إلا أنه لا فرق بين ذلك وبين تسليمك يا مولانا لدمشق. اهـ كلام جريدة القبلة بنصه السقيم وعسلطتها المعروفة. *** (المنار) لو أردنا أن نرد على كل ما في هذه المقالة من الخطأ والخطل الشرعي واللغوي والسياسي لشغلنا قرَّاء المنار زمنًا طويلاً بمسائل يفضلون جميع مباحث المنار عليها، فنكتفي إذًا بما نراه مفيدًا من ذلك. عجز سياسي القبلة أو سائسها أن ينقض شيئًا من (الحقائق الجلية) التي أثبتناها في مقالنا التاريخي فحصره الإنكار والرد علينا بما أورد في مقالته يتضمن الاعتراف بتلك الحقائق كما سبق لنصيره الذي رد علينا في الأهرام، فما أورده ينحصر في مسألتين مبتكرتين، ومسألتين منقولتين: أما المسألتان اللتان جادت بهما قريحة سائس القبلة وقلما يصدر مثلهما إلا عن ذلك الفكر الغريب، والدماغ المخالف لسائر أدمغة البشر في التركيب، فأولاها وأولاهما بالتقديم ما أشار إليه بعنوان المقالة: أأعجمي أم عربي؟ *** إنكار جريدة القبلة لكون صاحب المنار عربيًّا شرح سائس القبلة هذا العنوان بما صرح فيه بإخراجنا من الأمة العربية وإلحاق نسبنا بالأعاجم والظاهر أنه يعني بهم الترك الذين أنكرنا عليه عداوته لهم ومحاربته إياهم توليًا للإنكليز، ولنا في هذه المسألة أبحاث: 1- إذا كان يعني أن صاحب المنار تركي الأصل أو غير عربي بدليل ما كان من غيرته على الدولة العثمانية، فأكثر مسلمي الأرض من عرب وعجم أتراك؛ لأنهم يشاركون صاحب المنار في رأيه وشعوره في الأمة التركية والدولة العثمانية حتى أهل الحجاز وفي مقدمتهم الشرفاء، فقد علمنا بالخُبر وخبر الثقات أن أكثرهم قد ساءه الخروج على الترك وسقوط حكومتهم وأنهم يفضلونها على حكومتهم الحاضرة ولكنهم لا يستطيعون التصريح بذلك إلا لمن يثقون بأنه لا يفشيه لحاكمهم المطلق. 2- إذا كان من ينتصر لقوم ويدافع عنهم ولو بالحجة والبرهان لا يكون إلا من المشاركين لهم في نسبهم، فما القول فيمن ينتصر لقوم باللسان والسيف والسنان، ويحارب أهل دينه ويخرج على سلطانه وخليفته ويتولاهم عليه؟ أليس هو الأولى بأن يعد منهم إن لم يكن بالنسب فبقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) . 3- بعد أن خاطب سائس القبلة صاحب المنار بقوله: (تزعم أنك من عنصرهم) أي العرب، سأله سؤال تعجيز: أهو عربي أم عجمي؟ (قال) : وإن كان الأول فليسلسل وثائقه إلى الفخيذة التي يريد أن ينتمي إليها، تأمل قوله (يريد أن ينتمي إليها) فيا ليت شعري هل القاعدة عند من يريدون أن يتولوا ملك العرب ألا يعتدوا بعربية أحد إلا إذا جاءهم بوثائق مسلسلة إلى الفخذ أو الفخيذة التي ينتمون إليها أو يريدون الانتماء إليها؟ أم ذلك خاص بأهل الحضارة من عرب سورية والعراق وأمثالهما كمصر والمغرب الأدنى والأقصى؟ 4- إن سائس القبلة يعلم أننا ننتمي إلى آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ويريد أن يطعن في نسبنا طعنًا بليغًا بإخراجنا من الأمة العربية بأسرها جهلاً منه بدينه وبنفسه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه. والمراد أن ذلك من أعمال الكفر والجاهلية، ونحن قد ذكر لنا بعض أهل بيوتات مكة ما هو مشهور فيها من أن بعض كبراء أمرائها قد ثبت بطلان نسبه في المحكمة الشرعية بشهادة الشهود لدى القاضي الشرعي بأن أمه - وهي مملوكة بالطريقة المعروفة اليوم وهي غير شرعية غالبًا - دخلت بيت أبيه وهي حامل به ووضعته قبل أن يتم لها في داره أقل من مدة الحمل الشرعية وحكم القاضي بذلك، فقلنا: لكنه يدَّعي النسب العلوي وحكم الشرع أن الناس مأمونون على أنسابهم،

منع مجلة المنار من البلاد العربية الهاشمية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منع مجلة المنار من البلاد العربية الهاشمية جاءنا من وكالة الداخلية البلاغ الآتي: إن ما ورد في مجلة المنار عدد 6 مجلد 19 الصادر في محروسة مصر في 30 ربيع الآخر سنة 1335 من التعريض بمن قدم إلينا من أبناء العرب والتحامل عليهم - لا تعتبره الحكومة العربية الهاشمية إلا مقصودًا به الحط والنيل منها، إذ إن الأفاضل النجباء المشار إليهم أجلّ وأرفع من أن تمسهم شائبة مما رمتهم به المجلة المذكورة كما هو معلوم، وأنهم لا ذنب لهم في حياة الشيخ المعروفة إلا انضمامهم إلى حكومتنا العربية، ولا جريمة تستلزم غيظه وغضبه على حكومتنا، وهي لم يمضِ عليها الوقت الكافي لاحتدام هذا الغيظ والغضب، إلا ما عساه أن يكون مما أشير إليه في الكتاب المرسل للفاضل الأجل حضرة رفيق بك العظم الذي نوجه إلى مراجعته أنظار الأفاضل من أنصار الحقيقة [1] . وإن هذه الخطة تذكر بكلمة المرحوم المبرور الشيخ علي يوسف وقد اختصر وأوجز عندما أريد إسقاط مؤيد في دمشق فقال: إنهم لم يرفعوا المؤيد حتى يسقطوه [2] . ولما كان مسلك الحكومة العربية الهاشمية يخالف ما كان من هذا النوع من المناقشات الناشئة عن الأعراض النفسانية التي تأباها شيم قوميتنا وشهامة أمتنا، فتلافيًا لضرر ما صدر من حضرة الشيخ صاحب المنار في هذا الباب أمام الأمم والشعوب لا سيما في الآونة الحاضرة، ودرءًا لما ينطوي تحت التمادي في ذلك من المساوئ المغايرة لشعار عنصرنا الشريف - قد تقرر منع دخول تلك المجلة إلى الممالك الهاشمية، وقد أُبلغ ذلك لمدير عموم دوائر البرق والبريد ومديري الجمارك في الثغور، وهذا أول وآخر جواب تعده الحكومة لكل ما كتب ويكتب من هذا القبيل، اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ المطبوعات

الكاتب: صالح مخلص رضا

_ تقريظ المطبوعات (الفجر) مجلة علمية عمرانية أخلاقية يحررها نخبة من أفاضل الكتاب صفحاتها 24 بقطع المنار تصدر في الشهر مرة واحدة وتطبع على ورق جيد طبعًا نظيفًا. وإدارتها (بنهج إنفليتر عدد 25 بتونس) وقيمة الاشتراك بها ستون فرنكًا ويمكن الاشتراك بواسطة المنار بمصر. صدر الجزء الأول من المجلد الثاني من هذه المجلة مفعمًا بالمقالات النافعة والنبذ المفيدة مما برهن على مضي المجلة في سبيلها القويم، وذُكر في صدر هذا الجزء أن المجلة فتحت باب الانتقاد والتقريظ ونقد المؤلفات الحديثة وأنها عزمت على نشر فصول حفظ الصحة. وفي هذا الجزء أيضًا مقالة في أنواع التحية في بلاد تونس وغيرها مفيدة، ومقالة أخلاقية عنوانها: (وإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا) وفيه النبذة السادسة من (سقوط الدولة الأموية) مبتدأة ببيان (قيام الدولة العباسية) ومقالة (لدى مصطفى كمال في أنقرة) وفيها رسوم قواد الجيش الوطني، ومقالة (المستقبل البحري الألماني) و (علم ابنك الصدق) وغير ذلك، فنحث القراء على الاشتراك بهذه المجلة ليعلموا منها سير إخوانهم في تونس وليستفيدوا منها. ... ... ... ... ... *** (الإسعاد) (مجلة شهرية علمية أخلاقية تاريخية أدبية تصدر في بندر المحمودية من إقليم البحيرة للأستاذ الشيخ محمد زهران، وقيمة اشتراكها خمسون قرشًا في السنة وسنتها 12 جزءًا. من مباحث الجزأين الرابع والخامس من السنة الثانية: فضل المعلمين ومذمة الرياء، تذكير العلماء بالعمل وبالعلم، القوة، فلسفة الوجود، أخلاق السلف الصالح، خطبة جُمعة، تاريخ الرسول (ص) وغير ذلك. ومن مباحث الجزء 7 المؤرخ في المحرم سنة 1340 (إن الدين يسر) و (حال ملوك السلف وعلمائهم) و (الشعراء في مجلس عبد الملك بن مروان) . ... ... ... ... ... *** (الصباح) (جريدة عربية اللغة والمنزع وهي لسان حال المؤتمر الفلسطيني والوفد، مديرها: محمد كامل البدبري ومدير التحرير يوسف ياسين تصدر ثلاث مرات في الأسبوع مؤقتًا وقيمة اشتراكها 125 قرش صاغ مصري في القدس و150 في سائر البلاد العربية و 175 في البلاد الأجنبية) . صدر من هذه الجريدة ثلاثة أعداد مفعمة بالمقالات النافعة والأخبار الخارجية والداخلية المفيدة. لي الأمل بأن (الصباح) سيؤدي خدمة جلى لقومه ووطنه بإيقاظ النفوس إلى ما ينهض بالأمة إلى الذروة بتوخي الحقائق لما لمدير تحريره الفاضل من الاطلاع في المسألة العربية والحقائق السياسية وبما لقلمه من التأثير إذا لم يغتر بخديعة الانتداب لفلسطين والعراق ويجعل كل همه في كفاح أحد أعراضه وهو الصهيونية ولم يكن معرضًا لهؤلاء المغرورين الذين يطلبون لبلادهم ما ثار المصريون وبذلوا النفس والنفيس للتفصي من عقاله والفكاك من قيده. *** (لسان العرب) (جريدة يومية يصدرها في القدس المحرر الشهير والصحفي القديم إبراهيم سليم أفندي النجار وقيمة اشتراكها السنوية 200 قرش مصري في القدس و 250 قرش في الخارج) . حسبنا من تقريظ اللسان اسم مديره (إبراهيم أفندي النجار) ذلك الكاتب الذي كان يود خدمة العرب بخدمة الفرنسيس أو العكس، فإذا لم يمكن جنح إلى خدمة الإنكليز والحجازيين؛ لأنه يرى أن قيام العرب بانفرادهم مما لا يتيسر له معه خدمتهم، وكم قام إبراهيم أفندي بمشروعات وكم كافح الأيام بأسنة الأقلام، فجزاه الفرنسيس جزاء سنمار وإن كان يمت إليهم بوشيحة النسب، وكان يرى خدمتهم من أجل القرب. *** (بيغام) (مجلة أسبوعية يصدرها باللغة الأوردية مولانا أبو الكلام الكاتب القدير في كالكته الهند ومديرها عبد الرزاق المليح آبادي) . وهي تبحث في شؤون الهند والشرق الأدنى والعالم الإسلامي وحسبها أنها يحررها أحد تلاميذ مدرسة الدعوة والإرشاد تحت إشراف مولانا أبو الكلام صاحب مجلة الهلال الهندية الشهيرة.

أسئلة من جاوه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من جاوه (س15 - 17) من سمبس بالإمضاء المبهم في ذيله تتعلق بالربا في القراطيس المالية والفلوس النحاسية وصندوق التوفير حضرة مولاي الأستاذ العلامة المِفضال السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر - زاده الله فضلاً وكرمًا - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد كلفني عدد من العقلاء أن أرفع إلى حضرتكم أسئلة آتية أرجو من فضلكم الجواب عنها وهي: 1- أعطى رجل رجلاً آخر دينًا قدره عشر روبيات هولاندية من فضة وشرط عليه أن يدفع له خمس عشرة روبية من القراطيس المالية الهولاندية، قال عالم من العلماء الجاويين (الملاويين) المدرسين في مكة المكرمة: هذا جائز، فإن بيع القراطيس المالية بالروبيات الفضية مع زيادة أحدهما على الآخر جائز، وليس في ذلك ربًا، بخلاف ما إذا بيع قرطاس من هذه القراطيس بجنسه مع زيادة، فإنه لا يجوز كبيع الدرهم بالدرهمين، فهل هذا القول صحيح أم لا؟ 2- عندنا فلوس نحاسية هولاندية تساوي مائة سنت، منها روبية واحدة هولاندية، فهل يجوز لنا أن نبيع روبية من هذه الروبيات بمائة وعشرين من هذه الفلوس أم لا؟ قال العالم الجاوي: إنه يجوز، وعليه يقاس بيع القراطيس المالية بالروبيات مع زيادة أحدهما على الآخر وهل هذا القول صحيح أم لا؟ 3- يوجد عندنا ما يسمى فوستر بنك parbank Posts وضعته الحكومة الهولاندية لإيداع كل أحد من الناس يريد توفير ماله، والفوستر بنك لا يقبل أكثر من ألفين وخمسين روبية يودع فيه، وكل من أودع ماله فيه نحو سنة زاده عليه زيادة وله أن يسترد منه ما شاء ومتى شاء، فهل يجوز لنا أن نودع مالنا فيه ونأخذ الزيادة؟ أم يجوز لنا إيداع مالنا فيه فقط ويحرم علينا أخذ الزيادة؟ وهذه الزيادة ليست بكثيرة وإنما هي نحو اثنتين أو ثلاث بالمائة. هذه هي الأسئلة المرجوة من علومكم الجواب عنها جوابًا شافيًا، ولكم منا الشكر والثناء الجميل، ومن الله الأجر الجزيل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (سائلون) ... ... ... ... ... سمبس تحريرًا 7 ذي القعدة سنة 1339 (جواب المنار) قد سبق لنا فتاوى في هذه المسائل وأمثالها، منها فتوى في الأوراق المالية المسماة بالأنواط أو (بنك نوت) وبحث الزكاة والربا فيها (ص 51 م5) وفتوى في بيع الدَّين بالنقد والأوراق المالية وهل هي نقود أم لا (538 م9) وفتوى في صندوق التوفير (ص717 م6 و28 م7) وغير ذلك. ومذهب المنار في أمثال هذه المسائل المدنية أن يراعى فيها نص الشارع وحكمة التشريع والقواعد العامة، ولا سيما القطعي منها كاليسر ودفع الحرج والعنت ونفي الضرر والضرار وجلب المصالح ودفع المفاسد، فبمجموع هذه الدلائل نفتي في الوقائع المستحدثة التي لم تكن في العصر الأول، ونكتفي في الجواب الإجمالي هنا الإحالة على ما تقدم. حكم الأنواط في البيع والدين المسألة الأولى: استدانة عشر روبيات هولندية من الفضة بخمس عشرة روبية من القراطيس المالية الهولندية، هذه القراطيس سندات أو حوالات من الحكومة الهولندية بدين عليها لحاملها من الروبيات الفضية، فهي ليست عروض تجارة لها قيمة ذاتية، ولكن لها حكم النقد الربوي وإن لم تكن فضية؛ لأن حاملها يأخذ بها ما رُقم فيها من نقد الفضة فكأن الدائن في الواقعة المسئول عنها قال للمدين: خذ هؤلاء العشر روبيات بشرط أن تعطيني بها حوالة على فلان الغني الملي الوفي بخمس عشرة، فهل يصح أن يقال في مثل هذه الصورة: إن الدائن اشترى من المدين ورقة بعشر روبيات من الفضة نسيئة وأن الورق غير ربوي فلا يشترط أن يباع مثلاً بمثل ولا يدًا بيد لاختلاف الجنس؟ ما أظن أن ذلك المدرس الجاوي يقول بجواز هذا، فإذا صدق ظني فبماذا يفرق بين الصورتين؟ قد يقاول هذه القراطيس المالية الدولية، قد تنقص قيمتها بالنقد الفضي والذهبي عما التزم بها من روبيات أو قروش أو جنيهات فتباع بما دونه كما هو واقع اليوم في القراطيس (الأنواط) النمساوية والألمانية والفرنسية وغيرها، فمنها ما يباع بنصف القيمة وما يباع بخمسها أو سُبعها أو أدنى من ذلك أو أكثر، فبهذا صارت من قبيل عروض التجارة، ونقول إن هذا النقص في قيمة الأنواط لا يكون من الحكومة التي أصدرتها في بلادها وإنما يعرض في التعامل بين الأجانب وسببه أن الثقة المالية بالدول تقوى وتضعف أحيانًا كالثقة بالأفراد بما يعرض لها من العجز عن دفع كل ما عليها من الدين فحينئذ يرضى من بيده سند أو حوالة على مثل هذه الدولة أن يبيعه بما دون القيمة المرقومة في السند أو الحوالة إذا لم يكن يستطيع معاملة هذه الدولة بها أو انتظار عودة الثقة المالية التي تمكنها من الوفاء بما التزمته من دفع هذه القيمة وتحمل الناس على تداول قراطيسها (أنواطها) بقيمتها الكاملة، ومثل هذه الحالة لا تصدق على مثل الحكومة الهولاندية في بلادها ومستعمراتها، فإن قراطيسها المالية لا تنقص عن القيمة المرقومة فيها من الروبيات الفضية، فإذا أخذ الدائن من المدين في النازلة المسئول عنها قرطاسًا بخمس عشرة روبية، فإنه يمكنه أن يأخذ من الحكومة هذا المبلغ من الفضة أو يدفعه لأي مصلحة من مصالحها بهذه القيمة، فإذا كان عليه دين للحكومة قبلته منه خزينتها، وإذا دفعه لمصلحة البريد أو مصلحة الجمارك أو صندوق التوفير فإنها لا تفرق بينه وبين الفضة ألبتة، وإنما قد يفرق بينهما في البلاد الأجنبية التي لا تتعامل بقراطيس هذه الدولة ولا فضتها بحسب الأحوال التي أشرنا إليها آنفًا. وإذا سلم أن هذه القراطيس من قبيل عروض التجارة امتنع فيها الربا في جميع مذاهب الفقهاء؛ لأنها ليست من النقد ولا من أصول الأقوات التي ورد بها النص ولا مما ألحق بها قياسًا فتعد ربوية عند أهل الحديث وفقهائه ولا من المكيلات ولا من الموزونات فتعد ربوية عند أهل الرأي، فكيف منع زيادة أحد العوضين فيها فجعلها كبيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة أو البر بالبر. فظهر بهذا أن رأي ذلك المدرس على كونه غير مطابق للواقع يؤدي إلى إباحة الربا الذي لا شك فيه حتى في دار الإسلام بين أهله ويذهب بحكمة الشرع في تحريمه وهو تعاطف الناس وتراحمهم وتعاونهم في أوقات العسرة كما أنه يُتوسل به إلى منع الزكاة أيضًا. بيع الفلوس النحاسية بالفضة وأما المسألة الثانية وهي مسألة الفلوس النحاسية، فقول العالم الجاوي فيها هو عين مذهب الشافعية الذي يتقلده مسلمو جاوه، فهو مصيب فيه ولكنه مخطئ في قياس القراطيس المالية عليه لأنها سندات أو حوالات بنقد ربوي، ولو كانت هذه الفلوس عمدة في النقد لجُعل لها حكم الذهب والفضة بالقياس الجلي أو فحوى النص، وليست كذلك، بل جعلت لأجل ضبط كسورهما والتعامل بها قليل ومحصور ما تضربه كل دولة منها في بلادها، فلو نقل إلى بلاد أخرى لا يتعامل به ولا يباع بقيمة النقد ولا بقيمة معدنه لو كان آنية بخلاف نقود الفضة فإنها تباع في كل قطر لا يتعامل أهله بها بقيمة معدنه، وما نقلناه في هذه الفلوس هو المتعين في القوت الغالب إذا لم يكن من الأقوات التي ورد بها النص. صناديق التوفير والفرق بين دار الإسلام وغيرها وأما المسألة الثالثة وهي مسألة صندوق التوفير فهي عامة في جميع الممالك الأوربية وما على نسقها من البلاد كمصر، وقد أجازه جماعة من علماء المذاهب الأزهريين وأفتى به مفتي الديار المصرية بعد تطبيق استغلال مصلحة البريد المصرية للأموال المتوفرة فيه على بعض أحكام الشركات الشرعية كما بيّناه في المنار، فراجعوا ذلك في المجلدين السادس والسابع. ونزيدكم على ذلك أن علماء الأزهر نظروا في ذلك وأقروا ما أقروه فيه بطلب أمير البلاد بناء على اعتبارهم أنها بحسب حالها الشرعية دار إسلام، وكان ذلك قبل الحرب الأخيرة ووضع مصر تحت الحماية الأجنبية التي لا يعترفون بها ببضعة عشر عامًا، وبلاد جاوه ليست دار إسلام ولا تجري فيها المعاملات المالية على الشريعة الإسلامية، فلا يجب على المسلم فيها أن يلتزم في هذه المعاملات مع الحكومة الهولندية أو الشركات الهولندية أو الأفراد أحكام شريعته في الربا وعقود البيع والإجارة والقروض وغيرها، بل يحل له أن يأخذ من أموالهم ما تبيحه له شرائعهم وقوانينهم وما كان بتراضٍ منه ومنهم دون ما كان بخيانة. ثم إن الربا إنما يتحقق في عرف الفقهاء بالعقد الذي يشترط فيه من يعطي المال أن يأخذ عليه ربحًا معينًا، فمن أقرض رجلاً مالاً بغير عقد ولا شرط فرده إليه وزاده من غير اشتراط زيادة كان ذلك حلالاً، وقد ثبت في الحديث الصحيح استحباب ذلك كما بيّن في محله من صحيح البخاري وغيره، وحديث: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) غير صحيح كما بيّنا ذلك من قبل. فعلم بهذا أن للجاويين وأمثالهم عدة وجوه لوضع شيء من أموالهم في صندوق التوفير الذي وضعته حكومتهم وأخذ الربح منها، ومثله وضع المال في مصارفهم المالية وأخذ الربح منها كما يفعل مسلمو الصين، ومما يبعث العجب من حال كثير من المسلمين أنهم قد اختاروا لأنفسهم بلبسهم الدين مقلوبًا كالفرو أن يقترضوا المال من الأوربيين بالربا ولا يقرضوهم، ويودعوا أموالهم في مصارفهم (البنوك) ليستغلوها ولا يستبيحون لأنفسهم أن يشاركوهم في شيء من ربحها، ومعنى هذا أنهم يفهمون من دينهم أنه أباح لهم أن يتلفوا ثروتهم ويعطوها للأجانب حتى الفاتحين منهم لبلادهم باسم الفتح أو الاستعمار أو باسم آخر وحرم عليهم أن ينتفعوا بشيء منهم ولو كان برضاهم، وبعض ثمرة ما أعطوهم من المال، وأعجب من هذا أن منهم من يشكو من شرع دينه ويزعم أنه لا ينطبق على مصلحة الأمة في هذا العصر وأن تركه إلى شرائع تلك الأمم أنفع لهم وإنما الأمر بضد ذلك، فقاعدة الشرع الإسلامي أنه لا حرام إلا ما كان ضارًّا ومنه إضاعة المال، ولو عرف المسلمون حقيقة شرعهم والتزموا أحكامه لكانوا أغنى الأمم وأعزها ولما أضاعوا مُلكهم ومِلكهم، وإنما أضاعوهما بجهله وترك العمل به، والذنب الأكبر في هذا على علمائهم الجامدين، وحكامهم الجاهلين أو المارقين. هذا وإن على المسلمين أن يراعوا في غير دار الإسلام أحكام دينهم وحكمه فيما بينهم حتى في المعاملات، فلا يباح للموسر منهم أن يقسو على المحتاج إذا اقترض منه فيستغل ضرورته أو حاجته بما تبيح له قوانين البلاد من الربا. والفرق بين هذا وبين ربح صندوق التوفير والمصارف المالية عظيم جدًّا، فإن الربا إنما حرم في دار الإسلام لضرره كما علَّله تعالى بقوله: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) وليس في أخذ الربح من صندوق التوفير والمصارف ظلم لأحد ولا قسوة على محتاج حتى في دار الإسلام، وقد فصَّلنا القولَ في الربا هذا في تفسير آية آل عمران فيه، فليراجع.

بحث لغوي في براءة القرآن الشريف من بعض الألفاظ الأعجمية

الكاتب: أحمد كمال

_ بحث لغوي في براءة القرآن الشريف من بعض الألفاظ الأعجمية تتمة مقالة أحمد بك كمال 11 - زَبَرَ الكتاب - أي كتبه - وزاد في مفردات الراغب - كتابة غليظة، والزبير: الكتاب، جمعه: زُبور، والزَّبور: الكتاب بمعنى المزبور، أي المكتوب، جمعه: زُبُر (بضمتين) وغلب على مزامير داود النبي والملك. والتزبرة: الخط والكتابة، مصدر (زبر) قال الأصمعي: سمعت أعرابيًّا يقول: أنا أعرف تزبرتي، أي خطي وكتابتي، والمِزْبَر: القلم، وبما أن مادة (زبر وذبر وسفر) كلها واحدة بمعنى كتب، قد تنوع لفظها في العربية وفي النصوص المصرية أيضًا فلا حاجة لإخراجها من العربية وانتسابها إلى العجمة بدون مسوغ لغوي. 12- سفر الكتاب: كتبه، والسافر: الكاتب، جمعه: سَفَرة (بفتحتين ككتبة) يقال: والسفرة الكرام، أي: الكتبة، والسِّفر: الكتاب الكبير، وقيل: هو جزء من أجزاء التوراة. تقول [1] : حطمني طول ممارسة الأسفار وكثرة مدارسة الأسفار. 13- ذبر الكتاب ذبرًا: كتبه ونقطه، وقرأه قراءةً حقيقية، وقيل سريعة، ومنه: ما أحسن ما يذبر الكتاب، أي يقرأه ولا يتمكث فيه، والشيء علمه وفقه فيه، وذبر الكتاب تذبيرًا قبل ذبره، والذابر المتقن للعلم، والذبر: الكتاب، جمعه ذبار، كقوله: (على عرضات كالذبار نواطق) [2] وثوب مذبر: منمنم، يمانية، والكلمة مصرية قديمة دونها أرمان في مفرداته المصرية (الصحيفة 14) وتُقرأ: سبر، والسين تقلب ذالاً وزايًا، والباء فاءً، فيقال: ذبر وزبر وسفر، وهذا القلب والإبدال له أصول متبعة في اللغتين المصرية والعربية، والسبب فيه تعدد القبائل ولهجاتها فاللغة المصرية وهي الأصل للغة العربية [3] شاملة لألفاظ مختلفة اللهجة باختلاف لهجات القبائل. 14- سبط جمعها أسباط: ولد الولد، ومن اليهود كالقبيلة من العرب، وفي القرآن الشريف: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} (الأعراف: 160) [4] أي أمة وجماعة، وقد يستعمل للقبيلة من العرب، والسبط كلمة مصرية قديمة وجدت مذكورة في نصائح بتاح حتب حيث قال ما تعريبه: (إن المنذور لله الساكن سأوا ليس للأسباط فيه يد) . ومعنى ذلك أن الرجل التقي لله الساكن في موطن لا يجعل للأسباط يدًا إليه أي سببًا لأذيته كما أنها ذكرت في كتاب المولى وعلى جدران مقبرة (أمست) بمعنى ما جاءت به في العربية، فهي إذن عربية لوجودها في المصرية أيضًا، وقد خصصت في المصرية بإشارات مؤيدة لمعناها أي رسم بعدها رجل وامرأة مصحوبان بعلامة الجمع مما يثبت معنى الكلمة فهي إذن عربية لا محالة. 15- يصهر، في قوله تعالى:] يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [[5] (الحج: 20) أي ينضج، بلسان أهل المغرب، وقد بيّنا أن أهل المغرب هم (أعناء التحفو) وأن لغتهم لغة الأعناء وهي أصل اللغة العربية، فالكلمة إذن عربية وقد وردت في القاموس المحيط من مادة (صهر) يقال: صهرته الشمس، أي: صحرته، بالحاء بمعنى طبخته، وصهر الشيء: أذابه فانصهر فهو صهر، والصَّهر، بالفتح: الحار، والإذابة كالاصطهار إلخ. وقد وردت هذه المادة في المصرية بهذا المعنى، فهي إذن عربية. 16- مجوس، في قوله تعالى: {وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ} (الحج: 17) كلمة أعجمية فارسية تدل في الأصل على قبيلة من (ميديا) يظهر أنها كانت على دين تلك البلاد ثم التي كانت تعبد النار فاشتهرت هذه الديانة بعدئذ باسم مجوس، ثم أطلق اسم المجوس على كهنة الديانة المجوسية وأطلقه من بعدهم العرب على الديانة المزدية وكان للمجوس مدن خاصة لهم منها (أكتبان) وهي مدينة في نهاية حدود الفرس، هذا وإن أصحاب الإسكندر أدركوا المجوس وهم بوظائف كهنوتية، ومن المحتمل أن تكون (مجوس) من أصل طوراني دخلت في كلدة وعلى كل حال فهي اسم علم لا يتغير، ذُكر في القرآن الشريف بلفظه فتأمل. 17- بِيَع، بيع مفردها: بَيعة، ذُكرت في قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} (الحج: 40) قال الشيخ رحمه الله: البيعة فارسية مصرية اهـ. أما البَيْعة فهي من: بايعه مبايعة: إذا شرط معه على شيء أو اتفق معه على أمر أو سلم له في أمر أو اعترف له بالرئاسة والولاية، فالبيعة محل الاعتراف بأداء الفرائض الدينية من عبادة وصلاة، فهي كالمسجد أو الجامع من حيث أداء الصلوات فيها، وقد ذكرت في المصرية (بيعا) وذلك في ورق أبوت المؤشر عليها بعدد 10221 وهي المحفوظة في متحف إنكلترا، وفسرها الأثريون بالجبانة ولكني أصرفها إلى معنى المعبد كما يفهم من سياق الكلام في الورقة المذكورة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد كمال

القياس في اللغة العربية ـ 2

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ القياس في اللغة العربية (2) المقالة الثانية في قياس التمثيل ذكرت فيما سلف أني أريد بقياس التمثيل إلحاق نوع من الكلم بنوع آخر في حكم، وهو ما يعنيه بعض النحاة في قولهم: إن اللغة لا تثبت بالقياس. يأخذ النحاة بقياس التمثيل لإثبات أصل الحكم، وكثيرًا ما يرجعون إليه في تأييد المذهب بعد بنائه على السماع، وهذا أبو حيان الذي هو أشد النحاة وقوفًا عند حد السماع وأسرعهم إلى محاربة من يعول على هذا الفن من القياس - قد ينظر إليه في بعض الأحيان، كما قال: إن الناصب لـ (إذا) فِعل شرطها؛ قياسًا على سائر أدوات الشرط، وقال في سياق الكلام على الجملة المنفية حين تقع حالاً: والمنفية بـ (أن) ، لا أحفظه من كلام العرب، والقياس يقتضي جوابًا نحو: جاء زيد إن يدري كيف الطريق، قياسًا على وقوعه خبرًا في حديث: (فظل إن يدري كم صلى) . ويدور البحث في هذا المطلب على تحقيق المقتضي للقياس ثم شروط صحته. المقتضي للقياس يقيس النحاة بعض أنواع الكلم على بعض إذا انعقد بينهما شبه في المعنى أو في اللفظ أو في العمل أو اشتراكًا في العلة التي يقع في ظنهم أن الحكم قائم عليها. والعلل التي يقول الباحثون في العربية أن العرب راعتها وبنت عليها إحكام ألفاظها ترجع إلى قسمين: (أحدهما) ما يقرب مأخذه ويتلقاه النظر بالقبول كما وجهوا تحريك بعض الحروف الساكنة بالتخلص من التقاء الساكنين وعللوا حذف أحد الحرفين المتماثلين بطلب الخفة. (ثانيهما) ما يكون من قبيل الفرضيات التي لا تستطيع أن تردها على قائلها كما أنك لا تضعها بمحل العلم أو الظن القريب منه، وهذا كما قالوا في وجه بناء (قبل وبعد) إذا قُطِعا عن الإضافة لفظًا (أنها شابهت الحرف في احتياجها إلى معنى المحذوف، فإذا قلت: إن العلة عند ذكر المضاف إليه ثابتة، فلماذا لم يرتبط بها أثرها وهو حكم البناء؟ قالوا: ظهور الإضافة التي هي من خواص الأسماء أبعدها عن شبه الحرف فعادت إلى أصلها الذي هو الإعراب، فإن قلت: ما بالهم بنوا (أي) الموصولة فيما إذا أضافوها في اللفظ وحذفوا صدر صلتها؟ أجابوك بأنهم أنزلوا المضاف إليه منزلة صدر الصلة فصار في حكم المقطوع عن الإضافة، ولا يسعك بعد هذا إلا أن تنفض ثوبك من غبار هذه المجادلة وتنفصل عنها وليس في يدك أثارة من علم، وقد ذكر أبو حيان تعاليلهم لاختصاص ضمير المتكلم بالضم وضمير المخاطب بالفتح وضمير المخاطبة بالكسر، ثم قال: هذه التعاليل لا يحتاج إليها لأنها تعليل وضعيات، والوضعيات لا تعلل. والذي نبني عليه البحث في هذا الباب ما كان من قبيل القسم الأول إذ هو الذي تستقيم معه الأقيسة الصحيحة. شروط صحة القياس إذا تتبعنا ما يتشبث به القادحون في مسائل هذا الضرب من القياس رأيناه يدور على ثلاثة وجوه: (أحدها) بيان الفرق بين المقيس والمقيس عليه. (ثانيها) الاختلاف في حكم المقيس عليه. (ثالثها) مخالفة حكم المقيس عليه للأصول. فالقياس مع الفارق كما أجاز بعضهم تقديم الفعل المنفي بـ (لن) قائلاً: إن (لن أضرب) نفي لـ (سأضرب) فكما جاز: زيدًا سأضرب، زيدًا لن أضرب، وما كان من المنكرين لهذا القياس سوى أن تعرضوا للتفريق بين (السين ولن) بأن حرف النفي يقتضي الصدارة في الجملة التي يدخلها، وذلك معنى يمتاز به دون حرف التنفيس. والقياس على المختلف فيه، كما ألحق الكوفيون فعل التعجب بأفعل التفضيل في جواز بنائه من لوني البياض والسواد، وقد رده البصريون بأنه قياس على مختلف فيه؛ إذ هم لا يوافقون على صوغ اسم التفضيل من الألوان وكأنهم نَحَوا في هذا المبحث منحى القياس الفقهي، وقد ذهب فريق من الأصوليين إلى صحة القياس على المختلف فيه؛ لأنه وإن لم يكن دليلاً مُسلَّمًا عند المخالف يصلح أن يكون مستندًا لمن يتقرر عنده حكم الأصل بحجة راجحة. والقياس على ما خالف القياس - كما قال الكسائي - لا يقتصر في الظروف الواردة أسماء أفعال نحو (عليك وإليك) على ما ورد في الرواية، بل يجوز أن يقاس عليها غيرها مما لم يرد به سماع، وطعن البصريون في هذا المذهب بأن تلك الظروف وقعت موقع الأسماء على خلاف أصلها، وما جاء على خلاف الأصول لا يصح القياس عليه بحال، وأجاز ابن مالك جمع (حم) بالواو والنون، مع اعترافه بأنه لم يُسمع، فقال أبو حيان: إن إجازته لذلك إنما هو بالقياس على (أب) وينبغي أن يمتنع لأن جمع (أب) وارد على وجه الشذوذ، فلا يصح القياس عليه. والتحقيق أن الأصول التي يجيء الحكم على خلافها تتفاوت في القوة والضعف، فالأصل الذي يمنع من الزيادة - وهو أن الألفاظ إنما وضعت لإفادة المعاني - أقوى من الأصل الذي يمنع من تقديم المعمول على العامل، ولهذا كانت مخالفة العرب لقانون تقديم العامل أكثر من مخالفتهم لقانون المنع من الزيادة، فيترجح امتناع زيادة (كان) في صدر الكلام أو آخره قياسًا على زيادتها في الوسط، وليس من البعيد جواز تقديم الخبر في باب (زال) الناسخة؛ قياسًا على تقديم المعمول الثابت على خلاف القياس. *** المقالة الثالثة في المباحث المشتركة القياس في الاتصال خصت العرب بعض الأدوات بالدخول على أنواع من الكلم لا تتجاوزها، مثل الأسماء تختص بحروف الجر والنداء، والمضارع يختص بنحو (لم وكي) وأبقت بعضها دائرًا بين نوعين نحو (هل وهمزة الاستفهام) يوصلان بالأسماء والأفعال، و (أن ولو) الشرطيتين يدخلان على الأفعال الماضية والمستقبلة، فإذا وردت كلمة من أمثال هذه الأدوات مقرونة بنوع خاص من الكلم فليس لنا أن نخرج به عن دائرة السماع، ومثال هذا (لما) الحينية إنما جاءت موصولة بالفعل الماضي فلا يسوغ لنا أن نلصق بها فعلاً مضارعًا كما صنع ابن أبي حجة في قوله: والنبت يضبطها بشكل معرب ... لما يزيد الطير في التلحين وإذا دارت الكلمة في كلام العرب بصورة المضاف ولم تأت في الرواية موصولة بـ (ال) المعرفة قط، فليس لنا أن نقطعها عن الإضافة ونصلها بأداة التعريف مثل لفظ (كل وبعض وغير) . فإن قال قائل: إن هذا الحجر يقتضي أن لا تدخل ال على اسم إلا إذا سمع اتصالها به في الفصيح من كلام العرب، ومن المتعذر أن يتتبع واضع القاعدة جميع الأسماء العربية ليتحقق هل نطقوا بها مقرونة بـ (ال) أم لا، فالجواب أنَّا لا ندَّعي أن هذه الكلمات لم يستثنها النحاة إلا بعد أن أتوا على جميع المفردات مفردًا مفردًا، وإنما جاء استثناؤها من جهة أنها دائرة على ألسنة الفصحاء بكثرة حتى لا تكاد تمر بقصيدة أو خطبة أو محاورة دون أن يعترضك شيء منها، فعدم استعمالها موصولة بأداة التعريف مع إيرادهم لها في جل مخاطباتهم - دليل على أنهم التزموا قطعها عن هذه الأداة، ولا يسوغ لنا إلحاق الكلمة بأشباهها متى شهد الاستعمال بعدم إجرائها على القاعدة. وعلى هذا التحرير يجري القول في الأسماء التي قصروها على حالة كالألفاظ التي قال صاحب (إصلاح المنطق) وغيره أنها لا تستعمل إلا في سياق النفي، وهي (أحد وعريب وديار) وأخواتها، وينتظم في هذا الصدد الأسماء المختصة بالإضافة إلى المضمرات كـ (وحد) ولبي ودوالي وسعدي) . وصفوة المقال أن الكلمة إذا وردت مقرونة بلفظ معين أو نوع خاص فلا بد من النظر في حال استعمالها فإن كثر دورانها في أقوال الفصحاء وغيرهم، ولم يعدلوا عن وصلها بذلك اللفظ المعين أو النوع الخاص - وقفنا عند استعمالهم ولا يسعنا الخروج عن حالتها في الرواية، وإذا لم تكن شائعة في فنون المخاطبات، فإنه يسوغ لنا أن نتصرف فيها فنقرنها بغير ذلك اللفظ ونتعدى بها مكان الرواية حيث لم يقم الدليل وهو كثرة تقلبها في ألسنتهم على قصد اختصاصها بهذا الاقتران. ومن أمثلة هذا أنه ورد اتصال هاء التنبيه بالضمير المخبر عنه باسم إشارة، فرأى ابن هشام أن الأمثلة الواردة بهذا الأسلوب قد بلغت في الكثرة إلى أن يؤخذ منها التزامهم في خبر الضمير أن يكون اسم إشارة فأوجب في خبر الضمير المقرون بحرف التنبيه أن يكون اسم إشارة اتباعًا للاستعمال. ويدخل في هذا القبيل قولهم: (ليس غير) قال ابن هشام: إن (غير) المبنية على الضم إنما تستعمل متصلة بـ (ليس) وقولهم: (لا غير) لحن، ومن عَدَّ هذا الاستعمال في جملة الصحيح، فقد ظفر في كلام العرب بما يشهد بصحته وهو قول الشاعر: جوابًا به تنجو اعتمد فوربنا ... لعن عمل أسلفت لا غير تسأل وإذا وردت الكلمة متصلة بنوع من الأسماء ورودًا لا يحيط به استقصاء، صح أن يكون اتصالها بذلك النوع مقيسًا، كتاء التأنيث تتصل باسم الفاعل واسم المفعول والصفة المشبهة والمنسوب على وجه القياس، ولم يبلغ اتصالها بالأسماء الجامدة هذا المبلغ فوقفوا فيها عند حد السماع كـ (ظبي) وظبية وامرئ وامرأة) فلا تقول (إنسانة) في مؤنث إنسان، إلا إذا نُقل إليك لفظه في شاهد صحيح، كما سمع (القة) للمؤنث من القرود، ولا يقال في مذكرها (الق) حيث لم يعثروا على نقل يشهد بصحة استعماله. ولهذا الأصل أنكر الصفدي قولهم للظبية (غزالة) مع ورود (غزال) للمذكر؛ لأنه لم يثبت عنده برواية، وما خالفه الدماميني في ذلك إلا بعد وقوفه على شواهد من كلام العرب تقتضي صحة استعمالها. القياس في الترتيب إذا كانت إحدى الكلمتين تابعة للأخرى من جهة المعنى فالتناسب الطبيعي يقتضي أن تذكر عقبها في التلفظ، ومن ثم قرروا في أصولهم أن المتبوع يتقدم على التابع، والمستثنى منه يتقدم على المستثنى، والمميز يتقدم على التمييز، وصاحب الحال يتقدم على نفس الحال. فمن أباح تقديم الكلمة التابعة فإنما تقبل دعواه متى كانت مصحوبة بدليل، فالكوفيون مثلاً أجازوا تقديم المعطوف على المعطوف عليه، والكسائي والمبرد سوَّغا تقديم التمييز على عامله، والفرَّاء والأخفش ذهبا إلى صحة تقديم الحال على عاملها الظرف أو الجار والمجرور، وابن برهان وابن كيسان أباحا تقديم الحال على صاحبها المجرور بحرف، وما أجازوا هذه القضايا التي يحكم الأصل بمنعها إلا باستنادهم إلى شواهد رأوها كافية في تقرير ما ذهبوا إليه. ومن فروع هذا الأصل أن لا يتقدم الضمير على معاده ويستثنى من ذلك مواضع، بعضها عقدوا عليه الاتفاق كضمير الشأن، ومنها ما اختلفوا فيه كالضمير العائد على المفعول به. والأصل في محل الاختلاف بيد من لا يجيز عوده على المتأخر عنه في نظم العبارة إلى أن يقيم المخالف شاهده الصحيح. أجاز الأخفش وأبو الفتح عود الضمير المتصل بفاعل مقدم إلى مفعول تأخر وأقاما على ذلك شواهد، مثل قول حسان: ولو أن مجدًا أخلد الدهر صاحبًا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعمًا ومنعه الجمهور في حال السعة وحملوا تلك الشواهد على الشذوذ أو الضرورة ومنزعهم في عدم قبول هذه الشواهد أنها جاءت على خلاف الأصل، وما يرد على خلاف الأصل لا يجعل مقيسًا إلا حيث تكثر شواهده حتى تدل على قصد العرب لاطراده. ومما يتناوله الأصل المومأ إليه أن المستثنى أُخرج من المستثنى منه ثم نسب الحكم إلى بقية الأفراد فكان المستثنى في الظاهر مخرجًا من الحكم أيضًا ومرتبة المخرج متأخرة عن مرتبة المخرج منه، فكان موقع المستثنى بعد اللفظ بالحكم والمستثنى منه، ولكن كثر في الاستعمال تقدمه على المستثنى منه نحو: جاءني إلا زيدًا القوم، أو على الحكم فقط، نحو: القوم إلا زيدًا إخوتك، فبقيت مسألة تقدمه عليهما معًا على أصل المنع، وقد جوّزها الكوفيون قياسًا، والحق أن مخالفة الأصل بكل واح

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 1

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة [*] (1) مقدمة سيدي نابغة المسلمين: دعاني إلى ترجمة الكتاب المسمَّى (من الخرافات إلى الحقيقة) الذي ألفه من قبل (م. شمس الدين) باللغة التركية - داعيان مستقلان: 1- قلة الأشغال. 2- الألم الذي يستولي عليَّ حينما أرى حالة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - كأنها تدين بدين غير الإسلام. أما قلة الأشغال: فإنه منذ زالت الحكومة الإسلامية إلى الآن من هذه البلاد (فلسطين) نزعت الوظائف السياسية والإدارية من يدنا معشر الشببة [1] المتعلمين من المسلمين، إلى النصارى ثم إلى اليهود، وبقينا بغير أعمال، فاشتغل بعضنا بالتجارة وبعضنا بغيرها واشتغل هذا العاجز بالترجمة والتأليف، هذا هو الداعي الأول. وأما حالة المسلمين وما تحدثه من الآلام فإنني لا أتصور مسلمًا يرى الهوة السحيقة التي يتدحرج فيها المسلمون ويسمع أنين هذه الكتلة البشرية ويسعه السكوت على ما يرى ويسمع، بل لا بد أن يتفجر في دماغه الذي هو معكس لصوت ذلك الأنين طوفان آلام يدفعه إلى عمل شيء ينفع به هذه الأمة. إن المسلمين الذين قضوا وقتًا طويلاً وهم يحكمون في العالم فيطاعون، ويسودون الأمم إدارة وعلمًا واقتصادًا فيتبعون، هم الآن ذليلون مهانون، يئنون تحت ضربات حكامهم الغرباء وطنًا ولغة ودينًا. إن العالم الإسلامي الذي كان يمطر على المسكونة مهابة وشرفًا قد انحنى وانزوى وغاب عن الأبصار، إن المسلمين الذين كان العالم يهتز طربًا أو اضطرابًا من صوتهم أمسوا اليوم مسودين مسوقين أُسراء. إن المدن الإسلامية التي كانت مرايا للرقي والحضارة بات البوم يعشش فيها، والمسلمون الذين كانوا يبارزون القوى الطبيعية أصبحوا اليوم يخافون من ظلهم، وأخذوا يتدحرجون في مهاوي الأوهام، بل أقول: إن ديار الإسلام أمست مقابر، والمسلمون فيها جنائز، ولا بد لهذا السقوط العام من مؤثر عام، إن هذا المرض المستولي على مسلمي آسية وأوربة وإفريقية والأوقيانوسية يبدي للناظر أعراضًا متشابهة وهذا ما حمل العقلاء على أن يقولوا: إن منشأ المرض شيء واحد ما دامت الأمة المسودة التي تئن تحت عوامل السيادة الأجنبية هي أمة واحدة، أمة محمد، صلى الله عليه وسلم. عجبًا ما ذاك العامل الذي رفع أمة عيسى وهبط بأمة محمد؟! ما ذلك الدَّرَج الذي صعدت عليه أمة عيسى حتى استوت على عرش الحكم؟ وما ذلك الدَّرَك الذي تحدرت فيه أمة محمد حتى وصلت إلى هذا المكان السحيق مكان المستعبد الخانع، مكان المسود التابع، مكان الأسير الخاضع؟ إن الرابطة التي تربط ثلاثمائة مليون ونيفًا من المسلمين هي (الدين) وبهذه الرابطة ملك المسلمون - أمراء اليوم سادة الأمس - أقاليم مختلفة، ثم عفت سلطنتهم في تلك الأقاليم شيئًا فشيئًا حتى انحصرت اليوم في الأناضول، ألا يوجد اليوم إقليم غير الأناضول لا يدين ويخضع لهؤلاء الفرنجة بل يسن قوانينه بدون استشارتهم وينفذها بنجوة من سيطرتهم [2] ؟ لا مراء في أن الدين الإسلامي قد كان هو السبب لتعالي المسلمين، فهل يمكن أن يكون سبب الرقي والصعود، هو بعينه سبب التدهور والسقوط؟ لا لا [3] بل الدين الذي كان سببًا لتعالي المسلمين هو غير الدين الذي هبط بهم اليوم إلى العبودية والذل، نعم إن بينهما - على الاشتراك في الاسم - فرقًا جليًّا وبونًا بعيدًا: كان المسلمون يحترمون الحقائق، وأما نحن فأسرى الخرافات. كان المسلمون أصحاب عقائد مستندة إلى العلم والنور وأما عقائدنا اليوم فمبنية على البدع والأوهام. إن هذا الكتاب لم يُكتب ويُجمع (ولم يُترجم) إلا لإراءة الفرق بين أجدادنا وبيننا ولأجل تصوير منشأ الخرافات الحاضرة. لا يسع عاقلاً مسلمًا يرى العالم الإسلامي يتدحرج في مهاوي الهلاك إلا أن يسعى لإنقاذه، وأول ما يخطر على باله هدم الخرافات وإقامة الحقائق محلها، وهذا لا يكون إلا بإحياء قواعد الدين الحقيقية التي رفعت المسلمين في القرون الأولى إلى سماء المجد، لأن الخرافات لا تحيي بل تذل ثم تميت. المسلمون اليوم أذلاء: لا جيش، لا أسطول، لا طيارات، لا معامل صناعة، لا مصارف مالية، لا سكك حديدية، لا علم ولا اختراع، لا سفراء ولا قناصل، وجملة القول: إنهم مجردون من كل ما يرفع النفس ويكون مدعاة الافتخار. لماذا؟ لأنهم غارقون في بحر من الخرافات. ربما كان هذا الكتاب سببًا لغضب الكثيرين الذين يصطادون في الماء العكر، ولكن المسلم الذي يرى الدين في تهلكة والأمة على شفير القبر، لا يقدر أن يسكت، ومن سكت فهو أسقط من مسببي هذا السقوط. فهذا هو السبب الثاني الذي دعاني إلى ترجمة الكتاب. وستكون مطالعتنا مؤيدة بآيات شريفة وبأحاديث منيفة منقولة من الجامع الصغير. إن من سنن الاجتماع التي لا تتبدل ولا تتغير أن الأمم التي تنزل من سماء الإقبال إلى حضيض الإدبار، ترى جميع حركات الأمم الحاكمة وسلطاتها حسنة معتدلة. مثال ذلك أن العالم المسيحي اليوم يجلس على عرش السلطة، والعالم الإسلامي يجلس على الأرض تحت كرسي ذلك الحاكم، وكل ما يخرج من مِلك الهلال يدخل في مِلك الصليب، والمسلمون لاهون يظن الجاهلون قصيرو النظر منهم أن سبب سقوطهم هو (الدين) والقصد من تأليف هذا الكتاب إبادة هذا الظن الباطل؛ لأن الإسلام من أسباب الرفعة والعلاء، لا السقوط والاستخذاء، وأما سبب إغلال مسلمي اليوم فهو خلط الإسلام النقي الصافي بخرافات الأولين. فإذا رجع المسلمون إلى (الدين الحق) كما هو فإنه ينفخ فيهم روح حياة جديدة وينجون من الاحتضار الواقع، وهذا لا يمكن إلا بترك الخرافات والتمسك بالحقائق، وهو موضوع هذا الكتاب. يتألف هذا الكتاب من 22 فصلاً [4] : 1- المستوى الفكري والاجتماعي في المحيط الذي ظهر الإسلام فيه. 2- الطور الأول للإسلام. 3- الضربة الأولى التي ضرب الإسلام بها. 4- المؤثرات التي زلزلت الوحدة الإسلامية. 5- تغلب روح الفرس على روح الإسلام. 6- كيف طرأ الفساد على الإسلام، ومن أحدث ذلك. 7- الفوضى الدينية والاجتماعية والسياسية وحزب القرامطة. 8- عصابة الدراويش الفوضويين الحشاشين. 9- عبدة الإمام علي. 10- مذهب الإسماعيلية. 11- الدروز والنصيرية. 12- الباطنية: الروافض والصوفية والبكتاشية. 13- أخوة المسلمين تحتاج لرفع النفور المذهبي. 14- الأحاديث الموضوعة. 15- كتب المواعظ. 16- عبادة الأموات. 17- الاعتقادات الباطلة. 18- ضرورة رجوع المسلمين إلى الطريق الأول. 19- أساس الإسلام الأول النظر التعقلي. 20- لا يكفر المسلم بسهولة. 21- لا يوجد تحكم ديني في الإسلامية. 22- النتيجة. هذه هي فصول الكتاب، وسنبذل الجهد لأن يكون كاشفًا لحقيقة المرض ومحتويًا على العلاج النافع والله المستعان. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نابلس ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي ((يتبع بمقال تالٍ))

الرحلة السورية الثانية ـ 7

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (7) الحالة السياسية والاحتلال في السواحل نكتب في هذا الفصل كلمة حق وما كل ما يُعلم يُكتب في مثل هذا الوقت؛ لأن الزمن الذي يلد التاريخ لا يدونه كما قال بعض حكماء الغرب ولأن الكلام في السياسة يراعى فيه مصالح كثيرة يقع التعارض فيها، فيرجح كل ناظر المتعارضات باجتهاده. قد اشترطت علينا السلطة الإنكليزية في إعطائنا جواز السفر إلى سورية شروطًا ثقيلة أشرنا إليها في الفصل الثاني من هذه الرحلة (ص 428 م21) خلاصتها أن نتحامى إحداث تهييج سياسي بالكتابة أو الخطابة فوفينا بالشرط واكتفينا من الإفادة والاستفادة أن نعرف حقيقة الحال ونقول ما نرى أنه الحق النافع للبلاد مع النصح للناس بما يجب عليهم من الاتفاق والاتحاد، والعلم والاقتصاد. أما أهل البلاد فقد كان التغاير بين المسلمين والنصارى منهم في السواحل بالغًا أشده، فالنصارى كانوا يرون أن مَلك البلاد سَلب من المسلمين وصار لهم بقوة فرنسة وحمايتها، والمسلمون يبكون أسى وحزنًا على الدولة العثمانية ويعلقون آمالهم بالأمير فيصل الذي ضمن لهم استقلال البلاد وجعلها دولة عربية بمساعدة بريطانية العظمى، فلهذا كانوا في منتهى النفور من الفرنسيس، وكان من هؤلاء من يتودد إليهم ويجتهد في استمالة زعمائهم وأصحاب المكانة منهم فلا يزيدهم ذلك إلا نفورًا منهم ومبالغة في التعلق بفيصل فيضطرهم ذلك إلى حصر ثقتهم بالنصارى ومن يتقرب إليهم ويتعلق لهم من طلاب المنفعة من المسلمين وإن كانوا لا نفوذ لهم ولا تأثير في أهل ملتهم، وقد فصلنا في الفصل السادس من هذه الرحلة ما أخطأ فيه كل من المسلمين والنصارى في هذا الأمر وما كان يجب على كل منهم من السعي إلى الاتفاق والاتحاد على مصلحة الوطن المشتركة، وما سعينا إليه قولاً وعملاً وكتابة في هذه السبيل وقد كان هذا السعي كله بعد اضطرار السلطة الفرنسية إياي إلى الإقامة في بيروت وفي طرابلس عدة أشهر بعد أن كنت عازمًا على أن أقيم فيهما عشرة أيام فقط. ذلك بأنني عقب إلمامي ببيروت (في 4 المحرم سنة 1338) قد أصابتني زكمة معوية فتأخرت عن زيارة طرابلس إلى 16 المحرم ولما أردت العودة منها إلى بيروت عرض لي تصدي السلطة الاحتلالية ما سأذكره بعد ذكر اجتماعي في بيروت بالمندوب الفرنسي السامي. مقابلة المندوب السامي مسيو جورج بيكو جاءني في يوم الإثنين (11 المحرم 17 أكتوبر سنة 1919) شرطي بيروتي وقال لي: إذا كنت تحب أن تقابل القومسير السامي مسيو جورج بيكو، فهو مستعد لمقابلتك بين الساعة التاسعة صباحًا والظهر في الدار التي كانت للوالي، فوعدت بالذهاب، وذهبت في الساعة العاشرة وقابلته فمكثت معه من الساعة الحادية عشرة إلى ما بعد الظهر فاحتفى بي وتلطف غاية التلطف ودار الحديث بيننا في ثلاث مسائل: (المسألة الأولى) : ما ينكره المسلمون من السلطة الفرنسية، سألني عن عهدي برؤية البلاد وكيف رأيت حال المسلمين اليوم؟ فقلت له: إن المسلمين على كونهم لم ينسوا ما انتابهم في آخر زمن الترك من الرزايا والمصائب يبكون عليهم، وإن لم تجف دموعهم من البكاء منهم؛ لأنهم يهانون في هذا الوقت حتى في دينهم، فأجاب بأنه وقع من رجالهم أغلاط كثيرة ينكرونها ولكنهم سيتلافونها، وأنه على ما ينويه من المساواة بين جميع الطوائف والملل في الوظائف وغيرها سيجتهد في مراعاة شعور المسلمين الديني بدقة وعناية تامة، وذكرت له أن أهم ما يهم المسلمين (كما يهم غيرهم أيضًا) جعل التعليم باللغة العربية وجعلها هي الرسمية وعدم تعرض السلطة للأوقاف وللتعليم الديني فوعد بذلك وعدًا مؤكدًا، وإنما ذكرت له هذا لأسمع منه ما يقوله فيه لا لاقتراح شيء عليه. (المسألة الثانية) : ما ينوون عمله في المنطقة الشرقية، سألته: هل تظل على حالها؟ فقال: لا بد من توحيد الإدارة في البلاد كلها ومن وجود المستشارين الفرنسيين في الداخل كالساحل إلا أن الاحتلال العسكري يبقى في الساحل فحسب. قلت: وهل يكون لسورية كلها حاكم واحد كالأمير فيصل أم تجعل قسمين لكل منهما أمير أو حاكم وطني عام؟ قال: لا بد من قسمة البلاد إلى عدة ولايات أو مقاطعات، ولا يعلم الآن كيف يكون ذلك لأنه يتوقف على ما يكون عليه الصلح مع الترك لأن البلاد لا تزال لهم (بلاد العدو المحتلة) . هذا ما قاله وهو أعلم بغرض حكومته على أنهم قسموا البلاد قبل الصلح مع الدولة فجعلوها بضع دول أكبرها وأخصها ما سموه (لبنان الكبير) . (المسألة الثالثة) : المقابلة والتنظير بين الفرنسيس والإنكليز والسياسة الحاضرة، وما ينتظر من التحول والانقلاب فيها، وقد أطلنا فيها ما لم نطل فيما قبلها. قال هو: إن الفرنسيس أرق طباعًا وألطف معاشرة من الإنكليز؛ فهم يحترمون الشرقيين وغيرهم ويقابلون أهل الفضل والمكانة بما هم أهل له من الحفاوة والإكرام، وأما الإنكليز فمتكبرون يزرون بأقدار الناس، أو ما هذا معناه. قلت: إن لطف الفرنسيس وحسن معاشرتهم وقربهم من الشرقيين في ذلك مشهور كشهرة الإنكليز بالجفوة والانكماش والعجب بأنفسهم، وإننا قد اختبرناهم في مصر فألفيناهم كما يقال عنهم إلا أن آدابهم جلية في معاشرة من يرضون معاشرته ولقاء من يودون لقاءه، ولكن ما جبلوا عليه من الترفع والعجب والأثرة، والطمع ومحاولة الانفراد بالسيادة سيبغضهم إلى جميع الأمم والشعوب ويؤلبها عليهم، وذكرت طمعهم في بلاد العرب والعجم والآستانة وما يقصدون من مد ظل سلطنتهم (إمبراطوريتهم) من الشطر الإفريقي من أفريقية والغربي من آسية إلى حدود الصين وسيادة سائر البحار وإزالة ملك الإسلام من الشرق، وجعل جميع الدول العظمى في أوربة عالة عليهم وتبعًا لهم في سياسة العالم (قلت) : حتى إنني لأتوقع مجيء يوم ترون فيه من مصلحتكم محالفة الألمان على الإنكليز!! فوافقني على آرائي في هذه الأمور بعد مناقشة في بعضها، وقال في توقع الانقلاب في سياسة الحلفاء: إنه محال أو غير بعيد، ولكننا الآن متفقون في كل شيء. وبهذه المناسبة ذكرت له خلاصة من مذكرتي التي أرسلتها إلى مستر لويد جورج في هذا الموضوع ليعلم أنني لم أقل له ما قلت في الإنكليز تقربًا إليه كما يفعل أنصارهم في سورية وإنما هو شيء قلته بل كتبته لأعظم رجال الإنكليز لأنني أعتقده وأعتقد أن استمرارهم على تقاليدهم السياسية القديمة شر لهم وأنه سيفضي إلى عداوة الأمم لهم والخلاف مع حلفائهم الذي اضطرهم إلى محالفتهم الخطر الألماني المهدِّد للفريقين المتأصل تعاديهما في بطون التاريخ وقد تجددت بينهما عداوة حسد المهضوم حقه في هذه المحالفة بكثرة خسارته للآخر الذي زاد ربحه على خسارته أضعافًا، ولم يرو غليل مطامعه، أعني عداوة اللاتين للإنكليز، وقد صرحت بهذا في مذكرتي للوزير البريطاني التي نوهت بذكرها في مقالة (الحقائق الجلية في المسألة العربية) وكان غرضي منها إقناعه بترك قسمة تراث الإسلام؛ لأنه لم يمت والاعتراف باستقلال العرب والترك والفرس وكذا مصر، ولا تزال الأيام تصدق بأحداثها كل ما كتبته في تلك المذكرة كما صدقت ما كتبته لهم فيما قبلها، ولكن جمود اللورد كرزون على سياسة الطمع القديمة والتعصب الديني والجنسي الذي يشاركه فيه مستر لويد جورج على مرونته وتقلبه - من أكبر أسباب ما تفاقم على إنكلترة من الكوارث السياسية وعجزها عن حل شيء منها. بعد هذه الاستطراد أقول: إنني لم أكن أحاول إقناع مسيو جورج بيكو برأيي لأجل عمل يرجى أن يأتي منه، كيف وقد كان هذا الكلام في أيام تنفيذ معاهدة 1916 التي وضعها هو وصديقه السير مارك سايكس بين الدولتين؟! وكانت والجنود البريطانية تخرج بذخائرها وسلاحها من سورية الشمالية كلها وتتركها للجيش الفرنسي بعد تنازع وقع بينهما في سبيل تنفيذها ظهر أثره في سورية كما ظهر في باريس ولندن حتى قال بعض دهاقين السياسة: إنها نُقضت نقضًا، ومنهم مسيو كلمنصو رئيس الوزارة الفرنسية لذلك العهد وكانت فرنسة يومئذ تريد أن تتخذ اتفاق الأحزاب السورية على طلب وحدة البلاد وسيلة لجعلها كلها تحت سيطرتها باسم الانتداب، فعارضتها السياسة الإنكليزية بحزب سوري تألف في مصر يطلب أن يكون الانتداب لحكومة الولايات المتحدة ويحمل الأمير فيصل لحزبه في الشام على طلب جعل الانتداب لإنكلترة وحدها، فإن لم يمكن فلها ثم لحكومة الولايات المتحدة الأمريكية إذا هي لم تقبل، وقد كان المظهر الأكبر لهذا التنازع بين السياستين في البلاد أيام إلمام الوفد الأمريكي بها لاستفتاء أهلها في مستقبلهم وفي اختيار الدولة المنتدبة. وفي السابع عشر من المحرم (12 أكتوبر) ذهبت من بيروت إلى طرابلس والقلمون في سيارة فأقمت فيهما ستة عشر يومًا طلبت في أثنائها من الحكومة إعادة وقف جامع القلمون إليَّ؛ إذ كنت الإمام والمتولي الشرعي لها وكانت إدارة الأوقاف تولت أمره منذ بضع سنين وحال انقطاع المواصلات بالحرب العامة دون مطالبتي إياها بإعادته إليَّ كما كان في عهد والدي - رحمه الله تعالى - فوافقت لجنة الأوقاف بطرابلس على إعادته، وقررت باتفاق الآراء أنني المتولي الشرعي وكتب مأمور الأوقاف بذلك إلى مدير أوقاف الولاية في بيروت فأزمعت الذهاب إلى بيروت لإتمام هذا الأمر الذي جرى لي فيه من العبر ومعرفة الخلل في الحكومة وأخلاق رجالها وسيرتهم ما يعلم به أن جل ما تشكو منه البلاد فهو من أهلها أو بمساعدتهم ويستحق أن يفرد له فصل خاص، وإنما كلامنا الآن في الحال السياسية. حادثة تَعَرُّض السلطة الفرنسية لنا في الثالث من صفر (28 أكتوبر) أخذت ورقة للسفر من طرابلس إلى بيروت في باخرة فرنسية تسافر من الميناء ليلاً وكنت في الميناء فأردت النزول إلى الباخرة فقيل لي إن السفر يتوقف على توقيع السلطة الفرنسية على جواز السفر- وهذا لم يكن من قبل - وكان من التسهيل غير المنتظر أن الشرطة وقّعت على الجواز إذ عرضه عليها من تبرع لذلك من معارفنا ومعارفهم، ولا أدري أكان في ذلك دخل متوخى أم لا، ولكننا لم نكد نضع متاعنا في الزورق مع متاع كثير من المسافرين إلا وفاجأنا الشرطة ففتحوا جميع صناديقي والأسفاط ومحفظة الورق ومحفظة النقود وبطائق الزيارة وفتشوا كل ذلك تفتيشًا دقيقًا لم يغفل فيه طيات الثياب ولا جيوبها ثم فتشوا جيوبي وأخذ شرطي جميع الأوراق ودعاني إلى الذهاب معه إلى إدارة المكس (الجمرك) فذهبنا وأعيد المتاع إلى حيث كان، وطفقوا هناك ينظرون في الأوراق نظرًا دقيقًا وكان جل عنايتهم وأشد دقتهم فيما ظنوا بجهلهم وغباوتهم أن فيه أسرارًا سياسية ينال مكتشفها أسنى الجوائز عند السلطة الفرنسية وهو فهرس وضعته للجزء الثامن من تفسير القرآن راعتهم أرقامه، فظنوا فيها الظنون على أنني أخبرت الباحث فيه بأنه فهرس لكتاب في التفسير، فقال: يمكن أن يكون كتب في أثنائه شيء سياسي! ! ولما طال هذا البحث استأذنت الشرطي في الذهاب إلى دار نسيبي الشيخ حسن الصفدي لأجل العشاء وصلاتي العشاءين وتغيير الثياب فأبى وقال: إن رئيسه (لبنان بك) أمر أن أبقى ثَم إلى أن يجيء هو من المدينة إلى الميناء. ثم في أثناء الساعة الثالثة بعد الغروب جاء شرطي (أوقومسير) اسمه (حنا) على ما أتذكر، وقال إن لبنان بك أرسله بالنيابة عنه ليأخذني إلى دار الحكومة في المدينة لأجل توقيفي فيها (التوقيف في عرف

انتشار علم السنة ومدرسة الدعوة والإرشاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتشار علم السنة ومدرسة الدعوة والإرشاد مجلة مسير (غربية) بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أحمد بن أحمد سلامة إلى حضرة صاحب الفضيلة الإمام الوارث لعلوم المرسلين، الباذل جهده في إبلاغ دين الله جميع العالمين ولم يدخر وسعًا في السعي وراء تحقيق إصلاح حال المسلمين، السيد محمد رشيد رضا الحسيني بلَّغه الله ما يتمناه ونتمناه لهذه الأمة المحمدية، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وعلى كل من والاكم في ذات الله، وبعد، فإنا نحمد الله إليكم الذي أيدكم بروح منه ووفقكم للقيام بتحرير منار الدين، حتى بلغ صوت الحق منه آذان القريبين والبعيدين، فأحيا الله به هنا وهناك نفوس المستعدين، وأقام به الحجة على المتخلفين والمعارضين، ممن سُموا بالعلماء والمتعلمين، ولقد فطن كثير من إخواننا في هذه الأيام إلى أن حال المعاهد الدينية الحاضرة في هذا القطر لا تغني أولادهم من التربية الحق شيئًا، ولا تجديهم نفعًا، إن لم تكن ضارة ومفسدة لاستعدادهم ومطفئة لنور الفطرة المودع في نفوسهم، فعمدوا من أجل ذلك إلى توليهم بأنفسهم تحفيظ متون أحاديث الأحكام بعد تمام حفظ القرآن بدلاً من متون الفقه التي وضعها المتأخرون حتى بلغ أن بعض التلاميذ من بلدنا الآن يحفظون فوق الألف حديث من بلوغ المرام وشروحه وبعضهم يحفظ طائفة من المنتقى للشيخ المجد. هذا إلى تنبيه أفهامهم وتوجيه أذهانهم إلى ما أودع الله في كتابه من التوحيد وما أقام من الآيات البينات عليه وأحكام العبادات وأسرارها المثَبِّتة له في النفوس وقد تبينا بالبحث أن كثيرًا من العلماء في كل معهد قد ولوا وجوههم شطر السنة تاركين التقليد جانبًا بعد أن علموا سيئ عاقبته بالدليل وهم يشكون مُر الشكوى مما عليه المعاهد، غير أن هذا كله وإن كان سادًّا مبشرًا لا يشفي عليلاً ولا يروي غليلاً من الإصلاح العام الذي أُنشئت له مدرسة الدعوة والإرشاد من قبل، وكان أول عمل لهذه الجماعة إقامة مدرسة الدعوة والإرشاد ففتحت أبوابها للعالمين، فأجاب دعوتها قليل من الناس، سنة الله في كل دعوة إلى الحق ولن تجد لسنة الله تبديلاً، غير أن هؤلاء الطالبين على قلتهم وقصر مدة شغل المدرسة قد أفادوا الناس فائدة كبرى لا يُستهان بها، فقد سمع نداءهم والحمد لله على اختلاف جهاتهم وتنائي ديارهم جماعات هم الآن متعارفون متزاورون، ولقد وعدتم - حفظكم الله تعالى - المرة بعد المرة أو فُهم من كلامكم في المنار هذا الوعد بإعادة مدرسة الدعوة والإرشاد، فكان ما فهمناه من هذا الوعد طمأنينة نفوسنا على مستقبل أولادنا، ولكن طال العهد على هذا وأيامه من آجالهم وآجالنا، فمتى يا صاحب الفضيلة يكون يوم تحقيقه؟ ولقد يغلب على ظننا أن أهل هذه البلاد ما علموا ولا شعروا بفائدة هذه المدرسة إلا بعد وقوف عملها وتعرف أخبار الثلاثة أو الأربعة الذين أخرجتهم هذه المدرسة كالأستاذ الشيخ أبي زيد والشيخ عبد الظاهر، وبعد أن عقد الحق صلة بينهم وبين كثير من المستعدين من العلماء والمتعلمين، فإن صح رأينا هذا قوي الأمل في تنبيه هذا المشروع من فترته، وإقالته من عثرته، فنناشدك الله والدين، والميثاق المأخوذ على المرسلين والوارثين، أن تقوموا أنتم ومن تبعكم بإحسان وتؤذنوا في الناس الأمراء وغير الأمراء، من أهل الخير والثراء، بوجوب إحياء هذه المشروع الذي لا غنى للمسلمين في جميع أقطار الأرض عنه، وإن في ذلك لنصرًا لدين الله، وقد وعد الله - ووعده الحق - بنصر من ينصره، وإن هذا لجهاد في الله، وقد وعد الله المجاهدين فيه أن يهديهم السبيل وأن يكون معهم، وأن هذا لإيفاء بعهد الله، ولقد وعد الله الموفين بعهده الإيفاء بعهدهم ولسنا نعلمك بشيء أنت تجهله نعوذ بالله، أو نذكرك بما غاب عنك نستغفر الله، وإنما هي نفثة المصدور وتروح المحزون لما عليه المسلمون، وإن كان لدى فضيلتكم ما يبشر بتحقيق الأمل قريبًا فتفضلوا به علينا، أثابكم الله وجزاكم عن المسلمين خير الجزاء، ويسلم عليكم وعلى من تبعكم بإحسان: تلميذكم العارف لكم حقكم، الشاهد بفضلكم، شيخنا الأستاذ سيد مصطفى الشريف. ... ... ... ... 25 ذي القعدة سنة 1339 ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه تلميذكم المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد أحمد سلامة (المنار) نحمد الله تعالى على توفيق المسلمين لإحياء علم السنة وحفظ الحديث والتفقه فيه حتى في القرى الصغيرة، ونسلم على أخينا الكاتب الغيور وأستاذه المصطفى لإفاضة نور السنة في ذلك الديجور. أما مدرسة الدعوة والإرشاد فهي كما قال أخونا الكاتب أفضل الوسائل لكل إصلاح إسلامي بحسب ما وصل إليه اجتهادنا ووافقنا عليه أرقى من عرفنا من عقلاء المسلمين وأهل الرأي فيهم من الأقطار المختلفة حتى إنني لقيت في أوربة بعض كبراء الدولة العثمانية من رجال جمعية الاتحاد والترقي وغيرهم فألفيتهم معترفين بما كان يرجى للدولة وللإسلام من هذه المدرسة لو أجيبت دعوتي إلى تأسيسها في الآستانة وآسفين لعدم التوفيق لذلك. وأما إعادة المدرسة فإنني عازم عليه ساعٍ له ولو بأن أستأجر مكانًا من مالي وأعيد فيه تلك الدروس التي كنت ألقيها وأكلف بعض الفضلاء من إخواني مساعدتي على ذلك بدروس أخرى ولو ليلاً، وأن أجعل فيها قسمًا أسميه دار الحديث للمساعدة على حفظ السنَّة والاستعانة بها على هداية القرآن، أنتظر بذلك الميسرة المرجوة ولست بيائس من إعادة الحكومة المصرية لإعانة المدرسة من أوقاف المسلمين الخيرية، ولاسيما إذا زالت السيطرة الأجنبية عنها أو ضعفت، ولعلي لو طلبت ذلك في هذه السنة لأجبت، ولكنني رأيت البلاد كلها في شغل شاغل بقضية البلاد السياسية عن كل شيء، ولكل شيء أجل لا يعدوه، وسيعرف أهل الغيرة الإسلامية بعد ذلك قدر هذه المدرسة فيساعدونها من كل قطر ولا سيما الهند ونجد. وليس الشيخ عبد الظاهر والشيخ محمد أبو زيد الذي كلف إصلاح مدارس جمعية الإصلاح والإرشاد في جاوه هما اللذان قد أخرجا من المدرسة وعنيا بالدعوة إلى الإصلاح والإرشاد مع اثنين آخرين كما قلتم، بل نشر طلابها الإصلاح في أقطار مختلفة، وقد نشر في الجزء التاسع من المنار ترجمة واحد منهم من أهل جاوه توفي فيها بقلم أخيه وكلاهما من تلاميذها، وإنني أنشر هنا جملاً من مكتوبات بعض طلابها من مسلمي الهند. كتاب من تلميذين من تلاميذ المدرسة بنصه وذلك عقب سفرهما من مصر منذ سنتين أستاذنا ومرشدنا السيد الإمام حجة الدين وفخر الإسلام، حفظه الله: بعد أداء واجبات التحية والاحترام، وصَلْنا بحمد الله إلى وطننا العزيز ولكنا لم نفرح كل الفرح؛ لأننا من الأسف لم نوفق لتقبيل يديكم عند مغادرتنا مصر وذلك ليس إلا للمصائب التي أحاطت بنا ذلك الحين وأقلقت بالنا واضطرتنا أن نسافر على ذلك الحال. وبعد وصولنا إلى الهند بقينا في بلدنا وقَصَرْنا أعمالنا على المواعظ في الاجتماعات الدينية لنستريح حينًا من وعثاء السفر - وها نحن (أولاء) تلاميذكم الثلاثة قد اجتمعنا لنخرج إلى ميدان العمل ونسير على طريقتكم المُثلى التي اقتبسناها من دروسكم ومحاضراتكم الثمينة في مدة قيامنا بمدرستكم الغرَّاء، وقد شرعنا في ترجمة بعض الكتب والمقالات النافعة ونحن مُصَمِّمون على أن لا نشتغل إلا في الأعمال العلمية الحرة، فأردنا أن نفتح مدرسة لتعليم اللغة العربية على طريقة العملية [1] ونصدر أيضًا مجلة عربية غير الهندية , إلخ. ولم ننس وصيتكم الأخيرة بجمع الكتب الأثرية القديمة، وقد عرضنا هذه الفكرة على المولى عبد الحي مدير مدرسة ندوة العلماء فاستحسنها ووعدنا بالمساعدة، - دمتم -. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الخاضعان ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عثمان ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله خدايار *** كتاب من تلميذ آخر من تلاميذ المدرسة بنصه هو الآن محرر جريدة (بيغام) أي البلاغ في كلكتة. أستاذي ومرشدي حجة الإسلام فخر المسلمين، السيد الإمام، مَتَّعنا اللهُ بطول بقائكم. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإني قد كنت كتبت إلى جنابكم العالي كتابين بعد مغادرتي من الحجاز [2] ولعلهما وصلا إليكم، ثم سكت طول هذه المدة لا لغفلة بل لأسباب لا تخفى على أحد، وكيف أرتكب جرم الغفلة والذهول وأنا لم أعقل ولم أعرف شيئًا إلا منكم، قدمت مصر وأنا في غياهب من الجهل فاقتبست من نوركم فصرت بصيرًا والحمد لله والمنة لكم. وأكبر شكر يستطيع التلميذ والمريد أن يشكر به أستاذه هو أن يحذو حذوه في الخير ويحيي طريقته وينشر آراءه ويهدي أمته بالهداية التي اهتدى بها، وإني يا مولاي ما برحت أسير على هذه الخطوة منذ قفولي إلى الهند، فما زلت أكتب المقالات العلمية والدينية في أكبر الجرائد الهندية ومجلاتها، وألقي الخطب في المجالس العامة، وبحمد الله يكون لها أكبر وقع عند الخاص والعام؛ لأن تلك الأفكار غريبة عنهم، مكبًّا في مطالعة علم الحديث [3] وقد قرأت الصحيح والموطأ في الحديث ومقدمة ابن الصلاح في أصوله على أكبر محدث في الهند الأستاذ أمير علي الذي انتقل في المايو الماضي [4] إلى رحمة ربه - رضي الله عنه - وقد كان - رحمه الله - كثيرًا ما يثني عليكم وعلى تفسيركم، وأنا الآن مُجِدٌ في إتقان فن الرجال، وإذا لم يمد الله سبحانه يد المعونة إليّ لا أنجح فيه؛ لأنه فن صعب بعيد المرام كما هو واضح لديكم، ومشتغل بالتأليف فقد ألفت إلى الآن ثلاثة كتب: كتابًا في سياحتي لمصر يحتوي على أكثر من ثلاثمائة صحيفة، وبعد أن يتم طبعه أقدمه إلى عتباتكم العالية، ويا ليت لو اطلعتم على ما فيه (لكنه بالهندية) وكتابًا في المولد النبوي وسينفع الناس إن شاء الله، وكتابًا جمعت فيه الأحاديث الصحيحة من الصحاح والموطأ لمالك والمسند لابن حنبل بعد مطالعة هذه الكتب والبحث في الأسانيد، وأنا مرسل إليكم فهرست عناوينه لتطلعوا عليه وترشدوني في أمر الكتاب [5] ، وسأنشره مع الترجمة، وكذلك شرعت في كتاب رابع أجمع فيه الألفاظ الحديثة التي تستعمل في الجرائد العربية ومجلاتها حتى يفهمها أهل الهند حق الفهم فإنهم إلى الآن لا يستفيدون من المطبوعات الحديثة لتلك الكلمات الدخيلة [6] وقد كنت استأذنت منكم لترجمة تفسير المنار ثم لم أتجرأ عليها لعدم إذنكم لي بها، وما راجعتكم ثانيًا؛ لأني منتظر صدور تفسير (بالهندية) لأبي الكلام آزاد منشئ الهلال لاعتقادي أنه إما أن يكون ترجمة لتفسيركم أو مقتبسًا منه، إلخ إلخ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم ... ... ... ... ... ... عبد الرزاق عبد الحميد الهندي ... ... ... ... ... ... ... 8 شوال سنة 37هـ

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار نطلب في أول جزء من كل مجلد من قرَّاء المنار إتحافنا بما يرونه منتقدًا فيه سواء كان بمخالفة الحق في بعض المسائل أو مخالفة المصلحة العامة التي نتوخاها في خدمتنا، ونُذكِّر في خاتمة آخر جزء من المجلد بذلك مشيرين إلى ما لم ننشره من النقد الشفوي أو غير الموجه إلى المنار. فنقول الآن في خاتمة هذا المجلد: إننا قد نشرنا كل ما كتب إلينا من النقد كالرد على ما نقلناه عن ابن قيم الجوزية - رحمه الله تعالى - في مسألة فناء النار وعدمه والخلود فيها ومعناه، ولم يهمل المنار شيئًا في هذا الباب مما كُتِبَ إليه، وأما النوع الآخر من النقد فليس لدينا منه إلا ما قاله بعض السوريين أو نشروه في بعض الجرائد ولم يرسلوه إلى المنار في موضوع مقال (الحقائق الجلية في المسألة العربية) التي نشرت في الجزء السادس، فقد استحسنها الجماهير في الأقطار الإسلامية المختلفة، حتى إن محرر جريدة (بيغام) الهندية الإسلامية التي تصدر في كلكته كتب إلينا بأنه ترجمها ونشرها في جريدتهم فنقلتها عنها (الجرائد الوطنية والهندية واستحسنها الناس كثيرًا) . انتقد ساطع بك الحصري في حديث دار بيننا وبينه مسألتين من المقالة وهو مطلع على ما جرى؛ لأنه كان وزير المعارف في الحكومة السورية ورسول الملك فيصل إلى الجنرال غورو في أثناء المفاوضة بينهما في أمر الإنذار المشهور. (الأولى) قولنا في الصفحة 469: قبلت الحكومة برياسة الملك فيصل جميع مطالب الجنرال غورو ومنها قبول الوصاية بلا شرط ولا قيد، فأصبحت بذلك ساقطة غير شرعية بقرار المؤتمر، (والثانية) قولنا فيها أيضًا: عظم الخطب على فيصل ووزرائه لما رأوا أنهم سلَّموا بقبول الوصاية مع تلك الشروط المخزية ليدفعوا الاحتلال عن دمشق ويبقوا فيها متمتعين في ظل الوصاية وخدمتها بما كانوا عليه بعد أن قالوا في عدم قبولها ما قالوا من المبالغات، فقال في الأولى: إن الوصاية كانت مقيدة بقيود معلومة لا تخفى عليكم، وفي الثانية: إن الوزراء وإن قرروا قبول شروط الجنرال غورو لم يكونوا يرجون أن يبقوا في الوزارة؛ لأن الجنرال طلب فيما طلبه من فيصل تأليف حكومة موالية لفرنسة. وقد تناقشنا في المسألتين ورغبت إليه أن يكتب انتقاده كتابة لأبين حقه من باطله وأعترف له بما فيه من الحق فإنني لا أكتب لغرض ولا هوى، بل لبيان الحق وخدمة الأمة، فإذا ظهر لي أن فيما كتبت ما يخالف ذلك اعترفت به ورجعت إلى الصواب الذي أقتنع به، ولكنه لم يكتب. وجوابي عن المسألة الأولى أن الجنرال غورو هو الذي قيد الوصاية في إنذاره بما عناه ساطع بك لا الحكومة السورية (الوزارة مع الملك) وهذه ترجمة الشرط أو الطلب الثالث من إنذاره: (3 - قبول حق وصاية فرنسة على سورية بحيث تكون حرية البلاد مضمونة، وبحيث لا يمس حق الوصاية المذكور ما للحكومة التي تنتخبها الأمة من السلطة، بل يكون محصورًا في المساعدة الودية خاليًا من كل غرض استعماري) . وأما المسألة الثانية فالذي أعلمه فيها أن إنذار الجنرال غورو لم يكن فيه طلب تغيير الوزارة وإنما الشرط أو المطلب الخامس منه عقاب جميع الذين أظهروا العداء لفرنسة، وكان الجنرال يتهم الحكومة بأنها تساعد العصابات التي تناوئ الاحتلال الفرنسي كما بينه في بعض أجوبته عما كتبه إليه فيصل بعد قبول الإنذار، ولعل طلب تأليف حكومة موالية كان من المطالب التي تجددت بعد قبول الإنذار، وكان ساطع بك الحصري هو الرسول بين فيصل وغورو فيها. والذي عَلِمناه من أمر تلك الوزارة أن بعض أعضائها كان معدودًا من المعادين لفرنسة كالمرحوم يوسف العظمة والدكتور شاهبندر، وبعضهم كان مواليًا لها كعلاء الدين بك الدروبي الذي عينه فيصل رئيسًا للوزارة الموالية بعد الاحتلال، وأما الآخرون فلم نعرف عنهم عداءً ولا ولاءً لفرنسة. ثم كتب رجل من دروز لبنان اسمه الدكتور سعيد طليع كان من أعضاء المؤتمر السوري العام بدمشق مقالة رد بل تهكم بمقال المنار ونشرها في جريدة الأهرام على إثر كلام أغضبه مني في الإسكندرية ظن خطأ أنني قصدت إهانته فيه، سبقه غضبات كانت في دمشق، بعضها في المؤتمر إذ تكرر أن منعته من الكلام في بعض المسائل منعًا قانونيًّا، فظن أنني تعمدت التحامل وتقديم غيره عليه وكنت أظن أنه نسيها؛ لأنني وكَّدت له القول بأن ظنه كان من الإثم، على أنه من شيعة الملك فيصل إذ لم يبلغني أن أحدًا من أعضاء المؤتمر ذهب إلى لقاء فيصل في اليوم الذي كان ينتظر أن يجيئه فيه جميع الأعضاء بمكتوبات خطية سرية يبينون فيها رأيهم في إنذار الجنرال غورو؛ لأن الدعوة بثت ليلاً وصباحًا بأن لا يكتب إليه أحد، وقد جاءني الدكتور طليع هذا بعد ذلك اليوم الموعود إلى الدار بدمشق، وكان من أكثر الأعضاء مودة لي، وأخبرني أنه كان عند الملك وأنه وجده مُستاء جدًّا؛ لأنه كان منتظرًا من أول النهار إقبال أعضاء المؤتمر عليه بما وعدوا من الكتابة إليه بآرائهم ولم يجئ أحد ولا الرئيس الذي كان يجيء في مثل هذا اليوم عادة (وهو يوم أحد) وقال الدكتور طليع إنه ينتظر ذهابك إليه فيحسن أن تذهب وتسليه، فقلت: حقًّا إنني بعد اشتغالي برياسة المؤتمر قصرت زيارتي له على يومي الجمعة والأحد لعدم عقد الجلسات العامة فيهما (وكنت أزوره صباح كل يوم) ولكنني بعد أن رأيت منه ما رأيت من احتقار الأمة عزمت على ألاَّ أزوره إلا بدعوة رسمية. وإذ نحن في الحديث جاءني رسوله يقول: إن جلالة الملك ينتظرك، فذهبت إليه فرأيته واجمًا مغمومًا، وسألني: ما بال أعضاء المؤتمر قد أخلفوا موعدي ولم يأتوني بآرائهم في الأزمة الحاضرة مكتوبة، وقد ظللت منتظرًا لهم النهار بطوله؟ قلت: إنني علمت منذ خرجنا من هنا أنهم عازمون على عدم إجابة اقتراحكم الذي ساءهم جدًّا؛ لأنهم عدوه متضمنًا للطعن فيهم بالجبن والمداهنة للعامة فيما يبدونه في المؤتمر، قال: لكنهم أظهروا استحسان الاقتراح وقبوله، قلت: إن الجمهور سكتوا واجمين، وإنما صفق واحد منهم للاقتراح، ولما خرجوا صاروا يتناجون بينهم بأن هذه مكيدة يُراد إيقاعهم بها ويتواصون بعدم الوقوع في شَرَكها. والظاهر أنه لم يذهب إليه إلا الدكتور سعيد بك طليع وأنه لم يذهب إليه إلا وقد كتب إليه ما يحب وهو إجابة الجنرال غورو بقبول إنذاره. لم يكن ما كتبه الدكتور طليع بالذي يستحق أن يعنى به ويرد عليه؛ لأنه دعاوى زور وإفك وبهتان اختلق ليبنى عليه ما يشفي غيظ الكاتب من التهكم والإزراء، ويتقرب به إلى أولئك الملوك والأمراء، وليس نقدًا صحيحًا ولا قصد به بيان حقيقة، ولذلك نشر في جريدة يومية سياسية ولم يرسل إلى المنار. وإنني مع ذلك قد رددت عليه ونشرت الرد في جريدة الأهرام لغرضين، أهمهما إطلاع من لا يقرأ المنار من قُرَّاء الأهرام على حقيقة المسألة العربية التي يهتم جميع المسلمين وكثير من سائر الشعوب بأمرها، ولذلك نشرت مقالتنا جرائد الهند الإسلامية والإنكليزية والوثنية، وثانيهما إعلام من ذكر من قرَّاء الأهرام بما افتراه الكاتب على المنار، وقرَّاء المنار في غنى عن ذلك. على أنني ألخص تلك الدعاوى والأكاذيب فأقول: (أولها) : إنكار قولي أنه لم يوجد في الأمة العربية في فرصة هذه الحرب زعماء يجمعون كلمتها ويوحدون قواها لحفظ استقلالها كما وجد في الترك مصطفى كمال باشا وأنصاره من كبار القواد والسياسيين ودعواه: (أن الزعامة الطبيعية توفرت في جلالة الملك حسين إلخ. (ثانيها) : افتراؤه عليّ بأنني قلت: إنني أشرت على الملك حسين بأن يحارب الاتحاديين، وقد سبق للمنار ذكر هذه الفرية في الرد على جريدة القبلة من الجزء التاسع بعد الرد عليها في الأهرام منذ أشهر. (ثالثها) : عبارة كاذبة بنى عليها استنكار تصريح المنار بالرواية التي صرح بها بشأن امتناع الملك حسين من قبول مشروع اتفاق أمراء جزيرة العرب. (رابعها) : زعمه أنني قلت: كنت في دمشق ثاني الملك وصاحب النفوذ الأعلى وأنني كنت أنصب الوزراء وأعزلهم، استنبط هذا مما ذكرته في مسألة المرحوم يوسف العظمة وجَعَله حقيقة واقعة لأجل التهكم الذي أراده، وقراء المنار يعلمون ما قلنا في ذلك. (خامسها) : قوله: ويقول أيضًا: إنه هو الذي أقنع المؤتمر السوري بأن يقلع عن فكرة وضع الحكومة بيد دكتاتور. وقراء المنار يعلمون أنني لم أقل هذا وإنما قلت: كان بعض الأعضاء يريد عدم امتثال أمر الملك بتأجيل اجتماع المؤتمر فأقنعتهم بأن هذا خير للمؤتمر، وقد أوضحت هذا في الأهرام ببيان أن بعض أعضاء المؤتمر طلبوا مني الإذن بالكلام والخطابة بعد تلاوة أمر الملك المذكور، فلم آذن لأحد منهم ونزلت عن كرسي الرياسة تنفيذًا للأمر وعدم جعله موضوعًا للمناقشة، وإن بعض هؤلاء كلموني مع غيرهم فيما كانوا يرون من عدم امتثال الأمر فأقنعتهم بما ذكرت، وأزيد الآن أنني لو سمحت لأعضاء المؤتمر بأن يتكلموا في موضوع الأمر ويلقوا فيه الخطب لكانت خطبهم أشد مما كانت في الجلسة السرية التي عقدوها قبل ذلك إذ كان التهيج والسخط على الحكومة والملك فيصل بالغين حد الإفراط، وكان الشعب أشد تهيجًا وهو مستعد لاتباع كل ما يقرره المؤتمر، وإذًا لوقعت ثورة داخلية تكون عاقبتها اتهام المؤتمر بأنه هو المضيع لاستقلال البلاد. (سادسها) : الاحتجاج على ما وصفت به أمراء مكة بأنني أثنيت مرة على الملك فيصل، وقد أبهم هذا الثناء بما يوهم أنه ثناء بالكفاءة للزعامة وإنقاذ الأمة العربية. والحقيقة أن ما أشار إليه كان ردًّا على ثناء الملك على أعضاء المؤتمر بإجابتهم دعوته إلى مأدبة رمضان بأنه هو المحسن في الدعوة وفي الشكر على قبولها، فهو أحق بأن يثنى عليه، ولو أُجلَّ عن شكر الصنيعة محسن لأجللناه كما قال ابن الجهم. (سابعها) : إنكاره ما سمَّاه دعوة للفرنسيس بأن لا يعادوا الأمة العربية في بيت ملك الحجاز، وأنا ما دعوتهم إلى ذلك دعوة كما زعم، وإنما بينت لهم خطأهم والخطب سهل. (ثامنها) : زعمه أنني قلت: إن جلالة الملك حسين وافق على معاهدة سايكس وبيكو واستدل على رد هذا بعدم تصديقه على معاهدة فرساي، قال: (لتضمنها المادة 22 من عهد عصبة الأمم) وقد رددت عليه في الأهرام، وقرَّاء المنار يعلمون أنني لم أقل من عندي: إنه صدَّق على معاهدة 1916 وإنما رويت روايات فيها عمن سمعوا بآذانهم من السر مارك سايكس ورأوا بأعينهم كتاب جلالة الملك إلى نجله الأمير فيصل، وأطلت في ذلك بما لا حاجة إلى ذكره هنا؛ لأننا نريد إقفال هذا الباب الآن لا كثرة الدخول فيه والخروج منه. علاقتنا بأسرة ملك الحجاز وليعلم القراء أنني لم أكتب قط كتابة من شأنها أن يسوء الحقُ فيها أحدًا من الناس ويؤلمه، وأنا متألم وخجل من مساءته كالذي كتبته في المسألة العربية عالمًا بأنه يؤلم الملك حسينًا وأولاده لأنني عرفت منهم الأمير عبد الله أولاً والأمير زيدًا والأمير فالملك فيصل أخيرًا، ووالدهم فيما بين ذلك فلم أشكُ من معاملتهم لي قولاً ولا فعلاً، بل كنت معجبًا أشد الإعجاب بآدابهم العالية وقد أكرم مثواي الكبير في الحجاز وأضافني مع من كان معي من نساء ورجال أحسن الضيافة كما يعلم من تنويهي به وشكري له في رحلة الحجاز من المنار، وإني لأعلم أن منع المنار بتلك العبارة الخشنة قد كان بدسيسة. وكان يسهل عليّ تلافي ذلك كما اقترح علي بعض ر

خاتمة المجلد الثاني والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الثاني والعشرين بسم الله وبحمده أختتم المجلد الثاني والعشرين من المنار كما افتتحته باسمه وبحمده فهو به وله منه وإليه، ولا حول ولا قوة إلا به. بفضله تعالى أعدنا أجزاء المنار إلى حجمها السابق الذي انتقصت منه رزايا الحرب وطبعناه على ورق أقوى وأنظف وأغلى من ورقه الأول، فثمنه يزيد على الثمن الذي كان قبل الحرب خمسة أضعاف وتوسعنا في مباحثه ومسائله، عملنا كل ما أقدرنا الله تعالى عليه فعسى الله أن يوفق سبحانه قرَّاءَه إلى أن يقوموا بما يجب عليهم من أداء حقه، فلا يزال الكثيرون من أهل الوفاء منهم يرجئون دفع القيمة إلى انتهاء السنة واستيفاء أجزاء كل مجلد كاملة، ولا يزال الكثيرون من غيرهم مدينين باشتراك عدة سنين، يلوون ويمطلون، وهم أغنياء واجدون، ويندر أن يوجد فيهم من يستبيح هذا الجرم ويستحل أن يصدق عليه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (مطل الغني ظلم) متفق عليه، ولكنهم غافلون حتى عن أنفسهم فلا يفكرون في نفقات العمل من أين تأتي إذا كان جميع المشتركين أو أكثرهم مطل ولا يرضون لأنفسهم أن يكون غيرهم خيرًا منهم، ولا يحاسبونها على الظلم وهضم الحق الصراح، ولا سيما إذا كان صاحبه مهملاً أو مقصرًا في حياته بالإلحاح؛ لأن الأمور السلبية قلَّما يحاسب نفسه عليها في الأمم المريضة -إلا نادرًا -إلا الأفراد من الفضلاء وأما الدهماء فقلما يفكرون في جناياتهم العملية على أنفسهم وأهليهم وأمتهم، أو يفطنون إلى سوء عواقبها فيها وفيهم، وإذا ذكر أحدهم أو وجهت إليه لائمة بادر إلى تبرئة نفسه، وتحويل اللائمة إلى غيره، فلا ينبه اللوم والتذكير منه إلا غريزة الدفاع عن النفس، والمحافظة على كرامتها بما يسبق إلى ذمته بادي الرأي، وقد يقضي بما يقول عليها، وهو يحسب أنه قد قضى لها، وما هي إلا الغفلة عن النفس تصل إلى درجة السهو والنسيان، كما أرشد إلى ذلك القرآن، فقد قال في قوم: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر: 19) ووصف قومًا بأنهم {فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} (الذاريات: 11) . لا يبالي المُلِيمُ ما يدفع به اللوم أكان حقًّا أم باطلاً ولا يقول ما يقول دائمًا عن اعتقاد، وقد يقول كلمة حق يريد بها باطلاً أو لا يريد بها إلا مقابلة اللوم بمثله كمن يعتذر عن تأخير أداء الحق الذي عليه للصحيفة بتأخير بعض الأجزاء عنه، ويقل فيمن يعتذرون مثل هذا الاعتذار من قصد جعل الإرجاء أو ترك الوفاء عقابًا على تأخير بعض الأجزاء أو الأعداد، والأصل في الاشتراك أن تدفع القيمة كل سنة سلفًا للاستعانة بها على العمل فيكون باذلها مشاركًا لصاحبها فيه فإن لم يفعل المشتركون ذلك وعد مدير العمل مسيئًا بتأخير إصدار الصحيفة فإساءته تكون متأخرة عن إساءة مرجئ الدفع سلفًا، بل تكون معلولة لها في الأكثر، وإذا كان كل مشترك لا يدفع إلا بعد استيفاء أجزاء السنة كلها في مواقيتها وكان إصدار الأجزاء في مواقيتها أو مطلقًا متوقفًا على دفع القيمة قبله لأجل النفقة تكون المسألة من قبيل ما يسمى في اصطلاح المنطق بالدور، فيقال: لولا تأخير المشتركين لقيمة الاشتراك لما تأخر صدور شيء من أجزاء المجلة، ولولا تأخير أجزاء المجلة لما تأخر المشتركون عن أداء القيمة سلفًا، هذا محال. والحق أن الإرجاء والتسويف لا يكون من جميع المشتركين في الصحف وإن من المرجئين من يرجئ كسلاً وتهاونًا في الوفاء، ومنهم من يرجئ لأن أداء الحق ثقيل على طبعه، وليس له من باعث الدين ولا التربية على الوفاء والنظام في المعيشة ما يرجح على البخل وهضم الحقوق، ومنهم المعسر الذي ينتظر الميسرة، ومنهم الحريص الذي يخشى أن يُعجز صاحبَ المجلة أو الجريدة الاستمرارُ على إصدارها، وأكثر الناس في هذه البلاد وأمثالها لا يثقون بأكثر ما يتجدد من الصحف لكثرة ما يصدر منها أيامًا وأسابيع أو أشهرًا قليلة، ثم ينقطع وتضيع قيمة الاشتراك التي دفعت لأصحابها سلفًا، ولكن قلَّما يشك أحد في الثقة بثبات الصحف التي طالت أعمارها وصبرت على لأواء الزمان، ولا سيما لأواء هذه الحرب. ألا إن كل من أنصف من نفسه وأعطى التفكر في المسألة حقه يظهر له الحق فيها ويجتهد في المسارعة إلى دفع قيمة الاشتراك في الصحيفة التي ارتضاها سلفًا، فإن لم يكن ففي أثناء السنة، وإنه يظلم صاحبها بالتأخير إلى نهاية السنة، فكيف بمن يرجئ اشتراك سنتين فأكثر وصاحب الصحيفة يظل يرسلها إليه ثقة به وحسن ظن فيه؟ وجملة القول: إن الناس في هذه المسألة كما قال تعالى في الذين أورثوا الكتاب: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) وكل ظالم لغيره فهو ظالم لنفسه. *** مواد المجلد الـ 23 لدينا من المواد المعدة للمجلد الآتي بحث طويل الذيل متدفق السيل في مسألة الخلافة الإسلامية لأحد أركان النهضة الإسلامية في الهند صديقنا المولى أبو الكلام محيي الدين آزاد صاحب مجلة (الهلال) العلمية الإصلاحية، وجريدة بيغام - أي البلاغ - السياسية في كلكتة الذي قد كنى عن الكلام بالإلهام فإنه من أفصح أهل العصر كلامًا وأقدرهم على الخطابة والكتابة وهو يجيد فهم اللغة العربية بحيث إنه أعاد الخطاب الذي اختتمت به مؤتمر ندوة العلماء في لكهنؤ بطريق الخطابة باللغة الأوردية في جلسة خاصة عقدت لأجل ذلك، وكانت خطبتي ارتجالية استغرق إلقاؤها زهاء ساعتين، وقد سمعت ممن يفهم اللغتين أنه لم يفرط في أداء معانيها من شيء. وهذا البحث في الخلافة يؤلف كتابًا جليلاً ذا أبواب وفصول تاريخية وشرعية واجتماعية وسياسية تهم جميع المسلمين وجميع الذين يعنون بمعرفة تاريخهم الديني والسياسي، ومن مباحثه: الفرق بين خلافة النبوة الراشدة وما بعدها من خلافة المُلك وأحكامها وأحوال المسلمين فيها، ومسائل الجماعة وما ورد في لزومها وفي النهي عن التفرق، وأسباب ضعف المسلمين، وطاعة الخليفة والتزام الجماعة، وتفسير أولي الأمر، وأحكام الجهاد والهجرة، وشروط الإمامة والخلافة في حال الاختيار وحال التغلب، وكون الخليفة لا يتعدد، والتعارض والترجيح بين طاعة الخليفة وبين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإزالته، ومن أهم مباحثه: خلافة آل عثمان، وغير ذلك مما لم يصل إلينا بعد، وسنعلق على بعض المسائل حواشي مختصرة إيضاحًا أو استدراكًا أو انتقادًا ونترك للقرَّاء الحكم فيه. ولدينا أيضًا كتاب (من الخرافات إلى الحقيقة) وهو كتاب إصلاحي عظيم كما علم من مقدمته وأبوابه التي نشرناها في هذا الجزء، وسنعلق عليه بما ذكرنا آنفًا. ويلي ذلك رحلتنا الأوربية، فهذا أوسع ما لدينا الآن من الزيادة في المواد على المعهود إجمالاً من أبواب المجلة كالتفسير والفتاوى وغيرهما أو تفصيلاً كفصول بحث القياس في اللغة العربية والرحلة السورية ووراء ذلك ما يتجدد من المقالات والرسائل في أثناء السنة. ونسأله تعالى أن يُقِرَّ أعيننا بحياة أمتنا، ويوفقها إلى تغيير ما بأنفسها من أفكار فاسدة وخرافات كاسدة وأخلاق سيئة، ليغير ما بها من ذلة ومهانة، وضعف واستكانة، وأن يجعلنا فيها وفي سائرالعالم من الهداة الناصحين، والصالحين المصلحين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

فاتحة المجلد الثالث والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الثالث والعشرين بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك اللهم على ما أسبغت علينا من نِعَمك الظاهرة في السراء، والباطنة في الضراء، وأريتنا من آياتك في الآفاق بتنازُع الباغين الطاغين وفشلهم، وفي أنفسنا بالتأليف بين المستضعفين المُؤذَن بظفرهم، وأتممت النعمة بما أكملت لنا قبلُ من الدين، واستخلفتنا في الأرض، فجعلتنا أئمةً وارثين؛ إذ جعلت إرثها لأهل العدل من عبادك الصالحين، ونصلي ونسلم على مَن بعثتَه خاتمًا للنبيين، محمد نبي الرحمة الأمي، المعلم للكتاب والحكمة، وآله وعِتْرته، وكل مَن فاز بصحبته، {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} (الأنفال: 74) ، والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا وصبروا {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) . أما بعد: فإن المنار يبشر قُراءه في فاتحة المجلد الثالث والعشرين، وخاتمة ربع قرن من جهاد مُنشئه في خدمة الشرق بإصلاح حال المسلمين، وبعد انقضاء جيلٍ مِن صيحة أستاذَيْه الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين، بأن ليل الذل والعبودية قد عسعس، وصبح العزة والحرية قد تنفس، فقد ذهب طور الترف والفسوق المهلك للأمم، والمفسد للحكومات والدول، وصرنا إلى طور الشدائد الممحِّصة للقلوب، المُذْكية لمصابيح العقول، الموقدة لنار الهمم،المظهرة لاستعداد الأمم، بإزالة الأحقاد، وجمع الكلمة على الجهاد {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ} (العنكبوت: 2-3) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214) . جرينا على منهج الإمامين الحكيمين في الدعوة إلى الوَحدةِ، وجمع كلمة الأمة، بالتذكير بآيات الله المنزلة في القرآن، وما هدى إليه من سننه المُطَّردة في أطوار الإنسان، عالمين أن هداية القلم واللسان، لا يغيران ما رسخ في القلوب والأذهان، إلا بقدر تربية كوارث أحداث الزمان، وإنما تتغير أحوال الأمم بتغيُّر الأعمال، التي تنبعث عما ثبت في الأنفس من الأفكار وملكات الأخلاق {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) . ألا وإنه قد أتى الأوان، للعمل بما أرشد إليه الإمامان، حتى كأنهما كانا يخاطبان أهل هذا الزمان، من أهل مصر والسودان، وسائر العرب والهند والترك والفرس والأفغان، فهاؤم اقرؤوا بعض قواعدهما التي نشرناها في الشرق، في مثل هذا الشهر من السنة الأولى بعد ثلاثمائة وألف: (خفيت مذاهب الطامعين أزمانًا ثم ظهرت، بدأت على طرق ربما لا تنكرها الأنفس ثم التوتْ، أوغل الأقوياء من الأمم في سيرهم بالضعفاء، حتى تجاوزوا بيداء الفكر، وسحروا ألبابهم حتى أذهلوهم عن أنفسهم، وخرجوا بهم عن محيط النظر، وبلغوا بهم من الضيم حدًّا لا تحتمله النفوس البشرية. ذهب أقوامٌ إلى ما يسوله الوهم، ويغري به شيطان الخيال، فظنوا أن القوة الآلية وإن قل عمالها - يدوم لها السلطان على الكثرة العددية وإن اتفقت آحادها، بل زعموا أنه يمكن استهلاك الجم الغفير، في النزر اليسير، وهو زعم يأباه القياس، بل يبطله البرهان، فإن تقلبت الحوادث في الأزمان البعيدة والقريبة ناطقة بأنه إن ساغ أن عشيرةً قليلة العدد فنيت في سواد أمةٍ عظيمةٍ ونسيت تلك العشيرة اسمها ونسبتها فلم يجز في زمن من الأزمان امِّحاءُ أمةٍ أو مِلَّةٍ كبيرةٍ بقوة أمة تماثلها في العدد أو تكون منها على نسبة متقاربة وإن بلغت القوة أقصى ما يمثله الخيال، والذي يحكم به العقل الصريح، ويشهد به سير الاجتماع الإنساني من يوم عُلِمَ تاريخُهُ إلى اليوم - أن الأمم الكبيرة إذا عراها ضعف الافتراق في الكلمة، أو غفلة عن عافية لا تُحمد، أو ركون إلى راحة لا تدوم، أو افتتان بنعيمٍ يزول، ثم صالت عليها قوة أجنبية أزعجتها ونبهتها بعض التنبيه، فإذا توالت عليها وخزات الحوادث وأقلقتها آلامها فزعت إلى استبقاء الموجود، ورد المفقود، ولم تجد بُدًّا من طلب النجاة من أي سبيل، وعند ذلك تحس بقوتها الحقيقية، وهى ما تكون بالتئام أفرادها، والتحام آحادها، وإن الإلهام الإلهي والإحساس الفطري والتعليم الشرعي - ترشدها إلى أن لا حاجة لها إلى ما وراء هذا الاتحاد وهو أيسر شيءٍ عليها. إن النفوس الإنسانية - وإن بلغت من فساد الطبع والعادة ما بلغت - إذا كثر عديدها تحت جامعة معروفة لا تحتمل الضيم إلا إلى حد يدخل تحت الطاقة ويسعه الإمكان، فإذا تجاوز الاستطاعة كرت النفوس إلى قواها، واستأسد ذئبها، وتنمَّر ثعلبها، والتمست خلاصها، ولن تعدم عند الطلب رشادًا. ربما تخطئ مرة فتكون عليها الدائرة، لكن ما يصيبها من زلة الخطأ يلهمها تدارُك ما فرط، والاحتراس من الوقوع في مثله، فتصيب أخرى فيكون لها الظفر والغلبة، وإن الحركة التي تنبعث لدفع ما لا يطاق إذا قام بتدبيرها القَيِّم عليها ومدبر لسيرها - لا يكفي في توقيف سريانها أو محو آثارها قهر ذلك القيم، وإهلاك ذلك المدبر؛ فإن العلة مادامت موجودة لا تزال آثارها تصدر عنها، فإن ذهب قَيِّمٌ خلفه آخر أوسع منه خبرة وأنفذ بصيرة. نعم، يمكن تخفيف الأثر أو إزالته بإزالة علته ورفع أسبابه. جرت عادة الأمم أن تأنف من الخضوع لمَن يباينها في الأخلاق والعادات والمشارب وإن لم يكلفها بزائد عما كانت تدين به لمَن هو على شاكلتها، فكيف بها إذا حمَّلها ما لا طاقة لها به؟ ، لا ريب أنها تستنكره، وإن كانت تستكبره، وكلما أنكرته بعدت عن الميل إليه، وكلما تباعدت منه لجهة كونه غريبًا - تقرب بعضها من بعض، فعند ذلك تستصغره، فتلفظه كما تلفظ النواة، وما كان ذلك بغريب! إن مجاوزة الحد في تعميم الاعتداء تُنسي الأمم ما بينها من الاختلاف في الجنسية والمشرب، فترى الاتحاد لدفع ما يعمّها من الخطر ألزم من التحزب للجنس والمذهب، وفي هذه الحالة تكون دعوة الطبيعة البشرية إلى الاتفاق أشد من دعوتها إليه للاشتراك في طلب المنفعة. أَبَعْدَ هذا يأخذنا العجب إذا أحسسنا بحركة فكرية في أغلب أنحاء المشرق في هذه الأيام؟ ! كُلٌّ يطلب خلاصًا ويبتغي نجاةً وينتحل لذلك من الوسائل والأسباب ما يصل إليه فكره على درجته من الجودة والأَفَن، وإن العقلاء في كثير من أصقاعه يتفكرون في جعْل القُوى المتفرقة قوة واحدة يمكن لها القيام بحقوق الكل. بلى كان هذا أمرًا ينتظره المستبصر، وإن عمي عنه الطامع، وليس في الإمكان إقناع الطامعين بالبرهان، ولكن ما يأتي به الزمان من عاداته في أبنائه، بل ما يجري به القضاء الإلهي من سنة الله في خلقه - سيكشف لهم وَهْمَهُم فيما كانوا يظنون! . بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته، ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته، خصوصًا في المسلمين منهم، فمنهم ملوك أُنْزِلوا عن عروشهم جورًا، وذَوُو حقوق في الإمرة حُرِموا حقوقهم ظلمًا، وأَعِزَّاء باتوا أَذِلاّء، وَأَجِلاّء أصبحوا حُقَراء، وأغنياء أمسوا فقراء، وأصِحَّاءُ أضحوا سِقامًا، وأُسُود تحولت أَنعامًا، ولم تبق طبقة من الطبقات إلا وقد مسَّها الضُّرُّ من إفراط الطامعين في أطماعهم خصوصًا من جرَّاء هذه الحوادث التي بذرت بذورها في الأراضي المصرية من نحو خمس سنوات بأيدي ذوي المطامع فيها: حملوا إلى البلاد ما لا تعرفه فدهشت عقولها، وشَدُوا عليها بما لا تَأْلفُهُ فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس في قدرتها فاستعصت عليه قواها، وخضَّدُوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة ليهيئوا بكل ذلك وسيلة لنيل المطمع، فكانت الحركة العرابية العشواء، فاتخذوها ذريعة لما كانوا له طالبين، فاندفع بهم سيل المصاعب بل طوفان المصائب على تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب ولكن أخطأ الظن وهَمُّوا بما لم ينالوا - إلى أن قال -: (ولو أنهم تركوا الأمر من ذلك الوقت لأربابه، وفوضوا تدارك كل حادث للخبراء به، والقادرين عليه، العارفين بطريق مدافعته، واقْتِنَاء فائدته - لحفظوا بذلك مصالحهم، ونالوا ما كانوا يشتهون من المنافع الوافرة، بدون أن تزل لهم قدم، أو يُنَكَّسَ لهم عَلَمٌ. غير أنهم ركبوا الشطط وغرهم ما وجدوا من تفرق الكلمة، وتشتت الأهواء وهو أنفذ عواملهم وأقتلها، وما علموا أنه وإن كان ذريع الفتك إلا أنه سريع العطب، وما أسرع أن يتحول عند اشتداد الخطوب إلى عامل وحدة يسدد لقلب المعتدين؛ فإن بلاء الجور إذا حل بشطر من الأمة وعُوفي منه باقيها كانت سلامةً لبعضٍ، تعزيةً للمصابين وحجابَ غفلة للسالمين، يحُول بينهم وبين الإحساس بما أصاب إخوانهم، أما إذا عَمَّ الضرر فلا محالة يحيط بهم الضجر، ويعز عليهم الصبر، فيندفعون إلى ما فيه خيرهم، ولا خير فيه لغيرهم. إن الفجيعة بمصر حركت أشجانًا كانت كامنة، وجددت أحزانًا لم تكن في الحسبان، وسرى الألم في أرواح المسلمين سريان الاعتقاد في مداركهم، وهم من تذْكارِ الماضي ومراقبة الحاضر يتنفسون الصعداء، ولا نأمن أن يصير التنفس زفيرًا، بل.. بل يكون صاخَّة تمزق مسامع مَن أصمه الطمع. إن أَوْلَى المتغلبين بالاحتراس من هذه العواقب جيل من الناس لا كتائب له في فتوحاته إلا المداهاة، ولا فيالق يسوقها للاستملاك سوى المحاباة، ولا أَسِنَّة يحفظ بها ما تمتد إليه يده إلا المراضاة، يظهر بصور مختلفة الألوان، متقاربة الأشكال، كحافظ عروش الملوك والمُدافع عن ممالكهم، ومثبت مراكز الأمراء، ومسكن الفتن، ومخلّص الحكومات من غوائل العصيان، وواقي مصالح المغلوبين، فكان أول ما يجب عليه ملاحظته في سيره هذا أن لا يأتي من أعماله بما يهتك هذا الستر الرقيق الذي يكفي لتمزيقه رَجْعُ البصر، وكَرُّ النظر، وأن يتحاشى العنف مع أمة يشهد تاريخها بأنها إذا حنقت خنقت، وليس له أن يغتر بعدم مُكنتهم وهو يعلم أن الكلمة إذا اتحدت لا تُعْوِزها الوسائط، ولا يعدم المتحدون قويًّا شديد البأس ويساعدهم بما يلزمهم لترويج سياسته، وإن المغيظ لا يبالي في الإيقاع بمناوئه أسلم أو عطب، فهو يَضُرُّ ليضرَّ، وإن مسه الضر. إن الرزايا الأخيرة التي حلت بأهم مواقع الشرق جددت الروابط وقاربت بين الأقطار المتباعدة بحدودها، المتصلة بجامعة الاعتقاد بين ساكنيها، فأيقظت أفكار العقلاء وحولت أنظارهم لما سيكون من عاقبة أمرهم، مع ملاحظة العلل التي أدت بهم إلى ما هم فيه، فتقاربوا في النظر، وتواصلوا

الدعوة إلى انتقاد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى انتقاد المنار والنصيحة له نُذكِّرُ قُرَّاء المنار في جميع الأقطار بما جرينا على مطالبتهم به في رأس كل عام أن يُذكِّرونا بما عسى أن يروه من الخطأ فيه، سواء كان ذلك في المسائل الدينية والعلمية أو في مصلحة الأمة، ونعِدُهم بنشر ما يتفضلون بكتابته إلينا ملتزمين فيه لشروطنا، فإننا لا نكتب إلا ما نرى أنه الحق، وأن فيه المصلحة، وكل أَحدٍ يؤخذ من كلامه ويُردُّ عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

سؤال عن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سؤال عن الاسترقاق المعهود في هذا الزمان (س1) من أحد القراء في سنغافورة نشرناه بنصه وغلطه: ما قول علماء الإسلام أدام الله بهم النفع للخاص والعام فيما يتعاطاه أهالي بعض الجهات، وذلك أن أحدهم يأخذ من أحد الشِّيَنَةِ - وهم مشركون - بِنته الصغيرة بثمنٍ، فيربيها، ثم يتسرَّاها، أو يبيعها إلى آخر مثلاً، ويستولدها، فهل يجوز ذلك؟ ، والحال أن حكومة تلك الجهة كافرة تمنع ذلك، وتعاقب عليه بفرض ثبوته لديها لمنعها بيع الرقيق والفاعل لذلك إنما يفعله بخفية وبصورة استخدام، ومتى خرجت تلك البنت من عنده وامتنعت منه لا يقدر هو ولا غيره على ردها بحال أو لا يجوز ذلك أو يكون مجرد شراها من والدها أو والدتها استيلاء تُملَكُ به فيجوز تَسَرِّيها وبيعها؟ وإن كان الحال ما ذُكر وإذا قلتم بالملك فهل يختص بها المشتري أو يسلك بها مسلك الفَيءِ؟ ، أفيدوا فإن المسألة واقعة ولا يخفى ما يترتب عليها من هتك الأَبضاعِ وضياع الأنساب وقد استشكل ذلك بعض طلبة العلم وفهم بدِيهةً أن مجرد الشراء - والحال ما ذكر - لا يملك به لأن المِلْكَ هو الاستيلاء لا الشراء كما نُصَّ عليه ومَن لا يقدِرُ على قهرِهِ ليس مستولى عليه، فالمسئول مِن أهل العلم توضيح هذه المسألة بما فيها من خلافٍ وأقوالٍ بما يطلع الكاتب مذهبِيًّا كان أو غيره وفي أنه هل يختص بها المشتري فلا يجبُ عليه تَخمِيسُها أو لا يجب؟ فلعل شيئًا من الأقوال يحمل مَن وقع في شيء من ذلك، أفيدونا وأوضحوا وبيِّنوا؛ فإن المسألة وقع فيها كثير من الناس وحرجت منها الصدور وماذا يكون الحكم في الأولاد من هذا الوطءِ لو قيل بفساد وجه التملك، لا عدمكم المسلمون. (ج) ليعلم المسلمون في سنغافورة وفي سائر بلاد الإسلام أن الله تعالى خلق البشر أحرارًا وأن الحرية حقٌّ لكل فردٍ ولكل جماعةٍ أو شعبٍ منهم بفطرة الله وشرعه، كما كتب الفاروق رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص لما بلغه أن ابنه ضرب غلامًا قبطيًّا: (يا عمرو، منذ كم تَعَبَّدتُمُ الناس، وقد ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا؟ !) ، وإن الرق كان عادة اجتماعية عمت بها البلوى، حتى كانت تكون في بعض الأحيان من الضروريات التي تختل بدونها بعض المصالح العامة، وكان العُرفُ بين الأمم والدول أن الدولة الظافرة في الحرب تملك الرقاب، كما تملك الأعيان مما تستولي عليه. فلما جاء الإصلاح الإسلامي فتح أبوابًا كثيرةً لتحرير الرقيق ولم يحرم الاسترقاق من أول الأمر تحريما قطعِيًّا؛ لئلا يكون المسلمون وحدهم عرضة للاسترقاق إذا غُلِبُوا في الحرب وهذه علة صحيحة كنا غافلين عنها، فهذا أمر لا يمكن إبطاله إلا بتواطؤ بين الأمم، ولا سِيَّما الحربية منها، كما جرى أهل هذا العصر ووافقتهم عليه الدولة العثمانية؛ لأنه من مقاصد الشرع لا من محظوراته، ولأن البشر يشق عليهم إبطال العادات الراسخة دفعةً واحدةً ولا سِيَّما إذا كانت مصالحهم مشتبكةً بها ولأن بعض الرِّق كان يكون لمصلحة الأرِقَّاء في بعض الأحوال كأَنْ يُقْتَلَ رجال قبيلةٍ ويبقى النساء والأطفال لا ملجأَ لهم ولا عائلَ، وقلما يقع مثل هذا في زماننا؛ لأن شئون العمران فيه قد تبدلت، والذي عليه فقهاء المذاهب المعروفة كلها أن الاسترقاق للسَّبْيِ والأسرى جائزٌ لا واجبٌ ولا مندوبٌ لذاته؛ لأنه ضرورة كالحرب نفسها وأنه مفوضٌ إلى الإمام الأعظم يعمل فيه وفيما يقابله بما يرى فيه المصلحة بمشاورة أهل الحَلِّ والعَقْدِ ويشترط فيه أن يكون في حربٍ شرعِيَّةٍ مبنِيَّةٍ على تبليغ دعوة الإسلام وحمايتها وحفظ بلاد المسلمين بالشروط المعروفة في كتب الفقه، ويقابله المَنُّ على مَن ذكر أي إطلاقهم بدون مقابلٍ أو فداءُ أسرى المسلمين عند قومهم بهم، وهذا مقدمٌ على غيره عند التعارض بالضرورة على خلافٍ فيه وفي قتل الأسرى. وقد خيَّر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذين الأمرين الأخيرين بسورة القتال ولم يذكر الاسترقاق، فقال: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: 4) . وقد فصَّلْنا هذه المسائل في مواضع من مجلدات المنار السابقة كالرد على خطبة لورد كرومر الشهيرة وغيره. فعلم من هذا أن ما يجري عليه الناس من اغتصاب بعض أولاد الزنوج أو الشِّينة (الصينيين) أو الجركس أو شرائهم من آبائهم وأوليائهم - لا يعد استرقاقًا شرعيًّا؛ فلا تملك به الأعيان ولا الأبضاع وإن التسري بالمغصوبة أو المشتراة مِن والدها أو غيره - حرامٌ، وأهونُ ما يقال في فاعله جاهلًا حكمَ الشرع فيه أن وَطأَهُ وَطءُ شُبهةٍ وولَده منها ولَدُ شبهة، وإلا فهو زنا ظاهرٌ، لا يستحله أحدٌ يؤمن بالله واليوم الآخر. وما ذُكِرَ في السؤال عن بعض طلبة العلم من أن سبب الملك هو الاستيلاء دون مجرد الشراء لا محلَّ له في النوازل المسئول عنها؛ فإن شرط كوْن الاستيلاء الصحيح مملكًا - قابليةُ المَحَلِّ للمِلْكِ، وهو الحَرْبيُّ المُشرِكُ الذي يُسبَى بالحرب الدينية بعد إباء الإسلام، والجزية، وبعد ترجيح إمام المسلمين لاسترقاقه، كما تقدم، فههُنا يختلف الفقهاء في حقيقة الاستيلاء المملك، هل يشترط فيه دار الإسلام أم يحصل بالحيازة في دار الحرب؟ ، وقد صرح الفقهاء بعدم جواز بيع الكافر لأولاده في دار الحرب ولا في دار الإسلام. وإنا لنعجب ممن يهتم بأمر الأبضاع والأنساب والحلال والحرام ثم يُصِرُّ على اتباع شهوته في الاستمتاع بهؤلاء الحرائر من السُّود أو الصفر أو البيض؛ ويسأل عن نوادر الخلاف بين الفقهاء، وشواذ الأقوال لِيَجدَ لنفسه عُذرًا لبقائه على ضلاله؟ ، ألا فليتوبوا إلى الله تعالى وليتركوا هذه الرذيلة وما يتبعها من الفواحش والمنكرات، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.

مسيح الهند

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسيح الهند (س2) من أحد القراء في زنجبار نكتب ملخص هذا السؤال لكثرة الغلط في عبارته لُغةً وإملاءً وإعرابًا، وهو أن الدعوة إلى مسيح الهند غلام أحمد القادياني قد بثت في زنجبار بأنه (النبي المسيح المهدي) وأن مذهب أتباعه ودعاته هو مذهب خوجة كمال الدين الذي في لندن والإمامين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ويقول السائل: إنهم قد غشُّوا الناس بهذه الأسماء وصار الناس بالمجادلات حزبين، أحدهما مُصدِّقٌ والآخر مُكذِّبٌ، وسألنا هل عندنا كتابٌ في الرد عليهم فنرسله إليه؟ ، وقد أرسل إلينا صورة القادياني التي يوزعونها هنالك. (ج) إن غلام أحمد القادياني قد ادعى أنه هو المسيح عيسى ابن مريم وأن الله تعالى قد أوحى إليه بذلك وأن البسملة تدل بلفظ الرحمن الرحيم على أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله وأن غلام أحمد القادياني هو المسيح عيسى ابن مريم، وقد نسخ من أحكام الشريعة الجهاد، وكان يستدِلُّ على صدق دعوته بقصيدةٍ نظمها وادعى أنها معجزة كالقرآن، على أنها كثيرة السخف والغلط والهذيان، وبكتابٍ في تفسير الفاتحة سماه (إعجاز أحمدي) ، وأكثره لغوٌ لا يفهم واستنباط معانٍ لا تدل عليها الألفاظ بحقيقتها ولا بضرب من ضروب المجاز ولا الكناية، بل هي دعاوٍ باطلةٌ كادعاء دَلالةِ البسملة على نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم ومسيحيَّتِهِ، وكان يتأوَّل الأحاديث الواردة في نزول المسيح عيسى ابن مريم من السماء في الشام وبكونه يقتل الدجال ويفعل كيت وكيت، أو يردها بزعم أنها مخالفةٌ للقرآن، والقرآن لا يدل عليه، بل ولا على نزول المسيح عيسى ابن مريم أيضًا كما بيناه في المنار مِن قبل. والآيتان اللتان استدَلَّ بهما بعضهم على ذلك ليستا نصًّا ولا ظاهرًا فيه. فأما قوله تعالى في المسيح: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء: 159) - فإنه لا يدل على ما ذهب إليه بعضهم في تأويل الآية إلا بتكلُّفٍ بعيدٍ لا مُسَوِّغَ له، كما بيناه في تفسيرها [1] وأما قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} (الزخرف: 61) بعد قوله عز وجل: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 57-58) ، ففي مرجع الضمير في قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ} (الزخرف: 61) وجهان، ذكرهما المفسرون: (أحدهما) أنه القرآن، فإنه ذَكَرَ أوّلاً رسالةَ موسى، ثم رسالة عيسى لأجل الاستدلال بهما على رسالة محمدٍ (عليهم الصلاة والسلام) وصدق القرآن، (ثانيهما) أنه عيسى عليه السلام، وقد ذكروا لكونِهِ عِلمًا للساعة وجوهًا: أظهرها أنه إحياؤُهُ لبعض الموتى وحياة صورة الطير من الطين بنفخه فيها، فإنه دليلٌ يعلم به أن البعث مُمكِنٌ تتعلق به قدرة الله تعالى، وواقعٌ بتأييده تعالى لعيسى، وجعل إحياء الميت وحياة الجماد من آياته الدالة على رسالته، وقد أوضحنا هذا في المنار من قبل. وقد ردَّ عليه كثيرٌ من علماء الهند، وناظروه، ففندوا دعوته، ورددنا عليه في المجلد الثالث، والمجلد الخامس من المنار، وترجمت ردنا عليه الجرائد الهندية في حياته؛ فساءه ذلك وآلمه حتى حمله على تأليف كتاب في شتمنا وتهديدنا يُضحك الثَّكْلَى، سمَّاهُ (الهدى والتبصرة لمَن يرى) فإنه خلط فيه الهزل بالجد، وجمع بين الذم والمدح، ولم يخلُ من المجُونِ، ووحي شياطين الجنون، ومما توعدني به فيه زعمًا أنه قاله بالوحي قوله بعد كلامٍ: (وعمدَ أن يؤلمني ويفضحني في أعين العوام كالأنعام، فسقط من المنار الرفيع، وألقى وجوده في الآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتنة وحضى [2] وقال ما قال، وما أمعن كأولي النهى - إلى أن قال - سيُهزم فلا يرى، نبأٌ من الله الذي يعلم السر وأخفى) إلخ [3] . ولو قدر الله تعالى جعْل وفاتنَا أو نكبة تقع بنا أو بالمنار بعد صدور كتابه هذا- لادَّعى هو وأتباعُه أنها مصداقُ دعواه، ولكنَّ الله لم يزدنا إلا صحةً وقوَّةً وحُجَّةً، ولم يزد المنار بفضلِهِ إلا تأييدًا، وانتشارًا، وقبول كلمة، إذ رددنا عليه بعد هذا عدَّةَ مراتٍ، فكان هو المنهزمَ إلى أن مات. ولكن كان من الغريب أن أتباعه قد مرنوا على المناظرة والجدل، فانصرف أناس منهم إلى الدعوة إلى الإسلام في الهند وإنكلترة والولايات المتحدة الأميركية، وما أعرف لهم بدعةً غير هذه الضلالة الوهمية، التي زاحموا بها البابية البهائية، ولو تركوها للقي دعاتهم للإسلام مساعدةً وتعضيدًا من جميع المسلمين، وما أدري أي فائدةٍ يطلبون بإصرارهم عليها؛ فإنهم ليسوا كالبهائية الذين اخترع دعاتهم دينًا جديدًا ملفَّقًا، أصابوا به مجدًا وعظمةً بإقرار مَن أُشْرِبَتْ قلوبهم الوثنية بأن البهاء إلههم وربهم، حتى إن خليفته وابنه، الذي فعل في تأسيس هذا الدين ما عجز قبله أبوه عن مثله، قد لقب نفسه بعبد البهاء. وكنت أظن أن هؤلاء القاديانية قد رجعوا عن هذه الدعوى الخرافية، حتى إذا ما زرت الهند جاءني وفدٌ منهم للسلام عليَّ في (لكهنؤ) ودعوني إلى زيارة بلدهم، فعلمت منهم أنهم لا يزالون على غرورهم، ولم يتسع الوقت لاختبارهم التام بزيارة بلدتهم، ولا يبعد أن يكون خوجة كمال الدين منهم؛ فإنه ليس من كبار العلماء الأعلام، وحاشا حكيم الإسلام والأستاذ الإمام، أن يكونا من أهل هذه الأوهام.

إشكال في بيت من الشعر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إشْكَال في بيت من الشعر (س3) من صاحب الإمضاء في لنجة (في خليج فارس) في 10 ربيع الأول 1340. حضرة العلامة المِفضال الأستاذ الإمام المصلح الفهامة السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار لا زال مفيدًا للإسلام ومعينًا للأنام، المرجو بيان إعراب هذا البيت، فقد وصلنا إليه في الأشموني في المدرسة الرحمانية، وعجزنا عنه؛ لأن إعرابه ينافي معناه وبالعكس، فسألنا حضرة الوالد خليصكم عنه؛ فادعى أن فيه تحريفًا، ولم نقتنع، فصدَّعنا حضرتكم؛ لتزيلوا الإشكال، ولم تزالوا كذلك: وكائن في الأباطح من صديق ... يراني لو أُصبت هو المصابا وقد راجعنا المواد التي عندنا كالصبان وحاشية ابن سعيد وشرح شواهد الرضي وشرح العيني وشرح شواهد المغني - فلم نجد ما يشفي العليل، ويطفئ الغليل، والمرجو أن تشرفوني بالجواب، فنحن من المحسوبين، ولم يزل حضرة الوالد يحثنا على ذلك. ... ... ... ... ... ... ... ... من أسير إحسانكم ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بن عبد الرحمن ... ... ... ... ... ... ... ... سلطان العلماء بلنجة (ج) إذا كنتم لم تطَّلعوا على ما قاله ابن هشام في روايتَيْ البيت، ووجوه إعراب الرواية المشكلة من المغني، فالعجب منكم كيف راجعتم فيما عندكم من الكتب شرح شواهد المغني، ولم تراجعوا المغني نفسه أوَّلاً، وإذا كنتم قد اطلعتم على ما في المغني - ورأيتم فيه أن في البيت روايتين وما ذكره في إعراب الرواية المشكلة - فالعجب منكم كيف لم تكتفوا بما فيه، وما بعده قولٌ لقائلٍ؟ ! . والمختار عندنا في البيت أن الرواية التي عني بنقلها النحاة ليشحذوا قرائحهم بإعرابها غير صحيحة، بل هي من تحريف بعض الرواة وفاقًا لذوق والدكم السليم وأن الرواية الصحيحة: وكائنٌ بالأباطح من صديقٍ ... يراه إن أُصبت هو المصابا أي إن أُصبت أنا يرى أنه هو المصاب؛ لأنه بصدق وُده أنزلني منه منزلة نفسه، وما ينبغي لمن علم بنقل الروايتين أن يعرض عن الواضحة، ويضيع الوقت النفيس في الرواية المشكلة، التي لا يمكن تطبيقها على القواعد، وفهم معنى صحيح لها إلا بتكلف الاحتمالات البعيدة التي ذكرها مَن وقفوا أعمارهم لاستقصاء أمثالها من الأغلاط أو الشواذ لأجل الإحاطة بفروع فن النحو ونوادره، وتقْيِيدِ أوابده وشوارده. وقد أورد صاحب المغني البيت في الكلام على (شرح حال الضمير المسمى فصلاً وعمادًا) ، وهو في الباب الرابع (ص105، ج2) .

العلة الحقيقية لسعادة الإنسان

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

_ العلة الحقيقية لسعادة الإنسان [1] لسيدنا آية العصر، وسر حكمة الدهر، ودرة تاج الحكماء، وواسطة عِقد البلغاء، مَن لا تستوعب وصفه الأقلام وما نسقت، والطروس وما وسقت، أستاذنا الأكبر، الفيلسوف الأشهر، السيد جمال الدين الأفغاني أعزه الله. إن الممكن بالإمكان الخاص (وهو الذي لا يلزم مِن وجوده ولا مِن عدمه محالٌ) يكون وجوده بوجود علته، وعدمه لعدمها، ولا ريب في أن السعادة من الماهيَّات الممكنة بالإمكان الخاص، وأنها العلة الغائية لحركة كل فردٍ من أفراد الإنسان، حِسِّيَّةً كانت تلك الحركة أو معنويَّةً، إذ لو لوحظت مساعيه آناء الليل وأطراف النهار، وأخذه بوسائل الحِرَفِ مِن زراعةٍ، وصناعةٍ، وتجارةٍ، وجدّه في تحصيل العلوم والفنون، وارتكابه المصاعب، في نيل المراتب والمناصب - ما وجد لها مِن باعثٍ أو داعٍ سوى طلب السعادة، مع أنك لا تجد مَن نالها أو دنا منها، ولو تنقل في مراتب الشؤون وتقلب في درجات التطورات، وما ذلك إلا لعدم تحقق علتها، فعلينا أن نبحث عن تلك العلة، وعن الأسباب التي أوجبت عدم تحققها، حتى يتبين وجه ضلال طلاب السعادة عن أن يصيبوها، فنقول: إن بين السعادة والصحة شبهًا كليًّا، فكما أن صحة الجسم هي نتيجةٌ ومعلولةٌ للتناسب الطبيعي بين أعضاء ذلك الجسم وجوارحه، وكمال الاعتدال فيما تكونت عنه تلك الأعضاء، وحسن قيام كل عضو منها بأداء وظيفته مع مراعاة اللوازم والشروط الخارجية: من الزمان، والمكان، والمطعم، والمشرب، والملبس، فيكون زوالها لزوال هذه الأمور كلها أو بعضها، كذلك سعادة الإنسان هي معلولةٌ للتناسب الحقيقي في الاجتماعات المنزلية، وقيام كلٍّ مِن أركانِ المنزل بأداء وظيفته، وللتعادل التام في الائتلافات المدنيَّةِ بأن تكون المدينة فيها من الحِرَفِ والصنائع ما يكفيها مؤنة الافتقار من دون نقصٍ أو خروجٍ عند حد حاجتها مع حسن التعامل بين أرباب تلك الصنائع، وأن تكون أحكامها تحت قانونِ عدلٍ تساوَى فيه الصغير والكبير، والأمير والمأمور، وللارتباطات العادلة بين الدول بأن تقف كل دولة عند حدها، ولا تتعدى على حقوق غيرها، وأن يمهد سبل التواصل بينها وبين باقي الدول لكمال التعاون والتوازر بين نوع الإنسان، وانتفاع كلٍّ من الآخر، فيكون حصولها على السعادة بحصول تلك الأمور وفقدها لفقد جميعها أو بعضها. وهذه الأمور وإن كانت ممكنة الحصول وجدَّ الناس في التماسها ما استطاعوا- إلا أن هناك مانعًا من الوصول إليها، وهو اعتقاد كلّ كمال نفسه، ونقص غيره، ونظره إلى أفعاله بعين الرضى، وإلى أفعال غيره بعين السُّخط، وزعمه أنه ما حاد عن حدِّ الاعتدال، ولا أخلَّ بشيءٍ من واجباته وشؤونه، ولا تقاعدت همته عن أداء وظائفه في العالم الإنساني، ويتحمل لإثبات ذلك بما تسوله له نفسه من الحجج والبراهين، وإن أصابه العناء، ونزل به الشقاء، حسبهما من تهاون الغير فيما يلزمه وإهماله ما يجب عليه مبرئًا نفسه من أسباب ذلك، حتى لو أغفل شأنًا من شؤونه، يزعم أن قد سُدَّتْ دونه أبواب الإمكان، وتعذَّر عليه القيام به، ولو انتهك محظورًا من المحظورات لادَّعى أنه لا اختيار له فيه، وإنما الضرورة هي التي ساقته إلى ارتكابه، فهو مجبورٌ لا مختارٌ، مع أنه لا يلتمس للغير عذرًا فيما يفوته أو يقع منه، ولو كان في نفس الأمر مجبورًا. ومن ثَمَّ وقع التضارب في الآراء، والتدافع في الأفعال والحركات، وعمل كلٌّ على نقيض الآخر، فارتفع التناسب وانعدم العدل وذهب الارتباط. انظر إلى حال الآباء مع الأبناء والسادات مع الخَدَمَة، كيف أن كلاًّ منهم مع علمه بأن السعادة المنزلية إنما تُحَقَّقُ بأدائه ما يجب عليه، وجعْل حركته من متممات حركات الآخر، يخالفه في أفعاله، ويضاده في آرائه، معتقدًا أنه لو لم يقصر ذلك الآخر في أداء الحقوق المفروضة عليه لاستقرت الراحة المنزلية، وارتفع العناء، وإلى حال المشتركين في المدينة؛ فإن كل واحد مع جزمه بأن الراحة والنجاح إنما يكونان بإحكام الصنعة وتهذيبها، وحسن التعامل، وكف يد الشَّرَه والخيانة، وضبط العهود والمواثيق، واجتناب الكذب والاعتصام بحبل الصدق والوفاء - لا يرى نفسه مخلاًّ بشيءٍ من ذلك، وإن أخل بجميعه، ويزعم أن زوال السعادة المدنية إنما جاء من تهاون الآخرين. وتدبر حال الملوك مع رعاياها تَرَ كلاًّ منهما يرمي الآخر بالإغراق وعدم الاعتدال، ويتهمه بانتهاك المحارم والحقوق، ويبرئ نفسه من نسبة شيء من ذلك إليها. فالملوك - فضلاً عما رسخ في نفوسهم من أن رتبتهم الملوكية إنما هي رتبةٌ سماويةٌ ساقتها إليهم يد العناية الإلهية؛ بسبب طيب عنصرهم، وطهارة طينتهم - يعتقدون أن لا قوام للرعية بدون وجودهم، وأن لا غنى لها عنهم؛ إذ هم يحفظون أموالها، ويحقنون دماءها، ويوفون لكل ذي حق حقه، وينتقمون للمظلوم من الظالم، ويحرسون الثغور لدفع ضرر المهاجمين، فيرون أن لهم بذلك حق التصرف في أموال الرعية ودمائها، وأنه يجب عليها طاعتهم، والخضوع لسطوتهم وسلطتهم، وامتثال أوامرهم، واجتناب نواهيهم، ويرمون الرعية بالتقصير فيما يجب عليها. والرعايا يخاطبونهم قائلين: لا مَزِيَّة لكم علينا كما زعمتم، ولستم أطهر عنصرًا، ولا أطيب طينةً، بل نراكم أناسًا استولى عليكم حب الرئاسة، وأسرتكم الشهوة واستعبدكم الهوى، فاستمالكم إلى سلب راحتكم، وراحة رعاياكم حرصًا على التغلب، وطمعًا في توسيع دائرة السلطة، وكسب الافتخار مينًا، وأما اعتقادكم أن لا قوام لنا إلا بكم فأَنَّى لكم صدق هذا الاعتقاد، وقد أصبحتم كَلاًّ على كواهلنا: نحن نغرس ونحرث، ونغزل ونحوك، ونفصل ونخيط، ونبني ونشيد، ونخترع الصنائع، ونتفنن في المعارف، وأنتم تأكلون وتشربون، وتلبَسون وتسكنون، وتتمتعون بلذة الراحة. وأما ما تعللتم به من حفظ أموالنا، وحقن دمائنا- إلى آخر ما ادَّعيتم - فذلك إنما نشأ عن العظمة والكبرياء اللذين ثبتت أصولهما في نفوسكم، أفلا تعلمون أن الحارس والمرابط إنما هو منَّا، وأنَّ الحافظ والحاقن والمنتقم، إنما هو القانون والشريعة الحقة، وما أنتم إلا مَنُوطُون بحفظها، والعمل في الناس بها، فإن قمتم بذلك على وجه الاستقامة كان لكم علينا ما يُقَوِّمُ أَوَدَكم، فكيف ساغ لكم أن تلعبوا بأموالنا، وتعبثوا بدمائنا، وتلقوا بنا في هاوية الشقاوة، ثم تبتغوا طاعتنا وامتثالنا، وترمونا بالتقصير والتهاون فيما وجب علينا. وذلك الذي ذكرناه فيما إذا لم يكن الملوك من المتغلبين المباينين للرعايا جنسًا ومشربًا، وأما المتغلبون من الملوك والمتغلب عليهم، فكل منهما يزعم فوق ما ذكر أنه الوسيلة لمنفعة الآخر، والواسطة لمصلحته، وأن الآخر قابل حسنته بالسيئة، ومنفعته بالمضرة. مثلاً إن الحكومة الإنكليزية المتغلبة على الهنود تخاطبهم بقولها: إني عمرت لكم المدن (كبمباي) و (كلكتا) و (كراجي) وأمثالها وزيَّنتها بالأبنية الشاهقة، والقصور الشائقة، ووطَّأت شوارعها، ووسعت مسالكها، ورقشتها بالأغصان وزخرفتها بمروجٍ وبساتين، ومهَّدت لكم سُبُلَ التجارة، وسهلت لكم أسباب الزراعة، وفتحت أبواب الثروة؛ بما مددت من الأسلاك البرقية في أرجاء بلادكم، وأنشأت من الطرق الحديدية في أنحائها. وحفرت من الترع والأنهار، ووضعت من القناطر، وكذلك أسست لكم المدارس، ورفعت عنكم ظلم النوابين وقهر الراجاوات. وأنتم مع ذلك أبيتم إلا الشقاق والنفاق، ونبذ الطاعة وسلب الراحة ... وإن الهنود يجيبونها متظلمين مستغيثين منها قائلين لها: إنك ما عمرت تلك المدن إلا بعد أن خربت بلادًا كانت زينة الأرض وفخار الأبناء (شيو) و (وشنو) و (كهكلي) و (مرشد آباد) و (عظيم آباد) و (أكبر آباد) و (الله آباد) و (دهلي) و (رايبود) و (فيض آباد) و (لكهنؤ) و (حيدر آباد) وغيرها من البلدان، وإنك ما مددت الأسلاك البرقية ولا أنشأت الطرق الحديدية، ولا حفرت الترع والأنهار، ولا وضعت القناطر إلا لنزف مادة ثروتنا، وتسهيل سبل التجارة لساكني جزيرة بريتانيا وتوسيع دائرة ثروتهم، وإلا فما بالنا أصبحنا على فقرٍ وفاقةٍ وقد نفِدَت أموالنا، وذهبت ثروتنا، ومات الكثير منا يتضوَّر جوعًا؟ فإن زعمت أن ذلك لنقصٍ في فطرتنا، وضيقٍ في مداركنا، فيا للعجب من أبناء (بريتوس) الذين مضت عليهم أحقابٌ متطاولة يهيمون في أودية التوحش والتبربُر؛ إذ يعتقدون النقص، وعدم الاستعداد في أولاد (برهما) و (مهاديو) مؤسسي شرائع الإنسانية وواضعي قوانين المدنية. وأما المدارس التي تمُنِّين علينا بتأسيسها فلم تكن لمصلحةٍ تعود علينا؛ إذ لو كانت لذلك لاحتوت على العلوم، والفنون، والصنائع، مع أنها لم تنشأ إلا لتعليم اللغة الإنجليزية المتعجرفة الخشنة لأبناء اللغة (السنسكريتية) اللغة المقدسة السماوية حتى تستعمليهم في إدارة مصالحك في تلك الممالك الشاسعة. وأما دعواك رفع ظلم النوابين، وقهر الراجوات عنا، فمما يُضحك الثكلى ويُبكي المستيئس الذي جاءته البشرى؛ فإن الظلم إذ ذاك كان قاصرًا على البعض، وظلمكِ الآن قد عم وطم، وإن الثروة والأُبَّهَةَ والجلالة والشأن التي يزدهي بها الآن أهالي بريتانيا كان المتمتع بها وقتئذٍ أبناء وطننا؛ إذ النوابون والراجوات وغيرهم من الأمراء، والكبراء، وحاشيتهم، وخاصتهم كانوا من أبنائنا، ومشاركينا في الجنسية وكنًَّا نَتِيهُ بهم فخارًا على سائر الممالك والأقطار، فكيف بكِ أن تُمَنِّي علينا بما مننت زورًا ومَينًا، وإنا لا نراكِ أيتها المتغلّبة علينا إلا كالعلق مصصت دماءنا، بل كالسَّلاخ سلخت جلودنا؛ لتتخذيها أحذية لنعال البريتانيين، على أنك لم تكتفِ بهذا وذاك، بل تريدين أن تستعملي عظامنا النخرة لتصفية السكر في معاملك. وتبصَّر في شأن الملوك بعضها مع بعض، فإن كل واحدٍ منهم يرى بما أقيم من الحجج القاطعة - أنه على صراط العدل، وحدِّ الاستقامة، لا يُقدم على محاربةٍ، ولا يحجم عنها، ولا يضع غرامةً أو يأخذ مِن ممالِكِ الآخر شيئًا إلا وهو في ذلك مُحِقٌّ عادلٌ، مثلاً ملك الروسيين يحتج لحرب العثمانيين بأن أنين النصارى من رعاياهم قد ذهب براحته، وتجافى به عن مضجعه، وحرك فيه حاسة الشفقة، حتى دعته الرحمة والإنسانية للأخذ بناصرهم، واستنقاذهم من أيديهم، وتحريرهم من رِقِّ عبوديتهم، مِن … والعثمانيون يدحضون حجته قائلين: (أولاً) لو كنت مِمَّن تحركهم الشفقة والرحمة لكان الأحق بنيلها رعاياك المتحدون معك في المذهب من أهالي (لهستان) ، فما دعواك هذه إلا محض الرياء والمواربة، (وثانيًا) أننا لا نعامل رعايانا إلا كمعاملة الآباء للأبناء بدون تفرقة بين مذهبٍ ومذهبٍ وجنسٍ وجنسٍ، وأوضح دليلٍ على ذلك بقاؤهم على مذهبهم حافظين للغاتهم وجنسيتهم، ولو أننا كنا نفرق بين المذاهب والأجناس - كما تدعي - لحملناهم على رفض مذاهبهم وتغيير لغاتهم، وكنا قادرين على ذلك في وقتٍ لم يكن لك فيه اسمٌ ولا رَسمٌ، بل لم تكن شيئًا مذكورًا. وكذلك إمبراطور الفرنساويين - بما ثبت عنده من البراهين البيِّنةِ على طمع الجرمانيين، وحرصهم، وشرههم - يرى لنفسه الحق في افتتاح الحرب عليهم، وإمبراطور الألمانيين - بما تحقق لديه من كبر الفرنساويين، وعُجبهم، ومجاوزتهم الحد

الخلافة الإسلامية ـ 1

الكاتب: محيي الدين آزاد

_ كتاب الخلافة الإسلامية مُؤَلِّفُهُ باللغة الأوردية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية مُتَرْجِمُهُ بالعربية الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى ... باب (الخلافة) (الخلافة) : مصدرٌ من خلف يخلف خلافة، ومنها (الخليفة) من قولك (خلف فلانٌ فلانًا في هذا الأمر، إذا قام مقامه فيه بعده (ابن فارس) فالخليفة (: هو الذي يخلف مَن قبله، ويقوم مقامه، إما بموته، أو عزله، أو غيبته، أو نصبه إياه في منصبه وسلطته، وفي مفردات الإمام الراغب الأصفهاني: (الخلافة: النيابة عن الغير، إما بغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف) (ص155) . وهذه الكلمة أيضًا من تلك المختارات اللغوية التي اختارها القرآن الحكيم، فنقلها من معانيها اللغوية إلى المعاني المصطلحة الشرعية (كالإيمان والغيب والتقدير والبعث والصلاة) وغيرها من الكلمات التي انتقاها من اللغة لمعنى خاص به، فكلمة (الإيمان) مثلاً تُستعمل في اللغة لليقين، والطمأنينة، وزوال الخوف، والشك، ولكن القرآن يستعملها في يقينٍ أخص من الأول، يصحبه إقرارٌ باللسان، وعملٌ بالجوارح، فصارت اصطلاحًا خاصًّا، دالةً على معنى خاصٍّ به دون دلالتها في اللغة. وكذلك كلمة (الخلافة) كان معناها عامًّا في اللغة، فوضعها القرآن لمعنى أخص من الأول، واستعملها (وكذلك الاستخلاف في الأرض، ووراثتها والتمكين فيها) في العظمة القومية، والرئاسة المِلِّيَّة، والحكومة العامة، والسلطة التامة على الأرض، ومَن فيها من الأمم والشعوب، ويعدها أكبر مِنَّةٍ، وجزاءٍ من الله سبحانه تناله الأمم في هذه الحياة الدنيا على إيمانها وحُسن عملها. أما المراد من هذه الخلافة: فهو أن تقوم في الأرض أمةٌ، وحكومةٌ تأخذ على عاتقها هداية النوع البشري وسعادته، وتنشر لواءَ القسط الإلهي، وتمحق الظلم، والجور، والضلال، والطغيان؛ حتى لا تذر له أثرًا على وجه البسيطة، وتمد رواق الأمن والسكينة، والراحة، والطمأنينة على العالم بأسره، وتقيم ناموس العدل الإلهي الذي يسميه القرآن (بالصراط المستقيم) الذي هو نافذ من الأرض إلى السموات العلى، ومِن ذرات الرمل في الصحراء إلى الشمس، والقمر، والنجوم، وما هو تحت الثرى، فتقيم ذلك الناموس في مشارق الأرض، ومغاربها، وتنفذه في جميع بقاعها ونواحيها؛ حتى تصبح الكرة الأرضية جَنَّةً، ودارَ قرارٍ، وتكون السعادة ضاربةً فيها بأطنابها، والأمنية باسطةً جناحيها من فوقها! وإنما أُطلِقَ لفظُ الخلافة على هذه الخلافة المصطلحة؛ لأن أول أمةٍ، وأول فردٍ لما قام في الأرض بأعباء الخلافة - كان نائبًا عن الله في إقامة عدله، ثم الذين جاءوا بعد تلك الأمة، وذلك الفرد كانوا نائبين عنهم في هذا الأمر، حتى ظهر الإسلام، وقامت الأمة الإسلامية، فانتقلت الخلافة الأرضية الإلهية إليها، فكان أول خليفةٍ مِن هذه السلسلة المباركة صاحب الشرع المتين، ورسول رب العالمين، محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان خليفة الله العظيم مباشرة ثم الذين استووا بعده على منصّة الحكومة الإسلامية المركزية، كانوا خلفاء هذا الخليفة الإلهي والنائبين عنه في الدنيا؛ فلذا سُمُّوا الخلفاء، ولا يزالون يسمون به إلى الآن. وقد تقلبت خلافة الأرض، ووراثتها في أمم كثيرة، قامت كلُّ واحدةٍ منها في نوبتها بخدمة دين الله الحق، وقد ذكرت هذه الخلافة في الآيات الآتية: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: 165) ، {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} (هود: 57) ، {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (يونس: 14) ، {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} (الأعراف: 69) ، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} (ص: 26) . وعبر عن هذه الخلافة (بوراثة الأرض) ، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) وأيضًا (بالتمكِين في الأرض) وهو استفحال القوة، وكمال العظمة الذي ناله فتى إسرائيل في أرض الفراعنة، بعد أن بِيعَ فيها عبدًا، ثم وصل إلى عرش الحكومة، وتاج المُلك بعمله الحق وسيره القويم {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ} (يوسف: 21) . وقد وعد الله به سبحانه المسلمين فقال: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) . وثبت أيضًا من هذه الآية أن الله تعالى إنما يريد من التمكين في الأرض أن تقام عبادته فيها، ويعم الصلاح، والصدق، والهداية فيها، ويصد الإنسان العَنُود عن غيِّه، وعمل المنكر. وعبر في الآية الأخرى عن التمكين في الأرض (بالخلافة) فقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) . نزلت هذه الآية العظيمة بعد هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة، وكانوا فيها خائفين من الكفار، ومحاطين بالأعداء من كل جهة، يصبحون في السلاح، ويمسون في السلاح، فضجر منهم رجلٌ من هذه الحالة، وقال: (ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ !) ، فبشرهم الله بهذه الآية أن لا يهنوا، ولا يحزنوا؛ فإنه لا يضيع أجر إيمانهم، وحسن صنيعهم، فسينالونه بإذنه، ويأمنون أعداءهم، فيذهب الخوف ويحل محله الأمن، ويصيرون ملوكًا وسلاطين، فيكون الأمر أمرهم، والكلمة كلمتهم، وأكبر من ذلك كله أن خلافة الله ستنتقل إليهم، فيرثونها، وتطمئن قلوبهم بها (ذكره الطبري بالمعنى في تفسيره عن أبي العالية، ج 18 ص 109) . وقد تضمن هذه الآية أن مراد القرآن الحكيم بالخلافة، إنما هو خلافة الأرض أي الحكومة والسلطان فيها؛ فإذًا لا بد للخليفة الإسلامي من أن يكون صاحب الأمر والنهي، والحكومة التامة؛ لأنه ليس كبابا المسيحيين، وبطاركتهم فأولئك سلطتهم روحية، وهي خضوع القلوب، وانحناء الرُّءوس أمامهم، بل هو حاكمٌ وسلطانٌ بالمعنى الحقيقي إلا أن سلطته يجب أن تكون تحت الشريعة الإلهية، وليس له حق التشريع ألبتَّة [1] ، ولا أعطته الشريعة سلطةً دينيةً روحانيةً كما أعطت المسيحية للبابوات؛ لأنها تُعِدُّ كل سلطةٍ لغير الله ورسوله شركًا به وكفرًا تمقته أشد المقت وتمحقه من أول ظهوره [2] قال الله سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) ، وقال: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (آل عمران: 79) . هذا، وقد وفى الله تعالى للمسلمين وعده بالخلافة، كما وفى جميع وعوده وعهوده، فلم يمضِ بضع سنين - والرسول بين أظهرهم - إلا وأصبحت جزيرة العرب في قبضة يدهم، وشوهدت جيوشهم خارجة من أسوار المدينة لمقاومة الروم أعداء دينهم، وسبقت خلافة الأرض إليهم، بعد أن نزعت من غيرهم، فكان أول خليفة منهم هو حامل الشريعة الغراء بنفسه - صلى الله عليه وسلم -، ثم الذين قاموا في مقامه من بعده كانوا خلفاءه، وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - بتسميتهم (خلفاء) أنهم ينوبون عنه بعده، فقال للمسلمين: (عليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) (رواه ابن ماجه عن العرباض بن سارية) ؛ ولذا سمي أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لما خلفه خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. *** الخلافة النبوية الخاصة والخلافة الملكية انصبغت الخلافة الإسلامية بعد النبي - عليه الصلاة والسلام - بصبغتين مختلفتين، وظهرت بمظهرين متباينين، وكان - عليه السلام - قد أخبر عنهما، ورفع الستار عن خصائصهما، والأحاديث التي وردت في هذا الباب تكاد أن تكون متواترةً لكثرةِ طرقِها، وشهرة متونها، فخلافة الخلفاء الراشدين المهديين كانت مصبوغةً بصبغة الرسالة، وسائرةً على منهاج النبوة، فكانت خلافة الرسول حقًّا، والخلفاء الراشدون خلفاءه حقًّا، لا في منصة الحكم والسلطان فقط، بل في جميع أعماله وهدْيه، فكانوا مثله دعاة الدين، هداة الأمم، قضاة الشرع، قادة الشعوب، ساسة البلاد، قواد الجيوش، إخوة الحروب، رايات الأمن، قد اجتمعت في شخص كلِّ واحدٍ منهم صفاتٌ كثيرةٌ مما كان مجتمعًا في شخص سلفِهم وهاديهم صلى الله عليه وسلم، فكانوا خلفاءه وحاملي شرعه، بل حلقةً من حلقات عهد الرسالة، وبركةً من بركات زمن النبوة، حكومتهم حكومة إسلامية محضةٌ، ونموذجٌ كاملٌ للنظام الإسلامي، فكانت (حكومة جمهورية) قائمةً على أساس الشورى بالمعنى الصحيح غير أنها لم تدم كثيرًا، بل ماتت بموت علي - عليه السلام - ودفنت معه في أرض الكوفة. ثم ظهرت بعد هذه الخلافة الراشدة، خلافةٌ في حُلَّةٍ غير حُلَّةِ أختها منحرفةٌ عن منهاج النبوة، منقطعةٌ عن مسلك الرسالةِ، فكانت حكومةً دنيويةً ومُلكًا عَضَوضًا، وذلك عندما فشت البدع العجمية، وامتزجت بالمدنية الإسلامية العربية، ولدت جراثيم الفساد في فضاء العالم الإسلامي، فهذه الخلافة - وإن كانت كل حلقةٍ منها أشبه بالخلافة الراشدة من التي جاءت بعدها - لم تكن في مجموعها من محاسن الخلافة الراشدة في شيءٍ؛ ولذا سميت الأولى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخلافة لغلبة الهداية والصلاح عليها، والثانية بالمُلك العَضَوضِ لظهور الاستبداد والقهر فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك) [3] وفي حديث أبي هريرة: (الخلافة بالمدينة، والملك بالشام) [4] ، وأخبر في حديث آخر بأن هنالك ثلاثة أدوارٍ: عهد نبوةٍ ورحمةٍ - عهد خلافة ورحمة - عهد ملك وسلطان، فانتهى الدور الأول بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والثاني بعليٍّ - عليه السلام - كما مر وقد كان هذا الدور بالحقيقة ذيلاً للأول وجزءًا لازمًا له، كما هو سنة الله في دعوة الأديان وتوثيق عرى الشرائع، حيث يجعل الله لكل نبيٍّ خلفاء يقومون بعده بدعوته، ويوطِّدُون دعائم شريعته، ثم جاء بعد هذا وذاك الدور الثالث، دور حكومة وملك عضوض، وهو باقٍ على حاله إلى الآن، ولم يكن الصحابة يجهلون هذا الدور، ولا يستبعدونه، بل كانوا يعرفونه، وينتظرون مجيئه لإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم به. وقد كان هذا الدور أكبر مصيبةٍ ابتُلِيت بها الأمة، فبعد أن كانت ترتع في رياض النبوة، وتجني ثمار الخلافة الراشدة آمنةً مطمئنةً، إذ نَعق ناعق الشر

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 2

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة (2) الضربة الأولى التي ضُرب الإسلام بها كان الواجب أن نبدأ بالفصل الأول والثاني حسب ترتيب الكتاب الذي هو مأخذنا، ولكن بعض الأسباب دعتنا إلى تأخير ذَيْنِكَ الفصلين، وتقديم هذا الفصل: إن الضربة الأولى التي ضُرِبَ الإسلام بها كانت بيد رجلٍ اسمه (عبد الله بن سبأ) ، كان هذا الرجل يهوديًّا، ثم أسلم ظاهرًا، وأعماله تدل على أنه كان يحمل حقدًا شديدًا للمسلمين، وكان يرمي إلى غرضٍ واحدٍ هو تمزيق شمل (الوَحدةِ) الإسلامية، وسلاحه القاطع نشر الخرافات الملائمة لطبائع المسلمين من غير العرب. ذهب هذا الرجل إلى البصرة؛ إذ كان عبد الله بن عامر عاملاً (واليًا) عليها، وسمى نفسه باسم مستعار (ابن السوداء) ، وأخذ ينشر هناك آراءَ تلائم أهواء الذين دخلوا في الإسلام حديثًا. وعند ما بلغ خبره العامل (الوالي) استقدمه إليه، وسأله عن شخصه، وسبب مجيئه إلى البصرة فقال: (أنا رجل من أهل الكتاب أحببت السكنى في دار الإسلام تحت رعايتك) ! ، وإذ لم يقنع الوالي هذا الجوابُ طرده من البصرة. فتزيَّا بزي مسلمٍ مهتدٍ، وطَفِقَ يزرع بذور الفساد بين المسلمين الذين دخلوا في الإسلام حديثا، ولم ينسلخوا من تقاليدهم القديمة، ذهب أولاً إلى الكوفة ثم إلى مصر، وألف جمعيات سرية لأجل القيام على الخليفة بقصد إيقاع الشقاق، والتفريق بين المسلمين. لقيت البذور التي زرعها هذا اليهودي المُتزيِّي بزيِّ المسلمين تربةً خصبةً، وكانت إدارة عثمان بن عفان كمساعد لنموها؛ فتمكن الرجل من تفريق المسلمين في أمر الخليفة، وشق عصاهم، فإذا هم فريقان يختصمون. ولم يكتفِ بذلك، بل تمسك بحبل الاستفادة من شعور الحب والاحترام في القلوب لأهل البيت النبوي الشريف، واستفاد من استخدام هذا الشعور العالي لمقاصده، واتخذ الفجيعة بعلي المرتضى، وولديه سبطي الرسول (عليهم السلام) ذريعةً لدسِّ الدسائس، وتقسيم المسلمين إلى شِيَعٍ؛ لأنه كان يعلم أن العقائد الراسخة، والتقاليد الموروثة، والعادات لا تتبدل في الناس بسرعةٍ بمجرد دخولهم في دينٍ جديدٍ، مهما يكن واضحًا جليًّا ومنطقيًّا معقولاً، كما كان يعلم أن الدين إذا دخل محيطًا غير محيطه الأصلي لا بد أن يضم إليه أشياءَ كثيرةً، ويكتسب لونًا يوافق نظر أهل تلك البلاد؛ لذلك عزم على أن يستفيد من هذا الحال؛ ليضرب الدين ضربةً قاضيةً، فأخذ ينشر قواعد الدين الحنيف صابغًا إياها بصباغ عادات البلاد الموروثة، والناس كانت تستقبل ذلك بشوق وسرور. انتشر الإسلام في فارس، ومصر، وسورية، واستولى عليها، وكان لأهالي هذه البلاد عقائد وعادات قديمة راسخة في القلوب. ومع قبول هؤلاء الناس للدين الإسلامي كانت عاداتهم لا تزال ذات السلطان الغالب عليهم، فسذاجة الدين الإسلامي وبساطته لم تكن كافية لتسكين نيران شوق السكان الأصليين لحب الفخفخة والعنجهية التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم؛ ولذلك كانوا يتلقَّوْن أقاويل عبد الله بن سبأ كماءٍ زُلالٍ تسرَّب إلى قلوبهم المملوءة حرارةً وشوقًا إلى المظاهر الفارغة. وكانوا يحرصون على إلباس الدين الحنيف كساءً جديدًا منسوجًا من خيوط عاداتهم وأساطيرهم، وهذا الشوق من جملة أسباب دخول خرافات إيران، ومصر القديمة والهند في الدين الحنيف. أول مَن تصدى لهدم دين مجوس الفرس، وملكهم الكسروي أبو بكر الصديق الأعظم، وتلاه الفاروق الأعظم، فقضى على ذلك الاستقلال، وجعل تلك الأمة تابعة للعرب الذين كانت تحتقرهم، وتبع ذلك انتشار الإسلام فيهم، فساء هذا وذاك الذين ظلوا مستمسكين بدينهم، ولا سيما أصحاب السلطتين الدينية والدنيوية منهم، فكان منهم بالطبع مَن يندب استقلالهم، ويتربص الفرص لرفع السلطة العربية عنهم، وكانون يمقتون الفاروق مقتًا شديدًا؛ لأنه هو الذي فتح بلادهم، وذهب بعِزِّهم ومجدِهم. في ذلك الوقت استفاد عبد الله بن سبأ من مجرى الأحوال، كما استفاد في زمان ذي النورين، وظهر بمظهر المدافع عن حقوق آل البيت، فخدع بعض العرب، ومهَّد الطريق أمام سياسيي المجوس لأخذ الثأر، والانتقام من العرب، وإعادة الاستقلال السياسي لبلادهم؛ بحجة الانتصار لآل البيت. وأما مقصد عبد الله بن سبأ فلم يكن إلا تفريق المسلمين بجعْلهم شيعتين متعاديتين، تقاتل كل منهما الأخرى، مستفيدًا من شعور المسلمين معتمدًا على أهواء الفرس، فاستفاد من إحساس العرب ومن دهاء العجم. بث أولاً دعوة حصر الخلافة والإمامة في عليٍّ وأولاده - رضوان الله عليهم - ثم ادعى ألوهية عليٍّ، حتى قال له: (أنت الله) ! ، عندئذٍ نفاه - كرم الله وجهه - إلى المدائن ولكنه ظل مثابرًا على نشر دعوته. قلنا إن الذي بدأ بالمسألة الإيرانية أبو بكر الصديق، والذي ضرب الضربة القاضية عمر الفاروق، وفي زمان ذي النورين عام 31 هجرية قُتل آخر ملوك إيران (يزدجرد) ؛ فكان هذا من دواعي تشيع عبد الله بن سبأ لعلي - رضي الله عنه - لأجل أن يشق عصا المسلمين، ويفرق شمل العرب؛ فيجعلهم فريقين مُختصِمَين، ويوقع الشبهات في العقيدة الإسلامية الجامعة للكلمة، ويُجرِّئ المجوس من الفرس على أخذ ثأرهم، ومحاولة استعادة ملكهم. وبعد أن توفَّى الله أبا الحسنين طَفِقَ يقول: (لم يمُت عليٌّ وإن الذي قتله ابن ملجم شيطانٌ، تمثل بصورة عليٍّ؛ لأن صهر النبي صعد إلى السماء، والرعد صوته، والبرق لمعان سيفه، وسينزل يومًا إلى الأرض، ويَمْلَؤُها عدلاً) ! وقد صدَّقَ كثيرٌ من العوام الجاهلين أقوال هذا اليهوديِّ الماكر؛ لأن دأبهم تصديق كل قائلٍ، واتباع كل ناعقٍ، ولا سيما إذا كانت هذه الأقوال قريبةً من تقاليدهم، كما هو شأن أولئك الذين دخلوا الإسلام حديثًا من النصارى، واليهود، والمجوس، فالقول بألوهية عليٍّ، وربوبيته كالقول بربوبية عيسى وألوهيته، والقول بنزول عليٍّ إلى الأرض لأجل إصلاحها - يوافق اعتقاد النصارى (الذين ينتظرون نزول عيسى من الملكوت إلى الأرض) ، ولا يبعد عن اعتقاد اليهود ظهور مسيح آخر، وقد تلقاه الإيرانيون بأحسن قبولٍ؛ لأنه يشابه اعتقادهم أن (هرموز) بموجب دين (زرادشت) - صعد إلى السماء، وسينزل يومًا ما إلى الأرض؛ وبهذا الشكل جعل اليهود، والنصارى، والمجوس راضين مطمئنين؛ لأنه أتاهم بشيءٍ أَنِستْ به أرواحهم، ولَطَمَ الحنيفية لطمةً، لطَّخَ بها جسمها الناصع البياض لطخةً مُبايِنَةً للونه الجميل، فكانت هذه أوَّل خرافةٍ سرت إلى أهل هذا الدين الحنيف. العوام غريبو الطبع، يتَّبِعون كل ناعقٍ، ويركضون خلف كل صوتٍ بسهولةٍ؛ لذلك تمكن هذا اليهوديُّ (عبد الله بن سبأ) من تكوين حزبٍ دينيٍّ، وشِيعةٍ سُمِّيتْ (السبائية) . وإذ كان أفراد هذه الفرقة التي زالت، ولم تزل خرافاتها - يعتقدون أن الرعد صوت علي - عليه السلام - صار من شعائرها أن يقولوا كلما تألق البرق بالتقاء الكهربائية الإيجابية بالسلبية: (السلام عليك يا أمير المؤمنين) ! *** الأسباب التي مهدت لظهور هذه الفرقة ثلاثة: السبب الأول: سيرة عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: في إرخاء العِنَان لمروان، وكثرة استعماله لأقاربه، ومحاباته لهم، خلافًا لما جرى عليه الخليفتان قبله؛ فبذلك كثر الناقمون الطالبون لتغيير الحال، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ، فلو اتُّبِعَتْ هذه الآية الكريمة لما وجد عبد الله بن سبأ محلاًّ خصبًّا لبذر بذوره. السبب الثاني: افتتح المسلمون بسيف الحق ومكارم الأخلاق بلاد الفرس والروم (مستعمرات الرومان) . وكانت هاتان الدولتان في ذلك الوقت على غايةٍ من الانحطاط، وفساد الأخلاق، وكان أبو بكر الصديق، والفاروق - رضي الله عنهما - يبذلان الجهد لحفظ كرامة الإسلام، ورفعته ونقائه، ويحذران عليه من سريان أمراض تَيْنك الأمتين الروحية والاجتماعية إلى العرب، وناهيك بعناية الفاروق، وحرصه على معالي الأخلاق والفضيلة والشرف، فمتانته في الدين، وصلابته في الحق، وعدالته التامة بين الخلق كانت تجذب إلى الإسلام فضلاءَ الأمتين (الفرس والروم) ، كما يجذب المغناطيس الحديد، ومن سوء حظ الأمم المنحطة أن يكون أبناؤها المتحلون بالفضائل خصومًا لها، كما وقع في هاتين الأمتين، وغيرهما من الأمم [1] . وأول ما كان الفاروق يعتني به هو منع الامتزاج بين العنصرين الغالب والمغلوب كما يفعل الإنكليز اليوم [2] . ولكن عندما صار الأمر إلى عثمان ذي النورين، وحصل الشقاق بين بني هاشم، وبين الأمويين - تمكنت عادات الفرس والروم (إيران وبيزانس) من التسرب إلى المسلمين؛ وهذا مما جعل بذور عبد الله بن سبأ تنبت، ثم تثبت في هذه القلوب، فبرجوع مروان إلى المدينة - وهو المطرود منها بأمرٍ نبويٍّ - وجعْله على رأس رجال الحلِّ والعقد، وتعيين أكثر الأمويين ولاةً واشتداد الخصام بين الأمويين وبني هاشم - أُهملت أحكام الشرع الأنور. وكانت شكايات الناس، وتظلُّماتهم تصل إلى عثمان - رضي الله عنه - بصورةٍ مقلوبةٍ، لا يعرف بها حقيقتها، إلى أن اشتد البأس، ونفد الصبر؛ فَسُفِكَ الدَّمُ، أفكان صيِّبًا نافعًا يسقي بذور أعداء الإسلام؟ ! السبب الثالث: توسيد الأمور السياسية التامة إلى غير العرب من المسلمين: فلو حصرت الحقوق السياسية - أي حق التدخل بأمر الإدارة وتنفيذها - بالعرب لما حصل ما حصل؛ فإن بعض الذين أسلموا لم يكن إسلامهم حقيقيًّا، بل اتخذوا الإسلام سلاحًا لجرح الإسلام، ثم كانوا أمهر من العرب بالدسائس السياسية، فاستفادوا من صفاء قلوب العرب، وكَدَّروها كما شاؤوا بكل سهولةٍ. ألم تر إلى الدول التي تغلب الشعوب على أمرها في هذا العصر، لا تعطي مثل هذا الحق للمغلوبين ألبتة؟ ! أيتصور اليوم أن يدخل مجلس النواب الإنكليزي أعضاءٌ من فلسطين أو الهند، ويكون لهم رأيٌ في أمور الإدارة والسياسة؟ ! إن رجال دول الاستعمار في هذا العصر يبعدون المغلوبين عن الوظائف العالية، إداريةً كانت أو سياسيَّةً أو عسكريَّةً؛ لأنهم درسوا التاريخ، وعرفوا علَّة انحطاط مَن سبقهم مِن الأمم؛ فاعتبروا بخطيئات المتقدمين [3] . ((يتبع بمقال تالٍ))

العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية ذهب وفد وزارة عدلي باشا الرسمي إلى لندره؛ لأجل الاتفاق مع حكومتها على رفع الحماية البريطانية عن مصر واستبدال علاقةٍ أخرى بين البلدين بعد أن صَدَّعَ هذا الوفد بناءَ الوَحدةِ المصرية، وفرَّق كلمتها، فمن جرَّاءِ هذا كان نصيبه الفشل، واغتر الإنكليز بتفريق الكلمة بقوة الوزارة المصرية، فوضع اللورد كيرزون لمصر نظامًا جديدًا، حذف به كلمة (الحماية) ، وأبقى معناها، بل ما هو أشد منه في استعباد البلاد، واستذلالها الأبديِّ، فلم يَسَعْ عدلي باشا، ووفده قبول هذا النظام باسم مصر، بل عاد إليها، وبعد عودته بأيامٍ نشرت الحكومة الوثائق الثلاث الآتية في المسألة المصرية، وها هي ذي بنصها: بلاغٌ رسميٌّ رفع حضرة صاحب الدولة عدلي يكن باشا رئيس مجلس الوزراء، ورئيس الوفد الرسمي المصري إلى حضرة صاحب العظمة السلطانية بطريق البريد - مشروع المعاهدة الذي وضعته الحكومة البريطانية وجواب الوفد الرسمي المصري عليه، وهذه ترجمة هاتين الوثيقتين: ترجمة مذكرة بخصوص مشروع اتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر أولاً - انتهاء الحماية: (1) في مقابل المعاهدة الحالية، والتصديق عليها تقبل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى رفع الحماية المعلنة على مصر في 18 ديسمبر سنة 1914، والاعتراف بمصر من ذلك الحين دولةً متمتعةً بحقوق السيادة STATE SOVEREING تحت إمرةٍ ملوكيةٍ دستوريةٍ، فبمقتضَى هذا قد أُبرمَت، وتستمر باقيةً بين حكومةِ جلالة ملك بريطانيا من جهةٍ، وبين حكومة مصر، والشعب المصري من الجهة الأخرى معاهدةٌ دائمةٌ ورابطة سلامٍ، وودادٍ وتحالُفٍ. ثانيًا- العلاقات الأجنبية: (2) تتولى الشؤون الخارجية لمصر وزارةُ الخارجية المصرية تحت إدارة وزيرٍ معيَّنٍ لذلك. (3) يمثل حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى في مصر قوميسير عالٍ، يكون له في جميع الأوقات - وبسبب مسؤولياته الخاصة - مركز استثنائي، ويكون له حق التقدم على ممثلي الدول الأخرى. (4) يمثل الحكومة المصرية في لوندره، وفي أية عاصمةٍ أخرى ترى الحكومة المصرية أن المصالح المصرية يمكن أن تستدعي هذا التمثيل فيها فيها معتمدون سياسيون، يكون لهم لقب ومرتبة وزيرٍ. (5) بالنظر للتعهدات التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها في مصر، وعلى الخصوص فيما يتعلق بالدول الأجنبية - يجب أن توجد أوثق الصلات بين وزارة الخارجية المصرية، والقوميسير العالي البريطاني الذي يقدم كل المساعدة الممكنة للحكومة المصرية فيما يتعلق بالمعاملات والمفاوضات السياسية. (6) لا تدخل الحكومة المصرية في أي اتفاقٍ سياسيٍّ مع دولةٍ أجنبيَّةٍ بدون أن تستطلع رأي حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى بواسطة القوميسير العالي البريطاني. (7) تتمتع الحكومة المصرية بحق تعيين ممثلين قنصليين في الخارج حسب مقتضياتها. (8) لأجل تولي الشؤون السياسية بوجهٍ عامٍ والقيام بالحماية القنصلية للمصالح المصرية في الأماكن التي لا يوجد فيها ممثلون سياسيون، أو قناصل مصريون - يضع ممثلو جلالة ملك بريطانيا العظمى تحت تصرف الحكومة الحكومة المصرية لمصرية ويقدمون لهم كل مساعدة في قدرتهم. (9) تستمر حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى على تولي المفاوضة لإلغاء الامتيازات الحالية مع الدول ذوات الامتيازات، وتقبل مسؤولية حماية المصالح المشروعة للأجانب في مصر، وتتداول حكومة جلالة الملك مع الحكومة المصرية قبل البت في هذه المفاوضات رسميًّا. ثالثًا - النصوص العسكرية (10) تتعهد بريطانيا العظمى بمساعدة مصر في الدفاع عن مصالحها الحيوية، وعن سلامة أراضيها. لأجل القيام بهذه التعهدات، ولحماية المواصلات الإمبراطورية البريطانية الحماية اللازمة - تكون للقوات البريطانية حرية المرور في مصر، ولها أن تستقر في أي مكانٍ في مصر، ولأية مدةٍ يحددان من وقتٍ لآخر. ويكون لها أيضًا في كل وقتٍ ما لها الآن من التسهيلات لإجرائه، واستعمال الثكنات، وميادين التمرين، والمطارات والترسانات الحربية والمين الحربية. رابعًا - استخدام الموظفين الأجانب (11) بالنظر للمسئوليات الخاصة التي تتحملها بريطانيا العظمى، وبالنظر للحالة القائمة في الجيش المصري، والمصالح العمومية - تتعهد الحكومة المصرية بأن لا تعين ضبّاطًا أو موظفين أجانب في أية مصلحةٍ منها قبل موافقة القوميسير. خامسًا - الإدارة المالية (12) تعين الحكومة المصرية - بعد استشارة حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى - قوميسيرًا ماليًّا توكل إليه في الوقت المناسب الحقوق التي يقوم بها الآن أعضاء صندوق الدَّيْن، ويكون هذا القوميسير المالي مسؤولاً بوجهٍ أخص عن دفع المطلوبات الآتية في مواعيدها وهي: (1) المبالغ المخصصة لميزانية المحاكم المختلطة. (2) جميع المعاشات والسنويات الأخرى المستحقة للموظفين الأجانب المحالين على المعاش وورثتهم. (3) ميزانيتا القوميسيريين المالي، والقضائي، والموظفين التابعين لهما. (13) لأجل أن يؤدي القوميسير المالي واجباته كما ينبغي - يجب أن يحاط إحاطةً تامةً بجميع الأمور الداخلة في دائرة وزارة المالية، ويكون له - في كل وقتٍ - التمتع بحق الدخول على رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية. (14) ليس للحكومة المصرية عقد قرضٍ خارجيٍّ، أو تخصيص إيرادات مصلحةٍ عموميةٍ بدون موافقة القوميسير المالي. سادسًا - الإدارة القضائية (15) تُعيِّن الحكومة المصرية بالاتفاق مع حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى - قوميسيرًا قضائيًّا، يكلَّف بسبب التعهدات التي تحملتها بريطانيا العظمى للقيام بمراقبة تنفيذ القانون في جميع المسائل التي تمس الأجانب. (16) لأجل أن يؤدي القوميسير القضائي واجباته كما ينبغي - يجب أن يحاط إحاطةً تامةً بجميع الأمور التي تمس الأجانب، وتكون من اختصاص وزارة الحقانية والداخلية، ويكون له في كل وقتٍ التمتع بحق الدخول على وزيري الحقانية والداخلية. سابعًا - السودان (17) حيث إن رقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر ولدوام مورد المياه لها - تتعهد مصر بأن تستمر في أن تقدم لحكومة السودان نفس المساعدات الحربية التي كانت تقوم بها في الماضي، أو أن تقدم بدلاً من ذلك لحكومة السودان إعانةً ماليةً تحدد قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين، تكون كل القوات المصرية في السودان تحت أمر الحاكم العام. وغير ذلك تتعهد بريطانيا العظمى بأن تضمن لمصر نصيبها العادل من مياه النيل؛ ولهذا الغرض قد تقرر أن لا تُقام أعمال ريٍّ جديدةٍ على النيل أو روافده جنوبيّ وادي حلفا بدون موافقة لجنةٍ مؤلَّفةٍ من ثلاثة أعضاءٍ، يمثل أحدهم مصر، والثاني السودان، والثالث أوغندا. ثامنًا - قروض الجزية (18) المبالغ التي تعهد خديوي مصر في أوقاتٍ مختلفةٍ بدفعها للبيوت المالية التي أصدرت القروض التركية المضمونة بالجزية المصرية - تستمر الحكومة المصرية على تخصيصها كما كان في الماضي؛ لدفع الفوائد، والاستهلاك لقرضي سنة 1894، وسنة 1891، إلى أن يتم استهلاك هذين القرضين. تستمر الحكومة المصرية أيضًا في دفع المبالغ التي كان جاريًا دفعها لسداد فوائد قرض سنة 1855 المضمون. عندما يتم استهلاك قروض سنة 1894، وسنة 1891، وسنة 1855 تنتهي مسؤولية الحكومة المصرية فيما يتعلق بأي تعهدٍ ناشئٍ عن الجزية التي كانت تدفعها مصر لتركيا سابقًا. تاسعًا - اعتزال الموظفين والتعويض المستحق لهم (19) للحكومة المصرية الحق في أن تستغني عن خدمة الموظفين البريطانيين في أي وقتٍ كان بعد نفاذ هذه المعاهدة، بشرط أن يُمنح هؤلاء الموظفون تعويضًا ماليًّا كما سيأتي بيانه، وذلك زيادة على المعاش، أو المكافأة التي يستحقونها بمقتضى أحكام استخدامهم. ويكون للموظفين البريطانيين الحق بنفس هذا الشرط في الاستعفاء من الخدمة في أي وقتٍ بعد نفاذ هذه المعاهدة. تسري جميع هذه الأحكام على الموظفين الذين لهم الحق في المعاش، والذين ليس لهم الحق في المعاش، وأيضًا على موظفي البلديات، ومجالس المديريات، والهيئات المحلية الأخرى. (20) الموظفون المرفوتون أو المحالون على المعاش - طبقًا لنص المادة السابقة - تُعطى لهم زيادة على التعويض إعانة إياب لبلادهم، تكون كافية لسد نفقات ترحيل الموظف نفسه، وعائلته، ومتاعه المنزلي إلى لوندره. (21) تُدفع التعويضات والمعاشات بالجنيهات المصرية باعتبار سعرٍ ثابتٍ قدره 97،5 قرشًا للجنيه الإنجليزي. (22) يوضع جدول عن التعويضات: (1) للموظفين الدائمين. (2) للموظفين المؤقتين. بمعرفة رئيس جمعية خبراء حسابات التأمين arles Societiofuact. عاشرًا - حماية الأقليات (23) تتعهد مصر بأن النصوص الوارد ذكرها فيما بعد تعتبر قوانين أساسية، وألا يتضارب معها، أو يؤثر عليها أي قانون، أو لائحة، أو عمل رسمي، وألا ينقض مفعولها قانون، أو لائحة، أو عمل رسمي. (24) تتعهد مصر بأن تضمن لجميع سكان مصر الحماية التامة الكاملة لأرواحهم، وحريتهم، مِن غير تمييزٍ، بسبب مولدهم أو تبعيتهم الدولية، أو لغتهم، أو جنسهم، أو دينهم. يكون لجميع سكان مصر الحق في أن يقوموا بحريةٍ تامةٍ علانيةً أو غير علانيةٍ بشعائر أية ملةٍ، أو دينٍ، أو عقيدةٍ ما دامت هذه الشعائر لا تنافي النظام العام أو الآداب العمومية. (25) جميع الحائزين للرعوية المصرية يكونون متساوين أمام القانون، ويكون لكل منهم التمتع بما يتمتع به الآخرون من الحقوق المدنية والسياسية، مِن غيرِ تمييزٍ بسببِ الجنسِ أو اللُّغةِ أو الدينِ. اختلاف الأديان، والعقائد، والمذاهب لا يؤثر على أي شخصٍ حائزٍ للرعوية المصرية في المسائل الخاصة بالتمتع بالحقوق المدنية والسياسية مثل: الدخول في الخدمات العمومية، والتوظف، والحصول على ألقاب الشرف، أو مزاولة المهن، أو الصناعات. لا يسوغ فرض أي قيدٍ على أي شخصٍ متمتعٍ بالرعوية المصرية في حرية استعماله لأية لغةٍ في معاملاته الخصوصية، أو التجارية، أو في الدين، أو في الصحف، أو في المطبوعات مِن أي نوعٍ كانت، أو الاجتماعات العمومية. (26) الأشخاص الحائزون للرعوية المصرية التابعون للأقليات القومية، أو الدينية، أو اللغوية يكون لهم الحق في القانون، وفي الواقع في نفس المعاملة، والضمانات التي يتمتع بها غيرهم من الحائزين للرعوية المصرية، وعلى الخصوص يكون لهم حقٌّ مساوٍ لحق الآخرين في أن يُنشئوا أو يُدِيروا أو يراقبوا على نفقتهم معاهد خيرية، أو دينية، أو اجتماعية ومدارس، أو غيرها من دور التربية، ويكون لهم الحق في أن يستعملوا فيها لغتهم الخاصة، وأن يقوموا بشعائر دينهم بحريةٍ فيها. اهـ. *** ترجمة رد الوفد المصري الرسمي (على مشروع الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر) اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى رئيس الوفد بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1921. ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن فيما يتعلق بأكثر المسائل التي تناولتها مناقشاتنا، والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة شهورٍ - نفس النصوص، والصيغ التي عُرِضت علينا عند بدء المفاوضات، ولم نقبلها حينئذٍ. فعن المسألة العسكرية - وهي ذات أهميةٍ كبرى - استبقى المشروع الحل الذي قاومناه أشد مقاومةٍ، ولم يقتصر على ذلك، بل توسع في مرماه بما جعله أشد وطأةً على أن حماية المواصلات الإمبراط

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (باحثة البادية) بحث انتقادي بقلم الآنسة مي قد اشتهر هذا الكتاب بين الناطقين بالضاد في كل قطرٍ تُنشَر فيه، أو تُقرَأ الصحف العربية، فقد قرَّظته صحف القطر المصري، فالقطر السوري، فسائر الجرائد العربية في سائر الأقطار، فكان له في صفحاتها أجمل الذكر والثناء؛ إذ كان غريبًا في بابه، عديم النظير في الكتب العربية في نفسه، وفي كون منشئته فتاة عربية تترجم عقليةً عربيةً بأسلوبٍ عربيٍّ جمع بين تأثير الشعر ودقة الفلسفة وتحقيق التاريخ. وقد عرف قراء هذه الصحف أن (باحثة البادية) لقبٌ أدبيٌّ مُنْتَحَلٌ للأديبة المصرية الشهيرة فقيدة الإصلاح (مَلَك ناصف) عقيلة عبد الستار بك الباسل (رحمها الله تعالى) كانت تتنكر عليّ به على عادة ربات الحِجال المسلمات في عصرنا، وإن (ميًّا) لقبٌ أدبيٌّ منتحلٌ للأديبة المصرية النشأة السورية الأصل الآنسة (ماري زيادة) أمتع الله الآداب العربية بطول حياتها، وأن هاتين النابغتين العربيتين قد فاقتا جميع بنات جنسهما في هذا العصر، بل تفاخر مصرُ العربية بهما بنات كل شعبٍ وكل مصرٍ. نشر هذا الكتاب مطبوعًا منذ سنتين، وأهدته إليَّ المؤلفة، وأنا في دمشق فكانت مطالعته مروِّحةً لنفسي مما أُكابد من أعمال رياسة المؤتمر، وسياسة الوطن، وتبريح المرض، والبعد عن الأهل والولد، فتوجهت الإرادة إلى العناية بتقريظه، والاستقصاء لوصْفه، والبحث في نقده على إِثْر التأثُّر بقراءته، فحالت دون ذلك كارثة زحف الجند الفرنسي على الشام، وإسقاطه لحكومتها المبنية على أساس الاستقلال، واشتداد المرض، ومنع المعتمد البريطاني إياي من العودة إلى وطن السكن، فأحلت أمر تقريظه إلى مَن كان يقرظ غيره من المطبوعات التي تُهدى إلى المنار، على ما كان من تقصيره في حقوق المهدين والقراء، فجرى فيه وفي كثيرٍ من الكتب على مذاهب الإرجاء، وحسبي من قضاء حقه هذا التنويه الآن، وأرجو أن أعود إليه في وقتٍ أُطيل فيه البحث في شئون تربية النساء. *** (كتاب المسألة الشرقية) المسألة الشرقية في علم السياسة أهم من مسألة التحسين والتقبيح العقليين في علم الكلام، وأعقد من مسألة تربيع الدائرة في علم الهندسة، ونحن الشرقيين أحوج إلى الإحاطة بها، والوقوف على عللها ومعلولاتها منا إلى العلم بسائر مسائل السياسة، ومستمدها من علم التاريخ. وقد كان أكثر أهل الشرق غافلين عن هذه المسألة لعدم المنبهات، الموقظة من ذلك السُّبات؛ ولهذا افترضنا مسألة تألم العالم الإسلامي من مسألة طرابلس الغرب، وبرقة؛ فكتبنا عشر مقالاتٍ بعنوان (المسألة الشرقية) نشرناها في المؤيد، ثم في المنار، فكان لها تأثيرٌ عظيمٌ ذكرناه في محله من قبل. ثم جاءت الحرب الكبرى - وما تلاها من الهدنة، وبناء قواعد الصلح بين الدول الغربية على حل المسألة الشرقية حلاًّ نهائيًّا - فتم تنبه أذهان الشرقيين عامةً، والمسلمين خاصةً للبحث في هذه المسألة، فبعث ذلك حسين لبيب أفندي أستاذ التاريخ في مدرسة القضاء الشرعي على وضع كتابٍ وجيزٍ في المسألة نشرتْهُ مجلة الهلال المصرية، ثم طبعته على حِدَته في جزءٍ بلغت صفحاته 120 ص من قطع المنار، وهو خاصٌّ بطور المسألة الشرقية العثمانية التركية، وقد استمد مسائله من كتب التاريخ العربية، والإفرنجية والجرائد. وهو مؤَلَّفٌ من مقدمة في التعريف بالمسألة، وستة فصول، بيَّن فيها معنى المسألة، وأسباب ضعف الدولة، وما كان من نهضة الدولة الروسية وقتالها إياها لحل المسألة الشرقية، والانقلاب العثماني الأخير، ومسألة استقلال العناصر، وخاتمةٍ في حال الدولة العثمانية في الحرب العظمى، ومعاهدة سيفر المقررة للقضاء على سلطنتها (ونحمد الله تعالى أن أماتها عقب ولادتها) ، والكتاب مزين بصور عظماء رجال الدولة مِن المتقدمين، والمتأخرين، ويتصل به خريطةٌ تاريخيةٌ لأملاك الدولة في القرن الماضي. فنحُثُّ كل مَن يهمه أمر الشرق، والدولة العثمانية من قراء العربية - أن يطالع هذا الكتاب المختصر المفيد. *** (مفاوضات الإنكليز بشأن المسألة المصرية) نشر أمين بك الرافعي مدير جريدة الأخبار في العام الماضي مقالات في الأخبار في تاريخ اعتداء الدولة البريطانية على البلاد المصرية واحتلالها إياها، وما تبع ذلك من الوقائع، والأحداث، والمفاوضات السياسية الدولية في شؤون هذه البلاد، كشف فيها القناع عن الدهاء، والرياء، والخداع الإنكليزي، الذي يجب على كل مصريٍّ، وكل عربيٍّ، بل كل شرقيٍّ - أن يعرفه ويعتبر به، وكنا كلما قرأنا مقالةً من تلك المقالات نرى وجوب حفظ الجريدة؛ لأجل الرجوع إليها، ثم نتمنى لو تُجمع تلك المقالات في كتابٍ خاصٍّ. وكان يتمنى ذلك مثلنا كل مَن يعرف قيمتها وشدة الحاجة إليها، وما كان من تعب الكاتب في جمع تلك الحقائق، وإبرازها في الصيغة النافعة المؤثرة، وقد كاشف الكاتب بذلك كثيرون منهم واقترحوه عليه فأجابهم إليه، وطُبعت المقالات على ورقٍ جيدٍ فكانت كتابًا تاريخيًّا سياسيًّا جليلاً، بلغت صفحاته 270 من قطع المنار، فنحُثُّ كل مَن يُعنى بالسياسة من قراء العربية على قراءة هذا الكتاب مرارًا، ونتمنى لو ينتشر في جميع الأقطار العربية، ولا سيما المخدوعة منها إلى اليوم بالسياسة الإنكليزية، وثمن النسخة منه 25 قرشًا مصريًّا تضاف إليها أجرة البريد. *** (كتاب الإرشادات الصحية والإسعافات الوقتية) الأطباء أنفع العلماء بسنن هذا الكون للبشر، وأكثرهم قد قصر نفعه على معالجة المرضَى التي هي حرفتهم، ومنهم أفرادٌ ينفعون الناس بعلمهم هذا، وبما ينشرون من الكتب النافعة، وهم قليلون، وأقل منهم مَن لا تقف همته عند هاتين الخدمتين العملية والعلمية، بل تتجاوزها إلى السعي لإنشاء المستشفيات، والملاجئ للفقراء وغير ذلك من الأعمال الاجتماعية التي ترتقي بها الأمم؛ والدكتور عبد العزيز بك نظمي من هؤلاء الأفراد، الذين تفتخر بهمتهم هذه البلاد، فهو على كثرة عمله في عيادته الذي هو حق الحرفة، وعمله في مستشفيات الأوقاف بما توجب عليه الوظيفة (حكمباشي مستشفيات الوزارة) ، وعمله في ملجأ الحرية الذي أُسِّس بسعيه الحميد - يجد سعةً فيما يقتصد من وقته للتأليف، فله عدة كتبٍ باللغة العربية، أكثرها في تربية الأطفال ومعالجتهم، وهو أخصائي في ذلك، وأخرى باللغة الفرنسية. وآخر ما كتبه هذا الكتاب الذي نحن بصدد تقريظه، فقد نشره بالطبع في أول هذا العام، واسمه يدل على مسماه، وهو يتألف من مقدمةٍ وأربعة أقسامٍ. فالمقدمة في التعريف بقانون الصحة، والقسم الأول: في الإرشادات الصحية المتعلقة بالأغذية، والأشربة، والماء، والهواء، والنور، والنوم، والملابس، والرياضة، ومضار المُسكِرات، والمُخَدِّرات، والثاني: في التمريض، وفيه 3 فصول، والثالث: في الأمراض الكثيرة الانتشار في الظاهر والباطن، وطرق اتقائها، والرابع: في الإسعافات الطبية بأنواعها، ويتلوها بيان الصيدلية المنزلية، أي ما ينبغي أن يكون في كل دارٍ من العلاجات، والمطهرات، والأدوات التي تشتد الحاجة إليها، لا سيما للإسعاف عند حدوث مرضٍ، أو حرقٍ، أو جرحٍ، أو لدغٍ، أو لسعٍ، وعبارة الكتاب سلسةٌ، يفهمها كل متعلمٍ ومتعلمةٍ، وإن لم يخلُ - كأكثر المطبوعات العصرية - من أغلاط لفظيةٍ، يحسن تصحيحها في الطبعة الثانية، وفيه عدة صورٍ ورسومٍ لإيضاح بعض المسائل. وجملة القول فيه أنه ينبغي أن لا يخلو منه بيتٌ من البيوت، ولا أن يجهل ما أودعه رجلٌ ولا امرأةٌ؛ فكل ذلك مِن الضروريات التي لا يُستغنَى عنها. وصفحاته 170 من قطع كتاب (الإسلام والنصرانية) . وثمن النسخة منه 10 قروش صحيحة، وأجرة البريد، وهو يُطلب من مكتبة المنار.

تنبيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنبيه ضاق هذا الجزء عن سائر المواد الموعود بها، ومنها البدء بالرحلة الأوربية.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار رجم الأيِّم بالزنا (س4) من صاحب الإمضاء أحد تلاميذنا المصريين في دار الدعوة، والإرشاد، إنكم في تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ ... } (النساء: 25) ... إلخ من سورة النساء (جزء خامس ص25-26) - استنكرتم رجم الأيِّم، وقلتم لم يرد فيه حديث صريح. أفليس حديث عبادة عند مسلم مرفوعًا: (خذوا عني؛ قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب الرجم الرجم) والثيب هو غير البكر، فهو شامل للأيِّم، ولذي الزوج. وحديث عمر عند الشيخين، واللفظ للبخاري، قال: (الرجم في كتاب الله حق على مَن أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) ، قال شارحه صاحب الفتح: أي إذا وجدت المرأة الخَليَّة من زوجٍ أو سيدٍ حُبلى ولم تَذكر شبهةً أو إكراهًا إلخ، وهو كما قال، وإلا فكيف يكون الحبل دليلاً على الزنا إلا إذا كانت خليةً من زوجٍ وسيدٍ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الولد للفراش، وللعاهر الحجر) ، فإطلاق حديث مسلمٍ وتفصيل حديث الصحيحين - يفيدان أن حكم الأيِّم في الزنا الرجم كحكم ذي الزوج سواء، فكيف تقولون: لم يرد في ذلك حديثٌ صريحٌ؟ ! (ج) قد راجعت قبل البدء بكتابة هذا الجواب نص عبارتي في تفسير الآية وهو: (لا أذكر أنني رأيت حديثًا صريحًا في رجم الأيِّم الثيب) وقد كنت كتبت في حاشية نسختي الخاصة بإزاء هذه العبارة ما نصه: (وكان الأولى تقديم الثيب على الأيم، والمراد رجم مَن كانت كذلك بالفعل لا بالقول، وقد يقال إنه يدخل في عموم حديث عبادة بن الصامت عند أحمد، ومسلمٍ، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه أن (على الثيب الجلد والرجم، وعلى البكر الجلد والنفي) ، ولكن أكثر الفقهاء لم يأخذوا بهذا الحديث؛ إذ لم يجمعوا بين الجلد والرجم، وفيه احتمال أن يراد بالثيب فيه المحصن بالفعل وهو ذو الزوج. وفي أثر عمر في الصحيحين، وغيرهما أن حمل المرأة المحصنة دليلٌ على الزنا موجبٌ للرجم، ولم يأخذ كثيرٌ من الفقهاء بهذا كالشافعي، والكوفيين وقال النووي في شرح مسلمٍ: إن هذا مذهب عمر. وأقول: صح عنه أنه لم يعمل به في قصة المرأة الحُبلى التي اعترفت له في منى بأن رجلاً جامعها وهي نائمةٌ، ولم تعرفه. اهـ. كتبت هذا لِما يقع من الاشتباه فيه لإيضاحه عند التوسع الذي وعدت به، وأزيد الآن أن الجمهور قد تركوا العمل بحديث عبادة للجزم بنسخه، واستدلوا على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه لم يعمل به، فهو لم يجمع بين الرجم والجلد في حدِّ ماعز والغامدية المتأخر عن ذلك الحديث. والتحقيق في اللغة أن الثيب: المتزوج، كما يُعلم من المصباح واللسان. وعللوه بأنه مِن ثاب بمعنى: رجع، فالبكر ترجع بالزواج إلى صفةٍ أخرى تسمى بها ثيِّبًا، والأيِّم ترجع وتثوب مِن رجل إلى آخر، فهي إنما تسمى ثيِّبًا باعتبار ما آلت إليه، لا ما كانت فيه، فلا غَرْوَ إذا وردت في الحديث بمعنى المحصن. وما ذكره عن عمر - رضي الله عنه- ليس بحديثٍ فيُعد حجةً، ولو كان حديثًا مرفوعًا لأخذ به الشافعي والحنفية، على أن عمر قد عبَّر بالإحصان، وكون الولد للفراش - لا يمنع ثبوت حمل المحصنة بالزنا، فإن له صورًا لا تخفى. ثم إن مذهب عمر في رجم الثيب المحصن من ذكرٍ وأنثى قد أخذه من روايته في رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا، وكونه قرآنًا، وهو شاذٌّ لم يثبت كونه قرآنًا، ولو ثبت لوجب أن يكون خاصًّا بالشيخ والشيخة؛ لأنه الشيخوخة وصف ترتب عليه الحكم، فأفاد كونه علةً له كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) وحكمته ظاهرةٌ، ولو كانا غير محصنين، فإن الزنا في سن الشيخوخة فسادٌ كبيرٌ، ويستحق أقصى العقوبة؛ ولذلك ورد في الحديث الصحيح أن الشيخ الزاني لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذابٌ أليمٌ كالفقير المستكبر. وأما ثبوت الرجم بالسنة فلم ننكره، وإنما كان البحث فيما دل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} (النساء: 25) ، وحديث أحمد والبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم -: (قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه) ، وهو الجلد بالإجماع، وكون حكمة الشرع تقتضي أن يكون الإحصان ثابتًا بالفعل - فهل ينقض هذا كله حديث عبادة المنسوخ، ومذهب عمر الذي خالفه فيه جمهور المسلمين؟ ! *** ما معنى الاستطاعة في الحج (س5) ومنه: فسَّروا الاستطاعة بالزاد والراحلة، وهذا إجمال، فمثلاً رجل يملك قطعة أرضٍ زراعيةٍ أو بيتًا، ويُخرج له من ذلك ما يكفيه هو ومَن يعوله كفاية القصد، أو الضرورة، وإذا باع أرضه أو بيته حصل على ثمنٍ يكفيه مدةً وتوفر له بعد ذلك ما يحج به، فهل يقال: إن هذا الرجل غير مستطيعٍ نظرًا لغلة ملكه أو مستطيع نظرًا لثمن ملكه؟ ، أفيدونا مأجورين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرزاق حمزة (ج) بيَّنا في تفسير قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) في أول الجزء الرابع من التفسير أن أمر الاستطاعة مَنُوط بالأفراد، يختلف باختلاف أحوالهم البدنية، والمالية، وأن كل امرئٍ أعلم بنفسه ممن هو أعلم منه بالأحكام والنصوص، حتى إن المسائل الخاصة التي اشتبه فيها السائل تختلف باختلاف أحوال الناس في صحتهم، وهمتهم، ومعايشهم، ومعايش مَن يعولونه، فمنهم مَن لا يضره بيع بيته، أو أرضه لينفق منها أو ينفقها على سفره لأداء فريضة الحج، ومنهم مَن إذا باع بيته لا يجد لنفسه ولعياله مأوى سواه، وإذا باع أرضه القليلة التي يَعِيش مع مَن تجب عليه نفقتهم مِن زرعها، لا يستطيع أن يعول نفسه، وعياله من عملٍ يغنيه عنها، ومنهم مَن ليس كذلك، كمَن يحسن صناعةً، أو خدمةً يجد فيها كفايته، فمتى فهم المكلف الحكم، فله أن يجتهد في تنفيذه، والعمل به كاجتهاده في القبلة وغيرها عند الحاجة، ويعذر إذا أخطأَ في اجتهاده، بل يؤجر أيضًا إذا لم يقصر فيه، ولم يكن مقصده منه العثور على شبهةٍ يتوَكَّأ عليها في التَّفَصِّي عن أداء الواجب، والله أعلم. *** التقليد والتلفيق فيه وتقليد غير الأربعة (س6، 7) مِن صاحب الإمضاء في بيروت (سورية) حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ المحترم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء - حفظه الله - السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه، ولسيادتكم مِن الله تعالى جزيل الأجر ومني عظيم الشكر. في حاشية العلامة الشيخ يوسف الصفتي المالكي على الشرح المسمى بالجواهر الزكية على ألفاظ العشماوية، للعلامة أحمد بن تركي المالكي في باب فرائض الوضوء ما نصه: (واعلم أنهم ذكروا للتقليد شروطًا، إلى أن قال: (الثالث) أنه لا يلفق في العبادة، أما إن لفق كأن ترك المالكي الدلك مقلدًا لمذهب الشافعي ولم يبسمل لمذهب مالك فلا يجوز؛ لأن الصلاة حينئذٍ يمنعها الشافعي لفقد البسملة، ويمنعها مالك لفقد الدلك، ثم قال - بعد ذلك -: وما ذكروه من اشتراط عدم التلفيق رده سيدي محمد الصغير، وقال: المعتمد أنه لا يشترط ذلك، وحينئذٍ فيجوز مسح بعض الرأس على مذهب الشافعي، وفعل الصلاة على مذهب المالكية، وكذا الصور المتقدمة ونحوها، وهو سعةٌ ودين الله يسرٌ) . فهل إذا اغتسل غسلاً واجبًا أو توضأ وضوءًا واجبًا مِن ماءٍ قليلٍ مستعملٍ في رفع حدثٍ مقلدًا لمذهب الإمام مالك، وترك الدَّلك مقلدًا لمذهب الإمام الشافعي، وترك النية مقلدًا لمذهب الإمام أبي حنيفة يكون غسله ووضوؤه صحيحًا مثل الصورتين المتقدمتين أم لا؟ ، وهل هناك فرقٌ؟ وهل يجوز التلفيق من مذاهب الأئمة الأربعة في قضيةٍ واحدةٍ كغسلٍ واجبٍ أو وضوءٍ واجبٍ أو تيمُّمٍ واجبٍ أو صلاةٍ واجبةٍ، وغير ذلك من العبادات، والمعاملات أم لا؟ . وهل يجوز تقليد غير مذاهب الأئمة الأربعة كمذهب الإمام داود الظاهري، وأصحابه ومذهب الإمام أبي ثور، ومذهب الإمام الثَّوري، ومذهب الإمام إبراهيم النَّخعِي، ومذهب الإمام ابن أبي ليلى، ومذهب الإمام الأصم، ومذهب الإمام عبد الرحمن الأوزاعي، ومذهب الإمام إسحق بن راهويه، ومذهب الإمام حمَّاد بن أبي سليمان، ومذهب الإمام ابن المبارك ومذهب الإمام الليث، ومذهب الإمام الحسن بن صالح، ومذهب الإمام الزهري، ومذهب الإمام زُفر، ومذهب الإمام محمد بن جرير الطبري، وغيرهم من الأئمة المجتهدين، ومذاهب الصحابة والتابعين - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - في العبادات والمعاملات أم لا؟ . وهل يجوز التلفيق من مذاهبهم في قضيةٍ واحدةٍ كغسلٍ واجبٍ أو وضوءٍ واجبٍ أو تيمُّمٍ واجبٍ أو صلاةٍ واجبةٍ، وغير ذلك من العبادات والمعاملات أم لا؟ ، تفضلوا بالجواب ولكم من الله عظيم الأجر والثواب، والسائل ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي ... ... ... ... ... ... ... ... ... الشافعي مذهبًا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت (ج) إن أكثر أحكام العبادات مُجمعٌ عليها، معلومةٌ مِن الدين بالضرورة؛ لتواتُرها بالعمل، وشهرة النصوص فيها فلا تقليد فيها، ومنها ما ثبت في السنة على وجوهٍ أو بألفاظٍ مختلفةٍ كالتشهد في الصلاة، ودعاء الافتتاح، والوصل والفصل في الوتر وغيره، أو ثبت فعله تارة، وتركه أخرى كالقنوت في الصبح ورفع اليدين عند الركوع والقيام منه، ومن التشهد الأول، فأخذ بعض العلماء بهذا وبعضهم بذاك، والخَطب في هذا سهلٌ؛ إذ العمل بكل ما ثبت في السنة صحيحٌ، لا يضر العامل اختلاف الرواة، واعتماد الفقهاء لبعضها دون بعضٍ، وأما المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف بين علماء المِلة للاختلاف في فهم النصوص أو مسالك العلة في الاجتهاد؛ فالواجب فيها اتباع قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) الآية، ولا خلاف بين أئمة الدين في وجوب هذا الرد، ولا في كون الرد إلى الله هو الرجوع في المسألة إلى كتابه، وكون الرد إلى الرسول هو الرجوع فيها إلى سنته، فمن وجد نصًّا مِن الكتاب أو السنة يرجح بعض قول العلماء المختلفين على بعضٍ - وجب عليه اتباعه حتمًا، ولا يجوز له تركه إلى اجتهاد أحدٍ، وإلا أخذ بقول مَن ترجح عنده دليله إذا اطَّلع على تعارض أدلتهم، ومَن لم يكن أهلاً لذلك يستفتي - فيما يعرض له، ويُشكل عليه - مَن يثق بعلمه ودينه، سواء كان قد تلقى الفقه على مذهب زيد مِن الأئمة أو مذهب عمرٍو، فجميع الأئمة المشهورين ممن ذكرتم، ومَن لم تذكروا كأئمَّة آل البيت النبوي - عليهم الرضوان والسلام - على هدى من ربهم في تحري الحق باجتهادهم، ولا يضره اختلاف مذاهب المفتين، والمفيدين، وإن أدى في بعض المسائل إلى التلفيق الذي اختلف المقلدون في جوازه، فإن التلفيق بهذه الصفة كان شائعًا في عامة السلف؛ إذ لم يكن أحد من عوامهم يلتزم العمل باجتهاد فقيهٍ معيَّنٍ، ولا بروايته، على أن للتلفيق صورة لا يفتي بها عالمٌ، وهي التي أطلق بعضهم منع جواز التلفيق لأجلها؛ لأنها ضرْبٌ من التلاعب بالدين اتباعًا للهوى، أو تتبُّعًا للرخص، وهي أن يأتي المقلد بعملٍ لا دليل عليه مِن كتابٍ، ولا سنة، ولا إجماعٍ، ولا قياسٍ صحيحٍ، ولم ي

الخلافة الإسلامية ـ 2

الكاتب: محيي الدين آزاد

_ الخلافة الإسلامية ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية (2) اجتماع القوى والمناصب وانتشارها لما كان المسلمون سائرين على هذا الناموس الإلهي - ناموس الاجتماع والائتلاف - كانوا في الذُّروة العليا من التقدم والرقي، ولما حادوا عن هذا السبيل القويم سقطوا وانحطوا، فحلَّ محل الاجتماع الانتشار؛ فتفرق جمعهم، وتمزق شملهم، وتبددت قواهم، فكانوا قومًا بُورًا، ولم تقتصر هذه البلية على جانب دون جانب، بل عمَّت، وأحاطت الأمة من جميع الجوانب، وهي لا تزال ضاربةً بأطنابها منذ ألف وثلاثمائة سنة، بل آخذة في الازدياد، وما يمر يوم إلا وتشتد وطأتها فيها. وقد لهج الناس كثيرًا في انحطاط المسلمين، فعلَّلوا له عِللاً، واخترعوا له أسبابًا، غير أن القرآن الحكيم، والسنة النبوية، والعقل الصحيح لا يقيم لهذا القيل والقال والثرثرة وزنًا، ويرى أن الفساد والانحطاط نتيجة الانتشار والتشتت فقط، وكل ما عدا هذا من العلل، والأسباب فمتفرعةٌ منه، وراجعةٌ إليه، فعلة سقوط المسلمين واحدةٌ لا اثنتان، وإن سُميت بأسماءٍ مختلفةٍ، وذُكرت بألفاظ عديدةٍ. نعم، قد عمَّت الفوضى جميع شؤون الأمة، غير أننا نذكر ههنا واحدًا منها فنقول: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مركزًا للأمة الإسلامية ترتكز عليه، ونقطةً لقواها تجتمع عليها؛ فلهذا لم يَخْلُ بوفاته محل نبيٍّ وحامل شريعةٍ فقط، بل قد خَلا محل مركز جامعة الأمة، ومصدر قواها ونفوذها وحكومتها إلى غير ذلك من الأوصاف والخصائص التي كانت مجتمعة في شخصه الشريف؛ إذ إنه لم يكن كالمسيح - عليه السلام - معلمًا وواعظًا، ولا كالملوك الذين فتحوا، وحكموا ودمروا، وخربوا، أو عمروا وشادوا، بل كان - صلى الله عليه وسلم - جامعًا لصفات ومزايا كثيرة في حينٍ واحدٍ، فكان نبي الله ورسوله، وهادي الخلق، وواعظهم، وواضع الشريعة، ومؤسس الأمة، وحاكم البلاد، وصاحب السلطة؛ فحينًا يقوم في المسجد على المنبر المسقف بجذوع النخل وجريده، يفسر الوحي الإلهي، ويكشف عن خفايا أسباب السعادة الإنسانية، فهو إذ ذاك معلم الأخلاق، وواعظ الخلق، وتارةً يقسم في صحن هذا المسجد نفسه خراج اليمن على الناس، ويسير الجيوش إلى ميادين الوغى، فهو حينئذٍ حاكم إداري وسياسي، ثم تراه يصلح نظام البيوت والعائلات، وينفذ قوانين الطلاق والنكاح، وبينما هو هكذا إذ تأتيه الأخبار بقدوم الأعداء، فيأخذ سيفه على عاتقه، ويهبّ إليهم، ويناضلهم في بدر، وأحد، وتبوك، ثم تراه داخلاً كفاتحٍ عظيمٍ في مكة، فيملكها ويكون له السلطان فيها، فيمُنّ على هامات قريشٍ، وسادات العرب بالعتق، ويقيم بأمر الله ميزان القسط، ولا غَروَ، فالنظام الإسلامي يوجب أن تجتمع قوى الأمة، ومناصبها في مركزٍ واحدٍ؛ إذ هذا الدين الحنيف الفطري لم يفرق بين الدنيا والآخرة، بل جمعها في سلكٍ واحدٍ، وجعل الشريعة والحكومة شيئًَا واحدًا، وأخبر أن الله سبحانه إنما يرضى عن الحكومة التي يقوم بناؤها على أساس الشريعة الإسلامية، لا على قوانين الأهواء البشرية؛ ولذا كان صاحب الشريعة - صلى الله عليه وسلم - مركزًا لقوات الأمة الكثيرة، ومرجعًا لشؤونها المختلفة. ولما لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - بربِّه، قام في مقامه خلفاؤه الراشدون، فكانوا خير الخلفاء لسلفهم ورسولهم، وكانوا بذلك جامعين لسائر شؤون الأمة الدينية والسياسية، وقابضين على جميع قواتها، ومشرفين على مناصبها كلها، فكانت خلافتهم كالنبوة قائمة على أساس اجتماع القوى والمناصب؛ ولذا سميت (بالخلافة الراشدة) ، و (الخلافة على منهاج النبوة) . وليعلم أن منصب النبوة يشتمل على وظائفَ كثيرةٍ، منها تلقّي الوحي الإلهي، وتشريع القوانين والأحكام الدينية والسياسية، وصاحب هذا المنصب معصوم وغير مسئولٍ لدى الخلق، ولقد ارتفع هذا المنصب بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكملت الشريعة، وتمت نعمة الله على الخلق، فلا نبوة بعد نبوته، ولا شريعةَ بعد شريعته، ولا حق في التشريع لأحدٍ بعده صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء إذا بلغ منتهى الكمال لا ينسخه شيءٌ آخر؛ إذ هذا منافٍ لكماله، ومُظهِر لنقصه، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . نعم، تمت هذه الوظائف النبوية الأساسية، ولكن بقيت لها وظائف أخرى فرعية، وستبقى على حالها ما بقي من الناس باقٍ، وقد عبر عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعباراتٍ مختلفةٍ، فقال عن عمر - رضي الله عنه - إنه: (محدث هذه الأمة) ، وقال عن العلماء إنهم (ورثة الأنبياء) ، وقال: (الرؤيا الصادقة جزءٌ من أربعين جزءًا من النبوة) ، وإنه: (لم يبقَ إلا المبشرات) ، وحديث: (التجديد) أيضًا من هذا النوع. فخلفاؤه الراشدون كانوا خلفاءه في جميع وظائفه النبوية غير تلقي الوحي وحق التشريع؛ إذ هما خاصان به، لا يشاركه فيهما أحدٌ من الخلق [1] ، فكانوا مثله خلفاء الله في أرضه، وأصحاب السلطان، والنفوذ فيها، وسُوَّاس الأمم، وقُوَّاد الجيوش، وقضاة المحاكم، وأصحاب الاجتهاد والفتيا، ومنظّمي البلاد، وفاتحي الأقطار، وحكام الأمم والشعوب؛ وذلك لأن (الخلافة والإمامة) في ذاتها كالنبوة مشتملةٌ على الدين والدنيا، وخليفة المسلمين كنبيهم مجتهدٌ دينيٌّ، وحاكمٌ سياسيٌّ، فكنتَ ترى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مثلاً في دار شوراه بالمسجد النبوي، يفتي في المسائل الدينية مِن حيث إنه مجتهدٌ، وفقيهٌ، ويقضي ويحكم بين الناس من حيث إنه قاضٍ، وحاكمٌ، وينظم الجيوش، ويفرق عليهم الجراية مِن حيث إنه ناظر الحربية، ويضع الخطط الحربية مِن حيث إنه القائد العام، ويقابل سفراء الروم من حيث إنه ملِكٌ وسلطانٌ، ثم تراه في سواد الليل متفقدًا أحوال المدينة كأنه حارسٌ وخفيرٌ، وأبٌ رحيمٌ للمسلمين. بل الأمر أكبر مما ذُكِر؛ فقد ناب الخلفاء الراشدون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في وظائفه النبوية التنفيذية المتعلقة بهداية البشر التي جعلها القرآن ثلاثة أقسامٍ بقوله تعالى: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 164) ، فوظائف النبوة التنفيذية: تلاوة الآيات وتزكية النفوس، وتعليم الكتاب والحكمة؛ فقاموا بهذه خير قيامٍ، ونابوا عنه فيها أحسن نيابةٍ، فكانوا أسوةً به يتلون على الناس الآيات الإلهية، ويزكُّون القلوب والأرواح، ويربون الأمة بتعليمها الكتاب وحكمة السنة، فكأنهم كانوا في آنٍ واحدٍ أبا حنيفة، والشافعي وجنيدًا والشبلي وحمادًا والنخعي، وابن معين وابن راهويه والبخاري، ولم يكن سلطانهم على الأجسام فقط، بل كانوا يحكمون على القلوب والأرواح أيضًا بسيرتهم القويمة، وروحانيتهم القوية؛ ولذا سميت خلافتهم (بالخلافة الراشدة) ، وجعلت أعمالهم تتمَّةً لأعمال النبوة، فقال - صلى الله عليه وسلم - من وصيةٍ له: (فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ) [2] ، فذكر مع سنته سنتهم، وأوصى الأمة بأن تعَضَّ عليها بالنواجذ. ولكن واأسفاه! ، لم تبق الخلافة النبوية، والهيئة الاجتماعية الإسلامية على هذا المنوال طويلاً، بل انتهت بأمير المؤمنين علي - عليه السلام -، فعم الانتشار، والتشتت جميع شؤون الأمة، فتزلزلت بناية الأمة الاجتماعية، وسقطت جدرانها، فهي خاويةٌ على عروشها، وانتقض النظام الشرعي، وتبعثرت سائر القوى بعد أن كانت كتلةً واحدةً مجتمعةً على نقطةٍ واحدةٍ، وتفرقت المناصب، والوظائف على أناسٍ كثيرين، بعد أن كانت في يدٍ واحدةٍ؛ فمن ثَمَّ انفصلت الحكومة والسياسة عن الدين والشريعة، وأصبحت الخلافة عاريةً من خصائصها الروحية، ومجردة عن وظائفها المتشعبة عن نبع النبوة، فباتت ملكًا عَضوضًا طبقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم ملك) ، وقد تقدم، وأما وظائفها الدينية فانقسمت أيضًا، وقام بها أناس آخرون، فحمل القضاء والاجتهاد الفقهاء والمجتهدون، فأصبحوا فرقة، وحمل وظيفة الإرشاد وتربية الأرواح وتزكية النفوس الصوفية وصاروا فرقةً، مع أن هذه الوظائف كلها كانت في بدء الأمر بيد الخليفة الإسلامي، فكان قائمًا بها كلها خير قيام، وكانت بيعته تغني عن غيره، بَيْد أنه بعد الانتشار والتشتت أصبح ملكًا محضًا، نائيًا عن وظيفة الإفتاء والقضاء، بعيدًا عن التعليم الروحي، وتزكية النفوس، فهُرع الناس إلى أصحاب الطرق والمتصوفة وأخذوا يبايعونهم (بيعة التوبة والإرشاد) (على اصطلاحهم) ، فبعد أن كانت القوى والمناصب، والوظائف مجتمعة في شخص الخليفة، فكان ملكًا وفقيهًا وقاضيًا وقائدًا ومحتسبًا - تفرقت في دور الشتات، وأصبحت لا نظام لها ولا زمام، بل كلما امتد الزمان زاد الطين بلة، والخرق سعة، حتى بلغ السيل الزبى، وعمت البلوى، فتعارضت القوى، وتصادم بعضها ببعض أيما تصادم، هذه هي الداهية الدهياء التي دهت الأمة الإسلامية، فقضت عليها، لا ما يتخبط فيه الناس مِن اختراع الأسباب والعلل لسقوط المسلمين تقليدًا للإفرنج. والحاصل أن الخلافة التي تلت الخلافة الراشدة - سواء كانت قرشية أو غير قرشية - كانت حكومة دنيوية محضة، وملكًا عضوضًا بعيدةً عن النيابة النبوية في وظائفها إلا السياسية والحكم (اللهم إلا خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه) وهي لا تزال على هذه الطريقة إلى الآن إلا ما كان في عهد السلطان عبد الحميد من الانقلاب، وتأسيس الحكومة الدستورية [3] فإنه مما لا ريب فيه عود محمود إلى الخلافة الراشدة قليلاً؛ لأن الشورى هي الشرط الأول، والميزة الكبرى للحكومة الإسلامية الحق، أما في غير هذا فلم تغير من أحوالها شيئًا. ((يتبع بمقال تالٍ))

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 3

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة (3) الطور الأول للإسلام كان هَدي الإسلام في طوره الأول عبارة عن إشعال نور الحقائق وإنارة سبل الانتباه أمام الذين كانوا يتعبدون بالخرافات والجهل. حينما ظهر الإسلام كان عند العرب عقيدة ابتدائية تقوم - في نظرهم - مقام الدين. كانت عبادة الأصنام وعبادة النجوم من أروج العقائد المنتشرة بين العرب في ذلك الوقت، مكة والمدينة كانتا موجودتين ومعروفتين ولكنهما كانتا أشبه بملجأ شتوي منهما بمدينتين. العقائد التقليدية الموروثة الراسخة في القلوب بطول القدم وتمادي الزمن توهن مقومات الإنسان المادية والمعنوية، وهكذا كانت الحال عند العرب حينما كانوا مقيدين بسلاسل عقائدهم العتيقة. ولما جاء الإسلام بهدايته الإصلاحية وجمع بتعاليمه العالية أهواء القلوب المتفرقة إلى تلك الوحدة الكاملة في العقائد والفضائل والنظام الاجتماعي - تمكن العرب بها من القضاء على دولتي العالم الكُبْريين، فلم يتركوا لهم في السيادة الدنيوية نصيبًا، رفعت التلقينات النبوية بوقت قليل الأقوام البدوية إلى مستوى الأستاذ في المدنية، وجعلت العالم كله تلميذًا لذلك الأستاذ: (1) كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الدعاة الذين يرسلهم إلى الأرجاء لنشر الدين - أن يعاملوا الناس الذين يصادفونهم بالرفق واللين، وأن يجتنبوا العنف والشدة، وها هي ذي الأوامر التي كان يتسلح بها أمناء الأمة عند العمل: (أ) {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) . (ب) (يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا) [1] . بهذه الأوامر اصطادوا قلوب الناس وبهذه المشاعل أناروا سبل الحياة والحضارة أمام العالم فهل نحن صادعون بالأمر؟ ! . (2) آساس الإسلام عالية وساذجة يمكن دخولها في دماغ كل عاقل من بني آدم وحواء. وهي خُلو من مثل مُحالات عقيدة التثليث عند النصارى من أساطير الجبت التي يعزوها اليهود إلى الأنبياء عليهم السلام، وفيهم من سوء القدوة ما تأباه أنفس الكرام. (3) أن الإسلام يفيض نور العدل والسكينة والسلام والطمأنينة على أنفس البشر المضطربة؛ فقد أمر بقهر الظالم وصيانة المظلوم وأعلن حرية الوجدان، ثم قوض قواعد السلطنات المؤسسة على الاستبداد، ورفع كل حجاب عن وجه الحق والعدل. (4) تلقينات الإسلام بحق الألوهية كانت كافية لإقناع كل دماغ مفكر، يسمعها العامي فيصبح مؤمنًا مهديًّا، ويتأملها العالم فيمسي موقنًا مطمئنًا؛ لأن سذاجتها وعلويتها كافيان لإقناع كل عقل وطمأنينة كل روح. (5) من أسباب سرعة انتشار الإسلام إنارته السبيل أمام الناس الذين كادت الخرافات تزهق أرواحهم. وإلى القارئ الكريم المشاعل التي أذكاها النبي الكريم في سفح جبل عرفات في حجة الوداع: (أ) احترام الأموال وتحريم أكل مال أحد بالباطل. (ب) احترام الدماء وتحريم سفكها بغير حق شرعي. (ج) تحريم الأعراض كتحريم الدماء والأموال. (د) الوصية بالنساء وما لهن وعليهن من الحقوق. (هـ) الاعتصام بكتاب الله تعالى. (و) هدم قواعد الشرك ونارات الجاهلية. أُلقيت هذه المشاعل بين مائة ألف من المسلمين، ونقلها الحاضر للغائب. واتخذها المسلمون إذ ذاك دستورًا للعمل. ولم ينحرفوا عنها قيد شعرة ولا سيما في دور الفاروق الذي كان أوضح مظهر للتجليات النجيبة الأحمدية، وأي صعوبة في تنفيذ هذه الأحكام الآن؟ ! . إن عظمة هذا الدور الفاروقي نشأت من حسن تفهم الأحكام الإسلامية وتطبيقها حرفيًّا؛ لأن روح الإسلام الأخوة، ولقد جاء في القرآن الحكيم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10) وقد ربطت وقتئذ جميع القلوب برباط الإخاء الديني الذي كان يرفع فوق كل مصلحة خصوصية وكانت نتيجة هذا الإخاء الاتحاد الأكمل وفقًا لما جاء في الفرقان المبين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) وفي نور هذين المشعلين حكم المسلمون على أهم بقاع الأرض. وما أُيد به عمر بن الخطاب رضي الله عنه من التوفيق لم يكن إلا مظهرًا من مظاهر رعايته الدقيقة لأوامر الإسلام. لئن كان ظهور الإسلام انقلابًا اجتماعيًّا وتطورًا تاريخيًّا عظيمًا؛ فإن تأثيره في أرواح الشعوب تطور اجتماعي عظيم أيضًا. وهذا التأثير قد ظهر حكمه التام في الطور الذي فُهمت فيه دقائق الإسلام ووضعت في موضع التنفيذ بالتمام والكمال وكان ذلك على أكمله في خلافة الصديق وخلافة الفاروق رضي الله عنهما؛ فإن هذين الإمامين الممتازين المنتخَبين بإجماع عقلاء الأمة - كانا يديران الأمور بمعاونة جماعة من أكابر المسلمين. (6) جعل الإسلام حل المعضلات من الأمور باستشارة العقلاء بقول الله تعالى في المؤمنين: {َ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وأمر نبيه بالمشاورة، بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتذاكر مع أصحابه وفقًا لهذه الآية الكريمة، وكذلك الصديق ألف مجلسًا استشاريًّا تحت رئاسة الفاروق مؤلَّفًا من أكابر المسلمين. وعندما انتقلت الخلافة إليه تَرَأَّسَ المجلس علي كرم الله وجهه، وكان هذا المجلس مؤلفًا من كبار المسلمين ورؤساء القبائل وأصحاب المكانة في المدينة. (7) جعل الإسلام المساواة بين الناس في الأحكام من أصول الشريعة على اختلاف طبقاتهم ومللهم ونِحَلهم بدون أدنى استثناء، وحادثة ابن الفاروق وقضية علي المجتبَى مع اليهودي أوضح دليل على درجة احترام قاعدة المساواة في صدر الإسلام. فكان الغني والفقير والأمير والمأمور والخليفة وآحاد السوقة سواء في ذلك. فعلم مما تقدم أن الإخاء والمساواة كانا ركنين ركينين للحكومة الإسلامية التي تألفت بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. وكان رئيس الحكومة الخليفة يُنتخَب انتخابًا، وكان لهذا الرئيس مجلس استشاري. وكان يحق لكل فرد أن يراجع الخليفة نفسه إذا ظلم أو وقع عليه حَيْف. (8) كانت مكة قبل الإسلام مباءة لمعاقري الخمرة وللمقامرين وكذا المدينة، وكما طهر مُصْلحِ العالم مكة من الأصنام طهر قلوب أهلها من رجس الخمور والقمار، وبقي هذا الطهر عامًّا شاملاً لأهل البلدين المكرمين إلى أن نَزَا الأمويون على منصة الحكومة. (9) منذ ظهور الإسلام شُوهد في مكة والمدينة رغبة في العلم وميل إلى الحضارة؛ تعددت محافل العلم وعمت الدروس والخطب (المحاضرات) الأخلاقية والمواعظ الدينية , كان في رأس هذه الحركة المدنية علي كرم الله وجهه. والمدينة كانت تفوق مكة في هذا؛ من حيث كانت العاصمة، والمثابة للمفكرين من المسلمين، فلا غرو إذا كان تجلي حياة الإسلام العلمية فيها أكبر وأظهر من تجليها في مكة. كان يحضر هذه المحاضرات النساء كالرجال، الخليفة وحضرة الفاروق وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وأبو هريرة وزيد بن ثابت والسيدة عائشة وأمثالهم من الواقفين على أسس الإسلام، كانوا يحضرون هذه المجالس، ويحلون المشاكل التي تطرأ. (10) حرية التفكر كانت محترمة، وما كان يُسفَّه أحد ولا يُهان لرأي أبداه، حرية الفكر كانت محترمة كالحرية الشخصية، كان علماء الصحابة يجتهدون ويفسرون الأحكام بما يوافق المصلحة والزمان. وما كان يُجبَر أحد على اتباع أحد لم يقتنع بصحة فكره واجتهاده. كان يحصل في بعض الأحايين اختلاف في حل مسألة واحدة بين علماء الصحابة. فكان الناس على احترامهم للرأيين المتعارضين يتبعون الرأي الذي يرجحه الأكثرون [2] ، وكان هذا الاختلاف يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيوافق اجتهاد بعض الصحابة دون بعض، حتى الصديق أو الفاروق. وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ من القولين أحقهما مع احترام الذي يترك اجتهاده. وقد جاء في الحديث: (إن أصبتَ فلك عشرُ حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة) [3] ، ثم كثرت الاختلافات في زمان الخلفاء الراشدين. ثم أتى زمان بدأ بعض أكابر العلماء يعمل باجتهاد نفسه كما يُروَى عن الإمام البخاري [4] . في زمان رئاسة الحكومة من قِبَل الصديق كانت الأمور العدلية (القضائية) والمالية للفاروق. أي كان ناظرًا للعدلية والمالية. وأما المخابرات والأمور الحربية فكانت في يد علي بن أبي طالب. أي كان ناظر الحربية وكاتب الخليفة. (11) إن الإسلام بُنِيَ على الإخاء والمساواة والحرية والشورى كما تقدم؛ فكانت الكفاءة الذاتية هي المعتبرة في المصالح والولايات؛ لذلك نصب النبي صلى الله عليه وسلم أسامة الشاب قائدًا لجيش المسلمين وأمر الصديق والفاروق وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبا عبيدة وأمثالهم من عظماء الصحابة - أن يأتمروا بأمر هذا القائد الشاب، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم اعترض بعضهم على إمارة هذا الشاب على كبار المهاجرين والأنصار، وعَدَّ بعضهم هذا أمرًا غريبًا، إلا أن أبا بكر أقنع المعترضين بأن الكفاءة والاقتدار مرجحة على كل شيء وأسكتهم. هكذا كانت المصلحة العامة مقدمة على كل ما سواها؛ لهذا كانت راية الإسلام في زمان الصديق والفاروق كلما ارتفعت في مكان تشرق عليه بها شمس الإخاء والحرية والمساواة والفضيلة، وتنقشع غيوم التشدق في الكلام والظلم في الأحكام. وقد حقق حكماء المؤرخين أن سبب سرعة انتشار الدين المحمدي في بلاد قيصر وكسرى هو عدل الخليفتين وحكمتهما وحسن تدبير رؤساء الجيش، ولم يجدوا للظفر العسكري تأثيرًا في ذلك إلا الشيء الطفيف. نعم، كل بلدة تُنشر عليها راية الإسلام كان الإخاء والحرية يكتنفان تلك المدينة، فيصونان أهلها من تحكم الكهنة والأحبار والأساقفة والرهبان والموبذانات المسيطرين على الأبدان والأرواح؛ لذلك كان الناس في ذلك الوقت ينظرون إلى المسلمين نظرهم إلى المُنَجِّي من الظلم والمحرر من الرق، وهو ما ينتحله بعض أدعياء الإفرنج اليوم بمحض الإفك وقول الزور. أثبت التاريخ - ولا سيما السياسي منه - أن التبدل في الحكومة يُحدث ثورة في البلاد. على أنه قد دان للواء الإسلامي إمبراطوريتان عظيمتان (إمبراطورية الروم وإمبراطورية الفرس) ، ولم يحدث أدنى ثورة في بلادهما الواسعة على رافعي ذلك العلم، بل لم يظهر من أحد من أهلهما أدنى امتعاض يحمل على المقاومة، على ما كان من قلة عدد الفاتحين وعُددهم وبُعدهم عن عقر دارهم ومركز سلطتهم، وإنما سبب ذلك حسن الإدارة والعمل بأصول الإسلام العالية، حتى إن قادة الجيوش الروم كانوا يلقون أنفسهم في حِضن الإسلام أحيانًا! . ولكن نقول مع الحزن والأسى: إن هذا الحال لم يَدُمْ، ولم يطُل عهده هكذا؛ فعندما استولى الأمويون في زمان ذي النورين على أمور الإدارة أُهملت العدالة الإسلامية، وبدأت مقدمات التعدي تظهر وشوهدت بوادر العصيان في أمكنة مختلفة. وقصارى القول أن الناس كانوا في صدر الإسلام إخوانًا متساوين في الحقوق، وأحرارًا في أنفسهم وفي أفكارهم إذا تنازعوا في أمر ردُّوه إلى الكتاب والسنة - كما أمرهم الله تعالى - وإذا أَشْكَلَ الأمر يستفتون كبار العلماء. وأما ساحة التفكر فكانت واسعة أن يجول فيها العقل كما يشاء وأَنَّى شاء. ولم يكن الحجر على العقل والضغط على الفكر مما يُعرف في ذلك الزمان، وما كان أحد يفتات ع

الرحلة الأوربية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة الأوربية (1) مقدمة: كادت أوربة تسود العالم الأرضي، وتستعبد جميع شعوب البشر، وتسخرها لخدمتها، ولولا أن تفلَّت جل العالم الجديد في غربي الكرة (أميركة) من قبضة يدها، وتلاه الشعب الياباني في شرقيها، فساوى الشعوب الأوروبية في العلم، والصناعة، والنظام، وإتقان فنون الحرب وآلات القتال، ووسائل الثروة وتدبير المال، وأما سائر بلاد المشرق من آسيوية وإفريقية، فكانت خاضعة خانعة لدول الاستعمار الأوروبية على تفاوت بينها في هذا الخضوع، فمنها ما يعد مُلكًا خالصًا لهن، ومنها ما يسمى التصرف فيه حمايةً أو احتلالاً، ومنها ما يسمى مناطق نفوذٍ سياسية أو اقتصادية أو امتيازات دولية، دَعْ النفوذ العلمي الذي سيطروا فيه على الأفكار بتأثير مدارسهم، وانتشار لغاتهم، وبثّ مطبوعاتهم، والنفوذ الديني الذي سيطروا فيه على القلوب، والأرواح ببعثاتهم الدينية، وما أُنشِئ لها من المدارس، والمستشفيات، والأندية، وما يطبع لها من الكتب، والصحف المنشرة، ولا تنس في هذا المقام تأثير تجارهم وسيَّاحهم، ولا تأثير عاداتهم وأزيائهم، ولا أتحامى ذكر تأثير بغاياهم، وفواجرهم في إفساد الأخلاق، وحاناتهم ومقامرهم، واستنزاف الأموال. فبهذه المزايا، والصفات، والمظاهر، والأفعال (حسنها وقبيحها) - تنجذب قلوب الناس إلى رؤية بلاد هؤلاء الناس على اختلاف المقاصد، والنيات؛ فهي كعبة طلاب العلوم والفنون والصناعات، كما أنها هيكل عُباد الشهوات، والتمتع باللذات، فترى الناس يرحلون إليها من جميع أقطار الأرض، أفرادًا وثُبَاتٍ وأكثرهم يبتغون بالرحلة إليها التمتع بمشاهد عمرانها، واحتساء كؤوس لذاتها، ومنهم من يؤمها للاستشفاء بهوائها ومياهها المعدنية، أو لِعرْضِ نفسه على أطبائها أُولِي الأخصاء في فروع الطب والجراحة، ومنهم مَن يلمّ بها لاستبضاع عروض التجارة أو غير ذلك من الأعمال المالية، ومنهم من يهاجر إليها لطلب العلوم الكونية والقانونية، والفنون والصناعات المختلفة، ومنهم من يتسلل إليها للقيام بأعمال سياسيةٍ. ولعل أقل زائريها مَن ينوي تكميل عقله، وتجارِبه بالاختبار، والاعتبار بما يرى، ويسمع، وأرجو أن أكون من هذا القليل، وإن كان المحرك لهذه الرحلة والداعي إلى جعْلها في الزمن الذي وقعت فيه، وإلى المكان الذي كان جلها فيه - ليس إلا الخدمة السياسية لوطن المولد والتربية. ذلك بأن حزب الاتحاد السوري - وهو أحد الأحزاب السياسية التي كنت من مؤسسيها والعاملين فيها - قد قرر برأيي وموافقتي أن يدعو الأحزاب السورية الاستقلالية إلى عقد مؤتمر سوري في مدينة (جنيف) من بلاد (سويسرة) ؛ حيث تجتمع جمعية الأمم لأجل المطالبة بحق سورية في الحرية، والاستقلال الصحيح المطلق من كل قيدٍ ينافيه؛ ولأجل جمع كلمة هذه الأحزاب، وتعاونها على العمل دائمًا، وبناءً على هذا القرار نشر الحزب المنشور الآتي: *** دعوة الحزب إلى عقد مؤتمر سوري: (إن لجنة حزب الاتحاد السوري المركزية بمصر واثقة أنكم كنتم وما زلتم مواظبين على مبادئكم القويمة الوطنية، ومساعيكم الشريفة إلى أن تكلل بالنجاح، ويتحرر الوطن المحبوب، ويصبح كما يريد أبناؤه الأحرار العاملون وطنًا حرًّا مستقلاً، زاهرًا برجاله، ناهضًا بهممهم، سائرًا كل يوم إلى الأمام، بفضل ما يبذله الأحرار العاملون في سبيله مِن التضحيات العديدة، والمساعي الجليلة. وبعد: فقد رأت لجنة حزب الاتحاد السوري التي كانت - وما زالت - تجاهد بجميع الطرق المشروعة للحصول على استقلال البلاد التام الذي هو أمنية كل سوري أَبِيّ النفس - أن تتآزر جميع الأحزاب والجمعيات السورية التي تعمل لغاية الاستقلال التام، ووحدة البلاد سواء في سورية نفسها، أو في المهاجر البعيدة المتفرقة، وتتفاهم فيما بينها على أسس المبادئ والمساعي معًا، وترفع صوتها في وقت واحدٍ للعالم المتمدن بأسره بجميع الطرق المشروعة، طالبة الحصول على حقها الوطني الطبيعي المؤيد بكثير من العهود والوعود من أقطاب السياسة في العالم المتمدن كله. ولما كان مجلس عصبة الأمم سيجتمع قريبًا، وينظر في شروط الوصاية المفروضة على سورية، وغيرها من البلاد المنفصلة عن تركيا - فقد قررت لجنة حزب الاتحاد السوري أن تدعو الجمعيات، والأحزاب السورية إلى عقد مؤتمر سوري عام في (جنيف) - مركز عصبة الأمم - في 10 حزيران (يونيو) المقبل؛ لتبرهن بكل ما لديها من الوثائق، والحجج، والأدلة على ما لسورية من الحق بالحرية، والاستقلال، وتتوصل بالوسائل المشروعة لدى مجلس عصبة الأمم - لسماع رأي البلاد قبل إبرام الحكم عليها، فلجنة حزب الاتحاد السوري تدعوكم، وتدعو سائر الجمعيات السورية للاشتراك في هذا المؤتمر، وترجو منكم إشعارها بأسماء مندوبيكم، وبميعاد سفرهم، وبما ترغبون الاشتراك فيه مِن نفقات المؤتمر العامة، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام، والسلام) . نائب الرئيس ... ... ... ... ... ... رئيس حزب الاتحاد السوري محمد رشيد رضا ... ... ... ... ... ... ... ميشيل لطف الله *** المانع والمقتضي والتعارف والترجيح: اتفق في أثناء نشرنا لهذه الدعوة أن مرض أولادي، واحد بعد آخر، ثم توفي صغيرهم، وكنا أرجأنا السفر انتظارًا للعلم بموعد اجتماع عصبة الأمم الرسمي الذي كان عُيِّنَ، ثم أُرجِئ، ثم قرر أن يكون في أواخر شهر أغسطس؛ فتقرر أن يسافر وفد حزبنا من الإسكندرية في 12 أغسطس، ثم اتفق أن أصيب ولدي محمد شفيع في أول أغسطس بحمى معدية، يحتاج علاجها إلى دقةٍ وعلمٍ؛ فكنت أتولى معالجته، وتغذيته بنفسي، على أن والدته كانت نُفَسَاء، وقرب الموعد، ولما ينقه من مرضه، فترددت في السفر، ثم رجحت أن أتربص ريثما يَنقَه الغلام، وأسافر، فلما حل الموعد رأيت أن مصلحة خدمة الوطن ينبغي ترجيحها على الأهل والولد، فعزمت، وتوكلت، وأزمعت الرحيل، تاركًا الأسرة تستقبل عيد الأضحى في حزنٍ، ونفاسٍ، وتمريضٍ، كما تركت أعمال المطبعة التي هي مادة المعيشة، وغادرت القاهرة في اليوم الثامن من ذي الحجة (الموافق لليوم الثاني عشر من أغسطس) ، وهو يوم التروية، ويليه يوم عرفة، فعيد الأضحى، فشق عليَّ، وعلى الأهل، والعيال، ولكن سفري لم يكن منه بدٌّ باتفاق الإخوان من أعضاء الحزب وغيرهم، وقد زارني قبله بيومين رئيس الحزب، وبالغ في وصف ما يراه من ضرورة سفري، وما في تأخيره عن هذا الوقت من الضرر. سافرت في قطار الضحى السريع من القاهرة، فألفيت في المركبة - التي ركبتها من الدرجة الأولى - ثلاثةً مِن أصحابي علماء الشرع الأذكياء المشهورين، وهم الشيخ محمد حسنين العدوي مِن هيئة كبار العلماء بالأزهر، والشيخ محمد المراغي مِن قضاة المحكمة الشرعية العليا، والشيخ محمد الضواهري شيخ الجامع الأحمدي بطنطا، فجلست إليهم، وقطعنا المسافة في البحث، والمذاكرة في المسائل العلمية، والاجتماعية، ولا سيما مسألة ضعف المسلمين، وأسبابه، ووسائل معالجته، وأهمها الإصلاح الديني. *** سفر البحر من الإسكندرية: ولما بلغت الإسكندرية ذهبت إلى أحد فنادقها المجاورة للبحر؛ فتغديت فيه، ثم سألت بالمسرّة (التليفون) عن الأمير ميشيل بك لطف الله [1] ، فعلمت أنه قد ذهب إلى الباخرة التي اتفقنا على السفر فيها، وأنها تسافر من المرفأ عند انتهاء الساعة الثالثة بعد الظهر، فيمَّمتها، فألفيته هو ورفيقنا جورج أفندي يوسف سالم ينتظران، وكانا قد أرسلا رسولاً للبحث عني، فصادفني بالقرب من الميناء، فساعدني على إنهاء العمل المعتاد في الجمرك، كالنظر في جواز السفر، ورؤية الطبيب، وما دون ذلك. ثم ركبت الباخرة. الباخرة طليانية اسمها (كليوبطرة) ، وهي من البواخر المتوسطة في الكبر والإتقان، فهي أكبر مِن بواخر الشركة الخديوية، ودون الباخرة (عثمانية) منها إتقانًا، ولكنها دون أكثر البواخر التي تنقل الركاب بين مصر وأوربة. وكانت لدولة النمسة فأُخذت منها، فيما أخذته دول الأحلاف من غنائم الحرب، وكان مجراها مِن مرساها في الموعد المضروب لها (الساعة 3 بعد الظهر) . كان الرفيقان في شكٍّ من سفري معهما؛ لما علما مِن الموانع التي أهمها تمريض ولدي، ولكنهما استأجرا مخدعين في الدرجة الأولى، في أحدهما سريران لي، وليوسف سالم إن حضرْتُ، وإلا كان له وحده، وهو واسع يمكن أن ينام فيه آخرون، وهذه الشركة في المخدع خيرٌ لي مِن الانفراد الذي كنت أفضِّله لو كنت أعرف لغة أصحاب الباخرة؛ فرفيقي يتكلم بلغتهم كما يتكلم بالفرنسية، والإنجليزية وإتقانه للأخيرة أتم. كان الهواء عند سفرنا لطيفًا، لا يشكو منه الجالس على ظهرها، ولكنه لا أثر له في مخادع النوم منها، فلم أطق النوم في سرير مخدعنا لشدة الحر، فنمت على ظهر الباخرة، وفي مساء اليوم الثاني (السبت) برد الهواء قليلاً، وطفقت أحشاء البحر تضطرب على ما كان من خفة الهواء، وضعف حركته، فارتأى بعض الناس أن هذا أثر نوءٍ سابقٍ، وبعضهم أنه مبدأ نَوءٍ جديدٍ، وهو الصواب؛ فقد اشتدت الريح في ناشئة الليل، وكانت باردةً، وأنشأ البحر يعبث بالسفينة، فلما شعرت بالنودان لزمت كرسي الاستلقاء على ظهرها، ولم أستطع العشاء مع الركاب على المائدة، بل أكلت، وأنا مستلقٍ على الكرسي خشية الدوار الذي أدركتني بوادره، ولكنها وقفت عند حدها ولله الحمد. على أن الريح اشتدت في اليوم الثالث، وزاد بردها؛ فلزمت المُستلقَى عامة نهاره، وقد تكلفت طعام الغداء والعشاء، وأنا عليه تكلفًا، وصليت الظهر والعصر قاعدًا، ولم أذهل من كونه يوم العيد، فكبرت الله تعالى في أوقات متقطعةٍ، وتضرعت إليه داعيًا إياه أن يشفي ولدي، ويخلفني في أهلي، ويلطف بنا، وبمَن معنا، وقيل لنا إن اضطراب البحر في هذا المكان المحاذي لقندية (كريد) معتاد. وفي اليوم الرابع (الإثنين) هدأت شدة الريح؛ فصارت أقرب إلى اللطف منها إلى العنف، وزالت مقدمات الدوار، ولله الحمد، وجملة القول أن السفينة لم تضطرب من هذه الريح؛ لأنها شماليةٌ غربيةٌ، تناطح رأسها مناطحةً، ولو صدمتها مِن أحد جانبيها لكان النودان شديدًا، والدوار عتيدًا. كنت شرعت في كتابة بعض المقالات للمنار، وكتاب مطوَّل لأهل البيت، فلما اضطرب البحر، وكان مِن تأثيره ما ذكرت تركت الكتابة، ثم أتممت ذلك كله في يوم الثلاثاء؛ إذ كان لطيف الحركة، معتدلاً بين البرد والحرارة، حتى كنا كأننا في جزيرةٍ لا في سفينةٍ، فطاب لنا الطعام والكلام. لم يكن معنا مِن وجهاء المصريين في الباخرة غير أمين باشا يحيى أحد وجهاء الإسكندرية وهو أشد أنصار عدلي باشا ووفده الرسمي في الإسكندرية، وكان قد اشتد سخطه على سعد باشا زغلول، وكثر تحامله عليه، فخالف في ذلك والده أحمد يحيى باشا الذي ما زال أقوى أنصار سعد باشا في الإسكندرية، ومعه السواد الأعظم من جميع الطبقات، وبيني وبين كل من أحمد باشا، وأمين باشا مودة قديمة، فكنت أكلم أمين باشا في المسألة المصرية بلسان الصديق له المعتدل في المسائل العامة، لا يطلب إلا الحق، وذكرت له أنني قد حررت القول في المسألة المصرية تحرير مَن يرجح الحق والمصلحة العامة على كل شيءٍ كما يعهد، وأنني وصفت كُلاًّ من سعد باشا، وعدلي باشا وصفًا لم أبخس فيه أحدًا منهما شيئًا من حقه، وذكرت له بعض ما قلته فأَحَبَّ أن يرى جزء ا

كوارث سورية في سنوات الحرب ـ 1

الكاتب: شكيب أرسلان

_ كوارث سورية في سنوات الحرب من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان وهو الأمير شكيب أرسلان (مقدمة) قد التقينا في أوربة بصديقنا القديم الأمير شكيب أرسلان الشهير بعد افتراق بضع سنين، وكثر اجتماعنا به في جنيف (سويسرة) ؛ بسبب الاشتراك في أعمال المؤتمر السوري الفلسطيني، وفي سياحتنا في سويسرة، وألمانيا، وفي هذه الأثناء سمعنا منه أخبارًا تفصيليَّة لفظائع جمال باشا في سورية، وما كان من معارضته له بالحسنى، ثم بالمغاضبة، فتمنينا لو تُنشر هذه الوقائع لبيان الحقيقة التاريخية؛ فإن معرفة حقيقة تاريخ الأمة هو الوسيلة الأولى للنهوض بها، والصعود في مراقي الحياة بين الأمم، وضرر الجهل به، والكذب فيه كضرر الجهل والكذب في بيان أحوال المريض، وأعراض أمراضه للطبيب الذي يعالجه، وقد كانت الحقائق التي سمعناها منه ومِن غيره في أوربة مؤيدة لرأينا في جمعية الاتحاد والترقي، وفي تأثير سياستها في الأمة التركية، والدولة الألمانية كما سنبينه في التعليق على هذا المقال بعد، ولرأينا في الأمير شكيب نفسه أيضًا، وهو ما نبيِّنه في هذه المقدمة: الأمير شكيب مِن أشهر كُتاب سورية وأدبائها، بل لا أبالغ إذا قلت إنه لا يُلزُّ به قرينٌ منهم في مجموع مزاياه كجَوَلان قلمه في جميع ميادين المنظوم، والمنثور والوقوف على دقائق السياسة، وشؤون الاجتماع، والعمران، وفصاحة اللسان في الخطابة والمناظرة، وله في الكتابة السياسية والاجتماعية أسلوب خاص يشبه أسلوب الحكيم ابن خلدون، وكانت سياسته الوطنية السورية محصورةً في وجوب الإخلاص للدولة العثمانية، مهما يكن حال سلطانها ورجالها، في إدارتها وسياستها؛ لاعتقاده أنه إذا زالت سيادة الدولة العثمانية عن وطنه الخاص (لبنان) ، وسائر سورية، وسقط تحت سلطة دولة أوربية فإنه يذل ويخزى، وكان له خصومٌ كثيرون في سياسته هذه، أكثرهم مِن نصارى الجبل المشايعين لبعض الدول الأوربية، ومبغضون آخرون لا مثير لبغضائهم إلا الحسد، أو التعصب الديني، أو المذهبي. وهو من مريدي أستاذينا موقظ الشرق الأستاذ الإمام المصري، والسيد جمال الدين الأفغاني، وله غيرةٌ على دينه الإسلامي، ودفاعٌ عنه لا يطيق صبرًا على مَن نال منه بلسانه أو قلمه، على أنه لطيف التساهل فكِه المعاشرة، وله أصدقاء كثيرون في بلاده السورية، وفي مصر والآستانة وأوربة مختلفو الملل والأجناس، ولكنه حديد المزاج، ألد الخصام، فهو كما قال ابن دريد: سهل إذا لوينتُ لَدْنٌ معطفي ... أَلْوَى إذا خوشنتُ مرهوب الشَّذَى ولهذا يبالغ في وده أصدقاؤه، ويغلو في عداوته خصماؤه، وإنما شذاه في نضال الأعداء، هو ما يعهد في مجالدة الأدباء، ومجادلة العلماء، لا يكاد يعدو كلوم الكلام، بوخز أسلات الألسنة، وأسنَّة الأقلام، فهو أديبٌ متديِّنٌ، ينفر من الاعتداء على الأنفس والأموال، وشجاع يترفع عن دنيئة السعاية والإغراء. وقد كان الكثيرون من الناس يزعمون أنه ليس له مبدأٌ أو مذهبٌ في السياسة ثابتٌ، وإنما يدهن للدولة، ولكُبراء رجالها لأجل المنفعة، وأكثر هؤلاء من حُساده أو مخالفيه في مذهبه السياسي، وبعضهم كانوا ينكرون عليه مشايعته للحميديين في عهد عبد الحميد، الذي كان يطريه بالنظم والنثر، ثم مشايعته للاتحاديين عند ما صاروا في الدولة أصحاب النهي والأمر، وأنه لم يكن من طلاب الإصلاح للدولة في جملتها، ولا لبلاده السورية أو العربية في خاصتها، وعندي أن مثله في هذا كمثل مسلمي مصر والهند وغيرهما من الأقطار البعيدة يريد من مشايعة مَن بيده زمام الدولة تأييدها على الأجانب لا الرضى بسوء الإدارة أو السياسة، وقد كنت أنا من هؤلاء المنكرين عليه تشيُّعه للاتحاديين، ودفاعه عنهم على علمي بما ذكرت من مذهبه السياسي في تفضيل الدولة على جميع الأجانب، وإيثارهم عليها مهما تكن حالها؛ لأنني كنت على هذا المذهب بحزب اللامركزية العثماني منذ عقلت السياسة، ولا أزال عليه مثله. وقد كان سيئ الظن بحزب اللامركزية العثماني الذي كنت أحد مؤسسيه، وطعن في الحزب، حتى نالني من طعنه بالباطل ما نالني، على ما كان يُحمد من خدمتي للإسلام، وإخلاصي للدولة، حتى إنه أطراني بمقالٍ نشره في المؤيد، بزعمه أنه إذا اختير من العالم الإسلامي مئةٌ، ثم من المئة عشرةٌ، ثم من العشرة واحدٌ - لكنت ذلك الواحد، ولم أرد عليه لعِلمي بالشبهات التي مكنت ذلك الظن السيئ في نفسه. ولما علم ما كان من أنباء تنكيل جمال باشا بالسوريين في أثناء الحرب أشيع أن الأمير شكيبًا معه، وأنه مساعدٌ له على سياسته الطورانية في سورية لشبهات روّجها أعداؤه وحُسّاده، حتى صدق التهمة غيرهم، ولما علمنا منه أخيرًا أن الأمر بضد ما قالوا اقترحنا عليه أن يكتب لنا مذكرةً بما سمعناه منه، أو مقالاً فيه لننشره في المنار؛ إنصافًا له وللتاريخ، وقطعًا لألسنة المتقوِّلين، فأجاب طلبنا معتذرًا عما استلزمه من تزكية المرء لنفسه، وقد نهى الله تعالى عنها، وقد جاء ما كتبه رسالةً طويلةً، فجعلناها عدة فصولٍ، وضعنا لها عناوين من عندنا، واختصرنا قليلاً منها، ومنه اعتذار الكاتب، وهضمه لنفسه في فاتحتها، وها نحن أولاء ننشرها تباعًا، قال الكاتب: 1- التأليف بين السوريين واستعطاف الدولة على النصارى منهم: عند ما نشبت الحرب العامة، وقبل دخول تركية بها، بل أثناء تأهبها للدخول كنت في الآستانة، وكان قائد الفيلق العثماني في سورية الفريق زكي باشا، فأبرق إليَّ أنور باشا ناظر الحربية يطلب تعجيل مجيئي إلى سورية لاحتياج الحالة إلى وجودي فيها يومئذٍ، فأشار عليَّ أنور باشا بسرعة السفر، وإفادته ما أراه مناسبًا مِن التدابير، فسافرت إلى سورية، وبعد وصولي بمدة دخلت الدولة في الحرب، وحصل تخوفٌ عظيمٌ، لا سيما عند إخواننا المسيحيين، فتكلم معي كثيرٌ منهم في خطورة مركزهم، وما يخالج ضمائرهم، فسكَّنت خواطرهم، وأخذت على نفسي أنه لا يصيبهم أدنى سوء ماداموا هم ملازمين السكون والطاعة للدولة. ثم أخذت ألقي المواعظ على المسلمين، وعلى غيرهم مِن الفرق الإسلامية، ولا سيما الدروز بوجوب مصافاة المسيحيين، وحسن معاملاتهم أكثر مما يجب في كل وقتٍ، وأظن أن ألوفًا من أهل جبل لبنان مِن كل طائفة يشهدون بذلك، ثم أبرقت إلى أنور باشا بما عليه بطريرك الموارنة من الإخلاص للدولة، وما لا يزال ينصح به طائفته من وجوب التمسك بالتابعية العثمانية، ويأمر به كهنته مِن الدعاء بنصر الجيش العثماني، وبرقيتي هذه لا بد أن تكون مسجلةً في سجلات بيت التلغراف في بيروت، فلا أستشهد بشيءٍ إلا وشاهده حاضرٌ لأي مَن أراد التحقيق. 2- مسألة جمع أسلحة النصارى: استشارني زكي باشا القائد المشار إليه في جمع أسلحة النصارى بقوله: إن عندهم في لبنان بنادق كثيرة، وربما تُنزل الأعداء عساكر في سواحل سورية، فينضم النصارى إليهم، فحذَّرته من هذا العمل قائلاً: إنه لا لزوم له، ولا يكون له نتيجة سوى قلق الخواطر، وسوء الظن بأن مقصد الدولة تجريدهم من السلاح لأجل الغدر بهم، فلم يكتفِ بملاحظتي الشفوية التي قلتها له في دمشق، بل أمهلني ريثما ذهبت إلى بيتي في جبل لبنان، وحرر إليَّ كتابًا رسميًّا طلب مني فيه إذا كنت مُصِرًّا على عدم جمع سلاح النصارى أن أكفل عدم تحفزهم لقيام ما على الدولة. فجاوبته بما يؤيد كلامي له قبلاً، وأكدت له أنني أكفل بنفسي المسيحيين أن لا يأتوا بأدنى حركةٍ على الدولة، ولأجل أن يزداد طمأنينةً قلت له في جوابي على سبيل الفرض: إن بدا منهم شيءٌ مِن هذا القبيل فإنني أمشي عليهم بالدروز قبل أن يزحف العسكر العثماني، فسكت عن هذه المسألة مِن بعد هذا الجواب. وكتابه محفوظ عندي، ولا شك أن جوابي محفوظٌ في أوراق الحربية العثمانية. ولم أخبر بهذه المسألة سوى بكر سامي بك الذي كان والي بيروت وقتئذٍ، فصوَّب رأيي هذا، وكذلك أسررت بها إلى صديق حميمٍ لي، وهو الطيب الذكر المطران باسيليوس الحجار مطران الكاثوليك في صيدا، وأوصيته جدًّا بكتمان هذا السر؛ لأنه من الأسرار التي يعاقَب على إفشائها بأشد العقوبة، فكتمه بالرغم منه لإقناعي إياه بالخطر على حياتي إذا علمت الحكومة العسكرية بأنني أطلعت عليه أحدًا، وكان يتلهف إلى ساعة وفاته على كونه لا يقدر أن يخبر النصارى بما كنت أسعى به لأجل المحافظة عليهم، مع أن الكثيرين منهم يرمونني بخلاف ذلك تحاملاً وتعصبًا. 3- حمل جمال باشا على احترام بطرك الموارنة: ولما نقلت الدولة زكي باشا من قيادة جيوش سورية، وجعلت بدلاً عنه أحمد جمال باشا، ورد عليَّ بواسطة بكر سامي بك والي بيروت تلغراف رقمي من أنور باشا بأن جمال باشا عُيِّن قائدًا للحملة المصرية، وأنه هو - أي أنور - أوصاه بي، فحضر جمال إلى الشام، وأول ما واجهته قال لي إنه سيستقدم بطريرك الموارنة إلى دمشق، ويأمر بإقامته بها، فبقيت يومين أراجعه بكلامٍ يلين الجوامد، وأبين له مقدار ما يكسر ذلك مِن خاطر الطائفة المارونية، على حين أن هذه الطائفة - وسائر المسيحيين - لا يريدون شيئا سوى رضى الدولة عنهم، فنظرًا لكونه حديث العهد بالمجيء، وموصى بي من الآستانة اقتنع بكلامي، وقال: ماذا يصنع إذًا أفلا يأتي البطريرك للسلام عليَّ؟ ، قلت له: إن البطريرك لا يأبى أن يسلم عليك، لكنه عدا علوّ سنه مريض، وسيرسل إليك أساقفة ينوبون عنه بالسلام عليك، فقال: لا أقبل إلا إذا كانوا من الدرجة الأولى، فقلت له: يأتي أكبر الأساقفة، ومتى نَقه البطريرك يقدم بنفسه. وهكذا حفظت شرف البطريرك مِن أن يعرض للغض، وأخبرت عما جرى نجيب باشا الملحمة الذي كان يومئذ بالشام، وكان ذهب معي إلى جمال باشا، ففرح نجيب كثيرًا بهذا الخبر، وقال لي: اكتب التلغراف الذي تريده إلى البطريرك؛ لأجل أن أمضيه، فأبرق إلى البطريرك بإرسال المطارِين، وبلغني أنه كتب عما فعلت مِن جهة منع استقدامه؛ لأنني بعد عودتي إلى الجبل صرت أسمع الثناء والشكر مِن أكثر مَن ألقى من الموارنة، ومن جملتهم حبيب باشا السعد الذي قال لي: لا ننسى محافظتك على بطركنا، والرجل حي يُرزق، والبطريرك نفسه حيٌّ، فلست مستشهدًا بغائبٍ، ولا بميت والحمد لله. ثم إن البطريرك، وحبيب باشا المشار إليه اقترحا عليَّ أن يكون ذهاب وجوه النصارى من لبنان إلى الشام للسلام على جمال باشا وفدًا واحدًا مع وجوه الدروز، هذا إذا وافق ذلك هواي، فاستحسنت ذلك، وانتخبوا هم الوفد المسيحي، وانتخبت أنا الوفد المحمدي، وتلاقى الوفدان بدمشق، وكان المقصد مني - ومن البطريرك ومن حبيب باشا - أن نعلن للحكومة العثمانية اتحادنا في لبنان، وأنه ليس بيننا خلافٌ، فلا تمتد يدٌ بالتضريب فيما بيننا، وما أظن أحدًا يقدر أن ينكر كون مثل هذه السياسة تدل على حسن النية وحب السلام. 4- بدء جمال باشا بمؤاخذة بعض وجهاء لبنان: ثم إن جمال باشا استقدم عدةً من وجوه الجبل الذين كان يبلغ الدولة منذ زمن طويل - أنهم يحطبون في حبل الأجانب، هذا في حبل الفرنسيين، وذاك في حبل الإنكليز ... إلخ، وأمر بإقامتهم بدمشق، وكنت يومئذٍ في لبنان أجمع متطوعين للذهاب إلى حرب الترعة، فلما ذهبت بالمتطوعين إلى دمشق تلاقيت مع حبيب باشا السعد في محطة البرامكة، فقال لي: إن جمال با

القياس في اللغة العربية ـ 3

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين

_ القياس في اللغة العربية محمد الخضر (3) القياس في العوامل مِن البيِّن أن الرافع والناصب للكلمة في الواقع إنما هو اللافظ بها، وما تسميه بالعامل - كالفعل والحرف - إنما هي أداة يلاحظها المتكلم، ويأخذها بمنزلة الوسيلة لتلك الآثار الخاصة مِن رفع ونصبٍ وخفضٍ وجزمٍ. وحيث لم يكن تأثير هذه العوامل النحوية مِن قبيل تأثير الأسباب العقلية أو الحسية، وإنما هو بقصد المتكلم إلى جعلها واسطةً جاز تأخيرها عن المعمول، واستقام لكلٍّ مِن اللفظين أن يكون عاملاً في صاحبه كاسم الشرط، والفعل المجزوم به نحو: (أيًّا مَّا تدعو) ولا يتوجه الاعتراض عليها بأن الأثر لا يوجد قبل علته الفاعلة، وساغ لهذا المعنى الذي انكشف في بيان العامل أن يتوارد عاملان على معمولٍ واحدٍ، ولكنهم ضعَّفوا قول المُبَرِّد: (إن الابتداء عاملٌ في المبتدإ، وهما عاملان في الخبر) مِن جهة السماع، فقالوا: إن توجه عاملين إلى معمولٍ واحدٍ لا يعهد له نظيرٌ في العربية، ولمثل هذا لم يأخذوا بما ذهب إليه القراء مِن أن زيدًا في قولك: قام وقعد زيدٌ - مرفوع بالفعلين، واختاروا أن يكون فاعلاً بالثاني، وجعلوا الفاعل في الأول ضميرًا مقررًا. وأكثر اختلافهم في تحقيق العامل لا يظهر له أثرٌ في نظم الجملة، وقد ينبني عليه الحكم بصحة بعض التراكيب كاختلاف الكوفيين والبصريين في الرافع لاسم كان الناسخة، فمقتضى قول الكوفيين: (إن الاسم لم يزل مرفوعًا بالابتداء، وإن كان إنما عملت في الخبر) أن لا يجوز نحو: كان زيدٌ كاتبًا وعمرُ شاعرًا، لما في هذا المثال من العطف على معمولين عاملين مختلفين، وهما الابتداء وكان، ولكنه بمقتضى مذهب البصريين يكون المثال عربيّ فصيحًا؛ المعطوف عليهما - وهما (زيدٌ كاتبًا) - كلاهما معمول للفعل الناسخ وهو كان. وعطف اسمين على معمولَيْ عاملٍ واحدٍ - وإن اختلف إعرابهما - لا مرية في صحته. ولما كان تقرير العامل مما ينشأ عنه آثارٌ في هيئة التراكيب - ساغ لنا أن نأتي في هذه المقالات على أهم الأصول التي يراعونها في تحقيق العوامل، فنقول: ينقسم العامل إلى: قويّ، ووسط، وضعيف، فالقوي: ما يتصدى للعمل مِن جهة صيغته، ويكون له تعلق بالمعمول مِن حيث المعنى، مثل: الأفعال، والمصادر، وما يشتق منها، ولقوتها في العمل صح لهم أن يسندوا إليها عملين مختلفين مثل: كان وأخواتها، أو ثلاثة آثار كالأفعال التي تنصب ثلاثة مفاعيل. والوسط: مثل الحروف، وما يعمل مِن جهة موقعه من الأسماء كالمضاف يعمل في المضاف إليه، والمبتدأ يعمل في الخبر، والمميز المفرد يعمل في التمييز والضعيف: مثل الابتداء، والتجرد، والإضافة في رأي بعض النحاة، ثم ما يسميه الكوفيون بالصَّرف، ومِن هذا القبيل ما شابه الفعل في طلب العمل بمعناه كاسم الإشارة، وحرف التنبيه في رأي مَن يجعلهما عاملين في الحال، وحرف النداء، و (ما) النافية عند مَن يعلق بهما الظرف، أو الجار والمجرور. ونبني على هذا التقسيم أنه متى أمكن أن يكون العامل مِن الصنف الأول فلا نعدل عنه إلى القول بعمل الصنف الثاني، وإذا ساغ أن يكون من الصنف الثاني فهو أحق مِن الصنف الثالث وأولى، وبمراعاة هذا الترتيب يترجح قول البصريين: إن العامل في المفعول معه هو الفعل، لا واو المعية، وأضعف من القول إن العامل هو الواو نفسها مذهب الكوفيين؛ حيث أسندوا العمل إلى ما هو مِن الصنف الثالث، فقالوا هو منصوب على الخلاف، ومن هذا النمط قول سيبويه: (العامل في التابع هو العامل في المتبوع) ، فإنه أقوى مِن قول الأخفش: (إن العامل في التابع معنويٌّ، وهو كونه تابعًا) . واختار سيبويه في باب النداء أن يكون العامل مِن الصنف الأول، ولو مقدَّرًا ورجحه على الصنف الثاني، وإن كان ملفوظًا به؛ حيث قال: إن العامل في المنادَى فعلٌ مُضمرٌ تقديره: (ادعوا) . والتحقيق فيما نرى أن الموازنة بين الصنف الأول مقدرًا، والصنف الثاني مذكورًا ترجع إلى قوة النظر في المعنى، وسرعة انتقال الخاطر إلى المقدر، فإذا كان المدَّعَى تقريره لا ينتقل إليه الذهن بسرعةٍ أو لا يلتئم بنظم الكلام لو صرح به، فالراجح نسبة العمل إلى الملفوظ به، ولو كان مِن الصنف الثاني، وهذا ما دعا المُبرِّد إلى أن قال: (العامل في المنادى حرف النداء نفسه) . والملفوظ مِن أي صنفٍ يقدَّم على المضمر الذي هو في رتبته بلا مِرْيةٍ، وهذا الوجه مما يتقوى به قول سيبويه العامل في عطف النسق هو العامل في المتبوع خلافًا لقول ابن جني في (سر الصناعة) : العامل مضمر ويقدر مِن جنس العامل في المعطوف عليه، ويترجح به قول الجمهور إن المفعول لأجله منصوبٌ بالفعل المذكور قبله خلافًا للزَّجَّاج؛ حيث أرجعه إلى المفعول المطلق، وقدر له فعلاً مِن نوعه. ومما يجري على هذا النسق أن الجمهور يرون عامل الجزم في الفعل الواقع في جواب الطلب شرطًا مقدرًا، وذهب فريقٌ إلى أن العامل هو الطلب نفسه، وأنت إذا أقمت موازنة بين المذهبين فربما دفعتك قوة المعنى إلى ترجيح قول الجمهور؛ فإن إكرامك للمخاطَب في مثل قولك: (زرني أُكرمْك) معلق على حصول الزيارة، وهذا المعنى لا يستقل بإفادته الأمر أو الاستفهام وحده، فلا بد من ملاحظة شرط يستقيم به نظم الكلام، ويطابق به المعنى الذي قصدت التعبير عنه، وللفريق الذي عزا عمل الجزم إلى الصيغة الملفوظ بها، وشذَّ مذهبه بقول سيبويه في هذا المبحث مِن الكتاب: (انجزم بالأمر) ، (انجزم بالاستفهام) ، (انجزم بالتمني) - أن يجيب أن ترتب الإكرام على الزيارة في ذلك المثال ودلالة الجملة على توقفه عليها - يؤخذ بقرينة الجزم، فيكون الجزم بمنزلةِ الفاء في مثل قولك: (كن شريف الهمة فيكبر عملك) ، فكبر العمل موقوف على شرف الهمة، وليس ههنا شرطٌ مقدرٌ، وإنما هي الفاء تُنْبِيء عن هذا الارتباط الذي سميت مِن أجله فاء السببية. والأصل في الحروف المشتركة بين الأسماء والأفعال أن تكون معزولةً عن العمل، وخرج عن هذا الأصل: ما، ولا، وأن النافيات؛ فإنها مِن قبيل ما يَشْترك فيه النوعان، وقد أعطاها بعض العرب عمل (ليس) الناسخة، فإذا وقع نزاع في نسبة العمل إلى حرفٍ مشتركٍ فالأصل في جانب مَن ينفي عنه العمل، ويظهر بهذا ضعف القول بأن العامل في عطف النسق هو حرف العطف؛ فإن العاطف لا يختص بأحد القبيلين، وعلى هذا الأصل ينبني خلافهم في (أن وأخواتها) إذا اتصلت بها (ما) الزائدة، فقد سمع العمل في (ليتما) فقط، فاتفقوا على جوازه في هذا الحرف، واختلفوا في بقية الحروف، فمنعه سيبويه، وأجازه الزجاج، وابن سراج، والكسائي، ومذهب سيبويه قائمٌ على أن (ليتما) لم تزل على اختصاصها بالأسماء، فساغ إعمالها، ولا يسوغ قياس الأحرف الباقية عليها؛ لأن (ما) أزالت اختصاصها بالأسماء، وهيأتها للدخول على الأفعال. ومن أصولهم أن الحرف لا يعمل عملين مختلفين، وإنما يعمل عملاً واحدًا كالحروف الخافضة للأسماء، والناصبة للأفعال، أو عملين متماثلين كأكثر الجوازم، والحروف العاملة في المتبوع وتابعه، وخرج عن هذا الأصل عند البصريين (إن وأخواتها) ، وحافظ عليه الكوفيون، فطرَّدوه في كل موضع، وقالوا إن الناسخ عمل في الاسم وحده، وأما الخبر فإنه مرفوعٌ بما ارتفع به قبل أن يرد عليه الناسخ، وهو المبتدأ، ومثل هذا قول سيبويه إن (لا) النافية للجنس إنما عملت في الاسم، وأما الخبر فإنه مرفوعٌ بكونه خبرًا للمبتدأ. والأصل فيما يُسند إليه العمل أن لا يتخلف عنه أثره أينما وُجد، فإذا احتمل وجه الإعراب أن يُنسب إلى ما يدور معه العمل حيثما تحقق، أو يضاف إلى ما لا يطّرد في جميع مواقعه - ترجح جانب المحمل الأول، ومِن أمثلة هذا أن الكوفيين ومن تبعهم مِن البغداديين - يقولون إن الفعل الواقع بعد واو المعية المسبوقة بطلبٍ أو نفيٍّ منصوبٍ بالخلاف المسمى عندهم بالصَّرف، وبيانه أن معنى (وتأتي) في مثل قول الشاعر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله لما كان مخالفًا لمعنى ما قبله في الإيجاب والسلب خُولف بينهما في الإعراب، وهذا المذهب مردودٌ بأن الخلاف قد ثبت في مواضع لم يظهر له فيها عمل كالأفعال الواردة بعد (لا) و (لكن) العاطفتين. وإذا دلت الصيغة على معنى وتقرر لها عملٌ خاصٌّ، ثم جاءت صيغة أخرى توافقها في الدلالة على ذلك المعنى - فليس لنا أن نلحقها بالأولى في إعطائها ذلك العمل؛ إذ لا يلزم من الاتحاد في المعنى التماثل في العمل، فإنك ترى كثيرًا مِن الكلم تتحد معنى، وهي تختلف في التعدي واللزوم نحو: صلى عليه ورحمه، ومما يوضح هذا الغرض أن صيغة مفعول تعمل في الاسم الظاهر نحو: مقتولٌ غلامه، ومذبوحٌ جزوره، ويوافق هذه الصيغة في الدلالة على معناها صيغة (فعيل) نحو: قتيل، وجريح، وقد أبى الجمهور أن يلحقوه بشبيهه، ويرفعوا به الظاهر وقالوا: لا يصح أن يقال: مررت برجلٍ كحيل عينه أو قتيل أبوه، وأجاز ذلك ابن عصفور، قال أبو حيان: وهو محتاجٌ إلى نقلٍ صحيحٍ عن العرب. ونحن نقول: إن كان مستند ابن عصفور في هذه المسألة قياس (فعيل) على (مفعول) فقد عرفت فساده؛ إذ لا يلزم مِن الاتحاد في المعنى التوافق في العمل، فيكون الأصل بيد المانع حتى يأتي المجيز بشاهده، وقد يقرر القياس في مذهب ابن عصفور على وجهٍ آخر، وهو أن يقال قد اتفقوا على أن صيغة (فعيل) ترفع الضمير، فألحق ابن عصفور به الأسماء الظاهرة، وقياس الاسم الظاهر على الضمير في مثل هذا الحكم أيسر من قياس فعيل على مفعول. وينتظم في هذا السلك صيغة (فَعِل) نحو: حَذِر، فسيبويه يذهب إلى أنه يعمل عمل الصيغة المحول عنها، وهي اسم الفاعل، وخالفه الجمهور في ذلك، وهم الواثقون بالأصل الذي كنا بصدد إيضاحه، وسيبويه هو المطالَب بإقامة شاهدٍ على مذهبه، وحيث تلا عليهم قول الشاعرِ: حذِرًا أمورًا ما تُخاف وآمن ... ما ليس ينجيه من الأقدار ردوه بأن البيت مصنوعٌ، وحكوا على اللاحقي أنه قال: إن سيبويه سألني عن شاهدٍ في تعدِّي (فَعِل) ، فعملت له هذا البيت. *** القياس في شرط العمل قد يكون العمل مقارنًا لوصفٍ، ولفظٍ خاصٍّ؛ فيسمون ذلك الوصف أو مقارنة اللفظ شرطًا له، وهذا له حالان: (أحدهما) ما إذا فقد ذلك الشرط بظل العمل، وبقي العامل مهملاً، كما شرطوا في نصب (إذن) للمضارع أن تكون في صدر الجملة، فإذا فقدت الصدارة بطل النصب مع بقاء (إذن) في نظم الكلام مهملة، ومثل هذا النوع مِن الشروط لا تنبغي المخالفة فيه إلا مِمَّن لم تبلغه الشواهد التي خليت من الشرط؛ فانعزل العامل عن العمل. (ثانيهما) ما إذا فقد الشرط لم يصح أن يُؤتَى بالعامل في نظم الكلام ألبتة، وهذا كما شرطوا لعمل (إن وأخواتها) الترتيب بين اسمها وخبرها؛ فإن المتكلم إذا لم يُوفِ لها هذا الشرط لا يسوغ أن يدخلها في التركيب، ولو مع إهمالها، وهذا النوع من الشروط هو الذي يختلفون فيه كثيرًا؛ فإن للمخالف في الشرطية أن يدَّعي أن مقارنة ذلك الوصف إنما كانت على سبيل الاتفاق لا على وجه اللزوم، وبناء العمل عليه؛ إذ لا يوجب ههنا صورة تبين كيف عزل العامل عن العمل مِن أجل تخلف ذلك الوصف مِثلَما عرفت في القسم الأول. ولمدَّعي الشرطية أن يقول: إني لم أَرَ هذه الأداةَ عاملةً إلا مع هذا الوصف الخاص، فأعده شرطًا للعمل، ومَن ينفي الشرطية فعليه إقامة الدليل، ولا مقال لمنكِر الشرطية في هذا المقام إل

الرحلة السورية الثانية ـ 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (8) الحديث مع سكرتير الجنرال غورو مكثت مع موسيو روبير دوكيه ساعةً وأربعين دقيقةً، وقد افتتح الكلام بالثناء عليَّ بقوله: إنه بلغه أنني مِن أشهر علماء الإسلام في هذا العصر، ومن الخطباء المؤثرين، والكُتاب ... فتلطَّفت في الشكر، والتنصُّل، ونقل الحديث إلى الموضوع، فشرعت أولاً في مقدماتٍ اجتماعيةٍ، تتألف منها أقيسة منطقية، تُفهَم مِن سياق الكلام، وإن لم تُذكر بأسلوب تأليف المُنتَج مِن الأشكال، وأذكر المهم مِن ذلك بالاختصار، قلت: (1) أن للقوى الأدبية تأثيرًا في البشر لا تُغني عنه القوى المادية، كما يرشد إليه قول المسيح عليه السلام: (ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان) ؛ ولذلك تجتهد الدول والأمم العليمة بطبائع الاجتماع في إعلان فضائلها، وتبذل في ذلك مالاً كثيرًا بوسائلَ كثيرةٍ، كما تجتهد في الدفاع عن نفسها إذا وصفت بشيءٍ مِن الرذائل، ولو بحقٍّ، وقد استفادت هذه الدول والأمم فوائدَ عظيمةً بإقناع الكثير مِن الناس بأنها هي المقيمة لأركان العدل والحرية والمساواة بين الناس، والقائمة بأمر تحرير الشعوب المظلومة من الظلم، والاضطهاد خدمة للإنسانية، ولكن هذه الحرب الأخيرة قد هدمت - منذ عقد الهدنة إلى اليوم - ما بَنَتْه هذه الأمم، ودولها في قرنٍ، بل في قرنين، ولا سيما إنكلترة، وفرنسة اللتين ملأتا الدنيا دعوى وفخرًا مدة أربع سنين بأنهما حاربتا لتحرير الأمم، والشعوب المظلومة، وأنهما لا يبغيان فتحًا ولا جرَّ مغنمٍ، ولا تحكيم القوة العسكرية في بلدٍ ولا شعبٍ، بل القضاء على القوة العسكرية إلخ، فلما انتهت الحرب بظفرهما طفقتا تقتسمان جميع ما تقدران على الاستيلاء عليه بالقوة حتى بلاد حلفائهما، وأصدقائهما باعترافهما إلخ. (2) إن الانقلاب الاجتماعي الذي أحدثته الحرب في الشرق قد نفخ في جميع الشعوب روح الشعور بحقها في الحرية؛ حتى حفَّزَها لطلب استقلالها بكل ما يملك مِن الوسائل، وهذا الشعور إذا دبَّ في الشعوب يتعذر معه دوام استعبادها، كما جربت دول أوربة في شعوبها، فإذا لم تقدر الدول الاستعمارية هذا الانقلاب حق قدره، وتجاري طبيعة العمران بترك سيطرة القوة؛ فإنها ستلاقي عقابًا كبيرةً يتعسر أو يتعذر عليها اقتحامها، ومشاكل عظيمة يصعب حلها إلخ. (3) إن أوربة قد هدمت ما كان لها مِن حسن الصيت والمكانة الأدبية في الشرق بما فعلته في هذه الحرب، وبعد الحرب، فلم يبقَ فيه أحد يصدق للأوربيين قولاً، أو يحسن بهم ظنًّا، أو يراهم للفضل أو العدل أهلاً، بل صار العوام متفقين مع الخواص على أن المدنية الأوربية ماديةٌ محضةٌ، لا يبالي أهلها بغير التمتع بالشهوات، والتحكم في استعباد الضعفاء، وأنه لا يصد دولها عن الظلم، والعدوان، وتخريب العمران إلا الضعف، والعجز، وأن كل ما يتبجَّحون به من دعوى العدل، والمساواة، والحرية، والإنسانية - إفكٌ وتزويرٌ، ورياءٌ وتغريرٌ، وقد صار أشد الناس نفورًا مِن الترك في سورية يفضلونهم عليكم عن اعتقاد، حتى إن بعض التجار وغيرهم من الناس - الذين لا يحفلون بالسياسة - يسألونني سؤال بحثٍ على الحقيقة: لماذا كنا نعتقد أن الإفرنج أرقى من الترك، وأعدل وأرحم وأبعد عن التعصب الديني والمحاباة، مع أن الأمر بالضد كما تبين لنا الآن، وكنت أجيبهم ببيان الفرق بين الإدارة في بلاد الدول، وفي مستعمراتها، وبيان حالة سورية الخاصة في هذا الوقت ... (4) إن السوريين - وإن اختلفت أديانهم، ومذاهبهم وتربيتهم، وبعد بالاستقلال التام عهدهم - لا يرضون بأن يكونوا تحت سيادة أجنبية عنهم، أما الأكثرون منهم - وهم المسلمون - فإنهم لم يكونوا يشعرون في عهد الترك بأنهم خاضعون لسلطةٍ أجنبيةٍ إلا في السنين الأخيرة التي ظهرت فيها العصبية الجنسية التركية، وأما النصارى فجُلهم في لبنان، الذي كان مستقلاًّ في إدارته، ولم يكن في حكومته غير واحدٍ أو اثنين مِن الترك في مركز المتصرفية، وكان ما يكلفون من الواجبات في الولايات أخف مما يكلف المسلمون، وقد كان الذين يعلقون آمالهم فيكم منهم يظنون أنكم ستؤسسون لهم ملكًا مسيحيًّا مستقلاًّ، تلتزمون فيه حمايتهم من الخارج، وتتركون لهم السيادة والسلطان في الداخل، فبدا لهم منكم ما لم يكونوا يحتسبون مِن السيطرة التامة العامة في جميع أنحاء لبنان، وثقل الضرائب المالية، فبدءوا يتحولون عنكم، حتى إن أحد أهل الاختبار مِن أنصاركم قال لي: لو خير موارنة لبنان أنفسهم بين فرنسة والترك لفضَّل ثمانون في المئة منهم الترك! . وسترون مِن السوريين ما لم يكن يخطر في بالكم مِن الجهاد في سبيل الاستقلال في مشارق الأرض ومغاربها. (5) إن الأسماء الجديدة التي يخترعها المستعمرون آنًا بعد آنٍ - لتلطيف وقْع سيطرتهم على الشعوب - لم تعد تخدع شعبًا مهما يكن جاهلاً، فكيف ينخدع بها الشعب السوري الذي لا يخفى على زعمائه، ولا على أدبائه شيءٌ مِن أمور العالم وناهيك بالأسماء، والأقوال التي تنقضها الأفعال كأفعالكم، وأفعال حلفائكم الإنكليز باسم الانتداب لمساعدة السوريين على النهوض بأمر استقلالهم المقرر في عهد عصبة الأمم، فإنكما قبل أن يتم الصلح بينكما وبين أصحاب البلاد بحسب القانون الدولي وهم الترك، وقبل أن يتقرر الانتداب المتوقف على هذا الصلح - تتصرفون في البلاد تصرف المالك للأعيان الموروثة، وقد زدتم على تصرف الإنكليز في سورية الجنوبية أنكم رفعتم عَلمكم على المعاهد الرسمية في ولاية بيروت، ومتصرفية لبنان، واستبدلتم بطوابع البريد المؤقتة طوابع حكومتكم، وهو ما لم تفعلوه في تونس، وجعلتم لغتكم رسمية (هذا وما فكيف لو) . (6) إن المعروف لدى جمهور الباحثين مِن الفرق بين الاستعمار الفرنسي والبريطاني أن جُل فائدة فرنسا منه اقتصادية، وأما الإنكليز فلهم وراء المنافع الاقتصادية مقاصد أخرى دينية وسياسية، هي عندهم أهم مِن المنافع المالية، فهم يطمعون في تنصير المسلمين، وجعْلهم إنجيليين، حتى إن رئيس وزارتهم قد استهوته نشوة السرور بفتح القدس، فصرح في مجلس الأمة بأن هذه آخر حرب صليبية، وهو ما كانوا يكتمونه مِن قبل، فلا عجب بعد هذا إذا أظهرت جميع كنائسهم الابتهاج بهذا الفتح الصليبي الديني، ثم إنهم يطمعون في سيادة العالم كله، ويظنون أنهم قد صاروا على مقربةٍ من الوصول إلى هذه الغاية، ومن مبادئ ذلك إتمام تأسيس الإمبراطورية الإفريقية من رأس الرجاء الصالح إلى الإسكندرية، وجعْل الإمبراطورية الآسيوية مِن حدود الصين إلى البحر الأحمر الذين يرون أنه قد صار بحرًا بريطانيًّا صرفًا، وناهيك بما تقاسونه - قبل كل أحدٍ - مِن احتلالهم للقسطنطينية، وللسيطرة على البحر الأسود مع البحر الأبيض الذي لهم فيه السيادة العليا، ولا تطمع فرنسة بشيءٍ مِن ذلك. لأجل هذه المطامع يخاف المسلمون من الإنكليز على دينهم - كما يشهد عليهم فيلسوفهم ومؤرخهم الكبير غوستاف لوبون، وملكهم - ما لا يخافون مِن الفرنسيس، وإن كانوا أشد منهم وطأةً في الاستعمار، ثم إن فرنسة قد خسرت في هذه الحرب مِن الرجال والأموال ما لم تخسر مثله إنكلترة، وخرب قسمٌ عظيمٌ مِن بلادها، وهبطت الثقة بماليتها، ولم تشاركها إنكلترة في هاتين المصيبتين، ففرنسة إذًا أجدر من إنكلترة بالشعور بالحاجة إلى عطف الشعوب عليها، وحصرهما في إصلاح ماليتها، وتوفير مواردها، وتعمير بلادها، والتوسل إلى ذلك باستعادة مكانتها الأدبية في العالم، وإن استيلاءها على سورية، واستعمارها إياها ينافي ذلك كله؛ فإنه يحمِّلها نفقات كثيرة، ويجعل العالم العربي كله خصمًا لها، وهي في غِنًى عن ذلك بما نقترحه عليها. (7) قلت: إن الشعوب الشرقية قد استيقظت مِن رقدتها الاجتماعية، وتذكرت أنها أمةٌ، حقها أن تكون حرةً لا أَمَةً، وفي مقدمتها الأمة العربية ذات التاريخ المجيد مِن طريفٍ وتليدٍ، وزعماء هذه الأمة يقدرون ارتقاء النظام الاجتماعي، والاقتصادي، والفنون العملية في أوربة قدرها، ويودون أن يقتبسوا لبلادهم ما تحتاج إليها منها، ويرون أنه لا بد لهم مِن الاستعانة بأمةٍ مِن الأمم الغربية الراقية في العلوم، والفنون، ولكنهم ينفرون مِن كل دولةٍ لها مطامع استعمارية في بلادهم، ويفضلون غيرها عليها، وإن لم تعتدِ على استقلالهم، ولا أفضل عندهم مِن الأمة التي تعترف حكومتها لهم باستقلالهم وحريتهم، فهم يخطبون ودَّها ويكافئونها على صداقتها لهم بكل ما يبلغه حولهم وقوتهم من المنافع الاقتصادية، والأدبية، فيفضلون تجارتها، ولغتها، وفنونها، وصناعتها على غيرها ويضمنون لها أن تنتفع منهم بالصداقة، أضعاف ما ترجو بالعدوان الموجب للعداوة، بل يبثُّون الدعوة لجعْلها صديقة الشرق، والعالم الإسلامي كله، فالشعوب العربية عامةً، والشعب السوري خاصةً مِن أقدر الشعوب على بثِّ هذه الدعوة، وعلى ما يقابلها، ويضادّها؛ لما لهم في أنفسهم وفي بلادهم المقدسة مِن المزايا. وإنني كنت قد عرضت هذه الصداقة على الدولة البريطانية بمذكرة أرسلتها إلى رئيس وزرائها (مستر لويد جورج) ، ذكَّرته فيها بما يهدد دولتهم مِن الأخطار، وعداوة شعوب الشرق والغرب، ولا سيما العالم الإسلامي الذي حاولوا هدم ما بقي مِن بناء استقلاله، وصرحت لهم بأنهم إذا كانوا لا يحفلون بعداوة أمة يتجاوز عدد نفوسها ثلاثمائة مليون - وهي المالكة لجُل الشرق الأدنى، والأوسط بسبب ضعفها - فليعلموا أنها لن تكون أضعف مِن ميكروبات الأمراض، والأوبئة التي تفتك بالأقوياء، وبأن صداقة هذه الأمة لا يمكن أن تُنال بمثل السياسة التي سلكوها في المسألة العربية، وإنما السبيل إليها واحدة، وهي الاعتراف بالاستقلال المطلق للشعوب الإسلامية الكبرى: العرب، والترك، والفرس، ولم أنسَ تخصيص مصر بالذكر، وإن كانت عندي من الأمة العربية، وبينت له أن دولتهم إن فعلت ذلك بإخلاص فإنها تدرأ عن نفسها أخطار الشرق، وتربح منه أضعاف ما تطمع فيه بالعبث باستقلال شعوبه، ومحاولة وضعها تحت سيطرتها إلى آخر ما فصَّلته في تلك المذكرة، ولكن لويد جورج لا يزال ثملاً بخمرة الظفر بالدولة الألمانية، والاستعلاء على جميع الدول الأوربية، ويتوهم أنه قادر على حل جميع المشكلات بأخاديع الوعود، ونُذُر الوعيد، وضروب التغرير، وبدر الدنانير، (وأن صيحة مصر لا تزيد على صرخة طفلٍ، وثورة العراق لا تعدو ثوران هِرٍّ، وأن هيجة الهند كهيجة دعد وهند، وغضبة الأفغان كغضبة فيروز ومَرجان) . وغرضي الآن أن أعرض على فرنسة ما عرضته على إنكلترة قبلها، فهي أجدر بقبوله لانتفاء المانع، وثبوت المقتضي اللذين ذكرناهما آنفًا، وليس من المصلحة أن يعارضه الاستمساك باستعمار هذه الحصة التي أعطيتموها مِن سورية باسم الانتداب على ما فيها مِن المُنَغِّصات والمشكلات، فإذا طبتم نفسًا باستقلالها أمكنكم أن تعترفوا باستقلال جميع هذه الشعوب الشرقية، وفي مقدمتها العرب والترك وأن تبنوا ذلك على ما كنتم تصرحون به منذ أُوقدت نار الحرب إلى أن أطفئت مِن الرغبة عن الفتح والاستعمار إلى جعْل الظفر في الحرب قاضيًا على الاستيلاء والاستعلاء بالقوة، ووسيلة إلى حرية الشعوب، وإعطائها حق تقرير مصيرها، واختيار شكل حكومتها وإدارتها، و

سعيد حليم باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سعيد حليم باشا شخصيته السياسية وشخصيته الفكرية [1] رسالة من مراسل جريدة (الأخبار) في الآستانة في يوم 10 ديسمبر 1921 وردت الأنباء تلو الأنباء عن مقتل الصدر الأعظم الأسبق سعيد حليم باشا في روما، فتأثرت جميع المحافل السياسية التركية، والرأي العام العثماني مِن هذه العاقبة الفاجعة التي لقيها المرحوم، وقد أفاضت الصحف المحلية في ذكر المرحوم، وتاريخ حياته، وتبارى كبار الكُتاب العثمانيين في نشر المقالات عنه، وعن سياسته، وقد اتفقت جميع الآراء حول نقطةٍ أساسيةٍ هي التأثر لما أصاب المرحوم مِن مفارقة الحياة الدنيا مضرجًا بدمائه، بعد أن قضى شطرًا مِن آخر سِنِيه معتقلاً في مالطة وشطرًا قبله مسجونًا بأمر الديوان الحربي العرفي في الآستانة. لا ريب أن الحياة التي قضاها سمو الأمير المرحوم سعيد باشا - منذ عقد الهدنة - حياةٌ مُرةٌ، كئيبةٌ، مؤلِمةٌ، لا تطاق، وقد ذاق سموه خلالها مِن أنواع المهانة، والعذاب ما جعل خصومه وأنصاره يتحدثون في التماس تخليصه مِن تلك المصائب، بيد أن الحياة التي قضاها المرحوم في مقام الصدارة العظمى منذ تولاها بعد مقتل المرحوم محمود شوكت باشا - كانت مِن أعز الأيام التي مرت عليه في حياته، ويصح أن يقال إنه كان آخر الصدور العظام الذين سمح لهم الزمان بأن يتمتعوا بأبهة مقامهم. ولقد كان لموكب سموه فخامةٌ وعظمةٌ تسترعي الأنظار، بل تأخذ الأبصار؛ إذ يهبط مِن الباب العالي إلى الجسر ليتقدم إلى قصر السلطنة، حيث كانت جياد الفرسان التي تتقدم عربته تدعو الناس بوقع أقدامها الموزون أن يتنحّوا عن الطريق، ويعطلوا مسيرهم تحيةً لصدر الزمان، واحترامًا لناظم أمور السلطان. فالقدر قد خبَّأ للصدر الأسبق حياةً تنسَّمت شواهد العز والمجد، ثم هبطت وهبطت، حتى تجندلت برَصاصةٍ فتَّاكةٍ. للصدر الأسبق شخصية سياسية، وشخصية فكرية، وشخصية ثالثة اكتسبها باستشهاده برصاصةٍ خائنةٍ. أما شخصيته السياسية فلعلها أضعف شخصياته، ولم نصادف أحدًا يمتدح هذه الشخصية، أو يذكرها مقرونة بحركةٍ سياسيةٍ أو توفيقٍ سياسيٍّ يستحق عليه المرحوم ثناءً خاصًّا، بل إن خصومه وأنصاره متحدون في اتهامه بضعف الإرادة، والتوغل في الغرور، والحرص على الجاه إلى حدٍّ ينسيه مهام واجباته، ووظائفه السياسية، بل إلى حدٍّ يجعله على غير علمٍ بما يحدث مِن الحوادث الخطيرة التي يتعهد مسئوليتها إزاء الأمة، وإزاء ضميره وربه. بل إنهم يقولون إنه كان قد ألقى زمام الأمور إلى أيدٍ أخرى على أنها إنما أُلقيت إليه، وهم يضربون لذلك مِن الأمثال أنه لم يكن له علمٌ بحادثة البحر الأسود التي كانت سببًا لدخول الدولة الحرب العامة، ولا بحوادث الإبعاد، ولا بغير ذلك، ثم إنهم يتهمونه بمخالفة مبادئه طمعًا في البقاء في كرسي الصدارة، ويبرهنون على ذلك بأنه استقال على إِثْر دخول تركيا في الحرب لمعارضته لها، ولم يلبث أن عاد في استقالته بلا مبررٍ! ، بل قد تحمل مسئولية إعلان الحرب أيضًا، بالرغم مما أبداه مِن شدة المخالفة لها، ومما تكفل به لدى الدول مِن أن تركيا لن تدخل الحرب ما دام على رأس حكومتها. أما ضعف إرادته وتحمُّله ما لا قِبَلَ له به، فيقولون في الشواهد عليه إنه على كونه كان يعلم أنه لن يستطيع أن يكبح جماح طلعت باشا أو أنور باشا بتدبيره وكياسته على كونه رأى بعينيه أنهما لم يتركا له إلا التمتع بلقبه، والاسترسال في أُبَّهته وفخامته - قد رضي أن يشاركهما في أعمالهما، وأن يذلل إرادته لإرادتهما، وأن يتقبل كل ما عملاه! ومن الصعب أن يتصدى الإنسان للدفاع عن سعيد باشا إزاء هذه الأمور التي تُعزى إليه، لكننا إذا قرأنا شيئًا مِن تصريحاته على إثر عقد الهدنة لدى الشُّعبة الخامسة مِن مجلس المبعوثين (أي الشعبة التي قامت للتحقيق في قضية المسئولين عن الحرب، وتهيئتهم للمحاكمة أمام ديوانٍ عالٍ) - ظهر لنا أن أولئك الخصوم على حقٍّ فيما يقولونه عن هذه الشخصية السياسية. قال المرحوم إذ ذاك: لما علمت بحادثة البحر الأسود قلت لزملائي: إنكم تلعبون بحياة البلاد، وبما أني المسئول عن إدارة البلاد فلا يمكنني أن ألبث على رأس واجبي لحظةً واحدةً، وقد قدمت استقالتي على أثر ذلك. نعم، إنهم يقولون الآن لماذا لم ينسحب بعد الاستقالة؟ ! ، لقد فكرت إذ ذاك، ولم أوافق على الانسحاب في وقتٍ خاضت فيه البلاد غمار المصائب. ولو لم أفكر في ذلك لخلصت نفسي، ولكنني لم أَرَ أن أنسحب، والبلاد تمخر في عباب المصائب؛ ولهذا فإنني رضيت أن أسحب استقالتي لما كلفوني ذلك على شرط أن أقدم الترضية للذين تمسهم هذه الحادثة، وأن أتلافى ما حدث، وإذ قبلوا هذا الشرط راجعت الدول المحالفة في الحال، وأرسلت إليها بلاغًا نشرته نظارة الحربية عن كيفية وقوع الحادثة، وقلت لهم إن ما حدث كان قضاءً وقدرًا. ونحن نرضى أن تقوم لجنةٌ بتعيين ما حدث مِن الخسائر، وأن نقدم الترضية اللازمة حتى تعد الحادثة كأن لم تكن، وإنما لم تثمر هذه المساعي؛ لأن الدول المتحالفة أرادت أن تحل المسألة حلاًّ تامًّا، والحال أني كنت أظن أنها تتقبل ذلك المسعى بسهولةٍ؛ إذ كانت تريد منا أن نلازم الحياد، كما أني كنت أشعر بذلك من أقوال السفراء، لم تتقبل الدول المتحالفة مسعاي، بيد أني لم أقف عند ذلك الحد، بل جمعت الوزراء وأعضاء اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد في بيتي، وقلت لهم: (الآن قد وجب علينا أن نحافظ على حيادنا فعلاً بالمحافظة على حدودنا لا غير) ، ولكن لم ينفع كل ذلك، وأنتم أعلم بالنتيجة، وتدل تجاربي الآن على أن مقام الصدارة لا حول له ولا طَوْل، بل هو في يد الوزراء الذين يفعلون ما يشاءون دون أن يكون للصدر علمٌ بما يفعلون. أما سبب بقائي في الصدارة بعد استقالتي - فهو أني رأيت أن الصدارة لا تفوَّض إلى أهلها بعدي؛ ولهذا تقع البلاد في المهالك، كما أن الذين أثق بهم كانوا يقولون لي: (لا تنسحب، وإلا ساءت الأمور، وهم يحترزون منك) ؛ لهذا بقيت في الصدارة. لا ريب أن المرحوم سعيد حليم باشا قد أعطى بأقواله - أو باعترافاته هذه - سلاحًا قاطعًا لخصومه، كما أفشى سرائر إرادته، وحقيقة ضعفه. *** آراؤه في المتفرنجين وغوائل المدنية الغربية وفوائدها للمسلمين: وأما شخصيته الفكرية فإن للمرحوم آثارًا جليلة تبرهن على فكره وتضلُّعه في التفكير في أهم الشئون الإسلامية الاجتماعية. وقد انتشرت جميع آثاره في مجلدٍ واحدٍ، وكان لها تأثير عميق في المحافل الفكرية والعلمية. فمن ذلك رسالة في (الضيقة الفكرية) العثمانية، بحث فيها في موضوع حلول الأفكار الغربية في الرءوس الإسلامية، وتأثير ذلك في حياتهم الفكرية، ثم أفاض في شرح ما يعوز المسلمين أخذه، واقتباسه مِن المدنية الغربية لإحياء المدنية الإسلامية، وإعلاء شأنها كَرةً أخرى. وقد أنحى باللائمة في مؤلَّفه هذا على المفتتنين بالغرب المنتظرين منه كل شيءٍ، الساعين لهدم كل ما بَنَتْه المدنية الإسلامية لاستبداله بما يروق لأعينهم في الغرب، وقد شبه المفتتنين بالمدنية الغربية بهذا التشبيه: (حال المفتتنين بالغرب كحال الذي توغل في مطالعة الكتب الطبية رجاء أن يتوقى الأمراض، فإذا هو كلما طالع بابًا رأى نفسه معلولاً بمرض، فلا يخرج ذلك المطالع مِن أبواب الكتب إلا وهو يعتقد أن الحياة عبءٌ ثقيلٌ، واضطرابٌ مديدٌ يتحمله الإنسان تحملاً غريزيًّا. وهؤلاء المفتتنون بالغرب مِن المفكرين يدرسون العلم أملاً في مداواة أمتهم، فإذا بهم يرونها مصابة بأفتك الأمراض، ولا يكون حالهم معها إلا كحال المتوغل في الطب الذي لا يخرج منه إلا كئيبًا كاسف البال، ذلك بأن معلوماتهم قائمة على غير أساسٍ طبيعيٍّ، أي أنها قائمةٌ على جهل النفس؛ فلذلك يختلط المرض، ويكتسب شكلاً خاصًّا به. ثم إنه استرسل - في شرح تلك الحال - فقال: (للمعلومات التي يتلقاها أولئك المفتتنون بالغرب قيمة فردية؛ إذ ينشأ مِن بينهم الأطباء، والمهندسون، وغيرهم، ولكن لا تكون لها قيمةٌ اجتماعيةٌ؛ لأن العلم لا يفيد إلا إذا اقترن بالقياس، والإنسان بمقايسة الأشياء يفهم الأمور الكونية، ويدركها وينظم أموره بمقتضاها، والعلم معناه القدرة على القياس، فإذا لم نحصل على المعلومات التي نستطيع بها أن نقارن بين هيئتنا الاجتماعية، والهيئات الأخرى لم نَرَ النقائض، والفروق، ولم نتعرف مواقع الداء فينا، ومهما قارنَّا بين الأمم الأجنبية التي تَفُوقنا في الرقي - ووصلنا إلى نتائج علمية منطقية - فلا ننتفع من ذلك ألبتة. ثم إنه زاد آراءه إيضاحًا بقوله: (إن تقاليد الأمم ومشخصاتها يتكون منها الوطن المعنوي الذي هو أعز بكثيرٍ مِن الأرض الثمينة التي نعيش عليها؛ لأنها هي العوامل التي تجعل كل جماعة إنسانية أمة، والأمة التي تتسلَّط عليها الأمم الأخرى يضيع استقلالها كما تضيع تقاليدها ومشخصاتها، على أنها لا تضطر إلى المهاجرة مِن أرضها، بل لا تنفك تنتفع منها، فالانصراف عن الوطن المعنوي أضر شيءٍ على البلاد، نعم، إن الزمان لا يقاومه شيءٌ، ولا بد أن تنهج تلك التقاليد والمشخصات سبيل الكمال ككل شيءٍ، وإنما ينبغي ألا تصرفنا تلك الحقيقة عن تقوية رابطتنا بها، وبذل المجهود للمحافظة عليها، فإن تلك الرابطة لا تهن حتى تضمحل تلك التقاليد والمشخصات وتكون نتيجة ذلك السقوط والهوان. فالضيقة الأليمة التي حلت بأفكارنا ناجمةٌ مِن قبولنا المدنية الغربية بلا قيدٍ، ولا شرطٍ، ومِن نسياننا مدنيتنا، ولا تزول هذه الضيقة إلا إذا أدركنا ذلك الخطأ الفاحش، وأقدمنا على تصحيحه. هنالك نتأمل في شخصيتنا، ونقضي حياة خاصة بنا، كما تكتسب أرواحنا وعقولنا ما كانت تحظى به مِن انشراحٍ، واطمئنانٍ، وترتقي استعداداتنا في حال طبيعية، وتبدأ بيننا حركةٌ فكريةٌ مثمرةٌ نحصل منها على الأسباب التي نداوي بها جراحنا) . وأما ما يرى المرحوم أن نقتبسه مِن الغرب لترقية مدينتنا، والانتفاع به في تكامل قوة إمعاننا، وفكرنا، واجتهادنا وتعلمنا فهو (الفكرة الفنية) و (أصول التجربة) . وللمرحوم مؤلَّفٌ آخر عن (حقيقة التعصب) بحث فيه عما يُعزى إلى المسلمين مِن صفة التعصب، وقد أشبع الموضوع بحثًا وتعمقًا، وأوضح أن علة هذه التهمة هو سقوط مستوى الأمم الإسلامية عن الأمم الغربية لا غير، ثم ختم كلامه بقوله: (لقد آن أن يعلم الجميع أن ما يعلنونه مِن النفور مِن تعصبنا ليس في الحقيقة ناشئًا مِن نقص قوانِيننا الاجتماعية أو بطلان عقائدنا الدينية، بل إن خصومة الغرب للشرق ناجمة عن عجز الصليبيين عجزًا نهائيًّا عن محق الشخصية الإسلامية التي حالت دون تحقق مطامعهم الدينية في الشرق كسدٍّ منيعٍ دون تمكن الأوروبيين مِن تطبيق سياسة التمدن الغربي فيه (!) وكل ما يخيف الأوروبيين منا، ويضطرهم إلى استعمال سياسة العسف والجور فينا، إنما هو تغيُّظهم من تلك الشخصية المعنوية المجهزة بالتعاضد والتوكل، أجل، إن صبر أوروبا ينفد أمام هذه الشخصية التي تفترق عن أية شخصيةٍ أخرى بغاياتها الحيوية، والتي تجدُّ، وتكافح بالرغم من ظواهرها الخارجية، وتقف أمام بغي الغرب، وفتوحاته الاستعمارية وقفة المعارض، والتي تجني الصبر والقوة مِن غِرَاس الحرمان والخسران، وتعتقد أنها لا بد أن تتخلص ي

السياسة الإنكليزية في البلاد العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السياسة الإنكليزية في البلاد العربية نشرت جريدة التيمس في لندن مقالات في القضية العربية لمراسلها مِن طهران بين إنكلترة وفرنسة، صرح فيها بحقائق لم يسبقه إلى التصريح بها أحد مِن قومه، وارتأى آراءَ نوافقه على بعضها دون بعض، وقد نشرت جريدة الأهرام بعض هذه المقالات مترجمةً بالعربية، فترتب على نشرها ما يأتي ذكره من الوثائق الرسمية في المسألة العربية. ومما قاله أن إنكلترة أرغمت العراق على قبول فيصل ملكًا عليها، وجزمت الحكومة البريطانية رأيها بعدم السماح بتأسيس جمهورية في العراق ناكثة بذلك عهودها للعرب، ويعتقد الكثيرون أنه لو أُخذ رأي أهل العراق بحريةٍ لأسفر استفتاؤهم عن رغبتهم في تأسيس حكومة جمهورية؛ ولذلك كانت استشارة الرأي العام هنالك صورية بأن سئل زعماء مشايخ القبائل، وأعيان البلاد: هل يقبلون نصب الأمير فيصل ملكًا دستوريًّا عليهم أو يرفضون؟ ! ، ولم يكن مِن المنتظر أن يكون بينهم شيخٌ واحدٌ تصل به الغباوة إلى حد الإجابة بالرفض بعد أن رأى ما حل بالسيد طالب [1] . بل كان كل منهم يخشى على حياته إذا عارض في توليته، فلم يعارض أحدٌ، بالرغم مِن أنهم جميعًا يرفضون، فالعراق في هذه اللحظة ملؤها البغض، والحقد، والرغبة في الانتقام. ثم ذكر عودًا على بدءٍ طمع أمراء الحجاز بتأسيس مملكةٍ عربيةٍ مِن البحر الأحمر إلى خليج فارس، يدخل فيها شواطئ سورية وقال: إن فكرة الوحدة العربية الجنسية غير موجودةٍ في هذه البلاد الآن، وإن بعض رجال الإنكليز في القاهرة، ولندن، وفلسطين، والعراق يؤيدون هذا المشروع خلافًا لخطة حكومتهم المتفقة مع فرنسا على تقسيمها، وذكر ما سلم به مستر تشرشل وزير مستعمراتهم من ثبوت وجود تيار خفي من الترامي بالتهم بين الموظفين البريطانيين والفرنسيس، قال: وستزداد الحال سوءًا إلى أن يكبح الرأي العام البريطاني جماح دعاة الجامعة العربية بيد قوية. ثم ذكر مهاجمة الملكِ حسين وابنه الأميرِ عبدِ اللهِ سعود، وكون ذلك نقضًا لعهدهم الصريح بعدم التعدي على أحدٍ مِن أمراء البلاد العربية، قال: (ولكن الوهابيين هزموهما ثلاث مرات هزيمةً معيبةً، وصارت مكة في (مايو سنة 1919) تحت رحمتهم؛ إذ إنه لم يبق لهم إلا السير إليها، ودخولها، ولكننا طلبنا مِن ابن سعود أن يسحب قواته، ففعل إجابة لطلبنا، وطالما صبر على تحمل الاعتداءات المتكررة التي يرتكبها الحجازيون اعتداءً عليه، ويلوح لنا أنه لا شك في أن الوهابيين هم الأقوى، وأنهم يستطيعون في كل وقتٍ أن يقضوا على قوات الملك حسين) ، وذكر مِن قوتهم أنهم لو لقوا مِن المساعدة ما لقي الملك حسين لاستطاعوا إخضاع جبل شمر ... على أنهم أخضعوا هذا الجبل مِن غير مساعدة أحدٍ. ثم ذكر أنهم أنذروا المعتمد البريطاني في العراق (السير برسي كوكس) بأنه عيل صبرهم، وسيضطرون إلى معاملة الملك حسين بمثل اعتدائه إلا إذا استطعنا رد شكيمته، وأن ابن سعود لا يرى بجعْله بين نارين بوضع فيصل في العراق مع عبد الله خصمًا ثالثًا في شرق الأردن، (قال) : فرد عليه السير برسي كوكس مخاطبًا إياه بملك نجد. وبهذه المداهنة، وبدفعة قدرها ستون ألف جنيه تدفع مؤخرًا (كذا، والصواب أنها تُدفع مشاهرة كل شهر خمسة آلاف جنيه) يرجون إبقاءه ساكنًا، ثم صرح الكاتب باستنكار هذه السياسة المالية، وجزم بخيبتها، ثم قال: (لم تبق إلا خطةٌ واحدةٌ: يجب علينا أن نجلو عن العراق في الوقت الذي نستطيع فيه الجلاء، وهذا أنسب الأوقات؛ ففي العراق حكومة عربية، وحاكم عربي) إلخ. ثم أيد هذا بما ستُسْتَهْدَف له السياسة البريطانية في العراق مِن المشكلات، والخسائر، واتساع مسافة الخُلف بينهم وبين فرنسة، وبحث في قواتهم العسكرية في العراق، وتوقع حدوث حرب جديدة بينهم وبين العراقيين إن لم يقبل اقتراحه بعد أن أشار متهكمًا بلطفٍ إلى الأساطيل الهوائية الثمانية التي أوجدوها في العراق لتحقيق فكرة مستر تشرشل الجميلة في المواصلات الهوائية فوق الصحراء! ثم ألمَّ بذِكر المعاهدة التي سيعقدونها مع فيصل محذرًا مِن انتفاع أصحاب فكرة الجامعة العربية بها، وذكر ما قرره مؤتمر القاهرة [2] مِن إبقاء الجنود العربية تحت قيادة ضباط بريطانيين مِن حيث هم قوة إمبراطورية، وإباحته زيادة هذه الجنود، وذكر تجنيد الأكراد، والكلدانيين، والأوربيين وإنفاقهم عليهم كثيرًا من النفقات [3] وحذر من العاقبة، ومن الاغترار بربح زيت البترول. هذا ملخص هذه المقالة، وقد نقلتها جريدة القبلة عن الأهرام بنصها في العدد 553 الذي صدر بمكة في 21 جمادى الأولى سنة 1340 الموافق 9 يناير سنة 1922، وردت عليها في هذا العدد، وفي العدد 555 ردًّا طويلاً معسلطًا مشتملاً على الوثائق الرسمية التي أشرنا إليها في صدر هذا المقال. وها نحن أولاء ننشرها بعد مقدمة وجيزة، ونقفّي عليها ببعض ما كان من سوء تأثير نشرها. *** وثائق رسمية في المسألة العربية وإخلاص ملك الحجاز للإنكليز على خداعهم له وللعرب كان الملك حسين يكتم كل ما كان لديه من المكتوبات بينه وبين الحكومة الإنكليزية التي كان يظن أنه يملك بقوتها بلاد العرب كلها، ويكون آمنًا بحمايتها من كل مقاومةٍ ومعارضةٍ. ومن العجيب أنه لا يزال عاضًّا على تلك الأماني بالنواجذ، وقد خذلته (العظمة البريطانية وحسياتها النجيبة) التي ينوه بها، ويتَّكل عليها أشنع خذلان، ولكنه يتوهم أنه يستميلها إلى الوفاء له بما ينشره في جريدة القِبلة، وفي المكتوبات، والمنشورات الرسمية التي يبثّ بها آلامه، وتململاته من خذلها إياه، وقد اضطر المرة بعد المرة إلى نشر بعض تلك المكتوبات الرسمية احتجاجًا على الإنكليز، وتبرئةً لنفسه لديهم مما تتهمه به جرائدهم مِن نكث عهودهم، وغير ذلك أو لدى العالم الإسلامي والعرب من جنايته عليهما، فأما تبرئة نفسه من عدم الإخلال بشيءٍ ينافي الإخلاص للإنكليز أو (للعظمة البريطانية) - فحجته عليهم فيه قوية، وأما التبرئة الثانية فكل ما نُشر في سبيلها فهو حجةٌ عليه لا له، ثم إننا لم نَرَ من تلك المكتوبات الرسمية التي نشرها شيئًا ينتفع به العرب في إقامة الحجة على الإنكليز كالوثيقة الثالثة مِن الوثائق الآتية: *** الوثيقة الأولى: المصرّحة بجعْل الحجاز في حماية إنكلترة قالت جريدة القِبلة في ردها على مقالة التيمس في عدد 553: (أما ما يفهم من كل ما في قولكم أن لولا ردعكم ومنعكم له - أي ابن سعود - لاستولى على مكة فيا أعزاءنا ليس معنا ما نقوله بالاختصار عن الإطالة أو الخروج عن الصدد إلا بيان عجزنا عن شكر ذلك المنع، ومننه وأنه من مقتضى شهامة بريطانيا، وشعبها النجيب فهو من مقتضيات مواد عهدنا الذي تقول فيه المادة الثانية ما يلي: تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي مداخلة كانت، بأي صورة كانت في داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعدٍّ بأي شكل يكون، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد بعض الأمراء - فهي تساعد الحكومة المذكورة مادةً ومعنًى على رفع ذلك القيام لحين اندفاعه، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة، أي لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية) انتهى. وعليه وبصرف النظر عن مؤدَّاها، وكل ما اشتمل عليه مضمونها ومراميها (قبل كل قبل) فإن شرف مفكرة ذلك العهد منزَّهة بطبيعتها عن أقل مما رميتونا به يثبته برقية جلالة مولانا المنقذ الصادرة لمدير هيئة شيختنا الموقرة (التيمس) ننقلها للقراء، وما نقلها - وأبيك - إلا لزيادة وقوف المجموع عمومًا، والشعب البريطاني خصوصًا، على أن جلالة مولانا المنقذ، وشيعته منزهون بعنايته السبحانية عن أمراض الأغراض، والعلل ودناءة النحل إلا الغاية التي اعترفت لهم بها، وإنها هي الغاية التي قلتم بعاليه عنها: إنكم ترفعون لها القبعات، وهي الآمال والغايات التي عليها نحيا، وعليها نموت، وها هي البرقية المنوَّه عنها تبتدي: *** الوثيقة الثانية: المصرحة بكوْن ملك الحجاز موظفًا إنكليزيًّا [4] المدير العمومي لصحيفة (التيمس) اطلعت على عددكم المشتمل الرد، والقدح باتحاد العرب، والتزامكم أحد أمرائهم، ولزيادة إقناع حكومة جلالة الملك، وإيضاح الحقيقة لعموم الشعب النجيب البريطاني أكرر بهذا طلبي بواسطتكم من حكومة جلالته تأكيد تعيين الأمير المذكور، أو مَن تراه ليستلم البلاد؛ فإن غايتي الراحة العمومية وخدمتها، كما يعلم من أساسات قيامي وشرائطه يؤيده طلبي هذا المثبت للحقيقة من سائر وجهاتها. (المنار) قول ملك الحجاز (أكرر طلبي) إلخ يفيد أنه قد سبق له مطالبة الدولة البريطانية (والعظمة البريطانية كما يسميها هو) أن تنصب أميرًا أو ملكًا غيره على الحجاز إذا كانت غير راضيةٍ عنه، وقد سبق لنا أن نقلنا عن (القِبلة) نص الكتاب الذي كان أرسله إلى نائب ملك الإنكليز بمصر في 20 ذي القعدة سنة 1336 الذي يطلب فيه منها أن تختار له ولأولاده بلدًا يقيمون فيه وتنصب على الحجاز مَن تختاره له! ، وقد تكرر نشر جريدة القِبلة لذلك الكتاب ومفاخرتها به لأمم الأرض كلها (راجع ص 233، م22) ، وليس افتخار هذه الجريدة الجاهلة بهذه الفضائح المخزية بأغرب من وجود أناسٍ محبين لاستقلال الأمة العربية، ويقرؤون هذا وذاك في جريدة القِبلة، ثم لا يرون لأنفسهم سياسة غير سياستها، ولا زعيمًا يتبع غير واضع هذه الوثائق لها. انتقاد الجرائد المصرية جعْل الحجاز تحت الحماية البريطانية اطَّلع بعض مديري الجرائد الإسلامية بمصر على الوثيقة الأولى من هذه الوثائق؛ فهالهم أمر جعْل الحجاز تحت الحماية البريطانية، فبعضهم تساءل بصيغة استفهام الإنكار: هل يصح أن يكون الحجاز تحت حماية دولة أجنبية غير إسلامية؟ ! وهو ما اكتفت به جريدة (الأخبار) الشهيرة في العدد 292، وبعضهم شدَّد في تغليظ الإنكار كجريدة (الأمة) في الإسكندرية. فلما وصلت هذه الجرائد إلى مكة المكرمة صمد سائس جريدة القِبلة إلى الرد عليها كعادته، فنُشر في صدر العدد 561 ردًّا على جريدة الأخبار عنوانه بقلم الثلث:] فََلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ [، وصواب الآية الكريمة: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ ... } (النحل: 127) إلخ، قال فيه ما نصه: (وما مثل الصحيفة المذكورة بإسناد مزاعمها على المادة الثانية التي أوردتها (القِبلة) إلا كمثل مَن وقف على قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ ... } (الماعون: 4) دون أن يكمل الآية، فسوغ لنفسه بذلك ترك الصلاة، وكذلك الجريدة المذكورة نظرت إلى أول المادة المشار إليها دون أن تلتفت إلى آخرها وهو: (وهذه المساعدة تكون مدتها محدودة لحين يتم للحكومة العربية تشكلاتها المادية) إلخ. نقول: إن هذا الرد لم ينفِ ما صرحت به المادة من جعل البلاد تحت حماية الدولة البريطانية في داخلها وخارجها؛ بل أكده وغايته أنه جعل المساعدة الداخلية مغياة باقتدار الحكومة المحلية المحمية على حفظ داخليتها بنفسها، وأما الحماية الخارجية، وحفظ الحدود البرية والبحرية فلم يقيَّد بهذه الغاية، وكأن سبب السكوت عن تقييده علم واضع المادة - وهو الملك حسين نفسه - بأنه لا يستطيع أن ينشئ أسطولاً ولا جيشًا قويًّا يستطيع حماية الحدود، فجعل ذلك حقًّا دائمًا للدو

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حرية الدين وقتل المرتد وانتفاع الوالدين بعمل أولادهم (س8، 9) من الشيخ محمد نصر الوكيل طالب العلم بالقسم الثانوي النظامي للأزهر من (أسطنها) . سيدي الرشيد، ذو الرأي السديد، خليفة الأستاذ الإمام، وحامي ذمار الإسلام سلام عليكم من فتى معجب بالمنار، ومتأثر بدعوة صاحبه الذي وقف محياه ومماته لله رب العالمين، ونصب للناس في ديجور الشرك صوى ومنارًا به يهتدون ويهدون، وأطلع لهم في ليالي السرار نجم الحقيقة في سماء الدين. وبعد: فلديَّ سؤالان أتقدم بهما إلى موائد علمكم الشريف؛ رجاء أن تحسنوا إلى محبكم بتضحية بضع دقائق من وقتكم المبارك تكتبون فيها جوابًا على صفحات المنار الأغر أو في كتاب خاص، يكون ذخرًا لديه من حكيم الإسلام، وخادمه، ومقر عين النبي ووارثه. (1) أن شريعتنا السمحة قد امتازت بالتسامح مع المخالفين في الاعتقاد والتساهل مع ذوي المذاهب والأديان، وفي ذلك قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) إلخ، وهذه الآية هي مفخرتنا على الغربيين في أن ديننا أتى بمبدأ حرية الاعتقاد، ووسع صدره - في الأيام التي كان فيها قابضًا على ناصية الأرض ومتقلدًا صولجان العزة والملك - كلَّ مخالف من غير أن يتعرض لعقيدته، بل كان يستعين بالنصارى النسطوريين على نشر العلم، وإقامة المدارس في ربوع المملكة، ولكني أعرض على نور معلوماتكم الدينية، ومشكاة معارفكم القدسية الربانية - مسألة المرتد؛ فإنها تعارضت عندي مع هذا الأصل الكريم، وهذا هو السؤال: هل في القرآن الشريف أو في السنة الصحيحة أمرٌ بقتل المرتد؟ وإذا كان فكيف التوفيق بينه وبين النهي عن الإكراه في الدين؟ ، وإذا لم يكن فما مراد الشارع من قوله صلى الله عليه وسلم: (مَن بدَّل دينه فاقتلوه) ، وقوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله) إلخ، وقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ} (التوبة: 5) إلى أن قال: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 5) . وإذا لم يكن المراد من ذلك إكراه المرتد، وكل مخالف على الدين، فعلى أي أصلٍ استند الفقهاء في وجوب قتل المرتد؟ وإذا قلتم إنه من باب سد الذريعة، واستئصال جذور الفتنة أفلا يصدق ذلك على الفلاسفة والعلماء الأحرار الأفكار الذين قد يكتشفون نظريات علمية تخالف ظاهر الدين؟ وإذا كان لا يصدق، أفلا يعد - على كل حالٍ - عملاً منافيًا لحرية الاعتقاد، وماسًّا بمبدأ التسامح، والتساهل الذي امتاز به الإسلام؟ (2) جاء في الجزء الأخير - من المنار الأغر صفحة 24 - قولكم: ومما ينتفع به الإنسان من عمل غيره - بعد موته - صوم ولده أو حجه عنه مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن مات وعليه صيام فليصم عنه وليه) ، أفلا يعد ذلك نسخًا لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) بحديث الآحاد؛ لأنكم قلتم إن الحديث لا يصح إلا من طريق عائشة - رضي الله عنها - وإذا لم يكن نسخًا، وقلتم إنه تخصيص أفلا يعد التخصيص نسخًا لبعض المفهوم الكلي الشامل في الآية؟ ، وإذا كان لا يعد نسخًا، فلِمَ خصصتم في هذه الآية، ولم تخصصوا في آية الطعام: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} (الأنعام: 145) إلخ، وإذا قلتم إنه ينتفع بذلك من حيث يعد من قبيل عمله؛ لأنه كان سببًا فيه، فلِمَ لا تعد الصلاة كذلك، وينتفع بها من هذه الحيثية؟ وإذا قلتم ذلك مخالف للنص القطعي فكذلك انتفاعه بصوم الولد وحجه مخالف للنص القطعي، وهو قوله: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) ، ويعجبني في ذلك مبدإ السيدة عائشة، حيث كانت ترد كل ما تراه مخالفًا للقرآن، وتحمل رواية الصادق على خطأ السمع أو سوء الفهم، ولكن كيف كان هذا مبدأَها، وقد روت هي ما خالف القرآن، وهو حديث: (مَن مات وعليه صيام فليصُمْ عنه وليه) ، على أن ذلك لا يمنعنا من أن نقول فيها ما قالتْه هي في ابن عمر: (لقد حدثتموني عن غير كاذبٍ ولا متهمٍ، ولكن خانه سمعه) ، أجيبوا، لا زلتم هاديين مهديين والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نصر الوكيل الجواب عن مسألة حرية الدين وقتل المرتد: ذكرت هذه المسالة في مواضع من المنار كالتفسير والفتاوى، فنقول فيها هنا قولاً نلخص به ما تقدم نشره. فنقول: أولاً إنه ليس في القرآن أمرٌ بقتل المرتد، بل فيه ما يدل على عدم قتل المرتدين المسالمين الذين لا يحاربون المسلمين، ولا يخرجون عن طاعة الحكومة، فقد جاء في تفسيرنا لقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} (النساء: 90) من سورة النساء ما نصه: (وفي الآية من الأحكام - على قول مَن قالوا إنهم كانوا مسلمين أو مُظهرين للإسلام، ثم ارتدوا - أن المرتدين لا يُقتلون إذا كانوا مسالمين لا يقاتلون، ولا يوجد في القرآن نصٌّ بقتل المرتد، فيجعل ناسخًا لقوله: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ ... } (النساء: 90) إلخ. نعم ثبت في الحديث الصحيح الأمر بقتل مَن بدل دينه، وعليه الجمهور، وفي نسخ القرآن بالسنة الخلاف المشهور، ويؤيد الحديث عمل الصحابة، وقد يقال إن قتالهم للمرتدين في أول خلافة أبي بكر كان بالاجتهاد، فإنهم قاتلوا مَن تركوا الدين بالمرة كطَيِّئ وأسد، وقاتلوا مَن منع الزكاة من تميم وهوازن؛ لأن الذين ارتدوا صاروا إلى عادة الجاهلية حربًا لكل أحدٍ لم يعاهدوه على ترك الحرب، والذين منعوا الزكاة كانوا مفرقين لجماعة الإسلام ناثرين لنظامهم، والرجل الواحد إذا ترك الزكاة لا يُقتل عند الجمهور) اهـ. والتحقيق أن القرآن لا يُنسخ بالسنة كما قال الشافعي ومَن تبعه، وخالفهم الكثيرون في السنة المتواترة. ويؤيد الحكم في هؤلاء الحكم فيمن ذُكروا في الآية التالية لهذه الآية، وهي: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوَهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} (النساء: 91) . روى ابن جرير عن مجاهد أن هؤلاء الناس كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُسلمون رياءً، فيرجعون إلى قريشٍ، فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا، ويصلحوا. ورُوي عن ابن عباس أنه قال: (كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنةٍ أركسوا فيها؛ وذلك أن الرجل منهم كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيقرب إلى العود، والحجر، وإلى العقرب، والخنفساء، فيقول له المشركون قل: هذا ربي للخنفساء والعقرب) وقد جعل حكمهم حكم مَن سبقهم، وهو أنهم إذا لزموا الحياد - وهو ما عبر عنه باعتزال المسلمين، وإلقاء السلم، وكف الأيدي عن القتال - فلا سبيل إلى قتلهم، وإلا قُتلوا حيث ثُقفوا؛ لأنهم محاربون، لا لأنهم مرتدون فقط، وقال: {وَأُوْلائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} (النساء: 91) أي دون غيرهم من المسالمين والمحايدين. ونقلنا في تفسيرها عن الرازي أنه عزا القول بعدم قتال هؤلاء إلى الأكثرين، ونظَّر له بآيات سورة الممتحنة وآية البقرة في أنه لا يُقاتَل إلا المقاتلون، وقلنا - والظاهر أنه يعني بمقابل الأكثرين مَن يقول إن في الآيات نسخًا - ولا يظهر فيها النسخ إلا بتكلُّفٍ، فما وجه الحرص على هذا التكلف؟ . وقد استفتينا في هذه المسألة قبل كتابة هذا التفسير بسنين، فتجد في فتاوى المجلد العاشر من المنار (ص 287، ج4، م10) من أحد علماء تونس منها السؤال عن حديث: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ... ) إلخ، ألا يعارض كوْن الإسلام قام بالدعوة لا بالسيف كما يعتقد الجهلاء؟ ، والسؤال عن حديث: (مَن بدل دينه فاقتلوه) ألا ينافي كوْن الإسلام لا يضطهد أحدًا لعقيدته؟ ! . وقد أجبنا عن الأول بأن الحديث ليس لبيان أصل مشروعية القتال؛ فإن هذا مبيَّنٌ في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ... } (الحج: 39) الآيات وقوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا ... } (البقرة: 190) الآيات، بل هو لبيان غايته؛ إذ الغرض منه بيان أن قول: (لا إله إلا الله) كافٍ في حقن الدم، حتى في أثناء القتال، وإن لم يكن القائل من المشركين معتقدًا في الباطن؛ لأن الأمر في ذلك مبنيّ على الظاهر إلخ. وأجبنا عن الثاني بأن المرتد من مشركي العرب كان يعود إلى محاربة المسلمين، وأن بعض اليهود كان يصدّ الناس عن الإسلام بإظهار الدخول فيه، ثم بإظهار الارتداد عنه ليُقبَلَ قوله بالطعن فيه، وذكرنا ما حكاه الله عنهم في هذا، وقلنا: فالظاهر أن الأمر في الحديث بقتل المرتد كان لمنع المشركين وكيد الماكرين من اليهود، فهو لأسبابٍ قضت بها سياسة ذلك العصر التي تسمى في عرف أهل عصرنا سياسة عُرفية عسكرية لا لاضطهاد بعض الناس في دينهم، ألم تَرَ أن بعض المسلمين أرادوا أن يكرهوا أولادهم المتهوِّدين على الإسلام، فمنعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله عن ذلك، حتى عند جلاء بني النضير، والإسلام في أوج قوته، وفي ذلك نزلت آية: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) ، وأزيد هنا ما كنت ذكرته في تفسير هذه الآية، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بتخيير أولئك المتهودين، فمَن اختار الإسلام بقي مع أهله المسلمين، وكان منهم ومَن اختار اليهودية جلا مع أهل دينه من اليهود وهو منهم، وراجع تفسير الآية وكلام الأستاذ الإمام فيها (ص 36، ج 3 تفسير) . وقد أعدت ذكر هذه المسألة في تفسير {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (آل عمران: 72) . فمما ذكر يعلم السائل جواب سؤاله، ومأخذ الفقهاء في قتل المرتد - وهو الحديث الذي أخذوه على إطلاقه - والجمع بين الحديثين اللذين ذكرهما وبين قاعدة التسامح والحرية في الإسلام. وأما قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ... } (التوبة: 5) إلخ، فهو يعلم أنه نزل في نبذ عهود الذين نكثوا العهد من المشركين، وأنهم أعطوا في الآية الأولى مِن هذه السورة (التوبة) مهلة الأربعة الأشهر الحرم وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ثم قال: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ... } (التوبة: 5) إلخ، ومن الضروري أن يُستثنى من ذلك مَن يتوب منهم عن الشرك، ويدخل في الإسلام، ألا تراه استثنى مَن حافظوا على عهدهم من المشركين، فقال: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} (التوبة: 7) ، ثم ألا ترى كيف علل قتال الناكثين بقوله: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُو

الخلافة الإسلامية ـ 3

الكاتب: محيي الدين آزاد

_ الخلافة الإسلامية ألَّّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية (3) فصل طاعة الخليفة والتزام الجماعة بعد هذه التوطئة الضرورية للبحث نقول: إن الشريعة الغراء فرضت على المسلمين طاعة الخليفة ما لم يأمر بمعصية، كما فرضت طاعة الله وطاعة رسوله، ولا عجب؛ فإن نظام الشريعة الاجتماعي يقتضي ذلك، وهو مطابقٌ لناموس الفطرة تمام المطابقة، بل هو حلقةٌ من سلسلة هذا الناموس الإلهي الذي يخضع له كل ما في السموات والأرض؛ وذلك لأنَّا نرى كل شيءٍ من هذا الكون البديع على نظامٍ طبَعيٍّ مخصوصٍ، وهو الذي يسمونه (بناموس المركزية) أو (بناموس الدوائر) ؛ ففي كل جهة من هذا الكون مركز تحيط به الأجسام والذوات على شكل الدائرة، وعلى هذا المركز تتوقف حياتها، وبقاؤها، ونماؤها، فلو تحولت عنه هذه الدائرة أو انحرف عن طاعتها - تنحلّ حالاً، ويعتريها الخراب والدمار في طرفة عين، وعن هذه الحقيقة عبر بعض الصوفية بقوله: (إن الحقيقة كالكرة) ، وعنها قال صاحب الفتوحات: (بأنها دائرة قاب قوسين) . (ناموس المركزية) هذا نافذ في الكائنات كلها، فما هذا النظام الشمسي الذي فوقنا، وهذه السيارات العظيمة، والنجوم المتلألئة، والكرات النيِّرة المتبعثرة على بساط السماء، وهذه الحياة العجيبة والحركة المدهشة للعقول؟ ، إن هي إلا مظهر من مظاهر هذا الناموس، فالنجوم لها دوائر، وكل دائرةٍ منها قائمة على نقطة في الشمس، حولها حركتها ودورانها، وعليها حياتها، وبقاؤها، وبها قيامها ودوامها، وستبقى هكذا ما دامت مرتبطةً بمركزه، ومنقادةً له {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (الأنعام: 96) وكذلك أرضنا حلْقةٌ من تلك الدائرة خاضعة لمركزها كل آنٍ، فكل من الأرض والسموات يدور في محوره، ويسبح في فَلَكه، ويطيع مركزه، ولا يخرج عن دائرته أبدًا حسب قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (آل عمران: 83) ، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ ... } (الحج: 18) إلخ، وقال: {لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) . ليست الكائنات العظيمة وحدها هي الخاضعة لناموس المركزية، بل الكائنات الحقيرة المنحطَّة مثلها، فخُذ لك العالم النباتي مثلاً، ففي كل شجرة ترى الأوراق، والفروع، والأزهار، والأثمار كلها مرتكزة على مركزها الذي هو أصل الشجرة، ومهما انفصلت ورقة أو غصن من الأصل - حل به الموت والفناء. هذا في عالم الآفاق، ثم انظر في عالم الأنفس، أفلا ترى أعضاءك الخارجية الداخلية، ومشاعرك الظاهرة والباطنة كلها تتحرك، وتعمل عملها، حتى كأنك مدينة مزدحمة بالأحياء، لكل واحدٍ منها حياةٌ قائمةٌ بذاته، ووظيفةٌ خاصةٌ به، ولكنها كلها خاضعةٌ لمركزها الذي هو القلب، به صلاحها وفسادها، وعليه مدار حياتها وبقائها، إذا صلح صلحت كلها، وإذا فسد فسدت كلها. وكما جعل الله سبحانه للكائنات ناموسًا ونظامًا، كذلك جعل لسيادة النوع الإنساني وهدايته ناموسًا ونظامًا، وهو الإسلام {فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} (الروم: 30) ، ولا بد أن يكون هذا الناموس المعنوي موافقًا لذلك الناموس الصوري غير متعارض معه؛ لأنهما صنع يدٍ واحدةٍ، وتقدير العزيز العليم الذي لا ترى في خلقه من تفاوت، فارجع البصر هل ترى فيه من فطور؟ ، ولعمري إنهما لكذلك، فكما ترى نظام الكون قائمًا على ناموس المركزية كذلك نظام الإسلام قائم على ناموس المركزية سواء بسواء، وقد نبه القرآن الحكيم على هذه الحقيقة مرارًا، وهي أن النوع الإنساني - جماعاته وآحاده، وحياتهم الأدبية والمادية - قائمة بناموس المركزية كسائر أنواع الأجسام، فكما أن الشمس مركز لنجوم سيارة في محيطها جعل الله الأنبياء مركزًا لسعادة البشر، وجعل حياتهم المعنوية، وخلاص أرواحهم، موقوفة على ارتباطهم بهذا المركز، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: 64) ، وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًَ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) ، ثم جعل الله تعالى تحت هذا المركز الأعظم دوائر مختلفة، ومراكز متعددة، فجعل عقيدة التوحيد مركزًا لسائر العقائد، فهي تحوم حولها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) ، وجعل الصلاة مركزًا للعبادات عليها مدارها، وبضياعها ضياعها، وبطلانها؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( ... فمَن أقامها أقام الدين، ومَن تركها فقد هدم الدين) ، وفي حديث الترمذي: (كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة) ، وقد جعل الكعبة مركزًا أرضيًّا لسائر الأمم، والشعوب، والبلاد، فقال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (المائدة: 97) ؛ ولذا أوجب أن تتوجه إلى هذا المركز دوائر الناس ووجوههم، فقال: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة: 144) . ثم لما كان للأجسام، والأشخاص، والمعتقدات، والأعمال مراكز - وجب أن يكون للحياة الاجتماعية مركز، فجعل الله لها مركزًا، وجعل الأمة حوله كالدائرة، وأوجب عليها مرافقته وموافقته وطاعته. فإذا نادى لبَّت، وإذا تحرك تحركت، وإذا وقف وقفت، وإذا نهض نهضت بخيلها ورَجِلها، وسائر قواها، وجعل عصيانه من الجاهلية التي لا مخرج منها إلا بطاعته، والرجوع إليه، وقد سمى المسلمون هذا المركز الاجتماعي (بالخليفة والإمام) ، وفرض على المسلمين قاطبة أن يعينوه، وينصروه، ويطيعوه كما يطيعون الله ورسوله، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) . *** فصل أولو الأمر أمر الله سبحانه في هذه الآية بثلاث طاعاتٍ: طاعة الله، وطاعة الرسول وطاعة أُولِي الأمر، وقد علمنا أن طاعة الله تكون بطاعة كتابه، وطاعة الرسول بطاعة سننه القولية والفعلية، ومَن أولو الأمر الذين أُمرنا بطاعتهم؟ ، لقد تضافرت الأدلة القطعية، والبراهين النيرة على أن المراد بأولي الأمر (الخليفة والإمام) الذي ينفذ أحكام كتاب الله وسنة رسول الله، ويقوم بمصالح الأمة، ويحكم، ويستنبط الأحكام من الشريعة عند النوازل برأيه واجتهاده، وإنما ذهبنا إلى هذا القول لوجوهٍ: (1) قاعدة: (القرآن يفسر بعضه بعضًا) فإذا رجعنا إليه نجد في نفس هذه السورة قول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) ، ذكر الله سبحانه في هذه الآية تلك الآونة التي كانت تروج فيها أخبار الأمن والخوف، والفتح والهزيمة، فيسمعها الناس، فيضطربون من أجلها اضطرابًا شديدًا. وقد أشاع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض المنافقين مثل هذه الأخبار، فهلع منها بعض ضَعَفَة الإيمان من المسلمين، فأمرهم الله أن إذا سمعتم هذه الإشاعات فلا تأخذوها على عِلاَّتها، ولا تصدقوها، بل ردوها إلى الرسول، وإلى (أولي الأمر) ؛ ليحققوها، ويمحصوها، ويستنبطوا منها ما يجب استنباطه. فالحالة التي ذُكرت في هذه الآية: حالة الحرب والصلح، والأمن والخوف، ولا يخفى على أحدٍ أن النظر في هذه الحالة، والاهتمام لها، واتخاذ التدابير اللازمة لها من وظائف الأمراء والحكام، لا من وظائف العلماء والفقهاء؛ لأن المسألة مسألة نظام البلاد، وقيام الأمن، ونشوب الحرب، لا مسألة الحلال والحرام التي ينظر فيها العلماء، فإذن لا مناصَ من أن نسلِّم بأن المراد (بأولي الأمر) هم الذين بيدهم الحرب والصلح، وتنظيم البلاد، وسياسة العباد، والذين من شأنهم أن يحققوا مثل هذه الأخبار المؤثرة على السياسة العامة، وما هم إلا الأمراء والحكام [1] . (2) إذا تتبعنا الكتاب، والسنة، واللغة نجد أن كلمة (الأمر) إذا استعملت هذا الاستعمال، يكون معناها الحكومة والسلطان [2] ، وقد كثر استعمالها في هذا المعنى في الأحاديث النبوية كثرة زائدة لا يبقى معها محل للريب والشك، وفي اللغة أيضًا معنى (الأمر) : (الحكم) ؛ ولذا قال الإمام البخاري: (أولو الأمر هم ذوو الأمر) ، ومعلوم أن صاحب الحكم لا يكون إلا صاحب الحكومة. (3) لقد ثبت بالأحاديث الصحيحة أن هذه الآية إنما نزلت في طاعة أمير الجماعة؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس: (أنها نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي؛ إذ بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية ... ) وروى ابن جرير الطبري في تفسيره: (بأنها نزلت في قصةٍ جرت لعمَّارٍ مع خالد، وكان خالد أميرًا، فأجار عمَّار رجلاً بغير أمره، فتخاصما) ، فعُلم من هاتين الروايتين أن الآية إنما أُنزلت في طاعة الأمراء لا غير [3] . (4) روينا هذا التفسير عن كثيرٍ من الصحابة والتابعين، ولم يؤثر عنهم غيره، وأما ما قيل في الآية فإنما هو من عند المفسرين المتأخرين، فقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن عيينة أنه قال: (سألت زيد بن أسلم عنها، ولم يكن بالمدينة أحد يفسر القرآن بعد محمد بن كعب مثله، فقال: اقرأ ما قبلها تعرف، فقرأت: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) فقال: هذه في الولاة) (فتح الباري 13: 99) فانظر كيف استدل زيد بن أسلم على أن المراد من (أولي الأمر) الحكام، والولاة بالآية التي قبلها، والتي ذكر فيها الأمراء والحكام [4] ، وقد روى الطبري بسندٍ صحيحٍ عن ميمون بن مهران وأبي هريرة، وغيرهما: (أولو الأمر هم الأمراء) وعدَّ ابن حزم الصحابة والتابعين الذين نقل عنهم هذا التفسير فبلغوا ثلاثة عشر رجلاً. نعم قد رُوِيَ عن بعض الصحابة والتابعين أن المراد من أولي الأمر العلماء فقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: (إنهم أهل العلم والخير) ، وقال مجاهد وعطاء وأبو العالية: (إنهم العلماء) ، ولكن لا تعارض بين التفسيرين؛ وذلك لأن الشريعة جعلت الحكومة والولاية مركزًا لسائر شؤون الأمة الدينية، والسياسية، والعلمية، ولم تكن المناصب والوظائف قد انقسمت إلى ذاك الحين، فأمير المؤمنين كما كان حاكمًا وسائسًا كذلك كان عال

كوارث سورية في سنوات الحرب ـ 2

الكاتب: شكيب أرسلان

_ كوارث سورية في سنوات الحرب من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان (2) ثم نعود إلى حوادث سورية التي كنا في صددها، فنقول: عهدنا بالبيكباشي شكري بك رئيس الديوان العرفي الذي كان في عاليه أنه (حي يُرزق) ، وكان تقرر بيننا وبينه أن نفتح بعد نهاية الحرب مسألة سورية في مجلس المبعوثين في الآستانة ونطلب شهادته وأنه يشهد بكل ما جرى معه، على أن شكري هذا - وإن استظهر جمال عليه بما في ديوان الحرب من مستنطق ومدَّعٍ عمومي، وأكثر الأعضاء - قد أمكنه إنقاذ بضعة عشر شخصًا من الموت؛ لأن جمالاً طلب الحكم على أربعين كما تقدم، فلما بالغ في المعارضة نزل معه جمال إلى عدد 27، ووقف هناك ولكن شكري بك تمكن من تخليص ستة من هؤلاء أيضًا، وتقدم ذكر رأيه فيهم، ولما نفذ الحكم استعفى حالاً، وذهب إلى الآستانة مُغاضِبًا لجمال باشا. مسألة نفي السوريين إلى الأناضول: قبل أن أُنفذ الحكم بالقتل على الواحد والعشرين رجلاً - الذين صُلبوا في ساحة المرجة بالشام وساحة البرج في بيروت - أخذ جمال ينفي العائلات مئاتٍ وألوفًا إلى الأناضول من كل مدن سورية، وكان يعتمد في ذلك على جداول يقدمها له مديرو البوليس وغيرهم من جواسيسه وشكل لجنة سماها (قومسيون التهجير [1] تحت رئاسة رجل اسمه نوري بك كان (مكتوبجيًّا) بالشام وكان من أشد الناس ضراوة بالضرر والفساد، وكان يكره في الباطن جمالاً وطلعت وكل رجال جمعية الاتحاد والترقي، ولكنه يغري جمالاً بالنفي أو التغريب انتقامًا منهم؛ لعلمه أن هذه الأعمال ليس وراءها إلا الخراب وقيام الأهالي، وقد نبهنا جمالاً إلى هذا الأمر، وحذرناه من نوري وأحزابه، ومن أقوال الجواسيس، وأعلمناه أنهم لا يخبرونه إلا بما يرون أنه يقربهم إليه زلفى من السعايات والوشايات، فلم يكن يعبأ بكلامنا، وكان يعتقد أنه لا تخفى عليه خافية، حتى لو قلت إنه كان يظن نفسه ملهمًا ومعصومًا من الخطأ لما كنت مبالغًا! ومن جملة مَن بدأ (بتهجيرهم) أسرة المرحوم الأمير عبد القادر الجزائري، ولما راجعته في ذلك قال لي: إن عنده أدلة ووثائق خطية تُثبت خيانتهم وخدمتهم لفرنسا في سورية، فقلت له: الذي أعلمه أن الأمير سعيدًا الجزائري كان لا شغل له إلا شتم فرنسا فقال هذا من باب الاحتيال؛ لأجل أن تُسكته فرنسا بالمال، فقلت له: مهما يكن من الأمر فإن مراعاة هذا البيت واجبة لكون الأمير عبد القادر له منزلة سامية في العالم، فأجابني (بكأنه) ، ومعناها هنا: ماذا ينالني من ذلك؟ . (المنار) وقد أطال الكاتب هنا في ذكر وقائع جزئية: (منها) أنه لما بلغه أمر جمال باشا بنفي بعض وجهاء لبنان - وكان الأمير توفيق أرسلان والأمير فؤاد أرسلان ابنا عمه منهم - كلمه وكتب إليه محاولاً صرفه عن هذا العزم فلم يأبَهْ له، فتوسل إليه بعزمي بك والي الشام كما ذكر أولاً، فغضب، وأنذره أن لا يراجعه في شيء من أمر المنفيين، ونشر في الجريدة الرسمية أنه لا يسمح لأحد بالافتيات عليه في ذلك. وقد كاشف رئيس لجنة النفي (قومسيون التهجير) محمد فوزي باشا العظم بأن المراد بإنذار الجريدة هو الأمير شكيب، فنصح له الباشا بأن يقف عند ذلك الحد خوفًا على حياته. وعلل ذلك بأنه يفعل ما يشاء بلا معارض، وهو - على علمه بأن هذا الكلام حق - لم ينثنِ عن عزمه. (ومنها) أنه على تعرُّضه للخطر بهذا السعي لهؤلاء - كان بعضهم يتهمه بأنه هو الذي أغرى جمالاً بهم، ويستدلون على ذلك بأنه ليس في المنفيين أحد من حزبهم الأرسلاني، وإن الجواب على ذلك سهل، وهو (أن الحزب الأرسلاني معروف قديمًا وحديثًا بأنه الحزب المناوئ للأجانب على الإطلاق، وأنه الحزب العثماني الوحيد في الجبل، وسواء كان ذلك حسنة أو سيئة فهو حقيقة يعرفها كل أحد، فغير معقول أن تعمد الدولة إلى رؤساء هذا الحزب فتنفيهم مهما بلغ من خوفها) . (ومنها) أن جمال باشا كان يعتمد في اختيار مَن ينفيهم على بلاغات الجواسيس الموظفين والمتطوعين، وأن علي منيف بك متصرف لبنان كان معارضًا له في خطة النفي، وكلَّمه في ترك نفي أحد من الجبل، فلما لم يقبل انتخب له مَن تواتر عنهم الميل إلى الأجانب، ومنهم مَن وجد في أوراق قنصلية فرنسا ببيروت وثائق تجرح صداقتهم للدولة، ومن تقدمت عليهم شهادات أخرى. وذكر الكاتب عنا تقارير الشرطة السرية وعيون الحكومات وأنه كان للدولة منها بعض ما للمحتالين في سورية وفلسطين الآن. (ومنها) أنه لو كان للكاتب أدنى مشاركة أو مساعدة لجمال باشا على أفعاله لما أمكنه أن يشنِّع عليه في الآستانة ويسعى لمحاكمته، ولكان جمال باشا يقول: إنه كان قد أغراني بذلك وحسَّنه لي فأخذت بقوله وقول أمثاله لثقتي بعلمهم بحال البلاد. ثم قال الكاتب: هذا، ولما صدر الأمر بنفي حبيب باشا السعد من جملة مَن صدر الأمر بنفيهم من لبنان جاء دمشق وزارني في محلي، وقال لي: إنه سمع من إسبر أفندي شقير وغيره عن الجفوة التي جرت بيني وبين جمال باشا من أجل مسألة النفي والقتل فهو لذلك لا يكلفني الكلام معه في أمره، بل الكتابة إلى علي منيف متصرف الجبل الذي هو صديقي؛ لعله يتمكن من إقناعه، فحكيت له كل ما جرى وحررت لعلي منيف كتابًا بأن يبذل جهده في صرف جمال عن نفيه، فإن لم يمكن فليكن النفي إلى أطنة لا إلى داخل الأناضول، ثم توجهت إلى الجبل وبيروت وسألت علي منيف بك عن مسألة حبيب باشا وغيره، فأجابني أنه لم يدخر وسعًا في صرف جمال باشا عن فكرة النفي فلم يفلح، ولكنه خلص أناسًا كثيرين وأما حبيب السعد فقد كتب إلى والي أطنة جودت بك بأن لا يشخصه إلى أبعد منها متى وصل إليها، وهكذا تم، وبقي حبيب في أطنة، وتحابَّ مع جودت بك. ولقد صادف وصولي إلى لبنان بقاء بعض المنفيين على أهبة السفر مثل رشيد بك نخلة فأقنعت علي منيف بإبقائه لانحراف صحته، فخلصه بالرغم من إلحاح جمال باشا بتسفيره، وكان أخي عادل خلص عدة أشخاص بحجة المرض مثل أمين بك عبد الملك وخليل بك عقل شديد وغيرهما. وأما إسبر أفندي شقير فكان جمال باشا نفاه إلى القدس ثم سمح له بالمجيء إلى الشام وعندما صار في الشام تعبت كثيرًا في إعادته إلى بيته؛ لأنه كان بيني وبينه جفوة مزمنة، وكنت أترقب فرصة لأجل أن أسدي إليه هذه اليد على ما بيننا من النفور. ولما كان جمال علق له رخصة الرجوع إلى البيت على رضى متصرف لبنان ووالي بيروت - راجعت بذلك كلاًّ من علي منيف وعزمي بك، وبالرغم مما أبداه عزمي من التصعيب أقنعتهما بالقبول على أن أكون كفيلاً لإسبر أفندي فلما جاء جمال إحدى جيئاته إلى بيروت تكلم معه الواليان المشار إليهما أمام أناس من بيت سرسق بشأن إسبر شقير، وأنني أنا الذي يلح في هذا الأمر، فغضب جمال وبدرت منه كلمات بحقي وأشاع أبناء سرسق ثاني يوم أن جمال باشا غضب عليَّ بسبب إسبر أفندي، وخاف عليَّ أصحابي، بل جاءني فوزي بك ابن إسبر أفندي ورجاني أن لا أعرِّض نفسي للضرر من أجلهم وأنهم هم قد عرفوا صديقهم من عدوهم، ونجاحي في تخليص والدهم وعدمه لا يقدمان ولا يؤخران شيئًا في امتنانهم مما جرى، ثم ذهبت بعدها إلى الشام، فكان كلام إسبر أفندي معي طبق كلام ولده فوزي. نعم، إنه تخلص - فيما بعد - بقرار حصلنا عليه بمساعدة طلعت بشأنٍ عَمَّ جميع المنفيين الذين فوق الستين، ومع هذا كان يعد حسن نيتي وإخلاصي السعيَ له جميلاً وينوه به ويلوم مَن أساءوا الظن بي من المنكوبين ويزيل ما لصق بأذهانهم من الشبهات، على حين كان الذين نفعتهم فعلاً ودفعت عنهم شرورًا عظيمة وعاركت من أجلهم في مواقف عديدة - قد نسي أكثرهم الجميل وأنكروه ومنهم من قابلوا الإحسان بالإساءة والود بالشماتة. ووجدت رجلاً آخر، بلغت به الجرأة الأدبية أن دافع عني بقلمه بعد الحرب ألا وهو المرحوم سليم بك المعوشي قائمقام جزين فقد كنت أيام الصفاء مع جمال لأول الحرب - استرجعت أمر جمال بنفيه إلى القدس ثم وجدت أوراقًا في قنصلية فرنسا أوجبت القبض عليه، وحبسه في عاليه، فتمكنت - بواسطة رئيس الديوان العرفي وأعضائه وبإقناعهم بكون هذه الأوراق لا بال لها وليس فيها خيانة للدولة - أن أطلق سراحه بدون أن يعلم بذلك جمال، فكان هو الرجل الوحيد الذي نشر عند نهاية الحرب في إحدى الجرائد ما معناه: أنني أعلم أن كلامي لا يُرضي الكثيرين ولكن الحق أولى أن يُتَّبع، وهو أن الأمير شكيب أرسلان لم يشترك في شيء من أعمال جمال باشا، بل خاصمه وعانده من أجلها إلخ. هذا، ولو كانت الحرب انتهت بغير ما انتهت به لم أكن عرضة الآن لافتراء بعض المفسدين المتملقين للحلفاء! ، ويا ليت الواقفين على أقاويلهم اليوم سمعوا نغْمة الرؤساء والزعماء في لبنان أيام الحرب وهم يقولون في هذا العاجز على ضعفه وقصوره: هذا أمير البلاد وأبوها وأمها وإن لم يحافظ عليها هو فمَن يا تُرَاه يحافظ عليها إلخ؟ ! ، ولكن لما دارت الدائرة على ألمانيا وتركيا انقلبت الحقيقة لديهم وصار الأبيض أسود في نظرهم؛ إذ أكثر الناس ينظرون من وراء لون الأحوال الحاضرة وكأن الحقائق - ويا لَلأسف! - هي أيضًا رهائن الأقوياء موقوفة لخدمتهم. حال جمال باشا بعد ثورة الحجاز: هذا، ولما ثار الشريف بالحجاز وسرت الحركة إلى سورية خاف جمال العواقب، فعدل عن المخاشنة إلى المحاسنة، واستدعاني أنا وكامل بك الأسعد وسليم باشا الأطرش ونسيب بك الأطرش وكنج أبا صالح شيخ مجدل شمس وغيرنا من الزعماء وتكلم معنا في اتحاد العرب والترك وفي مقاصد الدولة العلية الحقيقية وأفاض بكلام بعضه صحيح وبعضه سياسة، والتمس منا السهر على الأمانة للدولة. وأنا - وإن كنت لم أصدق كلامه في البراءة من السياسة الطورانية - لم أخالفه في الطعن بسياسة الشريف من جهة محالفته لإنكلترة وتصديقه لمعاهداتها ... وقلت - قبل الحرب وكررت في أثناء الحرب وبعد الحرب ولا أزال أقول -: إن كل عربي يصدق أن دول الحلفاء يسعين في استقلال العرب - لا بل يقبلن باستقلال العرب - يكون في عقله خبال! ، وأنهن ما أردن إلا فصل العرب عن الترك؛ ليتسهل لهن ابتلاع الأمتين، هذه هي غايتهن. ولي - بذلك قبل الحرب - نظْم من جملة قصيدة في سيرة صلاح الدين الأيوبي: وكيد على الأتراك قيل مدبر ... ولكن لصيد الأمتين حبائله إذا غالت الجلى أخاك فإنه ... لقد غالك الأمر الذي هو غائله وطلب مني جمال أن أرافقه في سياحة إلى حوران وجبل الدروز واستصحب أيضًا المرحوم عبد الرحمن باشا اليوسف وسامي باشا مردم بك وبعض العلماء والمعمّمين، وأراد أن يجلو ما كان أظلم بيني وبينه، فلما كنا في مقعد السويداء بجبل الدروز، وكان قبض قبل ذلك على شكري باشا الأيوبي وعدة رجال منهم فارس أفندي الخوري أحد المشار إليهم بالبنان في سورية علمًا وفضلاً، واتهمهم بمؤامرات سبقت لهم مع الأمير فيصل، فانتهزت تلك الفرصة وتكلمت معه بشأن هذه القافلة الثالثة على مسمع من عبد الرحمن باشا اليوسف ووجيه أفندي الأيوبي وحيدر بك ابن سامي باشا مردم بك وما زلت ألحّ عليه بشأنهم، حتى وعد بأن يطلعني على أوراق وُجدت معهم وأنها تثبت خيانتهم، ولما نزلنا الشام قال لي: إن التحقيقات لم تتم فصرنا نراوحه الشفاعة ونغاديه، ولا سيما بفارس أفندي الخوري، والشيخ خضر حسين التونسي الأديب العالم الفاضل، والمرحوم الشيخ صالح الرافعي وأناس من وجوه راشيا وآخرين من وجوه

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 4

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة (4) الإسلامية والمجوسية أو العرب والعجم إن السبب الأول لدخول الخرافات في الإسلام هو روح مجوسية الفرس، الدين الإسلامي دينٌ حرٌّ ساذجٌ، ولكن حال لونُهُ الأصلي في محيط إيران، ولما دخلت الأصول الإسلامية بلاد اليونان، ومصر، والروم تعقدت سذاجته العالية، وأخذ شكلاً غريبًا ممزوجًا بنظريات تلك الشعوب الدينية، والفلسفية، ولا سيما اليهود الذين كانوا كلما دخل أحد منهم في محيط الإسلامية يُدخل معه خرافات دينه. هنا يجب على الباحث عن جراثيم مرض التحزبات الإسلامية أن يجول، وحينئذٍ يجد أن أشد الضربات وأفجع النكبات قد هبت ريحها على الإسلامية من جهة إيران. كان الفكر الديني ذو السلطان الروحي في محيط إيران - وهو مذهب زرادشت - محافظًا على قوته وصَوْلته بعد أُفول نجم الفرس السياسي، نعم، إن ظفر المسلمين بالفرس في القادسية قد دكَّ دين زرادشت كما ثلّ عرش ملوكه الأكاسرة؛ فإن الفرس كانوا يدخلون في دين الله أفواجًا، ولكنه لم يعف أثره، بل أصر عليه كثيرون، ولا يزال له أتباع في بلاد الهند في شبه جزيرة كجرات وفي فيافي إيران، وعلى ساحل بحر الخزر يدينون دين زرادشت، فما بالك بما كان من بقايا تأثيره في أنفس الذين آثروا الإسلام عليه من حيث لا يشعرون. كان للفرس إلهان (آهريمان) أي خالق الشر، و (هرموز) أي خالق الخير، وفي عام 224 ميلادية في زمان الدولة الساسانية اتحدت في إيران السلطة السياسية والسلطة الدينية، وظلتا متحدتين حتى دخول الإسلام في ديار إيران. كان الأهلون يُقسمون في تلك الأزمنة أربع طبقات: (1) طاجيه. (2) شمارجه. (3) دهاقين. (4) موبذان. فالأولى طبقة العوام، والثانية طبقة الخواص، والثالثة طبقة رجال الحكومة والرابعة طبقة رؤساء الدين والأشراف والوجوه. وكان القضاء للرئيس الديني المسمى (موبذ موبذان) . كانت عاصمة الفرس - إذ ذاك - بلدة إِصْطَخْر، وكان للعرب هنالك حكومة، عاصمتها الحيرة لا دولة (وبين مدلول كلمة (حكومة) ، ومدلول كلمة (دولة) بونٌ شاسعٌ) . هكذا كانت التنظيمات الاجتماعية، والسياسية في إيران عند دخول الإسلام فيها. وكانت هذه التنظيمات منطبقة على روح الإيرانيين طبعًا بمرور الزمان، وكل تشكيل سياسي أو اجتماعي يتولد من روح الأمة الاجتماعية لا يمكن تعديله، ولو أرادوا ذلك لما استطاعوا إليه سبيلاً. كان الفرس ينظرون إلى دولة الأمويين وإلى حكومتهم شزرًا لسببين رئيسيين: (1) أن تأليف أمتهم أحسن ترتيبًا وأتم نظامًا من تأليف الأمة الحاكمة. (2) أنهم كانوا يعدون الأمويين غاصبين لاستقلالهم السياسي، ولكنهم يسترون ذلك بإلباس بُغضهم إياهم لباس التشيع لآل البيت النبوي الكريم. لذلك كان الإيرانيون دائمًا يترقبون الفرص لكي يستردوا سلطتهم المادية، ولم يجدوا سبيلاً يوصلهم إلى مقصدهم الأصلي أقصر من تكييف قواعد الدين الحنيف بأشكال توافق احتياجاتهم الروحية. وفي سنة إحدى وأربعين للهجرة اضطر سيدنا الحسن السبط إلى ترك الخلافة لخصمه معاوية، ثم خلف يزيد أباه معاوية، وما عتم يزيد أن فعل فعلته الشنعاء في سيدنا الحسين - رضي الله عنه -. فكانت كجذوة نارٍ أُلقيت على مستودع بارود النفور، والكراهة المخزونين في قلوب المسلمين لسلطنة بني أمية. فانتهز الإيرانيون هذه الفرصة، فاتخذوها ذريعة لتنفير المسلمين من أخلاق معاوية، وبذلوا كل ما أُوتوه من قوة لنشر هذه الدعوة. وفي أثناء بث دعوتهم شعروا بالحاجة إلى قوة يتكئون عليها، فجعلوا مسألة (التشيع لآل البيت الكريم) مذهبًا دينيًّا. ثم تمخضت الأيام بل الأعوام بهذا الجدال، والجِلاد حتى وضعت حملها، فظهر أبو مسلم الخراساني - الذي تجلت جميع آمالهم بشخصه - فكان ظهوره كانفجار القذائف النارية، فلم يلبث أن فاز بإزالة السلطنة الأموية، وإقامة سلطنة العباسيين الذين يمثلون نفوذ الفرس مكانها [1] . وكان من أعوان أبي مسلم على إعادة النفوذ الفارسي أغنى أهل زمانه (أبو سلمة الخلال) بذل ماله وجاهه بكل سخاءٍ في سبيل فوز أبي مسلم. ولكن العاقبة لم تكن كما كان يروم الفرس من كل وجه فطرقوا بابًا آخر، وهو باب (العلوية) ، فاستمر الجدال، والجلاد، وتوالت الفجائع الدموية. ومع كل هذا لم ينل الفرس كل مبتغاهم من أنهار الدماء التي فجَّروها تفجيرًا؛ إذ لم يكن القصد في الباطن إلا إدارة ملك العرب كما يشاؤون ترويجًا لسياستهم، ولكن العباسيين عرفوا سر الأمر، ولم ينقادوا كل الانقياد للفرس، وحينئذٍ ظهر هؤلاء بمظهر جديد، وهو مظهر (العلوية) . وبهذا الشكل توالت الفجائع، وتعاقب سيل الدماء. وهذه السياسة قد فشلت أيضًا، فلما رأوا أن بلادهم قد مُلكت، ودماءهم قد سُفكت، ولم ينالوا شيئًا - عمدوا إلى سياسة أخرى. وهي سياسة اجتثاث شجرة الدين، وقلعه من أُسِّهِ، وهو التوحيد، فوضعوا مذهب التعليم الباطني على أس الحلول، وحاولوا اصطياد قلوب العرب باللين والدهاء إلى أن ينالوا المرام، ويأخذوا بأزِمَّة الإدارة، وينفردوا مع صنائعهم بالأحكام ... على هذه السلم صعدت البرامكة إلى صرح وزارة التفويض، والاستبداد بالتنفيذ، كان جدهم (خالد) قائدًا من قواد جيش أبي مسلم الخراساني، وكان نارًا تتَّقد غيظًا وحقدًا على العرب. وهو ابن رجلٍ مجوسيٍّ اسمه (برمك) ، وكان متوليًا أوقاف (نيران) مدينة بلخ. وإنما أظهر خالد الإسلام عند التحاقه بأبي مسلم، وكان شديد الغيرة والحرص على إحياء مجد الفرس السياسي والديني، وكان من الدهاء والحنكة بحيث إن السفاح الخليفة العباسي أُعجب به وجعله وزيرًا له. ثم انتقلت الوزارة من بعده لابنه (يحيى) ، ثم لحفيده (جعفر) ، وقد نجح الفرس في هذه السياسة سياسة اصطياد قلوب العرب الذين تروج عليهم الدسائس بكل سهولةٍ. حتى إن الدولة العربية في زمان السلالة العباسية كانت في أيدي الفرس، فكان الولاة، والقواد فرسًا كالوزراء. وقد اشتهر في الإدارة العربية عدة فصائل عجمية، أدارت الملك مثل: (1) فصيلة برمك، (2) وفصيلة وهب، (3) وفصيلة قحطبة، (4) وفصيلة سهل، (5) وفصيلة طاهر. فكانت الدولة عربية اسمًا، وفارسية جسمًا، أو مسلمة ظاهرًا، ومجوسية باطنًا، وقد تجلى النفوذ الفارسي عند جلوس المأمون على كرسي الخلافة أكمل التجلي، حتى إن بعضهم كان يتخيل أن الفرس سيعيدون ملك الأكاسرة بلا جدالٍ، إلا أن الإسلام لما كان قد تمكن من مباءته في قلوب الناس لم يتجرأ منافقو المجوس على إبراز جميع مكنونات قلوبهم بوضوح، بل حاولوا الاستفادة من الإسلام بطريقة خفية تُدْنيهم من آمالهم السياسية بالتدريج، وهذا كان ممكنًا ومعقولاً؛ لذلك اكتسى أمراء الفرس كسوة الإسلام، ورفعوا علم الخلافة، والإمامة، وظهروا بمظهرٍ جديدٍ يحلو لبسطاء العرب، ويجذب قلوبهم. على هذه الطريقة ساروا إلى خدمة مقام الإمامة والخلافة، وبعض العرب يركض وراءهم مجذوبًا بجاذبة الآمال الخلابة. إذا دقق الإنسان النظر في التاريخ تدقيقًا جيدًا يجد أن غلو الفرس في آل البيت النبوي، وتقلبهم بين العباسيين، والعلويين - لم يكن إلا لعبة سياسة لعبوها خلف ستار الدين؛ تأمينًا لإعادة مجدهم الذي قوَّضه العرب، ومن الآيات الدالة على ذلك أن جعفرًا البرمكي وزير هارون الرشيد قال مرة - لمَن كانوا يستحسنون أفعال أبي مسلم الخراساني -: (إن ما عمله أبو مسلم ليس شيئًا مهمًّا؛ لأنه نقل السلطنة من سلالةٍ إلى سلالةٍ، متحدتين في العشيرة وفي الديانة. وإنما المهارة هي نقل السلطنة من أمةٍ إلى أمةٍ أخرى، لا تتحد معها لسانًا ولا دينًا!) ، وكان قصده من هذا الفخر أن أسرته تنقل السلطنة من العرب إلى العجم، ثم إن فضل بن سهل السرخسي أشهر رجال المأمون كان مجوسيًّا، تقلد خدمة الحكومة، ولأجل تأمين مصالح الفرس أسلم عام 190 إسلامية، وتقلد مذهب الشيعة الذي أحدثه قومه. وبعد إسلامه بثماني سنين ألف جيشًا بقيادة (طاهر بن حسين) ، وفتح بغداد وقهر الأمين؛ لأن أمه عربية، وأجلس المأمون ابن الفارسية. ولم يكتفِ الفضل بن سهل بهذا، بل قرر في عام 201 جعل علي بن موسى ولي عهد ثم أزال شعار العباسيين وهو السواد، واستبدل به شعار الفرس الأخضر بحجة أنه شعار آل البيت. وظلت فتوحات الفرس في قلوب أهل المملكة تزداد، وتهويشاتهم لأمور الدين الإسلامي تتكاثر حتى زمان الخليفة المعتصم، فاستعان بالترك على الفرس، فجرى بين الفرس والترك ما جرى، وانتهى الأمر بدخول الترك بغداد مظفرين، بعد أن سحقوا قوة الفرس المجوسية، وكان هذا بزعامة طغرل بك السلجوقي في زمان الخليفة القائم بأمر الله [2] . عند ذلك انتقلت المناصب من أيدي الفرس إلى أيدي الترك، فانسحب أمراء الفرس من ميدان السياسية، ودخلوا ميدان الجندية، وأعلنوا الاستقلال، وأظهروا مكنونات قلبهم القديمة. ألفوا في خراسان دُويلة الطاهرية، وفي نفس فارس الصفارية، وفي ما وراء النهر السامانية، وفي آذربيجان الساجية وفي جرجان الزيارية، وجميع هذه الدويلات كانت كمرآة تتجلى فيها الروح الفارسية منذ عهد الأمويين إلى زمن إعلانها. وكانت جميع دويلات الفرس ضعيفة بالنسبة إلى قوة المركز العربية ما عدا دولة (آل بويه) التي ظهرت عام 320. ونتيجة ما تقدم أن بذور التفريق التي غرسها الفرس قد نما نبتها، وأثمرت وقوع الشقاق بين المسلمين؛ فكانوا فرقتين يتنازعان السيادة بينهما، وكان يدافع عن الحزب الإيراني أو الشيعي الفرس، وعن الحزب العربي أو السني الترك، وقد كان الفوز لهؤلاء في العراك الصوري والمادي، ولأولئك في التنازع المعنوي؛ لأن الإيراني كان أدهى من التركي في السياسة، وبهذا تمكنوا من إلقاء بذور التشيع في قلوب الترك أنفسهم. ثم دالت دويلة آل بويه، ولكن فكرة مجد كسرى ظلت باقية في أدمغة العجم، فكانوا كلما سنحت لهم فرصة مناسبة، أو وجدوا بيئة موافقة يظهرون بمظهر ديني مرتدين رداء نُصرة آل البيت النبوي الكريم. هكذا كان الإسلام يتدحرج بين يدي العجم والترك. فكرة إعادة مجد الفرس ظلت تنمو، وتكبر منذ زمان الفاروق الأعظم، وقصَّت في طريق نموها أجنحة العرب، وبقيت مثابرة على غاياتها تركض خلف بُغيتها، غير ملتفتةٍ إلى شيءٍ حتى عام 905؛ ففي تلك السنة أعلن إسماعيل الصفوي رسميًّا مذهب الشيعة، وأعيد مجد كسرى فعلاً، فالبسطاء كانوا يظنون أن المنتصر هو حزب آل البيت النبوي الكريم، والحال أن المنتصر كان ورثة كسرى [3] والمغلوب ورثة عدنان (بل قوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولغة كتاب الله، فماذا استفاد آل الرسول - عليهم السلام - من اتخاذهم وسيلة لذلك الملك؟ ، هل تحولت الإمامة إليهم، وصار أمر الدين والدنيا ثمة في أيديهم، وفقًا لدعوة دعاة الفرس لهم؟ أم يُغنيهم عن ذلك سَبُّ أبي بكر وعمر وزيرَيْ جدهم، وأعز أنصاره، وناشري دينه، ومؤسسي ملك شريعته وسبب هداية الفرس إلى الإيمان به) . ثم تكرر الاصطدام بين السنة والشيعة أي الحزبين الإسلاميين المتظاهرين بنصرة مبدأ ديني، والحقيقة أن التصادم كان بين شعبين يريدان الاستفادة من غفلة العرب لتوطيد نفوذهما السياسي، وهما الترك والفرس، وكانت العاقبة انتصار الترك، إلا أن ظهور نوادر من بين الفرس مثل الشاه طهماسب والشاه عباس والشاه نادر جعل الغلب دينيًّا فقط، وظل البناء السياسي قائمًا. أكثر

جمعية الرابطة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية الرابطة الشرقية من سنن الله تعالى في (الاجتماع البشري) أن يتآلف الأفراد، والجماعات من الناس، ويتعاونوا بقدر ما يكون بينهم من ضروب المشاركة في الصفات التي تميزهم من غيرهم، وفي مرافق الحياة الخاصة بهم، كما هو مشاهَدٌ في تكوين البيوت، والعشائر، والقبائل، والشعوب، وقد اتسعت في هذا العصر هذه المشاركات حتى صارت الشعوب الكثيرة - التي تجمعها بقعةٌ كبيرةٌ كأقسام الأرض المسماة بالقارات - تتحد، وتتعاون على ما هو خاص بها دون القارات الأخرى، وبناءً على هذه السنة وضع مونرو قاعدة (أميركة للأميركيين) ونرى الأوربيين من عهد بعيد يتعاونون فيما بينهم، متفقين على وضع سلطانهم على رقاب الآسيويين، والإفريقيين، على ما بين دولهم من التعادي والتنازع في ذلك وفي غيره، ثم إنهم لكثرة الروابط بينهم، وبين الممالك الأميركية قسموا العالم قسمين، أطلقوا على أحدهما اسم (الغرب) ، ويعنون به أوربة وأميركا وعلى آخر اسم (الشرق) ويعنون به آسيا وإفريقية، وهم يفضلون الغرب على الشرق، ويجتهدون في جعله تحت سيطرته وسيادته في الحكم، وهذا خاص بأوربة، وفي الشئون الاقتصادية، والأدبية، والدينية، وهذا مشترك بين الأوربيين، والأميركيين. وقد ظل الشرقيون غافلين عن أنفسهم خاضعين للغربيين في كل ما يبغون منهم إلى هذا العصر الذي تنبهت فيه الشعوب الشرقية إلى وجودها والخطر عليها. وقد كانت الحرب الأخيرة أقوى المنبهات للشرقيين؛ إذ ظهر لهم أن الدول الأوربية الظافرة تريد أن تقضي على بقية الدول الشرقية التي أنهكت قواها من قبل بالحروب، وبالتدخل السياسي والاقتصادي، والعلمي، والديني، فشدت أواخي التعاون السياسي بين الترك، والفرس، والأفغان، والروس، وغيرهم من شعوب الشرق. وفي أوائل هذا العام الهجري نبتت في مصر فكرة تأليف جمعية للتعارف والتعاون العلمي والأدبي والاقتصادي بين الشعوب الشرقية، نبتت هذه الفكرة في حفلة كرم فيها أحد وجهاء الإيرانيين في مصر كاتبًا أديبًا إيرانيًّا، أراد العودة إلى بلاده. هذا الأديب هو عبد المحمد صاحب جريدة (جهرنما) الفارسية المصرية، وذلك الوجيه هو ميرزا مهدي بك رفيع مشكي أمين التجار وقد أجاب الدعوة كثير من كبار العلماء والأدباء والوجهاء من المصريين وغيرهم. دُعيت إلى هذه الحفلة، فوافيتها بعد الشروع في الخطب، فدُعيت إلى الخطابة؛ إذ كان اسمي مطبوعًا في البرنامج، فوقفت، فألقيت جملاً وجيزةً في معنى الاحتفال، رجوت فيها أن يكون المحتفَل به رسول تعارفٍ وتآلفٍ بين البلاد المصرية العربية التي أقام فيها عزيزًا كريمًا، وبين البلاد التي يريد السفر إليها (وهي فارس والأفغان) ، ثم قلت: لا أدري هل الموقف يسمح لي بحرية القول في وجه الحاجة إلى هذا التعارف والتآلف، فصاح أحمد زكي باشا: نعم، كلنا طلاب حرية، ولك أن تقول ما شئت، فحينئذٍ ذكرت أنني قريب عهدٍ بأوربة، وأنني رأيت فيها جميع عقلاء الشعوب الشرقية يعقدون روابط التآلف فيما بينها عن شعور بشدة الحاجة إلى ذلك، وأن مصر -على مكانتها العالية في بلاد الشرق - لا تزال مقصرة في ذلك، وأفضت في ذلك بما أُلهمت من القول، ثم تبارى الخطباء في ذلك، وكان أوسعهم فيه قولاً وطولاً أحمد زكي باشا والشيخ مصطفى القاياتي، فأفضى ذلك إلى اقتراح تأليف لجنة لوضع مشروع جمعية، فتألفت اللجنة، ثم شرعت تجتمع في دار السيد عبد الحميد البكري، فوضعت القانون الأساسي الآتي مع مقدمته وهو: بسم الله الرحمن الرحيم تمهيد إن مَن يتأمل في حالة الشرق، وما أصبحت عليه أُمَمُه، ويقارن ذلك بماضي التاريخ - يدهش للانحطاط الذي وصلت إليه هذه الأمم، على ما كان لها - جُلها إن لم يكن كلها - من التاريخ المجيد الحافل بدلائل العظمة. قد يقول بعضهم: إن هذه سُنَّة الطبيعة، وإن حكم الأمم في ذلك حكم الأفراد: تولد، وتشب، وتهرم، وتموت. قول يبعث على اليأس ‍! ‍‍‍‍‍‍‍‍ ولكنَّ في حياة الأمم - ولا حد لحياتها - نواميس ترتقي بمقتضاها أو تنحط، تبعًا للعوامل المؤثرة في كل حالة، فبتطوُّر الأمة منها بهذه العوامل قد ينتابها التحلل الجزئي، ولكنها لا تموت، بل تستطيع - التي فقدت مجدها بعاملٍ من عوامل الضعف الطارئة عليها - أن تسترد مكانتها الأولى بفضل عوامل القوة الكامنة فيها إذا أحسنت استخدامها، وفي الإيمان بهذه القاعدة ما يبعث على الأمل {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) . وقد لوحظ - مع الأسف - أن الشرقي لا يزال قليل العلم بشئون بلاده التي أعقبها إهماله الاهتمام بأحوال شعوبها، والعوامل المؤثرة فيها إلا قليلاً، على ما بين الشرقيين عامةً - بالرغم من اختلاف الأجناس والعقائد واللغات - من الاشتراك في كثيرٍ من المميزات، والصفات الخاصة بالشرق: من حيث التقاليد، والمدارك ووجهة النظر الفلسفية في أمور الحياة، على أن كثيرًا من شعوبه متحدةٌ في الجنس، أو العقيدة، أو اللغة، وكلهم مشتركون في المنافع، أو المصالح بحكم المجاورة، أو المبادلة التجارية، أو غير ذلك من الأسباب. وهذه العوامل من شأنها أن تشرك الجميع في الشعور بما يلمّ بهم عامة من أسباب الانحطاط وبما يصيب كل شعب منهم خاصة من جراء ذلك. وقد بدت بوادر هذا الشعور في زماننا بالتضامن الضمني أو الصريح بين بعض هذه الشعوب للتعاون على النهوض في سبيل الرقي لخير العالم. ولما كان الغرب برقيه المادي والفكري متممًا للشرق، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، وإن اختلفت الأديان - أصبح من مصلحة الإنسانية أن يكونا صديقين متضامنين في خدمتها، لا خَصمين عاملين على شقائها. لهذا رئي أنه قد حان الوقت لتأليف جمعية شرقية يكون غرضها نشر علوم الشرق وآدابه، والبحث في شئونه؛ للعمل على ترقية شعوبه، وتكوين صلة تعارف بين أرباب الرأي والقلم منهم - على اختلاف أجناسهم - لتبادل الآراء والمعلومات في هذه السبيل، ثم لتكون رسول سلام، وتعارف بين الأمم الشرقية التي لها من سوابق تواريخها المجيدة، وحضاراتها القديمة، وتقاليدها القويمة ومدارك أفرادها العالية، وموارد ثروتها الثمينة - ما تستطيع به أن يخدم بعضها بعضًا، وأن تتضامن في سبيل إسعاد المجتمع الإنساني، وترقيته لخير جميع الأجناس والأديان. ولهذا الغرض تألفت بمصر القاهرة (جمعية الرابطة الشرقية) المسطَّر قانونها بعد. وقد اختيرت مصر مركزًا لها لمكانة موقعها الجغرافي الخاص الذي كانت به ملتقى الأمم من أهل المشرق والمغرب المارين بها أو المقيمين فيها. ومن ثم كانت هي الواسطة بين الشرق والغرب. وعولت الجمعية على الوصول إلى غرضها السلمي العمراني بالوسائل العلمية العملية. وهي تقبل في عضويتها كل طالب من أهل الفكر والجاه يعمل على تحقيق أغراضها بلا تمييز بين العقائد والأجناس. وستجعل في مقدمة منهاجها دراسة جغرافية الشرق وتاريخه، وكذا علوم الأمم الشرقية وآدابها وحضاراتها، والتنقيب عن عادياتها وآثارها، والبحث في علل تقهقر هذه الأمم، وعقد المؤتمرات الدورية للنظر في وسائل رقيها الأدبي والمادي، وتسهيل التعامل، وتبادل المنافع بينها، ثم التوفيق بين حضاراتها، وآدابها وبين الحضارة الغربية، وآدابها بما تقتضيه مصلحة الوقت؛ لتوثيق روابط الوداد والائتلاف بين الشرق والغرب. والله المسئول أن يوفقها لما تريد وأن يؤيدها بروحٍ من عنده. *** قانون جمعية الرابطة الشرقية إن الموقعين على هذا قد نظروا فيما آلت إليه أحوال الأمم الشرقية من التخاذل والانحطاط؛ فرأوا بعد البحث أن يسعوا إلى تلافي ذلك بتأسيس جمعية علمية اجتماعية تقوم بترقية الأمم الشرقية: بالعلم الذي هو أساس كل فلاحٍ، وبإحكام الروابط بين هذه الأمم، وبإحياء حضارة الشرق، وإرجاعه إلى فضائله، مع الأخذ بما في مدنية الغرب من المحاسن التي لا تتنافر مع الروح الشرقية، وذلك بمقتضى المواد الآتية: (1) أُلفت في القاهرة جمعية علمية اجتماعية باسم (جمعية الرابطة الشرقية) . (2) شعار الجمعية: (الأرواح جنود مجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) . (3) غرض الجمعية: نشر المعارف والآداب والفنون الشرقية، وتعميمها وتوسيع نطاقها، وتوثيق روابط التعارف، والتضامن بين الأمم الشرقية على اختلاف أجناسها وأديانها. (4) يُشترط في أعضاء الجمعية أن يكونوا من أهل المكانة والجاه في الشرق، أو من أهل الرأي في المصلحة العامة، أو من أرباب القلم في أي لغةٍ من لغات الشرق، ويجب أن يكونوا من أولي الحرص والعمل على تحقيق غرض الجمعية. (5) تتوسل الجمعية إلى غرضها بالوسائل العلمية، والاقتصادية، وتبث دعوتها بالقلم واللسان، وتنشر ما ترى فيه المصلحة بأي لغة تراها. (6) تنشر الجمعية مجلة تتضمن محاضراتها، ومباحثها العلمية، والأدبية والاقتصادية والأثرية، وتُحيي بواسطتها آثار السلف، وتدون فيها أيضًا ما ترى منه فائدة لتحقيق غرضها. (7) المركز الرئيسي للجمعية مدينة القاهرة. (8) تكون للجمعية شُعب في كل قطر من الأقطار الشرقية، وللجنة المركزية ولكل شعبة إنشاء ما تراه من الفروع في المدائن الداخلة في دائرتها. (9) يتألف مجلس إدارة الجمعية في القاهرة من: رئيس، ونائبي رئيس وأمين صندوق وكاتب سر عام وثلاثة مساعدين (عربي وتركي وفارسي) ومن سبعة أعضاء يُعينون بطريق الاقتراع السري، على أن يكون ثلاثة منهم من الشرقيين غير المصريين. (10) يتخذ مجلس الإدارة من مركزه ناديًا للاجتماعات العامة، والخاصة، ولإلقاء المحاضرات، ويدعو إليه، ويستقبل فيه الوافدين على ديار مصر من كُبراء الشرقيين والمستشرقين وفضلائهم لإحكام روابط التعارف والتضامن. (11) تعقد الجمعية في كل ثلاث سنوات مؤتمرًا شرقيًّا عامًّا، يتألف أعضاؤه من جميع الأمم التي ينتظم أفراد منها في سلك الرابطة الشرقية: لأجل التعارف والتآلف، وتبادل الأفكار والمعارف، والبحث في الأعمال والوسائل التي اتُّخِذت في المركز العام وفي سائر الشعب والفروع لتحقيق غرض الجمعية. ويجوز عقد هذا المؤتمر بصفة فوق العادة إذا دعت الحاجة الماسة إلى ذلك. (12) يكون من أغراض المؤتمر الأساسية توحيد الاصطلاحات اللغوية التي تقضي بها الأحوال العمرانية في هذا الزمان، وتوحيد الخط العربي، وترقيته بين الشعوب التي تكتب به لغاتها، بحيث يكون وافيًا بالحاجات التي طرأت على هذه الشعوب بعد تقريره على الحالة المعهودة للآن، والسعي لوضع وحدة للمعاملات بين الأمم الشرقية من حيث النقود والموازين والمقاييس والمكاييل ونحو ذلك من الأمور التي تزيد في أسباب التفاهم بين الأمم الشرقية، مما تدعو إليه التجارة والتعامل وكل الأسباب الاقتصادية العامة. (13) على كل شعبة أن تقدم إلى المركز العام بالقاهرة تقريرًا سنويًّا في خلاصة أعمالها، وهذه التقارير تُعرض على المؤتمر العام عند انعقاده. (14) ينعقد المؤتمر العام أول مرة بمدينة القاهرة في الموعد الذي يحدده مجلس إدارة الجمعية، وقبل ختامه ينتدب لجنة من أقطار مختلفة لتقرير محل الاجتماع التالي في عاصمة قطر آخر أو في مدينة من كبرى مدنه، وعلى هذا السنن يكون كل اجتماع دواليك. (15) يكون لكل شعبة في كل قطر عقد مؤتمر محلي قبل المؤتمر العام بستة أشهرٍ على الأ

العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية (2) نشرنا تحت هذا العنوان في الجزء الأول نص البلاغ الرسمي الذي رفعه عدلي باشا رئيس الوفد الرسمي المصري إلى السلطان بشأن مفاوضته مع الدولة البريطانية في عاصمتها، وفيه ترجمة المذكرة التي وضعتها نظارة خارجيتها لمشروع الاتفاق بينها وبين مصر، وترجمة رد الوفد المصري عليها، وعدم قبوله إياها، وانقطاع المفاوضات بذلك. ثم ترجمة البلاغ الذي أنهاه نائب ملك الإنكليز إلى سلطان مصر في شأن تفسير مشروع نظارة الخارجية البريطانية وتأييده، وقفَّينا عليه بتعليقٍ وجيزٍ في بيان سوء تأثير المشروع، وبلاغ نائب الملك في الأمة المصرية، ونفعه إياها بإجماع الكلمة على رده، والاستمساك بالاستقلال التام للبلاد، حتى أشد الناس مقاومة لسعد باشا وحزبه، ورغبة في الاتفاق مع الإنكليز. وقد كنا نريد أن نكتب مقالاً مطولاً في تفنيد الشبهات البريطانية، وما فيها من العبر لنا في مصر، والعراق، وسورية وسائر بلاد العرب التي يدب فيها دبيب الدسائس البريطانية، والمطامع الاستعمارية، ولكن إجماع كلمة الأمة المصرية على مقاومة المشروع البريطاني بكل شدة، وعدم الخنوع لما فيه من تهديد الغطرسة، والعظمة، وشروعها في مقاطعة التجارة الإنكليزية، وكل ما هو إنكليزي من الأشياء، والأناسِيّ، واغتيال الموظفين والجند عند الإمكان، وتعذر تأليف وزارة تكون آلة للمستشارين، ونائب الملك في استمرار الإدارة السابقة - قد حمل نائب الملك (لورد اللنبي) على السفر إلى عاصمة حكومته بأمرها ليطلعه على حقيقة الحال في هذا القطر، وما يراه من وجوب الاعتراف باستقلال، وترك إدارة البلاد لأهلها، مع قيود تُحفظ بها المصالح البريطانية فيها، فذهب يصحبه اثنان من أعقل رجالهم في هذه الديار وهما: مستشار الداخلية الجنرال جلبرت كليتون، ومستر إيمس مستشار الحقانية، فمكثا أيامًا قليلة في لندن، أقنعا فيها الوزارة بوضع المشروع الآتي الذي جاء به، وهذا نص البلاغ الرسمي فيه: *** الوثيقة الأولى كتاب اللورد اللنبي إلى عظمة السلطان: يا صاحب العظمة: 1- أتشرف بأن أعرض لمقام عظمتكم أن الناس قد ذهبوا في تأويل بعض عبارات المذكرة التفسيرية التي قدمتها إلى عظمتكم في الثالث من شهر ديسمبر - مذاهب تخالف أفكار الحكومة البريطانية وسياستها، وهو ما آسف له أشد الأسف. 2- ولقد يخال المرء مما نُشر عن هذه المذكرة من التعليقات العديدة أن كثيرًا من المصريين أُلقي في روعهم أن بريطانيا العظمى توشك أن ترجع في نيتها القائمة على التسامح، والعطف على الأمانيّ المصرية، وأنها تنوي الانتفاع بمركزها الخاص بمصر لاستبقاء نظامٍ سياسيٍّ إداريٍّ لا يتفق، والحريات التي وعدت بها. 3- غير أنه لا شيء أبعد عن خاطر الحكومة البريطانية من هذه الفكرة، بل إن الأساس الذي بُنيت عليه المذكرة التفسيرية هو أن الغاية من الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى ليست إبقاء الحماية حقيقةً أو حكمًا، وقد نصت المذكرة على أن بريطانيا العظمى صادقة الرغبة في أن ترى مصر متمتعة بما تتمتع به البلاد المستقلة من مَيْزَات أهلية ومن مركز دولي. 4- وإذا كان المصريون قد رأوا في هذه الضمانات أنها تجاوزت الحد الذي يلتئم مع حالة البلاد الحرة - فقد غاب عنهم أن إنجلترة إنما ألجأها إلى ذلك حرصها على سلامة نفسها تلقاء حالة تطلب منها أشد الحذر، خصوصًا فيما يتعلق بتوزيع القوات العسكرية. على أن الأحوال التي يمر بها العالم الآن لن تدوم، ولا يلبث كذلك أن يزول الاضطراب السائد في مصر منذ الهدنة، والأمل وطيد في أن الأحوال العالمية صائرة إلى التحسن، هذا من جانب [1] ، ومن جانب آخر، فكما قيل في المذكرة: (سيجيء وقت تكون فيه حالة مصر مدعاة إلى الثقة بما تقدمه هي من الضمانات المصرية لصيانة المصالح الأجنبية) . 5- أما أن تكون إنجلترة راغبة في التدخل في إدارة مصر الداخلية فذلك ما قالت فيه الحكومة البريطانية ولا تزال تقول: إن أصدق رغباتها وأخلصها هو أن تترك للمصريين إدارة شئونهم. ولم يكن يخرج مشروع الاتفاق - الذي عرضته بريطانيا العظمى - عن هذا المعنى، وإذا كان قد ورد فيه ذكر موظفين بريطانيين لوزارتي المالية والحقانية فإن الحكومة البريطانية لم ترمِ بذلك إلى استخدامهما لتتدخل في شئون مصر، وكل ما قصدته هو أن تستبقي إدارة اتصال تستدعيها حماية المصالح الأجنبية. 6- هذا هو كل مرمى الضمانات البريطانية، ولم تصدر هذه الضمانات قط عن رغبة في الحيلولة بين مصر وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية. 7- فإذا كانت هذه هي نية إنجلترة فلا يمكن لأحدٍ أن ينكر أن إنجلترة يعزُّ عليها أن ترى المصريين يؤخرون بعملهم حلول الأجل الذي يبلغون فيه مطمحًا ترغب فيه إنجلترة كما تَتُوقُ إليه مصر، أو أن يُنكر أنها تكره أن ترى نفسها مضطرة إلى التدخل لرد الأمن إلى نصابه كلما أدركه اختلال يثير مخاوف الأجانب، ويجعل مصالح الدول في خطر، وإنه ليكون مما يؤسف له أن يرى المصريون في التدابير الاستثنائية - التي اتُّخِذت أخيرًا - أي مساسٍ بمطمحهم الأَسْمى، أو أية دلالة على تغيير القاعدة السياسية التي سبق بيانها، فإن الحكومة البريطانية لم يعد غرضها أن تضع حدًّا لتهييج ضار، قد يكون لتوجيهه إلى أهواء العامة نتائج تذهب بثمرة الجهود القومية المصرية؛ ولذلك كان الذي رُوعي بوجهٍ خاصٍّ - فيما اتُّخِذ من التدابير - مصلحة القضية المصرية التي تستفيد من أن البحث فيها يجري في جو قائم على الهدوء والمناقشة بإخلاص. 8- والآن وقد بدأت تعود السكينة إلى ما كانت عليه بفضل الحكومة التي هي قوام الخلق المصري، والتي تتغلب في الساعات الحاسمة - فإنني لَسعيد أن أنهي إلى عظمتكم أن حكومة جلالة الملك تنوي أن تشير على البرلمان بإقرار التصريح الملحق بهذا، وإنني على يقين بأن هذا التصريح يُوجِد حالة تسود فيها الثقة المتبادلة، ويضع الأساس لحل المسألة المصرية حلاًّ نهائيًّا مُرضيًا. 9- وليس ثمَّت ما يمنع الآن من إعادة منصب وزير الخارجية، والعمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر. 10- أما إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف، والرقابة على السياسة والإدارة في حكومة مسئولة على الطريقة الدستورية - فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم وإلى الشعب المصري. وإذا أبطأ لأي سبب من الأسباب إنفاذ قانون التضمينات (إقرار الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية) الساري على جميع ساكني مصر، والذي أشير إليه في التصريح الملحق بهذا - فإنني أود أن أحيط عظمتكم علمًا بأنني إلى أن يتم إلغاء الإعلان الصادر في 2 نوفمبر سنة 1914 سأكون على استعداد لإيقاف تطبيق الأحكام العرفية في جميع الأمور المتعلقة بحرية المصريين في التمتع بحقوقهم السياسية. 11- فالكلمة الآن لمصر، وإنه ليرجى أنها وقد عرفت مبلغ حسن استعداد الحكومة البريطانية ونيتها - أن تسترشد في أمرها بالعقل، والروية، لا بعامل الأهواء. ولي مزيد الشرف أن أكون الخادم المطيع. ... ... ... ... ... ... ... ... ... اللنبي فيلد مارشال ... القاهرة في 28 فبراير سنة 1922 *** الوثيقة الثانية مرفوعة من لدن فخامة المندوب السامي إلى عظمة سلطان مصر باسم تصريح لمصر: بما أن حكومة جلالة الملك - عملاً بنيتها التي جاهرت بها - ترغب في الحال في الاعتراف بمصر دولةً مستقلةً ذات سيادة. وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين مصر أهمية جوهرية للإمبراطورية البريطانية، فبموجب هذا تعلن المبادئ الآتية: 1- انتهت الحماية البريطانية على مصر، وتكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة. 2- حالما تُصدر حكومة عظمة السلطان قانون تضمينات (إقرار الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية) نافذ الفعل على جميع ساكني مصر - تُلغَى الأحكام العرفية التي أُعلنت في 2 نوفمبر سنة 1914. 3- إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة الملك، وبين الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات ودية غير مقيدة بين الفريقين - تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة بتولي هذه الأمور وهي: (أ) تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر. (ب) الدفاع عن مصر من كل اعتداء أو تدخل أجنبي بالذات أو الواسطة. (ج) حماية المصالح الأجنبية في مصر و (حماية الأقليات) . (د) السودان. وحتى تبرم هذه الاتفاقات تبقى الحال - فيما يتعلق بهذه الأمور - على ما هي عليه الآن. *** تأليف الوزارة الجديدة أمر كريم نمرة 13 لسنة 1922 صادر لحضرة صاحب الدولة عبد الخالق ثروت باشا: عزيزي عبد الخالق ثروت باشا: إن القرار الذي أبلغَنَا إياه حضرة صاحب المقام الجليل المندوب السامي لدولة بريطانيا العظمى، فيما يختص بانتهاء الحماية البريطانية على مصر، وبالاعتراف بها دولة مستقلة ذات سيادةٍ - يحقق أعز أمنية لنا، ولشعبنا العزيز، وهو ثمرة الجهاد القومي الذي تعهدناه على الدوام بالتشجيع والتأييد، ولا ريب عندنا في أن استمساك الأمة بروابط الوئام، والاتحاد، والتزامها جانبَ الحكمة في هذا الدور الجديد من حياتها السياسية - كفيلٌ بتحقيق كامل أمانيها. ونظرًا لما نعرفه لكم من الجهد المشكور في خدمة القضية المصرية، ولما لنا من الثقة التامة بكم، وما نعهده فيكم من الجدارة الكاملة للقيام بمهام الأمور؛ اقتضت إرادتنا السلطانية توجيه سند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرئاسة الجليلة - لعهدتكم. وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف وزارة جديدة يكون من بينها وزير للخارجية، وعرْض مشروعه لجانبنا لصدور مرسومنا العالي به. ولما كان من أَجَلَّ رغباتنا أن يكون للبلاد نظامٌ دستوريٌّ يحقق التعاون بين الأمة، والحكومة؛ لذلك يكون من أول ما تُعنَى به الوزارة إعداد مشروع ذلك النظام. وإنَّا نسأل الله العلي القدير أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا ورعايانا بالخير والسعادة، وهو المستعان. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فؤاد صدر بسراي عابدين في 2 رجب سنة 1340 - أول مارس سنة 1922. *** برنامج الوزارة يا صاحب العظمة: أتقدم إلى سدَّة عظمتكم بفائق الشكر على ما تفضلت فأوليْتَنِي من الثقة السامية؛ إذ عهدت إليَّ بتأليف الوزارة الجديدة، ووجهت لي رتبة الرئاسة الجليلة. وإني لأتشرف بأن أعرض على عظمتكم أسماء الوزراء الذين تتألف منهم هيئة الوزارة، وقد قبلوا مشاركتي في العمل وهم: إسماعيل صدقي باشا ... ... ... لوزارة المالية وإبراهيم فتحي باشا ... ... ... وزارة الحربية والبحرية وجعفر والي باشا ... ... ... لوزارة الأوقاف ومصطفى ماهر باشا ... لوزارة المعارف العمومية ومحمد شكري باشا ... ... ... لوزارة الزراعة ومصطفى فتحي باشا ... ... ... لوزارة الحقانية وحسين واصف باشا ... ... ... لوزارة الأشغال العمومية وواصف سميكة بك ... ... ... لوزارة المواصلات وقد احتفظت بوزارتي الداخلية والخارجية. فإذا وقع هذا الاختيار موقع الاستحسان - لدى عظمتكم - يصدر المرسوم العالي بالتصديق عليه. يا صاحب العظمة: لم يكن لزملائي ولي - ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال - إلا أن نقر الوفد الرسمي الذي تولى المفاوضات لعقد اتفاق مع بريطانيا العظمى على ما فعل، فلم يكن يسعنا أن نتولى أعباء الحكم ما دامت المبادئ

الرحلة السورية الثانية ـ 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (9) جريت فيما كتبت من هذه الرحلة على طريقة بيان أحوال سورية الاجتماعية، والأدبية، والسياسية في هذا الطور الجديد الذي دخلت فيه بعد الحرب لا على طريقة بيان تنقُّلي في البلاد بتواريخه، وذكر المشاهدات، وما يتبعها من الآراء تبعًا له كما اعتاد المؤرخون. وقد كان كل ما كتبته من فصول الرحلة بيانًا لما فيه الفائدة مما رأيت، وخبرت، وجرى لي في الساحل مدة إقامتي فيه مترددًا بين بيروت، وطرابلس، وأخَّرت الكلام على دمشق، وما يتبعها عمدًا، وكنت عازمًا على إطالة الكلام في شأنها. وقد بدا لي الآن أن أختصر لما كان من التراخي في كتابة الرحلة ونشرها، ولأنني ذكرت بعض ما حدث في الشام بعد ذلك في بعض المقالات التي قضت الحال ببيان بعض حقائق المسألة العربية فيها، وكان موضعها اللائق بها الرحلة لولا الضرورة فأقول: الحال العامة بدمشق في سنتي 1337 و 1338: قد علم من النبذة الثانية من هذه الرحلة التي نشرت في المجلد الحادي والعشرين (ص 428) أن وصولي إلى دمشق كان (في 19 ذي الحجة سنة 1337 - 14 سبتمبر سنة 1919) وأنه اتفق أن أعلن عقبه كل من إنكلترة وفرنسة أنهما اتفقتا نهائيًّا على تنفيذ معاهدة (سايكس، وبيكو) المعروفة باتفاق سنة 1916، وأن إنكلترة ستُخرج جنودها من المنطقتين الشرقية، والغربية من سورية، وتترك الأولى للجيش العربي الحجازي، والثانية للجيش الفرنسي، وأن أهل سورية عامةً كانوا يظنون قبل هذا الإعلان أن الدولتين الحليفتين عدلتا عن تنفيذ هذا الاتفاق لما رأوه من تنازع سياستيهما أثناء مجيء اللجنة الأميركية لاستفتاء أهل البلاد. وكنت بينت في تلك النبذة أن الناس أحفوني بالسؤال عن سبب هذا الانقلاب وذكرت فيها ملخص جوابي لأهل الرأي منهم، ولكن المراقبة على المطبوعات بمصر - في ذلك العهد - منعت نشر ذلك كله، وإنما نشر منه بعض المقدمات فكان الكلام أبتر غير مفيدٍ، ولم أعلم بذلك إلا عند مراجعته الآن، وسألخص ما حُذف منه في موضعه. لقد كان الغرور بخديعة الإنكليز للسوريين، وغيرهم من العرب في أثناء الحرب بأن استقلالهم سيكون مكفولاً بانتصار الحلفاء في الحرب بما بينهم، وبين ملك الحجاز من العهود والحلف، فلما جلا الترك عن سورية، وكان أول مَن دخلها الأمير فيصل بجنده المؤلف من السوريين، والعراقيين، والحجازيين - اعتقدوا أن الاستقلال قد تم، والسلطنة العربية قد تم أمرها، ونصب عرشها، ولم يكن نزع العلم العربي من بيروت، وغيرها من السواحل - ولا خطب سايكس وبيكو الخادعة، ولا استيلاء السلطة العسكرية الفرنسية في الساحل على الإدارة - بذاهبٍ بذلك الوهم الخادع، وقد ألممنا بشيءٍ من هذا المعنى في الفصلين السادس والسابع من الرحلة، ومنه يُعلم أن الريب دبَّ دبيبه إلى أهل الساحل، ثم انتشر فيهم أولاً بتأثير السلطة الفرنسية المحتلة. نعم، إن الأذكياء في دمشق قد اضطربوا لإعلان الدولتين الاتفاق على تنفيذ اتفاق (سايكس وبيكو) ، وكانوا قد عرفوا حقيقته؛ ولذلك كثر سؤالهم إياي عن رأيي فيه وهل يعقل أن تنقلب سياسة إنكلترة بهذه السرعة، فتسمح بسورية لفرنسة؟! وقد ذكر في النبذة الثانية من جوابي لهم أن السياسة البريطانية لم تتغير في المسألة وليس لعاقلٍ أن يظن أنها تفضل العرب على فرنسة، وإنما عرض لفرنسة أمل بأخذ سورية كلها بحجة إجماع السوريين على وحدة البلاد، وعدم تقسيمها. وأما بقية الجواب - الذي منعت المراقبة نشره يومئذٍ - فهو أن إنكلترة لما شعرت بهذا الطمع من فرنسة استعانت بالأمير فيصل وحزبه على نبذ السواد الأعظم من أهل المناطق السورية الثلاث للانتداب الفرنسي، والمساعدة الفرنسية وقد تم هذا وظهر باستفتاء اللجنة الأميركية لأهل البلاد. وغرض إنكلترة من ذلك أن تُعلم فرنسة أنها إذا شذت عن الاتفاق معها وحاولت أخذ فلسطين بحجة اتفاق الأهالي على طلب وحدة البلاد - فإنها هي قادرة على حرمانها من كل شيءٍ برأي أهل البلاد الذي جعل له الاعتبار الأول في عهد عصبة الأمم! ، فلما رأت فرنسة ذلك قنعت بنصيبها في اتفاق سايكس وبيكو، حتى بعد تعديله بما هو في مصلحة الإنكليز. مع هذا كان أهل المنطقة الشرقية عامةً، وأهل دمشق خاصة يظنون أن استقلال منطقتهم مضمون، فإن فاتهم إلحاق المنطقتين الأخريين بهم فلن يفوتهم التمتع بالسلطان القومي في منطقتهم. وازداد شعورهم قوة بهذا بعد جلاء الجيش البريطاني وما تلاه من ترك المراقبة على الحكومة، وإن كانت لا تزال عسكريةً تابعةً للقائد العام للجيوش البريطانية. كانت مظاهر هذا الشعور بالاستقلال تبعث في أنفس الشعب السرور وتقوي الآمال؛ فقد صارت دواوين الحكومة ومصالحها عربية والتعليم في المدارس الرسمية كغيرها بالعربية، وتلاميذ المدارس كانوا يتعلمون أناشيد الاستقلال، فيترنمون بها صباح مساء، وكانت البرقيات المبشرات، والمسكنات ترِد على الحكومة من الأمير فيصل أو من مندوبه النائب عنه لدى الحلفاء وفي مؤتمراتهم (أحمد رستم بك حيدر) وكانت الاجتماعات، والمظاهرات حرة تنفخ في هذه الأماني روحًا حيًّا، كل ذلك كان يبعث السرور في كل نفس لم تستشف شيئًا مما وراءه، حتى إن سليم بك شاهين أحد أصحاب (المقطم) قال لي في بيروت: إنني أقمت في دمشق يومًا واحدًا، فبُعث فيَّ روح حياة عربية، ووطنية جديدة، ولا أرى هنا إلا أمارات الذل والموت التي تبعث الحزن والأسَى! لقد كنت أعلم ما لا يعلم أهل وطني من نية الحلفاء فيهم، وتواطُئِهم على بلادهم، ومن بناء عهودهم على الدخل، ووعودهم على الغش، وأنهم إذا وفوا لملك الحجاز بما وعدوه به ولو على الوجه الذي طلبه منهم فيما يسميه (مقررات النهضة) - لم تكن البلاد العربية، ولا الحجاز منها إلا مستعبَدة تحت نير السلطة الأجنبية؛ فلهذا لم أكن أشعر بشيءٍ مما يشعر به الجمهور من السرور، المنبعث عن الغرور، وإنما كنت أعتقد أن الأمة لا يزال يمكنها أن تعمل لاستقلالها عملاً تضطر الطامعين إلى احترامه، إذا وجد فيها عدد من الرجال الأَكْفَاء، وهذا ما كنت أبديه، وأعيده للسائلين، ولا سيما مَن هم مظنة العمل من الإخوان، حتى بعد أن تم ما سعيت إليه معهم من إعلان الاستقلال، فإنني لم أكن أعده إلا تقويةً لحرية العمل بإخراج الحكومة من مضيق العسكرية التابعة للقيادة البريطانية إلى فضاء الحرية الوطنية، لتكوين قوة من الجند المنظم، ومن العشائر، والقبائل التي يمكن تنظيمها لتوطيد الأمن والنظام، وإقامة الحجة المحترمة لدى الحلفاء على القدرة على الاستقلال، وهذا ما كنت أبغيه، وأسعى إليه، ولم يوجد في رجال الحكومة مَن هو أهل للنهوض به؛ ولذلك كان لساني صامتًا في كل تلك الاحتفالات العظيمة التي أقامتها الحكومة، وكذا الشعب، فلم أخطب في شيءٍ منها على ما كان من الإلحاح عليَّ في كل احتفال بطلب ذلك، وإنني أذكر مسألة صرحت فيها برأيي بعدم الثقة بحالة البلاد قبل إعلان الاستقلال، وهي: دعوتي إلى تَوَلِّي المصالح الشرعية بدمشق: لم أكد أستريح في دمشق من لقاء وفود الزائرين حتى كاشفني الحاكم العسكري العام (علي رضا باشا الركابي) بما يرغبون أن ينيطوه بي من مساعدة الحكومة العربية، وهو تولي إصلاح (دوائر الأمور الشرعية، ففي يوم الأحد 26 ذي الحجة (21 سبتمبر) ، وعدني بأن يزورني زيارة خاصة للمذاكرة والاستشارة في شؤون الحكومة، وما يطلب من مساعدتي لها وفي اليوم التالي أعاد الكلام معي فيما يبغيه من تقليدي إدارة الأمور الشرعية وهي الأوقاف والمحاكم الشرعية، والتعليم الديني، والمفتين، وقال: إنه طلبني من الإنكليز خمس مرات وكان يظن أن الامتناع مني، فأخبرته بأن الإنكليزية لم تخاطبني بذلك ألبتة، وأنه لم يصل إليَّ منه إلا الكتاب الذي أرسله في ضمن مكتوبات الحكومة لمندوبها التجاري بمصر الدكتور بشير القصار، وذكَّرته بما كتبته إليه في الجواب عنه، وهو أنني مستعد لمساعدة الحكومة العربية بكل ما أستطيعه بشرط أن لا أتقيد بعمل رسمي، وذكرت مشربي، وتربيتي الصوفية التي بسببها وطنت نفسي على أن لا أقبل وظيفة، ولا عملاً للحكومة، ولا رتبة، ولا وسامًا طول عمري ... ثم قلت له - بعد محاورةٍ طويلةٍ -: ضع لي مذكرة بالعمل؛ لأرى رأيي فيه. وفي يوم الخميس (30 ذي الحجة) أخبرني أن المشروع الذي تضعه الحكومة لإدارة الأمور الشرعية يتم يوم السبت الآتي، ويقدمه لي، وأنه كان كلم فيه الأميرَ فيصلاً قبل سفره إلى أوربة، فوافق هو ونائبه الأمير زيد على نوطه بي؛ فاعتذرت بمشربي الخاص، وبالموانع العامة الأخرى وهي سوء حالة البلاد الداخلية والخارجية، وعدم استقرار الحال السياسية؛ إذ البلاد لا تزال - بحسب القانون الدولي - تابعة للدولة العثمانية، والمستقبل مجهول، ثم بضعف الحكومة والإمارة وبأن الإصلاح الصحيح يلقَى معارضة قوية من أهل الأهواء الذين يرتزقون بهذه المصالح الشرعية، فإذا لم يكن للمصلح ركنٌ شديدٌ من قوة الحكومة لا يستطيع عملاً، فاعترف بذلك وقال: إنه هو الحجة التي يستند إليها في وجوب وجود مثلي، وإنني سأكون حرًّا في عملي، وإن الإصلاح الذي تبغيه البلاد مني لا يتم إلا بالقيام به بنفسي؛ لأن الإرشاد بالقول والكتابة لا ينفع إلا إذا وُجد رجال أَكْفَاء يقدرون على العمل به، وهم غير موجودين، (قال) : يجب أن تستفيد بلادك من علمك الواسع، واختبارك الدقيق مدة إقامتك بمصر بتطور البلاد المصرية، وارتقاء الإدارة والنظام فيها. وإن ما نعلمه فيك من الغيرة وحب الإصلاح يحملنا على الاعتقاد بأن لا يخيب أمل وطنك فيك. وفي يوم السبت (2 المحرم سنة 1338) زارني الأمير زيد في الفندق بعد العصر، ودار الكلام بيننا في حالتنا العامة، فذكرت له ملخص ما أعلم من اتفاق والده مع الإنكليز، وأنه ينافي مصلحة العرب. ثم انتقلنا إلى الكلام في سورية، فكلمني الأمير في شدة حاجة الحكومة إلى مساعدتي لها، فاعتذرت له بمثل ما اعتذرت لعلي رضا باشا، فأجاب بمثل جوابه، ومما قاله إن الأخلاق في الشام ضعيفة جدًّا؛ فإن أكبر الرجال يرهبه أقل تخويفٍ، ويستميله أقل نفعٍ، فإذا لم ينهض مثلك ... بالإصلاح فمَن؟ ! ... فقلت له: إن حجتكم عليَّ، وإن كانت عندي ضعيفة من حيث مبالغتكم في حسن الظن بي - هي أقوى من حجتي عليكم بالتنصل من العمل، وإنني على علمي بضعفي لا أرتاب في قوة إخلاصي، وحرصي على الإصلاح لذاته، ولكن الإصلاح العام يعوزه الأعوان الأكفاء علمًا، ونزاهةً، وإخلاصًا، وهم قليلون متفرقون، وسأفاوض مَن أثق به منهم قولاً وكتابة، ثم أبني على ذلك ما يتجدد من الرأي، ولا أعد الآن بشيءٍ. وسألني هل أحضر الأسرة، وأنقل عملي من مصر إلى الشام؟ فقلت: إن قبلت المُكْث الآن في الشام للمساعدة، فلا يمكنني أن أنقل أسرتي لما يقتضيه نقلها من النفقة الكثيرة، والخسارة التي لا يسمح بها لمكث مؤقت، ومركزنا في مصر ثابت لا يمكن التفريط فيه، فلا بد من إبقائه على حاله حتى يستقر الأمر في الشام على أساسٍ ثابتٍ. فأقرني على ذلك وجاءته - وهو عندي - برقية من أخيه الأمير فيصل يؤكد فيها وجوب السكينة في البلاد؛ إذ علموا أن الأهالي في اضطراب من جرَّاء الاتفاق بين الإنكليز والفرنسيس. وفي هذا اليوم أعطاني علي رضا باشا المذكرة التي وضعها لإدارة الأمور الشرعية، وهي خاصة بالإدارة

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (س 12 - 17) أسئلة من الأستاذ صاحب الإمضاء في سمادون (المنوفية) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله ومَن تبعه بإحسان إلى يوم الدين: من طالب الإرشاد صاحب الإمضاء إلى حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا محرر المنار، سلام عليكم، أما بعد: فأرجو الإفادة التامة الموضحة بالأدلة القطعية على الأسئلة الآتية، لا زلتم محط رحال السائلين، وناطقًا بالصواب ومُعْليًا شأن الإسلام والمسلمين. ونص الأسئلة هو: (1) ما سبب التعارض الواقع في كتب المذاهب الأربعة عند الكلام على تعدد الجمعة من حيث جوازه ومنعه؟ ، فمثلاً رُوي في كتب الشافعية أن مذهب الإمام الذي نص عليه هو منع التعدد مطلقًا، وقول بالجواز مطلقًا. ولم أَرَ الأخير إلا في كتابٍ صغيرٍ اسمه (مرقاة الصعود) للشيخ نووي، مع خلو الكتب الواسعة منه، وهي أقوال ظاهرة التناقض. وقد ورد في كتب المالكية أن للإمام مالك قولاً واحدًا وهو المنع، ثم إذا قرأت في كتبهم تجد ما يقتضي قولهم بجواز التعدد بشرط الحاجة، ثم بالجواز المطلق. ومثل ذلك في كتب الحنبلية وفي كتب الحنفية أن للإمام ثلاثة أقوال ويذكرون القول بالمنع، وروايتين في الجواز إنما يفيدان الجواز بشرط الحاجة، ثم يذكرون القول بالجواز المطلق، وأن عليه الإمام السرخسي الحنفي وأتباعه ... هل ذلك التضارب وقع من نفس أئمة المذاهب؟ وعليه فما تأويله؟ أو وقع من المقلدين وعليه فما سببه؟ ، وفي أي عصر وقع؟ وما عين الصواب في المسألة وما وجهه وما دليله؟ . (2) هل صلاة الظهر بعد الجمعة واجبة أو سنة أو بدعة؟ وإذا قلتم بالثاني أو بالأول فما دليله الصريح من الكتاب أو السنة، وهل يقبل في العبادات ما يحتمل أن يكون دليلاً، وهل عمل السلفِ الصالحِ - أهلِ القرون الثلاثة الأولى المشهود لهم بالخيرية، والمأمورين نحن باتباع سنة الرسول وسنتهم - بهذه الصلاة أو ثبت أن أحدًا منهم أو من الأئمة المجتهدين كان يصليها بعد صلاته الجمعة، وهل صلاها الإمام الشافعي ولو مرة؟ وإذا قلتم بالثالث فمَن اخترعها، ولأي سببٍ، وفي أي عصرٍ، وهل يُعمل بقوله، ويحمل الناس خصوصًا العوام على فعلها، واعتقاد وجوبها أو سُنّيتها وهل إذا رد حنفي على شافعي بأن هذه الصلاة بدعة اخترعها بعض المتأخرين عندما اعتورهم الشك في صحة الجمعة، وأن في فعلها والقول بها إفسادًا لعقيدة العوام؛ إذ هم يعتقدون فرضيتها وتعدد الفرض في اليوم؟ وهل يصح من الشافعي أن يقول: إن مذهبنا غير مذهبكم، ولا يُرد بمذهب على مذهب، وهل لقوله هذا دليل من القواعد الأصولية المتفق عليها أو من الكتاب أو السنة؟ (3 و 4) هل المصلحة اليوم في العمل باعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ واحدًا كما هو طريقة رسول الله، وأبي بكر وعمر في أول خلافته، أو العمل باعتباره ثلاثًا كما أمضاه عمر - للتخلص من المحلل والحيل التي يعملها فقهاء البلاد من اعتبار العقد الأول باطلاً بالنسبة لمذهب الشافعي وتجديد العقد عليه، أو من اعتبار مجرد العقد على غير الزوج كافيًا في التحليل بدون ذوق عُسيلته، أو من اعتبار مجرد الخلوة بزوجٍ صغيرٍ لم يبلغ الحُلُم، وبيات المرأة عنده ليلةً أو أكثر تحليلاً. وما قيمة تلك الحيل من الصحة والفساد. وما جزاء فاعلها شرعًا وقانونًا؟ (5و6) هل شرع الطلاق لغير حل عقدة النكاح عند اليأس من التوفيق بين الزوجين بعد التحكيم، حتى أصبح الرجل في حلٍّ من أن يطلق امرأته بأقل سببٍ وبدونه من غير تحكيم؟ وهل ينعقد اليمين بغير الله تعالى، أو اسم من أسمائه أو صفة من صفات ذاته؟ حتى أصبح الطلاق، وأيمان المسلمين، ورسول الله، والنبي، وديني وذمتي وغير ذلك - أيمانًا مغلظةً يحنث الحالف بها إن لم يبر بالمحلوف عليه، وهل كان ذلك معروفًا عند أهل القرون الثلاثة الأولى، وما معنى حديث: (مَن حلف بغير الله فقد عظَّمه، ومن عظَّم غير الله فقد كفر) وما مقتضاه؟ (7) ما معنى: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى) ، و (المسلمون متكافئون في الحقوق) وغير ذلك من أحاديث الرسول مع اعتبار الفقهاء الكفاءة في النكاح في الحسب والنسب والحرفة والثروة أمرًا ضروريًا يطلبه الدين، مع ظهور التضاد؛ إذ أحد الطرفين يقول بالمساواة، وعدم الامتياز إلا بالتقوى، والطرف الآخر يقول بالتفريق بين بعض الناس، وبعضٍ في غير التقوى. (8) وما هو المقياس الذي قِيسَتْ به الحِرَف حتى حُكم على بعضها بالخسة، وبعضها بالشرف مع كونها لا بد منها جميعًا، بل ربما كانت الحرفة التي نقول بخستها ألزم من حرفة نقول بشرفها، وما سبب الحديث القائل: (كسب الحَجَّام خبيث) مع كوْنه ينفر الناس من تعاطي صناعة الحجامة، وهذا ربما يستلزم إبطالها مع شدة الحاجة إليها، مع أن في حديث آخر ما يقتضي تعاطيها، وهو: (لو كان في شيءٍ مما يتداوى به الناس خير لكان في شرطة مِحْجم) إلخ. (9، 10) هل في قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) نص صريح على حل أنواع التحية من: نهارك سعيد، وليلتك سعيدة، وغير ذلك، أو هناك حديث صحيح بيَّن المراد من الآية، ويمنع غير (السلام عليكم) ، وعليه فما هو؟ ، وهل يرد السلام على مَنِ ابتدأ به من غير المسلمين؟ . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... طالب الإرشاد ... ... ... ... ... ... ... ... محمد مقبول حلاوه الجواب عن المسألتين المتعلِّقتين بتعدد الجمعة وصلاة الظهر معها: الخلاف بين المذاهب في هذه المسألة كغيره من الخلاف والتعارض في المسائل الاجتهادية، وأسبابه معروفة، وقد ألف بعضهم فيها رسائل خاصة، ولا نرى من حاجة إلى ذكر جميع مسائل الخلاف في الجمعة، ودلائل المختلفين أو تعليلاتهم، وشبهاتهم، وأشخاصهم؛ لأنها إضاعة للوقت فيما لا يتعلق به عمل، وليس فيها أدلة قطعية؛ إذ لا خلاف في القطعي، وإنما بُني الخلاف على أمر متفق عليه، وهو أن عدم التعدد مطلوب شرعًا إذا تيسر، وإنما المفيد هو الجواب عن المسألة الثانية وهي: هل صلاة الظهر بعد الجمعة واجبة، أم سنة، أو بدعة؟ . والجواب عنها أنها بدعة؛ لأنها مما حدث بعد الصدر الأول، ولم يرد بها نص من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع من الصحابة، وهو الإجماع الذي يُعتَد به في المسائل الدينية دون سواه، ولا هي مما يثبت بالقياس؛ لأنها من المسائل التعبُّدية الموقوفة على النص؛ إذ لو جاز أن تثبت العبادات بظنون المجتهدين واقيستهم لما صح أن يكون قد أكمل الله الدين على لسان رسوله، ولكن إكمال الدين ثابت في محكم القرآن وبالإجماع، ولجاز أن تتجدد في الدين عبادات كثيرة يكون المتعبدون بها أكمل دينًا من الرسول وأصحابه، وذلك مما يعلم بطلانه بضرورة الدين، ولكن القائل بوجوب صلاة الظهر أو سُنِّيتها بالشرط الذي أداه إليه اجتهاده معذور في اجتهاده إذا لم يدعُ أحدًا إلى تقليده فيه، ومثل هذا التقليد لم يدعُ إليه، ولم يقل به أحد من الأئمة المجتهدين، ولم يُنقل إلينا أن أحدًا من الصحابة أو علماء السلف المجتهدين صلى الظهر بعد الجمعة، وقد جاء الشافعي بغداد وفيها عدة مساجد، ولم يُنقل أنه كان يصلي الظهر بعد الجمعة، ولو فعل لم يكن فعله شرعًا يُتبع. وقد فصلنا القول في المسألة في المجلدين السابع والثامن، فليراجعها الأستاذ السائل، وإن وجد بعد مراجعتها حاجة إلى سؤال آخر مفيد في المسألة فله ذلك. الجواب عن مسألة الطلاق الثلاث باللفظ الواحد: لا يمتري أحد من المختبرين لحالة المسلمين في هذا العصر - ولا سيما في مثل هذه البلاد - في أن مفاسد إمضاء وقوع الطلاق الثلاث باللفظ الواحد قد كثرت، وأن عدم إمضائه والعمل فيه بما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومدة خلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر - هو أصلح مما جروا عليه في آخر خلافة عمر، وإن ما كان يقصد إليه عمر من منع الناس به من طلاق البدعة، ومخالفة السنة إن كان قد أفاد في عصره فامتنع الناس كلهم أو جُلهم من ذلك الطلاق- فالأمر في هذا الزمان على خلاف ذلك؛ إذ عمَّت البدع، وجهلت السنن، وكثر خراب البيوت وفسادها بكثرة الطلاق، وتحليل المطلقات، واستغلال المرتزقين بالفتوى والتحليل ووكالة الدعاوى والقضاء لجهل الناس بتحليل ما يعتقدون تحريمه بالحيل الباطلة. الجواب عن مسألة الحيل وتحليل المطلقات وأمثاله: وأما هذه الحيل التي يسمونها شرعية فلو كانت مشروعة في دين الله بإطلاقٍ لكان الشرع هادمًا لنفسه، وجميع الحقوق والحدود فيه أمورًا صورية يمكن لكل أحد التفصِّي منها، والتمتع بالمفاسد التي وردت النصوص القطعية بحظرها، والإغراء بالفسق والفجور وأكل أموال الناس بالباطل وبالكفر أيضًا، فإن من هذه الحيل أن ترتد المرأة عن الإسلام ليفسخ نكاحها، وأن تمكن المرأة ابن زوجها من نفسها لينفسخ نكاحها، وتحرم عليه أبدًا، وأن يسكر مريد الزنا، ثم يزني ليسلم من الحد بناءً على قول مَن يقول: إن السكران لا يؤاخَذ - إن كان متعديًا - بسُكره، وأن يهَب المكلف بالزكاة أو الحج ماله الذي ثبت به ذلك عليه لامرأته أو ولده قبيل انتهاء حول الزكاة أو خروج ركب الحج، ثم يسترده بعد ذلك، وأمثال هذه المفاسد كثيرة، ولما ظهرت في بلاد الإسلام، وعلم بها بعض الأئمة الأعلام، قالوا: إن مَنْ أفتى بها فقد قلب الإسلام ظهرًا لبطنٍ، ونقض دين الله عُروةً عروةً، بل صرحوا بأن الذي يقول بذلك أو يرضى به يكون كافرًا خارجًا من هذه الملة. وقد صح أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب الناس على مِنبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (لا أُوتَى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما) ، وقد أقره سائر الصحابة على ذلك، فلم يخالفه فيه أحد كما خالفه ابن عباس وغيره في إمضاء الطلاق الثلاث باللفظ الواحد. والروايات عن الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار في بطلان هذه الحيل كثيرة. وقد استقصى المحقق ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) دلائل بطلان الحيل، وما احتج به المجوزون لها مع الرد عليهم وإبطال شبهاتهم. وأظهر أسباب هذا الفساد في الأمة (التقليد) الذي مقتضاه اتباع العلماء في كل آرائهم وظنونهم الاجتهادية، والاجتهاد كله ظنون، وبعض الظن إثم، وليس أحد منهم معصومًا في اجتهاده، بل لكل عالِم زلاَّت، حتى إن إجماع المجتهدين بعد الصحابة لم يقم دليل قطعي على أنه حجة، فهو غير مجمَع عليه، وقد خالف جمهور أئمة الفقه كثيرًا من علماء الصحابة والتابعين، فقاعدة التقليد التي عليها المنتمون إلى المذاهب - وهو أنه يجب على كل مُنتمٍ إلى مذهب أن يعمل بكل ما اعتمده المؤلفون فيه - بدعة لم يقل بها إمام مجتهد قط، بل حرَّمها جميع الأئمة، أي أثبتوا تحريم الله لها، ولكن المقلدين يخالفونهم في أصول مذاهبهم وهم لا يشعرون. هذا، وإن من الأحكام - التي تدخل في عموم الحيل - ما هو صحيح، وما لا يخل بمدلول نصوص الشرع، ولا ينقض حكمته فيه ومراده من درء المفاسد وحفظ المصالح، وقد جعل ابن القيم الحيل قسمين: محرمة وجائزة، فالأولى أن تكون الحيلة نفسها محرمة، والمقصود بها محرمًا، أو تكون مباحة ويقصد بها المحرم، والثانية أن تكون الوسيلة مشروعة والمقصود بها مشروعًا، وقد سرد أمثلة كثيرة لكل قسم

الإسلام والنصرانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام والنصرانية ] سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [[1] كتب إلينا من بيروت أن مجلة المشرق الجِزْوِيتِيَّة قد صارت تصرح بالطعن في الإسلام؛ إذ زالت الحكومة العثمانية التي كانت تمنعها من التصريح، فتتوارى أحيانًا وراء ما يحتمل التأويل من تعريضٍ وتلويحٍ، ورغبوا إلينا في الرد عليها؛ لأن الدفاع عن الإسلام من أهم مقاصد (المنار) ويرون أن السكوت عنها ربما يُفضي إلى التمادي الضارّ، ولما كانت أعمالنا الكثيرة لا تترك لنا وقتًا لمطالعة هذه المجلة كلها للاطِّلاع على كل ما تنشره - نطلب منهم أن يبينوا لنا ذلك الطعن بنقله، أو تعيين مواضعه من أجزائها. هذا، وإن دعاة البروتستانية في مصر، وغيرها لا يزالون ينشرون النشرات، والرسائل الكثيرة في الطعن في الإسلام، والتنفير عنه، والدعوة إلى دينهم، حتى مللنا من النظر فيها لتشابُهها في الضعف، والسخف، والتكرار، وهذا هو سبب سكوتنا عنهم في هذه الآونة، مع رفع المراقبة عن الصحف، لا إيذاؤهم لنا بما نجحوا به من منع المنار من دخول السودان الذي قام حجة على رياء الإنكليز المتبجِّحين بدعوى حرية الأديان. وقد صرحنا من قبل بأننا لا نرى في هذه المطاعن ضررًا على المسلمين في نفس دينهم، ولا في استمالتهم إلى النصرانية، بل هي أشد ما ينفرهم من النصرانية، ويزيد العارفين بدينهم اعتصامًا به ومحافظة عليه، وإنما يُخشى منها إحدى مفسدتين: (الأولى) فساد عقيدة بعض المسلمين، وصيرورتهم منافقين أو إباحيين. (والثانية) أن تكون سببًا للتعادي والتباغض الضار بين أبناء الوطن الواحد؛ فلهذا نذكِّر إخواننا في سورية بأنه ينبغي لهم أن يوطنوا أنفسهم على حرية البحث، والنقد، واحتمال أذى الطعن، والرد، وأن لا يجعلوا المناظرات الكلامية مؤثرة في العلاقات الوطنية، وأن يعلموا أن حرية البحث إذا كانت عامة فإن الفلج والظفر فيها إنما يكون لصاحب الحق، ولا سيما إذا التزم الأدب في القول والفعل، وأن الإسلام هو دين الفطرة والعلم والعقل، وأن النصرانية الحاضرة مبنية على وجوب التقليد للكنيسة بلا معارضةٍ، ولا بحث، وأن من يتركون التقليد من أهلها، ويناقشون الكنيسة في تعليمها، ويطالبونها أو يطالبون أنفسهم بالدليل، واستقلال العقل في فهم الدين - فإنهم لا محالة ينتهون إلى ما جاء به الإسلام، سواء علموا أو لم يعلموا تلك الحقائق التي قررها القرآن، وهذا واقع في بعض البلاد الأوربية الآن كما يعلم ذلك من الشاهد الذي ننقله هنا عن جريدة (الديلي تلغراف) ، وسينتهي التمادي في أمثال هذه المباحث إلى عقيدة التوحيد، والرجوع عن التثليث وتأليه المسيح، والأخذ فيه بما قرره القرآن وتعميم الاهتداء به في كل مكان، والنجاة به من مساوئ المادية، ومفاسد الشيوعية، وينجز الله وعده الحق بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} (فصلت: 53) وإن المقدمات والأسباب لذلك قد صارت كثيرة، وإن منها ما هي صحيحة، وما هي غير صحيحة، وسيمتاز الصريح بتكرار المخض، فيذهب الزبد، ويبقى المحض: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) . كتب رجلٌ مسلمٌ بصيرٌ يقيم في أوربة - مراقب لتطوُّرها الديني والأدبي والاجتماعي - كتابًا إلى صديقٍ له، قال فيه: (أعرفك أن مسألة ألوهية المسيح أصبحت في بلاد الإنكليز موضوعًا لأهم المباحثات والمناقشات بين المفكرين المشتغلين بالمسائل الدينية والفلسفية، ولا سيما رجال الإكليروس الإنجليكاني، كما يتضح ذلك مما يُنشر في هذه الأيام الأخيرة على صفحات الجرائد الإنكليزية، وإنِّي أرسل إليك طيّ هذا نموذجًا لهذه المناقشات اقتطفناه من جريدة) الديلي تلغراف (وإني على تمام اليقين من أن الإنكليز والأمريكان سيرجعون في القريب العاجل عن (عقيدتي) التثليث، وألوهية المسيح، كما رجعوا من قبل عن كثيرٍ من مثلهما من … و… [2] ، التي كان ينهى عن مثلها الإسلام هم بها متمسكون. فيا أيها الأخ الحكيم إذا صرفتَ نظرك برهة عن مسرح السياسة العالمية الذي أخذ بلُبّك، وتوجهت إليه بكل قُواك وحواسك، وتأملت مليًّا فيما يدور ويجري في الخفاء بين الجماعات البشرية في الغرب - يظهر لك أن الشرق المغلوب المقهور الذي يئنُّ تحت نير الظلم والاستبداد الغربي، هو مع ذلك يهاجم في هذه الآونة العالم المسيحي من جميع الأنحاء بجيوشٍ جرَّارةٍ تفوق جيوش صدر الإسلام قوةً، وفيالق آل عثمان عندما دوَّخوا أوربة بأسًا، ولكنها في هذه المرة ليست مسلحة بالسيف البتَّار، بل بأسلحةٍ معنويةٍ مثل الفلسفة الهندية والمبادئ الصوفية والتعاليم البهائية، والمذاهب التيوسوفية، والإنترويوسوفية وغير ذلك من الأفكار والمبادئ الروحانية التي تتسرب كل يوم بطريقةٍ غير محسوسةٍ إلى أذهان الغرب وقلوب أبنائه، من حيث لا يشعرون. ولا بد أن يأتي يوم - إخاله قريبًا - يفتح فيه الشرق الغرب فتحًا معنويًّا مبينًا، فيقوم أهله قومة صادقة، يكسرون بأيديهم تماثيلهم و… يهدمون كنائسهم؛ و ... ليقيموا مكانها المعابد الحقيقية التي لا يُعبد فيها إلا الواحد القهار طبقًا لشريعة سيد الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، فطُوبَى لمَن يعيش ويرى يومًا يتعانق فيه الشرق والغرب، ويصبح عباد الله إخوانًا في التوحيد والإسلام) . وهذه ترجمة ما اقتطفه الكاتب من جريدة (الديلي تلغراف) : *** علاقة المسيح بالله كمبريدج لمراسلنا الخاص بتاريخ 13-8-1921 إن درجة ابتعاد اللاهوتيين العصريين عن العقائد التقليدية الموروثة قد ظهرت اليوم ظهورًا واضحًا في مؤتمر رجال الكنيسة، فقد تكلم ذو الاحترام الكلي (هاستنس راشدول) مطران كارليل في مسألة (المسيح كلمة الله وابنه) ، فقال: إن الطلب يزداد على اللاهوتيين الأحرار [3] ؛ ليوضحوا بعبارات صريحة ما يقصدونه حقيقة، عندما يستعملون العبارات التقليدية عن ألوهية المسيح. وبدأ الدكتور (راشدول) يبحث في السؤال من وجهته السلبية فقال: إن المسيح لم يدَّعِ الألوهية لنفسه، نعم، إنه ربما دعا نفسه أو تسامح على الأرجح بأن يُدعَى مسيَّا [4] أو ابن الله، ولكن لم يَرِدْ في الأقوال الثابتة عنه شيءٌ يدل على أنه كان يرى علاقته بالله غير علاقة رجل بالله. وهي العلاقة التي كان يريد أن يستشعرها كل إنسانٍ، فيستخرج من هذا القول أن المسيح كان إنسانًا بكل معنى الكلمة، ولم يكن إنسانًا بجسمه فقط، بل كانت نفسه وعقله، وإرادته إنسانية أيضًا، ولم تكن تعترف الكنيسة بذلك دائمًا، وإن كان كثيرون من الآباء اليونانيين (كادانايوس، وأثناسيوس) [5] قد تمثلوه كلمة الله مقيمة في جسمٍ بشريٍّ، وأنكرت المجامع التي عُقدت بعد ذلك هذا التعريف بزعامة أبوليناريوس، ولا يمكن الغلو في أن يؤكد من نقطة النظر اللاهوتية بعد ذلك أن أثناسيوس كان من مذهب (أبوليناريوس) ، وأخشى أن يكون كثير من الناس - الذين يظنون أنهم مستقيمو الرأي - ليسوا سوى أبوليناريين. وقد عرفت كثيرًا من الكاثوليك المتنوِّرين يجهلون أن الكنيسة تعلم أن للمسيح نفسًا بشرية؛ فكثير مما يسمى استقامة في الرأي ليس سوى أبولينارية، وبعض المدافعين عن العقائد الكاثوليكية الواقفين عليها وقوفًا يحُول دون جعْلهم أبوليناريين صريحين - هم في الحقيقة تحت تأثير تلك المبادئ في شكلها الأخير المعدل الذي ينكر أن المسيح كان ذا إرادةٍ بشريةٍ. ثم قال: وليس من الاستقامة في الرأي ألبتة أن يُفرض أن نفس المسيح البشرية كانت موجودة من قبل؛ إذ لا أساس لعقيدة كهذه، فمنذ قبلت الكنيسة مبدأ كون المسيح كلمة الله تعين أن الذي كان موجودًا في ما سبق هو الكلمة الإلهية لا المسيح البشري. إن ألوهية المسيح لا تتضمن بالضرورة الولادة من عذراء أو أي معجزة أخرى، فالولادة من عذراء إذا أمكن إثباتها تاريخيًّا لا تكون مظهرًا لألوهية المسيح، ولا يوقع عدم إثباتها ريبًا في تلك العقيدة، كما أن ألوهية المسيح لا تتضمن أن يحيط بكل شيءٍ علمًا، ولم تبقَ حاجة للكلام في هذا الموضوع بعد ظهور الخطب التي ألقاها المطران (بخور) في (بامبتون) ، بالرغم من كون عقيدة تحديد علم المسيح لم ترسخ بعدُ في أذهان العامة. إن النظريات الحديثة في اليوم الآخر قد زادت في ضرورة التسليم بأن ذلك التحديد يجب أن يكون أعظم مما ذكره المطران (غور) ومَن على رأيه. وعلى فرض أنهم جعلوا الأقوال الثابتة عن المسيح في اليوم الآخر أقل ما يمكن - وهذا ما كان المطران نفسه يميل إلى فعله - فمن الصعب إنكار أن المسيح كان يتوقع حدوث أشياء في المستقبل لم يحققها التاريخ، فما حقيقة الرأي العصري إذن في العلاقة بين الله والإنسان؟ هو أن الإنسان ليس خليقة لله يتسلَّى بها، وأن جميع العقول نسخة في شكلٍ محدود عن العقل الإلهي، وأن في جميع التفكُّرات البشرية الصحيحة نقلاً عن الفكر الإلهي، وأن في أسمى المقاصد التي يعترف بها الضمير البشري جلاءً للمقصد السامي الخالد في الفكر الإلهي - هذه هي الفروض التي يمكن أن يفسَّر بها وحدها معنى تلك العقيدة، وإذا كنا نعتقد أن كل نفس بشرية تنقل عن الله وتجلوه وتجسده إلى درجة معينة، وإذا كنا نعتقد أن الله يتجلى لكبراء معلمي الآداب في البشر، ولزعماء الدين، ومؤسسي الأديان، ومصلحيها أكثر مما يتجلى لسواهم - فمن الممكن إذن أن نعتقد أن شخصًا واحدًا كالمسيح امتاز عن سواه في علاقته الشخصية بالله، فكانت ساميةً فريدةً رفيعةً عن سواها، وأن صفات المسيح وتعاليمه تحتوي على خير ما يتجلى من صفات الله نفسه وإرادته في البشر، هذا هو المعنى الحقيقي الذي نفهمه من ألوهية المسيح [6] . *** شعور المسيح وتلاه القس هـ. د. أ. ماجور رئيس ريبون هول (أكسفورد) وخص كلامه بنظرية (المسيح في البنوَّة الإلهية) ، فقال: إن من المشاكل العويصة في نقد الإنجيل معرفة ماهية رأي المسيح نفسه في بنوته لله، إنه قد ذكر بصراحةٍ تامةٍ أنه لا يعتبر مهمته سياسية، وقد خدم الأستاذ (ليك) الإنجيل خدمةً حقيقيةً بإظهاره ما في تعاليم المسيح من الصفات المعارِضة للسياسة تجاه الدعوة السياسية التي كان يبثّها المتعصبون، كان المسيح يعتبر أنه هو (مسيا) ، ويعتقد أنه وكيل مملكة، ولكن لم تكن له علاقة بالسياسة بالمعنى المفهوم من سياسة مملكة؛ لأنه كان معارضًا لنظريتها الاقتصادية. ثم تناول الخطيب مسألة ما إذا كان المسيح ادَّعى أنه كان ذا شعور ومعرفة سابقين لوجوده، كما مثبت في الإنجيل الرابع، فقال: إنه يرى أنهم اليوم يستطيعون أن يصرحوا أن شعور المسيح كان شعورًا بشريًّا تامًّا، تاركا مسألة الشعور السابق الوجود بدون حل، وأنه ليس فيه من خوارق الطبيعة، والمعجزات ما لا يمكن أن يُعزَى إلى سواه من البشر، وأما كونه ابن الله فقد سوَّغ لهم أن يدعوه (إلهي) ، كما دُعي في الإنجيل الرابع؛ فإن القس ماجور يظن أن لغة المحبة، والتعظيم تسمح بذلك، ولكن مثل هذا التعبير لم يقره المسيح، ولا يظن أن المسيح كان يهتم بما كان يلقَّب به. ولا شك في أن الذين لم يعرفوا المسيح بالاسم، ولكن أظهروا للناس روح الخدمة والتضحية - التي هي روح المسي

رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد

الكاتب: محمد بن إسماعيل الصنعاني

_ رسالة تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد تأليف الإمام المحدث الشهير محمد بن إسماعيل الأمير اليمني الصنعاني بسم الله الرحمن الرحيم وهو المستعان الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يُفردوه بتوحيد العبادة كل الإفراد، من اتخاذ الأنداد، فلا يتخذون له ندًّا، ولا يدعون معه أحدًا، ولا يتَّكلون إلا عليه، ولا يفزعون في كل حالٍ إلا إليه، ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى، ولا يتوصَّلون إليه بالشفاعة {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) ، وأشهد أن لا إله إلا الله ربًّا معبودًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} (الأعراف: 188) ، وكفى بالله شهيدًا، صلى الله عليه وعلى آله والتابعين له، في السلامة من العيوب، وتطهير القلوب عن اعتقاد كل شيءٍ يشوب. وبعد: فهذا (تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد) وجب عليَّ تأليفه، وتعين عليَّ ترصيفه؛ لما رأيته وعلمته من اتخاذ العباد الأنداد، في الأمصار والقرى وجميع البلاد من اليمن والشام ونجد وتهامة، وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور، وفي الأحياء ممن يدَّعي العلم بالمغيبات والكاشفات، وهو من أهل الفجور [1] لا يحضر للمسلمين مسجدًا، ولا يُرَى لله راكعًا ولا ساجدًا، ولا يعرف السنة ولا الكتاب، ولا يهاب البعث ولا الحساب؛ فوجب عليَّ أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره، فاعلم أن ههنا أصولاً هي من قواعد الدين، ومن أهم ما تجب معرفته على الموحدين: (الأصل الأول) أنه قد عُلِمَ من الدين أن كل ما في القرآن فهو حقٌّ لا باطل، وصدقٌ لا كذب، وهدىً لا ضلالة، وعلمٌ لا جهالة، ويقينٌ لا شك فيه، فهذا الأصل أصل لا يتم إسلام أحد، ولا إيمانه إلا بالإقرار بهذا الأصل [2] ، وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه. (الأصل الثاني) أن رسل الله وأنبياءه من أولهم إلى آخرهم بُعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة، وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) ، {أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} (هود: 26) ، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح: 3) ، وهذا الذي تضمنه قول لا إله إلا الله، فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة، واعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان، ومعناها هو إفراد الله بالإلهية والعبادة والنفي لما يُعبد من دونه والبراءة منه، وهذا الأصل لا مِرْية في ما تضمنه، ولا شك فيه، وأنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه. (الأصل الثالث) أن التوحيد قسمان: القسم الأول توحيد الربوبية والخالقية والرازِقية ونحوها، ومعناها أن الله وحده هو الخالق للعالم، وهو الرب لهم والرازق لهم، وهذا لا ينكره المشركون، ولا يجعلون لله فيه شريكًا، بل هم مقرون به، كما سيأتي في الأصل الرابع، والقسم الثاني توحيد العبادة، ومعناها إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها، فهذا هو الذي جعلوا لله فيه الشركاء، ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى، فالرسل عليهم السلام بُعثوا لتقرير الأول، ودعاء المشركين إلى الثاني مثل قولهم - في خطاب المشركين -: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} (إبراهيم: 10) ، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (فاطر: 3) ، ونهيهم عن شرك العبادة؛ ولذا قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} (النحل: 36) أي قائلين لأُممهم: أن اعبدوا الله، فأفاد بقوله: {فِي كُلِّ أُمَّةٍ} (النحل: 36) - أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلا لطلب توحيد العبادة لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم، وأنه رب السموات والأرض، فإنهم مُقِرُّون بهذا؛ ولهذا لم ترد الآيات في الغالب إلا بصيغة استفهام التقرير، نحو: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (فاطر: 3) ، {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (النحل: 17) ، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (إبراهيم: 10) ، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأنعام: 14) ، {فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} (لقمان: 11) ، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} (فاطر: 40) استفهام تقرير لهم؛ لأنهم به مقِرون، وبهذا نعرف أن المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان، ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمه، ولم يتخذوا الملائكة شركاءَ لله تعالى؛ لأنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض، بل اتخذوهم؛ لأنهم يقربونهم إلى الله زُلفى كما قالوه، فهم مقرون بالله في نفس كلمات كفرهم، وأنهم شفعاء عند الله، قال الله تعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) ، فجعل الله تعالى اتخاذهم للشفعاء شركًا، ونزه نفسه عنه؛ لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم، لم يأذن الله لهم في شفاعةٍ، ولا هم أهلٌ لها، ولا يغنون عنهم من الله شيئًا؟! (الأصل الرابع) أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خالقهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (الزخرف: 87) ، وأنه الذي خلق السموات والأرض {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (الزخرف: 9) ، وأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع الأبصار والأفئدة {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} (يونس: 31) - {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84-89) وهذا فرعون مع غلوّه في كفره ودعواه أقبح دعوة ونطقه بالكلمة الشنعاء يقول الله - في حقه حاكيًا عن موسى عليه السلام -: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} (الإسراء: 102) وقال إبليس: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} (الحشر: 16) ، وقال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} (الحجر: 39) وقال: {رَبِّ فَأَنظِرْنِي ... } (الحجر: 36) وكل مشرك مقر بأن الله خالقه، خالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم؛ ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} (النحل: 17) ، وبقولهم {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} (الحج: 73) ، والمشركون مقرون بذلك لا ينكرون. (الأصل الخامس) أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلُّل، ولم تُستعمل إلا في الخضوع لله؛ لأنه مَوْلَي أعظم النعم، وكان [3] حقيقًا بأقصى غاية الخضوع كما في الكشاف، ثم إن رأس العبادة وأساسها التوحيد لله الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهو قول (لا إله إلا الله) ، والمراد اعتقاد معناها لا مجرد قولها باللسان، ومعناها إفراد الله بالعبادة والإلهية، والنفي، والبراءة من كل معبودٍ دونه، وقد علم الكفار هذا المعنى؛ لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) . *** فصل إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعًا (اعتقادية) وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر، وبيده النفع والضر، وأنه الذي لا شريك له، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وأنه لا معبود بحقٍّ غيره، وغير ذلك مما يجب من لوازم الإلهية (ومنها اللفظية) وهي النطق بكلمة التوحيد، فمَن اعتقد ما ذُكر، ولم ينطق بها لم يحقن دمه، ولا ماله، وكان كإبليس فإنه يعتقد التوحيد، بل ويقرُّ به كما أسلفناه عنه، إلا أنه لم يمتثل أمر الله فكفر، ومَن نطق ولم يعتقد حقن ماله، ودمه، وحسابه إلى الله، وحكمه حكم المنافقين (وبدنية) كالقيام، والركوع، والسجود في الصلاة (ومنها) الصوم وأفعال الحج والطواف (ومالية) كإخراج جزءٍ من المال امتثالاً لما أمر الله تعالى به، وأنواع الواجبات والمندوبات والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أماتها. وإذا تقررت هذه الأمور فاعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء - عليهم السلام - من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه [4] ؛ إذ هم مقرون بذلك كما قررناه وكررناه؛ ولذا قالوا {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ} (الأعراف: 70) ، أي لنفرده بالعبادة، ويختص بها من دون الأوثان، فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى، ولا أنه لا يُعبد، بل أقروا بأنه يُعبد، وأنكروا، قال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 22) ، أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، وكان يسمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قولهم: لا شريك لك، ويقول: قد أفردوه جل جلاله لو تركوا قولهم: (إلا شريكًا هو لك) . فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به تعالى، قال تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 22) ، {وَادْعُوا شُهَداءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ} (البقرة: 23) ، {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} (الأعراف: 195) ، فنفس اتخاذ الشركاء إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأصنام للخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم من الله زلفى، وتشفع لهم لديه، فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه، وأن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل، والتقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده، وهذا هو توحيد العبادة، وقد كانوا مقرّين كما عرفت في الأصل الرابع بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده، والرازق وحده، ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم - وهو نوح عليه السلام - إلى آخرهم - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - هو توحيد العبادة؛ ولذا تقول لهم الرسل: {أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} (هود: 2) ، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) ، وقد كان المشركون منهم مَن يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد ومن يعبد أحجارًا [5] ويهتف بها عند الشدا

الخلافة الإسلامية ـ 4

الكاتب: محيي الدين آزاد

_ الخلافة الإسلامية ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية (4) فصل شرح حديث الحارث الأشعري أما طاعة الخليفة في السنّة فقد تضافرت الأحاديث الصحيحة في وجوبها، واشتهرت اشتهارًا عظيمًا، حتى إنه لم يصل حكم بعد عقيدة التوحيد والرسالة إلى هذه الشهرة والتواتر. وها أنا ذا ذاكر ههنا أولاً حديثًا من مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي يوضح نظام الإسلام الاجتماعي توضيحًا حسنًا، فأقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا آمُرُكم بخمس، الله أمرني بهن: الجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله؛ فإنه مَن خرج من الجماعة قيد شبرٍ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومَن دعا بدعوى جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم، قالوا: يا رسول الله! ، وإن صام وصلى؟ ! ، قال: وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم) أخرجه الترمذي، وأحمد، والحاكم من حديث الأشعري على شرط الصحيحين، قال ابن كثير: هذا حديث حسن، وله شواهد. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخمس: أولهن - (الجماعة) أي يجب على الأمة أن تجتمع على الإمام، وتعيش مرتبطة بمركزها الاجتماعي، وسترى كثيرًا من الأحاديث التي تحذر من الوحدة والفُرقة، وتعدّها حياة جاهلية شيطانية؛ إذ الإسلام لا يحسب الحياة الفردية حياة، وإنما الحياة عنده (الحياة الاجتماعية) . ما (الجماعة) ؟ ، كتلة من الآحاد، تربط بعضهم ببعض رابطة (الاتحاد) ، و (الائتلاف) ، ويكون فيهم (الامتزاج) و (النظام) . هاتيكم الجماعة ولوازمها الأربعة: الاتحاد والائتلاف والامتزاج والنظام: أما (الاتحاد) فهو أن يكون الأفراد متصلاً بعضهم ببعض، فلا عوامل التفرقة تفرقهم، ولا التشتت يبددهم، بل يكونوا جميعًا متقاربين، وأن تكون أعمالهم كذلك متوافقة غير متخالفة، وجهتها واحدة، وغايتها واحدة. وأما (الائتلاف) فهو أخص من (الاتحاد) ؛ إذ الاتحاد مجرد الاتصال، و (الائتلاف) هو الاجتماع والاتصال بتناسُب صحيح، وترتيب حسن، فيقدم فيه ما حقه أن يقدَّم، ويؤخر فيه ما حقه أن يؤخَّر، ويوضع الفرد في الجماعة بالمكان الذي يؤهله له استعداده وقوته، فلا يُستخدم في الشرطة مَن هو أهل للسيادة والقيادة، ولا يُرفع - إلى رياسة السياسة - مَن لا يصلح إلا للشرطية. وأما (الامتزاج) فهو أخص منهما، ويُراعَى فيه اتحاد الكيف أكثر من اتحاد الكم، أي يُنظر في طبائع الأفراد حيث استعدادهم الاجتماعي، فيلحق كل واحد بالذي يكون أكثر موافقةً لطبعه؛ ليتحدا تمام الاتحاد؛ إذ لو لم يراعَ ذلك لا يتأتى الاتحاد بين أفراد مختلفة الأمزجة والطبائع، كما لا يتحد الزيت والماء، وإن الله سبحانه كما خلق العناصر ليتكون باجتماعها المناسب مركب مخصوص - كذلك خلق الأفراد ليكونوا باجتماعهم (جماعة) ، فالأفراد (عناصر) ، والجماعة (مركب) ، وكما أن العناصر لا تكوّن (مركبًا) إلا إذا امتزجت امتزاجًا تامًّا، كذلك الأفراد لا تكون (جماعة) إلا بهذا الامتزاج، فإذن يجب أن يتمازج الأفراد بعضهم ببعض، ويفنوا وجودهم في سبيل تكوين الجماعة، بحيث يحسبهم مَن يراهم شيئًا واحدًا، ولا يكون ذلك إلا بعد الامتزاج التام. وأما (النظام) فهو أن يحل كل فرد في الجماعة محله، يدور في دائرته، ويسعى في داخل حدوده، ويعمل عمله الاجتماعي فيه. ولا تتحقق هذه الأمور إذا لم تكن قوة مسيطرة على الاجتماع، ويد مدبّرة للجماعة، فتوحد الآحاد المنتشرة، وتؤلف بينهم، وتمزج بعضهم ببعض، وتخرطهم في نظام الجماعة، فلا بد إذًا من (إمامٍ وخليفةٍ) ولا مفر للأفراد من طاعته والخضوع، إذا كانوا يريدون أن يحيوا حياة اجتماعية طيبة، فمقام الإمام أو الخليفة في الهيئة الاجتماعية مقام النقطة من الدائرة، وعماله بمنزلة الدائرة نفسها، فآحاد الأمة يدورون حول هذه الدائرة، وهي تدور حول تلك النقطة، وبهذه الصورة تتكون من اجتماع الأفراد (الجماعة) ويصيرون كتلة واحدة وجسمًا واحدًا حيًّا، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد، وبهذا أُمر المسلمون ومُنعوا من الوحدة والفرقة، وأوجب عليهم أن لا يعيشوا بدون إمام، سواء كثروا أم قلوا، حتى لو كانوا ثلاثة وجب عليهم أن يؤمِّروا أحدهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا كان ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم) . وقد جعل الله سبحانه صلاة الجماعة - التي هي عماد الدين ومثال كامل للعقائد والأعمال - نموذجًا ليهتدي بها المسلمون إلى تنظيم حياتهم الاجتماعية، فانظر كيف يجتمع مئات وألوف أوطانهم متنائية، وجهاتهم متباعدة، وألوانهم متغايرة، وألبستهم متخالفة، فبينما هم في هذه الحالة، إذ تقرع سمعهم التكبيرة، فيتحول الانتشار إلى الاجتماع، والتفرق إلى الائتلاف، فهم وقوف في صفٍّ واحدٍ، أجسامهم متلامسةٌ، أكتافهم متلاصقةٌ، أقدامهم متقاربةٌ، ووجوههم متوجهةٌ إلى جهةٍ واحدةٍ، إذا كانوا قيامًا، فكلهم قيام، كأنهم بنيان مرصوص، وإذا كانوا قعودًا فكلهم قعود، باطنهم كظاهرهم متحد ومؤتلف، قلوبهم بذكر واحدٍ مشغولة، وألسنتهم للفظ واحد مرددة، ثم انظر أمامهم فلا ترى هنالك إلا رجلاً واحدًا يؤمهم ويقودهم، متى شاء أقامهم، ومتى شاء أقعدهم، كلهم طوْع أمره، وسمَّاعون لكلمته، لا يخالفونه، ولا ينازعونه، بل يتبعونه، ويقتدون به، ويطيعون له [1] . هذه هي (الجماعة) التي يطالب بها الإسلام، ويأمر المسلمين أن يجعلوا هيئتهم الاجتماعية على أسلوبها، لا كما يزدحم الهمج في الأسواق. هذا، وكل ما ذكرناه من أوصاف الجماعة وخصائصها مأخوذة من الكتاب والسنة، وقد أغفلنا ذكر الشواهد عمدًا لضيق المقام وعدم الحاجة إليها. ثانيهن - (السمع) وهو أن تستمع الأمة أوامر الإمام، وتستهدي به؛ فكلمة (السمع) توضح أن مقام الإمام في الأمة مقام المعلم والمرشد؛ فعليها أن تتلقى أوامره بالقبول، وتسترشد به في مهماتها. ثالثهن - (الطاعة) وهي أن يطاع الإمام طاعة تامة، ويفوَّض إليه جميع القوى العاملة تفويضًا كليًّا [2] ، ويعمل كل فرد من الأمة بأمره بدون أدنى عذر، ولا ضجر، ومعلوم أن الطاعة في المعروف لا في المنكر. رابعهن - (الهجرة) وهي من (الهجر) ومعناه (الترك) ففي المفردات: (الهجر والهجران: مفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن، أو باللسان، أو بالقلب، والمهاجرة: مصارمة الغير ومتاركته) (صفحة 558) ، وأما في الشريعة فهي: أن يترك رجل أو جماعة الملاذّ الدنيوية، والرغائب النفسية في سبيل الحق والسعادة [3] ، فمثلاً إذا ترك أحد لغرض سامٍ وقصد عالٍ - مالَه وراحته، وأهله، وأقاربه، وعشيرته، وبيته، ووطنه، يسمى عمله هذا في الشريعة (الهجرة إلى الله والذهاب إلى الله) وقد غلب استعمال (الهجرة) في ترك الوطن؛ لأن تركه يستلزم ترك المال، والأهل، والأصدقاء، وكل ما يُحَبّ ويُؤْلَف في الوطن؛ ولذا إذا أُطلقت يكون معناها (ترك الوطن) وإذا أضيفت إلى شيء يُفهم معناها حسب الإضافة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإنما لكل امرئ ما نوى، فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه) (البخاري عن عمر رضي الله عنه) فالهجرة أنواع وأقسام تجدها مبينة في الكتاب والسنة، وليس هنا محل تفصيلها. خامسهن - (الجهاد في سبيل الله) وهو من (الجهد) ومعناه: (استفراغ الوسع في مدافعة العدو ظاهرًا أو باطنًا) (مفردات) ، فالجهاد هو السعي البليغ لدفع الأعداء، والذود عن الأمة، ويكون باللسان، والمال، والنفس، فكل ما يبذله الرجل في سبيل الله - حسب الحاجة والضرورة - فهو جهاد في سبيل الله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم (رواه أحمد وأبو داود، والنسائي، وابن حبان عن أنس رضي الله عنه) . ولسنا في حاجة إلى أن نُثْبت أن على هذه الخمسة تتوقف حياة الأمم وقيامها وبقاؤها؛ إذ كل مَن له ذرة من العقل يعلم حق العلم أنه لا تستطيع أمة أن تفوز في معترك الحياة بدونها، أو تنجح في أعمالها - صغيرة كانت أو كبيرة - بغيرها، فسواء عليها أن تسعى لحصول خبز من البر، أو تذهب لكشف القطب الشمالي، فهي على كل حال تحتاج إلى هذه الأصول الخمسة، والتي تعرض عنها تخسر، ثم تسقط حتمًا، وإن كل ما نراه الآن في هذه المعمورة العظيمة من الحضارة والرقي والصناعة، نتيجة لهذه الخمسة: (الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد) . إن النزاع والخلاف الذي ملأ الخافقين إنما هو ناتج عن شيءٍ واحدٍ، وهو تعدد الأسماء لمسمى واحد، وكثرة المصطلحات لحقيقة واحدة، فإنك إن دققت النظر في جدال الناس ترى معظمهم متشاجرين في الأسماء والألفاظ والمصطلحات، مع أنهم لو جردوا الحقيقة عن الظواهر لعلموا أنها واحدة، وعند الجميع سواء، لكنهم لسوء الحظ لا يفعلون ذلك، فيتخبَّطون طول عمرهم في تيهاء الألفاظ والمصطلحات، ويتناطحون عليها. وقد كثر مثل هذا النزاع في العلوم والمعارف، والموفق مَن لا تخدعه الظواهر، فلا يرى الحقيقة بمنظاره الخاص المصنوع من الألفاظ والمصطلحات، بل يراها مجردة كما هي، وهذا المقام مقام الرسوخ في العلم، ويسميه الشيخ أحمد ولي الله صاحب (حجة الله البالغة) بعلم الجمع بين المختلفات، وعامة أصحاب السلوك والإشارات يسمونه (بمشهد الوحدة) ، ويقصدون به نفس هذا المقام الذي يصله السالك بعد زوال الحجب والأستار عن عينيه. فإذا بحثت بعد هذا تعلم أن الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد - من تلك الحقائق العامة المسلَّمة التي لا ينكرها أحد من البشر - والأمم بأجمعها سائرة عليها من أول خلقها، ومتمسكة بها أشد التمسك، وإنما النزاع فيها والإنكار عليها جاء من تلك البلية التي ذكرناها آنفًا، أي التشبُّث بالأسماء والمصطلحات، فلأجل هذا أنكرها كثير من الناس لأسمائها الإسلامية، ولكنهم يقبلونها، ويعملون بها بغير هذه الأسماء، والذي يَرُدّ هذه الحقائق نفسها يحرم من الحياة، ولا يرى في دنياه إلا الخيبة والخسران. وها أنا ذا أسوقها إليك واحدةً واحدةً مع بيان وجيز لِتَفْهَم ما مر حق الفهم، فانظر إلى أولهن، وهي (الجماعة) التي علمت معناها وخصائصها، فقل أي شيء يتم بدون الجماعة والاجتماع؟ ، دع ما قالت فيها الفلاسفة والحكماء؛ فإنه دقيق يخفى على كثير من الناس، وألقِ عليها نظرة عامة ترى أن الغرض من البيئات والأحزاب، والجمعيات والمنتديات، والمجالس، والمحافل، والبرلمان، بل من الأمة، والوطن، والجيش (الجماعة والتزام الجماعة) أيمكن لأحدٍ أن يستغني عن الجماعة؟ ، حتى إن أولئك الذين يعيشون في الغابات عراة متوحشين- يضطرون إلى الاجتماع إذا أهمَّهم أمر، أو وقع فيهم شقاق؟ ، يجتمعون للبحث في شئونهم، وإصلاح ذات بينهم، ولو تحت شجرة على التراب، فتلك (الجماعة) . ولكن ماذا تُغني الجماعة إذا لم يوجد مَن يرأسها ويرشدها؟ ؛ ولذا إذا اجتمع بضعة رجالٍ لأمر جامع بينهم تبادروا إلى انتخاب الرئيس، وقالوا: إذا لم يرأس الجلسة أحد لا تكون قانونية ونظامية، وكذلك إذا أرادوا تنظيم جيش قسَّموه فِرَقًا من ألف ومائة وعشرة، وجعلوا ع

كوارث سورية في سنوات الحرب ـ 3، 4

الكاتب: شكيب أرسلان

_ كوارث سورية في سنوات الحرب من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان (3) تشنيع الكاتب على جمال باشا بالآستانة: وما وصلتُ إلى الآستانة حتى بدأت بشرح ما جرى في سورية من أفعال الشدة والقسوة وإرهاف الحد، وذكرت ذلك في جميع المراكز بدون استثناء، ولا يوجد تقريبًا واحد من كبار رجال الدولة القدماء أو الجدد إلا وهو يعلم أنني كنت منتقدًا إدارةَ جمال في سورية مشددًا النكير على الدولة في إرخائها العِنان لهذا الرجل إلى هذا الحد. ويصعب عليَّ الآن استقصاء شهودي على ذلك، سواء من الفئة المعارضة للاتحاديين أو الفئة الموافقة لهم؛ فإن ذلك يطول جدًّا، وإنما أجتزئ بالاستشهاد بجلالة السلطان وحيد الدين نفسه، الذي بقيت بين يديه أكثر من ساعتين أبسط له ما حدث في سورية من الأمور، وأبيِّن له وجه الظلم والخطأ فيها، وكذلك بولي عهد السلطنة الأمير عبد المجيد أفندي الذي تكلمت معه في هذا الشأن مرارًا، وكان كل منهما يتنفَّس الصعداء، ويتأوه، ويعِد ببذل جهده بإصلاح الأمور، وإيتاء العرب حقوقَهم، وإنصافهم من ظالميهم، وذلك عندما تضع الحرب أوزارها، وينتصب الميزان، ويبدأ بالحساب. وبقيت في الآستانة من أوائل سنة 1917 إلى نهاية الحرب، واستحضرت عائلتي إليها، وتحملت نفقات الغربة؛ حتى لا أعود إلى سورية وجمال باشا فيها، مع أنني كنت أصرح أمام الجميع أنني من جهتي الشخصية لا أقدر أن أشتكي منه بشيء، بل يجب عليَّ الشكر له لمزيد الرعاية وبالغ العناية اللتين كنت أراهما منه نحوي، وإنما أشكو بطشه وعنفه وسفكه للدماء وشدة استبداده، وما يعود بذلك من الضرر بالدولة وبالجامعة العثمانية. ولما حضرت إلى ألمانيا أول مرة سنة 1917 سعيت بإقناع الألمان في طلب صرفه عن سورية، وكان لهم بذلك يد، وأرسلوا الجنرال (فالنكنهاين) قائدًا لفلسطين، وقطعوا علاقة جمال بالجيش المرابط فيها، وما زال نفوذ جمال يقل ودائرة اختصاصه تضيق، إلى أن طلب هو الرجوع إلى الآستانة، وذلك قبل دخول الإنكليز بقليل، ولما جاء إلى الآستانة، ووجد النكير عليه عامًّا - كان كمَن استيقظ من منام، وتبدَّل مرارة الحقائق بحلاوة الأحلام، وربما تذكَّر ما كنت أنحله إياه من النصيحة، وأنهاه به عن الشدة والبطش، ولا سيما عن القتل؛ لأنه غير قابل التلافي، وما شعرت يومًا إلا وأحد أصحابي وأصحابه يتكلم معي في الذهاب إلى نظارة البحرية للسلام على جمال باشا، ويلح جدًّا بذلك، فقلت: ليس بيننا أدنى شيء يوجب النفور شخصيًّا، وإنما كان النفور منبعثًا عن اختلاف في الرأي، وإنه كان يرى الشدة ضرورية لحفظ سلامة المملكة، وأنا كنت أرى الذي أتاه معجِّلاً في تجزئتها، وذهبت، وسلمت عليه، وتصالحت معه، وعاتبني على حملاتي عليه، وقال لي: إن رفقاءه كانوا يقولون له إن شكيب أرسلان بك هو أيضًا في مقدمة الناقدين الناقمين، وهو ممن لا شك في صدقهم، وأنه هو كان يجاوبهم: نعم إنه مخلص، ولكنه رقيق القلب، ويريد أخذ الأمور كلها بالعفو، فدار بيني وبينه جدال طويل، أتذكر منه أنني قلت له: يا مولانا عندما أتيتم بالزهراوي من باريز، وجعلتموه في مجلس الأعيان - كنت أنا منتقدًا هذا العمل، ولكن بعد أن عفوتم عنه، ومضى على ذلك ثلاث سنين - تأخذونه من مجلس الأعيان، وتشنقونه! ، هذا انتقدته أكثر؛ لأنه خطأ أعظم من الأول، ثم لا يكفي شنق الزهراوي بتلك الصورة حتى يُنفَى إلى الأناضول والده البالغ من العمر نحو 90 سنة، فكيف تريد أن لا أنتقد هذه الأعمال، وقد دافع عن نفسه ببعض أجوبة لا تخرج عن التدابير العسكرية التي يعملها كل قائد في أثناء الحرب، وأنا لا أنكر أن جمالاً تصرف تصرف أي قائد أوربي أُودِع إليه أمر مستعمرة آسيوية أو إفريقية، وليس في قواد فرنسا ولا إنكلترة كثير يقدرون أن يرموا جمالاً بحجر كما يقال، أو أن يعيبوا مظالمه؛ لأنهم جميعًا تقريبًا يسلكون هذا المسلك، وأفظع منه، وهذا تاريخ استعمارهم في الهند وفي مصر وفي الجزائر وفي تونس وفي الكونغو ... إلخ أصدق شاهد على ما نقول، وفي الحرب العامة قد جرت من فريقَيْ الدول المتحاربة كلما علت يد فريق على آخر من المناكير والموبقات وغرائب القسوة والوحشية - ما يزيد على أعمال جمال، ولكن جمالاً تركي، عيبه ظاهر، ولا يوجد له ساتر، وأما القائد الإنكليزي أو الفرنساوي فهذا مسموح له عند بعض أبناء وطننا بأن يفعل ما يشاء، فلا يتعرض بذلك لانتقاد أحد منهم، ولو فات الوحوش في أعماله؛ لأنه كما ورد في المثل العامي: (من بيت الفُرفُور ذنبه مغفور) . على أن وجه انتقادنا على جمال هو كوْن سورية ليست مستعمرة ولا الدولة العثمانية هي دولة أوربية؛ فإن الدول المعهودة إذا قدمن عملاً بين يدي العار كان لهن من القوة المادية ومن الثروة ومن البسطة ما يغطيه [1] ، وأما الدولة فليس عندها من القوة ما يغطي عيوبها، ولو فازت ألمانيا وتركيا بهذه الحرب لما وجدت أحدًا انتقد جمالاً من هؤلاء الذين يملئون الدنيا صخبًا عليه اليوم! ، بل يقحمون في زمرته أناسًا أيديهم طاهرة من جميع ما عمله، ولكانوا اليوم ينوهون بمتانة جمال وإقدامه وحزمه! والناس من يلقَ خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبلُ مسألة محاولة جعْل سورية تركية: قال لي بديع بك المؤيد مبعوث الشام -عقب عودتي إلى الآستانة - إنه يوجد قانون مراد الحكومة إلقاؤه إلى المجلس للمناقشة فيه وتصديقه، وهو يتضمن جواز تبديل أملاك المبعدين بدون تعيين، وأنه بعد تصديق هذا القانون يمكن الحكومة نزع أملاك المبعدين من سورية، وإعطاؤهم عوضًا عنها في الأناضول! ، وكان شاع أن جمالاً ينوي هذه النية، وأنه أسس (قومسيون التهجير) لهذه الغاية، وأخذوا بإحصاء أملاك المبعدين، فذهبت إلى نجم الدين بك ملا رئيس الشعبة الخامسة في مجلس الأمة، وحكيت له القصة، فلم يعتقد أن المراد بهذا القانون منفيو سورية، ولكنه أشار عليَّ بمذاكرة طلعت، ثم ذهبت إلى الحاج عادل بك رئيس مجلس الأمة، فأشار عليَّ بمراجعة الحكومة، وصرفها عن هذا المشروع قبل طرحه في المجلس، فصادف أنني مرضت بهاتيك الأمة [2] ، ولزمت محلي، فجاءني سعد الله بك الملا مبعوث طرابلس، وأخبرني أن القانون عند حامد بك مبعوث حلب وقد روجع في تأخيره إلى أن أكون شُفيت من وعكتي، وذهبت إلى المجلس، فأبى، وإنه إن طرح القانون في المجلس خِيفَ تصديقه بالأكثرية، فاضطُرِرْت أن أقوم من فراش مرضي، وأذهب إلى الباب العالي، وكان طلعت تولى الصدارة جديدًا، فلما حكيت له القصة أجابني فورًا: هذا قانون لن يذهب إلى المجلس أبدًا، كن مستريحًا، ثم سحبوه، وانطوت هذه المسألة، التي كنت أنا السبب الوحيد في دفعها، كما يعلم كثير من الزملاء، وما كنت لأتعرض لذكر هذه الخدمة ونشر مكنونات لم يكن في البال إظهارها خوف نسبة التبجُّح لولا تشدُّق بعض الأعداء بما يتشدَّقون به من الافتراء والافتئات، وإذا أراد الله نشر فضيلة طُويت أتاح لها ألسنة أمثالهم. إعادة السوريين المَنفيين: كذلك القرار الأول بإعادة مَنفيي سورية إلى أوطانهم حصلت عليه بواسطة طلعت وخليل ونسيمي وجاويد، ولم يكن لي فيه شريك مطلقًا، وقدمت تقريرًا بواسطة جاويد، أقول فيه إنه لا يوجد أدنى محذور من إعادة هؤلاء المنفيين إلى سورية، وإنني أكفلهم بنفسي كفالة عامة، وأقدم عن كل شخص منهم بمفرده كفالة خاصة من رجل مأمون، فرد جمال هذا القرار، وكان يومئذ لم يزل في سورية، وكان انكسار الإنكليز عن فلسطين في واقعتي غزة الأوليين قد كسب جمالاً جمالاً ورونقًا، فلم يريدوا أن يكسروا كلمته، وقد أنذرهم بالاستعفاء إذا أصر مجلس النظار على هذا القرار، وذهب أنور بنفسه ثاني نوبة إلى سورية ومدحت شكري ناموس جمعية الاتحاد والترقي، ولم يقدرا على إقناعه، فعادا بخُفَّيْ حُنَيْن، وبلغني الخبر، فذهبت إلى طلعت، وقلت له: صح أن جمالاً لم يقبل قراركم فرجاني أن أصبر عليه شهرين فقط، وأنه بعد ذلك ينفذه، ثم أخذ يأذن لأناس من المنفيين بالتنقُّل من مكان إلى آخر، كلما راجعناه في قضية واحد أجاب الطلب. كذلك أنور صار يتعاهد المنفيين بالإحسان والعطاء، وكانت سنين عسيرة أثناء الحرب كما لا يخفى، فأضفت زيادات كثيرة على مرتبات قسم من المنفيين من جبل لبنان كانوا بأسكي شهر وآخرين من المدينة المنورة، كانوا بكوتاهية وعشاق وأزمير وغيرها، وكانت هذه العلاوات كلها من دائرة التشكيلات التي كانت تابعة نظارة الحربية، وكنت في آخر كل شهر أطالب بها، وأرسلها، كما أنني كنت أتردد دائمًا إلى لجنة المهاجرين في الباب العالي أستنجز دفع شهريات المنفيين بأجمعهم، فكانت الدولة تنقدهم كل شهر 150 ألف ليرة، وكنت أقول لرجال الدولة: ما سمعت أن دولة في الدنيا تشتري عداوة قسم من تبعتها بمائة وخمسين ألف ليرة شهريًّا، اصرفوا هؤلاء الناس إلى أوطانهم يصيروا شاكرين داعين لكم، وتوفّروا على خزانة الدولة أكثر من مليون ونصف مليون ليرة في السنة، ولم يكن أحد يهتم بأمر المنفيين، ويخاطبهم سِوَاي؛ لأن الآخرين يخافون مغبَّة العلاقة معهم، فكنت أقضي ليلي ونهاري في تحرير الأجوبة والبرقيات بقضاء حاجاتهم، وكانت ترِد عليَّ منهم مئات من الرسائل ممن بأزمير ومغنيسية وبروسة وبأليكسر وقره شهر وأسكي شهر وكوتاهية وعشاق وسيواس وتوقات وكنغري وأدرنة. وما زلنا نكافح بلاءهم، ونخفف من مضض غربتهم، إلى أن تحول جمال من سورية إلى الآستانة؛ فأخذ طلعت بتسريح المنفيين تدريجًا. وحدث أن الحكومة احتاجت إلى أصواتنا (أي مبعوثي العرب) في مسألة تتعلق بتحديد مدة الامتياز لشركة حصر الدخان، فاشترطت أنا والمرحوم فقيد الشام محمد باشا العظم أن يطلقوا لنا سراح المنفيين لنعطيهم أصواتنا، وصرنا نعقد بعد ذلك اجتماعات يحضرها جميع مبعوثي سورية، وفي إحدى الجلسات قرر المبعوثون تفويض ثلاثة بمفاوضة الحكومة في شأن المنفيين، وهم المرحوم محمد باشا العظم مبعوث الشام وأبو علي سلاَّم مبعوث بيروت، وهذا العاجز. *** (4) المجاعة في سورية أثناء الحرب ومَنْ هم المسؤولون الحقيقيون عنها؟ لا جرم أن من أعظم حوادث هذه الحرب ونتائجها على الإنسانية هي المجاعة التي عضَّت بأنيابها كثيرًا من الأمم، وأتلفت مئات ألوف، بل ملايين من النسم، وكان لسورية منها نصيبٌ وافٍ لم يحدِّث التاريخ منذ قرون عديدة بأن سورية أُصيبت بمثله. فقد وصل الأمر إلى أن بعض الناس أكلوا الميتة، وبعضهم فتكوا بالأطفال، وطعموا من لحمهم، وبعضهم اختلط عقله، فذبح ابنته، وأكلها! ، كما حصل لرجل من معلقة الدامور، ولما كان وقوع هذه المسغبة في أواخر دور الدولة العثمانية بسورية كان بديهيًّا أن ينقم الناس أمر هذه المصيبة على هذه الدولة؛ لأن الناس متى حلَّت بهم المصائب ينهالون بالقذف والطعن قبل كل شيء على حكومتهم الحاضرة؛ ولأن سحر الإنكليز والفرنسيس وغيرهم من الحلفاء كان لا يزال ماشيًا إلى ذلك الوقت على السوريين، وكان لهم في البلاد سُعَاة يستثمرون جهالة العامة وأغراض الخاصة في تحويل تبعة هذه الفادحة على الدولة العثمانية خاصة دون سواها، ولما كان المصاب - كما يقال - يغيب عن الصواب كان السواد الأعظم من المصابين ميَّالين إلى تصديق ذلك الحدي

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 5

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة (5) تابع لمقالة الطور الأول للإسلام [1] (16) شعور الإخاء كان بالغًا أعلى الدرجات بين المسلمين، ألمُ الواحد كان يؤلم المجموع؛ لأنهم اتخذوا لحالتهم الاجتماعية منهاجًا رسمه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: (إن حقًّا على المؤمنين أن يتوجَّع بعضهم لبعضٍ، كما يؤلم الجسد الرأس) [2] ، كان الناس يمشون على هذا المنهاج الاجتماعي بكل إخلاص، أما نحن (واأسفاه!) فهل يتذكَّر أحدنا إن جاء المسلمين ضربة إلا وكانت عن يد مسلم؟ هذا تاريخنا الماضي لنقرأه باكين [3] . (17) إلقاء بذور الشقاق والتفريق بين المسلمين كان ممقوتًا أشد المقْت، حتى إن الهادي الأكرم أخرج المفرقين من بين أفراد العائلة الإسلامية؛ إذ قال (مَن فرَّق فليس منا) [4] ، وأما في زماننا - فواحسرتاه! - قد أصبح التفريق بين المسلمين يعد من حسن الحزم ودهاء السياسة فينا! (وقلبوا الحقيقة فخصوا المفرق باسم (المنقذ) كأن الخروج من التابعية الإسلامية، والدخول في حماية غير المسلمين (إنقاذ! ! !) - لا حول ولا قوة إلا بالله - (المترجم) . (18) كانت النميمة بين الناس من أشنع المنكرات؛ لأن سيد الخلق قال: (إياكم والعِضَةَ؛ النميمة القَالَة بين الناس) [5] . (19) الظن السيئ في الناس الذين - لم تثبت تهمتهم - كان من أسوأ الأخلاق، والتجسس على الناس كان معدودًا من المفاسد المنافية للتأليف مع الإسلام؛ لحديث: (إياكم والظنَّ؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تنافسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا) [6] ، وأما نحن فأقل إشارة تبدو من أخينا المسلم تكون سببًا لإغراقنا إياه في أمواج الظنون المختلفة، فهل صار ديننا البُعد عن هدي نبينا، ونبذ آداب ديننا؟ كلا، إن حُسن الظن بالناس قد عُدَّ من حسن العبادة في ديننا؛ إذ قال نبينا عليه صلوات الله وسلامه: (حسن الظن من حسن العبادة) [7] وكان الناس يعدون الانقياد لهذا الهدْي النبوي من أقدس الواجبات، فليتدبره العقلاء، وليحكموا على أنفسهم أو لها. (20) كانوا يكرهون التفرُّق في المجلس الواحد، ويستحبون الاجتماع والمشاركة فيه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحب مرأى أمته وهم مجتمعون، وقد دخل المسجد مرة فرأى المسلمين جالسين خمسة خمسة، أو ستة ستة، فلم يرُقه هذا المنظر، فقال: (ما لي أراكم عزين؟ !) [8] لأن هذا المنظر يوهم الأعداء وقوع التفرقة. ظل المسلمون مهتدين بهذا الهدْي محافظين على وصية الاجتماع والاعتصام إلى زمان ذي النورين، وهناك بدأت التفرقة، ومنذ ذلك التاريخ تمطر التفرقة على رأس المسلمين وابل النكبات والمصائب، أين العقلاء؟ ! (21) أهم ما كان يرمي إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤلف المسلمون جسمًا معنويًّا واحدًا، يتحابون، ويتراحمون، فيكونون كأعضاء الجسد الواحد؛ لذلك قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمى) . وأما نحن فلم نفقد التحابّ والتراحم فقط، بل صرنا نجهل أحوال إخواننا المسلمين السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وكيف نتراحم قبل أن نتعارف مَن منا يعرف أحوال مسلمي جاوه وما جاورها من دينية وإدارية واقتصادية؟ مَن منا يطلب من الجرائد أن تبحث له عنها، أو عن غيرها من بلاد المسلمين، كما تبحث عن أمم أوربة وأميركا؟ أين الكتب التي تبحث عن جغرافية تلك البلاد وتاريخها؟ وكيف طوَّق عنقها بقيود الحماية الغربية؟ ، كيف ولماذا أصيبت بهذه المصيبة؟ مَن منا - إلا قليل - تشعر نفسه بالحاجة إلى ما ذُكر؟ وبعد هذا الإهمال أنحن مسلمون؟ ! [9] رُبّ قائلٍ يقول: إن الجرائد غير الإسلامية تهمل البحث عن المسلمين وأحوالهم، وأحداث بلادهم لعدم العلاقة بينها وبينهم، وتملأ أدمغتنا بما يتعلق بأوربا وأميركا، فامتلأ الخلاء. ولكن ما قولنا في الجرائد الإسلامية: هل فات أصحابها النابغين أن ما حث عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التراحم والتعاطف يتوقف على التعارف قبل كل شيءٍ؟ كيف أعطف على قوم لا أعرفهم؟ لذلك أرى التبعة تقع على عاتق مؤلّفي الجغرافية والتاريخ، وكُتّاب الصحف قبل كل الناس. (22) الاتحاد من أقصى مقاصد الدين؛ لأن التعالي السياسي لا يكون بدونه أبدًا؛ لذلك [10] أمر الله تعالى به بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) . (23) الاجتماع كان محبوبًا جدًّا عنده - صلى الله عليه وسلم -، جاء في الحديث: (اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة) [11] لذلك لم يكن أحد من السلف يفكر في شخصه وحده، بل كان الناس يفتشون على سعادتهم بين سعادة المجموع. (24) كان المِرَاء والجدال لتأييد أهواء الأنفس من أقبح الخصال المذمومة؛ لأنه يثير الأحقاد، ويعمي البصائر والأبصار عن رؤية الحقائق، ومما ورد من الأحاديث الصحيحة في ذمه والتنفير عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصم) [12] . (25) معاملة الجار بالحسنى، وعمل المعروف كان من أهم الآداب التي يحافظ عليها المسلمون لوصايا القرآن والسنة به، ومنها حديث: (أحسنْ إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا) [13] . (26) كان أفراد الأمة صريحين في أقوالهم، أحرارًا في أطوارهم، وأظهر سجايا الإسلام في طوره الأول هذه السجية، كان كل فرد مسلم يقول الحق بصراحة، ولو كان مخاطبه نفس الخليفة، وكانوا يتنزهون عن الكذب؛ لأنه أقوى دعائم النفاق، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) [14] . (27) إغماض العين على الباطل محاباةً، والتملُّق للظلمة مُداراةً والغش والخداع للناس - كل ذلك كان يُعَدّ من صفات المجرمين والمنافقين، المنافية لآداب الإسلام وصفات المؤمنين، وقد أخرج النبي (صلى الله عليه وسلم) كل مَن يغش مسلمًا أو يخدعه أو يحتال عليه من الجمعية الإسلامية؛ إذ قال: (ليس منا مَن غش مسلمًا أو ضره أو ماكره) [15] . (28) أخذ الموظفين الهدية وقبول الحكام الرشوة كان من أكبر الجرائم المذمومة، قال صلى الله عليه وسلم: (أَخْذُ الأمير الهدية سُحت، وقبول القاضي الرشوة كفر) [16] . وما قول أمراء هذا الزمان الذين يعدون قبول الهدايا أمرًا غير منهيٍّ عنه؟ رَبِّ ارْحَمْ أمة يدير أمورها أناس لا يفقهون أحكام الشرع! (29) الاستقامة على الحق كانت من أُسِّ الواجبات، وركن المعاملات حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في آية: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (هود: 112) إنها شيبته تعظيمًا لشأن الاستقامة، وعلى مَن يريد أن يقف على روح الإسلام، ويتأمل في صعوبة الاستقامة، ويدرك درجة عظمة المستقيمين، فما عليه إلا أن يتأمل معاملة الفاروق للمرأة التي رآها جائعة، وكيف حمل لها كيس الطحين على ظهره، وكيف طبخ لها بيديه الشريفتين، مَن يتأمل فيما أودعته هذه الواقعة من المعاني يدرك عظمة الاستقامة، وكيفية تلقِّيها عند المسلمين، وعندئذ تتضح له أسباب تعالِيهِم بكل سهولة [17] . (30) العدل كان غاية من كل مسلم؛ لأن الله قال - في كتابه العزيز -: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) [18] . (31) روح الإسلام حسن الخلق؛ لذلك أمرنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (استقم، وليحسن خلقك للناس) [19] وقوله: (الإسلام حسن الخلق) [20] وقال تعالى - مادحًا نبيه -: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل المؤمنين أحسنهم خلقًا) [21] . (32) التعدي والتجاوز على الناس كان منهيًّا (ومَنئيًّا) عنه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أفضل المؤمنين إسلامًا مَن سلم المسلمون من يده ولسانه، وأفضل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا) [22] ، وهذا تأمينًا لحرية الأفراد من أي تعدٍّ خارجي. (33) حُسن الخلق كان يوصل صاحبه إلى أعلى درجات التقوى التي لا تُنال إلا بقيام الليل وصيام النهار؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المؤمن لَيدركُ بحسن الخلق درجة القائم الصائم) [23] . (34) عُلو الهمة والسماحة من مكارم الأخلاق العالية عند المسلمين؛ فقد جاء في الحديث: (اسمحوا يسمح لكم) [24] لكي تقابل المكارم بمثلها. (35) كان المسلمون يسلم بعضهم على بعض عند التلاقي بكل لطف وبشاشة وإخلاص؛ لأجل استمالة القلوب ودوام التحابّ، ومما ورد من الحديث في ذلك: (أفشوا السلام بينكم تحابوا) [25] . (36) الرفق واللين كان الأساس لجميع المعاملات؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) [26] . (37) إن البشاشة في الوجوه عند اللقاء كانت من الآداب العامة المطلوبة للتحاب، وكان التعبيس والتقطيب من الخصال الممقوتة، قال - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تعالى يبغض المعبس في وجوه إخوانه) [27] . (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الرحلة الأوربية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة الأوربية (2) السفر من تريسته: سافرنا من تريسته يوم الخميس في الربع الأخير من الساعة السابعة صباحًا (6 س و45د) في قطار أوربة الأكبر، وكان موعده قبل ساعة، ولكنه تأخر لتأخر مجيئه من الآستانة. سار بنا القطار في خيف شجير، من ذلك الجبل النضير، فكانت شجراؤه عن يميننا في الجبل، وعن يسارنا فوق البحر، وما زال يتسلق بنا متلويًّا كالأرقم في الأجم، حتى استوى على تلك السهول الفيحاء، والسهوب الشجراء، ذات المروج الخضراء، والرياض الغَنَّاء، الكثيرة النوار، والمفتَّحة الأزهار، حتى كأن الزمان قد استدار، فتحوَّل الشطر الثاني من آبَ إلى مثله من نيسان، وأوائل آيار، وهي السهول المعروفة بسهول لومباردية، وبعد أربع ساعات وصل إلى مدينة البندقية (فينيسية) ، وهو يدخل إليها على طريق يبس في رقراق من الماء، يسير فيه خمس دقائق، يقطع فيها زهاء أربعة أميال (أو 5 كيلو) ، ثم عاد بنا القهقرَى في ذلك الماء بعد وقوف دقائق في المحطة، ثم وصلنا إلى مدينة (ميلان) وقت العصر (الساعة 3 و45 دقيقة) ، ومكث في محطتها نصف ساعة، تزود فيها ما يحتاج إليه من الفحم والماء، وبين البندقية، وميلان بلاد وقرى كثيرة عامرة، لا يقف عليها القطار العام السريع، وإنما المواصلات بينها بالقُطُر الوطنية. وأما هاتان المدينتان فهما من أعظم المدن ذات الصناعات الجميلة، والآثار التاريخية التي يقصدها السياح من الأقطار، ولو شئنا لنقلنا من كتب التاريخ شيئًا من وصفها، كما يفعل كثير من الناس فيما يكتبون في رحلاتهم، ولسنا من مستحسِنِي هذه الطريقة بإطلاق، وإنما يحسن فيها تقييد بعض الشوارد المبعثرة، والنوادّ التي لا تنال باليسير من المراجعة، والنوادر التي تزدان بها المحاضرة، وما يستنبطه السائح من العبرة والفائدة، حتى فيما صوَّرته الفكاهة والتسلية. ومما لاحظته في نبات هذه الأرض أن أكثر شجرها صغير، ومتوسط العمر لعل أكبره لا يتجاوز عشر سنين؛ وذلك أنهم يتناولونه بالقطع للاستفادة من خشبه، ولكن بالقرب من ميلان أدواحًا عظيمة باسقة، كأنهم يستبقونها للزينة، ورأيتهم يختلون خلاها (أي يقطعون حشيشها) بآلات تستأصله من وجه الأرض ويجففونه، ويجعلونه أكداسًا كأكداس حصيد القمح والشعير، ولا يلبث أن ينمي مكانه، ويطول؛ لأن المكان مجاج الثرى ريَّان بالماء. ولم أَرَ في تلك الحقول الخضراء زرعًا غير الذرة، وهي غضَّة حسنة النماء فيما قبل ميلان من الأرض، وأكثرها ضئيل فيما بعدها، وبالقرب من المدن والقرى حقول، وبساتين مزروعة بقولاً كالفاصوليا، والكرنب، والطماطم، وأما شجرها فمنه التفاح والكمثرى، وقد أينع ثمره، وطابت فاكهته. وأجمل مناظر هذه البلاد - على الإطلاق - البحيرات فقد مررنا ببعضها عن بُعد، وببعضها من كثب، ولم أنسَ لا أنسى أصيل ذلك اليوم؛ إذ بلغنا بحيرة ماجور أو (ميجارو) ، فراعني ذلك المنظر البهيج، الذي لم أَرَ له فيما سبق من عمري من شبيه ولا نظير، وإنما رأيت نظيره بعد ذلك في سويسرة، فأقول: إن مثل هذه البحيرة وبحيرة لوسرن من البحيرات التي بين الجبال هو أجمل ما خلقه الله في هذه الأرض. البحيرة واسعة، بين جبال شاهقة، مزدانة بالجنات الألفاف، والأجم الغبياء، من أدنَى الغور المساوي للماء، إلى الشماريخ التي تناطح السماء، وترى فيما يدنو منك من هذه الجنات، المعروشات منها وغير المعروشات، أصناف الأعناب وأنواع الثمرات، وهي ذات تعاريج كثيرة، وفيها جزائر صغيرة، بُنيت فيها قصور نضيرة، يصلون إليها بزوارق جميلة، ومياهها زرقاء صافية، وهي تتسع في مكان، وتضيق في آخر، وأخياف الجبال المحيطة بها تمتد على بعض الضفاف، وتتقلَّص عن بعض، ولبعضها ألسنة مستطيلة فيها، ورؤوس مقنعة في بعض نواحيها، والقطار يسايرها في جوانبها، ويلتفُّ على معاطفها، فيدنو ويبعد، ويغير وينجد، ويصوب ويصعد، ونحن فيه متلعو الرؤوس شاخصو الأبصار، نقلب الطرف ذات اليمين وذات اليسار، فمنظر البحيرة العجيب عن أيماننا، ومنظر الجبال الغريب عن شمائلنا، وفي كل منهما آيات للناظرين، ومعانٍ للمتفكرين، تثير في الخيال هواجس الشعر، وتنفث في الوهم رقي السحر، وتُلقي في العقول معاني الفنون، وتوحي إلى القلوب حقائق الإيمان بمَن يقول للشيء كن فيكون. تذكرت برؤية تلك الجنات الغَنَّاء، والغابات الغبياء، والرياض الفيحاء - وَصْفي لروضة من روضات الوطن في مقصورتي، وهو: وروضةٍ تجلى بثوب سندس ... رصَّعها النَّوْرُ بأصناف الحُلَى [1] ما صوَّح البارحُ غضَّ نجمها ... وناضرُ الأفنانِ منها ما ذَوَى [2] والباسقاتُ رفعت أكفَّها ... تَسْتَنْزل الغيث وتطلب النَّدَى [3] تمتلجُ (الكربون) من ضرع الهوا ... تؤثرنا بالأكسجين المنتقَى [4] مدَّت على الصعيد ظلاًّ وارفًا ... فلا ذَأَى العودُ ولا الظلُّ أَزَى [5] والشمسُ تبدو من خلال دوحها ... آونةً تخفَى وتارة تُرَى [6] كغادةٍ وضَّاحةٍ قد أتْلعَتْ ... من خَلَلِ السُّجوف ترنو والكُوى [7] تلقي على الروض نَثِير عسجد ... فتسحب الروض عروسًا تُجتلَى [8] وأين هذا الوصف القاصر، من هذا المنظر الناضر، والجمال الساحر، وأَنَّى لي بتخيل مثله في طرابلس والقلمون، وإن كانت كثيرة الجنات جارية العيون. كل هذا الجمال والجلال، الذي تجلى علينا بمناظر البحيرة، وما يحيط بها من الجبال، وما يزين ضفافها، وجزائرها من القصور والفنادق، والجنات والحدائق، والفُلْك والزوارق، وما تولده من المعاني الشعرية، والخواطر الاجتماعية والروحية، لم تكن لتنسيني أن ولدي مريض ما أدري ما فعل الله به، ولا لتصرفني عن الخوف عليه، والدعاء له، ولا سيما في أعقاب الصلوات، وما وفقت له من تلاوة القرآن والوضوء والصلاة في هذه القطر من أسهل الأمور، ومعرفة سَمْت القبلة فيها ميسور. وانتهينا عند الساعة السابعة مساءً إلى محطة وقف فيها القطار نصف ساعة لانكسار مركبة الطعام هنالك، وقد ظننا أنها أصلحت في تلك المدة، ولكن خاب الظن، وبقينا بغير عشاء، على أننا مكثنا زمنًا طويلاً في المحطة التي بعدها، وهي آخر محطة طليانية، وفيها مطعم عام، إلا أننا شغلنا عن الطعام فيها بعرض جوازات السفر وتفتيش الصناديق، وبما اتخذ من المعاملات الجمركية بشأن لفائف التبغ التي يحملها الرفاق. ثم سار القطار بنا، ولم يلبث أن دخل في النفق الكبير الفاصل بين إيطالية وسويسرة، ومكث في بطن الأرض 25 دقيقة، ثم تجاوزه، ووقف بنا بعد نصف ساعة في أول محطة سويسرية، فمكثنا فيها مدة؛ لأجل معاملات الأجوزة، وقد أخذوها منها واعدين بإعادتها لنا في جنيف، ثم سرنا فوصلنا إلى مدينة لوزان في منتصف الليل، فلم ندرك القطار الذي يسافر ليلاً إلى جنيف لتأخرنا عن الموعد، فبيتنا بقية ليلتنا في فندق فيكتوريا بقرب المحطة، وقد طلبنا فيه طعامًا، فقيل لنا إن المطعم قد أقفل ولا طعام إلا الخبز، والجبن، والزبد، والمربى، والفاكهة، فجاءونا من ذلك بأفضل أنواعه مع الماء المثلوج والثلج لتبريد الفاكهة، وهي موز وتفاح وكمثرى، فكان هذا العشاء أشهى وألذّ من كل طعام أكلناه في أوربة؛ إذ كان عقب جوع صحيح وتعب طويل. أكلنا طعامًا لطيفًا لذيذًا، ونمنا نومًا هادئًا مريحًا، على سُرُر مرفوعة وفُرُش وثيرة نظيفة، ولكل حجرة من حجرات النوم حمام خاص، تمتعنا بها في ليلنا وفي صبيحته. كان الجو في ذلك اليوم الذي قطعنا به أرض إيطالية يوم صيف معتدل، وإن كانت أرضها أرض ربيع مُدْبرٍ ومقبلٍ، ولولا غمام رقيق كان يكفكف بعض أشعة الشمس - لعُدَّ هنالك من أيام الحر، وقد تغير الجو علينا في سويسرة بعد نصف الليل، فهبَّ الهواء البليل، ولما أصبحنا رأينا السحاب يتكاثف في الأفق، ثم طفق يجود برذاذ لطيف، ثم تكاثف السحاب قبل الظهر، واشتد المطر بعد العصر، فكان كما وصفه ابن دريد بقوله: جَوْن أعارته الجنوبُ جانبًا ... منها وواصتْ صَوبه يَدُ الصَّبا [9] نَاءَ يمانيًّا فلما انتشرت ... أحضانُه وامتدَّ كِسراه غَطا [10] وجلَّل الأفْق فكل جانب ... منها كأنْ من قُطره المُزْنُ حبا [11] وطبّق الأرضَ فكل بقعة ... منها تقولُ الغيث في هاتا ثوى [12] إذا خَبَتْ بروقه عنَّت له ... ريحُ الصَّبا تَشُبُّ منه ما خبا [13] وإن وَنَت رعودُه حدا بها ... حادي الجنوب فحدتْ كما حدا [14] كأن في أحضانه وبَرْكه ... بَرْكًا تداعى بين سَجْرٍ ووَحَى [15] لم تَرَ كالمُزْن سَوامًا بُهَّلاً ... تحسَبها مَرعيَّة وهي سُدى [16] يقول للأجْرَاز لما استوسقت ... بسَوْقه ثِقِي بِرِيٍّ وحيا [17] فأوسع الأحداب سَيْبًا مُحسِبًا ... وطبَّقَ البُطنان بالماء الرِّوَى [18] كأنما البَيْدَاء غِبَّ صَوْبه ... بحرٌ طما تياره ثم سجا [19] هذا، وإننا كنا نريد أن نسافر إلى جنيف قبل الظهر، ولكن جاء منها لاستقبالنا مَن كان فيها من إخواننا السوريين - نجيب بك شقير، وصلاح الدين أفندي قاسم، وتوفيق أفندي اليازجي - الذي كان سبق من قبل حزبنا للاستعداد للمؤتمر، فتأخرنا إلى المساء، ولم نتمكَّن من التجوال في لوزان لشدة المطر، ثم سافرنا عند انتهاء الساعة الخامسة مساءً، والمطر يهطل، والريح تمنعنا من فتح نوافذ القطار، ومناظر سويسرة تأخذ بأبصارنا ذات اليمن وذات اليسار، فوصلنا إلى جنيف في خمسين دقيقة. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الرحلة السورية الثانية ـ 10

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (10) حكومة دمشق العربية كنت قبل سفري إلى سورية سألت عن حكومتها بعض مَن جاء منها إلى مصر من السوريين، والأجانب الذين يوثق بعلمهم ورأيهم - ومنهم الجنرال كليتون الشهير والدكتور بشير القصار منا - فقالوا: إنها ليست رديئة، وليست كما يجب من كل وجه، وهي شهادة حسنة لحكومة جديدة، هذه حقيقة حالها في ذاتها، ففيها ضعف بالنسبة إلى ما يجب أن تكون عليه كل حكومة في هذا العصر، ولكنها كانت على ما فيها من ضعف وقصور خيرًا من حكومتي الاحتلال في المِنطقتين الأخريين: الجنوبية (فلسطين) الإنكليزية، والغربية (لبنان وساحل سورية) الفرنسية. كانت هذه الحكومة العربية الطفلة أقرب إلى العدل، والحرية، والمساواة، والإصلاح، وأبعد عن التعصب والمحاباة والإفساد الأدبي والاقتصادي من حكومتي الدولتين اللتين ابتدعتا لنا بدعة الانتداب لإصلاح بلادنا بحجة أننا عاجزون عن النهوض بأمر أنفسنا، ولقد كانت هذه الحكومة بعد زوال السيطرة البريطانية، ولا سيما بعد إعلان الاستقلال خيرًا منها قبل ذلك، كانت متوجِّهة إلى الإصلاح الإداري والعلمي، وكانت الحرية بجميع أنواعها، ولا سيما حرية الاجتماع، والخطابة، والنشر مما تحسدها عليه سائر البلاد السورية ومصر، وزال من دمشق ما كانت مشهورة به من المبالغة في الحفاوة، والتعظيم للحكام والوجهاء، وشعر الشعب بحرمته وكرامته، وقد كانت لتواضُع فيصل وآدابه الشخصية العالمية تأثير عظيم في ذلك. كان اليهودي الصهيوني يُحابَى في فلسطين، فيقدَّم على المسلم والمسيحي بغير حقٍّ، وكان الكاثوليكي يحابى في الساحل كذلك، ولم يكن المسلم يحابى في حكومة الشام، ولا شكا مسيحي ولا يهودي من الحكومة، ولا من الأهالي تعصُّبًا عليه، ولا ظلمًا له من المسلمين، ولم يكن المسلمون يرجون من الوزراء، ورؤساء الحكومة المسلمين ما لا يرجون من الوزراء والرؤساء من النصارى، وما أبرِّئ هذه الحكومة من عيب محاباة الكبراء، وقبول شفاعتهم في طلاب وظائفها بدءًا وترقية، وكان أكبر هذا الضعف في الوزراء والرؤساء بإزاء الملك فيصل وعشيرته والمقربين منه، فإن هؤلاء قد اعتادوا على عهد سلطتهم العسكرية المطلقة أن يتصرفوا في الأعمال والأموال بما شاؤوا، وكيف شاؤوا، فصعب عليهم بعد إعلان الاستقلال أن يتقيدوا بقانونٍ ونظامٍ، ولم يكن للوزراء من الشجاعة الأدبية والتكافل ما يؤهلهم لتقييدهم وتعويدهم الوقوف عند حدود سلطتهم الرسمية؛ إذ كانوا هم قد اعتادوا في عهد الترك أن يميلوا مع أهواء الرؤساء والكبراء، ومع هذا أمكن لحكومة الاستقلال أن تقيد الملك براتب محدود لم يكن راضيًا به على كثرته، وكان يستهلك راتب كل شهر في أوله، أو قبل بدوّ هلاله، ويَطْلُب من وزارة المالية سلفة بعد سلفة، فلا ينال كل ما يطلب، ولا أكثره بسهولة، وقد كان نفوذه في بعض الوزارات أقوى منه في غيرها، واختلف مع الوزارة في عدة مسائل من أهمها أنه كان يريد إرسال حملة من الجيش السوري الجديد لقتال ابن سعود إنجادًا لوالده - إذا ثبت ما كان أُشيع من عزم الإخوان النجديين على الاستيلاء على المدينة المنورة - فلما كاشف الوزراء بذلك حاروا في أمرهم، وبعد تشاور وتدبُّر قرروا الرد عليه بأنه لا سبيل إلى إرسال حملة من جند الحكومة، ولا إنفاق شيء من مالها في هذه السبيل، وإنما يمكن جمع حملة متطوعة بمال الحجاز، وكان هذا أفضل موقف للوزارة الأتاسية مع الملك فيصل لشدة اهتمامه بهذا الأمر، وتصريحه للأتاسي وغيره بأنه إذا وقع القتال بين والده وبين ابن سعود - فإنه يغادر سورية، ويذهب بنفسه للقتال، سواء ساعدته حكومة الشام أم لا، ولكن لم يقع ما كان يتوقع، ولو وقع فأصر فواتته الوزارة لعجزت عن التنفيذ، وكان هذا رأيي إذ شاورتني في الأمر. لو وُجدت في الشام وزارة حازمة بصيرة لأمكنها أن تعمل في البلاد عملاً عظيمًا في فرصة الاستقلال، وارتفاع السيطرة العسكرية البريطانية عن المنطقة الشرقية، وقد كان لي أمل كبير في وزارة علي رضا باشا الركابي - لا أدري أكان للصلة الودية بيننا تأثير فيه أم لا - ولا أدري كُنه السبب لخيبة هذا الأمل، كان بعض الناس يبالغ لي في الطعن فيه، وبعضهم يدافع عنه، ولم أستطع الوقوف على حقيقة رأيه في موقف البلاد السياسي، ولا فيما يجب أن تكون عليه الحكومة على ما كان من احترامه إياي، وحسن اعتقاده الذي هو فوق ما أشرت إليه في الفصل الذي قبل هذا، وإنما كنت أعجب لكلمة سمعتها منه مرة أو مرتين، وهي أن استقلالنا مضمون وإنكلترة وفرنسة متفقتان عليه! ! وقد اقترحت عليه شيئًا واحدًا من الإصلاح، وهو وضع إدارة منظمة للعشائر والقبائل، بينت له بعض مسائلها، وما يُرجى منها، فأظهر لي منتهى الاستحسان لها، وطفق يماطل ويسوف فيها مع إقناعي للملك فيصل بوجوب العناية بها، وأمره إياه بتنفيذها، ولم يفعل. وقد كثر بعد الاستقلال المنتقدون له حتى صار أكثر أعضاء المؤتمر وأفراد حزب الجمعية التي ينتمي هو إليها - وهو حزب الاستقلال العربي - عليه، وانتهى ذلك بانحراف الملك عنه، وعُقدت اجتماعات سرية للبحث في إسقاط وزارته، حضر بعضها الملك فيصل، وتقرر فيها استبدال وزارة قوية بها، فتألفت وزارة هاشم بك الأتاسي ودخل فيها الدكتور عبد الرحمن شهبندر والمرحوم يوسف بك العظمة، وكان الكاتب هو المقترح الأول لإدخالهما في هذه الوزارة. وأما الرئيس فاختاره الملك فيصل، وقد كان أحد أعضاء لجنة الشورى السرية. قد استطاع هاشم بك بدماثته ولطفه إرضاء الملك، ولكنه لم يكن بالرئيس الذي يرضاه في هذا الوقت المؤتمر ولا الأحزاب، وفي مقدمتها حزب الاستقلال العربي الذي هو منه؛ لأن الجميع كانوا يطلبون وزارة دفاعية تصرف جل جهدها في الاستعداد للدفاع عن الاستقلال إذا اعتُدي عليه، أو يكون الاستعداد سببًا لعدم الاعتداء. فلم يلبث أن ضايقه المؤتمر والحزب، وتوجه رأي الأكثرين إلى وجوب تبديل وزارته، وكثر الانتقاد في المؤتمر عليها، والاقتراحات في أمر استيضاحها من موقف البلاد، والاستعداد للدفاع، وكنت أجتهد في حمل المؤتمر على الأناة، والتروي، والحزب الغالب يظاهرني، ولما علم حزب الاستقلال بإنذار الجنرال غورو للملك فيصل - اجتمعت الجمعية العامة له في الليلة الـ 27 من شوال (13 يوليو) وانتخبت وفدًا مؤلَّفًا من أعضاء اللجنة المركزية وسبعة من غيرهم لإبلاغ الملك بأن يكلف ياسين باشا الهاشمي تأليف وزارة دفاعية، وكان كاتب هذا رئيسًا لتلك الجلسة ثم للوفد، فلما بلغنا الملك ذلك أجاب جوابًا جافًّا، خلاصته أنه لا يعمل برأي جمعيةٍ، ولا حزبٍ، ولا المؤتمر، وأجبته جوابًا أشد من جوابه، وأجفّ أو أجفى، ولا حاجة الآن إلى تفصيل ذلك، ثم كلفت رئيس الوزارة الاستقالة باسم الوطن، واسم الإخوان، فأجاب بالقبول، قال: ولكن أليس يجب الاتفاق قبل ذلك على مَن يخلفنا؛ لئلا يكونوا ممن تنكرون منهم ما لا تنكرون منا؟ ، فأنتم تثقون بوطنيتي، ولا تشكون مني إلا الضعف عن النهوض بأعباء الحال الحاضرة، وربما كان الخَلَف الذي يرضاه الملك أضعف، وغير موثوق بوطنيته، وقال: إن الملك لن يولي الهاشمي الوزارة، بل اجتهدنا في إقناعه بأن يوليه وزارة الداخلية، فأبى. إنما موضوع كلامي هنا بيان ضعف الوزارة لا ترجمة الملك فيصل، ولا تاريخ تلك الأيام المفصل. وقد كنت كلمت الأمير زيدًا في ذلك، إذ خلوت به مرتين في أيام فرصة عيد الفطر: إحداهما في داري، والأخرى في البلاط، وكان يشكو من ذلك مثلنا، فقلت له: إن الإصلاح لن يكون إلا بترك الملك التدخل في أعمال الوزارة بنفوذه الشخصي، فاعتذر عن تدخل الملك بأن سببه ضعف الوزارة وعجزها، فقلت له: إنما يجب عليه إصلاحها لا التصرف الشخصي في جزئيات أعمالها الذي يزيدها خللاً، وقد كان الملك فيصل راضيًا كل الرضى عن وزارة الأتاسي، ولا سيما وزير الخارجية الدكتور عبد الرحمن شهبندر الذي كان من قبل يكرهه، ويظن أنه عدو له، حتى إنه قال لي يومًا: إنني لما عرفت شهبندر احتقرت جميع أهل الشام، ولكن رضاه في ذلك الوقت كان سببًا لسخط جمهور الشعب. وقد أفضى ضعف الحكومة، ولينها، وطمع الطامعين فيها - إلى أن تجرأ الساخطون عليها من الطامعين في المناصب، والمواهب الملكية على الطعن فيها، وتأليف الأحزاب لمقاومتها، وكان بعض العلماء والعامة يُكثرون الطعن في وزارة المعارف خاصة، ويزعمون أنه يريد إضعاف الدين في المدارس، وتعويد البنات فيها على التهتك، وطالما راجعوني في هذا قبل إعلان الاستقلال، وبعده متوسلين بي إلى السعي معهم لدى الأمير - ثم الملك - بعزله، فكنت أنصح لهم بالتأني، وأحسب حسابًا لتعوُّد الشعب الافتيات على الحكومة، ولا سيما الطامعين منه في أعمالها ومناصبها، وأرى أن السعي لتلافي الخلل، وإقناع الحكومة بإصلاح ما يُنتقد عليها بحق - أحسن عاقبة من إطماعهم فيها، وقد ذكرت رأيي هذا لمدير المعارف، ثم وزيرها ليكون على بصيرةٍ من أمره. ولم يقف تأثير ضعف الحكومة في الشعب عند هذا الحد، بل أفضى أخيرًا بالساخطين والطامعين أن تجرؤوا على السعي لهدم الاستقلال، والتزلف إلى الأجانب، فقوي الحزب الوطني المتهم بموالاة فرنسة، وهو الذي كان يرأسه عبد الرحمن باشا اليوسف، حتى إنه بلَّغ الحكومة أنهم عزموا على تأليف وفد فيه سبعة من حملة العمائم، وسَكَنَة الأثواب العباعب، يرسلونه إلى باريس لطلب الانتداب الفرنسي على جميع البلاد السورية، ولم تفعل الحكومة شيئًا! ، وأغرب من هذا أن بعض الموظفين في بلاط الملك سرق دفتر الخزينة الخاصة مرتين، ولم يشك أحد علم بذلك في سببه، ولم يُعاقَب، بل لم يُحاكَم، بل لم يجرِ في البلاط تحقيق بشأنه. وكان بعض الوزراء كيوسف بك العظمة (رحمه الله) يخص وزير الداخلية بالتقصير في إيقاف الأحزاب المعارضة عند حدها، فقلت لهم: كلا، إن هذا يُطلب من الوزارة كلها لا من الداخلية وحدها. أكتفي بهذه الخلاصة من بيان ضعفنا، وتعليل عدم نجاحنا؛ عسى أن نعتبر به في مستقبل أمرنا، وأعيد القول: بأن حكوماتنا كانت مع هذا خيرًا من حكومتَيْ المنطقتين الأُخْرَيين من بلادنا أمنًا، وعدلاً، ومساواةً، وتقدمًا في العلم، والاقتصاد، وسأتكلم في الفصل الآتي على المؤتمر.

أحوال العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحوال العالم الإسلامي لم يبقَ ريب ما في أن الشعوب الإسلامية قد استيقظت من رقادها السياسي الذي كاد يكون موتًا زؤامًا؛ وذلك بعد أن بلغ الضَّيْم فيها غايته بهذه الحرب الأخيرة، وأحيط بها أو كاد، ولا يزال الطامعون يحاولون الإجهاز عليها، والقضاء على ما بقي من ملكها؛ لئلا تحيا بهذه اليقظة حياةً جديدةً، تنال بها حريتها، وتحفظ حقيقتها، ولكنهم غير متفقين على قسمة الغنيمة، وشعوبهم تناقشهم الحساب على ما ينفقون في سبيل التوسع في الاستعمار، وسياسة الشعوب بقوة الحديد والنار؛ لأن هذه الحرب قد أكلت ثروتها، وضاعفت الضرائب عليها، فهذه فرصة يجب على الشعوب الإسلامية اغتنامها بتقوية أنفسها، وتعاونها فيما بينها وبين سائر الشعوب الشرقية المجاورة لها، والظاهر أن كلاًّ منها يبذل جهده بقدر ما يصل إليه علمه وقدرته. *** الأفغان وإننا نرى الشعب الأفغاني خيرًا من غيره، فهو لا يهاجم الآن، ولا يقاوم من الخارج، ولا شقاق يعرقل عمله في الداخل، وقد سلك طريقة الحياة المثلى؛ إذ جعل همه الأول في تنظيم القوة العسكرية، عالمًا أن خصمه لا يحترم غير القوة، ثم في التعليم، وتنمية الثروة؛ لأن القوة وسائر شؤون العمران متوقفة عليها، وهو - مع هذا - يعتصم بولاء إخوانه من الشعوب القريبة منه كالفرس والترك، ومن توفيق الله تعالى أن كان أميره في هذا الطور من أفضل أمراء الشرق علمًا وعقلاً وأخلاقًا وهمةً وحزمًا وعزمًا ودينًا. *** الفرس ويسوؤنا أن جاره (الشعب الإيراني) لا يزال مصابًا بالشقاق الداخلي الذي كان سببه الباطن تأثير التعاليم الإفرنجية، والدسائس الإنكليزية، والروسية جميعًا، فعسى أن يوفَّق في هذه الفرصة السانحة إلى جمع كلمته، واتفاق زعمائه على خطة واحدة، ينحون فيها نحو جيرانهم الأفغانيين. ونذكِّر الزعماء المختلفين أن دوام الخلاف - بإصرار كل فريقٍ منهم على تنفيذ رأيه دون غيره - أشد خطرًا على البلاد من الاتفاق على خطة يرى بعضهم أن فيها شيئًا من الخطأ؛ فإن الشقاق الداخلي أكبر المهالك. ولا سيما في مثل هذه الأيام والأحوال التي هم فيها. *** الترك أما الترك فهم على كَوْنهم قد استفادوا من العبر بهذه الحرب أكثر من غيرهم، وعلى كونهم لا يزالون أعظم استعدادًا من غيرهم لحماية حقيقتهم، والدفاع عن بيضتهم، وعلى انتفاعهم بعطف العالم الإسلامي كله - ولا سيما مسلمي الهند - عليهم، وعلى تسخير الله الدولة الروسية عدوتهم التاريخية الكبرى في عهد القياصرة إلى مساعدتهم، وعلى استفادتهم من الخلاف السياسي بين فرنسة وإنكلترة - هم على هذا كله - لا يزالون على خطر من إصرار الدولة البريطانية على ثل عرشهم (رفعه الله) وتقويض دعائم ملكهم (حماه الله) ، ولا تزال اليونان محتلة لجزء عظيم من بلادهم. وذلك يوجب عليهم من الحذق والدهاء في السياسة مع الاستعداد الحربي، ومن التفاني في الإصرار على الاستقلال المطلق، والحرص على استدامة صداقة الشعوب التي عطفت عليهم، والسعي لاكتساب مودة غيرها ما نرجو أن يكون فيهم من الرجال مَن يقوم به كله. *** مصر وأما مصر فقد استفادت من جهادها رفع الإنكليز للحماية الباطلة عنها، واعترافهم بالاستقلال والسيادة القومية لها، وتلا ذلك اعتراف الدول بذلك واحدة بعد أخرى، فصارت أقدر على الجهاد في سبيل إزالة الاحتلال الأجنبي عنها وعن سودانها الذي هو مصدر حياتها، إذا هي وحدت أحزابها، وعرفت كُنه قوتها، وإنما هي قوة سلبية اقتصادية، لا حربية، ولا عدوانية. *** العرب وأما سائر العرب فلا يزالون على ما شكونا منه من تفرقهم إلا أن إخواننا العراقيين قد أقروا أعيننا بما علمنا من اتفاق السواد الأعظم منهم على الاستقلال المطلق من قيود الحماية، والوصاية، والانتداب، وعجز الدسائس الأجنبية عن تفريق كلمتهم وعن خداعهم بجَعْل السيطرة عليهم مموّهة في شكل معاهدة، ولكن ساءنا غفلة الكثيرين منهم عما تبغيه من إيقاع العداوة، والبغضاء بينهم وبين جيرانهم النجديين، وما يجب من تحامي ذلك، والحذر من إلباسه لباس الدين، ونرجو أن يفطن لذلك سلطان نجد الحكيم، ويعلم أن الأجانب يخوفون العراقيين من عدوانه عليهم ليرضوهم ببقائهم تحت سيطرتهم العسكرية. وإننا نعتقد أن دينه وعقله يأبيان عليه أن يجعل نفوذه آلة حربية للأجنبي، يخضع بها أخصب بلاد العرب وأوسعها لسلطته، وهو لا يجهل أن استتباب السلطة الأجنبية في العراق، والشام خطر على استقلال نجد وسائر جزيرة العرب، وقاضٍ على كل سلطة للإسلام فيها، ولا سيما إذا امتدت فيها السكك الحديدية العسكرية، وقواعد الطيارات الحربية، التي تؤسسها السلطة البريطانية في العراق، وشرق الأردن من سورية، ولكن الحجازيين يجتهدون في بث الدعوة (البوربغندة) لتشويه سمعته، والطعن فيه وفي أهل بلاده، ويوهمون الناس أنهم وحوش ضارية يستحلون سفك الدماء بغير حق، فيعاقبون بالقتل على أقل ذنب، أو ما لا يعد عند غيرهم بذنب، وغير ذلك من الزور والبهتان والكذب، وقد راجت هذه الدسائس حتى في سورية، وفلسطين، ومصر. والحق أنه لا يوجد - فيما نعلم - من أمر بلاد الإسلام قطر يقام فيه الإسلام مثل نجد، سواء في ذلك الأعمال الشخصية والقضائية، أو بث الدعوة ومقاومة البداوة، وإلزام البدو بالعمران والحضارة، ومنعهم من الغزو والعدوان بغير حقٍّ، لأجل الارتزاق والكسب، وإنما يقاتل النجديين البدو لأجل هذا، ولم يتعدوا على حكومةٍ منظمةٍ لأجل فتح بلادها، وإنما أزالوا إمارة ابن الرشيد؛ لأنه لا يجوز أن يكون في قطرٍ واحدٍ حكومتان مختلفتان، وآل سعود هم الأمراء الشرعيون لهذه البلاد، وقد اختاروا في إزالتها أخف الضررين وهو الحصار. وأما اليمن فلا يزال العداء والشقاق بين إماميها يحيى والإدريسي مستمرًّا، والقتال آونة بعد أخرى مستحرًّا، وقد اتفق الثاني مع صاحب نجد وتحالفا فاشتد أزره، وكان صاحب الحجاز يطمع في جعْلهما تابعين له، ولو في السياسة على كونهما أقوى منه وأعز، ثم حاول الارتباط معهما بمحالفة هجومية دفاعية، وانتهى الأمر بوفاق اقتصادي، وهو لا يبلغه غرضه من تدويخ نجد، ولا يؤمنه تغلبها على الحجاز، ولا يرتاح - مع ذلك - على الصلح والاتفاق مع صاحبها؛ لأنه يخاف أن يبث دعوة التدين في سائر بدو الحجاز وحضره آمنًا، والبلاد مستعدة لذلك، ولا سيما الأعراب فيها، ولعله لولا رجاؤه في جمع قوته على قوة ولديه في العراق وشرق الأردن - للإحاطة بنجد، وإزالة سلطانها - لجنح إلى السلم، ورضي بالاتفاق، وهم يبثون الدعوة في هذه الأقطار الثلاث وما جاورها من سورية، ومصر تمهيدًا لذلك، ويعتقد أنهم إذا استولوا على نجد يتم له تأسيس الإمبراطورية العربية في ظل الدولة البريطانية، تنفيذًا لمقررات نهضته الرسمية! فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال ((يتبع بمقال تالٍ))

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار تعريف المنطق وعدم اطِّراد ما ذكروه من غايته بسم الله الرحمن الرحيم (س19) من صاحب الإمضاء في لنجة (الخليج الفارسي) حضرة المصلح الوحيد الإمام، والأستاذ العلامة الهمام، السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الأعظم لا زال كهفًا للأنام ومؤيدًا للإسلام وبعد: فقد اطَّلعنا على جوابكم عن إشكال بيت جرير، وكان الجواب كجواب حضرة الوالد حرفًا بحرفٍ، فحصل به اطمئنان الخاطر، ثم إنه عرض لي إشكالٌ، ولم أَرَ مَن تنبه له، ولا مَن أجاب عنه، فعرضناه على خليصكم، وشاكر إحسانكم الوالد، فأمرني باستجداء الجواب عن حضرتكم، فالمرجوّ كشف الغمة، لا زلتم كما أملتم. الإشكال هو أن مؤلفي فن المنطق اتفقوا في تعريفه بأنه (آله قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) واتفقوا - فيما أعلم - أن واضع هذا الفن الحكماء اليونانيون، وكوْنهم قائلين بقدم العالم على قدم، فلا يخلو من أمورٍ، إما عدم صحة التعريف، وإما ادَّعاء أن الواضعين لم يراعوها، وإما كونهم محقين في ذلك. على كلٍّ أزيلوا الإشكال، كما جعلكم الله تعالى كهفًا ومنارًا. (ج) إننا نجزم بأن ما ذكروه في تعريف المنطق لا يصح باطرادٍ، وأن حكماء اليونان وغيرهم ممن كانوا يحاولون إثبات العلوم العقلية بأنواعها حتى الإلهيات بتطبيقها على قواعد المنطق - لم يستطيعوا مراعاة أحكامه لا في التصورات، ولا في التصديقات، فتحديد الكليات التي يؤلَّف منها الحد، والرسم في التصورات، ومقدمات القياس، ولا سيما البرهان الذي عليه مدار صحة النتيجة في التصديقات - كلاهما من أعسر الأمور وأبعدها عن المنال، وليس خطؤهم محصورًا في قولهم بقدم العالم، بل هو غير محصور، على أنهم لم يكونوا يدَّعون أن كل مسألة من مسائل فلسفتهم، وقضية من قضايا علومهم من اليقينيات الثابتة بالبرهان، وأكثر ما كان يفيدهم المنطق في المناظرات، التي تقوم فيها المسلَّمات مقام اليقينيات. وبيان هذا بالتفصيل وتوضيحه بالأمثلة لا يتم إلا في مقالٍ طويلٍ، وحسبك أن تتأمل اليقينيات الست لتعلم ما يقع فيها من الغلط والتلبيس. ومثل علم المنطق في هذا علم الشرع، فإنك ترى الخطأ في تطبيق الأحكام الشرعية على الوقائع العملية كثيرًا جدًّا، وترى فهم الناس للأحكام يختلف باختلاف معارفهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، والعرف العام عندهم، حتى إنهم لَيستدلون بالحكم على ضد ما يدل عليه أحيانًا، كما هو شأنهم في البدع، فما من بدعة فشت إلا وأهلها يستدلون عليها بأدلة تشبه الشرعية، وما هي بشرعيةٍ، هذا شأنهم في نصوص الشرع الواضحة، ولم تصرفهم عنها قواعد أئمة العلماء الذين يدَّعون تقليدهم، كما بيناه في الفتوى الثانية من فتاوى المجلد الثاني والعشرين. *** إطلاق أسماء الله تعالى على بعض خلقه (س 20) من صاحب الإمضاء في بيروت حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى سلام الله عليكم وتحياته وبركاته وبعد: أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه وهو: ألفاظ تستعملها الناس عند مخاطبة العلماء والرؤساء، وأصحاب الرتب العالية كالسلاطين، والوزراء وغيرهم مثل: العليم. الحكيم. الرحيم. مولانا صاحب العظمة. صاحب السعادة. صاحب العزة. ولي النعم. رب الفضل وغير ذلك، فهل يجوز مخاطبة العبيد، ومدحهم بهذه الصفات، مع أنها من صفات الله سبحانه وتعالى أم لا. ... ... ... ... ... ... ... ... م. ط. ل (ج) أسماء الله تعالى منها ما هو خاص به عز وجل كاسم الجلالة (الله) و (الرحمن) ، و (الرب) بالتعريف وغيرها، فلا يجوز وصف غيره بها، ومنها ما هو غير خاص به كالرحيم، والعليم، والحليم، والحكيم، وقد وصف الله تعالى رسوله بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (التوبة: 128) ، وإبراهيم بالحليم، وكذا ولده إسماعيل إذ قال فيه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} (الصافات: 101) ، وولده إسحق بقوله: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} (الذاريات: 28) ، وآتى داود الحكمة، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} (البقرة: 269) ، ومن أوتيها كان حكيمًا، ومن هذه الألفاظ المشتركة في الاستعمال (المولى) قال تعالى - في رسوله صلى الله عليه وسلم -: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} (التحريم: 4) ، وأما صاحب العظمة وصاحب السعادة وصاحب العزة وولي النعم ورب الفضل، فلم يرد في الكتاب، ولا في السنة إطلاقها على الله تعالى، ولكن ورد {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} (الصافات: 180) ، وورد {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر: 10) ، وثم آيتان أخريان كهذه، وفي إسناده لله ولغيره قوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ، ووصف عرش بلقيس بأنه {عَرْشٌ عَظِيمٌ} (النمل: 23) . وكتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل، فوصفه بقوله: (عظيم الروم) ، وإلى المقوقس (عظيم القبط) ، وإلى غيرهما من الملوك والرؤساء بمثل ذلك، ويظهر أنه لا يجوز وصف غيره تعالى بعدة صفات من الصفات المشتركة إذا كان باجتماعها يعلم مَن سمعها أنها لا تجتمع لمخلوق، بحيث يظن إذا لم يعرف الموصوف بها أنها لله تعالى. *** لبس العمامة سنة أم لا؟ (س 21) ومنه: هل لبس العمامة سُنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي ذلك أحاديث صحيحة معتمدة أم لا؟ وهل مَن يلبَس العمامة يثاب على لُبسها؟ وهل العمامة البيضاء، والخضراء، والسوداء، والحمراء كلها سواء، أم أيها أفضل؟ (ج) ثبت في السنة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس العمامة تارة فوق القلنسوة، وهو الأكثر، وتارة بغير قلنسوة، وأنه كان يلبس القلنسوة تارة بغير عمامة، وأنه دخل مكة، وعليه عمامة سوداء. وورد أنه كان يرخي طرفها، وهو الذؤابة بين كتفيه، وأنه كان يلتحي بها تحت الحنك كما يفعل المغاربة، ولم يرد الأمر بلبسها على سبيل التدين والتشريع، فمَن اعتمَّ كما كان يعتم بنية التشبه به - صلى الله عليه وسلم - في لباسه حبًّا فيه عليه صلوات الله وسلامه كانت هذه النية مما يثاب عليه، وهكذا التشبه به - صلى الله عليه وسلم - في سائر عاداته، التي لم يقم الدليل على شرعها دينًا لنا، بشرط أن لا يتخذه دينًا؛ لأنه يكون حينئذٍ تشريعًا، وكل مباح يُفعل بنيةٍ صالحةٍ يثاب عليه المؤمن، وقد سبق هذا البحث في المنار من قبل فلا نطيل به. *** مؤلفات ابن تيمية وابن القَيِّم (س 22) ومنه: وهل مؤلَّفات الشيخ أحمد بن تيمية الحراني الحنبلي، والشيخ محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قَيِّم الجوزية صحيحة معتمدة يجوز العمل بها، أم لا؟ أفتونا مأجورين. (ج) : إننا لم نطلع على جميع مؤلفات ابن تيمية، وابن القيم، ونشهد على ما اطلعنا عليه منها أنها من أفضل ما كتب علماء الإسلام هدايةً، وتحقيقًا وانطباقًا على الكتاب والسنة، بل لا نظير لها فيما نعرفه من كتب المسلمين في مجموع مزاياها؛ فإنها أُلفت بعد فشوّ البدع في الأمة، وتعدد العلوم، وكثرة التآليف في المعقول والمنقول، وكان أكثر علماء المعقول مقصرين في علم السنة، وآثار السلف الصالح، وأكثر الحفاظ، وعلماء الرواية مقصرين في العلوم العقلية، فبعُدت الهوة بين الفريقين، وكثر الخلط والخبط في علوم الشرع، حتى جاء أول هذين الشيخين، فكان ممن جمع الله لهم بين سعة العلم والتحقيق في جميع العلوم النقلية والعقلية، من شرعية وروحية ولغوية، وعقلية مع جودة الحفظ وقوة الاستحضار، وملكة الاستنباط، ولا نعرف له نظيرًا في هذا الجمع، وقد خرَّج علماء كثيرين، كان الوارث الكامل له منهم ابن القيم، ولا سيما في العلوم الشرعية فكانت كتبهما كتب إصلاح، وجمع بين المعقول والمنقول وأقوى رد على جميع ما خالف السنة وسيرة السلف الصالح، لا نعرف لها نظيرًا في ذلك، فلو اهتدى بها المسلمون علمًا وعملاً لأماتوا البدع، وأحيوا السنن، وحسنت حالهم في دينهم ودنياهم، ولدخل الناس في دين الله أفواجًا. ولكنهما غير معصومين من الخطأ؛ فقد أنكرنا في تفسير هذا الجزء عبارة للأول تابع فيها غيره من غير أن يتنبه إلى حاجته إلى الاستقلال في الاستدلال عليها، وخالفنا الثاني في مسألةٍ إهداء ثواب الأعمال إلى الموتى في آخر تفسير سورة الأنعام. ولم يؤلف أحد كتابًا وافقه كل الناس على كل ما فيه، وخير الكتب ما قلَّ فيه الخطأ، على أن كثيرًا من المخطِّئين لغيرهم يكونون هم المخطئين، وغيرهم المُصيب، وما كل مَن أصاب بتخطئة غيره في مسألة أو أكثر - يكون أعلم منه مطلقًا ولا مثله، وإنما العصمة لمَن عصم الله فيما عصم. ولو شئنا أن نؤلف كتابًا حافلاً في فضل مؤلفات الشيخين وشدة حاجة الأمة إليها في هذا العصر لفعلنا. *** أكل الحرام كالربا والقِمَار وإرثه والعقاب عليه (س 23 و 24) - ومنه: رجل جمع مالاً من طرقٍ غير مشروعة كربا وقمار، ولعب بالبورصة (ما يسمونها بالكونتراتات) وغير ذلك، هل يجوز الأكل عنده، وإذا مات وترك أولادًا - يعلمون بحال أشغاله - فهل يكون المال حلالاً للأولاد بالميراث أم لا؟ ، وإذا مات رجل، وعليه ديون، ومظالم لأناسٍ، ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا فما حكمه يوم القيامة؟ وهل يعذَّب في قبره بسبب ذلك، أم عذابه في الآخرة؟ وإذا سامحه أرباب الديون والمظالم في الدنيا فهل يُرفع عنه العذاب؟ وهل يجوز مسامحته في ذلك يوم القيامة أم لا؟ تفضلوا بالجواب، ولكم من الله عظيم الأجر والثواب. (ج) : مَن علم أن مال زيد مِن الناس حرام كله لم يجُز له أن يأكل من طعامه، ولا أن يعامله بهذا المال، ولكن قلما يوجد أحد جميع ماله حرام، ومن ترك لأولاده مالاً يعلمون أنه مغصوب أو مسروق مثلاً، ويعرفون أصحابه فالواجب عليهم رده إليهم. وأما ما لا يُعرف له مالك، والمأخوذ بالعقود الفاسدة شرعًا - كالربا والمضاربات - فيملكونه، وإن كان في الفقهاء مَن يقول بأنها لا تفيد الملك للمتعاقدين بها، فهذا لا يسري إلى مَن تنتقل إليه منهم بسبب شرعي صحيح كالإرث، ولا سيما إذا كان مختلطًًا بغيره غير متميز، فعلى هذا لا يأثم ورثة هذا الميت بأخذ ما تركه لهم إذا لم يقتدوا به في أكل الحرام. والله تعالى يأخذ من حسنات مَن مات وعليه حقوق للناس أو يحمّله من سيئاتهم يوم القيامة، إلا أن يحلّوه منها، وتقدم في تفسير هذا الجزء حديث صحيح في ذلك، وإذا عفا أصحاب الحقوق عنه فعفو الله تعالى عن حقه بمخالفة شرعه أرجى؛ فهو مرجوٌّ غير مقطوع به، ويجوز أن يعذبه عليها في الآخرة، ولم ير أنها سبب لعذاب القبر. هذا جواب إجمالي بالمشهور عند العلماء في المسألتين، والأولى تحتمل بحثًا طويلا في مسألة المال الحرام المختلط بالحلال، نذكر منه على سبيل المثال ما تشتد الحاجة إلى معرفته، فنقول إن مَن علم أن بعض مال زيدٍ حلال، وبعضه حرام، وتميز عنده أحدهما من الآخر وجب عليه اجتناب ما علم أنه حرام كمَن علم أن زيدًا سرق شاة أو ديكًا روميًّا، ودعاه إلى العشاء معه منه، فلا يجوز له أن يجيبه، كما لا يجوز له أن يشتري منه ذلك ويأكله، وأما إذا تعذر تمييز الحلال من الحرام - كالذي يقرض ماله الحلال في الأصل بالربا - فهل يغلب الحرام فيجتنب جميع ماله، أو الحلال فيعد الحرام كأنه غير موجود؟ .

تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد

الكاتب: محمد بن إسماعيل الصنعاني

_ تطهير الاعتقاد عن أدران الإلحاد [1] وقد يعتقدون في بعض فَسقة الأحياء، وينادونهم في الشدة والرخاء، وهو عاكفٌ على القبائح [2] ، لا يحضر حيث أمر الله عباده المؤمنين بالحضور هناك، ولا يحضر جمعة ولا جماعة، ولا يعود مريضًا، ولا يشيع جنازة، ولا يكتسب حلالاً، ويضم إلى ذلك دعوى التوكل، وعلم الغيب، ويجلب إليه إبليس جماعة قد عشَّش في قلوبهم، وباض فيها، وفرَّخ، يصدقون بهتانه، ويعظمون شأنه، ويجعلون هذا ندًّا لرب العالمين ومثلاً، فيا للعقول أين ذهبت، ويا للشرائع كيف جهلت، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) . فإن قلت: أفيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلفاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ ! ، قلت: نعم، قد حصل منهم [3] ما حصل من أولئك، وساوَوْهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد، والانقياد، والاستعباد، فلا فرق بينهم. فإن قلت: هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى، ولا نجعل له ندًّا، والالتجاء إلى الأولياء ليس شركًا، قلت: نعم {يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (آل عمران: 167) ، لكن هذا جهلٌ منهم بمعنى الشرك؛ فإن تعظيمهم الأولياء، ونحرهم النحائر لهم شرك، والله تعالى يقول: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الكوثر: 2) ، أي لا لغيره كما يفيده تقديم الظرف، ويقول تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقد عرفت - بما قدمنا قريبًا - أنه سمى الرياء شركًا، فكيف بما ذكرناه؟ ! فهذا الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعله المشركون، وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئًا؛ لأن فعلهم أكذب قولهم. فإن قلت: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه، قلت: قد خرَّج الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن مَن تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها، وهذا دال [4] على أنهم لا يعرفون حقيقة الإسلام، ولا ماهية التوحيد، فصاروا حيئنذٍ كفارًا كفرًا أصليًّا، فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة: {أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ} (هود: 26) ، وإخلاصها: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة: 5) الآية، ومَن نادى الله ليلاً ونهارًا وسرًّا وجهارًا وخوفًا وطمعًا، ثم نادَى معه غيره - فقد أشرك في العبادة؛ فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادةً في قوله تعالى: { ... إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} (غافر: 60) بعد قوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ... } (غافر: 60) . فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم، والسلوك فيهم ما سلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المشركين، قلت: إلى هذا ذهب طائفة من أئمة العلم، فقالوا: يجب أولاً دعاؤهم إلى التوحيد، وإبانة أن ما يعتقدونه ينفع ويضر لا يُغني عنهم من الله شيئًا، وأنهم أمثالهم، وأن هذا الاعتقاد منهم فيهم شركٌ، لا يتم الإيمان بما جاءت به الرسل إلا بتركه، والتوبة منه، وإفراد التوحيد اعتقادًا وعملاً لله وحده. وهذا واجب على العلماء، (أي) بيان أن ذلك الاعتقاد الذي تفرعت عنه النذور، والنحائر، والطواف بالقبور شرك محرم، وأنه عين ما كان يفعله المشركون لأصنامهم، فإذا أبانت العلماء (ذلك) للأئمة والملوك وجب على الأئمة والملوك بعْث دعاة إلى إخلاص التوحيد، فمَن رجع وأقر حُقن عليه دمه وماله وذراريه، ومَن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله - صلى الله عليه وسلم - من المشركين. (فإن قلت) : الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث؛ فإنه قد صح أن العباد يوم القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، وينتهون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد اعتذار كل واحد من الأنبياء، فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكرٍ، قلت: هذا تلبيس؛ فإن الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء - فيما يقدرون عليه - لا ينكرها أحد؛ وقد قال الله تعالى - في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي -: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} (القصص: 15) ، وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم، وطلبهم منهم أمورًا لا يقدر عليها إلا الله تعالى من عافية المريض وغيرها، بل أعجب من هذا أن القبوريين وغيرهم من الأحياء ومن أتباع مَن يعتقدون فيه - يجعلون له حصة من الولد إن عاش، ويشترون منه الحمل في بطن أمه ليعيش، ويأتون بمنكراتٍ ما بلغ إليها المشركون، ولقد أخبرني بعض مَن يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية نسائه، وقال (هذه لسيِّده فلان) - يريد صاحب القبر - نصف مهر ابنتي؛ لأني زوَّجتها، وكنت ملَّكت نصفها فلانًا - يريد صاحب القبر -[5] ، وهذا شيء ما بلغ إليه عُبَّاد الأصنام، وهو داخل تحت قول الله تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ} (النحل: 56) بلا شك ولا ريب، نعم استغاثة العباد يوم القيامة، وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالى يفصل بين العباد بالحساب حتى يريحهم من هول الموقف، وهذا لا شك في جوازه (أعني) طلب الدعاء لله تعالى من بعض عباده لبعض، بل قال صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه - لما خرج معتمرًا: (لا تنسنا - يا أخي - من دعائك) وأمرنا سبحانه أن ندعو للمؤمنين، ونستغفر لهم، يعني قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) وقد قالت أم سليم - رضي الله عنها -: (يا رسول الله، خادمك أنس ادعُ الله له) ، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يطلبون الدعاء منه صلى الله عليه وسلم، وهو حي، وهذا أمر متفق على جوازه، والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا، ولا حياة ولا نشورًا - أن يشفوا مرضاهم، ويردوا غائبهم، وينفّسوا على حُبْلاهم، وأن يسقوا زرعهم، ويدرّوا ضروع مواشيهم، ويحفظوها من العين، ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى! - هؤلاء الذين قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} (الأعراف: 197) ، {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) ، فكيف يُطلب من الجماد أو من حي، الجماد خير منه؛ لأنه لا تكليف عليه، وهذا يبين ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} (الأنعام: 136) الآية، وقال {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} (النحل: 56) فهؤلاء القبوريون، والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم - سلكوا مسالك المشركين حذو القُذَّة بالقذة، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يُعتقد إلا في الله، وجعلوا لهم جزءًا من المال، وقصدوا قبورهم من ديارهم للزيارة، وطافوا حول قبورهم، وقاموا خاضعين عند قبورهم، وهتفوا بهم عند الشدائد، ونحروا تقربًا إليهم، وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك، ولا أدري هل فيهم مَن يسجد لهم؟ ! ، لا أستبعد أن فيهم مَن يفعل ذلك، بل أخبرني مَن أثق به أنه رأى مَن يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي يقصده؛ تعظيمًا له وعبادة ويقسمون بأسمائهم! ، بل إذا حلف مَن عليه حق باسم الله تعالى لم يُقبل منه! ، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه، وهكذا كانت عباد الأصنام! ؛ {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) وفي الحديث الصحيح: (مَن حلف فليحلف بالله أو ليصمت) وسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يحلف باللات فأمره أن يقول: لا إله إلا الله، وهذا يدل على أنه ارتد بالحلف بالصنم، فأمره أن يجدد إسلامه؛ فإنه قد كفر بذلك، كما قررنا في (سبل السلام شرح بلوغ المرام) ، وفي (منحة الغفار) : فإن قلت: لا سواء، لأن هؤلاء قد قالوا: لا إله إلا الله، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ، وقال لأسامة بن زيد: (قتلتَه بعد ما قال لا إله إلا الله؟ !) ، وهؤلاء يصلُّون، ويصومون، ويزكّون، ويحجون بخلاف المشركين، (قلت:) قد قال صلى الله عليه وسلم (إلا بحقها) ، وحقها إفراد الألوهية، والعبودية لله تعالى، والقبوريون لم يفردوا هذه العبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة؛ فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، ولم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء، وكذلك مَن جعل غير مَن أرسله الله نبيًّا لم تنفعه كلمة الشهادة؛ ألا ترى أن بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويصلون، ولكنهم قالوا: إن مسيلمة نبي، فقاتلهم الصحابة، وسَبوهم، فكيف بمَن يجعل للولي خاصة الإلهية، ويناديه للمهمات، وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حرَّق أصحاب عبد الله بن سبأ، وكانوا يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولكن غلَوْا في علي - رضي الله عنه - واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريون، وأشباههم، بل عاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدًا من العصاة؛ فإنه حفر لهم الحفائر، وأجَّج لهم نارًا، وألقاهم فيها، وقال: إني إذا رأيتُ أمرًا منكرًا ... أججت ناري ودعوت قنبرَا وقال الشاعر في عصره: لترمِ بي المنيةُ حيث شاءت ... إذا لم ترمِ بي في الحفرتين إذا ما أججوا فيهن نارًا ... رأيت الموت نقدًا غير دين والقصة في فتح الباري وغيره من كتب الحديث والسير، وقد وقع إجماع الأمة على أن مَن أنكر البعث كفر، وقُتل، ولو قال لا إله إلا الله، فكيف (مَن) يجعل لله ندًّا، فإن قلت: قد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة قتله لمَن قال لا إله إلا الله، كما هو معروف في كتب الحديث والسيرة، قلت: لا شك أن مَن قال: لا إله إلا الله من الكفار حقن دمه وماله، حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله؛ ولذا أنزل الله في قصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} (النساء: 94) الآية، فأمرهم الله تعالى بالتثبُّت في شأن مَن قال: كلمة التوحيد، فإن التزم لمعناها كان له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم، وإن تبين خلافه لم يحقن دمه وماله بمجرد التلفظ، وهكذا كل مَن أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك، فإذا تبين لم تنفع هذه الكلمة بمجردها؛ ولذلك لم تنفع اليهود، ولا نفعت الخوارج، مع ما انضمَّ إليها من العبادة التي يحتقر الصحابة عبادتهم إلى جنبها، بل أمر صلى الله عليه وسلم بقتلهم، وقال: (لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قتل عاد) وذلك لما خالفوا بعض الشريعة، وكانوا شر القتلى تحت أديم السماء كما ثبتت به الأحاديث، فثبت أن مجرد كلمة التوحيد غير مانع من ثبوت شرك مَن قالها لارتكابه م

الخلافة الإسلامية ـ 5

الكاتب: محيي الدين آزاد

_ الخلافة الإسلامية ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية (5) فصل الجماعة والتزام الجماعة وفي هذا الحديث - الذي نحن بصدده - أمر مهم يستحق أن نتأمل فيه، وهو أن الشريعة نصَّت على أن الحياة الإسلامية إنما هي في التزام الجماعة وطاعة الخليفة، والحياة الجاهلية في الانحراف عنها، ولقد أوضح القرآن أن الجاهلية هي التفرق والتشتت، وانتشار الكلمة، وعدم الاجتماع على مركزٍ واحدٍ، وأن الحياة الإسلامية هي الحياة الاجتماعية، والاتحاد، والائتلاف بين الأمة، واجتماع الآحاد المنتشرة؛ قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} (آل عمران: 103) إلخ. فالجاهلية الفرقة، والإسلام الجماعة؛ ولذا أكد النبي - عليه الصلاة والسلام- مرة بعد مرة أن مَن يحيد عن الجماعة، وينزع يده عن طاعة الخليفة، يكاد يخرج من الإسلام، وتكون ميتته على الجاهلية لا على الإسلام، وإن صلى وصام، وزعم أنه مسلم. وها هي ذي بعض الأحاديث الصحيحة المشهورة في هذا الباب: قال صلى الله عليه وسلم: (مَن أطاعني فقد أطاع الله، ومَن أطاع أميري فقد أطاعني، ومَن عصى أميري فقد عصاني) رواه البخاري، ومسلم عن أبي هريرة، وفي رواية أخرى لمسلمٍ: (مَن أطاع الأمير) أي أطاع إمام المسلمين، وقال: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة) (البخاري ومسلم عن أنس) . يظهر أن هذه الجملة كثيرًا ما كان يكررها صلى الله عليه وسلم، ولا سيما في خطبه؛ ولذا تجدها مرويةً بألفاظٍ مختلفةٍ، ونُسبت إلى مواقع مختلفة، وقد قال يوم الحج الأكبر - في حجة الوداع التي كانت مشهدًا عظيمًا للمسلمين، والتي لم يعش صلى الله عليه وسلم بعدها إلا بضعة أشهر -: (ولو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب الله، اسمعوا وأطيعوا) (مسلم) . وقال: (مَن خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات مات مِيتة جاهلية) وفي لفظ: (فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرًا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية) (متفق عليه) ، ومعلوم أن الجاهلية كانت قبل الإسلام، فمعنى الحديث: أنه مات على ضلالة عرب الجاهلية - والعياذ بالله! - وفي رواية عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) : (مَن خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومَن مات وليس في عنقه بيعةٌ مات ميتة جاهلية) . وقال: (مَن فارق الجماعة شبرًا فكأنما خلع رِبْقة الإسلام من عنقه) (الترمذي) ، وفي رواية: (دخل النار) (أخرجها الحاكم على شرط الصحيحين) . وقال: (كانت بنو إسرائيل تسوسُهم الأنبياءُ، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاءُ، فيكثُرون، قالوا: فما تأمرنا؟ ، قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأَعطوهم حقَّهم، فإن الله يسألهم عما استرعاهم) (متفق عليه) . وغير هذا كثير من الأحاديث التي لا تُحصى، وشواهد الإجماع ونصوص كتب العقائد والفقه لسنا في حاجة إليها بعد الحديث. *** فصل في شروط الإمام والخلافة إذا استقصيت نصوص الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة - تعلم أن الشريعة الإسلامية اعتبرت الإمامة والخلافة على شكلين متضادين، واحد منهما أصلي ومطلوب، والثاني اضطراري. وبيان هذا أن الشكل الأصلي المطلوب هو انتخاب الأمة خليفتَها بحيث تجتمع آحادها، وأهل الحل والعقد والرأي والبصيرة منها، فيتباحثون ويتشاورون طبقاً للآية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، ثم ينتخبون الخليفة مراعين فيه شروط الخلافة الشرعية، ومقاصدها الأساسية، غير ناظرين إلى الوجاهة الذاتية والجنسية النسبية [1] ؛ إذ الشريعة تعتبر في الانتخاب شورى الأمة، لا جنسية الخليفة وعشيرته ونسبه، وقد تأسست الخلافة الراشدة على هذا الأساس الجمهوري، فالخليفة الأول انتخبته الأمة مباشرة، والخليفة الثاني انتخبه الخليفة الأول [2] ، ورضي به أهل الحل والعقد من الأمة، والخليفة الثالث انتخبته جماعة الشورى، والرابع بايعته الجماعة بأسرها، فانتخاب هؤلاء الخلفاء الأربعة كان انتخابًا شرعيًّا وجمهوريًّا، ولم تُراعَ فيه الجنسية، والقبيلة، والعهد البتَّة، ولو رُوعي فيه شيء من هذا القبيل لَبقيت الخلافة في بيت الخليفة الأول، ولم تخرج منه إلى آخر الدهر، ولكن لم يكن شيء من ذلك، بل لم يدَع الخليفة الثاني مجالاً للأمة في أن تنتخب ابنه خليفة؛ لأنه منع، وأوصى بذلك وصيةً حين احتضاره - رضي الله عنه وعنهم أجمعين -. فإذا كان الأمر على هذا النهج الجمهوري، واستطاعت الأمة انتخاب خليفتها- فقد شرطت الشريعة فيه شروطًا تُراعَى عند الانتخاب: وأما الشكل الثاني: وهو إذا تغلب متغلب بقوته وعصبيته على الخلافة، ولم يترك مجالاً للانتخاب؛ فحينئذٍ ماذا يجب على الأمة إذا كان المتغلب غير أهل لها وظالمًا، وفاقدًا لشروطها؟ ، فهل يجب عليها أن تخرج عليه وتقاتله؟ ، أم يجب عليها أن تطيعه، وتنقاد له، وتؤدي إليه الزكاة، وتقيم وراءه الجمعة والجماعة، وتعمل تحت سيطرته سائر الأعمال التي لا تتم إلا بوجود الخليفة والإمام؟ لما كانت هذه المسألة أهم المسائل الحيوية، وأساس حياة الأمة الاجتماعية - لم تكن الشريعة لتغفل عنها، وتترك الأمة بلا هداية، ولا بصيرة فيها؛ ولذا تجدها قد اهتمت بها أشد الاهتمام، وبينتها بيانًا وافيًا بعبارات واضحة ونصوص صريحة؛ ومن أجل ذا لم يتردد الصحابة - رضوان الله عليهم - في تعيين خطتهم لما قامت الخلافة الأموية الاستبدادية بعد انقراض الخلافة الراشدة، فعاملوها معاملة واحدة، كأنهم كانوا عينوها من قبل، وصارت تلك المعاملة سُنَّة لمَن بعدهم، وأجمعت الأمة على استحسانها، واتخذتها خطة اجتماعية لها، نعم، قد اختلف بعض الفرق الإسلامية في الشكل الأول للخلافة، ولكن لم يختلف أحد منهم في الشكل الثاني لا قولاً ولا عملاً [3] . وقد شرطت الشريعة في الشكل الأول الجمهوري شروطًا بالغة في الكمال منتهاه، وأوجبت على الأمة أن تنظر في الخليفة كل الأمور التي تلزم لهذا المنصب الرفيع، ولهذه المسئولية العظيمة، وقد اشتهرت شروط الخلافة هذه اشتهارًا عظيمًا، حتى إنك تجدها في عامة كتب العقائد والفقه التي يتداولها طلبة العلم في المدارس الدينية، فترى فيها: (ويُشترط أن يكون) الخليفة (من أهل الولاية المطلقة الكاملة، بأن يكون مسلمًا، حرًّا، ذكرًا، عاقلاً، بالغًا، سائسًا بقوة رأيه، ورويَّته، ومعونة بأسه وشوكته، قادرًا بعلمه وعدالته وكفايته وشجاعته على تنفيذ الأحكام، وحفظ حدود الإسلام، وإنصاف المظلوم من الظالم، عند حدوث المظالم ... ) إلخ، راجع شرح المواقف، والنسفي، والتمهيد، وشرح الفقه الأكبر للقارئ، وشرح المقاصد، ومن كتب المحدثين شرح عقيدة ابن عقيل، وفتح الباري، وشرح منظومة الآداب، وخلاصة ابن مفلح، ونيل الأوطار ووبل المرام للشوكاني، والإقناع وشرحه وغيرها من الكتب. وأما شرط القرشية ففيه اختلاف [4] ، وقد كان يقول به أكثر العلماء والفقهاء إلى زمن الدولة العباسية، وبعدها بيسير (سنة 640 هـ سنة 1243م) لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الأمر في قريش) ولذا ذهبت الإمامية إلى أن الخليفة يجب أن يكون من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ونقول على هذه القاعدة إن الخلافة لعلي - عليه السلام -، ثم لأئمة العِتْرَة - رضوان الله عليهم أجمعين - وذهبت الزيدية إلى أن الخلافة في بني فاطمة كلهم، ولا خصوصية فيها لأئمة أهل البيت، فالإمامية تَشْترط في الخليفة - مع سائر الشروط المذكورة آنفًا - أن يكون من أهل البيت النبوي، والزيدية توسع فيها وتقول كل بني فاطمة أهل للخلافة، وهم يستحقونها دون غيرهم. ولا تنسينَّ أن هذا الاختلاف في الشكل الأول، أما في الشكل الثاني - أي إذا لم تقدر الأمة على انتخاب الخليفة لتغلُّب المتغلِّبين - فلا خلاف فيه بين المسلمين لكثرة الأحاديث الصحيحة، وإجماع الصحابة، وأئمة أهل البيت في هذا الباب؛ ولذا ترى الأمة قد اتفقت كلمتها على أنه إذا استولى مسلم بقوته وشوكته وعصبيته على الخلافة - وتمكن فيها، وقامت حكومته، وقوي أمره - وجب على الأمة أن تطيعه، وتسمع له، وتخضع لخلافته مثل ما لو كان أصابها بحق، ولا يجوز لأحد الخروج عليه، والقيام على وجهه، ومَن يفعل ذلك يقاتله المسلمون، ويعينون الخليفة عليه، مهما كان الخارج ذا فضل وصلاح وأهلية؛ لأنه مفارق للجماعة، وخارج على السلطان [5] . هذا هو حكم الشريعة في هذه الصورة، وحكمته واضحة جليَّة، وهي أن قيام الشريعة وبقاء الأمة يتوقف على الحكومة القوية؛ إذ هي أساس للحياة الاجتماعية، وقد جعلت لها الشريعة نظامًا في غاية من الكمال والجودة، فخولت للأمة حق انتخاب الأمير، وجعلت الشورى أساسًا للانتخاب، وشرطت شروطًا في الأمير، ولم تعتمد في الإمارة على امتيازات الجنس والعصبية والملوكية، بل جعلتها حرة وجمهورية محضة لا يشوبها الاستبداد والضغط أبدًا، ثم حذرت الناس من أن يتصدوا لها، ويرشحوا أنفسهم لأجلها، وينافسوا فيها، ويتطلعوا إليها، فيقاتلوا، ويحاربوا عليها، ويسفكوا الدماء في سبيلها، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع الناس على هذا، فيقول: (لا ينازع الأمر أهله) [6] هذه كلمة صغيرة في ظاهرها، كبيرة في ذاتها، وكافية لإبطال الحروب والمنازعات بأسرها، وقد بوَّب البخاري في صحيحه عليها بابًا فقال: (باب ما يُكره من الحرص على الإمارة) ، وروى فيه حديث أبي موسى الأشعري قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّا لا نولي هذا الأمر مَن سأله، ولا مَن حرص عليه) ، وكان الغرض من هذا التحذير والمنع؛ لأن الناس إذا لم يحرصوا عليها سهل للأمة انتخاب الأصلح والأهل لها. هذا هو النظام الحقيقي الذي جعلته الشريعة للخلافة الإسلامية، ولو بقي معمولاً به لصلحت الدنيا كلها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنه لا يدوم أكثر من ثلاثين سنة، فبيَّن للأمة ما يجب عليها عندما ينهدم ذلك، ويحل محله الاستبداد والقهر. لنفحص المسألة فحصًا جيدًا؛ لنرى أية خطة أحسن عند تغلب المتغلبين على الخلافة؛ فإن هنا خطتين: (إحداهما) أن يقبل الاستبداد، ويخضع له صيانةً للجماعة، وحفظًا لنفوس الأمة، وذَوْدًا عن البلاد الإسلامية من الأعداء، وصونًا لأوامر الشريعة من التعطيل وغيرها كثير من المصالح العامة، ولا تنسَ أن هذه الحكومة، وإن كانت مستبدة قاهرة إلا أنها إسلامية تغار على الدين، وترفع شأن الأمة في نظر الأعداء، نعم تنتقل الحكومة الإسلامية في هذه الصورة إلى مستبد تغلَّب عليها، ولم يبالِ بالنظام الشرعي لها، ولا ريب في أنه تنشأ عن هذا مفاسد كثيرة [7] . وأما الخطة الثانية: فهي أن يقاتل المتغلب، ويخرج عليه، وترد الخلافة على مَن هو أصلح لها منه، ولكن إذا فعل ذلك جرت الدماء أنهارًا في حروب تشيب من هولها الولدان، واختلَّت المصالح العامة، وتزلزلت الهيئة الاجتماعية، وبطل الأمن، وعمت الف

كوارث سورية في سنوات الحرب ـ 6

الكاتب: شكيب أرسلان

_ كوارث سورية في سنوات الحرب من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان (6) ثم لا ينبغي أن ننسى أن لجبل لبنان علةً ثانيةً زادته وبالاً على وبال، وهي ولوع أهله بتربية التوت، وترفيههم هذه الشجرة ما استطاعوا إليه سبيلاً، وهم معذورون في ذلك؛ لأن الجبل بضيق أراضيه ووعورتها لا يُلام أهله في اعتمادهم على التوت الذي منه الحرير، وهذا القليل منه يغني عن الكثير من غيره، ولكن حال الحرب ليست كحال السلم، فلما نشبت الحرب العامة نسوا أن البحر سيصبح مسدودًا في وجههم، وأن البر من الداخل ستقل فيه المزروعات بسبب ذهاب الشبان كلهم إلى العسكرية، وأخذ الجيش للبقر والجِمال، وربما لم ينتظروا أن يكون أمد الحرب سنوات متعددة، بل ظنوه بضعة أشهر، فلم يعملوا شيئًا من الحيطة لأنفسهم، وبقوا يعاملون التوت كالأول، وكما لو لم تكن حرب، ويأبون أن يزرعوا ببر شجره قمحًا أو شعيرًا؛ لئلا يلحق من ذلك ضعف بالشجر، وكذلك بين شجر الزيتون وغيره من الأشجار، وظنوا في أنفسهم أن الدولة لا بد أن تميرهم من حوران والشام وحلب وغيرها. وكانوا يقولون: إن السلطان بلاده واسعة؛ فلا يعجز أن يبعث إلينا بحاجتنا من الحبوب، وفاتهم أن أكثر بلاد السلطان بعيدة عنهم، وأنه لا يربطها بهم سوى خط حديدي واحد، لا يقدر أن يقوم بنقل مئات الألوف من العساكر مع مدافعها وأثقالها، وبشحن جميع لوازم الأهالي، وأن رجال العسكرية في الحرب لا يقدمون شغلاً على شغل الحرب، غفلوا عن هذه الأمور، وتوهَّموا أحوال الحرب كأحوال السلم، فقتلهم الجهل، وعندي ألوف من الشهود من أهل الجبل أنني من أول الحرب، حتى من قبل خوض الدولة غمراتها، كنت أطوف على اللبنانيين وأعظهم وأبصرهم العواقب قائلاً لهم: ازرعوا جميع أراضيكم، ولا تعفوا، ولا على ما يتخلل منها التوت أو الزيتون، فإن الأهم يتقدم على المهم، وإني أخشى بشدة ترفيهكم لأشجاركم أن تموتوا جوعًا، والشجر ليس بأغلى من البشر، فلم يستبينوا النصح إلا ثالث سنة، عندما مستهم اللأْواء، ورأوا أنفسهم هالكين إن لم يفعلوا، ولكن كان الضعف يومئذٍ قد استولى على كل شيء، ونضبت أكثر موارد الإنفاق فلم يبقَ من قوة لزرع جميع تلك الأراضي التي لو زرعوها من أول سنة مع ما ينالها من الري الوافي لجاءت بغلال تحجب عين الشمس، ولكانت قوة لهم للسنين الشديدة التي جاءت فيما بعد، فأنت ترى أن الجهل بأحوال الحروب وبعواقبها، والاعتقاد بكوْن الدولة تقدر على كل شيء - كانا من أسباب هذه المصيبة الكبرى، وكيف تقدر الدولة أن تطعمهم كفايتهم، وقد عجزت في الآخر عن إطعام جيشها، وكان الجوع من أفعل الأسباب في فشل الدولة بالحرب، ولقد علم القاصي والداني كيف كانت الألوف تفرُّ من الجيش العثماني في فلسطين من قلة القوت، وكيف كانوا فيه يقتاتون الحشائش، ويموتون ألوفًا من سوء التغذية، وكيف كان الولاة بأنفسهم يذهبون إلى جبل الدروز بأيديهم الذهب الرنَّان الأصفر، يعرضونه على أهله؛ ليأخذوا بدله ما يميرون به العسكر، وكثيرًا ما كانوا يخفقون في سعيهم، وبقيت الأقوات مدة مديدة ترد على جيش فلسطين من قونيه من قلب الأناضول، وذلك لخُلُوّ سورية ثم حلب ثم أطنه نفسها مما يكفي الجيش والأهالي معًا، فالذي يقصد (التجويع) لا بد أن يكون هو شبعان لا جائعًا، وإلا فلا يكون قصد التجويع، بل يكون أُصيب هو بالجوع، وعجز عن الميرة، ومَن عجز عن كفاية نفسه فهو عن كفاية غيره أعجز، وربما قيل ما دامت الأناضول فيها أرزاق، فلماذا بخلت بها الدولة على أهل سورية، والجواب لم يكن في الأناضول أرزاق تفيض عن حاجة أهلها، بل اشتد الغلاء في كثير من ديار الأناضول، ووقعت المجاعة في القسم الشرقي منه، ومات مئات ألوف من أهله جوعًا، وكثير من السوريين الذين كانوا منفيين في الأناضول، ولا سيما في جهات سيواس وطوقات يشهدون بذلك، فإن قلنا: إن الأتراك أماتوا نصارى لبنان تجويعًا لمحبتهم فرنسا، فقد مات ألوف مؤلفة من مسلمي سورية من الجوع، أو من الأمراض الناشئة من فقد الغذاء والدواء (وأكثر الموت الذي وقع في لبنان هو أيضًا بالأمراض الناشئة عن ذلك، ومات بعض بالجوع رأسًا) ، فهل قتلت الدولة هؤلاء المسلمين أيضًا لحبهم لفرنسا؟ ، وإن رد بأنها تعمدت قتل هؤلاء لكونهم عربًا، فهل تتعمد قتل أتراك الأناضول ومهاجري أرضروم ووان وبتليس ... إلخ وهم أتراك وأكراد وجميع ارتكانها هو عليهم؟ وهل كان هؤلاء الأتراك والأكراد إلى تلك الدرجة ذائبين في حب فرنسا، حتى قتلتهم الدولة؟ ! وإذا كانت الموصل - التي هي من أخصب بلاد الله وأوفرها زرعًا وأدرّها ضرعًا - بلغ من شدتها أثناء الحرب أن أكل الناس فيها لحوم البشر! ، فهل يعجب الإنسان من أن تمس المجاعة أهل جبل لبنان، الذي أكثره صخور صمَّاء، وأتربة جرداء؟ ! كنا في الآستانة سنة 1917 و 1918، وكان كثير من الفقراء فيها يموتون جوعًا، وهي عاصمة الملك، وكان الأغنياء يوزَّع عليهم الخبز الأسود المجهول الماهية بمقادير قليلة! ، ولولا فتح ألمانيا وحلفائها بلادَ رومانيا الغنية بالحنطة والذرة، وجلب الأتراك منها ما نفَّس قليلاً من خناق الآستانة - لم يكن أحد يعلم ماذا كانت تئول إليه حالة الإعاشة في نفس العاصمة. مع هذا كله يوجد كثيرون ممن يقرؤون كلامي هذا سيتميَّزون من الغيظ لاجتهادي في إثبات كون المجاعة في سورية حصلت من حالة الحرب الطبيعية وبتواليها بضع سنين، وبالحصر البحري المحكم، وأن مثلها وأشد منها قد أصاب بلادًا أخرى من ممالك الدولة العثمانية ومن غير الممالك العثمانية، مثل: مكدونية والصرب أو بولونية وروسية، ولولا كثرة الخطوط الحديدية لقلنا النمسا وألمانيا.. إلخ، ويقولون: لماذا أحاول أن أنفي كون الأتراك جوَّعوا أهل لبنان عمدًا وتصميمًا لمجرد حبهم لفرنسا، ولكون أكثرهم نصارى، فهذه الإشاعة يحبون أن تبقى سارية ماشية رائجة، وهذا الحجاب يودون لو يبقى دائمًا - على حقيقة الحال- مسدولاً كُرهًا بالدولة السابقة في سورية، وتحببًا وتقربًا إلى الدول المحتلة. والجواب أن الحق يجب أن يعلو ولا يُعلَى، وإذا كانوا هم يبغضون الأتراك فليبغضوهم ما شاءوا، ولكن ليحبوا الحق الذي لا يجوز أن يُجحد بغضًا بزيد، ولا حبًّا بعمرو. والأتراك لهم سيئات كثيرة، وجمال باشا أتى أعمالاً ذكرناها، وقبَّحناها، ولكن ذنب التجويع هذا هم أبرياء منه، فإن كان لبعض الناس أغراض سياسية في ديمومة هذه الإشاعة إما تزلُّفًا إلى الحلفاء، وإما تمهيدًا للعُذر من النفور من كل حكومة إسلامية ... بدعواهم كون الحكومة العثمانية قتلت بالجوع ألوفًا من مسيحيي لبنان ... فهذه الأغراض السياسية ليست عندنا، لا بل يجب علينا أن نبينها، ونشرحها، وننبه إلى خطرها، وما يترتب عليها من مضار التفرقة بين الأمتين اللتين يجب أن تكونا متحدتين إن أرادتا عمران هذا الوطن، فقد طالعت مرة مجلة (مراسلات الشرق) - المحررة بالفرنسوية التي ينشرها بباريز هذا المسمى بالسمنة - فوجدت من جملة تُرَّهاتها أن باخرة مشحونة أرزاقًا جاءت إلى سورية أثناء الحرب، فأفرغت مشحونها، ووزعه جمال باشا على المسلمين، وحرم النصارى! ... فالذي تبلغ به قحة الافتراء وهوس التفرقة بين المسلمين والنصارى - أن يزعم كوْن الباخرة التي وردت من أميركا بأرزاق لأهل السواحل، ووقفها الإنكليز في الإسكندرية، ولم يسمحوا بوصولها إلى بيروت قد وصلت، وأفرغت، واستفاد منها المسلمون دون المسيحيين، لا عجب أن يكون هو وأضرابه مروِّجين لحديث (التجويع) المقصود، ولا غرو أن نكون نحن ممن يتوخى فضيحة تلك الأضاليل، حتى يزول أثرها السيئ من الأذهان. إنه سيظهر لك - أيها القارئ مما سيأتي بالدليل القاطع والبرهان الساطع - أنه لو شاء الحلفاء لأوصلوا الإعانات إلى سواحل سورية، كما أوصلوها إلى ممالك أخرى عضَّها الجوع بنابه أثناء الحرب، ولوَقوا من الموت أولئك الألوف الذين ماتوا من مسلمين ونصارى، إن الحلفاء - مع كونهم في حال حرب مع ألمانيا - أمكنهم أن يتفقوا معها على إعاشة بلجيكا، وتعينت لذلك لجنة مؤلَّفة من متحايدين أسبانيين وهولنديين، كانت تأتي بالحبوب والأرزاق من أميركا، وتوزعها على المعوزين في بلجيكا، وعلى كل مَن ينقصه شيء، فلم يمنع وجودهم محاربين للألمان من أن يتفقوا معهم على إغاثة أمة، أشفقوا أن يمسها الجوع، ولقد ثبت أنهم أرسلوا إلى البولونيين بإمدادات وافرة وإلى الصربيين وإلى غيرهم، فلو كانوا يحبون أهل لبنان - كما يدَّعون - لاتفقوا مع الدولة العثمانية وقتئذ، وأغاثوهم ولو بسداد من عوز، ولأنقذوا تلك الخلائق من الموت، أو لسمحوا على الأقل بتسريب الإعانة التي أرسلتها أميركا لأجل سورية، والإعانة التي كان البابا ينوي إرسالها إلى المسيحيين وهم كانوا الحائلين من دونها، أفتكون هذه هي الحقيقة، وتكون التبعة العظمى في عدم دفع هذه المجاعة عليهم، ونأتي نحن لأغراض في الأنفس، فنبرِّئهم من جناية هم أنفسهم أدرى بأنهم كانوا فاعليها لأسباب حربية وسياسية قامت في نفوسهم، ونقول لهم: كلا، إنما أجاعنا الأتراك وأنتم أولاء أحييتمونا، ولكثرة ما نردد أمامهم هذه الكلمة يبلغ بهم الأمر أن يظنوا كونهم صاروا أحق بالبلاد من أهلها، وأن يصارحونا بقولهم: لولانا لكنتم جميعًا هلكتم جوعًا، كما رددوا ذلك مرارًا، وآخر مرة أعلنها الجنرال غورو على مائدة غبطة البطريرك الماروني في الديمان بدون محاباة. هذا، ولقد آن لنا أن نستشهد على أسباب هذه المجاعة بكلامِ عظيمٍ، هو بطريرك الطائفة المارونية من تقرير أرسل به إلى جمال باشا سنة 1916، وبعث هذا بصورته مع صور الكتب التي وردته من سائر البطاركة إلى الفاتيكان؛ ليطلع حضرة البابا عليها، فالبطريرك الحويك يطري الدولة العثمانية إطراءً عظيمًا في مراحمها ومكارمها، وشخص جمال باشا في إدارته، ويدافع عن أعماله، ويبرِّرها، ثم يقول ما تعريبه: (لأن أصل التقرير باللغة الفرنساوية) بالحرف. شهادة بطرك الموارنة للترك وجمال باشا: (أما ما يوجهونه من التهم بشأن وسائل الضغط والتضييق التي بزعمهم قد استعملتها الحكومة بحق السوريين ولا سيما الموارنة اللبنانيين كالإجاعة والنفي - فإننا نجد من العبث الاجتهاد في إبطالها، وإنما نأسف من كوْن هذه الأراجيف المصطنعة هي عمل بعض ذوي المآرِب؛ ولذلك نعلن عدم موافقتنا لهم، وننتدب من تلقاء أنفسنا وبكل حرية للدفاع عن الحقيقة المقدسة والعدالة السامية. إنه كما حصل في جميع الممالك المحاربة قد وقعت عندنا أيضًا نوازل هامة ومصائب بطبيعة الحال، وذلك مثل الجراد الذي أكل مواسم البلاد، والحصر البحري، وحجز دول الائتلاف ما يرد باسم السوريين من الحوالات من أميركا، وغلاء الأسعار، وقلة مواد الرزق الوطنية، وتعذّر إصدار محصول الحرير، فهذه المحن جاءت كلها دفعة واحدة، وبدون اختيار الحكومة العثمانية، ووضعت البلاد في مركز ضَنْك، ولكن لحسن الحظ قد تمهدت جميع هذه العقبات بعناية الدولة الأبوية ومآتيها الخيرية، ولا سيما بالمساعي المتواصلة والتدابير المؤثرة التي كان يأتيها حضرة صاحب الدولة أحمد جمال باشا قائدنا الشهير ناظر البحرية، وقائد قواد الفيلق الرابع، ا

الرحلة الأوربية ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة الأوربية (3) الفنادق في سويسرة: كان الأمير ميشيل بك لطف الله أوصى توفيق أفندي اليازجي بأن يحجز لنا حجرات في فندق من أرقى فنادق (جنيف) وأحسنها؛ إذ كان بلغنا أن هذه الفنادق ستكتظ على كثرتها بالمسافرين عند اجتماع عصبة الأمم، وأن يستأجرها إذا توقف حجزها على استئجارها، وصح ما قيل من تسابق الناس إلى مثل ذلك. فلما وصلنا إلى جنيف ذهب بنا إلى فندق إنكلترة، وهو من الفنادق الوسطى، وموقعه أمام البحيرة جميل، فلم يعجب الأمير ميشيل بك، وعاتب توفيقًا على إنزالنا فيه، فاعتذر بأن الخديوِ كان ينزل فيه، فقلنا لعله كان يراه أعون له على التنكر، وقد نزل فيه في وقتنا الأمير عزيز حسن. ثم عهد الأمير ميشيل إلى جورج أفندي يوسف سالم بأن يبحث لنا عن 4 حجرات في فندق من الدرجة الأولى، يكثر فيه كبار أعضاء جمعية الأمم؛ ليسهل التعرف بهم، ويكون وجودنا معهم مذكِّرًا لهم دائمًا بوجود وفد سوري يطالب باستقلال بلاده، وبعد جهد في البحث والتجوال وجد لنا مطلوبنا في فندق (دي برك) ، وكان الأمير ميشيل قد أوصاه بأن يساوم صاحب الفندق في أجرة الحجرات، وثمن الطعام وأجرة غسل الثياب، فلم يُعنَ بالتدقيق في ذلك بل رضي بأن نعاملهم بالتعريفة التي يطلبونها؛ لظنه أن ذلك محدود كما يقولون، ثم تبين أن الأمير ميشيل هو المصيب، وأنه أعلم بشئون البلاد من سالم الذي هو أكثر منه أسفارًا وتجوالاً في الممالك كما قلنا من قبل، وأنه كان يمكن أن يقتصد بالمساومة مبلغًا من الجنيهات، لا ينبغي التسامح في مثله! وقبل أن أبيِّن الفائدة التي أقصد إليها من ذكر هذه المسألة أذكر دقيقة أخرى للأمير ميشيل هي دونها في باب الاقتصاد، ولكنها تدل على حذقٍ، وذكاءٍ، واختبارٍ، وهي أن أصحاب فندق فيكتوريا في مدينة لوزان لما قدموا لنا جريدة الطعام - وهي مطبوعة - ألفينا فيها الأثمان المطبوعة مرمجة، وبجانبها أثمان مكتوبة بالحبر هي أكثر منها، فلم ينتبه أحد منا إلى سبب ذلك غيره فقد قال: إن هذه الأثمان المطبوعة هي أثمان الطعام لأهل البلد، وإنهم إنما زادوا فيها لأجلنا؛ فإن لأهل سويسرة حِذقًا في اجتلاب الأموال من السياح، لا يضارعهم فيه غيرهم، وسبب ذلك أن ما يربحونه من الأجانب معظمه من الذين يقصدون بلادهم من جميع أقطار العالم المدني للتمتع بمناظر جبالها، ومروجها الخضراء، وبحيراتها الزرقاء، واستنشاق نسيمها العليل، وتفيُّؤ ظل حدائقها الظليل، فما ينفقه فيها السائحون والسائحات هو عند أهلها من قبيل دخل الصادرات، وأما الصادرات التي تخرج منها إلى غيرها - فهي قليلة، أهمها الساعات من المصنوعات المعدِنية، فهي أشهر بلاد أوربة إتقانًا لها، والزبدة والجبن والفاكهة من نتائج الزراعة. هذا، وإن جميع الأسعار في بلاد سويسرة محدودة لجميع أنواع البضائع، وأهلها يغلب عليهم الصدق والأمانة، وقد قيل لنا: إن أكثر بلاد أوربة، ولا سيما العواصم والثغور العظيمة كباريس ومارسيلية يبيعون الغرباء بأسعار أعلى من الأسعار التي يبيعون بها الوطنيين، وأما سويسرة فقلما تجد هذه المعاملة فيها للغرباء في غير الفنادق، ومن أسباب ذلك أن أكثر أصحابها من اليهود. أما بعد: فإن غرضنا من الإلمام بهذا البحث تنبيه القراء إلى ما يجب على المسافر من بلاده إلى أوربة وغيرها من الدقة والاقتصاد في النفقة، وحفظ ماله أن يضيع فيما لا يفيد صاحبه حمدًا في الدنيا، ولا ثوابًا في الآخرة، بل هو من إسراف الغباوة الذي يحتقر فاعله كل عاقلٍ وقف على حاله. إن مَن لا يعرف ميشيل لطف الله إذا سمع أنه يساوم في أثمان طعام الفنادق، وينبه مَن يوليه أمر نفقته إلى أمثال هذه الدقائق - يظن أنه ممن يصح أن تُكتب أخبارهم في نوادر البخلاء، أو أن الدافع له إلى مثل هذا التوفير الفقر والإملاق، أما وكُلُّ مَن يعرف الرجل يعلم أنه من أكبر أهل النعمة والثراء، ومن أشهر الأجواد والأسخياء، وأنه مُقري الضيوف، ووهَّاب الألوف، فكيف يفهمون بعد هذا منه، ما روينا من هذه الدقة في التوفير عنه؟ ! لا شك أن سفهاء الوارثين المعروفين في هذه البلاد - وهم لا يعقلون معنى لكلمتي التوفير والاقتصاد، الذي عليه مدار ثروة الأمم والأفراد - يعدون ذلك من الهنَّات المستهجَنَات، ويكثرون التنادُر بها، واختراع النكات لها، وأما أهل العلم والبصيرة فهم الذين يقدرونه قدره، ويعلمون أنه من العقل والحكمة، والشكر الذي تدوم به النعمة، وإنني - قبل التثريب على أولئك السفهاء المسرفين - أذكر لهم مثلاً من قصد الأجواد المتقدمين والمتأخرين. روي في مناقب الإمام الحسن السبط - عليه السلام - أنه جاء المدينة المنورة تاجر من العراق بأحمال من أجود الثياب، فاشتراها منه الحسن بعد أن بالغ في المساومة معه، ولم يترك له من الربح إلا القليل، ثم أخذ منها ثوبًا أو ثوبين، ووزع الباقي على الحاضرين، فقال له التاجر: يا ابن رسول الله، لقد بالغت في مساومتي حتى لم يكن لي من الربح على تعبي إلا القليل، وقد كنت أحق من هؤلاء الناس بمثل ما أعطيتهم - أو ما هذا معناه - فقال له الحسن: (المغبون لا محمود ولا مأجور) ، أي لا هو مهدي هدية فيُحمد، ولا متصدق فيُؤجر، وهذا حديث مرفوع رواه الخطيب عن أبيه والطبراني عنه وأبو يعلى عن أخيه الحسين - عليهم السلام -. وما رأيت أحدًا من الأغنياء العقلاء أشبه بالأمير ميشيل في إنفاقه وتوفيره، من الشيخ قاسم آل إبراهيم التاجر العربي الشهير في بومبي (الهند) ؛ فقد عهدناه ينفق من سَعَته في الأعمال العامة كالمدارس، والإعانات للدولة العثمانية، فيهب المئات والألوف من الجنيهات، ولا يطمع أهل الكدية والاستجداء منه بدينارٍ، ولا درهم، وإن وقف على بابه طول النهار، وأطراه بالبليغ من الأشعار، على أن ميشيل لطف الله كثيرًا ما يعطي الشعراء والأدباء، ولكن دون ما يهب للمدارس والجمعيات الخيرية والأعمال السياسية. فأمثال هؤلاء الأغنياء هم الذين يعرفون كيف يحفظون نعمة الله عليهم بالثروة، ويكونون أهلاً للمزيد، والزكاء فيها على كثرة النفقة. هذا، وإن ما يمكن توفيره من نفقات السفر في أوربة من غير إزراء بصاحبه، ولا نقص في تمتُّعه - ليس بالشيء التافه الذي لا يُعتَد به، وناهيك باختيار المواقع، ومساومة أصحاب المنازل والفنادق، وقد علمنا أن أهم سبب غلاء المواد الغذائية في سويسرة وغيرها وارتفاع أجور الفنادق - هو جعْل ورقها النقدي (بنك نوت) بسعر الذهب لا ينقص شيئًا، وقد كان هذا سببًا لقلة قصد السائحين إليها بعد الحرب، كما كان يعهد قبلها، حتى سائحي الإنكليز والأميركيين الذين هم أكثر الشعوب سياحةً وأوسعهم فيها نفقةً، فقد تجولنا بعد فضّ مؤتمرنا في أشهر بلادها، ورأينا أشهر فنادقها، فلم نجد إلا القليل من السائحين فيها، ولما ذهبنا إلى ألمانية وجدنا الفنادق غاصَّة بالناس من أهل سويسرة وغيرهم، حتى إنك لَتطوف على الكثير منها، فلا تجد لك حجرة فيها، كما سيأتي في محله، وإنما كثر الغرباء في مدينة جنيف وحدها لما ذكرنا من اجتماع جمعية الأمم فيها، وكثرة قصد المشتغلين بالسياسة إليها. الفرنك السويسري كالفرنك الفرنسي، والليرة الإيطالية وغيرهما من نقد دول الاتحاد اللاتيني، كلها متساوية في وزنها الفضي وسعرها الذهبي، ولكن التعامل العام قد انحصر منذ اشتعلت نار الحرب في الورق، وهو مختلف السعر الآن، حتى في البلاد التي يُطبع فيها بحسب الثقة المالية قوةً وضعفًا، والمعيار العام في أوربة لهذا الورق (البون) الإنكليزي؛ لأن مالية إنكلترة أثبتُ من غيرها من الدول الأوربية التي اشتركت في الحرب، ولا يعلوها في ذلك إلا الولايات المتحدة وسويسرة؛ فإنها كالولايات المتحدة في سعر القطع، ففرنكها لا يقل عن أربعة قروش مصرية صحيحة. وإن شئت مثالاً من أمثلة غلاء الفنادق الغريب في سويسرة، فاعلم أن ثمن البيضة في السوق قرشان مصريان، كما أخبرنا توفيق أفندي اليازجي، وهي في الفندق أغلى، وأن أجرة غسل بعض الثياب في شهر واحد قد يزيد على ثمنها ضعفًا أو ضعفين أو أكثر؛ فإن أجرة غسل كل من المنديل والجورب وكيّه لا يقل عن فرنكين سويسريين كأجرة القميص واللباس، وقد يكون في بعضها أكثر، أفليس شراء جديد بدلاً من المتَّسخ هنالك خيرًا من غسله، كلما استعمل كما هي العادة؟ ، وقد هال رياض بك صلح أنه دفع جنيهين أجرة لغسل ثيابه في الفندق الذي نقيم فيه (أوتيل دي برج) ، ومتوسط نفقة الطعام في سويسرة جنيه إنكليزي أو مصري في اليوم وفي فندقنا وما ماثله أكثر، وفي بعض مطاعم السوق أقل. وهذا الفندق من أغلى الفنادق أجرةً وطعامًا إن لم يكن أغلاها، والطعام فيه أجود وأكثر منه في فندق فيكتوريا الذي نزلنا فيه أولاً (وكتب أولاً فندق إنكلترة سهوًا وطُبع) ، فالألوان هنالك قليلة، وهنا كثيرة جدًّا، ولكن لكل يوم بل كل وجبة- ألوانًا معدودة لها ثمن معين، ومن طلب غيرها مما يوجد دائمًا رهن الطلب كالفراخ والسمك والطير وسائر اللحوم بأنواعها فعليه أن يدفع ثمنه، ومن عاف شيئًا من طعام الوجبة فله أن يطلب بدلاً منه بغير ثمن جديد، وكنت دائمًا أطلب بدلاً من الألوان التي يدخل فيها لحم الخِنزير، والجبنُ من متممات الطعام يجوز أن يستبدل به بعض الفاكهة، وهي كثيرة وجيدة الا التين؛ فإنه قليل ورديء، وقيل لنا إنه يأتي من أسبانية وأكثر العنب غير جيد أيضًا. *** استطراد في أغبياء الأغنياء المسرفين: هؤلاء الأغنياء المسرفون هم الذين يبذرون الأموال في سبيل الشهوات المحرمة والفخفخة، الجديرون بأن يُسلبوا ما وُهبوا من النعمة، يتوهم الجاهل المغرور منهم أن الشرف والفخار، في استمالة الفواجر والفجار، وتملق سماسرة الفسق من قواد وخُمار، وشخوص الأبصار على موائد القمار، وإطراء المخادعين من الطامعين والشطار، وتغرير السماسرة الأشرار، فتراه بينهم يعطي باليمين واليسار، ويشتري سلعة الدرهم بالدينار. إلا أن هؤلاء الأغنياء الأغبياء، والمبذرين السفهاء، هم أعداء الله تعالى وأعداء دينه، وأعداء أوليائه من فضلاء الناس وخيارهم، وأولياء أعدائه من أشرارهم، وأعداء أمتهم ووطنهم، وأعداء ذوي قُرباهم، ولا سيما أزواجهم وأولادهم، فهم إذًا أعدى أعداء أنفسهم. أما كونهم أعداء الله وأعداء دينه، فهو أنهم يكفرون نِعَمه عليهم بالمال وبالجوارح، والمشاعر، والحواس باستعمالها فيما يخالف شرعه الحكيم، ويضل عن صراطه المستقيم، وقد وصفهم في كتابه بقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (الإسراء: 27) ، ويدخلون في عموم قوله: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} (غافر: 43) ، ولا نطيل في تذكيرهم بآيات ربهم؛ فهم عن ذكره معرضون. وأما كونهم أعداء أولياء الله أهل الفضائل، فهو أن الإسراف قد هبط بهم إلى أسفل دركات الرذائل، وإنما يحب الإنسان شبيهه، ويكره بمقتضى الطبع مخالفه وضده؛ ولهذا وصفهم الله بأنهم إخوان الشياطين، وهو يصدق بشياطين الإنس والجن؛ ولذلك جمع، فأما شياطين الجن فهي ما يجدون أثره في خواطرهم، ووساوس أنفسهم، التي تزين لهم الفسق وتلبِّس عليهم الحقائق، بتسمية الرذائل بأسماء الفضائل، كتسمية الإسراف جودًا وكرمًا،

الرحلة السورية الثانية ـ 11

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة السورية الثانية (10) المؤتمر السوري العام انتخب أعضاء هذا المؤتمر في أوائل سنة 1919 من جميع الولايات والمتصرِّفيات السورية في المناطق الثلاث التي قسمها الحلفاء إليها، وكان انتخابهم فيما عدا متصرفية جبل لبنان التي كانت مستقلة في إدارتها الداخلية على طريقة انتخاب مجلس المبعوثين العثماني، بل انتخبهم المنتخبون الأولون، الذي انتخبوا المبعوثين في الدورة الأخيرة، وأما جبل لبنان - الذي لم يكن يُنتخب منه أعضاء لمجلس المبعوثين - فقد انتُخب من بعض بلاده - لا كلها - أعضاء للمؤتمر، انتخبهم الوجهاء وشيوخ الصلح الذين ينتخبون أعضاء مجلس إدارة لبنان. وكان الغرض من تأليف هذا المؤتمر - المنتخب بطريقة نيابية عن الشعب السوري كله - أن يبين رأي الشعب السوري في مصير البلاد، وشكل حكومتها، وما يفرضه عليها دول الأحلاف من المساعدة، وقد اجتمع المؤتمر لأول مرة في دمشق عند مجيء اللجنة الأمريكانية من أوربة في تلك السنة لاستفتاء الشعب السوري في ذلك، وخبر هذه اللجنة في تأليفها وامتناع دولتي فرنسا، وإنكلترة من الاشتراك فيها، بعد أن كان قد تقرر جعْلها مشتركة، وطوافها مناطق البلاد، واطِّلاعها على رأي جميع الطبقات والجماعات فيها بالمشافهة، وقرار المؤتمر العام الذي قدمه لها في دمشق، وإجماع الرأي العام في هذه المناطق كلها على طلب الاستقلال التام للبلاد كلها، واتحادها ورفض كل مساعدة تنافي هذا الاستقلال - كل ذلك معروف مشهور، قد نُشر في جميع الجرائد السورية في ذلك الوقت، ونقلته عنها الجرائد العربية بمصر وأمريكة وغيرها، ونوَّه به كثير من الجرائد الإفرنجية في البلاد المختلفة، وسبق له ذِكْر في المنار، وليس هو ما يعنينا هنا، وإنما الذي نريد أن نقوله هو أن الجماعات والأفراد أولي الشأن - الذين قابلوا اللجنة الأمريكية في جميع المناطق - قد أيدوا المؤتمر السوري العام؛ فكان ذلك من الشهادات المتواترة على ثقة الشعب كله بالمؤتمر، وكوْنه ينطق باسمه، ويعبر عن رأيه. لأجل هذا قرر حزب الاستقلال العربي عند البحث في طريقة إعلان استقلال البلاد أن يكون المؤتمر السوري العام هو الذي يقوم به في العاصمة (دمشق) مستظهرًا بعلمائها، ورؤسائها الروحيين وكبار رجالها من جميع الطبقات والأحزاب، وأنه لا حاجة إلى انتخاب جديد - كما اقترح بعضهم - وكذلك كان، وقد نشرنا خبره مفصلاً في وقته. ولما اجتمع المؤتمر، وأعلن الاستقلال أيده الشعب في جميع المناطق السورية، وصارت له - بمظاهرة الشعب له - صفة الجمعية الوطنية التأسيسية، وقد كان من رأي الأمير فيصل أن ينفض بعد إعلان الاستقلال، وكاشف الذين كانوا يتولون مراجعته ومذاكرته في الأمر من كبار أعضاء الحزب بذلك، فلم يوافقه أحدٌ، وكاد يصر لولا أن قيل له: إن هذا الأمر لا يمكن البت فيه إلا بعد اجتماع المؤتمر، والاتفاق مع الأكثر من أعضائه، وهم من حزبنا على ما يحسن في ذلك، ثم كثر البحث في ذلك بعد اجتماعه، وقبل الاتفاق على وضع صيغة إعلان الاستقلال، حتى تم الاتفاق على الصيغة التي وُضعت في قرار المؤتمر التاريخي الذي أُعلن به الاستقلال؛ وقد نشرناه في المجلد الحادي والعشرين من المنار (ص 441) ، وهذا نصها - بعد ذكر اختيار فيصل ملكًا -: (وأعلنَّا انتهاء الحكومات الاحتلالية العسكرية الحاضرة في المناطق الثلاث، على أن يقوم مقامها حكومة ملكية نيابية مسئولة تجاه هذا المجلس - أي المؤتمر - في كل ما يتعلق بأساس استقلال البلاد التام، إلى أن تتمكن الحكومة من جمع مجلسها النيابي، على أن تُدار هذه البلاد على طريقة اللامركزية) . فإن جعْل الحكومة مسئولة تجاه المجلس كان يراد وضعه مطلقًا، فلم يقبل الأمير فيصل بذلك، وبعد المراجعة والإصغاء رضي بأن يكون ذلك مقيدًا بما يتعلق بأساس استقلال البلاد التام، ورضي أكثر الأعضاء بذلك. وبعد أن تألفت الحكومة وانتظمت جلسات المؤتمر - اقترح بعض أعضائه وضع قرار بطلب تقديم الوزارة بيان خطتها للمؤتمر طلبًا لاعتماده إياها - من حيث هي حكومة نيابية بمقتضى قراره، فقبل الاقتراح، وتقرر بأغلبية كادت تكون اتفاقًا. ولما بُلّغ رئيس الوزراء قرار المؤتمر عرضه على الملك، فأنكره، وأبى أن تجيب الوزارة الطلب، حتى أقنعته بذلك بعد مناظرة حادة، حضرها إحسان بك الجابري رئيس أمنائه - وكان فيها ميَّالاً لرأيي - وسمع بعضها الأمير زيد. ذلك أنني زرته صباحًا كالعادة، فذكر لي قرار المؤتمر، وقال: إنه ليس له هذا الحق؛ لأنه ليس مجلسًا نيابيًّا، وأنني أمرت الوزارة بعدم إجابة طلبه، فقلت له: يا مولاي، إن هذا الاقتراح عُرض فجأة في المؤتمر، ولم يبحث حزبنا فيه، ولا علم به قبل عرضه، وإنني لم أكن من المقرين له، ولا المعارضين فيه؛ لأنني لا أزال مترددًا في الترجيح بين كفاءة الوزارة وكفاءة المؤتمر، وناظر إليهما بعين النقد والتجربة، ولكن يجب أن ينفَّذ قرار المؤتمر بعد أن قرره وبلّغه، ولا يجوز ردّه ألبتة. قال: إنه لا حق في هذا الطلب؛ لأنه ليس مجلسًا نيابيًّا، قلت: بل له هذا الحق؛ لأنه أعظم سلطة من المجلس النيابي، إنه جمعية وطنية تأسيسية، قال: إنني أنا الذي أوجدته؛ فلا أعطيه هذا الحق الذي يعرقل عمل الحكومة! قلت: بل هو الذي أوجدك؛ فقد كنتَ قائدًا من قواد الحلفاء تحت قيادة الجنرال اللنبي؛ فجعلك ملكًا لسورية، نعم، إن لك فضلاً بالسماح بجمعه؛ إذ كنت تحكم هذه البلاد حكومة عسكرية باسم الحلفاء، أما وقد اجتمع باسم الأمة - وهي صاحبة السلطان الأعلى بمقتضى أصول الشرع الإسلامي الذي تَدين الله به، وبمقتضى جميع أصول القوانين العصرية الراقية، وقد اشترط في تأسيسه لهذه الحكومة التي اختارك ملكًا لها أن تكون مسئولة تجاهه في كل ما يتعلق بأساس الاستقلال، وبرنامج الوزارة السياسي يتعلق بأساس الاستقلال مباشرة، وبرنامجها الإداري يتعلق بحفظ الاستقلال بالتبع أيضًا، فأرجو أن لا تحدث لنا أزمة في أول طريقنا، وما تخشاه - من عرقلة الحكومة بتدخل المؤتمر وسيطرته عليها - فأمره سهل؛ فإن أكثرية المجلس من حزبنا وأعضاء الوزارة من حزبنا أيضًا، ونحن نضمن التوفيق بينهما، وعدم فتح هذا الباب الآن، وبعد التأمل في هذا الكلام الذي يعتقد إخلاص قائله وصدقه وعلمه بأن المؤتمر لا يسكت عن تنفيذ قراره رضي، ثم قدمت الوزارة بيانها على الوجه الذي يتفق مع رأي الحزب، ونالت الاعتماد المطلوب، ثم كان من أمرها بعد ذلك ما ذكرناه من قبل. والغرض من ذكر هذه الحادثة بيان صفة المؤتمر لا التعريض بميل الملك فيصل إلى الاستبداد، بل أقول: إنني كنت أخاف ما يخاف هو من تحكُّم المؤتمر في الحكومة وعرقلته لأعمالها، وهي في طور التكوُّن؛ فإن استبداد الجماعة قد يكون أشد ضررًا من استبداد الأفراد، والشواهد على هذا معروفة في التاريخ القديم والحديث، وحسبنا من الحديث استبداد الاتحاديين بالحكومة العثمانية، الذي أدى إلى هدم سلطنتها (إمبراطوريتها) العظيمة، وحب الاستبداد فطري في نفوس البشر، خيارهم وشرارهم، وربما كان بعض الأخيار أمضى فيه، وأثبت قدمًا من غيرهم؛ لعذرهم أنفسهم فيه بما يجدون فيها من حسن النية، والشرير قد يلوم نفسه عليه إذا كان فيه بقية من الخير، ولا يصرف الناس عن الاستبداد إلا التقيد بشرع أو قانون وراءه قوة تحافظ على تنفيذه، وتراقب المنفذين له، وهذا معروف لا يحتاج إلى شرح، ولما كانت مراقبة الملوك وإيقافهم عند حدود الشرائع والقوانين مع الاعتراف لهم بالسلطة العليا من أشق الأمور، بل تكاد تكون متعذرة - سلبت الأمم الراقية السلطتين منهم، وجعلتهما للمجالس النيابية وجماعة الوزراء ... قلت مرة لمستر متشل إنس وكيل المالية بمصر في عهد كرومر: إنكم قد ظلمتم الخديوِ، وقيدتم سلطته، حتى لم تتركوا له من النفوذ الفعلي في الحكومة شيئًا، فقال: لكننا تركنا له جميع مظاهر الملك وعظمته، وهل تريد أن نعطيه ما ليس لمَلِكنا مثله؛ فيستبد في الأعمال؟ ! فوالله لو أن ملكنا استطاع أن يستبد في أمر من الأمور في يومه لما أخَّره إلى الغد! ومعقول أن يكون الملك فيصل أجدر من غيره بحب الاستبداد، وقد صرح بأنه ندم أن لم يكن استبد في سورية، ولكن من غرائزه وأخلاقه ما يصده عنه إذا كان طريقه غير معبَّد له، وآية لي على ذلك أنه سمع مني ما ذكرت من معارضته، فرجع إلى قولي، ولم يَنْقُص ذلك شيئًا من مودته، واحترامه لي، ولو كان الاستبداد راسخًا فيه - كرسوخه في كثير ممن نعرف من الأمراء، وكان قوي الشكيمة فيه - لما استطعت معاشرته، والعمل معه بعد ذلك، ولكان حقد عليَّ بهذه المعارضة، وكاد لي كيدًا إذا لم يستطع إيذائي جهرًا، على أنه رأى مني - بعد ذلك - معارضة أشد وأخشن، ولم يكن ذلك بصارف له عن مكاشفتي - عند توديعه ليلة خروجه من دمشق - بأعمق أسراره، التي أكد لي أنه لم يذكرها لأخيه كما ذكرت ذلك من قبل، ولعله لولا يقينه الصحيح بإخلاصي للأمة وله، وأنني ليس لي أدنى هوىً نفسيٍّ في ذلك - لما بقيت لي عنده هذه المودة، وقلما تجد هذا عند غيره من الملوك والأمراء، بل عند الأفراد والنظراء، بل عند مَن دونهم! ، ونعود بعد هذا الاستطراد إلى الكلام عن المؤتمر. المؤتمر والحكومة في سورية: قلت إنني كنت أخاف ما يخاف الملك فيصل من تحكم المؤتمر في الحكومة وعرقلته لأعمالها، وإنني كنت أراقب كلاًّ منهما مراقبة المختبر الشاكّ في كفاءة الفريقين، وفي الترجيح بينهما، وقد تكون وجهة النظر عندي في ذلك مخالِفة لوجهة النظر عند الملك فيصل، وقد بينت بالإجمال ما ظهر لي من كفاءة الحكومة والانتقاد عليها بالاعتدال البريء من التحامل والمحاباة. وأما المؤتمر فقد ظهر أنه ليس أدنى من المستوى الذي فيه الشعب، بل هو مثال مطابق له؛ فقد كان الرأي العام فيه في مسألة الاستقلال التام الناجز، ورفض كل سيطرة أجنبية - هو رأي الشعب بعينه، بل لم يكن فيه أدنى مظهر للفئة القليلة في الأمة التي تميل إلى قبول الوصاية الأجنبية المؤقتة، وهل لدى الدول الطامحة إلى ذلك سيطرة مؤقتة إلا عند العجز عن الدائمة؟ وقد يلطفونها بتسميتها مساعدة، نعم قد اتُّهِم أفراد من الأعضاء بأنهم من الحزب الوطني الذي ألفه بعض الأغنياء، ولكن بعض وزراء الحكومة - على قلتهم - كانوا يصرحون لبعض الناس بأن رأيهم قبول الوصاية، ومنهم ساطع بك الحصري وزير المعارف الذي كان أحد رسل الملك فيصل إلى الجنرال غورو، وعلاء الدين الدروبي قتيل خربة الغزالة، وتقدم ذكر ذلك، بل كانت وطأة المؤتمر شديدة في مقاومة الانتداب في كل من سورية الجنوبية والشمالية، ولم يكن هذا محل خلاف بين حزبيه، ولا بين أحد من أفرادهما، وكان فيه العدد الكافي من دارسي علم الحقوق وأصول القوانين ومن ذوي الإلمام بالشريعة الإسلامية، ومن الأذكياء المتعلمين في مدارس الدولة العثمانية أو بعض المدارس الأجنبية، فكان بذلك كفؤًا لوضع القانون الأساسي للبلاد، وأهلاً لوضع غيرها من القوانين، أو تنقيح القوانين العثمانية. وكان فيه طائفة من المحافظين على القديم من أمور الأمة وتقاليدها، وطائفة من المولعين بالجديد الأوربي، وطائفة من المعتدلين بين جمود أولئك وخفة هؤلاء، ومن المولعين بالجديد مَن يودُّون السير من وراء حدود الدين، وأن يس

مصابنا بشقيقنا السيد صالح مخلص رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصابنا بشقيقنا السيد صالح مخلص رضا الأمر لله. ولا حول ولا قوة إلا بالله. إنا لله وإنا إليه راجعون. ربنا أفرغْ علينا صبرًا. وتوفنا مسلمين. في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان رُزئنا بوفاة شقيقنا، وتِرْبنا، ورفيق حياتنا، وأخلص الرجال لنا السيد صالح آل رضا تغمده الله برحمته ورضوانه، بعد أن أُصيب بألمٍ في الحنجرة، كان عَرَضه الأول بحّة في الصوت، صبر عليها بضعة أشهر، لم يعرض نفسه فيها على طبيبٍ. وكان يظن - كما نظن - أنه عرض لا يلبث أن يزول، ثم ألفيناه يزداد بالتدريج البطيء، وكنت أنصح له باستشارة الأطباء فيه، والعناية بما يصفون من معالجته، وكان يتهاون بذلك كدأبه، وهو من أشد الناس صبرًا وجَلَدًا واحتمالاً للآلام، ثم اشتد عليه الألم وضيق النفس، فعرض نفسه على عدة أطباء من المصريين، واليهود، والإفرنج، فاختلف رأيهم أولاً، ثم ظهر أن المرض ورم سرطاني، واختلف القائلون بهذا في استئصاله، هل هو خطر على الحياة أم لا، فكان ذلك سببًا لتردده في العملية الجراحية، إلى أن ضعف بدنه بقلة الغذاء؛ إذ كان يشق عليه ازدراد الطعام، حتى إنه لَيألمُ من شرب الماء، واللبن، وحينئذٍ رضي بأن تعمل له العملية الجراحية، واخترنا لها الطبيب الإخصائي الشهير الدكتور حسن بك شاهين، ولكنه أبى أن يعملها لجزمه بأن البنية لم تعد تحتمل ذلك، واكتفى بأن فتح له ثغرة في نحره لأجل التنفس، وقال إنه قد يعيش في هذه الحالة عدة أشهر ممتعًا ببعض الراحة، ولكن أجله المحتوم لم يكن قد بقي منه إلا أيام معدودة لا تبلغ الأسبوع، فتوفاه الله تعالى، وهو في أحسن حالٍ كان عليها من الإيمان به، والتوجه إليه، وإخلاص العبادة له، حتى إنه كان يصلي الصلوات في سريره قاعدًا، فكان هذا مع العلم بأنه لم يعد له راحة في الحياة مع هذا الداء العُضال أكبر المعزيات لنا في مصابنا به. *** (تعلمه وتربيته) كان رحمه الله نادر الذكاء، سريع الفهم، سريع الحفظ، بطيء النسيان، تَلَقَّى مبادئ التعليم الأول في بلدنا القلمون على أحد شيوخها، فلم يكد يحذق حروف الهجاء وتركيب الكلم؛ حتى صار يقرأ كل ما أقرؤه بسرعة عجيبة، فمهما يَطُلْ الدرس الذي يلقنه إياه الأستاذ - يعيده بعد إقرائه إياه مرة واحدة، فلو شاء أن يُقرئه كل يوم جزءًا كاملاً من القرآن لفعل، فكان يفوقنا كلنا في ذلك، ثم طلب العلم في طرابلس، فكان محل إعجاب شيوخه بذكائه وفهمه، فتلقَّى من الفنون العربية والعلوم الشرعية ما كان يُظهر قليله من فضله ما لا يظهر أضعافه في تحصيل غيره، وقرأ كثيرًا من كتب التربية والتعليم؛ فكان ذا رأي وذوق في هذا الفن، وطالع كثيرًا من كتب الأدب والتاريخ وكتب الديانة المسيحية، فحفظ من ذلك كله ما كان به خير نديم وسمير، وكان معاشِروه في سورية، ثم في مصر يَعْجَبُونَ من سعة حفظه وحسن اختياره فيه وسرعة استحضاره له، وحسن إلقائه إياه، ويستغرب النصارى منهم كثرة ما يحفظه من كتبهم، ويعرفه من تقاليدهم الدينية على اختلاف مذاهبهم، وكان يجيد الكتابة نثرًا ونظْمًا، ولكنه كان كَسولاً قلَّما يُمسك القلم بيده، وله مقالات قليلة، وتقاريظ لبعض المطبوعات في المنار، استتبع بعضها ترجمة صديقه الشيخ طاهر الجزائري - رحمهما الله تعالى - ترجمة انتقادية دقيقة غير مألوفة في هذا العصر، فانتقدها بعض أدباء دمشق على اعترافه بأنها حق، شرع في وضع تفسير لمفردات القرآن الكريم، ولكنه لم يكتب منه إلا وريقات قليلة، وفي ضبط ديوان من الشعر، وشرح لغريبه لأجل طبعه، ولم يتم منه شيئًا يُذكر، وقد كان عُين مديرًا لبعض المدارس الابتدائية التي أُنشئت بأمر السلطان عبد الحميد ونفقته لمسلمي لبنان - وهي مدرسة الكورة - فسلك في تربية تلاميذها، وتعليمهم مسلكًا حسنًا نافعًا، وقد أُوذي من اضطهاد حكومة طرابلس لأهل بيتنا في العهد الحميدي أشد مما أوذي غيره، فكان ذلك مبغِّضًا له في تلك البلاد، ومرغِّبًا له في الهجرة إلى مصر، فلما سنحت الفرصة لحق بي فيها. *** (آراؤه وأخلاقه) وكان مستقل الفكر في الدين والأدب، وكل ما للرأي فيه مجال، قليل المبالاة بكل شئون الحياة، يأكل ما وجد متى جاع، لا ينتظر ما هو أطيب منه، وينام حيث نعس من ليلٍ أو نهارٍ، سواء كان في الحقول والبساتين أو الأندية والسمار، ويتأنق في اللباس تارة، ويتبذَّل أخرى غير حريص على أن يلقى الناس متزيِّنًا، ولا خَجِل من أن يروه متبذلاً، ولا مبالٍ أن يرتاض في عذق الأرض، أو قطع الشجر متأنقًا، سخي النفس ربما يجود بكل ما في يده على مَن يراه محتاجًا إليه، ويؤْثِره على نفسه، وإن لم تكن حاجته فوق حاجته، شديد الرحمة لمَن يراه محلاًّ لها، وشديد القسوة إذا غضب، وقد يعود فيسترضي مَن يعاقبه إذا اعتقد أنه ظُلم، راقب مرة لصًّا كان يسرق الليمون من بستانٍ لنا، حتى إذا ظفر به وهو يسرق ضربه ضربًا مُبرِّحًا، وأخذ منه مقدار ثمن ما سرق من قبل كما قدره، ولكنه خاف أن يكون مخطئًا في التقدير، أو يكون قد سبقه لص آخر، فباع من اللص ما وجده بيده بالثمن الذي تقاضاه منه، وحمله على إحلاله، والسماح عنه، وله نوادر من مثل هذه الفتوى أو الحيلة الشرعية فيما يرضي به اعتقاده وهواه معًا، كنت أُخطِّئه في بعضه. وكان فخورًا بنَسَبه وبمناقب آل البيت الطاهرين من أجداده، ويتشيع لهم، ويبغض بني أمية الذين ظلموهم، وآذوهم، وهضموا حقوقهم، وهو على هذا يجل الشيخين، ويبرئهما من كل ما رماهما به الرافضة، وما رموا به جمهور الصحابة - رضوان الله عليهم - ويعلم أن هذا قد كان بتأثير دعوى المجوس أعداء الإسلام والعرب، وقد كان في هذا الفخر والتشيع كالمرحوم الوالد، بل يفوقه فيهما، وليس في أسرتنا مَن يضارعهما في ذلك. ولاهتمامه بأمر النسب والتاريخ عُنِيَ بالبحث عن الدخلاء في بلدنا القلمون، وهم من غير السلالة الطاهرة، فعرفهم بيتًا بيتًا وفردًا وفردًا، فكان يميز بين أهلها الأصليين - وكلهم من السادة الشرفاء - وبين الدخلاء فيهم، وليس هذه العناية لأجل ضبط أفراد أسرتنا؛ فإنهم معروفون، لا يجهل أحد من الأهالي أحدًا منهم لقِلَّتهم وامتيازهم على سائر البيوت بالعلم والإرشاد، وإن ترك أكثرهم ذلك في هذه السنين الأخيرة. وكان يعرف من تاريخ لبنان الحديث ما لا يعرف إلا القليل من أهله، تلقَّى ذلك من أفواه الشيوخ الذين كان يلقاهم في دارنا، أو في قرى الكورة وغيرها. وأما ما كان بيني وبينه من الصلة والمحبة والعشرة - فهو ما يقل نظيره بين أخوين، ولقد كان أقدر على بيانه مني لو كتبه، كنا نعيش معًا، وكنت أكثر منه اشتغالاً بالعلم والعبادة؛ وكان لذلك يجلّني كإجلاله لوالده، وأساتذته، بل أشد؛ لأنه إجلال اعتقاد روحي ومحبة أخوية، وعشرة لازقة، كنا في سن المراهقة نقضي بعض أيام رمضان في كرم لنا على مسافة ميلين عن القرية، فكنت أصرف كل النهار في قراءة القرآن والصلاة، وكان لا يصلي معي إلا الرواتب، بل يلح عليَّ بأن ألعب معه، فلا أفعل، فإذا أطلت الصلاة قام أمامي فيها يبني لي محرابًا، وكنت في بعض الأيام أقرأ القرآن كله، فإن قرأت نصفه عاتبت نفسي على التقصير، كان يذكِّرني بهذا، ويذكره لغيري، يقول: كنت أعتقد أن أخي نبي من الأنبياء! فلما كبرت وعلمت أن النبوة قد خُتمت بنبينا - صلى الله عليه وسلم- صرت أعتقد أنه ولي من أعظم الأولياء، ولما فُقته في التحصيل حضر عليَّ بعض الكتب في الفنون، وكان يحضر دروسي الدينية في المسجد متعلمًا، ويعُدُّني أخًا وأستاذًا، وما زال يُكرِهني - في الأعياد، وعند التلاقي بعد سفر - على السماح له بتقبيل يدي على علمه بكراهتي لذلك، فإن تعوُّدنا على تقبيل أيدينا من الصغر لم تجعله محببًا عندي في الصغر ولا في الكبر. وكنت أقول إنني لا أعرف أحدًا يحبني كحب أخي السيد صالح إلا أن تكون الوالدة، وأما أنا فطالما أنني لم أشعر قط بأنني كنت أملك في الدنيا شيئًا من دونه، ولعلمه بذلك - كان يتصرف بكل ما هو لي تصرف المالك، حتى إنه يهب ويهدي ويتصدق، ولا يرى أنه في حاجة إلى إعلام ولا استشارة، ولم أحفظ شيئًا مما علمته من ذلك، إلا أن صديقًا لي كان قد أهدى إليَّ شيئًا مما يُحفظ للذكرى، فتفقدته مرة فلم أجده، فسألت عنه، فعلمت أنه أهداه إلى صاحب له! نعم إننا كنا شقيقين صديقين، بلغت عواطف الأخوة والصداقة، والإخلاص بيننا الغاية التي لا نعرفها عن غيرنا، وكان أشد مني عاطفة؛ لأنه عصبي المِزَاج وأنا معتدل، لا إخلاصًا ولا قيامًا بالحقوق، ولولا المزاج لكان الأصل في عاطفة الأخوة وأنسها المساواة إذا كانت التربية واحدة، وقد قلت في بيان حكمة محرمات النكاح من التفسير: (إن أُنْس أحد الأخوين بالآخر أُنْس مساواة، لا يضاهيه أُنس آخر؛ إذ لا يوجد بين البشر صلة أخرى فيها هذا النوع من المساواة الكاملة، وعواطف الود والثقة المتبادلة ... ) إلخ. وقد تزوج - رحمه الله، وغفر له - في أول سن الشباب، ولم يكن مغتبطًا بالزواج، وقد تُوفِّيت زوجته، وهي من شرائف القلمون بعد أن ولدت له غلامًا وجاريةً، وكان شديد الحب لهما، والحدب عليهما، حتى كاد يخرج بذلك عن سنن أشد الوالدات عطفًا وعاطفةً، وقد زوَّج ابنته بمصر من رجلٍ فاضلٍ كريمٍ، ولها أولاد، جعلهم قرة عين لها ولوالدهم، وولده السيد محيي الدين تربَّى في دار الدعوة والإرشاد، وهو كاتب أديب مقيم معنا، ويراسل بعض الجرائد في أقطار أخرى - وفقه الله تعالى - ورحم والده فقيدنا الكريم رحمة واسعة، وجعلنا جميعًا - مع السيدة الوالدة - من الصابرين المأجورين.

تتمة كلام الغزالي في مسألة الحلال والحرام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة كلام الغزالي في مسألة الحلال والحرام (من جواب الفتوى 23 و 24) وأما المستند الثالث: وهو أخيلها [1] أن يقال: الأموال إنما تحصل من المعادن والنبات، والحيوان، والنبات، والحيوان حاصل بالتوالد، فإذا نظرنا إلى شاة مثلاً وهي تلد في كل سنة فيكون عدد أصولها إلى زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريبًا من خمسمائة، ولا يخلو هذا أن يتطرق إلى أصل من تلك الأصول غصب أو معاملة فاسدة، فكيف يقدر أن يسلم أصولها عن تصرف باطل إلى زماننا هذا، وكذا بذور الحبوب والفواكه تحتاج إلى خمسمائة أصل، أو ألف أصل مثلاً إلى أول الشرع، ولا يكون هذا حلالاً ما لم يكن أصله، وأصل أصله كذلك إلى أول زمان النبوة حلالاً. وأما المعادن فهي التي يمكن نيلها على سبيل الابتداء، وهي أقل الأموال وأكثر ما يستعمل منها الدراهم والدنانير، ولا تخرج إلا من دار الضرب، وهي في أيدي الظلمة بل المعادن في أيدي الظلمة يمنعون الناس منها ويُلزمون الفقراء استخراجها بالأعمال الشاقة ثم يأخذونها منهم غصبًا [2] فإذا نظر إلى هذا عُلم أن بقاء دينار واحد - بحيث لم يتطرق إليه عقد فاسد، ولا ظلم وقت النَّيْل [3] ولا وقت الضرب في دار الضرب، ولا بعده في معاملات الصرف، والربا - بعيد نادر أو مُحال، فلا يبقى إذًا حلال إلا الصيد، والحشيش في الصحارى الموات، والمفاوز، والحطب المباح، ثم مَن يحصله لا يقدر على أَكْله؛ فيفتقر إلى أن يشتري به الحبوب، والحيوانات التي لا تحصل إلا بالاستنبات والتوالد، فيكون قد بذل حلالاً في مقابلة حرام، فهذا هو أشد الطرق تخيُّلاً. (والجواب) أن هذه الغَلَبَة لم تنشأ من كثرة الحرام المخلوط بالحلال، فخرج عن النمط الذي نحن فيه، والتحق بما عددناه من قبل، وهو تعارُض الأصل والغالب؛ إذ الأصل في هذه الأموال قبولها للتصرفات، وجواز التراضي عليها، وقد عارضه سبب غالب يُخرجه عن الصلاح له، فيضاهي هذا محل القولين للشافعي رضي الله عنه في حكم النجاسات، والصحيح عندنا أنه تجوز الصلاة في الشوارع إذا لم يجد نجاسة؛ فإن طين الشوارع طاهر، وإن الوضوء من أواني المشركين جائز، وإن الصلاة في المقابر المنبوشة جائزة [4] ، فنُثْبِتُ هذا أولاً، ثم نقيس ما نحن فيه عليه، ويدل على ذلك توضُّؤ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة، وتوضؤ عمر رضي الله عنه من جرَّةِ نصرانيةٍ، مع أن مشربهم الخمر، ومطعمهم الخنزير، ولا يحترزون عما نجسه شرعنا، فكيف تسلم أوانيهم من أيديهم؟ ! ، بل نقول نعلم قطعًا أنهم كانوا يلبَسون الفراء المدبوغة والثياب المصبوغة والمقصورة، ومَن تأمل أحوال الدبَّاغين والقصَّارين والصبَّاغين علم أن الغالب عليهم النجاسة، وأن الطهارة في تلك الثياب محال أو نادر، بل نقول نعلم أنهم كانوا يأكلون خبز البُر والشعير، ولا يغسلونه، مع أنه يداس بالبقر والحيوانات، وهي تبول عليه، وتروث، وقلَّ ما يخلص منها، وكانوا يركبون الدواب، وهي تعرق، وما كانوا يغسلون ظهورها، مع كثرة تمرُّغها في النجاسات، بل كل دابة تخرج من بطن أمها، وعليها رطوبات نجسة، قد تزيلها الأمطار، وقد لا تزيلها، وما كان يحترز عنها، وكانوا يمشون حُفاة في الطرق، وبالنعال، ويصلون معها، ويجلسون على التراب، ويمشون في الطين من غير حاجة، وكانوا لا يمشون في البول والعَذِرَة، ولا يجلسون عليهما، ويستنزهون منه، ومتى تسلم الشوارع عن النجاسات مع كثرة الكلاب وأبوالها، وكثرة الدوابّ وأرواثها، ولا ينبغي أن نظن أن الأعصار أو الأمصار تختلف في مثل هذا حتى يُظن أن الشوارع كانت تُغسل في عصرهم، أو كانت تُحرس عن الدواب، هيهات؛ فذلك معلوم استحالته بالعادة قطعًا، فدلَّ على أنهم لم يحترزوا إلا من نجاسة مشاهَدة، أو علامة على النجاسة دالة على العين، فأما الظن الغالب - الذي يُستبان من رد الوهم إلى مجاري الأحوال - فلم يعتبروه، وهذا عند الشافعي رحمه الله، وهو يرى أن الماء القليل ينجس من غير تغيُّر واقع؛ إذ لم يزل الصحابة يدخلون الحمَّامات، ويتوضؤون من الحِيَاض، وفيها المياه القليلة، والأيدي المختلفة تُغمس فيها على الدوام، وهذا قاطع في هذا الغرض، ومهما ثبت جواز التوضؤ من جرَّةِ نصرانيةٍ ثبت جواز حكم شربه، والتحق حكم الحل بحكم النجاسة. فإن قيل لا يجوز قياس الحل على النجاسة؛ إذ كانوا يتوسعون في أمور الطهارات، ويحترزون من شبهات الحرام غاية التحرُّز، فكيف يقاس عليه؟ ! قلنا: إن أُرِيدَ به أنهم صلُّوا مع النجاسة - والصلاة معها معصية، وهي عماد الدين - فبئس الظن، بل يجب أن نعتقد فيهم أنهم احترزوا عن كل نجاسة وجب اجتنابها، وإنما تسامحوا حيث لم يجب، وكان من محل تسامحهم هذه الصورة التي تعارض فيها الأصل والغالب، فبان أن الغالب - الذي لا يستند إلى علامة تتعلق بعين ما - فيه النظر مطرح، وأما تورُّعهم في الحلال فكان بطريق التقوى، وهو ترك ما لا بأس به مخافةَ ما به بأس؛ لأن أمر الأموال مخوف، والنفس تميل إليها إن لم تضبط عنها، وأمر الطهارة ليس كذلك؛ فقد امتنع طائفة منهم عن الحلال المحض خيفةَ أن يشغل قلبه، وقد حُكي عن واحد منهم أنه احترز من الوضوء بماء البحر، وهو الطهور المحض، فالافتراق في ذلك لا يقدح في الغرض الذي أجمعنا فيه، على أَنَّا نجري في هذا المستند على الجواب الذي قدمناه في المستندين السابقين. ولا نسلِّم ما ذكروه من أن الأكثر هو الحرام؛ لأن المال وإن كثرت أصوله - فليس بواجب أن يكون في أصوله حرام، بل الأموال الموجودة اليوم مما تطرَّق الظلم إلى أصول بعضها دون بعض، وكما أن الذي يبتدأ غصبه اليوم هو الأقل، بالإضافة إلى ما لا يغصب ولا يسرق، فهكذا كل مال في كل عصر وفي كل أصل، فالمغصوب من مال الدنيا، والمتناول في كل زمان بالفساد، بالإضافة إلى غيره - أقل، ولسنا ندري أن هذا الفرع بعينه من أي القسمين، فلا نسلم أن الغالب تحريمه؛ فإنه كما يزيد المغصوب بالتوالد يزيد غير المغصوب بالتوالد؛ فيكون فرع الأكثر لا محالة في كل عصر وزمان أكثر، بل الغالب أن الحبوب المغصوبة تُغصب للأكل لا للبذر، وكذا الحيوانات المغصوبة أكثرها يُؤكَل، ولا يُقتنَى للتوالد، فكيف يقال: إن فروع الحرام أكثر، ولم تزل أصول الحلال أكثر من أصول الحرام، وليتفهَّم المسترشد من هذا طريق معرفة الأكثر؛ فإنه مزلَّة قدم، وأكثر العلماء يغلطون فيه، فكيف العوام؟ ! هذا في المتولّدات من الحيوانات والحبوب، فأما المعادن فإنها مخلاة مسبلة يأخذها في بلاد الترك وغيرها مَن شاء، ولكن قد يأخذ السلاطين بعضها منهم، أو يأخذون الأقل لا محالة لا الأكثر، ومَن حاز من السلاطين معدنًا، فظلمه بمنع الناس منه، فأما ما يأخذه الآخِذ منه فيأخذه من السلطان بأجرة. والصحيح أنه يجوز الاستتابة في إثبات اليد على المباحات والاستئجار عليها، فالمستأجر على الاستقاء إذا حاز الماء دخل في ملك المستقى له، واستحق الأجرة، فكذا النيل [5] فإذا فرعنا على هذا لم تحرم عين الذهب إلا أن يُقَدَّرَ ظلمه بنقصان أجرة العمل وذلك قليل بالإضافة، ثم لا يوجب تحريم عين الذهب، بل يكون ظالمًا ببقاء الأجرة في ذمته. وأما دار الضرب فليس الذهب الخارج منها من أعيان ذهب السلطان الذي غصبه، وظلم به الناس، بل التجار يحملون إليهم الذهب المسبوك أو النقد الرديء، ويستأجرونهم على السبك، والضرب، ويأخذون مثل وزن ما سلموه إليهم إلا شيئًا قليلاً يتركونه أجرة لهم على العمل، وذلك جائز، وإن فرض دنانير مضروبة من دنانير السلطان، فهو بالإضافة إلى مال التجار - أقل لا محالة، نعم، السلطان يظلم أُجَراء دار الضرب بأن يأخذ منهم ضريبته؛ لأنه خصصهم بها من بين سائر الناس حتى توفر عليهم مال بحشمة السلطان، فما يأخذه عوض من حشمته، وذلك من باب الظلم وهو قليل، بالإضافة إلى ما يخرج من دار الضرب، فلا يسلم لأهل دار الضرب والسلطان من جملة ما يخرج منه من المائة واحد، وهو عشر العشير، فيكون هو الأكثر. فهذه أغاليط سبقت إلى القلوب بالوهم، وتشمر لتزيينها جماعة ممن رَقَّ دينهم حتى قبَّحوا الورع، وسدوا بابه، واستقبحوا تمييز مَن يميز بين مالٍ ومالٍ، وذلك عين البدعة والضلال، فإن قيل فلو قدر غلبة الحرام، وقد اختلط غير محصور بغير محصور، فماذا تقولون فيه إذا لم يكن في العين المتناولة علامة خاصة (فنقول) الذي نراه أن تركه ورع، وأن أخذه ليس بحرام؛ لأن الأصل الحل، ولا يُرفع إلا بعلامة معينة كما في طين الشوارع ونظائرها، بل أزيد وأقول لو طبق الحرام الدنيا حتى عُلم يقينًا أنه لم يبقَ في الدنيا حلال - لكنت أقول نستأنف تمهيد الشروط من وقتنا، ونعفو عما سلف، ونقول ما جاوز حده انعكس إلى ضده، فمهما حرم الكل حل الكل، وبرهانه أنه إذا وقعت هذه الواقعة فالاحتمالات خمسة: أحدها: أن يقال يدع الناس الأكل حتى يموتوا من عند آخرهم. الثاني: أن يقتصروا منها على قدر الضرورة وسد الرمق يزجّون عليها أيامًا إلى الموت. الثالث: أن يقال يتناولون قدر الحاجة كيف شاءوا سرقة، وغصبًا، وتراضيًا من غير تمييز بين مال ومال وجهة وجهة. الرابع: أن يتبعوا شروط الشرع، ويستأنفوا قواعده من غير اقتصار على قدر الحاجة. الخامس: أن يقتصروا مع شروط الشرع على قدر الحاجة. أما الأول: فلا يخفى بطلانه، وأما الثاني: فباطل قطعًا؛ لأنه إذا اقتصر الناس على سد الرمق، وزجوا أوقاتهم على الضعف، فشا فيهم الموتان، وبطلت الأعمال والصناعات، وخربت الدنيا بالكلية، وفي خراب الدنيا خراب الدين؛ لأنها مزرعة الآخرة وأحكام الخلافة والقضاء والسياسات، بل أكثر أحكام الفقه مقصودها حفظ مصالح الدنيا؛ ليتم بها مصالح الدين. وأما الثالث وهو الاقتصار على قدر الحاجة من غير زيادة عليه، مع التسوية بين مال ومال بالغصب، والسرقة، والتراضي، وكيف ما اتفق فهو رفْع لحكم الشرع، وفتح لباب سدَّه الشرع بين المفسدين، وبين أنواع الفساد، فتمتد الأيدي بالغصب والسرقة وأنواع الظلم، ولا يمكن زجرهم عنه؛ إذ يقولون ليس يتميز صاحب اليد باستحقاق عنا، فإنه حرام عليه وعلينا، وذو اليد له قدر الحاجة فقط، فإن كان هو محتاجًا فإنَّا أيضًا محتاجون، وإن كان الذي أخذته في حقي زائدًا على الحاجة فقد سرقته ممن هو زائد على حاجة يومه، وإذا لم نراعِ حاجة اليوم والسنة، فما الذي نراعي؟ ، وكيف يضبط؟ ، وهذا يؤدي إلى بطلان سياسة الشرع، وإغراء أهل الفساد بالفساد. فلا يبقى إلا الاحتمال الرابع، وهو أن يقال كل ذي يد على ما في يده، ويقال هو أَوْلَى به لا يجوز أن يؤخذ منه سرقةً وغصبًا، بل يؤخذ برضاه، والتراضي هو طريق الشرع، وإذا لم يَجُزْ إلا بالتراضي فللتراضي أيضًا منهاج في الشرع تتعلق به المصالح، فإن لم يعتبر فلم يتعين أصل التراضي، وتعطل تفصيله. وأما الاحتمال الخامس - وهو الاقتصار على قدر الحاجة مع الاكتساب بطريق الشرع من أصحاب الأيدي - فهو الذي نراه لائقًا بالورع لمَن يريد سلوك طريقة الآخرة، ولكن لا وجه لإيجابه على الكافة، ولإدخاله في فتوى العامة؛ لأن أيدي الظلم تمتد إلى الزيادة على قدر الحاجة في أيدي الناس، وكذا أيدي السُّرَّاق، وكل مَن غلب سلب، وكل مَن وجد فرصة سرق، ويقول لا حق له إلا في قدر الحاجة، وأنا محتاج، ولا يبقى إلا أن يجب على

إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إسلام الأعاجم عامة والترك خاصة (س 25) من صاحب الإمضاء (في كندا) يا صاحب الفضيلة: لي الشرف أني أعرض على مسامعكم، ونأخذ لنا قاعدة من فضيلتكم، وأنتم أهل لها؛ لكي يستقيم الحق، ويزهق الباطل، وتنشرح الصدور، ولكم الأجر والثواب، رفعكم العزيز الوَهَّاب. يا صاحب الفضيلة: سؤالي لمقامكم العالي عن الأتراك والأعاجم: ما هم؟ ! ، هل هم إسلام كما يزعمون؟ ! ، وهل هم صادقون سرًّا وجهرًا؟ ! ، أم هم كما يزعم البعض في هذه الأيام أن الأتراك خصوصًا غير إسلام لا سمح الله بذلك؟ ! ، وهذا خلاف ما نعهد بهم، وكيف نسمع في هذه الأيام عنهم مثل هذا من رجال كنا نَعُدُّهم قوامًا للأمة، ومنهم الفاضل ... قال - في كتاب مخصوص لي - بهذا الأمر: إن القوم هم أعداء الإسلام، وإنه يجب أن لا يهتم بهم، ولا مصطفى باشا، وقوله عنه: هذا التتاري، وإنهم - أي الأتراك - هم سبب انحطاط الإسلام إلى هذه الحالة، وإن السلطان الفاتح عقد محالفة مع فرديناند على قتل عرب الأندلس، وإنه ربط البحور، وسدّ المنافذ بوجه مَن ينجدهم من إخوانهم حتى قُتلوا جميعًا ... إلخ، وقوله عن السلطان عبد المجيد، ومحمود أطلقوا يد الإباحة فيما يخالف الدين بدل أن يمنعوا، وتغييرهم الزي إلى الإفرنجي الذي يعيق المسلم عن الوضوء من ضيق اللباس - الله أكبر لذلك - وقوله عن السلطان سليم السلطان الأحمر الأول، واغتياله للخلافة من العباسي الفاطمي بمصر، وبقْره بطون الأمهات لقتل الجنين لأجل أن لا يعود يطالبه بالخلافة الوهمية، نعوذ بالله من هذه الفعال التي كانت عنا بطي الغيب إن كانت صدقًا، وكيف يدعوه المسلمون أمير المؤمنين وخليفة الله في أرضه؟ ! ويزعم في الطورانيين أن باكورة أعمالهم قتل العرب، وتبديل القرآن، وأنهم نزلوا في الحرب لأجل هذا، ويحلف اليمين على ذلك، وأن علماء الإسلام يعرفون هذا كله، كما يعرفون دينهم الشريف، وسكتوا عن المرض حتى وصلنا لما نحن عليه، ومثل هذا كثير من أعمالهم، وحيث إني على غير علم بشيءٍ من هذا كله - قبل الآن - أتيت لكي أستنير من مناركم الشريف؛ لكي يهدأ روعي من وخز الضمير لهذه الأخبار، عسى أن تلبّوا تلميذكم من كرمكم الذي وهبكم إياه رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد النبي الكريم وآله وصحبه الطاهرين. نرجوكم أن تفتنونا عن سؤالنا إما خصوصيًّا، وإما بنشرها بالمنار؛ لكي يكون واضحًا، ونكسب إيمانًا بإيمانكم إن شاء الله، وتكونوا قدمتم خدمة يرضى بها عنكم الله ورسوله والمؤمنون مع الثواب، وبإفتاكم نحصل على الحكمة، وفصل الخطاب. حسين عبد الرحمن دسوقي (المنار) اعلم - أيها المسلم المخلص الغيور - أن إسلام شعوب الأعاجم من الترك، والفرس، والأفغان، والتتار والهند، والصين، والملاو وغيرهم كإسلام الشعب العربي، وأن العرب في هذا العصر لا يستطيعون أن يفضلوا أنفسهم على الترك، ولا على غيرهم من العجم في علم من علوم الإسلام، ولا عمل يعتز به المسلمون، بل يعتقد أكثر المسلمين من العرب والعجم أن الأمر بالعكس؛ حتى إنني سمعت أحد أمراء الفرس وفي أوربة يقول: لولا مصطفى كمال باشا لكان كل مسلم في الأرض ذليلاً، ولكن العرب يفضلون جميع الأعاجم بما يعترف لهم به كل مسلم منهم، وهو كوْن خاتم رسل الله - صلى الله عليه وسلم - والسواد الأعظم من أصحابه (رضي الله عنهم) من صميم العرب، وهم الذين أقاموا دين الله كما أنزله، وهدى الله بهم وبتابعيهم وتابعي تابعيهم مَن هدى من الأعاجم، الذين شاركوا العرب - بعد ذلك - في تدوين علوم الإسلام وفنون لغته، ثم في إقامة مُلكه، وإعلاء كلمته. وأما فتنة التنازع على المُلك والخلافة - وما تبعها من سفك الدماء - فقد كان العرب هم الذين أوقدوا نارها أولاً، وزلوا بالإمامة الكبرى عن صراطها الذي وضعها فيه كتاب الله تعالى وهَدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهو اختيار أهل الحل والعقد لمَن يرون فيه الكفاءة والكفاية بالعلم والعمل من زعماء قريش، وجعلوها ملكًا عَضوضًا، مدارُهُ على قوة العصبية، ثم أهملوا وقصروا في إحكام قوة العصبية، واتَّكل بعض الخلفاء من العباسيين على عصبية الفرس، ثم تحولوا عنهم إلى عصبية الترك، حتى آل أمرُهم إلى إضاعة الخلافة والملك، فإذا كان لبعض سلاطين الترك سيئات - فيما رأوه خطأً أو صوابًا معززًا لملكهم - فقد سبقهم العرب إلى مثل ذلك في حصار الأمويين لمكة وهدْمهم للكعبة المشرفة، واستباحتهم للمدينة المنورة، وفي ظلمهم وظلم العباسيين من بعدهم لآل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسفْك دماء الكثير منهم ومن غيرهم بالشبهة، وتهم السياسة. وأما البدع في الدين والفسق عنه فقد فشيا في جميع الشعوب الإسلامية في القديم والحديث؛ حتى صار المتشدد في ترْكها، وإنكارها على أصحابها يُرمَى بالابتداع، كما يفعل أهل مكة، وأهل الشام وغيرهم؛ إذ يسمون أهل نجد مبتدعة، ويسمون أنفسهم سُنِّيَّة! ثم اعلم - أيها السائل المخلص - أن سبب طعن بعض العرب في الترك في هذه السنين الأخيرة هو السياسة، وأن الذي أثار هذه الفتنة جمعية الاتحاد والترقي التي فُتنت بالعصبية الجنسية الطورانية أشد فتنة، ولا شك عندي في أن بعض زعمائها من الملاحدة، ولا في أنهم حاربوا الإسلام، وأرادوا إضعاف سلطانه الروحي؛ تمهيدًا لإزالة سلطانه السياسي، ولا في أنهم هم الذين نشروا تلك الكتب الكثيرة المشتملة على الطعن فيه، وصد الترك عنه، وأن في متفرنجي الترك كثيرًا من المرتدين، الذين راجت هذه الدعوة فيهم، وقد بينا هذا من قبل لإنكار المنكر، والأمر بالمعروف، والتحذير من عواقب هذه الفتنة؛ لئلا تكون هي القاضية على الدولة، التي هي على ضعفها أقوى سياج لهذه الملة (الإسلامية) ، وقد وقع ما توقعناه من شرها، وحذَّرْنا التركَ منه مشافهةً لكبرائهم في الآستانة وكتابةً في جرائدها وفي المنار. ولولا هذه الفتنة التي اصطلى بنارها ألوف من شبان العرب، وكهولهم في الآستانة، ثم في غيرها، وما كان من فظائع جمال باشا في سورية بسببها - لما وقعت الثورة الحجازية، وكانت أحد أسباب ما وقع من المصائب على الأمة الإسلامية، التي كان ضررها على العرب أشد من ضررها على الترك. ثم أخبرك مع هذا بأن في شبان العرب - الذين ناهضوا الترك، وعادوهم - ملاحدة كمَن ذكرنا من الترك؛ لأنهم تعلموا، وتربوا في مدارس واحدة، ولما نصحنا لمَن لجأ منهم إلى الحجاز في أثناء الثورة بأن يحترموا بيت الله، ولا يُظهروا شيئًا من إلحادهم فيه - غضب علينا ملك الحجاز، ومنع المنار من الحجاز، كما بينا ذلك من قبل. ثم أخبرك أن الاتحاديين قد عرفوا بعد الانكسار في الحرب العامة خطأهم، واعترف لي مَن لَقِيتُ في أوربة منهم بذلك، وهم يجتهدون الآن في إحياء الجامعة الإسلامية لا يختلف في ذلك المتدين منهم بالفعل مع غيره، حتى إن جمال باشا - وهو أشدهم إجرامًا، وعصبية طورانية -قد خدم الدولة الأفغانية الإسلامية الفتاة أجلّ خدمة، كما أخبرك أن جمهور الترك كانوا قد سخطوا عليهم في أثناء الحرب، وأظهروا الطعن فيهم، وعزموا على الثورة عليهم، والتنكيل بهم، وأكد لي بعض المؤمنين منهم في أوربة أن الدولة لو انتصرت لقامت فيها ثورة داخلية بسبب حنق السواد الأعظم من الترك عليهم. وجملة القول أن الترك كالعرب، السواد الأعظم منهما مسلمون مقلدون، وفي كُلٍّ منهما علماء مستقلون ومتمذهبون، وفي كل منهما ملاحدة ومبتدعون، وصالحون وفاسقون، وإن الترك خير من العرب استمساكًا بما يجب من المحافظة على الاستقلال والسلطان القومي والعمل للجامعة الإسلامية، وإنه لا فائدة لأحد من الفريقين في الطعن بالآخر، والبحث عن عيوبه القديمة والجديدة الآن، بل ذلك ضارّ بهما، ومفيد لأعدائهما، فلا حاجة إذًا إلى البحث فيما كان من تقصير السلطان محمد الفاتح في إغاثة مسلمي الأندلس، والدفاع عنهم، أو مساعدته على القضاء عليهم، ولا في قسوة حَجَّاج الترك السلطان سليم، وإسرافه في سفك الدماء، على أنه أعز دولة الإسلام، وأذل أعداءها؛ فكان خيرًا من حَجَّاجنا، وأما الطعن في دين السلطان محمود بتغييره للزي العثماني الرسمي، واستبداله الزي الإفرنجي به فهو ظلم مبين؛ فإن الزي العثماني السابق لم يكن زيًّا دينيًّا، والدين لم يأمر بالتزام زي خاص، وما صَحَّ من نهينا عن التشبه بغيرنا يُراد به أن الإسلام قد جعلنا أئمة متبوعين لا تابعين لغيرنا، ولو في المباح كالزي، ولكن التشبه لا يتحقق إلا بالقصد والمحاكاة التي يشتبه فيها المتشبه بالمتشبَّه به فيما فيه التشبه، ولا يسهل تطبيق ذلك على عمل السلطان محمود، الذي أدخل به الإصلاح العسكري الجديد في الدولة، فأنقذها من فوضى الإنكشارية التي كادت تقضي عليها، ولم يكن الزي الذي اختاره عائقًا عن الصلاة، وإنما يعوق عنها ما أُحدث بعد ذلك من السراويلات الحازقة (الضاغطة) كالتي يلبَسها ضباط الشرطة (البوليس) بمصر، وقد فصلنا القول في اللباس والتشبه من قبلُ. وأما ادعاء أن السلطان محمود والسلطان عبد المجيد أباحا مخالفة الدين، فلا ندري من أين جاء بها ذلك الذي كتبها إليكم، وكان ينبغي لكم أن تسألوه عن حجته عليها، فالمشهور عنهما خلاف ذلك، حتى إن الترك يضربون المثل بشدة تديُّن عبد المجيد بكل ما يفهم به الدين جماهير المسلمين من الترك والعرب، على أن هذا الوقت لا يفيدنا فيه أن نبعثر القبور، ونحصِّل ما في الصدور، ولا لأجل تمحيص التاريخ في هذا الموضوع، فكيف إذا كان الغرض من البحث إثارة العداوة بين أكبر شعوب المسلمين، وهو أقرب الطرق لاستذلال الأجنبي لهما جميعًا، فهذا ما نراه من الجواب موافقًا لمقتضى الحال، والسلام على مَنِ اتبع الهُدى، ورجح الحق على الهوى.

مدنية القوانين ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدنية القوانين أو سعي المتفرنجين إلى نبذ بقية الشريعة الإسلامية (1) مقدمة تمهيدية قررت الدولة البريطانية إلغاء الحماية التي كانت ضربتها على مصر، واعترفت لها بأنها دولة دستورية ذات سيادة، واعترف لها بذلك الدول الكبرى وغيرها، وألفت الحكومة المصرية لجنة لوضع قانون أساسي للدولة المصرية، وكان مما وضعته هذه اللجنة من مواد الدستور الأساسية أن دين الدولة المصرية الرسمي هو دين الإسلام، وأنه يُشترط في ملكها أن يكون مسلمًا ثابت النسب في بيت الملك العلوي بزواجٍ شرعيٍّ، فساءت هذه المواد بعض ملاحدة المتفرنجين المقلدين لأعداء الأديان من الإفرنج في الدعوة إلى التفصِّي من روابط الدين، ولا سيما السياسية والاجتماعية منها، وهي التي يبدءون بها؛ لعِلمهم بأن الروابط الروحية لا سبيل إلى إبطالها، ومَحْوها من الأمة، ولكنها تضعف، ويتركها أهلها بالتدريج، إذا لم يكن لهم - ولا لها - شأن في الحكومة، ولا في الروابط الاجتماعية العامة. قام كاتب منهم في هذه الأيام يقترح من الإصلاح لمصر في عهد الاستقلال والدستور أن توحد قوانينها؛ لتُجعل كلها مدنية بوضع قانون مدني للأحوال الشخصية من زواج وطلاق وغير ذلك، ويعنون بالمدني ما يقابل الديني، واحتج هذا المقترِح على رأيه بأن الشريعة الإسلامية غير عادلة؛ لأنها تبيح للمسلم أن يتزوج يهودية أو نصرانية، ولا تبيح أن يتزوج غير المسلم امرأة مسلمة! ساء المسلمين هذا الاقتراحُ، وأنه صادر عن كاتب يُعَدُّ منهم، ورد عليه كثيرون في جريدة الأهرام التي نشر فيها وفي غيرها من الجرائد، ونزل بعض علماء الأزهر هذه المرة في الميدان، فكتب أفراد منهم مقالات في الرد، منها اللطيف اللين في القول الذي لم يَسُؤْ المردود عليه، ومنها الشديد الوطأة الذي ساءه وعدَّه ذمًّا وطعنًا، لا تخطئةً ونقدًا، وقد تبارت الأقلام في بيان حكمة الشرع الإسلامي في إباحة التزوج بالكتابية دون تزويج الكتابي مسلمة، فأجادت، على أن كل واحد مما اطلعنا عليه منها ترك لغير صاحبه في ذلك مقالاً. وقد ذاكرني بعض علماء الدين وطلبة الأزهر وغيرهم في ذلك، ورغبوا إليَّ أن أكتب في الرد ما يرجون أن يكون حزًّا في المفصل، وضربًا على الأكحل، وأنا أعلم أن جميع قراء المنار ينتظرون ذلك مني، ولا يرون أنهم في حاجة إلى الطلب والاقتراح لما تعوَّدوه من تتبُّع المنار لأمثال هذه المطاعن في دين الإسلام الحق، وشرعه العدل، والرد عليها بما كانوا يعدونه القول الفصل، ولكنني لم أبادر إلى الرد لعِلمي بأنه من فروض الكفاية التي تسقط بقيام بعض المسلمين بها، وكنت أنتظر لأرى هل يتناول ما يكتبون جميع ما أرى أنه ينبغي أن يُكتَب، فأكون في حِلٍّ من ترك الكتابة، فرأيت كل ما اطلعت عليه خِلْوًا من أهم ما أرى وجوب البحث فيه، ورأى مثل هذا أفضل مَن كلمني في المسألة من أهل العلم والرأي، ولا سيما بعد أن ذكرت له بعضه، فأعاد عليَّ ما بدأ من الاقتراح والرغبة، فوعدته كما وعدت غيره. *** مسألة التزوج بالكتابية وعدم تزويج الكتابي إن أهون ما في مطالبة الحكومة المصرية بجعْل قانون الأحوال الشخصية مدنيًّا لا دينيًّا - ذلك الاستدلال الضعيف على الحاجة إلى ذلك بدعوى عدم عدل الشريعة في مسألة أو مسألتين من النكاح، فلو لم تُعرف حكمة للشريعة في الفرق بين المسألتين تقتضي عدم تساوي الحكم فيهما - لما جاز للعاقل أن يعترض عليها، ويَعُدَّها غير عادلة، ولا مساوية بين المسلم وغيره؛ لأن المساواة إنما تُطلب في الأحكام المفروضة على متَّبِعي الشريعة والمتقاضين إلى حكامها، وهذه المسألة خاصة بما يباح للمسلم، وما يحرم عليه في النكاح دينًا، وغير المسلم لا يُخاطَب بالعمل بفروع الشريعة فيما يباح له، ويحظر عليه مما هو خاص به، لِتَساوٍ بينه وبين المسلم فيه، وهي لا توجب على المسلم أن يتزوج كتابية، ولا تُلزم الكتابي أن يزوجه ابنته إذا طلبها، ففي استطاعة الكتابي أن يكون مساويًا للمسلم إذا رأى ذلك خيرًا له، بأن لا يزوجه. على أن النص القطعي في القرآن إنما ورد بالنهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين، وبحل نكاح المحصنات من أهل الكتاب، ولم يصرح بتحريم إنكاحهم، ولكن ذهب بعض الفقهاء إلى أن المشركين والمشركات في آية البقرة يشمل أهل الكتاب، ثم جاءت آيه المائدة بحل نكاح الكتابيات، فكانت ناسخة أو مخصصة لآية البقرة، والشيعة يحرمون نكاح الكتابية، والتحقيق أن المراد بالمشركين والمشركات في الآية خاص بالعرب منهم، كما رُوي عن قتادة وغيره، واختاره ابن جرير، وأن أهل الكتاب - وإن أُسند إليهم الشرك - فعنوان المشركين عند إطلاقه لا يعمهم، ومن الفقهاء مَن يقول: إن العمدة في تحريم إنكاح غير المسلمين أن الأصل في النكاح التحريم حتى يرد النص، ولم يرد إلا بالمؤمنة والكتابية، ويمكن النزاع في هذا الأصل وأن يقال: إن الأصل في جميع عقود الناس الصحة والحل حتى يرد شرع بخلاف ذلك، وأن يُستدل على ذلك بإقرار مَن يدخل في الإسلام على نكاحه قبله، وبإقرار أهل الذمة على أنكحتهم، والحكم بمقتضى ذلك عند تحاكُمهم إلينا وبقوله تعالى - بعد بيان محرمات النكاح من سورة النساء -: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} (النساء: 24) ، وغرضنا من هذا أنه لو لم يكن لدينا من الدلائل والحكم ما نؤيد به المسألة المعترَض عليها لكان لنا أن نقول: إن الاعتراض لا يرد على أصل الشرع القطعي، بل على مسألة فرعية من مسائله، اتفقت فيها المذاهب لسد ذريعة الفساد الذي سنبينه، وهو ما عُلل به النهي عن مناكحة المشركين في النص، على ما بينهم وبين غيرهم من الفرق. بل نقول: إن هؤلاء المتفرنجين - ولا سيما علماء القانون منهم - لو عرفوا جميع ما يتعلق بهذه المسألة من الأحكام والحِكَم لعدّوها مما يفاخر به المسلمون جميع أهل الملل والأديان بحرية الدين، وترغيبه في مودة غير المسلمين؛ فإن الإسلام قد جاء لإصلاح ما أفسد البشر من دين الرسل ولتكميله وإتمامه، وقد كانت جميع الأمم عند بعثة خاتم الرسل - صلى الله عليه وسلم - تحقر النساء، وتهضم حقوقهن، فجاء الإسلام بالقاعدة العليا التي لا تعلوها - ولن تعلوها - قاعدة، وهي قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) ، أي درجة الولاية ورياسة الأسرة، وكانت حرية الدين مفقودة عند جميع الملل، فجاء بالقاعدة العليا فيها، وهي قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (البقرة: 256) . فالشريعة تفرض على المسلم - الذي يتزوج امرأة غير مسلمة - أن يسمح لها بأداء عبادات دينها في الدار وفي المعبد كما تشاء، ولا يخشى أن تسمع منه تكذيبًا لأصل كتابها، ولا للرسل الذين تؤمن بهم وتحبهم؛ لأنه يؤمن بذلك، فهو إذا تزوجها، وأقام أحكام الشريعة، وحكَّمها فيها يكون ذلك الزواج من أكبر أسباب التآلف والمودة بين الزوجين؛ لأن روح الزواج وسره الأدبي هو ما بيَّنه تعالى بقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) ، وقد يسري التآلف من الزوجين إلى عشائرهما وإلى أقوامهما. ولو تزوج غير المسلم بالمسلمة - وهو لا يَدين الله كالمسلم بحُرية الدين التي توجب عليه أن يسمح لها بأداء واجبات دينها، وإقامة شعائره، ولا يدين الله كالمسلم بمساواة النساء للرجال بالمعروف، فيما عدا تلك الدرجة فقط، ولا يُؤْمَن أن يفتنها، وينطق أمامها بتكذيب كتابها ورسولها - لكان ذلك ظلمًا لها في دينها ودنياها، وسببًا للضغائن والعداوة بين العشيرتين، وإذا تعدد يكون سببًا لانتشار العداوة في أهل الملتين. ولا يُعترض على هذا باختلاف أحوال الأمم، وكوْن الكثيرين من مسلمي زماننا يظلمون النساء في دينهن ودنياهن، وكثير من غيرهم لا يظلمنهن ظلمهم، بل يعاملوهن بما يرضيهن، فإن أحكام الدين موضوعة لمَن يتبعون الدين عن إيمان وإذعان نفسي، وإلا فإن من الدعاة إلى هدم شريعة الإسلام مَن يسمون بأسماء المسلمين، ويشاركونهم في جميع حقوق المسلم على المسلم من إرثٍ ووقف وزواج وغير ذلك. لا نطيل القول في هذه المسألة لما علم القارئ من أنها فرعية وثانوية في موضوع البحث، ولما سبق لنا من القول فيها في التفسير والفتاوى؛ ولأن العلماء الكرام الذين ردوا على مقترح مدنية القوانين - أحسنوا فيما كتبوا فيها، بل نكتفي بهذه الكلمة، ونطيل بعض الإطالة في الأمر الأهم، والبلاء الأعظم، وهو الدعوة إلى ترك الشريعة الإسلامية، ونبذها وراء الظهور، حتى في الأحكام الشخصية التي تتعلق بما يدين المسلمون ربَّهم به، فيما يُحِلّ لهم، ويُحَرِّم عليهم في أمر النساء والنسل والإرث، بحيث تكون حكومتهم مكرِهة لهم على ما يعتقدون أنه محرم عليهم، وأنهم يعاقَبون عليه في الآخرة، وأن استحلاله كفر بالله وبكُتُبه ورسله، وما في ذلك من الضرر على الأمة في دنياها التي هي أكبر هَمِّ هؤلاء المتفرنجين. غرض المتفرنجين والإفرنج من إبطال الشريعة: هذا الفريق من المتفرنجين ربيب بعض ساسة الإفرنج الذين سَعَوْا لتحويل حكومة مصر وغيرها عن أحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية، والعقوبات وغيرها، واستبدال قوانينهم بها، فكان لنجاحهم تأثير عظيم في إضعاف مقوماتنا المِلِّية بإعراضنا عن أصول التشريع الذي قامت به مدنيتنا العربية الزاهرة، وعن تاريخ هذه المدنية، وعظماء رجال الشرع من أئمة مجتهدين وحكام عادلين، فأصبحت الأمة بذلك مهينة في نفسها؛ لأنها لا تعرف لها سلفًا صالحًا تفخر به، وتهتدي بهَدْيه في أشرف مقومات الأمم المدنية، وهو الشرع العادل، والحكومات المعمرة، وحل محل احتقارها لنفسها تعظيم الأجانب الطامعين فيها، الساعين لتقطيع جميع روابطها؛ ليسهل عليهم استعبادها. وإن هؤلاء التلاميذ لَيعملون لأساتذتهم ما لا يستطيع أولئك الأساتذة أن يعملوه بأنفسهم، وهم لا يشعرون أنهم يخدمون الأجانب، بل يحسبون أنهم يخدمون بلادهم وأمتهم بالصعود إلى مستوى أولئك الأجانب في الحضارة، فإنهم لا يُتَّهمون كما يتهم الأجنبي؛ لأن المسلمين يعدونهم منهم، وقلما يدعو أجنبي دعوة صريحة - في بلاد إسلامية - إلى ترك أحكام الشريعة، بل هم يسيرون في حل الرابطة الإسلامية في شعوب المسلمين من طريقين: (أحدهما) : تعليم المدارس الخاصة بهم كمدارس دعاة النصرانية (المبشرين) في بلاد الإسلام، ومدارس بلادهم التي يرحل إليها الطلاب المسلمون، ومدارس الحكومة التي يسيطرون عليها، ولهم في كل نوع منها أسلوب خاص، (والطريق الثاني) : إقناع المتفرنجين من الأمراء والحكام والكُتَّاب بوجوب الفصل بين الدين والحكومة، وبأن الشرع المبني على أصول الدين لا يصلح لترقي البشر الدنيوي. وبأن الشرع الإسلامي قد وُضع لأمة بدوية أو قريبة من البداوة؛ فلا ينطبق على مصالح الناس في هذا العصر، وبوجوب توحيد قوانين الأمة، وجَعْلها موافِقةً لجميع أهل الأديان في الوطن الواحد ومساوية بينهم. وطالما كشفنا هذه الشبهات في المنار، وبيَّنَّا الحق فيها، وأنه لا يرد على الشريعة الإسلامية ش

الرحلة الأوربية ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة الأوربية (4) أحمد عزت باشا العابد: لما وصلنا إلى جنيف كان قد جاءها من باريس أحمد عزت باشا العابد من كبار وجهاء وأغنياء سورية والذي كان الكاتب الثاني عند السلطان عبد الحميد، فاجتمعنا به زائرين، ودعوناه إلى حضور المؤتمر، فاعتذر بأنه مضطر إلى السفر إلى باريس لأعمال مالية يضره تأخيرها، وقال: إنه يشرح لنا رأيه فيما ينبغي أن نطلبه من تخفيف وطأة الوصاية على سورية، وهو ما كان طلبه بنفسه من وزراء فرنسة. فرددت عليه بأننا نحن طلاب استقلالٍ مطلقٍ من قيود الوصاية لا طلاب وصاية خفيفة، وأكبر عار على السوريين أن يقبلوا الوصاية، أو يسكتوا عن رفضها، ويقعدوا عن السعي لدرء نائبتها. ثم قلت له سرًّا: إنني أعلم أنك تخاف الفرنسيس أن يضروك إذا اتحدت معنا، وانتظمت في مؤتمرنا، ويمكنك أن تتلافى هذا الضرر بأن تمنَّ عليهم بأنك حاولت أن تخدمهم بالتوسط بيننا وبينهم، وجعْل دخول المؤتمر وسيلة إلى ذلك، ويمكنك أن تذكر ذلك لمَن تلقاه منهم في باريس، حتى الرئيس موسيو بريان، فلعلهم يأذنون لك بالعودة إلى هنا، ومساعدتنا على هذه الخدمة الوطنية، وأنت بمأمن من الضرر والاعتداء على أملاكك في الشام. قال: وفي الباطن أكون مع مَن؟ قلت: أنت بالطبع منا ومعنا في خدمة وطنك، وكُلٌّ يسلك طريقًا، والغاية واحدة، فأعجبه هذا الرأي فيما ظهر لي من وجهه وقوله؛ إذ قال: إنه يجتهد أن يعود من باريس إذا تمكن من إتمام عمله قبل انفضاض المؤتمر. كان هذا الحديث في يوم السبت (20 أغسطس) ، وفي اليوم التالي زارنا قبل ذهابه إلى المحطة للسفر إلى باريس، فأعدت الحديث معه في وجوب مساعدة المؤتمر بنفسه وماله، وأتيته بدلائل وآيات، دينيات، وعقليات، وأدبيات، حتى حلف لي بالطلاق بأنه سيجتهد في العودة إلينا! وإن أدري أيجتهد في إقناع الحكومة الفرنسية، وإرضائها بذلك، أم في غير ذلك، وأما المساعدة المالية فقال: إنه مستعد لها، ولكن مثل هذا العمل يجب أن يشترك فيه جميع أغنياء البلاد، ومَن هو أكبر منهم كالملك حسين. قلت: نعم، إن ذلك واجب على الجميع، وعلى الملك حسين، وأولاده الذين كانوا من أسباب وقوع البلاء في هذه البلاد، ولكن تقصير بعض الناس فيما يجب عليهم لا يكون عذرًا لغيرهم، وعلى كل أحد أن يطالب نفسه بالواجب قبل أن ينظر إلى غيره ... وما أشبه هذا الكلام، الذي قابله بالتسليم، والاستحسان، ثم سافر إلى باريس، ومنها إلى الآستانة لأجل تعاهد أملاكه فيها، ومطالبة الدولة بصرف ما يستحقه من المعاش (التقاعد) على ما هي عليه من الفقر، وما منيت به من المصائب، والنوائب، ومنها فقد البلاد العربية كلها، على أن معظم ثروته العظيمة من خيرها وفضلها. زيارة رئيس لجنة الوصايات في جمعية الأمم: وفي أصيل يوم الأربعاء (24 أغسطس) زُرنا رئيس لجنة الوصايات لجمعية الأمم موسيو (رابار) ، وهو من علماء سويسرة وأغنيائها، مستقل الفكر، مهذب الأخلاق، وكان توفيق أفندي اليازجي أخذ لنا موعدًا منه بهذه الزيارة؛ لأنه عرفه من قبل، وذهب معنا رفيقانا وهبي أفندي العيسى، ويوسف أفندي سالم، وأما الأمير ميشيل، فكان قد خرج من جنيف لزيارة شقيقته في مصطافها. وبعد التعارف دار الحديث بيني وبينه في مسألتنا، وكان المترجم بيننا زميلنا وهبي أفندي العيسى، وشاركه في ذلك الرفيقان الآخران. بدأت الكلام ببيان نظرية الرئيس ويلسون في مشروع جمعية الأمم التي اقترحها، ومكيدة الدولتين الاستعماريتين وخداعهما له بإدخال مسألة الوصاية (الانتداب) في عهدها؛ ليكون منفذًا لهما إلى ما تعاهدتا عليه من استعمار البلاد، واقتسامها بينهما، وأن هذا منافٍ للغرض الأول منها، وهو السلم الدائم بحرية الأقوام. ثم انتقلت من ذلك إلى سعي هاتين الدولتين إلى إبطال ثقة الشعوب المعتدَى عليها، وغيرها بجمعية الأمم، وإقناعهم بأنها آلة في أيدي رجالهما، وأننا مع ذلك لم نيأس من فائدتها ونفعها، ولا نجزم بأنه يسهل عليهما تسخير هذا العدد العظيم من مندوبي الدول الكثيرة لتحقيق مطامع دولتين، لولا مطامعهما لما وقعت أكثر الحروب في أوربة بجعْلهم استعبادهما للأقوام قانونيًّا مؤيدًا من العالم المدني كله. ثم انتقلتُ من هذه المقدمات إلى أن آمالنا في جمعية الأمم هي التي حملتنا على المجيء إلى جنيف؛ لأجل بيان حقيقة الحال في سورية وفلسطين لها، ثم شرحت له خلاصة تصرُّف الدولتين في سورية وفلسطين، وأنه من قبيل تصرف المالك في ملكه، على أن وجودهما هنالك بحسب القانون الدولي احتلال مؤقت في بلاد الأعداء لأجل حفظ النظام إلى أن يتم الصلح بينهما وبين الدولة صاحبة البلاد (ولا حاجة إلى ذِكْر ما قيل هنا؛ لأنه مما أودع بعد في النداء الذي وضعه المؤتمر، وقُدِّمَ للعُصبة) . ومما سألني عنه موسيو رابار في أثناء الحديث: أرأيت إذا خرج الجيش المحتل من بلادكم، وترك أمرها إليكم، أتقدرون على حفظ الأمن فيها، والقيام بشئون الإدارة؟ ، قلت: نعم، وأستدل على قولي بالحق الواقع لا بدعاوي تحتمل المناقشة، ذلك بأن الترك قد جلوا عن سورية، وتركوها لأهلها قبل وصول الحلفاء إليها، ولم يبقَ فيها أحد من ضباطهم، ولا من رجال الإدارة والقضاء منهم، وقد قام الأهالي السوريون بحفظ الأمن وسائر أعمال الحكومة عدة أيام، إلى أن احتلها الجيش العربي المؤلف من السوريين وغيرهم، وكانت جُل الأعمال الإدارية في أيديهم إلى أن شاركهم الجيشان البريطاني والفرنسي في احتلال البلاد، ولم يقع في هذين العهدين خلل، ولا تعدٍّ على أحد، كما صار يقع كثيرًا بعد احتلال الحلفاء، وذلك أن الحكومة كانت في عهد الترك بيد الأهالي، ولم يكن فيها إلا عدد قليل من موظفيهم يوجد فيها من أهلها مَن هم مثلهم، وأرقى منهم كما يوجد في ولاياتهم من موظفينا مثلهم، فقال: إن هذا شيء لم نكن نعرفه.. وبعد انتهاء الحديث شكرنا له عنايته بسماع حديثنا، وحسن لقائه لنا، وودعنا - كما ودعناه - ببشاشة الإخلاص، وكنا - كلما تلاقينا بعد ذلك - يسلم بعضنا على بعض سلام الأصدقاء. المؤتمر السوري الفلسطيني: لم نكد نلقي عصا التسيار في جنيف حتى بحثنا عن مكان لائق لنعقد فيه المؤتمر الذي دعونا إليه، وجئنا هذا البلد لأجله، فاهتدينا إلى بهوٍ عظيمٍ في دار كبيرة لبلدية المدينة معدة للاحتفالات، والمراقص، والمقاصف وغير ذلك من الاجتماعات العامة، فطلبناه، فأُجيب طلبنا، وبادرنا إلى عقد الجلسة الأولى في الموعد الذي ضربناه لعقده في الدعوة العامة إليه (27 أغسطس) ، ولكن لم نلبث أن تلقينا برقية من تريستة بإمضاء (رياض الصلح) يُنْبِئ فيها بأنه سيصل إلينا غدًا حاملاً وثائق التوكيل من بعض الأحزاب السورية لنفسه ولمندوبين آخرين، وبرقية أخرى من الوفد العربي الفلسطيني المقيم بلندن، يُنْبِئُ فيها بأن شطر الوفد قد سافر إلى جنيف لمشاركتنا في المؤتمر، وبقي الشطر الآخر في لندن لمتابعة السعي في المسألة الفلسطينية من الوجهة البريطانية، وكنت قد كتبت إلى الأمير شكيب أرسلان عقب وصولي إلى جنيف كتابًا إلى برلين أنبئه فيه بوصولنا، وأسأله عن موعد مجيئه، وكان على علم بالمشروع، وبأنه من المختارين لحضوره، فجاءني منه كتاب باستعداده للسفر، وموافاتنا على جناح الطائر (وبعد ذلك بأيام جاءت برقية من طعان بك العماد - مندوب حزب الاستقلال العربي في الأرجنتين- تنبئ بأنه قادم لحضور المؤتمر، وكان قد وصل إلى إيطالية) . لأجل ذلك جعلنا الجلسة الأولى بالفعل جلسة تحضيرية، بحثنا فيها في النظام الإداري التمهيدي للعمل، وقررنا انتظار الوفود الجائية، والنظر فيما تحمله من أوراق اعتمادها، وانتدابها لحضور المؤتمر من قِبَل أحزابها، ثم تأليف المؤتمر من جميع المندوبين المعتمدين، وجعل الجلسة الأولى للتعارف، فانتخاب الرئيس، ونائب الرئيس، والكاتب العام (السكرتير) ومساعديه. ثم لم تلبث الوفود أن حضرت في المواعيد التي أنبأت بها، وكان وفد فلسطين مؤلَّفًا من الحاج توفيق حماد وأمين بك التميمي وشبلي أفندي الجمل، ولما أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا علمنا أن وفدهم يرجح التفاؤل على التشاؤم في قضيتهم، وأنه يرجو رجاءً قويًّا أن تكون فلسطين أسبق البلاد العربية إلى نيل الاستقلال، وهذا خلاف ما أعتقد أو نقيضه، وقد كثُر - بعد ذلك - البحث فيه. استطراد في مكانة فلسطين عند الإنكليز: ولما صرح لي بعضهم بذلك قلت: إنني أتمنى ذلك إلا أنه لا يعقل أن يقع إلا بعد وقوع الإنكليز في هوة العجز؛ فإن الدولة البريطانية الطامعة في البلاد العربية من مصر إلى منتهى ساحل خليج فارس تهتم بأرض البلاد المقدسة (فلسطين) ما لا تهتم ببقعة أخرى من البلاد العربية لأسباب دينية، وأدبية، وتاريخية، ومالية، وجغرافية وحربية؛ فإنها مهد المسيحية، وميدان الحروب الصليبية الإسلامية، وحيث قهر ملكها ريكارد قلب الأسد في حربه مع السلطان صلاح الدين، وبها استمالت إليها اليهود، وتمتَّعت بالملايين من أموالهم، واجتذبوا بسعيهم الولايات المتحدة إلى إنقاذها من ألمانية وبكيدهم وقعت الثورة الاشتراكية في الأسطول الألماني الذي كان مستعدًّا لتدمير الأسطول البريطاني، ثم في العمال الذين ألجئوا الحكومة الألمانية إلى طلب الصلح، على حين كانت ظافرة في الحرب، وهي مع ذلك متصلة بمصر وبالبحر الأحمر، فإذا كان لهذه البلاد كل هذه المزايا، وترى بريطانية العظمى أنها قد فتحتها فتحًا، أخذت به ثأر قلب الأسد والصليب، واستخدمت في فتحها من المسلمين المحاربين الهنود، ومن العمال المصريين في مد السكك الحديدية، وأنابيب المياه وسائر الأعمال الحربية أضعاف مَن استخدمت من البريطانيين المسيحيين، كما أنها استعانت على هذا الفتح بنفوذ شريف مكة وأولاده وأنصارهم من الحجازيين، والعراقيين، والسوريين، وإذا كانت جميع الكنائس البريطانية قد احتفلت بهذا الفتح الديني، وافتخرت به، وإذا كان وزير بريطانية الأكبر قد صرح في مجلس أمتهم الأعظم - بأن هذا الفتح خاتمة الحروب الصليبية، أي لا يُرجَى أن يكون بعده للمسلمين دولة قوية عزيزة تحارب في هذه البلاد، بل ولا في غيرها، أرأيت مع هذا كله تسمح بريطانية العظمى مختارة بأن تكون هذه البلاد مستقلة تابعة لدولة عربية ذات أكثرية إسلامية ساحقة، فتترك هذه المزايا راغبة عنها، وتغضب النصرانية في بلادها وسائر أوربا وأمريكا، وتنفر اليهود، وهي في أشد الحاجة إليهم في تعزيز ماليتها، والثقة بها! ، ولماذا تفعل هذا؟ ، أَلِأَجْلِ فضيلة الوفاء للعرب؟ ، أم لأجل ما يعتمد عليه ملك الحجاز من (الحسيات النجيبة البريطانية) ؟ ! الإنكليز أقدر مَن خلق الله من الإنس والجن على الخداع، فكيف وقد عززهم فيه خداع اليهود وكيدهم، ومن العجيب أن قد فضحت عواقب هذه الحرب كيدهم وخداعهم، ومع هذا نرى أجدر الناس بالحذر من هذا الخداع لا يزال الكثير منهم مخدوعين! ومن أساليب الخداع الإنكليزي الخفية ما سبق موقظ الشرق وحكيمه السيد جمال الدين إلى بيانه منذ عشرات من السنين، إذ قال: لا يظلم الإنكليز قومًا إلا ويقوم أفراد منهم يرفعون أصواتهم في الصحف، وعلى مقاعد مجلسي النواب والأعيان باستنكار ذلك الظلم، وعذل حكومتهم عليه، ومطالبتهم إياها برفعه؛ لأجل أن تظل آمال المظلوم معل

كوارث سورية في سنوات الحرب ـ 7

الكاتب: شكيب أرسلان

_ كوارث سورية في سنوات الحرب من تقتيل وتصليب ومخمصة ونفي مشاهدات ومجاهدات شاهد عيان هو الأمير شكيب أرسلان (7) ولنَعُدْ الآن إلى إكمال حديث المجاعة، لا يسعني أن أحصي المساعي التي سعيناها لأجل جلْب الأقوات اللازمة من الداخل إلى لبنان والساحل، وفي هذا المعنى لا بد أن تكون برقياتي أيضًا مسجلة في دفاتر التلغراف. ثم لما جاء بطريرك الموارنة إلى صوفر للسلام على جمال باشا، وهذا أبدى له مزيد الحفاوة، وكان معه المطران بولس عواد ورهط من أعوانه، تكلمت مع جمال أمامهم بما يتهدد البلاد من الجوع، وكان الشيء على أوله، وكان كلامي بصراحة تامة، فشكر لي البطريرك - فيما بعد - هذه الهمة كثيرًا، ثم إنني لما رأيت علي منيف بك متصرف لبنان قد أسس في الجبل عدة ملاجئ لطعام الأولاد، وهيأ لها لوازمها، وكانت كلها في كسروان والمتن - طلبت منه المساعدة في تأسيس مثلها في الشوف، وأسست ملجأً في عين عنوب، وآخر في مغوايا بقرب شرتون، وآخر في بريح، وجمعت لها جميع الثياب، والأغطية، والأكسية اللازمة من بيوت أرباب الحمية من ذوي اليسار، وأجرى عليها المتصرف الأرزاق الكافية من إدارة الإعاشة، وعاش بها مئات من الأحداث ممن لا ملجأ لهم، وكان نحو 90 في المائة من الأولاد - الذين عاشوا في هذه الملاجئ - مسيحيين، مع أن الألبسة والمفروشات جِيءَ بأكثرها من بيوت الدروز، ولكن لم نكن نشعر بهذا الفرق أصلاً، ولا سيما أيام الحرب، ثم لما وجدنا الأمر اشتد عن ذي قبل، وأنه لا مناص من شر هذه المسغبة إلا بالاتفاق مع الحلفاء على الإذن بتسريب الإعانات من طريق البحر - راجعنا متصرف لبنان ووالي بيروت، وهما راجعا الباب العالي، وجرت مساعٍ من الباب العالي؛ لكي يُغاث أهل سورية كما أُغيث أهل بلجيكا، وغيرها بواسطة الحلفاء، فذهبت جميع مساعي الباب العالي سُدًى، وإذا بأميركا قد أرسلت باخرة، وقيل باخرتين مشحونتين أقواتًا وألبسة بناءً على إلحاح السوريين في أميركا، ووصلت هاتان إلى ميناء الإسكندرية، وذلك في أواخر سنة 1916، وانعقدت الآمال بهما، لا بل نزلت أسعار الدقيق قليلاً في بيروت بمجرد إشاعة وصولهما إلى ثغر الإسكندرية. وتألَّفت في بيروت لجنة من مسلمين ومسيحيين؛ لأجل استقبال هذه الأرزاق، وتوزيعها على المعوزين من جميع الطوائف، وبات الناس يرقبون وصولها، والأعناق مُشرئبَّة، والعيون محدقة نحو البحر، وهذه الأرزاق لا تصل، وكان مجلس النواب العثماني قد افتتح، وتأخرتُ عن ميعاد الافتتاح نحو شهر بسبب اشتغالي بتأسيس الملاجئ، ثم ذهبت إلى الآستانة، فأول شيء عملته - وقبل أن أرى أحدًا من رجال الدولة - هو أنني قابلت سفير الولايات المتحدة، وسألته عن سبب تأخر هذه الأرزاق في الإسكندرية، فأجابني بكوْن حكومته تأبى تسليم هذه الأرزاق إلا على شريطة توزيعها بمعرفة قنصل أميركا في بيروت، والحكومة العثمانية تستنكف من ذلك، فصدقت كلامه، ولكنني قلت له: إن كان مرادكم عمل الخير، وإجابة طلب السوريين الذين في أميركا - فلا يجوز أن تتوقفوا بعلل كهذه، ثم ذهبت إلى طلعت باشا أعاتبه على مثل هذه التصعيبات، والعلات التي لا طائل تحتها عند ما يكون الناس يموتون جوعًا، فأجابني: هذا طلب كنا طلبناه في الأول، ثم بناءً على إلحاح سفارة أميركا رجعنا عنه، وها أنا ذا أفوِّض إليك أن تتفق مع سفير أمريكا على الشرط الذي يريده، وأنا أنفذه، فذهبت إلى السفير، وأخبرته بما جرى، فقال: إنه يريد مكاتبة بذلك من نظارة الخارجية، فذهبت إلى أحمد نسيمي بك ناظر الخارجية، وهو أخ حميم لي، فاستكتبته الذي أراده السفير، ثم عدت إلى السفير، وقلت له: هل بقي شيء الآن؟ ! ، فقد أجبناك إلى طلبك، فلم يبق إلا أن تأمر بإرسال البواخر إلى بيروت فقال: لكن أمامنا عقبة ثانية! ، قلت: ما هي؟ قال: نخاف من أن غواصات الألمان المنتشرة في البحر المتوسط تُغرق السفن المذكورة، قلت: نأتي بأمر من ألمانيا إلى الغواصات، فذهبت إلى سفير ألمانيا فون كولمان، وحكيت له القصة، فأخذني بنفسه إلى الملحق البحري بالسفارة فون هومان (وهو الآن المحرر السياسي الأول في جريدة دوتش الغماين تسايتونغ) ، وقال له: اكتب له ما يشاء، فأخبرته بطلب سفير أميركا، واستكتبته الإنهاء المعجل بعدم تعرض الغواصات للبواخر المحمّلة أرزاقًا لسورية، وبعد أيام ذهبت أسال عن الجواب، فتأخر الجواب نحو 20 يومًا؛ لأن البرقيات اللاسلكية إذا أُرسلت إلى الغواصات - وهي في البحر جائلة - قد يقع فيها غلط، فلا بد من انتظارها حتى ترفأ إلى مراسيها، فلما ورد الجواب أبلغته السفارة الألمانية إلى السفارة الأميركية، وجئت أنا أستنجز سفير أميركا وعده، فبدلاً من أن يفرح بانحلال العقدة رأيته ضجر وتبرَّم! ، وقال: لكن بقيت الغواصات النمساوية! ، فقلت له: لا يوجد للنمسا غواصات إلا في بحر الإدرياتيك لحماية أسطولها، ولم يبق ثمة من خطر، فقال: لا بد من الأمر لها أيضًا، فحصلنا على الأمر من النمسا بواسطة سفارة ألمانيا، ورجعنا إليه، ولكن كنت بدأت أصدق ما كان قاله لي طلعت من كون المانع الحقيقي ليس من الدولة العثمانية، بل من الإنكليز! ، فلما أخبرناه بأن العقدة الأخيرة هذه قد انحلت، قال: لكننا أصبحنا لا نقدر على إرسال هذه البواخر؛ لأن الولايات المتحدة قررت إعلان الحرب على ألمانيا، فقلنا له: هذه مسألة سبقت إعلان الحرب بأشهر، على أن الحرب لما تُعلنْ فيمكنك أن تأمر بإرسال البواخر من الإسكندرية إلى بيروت، وكل ذلك يتم في يومين قبل شهر الحرب منكم على الألمان، فلم يقتنع، فقلنا له: أنتم ستعلنون الحرب على ألمانيا لا على تركيا، فلا معنى لحبس هذه الأرزاق عنا بهذه العلة، ونحن من المملكة العثمانية لا من ألمانيا، فبقي يراوغ، فقلت له: حوِّلوا هذه المسألة إلى دولة متحايدة كأسبانيا، أو هولاندا؛ فإنها مسألة إنسانية، لا مدخل لها في السياسة، فلم يجاوب بالإيجاب، وعندها صرحت له بقولي: قد تحققت كون طلعت باشا هو الذي قال الحقيقة، وأن تركيا ليست هي المانعة لوصول الأرزاق، بل أنتم لا تريدون إيصالها، وتحبون أن تعتذروا للسوريين - الذين في أميركا - بكونكم عملتم الذي عليكم، وإنما تركيا وقفت سدًّا في وجه هذا الخير! ولكن الحقيقة لن تخفى، وكنت في جميع هذه المساعي وحدي من المبعوثين السوريين، لم يشاركني أحد من زملائي لا لنقص في حميتهم ومروءتهم، بل لاعتمادهم عليَّ، واعتقادهم بنفاذ كلامي، ثم لما قطعنا الأمل من جهة أميركا، حولناه نحو أسبانيا، وأشرنا على ناظر الخارجية بمفاتحة سفير هذه الدولة، فلم يمكن عمل شيء، ثم دفعت أنور باشا أن يراجع البابا بواسطة القاصد البابوي في الآستانة، فاستدعاه، وقال له: إن قلة الأقوات في البلاد - بسبب تطاول الحرب - قد أعجزتنا عن ميرة جيشنا والأهالي معًا، وقد بدأ الجوع في سورية لا سيما في لبنان، وغدًا إذا مات جماعات من المسيحيين تجعلون اللائمة علينا، فها نحن أولاء نخبركم بالواقع، ولا يصعب على الحضرة البابوية أن تنال من الحلفاء الإذن بإرسال باخرة مشحونة أرزاقًا كل شهر مرة؛ لأجل نصارى سورية، ولا سيما لبنان، وإن احتج الحلفاء بكون المقصود هو توزيع أكثرها على المسلمين - فنحن نتعهد بترك التوزيع إلى قاصد البابا في بيروت، وإلى البطاركة، ولا ندخل في هذه المسألة أصلاً! ، وإن ظهر من أول بعثة تأتي أننا مددنا يدنا إلى شيء منها فعليكم أن لا تعيدوا التجرِبة، ثم إن كان البابا لا يريد - أو لا يقدر - أن يؤدي ثمن هذه الأرزاق فأنا أؤديها إليك أيها القاصد من صندوق الحربية، فشكره القاصد كثيرًا، وذهب، وكتب إلى الفاتيكان، فلم يَرِدْ شيء، فراجعت أنور، فقال لي: إنه فاوض القاصد، ولا يزال منتظرًا الجواب، ثم استدعاه ثانية، فقال له القاصد: قد بلغت مرجعي كل ما ذكرتم، ولكن إلى اليوم ما جاءني جوابٌ، وسترون - فيما يأتي - السبب في عدم الجواب. عندما ذهبت إلى ألمانيا سنة 1917 دعتني الحكومة الألمانية أن أعمل سياحة في عواصمها الشهيرة مثل هامبورغ، وفرانكفورت، وكولونيه، ولايبسيغ، ومونيخ وغيرها، وأرسلتْ معي رفيقًا خاصًّا من نظارة الخارجية، وأبرقوا إلى كل الأماكن بالاحتفاء بنا، كما يعملون للضيوف الأعزاء، ولما وصلنا إلى مونيخ أدبت لنا البلدية مأدبة عظيمة، حضرها نحو 30 رجلاً من وزراء الحكومة البافارية، ورجال السيف والقلم، ثم طلب منا المسيو كمريخ قنصل تركيا، وهو من أعيان مونيخ أن نلقي محاضرة بحضور ملك البافيار، وجمع من أعيانها، وذلك في الليلة الثانية، فألقينا محاضرة في فندق (بايريشرهوف) ، حضرها الملك، وكثير من رجال تلك الدولة، ومن الوجوه وأرباب الأقلام، وكان موضوعها (سورية في أثناء الحرب) ، وقد اخترت أنا هذا الموضوع قصدًا؛ لأذكر ما جرى فيها من أهوال المجاعة، بحيث ذكرت الجرائد ثاني يوم أن الملك رَقَّ جدًّا لسماع هذه المحاضرة، ثم جاءني المسيو كمريخ فيما بعد، وقال لي: إنه قد حادث قاصد البابا في مونيخ - وهو من مشهوري الكرادلة - وقص عليه ما ذكرته من كون الحكومة العثمانية سعت بواسطة بعض الدول المتحايدة لدى الحلفاء في جلب أقوات من طريق البحر إلى سواحل سورية، وكون أنور باشا استدعى القاصد البابوي في الآستانة، وكلفه أن يعرض الأمر إلى حضرة البابا، وأنه إلى هذه الساعة لم تحصل أدنى نتيجة، فطلب قاصد مونيخ من المسيو كمريخ تقريرًا بذلك، فجاءني، وأعطيته التقرير اللازم مفصلاً بإمضائي، وذكرت فيه أنني أتعهد بالنيابة عن الحكومة العثمانية أنه مهما ورد من الأرزاق بواسطة الحاضرة البابوية إلى سورية- فلا تتعرض له الدولة لا في قليل، ولا في كثير، ولا يتناول منه أحد من المسلمين حبة واحدة! ! ! نعم، لنا - من ذلك - فائدتان: الأولى: وقاية إخواننا وأبناء وطننا المسيحيين من المجاعة، والثانية: كون القليل الوارد إلينا من الداخل - والذي نتقاسمه وإياهم الآن، ولا يسد حاجتنا ولا حاجتهم - يصير فيه كفاية نوعًا، ثم ذكرت في هذا التقرير جملة مؤثرة، وهي أن الحضرة البابوية إن لم تُغِثْ نصارى الشرق في أزمة كهذه الأزمة فمتى يرجون إذًا مساعدتها؟ ! وبعد نحو 15 يومًا من كتابة هذا التقرير - بينما أنا في فندق آدلون الشهير في برلين - إذ جاءني تلغراف من المسيو كمريخ ينبئ فيه بورود جواب الفاتيكان، وأن مآله سيرد عليَّ في كتاب مضمون، ثم لم يلبث أن ورد الكتاب، وهو من المسيو كمريخ نفسه، يذكر فيه ملخص ما ورد من الفاتيكان على قاصد مونيخ من الجواب على تقريري، حتى إنه يضع بعض العبارات بين قوسين إشارة إلى أنها هي الواردة بعينها من الكرسي البابوي، ومآل الكتاب أن البابا سعى من قبل مرارًا، وكرر السعي هذه المرة، ولكن دولة ... - وأشار إلى إحدى دول الحلفاء - لا تزال تعارض في إرسال هذه الأقوات إلى سورية؛ لذلك ( ... فؤاد الأب الأقدس مجروح من خطة هذه الدولة) ! ، ثم يقول: ( ... وسيعلم مسيحيو الشرق - فيما بعد - أن الحَبْر الأعظم لم يهملهم في أزمتهم هذه، ولكن ... ) إلخ. ولقد اطَّلع بعض صحافيي الألمان على هذا الكتاب، فأحبوا أن ينشروه، فلم أُجِبْهم إلى ذلك؛ خشية أن أثير مسألة، وأجعل قيلاً وقالاً بين البابا وتلك الدولة، ولكن هذا الكتاب لا يزال عندي، والمسيو كمريخ لا يزال حيًّا، وبعد إيابي

الخلافة الإسلامية ـ 6

الكاتب: محيي الدين آزاد

_ الخلافة الإسلامية ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية فصل إذا بويع الخليفتان فاقتلوا آخرهما أي إذا قامت خلافة خليفة، وتمكنت حكومته في الأرض - فلا يجوز لأحد الخروج عليه، ومَن يخرج يجب قتله؛ لأنه غادر، وفتنة، ومَهلكة للهيئة الاجتماعية، يريد أن يفرق بين المسلمين، ويهدم النظام القائم {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة: 191) [1] . وعن عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مَن أتاكم وأمركم جميعٌ على رجل واحد - يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم - فاقتلوه) (أحمد ومسلم) . ولذا اتفقت كلمة المسلمين [2] أن الخليفة - سواء كان أهلاً أو غير أهل - إذا قامت خلافته - لا يخرج عليه، ومَن يخرج يُقتل بعد إتمام الحجة عليه، والدعوة إلى الصلح {فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي} (الحجرات: 9) . وفي نيل الأوطار: قد حكى في البحر عن العترة جميعًا أن جهادهم أفضل من جهاد الكفار في ديارهم؛ إذ فِعْلهم في دار الإسلام كفعل الفاحشة في المسجد (ج7، ص80) . وحكمة هذا الحكم ظاهرة؛ لأنه لو لم يسد باب الخروج بتاتًا لا تسلم الحكومة الإسلامية من الخارجين والثائرين مهما كانت صالحة وحسنة، ومهما كان صاحبها أهلاً وجامعًا للشروط؛ إذ كل ذي عصبية يدَّعي لنفسه الحق والفضيلة أكثر منه، والناس لا يستطيعون التفاضل بينهما، فيتفرقون حزبين، حزب مع هذا، وحزب مع ذاك، ثم يخوضون غمار حروب لا تنتهي أبدًا، فوجب أن يُمنع الخروج منعًا تامًّا، ويُعاقب الخارج عقابًا شديدًا؛ ليكون عبرةً لغيره، فقتْل نفس واحدة خيرٌ من قتل الألوف، وقد أُشير على هذه الحكمة في الحديث: (يريد أن يشق عصاكم) . وقد وردت في هذا الباب أحاديث كثيرة مَن يرد الاطلاع عليها فليراجع كتب الصحاح. *** فصل إجماع الأمة وجمهور الفقهاء قد قامت حكومة أمراء بني أمية على القهر والاستبداد في زمنٍ كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأئمة أهل بيته موجودين فيه بكثرة زائدة، ثم تلتها الخلافة العباسية، وظلت خمسة قرون، وفي عصرها دُوِّنت العلوم الشرعية، وأُلفت الكتب الدينية، ووجدت أئمة المذاهب، بَيْد أنه لم يختلف طوَل هذا الزمن أحد من الصحابة والعترة، والأئمة والفقهاء في هذه المسألة، بل كلهم أجمعوا على قول واحد، وعمل واحد، ولعله لا يوجد بعد العقائد الأساسية وأركان الإسلام الأربعة إجماع على شيءٍ غير هذا. فعمل الصحابة معلوم ومشهور، كان مروان بن الحكم واليًا على المدينة، وأبو هريرة صحابي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذّنًا في المسجد النبوي، وكان مروان يستعجل في الصلاة إلى درجة لا يقول (التأمين) استثقالاً، ولا يقف بعد الفاتحة وقفة ليقوله المأمومون، بل يُسرع ويبدأ - بعد أم الكتاب - بسورة أخرى، مع أن فضل التأمين ثابت في السنة، كما في حديث: (فمَن وافق تأمينُهُ تأمينَ الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه) (بخاري) ، ولكن مع هذا لم يتخلف أبو هريرة عن الصلاة وراءه، ولم يخرج من طاعته، إلا أنه كان يأخذ عليه العهد فيقول: (لا تفتني بآمين) [3] . وكذلك كان الناس في عهد بني أمية يكرهون سماع خُطبهم الخرافية، فكانوا يتفرقون بعد صلاة العيد، ولا ينتظرون الخطبة، فأراد مروان أن يخطب قبل الصلاة؛ ليضطر الناس إلى سماعها - فقام رجل في وجهه، وأنكر عليه عمله، فروى إذ ذاك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه حديث: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيره ... ) إلخ [4] . وهكذا كان أمراء بني أمية يخالفون صريح السنة كل يوم، وينكر عليهم الصحابة بكل جرأة وشجاعة، ولا يتركون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن مع كل هذا لا ينزعون اليد عن طاعتهم، ولا يخرجون عليهم، ولا ينكرون خلافتهم لأجل أن خالفوا النظام الشرعي، وتسلطوا على الخلافة بغير حق، وحادوا على الصراط السويّ. وكان سيد التابعين سعيد بن المسيب يقول في بني مروان: (يُجيعون الناس، ويُشبعون الكلاب) (تذكرة الحفاظ للذهبي ج1، ص47) ، ويُعاقَبُ بأنواع من العذاب، ولكن يطيعهم، ولا ينكر خلافتهم (؟) . وقد قامت فتنة القول بخلق القرآن في عهد المأمون، والمعتصم، وابتُلِيَ بها علماء السنة ابتلاءً شديدًا، فجُلد الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - ثمانين جلدة، وحُبس في السجن سنين عديدة، ولكن لا داهن المأمون والمعتصم في بدعتهما، ولا خرج عن طاعتهما، بل كتب في وصيته: (والدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح، ولا تخرج عليهم بالسيف، ولا تقاتلهم في الفتنة) ، كذا نقل عنه ابن الجوزي في سيرته. وقد نقل ابن حجر العسقلاني قولاً لابن التين يخالف ما قلناه من الإجماع، فقال: (وقد أجمعوا أنه - أي الخليفة - إذا دعا إلى كفر، أو بدعة أنه يقام عليه) ، ثم رد عليه قائلاً: ما ادعاه من الإجماع على القيام - فيما إذا دعا إلى البدعة - مردود، إلا إذا حمل على بدعة تؤدي إلى صريح الكفر، وإلا فقد دعا المأمون، والمعتصم، والواثق إلى بدعة القول بخلق القرآن، وعاقبوا العلماء من أجلها بالقتل، والضرب، والحبس، وأنواع الإهانة، ولم يقل أحد بوجوب الخروج عليهم بسبب ذلك، ودام الأمر بضع عشرة سنة، حتى ولي المتوكل الخلافة، فأبطل المحنة. (فتح، ج 13: 103) . والحقيقة التي لا مراء فيها أن كل ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر به من طاعة الخلفاء، وما ينبغي أن يُعامَلوا به - فسَّره السلف الصالح بعملهم الحق، وقد علمت في الفصول الماضية الأحاديث التي تبين أدوار الخلافة الإسلامية، وما لكل دور من الأحكام، فدور الخلافة الراشدة كان دور رحمة واسعة للأمة، وأما دور الملك العَضوض فكانت خصائصه المتضادة، وأحواله المتناقضة - ابتلاءً عظيمًا لها، فكان ذا وجهين مختلفين، اجتمع فيه البياض والسواد، والنور والظلمة، والحق والباطل، ويستلزم الحب والبغض، والترك والطلب، والقطع والوصل، والطاعة والخلاف، وطُولِبت الأمة بالقيام بكل منهما في وقته ومحله، فتطيع هؤلاء الملوك، وتسمع لهم؛ لأنهم أولياء الأمور والقائمون بالحكومة الإسلامية، فلا تخرج عليهم، ولا تقوم في وجههم، ونُهيت من جهة أخرى أن تتبعهم، وتقتدي بهم؛ لأن أعمالهم لا تكون مرضية، فتطيعهم، ولكن لا تستنُّ بسُنَّتهم، وإن دعوا إلى المنكر ردت دعوتهم، وخالفتهم في ذلك باليد، واللسان، والقلب، ولا تزيغ عن الحق ابتغاءً لمرضاتهم. فما أصعب هذا المقام! ، ولعمري، إن الإنسان ليزلُّ قدمه دون أن يبلغ هذا، فكيف السبيل إلى القيام فيه؟ ! ؛ لأن الإنسان طوع عواطفه، فلا يستطيع أن يجمع بين عاطفتين متناقضتين، فإنه إما أن يحب ويطيع، وإما أن يبغض ويعصي، فمَن يحسبه أهلاً لحبه وطاعته يحلو منه كل شيءٍ في عينه، فيطيعه بكل قلبه، ولا يعصي له أمرًا، ومَن يبغضه يبغضه بكل قلبه فلا يطيعه ألبتة، نعم، لا سبيل إلى النجاح إلا أن يدركه الله بتوفيقه، فيجعل كل عاطفة في محلها، ولا يدع بعضها يغلب بعضها الآخر، فيهلك، ويضل ضلالاً بعيدًا؛ لأنه لو تجاوز الحد في الطاعة دخل في الاقتداء، والتأسِّي الذي يجرُّ إلى الغلو في الباطل، والانحراف عن الحق، ثم إنه لو تصلَّب في المخالفة، وغلا في الأمر بالمعروف خُشي عليه الخروج من الطاعة، ومن ثَمَّ الولوج في الحروب، وقتل النفوس، والفوضى، وهذه هي علة تلك الفتن التي لا تزال تنزل بهذه الأمة من ثلاثة عشر قرنًا؛ لأن الناس لا يستطيعون التوازن بين العواطف، فكم من أُناس غلوا في التمسك بالحق، والأمر بالمعروف - فخرجوا على السلاطين والخلفاء، وأضعفوا بعملهم هذا الخلافة والأمة معًا، وكم مثلهم مَن غلوا في الطاعة - فجعلوا الحق باطلاً، والباطل حقًّا، مداراةً للأمراء والملوك؛ فأفسدوا بذلك نظام الأمة! ولقد ابيضَّت عين الدهر، ولم ترَ أمة سارت على مثل هذا الطريق الاجتماعي المحفوف بالمصائب والمصاعب سالمة آمنة إلا الأمة الإسلامية؛ فإنها - ولا شك - سارت عليه بكل فوز ونجاح وسلامة، مراعيةً كل جوانبه، متجنِّبةً جميع مزالقه، فعملت في آنٍ واحدٍ عملين متناقضين، فأطاعت الخليفة وخالفته، أطاعت فيما تجب فيه طاعته، وخالفت فيما تجب فيه مخالفته، وقد شرحت بعملها مسألة (الاقتداء والطاعة) ، والفرق بينهما بكل وضاحة، تحير منها علماء الأخلاق؛ إذ لم يكونوا وُفِّقوا إلى حلها من قبل. وأي طاعة للحكومة القومية تكون أكمل من طاعة الصحابة والتابعين للأمراء الجائرين المستبدين من بني أمية، ثم من بعدهم من طاعة علماء السلف لدعاة البدعة من الخلفاء العباسيين؟ ! ، فقد عُذِّبوا بأنواع من الظلم والعسف، وحُبسوا في السجون، وقُتلوا، وأُوذُوا بكل ما كان يمكن أن يؤذوا به، ولكنهم تحملوا كل ذلك، ولم يخرجوا عن الطاعة قيد شبر، بل إذا حرضهم أحد على العصيان قالوا: (يُنصب لكل غادر لواء يوم القيامة، ونحن بايعناهم) . هكذا كانت حالهم في الطاعة، أما التمسُّك بالحق، والأمر بالمعروف، والعمل بالسنة - فكانوا فيه كالجبال راسخين، فلم يهابوا سيف عبد الملك ولا قهر الحجاج، ولا تنمُّر المأمون والمعتصم، فإذا نطقوا نطقوا بالحق، وإذا عملوا عملوا بالحق، ولم يكن في قلبهم سعة لشيء إلا لكتاب الله، وسنة رسول الله، فهم عملوا بكل دقة على أمر: (تسمع وتطيع، وإن ضُرب ظهرك، وأُخذ مالك فاسمع وأَطِعْ) (مسلم) ، وعلى أمر: ( ... فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ، وأمر: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (مسلم) . وحسبنا محنة الإمام أحمد بن حنبل عبرة، فقد كان يجلد ظهره تسعة رجال، والمعتصم واقف على رأسه، ينظر إلى دمه الطاهر الذي يفور من جسمه فورًا، ويأمره بأن يقول كلمة في القرآن، ما قالها الله ولا رسوله، ولا أمر بها، فكان يتحمَّل كل هذا العقاب الشديد، ولكن لا يفوه بشيءٍ إلا قوله: (أعطوني شيئًا من كتاب الله وسُنة رسوله حتى أقول) [5] . ((يتبع بمقال تالٍ))

مسألة ثواب القراءة للموتى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة ثواب القراءة للموتى أرسل إلينا صديقنا الرحَّالة الجليل السيد محمد بن عقيل من (المكلا) ما يأتي بغير إمضاء: بسم الله الرحمن الرحيم كتب في المنار في الصحيفة 81 وما بعدها - من ج 2 م 23 لسنة 1340 - مقالة مطولة في عدم وصول ثواب قراءة أحد من الناس إلى شخص آخر مطلقًا، وكثير مما نقله غير صحيح فيما نرى. وقد عَنَّ لنا أن نرقم شيئًا خطر بالبال عند قراءة ما جاء في المنار، فنقول: أولاً - إن الأعمال ما لم تكن خالصة لله تعالى - لا تُقبَل، وما لا يُقبَل فلا ثواب فيه، فقراءة المستأجر أو صاحب الوقف إنما هي من باب طلب الدنيا بعمل الآخرة، وهو مذموم، فأي ثواب يهبه هذا المغرور؟ ! ثانيًا - بعض أعمال المكلف لا يمكن أن ينفك عنه ثوابها، ولا يمكنه أن ينتفع بأمر آخر بدونها، وذلك الإيمان، وأعني به المقدار الذي لا يخلد في النار مَن اتصف به، وقريب من هذا ما تنصبغ به النفوس من آثار الأعمال. ثالثًا - يدور كلام المنار في منع الإهداء للثواب على شبهتين: (أولاهما) ما فهموه غلطًا من الحصر في نحو قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) ، {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (البقرة: 286) ، ومن الأحاديث الواردة في هذا المعنى، وهذا الحصرُ إنما معناه قصر الاستحقاق على سبيل الوجوب فيما ذُكر طبق العدل الإلهي، والأمر في الدنيا هكذا أيضًا، لكل مكلف ربحُ عمله، وعليه تبعتُهُ، ولكن ليس في شيء من الأدلة ما يمنع أن يتكرَّم الله سبحانه وتعالى بجود منه، وفضل على عبد من عبيده ابتداءً. منه طولاً ورحمة، لا بسابق عمل ولا سعي، وهذا غير التضعيف الذي نواتُهُ صالح الأعمال، كما أنه ليس فيها ما يمنع أن يفوز المؤمن بشفاعة مَن يأذن له بالشفاعة ثوابًا ودرجات، وأن ينال بسبب دعاء مَن يقبل الله دعاءه - ما لم يسعَ فيه، أو يخطر له ببال، وكذلك ليس فيها أنه لا يصل إليه من الثواب ما يهديه إليه إخوانه من عمل صالح مقبول. والشبهة الثانية أن أعمال المكلف ليست من ممتلكاته كعروض التجارة ... إلخ، والجواب عليها أننا نعلم أن ثواب الأعمال الصالحة لا يجري مجرى عروض التجارة، ولكنه مع ذلك قابل للانتقال من شخص إلى آخر، فينتفع به غير عامله - أي ما خلا ما استثنيناه آنفًا - كما ورد من أخْذ حسنات الظالم، وإعطائها للمظلوم، وأخذ سيئات المظلوم، ووضْعها على الظالم، وهل هذا إلا من التصرف؟ ! ، وأما دليلنا - فيما استثنيناه - فهو أننا لم نطلع على نص يفيد سلب إيمان أحد ليُعطَى لآخر، فيدخل هذا في النار، وذاك في الجنة بخلاف ثواب الأعمال وعقابها، وأما مطلق المنع فعليه - فيما أفهم - شمة من قول الوعيدية. ويوضح ما رجحناه - من جواز الهبة وانتفاع المكلف بعمل غيره - آية الإلحاق {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور: 21) ، والأحاديث الواردة في ذلك المعنى، وفي بعضها: (كنت أعمل لي ولهم) ، وإذا صح أن ينتفع الشخص بعمل قريبه - من أصل أو فرع - صح أن ينتفع بما وُهب له، فذاك كالميراث، وهذا هو الهدية أو الهبة أو الصدقة أو الصلة أو ما شئت. جعلنا الله ممن غمره جود جوده في الدنيا والآخرة بِمَنِّه وكرمه، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله. اهـ. (المنار) إننا بسطنا أدلة ما قررناه في هذه المسألة، وبيَّنَّا بالبراهين الصريحة من القرآن أن من أصول دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 38-39) ، وأن أصل الأديان الوثنية التي سرت عدواها إلى كثير من أهل الكتب السماوية - هي أن المجرمين إنما ينجون بعمل الصالحين أو بجاههم، لا بأعمال أنفسهم، وبينا أن الله تعالى ألحق بالمؤمنين ذريتهم، وأنه شرع للمؤمنين أن يدعو بعضهم لبعض، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لبعض الأولاد - بناءً على إلحاق الله إياهم بوالديهم - أن يقضوا عنهم بعض حقوقه تعالى عليهم ... إلخ، فما قررناه مبني على الأخذ بصريح النصوص الثابتة في الكتاب والسنة، مع مراعاة القاعدة المعروفة وهي: أن أمور الآخرة لا تُعلم إلا من كلام الله وكلام رسوله، وأنه ليس للآراء العقلية حُكم فيها، ولا هي مما يعلم بالأقيسة الاجتهادية كمسائل البيع والإجارة، فظنون المجتهدين لا مجال لها في عالم الغيب، ولا في شيء من مسائل العقائد. وصاحب هذه الرسالة قد زعم أن كثيرًا - مما قلناه وما نقلناه - غير صحيح، فأما النقل فلم يستطع إثبات زعمه في شيء منه ألبتة، وأما غيره فقد وافقنا فيه في أمور، وانفرد بمسائل ليست من موضوع البحث كقوله: ليس في النصوص ما يمنع أن يتكرم الله على عبد من عبيده ... إلخ، وهل يمكن لعبد أن يحجر على ربه أن يتكرم؟ ! ، لا، وليس لعبد أن يفتات على ربه بمحض رأيه أيضًا، فيخبر عنه بما لم يخبر سبحانه به عن نفسه في كتابه ولا على لسان رسوله، أو يقيد ما أطلقه، وهو يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (الإسراء: 36) ، ويقول - في بيان أصول الجرائم والكفر -: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) . وهو قد حصر - ما زعمه من تخطئة المنار - في شبهتين: إحداهما: الأخذ بما فهمه المحققون من العلماء - كالإمام الشافعي رحمه الله تعالى - من الحصر في آيه النجم، وما في معناها من الآيات والأحاديث، وزعم أن هذا الفهم غلط، قال: وإنما معناه قصر الاستحقاق على سبيل الوجوب ... إلخ، وهو تقييد لحصر مطلق لا دليل له عليه، ولا سلف له فيه، وهو في آيات كثيرة وردت في بيان الجزاء الذي يجب الإيمان به، كقوله: {إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الطور: 16) ، لا في بيان ما يجب عليه تعالى منه، وما لا يجب، والحق أنه تعالى لا يجب عليه شيء إلا ما أوجبه على نفسه، أي أثبته، وأكده في وَحيه بمشيئته التي لا تتعارض مع حكمته، ومسألة الوجوب على الله تعالى عقلاً يقول بها المعتزلة، وينكرها أهل السنة. والشبهة الثانية - التي زعمها -: مسألة جعْل عبادات المؤمن كعروض التجارة يتصرف فيها وفي ثوابها المجهول في الآخرة، فهو قد ادعى أن ثوابها قابل للانتقال، وللعامل أن يتصرف فيه قبل أن يملكه بأن يهبه وهو في الدنيا، أو يتصدق به، واستدل عليه بأخْذ الله تعالى من حسنات الظالم للمظلوم دون أخذ إيمانه، وجعْله لغيره، وهو استدلال باطل؛ لأنه قاس فيه تصرف العبد في الدنيا بما لم يملكه - ولا يعلمه من أمر الغيب - على تصرف الرب في الآخرة: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) ، كما قاس عمل كل عامل على عمل الوالدين للأولاد الذين ألحقهم الله بهم، وعدَّ النبي صلى الله عليه وسلم عملهم من عملهم؛ لأنه سبب وجودهم، وما تبعه من أعمالهم، وكلاهما من القياس مع الفارق، والفرق مثل الصبح ظاهر، ولو صح أن القصاص يوم القيامة معارض للآية لم يكن حجة علينا؛ لأنه خارج عن محل النزاع؛ ولأننا نحن نستثني من عموم النصوص ما خصصها من كتاب أو سُنَّة صحيحة بالشروط الثابتة في تخصيص العام من الأصول لا بالرأي وهوى النفس، ولولا الشرع لكنَّا نهوى أن نقدر على نفع أمواتنا، وأن يقدر أحياؤنا على نفعنا بعد موتنا، وهل عمم هذه البدعة إلا كونها موافقة للأهواء؟ ! ، والصواب أنه لا تعارُض، وأن المقاصة في الآخرة كحكم الشرع في الغرامات في الدنيا، فهو لا ينافي أن لكل إنسان ملكه، ولا حق له في ملك غيره، وأنه لا يملك إلا ما جعله الشرع مالكًا له، ولا يؤخذ منه باختياره وبغير اختياره إلا ما أذن به الشرع، قال الإمام المازري - في حديث مسلم في المقاصة بالحسنات والسيئات الذي نقلناه في تفسير هذا الجزء -: (وزعم بعض المبتدعة أن هذا الحديث معارض لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) ، وهذا الاعتراض غلط منه وجهالة بيِّنة؛ لأنه إنما عُوقب بفعله ووزره وظلمه، فتوجَّهت عليه حقوق لغُرمائه، فدفعت إليهم من حسناته، فلما فرغت، وبقيت بقية - قُوبلت على حسب ما اقتضته حكمة الله تعالى في خلقه وعدله في عباده، فأخذ قدرها من سيئات خصومه، فعوقب به في النار، فحقيقة العقوبة إنما هي بسبب ظلمه، ولم يعاقَب بغير جناية، وظلم منه، وهذا كله مذهب أهل السنة) ، والله أعلم. اهـ من شرح النووي على صحيح مسلم. *** انتقاد آخر في الموضوع من صاحب الإمضاء الرمزي في بيتن زورغ (جاوه) في 22 شوال 1340 حضرة الفاضل المحترم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله. بعد السلام والتحية والإكرام إني اطلعت على ما ذكرتم في عدد 81 من المنار في مسألة انتفاع أموات المسلمين بما يُهدَى لهم من ثواب قراءة أو ذكر، وذكرتم أن جواب ابن القيم عن هذه الحجة ضعيف جدًّا، وأطلتم الكلام في ذلك، وهذا الشيء معمول به في سائر الأقطار الإسلامية، بل يُؤَجِّرون على ذلك لمَن يقرأ القرآن على الختمة شيء معلوم (كذا) ، وعلى التهليل مَن جاب 70 ألف مرة فله كذا وكذا، ويهدي ذلك إلى أرواح الأموات، ولا أحد يعترض عليهم في ذلك؛ لأن وصول ثوابه إلى الأموات - وعدم وصوله وقبوله عند الله تعالى - من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله، وأنتم تقولون: إنه لا يصل إليهم ثواب القراءة والذكر، فمَن أطلعكم على ذلك، وفضل الله واسع، والظن بالله جميل؟ ! ومع ذلك أنكم خطَّأتم ابن القيم، وأكثرتم الأدلة والتأويلات في هذه المسألة، ولو فرضنا أنها بدعة - كما ذكرتم - فهي من البدع الحسنة، وليس يأثم مَن قرأ القرآن والذكر، وأهدى ثوابه للأموات، بل يُثَاب، وليس هي من البدع المضرَّة في الدين، وقد ورد في الخبر: (مَن سَنَّ سنة حسنة فله أجرها، وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، ومَن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة) ، أو ما هذا معناه. وقال الإمام الشافعي رحمه الله: البدع بدعتان، بدعة محمودة وبدعة مذمومة، وتنقسم البدع إلى خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة، وهذه المسألة ترجع إلى أي قسم من هذه الأقسام. أفيدوني، وأجركم على الله، وأرجو أن تنشروا جوابكم في المنار على ما ذكر. أ. ح. ب. ر (المنار) اعلم - أيها الأخ المستفهم - أن أصول دين الله تعالى وفروعه مبنية على أساسين: (أحدهما) أن لا يُعبد إلا الله تعالى، (ثانيهما) أن لا يُعبد إلا بما شرعه، ونحن قد بنينا على هذا الأصل، ولم نتجرأ على عالم الغيب، وإنما وقفنا عند النصوص، فعبادات الدين لا تثبت إلا بنص من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يزيد فيها برأيه شيئًا؛ فإن الله تعالى قد أكمل دينه على لسان رسوله بنص الآية المشهورة، وكل بدعة في الدين فهي ضلالة بنص الحديث الصحيح، وإجماع علماء الأمة، وأما البدعة التي قالوا: إنها تكون حسنة وسيئة المشار إليها بحديث: (مَن سن سُنَّة حسنة ... ) - فهي في المستحدثات الدنيوية، فالحسن منها هو النافع كبناء القناطر والمدارس والمستشفيات وتدوين العلوم والصناعات والحرف، والقبيح منها هو الضار في الدين أو الدنيا، والحسن يكون واجبًا أو مستحبًّا، والقبيح يكون حرامًا أو مكروهًا، وما ليس من هذا ولا ذاك فهو المباح، كمستحدثات الزينة غير المحرمة والطيبات من الرزق، وهذه إنما تسمى بدعًا في اللغة، لا في عرف الشرع، وممن صرح بأن البدعة اللغوية هي التي تعتريها

تعزيتان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعزيتان جاءتنا كتب وبرقيات كثيرة في التعزية عن شقيقنا السيد صالح من هذا القطر، ومن أقطار أخرى؛ فرأينا أن ننشر كتابين منها لكاتبين في الذروة من خواص أدبائنا، والصفوة من أصدقائنا؛ لما فيهما من رثاء فقيدنا، وبيان بعض مكانته عندهم وعندنا، الأول من ملك دولة البيان، الأمير شكيب أرسلان، والثاني من أبي حنيفة العصر، ورب النظم والنثر، الأستاذ الشيخ إسماعيل الحافظ الطرابُلسي وهو أعز أخلاء الفقيد. *** (الكتاب الأول) روما 11 يونيو 1922 سيدي الأخ الأستاذ أنت تعلم أن أقل حادث يسوؤك، ويكدر صفو خاطرك - يسوؤني جدًّا، ويحملني إدًّا، فكيف إذا كان رُزءًا عظيمًا كالذي رُزئتَه، وخَطْبًا فادحًا كالذي تحملت وِقْره، وكانت الفجيعة بالأخ الخطير، والصِّنْو الجليل، والركن الذي كان يعتمد عليه البيت الرِّضَوِي الأصيل، لا جرم أنني أشاطرك بأوفر سهمٍ من وقْع ذلك السهم الأليم، وأكرع معك مرارة تلك الكأس، وما يكرع معك الحميمَ إلا الحميمُ، لقد كنت منذ مدة أعجب لانقطاع كتبك عني، ولا أقدر لذلك سببًا سوى عدواء الأشغال، فإذا به عدوان الدهر، ومصائب الأيام، وإذا بي أقرأ خبرًا عرفت منه سبب انقطاع أخبارك، واحتباس آثارك، ألا وهو انتقال المرحوم السيد صالح إلى جوار ربه، فنزل عليَّ ذلك النعي الفجائي نزول الصواعق، وإن كنت أعلم أن الدنيا كلها إن هي إلا مجال لغراب البَيْن الناعق، وتخيلت لهذا حزنك، وارتماضك لهذا المصاب، بما أنت عليه من رقة الشعور وفرط الحنان، وشفوف شغاف الجنان، وبمكان الأخ الراحل بذاته من الفضل والنبل، وإنه الذي يؤسف على مثله لذاته وصفاته، قبل علاقاته ومضافاته، فلا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون. ليس لنا إلا التأمل في زوال الدنيا، وإنها دار قلعة، وإن هذا اليوم لا بد منه إن لم يكن اليوم فغدًا، فالخلائق كلها موتى منذ الآن، مَن ليس بميت فعلاً فهو ميت حكمًا، وقافلة واحدة، منها واصل، ومنها مَنْ هو على أهبة الوصول، وكلاهما بالغ أمده جزمًا، إذًا ليس للمتخلف منا أن تذهب نفسه حسرات على أمر كلنا بالغه، وفراق كلنا وارده، بل قد يكون السابق منا أسعد حالاً بمغادرة حياة هي أشبه بالممات، وبغمض عين هو عين اليقظة، وإن كان يظن أنه سبات، فضلاً عما هناك من فضيلة الصبر التي مثل الأستاذ السيد مَن تحلى بحليتها، واشتمل بحلتها، لا بل مَن حث تلاميذه الكثيرين ومريديه العديدين على التمسك بسُنَّتها. نسأل الله أن يحسن مثوى العزيز الراحل، ويكرم نُزُله، ويبلغه من سعادة المنقلب أمله، وأن يجعل في السيد الرشيد العزاء، ويطيل عمره لهذه الأمة، ويجزل ثوابه، ومني واجب التعزية لحضرة السيدة الوالدة، أجزل الله أجرها، وجبر قلبها، وإلى حضرة السيد عاصم، والسيد محيي الدين، وأطال المولى بقاءكم جميعًا. *** (الكتاب الثاني) سيدي الأخ الرشيد.. أعظم له ولي الأجر، وألهمني وإياه الصبر، على فواجع الدهر. بلغني الخبر الذي صدَّع القلبَ وقعُهُ، وأصم الآذان سمعه، وضاعف الأحزان، التي ما زالت تلدها أحداث هذا الزمان، ولو وصل إلى يقينه دفعة لأصماني الكمد، ولما بقي لي هذا الذماء القلل من الجلد، ولكنني سمعته لأول الأمر ممن لا يَتَثَبَّتُ في حديثه، فرجحت أنه غلط عن المرض الحنجري، الذي كان ألمَّ بالفقيد العزيز، عوَّضه الله الجنة، أو طاب لنفس أن ترجح ذلك ضنًّا منها بتلك الحياة الثمينة، وبقيت في حالة الشك مدة، لقيت فيها السيد إبراهيم أدهم غير مرة، وسألته عن ورود كتاب من قِبَلكم، ولم أستطع أن أخرج في السؤال عن هذا الحد؛ خشية أن أسمع من الجواب ما ينقلني من أعراف الشك إلى جحيم ذلك اليقين، وهو - حرسه الله - لم يشأ أن يزيدني مما عنده إشفاقًا عليَّ، وتفاديًا من مبادهتي بوقوع ذلك الخطب الجليل، ولكن لم يلبث ذلك الشك - والَهَفَ نفسي! - أن صار يقينًا محرقًا، أو سهمًا مصميًا. الشك أبرد للحشى من مثله ... يا ليت شكي فيه دام وطالا وهنالك عالجت من الأحزان الفادحة ما لو كان بالروض الأريض لأذواه، أو بالصخر الأصم لأبلاه، وعلمت كيف يسطو الكمد على الأكباد، فيذيبها، وكيف يحيط الجزع بالأنفس، فيحُول بينها وبين الصبر؛ حتى لا نهتدي إليه سبيلاً، ولا نجد عليه دليلاً، ولعمري إن الرزء بالفقيد العزيز فقيد الفضيلة والأدب، فقيد الشرف والحسب، فقيد الصدق والوفاء، فقيد الشمم والإباء - ليس مما يُستطاع الصبر عليه، أو يتسرب السلوان إليه، وليس مما تخفف الأيام آلامه عندي، أو تكاد تُعَفِّي آثاره من نفسي، بل هو ألم الدهر، وحزن الأبد، وكيف أجد سلوا عمن لا أجد الفضائل اجتمعت في شخصٍ اجتماعها فيه؟ ! بل كيف أجد سلوا عمن لو نُعيت له لقضى عمره حسرات، وأفاض من شئونه عَبَرات وأي عبرات؟ ! فوالهف نفسٍ ولهف الوفاء والمروءة عليه، ويا طول حزني وحزن الكرم، ومحاسن الشيم، ويا ما أحوجني عند هذه الملمَّة الفادحة أن تعيرني - أيها السيد الكريم - جانبًا من ثباتك، وذروًا من صبرك وأَنَاتك، وأن ترفدني بحكمتك العالية. أحسن الله إليك العزاء، وأحسن ذلك لسيدتي والدتكم المحترمة، ولنجل الفقيد النجيب السيد محيي الدين حرسه الله تعالى، وأورثه فضائل والده، وأحسن ذلك لشقيقه السيد حسن ولشقيقته الفاضلة السيدة حفصة، ولكافة الأسرة الكريمة، وألهمنا جميعًا الصبر على فراقه، وأسكنه فراديس الجنان، بين رَوْح وريحان، وجنات ذات أفنان، وأطال الله تعالى بقاءكم، والسلام عليكم، وعلى مَن إليكم، ورحمة الله وبركاته.

أحوال العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحوال العالم الإسلامي العراق ومصر إن بين مصر والعراق شبهًا في مطالب أهلهما، وفيما تبغيه السياسة البريطانية منهما، فأما الأهالي في القطرين فيطلبون لأنفسهما الحرية القومية، والاستقلال السياسي، والاقتصادي، والإداري، ولا يأبون - في حال مواتاة الدولة البريطانية لهم على ذلك - أن يتخذوها صديقة، ويفضلونها وشعبها على سائر الدول والشعوب بمنافع عظيمة مضمونة، وكل منهما قد ثار على السلطة البريطانية بحسب حاله، فثورة مصر كانت سياسية اجتماعية، وثورة العراق كانت حربية، وقد قاومت السلطة البريطانية العسكرية كلاًّ منهما بغاية القسوة، والشدة؛ فكانت الخاسرة. ثم اضطرت بعد ذلك إلى سلوك سبيل اللين بأن تسمح لكل من القطرين بأن يكون ذا دولة مستقلة في المظهر، لها ملك ووزارة مسئولة ومجلس شورى منتخب ودستور بشرط أن تقرر هذه الهيئات كلها وتضمن للدولة البريطانية كل ما تطلبه من الحقوق والمنافع في البلاد، وتكون تحت رحمة جيش بريطاني محش في قلب البلاد، أو بعض أطرافها، يمكنه في كل وقتٍ تنفيذ ما عسى أن تأمر به دولته من التغيير، والتبديل، ومن سلب السلطة الوطنية ما ترى سلبه منها بالحجج التي تقيمها هي على أن لها الحق في ذلك، وهذه الحجج قد صارت معروفة الأنواع كدعوى ظهور عجز الأهالي عن القيام بشؤون بلادهم بغير مساعدة أجنبي، ودعوى ظلمهم للأقليات الدينية والجنسية. وهذه التجربة لم تنجح في العراق، فقد عُلم أن الرأي العام فيها كاره للانتداب، رافض له، وكثر الحديث في عقد معاهدة بين الحكومتين، لا يُذكر فيها الانتداب، يضمن فيها للدولة البريطانية كل ما تبغيه باسمه من سلطة ومنفعة، وقد قيل مرارًا إن المعاهدة قد وُضعت، وإن الحكومة العراقية المؤقتة لم تقبلها، فلم تتفق مع المندوب البريطاني السامي على انتخاب الجمعية الوطنية، التي يشترط أن تقررها، وهو لا يسمح بانتخابها إلا بعد الاتفاق مع الملك فيصل، ووزرائه على المعاهدة، وعلى كفالة إيجاد جمعية وطنية ترضاها، وتقررها، ولم تضمن له الحكومة ذلك. وقد ظهر بهذا أن الرأي العراقي العام - وكذا الخاص - لا يهتم بالألفاظ والمظاهر دون الحقائق كما يزعم الإنجليز في الشرقيين؛ إذ قالوا في المصريين: إنهم ينفرون من كلمة الحماية لا من معناها، والأمر المهم الذي نريد أن نذكِّر إخواننا العراقيين به - هو أن الحقوق التي تعطيها العراق للإنكليز إذا كانت مخلة بالاستقلال التام المطلق؛ فتقييدها بالانتداب أقل خطرًا عليها من جعْلها مطلقة، لا يحاسب الإنكليز عليها محاسب، ولا ينازعهم فيها منازع.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من بيروت (س 26 - 31) من صاحب الإمضاء حضرة العالم العلامة والجهبذ الفهامة مولانا الأستاذ السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء - حفظه الله -. (1) ما حكم الله تعالى ورسوله في رجل يُمضي وقتًا كل يوم في قهوة عمومية، بها مسكرات، ولعب ميسر، ولعب بليارد، وغير ذلك، مع أنه لا يتعاطى شيئًا من ذلك كله، وينكر ذلك بقلبه، بل قصده تمضية وقت، فهل يجوز له الجلوس أم لا؟ (2) وهل سماع الأدوار الغنائية من الرجال، وضرْب النساء على البيانو والعود حرام أم لا؟ (3) وهل الخمر نجسة، وما الأحاديث الصحيحة الواردة في نجاستها؟ (4) وهل الإسبيرتو والبنزين نجسان أم لا؟ (5) وهل صلاة الظهر بعد الجمعة واجبة، أم سنة، أم مستحبة؟ وهل ورد في ذلك أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ (6) وهل يجوز المسح على الخف المقطع وعلى الجوارب؟ (ما يسمونها العامة بالشرابات) الصوف والقطن أم لا؟ تفضلوا ببيان ما جاءت به الشريعة المطهرة، والله يتولى مثوبتكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... م. ط. ل الجواب عن مسألة القعود مع مرتكبي كبائر المعاصي ومشاهدتهم: قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 68-70) ... إلخ، وقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} (النساء: 140) الآية. هذا حكم الله فيمن يرى الباطل والمنكر، أو يسمعه من غيره، وهو أنه منهي عن القعود مع أهله؛ لأن أقل ما في قعوده إقرار ما يرى، ويسمع، واحترام أهله، والاستئناس به، وهو نوع من المشاركة فيه، وراجع تفسير الآيات في ص 463 من جزء التفسير الخامس، وص 503 من الجزء السادس، أو في المنار. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم وغيره من حديث أبي مسعود البدري (رضي الله عنه) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوسَ بالطرقات، قالوا: يا رسول الله ما لنا بُدٌّ من مجالسنا، نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه؟ ، قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) رواه البخاري ومسلم. والأحاديث في هذا كثيرة، وهي واضحة المعنى، وقلما واظب أحد على مجالسة أهل المعاصي، والأنس بهم إلا وشاركهم في معاصيهم، ولو بعد حين، وما يجده أولاً من إنكار القلب وتوبيخ الضمير - الذي هو أضعف الإيمان - يزول بالتدريج، فليتقِ العاقل ربه، ولا يَغْشَ مجالس المنكرات، ويجالس أهلها إلا لضرورة، وبقدر الضرورة إن وُجدت، وتقطيع الوقت ليس بضرورة ولا حاجة صحيحة، بل الوقت أثمن ما يملك العاقل، فعليه أن يصرفه فيما ينفعه في دينه أو دنياه، لا فيما يُعَدُّ وسيلة إلى إضاعتهما جميعًا. الجواب عن مسألة سماع الغناء وآلات الطرب: مسألة السماع فيها تفصيل، وخلاف عريض طويل، وأكثر فقهاء المذاهب المشهورة يكرهون سماع الغناء أو كثرته، ويحرمون معازف المزامير والأوتار، والتحقيق أن الأصل فيها الإباحة، وأنها تعرض لها أحوال تكون بها فتنة، وذرائع لمفاسد تكون بها محرمة أو مكروهة، وقد فصلنا القول فيها بذِكر أدلة الحاظرين والمبيحين، وتمييز صحيحها من سقيمها، ووزن رواياتها بميزان الجرح والتعديل في الجزئين الأول والثاني من مجلد المنار التاسع (من ص 35 - 51 و4 -147 وفي الصفحة الأخيرة منها خلاصة الفتوى في عشر مسائل، وله تتمة) ، وكشف شبهات معترض في (ص 185) من المجلد السابع عشر. الجواب عن مسألتي نجاسة الخمر والسبيرتو: أكثر الفقهاء قالوا بنجاسة الخمر، وقال بعضهم بطهارتها، ومنهم ربيعة شيخ الإمام مالك من علماء السلف، والقاضي الشوكاني، والسيد حسن صديق من فقهاء الحديث المتأخرين، ولا يوجد حديث صحيح، ولا حسن مصرح بنجاستها، وقد فصلنا القول فيها من قبل في المجلد الرابع (ص 500 و821، وفي غيره، ومنه ص 184، م 17) ، والسبيرتو لم يكن في عصر أئمة هذه المذاهب، ولكن فقهاءها يقولون بنجاسته بناءً على أنه نوع منها أو مستخرج منها، وفي ذلك مباحث طويلة فيما أشرنا إليه من فتوى المجلد الرابع، وما تبعها، ولدينا الآن فتوى من الهند بنجاسة كل من الخمر والكحول (السبيرتو) سُئلنا عنها، ونجيب في جزء تالٍ إن شاء الله. صلاة الظهر بعد الجمعة: (ج) صلاة الظهر بعد الجمعة بدعة، لم يرد فيها حديث صحيح، ولا ضعيف، بل هي مسألة اجتهادية في مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وقد فصلنا القول فيها مرارًا (راجع فهارس المجلد السابع وما بعده) . المسح على الخف المقطع والجوارب: (ج) إذا تقطع الخف فلم يعد ساترًا للرجلين فلا يختلف الفقهاء في عدم جواز المسح عليه؛ لأن علته سترهما مع مشقة نزعهما، وحكمته أنهما بالستر يظلان طاهرتين نظيفتين، وكلتاهما تزول بهذا التقطع، والمسح على الجوارب الساترة جائز، وقد فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رواه أحمد وأصحاب السنن من حديث المغيرة بن شعبة، وصححه الترمذي، ويجد السائل هذا البحث - وما يتعلق به - مفصلاً في تفسير آية الوضوء من سورة المائدة، وهو في الجزء السادس من التفسير (ص5) ، والمجلد السادس عشر من المنار (ص 657 - 665) . *** استذلال مشايخ الطرق لأتباعهم وتحكُّمهم في دينهم ودنياهم (س 36) من صاحب الإمضاء بالإسكندرية حضرة صاحب الفضيلة العلامة السيد محمد رشيد رضا - حفظه الله - بعد تقديم واجبات الاحترام لمقام فضيلتكم السامي لا يخفى على مسلم اشتغالكم بالعلوم والمعارف، سيما ما هو خاص منها بالشريعة الإسلامية السمحة، وما جبلتم عليه من كرم الأخلاق وطهارة النفس؛ ولذا جئت إليكم بالسؤال الآتي - لا زلتم ملجأً لكل قاصد، ودليلاً لكل حائر، آمين - وإني أستحلفكم بالدين الحنيف السمح إجابتي على هذا السؤال على صفحات أول عدد يصدر من مجلتكم الغراء وهو: (1) هل ورد نصٌّ شرعيٌّ يبيح لمشايخ الطرق أن يكلفوا المريدين أن يقبِّلوا رِجْل شيخهم باطنًا وظاهرًا؟ ! (2) وهل يجوز لشيخ أن ينهى أولاده أو دراويشه أن يتعلموا العلم؛ لأن العلم - على زعمه - يوجد الكبر في النفس؟ ! ، وأن يمنع أحدهم أن يشتغل إلا بمهنة واحدة، بمعنى أن النجار مثلاً لا يجوز له أن يشتغل بالحدادة، ولا للحداد أن يمارس النجارة؛ لأن ذلك يحرم على زعمه، وأن هذا الشيخ حَتَّمَ على أولاده بأن يذكروا الله ببعض أسماء الله الحسنى، مع ترك باقي أسمائه تعالى، وإذا سئل عن تفسير آية أو حديث يفسر ما سئل عنه، وهو يدخن سيجارته مادًّا إحدى رِجليه، أو كلتيهما معًا، وأن هذا الشيخ جمع له جمعًا عظيمًا من البسطاء وذوي القلوب الضعيفة، وعمل له طريقًا، وهو يتجول من بلد إلى أخرى لتقويته، فهل هذا الطريق شرعي؟ هذا هو السؤال وضحته لفضيلتكم ملتمسًا الإجابة عليه كما ذكرت، مع الشكر والثناء؛ لأني في الحقيقة عامل مشتغل بالصناعة، ويهمني كثيرًا أمر ديني، وفاتني أن أذكر لكم أن هذا الشيخ يزعم أن هذا الذكر مطابق للشرع، وأن الرسول- صلى الله عليه وسلم - جمع جمعًا من أصحابه - رضوان الله عليهم - وذكر بهم هذا الذكر. اهـ. وختامًا تفضلوا بقبول مزيد احترامي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبده منصور قنديل (الجواب) : إن من المصائب والنوائب أن يصل الجهل بضروريات الإسلام في مثل هذه البلاد المصرية - إلى أن يحتاج بعض الناس إلى السؤال عن هذه الضلالات والجهالات هل ورد فيها نص شرعي، وإن كان الغرض منه جعْله وسيلة إلى إنكارها - كما نظن - عسى أن يهتدي بما يُنشر فيها من الإنكار بعض أولئك العوام المساكين، الذين يصدقون كل مَن يتظاهر بالصلاح في كل ما يدَّعيه، ويسلمون له كل ما يعزوه إلى الشريعة، ويحكيه عن الله تعالى وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يكذب في ذلك، ويختلق بغير علمٍ، ولا حياء من الله، ولا خوف من مسلم يعرف ضروريات الدين أن ينكر عليه كذبه على الله ورسوله، وإفساده على العامة دينهم، كالشيخ المشار إليه بهذا السؤال. والعلماء الرسميون - الذين احتكروا رئاسة الدين بقوانين الحكومة - قلما يُعنَى أحد منهم أقل عناية بأمر العامة ببحث أو سؤال، أو هدي وإرشاد، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وهم يعلمون ما عليه الناس، فإن ذُكر على مسمعهم ما فشا في الناس من البدع المكفرة، والمفسقة حوقلوا، وتبرموا، وقالوا: آخر زمان! ولكن إذا تصدى أحد لإرشاد العامة، وبيان حقيقة دينها لها، وقال: هذا إيمان، وذاك كفر، وهذه سنة، وتلك بدعة، ورأوا له تأثيرًا في العامة - لا يعدم من أكبرهم عمائم، وأطولهم لِحًى مَن يقوم في وجهه، وينتصر للعامة عليه! ، فإذا ذكر بدع القبوريين ومنكراتهم - التي تعد بالعشرات والمئات - صاحوا في وجهه: إنك تنكر زيارة القبور، وكرامات الأولياء! وإذا أنكر خرافات مشايخ الطريق التي قلبوا بها الدين رأسًا على عقب- هاجوا عليه العامة: هذا مبتدع، أو معتزلي، أو وهابي؛ ينكر كرامات الأولياء!! فبحماية استحباب زيارة القبور للرجال لأجل تذكُّر الموت والآخرة - التي لم ينكرها وهابي ولا غيره - يبيحون للملايين من النساء والرجال مئات من المعاصي المجمع على تحريمها، والتي تقوم الأدلة على كون بعضها ردة عن الإسلام، وخروجًا عن الملة، ويا وَيْحَ مَن يصرح بهذا، وبحماية كرامات الأولياء التي توسعوا فيها توسعًا تأباه سنن الله في خلقه وشرعه لهداية عباده، يبيحون لأهل الطرق ولغيرهم من الدجالين والمعتوهين - مئات من الخرافات المنفرة عن الدين، المشوهة لوجهه الجميل، وإن بعض هؤلاء المعممين الرسميين لَيحتمون لهذه البدع والخرافات، ويغارون عليها غيرة لو بذلوا بعضها للكتاب والسنة لما عم الجهل بهما، والإعراض عنهما العباد والبلاد، حتى إنهم ليؤذون العالم التابع لرئاستهم، ويستعينون على أذاه بالحكومة، إذا هو دعا الناس إلى السنة، وأنكر تلك البدع عليهم، كما فعلوا في دمياط غير مرة! ذلك ما جرَّأ بعض دجاجلة العوام على انتحال مشيخة الطريق، والتصدر لإرشاد الناس، بل على إغوائهم وإضلالهم بما يعجز عنه كل شيطان مريد، وماذا عسى أن نقول في مثل هذا الدجال الصغير وإفساده إذا قسناه بكبار الدجالين، الذين يعد أتباعهم بالملايين، ويقدسهم الألوف من العلماء المؤلفين، والشعراء الغاوين، كالشيخ أحمد التيجاني الذي تُستباح بالانتماء إليه جميع الفواحش والمنكرات؛ لدعواه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضمن لكل مَن يدخل في طريقته الجنة، وهو ما سنبينه في جزءٍ آخر. وحسبنا في جواب هذا السؤال أن نقول بالإجمال: إن ما يدعيه هذا الدجال كذب معلوم بالضرورة، وما يحمل عليه أتباعه إفساد لدينهم ودنياهم، فالدين لم

الهجر الجميل والصفح والصبر الجميل

الكاتب: محمود شكري الآلوسي

_ الهجر الجميل والصفح والصبر الجميل [1] محمود شكري الآلوسي بسم الله الرحمن الرحيم سُئل الشيخ الإمام، العالم العامل، الحبر الكامل، شيخ الإسلام، ومفتي الأنام تقي الدين بن تيمية - أيده الله، وزاده من فضله - العظيم عن الصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، وما أقسام التقوى والصبر الذي عليه الناس. فأجاب - رحمه الله -: الحمد لله، أما بعد: فإن الله أمر نبيه بالهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل، فالهجر الجميل هجر بلا أذى، والصفح الجميل صفح بلا عتاب، والصبر الجميل صبر بلا شكوى، قال يعقوب - عليه الصلاة والسلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (يوسف: 86) . فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل، ويُروى عن موسى - عليه الصلاة والسلام - أنه كان يقول: اللهم لك الحمد، وإليك المشتكَى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، اللهم إلى مَن تكلني؟ ، أَإِلى بعيدٍ يتجهَّمني، أم إلى عدو ملَّكتَه أمري؟ ، إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت الظلمات له، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل عليَّ غضبك، لك العُتْبَى حتى ترضى) ، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرأ في صلاة الفجر: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (يوسف: 86) ، ويبكي حتى يُسمع نشيجُهُ من آخر الصفوف، بخلاف الشكوى إلى المخلوق، قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طاووسًا كره أنين المريض، وقال: إنه شكوى، فما أَنَّ حتى مات، وذلك أن المشتكي طالبٌ بلسان الحال، إما إزالة ما يضره، أو حصول ما ينفعه، والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} (الشرح: 7-8) . وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله) . ولا بد للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور، وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور، فالأول هو التقوى، والثاني هو الصبر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً ... } (آل عمران: 118) إلى قوله: { ... وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 120) ، وقال تعالى: { ... بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125) وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) ، وقد قال يوسف: {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) . ولهذا كان الشيخ عبد القادر ونحوه من المشايخ المستقيمين يوصون في عامة كلامهم بهذين الأصلين: المسارعة إلى فعل المأمور، والتقاعد عن فعل المحظور، والصبر والرضا بالأمر المقدور؛ وذلك أن هذا الموضع غلط فيه كثير من العامة، بل ومن السالكين، فمنهم مَن يشهد القدر فقط، ويشهد الحقيقة الكونية دون الدينية، فيرى أن الله خالق كل شيءٍ وربه، ولا يفرق بين ما يحبه الله ويرضاه، وبين ما يسخطه ويبغضه، وإن قدَّره وقضاه، ولا يميز بين توحيد الألوهية، وبين توحيد الربوبية، فيشهد الجمع الذي يشترك فيه جميع المخلوقات - سعيدها وشقيّها - مشهد الجمع الذي يشترك فيه المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والنبي الصادق، والمتنبي الكاذب، وأهل الجنة وأهل النار، وأولياء الله وأعداؤه، والملائكة المقربون والمردة الشياطين، فإن هؤلاء كلهم يشتركون في هذا الجمع، وهذه الحقيقة الكونية، وهو أن الله ربهم وخالقهم ومليكهم، لا رب لهم غيره، ولا يشهد الفرق الذي فرَّق الله بين أوليائه وأعدائه، وبين المؤمنين والكافرين، والأبرار والفجار، وأهل الجنة والنار، وهو توحيد الألوهية، وهو عبادته وحده، لا شريك له، وطاعته وطاعة رسوله، وفعل ما يحبه ويرضاه، وهو ما أمر به ورسوله، أمر إيجاب، أو أمر استحباب، وترك ما نهى الله عنه ورسوله وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين بالقلب واليد واللسان، فمَن لم يشهد هذه الحقيقة الدينية الفارقة بين هؤلاء وهؤلاء، ويكون مع أهل الحقيقة الدينية، وإلا فهو من جنس المشركين، وهو شر من اليهود والنصارى؛ فإن المشركين يقرون بالحقيقة الكونية؛ إذ هم يقرون بأن الله رب كل شيء، كما قال تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) ، وقال تعالى:] قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [2] قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [؛ ولهذا قال سبحان (المؤمنون: 84-89) هـ: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) ، قال بعض السلف: تسألهم مَن خلق السموات والأرض؟ ، فيقولون الله، وهم مع هذا يعبدون غيره! مَن أقر بالقضاء والقدر دون الأمر والنهي الشرعيين فهو أكفر من اليهود والنصارى، فإن أولئك يقرون بالملائكة والرسل الذين جاءوا بالأمر والنهي الشرعيين، لكن آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقاًّ} (النساء: 150-151) . وأما الذي يشهد الحقيقة الكونية، وتوحيد الربوبية الشامل للخليقة، ويقر أن العباد كلهم تحت القضاء والقدر، ويسلك هذه الحقيقة، فلا يفرق بين المؤمنين والمتقين الذين أطاعوا أمر الله الذي بعث به رسله، وبين مَن عصى الله ورسوله من الكفار والفجار - فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى [3] ، لكن من الناس مَن قد لمحوا الفرق في بعض الأمور دون بعض، بحيث يفرق بين المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار، وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه، وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوّى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرّق به بين أوليائه وأعدائه. ومَن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر، وكان من القدرية كالمعتزلة وغيرهم الذين هم مجوس هذه الأمة - فهؤلاء يشبهون المجوس، وأولئك يشبهون المشركين، الذين هم شر من المجوس، ومَن أقر بهما، وجعل الرب متناقضًا فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه، وخاصمه كما نُقل ذلك عنه. فهذا التقسيم من القول والاعتقاد - وكذلك هم في الأحوال والأفعال - فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتَّقي الله فيفعل المأمور، ويترك المحظور، ويصبر على ما يصيبه من المقدور، فهو عند الأمر والدين والشريعة، ويستعين بالله على ذلك، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، وإذا أذنب استغفر، وتاب، لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى للمخلوق حجة على رب الكائنات، بل يؤمن بالقدر، ولا يحتج به، كما في الحديث الصحيح الذي فيه سيد الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني، وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفرْ لي؛ فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت) ، فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات، ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات، ويتوب منها، كما قال بعضهم: (أطعتك بفضلك، والمنَّة لك، وعصيتك بعلمك، والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك عليَّ، وانقطاع حجتي - إلا ما غفرت لي) . وفي الحديث الصحيح الإلهي: (يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمَن وجد خيرًا فليحمدِ الله، ومَن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه) [4] ، وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع. وآخرون قد يشهدون الأمر فقط، فتجدهم يجتهدون في الطاعة، حسب الاستطاعة، لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر، وآخرون يشهدون القدر فقط، فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك، لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله، واتباع شريعته، وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين، فهؤلاء يستعينون بالله، ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه، ولا يستعينوه، والمؤمن يعبده، ويستعينه. والقسم الرابع - شر الأقسام - وهو مَن لا يعبده، ولا يستعينه، فلا هو مع الشريعة الأمرية، ولا مع القدر الكوني، وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل وقوع المقدور من توكل واستعانة ونحو ذلك، وما يكون بعده من صبر ورضاء ونحو ذلك، فهم في التقوى، وهي طاعة الأمر الديني، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني، أربعة أقسام: (أحدها) أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة. (والثاني) الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر، مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها، ويتركون المحرمات، لكن إذا أُصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه، أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه، وظهر هلعه. (والثالث) قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقُطَّاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام والكُتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس. وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام، وهؤلاء هم الذين يريدون علوًّا في الأرض، أو فسادًا من طلاب الرياسة، والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان، والاستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة وغير ذلك، يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى ف

الخلافة الإسلامية ـ 7

الكاتب: محيي الدين آزاد

_ الخلافة الإسلامية ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية فصل إجماع أهل السنة والشيعة ومثل الصحابة والتابعين كانت سيرة أئمة العترة - عليهم السلام - مع خلفاء بني أمية، وبني العباس، وإن كانوا يرون أنفسهم أحق بالخلافة منهم، ولكن مع ذلك لم يخرج عليهم أحد منهم، ولا انحرف عن طاعتهم، بل ظلوا تحت أمرهم طائعين؛ لأن حكومتهم كانت قد تمكَّنت، ولما خرج من أهل البيت زيد، أنكر عليه الإمام جعفر الصادق عمله لنفس هذه العلة، ولأجلها قَبِلَ الإمام علي الرضا عهد المأمون بالخلافة إليه؛ لأنه لو لم يكن من المُسَلِّمين لخلافته لما قَبِلَ العهد، بل لردَّه، واجتنبه منه، ولكنه لما لم يفعل ذلك ثبت أنه كان يرى خلافة المأمون صحيحة وشرعية. ولا يُؤثْر عن هؤلاء الأئمة الأطهار شيءٌ يثبت أنهم منعوا أحدًا من طاعة خلفاء بني أمية، أو بني العباس، بل في كتب الحديث للإمامية - مثل أصول الكافي وغيره - ما يُثْبِتُ أنهم مع إظهار استحقاقهم للخلافة، وشكوى الغصب والتعدي عليهم - منعوا الناس من الخروج والغدر. وأقطع برهان على ذلك عمل أمير المؤمنين علي - عليه السلام - نفسه، الذي تدَّعي الإمامية أن خلافته كانت منصوصة، وأنه لم تكن الخلافة جائزة لغيره في حياته، ولكن مع ذلك معلوم لكل الناس أنه عليه السلام لم يخرج على الخلفاء الثلاثة الذين مَضَوْا قبله، ولا تخلَّف عن بيعتهم، ولا تنحَّى عنهم، بل ظل عشرين سنة على طاعتهم، ومؤازرتهم، ومناصحتهم، حتى لحقوا بربهم، وآلت الخلافة إليه، فأثبت بعمله هذا أن الأمة إذا اجتمعت على رجل فلا تجوز مخالفته وعصيانه، والخروج عليه، بل على كل الناس أن يطيعوه، ويسمعوا له، فإذا كان هذا غير جائز للخليفة المنصوص على خلافته فكيف يجوز لعامة الناس؟ ! فأهل السنة والإمامية كلاهما متفقان في هذه المسألة، وأما الخلاف المشهور بينهما فإنما هو في الخلافة الجمهورية، أي إذا قدرت الأمة على نصب الخليفة فمَن تنصب؟ فالشيعة تشترط أن يكون من أهل البيت فقط، وأهل السنة ينكرون هذا الشرط، ولكن إذا لم يبق هذا النظام، ولم تقدر الأمة على الانتخاب لتغلُّب المتغلِّبين على الخلافة، فإن قويت شوكتهم، وانقادت لهم الأمور انقيادًا - فكل من الشيعة وأهل السنة يقول قولاً واحدًا، وهو أنه يجب طاعته، وإلى هذا ذهبت الزيدية، وغيرها من الفرق الإسلامية. *** فصل الشواهد من كتب العقائد والفقه وإِنَّا لنورد ههنا بعض مقالات كتب العقائد والفقه التي يتدارسها المسلمون في مدارسهم ومساجدهم من قرون عديدة؛ ليسهل على الناس مراجعتها: ففي شرح المقاصد: (وأما إذا لم يوجد مَن يصلح لذلك، أو لم يقدر على نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلال - فلا كلام في جواز تقليد القضاء، وتنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوكة) ، ثم بعد بيان شروط الإمامة - يقول: (نعم، إذا لم يقدر على اعتبار الشرائط جاز ابتناء الأحكام المتعلقة بالإمامة على كل ذي شوكة يقتدر، تغلب أو استولى) ، وفيه أيضًا: (فإن لم يوجد من قريش مَن يجمع الصفات المعتبرة وُلِّيَ كناني، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل، فإن لم يوجد فرجل من العجم) . وفي المرقاة شرح المشكاة: (وأما الخروج عليهم، وقتالهم فمحرم، وإن كانوا فسقة ظالمين) ، ويكتب في شرح حديث: (مَن أتاكم وأمرُكُمْ جميعٌ على رجلٍ واحدٍ ... ) -: (أي له أهلية الخلافة أو التسلُّط والغَلَبَة) . وفي الشامي: (ويثبت عقد الإمامة إما باستخلاف الخليفة إياه كما فعل أبو بكر، وأما ببيعة جماعة من العلماء، أو من أهل الرأي) . وفي المسامرة: (والمتغلب تصح منه هذه الأمور - أي ولاية القضاء والإمارة والحكم بالاستفتاء ونحوها - للضرورة، وصار الحال عند التغلب كما لو لم يوجد قرشي عدل، أو وُجد ولم يقدر - أي لم توجد قدرة على توليته لغلبة الجَوَرَة -، إذ يُحكم في كل من الصورتين بصحة ولاية مَن ليس بقرشي، ومَن ليس بعدل للضرورة) . وفي شرح المواقف - بعد بيان شروط الإمامة -: (ولكن للأمة أن ينصبوا فاقدها؛ دفعًا للمفاسد التي تندفع بنصبه) (634) . وقد أعطى البحث حقه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري، حيث يقول: (وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلِّب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه؛ لما في ذلك من حقن الدماء، وتسكين الدهماء، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح - فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمَن قدر عليها كما في الحديث) (ج 13: 7) ، ويكتب في شرح حديث حذيفة: ( ... فاعتزل الفرقَ كلها) ... إلخ، (قال ابن بطال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة الجور؛ لأنه وصف الطائفة الأخيرة بأنهم دعاة على أبواب جهنم، ومع ذلك أمر بلزوم الجماعة) (كتاب الفتن، ج 13، صفحة 31) . ويشرح حديث: (اسمعوا، وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشي) - بقوله: (وأما لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة فإن طاعته تجب إخمادًا للفتنة) (فتح، 13: 109) . وقال النواوي في شرح مسلم: (وهذه الأحاديث في الحث على السمع والطاعة في جميع الأحوال، وسببها اجتماع كلمة المسلمين؛ فإن الخلاف سبب لفساد أحوالهم في دينهم ودنياهم، وقوله: صلى الله عليه وسلم: (وإن كان عبدًا مجدع الأطراف) ، يعني مقطوعها، والمراد أخس العبيد، أي اسمع وأطع للأمير، وإن كان دنيء النسب ... ويتصور إمارة العبد إذا ولاه بعض الأئمة، أو تغلب على البلاد بشوكته) .. إلخ (ج2: 125) . وقال الشوكاني في الدرر البهية: (وطاعة الأئمة واجبة إلا في معصية الله، ولا يجوز الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة) (شرح الدرر: 414) . وفي حجة الله البالغة لشاه ولي الله الدهلوي: (إن الخليفة إذا انعقدت خلافته ثم خرج آخر ينازعه حل قتله) . وقال رضي الله عنه في كتابه (إزالة الخفاء) بالفارسية ما ترجمته - وقد بحث في هذا الكتاب مسألة الخلافة بحثًا مفصلاً وجامعًا لم يبحث مثله أحد قبله - (والخروج على السلطان الفاقد للشروط أيضًا حرام بعد اجتماع المسلمين عليه، إلا أن يُظهر كفرًا بواحًا، وقد تواتر هذا معنى) (ج 1، ص 132) . وحاصل هذه الشواهد ما مر بك من قبل، وهو أنه يجب أن يكون للأمة إمام وخليفة ذو شوكة ومَنَعَة في كل زمان، فإن استطاعت الأمة نصبه فعليها أن تراعي الشروط التي شرطتها الشريعة في الخليفة، وإن استولى على الخلافة رجل مسلم بقوته وعصبيته، وانعقدت حكومته - فيجب على كل الناس طاعته، وقبول خلافته، سواء أكان قرشيًّا أو غير قرشي، عادلاً أو ظالمًا، عالي النسب أو دانيه، حتى وإن كان عبدًا حبشيًّا مجدع الأطراف، فيجب طاعته، ومناصرته على أعدائه، إلا أن يُرَى منه كفرٌ ظاهرٌ، فلا طاعة في هذه الحالة، ولا سمع ولا بيعة، بل يجب الخروج عليه ومقاتلته، ومَن لم يستطع ذلك يهاجر من بلده، قال العسقلاني في الفتح: (فمَن قام على ذلك فله الثواب، ومَن داهن فعليه الإثم، ومَن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض) (109: 13) . وعلم من هذا أيضًا أن الكفار إذا استولوا على بلد إسلامي يجب على أهله الخروج عليهم، ومقاتلتهم، ولا يحل لهم أن يداهنوهم، ويداروهم، ومَن عجز فعليه الهجرة من ذلك البلد؛ لأنه لا يجوز لمسلمٍ البقاء تحت حكم الكفار. ((يتبع بمقال تالٍ))

الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام مقدمة لقد كان مما أصاب شيخنا الأستاذ الإمام - من وراثة العلماء للأنبياء عليهم الصلاة والسلام - أن حياته كانت خيرًا للناس؛ بما كان ينفعهم فيها بعلمه وعمله، وسيرته وهدْيه؛ إذ كانت كل أوقاته مصروفة لمنفعة الأمة في جملتها، أو للعفاة وطلاب الحاجات من أفرادها، وقلما كان يعمل لخاصة نفسه أو لبيته شيئًا، فلما مات كان في مماته خير للناس بما شعروا به من الحاجة إلى الإصلاح الذي كان يقوم به، وإلى الإمام الذي يهدي السبيل، والأستاذ الذي ينير الدليل، والطبيب الذي يشفي العليل، والزعيم الذي يسير بالأمة من حنادس الشبهات، ودياجير المشكلات إلى نور الحق المبين، فيما ينبغي أن تكون عليه في أمري الدنيا والدين، فمازال أهل البصيرة منها والرأي يذكرونه كلما حزبهم أمر، وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر، حتى إذا ما تطورت الأطوار، وانسلخ من الليل النهار، واضطربت في المصلحة العامة الأفكار - توجهت العقول البحَّاثة، والقلوب الحساسة إلى الاحتفال بإحياء ذِكْره، وتجديد البحث في تعليمه وهدْيه، اشترك في ذلك الشيخ الضعيف القُوَى، والكهل الحصيف الذي بلغ أشُدَّه واستوى، والأستاذ المعلم، والتلميذ المتعلم، حتى كان السابق إلى اقتراح ذلك في الصحف اليومية - طالب من طلبة المدارس الثانوية، لم يدرك عهد الإمام، ولكنه أدرك قيمة ما ترك للأمة من الصُّوَى والأعلام. تشاور بعض تلاميذ الإمام ومريديه في الاحتفال بإحياء ذكره، وعرض خلاصة من سيرته على الأمة، مع شيءٍ من نتائج فكره، فألفوا لذلك لجنة من إخوانهم، واختاروا أن يرأس لجنتهم أحد أكابر علماء الأزهر الأعلام، الواقفين على نشأة الأستاذ الإمام، وعرضوا ذلك على فضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت، الذي كان زميله في طلب العلم، وخلفه في إفتاء ديار مصر، ورجحوه بمجموعة من المزايا، لا توجد في غيره، فحبَّذ رأيهم، وقبِل اقتراحهم، ثم اختاروا بعد التشاور أن يكون الاحتفال في دار الجامعة المصرية، واجتمعوا فيها المرة بعد المرة، فوضعوا النظام له، وجمعوا من أنفسهم ما قدروه له من النفقة، وقرروا أن يفتتح الجلسة الرئيس بخطبة مناسبة للمقام، ويتلوه الأستاذ أحمد لطفي بك السيد بكلمة يقولها باسم الجامعة المصرية، وأن يقفِّي عليه الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق بإلقاء ترجمة للإمام مفصَّلة، وأن يُلقي بعد الدكتور منصور فهمي كلمة يعبر بها عن رأي النابتة العصرية في الإمام، وما له في قلوب أحرار الفكر من المقام، وأن ينشد بعده محمد حافظ بك إبراهيم قصيدته، ثم يختم الحفلة صاحب المنار، بما عساه يتسع له الوقت من الكلام. ثم إنهم بعد ذلك نشروا في الجرائد ما يأتي: (إحياء ذكرى الأستاذ الإمام) فكر جماعة من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في الاحتفال بإحياء ذكراه، وتألفت لجنة منهم برئاسة زميله حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت، وقررت أن تكون الحفلة بدار الجامعة المصرية، الساعة الخامسة من مساء يوم الثلاثاء 16 ذي القعدة سنة 1340 الموافق 11 يوليو سنة 1922 (وهو يوم وفاته بالحساب الشمسي) . ووضعت اللجنة نظام الحفلة، وعينت خطباءها مراعية ما يتسع له الوقت، وما يناسب الغرض من الاحتفال بإمام مصلح. وستطبع اللجنة ما يُلْقَى في الحفلة في كراسة خاصة، مع ما يرد إليها من الخطب والقصائد المختارة. وهذه أسماء حضرات أعضاء اللجنة: (1) الشيخ محمد بخيت - رئيس. (2) الشيخ عبد الحميد البكري. (3) السيد محمد رشيد رضا. (4) الشيخ محمد مصطفى المراغي. (5) الشيخ محمد هلالي الإبياري (6) الشيخ عبد المجيد سليم. (7) الشيخ مصطفى عبد الرازق. (8) الشيخ علي سرور الزنكلوني. (9) أحمد زكي باشا. (10) حسن عبد الرازق باشا. (11) السيد عبد الرحيم باشا الدمرداش. (12) أحمد بك لطفي السيد. (13) حنا بك باخوم. (14) الدكتور طه حسين. (15) الدكتور منصور فهمي - السكرتير. ولما جاء اليوم الموعود كانت اللجنة قد أتمَّت الاستعداد للاحتفال في رحبة دار الجامعة المصرية بعد إذن مجلس إدارة الجامعة لها بذلك، ففرشت أرضها بالرمل الأصفر، ونصبت في صدر المكان منبر الخطابة، وفرشت أرضه بالطنافس العجمية النفيسة، ووضعت عليها الأرائك والمقاعد الوثيرة، وصفّت من ورائه كراسي الخيزران، بعدد ما وزعت من رقاع الدعوة على العلماء وخواص الأمة من جميع الطبقات. وما جاءت الساعة المعينة للبدء في الاحتفال إلا وكانت المقاعد كلها قد شُغلت بالمدعوين، وفي مقدمتهم حضرة صاحب المعالي محمد شكري باشا وزير الزراعة جاء من الإسكندرية؛ لأجل حضور الحفلة بالأصالة عن نفسه، وبالنيابة عن هيئة الوزارة. وزاد أناس تجددوا، فأذن لهم، فاضطر كثير منهم إلى الوقوف وراء الصفوف، فكان المجموع زهاء ألف وثلاثمائة نسمة، وقد بدئ الاحتفال بقراءة بعض الحَفَظَة آياتٍ من القرآن الحكيم، وبعد فراغه ابتدر المنبر الأستاذ الشيخ محمد بخيت رئيس لجنة الاحتفال، وتلا خطبته الافتتاحية، وتلاه سائر الخطباء على الترتيب المتقدم. *** (الخطبة الافتتاحية لفضيلة رئيس لجنة الاحتفال) أيها السادة النجباء الأذكياء إني أشكر لكم على تلبيتكم الدعوة، وتشريفكم هذه الحفلة، وإني أعتقد أن كلنا سواء في إجابة هذه الدعوة؛ لأنها على الحقيقة دعوة صادرة من تلك الروح الطاهرة روح الإمام الذي نحتفل اليوم بذكراه، فإنها هي التي دعتنا جميعًا، وجذبت قلوبنا إلى حضور هذه الحفلة المباركة، فهي الآن ترفرف فوق رؤوسكم؛ لتتولى شكركم بنفسها على احتفالكم بذكراها، وتُثنِي عليكم ثناءً جميلاً؛ حيث ذكرتموها بلسان صدق في الآخرين. هذه الروح هي روح الإمام الخطير، والأستاذ الكبير، والمحقق الشهير، والفيلسوف القدير، المغفور له (الشيخ محمد عبده) ، ولقد صاحبناه - طيَّب الله ثراه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه - وزاملناه زمن تلقِّي الدروس بالأزهر من الصغر إلى أن تخرجنا منه، ولازمنا معًا كبار شيوخ الأزهر في تلقي العلوم الشرعية من فقه وغيره، وتلقي العلوم العربية من نحو وبلاغة وغيرهما، ومن العلوم العقلية المنطق والفلسفة، ومن العلوم الطبيعية وغير ذلك كالهيئة بقسميها، وممن لازمناهم معًا في العلوم العقلية المغفور له السيد جمال الدين الأفغاني، والمغفور له الشيخ حسن الطويل. وبعد أن تخرجنا من الأزهر لازم الأستاذ المشار إليه السيد جمال الدين - رحمه الله -. فكان الأستاذ فيلسوفًا في العلوم الشرعية، عارفًا بروح الشرع، وحكمة التشريع أصولاً وفروعًا، فيلسوفًا في العلوم العقلية، عارفًا بحقائق الموجودات علويّها وسفليّها على حسب الطاقة البشرية، فكان إذا غاصت روحه في بحار التحقيق استخرجت درر المعاني ولآلئها؛ فنظمتها في سلوك المباني الذهبية، وجعلتها قلائد تتحلى بها أعناق ذوي الفضل والهمم العالية، وإذا صعدت إلى سماء التدقيق تخيرت من دراري الحقائق أعلاها وأغلاها، ونثرتها شموسًا تشرق في أفق قلوب ذوي العناية بالعلوم، فيشاهدون بعين البصائر من الحقائق العلوية فوق ما يشاهدونه بالأبصار، والشمس في رابعة النهار. كان فيلسوفًا في العلوم العربية، كملت فيه مَلَكَة الفصاحة، حتى إذا تكلم أدهش الفصحاء، كما كملت فيه ملكة البلاغة، فإذا خطب حيَّر البلغاء، فكانت عباراته شفاءً لأُولِي الألباب، وإشاراته نجاةً للطلاب، فهو معيار العلوم، ومشكاة المنطوق منها والمفهوم؛ ولذلك لما انتقل في مثل هذا اليوم من دار الفناء إلى دار البقاء، وترك في هذه الدار فراغًا كان يشغله وحده، ولم يستطع أحد أن يشغله بعده، ذابت أسفًا عليه أكبادُ عارفي فضله، فسالت من العين سيل العين دمعًا بغير عين، فكان حقيقًا بأن نقول فيه: إننا لا نبكي على كل ميت ... غير أَنَّا نبكي الذي هو أمة إن يعشْ كان للبلاد حياةً ... أو يَمُتْ كان موتُهُ موتَ أمة جعله الله من الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، آمين. ... ... ... ... ... ... ... مفتي الديار المصرية سابقًا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بخيت *** (كلمة الترحيب باسم الجامعة المصرية) لحضرة الأستاذ أحمد لطفي بك السيد أحد أعضاء مجلس إدارتها أيها السادة اسمحوا لي أن أقدم لكم باسم الجامعة المصرية تحياتها وترحيبها بكم، بالغرض الشريف الذي يجمعكم اليوم للاحتفال بذكرى الإمام الشيخ محمد عبده. لم يكن غرض اجتماعنا تأبين المرحوم الإمام من جديد، بل غرض الاجتماع في هذا اليوم الموافق يوم وفاته - رضي الله عنه - أن نستمع لخطيب الحفلة الشيخ مصطفى عبد الرازق الذي سيدرسه درسًا تفصيليًّا على قدر الإمكان في هذا المقام، وما ظننا أن هناك شروطًا يجب اجتماعها، ومناسبات ينبغي تحيُّنها لدرس رجل من أئمة العلم والإصلاح، أكثر الحاضرين هنا إما تلميذ له أو تلميذ لتلاميذه، بل ذلك واجب علينا، وإن أقل قدر من المناسبة يجعل القيام بهذا الواجب سائغًا إن كان الواجب هو أيضًا يحتاج القيام به إلى المناسبات. أيها السادة إن لنا نحن المصريين - من جهة كَوْننا أمة متمدنة - حقًّا نقتضيه من الإنسانية جمعاء، وهو مساواتنا بكل أمة متمدنة في الحقوق الدولية، وإن علينا مقابل هذا الحق واجبًا يلزمنا أداؤه، وهو احتمال نصيب من المسئولية عن الارتقاء العام للإنسانية في مدارج الكمال من جميع جهاته، فكل عصر يجب أن يؤدي حسابًا عما عمل لخير الإنسانية، وكل أمة يجب عليها أن تحمل نصيبها من المسئولية عن هذا العمل بقدر استعدادها، ومن الخطأ أن يظن بأن نصيبنا من هذه المسئولية ضئيل القدر خفيف الحمل، بل الأمر على ضد ذلك، نصيبنا من المسئولية يجب عدلاً أن يربو على نصيب كثير من الأمم، ربما عدّ غيرنا هذا القول غلوًّا في تقدير قيمة أمتنا ومنافيًا للتواضع المحمود، ولكن هل أستطيع الحيد عن صيغة نتيجة منطقية يسلم كل العلماء بمقدماتها؟ الإجماع واقع على أن نظرية الانتقال الوراثي صحيحة، والإجماع واقع على أننا سلالة معلمي الإنسانية والهادين إلى طرائق كمالها من جهة العلوم والآداب، ومن جهة أنظمة الحكم ومختلف الصناعات … إلخ؛ فيجب أن يقع الإجماع أيضًا على أننا من أشد الأمم استعدادًا لاحتمال المسئولية عن الارتقاء الإنساني العام، ولا ينقصنا في ذلك إلا زوال الموانع الخارجية التي حالت منذ بضعة قرون بيننا وبين الظهور باحتمال هذه المسئولية، والمشاطرة في المجد العلمي العام. على هذا الاعتبار يجب علينا أن نتخذ نهضتنا العلمية الحاضرة بشير الرجوع إلى مضمار المسابقة العلمية العامة، وأن نوطد أنفسنا على العمل بجد للاستعداد إلى هذه المسابقة. ومن صنوف العُدَّة أن نتبيَّن حقيقة مركزنا العلمي، وليس مركزنا العلمي شيئًا آخر إلا تقدير ما أنتجت بلادنا من النوابغ الذين هم أركان نهضتنا الحاضرة، أولئك هم مصابيح الماضي تنبعث منها أنوار الهداية الساطعة، فتكشف للحال طريقه إلى الأمام في ظلمات الاستقبال. وأكبر هؤلاء النبغاء هو أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده، الذي سيتفضَّل خطيب الحفلة فيفصل الكلام عليه تفصيلاً. وإني في الختام يسرني أن أعلن إليكم أن حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، وحضرات أصحاب المعالي زملاءه أرادوا أن يشاطروكم الاحتفال بذكرى المرحوم الإمام، فأنابوا عنهم أحدهم حضرة ص

ترجمة الأستاذ الإمام

الكاتب: مصطفى عبد الرازق

_ ترجمة الأستاذ الإمام لحضرة الأستاذ الفاضل الشيخ مصطفى عبد الرازق (المنار) لما كان معظم ما كتبه هذا الأستاذ البليغ من ترجمة أستاذنا - ملخَّصًا من ترجمتنا التي نشرناها في المنار عقب وفاته - رأينا أن نكتفي بنقل شذرات منها لاشتمالها على فوائد من الاستنتاج والاستنباط، على النحو الذي جرينا عليه في الجزء الأول من تاريخه، فمن ذلك قوله في تأثير التصوف في نفسه - بعد اتصاله بالشيخ درويش -: وليس عندنا بيان عن هذا الشيخ الصوفي، نستطيع أن نفهم به أحواله النفسية والعقلية، ونتبين كيفية سلطانه على نفس مريده، تلك النفس القوية الحرة النافرة، التي راض الشيخ درويش جماحها في خمسة عشر يومًا، غير أن الذي رواه الأستاذ من حال شيخه - يدل على أنه كان رجلاً ساذجًا، نيِّر البصيرة، طيب القلب، سَمحًا، سهلاً، مؤمنًا، يغذي إيمانه بتفهُّم القرآن، وبضروب سهلة من العبادة والرياضة. وأمثال هذا الصوفي يوجدون شُذَّاذًا بين الأعداد الكثيرة من رجال الطرق، ويكون لهم أثر روحي في المستعدين من مريديهم، بما في نفوسهم من صفاء، وما في إيمانهم من قوة، ليست مستمدة من ناحية علمية. ولا يُنكر أثر الشيخ درويش خضر بتربيته الصوفية في نفس أستاذنا؛ فإن ذلك الشيخ الصوفي الذي أخذ بزمام الجانب الروحي من تلميذه الفتى في عنفوان ثورة نفسية - قد وجه عواطف الشباب وخيالاته إلى معانٍ من اللذائذ القدسية. وإذا كانت التربية الحديثة تدعو إلى تهذيب الذوق بفنون الجمال فإن التربية الصوفية تدعو إلى تلطيف السر بأنواع من الرياضة، كالعبادة المشفوعة بالفكرة، والألحان المستخدمة لقوى النفس، الموقعة لما لحن فيها من الكلام موقع القبول من الأوهام، ويعين على تلطيف السر - كما يقول ابن سينا في الإشارات - الفكر اللطيف، والعشق العفيف، الذي تأمر فيه شمائل المعشوق، لا سلطان الشهوة. قال ابن سينا - في وصف العارفين -: (العارف هَشّ بَشّ بسَّام، وكيف لا يهش، وهو فرحان بالحق، وبكل شيء؛ فإنه يرى فيه الحق، العارف شجاع، وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت، وجواد وكيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل، وصفَّاح وكيف لا ونفسه أكبر من أن تحرجها زلة بشر، ونَسَّاء للأحقاد وكيف لا وذِكْره مشغول بالحق) . هذه التعاليم من شأنها أن تربي الوجدان، وتلطف السر، وتكمل النفس وتزينها، ولا جرم كان الشيخ محمد عبده صوفي الأخلاق. قضى شيخنا نحو أربع سنين في بداية تكوينه الفكري بالجامع الأحمدي بطنطا، ولا ينبغي أن نغفل أن مسجد طنطا، هو جامع سيدي أحمد البدوي، فيه مقامه، ومخلَّفاته، وفيه آثار مقدسة عند العامة، وكثير من الخاصة، وفيه مقابر لغير السيد من الأولياء. والسيد البدوي هو أشهر أولياء القطر المصري، وصِيته وكراماته ذائعة في وادي النيل، ولزائريه من صور التوسل والزلفى ما لا يخلو من شطط، ومسجد السيد مورد الدراويش، ومجتمع المجاذيب، الذين يظن كثير من الناس أن لهم في صفحة الغيب لمحات! هذه السنين الأربع في هذه البيئة نبهت عقل الشيخ محمد عبده إلى البدع الدينية وعملها في العقول والأخلاق، ولكنها أيضًا مسَّت بعض الجوانب من نفس الفتى، فتركت في منازعها المتسامية إلى الكمال والفهم موطن تأثُّر. قال الأستاذ - فيما كتبه من تاريخ حياته -: (وفي يوم من شهر رجب من تلك السنة - سنة 1282 هـ - كنت أطالع بين الطلبة، وأقرر لهم معاني شرح الزرقاني، فرأيت أمامي شخصًا يُشْبِهُ أن يكون من أولئك الذين يسمونهم بالمجاذيب، فلما رفعت رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلواء مصر البيضاء! فقلت له: وأين الحلوى التي معك؟ ! فقال: سبحان الله! ، مَن جَدَّ وجد. ثم انصرف، فعددت ذلك القول إلهامًا ساقه الله إليَّ! ؛ ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا) . (ومنها قوله في حال الأزهر وأهله عند أستاذنا للعلم فيه) . ذهب المجاور الشيخ محمد عبده بتصوفه إلى الأزهر في شوال سنة 1282 هـ - فبراير 1866 م في عهد إسماعيل الذي جلس على عرش مصر سنة 1279 هـ - 1863م. كان إسماعيل يعرف قيمة العلم لحُسن تربيته، فعُني بنشر المعارف، وإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، وهو أول مَن أوجد حركة تجديد في الأزهر، وفي زمنه وضع الشيخ المهدي العباسي شيخ الأزهر أول قانون للتدريس، صدرت بتنفيذه إرادة سنية سنة 1289 هـ - 1872 م. في ذلك العهد، كان انتشر التعليم النظامي في القطر، وأحس الأزهر وأهله بذلك، وكانت البعثة العلمية التي اختارها محمد علي من بين نجباء الطلبة في الأزهر، وأوفدها إلى باريس سنة 1242 هـ - 1826 م - قد حولت عددًا كبيرًا من الأذكياء عن التعليم القديم الموروث إلى طريق جديد، فاعتبرت في المرتبة الأولى علوم كانت في المرتبة الأخيرة - في نظر الأزهريين - كالرياضة الطبيعة والتاريخ والجغرافيا، وصارت بابًا للتوظف والكرامة! وساعدت هذه البعثة على إظهار ما في مناهج التعليم الأزهري من العيوب. أراد الجيل العلمي الجديد أن يعرِّب كتبًا أوروبية مكتوبة في الغالب بلسان فرنسي، ولم يجد في المصطلحات القديمة متسعًا، فوضع عبارات محدثة، وأوجد أسلوبًا جديدًا لم يرضَ عنه الأزهريون، ومنذ يومئذ دخل إلى الأزهر التنازع بين القديم والجديد. أما الروح السائدة في التعليم الأزهري فكانت على ما وصفها بعض علماء الفرنجة في قوله: (ولئن كانت أنماط التعليم والبحث في الأزهر تختلف عما هو مستعمل في الغرب للآن اختلافًا أساسيًّا - فهي لا تختلف في شيء عن الأنماط التي كانت عندنا قديمًا. أثر العلوم النقلية في قهر العقول - الذي أخذ في التلاشي عندنا منذ قرون - لا يزال في عنفوان سطوته في الجامعات الإسلامية. ليس الغرض من العلم عند أهل الأزهر هو البحث للتحقيق والمقارنة والتمحيص، ولكنه النقل الصحيح لما ترك الأقدمون. والمفروض أن الأجيال متراجعة إلى الانحطاط، والأجيال الحاضرة والمقبلة تتصل بعصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق هابط من أعلى إلى أسفل، والأئمة المجتهدون بُعداء في عصور ذاهبة في أعماق الماضي، لا يستطيع الحاضر أن يدرك غبارها) . ونسارع إلى بيان أن أستاذنا صرح - في تفسير سورة (العصر) - بفساد ما عليه الناس من ذم عصورهم، ونسبة ما شاءوا من الخير إلى ما كان قبلهم من العصور، كما صرح في كثير من أقواله وكتاباته بعيب التعليم الأزهري ومناهجه. هذا، وكان في الأزهر نفسه تدافُع بين الشرعيين والصوفية، فأولئك كانوا يرون الخروج عن العلوم النقلية المتداولة في الأزهر تمردًا على الدين، وهؤلاء كانوا يطمحون إلى أنواع من المعارف التي لها مساس بالتصوف. ويدل على هذا التدافع ما ذكره الصوفي الأزهري الشيخ حسن رضوان (المتوفى سنة 1310هـ - 1892م) - في منظومته المسماة (روض القلوب المستطاب) . وقد كان للشيخ حسن رضوان مريدون بين علماء الأزهر وطلابه، منهم الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمود البسيوني، وهما من أساتذة الشيخ محمد عبده، ومنهم الشيخ محمد عبده نفسه، وجماعة من إخوانه. وبذلك يظهر أن شيخنا - حينما جاء إلى الأزهر - انضم إلى حزب التصوف، وهو أقل الحزبين جمودًا، وأقلهما نفرة من الجديد [1] . كان الأستاذ متصوفًا في الأزهر مدة الدراسة، مع شيوخه وزملائه، متصوفًا في أيام المسامحات، مع خال أبيه الشيخ درويش خضر، حتى انطبع تفكيره بنوع من الخيال الصوفي، الذاهب في الروحانيات إلى ما يجاوز مدى الفهم أحيانًا. انساق الأستاذ الشيخ حسن الطويل إلى دراسة الفلسفة الإسلامية، بحكم نزوعه إلى التصوف، والتصوف الإسلامي متأثر بمذاهب الفلسفة، خصوصًا مذهب أرسطو، الذي يُعتبَر إمامًا لفلاسفة العرب! وانساق بعض الأساتذة - كالشيخ محمد البسيوني - إلى مدارسة الأدب باعتباره من الفنون الجميلة التي أحيا ذوقها في مصر إسماعيل. وقد كان الشيخ الطويل والشيخ البسيوني من أساتذة الشيخ محمد عبده، فهو كان متصلاً بالحركة الصوفية المخلوطة بالفلسفة، وكان متصلاً بالحركة الأدبية، على أنه لم يبعد كل البُعد عن المحافظين على القديم، فحضر دروس زعمائهم المشهورين كالشيخ عليش، والشيخ الرفاعي، والشيخ الجيزاوي، والشيخ الطرابلسي والشيخ البحراوي. اتصاله بالسيد الأفغاني وتخرجه به: وفي سنة 1288هـ - 1871م، حضر إلى مصر السيد جمال الدين الأفغاني، فصاحَبَه الأستاذ الشيخ محمد عبده، يحضر دروسه، ويلازم مجالسه، التي كانت مجالس حكمة وعلم. كان الشيخ محمد عبده يومئذٍ فتًى، متأثرة كل عواطف قلبه الفَتِيّ بمنازع التصوف، ورياضاته ومَوَاجِده، وكان يتلقى علوم الأزهر على أنماطها المعروفة شاعرًا بأن وراءها كمالاً علميًّا لا يجده فيما حوله. كان السيد الأفغاني وحده قادرًا على تخليص الشيخ محمد عبده من خموله الصوفي، وتخليصه من الحيرة في التماس الكمال العلمي. هذا الرجل الكبير بمواهبه الفطرية، الكبير بسعة علمه وحُسن نظام فكره، الكبير بمطامحه، الكبير بنفسه العالية القوية المشتعلة حياةً وعزمًا، الكبير بتاريخه المملوء بالحوادث الجلى والآلام، هو السيد جمال الدين الأفغاني الذي صحبه الشيخ محمد عبده تلميذًا وصديقًا منذ سنة 1288 إلى 1296هـ (1871-1879) م. وبعد سنتين من صحبة الشيخ محمد عبده للسيد جمال الدين الأفغاني، ظهر لنا ذلك الشاب المتصوف - الذي كان ينطلق في القول على وَجَل، إذا سأله العامة عن شيءٍ من أمر دينهم، في تلك المجامع التي كان يقوده إليها خال أبيه درويش - مؤلفًا جريئًا يكتب في رسالة (الواردات) سنة 1290هـ -1873م من المذاهب الفلسفية والصوفية، ما قد تكون بعض أوساطنا العلمية لم تستعد بعدُ لسماعه، وقد مضى خمسون عامًا. هذه الرسالة - التي هي أول ما وصل إلينا من آثار أستاذنا - لا تخلو في أسلوبها من نفحة الأدب العتيق، أدب السجع والتكلُّف، الذي كان عالقًا بالمؤلف لقُرب عهده به، ولكنها في تأليفها ذات نظام حسن، وطريقة في سَوْق البراهين معقولة، هي رسالة صغيرة في العقائد على منزع يغلب تصوفه ما فيه من فلسفة. وفي سنة 1292هـ - 1875م ألف شيخنا حاشيته على شرح الجلال الدواني للعقائد العضدية. وهذه الحاشية ترينا الشيخ محمد عبده في السادسة والعشرين من عمره، محيطًا بمذاهب المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة، إحاطةَ فهم ونقد، يكاد يجهر بآرائه في تلك الموضوعات الخطيرة، ويكاد يكظم صوته الفتيّ القوي شبحُ عصا الشيخ عليش، قائمًا على رأس مجاور، بينه وبين التقدم لامتحان العالِمية سنتان. في هذه الحاشية توضيح للمذاهب في الإلهيات، والنبوات، ومقارنة بينها ونقد متين. جملة القول: إن الشيخ محمد عبده كان ما بين 1290-1292هـ (1873- 1875م) صوفيًّا متفلسفًا. ويظهر أن السيد جمال الدين خلعه من التصوف بمعنى الدروشة، والانصراف للتحنُّث والرياضة إلى معنى للتصوف جديد. ويُرْوَى أن السيد الأفغاني - يرحمه الله - كان يقول: (الفيلسوف إن لبِس الخشن، وأطال المسبحة، ولزم المسجد فهو صوفي) . (وإن جلس في قهوة (متاتيا) ، وشرب الشيشة فهو فيلسوف) . ولعل الشيخ محمد عبده لما كتب حاشية العقائد كان ألمَّ بقهوة متاتيا إلمامًا. طور العمل والتصدي للإصلاح: لم تُطْبَعْ رسالة الواردات إلا بعد وفاة الأستاذ [2] وحاشية العقائد العضدية طُبعت قبل وفاته بقليل، وأول ما نُشر على الناس من آثاره هو ما كتبه في جريدة الأهرام لبداية نشأتها سنة 1293هـ - 1876م، وهي فصول على ما قد يكون في

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 6

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة (6) تابع لمقالة الطور الأول للإسلام في الجزئين الثاني والرابع (38) الصفح عن الهفوات، وإقالة العثرات، وغضّ النظر عن الزلات، كانت قاعدتهم المثلى في المعاملات، قال - صلى الله عليه وسلم -: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود) [1] . (39) كانوا ينفرون من القيل والقال، ويحتقرون الخصام والجدال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَن ساء خلقه عذب نفسه، ومَن كثر همه سقم بدنه، ومَن لاحى الرجال ذهبت كرامته، وسقطت مروءته) [2] ، وكان الناس في تلك الأيام السعيدة لا ينحرفون قيد شعرة عن أوامره الجليلة. (40) كانوا يرشدون الجاهلين، ويمقتون الفاسقين، ويصدقون صابرين مُصابرين، ويعدون هذا من الجهاد في الدين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (الجهاد أربع: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في مواطن الصبر، وشنآن الفاسق) [3] . فيظهر من هذا أن عمل الخير، واجتناب الشر، والثبات على الحق، لا يتم إلا ببُغض أهل الشر والفسق. (41) الاعتدال كان محور المعاملات، حتى في العبادات؛ لأنه جاء في الحديث: (أيها الناس! عليكم بالقصد، عليكم بالقصد؛ فإن الله تعالى لا يملّ حتى تملوا) [4] . (42) لم يكن من سيرة السلف الصالح في أعمالهم ولا أقوالهم ما يبعث ظنًّا لجاهل، أو شبهةً لعاقل، على أن في القرآن وأحكامه حرجًا أو عسرًا لا يدخل في وسع المهتدي به، بل كانت أعمالهم وأقوالهم متجهةً نحو إفهام الناس أن القرآن الكريم كتاب أُنزل لإفهام الناس الحقائق، وتأمين سعادتهم من أقصر الطرق وأسهلها، وقد جاء في الكتاب القديم: {مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} (طه: 2-3) . (43) مَن يتأمل في أعمالهم يجد غايتها تزكية النفس بالفضائل ومكارم الأخلاق وسعادة الأمة، لا مجرد التلبُّس بأعمالها البدنية في صلاة المصلين، وصيام الصائمين، ويرون أن المصرّين على إتيان المنكرات والفواحش وسائر الجرائم التي تنافي المقاصد الإسلامية، الدينية والاجتماعية، لم ينتفعوا من صلاتهم ولا من صيامهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش) [5] . (44) كانوا يتحامون الغلو في الدين؛ لأن الله تعالى حذر منه بقوله: {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171) ، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه بقوله: (إن هذا الدين متين؛ فأَوْغِلُوا فيه برفق) [6] . (45) كانوا يرجحون السعي للربح، والكسب الحلال؛ لينفع الرجل عياله وأمته على خطة أولئك الكسالى الذين ينكمشون في زوايا المساجد بدعوى العبادة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (رُبَّ طاعمٍ شاكرٍ أعظمُ أجرًا من صابرٍ صائمٍ) [7] . ليتأمل هذا الحديث وأمثاله أبناء قومنا لعلهم يدركون معنى الدين الذي طالما ضربناه الضربات المؤلمات، من حيث لا نشعر، ونحن نظن بأننا ننصره، ونمتثل أوامره. (46) التجارة مع الصدق والأمانة كانت في نظرهم من أسمى المواقع؛ فقد جاء في الحديث: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء) [8] . فهل من صراحة أقوى من هذه الصراحة التي تفقأ عين كل مَن يزعم أن الدين الإسلامي لا يأمر بالسعي، وتكذب القائلين بأن الدنيا ليست للمسلمين؟ ، وهل يوجد أفصح من هذا الهَدْي النبوي الكريم المكذب لزعم الزاعمين أن الدنيا والآخرة لا تجتمعان في قلب مؤمن؟ ، إن هؤلاء الكسالى الذين يسترون العجز، والبله والعته بأمثال هذه الأكاذيب على الدين لأضر على الإسلام من أعدائه، وحبذا لو أن الجمعيات كتبت هذا الحديث الشريف على ألواح تضعها على مفترقات الطرق التي يكثر مرور الناس فيها؛ ليعلم الضالون والمضلون أن الدين الحنيف ليس كما يعرفون، لكن أولئك الكسالى وبعض المتعممين - الذين عشش ميكروب الكسل في أدمغتهم - يكتمون أمثال هذه الأحاديث عن العوام، ويحببون إليهم الفقر والذلة والمسكنة، يكذبون على الله ورسوله ودينه بتبغيض العوام - جنود الإسلام وساعده المفتول - في الدنيا، ويعلمونهم الحسرة للموت، وكأني بهم يمدون بهذه الأعمال خطوط الحديد لتسير عليها قُطُر أهل الملل الأخرى في بلادهم، ولا يشك عاقل في أن هؤلاء أضر بالإسلام والمسلمين مما لدى أعدائهم من جيوش، وطيارات، ودبابات وأساطيل، وذهب وحديد، فأين مَن يُسكت هؤلاء؟ ، وأين شجعان العلماء؟ إيه أيها الغافلون المغفلون! الدنيا لنا، وهكذا أمر ديننا الذي جعل التاجر في زمرة الأنبياء [9] كفى تضليلاً وتمويهًا، إن كنتم تحبون الموت ولا تريدون الدنيا فدَعوها لغيركم من المسلمين، أما خطتكم فغايتها إلقاء أَزِمَّة الدنيا لغير المسلمين، لو كنتم تفقهون نتائج ما تعملون. أيها الشبان المحمديون، رفع نبينا منزلة التاجر إلى مجاورة الأنبياء، فتأملوا قدر ترغيبه في الاتِّجار، والعمل للدنيا لتقوية الملة والأمة. أيها العقلاء! إن تضييع الدنيا هو تضييع للآخرة، هل ضاع دين مسلمي الأندلس قبل ضياع دنياهم - أي حكومتهم - أم بعده؟ ! تأملوا واحكموا. (47) كانوا لا يتمنَّوْن الموت كما يفعل بعض أهل هذا الزمان العجز؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك؛ إذ قال: (لا تتمنوا الموت) [10] . (48) كان أقبح الأشياء عند المسلمين غضّ النظر عن عواقب حفظ الصحة والابتلاء بكثرة الأكل، ثم كثرة النوم المفضية إلى الاستكانة والكسل، وضعف اليقين والميل إلى التقليد لقوله صلى الله عليه وسلم: (أخشى ما خشيت على أمتي كبر البطن، ومداومة النوم، والكسل، وضعف اليقين) [11] . (49) إضلال الناس وسَوْقهم إلى الطرق المظلمة كان من أقبح الأعمال، سواء كان هذا الإضلال في السياسة أو الدين أو الاجتماع، وقد جاء في الحديث: (أيُّما راعٍ غش رعيته فهو في النار) [12] . (50) الطاعة؛ إذ قال: (إنما الطاعة في المعروف) [13] ؛ لأن نصيب كل أمة تطيع رؤساءها طاعة عمياء، وتصدق كل ما تسمع -الانقراض، أي محو اسمها من خريطة العالم، أوَّاه! متى ينتبه المسلمون؟ ! (51) كان الواحد دائمًا طموحًا بنظره إلى العلاء للاستفادة ممن كان فوقه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (جَالِسُوا الكُبَراء، وسائِلوا العلماء، وخالِطوا الحكماء) [14] أين هذا الأمر من القناعة التي يتشدَّقون بها بدون أن يفهموا معناها؟ إن الدين يأمر بالإكثار دائمًا من كل حسن. (52) كانوا ينظرون دائمًا إلى غايات الأمور ومقاصدها، ولا يُثنيهم عنها صعوبة وسائلها، وبُعد طرقها، ولا سيما العلم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اطلبوا العلم ولو بالصين) [15] فلو صح أن قصد الوسيلة غير الشريفة عن المقصد الشريف لما أمر بأخْذ العلم من مشركي الصين، وهذا الحديث الشريف من جملة أسباب احتقارهم للصعوبات في سبيل نيل المرام من الكمال. (53) للتعليم مَزِيَّة كبرى في دين محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قال: (أفضل الصدقة أن يتعلم المرء المسلم علمًا، ثم يعلِّمه أخاه المسلم) [16] لأن تربية الدماغ التربية الصالحة ترقِّي شؤون الإنسان المعنوية. (54) كان المسلمون يحترمون أنفسهم فلا يعملون إلا بما تطمئن إليه قلوبهم، وترتاح إليه ضمائرهم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا حاك نفسك شيء فدَعْهُ) [17] فكانوا يعلّمون دينهم ومصالحهم بالإقناع، فلا يُساقون إليها، ولا يُكرهون عليها. (55) كانوا يعتقدون أن أصدق مفتٍ للإنسان وجدانه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (استفتِ نفسك، وإن أفتاك المفتون) [18] ، وبما أن صحة حكم الوجدان متوقّفة على كون ذلك الوجدان نُقي وطُهر بصابون التربية، وماء العلم، وتحلى بحلى الأخلاق، قال - صلى الله عليه وسلم -: (الإسلام حسن الخلق) . (56) كان المسلمون يتجنَّبون كل عمل بالسر، إن كان يكرهه الناس بالعَلَن؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما كرهت أن يراه الناس منك، فلا تفعلْه بنفسك خلوة) [19] . (57) بما أن صحة إفتاء النفس تتوقَّف على تهذيب العقل، وصحة العقل منوطة بسلامة الجسد - كانوا يعتنون كل الاعتناء بقواعد حفظ الصحة؛ لأن من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم بها قوله: (تخللوا؛ فإنه نظافة، والنظافة تدعو إلى الإيمان) [20] . (58) نظافة اليدين والفم كانت من أهم أعمالهم اليومية؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (مَن بات وفي يده غمر- فإن أصابه شيء فلا يلومنَّ إلا نفسه [21] . أين الذين يعترضون على قواعد حفظ الصحة، ويقولون: المرض من الله، ولا دَخْلَ للعبد فيه؟ أين هم؟ ! أين هم؟ ! (59) كانوا لا يخرجون من بيوتهم إلا بألبِسة لطيفة ومنشطة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - هذَّبهم بقوله: (أصلحوا لباسكم، وأصلحوا رحالكم حتى تكونوا كأنكم شامةٌ في الناس) ، وما قول الذين يخرجون إلى السوق بلا جبة وبلا جوارب أو بلا طربوش؟ ، إن الأوروبي يصوّر أمثال هؤلاء، ويضع صورهم في معرض الصور المتحركة؛ ليقول لقومه: ها هم أولاء المسلمون! ، ومَن لي بمَن يُفهِم الأوروبيين أن هؤلاء مسلمون اسمًا لا فعلاً. (60) لم تكن النظافة التي أمر بها الإسلام خاصة بالأجسام، بل كانت تشمل باب البيت وساحة الدار أيضًا، جاء في الحديث أن: (طَيِّبُوا ساحاتكم [22] ) . (61) ومن جملة أوامره صلى الله عليه وسلم أن تكون مدن المسلمين مزينة بالأبنية العالية، وبالمساجد العامرة؛ لأنه قال: (ابنوا مساجدكم جمًّا، وابنوا مدائنكم مشرفة) [23] . إيه! يا أيها الذين يسكنون تحت الأرض! والذين يدعون غيرهم لهذا العمل ما قولكم بهذا الحديث؟ ! (62) نظافة الطرق وتوسيعها مما كان يوصي به صلى الله عليه وسلم كقوله: (اعزل الأذى عن طريق المسلمين) [24] . إن الإنسان عندما يرى هذه الأحاديث النبوية - المبنية على أدق الأسس الاجتماعية - يكاد يذوب ألمًا، عندما يرى مدن المسلمين اليوم وطرقهم وبيوتهم. (63) شدَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - في تنظيف الطرقات، حتى قال: (مَن آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم) [25] . ومع كل هذه الصراحة فإن أكثر طرقات المسلمين كأنها مستودع لقاذورات البيوت التي يلقونها على الطريق، كأن ذلك أمر عادي، فهل لنا بعد هذه المخالفات لأوامر نبينا أن ندَّعي الإسلام؟ ، قال سيدنا عيسى - عليه السلام - لأمته: (مَن ضربك على خدك الأيمن فأدرْ له الخد الأيسر، وأعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله) ، ومع ذلك ترى كل عيسوي يبذل جهده؛ لأن يكون هو القيصر، ولأن يعمر ملكه وملك غيره، بينما نرى سيدنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أمر بما تقدم آنفًا ترى المسلمين ينكمشون، ولا يتوسعون على سطح الأرض، بيوتهم صغيرة، بلادهم غير منظمة، يعطون ما لقيصر لقيصر، ويضيفون على ذلك ما لهم الخاص أيضًا، ويعطونه لقيصر، يفتخرون بالذل، عجبًا! ، هل من علاقة بين أوامر نبي المسلمين وحالهم الحاضر؟ ، لا، ثم لا، ذكرنا آنفًا ستين حديثًا ونيِّفًا عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - نرى مدلولها عند أمة عيسى فعلاً، ولفظها في كتبنا فقط، أأقول إنهم مسلمون فعلاً، ونحن مسلمون اسمًا؟ ! لنقايس حال أجدادنا بحالنا، لعلنا نعتبر أو نخجل أن نكون أولاد أولئك الليوث؛ لأننا أصبحنا عارًا على الإسلامية الحقيقية. (64) قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاثة لا يحبهم ربك عز وجل: رجل نزل بيتًا خربًا، ورجل نزل على طريق السبيل، ورجل أرسل دابته، ثم جعل يدعو الله أن يحبسها) [26] . فما قول ساداتنا الذين يظنون أن الدعاء وحده سبب الانتصار في الحروب العسكرية، وال

مدنية القوانين ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدنية القوانين أو سعي المتفرنجين إلى نبذ بقية الشريعة الإسلامية (2) السعي لإلغاء المحاكم الشرعية تمهيد الإفرنج الطامعون في استعباد المسلمين وأعوانهم من المتفرنجين قد يشتركان في عملٍ واحدٍ، ونيتهما فيه مختلفة اختلاف التضاد، فكلاهما يحاربان الشريعة الإسلامية، ويحاولان القضاء عليها، ومنع الحكم بها، والتقاضي إلى رجالها، فنية الفريق الأول وغرضه من ذلك حل رابطة من أقوى روابط هذه الأمة، وإزالة فصل من أقوى الفصول المنطقية المقوّمة لهذه الملة، والفاصلة بينها وبين الملل الأخرى؛ لأجل إضعافها، وتمهيد السبيل لإدغامها في غيرها، أو جعْلها غذاءً له، ونية الفريق الآخر إما إرضاء الفريق الأول لتحصيل قوتهم وغير ذلك بأن يكون اقتنع أن البلاد صارت له، ولا يرتقي أحد في حكومتها إلا إذا واتاه ووافقه في سياستها وإدارتها، وإما مساعدته على عمل يظن أنه يخدم وطنه به لاقتناعه بشبهاته التي يتوسل بها إليه، كتوحيد القضاء أو الفصل بين الحكومة والدين، والاقتصاد في نفقات المحاكم، أو جمود هذه الشريعة، وخلوّها من المرونة التي تليق بالقرن العشرين، وإما إرضاء الأقليات غير المسلمة، ولا سيما النصارى، وإما كسر قيد الدين، والخروج من حكم سلطانه تقليد الملاحدة الإفرنج، أو لأنه يحُول دون التمتع باللذات، أو لاعتقادهم أن الأمة والحكومة لا يمكن أن ترتقي مع التزام أحكام الشرع، وأن القوانين الإفرنجية خير لهما منه. فالمتفرنجون ليسوا على رأي واحد ولا نية واحدة في حربهم للشريعة، ولكن أكثرهم يتبع هوى نفسه ومنفعة شخصه، وأقلهم يقصد خدمة أمته ووطنه، ولكنه حفظ شيئًا وغابت عنه أشياءُ، وسيأتي بيان ذلك. على أثر هجرتي إلى هذه البلاد - من زهاء ربعِ قرنٍ - أخبرني الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى يومًا، وهو يتنفَّس الصعداء أن المستشار القضائي لوزارة الحقانية (مستر سكوت) اقترح على الحكومة إلغاء المحاكم الشرعية، وجعْل التقاضي في الأحوال الشخصية من اختصاص المحاكم الأهلية؛ بناء ذلك على أن المحاكم الشرعية مختلة النظام، قد كثرت شكوى الناس منها، ومطالبة الحكومة بإصلاحها، وأن قضاة المحاكم الأهلية -المتخرجون في مدرسة الحقوق الخديوية - قد تعلموا فيها أحكام الأحوال الشخصية، فيمكن أن يجعل في هذه المحاكم جلسات للقضايا الشخصية خاصة، كما أن للقضايا المدنية جلسات خاصة، وللقضايا الجنائية كذلك، وبذلك يتوحَّد القضاء، وينتظم، ويتوفَّر للحكومة المال الكثير الذي تنفقه على المحاكم الشرعية المختلة المعتلة! سألت الأستاذ: هل المحاكم الشرعية مختلة النظام معتلة الأحكام كما يزعم المستشار الإنكليزي، أم دعواه هذه كما نعهد من دعاوي السياسة، التي تجعل الحق باطلاً، والباطل حقًا؟ ! ، قال: إن هذه الدعوى (كلمة حق أُريد بها باطل) ؛ فالمحاكم مختلة، وفيها عيوب كثيرة، كما أن في غيرها من مصالح الحكومة خللاً وعيوبًا، والباعث الحقيقي على هذا الاقتراح إزالة أهم ما بقي للمسلمين في هذه الحكومة من الحقوق أو المشخّصات المِلِّيَّة، ومن عجيب أمر هؤلاء الشيوخ، شيوخ الأزهر - أن هذا الاقتراح لم يستثِرْ غيرتهم، ولم يبعثهم على ما يجب من الإجماع على إنكاره، والاحتجاج عليه، وهو يمس رزقهم وجاههم! وقد تعبت في إقناع شيخ الجامع بتأليف وفد من كبار العلماء للاحتجاج عليه مع بذل جهدي في مقاومته، ومحاولة إقناع المستشار بضرره، وسوء مغبَّته، وقلت للشيخ: لا يكفي أن أسعى وحدي لإبطال هذا، وأنا من رجال القضاء الأهلي وأنتم ساكنون، ولكن الخديو اهتم به يومئذ، وكذلك قاضي مصر التركي؛ لأن النفوذ في المحاكم الشرعية كان لهما وحدهما، وإبطال هذا النفوذ كان من المقاصد أيضًا. ولما لم يمكن قبول هذا المشروع اخترعت وزارة الحقانية وسيلة أخرى لما كانت تدَّعيه من الاهتمام بإصلاح المحاكم الشرعية - اقترحها بطرس غالي باشا، فقررت أن يبدأ بتعيين قاضيين من مستشاري محكمة الاستئناف الأهلية، يحضران الدعاوي المهمة في المحكمة الشرعية الكبرى، بل العليا، فقُوبل هذا المشروع بالسخط العام من المسلمين، واندفع الكُتَّاب ينشرون المقالات الضافية في جريدة المؤيد في انتقاده، ومنهم بعض الأزهريين، وكان للشيخ علي يوسف رحمه الله جولة، وأي جولة في هذا الميدان، وقد ساعدته على ذلك ببعض المقالات التي لم أوقّعها باسمي الصريح، ولا بحَرْفَيْ (م. ر.) ، كما كنت أوقع أكثر ما أكتب في المؤيد، ثم فشلت الحكومة في هذا الاقتراح برفض مجلس شورى القوانين له مستندًا إلى فتوى شرعية صدرت من قاضي القضاة ومفتي الديار المصرية شيخ الجامع الأزهر في ذلك العهد (هو الشيخ حسونة النواوي) ، وكان رأي الأستاذ الإمام في هذا المشروع أن الغرض الخفي منه للإنكليز وأعوانهم - أن يتعوَّد المسلمون حكم لابِسي الزي الإفرنجي في القضايا الشرعية؛ فيكون ممهِّدًا للعودة إلى المشروع الأول. هذه النازلة حملتنا يومئذ على كتابة مقال في جزء المنار الذي صدر في أواخر ذي الحجة سنة 1316 عنوانه (التعليم القضائي) ، اقترحنا فيه على شيخ الجامع الأزهر، ومجلس إدارته إنشاء قسم في الأزهر، يعلِّم الشريعة تعليمًا قضائيًّا عمليًّا، يعدون فيه خرِّيجيه لمنصب القضاء الشرعي، ومما اقترحناه فيه أن تؤلف من طلابه هيئة للمحاكمات كهيئة المحكمة، وبينَّا فيه عيوب كتب الفقه التي تدرس في الأزهر، وبحثنا في تطبيق الأحكام على حاجات الناس في كل عصر، وبينا فيه تقصير العلماء في هذا وذاك، واضطرار الأمراء والحكام إلى مجاراة العصر في تطوُّراته العامة، مع ما يجب على العلماء في ذلك. وعلى إِثْرِ هذه النازلة عزل الخديو الشيخ حسونة من مشيخة الأزهر وإفتاء الديار المصرية ملجأً لا مختارًا، وولى الأستاذ الإمام منصب الإفتاء، وتوسل إليه بأكرم أصدقائه ليقبله، فقبل، وكلفته الحكومة تفتيش المحاكم الشرعية، ووضع تقرير فيما يراه مِن وسائل إصلاحها، فأجمعت الأمة على استحسان ذلك، كما نوَّهت به الجرائد. وقد قام - رحمه الله تعالى - بالأمر خير قيام، ووضع تقريره الذي سارت بذِكْره الرُّكبان، فشخَّص فيه الداء، ووصف الدواء، ولكن الحكومة لم تنفذه حق التنفيذ، وكان مما بيَّنه فيه - من خلل هذه المحاكم - ما يعود الذنب فيه على الحكومة وحدها، وقد نشرناه في المجلد الثاني من المنار، ثم في كتاب على حدته، ووضعنا له مقدمة بيَّنا فيها الأصول التي يدور عليها الإصلاح بالدليل الواضح، ولو قدر علماء الأزهر ذلك التقرير قدره، وعملوا بما أرشدهم إليه - لضعفت أو دُحضت حجة الطاعنين في أحكام الشريعة، الذين يطلبون نسخها بالقوانين الوضعية، على أن هذه المحاكم قد انتظم سيرها بعض الانتظام منذ ذلك العهد على تقصير العلماء والحكومة جميعًا في تنفيذ ما اقترح من الإصلاح فيها، ولكن تعليم الفقه في الأزهر بقي مختلاً، فوضع الأستاذ مشروع مدرسة القضاء الشرعي للاستغناء بها عنه. *** قانون الأحوال الشخصية ثم إن الحكومة المصرية قد جاءت - في عهد الحماية البريطانية - بمشروع جديد، وهو وضْع قانون للأحوال الشخصية الخاصة بأحكام الزواج، وما يتعلق به (كالطلاق والفسخ والعدة والنفقة) ، وألفت لذلك لجنة يرأسها وزير الحقانية، ومن أعضائها مفتي الديار المصرية السابق (الشيخ محمد بخيت) ، وبعض المدرسين في مدرستي القضاء الشرعي والحقوق، على أن تُستمد مواد هذا القانون من كتاب قدري باشا المشهور، مع أخذ بعض مواده المناسبة لمصلحة هذا العصر من فقه المذاهب الأربعة المشهورة، وأن لا تتقيد بمذهب الحنفية في كل حكم، وإن اتخذته أصلاً؛ لأن ارتباط الحكومة بالدولة العثمانية - التي قيدت القضاء بهذا المذهب - قد زال. وهذا الإطلاق ركن من أركان الإصلاح الذي طالما فكر فيه وتمناه عقلاء العلماء وغيرهم من طلاب الإصلاح، وهو مما اشتمل عليه تقرير الأستاذ الإمام في إصلاح المحاكم الشرعية، وبينا في مقدمة طبعهِ مُسْتَنَدَهُ من أقوال الفقهاء، ولكن هذا الشكل لتنفيذه منتقَد من وجوه، كنت قد بينتها في مقال طويل لم يمكن نشره في أيام ظهور المشروع، وقد كان وزير الحقانية أرسل إليَّ الجزء الأول الذي تم منه؛ لأجل بيان رأيي فيه، كما أرسله إلى كثير من علماء الشرع والقضاة والمحامين، فانتقده بعضهم، ولم أكتب للوزير فيه شيئًا؛ لأنني لست مقرًّا له، وقد كاشفته يومئذ بذلك، وإبداء الرأي في مواده يتضمن الرضا بأصله. ثم إنني بينت أهم ما انتقدته على جعْل الأحكام الشرعية قانونًا في المقالة الثانية من المقالات التي عنوانها (المتفرنجون والإصلاح الإسلامي) ، وسيأتي بيان سببها وموضوعها، وهو جعْل الأحكام الشرعية قانونًا، فإن القانون إذا أُطلق في هذا المقام يختص معناه بما يقابل الشرع الإلهي من الأحكام، وما يترتب على ذلك من توقف الحكم به على إقرار مجلس الوزراء له، وصدور أمر الحاكم العام بتنفيذه، وكوْنه تشريعًا من هذه الحكومة الواقعة تحت سيادة غير إسلامية، وكون المنفِّذ له وزيرًا من وزرائها، لا يشترط أن يكون مسلمًا، وكون القضاة يحكمون بما يفهمون من نصوصه، وإن لم تدل لضعفها وركاكتها - على ما قصدته اللجنة، وكونه سيشرح على أنه قانون، فلا يتقيد الشارحون له بمآخذ أحكامه من الشرع، وربما لا يعرفونها، وقد يفضي ذلك إلى مخالفة نصوص الشارع، وإجماع الأمة، وكونه سيُدمج بعد ذلك في القانون المدني، وتزول منه كل صبغة، وكل صيغة تدل على استمداده من الشرع الإسلامي، كما صرح بذلك بعض المجاهرين بالإلحاد من هؤلاء المتفرنجين. وجملة القول: إنني رأيت هذا الوضع أدنى إلى إزالة ما بقي للمسلمين من المقوّمات والمشخّصات في هذه الحكومة الإسلامية بكل معنى تسمى به حكومة إسلامية أو مسيحية وزيادة، ولكنني لم أسمع ولم أقرأ لأحدٍ من علماء الأزهر -كلمة قِيلت، ولا كُتبت في إنكاره، فهل كان سبب ذلك أنهم لا يرون مانعًا من جعْل أحكام الشرع - في مثل النكاح والطلاق - قانونًا، وهي من قبيل العبادات؛ في أنها يدان بها الله تعالى بما أحل وحرم في أغلظ ما نزلت فيه من النصوص من الحقوق البشرية، من استحلال الأبضاع، وثبوت الأنساب، وتكوين بناء البيوت (العائلات) ، إن كان هذا سبب إقرارهم لهذا القانون فقد قربت المسافة بينهم وبين غلاة المتفرنجين في إزالة كل صبغة أو مسحة إسلامية من الحكومة؛ لأن أكثر الأحكام المدنية، وأحكام العقوبات والسياسة في الفقه من اجتهاد العلماء التي لم يرد فيها نص في القرآن، ولا سُنة من قضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم أو فتاواه، والمدار فيها على حفظ المصالح، ودرء المفاسد، وإقامة العدل، لا على التعبد كما نبينه بعد. وقد كنت راجعت في المسألة الأستاذ الشيخ محمد بخيت - وهو أكبر الفقهاء مقامًا في اللجنة - ورغبت إليه أن يعترض على تسمية ما يجمعونه من هذه الأحكام قانونًا، ويقترح تسميتها (المجلة الشرعية في الأحكام الشخصية) ، فقال: وأي مانع يمنع من تسميتها قانونًا؟ ! ، والقانون هو القاعدة الكلية المنطبقة على جزئياتها، وهو يصدق على هذه الأحكام، قلت: هذا عُرف ذكروه في تفسير قول مَن عرَّف المنطق بأنه (آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر) ، وهو - في عرف أهل الموسيقى - (اسم لآلة من آلات الطرب) ،

كوارث سورية في سنوات الحرب ـ 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كوارث سورية في سنوات الحرب تعليق المنار على مقالات الأمير شكيب الأمير شكيب كاتب سياسي بارع ومؤرخ، وقد كتب هذه المقالات للتاريخ، فأثبت فيها ما رأى بعينيه، وما سمع بأذنيه، وما سعى إليه فأصابه، وما سعى إليه ولم يُصبه، وليس الأمير بالرجل الظَّنون، وما هو على سياسة الاتحاديين بظَنين، بل كان متهمًا بمشايعتهم؛ لأنه كان في السياسة الخارجية من شيعتهم. كل مَن قرأ مقاله بإنصاف يجزم معنا أن الحكومة التركية لم تكن تريد في تلك السنوات إماتة السوريين بالجوع، ولا اللبنانيين منهم، ولم تفضل المسلمين على النصارى في التموين ولا في غيره من المعاملات، بل كانت وطأتها عليهم أشد، ولم تبطل امتياز لبنان كما أبطلت الامتيازات الأجنبية كلها، ولكن هذه المقالات أيدت الآراء المهمة التي كنا نعتقدها، ونصرح بها، قولاً وكتابةً، وإن حكمت المراقبة على الصحف بمنْعنا من بعض ما كنا نكتب: 1- كنا نعتقد أن جمعية الاتحاد والترقي قد افترصت ما أعطتها الحرب من التصرف في سلطنة آل عثمان بالحكم العرفي العسكري للقضاء على الشعب العربي فيها، وجعْل سورية والعراق ولايات تركية، وأن النهضة العلمية والوطنية لما كانت في سورية أقوى منها في العراق - عجل جمال باشا بتتريكها بالقوة القاهرة، متوسلاً إلى ذلك بتعريض الضباط والجنود منها للقتل في المعارك الخطرة، وبتقتيل رجال النهضة الفكرية والقلمية، وبنفي البيوت ذات الثروة والمُلك الواسع إلى الأناضول؛ لأجل إدغامهم في الشعب التركي هنالك، ثم بالإتيان ببيوت تركية تَخلُفهم في بيوتهم، وأملاكهم في سورية، فجمال باشا كان منفذًا لقرار جمعيته الاتحادية الطورانية، لا مبتكر لهذا الفساد. راجع قول جمال باشا للأمير شكيب معاتبًا له على التوسل إليه بطلعت باشا أن يكف عن القتل والصلب: أتظن أنني أفعل ما أفعل بدون مشاورة رفقائي؟ ! (آخر ص 130) ، ثم ما بعد هذا من خيبة الأمل بالتوسل بأنور باشا، ثم راجع كلامه في (ص 202) ، وما بعدها عن إجلاء السوريين عن وطنهم الذي وُضع له اسم (التهجير) ، ثم راجع في (ص 292) مسألة محاولة جعْل سورية تركية بمشروع قانون وُضع لذلك، كانوا يريدون تقريره في مجلس المبعوثين. 2- كنا نعتقد أن محاكمة جمال باشا - لمَن يريد قتْلهم - محاكمة صورية لا يُراد بها إحقاق الحق ليُتَّبَع، ولا تمييز ما يشوبه من الباطل ليُجتَنَب، وإنما هو رياء السياسة العصرية المعهود من سائر الدول في معاملة مَن يعده أهلها عدوًّا لهم، يحاكمونه لأجل إدانته، والحكم عليه، ولا يعدمون ما يُثْبتون به التهمة من الإفك والتأويل، وليس لإحكامهم معقِّب من استئناف أو نقض وإبرام، فيفند ما يأفكون! راجع قول الكاتب عن جمال باشا: إنه لما صمم على شنق الجماعة (استدعى إليه شكري بك رئيس الديوان العرفي في عاليه إلى الشام، وأعطاه - على ما علمت من شكري بك نفسه - أسماء أربعين شخصًا يجب أن يحكم عليهم بالموت! ، فراوده شكري بك كثيرًا، ودافع كثيرًا، فتهدده بالقتل! إلخ (آخر ص 131، وأول ص 132) . 3- كنا نعتقد أن هذه الخطة خطة جهل وغرور؛ لأنها تكون سببًا طبيعيًّا ليأس العرب من هذه الدولة، وحمْلهم على الخروج عليها، في الوقت الذي يجب فيه من توثيق روابط الإخاء والولاء - ما لا يجب مثله في غيره؛ لأنه أرجى الأسباب لانتصارها، ففوته من أعظم الأسباب لانكسارها، وعندما بلغتنا أنباء فعائِله، بل فظائعه - قلت لبعض إخواننا: إنني أتمنى لو أمكنني أن أصل إلى جمال باشا؛ لأبين له خطأه، والخطر على الدولة منه، فكانوا يقولون لي: إذًا يبدأ بقتلك، وصلبك، ولا يرجع عن ضلاله! وقد ظهر أن الحق كان معهم؛ فإن الكاتب بذل له هذا النصح فلم يسمع له، بل لولا صداقته لأنور وطلعت لفتك به؛ فإن هؤلاء المغرورين كانوا يظنون أن البلاد العربية - التي جندوا منها خمسمائة ألف مقاتل - تظل خاضعة لهم، حتى بعد اليأس من إمكان حفظ لغة شعبها ودينها، والأمن على وطنها في ظل دولتهم! ، وأن الخضوع بقوة الإرهاب خير من الخضوع بوازع الإخلاص! وكانت الحرب خير الفرص لاستمالة مَن نفرهم الاتحاديون من الدولة، وأيأسوهم من حفظ حقوقهم أو حياتهم معها، فعند الشدائد تذهب الأحقاد، ولكنهم زادوهم نفورًا، وتأمل كيف كانت إنكلترة تبالغ في مدح أهل الهند ومصر، وفرنسة تبالغ في مدح أهل تونس والجزائر. راجع (في ص 203) قول الكاتب في رئيس (قومسيون التهجير) نوري بك المفسد: إنه كان يكره في الباطن جمالاً وطلعت، وكل رجال جمعية الاتحاد والترقي، ولكنه كان يغري جمالاً بالنفي والتغريب انتقامًا منهم؛ لعلمه أن هذه الأعمال ليس وراءها إلا الخراب وقيام الأهالي، وقد نبهنا جمالاً إلى هذا الأمر، وحذرناه من نوري وأحزابه، ومن أقوال الجواسيس إلخ. 4- كنا نعتقد أن ثورة الحجاز توقف بغي جمال عند حد، وأنه هو الذي جعلها ضربة لازِب لا مناص منها ولا مفر، وذلك أن الفارّين من بغي جمال باشا هم الذين جرّؤوا الشريف حسينًا على ما كان يهواه من الثورة، وهم الذين قاموا مع الضباط العراقيين بأثقل أعبائها. وقد كان الأمر كذلك كما بيَّنه الأمير شكيب في فصل خاص من مقاله، فراجِعْه في (ص207) وما بعدها، فقد صرح في أوله بأن جمالاً خاف العواقب، فعدل عن المخاشنة إلى المحاسنة، وبأنه استدعاه هو وبعض زعماء العشائر - وسماهم - وتكلم معهم في اتحاد العرب والترك، وفي مقاصد الدولة العلية الحقيقية، (قال) وأفاض بكلام بعضه صحيح، وبعضه سياسة، والتمس منا السهر على الأمانة للدولة، وأنا - وإن كنت لم أصدق كلامه في البراءة من السياسة الطورانية - لم أخالفه في الطعن بسياسة الشريف من جهة محالفته لإنكلترة، وتصديقه لمعاهداتها إلخ. ثم ذكر أن توفيق بك - الذي جعله جمال باشا وكيلاً لولاية الشام - اجتهد في إقناعه بوجود مؤامرة على قتله، وخلع طاعة الدولة، وأنه مع ذلك اضطر إلى الاكتفاء بالحبس، ولم يتجاوزه إلى القتل، أي بعد أن كان يقتل بغير ذنب، وذكر ما قيل من أن الآستانة أنذرته في هذه الكَرَّة إنذارًا شديدًا بأن يعدل عن خطته المعهودة؛ لأنه قد طفح الكيل إلخ. وقد كنت صرحت بما يُرجَى من هذا التأثير في مقالة (المسألة العربية) التاريخية التي نُشرت في الجزء الأول في المجلد الأول من المجلد العشرين - الذي صدر في شوال سنة 1335 (يوليو سنة 1917) - بعد أن حذفت المراقبة البريطانية منها ما حذفت، وكانت كُتبت في السنة التي قبل هذه السنة، ثم صرحت في الفصل السابع من الرحلة الحجازية: (بأن الثورة الحجازية قد أدت وظيفتها، وأفادت ما رجوناه منها، فأنقذت الحجاز، وأوقفت بغي البغاة) ، ولكن خاب سعيي في إيقافها عند هذا الحد؛ حتى لا تكون من أسباب انكسار الدولة في الحرب، كما بينته في مواضع متعددة بالتلميح عند العجز عن التصريح، ثم بالتصريح عقب زوال المراقبة. 5- كنت أعتقد أن المصلحة العامة للبشر عامة - وللشعوب المستضعفة خاصة - أن تنتهي الحرب الكبرى بهدّ قوى الحلفين القائمين بها جميعًا، وعَوْد التوازن بين دولهما في عهد الضعف إلى ما كان عليه في عهد القوة، وإلا فبانتصار الحلف الذي فيه الدولة العثمانية، وكان يخالفني في هذا بعض مَن أكاشفهم به، حتى من المسلمين، قائلين إن الاتحاديين إذا انتصروا لا يقف بغيهم عند حد، فهم سيقضون على الأمة العربية قضاءً مبرمًا، ويستعبدونها استعبادًا لا تقوم لها بعدها قائمة، وسيقضون أيضًا على الدين الإسلامي متممين ما بدؤوا به، وكنت أجيب بأنني أعلم من سوء نية زعماء الاتحاديين فوق ما تعلمون، ولكنني أعتقد أن الألمان لا يمكِّنونهم من مثل هذا الإفساد، الذي يضطرون إلى السكوت لهم عليه في زمن الحرب اتقاءً للفشل فيها، وأنه لا بد أن يقدر الألمان من قدر الأمة العربية ما لا يقدره هؤلاء الاتحاديون المتطرفون، وأن الشعب التركي -الذي يغلب عليه التدين بالإسلام - سيكون عونًا لنا وللألمان عليهم. وقد ذكر الأمير شكيب في مقالته ما يؤيد هذا الرأي، ما سبق له في هذه السبيل من السعي، وهو ما ذكره في (ص 132) من سعيه لدى قنصل ألمانية في الشام؛ ليتوسل بنفوذ حكومته لدى حليفتها بمنع فظائع جمال باشا؛ لأن الضرر يعود عليها من ذلك، وقوله: (إن قتل هؤلاء الجماعة سيُحدث بين العرب والترك فنتة لا نهاية لها، فتكونون زدتم الدولة الائتلافية قوة أمة جديدة هي الأمة العربية) ، وقول القنصل - بعد إخباره إياه بعجز سفارتهم في الآستانة عن عمل شيء في هذا الباب -: (إن الأتراك سيندمون على هذا العمل) ، ثم ما ذكره في (ص 133) من سعيه لدى فون كولمان - الذي كان سفير الدوة الألمانية في الآستانة - لجعْل الترك والعرب كالنمسة والمجر ثم لدى خلَفه الكونت برنستورف، الذي كان يصرح بأنه على هذا الرأي إلخ. فثبت بهذا أن آراءنا كانت صحيحة؛ لأنها مبنية على الروية والتدقيق في البحث عن الحق، ولكنني لم أكن آمنًا من عاقبة غرور الاتحاديين وتهورهم إذا انتصروا، ولا يائسًا من رحمة الله بهذه الأمة إذا انكسرت الدولة بسوء تصرفهم، ولا محل لشرح هذا هنا. هذا، وإننا سنعود إلى شيء من هذا البحث في الرحلة الأوروبية، ونبين فيها ما كان من شدة نفور السواد الأعظم من الترك من أعمال الاتحاديين، وإضمارهم للثورة عليهم بعد الحرب، ومن منع الغازي مصطفى كمال باشا لزعمائهم من دخول الأناضول مدة الحرب لكراهة الأمة لهم، وحذرًا من وقوع الشقاق بوجودهم، وما علمناه مما لقينا من الاتحاديين أنفسهم من اعترافهم بخطئهم في المسألتين العربية والإسلامية، ومن سعيهم الآن لتكوين الجامعة الإسلامية، مع عدم الرجوع عن الجنسية الطورانية، وقد تولى جمال باشا أفضل عمل يمكن عمله للجامعة الإسلامية، وهو تنظيم الجيش الأفغاني الباسل، ولكن وردت الأنباء بأن بعض أشقياء الأرمن قد اغتاله في القوقاس منصرفًا من أوربة إلى الأفغان، ولا شك أن فقده الآن خسارة كبيرة؛ لأنه كان قائمًا بعمل عظيم، ولكن رجال الثورات قلما يموتون حتف أنوفهم.

الرحلة الأوربية ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة الأوربية (5) حديثنا مع أعضاء جمعية الأمم: كان مما قرره أعضاء المؤتمر السوري الفلسطيني - قبل انفضاضه - أن يسعى بعض أعضائه إلى مقابلة بعض أعضاء جمعية الأمم، الذي يُرجى أن يعطفوا على قضيتنا إذا عرفوا كنهها، والذين يرجى أن نستفيد من الحديث معهم فائدة تزيدنا بصيرة في أمرنا، فكتب الأمير شكيب إلى كثير منهم مكتوبات خاصة، يطلب فيها تعيين وقت خاص لمقابلة وفد من أعضاء مؤتمرنا، ويخبرونه به، من حيث إنه هو (السكرتير) للمؤتمر، فأجاب كثير منهم الطلب، وأبى المندوبان الفرنسيان، واستكبرا أن يجيبا، كأنهما لا يعترفان بأن مؤتمرًا عُقد، على أن حكومتهما قد كانت أشد اهتمامًا بأمر المؤتمر من زميلتها إنكلترة، فحملت صنائعها في سورية على توقيع عرائض ينكرون فيها أن يكون المؤتمر ممثلاً لهم، ومعبرًا عن إرادتهم، فأجابها إلى ذلك أيهم أشد نفاقًا من المستخدمين، وقليل من الجبناء الطامعين، وستفصل أخبارهم في هذا مع غيرها في كتاب المؤتمر، الذي سيكون تاريخًا دقيقًا لهذا العمل، وكذلك مندوب الهند، وأمره ليس بيده، بل بيد سكرتيره الإنكليزي، وإنما مراد إنكلترة من وجوده كثرة أنصارها في الجمعية! وكان ممن أجاب الطلب رئيس مجلس جمعية الأمم، وهو مندوب الصين، ورئيس الجمعية العامة، وهو مندوب هولندة ومن الأعضاء البرنس أرفع الدولة مندوب إيران، واللورد روبرت سيسل البريطاني الشهير مندوب حكومة الترانسفال، والمستر فيشر مندوب الدولة البريطانية نفسها، وكذا مندوبو إيطالية، وإسبانية، والبرازيل، والأرجنتين وغيرهم، وكنا نبسط لكل منهم قضيتنا، وكان أشدهم عطفًا عليها، وتمنِّيًا لمساعدتنا مندوبا إيران والصين؛ لما بيننا وبين شعوبهما من الجامعة الشرقية، ويليهما مندوبو البرازيل والأرجنتين، فمندوبا أسبانية وهولندة. كان بسطنا للقضية لدى هؤلاء متشابهًا وكان الأمير ميشيل يتكلم معهم باللين والاعتدال، ولا سيما مع الأوروبيين منهم، وكنت أنا - والأمير شكيب - نتكلم بشدة في رفض الانتداب، وسوء الاعتقاد بالدولتين المتصديتين له، ووصف سيرتهما، وكان سليمان بك كنعان، يزيد علينا بيانًا في قضية لبنان، ومثله توفيق بك حماد، وشكري أفندي الجمل في الشكوى من الوطن القومي لليهود في فلسطين، ولا فائدة في استقصاء ما دار بيننا وبينهم كلهم في ذلك، ولا بد من بيان نموذج منه. مناقشتنا للورد سيسل: قابلنا اللورد روبرت سيسل في عصر يوم الجمعة (30 سبتمبر) ، ومكثنا معه ساعة وربع ساعة، وقد أفاض في الكلام معنا بطلاقة، وحرية غريبة، وهو جالس على كرسي بين الجالس والمستلقي، كما أجلس أنا في عامة الأوقات، إلا أنني أتحامي هذه الجلسة إذا كنت مع بعض المتكلفين المحافظين على الرسوم، فأترك راحتي مراعاة لهم، والظاهر أن الرأي العام في أوربة لا ينتقد مثل هذه العادة، ولا يعدّها مخلة بآداب المجلس، وإلا كان اللورد قليل الاحترام لنا، وكبراء الإنكليز شديدو المحافظة على الآداب العامة على كبريائهم وإعجابهم بأنفسهم! بسطنا قضيتنا للورد وبيَّنا له رأي أمتنا في الانتداب، وخصصنا بالذكر مسألتي فلسطين ولبنان، فقال: إن البلاد السورية لا تزال - بحسب القانون الدولي- من بلاد العدو المحتلة، صاحبتها الدولة التركية، وهي في حالة حرب مع دول الأحلاف؛ لأنها لم تصدق على معاهدة سيفر التي أمضاها مندوبوها؛ فلهذا لم تَرَ جمعية الأمم أن لها حقًّا في النظر في صكوك الانتداب للبلاد المرموز لها بحرف (أ) ، المقدمة لها من إنكلترة وفرنسة، وقد اقترحت أنا النظر فيها فلم يقبل اقتراحي. (هذا نص كلامه، وقد كانت الجرائد ذكرت أن كلاًّ من الدولتين وضعت صكًّا لانتدابها، ونشرت صك الانتداب للعراق - وهو سيئ جدًّا - ولم يُنشر صك الانتداب لسورية؛ لأنه أسوأ، والظاهر أنهما استرجعتا الصكين، ثم استبدلنا غيرهما بهما في هذا العام، وقد أقرهما مجلس عصبة الأمم، وإن لم يكن له حق في ذلك بشهادة اللورد) . ثم قال اللورد: إن الغرض من الانتداب أن تكون البلاد المفروض عليها مستقلة في إدارتها، وتساعدها الدولة المنتدبة حتى تستعد للاستقلال التام! قلنا، نعم هذا ما نص في عهد جمعية الأمم، ولكنه خداع كشفته سيرة الدولتين المستوليتين على البلاد، قبل أن يتم لهما أمر الانتداب، ومما ذُكر في عهد الجمعية أن لأهل البلاد الحق الأول في اختيار الدولة المنتدبة، ونشرت الدولتان بلاغًا رسميًّا وعدتا فيه بالعمل برغبة الأهالي، ثم أخلفتا الوعد، ولم تعتد برأي الأهالي في شيء. قال: نعم، ولكن الدولتين احتاطتا لذلك، فجعلتا الاتفاق بينهما حائلاً دون انتفاع أهل البلاد بهذا النص، وهو أن لا تقبل فرنسة الانتداب لفلسطين ولا للعراق ولا تقبل بريطانيا الانتداب لسورية، كما أنهما لا تمكِّنان دولة أخرى من التصدي لهذا الانتداب. وقال جوابًا عن كلام يتعلق بعدم تمكينهما جمعية الأمم من جعْل الانتداب موافقًا لروح عهدها ونصوصه: إن للجمعية أن تفعل ذلك بأن تطبق الانتداب على مبدئها وروح عهدها فلا تقبل ما يخالف ذلك! ثم قال: إن حكومة العراق الجديدة موافقة لروح جمعية الأمم، وإن إنكلترة تنوي مساعدة هذه الحكومة بإخلاص، وإن سورية تستحق حكومة مثلها، لكنه اعترف بأن مسألة فلسطين مشكلة ودقيقة (أي غير متفقة مع نصوص جمعية الأمم ولا مع روحها) وقال: إن إنكلترة مضطرة إلى الوفاء لليهود بوعد بلفور، وإلى إرضاء العرب، وحفظ حقوقهم! وهي ستجتهد في اختراع وسيلة لإرضاء الفريقين مع موافقة روح جمعية الأمم في الانتداب. هكذا قال اللورد، ولكن صك الانتداب الذي ظهر أخيرًا لم يُرضِ إلا اليهود الصهيونيين وحدهم، وقد أغضب العرب، وخفر عهود إنكلترة لهم، وأخلف الوعود التي منَّتهم بها، ولم يوافق روح عصبة الأمم ولا نص موادها، فمَن نصدق، وبقول مَن نثق؟ ! إلا أننا لم نصدق قول اللورد، ولكن كان يصدق مثله ومَن دونه كثير من الفلسطينيين، حتى أتاهم اليقين! ولما صرحنا للورد بأننا لا نقبل هذا الانتداب بحال من الأحوال، ولا نصدق الوعود والأقوال - نصح لنا بأن لا نعرقل مسألة الانتداب، بل بأن نقبله، ونطالب بجعْله موافقًا لروح جمعية الأمم؛ فإنه ضربة لازب (قال) ومعاهدة سيفر وإن كانت ستعدَّل فبلاد العرب لن تعود إلى الحكومة التركية، فليس أمامنا مَن نتكل عليه لإنصافنا - من سوء التصرف في الانتداب - إلا جمعية الأمم نفسها؛ لأنها هي صاحبة الحق في المراقبة على الدول المنتدبة، ومحاسبتها على أعمالها. قال هذا جوابًا عما أطال به الأمير ميشيل من سوء التصرف في البلاد باسم الانتداب، فكأن اللورد توهم أنه يمكن أن نقبله إذا حسن التصرف فيه، وقد صرحت أنا - والأمير شكيب - بأننا لا يمكن أن نقبله كما تقدم، وأننا إنما نذكر سوء التصرف فيه لإقامة الحجة من الآن على سوء النية لا للانتصاف. وكان ملخص كلامي له أنه ليس في استطاعتنا أن نحج الدولتين، ويكون لنا الفلج عليهما في دائرة قانون هما الواضعتان له، والحاكمتان به، والمنفذتان له بالقوة، وإنما نشكو إلى عصبة الأمم مذ الآن هذا الأمر، ونبين لها أنه مخالف لمبدئها وغايتها، ولا نخاطبه به بصفته البريطانية، بل بكونه من كبار أعضاء العصبة الذين تشبعوا بروحها كما نسمع عنه، ونرى أن مثله ينبغي أن يعرف الروح السائدة في الشرق الآن، ولا سيما سورية وفلسطين وسائر بلاد العرب، وأن الحرب الأخيرة قد علَّمتهم أن الحياة يجب أن تكون رخيصة في سبيل الحرية، فهم لا يبالون ببذل دمائهم في سبيلها، وأنه قد ثبت عندهم أن هذا الانتداب استعمار واستعباد، لا مساعدة لأجل استقلالهم، ولو كان مساعدة لما قاوموه كل هذه المقاومة، وقد أجاب عن أول هذا الكلام، ولم يُجب عن الجملة الأخيرة، بل قام على أثرها! كلامي مع المندوب البريطاني: وأذكر مما قلته لمستر فيشر المندوب البريطاني- في أثناء حديث وفدنا معه -: إن أهل الشرق كنوا يثقون بالبريطانيين ما لا يثقون بغيرهم من الغربيين، ولا الشرقيين، ويضربون المثل بصدقهم ووفائهم، فإذا أراد أحد أن يقول قولاً فصلاً صادقًا لا رجوع فيه، قال: (كلمة إنكليزية) ، وقد انقلب هذا الاعتقاد بعد الهدنة من الحرب العامة إلى ضده، فلم يعد أحد يثق بقول إنكليزي، ولا غيره من الأوروبيين، بل خسرت أوربة كل ما كان من نفوذها الأدبي. ذلكم بأنكم في أثناء هذه الحرب قد ألقيتم على جميع الأمم والشعوب في الشرق والغرب درسًا واحدًا، كان يتكرر كل يوم مدة أربع سنين، وهو أن الغرض من هذه الحرب - بين حلفكم والحلف الجرماني - هو نصر سلطان الحق وحرية الأمم والشعوب على سلطان القوة، والاعتداء على الضعفاء، وإخضاعهم بالسلاح العسكري، ووعدتمونا - معشر العرب خاصة - بأننا سنكون بانتصاركم أحرارًا مستقلين، وقد امتزجت هذه الوعود بدمائنا وأعصابنا، كما صدقت الشعوب كلها تلك الدروس التي كانت تلقيها عليها برقيات روتر، وهافاس كل يوم، وتشرحها وتفصلها جرائدكم، وجرائد أحلافكم. وما كان إلا أن وضعت الحرب أوزارها بخضوع أعدائكم لكم، ونزولهم على شروطكم في الهدنة والصلح، حتى نثلت الكنائن، وظهرت الدفائن، فعلم أنكم إنما خشيتم أن تشارككم الدولة الألمانية بقوتها في استعبادكم للشعوب، واستعماركم لبلادها، فأردتم القضاء على قوتها؛ لتنفردوا بذلك، وكان أسوأ الناس خيبة مَن اتخذتموهم، واتخذوكم أصدقاء من مخدوعي الأمة العربية، فإنكم انتزعتم منها خير بلادها وأخصبها، ومواطن مدنيتها، وهي سورية والعراق، فقسمتوها بينكم وبين حليفتكم فرنسة اقتسام الغنائم، وقهرتموها على الخضوع لحُكمكم بالدبابات والطيارات والبنادق والمدافع. وإننا نرى أنكم إنما أسستم إمبراطوريتكم العظيمة بالقوة المعنوية والأدبية كالدهاء والحكمة واللين، وأنكم ستكونون - باستبدال القوة العسكرية الوحشية بها - من الخاسرين، وإنني قد كتبت في إثبات هذه القضية مذكرة أرسلتها إلى وزيركم الأكبر لويد جورج في العام الماضي أثبت فيها أنه يمكن لكم أن تربحوا من الشعوب العربية، والتركية، والفارسية وغيرها من أمم الشرق بالصداقة وحسن المعاملة معها - إذا تركتم لها استقلالها - أضعاف ما تتصورون من الربح منها باستعبادها واستذلالها، والخداع بالأقوال - كتسمية الاستعمار بالانتداب - لم يبقَ له رواجٍ عند أحد من الناس. وقد انسلَّ المندوب البريطاني من المناقشة في هذا الموضوع بأنه الآن عضو في جمعية الأمم لا في الوزارة البريطانية، وأن الانتداب مقرر في عهد الجمعية، وليس موكولاً إلى أعضائها؛ ليقرروه، أو يتركوه، وإنما يطالبون بجعْله مطابقًا للمبادئ والأحكام الموضوعة له! ومما أضحكنا من كلام المندوب البريطاني أنني لما غمزت الحلفاء باقتسام بلادنا باسم الانتداب قال: إننا نحن لم نأخذ شيئًا! مندوب الصين: ومما قلته لمندوب الصين - وهو رئيس مجلس العصبة بالانتخاب، ويا له من رجل عالم عاقل حليم! -: لا يعزب عن علم سعادتكم أن الدول الغربية الطامعة تعد الشرق كله مباحًا لها، وترى أنه ليس لشعوبه حق في الحرية القومية واستقلال الحكم، إلا مَن أثبت ذلك لنفسه بالقوة الحربية القاهرة كاليابان، وما يمنعهم من العدوان على شعب شرقي ضعيف في عقر داره لسلب حريته، واستغلال بلاده بيده - وأيديهم من ف

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من مدينة بنكوك (سيام) (س38-45) من صاحب الإمضاء: (1) يقع اختلاف وشقاق في كل عام بين أئمة المساجد في إثبات هلال رمضان، فمنهم مَن يعتمد ويعمل بمثل جدول الشهور والأيام للشيخ القزويني، ومنهم مَن يعمل بما قال في عجائب المخلوقات بعد ذكر الجدول، وهو ما نصه: قال جعفر الصادق - رضي الله عنه -: إذا أشكل عليك أول شهر رمضان فعد الخامس من الشهر الذي صمته في العام الماضي؛ فإنه أول يوم شهر رمضان الذي في العام المقبل، وقد امتحنوا ذلك 50 سنة، فوجدوه صحيحًا. اهـ. ومنهم مَن لا يعمل إلا بما قال الشيخ البجيرمي في حاشيته على شرح فتح الوَهَّاب: قال سيدي علي وفا المصري في فتاويه لا يستتر القمر أكثر من ليلتين آخر الشهر أبدًا، ويستتر ليلتين إن كان كاملاً وليلة إن كان ناقصًا، والمراد بالاستتار في الليلتين أن لا يظهر القمر فيهما، ويظهر بعد طلوع الفجر، وفي عبارة بعضهم: وإذا استتر ليلتين، والسماء مصحية فيهما فالليلة الثالثة أول الشهر بلا ريب، والتفطُّن لذلك ينبغي لكل مسلم، فإن مَن تفطن له يغنيه عن التطلع من (؟) رؤية هلال رمضان، ولم يفُته يوم أن كان كاملاً، وحديث: (صوموا لرؤيته ... ) إلخ في حق مَن لم يتفطن لذلك، ولو علم الناس عظم منزلة رمضان عند الله وعند الملائكة وعند الأنبياء - لاحتاطوا له بصوم أيام قبله؛ حتى لا يفوته صوم يوم منه! اهـ، (قال) وهو كلام نفيس فاحفظْه، والبقية يصومون بالرؤية، ويفطرون بالرؤية عملاً بالحديث الشريف؛ فصار كل مسجد يصوم بما رأى إمامه. وكذلك يختلفون في إثبات هلالَيْ شوال والأضحى كاختلافهم في إثبات هلال رمضان، بل العاملون بالرؤية يختلفون في قبول شهادة عدل واحد في هلالي شوال والأضحى، (ولم تتوفر لأحد في سيام شروط العدالة المشروحة في كتب الإمام الشافعي) ، فمنهم مَن يقبل، ومنهم مَن يرفض، فاعتماد الأول على ما ذكر البجيرمي في حاشيته على الإقناع في كتاب الصيام أنه هو المعتمد، والثاني على ما قال الشافعي في الأم، والنووي في شرح مسلم. فالرجاء ملء صدورنا أن تبينوا لنا الحق في هذه مع الرد الصريح على مَن اهتدى بغير السنة النبوية. (2) ما حكم شراء أوراق اليانصيب؟ ، فإن الحكومة السياسية الآن تريد جمْع المال لشراء الأسلحة النارية والطيارات الهوائية من أرباح اليانصيب لإعراض الجمهور عن التبرع لها، وما الفرق بينهما وبين الميسر الجاهلي؟ ، فإن قيل بالمنع، فما يفعل بالجائزة لو ربحت النمرة التي اشتراها مسلم قبل تيقُّن الحرمة؟ (3) فشا بيننا اليوم: (1) التداوي بالأدوية المركبة من الكحول، (2) واستعمال الروائح العطرية والإفرنجية، (3) تعاطي البيرة، (4) ووضْع خلاصة الفواكه (Essence) في عمل الحلاويات والمربات، (5) والاستصباح بزيت البترول (6) ، والانتفاع بالغازات، فكل هذه مستحدثة يصعب علينا معرفة أحكامها شرعًا، فنلتمس من فضيلتكم بيانًا شافيًا مفصلاً عن حكم كل منهما، وعن أصلها، وعن الفرق بين كل واحدة منها إن وجد، ولا تحيلونا على ما لم يكن بيدنا من فتاوى سبقت لكم في المنار أو غيره، أفيدونا أثابكم الله، والسلام. بنكوك نوى ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم ناظر مدرسة البداية ... ... ... ... عبد الله بن محمد المسعودي (جواب المنار) إثبات هلال رمضان والعيدين قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ، وقد أجمع العلماء على أن الرد إلى الله تحكيم كتابه، والعمل به، والرد إلى الرسول بعد وفاته تحكيم سُنَّته، والعمل بها، وقد قال تعالى - في كتابه -: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) ، وناط رسوله - صلى الله عليه وسلم - إثبات الشهر برؤية الهلال، وإلا أكملت عدة الشهر ثلاثين يومًا، ولا حاجة إلى سرد شيءٍ في تفسير الآية، ولا نصوص الأحاديث في ذلك، فهي معلومة لديكم، ومن عجائب ضلالات التقليد أن يترك السنة الصحيحة الصريحة عارفها، ويأخذ بقول زيد وعمرو من الناس الذين ليست أقوالهم دينًا ولا حجة في الدين، ولو لم تكن مخالفة للكتاب والسنة فكيف إذا خالفتها، ولا هم من العلماء المجتهدين، على أن المسألة ليست اجتهادية لوجود النص الصريح فيها، وقد قال الإمام الشافعي - في أول باب الإجماع من رسالته الشهيرة في أصول الفقه -: (وقامت الحجة بما قلت بأن لا يحل لمسلم علم كتابًا ولا سنة أن يقول بخلافِ واحدٍ منهما) ، فمادامت رؤية الهلال ممكنة فلا يجوز العمل بالحساب، ولا بمثل ما ذُكر من الضوابط المبنية عليه، ولكن قد يحتاج إلى الضوابط إذا تعذَّر العمل بالسنة كأن تطبق الغيوم في قطر كبير عدة أشهر، ويتعذر عليهم الوقوف على إثبات صحيح للشهر برؤية الهلال في مكان قريب منهم مثلاً، أو إذا كان الصيام في المنطقة القطبية، وما يقرب منها حيث لا شهور، فههنا يجتهد في تقدير الأوقات للصلاة والصيام. وقد بيَّنا هذه المسائل من قبل، والغرض هنا بيان أن المصيب من المختلفين في المسألة في بلاد السائل هو الفريق الذي يثبت الشهر برؤية الهلال، وإلا فبإكمال عدة شعبان 30 يومًا إذا غم الهلال على الناس، وينبغي أن يكثر المستهلون لتثبت الرؤية بالتواتر، فإن لم يتفق ذلك، وشهد برؤيته مَن لا يعد عدلاً في مذهب الشافعي - رحمه الله تعالى - فلا بأس بأن يعد عدلاً في مذهب غيره، والعبرة بتصديق الناس له، فإذا كنا نعلم أن زيدًا يتحرى الصدق، ويتنزه عن الكذب، ولكنه لا يرى بأسًا ببعض ما يعد في المذهب مسقطًا للمروءة، ولا سيما إذا كان لا يعد مسقطًا لها في هذا العصر، أو لا يسقط مروءة مثله لمجموع مزاياه الأخرى، فلا مانع من قبول شهادته، والعمدة في ذلك أن يُعتقد صدقه، فإن بعض ما اشترطوه في العدالة مبني على العرف لا النص: كخرم المروءة، والعرف يختلف باختلاف الزمان والمكان، ويكفي في إثبات رمضان شهادة واحد، ثبت ذلك في السنة، وجرى عليه الجمهور. وأما العيدان فالأدلة في إثباتهما بشهادة عدل أو عدلين متعارضة، والمهم أن يتفقوا على أحد القولين تفاديًا من الاختلاف الذي يبغضه الله، ويبغض أهله. بعد هذا نقول كلمة في تلك الأقوال التي نقلها السائل عن بعض المصنفين: فأما ما نقلوه عن جدنا جعفر الصادق رضي الله عنه فهو صحيح في نفسه، وإنما يطَّرد بموافقة إثبات الشهر بالحساب الذي تقتضيه قواعد الفلك، ولكنه قد يخطئ إذا جرى الإثبات على قاعدة الشرع بالرؤية، وما يظن أن الإمام قال بترك الإثبات بما أمر به جده - عليه الصلاة والسلام - والعمل بالحساب، وإلا فإن العارف بالحساب لا يحتاج إلى ذلك الضابط، بل يعرف أول كل شهر معرفة قطعية لا شك فيها، وإنما تختلف أقوال مؤلفي التقاويم أحيانًا؛ لأن بعضهم يجري في ذلك على قاعدة تولد القمر، وبعضهم يجري على قاعدة توافق الشرع، من حيث يجعل أول الشهر الليلة التي يمكن أن يرى فيها الهلال إذا انتفت الموانع كالغيوم وما في معناها، وقد بيَّنَّا غير مرة أن الحكمة في جعْل مواقيت الصلاة والصيام منوطة بما تسهل معرفته على جميع المسلمين من بدو وحضر، أميين ومتعلمين - هي أن لا تكون أمورهم الدينية بأيدي أفراد من علماء فن مخصوص كالفلك، لا يوجدون في كل مكان، وقد يعبثون بأمور الأمة في دينها، كما فعل رؤساء الأديان الأخرى، ونجد أهل الأمصار الإسلامية الآهِلة بالعلماء - من جميع المذاهب - لا يعملون في إثبات هلال رمضان والأعياد وغيرها إلا بالرؤية، أو إكمال العدة على كثرة الحاسبين المدققين فيها، ثم إنهم يُثْبتون الرؤية إثباتًا شرعيًّا بحكم في دعوى صورية؛ لأجل إعلام الناس كافة به بصفة يرتفع فيها الخلاف ليسلم المسلمون من الفوضى، والخلاف في عبادتهم في كل قطر، فما يفعله أهل (سيام) عندكم مخالف لهدي الشارع ولحكمة الشرع ولعمل المسلمين سلفًا وخلفًا في جميع الأقطار الإسلامية. وأما ما نقله البجيرمي من أن حديث: (صوموا لرؤيته) خاص بمَن لم يتفطن لتلك القاعدة الحسابية، ومن أنه ينبغي الاحتياط لرمضان بصوم قبله حتى لا يفوته صوم يوم منه! فهو باطل بشقِّيه، ويستغرب قوله فيه: إنه نفيس، ويترتَّب على قوله الأول أن نقبل قول كل مَن جاءنا بقاعدة أو طريقة يمكن أن يحصل بها مقصد الشرع في عمل من الأعمال من غير الطريقة أو القاعدة الثابتة بنص الكتاب والسنة؛ وحينئذٍ يكون كل واحد من هؤلاء شارعًا لغير ما شرعه الله تعالى، وناسخًا لما شرعه، ولو في الوسائل، وهو شرك بالله تعالى، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) ، وقد بينا هذا المعنى في مواضع من التفسير والفتاوى القريبة العهد، وسيرى القراء شيئًا منه في الجزء الآتي من المنار في باب الفتوى، إن شاء الله تعالى، وبمثل هذه الآراء أضاع مَن قبلنا أصول دينهم وفروعه. وأما الرأي الثاني فيقال فيه: إن الصيام لا يعد من رمضان إلا إذا ثبت الشهر، وكان الصيام بنية رمضان، وإلا فقد ورد في السنة النهي عن صوم يوم الشك، وعن استقبال رمضان بيوم أو يومين. وجملة القول أن الواجب على أهل بلدكم أن يعملوا في إثبات رمضانٍ والعيدين بما يعمل به سائر المسلمين من الاستهلال، فإن رُؤيَ الهلال فذاك، وإلا أكملوا عدة شعبان، وأن يجتمع أئمة المساجد والعلماء ليلة الثلاثين من رمضان، فإن ثبت الشهر أعلموا به الناس، وصاموا جميعًا، وإلا أفطروا جميعًا، {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) . شراء أوراق اليانصيب ورِبْحها: (اليانصيب) ضرب من ضروب المَيْسِر التي كثرت في هذا الزمان، كما كثرت أنواع أخته الخمر، فلا خلاف في تحريمه بين علماء المذاهب الإسلامية كلها، وأما ربحه من حكومة غير إسلامية في دار الكفر التي لا تنفذ فيها شريعة الإسلام فمباح؛ إذ لا يمكن التزام أحكامها، واشتراط عقودها في تلك الدار، بل يكفي في حِل أموال أهلها وحكوماتها رضاؤهم، وعدم كوْنه سرقة، أو خيانة لهم، ولا حاجة إلى بيان الفرق بين هذا الميسر والميسر الجاهلي؛ فإن كل ميسر حرام، كما أن كل خمر حرام. وإن أكثر أنواع الخمر والميسر المستحدثة في هذا الزمان شر مما كان منهما في عصر نزول الشرع، وإن كان بعض الفقهاء يقول: إن حرمة الخمر المتخذة من عصير العنب أشد وأغلظ من سائر الخمور، فهؤلاء بَنَوْا قولهم على دعوى لفظية مرجوحة، والحق الذي بيناه في التفسير أن كل شراب مسكر فهو خمر لغةً وشرعًا، وأن شر الخمور أشدها ضررًا في العقل والبدن كالتي يسمونها الأشربة الروحية، ولا سيما المستحدثة بالطرق الأوربية، وكذلك الميسر شر أنواعه ما استحدثه الأوربيون في هذا الزمان. الأدوية والأعطار الكحولية: إذا كان في الأدوية التي يدخلها الكحول أشربة مسكرة، فلا شك في تحريم شربها وعدم إباحتها إلا في حال الاضطرار التي تبيح المحظور لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) قيل: وما دون الاضطرار من التداوي الذي يكون بتجرِبة صحيحة، أو برأي طبيب عدل يصدقه المريض بأن هذا دواء له، ولا يوجد غيره يقوم مقامه، وقد فصلنا هذا البحث بأدلته من قبل،

الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بذكرى الأستاذ الإمام (2) كلمة الأستاذ منصور فهمي أيها السادة: منذ أكثر من عشرين عامًا - ونحن صبية في أيام الدراسة الأولى - أذكر أنني كنت مع رفيق لي في شارع الدواوين. قيد أبصارنا على مقربة من باب إحدى تلك الدواوين مرأى شيخ معمَّم أشيب، ربع القامة، مهيب الطلعة، لطيف المشية. نظرنا إلى الشيخ نظرة المتفرج المتعجِّب، حتى دخل الديوان، وتوارى عن أبصارنا، قال صاحبي ذلك هو الشيخ عبده، فقلت: كان ينبغي أن نحييه، وعاتبت رفيقي على أنه لم يبدأ بالتحية، فأتبعه، وعاتبني إذ لم أكن البادئ، فيتَّبعني، ثم حمل كل معنا رفيقه إثم ذلك التقصير، وانتحل كل منا لنفسه ما استطاع أن يدفع به عن نفسه من المعاذير. سرنا في سبيلنا، واستبقى خيالي صورة ذلك الشيخ الذي كنت رأيته للمرة الأولى، وأخذت تمر أمام نفسي تلك الأقوال التي كانت تقذف حول اسم ذلك الرجل الجليل. أخذت أتصوَّر معنى الإصلاح؛ لأني كنت أسمع أنه من المصلحين، ومعنى العلم؛ لأني كنت أسمع أنه من أكبر العلماء، ومعنى الخروج عن المألوف؛ لأني كنت أسمع أنه من الذين خرجوا عن المألوف الذي لا يعتمد على حق، ولا على عقل، ومعنى العظمة؛ لأني كنت أسمع أنه كان عظيمًا. أخذت المعاني المختلفة تتوالى على ذهني الضعيف الغضّ؛ لأن الأحاديث التي كانت تدور حول اسم الشيخ كانت مختلفة الألوان أيضًا. ما كنت أستطيع وقتئذٍ أن أدرك حق الإدراك معنى العلم، ولا معنى الخروج عن المألوف، ولا معنى العظمة، ولا معنى الإصلاح، كنت لا أدرك ذلك، زميلي مثلي لا يدرك تلك المعاني أيضًا، ولكننا كنا نشعر بشيءٍ واحدٍ - هو رغبتنا الصادقة في أن نؤدي لذلك الرجل تحيتنا إكبارًا له وإجلالاً. كنا نرغب في ذلك أيها السادة، كان في نفوس الصغار والسذج حسًّا يدركون به معنى العظمة وشعورًا خاصًّا يتبيَّنون به مَيْزَة الرجل العظيم، رغم ما يسترها من أقوال المتقوِّلين، وذم الحاسدين، وثائرة الجاهلين. قضى القضاء - أيها السادة - أن تكون تلك المرة التي رأيت فيها الشيخ هي الأولى والآخرة، ولكن الله يريد أن أقف اليوم لأحيي الشيخ تلك التحية التي كنت أريد أن أقدمها إليه منذ عشرين عامًا. نعم، أيها السادة كنت أريد أن أحيي ذلك الرجل، وأنا صبي في بداية العمر وبداية العلم، واليوم أتقدم لتحيته، وأنا أخدم العلم الذي كان الشيخ يخدمه، وأحصل ثمارًا كان الشيخ يعمل على إنضاجها، وأعين على تغذية أذهان طالما أراد الشيخ أن تشبع علمًا. كنت أريد أن أحيي الشيخ من عشرين عامًا؛ لأني كنت أشعر أنه عظيم وممتاز، والآن أتقدم لتحيته، وقد أصبحت أدرك شيئًا من معاني العظمة والامتياز. العظمة - أيها السادة - واسعة، واسعة تتضاءل أمام سعتها وهَيبتها كل المعاني. العظمة من المعاني التي إذا مست الكون ينعدم عندئذ الفاسد، ويتلاشى الحقير، ويظهر الصالح، ويعلو الكبير. العظمة متحركة لا تعرف القرار والسكون، وتمتد كاللهب المستعر في كل جهة، وتعمل - فيما يصيبه - عملها النافع. لا تعرف القرار؛ لأنها تجري وراء الكمال وأمام الكمال ... على ذلك يكون الرجل العظيم هو الذي يريد أن يعوض الناقص بالكامل، ويعتمد على نفسه الملتهبة الحارة، لا يريد أن يقف حيثما يقف الناس؛ لأنه يرى الحياة سائرة، والكمال سائرًا، وهو يسير أينما سارا، لا تكون نفسيته حيث تكون نفسيات الناس؛ لأنها كبيرة تمتد في الوجود اللانهائي، ونفسيات عامة الناس صغيرة متضائلة لا تسد في الوجود إلا فراغًا يسيرًا. تلك هي بعض صفات العظيم، فهل كان الرجل الذي نذكره اليوم على شيء من هذه الصفات؟ ! إن مَن يطلع على حياة الشيخ يتبين القوة العظيمة التي كانت تقوم عليها نفسه الكبيرة، وأدلّ دليل على ذلك أن الأعمال - التي اتصلت بها جهوده - وقع فيها حرب بين أسلوب القديم وأسلوب الجديد، وكان هو حامل لواء الثاني، وكان في جهاده مظفرًا منصورًا. أليس هو الذي عند اتصاله بصناعة الصحافة والتحرير - أدخل في التحرير أسلوبًا أصح، ووجه الكتابة العربية وجهة الدقة والطلاوة. أليس هو الذي أدخل الأساليب الحديثة في التعليم الديني عن اتصاله بإدارته؟ أليس هو الذي أجهد نفسه؛ ليربط العلوم الإسلامية بالينابيع الصحيحة الواسعة، ويوجهها وجهة الطرق العلمية الصحيحة؟ أليس هو الذي كان صوته عاليًا في محاربة الاستبداد والجمود أينما تكون؟ أليس هو الذي أكبر شأن الإفتاء عن اتصاله بذلك المنصب الكبير، وأخذ يفتي في أقطار الإسلام المختلفة بمسائل دقيقة، فتح بها للإفتاء الشرعي مسلكًا جديدًا؟ أليس هو الذي كان يوفق بين روح المحافظة وروح التجديد وروح الدين وروح العلم حتى يُستفاد من حسناتها جميعا؟ أليس هو من أصحاب الفضل في المناداة بحرية الفكر، واحترام استقلال الرأي؟ إن الجيل الناشيء مدين للشيخ عبده بتعوُّد التسامُح، وتقدير فوائد الاستقلال الفكري، وقد جهر الشيخ بفضل ذلك في خطبة ألقاها بتونس؛ إذ يقول: (أقول قولي هذا، ولا أريد به إلزام سامعه بقبوله، وإلا خالفت ما أدعو إليه من استقلال الفكر وحرية الرأي ... ) . إن الجيل الحاضر يقدر له بلاءه الحسن في احترام الرأي القائم على التفكير، ويجب أن يقدر له المشغلون بالعلم صيحته الصارخة بوجوب تعديل التعليم، بحيث يخرِّج العلماء المشتغلين بالأبحاث العقلية المحضة. قال بذلك في وصيته السياسية التي كتبها بالفرنسية إلى الكونت دي جريفيل، فنشرها في مؤلَّفه (مصر الحديثة) في 6 يونيو سنة 905، أي قبل موته بنيِّف وثلاثين يومًا، وسينشر أخونا الدكتور طه حسين تعريب هذه الوصية قريبًا. قال الشيخ - في هذه الوصية -: (إذا نظرنا إلى التعليم الذي تنشره الحكومة من حيث قيمته، فنحن مضطرون إلى أن نلاحظ أنه لا يكاد يقدر إلا على تكوين رجل محترف بحرفة، يكتسب بها الحياة، ومن المستحيل أن يستطيع هذا التعليم تكوين عالم أو كاتب أو فيلسوف، فضلاً عن تكوين نابغة، وكل ما لدينا من المدارس التي تمثل التعليم العالي في مصر إنما هي مدرسة الحقوق والطب والهندسة، وأما بقية الفروع التي يتكوَّن منها العلم الإنساني فقد ينال منها المصري أحيانًا صورًا سطحيةً في المدارس الإعدادية، ويكاد يكون من المستحيل أن يتقن منها شيئًا، وهو - في الغالب - مُكره على أن يجهلها جهلاً تامًّا، وذلك شأن العلم الاجتماعي وفروعه التاريخية والخلقية والاقتصادية، ذلك شأن الفلسفة القديمة والحديثة والآداب العربية والأوروبية والفنون الجميلة أيضًا، كل ذلك مجهول لا يدرس في مدرسة مصرية، والنتيجة أن في مصر قضاة ومحامين وأطباء ومهندسين، تختلف كفاءتهم قوةً وضعفًا في احترام حرفهم، ولكنك لا ترى في الطبقة المتعلمة الرجل الباحث، ولا المفكر، ولا الفيلسوف، ولا العالم، لا ترى الرجل ذا العقل الواسع، والنفس العالية، والشعور الكريم، ذلك الذي يرى حياته كلها في مثل أعلى يطمع فيه، ويسمو إليه) . يتبيَّن لكم مما تقدم - أيها السادة - أن الشيخ كان مبشرًا بدار العلوم العقلية العالية، ولم يمضِ قليل من الزمن حتى أُنشئت الجامعة المصرية صدى لأمنيته الكبيرة العالية. لا نزال إلى اليوم نحتاج إلى مثل هذه الصيحة، تنبِّهنا إلى أننا نريد علومًا توجِد فينا رجالاً واسعي العقول. نريد علومًا تُكَوِّنُ فينا أخلاقنا ومداركنا، وتُحَبِّبُ إلينا الحياة، أو تُبَيِّنُ لنا ما يمكن أن يكون في العيش من جمال وسُمُوٍّ. نريد ذلك الآن، وقد أراده الشيخ من قبل، وجهر به، وأوصى، فلا غرابة وقد أخذت أمانيه تسير في سبيل التحقيق أن يقوم في الجامعة المصرية أحد أساتذتها يذكر الشيخ بالحمد والتحية والإجلال. أيها السادة: إن الوقت الذي قُدِّرَ لي لأقف بينكم - ذاكرًا الشيخَ - لا يتسع لتعديد حسناته في حياتنا الاجتماعية، ولكن حسبه من العظمة أنه كان من زعماء الدين ومن زعماء الدنيا معًا. توجه إلى شؤون التصوف والتُّقَى وفقه الدين، ولكنه لم يهمل شؤون الإصلاح والعمران. فؤاد تولاه نور السماء، ولكنه وسع مسائل الأرض. ذهن وفَّق بين عالم الغيب وعالم الشهادة. رجل وصل بين الأرض والسماء بسبب. إنه لرجلٌ عظيمٌ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... منصورفهمي ... ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ بالجامعة المصرية *** قصيدة حافظ إبراهيم بك آذنت شمس حياتي بمغيب ... ودنا المنهل يا نفس فطيبي إن مَن سار إليه سيرنا ... ورد الراحة من بعد اللغوب قد مضى (حفني) وهذا يومنا ... يتدانى فاستثيبي وأنيبي وارْقُبيه كل يوم إنما ... نحن في قبضة علام الغيوب اذكري الموت لدى النوم ولا ... تُغفلي ذكرته عند الهبوب واذكري الوحشة في القبر فلا ... مؤنس فيها سوى تقوى القلوب قدِّمي الخير احتسابًا فكفى ... بعض ما قدمت من تلك الذنوب راعني فَقْد شبابي وأنا ... لا أراع اليوم مَن فقد مشيبي حَنَّ جنباي إلى برد الثرى ... حيث أنسى من عدو وحبيب مضجع لا يشتكي صاحبه ... شدة الدهر ولا شدّ الخطوب لا ولا يُسئمه ذاك الذي ... يسئم الأحياء من عيش رتيب [1] قد وقفنا ستة [2] نبكي على ... عالِم المشرق في يوم عصيب وقف الخمسة قبلي فمضوا ... هكذا قبلي وإني عن قريب وردوا الحوض تباعًا فقضَوْا ... باتفاق في مناياهم عجيب أنا مُذْ بانوا وولى عهدهم ... حاضرُ اللوعة موصول النحيب هدأت نيران حزني هدأة ... وانطوى (حفني) فعادت للشبوب فتذكرت به يوم انطوى ... صادق العزمة كشاف الكروب يوم كفَّناه في آمالنا ... وذكرنا عنده قول (حبيب) (عرفوا مَن غيَّبوه وكذا ... تُعرف الأقمار من بعد المغيب) وفُجعنا بإمام مصلح ... عامر القلب وأوَّاب منيب كم له من باقيات في الهدى ... والندى بين شروق وغروب يبذل المعروف في السر كما ... يرقب العاشق إغفاء الرقيب يحسن الظن به أعداؤه ... حين لا يُحسَن ظنٌّ بقريب تنزل الأضياف منه والمنى ... والخلال الغرُّ في مرعى خصيب قد مضت عشر وسبع والنهى ... في ذبول والأماني في نضوب نرقب الأفق فلا يبدو به ... لامع من نور هادٍ مستثيب وننادي كل مأمول وما ... غير أصداء المنادي من مجيب دويَ الجرح ولم يقدر له ... بعد ثاوي (عين شمس) من طبيب أجدب العلم وأمسى بعده ... رائدُ العرفان في وادٍ جديب رحمة الدين عليه كلما ... خرج التفسير عن طوق الأريب رحمة الرأي عليه كلما ... طاش سهم الرأي في كف المصيب رحمة الفهم عليه كلما ... دقت الأشياء عن ذهن اللبيب رحمة الحلم عليه كلما ... ضاق بالحدثان ذو الصدر الرحيب ليس في ميدان مصر فارس ... يركب الأخطار في يوم الركوب كلما شارفه منا فتى ... غاله المقدار من قبل الوثوب ما ترى كيف تولى (قاسم) ... وهو في الميعة والبرد القشيب أنسي الأحياء ذكرى (عبده) ... وهي للمستاف من مسك وطيب إنهم لو أنصفوها لبنوا ... معهدًا تعتاده كف الوهوب معهدًا للدين يُسقَى غرسُهُ ... من نمير فاض من ذاك القليب ونسينا ذكرَ حفني بعده ... ودفنَّا فضله دفن الغريب لم تَسِلْ منا عليه دمعة ... وهو أوْلى الناس بالدمع الصبيب سكنت أنفاس حفني بعد ما ... طيبت في الشرق أنفاس الأديب عاش خصبَ العمر موفورَ الحِجَى ... صادقَ العشرة مأمونَ المغيب *** كلمة صاحب المنار [3] أيها السادة: إن إخواني أعضاء لجنة هذا الاحتفال قد حدَّدوا وقته، وخصّوني بالكلمة الختامية؛ لأنه مهما يَقُلْ مَن قبلي فإنه يسهل عليَّ أن آتيَ بشيء جديد؛ لسعة وقوفي على تاريخ شيخنا الإمام الذي نحتفل بذِكْراه، ومعرفتي بشؤونه، وأن

التسمية باسم الأستاذ الإمام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التسمية باسم الأستاذ الإمام في المغرب الأقصى جرت عادة البشر في جميع الأمم بأن يسمّوا أولادهم بأسماء عظماء الرجال حبًّا بذِكْرهم، وتفاؤلاً باقتداء هؤلاء الأولاد بهم، وقد قرأنا بجريدة السعادة في العدد الذي صدر منها في رباط الفتح من بلاد المغرب الأقصى بتاريخ 27 ذي الحجة الماضي تحت عنوان محمد عبده الثاني ما نصه: (بُشر صديقنا العضو الرئيسي بالمحكمة العليا الفقيه السيد عبد الحفيظ الفاسي بولدٍ ذكرٍ، سماه على بركة الله (محمد عبده) تذكارًا لاسم الشيخ محمد عبده المصري عظيم علماء الإسلام، فنِعم الولد، ونعم التذكار لذلك الرجل العظيم {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) .

الوثائق الرسمية للمسألة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوثائق الرسمية للمسألة العربية عود على بدء المكاتبات بين أمير مكة بالأمس وملك الحجاز اليوم وبين نائب ملك الإنكليز بمصر لا يزال جمهور المشتغلين بالسياسة من عرب الأقطار السورية والعراقية ومصر يجهلون أسباب الثورة التي قام بها أمير مكة بمساعدة بعض السوريين والعراقيين؛ لأنه كان يكتم ما دار بينه وبين معتمد الدولة البريطانية في مصر، وما اتفقا عليه، حتى عن أولاده قواد جيوشه، وإنما كان يمنِّيهم بأن الذي تقرر، واتفق عليه الفريقان هو استقلال جميع البلاد العربية العثمانية، وجعْلها مملكة عربية حرة له! ، وقد ظهر بعد ذلك أن ما عرضه على إنكلترة، فقبلت بعضه بقيود، وشروط - يجعل البلاد تحت حمايتها في الداخل والخارج! وقد كان جميع أنصاره وأنصار أولاده الأمراء موالين للدولة البريطانية إلى أن انكشف الغطاء، وظهر ما كان مِن اتفاقها مع فرنسة على قسمة الولايات العربية بينهما من حدود مصر، والبحر الأحمر إلى خليج فارس، واحتل كل منهما حصته، وتصرف فيها تصرف المالك فيما ورثه عن آبائه وأجداده من الأرض، فعند هذا رجع بعضهم عن موالاتها، وتعليق الآمال بها دون بعض. ثم نشر الأمير فيصل في دمشق نص المعاهدة التي أخذها من والده؛ ليحتج بها على الحكومة البريطانية، وظهر منها أنها تتضمن حمايتها لجميع البلاد العربية التي طلب استقلالها؛ ليكون ملكها، فخابت آمال أناس آخرين، وسكتوا عن التبجُّح أو الاحتجاج بذلك العهد أو الوعد، ولكن لا يزال لهم أنصار يتولونهم، ويتولونها، وأنصار يتولونها من دونهم، وآخرون يتولونهم من دونها، ولا يزال فيهم مَن يطالب الدولة البريطانية بما تطالبها به جريدة (القبلة) بالأقوال الرسمية وغير الرسمية بأن تفي بعهدها، وتنجز وعدها لملك الحجاز، بل ملك العرب كلها، ومن العجائب أن يكون كثير من أهل فلسطين من هؤلاء الأولياء الذين يسمون ملك الحجاز (بالمنقذ) ، وإنما أنقذهم من حكم الدولة العثمانية الإسلامية، الرحيمة المساوية بينهم وبين الترك في كل الحقوق، ووضعهم بثورته تحت حكم سيطرة الدولة البريطانية، والشيعة اليهودية الصهيونية، ولا يزال يوجد فيهم مَن يظن أن وفاء الدولة البريطانية بوعدها ينيلهم الاستقلال، كما يظن أولياؤه في سورية الشمالية أنه ينقذهم من فرنسة، ولو بجعلهم تحت انتداب إنكلترة أو حمايتها، وإن كانوا لا يجهلون أن انتدابها كان شرًّا على فلسطين من انتداب فرنسة على سائر سورية؛ فإن كان الضغط على العراقين دون الضغط عليهم، فسببه أن حال العراقيين كانت خيرًا من حالهم، وإنما تنال الشعوب باستعدادها وأعمالها، لا بأمانيها وأقوالها. ندع هؤلاء الأغرار يتخبَّطون في غرارتهم وغرورهم إلى أن يعلم الزمان مَن كان قابلاً للعلم، ويربي مَن كان قابلاً للتربية، ونساعد الزمان على ذلك ببيان ما تمحَّص من الحقائق، ونشر ما نعلم من البينات والوثائق؛ لتكون عبرة للمعتبرين، وحجة على الجاهلين والمكابرين. كلما دخلت مسائل الشرق في طور جديد ترى المتَّكلين على صاحب الحجاز وأولاده من السوريين - ولا سيما الفلسطينيين منهم - عادوا إلى نغمة المعاهدة بين الملك حسين والإنكليز يطالبون بها، ويزعمون أن الملك حسينًا وضعها، وأمضاها باسم الأمة العربية لا باسمه وحده، ونسأله تعالى أن يكفي هذه الأمة العربية شر تلك المعاهدة التي يريدون استعباد الأمة العربية بها. ألا أيها النائمون أفيقوا، ويا أيها المخدوعون بأقوال العائشين من فضلات آكِلِي أثمان أمتكم وبلادكم تنبَّهوا، قد آن لكم أن تعلموا أن تلك القصاصة من الورق التي يسميها الملك حسين (مقررات النهضة) ، ويسميها النافخون ببوقه المعاهدة الإنكليزية العربية، هي وثيقة من الملك حسين بجعْل البلاد العربية كلها، حتى الحجاز تحت حماية الحكومة البريطانية في داخلها وخارجها، وتنص على إعطائها الحق باحتلال ولاية البصرة لتأمين السيطرة على العراق، فيجب على كل عربي مخلص لأمته وبلاده أن يرفضها، وينكر أن يكون لواضعها أدنى حق في وضعها، والافتيات على حقوق مسلمي الأرض في الحجاز، وحقوق زعماء الأمة العربية في الجزيرة وسورية والعراق بوضْعه هذه الوثيقة الموجبة لاستعبادهم، وتصرف الإنكليز في بلادهم. هذه المقررات هي التي نشرها الأمير فيصل قائد الجيش الشرقي لدول الحلفاء- يوم نشرها - وملك العراق اليوم في جريدة المفيد، ونشرناها في المنار نقلاً عنها، وإننا نعيد اليوم نشرها مع الوثائق الأخرى المتعلقة بها، التي أشار الملك فيصل إلى أن الإنكليز اعترفوا بها، ولم يعترفوا بوجود معاهدة، وهذا نصها بالمعنى الصحيح الذي كتبه والده: صورة ما تقرر مع بريطانيا العظمى بشأن النهضة العربية (1) تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، وتكون حدودها شرقًا من بحر خليج فارس، ومن الغرب بحر القلزم، والحدود المصرية، والبحر الأبيض وشمالاً حدود ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات، ومجتمعة مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس، ما عدا مستعمرة عدن، فإنها خارجة عن هذه الحدود! ، وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود - بأنها تحل في محلها في رعايته وصيانة تلك الحقوق وتلك الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد. (2) تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي مداخلة كانت بأي صورة كانت في داخليتها، وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعدٍّ بأي شكل يكون، حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء، أو من حسد بعض الأمراء فيه، تساعد الحكومة المذكورة مادةً ومعنًى على دفع ذلك القيام لحين اندفاعه، وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة، أي لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية. (3) تكون البصرة تحت إشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة الجديدة المذكورة تشكيلاتها المادية، ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود يُراعَى فيه حالة احتياج الحكومة العربية، التي هي حكمها قاصرة في حِضن بريطانيا، وتلك المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال. (4) تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية من الأسلحة، ومهماتها، والذخائر، والنقود مدة الحرب. (5) تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين، أو ما هو مناسب من النقط من تلك المنطقة لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد لعدم استعدادها (انتهى) . (المنار) هذا ما كتبه الملك حسين بن علي إذ كان أمير الحجاز من قِبَل الدولة العثمانية إلى السر هنري مكماهون؛ ليعرضه على دولته، ويقنعها بأن ترضى بجعْله الأساس الذي تُبنَى عليه ثورة أمير مكة على دولته! ، وملخصها أن إنكلترة هي التي تؤسس الحكومة العربية، وهي التي تتولى حمايتها، وحفظ حدودها، وحفظ الأمن فيها للاعتراف بأنها قاصرة في حجر إنكلترة القيِّمة عليها! ، ولكن دولته لم ترضَ بجعْل هذه القواعد معاهدة بينها وبين أمير مكة، بل طفق مندوبها السامي بمصر يناقشه فيها، ويلهيه عن المهم منها، وكلما اعترف لهم بشيء اتخذوه حجة عليه، يحفظونها إلى وقت الحاجة، وأعظم حُججهم عليه جعْل جميع البلاد العربية تحت حمايتهم. وقد نشر الملك فيصل بعض ما جاء في أحد كتب السر هنري مكماهون إلى والده بشأن الحدود، وقد آن لنا نحن أن ننشر النصوص التي يهمنا أمرها من تلك الكتب؛ لأن ما نُشر لم يكفِ لإزالة اللبس، وكشف القناع عن الغش، وما لنا لا ننشرها وقد تداولتها الأيدي في الشرق والغرب؟ ! أُرسلت تلك (المقررات) من مكة إلى مصر في ضمن كتاب للسر هنري مكماهون في 27 شعبان سنة 1333، وهاك ما أجابه في أول كتاب بعدها: *** الكتاب الأول (من نائب ملك الإنكليز بمصر إلى أمير مكة في شأن الثورة الحجازية) (في 19 شوال سنة 1333 الموافق 30 أغسطس سنة 1915) كتاب من السر آرثر مكماهون نائب ملك الإنكليز بمصر في 19 شوال سنة 1333 - 30 أغسطس سنة 1915 إلى السيد الحسيب النسيب، سلالة الأشراف، وتاج الفخار، وفرع الشجرة المحمدية، والدوحة القرشية الأحمدية، صاحب المقام الرفيع، والمكانة السامية السيد ابن السيد، والشريف ابن الشريف، السيد الجليل المبجل دولتلو الشريف حسين، سيد الجميع، أمير مكة المكرمة، قبلة العالمين، ومحط رحال المؤمنين الطائعين، عمت بركته الناس أجمعين! . بعد رفع رسوم وافر التحيات العاطرة، والتسليمات القلبية الخالصة من كل شائبة - نعرض أن لنا الشرف بتقديم واجب الشكر لإظهاركم عاطفة الإخلاص وشريف الشعور والإحساسات نحو الإنكليز، وقد يسرنا علاوة على ذلك أن نعلم أن سيادتكم ورجالكم على رأي واحد، وأن مصالح العرب هي نفس مصالح الإنكليز، والعكس بالعكس؛ ولهذه النية، فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد كتشنر التي وصلت إلى سيادتكم عن يد علي أفندي وهي التي كان موضحًا بها رغبتنا في استقلال بلاد العرب وسكانها، مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها، وإننا نصرح هنا - مرة أخرى - أن جلالة ملك بريطانيا العظمى رحب باسترداد الخلافة إلى عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة. وأما من خصوص مسألة الحدود والتخوم فالمفاوضة فيها تُظهر أنها سابقة لأوانها، وتصرف الأوقات سُدى في مثل هذه التفاصيل؛ في حالة أن الحرب دائرة رحاها؛ ولأن الأتراك لا يزالون محتلين لأغلب تلك الجهات احتلالاً فعليًّا، وعلى الأخص ما علمناه - وهو مما يدهش ويحزن - أن فريقًا من العرب القاطنين بتلك الجهات نفسها قد غفل وأهمل هذه الفرصة الثمينة التي ليس أعظم منها، وبدل إقدام ذلك الفريق على مساعدتنا نراه قد مد يد المساعدة إلى الألمان والأتراك! نعم، مد يد المساعدة لذلك السلاب النهَّاب الجديد وهو الألمان، وذلك الظالم العَسوف وهو الأتراك، ومع ذلك فإنَّا على كمال الاستعداد لأن نرسل إلى ساحة دولة السيد الجليل ما للبلاد العربية المقدسة، والعرب الكرام - من الحبوب والصداقات المقررة من البلاد المصرية، وستصل بمجرد إشارة سيادتكم، وفي المكان الذي تعينونه، وقد عملنا الترتيبات اللازمة لمساعدة رسولكم في جميع سفراته إلينا، ونحن على الدوام معكم قلبًا وقالبًا، مستنشقين رائحة مودتكم الذكية، ومستوثقين بعُرى محبتكم الخالصة، سائلين الله سبحانه وتعالى دوام حسن العلائق بيننا. وفي الختام أرفع إلى تلك السدّة العليا كامل تحياتي وسلامي، وفائق احترامي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... السير ... ... ... ... ... ... ... ... ... آرثر مكماهون ... ... ... ... ... ... ... ... ... نائب جلالة الملك وقد أجاب الشريف حسين على هذه الكتاب بكتاب مؤرخ في 29 شوال يُلِحُّ فيه بقبول تلك الحدود المعينة فيما سماه (مقررات النهضة) ، فأجابه بالكتاب التالي: *** كتاب ثانٍ (من نائب الملك آرثر مكماهون إلى الشريف حسين) (في 15 ذي الحجة سنة 1333) بسم الله الرحمن الرحيم إلى فروع الدوحة المحمدية، وسلالة النسب النبوي، الحسيب النسيب، دولة صاحب المقام الرفيع، الأمير المعظم، السيد الشريف ابن الشريف، أمير مكة المكرمة، صاحب السدة العليا، جعله الله حِرْزًا منيعًا للإسلام والمسلمين، بعونه تعالى، آمين، وهو دو

مدنية القوانين ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مدنية القوانين وسعي المتفرنجين لنبذ بقية الشريعة وهدم الدين (3) سبب حرب متفرنجة المسلمين للإسلام إن خُوَّاص الأمم وقادتها هم أهل العلم الذين يتبعهم السواد الأعظم من العوام في أمور دينهم ودنياهم كالتعليم والإرشاد، وشؤون الحكومة من سياسة، وإدارة وقضاء، وحفظ للأمن، ودفاع عن الوطن، وكل ما تحتاج إليه الأمة في حفظ مصالحها الدينية والدنيوية من علم، وعمل - فحكم الإسلام فيه أنه واجب شرعًا، ولم يكن للدول الإسلامية التي أسسها خلفاء الإسلام في جزيرة العرب، والشام، والعراق، ومصر وغيرها من آسية، وإفريقية، وأوربة (كالأندلس) - علم يستمدون منه أحكام الإدارة والسياسة والقضاء والحرب إلا الفقه الإسلامي المبني على قواعد كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الخلفاء الراشدين وهدي السلف الصالحين، وكان كافيًا لذلك في عصورهم، ولا يزال كذلك، ولن يزال إذا سلك المسلمون فيه طريق الاجتهاد الذي سار عليه سلفهم. ثم ضعفت الحضارة الإسلامية بضعف دولها بضعف هداية الإسلام فيها، ثم قويت حضارة أوربة، واعتزت دولها، وارتقت علومها وفنونها، ونظمها وقوانينها، فمكَّنتها هذه القوى من السيادة على أكثر ممالك الإسلام، وكانت هذه السيادة ضروبًا، لها أسماء ورسوم يمتاز بها بعضها عن بعض، وانتشر بعض علومها وقوانينها في هذه الممالك تابعًا لتلك السيادة في بعض البلاد، ومتبوعًا أو ممهدًا لها في بعض، وكثرت المدارس الأجنبية فيها من قِبَل دعاة النصرانية الأوربيين، والأميريكيين لنشر تلك العلوم والقوانين مع الدعوة الدينية، وقلدتها بعض الحكومات الإسلامية المستقلة بالاسم وبالفعل في مناهج التعليم ومواده، وتلا ذلك اقتباس قوانينها، والتشبه بها في عاداتها وأزيائها وغير ذلك، فعظمت سيطرة هؤلاء الأجانب على العقول والقلوب بتصرفهم في تربية النشء وتعليمه - تصرفًا قصد به قطع جميع روابطه الملِّية والقومية، وجعله عالة عليهم في كل شيء. إذا كان هؤلاء الإفرنج قد عجزوا عن تنصير المسلمين بمدارس جمعياتهم الدينية - فإنهم لم يعجزوا عن إبطال ثقة الكثيرين منهم بدينهم، الذي هو مستمد فضائلهم وآدابهم النفسية والاجتماعية؛ لتصبح الأمة المكوَّنة منهم لا فضيلة لها في نفسها ولا آداب، وإبطال ثقتهم بشرعهم العادل الذي هو أساس حضارتهم ومجدهم، والمكوّن لدولهم التي هي مناط شرفهم التاريخي؛ لتكون الأمة المكوَّنة منهم لا مَجْدَ لها، ولا تشريع ولا تاريخ، وإبطال ثقتهم بلغتهم، الحافظة لشرعهم وآدابهم وتاريخهم وحضارتهم، لعدم شعورهم بالحاجة إليها بفقد الشعور بالحاجة إلى ما تحفظه من ذلك، وتوجه هِممهم إلى استبدال شرائع أساتذتهم وآدابهم وحضارتهم ولغتهم بما كان لسلفهم من ذلك، أي ليخرجوا عن كونهم أمة ذات مقومات ومشخصات مستقلة؛ فيفقدوا أعظم أركان الاستقلال القومي، ويكونا كاللقيط الذي يجهل أهله ونسبه، ولا يستطيع أن يتصل بأسرة يلتحق بها؛ فيكون أبتر في الناس، فهذا سبب التفرنج الذي نشكو بعض آثاره في الملة، ولو كان أمر التربية وتعليم العلوم والفنون الدنيوية في يد زعماء الملة وعلمائها - لما ازدادت الأمة بها إلا قوةً واتحادًا كما سبق لسلفها. كان خلفاء المسلمين وأمراؤهم وعلماؤهم - في عصور حضارتهم - يرون أنفسهم أَوْلى من كل البشر بكل علم وكل فن ينفع الناس في معايشهم أو عقولهم أو أبدانهم، حتى أحيوا العلوم الميتة والفنون الدارسة، وكانت هذه العلوم والفنون تُقرأ مع علوم الدين في مساجد المسلمين ومدارسهم، وما وجدوا شيئًا منها مخالفًا لشيءٍ من نصوص الدين إلا وحكموا فيه بأحد أمرين إما كونه باطلاً، فلا يُؤبَه لمخالفته الدين، وإما كون مخالفته صورية لا حقيقية لإمكان الجمع بين ما ثبت منه وبين النص. ثم صرنا إلى عصور ضعف فيها العلم بالدين وبلغة الدين وبسائر العلوم والفنون التي كان المسلمون منفردين بها في العالم، وكان لذلك أسباب: أهمها إيجاب تقليد المصنفين الميتين، وتحريم العلم الاستقلالي على الأحياء أجمعين، بدعوى أنه من الاجتهاد المتعذر على المتأخرين، وإهمال التربية الملية التي تصحح النية في طلب العلوم والفنون، وتوجهها إلى ما به ترتقي الأمة وتعتز. ولكن الإفرنج - الذين اقتبسوا استقلال الفكر والعلم الاستدلالي من المسلمين، فكانا سببَيْ ارتقائهم - قد ردوهما إلى المسلمين؛ ليستعينوا بهما على إقناعهم بكل ما يريدون من السوء بهم، من حيث لا يشعرون بردهما إليهم، وبإمكان استفادتهم منهما في دينهم ودنياهم، بعد أن حال دونها رجال الدين الإسلامي، بما أقفلوا في وجوههم من باب الاستقلال بطلب علم الدين بالدليل، وقد تربوا على أن لا يقبلوا شيئًا بدون دليل؛ فكثر مروقهم من الدين، ثم اقتنع كثير منهم بأن الدين عقبة في طريق ترقِّيهم؛ فصاروا يحاربونه بالعلم والعمل! رجال الدين ورجال الدنيا بهذا دخل عوامّ المسلمين في باب التنازع بين عاملي زعماء الدين وزعماء الدنيا، كل منهما يجذب العوام إليه، وإننا نرى أن زعماء الدنيا أقدر على جذبهم إلى مدارسهم وإلى تقليدهم؛ فطلابها وطالباتها يزدادون سنة بعد سنة، ويبذلون المال لها، وطلاب علوم الدين في نقصان، على كون تعليمها بالمجان، وقلما يُقبل عليه إلا الفقراء، الذين يعتصمون به من الخدمة العسكرية أو بدلها المالي، وقد أصبحت مناصب الحكومة وأعمالها، وهي تكاد تكون محصورة في خريجي مدارس الدنيا، وهم يكيدون لما بقي لرجال الدين منها، وهو القضاء الشرعي المحدود الذي هو موضوع بحثنا في هذه المقالات: إما بإبطاله، وجعْل جميع الأحكام قانونية وضعية حتى الأحكام الشخصية، وإما بالتوسل إلى إلغاء القضاء الشرعي بجعْل الأحكام الشخصية الشرعية قانونًا، وإبطال كونها دينًا. يعمل هؤلاء المتفرنجون كثيرًا، ورجال الدين لا يعلمون شيئًا، للمتفرنجين أحزاب وجمعيات كثيرة سياسية واجتماعية واشتراكية. وليس لرجال الدين حزب ولا جمعية ذات نظام، المتفرنجون هم الأقلون، ولكنهم يزيدون ولا ينقصون، والدينيون لا يزالون هم الأكثرين، ولكن كثرتهم إلى قلة، ورابطتهم إلى انحلال! كان طلاب المدارس المدنية هم الجند العامل في انقلاب سياسي، فلما شاركهم طلاب الأزهر بمصر في ذلك اتحدت الحكومة مع السلطة الأجنبية على كبح جماحهم، والحجر عليهم وحدهم، ووافقتها مشيخة الأزهر على ذلك لضعف إرادة رؤسائها، وحرصهم على ما بيد الحكومة من رزقهم، وهذا الحجر مبني على القاعدة الإفرنجية، المؤسسة لإزالة السلطة والسيادة الإسلامية، وهي (فصل السياسة من الدين) ، والذي يقتضي أن لا يشترك علماء الدين ولا طلابه في شيء من أعمال السياسة ولا شؤون الحكومة. ما كل متعلم في المدارس المدنية متفرنجًا، وما كل متفرنج ملحدًا، وما كل ملحد خادمًا للإفرنج، أو مشايعًا لهم، بل جُل ما في البلاد الإسلامية من سعي لاستقلالها، ومقاومة سلطة الأجانب فيها، فهؤلاء المتفرنجون هم جل القائمين به، وقد بينا في المقالة الثانية من هذ المقالات أن لهؤلاء المتفرنجين مقاصد، ونيات مختلفة في محاربتهم لهذه الشريعة التي يجهلونها، ويجهلون مكانها من تكوين أمتهم وحياتها، وأن منهم مَن يعتقد أنه يخدم أمته ووطنه باستبدال القضاء عليها بالقضاء بها، ونقول الآن: إن إثم هؤلاء وغيرهم ممن يظن بالشريعة ظنهم - وإن لم يكن له مثل نيتهم - على عاتق الطائفة التي ليس لها رزق ولا مال، ولا احترام ولا جاه، إلا من وقف حياتهم على الاشتغال بعلوم هذه الشريعة ووسائلها تعليمًا وتصنيفًا، وإفتاءً وقضاءً، أعني طائفة علماء الدين، الذين صاروا حجة على الدين، وفتنة للمؤمنين والكافرين {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الممتحنة: 5) . من الواجب على هذه الطائفة - بما أخذ الله عليها من الميثاق - أن تبين للناس ما نزل إليهم تبيينًا يثبت لهم بالآيات البينات أن فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وأنه كله حق وخير وعدل وصلاح، وأنه خالٍ من كل باطل وشر وظلم وفساد، وأن أحكامه الدنيوية موافِقة لمصالح البشر في كل زمان ومكان، وأن سلطته ليست شخصية، ولا مما يسمونه (الأتوقراطية) ، بل هي حكومة شورى شعبية، وأكمل مثال لما يسمونه (الديمقراطية) ، وأن ولي الأمر فيها مسئول غير مقدس، ومقيد بمشاورة أهل الحل والعقد، الممثلين لسلطة الشعب، وأن تسهل سبيل فهمه وتعلُّمه لكل طبقات الأمة، بما يليق بها من المصنفات بالطرق المعروفة في فن التعليم والتربية، بأن يوضع بعضها للأطفال، وبعضها للعوام لمَن فوقهم من طلاب العلم، وبعضها للقضاة والمتقاضين. وكان مما ينبغي للأخصائيين منهم بهذا النوع الأخير - أن يطَّلعوا على كتب القوانين الوضعية بأنواعها، ويعرفوا ما فيها من حَسن وقبيح، وعدل وظلم؛ ليزدادوا بصيرة في محاسن شريعتهم وطرق خدمتها، وينظروا ما في كتبها الفقهية المتداولة من تقصير أو تعقيد أو نقص سببه ما حدث للناس من المعاملات التي لم تكن في عهد مصنفيها، فيتداركوا ذلك كله، ويثبتوا لكل ناظر - فيما يضعونه من الكتب الحديثة - أن هذا الشريعة كاملة لا يمكن لأهلها الاستغناء بها عن سواها، مع العمل بما ورد من أن (الحكمة ضالة المؤمن؛ فحيث وجدها فهو أحق بها) . كما ينبغي للأخصائيين في علم العقائد أن يكون لهم إلمام كافٍ بالعلوم العصرية والفلسفة الحديثة، وأصول الأديان المشهورة، وتواريخ الملل الكبيرة؛ ليعرفوا نسبتها إلى الإسلام، وما بينها وبينه من المشاركات والمباينات، وما في ذلك من الشبهات، وللأخصائيين في علم الإرشاد العام والتربية أن يكون لهم إلمام بسيرة الجمعيات الدينية عند الإفرنج، ومقلديهم من نصارى الشرق في مدارسهم ومصنفاتهم، وسيرة قسوسهم ورهبانهم وراهباتهم؛ ليعلموا كيف يحوطون كل طبقة من طبقات أهل ملتهم بما يليق بها من تلقين الدين، والترغيب فيه، والدفاع عنه، وغير ذلك. وكان مما يجب عليهم أن يكونوا خير قدوة للأمة، وحجة للملة، بعلومهم وهَدْيهم، وإفتائهم وقضائهم، وأخلاقهم وآدابهم، وإحياء السنن، ومحاربة البدع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتتبُّع شبهات الملاحدة والمبتدعة والرد عليها، ووقاية العامة من شرها ... إلخ. كل ذلك لم يكن، بل جُل حظهم من العلم أن طالب العلم - في مثل الأزهر وملحقاته بمصر، والفاتح والسليمانية بالآستانة، وجامع الزيتونة بتونس، والنجف بالعراق، وديوبند بالهند - يناطح كتبًا معينة بضع عشرة سنة أو أكثر: مناقشة في مفرداتها وجملها، وأساليبها الركيكة في الأكثر؛ ليؤهل نفسه بذلك لامتحانٍ يكون بفوزه فيه إمامًا أو خطيبًا في مسجد، أو مدرسًا في هذه المعاهد الدينية، أو قاضيًا في المحاكم الشرعية، فيكون له بذلك رزق مضمون، ومقام معلوم، وهو لا يستفيد من هذه الكتب - التي يقتلها مناقشةً وجدلاً في ألفاظها - غيرة على الدين، ولا اهتمامًا بأمر المسلمين، ولا استعدادًا لنشْره في العوام، ولا لرفْع شأنه في الخواص؛ وذلك بأنهم - كما قال الأستاذ الإمام -: (يتعلمون كتبًا لا علمًا) ! . نعم، إن بين هذه المدارس وأهلها تفاوتًا في العلم والعمل، والاستفادة من علم الشرع؛

تتمة تلخيص مكتوبات نائب ملك الإنكليز لأمير مكة (تابع ص624)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة تلخيص مكتوبات نائب ملك الإنكليز لأمير مكة (تابع ص624) (10) استصوابها - أي الحكومة البريطانية - انتحال الشريف حسين للخلافة الإسلامية، وإغراؤه بإعلانها، والتصريح بأن ملك الإنكليز نفسه (رحَّب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع الدوحة النبوية المباركة) (؟) (11) الوعد المتعلق بمسألة الصلح - ونصه كما في ص 621 -: (فإن حكومة بريطانيا العظمى قد فوضت لي أن أبلغ دولتكم أن تكونوا على ثقة من أن بريطانيا العظمى لا تنوي إبرام أي صلح كان، إلا إذا كان من شروطه الأساسية حرية الشعوب العربية، وخلاصها من سلطة الألمان والترك) . هذه جملة العهود والوعود أو المقاولات الابتدائية بين الإنكليز وأمير مكة، وهي قسمان: (أحدهما) ما طلبه هو من الحكومة الإنكليزية، وسماه (مقررات النهضة) ، وهذا كله شر، واستعباد للعرب، وقضاء على حريتهم، ولا يلزم أحدًا من العرب به شيء؛ لأنه لم يكن موكلاً من أحد منهم بأن يساوم الإنكليز، ويعطيهم حق الحماية للبلاد العربية، وتأسيس حكومات فيها يتولون إدارتها وحفظها. (ثانيهما) وعود الإنكليز المطلقة للعرب بما كتبوه له، وقالوا مثله لنا ولغيرنا، ونشروه على العرب في جريدة عربية سموها (الكوكب) ، كانوا ينشرونها بطرق النشر العسكرية في جميع الأقطار العربية، وهو أن العرب سيكونون بانتصار الدولة البريطانية أحرارًا مستقلين في بلادهم، فهذه الوعود حجج يجب أن نعيّر بها الإنكليز، ونشهرهم بالكذب والخداع والغش، إلى أن يتركوا لنا استقلال بلادنا كلها. نعم، إنهم يسمون الحجاز والعراق وشرق الأردن بلادًا مستقلة، ويصدقهم في ذلك مَن وضعوهم ملوكًا وأمراء فيها؛ لأنهم هم أعوانهم على استعباد الأمة العربية، كأن الاستقلال عبارة عن تولية هؤلاء الثلاثة هذه المناصب، فمصر إذًا مستقلة من قبل تصريح 28 نوفمبر، الذي تقرر به الاستقلال الاسمي لها، حتى في مجلس العموم الإنكليزي، وزنجبار مستقلة؛ لأن فيها سلطانًا وطنيًّا، ومسقط بالأوْلى، بل في الهند بلاد مستقلة كثيرة كحيدر آباد الدكن، وبهوبال، وكشمير و ... و ... ! فإلى متى يسخر هؤلاء الساسة الأشرار بالأمم والشعوب؟ ! وإلى متى يجدون متى يجدون من الخونة في هذه الأمم مَن يساعدهم على ذلك؟ ! ((يتبع بمقال تالٍ))

الرحلة الأوربية ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة الأوربية (6) السعي للتوفيق بين الشرق والغرب: كان مما أقصد إليه في رحلتي هذه أن ألتقيَ ببعض أحرار أوربة المستقلِّي الرأي؛ فأستفيد من آرائهم، وأفيدهم ما أحب أن يعرفوه عن بلاد الشرق عامة، وبلادنا العربية خاصة، وأن أقترح عليهم السعي لإصلاح ذات بين الشرق والغرب بالعدل والإنصاف ومبادلة المنافع، وعدول الدول المستعمِرة عن مطامعها، وعن إصرارها على استعباد الشعوب الشرقية، واغتصاب خيرات بلادها بالقوة العسكرية القاهرة، وأبيِّن لهم ما تجدَّد بهذه الحرب من يقظة هذه الشعوب وتعارُفها، وتوجهها إلى التعاون على دفْع عدوان العادين عليها، وما يؤول إليه أمر هذه الأطماع الاستعمارية من الفتن والحروب، بما تغرسه في قلوب المظلومين المقهورين من العداء، وما تورثه من الأحقاد، وأن خير الوسائل لتلافي هذه الشرور أن يُعنَى أحرار أوربة بإقناع رجال الدول المستعمرة، أو إكراههم بقوة شعوبهم الأدبية ومجالسهم النيابية، على قاعدة حرية الشعوب، وسيادتها القومية، ومساعدتها على ما تطلبه باختيارها من وسائل تعمير بلادها بالفنون العملية والآلات الصناعية، في مقابلة الانتفاع منها بما في بلادها من فضل الأغذية ومواد الصناعة الأوَّلية. *** آراء أحرار أوربة في تنازع الشرق والغرب: لقيت أفرادًا من هؤلاء الأحرار في (جنيف) وغيرها، وتحدثت معهم في هذا المقصد، فألفيتهم يعتقدون أن هذه الحرب لم تزدْ رجال السياسة في الدول الكبرى إلا رسوخًا في الطمع المردي والدسائس، وتماديًا في إثارة الفتن والشرور، وضراوة بسفك الدماء، ويعرفون كُنه فساد ساسة هذه الدول، ويتشاءمون بسوء عاقبتها، ولا يصدقون ما يدَّعيه هؤلاء الأفَّاكون من الطعن في الشرقيين، ولا سيما المسلمين والرغبة في إصلاح حالهم، ووقاية نصارى الشرق من تعصُّبهم، بل وقاية أوربة نفسها من سوء تأثير حريتهم واستقلالهم. ذكرت في الفصل - الذي قبل هذا - أن آخر مَن لقينا من رجال جمعية الأمم في جنيف رئيسها العام في هذا العام (1921) ، أو في هذا الاجتماع، وذكرت بعض حديثنا معه، وأذكر هنا أن سكرتيره الخاص (موسيو شولر) - كان قد تعشَّى، وسهر معنا في الليلة التي قابلنا الرئيس في نهارها (ليلة غرة صفر سنة 1340) ، وقد دار السمر بيننا في الموضوع - الذي بيَّنه آنفًا - فأعجبنا إنصاف هذا الشاب، واطِّلاعه على كثير من حقائق السياسة الأوربية المتعلقة بالشرق، ولا سيما الترك، ونذكر مجملاً من كلامه. قال: كنت أصدق ما كانت تذيعه السياسة في أوربة عن توحُّش الترك وظلمهم للمسيحيين عامة، والأرمن خاصة، إلى أن أتيح لي أن أذهب إلى الآستانة وأختبر الحال بنفسي، وحينئذٍ علمت أن أوربة - على عدم تمسُّكها بالدين - هي المتعصبة على المسلمين، والكاذبة بما بثَّته من الدعوة بأنهم أعداء المسيحيين، فقد مكثت في الآستانة زمنًا طويلاً، عاشرت فيه المسلمين، ورأيت من حُسن أخلاقهم وآدابهم - ما وقفت به على درجة التحامل عليهم، وأعترف بأن الحلفاء جعلوا مسألة الانتداب على البلاد العربية ذريعة إلى ما ذكرتموه من طمعهم في استعمارها، واستعباد أهلها، وذكر لنا واقعة مما شاهده بنفسه في الآستانة من معاملة مسلمي الترك للأرمن. قال: كان في الآستانة لجنة أميريكية تسعى لتحرير الأرمن من رق الترك بزعمها، وقد بلغها أن أحد الباشوات قد اغتصب فتاة أرمنية، وأكرهها على الإسلام، فسألوه عنها، فاعترف بأن عنده بنتًا فقيرة يتيمة، آواها، ورباها، وأحسن معاملتها، وهي تقيم في داره برضاها واختيارها، فطلبوا منه - بكل غلظة وفظاظة - أن يأتيهم بها، ففعل، فسألوها عن قصتها، فكان كلامها مصدقًا لما قاله الباشا على أكمل وجه وعلموا منها أنها في سعادة وغبطة في عيشتها الراضية عنده، وأنها غير مُكرَهة على شيءٍ، ولا كارهة لشيء، ولا ممنوعة من الذهاب إلى حيث تشاء، فسألوها عن إكراهه إياها على الإسلام، فقالت: إنه لم يدْعُها أحد إلى الإسلام، لا بالإكراه ولا بالاختيار، ولكنها ألِفتْ الإسلام من تلقاء نفسها، وصارت تذهب مع سيدات الدار (الهوانم) أحيانًا إلى المسجد إذا ذهبن إليه، فلا يمنعْنها إذا ذهبت، ولا يسألنها الذهاب إذا قعدت! ، فطلبوا منها أن تترك بيت الباشا، وتتبعهم؛ لأنه يجب أن تعود إلى دينها، وتتزوج برجل من أبناء جنسها، فامتنعت، فأكرهوها، وأخذوها، فوضعوها في مشغل كانوا يضعون فيه أمثالها لأجل تحصيل رزقهن بعملهن، فكانت كارهة لنقلها عن نعيم مقيم إلى بؤس أليم. وبعد أيام قليلة من تركها للدار جاء المكان الذي كانت فيه سيدة أو سيدتان من حرم الباشا - ومعهما عبد من الأغوات - يحمل بُقجًا من الحرير المزركش، فيها حُلَل من الثياب النفيسة، وعُلب فيها حُلي من الذهب والجواهر، وقدمها للبنت الأرمنية، وقالت سيدته للبنت - ولمَن حولها - إن هذه الحلي والحلل هي التي كانت هي وبناتها يتبرعن بها للفتاة في الأعياد والمواسم، ويحفظْنها لها؛ لأجل تجهيزها بها عند زواجها، فهي قد صارت ملكها، ولا تطيب أنفسهن لحرمانها منها!! فهذا مثال الاسترقاق والظلم الذي كان يسومه باشاوات الترك وحَرَمهم للأرمنيات، وأما الأرمن - الذي خدعهم الإنكليز والروس بالخروج على دولتهم بالسلاح والكيد لها، والتحيز إلى أعدائها وقت الحرب - فلا يُعقل أن يغفر لهم الترك ذلك. وكان رئيس مؤتمرنا قد دعا مدير جريدة (تريبون دي جنيف) ، وسكرتيريه إلى العشاء مع أعضاء المؤتمر في الفندق، فأجابوا الدعوة، وقد رغب إليَّ سكرتير قلم التحرير (موسيو ماتيل) أن أجلس بجنبه على المائدة؛ لأجل الحديث معه، فأجبت مرتاحًا، ودار بيننا حديث طويل أتممناه في سمرنا بعد العشاء. بدأت الحديث بأن بيَّنت له خلاصة علاقة الشرق بالغرب، وما يود اقتباسه من علومه وفنونه، وما يكره من أفكاره وشؤونه، وما ينكر من مدنيته المادية، ومطامعه الاستعمارية، التي كان التنازع عليها موقدًا لنار الحرب الأخيرة، وينتظر أن يوقد نار حرب أخرى شر منها، إلا أن يتلافى عقلاء أوربة الأحرار هذا الخطر بمقاومة هذه السياسة، وإرجاع الدول المستعمرة عن التمادي في هذه المطامع، وإقناعها بالاستفادة من بلادنا، وإفادتها، مع ترْك أمر الحكم فيها لأهلها. قال: إن مدنيتكم مدنية آداب وفضائل، فحافظوا عليها، فهي خير لكم من مدنية الغرب المادية الفاسدة التي هي - كما ترى - مظاهر رياء وزينة وشهوات. قلت: إننا راضون بآدابنا وفضائلنا، ولا نريد أن نستبدل بها غيرها، ولا سيما هذه الآداب والتقاليد والعادات المبنية على الأفكار المادية، والشهوات النفسية، التي تبيح السُّكْر والزنا والقِمَار، وسلب الأقوياء لحقوق الضعفاء، وإنما نريد أن نقتبس بعض الفنون والصناعات المساعدة على العمران. قال: إنكم لا تستطيعون أن تكونوا أممًا صناعية مثلنا؛ فإن الشرق غير مستعد لذلك كالغرب، ثم إن هذه الصناعات من مفسدات الأخلاق أيضًا، فإذا أنشئ في الشرق معامل كمعامل أوربة فإنه يدخل فيها النظام المالي الأوربي، والأحوال الاجتماعية الغربية المبنية على الطمع والنهب والمزاحمة وسائر المفاسد، أي كمسألة العمال، واختلاط النساء والرجال، ومفاسدهما كثيرة معلومة. قلت - وقد ظننت أنه مخادع؛ لأنه سياسي -: إن الشرق قد سبق الغرب إلى الصناعات العظيمة الباقية آثارها مِن ألوف السنين في مصر وغيرها، بل جميع أصناف البشر مستعدون لكل علم وصناعة، والشعوب التي سبقت لها مدنية صناعية يكون استعدادها أقوى بسبب تأثير الوراثة، وهذه أمة اليابان شرقية، وهي من الجنس الأصفر الذي كان يظن أنه أقل استعدادًا من الأبيض الذي نحن منه مثلكم، وقد ساوت أوربة في كل علم وصناعة. قال: إنني أعني بأنكم لا تستطيعون أن تكونوا أممًا صناعية لعدم الداعية لا لضعف في الاستعداد الفطري، والداعية هي الحاجة التي تولِّدها كثرة السكان، وعدم كفاية الأرض لمعيشتهم، والشرقيون الأقدمون الذين ترقوا في الصناعة كالمصريين والأشوريين كانوا ممن ضاقت بهم بلادهم. قلت - وأنا أريد اختصار البحث الاجتماعي، والانتقال إلى البحث السياسي-: إننا لا نحاول الآن أن نشيد معامل تُغنينا عن كل صناعات أوربة، وأميريكة؛ فإن لهذه موانع اقتصادية عندنا تحُول دون ربحنا منها، وفوزنا على مصنوعات الغرب التي تزاحمنا فيها، وإنما نحن محتاجون أشد الاحتياج إلى بعض الفنون والصناعات الضرورية لترقية زراعتنا واستغلال أرضنا فبها يتضاعف ريعها، ونحن أعرف بما نحتاجه، وما نحن مضطرون إليه منها، وإنما نريد أن نستفيد من أمثالكم الأحرار ما يجب السعي إليه منا ومنكم في علاقة بلادنا ببلادكم؛ فإن حكوماتكم الاستعمارية لا تتركنا أحرارًا في شؤون حياتنا، حتى نختار لأنفسنا ما نحافظ به على مدنيتنا، ونقتبس ما نشاء من شعوبها، وندَع ما نشاء، وقد كنا جاهلين بكُنه مطامعها وخفايا سياستها فعرفنا، ونائمين فاستيقظنا. إنني مغتبط بك؛ لأنني رأيتك على رأينا في المدنية المادية ومفاسدها، والظاهر أن أصحاب هذا الرأي في أوربة قليلون، وهو رأي شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر، فقد حدثنا عنه أستاذنا الإمام الحكيم الشيخ محمد عبده المصري الشهير، أنه لما زاره في آخر سياحة له في أوربة (وكان ذلك في مصطافه بمدينة بريتن في 10 أغسطس سنة 1903) ، سأل الفيلسوف الإمام: هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة؟ قال: نعم زرتها منذ 19 سنة عقب الاحتلال البريطاني لأمور تتعلق بالاحتلال ومالية مصر ومسألة السودان، قال: هل رأيت في هذه المرة تغيُّرًا في الأفكار؟ وما ترى من الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة؟ قال: لم ألاقِ كثيرًا من الناس هذه المرة؛ لأنني حديث عهد، ومثل هذا التغير يؤخذ العلم به عنكم، قال الفيلسوف: (الحق عند أوربة للقوة) . الإمام: هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملتهم على تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعه. الفيلسوف: مُحي الحق من عقول أهل أوربة، واستحوذت عليها الأفكار المادية، فذهبت بالفضيلة، وهذه الأفكار المادية ظهرت في اللاتين أولاً، فأفسدت الأخلاق، وأضعفت الفضيلة، ثم سَرَتْ عَدْواها منهم إلى الإنكليز، فهم الآن يرجعون القهقرى بذلك، وسترى هذه الأمم يختبط بعضها ببعض، وتنتهي إلى حرب طامة؛ ليتبين أيها الأقوى، فيكون سلطان العالم. الإمام: إني آمُل أن يحُول دون ذلك همم الفلاسفة واجتهادهم في تقرير مبادئ الحق والعدل ونصر الفضيلة. الفيلسوف: وأما أنا فليس عندي مثل هذا الأمل فإن هذا التيار المادي لا بد أن يبلغ مده غاية حده. (موسيو راسيل) : إنني أنا أعتقد مثل هذا الاعتقاد، ولست كالفيلسوف سبنسر، وكثير من العقلاء يعتقدونه، وهو لا يحتاج إلى كل علم سبنسر وفلسفته؛ فإن الترف واتباع الشهوات - الذي هو أثر طبيعي للثروة وسعة الحضارة - هو أهلك الأمم السابقة، وأزال حضارتها في الشرق والغرب كأممكم العربية والمصرية، وأممنا اليونانية والرومانية، وهو الذي لا بد أن يقضي على مدنيتنا الحاضرة؛ فإن سُنَّة الاجتماع في كل الأمم واحدة لا تتغير. قلت: نحن نعتقد هذا مَن يعرف منا علم الاجتماع، ومَن لا يعرفه؛ لأنه منصوص في القرآن في آيات، منها قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَف

حكم استعمال الإسبرتو ـ الكحول

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكم استعمال الإسبرتو - الكحول أفتى بعض فقهاء الهند بتحريم استعمال الكحول في الأصباغ، والأدهان، والعطور، ولا سيما تزيين المساجد بالأصباغ التي يدخل فيها، وعللوا ذلك بكَوْنه خمرًا نجسة، وقد أرسل إلينا بعض فضلاء المسلمين هنالك نص الفتوى في ذلك، وسألونا هل هي صواب أو خطأ، وأن نبين ذلك بما عندنا من الدلائل في أقرب وقتٍ؛ لأن الناس مضطربون فيه، وقد اكتفينا بتلخيص سؤالهم، ونذكر بعده ما أُرسل من ترجمة الفتوى بالعربية على ضعفها وغلطها، ونقّفي عليها بالجواب، ومن الله تعالى نستمد الصواب، ونسأله أن يؤتينا الحكمة وفصل الخطاب. *** نص الفتوى الهندية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله سبحانه وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد: فهذه صورة ما أجبنا به عن الأسئلة الواردة علينا من أمر المسجد والشراب - بتوفيقه تعالى، وهو يهدي للحق والصواب. (سؤال) : هل يجوز استعمال الإسبريت (الإسبيرتو يعني روح الخمر) على أبواب المسجد والحيطان، مخلوطًا ببعض الألوان والأدهان؟ (الجواب) : لا يجوز أبدًا؛ لأن الخمر حرام ونجاسة مغلظة وملعون (؟) في الشريعة الإسلامية. (س) : بعض الناس يقول إنه كما يجوز استعمال الخمر في معالجة المرضى - يجوز في هذا أيضًا؟ (ج) : لا يجوز أبدًا؛ لأنه حرام ونجس، إلا إذا بلغ المريض حد اليأس، ولم يوجد له دواء غير الخمر، ورأى طبيب حاذق مسلم أنها تنفعه، فحينئذٍ يسوغ بعض العلماء استعماله بقدر الضرورة، فإن سلم فشتَّان بين المريض المعذور والمسجد المعمور. (س) : هل الخمر نجس، وحرام استعمالها بعد خلطها مع بعض الأشياء وذهاب رائحتها أيضًا؟ (ج) : نعم، ولو خُلطت ببعض العطريات، فإنها نجس وحرام. (س) : يظنون أن الإسبيرتو ليس بخمر؟ ! (ج) : هذا ظن فاسد منهم، والحق أنه خمر حاد مسكر جدًّا على التحقيق، وأنه أخبث من البول، وأما تبديل اسمها، وتغيير رائحتها، وتقليل جرمها فلا يُجدي نفعًا، وقد ورد الخبر عن النبي الصادق الأبرّ ذمّ مستحلِّي الخمر بتبديل اسمها. (س) : ماذا عليهم إذا استعملوا الإسبيرتو على جدران المسجد وأخشابه دون موضع الصلاة؟ (ج) : لا يجوز لهم هذا حتى على خارج جدار المسجد حتى تقذيره بطاهر أيضًا؛ لأن الشريعة الغراء أكدت في تطهير المساجد وتعظيمها تأكيدًا بليغًا. (س) : إن الإسبيرتو ضروري لهذه الألوان والأدهان؟ (ج) : لا هو ضروري للألوان، ولا هي ضرورية للمساجد، ودعوى عموم البلوى فيه ضلال ومكابرة وجدال من كل معاند. (س) : إذًا تُستحقَر مساجدنا في مقابلة معابد الكفار؟ (ج) : إن العزة الحقيقية أن نكون مؤمنين صادقين، ونصلي الخمس مجتمعين خاشعين، لا في زخرفة المساجد وتشييدها للمُباهاة ومقابلة معابد الأديان، بل كرهها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المروية عنه، فاعلم. (س) : لا بد من تحرير هذه الأسئلة والأجوبة؛ ليستهدي بها المؤمنون، وليبلغها الغائبين الحاضرون. (ج) : يا أسفا على جهلنا وضلالنا هذا، حتى إنا احتجنا إلى بيان حرمة الخمر ونجاستها، وتحرير أدلتها، وهي بنصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة رجس من عمل الشيطان، مشهور متواتر من عهد الصحابة عليهم الرضوان، فإذا يكون الحال على هذا المنوال من عدم التمييز بين الحرام والحلال، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فوالله ما ندري كم من إخواننا الجاهلين وقعوا في مهاوي الضلال والسعير، وارتكاب المعاصي والبدع وأنواع الفواحش والمنكرات، فواويلاه، ثم واويلاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله. هذا، وهذه خلاصة النصوص من الكتاب والسنة الصريحة، وأقوال علماء المذاهب الأربعة الصحيحة، فتمسكوا بها، وتذكَّروا، وبلِّغوها، واشكروا، وليعلم أن تعلُّم الحلال والحرام، وسائر فرائض الإسلام، والإذعان بها، والتسليم لها - فرض على المكلفين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - أي عن الشرك والبدعة والكفر والمعصية - من خصائص المؤمنين؛ ولهذا أرسل الله تعالى رسوله الأعظم، سيدنا محمدًا الأكرم - صلى الله عليه وسلم - بالكتاب والحكمة، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف الغمة، وجلا الظُّلمة، وجاهد في الله، وعبَده حتى أتاه اليقين، وقد أمر الأمة بحفظ تلك الأمانة - أي الكتاب والسنة - وأدائها إلى مَن يستحقها إلى يوم الدين، وليعلم أن إنكار فرض من فرائض الإسلام، أو حكم ضروري من الأحكام - كفر وعدوان، وأن الإصرار على خلافها معصية كبيرة مستلزمة للكفر واللعنة والخسران. أما الآيات: (1) {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} (البقرة: 125) الآية. (2) {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) الآية. (3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90) . وأما الأحاديث: (1) (أمر ببناء المساجد، وأن تنظَّف وتطيَّب) رواه الترمذي وأبو داود. (2) (مَن أكل هذه الشجرة المنتنة فلا يقربنَّ مسجدنا) رواه الشيخان. (3) (لعن الله الخمر وشاربها وساقيَها وصانعها وبائعها وشاربها) الحديث رواه أبو داود. (4) سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر يُجعل في الدواء، فقال: (إنها داء، ليست بدواء) . (5) (إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم) رواه أبو داود والترمذي. (6) (لا تداووا بالمحرَّم) أبو داود. (فائدة) : إذا تحقق أنه - صلى الله عليه وسلم - منعنا عن التداوي بالمحرم، وأخبر أن الله لم يجعل شفاءنا فيه، وأن الخمر داء، ليست بدواء، وهو ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، وقال تعالى - فيه صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) فهل يجوز لمسلم بعد ذلك أن يعتقد شفاءً في الخمر، وهو من المؤمنين؟ ! ، لا والله، لا يجوز له ذلك، كيف وفيه تكذيب للنبي الصادق الأمين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين. وأما الفقه (فقد) أجمعت الأئمة والأمة على أن الخمر نجاسة مغلظة، وحرام قطعي، قليلها وكثيرها، ولا يجوز استعمالها، والانتفاع بها كيف ما كان، وهذا هو المذهب المفتَى به للعلماء الحنفية عليهم الرحمة والرضوان، وفي هذا القدر كفاية، والله يعصمنا من الغباوة والغواية، وله الحمد في البداية والنهاية. في 16 ذي القعدة سنة 1340 ... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره عبده المذنب ... ... ... ... ... ... ... ... أبو عتيق محمد شفيق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نزيل بمبي غُفر له تحقيق القول قال الدكتور الحكيم غلام جيلاني شمس الأطباء في كتابه المعتبر المشهور المسمى بمخزن الحكمة - وقد وثقه، وصدَّقه جمهور الدكاتير، والأطباء المشاهير في الهند -: (الخمر - باعتبار استخراجها - على ثلاثة أنواع: أولها (بير) ، وركنه الأكبر الشعير وغيره، والثاني (واين) وركنه الأعلى العنب وغيره، والثالث (سبريت) أي إسبيرتو، وهو يتخذ من الشرابين المذكورين بعمل التصعيد والتقطير، وهو أكثر حدة وقوة لزيادة (الكُحُل) ، وهو الجزء المسكر فيه) اهـ من صحيفة 146. وقال: مقدر الكحل - وهو الجزء الفعال في الخمور - بالنسبة المئوية هكذا: 2-4 في المائة في البيرا، و11 في المائة في الشمبانية، و23 في المائة في بوت، و53 في المائة في البراندي، و54 في المائة في الوسكي والروم، و86 في المائة في السبيرتو اهـ من صحيفة 149، وذلك في الطبعة الثانية من الكتاب المذكور، فالذين يقولون: عن الإسبرتو ليس بخمر مشروبة بل دواء أكَّال أو سُمٍّ قتَّال - ضالون مضلون؛ لأنه معلوم أن الإسبرتو يُخلط لإكثار الإسكار ببعض الخمور الخفيفة أو الأشربة العادية، ويُجعل في كثير من الأدوية الأورباوية؛ فتصير الأدوية رجسًا من عمل الشيطان، نعم، شُرْبه صرفًا يضر بالإنسان لحدَّته، وشدة إسكاره، ولو فرضنا أنه لا يُشرب، أو أنه دواء أكَّال - فهو ما لم تتغيَّر حقيقته بصَيْرورته خَلاً رجس على كل حال. الجواب صحيح ... أبو عتيق محمد شفيق - المدعو بشفيق الرحمن ... ... ... ... ... ... ... كتبه أحقر العباد ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد المنعم ... ... ... ... ... ... ... ... بأعكظه ... ... ... ... ... ... خطيب مسجد الجامع ببمبي لقد أجاد مَن أفاد خادم العلماء محمد عبد الغفور المدرس الأول في المدرسة الهاشمية ببمبي. *** بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لمَن وفق أُولِي الدراية للحكم والعمل بمقتضى الرواية، وصلاةً وسلامًا يتوَّجان بتاج القبول، على سيدنا محمد الحبيب المقبول، وبعد: فقد سخَّر الله برحمته حضرة النبيل الشيخ شفيق الرحمن - عامله الله معاملة ذوي الإحسان - لتحقيق حقيقة (الإسبرتو) لما سأله بعض الإخوان، عن استعمال ذلك في الحيطان، وتعيَّن أنه روح الخمر بعد الاطِّلاع على كتاب (مخزن الحكمة) المترجم من الإنكليزي إلى (الأردو) لأحد الدكاتر المسلمين المحققين، وحيث إن الفتوى على قول الإمام محمد - رحمه الله تعالى - في النجاسة وحرمة التناول، واتفاق الأئمة الثلاثة - لزم تجنُّبه وبُعْده، ولا سيما من المساجد التي أذن الله أن تُرفع، ويُذكَر فيها اسمه، فجزاه الله عن مناضلته عن الدين، ورزقنا والمسلمين حُسن اليقين، ولقد أصاب فيما أجاب، والعهدة على المترجم، وبالله التوفيق. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره الفقير ... ... ... ... ... ... ... أحمد يوسف الفارسي المدني ... ... ... ... ... ... ... خطيب مسجد إسماعيل حبيب ما كتب المجيب في الجواب فهو الحق وعين الصواب ... ... ... ... ... ... الراقم قاضي غلام أحمد تليائي ... ... ... ... ... المدرس الأول في المدرسة المحمدية بمبي *** الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَن لا نبي بعده: قد تأملت في هذه الفتوى فوجدتها مُحكَمة المباني، مُتقَنة المعاني، قضاياها موافقة لما عليه المُعَوَّل، من نصوص القرآن والحديث التي عليها العمل، كيف لا، ومحرر هذا الشيخ الفاضل المولوي شفيق الرحمن، سلمه الله المنَّان، فوالله دعوت لمحررها بحسن المثوبة، ودوام التوفيق، وما أجاب هذا الفاضل بتعيين المصير إليه، وغيره لا يُعوَّل عليه، والله أعلم. ... ... ... ... ... ... أبو السعود محمد سعد الله المكي ... ... ... ... ... ... الخطيب والإمام في ممسجد زكريا بمبي *** بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مُجيب الدعوات، والصلاة والسلام على سيد السادات، وعلى آله الغُرّ المحجَّلين، وصحبه والتابعين، وبعد: فيقول العبد البائس: إني اطَّلعت على هذه الفتوى - وفي الأصل هذا السؤال- فوجدتها مشحونة بالأدلة الواضحة، والنقول المعتمدة في الدين، وضوحًا لا غبار عليه، فيجب - والحالة هذه - على كل مَن اطَّلع على هذه الأدلة العمل بمقتضاها. وفقني الله - وإياكم - لما فيه صلاح الأولى والأخرى. ... ... ... ... ... ... ... ... البائس سليمان عبد العزيز ميرداد الجواب صحيح والله الموفق، أحقر العباد محمد فضل كريم الدهلوي ... الخطيب الإمام في مسجد رنكاري محله ... ... ... ... ... ... الخطيب الإمام بمسجد المنار في بمبئ الجواب صحيح محمد شرف الدين ... ... ... مهتمم اليتيم خانة الإسلامية بمبئ ... ... ... ... ... ... (مدير دار الأيتام الإسلامية) الجواب صحيح عبد السميع ... ... ... مدرس اليتيم خانة الإسلامية بمبئ *** جواب المنار الحمد لمُلهِم الصواب قد جاء في محكم القرآن أن الخمر رجس من عمل الشيطان، من شأنها أن تُوقِعَ العداوة

المعاهدة العراقية البريطانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المعاهدة العراقية البريطانية كتبنا في آخر الجزء السادس كلمة عن العراق، ومصر، وتشابه السياسة البريطانية فيهما، ذكرنا فيها ما كثر الحديث فيه من وضع الإنكليز مشروع معاهدة تعقدها مع حكومة العراق، لا يُذكر فيها الانتداب الذي صار لفظه ممقوتًا عند العراقيين كلفظ الحماية عند المصريين وغيرهما، ولكنها تضمن لهم كل ما يبغونه في العراق من سلطة ومنفعة، وذكرنا أن العراقيين لا يُخدعون بالألفاظ والمظاهر دون الحقائق، وذكَّرناهم بأن ما يعطونه للإنكليز بالمعاهدة إذا كان مخلاً بالاستقلال المطلق من كل قيد - فتقييده بالانتداب أقل خطرًا من جعْل الإنكليز مطلقي التصرف فيه. وقد أُعلنت بعد ذلك هذه المعاهدة مؤلفة من 18 مادة موقعًا عليها من المندوب البريطاني، ومن رئيس وزارة العراق عن حكومتهما، بل ملكيهما، فإذا هي صك لاستعباد الدولة البريطانية للعراق، فالمادة الأولى منها نص في تعهد ملك الإنكليز لملك العراق - بناءً على طلبه - بما يقتضي لدولته من المشورة والمساعدة بدون أن يمس ذلك بسياستها الوطنية! ، وقد عرفنا معنى المشورة في مصر فإذا هي سلب السلطة كلها من الحكومة الوطنية، وجعْلها كالآلة، وعرفنا معنى المساعدة في السودان، فدفع الإنكليز 800 ألف جنيه مساعدةً على فتحه، يدَّعون بها الآن امتلاك السودان كله إلى الأبد. والمادة الثانية هذا نصها: (يتعهد جلالة ملك العراق بأن لا يعين مدة المعاهدة موظفًا ما في العراق من تابعية غير عراقية في الوظائف التي تقتضي إدارة ملكية بدون موافقة جلالة ملك بريطانيا، وستُعقد اتفاقية منفردة لضبط عدد الموظفين البريطانيين، وشروط استخدامهم على هذا الوجه في الحكومة العراقية) . وهذه المادة أظهر المواد في إثبات سوء نية الإنكليز، وكون الاستقلال لفظيًّا مجردًا من كل معنى، وإلا فلماذا يمنع ملك الإنكليز ملك العراق أن يوظف مَن شاء وشاءت حكومته من سوري أو مصري أو غيرهما من الشعوب العربية في هذه البلاد العربية بدون موافقتهم؟ ! والمادة الثالثة فيما يفترض على حكومة العراق في قانونها الأساسي في اعتبار (حقوق ورغائب ومصالح جميع السكان في العراق، ويكفل لهم حرية الوجدان التامة، وحرية ممارسة جميع أشكال العبادة، وأن لا يكون أدنى تمييز لبعضهم على بعض بسبب الجنس أو الدين أو اللغة ... ) إلخ. والمعنى أن لا يكون للوطنيين أدنى امتياز في شيء ما من أمور الوطن والحكومة على أي أجنبي شرقي أو غربي في حق ولا مصلحة ولا رغبة ... (؟) ، وسيعلم العراقيون ما وراء هذه الدسائس من الصَّغار والهوان لهم في وطنهم إذا خانت الجمعية الوطنية بلدها، فصدقت على هذه المعاهدة! والمادة الرابعة في التزام ملك العراق قبولَ ما يقدمه له ملك الإنكليز من المشورة بواسطة المعتمد السامي في جميع الشؤون المهمة المتعلقة بالتعهدات والمصالح الدولية والمالية للثاني، وأن يستشير المعتمد السامي الاستشارة التامة في كل ما يتعلق بالأمور المالية والسياسية، والمعنى أنه غير مستقل في شيء من ذلك! والمادة الخامسة في حق ملك العراق في التمثيل السياسي في لندن وغيرها مقيدًا (بما يتم عليه الاتفاق بين الفريقين الساميين المتعاقدين) ، بأن يكون العراقيون تحت حماية ملك بريطانية في كل مكان لا ممثل لملكهم فيه؟ ! والمادة السادسة في تعهد ملك بريطانية بإدخال العراق في جمعية الأمم، وهذه المادة هي التي يظن بعض الجاهلين أنها المِنَّة الوحيدة على العراق، وليس كذلك. والمادة الثامنة في الحظر على حكومة العراق أن تبيع أو تهب أو تؤجر شيئًا من أرض العراق إلى دولة أجنبية! ، وهذه المادة أهم المواد عند الإنكليز؛ فإنهم لم يعطوا العراق الاستقلال اللفظي إلا لأجل أن يمنعوا الدول القوية - كالولايات المتحدة - أن تشاركهم في بترول البلاد، أو غيره من مواردها. (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

عطوف آل رضا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عطوف آل رضا أنعم الله تعالى على صاحب هذه المجلة ببنت كاملة الخلق، وُلدت له قبل فجر 29، من هذا الشهر، سمَّاها عطوفًا، فنسأله تعالى أن يجعلها قرة عين.

الشفاعة الشرعية والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ الشفاعة الشرعية والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية تابع لما قبله وسُئل أيضًا - رحمه الله تعالى - هل يجوز للإنسان أن يتشفَّع بالنبي صلى الله عليه وسلم في طلب حاجة أم لا؟ (فأجاب) : الحمد لله، أجمع المسلمون على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع للخلق يوم القيامة بعد أن يسأله الناس ذلك، وبعد أن يأذن الله له في الشفاعة. ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة، واستفاضت به السنن من أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته، ويشفع أيضًا لعموم الخلق. وأما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة فزعموا أن شفاعته إنما هي للمؤمنين خاصة في رفْع الدرجات، ومنهم مَنْ أنكر الشفاعة مطلقًا. وأجمع أهل العلم على أن الصحابة كانوا يستشفعون به في حياته، ويتوسلون بحضرته، كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس: (أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون) . وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ربما ذكرت قول الشاعر، وأنا أنظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم يَستسقي، فما ينزل حتى يجيش كل ميزاب: وأبيضَ يُستسقَى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فالاستسقاء هو من جنس الاستشفاع به، وهو أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله أن يقبل دعاءه وشفاعته فينا، وكذلك معاوية بن أبي سفيان لما أجدب الناس في الشام استسقى بيزيد بن الأسود الجرشي رضي الله تعالى عنه، وقال: اللهم إِنَّا نستشفع، ونتوسَّل إليك بخيارنا، يا يزيد، ارفع يديك، فرفع (يديه) ، ودعا الناس حتى سقوا؛ ولهذا قال العلماء يُستحب أن يُستسقََى بأهل الدين والصلاح، وإذا كانوا بهذه المثابة - وهم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان أحسن، وفي سنن أبي داود وغيره أن رجلاً قال: (إنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، فسبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى رُئِيَ ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك أتدري ما الله؟ ! ، إن الله لا يُستشفع به على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك) ، فأنكر عليه قوله: (إِنَّا نستشفع بالله عليك) ، ولم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله) ؛ لأن الشفيع يسأل المشفوع إليه أن يقضي حاجة الطالب، والله تعالى لا يسأل أحدًا من عباده أن يقضي حوائج خلقه، وإن كان بعض الشعراء ذكر استشفاعه بالله في مثل قوله: شفيعي إليك الله لا رب غيره ... وليس إلى رد الشفيع سبيل فهذا كلام منكر لم يتكلم به عالِم، وكذلك بعض الاتحادية ذكر أنه استشفع بالله إلى رسوله، وكلاهما خطأ وضلال، بل هو سبحانه المسئول المدعو الذي {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الرحمن: 29) ، والرسول صلى الله عليه وسلم يُستشفع به إلى الله، أي يُطلب منه أن يسأل ربه الشفاعة في الخلق أن يقضي الله بينهم، وفي أن يدخلهم الجنة، ويشفع في أهل الكبائر من أمته، ويشفع في بعض مَن يستحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها [1] أن يخرج منها، ولا نزاع بين جماهير الأمة أن يجوز أن يشفع لأهل الطاعة المستحقين للثواب، وعند الخوارج والمعتزلة أنه لا يشفع لأهل الكبائر؛ لأن الكبائر عندهم لا تغفر، ولا يخرجون من النار بعد أن يدخلوها لا بشفاعة ولا بغيرها، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يشفع في أهل الكبائر، ولا يُخلَّد أحد في النار من أهل الإيمان، بل يخرج من النار مَن في قلبه حبة من إيمان أو مثقال ذرة. والاستشفاع به وبغيره هو طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله، والسؤال بذاته بحضوره، فأما في مغيبه أو بعد موته - فالإقسام به على الله والسؤال بذاته لم يُنقل عن أحد من الصحابة والتابعين [2] ، بل عمر بن الخطاب ومعاوية ومَن كان يحضرهما من الصحابة والتابعين لما أجدبوا استسقوا بمَن كان حيًّا كالعباس وكيزيد بن الأسود - رضي الله عنهما - ولم يُنقل عنهم أنهم في هذه الحالة استشفعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم عند قبره ولا غيره، فلم يقسموا بالمخلوق على الله عز وجل، ولا سألوه بمخلوقٍ، نبيٍّ ولا غيره، بل عدلوا إلى خيارهم كالعباس وكيزيد بن الأسود، وكانوا يصلون عليه في دعائهم، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنا نتوسل إليك بعم نبينا، فجعلوا هذا بدلاً عن ذاك لما تعذر عليهم أن يتوسلوا به على الوجه المشروع الذي كانوا يفعلونه. وقد كان من الممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به، ويقولوا [3] في دعائهم في الصحراء: نسألك ونقسم عليك بأنبيائك أو بنبيك أو بجاههم ونحو ذلك , ولا نُقل عنهم [4] أنهم تشفَّعوا عند قبره، ولا في دعائهم في الصحراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تجعلْ قبري وثنًا، اشتد غضبُ اللهِ على قوم اتخذوا قبورَ أنبيائهِم مساجدَ) رواه الإمام مالك في الموطأ وغيره، وفي سنن أبي داود أنه قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا) ، وقال: (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ، قال ذلك في مرض موته يحذر ما فعلوا، وقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد؛ فقولوا عبد الله ورسوله. وقد روى الترمذي حديثًا صحيحًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علَّم رجلاً أن يدعو، فيقول: (اللهم إني أسالك، وأتوسل إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد، يا رسول الله، إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي؛ لتُقضَى لي، اللهم فشفِّعْهُ فِيَّ) ، وروى النسائي نحو هذا الدعاء. وفي الترمذي وابن ماجه عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه: (أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ادعُ الله أن يعافيَني، فقال: (إن شئتَ دعوتُ، وإن شئتَ صبرتَ؛ فهو خير لك) ، قال: فادعه، فأمره أن يتوضأ، فيُحْسن الوضوء، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسالك، وأتوجه بنبيك نبي الرحمة، يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتُقضى، اللهم فشفعه فيَّ) قال الترمذي: حديث حسن صحيح [5] ، ورواه النسائي عن عثمان بن حنيف أن أعمى قال: يا رسول الله، ادعُ الله لي أن يكشف لي عن بصري، قال: فانطلقْ، فتوضأْ، ثم صَلِّ ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه بك إلى ربي أن يكشف عن بصري، اللهم فشفعه فيّ، قال: فدعا، وقد كشف الله عن بصره، فهذا الحديث فيه التوسل إلى الله به في الدعاء. ومن الناس مَن يقول: هذا يقتضي جواز التوسل بذاته مطلقًا حيًّا وميتًا، ومنهم مَن يقول: هذه قضية عين، وليس فيها إلا التوسل بدعائه وشفاعته، لا التوسل بذاته، كما ذكر عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يتوسلون به إذا أجدبوا، ثم إنهم - بعد موته - إنما توسلوا بغيره من الأحياء بدلاً عنه، فلو كان التوسل به (حيًّا وميتًا) مشروعًا لم يميلوا عنه، وهو أفضل الخلق، وأكرمهم على ربه، إلى غيره ممن ليس مثله، فعدولهم عن هذا إلى هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله ورسوله، وبحقوق الله ورسوله، وما يشرع من الدعاء، وما ينفع، وما لا يشرع ولا ينفع، وما يكون أنفع من غيره، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات، وتيسير العسير، وإنزال الغيث، بكل طريق - دليل على أن المشروع ما سلكوه دون ما تركوه؛ ولهذا ذكر الفقهاء - في كتبهم في الاستسقاء- ما فعلوه دون ما تركوه، وذلك أن التوسل به حيًّا هو الطلب لدعائه وشفاعته، وهو من جنس مسألته أن يدعو، فما زال المسلمون يسألونه أن يدعو لهم في حياته، وأما بعد موته فلم يكن الصحابة يطلبون منه ذلك، لا عند قبره ولا عند غيره، كما يفعله كثير من الناس عند قبور الصالحين [6] ، وإن كان قد روي في ذلك حكايات مكذوبة عن بعض المتأخرين، بل طلب الدعاء مشروع لكل مؤمن من كل مؤمن، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب - لما استأذنه في العمرة -: (لا تنسَنَا - يا أخي - من دعائك) ، حتى إنه أمر عمر أن يطلب من أويس القرني أن يستغفر له، مع أن عمر رضي الله عنه أفضل من أويس بكثير، وقد أمر أمته أن يسألوا الله له الوسيلة، وأن يصلُّوا عليه. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يدعو لأخيه في ظهر الغيب بدعوة إلا وكَّل الله به ملكًا كلما دعا لأخيه بدعوة قال الموكَّل به: آمين، ولك مثل ذلك) [7] ، فالطالب للدعاء من غيره نوعان: أحدهما أن يكون سؤاله على وجه الحاجة إليه، فهذا بمنزلة أن يسال الناس قضاء حوائجه، والثاني أنه يطلب منه الدعاء؛ لينتفع الداعي بدعائه له، وينتفع هو، فينفع الله هذا وهذا بذلك الدعاء، كمَن يطلب من المخلوق ما يقدر المخلوق عليه، والمخلوق قادر على دعاء الله ومسألته، فطلَبُ الدعاء منه جائز، كمن يطلب منه الإعانة بما يقدر (عليه) ، فأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يجوز أن يُطلب إلا من الله، لا من الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من غيرهم، ولا يجوز أن يقول لغير الله: اغفر لي، واسقنا الغيث، ونحو ذلك؛ ولهذا روى الطبراني في معجمه أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال الصدِّيق رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فجاؤوا إليه، فقال: (إنه لا يُستغاث بي، إنما يُستغاث بالله) ، وهذا في الاستعانة مثل ذلك. فأما ما يقدر عليه البشر فليس من هذا الباب؛ ولهذا قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9) ، وفي دعاء موسى عليه الصلاة والسلام: وبك المُستغاث، وقال أبو يزيد البسطامي: (استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون) ، وقد قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} (الإسراء: 56) ، وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... } (آل عمران: 79) [8] الآية، فبيَّن أن مَن اتخذ النبيين أو الملائكة أو غيرهم أربابًا فهو كافر، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ... } (سبأ: 22) إلى قوله: { ... وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23) ، وقال: { ... مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) ، وقال تعالى: {مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَليٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} (السجدة: 4) ، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} (يونس: 18) الآية، وقال تعالى - عن صاحب ياسين -: {وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ} (يس: 22-23) الآية، وقال تعالى: { ... وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 23) ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} (طه: 109) ، وقال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (الأنبياء: 28) . فالشفاعة نو

الخلافة الإسلامية ـ 8

الكاتب: محيي الدين آزاد

_ الخلافة الإسلامية ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية فصل واقعة الإمام الحسين عليه السلام ولمعترضٍ أن يقول: لو كانت طاعة الخليفة واجبة في كل حالة - كما ذكرتَ- لما خرج الإمام الحسين على خلافة يزيد بن معاوية، ولما عدته الأمة محقًّا وشهيدًا مظلومًا! والجواب على هذا أن الإمام لم يحارب أهل الشام في ذلك الحين الذين كان يدَّعي الإمامة لنفسه، ولطلب الخلافة دون يزيد، والذي يعتقد غير هذا فكأنه لم يطَّلع على واقعة كربلاء كما ينبغي، ويجب أن يفرق الناس بين الحالتين: حالة خروجه من المدينة، وحالة قتله بكربلاء؛ فإنهما مختلفتان اختلافًا كليًّا، ولهما حكمان مختلفان في الشريعة. فالحالة - التي كانت عند خروجه من المدينة - أن حكومة يزيد لم تكن تمكَّنت بعد، ولم تتم بيعته بالخلافة في المراكز الإسلامية المهمة والعواصم والقصبات، ولا اجتمع عليه أهل الحل والعقد من المسلمين؛ لأن صوت أهل المدينة كان من الأول أقوى الأصوات في مسألة الخلافة؛ لكونهم كانوا في العاصمة الإسلامية، وفيهم أهل الحل العقد، ثم لما انتقلت العاصمة في زمن علي عليه السلام إلى الكوفة - أصبح للكوفة شأن عظيم في السياسة، فلما خرج الإمام كانت المدينة غير متفقة على يزيد، أما الكوفة فجميع أهلها كانوا ضده، وكانوا يلحون على الإمام أن يقوم للخلافة، ويأخذ بيعتهم عليها، فالحسين عليه السلام لا حرص على الخلافة، ولا خرج على الإمام، بل قام في الحين الذي تُوفي خليفة المسلمين فيه، وخلا محله، ولم يتمكن أحد في مقامه تمام التمكن، مجيبًا لطلب الجم الغفير من المسلمين الذين كانوا في المراكز المهمة - مثل أهل الكوفة والعراق - ولا ريب أنه كان يراعي في قيامه مصلحة كبيرة أخرى أيضًا، وهي صَوْنُ الأمة من مثل يزيد وخلافته. وإن قيل: إن معاوية كان عهد بالولاية إليه، فما كان يجوز للإمام أن يخرج عليه؟ ، فجوابه أن الشريعة لا تعتبر عهد الأب إلى ابنه بالخلافة شيئًا؛ ولذلك لما ألح معاوية على عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بأن يبايع يزيد - قال: (لا أبايع لأميرين) (رواه ابن حبان ونقله في الفتح) . وإن سلمنا جدلاً أن هذا العهد معتبر وصحيح فلا يُعتد به ما لم تتمكن الحكومة؛ إذ الشرط الجوهري للخلافة - كما علمت - انعقاد الحكومة، فمَن انعقدت حكومته فقد صحَّت خلافته، وإلا فلا. فهذه الحالة كانت عند خروجه من المدينة، ولكن تغيَّرت عند وصوله الكوفة؛ لأن أهلها بايعوا يزيد على يد ابن زياد، وقلبوا للإمام ظهر المِجن، كما فعلوا مع أبيه من قبل، فلما رأى - عليه السلام - أن الناس دخلوا في طاعة يزيد، وتمكنت حكومته - أقلع عن المطالبة بالخلافة، وعزم على أن يعود إلى المدينة، إلا أن ابن سعد وجيشه لم يسمح له بذلك، بل حاصره، وحاول أسره وأهلَه وحرمَه، فقال لهم الإمام: (خلُّوا سبيلي؛ لأذهب إلى دمشق، فأخاطب يزيد في شأني) ، ولكن الظالمين أَبَوْا إلا أسره. فلم يكن للإمام حينئذٍ إلا طريقان: إما أن يسلِّم نفسه وأهله إلى هؤلاء الطغاة، وإما أن يستشهد بطلاً مِغْوارًا، والشريعة لم تجبر أحدًا على أن لا يدافع عن نفسه، ويدَعها أكلة للآكلين، فاختار - عليه السلام - الطريق الثاني بالشجاعة الهاشمية، وكمال العزيمة، واستشهد مظلومًا! فتأمل في هذه الحالة؛ فإنها غير ما كانت عند خروجه من المدينة؛ فإنه إذ ذاك كان مطالِبًا بالخلافة، أما في كربلاء فلم يكن مدَّعيًا لها، ولا محاربًا لأجلها، بل كان معصومًا، طاهرًا زكيًّا، وقع في مخالب الظلمة الأشقياء، الذين لا يعرفون الحق ولا الإنسانية، فأبت نفسه الأبيَّة أن تخضع لهم، وتذل أمامهم، فقام وجهًا لوجه يدافع عن شرفه وناموسه؛ فقُتل ظلمًا وعدوانًا وبغير حق، ومن العجيب أن الناس من قرون يُخْطئون في فهم هذه الواقعة، مع أنها واضحة، ومَن أراد التوسع فعليه (بمنهاج السنة، ج 2) لشيخ الإسلام ابن تيمية. *** فصل شرط القرشية قد علمت - مما مَرَّ - أن الخليفة إذا انتُخب فله شروط، وقد ظل العلماء إلى زمن طويل يحسبون منها القرشية أيضًا، أي إن الخليفة مع سائر الشروط يجب أن يكون قرشيًّا، وإلا لا تصح خلافته، هذا في صورة الانتخاب، أما إذا استولى عليها مستولٍ فلا يُنظر فيه إلى شرطٍ ما إلا الإسلام وانعقاد حكومته، ولا خلاف في أنه لم توجد بعد الخلافة الراشدة خلافة جامعة لسائر الشروط؛ فخلافة بني أمية وبني العباس إن كانت قرشية فقد كانت فاقدة لشروط أخرى كثيرة، سيما الشرط الأساسي لها، وهو أن تكون بانتخاب الأمة، لا بالسيف والدم، وهذا الشرط لم يوجد في أي خلافة بعد الخلافة الراشدة [1] ، ثم بعد هذا الشرط يُشترط أن يكون الخليفة عادلاً، غير مستبد، يحكم برأيه بالشورى، ويسير على كتاب الله وسنة رسول الله وسنة الخلفاء الراشدين، ومعلوم أنه لم يكن أحد من الخلفاء هكذا غير عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه [2] ، وقد استولى الأعاجم على الحكومة بعد العباسيين، ثم انتقلت الخلافة من العباسيين - الذين كانوا بمصر - إلى الترك والعثمانيين، فهي فيهم من ذلك الحين إلى الآن بلا نزاع، وقد أجمعت الأمة الإسلامية على طاعة هذه الخلافة العثمانية [3] ، وتحسب السلاطين العثمانيين خلفاء من قرون عديدة، فإن كان خلفاء بني أمية وبني العباس فاقدين لخمسة شروط مثلاً، فنفرض الخلفاء العثمانيين فاقدين لسبعة شروط، فإذا لم يضر بالأولين فقدان هذه الشروط فكيف يضر بالآخرين؟ ! ، فإن كان العثمانيون ليسوا من العرب، ولا قريش فلا يقدح به في خلافتهم؛ لأن المسألة هنا ليست مسألة انتخاب الخليفة حتى يُنظر في شروطه، وإنما الذي يهم في هذه الصورة هو أن يقوم قائم بالخلافة والحكومة الإسلامية؛ لئلا يضطرب أمر الأمة، ويصبح فوضى؛ فلذا لا أهمية لشروط الخلافة ههنا، وُجدت أو لم تُوجَد. ومن شروط الخلافة المتفق عليها (الحرية) ، أي يجب في الخليفة أن يكون حرًّا لا عبدًا، ولكن العبد إذا تغلب بشوكته وقوته، وقامت حكومته - فلا خلاف في أن طاعته واجبة، ولا يوجد مثال في تاريخ الأمم بأسرها إلا في الأمة الإسلامية- أن العبيد صاروا فيها أئمةً وملوكًا وقوادًا! وخضع لهم المسلمون من العرب والعجم بلا عذر ولا إنكار، والأحاديث النبوية أكبر شاهد على ذلك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمِل عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأن رأسه زبيبة، وفي رواية مسلم عن أبي ذر: وإن كان عبدًا مجدع الأطراف) ، وفي رواية ابن حصين: (ولو استعمل عليكم عبد - يقودكم بكتاب الله - اسمعوا وأطيعوا له) ، والنواوي يقول في شرحه: والمراد أخس العبيد، اسمع وأطع، وإن كان دنيء النسب، حتى لو كان عبدًا أسود مقطوع الأطراف، فطاعته واجبة، ويتصور إمارة العبد إذا ولاه بعض الأئمة، أو تغلب على البلاد بشوكته وأتباعه، ولا يجوز ابتداء عقد الولاية له مع الاختيار، بل شرطها الحرية (ج2: 125) ، وفي فتح الباري: (لو تغلب حقيقةً - بطريق الشوكة - فإن طاعته تجب إخمادًا للفتنة) (13: 109) . فمادام هذا النواوي - الذي هو من أكبر أنصار القرشية - يقول بنص هذا الحديث: إن إمارة العبد مهما كان دنيء النسب خسيس الحال - صحيحة في صورة الاستيلاء والغلبة، فكيف يُعترض على الخليفة العثماني القائم المتمكن بكونه ليس من قريش؟ ! ، إن سلمنا أن القرشية شرط ضروري للخلافة [4] . والحقيقة أن البحث في شروط الخلافة لا علاقة له بالمسألة التي نحن بصددها، إلا أننا لا نرى بأسًا في أن نتكلم على شرط القرشية؛ إذ هو مزلَّة لأقدام كثير من الناس. ((يتبع بمقال تالٍ))

الرحلة الأوربية ـ 7

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرحلة الأوربية (7) بيَّنت في الفصل السابق أنه كان مِمَّا أرجو أن أخدم به أمتنا وبلادنا الشرقية في أوربة إبلاغ مَن ألقى من أحرار الأوربيين حقيقة حال الشرق، وموقفه اليوم أمام الغرب، والاستعانة بهم على إصلاح ذات البين، وأنه جرى لي أحاديث مع بعض مَن لقيت منهم، ذكرت بعضها، وكنت - قبل ذلك - كتبت مقالة في الموضوع، أردت أن تكون بلاغًا عامًّا لهم، فلم يتيسر لي نشرها، فإنني لما كلفت صاحبنا الشيخ علي الغاياتي ترجمتها قرأها، وأعادها إليَّ قائلاً: إنه لا يوجد جريدة في جنيف تقبل أن تنشرها لشدة حكمها على إنكلترة، وفرنسة، وهذا نصها: نداء الشرق لأحرار الغرب هذه صيحة حقّ - من جانب الشرق - يتموَّج بها الهواء في بُهْرة الغرب [1] مدينة جنيف الحرة، التي هي كالمنار في هذه البهرة، حيث جمعية الأمم، ومثابة [2] كل شعب مظلوم يشكو ممن ظلم، فعسى أن تخترق مسامع أعضاء هذه الجمعية، فتنفذ إلى عقول حكيمة، وقلوب رحيمة، وعسى أن تردد صداها صحف هذه المدينة، فتصل إلى أحرار جميع الشعوب الأوربية الكريمة، فتكون حجة لمحكمة الأمم إذا أرادت أن تحكم بالحق فيما اختلف فيه الغرب مع الشرق، وذلك يتوقف على سماع أقوال الخَصْمين، والنظر في مستندات الفريقين، وحجة عليها إذا هي حكمت للقوي القاهر، بمجرد دعواه على المقهور العاجز، يشهد بها عليها أولئك الأحرار العُدُول، ويسجلها عليها التاريخ الصحيح، حين ترى عاقبةَ هذا الحكم، وتؤاخذ بسوء مغبَّته، يوم تعود الحرب جذعة [3] بهذه السياسة الخدعة، الخبأة الطلعة [4] ، التي يسلك أخراتها [5] ، ومضايقها المغرورون بقوتهم، المسرفون في مطامعهم، المتلذذون بعظمة استرقاق الشعوب، المتنعِّمون بما يسلبون فيها من الخزائن والجيوب، بل نرجو من هؤلاء الأحرار المنصفين أن يجاهدوا هؤلاء الساسة الماكرين، ويؤلِّبوا عليهم هذه الشعوب التي أرهقوها بالجندية، وفوادح الضرائب المالية، فيتعاون العلماء والكُتاب، والصُّنَّاع والزُّرَّاع - على قلب سياسة المطامع، المعزّزة بالبنادق، والمدافع المفضية إلى حرب بعد حرب، لا تنتهي إلا بخراب الأرض، وإهلاك الحرث والنسل. أصيخوا أصيخوا - أيها الأحرار - إلى ما يلقيه عليكم شرقي خبير بشؤون الشرق، وما يجب أن يتبدَّل من علاقته بالغرب، بما أحدثت هذه الحرب من الانقلاب الاجتماعي فيه، وأنتم أنتم الذي يمكنكم بهذا الانقلاب أن تكفروا سيئات هذه الحرب وفظائعها عن مدنيتكم وشرف شعوبكم، وتأخذوا على أيدي دهاة سياسة الطمع والكبرياء أن يرهقوكم، ويرهقوا العالم كله بحرب شر منها، إذا ظلوا متحكِّمين في أموالكم، وجنودكم وعُمَّالكم، وظللتم مخدوعين بفصاحة خُطبهم الخلابة، ومستعذبين لحلاوة أمانيّهم الجذَّابة. أيها الأحرار المتفكِّرون، إنه ليقُل فيكم مَن كان له علم أو إلمام بدخائل هذه السياسة الأفَّاكة [6] المُرَائية، أو سبْر لغَوْر مكرها وتلبيسها، وقد كنتم معذورين في الزمن الماضي بتصديقهم في زعمهم أن الاستعداد للحرب، هو الذي يمنع الحرب، وأن التنافس في الاستعمار الذي هو علة عِلَلها، ليس إلا مسابقة في خدمة الإنسانية بتحضير الشعوب الهمجية، ومباراة في العمران الذي يرفِّه معيشتكم ومعيشة هذه الشعوب جميعًا؛ ليُعلم العلم والعمران، ويعيش البشر كلهم في رَغَد السلام. أما الآن، فلم يبقَ لكم عذر إذا استمررتم مخدوعين بخلابتهم، مستسلمين لكيدهم، فقد فضحتهم هذه الحرب شر فضيحة، وكذبت دعواهم أن الاستعداد للحرب أنفى للحرب، ورأيتم كيف كان التزاحم على الاستعمار والتنافس في حب السيادة سببًا للمباراة في الاستعداد لها، وكيف كان هذا الاستعداد لها مُضرمًا لنارها، وسببًا لإزهاق أرواح الملايين من البشر، ولخراب ما عمروه في العشرات، بل المئات من السنين، ولضياع ما ربح المستعمرون بظلم الشعوب المستعبَدة من الأموال، ثم لتشويه مدنيَّة هذا العصر وسوء سمعتها. ألا إن تبعة هذه المصائب يجب أن تُلْقَى على أكتاد [7] رجال هذه السياسة السوأى، وإن لم يثبت على أحد منهم بعينه إلقاء جذوة النار الأولى، فإنني على رأي الفيلسوف الاجتماعي موسيو غوستاف لوبون في تبرئة كل دولة من دولها، وكل رجل من هذه الدول، ملوكها ووزرائها، من تعمد بدء الحرب حتى ألمانية، وعاهلها، وروسية وقيصرها، وفي أن سببها الحق مجموع أعمالهم السياسية التي كانت كنقط ماء تقع في كأس، لم تلبث أن طفحت، ففاضت كما قال، أو كتجميع القوى الضاغطة يوجب الانفجار، أو كوضْع البارود بجوار النار، لا يؤمن عليه الاحتراق، فإذا لم تؤاخذوا هؤلاء الساسة بما جنتْه سياستهم على البشر لعُذْركم إياهم بخطأ الاجتهاد، فلماذا تقرونهم على الإصرار على هذا الخطأ، والاستمرار على هذه السياسة، وأنتم تعلمون أن المعلولات تتكرر بتكرار عللها، والمسببات تدوم بدوام أسبابها؟ ، فكيف وقد تجدد لهذه المصائب والدواهي أسباب جديدة أحدثتها الحرب، ثم معاهدات الصلح، وهذه الأسباب نوعان: يقظة الشرق، وتأريث الحقد والانتقام بين أمم الغرب. ما تعلمه الشرق من الحرب والصلح أيها الأحرار، اعلموا أن حرب المدنية المادية الأوربية وهُدنتها، ومعاهدات الصلح ونتائجها قد علَّمت عوامّ شعوب الشرق ما لم يكن يعلمه إلا بعض خواصّهم من سوء مقاصد الدول المستعمِرة، حتى ساء الاعتقاد بالأمم الأوربية أنفسها، فهدمت - في خمس سنين - ما بَنَى في العقول والقلوب من فضل هذه المدنية، وعظمة أهلها في مدة قرن كامل، وعلَّمتها وجوب الاتِّحاد والتعاون بينها - على اختلاف أديانها ومذاهبها وأجناسها - على دفْع عادية المستعمرين القساة المتكبِّرين الظالمين المُرائين، علَّمتها الاقتداء بهم في بذل النفس والنفيس، وعدم المبالاة بالموت في سبيل الحرية والاستقلال، علمتها أنهم لا يعرفون للحق، ولا للعدل، ولا للفضيلة ولا للإنسانية معنًى، وأن الشرف والمجد استبداد القوي بالضعيف، واستعباده، وتسخيره لعظمته وشهواته، علمتها أنهم كذَّابون مراؤون أفَّاكون، يسمون الأشياء بأسماء أضدادها، يحسِّنون بذلك سيئاتهم، ويقبِّحون حسنات غيرهم. كان الشرقي إذا أراد أن يؤكد صدق قوله، أو الوفاء بوعده يقول: (كلمة إفرنجية أو إنكليزية) ، وقد صاروا يطلقون هذا الوصف النسبي على ضد ما كانوا يطلقونه عليه تعميمًا وتخصيصًا، ويعتقدون بحق أن الترك أصدق وأبرّ وأعدل وأرحم من الإفرنج عامة، ومن الإنكليز والفرنسيس خاصة، وكيف لا، وقد وعدهم هؤلاء بالتحرير والاستقلال وعودًا عامة وخاصة، بما أمطرت شركاتهم البرقية، وجرائدهم الخافقين (الغرب والشرق) ، من وصف مبادئهم ومقاصدهم من الحرب، وبما كانت طياراتهم تُلْقيه في البلاد العربية من المنشورات والجرائد العربية الشارحة لهذه الوعود الموجزة، والمفصلة لمقاصد تلك المبادئ المجملة، وأهم تلك المنشورات ما كان باسم أمير مكة بالأمس، وملكها اليوم، والأمير فيصل أحد قواد الحلفاء بالأمس، وملك العراق من قبل بريطانية اليوم، وجريدة (القبلة) التي أنشأتها حكومة الحجاز بعد الثورة العربية، وجريدة (الكوكب) التي كانت تُصدرها السلطة البريطانية بمصر، فكان هذا وذاك وعودًا وعهودًا رسمية من الحلفاء، تصدر من لدُن ملوكهم وقوادهم، وتنشرها بُرُدهم العسكرية وطيَّاراتهم، فلا يمكن أن تكون من غيرهم. ثم كانت عقابتها احتلالاً عسكريًا قاهرًا في سورية والعراق، ومعززًا بجميع آلات الحرب الحديثة، مع بيع وطن فلسطين العربي لليهود، واستعبادًا واستذلالاً للعرب من قِبَل المحررين المنقذين لهم! ، والمنتدَبين باسم جمعية الأمم؛ لمساعدتهم على النهوض بأمر استقلالهم، بعد ما أصابهم من نوائب الحرب، ولكن هذه المساعدة اضطرت هؤلاء الأصدقاء المخدوعين إلى ثورات، ومقاومات دمرت مئات من المزارع والقرى، وقتلت عشرات الألوف في العراق وسورية! جهل جمعية الأمم بمكر الحلفاء بها أيها الأحرار المنصفون، إننا نعلم أنه لا يعزُب عن علمكم أن التنافس في القوة المادية، والتزاحم على المطامع الاستعمارية - هما اللذان أوقدا نار الحرب العامة، وأن معاهدات الصلح السوءى في فرسايل وسان ريمو وسيفر - هي التي نقضت تلك المبادئ، وجعلت الظفر فتحًا وانتقامًا واستعمارًا، سيعيد الحرب جذعة، ولكن الذي يرتاب فيه كثير من الناس في الشرق والغرب هو علم محبِّي الحق والعدل من أعضاء جمعية الأمم، الذين ليس لدولهم هوًى، ولا لأفرادهم ضلع مع أحد من الدول الظافرة القاهرة، بما يكيد لهم دهاة ساسة هذه الدول بمجلس الجمعية، وما يلقون على عواتقهم من المهمة الثقيلة تجاه العالم الإنساني: تبعة حكم جمعية الأمم لهم، وإقرارها إياهم على قهرهم للشعوب المغلوبة في الغرب، واستخدامهم إياها لمنافعهم باسم التعويضات، وعلى استعباد شعوب الشرق كلها باسم الانتداب، هذا الاسم الذي ابتدعوه؛ ليكون مخرجًا لهم من تلك الوعود والعهود، ودعوى أن الحرب كانت بين مبدأين (المبدأ الجرماني الذي يبغي الاستعلاء على الأمم بالقوة، ومبدأ الحلفاء الذين يبغون حرية الأمم) ، وعلى جعْل بناء السلم العام الدائم قائمًا على اختصاص هؤلاء القاهرين الجائرين بالقوى الحربية، بأنواعها البرية والبحرية والجوية؛ ليدوم لهم القهر والاستعباد للمحرومين منها، والعاجزين عنها، أو يكفل لذات القوة الكبرى أن يدوم لها الرجحان والكلمة العليا، ألا وهي بريطانية العظمى - التي شرعت في تأسيس إمبراطوريتين جديدتين - كانت تحلم بهما من عهد بعيد، فجعلت حرب المبدأين وسيلة لتأسيسهما بقوة الجند والسلاح، وقوة الكيد والخداع، الأولى منهما الشطر الشرقي من إفريقية، والثانية الشطر الغربي من آسية، ويدخل في هذه السيادة جميع المعاهد المقدسة للأديان السماوية، كما أن لها السيادة في الهند والتبت على أقدم معاهد الديانات الوثنية. إنما يرتاب مَن أشرنا إليهم من الناس في علم من وصفنا من أعضاء جمعية الأمم - وهم الأكثرون - بما ذكرنا من كيد ساسة الدول الظافرة لها، ومكرهم بها؛ لأنهم يظنون أن الجمعية بجملتها راضية بنظامها، مُلقية بقيادها إلى مجلسها، كما تنقاد الرعية الجاهلة إلى ملكها المستبد بها، ذلك المجلس الذي يفصل باسمها في أعظم المسائل تبعة وأسوأها عاقبة، كمسألة الوصايات الانتدابية، أفيصدقون أنها مساعدة، وهم يرون ما بينهم من المساومة والمنازعة، والمصارعة والمقارعة [8] ، ويقرؤون بعض ما تجود به برقياتهم وصحفهم من أنباء المظاهرات والثورات على سلطتهم العسكرية القاسية، في البلاد المرزوءة بالوصاية؛ بدعوى العطف عليها، والرحمة بها، ومساعدتها على النهوض بأعباء حريتها واستقلالها، وما يعترفون به أحيانًا من مقاومة ذلك بتدمير القرى والمزارع، بأكساف الطيارات وقذائف المدافع، التي تقتل العجزة والنساء والأطفال، وقلما تصيب المتظاهرين، أو الثائرين من الرجال، وبفرض الغرامات الثقيلة على أهلها الوادعين الساكنين، وغير ذلك من ضروب القهر والاستعباد، الذي شرحه تقرير المؤتمر السوري الفلسطيني، وما ألحق به. قواعد السلم بين الشرق والغرب إنني - بعد بيان هذه الحقائق - ألخص لجمعية الأمم، ولجميع أحرار الشعوب الأوربية آراء شعوب الشرق، وآمالهم في أحرار شعوب الغرب

الانقلاب التركي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانقلاب التركي الجديد وثائق تاريخية إسقاط الدولة العثمانية، وتأسيس دولة تركية، وجعْل سلطة الخلافة العثمانية روحية بحرمان الخليفة من السلطتين التشريعية والتنفيذية، عملاً بقاعدة الديمقراطية الأوربية. بَيْنَا كان صديقنا الزعيم الهندي الكبير (مولانا أبو الكلام) يُجهد قريحته في استنباط الدلائل لإقناع العالم الإسلامي بوجوب طاعة الخليفة العثماني السلطان محمد وحيد الدين، والخضوع لخلافته، وإن أساء وظلم، وفعل ما فعل ما لم يكن كفرًا بواحًا، وارتدادًا عن الإسلام صراحًا -كان هذا الخليفة يستفتي شيخ الإسلام في دولته في اعتبار حماة الدولة من أبطال الأناضول الكماليين - بُغاة خارجين على الإمام (الخليفة) ، يجب قتالهم شرعًا، ويعد المقاتل لهم بأمر الخليفة غازيًا مأجورًا، والمقتول بأيديهم شهيدًا مغفورًا، وكان هؤلاء الكماليون قد ألفوا حكومة تركية محضة، لها السلطان كله على الأمة باسم الأمة، ولا سلطان عليها لملك ولا خليفة، وما يتبع ذلك من ثل عرش آل عثمان! وضع هؤلاء الغزاة المستبسلون ميثاقًا وطنيًّا لإنقاذ بلادهم من السلطة الأجنبية التي فرضتها عليهم معاهدة الصلح مع الحلفاء، وقَبِلها السلطان وحيد الدين، وحكومته، ثم وضعوا لحكومتهم الوطنية قانونًا أساسيًا نسخوا به قانون حكومة آل عثمان، وأسقطوا دولتهم. وإننا ننشر الآن هذا الميثاق، وهذا القانون مترجمَيْن بالعربية، ونقِّفي عليهما بنشر ترجمة الخط السلطاني بتأليف وزارة الداماد فريد باشا المتضمن لأمره بقتال الكماليين، وترجمة فتاوى شيخ الإسلام بذلك، وبلوغ الصدارة العظمى في تنفيذ أمر الخليفة المؤيَّد بهذه الفتاوى، ونجعل هذا أصلاً، وتمهيدًا لبيان ما ترتَّب عليه من الانقلاب بالفعل. ترجمة الميثاق القومي التركي بالعربية (وهو الذي تأسست الحكومة الكمالية في الأناضول لأجل تنفيذه) المادة الأولى: أن الأقطار العثمانية - التي أكثر سكانها من العرب، والتي تحتلها جيوش الأعداء منذ عقد الهدنة في أكتوبر سنة 1918 - يجب أن يقرَّر مصيرها طبقًا لإرادة أهليها، على أن يمكَّنوا من الإعراب عن إرادتهم بملء الحرية. وأما الأقطار العثمانية - الواقعة أمام خط الهدنة ووراءه، التي أكثر سكانها من المسلمين العثمانيين الذين تجمعهم وحدة الدين، والمذهب، والغاية الوطنية - فهي حريصة على حقوقها القومية، ومزاياها الاجتماعية، فلا تقبل التجزئة، والتقسيم على أي حالٍ ولا بأي شرط. المادة الثانية: أن ألوية قارص وأردهان وباطوم - التي أثبت أهلوها منذ تحريرهم بصورة علنية صريحة إرادتهم الرجوعَ إلى حمى أمِّهم التركية - فلا يرى الموقعون على هذا اليثاق بأسًا بأخْذ رأي سكانها مرة أخرى في مصيرها بتمام الحرية. المادة الثالثة: أن النظام القانوني لتراقية الغربية - الذي كان تقريره معلقًا على عقد الصلح مع تركيا - يجب أن يؤسَّس طبقًا لإرادة الأهالي على أن يعربوا عنها بحرية تامة. المادة الرابعة: تكون سلامة الآستانة (عاصمة الدولة، ومقر الخلافة) وبحر مرمرة - مصونة كل الصيانة، وفي مأمن من كل اعتداء. إذا قُبل هذا المبدأ فإن الموقعين على هذا مستعدون لقبول أي قرار يؤخذ باتفاق الرأي بين الحكومة السلطانية والدول صاحبات الشأن لضمان حرية المضايق للتجارة العالمية والمواصلات الدولية. المادة الخامسة: أن الموقعين على هذا الميثاق يقبلون القواعد الخاصة بحقوق الأقليات التابعة للبلاد الأجنبية، كما تقررت في المعاهدات الخاصة المعقودة بين دول الحلفاء وبين أعدائهم وبعض الدول المشتركة معهم. ومقابل ذلك يجب أن تتمتع الأقليات الإسلامية النازلة في الممالك المجاورة بنفس هذا الضمان لحقوقها. المادة السادسة: أن الموقعين على هذا يعتبرون الاستقلال التام، والحرية المطلقة شرطًا لا بد منه لحياتهم الوطنية، ولترقية بلادهم الاقتصادية والقومية، ولتأسيس حكومة الدولة وإدارتها على أساس ثابت جديد. ولهذه الأسباب صحت عزيمة موقِّعي هذا الميثاق على مقاومة كل قيد تشريعي أو مالي من شأنه الحيلولة دون الارتقاء القومي. ويجب على كل حال أن تكون شروط القيام بما سيُفرض على تركيا من الواجبات غير مخالفة للقواعد المقررة في هذا الميثاق. الآستانة في 28 يناير سنة 1920 *** القانون الأساسي للدولة التركية الجديدة (أو قانون التشكيلات الأساسيَّة) المواد الأساسية المادة 1: السيادة للشعب بلا قيدٍ ولا شرطٍ، وأصول الإدارة مستندة إلى قيام الشعب - بالذات وبالفعل - بإدارة شئونه. المادة 2: تجتمع القوة التنفيذية والقوة التشريعية في الجمعية الوطنية الكبرى، التي تمثل الشعب وحدها تمثيلاً حقيقيًّا. المادة 3: تقوم الجمعية الوطنية الكبرى بإدارة الدولة التركية، وتُدْعَى حكومتها (حكومة الجمعية الوطنية الكبرى) . المادة 4: تتألف الجمعية الوطنية الكبرى من أعضاء ينتخبهم أهل الولايات. المادة 5: تُنتخب الجمعية الوطنية الكبرى مرة كل عامين، والمدة الانتخابية لكل عضوٍ هي عامان، ويجوز أن يُنتخب العضو كَرَّة أخرى، وتستمر الجمعية في عقد اجتماعاتها إلى حين انتخاب الجمعية التي تخلُفها، فإذا تعذَّر الانتخاب يُمَدُّ أجل الجمعية سنة أخرى، وكل عضوٍ من أعضاء الجمعية ينوب عن الشعب جميعه، لا عن الأهالي الذين انتخبوه فقط. المادة 6: تجتمع الهيئة العامة للجمعية الوطنية الكبرى في أول نوفمبر من كل عام بغير دعوة. المادة 7: تنفيذ الأحكام الشرعية، وسَنُّ جميع القوانين أو تعديلها أو إلغاؤها، وعقد الصلح والمعاهدات، وإعلان الدفاع الوطني، وما يشابهها من الحقوق الأساسية - خاصة بالجمعية الوطنية الكبرى، وتتخذ الأحكام الفقهية والحقوقية الموافِقة لمعاملات الناس، وحاجيات الزمان والآداب والمعاملات أساسًا لوضع القوانين والنظم، وتعين واجبات الوزراء ومسؤولياتهم بقانون مخصوص. المادة 8: يقوم بإدارة دوائر الحكومة مَن تنتخبهم الجمعية الوطنية الكبرى لذلك وفاق القانون المخصوص، وتعيّن الجمعية للوزراء وجهة الإدارة فيما يختص بالتنفيذ، وتستبدل بهؤلاء الوزراء غيرهم عند الحاجة. المادة 9: الرئيس - الذي تنتخبه الهيئة العامة للجمعية الوطنية الكبرى - يرأس الجمعية مدة عقدها، وللرئيس أن يضع توقيعه باسم الجمعية، وأن يصدق على قرارات الوزارة، ورئيس الجمعية هو الرئيس الطبيعي للوزارة. الإدارة المادة 10: تنقسم الإدارة التركية - باعتبار أحوالها الجغرافية والاقتصادية - إلى ولايات، وتنقسم الولايات إلى أقضية، وتتألف الأقضية من نواحٍ. الولاية المادة 11: الولاية ذات شخصية معنوية، وهي حائزة لاستقلالها الداخلي (Autonomie) في أمورها المحلية، وللمجالس الشورية في كل ولاية أن تقوم بإدارة أوقافها ومعاهدها الدينية ومعارفها وصحتها واقتصادياتها وزراعتها وأشغالها والمعاونة الاجتماعية بموجب القوانين التي تضعها الجمعية الوطنية الكبرى، وتُستثنى من ذلك السياسة الداخلية والخارجية، والأمور الشرعية والعدلية والعسكرية والعلاقات الاقتصادية الدولية، وتكاليف الحكومة العامة، وما يشمل منافعه أكثر من ولاية واحدة. المادة 12: يتألف مجلس شورى الولايات من أعضاء ينتخبهم أهالي الولايات، ومدة اجتماع هذه المجالس عامان، وتجتمع في كل عام شهرين. المادة 13: ينتخب مجلس شورى الولاية من بين أعضائه رئيسًا للقيام بوظيفة الإجراء (التنفيذ) مع هيئة إدارة من بين الأعضاء، تُنتخب لإدارة شُعَب الإدارة، بحيث تكون وظيفة الإجراء في يد هذه الهيئة الدائمة. المادة 14: للجمعية الوطنية الكبرى والٍ يمثلها في كل ولاية، تعينه حكومة الجمعية الوطنية، ووظيفته القيام بالواجبات العامة المشتركة للدولة، ولا يتداخل الوالي - في غير ذلك - إلا عند وقوع تعارض بين واجبات الدولة والواجبات المحلية. الأقضية المادة 15: القضاء جزء إداري، ليست له شخصية معنوية، يقوم بإدارته (قائمقام) معين من قِبَل حكومة الجمعية الوطنية الكبرى، ويكون تحت أمر الوالي. الناحية المادة 16: الناحية: شخصية معنوية حائزة لاستقلال ذاتي في حياتها الخاصة. المادة 17: لكل ناحية مجلس شورى وهيئة إدارة ومدير. المادة 18: مجلس شورى الناحية ينتخبه أهل الناحية مباشرة. المادة 19: ينتخب مجلس شورى الناحية هيئة إدارتها ومديرها. المادة 20: لمجلس شورى الناحية وهيئة إدارتها قوةٌ قضائية اقتصادية ومالية، تعين القوانين المخصوصة درجاتها. المادة 21: تتألف الناحية من قرية أو عدة قرى. التفتيش المادة 22: تعين مناطق التفتيش العام بتوحيد الولايات باعتبار علاقاتها الاقتصادية والاجتماعية. المادة 23: يتكفل المفتش العام بالأمن العام في منطقته وتفتيش المعاملات في الدوائر، وتنظيم الأمور المشتركة بين الولايات التي في منطقته، ويراقب المفتش العام وظائف الدولة العامة والوظائف الخاصة بالإدارات المحلية مراقبة دائمة. مادة منفردة المادة المنفردة: هذا القانون مرعيّ من يوم نشره، لكن الجمعية الوطنية الكبرى الحالية لاجتماعها على الدوام إلى حين تحقيق غاياتها - كما هو مصرح في المادة الأولى من قانون (نصاب المذاكرة) المؤرخ 5 سبتمبر 1920 - لا تنفذ المواد الرابعة والخامسة والسادسة من هذا القانون (قانون التشكيلات الأساسية) ، إلا إذا قررت الجمعية ذلك بأكثرية ثلثيها بعد تحقُّق تلك الغايات. 10 جُمادَى الأولى سنة 1339 - 30 يناير سنة 1921 (المنار) قد عُلم من هذا القانون أن الترك قد أزالوا به السلطة الملكية العثمانية، والخلافة الإسلامية معًا؛ فليس لغير الجمعية الكبرى في بلادهم أمر، ولا نهي، وهذه أمنية لحزب (التركية الفتاة) منذ عشرات السنين، سنحت الفرصة الآن لنيْلها بسهولة كما سنفصله بعد. *** ثلاث وثائق تاريخية (في مناهضة دولة السلطنة والخلافة العثمانية للنهضة الكمالية) الوثيقة الأولى الخط السلطاني الصادر بمنصبَيْ الصدارة ومشيخة الإسلام، وبإقرار وزارة الداماد فريد باشا المتضمن للأمر بالقضاء على نهضة الأناضول الوطنية. محمد وحيد الدين وزيري سمير المعالي فريد باشا.. بناءً على استقالة سلفكم صالح باشا وجّه مسند الصدارة إلى عهدتكم لما هو مشهود من درايتكم وأهليتكم، وأحليت المشيخة الإسلامية أيضًا إلى عهدة دري زاده عبد الله أفندي، وقد اقترنت بإقرارنا هيئة الوكلاء الجديدة، التي ألفتموها طبقًا للمادة السابعة والعشرين من القانون الأساسي. إن موقفنا السياسي - الذي بدأ منذ عقد الهدنة يقترب تدريجًا من الإصلاح - أصبح في حالة وخيمة بسبب الاضطرابات التي وقعت تحت اسم القومية (في الأصل الملِّية) ، وظلت التدابير الإصلاحية التي اتُّخِذت حتى الآن لصدِّها عقيمة. وقد أظهرت الوقائع الأخيرة أنه إذا استمر - معاذ الله تعالى - هذا العصيان فسيكون مصدرًا لأحوال وخيمة؛ فلذلك نطلب إنفاذ الأحكام القانونية بحق مُثيري هذه الاضطرابات المعروفين والداعين إليها، وإعلان العفو العام عن الذين انضموا إليها، واشتركوا فيها بسائق الغفلة، واتخاذ التدابير النهائية لإعادة الأمن والانتظام، وتأييده في ممالكنا الشاهانية بسرعة تامة وإكمالها، وتوطيد ارتباط رعايانا الصادقين بمقام الخلافة والسلطنة المحقق الذي لا يتغير، وإنشاء الروابط الص

ظفر الترك باليونان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ظفر الترك باليونان وثلهم عرش دولة آل عثمان وجعْلهم الخلافة الإسلامية سلطة روحانية أدبية {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ} (آل عمران: 140-141) . إذا أراد الله أمرًا هيَّأ أسبابه {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) . استخفَّ الظفر في الحرب الدولة البريطانية، فخانها حُلمها الراسخ، ورويَّتها وأناتها في الأمور، فأظهرت ما كانت تكتم من التعصب الديني، وعداوة الإسلام، وحاولت القضاء على ما بقي من السلطة الإسلامية الضعيفة، والاستقلال المضطرب في بلاد الترك والعرب، فتقسمت هذه البلاد بينها وبين حلفائها قسمة ضِئْزَى، وكان مما اصطفته لنفسها مصر، وسائر ما بقي من بلاد العرب - إلا مِفْحَص قَطَاة في سورية لحليفتها فرنسة - والقسطنطينية العظمى مع زقاقيها العظيمي الشأن (الدردنيل، والبوسفور) ، على ثقة منها بأن مملكتي إيران، والأفغان في قبضة يمينها، وبلاد القوقاس، وتركستان في قبضة شمالها، وصرح كبير وزرائها لويد جورج بأن هذه الحرب آخر حرب صليبية في الأرض، أي لم يبقَ فيها شعب إسلامي مستقل يمكنه أن يذود على حوضه بسلاحه؛ فإن الدولة العثمانية - آخر دولة حربية إسلامية - قد سقطت تحت السيطرة الأوربية المسيحية. فلما رأت أن أُسُود الترك في الأناضول قد جمعوا فلول جيوشهم، وأبَوْا الخضوع لما فُرض عليهم في معاهدات الصلح الجائرة - من إلقاء سلاحهم لأعدائهم، والخنوع لما أوجبوا عليهم في أنفسهم وأموالهم وإدارة بلادهم - أغرت بهم الدولة اليونانية، عدوتهم التاريخية، وقد زاد بفضلها عليها عددُها، وتضاعف بمساعدتها لها مددُها، فجاست خلال الديار، وسامتها الخَسَف والتَّبَار، وحكمت فيها السيف والنار، وقتلت الكبار والصغار، والوزير البريطاني الأكبر (لويد جورج) يمدها في غَيِّها، وينصرها في بغيها، فعزَّ على ليوث العرين، وشم العرانين، أن تلج الثعالب أغيالها، وتغتال فيها أشبالها، فبطشوا بزحوف اليونان البطشة الصغرى، فوقفوا لا يتقدمون، ولا يتأخرون، ثم صاح بهم العدل الإلهي: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} (الدخان: 16) . هجمت الليوث التركية الكمالية تلك الهجمة الصادقة على جيوشهم، فولَّوْا مدبرين {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِن قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنتَصِرِينَ} (الذاريات: 45) ، فطردتهم في مدة أسبوعين، مما تبوَّؤه في مدى سنتين، فقتل منهم عشرات الألوف، وأَسْر عشرات الألوف، وفر الباقون من مصارع الحتوف، تعبث في أقفيتهم الحراب والسيوف، وما زال يطاردهم سيف النصر، حتى ألقى مَن سلم منهم عند سيف البحر، حيث تنتظر السفن كل شريد وطريد، فيما كانوا يحتلون من ثغرَيْ أزمير، وإزَميد، وغنم الترك ما لا يُحصَى من سلاحهم وعتادهم، ومتاعهم وزادهم، وناهيك بأسر مَن أخطأه الرَّصَاص من كبار قوادهم، وفشل تدبير لويد جورج، وفنزيلوس بتجديد القيصرية (الإمبراطورية) البيزنطية، وحُلم الملك قسطنطين الثاني بلبس تاج قسطنطين الأول في محراب جامع (أيا صوفية) ، وخاب كيد الإنكليز لإجلاء مسلمي الترك من شرقي أوربة بهمجية اليونان، كما أُجْلِيَ مسلمو العرب من غربيِّها - الأندلس - بهمجية الأسبان. لو كان كل ما في هذا النصر العزيز أنه سحْق جيش تركي مهاجم، لجيش يوناني مدافع، يفوقه في العدد والمدافع - لما كان بِدْعًا من النصر، ولا مما يعده الترك من موجبات الفخر، ولكنه كان أثرًا لهجوم عسكري لم يسبق له نظير في أعظم المعارك بتدبيره وإحكامه ونِظامه، واستيفائه لجميع الشرائط الفنية، وسرعة تأثيره في ميادين مختلفة، وكان على هذا عقب سلسلة حروب مع البلقانيين في البلقان، ومع إيطالية في طرابلس الغرب، ومع إنكلترة في فلسطين، والعراق، ومع روسية في الأناضول، ومع الإنكليز والفرنسيس جميعًا في غاليبولي، ثم مع فرنسا في كليكية، ومع الأرمن في القوقاس، وكان على هذا وذاك بعد انكسار الدولة، وطلبها الهدنة، والخضوع لشروطها القاهرة، ثم قبول حكومة السلطان في الآستانة لشروط الصلح القاضية بتقسيم بلاد الدولة بين الأحلاف، وسيطرتهم على الإمارة التركية الصغيرة التي أبقَوْها باسم سلطان الترك وخليفة الإسلام في ماليتها وعسكريتها وأحكامها القضائية، وكان على هذا كله بعد إلقاء الإنكليز المحتلين لعاصمة الدولة الفساد بين السلطان وحكومته، وبين أبطال الأناضول المدافعين عما بقي من بلادهم، قبل أن يعمَّها الاحتلال الأجنبي المذل بل المميت، والمطالِبين باستقلال ما رُزئ بالاحتلال منها، حتى حملوه على الحكم بعصيانهم، وإباحة إهراق دمائهم، بخروجهم على سلطانهم وخليفتهم، لكسر قوتهم المعنوية، بفتوى من شيخ الإسلام، تطبق عليهم حكم البغاة الخارجين على الإمام، المحاربين لله ورسوله، والساعين في الأرض بالفساد، ولو أنه أمر بهذا وهو حر في تصرفه، مستقل في حكومته - لما اكترثوا لأمره، فكيف وهم يعتقدون أنه واقع تحت أسر أعداء الإسلام، ومسيَّر بنفوذهم، فعصيانه واجب، وإسقاط حكومته ضربة لازب، ثم إنه كان على هذا كله ظفرًا بدولة بريطانية العظمى، وقضاءً على ما كان من نفوذها الأسمى، وإحباطًا لسعيها المعلوم، وهو إزالة ملك الإسلام من الشرق، والاستيلاء على جميع دول الغرب؛ ولذلك كان ضلع حليفتها فرنسة مع الترك الكماليين؛ مقاومة لمساعدتها هي لليونانيين. أصبح الترك الكماليون بهذا النصر أمام عدوتهم إنكلترة وجهًا لوجه بزوال تلك الواسطة التي كانت تحاربهم بها ومن ورائها، فطفقت تحشر أساطيلها أمام الدردنيل ووراءه، وتسوق جيوشها إلى (غاليبولي وشناق قلعه) ، وأهابت بحليفتيها المحتلين معها للآستانة أن تستعدا لقتال الترك، فَأَبَيَتا ذلك عليها، فصاح لويد جورج يستنجد الإمبراطورية كلها؛ لتحفظ له ثمرة النصر في الشرق؛ فكان جواب أكثرها خافتًا، فهبَّت الأحزاب البريطانية المعارضة تفضحه بأنه يريد إثارة حرب صليبية أخرى تنفرد بريطانية العظمى بها دون أوربة، وتوسطت فرنسة - بصداقتها للكماليين - فأقنعتهم بعقد الهدنة، وترْك الزحف على تراقية والآستانة، فعُقدت الهدنة في ثغر (مدانية) ، وهو ثغر تركي صغير، كان لهم بعقدها فيه شرف كبير، وضمن لهم الحلفاء فيه الحدود التي قرروها في ميثاقهم القومي. وكان هذا فشلاً لسياسة الوزير لويد جورج أدى إلى سقوط وزارته، وعرف العالم كله أن الذي أسقطها هو الغازي كمال باشا بقوته، وقد أصبح الترك - بعد ذلك الذل والنَّكَال - يخاطبون بريطانية العظمى مخاطبة الأنداد والأقتال، وهذا ما كانوا فقدوه منذ قرون وأجيال، فسبحان مَن يعز مَن يشاء، ويذل مَن يشاء. أذاع البرق أنباء هذا النصر في العالم، فاهتز لها الشرق، وشخصت أبصار دول الغرب، وكادت تصعق الدولة البريطانية خيبةً وخِزْيًا، كما صعقت اليونانية قهرًا وعجزًا. لله در الكهرباء فثغرها الـ ... بسام كم يبدو ويبشر بالجدا ولربما التهبت فكان وميضها ... نارًا فأحرق من بغى وتمرَّدا احتفل المسلمون بهذا النصر المبين في كل قطر من الأقطار، بقدر ما لأهله من الحرية ووسائل الاجتماع وإظهار السرور، وكان قصب السبق في ذلك لمصر والهند، ويليهما سورية والعراق على كراهة ملكها لذلك، ويليهما تونس، والجزائر فمراكش، وكان العهد ببلاد المغرب الأقصى أنها أقل بلاد الإسلام اهتمامًا بالدولة العثمانية، وما يجري فيها، فصارت - بسبب الحماية الفرنسية - كأمثالها أو قريبًا منها واتفق أن ضلع الدولة الحامية لها في هذه المرة مع الترك، حتى إن سلطان المغرب هنأ الحكومة الفرنسية - لا الحكومة الكمالية - بهذا النصر (!) وقد قرأنا في جريدة (السعادة) المغربية عدة قصائد لأدباء المغرب في الابتهاج به، وأنهم يعدونه نصرًا للإسلام على أعدى أعدائه، وقد كتب إلينا من اليمن أن كلاًّ من الإمام يحيى، والسيد الإدريسي قد احتفلا في بلادهما بهذا النصر، وأمر السيد الإدريسي بإطلاق واحد وعشرين مِدفعًا من المواقع العسكرية إيذانًا بالاحتفال، وقد يظن أن بلاد الحجاز هي التي شذَّت وحدها، وإنما الذي شذ وحزن لهذا النصر هو ملكها، وأما أهل الحجاز - ولا سيما البلدين المكرمين - فهم أشدُّ حبًا للترك ودولتهم من غيرهم، ولكنهم تحت ضغط حكم قاهر لا يملكون من حريتهم شيئًا لا يُرضي مالك أمرهم. هذا العطف الإسلامي العام، والمكانة السامية أمام دول الحلفاء - التي لا تُنال عندهن إلا بسفك الدماء - قد جرَّآ الكماليين على القبض على أعنَّة الإدارة في الآستانة المحتلة، والشروع في إنفاذ خطتهم في إسقاط الدولة، ومحاكمة رؤسائها، حتى السلطان المتحلِّي بلقب الخلافة، وقد أوعز إليه بأن يستقيل، فأبى، وظن أنه يستطيع أن يُحْدِثَ بقوة الإنكليز حدثًا، فلما رأى أن السواد الأعظم من أهل الآستانة عليه معهم، لا معه عليهم - اتفق مع السلطة البريطانية على الفرار من العاصمة بنفسه، ففعل، وقد نقلوه مع غلام له وبعض حاشيته على بارجة إنكليزية إلى مالطة، وشاع أنهم يريدون أخْذه إلى الهند رجاءَ أن يفرقوا به كلمة المسلمين فيها، وقد دعاه ملك الحجاز إلى مكة بلسان البرق بإيعاز من الإنكليز - كما يقال - لتدبير كيد في الخلافة يوقع في العالم الإسلامي الشقاق، أو ينفِّره من الترك الكماليين، فيكون عونًا لهم عليهم، وإلا فإن جريدة (القبلة) - لسان ملك الحجاز - لم يطُل العهد على تكفيرها لهذا الخليفة، فهل كان إظهاره العداوة لقومه، وإهانته لنفسه ولمنصبه بالالتجاء إلى عدوه رجوعًا عن الكفر إلى الإيمان، ومدعاة إلى التعاون على إقامة الإسلام؟ ! أم ثَمًّ كيد ككيد صواحب يوسف يريد به الإنكليز ضرب المسلمين بعضهم ببعض، ويريد صاحب الحجاز من أسير الإنكليز في مكة، مثل ما كان من أسير السلطان سليم في الآستانة؛ ليقول {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} (يوسف: 65) ؟ ! إذن ينبغي أن يكون له قوة حجازية، كقوة سليم العثمانية، وأما قوة الدولة البريطانية - الموجهة إلى إماتة السلطة الإسلامية - فلن تكون مُحيية للخلافة النبوية، وإن تركت حكومة الترك الجديدة باب الفتنة مفتوحًا بما اخترعت من الخلافة الروحية، وحصرت السلطة كلها في جمعيتها الوطنية. اضطرب العالم الإسلامي لنبأة ابتداع خلافة ذات سلطة روحية، مجردة من كل سلطة حكومية، وهي بدعة جديدة من الجهتين الإيجابية والسلبية، لم يرمِ إلى مثلها أحد من مبتدعة المسلمين إلا الباطنية، فهم الذين جعلوا لإمامهم المعصوم سلطانًا روحيًّا، وأوجبوا اتباعه في كل ما يفسر به النصوص، وإن كانت قطعية، وفسرها بما يخالف معناها القطعي، ولكنهم لما قدروا على تأسيس دولة جعلوا الإمام الروحي هو السلطان السياسي والحاكم الشرعي، وليس في الإسلام سلطة روحية بالمعنى الذي ابتدعته الباطنية - والترك لا يريدونه - ولا المعروف عند النصارى، وهو نحو منه، حتى نهرب من الجمع بين السلطتين، ونقلد

الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية لقد كانت الخلافة والسلطنة فتنة للناس في المسلمين كما كانت حكومة الملوك فتنة لهم في سائر الأمم والملل، وكانت هذه المسألة نائمة، فأيقظتها الأحداث الطارئة في هذه الأيام، إذ أسقط الترك دولة آل عثمان، وأسسوا من أنقاضها فيهم دولة جمهورية بشكلٍ جديدٍ، من أصوله أنهم لا يقبلون أن يكون في حكومتهم الجديدة سلطة لفردٍ من الأفراد لا باسم خليفة، ولا باسم سلطان، وأنهم قد فصلوا بين الدين والسياسة فصلاً تامًّا، ولكنهم سموا أحد أفراد أسرة السلاطين السابقين، خليفة روحيًّا لجميع المسلمين وحصروا هذه الخلافة في هذه الأسرة كما بينَّا ذلك بالتفصيل في هذا الجزء وما قبله من المنار، لذلك كثر خوض الجرائد في مسألة الخلافة وأحكامها، فكثر الخلط والخبط فيها، ولبس الحق بالباطل، فرأينا من الواجب علينا أن نبين أحكام شريعتنا فيها بالتفصيل الذي يقتضيه المقام؛ ليعرف الحق من الباطل، وأن نُقَفِّي على ذلك بمقال آخر في مكان نظام الخلافة من نظم الحكومات الأخرى، وسيرة المسلمين فيه، وما ينبغي لهم في هذا الزمان، وأن تأييدنا للحكومة التركية الجديدة لمما يوجب علينا هذا البيان والنصيحة، ونحن إنما نؤيدها لمكان الدين، ومصلحة المسلمين، وما أضعف ديننا وأهله إلا محاباتهم للأقوياء، فيه فكانت محاباة العلماء للملوك والخلفاء وبالاً عليهم وعلى الناس، وقد أخذ الله الميثاق على العلماء {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) ، {وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 42) ومن الله نستمد الصواب، ونسأله الحكمة وفصل الخطاب: (1) التعريف بالخلافة: الخلافة، والإمامة العظمى، وإمارة المؤمنين ثلاث كلمات معناها واحد وهو رئاسة الحكومة الإسلامية الجامعة لمصالح الدين والدنيا. 1- قال العلامة الأصولي المحقق السعد التفتازاني في متن مقاصد الطالبين، في علم أصول عقائد الدين [1] : (الفصل الرابع أي من العقائد السمعية في الإمامة وهي رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - 2- وقال العلامة الفقيه أبو الحسن علي بن محمد الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية [2] : الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا. وكلام سائر علماء العقائد والفقهاء من جميع مذاهب أهل السنة لا يخرج عن هذا المعنى، إلا أن الإمام الرازي زاد قيدًا في التعريف فقال: هي رئاسة عامة في الدين والدنيا لشخص واحد من الأشخاص، وقال: هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه، قال السعد في شرح المقاصد بعد ذكر هذا القيد في التعريف وما علله به: وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد، واعتبر رئاستهم على من عداهم أو على كل من آحاد الأمة اهـ. (2) حكم الإمامة أو نصب الخليفة: أجمع سلف الأمة وأهل السنة وجمهور الطوائف الأخرى على أن نصب الإمام أي توليته على الأمة واجبة على المسلمين شرعًا لا عقلاً فقط كما قال بعض المعتزلة، واستدلوا بأمور لخصها السعد في متن المقاصد بقوله: لنا وجوه (الأول) الإجماع، وبيّن في الشرح أن المراد إجماع الصحابة قال: وهو العمدة حتى قدموه على دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الثاني) أنه لا يتم إلا به ما وجب من إقامة الحدود وسد الثغور ونحو ذلك مما يتعلق بحفظ النظام (الثالث) أن فيه جلب منافع ودفع مضار لا تحصى وذلك واجب إجماعًا (الرابع) وجوب طاعته ومعرفته بالكتاب والسنة، وهو يقتضي وجوب حصوله وذلك بنصبه. اهـ، ومعنى الأخير أن ما أجمعوا عليه من وجوب طاعته في المعروف شرعًا ووجوب معرفته بالكتاب والسنة وكونها من أهم شروطه يقتضي أن نصبه واجب شرعًا، وقد أطال السعد في شرح المقاصد في بيان هذه الوجوه وما اعترض به بعض المبتدعة المخالفون عليها والجواب عنها. وقد غفل هو وأمثاله عن الاستدلال على نصب الإمام بالأحاديث الصحيحة الواردة في التزام جماعة المسلمين وإمامهم، وفي بعضها التصريح بأن (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) رواه مسلم من حديث لابن عمر مرفوعًا، وسيأتي حديث حذيفة المتفق عليه، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم - له: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) . (3) مَن يُنَصِّب الخليفة ويَعزله: اتفق أهل السنة على أن نصب الخليفة فرض كفاية، وأن المطالب به أهل الحِل والعقد في الأمة، ووافقهم المعتزلة، والخوارج على أن الإمامة تنعقد ببيعة أهل الحل والعقد. ولكن اضطرب كلام بعض العلماء في أهل الحل والعقد من هم؟ وهل تشترط مبايعتهم كلهم أم يكتفى بعدد معين منهم؟ أم لا يشترط العدد؟ وكان ينبغي أن تكون تسميتهم بأهل الحل والعقد مانعة من الخلاف فيهم، إذ المتبادر منه أنهم زعماء الأمة، وأولو المكانة وموضع الثقة من سوادها الأعظم بحيث تتبعهم في طاعة من يولونه عليها فينتظم به أمرها، ويكون بمأمن من عصيانها وخروجها عليه، قال السعد في شرح المقاصد كغيره من المتكلمين والفقهاء: هم العلماء والرؤساء ووجوه الناس [3] ، زاد في المنهاج للنووي الذين يتيسر اجتماعهم، وعلله شارحه الرملي بقوله: لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس. وهذا التعليل هو غاية التحقيق منطوقًا ومفهومًا، فإذا لم يكن المبايعون بحيث تتبعهم الأمة فلا تنعقد الإمامة بمبايعتهم. وهذا هو المأخوذ من عمل الصحابة - رضي الله عنهم - في تولية الخلفاء الراشدين فإن عمر عدَّ البدء في بيعة أبي بكر فلتة؛ لأنه وقع قبل أن يتم التشاور بين جميع أهل الحِل والعقد؛ إذ لم يكن في سقيفة بني ساعدة أحد من بني هاشم وهم في ذروتهم، وتضافرت الروايات بأن أبا بكر رضي الله عنه أطال التشاور مع كبراء الصحابة في ترشيح عمر، فلم يُعبه أحد له بشيء إلا شدته، وإن كانوا يعترفون أنها في الحق، فكان يجيبهم بأنه يراه يلين فيشتد هو وهو وزيره ليعتدل الأمر، وإن الأمر إذا آل إليه يلين في موضع اللين ويشتد في موضع الشدة - حتى إذا رأى أنه أقنع جمهور الزعماء - وفي مقدمتهم علي كرَّم الله وجهه - صرَّح باستخلافه فقبلوا ولم يشذ منهم أحد، ولمَّا طعن عمر رأى حصر الشورى الواجبة في الستة الزعماء الذين مات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راضٍ؛ لعلمه أنه لا يتقدم عليهم أحد ولا يخالفهم فيما يتفقون عليه أحد؛ لأنهم هم المرشحون للإمامة دون سواهم (وهم عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف) ، ولما أخرج نفسه عبد الرحمن بن عوف منهم وجعلوا له الاختيار بقي ثلاثًا لا تكتحل عينه بكثير نوم وهو يشاور كبراء المهاجرين والأنصار، ولما رجّح عثمان دعا المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد، فلما اجتمعوا عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة الفجر صرّح لهم باختياره وبايعه هؤلاء كلهم، رواه البخاري في صحيحه وغيره. والمراد بأمراء الأجناد ولاة الأقطار الكبرى مصر، والشام وحمص والكوفة والبصرة، وكانوا قد حجّوا مع عمر في ذلك العام وحضروا معه المدينة، ولما شذّ أحد هؤلاء الولاة وهو معاوية فلم يبايع عليًّا كرَّم الله وجهه - مع إجماع سائر المسلمين على مبايعته كان من الفتنة وتفرُّق الكلمة ما كان، وإنما تصح المبايعة باتفاقهم، أو اتفاق الأكثرين الذين يتبعهم غيرهم، ومن لم يتبعهم بالاختيار، سهل عليهم إكراهه بقوة الأمة على الطاعة والانقياد، ومن رؤسائهم في هذا العصر قوّاد الجيش، كوزير الحربية وأركان الحرب، ومتى تمت البيعة في العاصمة وجب أن تتبعها الولايات بمبايعة ولاتها إذا كانوا يتبعون فيها، وإلا وجب أن ينضم إليهم زعماء أهلها من العلماء والقوّاد وغيرهم. وغلط بعض المعتزلة والفقهاء فقالوا: إن البيعة تنعقد دائمًا بخمسة ممن يصلح للإمامة، بدليل ما أشار به عمر؛ إذ حصر الشورى في الستة المرشحين، وقبل جميع الصحابة منه ذلك فكان إجماعًا، نعم كان إجماعًا في تلك الواقعة، لا إجماعًا على ذلك العدد في كل مبايعة، وقالوا: إن مذهب الأشعري أنها تنعقد بعقد واحد منهم إذا كان بمشهد من الشهود وهو غلط أوضح. وقد ذكر هذا القول الفقهاء مقيدًا بما إذا انحصر الحل والعقد فيه [4] بأن وثق زعماء الأمة به وفوَّضوا أمرهم إليه، وهذا لم يقع ويندر أن يقع. وإمامة عثمان لم تكن بمبايعة عبد الرحمن بن عوف وحده، بل كانت عامة لا خاصة به، وكذلك مبايعة عمر لأبي بكر، فإن الإمامة لم تنعقد بمبايعته وحده بل بمتابعة الجماعة له، وقد صحَّ أن عمر أنكر على من زعم أن البيعة تنعقد بواحد من غير مشاورة الجماعة وكان بلغه هذا القول في أثناء حجِّه فعزم على بيان حقيقة أمر المبايعة وما يشترط فيها من الشورى على جماهير الحجاج، فذكره بعضهم بأن الموسم يجمع أخلاط الناس ومن لا يفهمون المقال، فيطيرون به كل مطار، وأنه يجب أن يرجئ هذا البيان إلى أن يعود إلى المدينة فيلقيه على أهل العلم والرأي ففعل. قال على منبر رسول - صلى الله عليه وسلم -: بلغني أن قائلاً منكم يقول: والله لو مات عمر لبايعتُ فلانًا فلا يغترن امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق [5] مثل أبي بكر، من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. ثم ساق خبر بيعة أبي بكر وما كان يخشى من وقوع الفتنة بين المهاجرين والأنصار لولا تلك المبادرة بمبايعته للثقة بقبول سائر المسلمين. رواه البخاري وقد أقرت جماعة الصحابة عمر على ذلك فكان إجماعًا. فتحرر بهذا أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد استشارة جمهور المسلمين واختيار أهل الحِل والعقد ولا تعتبر مبايعة غيرهم إلا أن تكون تبعًا لهم، وأن عمل عمر (رضي الله عنه) خالف هذا الأصل القطعي فكان فلتة لمقتضيات خاصة لا أصلاً شرعيًّا يعمل به، ومَن تصدّى لمثله فبايع أحدًا فلا يصح أن يكون هو ولا من بايعه أهلاً للمبايعة، بل يكون ذلك تغريرًا قد يفضي إلى قتلهما إذا أحدث في الأمة شقاقًَا يوجبه. (4) سلطة الأمة ومعنى الجماعة: قال الله تعالى في وصف المؤمنين {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ، والقرآن يخاطب جماعة المؤمنين بالأحكام التي يشرعها حتى أحكام القتال ونحوها من الأمور العامة التي لا تتعلق بالأفراد كما بيَّناه في التفسير، وقد أمر بطاعة أولي الأمر وهم جماعة لأولي الأمر، وذلك أن ولي الأمر إنما يُطاع بتأييد جماعة المسلمين الذين بايعوه له وثقتهم به، ويدل على هذا المعنى ما ورد من الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة وكون طاعة الأمير تابعة لطاعتهم واجتماع الكلمة بسلطتهم كحديث ابن عباس في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (مَن رأى من أميره شيئًا فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبرًا فمات مات ميتة جاهلية) ولما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان بما يكون في الأمة من الفتن في الحديث الصحيح المشهور: قال: (فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قال: قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها) إلخ. قال الطبري بعد ذكر الخلاف في الجماعة، ومنه حصر بعضهم إياه في الصحابة: والصواب لزوم ال

الخلافة الإسلامية ـ 9

الكاتب: محيي الدين آزاد

_ الخلافة الإسلامية ألَّفه باللغة الأُوردية أحد زعماء النهضة الهندية مولانا أبو الكلام محيي الدين آزاد - صاحب مجلة (الهلال) الهندية وترجمه بالعربية أحد تلاميذ دار الدعوة والإرشاد الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي - محرر جريدة (بيغام) الهندية باب الأئمة من قريش فصل تحقيق إمارة قريش واشتراط القرشية إذا تتبعت الكتاب والسنة والآثار والدلائل الشرعية والعقلية - لا تجد فيها نصًّا قطعيًّا على تخصيص الخلافة، والإمامة بقريشٍ، نعم، نجزم بصحة الأحاديث التي وردت في هذا الباب، وكذلك خطبة أبي بكر الصديق في سقيفة بني ساعدة على مسمع من الصحابة، وعدم إنكارهم عليها، وشهرة هذا الأمر فيهم، ومَن بعدهم إلى انقراض الدولة العباسية أيضًا صحيحة، ولكن الحقيقة مع ذلك كله على خلاف ما يفهمه الناس؛ لأنه كما لا يُنكر ما ذكرناه آنفًا - لا ينكر أن الشريعة الغراء لم تحصر الخلافة قط في قومٍ دون قومٍ، وقبيلة دون أخرى، قل ما شئت عن هذه الشريعة، ولكن لا يسعك أن نقول هذا؛ لأنها إنما جاءت لتحرير الإنسانية من القيود، والأغلال التي كانت عليها، ولإعلاء شأنها، ورفع معالمها، وإعلان ناموس العمل، وهدم أوثان العصبية، والامتيازات القومية الباطلة، فهل ترجع بعد هذا القهقرى، وتشيد بأيديها هيكلاً جديدًا لتلك الأوثان المجذوذة؟ ! [1] لسنا في حاجة إلى الإطناب والتفصيل؛ إذ كل مَن له أدنى معرفة بالشريعة يعلم حق العلم أنها من أول نشأتها انقضَّت على قصور الامتيازات القومية الفخمة، ودكَّتها دكة واحدة، حتى جعلتها أثرًا بعد عين، ماذا كان حال العرب قبل الإسلام؟ ، كانوا في غاية من العصبية، مبالغين في اعتبار النسب، غير مبالين بمَن سواهم، لا يرون لأحدٍ شرفًا ولا فضلاً، حتى الرعاة منهم كانوا يشمخون أمام الملوك والعظماء، ويعدون القياصرة والأكاسرة مَهينين أمام عزِّهم القوي وشرفهم النَّسبي، ليست العرب وحدها، بل الدنيا كلها كانت سائرة على هذا المنهج، عاكفة على هذه الأوثان، موثقة بهذه القيود والأصفاد، ظهر الإسلام، فهاجم قبل كل شيء هذه الأصنام، ونادى مناديه - بأعلى صوته -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ، فجعل أساس الشرف والفضل العمل وحده، فمَن علا به عمله فهو شريف فاضل، ومَن سقط به عمله فهو ساقط مهين، مهما كان كريم النسب عالي الحسب، وقال: {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} (النجم: 38-40) ، وكان صاحب لوائه صلى الله عليه وسلم يصيح بين الأنام: (ليس منا مَن دعا إلى عصبية، ليس منا مَن قاتل على عصبية، وليس منا مَن مات على عصبية) ، وأوصى أمته - في آخر حياته يوم الحج الأكبر - قائلاً: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، كلكم أبناء آدم) (الشيخان) ، وقال: (ليس لأحد فضل على أحد إلا بدين وتقوى، الناس كلهم بنو آدم، وآدم من تراب) (رواه الجماعة) ، فظهور الإسلام وقيامه ضمان للمساواة في النوع الإنساني، فلا فضل بعده لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، الناس كلهم إخوان، أبوهم آدم، وأمهم حواء، وإنما الأفضل أحسنهم عملاً، وأقومهم طريقةً، وأتقاهم لربهم. أما عمله صلى الله عليه وسلم فشاهد على ذلك؛ فإنه لما بعث آخر بعث في حياته أَمَّرَ أسامة بن مولاه زيد، فأنكر عليه هذا بعض السذج فقال صلى الله عليه وسلم: (لقد طعنتم في إمارة أبيه، وكان أهلاً لها، وإن أسامة لها أهل) ، فتأمل في قوله عليه السلام كيف كرر كلمة (الأهل) ؛ ليُعلم أن الإمارة والرئاسة تتوقف على الأهلية لا غير [2] ، وقول عائشة رضي الله عنها في زيد مشهور، حيث قالت: (لو كان زيد حيًّا ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره) [3] ، وسرية أسامة - التي نحن بصددها - كانت مشتملة على سادات من المهاجرين والأنصار وفحول من العرب العرباء، وقريش أصحاب المجد الباذخ، وكان فيها أبو بكر الصديق الذي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار بعد بضعة أيام أميرًا للمؤمنين، ورئيسًا للمسلمين [4] . وهكذا أمرُ بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي معلوم مشهور، حتى إن عمر الفاروق القرشي كان يقول في بلال: سيدنا ومولانا، وإذا رأى صهيبًا يقول: (نِعم العبد صهيب لو لم يَخَفِ الله لم يعصِهِ) ، وأوصى عند وفاته أن يصلي عليه صهيب، وأمير المؤمنين علي - عليه السلام - القرشي الهاشمي كان يقول في سلمان: (سلمان منا أهل البيت) [5] ، فكان من أمر العرب بعد الإسلام أن انحلت عصبيتهم النسبية في خلال قرن، وسبقهم العجم في مضمار المحاسن والفضائل، وخضعت العرب أما علمهم وعملهم، كما كانت تخضع أمام قريش، وبني هاشم، حتى اضطر الخليفة القرشي هشام بن عبد الملك أن يقول للإمام الزهري: (والله ليسودنَّ الموالي العربَ، ويُخطَب لهم على المنابر، والعرب تحتهم) (العِقد الفريد) [6] فهل يتصور بعد هذا أن داعي الإسلام صلى الله عليه وسلم الذي دعا النوع الإنساني إلى نبذ العصبية وغرور النسب وإقامة المساواة العامة - يرجع القهقرَى؟! فيتبع الهوى؟ ويحصر الحكومة والسلطنة والخلافة في قومه وقبيلته إلى آخر الدهر؟ ويقول لسائر الناس لا فضل ولا شرف ولا حق إلا بالعمل والأهلية، ثم ينسى هذا، ويترك العمل وراء ظهره، ويقول لنفسه: النسب، القبيلة، الوطن، ويسلط قومه على العالم كله؟ ! لعَمْر أبيك إن هذا لشيء عُجاب! [7] نعم، إنه من عجب العجب، ولكن ما كنا لنبالي به لو نطق به كتاب الله وسنة رسوله؛ لأن ميزان الحق عندنا الكتاب والسنة، فإذا ثبت فيهما شيء فهو حق، سواء فهمناه أو لم نفهمه؛ ولذا لم نستبعده بمجرد فهمنا وعقلنا، بل استبعدناه لأنَّا ما وجدناه فيهما، وقلنا إنه لا يليق بهذا الدين، دين الفطرة، دين المساواة، دين العمل. ((يتبع بمقال تالٍ))

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 7

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة (7) (70) اعتنى المسلمون قديمًا بالرياضة البدنية اعتناءً رائدًا؛ لأن العمل الصحيح لا يكون إلا في الجسم الصحيح؛ ولذلك كانوا يعلِّمون الشبان فن الفروسية والرماية والسباحة اتباعًا للحديث الشريف القائل: (علموا أولادكم السباحة والرماية) [1] (وعليكم بالرمي؛ فإنه خير لهوكم) [2] (والرمي خير ما لهوتم به) [3] ليتأمل العاقل نتيجة دين يأمر بتوسيع دائرة المعارف، وتزييد أسباب الثروة وتقوية البدن! (وفن الحرب) ، وهذه الأركان الثلاثة متصل بعضها ببعض، كما لصقت محاسن الأخلاق بالتحابّ والتوادّ، هل يقف أمام قوم هذا منهاجهم مهما قل عددهم وعديدهم - أعظم إمبراطورية؟ ! (71) الرحمة للصغير، واحترام الكبير كان خُلقًا راسخًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا مَن لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا) [4] (72) الاقتصاد كان أساسًا ثابتًا ومحترمًا، لأنه جاء في الحديث: (ما عال مَن اقتصد) [5] (73) وأما الشح فكان مذمومًا جدًّا؛ جاء في الحديث الشريف: (ما محق الإسلام محق الشح شيء) [6] (74) السخاء كان أمرًا ممدوحًا جدًّا؛ قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا السخي زَلَّته؛ فإن الله آخذ بيده كلما عثر) [7] مَن لا يعرف أن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما سمحا بثروتهما لأجل استكمال وسائل الحرب؟ (75) وأما البُخل فكان في أقصى درجات المعيبات والمذمومات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق) [8] (76) حرية الوجدان وحرية المساكن وصيانة الملك بأنواعه، ولا سيما الكتب والرسائل وأمثالها من الحريات السياسية التي طالما افتخر بها الأوربيون - كانت من جملة ما جاءنا به نبينا قبل ألف سنة وكسور، قال الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) ، وقال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) ، وقال رسوله: (مَن اطَّلع في بيت بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه) [9] ، وقال الله: {لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) ، وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن اطلع في كتاب أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في النار) [10] ، وقصارى القول لو اعتنى علماؤنا باستخراج أمثال هذه الأحاديث لوجدوا فيها من الوثائق ما هو كافٍ لإبطال كل دعوى اتُّهِمَ بها الدين الحنيف. ومما يوجب الأسف أن المصائب التي حلت بالمسلمين كأنها لم تكفِ لفتح عيونهم لتحرِّي أوامر هذا الدين المبين، الذي يقتضي أن يكون متبعوه في طليعة العلماء والأغنياء والأقوياء والأمراء، واعجباه! (77) إن التهيُّؤ للخَصْم ومقابلة قوته بالقوة من أسس الإسلام؛ لذلك قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ، فهل للمسلمين - بعد هذا - أن يكلوا الأمور لمشيئة الله تعالى، ويعطلوا قوائم وأوامر القرآن، ويعدوا ذلك من الإسلام؟ (78) أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حسن اختيار الموظفين بقوله: (لكل شيء آفة تفسده، وآفة هذا الدين ولاة السوء) [11] ، فهل يحل بعد هذا أن يقبل الوالي المسلم الشفاعات لأجل توسيد الأمور العامة لغير أهلها؟ ! . (79) كانوا يعتنون بكل ما يزيد الثروة العمومية، ولا سيما تربية الغنم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتخذِ الغنم؛ فإنها بركة) [12] ، وغير خافٍ على أحد أهمية ما للغنم من المكانة الاقتصادية في عصرنا. ليتنبه الكسالى! . (80) كانوا يضعون الشيء في محله، ويتباعدون عن الإسراف والتبذير استرشادًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدنانير دينارٌ ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز وجل) [13] . وهذا يدل على أنه لم يكن من المعروف في عصره صلى الله عليه وسلم تخصيص الثروة بأناس كسالى، ينامون على ظهورهم، تاركين العمل وعادِّين هذا عبادة. (81) كان العمل والجد ممدوحًا، والكسل مذمومًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَن بات كالاًّ من طلب الحلال بات مغفورًا له) [14] . (82) أشد ما اعتنت به الديانة الأحمدية الصناعة والتجارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (أطيب الكسب عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) [15] . (83) كان الفقر مكروهًا مُستعاذًا منه، وإنما يطلب الصبر عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بالله من الفقر والعَيْلَة، ومن أن تَظلموا أو تُظلموا) [16] و (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أَظلم أو أُظلم) [17] ، وإن أبا بكر كان تاجرًا غنيًّا، وكذلك ذو النورين، واكتسب طلحة، والزبير ثروة هائلة من التجارة. (84) ما كان في أوائل الإسلام أحد ينكمش في زاوية أو تكية؛ ليأكل، ويشرب من ثمرة جد غيره باسم الدين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك) [18] . لذلك كان كل واحد يشتغل بعمل من الأعمال حسب قدرته العقلية والبدنية. (85) الحراثة كانت محترمة جدًّا، وقد أمرنا بها سيدنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (احرثوا؛ فإن الحرث مبارك، وأكثِرُوا فيه من الحجاجم) [19] . (86) الحياة الاستقلالية كانت أساس أمل كل فرد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم مَن لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلاًّ على الناس) [20] . لذلك كان كُلٌّ يسعى لئلا يكون حملاً ثقيلاً على المسلمين شأن البَطَّالين والكسالى اليوم. (87) الاتِّجار في الأقطار، وجلْب ما يحتاجه الناس - كان من الأمور الممدوحة، والاحتكار كان من الأمور المذمومة، جاء في الحديث: (الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله) [21] . هنا أدعو القارئ الكريم لأن يطالع بحث التجارة الخارجية، وبحث الاحتكار في كتب الاقتصاد السياسي؛ ليرى علو معنى هذا الحديث. (88) التبذير وعمل الأشياء التي لا فائدة منها - كانت مجهولة عندهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج) [22] . من هنا يُفهم أن إنشاء التُّرَب وزيارتها ليس من الإسلامية في شيءٍ، وقد انتقلت هذه الخرافة لديننا الصافي النقي من أساطير الهنود القديمة. إذًا إتلاف شيء من الثروة وإيقاد الشموع على القبور موجب للعنة، فأين المتأملون؟ ! (89) في القرون الوسطى كان للنصارى - في محلات مختلفة - صَوامع ينقطعون للعبادة فيها، فنهانا نبينا عن ذلك: (لا رهبانية في الإسلام) ؛ لأن الله أمرنا بالعمل؛ إذ قال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 41) (90) إن ذبح القربان على القبور ممنوع في دين الإسلام؛ لأنه جاء في الحديث: (لا عقر في الإسلام) [23] (91) النذر: (لا وفاء لنذر في معصية الله) [24] (92) تعليق بعض الأشياء على الأولاد وغيرهم؛ لدفع النظر، أو استكتاب النسخ؛ لأجل محبة الأزواج لزوجاتهن من أمور الشرك - نعوذ بالله - لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) [25] . ليتنبه الغافلون المبذرون! (93) نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَن ربط القلب بالمشعوذين، وقال: (مَن تعلق شيئًا وُكِّلَ له) [26] والنتيجة الحرمان. (94) كذلك نهى عن مراجعة العرَّافين، الذي يبتزون أموال الناس بدعوى الإخبار عن الغيب، قال: (مَن أتى عرَّافًا فسأله عن شيء فصدَّقه - لم تُقْبَلْ له صلاةٌ أربعين يومًا) [27] ولأن الله تعالى قال - في كتابه الكريم آمِرًا نبيَّه أن يبلِّغ الأمة: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50) فما قول خفاف العقول - الذين يطلبون علم الغيب من العرافين - بعد ما جاء في هذه الآية الكريمة من الصراحة؟ ! (95) نهى صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم من الاسم أو من صوت الطير وضرب الرمل، وَعَدَّ ذلك وثنيَّةً، فقال: (العِيَافَةُ والطِّيَرَةُ والطَّرْقُ مِن الجِبْتِ) [28] (96) وكذلك عَدَّ التطير شركًا، فقال: (الطيرة شرك) [29] (97) كانوا لا يتشاءمون من طير الطائر، ولا يعتمدون على أقوال الكهنة والسحرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخرج مَن يفعل ذلك من الجمعية الإسلامية؛ إذ قال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيَّرَ لَهُ، وتَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ) [30] (98) الحسد والنميمة والكهانة كانت بمنزلة واحدة؛ لأنه جاء في الحديث الشريف: (ليس مني ذو حسد، ولا نميمة، ولا كهانة، ولا أنا منه) [31] . أين مَن يعتبر؟ ! (99) لا واسطة بين العبد والمعبود في دين أحمد، وكل فرد مسؤول عن عمله؛ لأن الله تعالى قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) ، أما ما يعمله - أو يتخذه - بعض الجهلة من الوسطاء لله تعالى، فهو مأخوذ من الأمم السابقة، وتقليد (للأغراء) من النصارى و (للبراهمة) عند الهنود القدماء و (لمونية) عند الزردشتيين و (للكاهن) عند الكلدان، وما لهذا مكان في دين الإسلام. (100) إن الله غني عن أية واسطة بينه وبين عبده؛ لأنه قال - في كتابه الكريم-: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق: 16) . وأما بناء القبور الفخمة المزيَّنة، واتخاذها ملجأً لقضاء الحاجيات، فهو ليس من الإسلام في شيء، ولكنه تقليد للنصارى والهنود والإيرانيين، كما سيجيء تفصيل دخول هذه الخرافات في تعاليم الإسلام. (101) الغيبة كانت مستكرهة جدًّا؛ لأن الله قال: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} (الحجرات: 12) . ليتنبَّه الأغبياء الذين يقضون أوقاتهم باغتياب الناس، والسبحة في أيديهم. (102) لم يَعْتَنِ الدين الإسلامي بشيءٍ كما اعتنى بالعلم، وقد جاء في الحديث: (طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة، وطلب العلم يومًا خير من صيام ثلاثة أشهر) [32] ، وقال أيضًا: (العلم أفضل من العبادة ومَلاك الدين الورع) [33] ، و (فضل العلم أحبُّ إليَّ من فضل العبادة) [34] ، و (أفلح مَن رزق علمًا) [35] . (103) الحرية الشخصية والاستقلال الذاتي من أهم قواعد الدين الحنيف، وحفظًا لكرامة الضرر، جاء في القرآن الكريم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) . فإن كان - جل جلاله - ينهى نبيه عن السيطرة، فهل يكون هناك دين يكفل الحرية أزيد من دين الإسلام؟ ، وسنبحث في مقابلة الإسلام بغيره في هذه المسألة بحثًا خاصًّا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

طائفة الشيعة في سورية وحاجتها إلى إصلاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طائفة الشيعة في سورية وحاجتها إلى الإصلاح كان لطائفة الشيعة المشهورة باسم (المتأولة) شأن عظيم في جبل عامل، وجبل لبنان من سورية، ونواحي بعلبك في سعة الأملاك والوجاهة والثروة وفي العلم والأدب، ولما كان ما كان من نهضة النصارى الأخيرة في لبنان - انكمش الشيعة وتضاءلوا وفاقهم النصارى في كل شيء، حتى غلبوهم على أملاكهم الواسعة، فلم يبقَ لهم فيه شيء يُذكر، وقد كان من أسباب ذلك السخاء العربي البالغ منتهى حد الإسراف وحب الفخفخة والعظمة، ولو بالباطل، والثناء والتعظيم، وإن كان كذبًا، حتى إن كثيرًا من أملاك شيوخهم وكبرائهم قد آلت إلى مَن كان عندهم من الفلاحين والخدم من النصارى، الذين كانوا يستغلون هذا الضعف منهم بغاية الحذق كحفظ امتيازهم لهم بلبس الحذاء الأحمر المسمى بالجزمة، ومن أغرب ما حُكي عنهم في ذلك أن أحد الفلاحين أهدى إلى شيخ بلدة منهم جزمة حمراء، فأنعم عليه الشيخ بحقل أو كرم عظيم - يسمى عودة - كان هو في أشد الحاجة إليه. لم تشارك الشيعة النصارى في شيء من تلقِّي العلوم والفنون الحديثة في القرن الماضي، وكذلك كان أهل السنة الذين هم أكثر سكان مدن سورية الكبرى، وأوْلى بالإسراع إلى كل ما يتجدد من أسباب الحضارة، ولكن هؤلاء عُنوا في هذا القرن بعض العناية في العلوم والفنون العصرية، وفي التجارة وترقية الزراعة أيضًا، وظل جيرانهم من الشيعة على خمولهم راضين من العلم والأدب بما يتلقاه بعض رجال الدين منهم في مدرسة النجف الكبرى، أو على المتخرِّجين فيها من فنون العربية والعلوم الشرعية. وقد قرأنا في الشهر الماضي مقالتين في جريدة (الاتفاق) الأسبوعية - التي تصدر في مدينة صيدا - عنوانهما: (تأخُّر الطائفة الشيعية وكيفية تقدُّمها) ، كانت هي الداعية، بل الداعَّة لنا إلى كتابة هذا؛ إذ راعنا منها وصف كاتب المقالة (المخلص) الغيور لقرى الشيعة في جبل عامل وبعلبك بأنها مهدَّمة المساجد، خالية من المدارس، وقوله: إن الأميين منهم يتجاوز عددهم 95 في المئة، وإن هذا الجهل أكبر أسباب حرمان الطائفة من تمثيلها في الحكومة الحاضرة كما يجب، وإن بعضهم سعى في العام الماضي إلى تعيين عضو شيعي في محكمة التمييز (النقض والإبرام) ، التي أُنشئتْ في بيروت (غير أنهم خجلوا لما علموا أن الطائفة ليس لديها سوى ثلاثة شبان من خريجي مدارس الحقوق) ! ، والحكومة غير راضية عنهم (كذا قال أفليس في قوله مبالغة) . ثم قال الكاتب: يتفرَّع عن الجهل فروع عديدة، أهمها التعصب الديني الأعمى الذي جعلنا أن نتسكَّع في مهاوي الشقاء، ونرتطم في حمأة التخلف لاهين في تكفير زيد، وتشريك عمرو، وسِوَانا دائب في ترقية نفسه وإعلاء شأنه إلخ، ثم ذكر فرعًا آخر من فروع الجهل، وهو الخمول أو الجمود في العقول، والفتور في الهِمَم. ثم ذكر من أسباب هذا التأخر تفرق كلمة الرؤساء وتحاسد الزعماء، ومقاومة كل منهم للآخر بدلاً من التعاون على رفع شأن الطائفة، وقفَّى عليه بتدخُّل علمائهم في كل الأمور السياسية، وعدَّه من أهم عِلَل تأخر الطائفة معللاً له، أو مستدلاً عليه بأن: (الدين واللغة شيء، والسياسة شيء آخر لم يتفقا، ولن يتفقا) ، وبأن الرؤساء الروحيين الغربيين لا يتدخلون في السياسة ألبتة، واقترح على علماء الطائفة ومجتهديها التفرغ لتوثيق الرابطة الدينية، وتوطيدها على أسس القومية الحق، وتهذيب أخلاق الأمة. هذا ملخص المقالة الأولى، وأما ملخص الثانية فاقتراح تأليف جمعية من خيرة العلماء والزعماء لترقية شأن الطائفة بالعلوم والفنون العصرية، ومساعدة جريدة راقية تمثل الطائفة، وضرب اليهود والأرمن مثلاً للطائفة الصغيرة التي ليس لها حكومة، ويجب عليها أن تنهض بنفسها وهمَّتها وإقدامها. قال: (والطائفة الشيعية هي كالأرمن واليهود من كل وجه إلا وجه واحد، وهو التقدم والتفوق) ، ولكنه ذكر في سبب الفروق بينهما أن اليهود والأرمن غير متعصبين كالشيعة، وهذا غلطٌ، فهُم أشدّ خلق الله تعصُّبًا لأنفسهم على غيرهم، ولكن بعلم وعقل ودهاء وحذق. ثم ذكر من نشاط الأرمن في خدمة الجيش الإنكليزي ومساعدتهم له في حربه لدولتهم العثمانية - التي كانت تفضلهم على قوم نبيّها العرب وعلى سائر العثمانيين في الوظائف وسائر المعاملات - أن نساءهم ورجالهم كانوا يتجسسون لهم، ويدخلون المعسكرات التركية والبلاد، ويجمعون الأموال حتى من المسلمين للعصابات المسلحة؛ لتستعين بها على قتال الترك، وقال: (إنهم بهذه الطريقة كانوا يصحبون معهم ضباطًا من الجيش الإنكليزي الذي كان يحارب في جهات الموصل، فيقف هؤلاء على جمع حركات الألمان والأتراك العسكرية، وهذا ما جرى مع (الكبتن ولور) الضابط الإنكليزي الذي دخل هو ورفيق له مرة مع تاجر أرمني متنكِّرين إلى مدينة (باكو) ، وكان بصحبتهم أحد تجار المدينة المثرين المسمى ناصر علي خان - أي الذي هو خان - ادّعى أنهن زوجاته الثلاث، فقضوا في باكو بضعة أيام حيث جمعوا مبلغًا من المال، ودوَّنوا في حقائبهم جميع ما عرفوه من الحقائق عن الجيش الألماني التركي، وذكر أن ذلك الضابط الإنكليزي كافأ الأرمن بكتابة مقالة عنهم قال فيه: (حرام أن يحكم الترك ويسيطروا على الشعب الأرمني النشيط الذي هو كفء لتنظيم أمور دولة عظيمة، لذلك نرى أرمينية اليوم إرلندة ثانية في تركية. ونعلق على هذه الكلمة أن الإنكليز - الذين يسخِّرون الشعوب لخدمتهم من حيث لا تشعر - قد جعلوا الأرمن الأذكياء جدًّا في دائرة ضيقة جدًّا من أشقى أهل الأرض، فجنوا عليهم أقبح جناية، كما جنوا أخيرًا على اليونان الذين يُشْبِهون الأرمن في نشاطهم وغرورهم بأنفسهم، وعلى العرب الأغرار من قبلهم، ولا يزال الإنكليز كالسيل يقذف جُلمودًا بجلمود، ومن العجائب استمرار انخداع الشعوب - بله الأفراد - بتغريرهم، ولعل الأحداث الحاضرة تنتهي بمعرفة جميع الشعوب حقيقة أمرهم، وأن مثلهم: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الحشر: 16) ، وأما الأفراد فلا يزالون يجدون فيهم أغبياء وخونة إلى أن يجيء اليوم الذي يعاقب فيه كل شعب مَن يخونه ويغشه بحمْله على قبول النفوذ الأجنبي في بلاده، وعسى أن يكون ذلك اليوم الموعود قريبًا. ثم نعود إلى الكلام في إصلاح طائفة الشيعة الذي يهمنا جدًّا، فنقول: (إننا كنا عزمنا أن نزور النجف في رحلتنا الهندية العراقية، فحال دون عزمنا ما عزانا من الحُمَّى في البصرة، ثم في بغداد، والاضطرار عقب النقه إلى السفر، كنا عزمنا على هذه الزيارة لأجل البحث مع مُحبِّي الإصلاح من العلماء، ولا سيما السادة الشرفاء منهم في هذا الإصلاح، وقد جاء وفدٌ إلى بغداد لزيارتنا، ودعوتنا إلى النجف الأشرف، وقد قال لنا رئيسه - وهو سيد عالم شهير -: إننا نَعُدُّكَ إمامًا مصلحًا لجميع المسلمين، فلماذا تخص أهل السنة بإرشادك ونقدك لما حدث من البدع والخرافات، وعندنا أضعاف أضعافها، أنت ساكت عنها؟ !) . فأجبته: حقًّا، إنني على ضعفي وعجزي حريص على الإصلاح الإسلامي على إطلاقه وعمومه، لا أخص به أهل مذهب دون غيره، وإنني لست سُنِّيًّا بمعنى التعصب أو التقليد لمذهب من المذاهب التي تنتمي إلى السنة كالأشعرية أو الحنفية والشافعية، بل أنا سُني بمعنى أنني مستمسك بما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا أُوثِرُ عليه تقليد أحد، وأما سبب سكوتي عن إنكار بعض البدع والخرافات الفاشية في الشيعة - فلأن قراء المنار من الشيعة قليلون ولا يحتاجون إلى النص في المنار على إنكار بعض البدع الخاصة بهم كنقل جثث الموتى من البلاد البعيدة - ومنها منتنة - إلى قرب مدافن آل البيت عليهم السلام في العراق لدفنها في مساجدهم، أو بالقرب منها (مثلاً) ، ولو فعلت هذا لجاء بضد ما نريد من الإصلاح بإنكاره؛ إذ يكون سببًا لحمْل بعض متعصبي العلماء الجامدين على الطعن في المنار وصاحبه، بأنه متعصب لأهل السنة على الشيعة، بل عدو لهم، كما فعل بعضهم في سورية؛ إذ ألَّف رسالة عنوانها (الشيعة والمنار) لما رأى بعض قرَّاء المنار - من طلبة العلم والأدباء - قد استحسنوا طريقة المنار الاستقلالية في فهم الدين وحرية العلم والرأي، وإنما أدع هذا لكم، ثم تكلمنا فيما ينبغي من طرق الإصلاح العام والخاص، ورأيي فيهما. ومما قلته: إن الشيعة أشد تعصُّبًا من سائر المسلمين في دينهم ومذهبهم، وأشد احترامًا للعلماء والسادة وطاعة لهم، وهذا مما يُعين على الإصلاح، وإن كان سببًا لكثير من الفساد، فيجب على العلماء - ولا سيما السادة منهم - أن ينهضوا بأمر الإصلاح قبل أن يغير الزمان الشعب عليهم، فهذه الحال لا يمكن دوامها، وقد رأيتم أن البابية والبهائية دعوا الشيعة إلى دين وثني جديد، قد ظهر فساد مثله من ضلال الباطنية وفرقها المعلومة؛ فاستجاب لهما ألوف منهم، فإذا أنتم دعوتموه إلى الإصلاح الحق الذي يجمع كلمة المسلمين ويزيل الأحقاد التي كان سببها السياسة وعداوة الباطنية للإسلام نفسه ورجعتم بالإسلام إلى أصوله من الكتاب وصحيح الأثر وسيرة السلف الصالح من أئمة آل البيت وغيرهم مع بيان كفالة الحنيفية السمحة لما يُرقي المسلمين في هذا العصر من علوم وفنون وأعمال - فإنكم تنجحون نجاحًا عظيمًا. قال: إن هذا حسن، ولكن المستعدِّين له من كُبراء العلماء المجتهدين قليلون؛ لأن معظم أوقات حياتهم مصروفة فيما يَحُولُ بينهم وبين العلم بالحاجة إليه، وذكر لي كلمة عن كبير منهم رأيته في الهند، وأثنيت له على علمه وفضله قال: إن من المسائل التي اهتمّ بتحقيقها وإطالة البحث فيها - مسألة بول البراق الذي عرج عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء هل هو طاهر أم نجس؟ ! ، (قال) : ولكن كثيرًا من النابتة الجديدة في النجف الأشرف مستعدون لهذا الإصلاح، وهم يتمنّون لو يرونكم لو اجتمعوا بكم لاستفادوا كثيرًا، فقلت: إنكم أنتم تبلغونهم رأيي، وإنما الإنسان بعلمه ورأيه، لا بصورته وبدنه. بعد هذه الكلمة التي أقصد بها إثبات اهتمامي بإصلاح حال الطائفة الشيعة خاصة، أقول: إنني أجيز اقتراح الكاتب (مخلص) تأليف جمعية من العلماء والزعماء لرفع شأن الطائفة بالعلم والعمل والثروة، وأنكر عليه قوله: إن الشيعة كاليهود والأرمن، فينبغي لهم أن يتأسوا بهم في نهضتهم: اليهود شعب له مقوِّمات الشعوب المستقلة بجنسيتها في نسبه ودينه ولغته، والأرمن مثله في كل شيء إلا الدين، ولكن لهم رياسة دينية خاصة، والشيعة ليست كذلك؛ فلا هي مستقلة بدين ولا لغة ولا نسب، بل دينها الإسلام، وهي مؤلَّفة من شعوب كثيرة ذات لغات وأنساب مختلفة، وإنما شيعة سورية عرب في اللغة والنسب، فلم يبقَ بينها وبين الأرمن شَبَهٌ إلا في اختلاف المذهب، وهو لا يقتضي في الإسلام التفرقة، فالصواب أن يكونوا في الإصلاح القومي مع أبناء جنسهم من العرب في كل ما يرقي الأمة العربية، وفي الإصلاح الديني مع سائر إخوانهم المسلمين فيما يطهِّرهم من البدع والخرافات ويُزكيهم بهدي الإسلام، والتعاون مع سائر المسلمين على كل ما يرفع شأنه، ويعز أهله ويمنع أن يكون الخلاف في بعض المسائل المذهبية سببًا للتفرُّق والشقاق

خطبة الغازي مصطفى كمال باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة الغازي مصطفى كمال باشا (التي ألقاها في مجلس الجمعية الوطنية الكبيرة بأنقرة في جلسة 12 ربيع الأول - أول نوفمبر - التي أعلنوا فيها إسقاط الدولة العثمانية للإقناع بكوْن سلب المجلس السلطةَ من الخليفة موافقًا للشرع الإسلامي، وكان ذلك على إثْر إرسال توفيق باشا الصدر الأعظم برقيات إليه بطلب أعضاء من حكومة أنقرة ينضمون إلى الأعضاء الذي يختارهم الباب العالي لمؤتمر الصلح الدولي) . ماهية الباب العالي: أيها الزملاء: إن توفيق باشا - الذي يضيف إلى اسمه في الآستانة صفة غير شرعية - قد راجع القيادة العليا لجيوشكم ببرقية خصوصية سرية، ثم أردفها ببرقية صريحة تُفشي سر الأولى، وإذا ما فحصتم البرقية ألفيتموها ترمي إلى تهويش الرأي العام الإسلامي، وإضعاف حكومتنا الوطنية التي فازت في الدفاع عن قضيتنا المقدسة فوزًا فعليًّا وقانونيًّا إزاء الأعداء الذين كانوا يرومون محق استقلالنا، وقد اقتضت تلك البرقية العارية عن المعنى والمنطق تكرار حقيقة مؤيدة بوجود مجلسكم العالي، لا شك أن الحقيقة المندمجة في شكل إدارتنا هي أخْذ الشعب التركي بزمام أموره، وقيامه بمهام سلطنته الشعبية منذ ثلاثة أعوام، ودفاعه عن قضيته المقدسة، وقد أدى ظهور هذه الحقيقة إلى زوال باطل هو اجتماع سيادة الشعب وسلطنته في يد شخصٍ واحدٍ، أكرر هذه الحقيقة التي أقرها الشعب، وأقرتها الهيئة الجليلة المؤلَّفة مِن وكلائه تبعًا لإرادة الأمة مِرَارًا، وأرجوكم أن تتفضلوا بالإصغاء إليَّ بضع دقائق. حضرات الزملاء: لعلكم توافقونني على إلقاء نظرة سريعة قصيرة في التاريخ التركي والتاريخ الإسلامي توضيحًا للحقيقة. خلاصة تاريخية سياسية للتركية والإسلامية: إن في هذا العالم الإنساني أمة تركية عظيمة، يزيد عددها على مائة مليون على أقل تقدير، ولهذه الأمة مكان فسيح في التاريخ يضاهي مكانها على وجه الأرض، وإذا ما شئتم - أيها السادة - أمكننا أن نقيس هذا التاريخ بمقياسين: الأول خاص بالعهد الذي يتقدم التاريخ المدون، ومنه نعلم أن أول تركي ابن يافث بن نوح - عليه السلام - وليس لنا إلا أن نتسامح مع أول العهود التاريخية، التي كانت تتسامح في جمع الوثائق، إنما يمكننا أن نقول مستندين إلى أقطع الدلائل التاريخية المادية الجلية: إن الأتراك أسسوا دولاً عظمى في قلب آسيا منذ خمسة عشر قرنًا، وكانوا من العناصر التي تجلَّت فيها جميع أنواع القابليات الإنسانية، وقد قام بتأسيس تلك الدول التركية أجدادنا، الذين كانوا يرسلون سفراءهم إلى (الصين) ، ويتقبلون سفراء (بيزنطة) في عواصمهم. كذلك من المعلوم - أيها الزملاء - أن في العالم كتلة عربية، يتكون من قسمها الآسيوي كتلة متكاتفة، وقد ظهر من هذه الأمة العربية فخر العالم، والرسول الأعظم سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -. أيها السادة: إن الله واحد أحد عظيم، ونستطيع أن نقول - ناظرين إلى تجلِّيَات السنن الإلهية -: إن الناس يصح فحصهم، وهم في حالين، وفي عهدين: العهد الأول عهد الصبا والشباب البشري، والعهد الثاني عهد الرشد والكمال الإنساني، والإنسانية في عهدها الأول كالطفل وكالشاب تبتغي أن تشتغل بنفسها بالوسائل القريبة المادية، وقد اقتضت إرادة الله أن يبعث في الناس مَن يرشدهم إلى أن يتم وصولهم إلى الكمال؛ ولذلك أرسل فيهم من عهد آدم - عليه السلام - أنبياءَ ورسلاً لا يمكن عدّهم أو إحصاؤهم، إلى أن قام نبينا الأعظم بتبليغ آخر الحقائق الدينية والمدنية، فلم تبقَ حاجة إلى الاتصال بالناس بواسطة رسل؛ حيث قد وصلت درجة كمال النوع البشري إلى حد يصله بالإلهامات الإلهية رأسًا؛ ولهذا كان الرسول المجتبى خاتم الأنبياء، وكان كتابه أكمل الكتب السماوية [1] . وُلد - عليه الصلاة والسلام - قبل ألف وثلاثمائة وواحد وأربعين عامًا في يوم الاثنين من شهر أبريل - ربيع الأول قبل طلوع النهار، وقد شَبَّ، واكتهل قبل أن يُرسل، وكان وجهه نورانيًّا، وكلامه روحانيًّا، لا يفوقه أحد في رشده ورويَّته، بل يفوق الكل في صدقه وحِلْمه ومروءته، وقد امتاز محمد المصطفى بأمثال هذه الصفات الجليلة قبل بعثته، فاشتهر في قبيلته بلقب محمد (الأمين) ، وكان محبوبًا محترمًا موثوقًا به لدى الجميع قبل بعثته. بُعث محمد - عليه الصلاة والسلام - في سن الأربعين، وأُرسل في سن الثالثة والأربعين، فظل سيدنا فخر العالم يسعى عشرين عامًا، متكبِّدًا أعظم المشاقّ، محوطًا بأشد الأخطار، وقد ارتقى إلى أعلى عِلِّيين بعد أن بلغ الرسالة، وأتم تأسيس الإسلام، وها نحن أولاء في يومنا هذا - 12 ربيع الأول - ندرك ذِكرى ذلك اليوم؛ فقد ارتحل الرسول الأعظم إلى دار البقاء في مثل هذا اليوم بالتاريخ العربي، فلما ارتقى الرسول إلى الرفيق الأعلى اجتمع المسلمون الذين أرشدهم إلى الحق - وعلى الأخص أصحابه الكرام - وبكوا لفقده مُرَّ البكاء، وإنما أدرك أرباب الفطنة أن لا فائدة في هذا الحزن الذي تقضي به البشرية، فاجتمعوا للتشاور في اتخاذ التدابير التي يتسنى بها رؤية مصالح الأمة وإدارتها بعد ارتحال رسول الله صلى الله عليه وسلم، اجتمعوا لينتخبوا أميرًا يخلف رسول الله، وقد كانوا يرون النبي الأعظم يحب أبا بكر حبًّا جمًّا، وأنه أشار في آخر أيامه بما أفاد أنه يبتغي أن يخلفه أبو بكر. آراء الصحابة في الخلافة: فكان المنتظر إزاء ذلك عقد اجتماع لانتخاب أبي بكر الصديق انتخابًا رسميًّا، ولكن الانتخاب لم يكن سهلاً إلى هذه الدرجة؛ حيث قامت المناقشات والمفاوضات الكثيرة، وحدثت الاختلافات العظيمة، وظهرت ثلاث وجهات نظر مهمة في أمر الانتخاب [2] . الأولى: أن يكون الاستحقاق لمقام الخلافة بالكفاءة، والقدرة على إدارة مصالح الأمة؛ وعليه ينبغي أن تكون الخلافة في أقوى الأقوام - أو قال: القبائل - نفوذًا ورشدًا، وهذا رأي جمهور الصحابة [3] . الثانية: أن يكون مَن نصروا الإسلام - إلى ذلك اليوم - أهلاً للخلافة، وهذا رأي الأنصار. الثالثة: التزام قوة القرابة، وهذا رأي الهاشميين. لم يتسنَّ ترجيح وجهة نظر من هذه الوجهات باتفاق الآراء لانتخاب الخليفة، فقام سيدنا عمر، وبايع أبا بكر الصديق منعًا لتشتت الآراء، فبويع له، ومن ذلك يتبين أن التأثيرات الشخصية هي التي أنتجت انتخاب الخليفة الأول لائتلاف الميول العامة تألفًا طبيعيًّا حول نقطة واحدة [4] . والحق - أيها السادة - لا يصح لنا أن نظن أن هذه المناقشات الخاصة بالخلافة لا محل لها؛ فإن أمر الخلافة في الحقيقة أعظم مصلحة إسلامية، والخلافة النبوية إمارة تربط أهل الإسلام أجمعين، وتكفل اجتماعهم على كلمة الاتحاد. وقد قضت الحكمة الإلهية أن لا تنعقد إلا على السطوة والقوة [5] ؛ إذ المقصد الأصلي منها دفع الفساد، وتوطيد أمان البلاد، وتنظيم أمور الجهاد، وتعهُّد المصالح العامة، وهذا كله منوط بالسطوة والقوة، تلك سُنَّةٌ الله في خلقه. من أجل ذلك كانت وجهة النظر الأولى التي عرضتها عليكم فيما سلف، والتي تجعل الخلافة في الأمة - ذات الحَوْل والطَّوْل - أرجح وأغلب وجهة [6] ، وكان من الصواب أن يتقلد أبو بكر الصديق الخلافة بالتأثير. تأسست - بعد عهد السيادة النبوية - إمارة إسلامية باسم الخلافة على هذا المنوال، وقد حدثت الردة وبعض الحركات الرجعية بعد وفاة الرسول، فأخمدها أبو بكر، ووطد دعائم السلام، ثم توسَّل إلى توسيع حدود الإمارة الإسلامية، ولما أحس بدُنُوٍّ أجله تذكَّر ما وقع من المشاكل في أمر انتخابه، وانتخب عمر الفاروق بنفسه لمقام الخلافة، وعهد إليه بها، وقدمه للأمة. اتسعت البلاد في عهد (الفاروق) اتِّساعًا عظيمًا، وكثرت الثروة، ونمت نموًّا كان من شأنه - كما هي العادة - حدوث الأغراض الدنيوية بين الناس، وظهور الثورة والفتنة، حتى لقد كانت هذه النقطة تُزعج الفاروق، الذي كان يتذكَّر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قد قال لخواصّ أصحابه: إن أمته سيظهر أمرها، وتهزم أعداءها، وتفتح اليمن والقدس والشام، وتقتسم خزائن الأكاسرة والقياصرة، وإنها ستشبُّ بينها الفتنة بعد ذلك، فتضل، وتغوى، وتسير سير الملوك السافلين، حتى لقد سأل الفاروق يومًا حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عن الفتنة التي تموج موج البحر، فأجابه أنه لا بأس عليه منها، وأن بينه وبينها بابًا مغلقًا، فسأله عمر: هل يُفتح هذا الباب أم يُكسر؟ ، قال له حذيفة: بل يُكسر، فقال عمر: إذن لا يُغلق بعدها أبدًا، وتأسَّف، والحق أن الباب كان يوشك أن يُحطَّم؛ إذ قد اتسعت البلاد الإسلامية، وكثرت الأعمال، وكان من العسير تعميم العدل الكامل في كل مكان بمثل تلك الإدارة، كان سيدنا عمر يفكر في ذلك، ويتدبر في نتائجه، ويضرع إلى الله أن يقبض روحه، ولقد سأله سائل - وهو يبكي يومًا - عن سبب بكائه، فأجابه: كيف لا أبكي، وأنا أخشى لو ضاعت شاة على نهر الفرات أن أُسأل عنها؟ ! أجل، إن الفاروق - رضي الله عنه - كان قد فهم حق الفهم أن الإمارة الموسومة باسم الخلافة غير كافية لإدارة دولة، وأن الفرد الواحد مهما اعتمد على فضيلته وقدرته ومهابته لا يستطيع إدارة دولة بأجمعها [7] ؛ ولهذا السبب كان عمر لا يفكر في خليفة بعده [8] ، حتى لقد قال لمَن أشاروا عليه بتولية ولده بأنه تكفي ضحية واحدة من بيت واحد، وخاطبه (عبد الرحمن بن عوف) رضي الله عنه - إذ قال له: سأوليك الخلافة من بعدي - قائلاً: أَوَ تنصحني بقبولها؟ ! ، فأجابه: لا، فقال عبد الرحمن: والله لا أقبلها أصلاً. وقد كانت النتيجة أن توصَّل عمر إلى أحسن حل؛ إذ أحال إمارة الدولة ومصلحة الأمة إلى مجلس شورى [9] ، فاجتمع أصحاب الشورى والشعب في المسجد، وهنالك قَرَّ رأيهم على تفويض الإدارة إلى خليفة انتخبوه. تولى سيدنا عثمان الخلافة، ولكن كان قد تحطَّم الباب الذي قضى عليه بالتحطم، وبدأ القيل والقال، وظهرت أمارات عدم ارتياح في أكثر الممالك الإسلامية. وقد وقف سيدنا عثمان موقف الضعف والعجز، حتى لقد دعاه (معاوية) - عامله على الشام - لصيانة حياته، فرفض (عثمان) ذلك، وأمر (معاوية) أن يرسل إليه جنودًا للمحافظة عليه، ولكن لم يتَّسع المجال لاتخاذ هذه التدابير، حيث قامت المناطق التي أعلن أهلها العصيان، وتقدَّمت المدينة، وحاصرت (عثمان) في بيته، ثم أراقت دمه، وهو بجانب زوجته. تولى الخلافة بعد ذلك سيدنا (علي) - كرم الله وجهه - بين ضوضاء عظيمة، ووقائع دموية، وقد تحطم الباب، والحق أن العراق واليمن وسورية والقطر الحجازي كانت بلادًا مختلفة، وإن كان يسكنها شعب واحد، وقد اضطر الخليفة في الحجاز أن يقف وجهًا لوجه إزاء والٍ يستند إلى القوة، حيث كان (معاوية) لا يعترف بخلافة (علي) - كرم الله وجهه - بل يتهمه بدم عثمان [10] ، فكان مما فعله الخليفة - المأمور بتنفيذ الأحكام القرآنية - قطع الحرب إزاء الجيوش الأموية، التي علقت القرآن على رؤوس رماحها، وتعهَّد الطرفان بقبول ما يقضي به الحَكَمان، كان سيدنا (علي) حاضرًا؛ إذ اجتمع مندوبه (أبو موسى الأشعري) مع (عمرو بن العاص) مندوب معاوية لتنظيم أمر التحكيم، فاعترض مندوب (معاوية) على ما خطَّه أبو موسى الأشعري من أن هذا تحكيم بين أمير المؤمنين علي ومعاوية، وطلب إلغاء عبارة (أمير المؤمنين) قائلاً: إنه لا يعترف بإمارته إلا مَ

مؤتمر لوزان للصلح في الشرق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مؤتمر لوزان للصلح في الشرق انعقد مؤتمر الصلح في لوزان، وبرز في ميدانه قائده العام لورد كيرزون وزير الخارجية البريطاني يقاتل الوفد التركي بسيفين: سيف الاتحاد الأوربي في يمينه، وسيف الاتحاد البلقاني في شماله، ومن ورائهما العالم المسيحي في أوربة، وأميريكة، يظاهره على تأليف أوطانٍ خاصةٍ للأقليات المسيحية في الوطن التركي الصغير - الأرمن، والروم، والآشوريون، والكلدانيون - كلهم مسيحيون يجب أن يكون لهم أوطانٌ في قلب البلاد الإسلامية، ولا سيما الدولة التركية، يمتازون فيها بلغاتهم وتقاليدهم الدينية والمدنية، التي كانوا بها حربًا لدولتهم العثمانية، وسببًا من أسباب سقوطها، كما ظَاهَرَ دولته هذا العالم كله على تأسيس وطنٍ لليهود في قلب البلاد العربية (فلسطين، أو سورية الجنوبية) . إذا قال الترك: إننا نريد أن نعيش أحرارًا مستقلين في عقر دارنا، وهو جزء صغير من سلطنتنا (إمبراطوريتنا) الواسعة التي سلبتموها منا، فالعدل والحق أن نكون فيها مثلكم في بلادكم، وديننا وقوانينا توجب علينا أن يكون للمخالفين لنا في الدين من المشمولين بسيادتنا مثل ما لنا من الحقوق، وعليهم ما علينا، وماضينا يشهد لنا بتسامحنا - قالت الدول الأوربية القوية: كلا، إنكم قوم متعصبون تريدون ظلم المسيحيين! ، فإذا قال الترك لهم: إذا كان ما تتهمونا به من الظلم قبيحًا ومحرمًا، فلماذا تظلمون المسلمين؟ ! ، وقد بحَّت أصواتهم، وحفيت أقدامهم، وأقلامهم من تكرار التظلُّم، والاستغاثة، ولا منصف، ولا مغيث- قالوا: إن المسلمين متعصبون يستغيثون من العدل والرحمة المسيحية التي نعاملهم بها، فلا يقبلونها! ، وأما المسيحيون عندكم فهم يشكون من ظلم حقيقي إسلامي! ، مثال ذلك - وهو قليل من كثير - أننا رحمنا عرب فلسطين المسلمين فأعطينا وطنهم لليهود، وجعلنا حكومتهم يهودية في ظل عدالة الدولة البريطانية؛ لأجل أن يعمروا هذا الوطن، ويرقوا فيه الحضارة، وينمُّوا الثروة، فيعيش العرب في ظلنا وظلهم ناعمين متمتعين بالحضارة واللذات! ، فحملهم التعصب والجهل على الشكوى من هذه الرحمة بدلاً من الشكر على هذه النعمة، وهكذا نريد أن نرحم الأرمن في الأناضول، والآشوريين في العراق! ! ! قد حذقت دول الاستعمار الأوربية هذه السياسة، ومَرَدت عليها، وكادت تقضي على الشرق كله بها، ولولا الاختلاف بينهم على تقسيم بلاده لما بقي لهذا الذماء من الاستقلال الضعيف المهدد فيه عين ولا أثر، والفضل الأكبر للنهضة التركية الجديدة أن قادتها قاؤوا ما أوجرتهم سياسة أوربة من سم اليأس، وكشفوا ما وضعته على أبصارهم من غشاوة الوهم، واحتقروا الموت في سبيل حريتهم، فهم قد أجمعوا أمرهم على سد منافذ السيطرة الأوربية السابقة عليهم وشرها ما تمتعوا به من الامتيازات، وما استغلوه من حماية المسيحيين، وحقوق الأقليات، ودسائس المدارس والجمعيات، وتصرف المصارف والشركات. ولكن الترك قد عرفوا من أوربة ما لم يعرف عرب الحجاز وسورية، والعراق، الذين يبيعوهم زعماؤهم للأجانب، ويمُنُّون عليهم معهم بالتحرير من الاسترقاق؛ زاعيمن أن المشتري الجديد خير من الشريك التليد! ، وأنهم سيقنعونه بالكلام على جعْلهم شركاء له في الأحكام وجعْل الرق وسيلة للحرية، والانتداب ذريعة للاستقلال التام. عرف الترك أن هذه الدول لا تعرف حقًّا إلا للحسام، ولا مستحقًّا للحرية إلا المحتقِر للموت الزؤام، وسيرى اتحاد دول الحلفاء الكبرى ودول البلقان الأخرى أنهم لا يرهبون اتحادهم، ولا يرجعهم التهديد والوعيد عن إصرارهم على تحرير بلادهم، فإما أن يضطر الاتحادان العظيمان إلى احترام ميثاقهم، والاعتراف لهم بمساواة أعظم دولهم، وإلا أعادوها إليهم - أي الحرب - جذعة، وذلك ما تأباه أُمَمهم، فإنها ملَّت القتال، وبذل الأموال، وسيكون الفوز للترك أعداء الحلفاء، والخسار والعار على مَن محضوهم الود والولاء. يعلم الحلفاء علم اليقين أن الترك في أشد الحاجة، بل الاضطرار إلى الصلح؛ لأن شعوب أوربة حاربت أربع سنين؛ فأنهكتهم الحرب، وأفنت ثرواتهم العظيمة، والترك حاربوا عشر سنين - على قلتهم وفقرهم - فهم أحوج إلى الراحة، وسلامة مَن بقي من رجالهم، والانصراف إلى عمارة ما خربت الحرب من بلادهم. ويعلم الترك علم اليقين أن شعوب أوربة كلها سئمت الحرب وخسارتها، فلا يسمح شعب منهم لدولته بتجديدها لأجل الإجهاز على الترك، بل لا ترغب دولة من دولهم بالقضاء الأبدي على دولة الترك إلا إنكلترة، وليس من مصلحتها الانفراد بحربهم لمكانتهم من العالم الإسلامي المضطرب، ومن الروسية البولشفية، وما يستطيعان من التأثير في الشرق الأدنى كله، حيث حياة إنكلترة وعظمتها، ولكنها لو علمت أن الترك غير مستعدين للحرب لاستطاعت أن تحرمهم من ثمرة النصر، وتراوغهم إلى أن تُخضعهم الحاجة والفقر، فلا مندوحة لهم إذًا عن التهديد بالحرب إذا تعذر أن ينالوا حريتهم المطلقة بالسِّلم. فإن قيل - بل قيل - كيف يحاربون في عدة ميادين للحلفاء والبلقانيين؟ - فنقول: إن فرنسة وإيطالية لا تحاربان الترك وروسية تساعدهم على البلقانيين والإنكليز، وهم قادرون على أخْذ العراق بفرقة واحدة من جيشهم؛ لأن أهلها لا يحاربونهم لأجل الدولة البريطانية، وهم يعلمون أن معاهدتها مع الملك فيصل خديعة استعمارية، ومن أدلتها أنها لم تسمح لهم بجيش عربي عراقي؛ ليظلوا عالة عليها، وقد خلقت لهم أقليات مسيحية، جعلت لها جندًا خاصًّا؛ لأجل منْع الوحدة الوطنية، فهل يسمح مجلس العموم الإنكليزي للورد كرزون المتعصب عدو الإسلام بمئات الملايين من الذهب، ومئات الألوف من الجند؛ ليقاتل به الترك في الموصل، ويحتفظ بالعراق؟ ، المعقول: لا، وعلم الغيب لله تعالى.

المعاهدة العراقية البريطانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المعاهدة العراقية البريطانية (تابع ما قبله) والمادة التاسعة تسلب الحكومة العراقية حريتها القضائية بهذا النص: (يتعهد جلالة ملك العراق بقبول اللائحة التي يشير بها جلالة ملك بريطانية، ويكفل تنفيذها في أمور العدلية لتأمين مصالح الأجانب بسبب إلغاء الامتيازات) إلخ، وقد كافح المصريون أشد الكفاح في رفض ما هو أقل من هذا القيد مما عُرض عليهم، ويكافح الترك في لوزان الآن مثل ذلك، فيما هو دونه أيضًا، فيا حسرةً على العراق! والمادة العاشرة في عقد اتفاقات منفردة لتأمين تنفيذ المعاهدات، والاتفاقات، أو التعهدات التي تعهد ملك الإنكليز بتنفيذها في العراق! ، ووراء هذا من الغوائل ما هو سالب لكل استقلالٍ. والحادية عشرة في مساواة الرعايا البريطانيين في العراق لغيرهم من دول عصبة الأمم، والقصد فيها إلى إرضائهم مع امتياز الدولة البريطانية بالسيادة الفعلية. والثانية عشرة نص في أن: (لا تتخذ وسيلة ما لمنْع أعمال التبشير أو التدخل فيها) ، وهذا حَجْرٌ شديدٌ على حكومة العراق يَحُولُ دون محافظتها على كرامة دينها من تكذيب القرآن الحكيم، وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - والطعن فيهما، والتنفير عن الإسلام من قِبَل مبشري النصارى، وتأويل النصوص بالباطل من البهائية أنصار الدولة البريطانية السائدة، ويمنعها من مراقبة أعمالهم، ومطبوعاتهم الضارة كما نراه في مصر، وستُحدِث هذه المادة من الفتن والفساد ما لا يعلم عاقبتَه إلا اللهُ؛ لأن العراق لم يألف احتمال مثل هذا كمصر، ولولا سوء نية الإنكليز - في هذه المادة - لاكتفوا بحرية الأديان، حتى في الدعوة إليها، بشرط أن لا يطعن واحد في دين الآخر، ولا يشوه نصوصه، فإن قيل: إنه قد اشترط فيها: (أن لا تخل الأعمال بالنظام العام وحسن إدارة الحكومة) - قلنا: هذا الشرط سيكون حجة على الحكومة لا لها، إذا فرضنا أنها تجرأت على التصدي لمنع شيء مما أشرنا إليه. والثالثة عشرة في التزام ملك العراق تنفيذ ما تقرره جمعية الأمم لمنع الأمراض. والرابعة عشرة في سَنِّ قانون للآثار القديمة. والخامسة عشرة في عقد اتفاق مالي بين الطرفين، يُنص فيه على ما يعطي ملك الإنكليز لحكومة العراق من المرافق العامة، وعلى مساعدة حكومته لهم بالمال حسب الحاجة، وعلى تصفية ديون العراق، وهذا الاتفاق سيكون مثار آفات وغوائل كبيرة إن لم تقُم به حكومة عليمة بدقائق الفنون المالية، والمكايد السياسية، ومسلحة بالشجاعة الأدبية، فالإنكليز استباحوا سلب السودان من مصر؛ بحجة أنهم ساعدوها على فتحه، بعد أن أجبروها على تقرير تركه، ثم على فتحه برجالها ومالها، وإنما ساعدوها بمبلغٍ حقيرٍ، لا يوازي ما استفاده بعض رجالهم منها. السادسة عشرة في تعهد ملك الإنكليز بقدر ما تسمح له التعهدات الدولية - المجهولة لدى العراق - بأن لا يضع عقبة في سبيل ارتباط العراق مع الدول العربية المجاورة بمقاصد جمركية أو غيرها، وفحواها أن حكومة العراق غير مستقلة ولا حرة في مثل هذا الارتباط بنفسها. والسابعة عشرة في تحكيم محكمة العدل بجمعية الأمم في الخلاف الذي يمكن أن يقع بين الطرفين في هذه المعاهدة، على أن يكون الاعتماد على النص الإنكليزي (؟ !) والثامنة عشرة - وهي الأخيرة - في كوْن مدة هذه المعاهدة عشرين سنة، وليس فيها نص في شكل حكومة العراق بعدها إذا قررت وجوب إلغائها، تكون حرة مستقلة بعد تكوين الإنكليز إياها كما يشاؤون، وتقييدها بالقيود المالية وغيرها كما يهوون، أم يقرون ما شاؤوا في أمرها بدعوى أنهم هم الذين أوجدوها، وما لهم من المصالح فيها، والديون عليها؟ ، نعم، هكذا يفعلون، وإذا لم يستقل العراق في فرصة ارتباك العالم الحاضر فستكون كَرَّتهم خاسرة. وإننا ننصح لأعضاء الجمعية التأسيسية المنتخَبة بأن يطَّلعوا على جميع ما كتبه المصريون في قضيتهم الحاضرة، أو المطبوع منه خاصة؛ ليكونوا على بصيرة من هذه المعاهدة التي ستكون حجة القوي على الضعيف، كما قال (بسمارك) في المعاهدات المنطبقة على القانون الدولي مع الدول العظمى، فما القول في العراق الذي جعلوه تحت وصايتهم، وأقرتهم دول عصبة لصوص الأمم على ذلك؛ لأنها آلة في أيديهم؟ !

البهائية بعد موت زعيمهم عباس أفندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البهائية بعد موت زعيمهم عباس أفندي مات في أثناء هذا العام زعيم البهائية عباس أفندي بن بهاء الله إلههم ومشترعهم، وكان يلقب نفسه، ويلقبونه بعبد البهاء اعترافًا بألوهية والده، وقد وقع الشقاق بينهم فيمن يخلفه فيهم، فإنه قد أوصى لرجل غير الذي أوصى له والده، ولكل من الخليفتين حزب يتبعه، ويؤيده، ويخذل الآخر، ويفنِّده، وذلك صدع لوحدتهم، وقد كان مثارًا للعجب أن يوصي العبد بما يخالف أمر الرب، وإذا ظهر السبب بطل العجب! هذا الدين الجديد طور عصري لضلال الباطنية القديم، وكان عباس أفندي أدهى مؤسسيه وناشريه، حتى إنه حظر إلى اليوم إظهار كتابهم الذي يسمونه (الكتاب الأقدس) ؛ لأنه إذا تناولته الأيدي يتعذَّر نشر الدعوة في كل شعب وقطر بما يناسب أفكار أهله وعقائدهم ومشاربهم؛ فإن أهل الحضارة في هذا العصر يكثر فيهم المستقلون في الفكر، فلا يسهل أن تُنشر فيهم دعوة إلى دين له أصل معروف: كتاب يدَّعون أنه مقدس معصوم - إلا ويكون الحكم في هذه الدعوة لنصوص من هذا الكتاب دون ما تزيِّنه الدعاة من الدعاوي، وتزوِّره من الاختلاب، تستميل به المستعدِّين، وتكتفي أمر المعارضين والمستَعْدِين، وقد كان عباس جذيلهم المحكك، وعذيقهم المرجب، وإنما كان والده البهاء شخصًا يشغلون به الخيال، وينزِّهونه عن القول والقيل والقال، فلا يسمح للناس برؤيته ولا بمراجعته ومرادته؛ لئلا تعرفه الحواس والعقول، وتحكم له أو عليه بما يفعل ويقول، وكان عباس يخبر عنه كل مَن اضطر إلى ذكره له، بما يرجو بفراسته أن يستحسنه، ويقبله شأنه في الإخبار عن نِحلتهم، والحكاية عن مذهبهم، أو طريقته، وقد سبق لنا ذِكر الشواهد على هذا. قد خدع كثير من عقلاء المسلمين وأذكيائهم بنفاقهم ودهاء عباس أفندي، الذي كان يدَّعي أنه من المسلمين المصلحين، فلا غرابة إذا انخدع غيرهم لهم، وإن علموا كثيرًا من أصول دينهم، وإذا كانوا من غير المسلمين العارفين بحقيقة الإسلام، وأما مَن يعرف حقيقة التوحيد فيستحيل أن يقبل عقيدة وثنية، ومَن يعرف ما كرم الله به البشر، ورفع من شأن حريتهم بالإسلام فلا يعقل أن يرضى لنفسه بأن يكون عبدًا لبشر مثله كالزعيم الملقب بالبهاء. وقد بلغني في هذه الأيام أن منهم أحمد أفندي صفوت صاحب الخطبة الذي اقترح بها على المسلمين هدْم نصوص القرآن والسنة والإجماع، والقياس، والأخْذ بمقاصد القرآن دون دلالة لفظه في الأحكام، وهي التي رددت عليها من قبل في المنار، فظهر لي الآن سر ما فيها من النفاق والمراء غير المعهود من صحيح العقيدة، ولا فاسدها من رجال القضاء، وسر اعتماد الإنكليز على صاحبها وندبهم له لإصلاح القضاء في فلسطين، وأنه من كيدهم الخفي لهذا الدين، والبهائية صنائعهم في كل مكان، ولا سيما العراق، وإيران، وقد كان لروحي أفندي من بطانة الوكالة البريطانية في جدة دسائس كثيرة في الحجاز. ومنهم (م. خ) الذي كتب مقالة جهلية في الخلافة، ووصف نفسه في إمضائها بأنه من علماء الإسلام، وأنه وكيل جمعية حفظ الخلافة، فتصدى كثير من العلماء للرد عليه، وأنكر بعضهم كونه عالمًا أزهريًّا مصريًّا، والحق أنه مصري أزهري، ولكنه مضطرب، غير عالم، ولا مسلم، بل هو بهائي، وحسبنا - في الرد عليه - أنه بهائي. كانت الدولة العثمانية مشترطة على البابية - البهائية والأزلية - جميعًا أن لا يدْعوا إلى دينهم في بلادها، وإلا أخرجتهم منها، فلم يكونوا يبثُّون دعوتهم إلا في مصر، وبطريق المناظرة والمغالطة دون الجهر، وقد أصابت لجنة الدستور بعدم إصغائها إلى طلبهم الاعترافَ بدينهم كما طلبوا، فإن نص في الدستور المصري على حرية كل دين، وإباحة كل دعوة فسترى مصر فتنًا عظيمةً من البهائية؛ لأنهم يدعون العامة إلى دين جديد باسم الإسلام ممن يلبَسون لباس علماء المسلمين، ويدعون الإسلام، ولو صرحوا بدينهم، ودعوا إليه، ولم يحرفوا القرآن والسنة له لهان أمرهم، وسنعود إلى الكلام في شأنهم، إن شاء الله تعالى.

خاتمة المجلد الثالث والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الثالث والعشرين باسم الله، وبحمده نختتم هذا المجلد من المنار كما افتتحناه بهما، ونسأله تعالى أن يجعل كل أعمالنا صالحة له وباسمه، وأن يوفقنا دائمًا إلى التسبيح بحمده، ويجعلنا من عبيد نعمته وشكره. ومن فضله ونعمته أن أقدرنا على الاستمرار على إصدار المنار، على فقْد الأعوان والأنصار، ومطل أكثر المشتركين في جميع الأقطار، بعد أن كان جُلّ شكوانا من أبناء هذه الديار، ولا سيما الأغنياء الكبار، فليس سبب ذلك القلة، بل ما يعرفه المتفكِّرون في أنفسهم، وما قصر فيه المسلمون عن شأن غيرهم، فإن المنار تخصَّص بإصلاح شؤونهم في دينهم ودنياهم، فشأنهم معه - كما قال الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى في كلمته المأثورة. ومما لدينا من المواد للمجلد الرابع والعشرين فتاوى ورسائل مهمة لشيخ الإسلام ابن تيمية لم تنشر بعد، وبقايا ما ننشر مسلسلاً ككتاب (من الخرافات) ، ورحلة أوربة، وتتمة كتاب (الخلافة الإسلامية) للزعيم الهندي الكبير الشيخ أبو الكلام أحمد، وتتمة ما بدأنا به من المقال في هذه المسألة التي صارت اليوم أم المسائل الإسلامية، وأهمها وأحوجها إلى تعاون أهل العلم والرأي في بيان حقيقتها، ووسائل إقامتها، ومما يناسب هذا تتمة مقالات (مدنية القوانين) ؛ فإن الخلافة عداوة المتفرنجين، ولدينا ترجمة خطاب ذلك الزعيم الهندي، الذي قدَّمه إلى المحكمة الإنكليزية، عندما أرادت محاكمته على بعض خُطبه المحرِّضة على حكومة الهند، وهو خطاب غريب في بابه، لا يتجرَّأ على مثله، إلا مَن كان مثل موقظ الشرق، وواضع أساس الإصلاح الإسلامي المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني، وسيرى قُرَّاؤه أن خطب زعيم مصر - سعد باشا زغلول - تُعَدُّ في غاية اللين والاحتراس بالنسبة إلى خطب زعيم الهند، وله مقدمة لمُترجِمه تلميذنا الشيخ عبد الرزَّاق المليحي في وصف الثورة الهندية السلمية، وخلاصة أعمالها، لا تستغني بلادنا المصرية وأمثالها عن الإحاطة بها، ولدينا رسالة تاريخية غريبة في بابها أيضًا، عنوانها (انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى) للأمير شكيب أرسلان الشهير، ووعدنا بترجمة ما هو أهم منها عند جميع المسلمين. وسنعود - إن شاء الله تعالى - إلى تقريظ المطبوعات الحديثة، وكنا كتبنا في ذلك شيئًا للأجزاء الأخيرة، فاضطرتنا إلى إرجائه مباحثُ الخلافة. فعسى أن نجد من القراء ما يشدُّ أزرنا، ويكون عونًا لنا على جهادنا من أداء الحق، والتواصي بالحق والصبر، ولله الحمد من قبل، ومن بعد، وصلى الله على خاتم الرسل، وهادي الخلق وآله وصحبه وسلم.

فاتحة المجلد الرابع والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الرابع والعشرين بسم الله الرحمن الرحيم {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} (الإسراء: 111) . نحمده بما حمد به نفسه، وأنى للعبد العاجز أن يحصي الثناء على ربه، ونسأله الفضيلة والوسيلة، والدرجة العالية الرفيعة، والمقام المحمود الذي وعده لصفوة خلقه وخاتم رسله، الذي بعثه من عرب مُضر للأبيض والأحمر، والأسود والأصفر، ليصلح ما فسد من أمر البشر، ويزيل من بينهم فوارق التقاليد والغِبَر، ويجعلهم أمة واحدة بعقيدة صحيحة مطهرة للعقل، وآداب عالية مزكية للنفس، وعبادة خالصة مصفية للروح، ولغة فصيحة مرقية للشعور والعلم، وإلا فبشريعة عادلة تساوي في أحكامها بين الأغنياء والفقراء، والأقوياء والضعفاء، والسوقة والملوك، لا تحابي رئيسًا على مرءوس، ولا صاحب منصب في دنيا أو دين، أقامه حجة على جميع البشر، وجعل أمته شهداء على الأمم، وجعله هو الشهيد على أمته، إذا انحرفت عن هدايته، أو قصرت في إقامة شريعته {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً * وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً * وَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} (الأحزاب: 45-48) وقد بَلَّغَ - بأبي هو وأمي - الدعوة وأقام الحجة وبيَّن المحجة، فكان المثل الأعلى في الحق والعدل، والرحمة والفضل، عانده الجبارون المتكبرون، واستجاب له الفقراء المستضعفون، فنصر الله الفقر على الغنى والثروة، والضعف على الشدة والقوة، بل نصر غنى النفس على غنى المال، وقوة الحق على قوة الباطل، وجعل الفوز لجهاد القرآن، على جهاد السيف والسنان، فانتظم عصره في سلك دينه ما كان مبعثرًا من قبائل العرب، ودان لخلفائه من بعده أعظم شعوب العجم، وعم النور جميع الأمم، فأحيا الإسلامُ العلومَ والفنون، وابتكر حضارة طريفة لم تر مثلها عيون القرون، جمعت بين العلم والدين، وألفت بين لذة الجسد والنفس، ولذة الروح والعقل، وأقامت ميزان العدل بين المختلفين في الدين والجنس والصفات، وألغت ما كان من التفاضل والامتياز بين الناس في الأنساب والطبقات، وحصرت الفضل في الإيمان والتقوى وعمل الصالحات {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) أما بعد، فإن المنار يُذَكِّر قراءه في فاتحة مجلده الرابع والعشرين، بمثل سُنته في فواتح ما غبر من السنين من العبرة بشئون الاجتماع والعمران، وتنازع عوامل الصلاح والفساد في الإنسان، وما يناسب ذلك من هداية القرآن حجة الله البالغة بما فيه من آيات العلم والتبيان المناسبة لكل زمان ومكان، وصفة من هو كل يوم في شأن، ذلك بأن المنار إنما أنشئ لإيقاظ الشرق وتجديد الإسلام بإعادة تكوين الأمة وحياة الملة والدولة، لا لفروع الفقه وأصول الكلام، ولا لجدليات المذاهب الدينية، ولا تأييد العصبيات الجنسية، ولا لنشر ما يجدد في قضايا العلوم ونظريات الفلسفة، أو مخترعات الفنون وعجائب الصناعة، ولا لقصص التاريخ ونوادر الفكاهات، ولا لجوائب الحوادث وأخاديع السياسات، بل كل ما يذكر فيه مما يدخل من هذه الأبواب، فإنما يولي وجهه شطر ذلك المحراب؛ لأن الأمة إذا حيت أحيت من العلوم ما كان ميتًا، وأنشرت من الفنون ما كان رميمًا، وإذا ماتت أماتت معها ما كان حيًّا، ودرست ما كان مدروسًا مرويًّا، وإن الغذاء اللطيف قد يزيد الممعود الدوي دوى، والغذاء الخشن يزيد المتمعدد القوي قوى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً * وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً * فَلاَ تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} (الفرقان: 50-52) . ما كل من أعرض عن آيات الله في القرآن، يستطيع أن يعرض عما يصدقه من آياته في الأكوان، ومن آياته الماثلة أمام الناظرين، فضيحة هذه المدنية المادية التي فتنت أوربة بها المسلمين، فقد ظهر لهم ما كان خفيًّا من فسادها، وذهب بهيبتها ما كان من الفظائع في حربها. ومن آياته أن ثَلَّ عروش دولها المقهورة، وزلزل أركان دولها المنصورة، وضعضع ثروتها، وأوقع الاضطراب في معيشتها. ومن آياته أن نقض غزل عهودها أنكاثا. واجتث شجرة وحدتها اجتثاثًا. فبدت خبايا نبائثهم، وفضحت خفايا خبائثهم. ومن آياته أن أذل جبروت أعظم دولة قاهرة بفئة من أضعف دولة مقهورة. فوطئ بها شم معاطسهم، وطأطأ من إقماح أرؤسهم، وطأمن من إفراط تغطرسهم. حتى جنحت تلك الدولة العاتية المتكبرة إلى مصالحة تلك الفئة التي كانت تسميها المشردة المتمردة. واضطرت إلى الرضى بمساواتها في مؤتمر السلم، بعد أن كانت تستكبر أن توقفها موقف المجرم لسماع الحكم. ومن آياته أن سخر ما بقي من قوة الأمة الروسية لحفظ ما بقي من استقلال الدولة التركية بعد أن كانت هي الخطر على استقلالها، والمُجدَّة في تقطيع أوصالها. ومن آياته أن أبطر الأمم الغالبة بمظهر غلبتها، وإن لم تكن بمحض قوتها، فأصرت على غيها، واستمرأت مرعى بغيها، لتحق عليها كلمة الانتقام من الظالمين، وتدمير فسقة المسرفين {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُواًّ كَبِيراً} (الفرقان: 21) ? {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) . عسى أن يكون الباغون قد بلغوا أوج العلو ولم يبق إلا الهويّ، وأن يكون ما بلغناه هو منتهى الحدور وما ثم إلا الرقيّ، فإن الوقوف في عالم الحياة محال، وإنا وإياهم لفي انتقال وإنا كُلاًّ منا لعرضة للغرور فيه والضلال، وإن الغرور لمحبطة للعمل، وإن الضلال لمدرجة للزلل، وإنا ليعوزنا من القوة والبصيرة في بطء الصعود، فوق ما يعوزهم من الحكمة والروية في سرعة الهبوط، وإنهم لأعلم منا بسنن الله في البشر، وبأيديهم ما ليس بأيدينا من وسائل الحذر، وأسباب اتقاء الخطر، وإنا لا ينبغي لنا أن نغتر بما نرى من تفرق قوتهم، مع ما نعلم ويعلمون من عدم اجتماع قوتنا، ولا بما انفصم من عروة وحدتهم، ولمَّا نوثق عروة وحدتنا. فإن عطف بعضهم على بعضنا عطفًا سياسيًّا سلبيًّا، فإن منا مَن يواليهم على أمته ولاءً إيجابيًّا {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} (الفرقان: 20) {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 43-44) . قد كان لنا جامعتان سَعِدَ سلفُنَا بالاعتصام بهما، وشقي خلفُنا بالتفرق والاختلاف فيهما: جامعة علمية روحية وهي كتاب الله وما بيَّنه من سنة خاتم النبيين، وجامعة سياسية عملية وهي الإمامة العظمى وما بيَّنها من سيرة خلفائه الراشدين، وهدي السلف الصالحين، وهذه متممة للأولى ومنفذة لها، وإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، تفرقنا في القرآن بالتأويل فذهبنا مذاهب جعلت الملة الواحدة مللاً، وتفرقنا في الإمامة بالعصبيات فصارت الأمة أممًا والدولة دولاً، ثم أعرضنا عن كل من الجامعتين كلتيهما، وبطل الاقتداء بالإمامين مع احترام اسميهما أو كلمتيهما، فجمد بعضنا على ظواهر بعض الكتب التقليدية، وفتن بعضنا بالقوانين والنظم الأوربية، وروابط شعوبها الجنسية والوطنية، وآدابها وعاداتها الشخصية والاجتماعية، ومرت القرون وتعاقبت الأجيال ونحن على هذا الضعف والانحلال، والمدَّعون للإمامة العظمى فينا بين معتزل في شاهق جبل قد ضاقت به الحيل، لا يعرف مِن أمر مَن وراءه من المسلمين عرفًا ولا نكرًا، أو لا يعرفون من أمره نهيًا ولا أمرًا. وبين ناعم في قصور جنانه بين قنانيه وقيانه، مستبد في سلطانه، عاصٍ لربه مطيع لشيطانه، مفقر لرعيته ملن لأخدانه، مستغنٍ بمدح كَذَبَة الجرائد، وخطباء الفتنة في المساجد، يتلُون بين يديه في كل جمعة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) غشًّا للأمة وتضليلاً، ويسكتون عن قوله تعالى بعده: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) ولسان حال الرعايا يجيبهم بقوله عز وجل: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} (الأحزاب: 67-68) . كنت كتبت في فاتحة السنة الأولى للمنار، أن من أصول خطته: بيان حق الإمام على الأمة، وحقوق الأمة على الإمام: فلما قرأتها على الناصح الأمين مستشيرًا بها، اقترح ترميج هذه الكلمة منها. وقال: إن المسلمين لم يبق لهم إمام إلا القرآن وإن البحث في الخلافة وما يجب على السلطان فتنة للناس، فواتيته على حذف الكلمة، ولكن لم يسعني ترك البحث في المسألة بل نشرت في المجلد الأول بضع مقالات في فساد حال المسلمين واضمحلالهم بإفساد أمرائهم وعلمائهم ومرشديهم، بينت فيها مثار فساد الدنيا والدين بخروج الخلافة عن الأساس الذي أقامها عليه الإسلام في عهد الراشدين، وكتبت بعد ذلك مقالات في الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية، على العلم بأنها لم تكن إلا اسميَّة أو وهميَّة، فكان جزاء المنار على أمثال هذه المباحث الإصلاحية: تحريمه على البلاد العثمانية، وتعذيب آل بيتنا في ديار الشام، وفاقًا لما نصح لنا به الأستاذ الإمام، بل هي التي صدت الكثيرين عن المنار، الذين كانوا يقدسون السلطان عبد الحميد في هذه الديار، وفي سائر ما استعبد الأجانب من الأقطار، على حين يعده جميع مسلمي العثمانيين أفضل الجهاد لإحياء الدولة والدين، ولولا الإخلاص لَعَدَوْنَا ذلك النَّصَب إلى ذُرى المناصب، والمتْرَبة إلى علو المراتب والرواتب، ولقد دعينا إليها فأبيناها، وسئلنا الفتنة فما آتيناها، ولقد سئلها كثيرون فآتوها {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً} (الأحزاب: 14) {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرا

الدعوة إلى انتقاد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى انتقاد المنار ندعو كل من يطلع على المنار أن يكتب إلينا بما يرى فيه من خطأ أو خطل مبينًا ذلك بالدليل، من غير استطراد ولا تطويل، فإنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وقد أمر الله تعالى به في كتابه، ونحن نعد بأن ننشر ذلك بشرطه، ونعترف لكل ذي حق بحقه، وليس لنا فيما ننشر هوى فنُصِر عليه ولا منفعة مادية فنحرص على استبقائها، ولا جاه ولا عصبية فنخشى إضاعتها، بل لا نزال مستهدفين لخسارة المال، وإسخاط جميع مصادر الجاه، ولكن في سبيل الله {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (الشورى: 36) .

الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحول في ج9 م23

الكاتب: أحمد بك عيسى

_ الملحق الفني التابع لفتوى طهارة الكحول في ج9 (م23) بقلم الطبيب العالم أحمد بك عيسى الكؤول alcohol كلمة عربية الأصل، أصلها (كحول) وهي المادة الدقيقة اللطيفة التي يتكحل بها، وقد اقتبسها الإفرنج من اللغة العربية في العصور الوسطى وأطلقوها مجازًا على المادة اللطيفة المعروفة، ولم يتوصل الباحثون في كيمياء العرب إلى الآن إلى معرفة الزمن الذي اقتبست فيه، ولا الكتاب الذي اقتبست منه وأطلقت على هذه المادة، ولا أول من اقتبسها، وقد كتب في ذلك العالم الكيموي الشهير (بريتلوا) في كتابه المُعَنْوَن (كيمياء العصور الوسطى) والسبب في تسميتها (اسبرتو) هو أن الكحول كانت في الابتداء تستخرج من النبيذ؛ ولذلك كانت تسمى روح النبيذ uin aie Espit فأخذت الكلمة الأولى، وعربت (اسبرتو) بمعنى روح، والكحول هذه مائع شفاف لا لون له طعمه حامز قارص، عطري الرائحة ساطع، يلتهب ويغلي على درجة 78 مئوية ووزنه النوعي 0.79 وتستخرج الكحول من تقطير الموائع السكرية والمخمرة، ومن المواد السكرية والنشوية على وجه العموم، وإذا التهب الكحول استحال إلى ماء وكربون، وإذا خلط بالأحماض الجاويك والكبريتيك والأزوتيك والفسفوريك تولد من خلطها موائع أخرى تسمى الأثيرات (جمع إثير) . وللكحول أنواع عديدة بحسب عدد جواهر الكربون والأيدروجين الموجودة فيه وتستعمل الكحول مذيبة لكثير من المحضرات الإفرباذينية كالأصباغ مثل صبغة اليود وغيرها كثيرًا جدًّا، وتستعمل كذلك في الأطلية والدهون وفي العطور، وهي مطهرة من الظاهر مانعة للعفونة وقابضة تقطع الأنزفة، ولها استعمالات أخرى كثيرة لا يستغنى عنها. * * * ملحق آخر للصيدلي محمد علي بك نصوحي الكؤول سائل يشبه الماء، شفاف خفيف قابل للالتهاب بسرعة سريع التبخر يستحصل عليه بواسطة الأنبيق (التقطير) من بعد اختمار العنب، والقصب والبلح، والخشب والبنجر، وجميع الأثمار المعروفة في العالم. نستعمل هذه المادة - أي الكؤول - في أكثر السوائل بل جميعها تقريبًا؛ لأن الصفات والخلاصات المستعملة في فن الطب لا يمكن استحضارها إلا بواسطة الكؤول. ويستعمل في دهانات اللوسز، أي على الأخشاب، وفي غالب الروخات الطبية التي تستعمل للتدليك وللدهان، وله منافع عديدة في فن الطب، والإفرباذين وكذا الأعطار التي من نوع الكلونيا المعروفة عند القريب والبعيد المتداولة في العالم.

استعمال الذهب والفضة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استعمال الذهب والفضة (س) من صاحب الإمضاء ببيروت: حضرة صاحب الفضل والفضيلة مولانا الأستاذ المحترم السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد فإني أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني عظيم الشكر: جاء في الشرب في آنية الذهب بالجزء الثامن من صحيح الإمام البخاري رضي الله تعالى عنه من حديث ابن أبي ليلى قال: كان حذيفة بن اليمان بالمدائن فأتاه دهقان بقدح من فضة فرماه به فقال: إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته، وإن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة. وفي باب آنية الفضة التالي للباب المذكور من حديث ابن أبي ليلى بطريق غير الطريق الأول قال: خرجنا مع حذيفة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة) وفي حديث أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم من الباب المذكور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) وفي حديث البراء ابن عازب التالي لهذا الحديث قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع، إلى أن قال: ونهانا عن خواتيم الذهب، وعن الشرب في الفضة، أو قال: آنية الفضة. وهو والمنصوص في مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه تحريم الفضة مطلقًا على الرجال إلا ما استثني من نحو الخاتم، وعلى النساء مطلقًا إلا للتحلي. وفي الجزء الأول من كتاب الترغيب والترهيب للإمام الحافظ زكي الدين ابن عبد العظيم بن عبد القوي المنذري (صحيفة 144 طبعة أولى سنة1324هـ بالمطبعة الشرفية) ما نصه: وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب أن يُحَلِّق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقًا من نار فليطوقه طوقًا من ذهب، ومن أحب أن يُسَوِّر حبيبه بسوار من نار فليسوره بسوار من ذهب، ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها) رواه أبو داود بإسناد صحيح، وقد نقل صاحب الكتاب المذكور عن (المحلى) الجواب عن الأحاديث التي ورد فيها الوعيد على تحلي النساء بالذهب قبل هذا الحديث، ولم يُجِبْ عن هذا الحديث المفيد بظاهره إباحة الفضة مطلقًا للرجال ولو في غير الخاتم، وللنساء ولو في غير الحلي فتفضلوا - حفظكم الله - ببيان الجمع بين الأحاديث المذكورة، وحديث أبي داود المذكور على فرض مساواته لأحاديث البخاري وببيان دليل تحريم غير الشرب من أنواع الاستعمال وبيان وجه تحريم غير الآنية كساعة الجيب وساعة اليد وأسورتها والأزرار والأنواط ويد العصا والختم، ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ولفضيلتكم الأجر. ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي - الشافعي مذهبًا - ببيروت (ج) مذهب الظاهرية نفاة القياس كالإمامين داود وابن حزم وكثير من فقهاء الحديث الذين يثبتون القياس أن التحريم الديني لا يثبت بالقياس، ولهم في ذلك أدلة بسطناها في التفسير وفي مواضع أخرى من المنار، منها حديث (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) فهؤلاء كلهم يبيحون استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب، وما ورد من حلية الرجال دون غيرها بقاعدة البراءة الأصلية وأصل إباحة الزينة الثابت بنص قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) الآية، واستعمال الفضة خاصة بما ذكر من حديث أبي موسى الأشعري وبحديث (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) رواه أحمد وكذا أبو داود من حديث أبي هريرة كما تقدم في السؤال، وليس عند الشافعية وغيرهم دليل على تحريم كل استعمال للذهب والفضة في غير حلية النساء وخاتم الفضة للرجل والضبة بشروطها إلا القياس، والقياس حجة مختلف فيها بين علماء السلف والخلف، وقد بسطنا أدلة المثبتين والنافين وحقَّقنا المسألة في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) الآية، فليراجعها السائل إذا أحب أن يكون على بصيرة في دينه في أمثال هذه المسألة [1] . وليراجع أيضًا تفسير {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وكلاهما في سورة المائدة [2] ولعل قلبه يطمئن حينئذ بأن عقائد الدين وعباداته والمحرمات الدينية إنما تثبت بالنص أو فحواه بشرطه دون القياس، وناهيك بقياس معارَض بالأصول القطعية ونصوص الكتاب والسنة كتحريم الزينة والطيبات بغير نص يصلح مخصصًا لعموم الزينة في آية الأعراف. وإنما القياس والاجتهاد في الأمور القضائية ونحوها من المعاملات التي لا تحصر جزئياتها وتختلف باختلاف العرف والزمان والمكان ولا سيما السياسي منها. ومن التعليلات التي يذكرها بعضهم للتحريم: كسر قلوب الفقراء، ومقتضاها أن الغني يجب أن يكون طعامه ولباسه ومسكنه كالفقير، وهذا أمر مردود بنصوص الكتاب والسنة ومخالف لكلامهم في النفقات، ويفضي العمل به إلى فساد العمران فراجع تفسير {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) في المجلد 23 المنار. ((يتبع بمقال تالٍ))

كتب ابن تيمية وابن القيم والشوكاني والسيد حسن صديق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتب ابن تيمية وابن القيم والشوكاني والسيد حسن صديق (س2) ومنه: ما قولكم - رضي الله تعالى عنكم - في مؤلفات وفتاوى الشيخ تقي الدين أبي العباس أحمد بن تيمية الحنبلي، والشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية الحنبلي، والشيخ محمد بن علي الشوكاني اليماني، والعلامة السيد أبو الطيب صديق بن حسن بن علي بن لطف الله الحسيني القنوجي البخاري: هل هي من الكتب المعتمدة المتلقاة كغيرها بالقبول أم هي من الكتب المطروحة التي لا يُعَوَّل عليها، ولا يجوز النقل عنها والإفتاء بما فيها؟ تفضلوا حقِّقُوا لنا ذلك، فإن المطلوب النقل منها وهي موجودة لدينا، فقال بعض أهل العصر: هذه الكتب لا يعول عليها ولا يلتفت إليها، بل هي من الكتب غير المعتمدة. تفضلوا أفيدونا، ولفضليتكم من الله تعالى جزيل الأجر ومنا عظيم الشكر. (ج) قد سئلنا من عهد قريب عن كتب الشيخين الأولين وأجبنا عنه، ونقول الآن: إن كتب هؤلاء العلماء الأعلام من أفضل ما اطلعنا عليه من كتب علماء الإسلام، من حيث إنهم جمعوا بين العلم بالكتاب والسنة رواية ودراية وبين الاطلاع على كتب مذاهب علماء الأمصار الذين يقلدهم الناس وغيرهم، ولم يلتزموا التعصب لإمام معين ولا لأهل مذهب، بل محَّصوا الأدلة ورجَّحوا ما كان دليله أقوى. فكتبهم أحق بالاستفادة من كتب المقلدين لمذهب معين يتمسكون بأقوال أهله وإن خالفت النصوص الصريحة والأحاديث الصحيحة، وأكثرها خلو من الأدلة مطلقًا أو أدلة المخالف. وقد طبعت هذه الكتب وقرَّظها بعض كبار العلماء، ولا يزل أهل العلم الصحيح وطلابه يتنافسون فيها، وسوقها أروج من غيرها ومنها ما تكرر طبعه. وقد كان (نيل الأوطار) يباع بجنيهين وهو يساوي الآن بضعة جنيهات، وقلما يوجد. وإنما ينهى بعض المقلدين للمذاهب المشهورة عنها كما ينهون عن العمل والفتوى بمذاهب الصحابة والتابعين بغير حجة إلا ما نذكره قريبًا من الاعتذار عن ذلك. ولو خرج أحد الأئمة الأربعة من قبره ورأى هذه الكتب لفضَّلها على جميع كتب المقلدين له؛ لأنها قلَّمَا تخالف غيرها إلا بترجيح حديث صحيح على ضعيف أو على قياس، وهذا أصل مذاهبهم كلهم رضي الله عنهم، ولكن المنتمين إلى مذاهبهم اتخذوا أقوالهم وأقوال كبار أصحابهم أصولاً في التشريع ودلائل على حكم الله، ويوجبون تقليدهم في كل ما روي عنهم، وإن خالفت نصوصُ الشارع أصولَهم التي بنوا عليها مذاهبهم، وكلهم يتبرأ من ذلك، وهذا كتاب مختصر المزني صاحب الإمام الشافعي قد افتتحه بعد البسملة بقوله: (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه) لمثل هذا النظر والاحتياط استنبطوا وألفوا، وهو ما نقتدي بهم فيه عند النظر في الكتب المسئول عنها فلا نتبع أصحابها في فهمهم تقليدًا بل نستعين بها ككتب الأئمة الآخرين على معرفة الراجح في مسائل الخلاف. وقد اعتذر بعض علماء التقليد عن هذا التحكم بحصر العمل والفتوى في مذاهب الأئمة الأربعة عند أهل السنة بأن مذاهبهم هي التي دونت واستمر العمل عليها، ووسعت مباحث الفروع فيها فاستغني بها عن غيرها من المذاهب المندرسة مع الاعتراف بالاجتهاد لأهلها. وأجبنا عن هذا: (أولاً) بأن السنة وآثار الصحابة قد نقلت نقلاً أصح من نقل المذاهب بالأسانيد التي وضعت لها كتب الجرح والتعديل وعلل الحديث وشروحه، وهي أصل هذه المذاهب كلها بعد القرآن، فلماذا لا يكون العمل بها هو المقدم على كتب الفقه التي تكثر فيها أدلة الأقيسة والرأي التي اختلف علماء السلف في الاحتجاج بها، ولا سيما قياس الشَّبه، وما فيه من مسالك العلة التي يتعذر إثبات شرعيتها. وثمة مذاهب أخرى منقولة مدونة ويعمل بها ملايين من المسلمين كمذاهب آل البيت النبوي. (وثانيًا) بأنهم قالوا: إن اختلاف العلماء رحمة للأمة، فلماذا نضيق باب هذه الرحمة عليها بحصر الاستفادة بواحد تحرم الاستفادة من غيره بتسميته تلفيقًا، ونخالف السلف الصالح الذين كان عوامهم يستفتون كل عالم يوثق بعلمه. مثال ذلك أن الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى كانا شديدي الورع، وكانت حضارة الإسلام قد اتسعت في زمانهما، ولا سيما في بغداد ومصر مصدر علمهما، فكان لهذين الأمرين تأثير عظيم في اجتهادهما في مسائل الطهارة والنجاسة، على سعة علمهما بالسنة وبما كان عليه الصحابة في عصر التشريع من الضيق وقلة الماء، حتى إن مقلديهما يكثر فيهم الحرج والوسواس في الطهارة، فلماذا تحجر على الأمة أن تطلع على فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال بعض العلماء في استحضاره لنصوص الكتاب والسنة عند بحثه في كل مسألة: كأنها قد كتبت في كفه؟ وأن تأخذ بما أثبته بعد بيان أدلة المذاهب الأربعة وغيرها من طهارة كل ماء ومائع لم يتغير بالنجاسة التي تصيبه وهو قول طائفة من كبار علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي ثور والظاهرية، وهو يميل إلى مذهب الإمام مالك في مسائل النجاسات ككثير من محققي المذاهب الأخرى ومنهم الغزالي من الشافعية، ومالك لم يأخذ علمه في أمثال هذه المسائل العملية من الاستنباطات اللفظية فقط، بل كان مرشده فيها عمل أهل المدينة من التابعين الذين تلقوا عن الصحابة رضي الله عنهم، وما من مجتهد إلا وقد انفرد بمسائل ردها عليه غيره، وما زال العلماء المنصفون يعذر بعضهم بعضًا في المسائل الخلافية التي لم يجمع عليها أهل الصدر الأول، وأولى الجميع بأن يُرَجَّح كلامه مَن لا يقول إلا بدليل، ولا يكلف أحدًا أن يعمل إلا بما يظهر له صحة دليله كأصحاب الكتب المسئول عنها، والله قد أرشدنا إلى اتباع الأحسن، وهو لا يُعلم إلا بالنظر في الأدلة.

الجامعتات الإسلامية والشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامعتان الإسلامية والشرقية دعوة السيد الأفغاني إليهما، تأثير دعوته بعد جيل كامل في الشعوب الأعجمية، جمود جزيرة العرب واضطراب العراق وسورية، الإنكليز مثيرو الفتنة وعليهم تقع تبعتها. كانت فكرة الجامعة الإسلامية خيالاً لاح في أذهان بعض رجال السياسة في أوروبا فطفقوا يبحثون فيه، ويصورون لأقوامهم قوادمه وخوافيه، حتى صار الكثيرون منهم يحسبون أنه حق لا ريب فيه. أثار هذا الخيالَ في تلك الأدمغة كثرةُ التفكر في تاريخ الشعوب الإسلامية التي أسرعت أوروبا في ثَلِّ عروشها، واستعباد أمرائها وملوكها، والتمتع بخيرات بلادها، فإن المطَّلع على ذلك التاريخ الفيَّاض بما كان لها من العزة والبأس في الحرب، والعلم والحكمة وإقامة العدل جدير بأن يحسب لانتقاضها على المستذلِين لها ألف حساب، وإن استحوذ عليها الجهل، وحرقتْ نسيجَ وحدتها العداوات الجنسية والمذهبية، فصار بأسها بينها شديدًا، وقيادها للأجانب لينًا سلسًا، ولئن نبهت مباحث أولئك السياسيين بعضَ الأذكياء إلى هذا الأمر العظيم، فلم يكن في استطاعتها أن تحفز همة أحد من أمرائهم ولا من كبراء الهمم والعقول فيهم إلى السعي له والدعوة إليه، ولئن وُجد أفراد - منهم السلطان عبد الحميد - أحبوا أن يستفيدوا من حذر الأوروبيين منه بإيهامهم إياهم أنهم يعدون له عدته، ويتخذون له أهبته، فقد كان من تأثير هذا الإيهام مبادرة أولئك الحازمين إلى قطع طرقه، والإسراع بالقضاء على ما بقي لتلك الشعوب من ماء الاستقلال ورمقه. إي وربي ‍‍! إن الشعوب الإسلامية لم تنجب من بعد الحروب الصليبية رجلاً عظيمًا عالي الهمة، يسعى إلى جمع كلمة المسلمين وتوحيد قواهم المتفرقة، لدفع عوادي الذل والاستعباد عنهم، لا بدعوة علمية اجتماعية، ولا بتأليف قوة عسكرية عصرية، إلا (السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني) حكيم الشرق، وحافزه لتحرير نفسه من الرق، فهو الذي اهتدى بذكائه ونظره البعيد وفكره الوقاد إلى تدارك الإسلام وإنقاذ الشرق من الاستعباد، بالسعي إلى هذا الاتحاد، فطاف لأجله البلاد، ونادى به على رءوس الأشهاد؛ فلم تكن دعوته في عصره صرخة في واد، أو نفخة في رماد، بل كان في خلل الرماد وميض نار طار شرارها كل مطار، حتى عم بعده الأقطار. ألقى بذور دعوته الأولى بمصر وكانت عنايته فيها موجهة إلى إحياء الشعب المصري لتكون مصر مركز الدعوة العامة، وتكون دولة وادي النيل هي الدولة القوية التي تعتز بها الأمة، وتكون النواة لتنفيذ مذهبه السياسي في إعزاز الإسلام وتقليص ظل الدولة البريطانية عن رءوس المسلين. وبعد أن نُفي بتأثير الدسائس الإنكليزية من مصر، ومن أجل بث الدعوة ألَّف جمعية العروة الوثقى، وأنشأ جريدتها في باريس للدعوة العامة إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية، وكان جُل سعيه وعمله فيما وراء الغاية العامة الدفاع عن مسألة مصر عقب الاحتلال، وقد عني عناية خاصة بجمع الكلمة والتأليف بين الشعبين المتجاورين اللذين نشأ هو وكثير من آبائه وأجداده في بلادهما، أعني الشعب الأفغاني والشعب الإيراني، وقد بيَّنتْ جريدة العروة الوثقى التي كانت تتجلى بها آراؤه بقلم مريده وصديقه شيخنا الأستاذ الإمام (رحمهما الله تعالى) الغاية، وأشرعت السبيل وبينت الوسائل، وأرشدت إلى إزالة الموانع، وكان من رأيه أن تكون مكة المكرمة هي مركز الدعوة. كان لهذه الدعوة تأثير عظيم في العالم الإسلامي حتى كان العقلاء وأهل الرأي من قرائها في الأقطار المختلفة يعتقدون أنها لا تلبث أن تحدث انقلابًا عظيمًا في الشرق. سمعنا هذا من شيخنا الشيخ حسين الجسر الشهير في طرابلس، ورواه لنا محمد علي بك المؤيد عن الزعيم الكبير السيد سلمان الكيلاني نقيب بغداد في ذلك العهد، بيد أن مصادرة الدولة البريطانية للجريدة، ومنعها من مصر والهند وغيرهما من أقطار المشرق كانت سببًا لترك الاستمرار على إصدارها، فكان كل ما صدر منها 18 عددًا، ولكنه لم يترك الدعوة والسعي إلى الغاية، بل بثها في البلاد الفارسية ثم في القسطنطينية، ثم قضى السيد وما قضى منها وطرًا، ولم يقم بعده أحد بالدعوة والسعي لها بمثل تلك القوة، بل ضعفت الرابطة الإسلامية، بما تغلب عليها من العصبية الجنسية، ولا سيما في الشعوب الأعجمية، بيد أن القوي في الضار قد يكون قويًّا في النافع، فهذه الشعوب التي كانت في غاية التعادي الجنسي، وكانت قبل ذلك فيما هو أشد منه من التعادي المذهبي: هذا سُني وهذا شيعي - ثابَتْ الآن إلى رُشدها، وعلمت كل منها أن الوحدة هي التي تحفظ جنسها ودينها ومذهبها، فمد كل منها يده إلى الآخر يصافحه مصافحة الأخ لأخيه، ويعاهده معاهدة الولي لوليه. تعاقد الترك والفرس والأفغان، وشدوا معاقد حلفهم ببخارى وخيوة وأذريبجان، وبنوا دعاية الولاية والبراءة في سائر الشعوب الإسلامية في الشرق، يؤيدها بالمال والرجال مسلمو الهند، بل شدوا أواخيّ الجامعة الشرقية بوثنيي الهند ونصارى الروسية البلشفية التي سخرها الله لجهاد تأليه الثروة والعظمة الأوروبية، والغرض العام لهذه الأمم كلها تحرير الشرق من رق الجزيرة البريطانية، التي طمحت باستعبادها له إلى منازعة الربوبية، وما يتلو ذلك من تحرير سائر الشعوب المستضعفة. كل هذا والشعب العربي الذي ضعفت رابطته الجنسية بتعاليم الإسلام، ووحدته الدينية باختلاف المذاهب وتنازع الحكام مُصِرٌّ على تَفَرُّقِهِ غافلٌ عما يُرَاد به، حتى في مهد الإسلام من جزيرته، وقد رأى سوء عاقبة ذلك في سلب الأجانب لاستقلال أخصب بلاده، ومحاولة إنشاب براثنه في باقيها، والإحاطة بها من أطرافها، وهو مع ذلك في غمة من أمره لا يدري كيف يخرج منها، وإنما الذنب في ذلك على ملوكهم وأمرائهم الجاهلين بكُنْهِ تأثير دسائس أعدائهم، وتسخيرهم لمنع الجامعات الإسلامية والشرقية والعربية جميعًا من حيث لا يشعرون، ولكن هذه السياسة الخبيثة ستنتهي بالخيبة، ولن ينقذ الإنكليز من سوء عاقبة عداوتها للإسلام، اصطناع بضعة رهط من زعماء العرب بعضهم لبعض عدو، وودهم كله سيبلى، وهم عاجزون عن إقناع شعوبهم بصداقة الإنكليز لهم، مع احتلالها لأخصب بلادهم وإلقائها للفتن بينهم، ولا هم قانعون بذلك فيقنعوا غيرهم، بل كل واحد منهم يكابر نفسه ويتأول لها، ويخفي مودته ويتعذر عما ظهر منها، وإنما تنقذ الإنكليز سياسة أخرى عَمُوا عنها وصَمُّوا وقد نُصحوا وأُنذروا، لا أقول سياسة الصدق والوفاء للعرب ‍! بل التحول عن محاولة استعبادهم من حدود برقة إلى العراق وعمان، وقتل الإسلام في مشرق نوره ومواطن حضارته، مع القضاء على بلاد الترك أمنع حصونه وأمضى أسلحته، فإن كان الترك قد أفلتوا من الشرَك الذي وقع فيه وحيد الدين، فسيفلت العرب مما وقع فيه أمثاله المخدوعين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) . * * * ] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[*] من مقالات العورة الوثقى في الحث على الجامعة الإسلامية نشر منذ 40 سنة [1] . إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض. ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من بقاع الأرض - عالمًا كان أو جاهلاً - أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر، ومن أي جنس صبأ عن دينه، رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به، بل وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ وقرأها قارئهم بعد مئين من السنين، لا يتمالك قلبه من الاضطراب ودمه من الغليان، ويستفزه الغضب ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدِّث عن غريب أو يحكي عن عجيب. المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على كل واحد منهم، إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام. وحفظ الولاية: بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل خطب، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية خاصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية، يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان. المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به الشريعة وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه، ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يا لم له بعضهم، فأهل بلوجستان كانوا يرون حركات الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم ولا يجيش لهم جأش ولم تكن لهم نعرة على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون الإنكليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا يتململون. وإن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابًا وإيابًا تقتل وتفتك ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري مائهم، بل السامعين لخريرها من حلاقيمهم الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. تمسُّكُ المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة التي هم عليها مما يقضي بالعجب، ويدعو إلى الحيرة ويسوق إلى بيان السبب، فخذ مجملا منه: إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية، وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال، وعن حُكمها تصدر بتقدير العزيز العليم - لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها، حتى يصير ما يعبر عنه بالمَلَكَة والخُلُق وتترتب عليه الآثار التي تلائمها. نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده، إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرًا، وكل فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل ثم يعود من العمل إلى الفكر، ولا ينقطع العقل والانفعال بين الأعمال والأفكار ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد. إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل، ولا أثر لها في الاعتصاب والالتحام لولا ما تبعث به الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، من تعاون الأنسباء والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثارها بقية الأجل، ويكون انبساط النفس لعَوْن القريب وغضاضة القلب لما يصيبه من ضَيْم أو نكبة

الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية [*] (2) تتمة الكلام في الشورى في الإسلام: (ومنها) ما رواه الطبراني في الأوسط وأبو سعيد في القضاء عن علي، قال: قلت: يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل قضاء في أمره ولا سنة كيف تأمرني؟ قال: (تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ولا تقضِ فيه برأيك خاصة) . (ومنها) ما في صحيح البخاري عن ابن عباس: وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شبابًا، وذكر واقعة في رجوع عمر إلى قول من يذكِّره بالقرآن، وقال: وكان وقَّافًا عند كتاب الله عز وجل. وما في الصحيحين وغيرهما من استشارة عمر في مسألة الوباء لما خرج إلى الشام وأخبروه إذ كان في (سرغ) أن الوباء وقع في الشام، فاستشار المهاجرين الأولين ثم الأنصار فاختلفا، ثم طلب من كان هنالك من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فاتفقوا على الرجوع وعدم الدخول على الوباء، فنادى عمر بالناس: إني مصبح على ظَهر (أي مسافر، والظهر: الراحلة) فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة: أفِرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عدوتان: إحداها خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ ثم جاء عبد الرحمن بن عوف فأخبره بالحديث المرفوع الموافق لرأي شيوخ قريش. * * * 9- التولية بالاستخلاف والعهد: اتفق الفقهاء على صحة استخلاف الإمام الحق، والعهد منه بالخلافة إلى من يصح العهد إليه على الشروط المعتبرة فيه [1] أي في الإمام الحق، فالعهد والاستخلاف لا يصح إلا من إمام مستجمع لجميع شروط الإمامة لمن هو مثله في ذلك، هذا شرط العهد إلى الفرد، واستدلوا على ذلك باستخلاف أبي بكر لعمر، وأما العهد إلى الجمع وجعله شورى في عدد محصور من أهل الحل والعقد، فاشترطوا فيه أن تكون الإمامة متعينة لأحدهم، بحيث لا مجال لمنازعة أحد لمن يتفقون عليه منهم، وهو الموافق لجعل عمر إياها شورى في الستة - رضي الله عنهم - قال الماوردي: وانعقد الإجماع عليها أصلاً في انعقاد الإمامة بالعهد، وفي انعقاد البيعة بعدد يتعين فيه الإمامة لأحدهم باختيار أهل الحل والعقد ا. هـ (آخر ص11) . وقد تمسك بهذا أئمة الجور وخلفاء التغلُّب والمطامع ولم يراعوا فيه ما راعاه من احتجوا بعمله من استشارة أهل الحل والعقد والعلم برضاهم أولاً، وإقناع من كان توقف فيه، والروايات في هذا معروفة في كتب الحديث، ومِن أجمعِها (كنز العمال) وكتب التاريخ والمناقب. وأي عالم أو عاقل يقيس عهد أبي بكر إلى عمر في تحري الحق والعدل والمصلحة بعد الاستشارة فيه ورضاء أهل الحل والعقد به على عهد معاوية واستخلافه ليزيد الفاسق الفاجر بقوة الإرهاب من جهة ورشوة الزعماء من أخرى؟ ثم ما تلاه واتبعت فيه سنته السيئة [2] من احتكار أهل الجور والطمع للسطان، وجعله إرثا لأولادهم أو لأوليائهم كما يورث المال والمتاع؟ ألا إن هذه هي أعمال عصبية القوة القاهرة المخالفة لهدي القرآن وسنة الإسلام. ذكر الفقيه ابن حجر في (التحفة) اختصاص الاستخلاف بقسميه (الفردي والجمعي) بالإمام الحق واعتماده، ثم قال: وقد يشكل عليه ما في التواريخ والطبقات من تنفيذ العلماء وغيرهم لعهود بني العباس مع عدم استجماعهم للشروط، بل نفذ السلف عهود بني أمية مع أنهم كذلك، إلا أن يقال: هذه وقائع محتملة أنهم إنما نفذوا ذلك للشوكة وخشية الفتنة لا للعهد، بل هو الظاهر. اهـ وقال الماوردي في العهد المشار إليه في أول هذه المسألة: ويعتبر شروط الإمام في المُوَلَّى من وقت العهد إليه. وإن كان صغيرًا أو فاسقًا وقت العهد وبالغًا عدلاً عند موت المُوَلِّي، لم تصح خلافته حتى يستأنف أهل الاختيار بيعته اهـ. ونقل الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث (عُبادة) في المبايعة وقد تقدم: إنه لا يجوز عقد الولاية لفاسق ابتداءً، وإن الخلاف في الخروج على الفاسق فيما إذا كان عادلاً وإمامته صحيحة ثم أحدث جورًا. اهـ. وقد علم مما أسلفنا أن العهد والاستخلاف بشروطه متوقف على إقرار أهل الحل والعقد له، واستدلالهم يقتضيه، وإن لم يصرحوا، وأما المتغلبون بقوة العصبية فعهدهم واستخلافهم كإمامتهم، وليس حقًّا شرعيًّا لازمًا لذاته، بل يجب نبذه، كما تجب إزالتها واستبدال إمامة شرعية بها عند الإمكان والأمان من فتنة أشد ضررًا على الأمة منها، وإذا زالت بتغلب آخر فلا يجب على المسلمين القتال لإعادتها. *** 10- طالب الولاية لا يُوَلَّى: من هدي الإسلام أن طالب الولاية والإمارة لأجل الجاه والثروة لا يولى. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجلين طلبا أن يؤمرهما: (لن نستعمل على عملنا من أراده) وفي رواية (إننا لا نولي هذا من سأله ولا من حرص عليه) رواه الشيخان: البخاري بهذا اللفظ، ومسلم بلفظ: (إنا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله ولا أحدًا حرص عليه) وفي رواية للإمام أحمد: (إن أَخْوَنَكم عندنا من يطلبه) فلم يستعن بهما في شيء حتى مات. وسبب هذا المنع القطعي المؤكد بالقسم أن طلاب الولايات - ولا سيما أعلاها وهي الإمامة - والحريصون عليها هم محبو السلطة للعظمة والتمتع والتحكم في الناس، وقد ظهر أنهم هم الذين أفسدوا أمر هذه الأمة، وأولهم من الجماعات بنو أمية، وإن كان فيهم أفراد، بل منهم رجل الرجال وواحد الآحاد عمر بن عبد العزيز خامس الراشدين، ولكنه لم يكن حريصًا على الإمامة ولو أمكنه لأعادها إلى العلويين. وذكر الحافظ في شرح الحديث المذكور آنفًا كلمة حق في معناه عن المهلب قال: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء واستبيحت الأموال والفروج، وعظم الفساد في الأرض بذلك. وهنالك أحاديث أخرى. ولو حافظ المسلمون على أصل الشرع الذي قُرر في عهد الراشدين في أمر الخلافة، لَمَا وقعت تلك الفتن والمفاسد، ولعم الإسلام الأرض كلها. وقد قال عالم ألماني لشريف حجازي في الآستانة: إنه كان ينبغي لنا أن نضع لمعاوية تمثالاً من الذهب في عواصمنا؛ لأنه لو لم يحول سلطة الخلافة عما وضعها عليه الشرع وجرى عليه الراشدون، لَمَلَكَ العرب بلادنا كلها وصيروها إسلامية عربية. *** 11- إمامة الضرورة والتغلُّب بالقوة: اتفق محققو العلماء على أنه لا يجوز أن يبايَع بالخلافة إلا مَن كان مستجمعًا لما ذكروه من شرائطها، وخاصة العدالة والكفاءة والقرشية، فإذا تعذر وجود بعض الشروط تدخل المسألة في حكم الضرورات، والضرورات تقدر بقدرها، فيكون الواجب حينئذ مبايعة مَن كان مستجمعًا لأكثر الشرائط من أهلها، مع الاجتهاد والسعي لاستجماعها كلها،قال الكمال بن الهمام في المسايرة: والمتغلب تصح منه هذه الأمور للضرورة كما لو لم يوجد قرشي عدل أو وجد ولم يقدر على توليته لغلبة الجورة ا. هـ. [3] قال هذا ردًّا على جماعة الحنفية في استدلالهم على عدم اشتراط العدالة في الأئمة بقبول بعض الصحابة للولاية والقضاء من ظلمة بني أمية كمروان وصلاتهم معهم، فمراده بالأمور: القضاء والإمارة والحكم، كما قاله شارح المسايرة. وقال السعد في شرح المقاصد: وههنا بحث، وهو أنه إذا لم يوجد إمام على شرائطه وبايع طائفة من أهل الحل والعقد قرشيًّا فيه بعض الشرائط من غير نفاذ لأحكامه، وطاعة من العامة لأوامره، وشوكة بها يتصرف في مصالح العباد ويقتدر على النصب والعزل لمن أراد - هل يكون ذلك إتيانًا بالواجب؟ وهل يجب على ذوي الشوكة العظيمة من ملوك الأطراف المتصفين بحسن السياسة والعدل والإنصاف، أن يفوضوا إليه الأمر بالكلية، ويكونوا لديه كسائر الرعية؟ وقد يُتَمَسك بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي الحصول [4] . اهـ. وإنما فرض أن المبايعين في هذه الصورة بعض أهل الحل والعقد؛ لأنه إذا بايعه جميعهم ومنهم الملوك الذين ذكرهم تمت شوكته ونفذ حكمه قطعًا، وهذه الصورة تصدق على بعض خلفاء بني أمية وبني العباس الذين كانت تنقصهم العدالة أو العلم الاجتهادي، وكان الجمهور يوجبون طاعتهم، ويصححون للضرورة إمامتهم إذا لم تتيسر بيعة أمثل منهم، وإن كان موجودًا والمعتمد عند الحنفية أن إمامتهم صحيحة مطلقًا لأن العلم والعدالة عندهم ليست من شروط الانعقاد كما تقدم في محله. قال الكمال بن الهمام محقق الحنفية في (المسايرة) تبعًا للغزالي: (الأصل العاشر) لو تعذر وجود العلم والعدالة، فمن تصدى للإمامة بأن تغلَّبَ عليها جاهل بالأحكام أو فاسق وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق - حكمنا بانعقاد إمامته كي لا نكون كمن يبني قصرًا ويهدم مصرًا، وإذا قضينا بنفوذ قضايا أهل البغي في بلادهم التي غلبوا عليها لمسيس الحاجة، فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند لزوم الضرر العام بتقدير عدمها. وإذا تغلب آخر على ذلك المتغلب وقعد مكانه انعزل الأول وصار الثاني إمامًا. اهـ. وقال السعد في شرح (المقاصد) بعد ذكر شروط الإمامة، وآخرها النسب القرشي ما نصه: وأما إذا لم يوجد في قريش من يصلح لذلك أو لم يقتدر على نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة وأرباب الضلالة - فلا كلام في جواز تقلد القضاء وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوك، كما إذا كان الإمام القرشي فاسقًا أو جائرًا أو جاهلاً، فضلاً عن أن يكون مجتهدًا. وبالجملة مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار، وأما عند العجز والاضطرار، واستيلاء الظلمة والكفار والفجار، وتسلط الجبابرة الأشرار، فقد صارت الرئاسة الدنيوية تغلبية، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام ضرورة، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط، والضرورات تبيح المحظورات، وإلى الله المشتكى في النائبات، وهو المرتجى لكشف الملمات ا. هـ بحروفه [5] . والفرق بين هذه الخلافة وما قبلها بعد كون كل منهما جائزًا للضرورة أن الأولى صدرت من أهل الحل والعقد باختيارهم لمن هو أمثل الفاقدين لبعض الشرائط، ولذلك فَرَضَه المحقق التفتازاني قرشيًّا؛ إذ القرشيون كثيرون دائمًا، وأما الثانية فصاحبها هو المعتدي على الخلافة بقوة العصبية لا باختيار أهل الحل والعقد له؛ لعدم وجود من هو أجمع للشرائط منه، فذاك يطاع اختيارًا، وهذا يطاع اضطرارًا. ومعنى هذا أن سلطة التغلب كأكل الميتة ولحم الخنزير عند الضرورة، تنفذ بالقهر وتكون أدنى من الفوضى. ومقتضاه أنه يجب السعي دائما لإزالتها عند الإمكان، ولا يجوز أن توطن الأنفس على دوامها، ولا أن تجعل كالكُرة بين المتغلبين يتقاذفونها، كما فعلت الأمم التي كانت مظلومة وراضية بالظلم لجهلها بقوتها الكامنة فيها، وكون قوة ملوكها وأمرائها منها، ألم تر إلى من استناروا بالعلم الاجتماعي منا كيف هبت لإسقاط حكوماتها الجائرة وملوكها المستبدين، وكان آخر من فعل ذلك الشعب التركي، ولكنه أسقط نوعًا من التغلب بنوع آخر عسى أن يكون خيرًا منه، وإنما فعله تقليدًا لتلك الأمم الأبية؛ إذ كان جماهير علماء الترك والهند ومصر وغيرها من الأقطار، يوجبون

خطاب أحد زعماء النهضة الإسلامية الهندية الذي قدمه عند محاكمته للمحكمة الإنكليزية ـ 1

الكاتب: أبو الكلام

_ خطاب أحد زعماء النهضة الإسلامية الهندية الذي قدَّمه عند محاكمته للمحكمة الإنكليزية ومقدمة مترجمه في وصف ثورة الهند السياسية السلبية وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*] المقدمة: إن الجهاد العظيم الذي قامت به الهند المستعبدة منذ خمس سنوات متواليات لصون الخلافة الإسلامية، وحرية البلاد العربية - يكاد يكون فذًّا في تاريخ العالم، لا لأنه جهاد بلاد استعبدت استعبادًا شديدًا، وحكمت بالنار والحديد أجيالاً، وصبت على رأسها المصائب تلو المصائب، ودهمتها الدواهي - بل لأن أصوله جديدة، وطرق عمله عجيبة، ومظاهراته سلمية، وروحه العاملة فيه خالية من كل حقد وشدة، وليس فيه إلا الإيثار وهضم النفس وكظم الغيظ وتقديم المُهج، وتحمل الشدائد. القائمون به يُقْتَلُون ولا يَقْتُلُون، يُضرون ولا يَضرون [1] ، يصابون ولا يصيبون، يقاومون القوة لا بالشدة والبطش، بل بالصبر والحلم والسلم، ويحاربون الاستبداد لا بالسيف والرمح، بل بالإيمان واليقين والثقة بالله ربهم، فهو جهاد سلمي حقًّا، وحرب روحانية مدنية، لا شائبة فيها من القوة والغلظة، بل هو في الحقيقة صحيفة عِبر، وكتاب بصائر لسائر الأمم المستضعفة يبين لها أن الفوز والنصر لا يتوقف على بسطة الجسم والقوة المادية، بل منبعه الحقيقي من القوة المعنوية وروحانية القلوب التي في الصدور، وهو أول مثال للمقابلة السلمية للقوات المتسلحة القتالة، وإنه ليهب سلاحًا ماضيًا صائبًا من الإيمان والصدق للشرق المسكين، ليحارب به الغرب الجائر المتسلح بالقوات المادية، فهل يقبله الشرق وينجو به من الخزي والعار؟ ألا لا يتهمني أحد بأني أبالغ في هذا الجهاد، أو أهيم بوصفه في وديان الخيال، أو أتخيل كالشعراء في المحال. بل أُبين كُنه الحال، وأتكلم عن حقيقة وبرهان، فإنه جهاد زعزع أساس الدولة البريطانية في البلاد، وتركها في حيرة وارتباك، فظلت طول هذه المدة مغلولة الأيدي مع ما تملك من القوة والسلاح، ولم تستطع قهره ومقارعته بما أوتيت من البطش والجلاد، ولكن هل سمعت سيفًا يقتل روحًا، وأن صُرَعة يصرع قلبًا، نعم قهرت بريطانية عدوتها ألمانية؛ لأنها كانت أقوى منها وأدهى [2] ، ولكنها ما كان لها أن تقهر هذا الجهاد السلمي؛ لأنه ليس أمامها قوة مادية مثلها فتكسرها، ولا يد فتاكة فتجذمها، وإنما كل ما هنالك عنق للقتل وقلب للحياة، وجسم للصلب، وروح للبقاء، فما أعجب هذا الجهاد، وما أسلم هذا العراك! ولقد كان من نتائج هذا الجهاد أن اضطرت بريطانيا على رغم أنفها أن تخفف وطأتها عن الإسلام، ولا تصر على إظهار العداوة للخلافة الإسلامية، والتمادي في حماية ربيبتها الدولة اليونانية، فإن الحكومة الهندية الإنكليزية لما أرسلت بلاغها الرسمي الشهير في فبراير سنة 1922 إلى الحكومة المركزية في لندن تؤكد فيه المطالب الهندية في مسألة الخلافة، وتحذرها من سياستها الخرقاء في معاداة الدولة العثمانية والبلاد الإسلامية، تأثر به الرأي العام الإنكليزي أيَّمَا تأثر، حتى تدحرجت وزارة المستر لويد جورج القاهر لألمانيا، وسقطت سقوطًا مخزيًا، وكانت قد امتازت بعداوة الأتراك والمسلمين واستعمار البلاد الإسلامية المحتلة باسم الوصاية. نعم قد تم هذا، ولكن الأيام حبلى ولا ندري ما يكون وراء مؤتمر الصلح، ومهما يكن من الأمر، فسيظل هذا الجهاد حتى تتحرر البلاد الإسلامية، ويغادر كل جندي محتل أرض الشام وفلسطين والعراق ومصر والقسطنطينية، فتصبح كلها حرة مطلقة من قيودها تحكم نفسها بنفسها كيف تشاء. وإن مما يُحزن القلب، ويُبكي العين أن هذه البلاد الإسلامية التي تلتهب الهندُ غيرة عليها، وتتفانى في حبها، وترخص كل غال وثمين لأجلها - لا تعلم عن هذا الجهاد إلا شيئًا لا يُذْكَر، مع أن سيل المصائب الذي غمر العالم الإسلامي قاطبة كان يجب أن يعرّف به المسلمون بعضهم بعضًا، ويتعاونوا ويتناصروا ويبحثوا عن خطة مشتركة للنجاة من هذه الورطة، وللفوز والفلاح والحياة في المستقبل. وهذا الذي دعاني إلى أن أقدم إلى مسلمي مصر والشام والعراق وسائر البلاد العربية والإسلامية، الخطاب الجليل الذي خاطب به المحكمةَ الإنكليزية زعيمُ الهند الحلاحل الهمام (الشيخ أبو الكلام أحمد) عندما حوكم فيها؛ لأنه فوق ما فيه من البصائر والعبر، يبين مقاصد ذلك الجهاد، وطرق السير فيه بأحسن بيان غير أنه لا بد لإيضاح كُنْه هذا الخطاب من بيان وجيز لحركة اللاتعاون السلمي التي سببته هذه الواقعة. *** (حركة اللاتعاون السلمي في الهند) قامت حركة هذا الجهاد بعد هدنة الحرب الكبرى مباشرة، فظلت زمنًا محصورة في قيام المظاهرات وحشد المحافل واجتماع المؤتمرات، وإرسال الوفود إلى إنكلترا وأوروبا، وغيرها من الطرق السياسية المعهودة، ولما لم تنتج هذه الأعمال شيئًا، تشاورت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى في وضع خطة للعمل، ثم أعلنتا في أغسطس سنة 1920 (اللاتعاون السلمي) الذي هو داخل تحت الأوامر الشرعية؛ لأنه قسم من أقسام ترك الولاء للمحاربين، والذي يسمى بالإنكليزية OPERATION - EA - NON MONUIOLENT ومعنى (كوابريشن) المساعدة والمشاركة في العمل، فكان الغرض منه أن تقطع عن بريطانيا جميع تلك العلائق التي تساعدها في حكمها واستبدادها وقيامها في البلاد؛ لأن الهند ليس في وسعها أن تقوم بحركة مسلحة؛ ولأنها تريد أن تقدم مثالاً عمليًّا لمقاومة القوة بالطرق السلمية، فلذا جعل عنوان هذه الحركة أن تكون سلمية بالمرة، فلا تقابل القوة المادية بقوة مثلها، بل بالحلم والتضحية والثبات على الحق، تتعب القوة من الظلم والعسف، ولا يتعب أصحاب الحق من الصبر والتضحية وكانت لائحة عملها كما يلي: (1) تُرد إلى الحكومة جميع مناصبها وألقاب شرفها وأوسمتها. (2) تقاطع جميع مدارسها وكلياتها، وتؤسس للصبيان المدارس الوطنية، والشبان يشتغلون بنشر الحركة وترويجها. (3) تقاطع جميع المحاكم العدلية، فلا يذهب إليها المحامون ولا أصحاب الدعاوى، بل تؤسس المحاكم الوطنية فتفصل فيها الدعاوى على الطرق البسيطة. (4) تقاطع إصلاحات الحكومة التي تمن بها على البلاد، فلا يرشح أحد نفسه للمجالس النيابية، ولا ينتخب لها أحد. (5) تقاطع البضائع الإنكليزية، ولا سيما القماش منها، ويجب على الوطنيين أن يغزلوا القطن بأيديهم، فينسج منه القماش، وهو الذي يستعمله الناس. (6) يجب ترك الخدمة العسكرية لأن الدولة البريطانية تستعمل الجيش الهندي لاستعباد هذه البلاد وغيرها من البلاد الحرة. (7) يجب أخيرًا أن يمنع كل ما يدفع إلى الحكومة من أموال الضرائب وغيرها فلا يؤدى إليها فلس واحد، وإن سجنت وعذبت. لا يخفى خطر هذه اللائحة، فإنها لم تكن إلا دعوة إلى الإيثار وهضم النفس وتحمل الخسائر، والتعرض للنوائب؛ إذ لا يلبيها أحد إلا وينفض يده من وسائل معيشته، فيذر نفسه وأهله للضنك والفقر والفاقة، ثم يعرض عن كل ما عند الحكومة من الرتب والمنافع والشرف والفخار، وبعد ذلك يعرض نفسه للحبس والتعذيب، وقد يلقى إلى القتل والصلب، إلا أن البلاد رحبت بها وتقبلتها بقبول حسن، فأخذت جماعات تاركي التعاون تظهر من كل جهة وتعلن هذه الأمور وتعمل بها، والحكومة تراها بعينها ولا تعرف كيف تصد تيارها. (مقاطعة ولي العهد) ولما رأت الحكومة أن الحركة لا تزال تتقوى وتنتشر، وأنها لا تقدر على قهرها لجأت إلى الحيل السياسية، فدبر الوالي العام الجديد اللورد ريدنج الداهية الشهير، سياحة لولي عهد إنكلترا في البلاد الهندية، ظنًّا منه أن البلاد لا تأبى استقباله والترحيب بضيفها لأن العائلة الملكية تعتبر عندهم فوق المنازعات السياسية، فتضعف الحركة وتعود المياه إلى مجاريها. ولكن سرعان ما خاب أمله، فإن الأمة ما سمعت بهذه السياحة إلا وقررت مقاطعتها، وأعلنت جمعية الخلافة وجمعية العلماء أن هذه السياحة تنوب (عن) الإمبراطورية البريطانية، التي تحارب الخلافة والبلاد الإسلامية، وتريد استعبادها واستعمارها، فلذا لا يجوز لأحد من المسلمين أن يشترك في استقبال ولي العهد، ولا في الاحتفالات التي تقيمها الحكومة له. ولقد قامت المنازعات الشديدة في البلاد بعد هذا الإعلان، فكانت الحكومة في جهة تجدُّ وتكدُّ بجميع وسائلها الكثيرة ومواردها العظيمة لإنجاح هذه السياحة، وفي جهة أخرى كان زعماء البلاد الذين لا حول لهم ولا قوة إلا قوة الأمة مصرين على مقاطعتها، وكانت النتيجة مدهشة جدًّا، كانت هزيمة شنيعة تسجل في التاريخ على أقوى دول الأرض أمام الرأي العام لبلاد ضعيفة الجسم، قوية الروح، فلقد رأى نجل إمبراطور العالم بعيني رأسه منظرًا مدهشًا، لم يُشَاهد مثله من قبل، وربما لم يخطر في باله، فإنه ما دخل مدينة إلا وجد الأسواق فيها معطلة والدكاكين مقفلة، والأبواب موصدة، والشوارع مهجورة، المدينة كلها في سكون كسكون المقابر، كأنه لم يغن فيها أحد بالأمس! وقد شاهد ما شاهد عم أبيه (الدوق أوف كوت) مثل ذلك في سياحته التي تقدمت سياحته بسنة، وصفه أحد مكاتبي الجرائد في باريس قائلا: (إن الهند اليوم مثل ما كانت باريس عند دخول الجيوش الألمانية إياها في حرب السبعين) . للكلام بقية ((يتبع بمقال تالٍ))

وصف استقلال العراق

الكاتب: معروف الرصافي

_ وصف استقلال العراق بقلم شاعره معروف أفندي الرصافي لنا (ملك) وليس له (رعايا) ... و (أوطان) وليس لها (حدود) (وأجناد) وليس لهم (سلاح) ... و (مملكة) وليس لها (نقود) ويكفينا من الدولات أنا ... تُعلَّق في الديار لنا البنود و (أنا) بعد ذلك في (افتقار) ... إلى ما (الأجنبي) به (يجود) تسود سياسة (الهندي) فينا ... وأما ابن البلاد فلا (يسود) إذًا (فالهند) أشرف من (بلادي) ... و (أشرف) من بني قومي (الهنود) وكم عند الحكومة من (رجال) ... نراهم (سادة) وهم (العبيد) وليس (الإنجليز) (بمنقذينا) ... وإن (كُتبتْ) لنا منهم (عهود) متى شفق (القوي) على (ضعيف) ... وكيف (يعاهد) الخرفانَ (أسيد) ولكن نحن في يدهم (أسارى) ... وما كتبوه من عهدٍ (قيود) أما والله (لو كنا قرودًا) ... لما رضيت بعيشتنا (القرود)

رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رد على الرسالة الرملية فيما سمته العقائد الوهابية بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر، أرجو نشر ما يأتي في المنار بيانًا للحقيقة التي أخفاها المحترم صاحب مجلة الإسعاد وصاحبه الأستاذ المحترم الشيخ تاج الدين في حادثة الرمل؛ إذ كتب الثاني رسالة أسماها (الرسالة الرملية في الرد على مروجي بعض العقائد الوهابية في ثغر الإسكندرية) ونشرها صاحب المجلة المذكورة وأسماها (الرسالة الجليلة) وعقَّبَها بخبر غير صحيح لم يعزه إلى مصدره الحقيقي بل عزاه إلى نفسه ليوهم أنه كان حاضرًا ويُلَبِّس على القراء. وقد نُشرت الرسالة المذكورة في عدد 5 من المجلد 3 من مجلة الإسعاد وكتبنا ردًّا عليها فأبى نشره وطلب غيره خوفًا على كرامة الأستاذ المؤلف كما يقول. فكتبنا غيره وأردفناه بمؤاخذته على الخبر الذي نشره غير معزو إلى صاحبه طالبين منه نشره ظانين أنه كأصحاب المجلات الحرة التي تنشر ما لها وما عليها وترد بالحق كالمنار الذي يطلب كل حين من قرائه أن يوافوه بكل ما يرونه منتقدًا معززًا بالأدلة والبراهين. وقد نشر بعضه مبتورًا أوله، ورد عليه بالباطل الذي طالما لغط به المقلدون وفنده المهتدون، إسعادًا لصاحب الرسالة علينا، وحسبنا الله ونعم الوكيل. أما ملخص الحادثة الرملية: فهو أن أئمة المساجد منعوني من إلقاء المواعظ والدروس في المساجد التي احتكروها بالوظائف والمرتبات، فاتخذنا مسجدًا آخر بنيناه بأيدينا في ملك بعض مريدينا، وصرنا نصلي فيه ونقرأ الدرس بعد العشاء لمن يحضر من الإخوان فاجتمع عندنا خلق كثير، وهداهم الله حتى تابوا عن الكبائر التي كانوا منغمسين فيها ليلاً ونهارًا. فحقد أولئك الأئمة وصاروا يفترون علينا الكذب وينبزوننا بالألقاب ويشيعون بين الناس أننا ننكر الوسيلة والشفاعة ونَسُبُّ الأئمة وننكر الوحي ويخطبون في مساجدهم بهذا، ويقسمون بالله جهد أيمانهم ليصدقهم العوام. ثم كتبوا لمشيخة الإسكندرية شكوى عَزَوْا إلينا فيها كل هذه المفتريات وختَّموا كثيرًا من العوام عليها زورًا، وطلبوا من المشيخة إرسال وفد يخطب معهم في الإغراء بنا وتنفير الناس عنا، ولكن المشيخة - وفقها الله - لم تُرِد ذلك لِما بلغها أننا براء من كل ما نسبوه إلينا بشهادة بعض الكبراء وبعض العلماء الذين يعرفوننا حق المعرفة. ولما أكثروا من الشكوى، وأرسلوا وفودهم إلى المشيخة تترى كلفت بعضهم بتحقيق المسألة، وكان المنتظر من ذلك الوفد المؤلف من ثلاثة علمائهم أن يحضروا إلى محل الحادثة ويجمعوا الأئمة الشاكين والمشكو منهم في بيت بعضهم بعيدًا عن العامة، وفي حفلة خاصة بهم ولكنهم - أرشدهم الله - لم يفعلوا وجاءوا بعد شهر ألفوا فيه رسالة ردًّا على شخص لا وجود له إلا في خيالهم ينكر الوسيلة والشفاعة وكرامات الأولياء وما استحسنوه من البدع، وجاءوا يوم جمعة في ربيع الأول من سنة 1340 هـ في بعض مساجد الظاهرية وبعد صلاة الجمعة قعد القوم واحتشدوا حتى ملاأوا ما هو له من الفضاء والطرقات وقعد أحد الثلاثة الموفدين وهو الأستاذ الشيخ تاج الدين وأخرج رسالته بعد أن نَوَّهَ الخطباءُ بفضل الوفد وعلمه وعناية المشيخة بإيفاده، وأن قوله هو القول الفصل والدين العدل، واسترعَوْا الأسماع لقراءة الرئيس رسالته فقرأها وأنا حاضر في المسجد لا أقدر أبدي ولا أعيد من كثرة الصياح، وارتفاع الأصوات، وتحرش العوام، وكلما هممت برد الباطل أسكتني العوام من حولي، ولما قرأ الأستاذ مسألة الشفاعة وأثبتها على الوجه الذي نعتقده استطعت أن أرفع صوتي بالموافقة في بعض المواضع التي لا خلاف فيها، ثم انتهى الشيخ ولم يكد حتى قام ثاني الوفد الشيخ شريف وخطب وخصني بالكلام تحاملاً إذ قال: يا فلان اتق الله (يكررها) ولا تفرق الناس، ونحو ذلك، ثم قام آخر وارتقى المنبر بغير دعوة وصار يحرض الناس ويثير الفتنة يسب ويشتم تصريحًا وتلويحًا والعلماء حاضرون وأكثر العوام والخصوم، فقمت من بينهم بعد أن أشهدتهم ورددت عليه، وقلت: والله إنا كنا على الحق ولا زلنا على الحق والله لأنصرن السنة ما دمت حيًّا إن شاء الله، وما كدت أخرج من باب المسجد حتى ابتدرني العوام ضربًا ولكمًا ولم ينقذني من بينهم إلا رجال الشرطة وبعض الإخوان. وأما الرسالة فقد احتوت على إثبات الشفاعة التي لم ينكرها أحد؛ ليقال: إنه رد على من ينكرها، وليدخل أو يلصق بها ما يسمونه اليوم بالتوسل، والمراد دعاء الموتى وسؤالهم قضاء الحاجات، وقد بنى إثبات هذه الوسيلة على حياة الأموات في قبورهم وسماعهم مَن يخاطبهم واستجابة دعائه، وردهم عليه السلام، واستدل ببعض الأحاديث الضعيفة وبالآية الواردة في حياة الشهداء وحديثين من أحاديث الصحيح في سؤال القبر والزيارة وهي حجة عليهم لا لهم لو كانوا منصفين، ثم قاس على حياة الشهداء - التي أثبتها القرآن لشهداء الصحابة في بعض الغزوات - حياة جميع من يسمونهم الأولياء، وبنى على هذا جواز دعائهم والاستغاثة بهم في تفريج الكروب وقضاء الحاجات؛ لأنه لا فرق عندهم بين رد الميت السلام على من سلم عليه وبين استجابته الدعاء وإجابة سؤال من توجه إليه، ولا سيما إذا قدم له هدية من صدقة وقرآن (كذا قال الشيخ تاج الدين) في رسالته وذكر واقعة حال جرت بينه وبين وليه أبي العباس وكفى بها مصورًا لعقائد أمثاله، وهذا نصها نقلا عن مجلة الإسعاد وهو: (كم من منح ونفحات، ونوال وإغاثات، شوهدت بسبب الزيارات والتوسلات، بأصحاب هذه المقامات: فمما وقع للفقير جامع هذه الكلمات أني اضطررت (تأمل) وقتًا إلى الانتقال من مسكن إلى آخر بمدينة الإسكندرية وكاد الحصول على المطلوب يتعسر أو يتعذر (تأمل) لضيق الجهة التي أريد السكنى بها بسكانها، فتوجهت (تأمل) لزيارة سيدي أحمد المرسي أبي العباس رضي الله عنه، فبعد أن سلمت ووهبت لروحه الكريمة (تأمل) ما تيسر من القرآن، توسلت به إلى الله تعالى في ذلك المطلوب (تأمل) وشكوت له هذه الضائقة (تأمل) كأني أكلم حيًّا أشاهده (تأمل) وأخاطبه، وكان من كلامي له رضي الله عنه هذه العبارة: (إن كان لكم كرامات فَلِمَ لَمْ تكن لأمثالنا وقد جئنا لتعليم العلم) ثم خرجت فاعترضني بجوار ضريحه أحد كناسي البلدية فسألته عن مسكن فأشار إلى دار بهذه الجهة تدعى بدار الحاج علي الخولانى وقرع بابها فنزل صاحبها المذكور باسِمَ الوجه تُرى عليه لوائح الاستبشار بالطارق وأدخلنا ما أعده للإيجار من هذه الدار فقدرت أجرته في نفسي بما يقرب من ضعف ما خصصه لأجرة السكنى فأردت التخلص لذلك، ولما ظهر لذلك الرجل حقيقة الأمر لم يسعه إلا القبول بما أستطيع فأوقعني تساهله هذا في ريب وحذر من أن يكون بالمسكن عيب خفي عليَّ فاستأجرته مشاهرة بدل المسانهة التي هي العادة الغالبة بالمدينة فقبل أيضًا وبعد تمام الاتفاق والتوقيع من الجانبين على الأوراق قال: إن سبب هذا الإكرام أني ساعة قرعكم الباب كنت نائمًا فرأيت أبا العباس واقفًا على سطح مقامه يناديني بـ (يا علي إني مرسل إليك من يسكن بدارك فأكرمه) فأيقظني قرع الباب فأحببت أن أقابل هذا الطارق بنفسي، لعله المرسل من قبل السيد المرسي، فتحققت ما رجوت لأني رأيتك كثيرًا بمسجده (تأمل) وعزمت على إكرامك بكل ما يمكنني إجابة لهذا الولي الذي لم أره في منامي مدة حياتي غير هذه المرة) قال الشيخ: فشكرته إلخ. هذه الحكاية تمثل لنا عقيدة الشيخ الذي يرد على الوهابية، وتمثل لنا أيضًا عقيدة صاحب مجلة الإسعاد الذي نصب نفسه لإفتاء الناس وكتب على مجلته عنوان: أكبر المجلات الإسلامية الإصلاحية … ثم هو يصف هذه الرسالة القبورية بالجليلة راضيًا بما فيها ويرد على من قام يدفع عن نفسه تهمة الكذب التي ألصقها به الجاهلون، فالإصلاح عند هؤلاء المصلحين تضليل من يهتدي بهدي السلف الصالح، وإقناعه بالنظريات والتأويلات لاتباع خرافات القبوريين وأصحاب الموالد إلخ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الظاهر (المنار) قد تكرر تقنيدنا لخرافات (الجبت) الوثنية، فنكتفي هنا بتذكير طلاب الحق بالمسائل الآتية المفصلة في المنار من قبل، وهي: (1) أن ما ورد من النصوص في عالم الغيب كحياة الشهداء وسماع أرواح المؤمنين والكفار كلام أهل الدنيا - يجب الإيمان بما صح منه كما ورد بلا زيادة ولا نقصان ولا يجري فيه القياس، بل هو مبني على السماع. وهذه مسألة لا خلاف فيها ولكن أدعياء العلم عندنا يدرسون بعض كتب الكلام والأصول لأجل المناقشة في عباراتها استعدادًا للامتحان ولا يعقلون منها شيئًا. (2) أن هذه مسألة اعتقادية لا تقوم الحجة عليها إلا بالأدلة القطعية ولو كان الصالحون يقضون حاجات الناس بعد موتهم وكان طلب ذلك مشروعًا لبيَّنه الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيانًا لا شبهة فيه ولتواتر فعله عن الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم) ولكن لم يرد فيه نص قطعي ولا خبر صحيح ظني. (3) أن الرؤى والأحلام لا يثبت بها حكم من أحكام الفروع الشرعية التي يكتفون فيها بالأدلة الظنية، فضلاً عن العقائد وأصول الإيمان التي يترتب عليها السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، فرجل مشغول الخيال بأمر من الأمور تخيله في نومه واقعًا على ما يحب في صورة مطابقة لعقيدته في ميت وافق تخيله الواقع، هل يثبت بهذا أصل من عقائد الدين أو أي شيء يعتد به شرعًا؟ ! أو يعد من خوارق العادات؟ كلا إن مثل هذا يقع كثيرًا لأهل كل ملة، ولا سيما الوثنيين، والروايات عن المتقدمين والمتأخرين فيها كثيرة، ولكن أدعياء العلم عندنا لا يعرفون من أمر العالم ولا من تاريخه شيئًا يعتد به. وإن علماء النفس المتأخرين قد أثبتوا أن بعض الناس يشعرون في المنام أو اليقظة ببعض ما تتوجه إليه أنفسهم من الأمور وينقلون وقائع كثيرة في ذلك. فلا يبعد على هذا أن تكون نفس صاحب الدار قد شعرت وهو نائم بأن رجلاً في مسجد المرسي سيطلب منه أن يسكن في داره فصور له الخيال أن المرسي هو الذي أرسله ويطلب إكرامه. فهل نرتب على هذا المنام الذي تكثر أمثاله في كل أمة وملة أن المرسي سمع دعاء الشيخ اللاجئ إليه واستجاب له وتمثل لصاحب الدار في منامه وأخبره بما أخبره وأمره بما أمره، ثم نجعل هذا دليلاً على شرعية الذهاب إلى القبور التي اتخذت مساجد، فاستحق متخذوها لعنة الله على لسان خاتم رسله في آخر حياته وندعوهم بأن يقضوا حاجاتنا، خلافًا لكتاب ربنا وسنة نبينا وسيرة سلفنا الصالح: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} (آل عمران: 8) {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) . ((يتبع بمقال تالٍ))

أهم أخبار العالم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم أخبار العالم إن أنباء مؤتمر الصلح بين الشرق والغرب في لوزان ما زالت تشيل وتهبط بها كفة الميزان، ولن تعتدل حتى يعتدل الفريقان، والظاهر أن السياسة البريطانية قد فازت في هذا الطور على السياسة الفرنسية، فإذا تم للورد كرزون استمالة الترك فالويل للعرب عامة، ولمصر خاصة، ولن يتم ذلك إن شاء الله، وإنما نرجو أن يتم الصلح على قاعدة الاعتراف بحرية الأمم واستقلالها، وإلا فلا سلام في الأرض حتى ينتقم الله من الباغين انتقامًا آخر يتوبون به إليه من استعباد خلقه.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة كان شقيقنا السيد صالح - رحمه الله تعالى - قد اختص نفسه بتقريظ المطبوعات الجديدة في السنين الأخيرة، فكان يأخذ أكثر ما يُهدَى منها إلى المنار ويضعه في مكتبه ويتخير للتقريظ ما شاء منها متى شاء ويحيل علينا أقله أحيانًا. ولم يتيسر لنا بعد وفاته أن نحصي ما ترك تقريظه وإنما جمعنا بعضه فننوه به من غير مراعاة للتأريخ، ولا لمكانة هذه الكتب والصحف في التقديم والتأخير. (مسند الإمام زيد المسمى بالمجموع الفقهي) قد طبع هذا الكتاب المسمى بهذا الاسم في العام الماضي بمصر سنة 1340 هـ. الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب هو أحد أئمة أهل البيت الأعلام، عليهم التحية والسلام، وهو الذي ينتمي إليه الزيدية، روى الحديث عن أبيه وأخيه محمد الباقر وأبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير وعبد الله بن أبي رافع، وروى عنه ابناه حسين وعيسى وابن أخيه جدنا جعفر الصادق والزهري والأعمش وشعبة وكثيرون منهم أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي الذي روى هذا الكتاب الموسوم بالمجموع الفقهي الذي يسمونه مسند الإمام زيد أيضًا، وهذه التسمية ليست على اصطلاح المحدثين، فإنما الكتاب مجموع أخبار وآثار مرتبة على أبواب الفقه ككتب السنن، والأخبار المرفوعة فيه على كثرتها قد رواها بصيغة: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا. ولديهم مجموع آخر يسمى المجموع الحديثي من رواية أبي خالد أيضًا. فأما الإمام زيد فلا خلاف بين علماء الحديث وغيرهم في توثيقه وعلمه وفضله وصلاحه، وهو الذي رفضه غلاة الشيعة لتوليه أبا بكر وعمر رضي الله عنهما؛ إذ قالوا له: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك. فقال: لا أتبرأ منهما، فقالوا: إذن نرفضك، قال: اذهبوا فأنتم الرافضة، فلزمهم هذا اللقب. وأما أبو خالد الواسطي فقد جرحه في الرواية الإمام أحمد ويحيى بن معين وأبو داود والحاكم، ويجيب بعض علماء الزيدية عن ذلك بأنه من قبيل طعن أهل كل مذهب في كل مخالف لمذهبهم. ولا يصدق هذا على أمثال هؤلاء الأئمة فإنهم لم يكونوا يحاربون أحدًا ولا يتعصبون لمذاهب معينة ولا يتحاملون على أحد في الجرح والتعديل، وقد رووا عن كثير من مخالفيهم في بعض المسائل لما ثبت عندهم عدالتهم، على أن المذهب الذي قيل أنهم يجرحونه لأجله هو مذهب الإمام زيد، وهم متفقون على عدالته وفضله. وللحاكم منهم نزعة تشيع معروفة. وكان أقرب من هذا العذر أن يقولوا: إنه انفرد برواية أحاديث لم يروها أحد منهم فظنوا فيه أنه هو الذي وضعها، أو وجدها مكتوبة ولم يسمعها، وقد احتاط البخاري في ذلك فوصفه بأنه يروي المناكير، وهم لم يطعنوا فيه بشيء آخر غير هذه الأحاديث التي لم تعرف عن أحد غيره من رجال طرقهم، وقد أشار بعضهم إلى أن جرحه من قبيل أقوال بعض المعاصرين بعضهم في بعض، وما قلنا أقرب إلى ذهن المستقل؛ لأنه لم يكن ممن يظهر فيهم أنه من أقران من تكلموا فيه. هذا وإن أكثر أحاديث الكتاب مخرَّجَة في غيره من كتب الحديث المشهورة، ومذهب الزيدية أو العترة ليس مبنيًّا عليه وحده، بل هو مبني على الاجتهاد الصحيح، وقد أنبتت أرض اليمن في القرون الأخيرة التي مات فيها العلم الاستقلالي في أكثر بلاد الإسلام أئمة لا يستطيع أحد رأى كتبهم أن يماري في اجتهادهم أو أن يفضل عليهم قرينًا من علماء سائر المذاهب في أمصار الإسلام سواء المذاهب المنسوبة إلى السنة والمنسوبة إلى الشيعة الإمامية، ومن يماري في اجتهاد ابن المرتضى وابن الوزير والمقبلي والشوكاني؟ دع الذين جمعوا بين إمامة العلم وإمامة الحكم كالهادي والناصر ويحيى والمتوكل، وهم يشترطون في الإمام الأعظم (خليفة المسلمين) ما يشترط أهل السنة من الاجتهاد في الدين ولذلك بقي الاجتهاد فيهم، وسيبقى إن شاء الله تعالى وإن ضعف العلم في هذا الزمان. وقد طبق الحافظ ابن حجر على أئمتهم حديث (سيبقى هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان) وهو يدل على اعترافه بصحة إمامتهم، وتبعه في ذلك غيره كالقسطلاني فذكره في شرحه للبخاري من غير عزو، ولو أنهم كانوا يُعنون بالدعوة إلى الإسلام وإلى إقامته في البلاد والقبائل التي درست رسومه فيها من جزيرة العرب وغيرها كما فعل الشيخ محمد عبد الوهاب وخلائفه في نجد وما حولها - لأحيوا الإسلام وعمت إمامتهم جزيرة العرب كلها، مهما يكن من مقاومة الدولة لهم فيها. *** (القصائد والصحائف) كتابان في مجلد واحد لداعية العصبية العربية أبي الفضل الوليد بن طعمة الشهير، وقف هذا العربي الأبي الكاتب الشاعر حياته على إحياء العصبية العربية وتجديد مجد العرب وملكهم، فأنشأ أولاً جريدة سماها (الحمراء) تذكيرًا بمجد العرب في الأندلس ثم كان يكتب في جريدة النهضة العربية (وكلتاهما صدرتا في الأرجنتين) ولم تكن الصحيفتان قبل احتجابهما تتسعان لمخدرات أفكاره، فكان ينشر شعره ونثره في دواوين خاصة، وقد طبع ديوانه الأول الطبعة الثالثة في (سان باولو - البرازيل) سنة 1915 وكان في سن الحادية والعشرين ثم طبع في سنة 1916 مجموعة مقالات أدبية سماها (نفحة الورد) ختمها بمقالة في الدعوة العربية التي تتجلى في مقالات كثيرة منها، وكان يدعو إلى اتحاد النصارى مع المسلمين في القومية العربية على القاعدة التي يدعو إليها السياسيون المتدينون، وهي أن الدين لا يمنع من اتفاق المختلفين فيه على مصالحهم الدنيوية المشتركة، بل قال: إن كانت الوحدة العربية تتوقف على توحيد الدين فهو يدعو أهل ملته النصارى إلى الإسلام لأجل تحقيق تلك الوحدة. وأما هذه القصائد والصحائف التي كانت آخر ما نشره من نظمه ونثره فهي إسلامية عربية يدعو فيها إلى تجديد مجد الإسلام بالعرب ومجد العرب بالإسلام، فقد كتب على طرتها أنه (طبعها بنفقته وعنايته لخدمة الدين والأمة والوطن) وأنه ألفها في سنتي 1337 و 1338 هـ وطبعها في سنة 1339 هـ وقد صرح فيها بإسلامه وافتتحها بالبسملة، ولكنه بنى دعوته على شفا جرف هارٍ، بنى عليه قصورًا من الخيال، دونها الحمراء والزهراء، في البهجة والجمال، وحصونًا من الأماني دونها الأبلق الغرد، بل جزيرة (هيلو جلند) ذلك بأنه اغتر بثورة الحجاز والمملكة العربية فيه فطفق يدعو سائر العرب والمسلمين إلى مبايعة ملكه، وهو لا يدري أنه قد قيد نفسه بوصاية دولة إذا مرت ببلد أو أكلت أو شربت فيه أو دفن أحد من بنيها في أرضه تزعم أنه صار ملكًا لها وزال كل حق لأهله منه إلا ما تمنحه هي لمن تستخدمهم في استعباده. وهو لا يدري كنه استعداد الحجاز وأهله للحكم والملك، ولا ولا … إنما هو أديب مخلص، وشاعر مؤثر، وغيور على أمته، ولكنه أضاع جهاده بوضعه في غير موضعه نتمنى أن لا تثنيه خيبة الأمل من هذا الطريق على سلوك غيره في جهاده ونصائحه.

عقود ضمان الحياة والمال من التلف والمكوس وقراءة العامي للحديث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عقود ضمان الحياة والمال من التلف والمكوس وقراءةالعامي للحديث (س3-5) من صاحب الإمضاء في بيروت: حضرة الأستاذ الفاضل واللوذعي الكامل مولانا السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء، لا زال منارًا للإسلام، وكهفًا للأنام، أتقدم إلى موائد علمكم الشريف بالأسئلة الآتية: رجل ضمن محل تجارته من الحريق في إحدى شركات الضمان (السيكورتاه) على مبلغ معين من المال، وقدر الله واحترق ذلك المحل، فهل يجوز له شرعًا مطالبة شركة الضمان بهذا المبلغ، ويكون حلالاً له أم لا؟ وهل كل أنواع الضمانات ضد الحريق والحياة والغرق والسرقة شرعية يجوز عملها أم لا؟ وهل الرسوم الجمركية التي تؤخذ على البضائع التجارية هي من المكوس المحرمة التي لا يجوز أخذها؟ وإذا كانت حراما أيجوز للإنسان دفعها ولا يأثم على ذلك أم لا؟ وهل يجوز للعامل الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا أن يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اللحن فيه أم لا؟ تفضلوا بيِّنوا لنا ذلك، والله يجازيكم على نشر أحكام شرعه أحسن الجزاء. ... ... ... ... ... ... السائل محمد طاهر اللادقي ببيروت (ج) 1- كل ما في السؤال الأول فهو من المعاملات المالية غير المشروعة في الإسلام، فلم يرد بها نص من الشارع ولم يقررها بالاجتهاد إمام عادل، وإنما هي من العقود الحادثة عند أولي المدنية المادية في هذا العصر. ومن التزمها في غير دار الإسلام والعدل لزمته شاء أم أبى، وإنما هو مخير في أخذ ما ثبت له دون ما ثبت عليه، وللمؤمن في غير دار الإسلام أن يأكل مال أهلها بعقودهم ورضاهم فهو لا يكلف معهم التزام أحكام دار الإسلام التي لا يلتزمونها، ولكن عليه أن يحاسب نفسه على إضاعة ماله باختياره فيما له مندوحة عنه، وليس له أن يخون الحكومة غير الإسلامية بدارها في المكوس المقررة عندها في نظامها، وأما إذا استطاع إسقاطها أو تخفيها بغير السرقة والخيانة فلا بأس. 2- وأما المكوس في دار الإسلام فقد ورد في السنة ما يدل على تحريمها، وهو معروف، وجماهير الفقهاء يحصرون مال الحكومة الإسلامية بما يذكرونه في كتب الفقه: كالغنائم والخراج وزكاة أموال المسلمين وجزية الذميين، وما يستخرج من الأرض من الدفائن والمعادن، ولكن بعض المحققين بيَّنوا أنه يجوز للإمام العادل استحداث ضرائب جديدة إذا توقف عليها القيام بأمر الملك وحاجة الجند. قال الإمام الشاطبي في المثال الخامس للمصالح المرسلة من كتابه الاعتصام (ص95 ج2) ما نصه: (إذا قررنا إمامًا مطاعًا مفتقرًا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار، وخلا بيت المال، وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم (أي بيت المال) فللإمام إذا كان عدلاً أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيًا لهم في الحال إلى أن يظهر [1] مال بيت المال. ثم إليه النظر في توظيف ذلك على الغلات والثمار وغير ذلك … (قال) : وإنما لم ينقل ذلك عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا، فإن القضية فيه أحرى ووجه المصلحة هنا ظاهر؛ فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلت شوكة الإمام، وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار، وإنما نظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله، فالذين يحذرون من الدواهي أو تنقطع عنهم الشوكة يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها، فضلاً عن اليسير منها) إلخ. ونقول: إن حاجة الجند في زمن المؤلف رحمه الله، وهو من علماء الأندلس في القرن الثامن لا تذكر بالنسبة إلى حاجتهم في زماننا هذا الذي تنفق الدول فيه أكثر أموالها في الجندية وحاجتها، فقد صارت العلوم والفنون والأسلحة البرية والبحرية والجوية فيها أوسع علوم البشر وأعمالها، ويتعذر إقامة حكومة إسلامية صحيحة تلتزم أحكام فقه لا تكون مراعاة المصالح المرسلة من قواعده. ولا يكون إمامها (الخليفة) وأهل الشوى لديه أو بعضهم من العلماء المجتهدين في أحكام الشرع. 3- يجوز للعامي أن يطالع كتب السنة للاستفادة منها، فإن عوام العرب يفهمون كثيرًا منها فهمًا صحيحًا، وإذا أراد أن يحفظ حديثًا ليرويه ويفيد الناس به فعليه أن يعتمد على بعض أهل العلم في ضبط ألفاظه وفهم معناه، ودرجته في الصحة وما يقابلها.

التصوير واتخاذ الصور والتماثيل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التصوير واتخاذ الصور والتماثيل (س6) ومنه: الفاضل الهمام مفتي الأنام، مقتفي أثر سيد الأقوام، السيد محمد رشيد أفندي رضا، دام بسلام. قال بعض أهل العلم: إن الصورة إذا كانت غير كاملة - أعني مشتملة على النصف الأعلى للإنسان - لا بأس بها، ولم أعثر على دليل يُجَوِّزُ ذلك من الكتاب ولا من السنة، بل الأحاديث الصحيحة الموجودة تحرم ذلك قطعًا، وقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ) رواه البخاري ومسلم. وقد ورد في الصحيح: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون) أو ما معناه، وفي كتاب الترغيب والترهيب للشيخ الإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري المتوفى سنة 656 هـ ما نصه: (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الكآبة فسألته ما له؟ فقال: لم يأتني جبريل منذ ثلاث، فإذا جرو كلب بين بيوته فأمر به فقتل فبدا له جبريل عليه السلام فهش إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك لم تأتني فقال: (إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا تصاوير) رواه أحمد ورواته مُحْتَجٌّ بهم في الصحيح، ورواه الطبراني في الكبير بنحوه اهـ. فيؤخذ من ذلك تحريم التصوير مطلقًا، سواء كان باليد أو بالآلة الفوتغرافية، وأيضًا التماثيل النحاسية والجبسية وغيرها، وقد رأينا للأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية سابقًا المرحوم الشيخ محمد عبده رسمًا فوتغرافيًّا لهيئته الكريمة على ما نعلمه من طول باعه وكثرة بحثه واطلاعه وغيرته على الدين القويم وسلوكه الطريق المستقيم وتمسكه بالكتاب والسنة وإزالته للشبه والبدع، فلعل فضيلة الأستاذ الإمام قد اطلع على ما غمض عن الأفهام بجواز حل ذلك، وليس بِخَافٍ أن الأحاديث لم تقيَّد بزمن مخصوص بل هي عامة في جميع الأزمان، فألتمس من فضيلتكم الجواب بتفصيل ذلك. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد طاهر اللاذقي (ج) تكرر بيان حكم التصوير واتخاذ الصور والتماثيل في مجلدات المنار، ويجد السائل اختلاف أقوال الفقهاء في المجلدين الرابع عشر والخامس عشر، وفي مجلدات أخرى، وأما توفية المسألة حقها، وتحرير القول في أدلتها والتحقيق فيها فيجده في ج5، 6 من المجلد العشرين، ولا يمكن إعادة نشره لطوله.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار بيع الغائب وما ليس بمملوك (س7) ومنه: إذا اشترى تاجر بضاعة غير حاضرة من تاجر آخر أو قومسيونجي ودفع له الثمن أو عربونًا على أن يسلمه إياها بعد شهرين حتى تحضر من محل موردها، فباعها المشتري قبل حضورها واستلامها لتاجر آخر، وهكذا بيعت لأشخاص كثيرين قبل حضورها، فهل هذا البيع مباح شرعي أم لا؟ وهل يجوز لمن اشترى أن يبيعها بثمنها الأصلي أو بربح أو بخسارة للتاجر أو للقومسيونجي الأول أم لا؟ تفضلوا ببيان ذلك لا زلتم هادين مهديين وللحق ناصرين. (ج) بيع البضاعة المملوكة الغائبة جائز شرعًا، وكذا بيع ما هو غير مملوك إلى أجل إذا عينه بالوصف والقدر المانع للغش وهو الذي يعرف في الشرع بالسَّلَم، وله شروط يسأل العلماء عنها من لا يعرفها إذا احتاج إليها، ولكن ورد في حديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعًا (من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله) وفي رواية (حتى يقبضه) وأخرى (حتى يستوفيه) وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي منهم وكذا ابن خزيمة، وفي الاحتجاج بحديث عمرو هذا خلاف، ولكن هذا الحديث عنه قد صرح فيه بالسماع وبذكر جده الأعلى عبد الله بن عمرو فالخلاف فيه ضعيف. والمراد (بالسَّلف) فيه القرض، إذا بايعه عليه لأجل النقص من الثمن. قال النووي في شرح حديث مسلم المذكور آنفًا وما في معناه: وفي هذه الأحاديث النهي عن بيع المبيع حتى يقبضه البائع، واختلف العلماء في ذلك فقال الشافعي: لا يصح بيع المبيع قبل قبضه سواء كان طعامًا أو عقارًا أو منقولاً أو نقدًا أو غيره، وقال عثمان البتي: يجوز في كل مبيع، وقال أبو حنيفة: لا يجوز في كل شيء إلا العقار. وقال مالك: لا يجوز في المكيل والموزون، ويجوز فيما سواه ووافقه كثيرون، وقال آخرون: يجوز في المكيل والموزون، ولا يجوز فيما سواهما، ثم ذكر أن قول عثمان البتي شاذ. وأقول: إن مذهب الشافعي ومالك هو الوسط المعتدل في المسألة إذا اقتصر على منطوق الحديث، فإن نوطه هذا الحكم بالطعام ليس عبثًا، فإن قوت الأمة لا يصح أن تعبث به الحيل التجارية ولا أن يكون من ذرائع الربا الذي حرمه الله فيه وفي النقدين بالإجماع. والله أعلم وأحكم. *** قتل الرجل امرأته (س6) من صاحب الإمضاء في الكويت: إلى أستاذنا صاحب المنار، أدامه الله: قتل رجلٌ زوجَه بلا مسوغ، وله بنت قاصر منها، أفتونا برأيكم في القاتل، وما يكون الحكم عليه في مذهب الشافعي لا زلتم منارًا يُسْتَضَاءُ بكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن النقيب (ج) جاءنا هذا السؤال فلم نعلم المراد منه، فإن المتبادر منه أن القتل كان عمدًا، وحكم القاتل المتعمد معلوم من الشرع بالضرورة بشروطه إذا ثبت شرعًا، فعسى أن يوضح السائل سؤاله، ويصرِّح بالأمر الذي يطلب بيان حكمه.

الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية (3) 21- مقاصد الناس في الخلافة وما يجب على حزب الإصلاح: الأمور بمقاصدها، ومقاصد الناس في الخلافة مختلفة، وقلما يقصد أحد منهم إقامة الخلافة الصحيحة الشرعية التي بيَّنا حقيقتها وأحكامها، ذلك بأن أكثرهم لا يعقلها، ومن يعقلها من غير الأكثرين يظنون إقامتها متعذرة، وأنه لا مندوحة عن الرضا بخلافة الضرورة، التي لا تراعى فيها جميع الشروط الشرعية، ولا جميع ما يجب على الخليفة والجماعة، ثم هم يختلفون في حد هذه الضرورة لاتّساع مجال الرأي والهوى فيه حتى لا يبقى بينهم وبين من لا يعرفون حقيقة هذا المنصب ومنافعه كبير فرق، ولو عرفها السواد الأعظم لتمنوها، ولو وضع نظام لإقامتها ودُعوا إليه لأجابوا، وبذلوا في سبيله ما استطاعوا. باحثت كثيرًا من خواص المصريين المعممين وغير المعممين في هذه المسألة فألفيتهم متفقين على أن القصد من تأييد الخلافة الجديدة التي ابتدعتها حكومة أنقرة الجمهورية في الآستانة - خذلان الدولة البريطانية في دسائسها التي ترمي بها إلى جعل هذا المنصب الإسلامي الرفيع آلة في يدها فيما كانت تسعى إليه من اصطناع الملك حسين في مكة والسلطان وحيد الدين في الآستانة وما آل إليه سعيها من الجمع بينهما بعد تهريبها الثاني إلى مالطة، ولم يقصد أحد من المصريين بتأييد الخليفة الجديد بالتهنئة ولا المبايعة أن يكون له على بلادهم حق إمام المسلمين الأعظم على الأمة من كون حكومتهم تابعة له وخاضعة لسلطانه فيما يرى فيه المصلحة من نصب أمرائها وحكامها وعزلهم وجباية المال وأخذ الجند للجهاد، ولا غير ذلك من وظائف الخلافة التي ذكرها علماء الإسلام؛ وهذا كما ترى غرض سياسي فائدته سلبية والباعث عليه الشعور الإسلامي العام الذي ولَّده الضغط الأجنبي ومحاولة هذه الدولة لاستعباد الشعوب الإسلامية التي بقي لها بقية من الاستقلال، ولا سيما الترك والعرب، وهو لا يتوقف على وجود الخلافة الصحيحة ولا الإمام الحق والجماعة، بل هو من قبيل المظاهرة السياسية للزعيم السياسي سعد باشا زغلول بل دونها قوة، لأجل هذا لا يبالون ما كانت شروط هذه الخلافة وأعمالها، ومَثَلهم في ذلك سائر مسلمي أفريقية وأمثالهم من المستَذَلين للأجانب، على أن هؤلاء يتمنون لو يكونون تابعين للدولة التركية ويعلمون أن ذلك متعذر، ولكن ساسة المصريين لا يتمنى أحد منهم ذلك. ومسلمو الهند أشد عناية من سائر مسلمي الأرض بهذا الأمر، ونصرهم للخلافة التركية إيجابي وسلبي لا سلبي فقط، ولا يرضون أن تكون خلافة روحانية لا حكم لها ولا سلطان، فإذا تساهلوا في بعض شروطها التي يوجبها مذهبهم الذي يتعصبون له أشد التعصب بشبهة الضرورة، فلا يتساهلون في أصل موضوعها والمقصد الذي شرعت لأجله، وهو إقامة أحكام الشرع الإسلامي في العبادات والمعاملات المدنية والسياسية وغيرها - فهم يُحَتِّمون أن يكون الخليفة - وإن متغلبًا - رئيس الحكومة الإسلامية الأعلى، ثم لا يسألون بعد ذلك أقام أحكام الشرع أم لا، بدليل ما كان من تعصبهم لعبد الحميد الذي جعل نفسه فوق الشرع والقانون - فكان مستبدًّا في كل شيء - ثم لمحمد رشاد الذي لم يكن بيده من الأمر شيء وكذا للاتحاديين الذين سلبوه كل شيء، ثم لوحيد الدين إلى أن فر مع الأجانب مغاضبًا لقومه ولسائر المسلمين. فإذا ظل هذا منتهى شوطهم، فلا حياة للخلافة الصحيحة بسعيهم، ولا حاجة إلى تأليف حزب أو جمعية غير ما عندهم، ويمكن على هذا إرضاؤهم بالخلافة الروحية بحيلة لفظية، كأن تشترط الحكومة الفعلية على من تسميه خليفة أن يفوض إليها أمر الأحكام كلها أو ما يسمونه الآن في عرف القوانين بالسلطتين التشريعية والتنفيذية. وان كان يعلم هو وسائر الناس أن التفويض الصحيح في الشيء إنما يكون ممن يملكه ويكون مختارًا فيه، وأنه لا يسلبه حق مراقبة المفوض إليه ومؤاخذته ولو بالعزل، إذا خالف نصوص الشرع أو خرج عن جادة العدل، بل هذه المراقبة على الوزراء والأمراء والقواد والقضاة واجبة على إمام المسلمين وهو مقيد فيها، وفيما يترتب عليها بنصوص الشرع وبمشاورة أهل الحل والعقد، لا مستبد في الأمر. إذا ظل المسلمون على هذه الحالة فلا إمامة ولا إمام، وقد أني لهم أن يفقهوا أن جعل ما سموه أحكام الضرورة في خلافة التغلب أصلاً ثابتًا دائمًا هو الذي هدم بناء الإمامة، وذهب بسلطة الأمة المُعَبَّر عنها بالجماعة، وترتب عليه تفرق الكلمة، وضعف الدين والدولة، وظهور البدع على السنة. وقد انقلب الوضع وعم الجهل، حتى صار الألوف من كبراء حكام المسلمين وقوادهم وزعمائهم في دنياهم يظنون في هذا العصر أن منصب الخلافة وغيره من أحكام الإسلام هي سبب ضعف المسلمين وأنه لا تقوم لهم بها قائمة، ولا يكونون مع التزامها أمة عزيزة غنية! والأمر بالضد. والعلاج الشافي من هذا الداء، والدواء المستأصل لهذا الوباء، هو إحياء منصب الإمامة، بإعادة سلطة أهل الحل والعقد المعبر عنهم بالجماعة لإقامة الحكومة الإسلامية الصحيحة، التي هي خير حكومة يصلح بها أمر المسلمين بل أمر سائر البشر، بجمعها بين العدل والمساواة وحفظ المصالح ومنع المفاسد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكفالة القاصرين والعاجزين، وكفاية الفقراء والمساكين من صدقات المسلمين، ففيها علاج لجميع المفاسد الاجتماعية، في حكومات المدنية المادية، التي ألجأت الجماعات الكثيرة إلى البلشفية والفوضوية. فإذا أقيم بناء حكومة منظمة على هذه الأسس والقواعد لا تلبث بعد ظهور أمرها أن تكون قدوة للأمم الحرة التي أمرها بيدها، ولا يستطيع أكابر مجرميها أن يمكروا بعد ذلك فيها، ليصدوها عنها ويغووها. وحينئذ ينجز الله وعده لنا، كما أنجزه لمن قبلنا، في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) . فالواجب على حزب الإصلاح الذي نقترحه أن يوجه كل قصده وهمه أولاً إلى بيان شكل لحكومة الخلافة الإسلامية الأعلى بالنظام اللائق بهذا العصر الذي امتاز بالنظام على سائر العصور، ثم يحاول إقناع أصحاب النفوذ في البلاد الإسلامية المرجوة لتنفيذه بما فيه من المصالح والمنافع والسعادة، وبتفضيله على جميع أنواع الحكومات في العالم كله، وبإمكان تنفيذه، ودفع كل ما للمتفرنجين واليائسين من الشبهات على ذلك، وكل ذلك سهل كما جربنا بأنفسنا. 22 - علاقة الخلافة بالعرب والترك: ثم ليعلم هذا الحزب أن الفوز في هذا يتوقف على التأليف والتوحيد بين العرب والترك واتفاقهما عليه - ولو بالجملة - ومراعاة ما قوي في هذا العصر من العصبية الجنسية مع اتقاء ضررها بقدر الاستطاعة، وكذا عصبية المذهب عند طائفة الزيدية؛ لا لأن جمع الكلمة ووحدة الأمة من أهم ما يجب من أعمال الخليفة فقط؛ بل لأن النجاح المطلوب في هذا الأمر يتوقف على تعاون الشعبين عليه. ذلك أن إحياء منصب الخلافة الصحيحة يتوقف على إحياء الدين والشريعة، وإنما يكون هذا بالعلم الاستقلالي في الدين المعبر عنه بالاجتهاد المطلق، وهو يتوقف على إتقان اللغة العربية لأجل فهم الكتاب والسنة، فعلاقة هذا المنصب بلغة العرب وبتاريخ العرب وببلاد العرب جلي ظاهر، فثم مهبط الوحي، ومظهر الإسلام الحق، حيث قِبلته ومشاعر دينه، وموضع إقامة الركن الاجتماعي العام من أركانه، ولا يمكن أن يماري في هذا من يماري في اشتراط النسب القرشي فيها خلافًا لمذاهب السنة كلها أو العلوي الفاطمي خلافًا لمذاهب الشيعة وخاصة الزيدية. العرب قوة عظيمة للخلافة، ولكنها غير منظمة ولا متحدة كقوة الترك، والعمل بالشريعة في حكومات جزيرة العرب المستقلة وأهلها أتم وأكمل منه في بلاد الترك، ولكن هذه الحكومات غير قادرة الآن على إظهار حضارة الإسلام، ولا على نشر دعوته الصحيحة على الوجه الذي يحرك إلى النظر كما اشترط بعض علماء الكلام. والترك أقدر منهم على الأول وأعظم عوناً على الثاني إذا قنعوا بإقامة الإمامة الحق على صراطها المستقيم. فكل من هذين الشعبين يمكن أن يكمل ما ينقص الآخر في ذلك مع استقلال كل منهما في إدارة بلاده وسياستها والسيادة فيها وارتباط كل حكومة مستقلة فيهما - وكذا في غيرهما - بمقام الخلافة مباشرة بالرضا والاختيار، خضوعًا لحكم الشرع من جهة وانتفاعًا بما يمكن من الوحدة الإسلامية في كل وقت بما يناسبه من جهة أخرى. لو اتفق رؤساء حكومة جزيرة العرب على جعل واحد منهم خليفة للمسلمين وبايعوه مع علماء بلادهم وقضاتها وقوادها لما كان للترك أدنى وجه لمعارضتهم بخليفة ينصبونه في الآستانة وإن أعطوه حقوق الإمامة الشرعية، وما هم بفاعلين. بل لو اتفق أهل الحجاز وتهامة ونجد أو أكثرهم على مبايعة إمام اليمن المشهود له بالعلم والعدالة والكفاية، وأعلن هذا أنه يجري على قواعد الاجتهاد في إمامته ويقر أهل كل مذهب على مذهبهم - لما استطاع أحد من علماء المسلمين، لا العرب ولا العجم، أن يطعن في خلافته أو يرجح عليها خلافة أخرى، إلا أن يتبع أحد هواه فلا يكون لقوله قيمة، ولا سيما إذا قام هذا الإمام بالإصلاح الديني في الحجاز وسائر بلاد العرب ونظم قوى الإمامة التنظيم الذي تقتضيه حالة العصر، وما هو بعسير، وإذا فات هذه الإمامة اعتراف بعض الأقطار الإسلامية بها اليوم، فلا يفوتها ذلك غداً بعد بث الدعوة، ولو في موسم الحج وحده، والدين عون لهم وظهير، ولكن أكبر مصائب العرب التفرق وحب الرياسة. ومكانة مصر تلي مكانة جزيرة العرب في هذا الأمر لو كانت مستقلة وأرادت إقامة الخلافة الشرعية الصحيحة ولكن المتفرنجين فيها كالمتفرنجين في الترك يأبى أكثرهم ذلك ويجهل قيمته، والدولة البريطانية عدوة الخلافة والعرب تعارض هذا وذلك بكل قواها، وقد كان نصرها الترك على محمد علي خوفًا من تجدد شباب الإسلام بدولة عربية، وهي تعتقد أن الترك لا يجددون حياة الخلافة الصحيحة أبدًا، ولا ينشرون دعوة الإسلام، وكان هذا أحد أسباب تأييدها لهم ولخلافتهم في الجملة، وكل ما قيل من أن الإنجليز كانوا يسعون لإقامة خلافة عربية في مصر أو الحجاز قبل الحرب الكبرى فهو كذب محض، ولو فعلت ذلك مصر لاتبعها الحجاز حتمًا، وكذا سورية إذا استطاعتا بل تتمنى هذه الأقطار اتباعها، ولو بدون إقامة الخلافة فيها، ولعل أهل السنة وكثير من الشيعة في العراق لا يأبون هذه الوحدة العربية. يظن بعض الناس أنه ينقص البلاد العربية شيء أهم من هذا الأمر السلبي، وهو الضعف وفقد الشوكة التي يحمون بها الخلافة ومقام الخلافة، بله القدرة على ما يقدر عليه الترك من الجهاد والفتح. وهذا الظن باطل، فإن اليمن وحدها قد حفظت استقلالها ومنصب الإمامة فيها أكثر من ألف سنة، وإن الترك قاتلوا أئمة اليمن زهاء أربعة قرون وما استطاعوا القضاء على إمامتهم ولا الاستيلاء على جميع بلادهم، مع كثرة من ظاهر الترك من أهل البلاد بسبب اختلاف المذهب. ولولا قوة اليمن لاستولى عليها الإنجليز من عهد بعيد كما صرح بذلك أحد ولاة عدن منهم أمام زعيم عربي حضرمي، قال: لولا هذا الإمام الذي عنده نصف مليون مقاتل لو قال لهم: ألقوا أنفسكم في

وصف ثورة الهند السياسية السلبية وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية ـ 2

الكاتب: أبو الكلام

_ وصف ثورة الهند السياسية السلبية وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية [*] (2) نبذ القوانين الجائرة قد غاظت هذه الهزيمة الحكومة، فعزمت على قتل الحركة بالقوة والشدة ناسية أو جاهلة أنها لا تقتلها بها، بل إنما تقويها وتشد أزرها. إن جمعية الخلافة وفروعها كانت نظمت المتطوعين الذين كانوا على محافظتهم على نظام المجلس والمجامع العامة يقومون بخدمات كثيرة للأمة فكأنهم كانوا جيشًا غير متسلح لها، فأعلنت الحكومة أن جماعتهم هذه غير قانونية فيجب إلغاؤها، ثم منعت انعقاد المجالس فحرمت الأمة من حرية الاجتماع وحرية اللسان، وهي من الحقوق الفطرية الطبيعية لكل إنسان، غير أن الحكومة لم تُبَال بسوء عملها بل حَذَتْ حذو من تقدمها من الحكومات المستبدة المنقرضة؛ لأن التاريخ يعيد نفسه. وقد بدأت الحكومة بتنفيذ هذه القوانين الجائرة (بكلكتا) قبل غيرها من المدن؛ لأن قدوم البرنس إليها كان قريبًا؛ ولأنها من أعظم المدن الشرقية، وتكاد أن تكون أوروبية لكثرة الأوروبيين فيها، فكانت مقاطعة البرنس فيها ثقيلة جدًّا على الحكومة، فبادرت بإعلان هذه القوانين فيه، ولكن نشر صاحب هذا الخطاب في الوقت نفسه إعلانًا ضد الحكومة، قال فيه: إنه يجب على الأمة نبذ هذه القوانين نبذًا، والإقدام من أجلها على السجون أفواجًا، وقرر الأمور الآتية: (1) أن الخضوع لمثل هذه الأحكام الجائرة، معناه النزول عن الحقوق المدنية والإنسانية، وليس للحكومة أن تمنع المجامع السلمية، والأعمال الوطنية الجائزة، فإننا إن نخضع لها خوفًا من الحبس والمهانة، نكون مجرمين أمام ضمائرنا وأمام الإنسانية، فليس على محبي الحرية والحق إلا أن يعصوها، ويوطنوا أنفسهم على جميع المصائب التي تصبها الحكومة على رءوسهم دون أن يخضعوا لها طرفة عين. (2) يجب أن يوسع نطاق التطوع، وأن ينبعث المتطوعون في كل شارع وزقاق معلنين للمقاطعة الملكية التي تريد الحكومة أن تجانبها، وإذا منعتهم السلطة لا يطيعونها، بل يسلمون نفسهم للاعتقال بدون أدنى كره ولا مقاومة. (3) تعقد المجالس والمحافل في جميع المجتمعات العامة، وكل مَن يذهب إليها يسلم نفسه للسلطة إذا أرادت القبض عليه. (4) كل مَن يقبض عليه، يقاطع المحاكم مقاطعة تامة في القول والعمل؛ لأن الحكومة التي تنوب عنها المحاكم جائرة ومقاطعتها واجبة، فلا معنى للاعتراف بمحاكمها والسعي للدفاع فيها، فإنها لا تستطيع أن تخالفها وتنصف في حكمها. (5) تتوقف هزيمة الحكومة على العدد الذي يدخل منا السجن؛ فلنهرول إلى السجون زرافات زرافات، حتى تتعب الحكومة من حبسنا ولا نتعب نحن من الإقدام عليه. وقد لبت الأمة الدعوة، فابتدأت الأعمال الجدية بكل قوة، وسارع الناس أفواجًا إلى إدارات التطوع، وبدأت الاجتماعات العامة، وأخذ الخطباء يخطبون ويقبِّحون الحكومة وظلمها وعسفها، فدهشت الحكومة وظلت في حيرتها أيامًا لا تدري ما تعمل؛ لأنها كانت قد وقعت في نفس ذلك الشراك الذي بسطته يدها. فلا هي تقدر على أسر جميع النابذين لأوامرها - لأن الناس كلهم نبذوها - ولا هي تستطيع غض النظر عنهم؛ لأن هذا يُظْهِر عجزَها في تنفيذ قوانينها، غير أنها عزمت أخيرًا على الاعتقال والتسجين ظانة أن الناس سيخافون من صولتها، ويعودون إلى طاعتها؛ فأخذت تعتقل في (كلكتا) وحدها ألفًا من المتطوعين كل يوم، وقد كان المنظر مؤثراً للغاية، فإن عصابات المتطوعين كانت تترى، فكلما اعتقلت واحدة حلت محلها أخرى، وهكذا إلى الليل. ثم أعلنت هذه القوانين القاسية في طول البلاد وعرضها، فحذت الأمة في كل مكان حذو (كلكتا) في مقاومتها. فأخذ الوطنيون يظهرون في كل محل ويعصون القوانين، وأخذت السلطة تقبض عليهم وتسجنهم، فأصبح السجن ألعوبة والرجال أطفالاً يلعبون بها، وإن القلم ليعجز عن وصف تلك الحمية والغيرة والحماسة التي كانت تشاهد في كل زقاق وشارع وبلد من القطر الهندي العظيم، فكان الناس يتنافسون في التصدي للاعتقال والسجن والذين كانوا لا يعتقلون لسبب ما كانوا يتحسرون على أنفسهم حتى الصبيان كانوا يبكون شوقًا إليه ويلحون على الشرطة أن تعتقلهم! فكم من مئات منهم دخلوا السجون بإلحاح شديد وودعتهم أمهاتهم بدموع الفرح ولم يكن المتطوعون وحدهم يقدمون أنفسهم للاعتقال بل كان الألوف من المارة والسوقة إذا رأوهم على هذه الحالة يتحمسون فيتزاحمون ويقولون للشرطة: نحن أيضًا منهم فاقبضوا علينا، فكان يقبض عليهم ويرسلون إلى السجون. ولم يمض على هذه الحالة أسبوع إلا بدت علائم الملل والفتور والهزيمة على وجه الحكومة؛ لأن السجون على كثرتها وسعتها كانت قد امتلأت؛ وكذلك جميع تلك الأبنية التي استخدمت لهذا الغرض، واختل النظام والضبط في السجون وعجزت الحكومة على تهيئة الطعام والشراب للمسجونين الوطنيين، فاضطرت إلى أن تخلي سبيل ألوف منهم، فباب السجن كان يفتح وينادي المنادي فيهم (من كان منكم يريد الذهاب فليذهب) ولكنهم كانوا يأبون الذهاب، فيحملون على الأكتاف ويلقون وراء الباب، فيذهبون إلى الأسواق فيعصون الأوامر فيؤسرون فيرجعون إلى السجن حيث كانوا قبل ساعات. فلما رأت الحكومة ذلك امتنعت من إرسالهم إلى السجون فكانت تعتقلهم نهارًا وتطلقهم ليلاً من مراكز الشرطة غير أنهم بمجرد خروجهم يعودون إلى عملهم القديم. ضجرت الحكومة من هذه الحالة ضجرًا شديدًا، وأيقنت أن النار لا تخمد ما دام الزعماء على حريتهم، فمدت يدها إليهم، وهم قد كانوا مستعدين لإجابة دعاتها من أول يوم، معتقدين أنه لا بد لتقوية الحركة وتكميل العمل من سجنهم أنفسهم، فألقي القبض على صاحب الخطاب في 10 ديسمبر سنة 1921 فذهب إلى السجن بوجه ضاحك، وثغر باسم. وقد كان - حفظه الله - أعلن قبل أسره بساعات في بلاغ إلى الأمة أنه سيقبض عليه، ففي تلك الساعة يبتلي عزمها وثباتها، وقد جاءت تلك الساعة ورأت الحكومة أن تلك الحركة أصبحت أقوى وأشد من قبل، حتى بلغ عدد المسجونين خمسين ألفًا. ولم يمض على أسره أسبوعان إلا وقد وجدت الحكومة نفسها عاجزة ومنهزمة أمام هذه الحركة، فاضطرت إلى أن تجنح للسلم، فأعلن الوالي العام في (كلكته) لوفد من حزب الاعتدال أن الحكومة ترغب في الصلح، وترحب بهدنة تعقد له، فهي تمسك يدها عن القبض والأسر وتطلق سراح جميع المسجونين، ويمسك الزعماء عن أعمالهم، بدون أن يعترف أحد من الفريقين بالغلبة والانكسار، فيجتمعان في مؤتمر، وفي هذا الوقت نفسه أعلن أن الحكومة الهندية لا تألو جهدًا في تقديم مطالب الهند في مسألة الخلافة إلى الحكومة المركزية. وهي مستعدة أيضًا لكل عمل مُسْتَطَاع في المستقبل (وقد أرسلت الحكومة بعد هذا الإعلان بلاغها الشهير بإمضاء الوالي العام وجميع ولاة المقاطعات إلى إنجلترا وهو الذي وقع الخلاف في نشره بين اللورد كرزن والمستر ماتنغو القائم بأعمال الوزارة الهندية إذ ذاك، فاضطر الثاني إلى أن يستعفي من خدمته) . فلما دعيت جمعية الخلافة والجمعية الوطنية الكبرى إلى هذه الدعوة قبلتها وأعلنت الهدنة، وقدمت الشروط الأساسية للمؤتمر المقترح، وكان الشرط الأول منها أن تقبل حكومة لندرة المركزية كل ما يقرره المؤتمر غير أن الحكومة لم تقبل هذا الشرط فعاد الحال كما كان. (صاحب الخطاب) أما صاحب الخطاب العالم العلامة الشيخ أبو الكلام أحمد فمن المؤسسين للنهضة الجديدة الإسلامية في الهند - أقول من المؤسسين؛ لأنه لا يرضيه أن يقال هو المؤسس لها- فإنه إلى سنة 1912 لم تكن في مسلمي الهند أي حركة عامة نافذة قوية للإصلاح الديني ولا السياسي، فكانوا في الدين على جمود وتقليد ومحدثات، وأما السياسة فلم يكن لهم فيها شأن فكانوا يجتنبونها ويخافون منها كأنها حية تنهشهم، معتقدين أن الاستقلال يضر بهم، ويُمَكِّنُ الهندوس منهم، فبينما هم في الظلمات إذ قام فيهم تلك السنة صاحب الخطاب فصاح بأعلى صوته {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} (غافر: 38) فأما الدين فقد دعا فيه إلى التوحيد الخالص والتمسك بالكتاب والسنة ونبذ التقليد والبدع والخرافات، وتطهير الأعمال والعقائد من المحدثات. قال: إن الدين ما كان عليه الرسول وأصحابه والسلف الصالح من أمته لا ما قاله فلان وفلان، وإن القرآن مهيمن على الكتب السماوية والعلوم البشرية فلا تشوهوا وجهه باليونانيات ولا بتخريفات المتفرنجين. ففتح باب الاجتهاد وفسر القرآن بأسلوب بديع ونزهه عن كل التُّرَّهات. واستنبط منه ومن سنة الرسول كل ما يحتاجه المسلمون في دينهم ودنياهم. وأما السياسة فقد دعا فيها إلى الحرية التامة واستقلال البلاد والاتحاد مع أبناء الوطن ومقاومة الأجانب المسيطرين بغير حق. فقامت عليه القيامة من كل جهة وصوَّب المعارضون إليه نبالهم وبسطت الحكومة له شَرَكَها، ولكن لم توقفه العراقيل في طريقه، ولا صدَّتْه الموانع عن عمله، فما زال يلقي الخطب الرنانة ويحبر المقالات الحماسية ويقرع أسماعهم ببلاغته الشهيرة، ويوقظ قلوبهم بمواعظه البالغة وينفخ في أجسادهم الميتة روح الدين والحرية حتى انتبهوا من رقدتهم وهبوا من نومهم، وهرعوا إلى الداعي ملبين ومجيبين نداءه، وكل هذا في خلال بضع سنوات المدة التي لا تكاد أن تصدق، وكانت لسان دعوته مجلة (الهلال) الأسبوعية خالدة الذكر. ويمكن تلخيص بعض مهمات دعوة الهلال الاجتماعية والسياسية في المواد الآتية: (1) أن العبودية سواء كانت للأجانب أو الغاصبين من الأمة نفسها لا تجتمع مع الإسلام، وأن السعي للحرية والاستقلال وتحمُّل الشدائد والمصائب والاغتباط بالموت في سبيله- كل ذلك واجب على المسلمين ووراثة ملية ورثوها عن أجدادهم العظام فهم إما أن يعيشوا أحرارًا أو يموتوا كرامًا، وليس بين هذا وذاك من سبيل في الإسلام؛ لأن شريعته ما دامت لا تبيح استبداد الولاة من المسلمين أنفسهم فكيف تبيح لهم أن يعيشوا خاضعين لظلم الأجانب واستبدادهم؟ والمسلم الذي يقنع ويرضى بهذه المعيشة لا ريب في حرمانه من روح الحياة الإسلامية. (2) على مسلمي الهند واجبان: إسلامي، ووطني. فالواجب الإسلامي يطالبهم أن لا يحصروا نظرهم في حدود أرضهم؛ فإن جنسية الإسلام مطلقة من قيود الوطن والنسل وشاملة لجميع المصطبغين بالصبغة الإسلامية حيثما وجدوا، ومن أي أمة كانوا فيجب عليهم أن يعينوا إخوانهم المسلمين خارج الهند وينصروهم ويخففوا مصائبهم عنهم، وأما الواجب الوطني فهو أن يتحدوا مع أبناء وطنهم ويرخصوا نفوسهم في جهاد الحرية والاستقلال لبلادهم. (3) أن الدول الغربية لا تهدد الإسلام والمسلمين فقط بل الشرق بأسره فيجب على الأمم الشرقية أن تتحد وتتفق لصون حريتها وحياتها من الغرب. (4) أن الدولة العثمانية هي البقية الباقية من الدول الإسلامية فيجب على مسلمي العالم كلهم أن يساعدوها وينصروها ويرجحوا حقها وصيانتها على مقاصدهم الوطنية؛ لأنها المركز المالي والسياسي لهم، ولا حياة للفروع بدون أصل. (5) اللغة العربية هي اللغة الملية للمسلمين كافة والوسيلة الوحيدة للتعارف والاتحاد بينهم، وإن من العلل الجوهرية للانحطاط الاجتماعي والديني: انقراض الخلافة العربية وهجران اللغة العربية وشيوع العجمية والفلسفة اليونانية بينهم فيجب ع

الشفاعة الشرعية والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ الشفاعة الشرعية والتوسل إلى الله بالأعمال وبالذوات والأشخاص من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [*] (الوجه الثاني) [1] الدعاء له والعمل له سبب لحصول مقصود العبد فهو كالتوسل بدعاء الرسول والصالحين من أمته. وقد تقدم أن الدعاء إما أن يكون إقسامًا به أو تسببًا به، فإن قوله: (بحق الصالحين) إن كان إقسامًا عليه فلا يقسم على الله إلا بصفاته. وإن كان تسببًا فهو تسبب لما جعله سبحانه سببًا وهو دعاؤه وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضًا وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق ولا عمل صالح منا. فإذا قال القائل: أسألك بحق الأنبياء والملائكة والصالحين، فإن كان يقسم بذلك فلا يجوز أن يقول: وحق الملائكة وحق الأنبياء وحق الصالحين، ولا يقول لغيره: أقسمت عليك بحق هؤلاء، فإذا لم يجز أن يحلف به ولا يقسم، فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به فليس في ذوات هؤلاء سبب يوجب حصول مقصوده، لكن لا بد من سبب منه كالإيمان بالأنبياء والملائكة، أو منهم كدعائهم لنا، لكن كثير من الناس تعودوا ذلك كما تعودوا الحلف بهم حتى يقول أحدهم: وحقك على الله وحق هذه الشيبة على الله. وفي الحلية لأبي نعيم أن داود عليه السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه (يا داود أي حق لآبائك عليَّ؟) وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فقد مضت السنة أن الحي يُطْلَب منه الدعاء كما يُطْلَب منه سائر ما يقدر عليه. وأما الغائب والميت فلا يطلب منه شيء. وتحقيق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه إليه و (به) لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته، ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند الله. وأما في لغة كثير من الناس أن يسأل بذلك ويقسم عليه بذلك، والله تعالى لا يُقْسَم عليه بشيء من المخلوقات بل لا يقسم بها بحال فلا يقال: أقسمت عليك يا رب بملائكتك، ونحو ذلك. بل إنما يقسم بالله وأسمائه وصفاته. فيقال (أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك) الحديث كما جاءت به السنة. وأما أن يسأل الله ويقسم عليه بمخلوقاته فهذا لا أصل له في دين الإسلام. وقوله [2] : (اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك وحدك الأعلى وكلماتك التامة) مع أن في جواز الدعاء به قولين للعلماء فجوَّزه أبو يوسف وغيره ومنع منه أبو حنيفة، وأمثال ذلك [3]- فينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة فإن ذلك لا ريب في فضله وحسنه فإنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقًا، وهو أجمع وأنفع، وأسلم وأقرب إلى الإجابة. وأما ما يذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانت لكم إلى الله حاجة فاسألوا الله بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) فهذا الحديث لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث. والمشروع: الصلاة عليه في كل دعاء. ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الأمر بالصلاة عليه، ولم يذكروا فيما يشرع للمسلمين في هذا الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستغاثة به في حال من الأحوال، وإن كان بينهما فرق فدعاء غير الله كفر، بخلاف قول القائل: إني أسألك بجاه فلان الصالح. فإن هذا لم يبلغنا من أحد من السلف إنه كان يدعو به. ورأيت في فتاوى الفقيه الشيخ أبي محمد بن عبد السلام أنه لا يجوز ذلك في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم [4] ثم رأيت عن أبي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما من العلماء أنهم قالوا: لا يجوز الإقسام على الله بأحد من الأنبياء. ورأيت في كلام الإمام أحمد أنه في النبي صلى الله عليه وسلم. لكن هذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز الحلف به [5] . وأما الصلاة عليه فقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) وفي الصحيح عنه أنه قال: (من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرًا) وفي المسند: أن رجلاً قال: يا رسول الله أجعل عليك ثلث صلواتي؟ قال (يكفيك الله ثلث أمرك) فقال: أجعل عليك نصف صلواتي؟ قال: (إذًا يكفيك الله ثلثي أمرك) فقال: أجعل صلاتي كلها عليك؟ فقال (إذًا يكفيك الله ما أهمك من أمور دنياك وآخرتك) وقد ذكر العلماء وأئمة الدين الأدعية المشروعة، وأعرضوا عن الأدعية المبتدعة فينبغي اتباع ذلك. والمراتب في هذا الباب ثلاث: (إحداها) الدعاء لغير الله سواء كان المدعو حيًّا أو ميتًا، وسواء كان من الأنبياء عليهم السلام وغيرهم فيقال: يا سيدي فلان أغثني، وأنا مستجير بك، ونحو ذلك. فهذا هو الشرك بالله. والمستغيث بالمخلوقات قد يقضي الشيطان حاجته أو بعضها وقد يتمثل له في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به وإنما هو شيطان أضله وأغواه لمَّا أشرك بالله كما يتكلم الشيطان في الأصنام وفي المصروع وغير ذلك. ومثل هذا واقع كثيرًا في زماننا وغيره، وأعرف من ذلك ما يطول وصفه في قوم استغاثوا بي أو بغيري وذكروا أنه أتى شخص على صورتي أو صورة غيري وقضى حوائجهم فظنوا أن ذلك من بركة الاستغاثة (بي) أو بغيري، وإنما هو شيطان أضلهم وأغواهم وهذا هو أصل عبادة الأصنام واتخاذ الشركاء مع الله تعالى في الصدر الأول من القرون الماضية كما ثبت، فهذا شرك بالله نعوذ بالله من ذلك. (الثانية) أن يقال للميت أو الغائب من الأنبياء والصالحين: ادع الله لي وادع لنا ربك، ونحو ذلك. فهذا مما لا يستريب عالم أنه غير جائز، وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإن كان السلام على أهل القبور جائزًا ومخاطبتهم جائزة، كما كان صلى الله عليه وسلم يُعلِّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول قائلهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) وقال ابن عبد البر: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل يمر بقبر رجل كان يعرفه فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام) . وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من رجل مسلم سلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي حتى أرد عليه السلام) . لكن ليس من المشروع أن يطلب من الأموات شيئًا. وفي الإمام مالك [6] أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبه، ثم ينصرف. وكذلك أنس بن مالك وغيره من الصحابة رضي الله عنهم، نُقِلَ عنهم السلامُ على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى لا يدعون وهم مستقبلو القبر الشريف. وإن كان قد وقع في ذلك بعض الطوائف من الفقهاء والمتصوفة ومن العامة ممن لا اعتبار بهم، فإنه لم يَذهب إلى ذلك إمامٌ متبَع في قوله ولا مَن له في الإمامة لسان صدق. بل قد تنازع العلماء في السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو حنيفة: يستقبل القبلة ويستدبر القبر. وقال مالك والشافعي: بل يستقبل القبر، وعند الدعاء يستقبل القبلة ويستدبر القبر، ويجعل القبر عن يساره أو يمينه، وهو الصحيح؛ إذ لا محذور في ذلك. (الثالثة) أن يقول: أسألك بجاه فلان عندك أو بحرمته، ونحو ذلك. فهو الذي تقدم عن أبي محمد أنه أفتى بأنه لا يجوز في غير النبي صلى الله عليه وسلم [7] . وأفتى أبو حنيفة وأبو يوسف وغيرهما أنه لا يجوز في حق أحد من الأنبياء فكيف بغيرهم. وإن كان بعض المشايخ المبتدعين يحتج بما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أعيتكم الأمور، فعليكم بأهل القبور) أو قال (فاستغيثوا بأهل القبور) فهذا الحديث كذبٌ مفترًى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه لم يروه أحد من العلماء ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة. وقد قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان: 58) الآية، وهذا مما يعلم بالاضطرار في دين الإسلام أنه غير مشروع. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عما هو أقرب من ذلك من اتخاذ القبور مساجد، ونحو ذلك ولعن على ذلك من فعله تحذيرًا من الفتنة باليهود؛ فإن ذلك هو أصل عبادة الأصنام أيضًا، فإن ودًّا وسواع ويغوث ويعوق ونسرًا كانوا قومًا صالحين في قوم نوح عليه الصلاة والسلام، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم اتخذوا الأصنام على صورهم، كما ذكر ذلك ابن عباس وغيره من العلماء [8] فمن فهم معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) عرف أنه لا يعين على العبادة الإعانة المطلقة إلا الله وحده. وقد يُسْتَغَاث بالمخلوق فيما يقدر عليه وكذلك الاستعانة لا تكون إلا بالله والتوكل لا يكون إلا على الله. وما النصر إلا من عند الله. فالنصر المطلق وهو خلق ما يغلب به العدو فلا يقدر عليه إلا هو سبحانه. وفي هذا القدر كفاية لمن هداه الله تعالى والله تعالى أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. انتهى [**] .

انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى ـ 1

الكاتب: شكيب أرسلان

_ انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير (1) يظهر أنه من جملة الممالك الأوروبية التي انبسطت إليها يد الاستيلاء العربي وخفق فوق ربوعها علم الفتح الإسلامي في القرون الوسطى هي بلاد سويسرا، هذه البقعة الجميلة النضيرة التي تراها جنة خضراء صيفًا وشتاء، والتي هي من أوروبا بمثابة الكبد من الجسد. كنت أعلم أن العرب بعد أن فتحوا أسبانيا استولوا على جنوبي فرنسا وتمكنوا من أواسطها ونزلوا بر إيطاليا واكتسحوا روما فضلاً عن استيلائهم على صقلية وسردانية وغيرهما من الجزر، ولكن إلى سنة 1919 تاريخ ورودي سويسرا لم أكن أعلم شيئًا عن وصول العرب إلى نفس سويسرا مع بقائهم فيها مستقلين بعدة من القلاع والبقاع نحوًا من مائة سنة، وبلوغهم بحيرة كونستانز الشهيرة من جنوبي ألمانيا. وأول من نبَّه فكري إلى هذا الحادث العظيم من مجريات الفتح العربي الأوروبي هو الأستاذ هس المستشرق السويسري الذي أقام مدة بمصر وعرف كثيرين من كبراء المصريين والذي يَمُتُّ إلينا بحبل صداقة أكيدة كانت بينه وبين أستاذنا الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده - برَّد الله ثراه - فأول اجتماعي مع المستشرق المشار إليه أطلعني على تاريخ وجود العرب بسويسرا محررًا باللغة الألمانية بقلم مؤلف اسمه (فرديناند كار) مطبوعًا في مدينة زوريخ سنة 1856 وبعد ذلك استقريت هذا الموضوع فوقع في يدي كتاب ممتع جليل عنوانه تاريخ غارات المسلمين على فرنسا وسافواي وبيامون وسويسرا للمسيو (رينو) الفرنساوي، وكتب أخرى ظهر من إجماعها ومن آثار العرب الباقية ومن الأسماء العربية التي تركوها في البلاد ومن المسكوكات العربية التي لا تزال محفوظة - أنه كان للعرب دولة وصولة في بلاد سويسرا وأنهم لبثوا فيها حُقْبًا (الحُقب بضم فسكون نحو ثمانين سنة أو أكثر) كان حافلاً بالوقائع والنوادر، شأنهم في كل محل دخلوه أيام كان العرب عربًا والناس ناسًا …. وملخص هذه التواريخ وهو من أغرب ما جاء في حوادث الدهر أن عشرين عربيًّا كانوا راكبين في سفينة من سواحل أسبانيا ضلت بهم الطريق وما زالت تتقاذفهم الأمواج حتى رمت بهم على شاطئ خليج (سان تروبس) في جهات جينوة فخرجوا إلى البر وتوغلوا بين القرى يقتلون ويأسرون واتخذوا لهم حصنًا في أدغال جبل (موروس) وصاروا يشنون الغارات ويأوون إليه بالغنائم. وقيل: بل ركب 20 عربيًّا من لصوص البحر من ساحل الأندلس قاصدين سواحل بروفانس (جنوبي فرنسا) فأخذتهم الريح إلى خليج غريمو أو خليج سان تروبس فخرجوا ولم يشعر بهم أحد ورأوا حول ذلك الخليج غابة ملتفة أشبة، حولها سلسلة جبال فأغاروا على أقرب قرية من محل نزولهم وقتلوا أهلها وانتشروا في الناحية وألقوا الرعب في القلوب وكان الموقع مساعدًا لهم بطبيعة الأرض من الإشراف على البحر ثم من الغاب المشتبك ثم الجبال الشامخة فتحكموا في تلك الجهات واستولوا على طرقها وقبضوا على مضايقها، وألقت هي إليهم بمقاليدها. وكان هذا الحادث نحو سنة 891 مسيحية. ولا يجب أن نأخذ كلام مؤرخي الإفرنج هذا على علاته من جهة كون غَزَاة هؤلاء العشرين عربيًّا هي لصوصية صرفة وعيثانًا بحتًا، وأنهم إنما جاءوا للنهب والغصب فهذه شنشنة مؤرخي أوروبا بإزاء حوادث كثيرة في تاريخ الإسلام، مع أن الواقع قد يكون خلاف ذلك، وقد دلت الآثار وقامت الأدلة ونهضت البراهين على أن أكثر أغراض العرب في مغازيهم في صدر الإسلام إنما كان إعلاء كلمة الله ونشر عقيدة التوحيد وأنهم كانوا يرون أنفسهم هُدَاة لا جُبَاة، وكانوا يستبسلون في الحروب استبسالاً ويبيعون أنفسهم من الله ابتغاء الجنة فقط، ويجدون ذلك فرضًا عليهم على حين أن الغبي أو الغريب الجاهل للحقائق البعيد عن اكتناه أسرار هذه المغازي وما كان يجيش في صدور أهلها - كان يتوهم أنها بأجمعها فتوحات دنيوية لأجل السلب والكسب والنهي والأمر، وليس التوهم بعبرة، فقد يكون هؤلاء العشرون غازيًّا الذين أبحروا من ساحل أسبانيا إلى ساحل إيطاليا هم ممن نصبوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله ورفع راية التوحيد ونشر كلمته بين أهالي هاتيك الأرضين راكبين لذلك لُجَج البحار، ومتوقلين عقاب الأوعار. استزادة من ثواب الله، ورغبة في الشهادة في سبيل الله، وربما كان بين هؤلاء العشرين مجاهدًا العالم الفاضل، والفقيه المحدث، والشاعر المترسل، والسائس المحنك، والقائد البصير المجرب. وبرهان ذلك واضح كالشمس من كون 20 رجلاً لا يقتحمون مثل هذه الغمرة، ولا يلقون بأنفسهم في بر لا آخر له، وهم عصبة كهذه قليلة، إن لم يكونوا من ذوي النفوس العالية، والطباع الزاكية، ولم تكن بين جنوبهم أرواح تتطالّ إلى ما هو أعلى من حطام الدنيا الفانية- وليست قصة اللصوصية هذه التي تجدها في أكثر تواريخ الإفرنج، حاشا النقاد المدققين الذين ابتدأوا ينبهون الأفكار في هذه الأيام - بدليل على كون هؤلاء العشرين غازيًّا إنما جاءوا عابثين مفسدين قاصدين الغنيمة المادية، ولا سيما وأنك تراهم من جهة أخرى يعترفون بأنهم ما استقرت قدمهم في ذلك الساحل حتى شادوا الحصون، واستنبطوا العيون، وامتهدوا الحزون، ونحتوا الصخور، وأثروا آثار عمارة أثيلة لا تزال منها بقايا ناطقة بفضلهم إلى يومنا هذا، مما يوافقنا كل عاقل منصف أنها ليست أعمال لصوص ولا حكايات دعَّار، وإنما هي آثار أمجاد أنجاد، وقروم أجواد، من أعاظم الرجال، وخيرة الأبطال. وقد يكونون علموا بما كان عليه أهل تلك الديار يومئذ من الجهل والخمول والانحطاط في المعارف والأخلاق (فانتدبوا) لإصلاح أمورهم و (للأخذ بيدهم في معترك الحياة) كما هي لغة الاستعمار؛ لأن مما هو ثابت فعلاً بكون شرذمة كهذه أصلها 20 رجلاً لا تتمكن من نواصي تلك الديار، ولا تسود أولئك الأقوام من البحر المتوسط إلى بحيرة (كونستز) التي على كبد أوروبا - إلا وهي أرقى جدًّا من أهلها. ولولا الفرق البعيد في درجات المدنية ما ساد هذا القليل على ذلك الكثير، لا بل لم تظهر هذه النقطة على ذلك الغدير. قالوا: ولما رأى هؤلاء العشرون رجلاً ما أصابوا من الغُنم في هذه الغزاة أرسلوا إلى أسبانيا فوافاهم 100 رجل آخرون من ذؤبان الرجال، وممن يعتمد عليهم في مثل هذا الأحوال، فاشتدت بعد ذلك وطأتهم وصالوا على جميع هاتيك الجهات يثخنون في أهلها ويضربون عليهم الجزية ويقتادون ما يشاءون منهم بخزام الذلة والصغار وساعدهم على ذلك ما كان فيه أهل تلك الأنحاء من اختلاف الكلمة وتفرق الأجواء، فكان بعضهم يستعين بهم على بعض فعصفت ريحهم في هاتيك الآفاق، وصاروا يُنصَرون بالرعب، وأصبح الفرد الواحد منهم لا يبالي أن يلاقي ألفًا. فما مضت بضع سنوات حتى صار لهم عدد من الأبراج والقلاع أهمها في الجبال المسماة فراكسين توم Fraxinatum أو فراكسينه ولا تزال من بقايا آثارهم فيها أبنية ماثلة وبيوت منحوتة في الجبال، وآبار محفورة في الصخور. قال المؤرخ (رينو) السابق الذكر: وكان ذلك في أواخر القرن التاسع للمسيح، ثم وصلوا إلى سلسلة جبال الألب الشهيرة، وسنة 906 أجازوا مضايق دوفينه وجبل سينس واستولوا على نوفالس في حدود البيامون ونهبوا الأديرة التي هناك وشردوا الرهبان وأثخنوا في الأهلين فاجتمع هؤلاء عليهم وأحاطوا بهم وأخذوهم أسارى وشدوا أوثقتهم ووضعوهم في دير ماراندراوس فحطم هؤلاء الأسرى القيود وأفلتوا وانقضوا على أعدائهم فهزموهم وأحرقوا الدير وقسمًا من المدينة وما زالوا يعيثون ويشنون الغارات حتى انقطعت الطرق بين فرنسا وإيطاليا. ثم يقول رينو: إن العرب استولوا على مقاطعة فالي وزحفوا إلى قلب بلاد المريزون وصاقبوا بحيرة جنيف وتقدموا إلى بلاد الجورة في سويسرا Garu وكانت سويسرا حينئذ من مملكة بورغنيه ففرت أم الملك كوبراد إلى برج منفرد في نيوشاتل (إحدى ولايات سويسرا اليوم) ولما ضاق ذرع الأهالي جميعًا بهؤلاء العرب لا سيما أهل بروفنس وسويسرا وإيطاليا ثار هوغ كونت بروفانس وعزم أن يتولى كبر هذه المسألة ويطرد العرب من تلك الديار ويستولي على معقلهم الأشم في فراكسينه والمرسى الذي لهم في خليجها فاستنجد هوغ صهره صاحب القسطنطينية ليمده بالأسطول وبالنار الإغريقية فحضر الأسطول وهاجم العرب من البحر بينما الأهالي يهاجمونه من البر وضاق بالعرب الخناق فاعتصموا بالجبال وأعيا أمرهم هوغ فلم يلبث أن صالحهم ولا سيما بعد أن رأى خصمه برانجر قام ينازعه الملك فاستقر أمر هؤلاء وجعلوا يحرثون الأرض ويبنون ويغرسون وتزوجوا بنساء من البلاد ولبثوا قابضين على بلاد الألب لا سيما ممر (سان برنار) (الشهير إلى الآن) وأقامت منهم فئة بمدينة نيس وفيها حارة باسمهم إلى هذا اليوم. وفي سنة 960 تمكن الأهالي من طرد العرب من سان برنار بعد معركة شديدة وسنة 965 أجلوا عن (غرنوبل) وعن وادي (غريزي فودان) وبعد ذلك اجتمعت عليهم جيوش عظيمة من كل صوب وهزموهم وقتلوا أكثرهم وتنصر بعضهم ويظن أن فلهم فر إلى إفريقيا وأسبانيا وقد بقيت لهم قرى تنصر أهلها ومن أبى منهم النصرانية صاروا عبيدًا يشتلون في أراضي الأديرة وكان سقوط حصن فراكسينة سنة 975 بعد أن أقاموا به أكثر من 80 سنة وسمعت من بعض من يعرف أمور سويسرا أنه يوجد إلى اليوم قريتان في مقاطعة فالي Valee يركب أهلها الخيول بسروج عربية ولهم عادات كثيرة خاصة بهم، وهم لا يتزوجون من سائر الأهالي ولا يصاهرونهم. ((يتبع بمقال تالٍ))

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 8

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة (7) (70) اعتنى المسلمون قديمًا بالرياضة البدنية اعتناء شديدًا زائدًا؛ لأن العقل الصحيح لا يكون إلا في الجسم الصحيح، ولذلك كانوا يعلمون الشبان فن الفروسية والرماية والسباحة اتباعًا للحديث الشريف القائل: علموا أولادكم السباحة والرماية [1] (وعليكم بالرمي فإنه خير لهوكم) [2] و (الرمي خير ما لهوتم به) [3] . ليتأمل العاقل نتيجة دين أمر بتوسيع دائرة المعارف وتزييد أسباب الثروة وتقوية البدن وفن (الحرب) وهذه الأركان الثلاثة متصل بعضها ببعض كما لصقت محاسن الأخلاق بالتحاب والتواد، هل يقف أمام قوم هذا منهاجهم مهما قل عددهم وعديدهم أعظم إمبراطورية؟ (71) الرحمة للصغير واحترام الكبير كان خلقًا راسخًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) [4] . (72) الاقتصاد كان أساسًا للمعاملات المالية، وفي الحديث الشريف: (ما عال من اقتصد) [5] . (73) الشح وكان مذمومًا جدًّا، وجاء في الحديث الشريف: (ما محق الإسلام محق الشح شيء) [6] . (74) السخاء كان أمرًا ممدوحًا جدًّا، قال صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا السخي زلته فإن الله آخذ بيده كلما عثر [7] ) . من لا يعرف أن أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما سمحا بثروتهما لأجل استكمال وسائل الحرب؟ (75) أما البخل فكان في أقصى درجات المعيبات والمذمومات؛ لقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق) [8] . (76) حرية الوجدان وحرية المساكن وصيانة الملك بأنواعه ولا سيما الكتب والرسائل وأمثالها من الحريات السياسية التي طالما افتخر بها الأوروبيون وقد كانت من جملة ما جاءنا به نبينا من قبل ألف سنة وكسور. قال الله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون: 6) {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) . وقال رسوله: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه) [9] وقال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) وقال صلى الله عليه وسلم: (من اطلع في كتاب أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في النار) [10] . قصارى القول: لو اعتنى علماؤنا باستخراج أمثال هذه الأحاديث لوجدوا فيها من الوثائق ما هو كاف لإبطال كل دعوى اتُّهِم بها الدين الحنيف. ومما يوجب الأسف أن المصائب التي حلت بالمسلمين كأنها لم تكف لفتح عيونهم لتحري أوامر هذا الدين المبين التي تقتضي أن يكون متبعوه في طليعة العلماء والأغنياء والأقوياء والأمراء. واعجباه! (77) إن التهيؤ للخصم ومقابلة قوته بالقوة من أسس الإسلام لذلك قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) فهل للمسلمين بعد هذا أن يكلوا الأمور لمشيئة الله تعالى ويعطلوا قواهم وأوامر القرآن ويعدوا ذلك من الإسلام؟ . (78) أرشد صلى الله عليه وسلم إلى حسن اختيار الموظفين بقوله: (لكل شيء آفة تفسده وآفة هذا الدين ولاة السوء) [11] فهل يحل بعد هذا أن يقبل الوالي المسلم الشفاعات لأجل توسيد الأمور العامة لغير أهلها. (79) كانوا يعتنون بكل ما يزيد الثروة العمومية، ولا سيما تربية الغنم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (اتخذ الغنم فإنها بركة) [12] وغير خافٍ على أحد ما للغنم من المكانة الاقتصادية في عصرنا. ليتنبه الكسالى. (80) كانوا يضعون الشيء في محله ويتباعدون عن الإسراف والتبذير استرشادًا بقوله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز وجل) [13] وهذا يدل على أنه لم يكن من المعروف في عصره صلى الله عليه وسلم تخصيص الثروة لأناس كسالى ينامون على ظهورهم تاركين العمل وعادِّين هذا عبادة. (81) كان العمل والجد ممدوحًا والكسل مذمومًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (من بات كالاًّ من عمله بات مغفورًا له) [14] . (82) أشد ما اعتنت به الديانة الأحمدية: الصناعة والتجارة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (أطيب الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور) [15] . (83) كان الفقر مكروهًا مستعاذًا منه، وإنما يُطلب الصبر عليه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بالله من الفقر والعيلة ومن أن تظلموا أو تظلموا) [16] و (اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم) [17] إن أبا بكر كان تاجرًا غنيًّا. وكذلك ذو النورين. واكتسب طلحة والزبير ثروة هائلة من التجارة. (84) ما كان أحد في أوائل الإسلام ينكمش في زاوية أو تكية ليأكل ويشرب من ثمرة جد غيره باسم العبادة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (استغنوا عن الناس ولو بشوص السواك) [18] . لذلك كان كل واحد يشتغل بعمل من الأعمال حسب قدرته العقلية والبدنية. (85) الحراثة كانت محترمة جدًّا وقد أمرنا بها سيدنا صلى الله عليه وسلم بقوله: (احرثوا فإن الحرث مبارك وأكثروا فيه من الجماجم [19] ) . (86) الحياة الاستقلالية كانت أساس عمل كل فرد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من لم يترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته ولم يكن كلاًّ على الناس) [20] لذلك كان كل يسعى لئلا يكون حملاً ثقيلاً على المسلمين، شأن البطالين والكسالى اليوم. (87) الاتجار في الأقطار وجلب ما يحتاجه الناس كان من الأمور الممدوحة. والاحتكار كان من الأمور المذمومة جاء في الحديث: (الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله [21] ) . هنا أدعو القارئ الكريم لأن يطالع بحث التجارة الخارجية وبحث الاحتكار في كتب الاقتصاد السياسي ليرى علو معنى هذا الحديث. (88) التبذير وعمل الأشياء التي لا فائدة منها كانت مجهولة عندهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) [22] . من هنا يفهم أن انتشار الترب وزيارتها ليس من الإسلامية في شيء. وقد انتقلت هذه الخرافة لديننا الصافي النقي من أساطير الهنود القديمة. إذًا إتلاف شيء من الزاد وإيقاد الشموع على القبور موجب للَّعنة فأين المتأملون؟ (90) إن ذبح القرابين والضحايا على القبور ممنوع في دين الإسلام؛ لأنه جاء في الحديث: (لا عقر في الإسلام) [23] . (91) النذر لغير الله ليس مشروعًا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم (لا وفاء لنذر في معصية الله) [24] . (92) تعليق بعض الأشياء على الأولاد وغيرهم لدفع النظرة، أو استكتاب النسخ لأجل محبة الأزواج لزوجاتهم - من أمور الشرك، نعوذ بالله. لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) [25] ليتنبه الغافلون المبذرون. (93) نهى النبي صلى الله عليه وسلم لمن ربط القلب بالمشعوذين وقال: (من تعلق شيئًا وكل له) [26] والنتيجة الحرمان. (94) نهى كذلك عن مراجعة العرافين الذين يبتزون أموال الناس بدعوى الإخبار عن الغيب، قال: (من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة أربعين يومًا) [27] ولأن الله تعالى قال في كتابه الكريم آمرًا نبيه أن يبلغ الأمة: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} (الأنعام: 50) . فما قول خفاف العقول الذين يطلبون علم الغيب من العرافين بعد ما جاء في هذه الآية الكريمة ما نرى من الصراحة؟ (95) نهى صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم من الاسم أو من صوت الطير وعن الرمل، وَعَدَّ ذلك وثنية فقال: (العيافة والطير والطرق من الجبت) [28] . (96) وكذلك عَدَّ التطير شركًا فقال (الطيرة شرك) [29] . (97) كانوا لا يتشاءمون من طير الطائر ولا يعتمدون على أقوال الكهنة والسحرة؛ لأنه أخرج من يفعل ذلك من الجمعية الإسلامية إذ قال: (ليس منا من تطير ولا من تُطُيِّرُ له أو تكهن أو تُكُهِّنَ له أو تسحر أو سُحِرَ) [30] (98) الحسد والنميمة والكهانة كانت بمنزلة واحدة؛ لأنه جاء في الحديث الشريف: (ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه) [31] أين من يعتبر؟ (99) لا واسطة بين العبد والمعبود في دين أحمد، وكل فرد مسئول عن عمله؛ لأن الله تعالى قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) أما ما يعمله أو يتخذه بعض الجهلة من الوسطاء لله تعالى فهو مأخوذ من الأمم السابقة وتقليد (للإغراء) من النصارى و (للبراهمة) عند الهنود القدماء، و (لمونيه) عند الزردشتيين وللكاهن عند الكلدان. وما لهذا مكان في دين الإسلام. (100) إن الله غني عن أية واسطة بينه وبين عبده؛ لأنه قال في كتابه الكريم: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) . وأما بناء القبور الفخمة والمزينة واتخاذها ملجأ لقضاء الحاجات فهو ليس من الإسلام في شيء. ولكنه تقليد للنصارى والهنود والإيرانيين كما سيجيء تفصيل دخول هذه الخرافات في تعاليم الإسلام. (101) الغيبة كانت مستكرهة جدًّا؛ لأن الله قال: {وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً} (الحجرات: 12) والأحاديث في تحريمها كثيرة. ليتنبه الأغنياء الذين يقضون أوقاتهم باغتياب الناس والسبحة في أيديهم. (102) لم يعتن الدين الإسلامي بشيء كما اعتنى بالعلم. وقد جاء في الحديث: (طلب العلم ساعة خير من قيام ليلة، وطلب العلم يومًا خير من صيام ثلاثة أشهر) [32] وقال أيضًا: (العلم أفضل من العبادة، ومِلاك الدين الورع) [33] و (فضل العلم أحب إليَّ من فضل العبادة) [34] و (أفلح من رزق علمًا) [35] (103) الحرية الشخصية والاستقلال الذاتي من أهم قواعد الدين الحنيف وحفظاً لكرامة الضرر جاء في القرآن الكريم: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) . فإن كان جل جلاله ينهى نبيه عن السيطرة، فهل يكون هناك دين يكفل الحرية أزيد من دين الإسلام؟ وسنبحث في مقابلة الإسلام بغيره في هذه المسألة بحثًا خاصًّا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

أحوال العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحوال العالم الإسلامي مؤتمر الصلح بين الترك وأوروبا في لوزان عرف الترك كيف يعاملون أوروبا في هذا المؤتمر معاملة الأمثال، ويدلون إدلال المنتصر في القتال، وعرف مَن لم يكن يعرف من العالم أن أوروبا المادية لا تحترم إلا القوة، ولا تذل إلا للقوة، ولا تعترف بحق غير القوة، وقد جلبت الدول الكبرى إلى لوزان أممًا كثيرة من الشرق والغرب جعلتها عونًا لها على الترك، فالأرمن طلبوا وطنًا قوميًّا في بلاد الأناضول، كالوطن الذي تؤسسه إنجلترا لليهود في فلسطين من بلاد العرب، وشرذمة من بقايا الآشوريين والكلدانيين يطلبون وطنًا قوميًّا في العراق، وأوروبا هي التي تؤيد هؤلاء وأولئك - لأنهم نصارى - بالمساومة بينهم، ونصارى الشرق مازالوا شر آلة في يد دول الاستعمار المادية تستعملها للتفريق بين سكان البلاد التي تطمع فيها، تُلقي بينهم وبين الأكثرين من أبناء وطنهم العداوة والبغضاء باسم المسيحية التي تأمر بمحبة الأعداء (! !) وتُمَنِّيهم بالسعادة والملك إذا خانوا أوطانهم في خدمتها، وهم أهون عليها من نعالها، ودماؤهم أرخص لديها من غُسَالة أرجلها، وإلا فليؤسسوا الوطن القومي الذي وعدوا الأرمن ومَنُّوهم به حتى حملوهم بالتغرير والتضليل على خيانة دولتهم العثمانية التي كانوا أنعم وأعز فيها من جميع شعوبها حتى اضطرت إلى البطش بهم، عرف العالم كله كُنْه مسيحية دول الاستعمار وغيرتها على المسيحيين بعد تبرؤهم من الأرمن كما تبرأ الشيطان ممن أغراه بالكفر. وكان القبط أعقل نصارى الشرق فاتفقوا مع المسلمين ولم يقعوا في الفخ الذي كان يُرَاد به تضحيتهم- فمتى يعقل من يَدَّعُونَ أنهم أذكى البشر وأحذقهم وأدهاهم ويفيقون من سكر تعصبهم؟ كان الوفد التركي في لوزان أدهى الوفود وأحزمها، فما زال يخضخض وفود الدول العظمى ويمخضها حتى لم يترك لاتحادها عليه مع البلقان قيمة واضطرها إلى تساهل لم يسبق له نظير في معاملتها للترك في المؤتمرات السابقة منذ عُدُّوا دولة أوروبية، وداس في لوزان كل ما كان من عظمة هذه الدول وجبروتها وكبريائها في فرسايل، وسيفر، وسان ريمو ثم إنه لم يقبل المعاهدة التي حررت، وقيل: إنها منتهى ما يمكن من التساهل والسخاء الحاتمي مع الترك، بل حملها إلى المجلس الوطني في أنقرة ليرى رأيه فيها، وقد غلب الدهاء البريطاني الذكاء الفرنسي في هذا المؤتمر فتحول الترك بعده عن فرنسا وتقربوا من بريطانيا، وطفقت جرائدهم- وقد سكتت عن الطعن في الإنجليز- تطعن في فرنسا وتعدها أكبر خصومهم فجعلت تبجح فرنسا بصداقة الإسلام مدة سنتين هباء منثورًا. الوفود العربية في المؤتمر كان للجنة المؤتمر السوري الفلسطيني وفد في جنيف عند اجتماع جمعية الأمم فيها ثم انتقل إلى جنوى عند انعقاد المؤتمر الاقتصادي فيها- فكان هذا الوفد أسبق الوفود القومية غير الدولية إلى لوزان عند الشروع في عقد مؤتمر الصلح فيه، وكان رئيس هذا الوفد الأمير شكيب أرسلان وهو لحسن الحظ صديق للترك قديم يعرفه كبراؤهم وخواصهم، ثم ذهب وفد من فلسطين واتحد بهذا الوفد، وذهب وفدان من مصر واتحدا هنالك أيضًا. واجتهد السوريون والمصريون في استمالة الترك ومطالبة وفدهم بالاعتراف باستقلال القطرين وسائر البلاد العربية عملاً بالميثاق الوطني التركي. وكان الغرض أن يقترح جعل ذلك في معاهدة الصلح، وبأن يتوسل إلى مؤتمر الصلح بقبول عرض مطالبهما له رسميًّا فلم ينجحا في هذا ولا ذاك. وكل ما كان أن عصمت باشا رئيس الوفد التركي صرَّح بالاعتراف بأن الترك قد تركوا لمصر والولايات العربية العثمانية أمر تقرير مصيرها واستقلالها وكانت فائدة ذلك أمام الدولتين المختلفتين لهذه البلاد أنهما تحولتا عن طمعهما بأن ينص في معاهدة الصلح على تقرير الحالة الحاضرة في مصر والانتداب في سوريا وفلسطين وقنعتا بأن تحدد بلاد الدولة التركية تحديدًا يخرج منها سوريا والعراق، بله إفريقيا العثمانية، وفائدة هذا سلبية محضة. وهاهنا وقع الخلاف في ولاية الموصل فالترك يعدونها من بلادهم التي حددوها في الميثاق الوطني، وقد ناقشهم الوفد البريطاني في ذلك باسم دولته الوصية (المنتدبة) على العراق وأقرَّها على ذلك الملك فيصل ووالده الملك حسين وإنما جعلتهما ملكين لمثل هذا التأييد الذي هو لازم الحماية التابعية. هذا وإن كلاًّ منهما قد أرسل مندوبًا إلى لندن ولوزان، فكانا في لوزان تحت تصرف لورد كرزون قولاً وعملاً، ولما اعترف عصمت باشا باستقلال البلاد العربية، وذكر منها الحجاز بسعي الأمير شكيب أرسلان، بادر مندوب الملك حسين بتطيير النبأ إلى مولاه بالبرق ليوهمه أن هذا كان بعض ثمرات سعيه. ثم بلغ شركة روتر أن عصمت باشا ذكر في ضمن اعترافه أن الملك حسينًا رئيسُ الأمة العربية وأكبر زعمائها الممثل لها، فطيرت هذه الفرية في الأقطار؛ لتكون توطئة وتمهيدًا لتنفيذ المشروع الذي تعده وزارة المستعمرات البريطانية للبلاد العربية. وإن عقل عصمت باشا ليربأ به أن يفتات على الأمة العربية بالصدق فكيف يفْتَات بالكذب. كيد السياسة البريطانية للبلاد العربية لم تنجح وزارة المستعمرات البريطانية النجاح التام بإقناع دافعي الضرائب من البريطانيين وممثليهم في مجلس النواب بأن نَصْبَهم الأمير فيصلاً ملكًا على العراق والأمير عبد الله على شرق الأردن - يضمن للدولة البريطانية استعمار فلسطين والعراق بدون نفقة كثيرة ترهق دافعي الضرائب عسرًا، ويؤسس لدولتهم إمبراطورية عربية جديدة تفيض على الخزينة تبرًا، وعلى المستعمر السكسوني عسلاً وخمرًا، ورأت هذه الوزارة في عهد المحافظين- الذين هم أشد قومهم جشعًا وحرصًا على الاستعمار، وضراوة باستعباد الأحرار- أن الترك مُصِرُّونَ على انتزاع الموصل من ملك العراق، وأن استيلائهم على الموصل يُمَكِّنُهم من الاستيلاء على بغداد في كل وقت بكل سهولة، وأن عرب العراق كغيرهم يفضلو الترك على البريطانيين بعد أن بلوهم وعرفوا إفكهم وخداعهم، وذاقوا مرارة جبروتهم وظلمهم، فلا يمكن أن يحاربوا الترك معهم أو تحت قيادتهم لأجل أن تكون العراق مستعمرة هندية لهم. ومن البديهي أن بريطانيا لا تستطيع قتال الترك في العراق وحدها، وضلع العرب معهم عليها، ولو تصدت لذلك لقامت عليها الأحزاب البريطانية بأسرها، وخشي أن يمتنعوا من بذل مئات الملايين من الذهب والرجال، في هذه المقامرة التي تجر وراءها الخزي والنكال، وشدة وطأة المقاطعة في الهند، وشبوب نيران الثورة في فلسطين ومصر، ورأت هذه الوزارة أيضًا أن بعض الجرائد والأحزاب وكبار الساسة من الإنجليز يطالبون الحكومة بالجلاء عن العراق وفلسطين من قبل الاستهداف لهذه الأخطار، ورأت أن جعل فلسطين مملكة يهودية فاصلة بين مصر وسائر بلاد العرب ليست من الهنات والهينات، وأنها قد صارت من المسائل الإسلامية العامة. فالهند قد وضعت استقلال فلسطين وسائر البلاد العربية في برنامجها، وإمام اليمن على عزلته قد احتج بها عليها، وكاد أهل اليمن يُجْلُونَ اليهود من بلادهم لأجلها، حتى إن حكومة عدن البريطانية أجابت اليمن بأن مسألة احتلال فلسطين عرضية مؤقتة وأنهم سيتركونها لأهلها بعد بضع سنين ريثما تستقر الأحوال! وهذا الجواب من أسلوب الحكيم فإنهم إنما يعنون باستقرار الأحوال حل مشكلات الكون الكبرى وتوطيد سلطانهم حيث وضعوا أقدامهم. رأت وزارة المستعمرات كل هذا وأكثر منه مما نعلم ومما لا نعلم فرجَّحت إحداث تغيير جديد في شكل إدارة البلاد العربية وتجديد الضغائن والبغضاء بين العرب والترك قطعًا لطريق الجامعة الإسلامية، قبل أن يستيقظ جمهور الشعب العربي من رقاده، ويثوب الجمهور المخدوع منه إلى رشاده، ويدوس الزعماء المتجرين به وببلاده، وهي مراقبة لما حدث من تحول العراق عن فيصل وعدم انخداعه بالمعاهدة، وفلسطين عن عبد الله، وأنه لما عاد من زيارتهم في أوروبا لم يزره ولا هنأه من أهلها أحد، على ما بثه - ويبثه - أُجَرَاؤُهُ من الدعاية (البوربغندة) في شأن رحلته وفوائدها المنتظرة (؟) كما أنها عالمة بما كان من فشل حسين في محاولة استمالة الإمامين يحيى والإدريسي، وليس لهم أحد يعتمدون عليه من كبراء الأمة العربية غير أهل هذا البيت الذي هو رئيسه - لا رئيس العرب- يطالبها باسم العرب - لا باسمه - بإنجاز ما وعدته من تأليف مملكة عربية بقوتها وتحت وصايتها وحمايتها، بشرط أن يكون هو رئيسها، تمتد من البحر الأحمر إلى حدود الأناضول تحتل هي ولاية البصرة منها لسائر الولايات المستشارين والموظفين الذين يديرون شؤونها. * * * مشروع الشكل الجديد لاستعمار البلاد العربية فالمشروع الذي تدرسه وزارة المستعمرات مبنيٌّ على التوفيق بين مقاصد معاهدة سايكس بيكو ووعود (السر هنري مكماهون) للملك حسين في أثناء ما دار بينهما من المكاتبات التي عرفها قراء المنار في المجلد السابق منه (م 13) . ولما كان هذا التوفيق لا يتم إلا بتوقيف فرنسا عليه، وإقناعها بجعل داخلية سورية داخلة في المملكة العربية الشريفية، والقناعة المؤقتة بجعلها منطقة نفوذ فرنسية، وحصر الانتداب المباشر المؤيد بالاحتلال العسكري في المنطقة الساحلية كما تقنع إنجلترا بجعل العراق منطقة نفوذ بريطانية وحصر الحكم الاحتلالي المباشر في ولاية البصرة - لما كان الأمر كذلك كاشفت وزارة الخارجية البريطانية حكومة الجمهورية الفرنسية بعزمها معتمدة في إقناعها على التخويف من استيلاء الترك على سوريا والعراق والقيام بحركة الجامعة الإسلامية التي يمتد خطرها إلى شمال أفريقيا الفرنسي فيفسده على ولية أمره كما يفسد الهند ومصر على الدولة البريطانية - وكانوا قد مهدوا السبيل لذلك بتدريب الأمير عبد الله على استمالة فرنسا إلى شخصه قبل سفره إلى لندن وفي أثناء وجوده في أوروبا. ومن حججهم التي قويت بعد إعراض الترك عن فرنسا في أواخر العهد بمؤتمر لوزان أن أسرة الملك حسين هي الأسرة الوحيدة التي أشربت دون غيرها من البيوتات العربية بغض الترك والحقد عليهم. وكان الغرض من هذا السعي أن يجعل الأمير عبد الله ملكًا على شرقي الأردن وولاية دمشق وحلب ما عدا سواحل حلب وما ألحق من ولاية دمشق بلبنان الكبير، وبذلك يسهل حمل أهل هذه البلاد وأهل العراق على مبايعة الملك حسين بالخلافة، فينشق العالم الإسلامي فيها وتستحكم العداوة بين الترك والعرب ويتيسر للدولتين ضرب أحدهما بالآخر عند الحاجة إلى ذلك، وتدوم لهما السيطرة على البلاد العربية. وقد درست وزارة خارجية فرنسا هذا المشروع فترجح عندها عدم الثقة بهؤلاء الحجازيين صنائع الإنجليز الذين لا تأمن فرنسا إغراءهم بإخراجها من سوريا عند سنوح الفرصة وإرادة الإنجليز ذلك، وقيل: إنها كانت تدرس معه مشروعًا آخر مضادًّا له، وهو جعل هذه البلاد تحت سيادة الترك إذا رضوا بأن تكون مناطق نفوذ لهم وللإنجليز وبذلك يقضون على النهضة العربية ويكتفون أخطارها ولكنها لما تقرر هذا ولا ذاك. ولما شعر الناس في سوريا بهذه المفاوضات والمباحث، انبرى أصحاب الأطماع يتزلفون إلى حيث يتخذ كل منهم له يدًا يستغلها عند تنفيذ المشروع المنتظر ولهجت بذلك جرائد سوريا ومصر منذ بضعة أشهر فكانت شقش

نبأ عن النهضة الأفغانية وكونها دينية مدنية

الكاتب: مراسل جريدة الأخبار المصرية في الأستانة

_ نبأ عن النهضة الأفغانية وكونها دينية مدنية ألم مراسل جريدة الأخبار المصرية في الآستانة بمدينة (رومية) عاصمة الدولة الإيطالية في طريقه إلى (لوزان) وزار فيها السردار عظيم الله خان سفير الدولة الأفغانية فيها فوجده في دار السفارة يقرأ القرآن العظيم، وبعد أن تعارفا دار بينهما الحديث الآتي وكان المراسل سائلاً والسفير مجيبًا. (الأفغان وإيطاليا) س - هل أسست الحكومة الإيطالية سفارة لها في (كابل) مقابل السفارة الأفغانية التي تأسست في (روما) ؟ ج - أجل لقد أسست الحكومة الإيطالية سفارة لها في (كابل) وعينت الماركيز (بيترنو) سفيرًا لها لدى جلالة أمير الأفغان. وقد تم الاتفاق بين شركة أفغانية وشركة إيطالية على مد خط أوتوموبيل بين (كابل) و (بشاور) إلى مدة 12 سنة بحيث يكون 60 في المائة من رأس المال إيطاليًّا و 40 في المائة أفغانيًّا. س - هل عقدت أو تتفاوض الحكومة الأفغانية لعقد معاهدات أو اتفاقات سياسية أو اقتصادية مع إيطاليا؟ ج - إنني لم أصل إلى عاصمة إيطاليا إلا منذ أيام قلائل، بيد أننا سنسعى لعقد معاهدات تجارية مع إيطاليا؛ لأن لدينا مواد كثيرة يمكننا تصديرها إلى البلاد الإيطالية، ومن هذه المواد الصوف وجلود استراخان، والسجاجيد والفواكه الجافة وبعض المعادن كالذهب والفضة والحديد و (الزنك) والنحاس والكبريت وبعض الأحجار الكريمة كالزمرد والياقوت والماس وغير ذلك. وهنا دعا دولة السفير تابعه وأمره أن يحضر نماذج المعادن الأفغانية فأطاع التابع، وأحضر عددًا من العلب فتحها السفير وألقى ما فيها على جريدة فرشها على المكتب وأرانا أنواع الحديد والرصاص والزنك والنحاس والذهب والفضة. وقد كان من بينها ما هو خام وما هو نقي. ثم إنه فتح العلب التي تحتوي على الأحجار الكريمة وأرانا أنواع الياقوت والزمرد والماس والزبرجد مقدمًا لنا بعض التفصيلات عن المناجم التي تحتوي هذه المعادن، قائلاً: إن من بينها ما لا يستطيع العالم بأسره أن يستنفذه. وقد قضينا نحو نصف ساعة في فحص هذه المعادن والأحجار ولما انتهينا من فحصها عدنا إلى حديثنا فسألنا دولته: (السياسة الأفغانية في الغرب والشرق) س - ما أساس السياسة الغربية التي تتبعها الحكومة الأفغانية؟ ج - الصلح والمسالمة. لقد كانت بلاد الأفغان موصدة الأبواب إلى حين إعلان استقلالها، والآن تتعارف الأفغان مع جميع الدول وستزداد بهم تعرفًا كل يوم. لا تريد الأفغان أن تنازع أحدًا وإنما تريد ترقية بلادها. وقد كان المعنى الذي استخرجناه من أقوال دولة السفير أن أساس السياسة الغربية التي تتبعها الأفغان هي المسالمة الرامية إلى الاستفادة من الغرب في استثمار المنابع الطبيعية الأفغانية وإعلاء شأن البلاد الأفغانية عرفانًا واقتصادًا. س- إذن ما قواعد السياسة الشرقية التي تتبعها الحكومة الأفغانية؟ ج- الإخاء ‍! وقد كان من أحدث مظاهر هذا الإخاء تلك البرقية التي أرسلها جلالة أمير الأفغان إلى ملك إنجلترا طالبًا فيها معاملة تركيا في دائرة الحق والعدل. وقد أرسلت الحكومة الأفغانية برقيات في هذا المعنى لحكومتي فرنسا وإيطاليا. س- ما رأيكم في مؤتمر لوزان؟ ج- إننا لا ننتظر إلا صلحًا عادلاً مرضيًا. س- فإذا لم تقبل الدول تحقيق الميثاق الوطني التركي واضطرت تركيا إلى مواصلة جهادها، فماذا يكون موقف البلاد الأفغانية نحو تركيا؟ ج- موقف البلاد الأفغانية إزاء هذه الحالة مُصَرَّحٌ به في المعاهدة التركية الأفغانية. س- لماذا لا تتأسس العلاقات السياسية بين مصر والأفغان؟ ج- نحن نريد أن نؤسس مع مصر كل علاقة. وقد مر (الجناب الأعلى محمود طرزي بك) سفير الدولة الأفغانية في باريس بمصر خلال سيره إلى مقر وظيفته وقابل الكثيرين من رجال مصر فأكرموا وفادته ولبث هنالك مدة. وإذا قبلت مصر فنحن مستعدون في الحال لتأسيس جميع العلاقات السياسية. س - كيف شعور الأفغانيين نحو إخوانهم المصريين؟ ج - لا فرق بين الأتراك والمصريين في نظرنا، نحب كليهما حبًّا جمًّا. ونحن نتلقى أخبار مصر دائمًا ونتتبعها بكل شوق. وبُغيتنا تأسيس جميع الروابط مع جميع الشعوب الإسلامية وعلى الأخص الشعب المصري. (مبادئ التربية في بلاد الأفغان) س- اسمح لي يا دولة السفير أن أسألكم بعض أسئلة ليست سياسية. هل تتكرمون عليَّ ببيان مبادئ التربية التي تقبلتموها لتربية أبنائكم؟ ج- هي مبادئ التربية الإسلامية الصحيحة. وهل هناك مبادئ أشرف وأعلى من مبادئ التربية الإسلامية؟ إن الدين الإسلامي دين الفطرة، دين الفضيلة، دين العزة، دين المدنية، دين الحق والحقيقة. فكيف لا تكون مبادئه أساس التربية في البلاد الإسلامية؟ نحن على أتم يقين أن كل نجاح وكل فلاح نفوز به في معترك الحياة، إنما نفوز به بفضل اعتصامنا بمبادئ ديننا المبين. فإذا ما أرخينا حبل الاعتصام أخذنا في التقهقر، والانحطاط والاضمحلال, تلك حياة المسلمين أعدل شاهد على أنهم قد ارتفع شأنهم كما رفعوا شأن العالم معهم لما كانوا متعصمين بالدين الإسلامي. لكنهم لما أهملوا دينهم اجتمعت عليهم المصائب ولم يستطيعوا مقاومتها. فكيف يكون الأمر على هذا المنوال ولا نتخذ مبادئ التربية الإسلامية أساسًا لتربيتنا. أزيد على ذلك أننا نهتم في بلادنا بترقية معارفنا على هذا الأساس، أكثر من اهتمامنا بأي شيء. والجميع من جلالة الأمير إلى أصغر صغير يبذلون كل جهد لترقية المعارف. ويعقب ذلك في الأهمية: الحربية ثم الداخلية. وقد أرسلنا إلى أوروبا بأعداد من الطلاب كما تعلمون، ونحن نبذل قصارى الجهد لأن يكونوا متمسكين بمبادئ الدين الحنيف معتصمين بحبل الله، حتى يتمكنوا من خدمة شعبهم أعظم الخدم. (التشريع والآداب في الأفغان) س- ما منابع التشريع في بلاد الأفغان؟ ج- منبع التشريع هو الشريعة الغراء، نستمد جميع قوانيننا منها. وكلنا يراعي هذه القوانين. وليس جلالة الأمير غير مسئول. بل هو مسئول ويُدْعَى إلى المحاكمة إذا حدث خلاف بينه وبين أحد رعاياه. فالكل تحت حكم القانون المستمَد من الشريعة السمحة بلا استثناء. حكومتنا حكومة شرعية، قانونها الأساسي أحكام الشرع. س- هل تطبق المبادئ الاجتماعية في الحياة الأفغانية؟ ج- تُطَبَّقُ تمام التطبيق. ومن آثار ذلك أن الأشربة الكحولية لا تدخل في بلادنا أصلاً، أجل، لا تدخل الآفات العصرية في بلادنا. وسياجنا الحصين الذي يمنع دخولها في بلادنا هو إيماننا قبل كل شيء، ولن تجد امرأة عاهرة واحدة بين نساء الأفغان. بلادنا والحمد لله طاهرة مطهرة، بلاد إسلامية بكل معنى الكلمة، وكل من يجرؤ على خرق هذه المبادئ يلاقي عقابه الصارم في الحال. (جلالة أمير الأفغان) س- نسمع عن جلالة أمير الأفغان كثيرًا من المناقب التي تتلقاها بكل احترام وفخار. فهل لدولتكم أن تزيدونا بيانًا؟ ج- أشرح لكم كيف يقضي جلالة الأمير يومه: ينتبه جلالة الأمير من نومه مبكرًا ويكون على رأس عمله قبل نُظَّارِهِ وقبل موظفي حكومته. ويشتغل مع نظاره إلى الظهر حيث يتناول غذاءه معهم ثم يعود بعد برهة إلى العمل حتى المساء، وهنالك يتريض نحو ساعتين بركوب الخيل أو المشي أو غير ذلك، ثم يتناول عشاءه ويعود إلى عمله حتى بعد منتصف الليل. ولهذا يلوح على جلالته آثار التعب دائمًا. هكذا يقضي جلالته أيام أسبوعه ولا يستريح إلا أيام الجمعة. لا يتناول جلالته أي مرتب من خزانة الشعب بل يعيش من دخله الخاص معيشة بسيطة لا تفترق عن معيشة أفقر رعاياه. ولا شك أن مثل هذه الحياة تكون خالية من جميع مظاهر الأبهة والعظمة الخاوية. وجلالته رجل عمل لا رجل مظاهر. وقد كان أحسن أسوة لأمته للسعي والكد في سبيل ترقية البلاد ا. هـ الحديث. قال المراسل: الحق أن دولة عظيم الله خان رجل كبير من كل وجهة. فهو - عدا كونه رجل عمل ورجل دولة - رجل إسلام يشعر بعزة دينه أسمى شعور؛ ولذلك تراه في عاصمة إيطاليا يرتدي ملابسه التي يرتديها في عاصمة دولته ولا يستبدل بطربوشه قبعة، أي إنه رجل يمثل دينه ودولته على السواء اهـ. (المنار) قد نشرت الصحف العامة مقالات أخرى عن الأفغان وأميرهم متعددة المصادر متفقة المعنى مصدقة لما قلناه في هذه الأمة مرارًا آخرها ما في بحث الخلافة المستفيض وهو أن هذا الشعب هو الجامع بين صلابة الدين التي في بلاد نجد وبين الأخذ بأساليب المدنية والعمران السالمة من أخطار ومفاسد المدنية المادية الإفرنجية السارية في مصر وبلاد الترك وأمثالها. ولا نرى في كلام السفير الأفغاني في إيطاليا مبالغة إلا في قوله: (إن معيشة الأمير لا تفترق عن معيشة أفقر رعاياه) .

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (الفطرة) جريدة عربية أسبوعية تصدر في (بوينس أيرس) عاصمة (الأرجنتين) صاحبها الكاتب الفاضل العاقل السيّ محمود محمد سلوم، وغايتها: إرشاد قرائها إلى الوحدة والمدنية الراقية بسنن الله تعالى في الفطرة، ويدخل فيها هداية دين الفطرة (الإسلام) ولذلك نرى مقالاتها الإرشادية متوجة بآيات الذكر الحكيم وممزوجة بها أيضًا على المنهاج الذي أشرعه أستاذانا حكيمَا الإسلام وموقظَا الشرق في العروة الوثقى وسلكنا جادته بالمنار، وقد خلفت في ذلك جريدة الأرجنتين التي ساءنا احتجابها. وأهم ما ننتقده منها ما انتقدنا من تلك وهو كثرة الغلط في الآيات القرآنية والأحاديث، وتلافيه أن يراجع الكاتب أو المصحح تلك الآيات في المصحف الشريف قبل طبعها، وأن يستعين على ذلك بمفاتحه ككتاب (فتح الرحمن) أو كتاب (مفتاح كنوز القرآن) ويراجع الأحاديث في معاجمها وأشهرها كتاب الجامع الصغير وكنوز الحقائق المطبوع على حواشيه. ونضرب لذلك مثلاً مقالاً [1] عقدته الجريدة في عددها 12 بعنوان: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) لإنكار كون هذه الجملة حديثًا نبويًّا؛ صيانة لمقام النبوة المعصوم من الأمر بنصر الظالم. وقد أخطأ كاتب المقالة في إنكار الحديث كما أخطأ في أكثر الآيات التي أوردها في المقالة. بنى إنكاره للحديث على قاعدة صحيحة وهي أن من علامة الحديث الموضوع مخالفته للقطعي كالقرآن وغيره من أصول الدين وفروعه القطعية، ومنها تحريم الظلم وإزالته لا إقراره ومساعدة أهله عليه، ولكن تحكيم هذه القاعدة في الحديث كتحكيمها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} (النساء: 43) بإنكار أن يكون من القرآن للقطع بأن القرآن يأمر بالصلاة، ولا يمكن الجمع بين الأمر بالشيء والنهي عنه. ومن علم أن هذا النهي مقيد بقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء: 43) لا ينكره. كما أن العالم بأن النبي صلى الله عليه وسلم فسَّر في هذا الحديث نصر الظالم بحجزه عن الظلم، كما رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أنس، وبرده عن ظلمه، كما رواه الدارمي وابن عساكر عن جابر ابن عبد الله - لا ينكره، وقد ظن الكاتب أن هذا تأويل من بعض العلماء، والصواب أنه تتمة الحديث، وفي رواية عن عائشة: (إن كان مظلومًا فخذ له بحقه. وإن كان ظالمًا فخذ له من نفسه) . ومن الغلط في الآيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) إلخ جعل فيها (إذ) مكان (إن) ومنها قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (هود: 113) حذف من وسطها {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} (هود: 113) ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) زاد فيها كلمة (بالحق) ومنها قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} (التوبة: 6) . أورده هكذا: (وإن استجارك أحد من المشركين فأجره حتى يبلغ مأمنه. وفيها من الخطأ في الحديث - متنه وتصحيحه - قول الكاتب: ورد في الحديث الصحيح قول الرسول الأمين: (خذوا كلامي فاعرضوه على القرآن فما كان منه وفقًا فهو شرع والا فهو رد) وهو مروي بلفظ آخر وغير صحيح السند ومعارض بالصحاح، قال عبد الرحمن بن مهدي أحد أقران الإمام مالك: الزنادقة والخوارج وضعوا حديث: (ما أتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق كتاب الله فأنا قلته وإن خالف فلم أقله) وقال الشافعي: ما رواه أحد عمن يثبت حديثه في شيء صغير ولا كبير. وزعم بعضهم أنهم عرضوه على مثل قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) فخالفه. والصواب أن ليس كل ما روي من الحديث موافقًا لكتاب الله فهو صحيح، فمن الأحاديث الموافقة للقرآن ما لا يصح سنده بل ما هو موضوع. وأما ما خالف القرآن مخالفة صحيحة فيستحيل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله. وقد علمنا أن صاحب هذه الجريدة من طائفة العلويين المعروفين بالنُّصَيْرِيَّة فَسَرَّنَا ذلك أضعاف ما كان يسرنا لو كان من طائفة أخرى؛ لأن هذه الطائفة أشد الفرق الإسلامية تقصيرًا في العلم ولم أر أحدًا من أفرادها في بلادنا متعلمًا بصيرًا بأمور العصر إلا شابين أحدهما كان عضوًا معنا في المؤتمر السوري العام بدمشق والثاني أديب شاعر له على حداثة سنه ذوق في الشعر وأسلوب جيد سيكون بهما من أشهر شعراء الوطن، وأرجو أن يكون فيها كثيرون خيرًا منهما. وإنني أرى في هذه الجريدة أن بعض الجالية في الأرجنتين يهدونها إلى بعض القارئين في الوطن فعسى أن تكون خير وسيلة إلى إصلاح حال الطائفة وترغيبها في العلم والوحدة الملية من جهة والوطنية من جهة أخرى. فإن الدسائس الأجنبية تدب عقاربها في القوم والوساوس الشيطانية تفعل في أذهانها فعلها، تقول لهم: إنكم لستم مسلمين بل أنتم أصحاب دين مستقل يجب أن تكون لكم دولة مستقلة … ولكن قصارى هذا الاستقلال التفريق والضعف الذي يذهب باستقلال الوطن كله. وأما مسألة الدين الإسلامي ومكانهم منه فسيجليهما العلم لمن لا يعرفهما فتعلم هذه البطون العربية العريقة أن مجوس الفرس هم الذين أسسوا الجمعيات الباطنية للقضاء على مُلك العرب بتفريقهم في الدين الذي جمع كلمتهم وآتاهم ذلك المُلك العظيم لأجل إنقاذ وطنهم وإعادة ملك كسرى ودين (زرادشت) وقد كانت دسائسهم من أسباب إضعاف العرب وإذهاب ملكهم، ولكن الإسلام ظل هو الحاكم لبلاد الأكاسرة إلى اليوم. * * * (محاضرات الفلسفة العامة وتاريخها والفلسفة العربية وعلم الأخلاق) في الجامعة المصرية قد طبع منذ عامين أو أكثر ما ألقاه الأستاذ (الكونت دي جلارزا) الأسباني من هذه المحاضرات في الجامعة المصرية في ثلاثة أجزاء، جُمعت في كتاب واحد نافت صفحاته على 250 وجعل ثمنه ثمانون قرشًا، فمن يقرأه من طلاب الفلسفة كان كأنه واظب على تلك الدروس في تلك السنة، وكان هذا الكتاب مما ادخرت لأقرأه فأكتب عنه بعد القراءة فحالت الضروريات دون ذلك بل ضاق الوقت عنها. * * * (أسرار المراهقة في الفتى) وهي محاورات دارت بين أب طبيب وابنه، تبحث في شئون دور البلوغ في الفتى، وفي أهمية وظائف أعضاء التناسل وكيفية الاحتفاظ بها سليمة ونصائح قيمة عليها تتوقف صحة الأبدان ونضارة العمران، تأليف الدكتور شخاشيري الطبيب والجراح في المستشفى الإنجليزي بمصر القديمة. جرى العرف العام على عَدِّ كل ما يتعلق بشئون داعية التناسل من بدء الاستعداد الطبيعي لها إلى غاية حصول ثمرتها من الأمور السرية التي يخل إظهارها والتحدث عنها بالآداب، ويُرمى صاحبه بالمجون والخلاعة، فقلما يسمع الفتى كلمة من أهله أو أصحابه عن معنى بلوغ الحلم إلا ما يتلقاه طالب علم الفقه الإسلامي من أحكام غسل الجنابة، وبناء على هذا العرف سمي هذا الكتاب الذي بين مؤلفه موضوعه (بأسرار المراهقة) وجرى فيه على تعريف المراهقين بما سيجدونه في أنفسهم من شئون هذا الطور الجديد بأسلوب علمي طبي نزيه، ولكن تلك الآداب قد طوي بساطها في هذا العصر عند أكثر أهل هذه البلاد وأمثالها فصار أعمق الأسرار فيها جهرًا، قلما يجهله فتى أو فتاة إلا في بيوت قليلة. والكتاب يفيد هؤلاء وغيرهم؛ لأن الذين يعرفون أسرار المراهقة والبلوغ يعرفونها من المُجَّان والفُسَّاق المقاربين لهم في السن أعني أنهم يعرفون منها ما تضر معرفته، والكتاب يرشدهم إلى ما يتقون به هذا الضرر فلا يستغنى عن مثله منهم أحد، وقد طبع على ورق جيد في 68 صفحة من القطع الصغير وهو يطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر وثمنه خمسة قروش، وأجرة البريد قرش واحد. * * * (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) للإمام المجتهد القاضي محمد بن علي الشوكاني قال في أوله: (طلب مني بعض المحققين من أهل العلم أن أجمع له بحثًا يشتمل على تحقيق الحق في التقليد أجائز هو أم لا؟ على وجه لا يبقى بعده شك، ولا يقبل عنده تشكيك. ولما كان هذا السائل من العلماء المبرزين كان جوابه على نمط علم المناظرة) وقد طبع هذا الكتاب في العام الماضي فبلغت صفحاته زهاء الستين من قطع المنار، وصححه وعلق عليه بعض الفوائد صديقنا الشيخ محمد منير السلفي من علماء الأزهر. ولكن بقي فيه غلط كثير لعل سببه رداءة النسخة التي طبع عنها، وهذا لا يمنع الاستفادة من الكتاب فنحث جميع المشتغلين بعلم الدين الصحيح بالنية الشرعية الصحيحة أن يطالعوه، وسننقل نبذة منه في جزء آخر إن شاء الله تعالى، وثمن النسخة منه ثلاثة قروش وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الإكراه على الطلاق معلقًا عقب عقد النكاح (س9) من صاحب الإمضاء في (سمبس - جاوه) . حضرة العلامة الأكبر، الذي هو حجة الإسلام في هذا العصر، مولاي الأستاذ (السيد محمد رشيد رضا) صاحب مجلة المنار الأغر، حفظه الله تعالى. السلام عليكم تحية مباركة طيبة. وبعد فإني أرجو كل الرجاء أن تتفضلوا عليَّ بالجواب عما يأتي: قد جرت عادة بلدنا، وفي سائر بلاد جاوه وملايو من زمن بعيد إلى اليوم أن كل عاقد للنكاح من قاضٍ أو حاكم يلقن كل زوج عقد له النكاح عقبه تعليق الطلاق بما إذا غاب عنها ولم يترك لها نفقة ولم ينفق عليها في غيبته مدة ستة أشهر مثلاً، وهي غير ناشز، فإذا لم ترض بذلك واشتكت أمرها إلى الحاكم، وثبتت دعواها ببينة وقبلها طلقت طلقة واحدة. وغير ذلك من التعاليق التي تناسب حال كل بلد من هذه البلاد، والتعليق الذي جرينا عليه في بلدنا وطالبنا كل زوج عقدنا له بالتلفظ به هو بأمر ملكنا (السلطان) وكذا في سائر تلك البلاد بأمر أولياء أمورهم. ثم إني رأيت في هذه الأيام أن لا حاجة لنا إلى هذا التعليق؛ فإن في مذهب الشافعي رحمه الله بابًا واسعًا في فسخ النكاح. والغرض من التعليق هو التفريق بين المرء وزوجه بموجب تعليقه. وقبل كتابة هذا الكتاب سألت نفرًا من المشتغلين بعقد الأنكحة عن التعليق: هل هو سنة أو مكروه أو … أو … وما فائدته؟ فلم أجد في أجوبتهم إلا استحسان التعليق، حتى غلا بعضهم فيه، وقال: يجب على الأمة أن تطيع أمر السلطان به وأنه يصح ولو مع الإكراه عليه؛ لأنه إكراه بحق. قلت: لا يصح التعليق مع الإكراه؛ فإنه إكراه بغير حق، وإنما تجب طاعة السلطان في المعروف كما ورد في الحديث: (إنما الطاعة في المعروف) ولا يكون الشيء واجبًا إلا إذا كان له مستند من الأدلة الشرعية وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، يبين كونه واجبًا، وهل لهذا التعليق مستند من هذه الأدلة؟ بل قلتَ: إن مثل التعليق الذي جرينا عليه بدعة مكروهة، إن لم أقل: إنها حرام؛ فإن الإسلام لم يأمرنا بتحليف الزوج بالطلاق بأي شيء كان. فقد قال في شرح الروض (تعليقه جائز) نعم إني قرأت في هذه الأيام في كتاب باللغة الملاوية للسيد عثمان بن عقيل اسمه (القوانين الشرعية) قوله فيه ما تعريبه: (إنما يستحسن تعليق الطلاق بعد عقد النكاح لتذكير الزوج بالمحافظة على حق زوجته من المعاشرة بالمعروف كما أمر الله به في كتابه {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: 19) اهـ وها أنا ذا أنقل التعليق المستعمل في (بتاوى) بنصه العربي من الكتاب المذكور وهو: (أما بعد عقد النكاح فأقول في تعليق طلاق زوجتي فلانة بنت فلان بأحد هذه الأفعال الثلاثة الآتية: حالة كوني أحث على نفسي (؟) أن لا أفعل شيئًا منها وهي: كلما لم أنفق على زوجتي فلانة بنت فلان النفقة الواجبة عليَّ شرعًا مدة شهر واحد ولم ترضَ بذلك وشَكَت أمرها بنفسها أو بوكيلها عنها وكالة شرعية إلى (؟) عند رادا كام (المحكمة الشرعية) وأثبتت هي أو وكيلها دعواها بذلك عند (رادا كام) وطلبت طلاقها بنفسها أو بواسطة وكيلها فهي طالقة من عقدي (؟) طلقة واحدة. - كلما غبت عن زوجتي فلانة بنت فلان في سفر البر أو في البلد ستة أشهر، أو في سفر البحر سنة واحدة، ولم ترضَ بذلك وشَكَت أمرها بنفسها أو بواسطة وكيلها وكالة شرعية إلى (؟) عند راداكام، وأثبتت هي أو وكيلها دعواها بذلك دعواها بذلك عند (رادا كام) وطلبت طلاقها بنفسها أو بواسطة وكيلها منها فهي طالقة من عقدي طلقة واحدة كلما ضربت زوجتي فلانة بنت فلان ضربًا موجعًا غير لائق في الشرع ولم ترضَ بذلك وشَكَت أمرها بنفسها أو بواسطة وكيلها عنها وكالة شرعية إلى عند (رادا كام) وأثبتت هي أو وكيلها دعواها عند (رادا كام) وطلبت هي طلاقها بنفسها، أو بواسطة وكيلها منها، فهي طالقة من عقدي طلقة واحدة. اهـ بالحروف. ما تقولون في هذا التعليق، فهل يُسْتَحْسَن شرعًا أم لا؟ إنني أقول: إنما استحسنوا التعليق وأغلقوا باب الفسخ؛ لأنهم اضطربوا في فهم أقوال العلماء المختلفة فيه كقول بعضهم: لا يجوز فسخ عقد من غاب غيبة منقطعة وجهل حاله يسارًا وإعسارًا، وبعضهم قال بجوازه. فهم لا يجرؤون على ترجيح قول على آخر من تلك الأقوال؛ لأنهم قالوا: إنهم ليسوا من أهل الترجيح. هذا والمرجو أن تبينوا لنا سريعًا الحق في ذلك فيكون جوابكم هو الفصل بين الحق والباطل. ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء ... ... ... ... ... سمبس 8 جمادى الآخر سنة 1341 (ج) إكراه الناس على تطليق أزواجهم عقب العقد عليهن طلاقًا معلقًا على ما ذكر أو غيره - بدعة قبيحة لم ينقل عن حكومة من حكومات السلف ولا الخلف، ولم يبلغنا عن غير مسلمي جاوه، ولا ندري متى ابتدعتها ومَن زيَّنَها لها. فلعل السائل يبين لنا هذا إن كان يعلمه. وهل عثمان بن عقيل أول من وضع لها هذه الصيغ الدالة على ما كان عليه من الجهل بالشرع وباللغة العربية التي لا يمكن فهم الشرع بدون إتقانها كما هو عهدنا بكل ما اطلعنا عليه من كتبه أم كانت قبل ذلك؟ ومن الغريب أن يحجم علماؤهم وحكامهم المسلمون عن ترجيح قول للفقهاء على آخر كل منهما صحيح عنهم. وأن لا يروا بأسًا في ابتداع أمر لم يقل به أحد منهم. فإن قولهم بجواز تعليق الطلاق أمر غير إكراه كل أحد عليه، وما يقصدون به من القيام بحقوق الزوجة قد يفضي إلى كثرة التفرقة بين الزوجين وتخريب البيوت. ويمكننا أن نستغني عن محاولة إقناعهم بما هو الغرض الصحيح الذي يريدونه من هذه البدعة، وهو رفع الضرر عن الزوجة بما قررته الدولة العثمانية من أحكام فسخ النكاح والتفريق بين الزوجين على مخالفته لمذهب الحنفية الذي هو المذهب الرسمي لها، وهو: مواد فسخ النكاح في محاكم الدولة العثمانية: المادة 122 - إذا اطلعت الزوجة بعد النكاح على وجود علة في الزوج من العلل التي لا يمكن المقام معها بلا ضرر أو حدثت به أخيرًا هكذا علة - فللزوجة أن تراجع الحاكم وتطلب فسخ نكاحها منه. فإن كان يؤمل زوال تلك العلة يؤجل الحاكم الفسخ سنة فإذا لم تزُل العلة في خلال هذه المدة وكان الزوج غير راضٍ بالطلاق والزوجة مُصِرَّة على طلبه يحكم الحاكم بالفسخ. أما وجود عيب كالعمى والعرج في الزوج فلا يوجب التفريق. المادة 123 - إذا جُنَّ الزوج بعد عقد النكاح وراجعت الزوجة الحاكم طالبة تفريقها يؤجل التفريق لمدة سنة. فإذا لم تزُل الجِنَّة في هذه المدة وكانت الزوجة مصرة يحكم الحاكم بالتفريق. المادة 124 - خيار الزوجة غير فوري في الأحوال التي لها بها الخيار، فلها [1] أن تؤخر الدعوى أو تتركها بعد مدة بعد إقامتها. المادة 125 - إذا جدَّد الطرفان العقد بعد التفريق وفقًا للمواد السابقة فليس للزوجة حق الخيار في الزواج الثاني. المادة 126 - إذا اختفى الزوج أو سافر إلى محل يبعد مدة السفر أو أقل منها ثم غاب وانقطعت أخباره وأصبح تحصيل النفقة منه متعذرًا وطلبت الزوجة التفريق - يحكم الحاكم بالتفريق بينهما بعد بذل الجهد في البحث والتحري. المادة 127 - إذا راجعت الزوجة التي غاب زوجها وكان زوجها ترك لها مالاً من جنس النفقة وطلبت منه التفريق، يُجري الحاكم التحقيقات بحق ذلك الشخص، فإذا يئس من الوقوف على خبر حياته أو مماته يؤجل الأمر أربع سنوات اعتبارًا من تاريخ اليأس؛ فإذا لم يقف على خبر عن الزوج المفقود وكانت الزوجة مصرّة على طلبها - يفرق الحاكم بينهما. وإذا كان الزوج غائبًا في دار الحرب يفرق الحاكم بينهما بعد مرور سنة اعتبارًا من رجوع الفريقين المتحاربين وأسراهم إلى بلادهم، وعلى كلتا الحالتين فالزوجة تعتد عدة الوفاة اعتبارًا من تاريخ الحكم. المادة 128 - إذا تزوجت المرأة التي حُكم بتفريقها وفقًا للمواد السابقة بشخص آخر ثم ظهر الزوج الأول - فلا يفسخ النكاح الأخير. المادة 129 - إذا تزوجت الزوجة التي حُكم بوفاة زوجها ثم تحققت حياة الزوج الأول - لا يُفسخ النكاح الثاني. المادة 130 - إذا ظهر بين الزوجين نزاع وشقاق وراجع أحدهما الحاكم، يعين حكمًا من أهل الزوج وحكمًا من أهل الزوجة، وإذا لم يجد حكمًا من أهلهما أو وجد ولكن لم تتوفر فيهما الأوصاف اللازمة، يعين من غير أهلهما من يراه مناسبًا. فالمجلس العائلي الذي يتألف على هذه الصورة يُصْغِي إلى شكاوي الطرفين ومدافعتهم ويدقق فيها ويبذل جهده لإصلاح ذات بينهما، فإذا لم يمكن الإصلاح وكان الذنب على الزوج يفرق بينهما، وإذا كان على الزوجة يخالعها [2] على كامل المهر أو على قسم منه. فإذا لم يتفق الحكمان يعين الحاكم (هيئة حكمية) أخرى من أهليهما حائزة للأوصاف اللازمة أو حكمًا ثالثًا من غير أهليهما ويكون حكم هؤلاء قطعيًّا وغير قابل للاعتراض. اهـ. التهويش على المصلي وهل منه الخطبة وتكبير العيد (س10) من صاحب الإمضاء في دمياط فضيلة الأستاذ الإمام الرشيد صاحب المنار: السلام عليكم يا فضيلة الأستاذ ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله مباركة طيبة وبعد: (1) أثبتت السنة الصحيحة سنية التكبير دبر كل صلاة في أيام الأعياد، كما أنه ثبت بها عدم التشويش على المصلي سواء كان هذا التشويش بالصلاة أو بالذكر أو بالدعاء أو بقراءة القرآن. فما قول فضيلتكم في هذا التكبير عند إتمام صلاة رجل مسبوق تخلف عن الجماعة بركعة أو أكثر هل يُعَدُّ التكبير إذًا تشويشًا على المصلي أم لا؟ أفتونا مأجورين، جعلك الله حجة للإسلام والمسلمين، آمين. وما قولكم - يا فضيلة الأستاذ - في خطبته صلى الله عليه وسلم وقد أمر من جلس قبل أن يصلي ركعتين تحية المسجد بأن يصلي ركعتين خفيفتين، فهلا كانت الخطبة إذًا تُعَدُّ تشويشًا عليه؟ ونرجو أن لا تحرمونا من الرد بوجه السرعة سواء بالمنار المضيء أو بخطاب خصوصي باسمنا، هدانا الله بكم إليه. حسن محمد فايد ... ... ... ... ... ... ... ... وكيل جمعية الاعتصام بهدي الإسلام بدمياط (ج) لم يثبت بالسنة الصحيحة سنية التكبير دبر كل صلاة في يومي العيد وأيام التشريق، ولكنه مأثور عن بعض الصحابة وزاد فيه الناس: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، إلى آخر ما هو معروف.. . وأما إيذاء المصلي برفع الصوت عنده ولو بذكر غير متعين، ففي السنة ما يدل عليه وهو متفق عليه عند العلماء. ولا يدخل فيه رفع الصوت المتعين شرعًا كصوت الخطيب والمؤذن بين يديه يوم الجمعة إذا اتفق وجود من يصلي بالقرب منهما كواقعة السؤال الثابتة في حديث الصحيحين والسنن؛ لأنه لا يعد إيذاء للمصلي ولا شاغلاً له عن الله تعالى. أو يقال: إنه يرجح إذا عُدَّ الأمران متعارضين؛ لأنه الأصل والشعار المطلوب لذاته في وقت أدائه وفائدته عامة لجماعة المسلمين والصلاة وقتئذ مصلحة خاصة بفرد أو أفراد من المقصرين وهي خلاف الأصل حتى قال بعض العلماء بأن حديث: أمر النبي صلى الله عليه وسلم من دخل المسجد وهو يخطب بأن يصلي ركعتين، خاص بذلك الرجل لا عام، ومن ذهب أنه عام على الأصل، قالوا: يخفف فيهما بالاقتصار على الواجبات التي لا تصح الصلاة بدونها ليسمع الخطبة، والصواب أنه عام؛ إذ ورد الأمر به في حديث الصحيحين وبتخفيف الركعتين. ولمن أثبت التكبير برفع الصوت عقب الصلوات في العيدين وأيام التشريق أن يقول فيه مثل ذلك أي أنه شعار الوقت، والمتأخر في الصلاة مقصر فلا يرجح ترك التهويش عليه بمنع الشعار أن يؤدى في وقته كالخطبة والأذان بين يدي الخط

الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخلافة الإسلامية (4) 30 - الاشتراع الإسلامي والخلافة نريد بالاشتراع ما يعبر عنه عندنا بالاستنباط والاجتهاد، وفي عرف هذا العصر بالتشريع، وهو وضع الأحكام التي تحتاج إليها الحكومة؛ لإقامة العدل بين الناس وحفظ الأمن والنظام وصيانة البلاد ومصالح الأمة وسد ذرائع الفساد فيها. وهذه الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان وأحوال الناس الدينية والمدنية كما قال الإمام العادل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (تحدث للناس أقضية بحسب ما أحدثوا من الفجور) أي وغيره من المفاسد والمصالح والمضار والمنافع. فالأحكام تختلف وإن كان الغرض منها واحدًا وهو ما ذكرنا آنفًا من إقامة العدل إلخ. لا يقوم أمر حكومة مدنية بدون اشتراع، ولا ترتقي أمة في معارج العمران بدون حكومة يكفل نظامها اشتراع عادل يناسب حالتها التي وضعها فيها تاريخها الماضي، ويسلك لها السبل والفجاج للعمران الراقي، ولا يصلح لأمة من الأمم شرع أمة أخرى مخالفة لها في مقوماتها ومشخصاتها وتاريخها، إلا إذا أرادت أمة أن تندغم في أمة أخرى وتتحد بها فتكونا أمة واحدة كما اتحدت شعوب كثيرة بالإسلام فكانت أمة واحدة ذات شريعة واحدة، وأما الشعوب التي تقتبس شرائع شعوب أخرى بغير تصرف ولا اجتهاد فيها تحوله به إلى ما يلائم عقائدها وآدابها ومصالحها التي كان الشعب بها شعبًا مستقلاًّ بنفسه - فإنها لا تلبث أن تزداد فسادًا واضطرابًا، ويضعف فيها التماسك والاستقلال الشعبي فيكون مانعًا من الاستقلال السياسي وما يتبعه. فشرع الأمة عنوان مجدها وشرفها وروح حياتها ونمائها، وأعجب ما مُنِيَ به بعض الشعوب الإسلامية أن ترك شريعة له ذات أصل ثابت في الحق وقواعد كافلة للعدل والمساواة واستبدل بها قوانين شعوب أخرى هي دونها فأصبحوا ولا إمام لهم في حياتهم الاشتراعية من أنفسهم بل هم يقتدون فيها بأفراد من الأعاجم يقلدونهم بما خسروا به أهم مقومات أمتهم وأعظم مظهر من مظاهر شرفهم، وهو الاشتراع. لا تتسع هذه الخلاصة التي نكتبها في هذا البحث لبيان أنواع الحكومات الغابرة والحاضرة وشأنها في الاشتراع ومكان المسلمين فيه، وإنما نقول: إن صحفنا العربية تصرِّح في هذا العهد آنًا بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون هذا وأكثر من يقرءون كلامهم أن هذا الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا تشريع فيه للبشر؛ لأن شريعته مستمَدة من القرآن، والأحكام المدنية والسياسية فيه قليلة محددة - ومن السنة والزيادة فيها على ما في القرآن قليلة ومناسبة لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة ولا سيما زماننا هذا- وأن الإجماع والاجتهاد على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد انقطعا، وأقفلت أبوابها باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية. وأن هذا هو السبب في تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية، واضطرار الحكومتين المدنيتين الوحيدتين - التركية والمصرية - إلى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة الإسلامية تقليدًا ثم تشريعًا. ذلك ظن الذين يجهلون أصول الشريعة الإسلامية وأساس الاشتراع فيها الذين لا يفرقون بين الإصلاح الفقهي والاصطلاح المصري في التشريع فيعمي عليهم الحقيقةَ اختلافُ الاصطلاح: ذلك بأن اسم الدين والشرع قد يستعملان استعمال المترادف وإن كان بينهما عموم وخصوص، فإنهم كثيرًا ما يخصون الشرع بالأحكام القضائية أو العملية دون أصول العقائد والحِكَم والآداب التي هي قواعد الدين المتعلقة بصلاح المعاش والمعاد، ولذلك جعلوا الفقه قسمين: عبادات ومعاملات، والفقهاء يفرقون فيها بين الديانة والقضاء. يقولون: يجوز هذا قضاء لا ديانة. وتسمى الأحكام العملية دينًا باعتبار أنها يُدَان بها الله تعالى فتتبعُ إذعانًا لأمره ونهيه. وبهذا الاعتبار تطلق كلمة (الشارع) على الله تعالى، وأطلقت على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مبلغ الشرع ومبينه، ومن العلماء من قال: إن الله تعالى أذن له أن يشرع، والجمهور على أنه مبلغ ومبين لما نزل عليه من الوحي وأن الوحي أعم من القرآن. والتحقيق أن هذا كله خاص بأمر الدين وهو ما شرع ليتقرب به إلى الله تعالى من العبادات، وترك الفواحش والمنكرات ومراعاة الحق والعدل في المعاملات تزكية للنفس وإعدادًا لها لحياة الآخرة. ومنها ما في المعاملات من معنى الدين كاحترام أنفس الناس وأعراضهم وأموالهم والنصح لهم وترك الإثم والبغي والعدوان والغش والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل. وأما ما عدا ذلك من نظام الإدارة والقضاء والسياسة والجباية وتدبير الحرب مما لا دخل للتعبد والزلفى إلى الله في فروعه إلا بعد حسن النية فيه، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم في زمنه مشترعًا فيه باجتهاده مأمورًا من الله بمشاورة الأمة فيه، ولا سيما أولي الأمر من أفرادها الذين هم محل ثقتها في مصالحها العامة وممثلو إرادتها من العلماء والزعماء والقواد، وهو كذلك مُفَوِّض مَن بعدَه إلى هؤلاء أنفسهم، ويخلفه لتمثيل الوحدة مَن يختارونه إمامًا لهم وخليفة له. والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) وقوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) الآية، وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} (النساء: 83) ومن السنة ما صح عنه من أن أمته لا تجتمع على ضلالة، وما كان يجعله صلى الله عليه وسلم موضع الشورى من أمور الحرب وغيرها من المصالح الدنيوية - وما أذن فيه من الاجتهاد والرأي عند فقد النص من الكتاب وعدم السنة المتبعة، والحديث فيه مشهور- ومن آثار الخلفاء الراشدين المهديين ما كانوا يستشيرون فيه أهل العلم والرأي من أمور الإدارة والقضاء والحرب أيضًا وما وضعوه من الدواوين والخراج وغير ذلك مما لم يرد به نص في الكتاب والسنة - ومن أصول الفقه حجية إجماع الأمة، واجتهاد الأئمة- فكل هذا مما يسمى في عرف علم الحقوق والقانون تشريعًا - وهو ميدان المجتهدين الواسع، وجرى عليه العمل في خير القرون. فثبت بهذا أن للإسلام اشتراعًا مأذونًا به من الله تعالى وأنه مُفَوَّض إلى الأمة يقره أهل العلم والرأي والزعامة فيها بالشورى بينهم. وأن السلطة في الحقيقة للأمة فإذا أمكن استفتاؤها في أمر وأجمعت عليه فلا مندوحة عنه. وليس للخليفة- دع مَن دونه مِن الحكام- أن ينقض إجماعها ولا أن يخالفه، ولا أن يخالف نوابها وممثليها من أهل الحل والعقد أيضًا. واتفاق هؤلاء إذا كانوا محصورين يسمى إجماعًا عند علماء الأصول بشرط أن يكونوا من أهل العلم الاجتهادي. وأما إذا اختلفوا فالواجب رد ما تنازعوا فيه إلى الأصليين الأساسيين وهما الكتاب والسنة والعمل بما يؤيده الدليل منهما أو من أحدهما؛ لقوله تعالى بعد الأمر بطاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي أحسن عاقبة ومآلاً مما عداه، ومنه العمل برأي الأكثر في تشريع قوانين أوروبا ومقلديها، فشرعنا مخالف لها في هذه المسألة. ومن وجوه كونه خيرًا من غيره وأحسن عاقبة أن النزاع بين الأمة يزول بتحكيم الكتاب والسنة فيه، وتطيب نفوس جميع نواب الأمة بما ظهر رجحانه بالدليل، ولا يبقى للأضغان والنزاع مجال بينهم، وقد تقدم إثبات سلطة الأمة وتمثيل أهل الحل والعقد في هذا وذاك، فيراجع فيه تفسير: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) في الجزء الخامس من تفسير المنار. الاشتراع - أو التشريع أو الاستنباط - ضرورة من ضروريات الاجتماع البشري، ومن قواعد الشرع الإسلامي أن الضرورة لها أحكام، منها: أنها تبيح ما حرَّمَه الله تعالى بإذنه في قوله بعد بيان محرمات الطعام: {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (الأنعام: 119) ومنها: نفي الحرج والعسر من الدين، وانتفاؤهما من قسم المعاملات أولى من انتفائهما من قسم العبادات التي يعقل أن يكون فيها ضرب من المشقة لتربية النفس وتزكيتها؛ إذ لا تكمل تربية بدون احتمال مشقة وجهد. ويسهل هذا الاحتمال نية القربة وابتغاء المثوبة فيه، وليس في المعاملات شيء من معنى التدين إلا ما ذكرنا آنفًا، والغرض منه حفظ الأنفس والأموال والأعراض أن يُعْتَدَى عليها بغير حق، فمن لم يردعه عن ذلك خوف عقوبة الحكام في الدنيا يردعه خوف عذاب الله في الآخرة إن كان مؤمنًا به وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم. فتبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل كثيرة، منها قواعد الضروريات ونفي ومنع الضرر والضرار، فلو لم ينص في القرآن على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة أولي الأمر بالتبع لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه الأمور إليهم ويفوض إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا على الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا التي لا نص عليها في كتاب الله، ولم تمض فيها سنة من رسوله [1]- لو لم يرد هذا كله وما في معناه لكفت الضرورة أصلاً شرعيًّا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا العصر بالتشريع. ووراء هذا وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام وخير القرون وكذا ما بعدها من القرون الوسطى التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة عن منهج العلم الاستقلالي فزالا معًا؛ لتلازمهما. الخلافة مناط الوحدة ومصدر الاشتراع وسلك النظام وكفالة تنفيذ الأحكام، وأركانها أهل الحق والعقد رجال الشورى، ورئيسهم الإمام الأعظم، ويشترط فيهم كلهم أن يكونوا أهلاً للاشتراع، المُعَبَّر عنه في أصولنا بالاجتهاد والاستنباط، وقد كان أول فساد طرأ على نظام الخلافة وصدع في أركانها جعلها وراثية في أهل الغلب والعصبية، وأول تقصير رُزِئَ به المسلمون عدم وضع نظام ينضبط به قيامها بما يجب من أمر الأمة، على القواعد التي هدى إليها الكتاب والسنة، وأول خلل نشأ عن هذا وذاك تفلُّت الخلفاء من سيطرة أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة واعتمادهم على أهل عصبية القوة، التي كان من أهم إصلاح الإسلام لأمور البشر إزالتها، فصار صلاح الأمة وفسادها تابعًا بذلك لصلاح الخليفة وأعوانه أهل عصبيته، لا لممثلي الأمة ومحل ثقتها من أهل العلم والرأي فيها، والغيرة والحدب عليها. ثم ترتب على ذلك شعور الخلفاء بالاستغناء عن العلم أو عدم شعورهم بالحاجة إليه وترك التمتع باللذات اشتغالاً به لتحصيل رتبة الاجتهاد به، ورأوا أنه يمكنهم الاستعانة بالعلماء الذين يتقلدون مناصب الوزارة والقضاء والإفتاء وغيرها من الأعمال التي يحتاج فيها إلى استنباط الأحكام- فتركوا العلم ثم جهلوا قيمة العلماء فصاروا يقلدون الجاهلين من أمثالهم للأعمال، ووجدوا فيهم من يفتي بعدم اشتراط العلم الاستقلالي (ال

وصف ثورة الهند السياسية السلبية وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية ـ 3

الكاتب: أبو الكلام

_ وصف ثورة الهند السياسية السلبية وانتصارها للخلافة والدولة التركية والبلاد العربية* (3) وإنه لتقل أمثلة تلك الجرأة والشهامة والشجاعة التي أبداها طول هذه المدة، فإنه مازال قبل سجنه يدعو الحكومة إلى القبض عليه بمخالفتها ونبذ طاعتها فما حذرت عملاً من الأعمال الوطنية إلا وبادر إلى إعادته صائحًا (إن كان هذا العمل جناية وذنبًا عند الحكومة، فها أنا ذا فاعله، فلتعاقبني!) ولكنها ما زالت تغض الطرف عنه وتهاب جانبه؛ لأنها تعلم أن الأمة كلها معه، وأن التعدي عليه يزيد الطين بلة. غير أنها اضطرت أن تسجنه أخيرًا للائحة سنتها وليس في وسعها سحب قوانينها المعلنة ولا أن تسكت عن نابذيها. المحاكمة والخطاب إن خطاب هذا الزعيم سيسجل في تاريخ الحرية والجهاد للأمم، إذ هو آية عظيمة من آيات الصدع بالحق وتشنيع الباطل وتقبيح الاستبداد، ومَثَلٌ عالٍ للجرأة والشجاعة والثبات علي الحق كالجبال الراسيات، ولا سيما الأمور الآتية منها، التي تستحق الاعتبار والتدبر فيها، وهي: (1) أن تاريخ الجهاد الوطني في كل البلاد يروي لنا أن الناس كانوا بادئ ذي بدء يجاهرون بمقاومة القوات المستبدة والحكومات الجائرة بكل جرأة وشجاعة، حتى إذا أخذتهم الحكومة وأرادت معاقبتهم، يجتهدون في تبرئة أنفسهم، فإما أن يقولوا عن أعمالهم: إنها كانت قانونية، لاجئين إلى تلك القوانين التي شهدوا بجَوْرِها، وإما أن يؤولوا أعمالهم بتأويلات تخفف جنايتهم في نظر المعاقبين، والناس عامة لا يرون في ذلك بأسًا، فيجوزونها قائلين إن هذه سياسة وخدعة و (الحرب خدعة) فلا بأس أن يحافظ الإنسان على نفسه، ويدفع عنها شر الأعداء بكل ما أمكن. ولكن صاحب الخطاب سلك مسلكًا آخر، فصرَّح في خطابه بأنه ليس من الحق والصدق أن ينكر الإنسان أمرًا صحيحًا وحقيقة ظاهرة، فإن الحكومة كانت oأخذت عليه أنه ينفر الناس عنها ويقول في خطبه: إنها ظالمة جائرة، ويحرِّضهم على مقاومتها ومحاربتها، فلم ينكر شيئًا من هذا، بل اعترف به جميعًا بكل جرأة وصراحة، بل قال أكثر مما نسب إليه. (2) قال في خطابه: إن النزاع قد قام بين الحق والباطل، وإن الباطل سيفعل ما كان يفعله أمس بالحق وأصحابه، فيجب على أولئك الذين رفعوا أصواتهم في حماية الحق مع علمهم بقوة الباطل وشدة شكيمته أن يتحملوا بدون أدنى وجل ولا اضطراب تلك النتائج التي لا مناص منها في هذه السبيل، وإن كانوا يشكون ويتململون فليس لهم أن يدخلوا في هذه المعمعة الخطرة. (3) قد صرح أمام القضاة بكل ما كان يصرح به أمام الأمة بدون أدنى خشية ولا وهن، في ساعة كانت حياته بيدهم وكل كلمة من أفواههم كانت كافية للقضاء عليه، غير أنه لصلابته في إيمانه ورسوخه في التوكل على الله وحده، لم يبال بهذا الخطر العظيم المحدق به، بل احتقره وآثر الحق على نفسه وحياته! (4) إن العبرة الكبيرة التي أُوجِّه نظر المطالعين إليها هي أن الأمة والجماعة تتأثر من الأسوة العملية أكثر من الخطب والمواعظ، فإنها عندما ترى أمام أعينها الأمثلة الصادقة للشجاعة والحرية والاستقامة وعدم الخوف، يتجدد فيها هذا الروح، فعلى زعماء الأمم وأبطالها أن يقدموا أمثلة لإيثارهم وثباتهم كهذا المثل وإلا فلا طائل تحت بلاغة الخطابة وإعادة الدعاوى والألفاظ. *** إلى إخواننا في الشام والعراق ومصر وسائر البلاد الإسلامية إخواني: إن هذه نبذة يسيرة من تلك المساعي التي تبذلها الهند لصون الخلافة الإسلامية واستقلال بلادكم الإسلامية والعربية، على معارضة الموانع الآتية: (1) إن الهند تبعد عن هاتيكم البلاد بعدًا شاسعًا وتحول بينهما البحار الزاخرات. (2) إن أهل الهند لا يضرهم احتلال هاتيكم البلدان واستعمارها ضررًا ماديًّا، ولا ينفعهم استقلالها نفعًا شخصيًّا، بل إن مصالحهم المحلية ومقاصدهم الوطنية تقتضي الإعراض عن غيرهم، والسعي لاستقلالهم أنفسهم. (3) إنهم فوق هذا يئنون تحت نير الاستعباد، ويقاسون الشدائد بيد الاستبداد، وإن الدولة التي تملكهم نفس تلك الدولة التي حاربت بلادكم وتريد الاستيلاء عليها، فسعيهم ضدها محفوف بالأخطار، ومجلبة للأهوال. بيد أنهم لمجرد واجبهم الإنساني والشرقي - وأكبر منهما واجب الأخوة الإسلامية وحماية المظلوم - لم يستطيعوا القرار في راحتهم وبيوتهم، بل اضطروا إلى منازلة أقوى دول الأرض لأجلكم ولحرية بلادكم! أفليس في هذا عبرة وموعظة لكم، أهل البلاد الإسلامية والعربية؟ البلاد التي: (1) حريتها واستقلالها وحياتها وشرفها القومي والوطني في معرض الهلاك. (2) لم تكن مستعبدة لأوربا، بل كانت لها حكومة إسلامية شرقية، ومهما تكن سيئاتها كثيرة، فهي على كل حال كانت حكومة قومية وإسلامية، وظلمها وغدرها وميلها كان أحسن وأولى من عبودية الأجانب. (3) هي نفسها كانت في الحرب فريقًا محاربًا، وكان الشرع والعقل يوجبا عليها أن تغض النظر عن مصائبها الداخلية وتحارب العدو الخارجي وتدفع شره، ولكنها ماذا فعلت؟ إن التاريخ سيقص قصتها بكل خجل وحياء!! فإنها لم تكتف بالقعود عن أداء فرضها الديني والوطني والإنساني، بل واسوأتاه! كثير من أبنائها انضموا إلى العدو، فساعدوه علي مطامعه وكانوا سببًا لانكسار آخر الدول الإسلامية وانقراضها، حتى إن رجلاً قرشيًّا هاشميًّا قاد جيوش الحلفاء إلى (بيت المقدس) فنزعه من إخوان دينه وسلمه إلى أعدائه! لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في قلب إسلام وإيمان! أفلم يأت إلى الآن وقت قمع المطامع الشخصية والأهواء الباطلة؟ أفليس هذا أوان الرجوع إلى الله، ورتق ما فتق، وسد ثُلْمَة الإسلام، واتحاد الكلمة، والذود عن البلاد الإسلامية والعربية؟ أفلم يأن للمسلمين أن يعودوا إلى رشدهم، ويصلحوا ما أفسدته أيديهم؟ {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) إن مسلمي الهند ليسوا بمجانين حتى يرغبوا في أن يكون أهل بلاد العرب والشام عبيدًا للأتراك، ولكن ليس معنى التحرير من ربقة الترك، العبودية لبريطانية وفرنسة باسم الوِصَاية أو الحماية، فيجب على إخواننا أن يغنموا هذه الحقيقة. إنه لا يمكن لأمة أن تصون حريتها ما لم تكن وراءها قوة عسكرية، والأتراك مهما تكن سيئاتهم وذنوبهم، فالحقيقة التاريخية أن قوتهم العسكرية هي التي حافظت إلى الآن على الأجزاء الباقية من البلاد الإسلامية وردت عنها كيد الأعداء، وإن العراق والشام إن نالتا اليوم الحرية التامة، لا تستطيعان المحافظة عليها لفقدان قوة عسكرية منظمة منهما، فإذًا لا مناص لهما ولغيرهما من البلدان الإسلامية من أن تتحد وتتفق وترتبط بقوة مركزية، مع حفظ حريتها المحلية واستقلالها الداخلي، وإلا فلا نجاة لها من الحلفاء. إن الحرية الوطنية إنما تصونها وتضمنها القوة، لا الوعود والعهود والمعاهدات والمؤتمرات، فإن الغرب لا يبالي بشيء منها بل إنما يهاب القوة، والقوة وحدها تجعله يحترمها - فعلى أهل البلاد الإسلامية أن يتحدوا ويتعاونوا ويتناصروا ويرتبطوا بالقوة المركزية الإسلامية، ثم ليعملوا لطرد الأعداء من أوطانهم - إن أحبوا - بلائحة (اللاتعاون السلمي) الهندية بعد أن يجعلوها ملائمة لحالتهم الاجتماعية والسياسية [1] . *** مجلة المنار الغراء خصصتُ مجلة (المنار) الغراء بنشر هذا الخطاب؛ لأنها الخليقة بمثله لأياديها البيضاء في الإصلاح الديني وقَدَحِها المُعَلَّى في النهضة الإسلامية الحديثة، فإنها لا تزال تجاهد جهادًا عظيمًا منذ ربع قرن لإحياء المسلمين، وتقاوم الاستبداد والقهر والجمود والتقليد من زمن بعيد، بل إنها أول صوت ارتفع على بعد أجيال كثيرة لإعلاء كلمة الحق، وأعظم منار رفع للهداية إلى الصراط السوي، فإنها هي التي قد مزقت ظلمات التقليد التي كانت محيطة بالمسلمين، وبصرتهم سبيل الإسلام ودين الحق التي كانت عميت عليهم، ولم يكن هديها محصورًا في البلاد العربية، بل شمل العالم الإسلامي كله، فإنه كثيرًا ما استفاد منها وتنور بأفكارها، وإن صاحب هذا الخطاب - الذي وضعنا له هذه المقدمة - لا يزال يعترف لها ويعدها أصح دعوة إصلاحية ظهرت بين المسلمين في القرون الأخيرة. اهـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عبد الرزاق)

انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى ـ 2

الكاتب: شكيب أرسلان

_ انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير (2) أما المؤرخ (يود براند) الذي نقل عنه (فرديناند كار) الألماني فقد جاءت رواياته مطابقة لروايات المسيو رينو، وقد وصف خوارق شجاعة تلك الشرذمة العربية وما بلغوه من الفتح والاستيلاء والتبسط في البلاد وكيف كانوا يجوبونها طولاً وعرضًا ويوقعون بكل من ناوأهم أو وقف في وجههم وينهبون الأديار والكنائس وقصور الأمراء. ومن رأيه أن هؤلاء الغزاة من العرب لم يكن غرضهم في تلك النواحي التوسع في الملك ولا استعباد الأهالي بل الاجتهاد في جمع الذهب والنفائس ووضعها في حصن (فراكسينه) حتى إذا ضاق بهم الأمر أو أدبر بهم طالع الحرب خلصوا بها إلى سفنهم التي كانت دائمًا راسية في مرفأ (سان تروبس) وقصدوا أسبانية. ومن رأيه ورأي غيره أن الخليفة في أسبانية لم يكن عنده علم بغزو هؤلاء الصعاليك ولا بما اعتزموه من الاستيلاء على جبال الألب والإيغال في إيطالية وسويسرة وأنها غزاة قام بها هؤلاء الذؤبان من أنفسهم. ثم إنه يوجد في دير (نوفالس) تحت جبل (سنيس) . تاريخ جولة هؤلاء العرب في سنة 906 ويقال: إنه قبل هذه السنة انصبت بلايا ورزايا على مقاطعات (بور غوند) و (سميلكة) وجبال الألب الإيطالية لأن العرب المذكورين تسلقوا جبل (سنيس) وانفتحت أمامهم (سافواي) وسويسرة وكان دير (نوفالس) من أغنى الأديار وأعظمها، فلما سمع الرهبان بقدوم العرب جمعوا كل ما عندهم من الأموال والنفائس والكتب وحملوها إلى (تورينو) لتكون في حرز حريز، فقبل أن ساروا بها وصل العرب واستولوا عليها واقتحموا الدير ووضعوا النار في الكنيسة وأسروا بعض الرهابين. قال: وفي تلك الآونة كانت جميع البلاد الممتدة من نهر (البو) PO إلى الرون RHONE (والبروفانس) Pruvence و (البيامون) Piemont و (الدوفينه) Rdaufhine (ومونتفرات) Montgerra و (ترانتازه) Tarntaisa مجالاً لغارات العرب ومشهدًا الوقائع غزوهم واجتياحهم. وكان الأشراف والأساقفة إذا أرادوا المرور من هناك إلى رومية مضطرين أن يؤدوا فدية عن أنفسهم بأشياء ذات قيمة من ذخائر الأديار. وزعم هذا المؤرخ أن العرب لم يقتصروا على نهب المال الصامت والصائت بل تجاوزوه إلى سبي الأهالي رجالاً ونساء واسترقاقهم (كما كان الإفرنج أنفسهم يفعلون مع العرب) وكان إذا قتل أحد الأهالي واحدًا من العرب أفحشوا الانتقام من قوم القاتل وأضرموا النار في جميع البلد (على طريقة الدول المتمدنة...... اليوم برمي القنابر من الطيارات على القرى وقتل أي من صادفت فيها من رجال ونساء وأطفال عقابًا لمقاوم من أهالي تلك القرى أو عابر سبيل فيها، هذا لعمرك نظير ذاك حذو القذة بالقذة إلا أن عمل أولئك الصعاليك من العرب وهو أصغر يسمونه عيثًا وتخريبًا وعمل الدول المتمدنة هذه.... مع كونه أفظع وأكبر يسمونه إصلاحًا وتمدينًا…) . وكان السكان يهيمون زرافات ووحدانًا ويأوون إلى الكهوف والغابات ويعتصمون بالجبال لأجل النجاة بأرواحهم من عادية العرب وطالما سعى أناس في جمع كلمة الملوك والأمراء على قتال هؤلاء ففشلت مساعيهم بما كان من اختلاف الكلمة. بل كنت ترى أحيانًا بعض الرؤساء يستظهرون بالعرب على أبناء جلدتهم. أخبر فلود وارد Floduord في تاريخه أن العرب سنة 921 قتلوا قافلة من الإنكليز كانوا حاجين إلى رومة بإلقاء الصخور عليهم من أعالي الجبال، وبعد سنتين من ذلك التاريخ أهلكوا قافلة أخرى في جبال الألب، وفي سنة 929 اضطر الحج إلى الرجوع أدراجه. قالوا: ولا يعلمون تمامًا في أي مضايق الألب وقعت هذه الحوادث، هل في ممار الألب بين سويسرة وإيطالية أو في مماره بين فرنسة وإيطالية؟ ولكن يرجح أن الإنكليز الذين كانوا يحجون رومة كانوا يختارون ممر سان برنار , ثم لم يتفق المؤرخون على تعيين الزمن الذي وقعت فيه سان برنار في قبضة العرب، وإنما محقق وجود هذا الحادث في القرن العاشر، ويرجح بعضهم أنه في نحو سنة 940 تسلق العرب سان برنار من جهة وادي الرون حيث يوجد هناك في كهف عظيم دير (أغونوم) Ogaunaum المؤسس على اسم القديس موريسيوس. ففي ذلك العالم سطا العرب على ذلك الدير ونهبو ما فيه من الأمتعة والذخائر وأحرقوه فجاء القديس ألريك أسقف أوغسبرغ عن طريق (بيورغوند) لأخذ عظام الشهداء ونقلها إلى أوغسبرج فلم يجد شيئًا، وذكر (فلو داورد) أن جماعة من حجاج الإنكليز والفرنسيين كانوا قاصدين رومة سنة 940 فصادفوا العرب فرجعوا بعد أن فقدوا كثيرًا من رفاقهم. وأن راهبًا اسمه رودلف من رهبان سان موريتز وجّه خطابًا إلى الملك لودفيك الرابع يذكره فيه بالأعمال العظيمة التي قام بها سلاطين جرمانية في المحافظة على هذه الجهات ويستعديه على العرب ويستمده لإماطة معرتهم وترميم ما خربوه من قبور القديسين. وبعد أن غزا العرب نواحي بحيرة جنيف ظهروا في مضايق جبال الألب الشرقية وملكوها ويقول (فلود وارد) أنهم غزوا ألمانيا وقطعوا الطرق على حجاج الألمان واجتاحوا وادي الرين ونواحي شور وأن الوثائق التي تثبت وصول العرب إلى وادي الرين تنبئ بأن الدوق الألماني هرمان المسمى كونت شورفالسن Chuvallechen Grafuon التمس من عاهل ألمانيا يومئذ عام 940 أن يعوض أسقف شور مما نهبه العرب من ديار أسقفيته فأهدى القيصر ذلك الأسقف كنيستين هما كنيسة بلوندنز وكنيسة سان مارتين على شرط أنه بعد وفاة الأسقف يعود ريع أوقاف الأولى على أساقفة شور وريع الثانية على دير الراهبات في رازيس. وإن مما يحير العقول كيف اقتحمت عصابة قليلة من صعاليك العرب الأخطار وصعدت تلك الجبال - جبال الألب - وعبرت شاطئ بحيرة لانغ وكومر إلى أن ظهرت على حدود ألمانية؟ فقد ثبت أنهم مع قلة عددهم كانوا أوتوا جرأة خارقة للعادة، وكان الخوف منهم قد تمكن من القلوب جميعها، ولقد تحقق كونهم جاسوا خلال أودية منابع الرين وجهات الشور وكانت مغاور الجبال مكامن لهم وكانوا يقعدون للمسافرين بالمراصد من المهاوي العميقة ويتخذون لأنفسهم أبراجًا يعتصمون بها في الشدائد. ثم ورد في تاريخ كلر خبر قيام هوغ صاحب بروفانس لحرب العرب المذكورين وعزمه على فتح حصنهم في فراكسينة وذلك أنه بعد عقد الصلح مع ألبريكوس خصمه الذي كان ينازعه على مملكة لومباردية استنجد ملك الروم بالقسطنطينية ليبعث له بالأسطول فبعث به وأحرق مراكب العرب في خليج سان تروييس بينما كان هوغ يهاجم حصونهم في جبل فراكسينة وكان مقصد (هوغ) أن يمحو وجود تلك الديار ويخلص من شرهم ولكن فاجأه ما لم يكن في حسبانه وهو أن بيرانجر Perengar المطالب بعرش لومباردية ثار على هوغ وجاذبه الحبل فغضب هوغ وأصر على قهره وأخذه أسيرًا وقتله أو سمل عينه ففر (بيرانجر) من لومباردية إلى (هرمان) أمير (شفابن) فأجاره وقدمه إلى (أوتو) قيصر ألمانية فأكرم هذا مثواه ووعده خيرًا، فلما علم (هوغ) بذلك سقط في يده وأرسل إلى القيصر بالألطاف والهدايا ليصرفه عن مساعدة (بيرانجر) ثم صالح العرب وسرح الأسطول اليوناني وأطلق للعرب حريتهم وأمنهم بشرط أن يجعلوا سكناهم في الجبال الفاصلة بين إيطاليا (وشفابن Chavvaben) وأن يحجزوا بين عساكر (بيرانجر) وجبال الألب. وظاهر جلي أن العرب نالوا بهذه المعاهدة حق احتلال جميع معابر الألب وشعابها وجلاء نفس (هوغ) عن بقعتهم أو منطقة احتلالهم، ولكن هذا غير صريح. وقد اتخذ العرب هذه المعاهدة سلاحًا وانتفعوا بها أعظم الانتفاع وقاموا بتنفيذها بتمامها حتى أن بيرانجر في عودته إلى إيطالية لم يجرؤ أن يمر بجبال الألب بل جاء من طريق جبال التيرول فتعرض من جراء جبنه هذه إلى هجاء الشاعر المؤرخ (يود براند) الذي كان في عصره. ومنذ عقد العرب هذا الوفاق شعروا أنهم أصبحوا السادة المالكين لمعابر الألب وضربوا رسومًا على القوافل المارة، فكل من لم يؤد لهم الرسم أوثقوه أسيرًا إلى أن يدفع. ثم امتد غزو العرب إلى نواحي (سار غاز Sargans) وتورغنبورغ Toggenburg وأبنزل، وقد ذكر ذلك مؤرخ اسمه إيكيهارد في كتاب وجد في دير القديس غالن، فقال: إن طبيعة العرب وطور معيشتهم البرية كانا مما جعل التغلب عليهم في غاية الصعوبة، ولقد تمادت جرأتهم إلى أيام فالتا Valta وبينما كان الأهالي يومئذٍ محتفلين بعيد ديني رافعين الصلبان طائفين بها إذ أقبل العرب من جهة بارينيغ Parenegg ورموا الجماهير بالمقاليع، ولكن الشهم الهمام فالتا لم يترك هذا الجرم بدون جزاء بل جمع جموعه، ودهم قطاع الطرق بجيشه المكون من العبيد والعملة وغيرهم وكلهم مسلحون بالحراب والمناجل والفؤوس وقد كبس على العرب بياتًا وهم نائمون فقتل بعضًا وأسر بعضًا، وفر الباقون إلى الجبال لا يلوون على شيء وسيق الأسرى إلى الدير فأبوا أن يأكلوا ويشربوا حتى ماتوا جوعًا (إذًا ليس الإيرلانديون هم الذين اخترعوا هذا النوع من الانتحار) [1] ولم تعرف مدة إقامة العرب بشرقي سويسرا إلا أنه ثبت كونهم وجدوا هناك في القرن العاشر، وفي سنة 954 التي انكسر فيها العرب في دير القديس (غالن) هذا انكسر لهم جيش آخر في حرب (المجار) وذلك بفضل شجاعة الملك (كونرادفون بورغوند) فإنه استأصل منهم طائفة عظيمة لكنهم بقوا قابضين على معابر الألب الغربية. قال المؤرخ إيكيهارد من رهبان دير القديس غالن: إن العرب تمكنوا تمامًا في داخل جنوبي أوروبا، وكان من جملة الخطط التي رسموها لأنفسهم أن يتزوجوا من بنات أهل البلاد وأن يتوطنوا بها على شرط أن لا يؤدوا مالاً كثيرًا لملك القطر الذي يكونون فيه، وأما الوادي الذي انتجعوه لتأسيس هذه المستعمرة العربية التي قصدوا أن يتعاطوا فيها الفلاحة ويستقروا هادئين، فلا يُعلم هل هو وادي فاليس Vallis أو وادي فال من سافوا أم غيرهما. وسنة 954 كانت سنة نحس على سويسرا الشرقية؛ لأن (المجار) من جهة الشمال، والعرب من الجنوب كانوا قد اكتسحوا البلاد. وفي 22 يوليو 973 كان القديس (ماجلوس) من (كلوني) عائدًا من (بافيا) إلى (بورغوند) ومعه قافلة عظيمة؛ لأن الناس الذين كانوا يريدون العبور ظنوا أن التحاقهم به قد يحميهم من غارة العرب فوصلوا إلى قرية في جبل سان برنار وإذا العرب انقضوا عليهم وأوثقوهم ولم ينج القديس نفسه من الوثاق بل صفدوه بالحديد ثم أحضروا له طعامًا على عادة العرب لحمًا وخبزًا يابسًا فأبى أن يطعم شيئًا، وقال لهم: إنني لم أتعود أكل هذا الخبز، فقام أحدهم وغسل يديه وعجن دقيقًا وخبزه وقدمه للقديس بكل احترام، فرضي هذا من عمله وصلى وأكل. ومما يروي أولئك المؤرخون أيضًا أن أحد العرب أراد أن يقطع غصن شجرة ليتخذ منه محجنًا فلما أراد أن يتطاول إلى الشجرة كان تحتها إنجيل شريف من أمتعة القافلة فأراد أن يدوس عليه فانتهره أصحابه وصاحوا به: ويل لك كيف تطأ برجلك كتاب نبي مقدس؟ وذلك أن العرب يحترمون الأنبياء ويقولون: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو النبي الذي وعد بمجيئه المسيح صلى الله عليه وسلم. هذا وقد أذن العرب للقديس ماجلوس أن يكتب إلى بلدته كلوني بطلب فدية يفك بها نفسه ورفاقه، فلما ورد الصريخ قامت قيامتهم وأضجوا وأعولوا، وعلا نحيبهم فجمعوا وعفَّشوا (جمعوا ومنه قول العامة العفش للأمتعة) من ذخائر الأديار والكنائس كل ما قدروا وأرسلوا به لفداء القديس ورفاقه فبلغ مجموع الفدية ألف رطل من الفضة أصاب كل واحد من العرب رطلاً. إلا أن هذه الحادثة هاجت عل

أقدم كتاب في العالم أثر مصري

الكاتب: أنطون زكري

_ أقدم كتاب في العالم أثر مصري منذ 5500 سنة نشر أولاً في جريدة الأهرام. عثر أحد الفلاحين على أوراق بردية وهو يحفر مقبرة بناحية ذراع أبي النجا بطيبة فباعها للعالم الأثري الفرنسي دافين الذي أذاعها سنة 1847 ثم قدمها هدية لدار الكتب الأهلية بباريس، ولذلك اشتهرت بورقة باريس البردية، وهي أقدم كتاب في العالم؛ لأنها كتبت منذ 5500 سنة، وقد كانت كتب الأولين كلها من هذا النوع، وهي تشتمل على 18 صحيفة مكتوبة بالخط الهراطيقي بالحبر الأحمر والأسود متضمنة نصائح ومواعظ وحكم وضعها رجلان: الأول يدعى (قاقمنه) وهو وزير الملك (حوني) من الأسرة الثالثة والثاني يدعى (فتاح حتب) وهو وزير الملك (آسي) من الأسرة الخامسة، كتبها وله من العمر 110 سنوات اقتبسها من السلف، وجعلها موعظة للخلف، ولذا قال لابنه: إذا سمعت هذه الحكم السامية عمرت طويلاً، وبلغت أوج الكمال، وتدرجت إلى معالي العلا والمجد. ثم اعتنى بترجمتها من اللغة المصرية القديمة إلى الفرنسية العالمان (شاباس دفيري) وباللاتنية العالم (لوث) وبالألمانية العلامة (بروكش باشا) وبالإنكليزية الأثري المستر (جن) ومن هؤلاء نقلتها إلى العربية. وقد وجدت هذه النصائح مكرَّرة وغير مرتبة فلخصتها واقتصرت فيها على فرائد الفوائد. ولأهمية هذه النصائح الدَّرية اعتنى بها الإنكليز اعتناء عظيمًا حتى قرروها في برنامج الدراسة للأطفال فأكسبتهم المبادئ الشريفة التي أشربتها قلوبهم في الصغر فسادوا العالم وقادوا الأمم وذلك بفضل اتباعهم مناهج أجدادنا العظام التي دونوها لنا، وكنزوها لأجلنا، فكان نفعها لغيرنا، ويا حبذا لو اهتدينا إليها واقتدينا بها فنحن أحق بها. نصائح قا قمنا الحكيم المصري القديم (1) اسلك طريق الاستقامة لئلا ينزل عليك غضب الله. (2) احذر أن تكون عنيدًا في الخصام فتستوجب عقاب الله. (3) الابن الذي ينكر الجميل يُحزن والديه. (4) متى كان الإنسان خبيرًا بأحوال الدنيا سهل عليه قيادة ذريته. (5) إن قليل الأدب لبليد ومذموم. (6) إذا دعيت إلى وليمة وقدم لك من أطايب الطعام الذي تشتهيه فلا تبادر إلى تناوله؛ لئلا يعتبرك الناس شَرِهًا، واعلم أن جرعة ماء تروي الظمأ ولقمة خبز تغذي الجسم. (7) احفظ هذه النصائح واعمل بها تكن سعيدا ًومحمودًا بين الناس. *** أمثال فتاح حتب الحكيم المصري القديم (1) إن التعرف بأعاظم الناس نفحة من نفحات الله. (2) لا توقع الفزع في قلوب البشر؛ لئلا يضربك الرب بعصا انتقامه. (3) إذا شئت أن تعيش من مال الظلم أو تغتني منه، نزع الرب نعمته منك وجعلك فقيرًا. (4) إن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء؛ لأن بيده مقاليد الأمور، فمن العبث التعرض لإرادته تعالى. (5) إذا كنت عاقلاً فربِّ ابنك حسبما يرضي الله تعالى، وإذا شب على مثالك وجدَّ في عمله فأحسِن معاملته واعتنِ به، أما إذا طاش وساء سلوكه فهذب أخلاقه وأبعده عن الأشرار؛ لئلا يستخف بأمرك. (6) إن تدبير الخلق بيد الله الذي يحب خلقه. (7) إذا نلت الرفعة بعد الضعة وحزت الثروة بعد الفاقة فلا تدخر الأموال بمنع الحقوق عن أهلها؛ فإنك أمين على نعم الله والأمين يؤدي أمانته، واعلم أن جميع ما وصل إليك سينتقل منك إلى غيرك ولا يبقى فيه لك إلا الذكر. (8) ما أعظم الإنسان الذي يهتدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. (9) من خالف الشرائع والقوانين نال شر الجزاء. (10) لا ينجو الأثيم من النار في الحياة الآخرة. (11) ألا إن حدود العدالة لثابتة وغير قابلة للتغيير. (12) إذا دعاك كبير إلى الطعام فاقبل ما يقدمه لك ولا تطل نظرك إليه ولا تبادره بالحديث قبل أن يسألك لأنك تجهل ما يخالف مشربه؛ بل تكلم عندما يسألك فحينئذٍ يعجبه كلامك. (13) إذا كلفك كبير حاجة فأنجزها له حسب رغبته. (14) إذا تعرفت برجل رفيع المقام فلا تتعاظم عليه بل احترمه لمركزه. (15) إذا جلست في مجلس رئيسك فعليك بالكمال والصمت ولا تتفوق في الكلام؛ لئلا يعارضك من هو أكبر منك نفوذًا وأكثر منك خبرة، واعلم أن من الجهل أن تتكلم في مواضيع شتى في آن واحد. (16) لا تَعُق كبيرًا عن عمله متى رأيته مشغولاً؛ فإنه عدو لمن يعوق أعماله. (17) لا تخن من ائتمنك تزدد شرفًا ويعمر بيتك. (18) من الحمق أن يتشاجر المرءوس مع رئيسه؛ فإن الإنسان لا يعيش عيشة راضية إلا إذا كان مهذبًا لطيفًا ظريفًا. (19) إذا دخلت بيت غيرك فاحذر من الميل إلى نسائه، فكم أناس تهافتوا على هذه اللذة القصيرة التي تمر كالحلم فأودت بهم إلى المخاطر والمهالك. واعلم أن بيت الزاني للخراب، والزاني نفسه فاقد الرشد وهالك وممقوت عند الله والناس، ومخالف للشرائع والنواميس [1] . (20) إذا كنت عاقلاً فدَبِّر منزلك وأحب زوجتك التي هي شريكتك في حياتك، وقم لها بالمؤونة لتحسن لك المعونة وأحضر لها الطيب، وأدخل عليها السرور، ولا تكن شديدًا معها إذ باللين تملك قلبها وقم بمطالبها الحق (أو بالمعروف) ليدوم معها صفاؤك ويستمر هناؤك. (21) لا تعجب بعلمك؛ لأن العلم بحر لا يصل إلى آخره متبحرٌ مهما خاض فيه وسبح، واعلم أن الحكمة أغلى من الزمرد لأن الزمرد تجده الفَعَلَة في الصخور بخلاف الحكمة فإنها نادرة الوجود. (22) لا تترك التحلي بحلية العلم ودماثة الأخلاق. (23) إذا كنت زعيم قوم فنفذ سلطتك المخولة لك، وكن كاملاً في جميع أعمالك ليذكرك الخلف. ولا تسرف في المواهب والنعم التي تقود إلى الكبرياء وتؤدي إلى الكسل. (24) إذا كنت قاضيًا فكن لين الجانب مع المتقاضين ولا تجعل أحدهم يتردد في كلامه ولا تنهره ودعه يتكلم بحرية لكي يعبر عن مظلمته بصراحة؛ وإذا لم تنصفه يكون سببًا لسوء سمعتك، فحسن الإصغاء أفضل طريقة لكشف الحقيقة. (25) ليكن أمرك ونهيك لحسن الإدارة، لا لإظهار الرياسة والإمارة. (26) لا تستبد لئلا تضل. (27) لا تكن يابسًا فتكسر ولا لينًا فتعصر. (28) إذا شئت أن تطاع، فسل ما يُسْتَطَاع. (29) إذا حكمت بين الناس فاسلك طريق العدل ولا تتحيز لفريق دون آخر وإلا نسبوك للجور والعسف. (30) إذا عفوت عمن أساء إليك فاجتنبه واجعله ينسى إساءته إليك حتى لا يذكرها مرة ثانية. (31) بقدر الكد تُكتسَب الثروة فمن جَدَّ في طلبها أنجح الله مسعاه. (32) اجتهد دائمًا في عملك ولا تترك فرصة اليوم للغد، فمن جد وجد. (33) إذا كنت منتظمًا في حياتك صرت غنيًّا وحسنت سمعتك، وتحسنت صحتك، وطار صيتك، وملكت حاجتك، أما الذي ينقاد لشهواته فإنه يصير ذميمًا سمجًا وعدوًّا لنفسه. (34) إذا وقفت أمام الحاكم فاخفض جناحك واحن رأسك ولا تعارضه وجاوبه بوداعة لينجذب قلبه إليك. (35) إذا فاه أخوك بالشر فازجره لتكون خيرًا منه. (36) اصغ لكلام غيرك فإن السكوت من ذهب. (37) لا تحتقر فقيرًا، وإذا زارك فلا تتركه سدى لئلا تخذله، ولا تغضبه ولا تحتقر رأيه فإن هذا ليس من شيم الكرام. (38) احذر من تحريف الحقيقة بين الناس؛ لئلا تزرع الشقاق بينهم. (39) لا تخبر أحدًا بما صرَّح به لك غيرك لئلا يبغضك الناس. (40) من ساءت سيرته ضل الصراط المستقيم. (41) إذا كنت في مجتمع فاسلك دائمًا حسب قوانينه. (42) إذا عاشرت قومًا فاجذب قلوبهم إليك. (43) ليكن كلامك دائمًا سديدًا مفيدًا. (44) إياك والطمع فإنه داء دفين لا دواء له، والمتصف به قليل الحظ لأن الطمع مجلبة الشحناء والشقاق بين الأهل والأقارب وهو سبب كل الشرور والرذائل. أما القناعة فهي أساس النجاح والفلاح ومصدر الخير والبر. (45) لا تُفرط في الكلام ولا تُصغِ إلى البذاءة؛ لأنها صادرة عن التهيج والغيظ، وإذا أسرف أحد أمامك في الكلام فأطرق رأسك إلى الأرض لترشده بذلك إلى طريق الحكمة. (46) من يلقي بنفسه في متاعب الدنيا ويستغرق فيها كل أوقاته لا يجد لذة في حياته. (47) من يعكف طول نهاره على شهواته ضاعت مصالح بيته. (48) إذا شئت أن تعرف طباع صديقك فلا تسأل عنه أحد بل استنتج ذلك بانفرادك معه في المحادثة المرة بعد المرة، ولا تغضبه، ومتى أخبرك عن أصل ماضيه عرفت جميع أخلاقه، وإذا فاتحك الحديث فسايره ولا تدعه يحترس في حديثه، وإياك أن تقاطعه في الحديث أو تزدريه، وبهذا يمكنك أن تستطلع جميع أحواله. (49) كن بشوشًا ما دمت حيًّا. (50) من زرع الشقاق بين الناس عاش حزينًا لا يصحبه أحد. (51) من طابت سريرته، حمدت سيرته. (52) متى كبر الإنسان في السن عادت إليه حالة صغره؛ فيعمش بصره [2] وينقص سمعه ويصمت فمه ويسخف كلامه ويظلم عقله وتضعف ذاكرته وتخور قواه وتقف حركة قلبه وترق عظامه ويهزل جسمه ويفقد ذوقه وشمه، حقًّا إن الشيخوخة آفة الإنسانية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أنطون زكري ... ... ... ... ... ... ... ... بالمتحف المصري

أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم ـ 1

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية قدس سره بسم الله الرحمن الرحيم (مسألة) ما تقول السادة العلماء أئمة الدين - رضي الله عنهم - في أهل الصفة كم كانوا؟ وهل كانوا بمكة أو بالمدينة؟ وأين موضعهم الذي كانوا يقيمون به؟ وهل كانوا مقيمين بأجمعهم لا يخرجون إلا خروج حاجة، أو كان منهم من يقعد بالصفة، ومنهم من يتسبب في القوت؟ وما كان تسببهم: هل يعملون بأبدانهم أم يشحذون بالزنبيل؟ وما قول العلماء - وفقهم الله تعالى - فيمن يعتقد أن أهل الصفة قاتلوا المؤمنين مع المشركين؟ وفيمن يعتقد أن أهل الصفة أفضل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومن الستة الباقين من العشرة، وأفضل من جميع الصحابة؟ وهل كان فيهم أحد من العشرة؟ وهل كان أحد في ذلك العصر ينذر لأهل الصفة؟ وهل تواجدوا على دف أو شبابة أو كان لهم حادٍ ينشد لهم أشعارًا ويتحركون عليها بالتصدية ويتواجدون؟ وما قول العلماء في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} (الكهف: 28) هل هي عامة أم مخصوصة بأهل الصفة رضي الله عنهم؟ وهل هذا الحديث الذي يرويه كثير من العوام ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله لا الناس تعرفه ولا الولي يعرف أنه ولي) وهل تخفى حالة الأولياء أو طرقهم على أهل العلم أو غيرهم؟ ولماذا سمي الولي وليًّا؟ وما الفقراء الذين يسبقون الأغنياء إلى الجنة، والفقراء الذين أوصى الله عليهم في كلامه وذكرهم خاتم أنبيائه ورسله وسيد خلقه محمد صلى الله عليه وسلم في سننه؟ هل هم الذين لا يملكون كفايتهم أهل الفاقة والحاجة أم لا؟ والحديث المروي في الأبدال هل هو صحيح أم مقطوع؟ وهل الأبدال مخصوص بالشام أم حيث تكون شعائر الإسلام قائمة بالكتاب والسنة يكون بها الأبدال بالشام وغيره من الأقاليم؟ وهل صحيح أن الولي يكون قاعدًا في جماعة ويغيب جسده؟ وما قول السادة العلماء في هذه الأسماء التي تَسَمَّى بها أقوام من المنسوبين إلى الدين والفضيلة ويقولون: هذا غوث الأغواث وهذا قطب الأقطاب، وهذا قطب العالم، وهذا القطب الكبير وهذا خاتم الأولياء؟ وأيضًا فما قول العلماء في هؤلاء (القلندرية) الذي يحلقون ذقونهم ما هم؟ ومن أي الطوائف يحسبون؟ وما قولكم في اعتقادهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم شيخهم قلندر عنبًا وكلَّمَه بلسان العجم؟ وهل يحل لمسلم يؤمن بالله تعالى أن يدور في الأسواق والقرى ويقول: من عنده نذر للشيخ فلان أو لقبره؟ وهل يأثم من يساعده أم لا؟ وما تقولون فيمن يقول: إن (الست نفيسة) هي باب الحوائج إلى الله تعالى وأنها خفيرة مصر؟ وما تقولون فيمن يقول: إن بعض المشايخ إذا قام لسماع المكاء والتصدية يحضره رجال الغيب وينشق السقف والحيطان وتنزل الملائكة ترقص معهم أو عليهم، وفيهم من يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر معهم؟ وماذا يجب على مَن يعتقد هذا الاعتقاد؟ وما صفة رجال الغيب وما معنى قول من يقول: إنه من خفراء التتار؟ وهل يكون للتتار خفراء أم لا؟ وإذا كانوا فهل يغلب حال هؤلاء خفراء الكفار كحال خفراء أمة النبي صلى الله عليه وسلم. وهل هذه المشاهِد المسماة باسم أمير المؤمنين علي وولده الحسين رضي الله عنهما صحيحة أم مكذوبة؟ وأين ثبت قبر علي ابن عم رسول الله؟ والمسئول من إحسان علماء الأصول كشف هذه الاعتقادات والدعاوى والأحوال كشفًا شافيًا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. والحالة هذه أفتونا مأجورين أثابكم الله. أجاب رضي الله عنه وأرضاه، آمين: الحمد لله رب العالمين: أما الصُّفَّة التي ينسب إليها أهل الصفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمال المسجد بالمدينة النبوية، كان يأوي إليها من فقراء المسلمين من ليس له أهل ولا مكان يأوي إليه. وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أمر نبيه والمؤمنين أن يهاجروا إلى المدينة النبوية حين آمن به من آمن من أكابر أهل المدينة من الأوس والخزرج وبايعهم بيعة العقبة عند منى وصار للمؤمنين دار عز ومَنَعَة - جعل المؤمنون من أهل مكة وغيرهم يهاجرون إلى المدينة، وكان المؤمنون السابقون بها صنفين: المهاجرين الذين هاجروا إليها من بلادهم، والأنصار الذين هم أهل المدينة وكان من لم يهاجر من الأعراب وغيرهم من المسلمين لهم حكم آخر، وآخرون كانوا ممنوعين من الهجرة لمنع أكابرهم لهم بالقيد والحبس، وآخرون كانوا مقيمين بين ظهراني الكفار المستظهرين عليهم، وكل هذه الأصناف مذكورة في القرآن وحكمهم باقٍ إلى يوم القيامة في أشباههم ونظرائهم، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاًّ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (الأنفال: 72- 74) فهذا في السابقين ثم ذكر من اتبعهم إلى يوم القيامة فقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: 75) وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: 100) الآية، وذكر في السورة الأعراب المؤمنين وذكر المنافقين من أهل المدينة وممن حولها، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواًّ غَفُوراً} (النساء: 97-99) . فلما كان المؤمنون يهاجرون إلى المدينة النبوية كان فيهم من ينزل على الأنصار بأهله أو بغير أهله؛ لأن المبايعة كانت على أن يؤووهم ويواسوهم، وكان في بعض الأوقات إذا قدم المهاجر اقترع الأنصار على مَن ينزل منهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد حالف بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم. ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئًا بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه والنبي صلى الله عليه وسلم يغزو الكفار تارة بنفسه، وتارة بسراياه فيسلم خلق تارة ظاهرًا وباطنًا، وتارة ظاهرًا فقط، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الأغنياء والفقراء والآهلين والعزاب، فكان مَن لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة التي في المسجد. ولم يكن جميع أهل الصفة يجتمعون في وقت واحد بل منهم من يتأهل أو ينتقل إلى مكان آخر يتيسر له ويجيء ناس بعد ناس وكانوا تارة يكثرون وتارة يقلون. فتارة يكونون عشرة أو أقل، وتارة يكونون عشرين وثلاثين وأكثر وتارة يكونون ستين وسبعين. وأما جملة من آوى إلى الصفة مع تفرقهم فقد قيل: كانوا نحو أربعمائة من الصحابة، وقد قيل: كانوا أكثر من ذلك. جمع أسماءهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ولم يُعرِّف كل واحد منهم في كتاب تاريخ أهل الصفة [1] وكان معتنيًا بجمع أخبار النساك والصوفية والآثار التي يستندون إليها والكلمات المأثورة عنهم، وجمع أخبار زهاد السلف وأخبار جميع من بلغه أنه كان من أهل الصفة وكم بلغوا. والصوفية المستأخرون بعد القرون الثلاثة [2] وجمع أيضًا في الأبواب مثل حقائق التفسير ومثل أبواب التصوف الجارية على أبواب الفقه، ومثل كلامهم في التوحيد والمعرفة والمحبة ومسألة السماع، وغير ذلك من الأحوال وغير ذلك من الأبواب. وفيما جمعه فوائد كثيرة ومنافع جليلة وهو في نفسه رجل من أهل الخير والدين والصلاح والفضل. وما يرويه من الآثار فيه من الصحيح شيء كثير، ويروي أحيانًا آثارًا ضعيفة بل موضوعة يُعلم أنها كذب. وقد تكلم بعض حفاظ الحديث في سماعه، وكان البيهقي إذا روى عنه يقول: حدثنا أبو عبد الرحمن من أصل سماعه. وما يُظَنُّ به وبأمثاله - إن شاء الله تعالى - تعمُّدُ الكذب [3] لكن لعدم الحفظ والإتقان يدخل عليهم الخطأ في الرواية، فإن النساك والعباد منهم مَن هو متقن في الحديث مثل ثابت البناني والفضيل بن عياض وأمثالهم ومنهم مَن قد يقع في بعض حديثه غلط وضعف مثل مالك بن دينار وفرقد السنجي ونحوهما. وكذلك ما يؤثره أبو عبد الرحمن عن بعض المتكلمين في الطريق أو ينتصر له من الأقوال والأحوال فيه من الهدى والعلم شيء كثير. وفيه أحيانًا من الخطأ أشياء، وبعض ذلك يكون عن اجتهاد سائغ. بعضه باطل قطعًا مصدره - مثل ما ذكر في حقائق التفسير - قطعة كبيرة عن جعفر الصادق وغيره من الآثار الموضوعة وذكر عن بعض طائفة أنواعًا من الإشارات التي بعضها أمثال حسنة واستدلالات مناسبة وبعضها من نوع الباطل واللغو، والذي جمعه الشيخ أبو عبد الرحمن في تاريخ أهل الصفة وأخبار زهاد السلف وطبقات الصوفية يُسْتَفَاد منه فوائد جليلة ويجتنب ما فيه من الروايات، ومن أهل الآراء والأذواق من الفقهاء والزهاد والمتكلمة وغيرهم يؤخذ فيما يأثرونه عمن قبلهم، وفيما يذكرونه معتقدين له شيء كثير وأمر عظيم من الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله. ويوجد أحيانًا عندهم من جنس الآراء والأذواق الفاسدة أو المحتملة شيء كثير، ومن له من الأمة لسان صدق عام بحيث يُثْنَى عليه ويُحْمَد في جماهير أجناس الأمة فهؤلاء هم أئمة الهدى ومصابيح الدجى وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم وعامته من موارد الاجتهاد التي يُعْذَرُونَ بها وهم الذي يتبعون العلم والعدل فهم بعداء عن الجهل والظلم وعن اتباع الظن وما تهوى الأنفس. *** (فصل) وأما حال أهل الصفة هم وغيرهم من فقراء المسلمين (الذين) لم يكونوا في الصفة أو كانوا يكونون بها بعض الأوقات، فكما وصفهم الله تعالى في كتابه حيث بين مستحقي الصدقة منهم ومستحقي الفيء. فقال: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَن

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 9

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة (8) فوز روح زردشت على روح الإسلام من المجربات أنه إذا تأصلت عقيدة ما في نفس فرد أو جماعة يتعذر على معتقدها أو على غيره إزالتها. فإن اتفق أن نُزعت هذه العقيدة، فلا بد أن يبقى لها آثار في النفس تظهر بين آونة وأخرى بالرغم من الجهد الذي يبذله صاحب العقيدة ليتناساها. هذا شأن العقائد الدينية، فإن ضُم إليها عقيدة قومية وامتزجت العقيدتان يتعذر حينئذ إزالة هذه العقيدة المزدوجة. أضرب مثلاً هؤلاء الإيرانيين أرادوا التأليف بين حاجاتهم الروحية وبين موجبات تقاليدهم التاريخية وبين مقتضيات الدين الإسلامي فلم يفلحوا. لماذا؟ لأن زردشت ولد في إيران ونشر مذهبًا ملائمًا لروح الفرس وموافقًا لتقاليدهم التاريخية، فرسخ هذا الدين في أنفسهم، لأنه جاء موافقًا لحاجاتهم الروحية حتى إن ملك ذلك العصر (كستاسب) ووزراءه وسائر الطبقات أقبلوا على دين (زردشت) إقبال العاشق المشتاق؛ لأن روح البلاد كانت تطلب وصايا زردشت فكان معبرًا عما في ضميرها. نعم إن العرب ضربوا دولة الفرس في القادسية ضربة زلزلوا بها أركانها، وقوضوا عمود خيمتها. إلا أن روح إيران بقيت بمعزل عن تلك الضربة، ولم تتبدل لأن تبديلها محالٌ، حتى إن أحكام الإسلام المنطقية العلوية، لم تستطع فتح الروح الإيرانية؛ لأن هذه الروح كانت قد اعتادت وألِفَت عقائد أمشاجًا مركبة ممزوجة بالخيالات والأوهام، فلم تكن أسس الدين الإسلامي البسيطة لتحل محل تلك الأسس المركبة. روح الإيراني كانت تطلب أحيانًا عبادات مقرونة بمظاهر العظمة والفخفخة وأحيانًا بمظاهر الحزن المشعشع المعظم، فلذلك كانوا يرون قواعد الدين الإسلامي كالشيء اليابس غير المرن. وهذا ما تأباه أرواحهم، وتنبو عنه أذواقهم. الدين والحكومة كانا يرتكزان على قاعدة واحدة عند الفرس. فلما سقطت الحكومة سقط الدين معها؛ لأن سقوط القاعدة يقتضي سقوط ما بُنِيَ عليها. إن إعادة دين (زردشت) كانت في نظر الإيرانيين أسهل وأسلم من التوسل لإعادة عرش كسرى. ولكن إعادته تتوقف بالطبع على إضعاف الدين الذي حل محله. لذلك صمموا على الأمور الآتية (1) زلزلة قواعد الإسلام. (2) إدخال تقاليد الفرس في سويداء قلبه. (3) إحداث مذاهب جديدة. (4) ابتداع طرق مُستحدَثة. والقصد من ذلك كله إضاعة جوهر الإسلام الساذج بين هذه المركبات أو إلباسه ثوب (زردشت) السابغ الفضفاض على الأقل، حتى إذا ما عثرت رجلاه بأذيال هذا الثوب ووقع أو ضعفت مشيته تمهدت لهم السبيل لنصب عرش كسرى. لذلك يجد المدقق منا في حوادث التاريخ أن جميع الفرق الضالة ولدت في إيران وأن الخرافات والبدع السيئة جاءت من إيران؛ لأن الأحكام الإسلامية البسيطة لم تستطع تطويع النفس الفارسية التي اعتادت الانحناء تحت أثقال التقاليد القديمة. هذا هو السبب الإيجابي. وهناك سبب معنوي أيضًا، وهو أن الإيراني قضى عمره وهو يئن تحت استعباد السلالات المالكة؛ لأنه كان يتدحرج بين استبداد آل (البيشداديين) و (الإشكانيين) و (الكيسانيين) و (الساسانيين) وكل شعب وقع في نيران الاستبداد تطلب روحه دائمًا مبعثًا لأنينها وبث شكواها، وهذه المظاهر التخييلية التي يحتفل بها الإيرانيون في أيام مخصوصة هي مبعث الأسى الذي يجتمع فيه ما يفيض من دموعهم، ففي تلك الاجتماعات والاحتفالات يفرغ كل امرئ آلامه ويخرج منها بدون آلام. ذلك - يا سيدي القارئ - سر مأتم (المُحَرَّم) التي يبكي فيها الإيرانيون الحسين السبط رضي الله تعالى عنه، وإذا اعتاد الروح عملاً وصار له ملكة؛ فإنه يصدر عنه دائمًا لا يعيقه عنه عائق مهما يكن قويًّا، ولا شأن للمظاهر والأشكال عند الروح وإنما الشأن عنده للإدراك والشعور الذي يبعث على العمل، فثم شعور يحرك داعية البكاء، وسيان أبكى على كسرى أم على الحسين رضي الله عنه. باعث البكاء أساسي وصورة المأتم فرع عنه [1] . روح الإيراني يريد أن يرى رجلاً جالسًا على عرش الملك بكل عظمة وفخامة، يريد أن يحصر حق التعظيم فيه وفي ورثته؛ لأن هذا المعنى تبوأ ورسخ في سويداء قلب الشعب وأمسى روحًا ثانيًا له، يريد أن يرى آمرًا كبيرًا ذا أبهة وبهجة يأمر وينهي متأبهًا متألهًا - لا عبدًا متواضعًا - ومن تحته أمة تأتمر وتطيع وتخضع، وأنى يجد هذا في الإسلام؟ الإسلام حرم الاستبداد والتعظم والكبرياء، ونسخ توارث الأمر والنهي وجعل الخلافة تابعة للشورى. وكان الخليفة كآحاد الناس بعيدًا عن العظمة وعن الفخفخة. لذلك أحدثوا مسألة (الإمامة المعصومة) لتقوم مقام الكسروية المقدسة، فيتوارثون عروش الأكاسرة، فاستعانوا ببني هاشم لا لإجلاسهم على عرش الخلافة؛ بل لإجلاس أحفاد إسماعيل الشاه على عرش كسرى. إن عقل الإيراني ما كان يقدر أن يفهم معنى أصول انتخاب الرئيس السياسي من الناس. وكان انتخاب الخلفاء الراشدين الأربعة في نظره من أغرب الغرائب لأن (زردشت) غرس في قلبه فكرة توارث الرئاسة والعظمة والجلال. لذلك كانوا يتعجبون من ترجيح أحد على علي كرم الله وجهه؛ لأن الفضل الذاتي كان في نظرهم شيئًا غريبًا؛ ولا سيما أولاد سيدنا علي رضي الله عنهم أسباط الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا هو سر تولد مسألة (الإمامة) فإنها من مقتضيات روح إيران. ولما كان الحسين رضي الله عنه قد تزوج إحدى عقائل بيت الملك في إيران من أسرة (الساسانيين) كان الفرس يعلقون أهمية كبرى على هذه النقطة. كانت روح الإيراني تطلب (خداوند) أي رئيسًا إلهيًّا لتنقاد له وتطيعه طاعة وجدانية وتمتثل أوامره بغير بحث ولا مراجعة. وأنى لها في الإسلام مثل ذلك وأكبر خليفة يقول علنًا: (أيها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومه) فيجاب من آحاد الناس بكل بساطة: (لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا) [2] . الإيراني ما كان يمكن أن يفهم هذا، وروحه يأبى قبوله. وإنما يريد (خداوند) أي رئيسًا إلهيًّا يأمر فيطاع بلا نقد وبلا اعتراض. الإيراني ينشرح صدره إن قَتَلَ أو كَسَرَ أو سَمَّمَ أحدًا امتثالاً لأمر (الخداوند) وتكفي أدنى إشارة منه ليطيع بكل سرور. وهذا السرور لا بد له من (خداوند) إذًا ما العمل والإسلام يأبى ذلك؟ وجدوا فكرة إحداث (إمام يورث) أقصر طريق لما نووا. وهكذا فعلوا. من قرأ روح أبي مسلم من أفعاله يتضح له صدق ما نقول، وللقارئ الكريم البيان: أمر الإمامُ (إبراهيم) أبا مسلم الخراساني أن يقتل كل من اشتبه في إخلاصه وإن كان ولدًا لا يتجاوز طوله خمسة أشبار، فامتثل أبو مسلم هذا الأمر بدون تردد؛ لأنه صدر من (خداوند) أي من إمام، ومجموع من قتل أبو مسلم على الشبهة ستمائة ألف مسلم. ولقد صور المؤرخ ابن الأثير هذه الفواجع تصويرًا تامًّا حتى إن (أبا سلمة الخلال) الذي أحرز عنوان (وزير آل محمد) لم يقدر أن يصون دم نفسه من قانون الشبهة؛ لأن أبا مسلم كان يتلقى أوامر ممثل (الخداوند) الإمام إبراهيم كأمر إلهي. وياليت الأمر بقي مسوقًا بروح الإيرانيين وحدهم بل إن روح سورية المقتبسة من روح الروم زاد الأمر اضطرابًا وتهويشًا؛ إذ من المعلوم أن بعض الجنود السورية والعراقية أغريت يوم (صفين) بعدم الطاعة لعلي كرم الله وجهه ولمعاوية أيضًا، وهذه الديمقراطية الواسعة ليست إلا من بقايا أفكار (بيزانس) فتشوشت أفكار العرب بين هذا الجزر الإيراني والمد الرومي (وكان العربي من القديم قانعًا بالانكماش في جزيرته ولا يحلو له إلا ما عنده فلا يعرف ما عند غيره. والسياسة هي معرفة المتغير ومعاملته حسبما علم من أحواله) وأوضح دليل على عقلية الإيرانيين ما عمله أهل بلدة (راوند) من توابع أصفهان يوم جاءوا لمقابلة الإمام المنصور إذ نادوه (يا خداوند) أي إلهنا؛ لأن كلمتي (إمام وخدواند) في نظر الفرس لا يتجزآن، وعندما عدلوا عن تسمية المنصور إمامًا لم تستطع الروح الفارسية أن تعيش بدون إمام ففتشت عليه واستمرت تفتش حتى وجدته ولكن من وجدت؟ وجدت أبا مسلم الخرساني وادعت بأن الألوهية حلت فيه. أي في قاتل ستمائة ألف مسلم. لا يتعجب العاقل من إسناد الإيرانيين الألوهية لأبي مسلم لأنه - والحق يقال - بطل من أبطال التاريخ وسياسي هائل، وهو ليس أكثر من إيراني وطني متغالٍ، ولكن العجب كل العجب تقديس غير الإيرانيين له، والأحزاب التي أُلّفت لذلك. حزب الرزامية: إن قانون الشبهة الذي أحدثه الإمام إبراهيم لم يستثن أبا مسلم بل طبَّقه الخليفة المنصور عليه بالذات، وعلى ذلك اجتمع بعض الفرس وبسطاء العرب وأعلنوا إمامة أبي مسلم على رءوس الأشهاد وسموا جمعيتهم باسم (حزابي) ثم أعلن (رزام بن شاقو) مؤسس الحزب الرزامي ألوهية أبي مسلم وقبل الناس ألوهية أبي مسلم الذي صار إمامًا قبل مدة وجيزة حتى إن بعض الحزابين ما كان يصدق أن أبا مسلم يموت بل كانوا يعتقدون بأنه سيظهر يومًا ما ويملأ العالم عدلاً وبعضهم كان يقول: إنه مات، وإن الإمامة انتقلت إلى بنته. ما هذه العقائد وما هذه الأقوال؟ إن هي إلا بقايا دين (زرادشت) وبمدة قليلة كثر هذا الحزب. جميع هذا الخرافات ليست من ديننا في شيء، إن هي إلا خرافات وما أبو مسلم إلا سياسي تام وإمامته وألوهيته وقدسيته شيء موهوم خيالي. حزب المبيضة: ثم ظهر كاتب أبي مسلم المقنع فالتف حوله الخراسانيون الذين كانت أجسامهم مسلمة وأرواحهم أسيرة عقائد (بوذا) و (زردشت) . اسم المقنع (هاشم بن حاكم) وكان يغطي وجهه لقبحه، ولذلك سُمي المقنع. رأى المقنع بحرانًا في أفكار الخراسانيين: رآهم مسلمين ولكن قواعد الإسلام الساذجة لم توافق مشربهم، وطلب الرجوع إلى دين زردشت صعب وكذلك الاكتفاء بالإسلام، بل هو عنده أصعب، ولذلك عزم على صبغ الإسلامية بصبغة زردشتية، وهذا يحتاج لجسارة ومهارة، وبما أن هذا كان خصيصًا بالعلوم الطبيعية أخذ يقدم لهم قوانينها وقواميسها كمعجزات فصدقوه واتبعوه. وكانت أعماله معطوفة على هدم بناء العرب السياسي والديني معًا لذلك توسل بإحياء عقيدة الناسخ التي اكتست ثوبًا هنديًّا وآخر مصريًّا وثالثًا يونانيًّا وثوبًا رابعًا إيرانيًّا ولكنه زاد على أثوابها ثوبًا خامسا إسلاميًّا، وللقارئ الكريم ما كان يقول هذا المقنع: إن الله تجلى في بادئ الأمر في وجود آدم ثم انتقل إلى نوح ثم إلى إبراهيم ومن بعده إلى موسى ثم إلى محمد عليهم السلام، ومن بعده إلى علي كرم الله وجهه، ثم إلى محمد بن الحنفية وفي النهاية حل في أبي مسلم الخرساني، ومن بعده انتقل إلى وجود المقنع. إن هذه العقيدة القديمة وُجد من استأنس بها في إيران وسورية ومصر والهند والتف حوله عدد ليس بالقليل حتى إن الخليفة المهدي اضطر لأن يسوق عليه ثلاثة جيوش، وكان الغالب في الثلاث المعارك المقنع، فهذا الظفر أطلق لسان الفرس وطفقوا يلهجون بإيران واستقلالها. عندئذ جمع الخليفة المهدي جندًا كثيفًا، وأرسله لحربه فغلب في هذه المرة وقتل المقنع في مدينة (كسن) ولكن الخرافات التي نشرها بين المسلمين لم تمت. وأما سبب تسميتهم المبيضة فهو أنهم كانوا يلبسون لباسًا أبيض. الزنادقة أو الحمرة: هم من أتباع المقنع أيضًا وكانوا يسمون الحمرة؛ لأنهم كانوا يلبسون لباسًا أحمر [3] لقد أضر المحمرة بالإسلام أضرارًا أبلغ من أضرار المبيضة، وأدخلوا فيه خرافات أكثر منهم وأتعبوا العرب والمسلمين أتعابًا دامت أحقابًا طويلة.

منشور عام في المسألة العربية العامة والفلسطينية خاصة

الكاتب: نظمي عنتباوي النابلسي

_ منشور عام في المسألة العربية العامة والفلسطينية خاصة إن النهضة الوطنية الفلسطينية في مدينة نيويرك العظمى قد عقدت اجتماعًا عامًّا بعدما اتصل بها من تصديق عصبة الأمم على الوصايات، وقررت بإجماع الأصوات إصدار هذا النداء لكل الجمعيات والمؤتمرات السورية والفلسطينية ولجميع السلطات العربية لتقرر الجمعيات خطة دفاعية عامة تجاه ما لَحِق بالبلاد من الأذى والعبودية، على أن يحتوي على المواد الآتية: أولاً - إن الحلفاء قد خاضوا غمرات الحرب واتخذوا لأنفسهم مبدأ تحرير الشعوب المستضعفة، كما صرَّحوا بلسان وزرائهم في أثناء الحرب العظمى وبعدها، وكما صرح المستر ولسن في خطبه وفي مواده الأربع عشرة؛ فاستنادًا على هذا المبدأ ووفقًا للمعاهدة المربوطة بين جلالة الملك حسين الأول وبين بريطانية العظمى سنة 1915 بلسان العميد البريطاني بمصر السر هنري مكماهون، ووفقًا للرسائل المتبادلة بين الحكومة الحجازية والإنكليزية قد ساعد العربُ الحلفاءَ منذ سنة 1916 بدخولهم الحرب وإعلانهم الثورة ضد الحكومة العثمانية [1] . ولم يكن حق العرب في الاستقلال يقتصر على الوعود والمعاهدات الدولية، ولا على نظام عصبة الأمم ولا على مواد الرئيس ولسن الأربعة عشرة، بل على ما للعرب السوريين من تراث المجد والوطنية وما فُطِرُوا عليه من التقاليد وما هم عليه من الكفاءة السياسية والإدارية كما يدل على ذلك وجود نواب العرب من الندوة العثمانية في الدور العثماني وإدارة كثير منهم مناصب رفيعة من سياسية وعسكرية وإدارية وعلمية مما يجعل للعرب حقًّا أكيدًا فوق ما لهم من الحق الطبيعي في الاستقلال والحرية، غير أن الحلفاء قد ساروا فعلا على طريقة الاستعمار واضطهاد الشعوب ونفع الذات. فوعدت الحكومة الإنكليزية بكتاب حِبِّي أرسله المستر بلفور إلى اللورد روتشلد في 2 نوفمبر سنة 1917 بوطن قومي في فلسطين وتواطأ المسيو كليمانصو والمستر لويد جورج بعد الحرب على اتفاق سايكس بيكو، فتقسمت البلاد السورية إلى أجزاء ولحق بها من الضرر والحَيْف والظلم والجَوْر والعبودية ما لم نتوقعه، فهدمت بذلك جميع المبادئ التي افتخر الحلفاء باتخاذها مبدأً لهم ورموا بالعهود والوعود التي ربطوها بعد الحرب عرض الحائط! والأغرب من ذلك أن عصبة الأمم التي ولدتها المبادئ الديموقراطية الحديثة والتي لها السلطة في رؤية عهود الوصايات، والتي من جملة وظائفها حماية الأقوام المستضعفة كما خوَّلَها هذا الحق عهد الجمعية الموقع عليه في فرسايل في 28 يونيو سنة 1919 قد صمَّتْ آذانها عن سماع صوتنا الممزوج بحلاوة الحق وتغاضت عن كل المساوئ التي يقترفها الأوصياء في بلادنا، فصدقت بلا تردد بعد جلسة سرية عهود الوصايات، اللهم إلا العراق وبذلك تحقق الرأي القائل: إن عصبة الأمم لم تكن إلا للتوفيق بين الروح القومية الجديدة والسياسة الاستعمارية القديمة. ولما كان العرب قد فشلوا في جميع الأعمال السياسية الخارجية ولم يلاقوا من الأوربيين إلا تصلفًا كلما ازدادوا تقربًا إليهم - وجب عليهم أن يحصروا أعمالهم في بلادهم وفيما يهمهم من أمرها من حيث هي بلاد عربية أو بلاد دينية مقدسة مع المثابرة في الجهاد سياسيًّا واقتصاديًّا وعلميًّا. ثانيًا - إن القضية العربية كانت في بدء نشأتها جامعة لكل الأقطار العربية من سورية (شمالية وجنوبية) وعراقية وحجازية وكانت الوعود التي يستند عليها العرب تتضمن كل هذه الأقطار حتى اشترك في الجيش العربي أناس من مختلفي الأقطار والأمصار من سائر بلاد العرب، غير أن الدول الاستعمارية الأجنبية قد جَزَّأَتْ بلادنا وفَكَّكَتْ أوصالها وجعلت لكل قطر منها قضية تختلف عن قضية القطر الآخر من حيث طريقة الحل وارتباطها بحكومة خاصة؛ تأييدًا لسياستهم في تفريق كلمة العرب ليعسُر بذلك حل القضايا العربية التي هي متمم بعضها لبعض، وفضلاً عن أن القضية العربية قد ابتدأت شاملة جامعة فإن موقع بلاد العرب الجغرافي من حيث فقدان الحواجز الطبيعية بينها وافتقار كل قطر إلى آخر لاختلاف تربته وموارده مما يزيد الترابط الطبيعي بين العرب بالنظر لجامعة اللغة والعنصر، ومما يجعلنا نؤكد أن هذه القضية المتحدة سياسيًّا واقتصاديًّا يجب أن يشترك في حلها العرب كلهم ويتعاونوا على دَرْء الخطر في كل الأقطار كما كان في بدء الحركة العربية سنة 1915 ولما كانت الأمة العربية قد امتشقت حسامها لتأييد استقلالها - فالنهضة ترى أن الوسيلة الأولى التي تجب أن يتخذها الفلسطينيون هي نشر الدعوة في بلاد العرب كلها لتتعاون على درء العبودية عنا على أن يكون مبدأ التعاون وسيلة لاستقلال البلاد عن طريق الجامعة العربية وبذلك يجب على العرب مقاومة الصهيونية والأجانب المستعمرين على السواء كما يقاومهم الفلسطينيون فيما لو كانوا منفردين. فلهذا تحبذ النهضة إجماع الرأي على طريقة هذا الجهاد السياسي الفعلي وينظر إلى تقوية هذا الجهاد بالطرائق العلمية الواجبة التي يقر عليها الرأي. ثالثًا - مقاطعة اليهود، على أن يباح لهم ما عدا الأراضي (أي الأموال المنقولة فقط) ويحرم الشراء منهم، وتأييدًا لذلك فالنهضة تهتم الآن بمشروع تأسيس بنك في فلسطين لتكون المقاومة على أساس اقتصادي علمي عملي ليستفيد المزارع والتاجر، ولكي لا تضر المقاطعة بالوطن، وهنا لا يسعنا إلا أن نصرح أن فشل هذا المشروع ونجاحه يتوقف على أهل البلاد، فإذا لم ير المهاجرون الذين يعملون في سبيل القضية كل ما يمكن عمله إقدامًا من أهل البلاد على شراء الأسهم، فالمشروع سيبقى في طي الخفاء كما أن ذلك يدل على أن أهل البلاد لا يفقهون للطرق الوطنية الحقيقية معنًى. نحن لا نرى أن الجهاد الاقتصادي هو بتحبير المقالات على أعمدة الجرائد بل بالعمل، وهذا المشروع هو أعظم العمل فائدة من هذه الوجهة. رابعًا - نشر الدعوة بين جميع العامة في المدن والقرى: إما بتأسيس النوادي، وإما بإلقاء الخطب والمواعظ في أوقات معينة لإضاءة الأقطار بنور المعرفة وبالقضية الوطنية وبالأضرار التي تنجم عن بيع الأراضي، وبتصوير العبودية التي تلحق بالأهالي، وللجوامع والكنائس في هذا العمل قسط وافر. خامسًا - من أهم الأسباب القويمة لحفظ كيان أمتنا وحصولنا على أمانينا الوطنية، انتشار العلم، فعلى كل رجل أن يرسل ابنه إلى المدارس لطلب العلم، وعلى الأخص المدارس الوطنية؛ لأنها تولد في النفوس غريزة الوطنية الصحيحة. سادسًا - تتخذ النهضة ما تضمنته البنود السالفة مبدأ لها في جهادها المقبل راجية من كل جمعية أو سلطة عربية إبداء أي اقتراح يتعلق بالعمل الأساسي للنهضة، كما أننا نرغب في مراسلتنا لاتخاذ الطرق الفعالة المشتركة للحصول على أمانينا الحقة. الخاتمة - قد أدرك العرب بعد أن حلب الدهر شطريهم، ورأوا من صنوف العذاب ما رأوا أن وقت الاحتجاج والصراخ قد مضى وأن الطريقة الوحيدة لوصولنا إلى حقنا وبلوغ أمانينا الوطنية هي أن نكون أقوياء. وكما أن الضعف فينا سبب في اضطهادنا وامتهان كرامتنا العربية، فالقوة ستكون سببًا حقيقيًّا في إيصالنا إلى ما نبتغي من الحرية والاستقلال، فما مضى بنا من العبر السياسية والتجارب الزمنية علَّمنا أن ضعف العرب في تفرقهم وتشتيت شملهم، ولولا ذلك لما رأينا للأجنبي إصبعًا تلعب في مقدرات الأمة العربية، فكفى فيما سبق عبرة لنا، وآن لنا أن نحيي الاستقلال والحرية بقلوب مرتبطة معتمدين على أنفسنا في هذا الجهاد الشريف. لتحي فلسطين عربية حرة، لتحي سورية متحدة، لتحي الجامعة العربية. ... ... ... ... ... ... النهضة الوطنية الفلسطينية. نيويرك ... ... ... ... ... ... ... نظمي عنتباوي. النابلسي

وفاة عالم عربي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفاة عالم عربي علوي كتب إلينا صديقنا العالم الرحالة الشهير السيد محمد بن عقيل من المكلا ما يأتي: وصل إليَّ تلغرف من حيدر آباد وتأخر بعدن لعدم الراكب، فوصل بالأمس، وفيه الإعلام بوفاة عالم الشرق البدر المشرق المناضل عن النبي الأمين والأنزع البطين والآل الميامين وعدو النواصب أجمعين: شيخنا السيد أبي بكر عبد الرحمن ابن محمد شهاب الدين باعلوي - رحمه الله رحمة الأبرار، وألحقه بمن أحبهم، وألحقنا بهم في عاقبته، وعظَّم فيه الأجر، وأحسن الخلف، وإنا لله وإنا إليه راجعون. توفي ليلة الجمعة قبيل العشاء الساعة 7 زوالية 9 الجاري، في حيدر آباد الدكن ودفن بعد صلاة الجمعة، وكانت ولادته سنة 1262 ويجمعها حروف: (أبو بكر عبد الرحمن بن شهاب الدين باعلوي) 231 - 25 - 405 - 52 - 403 - 119 وله مصنفات في الأصلين والفقه والأنساب والحساب والطبيعيات، والأدب والمنطق، وغير ذلك فتاوى جمة وديوان شعر، وقد نُشر في الجرائد كثير من قصائده، وبآخر النصائح الكافية له قصيدتان، وأرسلت إليكم عددًا منها وأظن أن أخانا السيد عبد الله دحلان يكتب له ترجمة، وقد أفظعني نعيه {لله الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (الروم: 4) وفيه خلف عن كل هالك وهو المستعان. ... ... ... ... ... ... في 24 جمادى الأولى سنة 1341 (المنار) نعزي صديقنا الكاتب وسائر السلالة العلوية والبلاد الحضرمية والهندية والأمة العربية عن هذا العالم المتفنن الذي خدم العلم واللغة العربية بكتبه الكثيرة وبتدريسه وتعليمه وبتصحيحه لكثير من مطبوعات (مطبعة دائرة المعارف النظامية) في حيدر آباد الدكن موطن إقامته، ومما بلغنا من ترجمته أنه هو الذي جدَّد الدعوة إلى موالاة آل البيت ومعاداة أعدائهم في القديم والحديث، فراجت في علوية الحضارمة المنتشرين في جزائر جاوه وما جاورها، فغلا فيها أناس غلوًّا لا يرضاه الفقيد ولا تلاميذه المعتدلين حتى وجد فيهم من ضل بنزغات الباطنية التي دسوها في الشيعة، لم يقفوا عند حد ما كانت به الشيعة شيعة ونشروا في ذلك رسائل عديدة فنهد لهم آخرون يردون عليهم، وعظم الشقاق بين جوَّالي العرب في تلك البلاد من الأفراد والجماعات وطفق بعضهم يطعن في بعض، وقد كان المسلمون هنالك متفقين على تكريم السادة العلويين وتفضيلهم على غيرهم وإن كان يفوقهم علمًا وتقوى، فصار لهم بعد ذلك أعداء وخصوم أقوياء. ولم نقف لهذه الدعوة على فائدة توازي ذلك أو ترجح عليه، فعسى أن يشرح لنا صديقنا السيد عبد الله دحلان في ترجمة الفقيد الكريم - تغمده الله برحمته - أو في مقال خاص، فقد كثرت علينا الرسائل من الفريقين المتنازعين ونحن معرضون عنها؛ لأننا نكره الشقاق والتنازع ونتحرى أن نكتب ما نرجو به إصلاح ذات البين، وهو على معرفة كنه الحال بين الفريقين.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (المرأة في التاريخ والشرائع) هو (كتاب مُصَوَّر فيه 27 رسمًا، يبحث في تطور المرأة في التاريخ منذ عهد البشر البدائي حتى الآن حيث تبوأت كراسي مجالس الأمم. فيدخل في ذلك الكلام عن المصرية القديمة والبابلية والآشورية والصينية واليابانية واليونانية والرومانية والفينيقية، ولا سيما العربية قبل الإسلام وبعده، ويختتم الكتاب في الكلام عن تطور شأن المرأة في التمدن الحديث في الغرب وفي الشرق الأدنى خاصة ملمًّا بتاريخ مسألة الحقوق النسائية - فهو إذًا يكاد يكون بما فيه من أحكام الشرائع تاريخًا عامًّا) . مؤلف هذا الكتاب صديقنا البحاثة محمد جميل بك بيهم من سروات بيروت، وقد ذكر في مقدمته أن الباعث له على تأليفه ما يراه من تطور شأن النساء في الشرق تبعًا لتأثير حضارة الغرب فيه واكتساحه لأخلاقه وتقاليده وآدابه، فأحب أن ينبه الأمة العربية أن لا تؤخذ في هذا على غرة، وأن ينشط الكُتاب للتأليف في هذا الموضوع ويمهد السبيل لعقد رأي عام في مسألة المرأة. طبع الكتاب في بيروت سنة 1339 وقد نظرت في بعض فصوله نظرة عجلى فأعجبني طريقة البحث فيه والتأليف، ثم أمسكته بالقرب مني راجيًا أن أجد فرصة أطالعه فيها بالدقة التي تمكنني من نقده فلم أظفر بها، ولكني أشهد له بما علمت من النظرة الإجمالية أنه من الكتب الجديرة بالمطالعة والاعتبار والنقد، وصفحاته 270 ونيف ماعدا الصور والرسوم، وثمن النسخة منه عشرون قرشًا ويطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (تهذيب الألفاظ العامية) اللغة العامية المستعملة في مصر وغيرها من البلاد الأفريقية والآسيوية العربية هي اللغة العربية طرأ عليها التحريف والتصحيف وترْك الإعراب في التركيب والتأليف، ودخل فيها ألفاظ من لغات الشعوب المخالطة والمجاورة لأهلها ممن دخل الإسلام كالفرس والترك والبربر ثم من الإفرنج. وإن في هذه العامية كثيرًا من فرائد اللغة المهجورة يتحاماها الكتاب والمؤلفون في اللغة الصحيحة المُعْربة لغفلتهم أو لجهلهم بأنها من اللغة، وقد يكونون في أشد الحاجة إليها ولا سيما المترجمين لبعض الكتب الأعجمية منهم - فلهذا عُنِيَ بعض علماء اللغة قديمًا وحديثًا ببيان الدخيل والمولد وتمييز العربي الصحيح من ألفاظ العامة من الدخيل، ورد المصَحَّف أو المحَرَّف إلى أصله، وأجمع ما كتب في هذا العصر وأوسعه وأنفعه - فيما نعلم - كتاب (تهذيب الألفاظ العامية) للأستاذ الشيخ محمد علي الدسوقي خريج دار العلوم المصرية، والمدرس في المدارس الأميرية، وقد نفدت الطبعة الأولى منه فأعاد النظر فيه، وصحح ما كان قد ظهر له من خطأ فيه وزاد فيه زيادة صالحة ثم طبعه 1338 طبعة ثانية بلغت صفحاتها 318 صفحة. وقد وضع الكتاب مقدمة في أدواء العربية العامية وأدويتها التي ترجع بها إلى أصلها - وهي اللحن ودواؤه النحو، والتحريف ودواؤه بيان أصله ورده إليه، والدخيل ودواؤه يتوقف على تأليف مجمع لغوي … وانتقل إلى مبحث التعريب فأطال الكلام فيه، وما يتعلق به ولا سيما التعريب من اللغات الإفرنجية الذي كثر الجدال وعظم الخلاف فيه في المجمع اللغوي الذي ألف بمصر وفي غيره، ويلي ذلك فصول في الوسائل العلمية لتعميم اللغة الصحيحة ونسخ العامية بها سماها (الأدوية العامة) وفصول أخرى من تاريخ اللغة بحث فيها تهذيبها وأدوار تنقيحها قبل الإسلام وبعده وفي الأعراض التي ظهرت عن داء التحريف وهي عشرة، وفي بعض اللهجات الموروثة عن العرب. هذه جملة مباحث المقدمة، وأما مباحث الكتاب فقد جعلها في جداول مقسمة إلى أقسام: (الأول) ما تنطق به العامة صحيحًا ويُظَنُّ أنه عامي. (الثاني) المُحَرَّف بالحركات والأوزان. (الثالث) المُصَحَّف بالحروف. ويتبعه مباحث المهموز والممدود والمشدَّد والمخفَّف واللازم والمتعدي، وما تزيد فيه العامة، وما تنقص منه وما تقلبه، وما تستعمله من البحث والجمع والإفراد والنسب أي ما تخالف فيه العربية الفصيحة من ذلك وغيره ويليه المُوَلَّد والفرق بينه وبين المصنوع. (والقسم الرابع) في سرد الكلمات العامية ومرادفاتها العربية في أثاث المنزل ومتاعه وماعونه وهو مُرَتَّب على حروف المعجم. ولا يحتاج القارئ بعد هذا البيان الوجيز لمباحث هذا الكتاب إلى شهادة له بأنه جدير بأن يسمى تأليفًا جديدًا مفيدًا، وأنه جدير بعناية علماء اللغة العربية والساعين لإحيائها وأنه ينبغي لأهل الأقطار العربية الأخرى في الشرق والمغرب بأن يحصوا من ألفاظ عوام بلادهم ما أحصاه المؤلف. *** (مذكرات غليوم الثاني) شرع الكاتبان: محب الدين أفندي الخطيب، وأسعد أفندي داغر في ترجمة هذه المذكرات وطبعها في أجزاء صغيرة كالمجلات، وسيكون الكتاب بعد تمامه 200 صفحة، وثمنه خمسة قروش، وقد صدر العدد الأول منه في 52 صفحة، وهو ربعه ولكن جعل ثمنه 4 قروش، وقد طبع بالمطبعة السلفية على ورق جيد ويطلب من مكتبتها وسائر المكاتب.

الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخلافة الإسلامية (5) 33- كراهية غير المسلمين لحكومة الخلافة: قد يقول قائل: إن غير المسلمين في البلاد التي توصف بالإسلامية (نسبة للسواد الأعظم من أهلها) يكرهون أن تؤسس حكومة الخلافة فيها، ولا سيما النصارى الذين يرون أن ضعف النفوذ والتشريع والآداب والتقاليد الإسلامية في كل بلد إسلامي إنما يكون بقوة نفوذ الإفرنج وتشريعهم وآدابهم وتقاليدهم - وكذا لغاتهم - وبذلك تكون مقومات الأمة ومشخصاتها أقرب إلى النصرانية منها إلى الإسلام، ومن لم يؤمن بالعقيدة النصرانية والوصايا الإنجيلية بمحبة الأعداء وكراهية الغنى وإدارة الخد الأيسر لمن يضربه على خده الأيمن - فإنه قد يكون أشد استمساكًا بالنصرانية الاجتماعية السياسية أقوى من المؤمنين بالإنجيل إيمانًا، فتلك النصرانية المُزَوَّرَة التي تنسب إليها المدنية المادية الأوربية هي مثار التعصب والكراهة لكل ما هو إسلامي، لا نصرانية الإنجيل الزاهدة المتواضعة الخاشعة ذات الإيثار الذي يسمونه (إنكار الذات) . وإذا كان أمثالهم من مُتَفَرْنِجَة المسلمين يكرهون الحكومة الدينية ويعارضون في إحياء منصب الخلافة، أفلا يكون متفرنجة النصارى أولى؟ وإذا كان الأمر كذلك فكيف نعود إلى تجديد حكومة دينية يكرهها كثير من رعاياها وينفرون منها؟ الجواب عن هذا يحتاج إلى تفصيل نكتفي بالضروري منه فنقول: إذا صح ما يُعْزَى إلى من ذُكر من أهل الوطن بمقتضى العاطفة وتأثير التربية فإن مَن يمحص الحقيقة وينظر إليها بعين المصلحة سواء كان منهم أو من غيرهم فإنهم يحكمون فيها حكمًا آخر. إن حكومة الخلافة إسلامية مدنية قائمة على أساس العدل والمساواة إلا أن لغير المسلمين فيها من الحرية الشخصية ما ليس للمرتد والمنافق من المسلمين، فهؤلاء يريدون أن يكون الإسلام رابطة جنسية أدبية حرة بحيث يكون لهم في حكومته جميع حقوق المسلمين الشرعية والعرفية والقانونية، وإن صرحوا بأنهم لا يدينون الله بالإيمان بعقيدته ولا بإقامة أركانه وشعائره وهم يعلمون أن الحكومة الإسلامية لا تعطيهم شيئًا من ذلك، حتى إن المرأة إذا علمت من زوجها أنه ارتد عن الإسلام حرم عليها أن تقيم معه وتستمر على عصمته، وأحكام المرتدين معروفة، فأمرهم أغلظ من أمر الوثنيين، دع الكتابيين الذين تحل ذبائحهم والتزوج بالمحصنات من نسائهم، ولا تعاقب الحكومة الإسلامية غير المسلمين على كل شيء يحل لهم في دينهم - وإن لم يكن حلالاً في الإسلام - إلا ما فيه إيذاء لغيرهم - بل لا تحاسبهم على شيء من أعمالهم الشخصية التي لا تضر المسلمين ولا غيرهم من رعيتها وإن خالفت دينهم، ولكنها تحاسب المسلمين وتعاقبهم على المعاصي بالحدود وأنواع التعزير كالتوبيخ والحبس، وذلك أن من أصول الإسلام حفظ الآداب والفضائل ومنع الفواحش والمنكرات، وقد وصف الله المسلمين بقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) وقال فيهم: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) وأحكام الردة والحسبة في الإسلام معروفة. فعُلم بهذا أن ملاحدة المسلمين وفُسَّاقهم المستهترين أجدر أن يكونوا أشد كراهية لإقامة أحكام الشريعة من غير المسلمين؛ لأنها تكلفهم ما لا تكلف غيرهم وتؤاخذهم بما لا تؤاخذهم به، وقد اقترح بعض هؤلاء الملاحدة على جماعة المؤتمر السوري العام الذي عقد في دمشق أن يقرروا جعل الحكومة السورية غير دينية، ولا أذكر أن أحدًا من الأعضاء النصارى وافق على الاقتراح، بل صرح بعضهم برده كأكثر المسلمين، واقتُرِحَ في ذلك المؤتمر أن تقيد مادة الحرية الشخصية من القانون الأساسي بقيد عدم الإخلال بالآداب العامة، فرد هذا الاقتراح بعض هؤلاء الموصوفين بالمسلمين وصرَّح بعضهم بتعليل الرد بأنه يترتب عليه أن يجوز للشرطة منع الرجل من الجلوس مع امرأة في ملهي من الملاهي أو مقهى من المقاهي العامة لمعاقرة الخمر ‍!! وقد كان ردُّ هذا الاقتراح أقبحَ خزيٍ صدر من ذلك المؤتمر، وإن علل الرد بعضهم بالاستغناء عن قيد الآداب العامة بقيد القوانين التي يمكن أن ينص فيها على ذلك القيد، وخُدع بعض أهل الدين والأدب بذلك، وما كان ينبغي لهم أن يُخدعوا، بل أقول: إن أكثر النصارى من أعضاء ذلك المؤتمر كانوا أقرب إلى المسلمين المتمسكين بأحكام الإسلام منهم إلى المنفلتين من الدين، وإن كانوا يتقربون إليهم وينتصرون لهم فيما يوافق أهواءهم من مخالفة هداية الدين العامة. وقد ثبت بالتجارب أن غير المتدينين إذا اختلفوا لأسباب سياسية أو غيرها فإنهم يكونون أشد عداوة وقسوة بعضهم على بعض من المتدينين بالفعل من الفريقين - فالمتدين وإن شذ يكون أقرب إلى الرحمة من المادي - واعتبر ذلك بما وقع من القسوة في هذه الحرب البلقانية العامة بين الأوربيين أنفسهم وبين من غلبت عليهم تربيتهم من الأرمن والروم والترك. وأضرب مثلاً آخر: الدكتور (برتكالوس) الرومي قال لجماعة من السوريين كانوا يُظْهِرُونَ الابتهاج والسرور بالدستور العثماني عقب إعلانه: إن حكم الشريعة الإسلامية خير لنا - معشر النصارى - من حكم الدستور الذي يسلبنا كثيرًا مما أعطتنا الشريعة من الامتيازات، ويُحمِّلنا ما أعفتنا من التكليفات. وأيد كلامَه اشتدادُ العداء بين الترك وبين الروم والأرمن وغيرهما بعد الدستور الذي ترتب عليه سلب هؤلاء كثيرًا مما كان لهم منذ كان الحكم بالشرع وحده. وإنني أعقب على هذا القول بأن أشد ما يتبرم به متفرنجة الترك من أحكام الشريعة هو ما أعطته من الحرية الواسعة لغير المسلمين في بلاد الإسلام، ويرون أنه لولاها لصارت هذه البلاد ملة واحدة كبلاد أوربا التي لم يكن فيها شيء من هذه الحرية، ولاستراحت من العداوات والفتن التي أثارها عليهم نصارى الرومللي فالأناضول بدسائس أوربة حتى كانت سبب انحلال السلطنة العثمانية. هذا رأيهم، ومن الغريب أن كثيرًا من نصارى بلادنا المتفرنجين يوافقونهم على هذه النظرية، ويقولون ياليت المسلمين أكرهوا أجدادنا على الإسلام في أزمنة الفتح والقوة، إذًا كنا في أوطاننا أمة واحدة ذات ملة واحدة فنسلم من شقاء هذا الشقاق والفتن المخربة للبلاد. لا مجال في هذا المقام لتحرير القول في هذه المسألة، وليس من الصعب بيان خطأ مَن يظن أن معاملة نصارى الدولة بعدل الشريعة الإسلامية وحريتها هو الذي ألبهم عليها، ولا إثبات أن الذي ألبهم ثم أثارهم هو جهل رجال الدولة وغفلتهم عن دسائس أوربة في هذه الشعوب وما بثوا في مدارسها وكنائسها، وإنما غرضنا من ذكرها أن الشريعة الإسلامية خير للنصارى في بلاد أكثر أهلها مسلمون، من حكومة مدنية لا يتقيد أهلها بأصول هذه الشريعة - كما كانوا في عهد الخلفاء من العرب - فإن الفرق الحقيقي بين الحكومتين هو أن الأكثرية المسلمة لا يحل لها أن تتبع هواها في التشريع الديني ولا في التنفيذ بما يعد ظلمًا للأقلية غير المسلمة؛ لأن الله تعالى حرَّم الظلم تحريمًا مطلقًا لا هوادة فيه ولا عذر، وأوجب العدل إيجابًا مطلقًا عامًّا لا محاباة فيه، وحذَّر تحذيرًا خاصًّا من ترك العدل في حالة الكراهية والبغض من أي فريق كان بقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) أي ولا يحملنكم بُغْضُ قوم لكم أو بغضكم لهم - قال بعض المفسرين: أي الكفار، والصواب أنه أعم - على أن لا تعدلوا فيهم بل اعدلوا فيهم كغيرهم - وحذفُ المعمول دليلُ العموم- أي اعدلوا عدلاً مطلقًا عامًّا في المؤمن والكافر والبر والفاجر والصديق والعدو إلخ، وقال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) أي كونوا قائمين بالعدل في الأحكام وغيرها على أكمل وجه - كما تدل صيغة المبالغة - شهداء لله في إثبات الحق، وما كان لله لا يميز فيه المؤمن نفسه ولا والديه وأقرب الناس إليه على غيره؛ لأن هذا التمييز إيثار لنفسه أو لقريبه على ربه الذي جعل الشهادة له سبحانه، ولا يفرق فيه بين الغني والفقير بأن يحابي الغني طمعًا في نواله والفقير رحمة به، وقَفَّى على هذا الأمر بالنهي عن ضده وهو اتباع هوى النفس كراهية للعدل، وبحظر اللَّىّ والتحريف للشهادة أو الإعراض عنها أو عن الحكم بالحق، وتهدد فاعل ذلك وتوعده بأنه خبير بأمره لا يخفى عليه منه شيء. دع ما ورد في الأحاديث النبوية من الوصية بأهل العهد والذمة خاصة، ولولا ذلك لفعلت الحكومات الإسلامية القوية بالمخالفين لهم ما فعل غيرهم من إبادة بعض وإجلاء آخرين عن ديارهم أو إكراههم على الإسلام أو سن قوانين استثنائية لقهرهم وإذلالهم. وفي التاريخ العثماني أن السلطان سليمان استفتى شيخ الإسلام أبا السعود العمادي الدمشقي الأصل في إكراه النصارى على الإسلام أو الجلاء، فأبى أن يفتيه وبيَّن له أن الشريعة لا تبيح ذلك، فأذعن وكان يريد أن يفعل بهم كما فعلت الدولة الأسبانية بمسلمي الأندلس. وثَم فرق آخر بين الشرع الإسلامي والاشتراع البشري الذي لا تتقيد حكومته بالدين هو في مصلحة غير المسلمين أيضًا، وهو أن كل مسلم يعتقد أن الحكم الشرعي حكم إلهي، وأن طاعته قربة وزلفى عند الله يُثاب عليها في الآخرة، وعصيانه عصيان لله تعالى يُعاقَب عليه فيها، سوء حكم به الحاكم عليه أم لا، ولكن حكم الحاكم يرفع خلاف المذاهب فتكون طاعته ضربة لازب، وهذا ضمان لغير المسلم، الوازع فيه نفسيّ، ولا ضمان مثله للمسلم من غيره. (فإن قيل) : كل ذي دين يحاسب نفسه (أو ضميره) على ما يعتقده من حق عليه. (قلنا) : هذا عام مشترك وما نحن فيه أخص منه، وهو احترام الحكم الشرعي، ووجوب طاعة الحاكم إذا حكم عليه سواء اعتقد صحته أم لم يعتقد، وإن أمن عقاب الحكومة في التفصي منه بالحيلة. وجملة القول: إنه ليس في الشريعة ظلم لغير المسلم يُعْذَر به على كراهيتها، وهي تساوي بين أضعف ذمي أو معاهد وبين الخليفة الأعظم في موقف القضاء وتقرير الحقوق، والشواهد على هذا في عصر الخلافة الراشدة وما بعدها متعددة، وإننا نصرح بكل قوة بأن العدل العام المطلق لم يوجد إلا في الإسلام ولا نعرف لهم مطعنًا في هذه المساواة إلا مسألة رد شهادة غير المسلم على المسلم، وهي مسألة لا يقوم دليل على إطلاق القول فيها بل لها مخرج من الكتاب والسنة وأصول الشريعة، فقد قال تعالى في سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل من القرآن ليس فيها حكم منسوخ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَ

أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم ـ 2

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ أهل الصُّفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوي فيهم لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس سره تابع لما قبله وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزوات متعددة، وكان القتال منها في تسع مغازٍ مثل بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين، وانكسر المسلمون يوم أحد وانهزموا. ثم عادوا يوم حنين، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة، وحصروا في الخندق حتى دفع الله عنهم أولئك الأعداء، وفي جميع المواطن (كان) يكون المؤمنون من أهل الصفة وغيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، لم يقاتلوا مع الكفار قط. وإنما يَظن هذا ويقوله من الضُلاّل والمنافقين قسمان (قسم منافقون) وإن أظهروا الإسلام، وكان في بعضهم زهادة وعبادة يظنون أن إلى الله طريقًا غير الإيمان بالرسول ومتابعته، وأن من أولياء الله من يستغني عن متابعة الرسول كاستغناء الخضر عن اتباع موسى، وفي هؤلاء من يفضل شيخه أو عالمه أو مَلِكَهُ على النبي صلى الله عليه وسلم إما تفضيلاً مطلقًا أو في بعض صفات الكمال. وهؤلاء منافقون كفار يجب قتلهم بعد قيام الحجة عليهم، فإن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم زهادهم وملوكهم، وموسى عليه السلام إنما بعث إلى قومه لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباعه، بل قال له: إني على علم من علم الله عَلَّمَنِيهِ الله لا تعلمه، وأنت على علم من الله تعالى عَلَّمَكَهُ الله لا أعلمه. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وكان النبي يُبْعَثُ إلى قومه خاصة وبُعِثْتُ إلى الناس عامة) وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الأعراف: 158) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) . (القسم الثاني) من يشاهد ربوبية الله تعالى لعباده التي عمت جميع البرايا، ويظن أن دين الله الموافقة للقدر سواء كان ذلك في عبادة الأوثان واتخاذ الشركاء والشفعاء من دونه، وسواء كان في الإيمان بكتبه ورسله والإعراض عنهم والكفر بهم، وهؤلاء يسوون بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات وبين المفسدين في الأرض، وبين المتقين والفجار، ويجعلون المسلمين كالمجرمين، ويجعلون الإيمان والتقوى والعمل الصالح بمنزلة الكفر والفسوق والعصيان، وأهل الجنة كأهل النار وأولياء الله كأعداء الله، وربما جعلوا هذا من باب الرضا بالقضاء وربما جعلوه التوحيد والحقيقية، بنوا على أنه توحيد الربوبية الذي يقر به المشركون وأنه الحقيقة الكونية، وهؤلاء يعبدون الله على حرف فإن أصابهم خير اطمأنوا به وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، وغايتهم يتوسعون في ذلك حتى يجعلوا قتال الكفار قتال الله، وحتى يجعلوا أعيان الكفار الفجار والأوثان من نفس الله وذاته، ويقولون: ما في الوجود غيره ولا سواه، بمعنى أن المخلوق هو الخالق والمصنوع هو الصانع، وقد يقولون: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ} (الأنعام: 148) ويقولون: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} (يس: 47) إلى نحو ذلك من الأقوال والأفعال التي هي شر من مقالات اليهود والنصارى بل ومن مقالات المشركين والمجوس وسائر الكفار من جنس مقالة فرعون والدجال ونحوهما ممن ينكر الصانع الخالق الباري رب العالمين، أو يقولون: إنه هو، أو إنه حل فيه. وهؤلاء كفار بأصل الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؛ فإن التوحيد الواجب: أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا فلا نجعل له ندًّا في ألوهيته ولا شريكًا ولا شفيعًا، فأما توحيد الربوبية وهو الإقرار بأنه خالق كل شيء، فهذا قد قاله المشركون الذين قال الله فيهم: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) قال ابن عباس: تسألهم من خلق السموات والأرض؟ فيقولون: (الله) وهم يعبدون غيره، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25) {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} (المؤمنون: 84-89) . فالكفار المشركون مُقِرُّونَ بأن الله خالق السموات والأرض وليس في جميع الكفار من جعل لله شريكًا مساويًا له في ذاته وصفاته وأفعاله، هذا لم يقله أحد قط لا من المجوس الثنوية ولا من أهل التثليث ولا من الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب والملائكة، ولا من عُبَّاد الأنبياء والصالحين ولا من عُبَّاد التماثيل والقبور وغيرهم، فإن جميع هؤلاء، وإن كانوا كفارًا مشركين متنوعين في الشرك فهم يقرون بالرب الحق الذي ليس له مثل في ذاته وصفاته وجميع أفعاله، ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته بأن يعبدوا معه آلهة أخرى يتخذونها شركاء أو شفعاء. أو في ربوبيته بأن يجعلوا غيره رب الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه رب ذلك الرب وخالق ذلك الخالق. وقد أرسل الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب بالتوحيد الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: 36) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (المؤمنون: 51-52) . وقد قالت الرسل كلهم مثل نوح وهود وصالح وغيرهم: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (نوح: 3) فكل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى طاعتهم. والإيمان بالرسل هو الأصل الثاني من أصلي الإسلام، فمن لم يؤمن بأن هذا [1] رسول الله إلى جميع العالمين؛ وأنه يجب على جميع الخلق متابعته، وأن الحلال ما أحله والحرام ما حرَّمه، والدين ما شرعه - فهو كافر مثل هؤلاء المنافقين ونحوهم ممن يُجَوِّزُ الخروجَ عن دينه وشريعته وطاعته إما عمومًا وإما خصوصًا ويُجَوِّزُ إعانة الكفار والفجار على إفساد دينه وشرعته. ويحتجون بما يفترونه أن أهل الصفة قاتلوه وأنهم قالوا: نحن مع الله، من كان مع الله كنا معه، يريدون بذلك الحقيقة الكونية دون الأمر والحقيقة الدينية. ويحتج بمثل هذا مَن ينصر الكفار والفجار ويخفرهم بهمته وقلبه وتوجهه من ذوي الفقر. ويعتقدون مع هذا أنهم من أولياء الله وأن الخروج عن الشريعة المحمدية سائغ لهم، وكل هذا ضلال وباطل، وإن كان لأصحابه زهد وعبادة، فهُم في العبادة مثل أوليائهم في الأجناد، فإن المرء على دين خليله والمرء مع من أحب. هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جعل الله المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكافرين بعضهم أولياء بعض، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المارقين من الإسلام مع عبادتهم العظيمة الذين قال فيهم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خرجوا عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وفارقوا جماعة المسلمين، فكيف بمن يعتقد أن المؤمنين كانوا يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم؟ ومثل هذا ما يرويه بعض هؤلاء المفترين أن أهل الصفة سمعوا ما خاطب الله به رسوله ليلة المعراج، وأن الله أمره أن لا يُعْلِمَ به أحدًا فلما أصبح وجدهم يتحدثون به فأنكر ذلك فقال الله له: أنا أمرتك أن لا تُعْلِمَ به أحدًا، لكن أنا الله أعلمتهم. إلى أمثال هذه الأكاذيب التي هي من أعظم الكفر، وهي كذب واضح فإن أهل الصفة لم يكونوا إلا بالمدينة ولم يكن بمكة أهل الصفة، والمعراج إنما كان من مكة كما قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1) ومما يشبه هذا من بعض الوجوه رواية بعضهم عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث هو وأبو بكر وكنت كالزنجي بينهما، وهذا من الإفك المُخْتَلَق. ثم إنهم مع هذا يجعلون عمر الذي سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وصديقه، وهو أفضل الخلق بعد الصديق لم يفهم ذلك الكلام بل كان كالزنجي، ويدعون أنهم هم سمعوه وعرفوه، ثم كل منهم يفسره بما يدعيه من الضلالات الكفرية التي يزعم أنها علم الأسرار والحقائق، إما الاتحاد وإما تعطيل الشرائع. ونحو ذلك مثلاً ما يدعي النُّصَيْرِيَّة والإسماعيلية والقرامطية والباطنية والثنوية والحاكمية وغيرهم - من الضلالات المخالفة لدين الإسلام ما ينسبونه إلى علي بن أبى طالب أو جعفر الصادق أو غيرهما من أهل البيت كالبطاقة والهفت والجدول والجفر وملحمة ابن عقب، وغير ذلك من الأكاذيب المفتراة باتفاق جميع أهل المعرفة، وكل هذا باطل فإنه لما كان لآل رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم به اتصال النسب والقرابة، وللأولياء والصالحين منهم ومن غيرهم به اتصال الموالاة والمتابعة - صار كثير ممن يخالف دينه وشريعته وسنته يُمَوه باطله ويزخرفه بما يفتريه على أهل بيته وأهل موالاته ومتابعته، وصار كثير من الناس يغلو إما في قوم من هؤلاء أو من هؤلاء حتى يتخذهم آلهة أو يقدم ما يضاف إليهم على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وسنته، وحتى يخالف كتاب الله وسنة رسوله وما اتفق عليه السلف الطيب من أهل بيته ومن أهل الموالاة له والمتابعة، وهذا كثير في أهل الضلال. (فصل) وأما تفضيل أهل الصفة على العشرة وغيرهم فخطأ وضلال بل خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر كما تواتر ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب موقوفًا ومرفوعًا، وكما دل على ذلك الكتاب والسنة واتفق عليه سلف الأمة وأئمة العلم والسنة وبعدهما عثمان وعلي، وكذلك سائر أهل الشورى مثل طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهؤلاء مع أبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة ومع سعيد بن زيد هم العشرة المشهود لهم

الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنكليزية العالم الأستاذ أبو الكلام ـ 1

الكاتب: أبو الكلام

_ الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنكليزية العالم العلامة الأستاذ أبو الكلام إني قد كنت عازمًا على أن لا أقدم إلى المحكمة بيانًا ما؛ لأنها مكان لا رجاء لنا فيه ولا طلب منه، ولا شكوى إليها، وإنما هي كمنعرج الطريق إلى المنزل لا بد من قطعه للسابل، ولذا نقف فيه وقفة على كُرْهٍ منا وإلا لدخلنا السجن تَوًّا. إن الجمعية الوطنية وجمعية الخلافة وجمعية العلماء قد أبحن تقديم بيان إلى المحاكم لا للدفاع بل لإعلام الأمة الحقيقة، بيد أني ما برحت أشير على الناس بأن يؤثروا الصمت على الكلام، وأن يقاطعوا المحاكم مقاطعة تامة، وذلك لأني أرى أن كل من يقدم بيانًا لدحض التهمة وكشف الحق - وإن كان قصده به إعلام الجمهور- لا يسلم من الظنة؛ إذ يجوز أن يكون في نفسه أدنى هوى للتخلص من العقاب أو في أعماق قلبه أقل رجاء في عدل المحاكم مع أن سبيل (تارك التعاون) مستقيم نَيِّر لا ينبغي أن توسخه الظنون والشبهات. اليأس التام من العدل: إن (اللا تعاون) نتيجة لليأس التام من الحالة الحاضرة، وهذا اليأس هو الذي ألجأ الأمة إلى أن تغيرها وتتبدل غيرها بها، فكأن مَن يقاطع الحكومة ويأبى معاونتها يعلن بأنه يئس من عدلها وحبها للحق، وأنه لا يعترف بها بل يعدها حكومة غاصبة جائرة وغير شرعية؛ لهذا يود إسقاطها وتحطيمها، أفبعد هذا يرجع القهقرى، فينتظر منها أن تنصفه كحكومة عادلة صالحة للبقاء والدوام؟ وإن غضضنا الطرف عن هذه الحقيقة الثابتة، فإن السعي للتبرئة من التهمة ليس إلا فعلاً عبثًا وإنكارًا للحقائق؛ إذ كل بصير يعلم أنه لا رجاء في المحاكم أن تنصف وتعدل في الحالة الحاضرة لا لأن رجالها لا يحبون العدل؛ بل لأنها سائرة على نظام لا يستطيع معه حاكم أن ينصف أولئك الذين لا تريد الحكومة نفسها أن تنصفهم، وإني ههنا أصرح بأن خطاب (اللاتعاون) ليس مع الأفراد والآحاد بل مع الحكومة ونظامها ومبادئها. موقف أصحاب الحق أمام المحاكم والقضاة: إن هذه الحالة مثل سائر حالات عصرنا ليست بفذة، فالتاريخ شاهد على أنه كلما طغت القوات الحاكمة ورفعت السلاح في وجه الحرية والحق، كانت المحاكم آلات مسخرة بأيديها تفتك بها كيف تشاء، وليس هذا بعجيب، فإن المحاكم تملك قوة قضائية، وتلك القوة يمكن استعمالها في العدل والظلم على سواء! فهي في يد الحكومة العادلة أعظم وسيلة لإقامة العدل والحق، وبيد الحكومات الجائرة أفظع آلة للانتقام والجَوْر ومقاومة الحق والإصلاح. والتاريخ يدلنا على أن قاعات المحاكم كانت مسارح للفظاعة والظلم بعد ميادين القتال، فكما أهريقت الدماء البريئة في ساحات الحروب حوكمت النفوس الزكية في إيوانات المحاكم فشنقت وصلبت وقتلت وأُلقيت في غياهب السجون، وليس هنالك عصبة صالحة محبة للحق من الأنبياء والحكماء والعلماء والصالحين إلا ونراها واقفة كالجناة والمجرمين في قاعات المحاكم أمام القضاء، نعم إن كَرَّ الأيام ومَرَّ العشي قد محا كثيرًا من مساوئ العهد القديم، فلا يوجد الآن شيء من المحاكم الرومية للقرن الثاني المسيحي ولا جمعيات التفتيش السرية (jnquisifon) التي كانت في القرون المتوسطة، ولكني لا أستطيع الاعتراف بأن عصرنا هذا قد نجا من تلك العوامل النفسية التي كانت تعمل في تلك المحاكم - حقًّا إن تلك الأبنية التي كانت مكامن للأسرار الرهيبة قد دُكت دكًّا، ولكن مَن ذا الذي يقدر أن يقلب تلك القلوب التي تكمن فيها الأسرار المخيفة لحب الذات والظلم؟ مقام عجيب ولكنه عظيم: إن جدول مظالم المحاكم وفظائعها طويل عريض - تلك المظالم التي لم يفرغ التاريخ إلى الآن من البكاء منها - فترى فيه اسم المسيح صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل الذي أُوقف مع اللصوص في محكمة أجنبية، وسقراط الحكيم الذي اضطر إلى شرب كأس من السم (لأنه كان أصدق رجل في بلاده) وكذا فلورنس غيليلو الذي لم يكذب مشاهداته العلمية؛ لأنها كانت جناية في عين القضاء والمحاكم (وصفت المسيح بالإنسان الكامل لأني اعتقد أنه إنسان، ولكن الملايين من الناس يعتقدون أنه فوق هذا) إذن ما أعجب قفص الجناة وما أعظم شأنه ‍‍!! إنه موقف للصنفين معًا: الأبرار والأشرار، حتى إنه كان لائقًا بهذا الوجود العظيم. حمدًا وشكرًا: وإني إذ أتدبر التاريخ العظيم لهذا الموقف وأراني قد شرُفت بالوقوف فيه يسبح روحي بحمد الله ويلهج لساني بشكره من غير قصد مني، وهو وحده يعلم ما أجده من الجذل والابتهاج؛ إذ أحسبني في هذا القفص محسودًا للملوك والسلاطين العظام، فأين لهم في قصورهم المريحة تلك المسرة والراحة التي يرقص لها قلبي في صدري؟ ويا ليت الإنسان الغافل والعاكف على هواه يشعر بنفحة منها! وإني أقول حقًّا: إنه لو أدركها الناس لتمنوا المثول في هذا المكان، ولنذروا النذور لأجله! *** لِمَ أخاطب المحكمة؟ إني كنت عازمًا على السكوت في المحكمة، ولمَّا أُحضرت فيها ورأيت الحكومة تقدم في إثبات جريمتي الخطبتين اللتين ألقيتا في بعض مجامع (كلكتا) وهما لا يحتويان على جميع الأمور التي ما زلت أكررها في جميع خطبي ورسائلي ومقالاتي التي تعدو الحصر، والتي إن قدمت كانت أنفع لمقصدها - علمت أنها عاجزة حتى عن تهيئة ذلك المستند الذي يعتبر في هذه الأيام كافيًا لإنزال العقاب مع شدة رغبتها وحرصها على سجني. فغيرت قصدي وقلت: إن العلة التي كانت مانعة من الكلام أصبحت موجبة له فأردت أن أثبت بلساني الأمر الذي لا تستطيع الحكومة إثباته مع علمها به وشدة رغبتها في إثباته، وإني أعلم أن قوانين المحاكم لا توجبه عليَّ ولا تضطرني إلى الاعتراف به من تلقاء نفسي، ولكن قانون الحقيقة فوق هذه القوانين الوضعية، وهو الذي يسوقني إلى ما سأقوله؛ إذ ليس من الحق أن نذر شيئًا مستورًا؛ لأن الخصم لا يستطيع إثباته. الاعتراف بالجناية: إن الاستبداد الذي ابتليت به الهند نوع من ذلك الاستبداد الذي يصيب الأمم في طور ضعفها ووهنها وهو من طبعه يبغض الحركة الوطنية والحرية والمطالبة بالحقوق بغضًا شديدًا؛ لأنه يعلم أنها إذا نجحت سقطت قوته الظالمة وانمحى وجوده الفاحش، وما من وجود يحب سقوط نفسه وزواله مهما يكن زواله ضروريًّا في عين الحق والإنصاف. فالتدافع بين الحرية والاستبداد (تنازع للبقاء) و (تزاحم في الحياة) كل من الفريقين يجدّ ويكد للفوز والبقاء: الأمة تريد أن تنال حقها المغصوب، والاستبداد يأبى عليها ولا يريد التزحزح عن مقامه، ولا تثريب عليه لأنه - وإن كان وجوده خلافًا للحق - يدافع عن نفسه وحياته، وليس لنا أن ننكر مقتضيات الطبيعة فكما يسعى الخير لبقائه يسعى الشر أيضًا، ومهما يكن ملومًا في نفسه لا يلام على رغبته في الحياة. وقد بدأ التزاحم في الهند بين هاتين القوتين: الحرية والاستبداد - فليس ببدع أن تكون الحرية والمطالبة بالحقوق جناية في عين الاستبداد، وأن يكون محاربو وجوده الباطل جناة وأثمة وأهلاً للعقاب الشديد. فما دام الأمر كذلك فإني أعلن على مسمع من المحكمة والحكومة بأنني أنا قد ارتكبت هذه الجناية ارتكابًا واقترفتها اقترافًا، وإن كانت الحكومة لا تعلم - وهي تعلم - فلتعلم الآن أني من أولئك الجناة الذين بذروا بذور هذه الجناية في قلوب أمتهم ووقفوا حياتهم على سقيها وتنميتها وتثميرها بل إني - ولا فخر - أول مسلم في الهند دعى أمته من اثنتي عشرة سنة إلى هذه الجناية دعوة عامة وحول وجهتها في خلال ثلاث سنوات عن العبودية التي كانت الحكومة زينتها لها إلى الحرية التي قد أشرقت شمسها الآن، ولن تنكسف أبدًا. فإن كنت آثمًا في زعمها فلتعاقبني بما تشاء، فها أنا ذا معترف بالجناية بصدر رحب ولسان طلق غير جذع منها ولا نادم عليها؛ لأن هذا ما كنت أتوقعه وأعرفه من قبل. وإني لا أنتظر من الحكومة إلا الغلظة والقسوة لأني - وإن ألفيتها تدعي العصمة من الخطأ والزلل ولا تعترف بذنوبها - أعلم أنها ما ادّعت أبدًا أنها مثل المسيح في لينه وحنانه، فإذًا كيف أنتظر منها أن تقبل أعدائها وتحبهم كأصدقائها. وأعلم أنها لا تعاملهم إلا بتلك المعاملة التي نراها منها الآن والتي ما زال الاستبداد يختارها لمحق الحرية والحق وخنق أصحابه وحماته، فالشدة الغلظة من الحكومة شيء طبيعي لا ينبغي لنا أن نشكو أو نعجب منه بل على كل من الحزبين أن يعملا على مكانتهما حتى يفصل الله بينهما وهو خير الفاصلين. (ثم قال بعد هذا: إنه لم يقبض عليه لأجل الخطبتين اللتي قُدمتا في المحكمة بل ليخلو للحكومة جو كلكتا كيلا يقاطع احتفال ولي عهد إنكلترة عند قدومه إليها وتضعف الحركة الوطنية والإسلامية. ثم ذكر أشد ما في الخطبتين وهو ما يلي) : أشد ما في الخطبتين: إن الحكومة التي تأسست على الظلم لظالمة، وهي إما أن تتوب من ذنوبها وفظائعها وتخضع للحق، وإما أن تزول من الوجود. أيها الناس: إن كنتم تتألمون لإخوانكم الذين قُبِضَ عليهم فعلى كل منكم أن يبت في نفسه الآن: هل هو راضٍ بأن تظل هذه الحكومة قائمة في بلادنا كما كانت عند القبض على إخواننا؟ إذا كنتم تريدون تحرير بلادكم من رق العبودية فطريقته واحدة، وهي أن لا تَدَعوا فرصة لأعدائكم الماكرين لاستعمال أسلحتهم القتالة التي عندهم بغير حساب.... إن بعض الناس يظن أن الخطيب إذا فاه بمثل هذه الأقوال يحتاط لنفسه وإلا فإنه بالحقيقة لا يقصد بها شيئًا، ولكني أيها الإخوان أعتقد أنه ليس فيكم أحد يحسب أولئك الذين يتعبون من أجلكم خوافين من السجن أو الاعتقال أو مخلصين لهذه الحكومة الظالمة في نفسها وقوتها بقولهم: إن أعمالنا يجب أن تكون بالأمن والنظام - لا لا، إن هذا لا يتصور أبدًا، بل الحق الذي لا مراء فيه أنهم يقولون ذلك لأنهم يرون نجاحكم متوقفًا على الأمن والنظام؛ إذ أنتم لا تملكون تلك الآلات الجهنمية التي تتسلح بها هذه الحكومة، وإنما الأسلحة التي لديكم هي الإيمان والضمير وقوة التضحية، فاستعملوها في وجهه تنجحون، وإلا فلا نجاح لكم بالأسلحة المادية. أيها الناس: إن كنتم تريدون أن تعرقلوا الحكومة برهة من الزمن فطرقه كثيرة، ولو كنت - لا سمح الله - من المحبين للحكومة لبُحْتُ بها ودعوتكم إليها ولكن الذي أريده منكم هو (الحرب الحرب) الحرب التي لا تنتهي في يوم واحد بل تمتد إلى يوم الفصل، وما أدراكم ما يوم الفصل؟ اليوم الذي إما أن تُمحى فيه هذه الحكومة الجائرة، وإما أن تُفني ثلاثمائة مليون من النفوس البشرية. *** الاعتراف فوق الاعتراف: إن كانت هذه التصريحات (جناية) فإني معترف بأن قلبي قد اشتغل بها ولساني قد نطق بها، وإني الذي صرحت بها أمام عشرات الألوف من الناس ليس في هاتين الخطبتين فقط، بل في خطب أكثر من أن تُعَدَّ وتُحْصَى بل ما برحتُ أقول أكبر وأشد منها؛ ذلك بأني أعتقد أن الصدع بها واجب عليَّ، ولن يمنعني من أداء الواجب كونه مُعَاقَبًا عليه بقانون 124 من القوانين الهندية [1] بل إني لأجدني الآن مدفوعًا إلى التصريح بها أمام المحكمة، ولا أزال قائلاً بها ما دام لساني بين أسناني وروحي في جثماني. وإن لم أفعل ذلك أكن ظالمًا لنفسي وعاصيًا عند الله وعند الناس أجمعين. الحكومة الحاضرة (ظالمة) : نعم إني قلت: (إن الحكومة الحاضرة ظالمة) وإن لم أقل هذا فماذا أقول يا ترى؟ وأيم الله إني لأعجب كيف يُطْلَبُ مني أن أسمي شيئًا بغير اسمه، وأن أدعو ال

انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى ـ 3

الكاتب: شكيب أرسلان

_ انتداب العرب في سويسرة في القرون الوسطى طرفة تاريخية من قلم الأمير شكيب أرسلان الشهير (3) آثار العرب في سويسرة: لم تزل للعرب آثار كثيرة في سويسرة، منها برج السارازين (لا يخفى أن لفظة سارازين كان يطلقها الإفرنج على المسلمين في القرون الوسطى واختلفوا كثيرًا في أصل هذه الكلمة وكيفية اشتقاقها، وقرأت في رحلة ابن بطوطة أن الملك الرومي الذي كان في القسطنطينية سأله هل أنت سراكنوا؟ قال: وهذا اللفظ معناه مسلم بلغتهم) وهو برج بقرب بلدة فيفاي بجوار (مونتروا) من مقاطعة (لوزان) ومما ينسب إليهم مغارة وكهف في جهات لوستس. وقال بعض المؤرخين ممن نقل عنه كلر: مِن المُحقَّق أن عصائب العرب زحفت إلى (الجورة) وبحيرة جنيف وأنه لم يوجد من مؤرخينا من يذكر دخولهم إلى روارسيه، وكانت كتبنا صامتة عن ذلك. فالتواتر ورواية الأخلاف عن الأسلاف متصلة بالسند تقومان مقام ذلك، وكثير من أسماء هذه البلاد تدل على وقوع هذه الغزاة. وعلى نصف ساعة من دفليه في الجبل من جهة الشمال الغربي على مقربة من الطريق الروماني المؤدي من دليمون إلى آجوا يوجد مضيق بين جندلين اسمه كهف (السارازين) وشيوخ دفليه يروون عن آبائهم وأجدادهم خلفًا عن سلف أن هذا المكان كانت أقامت فيه شرذمة من (السارازين) كانوا يوردون جمالهم (يظهر أنه أينما تكون العرب تكون الجِمَال ولو في قلب أوربا) ماء سورن بقرب كورتتل، وهذا اسم طريق روماني مهجور الآن، ثم إلى أحد صخور غار السارازين عدد 23 منقور نقرًا غريبًا بأرقام عربية لا يعرف السبب في نقر هذا العدد خاصة لانقطاع سند التواتر وعدم وجود تاريخ لذلك، وإنما المعروف أن العرب كانوا مقيمين هناك دركًا ثم إنه بقرب روسميزون تجاه جبل شبوت يوجد طريق اسمه طريق السارازين. ثم إنه يوجد في بلاد البيامون ووادي ساس في الجبل طريقان: أحدهما يمر من فوركنتال مخترقًا ممر أنترونه، والثاني يمر من مونتومورو أي جبل المورو - وهو المسلم المغربي في عرف الإفرنج - وكل من المضيقين كان إلى سنة 1440 يقال له الممر القديم، ويقول فرديناند كلر نقلاً عن المؤرخين أنه مما لا يجوز أن ننساه أن المعاهدة التي عقدها الملك (هوغ كونت برفاتس) مع العرب كان من جملة شروطها: سد جميع المضايق والثنايا إلا ثنية سان برنار فقط؛ فلذلك ترى هناك محلاًّ اسمه (الماجل) وهو بدون شك محطة بريدية، وتجد في وادي ساس مكانًا يسمى (ألا لاين) وهو (العين) وهناك ماء على الطريق في أعلى الوادي كما أن في شرقي الوادي عين ماء اسمها Eienapl أي عين الألب. وفي غربي وادي ساس محل اسمه ميشابل وهو حسبما يظن الأستاذ هيتسيغ مُحَرَّف عن (مشبل) أي اللبوة التي معها أشبالها بدليل أن هناك غربي ممر سيميلون جبلاً اسمه جبل الأسد، ونحن نظن أن الاسم هو (مشابل) كما يلفظونه الآن لا (مشبل) وهو جمع (مشبل) اسم مكان، كقولك: مأسدة. أو هو (مشابيل) جمع (مشبول) ومكان مشبول: كثير الأشبال. ومن أكثر الأشياء في تلك الجهات التي جال فيها العرب اسم (مورو) الذي هو - كما تقدم - اسم المغربي عند الإفرنج؛ لأن الرومان كانوا يسمون المغرب الأقصى (موريتانيه) فمن ذلك جبل مورو الذي عند فراكسينة، وعليه قصر من آثار العرب ويوجد ممر اسمه موروباس في ناحية (ماكوغناغه) في البيامول، كذلك في واد يقال له وادي أنزا (ولعله وادي العنزة) محل يقال له (سيما دليمورو) أي قنة المغربي وهو إلى الشمال من بريسينون، وفي جبل سان برنار غربي الدير الشهير قنة شاهقة اسمها مونتمور. وما عليه اسم (سارازين) شيء لا يكاد يُحْصَى. ذكر المسيو إدوارد كلرك في تاريخ ولاية (فرانش كونته بفرنسة) أن الأسماء المضافة إلى سارازين كثيرة في تلك الولاية، قال: عندنا خمسة كهوف يسمى كل واحد منها بكهف السارازين، وجسران اسم كل منهما جسر السارازين، وثلاثة قصور كل منها يقال له قصر السارازين، وطريقان كل منهما يسمونه السارازين، وسد طاحون منسوب إلى السارازين، وواد صغير يسمونه وادي السارازين، وجندلان كبيران كل منهما يقال له صخر السارازين، وباب يُرْفَع ويخفض من آثار السارازين، وقرية اسمها ساراز، وهناك أيضًا حائط السارازين ومعسكر السارازين إلخ، وأمثال هذه الأسماء يجدها الإنسان في مقاطعة بريس وفي الليونه، فمن ليون إلى حدود فرنسة الجنوبية تكثر الأبواب التي ترفع وتحط أمام القلاع، وكلها منسوبة إلى السارازين. ويقول هؤلاء المؤرخون الذين أثرنا عنهم ما تقدم من تاريخ العرب في سويسرة: إنه كان للعرب قدرة بالغة على البناء وتشييد الأبراج وتحصينها وإحكام أقفالها، وقد تركوا آثارًا بديعة مدهشة، ففي إيطالية وغربي سويسرة لا تزال جدران كثيرة مبنية بالحجارة الكبرى من بناء العرب، وفي كل بناء تركوه ظهر أنهم أهل هندسة وقوة حيلة يُعْجَب بها كل من تأملها، فتركوا بهذه الآثار ذكرًا عظيمًا بين الأهالي؛ ثم إنه قد وجدت في سويسرة مسكوكات كثيرة عربية، وأكثرها من مسكوكات الإسلام في إفريقيا منها ضرب سنة 169 للهجرة ومنها ضرب 182 للهجرة، وأكثرها من عصر هارون الرشيد، وقسم منها مضروب في القيروان، ويُظن أن أكثر هذه النقود وصلت إلى سويسرة بواسطة النورمانديين، وكذلك وجدت في بلدة مودون من سويسرة مسكوكات منها من سنة 170 للهجرة مضروب في أفريقيا ومنها ضرب إسماعيل بن أحمد في أيام الخليفة المعتضد سنة 283 للهجرة، ومنها ضرب في بغداد سنة 361 هجرية مكتوب على بعضها من الوجه الواحد (لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ركن الدولة أبو علي بويه، ومن الوجه الآخر: بسم الله، قد ضرب هذا الدرهم في مدينة السلام عام ثلاث مائة وأربع وستين. ووجدت على بعضها: محمد رسول الله. الطائع لله الملك العادل عضد الدولة أبو شجاع. ويظن أن هذه المسكوكات وصلت بواسطة الحروب الصليبية أو عن طريق التجارة. ومما وجد من آثار العرب في سويسرة ثوب حريري مُطَرَّز في دير بقرب (شور) يستعمله القسوس في القداس عليه كتابات عربية مطرَّزَة بالقصب، ولا شك أنه قبل أن يصير ثوبًا كَنَسِيًّا كان خلعة ملوكية أو حلة لأحد الأمراء، وقد أتى المسيو سلنستر دوساسي في كتابه (المنتخب من تآليف العرب) في الصفحة 305 على بحث دقيق يتعلق بهذه المنسوجات العربية الفاخرة فقال ما ترجمته: (عرفنا منسوجات كثيرة من هذا النوع الذي يسميه ابن خلدون بالطراز، منها المعطف الذي كان يلبسه قياصرة ألمانية عند تتويجهم، فهذا الرداء عليه كتابات عربية منسوجة بخيوط ذهبية، وقد قرأها وترجمها المسيو تيسشن فظهر أنه نسج في بلرم في دولة الملك روجر (والعرب يقولون رجار) سنة 528 هجرية أي 1133 ميلادية وتجزم بأنه في أيام رجار؛ لأن الكتابات ليس فيها شيء من آثار الدين الإسلامي، ومنها قطعة حريرية مطرَّزَة بالذهب محفوظة في خزانة ذخائر كنيسة (نوتردام) الكبرى بباريز بديعة الصنع مكتوب عليها اسم الخليفة الحاكم بأمر الله المتوفى سنة 411 للهجرة، ثم قطعة ثالثة شبيهة في النفاسة بالثانية وجدت في ضريح بدير (سان جيرمان) المروج، عليها كلمتان عربيتان مكررتان مرارًا. كذلك في مؤلف ظهر على آثار بلرم باللغة الإيطالية طبع في نابلي سنة 1814 مذكورة كتابة عربية وجدت على أكمام القميص الذي وجد في ضريح الإمبراطور فريدريك الثاني المتوفى في 13 ديسمبر سنة 1250. كذلك يذكر المسيو (دومور) سجادة عليها كتابة عربية نسجت في مصر في زمان الخليفة المستعلي بالله وذلك يكون بين سنة 1094 وسنة 1101 للميلاد وهذه السجادة هي في خزانة آثار الفاتيكان الآن (أي في زمان دساسي وهذا عاش بين سنة 1758 وسنة 1838) . قد نقلنا كثيرًا من هذا التاريخ عن المسيو رينو الفرنسي وهو من المستشرقين المشهورين، كان عضوًا للمجمع الملكي للآثار والآداب وأحد حفظة الكتب الشرقية المخطوطة في مكتبة باريز الملوكية وتأليفه المسمى غارات العرب في جنوبي فرنسة وفي البيامون (شمالي إيطالية) وفي سويسرة طبع بباريز سنة 1836 وقد طالعنا منه نسخة في مكتبة منيخ عاصمة البافيار وذلك سنة 1920. وأما المؤرخ الألماني الذي اعتمد عليه (فرديناند كلر) فهو (ليود براند) المؤرخ الشهير القديم العهد ولد سنة 922 في لومباردية من أصل شريف ونشأ في بلاط الملك هوغ المارّ الذِكْرِ في بافيان سنة 945 وعندما نفي الملك هوغ دخل (ليود براند) في خدمة (برانجر) خلفه وقد سفر لبرانجر هذا إلى ملك القسطنطينية وكانت وفاته سنة 970 وألف كتابين باللاتينية أحدهما اسمه: (معالي الإمبراطور أوتون الكبير) والثاني اسمه (سياحتي إلى القسطنطينية) ملأه هزؤًا بدولة بيزنطية وصنَّف كتابًا اسمه (الانتقام) كله نكات ونوادر على أبناء عصره. وفي زمانه كانت وقائع العرب في سويسرة. هذا ما اتصل إليه علمنا من تاريخ إقامة العرب بسويسرة، أو بالأحرى (انتداب) العرب لإدارة تلك البلاد في القرن العاشر. فإن قيل: إنك تُعَرِّضُ بما تسميه دول الحلفاء اليوم (انتدابًا) على سورية وفلسطين والعراق، وهذا لا يشبه ذاك؟ أجبنا أنه لا يوجد أدنى فرق بين الانتدابين، فإذا كان العرب سفكوا دماء بسويسرة فهو - ولا شك - أقل جدًّا مما سفكه الحلفاء في سورية والعراق، وإذا كان أخذوا جماعة بثأر واحد فالحلفاء لم يتوقفوا دقيقة واحدة عن تدمير قرى بتمامها ورمي القنابر الديناميتية على النساء والأطفال والعاجزين وحصد رءوس الألوف لأجل الانتقام من عمل رجل واحد أو عصابة مؤلفة من بضعة رجال. وإن قيل: إن العرب في سويسرة سلبوا ونهبوا، فهل إذا تأمل المنصف إدارة الحلفاء في البلاد الشرقية التي احتلوها وما جمعوه منها من الذهب وما وزعوا من الأوراق المالية بدون ضمان وما حمّلوا الأهلين من المغارم وما استأثروا لأنفسهم من معادن البلاد وأصناف مرافقها - يجد شيئًا غير السلب والنهب؟ وزد على ذلك شيئًا، وهو أن العرب لم يخدعوا أهل سويسرة في القرون الوسطى بقولهم: أنهم حلفاؤهم وأنهم إنما جاءوهم لتحريرهم من رق الأجانب حتى إذا انكشف الغطاء عرفوا أنها خدعة وظهرت الذئاب من تحت أصواف الحملان، كلا كان عمل العرب في سويسرة أشرف، وأبعد عن اللؤم، ولم يكونوا مع ذلك دولاً عظامًا بل شرذمة صعاليك لا يعيبهم ما يعيب الدول العظام {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان ... ... ... ... ... ... ... ... في 15 إبريل سنة 1922 (المنار) إننا نود لو يكون للقراء من العبرة بهذه الأثارة من تاريخهم ما هو في نظرنا أهم من المقارنة التي ختمها بها الأمير الكاتب مراعاة لمقتضى الحال، وهي المقارنة بين أحوال الأمة في طَوْر حياتها وإقبالها، وطور ضعفها وإدبارها. تتقاذف الأمواج برهط من صعاليك العرب لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين فتلقيهم بسواحل بلاد لا يشاركهم أهلها في لغة ولا دين، ولا تربطهم معرفة ولا عهد ‍! يكون من أمرهم وأمر شراذم تتبعهم ما استخرجه لنا الكاتب من أسفار تواريخهم من عزة ومنعة، وتمكن في الأرض، وقتال أو إجارة للأمراء والملوك وفرض الضرائب والمكوس، وإقامة للصروح والحصون. ثم يكون من أمر هذه الأمة أن يذل ألوف الألوف منهم في عقر دارهم، ويسلمون قيادهم فيها لأعدائهم باختيارهم، حتى يكون من مثل أمير الحجاز، تلك البلاد المقدسة التي تحترمها الدول الكبرى ولا تدنو منها بسوء، أن يقترح باختياره على الدولة الإنجليزي

إماطة اللثام عما علق بأذهان بعض المنتسبين إلى العلم من الأوهام

الكاتب: أحمد عطية قوره

_ إماطة اللثام عما علق بأذهان بعض المنتسبين إلى العلم من الأوهام جاءتنا الرسالة الآتية في مسألة تسويد النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات المشروعة، ومسألة التوسل، فننشرها مع الوعد بنشر ما يجيئنا من رد عليها تُرَاعى فيه آداب المناظرة. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله الهادين المرشدين (أما بعد) فإنا نحرِّر هذه الرسالة قيامًا بما أوجبه (الدين النصيحة) في الكشف عن مسألتين خلط فيهما بعض من ينتسب للعلم: (الأولى) راجعة إلى الأحكام (والثانية) راجعة إلى العقائد. موضوع الأولى (تسويد) النبي صلى الله عليه وسلم، وقضاؤنا فيها أن من أتى بها في الصلاة أو في الأذان أو في دعاء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن تكون من شرع الله ودينه - فهو مبتدع، وفي الأوليين مبطلة لهما ? وفي الثالث مكروهة كراهة تحريم، وقد رأينا أن نجري على ما كان عليه المهتدون الأولون في الإرشاد، فنقدم الأدلة على هذه الأمور الثلاثة: التسويد في الصلاة، وما بعدها؛ تطبيقًا للفروع على الأصول، وإن كانت أحوال المناظرة وقوانينها تقضي على المثبت بإقامتها لا علينا كما هو معروف عند الأصوليين وسواهم أن المثبت لأمر هو المُدَّعِي المطالَبُ بإقامة الأدلة على دعْواه، أما النافي فيكفي أن يقول: لم يرد ونحوه، فنقول: إن مرجع الأحكام إلى واحد من أربعة أمور أو خمسة على الخلاف في الاستحسان والمصالح المرسلة: (1) كتاب الله. (2) صحيح السنة أو حسنها أو ضعيفها فيما يتبع العبادة المعروفة عندهم بفضائل الأعمال، الخالي عن ورود شيء فيه من النوعين الأولين. (3) الإجماع بأنواعه، ولا سيما الثابت عن الصحابة. (4) القياس الصحيح فيما لا نصَّ فيه (دع الاستحسان والمصالح المرسلة) . أما الكتاب فلا تعرض لها فيه؛ إذ لم يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم إلا مجردًا عنها، وأما السنة فهي نافية لها؛ لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة بعد التشهد على اختلاف الروايات فيها حال تعليم النبي صلى الله عليه وسلم إياها للصحابة خالية من تسويده، وكل من الأذان والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم توقيفي ثابت بِعَدِّ كلماته، ولم يذهب أحد من الأربعة ولا غيرهم من علماء المسلمين - متقدميهم ومتأخريهم - إلى جواز ذكرها في الأذان ولا في الإقامة، وأما بعد التشهد فالكثيرون أو الأكثرون على عدم جوازها، كما سيأتي بيانه بعد مفصلاً. لا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم تركها تواضعًا، فإنها لو وجبت أو شرعت ولو استحبابًا أو جوازًا لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم تبليغها، وإلا لم يؤد وظيفة البلاغ كما أمره الله تعالى بقوله: {بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} (المائدة: 67) الآية، خصوصًا وأنه في مقام البيان بعد سؤال الصحابة (رضي الله عنهم) عن كيفية الصلاة عليه المشروعة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) الآية. رواه مسلم وغيره. وأيضًا فهي مخالفة لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) رواه البخاري. ولقد فهموا - رضي الله عنهم - ما أراده ونِعْمَ ما فهموا، ولذلك امتنعوا عن الإتيان بها ولو كانت غير مبطلة فضلاً عن كونها مندوبة كما يزعم البعيد عن معنى كونه صلى الله عليه وسلم مشرعًا وكونهم ممتثلين، لَمَا فاتهم الإتيان بها وهم أفضل الأمة وأكثرها أدبًا وقدوة لمن بعدهم إلى يوم القيامة، وإن اتفاقهم على عدم الإتيان بها من غير إنكار أحد منهم على أحد مع ما هو معروف عنهم من إكباره صلى الله عليه وسلم وإجلاله - لهو أبلغ إجماع على عدم الإتيان هذا، وقد روى النسائي عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه أنه قال: (انطلقت في وفد من بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: السيد الله، قلنا: وأعظمنا وأفضلنا، قال: قولوا بقولكم- أو: بعض قولكم - أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أُحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي رفعني الله عز وجل) . فهذا الحديث صريح في نفيها من وجهين: الأول دلالة الفحوى، فإنها إحدى طرق القصر، وذلك قوله: (السيد الله) فإنها جملة مُعرَّفة الطرفين مفيدة للحصر؛ ولهذا وقع الرد بها في القرآن ردًّا على الحصر بـ (إنما) في قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ} (البقرة: 12) ردًّا لقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} (البقرة: 11) وأمثال هذا كثير. الوجه الثاني: بالمنطوق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أحب أن ترفعوني.. .) إلخ، ومنزلته بالحصر {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ} (الفتح: 29) وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} (آل عمران: 144) وأمثال هذا. فقد تبين من هذا أن كلاًّ من الكتاب والسنة والإجماع يمنع الإتيان بها، ولا يجترئ مسلم على القول بأن الصحابة (رضى الله عنه) اجتمعوا على منكر وهو ترك شيء من الدين، وبهديهم اهتدى التابعون لهم بإحسان فمن بعدهم حتى دَبَّ الفساد في المسلمين، وغلبت الأهواء على أئمة الدين، فجاءوا بالاستحسان والمصالح المرسلة فزلزلوا سلطان الدين من النفوس [1] حتى صار لا يسمع إلا قول فلان وفلان وصار الدين وضعًا فكريًّا لا وضعًا إلهيًّا. وأما القياس فهو بنفيها أشبه وإن لم تكن إليه حاجة بعد النصوص؛ لأنه إنما يُسْتَدَل به فيما لا نص فيه، وقد قدمنا النصوص من الكتاب والسنة والإجماع ومع ذلك فهو قاطع في نفيها، ولنورد على ذلك بعض الأمثلة: لا يجهل أحد أن أفضل ما ينطق به اللسان هو القرآن الكريم، وقد أجمعوا على أنه لو أتى به في ركوعه أو سجوده كان مخالفًا للسنة، وقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رفع سجاف حجرته في مرضه الذي مات فيه فأشرف على الصحابة وهم متأهبون للصلاة، فقال: (نُهيتُ أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا) ولا يقال: إنه نهى عنه لإطالة الركوع والسجود لأن كثيره وقليله سواء في النهي؛ ولأنه لو أطالهما بالتسبيح بمقدار سورة البقرة - ولا سيما في النوافل - لما بطلت صلاته، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في ركعة واحدة البقرة ثم النساء ثم آل عمران ثم كان سجوده قريبًا من ركوعه المذكور. رواه مسلم. فالسيادة التي ليست بذكر ولم ترد في شىء مما تقدم من الأدلة أولى بالمنع. مثال آخر: قال الإمام النووي في شرحه حديث كيفية تعليم النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم أن يصلوا عليه، ما حاصله: أن قول القائل في الصلاة (ورحمت) قبل (وباركت) أو بعدها - غير جائز وإن وردت في حديث غريب؛ لأن العبادة لا يؤخذ فيها إلا بالحديث الصحيح أو الحسن الخالي عن علة كالغرابة ونحوها اهـ. فالسيادة أولى بالمنع لعدم ورودها ولا في حديث موضوع، بل ورد النهي عنها كما تقدم في حديث النسائي فهي إحْدَاثٌ محضٌ في الدين [2] مردودةٌ على مُحْدِثها، عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. يشهد بذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ) وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم عن عائشة [3] . هذا ما يتعلق بها من حيث الأصول الأربعة المُعَوَّل عليها. ولنرجع إليها من حيث الفروع، فنقول: مذهب الشافعي أن كل كلام أجنبي - أي غير مشروع - مُبْطِل للصلاة ولو حرفًا مفهمًا أو حرفين وإن لم يُفهِما. وقد تبين مما تقدم أنها كلام أجنبي بالمعنى المذكور، والقول بالبطلان ليس بدعًا منا، بل هو قول المحقق الطوسي من أئمة الشافعية، وقد نقل هذا العلامة الكردي المدني في حاشيته على شرح ابن حجر الهيتمي، قال ما محصله: اختلف في تسويد النبي صلى الله عليه وسلم عقب التشهد، فقيل بجوازه تأدبًا، وقيل بكراهته، وقيل بحرمته، وقال الطوسي من أئمتنا: إنها مبطلة. قال الكردي بعد هذا: ولعل الطوسي غلط اهـ وقد تبين مما تقدم أنه الحق، وأما تغليطه إياه فهو مبني على ما قدَّمه من جوازها تأدبًا، وعلى ما قاله بعض المتأخرين من الشافعية وهم شذوذ بالنسبة إلى المتقدمين؛ لأن القول بجوازها تأدبًا يؤدي إلى رفع الأدب عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهو ما لا يجترئ على القول به ذو دين. هذا ولم يقل بجوازها أحد من الأئمة الأربعة، ولم ينقل عن أحد من أصحابهم القول بالجواز. هذا ما يتعلق بها من حيث الفروع والأصول. وإن فيه لمقنعًا لمريد الحق المنصف. *** مسألة التوسل والمسألة الثانية من الرسالة موضوعها ما ادعاه بعض من انتمى إلى العلم من سنية التوسل مُرْتَكِنًا فيه على حديثين: أحدهما (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك) الثاني ما ورد في تفسير الكلمات التي تلقت آدم أو تلقاها في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ} (البقرة: 37) الآية، وإنا نتكلم على كل من الحديثين ثم نفصل المسألة من حيث المنقول فيهما عن الأئمة بالإيجاز، فنقول في شرح الحديث الأول، وخير ما فسرته بالوارد جاء من حديث معاذ عند مسلم ما ملخصه: (إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وإن حقهم عليه إذا هم فعلوا ذلك ألا يعذبهم) فمعنى حق السائلين أي العابدين المخلصين في عبادتهم - كما يؤخذ من الحديث - هو أن تشملهم رحمته، وحينئذ يرجع معنى الحديث إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يدخله في رحمته؛ لأنه خير عابد مخلص بصفة من صفاته الذاتية وهي الرحمة المبينة في حديث: (إن رحمتي سبقت غضبي) وسؤال الله بصفة من صفاته لا شيء فيه، وليس هو توسلاً بذات مخلوق أو عمله بل هو مسئول بجزاء على عمل الإنسان نفسه في مقابلة عمله كما يوضحه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ (إذا هم فعلوا ذلك) فإذا كان معنى الحديث ما قدمناه لم يدل على سنية ما زعم من التوسل ولا على جوازه. وإنا ننقل عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم خصوصًا أئمة المذاهب الأربعة وأصحابهم عدم الجواز. رأي أبي حنيفة وأصحابه: قال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجوز أن يسأل بمخلوق ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى (بشرح الكرخي) بعد أن ذكر ما تقدم ما نصه: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة، قال بشر بن الوليد: حدثنا أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به. وقال أبو يوسف: أكره أن يقول: بحق فلان، أو: بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، وقال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق، فلا تجوز وفاقًا. وما يقول فيه أبو حنيفة وأصحابه: (أكره كذا) هو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إلى الحرام أقرب وجانب التحريم عليه أغلب. رأي الشافعية: في فتاوى أبي محمد العز بن عبد السلام ما نصه: لا يجوز سؤال الله بشيء من مخلوقاته لا الأنبياء ولا غيرهم. ثم قال: وأتوقف في جوازه بنبينا صلى الله عليه وسلم لأني لا أعرف صحة الحديث فيه. والحديث الذي يشير إليه هو (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) [4] حديث باطل باتفاق الحفاظ، ونقل ابن القيم أن الدعاء عند القبر والصلاة عنده والتمسح به لأنه قبر فلان الصالح: بِدَعٌ منكرة باتفاق أئمة المسلمين. وإن ما ينقله بعض الجهلة من دعاء الشافعي عند قبر أبي حنيفة كذب ظاهر

ذكرى رينان في الجامعة المصرية ـ 1

الكاتب: مصطفى عبد الرازق

_ ذكرى رينان في الجامعة المصرية محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني (رينان) كاتب بليغ من كُتاب الفرنسيس وملاحدتهم اشتُهر اسمه في مصر وبعض البلاد العربية الأخرى بخطاب (محاضرة) موضوعه (الإسلام والعلم) وجه به قوة فصاحته وبلاغته الخلاّبة إلى الطعن في الدين الإسلامي والأمة العربية لينقض بها ما شاده علماء فرنسة الفلاسفة الأعلام وغيرهم من التاريخ المجيد للعرب والإسلام، وفي مقدمتهم الفيلسوف الاجتماعي الكبير (غوستاف لوبون) صاحب كتاب (حضارة العرب) الذي سارت بذكره الركبان، والعلامة (سديو) الشهير صاحب كتاب (تاريخ العرب) ولكنه تكلم بجهل وتكلموا بعلم. وقد كان من مثار العجب للناس أن الجامعة المصرية أقامت حفلة حافلة لذكرى (رينان) بمناسبة انقضاء قرن من عهد ولادته وحاروا في استنباط الباعث لأساتذة الجامعة على اختيار هذا الملحد الطاعن في دين الإسلام وفي المسيحية أيضًا للإشادة بذكره وإعلاء قدره، على عدم حفظ أي منقبة له نفع بها البشر فأصاب هذه البلاد وهذه الأمة حظ منها يستحق بها ذلك عليها، والعهد قريب باحتفال فرنسة وغيرها بذكرى عالم من علمائها بل من أكبر علماء الأرض ومكتشفيهم نفع البشر كلهم بعلمه واكتشافاته وهو (باستور) الشهير، فلماذا لم تحتفل الجامعة بإحياء ذكره وإعلاء قدره؟ وقد كان الدكتور طه حسين أحد مدرسي الجامعة المصرية ينشر في هذه الأثناء التي وقع فيها الاحتفال بذكرى (رينان) مقالات في جريدة السياسة يحاول فيها إثبات انتشار الارتياب في الدين الإسلامي، والإلحاد، والفسق عنه في أهل القرن الثاني والثالث للهجرة الإسلامية في بلاد الحضارة العربية كالعراق بل في الحجاز أيضًا!! ويستدل على ذلك بشبهات كشبهات رينان، كما أخبرنا الثقات الذين رد بعضهم عليه. وفي إثر ذلك نُشر في الجرائد إعلان يبشر الناس بأن الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق سيلقي في الجامعة المصرية محاضرة موضوعها (الفيلسوف رينان وجمال الدين الأفغاني) فظننا نحن وأمثالنا أنه يريد بهذه المحاضرة أن يمحو سيئة ذلك الاحتفال بالإشادة بفضل فيلسوف الإسلام السيد الحسيني سليل البضعة النبوية الطاهرة الذي اشتهر عنه أنه رد على محاضرة رينان في وقتها بما هدم بنيانها وقوض أركانها، وقد أممنا دار الجامعة في مساء اليوم الثاني من شعبان (20 مارس) مع الكثيرين لسماع محاضرته فلما سمعناها دهشنا وخاب أملنا، فخرجنا من دار الجامعة إلى دار جريدة الأهرام لموعد اجتماع مجلس إدارة نقابة الصحافة فيها فخَفَّ بنا كثيرون ممن خرج معنا من الأزهريين وغيرهم فرأيناهم مستائين مما سمعوا كارهين له، فذكرنا لهم بعض ما في الخطاب من الخطأ والخطل والضعف في المحاضرة فتمنوا لو يكتب فوعدناهم بذلك، وقد كتبنا في تلك الليلة العجالة التالية لجريدة الأهرام: محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق موسيو رينان وجمال الدين نظرة عَجْلَى: حضرتُ هذه المحاضرة في الجامعة المصرية وكنت قد سمعت من شيخنا الأستاذ الإمام كلمة مجملة عن رد السيد على (رينان) فهمت منها ما سأذكره بعدُ. كنت أظن أن سأسمع ما قاله (رينان) في الإسلام مفصلاً، وأن يكون فيه شبهات ومطاعن دقيقة تحتاج إلى حجج جمال الدين وقوة عارضته فخاب ظني، وكنت أنتظر أن أسمع تتمة المحاضرة المعلن عنها في الصحف، وهي ما كان بين رينان ومحمد عبده لأرى هل أسمع عنه ضد ما أعلم منه عن نفسه، كما سمعت ضد ما أعلم منه عن أستاذه، ولكن الأستاذ صاحب المحاضرة أطال في المقدمة فضاق الوقت المعين عن الخاتمة، وهي على ما أظن رد الشيخ محمد عبده على رينان. طعن رينان في الإسلام بأنه عدو العلم والعقل وطعن في العرب بأن عقولهم قاصرة بطبعها غير مستعدة لفهم الفلسفة وما وراء الطبيعة، وكل ما ذكر في المحاضرة من تلخيص كلامه يدل على أنه لم يكن يعرف من أصول الإسلام شيئًا إلا بعض كلام دعاة النصرانية في الجزائر ورجال السياسة الفرنسية فيها، وناهيك بإخلاص الفريقين والتحقيق والصدق منهما، فمن تحقيق الفريق الأول ما يعرفه قراء العربية من كتاب (الإسلام للكونت دي كاستري) الذي ترجمه بالعربية المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول، فإن فيه من العقائد المنسوبة إلى الإسلام ما لم يخطر في بال أحد من البشر لم يطلع على مفترياته. ومن تحقيق الفريق الآخر تفضيل البربر على العرب في العلم والمدنية، ودليلهم على ذلك أن أصلهم من برابرة الشمال الأوربيين لا من همج الساميين! وقد اضطر إلى تجهيلهم الفليسوف الاجتماعي بحق (غوستاف لوبون) أحد أفراد علماء الفرنسيس الذين أنصفوا العرب حق الإنصاف على علم صحيح بالتاريخ. ومن هذا الباب ثناء رينان على جمال الدين وعلى قومه الأفغان بأنهم من الأرومة الآرية ذات العقل الراقي المستعد للفلسفة العليا التي تستعصي على عقول العرب، وعلّل بذلك ما زعمه من عدم استمساك هذا الشعب بالإسلام. والحق الواقع القطعي الدال على مبلغ جهل رينان هو أن السيد جمال الدين هو الفليسوف الوحيد الذي خرج من الأفغان وهو من صميم العرب من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الشعب الأفغاني هو أشد الشعوب الإسلامية اعتصامًا بدين الإسلام وتعصبًا له لعله لا يفوقه في هذا أو يساويه فيه إلا عرب نجد، فإذا كان السيد جمال الدين غير متدين كما تراءى لعقل رينان فقد نقضت قاعدته في العرب وفي الأفغان جميعًا، فما هذه الفلسفة؟ وإذا كان هذا مبلغ علمه بهذا الشعب الحاضر، فما القول بعلمه بالشعب العربي الأندلسي الغابر؛ إذ فضح نفسه فيما قاله عنه شر فضيحة. على أننا لا نثق بما نقل إلينا الأستاذ صاحب المحاضرة من كلام فيلسوفي الغرب والشرق - على رأيه - فإن السيد جمال الدين كتب رده على رينان بالعربية - كما قال - وترجم لجريدة الديبا بالفرنسية، ونقل من الفرنسية إلى الألمانية، ومنها إلى العربية، فهل حفظ الأصل مع كثرة النقل من لغة إلى لغة إلى أخرى. نقل إلينا قبل هذا كلام من قول رينان في الإمام الغزالي وجدناه غلطًا مخالفًا لما في كتبه المشهورة كتهافت الفلاسفة وإحياء علوم الدين، وهو لم يعتوره من تعدد الترجمة ما أصاب رد السيد جمال الدين. ملخص ما ذكر في المحاضرة من رد السيد الأفغاني على الفيلسوف الفرنسي أنه وافقه على كون الإسلام عدو العلم والعقل كسائر الأديان وخالفه في طعنه في العرب. ولكن الأستاذ صاحب المحاضرة نقل عن السيد كلمة وجيزة مجملة فيما عزاه رينان إلى الإسلام هل هو من تأثير الدين نفسه أم هو تأثير فهم الناس له واختلاف الشعوب في فهمه؟ خرجت هذه الكلمة بصوت غير جهوري فلم تَعِهَا كل أذن؛ ولا فكَّر فيها كل سامع، ولعل كل ما في الرد من التسليم باضطهاد الإسلام للعلم وعداوته للعقل مبني على هذه الكلمة. ههنا أذكر كلمة الأستاذ الإمام عن رأي أستاذه السيد جمال الدين في الدين والعلم، وهي أن الإسلام دين العقل والحكمة والفلسفة الصحيحة، وأنه لولا تأثير هدايته لما انتقل العرب من الأمية إلى أعلى مما كان عليه جميع البشر في كل علم وكل فن وكل نظام وكل عمران في مدة جيل واحد حتى سادوا الفرس والروم والأوربيين وغيرهم. وهل يعقل أن تلك الشراذم التي خرجت من جزيرة العرب حفاة عراة لا يعرفون من العلم شيئًا غير القرآن، ولم يكن كل واحد منهم يحفظه كله - يمكن أن تدوخ كل هذه الأمم وتسودها وتسوسها من ساحل المحيط الأطلسي إلى الشرق الأقصى وتُخْضِعَهَا لدينها ولغتها بالسيف؟ ولكن المسلمين ابتدعوا في الإسلام بِدَعًا كثيرة لم يمكن تداركها بسبب فساد نظام الخلافة وإخراجها عن أصلها الذي يشترط فيه العلم الاستقلالي والعدالة، وبهذا الابتداع الذي صار إسلام القرآن فيه غير إسلام المنتسبين إليه أضاعوا العلم به ثم عادوا كل علم حتى صاروا إلى ما كان يسعى السيد لتلافيه وتداركه، فكأنه يقول لرينان: كل ما ذكرت من عداوة الإسلام للعلم مما تكثر الشواهد عليه في التاريخ - وإن كانت قليلة في عهد الإسلام بالنسبة إلى غيره من الأديان - فهو الإسلام الذي فهمه خطأ أولئك الذين عادوا العلم والعقل والحضارة لا إسلام القرآن الذي يخاطب العقل ويرفع شأن العلم في آيات كثيرة، ويبين أن لله سننًا في الكون قام بها نظامه، وأن هذه السنن لا تبديل لها ولا تحويل. من الكلمات المأثورة عن السيد جمال الدين: إن القرآن وحده كاف لرفع البشر إلى أرقى مقام من العلم والعرفان والفضائل والحضارة، لو أن شعبًا وجده على صخرة في جزيرة بالبحر لم ير غيره. وليس معنى هذا أن فيه مسائل جميع العلوم والفنون التي يرقى بها البشر، وإنما معناه أنه يُصْلِحُ العقول والأنفس ويدفعها بهدايته إلى طلب هذا الكمال. وكتب إليَّ صديقي الشيخ عبد القادر المغربي من الآستانة أيام كان السيد فيها أنه زاره فكان مما سمعه منه أنه ليس بين أوربا وبين القرآن من حجاب يمنعهم من الاهتداء به إلا نحن معاشر المسلمين. قال: إنه رفع كفيه ووضعهما أمام وجهه وفرج بين أصابعه وقال: ينظرون إلينا من خلال القرآن هكذا فيرون وراءه شعوبًا قد فشا فيها الجهل والفقر والكسل و.. و.. فيقولون: لولا أن تعاليمه باطلة لما كان أتباعه بهذه الدركة من الانحطاط! فإذا أردنا أن نهديهم إلى الإسلام فلنقنعهم أولاً أننا لسنا مسلمين. وقد سألت الأستاذ الإمام: هل وَفَّى السيد بما وعد به من كتابة كتاب يثبت فيه أن المَدِينة الفاضلة التي مات الحكماء بحسرةٍ مِن فَقْدها لا تختطُّ في العالم إلا بالدين الإسلامي؟ فقال: لا أعلم أنه كتب شيئًا بهذا العنوان، ولكنه كتب كتابًا أو قال رسالة فارسية في العدالة العامة أثبت فيها هذه القضية، ولا أعلم ما فعل الله بهذا الكتاب أو الرسالة (الشك مني) . ومن أراد أن يعرف رأي السيد في تأثير الإسلام في إصلاح البشر فليقرأ مقالات (العروة الوثقى) الاجتماعية في الجزء الثاني من تاريخ الأستاذ الإمام. وأما موضوع الإسلام والعلم فقد فصَّله الأستاذ الإمام في كتاب (الإسلام والنصرانية) تفصيلاً. وسأعود إلى هذا الموضوع فأوفيه حقه في المنار إن شاء الله تعالى. فعلم من هذا أن الذي يتفق مع ما كتبه السيد جمال الدين أو أملاه في حقيقة الإسلام وكونه دين الحكمة والعقل والمدنية - هو أنه قد وافق على أن الإسلام الممزوج بالبدع هو ذلك الذي اضطهد بعضُ أهله رجالَ العلم، كما كان يقول في مجالسه بمصر عند رده على بعض آراء الأشعري في الكسب والجبر والتحسين والتقبيح العقليين: إن دين الأشعري في المسألة كذا وإن إله الأشعري قادر مريد، غير حكيم. ويحب الملحد أن يكون عظماء الرجال ملاحدة مثله، وإذا كان مِن منتحلِي الفلسفة والعلم والباحثين في الأدلة يظن أن من عرف بالعقل والعلم والحكمة لا يمكن أن يكون ذا دين. وهذا ما كان يحمل بعض الناس على القول بأن جمال الدين ومحمد عبده غير متدينين. وقد كان يسألني بعض من يعرفون مني الصدق: هل الأستاذ الإمام متدين بالفعل اعتقادًا وعملاً؟ بل كثيرًا ما سألني مثل هذا السؤال عن نفسي من يحسنون الظن بي ويعدونني من (المتنورين) مثلهم ? وآخر مَن سألني هذا السؤال عن نفسي أديب في حضرة جماعة من المسلمين والمسيحيين، منهم سليم أفندي سركيس الكاتب المشهور، وموضوع السؤال الإيمان بالبعث والحياة الأخرى بعد الموت، وقد أجبتهم بما أزالَ استبعادَهم للب

رسائل الطعن في الوهابية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسائل الطعن في الوهابية كان السلطان عبد الحميد يخاف عاقبة نهضة العرب الدينية في نجد؛ إذ كان يعتقد هو وبعض أركان دولته أن العرب لا تجتمع لهم كلمة ولا تقوم لهم دولة إلا بدعوة دينية كما قرَّره حكيمهم ابن خلدون في مقدمته - فكان يغري بعض أمرائهم ببعض كإغراء آل رشيد بآل سعود وكان المنافقون من المُعَمَّمِينَ يتقربون إلى حكومته بالطعن في الوهابية ويزعمون أنهم يخدمون بذلك الدين وينصرون السنة، ولكننا لم نر أحدًا من هؤلاء المنافقين نصر الدين بالرد على الملاحدة ولا على دعاة النصرانية الذين يطعنون في أصل الإسلام وكتابه ورسوله لتنصير المسلمين، وكان بعض حشوية الشام المُتَمَلقين أشد الناس إسرافًا في الطعن في الوهابية فلا يكادون يُذكرون في كل البلاد العثمانية بقدر ما يذكرون في دمشق وحدها. وقد خفت هذه الوطأة في السنين الأخيرة ثم اشتدت بعد أن استقرت إمارة عبد الله ابن الملك حسين في شرق الأردن وشاع أن الوهابية سيزحفون للاستيلاء على هذه المنطقة لانتزاعها من السلطة الحجازية البريطانية، وكان بعض الجرائد المسيحية في دمشق والقدس أول ميادين هذه الحملة، فأصحابها النصارى يطعنون في الوهابية ويفضلون أمراء الحجاز على أمراء نجد من طريق السياسة، بل ذكرت جريدة (لسان العرب) التي تأخذ راتبًا شهريًّا من الأمير عبد الله، ومنحتها جريدة القبلة الحجازية لقب (لسان أقوامنا) أنه يجب على النصارى في سورية وفلسطين تأييد الملك حسين وأولاده؛ لأن حكومتهم مدنية لا إسلامية بخلاف حكومة نجد فإنها إسلامية دينية متعصبة. وقد فتحوا أبواب صحفهم لكل من يطعن في الوهابية من المسلمين طعنًا دينيًّا بحتًا لأجل هذه الغاية السياسية. وفي هذه الأثناء جاءتنا عدة رسائل من دمشق ورسالة من بيروت في الطعن في الوهابية كُتِبَ على ظهر بعضها أنها (تُوَزَّع مجانًا وقفًا لله تعالى) وعلى البعض الآخر (توزع مجانًا في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وغير معهود من أصحابها هذا السخاء في نشر العلم والدين! . لم يرسل إلينا هذه الرسائل مؤلفوها، بل أرسلها بعض أهل العلم والدين لنرد عليها، وقد تصفحنا أوراقًا من كل منها من أولها وآخرها فلم نر شيئًا منها يستحق أن يكرم بالرد؛ لأنهم يقولون زورًا ويخلقون أفكارًا ويردون عليها كما يردون بعض الحق بمحض الجهل وتقليد العوام ومجاراتهم وجعل البدع الفاشية فيهم سننًا مجمعًا عليها، بل ذكروا في رسائلهم من الأحاديث الموضوعة والآثار المصنوعة والكذب على السلف الصالح والأئمة ما يعد معه الكذب على الشيخ محمد عبد الوهاب وأهل نجد أمرًا هينًا؛ فإن كذبًا عليه صلى الله عليه وسلم ليس ككذب على غيره، فمن كذب عليه متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، كما تواتر عنه عليه صلوات الله وسلامه. على أن بعض علماء دمشق الأثريين قد ردوا عليهم برسائل فضحوا بها ما ستروا ولقفوا ما لفقوا. فمن هذه الرسائل ثلاث لرجل في دمشق يدعي الشيخ عبد القادر الكيلاني الإسكندراني لقيته في دمشق غير مرة فأوهمني أنه يكره الحشو والبدع ويحب الإصلاح. وما كنت أظن فيه أن يكتب أمثال هذه الرسائل، ولكنها هي أدل على حقيقة حاله مما تراءى لي منه. (ومنها) رسالة لرجل عامي لا ندري أهو من طائفة المعممين أم من غيرهم اسمه محمد توفيق السويقة، وقد كتب عليها أنها الرسالة الأولى. (ومنها) رسالة للشيخ محمد جميل الشظي الحنبلي سماها (الوسيط بين الإفراط والتفريط) نصب فيها نفسه حكمًا بين الوهابية وغلاة خصومهم، وكنا نظن أنه يحكم عن علم، ويلتزم الحق فلا يجور في الحكم، فإذا هو خصم أي خصم، نقل عنهم ما ليس عندهم، ولبَّس الحق بالباطل، ولم يميز بين الأواخر والأوائل، بل جعل الخلف الطالح، كالسلف الصالح، وأيَّدهم في بعض المواضع من حيث لا يدري بل في سياق الرد عليهم، واعتمد في هذا الرد على كلام أعدائهم ومقلدة أعدائهم. رد على هذه الرسائل الشيخ ناصر الدين الحجازي الأثري، والشيخ أبو اليسار الدمشقي، فأتيا بما يكفي دافعًا لمفترياتها، ومزيلاً لشبهاتها، وإن لم يستقصيا جميع ضلالاتها، وردهما عليها رد على رسالة الشيخ مصباح شبقلو البيروتي. فإن كل الذين يردون على الوهابية يستمدون الافتراء عليهم من مصدر واحد كما أن مصدر مادتهم العلمية والدينية واحد هو التقليد لمتأخري مقلدة الحشوية وبدعهم، فلا تحري في النقل، ولا استقلال في الفهم، ولا رسوخ في شيء من العلم، وأنَّى والعلم الذي فرضه الله على كل مسلم محرم عندهم؛ لأنه يدخل في مفهوم الاجتهاد الذي أقفل بابه بعض شيوخ مشايخهم، وشرعوا للناس تقليد المجتهدين بدلاً منه، ثم شرع آخرون لهم تقليد المقلدين، وجميع من ينسب إلى مذاهبهم من الميتين إلى خمس طبقات مرتبة في خمس دركات على أنهم يستدلون فيجتهدون لتأييد التقليد؛ لأن الاجتهاد المحرم عندهم ما يطلب به الحق لذاته؛ ولذلك يحتجون بالأحاديث الموضوعة أو المفتراة حديثًا لأن مشايخهم ذكروها، ولا يعلم الفريقان أن المحدثين أنكروها أو لم يثبتوها، والتمييز بين الأحاديث الصحيحة والباطلة من شروط العلم المحرم عندهم، وإن لنا كلمة فاصلة فيهم وفي بيان عقائد الوهابية سَيَرَوْنَهَا في جزء آخر. ((يتبع بمقال تالٍ))

أسئلة وبحث في الفتوى الأولى من فتاوى هذا المجلد وموضوعها: استعمال الذهب والفضة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة وبحث في الفتوى الأولى من فتاوى هذا المجلد - 24 وموضوعها: استعمال الذهب والفضة (11) لصاحب الإمضاء بدار سعد (لحج) . بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين صاحب الفضل والفضيلة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، حفظه الله، آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام؛ سيدي: اطلعت على فتواكم الشريفة في استعمال آنية الذهب والفضة الصادرة في الجزء الأول من المجلد 24 من مجلتكم المنار الغراء، وهي لعمري فتوى نفيسة فيها توسيع وتيسير على كثير من المسلمين الذي ابتلوا باستعمال هذين النقدين في الأسلحة والأواني والساعات والخواتم وغير ذلك، وفي دين الله سعة، وفي الحنيفية السمحة والمحجة البيضاء ما يسع الخلق تفريجًا ومرحمة، وبحسب المؤمنين قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78) وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (الأعراف: 32) وقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ} (الأعراف: 33) الآيات. ولكن المحتاط لدينه لا بد له من برهان وحجة قاطعة تقابل النصوص وتدفع اعتقاده الذي قد رسخ في يقينه، وأصبح من أجزاء دينه التي لا يمكنه فصل بعضها عن بعض، وها أنا ذا أتطفل عليكم وأستزيدكم بيانًا لما كتبتموه واقفًا موقف السائل المستفيد ولا شأن لي في الاعتراض وإنما أتطلب الحقيقة. بنيتم - سيدي - فتواكم على ما ذهب إليه الإمام داود ومن وافقه من منع القياس، وقد علمتم أن جمهور الأمة آخذ بالقياس، وأن داود أيضًا ممن يأخذ بالجَلِيِّ منه. وقلتم في تعليلهم بالخيلاء وكسر نفوس الفقراء ما هو الحق، ولكن الأصح عندهم أن العلة هي العين مع شرط الخيلاء، وفرق بين العلل. نعم - سيدي - علمنا من مذاهب جمهور الأمة الإسلامية تحريم الاستعمال للآنية في الأكل والشرب بالنص وغيرها بالقياس عليها، وقالت طائفة بالحل والإباحة مطلقًا، وقالت أخرى بتحريم ما جاء به النص فقط، ومنهم داود، وقال الشافعي في مذهبه القديم بالكراهة للتنزيه. ثم وجدنا ابن المنذر نقل الإجماع ووجدنا الإمام النووي أيضًا ناقلاً له مع قول ابن المنذر: إن المخالف معاوية بن قرة، وقول الشافعي في القديم، ومع قول النووي: إن المخالف داود وأصحابه ممن ينفي القياس وإسقاطه لهذا القول، ونقله عن الأصحاب أنهم لا يعتبرون خلاف من لم يقل بالقياس وإسقاطه لمذهب الشافعي القديم وكونه غير مذهب له الآن. فهل نقل الأفراد للإجماع مقبول أو مردود، وإذا رُدَّ فمِن أين نعلم الإجماع، وهل قولهم بالإجماع يُحْمَل على الإجماع الصحيح المقبول الذي هو حجة، أو يُحْمَل على كونه وقع بعد الخلاف وموت أهله أم ماذا نقول؟ وهل تقولون بحجية الإجماع؟ وهل هو واقع في الماضي وممكن الوقوع في الحال والاستقبال أم لا؟ وقد نقل النووي أيضًا الإجماع على تحريم خاتم الذهب مع وجود الخلاف وصحة كون جماعة من الصحابة ومن العشرة قد لبسوه حتى راوي حديث النهي عنه، والقول فيه كسابقه، أفيدوا عافاكم الله. وإذا أسقطتم هذا الإجماع فما قولكم في حديث الذهب والحرير (هذان حرامان على ذكور أمتي حلال لإناثها) وحديث: (من لبس الذهب في الدنيا لا يلبسه في الجنة) أو كما قال، تفضلوا بالبيان الشافي وإظهار الحجة الساطعة في ذلك، لا عدمكم المسلمون، ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... ... الأمير: بدار سعد (لحج) وأفيدونا عافاكم الله عن حديث النهي عن لبس الذهب إلا مقطعًا أو كما قال، وعن حديث سيف رسول الله الذي تقلده يوم فتح مكة، وهو محلى بالذهب، وعن إلباسه للبراء خاتم الذهب، وهو راوي حديث النهي عنه ويقول: ألبسنيه رسول الله، ولماذا لبسه سعد بن أبي وقاص وطلحة وأسيد بن حضير وصهيب وحذيفة وخباب وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، هل يجوز أن يقال: إنه لم يبلغهم النهي، أم نقول: إنهم حملوا النهي على التنزيه؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا، فقد وقع هنا سوء ظن لمخالفة إجماع المذاهب، حفظكم الله. (المنار) إننا أوجزنا في هذه الفتوى؛ لأنه سبق لنا تفصيل المسألة في الفتوى 57 من المجلد السابع وغيرها، ولو اطلع عليها السائل لاستغنى بها عن أكثر هذه المسائل. ولو أردنا أن نعيد كل ما حقَّقناه من المسائل في المنار كلما تكرر السؤال عنه ممن يتجدد من المشتركين لكثر التكرار فيه حتى يمله أكثر القارئين له. ومن مسائل تلك الفتوى (1) بيان ضعف حديث: (أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي وحرم على ذكورها) وتخطئة الترمذي في تصحيحه. (2) إعلال حديث (إن هذين حرام على ذكور أمتي) ... إلخ. (3) أن حديث معاوية في النهي (عن لبس الذهب إلا مقطعًا) في إسناده سليمان القناد فيه مقال، وبقية رجاله ثقات، ورواه أبو داود بسند آخر فيه بقية بن الوليد وفيه مقال أيضًا. (4) أن حديث علي (نهاني رسول الله عن التختم بالذهب) ... إلخ، رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وفي رواية فيه: (ولا أقول نهاكم) وهي كما قيل قاضية على رواية (نهى) . (5) أن الذي ثبت في الصحاح هو النهي عن الأكل والشرب في صحاف الذهب والفضة وأوانيهما مع الوعيد الدالّ على التحريم، وكذا التختم بالذهب. (6) اختلاف السلف والخلف في المسألة ومسألة الحرير. (7) اختلاف النصوص وآراء العلماء في علة النهي والتحريم، وقد استغرق هذا وحده صفحتين من الفتوى وسيذكر بعضه فيما يأتي. وهاك تلخيص الكلام في الحرير والذهب والفضة من خاتمة تلك الفتوى وهو: (والجملة أن نص الشارع صريح في النهي عن الحرير الخالص إلا لحاجة لُبْسًا وجلوسًا عليه، وأباح أنس وابن عباس الجلوس عليه. وقال الفقهاء أي بلا حائل، فإن كان هنالك حائل كالنسيج الأبيض الذي يوضع على الكراسي والأرائك فلا بأس عندهم، وعن الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، والتختم بالذهب على ما فيه، وإن بعض الفقهاء حملوا ذلك النهي على الكراهة دون التحريم والجماهير حملوه على التحريم، وإن داود خصَّه بالشرب - وأكثر المحدثين بالأكل والشرب - وعامة الفقهاء حرموا كل استعمال إلا نحو ضبة يصلح بها إناء. وأن الاحتياط أن يجتنب المسلم ما ورد به النهي الصريح ويراعي المصلحة فيما وراء ذلك بحسب اجتهاده مع الإخلاص، والله أعلم) . وبقي هنا أسئلة نجيب عنها بالإيجاز: (1) حديث (من لبس الذهب في الدنيا لا يلبسه في الجنة) أخطأ السائل في لفظه، فإنما ورد بهذا اللفظ في الحرير مع ذكر الآخرة بدل الجنة، وهو في الصحيحين وغيرهما، والمراد به الحرير الخالص وهو مُقَيَّد بما لا تمس إليه الحاجة جمعًا بين الروايات الصحيحة، ومنها: إذن النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بلبسه لحَكَّةٍ كانت بهما. رواه الشيخان بل الجماعة كلهم، وروى أبو داود لُبْسَهُ عن عشرين من الصحابة. وأما حديث لبس الذهب فقد أخرجه أحمد والطبراني عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ (من مات من أمتي وهو يلبس الذهب حرم الله عليه ذهب الجنة) الحديث، ولم أر لفقهاء الحديث الذين حصروا التحريم في الصِّحَاف والآنية والخواتيم كلامًا في هذا الحديث، وما ذلك إلا لأنهم لم يَرَوْهُ صالحًا للاحتجاج فإنهم يأخذون بكل ما يحتج به، وليسوا كمقلدة المذاهب الذي يأخذون بما وافق مذاهبهم ويردون غيره أو يسكتون عنه. ولم يحتج به من رأينا كتبهم من فقهاء الحنابلة حتى المغني والشرح الكبير للمقنع، ولكن ذكره الحافظ في الفتح ولم يتكلم عليه، وسيأتي ما يؤيد إعلاله. (2) حديث النهي عن لبس الذهب إلا مقطعًا أشرنا إلى ضعفه في خلاصة فتوى المجلد السابع، وذلك أن صالح ابن الإمام أحمد قال عن أبيه: إن ميمون القناد روى هذا الحديث ولا يصح، ووثقه ابن حبان ورواه أبو داود من طريق بقية ابن الوليد وهو صدوق إلا أنه كثير التدليس عن الضعفاء، ولفظه عن معاوية: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ركوب النمار وعن لبس الذهب إلا مقطعًا، والنمار والنمور جمع نمر، وفيه حذف مضاف فإنما النهي عن استعمال جلودها بوضعها على الرَّحل، وعللوه بالخيلاء وبأنه زي العجم، ومعنى المقطع ما جعل قِطَعًا كحلي النساء، وما يُجْعَل في سيف الرجل، كذا فسروه، قال في نيل الأوطار: قال ابن رسلان في شرح سنن أبي داود: والمراد بالنهي: الذهب الكثير لا المقطع قطعًا يسيرة منه تجعل حلقة أو قُرْطًا أو خاتمًا للنساء أو في سيف الرجل، وكُره الكثير منه الذي هو عادة أهل السرف والخيلاء والتكبر، وقد يضبط الكثير منه بما كان نصابًا تجب فيه الزكاة (أي 20 مثقالاً) واليسير بما لا تجب فيه (انتهى) وقد ذكر مثل هذا الكلام الخطابي في المعالم، ولعل هذا الاستثناء خاص بالنساء، قال: لأن جنس الذهب ليس بمحرَّم عليهن كما حرم على الرجال قليله وكثيره اهـ. وقوله هذا مراد به تأييد مذهبه وحمل الحديث عليه كدأب المقلدين. وقد أباح قليل الذهب بعض المصنفين في فقه المذاهب. قال أبو القاسم الخرقي من قدماء أئمة الحنابلة في مختصره المشهور: ويكره أن يتوضأ بآنية الذهب والفضة، فإن فعل كره. اهـ. وحمل الشارح في المغني الكراهة على التحريم ثم قال في اختلاف الأئمة في الضبة الكبيرة وتعليل التحريم بالإسراف والخيلاء: إذا ثبت هذا فاختلف أصحابنا فقال أبو بكر: يباح اليسير من الذهب والفضة لما ذكرنا. وأكثر أصحابنا على أنه لا يباح اليسير من الذهب ولا يباح إلا ما دعت إليه الحاجة كأنف الذهب وما يربط به أسنانه ... إلخ. (3) السؤال عن إلباس النبي صلى الله عليه وسلم البراء خاتم الذهب. ومن لبسه غيره من الصحابة، هل يجوز أن يقال: إنه لم يبلغهم النهي أم نقول: إنهم حملوا النهي على التنزيه؟ أقول: حديث البراء أسنده البخاري في عدة أبواب اختلفت ألفاظها بالتقديم والتأخير والزيادة والنقصان ولفظه في كتاب اللباس: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن سبع: عن خاتم الذهب - أو قال: حلقة الذهب - والحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء، والقسي، وآنية الفضة ... إلخ. وقد ذكر الحافظ في شرحه من الفتح ما نصه: وقد جاء عن جماعة من الصحابة لبس خاتم الذهب، من ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن أبي إسماعيل أنه رأى ذلك على سعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله وصهيب وذكر ستة أو سبعة، وأخرج ابن أبي شيبة أيضًا عن حذيفة وعن جابر بن سمرة وعن عبد الله بن يزيد الخطمي نحوه من طريق حمزة بن أبي أسيد: (نزعنا من يدي أبي أسيد خاتمًا من ذهب) . وأغرب ما جاء في ذلك عن البراء الذي روى النهي فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن أبي السفر قال: رأيت على البراء خاتمًا من ذهب. وعن شعبة عن أبي إسحاق نحوه أخرجه البغوي في الجعديات، وأخرج أحمد من طريق محمد بن مالك قال: رأيت على البراء خاتمًا من ذهب فقال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمًا فألبسنيه فقال: (البس ما كساك الله ورسوله) قال الحازمي: إسناده ليس بذاك، ولو صح فهو منسوخ. (قلت) : لو ثبت النسخ عند البراء ما لبسه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رُوِيَ حديث النهي المتَّفَق على صحته عنه، فالجمع بين روايته وفعله إما بأن يكون على التنزيه أو فهم الخصوصية له من قوله: (البس ما كساك الله ورسوله) وهذا أولى من قول الحازمي: لعل البراء لم يبلغه النهي. ويؤيد الاحتمال الثاني أنه وقع في رواية أحمد: كان الناس يقولون للبراء: لِمَ تتختم بالذهب، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسل

النفس التي خلق منها البشر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النفس التي خلق منها البشر (س 12) من صاحب الإمضاء في بيروت: لجانب حضرة صاحب الفضل والفضيلة العلامة السيد محمد رشيد أفندي رضا منشئ مجلة المنار الأغر، حفظه الله، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعدُ أرفع لجنابكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه: قرأت في مناركم الأغر في الجزء الثامن من المجلد الثالث والعشرين الصحيفة 621 ما يأتي: (وكان مما ذكر من دفع بعض الشبهات مسألة خلق البشر من نفس واحدة، فذكر أنه ليس في القرآن نص قطعي أصولي على أن هذه النفس هي آدم، كما نعتقد نحن وأهل الكتاب..) بناء على كون هذه الآيات القرآنية ليس فيها نص قطعي أصولي كما قال الأستاذ الإمام (رحمه الله) فحينئذ تحتمل أن تكون هذه النفس غير آدم، وما هي هذه النفس التي هي غير آدم؟ تكرموا علينا بالجواب، فلا زلتم للعلم أنصارًا وللدين الحنيف منارًا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الدا عي لكم ... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين سليم كريدية (ج) النص الأصولي القطعي هو عبارة عن اللفظ الذي يفيد معنًى واحدًا لا يحتمل غيره حقيقة ولا مجازًا ولا كناية، فلا يدخل فيه ما يدل على معنى راجح هو المتبادَر عند الإطلاق بحيث لا يحتمل غيره إلا بتأويل مُتَكَلَّف، فعلى هذا لا ينبغي للعاقل أن يبحث عما يحتمله كل لفظ من المعاني المجازية أو الكنائية إلا إذا احتاج إلى ذلك لغرض صحيح كدفع اعتراض مُعْتَرِض مخطئ تعيَّنَ دفعُه بمثل ذلك. بعد التذكير بهذه الفائدة أقول: يحسن أن تراجعوا معنى النفس التي خلق منها البشر في تفسير أول سورة النساء في الجزء الرابع من تفسيرنا، فإن لم يكن لديكم فراجعوه عند وكيل المنار في بيروت الشيخ عبد الله العطار، وفي بعض مجلدات المنار بحث في هذه المسألة كان سببه خوض بعض الناس في كلمة الأستاذ الإمام التي أشرنا إليها. واعلم قبل ذلك أن قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) يشبه قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام: 2) في كون الأول دالاًّ على أصلنا الروحي، والثاني دالاًّ على أصلنا الجسدي، وإن تفسير النفس الواحدة بآدم تفسير مراد وليس هو المعنى اللغوي للفظ النفس، وإن بعض المفسرين قالوا: إن المراد بالنفس الواحدة في آية الأعراف قصي جد قريش، وحسبك هذا بيانًا لكون النفس الواحدة المُنَكَّرَة في الآية ليست نصًّا أصوليًّا ولا ظاهرًا لغويًّا في آدم عليه السلام.

الأحكام الشرعية المتعلقة بالخلافة الإسلامية ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخلافة الإسلامية (6) 36 - الخلافة والبابوية، أو الرياسة الروحية: الإسلام دين الحرية والاستقلال الذي كرم البشر ورفع شأنهم بإعتاقهم من رق العبودية لغير الله تعالى من رؤساء الدين والدنيا. فأول أصوله: تجريد العبادة والتنزيه والتقديس والطاعة الذاتية لله رب العالمين، وأن الرسل عليهم الصلاة والسلام ليسوا إلا مرشدين ومعلمين: {وَمَا نُرْسِلُ المُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (الأنعام: 48) فلا سيطرة لهم على سرائر الناس، ولا حق الإكراه والإجبار، ولا المحاسبة على القلوب والأفكار، ولا مغفرة الذنوب والأوزار، ولا الحرمان من الجنة وإدخال النار، بل ذلك كله لله الواحد القهار العَفُوُّ الغفار، قال تعالى لخاتم رسله: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} (الأنعام: 107) {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ} (الأنعام: 52) {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: 21) {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (القصص: 56) . وإنما تجب طاعة الرسول فيما يبلغه ويبيِّنه من أمر الدين عن الله تعالى، وما ينفذه من شرعه، دون ما يستحسنه في أمور الدنيا بظنه ورأيه، فالطاعة الذاتية إنما هي لله، ولذلك قال تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) فطاعة الرسول ثم طاعة أولي الأمر من الأمة تَبَعٌ لطاعة الله التي أوجبها للمصلحة تنفيذًا للشريعة، على أن الرسول معصوم في تبليغ الدين وإقامته، وقد جعله الله أسوة حسنة لأمته، وكان الصحابة على هذا يراجعون النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقوله برأيه في المصالح العامة كالحرب والسلم ويبدون آراءهم، وكان يرجع عن رأيه إلى رأي الواحد منهم إذا تبين له أنه الصواب، كما رجع إلى رأي الحباب بن المنذر يوم بدر، وإلى رأي الجمهور بعد الشورى، وإن لم يظهر له أنه أصوب كما فعل يوم أحد. وقد قال: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواه مسلم من حديث رافع بن خديج، وقال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه من حديث عائشة. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن فيمن اتبعه منافقين، وكان يعرف بعضهم دون بعض، ولكنه يعاملهم معاملة المؤمنين؛ لأن من أصول شريعته أن يعامل الناس بحسب أعمالهم الظاهرة، ويوكل أمر القلوب والسرائر إلى الله تعالى. قال رجل له وقد رآه يعطي رجالاً من المؤلفة قلوبهم: يا رسول الله اتق الله، قال: ويلك، أَوَلَسْتُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ - وفي رواية: فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه - قال: لا تفعل لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: وكم مِن مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب في قلوب الناس ولا أشق بطونهم) رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري. وإذا كان هذا شأن الرسول صلى الله عليه وسلم فهل يكون للخلفاء والأمراء - مهما عظُم شأنهم- أن يحاسبوا الناس على قلوبهم أو يسيطروا عليهم في فهمهم للدين أو عملهم به وربما كان فيهم من هم أعلم به منهم؟ كلا إن الخليفة في الإسلام ليس إلا رئيس الحكومة المقيَّدة، لا سيطرة ولا رقابة له على أرواح الناس وقلوبهم، وإنما هو منفذ للشرع، وطاعته محصورة في ذلك فهي طاعة للشرع لا له نفسه، كما تقدم آنفًا وبسط في المسألة (1، 6، 8) ولكن الأعاجم أفسدوا في أمر الإمامة والخلافة بما دست الباطنية في الشيعة من تعاليم الإمام المعصوم، وبما أفرط الفرس والترك ومن تبعهم في الغلو بإطراء الخلفاء مما يذكر مثاله في الخلاصة التاريخية الآتية، حتى فتحوا لهم باب الاستعباد، وقهروا الأمة على الخنوع والانقياد، انتهى كل غلو إلى ضده، فكان غلو الأعاجم في الخلفاء العباسيين سببًا للقضاء على خلافتهم، ثم كان تقديس الخلفاء العثمانيين سببًا لإسقاط دولتهم، وقد أبقى الترك لواحد منهم لقب (خليفة) مجردًا من معناه الشرعي والسياسي كما تقدم، ولم يمنع ذلك الناس ولا سيما أصحاب الجرائد عن وصفه بالقداسة، وبصاحب العرش، وغير ذلك من الإطراء بالقول والفعل. وكثر خوض المسلمين كغيرهم بذكر الخلافة الروحية، وفصلها من السلطة الزمنية السياسية، وإنَّا وإن كنا قد بيَّنا الحق في المسألة في هذا البحث نرى أن نزيدها إيضاحًا بنقل ما كتبه الأستاذ الإمام فيها نقلاً عن كتابه (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) قال رحمه الله: (الأصل الخامس للإسلام) (قلب السلطة الدينية) أصل من أصول الإسلام أنتقل إليه، وما أجله من أصل! قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها: هَدَمَ الإسلامُ بناء تلك السلطة ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، لم يدع الإسلام لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، على أن رسول الله عليه السلام كان مُبَلِّغًا ومُذَكِّرًا، لا مهيمنًا ولا مُسَيْطِرًا، قال الله تعالى {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} (الغاشية: 21-22) ولم يجعل لأحد من أهله أن يَحُلَّ ولا أن يربط لا في الأرض ولا في السماء [1] ، بل الإيمان يعتق المؤمن من كل رقيب عليه فيما بينه وبين الله سوى الله وحده، ويرفعه عن كل رق إلا العبودية لله وحده، وليس لمسلم مهما علا كعبه في الإسلام على آخر مهما انحطت منزلته فيه إلا حق النصيحة والإرشاد. قال تعالى في وصف الناجين: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 3) وقال: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وقال: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) فالمسلمون يتناصحون ثم هم يقيمون أمة تدعو إلى الخير وهم المراقبون عليها لعلهم يردونها إلى السبيل السوي إذا انحرفت عنه، وتلك الأمة ليس لها فيهم إلا الدعوة والتذكير، والإنذار والتحذير، ولا يجوز لها ولا لأحد من الناس أن يتبع عَوْرَة أحد، ولا يسوغ لقوي ولا لضعيف أن يتجسس على عقيدة أحد، وليس يجب على مسلم أن يأخذ عقيدته أو يتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم؛ لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله وعن رسوله من كلام رسوله بدون توسيط أحد من سلف ولا خلف [2] وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يُحَصِّلَ من وسائله ما يؤهله للفهم كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها وأحوال العرب خاصة في زمان البعثة، وما كان الناس عليه زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار. فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يَعُدُّهُ لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما. وله بل عليه أن يطالب المُجيب بالدليل على ما يجيب به، سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد أو في حكم عمل من الأعمال، فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. السلطان في الإسلام لكن الإسلام دين وشرع، فقد وضع حدودًا، ورسم حقوقًا، وليس كل معتقد في ظاهر أمره بحكم يجري عليه في عمله. فقد يغلب الهوى وتتحكم الشهوة، فيُغْمَطُ الحقُّ، أو يتعدى المعتدي الحد، فلا تكمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة، وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كثير، فلا بد أن تكون في واحد وهو السلطان أو الخليفة. الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم، ولا هو مهبط الوحي، ولا من حقه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، نعم شُرط فيه أن يكون مجتهدًا، أي أن يكون من العلم باللغة العربية وما معها مما تقدم ذكره بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذي يطالبه به الدين والأمة معًا. هو - على هذا - لا يخصه الدين في فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية، ولا يرتفع به إلى منزلة، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصفاء العقل، وكثرة الإصابة في الحكم [3] ، ثم هو مُطَاع ما دام على المَحَجَّة ونهج الكتاب والسنة، والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف عن النهج أقاموه عليه، وإذا اعْوَجَّ قَوَّمُوه بالنصيحة والإعذار إليه [4] . لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق [5] . فإذا فارق الكتاب والسنة في عمله، وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره، ما لم يكن في استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه [6] ، فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (كراتيك) أي سلطان إلهي. فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة، بل بمقتضى الإيمان، فليس للمؤمن ما دام مؤمنًا أن يخالفه، وإن اعتقد أنه عدو لدين الله، وشهدت عيناه من أعماله ما لا ينطبق على ما يعرفه من شرائعه؛ لأن عمل صاحب السلطان الديني وقوله في أي مظهر ظهر هما دين وشرع، هكذا كانت سلطة الكنيسة في القرون الوسطى. ولا تزال الكنيسة تدعي الحق في هذه السلطة كما سبقت الإشارة إليه. كان من أعمال التمدن الحديث: الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية، فترك للكنيسة حق السيطرة على الاعتقاد والأعمال فيما هو من معاملة العبد لربه، تشرع وتنسخ ما تشاء، وتراقب وتحاسب كما تشاء، وتحرم وتعطي كما تريد، وخول السلطة المدنية حق التشريع في معاملات الناس بعضهم لبعض، وحق السيطرة على ما يَحفظ نظام اجتماعهم في معاشهم لا في معادهم، وعَدُّوا هذا الفصل منبعًا للخير الأعم عندهم. ثم هم يهمون فيما يرمون به الإسلام من أنه يحتم قرن السلطتين في شخص واحد. ويظنون أن معنى ذلك في رأي المسلم أن السلطان هو مقرِّر الدين، وهو واضع أحكامه وهو منفذها، والإيمان آلة في يده يتصرف بها في القلوب بالإخضاع، وفي العقول بالإقناع، وما العقل والوجدان عنده إلا متاع، ويبنون على ذلك أن المسلم مُسْتَعْبَد لسلطانه بدينه، وقد عهدوا أن سلطان الدين عندهم كان يحارب العلم، ويحمي حقيقة الجهل، فلا يتيسر للدين الإسلامي أن يأخذ بالتسامح مع العلم ما دام من أصوله أن إقامة السلطان واجبة بمقتضى الدين. وقد تبين لك أن هذا كله خطأ محضٌ وبعد عن فهم معنى ذلك الأصل من أ

الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزية العالم العلامة الأستاذ أبو الكلام ـ 2

الكاتب: أبو الكلام

_ الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزية العالم العلامة الأستاذ أبو الكلام (2) الإسلام والاستبداد: إني مسلم، ولأني مسلم وجب عليَّ أن أندِّد بالاستبداد وأقبحه وأُشْهِرَ مساويه. وليعلم أن الإسلام لا يعترف بالحكومة الشخصية، ولا بحكومة عصبة من الموظفين يُنْقَدُونَ رواتبهم؛ لأنه نظام كامل للجمهورية، وإنما جاء ليرد إلى النوع الإنساني حريته المغصوبة التي كان اغتصبها الملوك المستبدون، والحكومات الأجنبية، والرؤساء الروحانيون ذوو الأهواء، والرجال الأقوياء من الجماعة، وقد كانوا يعتقدون أن الحق للقوة والتسلط والقهر والغلبة، ولكن الإسلام بمجرد ظهوره أعلن أن الحق ليس في القوة، ولا هو القوة، بل الحق هو الحق، وإنه ليس لأحد من البشر أن يعبِّد عباد الله ويذلهم ويسخرهم. ثم قضى على سائر الامتيازات والمناصب المؤسسة على الغلبة القومية والجنسية قضاء تامًا وبيَّن أن الناس كلهم متساوون في الإنسانية، متساوون في الحقوق، متساوون في الحياة، وليس اللون والجنس والنسل معيارًا للفضل والحسب، وإنما معياره (العمل) وحده، فأعلاهم قدرًا وأكرمهم حسبًا: أحسنهم عملا وأتقاهم لربهم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) . الإسلام نظام جمهوري: إن الإسلام أعلن (حقوق الإنسان) قبل انقلاب فرنسا بأحد عشر قرنًا، وليس مجرد إعلان، بل وضع نظامًا عمليًّا للجمهورية الحق بالغًا في الكمال منتهاه، ونظيرًا لنفسه في الإتقان، كما قال المؤرخ الشهير (غبون أو: جبون) فكانت حكومة نبي الإسلام وخلفائه الأربعة، جمهورية كاملة، تتشكل برأي الأمة وانتخابها ونيابتها. ولذا توجد في مصطلحات الإسلام كلمات جامعة لهذا الغرض لا توجد مثلها في لغة ما. فحيث إنه لم يعترف بوجود ملك ومنصبه، وعوضه بمنصب لرئيس الجمهورية سماه (بالخلافة) وهي في اللغة (النيابة) وسمى صاحبها (بالخليفة) أي (النائب) الذي لا يملك قوة ولا نفوذًا بنفسه، وكذلك اختار لنظام الجمهورية كلمة (الشورى) ووصف المسلمين بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) والشورى ضد الاستبداد، فقرر به أن جميع أعمال الحكومة يجب أن تكون برأي الجماعة وشوراها، لا برأي شخص وحكمه - فأي اسم للجمهورية ورئيسها ونظامها يكون أحسن وأجمع من هذه الأسماء الإسلامية؟ البيوروكريسي الوطني والإسلامي ظلم أيضًا: فما دام الإسلام ينهى المسلمين عن قبول حكومة إسلامية لم تتشكل برأي الأمة وانتخابها. فما تكون قيمة هذا (البيوروكريسي) الأجنبي BUROCRECI في عين المسلمين؟ وَهَبْ أنه لو تقوم الآن في الهند حكومة إسلامية على نظام شخصي. أو تكون (بيوروكريسيا) لطائفة من الوطنيين، فإن الإسلام يوجب عليَّ أن أسميها أيضًا ظالمة وجائرة، وأسعى لخرابها ونقضها كما أفعل الآن، ولست ببدع فعلماء الإسلام ما زالوا يجاهرون بظلم الولاة ويحاسبون المستبدين من المسلمين أنفسهم. وإني لأعترف بكل الأسف أن نظام الإسلام الجمهوري لم يُعمل به طويلاً بل أضلت القيصرية والكسروية ولاة المسلمين، فحادوا على الطريق وآثروا التشبه بقيصر وكسرى واستنكفوا من التشبه بأسلافهم الخلفاء الراشدين، الذين عاشوا طول حياتهم في ثياب رثة كآحاد الناس، بيد أنه لم يَخْلُ عهد من أصحاب الحق الذين ناقشوا الملوك والسلاطين في استبدادهم وتفردهم بالحكم، وتحملوا جميع تلك المصائب التي صُبت عليهم في هذه السبيل بوجوه مستبشرة. الوظيفة الملية للمسلم إعلاء الحق وإعلانه: ولعمري إن المطالبة من مسلم بأن يسكت عن الحق ولا يسمي الظلم ظلمًا، مثل مطالبته بأن يتنازل عن حياته الإسلامية، فإن كنتم لا ترون لأنفسكم أن تطالبوا أحدًا بأن يرتد عن دينه، فليس لكم أن تطالبوا مسلمًا بأن يمتنع عن قوله للظلم: إنه ظلم، لأن معنى كلتا المطالبتين واحد. إن التصديق بالحق وإعلانه عنصر ضروري للحياة الإسلامية، فإن فصل عنها فقدت أكبر ما تمتاز به؛ لأن الإسلام أسَّس قومية المسلمين عليه، وجعلهم شهداء الحق على العالم كله، فكما يجب على الشاهد أن لا يتوانى في إبداء شهادته كذلك يتحتم على المسلم أن لا يتتعتع في إعلاء الحق، ولا يبالي في أداء فرضه بمصيبة وابتلاء، بل يصدع به حيثما كان، ولو لاقى دونه الحِمام. وتصير هذه الفريضة أوكد وأوجب عندما يسود الظلم والجور، ويُمْنَع الناسُ من إعلان الحق بالعنف والشدة؛ لأنه إن أجيز السكوت عنه خوفًا من بطش الجبارين الذين يقطعون الألسنة ويفتنون الأبدان بأنواع من العذاب، يصبح الحق في خطر دائم، ولا يبقى لظهوره وقيامه من سبيل، مع أن ناموس الحق فوق القوة، وليس بمحتاج في ثبوته إلى تصديق القوة، ولا يضره سكوت الناس عنه قاطبة، بل إنه يظل على كل حال حقًّا: حقًّا عندما نجد في سبيله ما نحب ونشتهي، وحقًّا عندما يكون دونه الموت الزؤام، وهل تصير النار بردًا، والثلج نارًا لأننا نحبس ونسجن؟ وجوب الشهادة بالحق وخطر كتمانها: لهذا أنبئ المسلمون في كتابهم أنهم (شهداء الحق) في أرض الله، فالشهادة بالحق والصدع به وظيفتهم الملية وديانتهم القومية التي تميزهم عن سائر الأمم الغابرة والآتية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (البقرة: 143) وقال لهم نبيهم صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء لله في الأرض [1] ) فالمسلم ما دام مسلمًا لا يستطيع كتمان هذه الشهادة، وإن حُبِسَ أو قُتِلَ أو أُلْقِيَ جسدُه في النيران المتأججة. وأخبر القرآن بأن مَن يكتم شهادته يبوء بغضب الله، ومأواه جهنم وبئس المهاد، وكذلك أنبأ أن الأمم الكبيرة لم تهلك إلا لأنها كتمت الحق: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} (البقرة: 159) [2] وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) . الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ولذا نجد (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من آكد الفرائض الإسلامية، وقد أخبر القرآن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أساس لعظمة المسلمين وفخارهم القومي، وأنهم خير الأمم لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأنهم إن حادوا عنه يفقدون سؤددهم ومجدهم الشامخ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 110) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده، ثم لَتَدْعُنَّهُ ولا يُسْتَجَابُ لكم) رواه الترمذي عن حذيفة. وأما أداء هذه الفريضة فعلى ثلاث درجات في ثلاث حالات مختلفة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليُغَيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (رواه مسلم) . وحيث إننا لسوء حظنا لا نقدر في هذه البلاد على تغيير منكرات الحكومة بأيدينا لجأنا إلى الدرجة الثانية التي في وسعنا وهي أن نعلن بألسنتنا ظلمها ومساوئها، ونندد بمثَالبها ونشهر بمعايبها. الأركان الأربعة: إن القرآن وضع أساس الحياة الإسلامية على أربع دعائم: الإيمان، والعمل الصالح، والتوصية بالحق، والتوصية بالصبر. فالإيمان والعمل الصالح معناهما ظاهر، أما (التوصية بالحق) فهي أن يوصي كلٌّ أخَاه بالتزام الحق. (والتوصية بالصبر) هي أن يتواصيا بتجشم المهالك وتحَمُّل النوازل في سبيل الحق، وإنما قرنت هذه بتلك؛ لأن وقوع المِحَن والمَشَاقّ أمرٌ لا مَنَاص منه في سبيله: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (العصر: 1 - 3) . التوحيد الإسلامي والأمر بالمعروف: التوحيد أساس الإسلام وقطب رحاه، وضد (الشرك) الذي أشرب المسلمون بعضه في قلوبهم، ومعنى التوحيد أن يوحد الله في ذاته وصفاته، والشرك هو أن يجعل له سبحانه شريك في ذاته أو صفاته. والتوحيد يُعَلِّم المسلمين أن الخوف والخشوع لا يكون إلا لله الواحد العظيم، أما غيره فلا يخاف منه ولا يخشع له، وأن مَن يخشى غير الله فهو مشرك به وجاعل غيره أهلاً للخوف والطاعة، وهذا ما لا يجتمع مع التوحيد أبدًا. الإسلام من أوله إلى آخره دعوة عامة إلى البسالة والجرأة والتضحية والاستهانة بالموت في سبيل الحق، والقرآن يكرِّر هذا مرة بعد أخرى: {وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} (الأحزاب: 39) {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} (التوبة: 18) {وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الزمر: 36) . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) رواه الحاكم عن جابر على شرط الصحيحين، وفي رواية: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) (رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي) وقد كان يأخذ العهد من أصحابه أن يقولوا بالحق أينما كانوا (كما رواه عبادة بن الصامت وأخرجه الشيخان) . وقد ابيضت عين الدهر، ولم تر مثل هذه الضحايا العظيمة الكثيرة في إعلاء كلمة الحق التي قدمتها الأمة الإسلامية في كل دور من حياتها، فتراجم علمائها ومشايخها وسادتها عبارة عن هذه الضحايا. ألا فلتعلم الحكومة الإنجليزية أن المسلم الذي أمره ربه أن يرحب بالموت الأحمر، ويتغلغل في لجج الدواهي والكوارث ولا يقبل السكوت عن الحق - لا يخيفه قانون (124) من العقوبات الهندية ولا يرده عن دينه وأداء فريضته؛ إذ أكبر عقاب في هذا القانون حبس المرء طول حياته، والمسلم يرحب به ويتمناه إن كان لا بد منه في سبيل الحق. لا يوجد في الإسلام قانون 124: إن تاريخ الأمة الإسلامية ينقسم إلى دورين مختلفين، فالدور الأول دور نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم وخلفائه الأربعة، وقد كان النظام الإسلامي الجمهوري فيه قائمًا بأتم معانيه، فكانت الأمة متمتعة بالجمهورية الحق، ترتع في رياض المساواة الإسلامية العامة، وتعيش عيشة هنيئة في ظلال الحرية الكاملة، لا تخيفها الملكية المطلقة، ولا تثقل كواهلها القيصرية والكسروية، خليفتها ورئيس جمهوريتها من آحادها، تُنَصِّبُهُ بأيديها وتحاسبه في جليل الأمور وحقيرها، ولا تسمح له أن يُجْحِفَ بها أو

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 10

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة (9) بابك ومذهبه: في أوائل خلافة المأمون ظهر في ولاية (مازندران) رجل اسمه بابك. وفي تلك الآونة كان العرب مشغولين باختلافات داخلية. لذلك صمم الرجل أن يستفيد من ذلك الاضطراب إعادة السلطنة الفارسية. وكان هذا المتخيل من طائفة مجوسية اسمها (خرميه) . وخلاصة مذهبه: هدم قواعد الأخلاق من أساسها؛ لأن الأخلاق أساس الدين. ثم طفق ينشر عقيدة التناسخ، وعندما كثر أتباعه اعتصم في قلعة منيعة في مازندان، وأخذ ينشر تعاليمه منها، وكان بين آونة وأخرى يخرج من قلعته وينهب القرى والبلاد المجاورة، ويقتل الرجال ويأسر النساء، فكان قتل النفوس والزنا وجميع المحرمات مباحة دينًا في مذهب بابك وبهذا كثر أتباعه. ظل هذا الرجل في قلعة (بذر) عشرين سنة ينفث منها سمومه بين العرب المسلمين لتجرئتهم على مخالفة أحكام الدين الإسلامي لأجل أن تنحل الرابطة التي بينهم، وعندئذ لا يجد الساعون لإعادة المجد الفارسي أمامهم معارضين أشداء. ثم أرسل الخليفة المعتصم عام 223 قائدًا تركيًّا اسمه (آفشين) للقضاء على هذا الرجل فَوُفِّقَ لإراحة المسلمين من وجوده. ولكنه لم يستطع أن يقلع ما بذره من الشرور في أدمغة العوام فلم تنقض سنة 260 إلا وقد ظهر مذهب آخر اسمه (مذهب القرامطة) في زمان مُلكْشَاه أحد ملوك السلجوقيين في مازندران أيضًا. وكان نبات هذا المذهب من الجذور السامة التي غرسها بابك *** خروج الإسلامية عن صبغتها الأولى ومن السبب؟ إن شدة الأمويين في السياسة وحيلهم للاغتصاب قَلَبَ أفكار المسلمين عليهم. فكان الإيرانيون والعراقيون ظمآنين للانتقام منهم، ولا سيما مظالم الحجاج وعبد الله بن زياد فقد كانت من أهم الأسباب لانقلاب الأفكار على بني أمية؛ لأن الشدة والبطش في الإدارة تنتج ضد ما يُرَاد منها دائمًا، فإن أنالت الجبارين شيئًا من مُبْتَغَاهم عاجلاً، فلا بد أن تنعكس القضية بعد حين ويتباعد عنهم الناس. وبعد أن يبقوا منفردين يُبطش بهم كما بطشوا بغيرهم، هذه قاعدة عامة جاء مفعولها في كافة أدوار التاريخ. وجملة القول: إن شدة الإدارة في زمان بني أمية كانت من جملة الأسباب التي حملت رجال الفرس على العمل باسم الدين والانتقام فظهرت أحزاب متعددة ظاهرها ديني وباطنها سياسي يراد به تفكيك عُرَى الإسلام والمسلمين، وأهم هذه الفرق: (1) الشيعة (2) الإمامية (3) الكاملية (4) العليائية (5) المغيرية (6) الهاشمية (7) اليونسية (8) المفوضة. *** الشيعة كان دعاتها يدعون أن الإمامة والخلافة أو الوصاية خفية أو جلية منحصِرة في علي بن أبي طالب وأولاده، ويرفضون أساس الانتخاب والبيعة ويعدون الخلافة من أركان الدين ويحيلون ترك النبي صلى الله عليه وسلم إياها بدون بيان ولا وصية. إن بعض الشيعة لم يبعدوا عن أهل السنة كثيرًا مثل الجعفريين ومنهم أهل إيران ولكن هناك غلاة الشيعة الذين يبغضون السني أكثر من بغضهم لليهودي والنصراني! شيء غريب. إن عملهم هذا مخالفة صريحة لأفكار سيدنا علي بن أبي طالب الذي يدّعون الانتصار له، وقد آن الأوان للعدول عن سياسات باطنها غير ظاهرها، فليتنبه المسلمون [1] ! ! ! *** الإمامية أول اختلاف ظهر بين المسلمين نشأ من مسألة الإمامة. نعم إن نارها أُطفئت في (سقيفة بني ساعدة) يوم بويع الصديق. إلا أن ذلك كان ظاهريًّا ودليلنا الفرق المتعددة التي ظهرت بعد ذلك. ادعى بعض الناس أن هناك نصًّا نبويًّا على إمامة سيدنا علي، وأنه أفضل الأنبياء والأولياء بعده صلى الله عليه وسلم وأن لأولاده وأحفاده ما له من الفضيلة والرجحان. ويتهم هؤلاء أبا بكر وعمر وعثمان بغصب حقوق أبي الحسنين. يزعم هؤلاء أن الإمامة مُنْحَصِرَة في اثني عشر إمامًا من أحفاد علي المرتضى وأنه ظهر منهم إلى اليوم أحد عشر، وأن الثاني عشر موجود إلا أنه لم يظهر إلى الآن، وأنه سيظهر يوم يعم الظلم وجه الأرض، فيملأها نورًا وعدلاً. هذه العقيدة شبيهة بعقيدة الفُرس في (هرمز) لأن العجم كانوا يعتقدون أنه عندما يسود الباطل على الحق يظهر (هرمز) وينصر الحق على الباطل. فهذه الخرافة قد دخلت على الإسلام من إيران أيضًا. ولكنهم بدَّلُوا باسم (هرمز) اسمًا عربيًّا هو (المهدي والقائم المنتظر) ويزعم هؤلاء أن اسم علي كان مذكورًا في القرآن الشريف، وأن عثمان ذا النورين أخرجه منه حين الجمع. وإلى القارئ الكريم الآيات المزعوم إخراجها من القرآن الشريف [2] : *** ما افتراه بعض الزنادقة على القرآن (يا أيها الذين آمنوا بالنورين أنزلناهما يتلوان عليكم آياتي ويحذرانكم عذاب يوم عظيم. نوران بعضهما من بعض وأنا السميع العليم. إن الذين يوفون بعهد الله ورسوله في آيات (؟) لهم جنات النعيم. والذين كفروا من بعد ما آمنوا بنقضهم ميثاقهم وما عاهدهم الرسول عليه يقذفون في الجحيم. ظلموا أنفسهم وعصوا الوحي الرسول (؟) أولئك يسقون من حميم. إن الله الذي نور السموات والأرض بما شاء واصطفى من الملائكة والرسل (؟) وجعل من المؤمنين (؟) أولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء. لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. قد مكر الذين من قبلهم برسلهم فأخذتهم بمكرهم إن أخذي شديد أليم. إن الله قد أهلك عادًا وثمودًا بما كسبوا وجعلهم لكم تذكرة أفلا تتقون. ليكون لكم آية وإن أكثركم فاسقون، إن الله يجمعهم يوم الحشر فلا يستطيعون الجواب حين يسألون، إن الجحيم مأواهم وإن الله عليم حكيم. يا أيها الرسول بلغ إنذاري فسوف يعلمون، قد خسر الذين كانوا عن آياتي وحكمي معرضون (؟) مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيتهم (؟) جنات النعيم، إن الله لذو مغفرة وأجر عظيم، وأن عليًّا لمن المتقين، وإنا لنوفيه حقه يوم الدين. ما نحن عن ظلمه غافلين، وكرمناه على أهلك أجمعين، فإنه وذريته لصابرون، وإن عدوهم إمام المجرمين، قل للذين كفروا بعد ما آمنوا طلبتم زينة الحياة الدنيا واستعجلتم بها ونسيتم ما وعدكم الله ورسوله ونقضتم العهود من بعد توكيدها وقد ضربنا لكم الأمثال لعلكم تهتدون، يا أيها الرسول إنا أنزلنا إليك آيات بينات فيها من يتوفه مؤمنًا (؟) ومن يتوله بعدك يظهرون (؟) فأعرض عنهم إنهم معروضون، إنا لهم محضرون، في يوم لا يغني عنهم شيء ولا هم يرحمون، إن لهم في جهنم مقامًا عنه لا يعدلون (؟) فسبح باسم ربك وكن من الساجدين، ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون (؟) فصبر جميل (؟) فجعلنا منهم القردة والخنازير، ولعناهم إلى يوم يبعثون. فاصبر فسوف يبصرون، ولقد آتيناك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين، وجعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون، ومن يتول عن أمري فإني مرجعه (؟) فليتمتعوا بكفرهم قليلا، فلا تسأل عن الناكثين، يا أيها الرسول قد جعلنا لك في أعناق الذين آمنوا عهدًا فخذه وكن من الشاكرين. إن عليًّا قانتًا بالليل ساجدًا (؟) يحذر الآخرة ويرجو ثواب ربه. قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون (؟) سيجعل الأغلال في أعناقهم وهم على أعمالهم يندمون، إنا بشرناك بذرية صالحين، وإنهم لأمرنا لا يخلفون، فعليهم مني صلوات ورحمة أحياء وأمواتًا يوم يبعثون، وعلى الذين سلكوا مسلكهم مني رحمة، وهم في الغرفات آمنون، والحمد لله رب العالمين [*] اهـ. ومن نظر هذه العبارات يرى لأول وهلة أن لا علاقة بينها وبين القرآن الكريم. وما سبّب تلفيقها إلا تفريق كلمة المسلمين. ليتهيأ للفرس إعادة مجد إيران أثناء اشتغال الأمة بالخصام [3] . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي ((يتبع بمقال تالٍ))

ذكرى رينان في الجامعة المصرية ـ 2

الكاتب: مصطفى عبد الرازق

_ ذكرى رينان في الجامعة المصرية محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني (2) كلمة المنار في المحاضرة [*] تفصيل لرأي السيد جمال الدين في أن الحضارة والحكمة منوطتان بالدين: تقدم أن الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق قد استنبط مما فهمه من كلام السيد الذي خلص إليه من ثلاث ترجمات أنه بعد وصوله إلى باريس في سنة 1883 دخل طورًا جديدًا تغير فيه اعتقاده ورأيه في الإسلام، وكونه منشأ العلم والحكمة والعمران، وبيَّنا أن ما نقله إلينا من الترجمة الثالثة لكلام السيد فيه ما يدل على خلاف ذلك، وأن فهمنا مُؤَيَّد بما نقله لنا عنه من عاشروه قبل سنة 1883 وبعدها وبآثاره بعدها، وأهمها جريدة (العروة الوثقى) التي أنشأها بباريس في أوائل سنة 1884 عقب رده على رينان، وشهادة هذا له بالفلسفة والعرفان، لظنه أنه (آريّ) من عنصر الأفغان. نسبة هذه الجريدة إلى السيد جمال الدين متواترة؛ لأن ألوفًا من النُّسَخ كانت تُوَزَّع منها في عهده في أقطار الأرض كلها، ولا يزال في الناس من يحفظ نسخها الأصلية، ومَن نَسَخَها عنها مثلنا، على أنها طبعت بعد ذلك برمتها. وقد صرح في فاتحة العدد الأول منها بأنه هو المنشئ لها والمدير لسياستها، والشيخ محمد عبده وإن كان رئيس تحريرها، لم يكن يخرج فيها عن رأيه بل كان يعبر عنه، وكثيرًا ما كان يتلقاه منه، وكان الغرض منها معالجة ما طرأ من الضعف على المسلمين وإرشادهم إلى الوسائل التي يستعيدون بها قوتهم ومجدهم وحضارتهم وإنقاذ بلادهم من الأجانب، ووقاية دينهم مما يهدده من النوائب، وقد اعتمد في ذلك كله على إرشاد القرآن وهدايته، والرجوع في فهمه والعمل به إلى منهج الخلفاء الراشدين وسائر السلف الصالح. ومن المعلوم بالضرورة أن هذا الغرض لا يتم في هذا العصر إلا بالعلوم والفنون الرائجة في أوروبة وأمريكة والتي هي منشأ قوتها وحضارتها. أفرأيت لو كان السيد جمال الدين رجع بباريس سنة 1883 عن رأيه في كون الدين ولا سيما الإسلامي لا يتفق مع العلم والحكمة، أكان يبني سياسته في إعادة مجد المسلمين على هذه الدعوة؟ كلا إنه لو دخل في الطور الذي استنبطه صاحب تلك المحاضرة، لجعل دعوته فلسفية محضة مشوبة بفصل الدين من السياسة، وبالتشكيك في الدين أو الصد عنه، كما فعل النصارى في أوروبة من قبل، وكما يفعل مقلدتهم من متفرنجة المصريين والترك والفرس. لكنه لم يفعل ذلك بل جعل دعوة الإصلاح كلها قائمة على إحياء هداية القرآن وصحيح السنة، وسيرة السلف الصالح من الأمة، وهذه حجتنا الناهضة على أن ما سلم به لرينان من اضطهاد بعض المسلمين للعلم إنما كان بسوء فهمهم للإسلام، وأن الإسلام المشوب بالبدع والأهواء هو الذي يناهض الحكمة والعلم لا إسلام القرآن الذي كان المسلمون يفهمونه في إبان سلطان الدولة العربية قبل تغلب العجم عليهم وتحكمهم في دينهم ودنياهم، كما نقلنا التصريح بذلك عن الأستاذ الإمام بالإجمال، وأحلنا على كتابه (الإسلام والنصرانية) لمن يريد التفصيل، وننقل هنا بعض الشواهد على ذلك من أشهر مقالات (العروة الوثقى) التي لا انفصام لها. (الشاهد الأول) من العدد الثاني الذي صدر بباريس في 20 مارس سنة 1884. جاء في أواخر مقالة (الجنسية والديانة الإسلامية) من هذا العدد ما نصه: (ولو أن حاكمًا صغيرًا بين قوم مسلمين من أي جنس كان تبع الأوامر الإلهية وثابر على رعايتها، وأخذ الدهماء بحدودها، وضرب بسهمه مع المحكومين في الخضوع لها، وتجافى عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة - لأمكنه أن يحوز بسطة في الملك وعظمة في السلطان، وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في الأقطار المعمورة بأرباب هذا الدين، ولا يتجشم في ذلك أتعابًا ولا يحتاج إلى بذل النفقات ولا تكثير الجيوش ولا مظاهرة الدول العظيمة، ولا مداخلة أعوان التمدن وأنصار الحرية ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين والرجوع إلى الأصول الأولى من الديانة الإسلامية القويمة، ومن سيره هذا تنبعث القوة، وتتجدد لوازم المنعة. أكرر عليك القول بأن السبب هو أن الدين الإسلامي لم تكن وجهته كوجهة سائر الأديان إلى الآخرة فقط، ولكنه مع ذلك أتى بما فيه مصلحة العباد في دنياهم وما يكسبهم السعادة في الدنيا والتنعيم في الآخرة وهو المعبر عنه في الاصطلاح الشرعي بسعادة الدارين) ... إلخ. ثم ختم المقالة بهذه الجملة (فإذا رجع الوازعون في الإسلام إلى قواعد شرعهم وساروا سيرة الأولين السابقين لم يمض قليل من الزمان إلا وقد آتاهم الله بسطة في الملك وألحقهم في العزة بالراشدين من أئمة هذا الدين، وفقنا الله للسداد، وهدانا سبيل الرشاد) . (الشاهد الثاني) من العدد 3 المؤرخ في 27 مارس سنة 1884. في هذا العدد مقال طويل جعلنا عنوانه في تاريخ الأستاذ الإمام (ماضي الأمة وحاضرها، وعلاج عللها) ذكر فيه خلاصة آراء أهل العصر في ترقية الأمم من نشر الجرائد وإنشاء المدارس، وتعميم المعارف، وبيَّن أن هذا العلاج في المصريين والعثمانيين لم يأت بالمطلوب من الحرية والعزة والاعتصام من استذلال الأجانب إذ كان تقليدًا لم تكن له غاية إلا نسف ثروتهم، وأن المتشدقين منهم بألفاظ الحرية والوطنية والجنسية وما شاكلها يصوغونها في عبارات متقطعة بتراء لا تعرف غايتها، ولا تدرك بدايتها، وإن المقلدين من كل أمة المنتحلين لأطوار غيرهم يكونون فيها منافذ وكوى لتطرق الأعداء إليها، وتكون مداركهم مهابط الوساوس، ومخازن الدسائس، بل يكونون بما أفعمت أفئدتهم من تعظيم الذين قلدوهم، واحتقار مَن لم يكن على مثالهم، شؤمًا على أبناء أمتهم، يذلونهم ويحقرون أمرهم، ويستهينون بجميع أعمالهم. إلى أن قال: ولهذا لو طرق الأجانب أرضًا لأية أمة ترى هؤلاء المتعلمين فيها يقبلون عليهم، ويعرضون أنفسهم لخدمتهم إلخ (ثم بين رأيه بما نصه) : (لا أطيل عليك بحثًا، ولا أذهب بك في مجالات بعيدة من البيان، ولكني أستلفت نظرك إلى سبب يجمع الأسباب، ووسيلة تحيط بالوسائل: أرسل طرفك إلى نشأة الأمة التي خملت بعد النباهة وضعفت بعد القوة، واسترقت بعد السيادة، وضيمت بعد المنعة، وتبين أسباب نهوضها الأول حتى تتبين مضارب الخلل، وجراثيم العلل، فقد يكون ما جمع كلمتها، وأنهض همم آحادها ولحم ما بين أفرادها، وصعد بها إلى مكانة تشرف منها على رءوس الأمم وتسوسهم وهى في مقامها بدقيق حكمتها - إنما هو دين قويم الأصول محكم القواعد شامل لأنواع الحكم، باعث على الألفة، داع إلى المحبة، مُزَكٍّ للنفوس مطهِّر للقلوب من أدران الخسائس، مُنَوِّر للعقول بإشراق الحق من مطالع قضاياه، كافل لكل ما يحتاج إليه الإنسان من مباني الاجتماعات البشرية وحافظ وجودها، وينادي بمعتقديه إلى جميع فروع المدنية. فإن كانت هذه شرعتها، ولها وردت، وعنها صدرت، فما تراه من عارض خللها وهبوطها عن مكانتها إنما يكون من طرح تلك الأصول ونبذها ظهريًّا، وحدوث بدع ليست منها في شيء، أقامها المعتقدون مقام الأصول الثابتة، وأعرضوا عما يرشد إليه الدين، وعمَّا أتى لأجله، وما أعدته الحكمة الإلهية له، حتى لم يبق منه إلا أسماء تذكر وعبارات تقرأ. فتكون هذه الحادثات حجابًا بين الأمة وبين الحق الذي تشعر بندائه أحيانًا بين جوانحها …) . (فعلاجها الناجع إنما يكون برجوعها إلى قواعد دينها والأخذ بأحكامه على ما كان في بدايته، وإرشاد العامة بمواعظه الوافية بتطهير القلوب وتهذيب الأخلاق، وإيقاد نيران الغيرة وجمع الكلمة وبيع الأرواح لشرف الأمة؛ ولأن جرثومة الدين متأصلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة والقلوب مطمئنة إليه، وفي زواياها نور خفي من محبته، فلا يحتاج القائم بإحياء الأمة إلا إلى نفخة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح لأقرب وقت، فإذا قاموا لشؤونهم، ووضعوا أقدامهم على طريق نجاحهم، وجعلوا أصول دينهم الحقة نُصْبَ أعينهم، فلا يعجزهم بعد أن يبلغوا بسيرهم منتهى الكمال الإنساني …) (ومن طلب إصلاح أمة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه فقد ركب بها شططًا وجعل النهاية بداية، وانعكست التربية وخالف فيها نظام الوجود فينعكس عليه القصد ولا يزيد الأمة إلا نحسًا، ولا يكسبها إلا تعسًا) . (هل تعجب أيها القارئ من قولي: إن الأصول الدينية الحقة المبرأة عن محدثات البدع تنشئ للأمم قوة الاتحاد وائتلاف الشمل وتفضيل الشرف على لذة الحياة، وتبعثها على اقتناء الفضائل، وتوسيع دائرة المعارف، وتنتهي بها إلى أقصى غاية في المدنية؟ إن عجبت فإن عجبي من عجبك أشد. هل نسيت تاريخ الأمة العربية وما كانت عليه قبل بعثة الدين من الهمجية والشتات، وإتيان الدنايا والمنكرات حتى إذا جاءها الدين فوحدها وقوَّاهَا وهَذَّبَهَا، ونَوَّرَ عقولها وقَوَّم أخلاقها وسدَّد أحكامها، فسادت على العالم، وساست من تولته سياسة العدل والإنصاف، وبعد أن كانت عقول أبنائها في غفلة عن لوازم المدنية ومقتضياتها نبهتها شريعتها وآيات دينها إلى طلب الفنون المتنوعة والتبحر فيها، ونقلوا إلى بلادهم طب بقراط وجالينوس وهندسة إقليدس وهيئة بطليموس وحكمة أفلاطون وأرسطو، وما كانوا قبل الدين في شيء من هذا، وكل أمة سادت تحت هذا اللواء إنما كانت قوتها ومدنيتها في التمسك بأصول دينها …) . (تنبيه) إن هذه الجملة وحدها نص صريح في الرد على مزاعم رينان في الإسلام على القاعدة التي بيَّناها. وعلى خطأ الأستاذ الشيخ مصطفي عبد الرازق فيما فهمه من الترجمة الثالثة من رده. (الشاهد الثالث) من العدد الرابع المؤرخ في 3 إبريل 1884. المقالة الاجتماعية لهذا العدد في المقابلة بين الإسلام والنصرانية وأتباعهما في فنون الحرب، وكيف انحصرت في اتباع دين الزهد والسلم، وبعد أن بيَّن سبب عناية الشعوب الأوربية في القتال وفنونه وآلاته خلافًا لتعاليم دينهم، قال: (أما المسلمون فبعد أن نالوا في نشأة دينهم ما نالوا وأخذوا من كل كمال حربي حظًّا، وضربوا في كل فخار عسكري بسهم، بل تقدموا سائر الملل في فنون المُقَارَعَة، وعلوم النزال والمكافحة، ظهر فيهم أقوام بلباس الدين وأبدعوا فيه وخلطوا بأصوله ما ليس منها، فانتشرت بينهم قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى اخترقتها وامتزجت بالنفوس حتى أمسكت بعنانها عن الأعمال، هذا إلى ما أدخله الزنادقة فيما بين القرن الثالث والرابع وما أحدثه السوفسطائية الذين أنكروا مظاهر الوجود وعدُّوها خيالات تبدو للنظر ولا تثبتها الحقائق، وما وضعه كذبة النقل من الأحاديث ينسبونها إلى صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ويثبتونها في الكتب وفيها السم القاتل لروح الغيرة، وأن ما يلصق منها بالعقول يوجب ضعفًا في الهمم وفتورًا في العزائم. وتحقيق أهل الحق وقيامهم ببيان الصحيح والباطل من كل ذلك لم يرفع تأثيره عن العامة خصوصًا بعد حصول النقص في التعليم والتقصير في إرشاد الكافة إلى أصول دينهم الحقة، ومبانيه الثابتة التي دعا إليها النبي وأصحابه، فلم تكن دراسة الدين على طريقها القويم إلا منحصرة في دوائر مخصوصة وبين فئة معينة. لعل هذا هو العلة في وقوفهم بل المُوجِب لتقهقرهم وهو الذي نعاني من عنائه اليوم ما نسأل الله السلامة منه) . (إلا أن هذه العوارض التي غشيت الدين وصرفت قلوب المسلمين عن رعايته وإن كان حجاب

الخوارج والإباضية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخوارج والإباضية راجعنا بعض أهل العلم فيما جاء في الجزء الرابع من رسالة (أهل الصفة) لابن تيمية (276) من قتال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه للمارقين، قال: إنه يدل على أن المراد بهم الخوارج ويخشى أن يكون في نشر هذا تفريق بل إغراء بينهم وبين جيرانهم ... فقلنا: إن شيخ الإسلام بيَّن في المنهاج أن عليًّا رضي الله عنه لم يكفر الخوارج بل قاتلهم لخروجهم عليه وبدئهم إياه بالقتال وعاملهم معاملة الإسلام، وقد نقلنا عنه ذلك في المنار من عهد غير بعيد. وقد قتل علي غيرهم من المرتدين الذين قالوا بألوهيته. هذا وإن حديث المارقين المذكور في (ص 276) رواه البخاري في قوم يخرجون في آخر الزمان، وقد تكلف في تأويله من حملوه على الخوارج على أنه لم يبق من طوائف الخوارج إلا الإباضية المعتدلون. وهم من أشد المسلمين استمساكًا بالإسلام وما يخالفون به أهل السنة فهم فيه كأهل كل مذهب، عامتهم مقلدون، ومتعلموهم متأولون، وإذا كان جمهور أهل السنة لم يكفروا غلاتهم المتقدمين، أفنفرق كلمة المسلمين بتكفير متأخريهم المعتدلين؟

وفاة زعيم عربي علوي عظيم السيد محمد علي الإدريسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفاة زعيم عربي علوي عظيم السيد محمد علي الإدريسي في منتصف شهر شعبان نعت إلينا أنباء عدن السيد محمد علي الإدريسي أمير عسير وتهامة - اليمن السفلى - فشككنا كعشيرته وجماهير الناس هنا في صحة الخبر، ولم نستيقن إلا في آخر شعبان، وكان سبب الشك أنه كان قد جاء قبل ذلك بأشهر نبأ من الحجاز بوفاته ثم ظهر كذبه. قد امتاز السيد محمد علي الإدريسي في عشيرته بمزايا عظيمة لا يجتمع مثلها عادة إلا للأفراد الأفذاذ في الأجيال، كالذكاء والسخاء والشجاعة والحزم والإقدام، مزايا مكنته من تأسيس مملكة مستقلة بنفسها في بلاد يتنازع الحكم والسلطان فيها أقدم دولة عربية إسلامية - وهي دولة أئمة اليمن - وأقوى دولة إسلامية عسكرية - وهي الدولة العثمانية- وقد اجتمعت الدولتان على مناوأته وقتاله واستعانت الدولة العثمانية عليه بحكومة الحجاز فكان له الفلج والظفر، وبذلك تأيد حكمه واستقر. الإدريسيون شيوخ طريقة صوفية، لا قواد جيوش ولا رجال أحكام وسياسة، ولجدهم السيد أحمد بن إدريس شهرة ذائعة بالصلاح والولاية، وهو مدفون بجوار (صبيا) عاصمة عسير، ولطريقته في تلك البلاد أتباع كثيرون يخضعون لشيوخ الطريقة خضوعًا روحيًّا إذعانيًّا، لا يقبل أهله فيه بحثًا ولا برهانًا عقليًّا ولا دينيًّا، كدأب عامة بلاد اليمن وإفريقيا، فمثل الإدريسية كمثل إخوانهم السنوسية. ومما امتاز به السيد محمد علي - رحمه الله تعالى - على شيوخ طريقتهم في هذا العصر أنه طلب العلم في الأزهر بجد وعناية فاستفاد في سنوات قليلة ما لا يدرك أكثر المجاورين في هذا المعهد مثله في بضع عشرة سنة، بل ما يقصر عنه فيه أكثر الشيوخ الذين يقضون عشرات السنين هنالك متعلمين ومعلمين، ذلك بأنه كان نَيِّر العقل، مستقل الفكر، لم تَقْوَ خرافات الطريقة ولا طريقة التعليم الأزهري العقيمة على أن تغلب على فطرته الزكية، ومن آيات ذلك أنه كان راضيًا عن المنار معجبًا به كثير الثناء عليه، وقد اقتنى جميع مجلداته السابقة على الحرب العامة الكبرى التي قطعت الصلة بيننا وبينه، ولما عادت في هذا العام جدَّد الاشتراك فيه، وكنا على وشك بإرسال بقية المجلدات التي تجددت لإكمال مجموعته عنده، ومنها أنه عقد اتفاقًا رسميًّا مع سلطان نجد كان من وسائله أنه هو على مذهب السلف في عقيدته، وقد هدم القبة التي كانت مبنية على قبر جده معترفًا بأنها من البدع المخالفة للأحاديث الصحيحة. ذهب الفقيد إلى بلاد عسير بعد ما كان من طلبه للعلم بقصد الإرشاد والتعليم، ولم يبلغنا عنه أنه كان مستشرفًا للإمارة والحكم، فكان إقبال الناس عليه عظيمًا، وكانوا يتحاكمون إليه حيث لا حكم للدولة العثمانية في داخلية البلاد فيحكم بينهم بالشرع على مذهب الإمام الشافعي الذي ينتمي إليه أكثر الناس هنالك، فارتابت فيه الدولة العثمانية، فكان رجالها يكيدون له، ويذيعون عنه أنه يغش الناس بالدخل والتلبيس وإظهار الكرامات المصنوعة، كزعمهم أنه يظهر للناس في بعض الليالي أنوارًا كهربائية من أدوات يخفيها عنهم فيوهمهم أنها تفيض من صدره على وجهه، وأمثال ذلك. والمعروف عنه أنه لم يكن يخطر بباله أن يخرج الدولة من البلاد ليؤسس له ملكًا فيها، بل كان يريد مساعدتها على إدارتها وإصلاح شؤونها بنفوذه الديني بشرط أن تكون أحكامها فيها شرعية محضة، وأن يلتزم حكامها الإداريون والقضائيون شعائر الدين، لا كذلك الباشا الذي أرسلوه إليه ليفاوضه فذهب مخاصرًا لامرأة إفرنجية بملابسها المعتادة، ومعها كلب لها فدخلت المسجد مع الباشا وتبعها الكلب. وقد أرسل الاتحاديون إليه بعد إعلان الدستور الشيخ توفيق خوجه العالم السائح المشهور ليكشف لهم حقيقته، وكان يعرف شخصه إذ كانا مجاورين في الأزهر، فكتب إليهم بما وقف عليه من حسن نيته وكذب الطاعنين فيه، وأخبروني بذلك في نادي نور عثمانية بالآستانة فذكرته للصدر الأعظم حسين حلمي باشا فرمى الشيخ توفيقًا بالبلاهة والغفلة، ولكن التهمة إغراء، وفي الحكم النبوية: (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم) رواه أبو داود والحاكم عن أربعة من الصحابة رضي الله عنهم. وقف الرجل على كيد رجال الدولة له فأخذ حذره وأجمع أمره على المقاومة، وانتهى ذلك بالحرب، فقتل في معركة واحدة من عسكر الدولة بعدد جميع رجاله، وعجزت الدولة مع إمام اليمن وشريف مكة عن القضاء عليه، بل كان ذلك هو السبب لرسوخ قدمه وتوطيد سلطانه. وقد أنكر المسلمون عليه في كل قطر مصافاته للحكومة الإيطالية في أثناء حربها لطرابلس واستمداد للسلاح والمال منها. وكان بعض العقلاء يجيب هؤلاء المنكرين بأنه لا حرج على مَن يأخذ من الأجنبي. وإنما الحرج على من يعطيه، وهو لم يعط أحدًا شيئًا ولم يساعد إيطالية على أهل طرابلس ولا على الترك بشيء. ثم أنكروا عليه موالاته للدولة البريطانية في أثناء الحرب الكبرى وأخذه منها السلاح والمال، ولذلك كافأته بإعطائه ثغر الحديدة، وأجاب عنه المحبون له بأن اتفاقه مع الإنجليز لم يكن إلا كاتفاقه مع الطليان من قبل، وهو أن يأخذ ولا يعطي، فلم يرض أن يقاتل الترك وإنما التزم للإنجليز أن لا يساعدهم أيضًا، وقيل: إنه كان يسمح للأهالي بإمدادهم بالقوت؛ وأن الإنجليز عاتبوه على ذلك فأجاب بأنه لم يساعدهم بنفسه، ولم يدخل في مواد الاتفاق أن يمنع الأهالي من الاتجار معهم، ولكن يقال: إن في اتفاقه معهم الاعترافَ لهم بحماية سواحله. وقد نقل إلينا عنه أنه قال: إنه لا يستحل أن يبدأ أحدًا من المسلمين بقتال، وإنما يقاتل من يقاتله، فحكم الأقوام والشعوب عنده كحكم الأفراد، فاعتداء بعضها على بعض كاعتداء الصائل إذا لم يمكن دفعه إلا بالقتل أبيح قتله كما هو مقرر في الفقه. ولكن لا ندري أكان يلتزم الدفاع في حربه لإمام اليمن ويقف فيه عند حد الضرورة؟ كيف وقد روي أنه استولى على عدة مواقع من مملكة الإمام؟ وأنه كان يطمع في أخذ سائر البلاد التي يقطنها الشافعية. ولو كان يعتقد صحة إمامة الإمام يحيى أو السلطان التركي لما كان لاجتهاده هذا وجه شرعي؛ لأن الإمام الحق هو صاحب السلطان فلا يعد إخضاعه البلاد صيالاً. كانت الروايات التي تصل إلينا في التنازع والتقاتل بينه وبين الإمام متعارضة وقد سعينا للتأليف والاتفاق بينهما قبل الحرب العامة وبعدها، وكنا نرجو أن نبلغ هذه الغاية بالرغم من أولي الدسائس بينهما الذين كانوا يمنون كلاًّ منهما بمساعدته على الآخر إذا هو واتاهما، ولكن الله توفاه إليه قبل ذلك، وقد بايع زعماء البلاد نجله السيد علي على أن يكون إمامًا لهم من بعده، وسننظر ما يكون من أمره، ونرجو أن يوفقه الله تعالى إلى ما فيه السلام والخير لقومه، والمرضاة لربه باتباع شرعه، وقد ذكر لنا عن نجله هذا أنه شاب مهذب في الثانية والعشرين، وأنه مشتغل بطلب العلم، وله من أبناء عمومته مستشارون أولو تجربة واختبار، وبصيرة في أحوال تلك البلاد، فعسى أن ينصحوا له بمكاتبة الإمام، والاتفاق معه على الاتحاد اليماني العام، ومنه أن يكونوا مستقلين في إدارة منطقتهم، ومرتبطين بمجلس الاتحاد في سياستهم، فذلك خير من استمرار القتال، وأحسن مآلاً من أماني الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (الجامعة) مجلة أدبية علمية اجتماعية تدعو إلى الجامعة الإسلامية والشرقية، تحت رعاية الأستاذ الشيخ أحمد المكنى بأبي الكلام، وهي تصدر في كلكتا (الهند) باللغة العربية ومديرها ومحررها المسئول الشيخ عبد الرازق اللكنوي. ومن مقاصدها توثيق عرى التعارف والتعاون بين جميع البلاد الإسلامية والشرقية، ولا سيما القطر الهندي والعالم الإسلامي والعربي، ومنها توحيد مساعي الأمم الشرقية في عهد هذا الانقلاب الجديد، وتبادل الآراء بين المفكرين في مسألة الإصلاح الإسلامي (ومنها) : (ترقية اللغة العربية ونشرها في البلدان الإسلامية العجمية، ولا سيما الهند وأفغانستان؛ لأنها اللغة الملية العلمية المشتركة بين سائر العالم الإسلامي، وعليها يتوقف انبعاث روح الحياة الاجتماعية) (ومنها) (إحياء العلوم الإسلامية بالبحث والمذاكرة ونشر المقالات العلمية وجمع الأفكار والمباحث لمحققي العصر) فنعمت المقاصد ونسأل الله أن يحققها، وأن ينجح سعي الجامعة لها، ويسخر لها مَن يشد أزرها، ويقيها كيد السياسة وشرها، فما أخوفنا عليها منها. وكان مدير هذه المجلة قد كاشفنا بالعزم عليها ورغب إلينا أن نكتب لها مقالة يجعلها في فاتحة الجزء الأول منها، فكتبنا له مقالة تناسب مشربها لم تدرك الجزء الأول فنشرت في الثاني، وموضوعها التعارض بين الجامعة الإسلامية والجامعة الجنسية ذات السلطان العظيم في هذا العصر، وما ينبغي للمسلمين من دفعه، وقد كنا نعلم عند كتابتها أن سيثقل على أسماع كثير من إخواننا مسلمي الهند، ما فيها من ذكر فشو العصبية الجنسية في متفرنجة الترك، ولكن الحق يجب أن يعلم وإن ضرب الناس المثل في ثقله، وضل أكثرهم بجبن العلماء عن التصريح به، وأجدر الناس بهذا التصريح من مرن على الكتابة مدة ربع قرن فيما يؤلم ملوك أمته وأمراءها، والسواد الأعظم من رؤسائها وزعمائها، ومرشديها وعلمائها، وسائر طبقات دهمائها، ولماذا؟ لأنه قام بما يجب عليه من فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبيان ما فشا في المسلمين من المفاسد والبدع التي أضاعت دينهم ودنياهم، بقصد الإصلاح ابتغاء لوجه الله تعالى، لا يخاف في الله لومه لائم، ولا يرجو من أحد من الناس على ذلك نفعًا ولا يهاب ضرًّا، وقد أوذي كثيرًا، ولم ينل من الفائدة الدنيوية من كل عمله أن ملك بيتًا يسكنه، وهو لو شاء أن يتبع الأهواء أو أن يحابي في الحق لكان من كبار الأغنياء. نشر المدير المقالة خائفًا وَجِلاً فقدم لها مقدمة تشبه الاعتذار للقراء، والدفاع لما توقعه من الانتقاد، وقد انتقدها من لم يفهمها، ولا عرف من تاريخ كاتبها شيئًا، فرَمَانَا بما ننهى عنه من العصبية الجنسية التي انفردنا دون جميع كتاب المسلمين وعلمائهم بتكرار الصد عنها في جميع مجلدات المنار، ونحن أشد حبًّا للترك وأكثر خدمة لهم من هذا المنتقد وأمثاله، ولكن حبنا حب علم وعقل وعمل وإيمان، لا مجرد عاطفة وجدان، وكثيرًا ما كان ضرر هذه المحبة أكبر من نفعها، وإن من أشد الجهل المظلم أن يبرئ أحد شعبًا برمته في هذا العصر من العصبية الجنسية، ولا سيما شعب فَشَتْ فيه التربية والتعاليم الأوروبية، وسيعلم هو وأمثاله أن كل ما قلناه في تلك المقالة هو الحق الصراح، ويعلم مدير الجامعة والأستاذ أبو الكلام أننا لم نبرئ متفرنجة العرب مما أنكرناه على متفرنجة الترك لاطلاعهما على كثير مما كتبنا في تحذير الجميع من ذلك، وأننا بدأنا بانتقاد الجنسية الوطنية المصرية مما جعلها معارضة للجامعة الإسلامية، أيام كانت عصبية الجنسية اللغوية خفية في الشعوب العثمانية بضغط السلطان عبد الحميد. وطالما بيَّنا وجه التوفيق بين الرابطتين الإسلامية والوطنية واتقاء جناية العصبية على الدين، وهذا ما نحاوله الآن. هذا وإن قيمة الاشتراك في (الجامعة) 80 قرشًا مصريًّا وهي تطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (قميص من نار) قصة وطنية في نهضة الترك في الأناضول بعد الحرب العامة وضعتها بالتركية (خالدة أديب) التي كانت ناظرة المعارف العامة للحكومة الوطنية في أنقرة وترجمها بالعربية محب الدين أفندي الخطيب، وطبعها بمطبعته السلفية؛ ليري قراء الأمة العربية كيف تأسست هذه النهضة القومية. فأنقذت أهلها من براثن المنية، بل مكنتهم من الأمنية التي تتوقف عليها كل أمنية، وهي تُطْلَب من المكتبة السلفية ومن سائر المكاتب. *** (سيرة مصطفى كمال باشا، وتاريخ الحركة التركية في الأناضول) كتاب تناهز صفحاته السبعين مزين بالصور والرسوم، اشترك في تأليفه وجمع مواده من اللغة التركية وبعض اللغات الإفرنجية أمين أفندي سعيد وكريم أفندي خليل ثابت من محرري المقطم، أَوْدَعَاه ترجمة بطل الترك في هذا العصر وتاريخ الحركة الوطنية في الأناضول الإدارية والحربية وما يتعلق بها من الأمور السياسية كمعاهدة سيفر ومعاهدة باريس الأخيرة. ونجاح الحركة بإخراج الفرنسيس من كليكية واستعادة الترك لها مع جزء من سورية بالاتفاق الذي عقدوه مع فرنسة ثم التنكيل بالجيش اليوناني وسحقه وتطهير الأناضول من عيثه وفساده. وفي هذا التاريخ الوجيز ما يجب أن يعتبر به كل شرقي، وثمنه خمسة قروش.

تقريظ للمنار

الكاتب: صالح بن سعد بن سالم

_ تقريظ للمنار (ننشره قبولاً لمودة صديق جديد، من أهل الفضل الطريف والنبل التليد) بسم الله الرحمن الرحيم سيدي العلامة صاحب الفضل والفضيلة الإمام الأجل السيد محمد رشيد رضا حفظه الله، آمين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته على الدوام. أنا - أعز الله السيد - أنزع إلى محرراتكم، وأميل إلى منهاجكم، وعلى ما لدي من ضعف الإحساسات، وقلة الإدراكات، والبضائع المزجاة، أتطفل في محبتكم، وأباهي بعملكم؛ لأفوز بحظ من علمكم، وأتشرف بأن أعد من جملة تلامذتكم، وكما قد مَنَّ الله علينا بالاشتراك في مجلتكم المنار الغراء في المجلد 23 أصبحت النفس فائزة بتمثيل شخصكم الكريم، من ثنايا سطور قلمكم البليغ، كذلك أتمنى ما تنزع إليه النفس والعين معًا من الفوز باللقيا والظفر بالاجتماع، ولا غرو فإن وجه الإسلام متهلل لما تفعلون، وقلوب المؤمنين صادية إلى ما تنزعون، وهم فيه شُرَّع: الاجتماعي والعمراني والسياسي والمتدين والفيلسوف، فكل من مناركم يرد مشربه، ويعود وقد قضى أربه، والسيد يملأ الدلو إلى عقد الكرب، ويذود عن حوض الإسلام (والحكم لمن غلب) يا أيها الساري الملجج في العمى ... رفقًا بنفسك إنها لخطيره أترى المنار (بدت) أمامك فانتهج ... بيضاء واضحة الدليل منيره وانشد هناك علاج دائك إنها ... طب بأدواء القلوب خبيره واستطلع الإرشاد من صفحاتها ... تهديك إكليل العلا وسريره فهناك إرشاد الرشيد وعلمه ... وهناك عين الطيبين قريره تفضلوا اقبلوا عني تقريظي لمجلتكم الغراء، وإن كنت قليل البضاعة، ضعيف العبارة، ركيك الألفاظ، فأنتم أهل السماح. وهذا أول حرف كتبته إلى مجلتكم. اقبلوا فائق احترامي، وجزيل سلامي، ودمتم في خير. ... ... ... ... ... ... ... محبكم الحقير ... ... ... ... صالح بن سعد بن سالم الأمير بدار سعد (لحج)

الحلف بالطلاق وأنواط النقود

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحلف بالطلاق - وأنواط النقود (س19و20) [*] من الأستاذ السيد طلحة المدرس في الكلية المشرقية في لاهور بنجاب (الهند) : إلى حضرة الفاضل الجليل منشئ المنار الأغر متع الله المسلمين بطول حياته السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: أما بعد فإن صيت علمكم رحمكم الله وخدماتكم الدينية حملنا على أن نكلفكم بالإفتاء في حادثة ونرجو من فضلكم أن تمنوا علينا بجواب هذا المكتوب: صورة المسألة: استحلف زيد عمرًا بأنك لا تقاطعني ولا تهاجرني طول حياتك ولا تؤثر أحدًا عليَّ وقل: لو فعلت ذلك فكلما تزوجت امرأة فهي طالق - فحلف عمرو ثم حنث. لعل جنابكم تستدلون بحديث الترمذي رحمه الله: (لا طلاق فيما لا يملك) إلخ. فالحديث حسن ليس بصحيح، ومع هذا فإن ابن الهمام نقل في فتح القدير أن الشعبي وسالمًا والزهري قالوا: إن معنى الحديث في التنجيز لا في التعليق. وبعض الروايات التي تدل على التعليق فكلها مجروحة كروايات الدارقطني في الباب، ونقل الترمذي قول البخاري: إن الحديث المذكور أصح شيء في هذا الباب. فإن المبتلى بهذه المسألة في غاية الضيق والشدة، فالمرجو من جنابكم أن تمنوا علينا بجواب شافٍ كافٍ بالأحاديث الصحاح. فإن كتب الحديث في الهند قليلة ليس يوجد إلا الكتب المتداولة. وفي مصر لم تزل كتب الحديث كثيرة منذ زمن قديم. والمسألة الثانية مسألة النوط Note هل تكلم فيه أستاذكم الإمام؟ أو أحد من العلماء الأفاضل؟ أو سنح لكم شيء فيه؟ والسلام. الجواب عن مسألة الحلف بالطلاق: إن أمهات كتب الحديث موجودة في الهند، ومنها ما طبع فيها ولم يطبع في مصر، وقلما يوجد في غير الأمهات وشروحها ما يثبت به حكم بالنص، وقد ورد في هذه المسألة عدة أحاديث وآثار في الكتب المشهورة لمجموعها من القوة ما ليس لآحادها مع ضعف القياس المعارض بها، فأما حديث الترمذي الذي ذكره السائل فقد رواه أحمد وسائر أصحاب السنن والبزار والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا بلفظ: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك) وقال البيهقي كالبخاري: هو أصح شيء في هذا الباب وأشهر. ولا يخفى على السائل أن سبب إسقاطهم لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن مرتبة الصحة أن جُلَّ حديثه عنه كتاب لا سماع، قال ابن معين: ومن هنا جاء ضعفه. وتضعيفهم لما روي كتابة من المسائل الفنية التي لا تؤخذ على إطلاقها. فمن وثق بالمكتوب ولم يكن عنده فيه شبهة فله أن يفضله على المسموع؛ لأنه يأمن فيه من الخطأ. والتحقيق فيه ما قاله الحافظ ابن حجر وقد ضعَّفه ناس مطلقًا ووثَّقه الجمهور، وضعَّف بعضهم روايته عن أبيه عن جده، ومن ضعَّفَه مطلقًا فمحمول على روايته عن أبيه عن جده، فأما روايته عن أبيه فربما دلَّس ما في الصحيفة بلفظ (عن) فإذا قال: (حدثني أبي) فلا ريب في صحتها كما يقتضيه كلام أبي زرعة إلخ، وقد قال الترمذي في مضمون هذا الحديث: إنه قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وقال الخطابي: وأسعد الناس بهذا الحديث من قال بظاهره وأجراه على عمومه اهـ. أي في التنجيز والتعليق. وروى ابن ماجه عن المسور بن مخرمة مرفوعًا: (لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك) وقد حسَّنه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير، ورواية الزهري إياه عن عروة عن المسور وعنه عن عائشة ليس من العلل التي تقتضي رده. وروى الحاكم في المستدرك عن جابر مرفوعًا: (لا طلاق إلا بعد نكاح ولا عتق إلا بعد ملك) صحَّحه وقال: وأنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، وقد صح على شرطهما من حديث ابن عمر وعائشة وعبد الله بن عباس وجابر. اهـ. وقد نقل القاضي الشوكاني ما قيل في علل هذه الروايات ثم قال: (ولا يخفى عليك أن مثل هذه الروايات التي سقناها في الباب من طريق أولئك الجماعة من الصحابة مما لا يشك مُنْصِف أنها صالحة بمجموعها للاحتجاج، وقد وقع الإجماع على أنه لا يقع الطلاق الناجز على الأجنبية، وأما التعليق نحو أن يقول: إن تزوجت فلانة فهي طالق: فذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أنه لا يقع، وحكي عن أبي حنيفة وأصحابه والمؤيد بالله في أحد قوليه أنه يصح التعليق مطلقًا، وذهب مالك في المشهور عنه وربيعة والثوري والليث والأوزاعي وابن أبي ليلى إلى التفصيل وهو أنه إن جاء بحاصر نحو أن يقول: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو بلد كذا فهي طالق - صح الطلاق ووقع، وإن عمم لم يقع شيء. وهذا التفصيل لا وجه له إلا مجرد الاستحسان كما أنه لا وجه للقول بإطلاق الصحة. والحق أنه لا يصح الطلاق قبل النكاح مطلقًا للأحاديث المذكورة في الباب. وكذا العتق قبل الملك، والنذر بغير الملك اهـ. فتبين بهذا أن جمهور علماء الصحابة وغيرهم من السلف على القول بأن الطلاق لا يقع تنجيزًا ولا تعليقًا إلا على زوجة يملك المطلق عصمتها ويختار أن يحل هذه العصمة لترجيحه الفراق عليها، ولو لم يكن للجمهور ما ذكروه من الأحاديث التي يحتجون بمجموعها ويحتج بعض الأئمة بما دونها مما لا يعارضه أقوى منه - لكفى أن يأخذ بها السائل المتحير وأمثاله ولا سيما إذا علم أن سبب فشو القول بإيقاع الطلاق المعلق في مثل النازلة المسئول عنها هو ما جرى عليه الخلفاء في أيمان البيعة لهم فقد كانوا لا يولون القضاء والإفتاء لمن لا يجيز تلك الأيمان وإذا كان أقل علماء السلف من قال بوقوع الطلاق المعلق قبل الزواج في غير اليمين، وأنه ضعيف لا وجه له من النقل ولا من القياس كما قال الشوكاني - فالخلاف في وقوع ذلك في اليمين أقوى والقول بالوقوع فيه أضعف. ذلك بأن الذي يحلف بالطلاق على فعل شيء أو تركه تنجيزًا أو تعليقًا لا يقصد بحلفه إلا الامتناع مما حلف عليه كما إذا حلف بالله تعالى أو علَّق بالكفر أو البراءة من دين الإسلام وهو لا يقصد أنه إن فعل ذلك يرتد عن الإسلام فيكون مُعطلاً أو وثنيًّا أو يهوديًّا مثلاً، وإنما يقصد تأكيد الامتناع عن ذلك الشيء الذي حلف عليه. فإن فعل ما علقه بالكفر - وهو يكره الكفر ولا يريده - لا يكفر، ومثله الحلف بالطلاق من غير فارق. وقد فرض الله للمؤمنين تحلة أيمانهم بالكفارة فقال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) وقال: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (المائدة: 89) الآية. وقد أطلق اليمين فدخل فيه كل ما يحلف به الإنسان مما يصح به الحلف، وأما ما لا يصح به الحلف شرعًا كالحلف بالمخلوقات فلا ينعقد ولا يجب به شيء. وقد روى أحمد ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه) . وللعلماء المجتهدين في أيمان الطلاق والعتق والنذر والكفر ثلاثة أقوال: (أحدها) أنه إذا حدث لزمه ما حلف به. وهذا الذي غلب واشتهر عند المقلدين بسبب حكم الحكام به إرضاء للخلفاء في أيمان البيعة. (ثانيها) لا يلزمه شيء؛ لأنه لم يقصد الإيقاع، وإنما قصد الامتناع، واليمين صورية لا حقيقية. (ثالثها) أنه يجب عليه كفارة يمين؛ لأنه يدخل في عموم الأيمان الواردة في إطلاق القرآن، وهذا أرجح الأقوال دليلاً، وأقومها قيلاً، وأهداها سبيلاً، لدلالة ما تقدم من الأحاديث عليها، وأخذ جمهور السلف بها، وقد أيده شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم بتفصيل بينا فيه دلائله واختلاف الأقوال فيه عن السلف وفي المذاهب الأربعة وبيان أنه مقتضى القياس الصحيح، ولابن تيمية فيه مصنفات مخصوصة وفتاوى متعددة وقواعد ممهدة وفي أول المجلد الثالث من مجموع الفتاوى المطبوعة بمصر وفي آخره بعض ذلك فليراجعه السائل فلعله يجد فيه ما يطمئن له قلبه، ولعلنا نفصل المسألة في مقال مستقل بعدُ. الجواب عن مسألة الأنواط: سبق لنا عدة فتاوى في مسألة الأنواط كوجوب الزكاة وجريان الربا فيها.

ليلة نصف شعبان والاكتساب بالقرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ليلة نصف شعبان والاكتساب بالقرآن (21 - 24) من الأستاذ صاحب الإمضاء: حضرة صاحب الفضيلة ملجأ الحيران الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله. وبعد فأرجو من فضيلتكم إبداء رأيكم (من جهة الدين) في ليلة نصف شعبان وفي قراءة القرآن في رمضان وغيره على الأموات والأحياء وأخذ الأجرة على ذلك وفي استعماله تمائم (وحجب) وغير ذلك مما لا يخفى على فضيلتكم، وما رأي حضرتكم في حديث (أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) أرجوك يا سيدي وأنت ملجئي وملجأ كل حيران في هذا الزمان الذي اختلطت فيه العادات (بالدين) إجابتي وعدم إحالتي على أعداد المنار السابقة؛ لأني حديث عهد بالاشتراك في مجلتكم الغراء (المنار) ولا توجد جميع أعدادها عندي وتقبل يا سيدي فائق احترامي. ... ... ... ... ... ... ... توفيق عبد الجليل ... ... ... ... ... ... ناظر مدرسة العرابة المدفونة بالبلينا الجواب عن مسألة ليلة نصف شعبان: وضع الوضاعون عدة أحاديث في فضائل ليلة نصف شعبان والعبادة فيها وصيام نهارها مهدت للملوك والأمراء المبتدعين للمواسم الدينية سبيل جعلها موسمًا من هذه المواسم كالموالد، ووافقهم عليه علماء السوء كما وافقوهم على أمثاله. وقد بيَّنا في المجلد الثالث من المنار بدع هذه الليلة ومنكراتها وهي 16 بدعة، منها الدعاء المعروف، ثم سُئلنا: هل ورد فيها أحاديث صحيحة يُعمل بها؟ فأجبنا عن ذلك في المجلد السادس جوابًا مختصرًا لا يزيد على صفحتين قلنا فيه: إن أمثل ما ورد فيها حديث ابن ماجه عن علي كرم الله وجهه مرفوعًا: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله ينزل فيها لغروب الشمس إلى سماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له؟ ألا من مسترزق فأرزقه؟ حتى يطلع الفجر) ورواه عبد الرزاق في مصنفه، وقد قالوا: إنه ضعيف. واكتفينا بنقل ذلك عنهم في المنار وقتئذ، والصواب أنه موضوع؛ فإن في إسناده أبا بكر عبد الله بن محمد المعروف بابن أبي بسرة، قال فيه الإمام أحمد ويحيى بن معين أنه كان يضع الحديث. وللترمذي وابن ماجه في نزول الرب في هذه الليلة حديث آخر عن عائشة ضعفه البخاري والبيهقي ولابن ماجه حديث آخر عن أبي موسى لفظه: (إن الله ليطلع من ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن) وهو من رواية الوليد بن مسلم المدلس عن ابن لهيعة وهو ضعيف، والتابعي فيه عبد الرحمن بن عزرب وهو لم يلق أبا موسى. الجواب عن مسألة الاكتساب بالقرآن: من المسائل المُجْمَع عليها في دين الله على ألسنة جميع رسله أن العبادة لا تكون عبادة إلا بالإخلاص فيها لله تعالى لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} (البينة: 5) وأن العبادة المحضة لا تصح بالأجرة، ولا يجوز أخذ الأجرة عليها من الناس. ومن قرأ القرآن بالأجرة ليجعل ثواب قراءته للموتى فلا ثواب له، بل هو آثم، فأي شيء ينال الموتى من قراءته التي هي معصية؟ هذا إذا صح أن الإنسان يمكنه أن يجعل ثواب عبادته لغيره كما قال بعض العلماء، وقد بيَّنا ضعفه في آخر تفسير سورة الأنعام بالإسهاب وكشف شبهات القائلين به، إلا ما صح من انتفاع الوالدين بعمل أولادهم لأنهم ملحقون بهم، فيراجع هنالك، ونحن مضطرون إلى الإجمال فيما نُسأل عنه مما سبق فيه التفصيل كالمسألة السابقة على أنا نزيد على ما سبق بعض الفوائد مما تيسر لنا لإفادة من قرءوا ما سبق شيئًا جديدًا. روى أحمد وأبو داود من حديث جابر رضي الله عنه مرفوعًا: (اقرءوا القرآن وابتغوا به الله تعالى من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه) وله ألفاظ أخرى، ومعناه أنهم يقيمون ألفاظه ويضيعون أحكامه، ويتعجلون أجره في الدنيا ولا يدخرون ثوابه الآجل عند الله في الآخرة. والقدح - بالكسر - عود السهم قبل أن يُرَاش ويُرَكَّب فيه النصل. وفي معناه حديث عمران ابن حصين رضي الله عنه عند الترمذي وحسنه: (من قرأ القرآن فليسأل الله به فإنه سيجيء أقوام يقرءون القرآن يسألون به الناس) رواه أحمد أيضًا وأقوى منه ما رواه أحمد بسند رجاله ثقات من حديث عبد الرحمن بن شبل مرفوعًا: (اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به) . وفي معنى ذلك أحاديث أخرى بعضها في وقائع ونوازل حدثت، وفي أسانيد كل ما روي في هذا الباب بعض العلل ولكن بعضها يقوي بعضًا وهي واردة في أصل صحيح. وقد ورد في مقابلها ما يدل على جواز الانتفاع بالقرآن في مصالح الدنيا كحديث الصحيحين فيمن زوجه النبي صلى الله عليه وسلم امرأة على أن يعلمها ما معه من القرآن بدل المهر. وفي رواية لأبي داود: علمها عشرين آية وهي امرأتك. الجواب عن الحديث: ومنها الحديث الوارد في السؤال، وسببه أن نفرًا من الصحابة رضي الله عنهم مروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلُدغ سيد الحي فسعوا له بكل ما علموا فلم ينفعه فسألوا أولئك النفر هل عندهم من شيء؟ فقال أحدهم: إنه يرقي وطلب الجُعْل على الرقية؛ لأنهم لم يضيفوهم فجعلوا له قطيعًا من الغنم فرقاه بفاتحة الكتاب فشفي فأعطوهم القطيع فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأقرهم عليه وقال: (إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) روى البخاري هذا اللفظ للحديث المرفوع عن ابن عباس وروى الجماعة إلا النسائي القصة من حديث أبي سعيد الخدري وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (وما يدريك أنها رقية) أي الفاتحة ثم قال: (اقتسموا واضربوا لي معكم سهمًا) أي قاله تطييبًا لقلوبهم؛ لأنهم شكوا في جواز أكلها كما قيل. وقد استدل بعض العلماء بهذه الأحاديث على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن دون التعبد بتلاوته، ومنع ذلك آخرون وأجابوا عن الحديثين بأجوبة أظهرها: أن ما وردت فيه أخص من المُدَّعَى. وحديث الرقية يدل على جوازها وجواز أخذ الأجرة عليها إذا لم يكن فيها شيء من الباطل كما ورد في حديث راقٍ آخر بالفاتحة قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله عما أعطي عليها: (خذها فلعمري من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق) رواه أحمد وأبو داود عن خارجة بن الصلت عن عمه ورجاله رجال الصحيح إلا خارجة وقد وثقه ابن حبان وقال الحافظ في التقريب: مقبول من الثالثة، والرقية بالقرآن لا يقصد بها التعبد به لأجل الثواب والقربة وإنما يقصد بها تقوية روحانية الراقي؛ لأجل أن تؤثر روحه وإرادته في نفس المُرْقَى تأثيرًا يغلب أثر الألم فلا يقاس عليها التعبد به لأجل الثواب، ثم إهداء الثواب إلى مَن لم يقرأ لينتفع بعبادة غيره. (فإن قيل) : قد ثبت في حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب في الصحيح أنهم (الذين لا يرقون ولا يسترقون ... ) . فالجواب أن الرقية ليست دواء يشفي من الألم أو المرض باطِّرَادٍ، بل الغالب فيها تأثير الاعتقاد أو تأثير نفس ذات إرادة قوية روحانية في نفس أخرى بحسب سنة الله في البشر لذلك كانت تنافي التوكل الذي هو الأخذ بسنن الله الثابتة في الأسباب والمسببات الصحيحة وتفويض الأمر إلى الله وحده فيما لا يُعْرَف له سبب صحيح. وقد فصَّلنا هذه المسألة من قبل في المنار (ص390-393 من المجلد السابع) وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لُدِغَ مرة فغشي عليه فرقاه ناس فلما أفاق قال: (إن الله شفاني وليس برقيتكم) رواه البخاري في التاريخ وابن سعد والبغوي والطبراني والدارقطني وغيرهم، وذلك أن النفس لا تؤثر إلا في نفس أضعف منها وروحه صلى الله عليه وسلم أقوى من جميع الأرواح، وهذا المدرك يؤيد القول ببطلان ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم سُحِرَ، وأثَّرَ السحر فيه كما بيَّنَه الأستاذ الإمام، وسبقه إليه أبو بكر الجصاص من أئمة الحنفية في كتابه أحكام القرآن. وفي ص 855 من ذلك المجلد (السابع) سؤال عن أخذ الأجرة على القرآن استشكالاً على عَدِّ الأستاذ الإمام إياه من أكل أموال الناس بالباطل ويعني به ما بيَّناه في تفسير {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (البقرة: 188) والاحتجاج عليه بحديث الرقية مع الجواب عنه. الجواب عن مسألة التمائم ونحوها: ورد في حظر التمائم وما في معناها أحاديث مرفوعة، منها: (من علق تميمة فقد أشرك) رواه أحمد والحاكم عن عقبة بن عامر ومنها: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. ومنها: (ثلاث من السحر: الرقى والتولة والتمائم) رواه الحاكم. والمراد بها رقى الطلسمات الخرافية. وإذا أراد السائل مزيد بيان لهذه المسألة فليراجع ما ذكرناه من المواضع في المجلد السابع، وكذا ما نقلناه عن الدر النضيد في (ص 584) من المجلد الثاني والعشرين من الأحاديث في النهي عن تعليق التمائم والودع والعظام ووضع الخيط في اليد للحمى وقلادة الوتر في عنق البعير لأجل وقايته. وكل هذا داخل في مفهوم كلمة (الجبت) ففي حديث قطن بن قبيصة مرفوعًا عند أبي داود (العيافة والطيرة والطرق من الجبت) وفسر العيافة بالخط وهو ضرب الرمل، وهو من تفسير العام ببعض أفراده فالجبت يشمل كل الخرافات كالطرق وهو الضرب بالحصى والودع أو حب الفول لمعرفة البخت وغيره من أمر الغيب.

المعاهدة البريطانية الحجازية وخدعة الوحدة العربية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المعاهدة البريطانية الحجازية وخدعة الوحدة العربية بلغنا منذ بضعة أشهر أن الدكتور ناجي الأصيل الموصلي ذهب إلى مكة وأخذ تفويضًا من ملك الحجاز بالسعي لدى أرباب الأموال من الإنجليز بعقد امتيازات في الحجاز باستخراج المعادن وبغير ذلك، ثم سافر منها إلى (لندن) مارًّا بمصر، ثم شاع أن الدكتور وكيل سياسي لملك الحجاز، ثم جاءتنا أخبار أوروبة العامة والخاصة بأنه ذهب إلى لوازن لحضور مؤتمر الصلح فيها بالوكالة عن ملك الحجاز، وأنه كان هنالك مع جعفر باشا العسكري البغدادي مندوب الملك فيصل ملحقين أو تابعين للوفد البريطاني، ولنا من أخبارهما التفصيلية الفاضحة هنالك ما ليس من موضوع هذا المقال. ثم إن برقيات روتر الإنجليزية وجرائد لندن أذاعت في العالم كله نبأ عقد مؤتمر عربي يمثل الشعوب العربية كلها؛ لأجل حل المسألة العربية ووضع أساس الاتحاد العربي، ثم علمنا أن أعضاء هذا المؤتمر خمسة نفر من صنائع أمراء الحجاز ووسائلهم لدى الإنجليز وهم جعفر باشا العسكري وناجي بك السويدي والدكتور ناجي الأصيل وأمين بك التميمي وإحسان بك الجابر. فتذكرنا بذلك ما كانت البرقيات والجرائد الإنجليزية بلغتنا إياه عند إعلان (اتفاق سايكس بيكو) على قسمة البلاد العراقية والسورية بين إنجلترة وفرنسة، إذ زعمت أن الأمة العربية قد اشتركت في الاحتفال بإعلان هذا الاتفاق في لندن بحضور ممثليها فيه، ثم علمنا أن المراد بهؤلاء الممثلين تاجر سوري مسيحي مقيم بلندن ومتجنس بالجنسية الإنجليزية وأسير مسلم من عكا اسمه إسماعيل. وهذا شأن الأجانب في العبث واللعب بالشعوب والأمم والكذب والتزوير: رجلان مجهولان يمثلان أمة بدون علمها ولا إذنها، ويقرران إبسال بلادهم واستعبادها، أو ينسب ذلك إليهم، وخمسة نفر يعقدون مؤتمرًا باسم الأمة العربية بدون توكيل ولا إذن ولا علم منها، وذلك أنهم يعملون بأمر الأجنبي في بلده. وأما المؤتمر السوري الفلسطيني الذي عقد في جنيف ممثلاً للأحزاب الاستقلالية في الوطن والمهاجر، والمؤتمر السوري العام المنتخب من جميع المناطق السورية. والمؤتمرات الفلسطينية العامة المنتخب أعضاؤها من جميع بلاد فلسطين - فهي لا تمثل من تتكلم باسمهم في عرف الأجانب المغتصبين للبلاد. ثم أذاعت البرقيات والجرائد الإنجليزية في أقطار العالم أن ناجي الأصيل قد اتفق مع الحكومة البريطانية على عقد معاهدة بريطانية عربية تقرر فيها اتحاد الممالك العربية واستقلالها، فكانت الجرائد العربية تُعنى بنقل هذه الأخبار والتعليق عليها في مصر وفلسطين وسائر سورية وفي مهاجر السوريين، واغتر بذلك كثير من الناس وصدقوها، واتسع مجال الإيهام والتغرير لجرائد الدعاية (البوبغندة) الحجازية في سورية وفلسطين بها فصورت للبسطاء تأليف سلطنة (إمبراطورية) عربية مؤلفة من جزيرة العرب برمتها ومن ممالك فلسطين وشرق الأردن والعراق والدويلات السورية، وصدق أحداث السياسة والعوام في سورية أن بلادهم داخلة في هذه الإمبراطورية الجديدة. وروَّج هذه الخدعة الخيالية فيهم ما نقلته إليهم الجرائد من تودد الأمير عبد الله الحجازي لفرنسة فحسن عندهم هذا لتحقيقه الغاية التي أذاعوها منذ حلول ركابه في شرق الأردن، وهي أنه ما جاء إلا لإنقاذ سورية من فرنسة، ومن البديهي أن إنقاذه إياها بالدهاء السياسي أولى وأسلم من إنقاذها بالحرب. وكل ذلك غش وخداع لم يتقن هؤلاء الأمراء الحجازيون من أمور السياسة العصرية غيره، وهو إنما يقوم بالبذل. كان بعض الإخوان يسألونني عن رأيي في هذه الأخبار كلما حملت الجوائب شيئًا منها فأقول: إنني أتمنى لو يكون فيها خير ولكنني أعتقد أنها خداع وتضليل فلو كان الإنجليز يريدون للعرب الاستقلال والاتحاد لما احتاجوا إلى الدكتور ناجي الأصيل في وضع الخطط لذلك، وإنما يريدون من وكيل الملك حسين الاتفاق على خدعة ينالون بها ما يريدون منه، وهو موافقته الرسمية على ما قرروه ونفذوه في البلاد العربية، وقد سألني بعض هؤلاء الإخوان أن أكتب رأيي في ذلك وأنشره في الجرائد لكشف الغش والتلبيس للأمة العربية فكنت أقول: أرى أن نصبر إلى أن تظهر نتيجة هذه الأخدوعة الجديدة فنكون على بينة فيما نقول، ولا نرمي من أعوان الخادعين باتباع الهوى أو الفضول، وإنني على سوء ظني المبني على طول التجربة والاختبار أتمنى أن أكون مخطئًا في هذه المرة، وإذًا أكون في طليعة أنصار ما يأتي من كل مشروع أو عمل لاستقلال العرب واتحادهم. صبرت إلى أن انكشف الستر، وظهر ما بُولِغَ في إخفاءه من الأمر، وتركت السبق لغيري في إنكار ذلك فكان أول المنكرين له من كانوا أول المحسنين للظن بالملك حسين والأمير عبد الله وهم أهل فلسطين. ولما زالت ثقتهم بالثاني ظلوا واثقين بالأول، حتى كانوا يكابرون أنفسهم، ويكذبون الأخبار الرسمية البريطانية الجلية، اغترارًا ببرقيات الحجاز المبهمة الموهمة. ألم تر أن ناجي الأصيل عاد من لندن إلى مصر فسبقه إليها كل من الشيخ عبد القادر المظفر وأمين بك التميمي من دعاة ملك الحجاز في فلسطين فاستقبلاه في الإسكندرية فاستنطقاه ليسبقا بالبشائر إلى قومهما فلم يفهما منه شيئًا جليًّا، ألم تر أنه سافر إلى الحجاز في بارجة بريطانية فسابقه إليها الشيخ عبد القادر المظفر ثم سبقه بالعودة إلى مصر مبشرًا بتأويل حلم الاتحاد العربي، وبأن عهد بلفور قد ألغي، أخبرني بذلك فلم أصدق، ولكنني قلت له: إنني أصبر فإن صح هذا كنت أول مؤيد له ومُنَوِّه به، وإن كوفئت على ذلك بالإيذاء وإعراض هؤلاء الزعماء، وقد استنبط الشيخ بشائره من فرح الملك بهذه المعاهدة واحتفاله بالدكتور ناجي الأصيل كاحتفال الأمم بالقواد الفاتحين، ولم يطلعه أحد على شيء من مواد المعاهدة كدأب الملك حسين في الكتمان وعدم استشارة أحد في شيء من أمور الأمة، ولكنه روى لنا عن فؤاد الخطيب وكيل الخارجية عن الملك الجزم بإلغاء وعد بلفور، فجزمت بعدم صحة متن هذه الرواية جزمًا لا تردد فيه وتركت الكلام في سندها، ثم أيدت الحوادث كذب المتن بما لا يعد طعنًا في سنده، إذ علم أن الملك فهم ذلك من المعاهدة وهي نص في ضده، كما ثبت في النصوص الرسمية الآتية. بناء على هذا الفهم الملكي أعلن المعاهدة بمكة يوم عيد الفطر باحتفال رسمي حافل، وتضمن الإعلان الملكي الأمر بجعل هذا اليوم عيدًا. وهاك نص الإعلان منقولاً عن العدد 688 من جريدة القبلة الرسمية المؤرخ في 5 شوال الحال بعد ذكر الاحتفال بعيد الفطر: عيد على عيد إعلان استقلال العرب ووحدتهم في جميع الجزيرة العربية ولما استقر بجلالة المنقذ المقام في بهو الاستقبال العام مثُل بين يدي جلالته الأشراف والسادة العلماء والأعيان والوجهاء وأماثل الأمة على اختلاف طبقاتها حاضرها وباديها، وحينذاك تفضل جلالته ففاه بخطاب ملوكي سامٍ، حمد الله فيه وأثنى عليه ثم أشار إلى أن هذا العيد المبارك لا شك في تضاعف يمنه حيث صادف قبول المراجع الإيجابية [1] لجميع المطالب العربية فلا ريب في أنه يوم اجتمع فيه عيدان: عيد الفطر السعيد، وعيد الاعتراف باستقلال العرب ووحدتهم، وعليه فجلالته يعلن ذلك للأمة العربية حاضرها وباديها. وعلى إثر ذلك أمر جلالته صاحب الإقبال رئيس الديوان العالي أن يلقي في ذلك المحفل الجليل الخطاب الملوكي الهاشمي الآتي، وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم (نصرح في هذا العيد المبارك بمآل المعاهدة العربية البريطانية المؤسسة على مقرراتنا السياسية والتي يعترف بها صاحب الجلالة البريطانية لنا باستقلال العرب بجزيرتهم وسائر بلادهم، ويتعهد لنا حشمته الملوكية بالمعاضدة الفعلية لتأسيس الوحدة العامة الشاملة لكل هذه البلاد بما فيها العراق وفلسطين وشرق الأردن وسائر البلاد العربية في جزيرة العرب (ما خلا عدن) فنأمر أن يعتبر هذا اليوم المبارك عيد الاعتراف باستقلال الأمة العربية، والله ولي التوفيق. انتهى. وعقبه خطاب مندوب الحكومة بلندن، وهذا نصه أخذناه منه بخط يده: مولاي: (أحمده تعالى وأشكره على هذه الوقفة الفريدة التي مننتم يا مولاي عليَّ بها لأقف بين يدي جلالتكم في هذا اليوم العظيم لأقول كلمتي عن المعاهدة العربية البريطانية التي انتهت - والحمد لله - باعتراف بريطانيا باستقلال العرب في جزيرتهم وسائر بلادهم، وبتعهدها لجلالتكم بالمعاضدة الفعلية لتأسيس الوحدة العربية العامة. إن بداية هذا الانقلاب الكبير في تاريخ الأمة العربية ظهر يوم نادى جلالتكم بأمته مستصرخًا إياها بالنهوض وفك القيود لإعادة حريتها القديمة واستقلالها المغصوب، فيا لها من نهضة مباركة قامت فحطمت سلاسل الذل والاستعباد، وجاءت اليوم بالاستقلال والاتحاد لأمة عرفها التاريخ بفتوحاتها العظيمة ومجدها المشيد. فالأمة العربية مديونة لكم (يا مولاي) في نهضتها، مديونة لكم في العهود التي قطعتموها لحفظها وصيانتها من مصائب الحرب ونتائجها، مديونة لكم في هذا الاعتراف باستقلالها ووحدتها، فكما أني ما قمت إلا بواجبي الوطني يوم لَبَّيْتُ الدعوة فتركت الجيش التركي والتحقت بجيوش جلالتكم لأشترك بالدفاع عن استقلال بلادي العربية في تلك المعركة الكبرى، أيضًا يا مولاي بذهابي إلى لوزان حسب تنسيب جلالتكم للدفاع عن القضية العربية أمام المؤتمر وثم إلى عاصمة بريطانيا لمطالبتها بإيفاء العهود - لم أقم إلا بنفس ذلك الواجب السامي الذي يفديه كل عربي صميم بروحه وماله وما تملك يداه) (أسأله تعالى أن يؤيد جلالة مولاي المنقذ الأكبر ويبقيه ذخرًا للأمة العربية، وأن يجعل هذا اليوم بدء كل خير لصالح الأمة العربية) انتهى. وقد جاء في رسالة أرسلت من جدة إلى الأهرام نبأ الاحتفال بالمعاهدة فيها بالنص الذي أرسله الملك إلى حاكمها الإداري (قائمقام جدة) وأن هذا قال بعد تلاوة أمر الملك في الحفلة: (وقريبًا سنتفق مع فرنسة على سورية اتفاقًا مرضيًا) . ولقب ملك الحجاز بملك البلاد العربية ومؤسسها. مضمون الإعلان الملكي وما ترتب عليه: دل هذا الاحتفال وما قيل فيه دلالة قولية فعلية على الأمور التالية: (1) أن المعاهدة التي حملها الدكتور ناجي الأصيل من لندن قد اشتملت على اعتراف صاحب الجلالة البريطانية باستقلال العرب في جزيرتهم وجميع بلادهم. (2) أنها مبنية على المقررات السابقة، وهي التي عرضها أمير مكة حسين بن علي على الدولة البريطانية في بيان شروط قيامه بالثورة العربية فقبلتها مع تحفظات مبينة في كتب السر هنري مكماهون له وقد نشرنا ذلك كله في الجزء الثامن من مجلة المنار م23 الذي صدر في سلخ صفر من هذا العام (الموافق 20 أكتوبر سنة 1922) . ولعل القراء يتذكرون أن المادة الأولى من تلك المقررات: أن الحكومة البريطانية تتعهد بتشكيل حكومة عربية مستقلة ... إلخ، وأن المادة الثانية نص صريح في محافظة الدولة البريطانية وصيانتها لهذه الحكومة بأي صورة كانت في داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعدٍّ في أي شكل يكون، حتى الدسائس والفتن الداخلية، وأن المادة الثالثة تصرح بأن هذه الحكومة العربية حكمها حكم القاصر في حضن الدولة البريطانية. وبناء على هذا يكون الاستقلال المعترف به نوعًا من أنواع استقلال بعض المست

خطاب مفتوح من روح الإسلام والجامعة العربية إلى الشعب الإنجليزي والحكومة البريطانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب مفتوح من روح الإسلام والجامعة العربية إلى الشعب الإنجليزي والحكومة البريطانية فعلتم ما فعلتم في الدولتين العثمانية والإيرانية، وكدتم ما كدتم للشعوب العربية، فاتركوا لنا قبلة صلاتنا، ومشاعر حجنا، وأمهات مساجدنا، وقبر نبينا، ولا تحسبوا أن الفرصة قد سنحت لكم للقضاء على ديننا، كما حسبتم حين أردتم القضاء على دولنا، اغترارًا بقوتكم وضعفنا، واجتماعكم وتفرقنا، فرب قوة أحالها الغرور ضعفًا، ورب ضعف أعطاه اليأس قوة وبأسًا. أردتم استعباد الشعب الأفغاني بفرصة زوال المعارضة الروسية، فحررتموه وأنتم كارهون، وأردتم استعمار بلاد الشعب الفارسي بفرصة الحرب العظمى فغادرتموه وأنتم عاجزون، وأردتم إماتة الشعب التركي بفرصة انكسار دولته فأحييتموه وأنتم مرغمون، وخدعتم أكثر رؤساء الشعب العربي بالأموال، والتغرير بالوعود والآمال، فسترون سوء العاقبة والمآل، وأنتم الغارمون الراغمون، إلا أن ترجعوا عن سياستكم فيهم، قبل أن يخرج الأمر من يدكم، وأنتم بذلك جديرون. اغتر العرب بوعودكم، ووثقوا بعهودكم، ووالاكم بعضهم على أهل دينهم، وساعدوكم على احتلال أخصب بلادهم، فكان جزاؤهم منكم شرًّا من جزاء من قاتلوكم بسيوفهم ومدافعهم، ولم تقفوا عند حد في النكاية بهم واتخاذ الوسائل للاستيلاء على جزيرتهم بعقد المعاهدات السياسية والامتيازات في بلادهم، وإلقاء العداوة والشحناء بين الشافعية والزيدية في اليمن، وبين السنية والشيعة في العراق ونجد، وبتجديد شعوب آشورية وكلدانية في العراق لعدم نجاح إلقاء الشقاق بين العرب والأكراد، وبإيجاد شعب يهودي في فلسطين، يعادي أهلها في أمري الدنيا والدين، وأنتم مع هذا تمنون على العرب بتحريرهم من الرق، وإنقاذهم من الترك، وتطالبونهم بالحمد والشكر، لأنهم في نظركم قوم لا يعقلون {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} (التكاثر: 3-4) . ولم أر ظلمًا مثل هضم ينالنا ... يساء إلينا ثم نؤمر بالشكر لقد جئت أيتها الحكومة البريطانية في فلسطين بمثار شرور لم يأت بمثله أحد من الظالمين، ألا وهو محاولة انتزاع شعب من وطنه أو وطن من أهله، وإحلال شعب آخر في محله، وإيقاد نار العصبية الدينية بين اليهود والعرب وسائر الأمة الإسلامية ومن يشايعها من الشعوب المسيحية، فإن غرض اليهود من تجديد ملكهم في هذه البلاد لا يتم إلا بالاستيلاء على المسجد الأقصى لإعادة هيكل سليمان، وإذا تمت لهم القوة لا يأمن المسلمون أن ينسفوه نسفًا، فيذروا أرضه قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، ثم يبنوا بأنقاضه هيكلهم، ويذبحوا لدى صخرته قرابينهم، فإذا عجز أهل فلسطين عنهم بنصركم إياهم وحمايتكم لهم، فماذا يفعل سائر العرب والعالم الإسلامي بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) ثم ماذا يفعلون بما ورد في الأحاديث النبوية التي لا أذكرها لكم، لئلا تدَّعوا أنني أريد بها الإغراء الذي تطرق سياستكم أبوابه، وتمهد له أسبابه، على أنها مشهورة في كتب السنة التي يتداولها جميع علماء الملة. أما يكفيكم رفع علمكم وعلم اليهود حيث ثالث الحرمين وأولى القبلتين، حتى عمدتم إلى جعل الحرمين الشريفين تحت سيادتكم، ومهانين بالعدول عن تأمين الله لهما إلى تأمينكم وحمايتكم. أما ترحمون هذا الشيخ الكبير المستبد برأيه، المغرور بنفسه، المحتقر لقومه وأهل ملته بالافتيات عليهم، بالتصرف بمهد دينهم وقبلة صلاتهم بدون إذنهم، الذي ضحى نفسه في سبيلكم، غرورًا بوعودكم وعهودكم، فأصبح عدوًّا لأمراء الجزيرة، ومضغة في أفواه مسلمي المعمورة، تنبذه أفواههم وأقلامهم بالألقاب، ويكيدون له الذم والتثريب بغير حساب، بما والاكم ونصركم، وتعهده ببذل ما جعلتم له من النفوذ الصوري على تأييد نفوذكم في الحرم الثالث (الأقصى) وفي العراق، حيث مشاهد آل بيت الرسول عليه وعليهم السلام، وإقراركم على الوفاء لأحلافكم الفرنسيس في استعمار سورية؟ وهل يكفيه من جزائكم على ذلك اعترافكم له بتسميته لنفسه بملك العرب، وقد جعلتموه به عدوًّا لمسلمي العرب والعجم؟ وهل العرب من رعاياكم، حتى تولوا عليهم من شئتم من صنائعكم؟ أيها الشعب الإنجليزي الحكيم! اعلم أن حكومتك الحاضرة، إنما تضع الألغام لنسف ما شيدته لك حكوماتك الغابرة، اعلم أنها تصطنع ثلاثة رجال تعادي بهم ثلاثمائة مليون، اعلم أن نصبها حسين بن علي ملكًا على الحجاز لا يعطيه من السلطة الشرعية المطلقة ما يجعل له أدنى حق أو ذامتياز فيه، اعلم أن سيد العرب والعجم، وخاتم رسل الله إلى جميع الأمم، لم يجعل لنفسه حقًّا بأن يحتجر مكانًا صغيرًا في (منى) من أرض الحرم، يتخذ فيه مظلة تقيه حر الشمس، ولما سئل ذلك قال: (منى مناخ من سبق) ومقتضاه أنه إذا جاء نفر من حجاج الصين وسبقوا إلى النزول في المكان الذي ينصب فيه أمير مكة - أو ملك الحجاز- خيامه فليس له أن يُخْرِجَهم منه، أفيملك أن يجعل لغير المسلمين حق حمايته أو أدنى امتياز فيه؟ كلا إن كل ما تعقدونه معه في ذلك سيكون قصاصة ورق، لا يملك تنفيذه أحد. بل اعلم أيها الشعب الحكيم، وأعْلِم حكومتك بما لا يمكن أن تعلمه حق العلم إلا منك؛ لأنها تحتقر جميع البشر من دونك. لا أقول: أعلمها بأنه لا يوجد مسلم قوي الإسلام - ولا ضعيفه - يرضى بأن يكون لأي دولة أدنى سلطة أو نفوذ أو امتياز في الحجاز، أو يجيز لمن نصبتموه ملكًا عليه أن يعقد معكم أي عهد أو اتفاق على شيء من تلك البلاد، أو يسكت له على ذلك أو على فرض الضرائب على الحجاج، أو على جعل حكومته دولة حربية تعادي من تشاء وتوالي من تشاء. لا أقول لك أيها الشعب الحكيم: أعلمها بذلك، فإنها تعلمه، ولكنها لا تبالي بعاقبته. بل أقول لك: اعلم وأعلم حكومتك بالحقيقة التي لعلها لم تعلمها، ولم تسمع بها قبل هذا الخطاب. أقول لك: اعلم وأعلم حكومتك أن العالم الإسلامي لا يرضى لمهد دينه وموضع إقامة شعائره إلا أحد أمرين لا ثالث لهما (أولهما) أن تكون الحجاز في كفالة خليفة المسلمين عندما تتجدد الخلافة الإسلامية على وجهها الشرعي ويبايع الخليفة أهل الحل والعقد من أمراء المسلمين الحاكمين وزعماء بلادهم في جزيرة العرب وغيرها من البلاد الإسلامية الحرة على السمع والطاعة بشروطها الشرعية، ويكون له دولة قوية تستطيع حماية الحجاز وغيره بقوتها الذاتية، وهذا ما يجب على المسلمين السعي إليه وقد شرعوا فيه، ولا يعلم غير الله متى يدركونه، وإنما نعلم كما تعلم الحكومة البريطانية أنه لن يرضى شعب من الشعوب الإسلامية أن يكون حسين بن علي بن عون خليفة للمسلمين، وإن لقَّبَه ابنه عبد الله أو جميع أولاده وصنائعهم (بأمير المؤمنين) . (الثاني) أن تكون الحجاز قطرًا سلميًّا على الحياد باعتراف جميع الدول الإسلامية وغير الإسلامية: لا يعتدي ولا يُعْتَدَى عليه، ولا يُقَاتِل ولا يُقَاتَل، ولا يكون لفرد من الأفراد ولا لشعب من الشعوب ولا لدولة من الدول امتياز فيه، وأن تكون له حكومة إسلامية شورية لحفظ الأمن وإقامة العدل، وتسهيل سبل الحج، وتعمير البلاد، وتنفيذ مضمون قوله تعالى: {سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (الحج: 25) . وأن يكون لهذه الحكومة مجلس شورى مُؤَلَّف من أشراف الحجاز وعلمائها بالانتخاب، ومن أعضاء مختارين من علماء جميع الشعوب والأقطار التي تحج بيت الله الحرام، وتزور حرم رسوله عليه وآله الصلاة والسلام - كاليمن وعسير ونجد وسورية والعراق ومصر وسائر أقطار إفريقية والترك والفرس والأفغان والهند وجاوه والصين - وأن يكون لهذه الحكومة حرس مؤلف من الحجازيين ومن جند الحكومات الإسلامية المستقلة، التي لا سيطرة فعلية عليها لدولة أجنبية، كحكومات جزيرة العرب والترك والفرس والأفغان ومصر (التي سيتم استقلالها في هذا العام بمشيئة الله) وهذا هو الممكن الآن الذي يجب على العالم الإسلامي أن يبادر إلى السعي إليه، ووضع النظام له والسعي لتنفيذه، وهو فاعل إن شاء الله تعالى، وحينئذ تعلم الدولة البريطانية إن لم تعلم اليوم أن سمسارًا اسمه (ناجي الأصيل) لا يستطيع أن يضع معاهدة بين حسين بن علي موكله وبين وزارتي المستعمرات والخارجية البريطانيتين في شأن الحجاز وبلاد العرب بحيث تنفذ على الأمة العربية والشعوب الإسلامية كلها، وتذل رقاب 300 مليون من المسلمين لها. لقد أسرفت الحكومة البريطانية في احتقار العالم الإسلامي؛ إذ ظنت أن خضوع هذا الرجل وأولاده لها يجعلها قيمة ووصية على البلاد الحجازية، وسيدة للأمة العربية، وستعلم وتعلمون أن هذا الاحتقار، وما يُبْنَى عليه من الأعمال، لن يفيدها إلا إسراف العالم الإسلامي كله في عداوتها، ويضل سعيها في حمل ناجي الأصيل على بوارجها الحربية وغير الحربية، في سبيل استخدامها إياه بين لندن ومكة. سيعقد مؤتمر إسلامي حر يقرر أمر الحجاز وحكومته وحرسه على القاعدة التي أشرنا إليها؛ إذ لا سبيل إلى إنقاذه وحريته بدونها، وسيبلغ قراره لحكومة الحجاز الحاضرة ولجميع الدول ولا سيما ذوات الرعايا من المسلمين، ولا يسع الدولة البريطانية حينئذ إلا أحد أمرين: إما نصر صنيعتها حسين بن علي عون، الذي تعهدت بحماية الحجاز له لتكون لها السيادة على الحرمين الشريفين، إن لم يكن بإبرام المعاهدة الجديدة، فبما يسميه هو مقررات النهضة المعروفة [1]- وإما النزول على إرادة العالم الإسلامي وانتظار حكمه، تفاديًا من إظهار عداوتها له ولدينه. أفليس الخير لها أن تنفض يدها من هذه المعاهدة وأمثالها اختيارًا، قبل أن تضطر إلى إقرار إحدى الخطتين اضطرارًا؟ ثم اعلم أيها الشعب الإنجليزي الحكيم أن كل ما تنفقه حكومتك الحاضرة من أموالك لأجل السيطرة على بلاد العرب واحتكار خيراتها ستضيع كما ضاعت الأموال التي بذلتها في سبيل الحجاز، فإياكم أن تتبعوها فتبذلوا أموالكم في تأليف الشركات، لما عقدته أو تعقده لكم في جزيرة العرب من الامتيازات، فإنكم لن تنالوا من هذه الامتيازات - والحالة هذه - إلا الخسار. أيها الشعب الإنجليزي العاقل! إن حكومتك تعلم أن صاحب هذا الخطاب صدوق لا يكذب، وصريح لا يخدع ولا يختل، فإنه بيَّنَ لرجالها خطأهم في المسألتين العربية والإسلامية قولاً وكتابة، وظهر لها صدق أقواله، وصواب آرائه، ولكن لم تعمل بها، لمخالفتها لأهوائها ومطامعها، فإذا رأت تأثير هذا الخطاب في شعبها، فستقول له: إنه خطاب عدو لها، وما هو بعدو لأحد، ولكنه صديق لأمته وملته، ويرى أن من الممكن أن يكون الشعب الإنجليزي (ودولته من ورائه) صديقًا لهما أيضًا، ويرغب كغيره من عقلاء الأمة في ذلك، ويعلم أن رجال هذه الدولة يعرفون الوسيلة المثلى لتحقيق هذه الصداقة ولا يبتغونها، وإن كانوا يدعونها؛ لأنهم ألِفوا سياسة قديمة لا يتركونها، ولكن الشعب الإنجليزي إذا عرفها فلا يعز عليه أن يوجدها؛ لأن من عادته أن يساير طبيعة الاجتماع لا أن يعاندها، وسأبينها له في خطاب آخر كما بينتها لحكومته من قبل في مذكرات آخرها (مذكرة في بيان رغائب العرب والمسلمين السياسية) أرسلتها إلى الوزير لويد جورج في يونيو سنة 1919 وحملها إليه رج

دعوة عامة من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين لعمارة الحرم القدسي الشريف

الكاتب: محمد أمين الحسيني

_ دعوة عامة من المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين لعمارة الحرم القدسي الشريف بسم الله الرحمن الرحيم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1) . إلى إخواننا المسلمين في أقطار الأرض عامة نقدم هذه الدعوة الشاملة لنلفت أنظاركم إلى أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين: المسجد الأقصى الذي بارك الله تعالى حوله وجعله آية من آياته الكبرى. وبعدُ؛ فإن الحرم الشريف المشتمل على مسجدي الأقصى المبارك، والصخرة الشريفة، وما يحتويان من المباني البديعة، والكنوز الفنية القيمة النادرة المثال - هو عُرْضَة لكارثة عظمى قد تأتي عليه اليوم أو غدًا لا يبقى منه إلا أثره (لا سمح الله) وذلك أن بنيانه المتين قد تصدع في بعض أقسامه المهمة كقبة الأقصى التي لم يخلق مثلها في البلاد نفاسة وبهاء وإتقانًا، فإنها آيلة للسقوط من جَرَّاءِ تأثير العوامل الطبيعية عليها كالمطر والشمس والثلج والأعاصير الشديدة التي نقبت ما يكنها من صفائح الرصاص، ونخرت ما قامت عليه من الأخشاب منذ زمن بعيد. وكذا قبة الصخرة الشريفة وأعمدتها وما يستر جوانبها من القيشاني الفاخر. وما يزينها من الفصوص المذهبة المنقطعة النظير، إلى غير ذلك مما يوشك أن ينهار من هذين المعبدين الجليلين اللذين تشد إليهما الرحال من أقصى المعمورة واستنزال روحانية الله تعالى ونبيه الكريم [1] صلى الله عليه وسلم في ظلهما {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} (النور: 36-37) . أما قيمته الفنية فحدِّث عنها ولا حرج، ويكفيك في بيان عظمتها تقاطر الناس لمشاهدتها من كل فج عميق فترى المشارقة والمغاربة والمسلمين وغير المسلمين يؤمونها زرافات ووحدانًا للتمتع برؤية أبدع ما وصل إليه السلف الصالح من الفنانين المسلمين في هندسة المباني وقدره حق قدره. ولقد أحس القائمون على الحرم الشريف بتصدع مبانيه قبيل الحرب الكبرى فقدر الخبيرون من المهندسين لترميمه بعد الكشف عليه نحو خمسة وثلاثين ألف جنيه، فحالت الظروف السيئة دون الشروع بذلك، وازداد التصدع إبان الحرب فقدر ما يلزم لعمارته إذ ذاك بنحو خمسة وسبعين ألف جنيه. ولما وضعت الحرب أوزارها وتألف المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى كشف على البناء ثالثة؛ فإذا به يحتاج لنحو مائة وخمسين ألف جنيه على أقل تعديل. فصرف المجلس همته للشروع في الترميم حالاً خوفاً من اتساع الخرق وتفاقم الخطر، ودعا لذلك الغرض أكبر رجال الفن لدرس الموضوع والمباشرة في العمارة فألف هيئة تحت رئاسة الأستاذ المعماري القدير كمال الدين بك الذي استدعي حالاً من دار الخلافة للقيام بهذا العمل الخطير، فلبى الطلب وشرع مع أعضاء هيئته بوضع الخطط اللازمة وطفق المجلس الإسلامي الأعلى يمده بما تصل إليه يده من فضلة أموال الأوقاف المحلية، غير أن مال الأوقاف في فلسطين قليل لا يكاد يكفي لعشر معشار ما يقتضيه مثل هذه العمارة العظيمة، فرأى المجلس الإسلامي أن يستصرخ جميع الأمم الإسلامية جماعات وأفرادًا لمد يد المعونة والاشتراك في حفظ هذا المكان المقدس الذي يعطف عليه ثلاثمائة مليون من البشر كلهم متساوون في احترامه وتقديسه والغيرة عليه من أن تصل إليه يد البلى والاندثار. فالبِدَار البِدَار معاشر إخواننا المسلمين إلى هذا العمل الصالح والمأثرة الحسنة، ولتجُد كل نفس بما تقدر عليه عاجلاً؛ إذ خير البر عاجله، واذكروا قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 18) وفقنا الله وإياكم جميعًا لعمل الخير وخير العمل، إنه سميع مجيب. الفقير إليه تعالى ... ... ... ... مفتي الديار المقدسة ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى ... ... ... ... ... ... ... محمد أمين الحسيني (المنار) المسجد الأقصى الذي شرَّفه الله بذكره في كتابه كما شرفه بجعله البيت الثاني من بيوت عبادته التي سخر لوضعها ورفع قواعدها لأول مرة رسله الكرام، وجعلها إرثًا باقيًا لإقامة الإسلام، وقد بذل ملوك المسلمين في بنائه وتشييده ألوف الألوف من الدنانير، وأهرقوا في سبيل حفظه وحمايته دماء مئات الألوف من مجاهديهم، وقد أمسى الآن عُرْضَة للخراب فالذهاب من أيديهم، إذا لم يتداركوا أمره بالتعاون بينهم، ولا يخفى أن كل مساعد علي تجديد بنائه وحفظه يكون شريكًا في الأجر لمن سبقهم في ذلك من رسل الله تعالى والمجاهدين في سبيله من المؤمنين، وجديرًا بحسن الذكر بالحق في الآخرين، وأولى الناس بالسبق إلى ذلك أمراء المسلمين وملوكهم وكبار زعمائهم، وقد سبق ملك مصر إلى العطف على هذا العمل ووعد بمساعدته ومساعدة حكومته له، ولا غرو فمصر أولى بالسبق لما لهذا المسجد الشريف عليها من حق الجوار، ولما لها فيه من تالد الآثار، وكيف وهذا الأثر العظيم الذي تفتخر به المدنية العربية الإسلامية قد بني بمال مصر، إذ أُرصد له خراجها سبع سنين كما هو مُبَيَّن في الخلاصة التاريخية التالية، وستؤلف في مصر لجنة لجمع الإعانة تحت رعاية الملك. ومن بلغته هذه الدعوى في أي قطر من الأقطار ووفقه الله تعالى لإجابتها، فليرسل ما تجود به نفسه حوالة على إحدى المصارف المشهورة في القدس الشريف (فلسطين) أو في لندن باسم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس محمد أمين الحسيني.

صفة المسجد الأقصى الشريف وخلاصة تاريخية له ـ 1

الكاتب: عن الرسالة التي نشرها المجلس الإسلامي الأعلى مع الدعوة

_ صفة المسجد الأقصى الشريف وخلاصة تاريخية له [1] (1) جمال الحرم وجلال مبانيه الفنية: للمباني التي يتألف منها الحرم الشريف جمال وجلال يشعر بهما حالاً كل من يُتَاح له التمتع بمشاهدته أيًّا كان سواء في ذلك العالم والجاهل، الكبير والصغير، المسلم وغير المسلم، فإذا سرح الطرف متأملاً في عجائب صنعتها ازداد تأثره، واتسع شعوره وحلَّق وجدانه مرتقيًا من الحسن إلى الأحسن ومن السامي إلى الأسمى، فيخشع قلبه وتحل عليه روحانية لطيفة تسمو بنفسه إلى إدراك حقائق الدين ودقائق معانيه ونبيل مقاصده، إلى غير ذلك مما يدل على بلوغ فناني العرب والمسلمين الغاية القصوى في الإتقان والإبداع. فالداخل إلى الحرم المكرم من أي باب من أبوابه المباركة تأخذه روعة المقام الشريف؛ إذ ينبسط أمامه مشهد من مشاهد السعة والصفاء: رحب فسيح ينشرح له الصدر، وينجلي بمرآه الذهن فلا يلبث النظر أن يرسل رائده إلى ما حوله من المباني الفخمة المتنوعة بتناسب تام من مربع إلى مسدس إلى مثمن إلى مستطيل إلى كروي إلى أسطواني … على أشكال وأوضاع متلائمة آخذ بعضها برقاب بعض تسر الناظرين، وتسبح بحمد رب العالمين. وترى أروقة ممتدة على جوانب الساحة يتخللها النور والهواء فتنزل على النفس السكينة والهناء، وقببًا عظيمة تحنو على ما تحتها من المعابد ولا حنو الأم على فطيمها، وأساطين شاهقة ترفع ما فوقها بقوة ومتانة، وأعمدة هيفاء مختلفة الأشكال والألوان، قامت صفوفًا متزاوجة توحي إلى القلوب الاحترام وحب النظام، ومآذن تخترق الفضاء، وتمعن في العلاء، لتكون رسولاً بين الأرض والسماء، ومنادياً ينادي الناس كل يوم خمس مرات (بحي على الصلاة، حي على الفلاح) ومقاصير وفساقي، وأدراجًا ومراقي، ومنابر خاشعة، تتلى عليها المواعظ الحسنة ومحاريب ساكنة يستقبل فيها المصلون وجه ربك ذي الجلال والإكرام، ويذكرون فيها اسمه تبارك وتعالى في الغدو والآصال. وكل ذلك قد أحكم بناؤه من حجر منقوش، أو مرمر مسنون، أو خزف مصقول، أو خشب منجور، أو صفر مطلي بالفضة أو مكسو بالتبر، أو فص مُذَهَّب يعلوه التزيين والتلوين، والتشجير والتزهير، والتذهيب والترصيع، والوشي والزخرفة والتنميق … فإذا أشرقت الشمس وامتزج نورها بتلك التراكيب الهندسية البديعة رأيت لها لألاء يأخذ الأبصار ويملأ الجوانح وينقل النفوس إلى نعيم قدسي لا يُدْرَك كنهُهُ، ولا يُعْرَف سره. فتبارك الله أحسن الخالقين. المساحة - السور - الأبواب يقع الحرم القدسي الشريف على مساحة مربعة طول الجهة الغربية منها (490) مترًا، والشرقية (474) مترًا، والشمالية (321) مترًا والجنوبية (283) مترًا، يحيط بها سور يتراوح ارتفاعه بين (30) مترًا (عند الزاوية الشمالية الشرقية) و (40) مترًا (في الجنوب الشرقي) ويبلغ بعض الحجارة فيه نحو 5 أمتار طولاً في أربعة أمتار عرضًا وحول السور من جهة الغرب والشمال أروقة فسيحة معقودة يتخللها بعض أبواب الحرم وهي 14 بابًا المشروع منها أحد عشر وهي: 1- في الجهة الشمالية: باب الأسباط، وباب حطة، وباب شرف الأنبياء أو الدويدار (العتم) . 2- في الجهة الغربية: باب الغوانمة (وكان يسمى قديمًا بباب ميكائيل) وباب الحديد، وباب القطانين، وباب المتوضأ، وبابا السلسلة والسكينة (وهما متلاصقان) وكان باب السلسلة يعرف قديمًا بباب داود، وباب المغاربة (وكان يسمى بباب النبي) . ومن الأبواب غير المشروعة بابا الرحمة والتوبة المعروفان بباب الذهب، وهما في السور الشرقي للحرم الشريف، وباب آخر في السور القبلي. قبة الصخرة شيد جامع الصخرة الشريفة على صحن مربع مفروش بالبلاط المصقول طوله من القبلة إلى الشمال أكثر من عرضه من المشرق إلى المغرب وارتفاعه 3 أمتار يُصعد إليه بأدراج من الجهات الأربع: اثنان منها في الجهة الشمالية، وواحد في الجهة الشرقية، واثنان آخران في الجهة الجنوبية، وثلاثة في الجهة الغربية، وقد عقد على كل درج من أعلاه قناطر هيفاء، محمولة على أعمدة من رخام وأركان من البناء، فكأن كل قنطرة منها إطار يبدو منه للرائي عن كثب منظر جامع للقبة وبدائعها الرائعة. والقبة قائمة على بناء فخم مثمن الشكل ذرع كل تثمينة منه (29) ذراعًا وثلث ذراع أو 20 مترًا و 40 سنتيمترًا، وقد كسي القسم السفلي من ظاهره بالرخام الأبيض المشجر والقيشاني البديع الذي يترقرق فيه ماء الألوان المتزاوجة من لازوردي صاف، وأخضر قاتم، وأبيض ناصع، يعلو ذلك شبه أفريز رسمت عليه آي القرآن الكريم بخط جميل، وقد صنع هذا القيشاني العجيب في أيام السلطان سليمان القانوني سنة 969 للهجرة. وللقبة سقفان من خشب (التنوب) أحدهما فوق الآخر بينهما خلاء متسع، فأما الخارجي منهما فمكسو بشقائق الرصاص من الخارج، وأما الداخلي فمدهون مذهب، وسيأتي وصف ذلك. وتحتوي كل تثمينة من البناء على سبع طاقات للتي لا باب فيها، وعلى ست للتي لها باب، والطاقات المحاذية لأطراف التثمينات مسدودة كلها، والأخرى مركب عليها الزجاج والشبابيك الحديد، وشكلها الحاضر يدل على أنها جددت في القرن العاشر الهجري (أي في القرن السادس عشر للميلاد) . ولجامع الصخرة أربعة أبواب مزدوجة داخلا وخارجًا مربعة الشكل بعقود مقوسة وهي: باب الجنة في الشمال، وباب النساء في الغرب، وباب داود أو باب السلسلة في الشرق، وباب القبلة في الجنوب، وأمام هذا الباب الأخير من الخارج رواق مفروش بالرخام عليه سقف مكسو بالقيشاني في وسطه قنطرة معقودة والسقف محمول على ثمانية أعمدة من الرخام مختلفات في النوع واللون، وللباب المذكور مِصْرَاعَان ملبسان بالنحاس الأصفر المنقوش. عليها أقفال نفيسة متقنة الصنع، وأما الأبواب الثلاثة الأخرى فيرجح أنها كانت مثل الباب القبلي، وهي الآن لا أروقة لها. ويبلغ دور البناء من الداخل 53 مترًا، وهو مقسم إلى ثلاث دوائر يفصل بعضها عن بعض صفان مستديران من الأعمدة والأركان يتألف الأول منهما من ثماني سواري مسدسة الأضلاع و 16 عمودًا منها (أبيض وأزرق) عشرة، و (أخضر مرسيني) ثلاثة، و (شحم ولحم) [2] ثلاثة، والصف الثاني مؤلف من أربع سوارٍ مربعة الأضلاع، واثني عشر عمودًا، منها سبعة (أخضر مرسيني) وخمسة (شحم ولحم) . والسواري ملبسة بالرخام المشجر والملون البديع، والأعمدة قديمة جدًّا وأكثر تيجانها تدل على أنها من الطراز الروماني أو البيزنطي القديم، ويربط أعمدة الصف الأول بعضها ببعض وبالسواري (بساتل) [3] ملبسة بالنحاس الأصفر المنقوش المذهب. وتحمل هذه الأعمدة مع جدار الجامع سقفًا مائلاً بعض الميل مدهونًا بأنواع الدهان قائمًا على قناطر مرصعة بالفص المُذَهَّب متصلاً طرفه الأعلى بكرسي القبة. ويزين باطن القبة مجموعة لا نظير لها من الفصوص الملونة تمثل 64 شكلاً من الزخارف على نحو ما كان يصنعه فنانو البيزنطيين وهي مركبة على سطح موشى بالذهب يأخذ ببصر الناظر ولبه. وفي كرسي القبة ست عشرة طاقة زجاج مذهبة يعلو كل منها طبقة من الجبس مقسمة عيونًا مغطاة بقطع الزجاج المختلفة الألوان والأشكال تنفذ منها أشعة الشمس صافية ملطفة بفضل ألواح الزجاج الخارجية والمشبكات المصنوعة من القيشاني. وعلى هذه الطاقات نقوش تدل على أنها صنعت في زمن السلطان سليمان سنة 945 هجرية كما أن المرمر الذي يكسوها إنما ركب في زمن (السلطان) صلاح الدين وجدد في أيام السلطان سليمان المذكور. والصخرة الشريفة واقعة داخل درابزين [4] من خشب منقوش مدهون بأنواع الدهان طولها 17.70 مترًا وعرضها 13.50 مترًا وارتفاعها عن الأرض يبلغ نحو 1.25 متر إلى مترين وينزل إلى المغارة التي تحتها بإحدى عشرة درجة من جهة القبلة، وعند باب المغارة قنطرة معقودة بالرخام العجيب على عمودين وبباطنها محرابان كل محراب على عمودي رخام لطيفين، وأمام المحراب الأيمن صفة تسمى مقام الخضر يواجها عمود رخام قائم للسقف وآخر راقد، وفي الركن الشمالي منها صفة تسمى مقام الخليل. وجميع باطن أرض الصخرة والمغارة مفروش بالرخام وفي وسط المغارة بلاطة مستديرة ينبعث عنها إذا نقر عليها رنين تتجاوب أصداؤه، وهذا يدل على خلو ما تحتها. وحول الدرابزين الخشبي مصلى النساء، وهو مُحَاط بالقضب الحديدية من جميع جهاته وله أبواب أربعة لا يفتح منها عادة إلا الباب الغربي الموازي لباب النساء، وهو من عمل الصليبيين إبان احتلالهم بيت المقدس. صفة المسجد الأقصى يقع المسجد الأقصى جنوبي جامع الصخرة وطوله 80 مترًا وعرضه 55 مترًا ما عدا ما أضيف من الأبنية. وأول ما يقابلك من المسجد الأقصى عند الدخول إليه من الجهة الشمالية رواق كبير أنشأه الملك المعظم عيسى بن أبي بكر بن أيوب صاحب دمشق سنة 634 هجرية وجُدد مِن بعده، وهو مؤلف من سبع قناطر عقدت على ممشى ينتهي إلى سبعة أبواب كل باب يؤدي إلى (كور) من (أكوار) المسجد السبعة، وللمسجد عدا هذه الأبواب باب في جهة الشرق، وآخر في جهة الغرب، ومدخل إلى المكان المعروف بجامع النساء، فيكون مجموع ما للمسجد من الأبواب عشرة والبناء قائم على خمسة وأربعين عمودًا، منها ثلاثة وثلاثون من الرخام واثنا عشر مبنية بالأحجار وهي تحت (الجملون) [5] والعمود الأخير مبني بالحجارة أيضًا وموضعه عند الباب الشرقي تجاه محراب زكريا، وهذه الأعمدة قديمة نقلت في الغالب من أنقاض أبنية متنوعة أقدم عهدًا من الحرم، وفوق الأعمدة قناطر عريضة حديثة العهد يربط بعضها ببعض أخشاب ضخمة مستطيلة وفوق القناطر صفان من الطاقات، العلوية منها تفتح على الخارج والسفلية على (الأكوار) داخل المسجد وباطن السقف مكون من عوارض كلها من الخشب. وعدة ما في المسجد من السواري أربعون وهي ضخمة مربعة الشكل مبنية بالحجارة. وبأقصى البناء من جهة الجنوب قبة مرتفعة مزينة بالفصوص الملونة المذهبة، وهي مما رمَّمه صلاح الدين الأيوبي، وذلك في سنة 584 هجرية كما أنه رمم أكبر جناحي المسجد، والقبة والجناح على الغالب إنما صنعا في خلافة المهدي بعد تهدم المسجد بفعل الزلازل. وهي كقبة الصخرة من خشب مكسوة بصفائح الرصاص من ظاهرها وبالفص المُذَهَّب من باطنها. ومجدد هذه التزيينات هو الملك الناصر محمد بن قلاوون سنة 728 للهجرة كما يفهم ذلك من الكتابة التي عليها وهناك آيات قرآنية كتبت بخط كوفي على جانبي المحراب. والمحراب قائم على أعمدة لطاف من المرمر وبجانبه المنبر وهو من الخشب المرصع بالعاج والآبنوس أمر بصنعه خصيصًا لبيت المقدس الملك العادل نور الدين الشهيد وهو بحلب سنة 564 هـ فلما فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين أمر بإحضاره ونصبه في المكان الموجود به حالاً. ويقابل المنبر دكة المؤذنين وهي على عمد من رخام في غاية الحسن وبداخل المسجد من جهة الغرب جامع النساء أو جامع الأبيض وهو عبارة عن عشر قناطر على تسع سوارٍ في غاية الإحكام بناه الفاطميون. ومن جهة الشرق جامع عمر وهو معقود بالحجر والجير سمي بذلك لأنه بقية من الجامع الذي بناه عمر رضي الله عنه حين الفتح. وإلى جانب هذا البناء إيوان كبير معقود يسمى مقام عزيز وبه باب يتوصل منه إلى جامع عمر، وبجوار هذا الإيوان من جهة الشمال إيوان لطيف به يسمى محراب زكريا عليه السلام وهو بجوار الباب الشرقي. وفي صحن المسجد ا

فاتحة كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى بسم الله الرحمن الرحيم {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124) .? {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) . {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 165) . هدانا الكتاب الحق، والنظر في تاريخ الخلق إلى الاعتبار بخلافة الشعوب بعضها لبعض، وما فيها من حق مشروع وتراث مغصوب، وإلى ما للرب تعالى في ذلك من الحِكَم والسنن الاجتماعية، والأحكام والسنن الشرعية، ومن العهد بالإمامة العامة لبعض المرسلين، والوعد بالاستخلاف وإرث الأرض لعباده الصالحين. ومن تلك السنن العامة: ابتلاء بعض الشعوب ببعض، ليظهر أيها أقوم وأقرب إلى العدل والحق، فيكون حجة له على الخلق؛ ولينتقم من الظالمين، تارة بأمثالهم من المفسدين، وتارة بأضدادهم من المصلحين وتكون عاقبة التنازع للمتقين، فالمتقون هم الذين يتقون باب الخيبة والفشل، ويسيرون على سنن الله الشرعية والكونية في العمل، والصالحون هم الذين يجتنبون الفساد، ويسلكون سبيل الرشاد، ويقَوِّمُون ما اعوَج من أمر العباد. عهد الله تعالى بالإمامة العامة لنبيه وخليله إبراهيم، وللعادلين من ذريته غير الظالمين [1] ، فوعد بها قوم موسى من بني إسرائيل، وقوم محمد من بني إسماعيل، قال تعالى في الوعد الأول {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: 5) وقال في الوفاء به: {وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف: 137) الآية، وقال في الوعد الثاني: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} (النور: 55) إلخ، وقد صدق الله هذه الأمة وعده ووفى لها، كما وفى لمن قبلها، ثم سلبها جل ما أعطاها، كما عاقب بذلك سواها، إذ نقضت عهدها كما نقضوا، وفسقت عن أمر ربها كما فسقوا، واغترت بنسبها وبكتابها كما اغتروا، وإنما ناط تعالى إرث الأرض بإقامة الحق والعدل، وبالصلاح والإصلاح لأمور الخلق، واستثنى من نيل عهده الظالمين، وتوعد بسلبه من الفاسقين، وكان الواجب عليها أن تعتبر بذلك فتثوب إلى رشدها، وتتوب إلى ربها، عسى أن يرحمها ويتم لآخرها ما أنجز من عهده لأولها، ولكنها لما تفعل، وعسى أن تفعل. إن المريض الجاهل بمرضه لا يصيب نجاحًا، وإن داء المسلمين ودواءه مُبَيَّن في كتابهم المُنَزَّل، ولكنهم حرموا على أنفسهم العلم والعمل به، استغناء عنهما بفقه المقلدين وكتبهم، ويمكن العلم بهما مما أرشدهم إليه الكتاب من السير في الأرض للنظر في أمور الأمم والاعتبار بسنن الله في الخلق، ولكنهم قلما كانوا يسيرون، وإذا ساروا فقلما ينظرون ويعتبرون. الإسلام هداية روحية وسياسة اجتماعية مدنية، أكمل الله به دين الأنبياء وما أقام عليه نظام الاجتماع البشري من سنن الارتقاء. فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاء بها تامة أصلاً وفرعًا، وفرضًا ونفلاً، ولما طرأ الضعف على المسلمين جهلوا هذا الأصل، فغلا بعضهم في الدين، فزاد في أحكام العبادات والمحرمات الدينية والمواسم، والأحزاب والأوراد الصوفية، ما ألفت فيه المجلدات، ويستغرق العمل به جميع الأوقات، ويستلزم جعله من الدين نقصان دين الصحابة والتابعين إذ لم يكن لديهم شيء منه، ولو اشتغلوا بمثله لما وجدوا وقتًا لفتح البلاد وإصلاح أمور العباد. وأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها، وشرع للأمة الرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان، وترتقي بارتقاء العمران وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها وأمرها شورى بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز في أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة، وأنها حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية والمنافع المادية، وممهدة لتعميم الأخوة الإنسانية، بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما طرأ الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد والعمل بالأصول، ولو أقاموها لوضعوا لكل عصر ما يليق به من النظم والفروع. ظهرت مدنية الإسلام مشرقة من أفق هداية القرآن، مبنية على أساس البدء بإصلاح الإنسان، ليكون هو المصلح لأمور الكون وشئون الاجتماع، فكان جل إصلاح الخلفاء الراشدين إقامة الحق والعدل، والمساواة بين الناس في القسط، ونشر الفضائل، وقمع الرذائل، وإبطال ما أرهق البشر من استبداد الملوك والأمراء، وسيطرة الكهنة ورؤساء الدين على العقول والأرواح، فبلغوا بذلك حدًّا من الكمال، لم يعرف له نظير في تاريخ الأمم والأجيال، واستتبع ذلك مدنية سريعة السير، جامعة بين الدين والفضيلة، وبين التمتع بالطيبات والزينة، ارتقت فيها العلوم والفنون بسرعة غريبة، حتى قال الفيلسوف المؤرخ موسيو غوستاف لوبون في كتابه (تطور الأمم) : إن ملكة الفنون لم تستحكم لأمة من الأمم فيما دون الثلاثة الأجيال الطبيعية إلا للعرب. ويعني بالثلاثة الأجيال: الجيل المقلد، والجيل المخضرم، والجيل المستقل. لقد أتى على الناس حينٌ من الدهر وهم يظنون أن المدنية الإسلامية قد ماتت وبليت فلا رجاء في بعثها، وأن المدنية الإفرنجية قد كسبت صفة الخلود فلا مطمع في موتها، ثم استدار الزمان، وظهر خطأ الحسبان، وكثر في حكماء أوروبة وعلمائها من يرتقب اقتراب أجل مدنيتها، بما يفتك بها من أوبئة الأفكار المادية والروح الحربية، والمطامع الأشعبية، والإسراف في الشهوات الحيوانية، وقد كان من أساطين أهل هذا الرأي شيخ فلاسفة العصر هربرت سبنسر الإنجليزي مؤسس علم الاجتماع، وكثر أهله بعد الحرب الكبرى؛ لما ترتب عليها من المفاسد التي لا تُحْصَى، فقد أرَّثت الأحقاد والأضغان بين الشعوب الأوروبية، وضاعفت المفاسد والمشاكل المالية والسياسية، ولكنها قد هزت العالم الإسلامي والشرق كله هزة عنيفة، وأحدثت في شعوبه ثورات لم تكن مألوفة، فسنحت له فرصة للعمل، هي مناط الرجاء وقوة الأمل. إن أعظم مظاهر هذه الفرصة نهضة الشعب التركي من كبوته التي قضت على السلطنة العثمانية، وتوثيقه عرى الإخاء بين الدولتين الإيرانية والأفغانية، وبثه دعوة الاعتصام مع سائر الشعوب الإسلامية الأعجمية، ونجاحه في إلغاء الامتيازات الأجنبية، والنقص من سائر القيود والأغلال السياسية والمالية، فرجاؤها فيه أن يشد أواخيّ الإخاء مع الأمة العربية، ويتعاون معها على إحياء المدنية الإسلامية، بتجديد حكومة الخلافة على القواعد المقرَّرة في الكتب الكلامية والفقهية، وأن لا يرضى بما دون ذلك من المظاهر الدنيوية، ولا يغتر بتحبيذ عوام المسلمين لما قرره في أمر الخلافة الروحية، فما أضاع على المسلمين دنياهم ودينهم، إلا تحبيذ دهمائهم لكل ما تفعله حكوماتهم ودولهم، وناهيك بشعور المسلمين الذين يئطون من أثقال حكم المستعمرين. إنه شعور شريف، وإنما يعوزه الرأي الحصيف، فقد كان السواد الأعظم من هؤلاء الملايين يرمي من يخالف أهواء السلطان عبد الحميد بالخيانة أو المروق من الدين، وهو السلطان الذي أقنع جمهور ساسة الترك بإسقاط سلطة السلاطين، الذي تحمده اليوم هذه الملايين، وما لهم بهذا ولا ذاك من علم ولا سلطان مبين. أيها الشعب التركي الحي: إن الإسلام أعظم قوة معنوية في الأرض، وإنه هو الذي يمكن أن يحيي مدنية الشرق وينقذ مدنية الغرب، فإن المدنية لا تبقى إلا بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين، ولا يوجد دين يتفق مع العلم والمدنية إلا الإسلام، وإنما عاشت المدنية الغربية هذه القرون بما كان فيها من التوازن بين بقايا الفضائل المسيحية، مع التنازع بين العلم الاستقلالي والتعاليم الكنسية، فإن الأمم لا تنسل من فضائل دينها بمجرد طروء الشك في عقائده على أذهان الأفراد والجماعات منها، وإنما يكون ذلك بالتدريج في عدة أجيال، وقد انتهى التنازع بفقد ذلك التوازن، وأصبح الدين والحضارة على خطر الزوال، واشتدت حاجة البشر إلى إصلاح روحي مدني ثابت الأركان، يزول به استعباد الأقوياء للضعفاء، واستذلال الأغنياء للفقراء وخطر البلشفية على الأغنياء، ويبطل به امتياز الأجناس، لتتحقق الأخوة العامة بين الناس، ولن يكون ذلك إلا بحكومة الإسلام التي بيناها بالإجمال في هذا الكتاب، ونحن مستعدون للمساعدة على تفصيلها، إذا وفق الله للعمل بها. أيها الشعب التركي الباسل: إنك اليوم أقدر الشعوب الإسلامية، على أن تحقق للبشر هذه الأمنية، فاغتنم هذه الفرصة لتأسيس مجد إنساني خالد، لا يذكر معه مجدك الحربي التالد، ولا يجرمنك المتفرنجون على تقليد الإفرنج في سيرتهم، وأنت أهل لأن تكون إمامًا لهم بمدنية خير من مدنيتهم، وما ثم إلا المدنية الإسلامية، الثابتة قواعدها المعقولة على أساس العقيدة الدينية، فلا تزلزلها النظريات التي تعبث بالعمران، وتفسد نظم الحياة الاجتماعية على الناس. أيها الشعب التركي المتروي: انهض بتجديد حكومة الخلافة الإسلامية، بقصد الجمع بين هداية الدين والحضارة لخدمة الإنسانية، لا لتأسيس عصبية إسلامية تهدد الدول الغربية، فإن فعلت ذلك وأثبت إخلاصك وصحة نيتك فيه، فإنك تجد من علماء الإفرنج وفضلاء أحرارهم من يشد أزرك ويرفع ذكرك، ويدفع عنك تهم الساسة المفترين، وإغراء الطامعين المغررين. أيها الشعب التركي العاقل: إنني أهدي إليك هذه المباحث التي كتبتها في بيان حقيقة الخلافة وأحكامها، وشيء من تاريخها وعلو مكانتها، وبيان حاجة جميع البشر إليها، وجناية المسلمين على أنفسهم بسوء التصرف فيها، والخروج بها عن موضوعها، وما يعترض الآن في سبيل إحيائها، مع بيان المَخْرَج منها بما أشرع السبيل وأنار الدليل، بمقال وسط بين الإجمال والتفصيل، جامع لآراء العارفين بمصالح الدنيا وحقيقة الدين، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين، وإنما الشكر لها بالعمل بها: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ

ذكرى رينان في الجامعة المصرية ـ 3

الكاتب: مصطفى عبد الرازق

_ ذكرى رينان في الجامعة المصرية محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني (3) كلمة المنار في المحاضرة (الشاهد السادس) (من العدد السابع من العروة الوثقى المؤرخ في أول مايو سنة 1884) . موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد (عقيدة القضاء والقدر) ذكر فيها أنها من أصول عقائد الدين الإسلامي التي ارتقى بها المسلمون، وكانوا من أعظم الفاتحين، وأنه لولا ما طرأ عليها من الالتباس ببدعة الجبر لَما حل بالمسلمين من الضعف والفقر ما حل بهم، وزعم من زعموا أنها هي التي كانت سبب ضعفهم وتقهقرهم. وهاك بعض عباراتها في ذلك: (أما ما زعموه في المسلمين من الانحطاط والتأخر فليس منشؤه هذه العقيدة ولا غيرها من العقائد الإسلامية، ونِسبته إليها كنسبة النقيض إلى نقيضه؛ بل أشبه ما يكون بنسبة الحرارة إلى الثلج والبرودة إلى النار. نعم حدث للمسلمين بعد نشأتهم نشوة من الظفر، وثمل من العز والغلب، وفاجأهم وهُم على تلك الحال صدمتان قويتان: صدمة من طرف الشرق وهي غارة التتر من جنكيز خان وأحفاده، وصدمة من جهة الغرب وهي زحف الأمم الأوروبية بأسرها على ديارهم. وإن الصدمة في حال النشوة تذهب بالرأي وتوجب الدهشة والسبات بحكم الطبيعة، وبعد ذلك تداولتهم حكومات متنوعة، ووسد الأمر فيهم إلى غير أهله، وولي على أمورهم مَن لا يحسن سياستها، فكان حكامهم وأمراؤهم من جراثيم الفساد في أخلاقهم وطباعهم، وكانوا مجلبة لشقائهم وبلائهم، فتمكن الضعف من نفوسهم وقصرت أنظار الكثير منهم على ملاحظة الجزئيات التي لا تتجاوز لذته الآنية، وأخذ كل منهم بناصية الآخر يطلب له الضرر ويلتمس له السوء من كل باب، لا لعلة صحيحة ولا داع قوي، وجعلوا هذه ثمرة الحياة فآل الأمر بهم إلى الضعف والقنوط، وأدى إلى ما صاروا إليه) . (ولكني أقول وحق ما أقول: إن هذه الملة لن تموت ما دامت هذه العقائد الشريفة آخذة مأخذها من قلوبهم، ورسومها تلوح في أذهانهم، وحقائقها متداولة بين العلماء الراسخين منهم. وكل ما عرض عليهم من الأمراض النفسية والاعتلال العقلي فلا بد أن تدفعه قوة العقائد الحقة ويعود الأمر كما بدأ، وينشطوا من عقالهم، ويذهبوا مذاهب الحكمة والتبصر في إنقاذ بلادهم، وإرهاب الأمم الطامعة إليهم وإيقافها عند حدها) . اهـ. (الشاهد السابع) (من العدد الثامن المؤرخ في 22 مايو سنة 1884) . موضوع المقالة الاجتماعية في هذا العدد المقابلة بين ماضي المسلمين وحاضرهم في العلم والعرفان، والسيادة والسلطان، والقوة الحربية البرية والبحرية، وبيان سبب ما كان من الارتقاء الماضي، وتنازعهم الذي فرق الكلمة، حتى شغلوا بأنفسهم عن أعدائهم ثم صاروا ينصرون أعداءهم على أنفسهم، استعانة بهم على استبقاء سلطانهم والتفوق على أقرانهم من إخوانهم. قال في هذا السياق: (أما وعزة الحق وسر العدل، لو ترك المسلمون وأنفسهم بما هم عليه من العقائد مع رعاية العلماء العاملين منهم، لتعارفت أرواحهم، وائتلفت آحادهم، ولكن واأسفاه، تخللهم أولئك المفسدون الذين يرون كل السعادة في لقب أمير أو ملك، ولو على قرية لا أمر له فيها ولا نهي) . (هؤلاء هم الذين حولوا أوجه المسلمين عما ولاهم الله وخرجوا على ملوكهم وخلفائهم، حتى تناكرت الوجوه واختلفت الرغائب) . ثم قال في الخاتمة: (إن القرآن حي لا يموت، ومن أصابه نصيب من حمده فهو محمود، ومن أصيب بسهم من مقته فهو ممقوت، كتاب الله لم ينسخ فارجعوا إليه وحكموه في أحوالكم وطباعكم، وما الله بغافل عما تعملون. ولعل أمراء المسلمين قد وعظوا بسوء مغبة أعمال السالفين، وهموا بملافاة أمرهم قبل أن يقضى عليهم، بما رزئ به المفرطون من قبلهم) إلخ. (الشاهد الثامن) (من العدد التاسع المؤرخ في 5 يونيه 1884) . موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد، ما يجب من التعاون على طلب السيادة والغلب واتقاء سوء المنقلب، ومما جاء فيها: (إن الميل للوحدة والتطلع للسيادة، وصدق الرغبة في حفظ حَوْزَة الإسلام، كل هذه صفات كامنة في نفوس المسلمين قاطبة، ولكن دهاهم ما أشرنا إليه في أعداد ماضية. فألهاهم عما يوحي به الدين في قلوبهم) إلخ. (الشاهد التاسع) (من العدد العاشر المؤرخ في 19 يونيه سنة 1884) موضوع المقالة الاجتماعية لهذا العدد: الأمل الذي يبعث على العمل، وطلب المجد المؤثل، واليأس المميت للهمم، والقاتل للأمم، وفيها الحجج من آيات القرآن ومن العقل والوجدان، على أن اليأس لا يجتمع مع الإيمان في قلب إنسان، وحث المسلمين عامة والعلماء خاصة على الرجوع إلى هداية الكتاب والعمل بها وهي الضامنة لهم إعادة ملكهم، واسترجاع مجدهم. وفيها مقال آخر عنوانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} (آل عمران: 118) ولا يخلو من شاهد ولكننا نود الاختصار. (الشاهد العاشر) (من العدد الخامس عشر المؤرخ في 11 سبتمبر سنة 1884) في هذا العدد عدة مقالات اجتماعية إصلاحية إسلامية في كل منها شواهد على ما نحن بصدد بيانه من حصر السيد جمال الدين كل ما يبغيه المسلمون من عز ومجد وحضارة وسيادة في هداية دينهم، نكتفي منها بالكلمة الآتية التي نجعلها خاتمة الشواهد وهي: (لو تدبرنا آيات القرآن واعتبرنا بالحوادث التي ألمت بالممالك الإسلامية لعلمنا أن فينا من حاد عن أوامر الله وضل عن هديه، ومنا من مال عن الصراط المستقيم الذي ضربه الله لنا وأرشدنا إليه، وبيننا من اتبع أهواء الأنفس وخطوات الشيطان {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) فعلى العلماء الراسخين وهم روح الأمة وفؤاد الملة المحمدية أن يهتموا بتنبيه الغافلين عما أوجب الله، وإيقاظ النائمة قلوبهم عما فرض الدين، ويُعلّموا الجاهل، ويزعجوا نفس الذاهل، ويذكِّروا الجميع بما أنعم الله به على آبائهم، ويستلفتوهم إلى ما أعد الله لهم لو استقاموا، ويحذروهم سوء العاقبة لو لم يتداركوا أمرهم بالرجوع إلى ما كان عليه النبي وأصحابه، ورفض كل بدعة، والخروج من كل عادة سيئة لا تنطبق على نصوص الكتاب العزيز، ويقصوا عليهم أحوال الأمم الماضية وما نزل بها من قضاء الله عندما حادت عن شرائعه ونبذت أوامره {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الخِزْيَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 26) . (على العلماء أن يزيلوا اليأس بتذكير وعد الله - ووعده الحق - في قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} (النور: 55) هذه وظيفة العلماء الراسخين وما هم بقليل بين المسلمين ولا نظنهم يتهاونون فيما فوَّض الله إليهم ووكَّل إلى ذمتهم، وهم أمناء الدين وحملة الشرع ورافعو لواء الإسلام وأوصياء الله على المؤمنين، أعانهم الله على خير أعمالهم، ونفع المؤمنين بإرشادهم) . *** (خلاصة الكلام في السيد جمال الدين) قد علم من هذه الشواهد صحة ما حقَّقْنَاه من أن السيد جمال الدين الأفغاني كان يعتقد اعتقادًا راسخًا أن الإسلام هو الذي أحيا الأمة العربية الأمية التي كانت بعيدة عن الحضارة وجعلها بإرشاد القرآن المنزل، وهدى النبي المرسل، وسيرة السلف الأول، أرقى أمم الأرض علمًا وحكمة وحضارة، وأن كل ما يذمها به رينان اليوم فسببه محصور في تركها لتلك الهداية، لا من العمل بها، ولا غرو فإن بقاء الشيء ببقاء سببه وعلته، وإن الأمة العربية هي التي أحيت كثيرًا من الشعوب الأعجمية وأنقذتهم من الذل والمهانة التي كانوا يُسامونها من ملوكهم وكهنتهم، وأن هؤلاء الأعاجم هم الذين تغلبوا على الحضارة العربية بالقوة الوحشية حتى هدموها، وأنه لا يمكن أن يعود للمسلمين مجدهم وحضارتهم وعلمهم وحكمتهم إلا برجوعهم إلى هداية دينهم. فسقط بهذا كل ما قاله رينان وعلم به خطأ استنتاج الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق مما فهمه من كلام السيد أنه تطور بعد زيارته لباريس في أواخر سنة 1883 وتغير رأيه في الإسلام فصار يعتقد أنه مناف للعلم والحضارة. *** الرد على رينان بعد هذا نلخص ما أورده الشيخ مصطفى من طعن رينان في الإسلام نفسه ونُبين بطلانه بغاية الإيجاز، من غير خروج عن الموضوع ولا استطراد فنقول: (1) (بدأ رينان محاضرته بالنظر فيما عليه المسلمون في هذا العصر من الانحطاط في العلم والمدنية وملاحظة اتصال ذلك بالدين) كما قال صاحب المحاضرة، ثم نقل عنه أنه زعم أن هذه الدول الإسلامية المنحطة في هذا العصر لا تستقي معارفها وآدابها من غير الدين، وأن الذين زاروا الشرق استرعى نظرهم ما يجعل المؤمن الصادق الإيمان لا ينجو من ضيق العقل، وأن الطفل الذكي النبيه إذا لُقِّن دينه في سن العاشرة أو الثانية عشرة انقلب متعصبًا يملؤه زهو طائش بما يزعم أنه الحقيقة المطلقة. والجواب عن هذا أننا لا ننكر أنه يغلب على المسلمين الجهل وضيق العقل في هذا العصر، وإنما ننكر أن سبب هذا ما لُقنوه من أصول دينهم وآدابه، بل سببه الحق عدم تلقين عامتهم إياه ولا تربيتهم على ذلك وحمل طلاب العلم منهم على التقليد الذي أجمع أئمة دينهم على أنه ينافي العلم، وعبروا عنه بالجهل، واختلفوا في إيمان المقلد فبعضهم قال: إنه لا يُعْتَدُّ به، وهم أكثر المتقدمين، وقال بعض آخر: إنه يصح إذا اتفق أنه لقن الحق وجزم به، واحتج مَن لا يقول بصحة إيمان المقلد ولا يعتد بدينه بما شنع القرآن على التقليد والمقلدين وجعل التقليد منافيًا للعلم والعقل بمثل قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتبعوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) . {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104) . دع الآيات الكثيرة الناطقة بالمطالبة بالبرهان وبالعلم وبعدم الاعتداد بالظن في الحق. وسواء كان إيمان المقلد صحيحًا أو غير صحيح، فإن الجاهلين من رؤساء المسلمين لم يجنوا عليهم جناية أضر عليهم في دينهم ودنياهم من نسخ ما شرعه الله وفرضه من العلم بالبرهان، واستبدالهم إياه التقليد الأعمى الذي ألزمهم قبول كل قول ينتسب صاحبه إلى المذهب الذي ينتمي إليه قوم الناشئ أو عشيرته؛ إذ أدى ذلك إلى أخذ السواد الأعظم من المسلمين وهم الأميون بالرغم من بعثة رسولهم لإبطال الأمية بقول آبائهم وأمهاتهم وما هم عليه من الجهل والخرافات بل غلب عليهم التقليد في علوم الدنيا وفنونها وصنائعها حتى صاروا عالة على غيرهم في كل شيء. إن فلسفة رينان، وعلمه النزر بالتاريخ وتعاليم الأديان، وجهله المطلق بالقرآن، تحول دون فهمه لهذه الحقيقة - حتى بعد تنبيه السيد جمال الدين إياه لها - ك

المراسلة والمناظرة

الكاتب: عبد المولى آل طريح ـ بغدادي

_ المراسلة والمناظرة (تهورات أدعياء العلم في الموصل) لأحد العلماء الأعلام ولو أني بُلِيتُ بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان لهان عليَّ ما ألقى ولكن ... تعالوا فانظروا بمن ابتلاني ما أكثر الأدعياء، أدعياء العلم والأدب في هذا العالم، وما أعظم إفسادهم لسنن الكون وتكديرهم صفو الحياة! كل يوم تقرع صفا أسماعنا أخبار الغوائل والبوائق التي تصدر منهم والشرور التي يأتونها، والمخازي التي يرتكبونها، والمحارم التي يستحلونها. وهم دائبون في ذلك آناء الليل وأطراف النهار لا يردعهم رادع من ديانتهم، ولا يزعهم وازع من أنفسهم. أولئك الذين لا هَمَّ لهم في حياتهم إلا اصطياد طائر الرزق من منصب يجلسون على منصته ويطلبون به الجاه والدنيا. ووظيفة ينالون بها مطامع أنفسهم الخبيثة المطبوعة على الطبَع والدنس وارتكاب الرذائل والدنايا. وليس لهم هم بغير رئاسة ... وما همهم إلا صدور المناصب طرق سمعنا قبل أيام نبأ حادثة صدرت من بعض الأدعياء المتقمصين بثياب أهل العلم، والمتردين بأردية أهل الزهد من أهل الموصل. فلم نثق به ولم نؤمن لأنه نبأ لو تعلمون عظيم، ذلك النبأ هو تكفير أعظم علماء الإسلام وأجلهم قدرًا وأرفعهم ذكرًا. ألا وهو المجدد العظيم والمصلح الكبير محيي الدين وفيلسوف الإسلام الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه! والأمر بإحراق بعض كتبه ومؤلفاته التي تمزق حُجب الأوهام والشكوك، وتبدد سحب الضلالة المتلبدة في سماء الأفكار، وتنقي العقائد من الشوائب، وتهدي للتي هي أقوم، حتى ورد كتاب من ثقة في الموصل إلى أديب موصلي يذكر فيه تلك الحاثة وتلك العثرة التي لا يقال لصاحبها: لعا، ومما جاء فيه: من عشرين يومًا وردت إلى أحد العلماء مجموعة في فلسفة الدين من تأليف الإمام ابن تيمية مطبوعة في المنار على نفقة أحد التجار الأخيار وقفًا لله تعالى، وقد حصل في الموصل لتوزيعها تأثير شديد خاصة على من لم يوافقهم نبذ الخرافات حتى آل الأمر إلى اجتماع بعض من يدعي العلم بذلك الفاضل الذي وردت إليه الرسائل (في دار النقيب) والكلام معه بجمعها وإحراقها وتكفير صاحبها ولعنه على المنابر. وبعد القرار قصروا عن جمعها وإحراقها خوفًا من الفتن والقلاقل؛ لأن بعض الأهالي المهذبين، والشبان المتنورين كانوا مناصرين لنشرها ومعارضة من يمد يده إليها بسوء إلخ. فانظر رعاك الله إلى هذه الفعلة الهمجية هل رأيت أو سمعت عن البربر بإتيان مثلها بل بارتكاب أمر أقل منها خطرًا؟ متى كانت كتب الدين وفلسفته التي تأمر باتباع الكتاب والسنة وتنهى عن البدع والمنكرات تحرق ويلعن أصحابها فوق المنابر؟ ولا سيما مثل كتب المجدد الأعظم إمام الأئمة تقي الدين أحمد بن تيمية الذي أحيا الدين ونشر أعلامه على ربوع الإسلام، وتلقت أقواله الناس بالقبول وأخذت بها ورجعت إليها في كل عصر ومصر. وأكبر دليل على ذلك وأعظم برهان هو إقبال الناس على طبع كتبه في مصر والهند والعراق وسورية وقازان وغيرها. وأهل قازان اليوم يتبعونه بدلاً من اتباع الإمامين الأشعري والماتريدي كما يعلم من الكتاب الذي ألفه أحد علمائهم الأعلام بلغة (الجاغتائي) وقد سماه بابن تيمية حتى إن بعضها نفد وأعيد طبعه، ومنها هذه الرسائل التي يأمر الأدعياء بحرقها، طبعها بعض كرام المصريين وأفاضلهم فنفدت بمدة وجيزة، فازداد اشتياق المهذبين الذين هداهم الله إلى نبذ التقاليد القديمة التي وجدوا عليها آباءهم وتمسكوا بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، فطبعها بعض التجار الأبرار مع رسائل أخرى في التوحيد والإصلاح وقفًا لله تعالى بأشهر مطبعة إسلامية ألا وهي مطبعة المنار، لأعظم رجل مصلح ألا وهو العلامة رحلة أهل الآفاق السيد محمد رشيد رضا، في أعظم بلدة إسلامية وفي منبع العلوم والعرفان ومحط الأجلة الأعلام وفطاحل الإسلام، ألا وهي مصر. ولم نر أحدًا رأى فيها ما يضر بالدين أو قام بمعارضتها، والرد عليها وحكم بكفر صاحبها، ولعنه على المنابر، ولو كان فيها شيء من ذلك لكان الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي أولى بالمعارضة والرد، وهو الذي وقف محياه ومماته لله رب العالمين، في سبيل إصلاح المسلمين، والذب عن الإسلام ورد أباطيل المفترين على الدين المبين. عجيب وأيم الحق! يرتضيها الأئمة الأعلام وجهابذة الإسلام ويتقبلونها قبولاً حسنًا، ويأخذون بها ويرجعون إليها في كل عصر ومصر، وتتذمر منها شرذمة جاهلة تدعي العلم، وليست منه ولا قلامة ظفر، فتقوم لها وتقعد، وتبرق وترعد، وتهذي وتعوي، وتصرخ وتهرج. غيرة عظيمة منكم أيها الأدعياء على الدين: تتذمرون من كتب التوحيد والإصلاح وتنهون عن مطالعتها، وتأمرون بحرقها، وتكفرون أصحابها على المنابر، والمبشرون اليوم أخذوا ينشرون الرسائل بين ظهرانيكم ويدعون شبانكم إلى دين النصرانية، ويبثون الدعوة إلى دين التثليث، ونشروا منها ما نشروا في المدارس الابتدائية والكتاتيب قبل بضعة أيام، وأنتم غاضون راضون صم بكم عمي لا تتكلمون، ولا نرى أحدًا منكم ينبس ببنت شفة أمامهم ويرد مطاعنهم ويذب عن الدين الحنيف وينتصر له. وهم يشهدون الطعن في دين أحمد ... وما منهم من غاضب أو معاتب وتنظرهم ما بين كاسٍ وطاعمٍ ... وتشهدهم ما بين لاه ولاعب فمن كان منهم غائبًا مثل حاضر ... ومن كان منهم حاضرًا مثل غائب وليس لهم هم بغير رئاسة ... وما همهم إلا صدور المناصب إذا كنتم أيها الأدعياء تزعمون أنكم من خيل حلبة الفضل، وكماة ميدان العلم والإصلاح، فاكتبوا ردًّا عليها وادعموه بما عندكم من الدلائل - ولا أراكم قادرين - فإنا نجيبكم إن شاء الله تعالى على كل ما ترونه في نظركم القاصر مضرًّا ونبين لكم خطأكم وجهلكم بالدليل والبرهان، فأي حاجة بعد إلى الصراخ والعواء، والإرعاد والإبراق والسب والشتم، ومجاوزة الحد في سوء الأدب وتوسيع الدائرة في لعن العلماء الذين أحيوا الدين وجددوه، وتحريق كتبهم الهادية إلى سواء السبيل؟ فهل يعمد إلى السب والشتم واللغو والهذر إلا عاجز جاهل عيي أو صاحب هوًى يريد أن يفرق كلمة المسلمين ويشتت شملهم ويضعف قواهم في هذا اليوم؟ اليوم نحن في حاجة كبيرة فيه إلى جمع الكلمة والتأليف بين المسلمين الذين فرَّقهم أهل الأهواء والمطامع، وعبدة الدينار والدرهم، وعباد الملوك والسلاطين الجائرين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بغدادي (المنار) إن محاولة بعض الموصوفين بالعلم جمع بعض الكتب التي لا ترضيهم من أيدي أهلها وإحراقها ولعن مؤلفيها - فضيحة من أقبح فضائح الجهل والغباوة والعصبية العمياء، وأمثال هؤلاء هم حجة رينان وأمثاله على الإسلام والمسلمين، وهم الفتنة التي كانت سبب ارتداد كثير من المتعلمين عن الدين، ومن لطائف المصادفات أن اضطررنا إلى تأخير نشر هذه الرسالة حتى اتفق وضعها في إثر الرد على الفيلسوف رينان، ومِن شبهاته ما لم يبين تحقيق الحق ومفاسد التلبيس فيه أحد من أئمة المسلمين كما بيَّنها شيخ الإسلام ابن تيمية كمسألة القدر التكويني والتشريعي وما يجب الرضا به من الأول وما يجب كرهه ومقاومته (وسيأتي في الجزء الآتي) فنحن لا نقول لهؤلاء الذين كادوا يجعلون اسم الموصل سبة في التاريخ لو نفذ رأيهم الأفين: إنكم أخطأتم لأن هذه الكتب من الكتب النافعة، بل نقول لهم: إنكم في بلاد فيها أديان ومذاهب مختلفة وآراء متباينة، فإذا ساغ لكل من أهلها أن يحرق ما يخالف اعتقاده أو رأيه من كتبها لم يبق فيها كتاب ديني ولا علمي ولا أدبي ولا تاريخي! وإذا ساغ لكم هذا وحدكم فمن أنتم؟ وبأي سلطان استبدادي تحكمون، وحكومتكم أباحت الطعن في دينكم وكتابكم ونبيكم وأنتم راضون ساكتون؟ إن ما حاولتم لا يتم إلا لحكومة شخصية مستبدة كحكومة أسبانية في القرون الوسطى وحكومة الحجاز في هذا العصر، فإنها هي التي تمنع أمثال هذه الكتب النافعة، وأما بلادكم فلا يفوز فيها بعد اليوم إلا ذو العلم الصحيح فتعلموا، وإلا ضاع دينكم ودنياكم. *** (تظاهر العقل والشرع) اعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع والشرع لن يتبين إلا بالعقل والعقل كالأس، والشرع كالبناء، ولم يثبت بناء ما لم يكن أس ولم يغن أس ما لم يكن بناء، وأيضًا العقل كالبصر والشرع كالشعاع ولن ينفع البصر ما لم يكن شعاع من خارج ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر. فلهذا قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} (المائدة: 15-16) وأيضًا فالعقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يمده، فما لم يكن زيت لم يشعل السراج، وما لم يكن سراج لم يضئ الزيت، وعلى هذا نبه بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ} (النور: 35) إلى قوله: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} (النور: 35) وأيضًا فالشرع عقل من خارج، والعقل شرع من داخل وهما يتعاضدان بل يتحدان ولكون الشرع عقلاً من خارج سلب الله اسم العقل من الكافر في غير موضع من القرآن نحو: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) ولكون العقل شرعًا من داخل قال تعالى في صفة العقل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (الروم: 30) فسمي العقل دينًا ولكونهما متحدين قال: {نُّورٌ عَلَى نُورٍ} (النور: 35) أي نور العقل ونور الشرع ثم قال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ} (النور: 35) فجعلهما نورًا واحدًا، فالعقل إذا فقد الشرع عجز عن أكثر الأمور كما تعجز العين عند فقد النور. واعلم أن العقل بنفسه قليل الغناء لا يكاد يتوصل إلى معرفة كليات الشيء دون جزئياته نحو أنه يعلم جملة حسن اعتقاد العقل (؟) وقول الصدق وتعاطي الجميل وحسن استعمال المعدلة وملازمة العفة، ونحو ذلك من غير أن يعرف ذلك في شيء شيء، والشرع يعرف كليات الشيء وجزئياته ويبين ما الذي يجب أن يعتقد في شيء شيء، وما الذي هو معدلة في شيء شيء، ولا يعرف العقل مثلاً أن لحم الخنزير والخمر محرمان وأنه يجب أن يتحاشى من تناول الطعام في وقت معلوم، وأن لا ينكح ذوات المحارم، وأنه لا يجامع المرأة في حال الحيض، فإن أشباه ذلك لا سبيل إليها إلا بالشرع، فالشرع نظام الاعتقادات الصحيحة، والأفعال المستقيمة والدال على مصالح الدنيا والآخرة مَن عدَل عنه فقد ضل سواء السبيل؛ ولأجل أن لا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) وقال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَو

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (مختصر شُعب الإيمان) كتاب شُعب الإيمان للحافظ أبي بكر أحمد البيهقي المتوفى سنة 458 من أجلّ كتب السنة قدرًا، وأشهرها ذكرًا، وهو كبير يتألف من ستة مجلدات، ولكن شعب الإيمان التي صح الحديث بأنها بضع وسبعون متفرقة في ذلك الكتاب الكبير، غير مجموعة في مكان منه محصية بالعدد؛ ليتمكن من حفظها أو الإحاطة بها كل أحد من غير تكلف ولا بذل جهد، فاستخرجها منه الشيخ أبو جعفر عمر القزويني المتوفى سنة 699 وجمعها في كتاب وجيز معدودة عدًّا، مكتفيًا بالاستدلال أو الاستشهاد على كل منها بآية من كتاب الله، أو بحديث من أصح ما روي فيه على الأقل، وربما زاد في بعض الشعب آية أو آيات، أو حديثًا أو كلمات، أو حكاية أو حكايات، أو بيتًا أو أبيات كما قال. وسماه مختصر شعب الإيمان. طبع هذا المختصر بمطبعة السعادة على ورق جيد بقطع المنار مع تعليق عليه لأخينا السلفي الشهير الشيخ محمد منير أحد علماء الأزهر الشريف فبلغت صفحاته 91 صفحة، وهو يطلب منه ومن مكتبة المنار وثمن النسخة منه ستة قروش صحيحة فنحث كل قارئ على اقتنائه ومطالعته. *** (تلبيس إبليس) كتاب جليل القدر كبير الفائدة للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في الإرشاد إلى التزام هداية الشرع باتباع أهل السنة والجماعة، والتنفير عن البدعة والضلالة. وبيان مناشئ الباطل والضلال، بما يلبس به الشيطان على الناس، حتى يوهم كل فريق منهم بأنهم على الحق، أو بأن الخير والنفع لهم فيما هم عليه دون غيره. ومباحثه تدخل في 13 بابًا: (1) في الأمر بلزوم السنة والجماعة. (2) في ذم البدع والمبتدعين. (3) في التحذير من فتن إبليس ومكايده. (4) في معنى التلبيس والغرور. (5) في تلبيسه في العقائد والديانات، وفيه الكلام على الملل والنِّحَل والمذاهب والفرق. (6) في تلبيسه على العلماء في فنون العلم ويدخل في العلماء المحدثون والمتكلمون والفقهاء والوعاظ والأدباء وغيرهم. (7) في تلبيسه على الولاة والسلاطين. (8) في تلبيسه على العباد في فنون العبادات. (9) في تلبيسه على الزهاد. (10) في تلبيسه على الصوفية. (11) في تلبيسه على المتدينين بما يشبه الكرامات. (12) في تلبيسه على العوام. (13) في تلبيسه على جميع الناس بطول الأمل. طبع الكتاب في مطبعة السعادة بقطع المنار ونوع حروفه فبلغت صفحاته 440 مع الفهرس وجعل الاسم الأول له (نقد العلم والعلماء) وعني بتصحيحه أخونا الشيخ محمد منير الدمشقي السلفي من علماء الأزهر، وهو يُطلب منه ومن مكتبة المنار وغيرها وثمن النسخة منه 16 قرشًا صحيحًا فننصح لكل قارئ بمطالعته. *** (هدي الرسول) مختصر وجيز لكتاب (زاد المعاد في هدي خير العباد) الذي هو أشهر كتب المحقق ابن القيم الممتازة بين كتب أكبر علماء الإسلام في بيان ما صح في السنة، ومع حكمته وموافقته لمصالح البشر. وهو مجلدان كبيران في السيرة النبوية وحكمها وأحكامها وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات والآداب ينبغي لكل مسلم ولكل من يحب أن يعرف الإسلام أن يقرأه كله، وهو مطبوع في مصر وفي الهند، فأحب السيخ محمد أبو زيد أن يختصره لرغبة أكثر الناس في هذا العصر عن قراءة المطولات من كتب الدين ولا سيما إذا كان طبعها غير حسن وورقها غير جيد فاختصره اختصارًا موجزًا في مائتي صفحة ونيف من قطع المنار مع تعليقه بعض الحواشي المناسبة لحال العصر في مواضع منه، وافتتحه بخطبة بيَّن فيها مكانة الأصل ووجه الحاجة إلى اختصاره والحث على إيثاره على كتب الفقه المتداولة وذم هذه الكتب وطرق تعليمها أو تعلمها في الأزهر، وما يتبعه من معاهد التعليم الديني، وبالغ في ذلك بما انتقدنا عليه بعضه وبعض تعليقه - وإن كان متبعًا فيه للمنار لا مبتدئًا - بأنه لم يراع فيه الحكمة والموعظة الحسنة في الكلام مع علماء هذه المعاهد، وهو يطلب منهم تدريس مختصره فيها، فهل هو يرجو منهم إجابة طلبه بهذه الصفة، أم لا يقصد به إلا إقامة الحجة عليهم، على أن في كلامه إنكار ما ليس بمنكر كتقسيم الفقهاء ألفاظ الطلاق إلى صريح وكناية فقد جعله مما لا يكلف الله أحدًا من الناس اتباعه. فهل ينكر أن في اللفظ صريحًا وكناية أم يقول: إن حكمهما واحد؟ فإذا قال الرجل لامرأته: أنتِ طالق، أو قال: امرأتي طالق، أيفتي بوقوع الطلاق عليه أم لا؟ وإذا كان قاضيًا وثبت ذلك عنده بالإقرار أو البينة في دعوى رفعتها المرأة أيحكم بالطلاق أم يقبل قول الزوج إنه لم ينوِ به طلاقًا؟ وإذا قال الرجل لامرأته: الحقي بأهلك - أو: اذهبي إلى بيت أهلك - وقال لم أنوِ به الطلاق بل نويت إرسالها للزيارة أو لتكون هنالك مدة إعساري أو سفري مثلاً - أيفتي ويحكم بوقوع الطلاق عليه والحالة هذه؟ أم لا يفتي ولا يحكم بذلك، وإن قال: نويت به الطلاق؟ الصواب أن هذا التقسيم مما يتوقف عليه العمل بأحكام الطلاق الثابتة في الكتاب والسنة والاجتهاد في بعض مسائله من قبيل الاجتهاد في معرفة القبلة. وقد عني جماعة من العلماء بطبع الكتاب في مطبعة المنار طبعًا حسنًا على ورق حسن، فنحُثُّ القراء على مطالعته وعسى أن يبعث ذلك هممهم على مطالعة أصله، وهو يُطْلَب من مكتبة المنار بمصر، وثمن النسخة منه 10 قروش.

التصرف في الكون وحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكه للسيد البدوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التصرف في الكون وحكم من ادعى أن الله أعطى حق التصرف في ملكه للسيد البدوي (س21) جاء في عدد جريدة الأهرام التي صدرت في 24 ذي القعدة و9 يوليو تحت عنوان (أفتونا برأيكم) رسالة من مراسلها في بركة السبع هذا نصها: (حدث أمس في جامع الدبابة نزاع بين المصلين سببه أن إمام البلدة عند الصلاة في خطبة الجمعة قال: إن الله سبحانه وتعالى أعطى السيد البدوي حق التصرف بملكه العزيز) . (فقاطعه أستاذ آخر وقال له: إنه كاذب؛ إذ إنه طبقًا لشريعة الإسلام لا يكون لله شريك) . (فترتب على ذلك قطع الصلاة بضع دقائق حصل في فترتها نزاع بين المصلين، ولما وصل ضابط بوليس بركة السبع أفهمهم أن المسألة دينية لا تستلزم إلا الاستفتاء، وتمكن من إصلاح ذات البين بين الأستاذين فاستحق حضرته ثناء الحاضرين. فما رأي أصحاب الفضيلة العلماء في هذا الخلاف في الرأي ا. هـ. وقد طلب منا بعض علماء الأزهر وغيرهم أن نجيب عن هذا السؤال، فنقول وبالله التوفيق ونسأله الهداية للصواب: (الجواب) المراد بالتصرف في الكون أن الله تعالى قد وكل أمور العالم إلى بعض الصالحين من الأحياء والميتين فهم يفعلون في الكون ما شاءوا بالخوارق لا بالأسباب المشتركة العامة من بَسْطِ الرزق لبعض الناس وقَدْرِهِ - أي تضييقه على بعض - ومن شفاء المرضى، وإحياء الموتى وإماتة بعض الأصحاء الذين ينكرون عليهم أو الذين يستعديهم عليهم بعض زوارهم، والمتقربين بالنذور والهدايا لأضرحتهم، وغير ذلك من أمور الناس وأمور الكون كالرياح والبحار والجبال والحيوان والنبات. كما حكي عن بعضهم أنه مد رجله مرة وقال: إن سفينة خُرقت في البحر وأشرفت على الغرق فاستغاث به بعض راكبيها فمد رِجله وسد بها ذلك الخَرق، وذكروا أن ذلك المستغيث رأى عقب استغاثته رِجل الشيخ قد سدت ذلك الخرق ونجت السفينة. وسمعتُ مرة امرأة تستصرخ المتبولي وتستغيث به بِوَجْدٍ وجُؤَارٍ تستعديه على رجل آذاها (تحيله عليه) لينتقم منه. فقلت لها: لماذا لم تطلبي من الرب تعالى أن يجازيه؟ فقالت ما معناه: إن الله يمهل والمتبولي لا يمهل، واستدلت على ذلك بأن رجلاً سرق فسيخة فأحال عليه صاحبها المتبولي فما عتم أن قيأه إياها. وأمثال هذه الحكايات عنهم كثيرة جدًّا لعله لا يوجد أحد لم يسمع منها ما لم يسمعه غيره، دع ما يتداوله الكثيرون في كل بلد وكل جيل مما يعدونه متواترًا، وما المتواتر إلا نقل الكثيرين عن (المفتري) الأول الذي اختلق الحكاية أو تخيلها أو توهمها فقصها وتناقلها عنه أمثاله. وليست هذه الحكايات كلها من مفتريات العوام الأميين ومن هم على مقربة منهم في قبول الأوهام والخرافات، بل تجد كتب المتصوفة محشوة بها؛ لأنها أدخلت في عقائد الملة من أبواب ما يسمونه كرامات الأولياء، وهي تكثر في المسلمين على نسبة إعراضهم عن الدين علماً وعملاً، فالمنقول عن الصحابة رضي الله عنهم، وهم خير هذه الأمة بإجماع أهلها تبعًا للنص على ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم قليل جدًّا وأقله ما روي بإسناد آحادي قوي، وليس فيه شيء قطعي، وما روي عن التابعين أكثر، ولكنه لا يعد شيئًا يذكر في عدده، ولا في نوعه بالنسبة إلى ما اختلق في القرون الوسطى وتسلسل إلى هذا العصر. ففي بعض كتب الرفاعية أن الشيخ أحمد الرفاعي كان يُفقِر ويُغْنِي، ويُسعد ويُشقي، ويُميت ويُحيي - أي وإن حصر القرآنُ مثلَ هذا في عمل الخالق بقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} (النجم: 48) {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} (النجم: 44) وأنه وصل إلى درجة صارت السموات السبع في رجله كالخلخال، وأن الله تعالى وعده بأن من مسه لا تحرقه النار في الدنيا ولا في الآخرة، وأن هذا له ولمريديه وأتباعه إلى يوم القيامة، وذكروا أن سبب إخباره إياهم بهذه (الكرامة) أنه كان قد لمس سمكة حية فوضعوها بعد لمسه إياها على النار لشيها فلم تؤثر فيها النار، فسألوه عن سبب ذلك فذكره. وفي بعض كتب مناقب الشيخ عبد القادر الجيلي - رحمه الله تعالى - أن مريدًا له مات فطلبت أمه منه إحياءه فطلب روحه من ملك الموت، فأجابه بأنه لا يعطيه إلا بإذن من الله تعالى، وكان ملك الموت جمع الأرواح التي قبضها يومئذ في زنبيل وطار بها إلى السماء ليستأذن الرب ماذا يفعل بها فطار الشيخ عبد القادر في إثره وجذب الزنبيل منه وأخذ روح مريده فتناثرت منه جميع الأرواح فذهب كل روح إلى جسده فحيي جميع من مات في ذلك اليوم كرامة للشيخ عبد القادر. ولا أذكر هنا ما قاله مفتري الحكاية في شكوى ملك الموت لربه تعالى من اعتداء الشيخ عليه (في حال التلبس بأداء وظيفته) !! كما يقال في اصطلاح أهل هذا العصر - وما افتروا على الله تعالى في جوابه - لا أذكره أدبًا مع الرب عز وجل وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وقد شاع بين الناس أن الأقطاب الأربعة المتصرفين أو (المدّركين بالكون) كما يقولون هم السادة الجيلاني والرفاعي والبدوي والدسوقي، فلا يجري في العالم العلوي ولا السفلي شيء إلا بتصرفهم، وعلى هذا يكون سائر المتصرفين في الكون عمالاً أو جندًا لهم. ماذا كان من تأثير فشو هذا الاعتقاد في المسلمين؟ أن ألوف الألوف منهم باتوا لا يعنون أقل عناية بشئون أمتهم العامة، ولا بشئون أنفسهم الصحية ولا الدينية ولا الاجتماعية إلا ما تقتضيه الضرورة والعادة من القيام بضروريات المعاش والقناعة منه بأخسه؛ لأن كل ما عدا ذلك موكول إلى أولئك الميتين!! فإذا وقع أحدهم في شدة أو مرض أو حاجة استغاث بأحد المدركين بالكون أو أحد أعوانهم وجندهم من المشايخ الميتين لينقذه من شدته أو يشفيه هو أو ولده من مرضه أو ينتقم له من عدوه أو… أو … وإذا عظم الخطب يتقرب إليه بعجل أو خروف ينذره له، وإذا أبطأت الإغاثة يشد رحله إلى قبره ويستنجده بالقرب منه مع اعتقاده أن القرب عنده كالبعد في إحاطة علمه بالغيوب كإحاطة قدرته بالعالم، ولذلك يقولون للولي عند قبره: (يا سيدي: العارف لا يُعَرَّف) وقد صح عندنا أن بعض أصحاب العمائم الكبرى يقولون ذلك، ومن المروي في الكتب عن الجيلي أنه متصرف في اثني عشر عالمًا أحاطيًّا، السموات والأرض واحد منها. وناهيكم بشد الرحال إلى احتفالات الموالد التي تتخذ أعيادًا ومواسم دينية لهم، واجتماع مئات الألوف من الرجال والنساء والأطفال في كل مولد يقام لهؤلاء المتصرفين في الكون الذين يقضون مصالح الناس في الدنيا وينجونهم من عذاب الله في الآخرة مهما تكن جرائمهم وفواحشهم، ومن المشهور الذي يكاد يبلغ درجة التواتر أن المُعْسِرين منهم يقترضون الأموال بالربا الفاحش لأجل إنفاقها في المولد، على أن الكثيرين من هؤلاء الذين يَسْخُونَ بالألوف في هذه السبيل - وإن رهنوا في ضمان قروضها أطيانهم - أشحة بخلاء ربما يقتل أحدهم أخاه أو أباه لأجل جاموسة أو مال قليل. هذا تذكير وجيز بمعنى التصرف في الكون وما له من سوء التأثير في إفساد الدين والدنيا. وتجد رجال الشرع يشاركون رجال الطرق المنسوبة إلى الصوفية في إقامة هذه الموالد وحضور دعواتها، وأكل نذورها، حتى ما كان مسيبًا للسيد البدوي من العجول والخرفان، كالسوائب التي كانت تسيب للأصنام، ولا يرون في هذا حرجًا ولا إفسادًا؛ لأنه داخل عندهم في باب كرامات الأولياء الواسع الذي لا حدَّ له، وقد قال صاحب الجوهرة تبعًا لغيره من مؤلفي العقائد رضي الله عنهم وأرضاهم: وأثبتن للأوليا الكرامه ... ومن نفاها فانبذن كلامه كما أن منكرات القبور التي تعد بالعشرات والمئات في بنائها ووضع السُّرُج عليها واتخاذها مساجد وتشييدها وما فيها من مفاسد اجتماع النساء والرجال والأطفال - كل ذلك يُقَرَّر ولا يُنْهَى عن شيء منه؛ لأنه يدخل في باب ما ورد من استحباب زيارة القبور للرجال؛ لأجل تذكر الموت والآخرة، فالأمر المستحب يرتكب لأجله ما لا يعد من كبائر المعاصي التي لعن الشارع مرتكبيها كمتخذي القبور مساجد وواضعي السرج عليها وزيارة النساء لها وغير ذلك مما وردت فيه الأحاديث الصحيحة. إعطاء الله حق التصرف في ملكه للبدوي: بعد هذا أقول كلمتي في موضوع السؤال وأُقَفِّي عليها بكلمة في الكرامات موضوع السؤال: زعم ذلك الخطيب أن الله تعالى قد أعطى السيد أحمد البدوي الميت صاحب القبر المشهور في طنطا حق التصرف في ملكه العزيز. ليست هذه المسألة مسألة جواز الكرامات ووقوعها وما فيها من خلاف لا يُعَدُّ من أصول الدين وعقائده ولا من فروعه، بل هي مسألة تتعلق بأصول عقائد الدين؛ لأنها إسناد شيء إلى الله تعالى لا يمكن العلم به إلا منه عز وجل، وقد انقطع الوحي عنه تعالى بموت خاتم النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، ولا طريق للعلم الصحيح عنه تعالى غير الوحي، وقد قال تعالى في بيان أصول كبائر الكفر والفسق: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) . بيَّنَ بعضُ المحققين أن هذه المحرمات في دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله قد ذكرت على طريقة الترقي في الحظر من المعاصي القاصرة إلى المتعدية كالبغي على الناس، ومن الكفر القاصر على صاحبه كالشرك إلى المتعدي الضرر كالقول على الله بغير علم، فإنه أصل جميع الفساد في الدين وجميع البدع. والقول على الله بغير علم قسمان: أحدهما خاص بالعقائد كالكلام في ذاته وصفاته وأفعاله ومنه نازلة الفتوى، ومثلها القول باتخاذ الولد قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (يونس: 68) نفى أن يكون عندهم سلطان- أي برهان قطعي- على هذا القول ووبَّخهم أن قالوا على الله ما لا يعلمون بعد أن بيَّنَ البرهان على بطلان قولهم بأنه هو الغني الكامل غناه المطلق، وبأن ما في السموات والأرض أي العالم كله ملك له، وهذا عين البرهان على بطلان اتخاذ الناس يتصرفون في ملكه، ومن أصول المناظرة أن البينة على المُدَّعِي ويكفي المنكر المنع، ولكن القرآن هداية لا جدل، ولذلك بيَّن بطلان الدعوى في نفسها بالدليل، وبيَّن أنه لا دليل عليها، وأن مثلها لا يصح أن يقال بالظن والوهم، وإنما يُطْلَبُ فيه العلم القطعي، كما قال تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (النجم: 28) . ومن هذا الباب قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) فقولهم: (إنهم شفعاؤهم عند الله) من القول على الله بغير علم، فإن العلم بالشفيع المعين للمشفوع له المعين خاص به تعالى؛ إذ لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، وهو لا يأذن بأصل الشفاعة إلا لمن ارتضاه شفيعًا، ثم ل

أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم ـ 3

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ أهل الصُّفَة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم لشيخ الإسلام أحمد تقي الدين ابن تيمية قدس سره تابع لما قبله (فصل) وأما الحديث المروي: (ما من جماعة يجتمعون إلا وفيهم ولي لله) [1] فمن الأكاذيب، ليس في دواوين الإسلام، وكيف والجماعة قد تكون كفارًا وفساقًا يموتون على ذلك. (فصل) وأولياء الله تعالى هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما ذكر الله ذلك في كتابه، وهم قسمان: المقتصدون أصحاب اليمين والمقربون السابقون، فولي الله ضد عدو الله، قال الله تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) وقال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (المائدة: 55-56) وقال: {لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الممتحنة: 1) وقال: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} (فصلت: 19) وقال: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (الكهف: 50) . وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يسعى) . والولي: من الوَلْيِ [2] وهو القرب، كما أن العدو من العَدْو وهو البُعْد، فولي الله مَن والاه بالموافقة له في محبوباته ومرضياته، وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصنفين: المقتصدون [3] أصحاب اليمين، وهم المتقربون إلى الله تعالى بالواجبات، والسابقون المقربون وهم المتقربون بالنوافل بعد الواجبات. وذكرهم الله في سورة فاطر والواقعة والإنسان والمطففين وأخبر أن الشراب الذي يُرْوَى به المقربون بشربهم إياه يُمْزَج لأصحاب اليمين. والولي المطلق هو مَن مات على ذلك، فأما إن قام به الإيمان والتقوى وكان في علم الله تعالى أنه يرتد عن ذلك فهل يكون في حال إيمانه وتقواه وليًّا لله أو يقال لم يكن وليًّا لله قط لعلم الله بعاقبة هدايته؟ قولان للعلماء. وكذلك عندهم الإيمان الذي يعقبه الكفر هل هو إيمان صحيح ثم يبطل بمنزلة ما يحبط من الأعمال بعد كماله؟ أو هو إيمان باطل بمنزلة من أفطر قبل غروب الشمس في صيامه، ومن أحدث قبل السلام في صلاته أيضًا؟ فيه قولان للفقهاء المتكلمين والصوفية، والنزاع في ذلك بين أهل السنة والحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم. وكذلك يوجد النزاع فيه بين أصحاب مالك والشافعي وغيرهم. ولكن أكثر أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون سلامة العاقبة، وكثير من أصحاب مالك والشافعي شرط سلامة العاقبة، وهو قول كثير من متكلمي أهل الحديث كالأشعري ومن متكلمي الشيعة ويبنون على هذا النزاع هل ولي الله يصير عدو الله؟ وبالعكس، ومن أحبه الله ورضي عنه هل أبغضه الله وسخط عليه في وقت ما؟ وبالعكس، ومن أبغضه الله وسخط عليه هل أحبه الله ورضي عنه في وقت ما؟ على القولين. والتحقيق - وهو الجمع بين القولين - فإن علم الله القديم الأزلي وما يتبعه من محبته ورضاه وبغضه وسخطه وولايته وعداوته لا يتغير، فمن علم الله منه أنه يوافي حين موته بالإيمان والتقوى فقد تعلقت به محبة الله وولايته ورضاه عنه أزلاً وأبدًا. وكذلك من علم الله منه أنه يوافي حين موته بالكفر فقد تعلق به بغض الله وعداوته وسخطه أزلاً وأبدًا لكن مع ذلك فإن الله يبغض ما قام بالأول من كفر وفسوق قبل موته، وقد يقال: إنه يبغضه ويمقته على ذلك كما ينهاه عن ذلك، وهو سبحانه وتعالى يأمر بما فعله الثاني من الإيمان والتقوى ويحب ما يأمر به ويرضاه. وقد قال: إنه يوليه حينئذٍ على ذلك. والدليل على ذلك اتفاق الأمة على أن مَن كان مؤمنًا ثم ارتد فإنه لا يُحْكَم بأن إيمانه الأول كان فاسدًا بمنزلة من أفسد الصلاة والصيام والحج قبل الإكمال، وإنما يقال كما قال الله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: 5) وقال: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) وقال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) ولو كان فاسدًا في نفسه لوجب أن يُحْكَم بفساد أنكحته المتقدمة وتحريم ذبائحه وبطلان عباداته جميعها حتى لو كان حج عن غيره كان حجه باطلاً، ولو صلى مدة بقوم ثم ارتد كان لهم أن يعيدوا صلاتهم خلفه، ولو شهد أو حكم ثم ارتد أن تفسد شهادته وحكمه ونحو ذلك. وكذلك أيضًا الكافر إذا تاب من كفره فلو كان محبوبًا لله وليًّا له في حال كفره لوجب أن يقضى بعدم أحكام ذلك الكفر، وهذه كلها خلاف ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع. والكلام في هذه المسألة نظير الكلام في الآجال والأرزاق ونحو ذلك، وهي أيضًا على قاعدة الصفات الفعلية وهي قاعدة كبيرة، وعلى هذا يخرج جواب السائل. فمن قال: إن ولي الله لا يكون إلا من وافاه حين الموت بالإيمان والتقوى فالعلم بذلك أصعب عليه وعلى غيره. ومن قال: قد يكون ولي الله من كان مؤمنًا تقيًّا وأن يعلم عاقبته، فالعلم بذلك أسهل، ومع هذا يمكن العلم بذلك للولي نفسه ولغيره، ولكنه قليل ولا يجوز التهجم بالقطع علي ذلك. فمن ثبتت ولايته لله بالنص وأنه من أهل الجنة كالعشرة وغيرهم فعامة أهل السنة يشهدون له بما شهد له به النص. وأما من شاع له لسان صدق من الأمة بحيث اتفقت الأمة على الثناء عليه فهل يشهد له بذلك؟ هذا فيه نزاع بين أهل السنة والأشبه أن يشهد له بذلك، هذا في الأمر العام. وأما خواص الناس فقد يعلمون عواقب أقوام بما يكشفه الله لهم. لكن ليس هذا مما يجب التصديق العام به، فإن كثيرًا مما يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانًّا في ذلك ظنًّا لا يغني من الحق شيئًا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد؛ ولهذا وجب عليهم جميعهم أن يعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهداتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ولا يكتفوا بمجرد ذلك، فإن سيد المحدثين المخاطبين الملهمين من هذه الأمة هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان تقع له وقائع يردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصديقه التابع له الآخذ عنه الذي هو أكمل من المُحَدَّث الذي يحدث نفسه عن ربه؛ ولهذا أوجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع أمورهم الباطنة والظاهرة، ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيًا عن الرسول في بعض دينه، وهذا من أقوال المارقين الذين يظنون أن من الناس من يكون مع الرسول كالخضر مع موسى، ومن قال هذا فهو كافر. وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (الحج: 52) فقد ضمن الله للرسول وللنبي أن ينسخ ما يلقي الشيطان في أمنيته، ولم يضمن ذلك للمحدث، ولهذا كان في الحرف الآخر الذي كان يقرأ به ابن عباس وغيره: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) . ويحتمل -والله أعلم- أن يكون هذا الحرف متلوًّا حيث لم يضمن نسخ ما ألقى الشيطان، فأما نسخ ما ألقى الشيطان فليس إلا للأنبياء والمرسلين؛ إذ هم معصومون فيما يبلغون عن الله تعالى أن يستقر فيه شيء من إلقاء الشيطان، وغيرهم لا يجب عصمته من ذلك، وإن كان من أولياء الله المتقين، فليس من شرط أولياء الله المتقين أن لا يكونوا مخطئين في بعض الأشياء خطأً مغفورًا لهم، بل ولا من شرطهم ترك الصغائر مطلقًا، بل ولا من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الزمر: 33-35) فقد وصفهم الله تعالى بأنهم هم المتقون؛ والمتقون هم أولياء الله، ومع هذا بإجزائه، ويكفر عنهم أسوأ الذي عملوا [4] ، وهذا أمر متفق عليه بين أهل العلم والإيمان، وإنما يخالف في ذلك الغالية من الرافضة وأشباه الرافضة من الغالية في بعض المشايخ، ومن يعتقدون أنه من الأولياء، فالرافضة تزعم أن الاثني عشر معصومون من الخطأ والذنب، ويرون هذا من أصول دينهم، والغالية في المشايخ قد يقولون: إن الولي محفوظ والنبي معصوم، وكثير منهم لم يقل ذلك بلسانه، فحاله حال من يرى أن الشيخ أو الولي لا يخطئ ولا يذنب، وقد يبلغ الغلو بالطائفتين إلى أن يجعلوا بعض من غلوا فيه بمنزلة النبي أو أفضل منه، وإن زادوا الأمر جعلوا له نوعًا من الإلهية، وكل هذا من الضلالات الجاهلية المضاهئة للضلالات النصرانية، فإن في النصارى من الغلو في المسيح والرهبان والأحبار ما ذمهم الله عليه في القرآن وجعل ذلك عبرة لنا لئلا نسلك سبيلهم؛ ولهذا قال سيد ولد آدم: (لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله) . (فصل) وأما الفقراء الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه فهم صنفان: مستحقو الصدقات، ومستحقو الفيء، أما المستحقون للصدقات فقد ذكرهم الله في قوله: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 271) وفي قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... } (التوبة: 60) وإذ ذكر في القرآن اسم المسكين وحده أو الفقير وحده كقوله {ِإطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} (المائدة: 89) فهما شيء واحد، وإذا ذكرا جميعها فهما صنفان. والمقصود بهما أهل الحاجة، وهم الذين لا يجدون كفايتهم لا من مسألة ولا من كسب يقدرون عليه، فمن كان كذلك من المسلمين استحق الأخذ من صدقات المسلمين المفروضة والموقوفة والمنذورة والمُوصَى بها، وبين الفقهاء نزاع في بعض فروع هذه المسائل معروفة عند أهل العلم. وضد هؤلاء: الأغنياء الذين تحرم عليهم الصدقة؛ ثم هم نوعان، نوع تجب عليه الزكاة، وإن كانت الزكاة تجب على من قد تباح له عند جمهور العلماء، ونوع لا تجب عليه، وكل منهما قد يكون له فضل عن نفقاته الواجبة، وهم الذين قال الله فيهم: {وَيَسْأَل

الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزية العالم العلامة الأستاذ أبو الكلام ـ 3

الكاتب: أبو الكلام

_ الخطاب الذي خاطب به المحكمة الإنجليزية العالم العلامةالأستاذ أبو الكلام (3) وظيفة المسلمين إذا ظُلموا: إن الشريعة الإسلامية رسمت للمسلمين خطتين إذا ظُلموا: خطة ضد استبداد الحكومة الإسلامية، وخطة ضد استبداد الحكومة الأجنبية - والأولى تنحصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإعلان الحق وتقبيح الظلم من استطاع إليه سبيلاً - أما الثانية فليست إلا السيف والحرب العوان وضرب الرقاب. وفي كلتيهما أُمر المسلمون بأن يضحوا نفوسهم ويرحبوا بالموت صابرين ثابتين شاكرين، راجين رحمة ربهم وفلاح الدنيا والآخرة. ولذا تجدهم كما تجرعوا كؤوس المنايا بين الولاة الظلمة من أنفسهم في سبيل الحق، كذلك باعوا رءوسهم بيد الأجانب في إعلاء كلمة الحق، وقد سبقوا سائر الأمم في هذا المضمار، فلا يوجد (لسعيهم الحربي) مثال، ولا يوجد (لسعيهم المدني) مثال. ولقد كان يجب على مسلمي الهند الآن أن يتخذوا الخطة الثانية فيحاربوا الحكومة الإنجليزية بالسلاح ويتفانوا في جهادها، غير أنهم آثروا الأولى، وأعلنوا أنهم لا يرفعون عليها السلاح، ولا يسفكون الدماء، بل يظلون متمسكين بعُرَى الأمن والسلم، وإنما يقاطعونها، وينفضون أيديهم من التعاون معها ويشهرون سوءاتها، ويطلبون تغييرها (بالسعي المدني) أي يعاملونها كما كانوا يعاملون الحكومات الإسلامية الجائرة. أجل إن فيهم ضعفًا ووهنًا، ولا يستطيعون محاربة الدولة البريطانية القوية، إلا أنهم لم يكونوا عاجزين عن إلقاء أنفسهم في أفواه مدافعها وسد طريقها بجثثهم الممزقة، ولكنهم مع قدرتهم عليه اختاروا الخطة الأولى، ولم يضيقوا عليها السبل، فهلا كان يجب عليها أن تفكر في صنيعهم وتسامُحِهم معها؟ فحسبها أنهم يعاملونها كمعاملتهم لحكوماتهم الإسلامية! انقلاب الحال: وإني أقول حقًّا: إنه لا يؤلمني أن أرى الحكومة عازمة على معاقبتي، وأنها لا تحاكمني إلا لأن تزجني في السجون؛ إذ هذا أمر لا بد منه، وإنما الذي يؤلمني فيفتت كبدي هو أن أرى الحالة تنقلب انقلابًا تامًّا، فبدلاً من أن ينتظر من المسلم صدق اللهجة والقول الحق، يطلب منه السكوت عنه وكتمان الشهادة، وأن لا يقول للظالم: (إنك ظالم) لأن قانون 124 يعاقب عليه. ولقد كان المسلم في العهد الأول يوقف بين يدي ملك جبار لقوله له: (إنك ظالم) فيصب عليه العذاب إلى أن تتشقق له القصب، ثم يمدون قصبة قصبة حتى يذهب لحمه كله، فلا يسمعونه يستغيث أو يندم أو يتألم، بل لا ينفك لسانه يقول ما قاله أولاً [1] فوازنوا بين هذا وبين قانونكم (124) . ولست أنكر أن الحقيقة المحزنة هي أن المسلمين أنفسهم مسئولون عن هذا الانقلاب المُخْزِي وتسلُّط الأجانب عليهم حتى أصبحوا بحالتهم الحاضرة أكبر فتنة للإسلام - أقول هذا وقلبي يذوب حزنًا وكمدًا على وجود أناس من المسلمين في هذه البلاد يتخذون أربابًا من دون الله ويعبدون الظلم والظلمة جهرًا وعلنًا، فإلى الله المشتكى ثم إلى الله المشتكى. الحرية أو الموت: ولكن سوء حال المسلمين لا يسوِّد ناصية تعاليم الإسلام الحق البيضاء المصونة بين دفتي الكتاب الحكيم. وهي لا تبيح للمسلمين في حال من الأحوال أن يعيشوا عبيدًا وخولاً للأجانب والمستبدين بل توجب عليهم أن يحيوا أحرارًا، أو يموتوا كِرَامًا، وليس بينهما سبيل. وهذا الذي حملني قبل اليوم باثنتي عشرة سنة على أن أُذَكِّر المسلمين في الهلال [2] بأن الجهاد في سبيل الحرية، وبيع الرءوس لإعلاء كلمة الحق هو إرثهم الإسلامي القديم الذي ورثوه عن أجدادهم العظام، وأنه يجب أن يحافظوا عليها بكل قوة، وأن دينهم يحتم عليهم أن يسبقوا جميع أبناء وطنهم في الجهاد الوطني، فلا يكونوا فيه أذنابًا؛ بل رءوسًا وأعلامًا يُهْتَدَى بهم. ولقد كان من فضل الله أن دعوتي لم تذهب أدراج الرياح، بل لقيت القبول والإجابة منهم، وها نحن أولاء نراهم اليوم قد شمروا عن ساعديهم وعزموا عزمًا شديدًا على السعي والعمل مع إخوانهم الوطنيين من الهندوس والنصارى والمجوس لتحرير وطنهم من ربقة العبودية الأجنبية، ولا يقر لهم قرار إلا بعد نيل المرام. مسألة الخلافة: وإني لا أذكر ههنا مظالم الحكومة حيال الخلافة الإسلامية؛ لأنها أشهر من أن تُذْكَر، ولكن الذي أريد التصريح به هو أنه لم يمض عليَّ يوم ولا ليلة في خلال السنتين الماضيتين إلا وأعلنت تلكم المظالم على رءوس الأشهاد، وصرخت بأعلى صوتي قائلاً: (إن الدولة التي تدوس الخلافة الإسلامية تحت أقدامها ولا تندم على ما اقترفته في الهند من الفظائع والمنكرات لا تستحق أن يخلص لها أحد من أبناء هذه البلاد؛ لأنها بأعمالها قد أصبحت عدوًّا ألد للإسلام والمسلمين ولسكان هذا القطر!) . ولا تلومن الحكومة أحدًا غير نفسها على سقوطها في هذا المأزق الذي يصعب عليها الخروج منه؛ لأنني قد نبهتها سنة 1918 من معتقلي في كتاب مِنِّي إلى (اللورد جيمس فورد) الوالي السابق فصَّلْتُ لها فيه الأحكام الإسلامية التي تتعلق بالخلافة وجزيرة العرب، وصارحتها بأن الدولة البريطانية إذا نقضت عهودها، واستولت على الخلافة والبلاد الإسلامية تُوقِع المسلمين في حالة حرجة جدًّا ولا يبقى لهم إذ ذاك إلا أن يكونوا مع الإسلام أو مع البريطانية، ومعلوم أنهم يؤثرون الإسلام عليها. ولكنها لكبرها وعجرفتها لم تُبَالِ بما كتبتُ، فألقت كتابي ظِهْرِيًّا، ونكثت أيمانها من بعد توكيدها، فاحتلت دار الخلافة الإسلامية واستولت على العراق والشام وفلسطين، وبسطت نفوذها على جزيرة العرب، فعادت الإسلام والمسلمين علنًا، واضطرتهم إلى مقاطعتها ونبذ معونتها والتبري من طاعتها (وهو أقل ما توحيه الشريعة في مثل هذه الحالة كما مر) ثم إنها بإصرارها على غيها وإعراضها عنهم واستنكافها من الإنصات إليهم أَيْأَسَتْهُمْ من نفسها، حتى أيقنوا أن لا سبيل إلى الحياة ونيل حقوقهم المغصوبة إلا بإسقاط هذه الحكومة وإقامة حكومة وطنية بحتة، وهي التي يسمونها في لغتهم (بالسوارج) . أعدل هذا أم ظلم؟ والحاصل أن اعترافاتي في هذا الباب جلية وصريحة، فإني لا أعد الحكومة الحاضرة إلا (بيوو كريسيا) غير شرعي وعدمًا محضًا في عين الحق والقانون ولرضا مئات (؟) الملايين من أبناء البلاد، فهم يمقتونها أشد المقت، ويطلبون زوالها وسقوطها بأسرع ما يمكن؛ لأنهم ألفوها دائمًا تؤثر الرهبة والشدة في أعمالها على العدل والحق، وتبيح سفك الدماء البريئة بدون رحمة ولا شفقة في (جليانوا لاباغ) [3] وتجلد الصبيان الذين ما عرفوا الذنوب بعدُ لأن ينحنوا أمام العلم البريطاني المثلث. ثم إنهم وجدوها لا ترتدع عن دوس الخلافة الإسلامية، ولا تسمع الصيحات المتوالية التي تعلو من أفواه المسلمين وغيرهم، وتسلم أزمير وتراقية إلى اليونان ظلمًا وجورًا، وتسمح لهم بإراقة دماء المسلمين أنهارًا في سهول الأناضول. ولقد رأوا جرأتها في سحق الحق غير قليلة، وهمتها في لبس الصدق بالإفك غير كليلة، ولسانها في تكذيب الحقائق غير عيي ولا متلعثم، فمع أنه يوجد في ولاية أزمير 70 في المائة من المسلمين، يعلن رئيس وزرائها بدون أدنى لَكْنَة أن الأكثرية للنصارى. ولقد وضع اليونانيون السيف في رقاب المسلمين وذبحوهم ذبح الأنعام، هو يقلب الحقيقة فيتهم العثمانيين بالقتل وسفك الدماء، ويشهر المظالم التركية المخترعة في العالم بلا مبالاة، ويخفى بكل وقاحة تقرير لجنة التفتيش الأمريكية التي ندبتها حكومته بنفسها، ويؤلب على الأحرار العثمانيين الدول الغربية كلها، ويدعوها إلى محاربتهم واستئصالهم. ثم إنهم وجدوها لا تخجل ولا تندم على هذه الفضائح والمنكرات، ولا ترغب في تلافيها وإصلاح عوجها، بل تعود، فتستبد أكثر من قبل، وتقهر البلاد وتكبح سعيها الشرعي السلمي، وتعمل كل ما عملته في السنة الماضية، وما تعمله منذ 18 نوفمبر إلى الآن، من الأعمال الشنيعة التي تشمئز منها الإنسانية وتعافها. فيا ليت شِعْرِي إن لم أقل لمثل هذه الحكومة (إنك ظالمة، فإما أن تتوبي وإما أن تزولي) فماذا أقول؟ أفأكذب وأقول لها: لا بل إنك عادلة فلا تتوبي ولا تزولي؟ لعمر الله إن هذا لا يكون أبدًا! . وهل يستحق الظلم أن يبدل اسمه ويسمى بغير اسمه؛ لأنه يملك القوة والسجون والمشانق؟ كلا بل أقول كما قال صالح إيطالية وبطل الحرية (ميزني) : إننا لا نسكت عن سيئاتكم؛ لأنكم تملكون قوة عما قليل تزول! قرة عيني في (هذه الجناية) : إني لأعجب كيف تقدم الحكومة هاتين الخطبتين الناقصتين ضدي؟ أفما كانت تجد غيرهما؟ ألا توجد هذه الأقوال بعينها وأكثر منها في الألوف المؤلفة من الصحائف التي حبَّرتُها، وفي جميع خطبي التي خطبتها في سائر أنحاء الهند؟ فلو أنها رجعت إليها لوجدتها ممتلئة من هذه الأفكار الثوروية. الحكومة تعلم أني لست حديث عهد (بمبادئ الثورة) كما سمتها فلقد مارستها وأنا صغير، وباشرت الخطابة والكتابة فيها وأنا ابن ثماني عشرة سنة، وأفنيت شبابي في عشقها والهيمان بها، ودعوت أمتي إليها جهرًا على مسمع من الحكومة وحرضتها على المطالبة بحقوقها منها؛ ولذا اعتقلتني أربع سنوات، ولكن الاعتقال لم يكن ليمنعني من أداء واجباتي فظللت تحت المراقبة الشديدة أرفع صوتي بها وأدعو الناس إليها، لا سرًّا بل علنًا في رابعة النهار! وكيف لا، وفيها قرة عيني، وهي مقصدي من الحياة، إن أعش: أعش لأجلها، وإن أمت: أمت عليها {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الأنعام: 162) . الحركة الإسلامية الأخيرة: كيف أستطيع التبري من هذه (الجناية) وأنا الذي قمت بهذه (الحركة الإسلامية) التي أحدثت انقلابًا عظيمًا في أفكار المسلمين السياسية، وأوصلتهم إلى حيث نراهم الآن، فإنهم بقبولهم أفكاري أصبحوا شركائي في الجريمة واستحقوا العقاب الذي تشرفني به الحكومة. ولقد أصدرت سنة 1912 صحيفة باسم (الهلال) بَثَثْتُ فيها جراثيم هذا الذنب في المسلمين، فَعَلِقَتْ بقلوبهم وسَمَّمتْ أفكارهم، فبعد أن كانوا أعداء لإخوانهم الهندوس وعقبة كئودًا في جهادهم الوطني، وآلة صماء بيد الحكومة، يعتقدون أن البلاد إذا استقلت تغلب عليهم الهندوس وأسسوا دولتهم؛ لأنهم أكثر عددًا منهم - أصبحوا بدعوة (الهلال) يرجحون قوة الإيمان والحق على قوة العُدد والعَدَد، وَدَعَتْهُمْ إلى مساهمة الهندوس في الجهاد الوطني، فأصبحوا متحدين معهم وقاموا جميعًا بالحركة الحاضرة. وغني عن البيان أن الحكومة لم تكن لتتحمل الحركة التي أحدثتها (الهلال) فعمدت إلى منعها وإقفال مطبعتها؛ ثم لما أنشأتُ جريدة أخرى باسم (البلاغ) اعتقلتني. وإني أصرح هنا بأن (الهلال) لم تكن إلا دعوة للحرية أو الموت، وإن ما يعمله الآن (مهاتما غاندهي) من بث الروح الدينية في الهندوس، كانت (الهلال) قد فرغت منه سنة 1914 وإن من المصادفات العجيبة أن المسلمين والهندوس ما قاموا بالحركة الجديدة إلا بعد أن حلت فيهم الروحانية الدينية محل المدنية الغربية المادية. مؤتمر الخلافة بكلكتا: ثم إني منذ خرجت من الاعتقال الطويل ما برحت أنشر هذه المبادئ بين الناس وأدعوهم إليها: ففي مؤتمر الخلافة الذي انعقد في 28 و 29 فبراير بكلكتا نفسها، والذي رَأَسْتُ جلساته، حَمَلْتُ المسلمين على أن يع

المعاهدة البريطانية الحجازية وخدعة الوحدة العربية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المعاهدة البريطانية الحجازية وخدعة الوحدة العربية (2) (تعليق وجيز على خلاصة المعاهدة) لم يظهر لنا أدنى وجه لجعل المسيطر على الحجاز هذه المعاهدة عيدًا للأمة العربية، فما أبعد الفرق بين معاهدة لوزان التي جعلت الحكومة التركية عيد النحر - وهو يوم إعلانها - عيدًا وطنيًّا للترك، وبين هذه المعاهدة التي جعل الملك حسين يوم إعلانها بمكة عيدًا وطنيًّا للعرب؟ معاهدة لوزان قررت استقلال الترك استقلالاً مطلقًا من كل قيد سياسي واقتصادي واجتماعي، والمعاهدة البريطانية الحجازية قررت استعباد بلاد العراق وفلسطين وشرق الأردن بالوصاية البريطانية، وبلاد الحجاز بالحماية الإنجليزية، فتلك جديرة بأن تجعل ذكراها عيدًا وموسمًا، وهذه جديرة إن أمضيت بأن تجعل ذكرى خزيها مناحة ومأتمًا. بينت الجرائد المصرية ما في هذه المعاهدة من قيود استعباد العرب والحجاز. وبيَّن المؤتمر العربي الفلسطيني ما فيها من استعباد فلسطين والاعتراف بالحال الحاضرة فيها وما هي إلا الاستعمار الإنجليزي بالانتداب المتضمن للوطن القومي لليهود. وبينت اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني هذا أيضًا وزادت عليه ما فيها من إقرار الانتداب في سورية الشمالية أيضًا. وإننا نسجل في المنار أهم ما ظهر لنا من غوائل هذه المعاهدة المشئومة بما لا نعلم أن أحدًا سبقنا إلى مثله، ونسأل الله أن يقضي عليها بالفشل، وحسبنا من أعياد ملك الحجاز (عيد النهضة) التي هي علة كل هذا الشقاء. (المادة الأولى) تنص على منع استعمال بلاد كل من الحكومتين المتعاهدتين قاعدة لأعمال موجهة ضد الحكومة الأخرى. ليس في هذا النص أدنى فائدة للعرب! بل فيه من الضرر أنه يحظر عليهم وعلى جميع مسلمي الأرض أن يتواطئوا في الحجاز أو يتشاوروا في أي أمر ينكرونه على الإنجليز من ظلم شعبهم أو استعباد بعض بلادهم والاعتداء على حكوماتهم، وكل ذلك واقع. وسلب المسلمين لهذه الحرية في مهد دينهم ليس مما أعطاه الله لهذا الرجل الذي نصبه الإنجليز ملكًا على بلادهم المقدسة التي جعل كتاب الله لكل مسلم من الأمن والحرية فيه مثل ما لهذا الملك وأولاده ورجال حكومته سواء. وأما حكومته فلن تنال في مقابل ذلك شيئًا، فإن الإنجليز لن يمنعوا مسلمي الهند من الأعمال الموجهة إلى الإنكار على ملك الحجاز وحكومته وعليهم أيضًا في سياستهم الحجازية والعربية لا في الهند ولا في إنكلتره نفسها. وأما (المادة الثانية) فهي مشتملة على ست قضايا بعضها خداع وبعضها خزي ونكال. (1) تعهد عاهل بريطانية بأن يعترف باستقلال العرب في العراق وشرق الأردن والدول العربية في شبه جزيرة العرب ما عدا (عَدَنًا) . نريد قبل كل شيء أن نفهم معنى هذا الاستقلال، فإن عند الإنكليز ممالك وولايات تسمى مستقلة وهي ذات نظم مختلفة، فنرى هنا أن الإنجليز لا يزالون متمسكين بما يسمونه الانتداب - أي الوصاية - على العراق وفلسطين وشرق الأردن فكيف تكون مستقلة إذًا؟ وهنالك حكومات عربية كانوا جعلوها تحت حمايتهم كلحج وحضرموت ولا نرى دليلاً يدل على رفع هذه الحماية عنها، والحجاز قد قيدها (موبقها) بمقررات النهضة من قبل، وقيدتها هذه المعاهدة بما يأتي بعد، فما معنى استقلال هذه الممالك إذًا؟ وأما حكومات اليمن وتهامة ونجد فهي مستقلة، ولم ينكر الإنجليز عليها استقلالها وإنما كل همهم تقييدها بعهود واتفاقات وامتيازات خادعة، تمهد لهم السبيل للعبث باستقلالها عند سنوح الفرص المناسبة. فإذا لم يكن هذا الاستقلال لفظًا خادعًا فليصرحوا في المعاهدة بإلغاء الانتداب والحماية … كيف وهي لم تعقد إلا لتثبيت ذلك وتوكيده كما يعلم مما يأتي في القضية الخامسة، أفيصح أن تعد هذه نعمة على العرب يأمرهم من سمى نفسه ملكهم بأن يتخذوا ذكرى إعلانه عيدًا لهم؟ (2) تعهد العاهل البريطاني بتعضيد هذا الاستقلال. هذه قضية مبهمة تُخْشَى عواقبها ولا تُرْجَى أوائلها، فإنها باب مفتوح للتدخل في شئون البلاد الداخلية بحجة تعضيد الاستقلال كما تدخل الإنجليز والفرنسيس في شئون بلاد اليونان في أيام الحرب فعزلوا ملكها اتهامًا له بأنه يعبث باستقلالها، وقد كانوا صرحوا بأنهم ضامنون له! فهل تعد هذه سعادة للعرب يجعلون بها يوم إعلانها عيدًا؟ (3) التصريح بأنه لا حظَّ لعرب فلسطين أصحاب البلاد إلا ما ضمنته لهم به الحكومة البريطانية في صك الانتداب المرتبط بعهد بلفور لليهود وهو إنه لا يجري في البلاد شيء يُجْحِفُ بحقوقهم الدينية والمدنية، وهو حق سلبي محض معناه أن الحكومة البريطانية صاحبة السيادة على البلاد لا تمنعهم ولا تدع اليهود الذين تجعل هذه البلاد وطنًا قوميًّا لهم أن يمنعوهم من الصلاة والصيام، ولا البيع والشراء أو من التقاضي إلى المحاكم مثلاً، على أننا علمنا بالتجارب أن كل ضمان وعهد من قوي لضعيف لا ينفذ منه إلا ما فيه مصلحة القوي، وقد ضمن ملك الإنجليز لمصر أن يدافع عنها في الحرب الكبرى، ولا يكلفها شيئًا في مقابلة ذلك، فكان من أمر سلطة جيشه العسكرية أن جعلت جميع ما تملك الحكومة المصرية والشعب المصري رهن تصرف الجيش، ويُقدر ما استفاده الجيش من مصر بمئات الملايين من الجنيهات، دع تجنيده لزهاء مليون مصري استعان بهم على فتح فلسطين والعراق! فهل يصح - والحالة هذه - أن يتخذ يوم إعلان تسجيل هذه الرزية العظمى عيدًا للعرب؟ (4) إذا رغبت هذه الحكومات كلها أو بعضها في الاشتراك في الجمارك أو غير الجمارك بقصد التوسل به إلى عقد حلف بينها فيما بعد، وطلبت من العاهل البريطاني أن يروج رغبتهم فإنه يسعى لذلك. ونقول: إن كانت هذه الحكومات مستقلة استقلالاً صحيحًا، فأي حاجة إلى طلبها من ملك أجنبي أن يروج ما تريد تنفيذه في بلادها من تلقاء نفسها؟ وهل وعد هذا الملك لهم بالسعي لذلك يصح أن يعد نعمة له عليهم يتخذون يوم إعلانها عيدًا لهم؟ (5) يعترف (صاحب الجلالة الهاشمية بالمركز الخاص الذي للجلالة البريطانية في العراق وشرق الأردن) . ونقول: إن هذا المركز الخاص المذكور بصيغة المعرفة - أي بلام العهد - لا يمكن تفسيره لغة ولا عُرْفًا سواء كان العهد ذهنيًّا أو خارجيًّا إلا بالحال الحاضرة التي سموها الانتداب في هذه البلاد الذي اختاروا في تنفيذه أن تكون كل حكومة فيها على الوضع الذي هي عليه الآن، ومنه حكم فلسطين بما يستغيث أهلها منه من الإدارة اليهودية والسيادة البريطانية. ثم نقول على سبيل الإنذار والتحذير: إن استحلال ملك الحجاز لإقرار الإنجليز على هذا ورضاه به يعد ارتدادًا عن الإسلام بإجماع المسلمين، ولا يوجد عالم مسلم يمكن أن ينازعنا في هذا بعد العلم به، فهل يصح أن يستبدل بهذا جعْله نعمة يَمُنُّهَا ملك الإنجليز على (ملك العرب) يأمر هذا بجعل إعلانها عيدًا للأمة العربية؟ (6) يتعهد (صاحب الجلالة الهاشمية) بأن يبذل غاية جهده في التعاون مع جلالته البريطانية على القيام بتعهداته في المسائل التي تقع ضمن نفوذ جلالته الهاشمية بشأن هذه البلاد. ونقول: يالله العجب! كيف لم يكتف الإنجليز من هذا الرجل بمطالبته أن يبذل في سبيلهم دينه وشرفه بأن يعترف لهم بالاستيلاء على بلاد الإسلام المقدسة والتصرف في رقبتها كيفما أرادوا حتى حملوه على التعهد لهم ببذل منتهى جهده على القيام بتعهداتهم في المسائل التي تقع ضمن نفوذ جلالته، أي في الحجاز وغيره من البلاد العربية!! ثم يالله العجب كيف يفرح هو بهذا وذاك ويعلن في بيت الله أنه يجب على العرب اتخاذ يوم إعلانه عيدًا وطنيًّا؟ (المادتان3و4) يفرض فيهما على ملك الحجاز المحافظة على العلاقات الودية بينه وبين حاكمي عسير ونجد، وأن يسعى لتسوية المنازعات على الحدود بينه وبينهما بالمفاوضات الودية. ويتعهد ملك الإنجليز في الثالثة بالسعي لتسوية أمثال هذه المنازعات إذا رغب إليه في ذلك. ونقول: أما الأول فحسن في نفسه، ويغلب على ظننا أن الملك حسينًا لم يرض به، وأنه أهم ما أعاد الدكتور ناجي الأصيل إلى لندن لأجل تعديله، ودليلنا على هذا أنه في أثناء المفاوضة في عقد هذه المعاهدة قد اعتدى على نجد وعسير فأرسل جيشًا احتل (أبها) عاصمة العسير التي كان نزل عنها المرحوم السيد الإدريسي لصديقه سلطان نجد عند عقد المعاهدة بينهما، كما أنه اعتدى على بعض القبائل التابعة لنجد، ولكنه باء بالخيبة والخسران في كلتا الحملتين. (المادة الخامسة) فيها (يتعهد صاحب الجلالة البريطانية بأن يصد بجميع الوسائل السلمية والممكنة أي اعتداء يقع على بلاد جلالته الهاشمية ضمن الحدود التي تقرر نهائيًّا) . هذه هي الطامة الكبرى والصاخة العظمى التي صخت مسامع العالم الإسلامي فعلا صراخه في جميع الأقطار وهي إهانة حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم بجعلهما تحت حماية دولة لا تدين الله بدينهما؛ بل هي طامعة في محوه وتنصير أهله. وقد اتفقت الجرائد المصرية والسورية التي ترجمت خلاصة المعاهدة الرسمية على التعبير بعطف (الممكنة) على (السلمية) وعبر بعضها (بالفعلية) بدل (السلمية) والعطف يقتضي المغايَرَة، فيكون معناها: والوسائل الحربية الممكنة أي من برية وبحرية وجوية واحتلال وغير ذلك. وهذا عين ما صرح به فيما يسميه ملك الحجاز بمقررات النهضة، فهو قد اشترط فيها على الإنجليز حماية البلاد في الداخل والخارج حتى حال الفتن الداخلية واعتداء الأمراء الحاسدين! ! (المادة السادسة) تنص على تعيين وكيل سياسي بريطاني في جدة ووكيل سياسي حجازي في لندن، وعلى قناصل حجازيين في إنكلتره والهند، وقناصل بريطانيين في جميع سواحل الحجاز. نقول: إن لذة صاحب الجلالة الهاشمية في هذه المادة أنها من مظاهر فخفخة المُلك الصوري، وإلا فأين المصالح السياسية والتجارية للحجازيين في بلاد الإنجليز ومستعمراتهم التي تقتضي بذل النفقات العظيمة لتأسيس الوكالات السياسية والقنصلية في هذه الممالك الواسعة، وأين المال الذي ينفق في هذا السبيل؟ أيؤخذ من الضرائب والمكوس على أداء فريضة الحج؟ وأما الإنجليز فلهم مصالح كثيرة في تطويق سواحل الحجاز برجالهم السياسيين والبحريين الحربيين لمراقبة كل ما يدخل في هذه البلاد المقدسة وما يخرج منها، ولسبر غور هذه السواحل ومعرفة ما يكفي من القوة البرية والبحرية للإحاطة بها عند الحاجة التي يتوسلون إليها عند سنوح الفرصة باسم الحماية الممنوحة لهم من الجلالة الهاشمية المالكة المتصرفة بالدين ومعاهده أو باسم المحافظة على معاهدهم هذه وعلى رجالهم إذا اعتدى عليها أحد من أعراب البلاد - ولو بدسيسة منهم - وقد عهد في تاريخ الاستعمار البريطاني أن يكون دخول بريطاني واحد في قطر عظيم مقدمة لسلب استقلاله وإذلال أهله لعظمتهم. وأخر الأمثلة لهذا قنصلهم في جزيرة البحرين فقد سلب سلطة حكومتها وانفرد بالتصرف فيها وجعل حاكمها الصالح التقي الجاهل أذل من عير الحي والوتد. ومن دواعي الأسى والحزن أن هذه الحقيقة قد عرفت مثلها ملكة سبأ العربية من ألوف السنين ويجهلها صاحب (الجلالة الهاشمية) الذي يظن في نفسه أنه أرقى الخلق علمًا وخبرة وسياسة وكياسة حتى إن جريدته (القبلة) كانت تدعي أنها تعلِّم دول أوروبا الخطط الحربية بما ينشره من آرائه فيها، والذي يدعي أن حكومته شرعية وي

نص البيان الذي أصدره المؤتمر الفلسطيني السادس عن المعاهدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نص البيان الذي أصدره المؤتمر الفلسطيني السادس عن المعاهدة (يعلن المؤتمر العربي الفلسطيني السادس المنعقد في يافا رفْضَ مشروع المعاهدة التي نشرت حكومة فلسطين خلاصتها رسميًّا بتاريخ 5 حزيران سنة 1923 وفيها أن المعاهدة لم تبرم نهائيًّا، وأن المفاوضات بشأنها بين جلالة الملك حسين وحكومة بريطانيا العظمى جارية حول تعديلات طفيفة لا تزال مجهولة، وأن هذا المؤتمر الممثل للأمة العربية الفلسطينية يرفض كل مشروع لا يضمن لها في وطنها المقدس مطالبها العادلة المعلومة التي ذكرت تأييدها المؤتمرات السابقة، من استقلال البلاد وإلغاء السياسة الصهيونية الفاضحة، وقد أبرق المؤتمر بذلك إلى صاحب الجلالة الهاشمية. قبل هذا النص بعد حوار قليل، وبعد أن زيد في آخره ما اقترحه السيد عمر البيطار من ذكر البرقية التي أرسلت لجلالة الملك حسين. صورة البرقية التي اقترح هذا المؤتمر إرسالها إلى الملك حسين (حاولت حكومة فلسطين محو السرور الذي أحدثته برقية جلالتكم التبشيرية بنشرها مشروع المعاهدة الإنجليزي المناقض للبرقية فاغتم الأهالي ودعت الحالة لجمع مؤتمر عام بيافا فقرر عرض الشكوى لأعتابكم التي لا يمكن أن تقبل مثل هذا المشروع، ولن يقبله فلسطيني ما دام فيه رمق حياة، واسترحام التفضل على أهل البلاد بإطلاع ممثليها على ما يتعلق بهم في المعاهدة قبل إبرامه نهائيًّا، لازلتم للقضية العربية بجميع وجوهها، وقبلة إجلال العرب واحترامهم) . فَجَرَتْ مناقشة طويلة في نص البرقية وأخيرًا تقرر قبولها بعد أن اقترح السيد عيسى العيسى زيادة (سيما فيما يتعلق بفلسطين) بعد جملة (مشروع المعاهدة الإنجليزي المناقض للبرقية) وزيادة كلمة (الإسراع) بعد (الاسترحام) . وقد أجاب الملك حسين عن هذه البرقية هذا نصها (حَسِّنُوا الظن) وكيف يحسن العاقل الظن بالأمر المعلوم ضرره وفساده بالقطع؟ *** صورة البرقية التي أرسلها المؤتمر إلى رئاسة الوزارة. وزارة الخارجية. وزارة المستعمرات. رئاسة مجلس الأعيان. رئاسة مجلس النواب والجمعية الوطنية السياسية بلندن. (قرر المؤتمرُ العربي الفلسطيني السادس المنعقد في يافا والممثل للأمة رفضَ مشروع المعاهدة الإنجليزي المقدم لجلالة الملك حسين والذي نشرت حكومة فلسطين خلاصته؛ لأنه مخالف للعهود المقطوعة للعرب ولحقوق الشعب الفلسطيني ومطالبه بإلغاء السياسة الصهيونية وبتأسيس حكومة وطنية نيابية مستقلة. والأمة ترفض كل مشروع لا يضمن جميع مطالبها وقد أبرقنا بهذا لجلالة الملك حسين) . *** بيان اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني بمصر في شأن المعاهدة الذي نشرته الجرائد (عقدت اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني جلسة فوق العادة في 20 يونيه 1923 للبحث في حظ الوطن السوري من المعاهدة البريطانية العربية التي قُررت مبدئيًّا، ولا تزال موضوع المفاوضة النهائية بين مكة ولندن. وبعد البحث والمناقشة في الخلاصة الرسمية التي نشرتها حكومة فلسطين أخيرًا لهذه المعاهدة تقرر بالإجماع إصدار البيان الآتي: (إن المادة الثانية من هذه المعاهدة تنص على إصرار الحكومة البريطانية على موقفها الحاضر في فلسطين. ولم تعترف لأهلها العرب فيها بحق من الحقوق السياسية والقومية غير ما تضمنه صك الانتداب وعهد بلفور من الحق السلبي وهو أن لا يجري في البلاد ما يجحف بحقوقهم المدنية والدينية. وتنص أيضًا (على اعتراف صاحب الجلالة الهاشمية بالمركز الخاص الذي لصاحب الجلالة البريطانية في العراق وشرق الأردن وفلسطين) . (ثم إن المادة التاسعة عشرة تنص على أن لا شيء في المعاهدة يبطل أي عهد تعهد أو قد يتعهد به في المستقبل أحد الفريقين المتعاقدين بمقتضى عهد جمعية الأمم) . (ولا يخفى أن المركز الخاص المشار إليه هو ما يسمونه الانتداب الذي كان صاحب الجلالة الهاشمية يأبى الاعتراف به قبل هذه المعاهدة، فنصت على اعترافه به فيها بأسلوب سياسي في كل من العراق وشرق الأردن وفلسطين كما انطوت على الاعتراف ضمنًا بتجزئة سورية وبوعد بلفور في الوطن القومي لليهود) . (ومن المعلوم أن مجلس جمعية الأمم قرر انتداب فرنسا على سورية الشمالية - سورية ولبنان - وانتداب إنجلترة على سوريا الجنوبية - فلسطين وشرق الأردن - فالانتداب باقٍ إذن على حاله لا تنقض هذه المعاهدة شيئًا منه) . (فاللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني الأمينة على ما قرره مؤتمر جنيف من طلب الاعتراف باستقلال البلاد وإعلان إلغاء الانتداب - تصرح بأن كل اتفاق وكل معاهدة تتضمن ما يخالف هذه القرارات في الوطن السوري هي باطلة في نظر أهله الذين لا يقبلون شيئًا يخالف حقوقهم الطبيعية والشرعية في تقرير مصيرهم) . (فبناء على هذا لا تكون هذه المعاهدة مقيدة أهل سورية وفلسطين ولبنان بحق لأحد فيها، ولا بقيد تتقيد به الأمة، ولا بمخلية للطرفين المتعاقدين ولا للحلفاء ولا للولايات المتحدة مما كانوا صرحوا به لأهل هذه البلاد في ضمن البلاد العربية المنفصلة عن تركيا من حق الاستقلال وتقرير المصير. ... ... ... ... ... ... ((لتحيا سورية حرة مستقلة)) (المنار) اتفقت الأحزاب والجماعات والصحف العربية على أن المادة الثانية من هذه المعاهدة صريحة في استثناء فلسطين من الاستقلال الخادع المذكور في المادة الأولى، وجاءت البرقية الإنكليزية من لندن مصرحة بهذا، ولكن الملك حسينًا لا يزال يصرح في (قبلته) بما أراد أن يقنع به أهل فلسطين وغيرهم بخلاف ذلك. وهذا الإصرار من أغرب وقائع عناده المعهود، وأغرب منه إصرار دعامة المأجورين في فلسطين على وجوب الاعتصام بحبله غير المتين، بغير حياء ولا خجل من العالمين، وحجة بعضهم أن نيته حسنة في هذا كما كانت حسنة في مساعدة الإنجليز في فتح بلادهم وتهنئتهم به، فليهنأوا بسياسة حسن النية، وسياسة الصوفية؟!

ذكرى رينان في الجامعة المصرية ـ 4

الكاتب: مصطفى عبد الرازق

_ ذكرى رينان في الجامعة المصرية محاضرة الشيخ مصطفى عبد الرازق في رينان والأفغاني كلمة المنار في المحاضرة (4) (4) قال رينان: (إن المسلم يؤمن بأن الله يهب الرزق والسلطان لمن يشاء من غير نظر إلى تهذيب أو استحقاق خاص، وهو بإيمانه هذا يزدري أشد الازدراء العلم والتهذيب، وكل ما يدخل في تكوين الروح الأوروبي) . وإننا نجيب عن هذا جوابًا موجزًا يظهر جهل رينان بالإسلام والمسلمين ويحبط عمله، ويؤيد ما حققناه في معنى رد السيد جمال الدين عليه، فنقول: إن عقيدة المسلمين في المشيئة الإلهية أعلى وأرقى من فلسفته، ومِن علم جميع فلاسفة الأرض، وإن زعم أن عقول العرب ولغتهم لا تسع شيئًا من علم ما وراء الطبيعة. فهم على موافقتهم لغيرهم من المؤمنين بالله في إثبات المشيئة والإرادة له تعالى يقولون: إن متعلقات هذه المشيئة قسمان: قسم قدري تكويني، وقسم ديني تشريعي، وبين القسمين العموم والخصوص المطلق فيجتمعان في بعض الأمور وينفرد أحدهما ببعض. فأما ما يجتمعان فيه فمثاله كسب الرزق من الحلال وإنفاقه في سبيل البر والخير، ونيل الرجلِ العالمِ العادلِ السلطانَ باختيار الأمة وإقامته ميزان العدل فيها. وأما ما ينفرد به أحدهما عن الآخر فمثاله كسب الرزق من الطرق المحرمة كالغش والخيانة، ونيل الإمارة والسلطان بالتغلب والقهر، فهذا مخالف لدين الله وشرعه، ولكنه لا يقع إلا بمشيئته التكوينية وقدره، ومعنى هذا أنه سبحانه جعل نظام هذا العالم مبنيًّا على الأسباب والمسببات وجعل لذلك سننًا عامة وهي ما يُعَبَّر عنه في عرف العصر بالنواميس الطبيعية والاجتماعية، وفي عرف القرآن بالأقدار والمقادير وبالسنن. قال تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (الطلاق: 3) . وقال: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) أي فلا شيء منها بُجزاف ولا بخارج عن النظام، فمن راعى هذه السنن في الكسب، وفي الاستيلاء على البلاد والعباد قد ينال ما سعى إليه بمشيئة الله التكوينية وقدره في نظام العالم، وإن لم يراع شرعه وهداية دينه في أسباب ذلك ولا في نتائجه كاستيلاء المستعمرين من قومه وغيرهم بإتقان أسباب القوة على المستضعفين المهملين لها. ولما كان المسلمون يفهمون أصول دينهم حق الفهم كانوا يتحرون الجمع بين أحكام الشريعة الدينية الآمرة بالحق والعدل والفضيلة والإحسان، وبين مراعاة سنن الله في غيرهم، فاجتمع لهم بهداية دينهم الحضارة والسيادة، والغنى والنعمة، والعدل والفضيلة والتقوى. ولما استحوذ عليهم الجهل والضعف بتوسيد أمور حكومتهم إلى غير أهلها وتغلب همج الأعاجم عليهم بالقوة القاهرة - أعرضوا عن النظر في سنن الله الاجتماعية وعن هدايته الدينية معًا، وكان مما أدخله جهلة الصوفية ومبتدعة الجبرية في عقائدهم بدسائس حكامهم أن المُلك والرزق والظلم والفسق كلها من قدر الله تعالى فيجب الرضا بها، وعدم الاعتراض عليها، وكذا عدم مقاومتها بالأَولى، وبنشر هذه السموم طال ملك أولئك الظالمين، وتمتع أولئك الفاسقون، حتى سلبه منهم من هم أشد مراعاة لسنن الكون والاجتماع، وكل هذا مخالف لنصوص القرآن والسنة ولما قرره الأئمة الراسخون في العلم من المتكلمين والصوفية أيضًا كالشيخ عبد القادر الجيلاني الذي صرح بوجوب مقاومة الأقدار بالأقدار، أخذًا من قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الذي وافقه عليه جمهور الصحابة: (نَفِرُّ مِن قَدَر الله إلى قَدَر الله) قال هذا حينما قرَّر بعد مشاورة جميع شبانهم وشيوخهم عدم دخول الشام والوباء فيها. ومثل ذلك وجوب مقاومة الظلم وأهله، فليس في الإسلام مثل ما في الإنجيل من وجوب الخضوع لكل سلطة لأنها من الله ‍! بل فيه ضده كما سيأتي، وإنما ذلك من خرافات المتصوفة. وإنه يحق لرينان أن يسخر من جميع المسلمين بما علمه هو وقومه من فشو هذه الضلالة بين مسلمي الجزائر وسائر إفريقية حتى تسنى لمن تلبس بالإسلام وتعمم بعمائم شيوخ الطريقة (من قومه) أن يبثوا فيهم وجوب الرضا بسلطتهم وتحريم التبرم بهم والكراهة لشيء من أحكامهم وأعمالهم بشبهة أنه يتضمن الاعتراض على الله والكراهة لقضائه وقدره بزعمهم! وأنَّى لأولئك المحرومين من علوم الدين والدنيا أن يميزوا بين الرضا من الله تعالى وعدم الاعتراض عليه، وبين ما أوجبه من عدم الرضا بالمقضي والمقدور نفسه إذا كان ضارًّا أو مخالفًا للشرع، ومن وجوب مقاومته بما يعلم من سنن الله تعالى وأقداره؟ ومثاله المرض: لا نعترض على الله تعالى إذا مرضنا ولا نسخط على تقديره إصابة من يتعرض لأسباب الأمراض فيها، ولكن يجب أن نكره المرض وأن نقاومه بالدواء والمعالجة بعد وقوعه، وباتقائه قبل وقوعه، كما فر جمهور الصحابة من الشام. ولم يدخلوا البلد الذي وقع فيه الوباء منها بالإجماع فثبت بهذا أن ما ينكره على مسلمي إفريقية وأمثالهم إنما هو مخالفة قواعد الإسلام لا الاهتداء بها. وإننا نذكر للمفتونين بفلسفة رينان والمشيدين بفلسفته من قومنا بعض الشواهد من نصوص القرآن على أن مشيئة الله التشريعية لا تقضي بأن يكون السلطان في الدنيا لمن لا أهلية له ولا استحقاق ولا مزية في الفضل، بل الأمر بالضد. (أ) أخبرنا الله تعالى في سورة البقرة أنه وعد نبيه وخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم بأنه يجعله إمامًا للناس فسأله إبراهيم أن يجعل من ذريته أئمة مثله فأجابه تعالى بقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124) أفليس هذا نصًّا صريحًا في أن الإمامة والسلطان في الناس لا يكونان عهدًا من الله تعالى لأحد من الظالمين، وإن كانوا من ذرية الأنبياء المرسلين؟ بلى! وقد فهم هذا الحكم من الآية أئمة المفسرين، فقالوا: إن الآية تدل على أن الظالم لا يصح في دين الله أن يكون إمامًا للناس في أمور دينهم ولا أمور دنياهم، أي لا يكون خليفة ولا سلطانًا ولا أميرًا، وقد ذكرنا بعض أقوالهم في فاتحة كتاب الخلافة وفصلنا المسألة فيه. (ب) قال تعالى في الآيات التي أذن فيها للمسلمين بأن يقاتلوا من قاتلوهم من أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم بغير حق، بل لأجل توحيدهم لله عز وجل: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) فالدين الذي يشترط على أهله في المدافعة عن أنفسهم وإعطائهم السلطان في الأرض أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، هل يقال: إنه يعطي السلطان لمن شاء بدون تهذيب ولا استحقاق؟ والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. (ج) قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء: 105) ومعلوم أن الصلاح ضد الفساد. وقد ذم الفساد والإفساد في الأرض من الملوك وغيرهم وتوعدهم في عشرات من الآيات في سور كثيرة. قال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) وهذا دليل على أن المراد بالصالحات أعم من العبادات البدنية؛ لأنه مقابل لكل ما فيه إفساد في الأرض، وهو يشمل إفساد النبات والحيوان والإنسان، بأي طريق وأي وسيلة وكل شكل من أشكال الفساد، كما أن إرث الأرض فيها عام يشمل الدنيا والآخرة، فلا يرث الأرض في حكم الله ومقتضى دينه إلا الصالح، وخص الأرض بعض المفسرين هنا بالمقدسة وبعضهم بالجنة، ويدل على إرث الملك والسلطان في الأرض المقدسة أو مطلقًا آية الشاهد التالي وهو: (د) قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) الآية. (هـ) قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) فسر بعضهم الظلم هنا بالشرك أخذًا من قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13) ومن غيره. والمعنى أنه ليس من سنة الله أن يهلك الأمم بسبب الشرك به إذا كان أهلها مصلحين في الأرض بالعدل والعمران، وقال بعضهم: إن المعنى: وما كان من شأن ربك ولا مما مضت به سنته في العمران أن يهلك الأمم بظلم منه وهم مصلحون في أعمالهم - إي إذا أهلكهم وهم مصلحون يكون ظالمًا لهم، وهو منزَّه عن الظلم. ويؤيده ما ورد من الآيات الكثيرة في إهلاك الظالمين، وإدالة الدولة للعادلين المصلحين، ونكتفي منها بالشواهد الثلاثة الآتية. (و. ز. ح) قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود: 102) وقال: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (إبراهيم: 13-14) وقال: {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (الحج: 45) وحث بعدها على السير في الأرض والاعتبار بآثار الأمم. هذا قليل من كثير من شواهد القرآن على أن الله تعالى لا يعطي السلطان في الأرض لمن يشاء من غير أهلية ولا استحقاق مطلقًا كما زعم رينان بل هو يعطيها لمن يشاء من أهل العدل والإصلاح، ولو بالنسبة إلى غيرهم، وإن لم يكونوا عادلين ومصلحين مطلقًا. وأما مسألة الرزق فليس من سنة الله في الاجتماع البشري أن يخص الله بالرزق الصالحين المصلحين ولا المفسدين بل قال: {كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} (الإسراء: 20) ولكنه على هذه السنة قد خص أهل التقوى والاستقامة بما يؤخذ من الشواهد الآتية: (ط) قال تعالى: {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} (الجن: 16) . (ي) قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2-3) ولكنه قرن الرزق بالسعي بما يدل عليه: (ك) قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (الملك: 15) . (ل) قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) قال الربيع رضي الله عنه: أي أنهم إذا شكروا النعمة زادهم من فضله وأوسع لهم في الرزق. ومِن شُكْرِ النعمة عند علماء الإسلام حفظُها وحسنُ التصرف فيها بوضعها في مواضعها من غير إسراف ولا تبذير. وأما نَوْطُ الرزقِ وغيرِهِ بالكسب العملي فالشواهد عليه من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح كثيرة.

منشور للإمام يحيى حميد الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منشور للإمام يحيى حميد الدين جاءنا من اليمن المنشور الآتي مطبوعًا في مطبعة (المقام الشريف) بصنعاء، متوجًا بعد البسملة بختم الإمام يحيى حميد الدين الرسمي الملقب فيه بأمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين، وهو في دعوة المسلمين إلى جمع الكلمة والاعتصام بالكتاب والسنة، والاستمساك بالعترة الطاهرة، وترك الخلاف والفرقة. بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) . الحمد لله الهادي إلى السَّنن القويم، وكل خير عميم، بقوله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) * {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46) {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام: 153) . والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله ذي الخلق العظيم، المبعوث رحمة للعالمين من رب العرش الكريم، بالشريعة السمحة الكافلة بخيريْ الآخرة والأولى، القائل: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا - المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه اشتكى كله وإن اشتكى عينه اشتكى كله - يد الله على الجماعة - لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض - المؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه - لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة) وعلى آله المخصوصين برعاية التقديم والتكريم، قرناء الذكر الحكيم، الذين ورد فيهم: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدًا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى. أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي) وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة والأخبار الشهيرة، وعلى أصحابه الذين قاموا بنصرته وبإيضاح طريقه المستقيم، وبذلوا أنفسهم ونفيسهم في مرضاة الرب العليم. أما بعد فهذا بلاغ وافٍ، وبيان شافٍ، أردنا به نصح إخوان الدين، وايقاظ همم المسلمين، وحررناه إلى كل مطلع عليه من العلماء العاملين، وإخواننا أهل الدين، وفقهم الله لصالح القول والعمل، وحرسهم بطاعته عن مزالق الزلل. وحياهم بشريف السلام، ورحمة الله وبركاته على الدوام. إنه قد عُلم ما دهى الإسلام والمسلمين من داء التفرق والاختلاف، والمخاصمات التي أُغلقت بها أبواب الوفاق والائتلاف، حتى فشل المسلمون وذهبت ريحهم وصاروا كأنهم أدنى عنصر في العالم غير مهاب الجناب، ولا مصون من الاغتصاب، إلى أن طمعت في استئصالهم وإخضاعهم الدول الأجنبية، وخصوصًا العرب الذين هم منشأ هذا الدين ومبدأ ظهوره، وأفق تجليات نوره، وهم الذين أعز الله بهم الإسلام، وملكوا أكثر العالم، وإن فتحت لهم قاراته وحصين قصوره، لِمَا كانوا عليه من التوحيد ديانة وسياسة وعلمًا وعملاً، والتعاضد والتعاون لا يبغون عنه حِوَلاً، ولا يرضون بسواه بدلاً، حتى خضعت لهم الرقاب، وذللت لهم الصعاب، وضربت بعزهم الأمثال، وسعدت بصولتهم الأجيال، وقد استبان في هذا القرن شؤم التفرق والاختلاف، وأنه السبب الوحيد لتمزيق الأجانب بلاد المسلمين ثم الأخذ والاختطاف، وانهدام ذلك المجد الشامخ، والعز الباذخ، وحل بكثير من المسلمين ذوي العقول عظيم التأسف والندم، ولكن بعد أن صاروا في أشراك الاقتناص وبعد زلة القدم. وقد آن لنا معشر المسلمين أن ننظر لأنفسنا بعيون الاستبصار، وأن نجيد آراءنا لما يكون به عزنا وشرفنا ورجوع أيامنا التي ارتقينا فيها صهوة كل عز وانتصار، وليس لنا إلى ذلك من سبيل، إلا باتباع ما أرشدنا إليه الرب الجليل، من الاعتصام بحبل الله وعدم التفرق والتنازع واتباع صراط الله المستقيم. وترك اتباع السبل المتفرقة المضلة عن سبيله كما جاء في الذكر الحكيم. وإدارة كل شئوننا على منهاج شريعة الله عبادة ومعاملة ودفاعًا. وكفى بهدي الله لنا وسيلة إلى نيل كل مطلوب، ودفع كل مخوف ومرهوب، ولقد قمنا بمقامنا هذا الحرج طلبًا لخدمة الله بإصلاح ما نقدر عليه من أحوال المسلمين والدعاء إلى الله وطاعته، بامتثال أوامره ونواهيه والانقياد لشريعته، وقد حصل لنا في أكثر هذه البلاد المرام، وترتبت الأعمال على مراضي الرب العلام، ولم نزل نجدد الإرشاد إلى كثير من البلاد، راجين الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين لما به حفظ دينهم وبلادهم، وحوزتهم وعزهم وكيانهم، ولما كانت بلاد اليمن قطعة واحدة وأهلها متحدو العنصر والديانة متفقو اللغة متقاربو الأنساب من الأشراف والقبائل، لا اختلاف بينهم في شيء فربهم واحد ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، ودينهم واحد، بلا اختلاف يعول عليه إلا من لا معرفة له بالشريعة، ولا بواضح مناهجها الوسيعة، وأما أهل الديانة والعرفان، وأولو العقول التي بها تعرف طرائق الإحسان فهم يعرفون أن أهل القطعة المباركة اليمنية كأهل مدينة واحدة، ومع هذا فالواجب علينا جمع الكلمة، واتحاد الرأي وتوحيد الطريقة، وعقد الولاء على الحقيقة، حتى نكون كالجسم الواحد وكالبنان أو كالبنيان، كما وصف به الرسول صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أهل الإيمان. وقد عممنا دعوتنا هذه التي هي دعوة حق إلى كل من بلغته، وحررنا هذا الكتاب مع غيره إلى أهل جهاتكم وما والاها من العلماء الأعلام، والرؤساء الفخام، والمشايخ والأفراد، ندعوكم بدعوة الحق إلى ما أسلفناه في هذا الكتاب، ونقول: هلموا أيها الإخوان إلى ما به عز الدنيا والدين، والوصول إلى الخير المستبين؛ لنعمر أمور ديننا ودنيانا، على طريقة الأسلاف الذين هم أسوتنا ومُقتَدَانا، وليس المراد مُلكًا نشيده، ولا مالاً نستزيده، ولا جاهًا نستفيده، وإنما المراد اجتماع المسلمين بالمحجة البيضاء والصراط المستقيم، وسنقر كل بلاد بيد رؤسائها، ونحيل إليهم مجرى أعمالها ومرساها، هلموا إلينا للعمل بكتاب الله وسنة رسول الله والسلف الصالح: نحيي ما أحيا الله، ونميت ما أمات الله، نأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر المخوف، ونمنع التظالم، ونأخذ على يد الظالم، ونحقن الدماء، ونعمل بشريعة خالق الأرض والسماء، ونجري الأعمال على محور إرشادات ذي الجلال، فكل ما خالفها فهو الباطل المُضْمَحِلّ، وما وافقها فهو الحق المستفحل، بإرشادات الشريعة صلاح الدين والدنيا، وقد خاب من عدل عنها. ولم يتم للسلف الصالح نصرة الدين وفتح الأقطار الشاسعة إلا بالعمل بإرشادات شريعة الله. ونقول أيضًا: أيها العلماء الأعلام، أنتم المكلفون بِبَثِّ ما علمكم الله ونَشْرِهِ للناس، وثمرة العلم إنما هي العمل والإرشاد إلى ما به ذهاب البأس، فقد أخذ الله عليكم ميثاقه الأكيد، وألزمكم القيام بالتعليم والوعظ والنصيحة للعامة وإرشادهم إلى الخير والمزيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من عقاب الله، والإنذار بسخطه ومقته على من أعرض عما أوجبه الله عليه، ولم يوجب الله على العامة السؤال بقوله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) حتى أوجب عليهم البيان بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) وقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم [1] عهد الله أحق ما أدي [2] ) فشمروا كثَّر الله سوادكم عن ساق الهمة في هذا السبيل، وبيِّنوا وعظوا وانصحوا لتفوزوا بالأجر الجزيل، وأحيوا سنة السلف الصالح في هذا الجيل، فقد قام بالدعوة إلى آل محمد من السلف الصالح مَن به يُقْتَدَى، ويُقْْْتََفَى أثره وبنور إرشاده يُهْتَدَى، منهم الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة رضي الله عنهما. واعلموا أن هذا الذي ندعوكم إليه هو أمر محبوب عند كل بني الإنسان، خصوصًا عند الدول المتمدنة فإنها تعتبر هذا من الأمور الواجبة على الأمم، وخصوصًا الحكومة البريطانية، وإنَّا نؤمل منها غاية المساعدة [3] لأمور مهمة، مما تتقوى به هذه الدعوى المبنية على أساس متين، فهي الدولة المفتخرة بمحبتها للعرب، وإعانتها لهم في كل ما يتم به الأرب، خدمة للإنسانية ورعاية لحقوقها التي ترشد إليها الضمائر الوجدانية. وقد وصل إلينا رؤساء البيضا [4] في هذه الآونة وأعلمناهم ما ندعو إليه، وما نُحَرِّض الناس عليه، وضربنا لهم الأمثال، بأحوال الجهات التي نفذت فيها أحكام ذي الجلال، وما ضرب فيها من العدل والإحسان والأمان، وما ارتفع عنها من الفحشاء والمنكر والبغي والعدوان، ثم كان عزمهم من لدينا متقلدين الطاعة، منخرطين في سلك الجماعة، ونحن إن شاء الله على أهبة إرسال شرذمة من الأجناد، إلى هاتيك البلاد؛ لصلاح أحوالها، ومحق أهوالها، ونسأل الله تعالى أن يأخذ بنواصي الجميع إلى مراضيه، ويوفقنا إلى سلوك السبيل الأقوم واجتناب معاصيه، ويفتح لسماع نصيحتنا وإرشاداتنا أسماع كافة الإخوان، إنه الكريم المنان، فهذا ما ندعوكم إليه، ونأمركم به، وهو معذرة إلى الله، وحجة عليكم عند الله {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) والسلام عليكم. بتاريخه في 4 ذي القعدة الحرام سنة 1341 هـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

اللورد فاروق هدلي وخوجه كمال الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اللورد فاروق هدلي وخوجه كمال الدين ذكرنا في المجلد السادس عشر شيئًا من خبر اهتداء هذا اللورد الإنجليزي إلى الإسلام، وما نشره في بعض الجرائد الإنجليزية عن إسلامه، وأما خوجه كمال الدين فهو رئيس جمعية هندية تدعو إلى الإسلام في لندن ولها مجلة هنالك، ويقال: إنه من المعتدلين من شيعة ميرزا غلام أحمد القادياني الذي ادَّعَى أنه المسيح المنتظر، وأن الوحي ينزل عليه بذلك. وقد رددنا عليه في حياته ورد علينا في بعض كتبه، وأتباعه الآن فريقان: غلاة ومعتدلون، وسنتكلم عنهم في جزء آخر. ولجمعية خوجه كمال الدين أنصار في القطر المصري ينقلون أنه من مسيحية القادياني وجرى لنا مع بعض أصدقائنا منهم حديث اتفقنا فيه على أن نسأل الأستاذ كمال الدين نفسه عن ذلك، ونعتمد ما يقوله وننشره، ولم يتيسر لنا ذلك قبل سفره إلى الحجاز. وهو قد كان كتب إليهم بأنه يريد الحج بصحبة اللورد هدلي ويمر بمصر فدعوا الناس إلى الاحتفال باللورد وصاحبه، وألفت لذلك جمعية خاصة في القاهرة وأخرى في الإسكندرية اشترك فيها كثيرون من جميع الطبقات العليا والوسطى واستقبلوا الضيفين أحسن استقبال وأدبوا لهم المآدب اللائقة بكرامة الضيف وكرم المضيف. وأحسن ما نشر في الجرائد بهذا الشأن وأقربه إلى الفائدة ما كتبه أحد محرري جريدة السياسة وهذا نصه: (حديث مع رحمة الله فاروق جناب اللورد هدلي) لم تستقبل مصر رجلاً منذ رجوع سعد باشا زغلول كما استقبلت بالأمس حضرة المستر (جورج رولان السن دن) المشهور المعروف باسم اللورد هدلي والمعتنق للديانة الإسلامية تحت اسم رحمة الله فاروق. لقد غصت المحطات بالمستقبلين، من بورسعيد إلى مصر، والشعب يهتف مرحبًا مستقبلاً هذا الضيف الكريم. وهذا ما دعا كاتب هذه السطور لزيارة جناب اللورد الكريم زيارة إفراديه خاصة في منشية البكري حيث حل ضيفًا عزيزًا مع رفيقيه المحترمين خوجة كمال الدين مدير المجلة الإسلامية في لندن والمبشر المشهور المقيم في بلاد الإنجليز يدعو الناس للدخول في دين الإسلام، وجناب عبد المحيي مفتي الديار الإنجليزية وشيخ جامع وكنج في ضواحي لندن. استقبلني جناب اللورد بلطفه وأدبه الكبيرين. على رأسه الطربوش المصري الموضوع فوق شعره المكلل بالبياض فينعكس من احمراره لون وردي جميل على وجهه الأبيض وعلى عينيه الزرقاوين المتحركتين كثيرًا ثم نزلنا إلى جنينة المنشية الواسعة وجلسنا نتحادث. كنت أصغي إلى حديثه وأنا أقول في نفسي: ما السبب الحقيقي الذي دعا هذا الرجل الإنجليزي المنحدر بنسبه من (ملوك نورث وايلس) ما الذي دعا هذا الرجل الذي وقف شارل الثاني سنة 1660 يعلق على صدر أجداده شارات البارونية؟ ما الذي دعا هذا اللورد لاعتناق دين الإسلام؟ لقد اجتهدت كثيرًا أن أتغلغل إلى داخلية نفسه لعلي أستكشف العاطفة النفسية التي دفعته إلى الإسلام. لقد حادثته مليًّا ساعتين كاملتين فلم أشك بعدهما في أن هذا الرجل اعتنق الإسلام نهائيًّا. إن اللورد هدلي لم يكن في حياته مسيحيًّا قط كما قال لي هو بنفسه، وقد كان على مذهب الموحدين الذين يؤمنون بإله واحد ويعتقدون أن المسيح نبي، وهؤلاء شيعة كبيرة في إنجلترا وأمريكا وهم الموحدون المشهورون. واللورد هدلي مهندس معروف، وقد قص عليَّ من حديثه ما يأتي، قال: (أنا مسلم منذ خمسين سنة، ولكني لم أعتنق الإسلام رسميًّا إلا في 17 نوفمبر سنة 1913 وذلك لأسباب عائلية سنأتي على ذكرها. وقد كنت في صغري أشك في أمور كثيرة في الدين المسيحي، وكنت لا أعرف كيف أستطيع أن أؤمن بالمبدأ المسيحي القائل: إذا كنت لا تؤمن بألوهية المسيح فلا تنجو من عذاب جهنم الأبدي، وإذا لم تأكل جسد المسيح وتشرب دمه فلن تنجو أيضًا. لذلك كنت في دخيلة نفسي ثائرًا على الديانة المسيحية من السادسة عشره من العمر. وفي سنة 1883 سافرت إلى الهند إلى مقاطعة كشمير لمشاريع هندسية وإنشاء طرق وتعمير تلك الولايات على الطرق الحديثة الفنية. وهناك اجتمعت بصديقي الكولونيل.. (وطلب إليَّ أن لا أذكر اسمه) الذي أهداني نسخة من القرآن الكريم. وكنت أجد في هذا الكتاب الشريف من بساطة الدين الإسلامي المبني على الفطرة الطبيعية الصادقة التي تدفع الإنسان إلى الخير وتنهاه عن المنكر - ما يوافق طبيعة نفسي ويلائم روحي، وكنت كلما قرأت في ذلك المصحف الكريم اكتشفت بنفسي أنني مسلم دون أن يبشرني أحد بالإسلام، ودون أن يدعوني أحد إلى الإسلام. لذلك أحب أن يُترك الإنسان في مسألة الأديان إلى نفسه ليختار الدين الذي يريده أو يوافقه، وأنا أعتقد أن ثلاثة أرباع الناس في إنجلترا هم مسلمون دون أن يشعروا أو يعرفوا ذلك، وإذا سألت أحدًا ما هو دينك؟ فيقول لك أنا مسيحي، وإذا قلت له كلا فأنت مسلم بحسب اعتقادك يضحك منك قائلاً كلا فأنا على دين المسيح) . (أنا أؤمن أن لا إله إلا الله وأؤمن أن محمدًا وموسى وعيسى أنبياء الله لا نفرق بينهم بحسب تعاليم القرآن. وأجد الدين الإسلامي دينًا بسيطًا يفهمه قلبي ويتفق معه عقلي؛ لأني لا أستطيع أن أؤمن بما لا يفهمه القلب ولا يتفق مع العقل وقد خطر لي أن أعلن إسلامي منذ صغري لكني كنت مضطرًا إلى مراعاة عواطف أنسبائي المتقدمين في العمر الذين كنت من غير شك سأجرح عواطفهم، وأكسر قلوبهم إذا أعلنت أني خرجت عن دينهم الذي يعتقدونه ويعتقدون أن لا خلاص لمن لا يؤمن به. لكن في السنوات الأخيرة قبل الحرب مات جميع المتقدمين في السن من أقربائي. وفي ذلك الحين تعرفت بصديقي خوجه كمال الدين فكنا نتحادث ونتباحث كثيرًا في أمور الدين الإسلامي. ولا أنكر أن له الفضل الأكبر في مساعدتي وإرشادي لإعلاني الانضمام إلى حظيرة الدين الإسلامي. أما زوجتي فقد توفيت منذ زمن طويل ولي أربعة أولاد لهم الخيار في اعتناق أي مذهب يشاءون. وقد كنت أعجب دائمًا بما كنت أقرأه عن أبطال الإسلام، وعن أولئك الأفراد الذين خرجوا من الصحراء حفاة الأقدام فاستطاعوا أن يكونوا أعظم قواد العالم وأعدل قضاة الأرض وأشهر المتشرعين على الإطلاق) . (وإني أفتخر بديني الجديد وأشكر الله عليه فهو دين بسيط جدًّا مفهوم تمامًا، أعرفه كما هو وأعيش بموجبه مسترشدًا بما يوحيه إليَّ ضميري ووجداني. وقد كنت عقدت النية على أداء فريضة الحج وزيارة قبر النبي المصطفى في أوائل اعتناقي الإسلام لكن الحرب العالمية الكبرى جاءت فجأة فاضطررت إلى تأجيل زيارتي هذه إلى هذه السنة) . وقد ذكر لي أنه هو أول من اعتنق الإسلام بين الإنجليز وهو الآن رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في إنجلترا وأنه قد دخل إلى حظيرة الإسلام منذ دخوله إليها نحو أربعمائة شخص من رجال ونساء من الإنجليز، أما هو نفسه فيعتقد اعتقادًا ثابتًا راسخًا أن ثلاثة أرباع الناس في إنجلترا هم مسلمون بأفكارهم ومبادئهم ولكنهم لا يدركون ذلك؛ ولأجل هذا هم لا يريدون أن يعترفوا به. هذا هو خلاصة حديث اللورد هدلي. وقد اجتمعت بحضرته مرة أخرى فوجدت أنه لا يستطيع أن يزيد شيئًا على ما قال. فالرجل مفكر حر تعبت نفسه من تقاليد الديانة التي ربي فيها وتاقت نفسه إلى مبدأ بسيط يوافق طبيعة روحه فوجد في بساطة الدين الإسلامي القائم على توحيد الله ضالته المنشودة فاعتنق الإسلام وهو الآن سائر في طريقه إلى بيت الله الحرام.اهـ. (المنار) لا يقرأ هذا الحديث أحد له قلب إلا ويشعر بأنه من إملاء الصدق والإخلاص، ولم نر خطأ فيه إلا قوله أنه أول من أسلم في إنجلترا. وقد يشك الملاحدة والنصارى الواثقون بدينهم في قول اللورد أنه يعتقد أن ثلاثة أرباع الشعب الإنجليزي مسلمون بفطرتهم كما يشك بعض المسلمين في صحة إسلامه هو! وعندنا أن هذا هو الحق اليقين من حيث إن الإسلام دين الفطرة وفي الحديث الصحيح: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وإذا كانت التربية الإنجليزية مبنية على مراعاة الفطرة، ومنها استقلال الفكر فلا غرو إذا كان ثلاثة أرباعهم لا يصدقون تقاليد الكنيسة المبتدعة بعد المسيح عليه السلام بل يؤمنون بتوحيد الله وكون المسيح رسولاً كسائر رسل الله كما قال عليه السلام: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته) وهذا عين إصلاح الإسلام للنصرانية، ولو تولى الدعوة إلى الإسلام في إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية من يعرفون الإسلام معرفة صحيحة برهانية عمرانية وأمكنهم بيانه وبيان غش رجال السياسة والمبشرين المضلين الذين أوقعوا العداوة والبغضاء بين الإسلام وأوروبة - لدخل هذان الشعبان في دين الله أفواجًا. وكنا شرعنا في الاستعداد لذلك بمشروع الدعوة والإرشاد، والتزم العزيز عباس حلمي أعقل أمراء المسلمين وأعلاهم همة مساعدتنا على عملنا من حيث قاومنا بعض المسلمين الحاسدين ومقلدتهم، حتى إذا ما ذهب بنفوذه أقفلت مدرسة دار الدعوة والإرشاد بدسائس الإنجليز وإغراء بعض البهائية والإنجليز.

وفاة رجل كبير ومحسن شهير هو الحاج مقبل الذكير

الكاتب: محمد بن عبد العزيز المانع

_ وفاة رجل كبير ومحسن شهير هو الحاج مقبل الذكير بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة الأستاذ الإمام والفاضل الكامل الهمام العلامة النحرير والبدر المنير السيد محمد رشيد آل رضا رضي الله عنه وأرضاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وأزكى وأشرف تحياته (أما بعد) فإني أعزيك بأخيك الطاهر النقي، والعابد التقي، الناسك البَرّ الأوَّاه، الباذل أمواله في سبيل الله، طلبًا لرضاه: الحاج مقبل بن عبد الرحمن الذكير، طيَّب الله ثراه، وجعل جنة الفردوس مثواه، فقد أجاب الداعي، ولبى المنادي، في اليوم السادس والعشرين من شهر رمضان سنة 1341 فأول ليلة قدم فيها على ربه هي ليلة سبع وعشرين من رمضان، وهي ليلة القدر على أصح الأقوال وأشهرها، وقد ناهز عمره ثمانين عامًا؛ وبارك الله في حياته، فلم تلهه دنياه عما فيه رضا الله، فكم ضعيف أعانه، وملهوف أغاثه، ومعسر يسَّر عليه، وكان رحمه الله وصولاً لأرحامه، برًّا بأصحابه وله الآثار الجميلة الجليلة في البحرين وغيرها من عمارة المساجد، وحفر الآبار، والصدقات الجارية، وله من الصدقات على عموم المسلمين ما يعجز عن القيام بمثله غالب الناس، فقد أنفق كثيرًا من أمواله على طبع الكتب العلمية وجعلها وقفًا لوجه الله تعالى، فمنها: (إعلام الموقعين، وحادي الأرواح) لابن القيم في ثلاثة مجلدات، (وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية) وبعض كتبه في خمسة مجلدات، والتدمرية والخيده والصابونية وإثبات صفة العلو للإمام الموفق، ومنها شرح الإقناع وشرح المنتهى في أربعة أجزاء كبار وكلاهما في فقه الحنابلة، وهذه طبعها ووقفها لمَّا كان في جزيرة البحرين. عاد قبل وفاته بسنوات قليلة إلى مسقط رأسه وبلد أسلافه عنيزة أم بلدان القصيم ولم يُثنِ عزمه عن عمل الصالحات والمسابقة إلى الخيرات ما كان يكابده من آلام الكبر وضعف الحواس، فبنى في بلده مدرسة ودارًا لمن يكون مدرسًا في تلك المدرسة وأمر أن يطبع على نفقته كتاب (اللطائف) لابن رجب (والبحور الزاخرة) للسفاريني وقد بوشر بطبعهما في الهند، فجاءت المنية قبل تمام الأمنية، ولنا في ذريته وأقاربه عظيم الأمل أن يسيروا على منهاجه؛ لأنهم أهل بيت راسخ في المجد، عريق في الكرم، وكان رحمه الله سلفي الاعتقاد محبًّا لنشر السنة، وقد قرأ طرفًا من فقه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في أوائل عمره فرحمه الله تعالى برحمته الواسعة وأعظم فيه الأجر {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (البقرة: 156) تسليمًا لأمر الله ورضًا بقضائه، وحسبنا الله وكفى. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. 24 شوال سنة 1341 هـ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه ... ... ... ... ... ... ... محمد بن عبد العزيزالمانع (المنار) نسأل الله تعالى أن يبارك في عمر أخينا الناعي قاضي قطر العادل، وأن يتغمد أخانا المنعي برحمته ورضوانه ويجمعنا به {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر: 55) وأن يحسن عزاء أهله وولده، ويوفقهم لاقتفاء أثره.

الراتبة القبلية للجمعة، القياس في العبادات، والتردد في نية الصلاة، ومن صلى غير ما نوى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الراتبة القَبلية للجمعة القياس في العبادات، والتردد في نية الصلاة ومن صلى غير ما نوى [*] (س22-24) رفع أستاذ من المدارس العليا أسئلة أو (سؤالاً ذا شعب) إلى العلماء كافة وخصني بالذكر مع ثلاثة منهم فأقول سائلاً من الله تعالى أن يلهمني الصواب، ويؤتيني الحكمة وفصل الخطاب: (نص السؤال الأول) : هل ثبت من طريق شرعي- غير ما رواه ابن ماجه وقد ضعَّفه وجرَّحه أهل الحديث - أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل الجمعة ركعتين أو أربعًا بنية سنة الجمعة أو أمر بذلك أو أقره؟ (الجواب) يعني السائل بحديث ابن ماجه ما رواه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعًا لا يفصل في شيء منهن) . وفي إسناده مبشر بن عبيد كذاب وَضَّاع؛ بل قال صاحب الزوائد: إسناده مسلسل بالضعفاء: عطية متفق على ضعفه وحجاج مدلس ومبشر بن عبيد كذاب وبقية بن الوليد مدلس ا. هـ أقول: وقد عَنْعَن كل من الحجاج وبقية وكذا مبشر فالحديث موضوع، وقال النووي في الخلاصة: إنه حديث باطل. وقد ورد في هذا المعنى عدة أحاديث أمثل من حديث ابن ماجه ولكنها ضعيفة (منها) حديث أبي هريرة عن البزار: كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا. ومثلها عن علي رواه الأثرم وقال: إنه وَاهٍ والطبراني في الأوسط، وروى الطبراني مثله عن أبي مسعود وفي إسناده ضعف وانقطاع، والصواب أنه موقوف كما رواه عبد الرزاق. ومثله عن ابن سعد عن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهو موقوف أيضًا. أفاد ذلك كله الحافظ ابن حجر. ولم نطَّلِع في كتب السنة ولا فيما احتج به من قال بأن للجمعة سنة قبلية على حديث صحيح صريح في ذلك؛ بل الثابت الذي لا خلاف فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته إلى المسجد إذا زالت الشمس فيؤذن بين يديه فيخطب فيصلي بالناس فريضة الجمعة فينصرف إلى بيته فيصلي فيه ركعتين. ولكن ورد أحاديث في الصحاح وغيرها استدل بها القائلون بسنية الصلاة قبل الجمعة ورد عليهم المانعون استدلالهم (منها) ما رواه أبو داود وابن حبان من طريق أيوب عن نافع قال: (كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين في بيته ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك) . قال الحافظ: احتج به النووي في الخلاصة على إثبات سنة الجمعة التي قبلها. وتُعُقِّبَ بأن قوله: (كان يفعل ذلك) عائد على قوله: ويصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. ويدل عليه رواية الليث عن نافع عن عبد الله أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته ثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. أخرجه مسلم، وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة، وإذا كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها بل هو تنفل مطلق، وقد ورد الترغيب فيه اهـ. أقول: وروى أحمد عن عطاء الخراساني عن نبيشة الهذلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة ثم أقبل إلى المسجد لا يؤذي أحدًا فإن لم يجد الإمام خرج صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج جلس فاستمع حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه - إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أرجو أن تكون كفارة للجمعة التي تليها) . وعطاء الخراساني فيه خلاف وثَّقه بعضهم وضعَّفه البخاري، وذكر بإسناد له عن سعيد بن المسيب أنه قال: كذب عليَّ عطاء ما حدثته هكذا، وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به. وهو لم يسمع من نبيشة بل قال الطبراني: إنه لم يسمع من أحد من الصحابة إلا من أنس. على أن الحديث كما يتبادر من لفظه في النفل المطلق ولا خلاف في جوازه قبل الصلاة. وظاهره منع تحية المسجد إذا كان الإمام قد خرج وهو معارض بحديث: (إذا جاء أحدكم والإمام يخطب يوم الجمعة فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله وفي رواية: (إذا جاء أحدكم والإمام يخطب - أو قد خرج - فليصل ركعتين) وسببه ما رواه الجماعة عنه قال: (دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال (صليتَ؟) قال: لا. قال (فصل ركعتين) وهو مُفَصَّل في رواية أخرى، وقد حقَّق الجمهور أن هاتين الركعتين هما ركعتا تحية المسجد، ولو كانت سنة قبلية للجمعة لأمر الناس كلهم بها قبل الخطبة التي كان يبتدر المنبر بها عند الزوال. وروى الجماعة كلهم (أحمد والشيخان وأصحاب السنن) عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته. ولم يذكر قبلها شيئًا، وورد في معناه أحاديث أخرى، وروى الجماعة ما عدا البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات) وفي رواية لمسلم: (من كان منكم مُصَلِّيًا بعد الجمعة فليصل أربعًا) وهو لفظ أبي داود والترمذي، ولكن لم يصح أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعدها أربعًا ولا قبلها شيئًا. (ومنها) ما استدلوا به من عموم ما ورد في الرواتب. قال الحافظ: وأقوى ما يُتَمَسَّكُ به في مشروعية ركعتين قبل الجمعة ما صحَّحه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير مرفوعًا (ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان) ومثله حديث عبد الله بن مغفل (بين كل أذانين صلاة ... لمن شاء) ا. هـ أقول: وقد رواه الجماعة كلهم، والمراد بالأذانين الأذان والإقامة. والمانعون يقولون: إن هذا العموم مخصوص بغير الجمعة؛ إذ ثبت - بل تواتر بالعمل الإجماعي - أنه ليس بين آذانها وإقامتها إلا الخطبة- ولا يعارضه ما صح من صلاة ركعتي تحية المسجد في وقت الخطبة - وهذا أقوى من تخصيص بعضهم له بغير صلاة المغرب؛ لما ورد من أنهم لم يكونوا يصلون بين آذانها وإقامتها شيئًا بل كانوا يشرعون في الصلاة في أثناء الأذان، ولما ورد من حديث بريدة عند البزار من استثناء صلاة المغرب في مثل حديث عبد الله بن مغفل مع أن هذا ضعيف، وما قبله معارَض بما روي من صلاة بعضهم لها في الصحيح. السؤال الثاني: أيصح القياس في تشريع الصلوات فنصلي سنة قبلية للجمعة قياسًا على الظهر أو نصلي قبلية للعيد قياسًا على الجمعة؟ (ج) الأصل في القياس الصحيح أن يكون فيما لا نص فيه من كتاب ولا سنة، وهو ما ورد النص على علته مع نفي الفارق فيما يشاركه في العلة، والأصل في جميع الأحكام التعبدية أن تثبت بالنص، ولولا ذلك لم يثبت إكمال الدين ولا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أكمل المؤمنين دينًا وعبادة، وكل منهما قطعي. وهذا أساس مذهب الإمام مالك كما بينه الشاطبي في الاعتصام (يراجع ص 123 من الجزء الثاني) وقد فصَّلنا هذه المسألة في المنار مرارًا وفي تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) من جزء التفسير السابع، وفيه تفصيل لمسألة القياس الصحيح والباطل. والتحقيق أنه لا يمكن إثبات عبادة عملية محضة مستقلة بالقياس المحض لا نحو نية، وما كان من تحقيق المناط وما ثبت بفحوى الخطاب أو لحنه، ولا يتسع هذا الجواب لبسط هذه المسألة، ولا هي من موضوعه، وقد غلط من جوز إثبات سنة قبلية للجمعة بالقياس على الظهر، ويغني عن القول بأن كون الجمعة بدلاً من الظهر يقتضي أن يصلي قبلها وبعدها من الراتبة ما يصلي قبله وبعده، وهذا ليس بقياس. وللمانعين أن يردوه بما دلت عليه النصوص في الجمعة، وليس من موضوعنا هنا الترجيح بين الأقوال في المسألة، ووجد من العلماء من قاس راتبة العيد على راتبة الجمعة، وهو شاذ. وقد اختلف العلماء في الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها بسبب اختلاف الأخبار والآثار. والتحقيق أنه لم تثبت لها سنة قبلها ولا بعدها ولم يثبت منع خاص للتنفل قبلها أو بعدها، كما قال الحافظ في الفتح. السؤال الثالث: (أتجوز نية الصلاة مع التردد في كون المنوي فرضًا أو نفلاً؟ وهل يجوز للمصلي أن ينوي فرضًا مُعَيَّنًا وركعات معدودات ثم يفعل غير ما نواه؟) . (ج) لا تتحقق النية إلا بالعزم القاطع، ومن شروطها: العلم بالمنوي وعدم الصارف عنه بأن يستصحبها حكمًا من أول الصلاة إلى آخرها، فلا يأتي بشيء ينافيها، كما صرحوا به، ولكن بعض الفقهاء جوَّزوا تحويل الفرض نفلاً لعذر وتحويل الجمعة إلى الظهر إذا خرج الوقت؛ إذ عدوه شرطًا لصحتها. قال الشيخ موفق الدين الحنبلي في المغنى: وإذا دخل في الصلاة بنية مترددة بين إتمامها وقطعها لم تصح؛ لأن النية عزم جازم، ومع التردد لا يحصل الجزم، وإن تلبس بها بنية صحيحة ثم نوى قطعها والخروج منها بطلت وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا تبطل بذلك؛ لأنها عبادة صح دخوله فيها فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج ... إلخ (ثم قال) : وإذا أحرم بفريضة ثم نوى نقلها إلى فريضة أخرى بطلت الأولى لأنه قطع نيتها، ولم تصح الثانية لأنه لم ينوها من أولها. اهـ. ثم ذكر خلافًا عن الحنابلة في نقلها إلى نفل لعذر أو لغرض صحيح أو بدونه، والراجح عندهم جوازه لغرض صحيح كالشافعية الذين توسعوا في العذر، ومثلوا له بقول الشمس الرملي الشافعي في شرحه للمنهاج: ولو قلب المصلي صلاته التي هو فيها صلاة أخرى عالمًا عامدًا بطلت، أو أتى بمنافي الفرض لا النفل كأن أحرم القادر بالفرض قاعدًا أو أحرم به قبل وقته عامدًا عالمًا - لم تنعقد صلاته لتلاعبه، فإن كان له عذر كظنه دخول الوقت فأحرم بالفرض أو قلبه نفلاً لإدراك جماعة مشروعة وهو منفرد فسلم من ركعتين ليدركها أو ركع مسبوقًا قبل تمام التكبيرة جاهلاً - انقلبت نفلاً لعذره؛ إذ لا يلزم من بطلان الخصوص بطلان العموم. ولو قلبها معينًا كركعتي الضحى لم تصح لافتقاره إلى تعيين.ا. هـ. والمراد بالخصوص في كلامه هنا الفرض وبالعموم النفل. وأما قلب الجمعة ظهرًا فقد جزم به الشافعية في حال خروج الوقت بناء أو استئنافًا، والمراد بالبناء ما بدأوا به من صلاة الجمعة أربع ركعات وبالاستئناف قلب ما بدأوا به من فريضة الجمعة نفلاً كما تقدم في المصلي المنفرد، واستئناف صلاة الظهر بنيته بعد السلام منها. ومذهب الحنابلة أظهر بل هو الظاهر في المسألة، وهو أن يتموها جمعة وإن خرج الوقت في أثنائها كسائر الصلوات. قال صاحب الفروع منهم: فإن خرج (أي وقت الجمعة) صلوا ظهرًا فإن كانوا فيها أتموا جمعة، قال بعضهم نص عليه، وهو ظاهر المذهب وفاقًا لمالك. وعنه قيل ركعة لا. اختاره الخرقي والشيخ. ثم هل يتمونها ظهرًا وفاقًا للشافعي أو يستأنفونها وفاقًا لأبي حنيفة؟ فيه وجهان اهـ. وذكر مصحح الفروع أن الصحيح من الوجهين أن يتمها ظهرًا إن كان قد نوى الظهر وإلا استأنفها. فهذه مدارك المجتهدين في المسألة، والمختار عندنا منها عدم صحة تحويل صلاة الجمعة إلى الظهر وأمثاله، والله أعلم.

المسيحية الإسلامية القاديانية الملقبة بالأحمدية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسيحية الإسلامية القاديانية الملقبة بالأحمدية نجم بمصر هذه الأيام قرن بدعة (ميرزا غلام أحمد القادياني) بعد أن كانت محصورة في الهند ثم بثت دعوتها في أوروبة والبلاد الأمريكية فصارت كالبهائية ذات دعاة وأتباع يبثون تعاليمهم في رسائل يطبعونها ويوزعونها، ومقالات ينشرونها. كانت مسألة الاعتقاد بالمهدي المنتظر مثار فتن كثيرة وبدع كبيرة، وسفك دماء غزيرة، كان آخر مظاهرها في البلاد الإفريقية مهدي السودان، وفي آسيا (الباب) الذي ظهر في إيران، وكان أمثال هؤلاء المبتدعين غافلين عن مسألة الاعتقاد بنزول المسيح على الأرض في آخر الزمان حتى قام بها البهائية ونظموا دعوتها وجعلوها قاعدة دعوتهم للنصارى، كما كانوا جعلوا قاعدة دعوتهم للمسلمين مسألة المهدي المنتظر، ولكل من الدعوتين عندهم درجات كدرجات سلفهم من باطنية الإسماعيلية، ولكنها مناسبة لحال هذا الزمان، وآخر درجاتها دعوى الألوهية والربوبية لزعيمهم البهاء. ثم ظهر ميرزا غلام أحمد القادياني في الهند فادعى أنه هو المسيح المنتظر، وأن الوحي نزل عليه بذلك، وقد رددنا عليه في عصره، ورد علينا وهجانا في مصنف خاص أملاه عليه وحيه الشيطاني، وكان من وحيه هذا أن صاحب المنار (سيهزم فلا يرى) ولو نزل بنا قضاء الله تعالى بموت أو نكبة يبطل بها المنار، لكان ذلك من أكبر فتن أتباعه الأغرار، ولكن ظهور الكذب والخذلان مما ينساه أو لا يراه أمثال هؤلاء العميان. ضل كثير من المسلمين بدعوتي البهائية والقاديانية، فلهذا كانت الدولة البريطانية مؤيدة ومساعدة لهما في الهند وإيران وفلسطين ومصر، كلهم مخلصون لها، مؤيدون لسياستها، وقد كان حسين روحي أفندي البهائي أمين معتمدها في الحجاز منذ بدء الثورة الحجازية، وقد كنا نظن أن بدعة القادياني لا تتجاوز بعد موته ما نسخه من أحكام الشريعة - وأهمها وجوب الجهاد - ثم علمنا أنهم يدعون استمرار الوحي والنبوة في أتباعه، وقد نشروا في هذه الأيام رسالة مطبوعة في الدعوة إلى دينهم المسيحي الإسلامي، وضعها بالإنجليزية (ميرزا بشير الدين محمود أحمد) زعيم الحركة الأحمدية من قاديان - بنجاب بلاد الهند. وترجمها بالعربية (الرحالة عبد المجيد كامل) صاحب (رحلة في بلاد الناس) وطبع على نفقة الحركة الأحمدية بمصر. موضوع الرسالة (الصلاة عند الإسلام) وصلاتهم صلاة المسلمين في الصورة، وإنما تخالفها في المعنى والعقيدة، فقد علق واضع الرسالة على تفسير {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 7) تعليقًا صرح فيه بأصل ارتدادهم عن الإسلام وهذا نصه: (ملحوظة: لقد وضع كل دين من الأديان المتبعة نموذجًا خصوصيًّا، ولا شك أن أفضل تلك النماذج هو ما وضعه الإسلام. إن في هذا الدعاء لإرشاد المسلم بأن يتوسل إلى الله بأن يهديه صراط الذين أنعم عليهم، أو بعبارة أخرى: يتوسل إلى الله أن ينعم عليه بمثل ما أنعم به على أولئك المنعم عليهم الذين قيل عنهم في موضع آخر من القرآن ما يفهم منه أنهم أصحاب النبي والصديقون والشهداء والصالحون، وقيل في موضع آخر: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّنَ العَالَمِينَ} (المائدة: 20) . وجاء في آية أخرى أن الذين أنعم الله عليهم إنما هم الأنبياء [1] ، فالنبوة إذًا هي أسمى المراتب التي يتطلع إليها المسلم، لذلك ابتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يحشره في زمرة الأنبياء، وهو نموذج لم ينسج على منواله دين من الأديان على الإطلاق، بل جميعها سدت طريق الوحي الإلهي في وجوه العالم، فالدين الإسلامي وحده هو الذي يرشد تابعيه إلى أن طريق الوحي لا يمكن أن يُسَدُّ في وجوه الناس؛ إذ إن الله الذي خاطب الناس وقتًا ما لن يكف عن هداية شعبه ومخاطبته) . (إن هذا النموذج فضلا عن كونه نافٍ للاستحالة، فإنه يفتح أمام ذوي القلوب الطاهرة طرق النجاح التي لا نهاية لها، ويرسم لهم طريق السعي للاتصال بالله خالق الأكوان ومنبع كل قوة ومحبة) . (لقد أنبأنا النبي الأقدس صلى الله عليه وسلم بظهور أحد أعاظم أولئك الذين أنعم الله عليهم واسمه (المهدي والمسيح) فهو يُدعى (المهدي) لأنه يهدي مسلمي وقته الذين انغمسوا في الخطايا ونسوا أوامر الدين الإسلامي حتى لم يعد في أقوالهم وأفعالهم أثر لجمال الإيمان، ويسمى (المسيح) لأنه يتمم النبوات المختصة بعودة يسوع المسيح إلى الأرض، وهداية العالم المسيحي الذي خالف التعاليم المسيحية كل المخالفة) . (ولقد ظهر ذلك الذات في (الهند) بمحل يقال له (قاديان) وفي ظرف ثلاثين عامًا من حياته الرسولية، قوى دعائم الإسلام بمعجزات جديدة من عند الله، وقد يوجد الآن آلاف من حوارييه يستمعون الوحي الإلهي) . (ولقد عاش عيشة ملؤها الهداية الروحية بين أشياعه الذين فازوا فوزًا مبينًا باتجاه العالم إليهم، فهناك الشيخ (فاتح محمد سيال) وحضرة (عبد الرحيم نيار) يبشران بالإسلام في إنجلترا، ومفتي (محمد صادق) في أمريكا، فلا غرو أن إعلام الناس بأنه من الممكن الحصول على الوحي في أي وقت قد كان من الأخبار السارة التي تدعو إلى تشجيع المسلم الحقيقي في كل آن، وتعد قياسًا للحكم بين الأديان المختلفة) . (إن الدين الصحيح الحي لهو الذي لا يخلو من الثمر أبدًا، ولا ثمرة للدين إلا الاتصال بالله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الوحي) . (ليس الإسلام كغيره من الأديان التي تتمشى بأتباعها إلى أحط الدرجات بل هو يسمو بتابعيه إلى أعلى ذروة الخيال الذي يمكن أن يصل إليه فكر الإنسان، وعلى ذلك فهو أوحد الأديان الذي يشفي غلة الطبيعة البشرية، وأن أكبر حجة يتمسك بها الملحد ضد جميع الأديان إنما هي قوله: إنه إذا كان هناك إله كما يدعون فلماذا لا يظهر بنفسه للناس؟ أما هذا الاعتراض فلا يمكن أن يوجه إلى الإسلام الذي لا يعتمد في براهينه على القصص الماضية، بل يعلن بأن هناك رجال (؟) حتى الآن يُوحَى إليهم عَلَمُهم الزعيم الروحي (ومهدي هذا الزمن) . اهـ. (رد المنار) إن بين مسيح الهند الدجال وبين باب إيران شبهًا في أن كلاًّ منهما كان مصابًا بجنون الهوس الديني حتى لا يبعد أن يكون معتقدًا لما ادعاه، وفي أن تأثيره كان محصورًا في الأعاجم؛ إذ تصدى كل منهما لتأويل القرآن والأحاديث بجرأة وجهل وإسراف في الكلام، فافتُتن بهما بعض جهلة الأعاجم؛ إذ صدقوا أنهما بالإلهام والوحي أمكنهما أن يجولا تلك الجولات الواسعة في كيان الله عز وجل، ولو كانوا يفهمون العربية لسخروا من هوسهما ووصيهما الشيطاني. وكان القادياني أعلم بالعربية وآدابها من الباب، فهو قد عني بفنونها وآدابها كل العناية فكان يحفظ مقامات الحريري والمعلقات السبع وكثيرًا من المنظوم والمنثور، ولكنه على هذا كله لم يحصل ملكة الإعراب ولا ذوق الآداب فيها فكان كثير اللحن والغلط فيما يقول ويكتب، وكثير الخطأ والشطط فيما يفسر به الكلام، وكان لصًّا جريئًا على السرقة بمزج شعره ونثره بما يحفظه بعينه أو بتغيير ما فيه، فكان أتباعه يخدعون الأعاجم بذلك، وتجرأ هو على دعوة إعجاز كلامه كالقرآن العزيز ولذلك عظم عليه الأمر عندما قلت في ردي على كتابه: (إعجاز أحمدي) إنه كثير اللحن والغلط، واللغو الذي لا يفهم له معنى صحيح في هذه اللغة، وألف كتابًا خاصًّا في الشكوى والتبرم من رَدِّي ظهر فيه من ضعف نفسه، واضطراب حدسه، ما يدل على أنه مخذول لا مؤَيَّد من الله تعالى، ولولا تناقض هؤلاء الموسوسين لعددت هذا دليلاً على أنه متعمد لقول الزور، غير مخدوع بنفسه ولا مغرور، فقد عُهِدَ مثلُ هذا التناقض من أمثاله: ادعى رجلٌ سوري النبوةَ وجاء ليظهر نبوته في مصر، فلما بلغ بورسعيد أرسل منها برقيات إلى الخديو ولورد كرومر ورئيس النظار ورئيس تحرير الأهرام وصاحب المنار يبشرهم بوقت تشريفه لعاصمة ملكه، وكان يتردد عليَّ ويقول لي: إنك ستكون مني كأبي بكر من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كان يقبل يدي أحيانًا ويتذلل لي لأساعده على إظهار دعوته! مثال ذلك أنه ترجح عنده أن يستبدل الآستانة بالقاهرة، فكلفني أن أكلم رؤوف باشا المعتمد العثماني بأن يطلب له من الدولة أسطولاً أو بارجة حربية لأجل نقله إلى الآستانة، قلت له: إني إن أطلب هذا من رؤوف باشا يعتقد أنني سُلِبْتُ عقلي، ولو طلب هو هذا من الآستانة يعتقدون أنه جُنَّ ويستبدلون به غيره، وأما أنت فيمكنك أن تدفع تهمة الجنون عن نفسك بمعجزة تظهرها للباشا إن كنت نبيًّا كما تقول … قلت: إن هؤلاء قد ضلوا بجهل العربية، وهذا شاهد قطعي على وجوب هذه اللغة على كل مسلم، فإذا كان من ادعى أنه المسيح المُؤَيَّد بالإعجاز في كتبه يزعم أن البسملة تدل على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى مسيحيته هو، فلا عجب إذا ادعى هو وأتباعه أن قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (الفاتحة: 6-7) يدل على طلب النبوة بدليل أن المنعم عليهم (إنما هم الأنبياء) فعلى هذا يكون المفروض على كل مسلم أن يطلب من الله تعالى في كل ركعة من صلاته أن يجعله نبيًّا يوحى إليه هذا الفهم الذي جاءنا به هؤلاء الأعاجم قد فات الصحابة والتابعين من العرب الخُلَّص ومواليهم، وفات جميع واضعي فنون هذه اللغة لضبط ألفاظها ومعانيها وفلسفتها وآدابها وأسرار بلاغتها، وجميع من فسر القرآن من السلف والخلف - حتى قام بعض أعاجم الهند في القرن الرابع عشر يزعمون أنه أصل الإسلام وركنه الأعظم الذي امتاز به على جميع الأديان. لقد كنت أظن أن ضلالة هؤلاء المسيحيين القاديانيين قد وقفت عند حد لا تتجاوزه هو دعوى ظهور المسيح والمهدي المنتظرَيْنِ، وأن هذه الدعوى ستموت ويخجل أهلها منها بظهور كذب مسيحهم في دعواه أنه أبطل الحرب والجهاد من الأرض، واستبدل بهما السلم العام، وقد ادعى البهائية عين هذه الدعوى؛ إذ كان كل منهما يتوهم أن أوروبة تريد ذلك، ثم كذبت أوروبة الدينين الجديدين، بحرب طرابلس الغرب وحرب البلقان، ثم بالحرب العامة التي لم يسبق لها نظير في تاريخ العالم باتساع شرها، وعظائم ضرها، ولكن ظهور كذب دعوى البهاء والقادياني لا يرجع زعماء أديانهما عنها، وترك هذه الرياسة ونعيمها وثروتها، ولا يرجع من قلدوهم تقليدًا أصم أعمى، كما أن رد السواد الأعظم من المسلمين والنصارى لدعواهما لم يمنعهما من الإصرار على ادعاء هداية أهل الدينين وتغيير حال الأرض. وإذ قد ظهر لي أن القاديانية قد ازدادوا ضلالاً، وأنهم نظموا دعوتهم وحاولوا تعميمها كإخوانهم مسيحيي البهائية، فسأجدد الرد عليهم وتفنيد مزاعمهم في مقالات تترى في الأجزاء الآتية، إن شاء الله تعالى.

الأستاذ الخوجه كمال الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأستاذ الخوجه كمال الدين أشرنا في الجزء الماضي إلى ما كان يقال من أن الرجل من شيعة المسيحية القاديانية وإننا سنعتمد في استبانة الحق في ذلك على سؤاله عنه بعد عودته من الحجاز، وقد اتفق أن كتبت بعض الجرائد اليومية كلامًا جازمًا في هذا المعنى، فلما عاد الأستاذ كمال الدين من الحجاز اطلع عليه، وسئل عنه فنشر في الجرائد بيانًا صرَّح فيه بأنه مسلم سني حنفي، وأنه لا يدين بدين القاديانية، ولا هو من شيعة مسيحهم الكذاب، فنهنئه ونهنئ أصدقاءه من المسلمين بذلك، حامدين لله عز وجل.

حقيقة الوهابية ومنشأ الطعن فيها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حقيقة الوهابية ومنشأ الطعن فيها إن سبب قذف الوهابية بالابتداع والكفر سياسي مَحْضٌ. كان أولاً لتنفير المسلمين منهم لاستيلائهم على الحجاز وخوف الترك أن يقيموا دولة عربية إلخ؛ ولذلك كان الناس يهيجون عليهم تبعًا لسخط الدولة، ويسكتون عنهم إذا سكنت ريح السياسة، إلى أن جددها الملك حسين في الحجاز وولده الملك فيصل في العراق وولده الأمير عبد الله في سورية وفلسطين بعد توليتهم لأمور هذه البلاد. أصدر الملك حسين عدة منشورات في جريدته (القبلة) في 9 شوال سنة 1336 وغرة ربيع الأول سنة 1337 و8 جمادى الأول منها رماهم فيها بالكفر، وتكفير أهل السنة، والطعن في الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم … وقد صرح في الثاني منها بأن حكومته رأت أن تمحو بدعتهم بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن سائر المسلمين … وفي الثالث (أنه لا بد للسلطان من قتالهم بكل موجوديته) إذا لم ينفع ما بدأ به من الدفاع لمحو بدعهم وكفرهم. ويعني بالسلطان نفسَهُ، فإنه يرى أنه إمام المسلمين وسلطانهم. وفعل الملك فيصل ما فعل في العراق وكان من مؤتمر الشيعة في كربلاء ما كان، ثم رأينا بعض أهل دمشق وبيروت يتقربون إليه وإلى ولده الأمير عبد الله بطبع الرسائل في تكفيرهم ورميهم بما يرميهم هو به وما بُهِتُوا عند ظهور أمرهم ويزيدون، حتى قال بعضهم: إن محمد عبد الوهاب كان يبغض النبي صلى الله عليه وسلم ويريد أن يدعي النبوة! ! دع أقوال من يزعمون أنهم ينكرون الشفاعة والكرامات كالمعتزلة، وقد اشتهر أن هذا كله بإغراء الأمير عبد الله. ثم سرى ذلك إلى مصر وظهر له أثر في بعض الجرائد من حيث لا يدري أصحابها من أين جاء. وقد رد على هذه الرسائل بعض علماء الشام، ووصل الأصل والرد إلى نجد فجمع بعض علمائها عدة رسائل لمتقدمي علمائهم ومتأخريهم طبعت في مطبعتنا، فرأينا أن نقتبس منها ما يأتي ليعلم المطلعون عليه حقيقة أمرهم ومنشأ بهتهم والافتراء عليهم، وهو: نموذج من مناظرة الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد عبد الوهاب لعلماء مكة وكان فيمن حضر مع علماء مكة وشاهد غالب ما صار: حسين بن محمد بن الحسين الإبريقي الحضرمي ثم الحياني، ولم يزل يتردد علينا ويجتمع بسعود وخاصته من أهل المعرفة ويسأل عن مسألة الشفاعة التي جرد السيف بسببها من دون حياء ولا خجل لعدم سابقة جرم له. فأخبرناه بأن مذهبنا في أصول الدين مذهب أهل السنة والجماعة، وطريقنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم، والأعلم والأحكم، خلافًا لمن قال: طريقة الخلف أعلم، وهي أنّا نُقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها، ونكل علمها إلى الله مع اعتقاد حقائقها، فإن مالكًا وهو من أجلّ علماء السلف لما سئل عن الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ونعتقد أن الخير والشر كله بمشيئة الله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما أراد، فإن العبد لا يقدر على خلق أفعاله، بل له كسب رتب عليه الثواب فضلاً، والعقاب عدلاً، لا يجب على الله لعبده شيء، وأنه يراه المؤمنون في الآخرة بلا كيف ولا إحاطة. ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل ولا ننكر على مَن قلَّد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم لعدم ضبط مذاهب الغير كالرافضة والزيدية والإمامية ونحوهم [1] لا نُقِرُّهم ظاهرًا على شيء من مذاهبهم الفاسدة [2] ؛ بل نجبرهم على تقليد أحد الأئمة الأربعة. ولا نستحق مرتبة الاجتهاد المطلق ولا أحد منا يدعيها، إلا أنَّا في بعض المسائل إذا صح لنا نص جلي من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصَّص ولا معارَض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة أخذنا به وتركنا المذهب كإرث الجد والإخوة، فإنَّا نقدم الجد بالإرث، وإن خالفه مذهب الحنابلة. ولا نفتش على أحد في مذهبه ولا نعترض عليه إلا إذا اطلعنا على نص جلي مخالف لمذهب أحد الأئمة وكانت المسألة مما يحصل بها شعائر ظاهرة كإمام الصلاة فنأمر الحنفي والمالكي مثلاً بالمحافظة على نحو الطمأنينة في الاعتدال والجلوس بين السجدتين؛ لوضوح ذلك، بخلاف جهر الإمام الشافعي بالبسملة فلا نأمره بالإسرار، وشتان ما بين المسألتين، فإذا قوي الدليل أرشدناهم بالنص وإن خالف المذهب وذلك يكون نادرًا جدًّا، ولا مانع من الاجتهاد في بعض المذاهب دون بعض، ولا مناقضة لعدم الاجتهاد المطلق. وقد سبق جمع من أئمة المذاهب الأربعة لاختيارات لهم في بعض المسائل مخالفة للمذهب الملتزمين تقليد صاحبه. ثم إنَّا نستعين على فهم كتاب الله بالتفاسير المتداولة المعتبرة ومن أجلِّها لدينا تفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير والشافعي، وكذلك البغوي والبيضاوي والخازن والحداد والجلالين وغيرهم، وعلى فهم الحديث بشرح الأئمة المبرزين كالعسقلاني والقسطلاني على البخاري والنووي على مسلم والمناوي على الجامع الصغير، ونحرص على كتب الحديث خصوصًا الأمهات الست وشروحها، ونعتني بسائر الكتب في سائر الفنون أصولاً وفروعًا، وقواعد وسِيَرًا ونحوًا وصرفًا وجميع علوم الأئمة، ولا نأمر بإتلاف شيء من المؤلفات أصلاً إلا ما اشتمل على ما يوقع الناس في الشرك كروض الرياحين. وما يحصل بسببه خلل في العقائد كعلم المنطق فإنه قد حرَّمه جمع من العلماء [3] على أنا لا نفحص عن مثل ذلك وكالدلائل (؟) إلا إن تظاهر به صاحبه معاندًا أُتلف عليه، وما اتفق لبعض البدو من إتلاف بعض كتب أهل الطائف إنما صدر من بعض الجهلة وقد زُجِرَ هو وغيره عن مثل ذلك. ومما نحن عليه أنا لا نرى سبي العرب ولم نفعله ولم نقاتل غيرهم، ولا نرى قتل النساء والصبيان. وأما ما يُكْذَب علينا سترًا للحق وتلبيسًا على الخلق، بأنا نفسر القرآن برأينا، ونأخذ من الحديث ما وافق أفهامنا، من دون مراجعة شرح ولا معول على شيخ، وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره، وعصا أحدنا أنفع له منه، وليس له شفاعة، وأن زيارته غير مندوبة، وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى نزل عليه {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) مع كون الآية مدنية، وأنَّا لا نعتمد على أقوال العلماء، فنتلف مؤلفات أهل المذاهب لكون فيها الحق والباطل، وأنا مجسمة، وأنا نكفر الناس على الإطلاق أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أن لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرر عليه بأنه كان مشركًا، وأن أبويه ماتا على الشرك بالله، وأنا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقًا، وأن مَن دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى الديون، وأنا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم، وأنا نجبرهم على تزويج غير الكفء لهم،، وأنا نجبر بعض الشيوخ على فراق زوجته الشابة لتنكح شابًّا إذا ترافعوا إلينا. فلا وجه لذلك!! فجميع هذه الخرافات وأشباهها لما استفُهمنا عنها. من ذكر أو لا وكان جوابنا في كل مسألة من ذلك {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) . فمن روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا فقد كذب علينا وافترى، ومن شاهد حالنا، وحضر مجالسنا، وتحقق ما عندنا، علم قطعيًّا أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين وإخوان الشياطين، تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه بأن الله لا يغفره ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فإنا نعتقد أن من فعل أنواعًا من الكبائر كقتل المسلم بغير حق والزنا والربا وشرب الخمر وتكرر منه ذلك أنه لا يخرج بفعله ذلك عن دائرة الإسلام، ولا يخلد به في دار الانتقام، إذا مات موحدًا بجميع أنواع العبادة. والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق وأنه حي في قبره حياة برزخية أبلغ من حياة الشهداء؛ للنصوص عليها في التنزيل؛ إذ هو أفضل منهم بلا ريب، وأنه يسمع سلام المسلم عليه، وتسن زيارته إلا إنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه - وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس - ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه- عليه الصلاة والسلام - الواردة عنه فقد فاز بسعادة الدارين، وكُفِيَ همَّه وغمَّه كما جاء في الحديث عنه. ولا ننكر كرامات الأولياء ونعترف لهم بالحق وأنهم على هدًى من ربهم، مهما ساروا على الطريقة الشرعية، والقوانين المرعية، إلا أنهم لا يستحقون شيئًا من أنواع العبادات لا حال الحياة ولا بعد الممات، بل يُطْلَب من أحدهم الدعاء في حال حياته بل ومن كل مسلم، فقد جاء في الحديث: (دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه) الحديث، وأمر صلى الله عليه وسلم عمر وعليًّا بسؤال الاستغفار من أويس ففعلا. ونثبت الشفاعة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة حسب ما ورد، وكذا نثبتها لسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسب ما ورد أيضًا، ونسألها من المالك لها والآذن فيها لمن يشاء من الموحدين الذين هم أسعد الناس بها كما ورد، بأن يقول أحدنا متضرعًا إلى الله تعالى: اللهم شفِّع نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم فينا يوم القيامة، أو: اللهم شفع فينا عبادك الصالحين، أو ملائكتك، أو نحو ذلك مما يطلب من الله لا منهم، فلا يقال: يا رسول الله أو: بولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها، كأدركني أو أغثني أو اشفني أو انصرني على عدوي، ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فإذا طلبت ذلك مما ذكر في أيام البرزخ كان من أقسام الشرك؛ إذ لم يرد بذلك نص من كتاب أو سنة ولا أثر من السلف الصالح على ذلك، بل ورد الكتاب والسنة وإجماع السلف أن ذلك شرك أكبر قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: ما تقول في الحلف بغير الله والتوسل به؟ قلت: ننظر إلى حال المُقْسِم إن قصد به التعظيم كتعظيم الله أو أشد كما يقع لبعض غلاة المشركين من أهل زماننا إذا استحلفه بشيخه - أي معبوده الذي يعتمد في جميع أموره عليه - لا يرضى أن يحلف إذا كان كاذبًا أو شاكًّا، وإذا استحلف بالله فقط رضي - فهو كافر من أقبح المشركين وأجهلهم إجماعًا. وإن لم يقصد التعظيم بل سبق لسانه إليه فهذا ليس بشرك أكبر، فيُنهى عنه ويُزجر ويؤمر صاحبه بالاستغفار عن تلك الهفوة. وأما التوسل وهو أن يقول القائل: اللهم إني أتوسل إليك بجاه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، أو بحق نبيك أو بجاه عبادك الصالحين أو بحق عبدك فلان، فهذا من أقسام البدعة المذمومة، ولم يرد بذلك نص كرفع الصوت بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الآذان. وأما أهل البيت فقد ورد سؤال على الدرعية في مثل ذلك وعن جواز نكاح الفاطمية غير الفاطمي وكان الجواب عليه ما نصه: أهل البيت رضوان الله عليهم لا شك في طلب حبهم ومودتهم؛ لما ورد فيه من كتاب وسنة فيجب حبهم ومودتهم، إلا أن الإسلام ساوى بين الخلق فلا فضل لأحد إلا بالتقوى، ولهم مع ذلك التوقير والتكريم، والتقديم في الطريق إلى موضع التكريم، ونحو ذلك إذا تقارب أحدهم مع غيره في السن أو العلم، وما اعتيد في بعض البلاد من تقديم صغيرهم وجاهلهم على من هو أمثل منه حتى إنه إذا لم يقبل يده كلما صافحه عاتبه وصارمه أو ضارَّ به أو خاصمه، فهذا مما لم يرد به نص ولا دل عل

الاستفتاء في ملك الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاستفتاء في مَلك الحجاز موقفه الحاضر. سلطته، ومحالفته دولة مسيحية على أن تحمي الحجاز وتمتاز فيه على المسلمين، ضربه الضرائب على الحجاج، ومصادرة أموالهم، ومنعه من شاء أن يحج بيت الله. صفات سلطته، خدعة استقلاله. صفته الحقيقية وحكم الشرع فيها. الوحدة العربية. ما يجب على المسلمين في أمر الحجاز. استفتينا في هذه المسائل قولاً وكتابة في الجرائد كما استُفتِيَ غيرُنا فوجب علينا أن نجيب بما نعلم فيها؛ إذ لم نر أحدًا أجاب عنها كلها، وقلما يوجد من أحاط بما أحطنا به منها، فنقول: موقفه الحاضر: أسرف حسين بن علي المتغلب على الحجاز في استبداده، وفي احتقاره للعالم الإسلامي كله كاحتقاره لأهل الحجاز المستضعفين، وحَسِبَ أن حرمَ الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم مِلكٌ له يتصرف فيهما كما يشاء، ويستغلهما كيفما أراد، وأنه متى نال تعضيد الدولة البريطانية وحمايتها، لا يبالي بأحد من دونها، بل هو يعد الحجاز وسائر بلاد العرب جزءًا من إمبراطوريتها. ورضي أن يكون هو وولداه فيصل وعبد الله من عمالها، بدليل أنه طلب منها مرارًا أن تولي غيره، وتختار له ولأولاده مكانًا آخر يقيمون فيه، ونشر ذلك في جريدته (القبلة) وسيجيء نص عبارته في ذلك (وإن سبق نشره في المنار) . والأصل في هذا عنده ما يسميه (مقررات النهضة) وهي ما اشترطه على الإنجليز للقيام بالثورة والخروج على الدولة، ومنها حماية الإنجليز للبلاد في داخلها وخارجها، حتى في حال الفتن الداخلية بين أهلها. ومنها الاعتراف بجعل الأمة العربية في حكم القاصر في حجر الدولة البريطانية. وقد كان يكتم هذه المقررات حتى نشرها ولده فيصل في دمشق والشام، فلما رأى أنه لم ينكرها عليه أحد من المسلمين غير صاحب المنار، توهم أن العالم الإسلامي لا يهتم بأمر الحجاز، أو لا يتجرأ على إنكار شيء تتفق عليه الجلالة الهاشمية مع العظمة البريطانية (هذا تعبيره) حتى بدا له في هذه الأيام ما لم يكن في الحسبان. تلك (المقررات) كانت قد دارت في شأنها مكاتبات بينه وبين المستر هنري مكماهون الذي كان يسجل عليه كل ما اعترف به من الحقوق للدولة البريطانية ويتحفظ من التصريح له بما طلب لنفسه من توليته على جميع البلاد العربية في ظل الوصاية البريطانية، فاستثنى منها معظم سورية الشمالية وكليكية، واحتفظ بحقوق بريطانية في العراق (إلى آخر ما هنالك) وقد نشرنا هذه المكتوبات بنصها في مجلد المنار الثالث والعشرين. وسنذكر بعضها هنا، ونرى أنه لولا السكوت فيها عن استثناء فلسطين من الدخول في المملكة العربية التي وعد بها لنفذت تلك المقررات الموبقات، ولكن رغبة الإنجليز في حمل الملك حسين على الاعتراف لهم بفلسطين وما يلزمه من إقرار وعدهم لليهود بجعلها وطنًا قوميًّا لهم، هي التي دعتهم إلى وضع معاهدة بينهم وبينه يعترف لهم فيها بفلسطين كالعراق وشرق الأردن، ويلطفون فيها ما يذكر بشأن حماية البلاد العربية كلها، فلا يكون صريحًا كمقررات النهضة المحتفظ بها. طال أمد المراجعة والمناقشة في هذه المعاهدة؛ إذ كانت توضع بصيغة فاضحة مفضوحة ليس للملك حسين فيها ما يرضاه ثمنًا لخزي ما يعترف به، حتى أتيح للإنجليز أن يضعوا مع سمساره الدكتور ناجي الأصيل الصيغة الراضية المرضية عنده التي أقام لها الاحتفالات في بلاده وأعلن الرضا بها واتخذ يوم الاعتراف بها عيدًا قوميًّا وقبل التهاني عليها، ولقب بملك البلاد العربية ومؤسسها! ! وأراد خداع أهل فلسطين بأنه أنقذهم بها من اليهود كما أنقذ الحجاز وسائر البلاد العربية من الترك لأجل إخماد الحركة الوطنية فيها، وهددهم بإلقاء المسئولية عليهم إذا حصل ما يوجبها في البلاد، فنشرت السلطة البريطانية الحاكمة في فلسطين خلاصة المعاهدة فكان هذا سببًا لإطلاع الناس كافة على سر المعاهدة المكتوم، فماذا كان من تأثيره؟ هبَّ أهل فلسطين فعقدوا مؤتمرًا عامًّا احتجوا فيه على المعاهدة وقرروا أنه ليس للملك حسين أن يعقد معاهدة يتقرر فيها شيء في أمر بلادهم بدون رأيهم ولا رضاهم، وهب مسلمو مصر وغيرها من الأقطار ينكرون على الرجل أن يكون له حق في عقد معاهدة تجعل الحرمين الشريفين تحت حماية دولة نصرانية أو تجعل لرعاياها أدنى امتياز في الحجاز، فما فعل المعتدي المُفْتَات؟ كتب إلى الفلسطينيين يرجوهم أن يحسنوا الظن به ويفوضوا الأمر إليه وهزئ وتهكم بإنكار المصريين عليه فرد عليهم في جريدته (القبلة) معبرًا عنهم بكلمة (أخو ثومها وبصلها) فلما اشتد الإنكار والاحتجاج منهم بغيرة الدين أصدر منشورًا رسميًّا جمع فيه بين تجهيلهم والتهكم بهم، وبين التعريض برميهم بالكفر بما وضعوا من الدستور لحكومتهم، كما كفَّر الترك وحكومتهم من قبل بمثل ذلك. ولكن أكثر المصريين لم يفهموا مراده هذا من منشوره لفساد لغته، وعدم علمهم برأيه في القوانين والعاملين بها. فاشتغلوا بالتهكم بعبارته كما تهكم بهم بالإشارة إلى قول الشاعر: سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار ذلك بأن جريدة القبلة كانت قد نشرت مقالة في تكفير الدولة العثمانية في أول العهد بالثورة الحجازية؛ لتكون من حجج أمير مكة العثماني بالخروج على دولته. ثم أعادت نشرها في أوائل هذا العام الهجري عندما اشتد النزاع بين الحكومة التركية الجديدة والحكومة البريطانية؛ انتصارًا من الملك الحجازي لدولته الحامية له، واستدلت على كفر الترك بوضعهم للقانون الأساسي وبين أيديهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) بل زعمت أنه لا يمكن لمن يزعم أنه يؤمن بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم التردد في حصول الحرج مما قضاه (في الذين ألفوا القانون الأساسي وسنوا أحكامه ورضوه وارتضوه وجعلوه دستوراً للأعمال والأحكام. ولا مشاحة والحالة هذه في أنهم لا غاية ولا قصد لهم من اعتنائهم بجمعه وتنسيقه إلا دعوى أن هنالك نقصًا أو خطأً - والعياذ بالله تعالى - في كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله عليه وسلامه فأرادوا إكمالهما وتعديلهما وإلا فلماذا؟) . هذا أحد نصوص جريدة القبلة في تكفير الترك بوضع الدستور، وهو يتضمن تكفير من لم يكفرهم به. ثم استدلت أيضًا بعدم إقامتهم لحدود الزنا والسرقة للقصاص الشرعي ومن شاء فليراجع العددين 617 و 624 من جريدة القبلة أو المقالات التي رد عليها بها (السيد العلوي) ونشرت في جريدة الأخبار المصرية في شهري صفر وربيع الأول من هذا العام ومنه يعلم مغزى استفتاء تهكم بلاغة عسلطته [1] الهاشمية (ويا للأسف) في قوله: (تأليف الدستور - وبين أيديهم كتاب الله وسنة رسوله) . وبعد أن بيَّن للمصريين مكانتهم من الدين عنده أراد أن يبين لهم مكانة حكومتهم لدى جلاله، وقدر استقلالها في جنب استقلاله، فعارضها في إرسال بعثة طبية من الحجيج المصري تنقص من استقلاله، وكان يقدر أنها تخضع لعزة سلطانه كما خضعت في مسألة الحجر الصحي، ولم يخطر بباله أن تفعل ما فعلت، أما وقد فعلت فكل شيء أسهل عليه من الرجوع عن قول قاله أو رأي أرتاه وعرف عنه، لذلك أقدم على المشاكسة التي أدت إلى حرمان ركب المحمل الرسمي مع بَعْثِهِ الطبي من أداء فريضة الحج وحرمان أهل الحجاز مما كانوا يربحونه منهم بغير مبالاة بسوء العاقبة وقبح الأحدوثة. فهذا ملخص موقف الرجل في الحجاز: إصرار على عقد المحالفة مع الإنجليز وتعجيل بما أباحته له من ضرب الضرائب على كل من يريد الحج إلى بيت الله الحرام قبل دخول الحجاز، ومصادرة لأموالهم بعد دخوله، واستبداد في أمر صحتهم، ومنع لمن شاء من الحج لأسباب سياسية أو مالية أو وهمية، كما منع أهل نجد عدة سنين. صفات سلطته في الحجاز: وأما سلطته فلها أربع صفات: (الأولى) صفته عند الإنجليز ومن اعترف بحكومته من الإفرنج، وهو أنه ملك مطلق ذو حكومة شخصية مستبدة، فكل ما يعقدونه معه من اتفاق أو عهد أو امتياز يكون نافذًا، ولهم أن يطالبوا به مَن بعده وإن تغير شكل الحكومة الحجازية، وهم في هذا مخطئون. (الثانية) : صفته في نظر جمهور العالم الإسلامي، وهو أنه خارجي متغلب خرج على سلطانه وخليفته كما يخرج البغاة وسيأتي بيان حكم الشرع في ذلك. (الثالثة) : صفته في نظر أهل الحجاز، وهو أنه ملك مستبد قاهر أزال سلطة حكومتهم السابقة فاضطروا إلى مبايعته ولكنهم اشترطوا فيها شرطًا عاهدوه عليه فنكث، فهم الآن في حل من مبايعته شرعًا، ولكنه متغلب عليهم بالقهر، وإن سمى نفسه (منقذًا) ويتمنون أن يقيض لهم الله تعالى من ينقذهم من هذا (المنقذ) . وإننا نعيد هنا نص المبايعة الرسمية له كما وضعت في العريضة التي كتبها قاضي القضاة وقرأت في حفلة المبايعة في غرة المحرم سنة 1335 منقولة عن جريدة القبلة التي صدرت في 3 المحرم من ذلك العام وهو: (وإننا نبايع سيدنا ومولانا الحسين بن علي ملكًا لنا نحن العرب يعمل بيننا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونقسم له على ذلك يمين الطاعة والإخلاص في السر والعلانية، كما أننا نعتبره مرجعًا دينيًّا لنا أجمعنا عليه ريثما يقر قرار العالم الإسلامي على رأي يجمعون عليه في شأن الخلافة الإسلامية. نبايعك على هذا يا صاحب الجلالة ونقسم لك بالله العظيم على طاعتك والرضا بك والانقياد إليك في السر والعلانية. ولك علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقمت الدين، واجتهدت فيما فيه صلاح العرب والمسلمين {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 10) ا. هـ ومن البديهي أنه ما أقام الدين ولا يستطيع أن يقيمه؛ لأنه جاهل به وبلغته التي يتوقف فهمه عليها بدليل فساد لغة مكتوباته واشتمالها على الأحاديث التي لا أصل لها وعلى تحريف القرآن - والعمل يتوقف على العلم - ولأنه مستبد، والدين قيَّد الحكام بالشرع وبالشورى. ولأنه جعل لغير المسلمين في الحجاز نفوذًا وامتيازات مخالفة لأحكامه ولوصية الرسول صلى الله عليه وسلم في مرض موته؛ ولأنه ضرب المكوس على الحجاج بدون مسوغ شرعي كما تقدم، إلى غير ذلك من مظالمه واستبداده. (الرابعة) صفته عند ولده الأمير عبد الله وبعض رجال حكومته وهي أنه أمير المؤمنين وخليفة المسلمين، ولديه هو في هذا صحيفة معلقة في ديوانه الهاشمي فيها أسماء مئات من أحياء السوريين وأمواتهم قد بايعوه فيها بالخلافة جاءه بها أحد سماسرته في أيام مشاركة الجيش الحجازي لجيوش الحلفاء في احتلال سورية، وقد أخبرنا بعض ثقات الدمشقيين الذين رأوها أنها مزورة. على أننا نعلم أن ولده فيصلاً كان قد أخذ له البيعة على كثير من أهل سورية في ذلك العهد، وأمثال هذه المبايعات لا قيمة لها؛ لأنها ليست من أهل الحل والعقد، ولا مراعى فيها سائر أحكام الشرع. مثال ذلك: أنهم بايعوه مع وجود خليفة قبله في الآستانة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا بُويِعَ لخليفتين فاقتلوا الآخر) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري. (يقولون) : إن خلافة ذلك التركي غير صحيحة؛ لأنه غير قر

جهاد مسلمي الهند في سبيل الخلافة الإسلامية وتحرير الجزيرة العربية

الكاتب: سليمان الندوي

_ جهاد مسلمي الهند في سبيل الخلافة الإسلامية وتحرير الجزيرة العربية نشرت جمعية الخلافة في الهند الرسالة الآتية التي أنشأها أحد أركانها الكرام الأستاذ العالم العامل المصلح الشيخ سليمان الندوي أحد أعضاء وفدها الأوروبي وسماها (الدرر البهية) وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي جعل كلمة الإسلام جامعة المسلمين، أقوى من نسب الماء والطين، والصلاة والسلام على مَن أخرجنا من ظلمات العصبية، وحوالك الجنسية والعنصرية، والتفاخر بالأنساب وعبية الجاهلية. وبعد؛ فلعل إخواننا المسلمين في البلاد الأخرى ليسوا على خبرة تامة بالحركة التي قام بها إخوانهم المسلمون بالهند والمطالب التي نهضوا بها أمام حكومتهم البريطانية، والدعاوى التي نادوا بها على منابر جمعياتهم الدينية ومؤتمراتهم السياسية، والمواعيد التي وعدتهم بها حكومتهم أثناء الحرب الماضية، ومساعيهم التي بذلوها في سبيل الخلافة العثمانية، والدفاع عن كرامة الجزيرة العربية، والأخذ بما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه الزكية، والدراهم التي جمعوها من تبرعاتهم لإغاثة المنكوبين الذين قتلوا وظلموا وسلبوا وأخرجوا من ديارهم بغير حق في بلاد تراقيا وأزمير وأناطوليا، وما لقي المسلمون في الهند من الجهد في سبيل تأدية واجباتهم من حكومتهم المستولية. من يجهل من إخواننا في الشرق ما تُكِنُّ صدور الإفرنجيين وما ترمي به نواياهم [1] نحو الإسلام والشرقيين، وما أحدثوا من الملاحم والفتن، وما دبروا من الدسائس والحِيَل؛ لتوهين عُرَى الإسلام وتقويض أركان الأخوة الإسلامية، وبث بذور العداوة بين أبناء الملة الطاهرة، والتظاهر بمودة أهل الشرق. مضت القرون وهم على ذلك، والحوادث تترى، والمصيبات تتوالى والنواكب [2] تتواتر، ونحن عنها غافلون، وفيما بيننا متشاغلون، حتى دهمتنا هذه الحرب التعسة النحسة فقام الاتحاديون في الشرق بالمناداة باستقلال الأمم الموعظة (؟) بالخروج من ربقة الدين والانحياز إلى الجنسية والعنصرية؛ لتضعف به كلمة الإسلام ولتهن جامعة المسلمين ولتنحل رابطة الشرقيين، ويستولي عليهم الانقسام ويسودهم النفاق، فصار ما صار مما لا حاجة لنا إلى إطالة بيانه، والكشف عن قناعه، وكان المتبصرون من المسلمين في الهند على علم بما وراء الأستار والحُجُب، فدعوا المسلمين إلى التناصر والتآخي، والدفاع عن حوزة مركز الإسلام، وهي الخلافة العثمانية، والذَّب عن ذمار مركز الدين، وهي الجزيرة العربية، وأسسوا جمعية سموها جمعية (خدام الكعبة) وأخذوا في نشر إعلاناتهم، والمظاهرة (بنياتهم) والمجاهَرَة بمطالبهم، وتدوين أسماء المتطوعين، وجمع اكتتابات المتبرعين، وإصلاح أحوال الحجاج والزائرين، وإنشاء مراكب لنقل القاصدين إلى بيت الله الحرام. كانوا على عدة من ذلك إذا الحرب استعرت نارها، وارتفعت أوزارها، واستحوذت أخطارها، وظهرت حكومة الهند بإبراق وإرعاد، ووعد وإيعاد، ووضعت قوانين جائرة، وأحكامًا غير عادلة، ومنعت الجرائد، وأجرفت [3] ألسنة الخطباء، وغلَّت أيدي العاملين، وأسرت رقاب المتبصرين، ثم أصدرت إعلانات ملوكية تسكن غيظ المسلمين، وتضلل آراءهم، وتموه عليهم حقيقة أمرهم. وهاهي (ذي) الإعلانات البريطانية الملوكية، والمواثيق التي أعطتها المسلمين في الهند ونشرت في نواحي البلاد كلها: (1) (لمسلمي الهند أن يتيقنوا أن لن تأتي الحكومة البريطانية وحليفاتها في أثناء هذه الحرب بما يمس بعواطفهم وحياتهم الدينية، والبقاع المقدسة الإسلامية تبقى محفوظة من حملات الحرب ويبذل كل اهتمام لحرمتها، ولا تسرد حملة ضد دار الخلافة الإسلامية المقدسة، إنما نحن محاربون لوزراء الأتراك الذين هم منقادون لأهواء ألمانيا ولسنا بمحاربين خليفة الإسلام، الحكومة البريطانية من نفسها وحليفاتها [4] تعطي هذه المواثيق وهي مسئولة عن هذه المواعيد) . (2) الإعلان الملوكي في نوفمبر سنة 1914 قال اللورد (هاردنغ) نائب الحكومة البريطانية في الهند في مجلس التشريع الملوكي الهندي في يوم 12 يناير سنة 1915 [5] قد أعلنت الحكومة (البريطانية وفرنسا والروسيا) أن بقاع العرب والعراق المقدسة تبقى آمنة من الحملات، وقد أعلنت الحكومة البريطانية أيضًا أنهم مستعدون إذا مست الحاجة للدفاع عن البقاع المذكورة ضد الأجانب الداخلين فيها الهاجمين عليها، لتبقى غير مهجوم عليها على كل حال، حيثما تحولت أمواج الأحوال، لا يرتاب في أن هذه البقاع المقدسة تبقى غير مهجوم عليها، ويظل الإسلام معدودًا من القوات العظمى في العالم. (3) قال (اللورد كرومر) في مجلس اللوردات البريطاني في يوم 20 إبريل سنة 1915: (أنا لا أحتاج إلى أن أؤكد أني متفق غاية الاتفاق مع صاحب السعادة (كريو) أن المسلمين لهم وحدهم أن يخوضوا في شأن الخلافة، بل إني أرى أنه يمكن لي أن أعطيهم نوعًا من الميثاق بأنا نعترف بأن الخليفة يكون مسلمًا بل لا بد له أن يكون مسلمًا ومستقلاًّ من كل سلطة أوروباوية) . (4) قال (لويد جورج) صدر الإمبراطورية البريطانية في خامس يناير سنة 1918: (نحن لا نحارب تركيا لنحرمها عاصمتها وبلاد تراقيا وآسيا الصغرى (أناطوليا) المخضرة الكثيرة الخيرات التي بأجمعها معمورة بالأمة التركية) . هذه نصوص مواثيق وعهود أعطتها الحكومة البريطانية المسلمين في العالم عامة وفي الهند خاصة، وهذا أساس ما نطالب به الحكومة البريطانية، ولا يجوز لها الانحراف عنها، ولن ندعها أن تتركها سدًى. نقلنا هذه النصوص هاهنا ليكون إخواننا في البلاد الأخرى على خبرة مما جرى في الهند، وما قامت عليه الحركة السياسية الدينية الحاضرة، وما تدور عليه رحى الحرب السلمية القائمة منذ سنتين بين المسلمين والبريطانيين في الهند. وهذا ما بعثنا أن نقوم قومة واحدة والأخذ بالحكومة (؟) بإنجاز ما وعدت، وإيتاء ما عاهدت. بعد ما وضعت الحرب أوزارها وحُرر أُسارى الأحرار من المسلمين، ورُفعت الرقابة، أخذوا فيما كانوا فيه ودعوا إخوانهم إلى الانضمام معهم، وتلوا عليهم ما كتب الله عليهم، وذكَّروهم بما أوصاهم رسولهم الكريم بأن الإمامة لا بد من إقامتها، والجزيرة العربية المحدودة بنهري العراق، وبحر الشام، وترعة السويس، والبحر الأحمر، وبحر العرب وبحر الهند، والخليج الفارسي لا تزال آمنة سالمة من كل نوع من أنواع السلطة غير المسلمة، وأسسوا جمعية جليلة لها فروع في كل أصقاع البلاد الهندية سموها (جمعية الخلافة) . وهاهي (ذي) مطالبها ومقاصدها بحروفها: أ- القيام ببقاء قوة الخلافة الإسلامية وسلطتها، والسعي لإعادة مجدها وإعلاء أمرها. ب - اتخاذ الوسائل اللازمة لتمكن تركيا من الصلح المحترم العادل ويصبح أمر الخلافة وجزيرة العرب والأماكن المقدسة الإسلامية كما تقتضيه الشريعة الإسلامية الغراء (أي أن تكون مطلقة حرة مستقلة من كل نوع سلطة غير مسلمة عليها) . ج - السعي تمام السعي لتضطر الحكومة إلى إيفائها بما وعدت به في إعلانها المُؤَرَّخ في ثالث نوفمبر سنة 1914 وبما قال وزيرها الأعظم خامس يناير سنة 1918 في شأن البقاع المقدسة، وبلاد الدولة العثمانية، واتخذوا للفوز بهذه المطالب وسائل عديدة منها: 1 - بث هذه الأفكار في البلاد الهندية والبلاد الإسلامية الأخرى. 2 - التآخي بين مسلمي الهند ومسلمي الممالك الأخرى وإعانتهم ونصرتهم، وقطع المنازعات الحادثة بينهم، وإصلاح ذات بينهم. 3 - ولأن تضطر الحكومة للإذعان بالحق نقطع عنها العلائق كلها [6] ، ولا ننصرها ولا نخدمها ولا نواليها في أمر من الأمور، وهذا هو المراد بعدم الموالاة، أو ترك التعاون، وللوصول إلى هذه الغاية يجب علينا أن نقوم بالتعليم الملي والتجارة والصناعة الوطنية، ونقاطع البضائع غير الوطنية وننشئ دواوين القضاء بين أنفسنا. 4 - التوفيق والتوحيد بين المسلمين والعناصر الهندية الأخرى للحصول على الاستقلال (السوارج) بالهند. مضت سنتان وأكثر منها [7] إن المسلمين والهنود الوثنيين اتفقوا فيما بينهم على استقلال البلاد الهندية والمطالب الإسلامية المصرحة وجعلوا طريقة (عدم الموالاة للحكومة البريطانية) وسيلة موصلة لهم إلى المطلوب - مضت سنة كاملة وهم قد قطعوا على الحكومة كل علائق المناصرة والمودة والمعاونة والخدمة حتى تَضَعْضَعَتْ أركان الحكومة وهي تخبط خبط عشواء في أمرها، دوائرها كلها مخلخلة ودخل الخلل في أهم نظاماتها، وهي لا تجد السبيل لرتق ما فُتِقَ، ولجبر ما انكسر، إلا أن تذعن للمطالب الإسلامية الهندية، وهي الصلح مع الدولة العثمانية، ورفع كل رقابة ووصاية عن البلاد العربية من عراقها وشامها وفلسطينها وحجازها ونجدها ويمنها ومنح الاستقلال للهند. هذه هي الأحوال الجارية في الهند، وحكومتها في حيص بيص في أمرها، فالمسئول من إخواننا ولا سيما إخواننا العرب من الطوائف كلها أن يتفكروا في الأمر ويتدبروا العاقبة، ويتلافوا ما صدر منهم، ويتحدوا مع إخوانهم الهنود في رفع منار الدين، وإعلاء كلمة الشرق وإعادة مجد الإسلام، والسلام على من اتبع الهدى. انتهى. (المنار) نشكر لإخواننا مسلمي الهند غيرتهم، وإنني ما زلت أشهد لهم بأنهم أشد مسلمي الأرض عناية بالجامعة الإسلامية، ورسوخًا في الغيرة الدينية، وأنه لا يوجد شعب إسلامي يهتم بأمر سائر المسلمين مثلهم؛ لأن بعض هذه الشعوب قد فصمت عصبيةُ الجنس عروةَ اعتصامها بالوحدة الإسلامية، وبعضها قد استحوذ عليها الجهل بالسياسة العامة وأحوال المسلمين، وسيكون إخواننا مسلمو الهند من المنبهين لهم بعنايتهم بهم؛ لأنهم سيزدادون علمًا بأن حفظ الإسلام كما أنزله الله تعالى لا يتم إلا بهم، ولا يكمل إلا في بلادهم. وأما ما ظهر منهم بموالاة أمير مكة وأولاده للإنجليز، ومن خدعوهم من السوريين والعراقيين فلا يرجى تلافيه من قبل هؤلاء الخادعين والمخدوعين؛ لأنهم أصروا على ما فعلوا بعد أن ظهر لهم سوء نية الإنجليز بإخلافهم لوعودهم لهم ونقضهم لعهودهم معهم- على أنها مبنية على فساد- وسائر العرب في الجزيرة، ومنها الحجاز آسفون ناقمون ساخطون، والقادرون منهم يجاهدون في تلافي هذا الشر؛ فإذا آزرهم إخواننا مسلمو الهند بمثل ما آزروا به إخواننا الترك فالرجاء بالنجاح عظيم، فإن أمراء الحجاز لا حول لهم ولا قوة إلا بالإنجليز، فإذا اعتصمنا مع إخواننا الهنود بحول الله وقوته في مكافحتهم، فقد يكون من أوائل النجاح نبذ الإنجليز لهم وإيثار إرضاء العالم الإسلامي والعرب الصادقين عليهم، والعاقبة للمتقين.

الخلاف بين مصر والحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخلاف بين مصر والحجاز لما بلغنا أن ملك الحجاز أبى قبول البعثة الطبية المصرية التي أرسلتها الحكومة المصرية مع ركب المحمل المصري - ظننا أنه يريد بهذا المنع أن يُري المصريين وحكومتهم من أمر استقلاله ما يعرفون به خطأهم في قولهم: إنه وضع البلاد تحت حماية الإنجليز. ولما بلغنا أن الحكومة المصرية تريد إرجاع ركب المحمل المصري من جدة مع ما يحمله من المال والغلال لأهل الحجاز إذا أصر الملك على منع البعثة الطبية المذكورة - كتبنا مقالاً وجيزًا نشرناه في جريدة الأهرام نصحنا فيه للحكومة المصرية بأن لا تفعل ذلك وأنه لا يجوز لها شرعًا أن تمنع رجال ركب المحمل ولا غيرهم من الحج - وكانوا قد شرعوا فيه ووصلوا إلى جدة مُحْرِمِينَ به - وأن ملك الحجاز إذا كان مستبدًّا غير مقيد في أحكامه بشرع ولا قانون يمنعه عن رد البعثة الطبية، فهي ليست كذلك، وأن عليها أن تستفتي في مثل هذه المسألة الشرعية علماء الدين، وارتأينا أن تأمر بعثتها الطبية بأن لا تمتثل أمر ملك الحجاز إذا أراد ردها وعدم تمكينها من أداء المناسك أو معالجة من يحتاج إلى معالجتها من الحجاج؛ لأنه منع من عمل شرعي لا يملكه ولا تباح طاعته فيه شرعًا. فإن افترضنا أنه أمر رجال حكومته بمنع الأطباء أو غيرهم من ذلك بالقهر دافعوا عن أنفسهم- أي كما ورد في كتاب الصيال من الشرع الإسلامي- وبيَّنا أننا نعتقد أنه لا يفعل؛ لأنه لا يجهل ما في ذلك من التبعة وسوء الأحدوثة، وقد حمد رأينا هذا المعتدلون، ولم ينكره الغالون في الإنكار على ملك الحجاز والمبالغون في الطعن فيه. وأما الحكومة المصرية فقد استفتت شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية في المسألة استفتاء مبهمًا غير منطبق على النازلة؛ فإنها بَنَتْ الاستفتاء على جواز منع الحج إذا لم يكن هناك أمن أو كان خطر على الصحة، وأين الخوف أو الخطر؟ أما حفظ الأمن حيث تؤدى المناسك من الحجاز فلا تقصير فيه، وقد نوَّه المنار به مرارًا، وصرَّح بأن أكبر حسنات الملك حسين شدة عنايته بالأمن وراحة الحجاج بقدر طاقته، وهو قادر على ذلك فيما بين جدة وعرفات ولا يتجاوز المصريين ذلك، وأما الوباء فالظاهر أن الحكومة المصرية كانت تتوقع حدوثه في الحجاز؛ لوجوده في الهند، وعلى هذا كان يتحتم عليها إبقاء البعثة الطبية وركب المحمل وإلقاء تبعة كل ما يعمله الملك حسين عليه كما نصحنا لها، وليست هذه التبعة بالأمر الهين. ولو وقع الوباء - والعياذ بالله تعالى - لما أمكن لها أن تبرئ نفسها من التبعة، ولفضحت حكومة الحجاز شر فضيحة بعجزها عن القيام بما يجب للحجازيين وللحجاج؛ إذ ليس عندها أطباء ولا أدوات وعقاقير تكفي لذلك. وقد علمنا بعد ذلك أن مثار الخلاف أمر مادي محض، ذلك بأن السلطة البريطانية كانت منذ انضم الملك حسين إلى دولتهم في الحرب ترسل إليه جميع ما هو مخصص للحجاز من الأوقاف ومن الحكومة المصرية، وكان يتصرف فيه كما يشاء على أن بعضه لأهل المدينة المنورة التي كانت إلى ما بعد هدنة الحرب في يد الترك وللأعراب الذين على الطريق إليها، ثم إن حكومة مصر أرادت أن تتولى توزيع هذه المخصصات بأدائها إلى أهلها؛ إذ بلغها كما بلغنا نحن - والله على ما نقول شهيد - أن الملك لا يعطي كل ذي حق حقه منها، ومما نقله إلينا بعض الحجاج الذين بلَّغهم في الحجاز مَن يثق بأمانتهم أنه في بعض السنين لم يُعطِ أحدًا شيئًا وأن بعض المستحقين في المدينة المنورة ماتوا جوعًا، وأنه في سنة أخرى، ولعلها التي قبل هذه السنة أعطى النصف. والحكومة المصرية أعلم منا بما هنالك؛ لأن لها تكية في مكة المكرمة وأخرى في المدينة المنورة والمستخدمون المصريون فيهما أجدر بمعرفة هذا الأمر من غيرهم. بل نقول: إن الملك حسينًا كان يتوسل بالإنجليز إلى الاستيلاء على جميع أوقاف الحرمين الشريفين في مصر؛ ليتولى إدارتها برجال من قِبَلِهِ، وبلغنا أنه كان موعودًا بذلك ولكن حال دون الوفاء به استقلال مصر فعظم عليه الأمر، ورأى أن يتوسل إلى أخذ المخصصات المذكورة بمشاكسة الحكومة المصرية، ولم يجد شيئًا يُشَاكِسُهَا به إلا مسألة البعثة الطبية، فأهان رجالها في جدة بجعلهم كالمجرمين المحجور عليهم تحت خفارة رجال الشرطة في مقامهم وفي انتقالهم من مكان إلى آخر، فكبرت هذه الإهانة على الحكومة المصرية ولكنها لم تحسن التصرف في تلافيها بحسب ما وصل إليه علمنا إلى وقت كتابة هذه السطور؛ إذ لم تطبقه على أحكام الشرع الإسلامي تطبيقًا صحيحًا، ولولا الحالة الشرعية وما لها من الأحكام، لكان عملها من قبيل المعهود في مثل هذه الأحوال، والناس ينتظرون بلاغًا رسميًّا منها يوضح الخفايا ويعرف بمقابلته ببلاغ حكومة الحجاز ما يُمَكِّنُ كلَّ مطلعٍ مِن الحكم في المسألة من كل وجه. حدث هذا الخلاف في أثناء اهتياج المسلمين من المعاهدة البريطانية الحجازية فكان ضغثًا على إبالة، كان للناس مطعن في ملك الحجاز فصار لهم مطعنان، فكان الطعن فيه شغل جميع الجرائد، وقد أسرف فيه بعض الكُتَّاب بما خرجوا عن الأدب والذوق، وصورته جريدة اللطائف المصورة بصورة حمار حوله الحشيش … فكان عملها أقبح خزي أعماها الطمع عن سوء موقعه من المسلمين الذين يحترمون مكانته ومكانة نسبه وسنه، وإن أنكروا سياسته وعمله، وتجاوز بعضهم خطة الإنكار إلى الغميزة والازدراء، والتهكم والاستهزاء، ونبزه بعضهم بلقب البدوي وصفة البداوة، وما هو إلا ربيب مكة والآستانة ومكة أقدم مدن الأرض حضارة، ووجهاء أهلها على أدب جم، وإنما اشتهر سُوقَتُهَا بالشراسة، ولعمر الحق إن الملك حسينًا لَمِنْ أرقى الناس آدابًا، وإنه لا يوجد في أرقى طبقات المصريين والترك مَنْ يَفْضُلُهُ في ذلك، لولا أنه على كبريائه يجاهل الجرائد، ويطعن في الأفراد والجماعات والشعوب في جريدته (القبلة) حتى في منشوراته الرسمية، ولو تنزه عن هذا لكان خيرًا له، ولما وجد الناس مجالاً للكلام فيه إلا من ناحية سياسته ولغته وما يتعلق بهما، وكأن الله تعالى سلط عليه الناس جزاء له! فإن كان بعضهم قد قدح فيه بالباطل، فقد وجد من يدافع عنه وينصره بالباطل أيضًا، وقد كان طعن جريدة القبلة في المصريين أن شبهتهم بالبقر والغنم، وجعلتهم إخوة الثوم والبصل، وكفَّرَهم الملك في منشور رسمي بإنشائهم الدستور. وهددهم نجله الأمير عبد الله بما ينبئ أنه لولا الإنجليز لقام بما هو مستعد له من غزوهم وفتح بلادهم كما فتح الطائف! وقد نسي أنه عجز عن فتح قرية الخرما، وأن والده لم يُخْرِج التركَ من الممالك الهاشمية - الطائف ومكة وجدة - إلا بجيشهم وأموالهم، ولعله لا يجهل أن دخل رجل واحد من مزارعيهم أعظم من دخل (حكومة الشرق العربية) ذات الوزراء والألقاب الفخمة. ونحن على علمنا بهذا كله نقول: إن الجرائد المصرية أسرفت في الطعن في الرجلين؛ لأن المنار لا يكتب إلا ما يعتقد أنه الحق، ويحاسب صاحبُه في ذلك نفسَه على خطرات القلب، والذي ظهر لنا من الحق في هذه المسألة أن الملك حسينًا أخطأ شرعًا ورأيًا في منع البعثة الطبية المصرية أن تعمل بحريتها كل ما تراه من الاستعداد لمعالجة الحجاج المصريين وغيرهم عند الحاجة إليها، فإنه ليس له حق أن يمنع أحدًا من المسلمين هنالك من شيء إلا إذا كان مخالفًا للشرع كما بيَّنا ذلك بالتفصيل في مقال الاستفتاء في أمره وأعماله وسياسته. وإذا كان يخاف أن يفضي ذلك إلى تدخل النفوذ الأجنبي في الحجاز من هذه الناحية، فما عليه إلا أن يسن للحجاز قانونًا سياسيًّا يصرح فيه بأن جميع الحجاج أحرار في كل ما لا يخالف الشرع، وأنه لا يجوز أن يكون لأي دولة من دول الأرض أدنى نفوذ ولا تداخل في شئون الحجاز الداخلية بسبب وجود حجاج من رعاياها فيه. ولكن مشروع المعاهدة التي فرض على الأمة العربية جعلها عيدًا لها قد جعلت للإنكليز عدة امتيازات في الحجاز كما بيَّنَّاه في تعليقنا عليها. وأما الحكومة المصرية فقد أخطأت في إرجاع ركب المحمل المصري ومنه البعثة الطبية، وأما إرجاع النقود والأقوات المخصصة لأهل الحرمين في هذا العام، فإن كان سببه أن الملك لا يمكنها من إعطائها لمستحقيها بحجة منافاته لاستقلاله في ملكه - فالذنب عليه لا عليها، وإن كان انتقامًا منه لمغاضبته إياها وإهانته لبعثتها فالذنب عليها، فإنَّ ما يقع بين الحكومات من الأمور المنافية للحقوق الودية يتلافى بغير هضم حقوق الأفراد كشرفاء الحرمين وفقرائهما الذين لا ذنب لهم. ويجب أن تعلم الحكومة المصرية والرأي العام المصري أن ما هو موقوف على الحجاز وأهله من أرض مصر فصرفه إليهم واجب شرعي لا مِنَّةَ لأحد في أدائه إلى أهله، وأن ما يُرْسَل من الصدقات غير المستحقة لهم - ونحن غير واقفين على تفصيلها - فإن لمصر به مكانة ومنزلة في المعاهد المقدسة، وفي سائر العالم الإسلامي ينبغي لها أن تحافظ عليها، ولا تلتفت لكلام بعض الماديين المارقين الذين لا يفقهون للمكانة الروحية والمنزلة الأدبية معنًى، وسنوضح هذا إن احتيج إليه في فرصة أخرى. هذا وإن كلاًّ من حكومتي مصر والحجاز الحاضرتين مؤقت، فإذا لم يفصلا هذا الخلاف بالحق والعدل، وبما يحفظ لمصر مكانها من الفضل، فلا يكون ما يقررانه مبرمًا دائمًا، أما مصر فستخلف حكومتها الوزارية الحاضرة حكومة الدستور المقيدة بمجلس النواب والأعيان، وأما حكومة الحجاز فلا يمكن الجزم الآن بما يكون من أمرها، وإنما المجزوم به أنها لن تبقى حكومة شخصية مطلقة خلافًا لشريعة الإسلام، وبالرغم من أنوف مئات الملايين من المسلمين؛ لأن الدولة البريطانية تريد ذلك، والمعقول الموافق للمصلحة الإسلامية العامة ما اقترحناه من قبل في أمرها، وهو الذي سيكون إن شاء الله تعالى، وحينئذ يتعاون العالم الإسلامي كله على رفع شأن الحجاز من كل وجه، ويكون لمصر القَدَح المُعَلَّى في ذلك. هذا وإن كثيرًا من المصريين كانوا يظنون أن الإنجليز هم الذين أثاروا هذا الخلاف بحمل الملك حسين على رد البعثة الطبية لغرض لهم في ذلك كثر البحث فيه والسؤال عنه، وكنا نقول لمن يسألنا عن رأينا في هذا: إنها تصدق على مثلهم: لا نخلق الفرص ولا نضيعها.. . وكان الكثيرون يظنون أن الملك المذكور يوشك أن يؤذي الحجاج المصريين انتقامًا من حكومتهم، وكنا نجزم بأن الخلاف إنما يحمله على تحري إرضائهم بأشد مما يعنى بإرضاء غيرهم؛ ليكونوا دعاة له ومدافعين عنه، وكذلك كان.

رجل مات والرجال قليل الأستاذ محمد وهبي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رجل مات والرجال قليل الأستاذ محمد وهبي مات محمد وهبي. وسبحان الحي الذي لا يموت، مات محمد وهبي فكتب في الجرائد اليومية بضعة أسطر ملخصها أنه قد توفي فلان ناظر مدرسة الفيوم ونسيب فلان، وصهر علان، وستشيع جنازته من داره في حي السكاكيني في الساعة العاشرة قبل الظهر. ذلك بأن أصحاب الجرائد لا يعرفون قيمة محمد وهبي؛ لأنه كان كنزًا خفيًّا، وهم قلما يعرفون إلا أصحاب الظهور، وإن كان بلباس الزور، وقد شيعه العشرات من أولي القربى منه وأصدقائه وأصدقائهم وليس فيهم أمير ولا وزير ولا أحد من أصحاب الرتب العالية؛ لأن هؤلاء قلما يعرفون مثل محمد وهبي، بل قلما يوجد فيهم من هو أهل لمعرفة مثل محمد وهبي. كان محمد وهبي في الذرورة العليا في علومه وأخلاقه وآدابه، وقوة إيمانه وصلاح أعماله، والإخلاص في وطنيته، والجهاد في سبيل ملته وأمته. ولكنه كان لشدة إخلاصه يؤثر الكتمان ويكره الظهور، ولو كان الناس يكتمون سيئاتهم كما كان محمد وهبي يكتم حسناته لما وجد في البلاد قدوة في الشر والفجور. صليتُ على محمد وهبي صلاة الجنازة، والتفتُّ بعد السلام فلم أجد ورائي من المصلين إلا بضعة رجال، وأذن بعد الصلاة عليه مؤذن: ماذا تشهدون فيه؟ فقال الحاضرون كما يقولون في جواب كل سائل عن ميت: رجل طيب، أو من أهل الخير. وقلت: اللهم إني أشهد أنه خير من أعرف من الناس؛ ذلك بأنني كنت أفكر قبل هذا السؤال وبعده في أفضل الرجال الذين أعرفهم، خضخضت دماغي لأحرك في زوايا تلافيفه كل رجل رُقمتْ ترجمتُه فيها، فلم أذكر في أحيائهم أفضل من محمد وهبي ولا مثله في مجموعة مزاياه. عرفت محمد وهبي على تنكره وإخفاء فضائله لأنه أحسن الظن بي فحضر عليَّ بعض دروس التفسير والبخاري وأصول الفقه، وكان يسألني عن بعض أسرار الدين ومزايا الإسلام، ويستشير في صالح الأعمال، ويواظب على قراءة المنار. عرفته معرفة خُبر، عرفته راسخًا في التوحيد، واسع الاطلاع في أصول الدين وفروعه، ذا بصيرة في حكمه وأسراره، لم يسألني مشتبهًا أو شاكًّا كما وقع كثيرًا للطبيبين الفاضلين الصالحين المصلحين (محمد توفيق صدقي وعبده إبراهيم) في بدايتهما، وكذا غيرهما، بل كانت أسئلته تدل على علم يطلب صاحبه المزيد والكمال، كان يقتني أنفس كتب الدين ويطالعها للاهتداء والعمل بها، وكان شديد العناية بكتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم ولعله لم يَفُتْهُ شيء مما طبع منها، بل كان يرغب في استنساخ ما وجد منها إذا يئس من طبعه. ومن مزاياه أنه كان جامعًا بين هداية الدين اعتقادًا وأخلاقًا وعملاً وبين أرقى النظام المدني في أهل بيته وتربية أولاده: كان يستيقظ من النوم فيوقظ زوجه وبناته فيتطهرون ويصلي بهم صلاة الفجر إمامًا، ثم يقرءون جزءًا من القرآن العظيم، ثم يقومون للرياضة البدنية فيأخذون منها بنصيب، وبعد الاستراحة منها يصيبون من ذواق الصباح ما تيسر، ثم ينصرف كل إلى عمله، فلو أن أمة أو أهل مدينة كانت بيوتهم كبيت محمد وهبي في الصلاح والنظام والأدب والنظافة، والتنزه من كل خرافة وسخافة - لكانوا حجة للإسلام والمسلمين، وسبب دخول أهل المدينة فيه أفواجًا. كان محمد وهبي عالمًا عاملاً، صالحًا مصلحًا، يأمر بالمعروف مُؤْتَمِرًا، وينهي عن المنكر مُنْتَهِيًا، كان كلما تولى إدارة مدرسة حمل أساتذتها وتلاميذها على المحافظة على الصلوات، حتى لم يكن يدعهم يخرجون منها إلا بعد أن يصلوا العصر، وكان يبث في كل مدرسة روح الوطنية الصادقة مع روح الصلاح والتقوى، فكان المستر (دنلوب) الرقيب العتيد لا يفوته شيء من سيرته هذه، وقد حاول أن يفتنه مرارًا فاستعصم، وقد قال له مرارًا: إنك أقدر أستاذ عندنا إلا أن فيك عيبًا واحدًا لو تركته لارتقيت بسرعة إلى أعلى المراقي! ذلك العيب أنك لا تُرْضِي رؤساءك. فكان الفقيد يتجاهل مراده ويقول: إنني أبذل كل ما في وسعي للقيام بما يجب عليَّ في عملي، فإذا لم يُرْضِهِمْ هذا فما يرضيهم؟ وهو يعلم أن الذي يُرضي دنلوب عنه هو الذي يسخط عليه الله عز وجل، فكان يُؤْثِر رضاء الله تعالى على رضاء دنلوب ومفتشيه وأعوانه، وما وراء ذلك من توالي زيادة الراتب، وارتقاء المناصب، وقد جرَّبوا أن يفتنوه بالترغيب أو الترهيب، فعصمه الله تعالى منهم. حصروا عمله مرة في تعليم اللغة الإنجليزية للطلبة والمعلمات الإنجليزيات حتى لا يجد لخدمة الدين واللغة العربية سبيلاً، فرأوه قد توسل لخدمة اللغة العربية وبث الآراء الصالحة في التلاميذ بتعليم الترجمة وما يختاره لها من الكلام، أبعدوه عن مصر إلى إدفو في أقصى الصعيد على ما يعلمون من نحافته وقلة احتماله، وذلك من العقوبات الخفية التي يعرفها أهلها - فأثر ذلك في جسمه ولم يؤثر في نفسه، وكان أخوه كاتب هذا هو الذي عرض أمره وبيَّن فضله لسعد باشا زغلول إذ صار وزيرًا للمعارف فنقله إلى القاهرة وجعله ناظرًا للمدرسة الحسينية. وكان في خدمته الوطنية مصداقًا لقول قاسم أمين: إن الوطنية الصادقة هي التي تعمل ولا تتكلم. فهو لم يكن متصلاً بحزب من الأحزاب السياسية، ولا من الذين يترددون على بيت الأمة (دار سعد زغلول باشا) على إجلاله لسعد وشكره لجميله، بل كان يضع لكل عمل نافع نظامًا، ويستعين على تنفيذه بخُلَّصِ أصدقائه متحريًا أن يكونوا قليلي العدد، وأن لا يذكروا اسمه لأحد يعمل معهم، كأنه وهو يفعل المعروف الذي يستحق به الفخر، يأتي منكرًا فيتقي سوء الأحدوثة والذكر. ومثال ذلك أن العشرات من الألوف في أرجاء القطر قرأوا رسائل في الحث على إقامة أركان الدين مع بيان أهم أحكامها وحكمها وفي النهي عن المنكرات وبيان ما عمت البلوى بجهله من أحكام المعاملات كأحكام الرضا - ولم يعلم إلا القليل منهم أن هذا العمل من جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، برأيه وإرشاده، وأنه هو المقترِح له، ولا أن مكانه منها مكان القطب من الرَّحَى، ولذلك لم تعمل عملاً يُذْكَر منذ فارق القاهرة. وكان من تدينه وعقله أن لا يعمل عملاً غير مشروع سواء في ذلك الوسيلة والمقصد، فكان على مذهبنا في أن الباطل لا يكون موصلاً إلى الحق، والشر لا يكون طريقًا إلى الخير. وجملة القول: إن محمد وهبي كان من شهداء الله وحُجَجه على خلقه، وكنت أرجو أن يكون خير عون وظهير لي على ما أرجو من تجديد دار الدعوة والإرشاد ومن إحياء السنة بالعلم والعمل والتأليف وطبع الكتب المفيدة على الوجه الذي يَعُمُّ به نفعُها، فكان المصاب بوفاته أشد عليَّ منه على أهله وولده وسائر أصدقائه، أسأله تعالى أن يتغمده برحمته ورضوانه ويجمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. *** ترجمة حياته بقلم أعرف أصدقائه بسيرته ولد - رحمه الله - بالقاهرة بجهة بيت القاضي التابعة لقسم الجمالية في أواخر ذي القعدة سنة 1298 الموافق لأول شهر أكتوبر سنة 1881 من أبوين فقيرين. فوالده هو المرحوم الشيخ إبراهيم محمد من قرية (آبا الوقف) في مركز مغاغة من مديرية المنيا وهو من بيت قديم مشهور في القرية، ولد رحمه الله بصيرًا وأصيب بالعمى بعد ستة أشهر من مولده، ومكث في تلك القرية حتى أرسله أبوه إلى الجامع الأزهر وهو في الخامسة عشرة من عمره بعد أن حفظ القرآن الكريم فعكف على تلقي العلوم وانقطع لها طول عمره وتزوج من القاهرة بزوج رُزِقَ منها صاحب الترجمة وأخاه. ولما بلغ صاحب الترجمة الرابعة من عمره دخل المكتب ليتعلم القراءة والكتابة والقرآن ومبادئ الأحكام الدينية فكان ممتازًا بين الأطفال بالأدب والنجابة حتى صار فقيه المكتب يعتمد عليه في حفظ نظام المكتب على صغره. ومكث في المكتب ثلاث سنين حفظ فيها القرآن وأجاد الخط وتعلم مبادئ الدين وبعد خروجه من المكتب كان والده يعتمد عليه في حفظ الدروس؛ إذ كان يستصحبه معه مساء لمطالعة الدروس الأزهرية فحفظ على حداثته بعض المتون، فقوي رجاؤه فيه. أدخله والده مدرسة الجمالية الأميرية فظهر على أقرانه وكان يحفظ لنفسه المكان الأول في كل فرقة من فرق المدرسة. ولم تشغله دروسها الكثيرة عما جرى عليه قبلها من مطالعة الدروس لنفسه ولوالده فكان يواظب على ذلك في المساء بعد الخروج منها فرسخت ملكة الدرس وحب العلم في نفسه. وبعد نيل شهادة الدراسة الابتدائية أدخله والده المدرسة الخديوية الثانوية فمكث فيها أربع سنين كان في خلالها مطمح أنظار المعلمين والتلاميذ. وكان قد بلغ السن التي يستقل فيها بنفسه فكان يختلف وحده إلى الأزهر في أوقات الفراغ يحضر الدروس على مشاهير العلماء كالأستاذ الإمام والشيخ حسين زائد والشيخ سليم البشري وغيرهم، فأخذ عنهم من العلم شيئًا كثيرًا حتى أصبح يناقش والده مناقشة الند للند. وبعد حصوله على شهادة الدراسة الثانوية وبعد أن قضى سنتين معلمًا بمدرسة محمد علي الأميرية مال إلى صناعة التعليم فدخل مدرسة المعلمين العالية ومازال يحفظ لنفسه المكان الأول فيها حتى نال شهادتها سابقًا جميع أقرانه ولا سيما في العلوم العربية والرياضية على الأخص. كان حينئذ قد بلغ الثامنة عشرة من عمره فعُيِّنَ مدرسًا بمدرسة المنصورة الأميرية فأظهر من البراعة في العلم والتعليم ما لم يسبقه به أحد، ونقل في العام الثاني إلى مدرسة شبين الكوم الأميرية ولم يمض عليه العام المدرسي حتى عين ناظرًا لمدرس إدفو الأميرية سنة 1905. ومن ذلك الحين أخذت مواهبه العالية تظهر بين أفاضل الرجال فكان على حداثته وبحكم مركزه يخالط أكابر القوم وخواصهم وكان يظهر عليهم جميعًا، وعشقوا فضله فكانوا يودون لو يلازمونه ليلاً ونهارًا. وكان رؤساء الوزارة يضربون به المثل في حسن الأخلاق وإدارة المدارس. ومكث في إدفو ثلاث سنين تزوج في خلالها من ابنة خالته ثم نقل من إدفو إلى المدرسة الحسينية بالقاهرة بالرغم من اعتراض المستر دنلوب مستشار وزارة المعارف في ذلك الوقت؛ لأنه لم يجد منه ذلك التزلُّف والتملق اللذين كان يحب أن يتصف بهما جميع مرءوسيه وإنما نقله إلى مصر سعد باشا غلول أيام كان وزيرًا للمعارف سنة 1908 ومكث بمدرسة الحسينية ثلاث سنين كان خلالها موضع إعجاب المفتشين الأجانب منهم والوطنيين. حتى كان الشيخ حمزة فتح الله رحمه الله يلقبه بسيد النظار. وكان إطراء المدرسين له في تقاريرهم يزيد المستشار غضبًا على غضبه منه. وعرفه في ذلك الحين الأستاذ الشيخ عبد العزيز شاويش واتخذه صديقًا عزيزًا، وكان يلح عليه أن ينضم إلى الحزب الوطني إلا أنه رحمه الله كان لا يميل إلى حزب سوى (حزب الله) فإنه هو الغالب. ثم نقل سنة 1909 إلى مدرسة سوهاج الأميرية وكانت الفوضى ضاربة أطنابها في تلك المدرسة من قلة المدرسين بها فأخذ يشتغل رحمه الله في المدرسة مدرسًا. وكان ما عليه من الدروس يزيد على دروس سائر المعلمين حتى خرج من الأزمة مكللاً بالفوز فأثنت عليه جريدة العلم المصرية حينئذ لحسن قيامه بالواجب. فزاد ذلك المستشار كمدًا على كمده، وسافر إلى سوهاج وقامت بينهما مجادلات كان رحمة الله عليه الفائز فيها بالحق إلا أن الغطرسة الإنجليزية قضت بتعيينه بعد ذلك مدرسًا للترجمة بالمدرسة التوفيقية جزاء لما قام به من الخدمات الجليلة لوزارة المعارف (؟) ومكث فيها تسع سنين

مصاب مصر بعالمها الأثري الأكبر أحمد كمال باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب مصر بعالمها الأثري الأكبر أحمد كمال باشا فُجئت الأمة المصرية - بل فجعت - باختطاف المنية لعَلاَّمتها الأثرى الأكبر أحمد كمال باشا الشهير، كان مُكِبًّا على تنقيح معجمه للغة الهيروغليفية بداره التي في (شبرا) إلى أصيل النهار، ترك الكتب مُفَتَّحَة وذهب إلى داره التي في جوار الأهرام فتوضأ وصلى المغرب وشرع يغير ثياب النهار بلبوس الليل والنوم فَخَرَّ ميتًا، ولم يكن يشكو شيئًا. يعرف قراء المنار في الأقطار البعيدة أحمد كمال باشا رحمه الله تعالى بما نشرنا له فيه من المقارنة بين اللغتين العربية والهيروغليفية، وهو الاكتشاف الذي امتاز به على جميع علماء العاديات من الإفرنج فأثبت به أو أكَّد ما اكتشفه غيره قبله من عراقة مصر في العربية وكون قدماء المصريين والعرب من عرق واحد لا يُعْلَمُ باليقين أيهما الأصل، أو من عرقين اشتبكت وَشَائِجهما من ألوف السنين ثم افترقا ثم عادا فاتصلا بعد الفتح الإسلامي واتحدا بفرع المُضرية من لغتهما القديمة السامية، أو المصرية ذات الأمشاج العديدة. بَرَأَ الخالق سبحانه أحمد كمال من معدن من أشرف المعادن: معدن العلم والصلاح، فكان منذ نشأته وطفوليته إلى وفاته في شيخوخته طاهرًا تقيًّا، تلقى العلم في مدارس مصر درجة بعد درجة، ورغب في الإخصاء بعلم العاديات المصرية واللغة الهيروغليفية فأتقنها، وألف فيها معجمه الكبير، الذي ليس له نظير، وكان مكبًّا على تحريره وتنقيحه إلى أن توفاه الله تعالى. والذي يعني المنار من ترجمته أنه كان منقطعًا للعلم، معرضًا عن اللهو واللغو، تقيًّا نقيًّا متنزهًا عن الفواحش والمنكرات، محتقرًا للشهوات، محافظًا على الصلوات، حتى إنه حضر في سن الشباب حفلة رسمية في حديقة الأزبكية في عهد إسماعيل باشا فقدم له أحد الكبراء فيها كوبًا من الماء الغازي (الغازوزة) ولم يكن يعرفها فظن بها من المسكرات فأنكر على محاول إكرامه ونهره قائلا: أنا. أنا من هؤلاء؟ وقد ربَّى أولاده النجباء على الدين والتقوى والجد والإقبال على العلم، فكان بيته كما قال الله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} (يونس: 87) كان كل من فيه يحافظون على الصلوات الخمس حتى الخدم من رجال ونساء، وكان رحمه الله تعالى في درجة عالية من مكارم الأخلاق، وأحاسن الصفات والعادات، كعلماء السلف الأعلام صدقًا وأمانة وحلمًا وتواضعًا. فهو من شهداء الله وحُجَجه على خلقه، تغمده الله برحمته، وجعل أنجاله النجباء خير خلف له.

منشور الإمام يحيي والإنجليز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منشور الإمام يحيى والإنجليز قال الإمام يحيى في منشوره الذي نشرناه في الجزء السابع: إن الدولة البريطانية تفتخر بحب الخير للعرب، فاستنبط بعض أصحاب الأهواء من هذه الكلمة أنه قد ارتبط بحمايتهم كغيره من أمراء العرب، وطفق بعض الكُتَّاب في سورية يُنَوِّهُ بذلك، وبعضهم ينصح للإمام ويحذره من الإنجليز، وهو أحذر من غراب، وأعلم من هؤلاء الناصحين، وممن هم أعلم منهم بكُنْهِ القوم، وآخر ما جاءنا من أخبار الإمام أنه لازال ممتنعًا عن عقد أي اتفاق معهم وإن لم يكن ضارًّا به؛ فليوجه أولئك الناصحون نصحهم إلى من هم أحوج إليه من الخادعين لهم والمخدوعين بهم إلى الملك حسين بن علي الذي أسس نهضته على الحماية الإنجليزية في الداخل والخارج، وكتب في كتاب رسمي أنه يكون خارجًا من رحمة الله تعالى إذا قَبِلَ من الدول كلها أضعاف ما يعطيه الإنجليز لأمته بدون وساطتهم! !

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (الجامع اللطيف في فضل مكة وأهلها وبناء البيت الشريف) للشيخ محمد جاد الله بن ظهيرة القرشي المكي، ألفه أو أتمه في سنة 950 للهجرة الشريفة، وهو - كما قال - مختصر من المطولات، مع قليل من الزيادات، تعمد مؤلفه رحمه الله ذلك؛ لقلة مَن يقرأ المطولات وكثرة من يرغب في معرفة تاريخ حرم الله من غير إضاعة زمن طويل في ذلك، وقد طبع في العام الماضي (1340) بمطبعة إحياء العلوم العربية الكبرى بمصر فبلغ مع فهارسه أربعمائة صحفة ونيف من القطع الصغير. فقد وُضع له غير الفهرس المعتاد فهرس طويل جمع أسماء الأعلام التي ذكرت فيه وأسماء الأماكن والمساجد والمعاهد والجبال والدور والقبور وغير ذلك كأبواب الحرم ومناوره، فنحث القراء على مطالعته. *** (كنز الرشاد وزاد المعاد) تأليف أمير المؤمنين، الهادي إلى الحق المبين، عز الدين بن الحسن عليه السلام وهو الإمام الهادي الذي ولي الإمامة في اليمن سنة (880) وتوفي سنة (900) وكان عالمًا متفننًا وعابدًا ناسكًا، وكتابه هذا مختصر من أجمع المختصرات في تصوف الأخلاق والآداب الدينية، وهو يستمد من إحياء العلوم للغزالي وأمثاله من كتب التصوف والرقائق والمواعظ، وقد علق عليه صديقنا الشيخ عبد الواسع الواسعي اليمني بعض الحواشي لإتمام الفائدة، وطبع في هذا العام (بمطبعة أمين طبيش الكبرى) بمصر على ورق أصفر غير صقيل فبلغت صفحاته تسعين صفحة من حجم رسالة التوحيد. *** (واجبات الطبيب) كتاب مشهور من مصنفات الدكتور عبد العزيز نظمي بك المفيدة - هو موضوع للأطباء ولا يقصر عن إفادة غيرهم، وقد طبع طبعة ثالثة في هذا العام بمطبعة المدرسة الصناعية الإلهامية على ورق صقيل جيد ولكن جاء طبعه دون ما يليق بإتقان مطبعة لمدرسة صناعية، وإنما يميز هذا من له إلمام بصناعة الطبع، فزادت صفحاته على مائة وسبعين من حجم رسالة التوحيد أيضًا، وثمن النسخة منه 15 قرشًا صحيحًا. ولما كان الأطباء يطلعون على ما لا يجوز ولا يسمح لغيرهم بالاطلاع عليه من أسرار الناس وعوراتهم وعيوبهم - أحببنا أن ننقل من هذا الكتاب (قَسَمَ الطبيب أبقراط) اليوناني الشهير - على ضَعْف ترجمته بالعربية - والعهد الذي يؤخذ على الأطباء في مدارس هذه البلاد الطبية عند إعطائهم الشهادة النهائية: (قسم أبقراط - الذي لا يزال يقسم به الأطباء) (أقسم بالشرف أن كل ما رأيته أو سمعته أو فهمته مدة قيامي بوظيفتي أو خارجًا عنها مما يجب كتمانه، لا أبوح بشيء منه ولا يجوز إفشاؤه، وأعتبر الكتمان في هذه الحالة واجبًا مقدسًا) . (عهد الأطباء) (أقسم بالله العظيم وبنبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم أني أكون أمينًا حريصًا على شروط الشرف والسر والصلاح في تعاطي صناعة الطب وأن أسعف الفقراء مجانًا ولا أطلب أجرة تزيد على أجرة عملي، وأني إذا دخلت بيتًا فلا تنظر عيناي ماذا يحصل فيه، ولا ينطق لساني بالأسرار التي يأتمونني عليها، ولا أستعمل صناعتي في إفساد الخصال الحميدة. ولا أعاون بها على الذنوب، ولا أعطي سُمًّا ألبتة، ولا أدل عليه ولا أشير به، ولا أعطي دواء فيه ضرر على الحوامل أو إسقاط لهن، وأكون موقرًا حافظًا للمعرفة مع من علموني ومكافئًا لأولادهم بتعليمي إياهم ما تعلمته من آبائهم، فما دمت حريصًا على عهدي وأمينًا على يميني، فجميع الناس يعتبرونني ويوقرونني، وإن خالفت ذلك كنت المَرْذُول المُحْتَقَر، والله على ما أقول شهيد. اهـ. وإننا ننكر على الأطباء القسم بالنبي فإنه يحرم على لسانه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكتفوا بالقسم بالله تعالى فلا بأس بتوكيده بالقسم بالقرآن العظيم فإنه كلامه وفي عبارة العهد ضعف ينبغي إصلاحها بما هو أفصح منها وأبين للمراد، كأن يقال: وإذا دخلت بيتًا فعليَّ أن أغُضَّ بصري ولا أتعمد رؤية ما لا تحل لي رؤيته فيه، ولا أتجاوز الحد الذي لا بد منه في الكشف الطبي.

هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف لغة غير العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف لغة غير العربية (س 25) من صاحب الإمضاء الطالب في الأزهر: مولانا الأستاذ الفاضل محمد رشيد رضا نفعنا الله بمواهبه. آمين: لقد احتد الجدال بين عالمين مسلمين فلسطينيين في: هل كان النبي عليه السلام يعرف اللغات كلها أو اللغة العربية فقط؟ ولقد قبل الطرفان فتواكم، ورضيا بقولكم لحل هذه المعضلة، وكشف هذه المسألة. نرجو من الله أن يهدي المسلمين إلى ما فيه الخير الجزيل. وأن يبعدهم من التعصب الذميم. وفي الختام تقبلوا تشكراتنا القلبية سيدي. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فريد الشطي ... ... ... ... ... ... ... ... طالب علم بِرِوَاق الشوام (ج) قد كان نبينا صلى الله عليه وسلم وآله وسلم أميًّا لم يتعلم قراءة ولا كتابة، ومن المعلوم بالقطع الثابت بكتاب الله تعالى وبالتواتر أنه عربي أمي، فالعلم بلغة غير لغة قومه لا يكون إلا بالتعلم وهو لم يتعلم. أو بالوحي وقد كان الوحي إليه بلسانه قطعًا بنص القرآن ولم يثبت ما يخصص هذا النص أو يقيد إطلاقه، بل ثبت ما يؤيده وينفي ما عداه كقوله تعالى في سورة النحل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 103) نزلت في عبد لبني الحضرمي رومي كان يقرأ الكتب، وقيل في قين (حداد) رومي كان يعمل السيوف بمكة مع أخ له، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم يحب أن يرى هذه الصنعة فيختلف إليه. فقال بعض المشركين: إنه يتعلم منه فحجَّهم الله تعالى بقوله: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 103) ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم شيئًا ما من اللغات الأعجمية لكانت الرومية؛ لاختلاط بعض قريش بالروم عند اختلافهم إلى بلاد الشام التي كانت تحت سلطان الروم، ولو عرف الرومية لكان للشبهة المذكورة وجه ما من جهة اللغة، ولكان ردها من طريق آخر أقوى من طريق اختلاف اللغة كأنْ يقال: إن الذين يلحدون إليه جاهل بكل علم من علوم القرآن، كعقائد التوحيد والتنزيه للخالق وأصول الشريعة، وحقائق الآداب، والفصل فيما حرفه وما نسيه أهل الكتاب من دينهم.. . وأنى لعبد بني الحضرمي أو ذلك القين الرومي أن يعلم شيئًا من هذا؟ ولكن اختلاف اللغة الذي لا مكابرة فيه أغنى عن هذا البرهان الذي لا يعقله إلا من عرف القرآن، وكان أكثر المشركين وقت نزول سورة النحل بمكة لا يعرفون من القرآن شيئًا؛ لأن رؤساء قريش كانوا يصدون الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم كما يصدونه عن التبليغ بقراءة القرآن، فلهذا كان الرد عليهم باختلاف اللغة المانع من الأخذ والتلقي، أقوى في الإقناع. هذا وإن بعض العلماء قد ذكروا بحثًا نظريًّا في احتمال تعليم الله خاتم رسله لجميع خلقه جميع ألسنتهم؛ لقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وأيدوه بنطقه صلى الله عليه وسلم بكلمات مفردة قيل: إنها أعجمية، وإننا نورد أصح ما روي في ذلك ونبين غلط الاحتمال فيه وهو ما جاء في صحيح البخاري قال: (باب من تكلم بالفارسية والرطانة) [1] وقوله تعالى: {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} (الروم: 22) وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم: 4) ثم ذكر بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله ذبحنا بُهَيْمَةً [2] لنا وطحنت صاعًا من شعير، فتعال أنت ونفر فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق إن جابرًا قد صنع لكم سورًا فحيهلا بكم.... الحديث. ثم ذكر بسنده من طريق عبد الله بن المبارك عن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعليَّ قميص أصفر. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سنه سنه) قال عبد الله: وهي بالحبشية حسنة. الحديث. قال الحافظ ابن حجر في كلامه على الآيتين من ترجمة الباب: كأنه أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف الألسنة؛ لأنه أرسل إلى الأمم كلها على اختلاف ألسنتهم فجميع الأمم قومه بالنسبة إلى عموم رسالته فاقتضى أن يعرف ألسنتهم؛ ليفهم عنهم ويفهموا عنه، ويحتمل أن يقال: لا يستلزم ذلك نطقه بجميع الألسنة لإمكان الترجمان الموثوق به عندهم. اهـ. أقول: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم أُعطي العلم بجميع اللغات ليفهم عن جميع الأمم التي أرسل إليها ويفهموا عنه لكان ذلك من أعظم المعجزات الحسية التي لا يمكن لأحد أن يكابر فيها ولتحققت العلة بخطابه للأعاجم الذين بدأ بدعوتهم إلى الإسلام كهرقل قيصر الروم وكسرى الفرس والمقوقس عظيم القبط، ولكن صح أنه كتب إليهم بالعربية، ولم يُنْقَل قطُّ أنه دعا أعجميًّا إلى الإسلام بلغته، ولا أنه سمع من أعجمي كلامًا بلغته في شأن الإسلام، ولا أمر أصحابه وأتباعه بأن يبلغوا الإسلام للأعاجم بلغتهم، بل الذي ثبت ثبوتًا قطعيًّا خلاف ذلك، وهو أنه كان يدعو إلى الإسلام هو وأصحابه باللسان العربي وبالقرآن العربي، وكانوا يعلمون كل من أسلم من الأعاجم اللسان العربي ولذلك انتشر هذا اللسان بانتشار الإسلام منذ العصر الأول من غير مدارس أنشئت لذلك ولا إجبار للأمم التي فتح الصحابة والتابعون وتابعو التابعين بلادهم كما تفعل أمم أوربة في البلاد التي يستعمرونها، بل كان الذين يدخلون في الإسلام يتعلمون لغته لأجل القيام بما فرض الله عليهم من التعبد بكتابه المُنَزَّل، والتفقه فيه، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله هذا البحث في أول رسالته في أصول الشريعة فذكر الآيات التي تصف القرآن بأنه عربي مبين، وآية {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) وذكر الاحتمالين المُشَار إليهما: هل النبي صلى الله عليه وسلم أُوتِيَ ألسنة جميع من أُرْسِلَ إليهم أم كُلِّفُوا هم أن يعرفوا لسانه كما كُلِّفُوا أن يعرفوا دينه؟ وجزم بالثاني وأقام عليه البراهين ووافقه جميع علماء المسلمين؛ فلم يُنْقَل عن أحد من المجتهدين ولا المقلدين أنه عارضه فيه أو أنكره عليه، وقد فصَّلنا ذلك في مقالتين ننشرهما في الجزء العاشر الآتي. فالمسألة إجماعية وقد عجبت لسهو الحافظ ابن حجر عنها في هذا المقام على سعة اطلاعه وذكره لخلاصة أقوال المحققين في شرح كل حديث في الباب اللائق به، وقد ذكر أن الغرض من حديث جابر هنا أن كلمة (سور) بضم السين وسكون الواو غير مهموز فارسية، وقيل حبشية وأن معناها الطعام الذي يُدْعَى إليه، وقيل مطلقًا. كما أن كلمة (سنه) حبشية، وقال: إنها في رواية الكشميهني (سناه) بزيادة ألف، وإن الهاء فيهما للسكت (قال) قال ابن قرقول: بفتح النون الخفيفة عند أبي ذر وشددها الباقون، وهي بفتح أوله للجميع إلا القابسي فكسره اهـ. وروى البخاري في هذا الباب حديثًا ثالثًا عن أبي هريرة وهو أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: (كَخٍ كَخٍ، أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة) . وقد قال الحافظ بعد إيراد الثلاثة: وقد نازع الكرماني في كون الألفاظ الثلاثة أعجمية؛ لأن الأول (وهو سور) يجوز أن يكون من توافق اللغتين. والثاني (وهو سنه) يجوز أن أصله حسنة فحذف أوله إيجازًا، والثالث من أسماء الأصوات. وقد أجاب عن الأخير ابن المُنَيِّر فقال: وجه مناسبته أنه صلى الله عليه وسلم خاطبه (أي الحسن) بما يفهم مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل فهو كمخاطبة العجمي بما يفهم من لغته. قلت: وبهذا يجاب عن الباقي ويزاد بأن تجويزه حذف أول حرف من الكلمة لا يُعْرَف، وتشبيهه بقوله: (كفى بالسيف شا) لا يتجه لأن حذف الأخير معهود في الترخيم، والله أعلم اهـ. كلام الحافظ في كتاب الجهاد، وقال في الكلام على حديث جابر في غزوة الخندق: إن كلمة (سور) معناها الصنع بالحبشية، وقيل: العرس بالفارسية، ويطلق أيضًا على البناء الذي يحيط بالمدينة اهـ. ونقول: الصواب أن معنى الكلمة بالفارسية الوليمة أي طعام العرس، ولا يطلق على طعام جابر إلا بِتَجَوُّزٍ؛ فإذا لم يكن هذا اللفظ معربًا من قبل فيكفي أن يكون صلى الله عليه وسلم هو الذي عربه، وكذا لفظ سنه أو سناه. وهل تعد معرفة الكلمة المفردة من اللغة معرفة باللغة؟ قلما يوجد في عوام مصر من لا يعرف عدة كلمات تركية أو إنكليزية فهل يقال: إنهم علماء بهاتين اللغتين علمًا يفهمون به كلام أهلها ويُفْهِمُونَهُم مرادهم؟ كلا إنما تساهل بعض العلماء في إطلاق احتمال أن يعرف النبي صلى الله عليه وسلم المئات من لغات الأمم؛ لأنهم يرونه من باب التعظيم الذي يكاد بعضهم أن يقبل فيه كل شيء، وإن كان مخالفًا لبعض القطعيات أو مُفْضِيًا لبعض المطاعن من جهة أخرى لم يفطنوا لها، فإن كون النبي صلى الله عليه وسلم أميًّا ركن من أركان إثبات نبوته ومقدمة من مقدمات البرهان على إعجاز كتابه.

حركة الأرض وجريان الشمس لمستقر لها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حركة الأرض وجريان الشمس لمستقر لها (س 26) من صاحب الإمضاء المدرس في مدينة تطوان - في المغرب الأقصى. الحمد لله وحده - من تطوان في 27 شوال سنة 1341 فضيلة أستاذي الوحيد، وملاذي الفريد، أستاذ العالم ومفتيه ومرشده السيد محمد رشيد رضا. سلام على تلك الذات، وتلك الروح الطاهرة من قلب يتأجج بنار الأشواق ويضطرم في سعير البعاد، غير أن ثلج ماء عين (مناركم) قد يطفئ شيئًا من ذاك اللهيب، ويُخْمِد سعيرها عنه ما يهيم الفكر في استحسان تلك الدرر اليتيمة، والتمتع بتلك المعاني الوحيدة الفريدة. سيدي وسندي، أرجو من فضيلتكم الجواب على صفحات (المنار) الأغر عما يأتي: من المقرَّر عند علماء الجغرافية أن الأرض لها دورتان يومية وسنوية، وأن الليل والنهار والفصول ينشآن عن هاتين الدورتين للأرض ويقتضي هذا أن الشمس ثابتة والله تعالى يقول {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38) فأرجو من فضيلتكم جوابًا كافيًا شافيًا كما هو شأن فضيلتكم بحيث لا يبقى في النفس ولو كانت جاحدة أدنى مخالفة. حفظكم الله وأطال حياتكم، وبارك في عمركم وعمر أنجالكم الكرام، مدى الليالي والأيام، من الداعي لفضيلتكم بذلك تلميذكم وصديقكم. ... ... ... ... ... ... ... محمد العربي بن أحمد الخطيب (ج) إذا كان ما ذكره السائل من المقرَّر عند علماء الجغرافية فإن من المقرر عندهم، وعند علماء الفلك أن الشمس تدور على محورها كغيرها من الأجرام السماوية، وأنها تدور هي والكواكب السيارة التي حولها حول نجم آخر مجهول يعدونه المركز لها، وبلغنا عن أحد المعاصرين من هؤلاء العلماء أنه حقق حديثًا أن مجاميع الشموس كلها - أو العالم كله - يجري في الفضاء لغاية مجهولة. وتجدون هذا البحث ما عدا القول الأخير في مقالة طويلة للدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله في المجلد الرابع عشر من المنار. وتجدون فيها رأيًا عزاه إلينا؛ إذ تلقاه عنا، وهو أن لجميع العالم المؤلف من هذه الشموس والكواكب مركزًا واحدًا هو مصدر التدبير والنظام لها وهو عرش الرحمن تبارك وتعالى (راجع ص 590 و591 ج 8 منه) ونحن قد استنبطناه من عرض مذهب الفلكيين على قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} (يونس: 3) فجريان الشمس ثابت بالاتفاق فإن دورانها على محورها يسمى جريانًا، ودورانها مع مجموعها المعلوم حول نجم مجهول - على قولهم - كدوران المجاميع الشمالية حول نجم القطب الشمالي - يسمى جريانًا أيضًا. وأولى منه وأظهر سيرها مع بقية العالم الذي قال به بعض المتأخرين كما ذكر في تقويم لفلامريون المشهور. على أن الجريان يستعمل استعمالاً مجازيًّا في السير المعنوي كما يقال جرى القضاء بكذا، ولك أن تقول الآن: إن أوربة تجري في تنازع دولها لحرب أخرى شر من الحرب الأخيرة. وأما المستقر الذي تجري الشمس إليه أو له ففيه وجهان (أحدهما) أنه ما ينتهي إليه أمرها بخراب عالمنا هذا التي هي ركن نظامه فيكون جريانها كجريان غيرها بمعنى قوله تعالى في أول سورة الرعد: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد: 2) وهو بمعنى ما روي عن قتادة قال: تجري لمستقرها: لوقتها ولأجل لا تعدوه (ثانيهما) أنه مستقر نظامها لا أجلها وهو النجم المجهول عند علماء الفلك والعرش على رأينا. ويؤيده حديث أبي ذر في كون مستقرها تحت العرش، والحديث قد روي بألفاظ مختلفة أظهرها أخصرها وهو ما رواه الجماعة إلا ابن ماجه وغيرهم عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38) قال: (مستقرها تحت العرش) وبعض ألفاظه مشكل في ظاهره جدًّا، ورواته أقل، وهو ما ذكر فيه سجودها لله تحت العرش واستئذانها، وإن فسر بمعنى خضوعها لإرادته كقوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} (الرحمن: 6) والراجح عندنا أنه روي بالمعنى فأخطأ بعض الرواة في فهمه فعبَّر عنه بما فهمه والله أعلم. وسنعود إلى هذا البحث في وقت أوسع ومجال أوسع، إن شاء الله تعالى.

حكم الصائم الذي يغطس في الماء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكم الصائم الذي يغطس في الماء (س 27) من صاحب الإمضاء في جزيرة البحرين بسم الله الرحمن الرحيم حضرة الأستاذ الفاضل مولانا السيد محمد رشيد رضا أدام الله وجوده للمسلمين آمين. بعد تقبيل أناملكم الكريمة. نعرفكم أنه صرَّح لنا بعض الأستاذة هنا بأن الصائم إذا غطس في الماء، صيامه صحيح ولا يفطر، فكان عندنا شك من ذلك فنلتمس من فضيلتكم أن ترشدونا عن ذلك أدامكم الله ذخرًا لمحبيكم. ... ... ... ... عبد الله المزروع ومحمد يوسف فخرو (ج) قال صاحب المغني من علماء الحنابلة ما نصه: (فصل) ولا بأس أن يغتسل الصائم؛ لأن عائشة وأم سلمة قالتا: نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كان ليصبح جنبًا من غير احتلام ثم يغتسل ثم يصوم. متفق عليه. وروى أبو بكر بإسناده أن ابن عباس دخل الحمام وهو صائم، هو وأصحاب له في شهر رمضان. فأما الغوص في الماء فقال أحمد في الصائم ينغمس في الماء: إذا لم يخف أن يدخل في مسامعه، فإن دخل في مسامعه فوصل إلى دماغه من الغسل المشروع في المضمضة والاستنشاق من غير إسراف ولا قصد فلا شيء عليه كما لو دخل إلى حلقه من المضمضة في الوضوء، فإن غاص في الماء أو أسرف أو كان عابثًا فحكمه حكم الداخل إلى الحلق من المبالغة في المضمضة والاستنشاق الزائدة على الثلاث، والله أعلم. وقال الشمس الرملي من فقهاء الشافعية في نهاية المحتاج عند قول المنهاج: (فلا يضر وصول الدهن بتشرب المسام ولا يضر الاكتحال وإن وجد طعمه بحلقه) ما نصه: كما لا يضر الانغماس في الماء وإن وجد أثره بباطنه. اهـ. وناهيك بدقة الشافعية وتشديدهم في تعريف الصوم، وعندنا أن أحسن تعريف شرعي للصوم قول صاحب الهداية من الحنفية: هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع نهارًا مع النية. والانغماس في الماء ليس شربًا ولا نهي عنه بخصوصه ولا هو مظنة لدخول الماء إلى الجوف أكثر من المضمضة المشروعة في الصيام، ودخول الماء إلى الجوف من الأذن لا يسمى شربًا وهو لا من الأفعال الاختيارية التي تفعل بقصد ولا فائدة منه في نقع الغلة أو إزالة الظمأ فهو ليس منافيًا لحقيقة الصيام ولا لمقصده، وإنما البحث فيه من التنطع المذموم شرعًا، والله أعلم.

حقيقة الإيمان والكفر وشعبهما

الكاتب: ابن القيم الجوزية

_ حقيقة الإيمان والكفر وشُعبهما والظلم والفسق وما يُعد من ذلك خروجًا من الملة أسهب المحقق ابن القيم في كتابه (الصلاة) في الخلاف بين العلماء في كفر تارك الصلاة وعدمه وأدلة المثبت والنافي. ثم قَفَّى على ذلك بفصول في الحكم بين الفريقين بدأها بالبحث في مسألة العنوان المهمة فأحببنا نشرها، لأنها من المسائل المهمة التي لم يوفها مثلُه حقها. فصل في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفتين معرفة الصواب في هذه المسألة مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر ثم يصح النفي والإثبات بعد ذلك، فالكفر والإيمان متقابلان إذا زال أحدهما خلفه الآخر؛ ولما كان الإيمان أصلاً له شُعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيمانًا. فالصلاة من الإيمان وكذلك الزكاة والحج والصيام والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان. وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق وبينهما شعب متفاوتة تفاوتًا عظيمًا، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب. وكذلك الكفر ذو أصل وشُعب فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشُعب الكفر كفر، والحياء شعبة من الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، والصدق شعبة من شعب الإيمان والكذب شعبة من شعب الكفر. والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان وتركها من شعب الكفر، والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية. وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان، فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان. وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارًا وهي شعبة من شعب الكفر فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف، فهذا أصل. وها هنا أصل آخر، وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب، وهو الاعتقاد، وقول اللسان، وهو التكلم بكلمة الإسلام. والعمل قسمان: عمل القلب، وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة، وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة وأهل السنة، فأهل السنة مُجْمِعُونَ على زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول بل ويقرون به سرًّا وجهرًا ويقولون: ليس بكاذب ولكن لا نتبعه، ولا نؤمن به. وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مُسْتَنْكَر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح، ولا سيما إذا كان ملزومًا لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره، فإنه يلزم من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح؛ إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة وهو حقيقة الإيمان. فإن الإيمان ليس مجرد التصديق، كما تقدم بيانه، وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد، وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه، وإن سُمِّيَ الأولُ هدًى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء، كما أن اعتقاد التصديق وإن سُمِّيَ تصديقًا فليس هو التصديق المستلزم للإيمان، فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته [1] . فصل وها هنا أصل آخر وهو: الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله - جحودًا وعنادًا - من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه. وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده، فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان , وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعًا، ولا يمكن أن يُنْفَى عنه اسمُ الكفر بعد أن أطلقه الله ورسوله عليه، فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كفر عمل لا كفر اعتقاد، ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا، ويسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافرًا ولا يُطْلَقُ عليهما اسم الكفر، وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر. وعمن لا يأمن جاره بوائقه، وإذا نُفي عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل، وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد. وكذلك قوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) فهذا كفر عمل، وكذلك قوله: (من أتى كاهنًا فصدقه أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد) وقوله: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنًا بما عمل به وكافرًا بما ترك العمل به، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوَهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *} (البقرة: 84 - 85) فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه، وهذا يدل على تصديقهم به، وأنهم لا يقتل بعضهم بعضًا ولا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم، ثم أخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقًا وأخرجوهم من ديارهم. فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب، ثم أخبر أنهم يفدون من أُسِرَ من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب، فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه، فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) ففرق بين قتاله وسبابه وجعل أحدهما فسوقًا لا يكفر به والآخر كفرًا، ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان. وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تُتَلَقَّى هذه المسائل إلا عنهم فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين: فريقًا أخرجوا من الملة بالكبائر، وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقًا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فهؤلاء غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل، فهاهنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وفسوق دون فسوق وظلم دون ظلم. قال سفيان بن عيينة عن هشام بن جحير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) : ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه، وقال ابن عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) قال: هو بهم كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة، وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة، وقال وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: (كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق) وهذا الذي قاله عطاء بَيِّنٌ في القرآن لمن فهمه، فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافرًا، ويسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافرًا. وليس الكافران على حد سواء، ويسمى الكافر ظالمًا كما في قوله تعالى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254) وسمى متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالمًا فقال: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) قال يونس نبيه: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) وقال صَفِيُّهُ آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) وقال كليمه موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: 16) وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. ويسمى الكافر فاسقًا كما في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} (البقرة: 26-27) الآية، وقوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ} (البقرة: 99) . وهذا كثير في القرآن. ويسمى المؤمن فاسقًا كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) نزلت في الحكم بن أبي العاص وليس الفاسق كالفاسق، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 4) . وقال عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50) وقال: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} (البقرة: 197) وليس الفسوق كالفسوق. والكفر كفران، والظلم ظلمان، والفسق فسقان وكذا الجهل جهلان، جهل كفر كما في قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) وجهل غير كفر؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (النساء: 17) . كذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة، وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر، وهو شرك العمل كالرياء، وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} (المائدة: 72) وقال: {وَمَن يُشْ

بطل العرب والإسلام العظيم القائد الكبير محمد عبد الكريم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بطل العرب والإسلام العظيم القائد الكبير محمد عبد الكريم اقتسمت فرنسة مع أسبانية مملكة المغرب الأقصى كما اقتسمت مع إنكلترة سورية والعراق. وقد قيَّض الله تعالى لأهل الريف الذي جُعِلَ حصة لأسبانية زعيمًا عظيمًا نظَّم لهم جيشًا من أنفسهم يقاتل به الأسبانيين؛ لإخراجهم من بلادهم فأتى في قتاله لهذه الدولة بما يكاد يكون من خوارق العادات التي أيَّد الله بها سلف هذه الأمة في صدر الإسلام، وما زلنا نمني النفس بالتنويه بجهاده منذ بطش البطشة الكبرى قبل ثلاث سنين حتى رأينا في هذه الأيام ما كفانا المؤنة من المقال الآتي (لسعادة الكاتب السياسي الكبير) الذي يغني وصفه عن تعيين شخصه، وحرف الإمضاء عن التصريح باسمه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... المنار من عادة الجرائد أن تكثر من لفظ (البطولة) تعرب بها كلمة Heroisme التي تدور كثيرًا في الكتابات الأوروبية، والناس مضطرة اليوم إلى تعريب كلماتهم وتقليد مناحيهم. أما أنا فكنت غير راغب في هذا الاستعمال؛ لأنني لا أكتفي من اللفظة بأن تأتي في معاجم اللغة، وأن لا تعد غلطًا، بل أحب أن أجدها في كلام العرب الأولين أو المخضرمين أو المولدين على الأقل، ولا أتذكر أنني عثرت بالبطولة - أي حالة من كان بطلاً - في غير متون اللغة. أما الآن فأريد أن أستعملها لهذا الأسد الزائر، والفحل الصائل، المسمى بمحمد بن عبد الكريم، المتولي كِبرَ تحرير قومه في شمالي مراكش، فأقول: بطل محمد بن عبد الكريم بطولة وبطالة فهو بطل، لا بل هو بطل الأبطال، وفذ الأفذاذ وعلم الأعلام، بل هو عندي أعظم مزية من مصطفى كمال، ومن جميع أبطال العصر الحاضر، البادي منهم والحاضر. وكل من ينظر في قضية الأمير محمد بن عبد الكريم ويتأمل فيها ويرى موقفه المدهش المحير للعقول في وجه إسبانية مع الفرق الشاسع والشقة الهائلة بين درجتي كل من إسبانية والمنطقة التي تقاتلها من شمالي المغرب - يحكم بأنه لو كان في الدنيا إنصاف لما كان أحد اليوم أولى من محمد بن عبد الكريم بأن يوضع في مقدمة أبطال العصر، ويكتب تاريخه، وتُدَوَّنُ سيرته، وتعرض صورته، ويرجح على فوش وهندنبرغ ومصطفى كمال ودانو نسيو ولنين ومسوليني وطبقتهم التي اختلط ذكرها بالتاريخ العام. إن فوش عندما أحرز النصر كان رأسًا على 15 مليون جندي من عساكر الحلفاء عدا جنود أميركا التي كان وصل منها إلى فرنسا مليونان ونصف مليون وبقي منها مثل هذا العدد في أميركا، وإن هندنبورغ كان قائدًا لستة ملايين ألماني هم أحسن جنود العالم بدون نزاع، وإن مصطفى كمال وإن صح أن يقال: إنه بعث تركية من قبرها، فإنه كان في تركية عساكر منظمة، وجنود مدربة، وضباط أركان حرب معدودين من الطبقة الأولى، وبقايا أسلحة، وآثار دولة مبنية من أصلها على الأسل، وجاءها لويد جورج بمعاهدة سيفر التي تجعل تركية أثرًا بعد عين، وزحف إليها اليونانيون يذبحون الرجال، ويهتكون الأعراض، فأتيحت لهمة مصطفى كمال أسباب عديدة تجمع حوله أمه باسلة مستبسلة كالأمة التركية. وإن سائر من ذكرنا من الرجال المعدودين في هذا العصر كانوا في حركاتهم متوكئين على أمم عظام، وأعداد لا تُحْصَى، وتشكيلات إدارية تامة، فاستوسق لهم من الأمور ما استوسق، وظهر من شأنهم ما ظهر. وأما محمد بن عبد الكريم فإن جئنا إلى عد أنصاره فإن الريف كله يبلغ جزءًا من سبعة من سلطنة المغرب، فإن كانت هذه السلطنة ثمانية ملايين فيكون الريف زائدًا قليلا على المليون، وإن كانت هذه السلطنة لا تنوف على أربعة ملايين أو خمسة كما جاء في بعض مؤلفات الفرنسيس الأخيرة؛ فيكون الريف نحو ثلثي المليون أي أكثر قليلاً من جبل لبنان وأقل شيئًا من فلسطين، ومع هذا فإن هذين الثلثين من المليون، أو فلنقل هذا المليون واقف في وجه دولة إسبانية التي عدة أهلها عشرون مليونًا بخلاف تركية مع اليونان؛ إذ تركية مع كل ما اقتطع منها بقيت 12 مليونًا، واليونان مع كل ما أضيف إليها لا تزيد على 6 ملايين. فأنت ترى ما هنالك من الفرق، وزد عليه أنه لم يجتمع من جنود اليونان في وجه مصطفى كمال ما اجتمع من جنود الإسبانيول في وجه محمد عبد الكريم، فقد كان جيش اليونان المحارب لجيش أنقرة من 150 إلى 170 ألفًا حال كون الجيش الإسبانيولي الذي غزا الريف سنة 1921 بلغ عدده 250 ألف مقاتل وباء بالخذلان كما هو معروف. والجيش الإسبانيولي الزاحف اليوم إلى الريف هو بحسب قول الجرائد الأوروبية مائة وستون ألف مقاتل. وإنه في كلتا المرتين تطوع في الجيش الإسبانيولي ألوف مؤلفة من أصناف الإفرنجة لا سيما من الإنكليز الذين لا يتركون فرصة يُظهرون فيها فرط محبتهم للإسلام إلا وَلَجُوهَا، وهذه المرة يقال: إن أكثر الإلحاح على الدولة الإسبانية في استئصال شأفة المقاومة من الريف واقع من دولة بريطانيا العظمى. ثم لا يخفى ما يوجد من الفرق بين زحف اليونان من بلادهم راكبين أثباج البحر الواسع وإيغالهم في بلاد الأناضول الطويلة العريضة التي تأكل الجيوش بمساوفهم وبين ركوب الإسبانيول بحرًا اسمه بحر الزقاق أو بوغاز جبل طارق عرضه ساعات قلائل، وكون الريف كله لا يساوي في الرقعة ولاية من ولايات الأناضول. لا نريد في هذه المقابلات والمقارنات تصغير شيء من مجادة العمل الذي قام به إخواننا الترك وأدهش الربع العامر بأسره، وترنحت له أعطاف الشرقيين عند من يقول بجامعة شرقية، وقرَّت به عيون المسلمين عند مَن يأخذ بجامعة إسلامية. إن الأتراك أشهر في الحروب من أن ينوه فيها الإنسان بقدرهم، وإن انتصارهم الأخير بعد أن نهكت قواهم الحروب المتتابعة بدون انقطاع ولا فتور منذ بضع عشرة سنة - أضاف صفحة جديدة على تاريخ مجدهم، وخلد مصطفى كمال ذكرًا لا تمحوه الأعصر بأنه هو المؤسس الأخير للدولة التركية. ولكننا نريد أن نثبت بهذه المقارنات أنه بالنسبة إلى قلة الوسائل وضيق الرقعة وفقد التشكيلات، ونزارة الأسلحة، وندورة الضباط، وانحصار الريف بين البحر من جهة والمنطقة الفرنسوية من أخرى، وصغر الريف من أصله، فإن فضل محمد بن عبد الكريم هو أعظم من فضل مصطفى كمال ومن فضل أعاظم قواد أوروبا؛ لأنه لو قام أي واحد من أولئك العظام مقام ابن عبد الكريم لعجز أن يأتي بشي مما أتاه. في تموز سنة 1921 استأصل الريفيون بقيادة هذا البطل الغشمشم 25 ألف مقاتل إسبانيولي وأسروا ألوفًا وغنموا 170 مدفعًا وقيل 300 مدفع و 70 ألف بندقية وأعتادًا حربية لا تحصى وعددًا من الطيارات، وسبق لهذا العاجز - المعجب بمحمد بن عبد الكريم المتحسر على أن ليس في سورية مثله - مقالات متعددة عن تلك الطوائل التي طال بها والوقائع التي انتصر فيها، منها ما نشرناه (بالبيان) ومنها في (الصباح) الذي كان يطلع بفلسطين؛ لأن حرية المطبوعات ... في سورية لعهد محرري الأمم ... لم تكن تسمح بنشر شيء عن قوم يدافعون عن استقلالهم، ولو كانوا من أقصى البلاد عن سورية. وبعد هاتيك الهزيمة عوَّل الإسبانيول على سياسة التفريق والشقاق بين الريفيين، تلك السياسة التي طالما نجحت بها الدول المستعمرة، ونالت مآربها من الشرق من ثنايا منافسات الشرقيين بعضهم مع بعض، فعقد الإسبانيول الصلح مع الرسولي، وأعملوا الهمة في التضريب بين القبائل الريفية، وخدَّروا أعصاب كثيرين منها، وبذلوا المواعيد ومنوا الأماني، حتى خُيِّلَ لهم أن الحركة قد همدت، وأن حزب ابن عبد الكريم قد ضعف جدًّا عن ذي قبل، وأنهم إن صمدوا إليه وجدوه هذه المرة في قلة من قومه وقضوا منه وطرهم، فكان الأمر بعكس ما خالوا، وهو أنهم لما آنسوا منه رقة الجانب وطمعوا في أخذه بالقوة عاد هذا الأمير فاستفز قبائل الريف، وأوضح لهم الخطر فارتفعت الواعية، وامتدت الصارخة، واعصوصبت القبائل حول قائدها، وتأهبت للنضح عن ذمارها، وعاد الأمر كما بدأ، لا بل رأى محمد بن عبد الكريم أن يجعل الإسبانيول غداءه قبل أن يجعلوه عشاءهم، فجمر [1] للزحف على مواقعهم الأمامية بقرب مليلا، وناوشهم القتال منذ أوائل هذا الصيف، فدارت رحى الهيجاء، وحمي الوطيس وتباعث العرب والبربر على الموت في سبيل دينهم ووطنهم، فجفلوا الإسبانيول عن مراكزهم، وأفحشوا النكاية فيهم، ورأت إسبانية أن ابن عبد الكريم لا يزال ابن عبد الكريم من المَنََعَة في قومه، والحيطة من وراء أمره، والحمية على وطنه، والحفيظة لحقه، وأن الريفيين لم يبرحوا على عهدهم بالشهامة وإباء الضيم، والبصائر بالحرب، والغرام بالطعن والضرب، فسقط في يدها، وخابت آمالها، وجردت إلى الريف زحوفها، حتى بلغ عدد الفيلق [2] الإسبانيولي المرابط الآن بالريف 160 ألفًا، وهي لم تنل وطرًا، ولا قضت حاجة، فثارت الخواطر في مادريد واضطربت الحكومة وادْلَهمَّ الخطبُ، وأبى الحزب العسكري إلا أن يتابع إرسال الإمداد إلى أن تستقيم عصاة الريف أو تنكسر، وذهب آخرون إلى أنه لا فائدة من غزو الريف إلا تراكم الخسائر في المال والرجال، وقدم اثنان من النظار استعفاءهما: أحدهما ناظر المالية الذي شكا من كون عجز الموازنة المالية هذه السنة بلغ 900 مليون، فماذا يكون إن أصرت الحكومة على متابعة حرب الريف؟ هذه حالة إسبانية اليوم، وهذا هو الفري الذي فراه محمد بن عبد الكريم عوْدًا على بَدْءٍ، فأثبت أنه بطلها اليوم كما كان بطلها بالأمس، وسنرى أنه بطل السلم كما هو بطل الحرب، وأنه أصدر أوامر بالاتفاق مع أعضاء الحكومة الريفية التي هو رأسها بإنزال أشد العقاب إلى حد القتل بمن يعتدي على إسبانيولي أو أي أوروبي أو يخالف القوانين الحربية المرعية بين الدول المتمدينة. وقد نشر رجل سويسري من زوريخ منذ أيام رسالة تناقلتها كثير جرائد سويسرة كنا نود تعريبها ونشرها كلها نقلاً عن جريدة (فوي دافي) الصادرة بلوزان لكن طولها حال دون تعريبها برمتها، ومآلها: أن بعض الشبان من سويسرة قصدوا إسبانية للعمل وبينما هم يعملون ببرسلونة [3] إذ أخذتهم حكومة إسبانية إلى الريف بحجة أنها تريد أن تستخدمهم في النقليات. وأن هنا عملاً بأجرة وهناك عملاً بأجرة فذهبوا مسيرين غير مخيرين، ولما صاروا إلى مليلا نظموهم في التابور وأرسلوهم إلى ميدان الحرب؛ خلافًا لما كانوا وعدوهم به، ولما كانوا من رعية سويسرة لا شأن لهم في حرب واقعة مع إسبانية فر منهم بضعة نفر فأدركهم الإسبانيول وحاكموهم محاكمة البلط (الفارين من العسكر) وحكموا عليهم بالقتل ونفذ فيهم الحكم رميًا بالرصاص مع أنهم لم يكونوا متطوعين في جند إسبانية وإنما سيقوا إلى الحرب جبرًا وقهرًا بعد أن خدعوا بقول الحكومة الإسبانية لهم أنهم يكونون في مليلا عَمَلَةً كما كانوا في برسلونة. قال هذا الرجل السويسري الزوريخي: فالتزمنا أن نشهد وقائع من أشد وأهول ما يتصور العقل كانت غالبًا خسائر الإسبانيول فيها أفدح من خسائر المغاربة، وذكر واقعة قال: إن الإسبانيول خسروا فيها وحدها أربعة آلاف مقاتل. وهو يحزر مجموع خسائر الإسبانيول بستين ألف مقاتل. ثم قال: إننا مللنا القتال ونحن لا ناقة لنا في الأمر ولا جمل ففررنا إلى جهة العرب فأخذونا إلى عبد الكريم فأمر بانتظامنا في الجيش، فبعد أن كنا نقاتل في صف الإسبانيول صرنا نقاتل الإسبانيول، وكنا في كلا الحالين مكرهين لا أبطالاً، فبعد أن شهدنا عدة وقائع لاحت لنا فرصة

الخلافة والسلطان القومي ـ وجهة نظر الترك إلى هذه المسألة الكبرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخلافة والسلطان القومي وجهة نظر الترك إلى هذه المسألة الكبرى صدر من أنقرة كتاب بالتركية بعنوان (الخلافة والسلطان القومي) يقع في 78 صفحة، هو مجرد من اسم المؤلف واسم المطبعة واسم البلد الذي طبع فيه، ولكن مهما أراد واضعوه أن يتكتموا، فإن موضوعه ومادته وكل شيء فيه يَنُمُّ على حقيقته. وهو مطبوع أجمل طبع على ورق جيد، ومنسق تنسيقًا يشهد لواضعيه بأنهم بذلوا الجهد في التأنق به وإفراغه في القالب الذي أرادوه له. ويرجح أن حكومة المجلس الوطني الكبير هي التي نشرت كتاب (الخلافة والسلطان القومي) تأييدًا لخطتها في هذه المسألة الإسلامية الكبرى، وقد تولت أمر نشره في العالم كله مديرية الاستخبارات؛ لأن ذلك داخل في دائرة اختصاصها، أما أصحاب المعلومات التي تضمنها هذا الكتاب فهم أنفسهم الذين أعدوا للغازي مصطفى كمال باشا المادة الدينية والعلمية من خطبته الشهيرة في الخلافة. يتألف كتاب (الخلافة والسلطان القومي) من مقدمة وفصلين وخاتمة، أما المقدمة ففي اختلاف وجهة نظر الفرق الإسلامية كالخوارج والإمامية والباطنية وغيرها إلى الخلافة، وهل هي ضرورية أم لا؟ وأما الفصل الأول ففي تعريف الخلافة وتقسيمها إلى حقيقية وصورية وفي شروطها وكونها في قريش، وفي أنها من نوع عقود الوكالة، وفي الغاية منها وما يترتب على ذلك من واجبات الخليفة ومسئوليته، وفي الولاية العامة والسلطان القومي. وأما الفصل الثاني ففي التفريق بين السلطة والخلافة وهو بيت القصيد في الكتاب، والفصل كله يدور حول الإقناع بجواز ما صنعته حكومة أنقرة في الخلافة الإسلامية؛ ولأن هذا الفصل هو المقصود من الكتاب فقد جعلت الخاتمة أيضًا في هذا الموضوع لزيادة تأييده. ومما أراد مؤلفو الكتاب إثباته أن الخلافة الإسلامية ليست من مسائل الدين، بل هي مسألة دنيوية وسياسية (ذكروا ذلك في المقدمة ثم في متن الكتاب) . وبعد أن نقلوا عن (شرح المقاصد) تعريف الخلافة بأنها: (رياسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي صلى الله عليه وسلم) ونقلوا عن (المسايرة) لابن الهمام أنها: (استحقاق تصرف عام على المسلمين) قالوا: إن المعنى الذي تدل عليه كلمة (الإمامة) هو المعنى الذي يراد الآن من لفظ (الحكومة) والإسلام ليس فيه رياسة دينية لأحد، حتى إن (مشيخة الإسلام) مما ابتدعه العثمانيون، ولم يكن هناك مقام رسمي ديني في الحكومات الإسلامية السابقة له هذه الصفة من الرياسة الدينية، وغاية ما في الباب أن شيخ الإسلام له صفة الفتوى لا يمتاز عن المفتين في شيء، والمفتي هو العالم وفتواه متى كانت صوابًا صحيحة سواء كانت فتوى رسمية أو غير رسمية. ثم قسم واضعو الكتابِ الخلافةَ إلى حقيقية وصورية، فالخليفة الحقيقي هو الجامع لكل الصفات والشروط المطلوب وجودها في الخليفة، وأن تكون الأمة قد اختارته وبايعته برضاها وإرادتها، وأن يكون - فضلاً عن هذا وذاك - مجردًا من الأغراض الدنيوية والمطامع المختلفة، وأن تكون له على الأمة شفقة الأب على بنيه، وأن لا ينحرف عن الشرع قيد أنملة. والخلاصة أن الخليفة الحقيقي هو الذي يسلك سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في جميع أعماله، فإن لم يكن الخليفة كذلك، أو إذا لم تكن متوفرة فيه شروط الخلافة، أو أن يكون قد نال هذا المقام بالغلبة والقهر، فهو سلطان وليس بخليفة، بل إن السلطة والملك لا يكونان مشروعين إذا قاما على الظلم والاعتساف، فلا يعتبر قضاء القاضي ولا ولاية الوالي إذا كانا منصوبين من إمام أو سلطان جائر. وذكر مؤلفو الكتاب شروط الخلافة، ومنها (أن يكون الخليفة من قريش) أي من أركان القبيلة القرشية، قالوا: وقريش هم بنو النضر بن كنانة الذين منهم النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم بنو هاشم وبنو أمية وبنو العباس فهؤلاء جميعًا من قريش، وذلك مذهب أهل السنة من حنفية وشافعية ومالكية وحنابلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الأئمة من قريش) وقد قرر ذلك بلسان قطعي وبإطلاق تام أستاذ فقهاء الحنفية وكبير من كبراء فحول علماء تركستان وهو النجم النسفي المعروف بمفتي الثقلين المتوفى في سمرقند عام 537 فأثبته في كتابه (العقائد النسفية) الذي يُدَرَّس في جميع المدارس الإسلامية منذ عصور وهو من الكتب المقررة في المدارس الدينية في الآستانة إلى يومنا هذا، لذلك قال العلامة التفتازاني في (شرح العقائد النسفية) : إن الأمر أصبح مشكلاً بعد انقراض الخلافة العباسية لأن الخلافة القرشية قد زالت بزوالها. واستنتج واضعو كتاب (الخلافة والسلطان القومي) من ذلك أنه ما دام واجبًا على المسلمين إقامة الخليفة، وما دام الخليفة لا بد أن يكون من قريش - فإنه من الواجب تحويل ذلك إلى إقامة حكومة فقط؛ لتعذر وجود خليفة جامع للصفات والشروط اللازمة، ولا يكون المسلمون آثمين إذا أقاموا حكومة تحل محل الخلافة ولا حاجة حينئذ إلى أن تكون هذه الحكومة حكومة الخلافة ولا إلى أن يكون رئيسها خليفة (انظر ص 22 من هذا الكتاب) ولذلك لم ينكر العلماء المعاصرون للسلطان سليم الأول على هذا السلطان حمله الخليفة (المتوكل على الله العباسي) على أن يفرغ له الخلافة سنة 923 مع أنه فعل ذلك على مرأى منهم في جامع آيا صوفية، ومع ذلك فإن خلافة السلطان سليم الأول خلافة صورية وليست خلافة حقيقية. ولذلك لم يعبأ أحد في العالم الإسلامي بل ولا في جزيرة العرب لادعاء الشريف حسين الخلافة وإعلانه ذلك مع أنه في مكة ومن قريش بل ومن بني هاشم ولم يكد المجلس الوطني الكبير يعلن أنه أجلس في مقام الخلافة حضرة عبد المجيد حتى ارتفع صوت الإجابة والبيعة من جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولو بالقول على الأقل، وعلى ذلك فإن مما يوافق الحكمة حصر المجلس الوطني الكبير الخلافة في آل عثمان. ثم تساءل مؤلفو الكتاب عما إذا كان رجل جامع في نفسه شروط الخلافة أكثر من كل رجل آخر في العالم الإسلامي هل يكون خليفة بنفسه؟ وأجابوا أنه لا يكون خليفة ما لم تخوله الأمة حق التصرف العام عليها، ونقلوا عن الماوردي في (الأحكام السلطانية) أن الخلافة عبارة عن نوع من أنواع العقود فيما بين الأمة الإسلامية والخليفة، فهو من نوع عقود الوكالة، ولذلك كانت العمدة في انعقاد الخلافة إنما هي الشورى، حتى إن البيعة بنفسها تفيد معنى العقد كالبيع والشراء. وللوصول إلى مقام الخلافة طريقان: إما البيعة العامة، أو استخلاف الخليفة ولي عهده، فالأول هو الأصل، والثاني متفرع عنه، بشرط توفر شروط الخلافة فيمن يتولاها في كل من الحالتين، وأما الإرث فلا تجوز الخلافة به؛ لأن الوكالة لا تورث، وذكروا طريقًا ثالثًا لإحراز الخلافة، وهو طريق القهر والغلبة، وذلك لا يكون بطبيعة الحال إلا في الخلافة الصورية دون الحقيقية، فإذا ثار عليه متغلب آخر وغلبه ينعزل الأول بتغلب الثاني. والخليفة لا يملك حق التصرف في أمور المسلمين بما فيه ضررهم أو ضرر أفراد منهم، وإن كان الضرر قليلاً، وتصرفه من هذا القبيل لا يُعَدُّ معتبرًا ولا نافذًا فلو تصرف بشبر من الأرض العامة لغير مصلحة يكون تصرفه لاغيًا. والخلافة ليست معقودة لنفسها بل تكون وسيلة لشيء آخر وهو الحكومة، فالغاية منها توزيع العدل وصيانة الملة، بل تلك هل الغاية من الشرع نفسه، وإنما استفحل ملك الإسلام يوم كان يُنْظَرُ إلى الشرع والإمامة بهذا النظر ثم اضمحل الإسلام وأهله لما انصرفت الإمامة عن واجباتها هذه إلى ما يخالفها، فغرق العالم الإسلامي في جهل كثيف، وتولاه تعصب متعفن، وكانت نتيجة هذا وذاك سقوط الملة الإسلامية في حَمَأَةِ الفقر والسفلة. ومسئولية الخليفة عظيمة، بل ليس في الإسلام فرد مجرد من المسئولية، وقد ورد في الحديث: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته) . أما ما ورد في قانون الدولة العثمانية الأساسي من أن (السلطان مقدس وغير مسئول) فإنما اقتبسه العثمانيون من قوانين أوروبا الأساسية وهو ينافي الشرع الإسلامي كل المنافاة؛ لأنه ليس أحد من الناس مقدسًا في حكم الشريعة الإسلامية، فالمقدس هو الله وحده، وإذا كان في المخلوقات شيء مقدَّس فإنما هي الحقوق؛ لأنها أمانة الله بين يدي من يتولاها، فالإمام إذا عبث بهذه الحقوق وظلم الأمة فهو واقع تحت حكم الحديث الشريف: (أشد الناس عذابًا يوم القيامة إمام جائر) وأما الولاية العامة التي هي للإمام (الخليفة) على المسلمين فإنما هي ولاية تفويض، فإذا خُلع الخليفة أو تخلى عن منصبه سقط عنه حق الولاية العامة، وعاد فردًا كأفراد الناس، وهذا هو معنى السلطان الشعبي تمامًا. وما جاء في الكتب الإسلامية من وجوب نصب الخليفة فإنما نظروا فيه إلى أن الأمة لا يمكنها أن تتولى بجمهورها القيام بمهامها العامة فقضوا بتفويض هذه المهام العامة إلى الإمام أو الخليفة، وهم إنما يريدون أن من الواجب على الأمة الإسلامية ألا تكون بلا حكومة، وهم يقولون في كتبهم: إن المقصد الأصلي من نصب الإمام إنما هو سد الثغور وتجهيز الجيوش وإقامة الحدود وقطع النزاع وفصل الخصومات وإقامة الشعائر الدينية، وهذا الأمر كما يقوم به الإمام العادل المُدَبِّر يمكن أن تقوم به (الحكومة) مهما كان شكلها إذا كانت ذات أنظمة صالحة فالمقصود هو أن لا تضيع حقوق الناس، وأن لا تختل مصالح الملة، فالولاية العامة كما تكون للخليفة تكون للحكومة المنتظمة العادلة. وأخذ مؤلفو الكتاب يبرهنون على صحة غرضهم وهو أن الحكومة تقوم مقام الخلافة؛ لأن الخلافة انقطعت منذ أمد طويل والخلفاء الذين نعرفهم كلهم خلفاء صوريون غير حقيقيين بل إن الخلفاء العباسيين أيضًا كذلك، وجعل مؤلفو الكتاب يردون على العلامة التفتازاني (انظر ص51) لقوله في شرح (العقائد النسفية) : (إن أهل الحل والعقد من أئمة الدين اتفقوا على خلافة آل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه) واستدلوا من عدم رضا الإمام أبي حنيفة بتولي وظيفة القضاء أنه كان خارجًا على الخلافة العباسية وغير معترِف بها. ولما انتبهوا إلى ما ثبت في التاريخ من ولاية الإمامين أبي يوسف ومحمد القضاء للخلفاء المهدي والهادي والرشيد، وهذان الإمامان كانا صاحبي أبي حنيفة وعلى أقوالهما قام مذهبه، رجعوا فقالوا: إن ذلك لا يدل على اعترافهما بالخلافة الحقيقية لهؤلاء الخلفاء. ونقلوا عن ابن الهمام في (المسايرة) أن قبول منصب القضاء والولاية من السلطان الظالم الفاسق جائز وصحيح، وقد شحنوا عدة صفحات من كتابهم بانتقاص خلفاء الملة الإسلامية من أقدم الأزمان إلى الآن، ولم يستثنوا غير الخلفاء الراشدين الأربعة وواحدًا أو اثنين آخرين، وسلبوا سائر خلفاء الإسلام كل مزية ليبرهنوا على أن الخلافة يجب أن تُهْمَل، وأن الخليفة يجب أن يُسْلَبَ كل سلطة. ثم قالوا: بما أن الخلافة عقد وكالة، فالأمة لها عند البيعة أن تشترط في الخليفة ما تشاء، فإن قبل فذاك، وإلا بايعت من يقبل شروطها، هذا طريق، وطريق آخر وهو أن يجرد الخليفة من كل شيء ويعهد بوظيفته إلى أشخاص آخرين، قالوا: ولنا قدوة في التاريخ يوم تولى الملوك الإدارة عن الخلفاء وجعلوهم لا يتدخلون في أمر ولا يتولون للأمة عملاً. قالوا (ص 59) : وإن فريقًا من الناس في زماننا يترددون في تجويز تقييد الخليفة إلى هذا الحد ال

انتقاد المنار لكتاب خلافت وحاكميت ملية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتقاد المنار لكتاب خلافت وحاكميت ملية هذا ما لخصه قلم الترجمة لجريدة الأهرام من كتاب (خلافت وحاكميت ملية) لم نحذف منه إلا بعض الجمل الاستطرادية للمترجم الذي فاته بعض المسائل المهمة منه، وما ارتآه في تعيين مؤلفيه بإيعاز حكومة أنقرة التي نشرته. أما كون الكتاب قد نشرته (إدارة الاستخبارات التركية الرسمية) فإننا نعلمه ولا نشك فيه، وأما كون جامعه ومؤلفه فردًا أو جماعة فلا شأن له عندنا فإننا ننظر إلى القول لا إلى القائل، وإننا ننتقد أهم ما نراه في هذه الخلاصة منتقَدًا فنقول: (1) قولهم: (إن الخلافة ليست من مسائل الدين بل هي مسألة دنيوية وسياسية) إن أرادوا به أنها ليست من المسائل الاعتقادية المحضة؛ لأنها عملية وليست من العبادات، بل هي من الأحكام الشرعية العملية التي يعبر الفقهاء عنها بالمعاملات - فقولهم يكون صحيحًا، لكنه لا يفيد ما يظهر أنهم قصدوه به وإن كان هو اللائق باطلاعهم، وإن أرادوا به أنها من الأمور الدنيوية المباحة التي لم يوجبها الدين الإسلامي، فقولهم باطل بإجماع المسلمين كما بين ذلك المتكلمون والفقهاء، ولو تُرجم لنا الكتاب كله لأمكننا منه معرفة مرادهم، قال صاحب جوهرة التوحيد: وواجب نصب إمام عدل ... بالشرع فاعلم لا بحكم العقل (2) تقسيمهم الخلافة إلى حقيقية وصورية، تقسيم مبتدع، وإنما قسمها علماء العقائد والفقه إلى إمامة حق، وهي ما كانت على الوجه الشرعي من اختيار أهل الحل والعقد للمستجمع للشروط، وإمامة تغلُّب وهي ما يقابلها، وقد فصلنا ذلك في كتاب (الخلافة) والخلافة الحقيقية قد تكون كاملة كخلافة الراشدين ومن كان على هديهم كعمر بن عبد العزيز، وقد تكون ناقصة على تفاوت في النقص؛ إذ بعضه يقرب من الكمال وبعضه يبعد عنه. وقد اشترطوا في الخليفة الحقيقي شروطًا لم يقل بها أحد من أهل السنة ككون شفقته على جميع المسلمين كشفقته على بنيه وعدم انحرافه عن الشرع قيد أنملة، ويقرب هذا من اشتراط بعض الشيعة فيه العصمة. (3) قد فات ملخص الكتاب بالعربية أن يذكر زعم مؤلفي الكتاب أن الخلافة الحقيقية محصورة في الراشدين واستدلالهم على هذا بحديث (الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم تكون ملكًا عضوضًا) وحكمهم بصحته كما في (ص13) . ونقول: قد اشتهر هذا الحديث على الألسنة - على عدم صحته - لسببين: (أحدهما) أنه يذكر في دلائل النبوة، وما كان كذلك لا يُعنى العلماء عادة بإعلاله؛ إذ لا يخشى منه إثبات شيء باطل. (وثانيها) أن أعداء بني أمية كانوا يقصدون به الطعن في خلافتهم فيروجونه لذلك. وقد ذكر معناه النسفي في كتاب العقائد، واستدل له شارحها العلامة التفتازاني به باللفظ الذي حاء في كتاب (خلافت وحاكميت ملية) ثم قال: هذا مشكل؛ لأن أهل الحل والعقد من قد كانوا متفقين على خلافة الخلفاء العباسية، وبعض المروانية كعمر بن عبد العزيز مثلاً، ولعل المراد أن الخلافة الكاملة التي لا يشوبها شيء من المخالفة وميل عن المتابعة تكون ثلاثين سنة، وبعدها قد تكون وقد لا تكون ا. هـ كلام السعد. وقال ملا أحمد في حاشيته عليه: إن الحديث أخرجه الترمذي في الفتن والنسائي في المناقب وابن حبان من حديث سفينة بألفاظ متقاربة، وأخرجه أبو داود بلفظ: (خلافة النبوة ثلاثون ثم يؤتي الله الملك من يشاء) . اهـ. أقول: حديث سفينة رواه الإمام أحمد أيضًا ولفظه عند غير أبي داود: (ثم ملك بعد ذلك) ولم أره في النسائي. وقد انفرد به سعيد بن جهمان عنه عندهم كلهم، وقال الترمذي: حديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد بن جهمان ولا نعرفه إلا من حديثه اهـ. والصواب أنه ضعيف وإن وَثَّقَ أحمدُ سعيدًا فقد ضعفه غيره، والجَرْحُ مُقَدَّمٌ على التعديل، وقد بيَّنُوا سببه، قال يحيى بن معين: روى عن سفينة أحاديث لم يروها غيره، وأرجو أنه لا بأس به، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال البخاري: في حديثه عجائب. وقال الساجي لا يُتَابَعُ على حديثه وتصحيح ابن حبان وحده له لا يعتد به لتساهله في التصحيح. قال رواة الحديث: قال سعيد: ثم قال سفينة أمسك خلافة أبي بكر ثم قال: وخلافة عمر وخلافة عثمان، ثم قال أمسك خلافة علي فوجدناها ثلاثين، قال سعيد: فقلت له أن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: (كذبوا بنو الزرقاء هم ملوك من شر الملوك) وليس في شيء من ألفاظ هذا الحديث: (ثم تكون ملكًا عضوضًا) ولكن ورد هذا اللفظ في سياق حديث آخر غير حديث: (الخلافة ثلاثون سنة..) . ثم إن هذا الحديث على لفظه معارض بأحاديث صحيحة، منها حديث: (لا يزال هذا الدين عزيزًا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش) إلخ رواه مسلم وأبو داود وغيرهما، وهو في البخاري بلفظ: (يكون اثنا عشر أميرًا كلهم من قريش) وحديث مسلم: (وستكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول) وحديثه: (يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثيًا لا يعده عدًّا) فما فسر السعد به حديث أسامة لا مندوحة عنه، وقال بعضهم: إن المراد بالخلافة فيه خلافة النبوة وهو لفظ رواية أبي داود، والمراد بها الكاملة بزهد الخلفاء وإعراضهم عن زينة الدنيا وعظمة الرياسة، وهذا الكمال ليس بشرط لصحة الخلافة؛ بل هو مزيد كمال فيها، ولكن لا يقتضي ذلك أن تكون الخلافة بدونه صورية، فإن معنى الخلافة رياسة الحكومة الإسلامية المستجمعة للشروط التي ذكرنا المجمع عليه منها عند أهل السنة ومنها كونه من قريش، وما زاده مؤلف أو مؤلفو كتاب (خلافت …) باطل أريد به باطل. (3) أنهم أرادوا من ادعاء انتهاء أجل خلافة النبوة وصيرورة رياسة الحكومة الإسلامية ملكًا، ومن اشتراط كون الخليفة الحق كالنبي الذي يخلفه بغير فرق، ومن اشتراط النسب القرشي فيه - أن وجوده متعذر، وأن تعذره يجعل المسلمين في حل من نسخ الإمامة الإسلامية العظمى واستبدال حكومة أخرى بها لا يكون رئيسها إمامًا للمسلمين ولا خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم في سياسة الدنيا وإقامة الدين، وهو ما صرحوا به في الصفحة الثانية والعشرين. ونقول: إن الخوف من مثل هذه الجرأة على العبث بالشرع والتلاعب بالدين هو الذي جعل بعض علمائنا العقلاء يشايعون أهل الجمود التقليدي على القول بإقفال باب الاجتهاد ‍‍!! فقد كنت أتكلم مع أستاذنا الشيخ حسين الجسر في هذه المسألة فقال: إننا نخاف من فتح هذا الباب أن يَدَّعِي أهل الجرأة والجهل الاجتهاد، ويروج ذلك لهم الحكام الظالمون ليُفتُوا لهم بما يوافق أهواءهم، وذكر لي مثلاً على ذلك الشيوخ المقربين من السلطان عبد الحميد كالشيخ أبي الهدى الصيادي، وقال: إن السلطان كان يرغب في جعله منهم، وأن يظل لديه في (المابين) وأنهم عرضوا عليه أن يفتي في بعض المسائل التي يعتقد بطلانها فاعتذر وتنصل بلطف وألح في الاستئذان بالعودة إلى بلده معتذرًا بأن الإقامة في الآستانة تزيد في مرضه الصدري المزمن فلما صدرت الإرادة السنية له بالإذن كان كأنه خرج من السجن، وقد كانت شرًّا من السجن على محب الحق. ولكن إقفال باب الاجتهاد لم يَحُلْ دون المفسدة التي كان يخشاها شيخنا رحمه الله تعالى فقد كان مشايخ الإسلام في الآستانة كمشايخ مصر وغيرها يفتون الحكام بكل ما يطلبون منهم الفتوى فيه بإيراد نصوص مبهمة يتركون لهم الحرية في تطبيقها على النوازل بما يخالف الشريعة، وأحدث هذه الفتاوى في عصرنا فتوى شيخ الأزهر ومفتى الديار المصرية لوزارة مصر بما جعلته حجة لإرجاع ركب محمل الحج من جدة ومنعهم من إتمام النُّسُك بعد الإحرام به، والشيخان لا يبيحان هذا لو سئلوا عنه بخصوصه. وشر من هذه الفتوى وأضر فتوى شيخ الإسلام عبد الله دري أفندي لحكومة السلطان محمد وحيد الدين بأن جيش الأناضول المُدَافِع عن استقلال الدولة عاصٍ على الخليفة خارج عليه فيجب قتالهم، ومن قتل في ذلك فهو شهيد، وهو لم يذكر جيش الأناضول وإنما ذكر عبارة مجملة عامة طبقتها الحكومة عليهم، والتقليد أعون على هذه المفسدة من الاجتهاد، فإن الاجتهاد يبيح لكل عالم أن يُفَنِّدَ خطأ المخطئين بالدليل كما نفعل بالرد على مؤلفي كتاب (خلافت وحاكميت ملية) . أما قولكم: (إنه يجب على المسلمين إقامة خليفة) فهو صحيح، وعليه أجمع أهل السنة ومن وافقهم من سائر الفرق المعتدلة كالزيدية. وقولكم: (إن الخليفة لا بد أن يكون من قريش) صحيح أيضًا ومجمَع عليه عند أهل السنة كما نقلتموه عن كتب العقائد الشهيرة التي لا تزال تدرس في مدارس السلاطين في الآستانة، وفي سائر بلاد الترك وغيرها. وأما قولكم: (إن وجود خليفة جامع للشروط والصفات متعذر) فهو باطل؛ فإن الشروط المذكورة في كتب العقائد والفقه كلها متوفرة في كثير من رجال قريش، ولا سيما إذا جرينا على عدم اشتراط بعض الحنفية - الذين يقلدهم الترك- العلم الاجتهادي، فحينئذ نقول لهؤلاء: بِمَ تطعنون في صديقكم السيد أحمد شريف السنوسي؟ ألستم تشهدون بأنه قرشي حسني تقي صالح عادل؟ على أنه يوجد في علوية قريش من هم أهل للاجتهاد سواء ادعوه كصديقكم إمام اليمن أم لم يدعوه تواضعًا كالسيد محمود شكري الآلوسي البغدادي. وقد بيَّنا لكم في كتاب الخلافة الطريقة المُثْلَى لإيجاد كثير من المستجمعين لشروط الخلافة، وهو تأسيس مدرسة لتخريج المجتهدين في الشرع الإسلامي، يختار لها بعض الطلاب من أذكياء العلويين؛ لأنه قلما توجد أنساب ثابتة لغيرهم من بطون قريش، وهم أولى من غيرهم بهذا الأمر إذا ساووا غيرهم في العلم والعدالة؛ لأن في المسلمين ملايين كثيرة تشترط النسب العلوي الفاطمي في الإمامة العظمى، فتجتمع بذلك كلمتهم مع أهل السنة الذين يكتفون بالنسب القرشي والأخص يستلزم الأعم ولا عكس. فإن تعذر استجماع الشروط قبل تَخَرُّجِ مَن يتربون ويتعلمون في هذه المدرسة كما تقولون يكون نصب الخليفة الفاقد لشرط واحد أو شرطين للضرورة أولى من تعطيل هذا الفرض وإزالة شكل الحكومة الإسلامية واستبدال شكل آخر به، يتقيد فيه بشيء من الشروط، بل هو الحتم اللازم. (4) قولكم في هذا المقام: (ولذلك لم ينكر العلماء المعاصرون للسلطان سليم عليه حمل الخليفة المتوكل على الله العباسي على التخلي له عن الخلافة) لم نَرَ له وجهًا شرعيًّا ولا عقليًّا! فعلماء الآستانة لم يكونوا أحرارًا قادرين على معارضة السلطان سليم السفاك، وهم غير معصومين من الخطأ عمدًا، وليسوا ممن يُحْتَجُّ بقولهم فضلاً عن سكوتهم ولو بغير عذر. ومثل هذا التعليل استدلال مصطفى كمال باشا بسكوت علماء مصر لحكومتها على نصب التماثيل - على كون صنعها ونصبها غير مخالف للشرع - فهو استدلال باطل سواء كانوا معذورين في السكوت أو غير معذورين، فإن منهم مَن يرى رجاء قبول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شرطًا لوجوبه، وهم متفقون على أن الخوف على النفس يسقط الوجوب عملاً بحديث (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبى سعيد مرفوعًا. على أنه يجوز أن يكون من هؤلاء وأولئك من أنكر سرًّا أو جهرًا ولم ينقل إنكاره. (5) قولكم: (ولذلك لم يعبأ أحد في العالم الإسلامي ولا في جزيرة العرب لادعاء الشريف حسين الخلافة وإعلانه ذلك إلخ) نقول فيه - أولاً -: إننا لم نر للشريف حسين دعوى صريحة للخلافة أعلنها وطلب المباي

بريطانيا وبلاد العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بريطانية وبلاد العرب معنى المعاهدة الجديدة في نظر الإنكليز عقدت جريدة (النيوستيسمان) الإنجليزية المقال الآتي في مشروع المعاهدة العربية البريطانية فترجمته جريدة الأخبار، ورأينا أن ننقله لإطلاع قرائنا على أفكار الإنكليز في قومنا، وفي الملك حسين وأولاده لعلهم يعتبرون. وهذا نص الترجمة: ظاهر من الحوادث التي جرت في الأسابيع الأخيرة القليلة أن العلاقات بين بريطانيا العظمى والعالم العربي قد شارفت نقطة التحول، ومما له دلالة خاصة على اتجاه التيار إتمام (الثالوث الشريفي) بترقية الأمير عبد الله إلى ما هو على الأقل شبيه بالعرش. ذلك أن السر هربرت صمويل في آخر مايو زار الأمير في عاصمة عمان وأعلن أن بريطانيا العظمى تعترف بوجود حكومة مستقلة شرقي الأردن، ولا بد من موافقة عصبة الأمم قبل أن يصبح هذا الاعتراف تامًّا ولكن هذا إجراء رسمي لن تقوم في سبيله صعوبة ما، على أن إعلان السر هربرت صمويل مفرَّغ في قالب الحيطة. فقد اقتصر على الاعتراف بِعَدِّ الأردن كحكومة مستقلة واستخدم عبارة غامضة بعض الغموض لا تحتمل التحليل الدقيق، وإنما استدعى هذا الاحتياط ضرورات الحالة من جهة والانتداب لفلسطين من جهة أخرى، ذلك أن شرقي الأردن - الذي لا يتجاوز تعداد سكانه 350.000 ولا مساحته سبعة آلاف ميل مربع - لا يكاد يستطيع في الوقت الحاضر أن يقف على قدميه وحده، وهو لم يبلغ درجة يستطيع معها أن يستغني عن المستشارين البريطانيين أو المعونة البريطانية التي في السنة المالية 150.000 جنيه إنجليزي. وأما الانتداب فيشمل فلسطين قاطبة وفي جملتها شرقي الأردن وغربه على السواء، وقد أعلن أن بعض نصوص الانتداب، وبخاصة ما يتعلق منها بالوطن القومي لليهود لا ينطبق على غبر [*] الأردن. والانتداب نافذ معمول به، وقد أبلغت بريطانية العظمى عصبة الأمم في سبتمبر الماضي أن حكومة غبر الأردن ستظل سائرة تحت إشرافها العام (إشراف بريطانية) وعلى هذا فليس ثَمَّ استقلال تام في الوقت الحاضر على الأقل. ولكن هذا الإعلان الذي صدر (بالاعتراف بالاستقلال) له مغزاه على كل حال، وهو يعني أن غبر الأردن مقدور له أن ينفصل عن فلسطين الغربية، وأن يصبح دولة عربية تنظر جنوبًا إلى الحجاز وشرقًا إلى العراق (؟) . ولكن هذه ليست إلا مرحلة واحدة في عملية كبرى، لقد لمح السر هربرت صمويل في خطابه تلميحًا جليًّا إلى أن المركز الجديد الممنوح للأمير عبد الله يجب أن يُفَسَّر في ضوء المعاهدة التي توشك أن تعقد بين بريطانية العظمى ووالده الملك حسين. وهذه المعاهدة هي آخر حلقة في سلسلة من المعاملات يرجع مبدؤها إلى 1915 فقد كان دخول الشريف في الحرب مسبوقًا بمكاتبات طويلة غير حاسمة بين مكة والقاهرة، وكانت آراء الشريف السياسية غامضة مضطربة، ولكن الذي كان يتطلع إليه دون أن يستوضحه هو إنشاء إمبراطورية عربية بمساعدة بريطانية أو على الأقل إقامة اتحاد عربي يدور على محور شريفي ولم يدخل الميدان إلا بعد أن ارتبطت بريطانيا العظمى بتعهدات مفرَّغة في لهجة بيانية أكثر منها سياسية ولكنها مشجعة كثيرًا ولا ريب. أوهام الملك حسين: ولما أرادت بريطانية العظمى أن تصفي هذه التعهدات سارت على خطين متوازيين فأنشأت من جهة كتلة من الدول الشريفية فاعترفت في 1916 بالشريف حسين ملكًا للحجاز. ولما آن الأوان وجد فيصل عرشًا في العراق، وقد تمت الآن الدائرة العائلية بإقامة عبد الله شرق الأردن. ولكنه من جهة أخرى لا يزال على بريطانية العظمى أن تختم الحساب مع الملك حسين. وقد هبطت بضاعة حسين هبوطًا شديدًا في ختام الحرب ولكنه كان بطيئًا في إحداث التلاؤم اللازم بين نفسه وبين مستوى السعر الجديد فظل عائشًا في عالم من الأوهام، سابحًا في بحر من الخيالات، وكانت المعونة التي تبذل له تبلغ مائتي ألف جنيه في الشهر في أثناء الحرب ولكنها في 1920 أنقصت حتى وصلت إلى درجة الزوال، وظل رافضًا أن يتعاقد وذهبت بعثة الكولونل لورانس إلى جدة 1921 ثم عادت تاركة كل شيء حيث كان. وفي أوائل هذا العام بدأت الحركة من جديد ووصل إلي لندن عن طريق لوزان الدكتور ناجي الأصيل وهو آخر سلسلة طويلة من رسل الشريف ثم آب إلي مكة بعد بضعة أسابيع يحمل في حقيبته مشروع معاهدة. ولم يُرْضِ المشروعُ (الملك حسينَ) تمام الرضا ومالَ بحكم عادته إلى طلب المزيد. والملك حسين مشهور بأنه مُسَاوِمٌ شديدٌ، ولكنه قد يجد إذا تعنت أنه ضيع الفرصة، وأما إذا تغلبت المشورة التي يُمْلِيهَا الحزم فليس ثَمَّ ما يمنع أن تكون المعاهدة مجهزة بعد قليل للتوقيع، وقد صارت نقط المعاهدة الهمة ملكًا شائعًا للجمهور، نعم إن لندن لم تصدر بها بيانًا رسميًّا، ولكنه بسبب الضغط الذي أوجدته سلسلة من الحماقات في مكة والقاهرة [1] نشرت حكومة فلسطين خلاصة رسمية منذ بضعة أسابيع. وفي هذه المعاهدة تتعهد بريطانية العظمى بأن تؤيد وتعترف باستقلال العرب في العراق وغبر الأردن وشبه جزيرة العرب. وإذا أرادت الدول العربية أو واحدة منها (أن تدخل في اتحاد جمركي أو غيره بقصد تكوين اتحاد علي مر الأيام) فإن بريطانية العظمى تضع خدماتها تحت تصرفها. والغرض من باقي المعاهدة تنظيم العلاقات بين بريطانية العظمى ومملكة الحجاز نفسها. وهذا البرنامج المتواضع تواضعًا نسبيًّا دون المشروعات الضخمة التي غصت بها الأحلام في أيام سنة 1915 الهادئة! ولكن المعاهدة على هذا هي فاتحة مرحلة محدودة مهمة في تطورات السياسة البريطانية في الشرق الأوسط. ومعلوم أن بلاد العرب الداخلية مِرْجَل يغلي، وليس لبريطانية العظمى رغبة ما في غمس يديها أكثر مما لا بد منه. ولكن لها (لبريطانية) على الحافة الخارجية للعالم العربي آمالاً في إنشاء طائفة من الدول المتمدينة تمدينًا نسبيًّا يمكن أن تتكون منها على الزمن نواة صالحة لاتحاد عربي، والواقع أن للمعاهدة دلالتين: فمعناها من جهة أن بريطانية العظمى ستربط نفسها بعلاقات وثيقة دائمة مع الشعوب العربية، ومعناها من جهة أخرى أن بيت الشريف هو المحور الذي تدور حوله هذه العلاقات. ثلاثة عروش قلقة: وقد قالوا في بعض الأحيان: إن بريطانية العظمى بمظاهرتها للشريف إنما تراهن على غير الجواد الرابح. والجواب عن ذلك أنه قد يكون في الإسطبل أو لا يكون خير من هذا الجواد، ولكن الميدان كان يخلو من الجياد. ولعل أبعث على الشك من ذلك أن يستطيع الشريفيون الجري إلى آخر الشوط. وليس بين هذه العروش الشريفية الثلاثة عرش واحد قوي الدعائم غير قلق. وأقل ما يقال في مركز الأمير عبد الله: إنه خطر. أما فيصل فمستورد كأخيه عبد الله! ويزيد في ضعف مركزه أن عليه أن يرد مقاومة الشيعة لملك سُنِّيٍّ. أما الحسين فإن ضراوته على السلب ضراوة صارت مثلاً مضروبًا في الشرق قاصيه ودانيه - لم تجمع حوله قلوب شعبه. وليس من الأسرار أن الأمراء الشريفيين أنفسهم ليس بينهم حب مفقود - أي إنهم لا يحب بعضهم بعضًا - وليست العواطف السامية التي يتبادلونها علنًا لسوء الحظ إلا حجابًا رقيقًا يشف عن التحاسد والاسترابة المتبادلة. وقد بقي أن نعلم إلى أي حد يستطيع حسين وأولاده أن يواجهوا خصومهم متحدين. وليس هؤلاء الخصوم بالذين يُسْتَطَاع إغفال أمرهم، ولا ينقص الحسين أن يتعلم فن تغريم الأجنبي، وقد بدأنا نسمع التذمر من الجهات التي يعنيها أمر الحج ولا سيما مصر. هذا وليس في قيام اتحاد عربي تكون مكة مركزه والشريف رأسه الظاهر ما يرتاح إليه العرب المسيحيون الذين لا يكتمون مخاوفهم الصحيحة. ولكن لبيت الشريف أعداء أقوى وأشد. ولقد استُهْدِفَ هذا البيت أكثر من مرة منذ قيام الحرب لخطر تيار الوهابية المتضخم، فهناك في قلب بلاد العرب ابن السعود ذلك الرجل القوي البأس جار الحسين ومُزَاحِمه الذي لا تلين قناته، نعم إنه الآن مقيد، ولكن من ذا الذي يسعه أن يضمن أن لا يصدع القيد متى ألفى نفسه محوطًا بطائفة من الدول الشريفية؟ وثَمَّ جهة أخرى لا ينتظر أحد أن تستقبل فيها المعاهدة بحماسة شديدة، وشرح ذلك أن الفرنسيين غير مطمئنين في سورية وليس من شأن المعاهدة أن تجعل مقامهم أسهل. ولا ينكر أحد أن لدمشق في الحركة القومية العربية دورًا لا يقل أهمية وخطرًا عن دوريْ بغداد ومكة. ولا يكاد يُعْقَل أن لا يكون لمنظر انتصار القومية العربية في الظاهر في منطقة النفوذ البريطاني - رد فعل مقلق فيما وراء الحدود السورية. وسيحتاج الموقف إلى الحذر في العلاج إذا أريد اجتناب التعارض مرة أخرى بين بريطانية العظمى وفرنسا في الشرق الأوسط. مدى المهمة وغايتها: هذه بعض المصاعب لا مَفَرَّ من مواجهتها، وليس في الكشف عنها زراية على الغايات التي يراد من المعاهدة أن تؤدي إليها. ومن الخطأ أن تُعَدُّ المعاهدة عبارة عن محاولة لتسكين هامة مكاتبات مكماهون، فإن لها سببًا معقولاً يدعو إلى عقدها. والحركة القوية العربية ليست في الوقت الحاضر إلا زورقًا ضعيفًا تطوح به الأمواج إلى غاية غير محققة. ولكنها على ذلك حقيقة. ومن مصلحة التسوية الوطيدة أن يهتدي هذا الزورق المتخبط إلى الميناء. وواضح جدًّا أن لبريطانية العظمى ربحًا من وراء إقامة كتلة عربية يمكن اتخاذها في يوم من الأيام لمواجهة قوات أخرى في العالم الإسلامي أقل ميلاً إلينا بالود (ليتأمل القارئ) ولعل هناك من يطوون جوانحهم على آمال أوسع. ومَن لا يزالون متعلقين بخيال الخلافة العربية. ومهما يكن من الأمر فما يسع أحدًا إلا العطف على مجهود حسن لإتاحة الفرصة للشعب العربي أن يجدد شبابه وأن يحيي التقاليد المجيدة التي هو وارثها، ولكن المعاهدة ليست أكثر من صيغة من الألفاظ، ولا يمكن أن تكون أكثر من ذلك، وعلى العرب أن يخرجوا ما فيها إلى حيز الوجود، وسترى إلى أي مدًى يستطيعون ذلك، ولكن الحقائق القاسية التي تحيط بالموقف لا تشجع على التفاؤل المبالغ فيه. اهـ. *** (تعليق المنار على المقالة) : نذكر قُرَّاء هذه المقالة الحرة الصريحة بأن يرجعوا إلى التأمل في فَحْوَى المسائل الآتية منها، فقلما يجدون مقالة لبريطاني في مثل صراحتها: (1) إتمام ما سماه الكاتب الثالوث الشريفي بترقية الأمير عبد الله الذي هو الأقنوم الثالث منه إلى عرش أو ما هو شبيه بالعرش على الأقل. وهذا ما سبقنا إلى بيانه مرارًا فقلنا: إن هؤلاء إنما يعملون للدولة البريطانية ولأنفسهم ويتجرون بالأمة العربية فيبيعون بلادها للأجانب الطامعة بعروش وتيجان، ثم لا يخجل أجراؤهم في سورية من البهتان علينا بأننا نطعن فيهم لأنهم لم يعطونا وظيفة قاضي القضاة بمكة! ! وهم يعلمون أن طريق الوظائف عندهم التملق لهم ومساعدتهم على أعمالهم التي نَعُدُّ كل مساعد لهم عليها خائنًا لأمته. وهم يعلمون أيضًا أن الأمير عبد الله الذي استخدمهم قد صرح مرارًا بأنه لا يتبع أهواء طلاب الاستقلال لسورية، ولا سيما حزب الاستقلال العربي الذي يبغضه أشد البغض؛ لئلا يحرم من إمارته التي يرجو توسيعها كما حرم أخوه فيصل من عرش سورية. (2) ما قاله الكاتب الإنجليزي في استقلال الأردن الصوري أو اللفظي الذي أعلنه السر هربرت صمويل اليهودي الصهيوني الإنكليزي تحت نير الانتداب، الذي صرح بأنه ليس باستقلال تام - والذي جعل عبد الله الحجازي مستخدميه فيه وزرا

العرب في إيطالية في القرون الوسطى

الكاتب: شكيب أرسلان

_ العرب في إيطالية في القرون الوسطى حضرة الأستاذ العلامة حجة الإسلام مفتي الأنام السيد محمد رشيد رضا أيده الله ونفع به. جوابًا على ملاحظتكم بشأن ما ذكرته في رسالة (العرب في سويسرة في القرون الوسطى) من كون العرب اكتسحوا رومة، وقولكم: أحقيقة أراد الكاتب بهذا أو مجازًا؛ لأن العرب لم يقتحموا رومة ولا سلبوها؟ أقول: ورد في التواريخ أن العرب صعدوا إلى رومة من مصب نهر التيبر واجتاحوا البلدة وأخذوا من كنيسة مار بطرس تابوتًا من فضة ولكنهم لم يستقروا برومة، ثم إن العرب كانوا يختلفون إلى ضواحي رومة ويشنون الغارات فيها وفي إحدى المرار اجتمع عليهم الأهالي فهزموهم فخلص منهم فئة إلى البحر وفئة استؤصلت بالسيف وفئة من بقايا السيوف لاذت بمكان منيع هناك وناضلت عن نفسها وبقيت تحمي نفسها إلى أن وقع الصلح بينها وبين أهل البلاد؛ ولأسباب مجهولة عندنا تفاصيلها تركوا توطن تلك الأرض، فالآن على مسافة 40 كيلو متر من رومة قرية اسمها (سارازينسكو) Sarrasinesco من اسمها يعرف أن أهلها أصلاً مسلمون لأن (سارازينو) معناه مسلم كما لا يخفى، وليس الدليل على كون أهل هذه القرية عربًا هو الاسم فقط بل حدثني الكونت كولالتو صاحب جريدة رومة الإيطالية التي تصدر بالقاهرة وهو من جلة أدباء الطليان وفحول الكتاب أن أهالي قرية سارازينسكو هم إلى يومنا هذا حافظون عاداتهم العربية ومآكلهم العربية ولا يزالون يعزفون بآلات الطرب العربية مما لا يوجد عند قوم سواهم في إيطالية وإن سحناتهم إلى هذا اليوم سحنات العرب لا يتمارى في ذلك من رآهم. ويوجد آثار للعرب فيما عدا رومة من بر العدوة الإيطالية، مثلاً بلدة لوشيرة بين نابلي وكالابرة، كان فيها الملك فريدريك هوشتافن الألماني في نحو السنة الألف والمائتين والخمسين للميلاد، وكان عنده عسكر من العرب نحو 20 ألفًا وآثار مساكنهم لا تزال إلى هذه الساعة. وغير خَافٍ أنني أنا لم أقل: إن العرب افتتحوا رومة ولا استولوا عليها بل إنهم اكتسحوها، ومما يؤيد صحة هذه الروايات أنهم كانوا لرومة جيرانًا مكاسرين بوجودهم بصقلية من جهة وبصردانية من أخرى ثم بنزولهم بجهات جنوى على ما ذكرت في رسالة (العرب في سويسرة) . وإنني أضيف إلى ما ذكرت في تلك الرسالة شيئًا اطلعت عليه في (صان ريمو) مؤخرًا وهو أنني قرأت في دليل تلك المدينة البديعة التي هي اليوم من أبهى مشاتِي أوروبا أن العرب استولوا عليها في القرن العاشر (للميلاد) ولا عجب فإن صان ريمو هي على مقربة من فراكسيناتوم التي هي أول بلدة نزل العرب بها في أوائل القرن العاشر حسبما تقدم في رسالتنا. ومما علمته مؤخرًا من آثار العرب بإيطالية أن في بلاد اسمها كالياري Cagliari في صردانية قرى كل من رأى أهلها وخالطهم علم أنهم عرب ونساؤهم لا يختلطن بالرجال في مجامعهم، ولا يخرجن إلا متنقبات إلى هذا اليوم! سمعته من ضابط إيطالي من أركان الحرب الكبار كان أقام مدة بتلك الديار، ومَن بَحَثَ وجد للعرب في أوروبا آثارًا أكثر جدًّا مما روى المؤرخون. لوزان 12 مايو سنة 1923 ... ... ... ... شكيب أرسلان (المنار) قد أجاد أمير الكُتَّاب وثبت التاريخ فيما أفاد، ولما يظهر لي منه وجه التعبير عن ذلك بالاكتساح.

المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الحديثة (شرح الأزهار، المسمى بالمنتزع المختار من الغيث المدرار) كتاب الأزهار في فقه الأئمة الأخيار، متن جامع في فقه الزيدية أو العترة النبوية لعلامتهم المتفنن الإمام المهدي. وهو أحمد بن مرتضى الحسين الهدوي الذي بويع بالإمامة العظمى لما مات الإمام صلاح الدين سنة 793 وقد حدث عقب مبايعته أحداثٌ، سُجِنَ في أثنائها في قصر صنعاء، وقيل: في الدار العمراء، وكانت مدة حبسه سبع سنين ألف في أثنائها متن الأزهار، وشرحه الغيث المدرار، ثم خرج وذهب إلى الإمام الهادي واتفقا وتوادا وتم له الأمر بعده، قال العلامة المقبلي صاحب العلم الشامخ: الإمام المهدي هو الذي أخرج مذهب الزيدية إلى حيز الوجود، وقد شرح الأزهار كثيرون من علماء اليمن المستقلين المجتهدين كالإمام الشوكاني وسمى شرحه السيل الجرار.. والمقلدين كالعلامة أبي الحسن عبد الله بن مفتاح المتوفى سنة 877 وسمى شرحه (المنتزع المختار من الغيث المدرار) فهو مختصر من شرح المصنف. فأما الإمام الشوكاني فهو يذكر الأحكام بأدلتها، ويقيم ميزان التعادل والترجيح بينها، على طريقته في كتاب (نيل الأوطار) في فقه الحديث، وأما ابن مفتاح فيعنى بتحقيق الراجح في مذهبهم، ويذكر خلاف كبار علماء الأمصار كالأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وقلما يخرج مذهب الزيدية عن هذه المذاهب، وإنما يتحقق بأربعة أصول: العدل والتوحيد - بالمعنى المشهور عن المعتزلة فيهما - والقول بإمامة زيد بن علي رضي الله عنه، ووجوب الخروج على الظلمة. طبع هذا الشرح (المنتزع المختار) في العام الماضي مع حواشي عليه في أربعة مجلدات كبيرة، طبع بمصر في عدة مطابع على نفقة ملتزمه (الشيخ علي يحيى اليماني) ووقف على طبعه وعُنِيَ بتصحيحه صديقنا الشيخ عبد الواسع الواسعي اليماني فيحسن بالمتوسعين في علم الفقه أن يقتنوا هذا الكتاب ويطالعوه أو يراجعوه عند الحاجة. *** (المناهج الطبية لاتقاء الأمراض الإفرنجية) كتاب ينطوي على أحدث الآراء والمباحث، وفيه ما يهم الأطباء والطلبة وما لا غِنَى عنه للعامة، تأليف الدكتور جورج صوايا المتخرج في الطب والجراحة في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة ماريلنه في بلطمور وجامعة هارفرد في بوطسن والحاصل على شهادة الحكومة القانونية من جامعة بوانس أيرس. كتاب ضخم فخم غزير العلم مُؤَلَّف من ثلاثة أجزاء صدر الجزء الأول منها في العام الماضي (1922م) مطبوعًا طبعًا حسنًا على ورق جيد في إحدى المطابع العربية السورية في (بونس إيرس - الأرجنتين) وهو خاص بداء السفلس المرض الإفرنجي الحقيقي، وقد بلغت صفحاته زهاء خمسمائة صفحة فصارت اللغة الغربية غنية به في هذا الموضوع النافع، فإن الداء الإفرنجي لا يزال يفشو وينتشر في البلاد العربية بانتشار التفرنج وكثرة تغلغل الإفرنج في البلاد وإباحة الفسق بتسهيل سبله في كل مكان يكثرون فيه أو يكثر مقلدتهم حتى إنه قد تضاعف في بلادنا السورية بعد الاحتلال الفرنسي فيها بكثرة الزنا والعهر، والعياذ بالله من سوء العاقبة. فالدكتور صوايا قد خدم أمته العربية وبلاده بهذا الكتاب خدمة جليلة فاق بها جميع أطبائنا كما أنه يخدمها بصدق وطنيته واستقامة سياسته؛ إذ هو رئيس الحزب العربي الوطني في الأرجنتين المعارض لكل احتلال واستعمار، فنشكر له عَمَلَيْهِ الطبي والسياسي، ونرجو أن يكثر في أمتنا العربية وبلادنا السورية من أمثاله.

أسئلة في حقيقة الخمر والسبيرتو وما يدخل فيه من أدوية وغيرها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة في حقيقة الخمر والسبيرتو وما يدخل فيه من أدوية وغيرها (س28-23) من الأستاذ الفاضل مولوي محمد شفيق الرحمن في بُمْبي (الهند) وهو صاحب الفتوى التي نشرناها ورددنا عليها في (ج 9 م 23) . بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي نستعينه وكفى. وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد فنظرًا إلى أمره تعالى العلماء بالبيان، ونهيه عن الكتمان، نرجو من فضيلة العلامة الفهامة السيد رشيد رضا، وفقه الله لما يحبه ويرضى، سيد الأحرار، المدير المسئول للمنار، أن يفيدنا الجواب الصواب، من الأسئلة المفصلة في ذيل هذا الكتاب، فإننا قد عزمنا بعد المناظرات (لإحقاق الحق وإبطال الباطل، واتفاق جمهور الفقهاء الأفاضل) على أن ننشر الفتوى مع ما لها وما عليها بقدر الضرورة وبحسب الإمكان نشرًا {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1) . الأسئلة مع أجوبة المنار (س1) هل الملحقان الطبيان المذكوران في الجزء الأول للمجلد الرابع والعشرين من المنار يشهدان على دعْوَاكم أن السبيرتو ليس بخمر أو على خلاف ذلك كما حقَّقْنَاه سابقًا، وسنزيد التحقيق لاحقًا؟ (ج) إن الملحقين المذكورين صريحان على إيجازهما وقصورهما في أن السيبرتو يستخرج بالتطير من المائعات السكرية ومن المواد السكرية والنشوية ومن القصب والخشب، وأنه كان في الابتداء يستخرج من النبيذ ولا يستخرج الآن منه ولا من غيره من الخمور لغلائها ورخص المواد التي يستخرجونه منها، فهو مادة سُمِّيَّة توجد في الخمر وغيرها حتى العجين المخمر، ولم يعده أحد من الأشربة الخمرية ولا سمَّاه خمرًا ولا هو بنفسه مُعَدٌّ للشرب؛ لأنه مُحْرِقٌ، نعم إذا مُزِجَ بغيره من الأشربة على نسبة مخصوصة يصير ذلك الشراب مسكرًا. فالخمر عند الحنفية ومن وافقهم من علماء اللغة هي: عصير العنب إذا اشتد وغلا وقذف بالزبد، وما عدا هذا من المسكرات ليس بخمر عندهم، ولا له كل أحكام الخمر، ومقلدة الحنفية هم أكثر مسلمي الهند والترك والصين وما جاور هذه الشعوب. ونحن وإن كنا نرجِّح ما عليه سائر علماء الشرع واللغة وهو أن كل شراب مسكر خمر، لم يثبت عندنا أن السبيرتو من الأشربة، ولو ثبت أنه من الأشربة لسميناه خمرًا، على أننا نعتقد أن شربه محرم على كل حال إن أمكن؛ لأنه ضار بل قاتل، ولكننا لا نعتقد أن الخمر نجسة، ولا أن كل ما فيه عنصر من عناصر الخمر من طعام وشراب وداء وصبغ ودهان وطلاء يكون محرم الاستعمال، فصبغة اليود من الأدوية وطلاء الخشب المسمى (بالبوية) والعجين المختمر لا يسمى شيء منه خمرًا لغة ولا عرفًا ولا شرعًا لا على مذهبنا الذي هو مذهب أهل الأثر وفقهاء الحديث ولا على مذهب أهل الرأي كالحنفية ولا في عرف أهل الطب والصيدلة. فالخلاف بيننا وبينكم في تسمية السبيرتو خمرًا أو عدم تسميته لفظيٌّ لا شأن له عندنا في المسألة المتنازَع فيها وهي كون الطلاء المعروف في مصر والشام بالبوية الذي يدهَن به الخشب نجس له أحكام سائر النجاسات من تحريم دهن جدران المساجد وخشبها به وسائر الأحكام المتعلقة بشروط الصلاة وغيرها - ولا فيما يشبه هذه المسألة من المسائل التي يستعمل فيها السبيرتو وقودًا أو مطهرًا في الجراحة والطب، وغير ذلك مما ليس بشراب متخذ للنشوة والسكر، فالانتفاع به ليس مخالفًا لمنطوق النص في تحريم الخمر ولا لفحواه، ولا يصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة. (س2) هل قول إمامكم الأستاذ العلامة المفتي سابقًا في الديار المصرية، والمُصْلِح الكبير للراعي والرعية، الشيخ محمد عبده رحمه الله في (ج 1 ص 340 التفسير) صحيح عندكم مثبت خمرية السبيرتو وإسكاره أم لا؟ نرجو مراجعة كتب الطب الجديد. (ج) إن ما أشار إليه السائل وهو ما نقلناه عن شخينا المذكور رحمه الله تعالى نص صريح فيما قلناه من أن السبيرتو ليس بخمر ولا بشراب من الأشربة التي تعد الخمر نوعًا منها وإنما هو مادة سامة إذا ركبت مع غيرها من المائعات على نسبة مخصوصة يكون ذلك المركب مسكرًا وهذا نص ما نقلناه عنه من الدرس في الكلام على انتشار السكر في الفلاحين والخمور التي تباع لهم وللفقراء، قال: (وما هي بخمر جعلت للشرب، وإنما هي المادة المحرقة السامة التي تسمى السبيرتو يضاف إليها شيء من الماء والسكر أو غير ذلك مما يمكن من تناولها) فإن قوله: (وما هي بخمر جعلت للشرب) عين ما نقوله، ولكن السائل المركب منها ومن الماء والسكر وغيره الذي يصير شرابًا مسكرًا يسمى خمرًا حقيقة أو مجازًا على الخلاف المشهور في ذلك، بخلاف المركب غير السائل أو ما لا يكون شرابًا كالأعطار والأدوية التي لا يمكن شربها، وإنما تستعمل في الجراحة، أو يؤخذ منها نقط معدودة في مائع آخر لا يصير بها مسكرًا ولا ذريعة للسكر، والدهن والطلاء والعطر، فكل ذلك لا يسمى خمرًا لغة ولا شرعًا، ولا في العرف العام ولا الخاص بالصيادلة والأطباء وسائر الفنون والصناعات. وقد وصف بعض الأطباء للأستاذ الإمام نفسه صبغة اليود علاجًا للرثية (الروماتزم) فكان يأخذ بضع نقط منها في نصف كوب من الماء قبل الطعام، كما وقع لوالدتنا من بعده، وكان يعلم أن صبغة اليود تُحَلَّل بالسبيرتو فيدخلها قليل منه لا تكون به شرابًا مسكرًا ولا ذريعة للسكر، وكان يتطيب بالأعطار الحديثة ولا سيما (الكولونيا) وأكثرها سبيرتو، بل أفتى بجواز اتخاذ الدواء الذي يدخل فيه نقط قليلة من الخمر نفسها، إذا لم يصر ذريعة للسكر وقد نقلنا عنه في تفسير آية المائدة (ص 89 ج 7 تفسير - وص 102 م 18 منار) ما نصه: (وقال شيخنا محمد عبده: يشترط في التدواي بالخمر أن لا يقصد المتداوي بها اللذة والنشوة ولا يتجاوز مقدار الطبيب. اهـ) . هذا وإنني قد فهمت من تعبيركم بكلمة إمامكم أنكم تظنون أن إطلاقنا هذا اللقب على الشيخ رحمه الله تعالى نريد به أننا نقلده فيما يستنبطه أو يرجِّحه كما هو شأن سائر المقلدين مع شيوخهم، وليس كذلك. وإنما نعنى بإمامته أنه من العلماء المستقلين الذين يتحرون الحق ويأخذون بالدليل، وأنه إذا ظهر له الحق اتبعه وعمل به، وهكذا كان أئمة الأمصار، ونحن نتبعه ونتبعهم في ذلك ولا نأخذ بشيء من آرائهم وترجيحاتهم إلا إذا ظهر لنا أنها الصواب. وكنا نراجعه في بعض المسائل التي يقولها أو يكتبها إذا رأيناها خطأ، فكان إما أن يقنعنا بأنه مصيب وإما أن يرجع إلى رأينا، وهذه صفات الأئمة المهديين. ولولا ما كان عليه من الاستقلال في العلم والدوران مع الحق كيفها دار لما وصل إلى تلك الدرجة العالية في دقة الفهم، وصحة الحكم، ولما اعترف له الجمهور الأعظم في بلاده وغيرها بهذه الإمامة، ولما رأينا كثيرًا من العلماء المتخرجين في الأزهر وغيره من المدارس الدينية وغير الدينية يتلقون عنه ويحضرون درسه مع الطلبة، وقد نال هذا العاجز قبل اتصاله به إجازة التدريس (أو العالمية) قولاً وكتابة من شيوخه في طرابلس الشام كالشيخ حسين الجسر الشهير وشيخ الشيوخ محمود نشابه، ولكننا رأينا عنده ما لم نرعند غيره رحمهم الله أجمعين. (س3) هل ثبت عندكم أن المسلمين عمومًا والمصرين خصوصًا مضطرون إلى الخمريات في الحاجيات والمعالجات؟ بَيِّنُوا لنا حقيقة الاضطرار وعموم البلوى والتعامل على ما في كتب الأصول مثل الموافقات وإرشاد الفحول. (ج) قد ثبت عندنا أن المسلمين الذين يعيشون في البلاد التي نعرفها كمصر وسورية والآستانة لا يستغنون عن الأطباء والجراحين الذين يداوون أمراضهم ويؤاسون جروحهم، وأن جميع الأطباء والجراحين يصفون الأدوية المستحضرة بالسبيرتو أو الداخل في تركيبها ويستعملونه في التطهير من السموم وما يسمونه ميكروبات الأمراض؛ لأنه قاتل لها. ويقولون: إنه ضروريٌّ في بعض ما ذُكِرَ، وحَاجِيٌّ عمت به البلوى في بعض - فتطهير الأيدي والآلات والأواني من بعض السموم والميكروبات الضارة قطعًا لا ظنًّا قد يكون بالسبيرتو وقد يكون بمحلول السليماني مثلاً، ولكن محلول السليماني لا يصلح لشيء من المعدنيات، وإنما يصلح للزجاج والفخار، والصيادلة يؤيدون الأطباء بجزمهم بأن كثيرًا من الأدوية التي يصفونها لا يمكن تحضيرها إلا بالسبيرتو - فهو إذًا ضروي في بعض الأشياء وحَاجِيٌّ في بعضٍ آخر، وكذلك الصناعات فهو في بعضها ضروريٌّ، وفي بعضها حاجيٌّ وفي بعضها كماليٌّ للزينة وإن شئت قلت تحسينيٌّ، كما هو اصطلاح الشاطبي في الموافقات والشوكاني في إرشاد الفحول وغيرهما. فإن كنتم تعنون بالخمريات ما يدخله السبيرتو الذي سميتوه خمرًا، فإن من القطعي المعلوم عندنا بالضرورة أنه مما عمت به البلوى في الضروريات والحاجيات والتحسينات التي ترجع إليها أصول الأحكام الشرعية كلها على الوجه الذي شرحه الإمام الشاطبي في الموافقات، وإن في منع الناس منه وتحريمه عليهم حرجًا عظيمًا وقطعًا لمعايش مَن لا يُحْصَى من الناس، ولكن هذه الأشياء التي نقول: إنها قد عمت بها البلوى، ليست من الأشربة المسكرة ولا من ذرائع السُّكْر في شيء، ولا وجه لتسميتها بالخمريات، وسنبين معنى الضرورة والاضطرار وعموم البلوى في خاتمة هذه الفتوى. (س4) هل يتعين شرب خمر عندكم في علاج الأمراض كلها أو بعضها كما يتعين أكل الميتة في المخمصة؟ (نرجو مراجعة فتاوى شيخ الإسلام رحمه الله في الخمر والعلاج) ؟ (ج) لا يتعين عندنا ذلك، ولا نحتاج فيه إلى مراجعة فنحن جازمون بذلك في الجملة في حالة السعة كالحال التي نحن عليها في مصر، ولكن يحتمل أن توجد أحوال قليلة يضطر فيها إلى شيء من الخمور لا يوجد ما يقوم مقامها كأن يصاب مسافر أو رجل في قرية ليس فيها صيادلة بنوبة قلبية يخشى أن تُفْضِي إلى هلاكه كما قال الفقهاء فيمن غُصَّ بلقمة خُشِيَ هلاكه بها ولم يجد ماءً ولا مائعًا حلالاً آخر فهذه نوادر، وقد فصَّلْنَا القول في ذلك من قبل فراجعوا ص 101-103 من مجلد المنار الثامن عشر ولكم أن تضيفوه إلى هذا الموضع فيما تريدون نشره على الناس ففيه بيان خلاف العلماء وما رجَّحناه فيه، وسيأتي له تتمة في بحث الاضطرار. (س5) هل يجوز لمسلم الاستشفاء بخمر بعدما قال فيها ما قال الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم وبعد كون المسلم مُجَازًا شرعًا بين أن يترك العلاج ويتوكل على رب العالمين: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (الشعراء: 80) [1] وبين أن يستشفي بالقرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين أو بماء زمزم أو بالعسل أو بالأدعية المناسبة المأثورة، أو الأدوية الطاهرة المشهورة؟ (ج) لا يجوز شرب الخمر لأجل التداوي بها من ضعف المعدة وما أشبه في حال الاختيار كما بيَّناه في فتاوى سابقة، وخاصة ما أشرنا إليه في جواب السؤال الذي قبل هذا. وإننا نراكم مخطئين في قولكم: إن المسلم مُجَازٌ (مطلقًا) بأن يترك التداوي توكلاً أو استغناء عنه بالاستشفاء بالدعاء أو القرآن أو العسل أو ماء زمزم، ولا غرو فقد غلط بهذا قبلكم بعض الصوفية والفقهاء، وسنبين الحق في هذا بكتابة مقال خاص ننشره في المنار إن شاء الله تعالى. (س6) هل يجوز لعالم يقتدي به أهل الإسلام أن يعلن جهارًا للخاص والعام بأنه أعلج (لعله عالج) أمه السيدة المسكينة بالخمر الخبيثة اللعينة (الكُنْيَاك وهو البراندي) ؟ ونسأله تعالى أن يديم لنا ولكم التوفيق والهداية، وفي هذا القدر كفاية، والسلام. (ج) لا يجو

لغة الإسلام واللغة الرسمية بين الممالك الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لغة الإسلام واللغة الرسمية بين الممالك الإسلامية (1) قرأنا في برقيات الأهرام وغيرها نبأ غريبا: هو أن جريدة (طنين) التركية تلقت رسالة مُوَقَّعًا عليها من خمسة وعشرين مسلمًا في طشقند وأفغانستان ومصر والجزائر وبمباي وبكين وبلاد أخرى يحثون فيها جميع المسلمين على استعمال لغة واحدة في العلاقات التي بينهم أسوة بالقاعدة المتبعة في استعمال اللغة الفرنسية في المسائل السياسية، وإن الموقعين على هذه الدعوة صرَّحوا بأن اللغة التركية متوفرة فيها الصفات الضرورية لهذا الأمر على كونها لغة أكبر دولة إسلامية، واقترحوا عرضها على مؤتمر يعقد في مدينة أنقرة يكون مؤلفًا من أعضاء مندوبين من جميع الممالك الإسلامية، لكل مملكة منها عضوان. هذا كل ما لخصته البرقيات من رسالة طنين، فوجب أن نبحث في هذه المسألة بما يرشد إليه الإسلام ومصلحة المسلمين، والبحث فيها ذو وجوه: (الأول) : إن هذا الاقتراح مصنوع، وصنعة غير متقن فيما يظهر، فقد أراد الملفقون له في الآستانة أن يوهموا من يطلع عليه أن هذه الفكرة مما يشغل جميع الشعوب الإسلامية من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، وأنه يكاد يكون بادئ ذي بدء رأيًا إجماعيًّا لها لا يعوزه إلا أن يقرَّر في مؤتمر رسمي، وعندنا أن فكرة سخيفة غير ممكنة كهذه الفكرة، لا يمكن أن توجد فجأة في شرق البلاد الإسلامية وغربها، ولا يعقل أن تتمخض في جميع هذه الشعوب من غير أن يظهر لها أثر ولا ينقل عنها خبر في جرائد هذه الممالك ثم تولد في إدارة جريدة طنين في الآستانة! إذن هي مما يدرك كل ذي حجى أنه تدبير مُلَفَّق. وأن هذا الجنين ليس من نسل العالم الإسلامي كله بل من نسل متعصبي الطورانية الذين لا يزالون يشتغلون بتطهير [1] اللغة العثمانية من لغة القرآن العربية، ولا يعسر على هؤلاء أن يجدوا في الآستانة خمسة وعشرين رجلاً من أوشاب البلاد المختلفة يوقعون اقتراحًا كهذا، بل لو طلبوا بعده من يوقع لهم اقتراحًا بأنه يجب على مسلمي الأرض كلها أن يتلقوا أصول دينهم وفروعه بلغة واحدة يقرأ بها القرآن ويدرس بها السنة؛ لأنه أدعى إلى وحدة التعليم وَحِدَّةِ تأثير الدين، وأن اللغة التركية هي الجديرة بالاختيار لذلك، لوجدوا من هؤلاء وأمثالهم من يوقع لهم هذا الاقتراح، ولا يبعد أن يكون ممثل مصر فيهم عمر رضا أفندي مراسل جريدة الأخبار الذي ينكر أن اللغة العربية هي لغة دين الإسلام [2] وسيأتي بيان هذه المسألة بعدُ، وأن الاقتراح لا يمكن تنفيذه إلا بها، وأنه حينئذ يكون من أعظم دعائم الإصلاح الإسلامي الديني والاجتماعي والسياسي. (الثاني) : إن كلمة (اللغة التركية) تُطْلَقُ بحق على لغة أهل تركستان وهم عشرات الملايين، وتطلق تَجَوُّزًا على اللغة العثمانية التي قال إمام أدبائها (نامق كمال بك) الشهير: إنها مؤلفة من أشهر لغات الشرق وهي العربية والفارسية والتركية، وهذه اللغة لا يتقنها إلا المتعلمون في مكاتب الدولة العثمانية، وهم يعدون بالألوف لا بالملايين، وأصحاب العصبية الطورانية منهم غير راضين عنها، ويجمعون على وجوب إرجاعها إلى اللغة التركية الأصلية، ويقولون: إن فلاحي الأناضول لا يفهمونها فضلاً عن الترك الخُلَّص في تركستان، وقد جاء صديقنا السائح الشهير الشيخ سعيد العسل الطرابلسي بكتاب تهنئة بالدستور للدولة العثمانية من كاشغر فلم يوجد في الباب العالي ولا في غيره من رجال الآستانة من فهم لغته التركية المحضة، بل احتاجوا إلى ترجمته بمساعدة من جاء به، ولا تزال جمعية (تورك أوجاغي) تشتغل بتنقيح اللغة العثمانية - لغة الآستانة وأنقرة - لإرجاعها إلى التركية، على ما يدخل فيها كل حين من الألفاظ الإفرنجية، التي ربما تزيد على ما يخرج منها من الألفاظ العربية، فهل فكرت في هذا شعوب الشرق والغرب بل الخمسة والعشرون الذين ادعوا أو ادُّعِيَ أنهم يتكلمون بلسانها؟ فإن كانوا فكروا، فأي اللغتين أتقنوا، ورأوا الصفات الضرورية متوفرة فيها؟ آلتركية المستعملة في تركستان التي تجهلها (الدولة الإسلامية الكبرى) التي هي إحدى عِلَّتَيْ الاختيار أم العثمانية التي هي عرضة للمحو والإثبات؟ (الثالث) : ماذا يريدون بالعلاقات التي بين جميع شعوب المسلمين من مراكش إلى بكين؟ نحن لا نعرف أن بينهم علاقات مشتركة غير علاقة الدين، والدين له لغة عامة مشتركة يعرفها علماؤه، وكثير من الطبقات الأخرى في كل شعب من شعوبهم، وسيأتي الكلام فيها. أما العلاقة السياسية فإنها تختص بالدول المستقلة منهم، وليس لأحد من الخمسة والعشرين أصحاب الاقتراح دولة مستقلة إلا الأفغاني، والمصري الذي لَمَّا يتم استقلال بلاده، والاتفاق على اللغة السياسية المشتركة بين الدول الإسلامية إنما يتقرر بالمفاوضة فيما بينها لا بمؤتمر يعقد في أنقرة، فالعلاقة السياسية غير مرادة للخمسة والعشرين. وأما العلاقات الاقتصادية من تجارية وغيرها فهي غير موجودة إلا بين البلاد المتجاورة كالبلاد الإفريقية بعضها مع بعض ومع سورية، والبلاد العربية مع البلاد التركية والإيرانية، والهند مع هذه البلاد كلها، ومن البديهي أن استعمال اللغة التركية في علاقة مصر بطرابلس الغرب وتونس أو بالحجاز وسورية أو علاقة الهند بإيران وبلاد العرب ضرب من المُحَال، لا يقترحه إلا من أصيب بضرب من الخَبَال، فانحصر الأمر في العلاقة الدينية وسيأتي الكلام فيها. (الرابع) : هل بيَّنَ لنا الخمسة والعشرون كيف يكون اختيار عضوين من كل مملكة إسلامية لحضور هذا المؤتمر؟ هل يختار رئيس جمهورية الصين الوثني مندوبي الصين وحاكم الهند الإنكليزي مندوبي الهند، ووالي الجزائر الفرنسي مندوبي الجزائر، وملك مصر مندوبي مصر، وملك الحجاز مندوبي الحجاز؟ إلخ أم تختارهم الشعوب؟ إذا كان الشق الأول غير مراد لتوقفه على رضا حكام الممالك غير الإسلامية والدول المستعمرة للبلاد غير المستقلة على ذلك، وهو متعذر فالشق الثاني أشد تعذرًا؛ إذ لا يُعْقَل كيف ينتخب ستون مليونًا من مسلمي الصين وخمسون مليونًا من مسلمي الملاو من يمثلهم في مؤتمر كهذا، فيكون قرار المؤتمر نافذًا فيهم لوجود اثنين من بلادهم فيه، وإنما يمكن مثل هذا الاختيار في بلاد لها جمعيات تمثل الجمهور الأكبر كالهند ومصر على ما بين جمعياتهما وأحزابهما من الخلاف، وكون كبار علماء الدين بمصر لا ينتمون إلى حزب من أحزابها. (الخامس) : إذا فرضنا إمكان انتخاب هذه الشعوب الإسلامية كلها لأعضاء يمثلونها لتقرير لغة واحدة تتخاطب بها في العلاقة الدينية المشتركة بينهما، فهل يقال لهؤلاء المندوبين أو لهذه الشعوب التي تختارها: إنه يجب أن يمضوا القرار الذي اقترحه الخمسة والعشرون في جريدة طنين؟ أم يدعون للتشاور واختيار اللغة المشتركة؟ إن أريد الشق الأول فلا حاجة إلى إرسال مندوبين، ولا إلى عقد مؤتمر، بل يكفي تبليغ هذه الشعوب قرار الخمسة والعشرين، وأنه ليس عليها إلا الإذعان والخضوع. وإن أريد الشق الثاني فما يُدْرِي هؤلاء الخمسة والعشرين ومن حملوهم على هذا الاقتراح أن مندوبي مصر والحجاز ونجد واليمن وجاوه وفارس ومراكش وغيرها يتفقون على تفضيل اللغة التركستانية أو العثمانية على لغة القرآن وعلى لغاتهم الوطنية؟ وإذا لم يتفقوا فما فائدة هذا المؤتمر؟ ثم إذا أجمعوا أو اتفق أكثرهم على اختيار اللغة العربية فهل يرضى الشعب التركي بذلك؟ (السادس) إذا غضضنا البصر عن كل ما ذُكِرَ، وفرضنا أن المؤتمر اجتمع بمثل السهولة التي اجتمع بها الخمسة والعشرون ووافقهم على اقتراحهم فكيف يكون تنفيذ قراره؟ أيفرض على البلاد العربية الممتدة من المحيط الأطلسي (الأتلانتيك) إلى خليج فارس والمحيط الهندي وعلى شعوب الملاو في الجنوب وشعوب الفرس والهند والأفغان والصين في الشرق أن يتعلموا اللغة العثمانية المُلَفَّقَة القَلِقَة لأجل أن يتلقوا بها تفسير القرآن وشروح الحديث وفقه المذاهب السنية والشيعية والإباضية من أنقرة بلغة واحدة؟ وإن فرض عليهم هذا وقبلوه بأن مسخ الله عقولهم وقلوبهم فجعلهم بذلك كالخمسة والعشرين، فمن ذا الذي يعلمهم هذه اللغة؟ أيوجد في الآستانة والأناضول معلمون يكفون لنشر هذه اللغة من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب مستمدين تنقيحها المتصل من جمعية (تورك أوجاغي) الطورانية؟ إذا فرضنا إمكان كل ما ذكر، فلا تبحث في المال الذي يُنْفَقُ في هذه السبيل فهو أيسر الأمور بالنسبة إلى تلك العقبات الكأداء التي فرضنا أن الاقتراح قد اقتحمها قبل ذلك. (السابع) : قلنا: إن هذا الاقتراح لا تقبله الشعوب الإسلامية إلا إذا مسخت عقولاً وقلوبًا فأمست لا تميز بين المفاسد والمصالح ولا بين المعقول وغير المعقول في دنيا ولا دين، وإننا نبين ذلك ببرهاني العقل والدين فنقول: أما برهان العقل فلا نطرق فيه باب تفضيل اللغة العربية بنفسها على التركية أو العثمانية، وهو ما لا يختلف فيه اثنان من العارفين، ولا باب تفضيلها بكونها لغة هذا الدين الذي نريد التخاطب في شأنه؛ بل نقول: إن لغة شطر القارة الإفريقية الشمالي من الغرب إلى الشرق وشطر آسية الشرقي من البحر الأحمر إلى خليج فارس هي اللغة العربية، وفي هذه البلاد مهد الإسلام، ومهبط وحيه، ومهوى أفئدة أهله، وقبلة صلاتهم ومَشْعَر نُسُكِهم، ومثابتهم التي يَؤُمُّهَا مئات الألوف من جميع شعوبهم على اختلاف أقطارهم في كل عام. وهذه اللغة هي التي يَتَعَبَّدُ بها جميع هؤلاء المسلمين، ويتلقون دينهم منها في جميع الأقطار، فلا يوجد بلد يقام فيه الدين إلا ويوجد فيه بعض العلماء الذين يعرفون هذه اللغة. فعلماء الترك والفرس والأفغان والهند والصين والملاو وغيرهم من الأعاجم يعرفون هذه اللغة ويتخاطبون بها، ولا يزالون كذلك ما داموا مسلمين، فهل من المعقول - والحالة هذه - أن يُتْرَك جعلُها اللغة العامة لتعارف المسلمين وتوثيق عُرَى الدين بينهم ويتكلف إقناعهم باختيار لغة أخرى عليها لا يعرفها إلا عدد قليل وهم المتعلمون من ترك الرومللي والأناضول وبعض العرب الذين كانوا عثمانيين؟ إن من القواعد المتفق عليها عند علماء المعقول، المعدودة عند المتكلمين من مقدمات براهين التوحيد: أن الترجيح بغير مُرَجِّح، مُحَالٌ، وأن ترجيح المرجوح مُحَال بالأولى، وهذه المسألة من القسم الثاني بغير مِرَاءٍ، وكون اللغة التركية لغة أكبر دولة إسلامية لا يصلح مُرَجِّحًا في هذا المقام. على أنه غير مُسَلَّم، فإن دولة مصر أكبر من دولة أنقرة وأعلم بالدين وأقدر على نشره. وأما برهان الدين فقد عُلِمَ بالإجمال مما قبله، وهو أن العربية هي لغة الدين الإسلامي لا يمكن العلم الصحيح به ولا العمل الصحيح بإقامة أعظم عباداته إلا بها، فيتعين أن تكون هي اللغة الوحيدة للتعاون بين الشعوب الإسلامية على إحياء هدايته ونشر تعاليمه وبث عقائده وأحكامه، وإننا نزيد على ذلك أن تعلمها فرض شرعي على جميع هذه الشعوب، وأن الاستغناء عنها بغيرها يُفْضِي إلى إضاعة الإسلام، وهو ما نبينه في الفصل التالي. *** (2) العربية لغة الإسلام الواجبة على جميع المسلمين: للإسلام لغة ذكرها الله في كتابه المجيد (الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حك

الخلافة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخلافة الإسلامية (مقال لجريدة الأهرام في المقابلة بين كتاب (الخلافة) العربي الذي نشره صاحب المنار، وكتاب (الخلافة والحاكمية القومية) التركي الذي صدر عن أنقرة وما كان من عناية الأهرام - شيخة الجرائد العربية - بتلخيص الكتاب التركي وعناية (إقدام) شيخة الجرائد التركية بالكتاب العربي) . إن التغيير الجوهري الذي أحدثه الكماليون في أمر (الخلافة الإسلامية) قد اختاروا له طورًا خطيرًا من أطوار (المسألة الشرقية) لأن ذلك وقع في الوقت الذي كان العالم الإسلامي يشعر فيه بحكم سليقة الجماعات بأن حقًّا عليه لتركيا أن يظهر بمظهر التأييد لها ما دامت خائضة مع أوروبا في لوزان أعظم معركة سياسية تحوم حول تصفية كثير من حسابات الشرق والغرب. فنهجت العامة ومن هم في حكم العامة من جماهير المصريين والهنود وغيرهم المنهج الذي علمه الناس في أمر الخلافة. ولكن كما أن للعامة لغة تنطق بها على ما تقضي به الدواعي فإن هنالك عهدًا بين الله وبين الخاصة أن لا يكتموا العلم ولا يخذلوه. ومن أجل ذلك صدر أثناء ضجيج العامة من الناطقين بالعربية في بلاد العرب وبالتركية في بلاد الترك كتابان اثنان عن (الخلافة الإسلامية) أحدهما بلغة العرب وهو كتاب (الخلافة) لحضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) وهو أحفل كتاب أُلِّفَ من صدر الإسلام إلى الآن في هذا الموضوع حيث تناوله من جميع أطرافه ووفاه حقه من التمحيص وأرضى فيه الحق الذي يقره عليه فحول علماء العالم الإسلامي وفي مقدمتهم علماء مصر والهند، القطرين الإسلاميين العظيمين. وأما الكتاب الثاني فهو الكتاب الذي صدر من أنقرة باللغة التركية وقد ضمَّنه أصحابه أقصى ما يمكنهم من عبارات الاعتذار للكماليين عما فعلوه في أمر الخلافة، حتى اضطروا إلى أن يطعنوا في جميع أمراء المؤمنين أيام عصور الإسلام الذهبية بعد الخلفاء الراشدين، كل ذلك لأجل أن يقولوا: إن أمراء المؤمنين لا يصلحون لتولي إمارة المؤمنين، رغم قاعدة الشورى والقيود الشرعية التي من حق الأمة أن تقيدهم بها بحكم الشرع، ومع ذلك فإننا لا نبخس هذا الكتاب حقه فهو - والحق يقال - قد كُتِبَ بأجود أسلوب يمكنهم أن يكتبوه به، وقد سبق للأهرام تلخيصه بكل أمانة. وكما عنينا نحن بكتاب (أنقرة) عن الخلافة ولخصناه لقراء (الأهرام) كذلك عنيت جريدة (إقدام) التركية التي تصدر في الآستانة بالكتاب العربي عن الخلافة، فأنشأ شيخ الصحافة التركية أحمد جودت بك صاحب جريدة إقدام مقالة عن هذا الكتاب أرسلها إلى جريدته من (لوزان) متضمنة تقريظه وانتقاده، وهذا تعريبها: تقريظ مدير جريدة أقدام التركية لكتاب الخلافة لقد نشر السيد رشيد رضا محرر مجلة (المنار) الصادرة في مصر كتابًا في المدة الأخيرة عنوانه (الخلافة أو الإمامة العظمى) . وذلك بمناسبة الحوادث والمسائل التي وقعت أخيرًا بشأن الخلافة الإسلامية، وقدم له مقدمة خاطب بها الترك والعرب والهنود وسائر الشعوب الإسلامية. وقد قال في فقرة يخاطب بها الترك: (أيها الشعب التركي العاقل: إنني أهدي إليك هذه المباحث التي كتبتها في بيان حقيقة الخلافة وأحكامها، وشيء من تاريخها وعلو مكانتها، وبيان حاجة جميع البشر إليها، وجناية المسلمين على أنفسهم بسوء التصرف فيها، والخروج بها عن موضوعها) ثم أورد في اثنين وأربعين فصلاً آراء ومباحث شرعية وسياسية واجتماعية عن الخلافة والإمامة وما يتعلق بهما، وما من مبحث من هذه المباحث إلا وهو جدير بإمعان الإخصائيين فيه على حدته، والسيد رشيد عالم مشهور من علماء الإسلام في العصر الحاضر وهو تلميذ المرحوم (الشيخ محمد عبده) الذي كان علامة إسلاميًّا، وكانت وفاته من عظميات الخسائر على العالم الإسلامي؛ لأبحاثه وتدقيقاته في قوانين أوروبا وشئونها الاجتماعية وأبحاثها العلمية، وهو أعظم من أدخل النور على مصر وأوجد فيها العقلية العصرية. أريد أن أتكلم على بحث من أبحاث السيد رشيد، وهو البحث الذي عنوانه (الترك العثمانيون والخلافة والتفرنج) (ص137) فإن السطور الواردة تحت هذا العنوان لفتت نظري إليها، فهو يقول: (كان أجدر المسلمين بالسبق إلى هذا - أي إلى إصلاح نظام الخلافة - رجال الدولة العثمانية، ولا سيما الذين يقيمون في الآستانة والرومللي من بلاد أوروبا يشاهدون تطور شعوبها وترقيهم في العلوم والفنون والنظام، ولكن دولتهم لم تكن دولة علوم وفنون؛ لأنه لم يكن لهم لغة علمية مدونة قابلة لذلك إلا في أثناء القرن الماضي. (وقال المؤلف) في موضع آخر من كتابه: (إن العثمانيين لم يجتهدوا في تكوين اللغة التركية حتى تكون كذلك، ولم يكن يتعلم علوم الإسلام منهم إلا قليل من المقلدين، ولهذا جعلوا سلطة سلاطينهم شخصية مطلقة، حتى بعد تحليتهم بلقب الخلافة، فلما صاروا يدرسون تاريخ أوروبا وقوانينها، وثوراتها على حكوماتها لإزالة استبدادها، ظنوا أن لا سبيل لتقييد استبدادهم ومنع ظلمهم إلا بتقليد أوربة في شكل حكوماتها الملكية المقيدة، ثم رجّحوا في هذا الزمن الجمهورية؛ لأنهم رأوا أن جعل السلطان مقدسًا غير مسئول كما قرروه في قانونهم الأساسي لم يف بالغرض، ولو درسوا الشريعة دراسة استقلالية كما يدرسون القوانين، لوجدوا فيها مخرجًا أوسع وأفضل من القانون الأساسي السابق، ومن الخلافة الروحية وحكومة الجمعية الوطنية الحاضرة) . السيد رشيد يؤاخذنا لرجعونا إلى الطرق الأوروبية، ولا نراه محقًّا في ذلك؛ إذ هو أيضًا يعلم حق العلم أن الخلافة لم تستقم في طريقها إلا إلى آخر مدة عمر، وبدأت الفوضى زمن عثمان، فلم يعد في الإمكان إدراك مثل دوري أبي بكر وعمر. وبعد هذين الشيخين لم يظهر من يدانيهما في العدل غير رجل واحد هو عمر ابن عبد العزيز وآخر من الترك هو نور الدين زنكي ويعد رابعهم. ومعلوم كم ذا الذي لقيه المسلمون من مضار الاختلاف بين الأمويين والعباسيين. ينتقد السيد رشيد رضا جنود الترك لتغلبهم على الخلافة العباسية، نعم لقد صدر من هؤلاء بعض أمور غير مناسبة، ولكن من المعلوم جنوح الخلفاء العباسيين بعد ذلك إلى عدم الاعتقاد، فإذا صار الخلفاء إلى ذلك ماذا يصنع الجاهلون من الجنود الذين في معيتهم. والسيد رشيد يعزو كل هذه الأمور التي حلت بالإسلام إلى الفتن والمفاسد التي نصبها مجوس فارس لتقويض هذا الدين ودك معالمه، ولكن هل مفاسد زماننا أقل من مفاسد ذلك العهد؟ وإذا كان أولئك يدسون دسائسهم من تحت ستار فإن أمثالها في هذا الزمان ترتكب علنًا، وهذا ما فعله الشريف حسين بتركيا ماثل أمامنا، فهل في أحكام الشرع ما يجيز قيامه على تركيا؟ إذن فهنالك أمور تتبدل بحسب الزمان. إن الترك لم يكونوا البادئين بالانصراف إلى جامعتهم القومية. فهم لما رأوا الحركات الموجهة إليهم قالوا: فلنفكر إذن في قوميتنا، وليس معنى ذلك أن الترك قطعوا علاقتهم بالمسلمين، فالصلة المعنوية باقية كما كانت، ونحن سنؤسس علاقتنا الحسنة مع جاراتنا الحكومات العربية قائلين: مضى ما مضى وسنتمسك بأواخي الود مع كل جيراننا من عرب وعجم، دون أن نتدخل في الشئون الداخلية والآمال القومية لأية أمة من تلك الأمم، وسنتعاون معهم علميًّا واقتصاديًّا إذا استطعنا، ولا ننظر إليهم بعين العداء كما كنا نفعل وقتًا ما. فلتعمل كل أمة من هذه الأمم على حدتها ولتسر في طريق الحضارة والارتقاء حتى تبلغ ساحل السلامة، إن الحكمة ضالة المؤمن ونحن سننشد هذه الضالة ونأخذها حيث وجدناها في الشرق أو الغرب، ومن الخطأ الفاحش التعامي عن المحاسن المؤدي إلى التأخر. نحن نظن أن في استطاعة المسملين أن يستفيدوا من موقف الخلافة الحاضرة علمًا وأدبًا استفادة لم يسبق حصولها، لأن السياسة كانت تعترض في سبيل ذلك، فإذا كان علماء الإسلام وأهل الخير منهم يودون الاستفادة من الخلافة حقًّا، فإن هنالك وسائل لا تضر أحدًا. فالمسلمون في كل مكان محتاجون إلى مرشدين في العلم والتهذيب؛ إذ إن المسلمين في بعض الأماكن (ولا نريد أن نسمي) واقفون موقفًا سيئًا في جهة الاتصال بين دينهم وقوميتهم، فإذا لم تبذل العناية في تهذيبهم وتعليمهم فإن مستقبلهم مظلم، وإنشاء الأوضاع الدينية والتهذيبية لهؤلاء يحتاج إلى مال، فليقرر المسلمون أولاً هذه الجهة. كأن نؤسس مدرسة إسلامية عملية في مقر الخلافة لتدريس العلوم الدينية والعلوم العصرية معًا. فإذا تحققت المعونة على ذلك من المسلمين يمكن الآن أكثر مما كان ممكنًا من قبل قيام الخلافة بهذه المهمة التهذيبية. وكما أن السيد رشيد وجه إلينا خطاب الود والصداقة في بعض فصول كتابه فإن فيه أيضًا فقرات ينتقدنا بها بشدة، وهو ينصح لنا دائمًا أن نستمد من الشرع الإسلامي وأن نستنير بتاريخ الإسلام، ويعنى عناية زائدة بتوطيد أواخي الإخاء بين المسلمين ويرى أن ضعف الحكومات الإسلامية ناشئ عن الوهن العارض من هذه الجهة. فهو ينتقد كون شخص السلطان (مقدسًا وغير مسئول) مع أن المقصود من ذلك أنه ليس للقانون سبيل إليه وأن المسئولية في المملكة منحصرة في رئيس الوزارة وزملائه، ولا يكون السلطان مسئولاً إلا إذا باشر العمل فلا يكون حينئذ دستوريًّا، والسلطان الدستوري الحقيقي عندنا هو السلطان محمد الخامس ولكن الذين لم يرق لهم عمله من رجالنا كانوا يسمونه (الدرويش محمد) . وينتقد السيد لغتنا بأنها ليست لغة علم، وحقًّا إن تقصيرنا نحن معاشر الترك العثمانيين وغفلتنا في هذا الأمر عظيمة. ففضلاً عن إهمالنا جعل التركية لغة علم فإننا أهملناها بوجه عام، وكان شعراؤنا في مقدمة الذين أهملوها حتى جعلوها بشكل لا يفهمها جمهور الشعب، ولم يبق فيها من التركية غير الروابط وسائرها من العربية والفارسية. مما يؤسف له أننا إلى اليوم كلما أردنا أن نصطلح على اسم نلجأ إلى العربية حتى إذا وجدنا فيها لفظة غير علمية نصرفها عن معناها إلى معنى آخر ونلوكها بألسنتنا، كأن ذلك لا يكون إلا بأخذه من العربية. ولا تزال اللجنة التي في وزارة المعارف سائرة على هذا المنهاج، ولو أمعنوا النظر لوجدوا في التركية ما يسد في هذا المسد. ولكن ليس بيننا من يعرف التركية حقًّا. ولا نعلم فروعها كما يعلمها الأستاذ فون لوكوك أستاذ التركية في برلين وذلك لأن رجالنا لم يتعودوا إزعاج أنفسهم بالرحلة في سبيل العلم، بل كل منا يريد أن يمتلئ جيبه نقودًا وأن يبقى في بلده محتفظًا براحته فلا يذهب إلى تركستان ولا إلى الأناضول لدرس اللهجات التركية. وإن كتاب اللغة الذي هو مصدر للسان الترك إنما جاءنا به من مدينة (كاشغر) رجل عربي من أهل طرابلس الشام [1] فأصبحنا وليس للغة التركية كتاب صرف ولا قاموس؛ لأنه ليس عندنا رجال يحملون أنفسهم عناء الدرس والتحقيق، فمتى يا ترى يكون عندنا هؤلاء الرجال؟ الله أعلم اهـ. *** (تعليق المنار على مقالة جريدة إقدام في الخلافة) قد كتب رصيفنا جودت بك ما كتبه وهو لم يقرأ من كتاب الخلافة إلا ما يتعلق بالترك كله أو بعضه كما يظهر لنا، ولعله لو قرأه كله لكتب غير الذي كتبه في الخلافة والخلفاء، والحكومة الإسلامية، وما يقابلها من الحكومات الأوروبية، ولما كان قد نقل مما قرأه منه تعليلنا تقليد الترك للإفرنج بعدم دراستهم الشريعة دراسة استقلالية كما يدرسون ا

تاريخ الحرم الشريف ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تاريخ الحرم الشريف (تتمة ما نشر في ص 448 ج 6) للمكان الذي شُيد عليه المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة (تل موريا) منزلة دينية سامية من أقدم أزمنة التاريخ يقدسها المسلمون والمسيحيون واليهود حتى الوثنيون. ويظهر من شكل الساحة التي عليها قبة الصخرة أنها كانت في بداية الأمر بيدرًا لأحد اليبوسيين (سكان فلسطين الأقدمين) وقد بنى فوقها سيدنا داود عليه السلام بعد فتحه البلاد مذبحًا تقدم فيه القرابين لله تعالى. (هيكل سليمان) وفي سنة 1013 ق. م أمر سيدنا سليمان عليه السلام بإنشاء قصر له حيث المسجد الأقصى، وهيكل فخم حيث قبة الصخرة الشريفة، ولم يكمل البناء إلا بعد وفاته بمدة طويلة , وقد دمره الكلدانيون سنة 588 ق. م. فحاول اليهود عقب عودتهم من الأسْر تجديده سنة 516 ق. م. فلم يصنعوا شيئًا مذكورًا. (هيكل هيرودس) وفي السنة العشرين قبل الميلاد شرع هيرودس الكبير بتشييد هيكل فخم وبرج عالٍ (أنطونية) في المكان نفسه فلم يوفق إلى إتمامه، وبقى إلى سنة 70 ميلادية إذ دمره جنود الرومانيين حرقًا إبان محاصرة الإمبراطور طيطوس بيت المقدس واستيلائه عليها. (زون المشترى) وبنى الإمبراطور إدريان سنة130 م مدينة إيلياء وأمر بتشييد زون كبير للمشترى (إله الحرب) اثنا عشري الشكل Dodcceastile كالذي ترى على صورة بعض النقود القديمة فنصب فيه صنمًا للمشترى وآخر (لديوسقورس) أو صنمًا بتوأمين (كاستور وبلوكس) وأقام تمثالاً لنفسه بالقرب من الصخرة المباركة. (الحرم الشريف) وسنة 614 م اكتسح الفرس البلاد فخربوا بيت المقدس وقضوا على ما فيها من المعابد والكنائس، لكن جيوش المسلمين لم تلبث أن فتحت بيت المقدس سلمًا سنة 15 هجرية و637 م بحضور الخليفة الثاني سيدنا عمر رضى الله عنه. فلما دخلها ذهب تَوًّا إلى مكان الحرم الشريف وأزال ما كان فيه من الأقذار، ولما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان وحيل بينه وبين الحرمين الشريفين لقيام خصمه عبد الله بن الزبير خليفة في الحجاز ولى وجهه شطر القبلة الأولى فأمر بإنشاء المسجد الأقصى وقبة الصخرة في بيت المقدس، ورصد لذلك خراج مصر سبع سنين، ووكل على العمارة أبا المقدم رجاء بن حيوة بن جود الكندي وكان من العلماء الأعلام، ويزيد بن سلام مولى عبد الملك من أهل بيت المقدس وولديه. ويقال: إن عبد الملك وصف ما يختاره من عمارة القبة وتكوينها للصناع فصنعوا له - وهو ببيت المقدس - القبة الصغيرة التي هي شرقي قبة الصخرة (قبة السلسلة) فأعجبه تكوينها وأمر ببنائها كهيئتها. وبقيت بعد الفراغ من عمارة الحرم مئة ألف دينار فأمر بها عبد الملك جائزة لرجاء ويزيد فكتبا إليه: (ونحن أولى أن نزيده من حُلِيِّ نسائنا فضلاً عن أموالنا فاصرفها في أحب الأشياء إليك) فكتب إليهما بأن تسبك وتفرغ على القبة فسكبت وأفرغت عليها فما كان أحد يقدر أن يتأملها مما عليها من الذهب، وهيئا لها جلالاً من لبود توضع من فوقها، فإذا كان الشتاء أُلبستها لتُكِنَّها من الأمطار والرياح والثلوج. وكان الفراغ من عمارة قبة الصخرة والمسجد الأقصى في سنة 72 من الهجرة، وقد قرن اسم عبد الملك بهذا الأثر الخالد منقوشًا بالفسيفساء عند مدخل الصخرة من الباب الجنوبي بعبارة هذا نصها: (بنى هذه القبة عبد الملك (لله الإمام المأمون) أمير المؤمنين في سنة اثنتين وسبعين، يقبل الله منه ورضي الله عنه، آمين) ويظهر من اختلاف الخط واللون فيما أشرنا إليه بين هلالين أنه من الإضافات التي حدثت بعد ذلك التاريخ. (الحرم الشريف في زمن العباسيين) وفي سنة 130 هـ سقط شرقي المسجد الأقصى وغربيه في الرجفة التي حصلت في خلافة أبي جعفر المنصور العباسي فخوطب بلزوم عمارته فأمر بقلع صفائح الذهب والفضة التي كانت على الأبواب فقلعت وضربت دنانير ودراهم وأنفقت عليه حتى فرغ. ثم حصل زلزال سنة 158 هجرية تهدم فيه البناء الذي كان أمر به أبو جعفر، فلما كانت خلافة المهدي أمر ببنائه فأنقص من طوله وزيد في عرضه. وذلك في سنة 169 هـ، وأخيرًا جددت عمارة قبة الصخرة في أيام المأمون (216 هـ) كما جاء في الكتابة المذهبة الواقعة على الباببن الشرقي والشمالي من الداخل. (الحرم الشريف في زمن الفاطميين) ثم جاءت زلزلة ثالثة سنة 407 هـ. تهدمت من جرائها قبة الصخرة وبعض الجدران الواقعة في الشمال الشرقي من الساحة المحيطة بها، فقام الظاهر لإعزاز دين الله ابن الحاكم بأمر الله برفعها وتجديد عمارتها سنة 413 هـ على يد علي بن أحمد كما نقش على الأعمدة الواقعة داخل القبة. ومما زيد فيها في زمن الفاطميين البناء المسمى اليوم بجامع النساء. (الحرم الشريف في دولة بني أيوب) ولما احتل الصليبيون بيت المقدس حولوا قبة الصخرة إلى كنيسة، والمسجد الأقصى إلى منزل لسُكْنَى ملكهم وسموا ما تحت الأقصى من الأبنية بإصطبل سليمان وربطوا فيه الخيل، فجاء صلاح الدين الأيوبي وهدم ما أحدثوا من الأبنية والسواري وأعاد الحرم الشريف إلى ما كان عليه وذلك سنة 583 هـ. وكان الملك العادل نور الدين الشهيد قد أعدَّ منبرًا عجيب الصنعة برسم القدس صنعه حميد بن ظافر الحلبي وسليمان بن معالي من خشب مُرَصَّعٌ بالعاج والآبنوس وعليه تاريخ يرجع إلى سنة 564 هـ وقد أدركته المنية قبل الفتح فأحضره صلاح الدين من حلب وجعله في المسجد الأقصى وهو الموجود في عصرنا هذا. وأمر بترميم محراب الأقصى، وكتب عليه بالفصوص المذهبة ما نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم. أمر بتجديد هذا المحراب المقدس، وعمارة المسجد الأقصى الذي هو على التقوى مُؤَسَّسٌ، عبد الله ووليه يوسف بن أيوب أبو المظفر الملك الناصر صلاح الدنيا والدين عندما فتحه الله على يديه شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وهو يسأل الله إذاعة شكر هذه النعمة، وإجزال حظه من المغفرة والرحمة) . وفي سنة 634 قام الملك المعظم عيسى ابن أخي صلاح الدين بعمارة (واجهة) المسجد الأقصى الشمالية والرواق الموجود في مدخله من تلك الجهة. وفي سنة 668 هـ اعتنى السلطان الملك الظاهر بيبرس بعمارة المسجد ورمم صدع الصخرة الشريفة وجدَّد فصوصها التي على الرخام من الظاهر والتي على قبة السلسلة. وعمر السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي سنة 686 سقف المسجد الأقصى من جهة القبلة مما يلي الغرب. وفي أيام السلطان الملك العادل كتبغا في سنة 665 جدد عمل فصوص الصخرة الشريفة وعمارة السور الشرقي المطل على مقبرة باب الرحمة. وفي أيام السلطان الملك المنصور لاجين جددت عمارة محراب داود الذي بالسور القبلي عند مهد عيسى عليه السلام بالمسجد الأقصى. وعُنِيَ السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون إبان سلطنته الثالثة بعمارة السور القبلي الذي عند محراب داود عليه السلام ورخم صدر المسجد الأقصى وفتح به الشباكين اللذين عن يمين المحراب وشماله (731 هـ) وجدد تذهيب القبتين: قبة المسجد الأقصى وقبة الصخرة سنة 718 هـ. وعمر القناطر على الدرجتين الشماليتين بصحن الصخرة التي أحدهما مقابل (باب حطة) والأخرى مقابل باب الدويدارية، وعمّر باب القطانين بالبناء المحكم. وفي أيامه أيضًا عمّر الأمير تنكز الناصري نائب الشام البركة الرخام بين الأقصى والصخرة والرخام الذي في قبلة المسجد عند المحراب، وكذا الجانب الغربي سنة 728 هـ. وفي أيام الملك الأشرف شعبان ابن الأمير حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون عمرت المنارة التي عند باب الأسباط بمباشرة (السيقي قطلو بغا) ناظر الحرمين الشريفين في 769 هـ. وكذا تم تجديد الأبواب الخشب المركبة على الجامع الأقصى والقناطر التي على الدرجة الغربية صحن الصخرة المقابل لباب للناظر في (778 هـ) . وفي سلطنة السلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق عمرت دكة المؤذنين التي بالصخرة تجاه المحراب إلى جانب المغيرة بمباشرة ناظر مين ونائب القدس الشريف الناصري محمد بن السبفى بهادر الظاهري 789 هـ. وفي أيام الملك الظاهر أبي سعيد جقمق العلائي الظاهري احترق سقف الصخرة القبلي من جهة الغرب، من جانب القبة فأخمدت النار، وعمر السقف أحسن مما كان وفي سنة 887 هـ. أمر السلطان الملك الأشرف أبي النصر بعمارة الدَّرَج الموصل إلى صحن الصخرة الشريفة تجاه باب السلسلة المجاور لقبة المدرسة النحوية، وفي سنة 884 جدد رصاص قبة الأقصى ولم يكن من حيث الجودة والإتقان كالقديم. وفي سنة 887 هـ أنشئ سبيل قايتباي المقابل لدرج الصخرة الغربي على بئر هناك، وكذلك الفسقيتان المجاورتان له. وقد تمت في الحرم الشريف عمارات متعددة في زمن سلاطين بني عثمان كزجاج شبابيك الصخرة العجيبة فإنه من آثار السلطان سليمان القانوني 945 هـ كما تدل على ذلك الكتابات المرسومة على زجاج الطاقات. وكذلك القاشاني البديع المحيط بقية الصخرة من الخارج فإنه صنع في زمنه سنة 969 هـ وهذا التاريخ مثبت في صدر محراب قبة السلسلة والنقوش والكتابات النفيسة، فإن قسمًا كبيرًا منها جُدِّد في أيام السلطان محمود سنة 1233 وسنة 1256 هـ وفي أيام السلطان عبد العزيز سنة 1291 هـ جدد رصاص الصخرة الخارجي وتذهيبها وحصلت عمارات طفيفة في زمن السلطان عبد الحميد كتجديد سبيل قايتباي وباب الصخرة الغربي وغير ذلك. انتهى.

بعثة تنصير المحمديين وبرنامج كيدها للإسلام والمسلمين

الكاتب: محمد الرشيدي بك آل الحجازي

_ بعثة تنصير المحمديين وبرنامج كيدها للإسلام والمسلمين لمحمد الرشيدي بك آل الحجازي من أركان الحرب سابقًا (في برلين) (تمهيد) إن الألمان من أكثر الأمم تسامحًا في الدين أو من أقلها تعصبًا فيه على الأقل. ولكن تفريط المسلمين في تبليغ العالم الغربي حقائق العقائد والعواطف التي أودعها الدين الحنيف في صدور أهله، والآداب العالية والأحكام العادلة التي عامل البشر كافة، وأهل الكتاب خاصة وإفراط حشرات الشرق المؤذية (والأرمن أشدها عداوة وخبثًا في الكيد لمواطنيهم من أهل الإسلام) هذا الإفراط وذلك التفريط قضيا بأن يقع كل أجنبي ألمانيًّا كان أو غير ألماني في شَرَك عناكب السوء هذه التي تملأ صدره حقدًا واحتقارًا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مع سعيها طبعًا في ابتزاز مال ذلك الأجنبي. كنا نعلم ما يعلم كل شرقي عاشَر الأوربيين والأميريكيين من انتشار المعتقدات الغربية والتهم الباطلة بينهم في المسلمين وأنهم لا يعرفون عنهم سوى أنهم قوم عائشون على الفطرة ولا يدرون من أمور الحياة سوى التغذي بطعام سيئ يتناولونه بأصابعهم القذرة والارتواء بالماء والقهوة والتسلي بالتدخين والاستمتاع بالنساء بالتزوج منهن بغير حساب؛ لأنهن لسن إلا متاعًا للشهوة البهيمية، يشترين كما تُشْتَرَى الأنعام ويُلْفَظْنَ كما تُلْفَظُ النواة بغير مراعاة لحالتهن ولا لحقوقهن، وإن أطيب الطيبات عندهم سفك دماء المسيحيين. وكنا نعمل على قدر الاستطاعة في تفهيم الأمم التي نحتك بها أن الدين الإسلامي مثل سائر الأديان التي تأمر بالخير وتنهى عن الشر، وأنه أوصى بصفة خاصة بمراعاة أهل الكتاب وبمجاملة المسيحيين الذين وصفهم بأنهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا، ولم يأمر بمعاداتهم وبقتالهم إلا عند بغيهم وعدوانهم على المسلمين، وأن مركز المرأة في الإسلام أفضل وأكمل ضمانة لسعادتها وسعادة عائلتها من مركزها في أي أمة متمدينة من أمم أوربة وأميريكة، وأن تأخرها عن المرأة الأوربية أو الأميريكة في الرقي العلمي والاجتماعي لم يكن إلا نتيجة الأسباب التي أدت لتقهقر مدنية الرجال أنفسهم في الشرق، تلك الأسباب التاريخية والسياسية القديمة والحديثة التي لسوء نيات الأمم الأوروبية فيها عمل كبير، وأن المسلمين ليسوا أقل نشاطًا من غيرهم بل إنهم من أكبر الأمم استعدادًا لعظائم الأمور، كما تدل عليه آثارهم في العلوم والفنون والصناعات التي تدين بها الأمم الغربية لهم وأعمالهم في الظروف العصيبة الحاضرة. ولكن كانت دائرة عملنا ولا تزال ضيقة لقلة كفاءتنا العلمية الدينية في بسط شئون الدين الحنيف بسطًا وافيًا شافيًا، وقلة كفاية وسائلنا المادية لتوسيع نطاق هذا العمل العظيم. ولقد كنا نفكر دائمًا في اقتراح القيام بهذه المهمة الدقيقة الجسيمة على الاختصاصيين بالشئون الدينية، ولكننا كنا من جهة أخرى نظن أن الدولة العثمانية التي كان ولا يزال لها من الاستقلال والوسائل المادية والأدبية ما يُمَكِّنَها من هذا العمل الضروري للعالم الإسلامي عمومًا، ولها هي نفسها خصوصًا قد فكرت في الأمر وسعت في القيام به دفعًا لتطاول الأعداء على الدين وعليها؛ إلا أن قضية مقتل طلعت باشا وأسبابها ونتائجها وما رأيناه في أثنائها وبعدها، دلتنا على أن هذه الدولة الإسلامية الكبيرة لم تفكر إلى الآن في هذا الواجب. نعم بينت لنا هذه القضية الحالة النفسية لدى القضاة والمحامين وغيرهم من الموظفين ولدى الشعب الذي عَدَّ تبرئة ذلك المجرم الأرمني عملاً منطبقًا على العدالة تمام الانطباق.... وإن لم يقم القضاء بكل الواجبات التي توجبها النزاهة والعدالة ولم يستمع لآراء نظارة الخارجية، وبينت لنا نتائج إهمال المسلمين وتفريطهم في الدفاع عن دينهم وأنفسهم إزاء المكايد والمهاجمات التي تتوالى عليهم منذ زمن طويل. ولقد استدعى التفاتنا الخاص شهادة الزور التي افتراها (القسيس) المدعو بالدكتور ليسيوس تلك الشهادة التي حوت من الأكاذيب والغل والضغينة ما يتنزه عنه القسيسون الحقيقيون الذين أخلصوا الحب والطاعة للمسيح الكريم، بل ما ينفر منه أدنى صعاليك الوثنيين إن كان عنده ضمير. ولم يكن ليسيوس هذا من أولئك الأشخاص الذين يوجدون - ويا للأسف - في كل طائفة دينية، أي من المتعصبين تعصبًا أعمى عن جهل وغباوة، بل هو (مدير) البعثة الألمانية الدينية الشرقية التي يرأسها الجراف (الكونت) فون برنستورف مصدر النشرة المدعوة بالشرق المسيحي، هذه النشرة المُعْتَنَى بها أتم اعتناء، فهو ذو مكانة عند طائفة من المسيحيين يظنون أنه من أصدق خدام المسيح. إن الكذب الصراح والاختلاق المحض اللذين ظهرا لنا في شهادة ذلك الشخص المنتحل للدين وجدّه وكدّه في السعي لتبرئة ذلك المجرم، أمور جعلتنا نعتقد اعتقادًا قويًّا أنه ممن اشترتهم إنكلترة والجمعية الأرمنية [1] وأنه من أشد الأعداء للدين المسيحي نفسه، ومُحَال أن يستفيد دين بأمثال هؤلاء الناس الفاسدي الضمير، ولقد بحثنا في الأمر بعد أن ضاعت مساعينا لدى وزارة الخارجية التي أخفقت هي نفسها في الاعتراض على ذلك القضاء المخطئ ولدى إدارة الأمن العام لنحصل على أكثر ما يمكن من المعلومات التي يتقى بها ضرر هؤلاء المشركين بالله والمضرين بالناس، فوفقنا إلى الحصول على أشياء منها مجموعة كاملة للسنة الأولى من (مجلة الشرق المسيحي) عن سنة (1900) هذه المجلة التي تصدرها تلك البعثة الدينية (! !) التي تدل على أنه كان لتلك البعثة في سنة 1900 ستة مراكز عمل في بلاد الدولة العثمانية، واثنان في بلاد فارس واثنان في بلغارية. وتدور أعمال هذه المراكز على المحور الذي تبينه جليًّا مقالة الأرمني (أبراهام أميرشانيانس) في تلك المجموعة - تلك المقالة المُعَنْوَنَة بـ (واجبات البعثة المحمدية ومهماتها) كما أن المجموعة كلها تدل على مقدار دناءة الوسائل التي تتخذها البعثة الرئيسية التي يديرها ذلك القسيس (ليسيوس) . ولنقتبس لكم أجزاء من تلك المقالة التي ملأت أربع صفحات كبيرة من صحف تلك المجموعة؛ لتروا صورة وصفهم للدين الإسلامي وعملهم لإزالته من الوجود: قال (أبراهام أميرشانيانس) المذكور، فيما سطره: (إن الإسلام من أشأم ما ظهر في تاريخ الإنسانية. وهو خليط من الصدق والكذب، فهو لذلك أشد خطرًا من الوثنية. وإن الدين المسلط على مائتي مليون رأس ليس من السهل التغلب عليه. فيجب تحضير خطة دقيقة تكون كأحكم الخطط الحربية وضعًا لمهاجمته وإنفاذ هذه المهاجمة بأنجع وسائل التعبئة) . وبعد أن أوصى بضرورة مراعاة اختلاف أنواع المسلمين من أهل بلاد إسلامية مستقلة، وأهل بلاد تابعة لدولة مسيحية في أوربة أو في المستعمرات، لاتخاذ أحسن الطرق في إنفاذ تلك المهاجمات لمن تعرض للمحمديين الذين ينتحلون الدين المسيحي للأخطار الناشئة عن صرامة عقاب الحكومات الإسلامية لهم، وعن شدة تعصب أبناء جنسهم لهم، قال: إنه لا ينصح بالكف عن العمل لتنصير المسلمين في البلاد الإسلامية المستقلة، بل يوصي بالحذر واتخاذ الوسائل لإنقاذ من يؤتى بهم إلى المسيحية. وقد وضح الطرق التي تستعمل في الديار التابعة للحكومات المسيحية للوصول إلى هذا العرض، وهي: تبشير مباشر في الكنائس وفي الدور وفي مدارس تربية البنين والبنات الابتدائية والعالية - وهذا أهم الوسائل عنده - واستخدام الجرائد والنشرات للحملة على الإسلام والترغيب في المسيحية، والاستعانة بالمبشرين والمعلمين والمعلمات والمربين والمربيات، وكذا بالباعة المتجولين وبالعمال. وقد استنتج (إبراهام إيميرشانيانس) هذا من انتحال بعض مسلمي البلغار والصرب الدين المسيحي أن الدين الإسلامي لا ثبات له، وأن قلة ثباته هذه برهان على أنه ليس دين حق أو كما يقول: (لا يمكن أن يكون دين حق) . وبعد أن قال: (إن الإسلام بدون سيف يؤيده شيء لا يعتد به) [2] وصف المسلمين الذين انفصلوا عن الدولة العثمانية والذين في المستعمرات المغلوبة على أمرها فشبههم بسمك تركه الجَزْر على الأرض اليابسة يفتح فاه ويطبقه لعدم إمكان بقائه حيًّا في غير العنصر الذي يعيش فيه [3] . وصاح: (ما أبرك الوقت وأسعد الفرصة السانحة لتلقين هؤلاء المسلمين حقائق يسوع المسيح!) . ثم نصح لجميع البعثات المسيحية بتوحيد مساعيها في العمل لتكون كوحدات جيش واحد يهاجم الإسلام متبعًا خطة واحدة، وبعد أن دل على مواضع ضعف الإسلام في جنوب آسية والصين وغيرها من الأصْقَاع التي لم يرتق فيها العلم والفهم، حض على العمل فيها ونشر مؤلفات (إيلمنسكي) و (مالوف) و (أو مالوو) و (سايلولوف) و (أوسابلوكوو) و (ماشانوف) على مسلمي القوقاس وعرض برنامجه الذي نختار منه هذه الفقرات: 1- احتلال البعثات الدينية للديار الإسلامية المستقلة والمغلوبة احتلالاً منظمًا، وعملها متحدة عملاً منظمًا. 2- تأسيس مدارس لأبناء مسيحيي الأهالي أو المسلمين الذين انتحلوا الدين المسيحي يتخرجون فيها لخدمة عمل البعثات، وذكر أن من هذه المدارس ما يوجد في الإسكندرية وفي قسطنطينة في الجزائر وفي قازان. 3 - إلقاء محاضرات في أماكن هذه البعثات آنًا بعد آن. 4 - نشر الكتب المؤلفة لتنوير المسلمين الذين لا يعرفون عن الدين المسيحي إلا أمورًا (معكوسة) وكتبًا للعائلات وجرائد، وغير ذلك من وسائل نشر الدعوة. وكتب المجادلة كتلك الكتب (الجليلة) التي ألفها المولوي عماد الدين في الهند. 5 - نشر مثل هذه الكتب على الأهالي المسيحيين ونشر انتقاد لحياة (محمد) وقد كان المؤلفون المسيحيون يستقون بعض أخبار هذه الحياة من الكتب الكاذبة التي يؤلفها المصنفون المسلمون عن حياة نبيهم ... كما أنه تجب ترجمة كتاب (ريجوزي) أو (ريكوزي) أو (ربغوزي) إلى اللغات الأوربية لإظهار فساد معتقدات المسلمين في الله وفي الآخرة.... 6 - إصدار نشرة دورية عامة للبعثات الدينية.... ومن غرائب أفكاره في الموضوع قوله: (إن طريق بغداد الحديدية ستزعزع الإسلام من أساسه) (! ! !) . و (إذا كان الروس يمدون خطًّا حديديًّا من باكو إلى البوسفور فإن ذلك يقضي على الإسلام قضاء مُبْرَمًا (؟ ؟ ؟) . و (إن الدين الإسلامي قائم على السيف، فإذا أصابت هذا السيف فلول، فلن يعود تركي ولا إيراني ولا تتري يؤمن بهذا الدين!) وقد ذكر بعد ذلك تأسيسهم لقاعدة عمل عظيمة الأهمية في بلغارية وهي القاعدة التي يسعى فيها لتنصير مسلمي بلغارية ووقاية المسلمين الذين يعتنقون الدين المسيحي في تركية أو في بلاد إيران من فتك أبناء جنسهم بهم. وهاك نبأ من سيرة (إبراهام إيميرشانيانس، أو إيميرشانيانز) فإن في هذه القصة مواعظ وعبرًا: إبراهام هذا هو ابن قروي أرمني من القوقاز يدعى (ميرزا فاروخ) (أو فروخ؟) كان اختطفه بعض الفارسيين من اللصوص المتاجرين بالرقيق، فوصل إلى سري إيراني يدعى أمير، كان سردار فأوصى ابنته بتربية الطفل كما فعل فرعون مصر مع موسى مع بُعْدِ الشبه بين الطفلين والتربيتين فرُبِّيَ تربية إسلامية، وعُلِّمَ تعليمًا إسلاميًّا إلى أن صار ميرزا (فقيهًا؟) وكاتب سر لسيده الذي كان قائد في جيش بلاده. واستصحب القائد كاتبه فروخ في محاربته للروس فقتل هذا القائد فيها، وفي أثناء عودة فاروخ (أو فروخ) هذا التقى بأقارب له فارتد إلى دينهم وخر

أحوال العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحوال العالم الإسلامي اليمن وتهامة نجد والكويت والريحاني الحجاز الترك لا تزال جزيرة العرب على ما يعلم الناس عنها من شقاق وتقاتل - في اليمن وتهامة - يُغْضِبُ الله والمسلمين وجميع العرب الصادقين، ويُرْضِي الأعداء الطامعين. ولو آثر الإمام والسيد الإدريسي حقن الدماء على سفكها وانصرف كل منهما إلى الأخذ بوسائل العمران في بلاده لكان كل منهما في منطقته أضعاف أضعاف ما يطمع به من توسيع حدوده بالبلاد المتنازَع عليها، وأهم ما يتنازعون عليه وأعظمه شأنًا عندهما (الحديدة) ويمكن أن يتفقا على جعله ثغرًا حرًّا لكل منهما حق مساوٍ لحق الآخر في الانتفاع منه بالتجارة وِرْدًا وصدْرًا على أن يحميه كل منهما بالتعاون مع الآخر ممن يعتدي عليه، وتكون حكومته وطنية مستقلة ينفق عليها من رسوم المكوس فيها. وأما نجد فقد ذكرت الجرائد أن سلطانها منح بعض الشركات الإنكليزية امتيازًا كبير الشأن في منطقة الأحساء بزيت البترول وغيره مما يوجد من المعادن، وما يستلزم ذلك من مد الخطوط الحديدية.... وأشارت إلى ما في هذا الامتياز من الضرر على هذه البلاد والخطر على استقلالها. وقد بلغنا عن أمين أفندي الريحاني الأديب اللبناني المشهور أنه هو الذي أقنع السلطان عبد العزيز بن سعود بمنح هذا الامتياز للإنكليز وأقنع شيخ الكويت بامتياز مثله، وأنه لم يذهب إلى جزيرة العرب إلا بنفقة شركة إنكليزية معروفة؛ لأجل إقناع أمرائها بإعطائها أمثال هذه الامتيازات، فخاب سعيه إلا في نجد والكويت، وكان يظن أن النجاح فيهما أبعد منه في غيرهما، ولا مندوحة لحكوماتهما إذا لم يتفصيا من إمضائه وإنفاذه أن يُعلِّما بعض نابتتها لغة القوم وتاريخهم وقوانينهم والقانون الدولي العام والمعاهدات الدولية؛ ليعرفوا كيف يعاملونهم ويتقون بعض مفاسدهم وغوائلهم، فهم بعد تقييد أنفسهم بإدخال الأجانب في بلادهم لا يستطيعون أن يبقوا بمعزل عن العالم المدني، والطريق وعر، والمركب صعب، وكان الواجب أن تعد لها عدتها، قبل التقحم في مهامه مفازتها. وقد كنت نصحت المرحوم الشيخ مبارك الصباح بأن يُعلم صغار أولاده وأحفاده تعليمًا خاصًّا فأجابني بأنهم لا يحتاجون إلى العلم! ! ! وأنى لذي الجهل المُرَكَّب المطلق أن يشعر بمنفعة العلم؟ ساعد الريحانَّي على نجاح سياحته في جزيرة العرب ما كان له من حظ الحظوة بمصر ولا سيما احتفال أحمد زكي باشا به في جوار الأهرام ذلك الاحتفال الغريب الذي حضره ألوف من الناس، وشغل الصحف المصرية بالنقد والاستحسان. ذهب بعده الريحاني إلى الحجاز، ويقال: إن ملكه قد أوصى به، وكان اطلع على ما كُتب في الجرائد بشأنه، فعني به وأكرم مثواه، وعرض عليه أن يحليه بلقب أمير فاعتذر، فأهداه هدايا منها خنجر ذهبي مما يتقلده شرفاء الحجاز على بطونهم ويسمى (الجنبية) وزوده بكتب توصية إلى إمام اليمن والسيد الإدريسي وأرسل معه قسطنطين أفندي يني وهو سوري من موظفي حكومته بجدة فجعلهما وفدًا له، بلغنا أن الإمام أكرمهما بضيافته ومجالسه ولكن جعل حديثه معهما في المسائل الأدبية والشعر ولم ينالا منه شيئًا مما زاراه لأجله، وكذلك السيد الإدريسي رحمه الله تعالى. وقد كان الريحاني طلب مني توصية كتابية إلى (الحجاز) أمراء الجزيرة، فتنصلت بلطف؛ لأنني كنت مرتابًا في الحامل له على السفر، ورأيت بعض إخواني جازمًا بأنه يقصد خدمة سياسية للإنكليز. *** نحمد الله تعالى أن خابت (المعاهدة العربية البريطانية) التي أمر الملك حسين بجعل يوم إعلانها عيدًا للأمة العربية التي يدَّعِي افتياتًا عليها أنه مِلكُها، وأن جعلنا من المجاهدين في سبيل خيبتها، ودفع ما فيها من الخزي والخطر على بلاد الحرمين الشريفين وعلي ثالثهما وهو المسجد الأقصى، وقد ظهر للعالم كله بطلان دعوى الملك حسين أن المادة الثانية من المعاهدة نص صريح في استقلال فلسطين وسائر البلاد العربية ماعدا (عدنًا) وحدها.... وما كررته جريدته (القبلة) من الكذب والإفك في ذلك، ولا ندري ما يقول أنصاره اليوم؟! فإذا كان قد تعمد خداع العرب عامة والفلسطينيين خاصة ليكفوا عن جهادهم، ويفوضوا إليه وإلى حليفته إنكلترة أمر بلادهم، فكيف يدَّعُون بعد هذا أنه يخدم العرب ويسعى لاستقلالهم؟ (وإن قالوا) : إنه هو قد خُدِعَ بهذه المعاهدة إذ لم يفهم موادها كما خدع قبلها بمقررات النهضة الناطقة بحماية الإنكليز لبلاد العرب كلها، وإن كان هو الواضع لها (قلنا) : أولاً: إذا كان يعقد معاهدات مع أدهى الدول المرة بعد المرة، وهو لا يفهم معناها، فكيف تتخذونه زعيمًا لأمتكم؟ وثانيًا: إذا كان لم يفهم ترجمة المعاهدات بالعربية، فكيف لم يفسرها له بالعامية وكيل خارجيته (فؤاد أفندي الخطيب) ومندوبه لدى الدولة البريطانية (الدكتور ناجي الأصيل) اللذين ترجماها له، بل وافقاه على ما فهمه منها خطأ بزعمكم؟ وثالثًا: إن كانا هما اللذان خدعاه بالترجمة أو بموافقته على سوء فهمه، فلماذا لم يعاقبهما على هذه الخيانة، ولو بطردهما من خدمته؟ بل لماذا أعاد الدكتور إلى لندن لإتمام المساومة في شأنها، وهو لا يزال يرجو إبرامها؟ هذا، وإنه بعد هذا يريد عقد مؤتمر عربي في (معان) بدسيسة بريطانية قد بثت الدعاية لها في البلاد السورية كلها، وبذل من المال ما بذل في سبيلها، وسنشرح ذلك وما يجب من تلافي ضرره في مقال آخر. وقد كان من سوء سياسة الرجل ومقت العالم الإسلامي له أن أبطأ مسلمو الهند فيما قرروه من مساعدة جزيرة العرب على الاستقلال، فهو العقبة في طريقها، وإن بثت الدعوة في الهند وأفريقية الواقعة تحت السيطرة الفرنسية إلى مقاطعة الحجاز بترك أداء فريضة الحج ما دام هذا الرجل مسيطرًا عليه. ولا شك في أن هذا يسر حليفتيه البريطانية والفرنسية، وإن لم يشعر أولئك المسلمون في الشرق والغرب بذلك، فنحن ننكر عليهم ترك الحج الذي هو ركن الإسلام الاجتماعي العام، ونجزم بأنه نكبة وجريمة دينية سياسية اجتماعية، وأن لديهم أسهل الطرق لإنقاذ الحجاز مما جناه عليه هذا الرجل، وهو تعضيد الجمعية التي وضعت لحياده واستقلاله وحفظه من كل نفوذ غير إسلامي، وسنعلن ذلك إن شاء الله تعالى في الشهر الآتي. *** (الترك) ثم نحمد الله تعالى أن تم للترك الاستقلال المطلق بمعاهدة الصلح الأخيرة، وقد جرّأهم ذلك على التصريح بما كانوا يكتمونه من جعل حكومتهم جمهورية، وهو ما سبقنا إلى التصريح به في العام الماضي عقب اطلاعنا على التشكيلات الأساسية للجمعية الوطنية، وقد ألغيت الأحكام العسكرية فظهرت المعارضة للحكومة الكمالية في مسألة الخلافة الاسمية، ومسألة أسرة السلاطين العثمانية، التي هضمت حقوقها بحرمانها من مساواة الأمة في المناصب والوظائف، وفي النيابة عن الأمة، ومسألة جعل الغازي مصطفى كمال باشا رئيسًا للجمهورية ورئيسًا للجمعية الوطنية ورئيسًا للحكومة التنفيذية ورئيسًا لحزب الشعب الذي ألفه لأجل حصر السلطة كلها فيه، فنزل عن بعض هذه الرياسات في الظاهر الرسمي وجعلها لأقرب أعضاء حزبه منه، ولو أنه أنجز ما كان وعد به من اعتزال الحكومة بعد نيل الاستقلال كما فعل واشنطون محرر مملكة الولايات المتحدة في أمريكة - لأجمعت الأمم على تمجيده مع الشعب التركي ولكانت رياسته أتم، ونفعه لقومه أعظم، ولكنه قد استهدف الآن لمقاومات كثيرة، فاتُّهِمَ بأنه يسعى لجعل نفسه حاكمًا عسكريًّا مطلق التصرف من وراء ستار الجمهورية كما جرى في البلاد الأسبانية، أو ما هو قريب منه كما جرى في الدولة الإيطالية، واكتشفت مكيدة لاغتياله، وانطلقت الألسنة والأقلام بالخوض في شخصه وعمله. وظهرت في البلاد التركية - ولا سيما أنقرة - دعوة الغلو في التفرنج بجعل الحكومة غير دينية كالجمهورية الفرنسية، وبإطلاقها للنساء والرجال حرية الإباحة كغِشْيَان التركيات للمراقص، ورقصهن متهتكات مع الأجانب والأقارب، وتمثيلهن أنواع القصص في المسارح، والدعوة إلى تعديل قانون المسكرات وغير ذلك. وقد نشر في الجرائد أن الحكومة الجمهورية ألغت المحاكم الشرعية ألبتة، ويقال: إنها منعت تعليم الدين في مدارس الحكومة أيضًا، وعادت دعوة العصبية الجنسية، والغلو في التفرنج المنافي للإسلام إلى ما كانت عليه بالصراحة التامة. وظهر أن الحكومة الكمالية كالحكومة الاتحادية التي كانت قبلها، وأنها لا تخالفها إلا في شكلها، على أن أكثر الكماليين من الاتحاديين، وقد ظهر أن من لم ينتظم في السلك الكمالي من بقايا رجالاتهم أحرص على المحافظة على منصب الخلافة فيهم. ونسأل الله تعالى أن يقي هذا الشعب الإسلامي شر الغرور بالمدنية المادية وشر الشقاق، فالذي يهمنا أن يبقى حصنًا من حصون الإسلام في المشرق، وإنما يكون ذلك بنجاح حزب الإصلاح الإسلامي.

خاتمة المجلد الرابع والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الرابع والعشرين بسم الله وبحمده نختتم هذا المجلد من المنار كما افتتحناه به، ونحمده أننا لم ندخر وسعًا في القيام بما قدرنا عليه من خدمة الملة والأمة، على قصر الساعد، وقلة المساعد، ولَيِّ المشتركين، وتجهم السنين، ومن العجيب أن يشكو الماطلون منه تأخير بعض الأجزاء عن موعد صدورها من أول الشهر، وينسون تأخيرهم لقيمة الاشتراك عن موعدها أول العام، دع من يسوفون بها عامًا بعد عام، وهم يعلمون أن الاشتراك في الصحف المنتشرة عبارة عن التعاون بين من يتولى أمر تحريرها وطبعها ونشرها وبين قرائها على خدمة الأمة بها، وجعله الفقهاء من قبيل ما يسمونه الاستصناع، وهو بذل قدر معين من النقد لمن يقوم بعمل شيء معين للباذل، والمراد من هذا وذاك أن الجريدة أو المجلة ينفق على إيجادها من أموالهم فكيف يطلبون وجود المسبب قبل وجود السبب، وهو في أيديهم. إن تأخير بعض أجزاء المجلات لا يحول دون الاستفادة منها ولا ينقص منه؛ إذ ليست كالجرائد التي يراد منها الإعلام بالجوائب (الأخبار الطارئة) في إبان طرقها، فيفوت ذلك بتأخير صدورها، أو يستغنى بالسابق على المسبوق منها، على أن تأخيرنا إصدار بعض أجزاء هذا المجلد لم يمنع من صدور جميع أجزائها في عامها، فقد صدر الجزء الأول من هذا المجلد في شهر جمادى الأولى من عام 1341 وتم الجزء العاشر الذي هو الخاتمة في ربيع الأول سنة 1342 وأخرَنا نشره إلى ربيع الآخر الذي بعده، وسيصدر الجزء الأول من المجلد الخامس والعشرين في مثل موعد الأول مما قبله فيكون الفرق بيننا وبين أشهر مجلاتنا العربية أننا جعلنا شهري الاستراحة مُفَرَّقًا على أشهر السنة، وهي تجعلهما شهرين متتابعين. وقد اضطرنا التوسع في مسائل الخلافة والحجاز والهند في هذا المجلد إلى تأجيل بعض المباحث التي كنا شرعنا فيها ومقالات أخرى لدينا، وتأجيل انتقاد على المنار، وحقوق أدبية عليه لمن أهدوا بعض مطبوعاتهم إليه، وسنعود إلى ذلك كله في المجلد الآتي، إن شاء الله تعالى. وعسى أن يحاسب الهاضمون لحق المنار أنفسهم، وينتصفوا منها لمن انقطع به إلى خدمة ملتهم وأمتهم، وكذا بالاشتراك في بضع جماعات دينية وعلمية ولغوية واجتماعية وسياسية، لم تترك له ساعة من نهار للنظر في شيء من مصالحه الشخصية والمنزلية. ونسأله تعالى أن يوفق كلاًّ منا لإتقان العمل الذي خلق له، والحمد لله أولاً وآخرًا.

فاتحة المجلد الخامس والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الخامس والعشرين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد القهار، العزيز الجبار، الرحيم الغفار، مقدر الآجال والأعمار، {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} (الرعد: 8) ، المحيط علمه بالجهات والأقطار، النافذة مشيئته في البراري والبحار، البارزة حكمته في القرى والأمصار، المطَّردة سنته في الأبرار والفجار، الفائضة نعمته على المؤمنين والكفار {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (إبراهيم: 34) . والصلاة والسلام على المصلح الأعظم، والرسول الأعز الأكرم، سيد العرب والعجم، محمد النبي الأمي معلم الكتاب والحكم، المبعوث رحمة لجميع الأمم، وعلى آله الأطهار، وأصحابه المصطفين الأخيار، وعلى من اتبع هديهم من المقربين والأبرار، وإنما الخزي والخسار، واللعنة وعذاب النار، على زمر الأشرار، الذين آثروا الشهوات الحيوانية، والعصبيات الجنسية والوطنية، على هذه الهداية الإلهية، المكملة للفطرة الإنسانية، والموحدة لسلائل الأسرة الآدمية، غرورًا باللذات المادية، وجهلاً بالحياة الروحية {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 27 - 28) . أما بعد فإنَّ المنار قد أوفى بفضل الله ونعمته على الخامسة والعشرين، فإن كان ما توفاها في عدد المجلدات؛ فقد زاد عليها في عدد السنين، وكان حق هذه السنة أن تكون السابعة والعشرين، لولا ما كان من إدغام بعض السنين في بعض، بما كان من لأواء الحرب، وما تلا سنيها الأربع، فكان ألذع وأوجع، ناهيك بما أعقبته من فساد الأخلاق، وضيق الأرزاق، والإعراض عن العلم والأدب، ورواج اللهو واللعب، وكساد المجلات والكتب، على ما سبق ذلك من جور السلطان، وكلب الزمان، وعدم الأعوان، وضعف الوفاء، والتهاون في الاقتضاء على قلة المال، وكثرة العيال. هذا وإنَّ الخامسة والعشرين هي السن التي تكمل بها بنية الإنسان، وتتم قوى الأبدان، ولكن لم يكد يبلغ المنار سن الشباب، إلا وكان منشئه قد شاخ وشاب، ونحمد الله أن كان وقع الشوائب الذي شيب الرأس، لم يشيب العزم والبأس، ولم يشُب الهمة بشائبة من اليأس، على أن أسبابه من جهة الناس أكثر، وبما يوسوس به الخناس أكبر، وإنما الإيمان واليأس ضدان لا يجتمعان، والتجارب والوهن خصمان لا يتفقان، فقد ثبت المنار على دعوته، التي وضعناها له في أول نشأته، فكلما وسوس إليَّ شيطان اليأس: ألم تر إلى سوء حال المسلمين، وتسللهم أفرادًا وجماعاتٍ من هداية الدين، وجمود علمائهم، وخمود زعمائهم، وفساد أمرائهم، وشح أغنيائهم، وضعف صلحائهم، وغباوة دهمائهم، وموت هممهم، وتفرق جماعاتهم، وتعدد جنسياتهم، وعدم الرجاء في صلاح أمرهم، وشد أزرهم , صاحت به آياتُ القرآن، وما يشهد لها من عبر الزمان، وتكاثر الإخوان، فنكص على عقبيه، وخنس يضرب أصدريه، ما اعتنَّ لي يأس يناجي همتي ... إلا تحداه رجاء فاكتمي وقد تذكرت الآن أن أجعل ذكرى الإصلاح في هذه الفاتحة شيئًا من شعري في أوائل عهد الرشد، وشعوري عند الاستواء وبلوغ الأشد، وأحمد الله تعالى أنني شببتُ على حب الإصلاح والتفكر فيه، وشِبْتُ على الدعوة إلى مناهجه ومناحيه، وذلك قولي في (المقصورة الرشيدية) التي عارضت بها (المقصورة الدريدية) : كم ليلة أبيتها مفكرًا ... يفي ليَ السهد ويُخلف الكرى أطوي جناحيَّ على جمر اللظى ... أرضك [1] عينيَّ على الماء الرِّوى خلتهما ركيَّتين [2] كلما ... نزحت هذا الماء فاض وطغى وكل جفن ماتحًا فكلما أهوى بشبه الغمض يملأ الدلا [3] تلك ليالٍ خنت عهد الصبر في ... حِندسها وكنت أوفى من وفى إذ خانني العزم الذي بلوته ... في مبهم الخطب فما قط نبا لو أنما أبكي لمحبوب جفا ... أو مالٍ اغتيل وذي قربى قضى وأعوز الصبر فقيل جازع ... أشبه ربات الحجال في البكا لراعني القول بصدقه وقد يقصد من يصدق إن قيل رمى [4] لكنما أبكي لمجد أمة ... ثلت عروشه [5] وحُلَّت العرى ووطن ذل فأمسى حوضه ... (مد عثر الأعضاد مهدوم الحبى) [6] وملة حكيمة رحيمة ... قد تركت للجهل كالشيء اللقى [7] وقال فيها الأخسرون إنها علة هذا الانحطاط والشقا فكيف كانت علة السعادة الـ ... ـتي مضت لنا وذاك الارتقا (بها) أصبنا الملك والحكمة والـ ... ـعلم (بها) فما عدا مما بدا [8] ألم توحد أممًا تفرقت واختلفت في الاعتقاد واللغى فكيف عدتم وأنتم أخوة ... لما تركتم هديها من العدى أما بدت في أمة أمية ... فجعلتهمو ... أئمة الورى في كل علم للعقول يقتنى ... وعمل في الكائنات يقتفى فكيف صرتم بترك هديها ... أجهل مَنْ دَبَّ عليها ومشى ألم يكن أسلافكم بعدلها ... قد فتحوا الأمصار قبل والقرى وعمروها فغدت بفضلهم ... تفضل في الوجود كل ما عدا [9] زراعة صناعة تجارة ... علما وحكمة وعدلاً وعُلى فلم أضعتم جُلَّ ما تَأثَّلوا ... وأصبح الباقي لكم على شفا شريعة القرآن دانٍ وِردُها الـ ... ـعذب وتهلِكون من فرط الصدى فإن أباها الحاكمون عن عمى ... وصد عنها الجامدون عن هوى فربما أيدها على هدى ... كل صحيح الفكر من أولي النهى وإنْ يكن قد عقها أبناؤها ... وعاد مَنْ كان صديقًا في العدى فارجعْ إلى تاريخ خيرِ أمةٍ ... قد أُخرجتْ للناسِ وابعث الأسُى يريك عصر الراشدين المثل ال ... أعلى لِكُنْهِ العدل زانه الهدى والمجد والزينة والقوة في الد ... ين جوى قصرُ الرشيد ووعى وجنة الزهراء [10] في أندلس ... حيث الإمام الحكم العدل ثوى والجمع ما بين علوم النقل والـ ... ـعقل إلى المأمون عهده انتهى أحيا ببغداد فنونًا درست ... إذْ كان عمران ذويها قد عفا والجامعُ الأعظم في قرطبةٍ ... جامعة العلوم في ذاك الرجا [11] أفاض نور شمسها فى أفق ... طال عليه ليل جهل قد غسا [12] كان يعادي الدين فيه العلم بل ... يسوم أهله العذاب والأذى فكم عليم صَلِيَ النار وكم ... متهم بالعلم تفريه المدى [13] واذكر على ذكر العلوم تونسًا ... ومصر والشام (وسُرَّ مَنْ رَأَى) [14] وكل قطر ساسه خلائف الْـ ... ـعُرْب بما أوحاه شرع المصطفى هم الذين عَمرُوا الأرض وبالـ ... عدل مع الرحمة قد ساسوا الورى فعالَم الشمال منهم قبس النـ ... ور وعنهمُ العلوم قد روى وسار كلُّ فاتحٍ مُستعمرٍ ... وراءهم فلم يقف دون المدى ولو أقاموه [15] ولم يبتدعوا ... لدام ملكهم وأصلح الدُّنى ولسرعان ما أمية أبتْ ... إمامةَ الرشد فأنزت من نزا [16] وجعلوها دولة موروثة ... وعرضة لغصب أرباب القوى فعاث فيها العجم مُذْ تفرقت ... فيها قريش فغدت أيدي سبا [17] وانقطع النظام جامعًا بهم ... فانتثر العقد وشقت العصا فبعث الله على بلادهم ... من استذل واستباح ولحا [18] الترك والتتار في الشرق وفي ... أندلس أبيد من ثم ثوى [19] وصدق الرسول في إنذارهم ... وإن تمارى فيه قوم وامترى واعتز بالإسلام بَعْدُ من عثا ... فورث الأرض به إذ اعتزى وامتد ملك ... آل عثمان به ... ثم تزوى آرزا حيث أتى [20] ألا ترى أوطانهم تنقص من أطرافها ألا ترى ألا ترى ما السأُوُ إلا برجاله فإِنْ ... عزوا وإلا ساء حالاً وكصا [21] فكيف حال وطن أبناؤه ... ما فتؤوا أعق من ضب الكدى [22] قد عضد العاضد منهم دوحه ... وخضد الشوكة والعود التحى [23] وغادر الأرض به موظوبة ... وغمره الفرات ضحضاحًا جَوَى [24] وُلِّيَ أمرَهُ إمامٌ جائرٌ ... قد استبد بالأمور واعتدى [25] إذ استخف قومه فأصبحوا ... أطوعَ من ظل الحذاء يحتذى يليه في الظلم ولاة أبصروا ... بروقه ترجى لِرَيٍّ وَحَيَا وسمعوا رعوده تنذر من ... خالف أمره صواعق الردى فآثروا ما عنده حتى على الأ ... وطان والرحمن جلا وعلا وجعلوا مال العباد دولة ... فذالت الدولة منهم للعدى من نال منهم حاجة لكرشه ... وفرشه قال على الدنيا العفا يريك عزة الأمين فإذا ... لاح له المال استكان وضغا [26] والوطن الذي امتروا أخلافه ... أوشك أن يقضي وربما قضى [27] وكيف لا يُسحته الله وهم ... السُّحت أكَّالُون فيه والرُّشا [28] قد بشمت بطونهم فأصبحوا ... يشكون سوء الهضم منها والطَّسى [29] ومشبعوها يشتكون سغبًا ... قد أكلوا العلهز من طول الطوى [30] فأصبحوا في شظف وضعة ... ألانت القنا وأضوت البنى [31] وعالم مبتدع منافق ... لقد أضل قومه وما هدى لا يأمر الحكام بالعرف ولا ... ينهى عن المنكر فيهم فشا وليس يوصي الناس بالحق ولا الصبر ... سوى على المكوس والأذى ومرشد غير رشيد دأبه ... عزو الخرافات لأرباب الولا والرجم بالغيوب مسندًا إلى ... أضغاث أحلامٍ ومكذوب رؤى أولئكم سادتنا الذين قد ... أضلوا السبيل كل من قفا فنسأله تعالى أن ينقذ هذه الأمة من إغواء هؤلاء الرؤساء الضالين، ويعيد إليها سلطانها بعز الدنيا وهداية الدين، ويجعلنا فيها من الهداة المهتدين، آمين. ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الحسيني الحسني

تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تجنس المسلم بجنسية تنافي الإسلام (س 1) من الحزب الوطني التونسي ما قول حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ رشيد رضا أيده الله في حكومة فرنسا المتسلطة على كثير من الشعوب الإسلامية؛ إذ عمدت أخيرًا إلى وضع قانون يعرف بقانون التجنس، الغرض منه حمل سكان تلك البلاد من المسلمين على الخروج من ملتهم , وتكثير سواد أشياعها , وقد جعلت هذا التجنس شرطًا في نيل الحقوق السياسية التي كانت لهم من قبل , وسلبتها منهم على وجه الاستبداد الجائر , مع أن اتباع المسلم لهذه الملة؛ يجعله ينكر بالفعل ما هو معلوم من الدين بالضرورة ولا تتناوله الأحكام الشرعية , بل يصير تابعًا لقوانين وضعية , نصوصها صريحة في إباحة الزنا وتعاطي الخمور , وارتكاب الفجور , وتحليل الربا , والاكتساب من الطرق غير المشروعة , ومنع تعدد الزوجات، واعتبار ما زاد عن الواحدة من قبيل الزنا المعاقب عليه , وإنكار نسب ما ولد له من غيرها حالة وجودها , ولا حق له في نفقة ولا إرث ولو على فرض الاستلحاق , وفك العصمة من الزوج , وإسنادها إلى المحكمة , حتى إذا أوقع الطلاق بنفسه كان لغوًا , وقسمة المواريث على طريقة مخالفة للفرائض الشرعية وجعل أنصبائها على حد سواء بين الإناث والذكور. وأشد بلاءً من هذا كله جعل المسلم مجبورًا على الخدمة العسكرية في جيش عدُوٍّ معد لقتال المسلمين , وإذلالهم وإكراههم على الخضوع، والإلقاء بأنفسهم في قبضة من لا يرقب فيهم ذمةً ولا يحفظ معهم عهدًا. فهل يعد إقدام تلك الحكومة على أمر كهذا نكثًا للمعاهدة الموضوعة على أولئك المسلمين , وفتنة لهم في دينهم وإخلالاً بنظام اجتماعهم؟ وهل يكون أولئك المسلمون إذا قبلوا هذا التجنس مرتدين عن دينهم , فلا نعاملهم معاملة المسلمين من مثل: المناكحة , والتوارث , وأكل ذبائحهم , ودفن أمواتهم في مقابر المسلمين؛ لأنهم رضوا بالانسلاخ عن أحكام الشريعة , ولا مكره لهم على ذلك؟ أم كيف الحال؟ وهل يجوز لمسلم يدرك عواقب هذه الفتنة العمياء , وغوائل السكوت عنها أن يترك الإنكار عليها , والحال أنه آمن على نفسه , وقادر على مقاومتها , وإظهار النكير عليها؟ أفتونا في هذه الواقعة بما يقتضيه النظر الشرعي إرشادًا للحائرين، وتنبيهًا للغافلين، أبقاكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين. الجواب: إذا كانت الحال كما ذكر في السؤال، فلا خلاف بين المسلمين في أن قبول هذه الجنسية ردةٌ صريحةٌ , وخروج من الملة الإسلامية، حتى إن الاستفتاءَ فيها يعد غريبًا في مثل البلاد التونسية , التي يظن أن عوامها لا يجهلون حكم ما في السؤال من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة , ولعل المراد من الاستفتاء إعلام الجمهور معنى هذه الجنسية , وما تشتمل عليه من الأمور المذكورة المنافية للإسلام نفسه , لا للسياسة الإسلامية التونسية التي بدئ السؤال بذكر غوائلها فقط , كقوله: إن هذه الملةَ (يعني الجنسية التي هي بمعنى الملة في الأحكام المخالفة للشريعة الإسلامية) تحمل صاحبها على إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة. على أنه قال: إنه ينكر ذلك بالفعل. ولعله أراد بهذا القيد الاحتراس عن الاعتقاد , وجعل هذا هو المراد من الاستفتاء لما هو مشهور بين أهل السنة من أن المعاصي العملية لا تخرج صاحبها من الملة إذا لم يجحد تحريمها أو يستحلها، وإن كانت مجمعًا عليها معلومة من الدين بالضرورة. وهذه المسألة أهم عندنا من كل ما رتبه السائل على هذه الجنسية من الغوائل كنكث الدولة الفرنسية للمعاهدة التونسية, فإن المعاهداتِ في هذا العصر حجة القوي على الضعيف كما قال البرنس بسمارك، فهو يأخذ بها من الضعيف أضعاف ما جعله لنفسه من الحقوق , ولا يعطيه مما التزمه له إلا ما يريد هو , ويوافق مصلحته كما قلنا للسيد فيصل ابن السيد حسين الحجازي عندما أراد إقناعنا بقبول الوصاية الفرنسية على سورية بمقتضى معاهدة وشروط … وقد بلغنا أن بعض المتفقهة أبى الإفتاء بِرِدَّةِ من يقبل مثل هذه الجنسية , ويرتكب ما يترتب عليها من ترك أحكام الشريعة المشار إليها في السؤال بناءً على قول بعض الأئمة: لا نكفر مسلمًا بذنب. ونظمه اللقاني في جوهرة التوحيد (فلا نكفر مسلمًا بالوزر) مع الغفلة عن قوله فيها الذي نظم به قاعدة الردة العامة: ومن لمعلوم ضرورة جحد ... من ديننا يقتل كفرًا ليس حد فإن هذه القاعدةَ وقع فيها اللبس والاشتباه حتى بين المشتغلين بالعلم، وفي أحد فروعها وهو استحلال الحرام، فإنه إذا كان من المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة كان ردة عن الإسلام بلا خلاف، ولكن بعض المشتغلين بقشور العلم , والمجادلين في ألفاظ الكتب من يظنون أن الجحد والاستحلال من أعمال القلب، فجاحد الصلاة ومستحل شرب الخمر والزنا عندهم هو من يعتقد أن وجوب الصلاة, وتحريم الخمر والزنا ليسا من دين الإسلام، فلا الصلاة فريضة ولا الزنا حرام. وفي هذا الظن من التناقض والتهافت ما هو صريح، فإِنَّ فرضَ المسألةِ أن الذي يستحل مخالفة ما يعلم أنه من الدين علمًا ضروريًّا , غير قابل للتأويل سواء كان فعلاً أو تركًا فإنه يكون به مرتدًّا عن الإسلام، والعلم الاعتقاد القطعي فكيف يفسر الاستحلال بعدم الاعتقاد , وهو جمع بين النقيضين؛ أعني اعتقادَ أنه من الدين , وعدم اعتقاد أنه من الدين؟ وقد سبق لنا تحقيق هذه المسألة في بابي التفسير والفتاوى من المنار، ونقول الآن بإيجاز واختصار: إن حقيقة الجحد هو إنكار الحق بالفعل، واشترط أن يكون المنكر معتقدًا له بالقلب. قال الزمخشري في الأساس: جحده حقه وبحقه جحدًا وجحودًا. وقال الراغب في مفردات القرآن: الجحود نفي ما في القلب إثباته، وإثبات ما في القلب نفيه، يقال: جحد جحودًا وجحدًا قال عز وجل:] وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ (النمل: 14) اهـ. وحسبنا الآية نصًّا في الموضوع وسنذكر غيرها أيضًا. وكذلك الاستحلال والاستباحة: أَنْ يفعل الشيء فعل الحلال والمباح؛ أي: بغير تحرج ولا مبالاة، وهو يعتقد أنه حرام شرعًا , ولو لم يكن مجمعًا عليه , فإنْ كان المستحل متأولاً لنص أوقاعدة شرعية اعتقد بها أنه حلال شرعًا , لم يحكم بردته، وإلا كان مرتدًّا، ويصدق في ادعائه الجهل بحرمته إلا إذا كان مجمعًا عليه معلومًا من الدين بالضرورة. والوجه في ذلك أن الإسلام هو الإذعان بالفعل لما علم أنه من دين الله في جملته وهو الإيمان؛ إذ الاعتقاد القلبي وحده لا يكون به المعتقد مسلمًا , ولا يكون الاعتقاد إيمانًا حتى يكون نازعًا، ولهذا قالوا بترادف الإيمان والإسلام فيما يصدقان عليه وإن اختلفا في المفهوم , ورد بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) . وأما الذنب الذي لا يخرج به فاعله من الملة، فهو مفروض في المسلم، وهو المذعن لدين الله وشرعه كله بالفعل إذا عمل سوءًا بجهالة من سورة غضب أو ثورة شهوة، وهو لابد أن يحمله الإيمان على الندم والتوبة، ولا يدخل فيه غير المذعن للأمر والنهي، كالمستحل لجملة المعاصي بالفعل، بحيث يترك ما يترك منها لعدم الداعية , قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء: 17-18) . ومن تفسير الفقهاء لمسألة استحلال المحرم بالمعنى الذي وضحناه ما أورده الفقيه ابن حجر في كتابه (الإعلام بقواطع الإسلام) قال: ومن ذلك أن يستحل محرمًا بالإجماع كالخمر واللواط ولو في مملوكه - وإن كان أبو حنيفة لا يرى الحد به؛ لأن مأخذ الحرمة عنده غير مأخذ الحد - أو يحرم حلالاً بالإجماع كالنكاح , أو ينفي وجوب مجمع على وجوبه كركعة من الصلوات الخمس، أو يعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع , كصلاة سادسة يعتقد فرضيتها كفرضية الخمس؛ ليخرج وجوب معتقد الوتر ونحوه كصوم شوال , هذا ما ذكره الرافعي. وزاد النووي في الروضة: أن الصواب تقييده بما إذا جحد مجمعًا عليه يعلم من دين الإسلام ضرورة سواء كان فيه نص أم لا، بخلاف ما لا يعلم كذلك بأن لم يعرفه كل أحد من المسلمين فإن جحده لا يكون كُفرًا اهـ؛ وما زاده ظاهر، وخرج بالمجمع عليه الضروري المجمع عليه غير الضروي كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب , وتحريم نكاح المتعة؛ فلا يكفر جاحدهما كما بينته في شرح الإرشاد، ومع بيان أنه هل الكلام في جاحدهما جهلاً أو عنادًا , ومع بيان رد قول البلقيني: إن تحريم نكاح المتعة معلوم من الدين بالضرورة , وأنه قيد استحلال الدماء والأموال , بما لم ينشأ عن تأويل ظني البطلان كتأويل البغاة، وللضروري أمثلة كثيرة استوعبتها في الفتاوى , ومن ذلك أيضا ما لو أجمع أهل عصر على حادثة فإنكارها لا يكون كفرًا. ومحل هذا كله في غير من قرب عهده بالإسلام , أو نشأ ببادية بعيدة، وإِلا عُرِّف الصواب فإن أنكر بعد ذلك كفر فيما يظهر؛ لأن إنكاره حينئذ فيه تضليل للأمة. وسيأتي عن الروضة عن القاضي عياض أن كل ما كان فيه تضليل الأمة يكون كفرًا , ثم ما ذكره الشيخان كالأصحاب في استحلال الخمر استبعده الإمام بأنا لا نكفر من رد أصل الإجماع، ثم أول ما ذكروه بما إذا صدق المجمعين على أن التحريم ثابت في الشرع ثم حلله فإنه يكون ردًّا للشرع. قال الرافعي: وهذا إن صح فليجر مثله في سائر ما حصل الإجماع على افتراضه أو تحريمه فنفاه، وأجاب عنه أبو القاسم الزنجاني بأن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة ما علم تحريمه من الدين ضرورة) اهـ ما أردت نقله من الإعلام. فقول الزنجاني: (إن ملحظ التكفير ليس مخالفة الإجماع بل استباحة ما علم تحريمه من الدين ضرورة) معناه استباحته بالعمل , بأن يفعله كما يفعل المباح بغير تأثم ولا مبالاة ولا توبة , وقول الإمام (أي: إمام الحرمين) قبله: إن المراد من الاستحلال للمجمع على تحريمه مبني على تصديق المجمعين , على أن التحريم ثابت في الشرع وتعليله إياه بأنه يكون ردًّا للشرع، فهو صريح في أن المراد برده عدم الإذعان بالفعل لا عدم الاعتقاد؛ إذ الاعتقاد التصديق وهو مصدق بأنه من الشرع , وإلا سقطت المسألة من أصلها. وإنما اشترطوا فيها الإجماع وكونها معلومة من الدين بالضرورة لإسقاط عذر الجهل - ولذلك استثنوا قريب العهد بالإسلام ومن نشأ بعيدًا عن المسلمين - وعذر احتمال التأول، وهم لا يختلفون في كون رد أي مسألة من الشرع , يعتقد رادها أنها منه، كرد المجمع عليه المعلوم بالضرورة عند جماعة المسلمين؛ إذ مدار الردة في هذا المقام على رد الشرع , وعدم الإذعان له؛ أي: عدم التلبس بالإسلام. فالقاعدة الأساسية في هذه المسألة أن الإسلام الذي تجري على صاحبه أحكام المسلمين هو الإذعان والخضوع بالفعل لكل ما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء به عن الله تعالى من أمر الدين، وأن رد بعضه كرده كله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ا

خطاب عام فيما يجب على المسلمين لبيت الله الحرام ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب عام فيما يجب على المسلمين لبيت الله الحرام بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 96-97) , {جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ} (المائدة: 97) , {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) , {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) . أخبر الله تعالى عباده في آخر كتاب أنزله وكفل حفظه ـ وهو القرآن ـ على لسان آخر نبي أرسله وأكمل به دينه العام، وهو محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، أن هذا المعبد المعروف بمكة أم القرى من بلاد العرب باسم الكعبة، والبيت الحرام، والمسجد الحرام، هو أول بيت وضعه تعالى للناس كافة، وجعله قيامًا، ومثابةً، وأمنًا، ومسجدًا، للناس كافة، سواء العاكف فيه من المقيمين حوله، والبادي ممن يؤمونه من مؤمني سائر الأقطار لعبادة الله وحده، فمن دخله كان آمنًا بتأمين الله تعالى على نفسه وماله وعرضه وشرفه، وحريته في قوله وفعله، لا مسيطر عليه غير دين الله وشرعه - وجعل حجه ركنًا من أركان الإسلام، وجعل الصد عنه وعن سبيله من شأن الكفار، وجعل إرادة الظلم والإلحاد إليه فيه، كاقتراف الظلم في غيره، وجعل السيئات فيه مضاعفة العقاب، كما جعل الحسنات مضاعفة الثواب، بل حرم سبحانه على لسان إبراهيم خليله ومحمد خاتم رسله (عليهما الصلاة والسلام وعلى آلهما) الاعتداء في ذلك الحرم المحيط ببيته على كل ذي حياة حيوانية أو نباتية، فلا يُعْضَد شجره ولا يُخْتَلى خلاه [1] ولا يحل فيه الصيد ولا ترويع الحيوان، ولا يقتل فيه إلا الفواسق الضارة التي تقتل في الحل، والحرم كالحيات والعقارب والفيران. وقد صح في الأحاديث النبوية أنه يحرم من المدينة مثل ما يحرم من مكة، وأن الإسلام يأرز بين المسجدين ويأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها، أي: ينكمش وينقبض فيه ويعود إليه، وأنه لا يجوز أن يكون هنالك ولا فيما حوله دينان، كما جاء في آخر ما أوصى به عليه الصلاة والسلام. وقد أجمع المسلمون على أن حج هذا البيت مفروض على كل من استطاع إليه سبيلاً، وأن الأمة الإسلامية مطالبة به في جملتها، لا بد أن يؤديه في كل عام بعض المستطيعين من أفرادها، وهو الركن الروحي البدني المالي الاجتماعي السياسي من أركان دينها، فهي مطالبة بإقامة هذا الركن مع كل ما تتوقف عليه إقامته، وكل ما أوجبه الله تعالى من حرمته وتأمينه، وتحقيق مقاصد الدين من ذلك. ولا نطيل في تفصيل هذا، فهو مما لا يجهله مسلم في جملته، وإنما أتينا بهذه المقدمة تمهيدًا لما نذكر بعدها من الخطر الحديث على هذا الركن الإسلامي , وعلى حرم الله وحرم رسوله، وعلى كل ما شرع الله تعالى هنالك من عبادة ونسك وإجلال، وتعظيم للشعائر والمشاعر العظام، التي تجدد في قلوب الحجاج والمعتمرين روح الإسلام. ومن المسلمات التي لا نزاع فيها أن ما أوجبه الله تعالى وشرعه لهذه البلاد , وما أوجبه فيها مما أجملنا التذكير به , لا يتم ولا يُضمَن في هذا الزمان إلا بجعل هذه البلاد المقدسة مصونة من التعدي عليها، ومن جعلها عرضة للغزو والقتال ـ ومحفوظة من أي تدخل أو نفوذ لغير المسلمين فيها، ولا سيما الدول الاستعمارية القوية، وبإقامة حكومة شرعية لها تكون قادرة على حفظ الأمن والشرع، وعاجزة عن الاستبداد والظلم، بمراقبة العالم الإسلامي لها، ومساعدته إياها بالرجال والمال على الوجه الذي نقترحه بعد، فسكان الحجاز غير قادرين على ذلك حتمًا؛ لفقرهم وفقدهم المال والعلم اللذين يتوقف عليهما ذلك. أيها المسلمون: إنه لا يخفى على شعب من شعوبكم في مشارق الأرض ومغاربها أن الدولة العثمانية كانت كافلة للحجاز، وممدة لحكومته وأهله بالرجال والمال، وكانت دولة حربية مرهوبة، وذات حقوق دولية مرعية، ومعترف لها بمنصب الخلافة الإسلامية، وهي مع هذا كله لم تؤد لهذا المكان، كل ما يجب له من الأمن والعمران، ولم ترقِّ فيه العلم والعرفان، وإنما كان مصونًا بها من أن يهاجم بحرب أو يمتد إليه نفوذ غير إسلامي، وقد زال بزوالها كل من الأمرين. ذلك بأنها كانت قد نصبت في مكة أميرًا اسمه الشريف (حسين بن علي) وأن هذا الأمير خرج عليها وحاربها في الحرب الأخيرة هو ومن أجاب دعوته إلى قتالها، ووالى الدولة البريطانية وأحلافها، وأذاع بالدعاية العامة أنه يريد بذلك إنقاذ البلاد العربية واستقلالها، وكانت دعواه في نفسها معقولة، ثم تبين أنها غير صحيحة، فقد ظهر أنه استبد بالأمر، واتجر بالأمة وسمى نفسه (ملك البلاد العربية) بغير مبايعة ولا رضا من أهل الحل والعقد في جزيرة العرب وهم الأئمة والأمراء والعلماء في بلادها المستقلة كاليمن وتهامة ونجد، ولا في غيرها بالأولى، بل جعل هؤلاء أعداء له , وهم يحيطون بالحجاز من كل جانب كما نبينه لكم بالوثائق الرسمية، ورفض ما دعاه إليه أهل البصيرة من عقد روابط الحلف , وشد أواخي الإخاء بينهم , ليكونوا كلهم أعوانًا على حفظ الحرمين الشريفين، وسياجهما من جزيرة العرب أن ينالها عدوان أجنبي، أو يتسرب إليها نفوذ غير إسلامي، عملاً بوصية النبي صلى الله عليه وسلم قبيل لقاء ربه في الرفيق الأعلى. إن هذا الرجل لم يقدم على ادعاء التملك على الأمة العربية بأسرها , ويعادي أمراء الجزيرة المقدسة على ما هو عليه من الضعف، ويعقد بانفراده مع الأجانب المعاهدات السياسية والحربية باسم العرب , فيعطيهم من الحقوق السياسية والعسكرية ما شاء حتى في الحرمين الشريفين، ومن رقبة البلاد بالاحتلال ما شاء؛ لم يفعل هذا كله إلا اعتمادًا على قوة هؤلاء الأجانب، فقد تواطأ واتفق معهم على اقتسام السلطان , والنفوذ بينه وبينهم في مهد الإسلام من غير مشاورة أحد من أصحاب الزعامة والسلطان كالأمراء والأئمة، ولا من أهل العلم والرأي في هذه الأمة. فهو بهذا وذاك قد أدخل النفوذ الأجنبي غير الإسلامي في الحجاز، وجعله ملكًا سياسيًّا حربيًّا معرضًا للغزو والقتال، ولم يقف عند حد هاتين الجنايتين الخارجيتين، بل استبد وظلم، وألحد في الحرم، كما نثبت ذلك بالحجج الآتية، ولا غرض لنا إلاَّ بيان الواقع؛ ليعلم أمراء العرب وزعماؤهم. وعلماء المسلمين وكبراؤهم , ما يجب عليهم من تغيير المنكر , ومنع الخطر المنتظر , ولو بإقناع هذا الرجل بما يجب , وإقناع الحكومة الإنكليزية بترك معبد المسلمين الأكبر وقبلتهم لهم , وعدم تصديها لها بحيل المعاهدات وغيرها , ونرى أن هذا خير لنا ولها من ضم العداوة الدينية إلى العداوة السياسية , وهذا ما نريد بيانه من الوثائق وقد سبق نشر بعضها. *** وثائق الجناية الأولى وضع الحجاز تحت النفوذ والسلطان الأجنبي الأولى مقررات النهضة: من المعلوم المشهور أن هذا الرجل يسمي خروجه وثورته التي هي افتيات على العرب والإسلام (بالنهضة) , ومن أعياده الرسمية (عيد النهضة) ومن أوسمته الملكية (وسام النهضة) , ويسمي المواد التي عرضها على الدولة البريطانية والتزمها وقيد نفسه وأمته وبلادها بها بغير حق ولا أهلية (مقررات النهضة) و (أساس النهضة) , وقد كان يكتم هذه المقررات ويضن بها على كل أحد حتى أولاده قواد جيش ثورته - حتى إذا ما فثئت الحرب , وجاء وقت اقتسام الغنائم , ومنها حصته من السلطان على البلاد العربية كلها في ظل الحماية البريطانية، أنكرت عليه حليفته بريطانية العظمى ما يدعيه لنفسه منها - فحينئذ - سمح بإعطاء ولده الأمير (فيصل) صورة (مقررات النهضة) ؛ ليناضل له بها، وقد اقتضت الحال نشره إياها باسمه في جريدة المفيد التي كانت تصدر في دمشق على عهد إمارته لها، ونقلتها عنها صحف كثيرة في مصر والهند وغيرها، وهذا نصها: (1) تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها , وتكون حدودها شرقًا من بحر خليج فارس، ومن الغرب بحر القلزم والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات , ومجتمعة مع الدجلة إلى مصبها في بحر فارس ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود , بأنها تحل في محلها في رعاية وصيانة تلك الحقوق وتلك الاتفاقيات مع أربابها أميرًا كان أو من الأفراد. (2) تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي مداخلة , بأي صورة كانت في داخليتها، وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعد بأي شكل يكون , حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء أو من حسد بعض الأمراء فيه تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنى على دفع ذلك القيام لحين اندفاعه , وهذه المساعدة في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أي: لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية [2] . (3) تكون البصرة تحت إشغال العظمة البريطانية لحينما يتم للحكومة الجديدة المذكورة تشكيلاتها المادية , ويعين من جانب تلك العظمة مبلغ من النقود يراعى فيه حالة احتياج الحكومة العربية , التي هي حكمها قاصرة في حضن بريطانيا , وتلك المبالغ تكون في مقابلة ذلك الإشغال. (4) تتعهد بريطانيا العظمى بالقيام بكل ما تحتاجه ربيبتها الحكومة العربية من الأسلحة ومهماتها والذخائر والنقود مدة الحرب. (5) تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو ما هو مناسب من النقط في تلك المنطقة؛ لتخفيف وطأة الحرب عن البلاد؛ لعدم استعدادها اهـ. فملخص هذه المقررات: أن الدولة الإنكليزية هي صاحبة البلاد العربية , وأنها بما لها من حق التصرف فيها تؤسس لواضعها (أمير مكة) حمايتها في داخلها وخارجها، حتى لو حصل قيام داخلي على ملكها في حرم الله تعالى أو حرم رسوله صلى الله عليه وسلم كان على الإنكليز أن يساعدوه مادة ومعنًى على قمعه، ويدخل في هذا إدخال جيوشها في الحرمين الشريفين؛ لأجل حفظ ملكه فيهما. فما تقولون أيها المسلمون فيمن يعطي هذه الحقوق لدولة غير مسلمة في الحرمين الشريفين وسياجهما؟ هل هو مشروع موافق لتلك الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والوصية المحمدية، والأحكام الإسلامية، التي ذكرناكم بها في مقدمة هذا الخطاب؟ أم هو جناية على الحرمين وسياجهما ومشاعرهما , وعلى الملة الإسلامية والأمة العربية فيجب عليكم السعي لإزالتها؟ إن الدولة البريطانية قد سجلت على هذا الرجل كل ما اعترف لها به من الحقوق على أمته وبلادها في هذه المقررات وغيرها، ولكنها لم تجبه إلى كل ما طلبه لنفسه منها، بل استثنت سورية الشمالية من المملكة العربية

تحديد سن الزواج بتشريع قانوني

الكاتب: محمد أمين الحسيني

_ تحديد سن الزواج بتشريع قانوني صدر في أوائل هذا الشهر قانون مصري , حددت فيه سن الزواج للذكر بثماني عشرة سنةً , وللأنثى بست عشرة سنةً , ومنع فيها سماع القضاة أية دعوى زوجية , تقل فيها سن أحد الزوجين عن هذا الحد مطلقًا؛ أي: وإن كانا بالغين رشيدين. وقد بني هذا التشريع على قول فقهاء الحنفية , بجواز تخصيص القضاء في الزمان والمكان ونوع الأحكام , بفتوى من مفتي الديار المصرية شيخ الجامع الأزهر، فاضطرب القطر المصري بهذا القانون أي اضطراب؛ أنكره جمهور فقهاء الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية , فيما يظهر لنا من كلامهم ومن المقالات التي نشرت في الجرائد، وحسنه وانتصر له الشيخ محمد الخضري بك فرد عليه بعضهم، وقد سألنا كثير من الفضلاء عن رأينا فيه فبينا لهم أهم ما فيه من المفاسد الراجحة، وما قصد به من المصلحة المرجوحة، وكون الحكومة العثمانية قد سبقت الحكومة المصرية إلى مثل هذا التحديد منذ بضع سنين , فوضعته في مشروع قانون سموه (قرار حقوق العائلة في النكاح المدني والطلاق) وصدرت إرادة السلطان محمد رشاد في 8 المحرم سنة 1336 , بأن يعمل به على أن يكلف المجلس العمومي (أي: المبعوثين والأعيان) جعله قانونًا , وذكرت لهم أن ما وضعه العثمانيون خير مما وضعته الحكومة المصرية وأضمن للمصلحة , وأبعد عن المفاسد الكثيرة التي يستلزمها القانون المصري , ومنها ما هو محرم بالنص والإجماع، وذكرت لهم بعض المسائل ,وضربت الأمثال وقد تكرر الاقتراح علي بأن أكتب ما أراه في ذلك , فرأيت أن أبدأ بما وضعته الحكومة العثمانية , وهو ما جاء في اللائحة التي جعلت مقدمة لمشروع القانون المذكور , مبينة الأسباب الموجبة له وهذه ترجمته بالعربية: *** أهلية النكاح (يرى الإمام أبو يوسف والإمام محمد رحمهما الله أن الذكور والإناث إذا وصلوا إلى الخامسة عشرة من سني حياتهم , ولم تظهر عليهم آثار البلوغ يعدون بالغين حكمًا , بناء على الغالب والشائع , وتكون عقودهم معتبرة , وكذلك الإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد رحمهم الله تعالى كلهم رأوا ذلك. وقد بنيت المادتان 986 و 987 من المجلة على قول هؤلاء) . (نعم إن الذين يبلغون الخامسة عشرة من سني حياتهم , يكونون في الأكثر بالغين، وقد يوجد فيهم من هم غير بالغين بالفعل؛ أي: إن قواهم البدنية لم تكمل بعد، فجعل هؤلاء تابعين للأكثرية ومنحهم حقوقًا لا يقدرون على تحملها , يستلزم تحميلهم وظائف وواجبات مقابل تلك الحقوق تؤدي في العاقبة إلى ضررهم. وإذا علمنا أن الشرع الشريف مع إنه اعتبر الخامسة عشرة غاية البلوغ , لم يستعجل في إعطاء الصغير ماله عند بلوغه , بل منعه من التصرف فيه إلى أن تظهر عليه علائم الرشد والسداد؛ نعلم أنه يتأنى في تحميل الصغار حقوقًا ووظائفًا. والنكاح لا يقاس على المال؛ لأنه الرابطة لتكون الأسر التي هي أجزاء الجمعية البشرية. وكلما كانت الأفراد التي تتألف منها الأسرة تقدر حقوق الزوجية حق قدرها , تكون الأسرة التي تتألف منها قوية , ويكون ارتباطها مع الأسر الأخرى صميميًّا ومتينًا، فاعتبار الصغار بالغين حكمًا لمجرد إكمالهم الخامسة عشرة , ومنحهم حق الزواج يستفاد منه أنه لم ينظر إلى النكاح بالعناية اللائقة به. والذي يستدعي مزيد الرحمة في هذه المسألة هو حالة البنات؛ إذ من المعلوم أن الزوج والزوجة هما مشتركان في تأليف الأسر (البيوت) وإدارتها , ففي السن التي يكون الأطفال فيها معذورين بإضاعة أوقاتهم باللعب في الأزقة , تكون البنت في مثلها مشغولة بأداء وظيفة من أثقل الوظائف في نظر الجمعية البشرية , وهي كونها والدة ومدبرة أمور أسرة. وإن صيرورة بنت مسكينة لم يكمل نموها البدني أُمًّا يضعف أعصابها إلى آخر العمر , ويكسبها عللاً مختلفةً , ويكون الولد الذي تلده ضاويًا (ضعيفًا هزيلاً) مغلوبًا للمزاج العصبي , وذلك من جملة أسباب تدلي العنصر الإسلامي. على أن ابن عباس رضي الله عنهما وتابعيه يقولون: إن سن البلوغ هي الثامنة عشرة , كما أن بعض أجلة الفقهاء يذهبون إلى أنها الثانية والعشرون , بل يوجد بينهم من يقول: إنها الخامسة والعشرون , والإمام الأعظم رحمه الله قد اعتمد تمام الثامنة عشرة نهاية لسن البلوغ في الذكور , وتمام السابعة عشرة نهاية لسن البلوغ في الإناث احتياطًا وتبعًا لابن عباس رضي الله عنهما، لذلك قبل قول الإمام المشار إليه هذا في النكاح , ووضعت المادة الرابعة [1] على هذا الأساس؛ منعًا لهذه الأحوال التي هي من أعظم مصائب مملكتنا. (وهذا نصها) : المادة 4- يشترط في أهلية النكاح أن يكون الخاطب في سن الثامنة عشرة فأكثر , والمخطوبة في سن السابعة عشرة فأكثر. وقد قبل قول الإمام محمد رضي الله عنه باشتراط رضاء الولي في نكاح المراهقة , التي تدعى أنها بالغة وتريد أن تزوج نفسها من آخر، وتعليق الإذن لها بالزواج على إجازة الولي، وقوله بإعطاء الحاكم حق النظر في تحمل المراهق والمراهقة , اللذين يريدان التزوج ويدعيان أنهما بالغان , أو عدم تحملهما للزواج، كما قرر ذلك جميع الأئمة رضوان الله عليهم، وبنيت المادتان الخامسة والسادسة على هذا الأساس (وهذا نصهما) : المادة 5 - إذا ادعى المراهق الذي لم يتم الثامنة عشرة من عمره البلوغ فللحاكم أن يأذن له بالزواج إذا كانت هيئته محتملة. المادة 6 - إذا ادعت المراهقة التي لم تتم السابعة عشرة من عمرها البلوغ فللحاكم الشرعي أن يأذن لها بالزواج , إذا كانت هيئتها أيضًا محتملة , ووليها أذن بذلك. *** تزويج الصغير والصغيرة إن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجازوا للولي تزويج الصغير والصغيرة , ولذلك كانت المعاملة حتى الآن جارية على هذا الوجه , لكن تبدل الأحوال في زماننا , قد اقتضى العمل بأصول أخرى في هذا الباب. إن أول وظيفة تترتب على الأبوين في كل زمان , وخاصة هذا الزمان الذي اشتد فيه التنازع في شؤون الحياة هي: تعليمهم , وتربيتهم , وإيصالهم إلى حالة تكفل لهم الظفر في معترك الحياة , وتمكنهم من تأليف أسرة منتظمة , ولكن الآباء عندنا في الغالب يهملون أمر تعليم أولادهم وترببتهم , ويخطبون لهم الزوجات وهم في المهد , بقصد أن يسروا بهم أو يكسبوهم ميراثًا , وفي النتيجة يزوج أولئك التعساء قبل أن يروا شيئًا من الدنيا , وتكون أعراسهم أساس مصائبهم الآتية. إن أكثر البيوت التي يؤلفها أمثال هؤلاء الأولاد , الذين لم يدرسوا في مدرسة ولا تعلموا كلمة واحدة من أمور دينهم , فضلاً عن عدم تعلمهم قراءة لغتهم وكتابتها يحكم عليها بالتفرق من أول شهور الزفاف كالجنين الذي يولد ميتًا. وهذا أحد الأسباب في وهن أساس البيوت عندنا، ولا يعرف مقدار الدعاوى المتولدة من مثل هذه الأنكحة إلا بالنظر في سجلات المحاكم الشرعية والرجوع إلى أبواب الكتب الفقهية , وفصولها المتعلقة بتزويج الأب والجد صغيرهما، وتزويج غير الأب والجد من الأولياء الصغير، وما أعطي للصغير والصغيرة من حق الخيار عند البلوغ إذا كان المزوج غير الأب والجد. على أن ابن شبرمة وأبا بكر الأصم رحمهما الله يقولان بأن الولاية على الصغار مبنية على منافعهم، وفي الأحوال التي لا يحتاج فيها إليها: كقبول التبرعات مثلاً لا يكون لأحد فيها حق الولاية عليهم , وتزويجهم ليس فيه من فائدة لا طبعًا ولا شرعًا نظرًا لعدم احتياجهم إليه , لذلك لا يجوز تزويجهم قبل البلوغ من قبل أحد ألبتة. وقالا: إن النكاح ليس بشيء مؤقت , بل هو عقد يدوم ما دامت الحياة , فإذا جعل النكاح الذي يعقده أولياء الصغار نافذًا عليهم , فإن آثاره وأحكامه تستمر بعد بلوغهم أيضًا , في حين أنه لا يجوز لأحد أن يقوم بعمل يسلب منهم حرية التصرف بعد البلوغ , وحيث إن التجارب المؤلمة المستمرة منذ عصور قد أيدت قول الإمامين المشار إليهما , فقد قبل رأيهما في هذه المسألة , ووضعت المادة السابعة على هذا الوجه (وهذا نصها) : المادة 7 - لا يجوز لأحد أن يزوج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة من عمره , ولا الصغيرة التي لم تتم التاسعة من عمرها. *** تزويج الكبيرة نفسها إن الكبيرة قادرة على تزويج نفسها بناءً على المذهب المختار , وإنما للولي حق الاعتراض في أحوال محدودة. على أن إزالة أمثال تلك العوارض قبل النكاح أولى من فسخه بعد تكوين الأسرة , باعتراض الولي , وأوفق لمصلحة الطرفين , وفي المذهب المالكي أن الكبيرة إذا رفعت أمرها إلى الحاكم تطلب تزويج نفسها من آخر؛ فعليه أن يتعرف حالها من الجيران، وإذا كان وليها موجودًا يأخذ رأيه في ذلك، فإذا رأى أن الاعتراضات التي يوردها الولي غير واردة , يعين وكيلاً لتزويج تلك البنت , وفي الحقيقة أن إخبار الولي واستطلاع رأيه على هذه الصورة يدفع المحذور المذكور، ولذلك استحسن إخبار الولي عند مراجعة الكبير الحاكم لأجل الإذن , ووضعت المادة الثامنة على هذا الأساس (وهذا نصها) : المادة 8- إذا راجعت الكبيرة التي لم تتم السابعة عشرة الحاكم بقصد التزوج بشخص , يخبر الحاكم وليها بذلك , فإذا لم يعترض الولي أو كان اعتراضه غير وارد , يأذن لها بالزواج. (المنار) هذه ما قررته الحكومة العثمانية في المسألة كما تقدم في فاتحة هذا البحث، وورد في الصحف أن حكومة أنقرة التركية عادت إلى البحث في هذا القانون , وأبقت المواد التي ذكرناها على ما كانت عليه. وأما الحكومة المصرية فقد أصدرت ثلاث مواد قانونية , حددت فيها سن الزواج بمثل الباعث الذي بعث الحكومة العثمانية إلى تحديدها , ولكنها زادت على ذلك منع سماع أي دعوى تتعلق بالزوجية , إذا كانت سن الزوجين دون ما حددته إلا بأمر خاص من الملك , فكان هذا مثار القيل والقال والإنكار من رجال الشرع كما تقدم، وها نحن أولاء ننشر نص هذه المواد , ونص المذكرة التي وضعها بعض رجال المحاكم الشرعية في مدركها الشرعي، ووافق عليه مفتي الديار المصرية وشيخ الجامع الأزهر , ثم نقفي على ذلك بما ينبغي بيانه في الموضوع: *** نص قانون الزواج (رقم 56) الذي وضعته الحكومة المصرية المادة الأولى: يضاف على المادة 101 من القانون نمرة 31 سنة 1910 فقرة رابعة نصها: (ولا تسمع دعوى الزوجية , إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة وقت العقد إلا بأمر منا) . المادة الثانية: يضاف على المادة 366 من القانون سالف الذكر فقرة ثانية نصها: (ولا يجوز مباشرة عقد الزواج , ولا المصادقة على زواج مسند إلى ما قبل العمل بهذا القانون , ما لم تكن سن الزوجة ست عشرة , وسن الزوج ثماني عشرة سنة وقت العقد) . المادة الثالثة: على وزير الحقانية تنفيذ هذا القانون , ويسري العمل به بعد ثلاثين يومًا من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية [2] . *** صورة المذكرة الملحقة بهذا القانون مما اتفقت عليه كلمة علماء الفقه الإسلامي أن الصغير والصغيرة غير العاقلين , إذا باشرا عقد الزواج فالعقد باطل لا يقبل الإجازة , لا من وليهما ولا منهما بعد البلوغ، وهذا من بديهيات التشريع؛ لأن أي عقد سواء كان عقد زواج أم غيره , يعتمد فهم المقصود منه، فما لم يكن متوليه من أهل الفهم فهو عمل لغو وعبث. كذلك مما اتفقت عليه علماء الحنفية , أنه بعد بلوغ الصغير والصغيرة ليس لأحد ولاية إجبار عليهما في عقد الزواج؛ لأن البلوغ آية الرشد واستكمال العقل , وقد كانت الولاية عليهما؛ لضرورة قصورهم

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (أساس البلاغة) لعلامة اللغة الشهير، وإمام البلاغة النحرير (محمود الزمخشري) أشهر من نار على علم، ما زال العلماء يقتبسون من نوره منذ ظهر إلى اليوم، وقد طبع في مصر مرتين طبعًا غفلاً من الضبط غير معتنى بتصحيحه , ثم طبعته أخيرًا إدارة دار الكتب المصرية بمطبعتها , التي هي القسم الأدبي من المطبعة الأميرية الشهيرة , على ورق جيد بحروفها الجديدة الجميلة الخاصة بها , وعني بتصحيحه وضبط ما يخفى ضبطه على الدهماء بالشكل لجنة التصحيح فيها، المؤلفة من أهل العلم والأدب، مستعينين على ذلك بنسخة علامة اللغة الأوجد في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي رحمه الله تعالى، وجلدت نسخه بالقماش تجليدًا حسنًا. سُرَّ أهل العلم والأدب وطلاب اللغة بهذه الطبعة الجميلة المتقنة , وتقبلوها بقبول حسن , وقرظها أصحاب الجرائد والمجلات , وأثنوا عليها ورغبوا فيها ولكنهم لم يبينوا موضوع الكتاب كما يجب , إلا من نقل ما قاله المصنف في خطبته وجعله أكثرهم من معاجم اللغة التي ألفت؛ لبيان معاني مفرداتها، وظن بعضهم أن مزيته الوحيدة التفرقة بين الحقيقي والمجازي منها، والصواب أن الكتاب قد وضع لبيان الاستعمال الفصيح , والأسلوب البليغ فيها، وتصريف القول في أساليبها ومناحيها، ومنه الحقيقة والمجاز والكناية، وهو قلما يفسر غريبًا، أو يشرح شاهدًا، لأنه كتب للخواص من أهل العلم والأدب في عصر المؤلف رحمه الله تعالى أواخر القرن الخامس وأوائل السادس. على أن هذه اللغة كانت قد دخلت في طور الضعف والتدلي , وإن كثر التصنيف في فنونها، وما زالت تتدلى حتى صار يندر أن يوجد أحد من المشتغلين بها يفهم معاني صفحة واحدة من صفحات الأساس , أو ما دون الصفحة من غير مراجعة معاجم اللغة , للوقوف على معاني كثير من مفرداتها , فقل الانتفاع بالكتاب في زماننا؛ لعسر المراجعة ولا سيما عند الحاجة للاستعمال، لهذا كنت قد سعيت إلى طبعه، واقترحت أن يفسر غريبه مع ضبطه، وأن يزاد على مواده ما تشتد الحاجة إليه من طرق الاستعمال التي تكثر في لسان العرب , وكذا المصباح المنير على اختصاره وخصوصيته، وكنت قبل ذلك بعشرين سنة أمني نفسي بأن أجد سعة من الوقت أقوم فيه بهذا العمل , وكانت الشواغل المانعة منه تزداد سنة بعد أخرى. يخيل إلي أن الذين يتوخون الانتفاع بهذا الكتاب فيما وضع له قليلون، وأنهم قلما يعدون فئة الكتاب المتأنقين، والأدباء النقادين، وهو جدير بأن يوضع بين يدي كل منشىء ومؤلف ومصحح ومترسل بهذه اللغة , وكل طالب من طلاب الآداب العربية، ويرجع إليه كل منهم فيما يشتبه لديهم، ويتشابه عليهم من أساليب الاستعمال , وتعدية الأفعال، ويأخذون عنه صوغ الجمل وأساليبها، ووضع المفردات في مواضعها اللائقة بها، فهو الأستاذ المرشد إلى هذه المقاصد كلها , وما أشد حاجة معلمي هذه اللغة ومتعلميها إليها. فنثني على إدارة دار الكتب المصرية الكبرى , ونشكر لها عنايتها بطبعه هذا الطبع الجميل، وضبطه الدقيق، فالناظر فيه لا يكاد يقف طرفه عند كلمة خفية، وقلما يعقر ذهنه بغلطة لغوية، كما ظهر لي مما راجعته فيه مرارًا أباحت لي أن أقول: (قلما) . وقد يكون ما عثرت به وهو قليل، مما يحتمل الصحة أو التأويل، وأول كلمة عثرت بها في الجزء الأول قوله في أواخر خطبة الكتاب: (وحظي برس من علم البيان) ضبطت كلمة رس في الطبعتين السابقتين بالسين المهملة، وفي الطبعة الجديدة بالمعجمة من رش الماء والمطر، ولا أدري أهي من خطأ المطبعة سها عنها المصححون , أم ضبطت بالمعجمة في نسخة الشنقيطي فاختاروها تبعًا له , وعهدي بهم غير مقلدين؟ والمتبادر أن المعنى بالمهملة أظهر , بل هو المناسب للمقام وللسجعة التي قبل هذه. الرس بالمهملة , والذرو معناهما واحد كما صرح به في هذا الكتاب نفسه فقوله: (وأصاب ذروًا من علم المعاني، وحظي برس من علم البيان) لا يختلف فيه معنى الجملة الأولى عن الثانية، ولا يظهر فيه معنى الرش (بالمعجمة) ، ولو تكلف له وجه لم يجز ترجيحه على الرس. ومما يصح ذكره في هذا المقام ترجيح ضبط على آخر صحيح , بغير مرجح يظهر للقارئ على ما تكرر في الكتاب من الجمع بين ضبطين في كثير من الألفاظ، ومما رأيته من ذلك في أثناء كتابتي لهذا التقريظ , وسبق له أمثال كلمة (خطف) ضبطت بفتح الطاء في الماضي , وكسرها في المضارع من باب ضرب، ولغة في هذا الفعل، وفيه لغة أخرى الكسر في الماضي , والفتح في المضارع من باب علم يعلم، وهي ما يسمعه الناس من حفاظ القرآن ويقرؤونه في المصاحف من قوله تعالى في سورة الصافات: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ} (الصافات: 10) وقوله في سورة الحج: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الحج: 31) وإنما ذكرت هذا؛ لتنبيه من يراجع الكتاب لعدم اتخاذ ضبطه للكلمة حجة على تخطئة ضبط غيره من غير مراجعه. وثمن الجزأين معًا مجلدين بالقماش خمسون قرشًا صحيحًا , وهو ثمن بخس تجاه جودة الورق وجودة الطبع، ما كان ليرضى به أحد يطبع الكتاب؛ لأجل الاتجار به والربح منه، وإدارة المكتبة المصرية الرسمية إنما تبغي نشر العلم، لا طلب الربح. *** (الذخيرة الإسلامية) مجلة دينية أدبية , تصدر كل شهر مرة لمنشئها أحمد بن محمد السركيني الأنصاري السوداني , تصدر في (ويلتفريدن جافا) من جزائر جافا (أو جاوه) الهولندية وقيمة الاشتراك فيها عن سنة في تلك الجزائر عشر روبيات، وجنيه إنكليزي ذهبي في غيرها. وصلت إلينا الأجزاء الأولى من هذه المجلة في هذا الشهر جمادى الأولى [1] فنظرنا في فاتحة الجزء الأول منها فإذا هي تنبئنا أنها أخت لمجلتنا في خطتها الدينية؛ إذ ذكر أخونا الفاضل منشئها أن الغرض منها: بيان محاسن الدين وشرح ما قد يشكل على ضعفاء طلبة العلم , وما قد يشتبه على من ليس له وقوف على حقائق الإسلام، وما قد يغمض على الكثير من أسرار التنزيل، مع تنبيه الغافل وتنشيط العامل، وإصلاح الفاسد، وسلوك خطة التيسير والتبشير، ومنه بيان الأحاديث المكذوبة والواهية المنشورة على ألسن العوام , وكتب القصاص والمتصوفة، ورد شبه المعاندين، وبيان محاسن الإسلام، وملاءمته لكل زمان ومكان، وحث المسلمين على الأخذ بأسباب الارتقاء؛ ليكونوا حجة للإسلام ولا يكونوا حجة عليه , كما هو شأنهم الغالب اليوم. وكل هذه المقاصد من بعض موضوعات المنار، التي يحتاج إليها في تلك البلاد الجاوية التي قل فيها العلم، وعم الجهل، وكثر الدجالون من المسلمين، والمهاجمون للإسلام من دعاة النصرانية، فعسى أن توفق؛ لإتقان عملها ويوفق المسلمون للانتفاع بها، ومن وسائل ذلك العمل بقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) .

ملك الحجاز في أطراف سورية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ملك الحجاز في أطراف سورية كثر تساؤل الناس عن سبب زيارة ملك الحجاز لأطراف سورية في هذا الشتاء الشديد العواصف , والبَرْد والثلج والبَرَد، والذي نراه استنتاجًا مما تقدمه , وواطأنا عليه كل من ذكرناه له من الباحثين في سياسة البلاد العربية وغيرهم , هو ما نجمله بالجمل الآتية: (1) إن مقتضى ما سماه السيد حسين بن علي (مقررات النهضة) التي هي أساس ثورته وحربه للدولة العثمانية مع الحلفاء , هي أن تؤسس له الدولة البريطانية بقوتها وتحت حمايتها مملكة عربية تشمل جزيرة العرب وسورية كلها والعراق إلا ما استثنى، ولكنه قضت وطرها منه ولم يقض وطره منها , فظل يلح عليها بذلك من جهته , والفلسطينيون يؤلفون الوفود ويرسلونها إلى لندن للسعي لإلغاء وعد بلفور وتأليف حكومة عربية في فلسطين , ويحتج كل منهما بمقررات النهضة المذكورة. (2) حاولت الحكومة البريطانية إسكات السيد حسين والفلسطينيين بشيء يرضيهما مظهره , إلى أن يزول هذا الاضطراب السياسي والمالي , وتستقر سلطتها العسكرية في البلاد العربية التي جعلتها تحت انتدابها , من حدود مصر إلى شط العرب وخليج فارس، فلم توفق لذلك , فإن المعاهدة الأخيرة التي حملها إليها ناجي الأصيل فطار بها فرحًا , وجعل يوم إعلانها عيدًا للأمة العربية بأسرها، قد رفضها الفلسطينيون وأنكروها , ولم يقدر على إقناعهم بها , ولولا ما له من اليد البيضاء عند بعض زعمائهم , وما يعلمه من حرص الإنكليز على إرضائهم بشكل من أشكال الإدارة , مع بقاء الانتداب وعهد بلفور، لانقطعت الصلة بينه وبينهم بأيديهم أو بيده هو، ولكن ما ذكر ألجأه إلى الإمساك عن التوقيع النهائي على المعاهدة , أو يرضى أهل فلسطين بها , فأعرضت عنه الحكومة البريطانية , ففهم أنها تعتقد أنه لم يبق له من النفوذ في البلاد العربية ما يمكنه من أداء أي خدمة لها تكافئه عليها فيما يأتي. (3) علمت هذه الحكومة أن سلطان نجد قد وقف على دخائل سياستها العربية وتمهيدها السبل؛ للتغلغل في أحشاء جزيرة العرب , مع الإحاطة بها من أطرافها فأنشأ يقاومها في ذلك ويفاوض فيه سائر زعماء العرب , ما عدا خدمها المتبجحين بالإخلاص لها وهم السيد حسين وأولاده , حتى اشتهر أنه سمح لنوري باشا الشعلان بالتمتع بمقاطعة الجوف التابعة لنجد بشرط منع الإنكليز من جعلها طريقًا لمواصلاتها العسكرية , وغيرها بين سورية العراق , فاغتنم السيد حسين هذه الفرصة للاتفاق مع الإنكليز على تمكينه من الاتفاق مع ولديه السيد عبد الله والسيد فيصل على جمع قوات البلاد , التي يرأسون حكوماتها؛ لمناوأة ابن سعود وإضعافه باسم الوحدة العربية , في مقابلة بذل نفوذه هو لدى بعض رجال اللجنة التنفيذية لمؤتمر فلسطين , بالرضا بالانتداب البريطاني، والإمساك عن معارضته , بشكل ألطف من الشكل المبهم الذي رفضوه بالنص الأول للمعاهدة، وذلك بأن تسمى حكومة فلسطين وطنية , ينتظم في سلكها بعض الزعماء وتعطى حق الانتظام في الوحدة العربية المبهمة في ضمن دائرة الانتداب البريطاني ويلطف تنفيذ عهد بلفور بألفاظ مرضية، وتقييد مؤقت للهجرة الصهيونية، لأجل هذا أنفق السيد حسين بن علي ألوف الجنيهات في التمهيد لهذه الزيارة , يبث الدعاية لها وسينفق أضعافها في أثناء مكثه في البلاد، ولأجله أكره أهل الحجاز على بذل ألوف الجنيهات؛ لعمارة المسجد الأقصى , على حين يتضور كثير من فقراء السادة الأشراف بمكة جوعًا , وقد حرموا حقوقهم في وقف جدهم أبي نمي، حتى إننا علمنا من الثقات أن بعض نسائهم يتكففن الناس في حنادس الظلمات وهن متنقبات. ولأجل هذا تجرأ السيد حسين على التصريح بما كان يكتمه عن الجمهور من رأيه في الوحدة العربية , وهو جعل جميع أمراء الجزيرة تابعين له في السياسة الخارجية والعسكرية والإدارة العامة، ومن المعلوم المشهور أن كل واحد من أئمة الجزيرة الثلاثة: يحيى وابن سعود والإدريسي أقوى منه منفردًا , فكيف صرح بعداوتهم كلهم في وقت واحد؟ كنا نقول منذ بضع سنين: إن مراده من الوحدة أن تكره الدولة البريطانية جميع قوى العرب له تحت حمايتها , وكان الأغبياء في السياسة والمأجورون ينكرون ذلك علينا فماذا يقولون اليوم؟ ومن الجلي أن ثروة السيد حسين الشخصية من ملك ووقف , وما يبتزه من الحجاج , لا يفي بمعشار هذه النفقات التي يبذلها في عداوة سلطان نجد وحده والاستعداد لقتاله، وكل ذي إلمام بشؤون السياسة البريطانية الحجازية , يعلم من أين تجيء هذه الأموال، وسينجلي كل خفي للأغبياء الجاهلين , ويظهر منتهى شوط الخادعين والمخدوعين، الذين يعلقون آمال أهل سورية وفلسطين بما يدعيه السيد حسين بن علي من العمل للوحدة العربية، ويرجو نيلها من وراء مفاوضته لدهاة الدولة البريطانية والسياسة الصهيونية , والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.

خطاب عام للمسلمين ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب عام للمسلمين (2) الجناية الثالثة: الظلم والاستبداد في الحرمين إن استبداد الملك حسين , وظلمه في الحجاز لا نعلم له نظيرًا في حكومة وطنية من حكومات العالم في هذا العصر , وإنما هو كحكم أشد المستعمرين للأمم الضعيفة قسوة وطمعًا في ابتزاز الأموال وإذلال الناس، فأهل الحجاز في هذا العهد بائسون ذليلون , ولا يتجرأ أحد منهم على الشكوى بقول ولا كتابة، ونحن قد أمكننا الوقوف على كثير من الحقائق الآتية من بعض أهل البصيرة والتحقيق من حجاج الموسم الأخير , الذين لهم أصدقاء في الحجاز يثقون بهم , ومما اختبروه بأنفسهم على كثرة الجواسيس , وحرص الملك على مراءاة الحجاج، وقد جاءتنا رسالة طويلة في وصف حالة الحجاز من أحد حجاج الموسم الماضي من جزائر الهند الشرقية , فنلخص من هذا وذاك ما يتعلق بغرضنا بالإيجاز ونجعله عدة أقسام: المظالم المالية: (1) كل ما يرد على مكة من الأنعام ينتقي الملك كرائمها وخيارها لنفسه , بواسطة سمسار له اسمه (إبراهيم) فيدفع ثمن الجمل الأعلى منها 25 ريالاً مجيديًا (تساوي 120 قرشًا مصريًّا) إذا كان الأدنى يباع بخمسة وعشرين جنيهًا مصريًّا , ويعطي ثمن الكبش الجيد بل الأجود ريالين مجيدين , إذا كان الأدنى منها يساوي عشرة ريالات. (2) يأخذ مكسًا على كل جمل ثلاثة ريالات مجيدية (30 أو 35 قرشًا مصريًّا) , وعلى كل ثور أو بقرة خمسين قرشًا مصريًّا؛ لأنه لا يأخذ منها لنفسه كما يأخذ من الإبل والغنم , هذا إذا كانت الإبل والبقر للعمل , وأما إذا كانت للذبح فيأخذ عن كل رأس عشرة ريالات , ومن المعلوم أن الإبل لا تذبح في الحجاز إلا إذا هزلت , وتعذر الحمل عليها والسفر بها , وإن كان الجمل الهزيل الضعيف قلما يباع بأكثر من عشر ريالات , وقد يباع بخمسة، ولكن الملك يأخذ عليه عشرة ريالات مهما يكن ثمنه الذي بيع به , فيضطر الجزار بذلك إلى بيع لحمه غاليًا , وهو لا يأكله إلا الفقراء فيكون الغبن عليهم. (3) كل من يأتي مكة أو غيرها من بلاد الحجاز بشيء للبيع من خارجها , ولو كان من البدو أو أهل القرى الحجازيين , يجبر على أخذ ثمنه ريالات مجيدية وقروش عثمانية (مما يسمى في سورية متلبك , وفي الحجاز هلل) ؛ لأن الذهب خاص بالملك، وهذه السكة لا تروج عند الأعراب , الذين يأتون بالماشية وغيرها إلى مكة , فيرغبون أن يشتروا بثمنها أقواتًا أو أقمشة لعيالهم , ولكن الشراء من مكة محرم في شرع الملك إلا برخصة من الديوان الهاشمي - ويعبر عنها بالفسح - وقد يتأخر صدور (الفسح) ولا سيما إذا كثر طلابه حتى ينفق الغريب ما باع منه , ويرجع إلى عياله بغير شيء , ولا سيما إذا كان ما باعه قليلاً كالوقود والفاكهة. (4) يأخذ على كل صفيحة سمن خمسين قرشًا مصريًّا , وكان السمن الجيد يأتي من نجد وعسير , فانقطع مجيئه من نجد وقل من عسير بسبب إجبار تجاره على أخذ ثمنه من النقد العثماني , الذي لا يروج عندهم، فصارت أقة السمن البحري الرديء المغشوش تباع بثلاثة مجيديات , وكانت الآقة من الجيد تباع بربع مجيدي إلى نصف ريال , إذا اشتد الغلاء , وأقة اللحم بريالين , وكانت بقرشين , فأصبح أهل مكة في ضيق , لم يعرفوا له نظيرًا إلا في تلك الأيام , التي اتفق فيها سيدهم مع الإنكليز على منع الأقوات من الحجاز ليواتوه على الثورة. (5) يأخذ عن كل بضاعة تأتي من البحر إلى الحجاز ثلاثين في المائة من ثمنها , إلا الكماليات: كالحرير فيأخذ منها خمسين في المائة , وذلك بحسب أسعارها في سوق جدة لا بحسب السعر الذي اشتريت به، ونترك الكلام في اقتراض الملك من تجار جدة ألوف الجنيهات , على أن توفى من المكوس التي تستحق عليهم , ومطل إدارة المكس وتسويفها لهم، بعذر الحاجة إلى المال , ولا مشتكى إلا إلى الله. (6) أبطل جميع الأفران التي للأهالي , وفتح أفرانًا لنفسه , يعطيها الدقيق المختلط من عنده , ويكره الناس على الشراء منها دون غيرها , وهو يربح منها كل يوم أكثر من تسعين جنيهًا من مكة , وجاء في رواية أخرى كتبها بعض الحجاج المصريين أنه يربح من أفرانه ثلاثمائة جنيه في كل يوم , وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه) رواه البخاري في تاريخه وأبو داود وأشهر رواة التفسير بالمأثور من حديث يعلى بن أمية , وفي لفظ من حديث ابن عمر مرفوعًا: (احتكار الطعام بمكة إلحاد) رواه البيهقي في شعب الإيمان، وروى سعيد بن منصور والبخاري في التاريخ أيضًا وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال: (احتكار الطعام بمكة إلحاد بظلم) . روي عن ابن عباس أنه قال: في تفسير الآية: (تجارة الأمير بمكة إلحاد) . فما بال المكوس؟ ! (7) جعل قيمة الجنيه سبعة ريالات مجيدية , يغرم من يخالف ذلك بمبلغ من المال له , لكنه يبيع الذهب للصيارف بألوف الجنيهات , كل جنيه باثني عشر ريالاً ثم يجبرهم على إعطائه الجنيه بالسعر الرسمي , وهو سبعة ريالات، والتجار يرفعون الأثمان؛ لتقرب من سعر الذهب، ومن فوائد الملك من ذلك أن من كان راتبه من رجال حكومته عشرة جنيهات , يعطيه 72 ريالاً قيمتها الحقيقية ستة جنيهات. (8) ما يأخذه من الغرامات , وينزله من العقاب على من يخالف السعر أو يعترض على اختلاف ما يأخذه هو ويعطيه، لا مستند له إلا رأيه، وقد جازى التجار على ذلك مرارًا , حتى بلغت الغرامة من جماعتهم من مائة جنيه إلى ثلاثمائة جنيه , بل عاقب بعد الموسم خمسة من تجار مكة المحترمين بالجلد الشديد وكنس الشوارع؛ لأن جواسيسه بلغوه عنهم أنهم قالوا: إن سعر النقود العثمانية سينزل , حتى مات أحدهم من شدة الضرب , كما جاء في كتاب خاص من مكة لأحد التجار هنا. (9) استأثر لنفسه بالغلال المصرية سنتين , فلم يعط المستحقين شيئًا حتى مات بعض المستحقين لها من فقراء المدينة المنورة جوعًا , ثم صار يعطي الأحياء نصف ما يستحقونه , ويستأثر بحصص الأموات كلها , فلا يعطي ورثتهم منها شيئًا , ولعل هذا أحد أسباب امتناع الحكومة المصرية , عن إعطائه مخصصات الأهالي؛ لأجل أن يتولى توزيعها عليهم مستخدموها , في التكيتين المصريتين بمكة المكرمة والمدينة المنورة. (10) استبد بوقف الشريف أبي نمي فلا يوزعه على المستحقين من ذريته حسب شرطه , حتى قيل: إن بعض الشريفات يخرجن في الليل متسولات , يتكففن أيدي الناس في الشوارع. (11) قد استعار من أغنياء مكة أثاثًا ورياشًا وماعونًا كثيرًا , للدار التي أنزل فيها السلطان وحيد الدين المخلوع وحاشيته , ثم لما ذهب السلطان من مكة استأثر بهذه العواري النفيسة، ولم يردها إلى أصحابها. (12) جمع ثلاثين ألف جنيه من أهل الحجاز بالإكراه والإجبار , ومن الحجاج بالاختيار؛ لإعانة المسجد الأقصى، وأرسل منها اثني عشر ألف وخمسمائة جنيه، وقد نشر في جريدة القبلة ما أخذ من كبار التجار والموظفين في الحكومة ومن الحجاج , وأما ما أخذ من العوام وصغار التجار فلم ينشر فيها [1] . (13) ذهب إلى مكة الشرفاء زامل وجعفر وعلي أولاد السيد ناصر أخي الملك فوضعهم الملك تحت المراقبة الشديدة والقهر , وكان مرادهم الإقامة في مكة شهرًا واحدًا , فأكرههم على الإقامة زهاء سنة , ولما عادوا إلى مصر أرسل إلى وكيل أطيانه إسكندر بك طراد كشف فيه أنه أنفق عليهم في مكة ألف وثمانية وعشرين جنيهًا وكسورًا , وأمره أن يطالب أخاه الشريف ناصر بهذا المبلغ , وينذره بإمساكها من إيراد الوقف المشترك , إذا لم يؤدها إليه نقدًا. *** العقاب والأحكام إنه يذيع في جريدته القبلة أن أحكامه كلها شرعية , مستمدة من الكتاب والسنة، والواقع الذي يعرفه أهل الحجاز ومن أقام فيه زمنًا يزيد على مدة الحج من غيرهم , ولا سيما الذين استخدموا فيه - أن أحكامه شخصية محضة , لا يتقيد فيها بقيد من شرع ولا مشاورة، ولا قانون، وهو وإن كفر الترك والمصريين بوضعهم للقانون الأساسي وغيره , فقد وضع بعض القوانين وأمر بتنفيذها ومنها: (قانون هيئة المعاملات العمومية) الذي أمر فيه بتشكيل لجنة بهذا الاسم , تفصل في قضايا الإجارة والديون (والكشفيات ونحوها) , مما هو من خصائص المحاكم بدون محاكمة شرعية , وفيها أحكام وضعها برأيه لم يرجع فيها إلى دليل شرعي , وسماها دستورًا للعمل كما سماها قانونًا، وقد أعطى بهذا القانون حق الاجتهاد لأعضاء اللجنة , في كل فروع الإجارات غير الداخلة في المادة 43 منه , ولا حاجة بنا إلى تفصيل ذلك , بل المراد به التنبيه على أنه يحرم على أهل البلاد التركية والمصرية , ما أباحه لنفسه من وضع القوانين , وإن كان هو وجميع أعضاء حكومته دون أهل هاتين المملكتين علمًا بالشرع , وبأصول القوانين وفروعها. *** قانون الطاغوت أبي نمي وأدهى من هذا وأعظم في رد الشرع ونبذه وراء الظهر، وتفضيل حكم الطاغوت على حكم القرآن المنزل من عند الله عز وجل، حكمه بقانون جده الأمير أبي نمي في جميع مسائل الدماء بين البدو. ومن أصول مواد هذا القانون أن دم شرفاء الحجاز مربع , فإذا قتل أحدهم يقتل به أربعة من خواص رجال القبيلة المتهمة بقتله، ولا شك في أن استحلال هذا كفر وردة عن الإسلام. وإن إمام المسلمين وخليفتهم يجب عليه شرعًا أن يقاتل من يتحاكمون ومن يحكمون بمثل هذا وغيره , من أصول الجاهلية المقررة فيه، ومرجعها كلها إلى ما يسمونه (السوالف) , وهي الأحكام السابقة التي قبلها سلف المتحاكمين؛ أي: شيوخ قبيلتهم من قبلهم في مثل واقعة الدعوى، فالأحكام التي قبلها طواغيتهم هي التي يرضونها ويحكم لهم بها من يدعي أنه أحق الناس بخلافة النبوة وإقامة شرع الإسلام , ومن شاء أن يعرف منزلة هذا القانون من الكفر والنفاق فليراجع تفسيرنا لقوله تعالى من سورة النساء {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) الآيات. وقد حدثنا الضابط نوري بك الكويرى (من بني غازي) الذي كان في الجيش العربي المنظم , الذي يساعد الحجازيين في حصار المدينة المنورة , أن أحد البدو قتل ضابطًا أو جنديًّا حضريًّا من الجيش المنظم , واعترف بأنه قتله عمدًا , فطلب الضباط وغيرهم قتله قصاصًا , بمحاكمة عسكرية أو شرعية , فامتنع قائدهم العام الشريف عبد الله , ورفع الأمر إلى الملك فأمر بإرسال الضباط الذي طلبوا القصاص إلى مصر بحيلة , وإعلامهم بعد ذلك بطردهم من الجيش الهاشمي، وكذلك كان، ويعلم جماهير الناس في شرق الأردن وفلسطين أن عبيد الأمير عبد الله فوق الشرع والقانون في إمارته البريطانية الحقيرة , فلا يحاكمون ولا يعاقبون على فاحشة ولا منكر. وأما ما نقلته جريدة قبلة من أحكامه , التي سمتها إقامة لحدود الشرع وعملاً بالقرآن , فقد جاءنا الخبر من الثقات في الحجاز , بأنه ليس فيها شيء موافق لحكم الشرع , ولا كان شيء منها بمقتضى محاكمة شرعية , فقد أمر بقطع يد رجل ورجله؛ لأنه فر من سجنه الذي هو شر من سجن الحجاج، وفعل مثل ذلك بمن اعترض على الخطيب بالمدينة المنورة؛ لإطرائه إياه في الخطبة، وادعوا أن هذا عمل بقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} (المائدة: 33) الآية وهي في البغاة الذين يؤلفون العصابات المسلحة , يقطعون بها الطرق ويف

كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة في التعريف بمجموعة الحديث النجدية وتجديد السنة في بلاد الوهابية (وهو ما وضعناه فاتحة لنسختها التي طبعناها حديثًا , وفيها كلام في تصحيح المطبوعات , ولا سيما تصحيح ما طبع عن نسخ غير صحيحة , وكونه يتعذر معرفة الأصل في بعض المسائل , ويشق العثور على بعضها بمراجعتها في مظانها حتى الأحاديث النبوية , وخاصة أحاديث البخاري) . من المعلومات المسلمات عند كل مسلم أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بيان لكتاب الله عز وجل , وتفسير وشرح لهدايته , وتفصيل لحكمه وأحكامه، وأنها مستمدة منه، فإنه - جزاه الله عن البشر أفضل الجزاء - قد عاش قبل النبوة أربعين سنة , وهو أمي لم يُؤْثَرْ عنه شيء من علوم القرآن الإلهية , ولا الأدبية ولا الشرعية، ولا شيء من حكمه العقلية , ولا قواعد السنن الكونية والاجتماعية، وقد خاطبه الله تعالى في هذا المعنى بقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وبقوله: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ} (النساء: 105) , وقد عصمه الله تعالى من الخطأ في بيان دينه المودع في كتابه , كما عصمه من الخطأ في تبليغه , وكل أحد غيره يخطئ في فهم الكتاب , وفي بيان ما فهمه تارة ويصيب أخرى، وقد نقل المحدثون روايات من خطأ بعض الصحابة فغيرهم أولى. هذا وإن تأثير حديثه وسنته صلى الله عليه وسلم في القلوب , هو في الدرجة التالية لتأثير كلام الله عز وجل، ولهذا ضعفت هداية الدين في نفوس المسلمين منذ صاروا يستغنون عن القرآن والسنة بكتب المتكلمين والفقهاء، وإنما العلماء أدلاء معلمون، لا شارعون ولا مستقلون بالهداية، ولن يعود روح الدين إلى المسلمين، ولن يشرق نور الإسلام في قلوبهم، إلا بالعود إلى تلاوة القرآن بالتدبر، ومدارسة السنة بالتفقه والتأدب. وقد كان مما استعمل الله تعالى به الشيخ محمد عبد الوهاب مجدد الدين في نجد وما حولها , أن أحيا مدارسة السنة النبوية فيها؛ للاهتداء بها، لا لمجرد التبرك بألفاظها، ولا لأجل الاستقلال فيها دون ما كتب المحدثون والفقهاء في شرحها والاستنباط منها، بل نرى من هداهم الله تعالى بدعوته , وأنقذهم من الجاهلية التي عادت إلى أكثر أهل جزيرة العرب ما زالوا يحيون كتب فقه شيخ السنة الأكبر الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - مع خيار كتب التفسير والحديث لغير الحنابلة من علماء السنة , فكانوا من أجدر المسلمين بلقب أهل السنة. وقد انتدب إمامهم وسلطانهم في هذا العصر السلطان عبد العزيز عبد الرحمن فيصل آل سعود لتجديد طبع هذه المجموعة النفيسة مع كتب أخرى أهمها: تفسير الحافظ ابن كثير , وابتداء طبع كتب أخرى دينية من أعظمها وأجلها: كتاب (المغني) في الفقه الإسلامي الذي فضله الإمام المجتهد عز الدين بن عبد السلام , هو وكتاب المحلى لابن حزم على جميع ما كتب المسلمون في الفقه , ونقل عنه أنه لم تطب نفسه للإفتاء , حتى حصل على نسخة من المغني , فهو يطبع الآن على نفقته مع كتاب الشرح الكبير، على متن المقنع الشهير , والمغني والمقنع كلاهما للشيخ العلامة موفق الدين أبي محمد عبد الله الشهير بابن قدامة المقدسي، المتوفى سنة 620 , وهو الذي ينصرف إليه لقب (الشيخ) إذا أطلق في كتب الفقه الحنبلي , التي ألفت بعده وأما الشرح الكبير فلابن أخيه وتلميذه العلامة الشيخ عبد الرحمن ابن قدامة المتوفى سنة 682 , وهما من أوسع الكتب أحكامًا وبيانًا للمذاهب بأدلتها. هذه المجموعة الحديثية مشتملة على تسعة كتب بيناها في طرتها، فالأربعون النووية من الأحاديث المختارة في أصول الإسلام , وأسس قواعده أشهر من أن تعرف، وعمدة الأحكام للحافظ المقدسي المتوفى سنة 620 مشهورة مشروحة , وهي مأخوذة من صحيحي البخاري ومسلم - تعطي المطلع عليها علمًا إجماليًّا بأصح نصوص السنة لجميع أبواب الفقه , وذكر لها في كشف الظنون عدة شروح لكبار العلماء، وشرحها لشيخ الإسلام المحقق ابن دقيق العيد طبع في الهند ويطبع الآن بمصر. وكتب إلينا صديقنا علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي أنه اطلع على الجزء الأول من شرح شيخ الإسلام ابن تيمية للعمدة (فرأى فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت) ولم يبلغنا شيء عن هذا الشرح من غيره، وذكر صاحب كشف الظنون أن كتاب العمدة هذا ثلاثة مجلدات عز نظيره , وأن أوله: (الحمد لله أتم الحمد وأكمله) , وأن الكلام فيه خمسة أقسام: أحدها الأحاديث، وما عندنا هو تجريد الأحاديث فقط , وأوله (الحمد لله الجبار) , ونقل عن بعض شراحه أن عدد أحاديثه خمسمائة , ولعله عدَّ ما في بعضها من اختلاف الألفاظ وتعدد الروايات , أو وجد هذا في بعض نسخها , وإلا فقد أحصيناها بالأرقام حسب عدَّ المصنف لكل باب فبلغت 409 , ولكن وقع غلط في الأرقام في مواضع أولها صفحة 110 فينبغي أن يجعل أول رقم فيها 48 ويصحح ما بعده بالتسلسل. وأما كتب الشيخ محمد عبد الوهاب الأربعة , فقد راعى في جمعها أحوج ما يحتاج إليه جماهير المسلمين من السنة , مع تلقيهم أحكام العبادات والمعاملات من كتب الفقه , وهو أربعة أقسام: أحاديث الإيمان الاعتقادية، وأصول الإسلام الكلية، وكبائر الإثم والفواحش التي يجب تركها، والآداب الشرعية التي يجب أو يستحب فعلها والتأدب بها، وكلها ملخصة من دواوين السنة المشهورة: كالكتب الستة والمسند والموطأ وغيرها , ومنها ما ليس لدينا نسخ منه: كالسنن الكبرى وشعب الإيمان للبيهقي.. وقد ترك - رحمه الله تعالى - بعض الأحاديث غير مخرجة، ولعل سبب ذلك أنه أراد أن يراجعها في غير الكتب التي نقلها منها، ليبين جميع من خرجوها. وأما الرسالة السنية للإمام أحمد في الصلاة فهي على ما نعتقد , لا يستغني مسلم عن الاستفادة منها , قد جمعت في صفة الصلاة وآدابها الظاهرة والباطنة , بين الأخبار النبوية والآثار النافعة عن الصحابة والتابعين , ما كانت به سفر تفسير وحديث وفقه وتصوف شرعي , وقد رأيت لها من التأثير في القلب ما لم أره لغيرها، فأنا أنصح لكل مسلم أن يطالعها مرارًا، ولكل معلم وواعظ أن يقرأها لطلاب العلم وللعوام جميعًا. وأما كتاب الصلاة للمحقق ابن القيم فهو أشبه الكتب برسالة الإمام أحمد في مبناها ومعناها ومغزاها، حتى كأنه شرح لها وتفصيل لمجملها، مع بسط مسائل أخرى استوفاها أو حققها، وناهيك بوصفه لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم , واختلاف أحوالها من تطويل وتخفيف بالروايات المعتمدة، وبيانه لحكم الصلاة وأسرارها، وندب إطالتها ومنافعها، وتحقيق فرضية صلاة الجماعة، ومسألة تكفير تارك الصلاة , ومسألة الخلاف في وجوب قضاء الترك منها عمدًا وعدمه. فهكذا لعمري يكون اتباع الأئمة والاقتداء بهم، لا اتخاذهم شركاء لله تعالى في شرع الدين، ولا قرناء لرسوله صلى الله عليه وسلم في العصمة في تبليغه وفهمه، دع تقديم كلامهم على كلامهما، واتباعهم بالتقليد المحض من دونهما. وأما كتابه الوابل الصيب فهو طرد لهذه المعاني والمغازي , في جميع الأذكار والأدعية المأثورة , وتأثيرها في القلب، والقرب بها من الرب، جل ثناؤه وتقدست أسماؤه، ومن فوائده: بيان مراتب الناس في الصلاة، وصفات القلوب في الظلمة والنور، وبحث في نور العلم والإيمان عال مشرق مؤثر , لا يوجد في غيره مثله، أورده في سياق الكلام على فوائد ذكر الله تعالى، ومنه تفسير المثل الذي ضرب في سورة النور: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} (النور: 35) الآية، واستطرد من هذا المثل إلى أمثال أخرى في القرآن مائية ونارية كمثل: سيلان الماء في الأودية، ونار الصائغ لاتخاذ الحلية والآنية - ومثل: الصيب فيه الظلمات والرعد والبرق - وقد بلغ ما أورده من فوائد الذكر ومزاياه وتأثيره في تغذية الإيمان وصالح الأعمال 79 فائدة [1] . فهذه الكتب لا يقرؤها ولا يسمعها مؤمن إلا يشعر بالإيمان يربو وينمي في قلبه، وبمضمون قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} (الزمر: 22) فيزداد به من العبادة ويكثر فيها من ذكر الله تعالى , فقد كتب - قدس الله روحه - في الأذكار المأثورة ما لا يحسنه إلا مثله - ومثل كثير في الأنام قليل - فرضي الله تعالى عن جامعي هذه الأحاديث النبوية، ومبيني ما أودعته من الهداية الإلهية، وأثاب من جمعها وألف بينها، ومن أنفق على طبعها، وسعى لتعميم نفعها، ومن تولى طبعها وتصحيحها، ومن يقرؤها للاهتداء وللهداية بها. وكنت أود لو أتيح لي أن أخدمها , بتخريج جميع ما أغفل تخريجه من أحاديثها , وتعليق حواش وجيزة في تفسير جميع غريب لغتها، وبيان وجيز لكل ما يخفى أو يشكل من معانيها، وزيادة العناية بتصحيحها، كالنموذج الذي يراه قارئها في بعض حواشيها. ولكن كثرة الشواغل والموانع، وقلة العون والمساعد، واستعجال السلطان بطبعها , قد حالت دون المراد من ذلك في هذه الطبعة، وعسى أن يوفقنا الله تعالى وإياه لذلك في الطبعة الثالثة. وإن هذا العمل لشاق دونه الإنشاء والتأليف المستقل، ولا يعرف صعوبته إلا من ابتلي به , وإنما يكون التصحيح سهلاً , إذا وجدت أصول صحيحة مضبوطة للمقابلة عليها، والأصل الذي طبعنا عنه هذه المجموعة مطبوع في الهند طبعًا كثير الغلط والتصحيف والتحريف كأكثر الكتب العربية المطبوعة في ذلك القطر، ولا سيما المطبوع منها على الحجر، وقد وجدنا لشرح الأربعين النووية ولرسالة الإمام أحمد , وكتاب الصلاة لابن القيم نسخًا مطبوعة في مصر , فانتفعنا بالمقابلة عليها على أن تصحيحها غير تام , وجعلنا اعتمادنا في تصحيح آخر كتاب العمدة مقابلته على النسخة المطبوعة مع الشرح في الهند، بعد أن كنا نعتمد أولاً على مراجعة الصحيحين فقط. ولكن بعض هذه الأحاديث غير مبين مكانها فيهما، وبعضها معزو إلى أحد الصحيحين وهو في غيره، ولا ندري سبب ذلك، وقد بينا بعض ذلك في الحواشي. على أن المراجعة في صحيح البخاري في مكان من الصعوبة لا يعرفه إلا من عالجه، فإن الحديث الواحد قد يوجد في عدة أبواب منه بألفاظ مختلفة فمن وجد غلطًا في حديث منها , كان عليه أن يراجع جميع رواياته فيها؛ ليمكنه الجزم بالصواب، ومن لم يدقق النظر في اختلاف الروايات والرواة والألفاظ فربما جعل الصواب خطأ. مثال ذلك الحديث العاشر من كتاب صفة الصلاة في العمدة (صفحة 120) : عن أبي قلابة - هو عبد الله بن يزيد الحضرمي البصري رضي الله عنه - قال: جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: (إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة؛ أصلي كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي. هكذا أورد الحديث صاحب العمدة ولم يعزه , ولما كلفت اثنين من إخواننا المشتغلين بعلم السنة قراءة هذه المجموعة بعد تمام طبعها؛ لاستخراج ما يجدان فيها من خطأ الطبع وبيان صوابه , رأى من قرأ العمدة منهما أن هذا الحديث غير جلي , فظن أنه لا يخلو من غلط , فطفق يبحث عنه في صحيح البخاري فوجده في (باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة) بلفظ: جاءنا مالك بن الحويرث فصلى بنا في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم , وما أريد الصلاة، ولكن أريد أن أريكم كيف رأيت النبي - وفي رواية رسول الله - صلى الله عليه وسلم يصلي؟ إلخ , فجعل المصحح هذا ص

تزويج المسلم بغير المسلمة

الكاتب: عبد القادر المغربي

_ تزويج المسلم بغير المسلمة [1] يكاد يكون جواز تزوج المسلم بالكتابية من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة , ولا أظن أن أحدًا من المسلمين يكابر فيه [2] , وجل ما يقوله فقهاؤنا في هذا الزواج: إنه مكروه تنزيهًا؛ أي: لا تحريمًا. ومعنى ذلك أن الأفضل للمسلم أن يتزوج بمسلمة , فإذا تزوج بكتابية وترك المسلمة ارتكب خلاف الأولى. ولكن لا يكون آثمًا أو مرتكبًا حرامًا , وعللوا الكراهة (بخوف أن يتخلق الولد بخلق أمه) والأخلاق أثر من آثار الدين , فيخشى على الولد أن يتأثر بمؤثرات دين غير دين أبيه. هذا ما يقال في المسألة من طريق التفقه , وأما ما يقال فيها من طريق الاجتماع ومباحث العمران , فهو: أن الشرع الإسلامي أباح لنا التزوج بالكتابيات توصلاً إلى نشر الإسلام , وحمل الكافة عليه , فإن الأصول أن يحمل البشر على الحق ولو بالقوة , ولكن الشرع عذر أهل الكتاب بما أوتوه من روح الدين السماوي وإن كانوا شوهوا هذه الروح بما بدلوا وغيروا , والشرع إذا أمهل غير المسلمين ولم يقسرهم على الإسلام فهو لم يهملهم، ولم يغفل أمرهم , بل هو يريد من المسلمين أن يعملوا على نشر الدين بينهم , وعلى دعوتهم إليه بالتي هي أحسن، والدعوة كما تكون بلسان المقال تكون بلسان الحال، ولسان الحال أشد تأثرًا , وأقرب منالاً من لسان المقال، والمراد من الدعوة إلى الإسلام بلسان الحال أن يكون المسلمون على وضع اجتماعي راقٍ , يحمل معاشريهم من غير أبناء ملتهم على النظر في دينهم , وحب التخلق بأخلاقهم، والاهتداء بهديهم، وهذا يكون بشيئين: (1) العدل في حكومة الإسلام. (2) حسن الأخلاق في أهل الإسلام. وإننا معشر المسلمين لو حافظنا على هذين الأمرين في تاريخنا الماضي , لما بقي في بلادنا غيرنا بل كانوا أسلموا كلهم. ولقد بسطت هذا الموضوع يوما أمام بعض عامة المسيحيين , فرسم إشارة الصليب على وجهه وصدره وقال: نشكر الله ياسيدي، إذ لم تعملوا بأصول دينكم , وإلا لما عبد المسيح في بلادكم. ومن جملة الطرق التي شرعها الإسلام؛ لتكون دعوة إليه بلسان الحال - إباحة تزوج المسلم بالكتابية - فإن زواجه بها يوثق علائق المصاهرة والنسب بعدة عائلات كتابية , فإذا كان الصهر المسلم على ما يزيده الإسلام من كرم الأخلاق والتحلي بالفضائل، فإن ذلك يستدرج عائلة زوجته إلى الإسلام بلطف , ويستهويهم من حيث لا يشعرون إلى الإعجاب به، والدخول فيه، عدا إسلام الزوجة نفسها بما لزوجها المسلم من السلطة , وحسن التلطف , وقوة التأثير عليها. وأما اليوم فإن أخلاقنا وفشو الطلاق بيننا , حمل الكتابيين على زيادة التمسك بدينهم، وعلى النفرة منا ومن ديننا، ولقد سألت مرة صديقًا لي من وجهاء المسيحيين: هل يرضون أن يزوجوا بناتهم من شبان المسلمين المهذبين ما دام هذا الزواج جائزًا في الشريعة الإسلامية؟ فقال: إننا لا نراه محظورًا من الوجهة الدينية [3] , وإنما نراه محظورًا من باب الاحتياط والتدبر، وذلك خشية أن يطلق الزوج المسلم ابنتنا، أو يتزوج بأخرى سواها فتعيش منغصة. ونعيد القول في الموضوع بشيء من الشرح والإيضاح فنقول: يفهم من تضاعيف أقوال علمائنا أن التسامح مع أهل الذمة , وتركهم أحرارًا في دينهم , إنما هو مؤقت ومنتظر فيه سنوح الفرص، حتى إذا سنحت الفرصة حملوا على الإسلام لا بطريق الإكراه والقسر، بل بطريق الدعوة اللينة، والمجادلة بالتي هي أحسن والعدل في الحكومة، والأخلاق الحسنة في المعاشرة. ومن هذه الطرق: التزوج ببناتهم، وهذا التزوج يفيد في نشر الدين وتكثير سواد أهله , كما يفيد (الاسترقاق) في ذلك؛ إذ ليس الغرض من الاسترقاق مجرد استغلال الأرقاء , والانتفاع بخدمتهم كما ينتفع بالدابة، وإنما الغرض نفع الرقيق نفسه، ونفع البشرية بنشر تعاليم الإسلام بين أبنائها , فإننا نأخذ الأرقاء في الحرب أسرى , ونؤديهم إلى بيوتنا ونمزجهم بعائلاتنا كي يتخلقوا بأخلاقنا، ويدخلوا أخيرًا في ديننا، ويكثر بهم سواد أمتنا، وربما كان نصف المسلمين [4] اليوم هم من سلالة أولئك الآباء الذين دخلوا الإسلام من طريق الرق، فالرق في نظر العالم المسلم الاجتماعي ضرب من ضروب الاستعمار , أو ما يسميه سواس هذا العصر (التجنس بالتابعية) . وقد تنبه بعض ملوك الإسلام الأقدمين إلى وجوب الاستفادة من (الاسترقاق) بشكل آخر , فاتخذ من أسارى الحرب أو من صغارهم عسكرًا جرارًا , بعد أن كان يهذبهم ويعلمهم آداب الإسلام، ويخصصهم لفنون القتال، وهكذا فعل الخليفة (المعتصم) العباسي في أرقاء الترك، والسلطان (أورخان) العثماني في أرقاء الروم والصقالبة الذين سموا (أنكشارية) . فإباحة التزوج بالكتابيات هو كإباحة استرقاق أولاد المحاربين , من حيث إن كلاًّ منهما وسيلة لنشر الدين، وتكثير سواد المسلمين، ولكن قومي كانوا عن هذا غافلين: غفلوا في أزمنتهم التاريخية الماضية - وقت أن كانت الغلبة لهم والقوة المادية والمعنوية في جانبهم - عن الانتفاع بهذا التشريع الحكيم - أعني التزوج بالكتابيات [5]- ولو تزوجوا بهن وأحسنوا المعاملة، وتمسكوا بآداب الشريعة، وأطاعوا الله فيما نهى وأمر - لكان المسلمون أكثر سوادًا وعددًا مما هم اليوم أضعافًا مضاعفة، ولكانوا استفادوا من هذه الشريعة فائدة اجتماعية عمرانية، كما استفادوا من شريعة الاسترقاق، لكنهم - وا خجلاه - لم يستفيدوا من شريعة (التزوج) بالكتابيات , لا في الأول ولا في الآخر، وأفسدوا شريعة (الاسترقاق) وغيروها عن وضعها السماوي، فأصبحت تجارة قاسية، ومعاملة وحشية، يحبذ الشارع الأعظم عمل الساعين في منعها، والضاربين على أيدي مروجيها. قلنا: إن شريعة التزوج بالكتابيات كانت تفيدنا في الزمن السابق فائدة عظيمة، ولكن هل تفيدنا اليوم لو عملنا بها؟! أرى أن الفائدة غير مرجوة اليوم كما كانت مرجوة في السابق، وذلك لانعكاس الحال في هذا العصر: فبعد أن كانت الغلبة لنا والقوة في جانبنا في العهد الماضي , وكان يمكننا ونحن غالبون أن نؤثر في نفوس زوجاتنا الكتابيات , وفي نفوس أهليهن , فنجذبهم إلينا ونطويهم في هيئة اجتماعنا - أصبحنا اليوم مغلوبين مقلدين للكتابيين , سواء كانوا حربيين أو معاهدين أو ذميين؛ إذ إن الناموس الاجتماعي الأعظم هو أن يقلد المغلوب الغالب في أطواره ومختلف عاداته , وكذا في تقاليده أحيانًا , وإنما جعلت الكتابيين غالبين مع أن الكثرة لنا , والحكومة [6] متدينة بديننا - ذلك بما تيسر لهم من أسباب الرقي العلمي والاقتصادي والعائلي , وبما توفر فيهم من تقليد الأوربيين في دينهم ومناحي عمرانهم , وأساليب حياتهم والأوربيون هم الغالبون , فمن يسبق إلى تحديهم يكون هو الغالب بالطبع , وإن زوجة أوربية أو ذمية إذا دخلت عائلة إسلامية , تصرفت في أخلاقها , وبدلت من طباعها، وأفرغتها على طول الزمان في القالب الذي تريد , وذلك لما عليه معظم الكتابيات من العلم والتربية والتحيل والدراسة , وما عليه معظم عائلاتنا ونساء بيوتنا من الجهل والغباوة , وضعف الملكة والانصراف عن فهم معنى الحياة السعيدة خذ أية بلدة من بلادنا , فلا تكاد ترى فتاة مسلمة تحذق القراءة والكتابة كما لا تكاد ترى فتاة كتابية تجهلها [7] . لا ريب أن وجود الزوجات الكتابيات المتعلمات في العائلة المسلمة مفيد كوجود المعلم في المدرسة , لكن تؤدي كثرته بالتدريج إلى صبغ الأمة الإسلامية بصبغة لا تتفق مع مصلحتها , من حيث هي أمة مستقلة تريد أن تنشئ أبناءها على دينها وآدابها وتقاليدها. فالتزوج اليوم بالكتابيات موضع نظر، ومناط حذر، كوضع أبنائنا في مدارس الفرير والجزويت والأميركان، فإنهم يتعلمون، ولكنهم عن التربية الإسلامية يبتعدون، وفي المهاوي الأخرى قد يتدهورون. هذا ما نقوله: لو كان لنا من أمر النواميس الاجتماعية , والسنن الكونية شيء؛ أما والأمر ليس بيدنا، وتحويل مجرى السنن غير داخل تحت قدرتنا، فإن هذه النواميس حاكمة على الأمم متحكمة في أبنائها شاؤوا أو أبوا، رضوا أو سخطوا، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المغربي (المنار) إن مسألة تزوج المسلم بالكتابية , وتزوج الكتابي بالمسلمة قد طال بحث الكتاب فيها بمصر في هذه الأثناء , وقد أتى الكاتب فيها ببحث جديد مفيد , أوجز فيه وهو منتقد من وجوه , أشرنا إلى بعضها في حواشي الصحائف , ولا سعة عندنا في الوقت لتحقيق المسألة من جميع وجوهها، وقد فتحت له زميلتنا (الهلال) بابًا واسعًا , نشرت فيه آراء كثيرين من أشهر كتاب العصر البحاثين , بعد أن استفتتهم في مسائل معينة فيه , وكنا ممن استفتتهم وحالت كثرة أعمالنا دون كتابة شيء لها , وإنما نقول بالإجمال: إن كان في تزوج بعض المصريين بالإفرنجيات فائدة ما في نظام المعيشة , فإن فيه من الغوائل المنزلية والاجتماعية ما يفسد نظام الأمة المصرية برمتها , إذا كثر، ويحول دون تجديد تكوينها تكوينًا مستقلاًّ , لا ذبذبة فيه ولا اضطراب، وما أنكره على صديقنا المغربي إنما هو المبالغة في المسألة , وإلا فقد قلنا في تعليل منع التزاوج بين المؤمنين والمشركين من سورة البقرة: إن هذا الأمر يختلف باختلاف الأشخاص، فرب مسلم مقلد يتزوج بكتابية عالمة , فتفسد عليه تقاليده (ص361 ج 2 تفسير) وسنشرح المسألة في أول فرصة إن شاء الله تعالى.

مسألة تحديد الزواج بقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة تحديد الزواج بقانون ومسلك الحكومتين العثمانية والمصرية فيه قد بيَّنا في الجزء السابق نص ما وضعته الحكومة العثمانية منذ سنين من أحكام هذه المسألة في (قانون الأسرة - العائلة) وما بينته من مداركها , ووجه الحاجة إليها , وأقوال الفقهاء المجتهدين فيها، ثم ما وضعته الحكومة المصرية هذه السنة في ذلك. ومما يستحق الذكر في هذا المقام , أن بين المصريين وبين الترك , ومن نشؤوا في مدارسهم من مسلمي الشعوب العثمانية المسلمة شبهًا , ظهر أثره في الحكومتين. المدارس العصرية في بلاد الفريقين: إما إفرنجية أو متفرنجة , وأكثر المتعلمين فيها قد غلب على أرواحهم وعقولهم وأهوائهم وأذواقهم تشريع الإفرنج ونظامهم وأدبهم وعاداتهم؛ لأنهم لا يتعلمون أصول الشريعة التي ينتمون إليها , ولا الآداب الإسلامية التي كان عليها أسلافهم وبناة مجدهم، ولأن الذين لا يزالون يتدارسون العلوم الشرعية في بلادهم تسقط قيمتهم وقيمة ما يتعلمونه من أنفس الطبقات العليا فالوسطى عامًا بعد عام بجمودهم على التقليد الجاف , لما يقول شيوخهم المتأخرون: إنه المعتمد أو المفتى به في المذهب. وإن كان مخالفًا لما عليه سائر الأئمة المجتهدين , والعلماء الراسخين من أهل الملة - ومخالفًا لنص صريح عن الشارع أيضًا. وإنما يعتذرون عنه إذا احتج عليهم به بأنه لم يصح عند إمامهم وإن اتفق حفاظ الحديث ونقلة السنة عليه - ومخالفًا لمصلحة المسلمين العامة في معايشهم أو الدفاع عن أوطانهم - فبهذا صاروا حجة على أحكام الشريعة العادلة، وآداب القرآن والسنة الكاملة، وفتنة للمتفرنجين , يصدونهم عن أصل الدين ويغرونهم به. وصارت الحكومتان تنشئ المدارس؛ لتعليم نشء الأمة كل ما هو أوربي بصبغته الأوربية , حتى أصول التشريع وأنواع القوانين , وتدخلها في أعمالها ومحاكمها العسكرية والجنائية والتجارية والمدنية، وتتفصى من كل ما هو شرعي إسلامي بالتدريج , وبضروب من التأويل والتلفيق مراعاة لتقاليد العامة ونفوذ شيوخ الفقه في أنفسهم , حتى انتهتا في هذا الجيل إلى جعل أحكام الزواج والطلاق , وما يتعلق بهما من أحكام النفقات والعدة وغيرهما قانونًا كسائر القوانين وقد بينا ما في هذا من الجناية على الشريعة من قبل [1] , كما بينا مرارًا أن شيوخ الفقه الجامدين على التقليد الجاف , هم الذين ألجؤا الحكومتين إلى ما ذكر , وأنهم كانوا وما زالوا يأبون في كل بلد أن يسيروا في تعليم الشريعة ودراستها على الطريقة الاستقلالية , فينظروا إليها في جملتها لا في كل مذهب على حدته , بحيث يتعصب له فريق معين على سائر المذاهب , ويقارنوا بين ما استنبطه المجتهدون، ويقيموا بينها ميزان التعادل والترجيح , الذي يتدارسون ألفاظه لذاته، كأنه منزل للتعبد كالقرآن، أو لأجل أن يستعين به أهل كل مذهب على إبطال غيره أو توهينه. ثم إنهم بعد هذا لا يقاومون الحكومة فيما يعتقدون أنها خالفت الشرع فيه , بل أكثرهم يسكت عنها، وبعضهم يتأول لها، وبعضهم يفتيها فتاوى مبهمة , يتحرى فيها أن يكون ما قاله صحيحًا في نفسه ومرضيًّا عندها , وإن لم ينطبق على واقعة الفتوى وموضوعها , وهم يعلمون أنها تقنع به العامة بأنها لم تفعل إلا ما أفتاها به أكبر علماء الدين. ولو أنهم سلكوا مسلك الاستقلال الصحيح , والنظر إلى جميع الأئمة المجتهدين بعين واحدة , وجعلوا من قواعد الترجيح بين آرائهم الاجتهادية اختيار أيسرها؛ عملاً بالقاعدة القطعية الثابتة بنص القرآن كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْر} (البقرة: 185) وقوله عز وجل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} (المائدة: 6) {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج} (الحج: 78) وقوله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا لا تنفروا) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه. وفي رواية (وسكنوا) بدل (وبشروا) وورد من حديث أبي موسى بالتثنية؛ أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم خاطبه هو ومعاذ - رضي الله عنهما - بذلك حين أرسلهما عاملين إلى اليمن، وأمرهما بالاتفاق وهو متفق عليه أيضًا , وقالت عائشة - رضي الله تعالى - عنها: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس عنه. وهو متفق عليه واللفظ لمسلم - لو سلكوا هذا المسلك , مع بقاء طوائف من طلاب الشريعة يتوسعون في فقه كل مذهب - لأمكنهم جعل التشريع الإسلامي فوق كل تشريع , وكان عليه مدار الأحكام في جميع البلاد الإسلامية، وكان لهم مندوحة عن التأويل والأخذ بالأقوال الشاذة , والتفصي بفتوى مبهمة , يظنون أنهم يسلمون بها من إقرار الحكومة على ما تخالف فيه الشريعة. نعم: قد آن للعلماء أن يأخذوا بإيمانهم جميع أمور التشريع , ويبنوا ما هو قطعي , لا مندوحة للمسلمين عنه , وما هو دون ذلك مما يجب الأخذ فيه بما هو أيسر على الناس , ما لم يكن معصية لله تعالى , وقد دخلوا الآن في طور جديد ليس فيه حاكم مستبد يرهقهم أو يعاقبهم إذا أظهروا ما عندهم , ولكن يجب أن يعلموا أنه يستحيل أن يلتزم البشر في هذا العصر تقليد عالم واحد , فيما يعسر عليهم وينافي مصالحهم. وهاهم أولاء قد خرجوا عن هذا في الحكومتين، ورجحوا على المذاهب الأربعة في جملتها قولاً شاذًّا لأحد العلماء المتقدمين , بحجة أنه هو الأيسر والموافق للمصلحة العامة ولمصلحة من يتحكم الأولياء بتزويجهم صغارًا، وما استخرجه للحكومتين , من زوايا مسائل الخلاف إلا بعض هؤلاء الفقهاء، فلماذا لا يأخذون الأمر بجملته في التشريع كله؟ وقد علم القراء مما نشرناه في الجزء السابق , أن ما قررته الحكومة العثمانية في هذه المسألة أصح أحكامًا، وما دعموه به أحسن بيانًا، ولا يرد عليه من الطعن ما يرد على ما قررته الحكومة المصرية من تحريم ما أحل الله وأجمع عليه المسلمون، كتزويج البالغين بالفعل قبل السن المعينة , وعدم الاعتداد بنكاحهما وما يترتب عليه من الأحكام الكثيرة وإن ولد لهما، وعدم سماع دعوى لأحدهما تتعلق بهذه القضية في حال حياة الآخر ولا بعد موته لا في الطلاق والنفقة، ولا في الإرث ولا في غير ذلك - وإباحتها للمحرم بالإجماع من العقد على المتزوجة لرجل آخر بعد بلوغ السن المقررة - إلى غير ذلك، فالقانون العثماني اختار قولاً مشهورًا من أقوال أئمة الفقهاء في سن البلوغ , وجعله مناط أهلية التعاقد في النكاح وغيره وجعل لمن يدعي البلوغ بالفعل , فله أن يستأذن الحاكم الشرعي في الزواج إذا أراده، وحتم على الحاكم أن يأذن له إذا رأى أن بنيته تطيق ذلك. فوقف عند حد منع الضرر والضرار الممنوعين بنص الشارع، ولم يمنع من سماع أي دعوى تترتب على نكاح لم يبلغ فيه أحد الزوجين تلك السن , لما في ذلك من المفاسد الكثيرة، وتضييع الحقوق الكبيرة. ومن ادعى أن كل زواج قبل السن المحددة في القانون , فهو ضار كذبه الطب والحق الواقع، ومن ادعى أنه لا ضرر في شيء منه فهو جاهل بالواقع أو مكابر. ومن المغالطة أن يجعل الخلاف في هذا القانون دائرًا بين منع زواج الصغير والصغيرة مطلقًا وإباحته مطلقًا. فإن بين الأمرين وسطًا لم ينقل عن أحد من العلماء خلاف فيه , وهو من بلغ بالفعل في سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة أو السابعة عشرة - وهو لا يصدق عليه وصف الصغر لغةً ولا شرعًا. لم يبلغنا أن أحدًا من علماء الترك , ولا غيرهم من العثمانيين أنكر على حكومتهم الأحكام التي جعلتها مواد قانونية لهذه المسألة , ولكن جميع أهل البصيرة بالدين , يطعنون في دين رؤساء تلك الحكومة الاتحادية , ويحكمون بردتهم، ويعتقدون أنهم يحاولون هدم هذه الشريعة الإلهية العادلة. وأما علماء مصر من مدرسي الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي ومدرسة دار العلوم والمحامين الشرعيين وغيرهم , فقد تجرؤوا في هذه المرة وانتقدوا هذا القانون من وجوه عديدة وأنكروا على واضعي نصه , وعلى الشيخين الكبيرين - شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية - إجازته , واقتصارهما على نقل قول الحنفية بجواز تخصيص القضاء - ومنهم من أطلق القول في الإنكار وبالغ فيه , ومنهم من عرف بعضًا وأنكر بعضًا، وقد حوم بعضهم حول مسألة الاجتهاد , وهل يدعيه واضعو هذا القانون مطلقًا أو مقيدًا؟ وألم آخر بمسألة جعل الشرعية قانونًا , وهو ما سبقنا إليه عند الأمر بتأليف اللجنة العلمية؛ لوضع قانون الأحكام الشخصية - فبدأنا بإظهار إنكارنا للشيخ محمد بخيت أكبر أعضاء تلك اللجنة , وثنينا بوزير الحقانية، ثم كتبنا ما كتبنا في المنار. ولما كانت هذه المسألة مفتاحًا لمسائل ستتلوها من جنسها , وتكون موضوع البحث والمناقشة في مجلس النواب المصري الذي سينعقد قريبًا رأينا من المفيد أن ننشر أقوى ما اطلعنا عليه مما كتب في تأييد هذا القانون , وفي نقده والإنكار عليه؛ ليحفظ أو يسهل الرجوع إليه، والفريق الأول عندنا محصور في الشيخ محمد بك الخضري - وهذا نص ما كتبه ونشره في جريدة الأهرام: *** تحديد سن الزواج للأستاذ الشيخ محمد بك الخضري من المفتشين للمدارس الأميرية [2] فاجأ الجمهور مرسوم جلالة الملك , بتحديد السن لزواج الصغير والصغيرة , حتى لو حصل الزواج قبل هذه السن لا تعترف به المحاكم الشرعية , ولا تبني عليه شيئًا من آثار الزوجية , ولا يسمح لمن يباشرون عقود الزواج من المأذونين والقضاة , أن يحرروا عقد زواج بين اثنين لم يبلغ أحدهما السن التي قررها المرسوم لكل من الزوجين , فاجأهم ذلك فكان مجالاً للأحاديث والسمر، واستفتاء المستفتين، وانتقاد المنتقدين، من علماء ومحامين، على صفحات الجرائد , وقد دعاني بعض من أحب إلى أن أكتب على صفحات الأهرام الغراء , ما يتضح به صبح هذا الأمر الخطير , قبل أن تتشعب الآراء، وتكثر الظنون. *** زواج الصغير والصغيرة مما كان موضوع خلاف بين فقهاء المسلمين , عقد زواج الصغيرة والصغير فمنهم من أجازه , ومنهم من منعه , أما الذين أجازوه فهم جمهور الفقهاء , وهم بين مضيق لدائرته وموسع لها , ولهم في ذلك ثلاثة مذاهب: (الأول) رأي الفقيه المقدم أبي حنفية النعمان بن ثابت -رحمه الله - وهو الذي توسع فيه توسعًا عظيمًا , حيث أجاز لكل ولي قرب أم بعد أن يتولى تزويج الصغيرة والصغير , إلا أنه ميز الأب والجد بامتياز , وهو أن عقدهما نافذ لا خيار فيه , بعد أن يبلغ ذلك الذي زوج وهو صغير ذكرًا أكان أم أنثى أما إن باشره غيرهما من الأولياء من أخ أو عم أو ابن عم , فإنه يثبت فيه الخيار بعد البلوغ بشروط وقيود , جعلت ذلك الحق في الغالب عديم الجدوى , وليس من غرضنا الآن أن نتوسع في شرح تلك القيود. (الثاني) رأي الفقيه المصري [3] الكبير محمد بن إدريس الشافعي وهو أنه لا يزوج الصغير والبكر الصغيرة إلا الأب أو الجد , وقيد حقهما في ذلك بقيود تحفظ للصغير والصغيرة بعض حقوقهما. (الثالث) رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس وهو أنه لا يباشر هذا العقد إلا الأب وحده في حياته , ووصيه في التزويج بعد وفاته - احترم رحمه الله - إرادة الأب حيًّا أو ميتًا. وأما الذين منعوا تزويج الصغيرة والصغير قبل البلوغ , فقليل من الفقهاء ذكر منهم صاحب المبسوط: بن شبرمة وأبا بكر بن الأصم. والأول فقيه من كبار فقهاء الكوفة , وكان قاضيها في عصر الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - وقد

العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبر التاريخية في أطوار المسألة المصرية [*] (3) قد بينا في مجلدات المنار 21-23 أطوار المسألة المصرية منذ تألف الوفد المصري برياسة سعد للمطالبة باستقلال البلاد , وكيف اجتمعت كلمة الأمة مع رجال الحكومة على تأييده سلبًا وإيجابًا [1] , حتى أثبتوا للحكومة البريطانية وهي خارجة من الحرب العظمى على رأس الدول الفائزة , أنه يتعذر عليها إدارة الأمور في مصر بأيدي المصريين الساخطين عليها كما يتعذر عليها إدارتها بيدها هي بالأولى. وكيف بعد أن أرسلت لورد ملنر على رأس لجنة؛ ليقف على آرائهم، وقاطعوه تلك المقاطعة الإجماعية , التي تجلت بها الوحدة في أكمل مظاهرها لجأت إلى السعي لتفريق كلمتهم؛ إذ لا سبيل إلى الفوز ودوام السيطرة عليهم بدون ذلك [2] , وكيف وقع الشقاق في الوفد نفسه فكان بعض أعضائه مع عدلي باشا في طرف، والباقون مع سعد باشا في طرف آخر. وكيف دبر في (لندن) نصب وزارة عدلي باشا وتأييد الوفد المصري لها؛ ليسمح لرئيسه وسائر أعضائه بالعودة إلى مصر, فكان نصبها وإظهار الوفد الثقة بها على دَخَلٍ خادع به كل من الفريقين الآخر , حتى ما عاد سعد باشا للاتصال بالأمة وتمكن عدلي باشا من تأليف وزارة رضيت عنها الأمة - عاد الشقاق إلى أشد مظاهره [3] . ولكنه تولى مفاوضة الحكومة البريطانية باسم الحكومة المصرية؛ للاتفاق معها على حل القضية ففشل - لعلم الحكومة البريطانية بأن الأمة لا تؤيده , وأنها لا تستطيع عملاً بعد أن صارت إلى شر مما كانت عليه قبل الاتحاد؛ إذ لم يكن زعماؤها متعادين ولا متحدين على عمل من الأعمال , فأفضى ذلك إلى استقالة عدلي باشا وتعذر تأليف وزارة أخرى من حزب العدليين؛ لسخطهم الشديد من الحل الفظيع الذي عرضه اللورد كرزون على عدلي باشا [4] فصاروا كالسعديين في الإحجام عن تأليف وزارة، تتولى العمل في ظل الحماية البريطانية. ثم كيف اضطرت الحكومة البريطانية بهذا إلى نفي سعد باشا مع بعض أعضاء الوفد إلى جزيرة سيشل الصغيرة المنقطعة عن العالم في البحر المحيط الهندي وإلغائها للحماية , واعترافها بكون مصر دولة ذات سيادة مع الاحتفاظ بالمسائل الأربع المعلومة , وكان ذلك إثر مذاكرة بين دار المندوب البريطاني السامي وعبد الخالق ثروت باشا رضي بها هذا أن يتقلد الوزارة , ويتولى وضع دستور للبلاد يتألف بموجبه برلمان يفوض إليه تقرير أمر الاتفاق مع الدولة البريطانية في الأمور المحتفظ بها , ولكن جمهور الأمة قابل ذلك بفتور ونفور , ولم يحفل بهذا الاستقلال المقيد بالأربعة القيود الذي مهد له السبيل بنفي زعيم الشعب مع بعض رجاله , وهو حامل لوائه وزمر استقلاله , واشتد ضغط الاحتلال بعد نواله [5] . ظن الإنكليز أنهم يرضون السواد الأعظم من المصريين , وينالون مرادهم من مصر والسودان بالاتفاق مع حكومة مصرية نيابية زمامها بأيدي أصدقائهم الذين يصفونهم بالمعتدلين , من حيث يقضون على الحياة القومية المصرية بإبعاد الزعيم الأكبر وبعض رجاله , والتنكيل بمن يتصدى للمعارضة من الباقين منهم بمساعدة الحكومة الوطنية , ولكن بدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون. اشتد استياء الشعب وتهيجه وتألفت للوفد لجنة أخرى , وصرحت بالمعارضة ودعت البلاد إلى مقاطعة الإنكليز في كل معاملة تجارية أو شخصية , فحكموا عليها أحكامًا شديدة , حكموا بعد الاعتقال بالإعدام , ثم استبدلوا به حكم السجن وتغريم الأموال , وهو أن يدفع كل فرد من أفرادها خمسة آلاف جنيه للسلطة العسكرية. ثم تألفت لجنة ثالثة فحكموا على بعض أفرادها بالنفي إلى بعض الواحات المصرية , وساموهم فيها سوء العذاب، فتألفت لجنة رابعة. وظهر في أثناء ذلك الاعتداء على أشخاص الإنكليز من الموظفين والجند وغيرهم , فكان يغتال الواحد منهم بعد الآخر في الشوارع العامة في وقت الظهيرة أو طرفي النهار أو ناشئة الليل , وقد أرهق أهل القاهرة بتفتيش الحكومة المصرية لبيوتهم؛ للبحث عن آثار يستدل بها على الجناية , فكان رجال الشرطة يدمرون على أهل البيوت في الليل أو النهار , وإن لم يكن فيها أحد من الرجال فيفتحون الخزائن والصناديق , ويقلبون الأثاث والرياش , ويأخذون كل ما يجدون من القراطيس المكتوبة , وقد يقلعون بلاط الحجرات؛ رجاء أن يجدوا تحته سلاحًا، وكانوا مع بعض الجند الإنكليزي , يستوقفون الناس في الطرقات رجالاً أو ركبانًا في أنواع المركبات , ويفتشون ثيابهم وجيوبهم , ولم يكن هذا ولا ذلك قاصرًا على من كان موضع الظنة ومثار الشبهة , بل كان كل أحد عرضة لهذه الإهانة , وليس من موضوعنا ذكر ما كان يلابس ذلك من الفساد , ولم يكن هذا الإرهاق كله ولا اعتقال من اعتقل بالتهم بمانع من تكرار الاغتيال , وإنما كانت تقع فترات عند العناية ببث العيون والرقباء وكثرة الحرس السيار , وقد حوكم كثير من المتهمين بالشبهات في المحكمة العسكرية فلم يثبت شيء من تلك الجنايات على أحد , ولا كون شيء منها بإغراء الوفد المصري أو جمعية سياسية أخرى , كما زعم بعض الرعاع الذين تصدوا لشهادة الزور؛ رجاء نيل المكافآت التي كانت تعد بها الحكومة , وتنشر وعودها في الجرائد وعلى الجدران وهي ألوف من الجنيهات. سارت وزارة عبد الخالق ثروت باشا لطيتها في هذه المآزق القاتمة بجرأة نادرة , كان فيها مهددًا بالاغتيال , وقد اعتدي عليه بالفعل فنجا فتألفت لجنة من ثلاثين رجلاً من أنصارها , فوضعوا مشروع دستور للمملكة المصرية , وطفقت تمهد السبيل لانتخاب غير السعديين بكل حزم وعزم. وفي تلك الأثناء ألف حزب الأحرار المعتدلين , وانتخب عدلي باشا رئيسًا له فاكتتب كثير من أغنياء البلاد؛ للاشتراك بالحزب وجريدته (السياسة) , فاجتمع له بنفوذ الحكومة عشرات الألوف من الجنيهات , وصدرت الجريدة بشكل راق كل عدد منها (8 ص) خص بعضها بالآداب , وبعضها بالأمور النسائية , وبعضها بالزراعة أو التجارة. ولكن جمهور الشعب عاداها حتى كان يعد شراؤها وقراءتها من الذنوب المنافية للوطنية , وكان الغرض من تأليف هذا الحزب السعي لجعل أكثر أعضاء النواب والشيوخ من رجاله , وقد اغتيل رجلان من خيرة رجاله. وكان الشعب لا يزال نافرًا من القصر السلطاني فالملكي منذ أعلنت الحماية وسمي أمير البلاد سلطانًا , ثم سمي بالتصريح البريطاني الذي ألغيت فيه الحماية ملكًا , وأشيع أن سعد باشا غير مخلص للملك , وما زال العدليون يرجفون بهذا إلى عهد قريب , ولكن هذه الغمة تقشعت بسعي محمد نسيم باشا ومن واتاه من رجال الوفد المصري , وتلا ذلك نفور الملك من وزارة عبد الخالق ثروت باشا , فوقعت عدة أزمات وزارية انتهت باستقالة هذه الوزارة , وخلفتها وزارة محمد نسيم باشا فأثار ذلك سخط السياسة الإنكليزية فكادت لها دار المندوب السامي , حتى اضطرتها إلى الاستقالة باقتراح حذف اسم السودان من الدستور المصري , وكان قد نص فيه أن ملك مصر هو ملك السودان , وأن حكومة مصر هي التي تتولى إدارته , وأيدت الاقتراح بتهديد عظيم ملجئ، قوي به اعتقاد الجمهور أن الاستقلال الذي اعترف به الإنكليز على غير مسمى صحيح , وأن الاستقلال الصحيح لا يمكن تحققه إلا على يد رئيس الأمة العبقري الأحوذي الشِّمِّري [6] سعد زغلول باشا , فكيف يعقل جعل إبعاده عن البلاد تمهيدًا له؟ ! وخلفت وزارة محمد نسيم باشا وزارة يحيى باشا إبراهيم فكان استسلامها للإنكليز , وصدعها بالأوامر السرية التي تصدر عن دار المندوب السامي شرًّا من كل استسلام سبق من الحكومات المصرية , للسيطرة الإنكليزية في عهد الحماية، وأشد ما كان قبلها من وطأة الاحتلال , حتى كادت تقضي على المالية المصرية , وتجعل النهوض بأعباء الاستقلال متى تم متعذرًا , وكان شر أعمالها قانون التضمينات , الذي أجاز للسلطة الإنكليزية كل ما فعلته في زمن الحرب من تقتيل وتغريم , وتغريب وتخريب , وتصرف فيما تملك الحكومة والأمة والأجانب في بلاد مصر بحيث لا تجوز مطالبتها , ولا مقاضاتها في شيء منها وكان هذا موقوفًا على المفاوضات المؤجلة , وكذا قانون المكافآت التي تعطى لمن يترك خدمة الحكومة المصرية من الإنكليز , فكانت تعطي الألوف الكثيرة من الجنيهات لمن يستقيلون من وظائفهم , حتى التي تنوطها الوزارة بآخرين منهم , أو تنوط بهم غيرها فمال الحكومة يذهب سدى , ثم قيدت الوزارة هذه العطايا بقانون؛ ليكون حقًّا ثابتًا لا ينقض , وقد وفت الجرائد الوطنية ذلك حقه من النقد. *** نتيجة الأطوار السابقة علمت الحكومة البريطانية في عهد وزارة ثروت باشا أن ما عدته منتهى الجود على مصر من إلغاء الحماية والاعتراف لها بالاستقلال والسيادة , وما رأته من منتهى الشدة والحزم في إدارة أمر البلاد من قبل وزارة موالية لها , ومن شدة قسوة السلطة العسكرية البريطانية في التنقيب عن المعتدين على رجالها - لم يرض الرأي العام المصري بل لم يزده إلا تماديًا في عداوتها , وجرأة على اغتيال رجالها، وأن نفوذ الوفد المصري الممثل في شخص رئيسه الزعيم الأوحد لا يعلوه نفوذ فعادت إلى وضع سياسة الحكمة في موضع تحكم السلطة العسكرية , والغشمرة الاستعمارية, فطفقت تفرج عن المعتقلين من أعضاء الوفد , وأمرت بنقل الزعيم من معقل جبل طارق حيث شاء من أوربة، وكانت قد جاءت به من جزيرة سيشل إليه؛ مراعاة لصحته؛ إذ خشيت أن يموت فيعتقد المصريون أنها قتلته أو عرضته للموت عمدًا. وكان قد سعى له بذلك بعض رجال الإنكليز وفي مقدمتهم صديقه رئيس حزب العمال البريطاني , الذي هو رئيس الوزارة الإنكليزية اليوم. نقل من جبل طارق إلى فرنسة فزاره فيها هذا الرئيس مرتين , ثم لما دنا موعد انتخاب أعضاء مجلس النواب المصري سمح له بالعودة إلى مصر حتى لا يقال: إن الانتخاب لم يكن حرًّا , وأن المجلس النيابي الذي يقرر الاتفاق مع الدولة البريطانية لا يمثل الأمة المصرية. عاد الزعيم إلى وطنه والكثير من الناس يظنون أن حزب الأحرار المعتدلين قد انتظم أمره واشتد أزره , وأن الحزب الوطني قد نشط من الخمول الذي كان قد عرض له , وشرع بعد إلغاء الأحكام العرفية يجدد نفوذه , وأن الوفد المصري قد صار حزبًا مثلهما , ولم يبق رئيسه زعيمًا للأمة بأسرها , وأن زعامته الحقيقية لا تعدو طلاب المدارس وجمهور المحامين , وأما كبار الأغنياء والمتحلين بالرتب الفخمة والألقاب الضخمة وأكثر رجال الحكومة، فهم عليه لا له ولا معه , وأن أكثر الفلاحين معلقة إرادتهم بإرادة العمد , الذين هم آلة في أيدي مأموري المراكز الذين يسيرهم المديرون كما تشاء وزارة الداخلية , وأن لعدلي باشا وقد صار مديرا للبنك العقاري نفوذًا كنفوذ الحكومة في نفس فريق كبير من الأغنياء , وهم الذين رهنوا أطيانهم لهذا البنك فهم يرجون رضاه ويهابون شذاه. وكان جمهور رجال الإنكليز في مصر يرون هذا الرأي , ويعتقدون هذا الاعتقاد , فما سمح الإنكليز لسعد بالعودة إلى مصر إلا وهم يحسبون أن عودته تزيد التفرق والشقاق احتدامًا , ولا يكون هو الجواد السابق الذي يربح السبقة. وكان جمهور المصريين المستقلين في الرأي غير المتحيزين إلى فئة ولا شخص يخشون من عاقبة الشقاق في هذا العهد , فوق ما كان من سوء عاقبته من قبل، يرون أن الخطة المثلى أن يبدأ الزعيم الأكبر بدعوة خصومه إلى الاتفاق والاتحاد؛ ليكون (البرلمان المصري قوة متحدة أمام الدولة البريطانية القوية في

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (الوفاق) جريدة أسبوعية سياسية اجتماعية أدبية , أنشئت في (بينن زورغ - جاوه) مديرها المسؤول (محمد بن محمد سعيد الفتة) وقد جاء في فاتحة العدد الأول منها أن الغاية منها ربط العلائق الودية , وتوطيد دعائم الجامعة والوفاق ونشر الحقائق , وبث التعارف والتعاون على البر والتقوى , ومؤازرة مجلة الجامعة الإسلامية الهندية وسائر ما وصل إلينا من أعددها مباحث في شؤون العالم الإسلامي , وبيان ما جاء عليه ملك الحجاز السيد حسين بن علي مفصلاً تفصيلاً , وقيمة الاشتراك فيها عشر روبيات في جزائر جاوه الهندية الشرقية وخمس عشرة (أي: جنيه إنكليزي) في سائر البلاد فنتمنى لها التوفيق والرواج. *** (حضرموت) جريدة أسبوعية وطنية , تبحث في السياسة والاجتماع صاحبها ومديرها المسؤول السيد عيدروس المشهور , ورئيس تحريرها السيد محمد بن هاشم - تصدر في جزيرة سربايا (جاوه) الغرض الأول: حض الحضرميين الكثيرين في جزائر جاوه على العناية بأمر وطنهم (حضرموت) , والسعي لعمرانه وإصلاح شؤونه , كما صرح به في فاتحة عددها الأول. على أنها لا مندوحة لها عن جعل حال الإسلام في جاوه ثم في غيرها في الدرجة الأولى من مباحثها - وهو ما نراه في كل عدد منها في هذا الزمن , الذي تساعد فيه الحكومة الهولندية دعاة النصرانية على هدم الإسلام فيها , فنسأل الله تعالى أن يقرن سعيها بالتوفيق وينفع البلاد والعباد بها , وإنه ليسرنا ظهورها وظهور رفيقتها الوفاق والذخيرة في هذه البلاد في هذا الوقت , ونتمنى أن يجدد جوالي العرب في جاوه همة سلفهم الصالح الذين نشروا الإسلام في تلك البلاد؛ فيتمكنوا من حفظه وتجديده بما تقتضيه حالة العصر. *** (الشرق والغرب) جريدة أسبوعية مصورة تصدر في مدينة (سنتياغورل أستارو) من (الأرجنتين) رئيسة تحريرها الأديبة السورية الشهيرة لبيبة هاشم منشئة مجلة (فتاة الشرق) التي لا تزال تصدرها باسمها في مصر , ومديرها العام ملحم أفندي خير الله , وموضوعها يعرف من اسمها، هي تؤيد النهضة العربية الأدبية , يسرنا أن عرف إخواننا السوريين لهذه الأديبة البارعة قدرها , وشدوا أزرها , وما زلنا نرى في كل عدد منها أسماء كثيرين يشتركون فيها لأنفسهم ولغيرهم , ويدفعون قيمة الاشتراك سلفًا عن سنة أو أكثر.

الدعوة إلى انتقاد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى انتقاد المنار والمواد المتأخرة لدينا إننا نُذكِّر قُرَّاء المنار من أهل العلم الديني وأولي الرأي فى مصالح الأمة بما التزمنا الدعوة إليه في فاتحة كل مجلد من الكتابة إلينا , بما يرونه منتقدًا في المنار لمخالفته للحق أو للمصلحة العامة؛ لإعانتنا على هذه الخدمة وقيامًا بما شرعه الله تعالى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وقد ضاق الجزء الأول عن هذه الدعوة؛ إذ عرض لنا في أثناء كتابة فاتحته أن ننشر فيها ما يناسب الحالة الحاضرة من مقصورتنا , وكنا تركنا لها كراسة واحدة وطبعنا ما بعدها فضاقت الكراسة عن كل ما أردنا نشره من المقصورة وعن الدعوة إلى الانتقاد كما ضاق ذلك الجزء ثم هذا عن نشر ما كتبناه من انتقاد سابق علينا من الشيخ عبد الظاهر، ومن صاحب مجلة السعادة , ومن ترجمة صديقنا الشيخ مهدي أستاذ الأدب المشهور - رحمه الله تعالى - وغير ذلك من المواد التي جمعت حروفها , وموعدنا بها الجزء الثالث إن شاء الله تعالى.

التبشير والمبشرون في نظر المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التبشير والمبشرون في نظر المسلمين (س2-8) من القس المحترم ألفرد نيلسن الدانيمركي بدمشق. 1- هل يحسب المسلم كل تبشير مسيحي للمسلمين مفسد وغير لائق مهما كان منصفًا وبعيدًا عن الطعن؟ 2- هل يحسب المسلم على حد سوى المسيحي الغيور في دينه والمريد نشره للغير , والمسيحي الذي لا يعمل بدينه في حياته ولا لأجله عند غيره؟ 3- أليس من واجبات كل متنور أن يعرف الكتاب المقدس الذي أسس عليه تمدن الغرب (قابل الحديث: اطلبوا العلم ولو في الصين) ؟ 4- ألا يستحق التبشير بالكتاب المقدس شكر كل إنسان؛ إما لأنه يعرف الإنسان فوائد لم يحصل عليها قبل، أو لأنه يجعل الإنسان بعد التأمل بتدقيق يفضل كتابه الخاص؟ 5- أليس عصرنا الحاضر في كل دين عصر الاجتهاد فيطلب من أصحاب الدين أن يتمسكوا به , ليس لأنهم هكذا وجدوا آباءهم، لكن لأنهم تدققوا , فوجدوا الدين نافعًا لأنفسهم وللهيئة الاجتماعية أكثر من أي شيء في الدنيا؟ 6- من هو أحسن: الذي يتمسك بدين من الأديان بعد الاقتناع ويطبق حياته عليه، أم الذي يبقى في دين آبائه بدون اعتقاد داخلي , وبدون أن يطبق حياته على أعلى مبادئ الدين وأشرفها؟ (الجواب) : عبارة هذه الأسئلة ضعيفة؛ لضعف عربية صاحبها. ونجيب عن الأول والثاني جوابًا واحدًا؛ لاشتراكهما في المعنى فنقول: إن المسلم يميز بقدر ما أوتي من العقل والعلم بين التبشير النزيه الخالي من الطعن , والتبشير البذيء المبني عليه، ويميز بين المسيحي الغيور في دينه العامل به وبين من اتخذه تجارة كأكثر المبشرين الذين عرفنا حالهم , ومن جعله سياسة كالذين رباهم هؤلاء المبشرون على التعصب وعداوة المخالف لدينهم من أبناء وطنهم , فصار الدين جنسية سياسية لهم، فهم لا يعملون بأمره بالفضائل ولا بنواهيه عن الرذائل , وإنما حظهم منه مقاومة المخالف , ولا يحتقر المسلم بطبيعة دينه شيئًا من الأشياء كاحتقاره للنفاق وأهله. وأما كون كل تبشير يوجهه النصارى إلى المسلمين مفسدًا وغير لائق , فهو ما أثبته الاختبار إلى الآن , وإن لم يكن من الضروريات المنطقية في حد نفسه - وأعني بهذا الاختبار سيرة جماعات المبشرين العامة , ولكن يوجد أفراد يدعون إلى دينهم بإظهار ما فيه من الفضائل , والدفاع عما يرد على عقائده وأصوله من الاعتراضات , بما أوتوه من معرفة مع مراعاة النزاهة واجتناب كل ما يؤذي المناظر , وقد عاشرت بعضهم في طرابلس الشام أيام طلبي للعلم , وجرت بيني وبينهم مناظرات كثيرة في بضع سنين , لم يشك أحد منا صاحبه في شيء , بل كنا نحترمهم لآدابهم وعدم اتجارهم بدينهم , وإن كانوا يأخذون الرواتب من بعض جمعيات التبشير. ومن أضر أعمال المبشرين في مدارسهم حتى الأميركانية منها , وهي أنزهها أنهم يشككون الطلاب المسلمين في دينهم , ولا يقنعونهم بالنصرانية , فيخرج الكثيرين منهم ملحدين أو منافقين وكذا طلاب النصارى وغيرهم , وهذا إفساد عظيم لا يخفى على ذكاء السائل المحترم , بل يوافق رأيه كما يؤخذ من سؤاليه 5و6 دع خدمة هذه المدارس ومثلها مستشفياتهم لمطامع السياسة الاستعمارية , حتى قال لورد سالسبوري الوزير الإنكليزي المشهور: إن مدارس المبشرين أول خطوة من خطوات الاستعمار؛ لأن أول تأثيرها إحداث الشقاق في الأمة التي تنشأ فيها , فينقسم بعضهم على بعض باختلاف الأفكار والشك في الاعتقاد؛ أي: فيتمكن الأجنبي من ضرب بعضهم ببعض، وينتهي ذلك بتمكين المستعمرين من نواصيهم , وسلب استقلالهم وإذلالهم وسلب ثروتهم. وأما الجواب عن السؤال الثالث ففيه تفصيل لا يتسع لبسطه باب الفتوى فنلخص الكلام فيه بأن مجموعة الأسفار التاريخية الدينية التي تسمى (الكتاب المقدس) هي من الكتب التي ينبغي للمشتغلين بالتاريخ وبعلم الملل والنحل وأمثالهم أن يطلعوا عليها , ولكن لا يجب على كل متنور أن يعرفها , ودعوى بناء تمدن الغرب عليها ممنوعة على إطلاقها وباطلة بالصفة التي يدعيها المبشرون في هذه الأيام؛ لاستمالة المفتونين بالمدنية الأوربية إلى النصرانية بها , فقوانين الغرب أبعد شرائع الأمم عن شريعة التوراة إلا في القسوة على الضعفاء المغلوبين , وآداب أهله أبعد من آداب جميع شعوب البشر عن آداب الإنجيل من كل وجه , فمدنية الأمم الغربية مادية شهوانية قوامها الكبرياء والتعالي , وعبادة المال والطمع والرياء والإسراف في الزينة والشهوات , فأين هي من أصول آداب الإنجيل المبنية على التواضع والزهد , والإيثار والصدق ونبذ الزينة واحتقار الشهوات؟ وقد فصلنا ذلك مرارًا كثيرًا في المنار. وأما العلوم والفنون وشكل الحكومات المقيدة فلم تكن أثرًا من آثار انتشار تلك المجموعة في بلاد الغرب , بل كانت من آثار العرب والإسلام؛ إذ من المسلمات التي لا جدال فيها أن تأثير الدين في الأمم يكون على أشده وأكمله في أول العهد بالاهتداء به , وبعد أن يأخذ مده غاية حده من النماء يضعف بالتدريج , وقد مكث الغرب عدة قرون بعد انتشار النصرانية فيه , ولم يظهر فيه شيء من مبادئ هذه العلوم والفنون , واستقلال الفكر والسلطة المقيدة , بل كان هذا مما انتقل إلى أوربة من الأندلس العربية الإسلامية , ومما حمله غزاة الحروب الصليبية إليها من سورية ومصر الإسلاميتين ولا يجهل القس الفاضل ما لاقى الدعاة إلى ذلك في أوربة من اضطهاد حملة تلك المجموعة المقدسة , وحماتها من الظلم والاضطهاد في محاكم التفتيش وغيرها , ولو اقتبس الغرب من الشرق دين العرب كما اقتبس علمهم وحكمتهم؛ لجمعت مدنيته بين الكمال في الدين والدنيا؛ ولم تكن مادية محضة كما هي الآن. وأما الجواب عن السؤال الرابع: فهو أن التبشير بهذا الكتاب ليس نعمة على كل فرد من أفراد البشر , حتى يجب شكره على كل فرد منهم , وإنما الشكر على النعم , بل نقول: إنه كان نقمة ومصيبة على جميع أهل البلاد التي نعرفها , بما أحدث من الشقاق والتعادي بين أهلها وفاقًا لما قررها اللورد سالسبوري , وإن جميع أهل العلم والبصيرة من أهل البلاد السورية التي يقيم فيها السائل يعلمون اليوم حق العلم أنه ما أفسد ذات بينهم , وفرق كلمة طوائفهم وحرمهم نعمة الرابطة الوطنية التي تفتخر بها البلاد الغربية إلا مدارس المبشرين ونزعاتهم , وقد صر ح بهذا أشهر كتابهم وخطبائهم وأهل الرأي فيهم من المسلمين والنصارى جميعًا , ومن المتفق عليه بين هؤلاء العارفين بشؤون البلاد الدينية والاجتماعية , أن التدين بالنصرانية كان أقوى وأصدق بين أهلها قبل هؤلاء المبشرين , والتعصب الذميم كان أضعف، وإن كانوا لا ينكرون أن المعرفة بالديانة كانت أقل , ولا نعرف لهم أثرًا في تنصير أناس ارتقوا بتنصيرهم إياهم , فصاروا خيرًا مما عليه أهل دينهم فضيلة وآدابًا وعبادة لله عز وجل , دع ما يعتقده المسلمون من بطلان كل عبادة مشوبة بالشرك. نعم إن هذه المدارس نفعت البلاد بما بثته فيها من العلوم والفنون العملية ولا سيما الطب والزراعة والتجارة , وهذه نعم تشكر، ولكنها ليست من التبشير في شيء , وإن الذين حذقوها في المدارس أبعد عن تعاليم الكتاب المقدس في عقائده وأحكامه ممن لم يدخل فيها. وما علل السائل المحترم به وجوب هذا الشكر , من كون هذا التبشير يعرف الإنسان فوائد لم يحصل عليها من قبل , أو يجعله بعد التأمل الدقيق يفضل كتابه الخاص - ففيه بحث ونظر من حيث كونه ليس من لوازم هذا التبشير الخاص به؛ فإن كل ما يتعلمه الإنسان يفيده ما لم يعلمه من قبل , ويقل من يدرس هذا الكتاب بسبب التبشير وبدلالة المبشرين دراسة استقلال تهديه إلى تفضيل كتابه عليه , على أن كل مسلم عرف حقيقة الإسلام ثم درس هذا الكتاب , يزداد به علمًا بتفضيل القرآن على جميع الكتب وكونه مهيمنًا عليها , وحكمه هو الحكم الفصل فيها وهؤلاء قليلون وأنا منهم , وهذا الكتاب الجامع لما عندهم منها من جملة الكتب التي أضعها بجانبي دائمًا لكثرة مراجعتي لها. وأما الجواب عن السؤال الخامس، فنقول فيه: إن القرآن أوجب الاجتهاد والاستقلال في فهم الدين , والاستدلال الذي ينتج اليقين في كل زمن وكل عصر، وإن الحاجة إلى هذه الهداية في هذا العصر أشد؛ لانتشار التعليم الاستقلالي وحرية الفكر فيه , فصار التقليد فيه أضر مما كان في العصور التي قبله , وآيات القرآن في ذم التقليد واتباع الآباء والأجداد صريحة لا تحتمل التأويل , ولكنها لم تمنع أدعياء العلم الدجالين من تحريم الاجتهاد وذم الاستقلال , ولولا رواج دعوة هؤلاء الدجالين واغترار كثير من العوام لهم، لكان المسلمون على أحسن حال , ولما صاروا حجة على الإسلام , ينفرون الناس عنه بجهلهم وصدودهم عنه؛ لستر جهلهم , حتى صاروا يحرمون العلم بالدين نفسه وهو المسمى عندهم بالاجتهاد الذي أوجبه الله , ويوجبون الجهل وهو التقليد الذي حرمه الله تعالى. وأما الجواب عن السؤال السادس فنجيب عنه بما يصححه فنقول: إن المنتحل للدين لا يكون صادقًا في انتسابه إليه إلا إذا كان موقنًا بصحته مذعنًا لأحاكمه إذعانًا نفسيًّا عمليًّا بأداء عباداته وترك محارمه , والتزام سائر أحكامه وآدابه إلا ما يعرض للبشر عادة من بعض المخالفات , التي يستغفرون الله منها ويتوبون إليه , وأما مجرد اللقب الموروث فلا قيمة له , والاعتقاد اليقيني هو المعبر عنه بالإيمان، والإذعان النفسي العملي هو المعبر عنه بالإسلام , هذا إذا قوبل أحدهما بالآخر وإلا فالمؤمن والمسلم يصدقان على شيء واحد , وقد بينا هذه المسائل في مواضع كثيرة من المنار بالتفصيل والدلائل. ومن القواعد المقررة عند علماء العقائد الإسلامية أن دين الإسلام ليس فيه شيء يحكم العقل باستحالته , وأن المسلم لا يكلف أن يعتقد ما هو محال عقلاً , وأنه إن وجد في الشريعة ما يعارض القطعي حسًّا أو عقلاً وجب تأويله بما يجمع بين العقل والنقل؛ لأن الله تعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286) والقاعدة عند غيرنا بخلاف ذلك , وهي أنه يجب الإيمان ولو بالمحال وإن كان بديهيًّا كالجمع بين النقيضين، أو الضدين المساويين للنقضين كالتوحيد الحقيقي والتثليث الحقيقي؛ أي: كون الإله واحدًا حقيقة وغير واحد حقيقة - فالمسلم الذي يتبع ما يوجبه عليه دينه من العلم الصحيح به والأخذ باليقين في عقائده لا يخشى أن تؤثر في نفسه دعوة دين آخر , وقد بينا في الرد على دعاة النصرانية بمصر منذ بضع سنين أن المسلم لا يمكن أن يصير نصرانيًّا؛ لأن الإسلام نصرانية وزيادة كما قال السيد جمال الدين الأفغاني , أو لأن من وصل إلى الكمال في أمر لا يختار أن يستبدل به ما دونه كما نقول نحن. وقد بين الله تعالى في كتابه المعجز للبشر من وجوه كثيرة أنه قد أكمل دينه الذي بعث به رسله , وعلى لسان خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين فقال: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وهذا يوافق سنته تعالى في النشوء والارتقاء. على أن كتب من قبله من الرسل لم تحفظ كلها كما حفظ كتابه , وسننهم وتواريخهم لم تحفظ كما حفظت سنته وتاريخه , فهذا المسيح عليه السلام ليس في الأناجيل الأربعة التي اعتمدتها الكنيسة من الأناجيل الكثيرة إلا الشيء القليل من تاريخه , وهي غير منقولة بالأسانيد المتصلة , وق

تسكين كلمات الأذان وجواب الإقامة وبدء السلام ورده

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تسكين كلمات الآذان وجواب الإقامة وبدء السلام ورده (س9-12) من الشيخ محمد عبد الظاهر برمل الإسكندرية بسم الله الرحمن الرحيم حضرة أستاذنا العلامة السيد محمد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (1) صدر من بعض السبكية إنكار على من لم يجب المقيم , ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم عقب الإقامة كالآذان , ولم يأتوا بدليل وقد رأينا فيه حديث أبي أمامة عند أبي داود ولكنه لم يصح؛ إذ فيه راو مجهول. (2) وأنكروا وصل المؤذن بين تكبيرتين من تكبيرات الآذان كما يفعل المؤذنون اليوم , ويقولون: السنة الفصل بين كل تكبيرة وأخرى وإفرادها بالوقف على كل واحدة , ولا يجوز قطعًا تحريك آخر التكبيرة الأولى لوصلها بالثانية. ولم نعثر لهذا على دليل صريح. (3) وقالوا: لا سلام على الجالسين في درس علم , فإن العلم أولى وأفرض. فعارضناهم بأن الأمر عام , والتخصيص لا دليل عليه , وقد سلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فرد بالإشارة. (4) وقالوا: لا كلام على الوضوء , وزعموا أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ , فلم يرد عليه حتى أتم الوضوء , ولم نعلم صحة هذا الحديث ولم يعلموا هم أيضًا. فهل عند سيدنا الأستاذ شيء ثابت في السنة على هذا كله؟ نرجو إفادتنا؛ لأجل العمل به ولكم الأجر والثواب على هداية السائل وإرشاد الحيران والسلام. *** إجابة الإقامة كالآذان (ج) لم يفتجر تلاميذ الأستاذ الشيخ محمود خطاب السبكي شيئًا من هذه المسائل؛ أي: لم يأتوا بها من عند أنفسهم , بل نقلوها عن الفقهاء، فأما استحباب إجابة المؤذن في الإقامة كالآذان فقد استدلوا عليه بحديث أبي أمامة ولم يروا ضعفه مانعًا من العمل به في مسألة من فضائل الأعمال على قاعدتهم المعروفة , ولو قالوا: إن سماع النداء في الأحاديث الصحاح الواردة في ذلك يشمل الإقامة؛ لأنها نداء كالآذان لم يكن بعيدًا وفي الحديث المتفق عليه: (بين كل آذانين صلاة لمن شاء) رواه الجماعة من حديث عبد الله بن مغفل , واتفق العلماء على أن المراد بالآذانين فيه الآذان والإقامة. وكون هذا من باب التغليب لا ينافي ما قلناه من عدم البعد وإلا كان نصًّا في المسألة. *** تسكين كلامات الآذان وأما الجواب عن الثاني فهو أن للمسألة أصلاً من وجهين: (أحدهما) : ما نقل عن السلف في ذلك , ففي كتابي المغني والشرح الكبير للمقنع من كتب الحنابلة (التي تتحرى نقل أقوال الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المجتهدين وأدلتها) أن عبد الله بن بطة قال: إن في الآذان والإقامة لا يصل الكلام بعضه ببعض معربًا بل جزمًا. وحكاه ابن الأعرابي عن أهل اللغة وروي عن إبراهيم النخعي أنه قال: شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما: الآذان والإقامة. قال صاحب المغني وصاحب الشرح الكبير: وهذه إشارة إلى جماعتهم؛ أي: الصحابة , فإن إبراهيم من أشهر علماء التابعين. اهـ وهذه حجة لهم. (والثاني) - وهو معارض له - إن حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في إجابة المؤذن , يدل على الوقوف عند كل كلمة (أي: جملة) من كلمات الآذان إلا التكبير , فإنه يقف عند كل تكبيرتين فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر. فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. قال: أشهد أن لا إله إلا الله إلخ ... ) ففيه أنه جعل الوقف على تكبيرتين في أول الآذان وآخره , بخلاف سائر الجمل المقررة مثنى مثنى , فقد وقف على كل واحدة منها ورتب الجواب عليهما - ومن المعلوم أن الوقوف في لغة العرب يكون بالسكون والوصل بالتحريك - فظاهر الحديث يوافق ما عليه المؤذنون اليوم في أمصار الإسلام من الجمع بين كل تكبيرتين , وهو يقتضي أن تحرك كلمة أكبر بالرفع في الأولى على القاعدة العامة في هذه اللغة , وهو التحريك في أثناء الكلام , لكن بعض المؤذنين يصلون أكثر كلمات الإقامة فيقفون بعد التكبيرات الأربع، والشهادتين كلتيهما، والحيعلتين كلتيهما؛ لأنهم يحدرون في الإقامة فلا يمدون كلماتها الممدودة ولا يمدونها , وكذا ويرتلونها كالآذان وهو المنقول , فهؤلاء ينبغي الإنكار عليهم، وكذا من يصل التكبيرتين الأوليين بالأخريين فيقف عند الرابعة. *** السلام على المشتغل بالعلم وأما الجواب عن الثالث وهو عدم السلام على الجالسين في دروس العلم فلا نص فيه عن الشارع , ولكنه منقول عن بعض الفقهاء وله نظائر: كقارئ القرآن بالتدبر , والملبي في الحج , قالوا: لا يسلم عليهم؛ لئلا يشغلهما عما هما فيه. وقالوا: إنه إذا سلم عليهما وجب عليهما الرد. فأمر الرد أعظم من البدء فقد قالوا: إن الإجماع قد انعقد على أن ابتداء السلام سنة , وأن رده فرض. وهو ظاهر آية {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} (النساء: 86) ولا يترك الواجب إلا بدليل قوي , فمن ترك السلام على المشتغل بالعلم والعبادة؛ لظنه أنه يتأذى بصرفه به عما شغل ذهنه وقلبه فله وجه وجيه , فإن السلام للتحاب والتواد , فإذا كان في حالة تنافي ذلك تركه , ولا يعد تاركًا للسنة المستفادة من عموم الأمر بإفشاء السلام؛ لأنه معارض في مثل هذه الصورة بما هو ثابت ومقطوع به من تحريم الإيذاء , ومنع الضرر والضرار المحقق، وكراهية ما كان مظنة له , وقد صرح بعضهم بأن السلام غير المشروع لا يستحق جوابًا. وترى تتمة بحثه في الجواب الآتي وهو: *** الكلام على الوضوء والسلام على المتوضئ وأما الجواب عن الرابع فهو أن الحديث الذي ذكروه هو ما رواه ابن جرير عن البراء بن عازب أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ , فلم يرد عليه حتى فرغ من الوضوء مد يده إليه وصافحه. ونذكر بهذه المناسبة ما يتعلق بمحظورات السلام , وأوسعها ما جمعه في هذا الشيخ محمد السفاريني الحنبلي في شرح كتابه (غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب) في التنبيهات المتعلقة بالسلام قال: يكره السلام على جماعة منهم: المتوضئ , ومن في الحمام , ومن يأكل أو يقاتل , وعلى تالٍ وذاكر وملب , ومحدث وخطيب وواعظ , وعلى مستمع لهم ومقرر فقه , ومدرس وباحث في علم ومؤذن ومقيم , ومن على حاجته ومتمتع بأهله أو مشتغل بالقضاء ونحوهم , فمن سلم في حالة لا يستحب فيها السلام لم يستحق جوابًا , وقد نظمهم الخلوتي وزاد عليهم جماعة فقال: رد السلام واجب إلا على ... من في الصلاة أو بأكل شغلا أو شرب أو قراءة أو أدعيه ... أو ذكر أو في خطبة أو تلبيه أو في قضاء حاجة الإنسان ... أو في إقامة أو الآذان أو سلم الطفل أو السكران ... أو شابة يخشى بها افتتان أو فاسق أو ناعس أو نائم ... أو حالة الجماع أو تحاكم أو كان في الحمام أو مجنونا ... فهي اثنتان قبلها عشرونا ورد النص في بعض هذه والبقية بالقياس على المنصوص , وإذا انتفى الوجوب بقي الاستحباب أو الإباحة , نعم في مواضع يكره الرد أيضًا كالذي على حاجته، ولعل مثله من مع أهله , ويحرم أن يرد وهو في الصلاة لفظًا وتبطل به، ويكره إشارة. قدمها في الرعاية , وقيل: لا كراهة؛ للعموم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رد على ابن عمر إشارة وعلى صهيب كما روى الإمام أحمد والترمذي وصححه. وإن رد عليه بعد السلام فحسن؛ لوروده في حديث ابن مسعود , وإن لقي طائفة فخص بعضهم بالسلام كره , وكره السلام على امرأة أجنبية غير عجوز وبرزة , فإن سلمت شابة على رجل رده عليها , وإن سلم لم ترد عليه. قال ابن الجوزي: المرأة لا تسلم على الرجال أصلاً. وروى من الحلية عن الزهري عن عطاء الخراساني يرفعه (ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام) وكره الإمام السلام على الشواب دون الكبيرة، وقال شيخ الإسلام: لا ينبغي أن يسلم على من لا يصلي ولا يجيب دعوته. اهـ ولنذكر ما اطلعنا عليه في كتب السنة مما يصلح دليلاً لما أورده أيضًا أو قياسًا عليه أو معارضًا له فنقول: روى أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم أن رجلاً - هو المهاجر بن قنفذ- سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول , فلم يرد عليه ثم قال له: (إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تُسَلِّم عليّ , فإنك إن فعلتَ ذلك لم أردّ عليك) وفي بعض الرويات أنه رد عليه بعد أن تسمح , وفي أخرى: بعد أن توضأ. وتعليل عدم الرد بأنه كان على غير طهارة. وروى الشافعي في سننه، والبيهقي في المعرفة، والخطيب عن ابن عمر: (أن رجلاً مرَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول , فسلَّم عليه فردَّ عليه وقال: إنما حملني على الرد عليك مخافة أن تذهب إلى قومك فتقول: إني سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي. فإذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلمن , فإنك إن سلمتَ لم أرد عليك) وروى ابن جرير عن أبي جهم أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يرد عليه حتى فرغ، ثم جاء إلى حائط فتيمم ثم رد عليه السلام. وروي عن ابن عمر مثله مرفوعًا فيمن سلم عليه وهو مقبلٌ من الغائط. وأما حديث: (ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام) الذي احتج به السفاريني , فقد أشار السيوطي في الجامع الصغير إلى ضعفه , وهو من مراسيل عطاء الخراساني وهو مدلس لا يحتج بمراسيله من يحتج بالمراسيل , فكيف بمن لا يحتج بها كالجمهور ومنهم الشافعية وهو معارض لأحاديث صحيحة. عقد البخاري في صحيحه البخاري بابًا في مشروعية (تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال) قال الحافظ ابن حجر: في شرح ترجمة الباب من الفتح: أشار بهذه الترجمة إلى رد ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنه يكره أن يسلم الرجال على النساء والنساء على الرجال. وهو مقطوع أو معضل. والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة , وذكر في الباب حديثين يؤخذ منهما الجواز , وورد فيه حديث ليس على شرطه وهو حديث أسماء بنت يزيد: مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا. حسنه الترمذي اهـ. ثم ذكر الحافظ حديث واثلة عند أبي نعيم في عمل اليوم والليلة مرفوعًا (يسلم الرجال على النساء ولا يسلم النساء على الرجال) قال: وسنده واه. ومن حديث عمرو بن حريث مثله موقوفًا وسنده جيد. وثبت في مسلم من حديث أم هانئ: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فسلمت عليه اهـ. أقول: تسليم الرجال على النساء يوافق آداب الإفرنج ومقلديهم في هذا الزمن وأما حديثا الباب في البخاري , فأحدهما: حديث سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أنه كان لهم عجوز , تطبخ كل يوم جمعة أصول السلق بدقيق الشعير , وكانوا إذا صلوا الجمعة ينصرفون فيسلمون عليها، فتقدمه إليهم، فيفرحون به. والثاني: تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم عائشة سلام جبريل فترد عليه السلام , وكان يجيء بصورة رجل. وحديث أم هانئ حجة على من منع السلام على من في الحمَّام , وفي الصحيحين وغيرهما , أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم على الصبيان. وعقد البخاري له بابًا للرد على من قال: لا يشرع. كالحسن البصري , وقيده الفقهاء بما قيدوا به السلام على المرأة التي يخشى الافتتان بها , وأما الفاسق فاحتج الجمهور في ترك السلام والرد عليه بمنع النبي صلى الله عليه وسلم الناس من الكلام عن المتخلفين في غزوة تبوك.

سكة الحديد الحجازية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سكة الحديد الحجازية (استولت السلطة الفرنسية في سورية على ما فيها من سكة الحديد الحجازية , التي هي وقف إسلامي خاص بالبلاد المقدسة , استولت على إدارتها وأدواتها وأموالها , وجعلتها تابعة لشركة الخط الحديدي الفرنسية بين الشام وحماه , وقد كتب إلينا كاتب سوري من أعلم الناس بتاريخ هذه السكة المقالة الآتية في سبب إنشائها , وإثبات وقفيتها وبيان حالها , واغتصاب السلطة الفرنسية لها , وهذا نصها) : إن الدولة العثمانية لما رأت أن المسلمين الساكنين في ممالكها , والمتفرقين في أنحاء كرة الأرض كمسلمي تونس والجزائر وفاس في المغرب، ومسلمي الهند والأفغان وإيران والصين , وسائر المشرق , يأتون من كل فج عميق في كل سنة؛ لأداء فريضة الحج , وزيارة حرم الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وقبره الشريفين , ورأت ما يعانيه أولئك الحجاج من بعد المسافة وتحمل مشاق الطريق المملوء بالمصاعب والمتاعب , وركوب متون الإبل لقطع تلك الصحاري الشاسعة - ارتأت [1] أن تمد سكة حديدية تمتد من حيفا ومن دمشق إلى المدينة المنورة. وقد كان لهذا الأثر الجليل مقصدان: (الأول) إجابة إلحاح مسلمي الأرض على مقام الخلافة في ذلك الوقت بهذا العمل؛ ليتمكنوا من أداء فريضة الحج , وسنة الزيارة بسرعة تامة وراحة واطمئنان على أموالهم؛ إذ يوجد فيهم الشيخ العاجز والطفل الصغير , والنساء المخَدَّرات وغيرهم من ذوي المعاذير كالأعرج والأعمى والمقعد. (الثاني) تأمين سلطة الخليفة على الحرمين الشريفين، إذ كان كل خليفة من خلفاء المسلمين يلقب بخادم الحرمين الشريفين , ويفتخر هو بأن يتولى هذه الخدمة إما بنفسه أو بواسطة من ينوب عنه؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى. وإذ كان هذا العمل العظيم يحتاج إلى نفقات طائلة وافرة , لا يمكن أن يقوم بها فرد من أفراد المسلمين , بل يتعذر أن تقوم به الدولة نفسها تقرر بعد الاستشارة والمذاكرة ما يأتي: (1) تشكلت لجنة عامة لهذا المشروع , أوفدت من قبلها الوعاظ المرشدين إلى جميع الأقطار الآهلة بالمسلمين؛ لحثهم على جمع الإعانات له، فأجيبت الدعوة في كل قطر إسلامي , وكانت اللجنة العليا تنشر مقدار الإعانات وأسماء أصحابها في الجرائد التركية والعربية , وغيرها من صحف العالم. وقد وضعت الدولة العثمانية لتنشيط هذا العمل (مداليات) أنواطًا من الذهب والفضة , وسمتها باسم إعانة السكة الحجازية , ويوجد كثير منه عند المتبرعين، كما أنها أحدثت أوراق طوابع خاصة سمتها بالطوابع الحجازية؛ لكي تلصق على كل ورقة من الأوراق الرسمية لمعاملات الدولة على كل سند وعقد ينظم بين عاقدين , لا فرق بينه وبين الطوابع المختصة بالديون العامة , ولا تزال هذه الطوابع إلى يومنا هذا تلصق ويؤخذ رسمها على جميع الأوراق والمستدعيات , التي ترفع إلى المقامات الرسمية في تركيا وفى المقاطعات التي انفصلت عنها في أثر الحرب وتقرر انسلاخها عنها بموجب معاهدة لوزان الأخيرة. (2) قبل وقوع الحرب الأخيرة حصل اعتراض من سفراء الدول الأجنبية على إلصاق طوابع الإعانة الحجازية على الأوراق التي تتقدم من طرف رعايا الأجانب , وكان من حجج اعتراضهم أن هذه الطوابع وضعت؛ لإعانة دينية إسلامية , فلا يجب على الأجانب دفعها , وبناء على هذا الاعتراض قررت حكومة الآستانة وقتئذ أن إلصاق الطوابع الحجازية على الأوراق المتعلقة بالأجانب أمر اختياري لا إجباري , وبلغت جميع ولاياتها هذا القرار , وهذه التبليغات لا تزال محفوظة في الدوائر الرسمية. (3) في 18 أغسطس سنة 1330 (الموافق سنة 1921) صدر قانون بإلحاق السكة الحجازية بنظارة الأوقاف بناءً على كونها من الأوقاف الإسلامية الموقوفة على الحرمين الشريفين , وفيه أن ريعها يصرف قسم منه على تأمين دوام عمارتها. والقسم الآخر يصرف على الخيرات والتحسينات في سبيل استكمال استراحة حجاج بيت الله الحرام , وتأمين راحتهم في حلهم وترحالهم. ومن المعلوم أن الوقف في عرف الشرع عبارة عن حبس العين الموقوفة على وجه تعود به منفعتها إلى ما وقفت له منه , وتبقى ثابتة لا تملك ولا يتصرف فيها ببيع ولا رهن ولا هبة ولا غير ذلك , مما يخل بغرض الواقف وينافي نص الشارع. فالأوقاف الصحيحة المماثلة لوقف السكة الحجازية لا تباع ولا تشترى , ولا يجوز هبتها لأحد , وإن لكل فرد من أفراد الأمة الإسلامية بعيدًا كان أو قريبًا حق الانتفاع بها في الحج والزيارة , وما يتبعهما من تجارة وحق المدافعة عنها إذا اعتدي عليها. وليس الوقف خاصًّا بالشرع الإسلامي، فعند سائر الملل أوقاف دينية وخيرية مصونة من كل اعتداء , ومحترمة عند سائر أهل الأديان. (4) كانت الحكومة الفرنسية في أثناء عقد قرضها الكبير لتركيا سنة 1914 طلبت جعل الخط الحجازي تحت إدارتها من قبيل الكفالة والضمان لذلك المال أو بعضه , فردت الحكومة التركية هذا الطلب الشاذ ردًّا قطعيًّا بحجة كون الخط وقفًا شرعيًّا , لا يجوز لها التصرف فيه بذلك على ما كان من احتياجها الشديد إلى النقود في ذلك الوقت. (5) كان الخليفة عند إنشاء هذا الخط هو الناظر عليه بما له من حق الولاية العامة في الشرع الإسلامي، لا بصفة أخرى. بعد هذه البينات نقول: إن السلطة الفرنسية في سورية لم تراع حق وقفية هذا الخط , ووجوب جعله في يد المسلمين الموقوف على منفعتهم الدينية , فاستولت عليه في آخر شهر شباط (فبراير) سنة 1924 , وجعلته تابعًا لشركة سكة حديد الشام وحماه وتمديداتها الفرنسية , بموجب مقاولة عقدتها معها مباشرة بغير استشارة أحد من متولي إدارة الوقف , ولم تشأ السلطة الأفرنسية المذكورة نشر تلك الاتفاقية؛ لما تعلم هي من إجحافها العظيم بمصالح الخط , بل أبقتها سرًّا مكتومًا بينها وبين الشركة المذكورة، ولكن تيسر لبعض المنقبين أن يعلم من أحد كبار مأموري هذه الشركة , أن حصتها هي بنسبة ستين بالمائة من أصل ريع (واردات) الخط , ولها فوق ذلك امتيازات أخرى من التصرف فيه كاستعمال قاطراته وشاحناته (عربات النقل) على خطها بلا مقابل ولا بدل , ولم يسمع ولم ير في زمن من الأزمان ولا في مكان من الأمكنة ذات القوانين والنظام , عقد اتفاقية جائرة ظالمة بهذه الدرجة المدهشة لا تأتلف مع شرع ولا منطق ولا قانون. على أن شركة سكة حديد الشام وحماه وتمديداتها لم تتمكن من تاريخ تأسيسها قبل ثلاثين سنة تقريبًا حتى الآن من تحسين شئون إدارتها وتلافي عجزها المالي السنوي المستمر , وهي تستوفي أعشار حمص وحماه؛ لسد عجزها، خصوصًا فيما يتعلق بخط رياق - حلب؛ إذ الكفالة الكيلو مترية بموجب صك امتيازها لأن تكون الحاصلات غير الصافية ثلاثة عشر ألف وستمائة فرنك , عن كل كيلو متر في السنة، علاوة على كون مقدار هذه الحاصلات زهيدًا جدًّا بالنسبة إلى الخطوط الحديدية , لم تتمكن الشركة الذكورة من الوصول إليه والحصول عليه , وأما حاصلات إدارة السكة الحجازية التي نزعتها السلطة الفرنسية من يد إدارتها , التي لم يكن يوجد بين رجالها أحد ما من الأجانب , فلم تنقص عن ثمانية وعشرين ألف فرنك في السنة , عن كل كيلو متر من السنين الأربع الأخيرة , وهي قد تمكنت من أن توفر مبلغًا نقديًّا قدره (470522) ليرة؛ لأجل استعماله في ترميم أقسام الخط المخربة ما بين معان والمدينة المنورة , ولكن الشركة الأفرنسية استولت على هذا المبلغ أيضًا وعلى جميع ما في مخزن الإدارة الكبيرة من الأدوات , التي تبلغ أثمانها مائتين وعشرين ألف ليرة أخرى , وعلى جميع القاطرات والشاحنات والعربات بما فيها , والقسم الذي تم إصلاحه وترميمه المعد لاستئناف العمل، وتأمين السير والسفر للحجاج الكرام حتى المدينة المنورة، كما كان متبعًا قبل الحرب. نفذت السلطة الأفرنسية في سورية هذه المعاملة المجحفة خلافًا للشرع الشريف ولنص المادة (60) الستين من معاهدة لوزان , ولأحكام المواد السادسة والتاسعة من صك الانتداب على سورية , التي تقضي باحترام الأوقاف , وعدم التجاوز عليها والتدخل في شؤونها , فهذا الاعتداء يعد اعتداءً على الشرع الإسلامي نفسه وعلى المصالح الإسلامية الخاصة بالمسلمين , وقد تبعه الاعتداء على جماعة كثيرة من المسلمين، فإن الشركة المذكورة قد بادرت من أول العهد باستيلائها على الخط الحجازي في سورية بإخراج مائتين وواحد وأربعين مأمورًا ومستخدمًا فيه , فقضت بذلك على مائتين وإحدى وأربعين عائلة , واستخدمت من عندها من يقوم مقامهم ممن ليس له مثل ما لهم من الخبرة والتمرن على العمل؛ لأنهم شبوا في خدمة الخط الحجازي، وتدربوا وتمرنوا فيه منذ سنين طويلة , وكانوا معدين للاستخدام فورًا على ما يتجدد من أقسامه ويوجد من فروعه تأمينًا؛ لدوام سير الأعمال، ومنعًا لتأخير السفر إلى مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام. إن حركة السلطة الأفرنسية الواقعة هي عبارة عن ضربة متوجهة إلى قلب الإسلام , وكان يجب عليها أن تساعد على توحيد فروع الخط مع إدارته , وتشكيل لجنة إسلامية؛ لمراقبة سير أعماله بموجب قرار لوزان المؤرخ في 27 كانون الثاني (يناير) سنة 1923 خدمة للمقصد الجليل , الذي أسس لأجله ولإدامة حياته ولكنها لم تفعل هذا، ولم تترك الخط لإدارته الإسلامية المنظمة , بل شاءت أن تقضي عليه، وأن تجعله للفرنسيين لا للمسلمين. إن تجزئة خط الحديد الحجازي جناية عليه , لا يجوز التسامح فيها ألبتة؛ لأن بعض أقسامه يضمن بقاء البعض الآخر؛ إذ منها ذو الربح الدائم. وبعضها لا ربح فيه في معظم السنة , وإننا نرى بعض أقسامه المثمرة كقسم حيفا بيد سلطة غريبة غير مسلمة أيضًا , فهي تجني الثمار منه وتصرفها في غير ما وقفت عليه الخط وما أنشئ لأجله , وبذلك يبقى القسم الجنوبي الكبير الممتد إلى المدينة المنورة في منطقة الحجاز خرابًا , لا يقوم بالمقصد السامي الذي أسس لأجله، وهو نقل الحجاج الكرام إلى مدينة الرسول , وتقريبهم من بيت الله الحرام، لعدم كفاية حاصلاته لتسديد ما يحتاج إليه من النفقات , فإننا نرى في آخر إحصاء للخط الحجازي قبل الحرب (وهو إحصاء سنة 1913) أن واردات الخط الكبير كانت (191374) ليرة عثمانية ذهبية , وأن نفقاته بلغت (221430) ليرة فيكون النقص (30056) ليرة , ولكن واردات قسم حيفا كانت في السنة المذكورة (92421) ليرة، ونفقاته (29599) ليرة، فتكون الزيادة (62824) . فيتضح من ذلك أن قسم حيفا أيضًا لازم غير مفارق للخط الكبير , وأنه بدونه لا يمكن السير والسفر على هذا الخط المقدس بسبب العجز البالغ (30056) ليرة. يضاف إلى ذلك أيضًا أنه إذا بقى قسم حيفا منفصلاً عن الفرع الكبير على اتصاله بالبحر , فإن تعليمات الفحم التي تقدر بـ (18000) طن ستنقل بأجرتها على هذا القسم , وتبلغ مصاريفها (14500) ليرة تقريبًا. يعني أن الخط الجنوبي الكبير يخسر لذلك سنويًّا (44556) ليرة , وهذا الحال يكون قاضيًا على حياته مما لا يرضاه العدل النزيه , والوجدان الطاهر اهـ. (المنار) يجب على العالم الإسلامي أن يرفع صوته بالاحتجاج على ما فعلته السلطة الفرنسية في سوريا من الاستيلاء على السكة الحجازية، وسنبين هذا في جزء ثان إن شاء الله تعالى.

الوثائق الرسمية في المسألة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوثائق الرسمية في المسألة العربية (1) الاتفاق بين الأمير فيصل والدولة الفرنسية على الانتداب في سورية نشرت الحكومة الفرنسية بيانًا عن المسألة العربية جاء فيه نص الاتفاق الذي عقدته بينها وبين الأمير فيصل في أواخر سنة 1919 , وهو الذي حمله فيصل إلى سوريا في شهر فبراير سنة 1920؛ ليأخذ من زعماء الأمة تفويضًا بعقده نهائيًّا. وقد بينا ما كان من أمر خيبته فيه من قبل وهذه ترجمة الاتفاق: باريس في 6 يناير (كانون) الأول سنة 1919 المادة1 - تؤيد حكومة الجمهورية الفرنسية اعترافها بحق الشعوب السورية في حكومة ذاتية. المادة2 - تتعهد الحكومة الفرنسية ببذل مشاركتها بكل صفة للأمة السورية وضمان استقلالها ضد كل تعد في الحدود التي سيعترف لها بها مؤتمر الصلح. المادة3 - يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن الأمة السورية المستقلة لا يمكنها أن تستغني الآن عن مشاورة ومساعدة (مندوب) يرشدها في إدارتها إلى الوقت الذي تقدر فيه على إدارة شؤونها بنفسها , ويقبل باسم الشعوب السورية أن يفوض إلى فرنسة هذا الانتداب. المادة4 - يتعهد صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن يطلب من الحكومة الفرنسية - من هذه الحكومة وحدها - المستشارين اللازمين؛ لتنظيم الإدارات الملكية والعدلية والنافعة , والمعارف وكل الفروع التي يتبين النفع من إنشائها باتفاق مشترك بقصد النظام والتقدم. ويكون للحكومة الفرنسية حق الأولوية في المشروعات الصناعية , والقروض المحلية , وتحترم أساس القانون الشرعي في مسألة الأوقاف. المادة 5 - تسهيلاً لتسيير الضمان المعطى من فرنسة للأمة السورية يطلب صاحب السمو الملكي الأمير فيصل حالاً من الحكومة الجمهورية رجالاً - ضباطًا - مدربين؛ لتنظيم الدرك والشرطة. المادة 6 - يقيم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل في باريس بجانب ناظر الخارجية معتمدًا مفوضًا موكلاً , يتتبع المسائل الخارجية التي تهم الأمة السورية، ويفوض إلى الممثلين السياسيين والقناصل الفرنسيين في الخارج تمثيل المصالح الخارجية للدولة السورية، ويصدر للقناصل توكيلاً منه بالمسائل السورية. المادة 7 - يكون لبنان مستقلاًّ تحت الوصاية الأفرنسية في الحدود التي يخصصها له مؤتمر السلم. المادة 8 - سيبقى هذا الاتفاق الحاضر الذي تعين به القواعد العمومية مكتومًا بين الطرفين إلى حين إمضاء الاتفاق القطعي المفصل (ويدون عند رجوع الأمير فيصل من سوريا) . ويتبلغ هذا الاتفاق إلى مؤتمر الصلح في الوقت الملائم. *** (2) تعديل هذه الوثيقة باريس في 16 يناير (كانون الأول) 1919 بناءً على التصريح الفرنسي - الإنجليزي بتاريخ 9 تشرين الثاني سنة 1918 من جهة، وبناءً على المبادئ العامة المختصة بتحرير الشعوب , وبالمشاركة الودية المعلنة من قبل مؤتمر السلم من جهة أخرى , تؤكد الحكومة الجمهورية الأفرنسية اعترافها بالحق للأهلين الناطقين باللغة العربية والقاطنين في أرض سوريا من كافة المذاهب أن يتحدوا؛ ليحكموا أنفسهم بأنفسهم بصفتهم أمة مستقلة يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن اللأهلين السوريين , لا يستطيعون في الوقت الحاضر؛ لاختلال النظام الاجتماعي الناشئ عن الاضطهاد التركي، والخسائر المحدثة أثناء الحرب - أن يحققوا وحدتهم , وينظموا إدارة الأمة دون مشورة ولا معاونة من أمة مشاركة , على أن تسجل تلك المشاركة Cooperation من قبل جمعية الأمم عند إبرامها فعلاً. وباسم الشعب السوري يطلب هذه المهمة من فرنسة. 1- تتعهد الحكومة الأفرنسية بأن تمنح للأمة السورية مساعدتها على شؤونها بجميع أنواعها , وأن تضمن استقلالها ضد كل تجاوز ضمن الحدود التي سيعترف بها مؤتمر السلم , وفي تعيين هذه الحدود ستبذل الحكومة الأفرنسية جهدها؛ لتقرير التعديلات العادلة من حيث الجنسية واللغة العربية. 2- يتعهد صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن يطلب من الحكومة الجمهورية الأفرنسية - هذه الحكومة وحدها - المستشارين والمدربين والمأمورين الفنيين اللازمين لتنظيم جميع الإدارات الملكية والعسكرية , وهؤلاء المستشارون والأخصائيون يستمدون تفويضهم وسلطتهم التنفيذية من الأمة السورية. يشترك المستشار المالي في إعداد ميزانية الخرج والدخل؛ لإقامة أساس التنظيم المالي , الذي تبنى عليه قواعد إدارة الدولة (السورية) الجديدة، وهو الذي ينفذ بالإجبار جميع نفقات الإدارات المختلفة , وله أن يبحث عن حصة سورية من الديون العمومية العثمانية. وستكون السكك الحديدية المعطى امتيازها من خصائص مستشار (النافعة) وفي أثر انعقاد الاتفاق الحاضر تمنح الحكومة الفرنسية مساعدتها؛ لأجل تنظيم الدرك والشرطة والجيش. يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل للحكومة الفرنسية بحق الأولوية التامة في المشروعات والقروض المحلية , إلا ضد الوطنيين الذين يعملون لأنفسهم ولا يعيرون أسماءهم لرأس مال أجنبي. 3- يقيم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل في باريس لدى ناظر الأمور الخارجية مفوضًا , ينتدبه سكرتيره للأمور الخارجية , يعهد إليه النظر في المسائل الخارجية التي تهم الأمة السورية , ويعهد إلى ممثلي فرنسة السياسيين وقناصلها في الخارج بتمثيل مصالح دولة سورية الخارجية. يكون للمفوض السوري الذي يقيم في باريس مندوبون تابعون لأمره في لندن ورومة وواشنطن ضمن نطاق السفارة الأفرنسية , ووظيفتهم رؤية المسائل المختصة بأحوال السوريين الشخصية. وسيعهد للقناصل الفرنسويين بمهمة القنصلية السورية. 4- يعترف صاحب السمو الملكي الأمير فيصل باستقلال لبنان تحت الوصاية الفرنسية، وبالحدود التي سيعينها له مؤتمر السلم. 5- يتعهد صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بأن يتعاون مع فرنسة على تنظيم حكومة لدروز حوران في داخل الدولة السورية تكون متمتعة بأوسع شكل من الاستقلال الإداري يلتئم مع وحدة الدولة. 6- تتعهد الأمة السورية بأن تبذل جميع قواها في المساعدة التامة لفرنسا في كل فرصة؛ امتنانًا من العهد الذي عقدته مع المندوب العالي الأفرنسي ممثل الدولة المساعدة إقامة عادية في حلب؛ ليكون بهذه الصورة على مقربة من كيليكيا، وهي منطقة الحدود التي تجتمع فيها عادة الجنود الحامية، ويكون لرئيس الدولة السورية والمندوب العالي الأفرنسي مشتى في بيروت التي ستتمتع بإدارة بلدية مختارة. يبقى هذا العهد الذي تضبط به المبادئ العمومية مكتومًا بين الفريقين إلى إمضاء الاتفاق القطعي المفصل , الذي سيحرر عند رجوع صاحب السمو الملكي الأمير فيصل إلى فرنسة , وسيعرض في الوقت الموافق على مؤتمر السلم اهـ. (المنار) هذا هو الاستقلال الذي كانت جرائد الدعاية البريطانية تبشر به السوريين مع سائر العرب , وفي مقدمتها جريدة القبلة , وجريدة الكوكب , وجريدة المقطم. هذا هو الاستقلال الذي كان فيصل يحلف الأيمان المغلظة في خطبه ومحادثاته بأنه لا يقبله إلا تامًّا ناجزًا مطلقًا من قيود الحماية والوصاية , وكل تدخل أجنبي وإلا كان بريئًا من دم محمد , ومن نسب محمد صلى الله عليه وسلم. وكان يطلب من وجهاء السوريين وأحزابهم , ومن المؤتمر السوري أن يفوضوه في سياستهم الداخلية والخارجية بلا شرط ولا قيد , وكادوا يخدعون، ولو فعلوا لسجل على بلادهم حمل العبودية , ولكنه خاب أولاً وآخرًا. ولله الحمد، ولا ندري ما تكون عاقبة أمره فيما عاهد عليه الإنكليز في العراق , من تقييد الأمة بإمضاء صك عبوديتها وبيع استقلالها. ((يتبع بمقال تالٍ))

أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض

الكاتب: محمد الرشيدي بك آل الحجازي

_ أثارة من تاريخ الزلازل وعلم الأرض لمحمد الرشدي بك آل الحجازي من أركان الحرب (كتب بمناسبة تلك الزلازل الشديدة التي انتابت المدن الكبرى في بلاد اليابان، فخربت العمران، وقتلت مئات الألوف من السكان، وسارت أخبار أهوالها الركبان، وقد جمعت المقالة للمجلد السابق ومرت سنة كاملة ولم يمكن نشرها، وإنما ننشرها الآن للعبرة بها والتذكير بحقارة هذه الدنيا وعمرانها والترغيب في العمل للآخرة التي يندر في هذا العصر من يذكر بها. قال الكاتب) : رمى الحدثان أهل اليابان بمأساة صمدوا لها صمودًا، وقرحوا أعينًا وخدودًا، ولا عجب، فإن الخطب الذي لحق بهم من أقسى الأرزاء التي أصابت الإنسانية من غليان مراجل الأرض التي اتخذ الناس مسكنهم منها، واعتمدوا في معاشهم عليها، ولكن الإنسان جبل على النسيان، فمن ذا الذي يذكر زلازل مسيني التي أودت بما يزيد عن مائتي ألف نفس، وزلازل صقلية التي خربت مرارًا مدنها وقراها , ونخص بالإشارة منها تلك التي خربت في عام 1693 وحده أربعًا وخمسين مدينة وثلاثمائة قرية , وقتلت ستين ألف نسمة! فكأنما قيل لأهل تلك الجزيرة الجهنمية: لدوا للموت وابنوا للخراب ... فكلكمو يصير إلى تراب ولكن ليس بسير الأمور إلى الزوال بالسنة الطبيعية المطردة، بل فجأة وغيلة بغدر الطبيعة وحسن ظن الناس بدنياهم. دار الردى وقرارة الأكدار ومن ذا الذي فكر قبل مصيبة (طوكيو ويوكوهامة) وغيرهما من مدن اليابان وقراها أو بين وقوعها وبين حدوث التثور الأخير لبركان أثنة في صقلية في أن ليسابونه (أو ليشبونة) عاصمة البرتغال منها أصابتها مثل هذه الأرزاء مرارًا، وأنها في شهر نوفمبر من عام 1755 رجتها الزلازل رجة شعر بها في مقدار جزء من اثني عشر جزءًا من سطح الكرة الأرضية، وصيرتها أطلالاً تدفن تحت ترابها وأحجارها , وخشبها وحديدها أكثر من ستين ألف شخص! نعم، لا يذكر إلا القليل من أهل التاريخ - الذين مهمتهم أن يحفظوا ذكرى الحوادث - تلك الكوارث التي انتابت الإنسانية في عام 79 قبل الميلاد حيث زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت أثقالها في ساحل نابولي وما اكتنفه، فقوضت أعراش بومبئي وهركولانوم، وأطغت عليهما سيلاً من المواد الذائبة التي لفظها بركان لم تطفئ الأيام إلى الآن جمر صدره - وهو بركان فيزوف - وما أصاب منها أرجاء البحر المتوسط في عامي 19 و 526 بعد المسيح , حيث قضت في كل مرة على نحو مائة وعشرين أو مائة وخمسين ألفًا من البشر , وما كان لهم من أموال وأنعام، وفي مدينة نابولي نفسها التي رجت أرضها عام 1638 رجة قضت على ما فوق ثلاثين ألفًا من الأنفس، وجزيرة جامايكا التي اهتزت اهتزازًا كفى لإزالة مدينة وأهلها من عالم الأحياء؛ إذ محت مدينة بور روايال , وأماتت أكثر من ثلاثة آلاف نفس من أهلها، وفي ليما وكالاس حيث دمرت المدينتان , وفارق ثمانية عشر (ألفًا) من السكان الحياة فيهما، وفي المارتينيك حيث صارت مدينة سان بيير إلى ما صارت إليه بور روايال. لا يذكر سوى المؤرخين ذلك وغيره مثل طغيان الماء على الأرض في مدينة (جالفستون) بسبب حركة الزلازل التي دمرت المدينة كلها، وحكمت طوفان السيل فيها، وما لحق بالإنسانية قبله وبعده من الجوائح والمصائب بل سينسى أهل اليابان أنفسهم ما لحق بجزائرهم في أوائل هذا الشهر، كما نسوا ما حل بهم من قبله، وسينسى أهل مسيني ما أصابهم من أثنة وزلازل مسيني وصقلية، وأهل إيطالية ما أصاب أنحاءهم الجنوبية، كما سينسى أهالي الدرمانال منهم طغيان النيل في هذا العام. ولولا ذلك لما سكن أحد نابولي وليشبونه ومسيني وأراضي صقلية وجزائر اليابان والأقيانوسية وغيرها، ولما اتخذت إيطاليا نابولي أهم مرفأ لها، ولما شنت الأمم الحروب بعضها على بعض، مع إنه لم تخرج أمة مرة من حرب ولو ظافرة إلا وأسفت على ما ضاع من النفوس والأموال، وفضلت الرغبة إلى نعيم السلام، الذي هيهات أن تسمح به الأيام …… ولكن أين يذهبون إذا أرادوا السكنى في جهة لا زلازل تحركها؟ إن شرقي آسية ووسطها وجنوبيها وجزائر الأقيانوسية ووسط أفريقية وشماليها وجنوبيها ووسط أوروبة وجنوبيها وغربها أراض صلبة , هي من أكثر الأراضي تأثرًا بالزلازل , وفيها كثير من البراكين لا تزال تلفظ اليحموم وسيول المواد الذائبة والنار، كما أن أميريكة من أراضي أمير الويلس (برنس أوف ويلس) وإسلانده أو (آيلند) - إذا اعتبرنا إسلانده من أميريكة (- وهو على رأينا أصح من اعتبارها من أوروبة) - شمالاً إلى رأس القرن (كاب هورن) في أراضي النار جنوبًا بلاد أوجدتها سلسلة براكين , قد تكون سبب زوالها بعد أن كانت سبب وجودها. ولقد أصابت اليابان قبل الآن من هذا القبيل مصائب كثيرة , أخصها مصيبة زلازل عامي 1891 و 1896 وأكثر منهما مصيبة 1855 التي دمرت طوكيو وكانت وقتئذ تدعى (ييدو) ، كما أن زلازل كراكاتا التي لم تقتصر على رج ما على القشرة الأرضية من جزائر الأقيانوسية وجنوب الصين والصين الهندية وسيام الهند، بل وصلت تموجات الارتجاج إلى جنوب أفريقيا، بل إلى جنوب أميريكة أيضًا، بل إلى ما وراء رأس القرن غر. وكذلك الهند التي أصابها ارتجاج عقب زلازل طوكيو ويوكوهامة، هذه الأخيرة هزتها كلها زلازل عام 1861 هزة عنيفة , وكذلك أواسط آسية , رأت من الزلازل ونتائجها كثيرًا مما يروع ويفزع، وخصوصًا زلازل أرجاء بحيرة البيكال التي طرأت في عام 1888. ولقد ذكرنا زلازل ليشبونة في عام 1755 وقد اهتزت لرجاتها أرجاء الجزيرة (أو شبه الجزيرة!) الأميرية - أي: البرتغال وأسبانية وإفرنسة وسويسرة وجزء من شمالي إيطاليا وجزء من غربي ألمانية وشماليها وجنوبي السويد , وجنوبي النرويج وغربيها وجزء من شماليها , وأراضي الدانمارك وهولاندة و (بلجيكة) وجزيرتي إنكلترة وأيرلندة كلها. ولم تكن أمريكة الشمالية ولا أمريكة الجنوبية بأسعد حظًّا، فقد أصابت الأولى زلازل كثيرة، نخص بالذكر منها زلازل 1875 التي رجت شرقيها، وزلازل 1895 التي رجت وسطها، وزلازل 1811 و 1711 التي رجت كل أراضي جنوبي أميريكة الشمالية، وبعض أراضي شمالي أمريكا الجنوبية وما بينهما من جزائر الانتيل , وأما الثانية - أي: أمريكة الجنوبية - فقد أصابها في شمالها ووسطها وجنوبها الغربي والشرقي ما دونته سجلات التاريخ، وقماطر علم الأرض، وخصوصًا زلازل 1815 التي أصابت الشيلي، وزلازل 1895 التي عمت الشيلي وقسمًا كبيرًا من الجمهورية الفضية (الأرجنتين) والأوروجواي والباراجواي وبوليفية، وجزءًا من البرازيل. فهل سلمت أراضي الشرق العربية - ونعني بها ما جاور مصر - من تلك الزلازل؟ لا، بل تناوبتها الزلازل حينًا بعد حين، نخص بالذكر منها تلك التي لم تمر عليها ثلاث وخمسون سنة كاملة، وهي زلازل عام 1870 التي شملت مصر وقسمًا كبيرًا من سودانها وطرابلس الغرب وتونس غربًا، وقسمًا كبيرًا من بلاد العرب وسورية والأناضول والبلقان وجنوبي إيطالية! وأما أراضي الجزائر والمغرب الأقصى فهي جبلية بركانية في أكثر مساحتها , ومن المعلوم أن أفريقية كانت متصلة بأوروبة - وعلى الأخص في جهة المغرب الأقصى , وما فصلتهما سوى الزلازل التي مزقت القشرة الأرضية البارزة عند مقترب المحيط الأطلسي والبحر المتوسط وأنشأت بينهما بحر الزقاق أو ممر جبل طارق. وإذا لم يسجل التاريخ زلازل في صحراء أفريقية الكبرى ولا في غربيها ووسطها وجنوبيها , فليس ذلك لأنه لم تحدث هناك زلازل؛ بل لأن الطوارق وأهالي السودان والكونغو والهوتانتوتيين وغيرهم , لم يسجلوا ما لحق بهم منها، ولم يقيسوا مدى تموجاته بآلات قياس الزلازل … بل لم يرتقوا إلى تدوين أمثال هذه الأحداث الكونية في تواريخ بلادهم. لقد درس علماء الأرض والباحثون منهم في الزلازل خاصة هذه الشؤون، واستعملوا ما يستخدمون من آلات رصد الزلازل كالبندول الأفقي , وآلة مقياس الزلازل وغيرهما، فوجدوا أنه لا يوجد مقدار شبر من الأرض خلوا من الاهتزاز الذي قد يشتد يومًا , فيكون زلزلة تميد بها الدور والقلاع والجبال … ولا تترك من البروج المشيدة إلا الأطلال … فأين يقطن الناس المساكين ليأمنوا أن تخسف بهم الأرض؟ ؟ ؟ لعمري إن آمن أنواع المساكن ضررًا هي الأهرام لمن أراد سكنى قصور الأحجار , وما بنى بالبتون على نمط مخازن الذخائر في القلاع، وأخفها وأسلمها الخيام التي يقطنها البدو آمنين أن تسقط عليهم السقوف والجدران … فهل تعود المدنية بعد ازدهارها ورفاهتها، إلى ما كانت الإنسانية عليه في بداوتها وتقشفها؟ لقد كان اليابانيون ولا يزال بعضهم إلى الآن يبنون دورهم بقصب البمبو جاعلين جدرانها من الورق … كما كان أهل الآستانة يبنون مساكنهم بالخشب , ثم هؤلاء وأولئك اتبعوا حركة (المدنية) الحديثة في البناء بالأحجار والبتون والحديد، ومنهم من فكر في اتباع الطريقة الحمقاء , أو طريقة وضع الربح فوق كل اعتبار آخر - وهي الطريقة الأميركية الفظيعة التي تشيد بها منازل ذات طباق تعد بالعشرات … فإذا ارتجت الأرض تداعت جدران هذه الأبراج المشيدة , وسقط سكانها من أعلى عليين إلى أسفل سافلين تحت الأنقاض وفيما بينها! إن هذه الحماقة في التقليد نراها هنا في ألمانية أيضًا …. فإن كثيرًا من الشركات اغتنمت حلول الحكم الجمهوري الذي ترك الأعنة لكل النزعات في محل الحكم القيصري الذي كان يحرم على الناس أن يعلوا دورهم، فأخذت في بناء الدور الشاهقة التي تريد بها أن تضارع (المحتكات بالسحب) الأميركية.. ويعلم الله متى يعاقب البانون والساكنون على هذا الخطأ الفظيع، نسأل الله السلامة لنا وللناس من عواقب حماقتهم , واندفاعهم وراء الربح بغير تروٍ ولا تفكير! تسجل مراصد الزلازل في أنحاء العالم آلافًا من الزلازل في كل عام، ولا يفهم الناس أنهم يعيشون ويبنون قصورهم على قمة بركان , إذا كان لم ينفجر اليوم فقد ينفجر غدًا أو كما قال أحد الناس في إبان الثورة الأفرنسية إنهم يرقصون فوق وعاء أو (برميل) بارود) . إن هذه الأرض التي يظنها الناس ساكنة لها في (بدنها) حركة دائمة، وكيف تستقر قشرة رقيقة على نواة غليظة من الجمر؟ وما البحر بآمن من الأرض فإنه على زلازل أنوائه وأمواجه، له زلازل من تحته كالأرض. فمتى تعقل الإنسانية وتتخذ لنفسها الحيطة من خطر هي معرضة له في كل طرفة عين؟ فليرجع الناس إلى ما كانت عليه مبانيهم من البساطة والصغر، وإذا كان العلم قد أفادهم، فليتخذوا وسائل لمنع سقوط السقوف والجدران، والوقاية من الحريق الذي كان يلتهم أخشاب الآستانة وورق اليابان… إن مصيبة اليابان على فداحة ضحاياها من الأنفس والأموال، لا يقف مدى خطبها لدى ما ظهر من جسامة الرزء , بل إنها أكبر بكثير من كل مصيبة حلت بتلك الأرض الجهنمية. فإنها ضربت (اقتصاد) اليابان من زراعة وصناعة وتجارة ضربة تكاد تكون قاضية عليه , إذا لم يبذل في إصلاح ما أفسدت فوق ما يستطاع من الجهد الإنساني، وإذا لم تمد لها الأمم الأخرى يد المعاونة والمساعدة، ومتى تعيد اليابان بناء مصانعها ومتاجرها ومزارعها التي قوضتها الزلزلة وأعفت النار ثارها؟ ومتى تعيد دور علومها وأماكن فنونها، وتستعيض عمن قضت عليه هذه الكارثة من رجال العلم والسياسة والاقتصاد؟ نعم، إنه لا يجوز اليأس ما دامت في اليابان أم تلد (والأمهات يلدن كثيرًا في اليابان - ويفا

الشيخ محمد مهدي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ محمد مهدي فُجع القطر المصري في الشهر الماضي فجأة بوفاة أخينا وصديقنا الكريم، وولينا الحميم، الأستاذ محمد مهدي بك وكيل مدرسة القضاء الشرعي , والمدرس في القسم العالي منها، فكانت وفاته زلزالاً عظيمًا، ورزءًا أليمًا، وخطبًا جسيمًا، شعر بشدة وقعه عارفو فضله من العلماء والأدباء ولا سيما الذين تخرجوا به , أو تلقوا عنه في المدارس الأميرية الابتدائية فالثانوية فالعالية - وآخرها دار العلوم والجامعة المصرية ومدرسة القضاء الشرعي - والذين عاشروه وحظوا بنصيب من آدابه النفسية واللسانية - فقد كان رحمه الله تعالى نادر المثل , ومنقطع النظير في مجموعة أخلاقه وفضائله ومعارفه وآدابه. إنني أذكر من ترجمته بعض ما سمعت ورأيت منه وما رويت عنه بالإيجاز , وأختص ما كان من أمره في حزب الإصلاح ومريدي الأستاذ الإمام: هو من عرق ألباني جاور في الأزهر سنين، وتخرج في مدرسة دار العلوم، وكان ممن تلقوا عن الأستاذ الشيخ حسن الطويل أحد أفراد علماء الأزهر في هذا العصر , في استقلال الفكر وسعة الاطلاع والجرأة على مخالفة الجماهير في الرأي، وكان تلاميذه في الدرجة الثانية بعد تلاميذ الأستاذ الإمام الذين دخلوا هذه المدرسة في أول العهد بتأسيسها، وأعني درجات الاستعداد للإصلاح. ولهذا كانوا أشد خريجيها رغبة في الاتصال بالإمام في قيامه بالنهضة الأخيرة، وأكثرهم استفادة منه، ولا غرو! فقد كان الشيخ حسن الطويل صديقًا للشيخ محمد عبده وأستاذاً له في الأزهر قبل مجيء السيد جمال الدين إلى هذه البلاد، جمع بينهما الميل إلى العلوم العقلية، والبحث عن غير ما يقرأ في الأزهر، وكانا أول من لقي السيد، وسمع منه مباحث في تفسير بعض آيات القرآن الحكيم , لم يطرق آذانهما مثلها، جذبت إليه ثانيهما , فانقطع عن كل شيوخه وانفرد بصحبته وكان الوارث الأكبر له. كان الجامدون من أهل الأزهر لا يستطيعون فتح أبصارهم في نور حكمة الأستاذ الإمام وعلمه الاستقلالي وآرائه الإصلاحية , بل كان بعضهم كالأعمى، وبعضهم كالأعشى تجاه ذلك النور. وكان تلاميذ الطويل يصرفون أبصارهم إليه إذا صرفت أبصار غيرهم عنه، فربما طرفت عين أحدهم عند النظرة الأولى، ولكنه لا يلبث أن يعيدها مرة بعد أخرى، حتى تقوى على إدراك ذلك النور وإدراك الحقائق به، وكذلك وقع للمهدي. حدثني فقيدنا الكريم بأول عهده بمعرفة الأستاذ قال: ذهبت مع صديق لي إلى دار سعد بك زغلول في (الظاهر) ليلة , فوجدت عنده الشيخ محمد عبده وقاسم بك أمين وآخرين، وكانوا يتكلمون في سوء حال المسلمين وما ينتقد عليهم من أمور دينهم ودنياهم، فرأيت أنهم مخطئون في بعض ما يقولون، وقد أردت أن أجول معهم فيما رأيته خطأ من أقوالهم وما يقرره الشيخ فيوافقونه عليه , فألفيتني عاجزًا عن الرد عليهم وضقت بهم ذرعًا، فرأيت من الدهاء أن أورطهم فيما يظهر به خطأ رأيهم للناس , فقلت للأستاذ بعد جولة قصيرة معه: إذا كان المسلمون بحيث تذكرون فما بالكم لا تبينون لهم ضلالهم، وتدلونهم على المخرج منه بمقالات تنشرونها في الجرائد؟ - وكنت أمكر به؛ ليكتب فيتصدى للرد عليه من هم أقدر مني على ذلك - فقال الأستاذ: قد صدرت هنا جريدة جديدة , لأجل هذه المباحث فيحسن بك أن تقرأها؟ وذكر (المنار) . كان هذا القول سبب اشتراك الفقيد في المنار منذ السنة الأولى , وتلا ذلك تعارفنا وتآلفنا، وكان في أول العهد به يجادلني في بعض مباحث المنار التي يرى فيها نظرًا أو خطأ، وكانت طريقته في المذاكرة أو المناظرة أنه يحفظ لنفسه خط الرجعة غالبًا، فلا يظهر رأيه بصيغة الجزم، حتى إذا ظهر له أنه مخطئ لم يشق عليه أن يعترف بالحق، وكان هذا دأبه طول عمره، وكان يسر بالفلج والإحسان والإصابة، ويدل به فيبتسم وتبرق أساريره , فإذا جاراه جليسه وشاركه في تبسمه ضحك، فإذا شاركه فيه أطال وأغرب، وكان يكتئب إذا أخطأ فتراه قد تخاوص وقطب. وقد حمد - رحمه الله تعالى - صحبتي وحمدت صحبته، ولما اقترحت على الأستاذ الإمام عقد مجالس خاصة يتلقى عنه فيها الحكمة العالية بعض خواص المستنيرين من أساتذة المدارس وغيرهم كان الشيخ مهدي أول من ذكرت له منهم فقال لي: إن هذا من الجامدين. قلت: لا بل هو مستقل الفكر، حريص على حقائق العلم. وكان سبب هذا الظن فيه سمره تلك الليلة معهم في دار سعد باشا زغلول - ثم كان من أحظى الإخوان عند الإمام رحمهما الله تعالى. كان الفقيد يحضر معنا دروس الأستاذ الإمام في الأزهر؛ رسالة التوحيد والتفسير والمنطق والبلاغة، ولما خرجنا من الدرس الأول من دروس كتاب أسرار البلاغة قال لي: إننا في هذه الليلة قد اكتشفنا معنى علم البيان. وكان يحضر الدروس أو المجالس العالية الخاصة التي كان الأستاذ يلقيها على فئة مختارة في دار أحمد بك تيمور (هو أحمد باشا تيمور عضو مجلس الشيوخ) في شارع درب سعادة، ثم في داره هو بعين شمس - فبهذا كان الفقيد من خواص مريدي الأستاذ الإمام الذين وردوا حوضه وشربوا نهلاً وعلاً، وأشربوا آراءه الإصلاحية، فنشروها قولاً وفعلاً، إلا أنه لم يكن يتحرى الدعاية لها، ولم يكن يجهر بنضال الخصوم دونه ودونها، بل كان يوردها في الأكثر من تلقاء نفسه ويجادل فيها على طريقته التي بيناها آنفًا. وكذلك كان شأنه في آراء المنار، كان معجباً بها ومظاهراً لي عليها، وكان يقول لي: إننا نرى في كل جزء من المنار شيئًا جديدًا ما كنا نعلمه، وكان يحب نشر ذلك والدفاع عنه بما بينا من أسلوبه وطريقته. فإذا تصدى له بعض خصوم الأستاذ الإمام أو خصوم المنار منكرًا ومجادلاً تحرى في الدفاع أن يكون محايداً لا ضلع له معنا، إلا أن يكون المنكر من تلاميذه أو ممن هم كتلاميذه في توقيره واحترام رأيه، فقد يصرح حينئذ بالانتصار والثناء، وكان يرى أن هذا الأسلوب وهذه الطريقة أقرب وسائل الإقناع، وهو الذي كان يخبرني بهذا عن نفسه، وكنت أرى أن هذا من الضعف الناشئ عن تحاميه أسباب الانتقاد عليه والتخطئة له، فإنه لم يكن يطيق هذا، فكان البون بيننا في هذه الخليقة واسعًا. وكان بعض إخوانه يتهمه بحب الانفراد ولو تشبعًا. قال لي أستاذ في الذروة منهم علمًا واستقلالاً وصراحة: فاجأنا أخونا فلان بآراء جديدة ومباحث طريفة، يلقيها علينا في سامرنا لم نكن نعهدها منه، ونحن أعلم الناس به، فكنا نجادله فيها ولم نعرف مصدرها , حتى اشتركنا في المنار (وكان اشتراك هذا الأستاذ في أثناء السنة الثانية) . وعندي من النظر في إطلاق هذه التهمة أن الإنسان إذا اقنع بشيء وتمكن من نفسه صار رأيًا له ومذهبًا، وصار يتحدث به من عند نفسه، فهي التي تلقى على لسانه وتملى على قلمه، ما لعله في غفلة عن مصدره، وتكثر هذه الغفلة إذا طال العهد على تلقي ذلك الشيء ولا سيما إذا كان من المسائل التي تتكرر بالأساليب المختلفة؛ لأجل الإقناع بها وتعميم نشرها، دع ما كان من توارد الخواطر، ووقع حافر في إثر حافر. تلك المباحث الإصلاحية التي كانت جديدة في أول العهد بظهور المنار هي ما أشرنا إليه في فاتحته، وشرحناه بالتدريج في المقالات المتسلسلة والمتفرقة كمقالات منكرات الموالد , ومقالات الإصلاح الإسلامي التي أنحينا فيها على رؤساء الدين والدنيا من الخلفاء والملوك والمتكلمين والفقهاء والمتصوفة، وأهمها مسألة التقليد وتفرق المذاهب , ولما عزمت على بسط هذا البحث وإقامة الحجج عليه , ووصف العلاج للتفرق بجمع الكلمة على المجمع عليه في الإسلام , وجعل المسائل الخلافية في الدين كأمثالها في اللغة والعلوم والفنون البشرية، لا تقتضي تفرقًا ولا عداوة ولا طعنًا في المخالف - كاشفت الفقيد بذلك فنصح لي بأن لا أصرح بذلك؛ لئلا تقوم قيامة الشيوخ على المنار، فقلت له: سأكتب ذلك بصفة مناظرة بين مصلح ومقلد - وأفتح باب الرد عليها لمن شاء. وقد نفذت ذلك في المجلدين الثالث والرابع وجمعت تلك المقالات في كتاب (محاورات المصلح والمقلد) التي طبعت في كتاب مستقل كان له في العالم الإسلامي تأثير عظيم , ولقد كنت أرجو عند إنشاء المنار أن أجد من هؤلاء الداربين في مصر حزبًا كبيرًا يشد أزري في عملي , فلم أجد إلا أفرادًا , كان الفقيد أبرهم وأوفاهم وأوصلهم - فجزاه الله خير الجزاء - وقد كان من حبه لي أن سمى نجله الوحيد باسمي، فأسأله أن يجعله خير خلف له. وجملة القول في نشأة الفقيد الأدبية الإصلاحية: إنه كان من خيرة الذين تخرجوا في دار العلوم , وأرقاهم تحصيلاً وأحسنهم تعليمًا، ومن وسط المستعدين للإصلاح، وأوائل الفئة التي اتصلت بالأستاذ الإمام في عهدنا , فأشربت طريقته المعتدلة في الإصلاح ومذهبه الوسط الجامع بين هداية الدين على منهاج السلف الصالح وتجديد حضارة الأمة , بما يقتضيه ترقي العلوم الكونية والفنون الحديثة. ومن أكبر الآيات على ذلك تربيته وتعليمه لكريمته (أسماء) فقد رباها تربية إسلامية فاضلة , وعلمها تعليمًا عصريًّا راقيًا. وكان من شجاعته الأدبية أن أرسلها إلى إنكلترا؛ لإتمام تعلمها واثقًا بدينها وأدبها، فحقق الله ظنه فيها، وهي الآن ناظرة لمدرسة من مدارس البنات الأميرية , تديرها أحسن إدارة. ومسألة المرأة أهم مسائل تجديد الحضارة في الشرق , والمذاهب فيها ثلاثة: مذهب ملاحدة المتفرنجين: وهو جعلها كالمرأة الإفرنجية حتى في الخلاعة والرقص مع الرجال نصف عارية , ومعاقرة الراح معهم وما وراء ذلك من وقاحة وإباحة. ومذهب الجامدين: وهو أن تكون جاهلة مظلومة مستضعفة. ومذهب حزب الإصلاح والتجديد المعتدل: وهو أن تربى البنات على التدين والفضيلة والعفاف والتقوى , وتعلم القراءة والكتابة بلغة أمتها وملتها وأمور الدين، وكل ما تحتاج إليه للقيام بتكوين الأسرة ونظامها من أمور الصحة , وتربية الأطفال وتدبير المنزل إلخ وأن لا يحرم المستعدات منهن للعلوم العالية منها ولا سيما الطب , وآكده ما يختص منه بالنساء، وإدارة مدارس البنات، والملاجئ الخيرية للنساء، وكل ما تمس إليه حاجة الأمة. حسبك يا قارئ المنار في الآفاق أن تعرف مما ذكرنا أن الفقيد كان من مريدي الأستاذ الإمام؛ أي: من الحزب الإسلامي المعتدل , الذي لا يرجى بدونه صلاح حال المسلمين، وارتقاؤهم المدني والاجتماعي والسياسي , مع بقائهم مسلمين كما شهد بذلك بعض أقطاب السياسة من الأوربيين أولي العلم والاختبار لأمور الشرق الذين وصفوه بالحزب الوسط بين جمود السواد الأكبر , وبين غلاة المتفرنجين. صرح اللورد كرومر بهذا في تأبينه للأستاذ الإمام في تقريره عن مصر سنة 1905 , وسبقه إلى ذلك مراسل جريدة الطان الفرنسية بتونس. بعد هذا أنقل إليك ما كتبه أحد تلاميذ الفقيد من دعاة التفرنج أنصار الجديد أعداء القديم فيه من هذه الجهة. *** رأي تلميذ له فيه كتب الدكتور طه حسين مقالاً فيه نشره في جريدة السياسة , وهو أحد كتابها ذكر فيه أن الأستاذ المهدي كان له تأثير عظيم في أنفس تلاميذه الكثيرين , وأنهم كانوا يحبونه حبًّا شديدًا , وأن منهم كثيرًا من كبار المعلمين والقضاة والمحامين من شيوخ مصر وشبانها ثم قال: ولقد أريد أن أترك منه في هذه الكلمة صورة قريبة من الصدق، أريد أن أكون مؤرخًا لا مداحًا ولا راثيًا، وأشعر بأن عمل المؤرخ في مثل هذا المقام ليس بالشيء السهل. (لم يكن الشيخ محمد مهدي من أنصار القديم , ولكن

تحريم المسلمات على غير المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحريم المسلمات على غير المسلمين [*] النص الأصولي القطعي والنص اللغوي - الوصف الذي يتخذ علمًا وعنوانًا على أمة أو أهل ملة , والوصف الذي يطلق بمعنى قيام الحدث بالموصوف , والفعل المسند إلى القوم أو الأمة - إنكاح المشركين المؤمنات محرم بالنص القطعي وإنكاح غيرهم من الكفار محرم بنصوص لغوية لا أصولية قطعية , وبإجماع المذاهب والقياس. قد عرض في أثناء إصدارنا لأجزاء المجلد الرابع والعشرين أحداث سياسية واجتماعية إسلامية شغلتنا عن إتمام عدة أبواب من أبواب المباحث , التي كنا دخلنا فيها كالرحلتين السورية والأوربية , ومنها ما كتب إلينا من الانتقاد على المنار، وأهمه ما كتبه إلينا الشيخ محمد عبد الظاهر من خواص إخواننا في الدين , وأولادنا في العلم انتقادًا على قولنا في مقالة (مدنية القوانين) التي نشرت في ج6م 23 من أن النص القطعي في القرآن إنما ورد بالنهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين , وَبِحِلِّ نكاح المحصنات من أهل الكتاب ولم يصرح بتحريم إنكاحهم - وأن التحقيق أن المشركين والمشركات في آية البقرة خاص بالعرب منهم - أعني قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: 221) الآية - فهو يرى أن عنوان (المشركين) فيها وفي غيرها يعم جميع أهل الملل غير المسلمين , ومن الدلائل على هذا عنده إسناد القرآن الشرك إلى أهل الكتاب في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) كما نزه نفسه عن شرك مشركي العرب بمثل هذه الجملة في سورة المائدة - وأن الوعيد على الشرك المطلق يشملهم - وأن كونهم صنفًا مستقلاًّ لا ينافي دخولهم في الجنس العام، وأن ابن جرير ذكر وروى عن قتادة أن لفظ المشركين في آية: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ} (البقرة: 221) يشمل أهل الكتاب ولم يذكر مخالفًا (فعدم ذكره مخالفًا دال على الإجماع) ! ! كان أخونا المذكور كتب إلينا انتقاده هذا مختصرًا , فكتبنا إليه كتابة تبعثه على المراجعة والبحث في بعض المسائل كمعنى النص الأصولي القطعي المراد، والفرق بين عنوان المشركين، وإسناد فعل الشرك إلى أهل الكتاب وغير ذلك؛ لأنه يعنى بعلم الأثر دون علم الأصول وغيره من كتب المعقول - وهذا دأبنا مع إخواننا - فبحث كثيرًا ثم كتب إلينا مقالاً طويلاً يبلغ 8 صفحات مزج فيه المسائل، وخلط الدلائل، وشنع على علماء الأصول، وجعل التحاكم إليهم تحاكمًا إلى أهل الطاغوت، وإبطالاً لكلام الله عز وجل، برأهم الله تعالى من ذلك، ومن جهل شيئًا عاداه، وكنا نريد أن ننشره , ونتكلم على مسائله وأدلته وما فيها، وإن كان أكثره لا يفيد جمهور القراء، بل يكرهه أكثرهم؛ لأنه مناقشات لفظية واصطلاحية في شأن فهم باحث أخطأ في فهمه واستدلاله - ولذلك طال الزمان ولم نجد الفرصة، وخشينا أن يطول الزمان على ذلك في المستقبل أيضًا، فرجحنا أن نكتب ما نرى فيه الفائدة العامة في المسألة وهو: (1) أن النص الأصولي الذي نعنيه هو عند أهله ما يحتمل معنًى واحدًا لا يحتمل غيره حقيقة ولا مجازًا ولا كناية، وهو إنما يشترط في أصول الدين التي يطلب فيها القطع , ويعد جاحدها خارجًا من الملة فلا يقبل له عذر بالتأويل، وأما الأحكام العملية فيكتفى فيها بالنصوص اللغوية من منطوق ظاهر ومفهوم موافق، وفي المفهوم المخالف الخلاف المشهور في الأصول , وهو أن أبا حنيفة ينفيه، والجمهور يثبتون ماعدا مفهوم اللقب منه، فاستعظام صاحبنا لنفي نص أصولي قطعي في حكم شرعي عملي من الأمور الشخصية - استعظام لما ليس بعظيم في نفسه، فإن أهل السنة يذكرون في العقائد السمعية مسائل ليس فيها نص قطعي بل يثبتونها بظواهر النصوص اللغوية كميزان الأعمال يوم القيامة , ولا يعدون من يتأولها خارجًا عن الملة، فالأحكام العملية أولى بذلك؛ إذ لم يشترط القطع العقلي في إثباتها أحد من المسلمين - فإضاعة الوقت وكثرة الجدال في محاولة إثبات هذه المسألة بنص قطعي أصولي لا يحتمل التأويل، لا حاجة إليهما. فحسبنا الظواهر واتفاق المذاهب الإسلامية على هذا الحكم، إلا إذا كان المنتقد يرى أن للمسلمين مصلحة راجحة في تكفير من يتأول شيئًا من أمثال هذه الظواهر، أو ينكر دلالة مثل هذا الإجماع متأولاً لا مكابرًا ولا معاندًا. ونحن نحرص على اتقاء الجزم بإخراج أحد المسلمين من ملة الإسلام ما استطعنا. (2) الفرق بين الوصف الذي يتخذ علمًا وعنوانًا على طائفة أو شخص وبين الوصف أو المصدر أو الفعل الذي يراد به قيام المعنى بالموصوف - ظاهر، ولكل منهما موقع في الكلام. مثال ذلك: أن الكفر والشرك والفسق والظلم وما اشتق منها قد أطلقت في الكتاب والسنة بحسب معانيها اللغوية على الكفار إطلاق المترادفات، وقوبلت بالإيمان والإسلام مقابلة المتضادات، وإطلاقًا يشمل بعض منافقي المسلمين الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم , وبعض من صح إيمانهم , ولكن بمعنى قول العلماء: (كفر دون كفر، وشرك دون شرك) ؛ أي: لا بالمعنى المقابل للإسلام والإيمان، وقد بين ذلك المفسرون وشراح الصحيحين وغيرهما من كتب السنة , وسبق لنا الإلمام به مرارًا. آخرها البحث المستفيض الذي نقلناه عن كتاب الصلاة للمحقق ابن القيم (ص673ج 9م24) واصطلح علماء الشرع على تخصيص لفظي الكفر والشرك بما يقابل الإسلام , ولفظي الفسق والظلم بما يقابل الصلاح والعدل. والملل المخالفة للإسلام كثيرة ومن المخالفين له من ليس لهم ملة ينتمون إليها كمنكري الألوهية , فإذا صح أن يسمى كل من ليس بمسلم كافرًا اصطلاحًا , كان لهذه التسمية وجه في اللغة - وإن كان الاصطلاح الغالب عند أهل هذا العصر أن لفظ الكافر لا يطلق إلا على المعطل الجاحد لكل الأديان - ولا مشاحة في الاصطلاح - ولكن لا وجه في اللغة لتسمية كل من ليس بمسلم مشركًا، فإن من غير المسلمين المعطل الجاحد، ومنهم الموحد الذي توحيده أرسخ وأصح من توحيد الكثير من طائفة المسلمين الجاهلين بحقائق الإسلام، وما أكثرهم في هذا الزمان. إن الفلاسفة الإلهيين ومن يعرفون من أهل أوروبة بالعقليين وجملة اليهود والآريوسيين من النصارى المتقدمين , وأكثر نصارى هذا العصر الذين تعلموا تعليمًا راقيًا , ولم يمرقوا من الدين - كل هؤلاء وطوائف غيرهم من العلماء المستقلين في العلم والدين موحدون , ليس في عقولهم شيء من الشرك بالله بالمعنى المعروف في القرآن. سألت عجوزًا إفرنسية كانت جارة لنا: ما لي أراك لا تذهبين إلى الكنيسة يوم الأحد؟ ألست متدينة؟ قالت: بلى وإنني أصلي لله في بيتي وما الكنيسة ورجالها إلا جماعة احتيال على المال والجاه، والله يعلم بصلاتي حيث كنت. قلت: وما تقولين في السيد المسيح عليه السلام؟ أهو إله أم لا؟ قالت: الإله واحد والمسيح مثل نبي؛ أي: هو نبي، أو من قبيل الأنبياء. وقالت: إن أكثر المتدينين المتعلمين عندهم يعتقدون اعتقادها، ومنه أن لا أحد من الأنبياء ولا القديسين يقدر على نفع أو ضر أو أي عمل مخالف لسنن الكون. والتوحيد هو أصل دين جميع الرسل عليهم السلام , وما طرأ على أهل الكتاب من الشرك هو عين الذي طرأ على كثير من المسلمين , الذين لم يتلقوا التوحيد الخالص تلقيًا صحيحًا عن أهل العلم والبصيرة في الدين، وهو لم يكن مستغرقًا لجميع أفرادهم , حتى ما أسنده الله تعالى إليهم في القرآن فهو كإسناده إلى اليهود قتل الأنبياء عليهم السلام بغير حق , وهو إنما وقع من بعضهم. ووجهه في اللغة معروف مبين في التفسير وقد قال الله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159) وقال: {مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ} (آل عمران: 110) ثم قال بعد ذكر كفرهم وقتلهم الأنبياء: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} (آل عمران: 113-114) الآيات - قال ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسير أمة قائمة: على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه. اهـ. ولم يقل مثل هذا في المشركين. لأجل هذا جعل الله تعالى لفظ المشركين لقبًا أو علمًا لمن كان الشرك قاعدة دينهم والوصف العام لجماعتهم , وجعل العلم لليهود والنصارى (أهل الكتاب) وما أسنده إليهم أو وصفهم به من الشرك , فلما كان عرضًا طارئًا لم يجعله علمًا ولا لقبًا ولا وصفًا عامًّا , يطلق عليهم في كل حال أو يميزهم عن غيرهم من أهل الملل , بل هو من قبيل ما بيناه في أول هذه المسألة , ومن إطلاق ما صدر من البعض على الكل كقتل الأنبياء وأكل السحت. مثال ذلك قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرك بقوله: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه , وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه) . رواه مخرجو التفسير المأثور والترمذي والطبراني وأبو الشيخ والبيهقي في سننه من حديث عدي بن حاتم. ورواه أكثرهم عن حذيفة أيضًا. وهذا النوع من الشرك طرأ على المسلمين أيضًا فكثير منهم - إن لم نقل: أكثر المتأخرين منهم. يستحلون ما أحل لهم رؤساؤهم الدينيون، ومنهم شيوخ الطريق الجاهلون - ويحرمون ما حرموه عليهم , ولكنه من الشرك الذي لا يعده الفقهاء خروجًا من الملة إلا إذا كان في أمر مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة. وهذه الآية أقوى ما استدل به المنتقد على كون أهل الكتاب من المشركين - وقد وردت بعد قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} (التوبة: 30) ومن المعلوم أن هذا القول قد يطلق عندهم إطلاقًا مجازيًّا لا يعد من الشرك في شيء كقوله تعالى حكاية عنهم: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} (المائدة: 18) وقد ورد في التفسير المأثور وغيره: أن من قال من اليهود: عزير ابن الله - بعضهم. وروي أنه واحد منهم اسمه فنحاص. فهو من باب إسناد ما كان من البعض إلى الجنس أو القوم وهو كثير كما تقدم آنفًا. وجملة القول أن أهل الكتاب قد فشا فيهم الشرك وهو ليس من أصل دينهم ولا عامًّا فيهم , بل جميع أهل الملل القديمة كالمجوس والبوذية كانوا أهل كتاب وأتباع رسل , ثم طرأ عليهم الشرك والوثنية بالتأويل، ولم يعد يعرف لكتبهم أصل لطول العهد، وأما اليهود والنصارى فقد دل القرآن على أن كتبهم لم تذهب كلها، بل أوتوا نصيبًا منها ونسوا آخر- وما بقي لهم طرأ عليه التحريف , فلذلك ميزهم عن سائر أهل الملل بتسميتهم (أهل الكتاب) . وهو يعطيهم هذا اللقب في مقابلة المشركين تمييزًا لهم، كما ميزهم بأحكام خاصة من دون مشركي العرب وغيرهم - والمنتقد يعترف بهذا للآيات الصريحة فيه , ولكنه يجعله كاللغو الذي لا يترتب عليه حكم

زيارة ملك الحجاز لشرقي الأردن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ زيارة ملك الحجاز لشرقي الأردن مقدماتها وأسبابها ونتيجتها كان الشريف حسين ولا يزال يمني نفسه بملك عظيم تؤسسه له الدولة البريطانية؛ جزاء له على ثورته العربية وموالاته لها في قتال الترك , بأن تجعله خليفة للمسلمين وملكًا على البلاد العربية المؤلفة من جزيرة العرب كلها والعراق وسورية وفلسطين , وتمده بالمال والسلاح؛ لتوطيد سلطانه في هذه البلاد تحت حمايتها وبمساعدة رجالها , وكان يعتقد أن حلفها أقوى من الحلف الألماني، ولذلك لم يقبل ما عرضته عليه الدولة العثمانية من الاستقلال بضمان ألمانية , وكان يهنئها بكل فتح في البلاد العربية القدس وبغداد ودمشق , ولذلك سمى نفسه ملك العرب. وبعد احتلال سورية اعتقد أن أحلامه جاء تأويلها، وكان يشتهي أن يزور البلاد السورية بعد توطيد سلطانه فيها، وتكرر وعده لأناس من أهلها بذلك، وفي جريدته (القبلة) حتى إنه صرح بأن سيزور كل بلد وقرية فيها؛ أي: ليراه جميع أفراد رعيته، ويتمتعوا ببهاء جلاله وعزته. أفلت ملك سورية من قبضة وهمه: (أولاً) بقرار المؤتمر السوري العام الذي أعلن فيه استقلال جميع البلاد السورية دون الحجاز وغيره. (وثانيًا) بتنفيذ إنكلترة وفرنسة لما كانتا قد اتفقتا عليه من اقتسام بلاد الحضارة العربية سورية والعراق بينهما، ورأى أن ملكه لم يتجاوز إمارة الحجاز التي كانت له من قبل الدولة العثمانية , على أنها منقوصة الأطراف غير تامة الحدود على ما يدعي - فكان المعقول أن يتناسى ذلك الوعد أو الوعود ويتحول عنها. ولكن الرجل يحيا حياته السياسية بشيئين: (أحدهما) نفسي، وهو الأماني والأوهام. (وثانيهما) عملي، وهو الدعاية (البوربغندة) التي لم يحذق من شؤون سياسة هذا العصر غيرها، وهو قد أوتي غريزة الثبات والإصرار , التي هي أعظم الغرائز مساعدة لصاحبها على النجاح , إذا هو طلب الأمور بأسبابها، وأتاها من أبوابها. أصر على تسمية نفسه بملك العرب , وأمكنه بالدعاية أن يحمل بعض أصحاب الجرائد في سورية وغيرهم أن يتبعوا جريدته (القبلة) في تحليته بهذا اللقب، وبلقب المنقذ، وإن كان الحق الواقع المشاهد أنه لم ينل بلقب ملك العرب تصرفًا ولا سيادة على شبر من أرض العرب لم يكن تحت سيادته قبله، وأنه لم ينقذ بلدًا من بلاد العرب، ولا قرية من سيادة أجنبية ولا مهلكة، فإن كان أحد يسمي انتقال البلاد السورية والعراقية بمساعدته من سيادة الدولة العثمانية المؤلفة من الترك والعرب وغيرهم إلى سيادة إنكلترة وفرنسة إنقاذًا , فلا أنقذه الله من الذل في الدنيا ولا من العذاب في الآخرة، على أن هذا الإبسال [1] الذي سماه إنقاذًا لم يقع إلا بترجيح دولة الولايات المتحدة لإحدى كفتي الحرب على الأخرى لا بترجيحه، ولكن هذه الحقائق لا تمنع الملك حسينًا من التلذذ باللقبين كلما رآهما في جريدته (القبلة) ، وفي بعض الجرائد المأجورة أو المغرورة. وهنالك دعوى أخرى ظاهرة البطلان كظهور كذب اللقبين الضخمين الفخمين، ولكنه فاز بتكرار الدعاية , واصطناع بعض الجرائد من غش كثير من الناس فيها حتى صاروا يصدقونها كما يصدق الغافلون الإعلانات التجارية التي تنشر في الجرائد زمنًا طويلاً , ولا يبحثون عن مصدرها؛ ليعلموا أنها شهادة من صاحب الدعوى لنفسه. تلك دعوى قيامه بأمر الوحدة العربية بجمع كلمة العرب وتوحيد قواهم وترقية شؤونهم. والأمر بالضد، فهو هو المفرق لكلمة العرب والمحدث للشقاق بينه وبينهم، فإنه يتوهم بكونه ملكًا للعرب وثبوت هذا الخيال في مخه، تخيل أيضًا أن الوحدة العربية إنما تكون أو ستكون بقبول أمراء جزيرة العرب وأئمتها لسيادته السياسية والعسكرية عليهم طوعًا أو كرهًا , وتحكيمه في شكل إدارة البلاد ونزع ما شاء منها من أيدي من شاء؛ ليولي عليه من شاء، حتى حمله الخيال على مخاطبتهم بذلك كتابة، فضحكوا ساخرين. وطالما بينا هذا في المنار وفي غيره من الصحف. ولكن بياننا لم يحل دون تأثير دعايته المتصلة الدائمة , حتى إنه صرح في جريدته (القبلة) تصريحاً رسميًّا بما صدق أقوالنا الماضية؛ لما سأله رئيس مؤتمر الجزيرة الذي هو من أبواق دعايته عن مراده بالوحدة، ونشرنا تصريحه في المنار والأهرام، فقرأه الكثيرون في البلاد السورية، كما قرأه آخرون في الجزء الذي صدر من جريدة القبلة في 6 ربيع الآخر من هذه السنة، ولم يكن هذا ولا ذاك بصارف للمخدوعين بالدعاية السابقة من طلاب الوحدة العربية أن يظنوا أنه يسعى لها، وأن يوجهوا وجوههم إليه فيها. فهذه الوقائع زادت الملك حسينًا إيمانًا وتسليمًا بأن الدعاية (البوربغندة) تقلب الحقائق , فتجعل الحق باطلاً والباطل حقًّا عند الجماهير من الناس، بل هي كالسحر تخيل إلى المسحور أنه يرى بعينيه ما لا حقيقة له في الخارج. على أنه خاب مرة في دعايته , ولم يلبث أن تدارك الخيبة وجعلها نسيًا منسيًّا عند كثير من السوريين وخاصة الفلسطينيين منهم. ذلك بأن الدولة البريطانية اختارت أن تعقد معه معاهدة تثبت بها اعترافه بانتدابها على فلسطين وما تريد أن يكون لها من الحقوق في الحجاز , والتصرف في شؤون الحجاج، وتقطع بها لسانه وألسنة الفلسطينيين دون الاحتجاج عليها بما سبق لها معه من اتفاق ووعود. وقد طالت المراجعة بينها وبينه في ذلك، حتى إذا ما أرسل الدكتور ناجي الأصيل الموصلي إلى لندن للبحث معها في صيغة هذه المعاهدة في العام الماضي , قامت قيامة الدعاية حوله وأمطرت شركة روتر الإنكليزية على البلاد العربية وغيرها برقيات خادعة فيما ينتظر من الوحدة العربية واستقلال العرب بسعي الأصيل. وكانت الجرائد العربية في مصر وسورية والعراق تنشر هذه البرقيات وتعلق بعضها عليها من الشروح ما يكبر شبح الوهم، وكان بعضها ينشر مقالات مستقلة في ذلك، ولما عاد الأصيل إلى مكة يحمل نص المعاهدة , كان له من الحفاوة فيها ما كان، وتلا نص المعاهدة المترجم بالعربية في حفلة رسمية فخمة، وأطلقت المدافع وصدرت الإرادة الهاشمية بجعل ذلك اليوم عيدًا رسميًّا للأمة العربية بأسرها … ثم ماذا كان؟ ظهرت الفضيحة للعيان , ورفض أهل فلسطين ما يتعلق بهم منها، واضطر الملك إلى عدم الإمضاء النهائي عليها. بعد هذه الفضيحة استأنف الملك دعاية جديدة في المسألة الفلسطينية قدم بين يديها مساعدة لأهل فلسطين بما جمعه من الإعانة القهرية؛ لعمارة الحرم الأقصى من أهل الحجاز، والاختيارية من الحجاج، وسمح لوفد منهم بالطعن في وعد بلفور في الحجاز، فوضعت خطة جديدة؛ لبث الدعاية له في سورية وفلسطين , يقوم بها نفر ممن كان بمكة من حجاج البلاد مع صنائعه فيها تكون تمهيدًا لزيارته لأطراف سورية؛ لأجل أن يتقرر في هذه الزيارة مع زعماء البلاد أمر الوحدة العربية وما يتعلق بها من المسألة الفلسطينية، بل وجد له دعاة من حجاج المصريين يمدحونه ويدافعون عنه أيضًا. ولا ندري هل كوشف أحد من الدعاة الذين كانوا في مكة بمسألة المبايعة بالخلافة أم لا؟ ويجزم بعض أذكياء المصريين أن الإنكليز كانوا قد اتفقوا مع عصمت باشا على إلغاء الخلاقة التركية، في زمن لا يتأخر عن أول سنة الترك الجديدة (مارس) , وأحبوا أن تكون زيارة ملك الحجاز لأطراف سورية قبل ذلك الوقت، وأن يظل هنالك إلى أن تلغى الخلافة التركية، فيجعل ذلك سببًا لتأسيس الخلافة العربية - كما إنهم قرروا أن تجتمع جمعية العراق التأسيسية للنظر في المعاهدة العراقية البريطانية التي أمضاها الملك فيصل والسير برسي كوكس المندوب البريطاني السامي في العراق , في الوقت الذي يجتمع فيه المؤتمر البريطاني التركي لحل مشكلة الموصل، ووضع الحدود بين العراق والأناضول؛ ليخوفوا العراقيين بالتفريط بولاية الموصل، إذا هم رفضوا المعاهدة التي تضيع جميع العراق لا ولاية الموصل وحدها. مهما يكن من الأمر في هذا وذاك، فالدعاية لتشريف الملك قد بثت قبل مجيئه وفي أثناء وجوده، حتى وصلت هينمتها في الحالين إلي - وعرضت شبهاتها وأمانيها علي، واقترح علي أن أكون من الزائرين له، وسئلت عما أشترطه في ذلك، وقنع أحذق من كلمني في ذلك بأن أسكت عنه، ولو ريثما تظهر نتيجة ما يرجى منه، وزعموا أنه قد اتعظ واعتبر بأغلاطه السابقة. وقال بعضهم: إن الإنكليز قد غيروا سياستهم معه، وأنهم سيمنحون البلاد ما يرضيها على يده، إذا رأوا أن الأمة تؤيده. (قالوا) : فلا تكن من أسباب حرمانها من ذلك. فقلت: إني سأصبر في هذه المرة كما صبرت فيما قبلها , حين بثت الدعاية لسعي ناجي الأصيل , وأنا لا أرجو لهذه الأمة خيرًا على يده، ولا آمن عليها من شر عمله، فتجربة المجرب تحصيل حاصل، بل عبث يتنزه عنه العاقل و (المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين) وإنما أسكت؛ لأقيم الحجة بعد الحجة عليكم، وأعدكم بأن أبذل جهدي في تأييده إذا كذب ظني وصدق ظنكم، وإن ظل يؤذيني هو وأولاده وخليفتهم، فأنا أعمل لأمتي لا لهم … هكذا كانت الدعاية تنشر، وكان من حسن حظ دعاتها أن وقع تنازع بين فرنسة والترك حمل من في سورية من الفرنسيس على الإغماض عن هؤلاء الدعاة لإضعاف ما كان قوي من نفوذهم، فنجحوا وأوهموا أكثر أهل البلاد الغافلين بأن السعادة للعرب ستتم بتشريف ملكهم إلى ضواحي سورية. تحرك الركاب الهاشمي - كما يقولون - متنقلاً في البلاد الحجازية إلى أن وصل إلى شرق الأردن، وهو يقابل في كل مكان بالحفاوة والتكريم والدعوات والخطب والقصائد، وجرائد مسلمي سورية تحلق في فضاء الخيال، وتصور فيه ما تصور من الأماني لا الآمال، وأرسلت المكاتبين إلى شرقي الأردن؛ ليحصوا لها ما يكون هنالك من عظمة (ملك العرب ومنقذهم) ، وما يقرره المؤتمر العربي الذي زعموا أن سيعقده من وفود الأحزاب وزعماء البلاد، تنجيزًا للوعود التي بشرهم بها الدعاة. وقد أعد الوجهاء ولجان الأحزاب المختلفة عدتهم للقاء الملك , وعرض مطالبهم القومية على مسامعه، بناءً على ما صدر به الوعد من أنه يريد أن يعمل في هذه المرة بالشورى (خلافًا لعادته) وكان أحسن ما قرروه - لو صادف محله - أن يتفقوا على برنامج عام؛ لمصلحة العرب العامة يكتبونه، ويوقعه مندوبون من كل حزب، ويرفعونه إليه - وأن يكون ما يعرضه بعضهم من الاقتراحات الموضعية الخاصة غير معارض لهذه المطالب العامة - وقد فعلوا - ومما اتفقوا على أن يكاشفوه متفقين بما يشكون من سوء سيرة نجله الأمير عبد الله في أقواله وأفعاله المنافية للمصالح الوطنية العربية، والمؤيدة للسلطة الأجنبية - وقد فعلوا كما أخبرنا الرواة عنهم - ثم كان ماذا؟ كان أن شغلت جرائد سورية وفلسطين عدة أشهر بأخبار الوفود , ووصف الاحتفالات والسمط (أو السماطات) ونشر القصائد والوعود , وحكايات الأقوال والمفاخر الهاشمية، حتى إذا ازدوجت المخيلات بالواهمات، ولقحت بالأماني المستعذبات، جاءها المخاض بسقوط الخلافة التركية، فأجهضت فوضعت الخلافة العربية، فالتقطها (ملك العرب الخيالي) سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل، معتقدًا أن الدعاية (البوربغندة) تُتِمُّ خلقها، وتنفخ الروح فيها، كما فعلت بمنصب (ملك البلاد العربية) قبلها , ويكفي في هذه الحياة عنده أن يبث لها دعاية جديدة بين حجاج الآفاق، ويستعين بها في الجزيرة على بث الشقاق، وأن تقول جريدة القبلة بمكة، وجريدة الشرق العربي الرسمية في عمان، وجرائد الطبل

الخلافة والخليفة الإمام الحق في هذه الأيام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخلافة والخليفة الإمام الحق في هذه الأيام (س13 - 16) من صاحب الإمضاء في حمص (سورية) . حضرة الأستاذ الفاضل صاحب المنار الشيخ العلامة محمد رشيد رضا وفقه الله، وأمتعه بتقواه. إن ثقتنا بدرجتكم العلمية العالية، واعتقادنا بإحاطتكم الكاملة لقواعد الشريعة المحمدية، دعتنا أن نوجه لحضرتكم الأسئلة الآتية، آملين الإجابة عليها بسرعة، دون احتراز من ملامة، أو اكتراث لغاية، بل لإنقاذ المسلمين من الضلالة، وإزالة الفتن، وتنوير البصائر، وأجركم وحسابكم على الله: 1 - هل للخليفة عبد المجيد اليوم - في هذه الحالة - من بيعة له في أعناق المسلمين؟ أسباب بقائها أو زوالها مفصلاً؟ 2 - هل تصح إمامة المسلمين للملك حسين - وهو والإسلام في هذه الحالة؟ أسباب صحتها أو عدم صحتها مفصلاً؟ 3 - من هم اليوم أهل الحل والعقد في جميع الأقطار الإسلامية المستقلة أو غيرها الذين في استطاعتهم نصرة وإرشاد من أرادوا مبايعته، والذين يعدون حائزي الشروط لأن يكونوا أولي الأمر. 4 - من هو الإمام للمسلمين (إذا لم تصح الخلافة لعبد المجيد ولحسين) الذي يجب أن يعرفه كل مسلم - لبينما يجتمع أهل الحل والعقد، أو يعقد مؤتمر إسلامي للبت في الخلافة - لئلا تموت الناس ميتة جاهلية؟ محمد فوزي القاوقجي خلافة عبد المجيد التركي: 1 - الجواب عن السؤال الأول هو أن عبد المجيد أفندي المسؤول عنه لم تنعقد له خلافة فيسأل عن بقائها أو زوالها؛ ذلك بأنه لم يبايعه أهل الحل والعقد من أهل بلاده بالخلافة الإسلامية التي هي الإمارة العليا ورئاسة الحكومة في أمورها الدينية والدنيوية من سياسية وحربية وقضائية وإدارية، بل أسسوا حكومة جمهورية جعلوا لها رئيسًا آخر، وجعلوا هذه الحكومة مدنية غير دينية؛ أي: ليست مقيدة بأحكام الشرع الإسلامي، ولأمر ما سموا عبد المجيد أفندي المشار إليه خليفة بعد إقراره إياهم على حكومتهم الجديدة، وصرحوا بأنهم أرجؤوا بيان معنى هذه الخلافة الجديدة التي ليس لها أدنى علاقة بحكومتهم، وأذيع عنهم أنهم سيشاورون بعض كبراء الشعوب الإسلامية في ذلك لجعله خليفة للجميع بمعنًى ديني أو روحاني جديد مبهم؛ أي: كخلفاء طرق المتصوفة. وكان كثير من أهل الرأي يرون أن هذه التسمية مؤقتة لأمر ما. ثم ظهر السر في ذلك وهو أنه لما تم لهم الأمر ورأوا أن جمهوريتهم قد توطدت أركانها , ألغوا هذه الخلافة أيضًا وطردوا المسمى الخليفة من بلادهم مع جميع أهل بيته والأسرة العثمانية بأسرها. وإذا كان الذين انفردوا بالشوكة فصاروا بها أهل الحل والعقد في الترك لم يبايعوا عبد المجيد أفندي بالخلافة الشرعية فهو لم يكن خليفة فيهم، ولو بايعوه بها؟ لرضوا أن يكون هو رئيس حكومتهم سواء سميت جمهورية أم لا، وأن تكون حكومتهم مقيدة بنصوص الشرع القطعية المجمع عليها، والأحكام الاجتهادية التي ثبتت عند الخليفة وأهل الشورى في حكومته دون غيرها من آراء المجتهدين، ولما جاز أن يجعلوا حق التشريع فيها للمجلس الوطني بلا شرط ولا قيد. كما نصوا عليه في قانونها الأساسي. على أن خلافته تكون فيهم خلافة تغلب , ولا تكون هي الإمامة الحقيقية التي تجب طاعة صاحبها بأنه خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإمام الحق لجميع المسلمين؛ إذ يشترط في الإمام الحق شروط أخرى أجمع عليها أهل السنة كالنسب القرشي الذي يماري فيه اليوم بعض الجاهلين، وبعض الذين يحكمون أهواء السياسة في الدين، وعبد المجيد أفندي غير مستجمع لهذه الشروط كالقرشية والعلم الاجتهادي , والعدالة الشرعية التي ينافيها رضاه بالحكومة اللادينية - وفيهما خلاف لبعض الحنفية - وكذا عنايته بالتصوير والعزف على الآلات الوترية عند جمهور فقهاء المسلمين. على أنه من أفضل أسرته وغيرها سيرة وسريرة وتدينًا ورغبة في خدمة المسلمين، كما نقل إلينا الثقات الذين عرفوه. دع كون أهل الحل والعقد في الترك ليسوا أهل الحل والعقد في سائر الشعوب الإسلامية المستقلة كعرب الجزيرة وغيرهم، ودع كون بيعتهم مسبوقة ببيعة غيرها أقرب إلى الشرع منها، كما تراه في الجواب عن السؤال الثاني. وأما بيعة من بايع عبد المجيد أفندي من مسلمي مصر والهند وأفريقية فهي باطلة لا يثبت بها شيء؛ لأنهم ليسوا أهل الحل والعقد في بلادهم الذين يترتب على بيعتهم نفوذ أحكام من بايعوه فيها، ولم تكن بيعتهم تابعة لبيعة أهل الحل والعقد في بلاده هو , ولا في غيرها لتكون مؤكدة لها، وإنما تنعقد البيعة شرعًا بمبايعة أهل الحل والعقد من أهل الاختيار الذين بينا شروطهم , وما يعتبر فيهم في كتابنا (الخلافة أو الإمامة العظمى) كما بينا فيه شروط الخليفة , وما تنعقد به البيعة، وما يجب بها على المبايع والمبايعين له. واعلم أن الحكم الشرعي في خلافة التغلب كالخلافة العثمانية السابقة - أن الطاعة فيها للخليفة إنما تجب على من هو متغلب عليهم بشوكته دون غيرهم من المسلمين، وإنما ذلك لدفع الفوضى فهو ضرورة تقدر بقدرها، وأنه إذا وجد في بلاد أخرى خلافة صحيحة، ودعا الإمام الحق فيها هذا الخليفة المتغلب وقومه لطاعته وجب عليهم ذلك. فإن أبوا وجب عليه قتالهم إن قدر، ووجب على كل من دعاه إلى ذلك من المسلمين أن يقاتلهم معه؛ أي: تحت لوائه. وقد صرح شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث الثاني من كتاب الأحكام من صحيح البخاري بأن الذين انتحلوا منصب الخلافة من غير قريش بشوكة التغلب حكمهم حكم البغاة؛ أي: قطاع الطريق الذين يخرجون من طاعة الإمام الحق. خلافة حسين العربي المكي: وأما السؤال الثاني فصحته كما يفهم بالقرينة لضعف عبارته العربية: هل تصح إمامة الملك حسين للمسلمين؟ أو هل تصح توليتهم إياه إمامًا عليهم؟ وهو يريد بذلك مبايعة بعض أهل فلسطين وسورية والحجاز والعراق له. والجواب عنه أن هذه المبايعة لا تجعله إمامًا للمسلمين , فهي بيعة غير صحيحة وبيان ذلك من وجوه: (الوجه الأول) أنه يوجد بجوار بلاده إمام آخر قد ولي الإمامة قبله بسنين كثيرة في اليمن , وهو قرشي علوي مستجمع للشروط الشرعية التي يفقدها هو: كالعلم والعدالة والشوكة كما يعلم مما يأتي. ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من يبايع بالخلافة مع وجود إمام آخر بويع قبله. والحديث في ذلك مشهور رواه مسلم في صحيحه. فإن قيل: إن إمام اليمن زيدي غير سني. أجيب! (أولاً) بأنه من أهل العلم الاجتهادي، ولا يبايع علماء الزيدية أنفسهم أحدًا إلا إذا ثبت عندهم اجتهاده. (وثانيًا) بأن علماء السنة اشترطوا في الإمام الإسلام، ولم يشترطوا مذهبًا معينًا، بل اشتراطهم للاجتهاد في الدين ينافي اشتراط المذهب، وأما ما يسمونه البدع وخاصة ما كان منها محل النظر والاجتهاد - كاختلاف المذاهب - فلا يعدون مخالفة السنة فيه بالتأول مانعًا من صحة الخلافة , كما في شرح البخاري للحافظ ابن حجر. واستدل على هذا بأن كبار أئمة السنة كالإمام أحمد لم يقولوا ببطلان خلافة المأمون والمعتصم اللذين حملا الناس على القول بخلق القرآن، وقد استدل الحافظ بإمامة اليمانيين على بقاء الإمامة في قريش إلى عصره وكانوا زيدية فيراجع في شرح حديث (لا يزال هذا الأمر في قريش ... ) من شرح للبخاري. (وثالثًا) أن حسين بن علي ليس من علماء أهل السنة المجتهدين , ولا المقلدين لأحد مذاهبهم عملاً وحكمًا كما يعلم مما يأتي، وإن كان قد نشأ في قوم يسمون سنية وحنفية وشافعية , فذلك لا يقتضي أن يكون ملتزمًا لمذهب الحنفية أو الإمام الشافعي، وسنبين هذا بالإجمال هنا، وقد بيناه بالتفصيل مرارًا آخرها: الخطاب الذي نوجهه في شأنه إلى العالم الإسلامي وينشر في المنار تباعًا. ومما فيه أنه يحكم بين الناس في الحضر برأيه وهواه، وبين البدو بقانون أبي نمي المخالف لنصوص القرآن وإجماع المسلمين. فإن قيل: إن إمامة يحيى محصورة في بلاده ولم يعترف بها غير أهلها. (فالجواب) أن إمامة حسين محصورة كذلك، بل دون ذلك. ففي اليمن من أهل الحل والعقد ما ليس في الحجاز وهم أكثر عددًا، وأشد بأسًا وشوكة من أهل الحجاز ومن أهل سورية وفلسطين - إن فرضنا أن لاعترافهم تأثيرًا شرعيًّا - بدليل أن الدولة العثمانية قاتلتهم عدة قرون ولم تقدر على إزالة إمامتهم. فيحيى يرجح على حسين من وجوه، وحجته عليه بمبايعته بالإمامة قبله قائمة. (وللكلام فيها بقية تأتي في جواب السؤال الرابع) . وبهذا يعلم خطأ الذين بايعوا حسينًا بدعوى أن الخلافة التركية قد سقطت , وأصبح منصب الخلافة معطلاً، وأنه يجب التعجيل بإقامة إمام للمسلمين؛ لئلا يصدق على من يتأخر عن ذلك حديث: (من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية) فقد غشوا الناس بهذا القول، كما غشوهم بأنه لا يوجد أحد مستجمع لشروط الإمام غير هذا الرجل ويعلم هذا بما يأتي: (الوجه الثاني) : أن الملك حسينًا فاقد للعلم الشرعي اجتهادًا وتقليدًا كما يعلم بالقطع من مكتوباته الرسمية وغير الرسمية , فإنها مشتملة على الأغلاط اللغوية الفاحشة في المفردات والجمل والأسلوب. وفهم الكتاب والسنة وكتب أئمة العقائد والفقه يتوقف على إتقان اللغة العربية. ومشتملة على تحريف فظيع للآيات والأحاديث، وعلى تفسيرهما بالرأي بل الهوى، وعلى أحكام باطلة لا دليل عليها، وأحاديث موضوعة لا أصل لها، وقد أوردنا في مواضع متعددة من المنار بعض ذلك، فإذا وجد من أدعياء العلم المتحيزين إليه من ينكر علينا ذلك؛ فإننا نجمعه في كتاب نطبعه على حدته ونطالبهم بالرد عليه إن استطاعوا. (الوجه الثالث) أنه فاقد للعلم بالسياسة العامة وشؤون الدول والأمم التي صارت تتوقف في هذا الزمان على علم واسع، وهو مع ذلك ينفرد بعقد الاتفاقات مع الدول، فيقع فيما يضيع به حقوق المسلمين ومصالحهم , كما يعلم بالقطع من الاتفاق مع الإنكليز على ما يسميه (مقررات النهضة) وفيها التصريح بجعل البلاد العربية وفي مقدمتها الحرمان الشريفان تحت حماية دولة أجنبية غير مسلمة , تجتهد في إزالة ملك الإسلام وشرعه من الأرض. وقد نشرنا هذه المقررات مرارًا وبيَّنا مفاسدها. ومثلها المعاهدة الأخيرة المبنية على أساسها: التي كان أعلن قبولها بادئ بدء في أول شوال من السنة الماضية - 1341 - ولكن كان من توفيق الله تعالى أن علم بجل مضمونها أهل فلسطين وغيرهم , فانتقدوها وصرحوا برفض ما يتعلق بهم منها، وبينا نحن وغيرنا سائر مفاسدها، فاضطر الملك حسين إلى الامتناع من إمضائها النهائي بعد أن أمضاها الإمضاء المبدئي وأمر باتخاذ يوم إعلانها عيدًا رسميًّا للأمة العربية. وقد أرسل قبل سفره إلى شرق الأردن خطابًا إلى الأمة الإنكليزية اعترف فيه بموالاة حكومتها - خلافًا لنص القرآن - وبأنه أضاع بذلك استقلال من تبعه في ذلك من الأمة العربية؛ ونشر هذا الخطاب في الجرائد العربية واشتهر. (الوجه الرابع) فقده للعدالة من شروط الخلافة , والدلائل على ذلك كثيرة جدًّا من أهمها: استبداده الذي لا يكابر فيه أحد يعرف حاله، وظلمه الذي نذكر منه منعه لشرفاء قومه الذين كانوا في الآستانة وغيرهم من الرجوع إلى بلدهم , واستيلاؤه على أموالهم من أملاكهم وأوقافهم , وعدم إعطائهم شيئًا منها، وناهيك بما ذكرناه آنفًا من حكمه بما يخالف كتاب الله وإجماع المسلمين. ومن أشهر أعماله الاستبدادية! ضربه الضرائب على الحج

الانقلاب الديني السياسي في الجمهورية التركية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانقلاب الديني السياسي في الجمهورية التركية (الدسائس الأوربية في الدولة العثمانية، تأثير التعليم الأوربي والمدارس في حل المسألة الشرقية , طلاب الإصلاح للدولة مقلدون مدحت باشا وعصبته، جمعية الاتحاد والترقي، الكماليون. إلغاء الخلافة العثمانية وطرد الخليفة الوهمي وعشيرته من البلاد التركية , واستصفاء أموالهم. إلغاء نظارة الأمور الشرعية، إلغاء وزارة الأوقاف، إلغاء المدارس الدينية , جعل التعليم بجميع أنواعه لنظارة المعارف التركية. عَمَهُ المسلمين واضطرابهم) . تمهيد ومقدمات: ما زالت الدسائس الأوربية تتغلغل في مدارس الدولة العثمانية , فتفسد الأفكار الدينية التي خولت هذه الدولة انتحال مقام الخلافة الإسلامية، وتفسد المقومات الاجتماعية , وتقطع الروابط السياسية التي كانت بها هذه الدولة سلطنة (إمبراطورية) إسلامية عظيمة , يخضع لها كثير من الشعوب المختلفة في الأنساب واللغات والأديان والأقاليم - ما زالت كذلك حتى صارت مصداقًا لقول بعض عقلاء الأوربيين: إن المدارس الثانوية قد عملت في حل المسألة الشرقية ما عجز عن مثله جميع سفراء الدول في الآستانة. بدأ ساسة أوربة وأساتذتها ينفثون سم العصبيتين الدينية والجنسية في الشعوب الأوربية المسيحية العثمانية: كاليونان والصرب والرومان والبلغار حتى نهضوا بهما إلى طلب استقلال بلادهم وساعدتهم الدول الأوربية على ذلك حتى نالوه، ثم طفقوا ينفثون هذا السم في أرواح سائر الشعوب العثمانية عامة، وعصبة الجنس واللغة في شعب الترك خاصة، حتى صار المتعلمون من هؤلاء أشد كراهة للسلطنة العثمانية من الروم والأرمن فيها، فطفق بعض هؤلاء الترك الذين لقبوا أنفسهم بالأحرار يسعون لإسقاط هذه الدولة العظيمة؛ ليبنوا من أنقاضها دولة تركية محضة , يكرهون جميع أهلها على قبول الجنسية التركية , وما تعذر تتريكه منها يجعلون بلادها مستعمرة للترك، ولم يكتفوا ببقاء السلطنة كلها والرضا بما لهم من الامتياز فيها بكون لغتهم هي الرسمية لها، وشعبهم هو الشعب الممتاز فيهما بلغته , وبحصر الملك والخلافة في بيت من بيوته وبجعل العاصمة في بلاده. فتن المتفرنجون من الترك بتقليد الأوربيين في نظم حكوماتهم وقوانينها , وفي أزيائهم وعاداتهم , في مجامعهم وأكلهم وشربهم ولهوهم ولعبهم , فجروا على ذلك جيلاً بعد جيل , وهم يزدادون ضعفًا وفقرًا كلما أوغلوا فيه؛ لأن التقليد الأعمى لا يأتي بخير , وإنما ترتقي الأمم بالعلم الاستقلالي , مع البصيرة والروية في وضع كل شيء في موضعه بقدر الحاجة إليه , مع مراعاة استعداد الأمة ومقوماتها، واتقاء ضرر التحول والانقلاب فيها. ومن غريب هذا التقليد أن أنفع ما أخذته الدولة عن أوربة به وهو النظام العسكري ظلت عالة على الأوربيين فيه إلى هذا اليوم , فلم تكن مستقلة دونهم بعلم ولا عمل ولا صناعة مما يتعلق به. وكانوا كلما فشلوا وخابوا في تجربة من تجارب التفرنج يحسبون أن سبب ذلك من رسوخ الاستبداد في سلاطينهم، المؤيد بتقديس منصب الخلافة لهم بمقتضى تعاليم دينهم، لا من جهلهم هم في أخذ النافع وترك الضار، وضلالهم في ظنهم أن الإسلام يؤيد الاستبداد؛ فجزموا بأن التفرنج المطلوب لهم لا يتم إلا بترك التقيد بالإسلام في حكومتهم، وأن الأسرة السلطانية العثمانية قد رسخت في الإسلام وما فيه من رياسة الخلافة , حتى صار يتعذر سلها منه والاستعانة بأفرادها على سل سائر الشعب التركي منه؛ فقرروا إسقاط الدولة، والقضاء على هذه الأسرة. يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وهذه قاعدة اجتماعية لا يختلف فيها عاقلان، ومن فروعها ما أفاده قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (الشورى: 30) وهي قاعدة أخرى ولكنها أخص من الأولى التي تشمل النعم والنقم، والرغائب والمصائب. وهما يطردان في الأمم دون الأفراد , فقد تمس الفرد نعمة أو تصيبه مصيبة بغير سعي منه ولا كسب لسبب هذه أو تلك، بأن يرث مالاً من قريب، أو يقع عليه ظلم من معتد أثيم. وأما الأمم فلا تتغير أحوالها من خير أو شر , إلا بعمل منها ناشئ عن تغير ما في نفس السواد الأعظم من أفرادها من العقائد والأفكار , والملكات والوجدانات التي هي مصادر أفعالها , سواء كان هذا التغير بالاستقلال أو باتباع الدهماء للزعماء والكبراء من رؤساء الدنيا والدين. وقد كان الذين شعروا بحاجة الدولة العثمانية إلى الإصلاح في القرن (الثالث عشر الهجري) الماضي يجهلون أولاً هذه القاعدة الاجتماعية , فلم يبحثوا عن علل الضعف وأسباب الفساد كالجهل والخلل والرشوة، وعن علاجها اللائق بها في أنفس الأمة أولاً وبالذات وفي نظام الدولة ثانيًا وبالتبع لحال الأمة، بل حصروا وجهة نظرهم في مظاهر قوة الإفرنج الحادثة بعد ضعف، وفي أعراض ضعف دولتهم الطارئ بعد قوة، فاستنبطوا من هذا النظر في المظاهر والأعراض أن الدولة تقوى وتعتز بتقليد الإفرنج في قوانين حكوماتهم ونظمها ومظاهر حياتها، ولكن لم يراعوا ما في ذلك من الموافقة لمقوماتها ومشخصاتها من عقائد وتقاليد وآداب وأخلاق وعادات موروثة ومكتسبة بالتربية والتعليم، ولم يفطنوا لما بينهم وبين الإفرنج من الاختلاف والفروق في ذلك، ولا تأملوا في الأطوار التي تنقل فيها الإفرنج من حال إلى حال، ولا قدروا ما يحيط بدولتهم من الأمور السياسية وغيرها، وكذلك شأن المقلد، وناهيك بمقلد يسترشد برأي أعدائه من حيث لا يدري. وكان من معلولات هذا الجهل أن كل مانع يعرض لهؤلاء المتصدين للإصلاح يظنون أنه من أسباب الفساد , ويحاولون إزالته وإن كان من مقومات الأمة التي لم تكن هي إياها إلا به - فكان مثلهم كمثل من رأى حلة على امرأة مهفهفة القوام فاشترى مثلها لامرأته الضخمة فلما تعذر عليها لبسها؛ رأى أن لا سعادة له ولها إلا بترقيق بدنها , بإذابة لحمه وشحمه ليمكنها لبسها، فإن لم يمكن؛ وجب إلقاء الحلة عليها وإن لم تلبسها لبسًا. هذا مثل من كان مخلصًا في محاولة إصلاح هذه الدولة من رجالها , لما له فيها من عرق راسخ أو دين ثابت، وكأي من متصد لذلك وهو يبغي الإفساد؛ لأنه دخيل فيها وهو من أعدائها الذين تربوا في مدارسها التقليدية. وكم تخرج في هذه المدارس من عدو للدولة دسه فيها قومه الأعداء , ثم تعاهدوه وسعوا إلى ترقيته في المناصب الملكية والعسكرية بالرشوة والشفاعات , حتى صار من كبار رجالها الذين يسعون في خرابها بما في أيديهم من أزمة أمورها. مدحت باشا والإنكليز: كان مدحت باشا من هؤلاء المخلصين المقلدين المخدوعين. قال حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني فيه وفي رجاله من مقال له عنوانه (الشرق والشرقيون) ضرب فيه الأمثال بجهل حكومات الهند وإيران والأفغان وبخارى والقوقاس والعثمانيين والمصريين الذي كان سببًا لضرب الإفرنج المستعمرين بعضهم ببعض للاستيلاء على ممالكهم - ما نصه: (وإن مدحت باشا وأعوانه لو نظروا بعين بصيرتهم إلى أركان سلطنتهم المتداعية إلى السقوط، وشعروا بهداية عقولهم أن دعائم حكومتهم كادت تنهد بما أَلَمَّ بها من المصائب، وعلموا بتدبرهم أن البلايا تترصدهم من جوانبهم - لما تقحموا غرورًا وضلالة في خلع السلطان عبد العزيز وقتله وقتما تترقب الأعداء سقطاتهم، وتغتنم هفواتهم، ولكنهم اعتمادًا على واهي آرائهم، واغترارًا بدسائس الحكومة الإنكليزية قد جلبوا الهلاك على أمتهم , ويظنون أنهم هم المصلحون) . وقد كان من رأي مدحت باشا يومئذ الفصل بين الدولة والخلافة , وكلم الشريف عبد المطلب في جعله خليفة في مكة تابعًا للدولة في السياسة الخارجية ومحميًّا بقوتها , فأبى واحتج بأن مصلحة الدولة والعرب تأبى ذلك، ولما طفق يشرح رأيه قال له مدحت باشا: شريف أفندي! نحن جئنا بك لنعرض عليك أمرًا، لا لنطلب رأيك فيه، وإذ أبيت فتفضل بالرجوع من حيث أتيت. وكان الشريف عبد المطلب أعقل شرفاء مكة، ولم ينل أحد منهم مثل منزلته عند رجال الدولة، وهو لم يكاشف السلطان بهذه المسألة، ولكن السلطان عبد الحميد كان منذ نزل بعمه عبد العزيز ثم بأخيه مراد ما نزل يذكي العيون , ويصطنع الجواسيس؛ لإخباره بما يدبر رجال الدولة، وصار أقدر الناس وأحذقهم في ذلك بعد توليه أمر السلطنة، فعلم أن (الجون ترك) يكيدون له ولأسرته كلها , فلج في مطاردتهم، فكان له من مكابدتهم في الداخل، ومكايدة الدول من الخارج، ما صرفه عن إصلاح الدولة، واضطره إلى الإسراف واتباع الوساوس التي يثيرها في خياله مرتزقة الجواسيس وصنائع الأعداء منهم، حتى صار كل مخلص للدولة من أهلها يتمنى زواله، ويعتقد أن جميع أنصاره في بلاد الدولة منافقون أو مأجورون، وجميع أنصاره من الأقطار الأخرى جاهلون، أو مغلوبون على أمرهم بين آلام من استذلال الأجنبي لهم، وآمال في الدولة الإسلامية المستقلة , يكرهون أن ينغصها البحث في عيوبها عليهم. مقاصد الإنكليز من الترك والعرب والإسلام: وكان عطف الدولة البريطانية على (الجون ترك) ومساعدتها لهم من دلائل استخدامها إياهم في سياستها من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون، ولكن سياستها العثمانية كانت موضع الخلاف ومثار الشبهات، فكان بعض رجال الدولة يرون هذه الدولة صديقة لدولتهم بما كانت تعارض روسية في محاولة فتح القسطنطينية والاستيلاء على زقاقي البوسفور والدردنيل، وبما كانت تقاوم محمد علي باشا الكبير وأحفاده في تأسيس مملكة عربية جديدة في مصر، ثم تبين أن هذه السياسة كانت مبنية على القواعد الآتية: (1) يجب أن تكون الدولة العثمانية في الأرض كأهل جهنم: لا تموت فيها ولا تحيا - لا تموت؛ لئلا تحل الروسية محلها من الآستانة، فهو على حد المثل (لا حبًّا في علي ولكن بغضًا في معاوية) ، ولا تحيا؛ لئلا يعتز بها المسلمون فيحول ذلك دون مطامعها في استعباد من بقي منهم، وتتعلق آمال مسلمي الهند بالتحرر من رقهم. وقد هدمت هذه القاعدة بالاتفاق البريطاني الروسي على التوازن في الشرق , والبدء باقتسام إيران بجعلها منطقتي نفوذ لهما، ثم بالاتفاق معها ومع فرنسة سنة 1912 على تقسيم الدولة بينهن. (2) التوسل بإظهارها المساعدة لهذه الدولة إلى اصطناع كثير من رجالها والاستعانة بالملاحدة منهم على إفساد أمر الخلافة عليها، وبالمتدينين على جعل الخليفة عضدًا لها، قبل قضاء الملاحدة عليها. وقد ثبت عندنا أن ساسة الإنكليز قالوا: إن قوة الإسلام في الشرق لا يمكن القضاء عليها إلا بتولي ملاحدة الترك لأمور دولتهم. وأنها لهذا كانت تعطف عليهم في كل زمان ومكان، حتى إنها لم تقطع آمالها منهم بتحيز من تحيز من زعمائهم إلى الألمان، ولكنها بعد الحرب طفقت تصطنع بعض الرجال المتدينين؛ لأن زعماء المتفرنجين صاروا مع أعدائها عليها. (3) التوسل بسيادة هذه الدولة على مصر والحجاز وسائر البلاد العربية إلى إحباط كل سعي لتأسيس دولة عربية جديدة في مصر أو غيرها. (4) انتهاز الفرص من وراء كل ما ذكر إلى الاستيلاء على مصر فالعراق فجزيرة العرب، وقد تم لها جل ما كانت تنويه وتقصد قصده حتى القضاء على خلافة الترك , فقد تعددت الروايات بأنهم هم الذين أقنعوا الكماليين بالإقدام على إلغائها. نقف

رسالة ملك الحجاز إلى الأمة البريطانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة ملك الحجاز إلى الأمة البريطانية لما أراد ملك الحجاز زيارة شرقي الأردن من أطراف البلاد السورية؛ قدم بين رحلته هذه الرسالة متوهمًا أن يكون حاملاً للحكومة الإنكليزية على العطف عليه بما يتقرب به إلى أهل فلسطين وينال موافقتهم على المعاهدة العربية، فجاءت هذه الرسالة حجة لنا عليه وعلى أنصاره، ولو كانوا منصفين أو مخلصين لقلنا: (أقر الخصم وارتفع النزاع) ولكن كم أقر الخصم قبل هذا بما كان حجة لنا في سائر ما انتقدنا عليه , ولم يرتفع النزاع بيننا وبين الغارين والمغرورين من أنصاره , وأما المخلصون فهم يرجعون إلينا آنا بعد آن (والعاقبة للمتقين) وقد نشرت الرسالة في جرائد لندن فرد عليها (اللورد رجلان) بمقالة شديدة اللهجة في إهانة ملك الحجاز وأولاده الملوك والأمراء خلاصتها أنهم كانوا أجراء للدولة البريطانية ووفتهم أجورهم بأكثر مما يستحقه عملهم؛ إذ جعلت حسينًا ملكًا للحجاز وفيصلاً ملكًا في العراق وعبد الله أميرًا في شرق الأردن … وإننا ننقل ترجمة الرسالة بالعربية عن المقطم وهذا نصها: تلغراف خصوصي للمقطم لندن الإثنين في 31 ديسمبر الساعة 9 صباحًا تلقت الصحف الكبرى بلندن نداءً بالإنكليزية من جلالة ملك الحجاز , وجه فيه الخطاب إلى الأمة البريطانية , وقد أرسلت نسخ منه إلى أعضاء مجلس الأعيان وغيرهم من الكبراء وأصحاب الكلمة النافذة , فرأيت أن أرسل إليكم صورته كما تلقيناه وهو: *** إلى الأمة البريطانية الكريمة من الحسين بن علي بناءً على ما اشتهر به الشعب البريطاني الكريم من الثبات والنزاهة وهي الصفات المعروفة لي شخصيًّا , رأيت أن أعرض على ضميره الصادق , وحكمه السليم آرائي في الحيف الذي أصاب قومي العرب في بلدانهم المختلفة. لقد لبيت دعوة حكومة جلالة الملك؛ لأني كنت أعتقد أن في دعوتها منافع مادية وأدبية متبادلة , وهو اعتقاد أعترف بأن الحكومة البريطانية كانت تشاطرني إياه. ولم تكن لتلبيتي لهذه الدعوة تنافر ما مع شيء من العواطف القومية أو الدينية، بدليل ما جاء في منشوراتي الرسمية العديدة , فنهضت مع شعبي بعد نيل ضمانات تضمن مصالحهم ومستقبلهم , وخضت معهم غمار القتال جنبًا إلى جنب , وكنت وطيد الإيقان بأننا نحارب في جانب شرف الأمة البريطانية كلها , لا بجانب أفراد تفصم العرى التي تربطنا زوالهم، ومثل لعيني شرف الأمة البريطانية وشهامتها وعظمتها , فأقدمت على خوض القتال وأنا ممتلئ ثقة , في حين كانت فيه كفة الخصم راجحة في كوت الإمارة والقنال والدردنيل وجميع ساحات الحرب في أوربا , وواصلت اشتراكي وشعبي إلى النهاية وإلى أن تقشعت السحب السوداء الملبدة , التي كانت تنذر بحرب دينية في الشرق , تكون بعيدة المدى والعواقب، وضربت المثل الأعلى للعالم في سعة الصدر والتسامح والدفاع عن المبادئ السامية، فلبى العرب دعوتي في العراق وفلسطين وسورية. وكان بيدي وثائق الساسة المسؤولين وتصريحاتهم الرسمية والخصوصية التي فاهوا بها على رؤوس الأشهاد، وكلها مجمع على أن العرب سيفوزون بوحدتهم واستقلالهم مكافأة على ولائهم، وأن مصائبهم ومحنهم ستزول. وقد وضعوا أقصى ثقتهم وآمالهم - بعد الله - في شرف الأمة البريطانية. ومما يشهد بذلك ويثبته أيضًا أنهم أبوا صلحًا منفردًا , يعقد مع العدو الذي عرض عليهم أن ينيلهم استقلالهم، وقطع لهم المواثيق الرسمية والضمانات المؤكدة؛ وذلك لأن العدو أخذ يشعر بتأثير الصدمة الشديدة الأدبي والمادي من جراء قتال العرب في جانب بريطانيا العظمى وحلفائها. وكان من نتائج هذا الولاء والوفاء تلغراف رسمي ورد من وزير الخارجية البريطانية يؤكد به وحدة العرب واستقلالهم , وتصميم الحلفاء على تحقيقهما، وأنه يستحيل أن يعقدوا صلحًا إلا إذا نص في شروطه الأساسية على حرية شعوبنا واستقلال بلدانهم، وقد أرسل هذا التلغراف باسم حكومة جلالة الملك البريطانية وأبلغنيه المعتمد البريطاني في جدة يوم 8 فبراير 1918. فلهذه الأسباب ألفت نظر الأمة البريطانية إلى ما حل بحلفائها العرب , الذين لا يزالون يعدون أنفسهم حلفاءها على قلة ما في العالم من الحلفاء الحقيقيين اليوم فقد مزقت وحدتهم وقطعت أوصالها، وتفككت بلدانهم وصارت محتلة، وأخذ العالم الإسلامي خاصة والسواد الأعظم من قومي يرميانني بتهمة أني بعت بلدانهم لبريطانيا العظمى وحلفائها , وهي تهمة تكفي لتلطيخ كرامة بيتي وتسويد تاريخه. وصمة لا يصبر عليها حتى الذين تجردوا من كل معاني الشرف وكرم الشيم [1] , ولا أعرف أن العرب ارتكبوا ما يستحقون أن يعاملوا لأجله هذه المعاملة إلا ثقتهم المطلقة ببريطانيا العظمى , ووفاؤهم لها إن صح أن يعد هذا جناية حقيقية [2] . فالعرب المدفوعون بآخر شرارة في جوانحهم من الوفاء لحليفتهم العظيمة، وبما فطر عليه جنسهم من عرفان الجميل والوفاء بالعهود، يرغبون إليَّ أن أبلغ الشعب البريطاني أنهم لا يبغون بهذه الأقوال أن يباهوا بفعلهم , أو يمنوا بمساعدتهم أو ينكروا على بريطانيا العظمى حقها في ضمان مصالح شعبها , أو يعارضوا في صدق وطنية الأمة البريطانية، ولكنهم يرون من الإنصاف أن لا تنحصر هذه الصفات فيها بل أن تكون في سواها أيضًا، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف (حب الوطن من الإيمان) [3] فالعرب - والحالة هذه - حائرون كيف يوفقون بين وطنيتهم ووفائهم وولائهم لحلفائهم. ولهذا أرغب في أن أصف في رسالتي هذه دهشتي وحالتهم الحاضرة للشعب البريطاني الكريم؛ لئلا يقع عليهم لوم ما إذا توسلوا بوسائل أخرى إلى درء هذا الذل العظيم الذي يسود تاريخهم المجيد , غير مكترثين للعواقب مهما كانت، وإلا انطبق عليهم بحق المثل القائل: (فر من الموت وفي الموت وقع) وهذه أبسط تهمة يلصقها بهم أعداؤهم؛ إذ يحق لهم أن يخاطبوهم بقولهم: (لو بقيتم كما كنتم قبلاً لنجوتم من جميع هذه البلايا والرزايا) . أما الحجاز فقد كان متمتعًا بامتيازاته واستقلاله في الماضي. ويستحيل الصبر على موقف الأمة العربية في عيون العالم الإسلامي والشرق عامة , وفي عيونهم أنفسهم وفي مرآة تاريخهم , وأن ينظر إليهم كخونة ظالمين. إن هذا الموقف الشائن مما يستحيل قبوله والتسليم به. ولست في ما أقول منذرًا، ولكنني مذكر، فقد كانت شهرة بريطانيا العظمى أساس عظمتها في الشرق , وهذه الشهرة أعظم نفوذًا من أساطيلها العظيمة وجيوشها الجرارة، فهي في حاجة عظيمة إلى تجديد مكانتها. أقول ذلك بصراحة العربي وإخلاصه , وعلى بريطانيا العظمى أن تبدأ بمعاملة العرب الذين حالفوها ووالوها إلى يومنا هذا مع كل ما طرأ من الطوارئ من اليوم الذي كانت فيه الحرب حقيقة بادية للعيان إلى أن صارت خفية مستورة. ولا أطيل الكلام في هذا الصدد ولكني أرجو أن تشرع الأمة البريطانية في أن تلقي عن عاتقها جميع هذه الأعباء، وأن تنصف العرب حلفاءها الأوفياء، وخير لها أن يكون لها حليف متحد قوي مستقل، من أن يكون هذا الحليف ممزقًا مقطع الأوصال ذليلاً كما هي حالة العرب الآن، ولا يعلم إلا الله إلى أين يسوقهم قنوطهم بعد ما طفح الكيل. أقول ما تقدم مدفوعًا إليه بعامل الإخلاص والوفاء , لما علي من العهود والواجبات. ... ... ... ... ... ... ... ... البلاط الهاشمي بمكة ... ... ... ... ... ... ... في24 نوفمبر سنة 1923 (المنار) إن هذا الخطاب يشرح للناس كنه عقل السيد حسين المكي ومبلغه من العلم والسياسة , فهو صريح في أنه قد أسس سياسته في نصر الإنكليز على الترك على شفا جرف هار من تخيل ما يسميه (الحسيات النجيبة البريطانية) , وتوهم أن الإنكليز يعاملون الناس بمقتضى الحس والشعور بالوفاء والنجدة والكرم والإيثارعلى أنفسهم , والوفاء بوعودهم وعهودهم مضاعفة. وجميع ذوي الإلمام بشؤون العالم في الشرق والغرب يعلمون أن السياسة ليس فيها عواطف ولا فضائل ولا تقرب إلى الله تعالى بإسداء المعروف إلى الناس - وأن الإنكليز خاصة أبعد البشر عن بناء أي عمل من أعمالهم على الشعور والعواطف، وأنهم تجار ماديون قليلو التأثر والشعور , ولذلك لقبوا في كل العالم بأصحاب الدم البارد , وأنهم أبعد خلق الله عن الوفاء فيما لا يعدونه من مصلحتهم التي يفتدون بها مصالح الخلق كله , ولكنهم لبراعتهم في الرياء الفريسي - كما يصفهم أهل أوربة - يدعون الوفاء بتأويل ما يقع منهم من الغدر والإخلاف، كتأويل معاوية وعمرو بن العاص لقتل عمار، وقد قال فيهم إمام السياسة الأوربية ودهقانها في عصره (البرنس بسمارك) إن الإنكليز أبرع الأمم في التفصي من المعاهدات بالتأويل. ونقول نحن: إن هذا شأنهم مع الدول العظمى , وأما الضعفاء فإنهم لا يهتمون بتأويل غدرهم وإخلافهم معهم. ولنا من سياستهم في مصر والسودان مئات من الأدلة القطعية على ذلك , ولكن هذا الرجل لا يعرف من تاريخ مصر المجاورة له - دع تاريخ الهند وغيرها من البلاد التي ابتليت بالإنكليز. اعترف الزعيم العربي بهذا الأساس الخيالي لسياسته , وأنه لم يبال برمي أمته له بالخيانة لثقته بهذه الخيالات , وأنه مصر على ذلك إلى الآن، فهل يجوز أن يتخذ مثل هذا زعيمًا لشعب أو أمة , وخليفة للرسول الأعظم على أمته وهو يخالف كتاب الله وسنته في كل خطوة من خطوات سياسته؟ سيقول الجاهلون بالتاريخ الحديث والسذج الذين لا يتفكرون في عواقب احتلال الأجانب لأخصب البلاد العربية، والطامعين في الاستيلاء على ما بقي منها وهو مركز القوة الدفاعية: ما بال صاحب المنار يوالي الطعن في الملك حسين وأولاده دون غيرهم؟ ونقول لهؤلاء: إن الأمر أعظم مما وصلت إليه عقولكم، وإن خطر هؤلاء على أمتكم أبعد مما تصورته أفكاركم، فانظروا وتفكروا، ثم انظروا وتفكروا، ثم انظروا وتفكروا. ((يتبع بمقال تالٍ))

خطاب عام للمسلمين ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب عام للمسلمين (3) وجاء في الرسالة المطولة التي أشرنا إليها من قبل ما يأتي: الحدود سمع مولانا المنقذ بأن إمام اليمن يحكم بالشرع المنيف , ويقيم الحدود فعمل شر المنكر ليذكر. فكل من ساء حظه أمسكه المنقذ بتهمة سرقة, يأمر بقطع يده، أو يده ورجله اعتباطًا، وبدون محاكمة ولا مراعاة لشروط الحد من حرز أو عدالة للشهود والأمر بدرء الحدود بالشبهات , وإليك إشارة إلى التنفيذ الفظيع. *** (التنفيذ) تأخذ الزبانية هذا التعس , فيضعون العضو المأمور ببتره على خشبة، ويمسكون المسكين كما يمسك العصفور للذبح , ويقوم على رأسه أحدهم شاهرًا سيفه ممسكًا له بكلتا يديه , فيهوي به إلى ذلك العضو فإن أصاب مَفْصِلاً أبانه وذلك من رحمة الله بالمسكين , ولكن الغالب أنه يصيب محلاً آخر فوق المَفْصِل أو دونه , فتتهشم العظام ولا ينقطع العضو إلا بعد ضربات عديدة يذوق ذلك المنكود الحظ منها الموت الزؤام مرارًا عديدة، ولذلك لا يسلم من الموت ممن قطعهم ذلك القاطع إلا نحو العشر، ولا بد أن يقلقوا بصياحهم أهل الحارة التي يكونون فيها. أفهذا حكم الشرع المنيف؟ حاشى لله ألف ألف مرة. إن الشرائع كلها السماوية والوضعية تتبرأ من هذه الوحشية السبعية الإبليسية فإنا لله وإنا إليه راجعون. أي جناية على الدين؟ وأي ازدراء به شر من هذا؟ إن أكبر أعدائنا لا يقدر أن يذمنا وينفر عن ديننا بمثل ما يصنعه (سيدنا وسيد الجميع) . *** (السجن الهاشمي) أخبرنا الثقات من المكيين أن هذا السجن شر من سجن الحجاج؛ ففيه ضروب من التعذيب , لم يبق لأقلها وجود في منشوريا ولا غيرها - بل هنالك سجنان: (أحدهما) سجن المجرمين العاديين , وهو بناء كان مخازن للغلال ذات رواق فبني الرواق , وجعل له باب أو بابان. وهو مع المخازن لا يسع مائة رجل , ولكن له رحبة أو حوشًا تسع مائة أو أكثر، وهو ليس لها سقف يقي هاجرة الحر المحرقة في الصيف وبرد الليل في الشتاء , والمسجونون فيه خمسمائة أو يزيدون (وثانيهما) القبو وما أدراك ما القبو؟! وهو سجن الذين ينزل عليهم الغضب الهاشمي كالأستاذ العلامة الشهير أبو بكر خوقير علامة الحنابلة ومفتيهم الذي كان يتهمه بأنه وهابي. وهو قبو مظلم تحت دار الإمارة له منفذ ودرج - بل درك - للنزول إلى أسفله , وأرضه رطبة عفنة كثيرة الحشرات والغازات السامة , قلما يعيش أحد فيه عدة أيام , وليس له نوافذ غير مدخله، فلا يدخله نور الشمس المطهر ولا الهواء المنقي للهواء من الأبخرة السامة , وليس فيه مرحاض ولا مكان للطهارة. ومن ضروب الفظاعة المشتملة على عدة محرمات أن زبانيته يسلكون الآحاد والعشرات من المسجونين في سلسلة واحدة من الحديد آناء الليل والنهار , فكلما ذهب واحد لقضاء حاجته جرهم كلهم معه , ويؤيد هذا ما كتبه ذلك العالم الفاضل من جزائر الهند الشرقية في مذكرته المذكورة آنفًا وهو: (ومما اختصت به مكة - صانها الله تعالى دون سائر الأرض - أن العقوبات تجري فيها بمنتهى الوحشية استبدادًا , ولو رأى أحد المنصفين السجن بمكة لبكى الدم حنانًا على من أوقعه نحس الطالع فيه , فإن أكثره لا سقف له يقي من تلك الشمس المحرقة نهارًا والبرد القارص في أيامه ليلاً , وهو محل قذر للغاية وضيق لا يتسع لأكثر من 70 شخصًا , وقد حشروا فيه نحو ألف إنسان والحكومة لا تعطيهم طعامًا , وكثير منهم يموتون جوعًا , وقل أسبوع لا تحدث فيه حوادث من هذا القبيل , ومن أرسل له أهله قوتًا؛ تخاطفه عليه الجياع، هذا إن سلم من حراس السجن فإن لهم حتمًا أطايبه , ومن مات يبقى بين من هم هناك نحو يومين حتى تفوح رائحته لشدة الحرارة وكثرة التحلل من الجيفة بسببها , وبذلك يحصل الإذن من الذات المقدسة بالدفن , وليس لمن في السجن محل للغسل ولا لهم بيت للراحة إلا محلاًّ واحدًا يؤمه ألف شخص… ومن رحمة سيدنا المنقذ أنه يطوق بعض رعاياه المحكوم عليهم بالسجن بأطواق من الحديد , ويعلق فيها من القلل ما تنوء بحمله العصبة أولو القوة , وينظم الخمسة إلى العشرة في سلسلة واحدة. إلى ما أخاف أن لا يصدقني القارئ إن ذكرته من الفلكة الهاشمية والقبو , وما ضاهى ذلك مما لم يتفطن له الحجاج ولا نيرون ولا نمرود، ولا وسوس لهم به إبليس، فليبحث عن هذا من يحب معرفة الحقيقة) اهـ وفيه خطأ بتقدير ما يسع السجن وعدد المسجونين , والصواب ما قلناه ومسألة القلل لم تبلغنا عن غيره. *** (ظلمه للأشراف) اختارت الدولة العثمانية بطنين من بطون شرفاء مكة لإمارتها تولي واحدًا من هؤلاء مرة، وواحدًا من الآخرين مرة - فأوقعت به التعادي والتنافس بينهما، وأغرتهما باحتكار الجاه والرفاهة دون سائر الشرفاء الذين أصبحوا في دركة من الجهل والفقر، تحول دون كل مطمع في نباهة الذكر. وكان الملك حسين من أشد من ولي الإمارة بغضًا في البطن الآخر، ولا سيما آل الشريف عبد المطلب الشهير، فهو يتصرف في أملاكهم وأوقافهم كما يشاء. وقد أشرنا إلى ذلك في الشاهد العاشر من شواهد المالية في الحجاز. وقد كان نفر من كبار هؤلاء الشرفاء يقيمون في الآستانة مكرمين منعمين بما تجريه الدولة العثمانية عليهم من الرواتب الكافية , وقد منعتهم دولة الجمهورية من ذلك , فأمسوا في أسوأ حال، وتعذر عليهم السكنى في الآستانة وفي غيرها , ولم يعد يسعهم إلا وطنهم (مكة) ولهم فيه أملاك وأوقاف، ولكن رئيس أسرتهم وملك العرب ومنقذهم، لا يأذن لهم بالعودة إلى بلدهم، ولا يرسل إليهم شيئًا من حقوقهم، على أن الذين يعيشون هنالك في أسوأ حال كما أشرنا إلى ذلك في الشاهد العاشر من شواهد الجناية الثالثة , وهم أحق من سائر العرب بما يدعيه من إنقاذهم وإسعادهم. ومن لا يصل رحمه ولا يغار على شرف أهله؛ فكيف يصدق بدعوى الغيرة على غيرهم؟ وقد ختم ذلك العالم الجنوبي مذكرته بوصف حالهم وهذا نص ما كتبه: (ولو أردت أن أكتب ما عرفته من فضائح جمرك جدة لأضجرت القارئ , ولكني أختم مقالي بالإشارة إلى حالة أشراف الحجاز الذي ينتمي إليهم مولانا المنقذ , فإنهم في أحط الحالات دينًا ومعاشًا , وكل ذلك سببه الآن أعمال هذا المنقذ، فإن سلفه قد تعمد وحتم بقاء سائر الأشراف إلا قرابته الأدنين على شر حالات البداوة جهالة، وقذارة , وغباوة، وبعدًا عن العلم والمعارف؛ لئلا يشاركوه في أمور الإمارة، وليتسنى له الاختصاص بالظلم ليشبع نفسه الأمارة. وقد زاد (منقذنا) على هذا بأن عمد إلى مكاسبهم , فوضع عليهم إتاوات ثقيلة , ثم فرض مناصفة ما تنتجه زروعهم من قصب وحشيش يحملونه ويسلمونه مجانًا للإسطبل الهاشمي , وما بقي لهم يدفعون عليه إتاوة دخولية تستغرق جل الثمن , وقد كانوا يكسبون من كراء جمالهم , أما الآن فقد مر بك ما يختص بالجيب أو الجراب العلي الشأن , وذلك مما يؤخذ من كرى الجمال أكثره , فلا يبقى لصاحب البعير إلا ما يكفي أكل الجمل بشرط أنه هو وعياله يجوعون أو يقتل الجمل جوعًا؛ ليسد رمقه ورمق عياله , ولذلك صار الجمالة يستجدون الحجاج في محلات الأمن وينهبونهم في خارجها؛ إذ لم يبق لهم إلا تلقيهم بعر الجمال برؤوسهم , إذ يسوقونها والكرى الصافي (لسيدهم وسيد الجميع) . ويكفي أن أقول: إن الأشراف عدد عديد وجلهم أمي , ومن يكتب ويقرأ منهم فكتابتهم ضعيفة كأنها العبرانية، ولا أرى الباحث يجد منهم من يخرجه عن حكم الأمية إن أنصف، فضلاً عن أن يجد منهم عالمًا أو عارفًا بأحوال الوقت، وقد عرفت بعض الأشراف , وخضت معه فحاول إرسال أولاده إلى مصر ليتعلموا، فمنعهم من ذلك (مولانا المنقذ) وقال: إن أعلى مدارس الدنيا تلك الكتاتيب القذرة التي يقيمها بمكة لذر الرماد (هكذا وهكذا وإلا فلا لا) . *** الجناية الرابعة معاملته للحجاج وسلب أموالهم نحمد الله تعالى أن وفقنا لقول الصدق، والتزام الحق، ومنه أن صرحنا مرارًا بما ثبت عندنا من عناية الملك حسين بأمر الحجاج ما استطاع , مع مراعاة غاية الدقة واللطف فيما يناله منهم من المنفعة , وسبب هذا ظاهر، وهو أن جاهه وكرامته وثروته رهينة بتسهيل الحج وإرضاء الحجاج، ولكن تسمية نفسه بملك العرب وسعيه الدائم لصدق التسمية اقتضيا منعه أهل نجد من إرسال ركب للحج. كما أن سخط مسلمي الهند عليه وطعنهم في سياسته البريطانية حملاه على إيذاء حجاجهم , كما روته مجلة الجامعة الهندية المشهورة وغيرها. وحاجته إلى الدراهم الكثيرة لجعل الحجاز دولة عسكرية مستعدة لإخضاع الإمارات المجاورة له في نجد واليمن وتهامة , وجعلها تابعة له (كما علم من كلامه في الوحدة العربية الذي نقلناه في الوثيقة الخامسة) حملته على زيادة ما يأخذه على نقل الحجاج من مكان إلى آخر، وعلى فرض ضرائب جديدة لا تحل له شرعًا وهي أنواع: (الضرائب على الحجاج) (1) قد فرض على كل حاج ضريبة لا يؤذن له بدخول الحجاز إلا إذا أداها لعماله , وعند النزول في ثغر جدة أو غيره إلا أن يكون قد دفعها لوكيله في القطر المصري , ووقع له على جواز السفر باستيفائها منه , وهذه الضريبة جنيه إنكليزي على من يجيء من الجنوب كأهل الهند وجاوه وغيرهم , ونصف جنيه على من يجيء من الشمال: كمصر وغيرها أو تزيد فهو يجبي منها مئات الألوف من الجنيهات في كل سنة. (2) قد فرض على كل الحجاج ضريبة أخرى برسم الحجر الصحي , ولها شروط مخصوصة مُدوَّنة بأوراق رسمية. (3) قد فرض عليهم ضريبة ثالثة , يؤديها كل خارج من جدة قبل خروجه باسم الشهادة الطبية , وقدرها ريالان مجيديان أو 30 قرشًا مصريًّا صحيحًا، ويعطى بها ورقة رسمية. هذه الضرائب تعد في أحكام الشرع من أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه بنص القرآن، وأخذها من الحجاج يعد من الإلحاد في الحرم بالظلم , وهي أولى بذلك مما ورد في الأحاديث المرفوعة والموقوفة في تفسير {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج: 25) كالاحتكار وتجارة الأمير , وقد تقدم - وتعد أيضًا من الصدِّ عن المسجد الحرام , فإن من الفقراء من لا يستطيع دفعها على أن بعض الفقهاء قالوا: بسقوط الحج عمن تصادر أمواله بسببه. ولأجل انتفاع الملك من هذه الضرائب أسس محجرًا صحيًّا , يُكْرَه الحجاج على الدخول فيه ولا يعتد بدخولهم قبله في المحجر المصري , في الطور من جهة الشمال والمحجر البريطاني في قمران من جهة الجنوب , مع العلم بأنه عاجز عن إتقان محجره كإتقانهما. هذا إذا فرضنا أنه فوض أمر محجره إلى أطباء ثقات , ولم يكن له رأي ولا أمر في أعمالهم الفنية المحضة، أما إذا كان المحجر يدار برأيه فهنالك البلاء المبين، إذ يخشى أن يمنع بعض الأدوية المتفق عليها بين الأطباء , ويستبدل بها بعض مجرباته أو ماء زمزم الذي صرح في جريدته (القبلة) بأنه شفاء من كل داء , وإن كان مشوبًا بقذر المصابين بالهيضة الوبائية , وأمثالها من الأمراض التي أجمع أطباء هذا العصر من مسلمي جميع الشعوب ومن غيرهم على أنها معدية، وأن أسباب العدوى فيها ثابتة بالتجربة وبالمشاهدة بالمناظر المكبرة. ثم إنه لأجل هذه المنافع المالية بينه وبين الدولة البريطانية قد وضعا لها مواد في مشروع المعاهدة البريطانية الحجازية أو العربية ليتقاسما المنفعة، على ما في هذا العمل من التضييق على الحجاج وتنفيرهم من الحج، وقد بينا في تعليقنا على هذه المواد ما فيها من الضرر على الحجاج , والدلالة على كون الحجاز تحت سيادة الإنكليز. (أجور نقل الحجاج) (1) جعل أج

تحريم المسلمة على الكتابي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحريم المسلمة على الكتابي (بقية ما في ص 222 من ج3م25) دين الله على ألسنة رسله واحد , وما الإسلام إلا إصلاح وتكميل للشريعة الموسوية الشديدة الوطأة , الخاصة بشعب واحد في تاريخ خاص، وتكميل للآداب المسيحية الشديدة المبالغة في الفضيلة , لما كان عليه الروم واليهود من المبالغة في الطمع والشهوات، فأجدر بأهل الكتاب إذا عرفوا الإسلام حق المعرفة بمعاملته إياهم بالعدل والحرية والألفة، أن يعرفوا بفهمهم له أنه هو دين أنبيائهم الذي نسوا حظًّا منه وحرّفوا شيئًا منه، وأن الله تعالى أكمله لهم بحسب سنته تعالى في الترقي الإنساني كما بشّروهم به. ففي الإنجيل أن المسيح عليه السلام صرح بأنه لا يستطيع أن يقول لهم كل شيء لعدم استعدادهم وعدم حرية حكومتهم، ولكن سيأتي بعده روح الحق الذي يقول لهم كل شيء؛ أي: لظهوره في أمة حرة ولإعداد الله الأمم كلها لاستقلال الفكر. وكذلك فعل غير المتعصبين الموثقين بالتقليد، وقد آمن بهذه المعاملة ألوف الألوف من المستقلين الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157) الآية , ولو أن المسلمين يدعون إليه في شعوب الإفرنج دعوة صحيحة تؤيدها أفعالهم وأخلاقهم - لدخل الناس فيه أفواجًا لشدة الحاجة إلى الدين المعقول الذي يتفق مع العمران في هذا العصر , بعد ظهور مفاسد التعاليم المادية، ولقوة استقلال أفكار تلك الشعوب الغربية. ولو أعطي مشركو العرب هذه الحرية , وعوملوا هذه المعاملة؛ لبقيت عبادة الأصنام سائدة في جزيرة العرب كلها، وفي مكة نفسها. ونتيجة ما شرحناه أن التسوية بين المشركين وأهل الكتاب باطلة لا تصح بحال، ويترتب عليه أن ما ورد في المشركين من النصوص لا يجري على أهل الكتاب بذلك النص بل يحتاج إجراؤه عليهم إلى دليل آخر. وما نقل مخالفًا لهذا التحقيق من بعض الآثار أو أقوال العلماء؛ فهو إما خاص بأناس بأعيانهم، أو تساهل في إطلاق الخاص على العام فيما يرى المطلق له أن الحكم في العام والخاص واحد، وقد يكون مخطئًا في ذلك وقد يكون مصيبًا. *** حكم الزوجية مع اختلاف الدار والدين بقي ادعاء المنتقد أن آية الممتحنة {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} (الممتحنة: 10) نص أصولي في المسألة , وهي قد نزلت عقب صلح الحديبية في النساء المؤمنات اللاتي هاجرن من بلاد الشرك إلى دار الإسلام والهجرة , وطلبهن أزواجهن، نهى الله تعالى عن إرجاعهن إلى الكفار في دار الشرك , عملاً بما اشترطوه في الصلح من إرجاع من يجيء النبي صلى الله عليه وسلم منهم مسلمًا. تخصيصًا لعموم الشرط بجعله للرجال المحاربين، وسورة الممتحنة نزلت بعد سورة البقرة التي حرمت المؤمنات على المشركين , فهي في واقعة معينة مع المشركين سبق فيها نص قطعي , فبنيت عليه. فالمراد بالكفار فيها المشركون بدليل نزولها في واقعة معهم , وسبق بيان حكم الله تعالى في تحريم مناكحتهم , بعد أن كانت مباحة قبل نزول التحريم في المدينة. والأصل في وقائع الأعيان أنها لا عموم لها , فإن تسامحنا وقلنا بجواز عمومها، فلا يمكن أن نقول: إنه نص أصولي قطعي , والاحتمال قائم وقد صرح المفسرون بنزولها في المشركين خاصة , وهو مروي عن مجاهد كما في صحيح البخاري , وقد اختلف الفقهاء في الموجب لفرقة المرأة من زوجها في مثل هذه الحالة , هل هو إسلامها أو هجرتها؟ فقال أبو حنيفة ومن وافقه: هو اختلاف الدارين؛ إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين المرأة التي تسلم وبين زوجها المشرك في الدار الواحدة كمكة , وقد أطال الإمام الجصاص الحنفي في ترجيح هذا القول في تفسير الآية من كتابه (أحكام القرآن) , وقال الجمهور: إن الموجب لذلك الإيمان، قال ابن العربي بعد ذكر هذا الحكم في كتابه أحكام القرآن: (المسألة التاسعة) {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الممتحنة: 10) يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن , لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة , فعاد جواز النكاح إلى حالة الإيمان ضرورة. (المسألة العاشرة) قوله: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10) هذا بيان لامتناع نكاح المشركة من جملة الكوافر , وهو تفسيره والمراد به. قال أهل التفسير: أمر الله تعالى من كان له زوجة مشركة أن يطلقها , وقد كان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون الكافرات , ثم نسخ الله ذلك في هذه الآية وغيرها اهـ المراد منه. فهذا المفسر المحقق القائل بأن علة التحريم إيمان المرأة يقول: إن الآية خاصة بنكاح المشركة من جملة الكوافر , ومثله قول البيضاوي في تفسير {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: 10) قال: (والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات) والأول أصرح في التخصيص , وكل منهما يؤيد قولنا: إن كلمة الكفار والكوافر لا عموم لها هنا , وإنما هي خاصة بأهل الشرك من الكفار. فإن ساغ لنا أن نرد هذا القول فلا يمكن أن نعلل الرد بأن العموم فيها نص أصولي لا يحتمل غير هذا المعنى , ويؤيد هذا ما أقره المنتقد من الروايات في الاستدلال على تحريم المسلمة على الكتابي بالسنة , فكانت حجة عليه لا له وهي: (1) ما رواه البخاري عن ابن عمر من تحريم النصرانية وتعليله بأنها مشركة , وقد تقدم أنه أثر شاذ مخالف لإجماع الصحابة ونص آية المائدة، وقد صرح بهذا القسطلاني وغيره من شراح البخاري , وذكروا في رده أيضًا أن بعض السلف قالوا: إن المراد بالمشركات في آية البقرة عبدة الأوثان , وقول من قال من العلماء: إن الذين قالوا من اليهود والنصارى: العزير ابن الله والمسيح ابن الله طائفتان منهما لا كلهم. فهل يدخل عند المنتقد في مفهوم السنة رأي شاذ لصحابي أجمع السلف والخلف من أهل السنة على رفضه وغلطه في تأوله الآية له؟ ؟ (2) ما رواه البخاري في باب: (نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن) عن ابن عباس قال: كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين - كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه.. (قال المنتقد) : فلم يذكر ابن عباس قسمًا ثالثًا للمشركين فدل على أن أهل الكتاب منهم. ونقول: إن ابن عباس لم يذكر قسمًا ثالثًا؛ لأن أهل الكتاب ليسوا من صنف المشركين وإلا لجعلهم ثلاثة أقسام , الثالث: أهل الذمة الذين أقرهم صلى الله عليه وسلم على دينهم , وعقد بينه وبين من يجاوره منهم اتفاقًا معروفًا في كتب الحديث والسير , فليراجعه في الهدي النبوي؛ ليعلم الفرق بين معاملته لهم ومعاملته للمشركين. (3) ما ذكره البخاري عن ابن عباس تعليقًا لا مسندًا , كما توهم المنتقد في (باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي) وهو حجة عليه بعطف النصرانية على المشركة , فإن العطف يقتضي المغايرة. وأما المسألة أو المسائل التي أورد البخاري هذه الآثار فيها فهي ما تقدم آنفًا في الكلام على آية الممتحنة من الخلاف في المسلمة إذا هاجرت من دار الحرب إلى دار الإسلام , هل ينقطع نكاحها إذا كانت متزوجة حالاً أو بعد انقضاء العدة , أو يستمر إلى ما بعد ذلك بحيث إذا أسلم زوجها وهاجر تحل له بالنكاح الأول؟ وهل الانقطاع باختلاف دار الحرب أم باختلاف الدين؟ ويتبعها ما هو أعم منها وهو الحكم في إسلام المرأة قبل زوجها ولو في دار الإسلام. ومذهب البخاري في هذا الباب موافق لما نقله عن عطاء ومجاهد من كون انقطاع النكاح باختلاف الدين , وهو قد نقل في هذا الباب عن مجاهد , أن آية الممتحنة نزلت في العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي مكة. ولم ينقل المنتقد هذه الجملة عنه (! !) , ومن أهم ما ورد في السنة في أصل المسألة ما رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد سنتين , وفي رواية ست سنين من إسلامها , ولم يحدث عقدًا جديدًا ولا صداقًا - قيل: إن رواية ست سنين هي ما بين إسلامها وإسلامه , ورواية سنتين ما بين نزول آية التحريم وإسلامه، ويحتمل أن يكون مرادهم بآية التحريم آية البقرة , وهي لا تنافي قول أهل السير: إنه أسلم قبل صلح الحديبية. والتحقيق في حكم المسألة - كما قال ابن القيم - أن الكافرة إذا أسلمت وبقي زوجها كافرًا , يكون نكاحها موقوفًا إلى انقضاء العدة , فإن انقضت العدة ولم يسلم كان لها أن تتزوج , فإن أحبت انتظاره وأسلم بعد انقضائها كانت زوجته بالعقد الأول. وأما ما ذكر في هذه الآثار من تحريم المسلمة على الكتابي فليس من نصوص الكتاب ولا من نصوص السنة، فهو ليس من موضوع انتقاده علينا؛ إذ لسنا نحل المسلمة للكتابي، ولو كان إثبات تحريمها عليه مقصورًا على هذه الآثار لكان في غاية الضعف. *** أدلة تحريم المسلمة على الكتابي قلنا في تفسيرنا لقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: 221) ما نصه: وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا , وسكت هناك عن تزويج الكتابي بالمسلمة وقالوا - ورضيه الأستاذ الإمام -: إنه على أصل المنع وأيدوه بالسنة والإجماع. ولكن قد يقال: إن الأصل الإباحة في الجميع , فجاء النص بتحريم المشركين والمشركات تغليظًا لأمر الشرك، وبحل الكتابيات تألفًا لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا وسهولة شريعتنا، وهذا إنما يظهر بالتزوج منهم؛ لأن الرجل هو صاحب الولاية والسلطة على المرأة , فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلاً على أن ما هو عليه من الدين يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وأما تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر فيه هذه الفائدة؛ لأن المرأة أسيرة الرجل ولا سيما في ملل ليس للنساء فيها من الحقوق مثل ما أعطاهن الإسلام , فقد يصح أن يكون هذا هو المراد من النصين في السورتين. وإذا قامت بعد ذلك أدلة - من السنة أو الإجماع أو من التعليل الآتي لمنع مناكحة أهل الشرك - على تحريم تزويج الكتابي بالمسلمة؛ فلها حكمها، لا عملاً بالأصل أو نص الكتاب , بل عملاً بهذه الأدلة اهـ (ص 355 ج2 تفسير) . ونقول الآن: أما كونه غير عمل بالأصل، فلأن المسلمين كانوا يتزوجون بالمشركات قبل نزول الآية، وأما كونه غير عمل بالنص، فالمراد به القطعي وهو موضع الخلاف , وقد بينا وجهه ودفعنا الشبهات عنه , وأما التعليل الذي قلنا إنه يؤيد السنة والإجماع في تحريم المسلمة على الكتابي فهو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (البقرة: 221) وقد بينا في تفسير الآية أنه يتحقق في تزوج الكتابي بالمسلمة دون تزوج المسلم بالكتابية، فراجعه في محله (ص359 منه) . ويجوز أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلا} (النساء: 141) وهو ليس نصًّا قطعيًّا في المسألة لا ظاهرًا فيها , ولكنه دليل صحيح يثبت الحكم مع عدم معارضته بنص أق

موقف العالم الإسلامي مع الجمهورية التركية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ موقف العالم الإسلامي مع الجمهورية التركية إن كل ما قرر في الجمعية الوطنية للجمهورية التركية من إلغاء الخلافة والمحاكم الشرعية والتعليم الديني والأوقاف قد حف في أثناء المناقشة بتأويلات وتمويهات , مما لفقه سيد بك وأمثاله لإقناع المتدينين من أعضائها , أو إلزامهم الحجة بأنه لا ينقض شيئًا من عرى الإسلام ولا يهدم شيئًا من أركانه , وإنما هو إصلاح لحال الأمة التركية , إذا لم يوافق نصوص الشرع فإنه يوافق مقاصده. والظاهر أنهم تحروا في انتخاب الأعضاء أن لا يكون فيهم أحد من علماء الشرع الأعلام، الجامعين بين قوة الإيمان وطلاقة اللسان وجراءة الجنان؛ إذ لم ينقل إلينا عن أحد منهم دفاع يدل على ذلك. ولما كانت هذه التأويلات الخادعة مضلة للمسلم الجاهل، وشبهة للمنافق الضال، ومزلة للمحب الغال، وجب علينا أن نفندها، ونبين الحق الصراح فيها، كما فندنا بدعة الخلافة الروحانية التي بدأوا خطتهم بها، ونحن لا نكفر شخصًا معينًا إلا بكفر بواح بإجماع أهل الحق، وإنما نبين الأحكام، ونترك تطبيقها إلى القارئ. ورأينا أنه يجب على العالم الإسلامي أن يزداد عطفًا على الشعب التركي وعناية بأمره ودفاعاته، وأن لا يقصر في الدفاع عن حكومته أيضًا فيما تختلف فيه مع الأجانب، ولكن من أكبر الجنايات عليه وعلى الإسلام أن يتأولوا لهذه الحكومة ويواتوها في أي عمل من الأعمال , التي تضعف الدين أو الشرع في هذه الأمة , بل من أكبر المحرمات أن يسكتوا لها عن شيء من ذلك , كما كان يفعل أكثرهم من قبل في الدفاع عن السلطان عبد الحميد ثم عن الاتحاديين الذين تغلبوا عليه وخلعوه , فكانوا شرًّا منه، وقد خلفهم الكماليون , فكان الافتتان بهم أشد منه بمن قبلهم، ولم يلبثوا أن هتكوا الستر فانقلب العالم الإسلامي كله عليهم، وبعد أن أشبعوهم طعنًا ولعنًا وتكفيرًا عاد بعضهم إلى نوط الآمال بهم، والتأول لهم والرضى منهم بأسماء يسمونها ما أنزل الله بها من سلطان. هذا النوع من المحبة والعطف الذي جرى عليه الكثيرون من مسلمي الهند ومصر وتونس قد أضر الترك ولم ينفعهم. وهو هو الذي أنطق عصمت باشا بأن العالم الإسلامي لم يكن يعطف على الدولة التركية ويظاهرها؛ لأنها دولة الخلافة بل لأنها قوية، وقد أنكر الكثيرون هذه الكلمة وعدوها من الغرور، وهو فيها معذور أي معذور، فإن العالم الإسلامي لم يكن يشعر بخلافة العثمانيين في وقت من الأوقات كما يشعر بها في عهد السلطان عبد الحميد، ولم يلقب أحد بالخليفة في الجرائد والقصائد غيره أو مثله، ثم أسقطته جمعية ماسونية إلحادية , ونصبت بعده آخر لم تجعل له أمرًا ولا نهيًا، فلم تر من العالم الإسلامي إلا مدحًا وإعجابًا، ثم جاءت شيعة الكمالية فجعلت الحكومة جمهورية، وأزالت سلطة الخلافة من الدولة، ولكنها سخرت من هذا العالم الإسلامي بتسمية خليفة أخذت عليه العهود والمواثيق بأن لا يكون خليفة، فرضي، فصفق لها الجماهير، وقالوا: إن هذه خلافة الراشدين! ! ومن العجيب أن بعض المتحككين بالسياسة من المسلمين لا يزالون يحمدون كل ما تفعله , بشرط أن تحافظ على بعض الألفاظ الإسلامية محافظة رسمية , كأن تسمي الحكومة الجمهورية التي تعطي جمعيتها الوطنية حق التشريع والتنفيذ بلا شرط ولا قيد (حكومة الخلافة) - وتسمي إلغاء المحاكم الشرعية توحيدًا للقضاء، وإبطال المدارس الدينية تنظيمًا للمعارف … ولا يعقل لهذا سبب إلا الاعتزاز بالقوة ولو وهميًّا، ومن هؤلاء السياسيين من يفهم الحقائق ولكنهم كانوا قد ألقوا أنفسهم في ورطة , ثم رأوا أنفسهم عاجزين عن الخروج منها بغير التأويل لمصطفى كمال وشيعته كل ما يفعل إلا إلغاء كلمة (خلافة) ! ! !

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الدعاء للميت في الصلاة واستغفار المؤمنين لمن سبقهم بالإيمان واستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم للتائبين ولنفسه ولغيره من المؤمنين (س 17 - 20) مِن صاحب الإمضاء في ولتفريدن (جاوه) حضرة الفاضل السيد محمد رشيد رضا حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أقدم إليكم السؤال الآتي أرجو منكم الجواب ولكم الأجر والثواب. ما قولكم في الدعاء على الميت (؟) في التكبيرة الثالثة والرابعة من الصلاة على الميت؟ وفي قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (الحشر: 10) ؟ وفي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً} (النساء: 64) ؟ سؤالي مخصوص في استغفار الرسول لهم , وفي قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19) أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار لنفسه ولأمته , مع أنه مغفور له: أما ذلك ليستنوا به ويقتدوا به؟ أفتونا مأجورين - والسلام انشروا الجواب على صفحات مناركم الغراء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاظم وشركاه الجواب الدعاء للميت في تكبيرات الصلاة عليه (ج) أما الدعاء للميت - لا عليه - في التكبيرة الثالثة والرابعة فهو مشروع، فقد روى الشافعي في مسنده عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم , أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام , ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سرًّا في نفسه , ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم , ويخلص الدعاء للجنازة في التكبيرات ولا يقرأ في شيء منهن , ثم يسلم سرًّا في نفسه. وأخرج نحوه الحاكم من وجه آخر , وأخرجه أيضًا النسائي وعبد الرازق. قال الحافظ في فتح الباري: وإسناده صحيح , وليس فيه قوله: بعد التكبيرة الأولى. ولا قوله: ثم يسلم سرًّا في نفسه. *** الاستغفار للسابقين الأولين وأما قوله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا} (آل عمران: 147) إلخ. فلم يذكر السائل وجه السؤال عنه , وهذه الآية قد جاءت مع آيتين في وصف المهاجرين والأنصار - رضي الله تعالى عنهم - ويعلم المراد منها بإيرادهما فنذكر الثلاث من سورة الحشر وهي: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 8-10) . *** جعل الله تعالى المؤمنين ثلاث درجات: (الأولى) المهاجرون وهم السابقون إلى الإيمان والنهوض بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم على نشر دعوته ومعاداة أهليهم , وأقوامهم في هذه السبيل سبيل الله عز وجل على ضعفهم وقوة قومهم. (الثانية) الأنصار الذين أظهر الله تعالى هذا الدين وأيده بهم. (الثالثة) الذين جاءوا من بعدهم , وهم سائر المؤمنين. وصفهم الله تعالى بهذا القول الدال على علمهم بفضل السابقين الأولين عليهم , وقدرهم قدرهم وحبهم والدعاء لهم، وهو يتناول سائر مؤمني ذلك العصر من الصحابة وغيرهم، كمن آمن في عصره صلى الله عليه وسلم , ولم يره ويشتمل من بعدهم إن شاء الله تعالى بمشاركته لهم في وصفهم المذكور آنفًا , وقيل: هو خاص بهؤلاء. روى الحاكم وصححه وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان , وبقيت منزلة , فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت , ثم قرأ الآيات الثلاث. وروى ابن مردويه عن ابن عمر أنه سمع رجلاً يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} (الحشر: 8) - الآية - ثم قال: هؤلاء المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} (الحشر: 9) - الآية - ثم قال: هؤلاء الأنصار: أفأنت منهم؟ قال: لا. ثم قرأ عليه {وَالَّذِينَ جَاءُوا} (الحشر: 10) - الآية - وقال: من هؤلاء أنت؟ قال أرجو، قال: لا. ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء. وفي رواية أخرى عنه أنه بلغه أن رجلاً يسب عثمان فدعاه فأقعده بين يديه , فقرأ عليه هذه الآيات كما تقدم , فقال الرجل بعد الأخيرة: أرجو أن أكون منهم. فقال ابن عمر: لا والله ما يكون منهم من يتناولهم ويكون في قلبه الغل عليهم. ووصفه تعالى لأهل الدرجة الثالثة من المؤمنين بذلك شهادة لمن كانوا في عهد نزول الآيات بذلك , وإرشاد لمن بعدهم أو أمر بأن يكونوا كذلك؛ ليدخلوا في هذه الحظيرة الإيمانية الشريفة. وقد قال الضحاك: أمروا بالاستغفار لهم , وقد علم ما أحدثوا - يعني ما أخطأ به بعضهم في عهد الفتنة اهـ. وذلك أن هؤلاء أحوج إلى الاستغفار لهم، والمؤمن الصادق في الإيمان يحب أن يغفر الله تعالى لإخوانه المؤمنين إذا أذنبوا , كما يحب أن يغفر له ولأولاده ولإخوته إذا أذنبوا , ولا ينطوي على الغل والحقد عليهم , ولا يقطع أخوتهم , وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن ما عدا أبا داود عن أنس رضي الله عنه. وروي عن بعض السلف ومنهم الإمام مالك أن هذه الآية في التابعين ومن بعدهم. واستدل بها مالك على أن من سب الصحابة فلا حق له في الفيء , فإن الآية نزلت في قسمة الفيء. وجملة القول: إن من شأن المؤمنين التحاب والتواد والرأفة والرحمة {أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) ومنه نصيحة من حضر والاستغفار لمن غبر، ومن رأيته يحمل عليهم الغل ويذكرهم بالسوء، فهو منافق. *** استغفار الرسول لمن تاب من المنافقين وأما استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لمن ذكر في الآية , فلم يبين السائل مراده منه أيضًا، وهو في نفسه ليس محل إشكال فالاستغفار دعاء , وهو مطلوب شرعًا , ودعاء الرسول فالأمثل من المؤمنين الصالحين أرجى للقبول. ولعل وجهه المطلوب: بيان حكمة ضم استغفاره صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء التائبين المشار إليهم في الآية , وكونه لم يكتف في توبتهم باستغفارهم كسائر المذنبين , وقد سبق لنا بيان هذه النكتة والحكمة في تفسير الآية من سورة النساء , ونمهد له هنا بأن نقول: (أولاً) إن الذين نزلت فيهم هذه الآية هم الذين قال تعالى فيهم قبلها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) إلخ. (وثانيًا) إن هؤلاء كانوا من المنافقين , وكانت رغبتهم عن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيثارهم التحاكم إلى الطاغوت إظهارًا للكفر والعصيان , فكان لا بد في قبول توبتهم من اعتداد الرسول صلى الله عليه وسلم بها وحكمه بصحتها واستغفاره لهم , بأن يقبلها الله تعالى منهم؛ لتظل أحكام الإسلام جارية عليهم , وليست كالمعاصي الشخصية التي يكره الشرع إظهارها ويكتفي من صاحبها بتوبته في خاصة نفسه. وقد كان بعض المنافقين يطلبون استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم في أمثال هذه الذنوب المتعلقة بالمصالح العامة ومنه قوله تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح: 11) وربما دعي بعضهم إلى ذلك إرشادًا له واختبارًا لإيمانه فأبى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} (المنافقون: 5) . بعد هذا التمهيد ننقل ما كتبناه في تفسير الآية (من ص 234ج 5 تفسير) وهو: وإنما قرن استغفارهم الذي هو عنوان توبتهم باستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذنبهم هذا لم يكن ظلمًا لأنفسهم فقط لم يتعد منه شيء إلى الرسول فيكفي فيه توبتهم , بل تعدى إلى إيذاء الرسول , من حيث إنه رسول، له وحده الحق في الحكم بين المؤمنين به، فكان لا بد في توبتهم وندمهم على ما صدر منهم أن يظهروا ذلك للرسول؛ ليصفح عنهم فيما اعتدوا به على حقه، ويدعوَ الله تعالى أن يغفر لهم إعراضهم عن حكمه، ومن هذا البيان تعرف نكتة وضع الاسم الظاهر موضع الضمير؛ إذ قال: {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (النساء: 64) ولم يقل: (واستغفرت لهم) فإن التوبة عن المعاصي المتعلقة بحقوق الناس لا تكون مقبولة ولا صحيحة إلا بعد استرضاء صاحب الحق. وجعل بعض المفسرين نكتة وضع الظاهر موضع الضمير إجلال منصب الرسالة , والإيذان بقبول استغفار صاحب هذا المنصب الشريف , وعدم رد شفاعته. والظاهر ما قلناه، والمنصب هو هو في شرفه وعلوه، ولكن الله لا يغفر للمنافقين إذا لم يتوبوا , وإن استغفر لهم الرسول؛ لأن الله تعالى قال له فيهم: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} (التوبة: 80) والآية ناطقة بأن التوبة الصحيحة تكون مقبولة حتمًا إذا كملت شرائطها، وظاهر الآية أن منها أن تكون عقب الذنب كما يدل الشرط والعطف بالفاء , وهو بمعنى (ثم يتوبون من قريب) وتقدم تفسيره. وذكر الأستاذ الإمام أنه تعالى سمى ترك طاعة الرسول ظلمًا للأنفس؛ أي: إفسادًا لمصلحتها؛ لأن الرسول هاد إلى مصلحة الناس في دنياهم وآخرتهم، وهذا الظلم يشمل الاعتداء والبغي والتحاكم إلى الطاغوت وغير ذلك. والاستغفار هو الإقبال على الله وعزم التائب على اجتناب الذنب وعدم العود إليه مع الصدق والإخلاص لله في ذلك , وأما الاستغفار باللسان عقب الذنب من دون هذا التوجه القلبي فليس استغفارًا حقيقيًّا. أقول: يعني أن ما اعتاده الناس من تحريك اللسان بلفظ (أستغفر الله) لا يعد طلبًا للمغفرة؛ لأن الطلب الحقيقي ينشأ عن الشعور بالحاجة إلى المطلوب , فلا بد أن يشعر القلب أولاً بألم المعصية وسوء مغبتها، وبالحاجة إلى التزكي من دنسها، ولا يكون هذا إلا بما ذكر الأستاذ من التوجه القلبي إلى الله بالصدق والإخلاص والعزم القوي على اجتناب سبب هذا الدنس والمعصية، وكيف يكون متألمًا من القذر الحسي من ألفه وعرض بدنه له , إذا طلب غسله باللسان، وهو لا يترك الالتياث به ولا يدنو من الماء؟ ! وقال في استغفار الرسول: إنكم تعلمون أن مشاركة الناس بعضهم لبعض

أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم ـ 4

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ أهل الصفة وأباطيل بعض المتصوفة فيهم وفي الأولياء وأصنافهم والدعاوى فيهم لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية قدس سره تتمة لما في الجزء 7م 24 (ص508) (فصل) وليس في أولياء الله المتقين , بل ولا أنبياء الله ولا المرسلين من كان غائب الجسد دائمًا عن أبصار الناس , بل هذا من جنس قول القائل: بأن عليًّا في السحاب، وأن محمد بن الحنفية في جبال رضوى، وأن محمد بن الحسن في سرداب سامرا، وأن الحاكم في جبل مصر , وأن الأبدال رجال الغيب في جبل لبنان. فكل هذا ونحوه من قول أهل الإفك والبهتان. نعم قد تخرق العادة في حق الشخص فيغيب تارة عن أبصار الناس إما لدفع عدو عنه وإما لغير ذلك , وأما أنه يكون هكذا طول عمره فباطل. نعم يكون نور قلبه وهدى فؤاده وما فيه من أسرار الله وأمانته وأنواره ومعرفته غيبًا عن الناس، ويكون صلاحه وولايته غيبًا عن أكثر الناس، فهذا هو الواقع. وأسرار الحق بينه وبين أوليائه وأكثر الناس لا يعلمون. (فصل) وقد بينا بطلان اسم الغوث مطلقًا , واندرج في ذلك غوث العرب والعجم ومكة والغوث السابع، وكذلك لفظ خاتم الأولياء لفظ باطل لا أصل له، وأول من ذكره محمد بن علي الحكيم الترمذي، وقد انتحله طائفة كل منهم يدعي أنه خاتم الأولياء كابن حمويه وابن العربي وغيرهما , وكل منهم يدعي أنه أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، إلى غير ذلك من الكفر والبهتان , وكل طمعًا في رياسة خاتم الأنبياء. وقد غلطوا فإن خاتم الأنبياء إنما كان أفضلهم للأدلة الدالة على ذلك، وليس كذلك للأولياء , فإن أفضل أولياء هذه الأمة السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار , وخير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر وخير قرونها القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم. وخاتم الأولياء في الحقيقة هو آخر مؤمن تقي يكون من الناس، وليس ذلك بخير الأولياء ولا أفضلهم، بل خيرهم وأفضلهم أبو بكر ثم عمر اللذان ما طلعت الشمس وما غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل منهما. (فصل) وأما هؤلاء القلندرية المحلقين اللحى؛ فمن أهل الضلالة والجهالة وأكثرهم كافرون بالله ورسوله , لا يرون وجوب الصلاة والصيام، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، بل كثير منهم أكفر من اليهود والنصارى , وهم ليسوا من أهل الملة ولا من أهل السنة، وقد يكون فيهم من هو مسلم لكن مبتدع ضال أو فاسق فاجر. ومن قال: إن قلندر كان موجودًا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم , فقد كذب. وافترى: بل قد قيل أصل هذا الصنف أنهم كانوا قومًا من نساك الفرس , يدورون على ما فيه راحة قلوبهم بعد أداء الفرائض واجتناب المحرمات. هكذا فسرهم الشيخ أبو حفص السهرودي في عوارفه. ثم إنهم بعد ذلك تركوا الواجبات وفعلوا المحرمات بمنزلة الملامية الذين كانوا يخفون حسناتهم ويظهرون ما لا يظن بصاحبه الصلاح من زي الأغنياء ولبس العمامة، فهذا قريب وصاحبه مأجور على نيته. ثم حدث قوم فدخلوا في أمور مكروهة في الشريعة , ثم زاد الأمر ففعل قوم المحرمات من الفواحش والمنكرات، وترك الفرائض والواجبات، وزعموا أن ذلك دخول منهم في الملاميات. ولقد صدقوا في استحقاقهم اللوم والندم والعقاب من الله في الدنيا والآخرة , وتجب عقوبتهم جميعهم، ومنعهم من هذا الشعار الملعون , كما يجب ذلك في كل معين ببدعة أو فجور , وليس ذلك مختصًّا بهم , بل كل من كان من المتنسكة والمتفقهة والمتعبدة , والمتفقرة والمتزهدة والمتكلمة , والمتفلسفة ومن وافقهم من الملوك والأغنياء , والكتاب والحساب والأطباء وأهل الديوان والعامة خارجًا عن الهدى ودين الحق الذي بعث الله به رسوله باطنًا وظاهرًا , مثل من يعتقد أن شيخه يرزقه وينصره أو يهديه أو يغيثه، أو كان يعبد شيخه ويدعوه ويسجد له، أو كان يفضله على النبي صلى الله عليه وسلم تفضيلاً مطلقًا أو مقيدًا في شيء من الفضل الذي يقرب إلى الله تعالى، أو كان يرى أنه هو وشيخه مستغن عن متابعة الرسول، فكل هؤلاء كفار إن أظهروا، ومنافقون إن أبطنوا. وهؤلاء الأجناس وإن كانوا قد كثروا في هذه الأزمان، فلقلة دعاة العلم والإيمان، وفتور آثار الرسالة في أكثر البلدان، وأكثر هؤلاء ليس عندهم من آثار الرسالة وميراث النبوة ما يعرفون به الهدى , وكثير منهم لم يبلغهم ذلك. وفي أوقات الفترات وأمكنة الفترات يثاب الرجل على ما معه من الإيمان القليل , ويقضي الله فيه لمن لم يقم الحجة عليه ما لا يغفر به لمن قامت الحجة عليه كما في الحديث المعروف: (يأتي على الناس زمان لا يعرفون فيه صلاة ولا صيامًا ولا حجًّا ولا عمرة إلا الشيخ الكبير والعجوز الكبيرة , ويقولون: أدركنا آباءنا وهم يقولون: لا إله إلا الله) فقيل لحذيفة بن اليمان: ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟ فقال: (تنجيهم من النار , تنجيهم من النار , تنجيهم من النار) . وأصل ذلك أن المقالة التي هي كفر بالكتاب أو السنة أو الإجماع , يقال: هي كفر. قولاً يطلق كما دل على ذلك الدليل الشرعي , فإن الإيمان من الأحكام المتلقاة عن الله ورسوله ليس ذلك مما يحكم فيه الناس بظنونهم وأهوائهم. ولا يجب أن يحكم في كل شخص قال ذلك بأنه كافر حتى يثبت في حقه شروط التكفير وتنفى موانعه، مثل من قال: إن الخمر أو الربا حلال. لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا [1] أنكره , ولم يعتقد أنه من القرآن ولا أنه من أحاديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم , كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها , وكما كان الصحابة يشكون في أشياء: مثل رؤية الله وغير ذلك، حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومثل الذي قال: إذا أنا مت فاسحقوني وذروني في اليم؛ لعلي أضل عن الله. ونحو ذلك فإن هؤلاء لا يكفرون حتى تقوم عليهم الحجة بالرسالة كما قال الله تعالى: {َ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) وقد عفا الله لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان , وقد أشبعنا الكلام في القواعد التي في هذا الجواب في أماكنها، والفتوى لا تحتمل البسط أكثر من هذا. (فصل) وأما النذر للقبور أو لسكان القبور أو العاكفين على القبور؛ سواء كانت قبور الأنبياء أو الصالحين , فهو نذر حرام باطل يشبه النذر للأوثان، سواء كان نذر زيت أو شمع أو غير ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوَّارت القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) [2] وقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما فعلوا [3] وقال: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد , ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك [4] ) وقال: (اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد من بعدي) [5] . وقد اتفق أئمة الدين على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا أن تعلق عليها الستور، ولا أن ينذر لها النذور ولا أن يوضع عندها الذهب والفضة، بل حكم هذه الأموال أن تصرف في مصالح المسلمين , إذا لم يكن لها مستحق معين. ويجب هدم كل مسجد بني على قبر كائنًا من كان الميت , فإن ذلك من أكبر أسباب عبادة الأوثان كما قال تعالى: {وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداً وَلاَ سُوَاعا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرا} (نوح: 23-24) وقال طائفة من السلف: هذه أسماء قوم صالحين لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم عبدوهم , ومن نذر لها نذرًا لم يجز له الوفاء , لما ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه وعليه كفارة يمين [6] ) , ولما روي عنه أنه قال: (لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين) [7] . ومن العلماء من لا يوجب عليه إلا الاستغفار والتوبة. ومن الحسن أن يصرف ما نذره في نظيره من المشروع , مثل: أن يصرف الدهن إلى تنوير المساجد، والنفقة إلى صالحة فقراء المؤمنين , وإن كانوا من أقارب الشيخ، ونحو ذلك. وهذا الحكم عام في قبر نفيسة ومن هو أكبر من نفيسة من الصحابة مثل قبر طلحة والزبير وغيرهما بالبصرة، وقبر سلمان الفارسي وغيره بالعراق، والمشاهد المنسوبة إلى علي رضي الله عنه والحسين وموسى وجعفر وقبر مثل معروف الكرخي وأحمد بن حنبل وغيرهم رضي الله عنهم. ومن اعتقد أن بالنذور لها نفعًا أو أجرًا ما، فهو ضال جاهل. فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال: (إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل) [8] وفي رواية: (إنما يلقي ابن آدم إلى القدر) فإذا كان هذا في نذر الطاعة؛ فكيف في نذر المعصية؟ فيعتقدون أنها باب الحوائج إلى الله , وأنها تكشف الضر وتفتح الرزق وتحفظ مصر فهذا كافر مشرك يجب قتله , وكذلك من اعتقد ذلك في غيرها كائنًا من كان. {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} (الإسراء: 56-57) ، {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} (سبأ: 22-23) , {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (السجدة: 4) ، وقال الله: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 51- 55) . والقرآن من أوله إلى آخره وجميع الكتب والرسل إنما بعثوا بأن يعبد الله وحده لا شريك له، وأن لا يجعلوا مع الله إلهًا آخر. والإله من يألهه القلب عبادة واستعانة وإجلالاً وإكرامًا وخوفًا ورجاءً , كما هو حال المشركين في آلهتهم، وإن اعتقد المشرك أن ما يألهه مخلوق مصنوع , كما كان المشركون يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين الخزاعي: (يا حصين كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة آلهة، ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: فمن ذا الذي تعبده لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين فأسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بهن. فلما أسلم قال: قل: اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي) . (فصل) وأما من زعم أن الملائكة والأنبياء تحضر سماع المكاء والتصدية [9] محبة له ورغبة فيه فهو كاذب مفتر، بل إنما تحضر

الخلافة والمؤتمر الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخلافة والمؤتمر الإسلامي قرار كبار العلماء الرسميين في القاهرة بلاغ رسمي للصحف في يوم الثلاثاء 19 شعبان 1342 - 25 مارس سنة 1924 اجتمعت بالإدارة العامة للمعاهد الدينية هيئة علمية دينية كبرى تحت رياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية العلمية الإسلامية , وبعضوية أصحاب الفضيلة: رئيس المحكمة العليا الشرعية، ومفتي الديار المصرية، ووكيل الجامع الأزهر ومدير المعاهد الدينية , والسكرتير العام لمجلس الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية، وشيخ المعاهد الدينية الكبرى , ومشايخ الأقسام بالجامع الأزهر، والكثير من هيئة كبار العلماء , وغيرهم من العلماء والمفتشين بالمعاهد الدينية؛ للمداولة في شؤون الخلافة الإسلامية , وقر قرارهم بعد بحث طويل على ما يأتي: 1- كثر تحدث الناس في أمر الخلافة بعد خروج الأمير عبد المجيد من الآستانة , واهتم المسلمون بالبحث والتفكير فيما يجب عليهم عمله قيامًا بما يفوضه عليهم دينهم الحنيف؛ لذلك رأينا أن نعلن رأينا في خلافة الأمير عبد المجيد , وفيما يجب على المسلمين اتباعه الآن وفيما بعد. 2- الخلافة - وتسمى الإمامة - رياسة عامة في الدين والدنيا , قوامها النظر في مصالح الملة وتدبير الأمة. والإمام نائب عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم في حماية الدين وتنفيذ أحكامه , وفي تدبير شؤون الخلق الدنيوية على مقتضى النظر الشرعي. 3- الإمام يصير إمامًا بالبيعة من أهل الحل والعقد، أو استخلاف إمام قبله. ولا بد مع هذا من نفاذ حكمه في رعيته خوفًا من قهره وسلطانه , فإن بايع الناس الإمام , ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم , أو استخلفه إمام قبله ولم ينفذ حكمه في الرعية لعجزه؛ لا يصير إمامًا بالبيعة أو الاستخلاف. وتستفاد الإمامة أيضًا بطريق التغلب وحده , فإذا تغلب شخص على الخليفة واغتصب مكانه انعزل الأول. وقد يوجد التغلب مع البيعة أو الاستخلاف كما حصل لأكثر الخلفاء في العصور الماضية. وهذا كله مستفاد صراحة من نصوص السادة الحنفية. 4- ولما كان الإمام صاحب التصرف التام في شؤون الرعية , وجب أن تكون جميع الولايات مستمدة منه وصادرة عنه: كولاية الوزراء، وكولاية أمراء الأقاليم , وولاية القضاء، وولاية نقباء الجيوش وحماة الثغور. 5- وينحل عقد الإمامة بما يزول به المقصود منها: كأسره بحيث لا يرجى خلاصه، وعجزه عن تدبير مصالح الملة والإمامة , ومتى وجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين , جاز للأمة خلعه ما لم يؤد ذلك إلى فتنة، فإن أدى إليها احتمل أخف الضررين. 6- رضي المسلمون الذين كانوا يدينون لخلافة الأمير وحيد الدين عن خلعه؛ للأسباب التي علموها عنه , واعتقدوا أنها مبررة للخلع , ثم قدم الأتراك للخلافة الأمير عبد المجيد معلنين فصل السلطة جميعها عن الخليفة , ووكلوا أمرها إلى مجلسهم الوطني , وجعلوا الأمير عبد المجيد خليفة روحيًّا فقط. 7- وقد أحدث الأتراك بعملهم هذا بدعة ما كان يعرفها المسلمون من قبل , ثم أضافوا إليها بدعة أخرى وهي إلغاء مقام الخلافة. 8- لم تكن خلافة الأمير عبد المجيد - والحالة هذه - خلافة شرعية , فإن الدين الإسلامي لا يعرف الخليفة بهذا المعنى الذي حدد له ورضيه , ولم تكن بيعة المسلمين له بيعة صحيحة شرعًا. 9- وإذا غضضنا النظر عن هذا وقلنا: إن البيعة صحت له. فإنه لم يتم له نفوذ الحكم الذي هو شرط شرعي لتحقيق معنى الخلافة. 10- وإذا فرض أنه تم له وصف الخلافة بمعناها الشرعي , فقد انحل عنه ذلك الوصف بعجزه حقيقة عن القيام بتدبير أمور الدين والدنيا , وعجزه عن الإقامة في بلده ومملكته , وعن حماية نفسه وأسرته بعد أن تم للأتراك تغلبهم عليه. 11- والنتيجة لهذا كله أنه ليس للأمير عبد المجيد بيعة في أعناق المسلمين لزوال المقصود من الإمامة شرعًا، وأنه ليس من الحكمة ولا مما يلائم شرف الإسلام والمسلمين أن ينادوا ببقاء بيعة في أعناقهم لشخص لا يملك الإقامة في بلده، ولا يملكون هم تمكينه منها. 12- ولما كان مركز الخلافة في نظر الدين الإسلامي ونظر جميع المسلمين له من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر لما يترتب عليه من إعلاء شأن الدين وأهله، ومن توحيد جامعة المسلمين , وربطهم برباط قوي متين - وجب على المسلمين أن يفكروا في نظام الخلافة وفي وضع أسسه على قواعد تتفق مع أحكام الدين الإسلامي , ولا تتجافى مع النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظمًا لحكمهم. 13- غير أن الضجة التي أحدثها الأتراك بإلغاء مقام الخلافة والتغلب على الأمير عبد المجيد , جعلت العالم الإسلامي في اضطراب لا يتمكن المسلمون معه من البت في هذه النظم , وتكوين رأي ناضج فيها , وفيمن يصح أن يختار خليفة لهم إلا بعد الهدوء والإمعان والروية , وبعد معرفة وجهات النظر في مختلف الجهات. 14- لهذه الأسباب نرى أنه لا بد من عقد مؤتمر ديني إسلامي , يدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية؛ للبحث فيمن يجب أن تسند إليه الخلافة الإسلامية. ويكون بمدينة القاهرة تحت رياسة شيخ الإسلام بالديار المصرية وذلك نظرًا لمكانة مصر الممتازة بين الأمم الإسلامية , وأن يكون عقد المؤتمر في شهر شعبان سنة 1343 هـ (مارس سنة 1925م) . 15- ولا بد لنا من إعلان الشكر لكل من أبدى غيرة دينية إسلامية في أمر الخلافة , وأظهر اهتمامًا بهذا الواجب. 16- ونعلن أيضًا شكرنا للأمم التي تدين بأديان أخرى غير الدين الإسلامي ولدول تلك الأمم على ما أظهروه إلى الآن من ابتعادهم عن التدخل في شؤون الخلافة الإسلامية، ونرجو منهم أن يلاحظوا أن مسألة الخلافة مسألة إسلامية محضة , لا يجوز أن تتعدى دائرتها، ولا أن يهتم بها أحد من غير أهلها , والعالم الإسلامي جميعه يريد أن يعيش بسلام مع الأمم الأخرى , وأن يحافظ على قواعد دينه الحقة، ونظمه البريئة بطبعها من العدوان. 17- هذا ما رأينا من الواجب الديني علينا إذاعته إلى العالم الإسلامي في مختلف البقاع , وإلى الأمم الأخرى؛ ليكون الجميع على بينة من الأمر. القاهرة في 19 شعبان سنة 1342 و (25 مارس سنة 1924) . (ويلي ذلك الإمضاءات) *** موافقة علماء الإسكندرية على قرار علماء الأزهر (اجتمع جمهور علماء الإسكندرية , ووضعوا البيان التالي بعد أن كثر القول في مخالفتهم لعلماء الأزهر) . نحن علماء معهد إسكندرية نظرنا في القرار الذي وضعه أصحاب الفضيلة العلماء , الذين اجتمعوا في الإدارة العامة للمعاهد برئاسة صاحب الفضيلة مولانا شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية , فوجدناه مشتملاً على موضعين: (أحدهما) الحكم الشرعي في خلافة الأمير عبد المجيد. (وثانيهما) لزوم عقد مؤتمر إسلامي عام للنظر فيمن تسند إليه الخلافة بعدما تنحى الأتراك عنها. (أما الأول فقد راجعنا بشأنه قرارات الجمعية الوطنية بأنقره، واطلعنا على قرارها الصادر بتاريخ 1 نوفمبر سنة 1922 المندرج بجريدة المقطم الصادر بتاريخ 16 نوفمبر سنة 1922 القاضي بسحب السلطة بنوعيها التشريعية والتنفيذية من الخليفة , وجعلها حقًّا خاصًّا بالجمعية المذكورة , وجعل الخلافة في آل عثمان , وجعل حماية الخلافة راجعة للجمعية، والذي يقضي بتجريد الخليفة من كل اشتراك أو تدخل في تدبير شؤون الرعية وحراسة المسلمين بما يقتضيه النظر الشرعي في مصالحهم. واطلعنا أيضًا على قرار الجمعية المذكورة الصادر في 18 نوفمبر سنة 1922 المندرج بجريدة الأهرام عدد 13917 الصادر في 8 ديسمبر سنة 1922 القاضي بخلع الأمير وحيد الدين وتولية الأمير عبد المجيد خليفة مع مراعاة الأصول المرعية في قرار أول نوفمبر السالف الذكر. واطلعنا على صورة التلغراف الصادر من الأمير عبد المجيد إلى رياسة مجلس الأمة الكبير المنشور بجريدة المقطم عدد 10262 الصادر بتاريخ 9 ديسمبر سنة 1922 ردًّا على التلغراف الصادر من مجلس الأمة الكبير بتاريخ 18 نوفمبر سنة 1922 الذي جاء فيه: إن الأمة قد احتفظت لنفسها بالسيادة في تركيا بلا قيد ولا شرط طبقًا لأحكام دستورها الذي يوحد بين القوتين التشريعية والتنفيذية، ويجمعهما في مجلس الأمة الكبير شاكرًا المجلس على انتخابه لمقام الخلافة , مع تجريده عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. وحيث إن انتخابه لمقام الخلافة كان على شرط أنه ليس له من الأمر شيء، وقد أقرهم على ذلك وشكرهم عليه فقد تبين أنه وقع انتخابه لوظيفة لم يبق فيها لأعمال الخلافة الشرعية شيء , فلا تعد البيعة التي حصلت من المسلمين له بيعة بالخلافة. نعم إن المسلمين ما كانوا في غفلة عن هذا حينما بايعوه , ولكن دعاهم إلى البيعة بل إلى الإسراع بها ذلك الظرف العصيب , والمحنة التي تجهمت للمسلمين إذ ذاك بفرار وحيد الدين على ظهر مركب أجنبي مناديًا بأنه لا يزال خليفة المسلمين , فلم يشك أحد في أنه بعد أيام سيكون في الهند مثلاً بهذا اللقب. وهذا مما يفت في عضد الإسلام وأهله , ويحدث صدعًا خطرًا في بناء الهيئة الإسلامية، ثم في الوقت نفسه انهالت الطلبات على كبار حكام الترك لتعيين امتيازات الخليفة الجديد؛ لتحقيق مبدأ الخلافة في حدود الشورى، فكانت أجوبتهم متحدة بأن الخليفة الآن محصور بجيوش الحلفاء بالآستانة , فلا نأمن أن يتخذوا مقام الخلافة سلاحًا للنكاية بالترك , وبعد جلاء الجيوش تعين له الامتيازات. فهذا طمأن المسلمين على أنها ستكون خلافة شرعية , وأن تجريدها مؤقت وذاك ما أوجب سرعتهم في البيعة حتى يقطعوا السبل في وجه الغادر بالمسلمين وحيد الدين. وحيث إن الأمير عبد المجيد بويع في هذه الظروف , وليس له من رئاسة المسلمين شيء , ولم يحقق الأتراك وعدهم بشأنه للمسلمين بل شردوه من بلاده- فإنا نوافق على القرار القاضي بأنه لا بيعة له في رقاب المسلمين، وأن مقام الخلافة الآن خال لا يشغله إمام. وأما (الثاني) وهو لزوم الدعوة للمؤتمر الإسلامي العام فإنا نحبذه كل التحبيذ؛ لأن الحالة التي أصبح فيها المسلمون توجب عليهم شرعًا التذرع بجميع الوسائل النافعة لخلاصهم من هذه الورطة الشديدة التي وقعوا فيها , وليس أمامهم منها إلا عقد مؤتمر إسلامي عام يعالج حل هذه المعضلة وكشف هذه البلية. والله سبحانه يتولى المسلمين بعنايته , ويوفقهم لجمع الكلمة على ما به سعادتهم في الدنيا والآخرة اهـ. وضع هذا البيان أصحاب الفضيلة علماء الإسكندرية في 27 رمضان الماضي (2 أبريل) , وقدموه ممضيًّا منهم إلى مشيخة الإسكندرية، وأرسله مراسل جريدة الأهرام في الإسكندرية إليها في 19 أبريل فنشرته على الناس. (تأثير قرار كبار العلماء، وفوضى العلم والدين في هذه الديار) لما أذاعت الجرائد تسمية منح حكومة أنقرة لعبد المجيد أفندي نجل السلطان عبد المجيد لقب خليفة لموافقته إياها على الفصل بين الدين والدولة وبين الخلافة والحكومة؛ بادر كثير من علماء الأزهر وعلماء سائر المعاهد الدينية التابعة له إلى مبايعة عبد المجيد بالخلافة الإسلامية النبوية , ونشروا نصوص مبايعتهم في الصحف اليومية كغيرهم من الطبقات التي لا تعرف أحكام الإمامة الإسلامية وشروطها , بل اغتر بهم أكثر الذين بايعوا واتبعوهم. وإننا على علمنا بأن مبايعتهم هذه لغو لا يترتب عليها حكم , ولا تجعل الرجل خليفة مطلقًا ولا إمامًا متبعًا في الدولة التركية ولا في غيرها بالأولى؛ لأنهم ليسوا أهل الحل والعقد هنالك ولا هن

عالم العراق ورحلة أهل الآفاق السيد محمود شكري الألوسي

الكاتب: محمد بهجت الأثري

_ عالم العراق ورحلة أهل الآفاق السيد محمود شكري الألوسي قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد , ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم؛ اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم فَضَلّوا وأضلوا) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقد قبض الله تعالى إليه في الرابع من شهر شوال الماضي عالم العراق ورحلة أهل الآفاق، ناصر السنة، قامع البدعة، محيي هدي السلف، حافظ فنون الخلف، علامة المنقول، دراكة المعقول، دائرة المعارف الإسلامية، نبراس الأمة العربية، حجة العترة النبوية، عميد الأسرة الألوسية، صديقنا وأخانا في الله عز وجل السيد محمود شكري الألوسي قدس الله روحه. كان - رحمه الله تعالى - إمامًا يقتدى به في علمه وعمله وهديه وآدابه وفضائله. وقف جميع حياته على علوم الإسلام وفنون اللغة العربية في هذا العصر الذي قل فيه الاشتغال بالعلم والأدب في تلك البلاد بين أهل السنة، وكاد ينحصر في الشيعة، فبعد أن كانت بغداد في عهد العباسيين عاصمة العلوم والفنون في الأرض، وكانت المدرسة النظامية فيها أول مدرسة جامعة في العالم، ثم بعد أن كان يوجد فيها في كل عصر أفراد نابغون كجد الفقيد صاحب روح المعاني (رحمه الله تعالى) استقبلنا هذا القرن الرابع عشر للهجرة من أوله في الاشتغال بالعلم , وصار لنا بنشر المنار وبالسياحة علم واختبار بأحوال الأقطار الإسلامية , فلم نسمع للعلوم العربية والدينية على مذهب السنة صوتًا إلا من هذا الرجل، لهذا لقبناه في مكتوباتنا له بعالم العراق، كما لقبنا المرحوم جمال الدين القاسمي بعالم الشام. إنما العالم من كان مستقلاًّ في فهمه للعلم واستدلاله على مسائله , وقد مات العلم الحي المنتج في بلاد الإسلام بالتقليد رويدًا رويدًا , حتى صار وجود العالم (المستقل) نادرًا، وصار إذا وجد متهمًا في دينه من أهل الحشو والجمود من أصحاب العمائم المكورة، والأردان المكبرة، والأذيال المجررة. إن التعليم في المدارس الدينية الإسلامية كله تقليدي , فإذا رأيت عالمًا مستقلاًّ؛ فاعلم أنه لا فضل لمدرسته ولا لشيوخها في ذلك , بل سببه استعداد خاص فيه، قارنه إرشاد مرشد من غير العلماء الرسميين في الغالب - أو اطلاع على بعض المصنفات التي ترشد إلى العلم الصحيح , فلقحه فأثمر وأنتج، وحسب فقيدنا الكريم أنه كان في أثناء طلب العلم يراجع تفسير جده , أو يطالع كتاب أستاذه وعمه (جلاء العينين) فهما يرشدانه إلى ترك التزام ما قرره أفراد من العلماء لتسميتهم علماء مذهبه , ونبذ كل ما أثر عن غيرهم من علماء الملة؛ وإن وضح دليلهم لأنهم أئمة مذاهب أخرى أو منسوبون إليها. وما يدرينا لعل عمه السيد خير الدين كان يرشده إلى الاستدلال والاستقلال ولو في الأصول، وإن كان كوالده صاحب التفسير يلتزمان التقليد في الفروع، فمهما تكن حالهما في التدريس والفتوى , فقد كانا غريبين في عصرهما؛ لما أوتيا من سعة الاطلاع وعدم الجمود على المألوف عند الأشياخ، دع التعصب الذميم للمذهب. والذي يظهر لنا أن الأستاذ - رحمه الله - لم يعن بالدعوة إلى الاستقلال وترك التقليد وتربية نشء جديد يقوم بذلك، على ما كان عليه من الشجاعة وعدم المبالاة بالدنيا وأهلها، ولو عني بهذا لكان له به شغل عن شرح فاتحة كتاب المطول للسعد وأمثالها، ولعل عذره أنه لم يجد في بغداد طلابًا مستعدين , ولذلك لم نر له غير تلميذ واحد يرجى أن يكون خلفًا صالحًا له في التدريس والتصنيف وإحياء موات الكتب النافعة بالتنقيب عنها، واستنساخها، والسعي لطبعها، وفي غير ذلك من فضائله، ألا وهو الأستاذ الشيخ محمد بهجت الأثري - فقد عهد الفقيد إليه بمكاتبتنا بالنيابة عنه لما تناوبته الأمراض في السنين الأخيرة فرأينا من مكتوباته خير مثال لمكتوبات أستاذه في اللفظ والمعنى، وفي الخط أيضًا فخطه كخطه كأنه هو، ولولا آمالنا بهذا لكان حزننا على فقيدنا العزيز مضاعفًا أضعافًا كثيرة، وهو الذي تفضل علينا بترجمته المفصلة الآتية، فنبدأ بنشرها، ثم نقفي عليها ببعض الفوائد في جزء آخر إن شاء الله تعالى. *** ترجمة الفقيد هو العالم الكبير، التقي الورع الزاهد، تذكرة السلف، وحجة الله على الخلف، الإمام السيد محمود شكري ابن العالم الصوفي السيد عبد الله بهاء الدين ابن إمام القرن الثالث عشر أبي الثناء السيد محمود شهاب الدين صاحب تفسير (روح المعاني) ابن السيد عبد الله رئيس المدرسين في بغداد ومدرس المدرسة العظمى في جامع الإمام أبي حنيفة , ابن السيد محمود الخطيب الألوسي البغدادي، وينتهي نسبه إلى الإمام الحسين رضي الله عنه. ولد ببغداد في (19 رمضان سنة 1273 هـ) . في بيت عريق في الحسب والنسب، ضليع في العلم والأدب، ينسب إلى ألوس (بالقصر على الأصح) وهي قرية على الفرات قرب (عانات) نبغ فيها قديمًا كثير من الفضلاء: كمحمد بن حصن بن خالد، والمؤيد الشاعر المتوفى سنة 557 هـ الذي اتهمه المقتفي لأمر الله بممالاة السلطان ومكاتبته , فأمر بحبسه في خبر ليس هذا محله. وقد فر إليها أحد أجداده من وجه هولاكو عندما دهم بغداد وفتك بأهلها، ومنذ نحو ثلاثمائة سنة رجع أبناؤه إلى بغداد ولبثوا فيها , وبنوا لهم بجدهم واجتهادهم مجدًا رفيعًا. يبلى الزمان وحسنه يتجدد نشأ - رحمه الله - في حجر والده كما ينشأ ربيب العز والمجد، وتلقى عنه القراءة ومبادئ النحو والصرف والحساب , وأتقن عليه الخط فاشتهر وهو صغير بإجادته , وكان يعتني بتربيته وتهذيبه لما يتوسم فيه من أمارات النباهة والذكاء، ثم بعد وفاة أبيه لازم عمه العلامة السيد نعمان الألوسي وأكب على المطالعة وعكف على اكتساب العلم , وأكمل دروسه على سائر علماء بغداد فأتقن علوم الأدب والفقه والحديث والتفسير , والهيئة والحكمة الطبيعية والإلهية ومنطق اليونان والجبر وغير ذلك، وتعلم من اللغات الفارسية والتركية، وألف وهو ابن عشرين عامًا , وكان كتاب (شرح الثناء) باكورة مؤلفاته , ودرس في بادئ أمره في بيته , ثم انتقل إلى مدرسة (جامع العدلية) , ثم أسند إليه تدريس مدرسة والسيد سلطان علي وتدريس المدرسة الداودية (الحيدر خانة) , وأخيرًا أحيل إليه تدريس (مدرسة مرجان) , فترك تدريس (السيد سلطان علي) لأحد أبناء أسرته اكتفاء بمدرسة مرجان والحيدرية، وقد تخرج به كثيرون اشتهروا بالعلم أو الأدب كابن عمه شيخنا العالم الأديب الكبير المغفور له السيد علي علاء الدين الآلوسي، ومعروف الرصافي الشاعر المشهور , وأخذ اسمه ينتشر، وشهرته تتعاظم يومًا بعد يوم بدروسه التي يلقيها على تلامذته الكثيرين ومؤلفاته التي تنمقها أنامله وتدبجه يراعته العسالة، ولا سيما كتابه (بلوغ الأرب في لسان العرب) الذي ألفه تلبية لنداء لجنة الألسنة الشرقية المنعقدة في (استوقهلم) بدعوة (أسكار الثاني) ملك أسوج ونروج. فقد اقترحت هذه اللجنة منذ نحو أربعين عامًا على علماء الشرق والغرب تأليف كتاب يعرب عن أحوال العرب قبل الإسلام ويستوعب بيان ما كانوا عليه في جاهليتهم من العوائد والأحكام وغير ذلك , فأجاب هذا الاقتراح كثير من علماء الشرق والغرب ومن بينهم المترجم , وعرض كل منهم مؤلفه على تلكم اللجنة , ولدى السبر أدركت أن أجمعها مادة، وأوسعها جادة، وأغزرها فائدة، وأجزلها عائدة، وأزيدها إيضاحًا، وأقربها مراعاة للشروط التي ألزمتها اللجنة من يريد الخوض في عباب هذا البحث - هو كتاب (بلوغ الأرب) فاستحق الكتاب التقريظ والإطراء , كما فاز مؤلفه دون سواه بالوسام الذهبي والجائزة. وقد بعث إليه (الكونت كرلودي لندبرج قنصل أسوج ونروج العام في مصر ووكيلها السياسي) برسالتين - فيما أعلم - أثنى بهما عليه وشكر له عنايته , ووعده بطبع كتابه تخليدًا لمآثره في خزائن الآداب، وقد نشرت إحداهما في أواخر الكتاب، والثانية في جريدة (الزوراء) التي كانت تصدر في بغداد. هنالك - بعد ما طبع الكتاب ونشر اسم الفائز في ذلك المضمار البعيد المدى - كتبت الصحف والمجلات السيارة في الشرق والغرب الفصول الضافية الذيول في تقريظ الكتاب وإطراء مؤلفه النابغة الذي نشأ في بيئة منحطة علمًا وأدبًا , فسبق بجده واجتهاده كل من حبر وكتب من أبناء البلاد المتقدمة في مضمار العلم والأدب، فطار صيته في الآفاق، وعرف فضله الخاص والعام حتى يكاد لم يبق أحد لم يسمع باسمه. وتعرف به كثير من أفاضل المستشرقين , واستفادوا من فضله وسعة اطلاعه , نخص منهم بالذكر العلامة مرغليوث الإنجليزي صاحب المؤلفات الكثيرة , وصديقنا الجهبذ البارع لويز ماسنيون الفرنسي. وقد عرف الأمراء والولاة فضله فقربوه منهم , وعرضوا عليه مناصب في الحكومة سامية , فزهد فيها ورغب عنها؛ لانصرافه بكليته إلى العلم، ومقته الاشتغال في المناصب , والتزلف من الحكام وكل ما يصده عن خدمة العلم والأدب، حتى إنه رغب عن لذات الدنيا ولم يتزوج قط. ولما جاء الوزير سري باشا التركي واليًا على بغداد، أدناه منه كثيرًا دون غيره من علماء بغداد واستفاد من محاضراته الأدبية ومحاوراته العلمية، ثم اقترح عليه بإلحاح بأن يتولى إدارة جريدة (الزوراء) وهي أول جريدة أنشئت في بغداد أنشأها الوزير مدحت باشا الشهير , وأن ينشئ فيها القسم العربي , فلما لم يجد منه بدًّا لباه، وأجاب نداه، فتولى شؤونها وكتب فيها بعض المقالات الأدبية , ونشر قسمًا من (بلوغ الأرب) وأعمل حركة أدبية في ذلك الجو الساكن القاتم ذلك اليوم , بما كان يعرضه فيها من الأسئلة في شتى العلوم على علماء البلد. وقد كان عصر الفقيد الذي تلقى فيه العلم عصر تقليد وجمود على الرث البالي، يتلقى الطالب ما يقرؤه في كتب الأعاجم المؤلفة في عصور التأخر والتقهقر بالتسليم، ويأخذ ما يتلقفه من مشايخه بالقبول من غير نقد أو تمحيص، ويحرص عليه حرصًا يجره إلى تكفير كل من يخالفه غالبًا، فاستمر الفقيد على هذه الطريقة العوجاء متأثرًا بها، حتى برقت له بارقة اليقين، وقد تجاوزت سنه الثلاثين، فهدته بنورها الخلاب إلى المحجة البيضاء التي لا يضل سالكها، وكسر أغلال التعصب، وفك ربقة الجمود من عنقه، وأطلق طائر فكره من قفص التقليد الأعمى إلى فضاء التساهل والتيسير، والتبشير دون التنفير، وطفق يأخذ بالكتاب والسنة، وبما يوافقهما من كلام سلف الأمة من غير تحزب لشيعة أو مذهب، فصدع - بعد أن رسخت قدماه بالأخذ بالدليل - بالحق , وشن غارات شعواء على الخرافات المتغلغلة في النفوس والتقاليد الذميمة بمؤلفاته العديدة، تلك المؤلفات التي زعزعت أسس الباطل، وأحدثت بين حين وآخر انقلابًا عظيمًا في الأفكار: ككتاب المنحة الإلهية، وغاية الأماني , والسيوف المشرقة , وصب العذاب , وفتح المنان وغيرها. ودعا المقلدين الجامدين إلى الهدى، وترك ما وجدوا عليه آباءهم، فشالت نعامتهم وصبوا عليه جام التشنيع في المجالس، ونبذوه بالوهابية وهي كلمة يعظم وقعها على الهمج والرعاع، وناصبوه العداء، غير أنهم لم يجدوا لأنفسهم عليه سبيلاً. إلى أن كانت سنة 1320 فسعوا به إلى والي بغداد وهو يومئذ عبد الوهاب باشا , وكان من الحشوية الضالين يناصب كل من يدعو إلى الإصلاح، المتوقف عليه الفلاح والنجاح، فاتخذ بعض التدابير السيئة , و

انتحال السيد حسين أمير مكة للخلافة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتحال السيد حسين أمير مكة للخلافة إننا لم نر في كل ما علمناه من عبر التاريخ أدل على الحكمة النبوية في منع طلاب الولاية منها , وعدم توليتهم شيئًا من أمور الناس - كالعبرة التي رأيناها في السيد حسين المكي وأولاده. رأينا أناسًا تعدى الأجانب على بلادهم , وغلبوهم على السلطان فيها فساعدوهم على إدارتها؛ ليشاركوهم في التمتع بنصيب من أموالها ولذة الحكم الصوري فيها، ولكننا لا نعرف في التاريخ القديم ولا الحديث رجلاً وضع بسوء اجتهاده ومحض اختياره خطة لجعل أمته وملته وبلاده تحت سيادة دولة أجنبية مخالفة له في الدين والجنس واللغة والاشتراع والآداب لأجل أن يكون تحت ظل حمايتها متمتعًا هو وأولاده بألقاب الإمارة والملك , كما فعل حسين المكي بمقررات نهضته المخزية الخاسرة. وأغرب من ذلك وأخزى أنه قد أسرف هو وأولاده في التبجح بنسبهم وادّعاء انحصار حق الملك والإمارة والإمامة فيهم دون من هم أصح وأصرح منهم نسبًا وأكرم حسبًا , بما لهم مع شرف النسب من شرف الوراثة النبوية بالعلم والعمل , ثم إنه على هذا الإسراف يسعى لنيل خلافة النبوة بنفوذ أعدى أعداء النبي صلى الله عليه وسلم في أمته وملته وقومه وشرعه ولغته. أما (مقررات النهضة) فقد وضعها بنفسه واختياره بدون مشاورة أحد من العرب أو غيرهم من المسلمين , حتى إن ولده فيصلاً قد صرح وأذن بنشر تصريحه بأنه لم يطلع على هذه المقررات إلا بعد ذهابه إلى لندن عقب هدنة الحرب , وهو الذي نشرها في جريدة المفيد بدمشق. وقد جاء في أول المادة الأولى منها: (تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة) … وفي أول الثانية: (تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومات وصيانتها من أي مداخلة كانت في داخليتها , وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعد بأي شكل يكون , حتى ولو وقع قيام داخلي من دسائس الأعداء , أو من حسد بعض الأمراء فيه؛ تساعد الحكومة المذكورة مادة ومعنًى على دفع ذلك القيام لحين اندفاعه , وهذه المساعدات في القيامات أو الثورات الداخلية تكون مدتها محدودة؛ أي: لحين يتم للحكومة العربية المذكورة تشكيلاتها المادية اهـ بنصه. ومعناه الصريح أن الإنكليز يظلون محتلين للبلاد العربية التي عهد إليهم إيجاد حكومتها , وحامين لها إلى أن يصير عند حسين أو خلوفه أسطول كأسطولهم , وجيوش يقهر بها أعداء أمراء العرب! ! وقد كان وضعه لهذه المقررات إثر مراسلات بينه وبين المعتمد البريطاني بمصر , أقرته فيها الحكومة البريطانية على انتحال الخلافة كما صرح به السير (هنري مكماهون) في الكتاب الذي أرسله إليه في 19 شوال سنة 1333- 30 أغسطس سنة 1915 وهذا نص عبارته العربية بالحرف (من ص 616ج 8م 23 المنار) : (فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد (كتشنر) التي وصلت إلى سيادتكم عن يد (علي أفندي) وهي التي كان موضحًا بها رغبتنا في استقلال بلاد العرب وسكانها , مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها، وإننا نصرح هنا مرة أخرى أن جلالة ملك بريطانيا العظمى رحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة) ! ! ! اعتقد هذا الرجل منذ وصل إليه هذا الكتاب أنه لم يبق بينه وبين منصب الخلافة إلا أن يخرج الترك من الحجاز أو من مكة وما حولها , فإن ترحيب ملك الإنكليز باستردادها كافٍ بعد ذلك لنيلها , وكان قد تقرر أن يبايع بها في موسم الحج الذي أخرج الترك في أيامه من مكة وجدة والطائف , ولكن الله سلم , وكان من فضله تعالى على كاتب هذا أنه كان سببًا لصرفه عن تلك المبايعة كما بيناه في المنار مرارًا، وهو لم يقبل نصحنا له بترك مسألة الخلافة إلى ما بعد الحرب؛ إلا لأننا أقنعناه بأن العالم الإسلامي كله ساخط عليه , وكاره لثورته , ويرجو انتصار الدولة العثمانية مع حلفائها والعاقبة مجهولة , وبأن فشل انتحاله للخلافة معلوم بالقطع. على أنه كان مطمئنًّا بما يتمناه من انكسار الدولة؛ لأنه يعتقد أن الدولة البريطانية لا تغلب، فانتظر وأعلن في بعض منشوراته الرسمية ترك مسألة الخلافة إلى العالم الإسلامي , ثم صرح مرارًا بأنه لا يقبل منصب الخلافة إلا إذا أجمع المسلمون على تقليده إياه، ونقل عنه هذا كثير من الجرائد، كما أنه صرح مرارًا تصريحًا نقلته عنه جريدته (القبلة) بأن الخلافة قد ماتت وصارت إلى رحمة الله تعالى، وذلك شأنه ودأبه في الإتيان بالنقائض والكلام المتعارض، وقد يتعمد بعض هذا؛ لأجل أن يحتج لدى كل قوم من المختلفين في الرأي بما يراه مقبولاً عندهم، أو لدفع بعض التهم، كما يكتب ويقول كثيرًا: إنه لا يطمع في ملك ولا جاه ولا مال , وإنما يريد الخدمة العامة، وإنه مستعد لمبايعة كل من يرضاه المسلمون للخلافة. ولكن أعماله وكذا أقواله تنقض هذا كله , وآخره انتحاله للخلافة الآن. على أنه كان منذ ذلك العهد يسعى للخلافة سعيها، ويبث الدعاة لها، وأول من عرفناه منهم (رضا أفندي الصبان الدمشقي) الذي كان يتردد في أثناء الحرب بين سورية ومكة، وقد أطلعنا مرة على (ورقة مبايعة) فيها أسماء كثير من أهل الشام , ودعانا إلى إمضائها مع بعض وجهاء السوريين الذين كانوا هنا، فأبينا (شرعًا وطبعًا) , وقال لنا بعض فضلاء أهل دمشق الذين اطلعوا على تلك الورقة: إن بعض الأسماء التي فيها قد مات أصحابها , وبعضها لا مسميات لها، وأكثرها أسماء بعض العوام الذين لا يفهمون معنى المبايعة , ولا يمتنعون من كتابة أسمائهم، أو أذن الأمي منهم بكتابة اسمه بأدنى استمالة. ولما دخل (الأمير فيصل) سورية مع الفاتحين من الخلفاء اعتقد أهلها أن البلاد السورية بل العربية كلها قد استقلت , وخلصت السيادة عليها لأبيه إنجازًا لما وعدت به على ألسنة دعاة الحجاز والإنكليز , ونصوص جرائدهم (كالقبلة) في مكة , و (الكوكب) في مصر، ونصوص المنشورات الهاشمية , والمنشورات المبهمة التي كان الإنكليز يمطرونها على جميع البلاد العربية في زمن الحرب. وكانت الثقة بصدق الإنكليز يومئذ لا تقل عن الثقة بكذبهم الآن! لهذا دعا فيصل ورجاله المسلمين إلى مبايعة والده بالخلافة , فلبوا الدعوة مسرعين يقلد بعضهم بعضًا. وقلما كان يوجد أحد منهم يشك في كون الملك حسين حل محل السلطان العثماني في البلاد العربية , فصار يسمى ملكًا وخليفة , وكان خطباء المساجد يذكرون اسمه في دعاء الخطبة ويلقبونه بأمير المؤمنين , ويذكرون بعده اسم الأمير فيصل، وكان السيد حسين نفسه يعتقد ذلك أيضًا , حتى إنه أصدر أمره مرة بهبة بعض المباني الأميرية في الشام؛ لأجل أن يتخذ مدرسة - ولكن لم ينفذ - وكان يصدر إرادته بتوجيه الرتب العسكرية وترقية الضباط. حدثني ياسين باشا الهاشمي أن الأمير فيصلاً بلغه مرة نص إرادة هاشمية بنقل بعض الضباط إلى رتب فوق رتبهم , فرد عليه فيما معناه: إن هذا إفساد للنظام العسكري لا يمكن تنفيذه. (قال) : ولكم أنتم أن تعطوهم من الألقاب والرواتب المالية ما شئتم , على شرط أن لا يعدو أحد طوره ولا لقبه، ولا راتبه عندي في الجيش إلا بمقتضى القانون العسكري. ذلك - وإنني لما أمكنني زيارة سورية بعد الهدنة وكانت فرنسة قد استولت على سواحلها من حدود فلسطين إلى حدود الأناضول كان مسلمو سواحل ولاية بيروت يعتقدون أنها ستكون مع البلاد الداخلية إمارة واحدة , يتولاها فيصل من قبل والده (ملك العرب وخليفة المسلمين) بمساعدة الدولة البريطانية! ! غرورًا بشهادة فيصل الذي كان يقول لهم: يجب أن تربوا أولادكم على حب الإنكليز! ! وكان من النادر أن ترى فيها من يفهم كنه اتفاق هذه الدولة مع فرنسة على اقتسام البلاد العراقية والسورية , وعزم إنكلترة وحدها على سلب استقلال جزيرة العرب نفسها واستعباد أهلها. وكان أذكياء الناس يستغربون ما نبينه لهم من الحقائق عن الحجازيين والبريطانيين- وهو ما لو سمعوه من غيرنا لكذبوه وعادوه- وكان بعضهم يناشدنا أن لا نذيع عن الشريف ما يبطل الثقة به؛ لئلا يشمت النصارى بالمسلمين! ! ولكن لم تمض بضعة أشهر حتى عرف المتمرسون بالسياسة كثيرًا من الحقائق ظهر أثرها في قرار المؤتمر السوري العام الذي أعلن به استقلال البلاد ووحدتها , فإنه لم يجعل لحكومة الحجاز ولا لملك الحجاز أدنى شأن في سورية لا باسم الخلافة ولا باسم السيادة ولا باسم الاتحاد، فكان وقع ذلك الاستقلال كالصاعقة على الملك حسين , وغضب على الملك فيصل غضبة مضرية عرفها جميع الناس. على أن فيصلاً لم يكن يقدر على أن يجعل لأبيه من الأمر شيئًا لو أراد ذلك , وهو لم يكن يريد؛ لأنه أعلم الناس بأن سلطة والده لا تطيقها الحجارة الصم. على أنه لم يستطع إقناع إخواننا بقبول ما سموه (العلم العربي) إلا بعد عناء عظيم , فقبلوه على شرط زيادة نجم فيه تفرقة بينه وبين علم الحجاز. ولما تمكن الأمير عبد الله من أرض شرق الأردن؛ ليصد للإنكليز تعدي العرب على فلسطين , ويؤمن لهم اختراق قلب صحراء العرب إلى العراق؛ طفق يبث الدعاية فيها وفي فلسطين وسائر سورية لخلافة والده , وصرح بذلك لمراسل جريدة اللواء المصري وغيره في الإسكندرية؛ إذ مر بها مسافرًا إلى إنكلترة وفرنسة … , وقد بلغت دعايته ما كان مجالاً للسخرية والانتقاد الأدبي؛ إذ وضع فوق باب مسجد قرية عمان عاصمة شرق الأردن عند ترميمه حجرًا نقش فيه أبياتًا نظمها له قاضي قضاته الشيخ سعيد الكرمي قال فيها: حسين بن عون من بنى مجد عدنان ... فأضحى أمير المؤمنين بلا ثاني أعاد له عرش الخلافة بعد ما ... ثوت زمنًا بالغصب في آل عثمان فعجب الأدباء كيف خفيت على القاضي والأمير وشاعره الشريقي وغيرهم النكتة التي في البيت الأول (أمير بلا ثان) ولها حكاية مشهورة مع بعض الشعراء. ثم كثر الدعاة لذلك توطئة لقدوم الملك حسين إلى أطراف البلاد السورية ولا سيما في موسم الحج الماضي (أي: سنة 1342) , كما أشرنا إليه في المقال الذي عقدناه لزيارته هذه وأسبابها ونتيجتها , ونشرناه في الجزء الثالث من هذا المجلد وقلنا فيه: إن التخيلات ازدوجت بالواهمات، ولقحت بالأماني المستعذبات، حتى جاءها المخاض بسقوط الخلافة التركية، أجهضت فولدت الخلافة العربية، فالتقطها (ملك العرب الخيالي) سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل، معتقدًا أن الدعاية تتم خلقها، وتنفخ الروح فيها، كما فعلت بمنصب (ملك البلاد العربية قبلها) !! إلخ. كيف كانت مبايعة السيد حسين المكي في شونة شرق الأردن؟ بعد أن مهد الدعاة السبل أولاً في القدس الشريف مع رجال الوفد الفلسطيني المرتبطين بالملك بالمساعدات المالية والسياسية وهم الذين تولوا جمع الوفود من فلسطين ثم في سائر سورية، وبعد إعداد حكومة شرق الأردن وسائل الاحتفال لأجل البيعة، بدأ البيعة أهل شرق الأردن ووفد المؤتمر الفلسطيني، وخالفه كثير من أهل البلاد وجمعياتها وأحزابها , وتلا ذلك إرسال برقيات الدعاة إلى مدن سورية المشهورة وغيرها بأن أهل الحل والعقد في فلسطين وسائر البلاد العربية وغيرها قد بايعوا فلانًا، فكانت كل برقية تصل إلى بلد توهم أهلها أن هذه البيعة عامة , اشترك فيها ممثلو جميع شعوب العالم الإسلامي , وقد ساعدتهم وكالة البرقيات الفلسطينية على هذه الدعاية , حتى كان في تلك البرقيات أن الخليفة التركي عبد المجيد ومسلمي مصر والهند قد بايعوا وهم أبعد الخلق عن هذه المبايعة. نموذج من برقيات ال

الوصية المزورة باسم المدينة المنورة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوصية المزورة باسم المدينة المنورة (س 21) من صاحب الإمضاء في (ميت غمر) سيدي الأستاذ الجليل، محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار، حرسه الله، تحية الله وسلامه إليك وبعد: الدين الإسلامي الذي جاء فاصلاً بين الحق والباطل، وعلم الناس أن هناك إلهًا لا يطلع أحدًا على غيبه، وأنه لا يظلم مثقال ذرة، الدين الإسلامي الذي أنقذ الناس من جاهليتها الأولى، وأبطل الخرافات والاعتقادات الباطلة، دين هدى لمن يريد أن يهتدي، دين توحيد لمن يريد أن يوحد ربًّا واحدًا، دين وجهة واحدة لمن يريد أن يولي وجهه شطره، إلا أن الناس الذين يدينون به وينتسبون إليه لم يحافظوا عليه ولم يحترموا تعاليمه. وبذلك حقت علينا كلمة العذاب؛ لأن أكثر المسلمين لا يعقلون. سيدي: أكتب إليك هذا وأنا في ذهول مستمر وحزن دائم لما وصلت إليه حالة المسلمين، حتى أصبحت حياتنا الدينية والدنيوية تشبه الكفار من كل الوجوه. وإن المنشور المرسل طي هذا الكتاب لأكبر دليل على صدق هذا القول، حتى لا يقال بأننا نكتب على غير حق، فهل يصح يا فضيلة الأستاذ لأمة دينها الإسلام، وكتابها القرآن، أن يوزع بينها هذا المنشور ويلصق على أبواب بيوت العبادة؟ فباسم الإسلام الذي وقفت حياتك على خدمته، والمحافظة عليه، وباسم العلم الذي أخذت منه قسطًا وافرًا، وبحق ما لك علينا من فضل بمباحثك الدينية القيمة، التي كثيرًا ما هدت ضالاًّ وعلمت جاهلاً، أن تبين لنا صحة هذا المنشور , وأصل مصدره والغاية التي يرمي إليها ناشره، وذلك يكون بنشر الرد بجريدة الأهرام حتى يطلع الناس عليها، ويقفوا على حقيقتها، ولك من الله حسن الجزاء، ومن الناس أجمل الثناء، وإنا لذلك لمنتظرون، والله المسؤول الذي بيده المصير أن يتولاك برعايته. واقبل احترام وإخلاص مسلم معجب بعلمك ودينك. ميت غمر في 27 مارس سنة 1924 ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... زكي محمد عبد الله ... ... ... ... ... ... ... معاون سلخانة ميت غمر وأمين مخزن البلدية وهذا نص الوصية المزورة المرسلة مع هذا السؤال. بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين على القوم الكافرين , وصلى الله على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه وسلم. هذه وصية من المدينة المنورة عن الشيخ أحمد خادم حرم النبي الشريف قال: كنت ساهرًا ليلة الجمعة أتلو القرآن وبعد تلاوته قرأت أسماء الله الحسنى , فلما فرغت من ذلك تهيأت للنوم فأخذتني سنة من النوم , فرأيت الطلعة البهية رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذي أظهر الآيات القرآنية والأحكام الشرعية؛ رحمة للعالمين سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا شيخ أحمد. قلت: لبيك يا رسول الله , ويا أكرم خلق الله. فقال لي: أنا خجلان من أفعال الناس القبيحة , ولن أقدر أن أقابل ربي ولا الملائكة، ووَقْف على قدم؛ لأنه مات من الجمعة إلى الجمعة مائة وستون ألفًا على غير الإسلام وواحد مات على الإسلام , فنعوذ بالله من شر ذلك، وصار غنيهم لا يرحم فقيرهم , وأصبح كل شخص لا يسأل إلا عن نفسه , وقد ارتكبوا المعاصي والكبائر والزنا، وأنقصوا المكيال والميزان , وكثرت المعاصي وأكلوا الربا وشربوا الخمر , وتركوا الصلاة ومنعوا الزكاة. فهذه الوصية لأجل أن يتعظوا؛ لأني في شدة التعب من أجلهم، فأخبرهم يا شيخ أحمد قبل أن ينزل بهم العذاب من ربهم العزيز الجبار وتغلق أبواب الرحمة، فنعوذ بالله من شر هذا القرن وأهله؛ لأنهم عن طريق الحق ضالون، وبالله تعالى يشركون، وبالدين الحنيف ينكرون، وبأديانهم الباطلة يمجدون. وإن الساعة قد قربت، وفي سنة 1340 هجرية تخرج النساء من غير إذن أزواجهن , وفي سنة 1350 هجرية تظهر علامة في السماء مثل بيض الدجاج وهي علامة القيامة، وفي سنة 1370 هجرية تغيب الشمس ثلاثة أيام بلياليها , وبعد ذلك تشرق من المغرب , وتغلق أبواب التوبة، وفي سنة 1380 هجرية يرفع القرآن العظيم من صدور الرجال، ويظهر المسيخ الدجال، وتتفاتن النساء والرجال، ويعود الإسلام كما كان خرابًا. فأخبرهم يا شيخ أحمد بهذه الوصية , وعرفهم بأنها منقولة (بقلم القدرة من اللوح المحفوظ) . ومن يكتبها ويرسلها من بلد إلى بلد أو من محل إلى محل، كتب الله له قصرًا في الجنة , ومن لا يكتبها ولا يرسلها حرمت عليه شفاعتي يوم القيامة، ومن لا يعرف أن يكتبها يأمر كاتبًا بكتابتها بثلاثة دراهم، ومن كتبها وكان فقيرًا - أغناه الله، أو كان مديونًا قضى الله دينه عنه، أو عليه ذنب غفر الله له ولوالديه ببركة هذه الوصية، ومن يكتمها عن عباد الله اسود وجهه في الدنيا والآخرة. وقال الشيخ أحمد: والله العظيم ثلاثًا، إن هذه حقيقة، وإن كنت كاذبًا أخرج من الدنيا على غير الإسلام , ومن يصدق بها ينجو من عذاب النار , ومن كذب بها كفر، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مؤمن مصدق) (جواب المنار) : جاءنا هذا السؤال فقدمنا عليه في النشر والجواب أسئلة أخرى جاءت قبله، ثم أطلعنا قلم التحرير في جريدة الأهرام على كتاب يقترح فيه مرسله نشر هذه الوصية في الأهرام , ومطالبة العلماء ببيان ما يجب في شأنها فتذكرنا أننا قد سئلنا عنها هذه الوصية. هذه الوصية فرية ملفقة سبقها أمثال لها كثيرة , وكلها معزوة إلى اسم الشيخ أحمد خادم الحرم النبوي الشريف أو خادم الحجرة النبوية الطاهرة، وأذكر أني رأيت أول وصية منها بين أوراق لوالدي من زهاء أربعين سنة أو أكثر، فصدقتها واهتممت بأمرها , وكان ذلك قبل طلبي للعلم بل في أول العهد بالقراءة. ومنذ عشرين سنة أرسل إلى أمين أفندي السرجاني، الصائغ المشهور بمصر وصية أخرى منها , وسألني عن رأيي فيها فنشرتها في باب الفتوى من المجلد السابع (غرة شعبان 1322) وأجبت عنها بما سأعيده هنا، ثم أرسلت إلي نسخة أخرى من السويس بعد سنة ونصف من نشر تلك الفتوى , فاعتذرت عن نشرها في فتاوى (ج 3 م 9 الذي نشر في ربيع الأول سنة 1324) . والظاهر أن الذين يلفقون هذه الوصايا من الجهال يظنون أنه ربما يكون لنشرها تأثير عظيم في المسلمين، وأنهم يقصدون النفع، ويستحلون في التوسل إليه تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم , كما كان يفعل بعض الوضَّاعين لأحاديث الترغيب والترهيب، مع علم أولئك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مقعده من النار) فإنه روي متواترًا في الكتب الستة وغيرها من المسانيد والمعاجم عن عشرات من الصحابة. ثم ينسخها بعض العوام حيث لا مطابع , ويطبعونها في مثل هذه البلاد؛ لتصديقهم بما في آخرها من الوعد والوعيد، ومن العجب أن الذين يجددون تلفيق الوصية لا يتركون اسم الشيخ أحمد كأنه خالد في الحرم النبوي الشريف , وكأنه أعطي خدمة الحجرة الطاهرة خالدة تالدة , لا تؤثر فيها أحداث الزمان ولا مرور السنين ولا تغير الحكومات. ويلوح في ذاكرتي أن بعض زوار المدينة سأل عن الشيخ أحمد هذا منذ سنين كثيرة , فلم يجد في الحرم النبوي من يعرفه! ومن دلائل كذب هذه الوصايا أسلوبها العامي , على أن الوصية الجديدة دون ما سبقها في اللحن والاصطلاحات العامية (ومنها) وهو أقواها: زعم مختلقها أن النبي صلى الله عليه وسلم صار محجوبًا عن ربه وعن الملائكة بسبب ذنوب الناس , وهذه أعظم العقوبات التي توعد الله تعالى بها الفجار الكفار بقوله: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} (المطففين: 15) فجميع ما نعاه على المسلمين من المعاصي هو دون الكذب على الرسول بأصل الوصية والكذب على الله , بزعمه أنه عاقب أفضل رسله بذنب غيره , كما يعاقب الكفار في الآخرة، وهو مغفور له بنص القرآن، على أنه لا يعاقب أحد من الخلق بذنب غيره بالنص أيضًا , ومن جهله تعبيره عن التجلي الرباني بالمقابلة، كما يعبر أهل هذا العصر عن لقاء بعض الناس لبعض. وقوله: وفي سنة 1340 تخرج النساء من غير أذن أزواجهن، يدل على أن الوصية لفقت قبل هذا التاريخ , ولما وصلنا إليه لم نر شيئًا لم يكن قبله , فقد كان كثير من النساء يخرجن قبله بدون إذن أزواجهن , ولم يخرج فيه جميعهن ولا فيما بعده , فنقول: إنه مصداق للجملة. وما ذكر قبله من المعاصي فهو قديم أيضًا , ولكنه يزداد بلا شك، كما أنه قد تجدد من علم السنة ومحاربة البدع والدعوة إلى الإصلاح الديني , والتوفيق بينه وبين الحضارة والقوة ما لم يكن. وقاعدة هؤلاء المصلحين أن الله تعالى قد أكمل دينه فلا نزيد في الأمور الدينية المحضة شيئًا لم يرد في الكتاب أو السنة الثابتة أو إجماع الصدر الأول، وأن أسعد السعداء من يعبد الله تعالى كما عبدوه فعلاً وتركًا حسب الأمر والنهي , وأن في الكتاب والسنة وهدي السلف الأول غنًى عن كل ما عداها في النصح والإرشاد، والزجر عن الفساد، فمن كان مخلصًا في نصح المسلمين، فليعضد هؤلاء المصلحين، فهو خير له من اختراع الرؤى الباطلة، والوصايا السخيفة المزورة , التي صار يقل في العوام من يصدقها، وجميع الخواص يلعنون مزورها. وإننا نذكر هنا ما أجبنا به السائل عن هذه سنة 1322 إتمامًا للفائدة - وكانت تلك في منتهى السخف لفظًا ومعنًى وهذا نصه: إننا نتذكر أننا رأينا مثل هذه الوصية منذ كنا نتعلم الخط والتهجي إلى الآن مرارًا كثيرة , وكلها معزوة كهذه إلى رجل اسمه الشيخ أحمد خادم الحجرة النبوية , والوصية مكذوبة قطعًا , لا يختلف في ذلك أحد شم رائحة العلم والدين، وإنما يصدقها البلداء من العوام الأميين، ولا شك أن الواضع لها من العوام الذين لم يتعلموا اللغة العربية , ولذلك وضعها بعبارة عامية سخيفة، لا حاجة إلى بيان أغلاطها بالتفصيل , فهذا الأحمق المفتري ينسب هذا الكلام السخيف إلى أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء صلى الله عليه وآله وسلم , ويزعم أنه وجده بجانب الحجرة النبوية مكتوبًا بخط أخضر , يريد أن النبي الأمي هو الذي كتبه , ثم يتجرأ بعد هذا على تكفير من أنكره , فهذه المعصية أعظم من جميع المعاصي - التي يقول: إنها فشت في الأمة، وهي الكذب على الرسول عليه الصلاة والسلام , وتكفير علماء أمته والعارفين بدينه , فإن كل واحد منهم يكذب واضع هذه الوصية بها , وقد قال المحدثون: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي معتمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، قد نقل بالتواتر , ولا شك أن واضع هذه الوصية متعمدٌ لكذبها، ولا ندري أهناك رجل يسمى الشيخ أحمد أم لا؟ ! وأما تهاون المسلمين في دينهم وتركهم الفرائض والسنن , وانهماكهم في المعاصي، فهو مشاهد، وآثار ذلك فيهم مشاهدة , فقد صاروا وراء جميع الأمم بعد أن كانوا بدينهم فوق جميع الأمم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ} (فصلت: 16) إلا أن يتوبوا. ولا حاجة لمن يريد نصيحتهم بالكذب على الرسول , ووضع الرؤى التي لا يجب على من رآها أن يعتمد عليها شرعًا، بل لا يجوز له ذلك إلا إذا كان ما رآه موافقًا للشرع , فالكتاب والسنة الثابتة بين أيدينا، وهما مملوآن بالعظات والعبر , والآيات والنذر. اهـ.

خطاب عام للمسلمين ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب عام للمسلمين في شأن الحجاز (4) مفاسد الطاغوت بعد ادعائه للخلافة: ذكرنا في الفصول السابقة بعض الحقائق عن سلب الملك حسين أموال أهل الحجاز والحجاج والظلم في الحرم , وفقد الأمن بين الحرمين التي جاءتنا من أخبار موسم الحج (سنة 1341) , وقلنا: إنه قد صرح في أثناء السنة الماضية قبل موسمها بانتحاله لمنصب الخلافة، فصار خطره أشد، والسعي لتلافيه أوجب، وذلك أن الرجل كلما كبرت مطامعه وتنفخ وانتفخ في مظاهره، يزداد احتياجه إلى النقود، ولا مستغل له إلا الحجاج وأهل الحرمين؛ لأن الإنكليز منعوه ما كانوا يعطون، ولا بد من مورد غزير يقوم بنفقات الجمع بين عظمة الملك وفخفخته، وإخضاع أمراء العرب المنكرين لإمبراطوريته وخلافته، ونشر دعاية الخلافة ومقاومة خصومها في الشرق والغرب إلى أن تستقر وتكون مستغلاًّ جديدًا؛ وما هي مستقرة أو يهلك العرب والمسلمون، فخصومه في الملك والسلطان أمراء جزيرة العرب المستقلون، وكل واحد منهم يفوقه قوة وإدارة وعدلاً، وخصومه في الخلافة الشعوب الإسلامية ماعدا بعض أهل فلسطين وسورية والعراق من المنتفعين بماله، والراجين لنواله، أو المخدوعين بدعايته ودعاية رجاله، أو المتلذذين بنكاية فرنسة، والخائفين من شماتة جيرانهم من النصارى الذين عادوا ولده فيصلاً في تلك الأيام، التي كان المسلمون فيها سكارى بخمرة الأوهام، أو عائشين في غمرة من أضغاث الأحلام، على أن هؤلاء الأنصار يقلون عامًا بعد عام؛ لأن جناياته ظهرت للخواص والعوام، وطفقت تتبرأ منه الجماعات والأحزاب كالأفراد. كان هذا الرجل المفتون بالألقاب الضخمة والمظاهر الفخمة أميرًا للحجاز، وكان بدو البلاد كحضرها يخضعون له، ويخشون بأسه، ويقبلون حكمه لعلمهم بأن وراءه دولة يرجى برها، ويخشى ضرها، وقد صلي نار الحرب العامة باسم العرب، وهو لم يعمل ولا يعمل ولن يعمل إلا لنفسه وولده، ولم يكن إلا متجرًا بالعرب وبلاد العرب، وبدين الإسلام أيضًا كما ظهر واتضح لغير العميان المنكوسين من البشر، استبد بالأمر وحده على جهله وعجزه، فأضاع الفرصة التي سنحت لاستقلال العرب واتساع ملكه، ولم ينل شيئًا من مطامعه الواسعة لنفسه، بل لم يبق له من إمارة الحجاز إلا هذه المدن والقرى المعدودة على الأصابع , وأما القبائل القوية فليس له عليها من سلطان. ولكن افتتانه بعظمة الملك وفخامة الألقاب، وغروره بالوعود الشيطانية والأماني فيما يسميه (الحسيات النجيبة للعظمة البريطانية) جرآه على تسمية نفسه: ملك العرب وصاحب البلاد العربية، وصار يمتع نفسه بما تصبو إليه من عظمة الملك الصورية، فأحدث أوسمة ورتبًا متعددة. تصدر جريدته (القبلة) آونة بعد آونة , وفي صدرها إما عنوان (توجيهات) الذي كان يعهد في الجرائد العثمانية الحميدية، وتحته: وجه وسام النهضة أو وسام الاستقلال العلي الشأن إلى فلان، ووجه 000 إلى 000 وإما نبأ من أنباء القصر العالي , ومن تشرف بتقبيل أعتابه، حتى إن أولاده يقبلون فيما يكتبون إليه الأعتاب، ويعبر أحدهم عن نفسه بخادم تراب الأقدام (؟ ؟) ولم يدع سيئة من سيئات عبد الحميد إلا وتقلدها، حتى إذكاء الجواسيس على رجال حكومته وأولاده، دع غيرهم من الناس الذين قد يعذر بعدهم أعداء له؛ لأنه لهم عدو مبين , وقد حمله ادعاؤه هذا الملك، وافتتانه به إلى ما تقدم بيانه من مصارحة جميع أمراء جزيرة العرب بالعداوة، وإنذارهم إسقاط إمارتهم وضمها إلى ملك البلاد العربية كلها. كان هذا بعض شأنه، على ضعفه وعجزه، وخيبة آماله في (العظمة البريطانية وحسياتها النجيبة) - إلا أن يقال - ولا يعوز الدليل من قال: إنه لا يقنط من رحمتها، ولا ييأس من روحها. فإنه تبرأ من رحمة الله، إن كان يقبل بقرار الدول كلها أضعاف ما تعطيه هي إن لم يكن بواسطتها؛ فماذا ينتظر من غروره وطمعه وعنجهيته وكبريائه , وقد ادعى الخلافة العربية، وطفق ينشر في جريدته الكاذبة الخاطئة دعاوى مبايعة جميع الشعوب الإسلامية، (لصاحب الجلالة الهاشمية، أمير المؤمنين، وخليفة رسول العالمين، المنقذ الأعظم) كقولها: (مبايعة أهل مصر، مبايعة بلاد جاوه، مبايعة بلاد السودان) إلخ. إلا أنه لا ينتظر من بعد هذا إلا الإسراف في الظلم، والإلحاد في الحرمين الشريفين، وتثقيل الغرامات على الحجاج، وبث الفساد السياسي في سائر بلاد العرب، وتمكين النفوذ الأجنبي فيها، ومقاومة الإصلاح , ونشر الخرافات في العالم الإسلامي كله. وقد أخرنا إتمام هذا الخطاب في العام الماضي؛ لنقف على ما يكون له من التأثير في عمله بعد لقاء أنصار وأصحاب الآمال فيه بزيارته لشرق الأردن , ثم بعد تنحله لمنصب الخلافة، حتى تكون النتيجة من خطابنا هذا بعد استيفاء المقدمات، فجاءتنا أخبار موسم الحج الأخير (سنة 1342) بشر مما نشرنا خلاصته في أوائل هذا الخطاب من الإصرار على ما تقدم أو الزيادة عليه، وشرها قطعه لماء عين زبيدة في يوم عرفة؛ لأجل أن يبيع أعوانه الماء المدخر بأغلى الأثمان , واتفق أن كان حر الصيف شديدًا حتى في البلاد المعتدلة، فكان موقف عرفة كموقف الحساب يوم القيامة، شغلت شدة الحر وشدة الظمأ أكثر الناس عن أداء العبادة براحة وحضور قلب، ومات ألوف من الناس في عرفات وفي الطريق بينها وبين مزدلفة فمنى فمكة. أخبرنا الكثيرون من الحجاج بذلك، ونشره بعضهم في الجرائد، وقالوا: إن قربة الماء قد صارت تباع بعشرين قرشًا أو ثلاثين قرشًا في الغالب , واشتراها بعض الأغنياء بأكثر من ذلك. ومن الشواهد على الإفساد السياسي ما نقله الجرائد من إرسال دعاته إلى عدن وبلاد الشافعية من تهامة اليمن؛ ليأخذوا له البيعة، ويخدعوا الناس بأن خليفة المسلمين وملك العرب سيجعل أمرهم بأيديهم، وحكامهم من أهل مذهبهم، وإدارتهم كما يرغبون ويقترحون، وهذا موافق لتفسيره الرسمي للوحدة العربية , الذي بيناه في الوثيقة الخامسة المتعلقة بالجناية الثانية من هذا الخطاب. وقد تثبتنا في نشر هذه المفسدة، فكتبنا إلى اليمن بالسؤال عن ذلك , فجاءنا نبأ رسمي لا شك فيه بتأييد الخبر. ومن الشواهد على مقاومة الإصلاح ونشر الخرافات , وتحكم الجهل في العلم والدين ما قرأناه في أنباء الحجاز من جريدة المقتبس الدمشقية من تصدي الخليفة (خليفة الشيطان) لاستخدام مجلس شورى الخلافة الذي استحدثه؛ لمنع انتشار الكتب والرسائل التي اشتهرت في بلاد جاوه من قبل الشيخ محمد عبده والشيخ رشيد رضا، كما منع من قبل ذلك كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرها من الكتب القديمة التي لا توافق هواه، ولا نقول: رأيه أو فهمه؛ إذ هو عامي لا رأي له ولا فهم في علم ولا دين. ثم أخبرنا أحد علماء الأزهر الذين حجوا في الموسم الأخير، أنه علم من الثقات في الحجاز أن حسينًا كلف بعض علماء حكومته ومجلس شورى خلافته - كتابة فتوى , يطعنون فيها بالشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا صاحب المنار؛ تبعًا لتهم دونها في الأسئلة الذي كلفهم الجواب عنها، فكتبوا له ما لا يرضيه تمام الرضا؛ لأن ما يرضيه يغضب الله تعالى واتقوا شره بأن كتبوا أنهم لم يطلعوا على شيء من كتب الشيخين المذكورين مشتملة على ما ذكر في الاستفتاء هذا ملخص الخبر بالمعنى. *** علاوة من روايات الحجاج في ظلم حسين في الحرمين الشريفين: عهدنا إلى أحد علماء الأزهر الذين ذهبوا إلى الحجاز في الموسم الأخير أن يستقصي لنا أعمال هذا الطاغوت , وذكرنا له بعض الثقات الذين يعرفون هذه الحقائق , ولا يبخلون بها على من يثقون بأمانته، ويأمنون شر سعايته، فجاءنا بمسائل كثيرة. ثم جاءنا بيان آخر من بعض سكان المدينة المنورة الذين حضروا موسم الحج الأخير أيضًا , فنلخص البيانين؛ لإطلاع العالم الإسلامي عليهما، ودعوته إلى القيام بما يجب عليه من العمل لمهد الإسلام، وحرم الله تعالى وحرم رسوله عليه الصلاة والسلام، وخدمة للتاريخ الخاص والعام. ملخص ما جاء به العالم الأزهري من مكة: (1) صدرت أوامر الملك حسين بمنع مشتري الأعشاب قبل أخذ ما يلزم لحيواناته , فتجاسر أحد التكارنة , واشترى، فقبض عليه، وسجنه عامًا واحدًا , وقال: إنه سجنه بمقتضى الوجه الشرعي من الكتاب والسنة. فاستفتى أبو المسجون المفتين الأربعة بمكة، فأفتوه أنه لا يستحق الحبس شرعًا , فأطلع الملك عليها فغضب وقال أنه يخالف الشرع ولا يطلقه من الحبس , وصار يكرر قوله: أشهد أني أخالف الشرع في أحكامي. (2) في شعبان سنة 1342 اشتكت فتاة امرأة من موالي الشناقطة أحد موالي العربان بأنه اغتصبها بعد أن تهددها بالقتل في طريق الرصفة , وهو حمى الملك الذي لا يدخله سوى جماله، وأي حيوان يدخله يصادر- وقد وصفت الفتاة المتهم , فقبض الملك على غيره من المغضوب عليهم، فقطع يده ورجله من خلاف من غير أن تراه الفتاة , وتشهد أنه هو الجاني، وهذا حكم الشرع. (3) جعل رسمًا على كل جمل وحمار وبغل يجيء من جدة إلى مكة - نصف جنيه إنكليزي وريالين مجيدين , ومن مكة إلى عرفات نصف جنيه إنكليزي , ومن مكة إلى المدينة ثلاثة جنيهات: جنيهًا برسم الحكومة والخزينة الخاصة. (4) لأجل جمع الإعانات من الحجاج؛ وضع في مجاري عين زبيدة أكياسًا من الرمل فوق عرفة بقليل , وذلك قبل يوم عرفة فلم يأت وقت الظهر حتى نضب الماء من حياض عرفة , ونشأ عن ذلك عطش شديد جدًّا , مات بسببه خلق كثير من الفقراء , ولما ظهر سره امتنع عن جمع الإعانة , وعلى ذلك أدلة: (منها) أن الماء كان فوق عرفة طافيًا في الآبار على وجه الأرض , حتى كان من أخبر بذلك من العرب يملأ بيديه من غير دلو ولا رشاء. (ومنها) أننا عند نزولنا إلى منى وجدنا الماء فيها كثيرًا , وما كان غلاء ماء منى إلا من توهم الناس أن الماء مقطوع مما جرى لهم بعرفة. ولكن الذي كان يشاهد الآبار بنفسه وهي تجيش بالماء الغزير يعلم الحقيقة. (ومنها) أنه قبل خروج الناس إلى عرفة بأيام , طلب من مطوفي الجاوه والهنود جمع حجاجهم له في الحرم؛ ليكلمهم في أمر مهم. ثم قال للمطوفين: تدرون هذا الأمر؟ فقالوا: لا. فقال: لأجل جمع إعانة لتصليح عين زبيدة. (5) طريقته في جمع الإعانة للعين: أن ما زاد على عشرين جنيهًا يوضع في صندوقه الخاص , وما نقص عنها ففي صندوق العين , وإذا احتاجت العين للتعمير لا يعطيها شيئًا , وإذا طلب من صندوقه للحاجة يغضب. وحصل ذلك مرة، فغضب وحاسب أمين الصندوق , وعطل أعمال لجنة العين أحد عشر شهرًا. وبعض الحجاج لجهل أو غفلة أو حب رياء وظهور , يدفعون له مباشرة ما يتبرعون به , فيكون خالصًا له، والمعروف منه لا يقل عن 500 جنيه. (6) عند مبايعته بالخلافة في عمان وصلت منه برقية لقاضي القضاة بمكة بأنه إذا امتنع أحد عن البيعة يقتل رميًا بالرصاص. (7) لما وصلت الكسوة من مصر أغرى بعضهم أن يحضروا له بعض المصريين؛ ليقولوا له: إنه بلغهم أنه يريد رد الكسوة , وأنه سيكسو الكعبة من عنده كما كساها في العام الماضي , وأن يسترحموا جلالته ويرجوه عدم ردها ويلحوا عليه في ذلك، فيقبل رجاءهم. وأظهر للناس أنه في غنى عن كسوة مصر ولولا إلحاح المصريين لم يقبلها , والكسوة التي جاء بها في العام الماضي ثمنها 300 جنيه وهي من الصوف القيلان , وكانت عند ما دخلنا مكة باهتة وشكلها في غاية الكآبة. (8) كان حول المسجد الحرام ميضأة من أوقاف سلاطين مصر والأتراك فهدمها , وجعل محلها دكاكين ملكًا له

إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها ـ 1

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم سُئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية -رضي الله تعالى عنه- عن كراس وجد بخط بعض الثقات , قد ذكر فيها كلام جماعة من الناس فمما فيه: (قال) بعض السلف: إن الله تعالى لطف ذاته فسماها حقًّا، وكثفها فسماها خلقًا. قال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل: إن الله ظهر في الأشياء حقيقة واحتجب بها مجازًا، فمن كان من أهل الحق والجمع شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل المجاز والفرق شهدها ستورًا وحُجُبًا. (قال) وقال في قصيدة له: لقد حق لي رفض الوجود وأهله ... وقد علقت كفاي جمعًا بموجدي ثم بعد مدة غير البيت بقوله: لقد حق لي عشق الوجود وأهله. فسألته عن ذلك فقال: مقام البداية أن يرى الأكوان حجبًا فيرفضها، ثم يراها مظاهر ومجالي فيحق له العشق لها، كما قال بعضهم: أُقَبِّلُ أرضًا سار فيها جِمالها ... فكيف بدار دار فيها جَمالها (قال) : وقال ابن عربي عقيب إنشاد بيتي أبي نواس رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشاكلا فتشابه الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر لبس صورة العالم فظاهره خلقه، وباطنه حقه. وقال بعض السلف: عين ما ترى، ذات لا ترى، وذات لا ترى، عين ما ترى، الله فقط والكثرة وهم. قال الشيخ قطب الدين بن سبعين: رَبٌّ مالك، وعبد هالك، وأنتم ذلك، الله فقط والكثرة وَهْمٌ. للشيخ محيي الدين بن عربي يا صورة أنس سرها معنائي ... ما خلقت للأمر ترى لولائي شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا ... تشهدنا في أكمل الأشياء وطلب بعض أولاد المشايخ للحر ما يرى من والده الحج [1] فقال له الشيخ: طف يا بني ببيت ما فارقه الله طرفة عين (وقال) قيل عن رابعة: إنها حجت فقالت: هذا الصنم المعبود في الأرض وإنه ما ولجه الله ولا خلا منه. وفيه للحلاج: سبحان من أظهر ناسوته ... سر سناء لاهوته الثاقب ثم بدا مستترًا ظاهرًا ... في صورة الآكل والشارب قال: وله: عقد الخلائق في الإله عقائدًا ... وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه وله أيضًا: بيني وبينك إنيٌّ تزاحمني ... فارفع بحقك إني من البين (قال) : وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي الحلبي المقتول: بهذه البقية [2] التي طلب الحلاج رفعها تصرف الأغيار في دمه. وكذلك قال السلف: الحلاج نصف رجل , وذلك أنه لم ترفع له الآنية بالمعنى , فرفعت له صورة. قالوا لمحيي الدين بن العربي: والله ما هي إلا حيرة ظهرت ... وبي حلفت وإن المقسم الله وقال فيه: المنقول عن عيسى عليه السلام أنه قال: إن الله تبارك وتعالى اشتاق أن يرى ذاته المقدسة , فخلق من نوره آدم عليه السلام وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها، وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة. قال ابن الفارض في قصيدته (نظم السلوك) : وشاهد إذا استجليت نفسك من ترى ... بغير مراء في المرآة الصقيلة أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس الأشعة (قال) وقال ابن إسرائيل: الأمر أمران. أمر بواسطة وأمر بغير واسطة، فالأمر الذي بالوسائط قبله من شاء الله ورده من شاء الله تعالى، والأمر بغير واسطة لا يمكن خلافه، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (يس: 82) فقال له فقير: إن الله تعالى قال لآدم بلا واسطة: لا تقرب الشجرة فقرب وأكل. فقال: صدقت , وذلك أن آدم إنسان كامل. وكذلك قال شيخنا علي الحريري: آدم صفي الله تعالى، كان توحيده ظاهرًا وباطنًا , فقال: فكان قوله تعالى: (لا تأكل) ظاهرًا، وكان أمره: (كل) باطنًا، فأكل، فكذلك قوله تعالى. وإبليس كان توحيده ظاهرًا، فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرًا , فلم يسجد فغير الله عليه وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا} (الأعراف: 18) الآية. (قال) وقال شخص لسيدي حسن: يا سيدي إذا كان الله يقول لنبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) أيش نكون نحن؟ فقال سيدي: ليس الأمر كما تظن، قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) أيش غير الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) ، {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} (الفتح: 10) . وفيه لأوحد الدين الكرماني: ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين غيره: لا تحسب بالصلاة والصوم تنال ... قربًا ودنوًّا من جمال وجلال فارق ظلم الطبع تكن متحدًا ... بالله وإلا كل دعواك محال غيره للحلاج: إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر يشاهد حقًّا حين يشهده الهوى ... بأن صلاة العارفين من الكفر للشيخ نجم الدين بن إسرائيل: الكون يناديك أما تسمعني ... من ألف أشتاتي ومن فرقني انظر لتراني منظرًا معتبرًا ... ما فيَّ سوى وجود من أوجدني وله: ذرات وجود هي للحق شهود أن ليس لموجود سوى الخلق وجود والكون وإن تكثرت عدته ... منه إلى علاه يبدو ويعود وله: برئت إليك من قولي وفعلي ... ومن ذاتي براءة مستقيل وما أنا في طراز الكون شيء لأني مثل ظل المستحيل للعفيف التلمساني: أحن إليه وهو قلبي وهل يُرَى ... سواي أخو وجد يحنّ لقلبه ويحجب طرفي عنه إذ هو ناظري ... وما بعده إلا لإفراط قربه قال بعض السلف: التوحيد لا لسان له، والألسنة كلها لسانه. (وفيه) لا يعرف التوحيد إلا الواحد، ولا تصح العبارة عن التوحيد، وذلك أنه لا يعبر عنه إلا بغير، ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له. (وفيه) سمعت من الشيخ محمد بن بشر النواوي أنه ورد سيدنا الشيخ علي الحريري إلى جامع نوى، قال الشيخ محمد: فجئت فقبلت الأرض بين يديه وجلست , فقال: يا بني وقفت مدة مع المحبة فوجدتها غير المقصود؛ لأن المحبة لا تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ثم وقفت مدة مع التوحيد فوجدته كذلك؛ لأن التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب، لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا. (وفيه) سمعت من الشيخ نجم الدين بن إسرائيل مما أسرَّ إليَّ أنه سمع من شيخنا الشيخ علي الحريري في العام الذي توفي فيه , قال: يا نجم رأيت لهاتي الفوقانية فوق السموات , وحنكي تحت الأرضين، ونطق لساني بلفظة لو سمعت مني؛ ما وصل إلى الأرض من دمي قطرة. فلما كان بعد ذلك بمدة , قال شخص في حضرة سيدي الشيخ حسن بن الحريري: يا سيدي حسن! ما خلق الله أقل عقلاً ممن ادعى أنه إله مثل فرعون ونمرود وأمثالها. فقلت أنا: هذه المقالة ما يقولها إلا أجهل خلق الله , أو أعرف خلق الله. فقال: صدقت وذلك أنه سمعت من جدك يقول: رأيت كذا وكذا , فذكر ما روى نجم الدين عن الشيخ. (وفيه) قال بعض السلف: من كان عين الحجاب على نفسه، فلا حاجب ولا محجوب. (والمطلوب من السادة العلماء) أن يبينوا لنا هذه الأقوال , وهل هي حق أو باطل؟ وما يعرف به معناها، وما يبين أنها حق أو باطل , وهل الواجب إنكارها؟ أو إقرارها؟ أو التسليم لمن قالها؟ وهل لها وجه سائغ؟ وما حكم من اعتقد معناها؟ إما مع المعرفة بحقيقتها، وإما مع التأويل المجمل لمن قالها , والمتكلمون أرادوا لها معنًى صحيحًا يوافق العقل والنقل , ويمكن تأويل ما يشكل منها وحملها على ذلك المعنى؟ وهل الواجب بيان معناها وكشف مغزاها، إذا كان هناك ناس يؤمنون بها ولا يعرفون حقيقتها، أم ينبغي السكوت عن ذلك , وترك الناس يعظمونها ويؤمنون بها مع عدم العلم بمعناها؟ (فأجاب شيخ الإسلام) أبو العباس تقي الدين أحمد ابن تيمية، قدس الله روحه ونور ضريحه: الحمد لله رب العالمين. هذه الأقوال المذكورة تشتمل على أصلين باطلين مخالفين لدين المسلمين واليهود والنصارى مخالفتها للمعقول والمنقول: (أحدهما) الحلول والاتحاد وما يقارب ذلك؛ كالقول بوحدة الوجود، كالذين يقولون: إن الوجود الواجب للخالق هو الوجود الممكن للمخلوق، كما يقول ذلك أهل الوحدة كابن عربي وصاحبه القونوي وابن سبعين وابن الفارض صاحب القصيدة التائية (نظم السلوك) وعامر البوصيري السيواسي الذي له قصيدة تناظر قصيدة ابن الفارض، والتلمساني الذي شرح مواقف النغري [3] وله شرح الأسماء الحسنى على طريقة هؤلاء , وسعيد الفرغاني الذي شرح قصيدة ابن الفارض والششتري صاحب الأرحال الذي هو تلميذ ابن سبعين، وعبد الله البلباني، وابن أبي منصور المصري صاحب (فك الأزرار، عن أعناق الأسرار) وأمثالهم. ثم من هؤلاء من يفرق بين الوجود والثبوت كما يقوله ابن عربي , ويزعم أن الأعيان ثابتة في العدم غنية عن الله في أنفسها، ووجود الحق هو وجودها، والخالق مفتقر إلى الأعيان في ظهور وجودها , وهي مفتقرة إليه في حصول وجودها الذي هو نفس وجوده، وقوله مركب من قول من قال: المعدوم شيء , وقول من يقول: وجود المخلوق هو وجود الخالق. ويقول: فالوجود المخلوق هو الوجود الخالق، والوجود الخالق. هو الوجود المخلوق، كما هو مبسوط في غير هذا الموضع. وفيهم من يفرق بين الإطلاق والتعيين كما يقوله القونوي ونحوه , فيقولون: إن الواجب هو الموجود المطلق لا بشرط. وهذا لا يوجد مطلقًا إلا في الأذهان، فما هو كلي في الأذهان لا يكون في الأعيان إلا معينًا، وإن قيل: إن المطلق جزء من المعنى. لزم أن يكون وجود الخالق جزءًا من وجود المخلوقات، والجزء لا يبدع الجميع ويخلقه، فلا يكون الخالق موجودًا. ومن قال: إن الباري هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق. كما يقوله ابن سينا وأتباعه , فقوله أشد فسادًا؛ فإن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون إلا في الأذهان لا الأعيان، فقول هؤلاء بموافقة من هؤلاء الذين يلزمهم التعطيل - شر من قول الذين يشبهون أهل الحلول. وآخرون يجعلون الوجود الواجب والوجود الممكن بمنزلة المادة والصورة يقولها [4] المتفلسفة أو قريب من ذلك كما يقوله ابن سبعين وأمثاله. وهؤلاء أقوالهم فيها تناقض وفساد، وهي لا تخرج عن وحدة الوجود أو الحلول أو الاتحاد , وهم يقولون بالحلول المطلق والوحدة المطلقة والاتحاد المطلق، بخلاف من يقول بالمعنى: كالنصارى والغالية من الشيعة الذين يقولون: بإلهية علي أو الحاكم أو الحلاج أو يونس القبني أو غير هؤلاء ممن ادعيت فيه الإلهية؛ فإن هؤلاء قد يقولون بالحلول المقيد الخاص، وأولئك يقولون بالإطلاق والتعميم، ولهذا يقولون: النصارى إنما كان خطؤهم للتخصيص، وكذلك يقولون عن المشركين عباد الأصنام: إنما كان خطؤهم؛ لأنهم اقتصروا على عبادة بعض المظاهر دون بعض. وهم يجوزون الشرك وعبادة الأصنام مطلقًا على وجه الإطلاق والعموم. ولا ريب أن في قول هؤلاء من الكفر والضلال ما هو أعظم من اليهود والنصارى، وهذا المذهب كثير في كثير من المتأخرين , وكان طوائف من الجهمية يقولونه. وكلام ابن عربي في (فصوص الحكم) وغيره [5] ، وكلام ابن سبعين وصاحبه الششتري، وقصيدة ابن الفارض (نظم السلوك) ، وقصيدة عامر البصري، وكلام العفيف التلمساني وعبد الله البلبالي والصدر القونوي، وكثير من شعر ابن إسرائيل وما ينقل عن شيخه الحريري، وكذلك يوجد نحو منه في كلام كثير من الناس غير هؤلاء؛ هو مبني على هذا المذهب مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وكثير من أهل السلوك الذين لا يعتقدون هذا المذهب يسمعون شعر ابن الفارض وغيره , فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال، ما حير كثيرًا من الرجال. وأصل ضلال هؤلاء أنهم ل

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 11

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة [*] (10) إن الأئمة في نظر طائفة (الإمامية) يأتون على هذا الترتيب: (1) سيدنا علي. (2) الحسن. (3) الحسين. (4) علي بن العابدين. (5) محمد الباقر بن زين العابدين. (6) جعفر الصادق بن محمد الباقر. (7) موسى الكاظم بن جعفر الصادق. (8) علي الرضا بن موسى. (9) محمد بن علي النقي. (10) علي بن النقي. (11) حسن بن علي الزكي. (12) محمد بن حسن العسكري. يعتقد الإماميون أن الإمام الثاني عشر وهو محمد بن حسن العسكري حي إلى اليوم , (وهو الإمام المهدي المنتظر عندهم) . ومن مطالعة مؤلفاتهم يرى الإنسان عقائد غربية مثل قولهم: غيبة صغرى، وغيبة كبرى. الغيبة الصغرى: يزعمون أنه كان في عام 266 هجرية في زمان المعتمد العباسي مناسبات وعلائق بين الإمام وصلحاء الأمة. وكان بينهما سفراء ووكلاء ودام هذا 73 سنة. الغيبة الكبرى: ابتدأت في خلافة الراضي بن المقتدر، وانقطعت بعد ذلك المناسبات بين الأئمة والأمة , وكان أول وكيل للإمام عند الخلفاء (عثمان بن سعيد العمري الأسدي) , ثم انتقلت هذه السفارة بأمر الإمام إلى ابنه أبي جعفر، وظل هذا وكيلاً عن الإمام خمسين سنة، ثم انتقلت إلى أبي القاسم حسين بن روح أبي بحر النوبختي , وبوفاته انتقلت وكالة الإمام إلى أبي الحسن علي بن محمد السميري , وعندما مرض هذا مرض الموت سألته الشيعة: لمن يجب توجيه الوكالة؟ فأعطاهم مكتوبًا زعم أنه أخذه من الإمام المخفي هذه صورته: (بسم الله الرحمن الرحيم. يا علي بن محمد السميري، عظم الله أجر إخوانك فيك، فأنت ميت، ما بيني وبينك ستة أيام , فاجمع أمرك ولا تعرض إلى أحد فيقوم مقامك , وبعد وفاتك قد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور بعد إلا بإذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورًا، وسيأتي من شيعتي من يدعي المشاهدة. ومن يدعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو كذاب مفتر فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) . وبهذا المكتوب يدعي الإماميون أن الغيبة الصغرى قد انتهت، وأن الإمام اختفى، وأن الغيبة الكبرى قد ابتدأت. إن هذه العقائد ليست من الإسلامية في شيء، وهي إيرانية بحتة. إن الإمام الثاني عشر توفي عام 260 في زمان الخليفة العباسي المعتمد , وما رآه هؤلاء الأكارم من الأذى حقيقة يحرق الفؤاد، إن والد حسن جلب بأمر الخليفة المتوكل من المدينة إلى سر من رأى , وحبس هناك وظل في السجن حتى مات، وهكذا عومل حسن، وحينما حبس الإمام حسن خرج ابنه البالغ من العمر خمس سنين؛ ليفتش على أبيه , ثم دخل في مغارة أو - سرداب - ولم يخرج منها. وظل الإمامية يذهبون مدة طويلة يوميًّا لباب المغارة ينتظرون خروج الإمام منها، كما ذكر ابن خلدون إن الإمامية لم يكتفوا بتصديق الأوهام وإدخالها بين قواعد الدين، بل اخترعوا أحاديث ما لها أصل , وقدموها للعوام كصحيحة تأمينًا لمنافعهم وتهويشًا لبساطة الدين، الأحاديث التي تبحث عن فضائل الطعام , والتي قيل فيها: إن كذا وكذا من طعام أهل الجنة، وأمثال ذلك من الخرافات جميعها من تلفيقات الإماميين. [1] إن هذه الأحاديث الموضوعة تجاوزت الحد , وأضرت بالمسلمين أضرارًا اقتصادية أيضًا. مثلاً: ماذا تظن بأصل الاستمداد من الأموات؟ وبجمع الإعانات لهم؟ رجل كسلان لا يقدر أن يحسن عملاً , يرى في المنام قبرًا لا يعلم أحد ما في داخله [2] فيتخذه ذريعة للمعيشة بدون تعب، يعلق هناك قنديلاً، ويرفع على أطرافه حائطًا [3] ثم يكتب لوحًا بأن زيارته تشفي الأمراض وتقضي الديون , ثم يضع جملة توافق هواه ويسميها حديثًا. ويكتبها بخط جلي، ويعلقها في محل مرتفع؛ عندئذ يصدقه البله , ويهرعون للزيارة وللإعانة ولتقديم النذور!! فهذا الحال أضر بالمسلمين أضرارًا عظيمة أولها: مخالفة حكام الدين , وثانيها: إغراء الناس بالمطل والاحتيال. وثالثها: تعطيل قسم عظيم من الثروة العمومية. ورابعها: أنه يسوق الناس للأوهام ويبعدهم عن الجزم بأن {لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) . فالعمدة في الرزق الكسب من طريق الأسباب، لا ما أعطاه الأموات. أما آن الأوان أيها المسلمون لنبذ هذه الخرافات؟ أليس قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) أبلغ من جميع هذه الترهات؟ *** فرقة الكاملية من الشيعة من غالى وزعم أن كل من لم يبايع عليًّا - رضي الله عنه - عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر , حتى إن عليًّا نفسه لم يسلم من اتهامهم، منهم الكاملية رجل اسمه أبو كامل كان يقول بالتناسخ، وهذه خلاصة تعاليمه: (الإمامة نور تنتقل من شخص إلى آخر , ويتجلى هذا النور في شخص بشكل النبوة، وفي آخر بشكل الإمامة , وفي بعض الأحايين ينقلب نور الإمامة إلى نور النبوة) هذه أصول خرافاته , يراها الأوربي ويظن بنا الظنون [4] . *** فرقة البيانية هؤلاء يقولون: بتجسد الله (سبحانه وتعالى) رئيسهم رجل اسمه (بيان بن سمعان التميمي) , وهذه خلاصة مذهبه: إن الله بصورة الإنسان , ولا أحد يبقى غيره [5] ، وإن روحه تجلت أول الأمر في علي بن أبي طالب , ثم انتقلت إلي ابنه محمد ابن الحنفية , ثم إلي أبي هاشم، وأخيرًا إلي بيان بن سمعان؛ أي: إليه نفسه. (بيان) هذا كان يزعم اتحاد الإله بشخص علي. عجبًا من أين أتيت هذه الخرافات إلى ديننا الحنيف؟ أتت من إيران واليونان ومن النصارى؛ لأن زعم بيان بنصف ألوهية علي هو عين اعتقاد الإيرانيين في (ميترا) والنصارى في عيسى. *** فرقة العليائية [6] أسسها علياء بن ذراع الأسدي , وكان هذا يزعم بأن علياء هو الله , وكان يزعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث من قبل علي. *** فرقة المغيرية رئيسها المغيرة بن سعيد العجلي , كان يبالغ أكثر من بيان بما يبين شكله تعالى وحدوده , وهذه نظريته: إن الله إنسان من نور وعلى رأسه تاج نوراني , وعندما أراد أن يخلق البشر تكلم باسمه الأعظم. وعندما بلغه عمل الناس السيئ غضب وعرق , وحصل من عرقه بحران: أحدهما مالح، والآخر حلو , وكان البحر الأول مظلمًا، والثاني نورانيًّا , ثم نظر للبحر النوراني فرأي ظله، فأخذ منه شيئًا وخلق الشمس والقمر [7] , ثم قال: لا يجوز أن يشاركني في الألوهية أحد. وأعدم باقي الظل , ثم خلق المؤمنين من البحر الحلو، والكافرين من البحر المالح. اهـ لا أشك في أن دماغ الإنسان يجمد عندما يتصور أن أوربيًّا يقرأ هذه الترهات باسم طائفة إسلامية , وأظن أن القرد يفكر أحسن من ذلك. وهذه النظرية أيضًا إيرانية؛ لأن الإيرانيين كانوا يعتقدون مثل ذلك. وهو وصف الله بما كان يصف الفرس (هرمز) معبودهم، ولقد وصف البحار. إنما كان الفرس يسمونه (آهريمان) . كان الإيرانيون يعتقدون بأن خالق كل شيء هو (هرمز) ، ثم قال هرمز لزرادشت: بلغ الناس أن كل شيء يلمع على وجه الأرض هو مقتبس من نوري. ولا في الكون أبهى من ذلك النور , خلقت الجنة والملائكة وكل شيء حسن من هذا النور , وخلقت جهنم وجميع الشرور من بحر الظلمة. فيظهر أن المغيرة أراد أن يقلد (هرمز) ولكنه لم يحسن التقليد أيضًا. *** فرقة المنصورية مؤسسها أبو منصور العجلي , ظهر في زمان عبد الملك الأموي , وادعى الإمامة , فاجتمع حوله خلق كثير , وشغل الأمة وقتًا بما لا يفيد , وهذه نحلته قال: صعدت إلى السماء ورأيت الله , ووضع يده على رأسي , وقال لي: انزل إلى الأرض , وبلغ الناس أوامري. وهذه خرافة مأخوذة من الكلدانية والمصرية , ولكنها صبغت بصبغة إسلامية، يا للأسف. *** فرقة الجناحية رئيسها عبد الله بن معاوية , زعم أن روح الله انتقلت إلى الأنبياء , ثم إلى الأئمة، ثم حلل جميع المحرمات. وقسم نظريته الأول مأخوذ من عقيدة قدماء المصريين بالتناسخ , وقسم نظريته الثاني أخذه من نظرية (مزدك) الإيراني. *** فرقة الخطابية أسسها أبو الخطاب محمد ابن زينب الأسدي , هذا كان يقول بنبوة الأئمة وبألوهيتهم. وكان يدعي بأنه أفضل من علي نفسه. *** فرقة الهشامية مؤسسها هشام بن سالم الجواليقي , ونظرية هذه الفرقة: لله جسد طوله وعرضه وعمقه متساوية، وهو سبعة أشبار. يشبه الأجسام وجامع للأوصاف الحسية، وهو جالس على العرش بالتماس , لا يعرف الأشياء إلا بعد ظهورها، وقبل ظهورها لا يعرف عنها شيئًا , هذه نظرية هشام بن الحكم. وأما نظرية هشام بن سالم فهي: (زعمه) أن الله بصورة الإنسان، وله يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم، ونصفه الأعلى مجوف , ولكنه ليس لحمًا ودمًا. إن هذه النظريات التي تضحك القرود كانت قصدية لإشغال المسلمين عن الأشياء النافعة , ولقد نالوا ما يبغون وا أسفاه! ! ! *** فرقة اليونسية مؤسسها يونس بن عبد الرحمن القمي , زعم أن الله جالس على العرش والملائكة تجره من مكان إلى آخر , ثم يقول: مع أن الملائكة تجر عرش الله فهو أقوى منهم كلهم. *** فرقة المفوضة يزعم هؤلاء أن الله بعد أن خلق محمدًا صلى الله عليه وسلم. فوض إليه خلق كل شيء، فالخلاق هو محمد. وبعضهم ينسب خلقه العالم إلى علي. إن هذا ليس من الإسلام بشيء، بل هو نصرانية بثوب إسلامي. *** فرقة المشبهة أشهر أركان هذه الفرقة أحمد الهيجمي , زعم هذا بأن الله جسم يلامس ويصافح , وحتى يعانق من يريد من أهل الدنيا. ومنهم عبد الله بن محمد بن كرام أسس شعبة لهذه الفرقة وسماها (المشبهة الكرامية) , وقال: إن العرش هو قطر الألوهية. أرأيت أيها القارئ المحترم ماذا كان يشتغل أجدادنا؟ أتظن أن هناك سببًا أقوى مما ذكر أدى لتأخرنا وضعفنا؟ أتظن أن هناك سببًا لتشوش أفكارنا , وتردد أعمالنا غير هذه النظريات المخلة المختلة. لا تفل أيها القارئ اللبيب: هذا شيء مضى , وهو من بقايا القرون القديمة. إن آثاره لحد اليوم حاكمة علينا. لماذا يقتل الأتراك والزيديين في اليمن؟ لماذا اتفق الإدريسي مع النصارى؟ لماذا يقتل الأتراك بالدروز؟ لماذا يشتغل المسلمون حتى اليوم في ترهات كهذه، والأوربي يشتغل بالبخار والحديد؟ كل هذا لأن الإسلامية أضاعت شيئًا مهمًّا من نبالتها الأصلية , وأصبحت أعجوبة ممزوجة بالخرافات. والأمر من كل هذا أن العوام أصبحوا خاضعين للخرافات أكثر من الحقائق , وكل من حاول إرجاع المسلمين إلى دينهم الصافي يحكم عليه بضعف الاعتقاد! ! وهؤلاء المساكين لا يدرون أنهم يدينون بخرافات اليونان وإيران. ثم إن لمبشري النصارى تأثيرًا عظيمًا في إكمال ما غاب عن ذهن مؤسس الفرق المبحوث عنها , أولئك كانوا يبتدعون بدعات جديدة , وهؤلاء يأتون من طريق منحنٍ أهم ما يرمون إليه التشكيك بأمر الدين , وأغرب أمرهم أنهم فيما يريدون إقناع الذي يجدونه ساذجًا بأمر ما , يتكلمون على الأديان كلها , ويجرحون قواعد الإسلامية والنصرانية معًا؛ ليحسن السامع الظن بهم وينالون مأربهم. ((يتبع بمقال تالٍ))

المسألة العربية في طور جديد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألة العربية في طور جديد دخلت المسألة العربية في طور جديد , بخروج حكومة نجد من عزلتها، وتعرفها إلى العالم الإسلامي والشعوب العربية، ومد يدها القوية إلى مساعدة البلاد العربية على الاستقلال المطلق , الذي عبثت به خيانة أمراء الحجاز، والإلقاء بدلوها بين دلاء الشعوب الإسلامية في مسألة الخلافة، وقد صدر بذلك أول بلاغ عامّ من عاصمة نجد بإمضاء نجل سلطانها، أرسل إلى أشهر الصحف في العالم الإسلامي في 20 رجب سنة 1342 وهذا نصه: للحقيقة وللتاريخ بعد العنوان: نرجو من جنابكم أن تفتحوا صدر جريدتكم للكلمة التالية؛ خدمة للتاريخ. نشرت جريدة المقطم بتاريخ 21جمادى الثانية 1342 - 27 يناير 1924 مقالاً بعنوان: حديث (ملك الحجاز) , وقد اطّلعنا في بعض الجرائد السورية والعراقية على أحاديث وتصريحات تكاد تتفق مع هذا الحديث. إن هذه الأحاديث قد تضمنت أشياء عن سلطان نجد , وموقفه في القضية العربية والاتحاد العربي تخالف الحقيقة والتاريخ , وإننا لنأسف أن يتجرأ المسؤلون على الاختلاق على الأحياء. لقد سعى سلطان نجد في الحرب العالمية وبعد الحرب العالمية لبناء الوحدة العربية , فأرسل الكتب العديدة والرسل لابن الرشيد وملك الحجاز وأمير عسير والكويت , ولكن ملك الحجاز - من بين أمراء العرب - قابل الدعوة بالاستهزاء , بل سعى لنقض بنيانها بما كان يسعره من نيران الفتن والدسائس في عسير وغيرها , وكتبه المرسلة منه إلى آل عائض والرشيد محفوظة لدينا. وماذا يقولون في الكتب التي أرسلها سلطان نجد مع مساعد بن سويلم إلى ملك الحجاز وأولاده؟ تلك الكتب نشرت في الصحف في حينها , والتي نشرت جريدة المقطم لا تبطن تلك الكتب بما تنطوي عليه جوانح سلطان نجد وميله الشريف إلى التصافح مع جيرانه والاتحاد معهم , هل علموا أن ملك الحجاز لم يسمح لأولاده بإجابة سلطان نجد وهو (أي: ملك الحجاز) قد تخطى حدود اللياقة , بأن جعل جوابه لآل السعود كافة، لا للجالس على عرش نجد؟ هل هذه الأعمال مما تقرب زمن الاتحاد العربي؟ وهل بمثل هذه السياسة تجتذب قلوب أمراء العرب؟ يصرح ملك الحجاز أنه خاطب سلطان نجد بأنه مستعد للتنازل عن عرشه، وتسليم زمام الأمر لمن يستطع أن يقود العرب إلى طريق النجاة والسلامة، وهذا أمر لا أساس له بالمرة , بل الواقع يخالفه تمام المخالفة. نعم إن ملك الحجاز قد صرح أمام بعض الجماهير بمثل هذه التصريحات للتمويه على البسطاء. إن ملك الحجاز يحاول أن يتولى الزعامة غير المقيدة في جزيرة العرب كلها؛ ليستذل أمراء العرب ويقتطع بلادهم , ويتدخل في شؤونهم الداخلية، وهذا ما لا يمكن أن يوافقه عليه أحد، وإن مكاتبات ملك الحجاز إلى أهل القصيم، وحثهم على نقض ولائهم لسلطانهم لدليل بين على ما يخفيه وينويه لسلطان نجد وبلاده. إن تحت يدنا من الكتب والرسائل التي وجدت في تربة وخرمة وعسير ما يفيد أن ملك الحجاز وولده عبد الله لا يسعون إلا لشهواتهم ومصالحهم , ولو أدى ذلك إلى هدم بناء العرب، ولكننا نمسك عن نشرها الآن، فإن سمح لنا ملك الحجاز بنشرها نشرناها. وهنالك يعلم العالم الإسلامي والعربي تلك الجنايات والدسائس التي يقوم بها أولئك القوم الذين اتخذوا الصياح , وقلب الحقائق ديدنًا لهم , وسيعلمون أي الفريقين يجني على أمته العربية ووحدتها، وأيهم سبب هذا الانقسام، وألقى النفرة بين الأمراء , وأشعل نيران الفتن والحروب بينهم. نعم سيعلمون أن سلطان نجد لم يكن في جميع مواقفه إلا مدافعًا عن نفسه وبلاده وشرفه، وأنه كان ولا يزال راغبًا من صميم فؤاده في إنشاء الوحدة العربية على أساس يجعل للعرب قوة ومكانة تليق بتاريخهم المجيد. 20 رجب 1342 ... ... (فيصل بن عبد العزيز بن سعود) (المنار) نشر هذا البلاغ في جرائد مصر وسورية وسائر الأقطار العربية والأعجمية , ولم ننشره في الوقت الذي نشرته فيه اكتفاءً بها , وكان له تأثير حسن وعلقت عليه الجرائد الحرة تعليقًا مقرونًا بالتفاؤل والرجاء في دخول قوة نجد في السياسة العربية العامة. وإننا ننشر هنا تعليق جريدة (اتحاد الإسلام) التي تصدر في طهران عاصمة الدولة الإيرانية لقلة اطلاع الناس عليها , فإنها صحيفة جديدة تنطق بلسان محبي الجامعة الإسلامية، وهذا نص تعليقها على البلاغ عقب نشرها له: رأي لمسلمي إيران في ثالوث الحجاز وصاحب نجد: هذا المكتوب يعرب عن دسائس ملك الحجاز لأمراء العرب , وسعيه بتفريق الكلمة العربية، وما هي بأول قارورة كسرت في الإسلام، ولا تلك بأول جناية هذا الإنسان الشرير على أمته، فإن كل ما يعرفه المسلمون عن ملك الحجاز دسائس وحيل وجنايات يقفو بعضها بعضًا. بنى عرشًا موهومًا لملكيته , وإنما أقام بنيانه على أساس الخداع والنفاق وشق عصا الطاعة , حتى أسال إلى جوانبه أنهارًا من دماء المسلمين الذين كانوا مرابطين في الثغور لحفظ الحرمين من عادية أعداء الإسلام. ولم يزل يدس هو وأولاده الدسائس للمسلمين، لا يرعون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة. كل ذلك في منفعة الإنكليز , وغاية ما يقنعهم من دنياهم وآخرتهم أن يقال لأحدهم: ملك الحجاز، وآخر: ملك العراق. والثالث: ملك الأردن، وإن لم يكن لهذه الألفاظ معنى ولا مصداق، إذ لا حكم ولا أمر ولا نهي ولا حول لهم ولا قوة , وليس لأحدهم من السلطان مقدار ما لأحد صغار مأموري الإنكليز الذين يسعى ملك الحجاز وأولاده في تثبيت سلطانهم على المسلمين، وإحكام طوق العبودية لهم في رقاب المؤمنين. كل ذلك ليقال لأحدهم ملك , وهذه اللفظة أصبحت في البلاد التي يوجد فيها هؤلاء الأشرار مرادفة للفظ خادم الإنكليز. ويكفي من دسائس الإنكليز ما عمله فيصل ابن ملك الحجاز (! !) في العراق، فإنه بايع رئيس العراقيين آية الله الخالصي على أن يسعى فى سبيل استقلال العراق وقطع نفوذ الإنكليز , فإذا لم يستطع مضى من حيث أتي، وبايعه العراقيون على ذلك , وما تمت له البيعة حتى نكثها , وأخذ يسعى لهدم استقلال العراق وتثبيت نفوذ الإنكليز فيه بنفي العراقيين وحبسهم , وقتلهم بأيدي الإنكليز، حتى إنه مد يد العدوان إلى آية الله الخالصي نفسه , ونفاه من العراق إلى الحجاز , ولولا جميل مساعي الدولة الإيرانية لبقي فيه منفيًّا إلى الآن، ولكنها اتخذت جميع الوسائل لمجيئه إلى إيران , وهو فيها الآن لا يسمح له بالرجوع إلى العراق لماذا؟ لأنه يطالب باستقلال العراق، وفيصل يسعى ضده، وكفى من دسائسه أن الإنكليز يسعون لقتل المسلمين , ونهب أموالهم وهتك أعراضهم بيد الآشوريين , وفيصل ساعدهم القوي في ذلك تثبيتًا للمعاهدة العراقية الإنكليزية. وهذه حادثة كركوك الأخيرة , تذيب قلب كل مسلم يسمع أن الآشوريين الذين أمدهم الإنكليز بالسلاح خربوا المدينة بقتل رجالها , ونهب أموالها حتى إنهم كانوا يهجمون على الحمامات فيبقرون بطون نساء المسلمات فيها , وما كان من فيصل إلا أنه عاون الآشوريين لما هاجت القبائل لرد عاديتهم؛ إرضاءً لساداته الإنكليز. يشكو آل السعود من دسائس ملك الحجاز في العسير، ونحن نعلم من جناياتهم أكثر من ذلك، والمسلمون قاطبة يعلمون أن ألد أعدائهم أبو جهل القرن الرابع عشر وأولاده، ولكن هذه حقيقة يجب أن يعلمها آل السعود وكل مسلم، وهي أن ملك الحجاز وأولاده آلة صماء بيد الإنكليز، وكل ما رآه العالم العربي والإسلامي من دسائسهم ما كان إلا أمرًا وتدبيرًا من الإنكليز أجروه على أيدي هؤلاء الأجلاف , فإذا أراد آل السعود التخلص من تلك الدسائس فعليهم أن ينضموا إلى غير الإنكليز؛ ليستطيعوا تشكيل وحدة عربية وإنهاض المسلمين في جزيرة العرب. وربما يجيب آل السعود بأنهم يتقاضون من الإنكليز في كل سنة ستين ألف ليرة , ولا يمكنهم صرف النظر عنها. فحينئذ نقول لهم: إن هذا المبلغ يعطى لإبادة العرب، وهو ثمن بخس إزاء تلك البضاعة الثمينة، ولا يخدعن آل السعود بذلك فإن الإنكليز يجرون على أساس التفريق في سياستهم , فإذا أعطوا شيئًا من المال إلى آل السعود فما ذلك إلا تغرير وخداع يتظاهرون بسببه بصداقتهم لهم , ومن جهة أخرى يغرون بهم مسيلمة الحجاز وأولاده، وهكذا يصنعون في جميع العالم: يمدون كل متخاصمين؛ ليطول الخصام ويدوم الدمار حتى يفنى الفريقان. هذه مدنية الإنكليز فلماذا ينخدع لها ملوك الشرق؟ [1] إن ملك الحجاز وأولاده قد تمحضوا لعبودية الإنكليز , فلا يتوقعن ملوك نجد إصلاحهم؛ إذ قد استحوذ عليهم الشيطان (الإنكليز) فأنساهم ذكر الله , وإن المسلمين في شرق الأرض وغربها قد علموا خيانتهم , فلا تؤثر تصريحاتهم على المسلمين إلا زيادة نفرة وسوء ظن , فلا يهتم بتصريحات أولئك الدجالين ملوك نجد. ولكن إذا أراد آل السعود قيادة العرب فعليهم أن يقاطعوا الإنكليز، ويتخذوا سياسة العطف والحنان تجاه العرب كافة , ويحذروا كل الحذر من التعصب الديني تجاه طوائف المسلمين , فإن ذلك أقوى باعث على ابتعاد المسلمين عن ملوك نجد. وجه ملك نجد حملة إلى العراق سنة 1440 هجرية بقيادة فيصل الدويش [2] ولو أنه كان استعمل العطف والحنان , وترك لجميع طوائف المسلمين حريتهم الدينية لما عاقه عائق عن الاستيلاء على العراق , ولأعانه على ذلك شدة نفرة العراقيين من الإنكليز وخادمهم فيصل ابن ملك الحجاز، ولكن فيصل الدويش استعمل من القوة والشدة إزاء قبيلة البدور على ضفاف الفرات ما أجبرالعراقيين كافة على المقاومة التي تمت بنفع الإنكليز وفيصل، وضرر عامة المسلمين , فعلى آل السعود أن يبدلوا تلك السياسة بسياسية البنى (كذا ولعلها اللين) والعطف التي كانت شعار أئمة المسلمين، ونحن نؤكد لهم أنهم يستطيعون أن يقودوا العرب كافة , فإنهم نافرون من سياسة ملك الحجاز وخداعه. بقيت لنا كلمة نوجهها إلى بعض البلاد العربية التي نسمع عن بعض أهلها أنهم بايعوا مسيلمة الحجاز بالخلافة، ونحن نعلم أن بعض السوريين لشدة حنقهم على الفرنساويين يريدون الانتقام منهم لبيعة خادم الإنكليز , ولكن ذلك لا يبرر هذه البيعة التعسة , فإن عداوة الفرنساويين لا توجب أن يقدم المسلمون على إهانة مقدساتهم ومحو ديانتهم ببيعة ضليل خان المسلمين , وجنى على العرب جنايات سياسية , ولم يكفه ذلك حتى أقدم على جنايات دينية باسم الخلافة، فكأنه آلى على نفسه أن لا يبقي للمسلمين دينًا ولا وطنًا إلا امتلك الإنكليز زمامه , أيرى السوريون أن عملهم هذا كان انتقامًا من الفرنساويين؟ كلا! فإنه انتقام من المسلمين قبل الفرنساويين. صح الله عقول الشبيبة السورية وبصَّرها بواجبها الديني والوطني. (انتهى من عدد اتحاد الإسلام الرابع الذي صدر في طهران في ذي القعدة سنة 1343) . *** بلاغ آخر من عاصمة نجد إلى العالم الإسلامي والشعب العربي {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (الأعراف:89) . منذ بضع سنين قام نفر من إخواننا يطالبون باستقلال العرب , وينادون بوجوب اتحاد أمراء العرب، فشكرنا سعيهم، وحمدنا عملهم، وسألنا الله أن يحسن قصدهم ويرشدهم إلى خير العرب. عرضنا عليهم مساعدتنا على أن نضع حدًّا لمطامع الأجانب ومقدار مداخلتهم في بلاد العرب , فأبوا إلا أن ينفردوا بهذا العمل الخطير، ويأخذوا على عاتقهم مسؤوليته , ويحوزوا هم وحدهم فخر تحرير بلاد العرب، فقلنا: أنجح الله استقلال العرب أيًّا كا

مبايعة الحجاز لحسين بالخلافة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مبايعة الحجاز لحسين بالخلافة كان هذا الفصل وما بعده من أخبار خلافة حسين المكي التي حققنا أنها (وضعت سقطًا لم يستهل، ومضغة لم تكتمل) قد جمعت منذ ثلاثة أشهر وضاق عنها الجزء الماضي , وجمع معها مواد أخرى في موضوعها , ولكن تأخر هذا الجزء وسبقته الحوادث , فأخرنا تاريخه حتى ظهرت طلائع إنقاذ الحجاز والعرب من هذا الطاغوت الذي سمى نفسه (المنقذ) بسيف الحق الذي سلّه الله في نجد، فوجب أن نختصر ما كنا جمعناه، ونكتفي منه بالوثائق التاريخية للاعتبار بها دون استقصاء فنقول: صدر العدد 769 من جريدة القبلة المؤرخ في 30 رجب سنة 1342 (6 مارس سنة 1924) مزينًا بذرور الذهب؛ لأنه خص بخبر المبايعة بالخلافة وما يتعلق بها، وافتتح بمقالة في (الخلافة والعرب) - وما العرب عندها إلا حسين فبعد التنويه بثورته الشؤمى، وأعماله القبحى، قال الكاتب المستأجر فيها ما نصه: (وعند قيام جلالته بالنهضة بايعه أهل الحل والعقد في الحجاز , كما بايعه بذلك أهل سورية (بما فيها فلسطين) قبل النهضة وبعدها، وكذلك أهل العراق ووفود اليمن وغيرها من الأقطار العربية بيعة مستكملة لشرائطها الشرعية , ولا تزال وثائقها بين أيدينا) . ثم قال: إنه هو لم يقبل تلك البيعة في حينها (تحاشيا عن التشويش والاضطراب في هذه المسألة الإسلامية الكبرى تاركًا أمر البت فيها إلى الرأي العام الإسلامي) (ولكن مع الأسف) إن العالم الإسلامي ترك هذه المهمة الخطيرة هدفًا للتلاعب , حتى وصل بها الأمر إلى الحد الفظيع الذي أنبأتنا به البرقيات المنشورة في غير هذا المكان في هذا العدد (يعني ما فعله الترك) وقد ذكرنا برقياتها هذه وهي من عمان في الجزء الماضي , ومنها أن جريدة المقطم سبقت إلى ترشيح حسين للخلافة , ومن البرقيات التي لم تنشر برقية حسين لرئيس حكومة مكة بأن من امتنع من البيعة يقتل رميًا بالرصاص. فمبايعة الحجاز وقعت بالإكراه خلافًا لما ذكرته قبلة الدعاية الحسينية المزورة إلا في تعليلها المبايعة بعمل حكومة أنقرة؛ إذ قالت: إن هذا سبب هبوب الشعب السوري للمبايعة , وإن هذه الأنباء لما وصلت إلى العاصمة (مكة) هب أهلها للمبايعة وإقامة الزينات والاحتفالات. ثم قالت: ومما تقدم يتضح أن مبايعة الأمة العربية لصاحب الجلالة الهاشمية بالخلافة ليست بالأمر الجديد , وإنما كانت تأكيدًا للبيعة السابقة. ثم زعم الكاتب وهو محرر الجريدة المستأجر، الموظف لخليفته المزور، أنه صار مكلفًا شرعًا بقبول هذه البيعة، فهو يرى أن تسمية خليفة تركي كان مانعًا شرعًا من هذا القبول. وكأنه نسي ما كتبه مولاه في قبلته نفسها من إثبات كفر الدولة العثمانية , وبطلان خلافتها القديمة في الأزمنة التي بايع خلفاءها هو وأسلافه من قبله فيها، ثم صرح مرارًا بموت الخلافة، وجهل أن حكمه بوجوب قبول البيعة الثانية دون الأولى - يتضمن جهل الأمة العربية التي زعم أنها بايعته بأن تلك البيعة كانت باطلة لا يجوز قبولها , أو فسقه هو بترك القبول الذي يترتب عليه تعطيل أحكام الشرع , ولا غرو فكل من المبايعين والمبايع صدق عليهم الحديث النبوي الحكيم: (المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور) متفق عليه من حديث أسماء بنت الصديق. وعند مسلم عن عائشة أيضًا - رضي الله عن أبيهما وعنهما - وذلك أن كلاًّ منهما مفتات على الشعوب الإسلامية كلها بما ليس له فيه حق بنفسه، ولا بالشرع، كما بيناه في الفتوى التي أقمنا فيها الدلائل على بطلان هذه البيعة، وعلى كونها لم يقصد بها معنى الخلافة الشرعية لتعذره. ثم إن جريدة القبلة ذكرت بعد تلك المقولة ما كان من الاحتفال في مكة بالمبايعة العامة والخاصة - تعني مبايعة أسرة حسين وعشيرته الشرفاء ورجال حكومته، ومبايعة العامة - وإننا ننقل عنها نص الخطاب الذي نمقوه، وتلاه على الناس قاضي القضاة ورئيس حكومة مكة، حفظًا لهذه الوثائق التاريخية، وتذكيرًا بما فيها من العبرة، وهو: *** الخطاب الذي أعلنت به المبايعة بمكة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، الحمد لله الذي وفق أهل الحَلّ والعقد والتدبير، لتنصيب إمام يقوم بمصالح أفراد المسلمين الكبير منهم والصغير، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المرسل رحمة وبشيرًا ونذيرًا والقائل إرشادًا لأمته: (أمِّروا عليكم أميرًا) وعلى آله وأصحابنا وسلم تسليمًا كثيرًا. وبعد، فبناءً على انحلال الإمامة الكبرى منذ زمن بعيد , وقد نص الشارع صلى الله عليه وسلم على تنصيب المسلمين إمامًا لهم بقوله: (أمِّروا عليكم أميرًا) ذاك أمير أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) ونص العلماء على أنه لا بد شرعًا للمسلمين من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم , وسد ثغورهم وتجهيز جيوشهم , وحماية بيضتهم وقطع مادة شرور المتغلبة والمتلصصة , وقطاع الطريق وإقامة الجمع والأعياد , وأخذ العشور والزكاة وقطع المنازعات , وقبول الشهادات وتزويج الصغار الذين لا أولياء لهم , وقسمة الغنائم لوجهين: (الوجه الأول) : أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت عن خليفة وإمام، حتى قال أبو بكر الصديق في خطبته حين وفاته عليه الصلاة والسلام: (ألا إن محمدًا قد مات، ولا بد لهذا الدين من يقوم به) فبادر الكل إلى قوله وتركوا له أهم الأشياء، وهو دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يقل أحد من الصحابة: لا حاجة إلى ذلك؛ بل اتفقوا عليه واستمر الناس بعدهم على ذلك. (الوجه الثاني) : أن في تنصيب الإمام دفع ضرر مظنون , ودفع الضرر المظنون واجب على العباد إذا قدروا عليه إجماعًا، لما نعلمه علمًا ضروريًّا أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات , والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعيات - إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشًا ومعادًا , وذلك المقصود لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشرع , يرجعون إليه فيما يعن لهم فتنصيب الإمام من أتم مصالح المسلمين , وأعظم مقاصد الدين فحكمه الإيجاب السمعي , وقد يتمسك على وجوبه بقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) وحيث إن شروط الإمامة الكبرى قد توفرت في جلالة مليكنا ومنقذنا ملك العرب المعظم صاحب الجلالة الهاشمية الشريف حسين بن علي - تعينت مبايعته، فبايعناه بالخلافة سنة خمس وثلاثين بعد الثلاثمائة والألف , على أن يعمل فينا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , وفي يومنا هذا التاسع والعشرين من شهر رجب الحرام من عامنا الحالي اقتضى الحال تأييد تلك البيعة وإعلانها للعموم؛ فأكدناها اليوم. وحيث إنه غائب في هذا الوقت , ومولانا حجة الإسلام قاضي القضاة ومفتي السادة الحنفية ونائب رئيس وكلاء الحكومة العربية الهاشمية مفوض عام من قبل جلالته مدة غيابه في الأمور الشرعية والإدارية , بايعه الرؤساء من الأشراف والسادة والعلماء والأعيان من أهل الرأي والتدبير من عموم أهالي الحجاز، والمجاورين والوافدين على اختلاف طبقاتهم بالخلافة العظمى قائلين: نبايعك نيابة عن أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين سيدنا الشريف حسين بن علي بن محمد بن عبد المعين بن عون , على أن يعمل فينا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , ونقسم لك بالله العظيم على طاعته ورضاه والانقياد له في السر والعلانية , وله علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقام الدين , واجتهد فيما فيه صلاح حال المسلمين {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُث ُعَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 10) فقبل مولانا الموصى إليه هذه البيعة لجلالته وللإعلام بذلك صار تحريره اهـ؛ بنصه ويليه دعاء له بالظفر والفتح والنصر ومحق سيفه رقاب الطائفة الباغية الكافرة اهـ؛ فيا للفضيحة والخجل! (المنار) كنا عازمين على إحصاء كل ما في هذا الكتاب من مواضع النقد، وإذ كان حسين قد عجز عن إحياء سقط خلافته بالدعاية كما توهم , وعن تحنيطه إبقاءً لصورته، وإذ تفسخ وقرب دفنه - نكتفي بالإشارة إلى بعض المسائل المهمة: فأما دعوى مبايعته بالخلافة سنة 1335 فإن نص تلك المبايعة الذي نشر في جريدة القبلة كان بالملك على العرب لا بالخلافة. وأما دعوى أهليتهم للمبايعة فباطلة، فإنهم عاجزون مستعبدون له ولعبيده، لا حل ولا عقد لهم في بلدهم، فضلاً عن بلاد العرب كلهم الذين سخروا بمبايعتهم - فضلاً عن العالم الإسلامي كله الذي حقره لقبوله هذه المبايعة - وقد بينا في فتوى الجزء الرابع بطلان هذه الدعوى , ودعوى استجماعه لشروط الخلافة , ومن المضحكات أن ذكروا فيها حماية الممالك الإسلامية وهو عاجز إلا عن ظلمهم. وقد قرب عهد إسقاط البيعتين وطرده من الحرمين الشريفين. ((يتبع بمقال تالٍ))

منشور الخلافة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منشور الخلافة كتب الملك حسين منشورًا أذاعه على أثر المبايعة الخادعة الباطلة التي مثلت في شونة شرق الأردن ونشر في بعض الجرائد وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم الحسين بن علي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 2-7) والصلاة والسلام على سيدنا محمد عبده ورسوله أفضل الصلاة والتسليم، وعلى آله وصحبه وكافة أنبيائه ورسله صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين. أما بعد فإني أسأله الرأفة والرحمة بعباده , والهداية والتوفيق لهم، وأن يجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين , فإنه هو البر الرحيم والمنان الكريم , ثم إنه لما كانت الإمامة الكبرى والخلافة العظمى نظام عقد الأمة وسند قوام الملة، وكان أمر صيرورتها وكيفيتها , وما جرى فيها مدونًا ومنقولاً عمن تلقينا عنهم ديننا القويم , وكان كل ما جرى من بعد عهدهم السعيد في كيفية حقوقها وصلاحيتها وسائر معاملاتها إلى يومنا هذا موضحًا في تواريخ العالم الإسلامي وسيره المعتبر؛ فإقدام حكومة أنقرة بما أقدمت عليه على ذلك المقام المكرم كيفما كان شكله , جعل أولي الرأي والحل والعقد من علماء الدين المبين في الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى، وما جاورها من البلدان والأمصار يفاجئوننا ويلزموننا ببيعتهم بالإمامة الكبرى والخلافة العظمى حرصًا على إقامة شعائر الدين وصيانة الشرع؛ لعدم جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام , كما يفهم صراحة من توصية الفاروق الأكرم رضي الله عنه لأهل شورى البيعة بعده كيفما كانت صيغة تلك الإمامة وأشكالها إلى الآن وعليه. ولما كانت المملكة الهاشمية والقطعة المباركة الحجازية مهد الإسلام ومحل ظهوره ومطلع نوره , وكانت مصونة بعنايته تعالى من كل شائبة في حالتيها السابقة والحاضرة , ولا سيما العمل فيها بأحكام كتاب الله وسنة رسوله بجميع خصوصياته وعمومياته , وانطباق حكم البيعة المشروعة من المبايع والبايع له انطباقًا لا يتصور حصوله في أي مملكة أخرى في الوقت الحاضر - كان حقًّا علينا إجابة ذلك الطلب الديني المشروع بعد الاتكال على الله سبحانه واستمداد روحانية نبيه صلى الله عليه وسلم؛ لذلك قبلنا البيعة متوكلين عليه عز وجل , مستمدين منه الغوث والعون والتوفيق لما يحبه ويرضاه , وإننا نرجوه سبحانه وتعالى أن يكون هذا الأمر الذي قضى به في حكمته الأزلية وقدرته الصمدانية , وأظهر حكمة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) مضاعفًا لنا باتباع مسالك السلف الصالح. نعم إنا لم نتعرض البحث في شؤون ذلك المقام الجليل إبان نهضتنا , لا بل إلى قبيل جرأة أنقرة على كرامته، كيفما كانت وضعيته، وذلك حذرًا من توسع شُقّة الاختلاف؛ لئلا يتخذه أعداء الإسلام وسيلة للتعريض بمكانته ولا نكلف سوانا بما لا يراه، عملاً بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً} (الإسراء: 84) [1] ومع هذا فهو المسؤول أن يجعل هذه البيعة ألفة للمسلمين تضم قاصيهم ودانيهم , وتسوقهم إلى حسن التآلف مع مجاوريهم من أبناء دينهم وسكان بلدانهم من أهل الكتب السماوية , وسائر مواطنيهم بما ألقته إليهم الشريعة الإسلامية , وتطبيق ما فرض في أمر: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ، وكل ما أوجبه عليهم الشرع الشريف من الرفق بالبشرية، وخدمة الإنسانية، وتجنب الشرور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , مؤملين منهم حسن القيام بكل ما هو في معنى هذا، مما أوجبه الله عليهم فردًا فردًا وجماعة جماعة،وبالأخص العلماء الأعلام في أقطار الإسلام كافة. حرره في 5 شعبان سنة 1342 هجرية. (المنار) هذا كل ما في المنشور من موضوع الخلافة , وعبارته مفهومة في الجملة، قليلة اللحن والغلط بالنسبة لكل ما اطلعنا عليه من كلام هذا الرجل , ولعله أملاه على أحد فحسن عبارته في الجملة , وإلا فهي سخيفة ضعيفة في نفسها، وإنما هي كثيرة عليه هو , وغرضنا من نقل هذا المنشور في المنار التعليق عليه بما هو حجة على المبايع والمبايعين له , نوجز فيه؛ لأن أصل سقوط هذه الدعوى بالفعل صار قريبًا: (1) اعتراف حسين بأن سبب بيعته (إقدام حكومة أنقرة بما أقدمت عليه على ذلك المقام الكريم) أي: الخلافة - دع سخافة عبارته (بما وعليه وعلى) - وراجع عبارة جريدة (القبلة) تجده مكذبًا لهذه الدعوى ومصدقًا لقولنا السابق المكرر: إن هذه المبايعة ليست شيئًا جديدًا. فما بايعه أخيرًا في الشونة إلا بعض من بايعه أولاً، فإن كانت البيعة الأولى صحيحة، قامت بها عليه الحجة - قبلها أو لم يقبلها بأنه غير أهل لها وعاجز عن القيام بأقل شؤونها , إذ لم يعمل شيئًا مما توجبه عليه. وإعادتها حجة إلزامية على المبايعين بما أسندوه إليه من الأهلية مع ظهور بطلانها بالفعل كما هو ظاهر , وبأدلة الشرع التي بيناها في فتوى الجزء الرابع وإن كانت غير صحيحة، فماذا صححها الآن؟ (2) قوله في توجيه صحة البيعة الجديدة: إنها الحرص على إقامة شعائر الدين وصيانة الشرع؛ لعدم جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام. ننتقد هذا التوجيه: (أولاً) بأن فيه اعترافًا بصحة خلافة عبد المجيد أفندي العثماني، وأنه كان يقيم الشعائر ويصون الشرع، وهو كذب في نفسه , فإن عبد المجيد أفندي لم يكن له من الأمر شيء , وكانت حكومة أنقرة تعبث بالشرع قبل تسميته خليفة بلا سلطة ولا عمل، وفي أثنائها وبعدها. (وثانيًا) بأن حسينًا كان يقول: إن هذه الخلافة باطلة. وأشار إلى ذلك هنا بقوله: (كيفما كان شكله) واحترس واضعو خطاب المبايعة بمكة بمثله أيضًا. (وثالثًا) بأن مبايعي علماء المسجد الأقصى ومن تبعهم من أهل سورية هم الذين كانوا يرون صحة تلك الخلافة , وبنوا المبايعة عليها. فهذا الاختلاف بينهم وبين خليفتهم وأهل الحرم المكي معه , يقتضي جهل أحد الفريقين بالخلافة الصحيحة وغير الصحيحة وعدم أهليته للمبايعة وبطلانها من قبله , ولما كان قبول حسين لمبايعة الفريق الأول مبنيًّا على ركن الإيجاب الفاسد؛ تعين أن يكون عقد البيعة فاسدًا بفساد ركن الإيجاب بالذات , وركن القبول بالتبع , وهذا دليل إلزامي، وإلا فقد بيّنا بالأدلة التحقيقية بطلان الركنين معًا. (3) زعمه أنه أحق الناس بأن يبايع , وأن الذين بايعوه أحق المسلمين بأن يبايعوا , وأنهم أهل الحل والعقد في الإسلام , وهو ما كررنا فساده وبطلانه بالأدلة الحقيقية والإلزامية , ومنها عجزه عن القيام بأحكام الخلافة فيهم وفي غيرهم , وعجزهم عن تأييده ونصره , وقد وقع ما يظهر صدقنا فيهما؛ بزحف النجديين لإنقاذ الحجاز من هذه الخلافة الكاذبة الخاطئة , دع ما ظهر أولاً من مخالفة العالم الإسلامي كله لهم. (4) قوله: إننا لم نتعرض البحث (كذا) في شؤون ذلك المقام الجليل. إلى آخره.. ونكتفي فيه بتعليقنا هنا على عدد (2) وعلى ما سبق في خطاب بيعة مكة. ((يتبع بمقال تالٍ))

منشور العودة الذي أذاعه حسين المكي قبل عودته من شرق الأردن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منشور العودة الذي أذاعه حسين المكي قبل عودته من شرق الأردن إن هذا الرجل لم يحذق شيئًا من أمور سياسة العالم إلا الدعاية لنفسه بالخداع وقول الزور والوعود التي تكذّبها الأعمال والأيام , وقد نشر منشورًا سمّاه منشور العودة، وعد فيه بتأليف (مجلس شورى للخلافة) , ولن يكون إلا آلة لدعايته وأهوائه كمجلس وكلائه , وقد استشهد فيه بحديثين يدلان على جهله بأشهر ما يدور على ألسنة العوام من الأحاديث النبوية , فكيف يكون نائبًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أجهل من أكثر العوام بسنته؟! (الحديث الأول) : ما أورده بهذا للفظ: (لا يتم إيمان أحدكم حتى يتمنى لأخيه ما يتمنى لنفسه) , ولفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما عن أنس مرفوعًا: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ,والحب فوق التمني، فقد يتمنى الإنسان الخير لمن لا يحبه ولا يبغضه. (الثاني) : (لا يزال العبد مع مولاه ما زال في خدمة أخيه المسلم) وهذا مما يدور على ألسنة العوام بلفظ (كان الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) , ولم أسمعه من أحد بلفظ منتحل الخلافة , وهو لا يوجد في الصحاح ولا السنن ولا المسانيد , بل ورد ما في معناه في بعض الكتب التي تعنى بجمع الروايات الشاذة والواهية , وكذا الموضوع في الترغيب والترهيب، فقد روى ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، والخرائطي في مكارم الأخلاق عن أنس: (من أعان مسلمًا كان الله في عون أخيه , ومن فك عن أخيه حلقة، فك الله عنه حلقة يوم القيامة) , والمراد بالحلقة: الرق. وحسين بن علي يسترق الأحرار والحرائر , ويأذن ببيعهم وبيعهن في حرم الله تعالى , وقد غضب على بعض التكرور؛ لرغبتهم في التطوع للحرب مع الدولة حين أمرته هو بالدعوة إلى ذلك عند إعلان الحرب الأخيرة. فجازاهم على ذلك من حيث يظنون أنهم أطاعوه؛ بأن أمر بخطف أولادهم وبيعهم , فنفذ أمره أحد الشرفاء الأشقياء مثله , ولو شئنا لذكرنا اسمه وكنيته. ((يتبع بمقال تالٍ))

التبرع بنسخ من المنار ومن شهد له من الكبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التبرع بنُسخٍ من المنار ومن شهد له من الكبار سنَّ بعض الأدباء سُنَّة حسنة في نشر العلم والأدب والسياسة , هي إهداء ما يعتقد نفعه من المجلات والجرائد لبعض أصدقائه , أو بعض طلاب العلم من أولادهم أو لمن يحب لهم ذلك ولو من غيرهم , وطالما رأينا في الجرائد العربية السورية التي تصدر في أقطار أمريكا أسماء كثيرة من هؤلاء المتبرعين. وإننا نعلم أن كثيرًا من الناس يعتقدون أن المنار أنفع الصحف وأهداها، وكان شيخنا الأستاذ الإمام في مقدمة هؤلاء , ويرى القرَّاء كلمة له فيه ننشرها في ديباجة الغلاف من كل جزء , وكان يرى هذا من كبار الرجال الذين توفاهم تعالى إلى رحمته كثيرون نذكر بعض المصريين منهم: فمن الوزراء: شيخهم الأكبر مصطفى رياض باشا , وهو أول من تبرع بالاشتراك بخمس عشرة نسخة , كنا نوزعها على بعض طلبة الأزهر، فرحمه الله وأجزل ثوابه. ومنهم الوزير الكبير إبراهيم فؤاد باشا المناسترلي الذي كان وزير الحقانية , صرح لي ولغيري أن المنار ضروري للنهضة الإسلامية التي تجمع بين هداية الدين والرقي المدني، وتؤلف بينهما , وقد فكر كثيرًا في تعميم نشره، واستشار يومئذ في ذلك أحمد فتحي زغلول باشا - وكان يومئذ رئيس محكمة مصرالأهلية ولقبه بك - قالا: إن الإعانة الشخصية لا تستمر، وصاحب المنار الأبي لا يقبلها , كانا يعلمان مني ذلك , وكان رياض باشا أول من عرضها علي واعتذرت عن قبولها , ثم قال الوزير لفتحي: فكر لي في طريقة لإعانة ثابتة يقبلها صاحب المنار، بشرط أن يجعل بدل اشتراكه قليلاً , بحيث يسهل على طلاب الأزهر وتلاميذ المدارس وغيرهم من الفقراء الاشتراك فيه , فإن هذا أنفع من الاشتراك في مئات أو ألوف من النسخ ربما تعطى لمن لعله لا يقرؤها. أخبرني فتحي - رحمه الله - بهذا , ومما أعترف به من ضرر الزهد الذي طبعت نفسي عليه قراءة إحياء العلوم وغيره من كتب التصوف , أن كان من تأثيره أنني لم أراجع أحدًا من الرجلين في هذه المسألة على ما فيها من نشر تعاليم الإصلاح الذي أريده؛ ومات إبراهيم فؤاد باشا قبل أن يضع له الخطة أحمد فتحي باشا - رحمهما الله تعالى - ولم أندم على هذا التفريط إلا بعد موت الوزير بسنين، أثابه الله على حسن نيته. ومنهم محمود سامي باشا البارودي الأديب الشاعر الأكبر والذي كان رئيس الوزارة في عهد الثورة العرابية؛ وقد بلغ من ولوعه به أن كان يرسل إلى المطبعة من يطلب له ما طبع منه , فيقرأ كراسة بعد أخرى، وكان يترجم بعض الموضوعات لصديق له من الإنكليز , وقد نقل لي عن هذا الإنكليزي أنه قال: إن المسلمين غير مستعدين لهذه التعاليم والمبادئ الآن , ولكنهم سيعيدون طبع المنار بعد خمسين سنة , ويعملون به. وقد قال مثل هذه الكلمة من الأحياء: سليمان أفندي البستاني العالم السوري والوزير العثماني المشهور , فكان من توارد الخواطر. ومن حملة الأقلام ورجال الصحافة الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد قال لي: إن المنار شيء غير اعتيادي، ولا نعرف أحدًا غيرك يقدر على القيام به , وأن المسلمين في أشد الحاجة إليه، ومن الضروري أن يوجد في كل بيت من بيوتهم , ولكن كثرة تنويهه بالشيخ محمد عبده بالإطراء والتفضيل يوجد له أعداء كثيرين أصحاب نفوذ وتأثير يصدون الناس عنه , والشيخ جدير بما يقول المنار ولكنه في غنًى عنه إلخ , وقد أجبته بأن تنويه المنار بالشيخ يراد به ترشيحه لزعامة الإصلاح في العالم الإسلامي، ولا نعرف أحدًا جديرًا بهذه الزعامة سواه , وهي عندي أهم من كثرة المشتركين في المنار فقال: لا أنكر أن هذا غرض صحيح , ولا أن الشيخ أهل له. فعلمت بإقراره هذا أنه لم يكن في قوله يقصد التفريق بيني وبين الأستاذ الإمام؛ لأجل الخديوي الذي تقرب إليه كثيرون بالسعي لهذا التفريق. ومنهم بطرس باشا غالي الوزير المشهور. وممن وافق الشيخ عليًّا من حملة الأقلام من الأحياء في قوله: يجب أن يكون المنار في بيت كل مسلم - داود بك بركات رئيس تحرير الأهرام فقد قال لي مرة: لو كان المسلمون يعرفون مصلحتهم - أو ما هذا معناه - لدخل المنار كل بيت من بيوتهم. وكان هذا من توارد الخواطر ولا أذكر أي الرجلين سبق إلى هذه الكلمة , وأنا لم أذكر له كلمة الشيخ على يوسف , ولم أكتبها إلا في ترجمته بعد وفاته. ومن كبار العلماء إمام اللغة في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي كما يعلم من تقريظه له الذي نشر في المجلد الثاني منه (ص 349 م 2) ولقب صاحبه بمفتي الآفاق , على رغم أنف كل ذي حسد ونفاق , كتب ذلك بخطه على نسخة رحلته (الحماسة السنية ... ) حين أهداها إليّ. ومن رجال القانون وعلماء الاجتماع عمر بك لطفي الواضع الأول لمشروع النقابات في مصر , كلمني في هذا الموضوع مرارًا , ومما انفرد به لومه إياي على العزلة أو قلة المخالطة التي تقرب منها , وقال: إن المنار لا يكفي لتعميم هذه الأفكار , فيجب أن تتعرف إلى جميع الطبقات المتعلمة , ولذلك وسيلتان: الخطابة والمحافل الماسونية. ولكنني لم أعمل بنصيحته إلا في إلقاء بعض الخطب في بعض الجمعيات الأدبية الدينية. وأما الأحياء فحسبي أن يكون رجل العصر بمصر صاحب الرياستين: ريايسة الأمة ورياسة الحكومة سعد باشا زغلول وفقه الله تعالى وأيده موافقًا لخطة المنار في الإصلاح الديني , وقد سمعت منه مرارًا أن ارتقاء المسلمين المدني متوقف على هذا الإصلاح , كما أن أوربة لم يمكنها النهوض من الانحطاط الذي كانت مرتكسة فيه إلا بعد إصلاح ديني , وهذا الرأي كان أول من بثه في مصر وغيرها السيد جمال الدين الأفغاني، وقد عرضت على سمعه في الربيع الماضي خبر تأليف جمعية للإصلاح الديني والمدني في الحجاز , وجعله قطر سلم وحياد , فكان مما قاله: ولم لا تجعلون هذا الإصلاح في مصر؟ أليست هي محتاجة للإصلاح الديني أيضًا؟ وقد كان هو أول من أمر باشتراك وزارة المعارف بنسخ من المنار لمدارسها في عهد توليه لوزارتها , وكانت الوزارة قبله تشترك في جميع المجلات المشهورة بمصر من دونها؛ لكراهة الإنكليز كل إصلاح للمسلمين , ولذلك منعوا المنار من السودان من قبل الحرب بسنين بدسائس المبشرين. وإنا لنرجو من دولته نظرة أخرى إلى المنار عند سنوح الفرصة , ولم نعرض عليه طلبنا مكتوبًا ولا شفويًّا به , كما أننا لم نعرض مثل ذلك في عهد وزارته للمعارف. ذكرنا بتاريخ المنار وآراء الكبار في تعميم نشره ما كتبه إلينا وكيله في بيروت من تبرع تاجر من خيار وأكارم وجهائها أنيس أفندي الشيخ بخمس نسخ توزع من قبله على بعض الخطباء والواعظين فيها، فجزاه الله تعالى خيرًا , وجعله قدوة صالحة وذكرى نافعة لمحبي العلم والإصلاح.

الشيخ سالم أبو حاجب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ سالم أبو حاجب سبحان الحي الذي لا يموت، إننا قبل أن نفرغ من ترجمة عالم العراق وإمام الشرق في تلك الآفاق السيد محمود شكري الألوسي، إلا ونعى بريد المغرب الإسلامي علامة الديار التونسية , وإمام البلاد المغربية شيخ الشيوخ مفتي المالكية , العلامة المستقل الأديب العاقل الشيخ سالم أبو حاجب - تغمده الله برحمته - وقد كان بين عالم الشرق والغرب تشابهًا عظيمًا , وكان من حسن حظنا أن وجدنا صديقًا لنا من تلاميذ كلاًّ منهما , يكتب لنا ترجمتهما , وقد شاء الله تعالى أن يتأخر صدور هذا الجزء من المنار حتى ننشر فيه ترجمة علامة جامع الزيتونة الأكبر بقلم الأستاذ الفاضل الشيخ محمد الخضر نزيل القاهرة، وقد ألقاها في حفلة جامعة في الجامع الأزهر وهذا نصها: *** تأبين رئيس العلماء في الديار التونسية أقام طلاب العلم من جاليات شمال أفريقيا حفلة بالجامع الأزهر مساء يوم الإثنين الحادي عشر من الشهر الجاري حفلة؛ لتأبين المأسوف عليه الأستاذ الكبير الشيخ سالم أبي حاجب مفتي الديار التونسية. افتتحت الحفلة بقراءة آيات من الذكر الحكيم , ثم قام محرر هذا المقال وألقى خطبة في نشأة الفقيد ومواهبه السامية , وعلمه الغزير وهذه خلاصتها: نعت إلينا (هافس) والصحف التونسية فضيلة أستاذنا الشيخ سالم أبى حاجب واسطة عقد العلماء ورئيس المحكمة الشرعية المالكية بالديار التونسية , فكان نعيه لدى العارفين بمقامه الأسنى كقبس من نار تذوب له القلوب لوعة , وتتساقط له العبرات أسفًا. كان الفقيد - رحمه الله - آية من آيات العبقرية , وأحد العلماء الذين لا تجود بهم يد الأيام إلا في أوقات معدودة , فلا جرم أن أنثر على بساط هذا الاحتفال الجامع شذرًا من آثار حياته الزاهرة؛ خدمة للعلم والأدب والتاريخ , وإن في سيرة العظماء من الرجال لعبرة لأولي الألباب. ولد الفقيد حوالي سنة 1244 بقرية من قرى الساحل تسمى (بنبله) , ثم ارتحل منها عندما بلغ سن التعليم إلى حاضرة تونس؛ لتلقي العلم بجامع الزيتونة الأعظم , ولم يلبث أن سطع بين جدران ذلك المعهد شعاع ألمعيته ونبوغه، وصلاحيته في أندية العلم والأدب , ولا سيما إذ كانت له في صناعة القريض براعة فائقة , وفي نقده الشعر ذوق لا يقل عن ذوق العربي الصميم. ترقى الفقيد في مدارج العلم حتى تقلد وظيفة التدريس بالمعهد الزيتوني , درس من علوم الشريعة والعربية كتبًا عالية مثل: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب، وشرح القسطلاني على صحيح الإمام البخاري، والشرح المطول للسعد التفتازاني , وكان يجلس لدرس هذه الكتب وغيرها على منصة التحقيق، ويخوض عبابها بنظر مستقل , وينطق فيها بلهجة مجتهد نحرير , فلا ينتهي من تقرير موضوع إلا بعد أن يعقد لما يجري فيه من الخلاف محاكمة يدخل إلى القول الفصل فيها من باب الحرية والإنصاف. ولما وضع في فطرته من حب البحث والغوص في أغوار المسائل , كان يتلقى أسئلة التلاميذ في الدرس بصدر رحب , وكثيرًا ما يغمر الباحث النجيب بعبارات الثناء؛ تشجيعًا له على البحث , وأخذًا بيده إلى أن يسير مع أصحاب الآراء المؤلفين على مقتضى حكمة من يقول: (هم رجال ونحن رجال) . ولعلمه الراسخ وعبقريته البارزة كان بعض أقرانه مثل الأستاذ الشيخ مصطفى رضوان يقرر في درسه عازيًا شيئًا من الأفهام التي انفرد بتحقيقها , وكثيرًا ما يورد الفقيد في مجالسه أو دروسه في صدد الاستشهاد على بعض المعاني اللغوية عبارة القاموس بنصها , حتى ظن كثير من أهل العلم أنه يحفظه على ظهر قلب , وأغلب مسائل الشرح المطول، والمغني لابن هشام، وشرح السيد علي مفتاح، وشرح الدماميني على التسهيل تجري على طرف لسانه مهما تدعو الحاجة إلى الاستشهاد بشيء منها. ولم يكن الأستاذ ممن يسارع إلى الاعتقاد بصدق من يخرج في زي المجذوبين , أو يدعي أنه من أرباب الولاية والكرامة , وظهر منه هذا الخلق في مجلس بعض رجال الدولة، فقال له: اعتقد ولا تنتقد. فقال الأستاذ: ليس الاعتقاد مما تعتنقه النفس بمجرد الاختيار , وإنما هو من قبيل العلم الذي لا يرتسم فيها إلا بمؤثر من حجة وبرهان , وكان يحارب الخرافات والآراء السخيفة والأقوال المسندة إلى الشريعة بمجرد الدعوى أو بأحاديث غير ثابتة , وكان يبدي رأيه بكل صراحة، وإن صادم المعروف بين شيوخ عصره؛ كإنكاره لوجود جبل قاف، ومشاهدة الجن بعين الباصرة , ويرى أن ما يزعم من ذلك إنما هو من قبيل تأثير الخيال. أحرز الفقيد بين رجال الدولة مكانة إكبار وإجلال , وانتظم له هذا الإقبال؛ إذ كان من أولي النظر الواسع في شؤون الاجتماع , وما تقتضيه المدنية الراقية وكذلك كانت دروسه في علوم الشريعة مملوءة بالبحث عن أسرارها من حيث المطابقة لما تستدعيه مصالح الشعوب , ومن هذا الوجه كان للأستاذ حياتان: علمية، وسياسية، فاتخذه الوزير خير الدين باشا من مساعديه في تنظيم التعليم وإصلاح الإدارة قبل الاحتلال , وتقلد وظيفة العمل بإدارة المال مضافة إلى وظيفة التدريس بجامع الزيتونة. سافر الأستاذ إلى إيطاليا مبعوثًا من طرف الحكومة التونسية قبل الاحتلال؛ لينوب عنها في قضية أقامتها على ورثة أحد قابضي أموالها المدعو (نسيم) , وأقام هنالك زمنًا واسعًا التقى في خلاله بكثير من علمائها , ودارت بينه وبينهم محاورات علمية , وكانوا يلقون عليه أسئلة فيما يشكل عليهم من بعض الأحكام الإسلامية , فيذهب في الجواب عنها إلى طريق النظر الفسلفي حتى تقع أجوبته لديهم موقع القبول والتسليم , وكان الأستاذ يقول: إن هذه الرحلة مجموعة عنده في كتاب , وقص علينا أنه دخل إلى بعض المكاتب الحاوية لكتب عربية , فتناول كتابًا منها , فكان أول جملة وقع عليها بصره: (كان العرب إذا خطبهم لاعب الشطرنج منعوه , وقالوا: إنه ضرة ثانية) وفي هذه الرحلة بعث الأستاذ بصورة فتوغرافية إلى الوزير محمد البكوش وكتب عليها من نظمه. لما شكت شحط النوى روحي التي ... أبقيتها عند الأحبة بالوطن أرسلت تمثالي لها بوًّا عسى ... تسلو فلا تبغي التحاقًا بالبدن وسافر الفقيد رفيقًا للوزير خير الدين باشا إلى الآستانة وامتدح السلطان العثماني بقصيدة , فأمر بمكافأته عليها بوسام فأبى وقال للمرسل من جانب السلطان: إن حمل الوسام مما لا يرغب فيه أهل العلم ببلدنا , بل يرونه بحكم العادة مزريًا بمقامهم. وكان يلقي في شهر رمضان من كل سنة درسًا من صحيح البخاري (بجامع سبحان الله) ودرسًا من كتاب الموطأ في المدرسة المنتصرية , ويشهدهما صاحب المملكة التونسية سمو الباي وكبير الوزراء في مجمع حافل من أعيان العلماء , وتجري فيهما مباحثات من أقران الأستاذ أو نجباء تلاميذه , وقد يورد بعض الأبحاث الأمير نفسه متى كان من رجال العلم , مثل المغفور له الناصر باي , وهذه الدروس التي كان يلقيها الفقيد بعناية لا تزال محفوظة؛ إذ كان يحررها كتابة قبل يومها المشهود. واشتهر بالفلسفة في العلوم الإسلامية , فكان مورد المستشرقين ومن تشتد عنايتهم للاطلاع على حقائق الإسلام من فرنسيين وغيرهم , فيجاذبهم أطراف المحاورة بنفس مطمئنة وأدب جميل. وكان يقوم بالخطابة والإمامة بالجامع المعروف بجامع سبحان الله , ويلقي خطبًا يراعي في إنشائها ما تستدعيه حال الزمان والمكان , ومما ابتكره في الخطابة أنه كان يعتمد إلى ما يرد في الخطبة من حديث أو آية يسبق إلى ظنه أنه بعيد المأخذ من أفهام السامعين , فيشرحه بعبارات يصوغها على طريقة بيانه في التدريس , وقد ظهر قسم من هذه الخطب مطبوعًا في تونس منذ ثلاث عشرة سنة. وكان يشد أزر القائمين على بعض الأعمال الإصلاحية , وكان النشء الناهض يلتف حوله؛ ولهذا انتخبوه للخطابة في حفلة افتتاح المدرسة الخلدونية التي تعد شعبة من جامع الزيتونة لدراسة العلوم الرياضية والطبيعية والتاريخ , وأذكر أني كنت أنشأت مجلة علمية أدبية تسمى (السعادة) فتحركت بعض النفوس الخاملة لكتم أنفاسها , فقال لي الأستاذ حال انصرافنا من درس صحيح البخاري: لا تعبأ بما يلقيه هؤلاء في سبيل عملك وتأس بالنبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ قال له ورقة بن نوفل: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي. وكان للفقيد عاطفة أدبية تسمو به إلى الاحتفاء بالعلماء الوافدين على الحضارة وبذل المستطاع في مجاملتهم. زار فيلسوف الإسلام الأستاذ الشيخ محمد عبده البلاد التونسية سنة 1321 , ونزل ضيفًًًا مكرمًا في بيت حضرة السيد خليل أبي حاجب نجل الفقيد، وهو اليوم وكيل وزير الداخلية بتونس , فعرف الفقيد فضل الأستاذ الشيخ محمد عبده , وكان يقضي جل أوقاته في مؤانسته ومذاكرته العلمية أو الأدبية أو الإصلاحية. وورد عالم الجريد الشيخ إبراهيم أبو علاق الحاضرة وأتى درس الفقيد بجامع الزيتونة , ولم تنعقد صلة التعارف بينهم بعد , فأخذ يناقش الأستاذ في المبحث الذي كان بصدد تقريره , ولما طال أمد المناقشة ووقع في ظن الفقيد أن ليس الغرض منها طلب الحقيقة , بدرت منه كلمة كبرت على مسمع الشيخ أبي علاق فانصرف عن الدرس وقال: تقاصرت مذ أبدى التطاول سالم ... وسالمت والقاصي المكان يسالم ولما وصل نبأ هذا البيت إلى مجلس الفقيد نهض في الحال للقاء الشيخ أبي علاق فاسترضاه , وخطب مودته ودامت بينهما الصداقة المحكمة. وتحلّى الفقيد بآداب راقية مثل: التواضع والحلم والصراحة فازداد شرفًا على شرف العبقرية , وانجذبت له القلوب بعاطفة المحبة بعد امتلائها بمهابته وإجلاله حتى إذا حضر مجتمعًا خاصًّا أو عامًّا أمسك بعنان المجلس , وأخذ ينشر على أسماع الحاضرين من غرائب المسائل ولطائف الأدب ما يخيل إليهم أنهم في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية , وكنا نرى أهل العلم والأدب يقصدون في الاحتفالات الجامعة إلى أن تكون مجالسهم بمقربة من مجلس الفقيد , حرصًا على اقتباس أدب مؤنس، أو اقتناص علم غريب. وانفرد بين علماء جامع الزيتونة بأنه كان يتزيى في لباسه بزي علماء الشرق؛ أي: يلبس القفطان والجبة المفتوحة من أمام , ويضع عليهم البرنس , ولم يكن يلتزم تقاليد أهل العلم وذوي المناصب الشرعية في بلاده , حتى إنه كان يلبس الجزمة أيام لبس أهل العلم لها شيئًا نكرًا , ويتجول في بعض المتنزهات العامة راجلاً، وغيره من ذوي المناصب العالية لا يغشونها إلا مرورًا في عرباتهم. وكانت له عند افتتاح الكلام عقدة خفيفة لذيذة على السمع , حتى إذا انطلق لسانه في التقرير، سمعت العربية الفصحى ولهجة تتسوغها الأسماع بارتياح وإعجاب. ومن المعروف عن الأستاذ أنه كان يطمح إلى طول الحياة , ويمثل حركة الساعة الميقاتية بحسيس الأرضة في أكلها من عمر الإنسان , وينقل عنه في تعليل عدم حمله للساعة , أنه يكره أن يسمع أو يرى آلة تذكره كيف تنقضي حياته العزيزة شيئًا فشيئًا. هذا ما أجده في الذاكرة من مآثر حياة الأستاذ الذي فارقته - وبودي لا أفارقه - برحلتي إلى بلاد الشرق سنة 1331 - وقد ناهز التسعين من عمره اهـ. *** علاوة حكى الأستاذ أن أحد الباشاوات من قواد الجند بالآستانة دعاه إلى منزله في طائفة من أهل العلم , ومما دار بينهم في المذاكرة أن صاحب المنزل سأله عن حكم تعلم الجغرافية فقال له: إن تعلمها من فروض الكفاية. قال الأستاذ: فالتفت ذلك الباشا إلى أحد الفقهاء بالمجلس وقال له: لماذا كنت تقول لي أن تعلمها حرام؟ فأقبل ذلك الفقيه على الأستاذ وقال له:

إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها ـ 2

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه الأصل الثاني الاحتجاج بالقدر على المعاصي على المأمور [1] وفعل المحظور، فإن القدر يجب الإيمان به، ولا يجوز الاحتجاج به على مخالفة أمر الله ونهيه ووعده ووعيده. والناس الذين ضلوا في القدر ثلاثة أصناف: (قوم) آمنوا بالأمر والنهي والوعد والوعيد، وكذبوا بالقدر وزعموا أن من الحوادث ما لا يخلقه الله، كالمعتزلة ونحوهم. (وقوم) آمنوا بالقضاء والقدر , ووافقوا أهل السنة والجماعة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه، لكن عارضوا بهذا الأمر والنهي، وسموا هذا حقيقة، وجعلوا ذلك معارضًا للشريعة، وفيهم من يقول: إن مشاهدة القدر تنفي الملام والعقاب، وأن العارف يستوي عنده هذا وهذا. وهم في ذلك متناقضون مخالفون للشرع والعقل والذوق والوجد , فإنهم لا يسوون بين من أحسن إليهم وبين من ظلمهم، ولا يسوون بين العالم والجاهل والقادر والعاجز، ولا بين الطيب والخبيث ولا بين العادل والظالم، بل يفرقون بينهما [2] ، ويفرقون أيضًا بموجب أهوائهم وأغراضهم لا بموجب الأمر والنهي، فلا يقفون لا مع القدر ولا مع الأمر , بل كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري. أي مذهب وافق مذهبك [3] تمذهبت به فلا يوجد أحد بالفلك (؟) في ترك الواجب وفعل المحرم إلا وهو متناقض لا يجعله حجة في مخالفة هواه , بل يعادي من آذاه وإن كان محقًّا , ويحب من وافقه على غرضه وإن كان عدوًّا لله، فيكون حبه وبغضه وموالاته ومعاداته بحسب هواه وغرضه وذوق نفسه ووجده، لا بحسب أمر الله ونهيه ومحبته وبغضه وولايته وعداوته؛ إذ لا يمكنه أن يجعل القدر حجة لكل أحد، فإن ذلك مستلزم للفساد الذي لا صلاح معه , وللشر الذي لا خير فيه؛ إذ لو جاز أن يحتج كل أحد بالقدر لما عوقب معتدٍ، ولا اقتص من باغٍ , ولا أخذ لمظلوم من ظالم، ولفعل كل أحد ما يشتهيه من غير معارض يعارضه فيه. وهذا فيه من الفساد، ما لا يعلمه إلا رب العباد , فمن المعلوم بالضرورة أن الأفعال تنقسم إلى ما ينفع العباد وما يضرهم , والله قد بعث رسوله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤمنين بالمعروف وينهاهم عن المنكر , ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فمن لم يتبع شرع الله ودينه؛ اتبع ضده من البدع والأهواء، وكان احتجاجه بالقدر من الجدل بالباطل؛ ليدحض به الحق، لا من باب الاعتماد عليه [4] ، لزمه أن يجعل كل من جرت عليه المقادير، من أهل المعاذير. (وإن قال) : أنا أعذر بالقدر من شهده , وعلم أن الله خالق فعله ومحركه لا من غاب عن المشهود , أو كان من أهل الجحود. (قيل) : فيقال لك: وشهود هذا وجحود هذا من القدر , فالقدر متناول لشهود هذا وجحود هذا , فإن كان موجبًا للفرق مع شمول القدر لهما، وهذا رجوع إلى الفرق، واعتصام بالأمر والنهي، وحينئذ فقد نقضت أصلك وتناقضت فيه , وهذا لازم لكل من معك فيه , ثم مع فساد هذا الأصل وتناقضه؛ فهو قول باطل وبدعة مضلة. فمن جعل الإيمان بالقدر وشهوده عذرًا في ترك الواجبات وفعل المحظورات [5] بل الإيمان بالقدر حسنة من الحسنات، وهذه لا تنهض بدفع جميع السيئات، فلو أشرك مشرك بالله , وكذب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ناظرًا إلى أن ذلك مقدر عليه، لم يكن ذلك غافرًا لتكذيبه، ولا مانعًا من تعذيبه، فإن الله لا يغفر أن يشرك به سواء كان المشرك مقرًّا بالقدر وناظرًا إليه، أو مكذبًا به أو غافلاً عنه، بل قد قال إبليس: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39) فأصر واحتج بالقدر، فكان ذلك زيادة في كفره، وسببًا لمزيد عذابه , وأما آدم - عليه السلام - فإنه قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37) , فمن استغفر وتاب كان آدميًّا سعيدًا , ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسًا شقيًّا , وقد قال تعالى لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص: 85) . وهذا الموضع ضل فيه كثير من الخائضين في الحقائق، فإنهم يسلكون أنواعًا من الحقائق التي يجدونها ويذوقونها، ويحتجون بالقدر فيما خالفوا فيه الأمر، فيضاهون المشركين الذين كانوا يبتدعون دينًا لم يشرعه الله , ويحتجون بالقدر على مخالفة أمر الله. (والصنف الثالث) : من الضالين في القدر، من خاصم الرب في جمعه بين القضاء والقدر والأمر والنهي، كما يذكر ذلك على لسان إبليس، وهؤلاء خصماء الله وأعداؤه , وأما أهل الإيمان فيؤمنون بالقضاء والقدر والأمر والنهي، ويفعلون المأمور , ويتركون المحظور , ويصبرون على المقدور , كما قال تعالى: {مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) فالتقوى تتناول فعل المأمور , وترك المحظور , والصبر يتضمن الصبر على المقدور , وهؤلاء إذا أصابتهم مصيبة في الأرض أو في أنفسهم , علموا أن ذلك في كتاب , وأن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم , وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم , فسلموا الأمر لله، وصبروا على ما ابتلاهم به , وأما إذا جاء أمر الله فإنهم يسارعون في الخيرات، ويسابقون إلى الطاعات، ويدعون ربهم رغبًا ورهبًا، ويجتنبون محارمه، ويحفظون حدوده، ويستغفرون الله، ويتوبون إليه من تقصيرهم فيما أمر وتعديهم لحدوده؛ علمًا منهم بأن التوبة فرض على العبد دائمًا , واقتداءً بنبيهم حيث يقول في الحديث الصحيح: (أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فوالذي نفسي بيده إني لأستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة) وآخر سورة نزلت عليه {إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} (النصر: 1 - 3) . وإذا عرف هذان الأصلان فعليهما يبنى جواب ما في هذا السؤال من الكلمات، ويعرف ما دخل في هذه الأمور من الضلالات. بدء الجواب عن كلمات أهل الوحدة: فقول القائل: (إن الله لطف ذاته فسماها حقًّا، وكثفها فسماها خلقًا) هو من أقوال أهل الوحدة والحلول والاتحاد؛ وهو باطل، فإن اللطيف إن كان هو الكثيف فالحق هو الخلق ولا تلطيف ولا تكثيف , وإن كان اللطيف غير الكثيف، فقد ثبت الفرق بين الحق والخلق، وهذا هو الحق , وحينئذ فالحق لا يكون خلقًا، فلا يتصور أن ذات الحق يكون خلقًا بوجه من الوجود , كما أن ذات المخلوق لا تكون ذات الخالق بوجه من الوجوه. وكذلك قول الآخر: ظهر فيها حقيقة , واحتجب عنها مجازًا , فإنه إن كان الظاهر غير المظاهر، فقد ثبت الفرق بين الرب والعبد، وإن لم يكن أحدهما غير الآخر، فلا يتصور ظهور واحتجاب. ثم قوله: (فمن كان من أهل الحق شهدها مظاهر ومجالي، ومن كان من أهل الفرق شهدها ستورًا وحجبًا) كلام ينقض بعضه بعضًا , فإنه إن كان الوجود واحدًا لم يكن أحد الشاهدين عين الآخر , ولم يكن الشاهد عين المشهود , ولهذا قال بعض شيوخ هؤلاء: من قال: إن في الكون سوى الله. فقد كذب. فقال له آخر: فمن الذي يكذب؟ فأفحمه؛ وهذا لأنه إذا لم يكن موجود سوى الواجب بنفسه كان (هو) الذي يكذب ويظلم ويأكل ويشرب , وهكذا يصرح به أئمة هؤلاء كما يقول صاحب الفصوص وغيره: إنه موصوف بجميع صفات الذم، وأنه هو الذي يمرض ويضرب , وتصيبه الآفات ويوصف بالمصائب والنقائص، كما إنه هو الذي يوصف بنعوت المدح والذم. قال: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له جميع الصفات الثبوتية والسلبية , سواء كانت محمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا أو مذمومة عقلاً وعرفًا وشرعًا , وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة. وقال: ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات , وقد أخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص وبصفات الذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق، فكلها حق له كما أن صفات المخلوق حق للخالق. وقول القائل: لقد حق لي عشق الوجود وأهله ... يقتضي أن يعشق إبليس وفرعون وهامان وكل كافر، ويعشق الكلاب والخنازير والبول والعذرة وكل خبيث، مع أنه باطل شرعًا وعقلاً , فهو كاذب في ذلك متناقض فيه، فإنه لو آذاه مؤذٍ وآلمه ألمًا شديدًا لا يغضب - محرم شرعًا. وما ذكر عن بعضهم من قوله: (عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى) هو من كلام ابن سبعين، وهو من أكابر أهل الإلحاد، أهل الشرك والسحر والاتحاد، وكان من أفاضلهم وأذكيائهم وأخبرهم بالفلسفة وتصوف المتفلسفة. وقول ابن عربي: ظاهره خلقه، وباطنه حقه. هو قول أهل الحلول، وهو متناقض في ذلك , فإنه يقول بالوحدة، فلا يكون هناك موجودان أحدهما باطن والآخر ظاهر , والتفريق بين الوجود والعين - تفريق لا حقيقة له , بل هو من أقوال أهل الكذب والمين. وقول ابن سبعين: (ربٌّ هالك، وعبد مالك، وأنتم ذلك، الله فقط والكثرة وهم) موافق لأصله الفاسد في أن وجود المخلوق وجود الخالق، ولهذا قال: وأنتم ذلك، وكذلك قال: الله فقط والكثرة وهم. فإنه على قوله لا موجود إلا الله؛ ولهذا كان يقول هو وأصحابه في ذكرهم: ليس إلا الله. بدل قول المسلمين: لا إله إلا الله، وكان يسميهم الشيخ قطب الدين بن القسطلاني الليسية، ويقول: احذروا هؤلاء الليسية. ولهذا قال: الكثرة وهم. وهذا تناقض، فإن قوله: وهم. يقتضي متوهمًا , فإن كان المتوهم هو الوهم , فيكون الله هو الوهم , وإن كان المتوهم هو غير الوهم فقد تعدد الوجود , وكذلك: إن كان المتوهم هو الله , فقد وصف الله بالوهم الباطل، وهذا مع أنه كفر فإنه يناقض قوله: الوجود واحد. وإن كان المتوهم غيره فقد أثبت غير الله وهذا يناقض أصله , ثم متى أثبت غيرًا لزمت الكثرة، فلا تكون الكثرة وهمًا بل تكون حقًّا. والبيتان المذكوران عن ابن عربي مع تناقضهما مبنيان على هذا الأصل فإن قوله: يا صورة إنس سرها معنائي ... خطاب على لسان الحق يقول لصورة الإنسان: (يا صورة إنس سرها معنائي) ؛ أي هي الصورة وأنا معناها. وهذا يقتضي أن المعنى غير الصورة , وهو يقتضي التعدد والتفريق بين المعنى والصورة , فإن كان وجود المعنى هو وجود الصورة - كما يصرح به - فلا تعدد , وإن كان وجود هذا غير وجود هذا تناقض. وقوله: ما خلقك للأمر ترى لولائي ... كلام مجمل يمكن أن يراد به معنى صحيح؛ أي: لولا الخالق لما وجد المكلفون، ولا خلق لأمر الله , لكن قد عرف أنه لا يقول بهذا. فإن مراده الوحدة والحلول والاتحاد؛ ولهذا قال: شئناك فأنشأناك خلقًا بشرًا ... كي تشهدنا في أكمل الأشياء فبين أن العبيد يشهدونه في أكمل الأشياء وهي الصورة الإنسانية , وهذا يشير إلى الحلول وهو حلول الحق في الخلق , لكنه متناقض في كلامه , فإنه لا يرضى بالحلول ولا يثبت موجودين حل أحدهما في الآخر، بل عنده وجود الحال هو عين وجود المحل , لكنه يقول بالحلول بين الثبوت والوجود , فوجود الحق حل في ثبوت الممكنات، وثبوتها حل في وجوده. وهذا الكلام لا حقيقة له في نفس الأمر، فإنه لا فرق بين هذا وهذا , لكنه هو مذهب المتناقض في نفسه. وأما الرجل الذي طلب من والده الحج , فأمره أن يطوف بنفس الأب , فقال: طف ببيت ما فارقه الله طرفة عين قط. فهذا كفر بإجماع ال

مؤتمر الخلافة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مؤتمر الخلافة [*] ] وأتمروا بينكم بمعروف [[**] الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ * وَلَيُبِدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (النور: 55) . والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم , وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان. كان للمسلمين ملك عظيم امتد يمينًا وشمالاً , فبسط جناحيه على المشرق والمغرب , فأظلتا أعظم ممالك العمران ما بين الطرف الغربي من أوربة وحدود الصين في الشرق الأقصى , وما بين المحيط الجنوبي إلى أحشاء أوربة في الشمال , وكان لهم في هذا الملك العظيم من الدول العزيزة والسلطان الكبير , ما فصلت أخباره في الأسفار الكثيرة من خزائن التاريخ. كانوا كلما سقطت دولة من دولهم بخروج أمرائهم وسلاطينهم عن هداية الشرع بالعدل , وسنن الله المطردة في العمران , خلفتها دولة أخرى أعز منها شأنًا وأقوى سلطانًا. كانوا أمة واحدة تدبر أمورها دولة واحدة , ثم تعددت فيها الدول وهي أمة واحدة؛ لأنها كانت لا تزال تحيا بروح الإسلام الذي ساوى بين الشعوب والأقوام , وجعل التفاضل بين الناس بالعلم والعمل دون القومية والنسب , حتى كان مثل البخاري وأبى حنيفة من سلائل الفرس معدودين من أكبر أئمة السنة والفقه , ومثل نور الدين الشهيد وصلاح الدين الأيوبي من سلائل الترك والكرد مفضلين على كثير من خلفاء قريش في الحكم. ومن طرائف شهادة التاريخ على هذا ما ذكره ابن جبير الأندلسي في رحلته واصفًا خطبة الجمعة في الحرم المكي الشريف سنة 579 قال: ثم دعا - الخطيب- للخليفة العباسي أبي العباس أحمد الناصر ثم لأمير مكة مكثر بن عيسى بن فليتة ابن قاسم بن محمد بن جعفر بن أبى هاشم الحسني , ثم لصلاح الدين أبى المظفر يوسف بن أيوب، ولولي عهده أخيه أبى بكر بن أيوب , وعند ذكر صلاح الدين بالدعاء تخفق الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان. وإذا أحب الله يومًا عبده ... ألقى عليه محبة للناس وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم , وحسن النظر لهم , ولما رفعه من وظائف المكوس عنهم , وفي هذا التاريخ علمنا بأن كتابه وصل إلى الأمير مكثر , وأهم فصوله التوصية بالحاج، والتأكيد في مبرتهم , وتأنيسهم، ورفع أيدي الاعتداء عنهم , والإيعاز في ذلك إلى الخدام والأتباع والأوزاع , وقال: إنما نحن وأنت متقلبون في بركة الحاج , فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد الكريم إلى آخر ما قال. والعبرة فيه ظهور تفضيل حجاج الشعوب الإسلامية كلها مع أهل الحرم للسلطان الكردي , على الخليفة القرشي والأمير العلوي , وذكر في غير هذا الموضع من الرحلة أن أمير مكة كان من أشد هؤلاء الأمراء في الإلحاد بالظلم في حرم الله تعالى , وأنه انتزع مفتاح بيت الله من وارثه زعيم الشيبيين محمد بن إسماعيل , وأمر بالقبض عليه وانتهاب منزله , وصرفه عن حجابة البيت الحرام، طهره الله تعالى , قال: والحال يشبه بعضها بعضًا (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) , وإلى الله المشتكى من فساد ظهر حتى في أشرف بقاع الأرض , وهو حسبنا ونعم الوكيل. اهـ. وأعظم مما ذكره ابن جبير - رحمه الله - في الاعتبار أن الظلم والفساد في الحرم تسلسل في هؤلاء الأمراء المكيين , الذين يفضلون أنفسهم بنسبهم على جميع الصالحين والمصلحين , إلى أن بلغ أشده في هذه السنين من المتغلب الذي ادعى حق الملك على جميع العرب , والخلافة على جميع المسلمين وصرحت جريدته بأنه نال هذا بالرغم من أهل السموات والأرض أجمعين , فأخرجه الله تعالى منها مذؤومًا مدحورًا , مأفونًا مثبورًا , منبوذًا مهجورًا {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 66) ما فعل الله تعالى بذلك الملك العظيم؟ وماذا بقي منه لأكثر من ثلاثمائة مليون من المسلمين؟ وكيف وجد من ضعف , ثم كان من بعد ضعف قوة , ثم ذهبت تلك الدول والشعوب شذر مذر , وصارت عبرة لمن اعتبر؟ وهل يرجى أن يعود الإسلام كما بدا؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ وكيف فرقوا في الدين فكانوا شيعًا والملة واحدة , وتفرقوا في الأجناس والأقوام، والأوطان والأمة واحدة؟ لقد نزل ما نزل بالمسلمين وهم غافلون , وأتاهم بأس الله بياتًا وهم نائمون , وضحًى وهم يلعبون , فضرب الله على آذانهم في كهف الجهل بضعة قرون , ثم تأذن الله تعالى ببعثهم من رقادهم , وهداهم إلى التفكر في حالهم وحال آبائهم الأولين , وخلفائهم الراشدين , وملوكهم الفاتحين , فاختلفوا في أسباب ما كان من قوة وضعف وعز وذل , بما رسخ في شعوبهم من الجهل , وما طرأ عليها من البدع، وما سرى إليها من نعرة الجنسية , وعصبية الجاهلية , وما تغلغل فيها من الدسائس الأجنبية , والتعاليم المادية الإلحادية , فذهب أهل البصيرة منهم إلى أن ترك هداية الدين الأولى , والابتداع والتفرق فيه هو الذي أضاع ملكهم , وذهب بمدنيتهم؛ لأن هذه الهداية كانت هي السبب لهما , وما حصل بسبب زال بزواله. وزعم آخرون أن الأخذ بالدين هو سبب هذا الضعف , والجهل بشبهة اشتراك جميع شعوب المسلمين فيه , وليس بينهم جامعة مشتركة يعلل بها إلا الدين , وفاتهم أن الجهل بحقيقته والابتداع فيه , والإعراض عن هدايته الأولى علة فاشية في جميع تلك الشعوب أيضًا , فهؤلاء يقولون: لا يمكن أن نسترجع مجدنا , ونجدد ملكنا إلا بنبذ الدين ظهريًّا كما فعل الفرنسيس ومن تبعهم من الإفرنج , واستبدال الرابطة القومية والعصبية الوطنية بالجامعة الإسلامية. وأولئك يقولون: إننا لا ننال ذلك إلا بما ناله سلفنا , وإن الإفرنج لم ينجحوا في دنياهم إلا بعد الإصلاح الديني , لا بعد نبذ هداية الدين ظهريًّا , وأنهم لا يزالون يبذلون الملايين من الجنيهات في تعليمه ونشره. ومن فروع هذا الخلاف قول متفرنجة الترك: إن منصب الخلافة وشكل الحكومة الإسلامية علة العلل؛ لضعفهم وزوال سلطنتهم العظيمة. ورد بعض العارفين عليهم: إن الإسلام هو الذي كان علة تأسيس تلك السلطنة العظيمة , وإن الخروج عن هدايته هو الذي كان علة ضعفها وزوالها , وإن منصب الخلافة لم يكن عندهم إلا لقبًا من ألقاب الفخر والشرف , على أنه كان قوة معنوية لهم , وإن لم يترتب عليه عمل. وبين هذين الفريقين السواد الأعظم من الجامدين على ما ألفوا من حق وباطل وما تقلدوا من سنة وبدعة , ينظرون إلى كل منهما بمنظار واحد , فمنهم من يرمي الفريقين بالكفر والإلحاد , وأقلهم جمودًا من ينبذ طلاب الإصلاح بلقب الابتداع , ولم يبق للمسلمين رياسة عامة محترمة , يرد إليها هذا النزاع؛ لتفصل فيه فصلاً معقولاً , يرجى أن يكون مقبولاً , مهتدية بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا} (النساء: 59-60) , فلا يتكلم باسم الإسلام من ليس منه , ولا يعطى فيه حق الحل والعقد. قد ظهر في المسلمين مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع , حتى لو دخلوا في جحر ضب لتبعتموهم. قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: اتبعوا سننهم في البدع، حتى انتهت ببعضهم إلى المروق من الإسلام نفاقًا ثم جهارًا , ثم إلى محاربته بدعوى إصلاح حكومته أو إصلاح أهله , وقد شرع الترك في تأسيس حكومة غير دينية في بلادهم. إن هذه الفوضى الدينية في العالم الإسلامي قد حيرت الباحثين في طرق الإصلاح الديني والمدني , حتى كتب بعض الباحثين من كتاب المصريين بأنه قد ثبت عنده بعد التروي في السنين الطوال , أن المسلمين لن يرجعوا إلى دينهم ثانية إلا بعد أن يتركوه تركًا تامًّا , ثم هم يعيدون النظر فيه , سالكين منهاجًا غير المناهج المسلوكة منذ قرون في تلقينه ودرسه , وإنه لرأي بمعزل من الصواب , رجحه في نظره فشل دعاة التجديد والإصلاح , وفشو الفسوق والإلحاد , وسبق الملاحدة إلى المناصب الدولية , وفوزهم في أعمال العمران , ونجاحهم في جذب النابتة. وشر من ذلك كله سكوت زعماء الجمود عنهم , ونضالهم لدعاة الإصلاح من دونهم , ونحن على علمنا بهذا نفند رأي هذا الباحث نقضًا ومناقضة ومعارضة، وإننا نبحث في هذه المسألة من زهاء ثلث قرن كتابة وخطابة ومناظرة ومراسلة بيننا وبين المفكرين في مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها , مع السياحة في أهم أقطارها , فكانت ثمرة البحث أن الطريقة المثلى للإصلاح دونها موانع فلم تسلك , والرجاء أن يكون قد زال الآن ما دونها من العواثير والعقاب , وفتح ما كان مغلقًا أمامها من الأبواب. ما هذه الطريقة المثلى؟ قيل لموقظ الشرق وحكيم الإسلام: إن علل ضعف المسلمين كثيرة , فهل لهذه العلل من علة ترجع كلها إليها , فتوجه جهود الإصلاح لإزالتها , فيصلح كل شيء بالتبع لها؛ إذ يكون مكانها كمكان القلب من الجسد , إذا صلح صلح الجسد كله , وإذا فسدت فسد كله , كما ورد في التمثيل النبوي؟ قال: نعم , إن الأمر الذي يجب على المسلمين أن يوجهوا جهودهم إلى إيجاده , هو (السلك) , انقطع السلك الذي كان نظام وحدتهم الدينية والدنيوية , فانتثر الحب ولن ينتظم إلا بالسلك. ونقول نحن في بيان مراد ذلك الحكيم: إنما كان السلك الأول نظام الخلافة المؤيدة في الباطن بوازع الدين , وفي الخارج بتأييد أهل الحل والعقد من المسلمين. قام الخلفاء الراشدون بها حق القيام , ثم صدعت بعصبية القومية الجاهلية , فعصبية التشيع المذهبية , فضعف الوازع الديني المؤيد لها في الباطن رويدًا رويدًا, وانحصر الحل والعقد في عصبية المتغلب شيئًا فشيئًا , فتمزق بذلك شمل المسلمين وصار أمرهم كالكرة بين صوالجة المتغلبين , وصارت الأمة أممًا متعادية , والدولة دولاً متقاتلة , وسبب هذه المصائب كلها عدم وضع نظام للحكم , يكون السلطان فيه لمن تختارهم الأمة للحل والعقد من غير قيد ولا حصر إلا في حدود الشرع. شرع الإسلام مبني على جعل أمر المسلمين شورى بينهم , وكل ما ليس فيه نص قطعي مفوضًا إلى اجتهاد أولي الأمرمنهم , وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم باستشارتهم في الأمر , وقيد الطاعة في مبايعته بقوله: {وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} (الممتحنة: 12) حتى لا يتجرأ أحد من أمراء المسلمين على دعوى الاستغناء عن المشاورة , ولا على دعوى وجوب الطاعة المطلقة , وقد جرى خلفاؤه الراشدون على هديه في ذلك , فقال الخليفة الأول في خطبته الأولى على منبره عقب المبايعة مخاطبًا لجماعة المسلمين: فإذا استقمت فأعينوني , وإذا زغت فقوموني , وتبعه الخليفة الثاني بقوله: من رأى منكم في عوجًا فليقومه. وقال الخليفة الثالث على المنبر

المقالات الجمالية ـ 1

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

_ المقالات الجمالية ننشر تحت هذا العنوان ما جمعناه من مقالات موقظ الشرق وحكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني الحسيني حفظًا لها من الضياع. الشرق والشرقيون نشرها السيد في جريدة (أبو نظارة زرقاء) التي كانت تصدر بباريس أيام وجوده فيها سنة 1300 (1883) , وهي مصدرة بمقدمة حكيمة في العقل والنفس والأخلاق , التي هي يتفاضل بها البشر أفرادًا وجماعات , ويعلو بعض الأمم بعضًا في ارتقاء الحضارة , ويتسابقون في جلبة السعادة السيادة , ويلبها المقصد في شعبتين: إحدهما: بيان ما كان للشرقيين من حظ ارتقاء العقل في العلم والبصيرة , وارتقاء النفس في الأخلاق العالية , ثم ما انتهى إليه حالهم من إهمال النعمتين والتدهور عن القمتين , والشعبة الثانية في الشواهد التاريخية على ذلك بما كان من إضاعتهم لممالكهم , وتخريب بيوتهم بأيديهم , قال رحمه الله: (المقدمة) الإنسان إنسان بعقله وبنفسه , ولولا العقل والنفس لكان الإنسان أخس جميع الحيوانات وأشقاها؛ لأنه في حياته أضيق مسلكًا , وأصعب مجازًا , وأوعر طريقًا منها، قد حفت به المكاره , وأحاطت به المشاق , واكتنفت به الآلام , لا يمكنه أن يقوم بمعاشه وهو منعزل عن أبناء نوعه , لا يطيق الحر ولا يتحمل ألم البرد , ولا يقدر على الذود عن نفسه , وليس له من الآلات الطبيعية ما يثقف به معيشته , وهو محتاج في ضروريات حياته , ومفتقر في الكمال فيها إلى الصناعة , ولا يمكن الحصول عليها إلا بإجالة الفكرة , والتعاون بمن يشاركه في العقل من النوع البشري. والعقل أن تستنبط المسببات من أسبابها , ويستدل بالعلل على معلولاتها , وينتقل من الملزومات إلى لوازمها , وتستكشف الآثار حين ملاحظة مؤثراتها , وتعرف العواقب ضارها ونافعها , وتقدر الأفعال بمقاديرها على حسب ما يمكن أن يطرأ عليها من الفوائد والخسائر في عاجلها وآجلها , ويتميز الحق من الباطل في الأعمال الإنسانية نظرًا إلى عواقبها. العقل (أي: بهذا المعنى) هو الهادي إلى مهيع السعادة , ومنهج الأمن والراحة , لا يضل من استرشده , ولا يغوي من استهداه , ولا يحوم الشقاء حول من ركن إليه , ولا يعثر في المداحض من اعتمد عليه , ولا يلتبس الحق بالباطل على من استنار بنوره , وإن الخير به، وليس الشر إلا بالحيدان عن صراطه القويم، من فقده فاتته السعادة لا محالة , ولو أخرجت له الأرض أفلاذها , وأسبغت عليه الدنيا نعيمها , وإن الأمم ما سادت إلا بهدايته , وما ذلت بعد رفيع مقامها وعظم منزلتها إلا بعد أن عرضت عن خالص نصحه , وتوغلت في بيداء غوايتها , واستعملته في مسالك ضلالتها , واستخدمته لقضاء أوطار طبائعها الخسيسة , التي تجلب عليها الشنار , وتوجب المعرة والصغار. والنفس هي منشأ أخلاق كريمة , وأوصاف عقلية , هي قوام الاجتماعات المدنية والمنزلية , وأساس التعادل , وميزان التكافؤ في الموازنات , ومقياس التوافق في المعاونات , ولا يمكن التآلف بين القوى المتفرقة لاقتناء ما تقوم به حياة الإنسان إلا بها , ولا تلتئم أهوية النفوس المختلفة؛ لاكتساب ضروريات معاشها إلا بسببها , وهي التي تجعل الأفراد الإنسانية مع تضاد طبائعها بمنزلة شخص واحد , يسعى بأعضائه المتخالفة في أشكالها , وجوارحه المتباينة في هيئاتها إلى مقصد واحد , لا يمكن الوصول إليه إلا باستعمالها بحركات , قد اختلفت مع وحدة جهتها أوضاعها , وسيادة الأمم الغابرة والحاضرة , هي من أخص نتائجها، لأنها لا يمكن حصولها إلا باتفاق كلمة آحادها , واجتماع آراء أفرادها , ولا تتفق الكلمة ولا تجتمع الآراء إلا بالتكافؤ في المساعي , والتوازن في تحمل المشاق، والاشتراك في المنافع , والمساواة في الحقوق , والتعادل في التمتع بثمرات الأعمال بلا تفاضل ولا استئثار. وكل هذه في وجودها وبقائها تحتاج إلى الأخلاق الكريمة والأوصاف العقلية التي يعرف الإنسان حقه , ويقف عنده , ولا تشتت أمة , ولا اضمحلت سلطة , ولا تفرقت جمعية إلا بفساد أخلاقها , وتطرق الخلل في سجاياها؛ لأنها بفسادها وتطرق الخلل فيها , توجب تخالف الأيدي , وتباعد الأهواء وتضارب الآراء , وتباين الأفكار , فيستحيل حينئذ الاجتماع ويمتنع الاتفاق. وإذا أمعن البصير في حقيقة الأخلاق الرذيلة يعلم أنها بذاتها تبعث على التفرق والاختلاف , وتمنع من الاجتماع والائتلاف , وما ينشأ عن ذات الشيء لا يمكن زواله ما دامت ذاته باقية , فإذا تمكنت الأخلاق الرذيلة من أمة , فلا يرجى لها نجاح , ولا يحصل لها فلاح , ما لم تسع في تعديلها , وتدأب في تقويمها. ويمكن أن يقال: إن بين كمال العقل وطهارة النفس وتخلقها بالأخلاق الفاضلة تلازمًا؛ لأن العقل إذا بلغ كماله يقهر الطبيعة , فحينئذ تسلم النفس من سوراتها , وتخلص عن عكر قذفاتها , فتنقاد للعقل مستسلمة له خاضعة لحكمه , ويستعملها العقل على نهج الحق والعدل , وليست الأخلاق الفاضلة إلا أن تزن النفس أعمالها بميزان العدل , ولا تحيد في هواها عن صراط الحق. الشعبة الأولى من المقصد في أسباب انحطاط الشرق: وبعد هذه المقدمة يمكن لنا أن نقول: إن الشرق بعد ما كان له من الجاه الرفيع , والمقام المنيع , والسلطنة العظيمة , وبسطة الملك , وعظم الشوكة , وكثرة الصنائع والبدائع , ووفور الأمتعة والبضائع , ورواج سوق التجارة , وذيوع العلوم والمعارف , وشيوع الآداب والفنون؛ ما هبط عن جليل مرتبته , وما سقط عن رفيع منزلته , ولا استولى الفقر والفاقة على ساكنيه , ولا غلب الذل والاستكانة على عامريه , ولا تسلطت عليه الأجانب , ولا استعبدت أهله الأباعد إلا لإعراض الشرقيين عن الاستنارة بنور عقولهم , وتطرق الفساد في أخلاقهم. فإنك تراهم في سيرهم كالبهائم , لا يتدبرون أمرًا , ولا يتقون في أفعالهم شرًّا , ولا يكدون لجلب النافع , ولا يجتنبون عن الضار [1] , طرأ على عقولهم السبات , ووقفت أفكارهم عن الجولان في إصلاح شؤونهم , وعميت بصائرهم عن إدراك النوازل التي أحاطت بهم , يقتحمون المهالك , ويمشون المداحض [2] , ويسرعون في ظلمات أهوية نفوسهم التي نشأت عن أوهامهم المضلة , ويتبعون في مسالكهم ظنونًا قادهم إليها فساد طبائعهم , لا يحسون المصائب قبل أن تمس أجسادهم , وينسونها كالبهيمة بعد زوال آلامها , واندمال جراحها. ولا يشعرون؛ لاستيلاء الغباوة على عقولهم , واكفهرار ظلمات غشاوة الجهل على بصائرهم , باللذائذ التي خص الإنسان بها من حب الفخار في طلب المجد والعز , وابتغاء حسن الصيت , وبقاء الذكر، بل لاستيلاء الغفلة على عقولهم يحسبون أن يومهم دهرهم , والتقمقم كالسارحة [3] شأنهم , لا يدرون عواقبهم , ولا يدركون مآل أمرهم , ولا يتداركون ما فاتهم , ولا يحذرون ما يتربصهم [4] من أمامهم ومن خلفهم , ولا يفقهون ما أمكن لهم الدهر من الشدائد والمصاعب , ولذا تراهم قد رئموا الذل , وألفوا الصغار وأنسوا الهوان , وانقادوا للعبودية , ونسوا ما كان لهم من المجد المؤثل , والمقام الأمثل. وبعد انحدارهم عن ذروة العقل الذي لا كرامة للإنسان إلا به , غلبت عليهم الخسة والنذالة , ورانت على قلبهم القسوة والجفاء , وتمكن من نفوسهم الظلم والجور , واستولى عليهم العجب , لا عن جاه يدعو إليه , ولا عن فضيلة تبعث عليه , وتظاهروا مع الذل المتمكن من قلوبهم بالكبر والعظمة , وفشا بينهم الشقاق والنفاق , وتلبسوا بالغدر والخيانة , واستشعروا الحسد والنميمة , وتسربلوا بالحرص والشره , وتجاهروا بالوقاحة والشراسة , واتسموا بالخشية والجبانة , وانهمكوا في الشهوات الدنية , وخاضوا في اللذات البدنية , وتخلقوا بالأخلاق البهيمية , متوسدين الكسالة والفشل , واتصفوا بصفات الحيوانات الضارية , يفترس قويهم ضعيفهم , ويستعبد عزيزهم ذليلهم , يخونون أوطانهم , ويظلمون جارهم , ويستلبون أموال ضعفائهم , ويخوسون بعهدهم [5] , ويسعون في خراب بلادهم , ويمكنون الأجانب ديارهم , لا يحمون ذمارًا , ولا يخشون عارًا , عالمهم جاهل , وأميرهم ظالم , وقاضيهم خائن , ليس لهم هادٍ فيرشدهم إلى سبيل نجاتهم، ولا زاجر فيكفون عن التمادي في غيهم , ولا وازع يقدع الجائرين عن نهش عظام فقرائهم , وصاروا جميعًا بسخافة عقولهم , وفساد أخلاقهم , عرضة للهلاك. (لها بقية وهي الشواهد التاريخية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الطور الجديد للمسألة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الطور الجديد للمسألة العربية ذكرنا في الجزء السادس الذي قبل هذا أن المسألة العربية دخلت في طور جديد بخروج سلطان نجد من عزلته السياسية , وتصديه لإنقاذ الحجاز من حسين بن علي مفرق الجماعات , ومثار الفتن , وموبق الأمة العربية؛ بإدخاله النفوذ بل السلطان الأجنبي في جزيرة العرب , فقد زحفت الجيوش النجدية بالفعل على الحجاز , وسبقتهم العشائر الحجازية التي تدينت بدعوة نجد إلى الطائف , وبعد مقاومة شديدة من حاميتها الحجازية وهي أكبر قوة للملك حسين , احتلوا الطائف عنوة , وانهزم القائد العام للجيش الحجازي وهو الأمير علي ولي العهد لوالده فتحصن في موقع منيع يقال له: الهَدَى بفتح الهاء , فزحف عليه الإخوان , فأخذوه عنوة، وولى الأمير مدبرًا إلى موقع آخر على طريق عرفات يقال له: (كرى) , فزحفوا عليه فانهزم إلى مكة، فوقف الإخوان؛ لأن السلطان عبد العزيز آل سعود لم يأذن لهم بدخول مكة فاتحين. وفي أثناء ذلك طفق الملك حسين يمطر عالم الشرق وعالم الغرب برقيات من الطعن في الوهابيين؛ ليهيج عليهم مسلمي الأرض ودول أوربة فرأينا من الواجب علينا , أن نبادر إلى كتابة مقالات في الحقائق المتعلقة بهذه المسألة , ونشرها في جريدة الأهرام اليومية الواسعة الانتشار , ثم اقترح علينا أن ننشر هذه المقالات في المنار تباعًا وها هي ذي: *** الوهابيون والحجاز (1) لو حدثت إغارة الوهابيين على الحجاز في عهد الدولة العثمانية؛ لقامت قيامة العالم الإسلامي , ولرأيت الجرائد العربية في الشرق والغرب , والجرائد التركية والهندية والفارسية والتتارية والملاوية تشن عليهم غارة التضليل والتكفير , وتجمع الإعانات المالية؛ لقتالهم بالقناطير , ذلك لما كان لجماهير الشعوب الإسلامية من حسن الظن وقوة الرجاء بالدولة , ومن سوء الظن بالوهابيين , أما وقد حدثت في هذا العهد، فإننا نرى ضلع الرأي الإسلامي العام مع الوهابيين؛ لأن ما كان خفيًّا من قوة دينهم , واعتصامهم بالسنة , ورفضهم للبدع , وكراهتهم للسلطة أو النفوذ الأجنبي قد ظهر لخواص المسلمين , وبدأ يظهر لعوامهم , ولأن جميع الشعوب الإسلامية تمقت هذا الرجل الذي تولى أعداء الإسلام في الحرب والسلم , فنصرهم على المسلمين , واعتمد عليهم في طمعه في خلافة الإسلام , وملك العرب تحت ظلهم وحمايتهم , فبمساعدته ومساعدة أولاده استولوا على البلاد العربية , التي هي مهد حضارة الإسلام من حدود مصر إلى خليج فارس , ويحاولون جعل ما بقي للعرب من عقر دارهم في جزيرتهم المقدسة تحت ظل تلك الدولة , التي جعلته ملكًا مستبدًّا في الحجاز؛ ليهون على أهله وضعه تحت سيادتهم مباشرة في يوم من الأيام , وسمت أحد أولاده ملك العراق , وآخر منهم أمير الشرق العربي أو أمير شرق الأردن , ويطمع أن تسميه ملك فلسطين ليخضع لها مسلميها، كما أمنها تعدي الأعراب المجاورين لها. فقد ظهر لجميع شعوب العالم الإسلامي أن هذا الرجل وأولاده هم شر نكبة نكب بها الإسلام في هذا العصر , فصارت تتمنى زوال سلطته عن مهد الإسلام , وترى أنه لا يرجى لذلك غير هؤلاء النجديين البواسل , الذين صارحهم هو بالعداوة والأذى بما جدد من دعاية سلفه الطالح من الطعن في دينهم ورميهم بالكفر , وادعائه أن الإسلام يوجب عليه قتالهم , والمصلحة العربية توجب عليه إخضاعهم لسطانه , وجعلهم تابعين لملكه , ومنعهم من أداء فريضة الحج - على ما عرف عنهم من إباء الضيم , وعدم الصبر على انتهاك حرمات الله - إلى تحكمه ما شاء في إقامة ركن الدين الاجتماعي العام في بيت الله , وظلم من شاء فيه بالضرائب المختلفة , وظلم أهله في كل شيء , فهذه أسباب الرجاء في النجديين بالإجمال [1] , لا حب التوسع في السلطان , والتبسط في الملك الذي يرميهم به هو ودعاته وجرائده من باب (رمتني بدائها وانسلت) , ونحمد الله تعالى أن هؤلاء الدعاة قلوا , وقلت الجرائد التي تنشر لهم إفكهم وبهتانهم. ولكن بقي من الناس من يسيئون الظن بالوهابية , ويظنون أنهم أصحاب مذهب مبتدع في الإسلام , وذلك بتأثير الدعاية المنتشرة منذ قرن وربع قرن في الطعن فيهم؛ وبتأثير انتشار البدع واشتهارها حتى صار بها المعروف منكرًا والمنكر معروفًا , فالآخذون بهذه البدع يعدون كل منكر لها وهابيًّا , ويضيفون إلى ذلك ما حفظوه من البهتان الذي جدده الملك حسين في جريدته القبلة من رميهم بتكفير من عداهم من المسلمين , وإنكار شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم , وتحريم الصلاة عليه , وزيارة قبره كسائر القبور , بل تجرأ المكي وأمثاله على رميهم بالطعن في شخصه الأكمل , وتفضيل العصا عليه برأه الله تعالى , ولعن كل مجترئ على مقامه الشريف. هذه البهائت كان يبهتهم بها أمير مكة وأعوانه في أوائل القرن الثالث عشر للهجرة عند ظهور أمرهم؛ لتنفير المسلمين منهم , ولما استولوا على مكة المكرمة سنة 1218 بقيادة الأمير سعود , جمعوا علماءها وفي مقدمتهم: مفتي الحنفية , ومفتي المالكية , وبينوا لهم مذهبهم , وخطتهم في تجديد دعوة الإسلام , فوافقوهم عليها , وذكروا لهم ما كان أذيع من الطعن الذي أشرنا إليه آنفًا فتعجبوا وتبرؤوا منه. إننا لم نر أحدًا من البهاتين الذين يطعنون فيهم ينقل شيئًا من كتبهم , ونحن في بياننا للحقيقة ننقل من كتبهم ومن كتب غيرهم , ولا نقول شيئًا من عندنا بغير دليل. بيان الوهابية لمذهبهم: جاء في رسالة للشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد صاحب الدعوة , وصف فيها دخول جماعتهم مكة مع الأمير سعود سنة 1218 , ومناظرتهم للعلماء فيها , وإعطاءهم رسائل والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب , وكان مع علماء مكة الذين حضروا مجالسه حسين الأبريقي الحضرمي ثم الحياني , وكان يسأل عن أصل هذه الدعوة. قال الشيخ عبد الله ما نصه: (فأجبناه بأن مذهبنا في الأصول مذهب أهل السنة والجماعة , وطريقنا طريقة السلف التي هي الطريق الأسلم والأعلم والأحكم , خلافاً لمن قال: طريقة الخلف أعلم. وهي أننا نقر آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها , ونكل علمها إلى الله مع اعتقاد حقائقها , فإن مالكًا وهو من أجل علماء السلف لما سئل عن الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال: الاستواء معلوم , والكيف مجهول , والإيمان به واجب , والسؤال عنه بدعة. ثم قال: (ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل , ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دون غيرهم) إلخ (ص 44 من كتاب الهدية السنية والتحفة النجدية) . ثم قال: (وأما ما يكذب علينا سترًا للحق , وتلبيسًا على الخلق بأنا نفسر القرآن برأينا , ونأخذ من الأحاديث ما وافق أهواءنا , من دون مراجعة شرح , ولا تعويل على شيخ , وأنا نضع من رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بقولنا: النبي رمة في قبره , وعصا أحدنا أنفع لنا منه , وليس له شفاعة , وأن زيارته غير مندوبة , وأنه كان لا يعرف معنى لا إله إلا الله حتى نزل عليه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) مع كون الآية مدنية وأنا لا نعتمد على أقوال العلماء، فنتلف مؤلفات أهل المذاهب , لكون فيها الحق والباطل، وأنا نكفر الناس على الإطلاق , أهل زماننا ومن بعد الستمائة إلا من هو على ما نحن عليه، ومن فروع ذلك أنا لا نقبل بيعة أحد إلا بعد التقرير عليه أنه كان مشركًا , وأن أبويه ماتا على الشرك بالله , وأننا ننهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم , ونحرم زيارة القبور المشروعة مطلقًا؛ وأن من دان بما نحن عليه سقطت عنه جميع التبعات حتى الديون؛ وأنا لا نرى حق أهل البيت رضوان الله عليهم) إلخ. ثم قال: (فجميع هذه الخرافات (أي: التقولات) وأشباهها لما استفهمنا عنها من ذكر أولاً؛ كان جوابنا في كل مسألة من ذلك: (سبحانك هذا بهتان عظيم) فمن روى عنا شيئًا من ذلك أو نسبه إلينا , فقد كذب علينا وافترى , ومن شاهد حالنا , وحضر مجالسنا , وتحقق ما عندنا , علم قطعيًّا أن جميع ذلك وضعه علينا وافتراه أعداء الدين , وإخوان الشياطين , تنفيرًا للناس عن الإذعان بإخلاص التوحيد لله تعالى بالعبادة , وترك أنواع الشرك الذي نص الله عليه , بأن الله لا يغفره ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) إلخ (ص 46 من الهدية) . ثم قال: (والذي نعتقده أن رتبة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المخلوقين على الإطلاق , وأنه حي في قبره حياة برزخية , أبلغ من حياة الشهداء المنصوص عليه في التنزيل؛ إذ هو أفضل منهم بلا ريب , وأنه يسمع سلام المسلم عليه , وتسن زيارته , إلا أنه لا يشد الرحل إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه. وإذا قصد مع ذلك الزيارة فلا بأس , ومن أنفق نفيس أوقاته بالاشتغال بالصلاة عليه عليه الصلاة والسلام الواردة عنه - فقد فاز بسعادة الدارين , وكفي همه وغمه كما جاء في الحديث عنه , ولا ننكر كرامات الأولياء , ونعترف لهم بالحق , وأنهم على هدى من ربهم متى ساروا على الطريقة الشرعية , والقوانين المرعية , إلا أنهم لا يستحقون شيئًا من أنواع العبادات لا في الحياة ولا في الممات) إلخ ما فصل به ذلك الإجمال من إنكار ما بهتوا به , فمن شاء التفصيل فليطالع (الهدية السنية والتحفة الوهابية النجدية) , وهي توزع في مكتبة المنار بغير ثمن. وقد كنت لدى الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في أوائل الشهر الماضي , فذكرت الوهابية , وسبب الطعن فيهم , وكان من حاضري المجلس الأستاذ الشيخ عبد المجيد اللبان، والأستاذ الشيخ محمد شاكر، والأستاذ الشيخ أحمد هارون، والأستاذ الشيخ الظواهري وغيرهم , فبينت لهم تاريخ المسألة , ومن كتب فيها على بينة من المؤرخين عند استيلاء الأمير سعود على الحجاز , ثم ذهب أحد سعاة سكرتارية الأزهر إلى مكتبة المنار , فجاء بعشرات النسخ من الهدية السنية , ووزعت عليهم , وقرأ الأستاذ الأكبر ما نقلناه هنا , وما فصل فيها مما لم ننقله , واعترف بأنه مذهب أهل السنة والجماعة , إلا أنه قال: إن حديث: (لا تُشَدّ الرِحال إلا إلى ثلاثةِ مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) قد أوّله العلماء. قلت: وهم قد أخذوا بظاهره تبعًا لبعض المحققين من علمائهم - أعني الحنابلة - وأزيد أن بعض الشافعية والمالكية حرم شد الرحال؛ لزيارة قبور الصالحين؛ كالإمام الجويني والد إمام الحرمين , واختاره القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم , كما نقله عنه النووي، فأخذ الوهابية بذلك لهم سلف فيه , وليسوا أول من قال به. شهادة التاريخ للوهابية: نكتفي هنا بشهادتين عادلتين لمؤرخين كبيرين نقلا عن العدول المعاصرين لظهور الوهابية , واستيلاء أمير نجد بقوتهم على الحجاز. الشهادة الأولى: قال المؤرخ الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري في أول حوادث سنة 1227 من تاريخه نقلاً عن بعض أكابر رجال جيش محمد علي باشا الذين قاتلوا الوهابية في الحجاز ما نصه: (ولقد قال لي بعض أكابرهم من الذين يدعون الصلاح والتورع: أين لنا بالنصر وأكثر عساكرنا على غير الملة , وفيهم من لا يتدين بدين , ولا ينتحل مذهبًا , وصحبتنا صناديق المسكرات , ولا يسمع في عرضينا أذان , ولا تقام فيه فريضة , ولا يخطر في بالهم ولا خاطرهم شعائر الدين , والقوم - يعني: الوهابية - إذا دخل الوقت، أذن المؤذنون وينتظمون صفوفًا خلف إمام واحد بخشوع وخضوع , وإذا حان وقت الصلاة والحرب قائم أذن المؤذنون وصلوا صلاة الخوف , فتتقدم طائفة

بطل العرب والإسلام وأندلسهما الثانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بطل العرب والإسلام وأندلسهما الثانية يعلم قراء المنار مما كتبت فيه بشأن انتصار إخواننا الترك على اليونان في الحرب، وعلى الإنكليز في السياسة بعض ما كنت عليه من الغبطة والسرور , وإنما هو بعض ما كان في قلبي , ويعلمون أنني نوهت بقواد الترك وزعمائهم , وفضلتهم على جميع من تصدى لزعامة العرب في هذا العصر , ولا سيما الشيخ حسين بن علي المكي وأولاده ولا سيما فيصل وعبد الله الذين جاهرت بجهادهم في المنار وغيره من الصحف منذ ألغيت المراقبة على الصحف في مصر. ولكنني على ما كان من إعجابي ببسالة مصطفى كمال باشا زعيم هذه النجدة , وقائد هذه الغزوة , لم أره مستحقًّا للقب بطل الإسلام الذي منحه إياه بعض الصحف الإسلامية بمصر وغيرها , ثم ندموا ووصفوه بعداوة الإسلام , بل كان هذا مما أنكرته على أشهر المنوهين به من كبار كتاب الصحف , لكن قولاً لا كتابة؛ لأنني كنت أعلم علمًا إجماليًّا أنه قائم بالعصبية التركية , ولها يعمل لا للإسلام , ثم صار هذا الإجمال علمًا تفصيليًّا عندي قبل جماهير المسلمين وغيرهم. وأما محمد عبد الكريم القائد العربي لجيش الريف المغربي ممزق الزحوف الأسبانية , وهازمها , وقاتل قوادها , ومذل دولتها. فإنني أحليه بلقب بطل العرب والإسلام بحق , بل نقول: إن ما اطلعنا عليه من بلائه وهو أقله يثبت أنه قد فضل جميع قواد الدول وزعماء الأمم في نهضاتها الحربية والإدارية لا مصطفى كمال باشا وحده , وحسبنا في امتيازه على هذا مقال الكاتب السياسي الشهير صديقنا الأمير شكيب أرسلان , الذي نشرناه في الجزء التاسع (م 24) , وهو أول من أطلق عليه لقب بطل الإسلام من كبار كتاب السياسة المسلمين. فأما كونه بطلاً في نفسه فقد ثبت بعمله الذي أعجب به العالم كله , ونوهت به صحف الشرق والغرب لجميع الأمم والملل , ولما يوفه أحد ما استحقه من الثناء فيما نعلم , وأما كونه بطلاً للإسلام؛ فلأنه قائد مسلم نهض بطائفة من المسلمين لإنقاذ بلاد إسلامية من استعباد شعب متعصب , استأصل بتعصبه الديني مسلمي الأندلس بالسيف والنار , حتى لم يبق منهم فى تلك البلاد التي جعلوها أرقى بلاد العالم كله عمرانًا , وحضارة - ديارًا , ولا نافخ نار , بل كل من لم يتنصر منهم , ولم يغادر البلاد ناجيًا بنفسه - قتل شر قتلة. وأما كونه بطلاً للعرب؛ فلأنه هو وقومه المجاهدون في سبيل الله لحفظ حريتهم ودينهم ووطنهم من العرب لغة ودينًا وأدبًا , وإن كان بعضهم ليس منهم نسبًا , ولأن سلفهم من مسلمي الأندلس الذين ثاروا لهم كانوا من صمم العرب، على أنهم لم يقصدوا الثأر , وإنما جهادهم دفاع عن النفس , وقد أيدهم الله تعالى بالنصر بمثل ما أيد سلفهم بقيادة كبار أبطالهم من قبل. فإن كان تأثير عمل محمد عبد الكريم في العالم الإسلامي أقل من تأثير عمل مصطفى كمال باشا ورجاله , فليس لأنه دونه؛ بل لأن الدولة العثمانية التي كانت مشرفة على الزوال أعظم شأنًا في قلوب جميع الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية من أهل ريف مراكش , وبقاء الترك دولة حربية مستقلة في عقر ديارهم يعد بمنزلة الحصن العائق دون سهولة استيلاء الأجانب على الممالك المجاورة لها , حتى بعد انسلاخ حكومتها الحاضرة من الجامعة الإسلامية , الذي لم يكن يخطر لأحد من تلك الشعوب ببال إلا بعض الضباط والمتمرسين بالسياسة من العرب الذين كانوا عثمانيين. ولكننا نعجب أشد العجب أن نرى البلاد العربية , ولا سيما دعاة النهضة الجنسية فيها لم يقدروا عمل هذا الزعيم قدره , ولم يشدوا أزره وهم يرون كبرى دول الاستعمار الثلاث المتعدية على جميع بلادهم مجمعة على التشاؤم من انتصار حكومة الريف بتدبيره , وخائفة أن يكون سببًا لتحرير سائر الأقطار الإسلامية الأفريقية من رقهن , وأن يمتد شعور المسلمين برجاء الحرية والاستقلال من المغرب الإسلامي إلى المشرق؛ فيعرف أهله طريق الاستقلال المعبد فيسلكوه , وأن يعود للإسلام سلطانه الأول بحياة هذا الرجاء في جميع شعوبه المستعبدة , فطفق رجال السياسة فيهم يتناجون؛ لإجماع أمرهم على إحباط عمل الزعيم العظيم، وإيقاف سريان هذا النصر عند الحد الذي تتفق مصالحهن عليه؛ فأين هذا من مساعدة كل من فرنسة وإيطالية لمصطفى كمال باشا وقومه , واضطرار الشعب البريطاني حكومته إلى الإمساك عن مساعدة اليونان على قتاله؟ إننا لا ننكر أن الشعوب الإسلامية مرتاحة لعمل قائد الريف العظيم ومسرورة , بقدر ألمها من سلب الأجانب لاستقلال أمتها ونسخ شريعتها , ولكن ساسة دول الاستعمار يعلمون من تأثير حياة الأمم , ومن سريانها ودبيبها من شعب إلى آخر , ولا سيما إذا كان لها وحدة جامعة , وتاريخ مشترك , تفتخر بسلفه كالأمة الإسلامية التي أدمجت فيها أقوى مقومات الأمم ومشخصاتها , فهم لعلمهم هذا يحسبون لحياة الشعوب ما ليس في حسبانها , ثم يبالغون فيها على سبيل الاحتياط، فيرجحون الشائل من ميزاتها ولو وصلت الحياة الملية في تونس والجزائر أو في طرابلس الغرب أو فيما يعد فوقها على تفاوتها كمصر والهند إلى المستوى الذي تخافه فرنسة وإيطالية وإنكلترة - لرأينا الإعانات المالية , والبعثات الطبية , مرسلة تترى من هذه البلاد كلها إلى ريف مراكش , بل لرأينا المتطوعين يهاجرون إليه أرسالاً نافرين خفافًا وثقالاً , ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً , لكننا لم نر شيئًا من هذا ولا ذاك ولم نسمع في الدعوة إلى أهون المساعدة صوتًا عاليًا يُسْمَعُ فيلبى , وإنما سمعنا نأمة خافتة بمصر , ونبأة فوقها من الهند , ولم نر عملاً يذكر ولا سعيًا يشكر. أين كبار العلماء؟ أين سراة الأمراء؟ أين الأسخياء؟ أين الكتاب والشعراء؟ أين الجمعيات الخيرية؟ أين الأحزاب السياسية؟ بل أين جمعية الهلال الأحمر المصرية؟ ولا أنادي أختها التركية، فإن الترك في الشعوب الإسلامية كعلماء الدين في كل شعب , قد اعتادوا أن يأخذوا، وما اعتادوا أن يعطوا، وهذا قبل وقوعهم تحت أحكام دولة قررت بترهم من جسم الجامعة الإسلامية , فكيف يكون حالهم بعد ذلك؟ كلمت بعض أعضاء جمعية الهلال الأحمر المصرية منذ سنتين في مسألة الريف هذه , وما يجب على جمعيتهم من مساعدة هؤلاء الريفيين المنقطعين عن جميع الأمم والشعوب , وليس عندهم من الأطباء والأدوية والآلات الجراحية ولا من الممرضين والمضمدين من يأسو جروحهم , ويطهر قروحهم , ويداوي مرضاهم , فإن جمعيات الصليب الأحمر لا تعطف على قوم من المسلمين , يدافعون عن أنفسهم بقتال دولة من دول النصرانية , تريد استعبادهم واستعمار بلادهم، وقد سعى مسلم أفريقي لدى عبد المجيد أفندي الذي سمي خليفة المسلمين , بأن تؤلف في الآستانة لجنة تحت رعايته لجمع التبرعات لذلك، فارتاح لهذا الاقتراح , ولكن حكومته زعمت أن جمعية الهلال الأحمر التركية أولى بهذا العمل , وستقوم بهذا الواجب , ولم يقم به أحد , ولن يقوم هنالك أحد؛ لأن الحكومة لا تريد ذلك. بماذا أجاب عضو جمعية مصر؟ قال: إن القانون الجديد لجمعيتنا قد حظر عليها إنفاق شيء مما في صندوقها , فلا سبيل إلى بذل شيء إلا مما يدخل في الصندوق بعد تقرير هذا القانون , ولما يدخله شيء. قلت: وما المانع من أن تتولى الجمعية دعوة أهل البر والإحسان إلى التبرع لها بما تؤدي به هذا الواجب؟ وهل لك أن تقترح عليها ذلك؟ قال: نعم ولكن بعد عودة صاحب الدولة الأمير يوسف كمال رئيسها من سفره. لا شك عندي في صدق العضو الكريم في استحسانه للاقتراح , وقبوله بالغبطة والارتياح , لكن الأمير عاد من سفره , ثم سافر , ثم عاد , ولم يظهر للجمعية عمل فعسى أن تتولى (جمعية الرابطة الشرقية) السعي إلى هذه المبرة الإنسانية لدى جمعية الهلال الأحمر المصرية ولدى الشعب المصري وسائر الشعوب الشرقية , وسأقترح ذلك عليها إن شاء الله تعالى في أول اجتماع تعقده , وأعد هذه الكلمة تمهيدًا له. ((يتبع بمقال تالٍ))

إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها ـ 3

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأما النوع الثالث وهو الفناء عن عبادة السوى فهذا حال النبيين وأتباعهم , وهو أن يفنى بعبادة الله عن عبادة ما سواه، وبحبه عن حب ما سواه، وبخشيته عن خشية ما سواه , وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه , فهذا تحقيق توحيد الله وحده لا شريك له وهو الحنيفية ملة إبراهيم , ويدخل في هذا أن يفنى عن اتباع هواه بطاعة الله فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فهذا هو الفناء الديني الشرعي الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه. ومن قال: (فارفع بحقك إنيي من البين) بمعنى أن يرفع هوى نفسه , فلا يتبع هواه , ولا يتوكل على نفسه وحوله وقوته , بل يكون عمله لله لا لهواه , وعمله بالله وبقوته لا بحوله وقوته , كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) فهذا حق محمود. وهذا كما يُحكى عن أبي يزيد أنه قال: رأيت رب العزة في المنام فقلت: خدايي [1] كيف الطريق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال: أي اترك اتباع هواك والاعتماد على نفسك , فيكون عملك لله , واستعانتك بالله , كما قال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123) . والقول المحكي عن ابن عربي: (وبي حلفت وأن المقسم الله) هو أيضًا من إلحادهم وإفكهم: جعل نفسه حالفة بنفسه، وجعل الحالف هو الله فهو الحالف والمحلوف به كما يقولون: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً بنفسه فهو المرسل والمرسل إليه والرسول , وكما قال ابن الفارض في قصيدته نظم السلوك: لها صلواتي بالمقام أقيمها ... وأشهد فيها أنها لي صلت كلانا مصلٍّ واحد ساجد إلى ... حقيقته بالجمع في كل سجدة وما كان بي صلى سواي ولم تكن ... صلاتي لغيري في أدا كل ركعة إلى أن قال: وما زالت إياها وإياي لم تزل ... ولا فرق بل ذاتي لذاتي حنَّت وقد رفعت تاء المخاطب بيننا ... وفي رفعها عن فرقة الفرق رِفْعَتِي فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن ... منادى أجابت من دعاني ولبت وأما المنقول عن عيسى بن مريم - صلوات الله عليه - فهو كذب عليه , وهو كلام ملحد كاذب وضعه على المسيح وهذا لم ينقله عنه مسلم ولا نصراني، فإنه لا يوافق قول النصارى قوله , إن الله اشتاق أن يرى ذاته المقدسة , فخلق من نوره آدم , وجعله كالمرآة ينظر إلى ذاته المقدسة فيها , وإني أنا ذلك النور وآدم المرآة , فهذا الكلام مع ما فيه من الكفر والإلحاد متناقض , وذلك أن الله سبحانه يرى نفسه كما يسمع كلام نفسه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عبد مخلوق لله قال لأصحابه: (إني أراكم من ورائي كما أراكم من بين يدي) فإذا كان المخلوق قد يرى ما خلفه وهو أبلغ من رؤية نفسه , فالخالق تعالى كيف لا يرى نفسه؟ وأيضًا فإن شوقه إلى رؤية نفسه حتى خلق آدم يقتضي أنه لم يكن في الأزل يرى نفسه حتى خلق آدم، ثم ذلك الشوق كان قديمًا كان ينبغي أن يفعل ذلك في الأزل , وإن كان محدثًا فلا بد من سبب يقتضي حدوثه، مع أنه قد يقال: الشوق أيضًا صفة نقص ولهذا لم يثبت ذلك في حق الله تعالى , وقد روي (طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشوق) وهو حديث ضعيف. وقوله: خلق من نوره آدم , وجعله كالمرآة , وأنا ذلك النور , وآدم هو المرآة , يقتضي أن يكون آدم مخلوقًا من المسيح , والمسيح خلق من مريم , ومريم من ذرية آدم , فكيف يكون آدم مخلوقًا من ذريته؟ وإن قيل: المسيح هو نور الله , فهذا القول وإن كان من جنس قول النصارى فهو شر من قول النصارى، فإن النصارى يقولون: إن المسيح هو الناسوت واللاهوت الذي هو الكلمة هي جوهر الابن، وهم يقولون: الاتحاد اتحاد اللاهوت والناسوت متجدد حين خلق بدن المسيح، لا يقولون: إن آدم خلق من المسيح؛ إذ المسيح عندهم أسم اللاهوت والناسوت جميعًا , وذلك يمتنع أن يخلق منه أدم، وأيضًا فهم لا يقولون: إن آدم خلق من لاهوت المسيح. وأيضًا فقول القائل: إن آدم خلق من نور الله الذي هو المسيح , إن أراد به نوره الذي هو صفة لله فذاك ليس هو المسيح الذي هو قائم بنفسه؛ إذ يمتنع أن يكون القائم بنفسه صفة لغيره، وإن أراد بنوره ما هو نور منفصل عنه فمعلوم أن المسيح لم يكن شيئًا موجودًا منفصلاً قبل خلق آدم , فامتنع على كل تقدير أن يكون آدم مخلوقًا من نور الله الذي هو المسيح، وأيضًا فإذا كان آدم كالمرآة وهو ينظر إلى ذاته المقدسة فيها , لزم أن يكون الظاهر في آدم هو مثال ذاته لا أن آدم هو ذاته ولا مثال ذاته ولا كذاته، وحينئذ فإن كان المراد بذلك: أن آدم يعرف الله تعالى , فيرى مثال ذاته العلمي في آدم؛ فالرب تعالى يعرف نفسه , فكأن المثال العلمي إذا أمكن رؤيته كانت رؤيته للعلم المطابق له القائم بذاته أولى من رؤيته للعلم القائم بآدم، وإن كان المراد أن آدام سأل الله فلا يكون آدم هو المرآة؛ بل يكون هو كالمثال الذي في المرآة. وأيضًا فتخصيص المسيح بكونه ذلك النور, هو قول النصارى الذين يخصونه بأنه الله، وهؤلاء الاتحادية ضموا إلى قول النصارى قولهم بعموم الاتحاد حيث جعلوا في غير المسيح من جنس ما تقوله النصارى في المسيح. وأما قول ابن الفارض: وشاهد إذا استجليت ذاتك من ترى ... بغير مراء في المرآة الصقيلة أغيرك فيها لاح أم أنت ناظر ... إليك بها عند انعكاس الأشعة فهذا تمثيل فاسد , وذلك أن الناظر في المرآة مثال نفسه فيرى نفسه , وكذا المرآة لا يرى نفسه بلا واسطة , فقولهم: بوجود باطل وبتقدير صحته ليس هذا مطابقًا له , وأيضا فهؤلاء يقولون بعموم الوحدة والاتحاد والحلول في كل شيء فتخصيصهم بعد هذا آدم أو المسيح يناقض قولهم بالعموم , وإنما يخص المسيح ونحوه من يقول بالاتحاد الخاص؛ كالنصارى , والغالية من الشيعة , وجهال النّسّاك ونحوهم، وأيضًا فلو قدر أن الإنسان يرى نفسه في المرآة فالمرآة خارجة عن نفسه فرأى نفسه أو مثال نفسه في غيره , والكون عندهم ليس فيه غير ولا سوى , فليس هناك مظهر مغاير للظاهر ولا مرآة مغايرة للرائي. وهم يقولون: إن الكون مظاهر الحق (فإن قالوا) : المظاهر غير الظاهر لزم التعدد وبطلت الوحدة، وإن قالوا: المظاهر هي الظاهر لم يكن قد ظهر شيء في شيء , ولا تجلى شيء في شيء , ولا ظهر شيء لشيء , وكان قوله: وشاهد إذا استجليت نفسك أن ترى 000 كلامًا متناقضًا؛ لأن هنا مخاطِبًا ومخاطَبًا , ومرآة تستجلى فيها الذات فهذه ثلاثة أعيان , فإن كان الوجود واحدًا بالعين بطل هذا الكلام , وكل كلمة يقولونها تنقض أصلهم. *** فصل وأما ما ذكره من قول ابن إسرائيل: الأمر أمران: أمر بواسطة , وأمر بغير واسطة إلى آخره؛ فمضمونه أن الأمر الذي بواسطة هو الأمر الشرعي الديني والذي بلا واسطة هو الأمر القدري الكوني , وجعله أحد الأمرين بواسطة والآخر بغير واسطة كلام باطل , فإن الأمر الديني يكون بواسطة وبغير واسطة , فإن الله كلم موسى وأمره بلا واسطة , وكذلك كلم محمد صلى الله عليه وسلم وأمره ليلة المعراج , وكذلك كلم آدم وأمره بلا واسطة , وهي أوامر دينية شرعية , وأما الأمر الكوني فقول القائل: إنه لا بواسطة خطأ؛ بل الله تعالى خلق الأشياء بعضها ببعض , وأمر التكوين ليس هو خطابًا يسمعه المكون المخلوق , فإن هذا ممتنع , ولهذا قيل: إن كان هذا خطابًا له بعد وجوده لم يكن قد كون (به) بل كان قد كون قبل الخطاب وإن كان خطابًا له قبل وجوده فخطاب المعدوم ممتنع. وقد قيل في جواب هذا: إنه خطاب لمعلوم لحضوره في العلم وإن كان معدومًا في العين. وأما ما ذكره الفقير فهو سؤال وارد بلا ريب , وأما ما ذكره عن شيخه من أن آدم كان توحيده ظاهرًا وباطنًا , فكان قوله (لا تقرب) ظاهرًا , وكان أمره (بكل) باطنًا, (فيقال) : إن أريد بكونه قال: كُلّ باطنًا أنه أمره بذلك في الباطن أمر تشريع أو دين فهذا كذب وكفر , وإن كان أراد أنه خلق ذلك وقدره وكونه فهذا قدر مشترك بين آدم وبين سائر المخلوقات فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون , فكل ما كان من المكونات فهو داخل في هذا الأمر , وأكل آدم من الشجرة وغير ذلك من الحوادث داخلة تحت هذا كدخول آدم , فنفس أكل آدم هو الداخل تحت هذا الأمر كما دخل آدم. وقول القائل: إنه قال لآدم في الباطن: كل مثل قوله إنه قال للكافر اكفر وللفاسق افسق، والله لا يأمر بالفحشاء، ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر , ولا يوجد منه خطاب باطن ولا ظاهر للكفار والفساق والعصاة بفعل الكفر والفسوق والعصيان، وإن كان ذلك واقعًا بمشيئته وقدرته وخلقه وأمره الكوني, فالأمر الكوني ليس هو أمرًا للعبد أن يفعل ذلك الأمر؛ بل هو أمر تكوين لذلك الفعل في العبد , أو أمر تكوين لكون العبد على ذلك الحال , فهو سبحانه هو الذي خلق الإنسان هلوعًا {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: 20-21) وهو الذي جعل المسلمين مسلمين كما قال الخليل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} (البقرة: 128) فهو سبحانه جعل العباد على الأحوال التي خلقهم عليها وأمره لهم بذلك أمر تكوين بمعنى أنه قال لهم: كونوا كذلك فيكونون كذلك , كما لو قال للجماد: كن فيكون , فأمر التكوين لا فرق فيه بين الجماد والحيوان , وهو لا يفتقر إلى علم المأمور ولا إرادته ولا قدرته , لكن العبد قد يعلم ما جرى به القدر في أحواله كما يعلم ما جرى به القدر في أحوال غيره، وليس في ذلك علم منه بأن الله أمره في الباطن بخلاف ما أمره به في الظاهر، بل أمره بالطاعة باطنًا وظاهرًا، ونهاه عن المعصية باطنًا وظاهرًا، وقدر ما يكون فيه من طاعة ومعصية باطنًا وظاهرًا، وخلق العبد وجميع أعماله باطنًا وظاهرًا، وكون ذلك بقوله: (كن باطنًا وظاهرًا) . وليس في القدر حجة لابن آدم ولا عذر , بل القدر يُؤْمَن به ولا يُحتج به، والمحتج بالقدر فاسد العقل والدين متناقض، فإن القدر إن كان حجة وعذرًا لزم أن لا يلام أحد ولا يعاقب ولا يقتص منه , وحينئذ فهذا المحتج بالقدر يلزمه إذا ظلم في نفسه وماله وعرضه وحرمته أن لا ينتصر من الظالم , ولا يغضب عليه ولا يذمه , وهذا أمر ممتنع في الطبيعة لا يمكن أحدًا أن يفعله , فهو ممتنع طبعًا محرم شرعًا. ولو كان القدر حجة وعذرًا لم يكن إبليس ملومًا معاقبًا , ولا فرعون وقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الكفار , ولا كان جهاد الكفار جائزًا , ولا إقامة الحدود جائزًا لا قطع السارق , ولا جلد الزاني ولا رجمه , ولا قتل القاتل , ولا عقوبة معتد بوجه من الوجوه. ولما كان الاحتجاج بالقدر باطلاً في فطر الخلق وعقولهم لم تذهب إليه أمة من الأمم , ولا هو مذهب أحد من العقلاء الذين يطردون قولهم , فإنه لا يستقيم عليه مصلحة أحد لا في دنياه ولا آخرته , ولا يمكن اثنان أن يتعاشرا ساعة واحدة إن لم يكن أحدهما ملتزمًا مع الآخر نوعًا من الشرع، فالشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده , لكن الشرائع تتنوع , فتارة تكون منزلة من عند الله كما جاءت به الرسل , وتارة لا تكون كذلك , ثم المنزلة تارة تبدل وتغير كما غير أهل الكتاب شرائعهم , وتارة لا تغير ولاتبدل، وتارة يدخل النسخ في بعضها , وتارة لا يدخل. أما القدر فإنه لا يحتج به أحد إلا عند اتباع هواه , فإذا فعل فعلاً بمجرد هواه وذوقه ووجده من غير أن يكون له علم بحسن الفعل ومصلحته , استند إلى القدر كما قال المشركون: {لَوْ شَاءَ

المقالات الجمالية ـ 2

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

_ المقالات الجمالية (2) الشرق والشرقيون (الشعبة الثانية من المقصد) في الشواهد التاريخية، على إضاعة الممالك الشرقية تأمل فيما أقص عليك من أعمال الشرقيين من قبل , حتى تعلم أنهم هم الذين بحيدانهم عن سنة العقل قد أوقعوا أنفسهم في الذل الدائم، وجلبوا بعدم تدبرهم في عواقب أمورهم الخراب والدمار إلى بلادهم، وأضعفوا بسوء سياستهم سلطنتهم القوية، ومكنوا أعداءهم من بلادهم جهلاً منهم بنتائج أعمالهم , وهاهو ذا: إن العثمانيين قد اتفقوا مع الروس على مقاسمة البلاد الإيرانية حينما تغلّب الأفغانيون على أصفهان أيام (شاه سلطان حسين) , ولو نظروا بمنظار التدبر إلى الأمة الروسية وما لها من علاقات مع اليونانيين والرمانيين والسربيين والبلغاريين وغيرهم من رعايا السلطنة العثمانية وما يمكنها أن تحوزه في مستقبل أمرها من القوة والبسطة لَمَا اختلجت ببالهم محالفتها، ولا خطرت في أذهانهم مؤامرتها؛ بل كانوا يسعون في قلع أسها قبل استحكامه، وقطع شجرتها قبل أن تشج عروقها. وإنهم جاهروا الإيرانيين بالحرب من طريق بايزيد إذ كان عباس مرزأ بجيوشه يقاومون الروسية ويدافعونها عن بلادهم، فوهنت قوتهم، وضعفت مريرتهم، واستملك الروس بسبب هذا الاقتحام أكثر بلاد أذربيجان، ولو استشار العثمانيون عقولهم وقتئذٍ لأشارت عليهم بأن ضعف الإيرانيين وقوة الروس هما معًا علة تزعزع أركان السلطنة التركية، ولكنهم اتبعوا خطرات أنفسهم، وزينت لهم أوهامهم، وظنوا أنهم يحسنون صنعًا، فأسرعوا في هلاك أنفسهم وهم لا يشعرون، وكان عليهم - اهتداء بنور العقل، وسلوكًا في مسلك السياسة الحقة [1]- أن يلاحظوا الجامعة القوية التي بينهم وبين السلطنة الإيرانية، فيتفقوا معها على كَبْحِ شَرَه الروسية وإضعاف قوتها، أمنًا من غوائلها، وحذرًا من آفات مطامعها. وإنهم أي العثمانيين جبهوا سفير (تيبوسلطان) سلطان (ميسور) بالرد حين عرض عليهم من طرف سيده استبدال البصرة ببعض البلاد الهندية [2] التي كانت في حوزته، وامتعضوا من هذا الطلب , وردوا السفير خائبًا وكان غرض (تيبوسلطان) من طلبه هذا أن يكسر سورة الإنجليز ببسط السلطة العثمانية في الهند وتمكينها منها. وذهل العثمانيون تهاونًا منهم عن العلاقات التامة التي بينهم وبين الهنديين , وأن سلطنتهم لو امتدت إلى تلك الممالك لدخل جميع حكامها بلا معارضة تحت لوائهم , وقدروا حينئذ على قدع الحكومة الإنجليزية عن تطاولاتها في الهند، وسدوا عليها طرق فتوحاتها في المشرق، وما شعروا تساهلاً في السياسة , وتغافلاً عن منهج العقل أن بسطة الحكومة الإنجليزية في آسيا توجب تحكمها في بلادهم , وطمعها في الاستيلاء عليها , كما وقع الآن حتى مكنوا عساكرها مدة طويلة من شق الأراضي المصرية ذاهبة إلى أقاصي المشرق للتغلب عليها. وإن شاه إيران (فتح علي شاه) إرضاء للإنجليز هدّد الأفغانيين بالحرب , وقتما أرادوا أن يزحفوا على الهند؛ لانتزاعها من أيدي الإنجليز , ولو استنار الإيرانيون وقتئذ بنور عقولهم؛ لانكشف لهم أن قوة الإنجليز بالهند إذلال لهم وخطر على بلادهم، ولعلموا أنهم والأفغانيين غُصْنا شجرة الإيران [3] وقد تشعبوا من أصل واحد ونشئوا في أرض واحدة، تجمعهم وحدة الجنسية، وتؤلفهم الأخوة الحقيقية، وأنهم متساهمون في العز والشرف، ومتشاركون في الذل والهون، وما فرقت كلمتهم إلا أوهام واهية , نشأت عن الظنون الدينية , وليست منها في شيء , ولو راجع كُلٌّ عَقْلَه لرأى وجوب اتفاقهم تحت الوحدة استرجاعًا لمجدهم السابق، وتداركًا لما فاتهم بسبب الشقاق من الشرف والفخار , وعلو الكلمة بين الأمم. وإن الأمير (دوست محمد خان) أمير الأفغان قد جعل بلاده - تعاميًا منه - عرضة لهجمات الإنجليز , فإنه بعد المحالفة مع (ربخت سنكت) [4] ومعاهدته على مقاومة الإنجليز , قد تركه اغترارًا بالمواعيد الإنجليزية في ميدان الحرب وحيدًا , وتقهقر بعساكره فانهزمت جيوش رنجت , وتغلب الإنجليز على جميع أراضي البنجاب المتاخمة للأفغان، ولو استهدى الأمير (دوست محمد خان) إذ ذاك عقله وسلك في سياسته سلوك بصيرٍ يتدبر نتائج أفعاله قبل أن يتسرع فيها؛ لتحقق لديه أن صيانة بلاده من هجمات الإنجليز إنما يكون ببقاء الحكومة البنجابية حريزة , حتى تكون سدًّا مانعًا بين أفغانستان وبين الحكومة الإنجليزية , فكان يدافع عنها كما كان يدافع عن حكومته. وإن نواب البنجاله ونواب (الكرناتكر) قد مهدوا للإنجليز سبل دخولهم في الأراضي الهندية , وإن نواب (لكنهو) أيد مقاصدهم في إذلال السلطنة التيمورية وأن نواب (دكن) قد أعانهم على إبادة حكومة (تيبوسلطان) وإدلال راجة (بروده) وقهر الذين قاموا سنة 1857؛ لإنقاذ بلادهم , ودفع شر المتغلبين عليها من الإنجليز [5] , وكل هؤلاء جهلاً منهم بمنافعهم وعمى عن نتائج أفعالهم المضرة مكنوا الحكومة الإنجليزية ثقة بمواعيدها مِن الأراضي الهندية، وجعلوا على أعناقهم نير العبودية، وما عقلوا أن قوام كل بالآخر، وأن بقاءه قد نيط ببقائه، وأن كلا للآخر بمنزلة العضو من الجسد , فإذا تمكن الداء من عضو سرى في الجميع , ولزم منه انحلال البدن كله، والآن نرى الحكومة الإنجليزية بعد استعبادهم , وسلب أموالهم , ونزع أيديهم عن الملك تعارضهم في ديانتهم , وتزاحمهم في تجارتهم، وتعاقبهم على نياتهم , وتعاقبهم على أعمال آبائهم [6] . وإن أهل بخارى فرحوا بتسلط الروسية على قوقند - والتركمان تبجحوا بغلبتها على بخارى - والأفغان والفرس قد سروا من استيلائها على التركمان , وكل هذا غفلة منهم عن المضار التي تنشأ عن قوة الروسية وبسطة سلطتها في تلك الأراضي، وقد ألقاهم جهلهم بمصالح أنفسهم وإغضاؤهم عن الاستنارة بنور عقولهم في التهلكة، وأشرفوا كلهم بغرورهم على الزوال والاضمحلال. وإن مدحت باشا وأعوانه لو نظروا ببصيرتهم إلى أركان سلطنتهم المتداعية إلى السقوط، وشعروا بهداية عقولهم أن دعائم حكومتهم كادت أن تنهد بما أَلَمَّ بها من المصائب، وعلموا بتدبرهم أنّ البلايا تترصدهم من جوانبهم لما تقحموا غرورًا وضلالة في خلع عبد العزيز , وقتله وقتما تترقب الأعداء سقطاتهم، وتغتنم هفواتهم، ولكنهم اعتمادًا على واهي آرائهم، واغترارًا بدسائس الحكومة الإنجليزية قد جلبوا الهلاك والاضمحلال على أمتهم ويظنون أنهم هم المصلحون. وإن إسماعيل باشا حبًّا بالاستقلال , وعمى عن نتائج أفعاله السيئة , التي نشأت عن حرصه على اسم الملك قد ألقم الإفرنج جميع أموال مصر , وما استدانه من صرافي الأوربا (؟) بالأرباح الباهظة، ثم سعى الإفرنج في خلعه عن الملك ونفيه عن الديار المصرية؛ إرادة استملاكها ووضع اليد عليها , ولو تَرَوَّى في حالة الشرقيين , وتأمل فيما أصابهم من الذل والصغار؛ لأجل تفرق كلمتهم لازداد خضوعًا لسلطانه , وسعى صيانة لنفسه في تشييد مباني سلطنته ونزع من قلبه حب الاستقلال، وعلم أن الذين لا يَفْتُرُون عن السعي في فتح الممالك لا يمكن أن يساعدوه في مقاصده , وأن وزراء توفيق باشا جهلاً بمقدار أنفسهم، وعجبًا بآرائهم الفاسدة , واتباعًا لأوهامهم الباطلة قد جلبوا الإنجليز بغاية جهدهم إلى القطر المصريّ وملّكوهم إياه، وهم يظنون أنهم يستظهرون بهم على أعداء الخديوي، فلو تدبروا في سياسة الحكومة الإنجليزية ورأوا أطماعها في أرض مصر , لَمَا جلبوا هذه المصيبة على أنفسهم وعلى خديويهم وعلى سلطانهم , ولما ألقوا أنفسهم في فم الأسد خوفًا من وعوعة الكلب. *** فقد ظهر من كل ما ذكرته من سير الشرقيين قدحًا في معاملاتهم أنهم ما سلكوا في سياستهم سبيل الرشد والهدى، وما استفادوا من عقولهم شيئًا، ولا تدبروا في عواقب أفعالهم ونتائج أعمالهم، ولا نظروا بنور البصيرة في حالهم ومآلهم، بل تاهوا جهلاً منهم بمنافعهم في بيداء الغواية، وحادوا عمى عن غاية مسيرهم في تيه الضلالة , حتى خرّبوا بأيدهم ديارهم، وأبادوا بسوء تصرفهم بلادهم، ومكنوا الأجانب بمساعيهم الفاسدة من رقابهم. وكان الواجب علي أحفادهم الذين احترقوا بنارهم، وتدنسوا بعارهم أن يعتبروا بالمصائب التي جلبتها عليهم غفلات أسلافهم وأن يتقو البليات التي قادتها الغباوة إلى آبائهم، وأن يسعوا في جمع الكلمة، وأن يتحذروا عن الشتات والتفرقة وضواء، يجتنبوا اراض الشخصية، ويعرضوا عن دواعي الخطوات الوهمية، ويتنحوا عن مضال الاستبداد والاستئثار. ولكن تراهم لسبات عقولهم يقتفون آثارهم، ويتبعون أغلاطهم، معرضين عن العقل وإرشاده، جاحدين للحق وآياته، ارتفعت عنهم الأمانة، وفشت بينهم الخيانة، وانقطعت بينهم عرى الوداد، وانحلت عقدة الجنسية، كُلُّ ينظر إلى نفسه ويسعى لمنفعة شخصه، جهلاً منه أن سعادته منبثة في جميع آحاد الأمة , ولا يمكنه أن يفوز بها إلا بسعادة الكل، ولذلك قد صاروا فقراء لا يملكون شيئًا، حائرين في معاشهم، ضالين عن رشدهم في مبدئهم ومعادهم، وكاد أن يُقضى عليهم بذل أبديّ وموت دائميّ، بتلاشي جنسيتهم، وتناثر جمعيتهم. ومع كل هذا ما فاتهم أوان التدارك، ولا ضاق عليهم زمان التلافي، ولا أوصدت عليهم الأبواب، ولا انقطعت دونهم الأسباب، ولكن قد تمكن منهم القنوط وغلب عليهم اليأس، وفترت هممهم، وضعفت عزائمهم، واستكت آذانهم عن استماع النصائح، وعميت أبصارهم عن رؤية الحق، وقَسَتْ قلوبهم عن الإذعان له، فتراهم امتدادًا في غيّهم , يريقون دماء هدايتهم ويتّبعون آراء غواتهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله اهـ. *** (المنار) إنّ أمةً وُجِدَ فيها مثل هذا الحكيم الاجتماعي السياسي، وانتشرت في بلادها أمثال هذه الحقائق الرائعة، والنذر الصادعة، لَجديرة بأن تتبين الرشد من الغي، وتميز بين الحق والباطل، وتزيل بين الضار والنافع، فتجمع كلمتها، وتستعيد سيادتها، ولكن الفساد الذي أطال الحكيم في وصفه بهذه المقالة قد تجاوز الحدّ الذي تعقل فيه النذر، وتؤثر النصائح، فقد ازدادت الشعوب الشرقية الإسلامية التي وجه إليها الخطاب تعاديًا وتدابرًا، حتى سقطت الدولة الثمانية بجهالة رجالها وضلالهم وفساد عقائدهم وأخلاقهم، ولكن لم يفعل أحد في القديم ولا في الحديث شرًّا مما فعله أمير مكة الشريف حسين وأولاده , فقد تجاوز جهلهم وفساد عقولهم وأنفسهم كل حد؛ بأن أحدثوا ثورة عربية؛ لمساعدة الدولة البريطانية وأحلافها على إسقاط الدولة العثمانية , واستبعاد الشعوب العربية بإغراء هذه الدولة التي بيّن لنا السيد الحكيم بعض أفعالها في ثل عروش الدولة الشرقية، وأساليبها في الطرق الاستعمارية، وخداعها للملوك والأمراء بالوعود الكاذبة , والعهود الغارّة، ما لا يدع مجالاً لثقة أبلد البلداء بها، وقد استولى الإنكليز وأحلافهم من الفرنسيس على سائر البلاد العربية العامرة، ذات الغلات الوافرة، من حدود مصر إلى خليج فارس، ولا يزالون هؤلاء الخونة المتحلون بلقب الشرفاء , يوطدون سلطة الاحتلال في تراث سلطنتي العرب الكبريين - سورية والعراق - ويمكنونها من الإحاطة بالحجاز ونجد، حتى لا يبقى للأمة العربية ملجأ مستقل في هذه الأرض. وأغرب من هذا وأعجب أنه لا يزال لهؤلاء الأفراد حسين بن علي وأولاده أنصار وأولياء في فلسطين وسورية والعراق بعضهم من الخونة المأجوري

المنار بين الروافض والنواصب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار بين الروافض والنواصب ذكرت رصيفتنا مجلة العرفان الشيعية الغرَّاء أن في جزائر جاوه نواصب تنصرهم وتؤيدهم مجلة المنار- أو ما هذا معناه. لا أجد سعة في الوقت أبحث فيها عن الجزء الذي ذُكِرَ فيه هذا المعنى ولا حاجة إلى نقله بحروفه , وكنت نسيته فذكرني به ما كتب إليَّ أخيرًا من تلك البلاد من الانتقاد والعتاب على ما نشرت في المنار من الثناء على إمام اليمن وتعظيم شأن اليمانيين في مباحث الخلافة مما عُدَّ دعاية له , وتأييدًا لدعاة النزعة الشيعية في تلك الجزائر وتقوية لضعفها؛ حتى قال بعضهم: إنا لا نلومكم على التعصب لنسبكم , ولا يعنينا من إمام اليمن كونه زيديًّا أو غير زيدي , وإنما نبغي مصلحة المسلمين والعرب , وأهل اليمن ليسوا أهلاً للقيام بها. أنا لا أذكر الآن هذا ولا ذاك للرد عليه , فإن الجدال والمراء في المذاهب ونصر بعض الأحزاب والشيع الدينية - وكذا السياسية - على بعض لم يأت في يوم من الأيام بإقناع , بل أتى بشرور كثيرة أفسدت على أهلها - ولاسيما المسلمين - منهم دينهم ودنياهم؛ إذ خرجوا بها عن وحدة الدين العامة , وصدق على مثيري فتنة التفريق وأتباعهم قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) الآية؛ فظلوا يتعادون ويشاق بعضهم بعضًا؛ لأجل منافع بعض الزعماء الذين يطلبون الملك أو الجاه بهذه الوسيلة؛ ولما ضعفت العصبية الدينية والمذهبية بالتبع لأهلهما في بعض البلاد , انتقلوا منها إلى العصبية الجنسية والوطنية , فحاربوا بها الدين نفسه , وقد كان هذا غرضًا مقصودًا بالذات لبعض اليهود ومجوس الفرس الذين أحدثوا بدعة التشيع والأحزاب العدائية في الإسلام , والذي يساوي بين الأجناس والأوطان والطبقات والأفراد في جميع الأحكام , وجعل التفاضل بالعلوم النافعة والأعمال الصالحة؛ لإصلاح الإنسانية العامة وإيجاد التآخي البشري , ورفع مرتبة البشر عن عبادة بعضهم لبعض بنصوص القرآن المحكمة؛ فنحن نحارب هذا التفرق والعداء , وندعو إلى الوحدة والاتفاق , والشواهد على هذا في جميع مجلدات المنار كثيرة لا يمكن لأحد أن يماري فيها مراءً ظاهرًا , وأما مسألة دعوة التشيع في جزائر جاوه فهاك نبأها وخطتنا فيها: كنا ذكرنا في أجزاء من مجلدات المنار السابقة أنه حدث في تلك الجزائر الشرقية الجنوبية دعوة تشيع بين الحضارمة وغيرهم من العرب , أحدثت شقاقًا جديدًا , ولم ندر غرض الدعاة منها , فقد كان جميع مسلمي تلك البلاد من عرب وعجم يجلون السادة العلويين ويوقرونهم , - والفريقان ينسبان إلى مذهب الإمام الشافعي - رضي الله عنه- فصار لهم بها خصوم ينكرون عليهم؛ لا نواصب يبغضون عليًّا - كرم الله وجه - وقد جاءتني رسائل كثيرة من الفريقين بعضها مخطوط وبعضها مطبوع , يطلبون مني نشرها في المنار , وأسئلة يستفتونني بها فيما شجر بينهم , فكنت أهمل بعضها وأقف موقف المصلح فيما أنشر منها , وما أكاتب به أهلها , وأحببت أن أقف على قصد الذين أحدثوا هذه الدعوة ماذا يريدون منها؟ أهو ما عهد منذ القرون الأولى من فتنة الإمامة الدنيوية الظاهرة أو الإمامة الدينية الباطنة معصومتين أو غير معصومتين؟ أم ثَمَّ قصد جديد يناسب هذا العصر , أم مجرد استعلاء السادة العلويين على غيرهم، وإن كانوا يفوقونهم في علومهم وفضائلهم؟ بحثت وتساءلت فلم أقف على كنه الحقيقة كلها , وكنت اقترحت أن نترك هذه الدعاية الجدلية التي أرجح أنها ستنتهي بشر مما ظهر من إنتاجها ضد ما يريد دعاتها , وأن يستبدل بها دعوة إلى جمع رأس مال كبير؛ لإنشاء معاهد للتربية والتعليم خاصة بأولاد السادة العلويين في جميع الأقطار , يعلمون فيها التعليم العالي من ديني ودنيوي مع التربية الفضلى ليكونوا قدوة للناس بحق , وينهضوا بهذه الأمة النهضة التي تقتضيها حال العصر , فيكون منهم الأخصائيون في العلوم والفنون المختلفة , والدفاع عن الإسلام وجمع كلمة المسلمين , وليستعينوا بها على كسب رزقهم من أشرف الطرق؛ فلم تلق نصيحتي سميعًا مجيبًا , وإن استحسنها بعضهم بالقول فقط , وقد كنت بهذه الدعوة أَبَرُّ بسلالة أجدادنا مما دعوا الناس إلى عبادة بعضهم والغلو القريب من العبادة في بعض , وإلى جعلهم خلفاء في الأرض؛ إذ كان واضعو تلك الدعوة من زنادقة اليهود والمجوس أصدق أصدقائهم في الظاهر , وأعدى أعدائهم وأعداء جدهم وقومه ودينه في الباطن. فأما اليهود من مبتدعي تلك الدعوة؛ كالسبائيين، فقد حملهم عليها حسدهم للرسول صلى الله عليه وسلم ولقومه , أن يكون منهم خاتم النبيين الذي بَشَّر به موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل؛ ثم حقدهم على الرسول لنصر الله إياه على يهود مدينته وما يقرب منها , وعلى عمر بن الخطاب الخليفة الثاني؛ لإجلاء قومهم عن جزيرة العرب كلها , على أنهم رأوا بعد ذلك من عدل العرب في سورية ثم في الأندلس وغيرهما ما أنساهم ذلك الحقد , وجعلهم أنصارًا للمسلمين على النصارى الظالمين لهم؛ إذ لم يروا بعد ذهاب ملكهم عدلاً وإحسانًا إلا من المسلمين , وما سبب مكانتهم في بعض دول أوربة الكبرى في القرون الأخيرة إلا انتصارهم بالدهاء والكيد على الحكومات الدينية فيها وثل عروشها , واستبدال حكومات مدنية مادية بها , لا يقدر أن يفوق اليهود أحد فيها , وقد أعاد الإنكليز العداوة بينهم وبين العرب في هذا العصر. وأما المجوس من الفرس فأصروا على الكيد للعرب والإسلام , حتى غلبهم الإسلام على أمرهم , ولم يبق للمجوسية شأن قوي في شيء من بلادهم , وظهر أن تعصبهم الظاهر للعلويين كان نفاقًا ومكرًا منهم , فإنهم حوّلوا عصبيتهم عن العلويين إلى العباسيين لمَّا وُجِدَ من طلاب الخلافة في هؤلاء مَن يعرف كيف يسخر تلك العصبية , ثم وجد في إيران ملك مستقل , ولم يكن لأهل البيت فيه شيء من السلطان والحكم على استقرار تعاليم الشيعة وصيرورتها مذهبًا دينيًّا , بعد أن كانت لديهم حزبًا خداعًا سياسيًّا , بل فضلوا جعل الملك في سلالة من الأعاجم الذين عادوا قومهم وقاتلوهم؛ لأجل التشيع على جعله في السلالة العلوية الفاطمية المحمدية. وكانت عاقبة ذلك الغلوّ في التعظيم لآل البيت صرفهم في الأكثر عن تحصيل الفضائل الذاتية من التفوق في العلم والعرفان , والأعمال الناهضة بالإسلام , وصارت الألوف الكثيرة منهم كَلاًّ عن الناس في رزقهم , وأغرب من ذلك كله في سيرتهم أن تناط إمارة الحجاز ببطن من بطونهم , فتمر القرون ولا يظهر أحد من أفرادهم يصح أن يسمى مصلحًا في علم ولا عمل ولا حكم؛ بل غلب عليهم الجهل والظلم في أفضل بقاع الأرض - دع الفسق وأخباره - حتى انتهى الأمر في هذا , وكان لهم أسوأ الأثر العصر إلى هذا الرجل الظلاّم (حسين بن علي) الذي اعتمد على أعدى أعداء الإسلام والعرب في تسمية نفسه ملكًا للعرب وخليفة للمسلمين , وكان هو وأولاده مساعدين لهم على فتح بلاد العرب , وتمكين سلطانهم فيها , دع شدة ظلمه لأهل الحرمين وحجاج الآفاق كلها. مع هذا كله يقوم فينا هؤلاء الدعاة؛ للاهتداء بحملة أوراق هذه الأنساب , وأنهم كسلفهم الأول قرناء الكتاب , ثم يفتحوا علينا باب الطعن في أهل الصدر الأول حتى الخلفاء الراشدين منهم، كأبي بكر وعمر الذي يفتخر بعدلهما وفضائلهما جميع المنصفين من البشر , فقد كان من الرسائل التي لم ننشرها رسالة طبعت في ذي الحجة الحرام سنة 1339 , حاول كاتبها العلوي العامي إيجاب أخذ الدين عن العلويين وحدهم , وأن من أخذه عن غيرهم فهو (ضال منافق كائنًا من كان) , فيا ضيعة دين يؤخذ عن مثل هذا العامي الجاهل الذي لا يحسن كتابة عبارة عربية صحيحة؛ بل يا ضيعة دين وأمة يسمى فيها حسين بن علي المكي ملكًا للعرب وخليفة للمسلمين , وما جعله هو وأولاده ملوكًا إلا الإنجليز! ومنها رسالة أخرى يهذي مرسلها الجاهل في مسألة غضب السيدة فاطمة عليها السلام , من أصدق البشر وأخلصهم في حبها وحب أبيها عليه أفضل الصلاة والسلام صاحبه الأول الثابتة صحبته بنص القرآن , وصديقه الأكبر في إقامة الإسلام والإيمان أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. الجواب عن هذه المسألة ليس بالممتنع الذي تنبو عنه أسنة الألسنة وتكبو في ميدان بيانه جياد الأقلام , لو كان السائل عنه مُشْتَبَهًا عليه , وكان ينشد الحق فيه ليعتصم به , فإذا كنا نأخذ بما صح عنه صلى الله عليه وسلم من مناقب السيدة ومناقب الصديق معًا , فلا يعز علينا أن نرفع التعارض بين كلامه عليه الصلاة والسلام فيهما بما يصدق به بعضه بعضًا , ونعذر كلاً منهما بما كان منه باعتقاده واجتهاده , وأما إذا كنا نقبل بعضه ونرد بعضًا بأهوائنا , كما فعل أعداء الإسلام المفرقون من قبلنا , فالنتيجة اليوم تكون غير النتيجة بالأمس , غلو يقابل بغلو , وردّ يقابل برد , وتجديد شقاق قاتل لجميع المسلمين في إبان هذا الضعف , وإحاطة الأجانب بهم وبمهد دينهم من البر والبحر. وقد استتبع الطعن في الصحابة الطعن في حَفَظَةِ السنة ورواتها , ونقادها وحملتها , وهذا يستتبع الطعن في القرآن الذي تجرأ بعض غلاة الراوفض على القول بتحريف كلمه عن مواضعه , وبكتمان الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة - بَرَّأهم الله تعالى - لبعض كلمه وآياته وسوره , التي زعموا أنها نزلت في أهل البيت - عليهم السلام - وفي ولاية علي - كرم الله وجهه - وإمامته , وقد ألفوا في ذلك كتابًا طبعوه في طهران , وفيه من الأكاذيب على أئمة أهل البيت - برأهم الله تعالى وطهرهم - ما يقتضي لو ثبت أنهم أشد الكفار طعنًا بدين جدهم وهدمًا له (وحاش لله) , ولقد كان زنادقة المجوس واليهود الواضعون لهذه الزندقة يقصدون بما افتروه عليهم , أن ينسب هدم الإسلام إليهم؛ بل إلى جعل خنقه بأيديهم , بإضلالهم لمن أضلوا منهم , ولا سيما إن صح نسب العبيديين وغيرهم من أئمة الإسماعيلية , ولايزال بعض المخلصين من الشيعة غافلين عن ذلك , ولا غَرْوَ فقد اغتر مثل الشريف الرضي - رحمه الله تعالى - بالعبيديين ومدح خليفتهم. نحن واقفون على هذا كله , ولم نفتح بابًا للخوض فيه؛ لأننا نود رتق الفتوق التي أحدثها في الإسلام أعداؤه من زنادقة الفرس الباطنية وغيرهم لا توسيعها , فقد آن لنا أن نطهر أمتنا من جراثيم الوباء الذي أفسد به مزاجها من قبلنا , أو لم يكفنا شبهات ملاحدة هذا العصر , التي كان من تأثيرها دعوة بعض كبراء الترك إلى ترك الإسلام , ولو إلى عبادة الذئب الأبيض , ودعوة بعض نابتة الفرس إلى المجوسية الأولى؟ أوليس أولو العلم والبصيرة في الدين مَن بقية أهل البيت النبوي الكريم أولى من غيرهم بالتجافي عن الغرور بأنفسهم , والتلافي لما أفسد المحب الغالي والمبغض القالي من أمرهم , وبإصلاح ما أفسد التشيع الديني , ثم التعصب الجنسي من أمة جدهم؟ مهما تكن المذاهب والتشيع التي نشؤوا فيها؟ بلى والله، هذا ما نعتقده ولا نقول ولا نكتب ولا نعمل إلا ما نعتقد أنه الحق وفيه الصلاح والإصلاح , من غير تحامل إلى طائفة , ولا تحيز إلى فئة , ولا تحرف لمذهب. ونحن نصرح بالاجتهاد والاستقلال المطلق فيما وقع فيه الخلاف بين المسلمين باختلاف الفهم وتعارض الأدلة , وإن ما كان عليه جماعة المسلمين في الصدر الأول من أمر الدين هو الحق , وإنَّ إجماعهم فيه حجة , وإن شذوذ ب

خطاب عام للمسلمين ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب عام للمسلمين في شأن الحجاز (5) علاوة (في ظلم الملك حسين وولي عهده الأمير علي في المدينة المنورة) كتب إلينا ناقد خبير من سكان المدينة المنورة مقالاً طويلاً ذا فصول في ذلك , فرأينا من إتمام الموضوع أن نلخصه بما يأتي: (1) نهبهما للأوقاف الأهلية الخيرية: لما استولى الشريف حسين على المدينة المنورة بعد هدنة الحرب , كان أول شيء فعله أن وضع يده على أوقافها حتى الموقوفة على سكان البلاد كوقف المغاربة , وهو يحتوي على نخيل وأراضي وبيوت , وكذا وقف الهنود والبخاريين وغيرهم , فريع هذه الأوقاف يوضع الآن في الخزينة النبوية , ومنها يرسل إلى خزينة الشريف في مكة إلى يومنا هذا , وسنذكر بعض الوقائع في مخاصمة بعض مستحقي هذه الأوقاف للأمير علي والشكوى لوالده. ولم يكفه هذا كله بل تسلط على الأوقاف الخيرية المحبوسة على الفقراء في المدينة , وأمر بتحويلها إلى الخزينة النبوية؛ لتصرف في شؤون الحرم مدعيًا أن المستحقين ليسوا موجودين , والله يعلم أن عدد الفقراء في المدينة المنورة أكثر من سائر سكانها , ولكن ليس المقصد ذلك , بل هو استيلاء الخزينة على غلة هذه الأوقاف , واطلاعها على تفرعاتها وريعها , وأن تجمعها وترسلها في صناديق مقفلة إلى الملك بمكة , وهذه العادة مستمرة إلى يومنا هذا. (2) نهبهما للحجرة النبوية: ثم مد يده إلى الحجرة النبوية المعطرة فجردها من جميع ما بقي فيها , بعد أن أخذ الترك ما أخذوا من جواهرها وذخائرها , وأخذ جميع الأمتعة التي تركها فخري باشا على ضريح السيدة فاطمة البتول رضي الله عنها , ولولا أن فخري باشا تدارك الأمر , وأرسل مجوهرات الحجرة الشريفة إلى الآستانة لتَصَرَّف فيها الشريف حسين , ووضعها في خزائنها مثل بقية الأمتعة. فمن جملة تصرفه في أموال الحجرة الشريفة أنه أخذ ما ينوف عن عشرة كيلو (غرام) من الذهب , كان فخري باشا ذوبها وجعلها سبائك , وهو قطع بعض الأمتعة المكسورة و250 كيلو من الفضة المسبوكة , وكان قد أراد فخري باشا إرسالها إلى الآستانة مع بقية الأمتعة , فحال دونه قطع المواصلات. والنقود التي طبعها الشريف حسين في المدة الأخيرة من هذه السبائك , ومن جملة الأحوال التي يتأثر بها الإنسان؛ أن الحجرة الشريفة بعد أن كانت توقد قناديلها كلها من الزيت الرفيع , أصبح يوقد عدد قليل منه بالزيت المكروهة رائحته , إلا أن أمر بإيقاد شمعتين في الحجرة فقط. وقد نقل إلى مكة كل ما كان في الخزينة النبوية من جواهر وحلي وأمتعة موقوفة من أهل البر والإحسان لكل عائلة تريد التحلي بها والتزين في الأعراس , مع ما تركه فخري باشا من النقود التي تزيد عن مليون ونصف مليون جنيه من القراطيس المالية (بانقونوط) , وخمسين ألف جنيهًا عثماني أصلها من أموال الخزينة وأوقافها , غير مبالٍ بحق الله أو بحق رسوله , أو بحق العباد وحرمان الفقراء المستحقين من القوت. (3) نهبه للحرم النبوي الشريف: أمر الملك حسين ولده الأمير عليًّا والي المدينة المنورة بأن يرسل إليه جميع ما في الحرم النبوي الشريف زائدًا على فرشه من السجاد والبسط فنقلها إلى مكة شيئًا فشيئًا , ففرش الملك بها قصره وداره ودوائر أولاده , حتى بيوت عبيده وغلمانه , وكل ما يهدى إلى الحرم الشريف من زيت وشمع وعطر وغيرها , يأمر بإرسالها إليه قبل أن تفتح , وأن يراها أحد , وهو يُخْبَر بكل شيء من هذه الهدايا عند وصلها , وأكثرها تجيء من الهند. ولا أعلم أنه أرسل يومًا من الأيام شيئًا إلى الحرم النبوي , بل كلما بلغه أن هناك هدية قدمت للحرم فقبل أن يخبروه بها هو يرسل في طلبها حالاً , حتى أصبحت الخزينة النبوية لا تستطيع شراء أقل شيء يحتاجه الحرم ولو (مكنسة) , وإذا اطلعت على قيود الخزينة النبوية , ترى أن لها مخصصات تبلغ خمسمائة جنيه في كل شهر , ربما تتقاضى هذا المبلغ في مدة سنتين , بَيْدَ أن مداخل الخزينة تقدر بالألوف من الليرات , فإيرادات الحرم النبوي في الحالة الحاضرة ليست بقليلة؛ بل هي تقوم بجميع ما يحتاجه إليه مع رواتب مأموريه , ولكن الشريف لا يرضيه ذلك , ولا يهمه إلا تكديس الذهب الأحمر في خزائنه , وهو لا يصرف لخدمة الحرم من أئمة وخطباء ومؤذنين وأغوات وغيرهم إلا نصف المرتب , ولكن في كل ثلاثة أشهر مرة , ثم إنه يعطيه بدل الجنيه الإفرنجي ستة ريالات مجيدية , وإنما سعره في الخارج يساوي 14 مجيديًّا , وهو لا يدفع لهم مرتباتهم إلا قطع فضة , وكذلك بقية عمال حكومته؛ لأنه يحتكر الذهب لنفسه. وقد بلغ الحرم في الحالة الحاضرة إلى حالة سيئة؛ لإهمال ترميمه في كل سنة حسب العادة , يقال: إن ترميمه في الحالة الراهنة يحتاج إلى مصرف قدره خمسة آلاف جنيه وزيادة ليعود كما كان. ولولا مساعدة أرباب الغيرة من المسلمين , وبذلهم ما في إمكانهم؛ لشراء (البوية الخضراء) وجلبها من مصر؛ لأجل طلاء القبة الشريفة لأصبحت القبة غبراء , وكذلك بقية ملزمة الحرم التي ترسل تارة من إخواننا المصريين والهنود وغيرهم. (4) إن بعض أغنياء الهنود يبذلون كثيرًا من الهدايا والصدقات لأهل المدينة في أثناء زيارتهم , وذلك يسوء الملك جدًّا , فيتوسل جواسيسه وأعوانه بما يعلم أهل المدينة من مساءته إلى مشاركتهم في هذه الصدقات والهدايا وإلا أخبروه بها , وفي رمضان الماضي زار المدينة المنورة ملك (جترال) واسمه شجاع الملك , وأقام فيها خمسين يومًا , فبذل كثيرًا من الصدقات على جميع الأهالي من طعام ولباس وفلوس حتى رجال الحكومة عمومًا , فكان كل يوم يدعو جماعة من الدوائر للإفطار في رمضان , ووسع على بعض علماء المدينة الذين عرفهم , وكانت نفقاته اليومية تقدر على الأقل بخمسين جنيهًا , ماعدا العطايا التي كان يبذلها لخدمة الحجرة المعطرة , والحرم الشريف , ومؤذنيه , وخطبائه , وأئمته , والسقاة والبوابين إلخ , فلما بلغ الأمر إلى الشريف الحسين , وكان أمر بمراعاته وخدمته , أخذ يضيّق عليه بطرق أزعجته وأضرّت بكثير من الناس , فقد أمر بمنع الأهالي من زيارته حتى العلماء والفقراء إلا بإذن من الحكومة , فكانوا يمنعونهم جهرًا ويهينونهم [1] فأدرك الملك المشار إليه ذلك؛ فحزن ووعد بأن يساعدهم من بلاده , ويتحرى أن لا يصيبهم من مساعدته ضرر , وقد أرسل الشريف حسين إليه من يبلّغه شكره , ويقول له: إن المطعم الهاشمي يكفي فقراء المدينة حاجتهم. (5) وأما خبر المطعم الهاشمي فهو أنه لما امتنعت التكية المصرية في المدينة المنورة من إعانة الفقراء من جراء الخلاف بين الحكومتين الهاشمية والمصرية , أمر الشريف حسين بإنشاء مطعم يغنيهم عن إعانة التكية , وأمر تجار المدينة بأن تقوم بجميع نفقاته , فقاموا بذلك ظانين أن الحكومة تعطيهم ما ينفقونه , فلما طال الزمان ولم يروا منها شيئًا ,علموا أن هذا من جملة الغرامات التي تلقيها على رقابهم , فقصروا , واختل نظام المطعم , وأصبح يطعم يومًا ويمنع أيامًا , ويعطي أقل ما ينفقه للفقراء وأكثره لرجال الحكومة الهاشمية وجواسيسها وعبيدها؛ ليشهدوا لهم عند من لا يقبل شهادة غيرهم. أي الرجلين أظلم حسين بن علي أم علي بن حسين؟ (6) لأهالي المدينة المنورة أوقاف كثيرة , بعضها موقوف على بعض العائلات بموجب فرمانات وحجج شرعية , فلما نهق الشريف حسين نهقته المشهورة بإبادة العالم الإسلامي , ودخل المدينة المنورة بعد الحرب , وضع يده على المباني الأميرية , وعلى الأوقاف العائدة لأهاليها الحاضرين بالمدينة المنورة , فحول ريعها إلى خزينته , كما تقدم غير مبالٍ بالمستحقين فيها من أيتام وأرامل وغيرهم , وهو يعلم أنه ليس لهم من دونها أقل دخل يعتمدون عليه في تدبير معيشتهم , وقد ظن بعض الناس أن هذا خطأ , فقام بعضهم بواجب الدفاع عن حقوق بعض العائلات التي أُدخلت أراضيهم ودكاكينهم في الأوقاف الأميرية , وعرضوا الفرمانات والحجج الشرعية التي تثبت أن الوقف أهلي له مستحقون , فتلقى الأمير علي أمير المدينة المنورة هذه الحجج والمستندات بغاية الغضب والاشمئزاز , وأخذ يتدبر في حل المشكل , فأوعز إلى قاضي المدينة بتشكيل هيئة تدقق الحجج وتنهي المسألة على حسب مرغوبه في الباطن , فقامت الهيئة بالعمل فاتضح الحق: كالشمس في رابعة النهار , ولكن المخلصين من رجال الهيئة لم يمكنهم المجاهرة بالحق , ففوضوا الرأي (لمولانا) القاضي لأن يحكم بما أنزل الله , فحكم بما أنزله الأمير علي بقوله: للحكومة حق فيها من حيث إن أصل الأراضي أميرية , وقد تبرعت بها الحكومة التركية على بعض الأهالي , وبما أن القوانين التركية لا يعمل بها في الحكومة الهاشمية فلا عبرة بحججها ولا بغيرها. وأتى بنص أخرجه من كتب الزنادقة (كذا) أيد به رأيه , فعارضه بعض الأعضاء ببطلان نصه وإثبات صحة الوقف شرعًا ونفاذه. ولكن الأمير عليًّا أخذ بقول القاضي؛ وكتمت المسألة حتى جاء والده المدينة زائرًا قبل سفره إلى شرق الأردن , فرفعوا الأمر إليه , فأمر بتأليف لجنة للنظر في القضية , فقال له الأمير علي: إن اللجنة تشكلت وحكمت , والتفت إلى الشاكين وهددهم بقوله: سأناقشكم الحساب , فقال الملك: أي حساب يا ولدي؟ شكل اللجنة ثانية؛ واعتذر هو للشاكين بأنه زائر ما جاء ليحكم , وإن في ولده الغنى عن حكمه , وإنه لولا حبه إياهم لما ترك عندهم أعز أولاده في وقت هو محتاج إليه فيه , (قال) : فأرجو مساعدته وحفظه , وما هو إلا أمانة مودعة عندكم , فراعوا حقها وواجبها فإني أوصيكم به خيرًا. (7) كان صدر أمر الأمير علي بأخذ العشور عن كل ما يباع في أسواق المدينة من صنف الخضر والفواكه التي تزرع في نفس البلاد , فكان هذا الأمر ساء زراع أهل المدينة مع مخالفته لحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله ما تأويله: (لا يؤخذ عن سوقنا هذه شيء , ولما هو مكتوب على باب السلام من ثلاثمائة سنة سوق المدينة المنورة معفي من أداء العشور) فعرضت على الملك حسين وهو في المدينة , فسأل ولده الأمير عليًّا عن صحة ذلك فأجابه في حضرة المدعين: بأنه لم يأخذ باسم العشور , وإنما أخذ باسم الزكاة وفقًا لأصول مكة , فسأل الملك الحاضرين ما قولكم؟ فأجابوه: إننا تؤخذ منا الزكاة وتؤخذ منا العشور وما نحن بكاذبين أمام صاحب الجلالة , فسكت قليلاً وقال: أنا أمرت ألا تؤخذ عشور من المدينة , فما سافر الملك حسين حتى ازدادت قيمة العشور فوق ما كانت اهـ. [2] خاتمة الخطاب والغرض منه: إن مجموع ما أثبتناه في هذا الخطاب يوجب وجوبًا كفائيًّا على من علم به من المسلمين أن يسعوا لإنقاذ الحرمين الشريفين وأهلهما من ظلم هذا الطاغوت وظلم أولاده , وتأمين أهلهما ومن يقصدهما للنسك أو غيره على نفسه وشرفه وماله , ومنع الغرامات والضرائب والظمأ القاتل والغلاء الفاحش منهما , بتغيير شكل حكومتهما , ومنع نفوذ حسين وأولاده أن يعود إليها , ثم السعي لإعلاء شأنهما بالعلم والعمران. فأما القادرون على إزالة هذه المنكرات بأيديهم: كأمراء جزيرة العرب وأئمتها فهم المسؤولون قبل كل أحد عن القيام بهذه الفريضة بالتعاون أو الانفراد , فأيهم قام بها يسقط بعمله الإثم عن الباقين وسائر المسلمين. وقد كنا أفتينا بهذا من قبل , وطالبنا هؤلاء الأمراء بهذا الواجب في السر والجهر , وبينا لهم أن ما كانوا يخشونه من تدخل الأجانب غير المسلمين في أمر الحجاز بدعوة حسين , ولا سيما من ناط بهم أمر حمايته , مخالف لتقاليدهم السياسية

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار غرائب الوسوسة في الطهارة (س22) مِن صاحب الإمضاء في أسيوط أستاذي الفاضل: بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , أرجو الفتوى على ما يأتي: رجل تردد على غالب محلات الأكل في مدينة من المدن , وكان يتناول أكله منها بدون أن يغسل يديه المتنجستين , وقد ترك هذه العادة الممقوتة الآن؛ فما الحكم في مأكولات هذه المدينة؟ وما الذي يعمله ذلك الرجل إذا كانت حرفته تستدعي وجوده في هذه المدينة , ولا يمكنه الانتقال عنها إلا في أزمنة مخصوصة وكالإجازات الرسمية مثلاً؟ ومعلوم أيضًا أن سكان المدن لا غِنَى لهم عن تناول طعامهم من تلك المحلات السالفة الذكر , وبعضهم يأكل منها ولا يغسل يديه عقب الأكل , ولا يمكن للرجل المذكور أن يستغني عن قضاء حاجته منهم , ولما أعهده في فضليتكم من شرح معضلات المسائل , والتفاني في خدمة العلم والمسلمين جميعًا بعثت بهذه إليكم طالبًا من المولى سبحانه وتعالى أن يجزل ثوابكم , ويعظم أجركم وتنازلوا بقبول عاطر تحياتي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ابنكم المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد البديع مصطفى ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بمعهد أسيوط الديني (ج) إن الرجل المسئول عن حاله وما يترتب عليها شاذ في عقله وعمله , فهو موسوس , والسؤال عن حاله من شواذ مسائل الوسوسة , ويصعب على العاقل أن يتصور وجود رجل عاقل تكرر منه الأكل في أكثر مطاعم مدينة وهو متنجس اليدين , ولعل السائل لو ذكر لنا كيف كانت يداه متنجستين في هذه المرار كلها لجزمنا بأنَّ تنجسها من الوسوسة لا حقيقي. هذا وإن تنجس اليدين لا يقتضي تنجس الطعام الذي يؤكل بهما , إلا إذا كان يغمسهما في الإدام المائع كالمرق , وأما تناوله بالملعقة فهو كآخذ الجامد باليد لا يقتضي تنجس الإناء , وإذا فرضنا أن كان من شذوذ وسوسته غمس يده النجسة أو يديه في المائعات , وأن أوانيها تنجست بها , فذلك لا يقتضي بقاء هذه الأواني نجسة , فإن الأواني في المطاعم وغيرها تغسل عقب كل طعام , وطهارة أواني المطاعم وغيرها , وطهارة الطعام أصل لا يعدل عنه إلا في إناء يعلم أنه تنجس , وأنه لم يطهر بعد ذلك بأن رأى النجاسة أصابته , ولم يغب عنه غيبة يحتمل تطهيره فيها. وجملة القول في الجواب: إن السؤال ليس من المشكلات , بل هو من أوضح الواضحات , فأواني مطاعم البلد كلها تعد طاهرة شرعًا وعقلاً وعرفًا , فلا حرج على الرجل في الأكل منها إذا ارتفع حرج الوسواس من قلبه , ولا خلاف في هذا بين فقهاء المذاهب المعتبرة , ولكن لهم أبحاثًا دقيقة في بعض النجس بيقين , إذا اختلط بالطاهرات وما في معناه. *** أسباب ارتقاء العرب الماضي وهبوط المسلمين وعلاجه (س 23-25) مِن صاحب الإمضاء في حمص حضرة العلامة الفاضل الشيخ رشيد رضا زاده الله رشدًا وأرضاه نوجه لحضرتكم الأسئلة الآتية , آملين أن تنوروا بصائرنا بما آتاكم الله من العلم , مد الله مناركم نورًا , فليجب الله سؤالكم , وينجح مقاصدكم وأمانيكم: (1) ما السر الذي جعل العرب الجاهلية - على ما كانوا عليه من التباين والتنافر والجمود والهمجية - أن يخترقوا قوانين النشوء الطبيعي ونواميس الارتقاء إلى أن وصلوا درجة الكمال بأقل من جيل؟ (2) ما هي الأسباب التي أدت إلى هبوط المسلمين من الكمال إلى حضيض الزوال؛ مع ما كانوا عليه من متانة القواعد الدينية والمدنية الجامعة لجميع ما يحتاجه البشر من العلوم النافعة والصالحة في كل زمان ومكان , واعتبارًا من أي تاريخ يبدأ هذا الانحطاط وفي أي التواريخ يتوقف , ثم يعود إلى الهبوط , وأسبابه (مختصرًا) ؟ (3) بأي أصول يمكن معالجة حالة السلمين الحاضرة؟ وأي السبل أنفع وأقرب للفلاح؟ وأي الأمم والأمراء الحاضرة من المسلمين أكمل استعدادًا لأداء الخدمات للنجاح العام؟ وكيف يمكن ذلك؟ ولولا أن هذا الموضوع يهم كل مسلم يدق قلبه على تأخر أمته , بل كل شرقي يتألم من تدنس الشرق , ثم لولا علمنا بأننا ما قصدنا إلا أوثق معهد , وأوسع دائرة علمية إسلامية شرقية , لما تجاسرنا لتعجيزكم , فعذرًا يا سيدي جزاكم الله عنا كل خير. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فوزي (ج) إن ما قاله السائل الغيور في جاهلية العرب لا يصح ولعله يريد السؤال عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتابعيهم من عرب الجاهلية , الذين ارتقوا بالإسلام عقولاً وأخلاقًا وحكمة , وعلمًا وعملاً , وعدلاً وسياسة وإدارة كانوا بها فوق المعهود في تاريخ البشر من نوع ارتقائهم , وفيما ترتب عليه من الفتح الشريف , وتأسيس ذلك الملك العظيم على أساس العدل إلخ. وقد بيّنا ذلك في مواضع كثيرة من مجلدات المنار وتفسيره , كما بيّنا أسباب هبوط المسلمين بعد ذلك وتاريخه وعلاج ما طرأ عليهم من الأمراض الاجتماعية , ولا يمكن تلخيص شيء من المسائل الثلاث في جواب سؤال ينشر في باب الفتاوى. وإنما أقول بالإجمال: إنه لا يُصْلِح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها , كما قال الإمام مالك - رضي الله عنه -: (وذلك ما جاء به الإسلام من إصلاح العقول بالعقائد الصحيحة الخالية من خرافات الوثنية , وإصلاح الأنفس بالعبادات السليمة من البدع والآداب والفضائل , وإصلاح حال الاجتماع بوحدة الأمة , وجمع كلمتها , وتوحيد وجهتها وتوجيهها إلى طلب العزة والكمال الذي شُرع الإسلام لأجله) . وأقوى الشعوب الإسلامية استعدادًا لذلك أهل الدين في جزيرة العرب وأهل أفغانستان , ولكن هؤلاء عرضة للتفرنج الذي يفرق كلمة كل شعب شرقي يفتتن به في نفسه , ويجعل بعض أهله أعداءً وخصومًا لبعض بأْسُهم بينهم شديد , تحسبهم جميعًا وقلوبهم شَتَّى , فنسأل الله أن يقيهم شر هذه الفرقة التي قوضت أركان السلطنة العثمانية , وقطعت أوصال الوحدة المصرية وضعضعت ألباب الطوائف السورية , فيجب إرشاد عرب الجزيرة إلى جمع كلمتهم بالدين , ولن تجتمع بغيره , وإلى العناية مع ذلك بتنظيم القوة الحربية وتنظيم موارد الثروة الداخلية , ثم يجيء كل ارتقاء تبعًا لذلك , ولا نظام أصلح وأرجى لذلك من نظام الوهابية , إذا أتيح له ما يحتاج إليه من المساعدة , وكذلك الزيدية في اليمن , فهم فرقة متحدة تحتاج إلى المساعدة على تنظيم القوة والثروة الداخلية , ويجب أن يتحالف الإمامان فيهما , ونحمد الله تعالى أنه ليس ثمة أجناس ولا مال يتخذها الأجانب ذرائع للفساد فيهما. *** خطيب يأمر المسلمين بالشرك (س 26) من صاحب الإمضاء في بمبي (الهند) . بسم الله الرحمن الرحيم حضرة العالم العلامة والحَبْر الفهّامة سيدي الأجل السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المنير لا زال محفوظًا لخدمة الدين الحنيف آمين. أما بعد: فأرجو إجابتي عما يأتي: خطب أحد خطباء مساجد بمبي خطبة يوم الجمعة حبذ فيها الاستغاثة والاستعانة بغير الله؛ كالأنبياء والأولياء والصالحين , وقد جاء بأحاديث عزز فيها قوله لا أعلم مقدار حظها من الصحة , وكان بودّي أن آخذ نص الخطبة وأرسلها مرفقة بسؤالي ولكنني لم أستطع , غير أني أظن أنني أحفظ حديثًا واحدًا مما أتى به ذلك الخطيب بدون إسناد , إذا لم تخني ذاكرتي وهو (اذكر أحب الناس إليك , قال يا محمداه يا محمداه) , وقد سب وشتم أيضًا عالمًا من كبار علماء المسلمين ألا وهو المرحوم حسن صديق خان البهبالي؛ لزعمه أنه حرف في فتح الباري الذي طبعه في مصر على نفقته حديث (أوتيت علوم الأولين والآخرين) وعند انتهاء الخطبة عاد فكرر كرامات الصالحين ووجوب الاستعانة بهم , واستشهد على ما قال بقصة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع سارية والقصة مشهورة عند العامة , ولكنني لم أعثر عليها في كتب مَن أثِقُ به من المؤرخين. فما قول سيدي الأجل فيما تقدم؟ اهدنا إلى طريق الحق جعلك الله هاديًّا ومرشدًا والله يحفظكم والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص لكم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي خان البنجابي (ج) الاستغاثة والاستعانة بالمخلوق قسمان: (أحدهما) ما يكون بين الناس من طلب التعاون والمساعدة في الأمور الكسبية: كاستغاثة مَن أَشْرَفَ على الغرق أو تردى في بئر أو حفرة بمن ينقذه مثلاً, وكاستعانة مَن وَقَعَ حِمْلُ دابته بمن يساعده على رفعه؛ فهذا القسم مشروع في كل عمل مشروع من الواجبات والمستحبات والمباحات. (ثانيهما) ما يكون فيما وراء الأسباب التي هي من كسب الناس مما يخالف سنن الله تعالى في خلقه؛ كالاستغاثة بالموتى , والاستعانة بهم وبالأحياء فيما ليس من مقدورهم وكسبهم: كإنزال المطر , وشفاء المرضى بغير تداوٍ , فهذا القسم خاص بالله تعالى لا يطلب من غيره , وهو المراد بقوله تعالى في سورة الفاتحة: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ومعناه نستعينك وحدك ولا نستعين غيرك , كما أن معنى قوله تعالى قبله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (الفاتحة: 5) نعبدك ولا نعبد غيرك؛ فاستعانة غير الله تعالى بهذا المعنى كفر وشرك كعبادة غيره , ومن أمر بذلك كان آمرًا بالكفر بالله ومخالفة ما كُلَّف جميع عباده أن يخاطبوه به في كل ركعة من صلواتهم , فهل صار المسلمون في درجة من الجهل بدينهم يؤمهم بها في صلاتهم , ويتولى وعظهم في مساجدهم مَن يأمرهم بهذا؟ وإذا لم تكن هذه الاستعانة هي الخاصة بالله تعالى بنص هذه الآية في أشهر سورة من كتاب ربهم , يحفظها كل مسلم ومسلمة فما هيه؟ على أن العباد يتحرون اجتناب الاستعانة بالمخلوقين وسؤالهم حتى في الأمور الكسبية التي أقام الله تعالى بها نظام هذا العالم , وقد ورد في مناقب الصديق الأكبر - رضي الله عنه - أنه لم يسأل النبي صلوات الله عليه وعلى آله شيئًا لنفسه قيل: ولا الدعاء. وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس - رضي الله عنه - (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) رواه الترمذي عنه , وقال حسن: صحيح , وقال الحافظ ابن رجب في شرحه: إن هذه الوصية منتزعة من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على ألا يسألوا أحدًا شيئًا منهم الصديق وأبو ذر وثوبان - رضي الله عنه - فكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته من يده وهو راكب , فلا يسأل أحدًا أن يناوله إياه؛ (أقول) : وهذه درجة كمال , لا يقدر عليها إلا أفراد الرجال , وأما الأولى فيكلفها كل مؤمن؛ لأن تركها ينافي الإيمان , وفي المسألة أحاديث أخرى في الصحاح وآثار عن كبار الصحابة والتابعين ومَن دونهم من الصالحين. والاستغاثة في هذا الباب مثل الاستعانة؛ بل أخص لأنها عبارة عن الضراعة في الدعاء عند شدة الضيق , التي وصف الله تعالى مشركي العرب بأنهم لا يدعون غيره عندها , وإنما يشركون به بعد أن ينجيهم منها والآيات في ذلك متعددة. وقد استغاث المسلمون الله تعالى يوم بدر , ولم يستغيثوا النبي صلى الله عليه وسلم , بل كان - بأبي هو وأمي - إمامهم وقدوتهم في الاستغاثة , كما أنزل الله عليه {ِإذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} (الأنفال: 9) إلخ , وذلك أنهم كانوا قد قاموا بكل ما قدروا عليه , ولم يبق إلا ما لا يناله كسبهم من أسباب النصر , فسألوا الله تعالى مستغيثيه , فاستجاب لهم ونصرهم. ولكنك تجد الألوف من المسلمين الأميين والمتعلمين يعارض هذه الأصول القطعية من التوحيد بشبهات تلقّاها بعضهم من بعض بالتسليم والتقليد الجهلي , وهي إن ما ثبت في الكتاب من حياة الشهداء , وما عليه جمهور أهل السنة من إثبات كرام

إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها ـ 4

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه وموسى لما قال لآدم: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام فيما قال لموسى: لِمَ تلومني على أمر قدّره الله عليَّ قبل أن أُخْلَقَ بأربعين عامًا؟ فحج آدم موسى؛ لم يكن آدم عليه السلام محتجًا على فعل ما نهي عنه بالقدر , ولا كان موسى ممن يحتج عليه بذلك فيقبله , بل آحاد المؤمنين لا يفعل مثل هذا , فكيف آدم وموسى؟ وآدم قد تاب مما فعل واجتباه ربه وهدى , وموسى أعلم بالله من أن يلوم من هو دون نبي على فعل تاب منه , فكيف بنبي من الأنبياء؟ وآدم يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يحتج إلى توبة ولم يجر ما جرى من خروجه من الجنة وغير ذلك , ولو كان القدر حجة لكان لإبليس وغيره , وكذلك موسى يعلم أنه لو كان القدر حجة لم يعاقب فرعون بالغرق ولا بنو إسرائيل بالصعقة وغيرها , كيف وقد قال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: 16) وقال: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الغَافِرِينَ} (الأعراف: 155) , وهذا باب واسع , وإنما كان لوم موسى لآدم من أجل المصيبة التي لحقت بآدم من أكل الشجرة , ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ واللوم لأجل المصيبة التي لحقت الإنسان نوع، واللوم لأجل الذنب الذي هو حق الله نوع آخر , فإن الأب لو فعل فعلاً افتقر به حتى تضرر بنوه , فأخذوا يلومونه لأجل ما لحقهم من الفقر لم يكن هذا كلومه لأجل كونه أذنب , والعبد مأمور أن يصبر على المقدور , ويطيع المأمور , وإذا أذنب استغفر كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} (غافر: 55) وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: 11) . قال طائفة من السلف: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم , فمن احتج بالقدر على ترك المأمور , وجزع من حصول ما كرهه من المقدور , فقد عكس الإيمان والدين , وصار من حزب الملحدين المنافقين ,وهذا حال المحتجين بالقدر , فإن أحدهم إذا أصابته مصيبة عظم جزعه وقل صبره , فلا ينظر إلى القدر , ولا يسلم له , وإذا أذنب ذنبًا أخذ يحتج بالقدر , فلا يفعل المأمور ويترك المحظور , ولا يصبر على المقدور , ويدعي مع هذا أنه من كبار أولياء الله المتقين , وأئمة المحققين الموجدين , وإنما هو من أعداء الله الملحدين , وحزب الشيطان اللعين , وهذا الطريق إنما يسلكه أبعد الناس عن الخير والدين والإيمان , تجد أحدهم أخير الناس إذا قدر , وأعظمهم ظلمًا وعدوانًا , وأذل الناس إذا قهر , وأعظم جزعًا ووهنًا , كما جربه الناس من الأحزاب البعيدين عن الإيمان بالكتاب والمقابلة من أصناف الناس , والمؤمن إن قدر عدل وأحسن , وإن قهر وغلب صبر واحتسب كما قال كعب بن زهير في قصيدته التي أنشدها للنبي صلى الله عليه وسلم , التي أولها بانت سعاد إلخ في صفة المؤمنين: ليسوا مفاريح إن نالت رماحهم ... يومًا وليسوا مجازيعًا إذا نيلوا وسئل بعض العرب عن شيء من أمور النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: رأيته يَغْلِب فلا يبطر , ويُغلب فلا يضجر , وقد قال تعالى: {قَالُوا أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} (آل عمران: 120) وقال تعالى: {إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125) , وقال تعالى: {وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) فذكر الصبر والتقوى في هذه المواضع الأربعة , فالصبر يدخل فيه الصبر على المقدور , والتقوى يدخل فيها فعل المأمور , فمن رزق هذا وهذا فقد جمع له الخير , بخلاف من عكس فلا يتقي الله؛ بل يترك طاعته متبعًا لهواه ويحتج بالقدر , ولا يصبر إذا ابتلى , ولا ينظر حينئذ إلى القدر , فإن هذا حال الأشقياء , كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري , وعند المعصية جبري , أي مذهب وافق هواك تمذهبت به , يقول: أنت إذا أطعت جعلت نفسك خالقًا لطاعتك , فتنسى نعمة الله عليك كي [1] أنه جعلك مطيعًا له , وإذا عصيت لم تعترف بأنك فعلت الذنب؛ بل تجعل نفسك بمنزلة المجبور عليه بخلاف مراده أو المحرك الذي لا إرادة له , ولا قدرة ولا علم وكلاهما خطأ. وقد ذكر أبو طالب المكي عن سهل بن عبد الله التستري أنه قال: إذا عمل العبد حسنة فقال: أي ربي أنا فعلت هذه الحسنة , قال له ربه: أنا يسرتك لها , وأنا أعنتك عليها , فإن قال: أي ربي أنت أعنتني عليها , ويسرتني لها , قال له ربه: أنت عملتها وأجرها لك , وإذا فعل سيئة فقال: أي ربي قُدِّرَت عليَّ هذه السيئة , قال له ربه: أنت اكتسبتها وعليك وزرها , قإن قال: أي ربي إني أذنبت هذا الذنب وأنا أتوب منه , قال له ربه: أنا قدرته عليك وأنا أغفره لك , وهذا باب مبسوط في غير هذا الموضع. وقد كثر في كثير من المنتسبين إلى المشيخة والتصوف شهود القدر فقط من غير شهود الأمر والنهي , والاستناد إليه في ترك المأمور وفعل المحظور , وهذا أعظم الضلال , ومن طرد هذا القول والتزم لوازمه كان أكفر من اليهود والنصارى والمشركين , لكن أكثر من يدخل في ذلك يتناقض ولا يطرد قوله. وقول هذا القائل هو من هذا الباب فقوله: آدم كان أمره بكُلْ باطنًا فأكل , وإبليس كان توحيده ظاهرًا فأمر بالسجود لآدم فرآه غيرًا , فلم يسجد فغير الله عليه وقال: {اخْرُجْ مِنْهَا} (الأعراف: 18) الآية , فإن هذا مع ما فيه من الإلحاد كذب على آدم وإبليس , فآدم اعترف بأنه هو الفاعل للخطيئة وإنه هو الظالم لنفسه , وتاب من ذلك ولم يقل: إن الله ظلمني , ولا أن الله أمرني في الباطن بالأكل , قال تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 37) وقال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) وإبليس أصر واحتج بالقدر , فقال: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (الحجر: 39) وأما قوله: رآه غيرًا نحلم يسجد؛ فهذا شر من الاحتجاج بالقدر , فإن هذا قول أهل الوحدة الملحدين وهو كذب على إبليس , فإن إبليس لم يمتنع من السجود لكونه غيرًا , بل قال: {َأنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف: 12) , ولم تؤمر الملائكة بالسجود لكون آدم ليس غيرًا , بل المغايرة بين الملائكة وآدم ثابتة معروفة والله تعالى يقول: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ} (البقرة: 31-32) , وكانت الملائكة وآدم معترفين بأن الله مباين لهم وهم مغايرون له , ولهذا قالوا: دعوه دعاء العبد، فآدم يقول: (ربنا ظلمنا أنفسنا) والملائكة تقول: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} (البقرة: 32) وتقول: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ} (غافر: 7) الآية , وقد قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر: 64) , وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِياًّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَم} (الأنعام: 14) , وقال: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114) فلو لم يكن هناك غيره لم يكن المشركون أمروا بعبادة غير الله , ولا اتخاذ غير الله وليًّا ولا حكمًا , فلم يكونوا يستحقون الإنكار , فلما أنكر عليهم ذلك دل على ثبوت غير يمكن عبادته واتخاذه وليًّا وحكمًا , وأنه من فعل ذلك فهو مشرك بالله كما قال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} (القصص: 88) , وقال: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} (الإسراء: 22) وأمثال ذلك. وأما قول القائل: إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) عين الإثبات للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) فهذا بناه على قول أهل الوحدة والاتحاد , وجعل معنى قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) أي فعلك هو فعل الله لعدم المغايرة وهذا ضلال عظيم من وجوه: (أحدهما) : إن قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (آل عمران: 128) نزل في سياق قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ* لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} (آل عمران: 127-128) , وقد ثبت في الصحيح (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على قوم من الكفار أو يلعنهم في القنوت) فلما أنزل الله هذه الآية ترك , فعلم أن معناها إفراد الرب تعالى بالأمر وأنه ليس لغيره أمر , بل إن شاء الله تعالى قطع طرفًا من الكفار وإن شاء كبتهم فانقلبوا بالخسارة , وإن شاء تاب عليهم , وإن شاء عذبهم , وهذا كما قال في الآية الأخرى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} (الأعراف: 188) ونحو ذلك قوله تعالى: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (آل عمران: 154) . (الوجه الثاني) : إن قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال: 17) لم يرد به أن فعل العبد هو فعل الله تعالى كما تظنه طائفة من الغالطين, فإن ذلك لو كان صحيحًا لكان ينبغي أن يقال: لكل أحد حتى يقال: للماشي ما مشيت إذ مشيت ولكن الله مشى , ويقال: للراكب ما ركبت إذ ركبت ولكن الله ركب , ويقال للمتكلم ما تكلمت إذ تكلمت ولكن الله تكلم , ويقال مثل ذلك: للآكل والشارب والصائم والمصلي ونحو ذلك , وطرد ذلك يستلزم أن يقال للكافر: ما كفرت إذ كفرت ولكن الله كفر , ويقال للكاذب ما كذبت إذ كذبت ولكن الله كذب , ومن قال: مثل هذا فهو ملحد خارج عن العقل والدين , ولكن معنى الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر رماهم , ولم يكن في قدرته أن يوصل الرمي إلى جميعهم فإنه إذا رماهم بالتراب , وقال: شاهت الوجوه, ولم يكن في قدرته أن يوصل ذلك إليهم كلهم

المقالات الجمالية ـ 3

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

_ المقالة الخامسة [*] ما ينبغي للمسلمين علمه وعمله أيها المسلمون: إن الحجاز مهبط دينكم , وفيه بيت ربكم , وهو قبلة صلاتكم , ومشاعر نسككم , وشعائر الله لكم , فيه يقام الحج الأكبر , الذي هو ركن الإسلام الاجتماعي الأوحد , وفيه مقام إبراهيم , وقبر نبيكم الكريم عليهما من الله أفضل الصلاة والتسليم , وقد جاء الإسلام بحرية الأديان إلا في حرم الله وحرم رسوله وسياجهما من جزيرة العرب , فهما خاصان بدين الإسلام , وقد امتدت إليهما أيدي غير المسلمين في هذه الأيام. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها , قالت: آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: (لا يترك بجزيرة العرب دينان) , وروى أحمد ومسدد والحميدي في مسانيدهم والبيهقي في سننه من حديث أبي عبيدة (رضي الله عنه) قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم (أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب) , وفي رواية نصارى نجران. وروى أحمد والبخاري ومسلم من حديث ابن عباس قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب , وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم) قال سليمان الأحول راوي الحديث عن سعيد بن جبير الذي سمعه من ابن عباس: ونسيت الثالثة. وحملها العلماء بالاحتمال على ما صح من وصاياه الأخرى في مرض موته - صلى الله عليه وسلم - كقوله: (لا تتخذوا قبري وثنًا) ، وفي موطأ الإمام مالك ما يشير إلى ذلك - أو وفد أسامة - أو الوصية بالنساء والرقيق. وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وقريظة والنضير المحاربين له من يهود المدينة , وأنذَر مَن بقي من اليهود الجلاء بعد عجزهم عن قتاله؛ ليخرجوا بسلام ويحفظوا أموالهم , فقد روى البخاري في مواضع من صحيحه وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: (بينما نحن في المسجد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود، فانطلقنا حتى جئنا بيت المِدْراس (هو بوزن المفتاح العالم الذي يدرس كتابهم) فقال: أسلموا تسلموا , واعلموا أن الأرض لله ورسوله , وأنني أريد أن أجليكم من هذه الأرض , فمن يجد منكم بماله (أي بدل ماله) شيئًا فليبعه؛ فاعلموا أن الأرض لله ورسوله) , والمراد أرض المدينة وسائر الحجاز. وروى أحمد ومسلم والترمذي من حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أنه سمع رسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا) , ولما كان أبو بكر (رضي الله عنه) لم يتسع له الوقت لتنفيذ هذه الوصية , نفذها عمر (رضي الله عنه) , فقد روى البخاري عن عبد الله أن عمر والده (رضي الله عنهما) أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز , وذكر يهود خيبر إلى أن قال أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء. سبب هذه الوصية النبوية معروف دلت الأحاديث الصحيحة , وهو أن الله تعالى أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما سيكون من مطاردة الأمم لأمته , وسلبهم إياها ما يخولها الله تعالى من الملك , ومحاولتهم القضاء على دينها بعد القضاء على ملكها , فأراد أن يكون مهد الإسلام معقلاً لها تعتصم فيه , ولا تجعل للأمم التي ستبغي عليها سبيلاً للتدخل في شؤونه , كما تفعل الآن دول الاستعمار الكبرى , وفي مقدمتها حليفة البيت الحسيني بالحجاز بريطانية العظمى؛ هذه الدولة التي أرادت أن تجعل طائفة القبط وسيلة لحرمان مصر من الاستقلال , فلما خيبوا أملها خلقت مسألة الأقليات بدون قيد , وكلفت نفسها بدون إذنهم أن تبقى محتلة لمصر؛ لأجل حمايتهم؛ وهذه الدولة التي خلقت للعراق العربي شعبًا أشوريًّا , قضى عليه التاريخ منذ ألوف السنين , فقلدته السلاح وحملته على مطالبة جمعية الأمم بتأسيس دولة جديدة له في العراق؛ لأجل العداء والشقاق , والتذرع به لإبقاء العراق تحت سلطانها إلى يوم التلاق , هذه الدولة التي ما زالت تكيد للدولة العثمانية , وتتوسل إلى إسقاطها بالأرمن والروم وغيرهم , إلى أن سقطت وزالت من الأرض , فحاولت القضاء على شعبيها الإسلاميين الكبيرين - العرب والترك - فحالت أحداث الزمان دون الإجهاز على الشعب التركي , ووجدت من حسين المكي وأولاده أقوى نصير للقضاء على الشعب العربي , فلما سلط الله تعالى عليه شعبًا شديد الاعتصام بالإسلام طرده من الحجاز في هذه الأيام، قامت جرائدهم تدعو بالويل والثبور، وتنذر قومها الخطر الإسلامي العربي على ما سلبوا من بلاد العرب أن ينفلت من أيديهم. أيها المسلمون تأملوا الشواهد على صحة قولي هذا لعلكم تتفكرون: يروي مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ, ويأرز بين المسجدين كما تأرز الحية من جحرها) وروى الترمذي من حديث عمرو بن عوف مرفوعًا إليه صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جحرها , وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروبة من رأس الجبل [1] إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس بعدي من سنتي) . وملخص معنى هذه الأحاديث أن المسلمين سيطرأ عليهم الفساد بالبدع حتى يكون الإسلام نفسه غريبًا فيهم ومحتاجًا إلى الإصلاح؛ وأنهم سيضطهدون بدينهم ولأجل دينهم , حتى لا يجدون ملجا يعتصمون فيه لإقامته إلا معقله الذي ظهر فيها غريبًا وهو الحجاز , فيكون فيه عزيزًا قويًّا؛ كعصم الوعول في شناخيب الجبال ومن تمام التشبيه أن يستتبع ذلك ما استتبعه أولاً من الملك والعمران (إن شاء الله) . أيها المسلمون: إلى متى أنتم غافلون , إن الدولة البريطانية ولية حسين بن علي المكي وأولاده من دون الله والمسلمين , هي التي أخذت على نفسها القضاء على دين الإسلام في الشرق بعد القضاء على حكمه , وقد سلكت أقرب الطرق إلى ذلك وأقلها خسارة ونفقة , وهو جعل الشعوب الإسلامية أسلحة لها تضرب بعضها ببعض , إلى أن يهلك الجميع وتكون السيادة لها وحدها على بلادهم وهي هي التي قاتلت المصريين بإذن ولاة الأمر من السلطان والخديو؛ وهي هي التي قاتلت السودانيين بالمصريين , وهي هي التي قاتلت قبل ذلك بعض ملوك الشرق وأمرائه ببعض , ولا سيما في الهند , كما سترون في المنار من مقال للسيد جمال الدين الأفغاني [2] الذي كان أول من نبّه الشرق عامة والمسلمين خاصة لعداوتها؛ وهي هي التي قاتلت الترك بالعرب الذين خدعهم ملك الحجاز وأولاده , حتى سلبت منهم أخصب بلادهم وقررت إعطاء البلاد المقدسة منها لليهود , وجعلهم شعبًا جديدًا قويًّا بين مصر وسورية والحجاز , يستعينون به على أهلها من العرب في حرمانهم من رقبة بلادهم وخيراتها؛ وهي هي التي ألقت العداوة والبغضاء بين إمام اليمن والسيد الإدريسي؛ وهي هي التي أطمعت الطاغوت حسين بن علي بالخلافة الإسلامية وملك العرب كلهم تحت حمايتها , وقد بينا بعض الوثائق الرسمية في ذلك كله. أيها المسلمون: إن العقل وحالة الاجتماع العامة وتقاليد السياسة الإنكليزية الخارقة كلها تؤيد معنى ما ورد في الحديث , الذي صدقته وقائع التاريخ التي أشرنا إليها آنفًا من أن الله لا يهلك المسلمين إلا بقتال بعضهم لبعض. روى مسلم من حديث ثوبان (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها [3] , وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها , وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض , وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة , وأن لا يسلط عليها عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح ببيضتهم [4] , وإن ربي قال لي: يا محمد إني إذا قضيت قضاء , فإنه لا يرد , وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة , وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم , ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا) . وقد ظهر صدق هذا الحديث في الفتح الإسلامي للشرق والغرب , ثم في ذهاب ملك المسلمين كما أشرنا إليه آنفًا في شأن بعض دول الشرق الإسلامي , ومثله دول الغرب القديمة والحديثة , فلولا تفرق أهل الأندلس وتعاديهم وتقاتلهم لما زالت دولتهم وورثها الأسبانيون , ولولا مسلمو مراكش لما فتحت فرنسة الجزائر , ثم لولا مسلمو الجزائر لما استولت فرنسة على مملكة مراكش. أيها المسلمون: لا يكن أمركم عليكم غمة في مسألة زحف النجديين؛ لإنقاذ الحجاز من صنيعة الأجانب حسين المكي وأولاده , قد بينا لكم بالوثائق الرسمية حقيقة السبب الحامل للسلطان ابن سعود على ذلك , وأنه إسلامي محض؛ لتأمين فريضة الحج , ومنع الإلحاد والظلم في الحرم , وقطع عروق النفوذ الأجنبي في مهد الإسلام , المانع من تنفيذ وصية المصطفى عليه الصلاة والسلام. وكذا منع حسين وأولاده مما صرح به رسميًّا من عزمه على إخضاع جميع حكومات جزيرة العرب لحكمه قبل ادعائه الخلافة , فكيف يكون خطره بعد ادعائه حق الولاية العامة عليهم شرعًا؟ أرجف بعض الكتاب الذين يخدمون السياسة الإنكليزية من طريق الحجاز بأن سلطان نجد يريد إكراه حسين بضغطه على توقيع المعاهدة العربية البريطانية , فمتى خضع عاد جيش نجد أدراجه , وردّدت جرائد أخرى هذا الإرجاف فظهر كذبهم. وأرجفوا بأن ابن سعود ينفذ للإنكليز في الحجاز ما لم ينفذه حسين , وأنهم هم الذين أغروه بالاستيلاء على الحجاز , فظهر كذبهم أتم الظهور بما نشرته صحيفة إرجافهم بمصر من برقيات لندن - أولاً - من خبر الاتفاق بين ابن سعود ونوري باشا الشعلان رئيس قبائل الرولة على سماح الأول للثاني ببقعة الجوف بشرط منع الإنكليز من مد سكة حديدية بين فلسطين والعراق - وثانيًا - ببرقية التيمس التي أرسلها إليها مراسلها من الإسكندرية الناطقة بأن احتلال ابن السعود للحجاز وموانئه الواقعة على البحر الأحمر مفعم بأخطار شديدة! ! وأنه يحمل معظم القبائل على الانضواء إلى كنفه , والسير تحت لوائه؛ وأنه يرجح أن ينتقل من إنقاذ الحجاز إلى إنقاذ شرق الأردن وفلسطين وكذا اليمن على احتمال. ثم إن هذا الإنكليزي الغيور على الإسلام والعرب طعن في دين الوهابيين ومذهبهم , ووصفهم بالتوحش وكراهة المدنية , وأظهر خوفه وحذره من إكراههم لغيرهم على اتباع مذهبهم , وغيرته على المعاهد المقدسة! ! , واستدل بهذا كله على أنه يجب على الدولة البريطانية وهي أكبر دولة إسلامية (! ! !) أن تبادر إلى رد الوهابيين عن الحجاز , قال: (فتنقذ بذلك المعاهد المقدسة في الحجاز من أن تمسها يد الوهابيين بالتدمير والتخريب - وليس ذلك فقط- بل تزيل أيضًا خطرًا شديدًا يهدد البلاد العربية، وتقضي على عامل يقلق السلم في جزيرة العرب، فإذا لم تزله زوالاً تامًا , فإنها تخفف من حدته كثيرًا) . المعنى الصريح المراد من هذا الكلام أن إنكلترة ترى من أعظم الخطر على سياستها في البلاد العربية أو الإسلامية أن يوجد في المسلمين أمير مسلم قوي , ولا سيما إذا كان مسلمًا مؤمنًا , معتصمًا بدينه , مؤيدًا بشعب صادق الإيمان كابن سعود وقومه، لا يباع ولا يشترى بالذهب الإنكليزي , ولا بالألقاب الفخمة الضخمة كحسين وأولاده، لأن قوة مثل هذه تحول دون نجاح السياسة البريطانية في إزالة الإسلام من الأرض , من حيث هو دين سيادة وسلطان، ثم في إزالته من الأرض من حيث هو دين عقيدة وإيم

من الخرافات إلى الحقيقة ـ 12

الكاتب: حسني عبد الهادي

_ من الخرافات إلى الحقيقة [*] (11) الجمعيات السرية إن الفتوحات التي ابتدأت في زمان الخلفاء الراشدين وعَظُمَتْ في زمان الأمويين، واستولى المسلمون على إيران ومصر والشام وإفريقية الشمالية , ولكن هذه الفتوحات كانت إقليمية لا قلبية، نعم تبدلت الحكومات وزالت الدول إلا أن العقائد الراسخة منذ أجيال بقيت كما كانت؛ لأن تبديلها ليس هينًا [1] . ثم كان بين الذين أسلموا أناس كان إسلامهم لمقاصد سياسية , فكانوا يريدون إماتة الديانة الإسلامية , ويتوسلون إلى إحياء عقائدهم بإبرازها بثوب إسلامي جديد وفي أواخر أيام العباسيين ظهر أناس بعضهم ملحد راسخ في الإلحاد وبعضهم فارسي (زردشتي) , وبعضهم من أتباع (ماني) أي نصفه مجوسي ونصفه مسيحي وحصروا الشؤون العامة في أنفسهم. وكان أكثر الناس غافلين عن كل شيء، ومستعدين لتصديق كل شيء، إذا صادفت الجماعة منهم رجلاً صالحًا قادها إلى طريق الهداية، وإذا صادفت آخر صالحًا خرجت معه عن جوهر الدين بدون أن تشعر، وكان (تصديق) كل ما يسمع من أمارات الامتياز في تلك الأوقات، فكل فكر أسند إلى آية ولو لم تكن موجودة، أو أسند إلى حديث موضوع، أو أي كتاب مجموع، كان ذلك يقبل بغير تفكر، ويتبع بدون تدبر. وثَم أسباب أخرى لميل الناس لكل جديد , وهو ظلم الأمراء , فكان الناس بميلهم إلى الجديد يرجون خلاصًا من الظلم الواقع. ثم إن كثرة المذاهب الدينية التي يُكَفِّرُ أصحابُها بعضُهم بعضًا أزالت هيبة الدين وقللت من احترامه في نظر الناس , هذه هي الحالة الذهنية التي تقدمت نشر مذهب الباطنية. الباطنيون: كان ظاهر عملهم بذل الجهد؛ لإحياء مذهب الإسماعيلية الذي هو من مذاهب الشيعة، والحقيقة أنهم كانوا يقصدون إحياء أساطير وخرافات قديمة يكتمونها عن المبتدئين؛ فإن مؤسسي هذه الفرقة لم يكونوا مسلمين لا فعلاً ولا اسمًا , والصحيح أنهم كانوا مجوسًا. منهم (عبد الله بن ميمون بن القداح) عقد مرة مجلسًا وخطب فيه فقال: (إن المسلمين فتحوا بلادنا، وأزالوا دولتنا، إن الانتصار عليهم في الحرب والقتال أصبح مستحيلاً، وإنما النافع في جهادنا لهم أن نقطع أواصر الاتحاد التي بينهم، ونشوش عليهم أمورهم، ونوقعهم في بحر الارتباك، فحينئذ ننال منهم ما نبغي: نحرف الإسلام بتأويل نصوصه، ونمجس المسلمين من حيث لا يشعرون ليخربوا بيوتهم بأيديهم , إذ بهذا وحده يمكن أن تدال الدولة للفرس ويعيدوا دينهم ودولتهم إلى سابق مجدها. وكان عاقبة التشاور في ذلك المجلس انتخاب عبد الله بن ميمون منفذًا لهذه الخطة , وكان ابن ميمون يعلم كنه الأخطار التي تظهر أمام من يريد نشر مذهب جديد , فاختار لذلك طريق الدسائس السرية، وكان عالمًا بمذهب (زردشت) واقفًا على أصوله وفروعه، وكان له نصيب من العلوم الطبيعية، والأحوال الروحية، لذلك بدأ يحرض الناس على الظلم والظلمة , وينفرهم من الاستبداد والمستبدين , فجمع حوله جمًّا غفيرًا , وكان يجذب قليلي الدين بمقدمات فلسفية، ويجذب الشيعة بالإمام الموهوم المستتر، وأهل السنة بالمهدي المنتظر، ويخلب أفئدة اليهود بالمسيح الموعود، كل هذا لأجل إعادة سلطنة إيران الزائلة. بذل ابن ميمون هذا مساعي جمة لنيل المرام , وكان موقنًا بالنجاح , ثم مات وخَلْفُهُ ابنه (أحمد) فواظب على خطة أبيه وعندما ظهر (حمدان القرمطي) وجد الجو مناسبًا جدًّا لامتلاء أفكار الناس بعقائدهم. أهل العراق كانوا مظلومين من قبل الحكومة ظلمًا شديدًا ولذلك كانوا ميالين لكل ما يظهر من جديد فكانت الضرائب كثيرة جدًا والعسرة المالية شديدة على الجمهور، وعندما سمع العراقيون بمذهب حمدان القرمطي الذي يقتضي اشتراك الناس بالأموال هرعوا إليه وقبلوا دعوته بدون مناقشة. عندئذ شرع الباطنيون يحرفون القرآن الكريم بالتأويل ويقولون إن له معنى ظاهرًا للعوام ومعنى باطنًا للخواص، وهو المقصود بالذات، لأن الظاهر هو القشر، والباطن هو اللب، وظاهر القرآن الكريم يحمل الإنسان واجبات أخلاقية واجتماعية ودينية كثيرة وفيه أوامر ونواهي كثيرة وهذا مَرْكَبٌ صعب لا يُذَلَّلُ، وبما أن باطن القرآن يقتضي ترك ظاهره طفقوا يفسرونه تفسيرًا غريبًا. كانوا يقولون ليس من شؤوننا البحث عن صفات الله وهل هو موجود أو معدوم، وعالم أو جاهل، خلق الله العقل قبل كل شيء ثم بواسطة العقل خلق النفس وبما أن النفس مشتاقة لكمال العقل احتاجت إلى الحركة، والحركة تحتاج إلى آلات ولذلك خلق الأجرام الفلكية وبتدبير النفس تحركت الأجرام الفلكية حركة دورية وبتأثير ذلك النباتات والمعادن وأنواع الحيوانات. أفضل الحيوانات الإنسان لأن بينه وبين العالم العلوي رابطة من دونها وعندما يرتقي الإنسان إلى مرتبة العقل ترتفع عنه التكاليف والسنن ويستغني عن الاشتغال بالعبادات. الرسل عند الباطنية سبعة: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ومحمد المهدي [2] وبين كل رسولين سبعة أئمة والواجب على الإمام إكمال نواقص الرسول الذي تقدمه ولا يخلو عصر من إمام. لهذا المذهب رتب مختلفة: (1) إمام (2) حجة (3) ذو مصة (4) باب (5) داع (6) مأذون (7) مكلب (8) مؤمن. الإمام عندهم: هو غاية الأدلة ومؤدي الله، والحجة هو مؤدي الإمام والحائز لعلم الإمام ويحتج بذلك المعلم. ذو المصة: هو الذي يأخذ العلم من الحجة أبواب: هو المأمور بتعلم الفكرة. الداعي نوعان: داع أكبر وداع مأذون فالأول هو الذي يعين درجات المؤمنين والثاني هو الذي يقبل أهل الظاهر، ويدخلهم في عداد أهل الباطن ويأخذ عهدهم وميثاقهم. المكلب: هو الذي يدخل بين أهل الظاهر ويعرف أحوالهم والذي يعرضها على الداعي. المأذون المؤمن: هو الذي دخل في جمعية أهل الباطن وصار في ذمة الإمام. الداعي: هو ما يعبر عنه أهل زماننا باسم (جزويت) وهو يراقب الناس فمن رأى فيه قابلية واستعدادا يختبر أحواله وأطواره وأفكاره ويجذبه إلى التعرف إليه فإن رآه متدينا يظهر أي الداعي له بمظهر الدين. وإن وجده ملحدًا أو ضعيف الإيمان يأتيه من حيث يحلو له وإن رآه متحليًّا بمكارم الأخلاق يتمثل له بمظهر ملك كريم، وإن وجده من المنهمكين في الفسق يتظاهر بأنه مثله. وجملة القول أنه يتحبب إلى الرجل ويختلبه حتى إذا رأى أنه استولى على روحه في تنفيذ وظيفته وهز جذبه إلى حزبهم، يقنعه بأن كل ما يرغب فيه من السعادة لديهم. وكان الدعاة يعملون عملهم بالترتيب ويتسلقون إلى الغاية - درجة بعد درجة - وهذه الدرجات ثمانية. وقبل أن نبحث في هذه الدرجات نبين بالإيجاز حقيقة طائفة الإسماعيلية التي يستند عليها بالظاهر أرباب مذاهب الباطنية. طائفة الإسماعيلية: الإسماعيلية طائفة من طوائف الشيعة تنسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق الكبير كانوا يقولون بإمامة جعفر الصادق وأنه فوضها إلى ابنه الكبير وبما أن إسماعيل توفي قبل جعفر كان يقتضي أن ينقل حق الإمامة إلى محمد المكتوم وبعده قام ابنه جعفر المصدق مقامه وخلفه محمد الجيب وكان ذكيًّا وفعالاً وهذا هو الذي عم نشر مذهب الإسماعيلية وكان يسكن بلدة اسمها سلمية في جوار حمص وأرسل الدعاة إلى جميع الجهات وأهم نقطة كان يعتني بها الإسماعيليون أن العالم لا يخلو من إمام فإن كان مخفيًّا فلا بُدَّ له من لقياه وعند وفاة محمد الجيب أعلن ابنه عبد الله أنه هو الإمام المنتظر أي المهدي. (لها بقية) ... ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسني عبد الهادي

ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله (لقد ألقيت في الأزهر بزرة جديدة إما أن تكون مبدأ حياة جديدة له وإما أن يموت) (الأستاذ الإمام) نعني بالأزهر ما شمل معاهد العلوم الدينية ووسائلها من الفنون العربية في الإسكندرية وطنطا ودسوق ودمياط وأسيوط وكلها مرتبطة بالجامع الأزهر وتابعة له في إدارته ونظام التعليم فيه. كانت مصر بالأزهر بلاد علم وحضارة وثروة وحكومة عزيزة قوية , فكان الأزهر ركن العلم من حضارتها، وكان بالأزهر قوام حكومتها ومن رجال الأزهر جل حكامها , إلا السلاطين والموك ورؤساء الجند , فكانوا يُكَوِّنُونَ من غيرهم ومن غير الشعب المصري أيضًا، ولكن علماء الأزهر وكبراء المصريين قلما كانوا يشعرون بهذه الغيرية، والأحكام تصدر بشريعتهم، والدواوين والمحاكم بلغتهم، وأولئك السلاطين والقواد من أهل دينهم، وإنما كان يهمهم من أمر الأمراء والسلاطين عدلهم وفضلهم، لا أصلهم وفصلهم، ولو كان ثَم أسباب تشعرهم بهذه الغيرية شعورًا مؤلمًا لطباعهم , لأمكنهم إزالة ملكهم، كما أمكن الشيخ عز الدين بن عبد السلام بيع أمراء الدولة المصرية من المماليك الأتراك , فإنه ما زال يصرح ببطلان تصرفاتهم من بيع وشراء ونكاح؛ لأنهم أرقاء مملوكون لبيت المال (حتى تعطلت مصالحهم , فأرسلوا إليه يسألونه عن حل لهذا الإشكال , فقال: نعقد لكم مجلسًا , وينادي عليكم لبيت مال المسلمين ويحصل عتقكم بطريق شرعي , وبعث إليه السلطان بأن يرجع عن هذا القول فلم يرجع، فأنكر عليه السلطان دخوله في هذا الأمر بأنه لا يعنيه , وذكر كلمة فيها غلظة حملت الشيخ على الشروع في الهجرة من القاهرة إلى الشام فركب مع أهل بيته حميرًا , وخرجوا فتبعهم وجهاء المسلمين من جميع الطبقات فبلغ الخبر السلطان , وقيل له: متى راح الشيخ ذهب ملكك , فلحقه بنفسه على بعد فرسخ من القاهرة واسترضاه , فرجع على أن ينفذ ما قرره، فأراد نائب السلطنة وكان من أولئك المماليك أن يحوله عن رأيه بالملاطفة , فلم يفد ثم بالتهديد فلم يفد، فاضطروا إلى الامتثال , فاجتمعوا ونادى عليهم واحدًا واحدًا , وغالى في ثمنهم حتى باعهم وأعتقهم مبتاعوهم من الأغنياء، وصرف الشيخ ثمنهم في وجوه البر العامة , كما بينه التاج السبكي في ترجمته من طبقات الشافعية. ولهذه المكانة التي كانت للشيخ عز الدين قدس الله روحه قال الملك الظاهر لبعض خواصه لما رأى جنازته تحت القلعة وما يتبعها من كثرة الناس: اليوم استقر أمري في الملك , لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس: اخرجوا عليه؛ لانتزع الملك مني. كان الناس كلهم يتبعون العلماء، وكان في استطاعة العلماء أن يسيروا الأمراء والسلاطين في طريق الشرع المستقيم، ويمنعوهم من الاستبداد والظلم، ولكنهم لم يفكروا في هذا الأمر فيعدوا له عدته، ويمهدوا له طريقه، بل لم يكونوا يشعرون باستطاعتهم، ولا يُقَدِّرون كُنْه سُلطتِهم، وما كان يظهر من آياتها يعدونه من الأحداث الشاذة، التي لا ترجع إلى سنة عامة، ولعلهم كانوا يعدون ما فعله الشيخ عز الدين بأمراء الترك من كراماته، والكرمات من خوارق العادات فلا يقاس عليها، ولا يبحث عن سبب لها. كذلك لم يكونوا يفكرون في سنة الله في قوة الاجتماع، ولا في أن منه حمل علماء الأزهر الدولة العثمانية على تولية محمد علي الكبير على هذه البلاد، فلهذا لم يضعوا نظامًا لجمع كلمتهم؛ وجمع كلمة الأمة على زعامتهم، ولما جاء السيد جمال الدين هذه البلاد وشرع في إيقاظ الأمة , وتعريفها بما لها من الحق في إدارة أمرها وسياسة حكومتها , كان كبار علماء الأزهر أبعد الناس عنه وأشدهم تحذيرًا منه , وإنما انتفع به بعض الشبان منهم. الإسلام دين ودولة، وقد أسس المسلمون دولاً عزيزة في قارات العالم القديم الثلاث - آسية وإفريقية وأوربة - كانت أرقى دول الأرض عدلاً وعلمًا وحضارة , ولم يكن لها قانون في سياستها وحروبها , ولا في إدارتها وقضائها إلا الشريعة العادلة الغراء , ومن أحكامها أن يكون أمراؤها وقضائها علماء فقهاء عدولاً، وبذلك كان لها من السؤدد والملك ما كان، ثم دبَّ إليها الفسادُ ساعتها بتوسيد الأمور فيها إلى غير أهلها وفاقًا للحديث (إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غير أهله فانتظر الساعة) رواه البخاري من حديث أبي هريرة , فغلب الجهل فيها على العلم، وانقلب الوضع , وانعكست القضية , فصار من القواعد الأساسية أن علماء الشرع أبعد الناس عن السياسة كما قال الحكيم العربي ابن خلدون في الزمن الذي لم يكن فيه للسياسة مستمد علمي إلا الشرع، وما سبب ذلك إلا تقصير علماء الشرع , فيما يجب عليهم مما بيناه من قبل ولا محل لإعادته هنا. صار أمر المسلمين بتقصير العلماء إلى الجاهلين بالشرع قبل أن يوجد في بلادهم علم غير الشرع , فكان الملك فيهم ينال بعصبية القوة لا باختيار أهل الحل والعقد الذين يمثلون سلطة الأمة، حتى إن الإمامة العظمى وهي النيابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامة الدين وسياسة الدنيا جعلوها لقوة العصبية التي تبرأ صلى الله عليه وسلم منها ومن أهلها، فلا عجب إذا اجتهد ملوك القوة وأمراء العصبية , باستمالة محبي الدنيا من العلماء؛ لتقوية نفوذهم عند العامة , وإضعاف نفوذ كل عالم لا يميله المال ولا يطويه الجاه، وصار من علامة العالم العامل المخلص البعد عن الحكام كما قيل: قل للأمير مقالة ... لا تركنن إلى فقيه إن الفقيه إذا أتى ... أبوابكم لا خير فيه كانت حكوماتنا الإسلامية هكذا تتدلى بل تتردى في مهاوي الجهل والفساد، بعد أن أخذ الإفرنج عنها وعنا مبادئ العلم وأصول العدل والإصلاح، وحسبك ما رأوه من السلطانين العادلين المجاهدين نور الدين وصلاح الدين في الحروب الصليبية , ثم ما زالوا في تَرَقٍّ وما زلنا في تَدَلٍّ إلى من أُدِيلَ لهم منا , وفتحوا من بلادنا بالعلم والعقل أضعاف ما عجزوا عن فتحه بالسيف , فإنهم فتحوا بالعلم أدمغة الألوف الكثيرة منا وقلوبهم , وتصرفوا في مراكز الإدراك منها ومشاعر الأنفس منهم , فأودعوا فيها من المعلومات والوجدانات ما يُعَظِّمُ شَأْنَها ويُعْلِي قدرهم في تاريخهم وآدابهم وعاداتهم وتشريعهم , من حيث يحط من شأن أمتنا وملتنا في تاريخها وآدابها وتشريعها , فوطن هؤلاء أنفسهم على تقليدهم وقبول سيادتهم ورياستهم , وكانوا منافذ بل أبوابًا واسعة لدخول الأجانب بلادهم والسيطرة على حكوماتهم؛ من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون , فأفسدوا عليهم أمرهم , ونزعوا منهم استقلالهم , وخربوا عليهم بيوتهم بأيديهم , وليس من موضوع هذا المقال تفصيل ذلك , وبيان الشواهد عليه في مشرق العالم الإسلامي ومغربه , ويغنينا عنه ما نشرناه أخيرًا , وما سننشره من مقالات السيد جمال الدين فيه , وإنما نضرب مثلاً لذلك كلمة واحدة في مسألة السودان المصري التي هي أهم ما تتنازع فيه مصر مع الإنكليز اليوم وهي أن إسماعيل باشا هو الذي مكّن الإنكليز من الاستيلاء على السودان لا بطرس باشا غالي الذي أمضى لهم عقد الشركة مع مصر فيه , وأن الذي فتحه للإنكليز غوردون (باشا) لا اللورد كتشنر (باشا) , وأما الذي مكن الإنكليز من احتلال مصر فمعروف لقرب عهده. أدخلنا الإفرنج بلادنا؛ ليصلحوها لنا فأفسدوا علينا أمرها بما أصلحوا لأنفسهم من وسائل استغلالها وسلب استقلالها، فكان مثلهم ومثلنا كما قال الشاعر في القيان تبارين يصلحن أعوادهن ... فأصلحهن وأفسدنني أضاعوا علينا تشريعنا، وشوهوا لنا تاريخنا، وأفسدوا منا آدابنا، وسلبوا منا ثروتنا، حتى انتزعوا منا سلطتنا، وكان من أكبر همهم في ذلك إبعاد رجال الشريعة الإسلامية عن مناصب الحكومة، وحرمانهم من تولي شؤون الأمة، وإيئاسهم من منصات الزعامة , وربوا لنا من نابتتنا من جعلوهم آلات لجميع ما يريدونه منا، ومن قواعدهم فيه أن الدين والسياسة ضدان لا يجتمعان، ومن فروع هذا الأصل أنه يجوز لكل فريق من الأمة أن يعنى بسياسة بلاده ويسعى لاستقلالها ويبحث في شؤون حكومتها؛ إلا رجال الدين، معلمين كانوا أو متعلمين، فلا يسمح لهم بقول في ذلك ولا فعل، ولا بتأليف جمعية أو حزب، وجرى العمل على هذا وانقاد له الأزهريون خانعين صاغرين , حتى إذا ما هب شبانهم من رقادهم وأبوا ليشاركوا الأمة في نهضتها بعد الحرب تأسيًّا بطلاب المدارس المدنية , وعقدوا لذلك المحافل في الأزهر كَبُرَ الخَطْبُ على الإنكليز وعلى رجال الحكومة المصرية معًا , فحجروا على الأزهر وأهله، واشترعوا لعقابهم أحكامًا خاصة بهم، وأقفلوا أبواب الأزهر في وجوه مريدي الاجتماع فيه؛ للبحث في شؤون الأمة والخطابة في مصالحها , ووضعوا عليه الشُّرَط , ووافقهم الشيوخ الرسميون على ذلك , سكت عنه غير المقيدين بالرسميات منهم , وربما هونه على بعض زهادهم في الدنيا ولو عن عجز وضعف بعض الآثار , مثل حديث ابن عمر عند البيهقي (المؤمنون هيّنون ليّنون كالجمل الأنف إن قيد انقاد , وإن أنيخ على صخرة استناخ) فإن لأمثال هذه الروايات الباطلة تأثيرًا كبيرًا في قتل هذه الأمة، وهذا الحديث على ضعف إسناده من مراسيل مكحول الدمشقي , وهو على علمه وزهده مُدَلِّسٌ، وإذا حُمِلَ على ما أشرنا إليه كان معارض المتن بالقطعيات كعزة المؤمنين. جرى العمل على هذا المنكر حتى صار هو المعروف , حتى عند جمهور الأمة , ولذلك رأينا كثيرين يستنكرون بحث المنار في شؤون السياسة , ويقولون: إنها مجلة دينية فمالها وللسياسة؟ وقد كلم بعض وجهاء الإسكندرية الأستاذ الإمام في هذا محتجين به على انتقادنا الحكومة الحميدية , وكلفوه - رحمه الله - أن ينهانا عن ذلك , فقال لهم: ماذا أقول له والإسلام لم يفصل بين الدين والسياسة؟ وآل أمر رجال الدين بمصر وغيرها من البلاد إلى ترك شؤون الأمة حتى الإرشاد الديني، وصاروا عَالَمًا آخر أقرب إلى الخيال منه إلى عالم الوجود , كما قلنا في بعض مقالات المنار التي كتبناها في أول العهد بمعرفة حال هذه البلاد. حاول السيد جمال الدين الأفغاني - أكرم الله مثواه - إخراج الأزهريين من عزلتهم , وحملهم على العمل؛ لإصلاح حال الأمة والحكومة فلم يلق من جمهورهم إلا الإعراض والنفور كما قلنا آنفًا، ثم كان من أمر من تلقوا عنه من مجاوري الأزهر أن ترك أكثرهم الزي الأزهري أو الديني , وبرعوا كلهم في الأمور العامة من حكومية وغيرها، وثبت آخرون أعظمهم وأشهرهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده والأستاذ القاضي الشيخ عبد الكريم سلمان، وممن عرفنا من الخاملين منهم الشيخ داغر من القضاة الشرعيين , وكان شيخنا يبره ويحبه رحمهم الله أجمعين. ثم تصدى لإصلاح الأزهر وإخراجه من عزلته إلى خدمة الأمة شيخنا الأستاذ الإمام , وكان أعلم الناس بحال أهله وبما يحتاجون إليه , وبما ينبغي لهم وبما يُؤَثِّرُ فيهم، وأحرص الناس على إعلاء شأنهم وحفظ كرامتهم , وتوفير رزقهم واتقاء عبث الأمراء والحكام بهم مع تسخير هؤلاء لإصلاح شأنهم , فأما محمد توفيق باشا فكان بعد عودة الشيخ من منفاه والبلاد رازحة تحت نير الاحتلال لا يزال على ما كان من الحذر منه , منذ تنكر له ولأستاذه السيد جمال بعد أن كان من حزبهما، فلم يسمح بأن يتولى شيئًا من التعليم في مدرسة دار العلوم لئلا يحدث في البلاد انقلابًا جديدًا كما قال- وما كان يكون ذلك الانقلاب إلا خيرًا له ولبلاده- ف

الإغراء بين النصارى والمسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإغراء بين النصارى والمسلمين أُرسل إلينا من بيروت كتاب جديد ألفّه أحد نصارى اللبنانيين؛ لأجل تأريث العداوة والبغضاء بين أهل وطنه , إذ جمع فيه من كتب التاريخ ما عثر عليه مما ينقمه النصارى من حكومات المسلمين من قول وفعل، ومن المُسَلّمات التي لا يختلف فيها اثنان أن في كل أمة وكل حكومة عادلين وظالمين، وإن الظالم قد يظلم القريب والموافق، كما يظلم البعيد والمخالف، وأن من الناس من لا يرضى من مخالفه في الدين والسياسة بالحق ولا بالعدل، وأن من أخبار التاريخ الصادق والكاذب؛ فعلى هذا يسهل على كل مُطَّلع على التاريخ المشترك بين الأمم والملل أن يجمع منه ما ينكره بعضهم على بعض، ولكن هذا لا يكون إلا بنية سيئة. أرسل إلينا هذا الكتاب لنرد عليه , والرد عليه سهل , ولكن ما فائدته؟ إن أريد بها بيان أن ما قد يصح من تلك المطاعن شخصي ليس الباعث عليه أحكام الإسلام؛ فهذا أمر يعرفه من يقرأ المنار من النصارى القليلين كما يعرفه المسلمون لما شرحناه مرارًا من عدل الإسلام العام، والجمهور منهم لا يقرؤونه. وإن أريد تلقين المسلم الحجج للرد على من يكلمه في ذلك , ففي المنار حجج كثيرة على عدل الإسلام وتفضيله على جميع الملل والقوانين من الكتاب والسنة والتاريخ وشهادة المنصفين من مؤرخي الإفرنج أنفسهم كقول فيلسوف فرنسة الاجتماعي ومؤرخها المنصف الدكتور غوستاف لوبون: ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب؛ يعني الذين أقاموا الإسلام ونشروه في العالم , وإن شاءوا المقارنة بين ما كتبه هذا اللبناني عن المسلمين وبين ظلم دول النصارى للمسلمين ولليهود أيضًا فهذه نبذة منه: اضطهاد أسبانية لمسلمي الأندلس ويهودها: جاء في ملخص تاريخ الأندلس الذي جعله الأمير شكيب أرسلان ذيلاً لرواية (آخر بني سراج) ما نصه مترجمًا عن التواريخ الإفرنجية: كانت دولتا قشتالة وأراغون تتسابقان في تعذيب المدجنين الذين ذكرنا أنهم المسلمون الخاضعون لحكومة الأسبانيول وملوك الدولتين يتبارون في الانتقام منهم والنكال بهم استزادة للمثوبة واستعلاء في درجات الآخرة، حسبما كانت عليه حالة ذلك العصر من التحمس الديني والتأخر المدني. ففي قشتالة كان هنري أخو بطره قد جعل للمدجنين والإسرائيليين علامة فارقة اسمها (المشيرة) , وأمر بمنع اختلاطهم وأخذهم وعطائهم مع الأسبانيول , وأن لا يقبل أحد منهم في خدمة الدولة. وفي أيام جان الأول ملك قشتالة صدرت الأوامر بأن كل مسيحي يربي في بيته مدجنًا (مسلمًا) أو إسرائيليًّا فله الحق كل الحق أن يؤدبه بالسياط , وأنه لا يجوز لمدجن ولا ليهودي أن يستخدم عنده مسيحيًّا، وأن من خالف ذلك يضرب , وتضبط أملاكه، كما أنه لا يجوز دخول مسلم ولا يهودي بيت أحد من الأسبانيول إلا إذا كان طبيبًا , وثبت لزومه , ومن خالف ذلك يغرم بدفع ستة آلاف مراويد (نوع من السكة) . وسنة 811 هجرية جدد جان الثاني أمر سلفه في رفض المدجنين واليهود في خدمة الدولة , وضم إليه أن جزاء المخالفة دفع ثلاثة آلاف مراويد، وأن كل من يسافر من المسلمين أو اليهود مع أحد الاسبانيول أو يؤاكله أو يستخدمه في عمل له يجلد مائة، وإذا تكرر الفعل يؤخذ منه ألف مراويد , ويكون ثلثاها للمخبر، وإذا وُجِدَ أحد من هؤلاء في وليمة أسبانيولي يغرم بدفع ثلاثة آلاف وإن عاد صاحبًا له من الإسبانيول أثناء مرض يدفع ثلثمائة , وإن عاملهم بأخذ أو عطاء يدفع الثلاثمائة ويضرب ويعزر. وكانت في بادئ الأمر محاكم مخصوصة بالمدجنين فألغيت في التالي وأحيلت دعاويهم إلى محاكم الأسبانيول , وصدرت الأوامر أيضًا بأن كل من يخرج مدجنًا من مزارعه , ويستخدم لحرثه مدجنًا بدلاً عنه يغرم بخمسة آلاف مراويد , وإن تكرر فعله فبمائة ألف , وإن تكرر أيضًا تضع الدولة يدها على جميع عقاراته , وإذا فر مدجن إلى غرناطة , ووقع أثناء فراره في يد الاسبانيول عُدَّ أسيرَ حرب وضبطت جميع أمواله , وصار ملكًا لمن يمسكه. وسنة 826 أضيف إلى هذا الشرط أن من منع من المدجنين ابنه من التنصر عذب شديدًا , ومن أسر من مسلمي غرناطة أحدًا كان له ملكًا خالصًا. وسنة 830 صدرت الأوامر بعدم اعتبار إمضاء الأسبانيول فيما عليهم للمدجنين واليهود , وباعتبار إمضاء هؤلاء فيما عليهم للأسبانيول. وسنة 833 صدرت الأوامر أن المسلم أو الإسرائيلي المُدَّعى عليه بِدَيْنٍ لأحد الأسبانيول إذا أنكره لا يقبل منه اليمين , ولكن حيث كان بعض المدجنين واليهود يضمنون الأراضي الأميرية , ففي هذه الحالة يقبل منهم اليمين عند الإنكار لعدم إلحاق الضرر بخزينة الدولة. وسنة 880 صدّقت الملكة إيزابلا جميع عهود جان الصغير , وأضافت عليها حظر لباس الحرير وحلية الذهب والفضة على المسلمين واليهود (عاملت المسلمين في ذلك بحكم شريعتهم لكن في الرجال فقط) , ووضعت لهم علامات فارقة في الملبس من جملتها رقعة زرقاء عرضها أربع أصابع؛ لتمييز المسلمات والإسرائيليات. وما كفى كل هذا حتى نشرت حكومة قشتالة أمرًا لجميع عمال النواحي بأنه بلغ الملكة وقوع إهمال في إنفاذ بعض الشروط بتمامها في حق المدجنين واليهود وأنه إن حصل فيما بعد أقل تقاعس من أحد في تنفيذها بحرفها يعزل من منصبه ويحرم معاشه. وأما في مملكة أراغون فكان بطره الثالث قد أعلن في نحو سنة 68 هجرية أن كل شخص مسيحيًّا كان أو مسلمًا أو إسرائيليًّا يمكنه استيطان مملكته والإقامة بها حيث شاء , لكن يُنفى المسلمون واليهود من الخدمة العسكرية والمالية في الحكومة , ويحظر عليهم أن يدينوا الأسبانيول مالاً بأكثر من فائدة عشرين في المائة , وأن دعاويهم تنظر عند الحكام , ويقبل فيها اليمين , على أنه إن كان لمسلم أو يهودي دَيْن عند أحد الأسبانيول بدون سند أو بينة خطية فيقبل قوله من تاريخ الدين إلى خمسة عشر يومًا , ومن ثمة لا يعود مقبولاً , والسند الذي للمسلم والإسرائيلي على الاسبانيولي إن لم يسجل عند حكام الأسبانيول فبعد مضي ست سنواتٍ يسقط اعتباره ويلغى كل حكم له. وسنة 770 أصدر الدون جان أمرًا بأنَّ من تنصّر من أبناء المدجنين , ومات أبوه فله نصيبه من الإرث كما لو بقي مسلمًا. وسنة 780 صدرت الأوامر بأن كل مدجن يفر إلى أرض غرناطة , ويقع في اليد يعتبر أسير حرب , وتضبط أملاكه , وتقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول للملك والثاني لمن يكون قد قبض عليه , والثالث مناصفة بين صاحب الأرض التي أبق منها وصاحب الأرض التي تهيأ وقوعه فيها. ثم منع المدجنون من الجهر بالشهادتين (تأملوا) واستعمال النفير لما فيه من تحريك الجامعة وجُوزِيَ من يجاهر بشيء من ذلك بالقتل (تأملوا) . وسنة 890 أصدر الملك فرديناند صاحب أراغون أمرًا بمنع المدجنين من الخروج من مملكته , وإنه إذا استصحب أحد الأسبانيول أحدًا منهم في خدمته لضرورة قضت فيؤذن بشرط أن لا يكون مع المدجن ولد دون الأربع عشرة من عمره , ذلك خوفًا من الفرار إلى بلاد الإسلام؛ إلى غير ذلك من آيات العدل (!) التي تواترت في كتب الإفرنج , فلخصنا منها ما قرأت لا عجب فلولا هذه الغرائب , ولولا الإمعان في الظلم إلى هذه الدرجة لما تأخرت أسبانية إلى الحد الذي وصلت إليه , بعد أن كان لها من مركزها في أوروبا وافتتاح أميركا على يدها , وانبساط أيديها في مستعمرات الخافقين ما يضمن لها المقام الأول بين الدول اهـ.

من الأمير إلى الملك

الكاتب: شكيب أرسلان

_ من الأمير إلى الملك [*] بعث الأمير شكيب أرسلان بكتاب سياسي خطير إلى الملك حسين رأينا أن ننشره لما تضمنه من الحقائق التاريخية قال: الأمير النبيل سليل العترة الفاطمية، وطراز العصابة الهاشمية، أطال الله بقاءه، وسدد إلى الصواب آراءه، آمين. لا يخفى أن من الأحاديث المأثورة المشهورة عن جدك سيد الثقلين صلى الله عليه وسلم (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) [1] . فإذا كان الأمر كذلك أيها الأمير، ويطابق على صحته العقل وتظاهر بداهته الحديث، فما قولك بالمؤمن يُلْدغ ألف مرة؟ وما ظنك بالمؤمن ابن المؤمن والشريف ابن الشريف ولي نعمة الإيمان، ومشرق نور الإسلام، وأمير بلد الله الحرام، أن لدغ من جحر قد سبق أنه لدغ منه غيره من المؤمنين لا مرة ولا مرتين، بل مرارًا يضيع عندها الحساب، ولا يستوفيها كتاب؟ أيها الأمير عندنا في بر الشام مثل سائر: إن أنت لم تمت ألم تر من مات , فعلى فرض أن الإنكليز لم يخونوك إلى الآن أيها الأمير، أفلا تنظر إلى من خانوا قبلك؟ وعلى تقدير أنه لم يأت وقتك , أفلا اعتبرت بمن أمهلوا قبلك ثم أخذوه؟ وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم في داخل إمارة مكة أو في الحجاز , فيمكنك أن تربح فكرك منها منذ الآن [2] ولا حاولوا إدخال عسكرهم إلى البلد الحرام، ولا وضعوا ضباطهم على أبواب حجرة المصطفى علية الصلاة والسلام، تفاديًا من العجلة التي قد تخالف الحكمة، وتجر الوحشة , على حين لم يسترح بالهم ولا تحققت آمالهم , أفليس عندك أنت بمكانك من الذكاء , والفضل , ومطالعة التواريخ , وقياس الحاضر على الماضي , وقوة الاستنتاج ما يدلك على أنك بعد ركود العواصف , ومضي الأزمنة , وانقضاء الغرض من مراعاتك , ومدارتلك صائر إلى ما صار إليه غيرك , ولا حق بمن تقدمك من ملوك الإسلام الذين وقعوا في حبائل الإنجليز طوعًا وكرهًا، فما زالوا حتى عفوا آثارهم: وأطفئوا منارهم، وجعلوهم في الغابرين. أتظن أيها الأمير أن الإنكليز يغدرون بكل هؤلاء الملوك والممالك ويستثنونك أنت من الجميع , فيتعلمون فيك الوفاء , ويخرقون من أجلك خطة الغدر التي ساروا عليها إلى يومنا هذا مع كل من ظللته الخضراء، وأقلته الغبراء، حال كون غرضهم في محو إمارتك وأخذ بلدك أعظم من غرضهم في أخذ غيرك، وحال كون مصلحتهم في طي سجلك أهم من مصلحتهم في حذف أي أمارة من أمارات الإسلام لأنهم يرون أنهم إن استولوا على الحرمين الشريفين , فقد استولوا على الرأس , فصارت في أيديهم أرواح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وعاد المسلمون لا يملكون معهم عينًا تطرف ولا نفسًا تصعد، وأمنوا جانب انتقاضهم عليهم في مستقبل الأيام، وكل فتوحاتهم لا يحسبونها شيئًا بالقياس إلى نشر أجنحتهم على الحجاز وعلى البلد الأمين - والعياذ بالله - وجعله من جملة مستعمرات بريطانيا. أم غرك كون الإنكليز عقدوا معك عهدًا؟ قُلْ بحرمة جدك أيها الشريف ابن الشريف: كم عقدًا عقد الإنكليز ولم ينقضوه؟ وكم عهدًا أبرموه ثم لم يجعلوه أنكاثًا؟ وما أخالك تجهل التاريخ , وتكابر في التواتر بمن شأنهم في الإخلال بالعهود والمواثيق إلى الحد الذي تنكر فيه هذه الحقيقة , التي تتجلى في جميع معاملاتهم سواء مع المسلمين أو مع سائر الأمم. ناشدتك الله أيها الأمير هل أنت مصدق في ذات صدرك وذخيرة نفسك أن للإنكليز عهدًا يرعونه معك أو مع غيرك، أو ذمامًا يحفظونه لك أو لسواك إذا قضت سياستهم [3] , أفلم تكن تقرأ , ولم يخبرك أبوك الأمير الكبير أنه قرأ إعلانات حكومتهم الصريحة الرسمية مرارًا بأنهم يخلون مصر عندما يستتب فيها الأمن ويعيدونها إلى أهلها؟ فماذا كان بعد ذلك سوى أنهم لبثوا يلتهمونها تدريجًا حتى انتهوا باستلحاقها بدون أدنى مبالاة بعهود خطية، ولا بمواعيد رسمية، وضموها إلى سائر مستعمراتهم؟ وإن أحسوا بأدنى مقاومة لأفكارهم في أرض مصر ينسخون هذه الحكومة القائمة فيها كالشبح الماثل، ويجعلونها ولاية كسائر الولايات، ولا نطيل عليك بسرد ما صنعوه في الهند وزنجبار وجنوبي اليمن ومسقط والبحرين والكويت والعجم وبلوخستان وغيرها، وكل مبادئهم مع هذه البلاد لم تكن إلا كمبادئهم معك، فكان من البديهي أن ينتهي معك الأمر كما انتهى مع غيرك. وإلى كم أيها الأمير تمر بنا المثلات ولا نعتبر، وتعظنا الحوادث ولا ندّكر؟ ونكون أشبه بالغنم يأخذها الجزار للذبح واحدًا بعد واحد وهي لا تعقل ماذا يصنع بها حتى يصير السكين في أعناقها؟ فإذا كان من المقرر عند أهل الشرق والغرب أن الإنكليز ينكثون عهودهم لما هو أقل شأنًا من الحجاز وتلك البقاع المقدسة التي تهوي إليها أفئدة المسلمين من كل حدب , فهل هناك في يدك من قوة مادية تمنعهم من دخول قلب بلادك , ويكونون مضطرين أن يحترموك من أجلها؟ أو تردعهم فيما لو قضت عليهم سياستهم عن سلب إمارتك، لا بل والإيقاع بك واستئصال جرثومتك؟ لا جرم أنك تقدر أن تدعى بوجود بعض عشائر من العرب توفر القوة التي تكفل دفع إنكلترا بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من الخلق يرتاح إلى هذه الدعوة، فأنت إذًا باتفاق كلمة جميع العقلاء وأهلك وقومك باقون تحت رحمة إنكلترا ورهن إرادتها، وقيد إشارتها، موكول أمركم إلى أمانتها وكرم أخلاقها [4] . لا قوة معنوية تتكلون عليها من حفظ العهود، وتأكيد الوعود، بعد ما رأينا سياسة إنكلترة مع غيرك. ولا قوة مادية من جيوش منظمة , ومدافع وذخائر وأعتاد وطيارات وبوارج وغواصات وما أشبه ذلك مما تلتزم إنكلترة معه جانب الأدب والكياسة، فبماذا أنت آمن شر تلك الدولة على جزيرة العرب ولا سيما على الحجاز منذ أحقاب [5] ؟ وأي ضمان عندك على كونها لا تقلب لك ظهر المجن، فتندم حين لا ينفعك الندم؟ وبعد أن يكون تسلط غير المسلمين على أقدس تراب عند المسلمين منذ 13 قرنًا. ليس من باباوية في الإسلام أيها الأمير، ولا مزية للمسلم على المسلم إلا بالتقوى , وأقرب الناس إلى الرسول أطوعهم لوصاياه، وأنت لا تجهل ما في كلام الله وأحاديث جدك المصطفى صلى الله عليه وسلم مما يثبت لك أن مزيتك هذه المتعلقة بسلالة الرسالة وبنور النبوة إنما تبدأ عند حفظ حدود الله لا غير. أم تظن (أن الغاية تبرر الواسطة) كما يقولون؟ وإنك إنما تريد لتضع أساس دولة عربية تبدأ في أول أمرها بالنشوء تحت حماية إنكلترة , حتى إذا بلغت أشدها استقلت تمامًا، وأن تلك هي سنة النشوء والارتقاء؟ فاعلم أيها الأمير أن الذين يزينون لك هذه الأوهام هم قوم قد عرفناهم ونعرفهم لا خلاق لهم، ابتلى الله بهم هذه الأمة كما ابتلى كل الأمم بأمثالهم، وما هم في واقع الحال سوى سماسرة الإنكليز يسعون أن يتمموا لإنكلترة صفقة البلاد العربية , وأسماؤهم مقيدة في دفتر المبالغ السرية التي تنقدها إنكلترة سماسرتها السياسيين كلاً على قدر خدمته يدخل هؤلاء عليك وعلى غيرك بمثل هذه الأعاليل , التي هي أسخف من أن يتنزل عاقل مثلك لاستماعها فضلاً عن أن يتلقاها بالقبول. هل الإنكليز الذين حلموا في المنام بطائر حلق فوق الهند , فهبوا مذعورين وأرسلوا ببزاة طياراتهم لاصطياده في لوح الجو , يرضون أن هذا العرق العربي النجيب الذي سبق له ما سبق في التاريخ العام يتمكن من تأسيس دولة عربية مستقلة على ضفاف البحر الأحمر دهليز الهند , تسد على الإنكليز طريق حياتهم ومجاري أنفاسهم أي وقت شاءت؟ أيظن أولئك المخدوعون بالإنكليز أنهم صاروا أدهى من رجال بريطانيا , وأعلى كعبًا في السياسة , وأبعد نظرًا في عواقب الأمور , حتى انتبهوا إلى ما غفلت هي عنه , وفكروا في مستقبل الأمة البريطانية. أم هذه الأمة البريطانية التي هي أربعون مليونًا خَامَرَ عقولها الجنونُ , فصارت تسعى بإرادتها في تأسيس استقلال للعرب على طريق الهند , أو في مقابلة مصر والسودان وتبحث عن حتفها بظلفها؟ قل لهؤلاء القائمين بالدعوة العربية , الناهضين لحفظ حقوقها وأخذ ثاراتها ماذا إلى اليوم أمنوا من حقوق العرب بقيامهم؟ . ليقولوا لنا ماذا أقاموا للعرب من الملك حتى نشكرهم , ونقر بفضلهم؟ لأننا عرب نحب كل من أحب العرب , ونبغض كل من أبغض العرب , ولا نبالي بالقال والقيل أمام الحقائق. أترانا اكتفينا بأن يتلقبوا بألقاب الحكام ذوي السلطان؟ فهل الملك بالألقاب والألفاظ الضخمة؟ ليتلقب واحدهم بملك الملوك أو سلطان السلاطين وهو ذو قوة نعرفها كما هي فما يؤثر على الأمة الإسلامية أو يفيدها [6] . إن قلت: إنك مستقل في الحجاز وأنها أول بلاد عربية استقلت أجبناك: إن الحجاز وحده لا يمكن أن يستقل عن بريطانيا طرفة عين مادام الحجاز عيالاً على الخارج وعلى ما وراء البحر , وما دام ليس هناك استقلال اقتصادي ممكن , وإن قلت: إنه يقدر أن يستغني عن البحر , وأن يعيش من الداخل , فأي داخل دخل عليك لهذه المملكة الجديدة؟ (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ)) ...

المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الحديثة أكثر ما يهدى إلى المنار من المطبوعات الحديثة خيارها بالفعل أو برأي مَن يعرفنا من ناشري الكتب في مدح ما لا يستحق المدح أو السكوت عن ذم أصحابها لعدم طمع من الضار: كأكثر الروايات والقصص وأمثالها , وقد كثر لدينا من المطبوعات ما يستحق أن يقرأ وأن يقرظ وينتقد للترغيب في نفعه أو التحذير من ضرر فيه، ولا نزال يضع بالقرب منا كثيرًا من هذه الكتب والرسائل؛ لنذكرها عند سنوح فرصة , فنقرأ منها ما يبيح لنا أن نقول فيها قولاً مفصلاً ومجملاً، وقد سبق أن ذكرنا مثل هذا , ولكننا نرى الموانع تزداد سنة بعد سنة , فعزمنا على احتذاء مثال غيرنا من أصحاب المجلات بذكر هذه المطبوعات بكلمات وجيزة قضاء لما للمُهْدِينَ من الحق الذي أعطاهم إياه الشرع والعرف , فمِنْ هَدْي السنة النبوية مكافأة المُهْدي وجزاؤه، ويقابل ذلك حق قراء المجلات على قرائها في النصح لهم , أو عدم غشهم على الأقل فنقول: (الأخلاق عند الغزالي) من هذه الكتب التي يوجب الشرع والعرف وحال العصر انتقاده بالتفصيل كتاب (الأخلاق عند الغزالي) الذي ألفه (الدكتور زكي مبارك) , وتقدم به إلى الجامعة المصرية عند امتحان شهادة (الدكتورية) في الآداب العربية , فكان لذلك ضجة استياء وحملة شديدتين من علماء الأزهر وغيرهم من أهل الدين , سبق مثلهما لغيره من خريجي هذه الجامعة , فكان ذلك من المسائل التي تستوقف الفكر، وتدعوه إلى الجولان والبحث، وقد نظر في هذا الكتاب نظرة عجلى مرة واحدة، وقرأنا عنه مسائل متفرقة، علمنا بها أن فيه من مواضع النقد ما لم نسمع , ولم نقرأ كلامًا لأحد فيه، ولعله أهم من كل ما كتب الكاتبون الكثيرون في نقده؛ لهذا نعد بأننا سنخصه بوقتٍ نقرأ فيه منه كل ما يتوقف عليه الحكم فيه , قبل كتابة ما طلب منا مهديه وغيره من نقده إن شاء الله تعالى. *** (غرائب الغرب) (كتاب اجتماعي تاريخي اقتصادي أدبي فيه كلام عن مدينة فرنسة وإنكلترة وألمانية وإيطالية وأسبانية وسويسرة والبلجيك وهولاندة والنمسة والمجر والبلقان واليونان والآستانة ومصر والشام؛ ومقالات في علائق الغرب بالشرق منذ الزمن الأطول، ولا سيما صلات الغرب مع العالم الإسلامي والعربي منه خاصة، في جنوبي إيطالية وفرنسة) . مؤلف هذا الكتاب صديقنا محمد أفندي كردعلي رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق ومنشئ مجلة المقتبس وجريدة المقتبس , فهو غني عن التعريف , مشهور عند أهل العلم والأدب، حسن الاختيار , حسن العبارة , معتدل الفكر , حريص على الإصلاح العلمي والمدني , فما كتبه في هذا الكتاب من أخبار رحلته الأولى والثانية إلى أوروبة مفيد لقراء العربية إن شاء الله تعالى , كما رجا من كرم الله تعالى. طبع الجزء الأول منه صاحب المكتبة الأهلية بمصر سنة 1341 في المطبعة الرحمانية , وهذه الطبعة الثانية له صفحاته 338 وثمنه 25 قرشًا , وهو يطلب من طابعه ومن مكتبة المنار بمصر. *** (المختصر في تاريخ آداب اللغة الغربية) لمنشئ مجلة الهلال جرجي زيدان بك كتاب في تاريخ آداب اللغة العربية , يدخل في أربعة أجزاء , مرتب على أعصر التاريخ , كان رسم خطته لاختصاره في جزء واحد. يرتب على حسب الموضوعات الأدبية , ولكنه توفي قبل إنجاز ذلك , فعهدت إدارة الهلال إلى الأستاذ أنيس أفندي الخويري المقدسي أستاذ هذا الفن في الجامعة الأمريكية ببيروت بمراجعة أصوله وترتيبها فأجاب وأجاد، وقد طبع الكتاب في العام الماضي بمطبعة الهلال على ورق جيد فنحث القراء على مطالعته. *** (الزهراء) مجلة علمية أدبية اجتماعية تصدر في القاهرة في منتصف كل شهر عربي لمنشئها محب الدين (أفندي) الخطيب، اشتراكها السنوي خمسون قرشًا مصريًّا في المملكة المصرية , وستون قرشًا في الخارج، وسنتها عشرة أشهرٍ , ويتألف كل جزء منها من ثمانية كراريس (ملازم) , وتهدي إلى المشتركين كتابًا في آخر السنة بدلاً من الشهرين. صاحب هذه المجلة كاتب مشهور اشتغل بالكتابة والتحرير في عدة صحف أولها المؤيد وآخرها الأهرام , ولا يزال من المحررين فيها، وهو محب للإتقان فمجلته جديرة بالثبات على خدمة الآداب العربية , مرجوة الارتقاء والنجاح، فعسى أن تصادف من القراء تعضيدًا يعينها على هذه الخدمة النافعة. *** (الشورى) جريدة أسبوعية سياسية , تبحث في شؤون سورية: فلسطين سورية لبنان شرق الأردن؛ يصدرها في مصر محمد علي أفندي الطاهر سكرتير الجمعية الفلسطينية بمصر , وهو من الشبان الفلسطينيين الأذكياء تَمَرَّسَ بالسياسة من نشأته الأولى في أثناء الحرب العامة , وتَمَرَّنَ على الكتابة في أشهر الجرائد المصرية والسورية الفلسطينية، وهو في نشاطه وخبره جدير بالنجاح في عمله وخدمة وطنه به، وله أصدقاء كثيرون من حملة الأقلام يؤازرونه ويمدون جريدته في الموضوعات السياسية العامة والآداب , فنتمنى له التوفيق والفلاح , وقيمة الاشتراك في الشورى 75 قرشًا صحيحًا في القطر المصري و75 قرشًا في فلسطين وسائر الأقطار.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حكم المكره على الحلف بالله أو بالطلاق (س27) وُجِّهَ إلينا الاستفتاء الآتي في جريدة الأهرام من أصحاب الإمضاءات التي في آخره , وهم من المندوبين لانتخاب أعضاء مجلس النواب المصري , وقد أشيع أن من رجال الحكومة من يُكْرِهُ أمثالهم على الحلف بانتخاب فلان دون فلان , وقد استفتى غيرهم بعض العلماء فجمجم بعض , وسكت بعض. وهذا نص الاستفتاء: إلى العالم العلامة المصلح الكبير حجة الإسلام ومشكاة الشرع السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الإسلامي: ما قولكم دام فضلكم فيمن أكره على الحلف بالطلاق أو بالله أو بالمصحف ليفعل أمرًا لا يجب عليه شرعًا فعله مع قدرة المُكْرِهِ على تنفيذ ما هَدَّدَ به المُكْرَهَ (بالفتح) لا زلتم للإسلام حصنًا منيعًا وللدين عمادًا رفيعًا. ... ... ... ... ... ... محمد خطاب مندوب ثلاثيني ... ... ... ... ... سيد أحمد علي مندوب ثلاثيني ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى مصطفى مندوب ثلاثيني وهذا نص ما أجبنا به ونشر في الأهرام: نحن إنما نجيب عن أمثال هذه المسائل ببيان دلائل الشرع وحكمة أحكامه لا بالكتب المخصوصة في مذهب معين , وإن كان هو الذي قيدت به المحاكم الشرعية والفتاوى الرسمية. فنقول هنا: إذا حلف أحد ليفعلن كذا مما لا يجب عليه شرعًا ففيه تفصيل فإن غير الواجب يشمل المندوب والمستحب شرعًا , والمباح والمكروه والحرام، فإن كان المحلوف على فعله مندوبًا أو مباحًا فلا وجه للتفصي من القسم وعدم البر باليمين بعذر الإكراه , فإن ما سيأتي بيانه من الخلاف والراجح منه في مسألة الإكراه لا يقتضي أن يحنث في يمينه , فإن الخروج من الخلاف أولى من الدخول فيه كما قال العلماء , ومن البديهيات أن من لا خلاف في جواز عمله أو صحته خير من المختلف فيه وإن كان المحلوف على فعله من المحظورات القطعية أو الظنية فلا يفعله وإن حلف مختارًا , فإن اليمين على فعل المعصية أو ترك الواجب باطلة لا يجب الوفاء بها , بل يحرم ومثلها النذر , واختلف في كفارتها كما سيأتي , فكيف إذا أكره على الحلف إكراهًا؟ وكيف لا يحنث في اليمين على ترك المعصية وقد صح الأمر بالحنث فيمن حلف على شيء فوجد غيره خيرًا منه، وفيه أحاديث منها ما رواه الشيخان (البخاري ومسلم) وغيرهما من حديث عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير) وفي رواية لأبي داود والنسائي (فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير) وفي معناه أحاديث أخرى في الصحيحين والسنن , وهو دليل على أن من حلف أن ينتخب فلانًا لمجلس النواب , ثم رأى أن غيره أنفع منه وأقدر على القيام بالمصلحة , فعليه أن ينتخب هذا دون من حلف لينتخبه , ويكفر عن يمينه إذا حلف باختياره وإلا فلا كفارة عليه. وفي معنى ذلك في النذر قوله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه , ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن الأربعة من حديث عائشة رضي الله عنها , بل ورد فيمن نذر أو حلف على عمل شاق إفتاء النبي صلى الله عليه وسلم إياه بالكفارة دون تعذيب نفسه؛ روى الشيخان وأصحاب السنن الثلاثة من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يهادى بين ابنيه فقال: ما هذا؟ قالوا نذر أن يمشي- زاد النسائي في رواية - إلى بيت الله - قال: (إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني) وأمره أن يركب , وروى أحمد والشيخان عن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فقال: (لتمش ولتركب) وفي رواية أصحاب السنن الأربعة أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا مُرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام) وفي بعض الروايات أمرها أن تهدي بُدنة. واختلف في النذر بمعصية هل تجب فيه الكفارة أم لا؟ فقال الجمهور: لا، وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم؛ ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك واتفقوا على تحريم النذر في المعصية , واختلافهم إنما هو في الكفارة قاله في نيل الأوطار. وأما الحلف بالطلاق اختيارًا فللعلماء فيه ثلاثة أقوال مشهورة: أشدها أنه يقع به الطلاق وأخفها أنه لا يقع به شيء ألبتة؛ لأنه عبارة عن تأكيد للكلام وصاحبه لم يعزم الطلاق ولم يُردْهُ , وأوسطها أنه تجب به كفارة يمين , وليس هذا بموضع بسط أدلة هؤلاء القائلين وترجيح الراجح منها , وإنما ذكرناه تمهيدًا للكلام في الإكراه عليه هل يقع أم لا؟ . اتفق جمهور أئمة المسلمين وعلماء الملة المستقلين من السلف والخلف إلى أن من أُكْرِهَ على شيء من قول أو فعل فأتى به مُكْرهًا غير مريد له فإنه لا يؤاخذ به في الجملة، واختلفوا في مسائل من ذلك تعارضت فيها النصوص عند بعضهم أو رأوا أنه لا يتحقق فيها الإكراه , والأصل في هذه المسألة قوله تعالى في سورة النحل: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل: 106) الآية؛ فجعل الكفر بالله بالإكراه من مطمئن القلب بالإيمان غير مؤاخذ به , والكفر أعظم الآثام وأشدها عقابًا فما دونه أولى بأن لا يؤاخذ المكره عليه، وكذا قوله تعالى في إكراه الإماء على البغاء {وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 33) أي لا يعاقبهن على الزنا بالإكراه. قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه (أحكام القرآن) في تفسير الآية الأولى: فذكر استثناء من تكلم بالكفر بلسانه عن إكراه , ولم يعقد على ذلك قلبه , فإنه خارج عن هذا الحكم معذور في الدنيا مغفور له في الأخرى. ثم قال في سياق تفسير المكره: وقد اختلف الناس في التهديد , هل هو إكراه أم لا؟ والصحيح أنه إكراه , فإن القادر الظالم إذا قال لرجل: إن لم تفعل كذا وإلا قتلتك أو ضربتك أو أخذت مالك أو سجنتك , ولم يكن له من يحميه إلا الله , فله أن يقدم على الفعل ويسقط عنه الإثم في الجملة إلا في القتل , فلا خلاف بين الأمة أنه إذا أكره عليه بالقتل أنه لا يحل له أن يفدي نفسه بقتل غيره , ثم ذكر الخلاف في الزنا أيضًا , وقول من قال: إنه لا يتحقق فيه الإكراه؛ لأنه شهوة غريزية إلخ. ثم قال: لما سمح الله تعالى في الكفر به وهو أصل الشريعة عند الإكراه , ولم يؤاخذ به ولا ترتب حكم عليه , وعليه جاء الأثر المشهور عند الفقهاء (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) والخبر وإن لم يصح سنده فإن معناه صحيح باتفاق من العلماء [1] ، ولكنهم اختلفوا في تفاصيل (منها) قول ابن الماجشون في حد الزنا وقد تقدم , (ومنها) قول أبي حنيفة: إن طلاق المكره يلزم لأنه لم يعدم فيه أكثر من الرضا , وليس وجوده بشرط في الطلاق كالهازل , وهذا قياس باطل فإن الهازل قاصد إلى إيقاع الطلاق راضٍ به , والمكره غير راضٍ ولا نية له في الطلاق، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) . ثم قال: من غريب الأمر أن علماءنا اختلفوا في الإكراه على الحنث في اليمين هل يقع به الإكراه أم لا , وهذه مسألة عراقية سرت لنا منهم لا كانت هذه المسألة ولا كانوا هم، وأي فرق يا معشر أصحابنا بين الإكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع؟ فاتقوا الله وارجعوا بصائركم، ولا تغتروا بذكر هذه الرواية، فإنها وصمة في الرواية) اهـ. أقول: أما حديث: (ثلاث جدُّهن جِدٌّ وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) الذي استدل به الحنفية في هذه المسألة , فقد رواه أصحاب السنن إلا النسائي وقال الترمذي: حسن غريب، وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك قال النسائي فيه: منكر الحديث ووثقه غيره وله شواهد أضعف منه. وقد رد الجمهور استدلال الحنفية بعمومه على وقوع طلاق المكره من وجوه غير ضعفه أقواها أنه لو كان صحيحًا لما صلح معارضًا لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان} (النحل: 106) ودلالتها على عدم الاعتداد بطلاق المكره ويمينه ونذره بالأولى، (ومنها) الأحاديث الواردة في ذلك كحديث (لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق) والإغلاق الإكراه كما نقله الحافظ , وقال: إنه المشهور رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة , وكذا أبو يعلى والحاكم وصححه , وفي إسناده محمد بن عبيد بن أبي صالح ضعّفه أبو حاتم وذكره ابن حبان في الثقات , ولكن رواه البيهقي من غير طريقه , وكحديث (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس وفي إسناده مقال , وقد حسنه النووي , وفي معناه آثار تُقَوِّيهِ سنذكر بعضها وأقل ما يقال في هذه الروايات: إنها مخصصة للحديث الذي ذكروه ومنها حديث النية. قال البخاري في كتاب الطلاق من صحيحه: (باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون وأمرهما والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره) يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) . ثم قال فيه: وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق , وقال: ابن عباس طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. قال الحافظ ابن حجر في شرحه لعنوان الباب: اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر، وشمل ذلك الاستدلال بالحديث؛ لأن غير العاقل المختار لا نية له فيما يقول أو يفعل , وكذلك الغالط والناسي والذي يكره على الشيء. ثم قال الحافظ: وقد اختلف السلف في طلاق المكره فروى ابن أبي شيبة وغيره عن إبراهيم النخعي أنه يقع قال: لأنه شيء افتدى به نفسه وبه قال أهل الرأي (يعني الحنفية) , وعن إبراهيم تفصيل آخر إنْ وَرَّى المكره لم يقع وإلا وقع , وقال الشعبي: إن أكرهه اللصوص وقع وإن أكرهه السلطان فلا؛ أخرجه ابن أبي شيبة , ووجه بأن اللصوص من شأنهم أن يقتلوا من يخالفهم غالبًا بخلاف السلطان. (قال) : وذهب الجمهور إلى عدم اعتبار ما يقع فيه , واحتج عطاء بآية النحل {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} (النحل: 106) قال عطاء: الشرك أعظم من الطلاق. أخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح، وقرره الشافعي بأن الله تعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه , وأسقط عنه أحكام الكفر , فكذلك يسقط عن المكره ما دون الكفر؛ لأن الأعظم إذا سقط سقط ما دونه بطريق الأولى، وإلى هذه النكتة أشار البخاري بعطف الشرك على الطلاق في الترجمة اهـ كلام الحافظ. وقال الإمام الشوكاني في شرح حديث (لا طلاق في إغلاق) من كتابه (نيل الأوطار) ما نصه: وقد استدل بهذا الحديث من قال: إنه لا يصح طلاق المكره , وبه قال جماعة من أهل العلم حكى ذلك في البحر عن علي وعمر وابن عباس وابن عمر والزبير والحسن البصري وعطاء ومجاهد وطاوس وشريح والأوزاعي والحسن ابن صالح والقاسمية والناصر والمؤيد بالله ومالك والشافعي، وحكي أيضًا وقوع طلاق المكره عن النخعي وابن المسيب والثوري وعمر بن عبد العزيز وأبي حنيفة وأصحابه، والظاهر ما ذهب إليه الأولون إلخ يعني أن الصواب قول الجمهور وشَرَعَ في الاستدلال عليه. وحاصل ما تقدم أن من حلف بالله أو بالطلاق مكرهًا لا تنعقد يمينه , ولا يجب عليه به شيء سواء كان اليمين

المفطرون في رمضان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المُفطرون في رمضان كتبنا في فريضة الصيام وحكمه وفوائده الروحية والبدنية والاجتماعية مرارًا متعددة في المجلدات المتفرقة من المنار , وإذ قضى الله تعالى أن يقرأ هذا الجزء منه في شهر رمضان المبارك , رأينا أن نعيد التذكير والوعظ في ذلك بكلمة وجيزة عسى أن يتذكر ويستفيد المستعدون لذلك من الذين لا يؤدون هذه الفريضة. إن الذين يفطرون في نهار رمضان أصناف: (منهم) : المسلم بالوراثة الذي لا يعرف من الإسلام إلا تقاليد منها لفظي كالشهادتين وكلمة (مسلم موحد بالله) ومنها عملية، كالصلاة والصيام واحتفالات والموالد والمواسم والمحمل والمقابر وكون زيارة الأولياء وشد الرحال إليها تغفر الذنوب وتقضي الحاجات , وكون كل ما يفعله الإنسان مقدر فلا يؤاخذ عليه، فكل أمور الدين عند أكثر هؤلاء عادات من تعود شيئًا منها بتقاليد بيته فعله , وإلا تركه بلا مبالاة بالوعيد ولا اكتراث للوعد، وأقلهم من تغلبه شهوته الحيوانية , فيعذر نفسه باستغناء الله عن صيامه وتَمَنَّى العفو والمغفرة. (ومنهم) : المارقون من الدين بشبهات تلقفوها من ملاحدة الإفرنج والمتفرنجين, الذين لا نصيب لهم من الإسلام إلا الولادة في بعض بيوت المسلمين. ومن المفطرين من يفطر سرًّا , ويحفظ حرمة الشهر بين الناس فلا يأكل ولا يشرب ولا يدخن على مرأى أحد، ومنهم الذين يدخنون في الشوارع العامة ويشربون قهوة البن أو الخمرة في المقاهي أو الحانات العامة، ويتغدون في المطاعم العامة مع أمثالهم من غير المسلمين أو من المعدودين في دفاتر الإحصاء منهم , وإذا كانوا أرباب بيوت لهم فيها الأمر والنهي , أو كان أهل بيوتهم من المارقين معهم من الدين , فإن موائد الطعام تنصب لهم في رمضان أول النهار وبعد الظهر كما تنصب في سائر الشهور. من الأسباب النظرية الفكرية للإسرار بالفطر أن الإسلام رابطة اجتماعية أدبية سياسية في الحياة الدنيوية , وعقيدة دينية مظهرها هذه العبادات المخصوصة , فمن فقد العقيدة الباعثة على العبادة , فالواجب في القانون الأدبي والاجتماعي أن يحافظ على الرابطة الدنيوية العامة التي تربطه بالأمة الكبيرة، أو الصغيرة - التي ينتهي إليها , وأن يحترم شعائرها , فلا يمتهنها جهرًا على مرأى من أهلها؛ لأن ذلك إهانة لها ولنفسه من حيث هو فرد من أفرادها، وأصحاب هذا النظر هم أرقى هؤلاء المارقين عقلاً وشعورًا. وقد قال لي أحد أدباء الترك: إنني إن أفطرت في رمضان فإنني لا أمتهن نفسي وملتي بالجهر بذلك , ولا أطيق أن أرى أحدًا يفعل ذلك , فإن وجدت مسلمًا يجهر به أمامي , فإنني أجد من نفسي شعورًا يبعثني على قتله إن استطعت. ومن الأسباب الاجتماعية والأدبية ما لا يرتقي بالمُسَرِّ بالفطر إلى هذه الأفكار والشعور , بل يسره بسبب احترامه لأهل بيته وعشرائه إذا كانوا من أهل البيوت العريقة في الإسلام المحافظة على شعائره، فإن بعض أولاد وجهاء العلماء وغيرهم من بيوتات المسلمين الذين أفسد دينهم وأدبهم تعليم المدارس العصرية يفطرون في رمضان ويسكرون.. ولكنْ سرًّا أو مع أمثالهم من الفساق المستهترين. كذلك الذين يجاهرون بانتهاك حرمة شهر الصيام منهم أصحاب رأي ونظر كالمتفرنجين الذين ليس لهم من الرأي والفكر ما يرتقي بهم إلى احترام الملة أو الأمة التي ينتمون إليها، ولا لهم من البيوت التي يعيشون فيها من يوافقونه على تقاليده الملية كعادته، ولا من الخلطاء الذين يعاشرونهم من يستحيون منه، فقد انتفى المانع من الجهر , ووجد المقتضي له عندهم وهو ما يسمونه الحرية الشخصية والشجاعة أو الجرأة المعنوية، وقد يحتقرون المستخفي بالفطر أو يفندون رأيه برميه بالجبن والنفاق , وأنه هو المانع له من إظهار ما هو منطوٍ عليه من عدم التدين، وهم يخدعون أنفسهم بألقاب الحرية والجرأة الفسقية التي يسمونها شجاعة أدبية , فإن أحدهم لو مات والده المسلم مثلاً وكان غنيًّا , وادَّعى بعض إخوته أو غيرهم أنه لا يرثه؛ لأنه ليس على دينه , وطلب من المحكمة الشرعية الحكم بحرمانه من الإرث , وسأله القاضي الشرعي عن ذلك , فإنه يدَّعي الإسلام ويُكذِّبُ من رماه بالارتداد عنه، وقل مثل هذا إذا أراد أن يتزوج فتاة مسلمة أو ادعت عليه زوجته المسلمة أنه قد ارتد عن الإسلام , وطلبت من المحكمة الشرعية التفريق بينها وبينه. وجملة القول: إن هؤلاء أدنياء لا شعور لهم بالكرامة القومية ولا المِلِّيّة، وأما سائر المجاهرين بالفطر في رمضان فهم التحوت المستولغون من الطبقة السفلى؛ أي الذين لا يبالون أمًّا ولا عارًا وأمرهم معروف.

إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها ـ 5

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأما قول القائل: ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين فهذا القول مبني على قول هؤلاء وهو باطل متناقض , فإن مقتضاه أنه يرى الله بعينه , وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت) وقد اتفق أئمة المسلمين على أن أحدًا من المؤمنين لا يرى الله بعينه في الدنيا , ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم , مع أن جماهير الأئمة على أنه لم يره بعينه في الدنيا , وعلى هذا دلت الآثار الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والصحابة وأئمة المسلمين. ولم يثبت عن ابن عباس ولا عن الإمام أحمد وأمثالهما أنهم قالوا: رأى ربه بعينه , بل الثابت عنهم إما إطلاق الرؤية وإما تقييدها بالفؤاد , وليس في شيء من أحاديث المعراج الثابتة أنه رآه بعينه , وقوله: (أتاني البارحة ربي في أحسن صورة) الحديث الذي رواه الترمذي وغيره إنما كان بالمدينة في المنام هكذا جاء مفسرًا , وكذلك أم الطفيل وحديث ابن عباس وغيرهما مما فيه رؤية ربه إنما كان بالمدينة كما جاء مفسرًا في الأحاديث والمعراج كان بمكة كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} (الإسراء: 1) , وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع. وقد ثبت بنص القرآن أن موسى قيل له: (لن تراني) وأن رؤية الله أعظم من إنزال كتاب من السماء , فمن قال: إن أحدًا من الناس يراه فقد زعم أنه أعظم من موسى بن عمران , ودعواه أعظم من دعوى من ادعى أن الله أنزل عليه كتابًا من السماء. المسلمون في رؤية الله على ثلاثة أقوال: فالصحابة والتابعون وأئمة المسلمين على أن الله يُرى في الآخرة بالأبصار عيانًا , وأن أحدًا لا يراه في الدنيا بعينه لكن يُرَى في المنام , ويحصل للقلوب في المكاشفات والمشاهدات ما يناسب حالها , ومن الناس من تقوى مشاهدة قلبه حتى يظن أنه رأى ذلك بعينه وهو غالط ومشاهدات القلوب تحصل بحسب إيمان العبد ومعرفته في صورة مثالية كما قد بسط في غير هذا الموضع. (والقول الثاني) قول نفاة الجهمية أنه لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة. (والثالث) قول من يزعم أنه يُرى في الدنيا والآخرة. وحلولية الجهمية يجمعون بين النفي والإثبات فيقولون: إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة , وأنه يرى في الدنيا والآخرة وهذا قول ابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله؛ لأن الوجود المطلق الساري في الكائنات لا يرى وهو وجود الحق عندهم. ثم من أثبت الذات قال: يُرى متجليًا فيها , ومن فرق بين المطلق والمعين قال: لا يرى إلا مقيدًا بصورة , وهؤلاء قولهم دائر بين أمرين: إنكار رؤية الله وإثبات رؤية المخلوقات , ويجعلون المخلوق هو الخالق , أو يجعلون الخالق حالاً في المخلوق , وإلا فتفريقهم بين الأعيان الثابتة في الخارج وبين وجودها هو قول من يقول: بأن المعدوم شيء في الخارج وهو قول باطل , وقد ضموا إليه أنهم جعلوا نفس وجود المخلوق هو وجود الخالق , وأما التفريق بين المطلق والمعين مع أن المطلق لا يكون هو في الخارج مطلقًا يقتضي أن يكون الرب معدومًا , وهذا هو جحود الرب وتعطيله، وإن جعلوه ثابتًا في الخارج جعلوه جزءًا من الموجودات فيكون الخالق جزءًا من المخلوق أو عرضًا قائمًا بالمخلوق , وكل هذا مما يعلم فساده بالضرورة، وقد بسط هذا في غير هذا الوضع. وأما تناقضه فقوله: ما غبت عن القلب ولا عن عيني ... ما بينكم وبيننا من بين يقتضي المغايرة , وأن المخاطَب غير المخاطِب , وأن المخاطِب له عين قلب لا يغيب عنها المخاطب , بل يشهده القلب والعين والشاهد غير المشهود. وقوله: (ما بينكم وبيننا من بين) فيه إثبات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وهذا إثبات لاثنين، وإن قالوا: مظاهر ومجالي قيل: فإن كانت المظاهر والمجالي غير الظاهر المتجلي فقد ثبتت التثنية وبطل التعدد، وإن كان هو إياها فقد بطلت الوحدة فالجمع بينهما متناقض. وقول القائل: فارق ظلم الطبع وكن متحدًا ... بالله وإلا كل دعواك محال إن أراد الاتحاد المطلق فالمفارق هو المفارق وهو الطبع وظلم الطبع , وهو المخاطب بقوله: (وكن متحدًا بالله) وهو المخاطب بقوله: (كل دعواك محال) وهو القائل هذا القول، وفي ذلك من التناقض مالا يخفى , وإن أراد الاتحاد المقيد فهو ممتنع؛ لأن الخالق والمخلوق إذا اتحدا فإن كانا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبل الاتحاد فذلك تعدد وليس باتحاد، وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد ونحو ذلك مما يشبه النصارى بقولهم في الاتحاد , لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره , فإنه لا بُدَّ أن يستحيل وهذا ممتنع على الله ينزه الله عن ذلك؛ لأن الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجودًا , والرب تعالى واجب الوجود بذاته وصفاته اللازمة له يمتنع العدم على شيء من ذلك، ولأن صفات الرب اللازمة له صفات كمال فعدم شيء منها نقص تعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب , وذلك ممتنع على العبد المحدث المخلوق , فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل , وصفات الرب تعالى اللازمة القدم والغنى والعزة , وهو سبحانه قديم غني عزيز بنفسه , يستحيل عليه نقيض ذلك , فاتحاد أحدهما بالآخر يقتضي أن يكون الرب متصفًا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر والذل، والعبد متصفًا بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي والعز الذاتي , وكل ذلك ممتنع وبسْط هذا يطول. ولهذا سئل الجُنَيْدُ عن التوحيد فقال: التوحيد إفراد الحدوث عن القدم , فبين أنه لا بد من تمييز المحدث عن القديم. ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن عن مخلوقاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته , بل الرب رب والعبد عبد {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْدا} (مريم: 93-95) , وإن كان المتكلم بهذا البيت أراد الاتحاد الوصفي , وهو أن يحب العبد ما يحبه الله , ويبغض ما يبغضه الله , ويرضى بما يرضى الله , ويغضب لما يغضب الله , ويأمر بما يأمر الله , وينهى عما ينهى الله عنه. ويوالي من يواليه الله , ويعادي من يعاديه الله , ويحب لله , ويبغض لله , ويعطي لله , ويمنع لله , بحيث يكون موافقًا لربه تعالى فهذا المعنى حق وهو حقيقة الإيمان وكماله , وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة , وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه , ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه , فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به , وبصره الذي يبصر به , ويده التي يبطش بها , ورجله التي يمشي بها , فبي يسمع , وبي يبصر , وبي يبطش , وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه , ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن , يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه) . وهذا الحديث يحتج به أهل الوحدة وهو حجة عليهم من وجوه كثيرة: (منها) أنه قال: (من عادى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة) فأثبت نفسه ووليه ومعادي وليه وهؤلاء ثلاثة، ثم قال: (وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه , ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) فأثبت عبدًا يتقرب إليه بالفرائض ثم بالنوافل , وأنه لا يزال يتقرب بالنوافل حتى يحبه , فإذا أحبه كان العبد يسمع به , ويبصر به , ويبطش به , ويمشي به، وهؤلاء هو عندهم قبل أن يتقرب بالنوافل وبعده هو عين العبد وعين غيره من المخلوقات , فهو بطنه وفخذه لا يخصون ذلك بالأعضاء الأربعة المذكورة فالحديث مخصوص بحالٍ مقيد , وهم يقولون: بالإطلاق والتعميم , فأين هذا من هذا؟ وكذلك قد يحتجون بما في الحديث الصحيح أن الله يتجلى لهم يوم القيامة ثم يأتيهم قي صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرة , فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا , فإذا جاء ربنا عرفناه , ثم يأتيهم في الصورة التي رأوه فيها في أول مرة , فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا، فيجعلون هذا حجة لقولهم إنه يرى في الدنيا في كل صورة , بل هو كل صورة , وهذا الحديث حجة عليهم-في هذا- أيضًا , فإنه لا فرق عندهم بين الدنيا والآخرة وهو عندهم في الآخرة المنكرون [1] الذين قالوا: نعوذ بالله منك حتى يأتينا ربنا وهؤلاء الملاحدة يقولون: إن العارف يعرفه في كل صورة , فإن الذين أنكروه يوم القيامة في بعض الصور كان لقصور معرفتهم , وهذا جهل منهم فإن الذين أنكروه يوم القيامة ثم عرفوه لما تَجَلَّى لهم في الصورة التي رأوه فيها أول مرة هم الأنبياء والمؤمنون , وكان إنكارهم مما حمدهم سبحانه وتعالى عليه , فإنه امتحنهم بذلك حتى لا يتبعوا غير الرب الذي عبدوه , فلهذا قال في الحديث وهو يسألهم ويثبتهم: (وقد نادى المنادي ليتبع كل قوم ما كانوا يعبدون) . ثم يقال لهؤلاء الملاحدة: إذا كان عندهم هو الظاهر في كل صورة فهو المنكِر وهو المنكَر: كما قال بعض هؤلاء لآخر من قال لك: إن في الكون سوى الله فقد كذب، وقال له الآخر: فمن هو الذي كذب؟ وذكر ابن عربي أنه دخل على مريد له في الخلوة , وقد جاءه الغائط , فقال: ما أبصر غيره أبول عليه؟ فقال له شيخه: فالذي يخرج من بطنك من أين هو؟ قال: فرَّجْت عنِّي , ومرَّ شيخان منهم التلمساني هذا والشيرازي على كلب أجرب ميت , فقال الشيرازي للتلمساني: هذا أيضًا من ذاته , فقال التلمساني: هل ثَم شيء خارج عنها؟ وكان التلمساني قد أضل شيخًا زاهدًا عابدًا ببيت المقدس يقال له أبو يعقوب المغربي المبتلى حتى كان يقول: الوجود واحد وهو الله ولا أرى الواحد ولا أرى الله , ويقول: نطق الكتاب والسنة بثنوية الوجود والوجود واحد لا ثنوية فيه , ويجعل هذا الكلام له تسبيحًا يتلوه كما يتلو التسبيح. وأما قول الشاعر: إذا بلغ الصب الكمال من الهوى ... وغاب عن المذكور في سطوة الذكر فشاهد حقًّا حين يشهده الهوى ... بأن صلاة العارفين من الكفر فهذا الكلام مع أنه كفر هو كلام جاهل لا يتصور ما يقول , فإن الفناء والغيب هو أن يغيب بالمذكور عن الذكر , وبالمعروف عن المعرفة , وبالمعبود عن العبادة حتى يفنى من لم يكن , ويبقى من لم يزل , وهذا مقام الفناء الذي يعرض لكثير من السالكين؛ لعجزهم عن كمال الشهود المطابق للحقيقة بخلاف الفناء الشرعي , فمضمونه الفناء بعبادته عن عبادة ما سواه , وبحبه عن حب ما سواه , وبخشيته عن خشية ما سواه , وبطاعته عن طاعة ما سواه , فإن هذا تحقيق التوحيد والإيمان (وأما النوع الثالث) من الفناء وهو الفناء عن وجود السُّوى , بحيث نرى أن وجود الخالق هو وجود المخلوق , فهذا هو قول هؤلاء الملاحدة أهل الوحدة والمقصود هنا أن قوله يغيب عن المذكور كلام جاهل , فإن هذا لا يحمد أصلاً , بل المحمود أن يغيب بالمذكور عن الذكر , لا يغيب عن المذكور في سطوات الذكر اللهم إلا أن يريد أنه غاب عن المذكور , فشهد المخلوق وشهد أنه الخالق ولم يشهد الوجود إلا واحدًا , ونحو

المقالات الجمالية ـ 4

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

_ المقالات الجمالية (3) السياسة الإنجليزية في الممالك الشرقية (نشرت في العدد الثالث من السنة الخامسة من جريدة النحلة التي كانت تصدر في لوندرة في أثناء زيارة السيد لها من أواخر سنة 1882 وأول سنة 1883) . بلغنا أن الحكومة الإنجليزية قد عرضت لائحة في المسألة المصرية على الدولة العثمانية تسكينًا لروعها وتطمينًا لبالها , تذكر فيها أنها ما قصدت الاستيلاء على مصر , ولا تود وضع اليد عليها , ولكن سوف تبقى العساكر الإنجليزية في البلاد النيلية إلى مدة زوال القلاقل وحصول الراحة , وتشكيل المجالس والمحاكم , ولا تود الدولة البريطانية أن تمس حقوق الحضرة السلطانية بمداخلتها في مصر. نعم، هذه هي السياسة الإنجليزية في جميع البلاد الشرقية , عملت بها في الممالك التي أرادت الاستيلاء عليها , وقد حذقت فيها وجربتها مرات عديدة , حتى إذا خاض العاقل فيها رأى أن لا سياسة للإنجليز سواها , كأنها عرفت عقول الشرقيين وعلمت ما فطروا عليه من السذاجة وشدة الاعتقاد بمواعيد عرقوب , فتأخذهم على غرة , وتستلب بلادهم وهم في أمن منها , يتقون بعهودها ولا يعرفون أن هذه الحكومة إنما تقتنص بأوهاق الأيمان [1] ولا تسلك في فتوحاتها إلا مسلك الوداد , حتى إنها قل ما تملكت بلدًا بالقوة القاهرة وإن الشر لا يأتي إلا من معاهداتها. أليست هي التي أزالت السلطنة التيمورية التي كانت منبثة في جميع أرجاء الهند بمداخلتها الودادية ومواعيدها المؤكدة؟ أليست هي التي نقضت الحكومة النظامية في بنغالة بعساكرها التي وضعتها للمحافظة على تلك البلاد؟ أليست هي التي أزاحت السلطنة الكهنورية [2] بنفس جنودها الذين أقامتهم لتوطيد الراحة فيها؟ أين ذهبت حكومات أمراء الكرناتك ومدراس التي كانت مطمئنة بالعساكر الإنجليزية ومعتمدة على معاهداتها؟ أين حكومة بنجاب وممالك أمراء السند؟ أين حكومة المراتيين في بونه؟ ذهبت كلها لاعتماد أهلها على وعود الإنجليز وحماية عساكر المملكة وما أبادهم لعمري سوى تلك العساكر نفسها التي وضعت لصيانتها من الفساد الداخلي , فاحذروا يا أهل الديار النيلية من أن يحل ببلادكم ما حل بغيرها , ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده. وقد بلغنا منذ قَدِمْنَا لوندن أن معظم الأوامر التي يجريها الخديوي تكتب أولاً في الوزارة الخارجية بلوندرة , ثم ترسل إلى المندوب الإنجليزي بمصر , والمذكور يقدمها لحضرة الخديوي ليجريها كأنها صادرة عن أمره باختياره , ولا أمر له فيها ولا اختيار , وربما هذا كان الباعث على استقالة رياض باشا من الوزارة. هذه هي السياسة الإنكليزية التي كشفت عنها غطاءها التجارب , وبهذه السياسة جالت في ميدان جميع فتوحاتها , فلا أظن أنها تتمكن بعد الآن من اختلاب عقول الشرقيين بهذه المواعيد [3] وما أظن أن السلطان ورجال دولته بعد ما علموا نبأ معاهدات الإنجليز في الهند أن يعتمدوا عليها ويثقوا بأصحابها , ولا ريب أنهم قد اطلعوا على المعاهدات الإنجليزية التي طبعت في أربعة مجلدات بمطبعة (نول كشور) في بلدة لكتاهور , ومنها علموا كيف يستولي الإنجليز على البلاد بحرفة العهود الفارغة والمواثيق الباطلة , وفيما قلناه عبرة لمن يعتبر , وسوف نعود إلى الخوض في هذا الموضوع متصلاً اهـ. قال ناسخ هذه المقالة بعد ما تقدَّم: وقد رأينا في نفس العدد المذكور من تلك الجريدة نبذة عرفنا من مشربها وأسلوبها أنها لأستاذنا - حفظه الله - خصوصًا وأن بين عبارتها وعبارة صاحب الجريدة ما يدل على أنها مدخولة فيها , فنقلناها جازمين بأنها بِنْتُ فكره , فإنه رضي الله عنه ما حل بلدًا إلا ترامى عليه أرباب جرائدها العربية , للتماس أن يزين صحفهم ببدائع حكمه وأبكار أفكاره , فيجيب سؤالهم ناحيًا فيما يكتبه نحو ما هو ولوع به من الحماية عن الشرق وبنيه , والذَّوْدِ عن الأمم الإسلامية والسعي في توحيد كلمتهم , وتحذيرهم من دسائس الغربيين , كاشفًا لهم الحجاب عن وجه سياسة الأمة التي يريد تحذيرهم منها بما لم يستطع ساستها إلى كشفه سبيلاً لو أرادوا له كشفًا. أما النبذة فها هو نصها: أسباب الحرب بمصر لقد ذهب الناس مذاهب شتى في أسباب الحرب التي قدحت الإنجليز زنادها على المصريين , فمنهم من زعم أن الطمع في الاستيلاء على البلاد النيلية الخصيبة كان الباعث على ذلك , ومنهم من اعتقد أن مصالح بريطانيا في خليج السويس حملت الإنجليز على فعل ما فعلوا , وظن قوم أنهم اندفعوا إلى تجشم تلك الخسائر الباهظة غيرة على حفظ نفوذهم السياسي والتجاري بالديار المصرية , والتأمين على استيفاء ديونهم وهلم جرا , تلك لعمري تعليلات سارت بها الجرائد رجمًا بالغيب , أو تمويهًا على عيون الناس. أما أسباب الحرب الحقيقية فهي ما كان قد ثبت في عقول الإنجليز والفرنسيس من أن جلالة السلطان عبد الحميد قد سعى منذ تولى الخلافة والملك في جمع كلمة المسلمين المنتشرين في أقطار الهند وأفريقية وسورية والعراق واليمن والحجاز ومصر وغيرها من البلاد؛ لكي يجعلهم عصبة مستمسكة بعروة الخلافة الوثقى , وأمة تتساند إلى بعضها [4] كالبنيان المرصوص , وأن يكون السواد الأعظم من المسلمين في يد أمير المؤمنين , يستنجدهم في الملمات لمقاومة دول أوربا إذا طمعوا في سلب بلاد المسلمين , فكان الفرنساويون يقاومون نفوذ السلطان وخلافته في مسلمي الجزائر وتونس مخافة أن يكون ذلك وبالاً عليهم , وكانت الإنجليز تحاذر من انقياد مسلمي الهند إلى دعوى الخلافة , ومن الانضمام إلى العصبية الإسلامية , وكانت تلك الدولة القيصرية قد بلغها أن الحضرة السلطانية بعثت برجال الدين إلى المسلمين؛ ليدعوا إخوانهم إلى طاعة أمير المؤمنين , وينشروا بينهم رسائل تولد في عقولهم فروض الانقياد إلى الراية النبوية, إذا نشرها السلطان ودعاهم إلى التشمير عن ساق الجد؛ لنصرته والجهاد في سبيل الملك والدين. وما زاد في طنبور الإنجليز نغمة إلا النشرات التي كان السيد (نصرت علي) ينشرها في دهلي بإيعاز السلطان , فلما أخذت مشروعات السلطان ومندوبيه تضرم نار الغيرة الدينية , وتثير الحمية الإسلامية في نفوس بعض من الهنود , اضطرت الحكومة الإنجليزية بالهند إلى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لمنع سريان تلك العدوى , وعثرت في أثناء ذلك على رسائل منتشرة بين المسلمين كانت قد طبعت في القسطنطينية بدار الطباعة الشاهابية , وأرسلت إلى الأقطار الهندية؛ لإنهاض همة المسلمين , فألقت القبض على كثيرين من الذين وجدت عندهم من تلك الرسائل وحاكمتهم , ومن ذلك الوقت شرعت إنجلترة تتوجس في تلك المقدمات نتائج وخيمة في ممالكها الهندية , فكانت بالمرصاد تترقب الفرصة الملائمة لتمزيق شمل تلك العصبية الإسلامية التي يصفها الإفرنجيون باسم (اسلاميزم) , وفيما كانت تَضرب أخماسًا في أسداسٍ , وتقدِّم رِجْلاً وتؤخر أخرى , بلغها أن الحضرة السلطانية قد باشرت تنفيذ مشروعاتها بالديار المصرية , وضم مسلمي تلك البلاد أيضًا إلى العصبية الإسلامية بواسطة الشيخ محمد ظافر والسيد أحمد أسعد المدني وبسيم بك وراتب بك وأحمد عرابي وأحزابه , فأصدرت الدولة البريطانية أمرها إلى مندوبها بمصر بأن يستقصي حقيقة الخبر. أما ذلك المندوب فكان بادئ بدء يعتقد أن الحرب الأهلية عبارة عن عصبية عسكرية جل سعيها في إصلاح شؤونها , وطرد الضباط الشركس من مصاف الجهادية المصرية , ولكن خيل إليه بعد ذلك أن الحضرة السلطانية قد اغتنمت الفرصة من ثورة العساكر المصرية , واتخذت عرابي باشا آلة لقضاء أغراضها , وتوطيد نفوذها في القطر المصري , وضم المصريين إلى العصبية الإسلامية , فرفع المندوب الإنجليزي تلك الأخبار إلى لورد جرانفيل , وأثبت وجود عصبية دينية قد تردت برداء عصبية سياسية وطنية , تدعي تحرير الفلاحين من ربقة المرابين والأجانب , وفي الحقيقة ليس سوى عصبية إسلامية دينية تحت قيادة السلطان أمير المؤمنين , غرضها الوحيد مقاومة دول أوربا , وإنهاض همة المسلمين في الهند والجزائر وتونس وبلاد العرب فتداركت إنجلترا العواقب , وصممت على إذلال تلك العصبية الإسلامية قبل أن يستفحل أمرها؛ لأن الإنجليز تعتقد أن مصر باب الهند وخليج السويس دهليزها , فإن استفحل أمر عرابي باشا وحزبه لحق بهم المصريون على اختلاف أجناسهم , وتبعهم السوريون والعرب , وانشأوا أمة عظيمة الشأن , شديدة البأس , تضر الإنجليز ومستعمراتهم في الهند , فرسخ في عقول رجال السياسة البريطانية أن منع إنشاء الوباء خير من علاجه بعد انتشاره , وصمموا على إخراج عرابي باشا وأحزابه من الديار المصرية إما بالحسنى وإما بالإكراه , طمعًا في إطفاء نار الفتنة وتمزيق شمل العصبية الإسلامية المتظاهرة بشعار الوطنية , فلما أيسوا من إخراجهم بالحسنى عوّلوا على إذلالهم بالأساطيل المدرعة , والمدافع المثمنة , والجنود البحرية والبرية , وما انثنوا حتى فتكوا بهم في ملحمة التل الكبير , وكانت القاضية على عرابي باشا وأحزابه , وقد ثبت في عقول كثيرين أن إذلال عرابي وأنصاره قد أذل العصبية الإسلامية إذلالاً لا عز بعده ما توالى الفرقدان. ((يتبع بمقال تالٍ))

الوهابيون والحجاز ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوهابيون والحجاز عود على بدء المقالة الأولى [*] مقدمة كنا كتبنا بضع مقالات في هذه المسألة في أول العهد بزحف الإخوان؛ لإنقاذ الحجاز من إرهاق الطاغوت حسين بن علي , وما يرجى أن يتبع ذلك من إنقاذ جزيرة العرب كلها من الاستعباد الأجنبي , فكان لها من التأثير فوق ما قدرناه لها , حتى إن حقها دحض أباطيل الدعاية الحجازية القديمة في الطعن بدين أهل نجد منذ قرن وثلث قرن , باختلاق الشريف غالب أمير مكة في عهد ظهور الإصلاح الذي قام به الشيخ محمد عبد الوهاب , وأخرس ألسنة الدعاية الجديدة التي اختلقها الشريف حسين الذي ادعى أنه ملك العرب وخليفة المسلمين. ثم عرضت لنا شواغل كثيرة عاقتنا عن مواصلة الكتابة , فيما فتح أمامنا من أبواب المسائل الكثيرة في هذا الموضوع , فنشطت في هذه الفترة الدعاية , وبذل في سبيلها المال بسخاء فوق المعتاد , وتجرأت حكومة الشريف علي بن حسين المحصورة في ميناء جدة ودعائها على ضروب من الكذب والبهتان لم يتجرأ على مثلها حسين بن علي ودعاته , حتى إنهم افتروا على كاتب هذا المقال وهو أول من هتك أستارهم , وتتبع عوارهم , وقلم أظفارهم , فزعموا أن حكومة جدة عثرت على كتاب منا أرسلناه إلى السلطان عبد العزيز بن السعود , آذناه فيه بانصراف القلوب عنه , وتصويب سهام الإنكار إليه , وقد طال العهد على هذه الفرية , ولم نجد فرصة نكذبها فيها ونفضحهم بمطالبتهم بنشر صورة هذا الكتاب مأخوذة عن خطنا , وكثر إلحاح المطالبين لنا بالعودة إلى الكتابة لرد أمثال هذه المفتريات , وكشف ما يحوم حولها من الشبهات؛ لأن بعض المخلصين اغتروا بها , وصدقوا أن علي بن حسين ألف ملكًا جديدًا في الحجاز مخالفًا لوالده في سياسته , وأن في جدة حزبًا وطنيًّا مؤلفًا من زعماء الحجاز وأهل الرأي فيه , وأنه هو الذي خلع حسينًا ونصب عليًّا , وأنه يتكلم باسم بدو الحجاز وحضره , وأن سلطان نجد ضعيف لا جند عنده ولا سلاح , وأن ما أعده ملك جدة من آلات القتال الجنمية العصرية كافٍ لتدويخه وسحق جيشها الضعيف , وطرده من الحجاز والاستيلاء على نجد كلها , وأن إنقاذ الحجاز من هذه الأسرة الطاغية الباغية صار متعذرًا , فأهون الشّرين إذا إصلاح ذات البين ببقاء علي بن حسين ملكًا للحجاز بشروط منها: أن لا يعود والده حسين بن علي إلى الحجاز , إلى هذا الحد وصل تأثير أمثال هذه الدعاوى الكاذبة التي سنبين الحق فيها. كنا نقرأ تلك المفتريات في جريدة المقطم وبعض جرائد سورية فنضحك منها ضحك السخرية متربصين بها تكذيب السيف لها , وهو أصدق من اللسان والقلم ولا يتمارى في قوله ولا في حكمه أحد , على أننا جمعنا بعض الدلائل للرد عليها , ولكن قضى الله تعالى أن نضطر إلى استئناف الكتابة في وقت لا نملك فيه مراجعة شيء مما جمعنا , وهو وقت نقل كتبنا وأوراقنا ومطبعتنا ومطبوعاتها الكثيرة وأثاثنا من دار إلى دار , وقد بدأنا في الاستعداد لهذا في الشهر الماضي , وسيشغلنا شهرًا أو شهرين آخرين؛ لأننا لا نجد من يقوم مقامنا في الإشراف على ذلك , ولكننا سنجد ما نحتاج إليه من الأوراق المحفوظة في أقرب وقت. بعد هذا التمهيد أقول: إن حسين بن علي وأولاده كانوا قد خدعوا السواد الأعظم من عرب سورية والعراق وكثيرًا من غيرهم , بما بثوه من دعاية المملكة العربية والوحدة العربية والخلافة العربية , حتى خيلوا إليهم أنهم سيعيدون إلى هذه الأمة عصر هارون الرشيد , ثم ظهر أن غاية سعيهم تحقيق أمنية الإنكليز القديمة , وهي إدخال جزيرة العرب وما اتصل بها من بلادهم في دائرة الإمبراطورية البريطانية المرنة , على أن تُسَوِّدَهُمْ فيها على قومهم وتسميهم ملوكًا وخلفاء , ومع هذا الخزي يرون كثيرًا من وجهاء البلاد العربية يعظمهم ويقول بزعامتهم إما لغباوتهم وجهلهم , وإما لأنهم يرضون مثلهم (أن تكون الأمة العربية كالقاصر في حجر الدولة البريطانية) كما صرح به حسين بن علي رسميًّا في (مقررات نهضته) التي هي أصول سياسته وسياسة أولاده , دع الذين يوالونهم للانتفاع منهم. لهذا أصبح أهل هذا البيت الحجازي يعتقدون أن الدعاية تؤسس الممالك , وتوطد دعائم الملك , وتهزم الجيوش , وتفعل كل شيء , فكان اعتمادهم عليها وعلى الدولة البريطانية في حماية الحجاز وعرش ملك العرب وخلافة الإسلام , فعادوا جميع أمراء جزيرة العرب والمستقلين المسلحين ولا سيما جارهم بالجنب سلطان نجد , وهو أقواهم وأشدهم بأسًا , ولم يستعدوا لحماية عرشهم منه ولا من غيره بالسلاح , فأهملوا ما تركه الترك أو العثمانيون من الأسلحة الكثيرة الجيدة من كل نوع , واكتفى حسين بتأليف جند صغير يقصد به إظهار عظمة الملك في الاحتفالات والمواسم , واتكل على الدولة البريطانية , والدعاية السياسية , فلما ضاق العالم الإسلامي عامة وعرب نجد خاصة بفساده في الحجاز , وزحف جند الإخوان الوهابيين لطرده وطرد أولاده منه , استغاث الدولة البريطانية , فلم تر من مصلحتها إغضاب العالم الإسلامي الساخط عليه , والاصطلاء بنار حرب جديدة في جزيرة العرب لأجله , فأعلنت الحياة , فلم يبق له إلا قوة الدعاية الخاطئة الكاذبة , فشرع فيها , فلم تغن عنه شيئًا , واضطر إلى الخروج من الحجاز مذؤمًا مدحورًا , وخلف فيها ولي عهده الذي يفخر به ويقول: (لا فتى إلا علي) , فكان أبرع منه في هذه الدعاية , على أن والده هو الذي ربى له رجالها , واصطنع له صحفها , وهو الذي يفيض عليه المال للإنفاق في سبيلها , وسنذكر أنواع هذه الدعاية الجديدة مع بيان بطلانها في مقال آخر , ونعجل بالنوع الوحيد الذي فيه شية من الحق , وشبهه من الصدق , ولكنه حق أريد به باطل , وصدق اتخذ ذريعة إلى الكذب والتضليل , وهو: الاتفاق النجدي البريطاني سمعت خبر هذا الاتفاق أو المعاهدة من الملك فيصل في الشام أول مرة , وهو الذي نشرها في بغداد في هذه المرة , وأُرْسِلَتْ إلينا وإلى الجرائد الشهيرة , وقد صدقها الناس؛ لأن سلطان نجد لم يكذبها , والغرض من نشرها إيهام العالم الإسلامي الذي يؤيد ابن سعود في طرد حسين وأهل بيته من الحجاز , أن مملكة نجد نفسها غير مستقلة استقلالاً مطلقًا , بل قيدت الحكومة البريطانية سلطانها بما هو حماية , وأن الحجاز هو المستقل وأنه إذا استولى عليه سلطان نجد يدخل تحت حماية الإنجليز كنجد , وقد أطالت الدعاية الحجازية في المسألة , وأكثرت من الإيهام , وتناقلت سائر الجرائد نص الإنفاق , كما أرسل من العراق , وتألم منه المسلمون , فوجب أن نبين ما عندنا من رأي ورواية فيه على تقدير صحة نصه: كان هَمُّ عبد العزيز ابن سعود بعد استرداد ما كان قد سلب من بلاد آبائه وأجداده محصورًا في حفظ استقلالها بقوتها , وبث دعوة التدين فيما جاورها من قبائل العرب , والقناعة بعيشة العزلة والتجافي عن السياسة الدولية وأهلها , ولم يكن له خصم في تلك البلاد إلا آل رشيد في شمر , فهم الذين ألبوا على آل السعود الدولة العثمانية حتى استولوا بمساعدتها على عاصمتهم (الرياض) , وقضوا على إمارتهم , فلما انتزعها منهم السلطان عبد العزيز هذا بحزمه وعزمه , رأى أنه سيكون معه في نزاع دائم وقتال مستمر , وأن قطرًا صغيرًا كنجد لا يصح أن يكون فيه إمارتان تتوارثان الأحقاد والأضغان , وتنتهز كل منهما الفرصة للقضاء على الأخرى , فدعا ابن الرشيد للاتفاق وتوحيد العلم (الراية) والحكم والتعاون على حكم البلاد بصفة معقولة - كما نقل إلينا - فامتنع , فلم ير بدًّا من إزالة إمارته , ففعل , وقد اختار حصر منطقته على اقتحامها بالمناجزة وكان ذلك في أيام عسر وغلاء فاحش , وكانت مؤنة الجيش كلها , بل مؤنة عامة بلاد نجد تأتيها من الهند , فكان هذا سببًا ملجئًا لابن سعود إلى الاتفاق مع الحكومة الإنكليزية , كما قال بعض أهل العلم والخبرة بالبلاد العربية. وهنالك سبب آخر لا يقل عنه ألجأه إلى ما دُعِيَ إليه من الاتفاق بما رآه أهون الشرين , وهو أن الدولة العثمانية رأت بعد عقد الصلح مع الإمام يحيى أنها كانت مخطئة في معادة حكومة نجد , كما كانت مخطئة في معاداة أئمة اليمن , وأن الاتفاق ممكن وهو خير للدولة , فعقدت مع إمام نجد وهو عبد العزيز ابن السعود اتفاقًا آخر , اعترفت له فيه بالاستقلال الوراثي في بلاد نجد كلها , حتى ما كان بيد الدولة منها كالحسا وثغور البلاد بشروط ليس هذا محل بيانها , فلما وقعت الحرب العامة , واصطلت الدولة العثمانية , خاف ابن السعود أن تحتل الدولة البريطانية ثغور بلاد نجد وإقليم الأحساء , إذ كانت تعدها من أملاك الدولة العثمانية , فرضي بأن يعقد معها اتفاق , تعترف له فيه بأن هذه البلاد بلاده , وأنه مستقل فيها , وأن ترضى منه في مقابلة ذلك بأمور سلبية , كان يرى أنه لا يفقد بها شيئًا. وجملة القول أن هذا الاتفاق قد عقد عقب إيذان دول الحلفاء الدولة العثمانية بالحرب , وكانت الدولة البريطانية قد دعت ابن السعود أمير نجد إلى قتال الدولة , كما دعت أمير مكة حسين بن علي وإمام اليمن والسيد الإدريسي أمير تهامة وعسير , وقد قلنا في المنار مرارًا إنه لم يوالها أحد منهم موالاة فعلية حربية إلا أمير مكة , وإن إمام اليمن وَالَى الدولة عليها , وأعانها على قتالها , وأما الإدريسي وابن السعود فقد اتفقا معها اتفاقًا سلبيًّا , ولم نكن قد اطلعنا على هذا الاتفاق ولكن أخبرنا طالب بك النقيب أنه كان رسول الدولة البريطانية إلى أمير نجد , وأن هذا الأمير أبى أن يحارب دولة إسلامية انتصارًا لدولة غير مسلمة , وأنه لم يكن يمكنه أن يحارب الإنكليز انتصارًا للدولة العثمانية؛ لأنهم يمكنهم أن يقضوا على بلاده بالحصر البحري , فإن عامة أقوات أهل نجد من الهند , فكانت المصلحة التي لا بد منها أن يكون على الحياد. نعم إننا نحن نظن الآن أنه كان في الإمكان أن ينال صاحب نجد ما لا غنى له عنه من تموين بلاده والاعتراف باستقلاله فيها بدون أن يقيد نفسه بما ذكر في هذه المعاهدة من القيود المنافية للاستقلال التام المطلق , وإن كانت قيودًا سلبية , وأنه لا سبب لقبوله هذه القيود إلا عدم تمرسه بالسياسة الدولية , وعدم قوته على ما كان لدى أعداء الإنكليز من القوات الحربية التي ترتعد منها فرائص دول أوربة كلها , ولكننا لا نجزم بأننا لو كنا في مكانه في ذلك الوقت لكنا نعتقد هذا الاعتقاد نفسه , ونتجرأ على رفض تلك المواد التي ننكرها , بعد ما علمنا من قوات الألمان وأحلافهم ما لم يكن نعلمه في أول الحرب , ولا بأن الإنكليز كانوا يرضون منه دون هذه الشروط ليكتفوا شر مساعدته للدولة العثمانية. هذا ما عندنا من أسباب هذه المعاهدة , وأننا نتكلم في المقالة الآتية على كل مادة من موادها التي نشرها الحجازيون , نتكلم عليها من الجهة العامة , ثم نبين أن سلطان نجد نقضها منذ عزم على الخروج من عزلته السياسية والاجتماعية , وتصدى لزعامة النهضة العربية , وثبت عنده ما يجب عليه شرعًا من إنقاذ الحرمين الشريفين من الظلم والإلحاد ومنع النفوذ الأجنبي أن يتغلغل فيهما وفي سياجهما من جزيرة العرب , فمعاهدة سنة 1915 أمست قصاصة ورق لا قيمة لها كما نبين ذلك فيما يأتي. ((يتبع بمقال تالٍ))

الوهابيون والحجاز ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوهابيون والحجاز عود على بدء المقالة الثانية [*] بينا حقيقة الحال التي كان عليها صاحب نجد عند عقد المعاهدة , التي نشرها في هذه الأيام الملك فيصل؛ ليثبت بها أنه قد سبقه وسبق أباه وأخاه عبد الله في جعل بلاده تحت حماية الإنكليز , وقام أنصارهم يقولون في دعايتهم لهم: إنهم إذا لم يكونوا خيرًا منه في هذا فهم مثله , فما وجه تفضيله عليهم؟ ولماذا ينتصر له العالم الإسلامي , ويود جعل الحجاز تابعًا له من دونهم؟ فعلم بذلك بعض الفَرْق الجلي بين عملهم في إضاعة أكثر البلاد العربية , وعمله في وقاية ملكه من السقوط بغزو الإنكليز له من الخارج , وغزو ابن الرشيد له من الدخل , في مقابلة الاعتراف لهم بأمور سلبية , يذهب بأثرها الزمان , وسنبين هذا الفرق من سائر وجوهه بعد إنجاز ما وعدنا به من بيان مضمون مواد هذه المعاهدة , ومن الكلام عليها من الجهة العامة , فيعلم من لم يدرس هذه المسائل أن هذا البيت الحجازي لم يعتبر بشيء من التجارب والرزايا التي نزلت بالأمة التي تصدى لزعامتها , والتي نزلت بجميع زعمائه هو أيضًا , وأنه لا يزال يطمع في إضلال الأمة العربية وجميع الشعوب الإسلامية , وإيهامهما بالدعاية الكاذبة أن الذين سلّوا سيوفهم مع الأجانب وقاتلوا معهم حتى مَلّوكهم بلاد العرب من حدود مصر إلى خليج فارس خير للإسلام وللعرب , ممن أسس لهما ملكًا جديدًا ليس لأجنبي ما أدنى نفوذ فيه , ثم أنقذ الحجاز من السيطرة الأجنبية , والمظالم الطاغوتية؛ ليجعل الأمر فيه لأهله وللمسلمين دون غيرهم , وهاك مضمون مواد المعاهدة كما نشرتها جميع الجرائد المشهورة. 1- مضمون المادة الأولى اعتراف الحكومة البريطانية بأن نجدًا والحسا والقطيف والجبيل وملحقاتها وثغورها (موانيها ومرافقها) على سواحل خليج العجم كلها تابعة للأمير عبد العزيز بن السعود كما كانت لآبائه من قبل , وأنه هو حاكمها المستقل والرئيس المطلق على جميع قبائلها , واعترافها أيضًا بأنها ستكون موروثة لأولاده وأعقابه من بعده , ولكنها قيدت هذا الاعتراف بأن يكون الأمير اللاحق مختارًا من الأمير السابق (فيخرج من كان متغلبًا عليه) وأن لا يكون خصمًا معاديًّا للحكومة البريطانية بمخالفتها لشروط هذه المعاهدة فقط. نقول: إن هذه المادة نص في مصلحة ابن السعود , فإن الدولة البريطانية اعترفت له فيها بالاستقلال المطلق في هذه البلاد كلها , وكان قريب العهد بالاستيلاء عليها , ولو قالت: إن ثغور نجد وبلاد الحسا كانت للدولة العثمانية ولي الحق باحتلاله ماذا كان يفعل؟ وأما تقييد اعترافها باستقلال من بعده من أولاده وأعقابه بقبولهم هذه المعاهدة فلا يضره , فإن معاهدته لما كانت لا تلزم من يخلفه اشترط الإنكليز فيه هذا الشرط , ولا يجب على خلفه قبوله بنص هذه المعاهدة كما يعلم من أصول القوانين الدولية , فإذا كان الخلف في غنى عن الاعتراف بهذه المعاهدة لم يعترف بها , لا كما يزعم إجراء الدعاية الحجازية من أن هذا تقييد لمن بعده بالإخلاص للإنكليز كما عبّر بعضهم (! !) . 2- مضمون المادة الثانية أن الدولة البريطانية تلتزم أن تساعد ابن السعود وذريته على أي دولة أجنبية تعتدي على بلادهم , إذا كان هذا الاعتداء بدون علمها ولا إعطائها الوقت الكافي لمراجعة سلطان البلاد ومذاكرته في إزالة الخلاف المسبب للاعتداء , وقيدت هذه المساعدة برأي ابن السعود , وهذه المادة في مصلحته , ولا تخل باستقلاله أيضًا. 3- مضمون المادة الثالثة أن ابن السعود يلتزم أن لا يعقد اتفاقًا ولا معاهدة مع أي حكومة أو دولة أجنبية , ويعد بعدم معارضة أحد في ذلك , ويلتزم إعلام الحكومة البريطانية بكل تجاوز أو تعدٍّ على شيء من بلاده التي ذكرت في هذه المعاهدة. هذه المادة منافية لمصلحة ابن السعود؛ لأنها قُيِّد للاستقلال , وإنما سهل قبلوها عليها - إن صح نصها - ما كان عليه من حياة العزلة وعدم نية الارتباط , والاتفاق مع أحد من الحكومات والدول , ولما شعر بالحاجة إلى الاتفاق مع السيد محمد علي الإدريسي نقض هذه المادة واتفق معه اتفاقًا كتابيًّا , ثم فاوض الإمام يحيى , واتفق معه على أمور لم تنشر بعد , فثبت بهذا أنه غير مقيد بما يراه مخالفًا لمصلحته منها. 4- مضمون المادة الرابعة أن ابن السعود يلتزم أن لا يبيع ولا يرهن ولا يؤجر ولا يتخلى عن شيء من أراضي بلاده التي ذكرت في هذه المعاهدة , ولا يمنح امتياز لدولة أجنبية , أو لأحد من رعايا دولة أجنبية بدون رضى الحكومة البريطانية , وبأن يتبع في ذلك نصائحها التي لا تضر بمصالحه. هذه المادة منافعة لمصلحة ابن السعود من حيث هي مقيدة لاستقلاله فقط , وإنما سهل عليه قبلوها اعتقاده أنها من تحصيل الحاصل؛ لأنه لا ينوي أن يجعل لأية دولة أجنبية حقًّا من حقوق الملك , ولا الامتياز ولا غيره في بلاده , وهذا عين المصلحة له ولبلاده , بشرط أن يشمل الدولة البريطانية ورعاياها كسائر دول الإفرنج؛ لأنهم إذا دخلوا بلادًا , وصار لهم حقوق فيها , أذلوا أهلها , وافتاتوا عليهم , وسلبوهم استقلالهم , وقد نصح شيخ حكماء العصر الفليسوف الإنكليزي هربرت سبنسر لليابانيين بأن لا يُدخلوا الإنكليز في بلادهم لمساعدتهم على تنظيمها وعمرانها , وعلل لهم ذلك بأنهم إذا دخلوا لا يخرجون , وأرشدهم إلى الطريق المثلى , وهي أن يرسلوا من أبنائهم من يتعلمون ما يحتاجون إليه حيث يجدونه من أوربة , ليعودوا , ويتولوا الإصلاح بأنفسهم , وقد قبلوا نصيحته فأرسلوا إلى الغرب من تعلموا ما يحتاجون إليه من فنون الحرب والعمران والثروة والصناعات التي تتوقف عليها القوة والسيادة , خلافًا لِمَا فعل مَن عَنُوا من الشرقيين باقتباس عادات الإفرنج وأزيائهم وقوانينهم , فكان ذلك سببًا لإضاعة استقلالهم (إياك أعني واسمعي يا جارة) . وقد كان فيما وضعناه مع أصدقائنا مؤسسي قواعد (الجامعة العربية) قبل الحرب العامة أنه لا يجوز لأحد من أمراء جزيرة العرب أن يمنح دولة أجنبية شيئًا من رقبة البلاد ولا منافعها , ولا لأحد من رعاياها , ولكن الدولة البريطانية أرادت حصر هذه المنافع في رعاياها أو حكومتها؛ لأنه توطئة لاستعمار البلاد والسيادة فيها , بل هو الطريق المعبد له دون الحرب , فلا يجوز لحكومة شرقية أن تبيحه في بلادها طمعًا في الربح منه , لا بعد أن تصير ذات قوة حربية تخولها أن تشترط على الأجانب الذين يدخلون بلادها أن يكونوا فيها خاضعين لشرعها ونظمها , نافذة فيهم أحكامها , وأن تشترط عليهم في عقد الامتياز أو الامتلاك من الشروط الواقية للبلاد من تعدي دولهم ما هي قادرة على تنفيذه. 5- هذا ما يتعلق بالاستقلال إطلاقًا وتقييدًا من مواد هذه المعاهدة والمادة الخامسة منها خاصة , بإبقاء الطرق الموصلة إلى البلاد المقدسة من نجد وملحقاتها مفتوحة , والمحافظة على الحجاج الذين يسلكونها , وذكرها في هذه المعاهدة من الرياء والفضول البريطانيين , والمادة السادسة في التزام ابن سعود عدم الاعتداء على حكومات جيرانه من عرب البحرين والكويت وقطر وعمان، والمشايخ الذين تحت الحماية البريطانية. وخلاصة القول في هذه المعاهدة: إنها كانت على علاتها في مصلحة ابن السعود , وأنه لا يوجد عاقل منصف يعرف ما كانت عليه حاله وحال بلاده عند عقدها , يقول: إن عدمها كان خيرًا منها , وكل ما أمكننا انتقاده منها هو أن الإنكليز ربما كانوا يرضون من ابن السعود بما دون هذه القيود كلها , مع إقناعهم بحسن نيته , لو كان أشد في مساومته وألحن بحجته (إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين) . وأما الحال التي أشرنا إليها هنا فهي ما ذكرناه بالإيجاز من قبل , وهي أنه كان لآل سعود إمارة في نجد , عظم شأنها الديني والدنيوي بالإصلاح الذي قام ودعا إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب , فنهضوا به نهضة أشبهت نهضة العرب في صدر الإسلام , حتى توقع المؤرخون وأهل الرأي في الشرق والغرب بأن يعود بها عهد الخلفاء والأولين قوة ومجدًا وإصلاحًا وحضارة , فكان أول من ناصبها العداء أمير مكة الشريف غالبًا , وهو الذي أغرى بها الدولة العثمانية , وافترى عليها المطاعن الدينية , وما زالت تناوئها وتقاتلها وتساعد ابن الرشيد عليها حتى استولى على عاصمتها ولجأ أميرها الإمام عبد الرحمن الفيصل بأولاده إلى الكويت , فأقاموا ضيوفًا على شيخها ابن الصباح إلى أن نهض نجله عبد العزيز هذا نهضته التي تعد من نوادر تاريخ الرجال , فاستعاد الإمارة التي كانت لوالده , ثم استرد ما كان بيد الدولة العثمانية منها , وكان من أمر دخول الدولة في الحرب الكبرى ما ذكرنا في المقام الأولى , فلو لم يعقد مع الإنكليز هذه المساعدة لزعموا أن هذه البلاد للدولة العثمانية , واحتلوا سواحلها , وأعانوا ابن الرشيد وغيره على مناجزتها من الداخل بل كان منهم من يغريه بابن السعود مع اتفاقه معهم كما ثبت هذا عنده! ! على أن هذه القيود المنتقدة من المعاهدة لا تجعل للإنكليز أدنى حق في التدخل الفعلي في شؤون البلاد - ولا تعترف لهم بالسيادة ولا حماية عليها - كما اعترف لهم الشريف حسين بحق الحماية والتدخل الفعلي- ومثل هذه المعاهدات تكون مؤقتة بطبعها , وقلما تتجاوز العاشرة من عمرها , والعبرة بما يحصل بالفعل من ثمرة عقدها في زمن اقتناع المتعاقدين بالحاجة إليها , ثم يتبع كل منهما بعد ذلك الزمن مصلحته , والمدار في جميع الأمور السياسية على القوة وما يسمونه (الأمر الواقع) فالذي استفاده الإنكليز من هذه المعاهدة بالفعل هو أن ابن السعود لم يقاتلهم مع الدولة العثمانية , والذي استفاده هو منهم: (1) اعترافهم له ولذريته بأنهم أصحاب هذه البلاد وحكامها. (2) عدم الاستيلاء على شيء منها كما استولوا على فلسطين وسورية والعراق , فهو لولا اتقاء هياج العالم الإسلامي لاستولوا على الحجاز. (3) تأمين معيشة بلاده في عسرة سني الحرب (4) تمكنه من القضاء المبرم على إمارة ابن الرشيد التي كانت تتهدده في كل حين. (5) قبض مئات الألوف من الجنيهات , نظم بها قوة بلاده حتى صارت أعظم قوة في بلاد العرب , وقد نقض بعد ذلك ما رأى من مصلحته نقضه. ولو أنه جعل للإنكليز أدنى تدخل فعلي في بلاده باتفاق كتابي أو شفوي لكان أشد خطرًا عليها من ألف معاهدة تكتب , ولا يعمل بها كما يعلم هذا باليقين من تاريخهم , ومسألة مصر والسودان أظهرها وأشهرها. (فإن قيل) : إن هذه العاهدة قد تمكنهم من العبث باستقلاله والتدخل العملي في شؤونه , بحجة نقضه لبعض شروطها , (قلنا) : إن هذه أمور تتبع المصلحة وتراعى فيها القوة , ومتى عزم القوي على شيء لا تعوزه الوسيلة , وليس في هذه المعاهدة نص على جواز العبث باحتلال البلاد النجدية أو التدخل في شؤونها الداخلية , إذا ترك سلطانها الوفاء بشيء مما التزمه فيها , وإنما يمكن للإنكليز أن يَحُولُوا دون تنفيذ أي نقض للمادة الرابعة , لا يمنع ابن سعود وحده من إعطاء امتياز لدولة أجنبية أو لبعض رعاياها في تلك البلاد , بل يمنع أي دولة من الدول نفسها أو رعاياها من الإقدام على التعاقد معه على ذلك , وقد بينا أنه ليس من مصلحة ابن السعود نقض هذه المادة , ومن المعلوم من سياسة الإنكليز أنهم يقدمون على حرب شعب حربي مسلح؛ لأجل فتح بلاده أو التمتع بالنفوذ فيها , ولا سيما مثل بلاد نجد في فقرها , وعدم وجود مرافق الحياة وأسباب النقل فيها ,

الوهابيون والحجاز ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوهابيون والحجاز عود على بدء المقالة الثالثة ذكرنا في المقالة الأولى من هذه المقالات أننا استأنفنا الكتابة في هذا الموضوع , في وقت لا نملك فيه مراجعة شيء مما عندنا من المحفوظات المتعلقة به , وهو وقت نقل مكتبنا وما فيه إلى دار أخرى , فكان اعتمادنا على ما نَذْكُر مما سمعنا وقرأنا , ومنه الكثير مما كتبه أجراء الدعاية الحجازية الحسينية العلوية في المعاهدة البريطانية النجدية وغيرهم , وأننا على اعتقاد أن أكثر ما يكتبونه مفتريات وأباطيل وخداع وتضليل , قد عَلِقَ في ذهننا بعضه , فتوهمنا أن في هذه المعاهدة نصوصًا في تقييد استقلال سلطان نجد فوق ما بيناه في المقالة الثانية التي كتبناها , بعد أن أتيح لنا الاطلاع على نصها الذي نشر في العراق ثم في سائر الأقطار العربية , إذ كان قد طال عهدنا بالاطلاع على ذلك الأصل , وكان من هذا الوهم أن من القيود السلبية التي قيد بها سلطان نجد , أنه لا يستطيع أن يحارب بلاد موالية للدولة البريطانية بدون إذنها , إذا أكثر أنصار حسين وعلي من اللغط بأنه تحت الحماية البريطانية , وأنه لم يهاجم الحجاز إلا باتفاق مع الدولة الحامية له , ولكننا رأينا رجاله يهاجمون العراق وشرق الأردن أيضًا , وتتصدى الطيارات البريطانية للمهاجمين عليها من الوهابيين فتدفعهم عنهما؛ فلهذا ولما ذكرنا من اتفاق سلطان نجد مع السيد محمد علي الإدريسي من قبل ومع الإمام يحيى من بعد , ولما عرفه القاصي والداني من اتفاقه مع نوري باشا الشعلان أمير قبائل الرولة , على أن يشغل هذا بقبائله (الجوف) بشرط أن يمنع الإنكليز من مد سكة حديدية بين فلسطين والعراق تمر منه؛ لهذا كله قلنا: إن تلك المعاهدة أمست قصاصة ورق لا قيمة لها. وقد اتفق لنا عند الشروع في كتابة المقالة الثانية أن رأينا نص المعاهدة في بعض الجرائد قبل أن يتيسر لنا مراجعة الأوراق , فلم نر فيها شيئًا يمنع سلطان نجد أن يكون غازيًّا ولا فاتحًا , ولا أن يتصرف في بلاده بما يشاء كما يشاء , إذا لم يدخل فيها نفوذ دولة أجنبية , وهذا قيد يمنعه مما يضره ولا ينفعه , وأما منعه إياه من عقد الاتفاقات مع الحكومات والدول , فإذا كان يشمل الحكومات العربية المجاورة له , فقد نقض المعاهدة بمخالفته , وإن كان لا يشملها فلا يضره هذا الشرط الآن , إذ ليس من مصلحة نجد أن تكون ذات علاقة بالدول الأجنبية , ولا هي مستعدة لذلك , وللمستقبل حكمه واستعداده. وإننا قبل أن نبين ما وعدنا به من المقابلة بين سلطان نجد وبين الشريف حسين وأولاده , نقول: إننا كنا ذكرنا في المقالة الأولى أننا سمعنا خبر المعاهدة البريطانية النجدية أول مرة من الملك فيصل في الشام , (وكان اجتماعنا به هنالك سنة 1920) , كما ذكرنا أننا سمعنا خبر اختيار ابن السعود عدم الدخول في الحرب العامة في جانب الدولة العثمانية ولا في جانب الدولة البريطانية , وذكرنا تعليله نقلاً عن صديقنا السيد طالب بك النقيب , ونتذكر أننا سمعنا منه أنه كان قد كلف مخاطبته في هذه المسألة وأنه نصح له بما يليق به من حيث هو أمير مسلم وهو ما فيه مصلحته , وقد فهم المشار إليه أننا نعني بما قلناه: إنه كان هو الذي وسط بين الإنكليز والأمير وابن السعود في عقد هذه المعاهدة , فكتب في الجرائد تصحيحًا للخبر هو أنه كان أخبرنا بأنه هو الذي توسط بين الأمير ابن السعود وبين الدولة العثمانية في عقد الاتفاق الذي أشرنا إليه في المقالة الأولى , وكان ذلك قبل الحرب وأما المعاهدة المذكورة فقد عقدت بعد نفيه من العراق في أوائل الحرب , وحدد لنا الزمان والمكان اللذين أخبرنا فيهما بما ذكر , وهو إنه كان على مائدة الإفطار بدارنا في شهر رمضان من سنة 1916 , وذكر بعض الذين كانوا معنا ليلتئذ , وقد تذكرنا ولكن هذا غير ذاك فنحن لم نقل ولم نقصد بعبارتنا الوجيزة المبهمة أن صديقنا توسط في معاهدة سنة 1915 , إذا صرحنا بأننا لم نسمع خبرها إلا من الملك فيصل سنة 1920 , وإنما العالق بذهننا أن الإنكليز لما أعلنوا الحرب مع حلفائهم على الدولة العثمانية , وشرعوا يغرون أمراء جزيرة العرب بأن يكونوا معهم عليها كان نصيبهم من ابن السعود ما ذكرنا من الاتفاق السلبي , ولم نكن نعلم أنه كان بمقتضى معاهدة مكتوبة وقد ذكرنا هذا مرارًا في المنار وغيره؛ أي الاتفاق السلبي فإن كنا واهمين في سماع هذا الخبر من صديقنا (طالب بك) , وأنه كان كلف مخاطبة ابن سعود فنصح له , فإننا نسغفر الله تعالى , ولا نرى عليه غضاضة فيه فنستغفره هو , وإنما نعد ذلك من حسناته. أما بعد فهذا أوجز ما يقال: في مسألة المعاهدة البريطانية النجدية على فرض صحتها , وكون هذا الذي نشره الحجازيون هو نصها , ليس فيه تحريف ولا تزوير مما اعتادوه حتى في الرسميات , كما حرفوا نص ما كتبته جمعية الخلافة في الهند لملك جدة الشريف علي تحريفًا يغير المعنى , وإن زعم نصيرهم المقطم أنه لا فرق بين الأصل الذي كتبه إليه رئيس وفد الخلافة وبين تحريف الكتاب الأحمر الحجازي في المعنى , كأن المقطم يرى أن إذا الشرطية بمعنى ما المصدرية , وسيأتي بيان هذا في مقال آخر. والأمر الواقع الذي لا يحتمل التحريف ولا التأويل أن السلطان ابن السعود سلطان مستقل في بلاد نجد وملحقاتها , ليس في بلاده أجنبي مسيطر ولا غير مسيطر عليه أو له نفوذ ما في بلاده - وأنه يغزو ويضم بلادًا إلى بلاده , ويعقد المعاهدات بينه وبين من يتفق معه من الحكومات المجاورة له بدون أدنى تدخل من الإنكليز وغيرهم - وأن رجاله قد غزوا بعض قبائل العراق وشرق الأردن , التي هي بمقتضى سياسة أمراء أو ملوك البيت الحسيني تحت سلطان الإنكليز بالفعل , وقاومهم هؤلاء بطياراتهم , وأخيرًا هاجم الحجاز , وطرد منه رئيس هذا البيت الذي سمي ملك العرب وخليفة المسلمين , واحتل عاصمته , وحصر ولي عهده الذي ادعى الملك في أحَدِ ثغوره , وقد ظهر للقاصي والداني كراهة الإنكليز لهذا الأمر وما قبله , وعلموا أنهم أرسلوا إليه من يفاوضه فيه بصفة غير رسمية , فأبى أن يقابله وأن يكلمه في ذلك فعاد خائبًا. هذا هو الحق الواقع الذي لا تستطيع حكومات البيت الحسيني البريطانية ولا دعاتها ومقطمها أن يحرفوه , ولا أن ينقضوا منه شيئًا , ولا أن ينكروا أن نجدًا كانت إمارة صغيرة , قد تقلص ظل أمرائها آل سعود عنها , فأعاده السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل هذا , ووسع الإمارة , فصارت سلطنة , شهد أهل المعرفة من الشرقيين والأوربيين أنها أعظم قوة في بلاد العرب. فماذا فعل البيت الحسيني الحجازي؟ سنحت للشريف حسين فرصة لتأليف قوة عربية بوحدة حلفية تحت رياسته , كانت تكون هي الوسيلة الوحيدة لتأليف مملكة قوية مستقلة , فلم يعقل ذلك ولا رضي به , وفاوضه الإنكليز في موالاته لهم , وإثارة العرب على الدولة العثمانية , فلو اشترط في القبول اعترافهم واعتراف أحلافهم باستقلال البلاد العربية بنص رسمي لأمكن قولهم , ولكنه استبد بالأمر , وعرض عليهم من تلقاء نفسه تلك المواد التي سماها (مقررات النهضة) التي صرح فيها بأن الأمة العربية بمنزلة القاصر في حجر الدولة البريطانية , وأن هذه الدولة هي التي تؤسس له مملكة عربية وصفها بكلمة مستقلة , وبأن على الدولة البريطانية أن تكون حامية لها من الداخل والخارج حتى من الفتن الداخلية والثورات المحلية , وأن تختار لها العمال والموظفين , وأن الدولة البريطانية تحتل البصرة من ولايات العراق؛ لأجل تأمين حماية البلاد العربية , إلى أن يصير للدولة العربية في ظلها من القوة ما يكفي لحماية نفسها بقوتها , ثم اعترف لها بحقوق خاصة في جميع العراق , وبتأجيل البت في مسألة سورية الشمالية لما تدعيه فرنسة من الحقوق فيها إلخ. كانت هذه المقررات سرًّا مكتومًا فأفشاه الأمير فيصل , ونشره في جريدة المفيد بدمشق الشام , ثم قرأنا في جريدة الملك حسين التي سماها القبلة أنه قد كتب إلى الدولة الإنكليزية مرارًا بالاستقالة من ملك الحجاز , وأن يعينوا فيه ملكًا غيره! ! هذا شأن الحجاز الذي تفتخر الدعاية الحجازية بأن حسينًا جعله مستقلاً بالفعل وما جعله مستقلاً إلا مكانته الدينية , التي منعت الإنكليز من تنفيذ ما اقترحه حسين في قرارات نهضته من حمايتهم له من الداخل والخارج. وأما فيصل فخدع أهل سورية خداعًا فوق خداع والده , الذي نومهم تنويمًا كانوا يحلمون فيه بالمملكة العربية المستقلة , خدعهم بتلك الخطب التي كانت تهدر بها شقاشقه بكفالة الاستقلال التام الناجز لسورية , وبأنه هو ابن محمد صلى الله عليه وسلم , ويتبرأ منه إن كان يرضى لسورية بما عدا الاستقلال المطلق من قيود الوصاية والحماية وغيرها - وقد رضي فبرئ - فلما جاءت لجنة الاستفتاء الأميركانية إلى سورية للوقوف على رأي أهلها , أمره سادته الإنكليز بأن يحمل الأهالي على طلب الوصاية البريطانية , ففعل , ولكنه لم يطع وصرح بأنه غير سياسته فجأة؛ لأنه علم علمًا قطعيًّا بأن الوصاية لا بد منها , وأن طلب الاستقلال التام المطلق يفضي إلى جعل الوصاية لفرنسة , فهو إذًا خيانة للوطن أو هو الخيانة العظمى (!) . ثم ذهب إلى إنكلترا فأمرته حكومتها بأن يتفق مع مسيو كلمنصو الرئيس الفرنسي على قبول انتداب فرنسا لسورية , وإقناع السوريين بذلك , فأطاع , وعاد إلى سورية؛ لإقناع زعمائها بذلك , فأعجزه الإقناع , وأعلنت البلاد استقلالها , وجعلته ملكًا عليها ليرجع عن هذا الرأي , ويكون لها على الأجنبي دون العكس , فرجع في الظاهر دون الباطن , ولما أرسل إليه الجنرال غورو إنذاره المعروف في يونيو سنة 1920 , حاول أن يخدع المؤتمر السوري؛ ليفوض الأمر إليه , فعجز , فحل عقد المؤتمر , وقبل الإنذار الفاضح , وحل الجيش المدافع , وخرج من دمشق , فأقام في ضواحيها إلى أن احتلها الجيش الفرنسي , فلما تم الاحتلال عاد إليها ليكون في ظل الانتداب الفرنسي ملكًا عليها. وبعد طرده منها عاد إلى أولياء أمره الإنكليز الذين سل سيفه تحت قيادتهم , وساعدهم على فتح القدس الشريف والشام , وأخذ ثأر القرون الطويلة من العرب والإسلام , شاكيًا لهم ما أصابه , معلنًا لهم ثباته على إخلاصه لهم , فأرسلوه إلى العراق , وجعلوه ملكًا عليه , فجاهد ولا يزال يجاهد في سبيل توطيد نفوذهم فيه بالاسم الذي يريدونه. وأما عبد الله فقد جاء شرق الأردن بعد فرار أخيه من سورية , في أثر مكاتبات بين بعض أحرار السوريين الذين لجؤا إليها وبين والده , وكانت هي المنطقة الحرة التي لم تدخل في الانتداب لا لفلسطين ولا لسورية , وكان لأولئك الوطنيين الأحرار من الآمال فيها وفي الملك حسين وفي الأمير عبد الله ما كنت في حيرة منه , ولم أجد له تأويلاً - بعد أن علموا من كذب هذه الأسرة وخداعها ما لا يمكن تأويله - إلا تعلق الغريق بحبال الهواء (كما يقال في تلك البلاد) فما زال الأمير عبد الله يجاهد في هؤلاء الأحرار , ويسرف في أموال المنطقة , ويحكم فيها عبيده , ويتزلف إلى الإنكليز والصهيونيين , حتى وضع المنطقة في دائرة الانتداب الفلسطيني , وأوصل نفوذ الإنكليز واليهود إلى حدود الحجاز بإذن والده (المنقذ الأعظم) ورضاه , وهو أَحَبُّ أولاده إليه. وأما علي ولي عهد والده , وهو الذي كان يظن أنه خيرهم إن كان فيهم خير فهو (يمثل الآن شر دور من أدوار القضية العربية) كما يقال في التعبير العصري , فإن الداء ا

ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله (2) كتبنا في المقالة الأولى من هذا الموضوع كلمة إجمالية في ماضي الأزهر البعيد والقريب حتى عهْد الأستاذ الإمام , وغرضنا مما كتبنا ونكتب فيه العبرة والتذكير , لا سرد وقائع التاريخ. ونقول الآن: إن الحكومة المصرية لم تستطع تنفيذ ما قررته موافقًا لرأي لورد كرومر من ترك الأزهر وشأنه , والاكتفاء بحفظ الأمن فيه كما تحفظه في كل معهد ومكان في البلاد حتى الحانات ومواخير الفجور , بل ذكر في نصهم (أن يكون في أمان وهدوء , وبعد عن الشغب والقلاقل , وأن يظل مدرسة دينية كما كان) والمراد من هذه الكلمات أن لا يكون له شأن ما في أمور الحكومة , ولا الأمور العامة السياسة ونحوها , ولا تدرس فيه العلوم الكونية , فإن كان الأمير استمال اللورد بما لا محل لذكره هنا؛ ليمكنه من عزل الأستاذ الإمام من الإفتاء ومن إدارة الأزهر, فقبل اللورد أن يستقيل من الثانية دون الأولى على شرط أن يتولى هو تأسيس مدرسة القضاء الشرعي بوضع نظامها والإشراف عليها وأن لا يكون بعد ذلك للأزهر صفة خاصة عند الحكومة , ولكن الأستاذ الإمام لم يلبث بعد ذلك أن مرض فتوفي قبل إتمام وضع مدرسة القضاء الشرعي , فلم يصبر الأمير عن الاشتغال بأمر الأزهر بصفة غير رسمية , ولم يرض حال الأزهر بعد ذلك أحدًا من الأزهريين ولا من سائر المسلمين في مصر ولا غيرها , كما بيناه في الجزء التاسع من مجلد المنار التاسع , وفيه مقالة حافلة لزعيم مسلمي الهند في ذلك العهد النواب محسن الملك , ثم ذكرنا في الجزء العاشر منه أن الأمير قد بدا له في أمر إصلاح الأزهر بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي , وجعلها تابعة لوزارة المعارف وكان وزيرها ومؤسس المدرسة فيها ممقوتًا عند سعد باشا زغلول تلميذ الشيخ محمد عبده وأنه شاع أن أساس هذا الإصلاح إنشاء (مجلس أعلى) من مجلس إدارة الأزهر من أعضائه رئيس الديوان الخديوي ومدير الأوقاف العامة , وكان تابعًا لنفوذ الخديوي وحده , وأن يكون لشيخ الأزهر وكيل من حقوقه أن ينوب عنه في غيبته في كل شيء. وما زال الأزهر بعد إنشاء مدرسة القضاء الشرعي في أمر مريج , وعلم أهله أن المتخرجين فيها سيستأثرون بجميع المناصب الشرعية , ويزاحمون مع ذلك شيوخ الأزهر على التدريس فيه , فيزحمونهم , ويفوقونهم , وأفضى ذلك إلى الهياج والاضطراب في سنتي 1327 و 1328 , ثم باعتصاب الطلبة: أي تركهم لحلقات الدروس مطالبين بإصلاح التعليم في الأزهر وزيادة العلوم والفنون الطبيعية والرياضية , التي تدرس في مدرسة القضاء الشرعي في برنامج دروس الأزهر , ووافقهم بعض المدرسين على ذلك , حتى إنهم طلبوا إلغاء مدرسة القضاء الشرعي. حينئذ ظهر للأمير وللحكومة ولمن يعقل من الشيوخ الذين كانوا يعارضون الإصلاح في عهد الأستاذ الإمام أن بقاء الأزهر على ما كان عليه محال كما قال , فعهدت الحكومة إلى المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول وكيل نظارة الحقانية بأن يضع نظامًا جديدًا للأزهر بمساعدة كل من إسماعيل صدقي باشا وكيل وزارة الداخلية وعبد الخالق ثروت باشا النائب العمومي - وهؤلاء الثلاثة في الذروة العليا من رجال الحكومة ذكاءً وعلمًا بالقوانين والنظم - وقد جمع فتحي باشا جميع ما وضع للأزهر من القوانين والنظم , من مدة أربعين سنة وبعد وضع النظام الجديد الحافل الجامع للكثير من الفوائد والمنافع , طبعت كلها مع النظام الجديد , ولكن هذا النظام على ما انتقدناه منه من جعله الأزهر تحت تصرف الحكومة , لم توضع فيه المادة المهمة التي تجعله مضمون التنفيذ , وإنما نفذ منه بعض المواد المتعلقة بالنظام الصوري، كالمجلس الأعلى واجتماعاته إلخ , وعلم من ذلك أن الحكومة ثابتة على رأيها في وجوب عزلة الأزهر , وعدم تدخله في أمور الحكومة أو الأمة العامة إلا الأمور الدينية المحضة، كالصلاة والدروس الدينية. وفي هذه الأثناء عُنِيَ بعض أذكياء طلبة الأزهر بأمور السياسة والأحزاب , وكان الحزب الوطني أول من دعا بعضهم إلى ذلك , فلما ظهرت الثورة بعد الحرب العظمى كان الألوف من الأزهريين في جيش المتظاهرين , وكان الاجتماع في الأزهر لإلقاء الخطب السياسية وتنظيم الأعمال أعظم منه في غيره , فشددت الحكومة عليهم ما تشدد على غيرهم , كما سبق الإلماع به في المقالة الأولى , وظل الأزهريون محل مراقبة الحكومة وتشديدها إلى عهد الملك فؤاد الأول - وفقه الله تعالى لخدمة العلم والدين - فقد عني أولاً بكبار العلماء , ثم بمن يليهم , فأطمع ذلك صغار العلماء والطلاب بنيل ما يرونه , فكثرت المطالب والاقتراحات , ولما نجحوا في بعضها توسعوا فيها , وتألفت لأجلها الجماعات , ورأت الحكومة أن العطف الملكي على العلماء والأزهر يكاد يفضي إلى ابتلاع المعاهد الدينية , لمعظم ما زاد من دخل وزارة الأوقاف على نفقاتها من غير أدنى فائدة للحكومة ولا للأمة من خريجها , يكثرون عامًا بعد عام , وكلهم طلاب رزق واسع ورفاه سابغ , فأطالت التفكير في وضع نظام جديد لهذه المعاهد , يحصر فيه عدد علماء الدين الذين يرزقون من خزينة الأوقاف. وقد كبرت آمال الأزهريين بعد رفع الحماية البريطانية عن مصر بتأثير الثورة التي كان لهم فيها المظهر الذي لا ينكر , وحدث في هذه الأثناء كثرة سقوط الذين يؤدون امتحان شهادة العالمية , فظنوا أن التشديد في الامتحان لم يحدث إلا بإيعاز يراد به تقليل عددهم وتنقيص مددهم , وما زالوا يساورون الوزارات وهي تدافعهم باللين , وتعدهم بدرس الموضوع , وتأليف اللجان له , إلى أن وضع قرار لمطالبهم كُتِمَ أَمْرُه عنهم , وألحوا في وزارة سعد باشا على مكاشفتهم به قبل تنفيذه وغاضبوا الوزارة والرئيس الذي كان من أعز أنصاره لعدم إجابته إياهم , إلى أن انحصرت مطالبهم أخيرًا في المواد الآتية التي أجابتهم إليها الحكومة الحاضرة وهذا نصها: مطالب الأزهر وملحقاته من الحكومة المطالب التي اتفق عليها طلبة الأزهر وطلبة معهد طنطا (1) اعتبار الأزهر الشريف جامعة كبرى تتكون عناصرها من المعاهد الدينية التالية , ومدارس القضاء الشرعي , ودار العلوم , والمعلمين الأولية بحيث تكون هذه الجامعة مشرفة على جميع ما يختص بتعليم الدين , وتعليم اللغة العربية. (2) المساواة الفعلية بين حاملي شهادات الأزهر ونظرائهم من حاملي شهادات وزارة المعارف , فتساوي الأولية الابتدائية , والثانوية البكالوريا والعالمية الليسانس , وذلك فيما يختص بميزاتها وبالمرتبات والترقيات , واحتساب المعاش , مع حفظ امتيازات العلماء الخاصة بهم مثل كبونات السكك الحديدية. (3) إقرار مشروع التعليم الديني في المدارس , وهو الذي قررته وزارة المعارف السابقة , وإسناد القيام بتعليمه إلى خريجي الأزهر خاصة. (4) إلغاء القوانين الاستثنائية والإجراءات والقرارات التي ترتبت عليها , وإباحة الانتساب والتحويل إلى الجهة التي يريدها الطالب. (5) تعديل الكشف الطبي بحيث لا يمنع من تولي الوظائف إلا من به مرضٍ مُعْدٍ. (6) حفظ الحق للمكفوفين في مباشرة التدريس بالأزهر , وفي وظائف الإمامة والخطابة بالمساجد. (7) جعل الامتحان على دورين في السنة الواحدة حسب المتبع في المدارس. (8) إرسال بعثات إلى الجامعات الأوربية؛ لدراسة العلوم التي تناسب التعليم في الأزهر. *** المطالب التي انفرد بها طلبة معهد طنطا (1) تعديل برامج التعليم تعديلاً يتناسب مع الحال الحديثة , ويحفظ للأزهر صفته العلمية والدينية. (2) تعديل مدة الدراسة بجعل مدتها العامة ثماني سنوات , والأربع الباقية بعد ذلك في مختلف العلوم الدينية والعربية , على أن تكون مدرسة القضاء الشرعي للتخصص في القضاء الشرعي , ومدرسة دار العلوم للتخصص في اللغة العربية , وباقي الأقسام في الأزهر للتخصص في العلوم الأخرى , وعلى أن تكون الشهادة الثانوية من الأزهر هي شرط الدخول في هذه الأقسام. (3) إيجاد قسم لتعليم اللغات الأجنبية المتداولة في العالم؛ ليمكن العالم الأزهري أن يبين حضارة الدين الإسلامي في اللغة العربية للعالم الأوربي. *** المطالب التي انفرد بها الأزهر (1) معاملة العلماء معاملة خاصة في الكشف الطبي بوزارة المعارف. (2) تعديل قانون التخصص الجديد بجعل مدة الدراسة فيه سنتين فقط , على أن تكون مدرستا القضاء الشرعي ودار العلوم فرعين من الأزهر - الأولى للتخصص في القضاء , والثانية في اللغة العربية - وباقي أقسام التخصص في الفنون الأخرى بالأزهر , وأن يكون الانتساب إلى هذه الأقسام كلها مقيدًا بالحصول على شهادة العالمية من الأزهر. (3) تنفيذ الحقوق التي كفلتها القوانين واللوائح لحملة شهادات الأزهر المعطل العمل بها الآن. (4) إيجاد أمكنة صحية صالحة للدراسة غير الأمكنة الحالية التي يدرس فيها الطلبة. (5) جعل الوظائف الكتابية بالمحاكم الشرعية حقًّا مشتركًا بين جميع المذاهب لا فرق في ذلك بين خريجي القسم المؤقت والقسم النظامي , وإلغاء قرار الحقانية الأخير. (6) حل اللجنة المنتدبة من وزارة المعارف لتغيير نظام مدرسة القضاء الشرعي الحالي وإهمال عملها. (7) تأليف لجنة للنظر في هذه المطالب. *** مطالب قسم التخصص (1) ألا يقل المرتب عن ستة جنيهات، تصرف في زمن الدراسة، وفي المسامحات والإجازات. (2) إيجاد مكان صالح للدراسة يكون على نظام المدارس العالية. (3) تخفيض مدة الدراسة إلى سنتين. (4) أن يعتبر كشف القومسيون الطبي حين الدخول في التخصص كشفًا نهائيًّا فلا يعاد الكشف عند الطلب للتوظف في أثناء التخصص، أو بعد الحصول على شهادة التخصص. (5) أن يكون لهم حق التدريس في المدارس الابتدائية والثانوية والعالية. (6) أن يعتبروا في جملة الموظفين، فيُحسب لهم زمن التخصص في المعاش (7) أن يُعتبر صرف المرتب الشهري بعد حصولهم على شهادة التخصص إلى أن يلتحقوا بالوظائف. (8) صرف جوازات السفر بالسكة الحديدية المصرية. *** مطالب جمعية تضامن العلماء (المطلب الأول) : تعديل المادة التاسعة من قانون مدرسة القضاء الشرعي والمادتين الثامنة والتاسعة من قانون التخصص للجامع الأزهر، بما يحفظ امتيازات العلماء الذين تخرجوا قبل صدور ذلك القانون. (المطلب الثاني) : إلغاء قرار المجلس الأعلى القاضي بقصر الانتخاب في التدريس على العشرة الأول، وتحكيم الكفاءة العلمية، مع رعاية الأقدمية في الانتخاب، وتظهر الكفاءة بإلقاء دروس تحضيرية مؤقتة. (المطلب الثالث) : أن يخصص من مالية الحكومة مبلغ يسد حاجيات العلماء غير المدرسين من القسم المؤقت، الذين ليس بيدهم شيء في مقابلة إلقاء حصة أو حصتين في الأزهر وملحقاته. (المطلب الرابع) : المعافاة من الكشف الطبي، وإذا كان مشروعًا , فلا يتناول إلا من كان مريضًا بالأمراض المعدية، مع إباحة التدريس والإمامة والخطابة للمكفوفين من غير شرط ولا قيد. (المطلب الخامس) : التعليم الديني في جميع مدارس الحكومة ومجالس المديريات، على أن يكون مقصورًا على العلماء؛ لاختصاصهم بالعلوم الدينية وآلاتها. *** تقرير اللجنة الوزارية في شئون الأزهر بعد أن قدمت هذه المطالب لوزارة أحمد زبور باشا أمرت بتأليف لجنة خاصة؛ للنظر فيها مؤلفة ممن تذكر أسماؤهم، فعقدت عدة جلسات قررت فيها عدة أمور، وكان إتمام عملها في جلستها التي انعقدت يوم 2 فبراير سنة 1925 (8 رجب سنة 1343 هجرية) ، ووضعت القرار الآتي (المكمل لاقترحا

قصيدة زمزم والحطيم

الكاتب: خير الدين الزركلي

_ جبار زمزم والحطيم قصيدة تاريخية اجتماعية، نظمها شاعر الشام المجيد خير الدين أفندي الزركلي على إثر سقوط حسين بن علي المكي عن كرسي ملكه وخلافته، وفراره من الحجاز. صبر العظيم على العظيم ... جبار زمزم والحطيم إن القضاء إذا تسلط ... ضاع فيه حجى الحكيم والنفس جامحة فخذ ... ما اسطعت منها بالشكيم انهض فقد طلع الصبا ... ح ولاح محمر الأديم ألق السلاح على الطلو ... ل وحي شاخصة الرسوم ودّع قصور (أبي نميّ) ... لست فيها بالمقيم راعتك رائعة الملوك ... ويؤت بالخطب الجسيم سهم رماك الأقربو ... ن به فغلغل في الصميم لم يجدك الحذر الطويـ ... ـل من الموالي والخصيم أيام كنت تسيء ظنك بالرضيع ... وبالفطيم ما كنت تحفل بالنصيـ ... ـح وكنت أحفى بالنموم للنعميات يد الوشا ... ة وللأباة لظى الجحيم ريع الكرام بقصرك الـ ... ـعالي فذق روع الكريم اسمع أنين (القبو) ويح ... (القبو) من حنق كظيم [1] أعددت للأحرار فيـ ... ـه عقاب منتقم ظلوم أكلت حياة (القبو) من ... أرواحهم ومن الجسوم طال انقيادك للخصو ... م وأنت أدرى بالخصوم الإنكليز وما أرا ... ك بأمرهم غير العليم ما في جموعهم وإن ... حدبوا عليك سوى غريم قد يستنيم أذاهم ... حينا وليس بمستنيم ذؤبان واديك الفسيـ ... ـح وآفة الملك العقيم كالنار تذكيها الريا ... ح فكيف تطفأ بالنسيم عجبًا لمن طلب الخلا ... فة والخلافة في النجوم أين الخلافة لا خلا ... فة في الحديث ولا القديم تلك الذي ذهبت مع الأ ... يام قبل ذوي (سليم) أو لست أعجب للزعيـ ... ـم يفوته سهر الزعيم الجامع ... ... المتناقضات ... من ... الغرائز والفهوم الغافل، اليقظ، الحريص ... الباذل، العاني، الرحيم المدره العي العصي ... الطيع الشرس الحليم الصادق الظن الصحيـ ... ـح الفاسد الرأي السقيم الطيب النفس الأنيس ... السيئ الخلق السؤوم يا ناظم العقد النثير ... وناثر العقد النظيم لم ألف قبلك هادمًا ... ما كان يبنى من أطوم كانت تخومك لا تنا ... ل فهل حميت حمى التخوم هذا وليدك في (الرقيـ ... ـم) يعبث في أهل الرقيم [2] بحبوا (يهوذا) ما حبو ... ت وليس غيرك من ملوم خسروا رضى موسى الكليم ... فناب عن موسى الكليم العرب قومك يا حسين ... وأنت منهم في الصميم كم علموك وما علمـ ... ـت وحاولوا بك من مروم هلا اقتديت وأنت تشـ ... ـهد بالفتى (عبد الكريم) [3] المستعز ... ... ... بقومه ... والمستبد ... على الغشوم والمسترد عُلا حما ... هـ بحد مرهفه الصروم التارك (الأسبان) طا ... ئشة المدارك والحلوم والمشهد الأقوام أن ... الحق محمي الحريم والمبلغ الأسماع أن ... الضيم ينهض بالمضيم رفع العقيرة في الجمو ... ع وأنت لاه بالنعيم ونفى الهموم عن الربو ... ع وأنت تبعث بالهموم وشفى الصدور من الكلو ... م وأنت كنت من الكلوم ماذا ادخرت لمثل يو ... مك والنذير نذير شوم أعددت خمسًا سابحا ... ت في الفضاء بلا رجوم [4] وسفائنا مر النسيـ ... ـم يحيلهن إلى هشيم [5] ومدارسًا ما كان ينقـ ... ـص حسنهن سوى العلوم أعددت أجنادًا وما ... عودتها صد القروم ما في الذين دعيت ... (منقذهم) سوى شاك هضيم ياعبرة لأولي البصا ... ئر في الحميد وفي الذميم قل للذين سيخلفو ... نك من عدو أو حميم الواردين على التربع ... في الدسوت ورود هيم شر الممالك ما يسا ... س سياسة البغي الوخيم ما في العروش على الجها ... لة والغباء بمستقيم ومن استدام الملك مَنْـ ... سيًّا فليس بمستديم ما عرش (مكة) بالإما ... رة في (ثقيف) أو (تميم) عصر (البداوة) قد توا ... رى عهده بين الغيوم العرش منهار إذا ... لم يحمه علم العليم لهفي على أهل (الجزيـ ... ـرة) في السهول وفي الحزوم يتخبطون من العما ... ية في دجى حلك يهيم أترى ينم (ابن السعود) ... إذا استوى عن طيب خيم فيؤلف الوحدات طيـ ... ـبة المنابت والأروم ويهيب بالآحاد ... يو قظها وبالحشد الحميم أم يستبد كما استبد ... مجانب السنن القويم فيبيت يجرع ما تجر ... عه سواه من السموم ما كان والله (الحسين) ... الشيخ بالشيخ النؤوم لكن من خاف الهز ... يم رمته صاعقة الهزيم من حاد عن شرك الغمو ... م اصطاده شرك الغموم طلب السلامة بالونى ... فإذا به غير السليم

ترجمة القرآن وتحريف ترجمة له والتشكيك فيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة القرآن وتحريف ترجمة له والتشكيك فيه أهم ما طرأ من الحوادث التي تعني العالم الإسلامي ثلاث: (أولاها) : مجاهرة الحكومة التركية الأنقورية بالمساعدة على ترجمة القرآن الكريم، ونشرها باللغة التركية، وكانت توجهت فكرة ملاحدتهم إلى هذا العمل منذ سنين كثيرة؛ لأجل صرف أهل الدين منهم بالترجمة التركية التي هي من كلامهم، وتأليفهم ونظامهم عن كلام الله تعالى الذي أنزله على محمد النبي العربي {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) ، وليسهل عليهم تحريف الترجمة والتصرف فيها كيفما شاءوا، وقد كنا أنكرنا هذا العمل، وبينا ما فيه، فأنكر علينا ذلك مراسل الأخبار في الآستانة (عمر أفندي رضا) وقال: إنه لم يفعل ذلك أحد من الترك، وإنما فعله أحد نصارى السوريين: يعني زكي بك مغامز وقد كتبنا في ذلك ما عرفه قراء المنار والأخبار، ثم وردت الأنباء بأن بعض الترك قد ترجموه، فتذكرنا بذلك نبأ قديمًا في ذلك، سنذكره في مقال خاص بهذه الترجمة، ثم نشرت رصيفتُنا مجلة (سبيل الرشاد التركية) شيئًا من ترجمة حديثة لغير السوري النصراني المذكور، وبينت خطأ المترجم في أداء المعنى بها، ثم تلى ذلك طرح المسألة على مجلس الدولة التركية في أنقرة وموافقته على تخصيص مبلغ من المال؛ للإعانة على نشر ترجمة القرآن. (ثانيتها) : أن فرقة مسيحية الإسلام القاديانية في الهند كانوا نشروا ترجمةً إنكليزيةً للقرآن المجيد، حرفوا فيها بعض آياته تحريفًا معنويًّا لإثبات بدعتهم القاديانية، وطبعوها مع القرآن الكريم العربي، وقد نشط دعاة هذه الملة الجديدة في هذين العامين في نشرها في البلاد العربية، وزار بعضهم مصر , فلم يلتفت إليهم أحد على ما سبق زيارتهم من الدعوة وتأسيس لجنة لها، دخل فيها بعض الملاحدة؛ ابتغاء الرزق، ثم زاروا سورية، فكان من سوء حظها عناية بعض وجهائها في القدس والشام وبيروت بزياتهم والحفاوة بهم واشتغال الجرائد بنشر أقوالهم، ومناظرات الناس لهم، على أن تلك المناظرات كانت ولله الحمد منفرة عن بدعتهم المنافية لدين الإسلام. وقد أرسلوا إلى مصر بعض نسخ القرآن المجيد المطبوع مع ترجمتهم المحرفة، فأرسلتها مصلحة الجمرك إلى مشيخة الأزهر؛ لأخذ رأيها في جواز إدخالها للبلاد حسب النظام المتبع في ذلك، فلم تأذن المشيخة بذلك، فقامت قيامة الفرقة الضالة، وطفقت تنشر في الجرائد رسائل الطعن في مشيخة الأزهر، زاعمة أن هذا حجر على نشر القرآن وسيطرة على حرية الفهم فيه.. وليس الأمر كذلك فإن مشيخة الأزهر لم تتعرض قط لحرية الفهم والتفسير، ولا لنشر الكتب المشتملة على الأفهام والأقوال المخالفة للمأثور عن السلف، ولا المؤيدة لبعض الفرق المخالفة للسنة من قديم وحديث، ولكنها لا يبيح لها الشرع الإسلامي أن تأذن إذنًا رسميًّا بنشر ترجمة للقرآن محرفة له، يَقصد بها ناشروها الدعوة إلى بدعة جديدة مخالفة للإجماع في أصول العقائد الإسلامية؛ كبدعة الأحمدية القاديانية , التي منها إدعاء استمرار الوحي، وأن المسيح الدجال غلام أحمد القادياني هو المسيح المنتظر، وأنه نسخ بعض أحكام القرآن، وقد أرسلت نسخ من هذه الترجمة إلى سورية منذ سنين، فأرسلتها مصلحة الجمرك في بيروت إلى مفتيها صديقي الأستاذ الكبير الشيخ مصطفى نجا عملاً بالنظام المتبع منذ عهد الدولة العثمانية، كما وقع هنا فذكر لي المفتي ذلك فأخبرته بحقيقة هذه الفرقة الضالة التي تنشره، فعهد إلى بعض متقني اللغة الإنكليزية من مسلمي بيروت بمراجعة ترجمة بعض الآيات المحرفة، وبينوها له فأفتى بمنع نشر الترجمة المطبوعة مع المصحف كما فعلت مشيخة الأزهر في هذا العهد، فمنعتها السلطة المحتلة، فأي عاقل يطلب من مشياخ الإسلام ومفتيه الإذن الرسمي بهذا الضلال؛ لأن أصحابه ينشرونه بحماية المصحف الشريف لضد ما أنزله الله تعالى لأجله؟ (ثالثتها) : تشكيك دكتور إنجليزي في القرآن العزيز بشبهة واهية، أذاعتها جريدة السياسة المصرية في برقية هذا نصها وعنوانها لها: *** رأي باحث إنجليزي في نص القرآن لندن في 21 فبراير - لمراسل السياسة الخاص - قال مكاتب المورننج بوست في مانشستر أن الدكتور منجانا أستاذ اللغة العربية في جامعة مانشستر قد أعلن أمورًا جديدة عن نص القرآن الذي اعتمده المسلمون إلى اليوم، فقد اكتشفت أخيرًا مخطوطة مكتوبة باللغة السورية (الآرامية القديمة) ذات أهمية عظيمة جدًّا، وهي مودعة الآن بمكتبة مانشستر للفحص، وتشتمل على آيات ليست موجودة في النسخ المعتمدة من القرآن، والتي استعملها المسلمون منذ أجيال عديدة. ويقول الأستاذ منجانا: إنه تابع البحث عن بعض هذه الآيات في المصنفات الإسلامية، فثبت له من البحث والاستقراء أن بعض هذه الآيات قد فاه بها النبي صلى الله عليه وسلم فعلاً، ولكنه لم يجد أثرًا للآيات الأخرى، حتى إن الكثيرين من رواة الأحاديث لم يدونوها في مصنفاتهم , ويوجد بين المصحف الحالي والترجمة السورية القديمة عدد كبير من الاختلافات، ومنها اختلاف في آيات ذات أهمية عظيمة في مسألة القبلة. وقال ذلك الأستاذ: (إن القرآن في نسخته المعتمدة الآن لم يجمعه سيدنا عثمان الخليفة الثالث كما هو الاعتقاد العام، ولكن الذي جمعه هو الحجاج في زمن الخليفة عبد الملك أي بعد سيدنا عثمان بأربعين سنة) اهـ. (المنار) وجاءت برقية أخرى في ذلك، فاهتم بعض المسلمين بهذا الخبر وظنوا أنه شبهة تستحق البحث والدفع، وما هي بشيء فإن المصحف الموجود بين أيدي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منقول نقلاً متواترًا عن جمهور علماء الصحابة إلى هذا العصر بالحفظ في صدور الألوف ونسخ الألوف من المصاحف منذ خلافة عثمان إلى هذا اليوم، والحجاج لم يجمع القرآن، وإنما أحدث فيه النَّقط فلا يؤثر في تواتره روايات علماء الحديث والقراء لبعض القراءات الشاذة - ومنها ما صح سنده- فكيف يؤثر فيها ترجمة رجل غير مسلم باللغة السورية القديمة أو غيرها وهو مجهول ينقل عن مجهول، وغير ثقة في نقله ولا في ترجمته ولا في أمانته، ومثله كمثل من يعزو إلى عدوله في الدين أو السياسة أقوالاً مخالفة للنصوص الدينية أو السياسية الرسمية الثابتة في قوانين الدولة، فأي عاقل في الدنيا يسمع قول خصم يدعي على خصمه أقوالاً تخالف ما ثبت عنه بما دون ثبوت القرآن الذي لم يثبت نقل شيء في العالم مثل ثبوته؟ وأي فرق بين افتراء ذلك المترجم القديم للقرآن وبين ما افتراه بعض دعاة النصرانية في هذا العصر على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى القرآن؟ وسيكون لنا قول آخر في هذه المسألة، إذا نشر مذيعوها تفصيلاً لمباحث الدكتور منجانا فيها. ((يتبع بمقال تالٍ))

المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الجديدة (تاريخ الحركة الاستقلالية الإيطالية) ألقى الأستاذ محمد صبري أفندي في مدرسته الجامعة المصرية (محاضرتين) أو درسين ممتعين، موضوعهما تاريخ الحركة الاستقلالية للبلاد الإيطالية، ثم جمعهما وطبعهما في كتاب، فطبعا طبعًا حسنًا على ورق جيد فبلغا ست كراسات بقطع المنار. محمد صبري أفندي كاتب مؤرخ من أفراد النابتة المصرية المنقطعين للعلم والتصنيف، وقد اشتهر في حلبة العلم والأدب بلقب (خريج السوربون) والسوربون أشهر معهد للعلم والأدب في باريس عاصمة فرنسة , ووجَّه جُلَّ عنايته إلى التاريخ على الطريقة العصرية التي كان التاريخ الركن الركين الاجتماع والسياسة، والمرشد البصير للأمم في تطورها وارتقائها، ولا سيما الأمم التي جَنَت الدول المستعمرة عليها فسلبتها استقلالها، وإن الشعوب الشرقية منها مصر وسورية والعراق لأحوج إلى الاطلاع والاعتبار بتاريخ الأمة الإيطالية في هذا العهد منها إلى غيرها؛ لوجوه من الشبه بينهم وبينها، وقد أتى الأستاذ في دراسيته بخلاصة مفيدة في ذلك لا يقدر على استخلاصها من ذلك التاريخ الكبير إلا المؤرخ الخبير البصير، والكتاب يطلب من مكتبة المنار بمصر وثمن النسخة منه 4 قروش. *** (المشرع) ألقى القس بولس مسعد بضع خطب ومحاضرات في مصر وسورية وفلسطين لدعوة المسلمين إلى النصرانية كأمثاله من دعاة دينهم الكثيرين في جميع البلاد، ثم طبعها وسماها بهذا الاسم، وأرسل إلينا نسخة منها؛ لأجل الانتقاد لعلمه بأنه ذريعة لإشهارها ورغبة الكثيرين في الاطلاع عليها، وقد سلك هذا الداعية (المبشر) الطريق الذي سلكه بعض سلفه من المغالطة في الاستدلال على العقائد الوثنية التي مزج بها الرومانيون دين موسى وعيسى عليهما السلام بآيات من القرآن، حرفوها عن مواضعها، وحملوا ألفاظها على المعاني الاصطلاحية عندهم حتى التي أخذوها من وثنية المصريين والهنود القديمة، كما بينه بالتفصيل مؤلف كتاب (العقائد الوثنية في الديانة المسيحية) ، فزعم أن القرآن يثبت عقيدة التثليث (! ! !) وأنها عين التوحيد الذي يدعو إليه مع قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (المائدة: 73) إلخ (! ! !) ، ولا حاجة إلى بيان مآخذهم الوثنية بالشواهد، فإن قراء المنار في غنى عن ذلك، بما بيناه من تفسير الآيات الكريمة التي حرفوها كما حرفوا التوراة قبلها؛ لأجل أن يدعموا بها هذه العقائد الغريبة التي مزجوا بها توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيراجع في السور الطُّوَال - البقرة وآل عمران والنساء والمائدة - ومن المختصر المفيد في ذلك تفسيرنا لقوله تعالى: {إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْه} (النساء: 171) في أواخر سورة النساء،فقد بينا فيه معنى الكلمة والروح الحقيقي، واستعمال النصارى لهما، وقفينا على تفسيرها بفصل في عقيدة التثليث عند البراهمة والبوذيين , وقدماء المصريين والفرس وقدماء اليونان والرومان، وكون تثليث النصارى مأخوذ عن أولئك الوثنيين؛ فليراجع القس الأديب ومن شاء ممن سمعوا أو قرأوا كلامه ذلك (في ص 81- 95 من جزء التفسير) وأمثاله في سائر الأجزاء، وكذا ردودنا الأخرى على المبشرين التي كنا ننشرها في باب (شبهات النصارى وحجج الإسلام) من المنار، وقد جمع بعضها في جزء مستقل وغيرها ويجب على من ابْتُلِيِّ بقراءة كتبهم أو سماع جدلهم أن يطلع على أمثال هذه الردود عليهم، إذا لم يكن لديه من العلم ما يدحض به شبهاتهم ويفند مزاعهم. *** (التهذيب في أصول التعريب) كتاب جديد مفيد للدكتور أحمد بك عيسى الطبيب العالم الشهير، أودعه مباحث نفيسة في اللغة العربية من حيث أصلها، وتكونها، وأطوارها، وأحوال أهلها، واختلاف شؤونهم فيها، ونسبتها إلى أخواتها السامية، وبلاغتها، ومكانة القرآن المجيد فيها، وتدوينها وفنونها، واتساعها وكتابتها، وما دخل فيها من العلوم والفنون والاصطلاحات، وما طرأ عليها من الضعف والدخيل والعامي المحرف، والكلام في النقل والترجمة، والاشتقاق والمجاز والنحت والتعريب وغير ذلك , والكتاب يدخل في ثلاثين بابًا، عقد الثامن والعشرين منه للتعريب، والتاسع والعشرين في الحروف الهجاء ومقارنتها بحروف اللغات الأخرى، والثلاثين لقواعد التعريب، وصفحاته 145، وقع باب التعريب في أول الصفحة 120 منها، وبحثه هو المقصود بالذات من وضع الكتاب وما قبله كالمقدمات له، وإن كان يطلب لذاته، ومن أبوابه: (21: باب حاجة العرب إلى التعريب) ، وكان المناسب أن يكون من فصوله، وإنما جعل بحث التعريب هو المقصود الأول من الكتاب؛ لاشتداد الخلاف فيه بين علماء اللغة في هذه السنين الأخيرة في المجمع اللغوي الذي كان قد ألف في سنة 1332 هـ 1914، ثم انفض في إبان الثورة المصرية بعد الحرب الكبرى، وأعيد تأليفه سنة 1340 وكان مؤلف هذا الكتاب من خيار أعضائه في الحالتين، وهذا الكتاب يدل على مكانته من العلم والأدب، والتدقيق في البحث على المنهج العصري، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر وثمنه 20 قرش.

خاتمة المجلد الخامس والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الخامس والعشرين نختتم المجلد الخامس والعشرين بحمد الله والثناء الحسن على توفيقه إيانا وإقداره لنا على إتمامه، على قصر الساعد، وعدم المساعد، ومطل أكثر المشتركين، كما هو شأن أكثر المسلمين، في التقصير في الشؤون العامة ولا سيما خدمة العلم والدين، وقد تأخر أول السنة ثلاثة أشهر أخرى بالأسباب التي تأخر بها ما قبله، وزيادة هي نقل المطبعة والأسرة والإدارة من مكان كان توسيع العمل فيه متعذرًا إلى دار فسيحة كثيرة المرافق، فشغلنا بذلك شهرين كاملين، سيتلوها شهر آخر أو أكثر؛ لتوسيع المطبعة وإدارتها بالكهرباء، وتكثير عمالها، وإعدادها لسرعة إنجاز أعمالها، وقد كنا عاجزين عن ذلك في الدار الأولى؛ لضيقها علينا وبعدها عن بهرة البلد، ومراكز العمل، وسهولة الموصلات التي توفر الوقت وتيسر السبيل للأعوان على العمل , فالمرجو من فضل الله تعالى أن يصدر المنار في داره الجديدة في أوقاته، وأن يكون أحسن طبعًا وأكثر نفعًا. ولدينا من المواد للمجلد السادس والعشرين رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية في الإنكار على مشايخ الطريقة البطائحية الرفاعية في دجلهم وخرافاتهم وأزيائهم المخالفة للسنة، وادعائهم دخول النار، ومناظرتهم في ذلك، وتحديهم لدى حكومة الشام وظفره بهم واستتابته إياهم، وهي قصة في واقعة حال جامعة بين الفائدة والفكاهة , ولدينا مقال مطول لبعض كبار الكتاب في الرد على متفرنج من دعاة الإلحاد المقلدين، وبيان جهلهم بحال أوربة الدينية، وسنفيض نحن في الرد على هؤلاء الملاحدة، وعلى محاولي هدم الإسلام باسم الإسلام من البهائية , وأحمدية المسيحية القاديانية، فقد قَوِيَتْ دعوة هؤلاء كلهم بمصر وغيرها، ويؤيدهم بعض الكتاب في الجرائد والمجلات المشهورة. ونسأله تعالى أن يوفقنا في مستقبل عملنا لخير ما وفقنا لمثله في ماضيه من مقاومة الكفر والإلحاد، والفسق والفساد، المفسدة للأرواح والأجساد، وأن يهدينا في كل شؤوننا سبيل الرشاد، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. (انتهى)

فاتحة المجلد السادس والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد السادس والعشرين بسم الله الرحمن الرحيم نحمد الله تعالى أن جعلنا مسلمين، من أمة محمد خاتم النبيين، الذي أكمل به الدين، وأتم نعمته على العالمين، صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين. (أما بعد) فقد جرت عادتنا بافتتاح كل مجلد من مجلدات المنار بخطبة نلم فيها ببعض المهمات في العالم الإسلامي من غيٍّ وفساد، وصلاح ورشاد، وأرى أن أهم ما طرأ في هذا العام، إقدام الترك على نشر ترجمة للقرآن، وتصدي حكومتهم الجمهورية لنشرها، لأجل أن تحل محل القرآن العربي الذي هو كلام الله تعالى - فرأيت أن أفتتح المجلد السادس والعشرين بتحقيق الحق في هذه المسألة في نفسها، وبيان الباعث عليها، ثم أُولي البحث في أجزائه بسائر ما يتعلق بها، كما فعلت في تحقيق الحق في مسألة الخلافة من جميع وجوهها، (في المجلدين 23 و24) وأكتفي في هذه الفاتحة الوجيزة بأن أذكر قراء المنار بما أطالبهم به في كل مجلد من إبلاغنا ما يرونه منتقدًا فيه، ونسأله تعالى أن يوفقنا للصواب ويؤتينا الحكمة وفصل الخطاب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

فتنة الاستغناء عن كلام الله العربي المنزل بترجمة أعجمية من كلام البشر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتنة الاستغناء عن كلام الله العربي المنزل بترجمة أعجمية من كلام البشر بسم الله الرحمن الرحيم {الر تِلْكَ آيَاتُ الكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 1-2) . {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} (طه: 113) . {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِياًّ لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} (الأحقاف: 12) . {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27-28) . {حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: 1-3) . {حم * وَالْكِتَابِ المُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 1-4) . {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِياًّ لِّتُنذِرُ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} (الشورى: 7) . {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ * وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ * أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 192-199) . {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} (النحل: 102-103) . {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44) . {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} (الرعد: 37) . (أما بعد) فهذه آيات محكمات هن أم الكتاب في هذا الباب، تجاوزن جمع القلة إلى جمع الكثرة , وعَدَوْنَ إشارات الإيجاز وحدود المساواة إلى باحة الأطناب، ينطقن بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل، ولا تقبل التبديل ولا التحويل، بأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي جعله آخر كتبه، على خاتم أنبيائه ورسله، قرآنًاعربيًّا، وأنه هو الذي جعله قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي أوحاه قرآنًًا عربيًّا، وأنه هو الذي فصل آياته قرآنًا عربيًّا، وأن الروح الأمين نزل به على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، وأنه ضرب فيه للناس من كل مثل، والمراد بالناس أمة الدعوة من جميع الملل والنحل، حال كونه قرآنًًا عربيًّا غير ذي عوج، وأنه أمر خاتم رسله أن ينذر به (أم القرى) ومن حولها من جميع الورى، وأنه على إنزاله إياه قرآنًا عربيًّا للإنذار والذكرى، والوعيد والبشرى، لعلهم يعقلون ولعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا أن أنزله حكمًا عربيًّا، وأمر من أنزله عليه أن يحكم بين جميع الناس بما أراه الله فيه من الحق والعدل، الذي جعله فيه حقًّا مشاعًا لا هوادة فيه ولا محاباة لقرابة ولا قوة ولا فضل، فقال: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105) اقرأ الآيات من 104 إلى 105 من سورة النساء بطولها، وراجع سبب نزولها، فعلم من هذه الآيات المحكمة أن القرآن هداية دينية عربية، وأنه حكومة دينية مدنية عربية، عربية اللسان، عامة لجميع شعوب نوع الإنسان. وصلوات الله وتحياته المباركة الطيبة على محمد النبي العربي الأمين، الذي جعله سيد ولد آدم وفضّله على جميع النبيين والمرسلين، بإكمال دينه بلسانه وعلى لسانه وإرساله لجميع العالمين، وجعل هداية رسالته باقية إلى يوم الدين، بقوله: عمت رحمته {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وقوله تبارك اسمه: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} (الفرقان: 1) - وقوله تعالى جده: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) وقوله جل جلاله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} (الأحزاب: 40) وقوله عم نواله فيما أنزله عليه في حجة الوداع يوم الحج الأكبر {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه دعوة ربه كما أمر، فبدأ بأم القرى , ثم بما حولها من جزيرة العرب وشعوب العجم، باللسان العربي الذي قضى الله أن يوحد به ألسنة جميع الأمم، فيجعلهم أمة واحدة بالعقائد والعبادات والآداب والشرع واللغة، ليكونوا بنعمته إخوانًا لا مثار بينهم للعداوات التي تفرق بين الناس بعصبيات الأنساب والأقوام والأوطان والألسنة، فكتب صلى الله عليه وسلم كتبه إلى قيصر الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر بلغة الإسلام العربية ككتبه إلى ملوك العرب وأمرائهم، وبلغ أصحابه ما أمر الله به أمته من تعميم الدعوة، وبشرهم بأن نورها سينتشر ما بين المشرق والمغرب، فصدع الصحابة والتابعون لهديهم، وجميع دول الإسلام من بعدهم، بما أمروا به من نشر هذا الدين بلغته، في كلا قسمي شريعته، عبادته وحكومته. فكان الإسلام ينتشر في شعوب الأعاجم من قارات الأرض الثلاث (آسية وأفريقية وأوربة) بلغته العربية، فيقبل الداخلون فيه على تعلم هذه اللغة بباعث العقيدة، وضرورة إقامة الفريضة، ولا سيما فريضة الصلاة التي هي عماد الدين، وأعظم أركانه بعد التصريح بالشهادتين اللتين هما عنوان الدخول فيه، على أنهما من أعمال الصلاة أيضًا، فكان تعلم العربية من ضروريات الإسلام، عند جميع تلك الشعوب والأقوام، بالإجماع العلمي العملي، التعبدي والسياسي إلا ما كان من تقصير دولة الترك العثمانيين، بعدم جعل العربية لغة رسمية للدواوين، كسلفهم من السلجوقيين والبويهيين، حتى بعد تنحُّلهم للخلافة الإسلامية، ورفع ألويتهم على مهد الإسلام من البلاد الحجازية، فآل ذلك إلى التعارض والتعادي بين العصبية التركية اللغوية ورابطة الإسلام، فالتفرق والتقاتل بين الترك والعرب , فإلغاء الخلافة العثمانية فإسقاط دولة آل عثمان، وتأليف جمهورية تركية العصبية والتربية والتعليم، أوربية العادات والتقنين والتشريع، وإبطال ما كان في الدولة من المصالح الإسلامية، كمشيخة الإسلام والأوقاف والمدارس الدينية والمحاكم الشرعية وصرحوا بأن حكومتهم هذه مدنية لا دينية، وأنهم فصلوا بين الدين والدولة فصلاً باتًّا كما فعلت الشعوب الإفرنجية، على أنهم لما وضعوا قانون هذه الجمهورية قبل التجرؤ على كل ما ذكر، وضعوا في مواده أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام مراعاة للشعب التركي المسلم، كما وضعوا فيه مواد أخرى تنافي الإسلام , من استقلال المجلس الوطني المنتخب بالتشريع بلا قيد ولا شرط، ومن إباحة الردة واستحلال ما حرم الشرع، وظهر أثر ذلك بالقول والفعل، كالطعن الصريح في الدين والاستهزاء به حتى في الصحف العامة، وكإباحة الزنا والسكر للمسلمين والمسلمات، وبروز النساء التركيات في معاهد الفسق ومحافل الرقص كاسيات عاريات، مائلات مميلات - إلى غير ذلك من منافيات الدين. ولكن هذا كله لم يَرْوِ غليل العصبية اللغوية التورانية، ولم يذهب بحقدها على الرابطة الإسلامية وآدابها الدينية العربية، بل كان مِن كيدها لها السعي لإزالة كل ما هو عربي من نفس الشعب التركي ولسانه وعقله ووجدانه؛ ليسهل عليهم سله من الإسلام بمعونة التربية الجديدة والتعليم العام، بل عمدوا إلى هذه الشجرة الطيبة الثابت أصلها، الراسخ في أرض الحق والعدل والفضل عرقها، الممتد في أعالي السماء فرعها، التي تؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، عمدوا إليها لاجتثاث أصلها، واقتلاع جذرها، بعد ما كان من التحاء عودها، وامتلاخ أملودها، وخضد شوكتها، وعضد خصلتها، بعد أن نعموا بضعة قرون ثمرتها، وإنما تلك الشجرة الطيبة هي القرآن الكريم الحكيم المجيد العربي المبين، هي الزيتونة المباركة الموصوفة بأنها لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار , فإذا مسته نار الإيمان بحرارتها اشتعل نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: 35) . وإنما أعني بقطع هذه الشجرة المباركة من أرض الشعب التركي محاولة حرمانه منه، ذلك بأنهم ترجموا القرآن بالتركية لا ليفهمه الترك، فإن تفاسيره بلغتهم كثيرة، وكان من مقاصد إبطال المدارس الدينية إبطال دراستها، وحظر مدارسة كتب السنة وكتب الفقه ونحوها؛ لأنها مشحونة بآيات القرآن العربية، وبالأحاديث النبوية العربية، وبآثار السلف الصالح العربية، وبالحكم والأمثال وشواهد اللغة العربية، وهم يريدون محو كل ما هو عربي من اللغة التركية، ومن أنفس الأمة التركية، حتى إنهم ألفوا جمعية خاصة لِما عبروا عنه (بتطهير اللغة التركية) من اللغة العربية، واقترح بعضهم كتابة لغتهم بالحروف اللاتينية، وإذا طال أمد نفوذ الملاحدة في هذا الشعب الإسلامي الكريم فإنهم سينفذون هذا الاقتراح قطعًا كما نفذوا غيره , حتى استبدل قرآن تركي بالقرآن الذي نزل به الروح الأمين، على قلب خاتم النبيين، بلسان عربي مبين، المتعبد بألفاظه العربية بإجماع المسلمين، والمعجز ببلاغته العربية لجميع العالمين، وكونه حجة الله تعالى عليهم إلى يوم الدين. أرأيت أيها القارئ هذا الخطب العظيم؟ أرأيت هذا البلاء المبين؟ أرأيت هذه الجرأة على رب العالمين؟ أرأيت هذه الصدمة لدين الله القويم؟ أرأيت هذا الشنآن والاحتقار لإجماع المسلمين؟ ورفض ما جروا عليه مدة ثلاثة عشر قرنًا ونصف، ثم أرأيت بعد هذا كله ما كان من تأثير ذلك في مصر أعرق بلاد الإسلام في الفنون العربية، والعل

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة في مسألة الخلافة وأحكامها والخلفاء (س1-17) من صاحب الإمضاء في دهلي - الهند -بنصه وغلطه اللغوي بسم الله الرحمن الرحيم {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) نحمده ونصلي على رسوله الكريم) . استفتاء ما تقول أيها العلماء الكرام والحاملون لواء الإسلام في سؤال مسطورات تحت: (1) هل حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) صحيح أم لا؟ (2) هل يعمل به في زماننا أم لا؟ (3) إن قلتم لا فما دليل المنع من الكتاب والسنة؟ (4) إن كان الحديث صحيح فهل يعمل به في هذا الزمان وهل يكون نصب الإمام واجبًا في الملة المحمدية أم لا؟ (5) هل يشترط في الإمام القرشية مطلقًا أو ما أقاموا الدين؟ (6) إن لم توجد إقامة الدين في قريش (كما في بلادنا الهند) فهل يجوز أن يكون الإمام من قوم آخرين أم لا؟ (7) إن تغافل أو تجاهل قريش أو عوام الناس , ولم يعملوا بهذه السنة فأية طريقة تختار لإحياء هذه السنة وإلا فكيف؟ (8) جماعة بغير إمام أو خليفة هل لهم حكم الجماعة أم لا؟ (9) هل يكون الإمام صاحب السياسة والقدرة أو بدونهما؟ الاستفتاء الثانية (10) هل كانت الزكاة تجمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ إن كانت تجمع ففيم كانت تصرف؟ (11) هل كانت تجمع على عهد الخلفاء الراشدين مثل ما كانت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وكم يأخذ الخلفاء الراشدون لحوائج حياتهم من هذا يعني (الزكاة) وكيف كان استحقاقهم شرعًا؟ وكيف كانوا ينفقون إسرافًا أم اقتصادًا , وهل كان المسلمون يحاسبون الخلفاء في ذلك الزمن أو لا (أي في بيت المال أم من الزكاة) . (12) كيف يفعل صاحب الزكاة في زمننا , هل يؤديها إلى الإمام الشرعي أو يقسمها بنفسه على الفقراء والمساكين كما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ. (13) في أي شيء يجب على الإمام أن يصرف الزكاة , وهل يصرف مستقلاًّ بنفسه حيث يشاء أو بالشورى؟ (14) كم يأخذ الإمام الشرعي لنفقة نفسه وعياله , وهل يأخذ مستقلاًّ أو بالشورى؟ (15) إذا اتهم الناس الإمام بالجور في صرف الصدقة , أو ثبت لهم أن الإمام لا يصرف الزكاة حيث أمر الله بل يجمع , فهل لهم أن يجبروه على وضع الحساب عندهم أو لا؟ (17) وإذا كان الإمام مخالفًا لسيرة الخلفاء الراشدين المهديين في تصرفه , وأيضًا في القول والفعل فهل يصح أن يبقى إمامًا أو لا؟ (الحقيقة) أن واحد العالم المولوي في بلادنا (الهند - الدهلي) ادعى أنه إمام وخليفة الله , وخلافته كخلافة الخلفاء الراشدين , ومن لم يبايعه ومات بدون بيعته مات ميتة جاهلية , ويحذر الناس ويخوف المسلمين بوعيد هذا الحديث (من مات وليس في عنقه بيعة إلخ) ويقول: إنه من لم يؤد الزكاة إلي فلن يقبل الله زكاته وإذا اعترض الناس عليه أنه ليس بقرشي , ولا صاحب السياسة والقدرة , وأنه لا يقدر أن يجري حدود الله لأنه محكوم ككافة المسلمين في الهند , وأن الإمام لا يصير إلا بانتخاب المسلمين وكثرة رأيهم , أجاب أن السياسة والقرشية ليست بضروري فصار تنازعًا وتخاصمًا واختلافًا كثيرًا بين المسلمين في هذه المسألة الإمامة. فعليكم أيها العلماء الإسلام أن تبينوا بالدلائل الواضحة والبراهين القاطعة بالكتاب والسنة والكتب السير المعتبرة , بينوا بالدليل تؤجروا عند الجليل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحقق الهندي ... (المنار) نجيب عن هذه الأسئلة بالإجمال الموجز استغناء عن التفصيل في أكثرها بكتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي نشرنا فصوله في المنار , ولأن سببها إبطال ادعاء أحد صعاليك الدجالين للخلافة في الهند , وهو لا يحتاج إلى كل هذه الأسئلة ولا إلى التفصيل في أحكامها , بل لولا عموم الجهل لم تحتجْ هذه الدعوى السخيفة إلى سؤالٍ ما؛ إذ من المعروف أن الخلافة الصحيحة إنما تنعقد بمبايعة أهل الحل والعقد من المسلمين لرجل مستجمع للشروط التي بينها العلماء في كتب العقائد وكتب الفقه، وأن خلافة التغلب تحصل بمبايعة أهل القوة والعصبية لأي رجل يؤيدونه وينفذون أحكامه - وكل من الأمرين محال وقوعه في الهند وهي مقهورة تحت سلطان دولة أجنبية - وهذا المعتوه الذي ادعى الخلافة في الهند يظن بجهله أو عَتَهه أن دعوى الخلافة من مجنون مثله كافية لوجوب اتباعه , ودفع أموال الزكاة وغيرها له يتمتع بها. ولعل الذي أغراه بهذه الدعوى ما رآه من ادعاء الدجال غلام أحمد القادياني للنبوة والرسالة والوحي والمعجزات , وأنه مسيح الملة المحمدية , فوجد من المارقين والجاهلين الذين وُصفوا بأنهم (أتباع كل ناعق) من صدقه وصار له ولهم دين جديد كمسيحية النصارى بالنسبة إلى شريعة التوراة. أما الجواب عن الأسئلة الأربعة الأولى فهي أن الحديث صحيح رواه مسلم عن ابن عمر مرفوعًا , ويجب العمل به في كل زمان , فنصب الإمام واجب في الملة في هذا الزمان كغيره , وجميع المسلمين آثمون بعدم نصب إمام تجتمع كلمتهم عليه بقدر طاقتهم , ومعاقبون عليه في الدنيا بما يعلمه أهل البصيرة منهم وسيعاقبون في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وحده. وأما الجواب عن الثلاثة بعدها فهي أن النسب القرشي شرط في الإمام الحق مطلقًا بإجماع أهل السنة والشيعة , بل سبق إجماع الصحابة على ذلك ولا يُعتد بمن خالفهم من الخوارج وغيرهم , وإنما ورد في الصحيح أنه يجب أن يُسمع لهم ويُطاعوا ما أقاموا الدِّين إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والواجب على أهل الحل والعقد حمل من قصر منهم في إقامة الدين على ما يجب عليه من ذلك. وأما الجواب عن السؤال الثامن فهو أن الجماعة التي أمرنا باتباعها لا تسمى جماعة المسلمين إلا إذا كان لها إمام بايعته باختيارها , ومما يدل على ذلك حديث حذيفة الذي رواه الجماعة كلهم وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال صلى الله عليه وسلم (فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) فلم يأمره بالتزام طاعة أي فرقة من فرق المسلمين الذين ليس لهم جماعة ولا إمام يقيم الحق والقسط. وأما الجواب عن التاسع فهو أن إمام المسلمين هو رئيس حكومتهم السياسية , ويجب عليهم أن يكونوا قوة وشوكة له بمقتضى مبايعتهم له , وليس معنى قوة الإمام أن تكون له قوة وعصبية قبل مبايعته وأن يبايع لأجلها كما توهم الكثيرون , فإن هذا أصل فاسد مفسد للدين والدنيا إذ مقتضاه أن الحق للقوة فكل قوي يتبع ويطاع لقوته , وإن كان ظالمًا عاصيًا له تعالى , ويقر على سلبه الحق من أهله إلخ؛ وقد وضحنا هذا في كتاب الخلافة. وأما الأسئلة المتعلقة بالزكاة فجوابها أن الزكاة كان لها عمال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين يجمعونها من الناس , وكانت تصرف في مصارفها الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} (التوبة: 60) إلخ؛ وللإمام أن يصرف بنفسه وأن يعهد بالصرف إلى غيره كما هو شأن كل رئيس حكومة أو مصلحة أو شركة , أما الشورى فإنما يحتاج إليها في الوقائع والمسائل المشكلة التي ليس فيها نص صريح قطعي , أو يتوقف تنفيذ النص فيها على الوجه المطلوب على بحث , ففي مثل ما ذكر كان الخلفاء الراشدون يجمعون أهل العلم والرأي ويستشيرونهم، وعلى البلاد التي ليس فيها حكومة إسلامية تنفذ أحكام الشرع في الزكاة أن يدفعوا الصدقات لمستحقيها بأيديهم , وفي مثل نجد واليمن يؤدونها للإمام. وأما معاملة الخلفاء في نفقاتهم ومعاملتهم فهي منوطة بأهل الحل والعقد من جماعة المسلمين , وقد فرضوا للخليفة الأول ما يناسب حالة أمثاله في المعيشة من حيث هو رجل من أوساط المهاجرين لا أعلاهم ثروة كعثمان وعبد الرحمن بن عوف ولا أدناهم كعمار بن ياسر، ويجد السائل ما يحتاج إليه من تفصيل لأحكام الإمامة وأهل الحل والعقد في كتابنا (الخلافة أو الإمامة العظمى) . *** الاحتيال على الربا بورق النقد (س18) من صاحب الإمضاء إلى حضرة الأستاذ الكبير صاحب الإمضاء المنير أدام الله فضله: ورق النقدي يباع ويُشرى في الأسواق بقيمة غير محدودة , فهل يجوز للإنسان أن يبيع قسمًا من الورق النقدي متفقًا مع المشتري في أسعار أكثر من أسعار السوق الحاضرة لمدة معينة أم لا؟ نرجوكم أفتونا عنها ولكم من الله جزيل السلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ياسين السيد (ج) سبق لنا تفصيل لأحكام الأوراق المالية (بنك نوت) , فنكتفي هنا بأن نقول: إن هذه الصورة المذكورة في هذا السؤال ليست صورة بيع وشراء، بل هي صورة دَين مؤجل بزيادة معينة في مقابل الأجل , وهو عقد ربوي ظاهر صريح ليس من قبيل الحيل التي اختلف فيها الفقهاء، وأما اضطراب أسعار ما يُسمى الورق السوري فسببه معروف , وهو يشبه فيه نقد الفضة التركي كالريال المجيدي , فإذا اختلف سعر الريال إذا صُرف بغيره من نقد المعدن أو الورق فهل يبيح ذلك إعطاء مائة ريال لرجل على أن يرد لمعطيها مائة وعشرة ريالات بعد أشهر أو سنة مثلاً؟ وهل يسمى هذا بيعًا؟ لا , على أن بيع الربويات المختلفة الجنس التي يجوز فيها التفاضل يشترط فيها التقابض في المجلس , وإلا كان من ربا الفضل الذي حرم؛ لأنه ذريعة لربا النَّساء المجمع على تحريمه.

إبطال وحدة الوجود والرد على القائلين بها ـ 6

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ إبطال وَحدة الوجود والرد على القائلين بها لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأما قول القائل: التوحيد لا لسان له والألسنة كلها لسانه - فهذا أيضًا من قول أهل الوَحدة , وهو مع كفره قول متناقض , فإنه قد يعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن لسان الشرك لا يكون له لسان التوحيد , وأن أقوال المشركين الذين قالوا: {لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (نوح: 23) والذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) والذين قالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: 53-54) , والذين قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} (الأنبياء: 68) ونحو هؤلاء لسان هذا هو لسان التوحيد. وأما تناقض هذا القول على أصلهم فإن الوجود إن كان أحدًا كان إثبات العدد تناقضًا , فإذا قال القائل: الوجود واحد وقال الآخر: ليس بواحد بل يتعدد، كان هذان قولين متناقضين , فيمتنع أن يكون أحدهما هو الآخر , وإذا قال قائل: الألسنة كلها لسانه , فقد صرح بالتعدد في قوله: الألسنة كلها , وذلك يقتضي أن لا يكون هذا اللسان هو هذا اللسان فثبت التعدد وبطلت الوحدة , وكل كلام لهؤلاء ولغيرهم فإنه ينقض قولهم، فإنهم مضطرون إلى إثبات التعدد. فإن قالوا: الوجود واحد بمعنى أن الموجودات اشتركت في مسمى الوجود فهذا صحيح , لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا عين وجود هذا , بل هذا اشتراك في الاسم العام الكلي كالاشتراك في الأسماء التي يسميها النحاة اسم الجنس، ويقسم المنطقيون الكلي إلى جنس ونوع وفصل وخاصة وعرض عام، فالاشتراك في هذه الأسماء هو مستلزم لتباين الأعيان وكون أحد المشتركين ليس هو الآخر , وهذا مما به يعلم أن وجود الحق مباين للمخلوقات أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود , فإذا كان وجود الفلك مباينًا مخالفًا لوجود الذرة والبعوضة فوجود الحق تعالى أعظم مُبايَنة لوجود كل مخلوق من مباينة وجود ذلك المخلوق لوجود مخلوق آخر. وهذا وغيره مما يبين بطلان قول ذلك الشيخ حيث قال: لا يعرف التوحيد إلا الواحد وتصح العبارة عن التوحيد , وذلك لا يعبر عنه إلا بغير , ومن أثبت غيرًا فلا توحيد له - فإن هذا الكلام مع كفره تناقض فإن قوله: لا يعرف التوحيد إلا واحد يقتضي أن هناك واحدًا يعرفه , وأن غيره لا يعرفه هذا تفريق بين من يعرفه ومن لا يعرفه , وإثبات اثنين أحدهما يعرفه والآخر لا يعرفه إثبات للمغايرة بين من يعرفه ومن لا يعرفه، فقوله بعد هذا: من أثبت غيرًا فلا توحيد له، يناقض هذا , وقوله: إنه لا تصح العبارة عن التوحيد، كفر بإجماع المسلمين، فإن الله قد عبر عن توحيده , ورسوله عبر عن توحيده , والقرآن مملوء من ذكر التوحيد , بل إنما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب بالتوحيد , وقد قال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} (الزخرف: 45) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) , ولو لم يكن عنه عبارة لَمَا نطق به أحد , وأفضل ما نطق به الناطقون هو التوحيد كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: (أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله) وقال: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) لكن التوحيد الذي يشير إليه هؤلاء الملاحدة وهو وحدة الوجود أمر ممتنع في نفسه لا يُتَصور تحقُّقه في الخارج , فإن الوحدة العينية الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين , ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى أن الاسم الموجود اسم عام يتناول كل أحد , كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما يتناول كل جسم وكل إنسان , وهذا الجسم ليس هو ذاك , وهذا الإنسان ليس هو ذاك وكذلك هذا الوجود ليس هو ذاك. وقوله: لا يصح التعبير عنه إلا بغير يقال له - أولاً- التعبير عن التوحيد يكون بالكلام والله يعبر عن التوحيد بكلام الله , فكلام الله وعلمه وقدرته وغير ذلك من صفاته لا يطلق عليه عند السلف والأئمة القول بأنه الله، ولا يطلق عليه بأنه غير الله؛ لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره وصفة الله لا تباينه، ويراد به ما لم يكن إياه، وصفة الله ليست إياه , ففي أحد الاصطلاحين يقال: إنه غير , وفي الاصطلاح الآخر لا يقال: إنه غير , فلهذا لا يطلق أحدهما إلا مقرونًا ببيان المراد لئلا يقول المبتدع: إذا كانت صفة الله غيره فكل ما كان غير الله فهو مخلوق , فيتوسل بذلك إلى أن يجعل علم الله وقدرته وكلامه ليس هو صفة قائمة به بل مخلوقة في غيره , فإن هذا فيه من تعطيل صفات الخالق وجحد كماله ما هو من أعظم الإلحاد , وهو قول الجهمية الذين كفّرهم السلف والأئمة تكفيرًا مطلقًا. وإن كان الواحد المعين لا يُكفَّر إلا بعد قيام الحجة التي يكفر تاركها [1] . وأيضًا فيقال لهؤلاء الملاحدة: إن لم يكن في الوجود غير بوجه من الوجوه لزم أن يكون كلام الخلق وأكلهم وشربهم ونكاحهم وزناهم وكفرهم وشركهم وكل ما يفعلونه من القبائح هو نفس وجود الله , ومعلوم أن مَن جعل هذا صفة لله كان من أعظم الناس كفرًا وضلالاً , فمن قال: إنه عين وجود الله كان أكفر وأضل , فإن الصفات والأعراض لا تكون عين الوجود القائم بنفسه وأئمة هؤلاء الملاحدة كابن عربي يقول: وكل كلام في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه فيجعلون كلام المخلوقين من الكفر والكذب وغير ذلك كلامًا لله , وأما هذا اللحيد [2] فزاد على هؤلاء , فجعل كلامهم وعبادتهم نفس وجوده , لم يجعل ذلك كلامًا له بل يقال: أن يكون [3] هنا كلام له لئلا يثبت غيرًا له. وقد عُلم بالكتاب والسنة والإجماع وبالعلوم العقلية الضرورية إثبات غير الله تعالى , وأن كل ما سواه من المخلوقات فإنه غير الله تعالى ليس هو الله ولا صفة من صفات الله؛ ولهذا أنكر الله على من عبد غيره ولو لم يكن هناك غير لما صح الإنكار , قال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الجَاهِلُونَ} (الزمر: 64) , وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِياًّ} (الأنعام: 14) وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} (فاطر: 3) , وقال تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصَّلاً} (الأنعام: 114) , وكذلك قول القائل: وَجَدتُ المحبة غير المقصود لأنها لا تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم، ووجدت التوحيد غير المقصود لأن التوحيد ما يكون إلا من عبد لرب , لو أنصف الناس ما رأوا عبدًا ولا معبودًا - هو كلام فيه من الكفر والإلحاد والتناقض ما لا يَخفى , فإن الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أثبتت محبة الله لعباده المؤمنين ومحبتهم له كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: 165) , وقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) , وقوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (التوبة: 24) , وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَّقِينَ} (التوبة: 4) ، {يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} (البقرة: 195) ، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} (البقرة: 222) , وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) وقد أجمع سلف الأمة وأئمتها على إثبات محبة الله تعالى لعباده المؤمنين ومحبتهم له , وهذا أصل دين الخليل إمام الحنفاء عليه السلام , وأول من أظهر ذلك في الإسلام الجعد بن درهم فضحى به خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بواسط وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم , فإني مُضَحٍ بالجعد بن درهم، أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد علوًّا كبيرًا. ثم نزل فذبحه. وقوله: المحبة ما تكون إلا من غير لغير وغير ما ثم - كلام باطل من كل وجه فإن قوله: لا يكون إلا من غير ليس بصحيح , فإن الإنسان يحب نفسه وليس غيرًا لنفسه والله يحب نفسه، وقوله ما ثَم غير - باطل فإن المخلوق غير الخالق والمؤمنون غير الله , وهم يحبونه فالدعوى باطلة فكل واحدة من مُقدمتَي الحجة باطلة قوله: لا تكون إلا من غير لغير، وقوله: غير ما ثم فإن الغير موجود , والمحبة تكون من المحبوب لنفسه يحب نفسه؛ ولهذا كثير من الاتحادية يناقضه في هذا ويقول كما قال ابن الفارض [4] . وكذلك قوله: التوحيد لا يكون إلا من عبد لرب , ولو أنصف الناس ما رأوا عابدًا ولا معبودًا - كلا المقدمتين باطل , فإن التوحيد يكون من الله لنفسه فإنه يوحد نفسه بنفسه كما قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} (آل عمران: 18) والقرآن مملوء من توحيد الله لنفسه , فقد وجد نفسه بنفسه كقوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (البقرة: 163) , وقوله: {وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (النحل: 51) ، {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} (محمد: 19) وأمثال ذلك. وأما الثانية فقوله: إن الناس لو أنصفوا ما رأوا عابدًا ولا معبودًا - مع أنه غاية في الكفر والإلحاد كلام متناقض , فإنه إذا لم يكن عابدًا ولا معبودًا بل الكل واحد فمن هم الذين لا ينصفون؟ إن كانوا هم الله , فيكون الله هو الذي لا ينصف وهو الذي يأكل ويشرب ويكفر كما يقول ذلك كثير منهم مثلما قال بعضهم لشيخه: الفقيرإذا صح أكل بالله فقال له الآخر: الفقير إذا صح أكل الله , وقد صرح ابن عربي وغيره من شيوخهم بأنه هو الذي يجوع ويعطش ويمرض ويبول وَيَنْكَحُ وَيُنْكَحُ , وأنه موصوف بكل نقص وعيب؛ لأن ذلك الكمال عندهم كما قال في الفصوص: فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستقصي به جميع الأمور الوجودية النسب العدمية سواء كانت محمودة عرفًا وعقلاً وشرعًا أو مذمومًا عرفًا وعقلاً وشرعًا , وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة (وقال) ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات , وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم؟ ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الخالق فهي كلها من أولها إلى آخرها صفات للعبد , كما أن صفات العبد من أولها إلى آخرها صفات لله تعالى. هذا المتكلم بمثل هذا الكلام يتناقض فيه فإنه يقال له: فأنت الكامل في نفسك الذي لا ترى عابدًا ولا معبودًا يعاملك بموجب مذهبك , فيُضرب ويُوجع ويُهان ويُصفع ويُظلم , فمن فعل به ذلك واشتكى أو صاح منه وبكى قيل له: ما ثَم غير ولا عابد ولا معبود , فلم يفعل بك هذا غيرك , بل الضارب هو المضروب والشاتم هو المشتوم والعابد هو المعبود , فإن قال: تظلم من نفسه واشتكى من نفسه , قيل له: فقل أيضًا عبد نفسه، فإذا أثبت ظالمًا ومظلومًا وهما واحد فأثبت عابدًا ومعبودًا وهما واحد , ثم يقال له: هذا الذي يضحك ويضرب هو نفس الذي يبكي ويصيح , وهذا الذ

المقالات الجمالية ـ 5

الكاتب: جمال الدين الأفغاني

_ المقالات الجمالية (4) نبذة من مناظرة خيالية للسيد جمال الدين قال جامع هذه الطائفة من المقالات الجمالية بعد المقالة الثالثة: ثم انتقل (السيد) حفظه الله من لندن بعد نزوله بها بخمسة عشر يومًا إلى باريس عاصمة الفرنسيس , وكان ذلك في شهر يناير سنة 1883 عربية فتلقاه أهلها بالقبول والإقبال , ولم يَدَعوه يأخذ راحته حتى التمس أصحاب جرائدها العربية من حضرته أن يطرز جرائدهم بشيء من غرره. وقد وقفنا له على فصل من ذلك في جريدة (أبو نظارة زرقاء) , وكانت تفرغ الجد في قالب الهزل , ولكنها لم تستوعب الفصل لضيق مجالها بل وَعَدَتْ باستيفائه على التدريج في أعدادها التالية , إلا أننا لم نقف لها على غير ذلك العدد لعسر الحصول عليها؛ بسبب منع دخولها في البلاد التي نحن فيها , وعلى ذلك أثرنا عنها الشذرة التي تضمنها ذلك العدد من الفصل المذكور؛ حرصًا منا على التقاط فوائد أستاذنا , قال متعنا الله بطول حياته: فقال صاحب المقالة: إنكم قد ضللتم عن رشدكم، وتُهتم في بيداء غِوايتكم، وما يقوم لكم دليل في تقاعسكم عن الذود عن أوطانكم، ولقد غلب عليكم الجبن، واستولى عليكم الضعف، وأضعف جمانكم الخوف والخشية، ألا ترون أن كل أمر صعب عند الشروع فيه؟ ، أفلا تشعرون أن صعوبة المسالك بمقدار عظم المقاصد؟ وأن الراحة محفوفة بالمشاق، وأن أفضل الأعمال أحمزها [1] أفترضَون بالعبودية للأجانب، والاستكانة للأباعد، وإن موت المرء خير من بقائه في هذه الدنيا مع قلة مدتها وسرعة زوالها، رقًّا لا يملك من الأمر شيئًا. أتظنون أن هذا التعلل يدفع عنكم غضب رب الجنود، لا وحقه إنكم إن لم تدافعوا عن أوطانكم بنفوسكم وأموالكم لا تنالون منزلة لديه، ولا تجدون مخلصًا من سخطه، وتبقون في ذل العبودية ما دامت الأرض باقية (وكل عذاب دونه لحقير) فتشجعوا وثبتوا أقدامكم، وسكنوا روعكم، واعلموا أن الظفر مقرون بالصبر، وأيقنوا أن الراحة والسعادة في أثر المشقة، وأن سنة الله قد جرت من الأزل، أن لا ينال الإنسان مرغوبه إلا بعد التعب، فلا تقدموا هذه الحجج الداحضة، ولا تظهروا الفشل في طلب حقوقكم، ولا تتسربلوا الجبن فإن كل جبان محروم، فاسعوا في اتفاق كلمتكم، واجعلوا صدوركم مِجنًّا لسهام أعدائكم، مجدين في خلاص بلادكم، واعلموا أن الأمم الغابرة والحاضرة ما نكست رقابها ولا كسرت أطواق العبودية إلا بتحمل المشاقّ والخوض في غمرات الموت اهـ. *** كتاب له في الدفاع عن الدولة العثمانية (5) وكتب حفظه الله إلى صاحب جريدة البصير التي تطبع بباريس عاصمة الفرنسيس , وهو يومئذ لم يزل نزيلها , وذلك في فبراير عام 1883 غربيًّا وربيع الأول سنة 300 هجرية قال جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا: سيدي الخليل بما فُطر عليه من العقل الغريزي الذي دلت عليه عقائل فكاره، وأنبأت دقائق أفكاره عن فسيح مجاله وسعة مضماره، كان الواجب عليه قبل الخوض في أحوال الشرق والسلوك في بيداء سياسته، وهتك الستر عن قبائح رعاته وشنائع ساسته، أن ينظر ببصيرته الوقادة إلى ما أَلَمَّ بالشرقيين من البلايا، وما أحاط بهم من الرزايا، فإنهم لتفريطهم في إصلاح شؤونهم من قبل قد أشرفوا على الهلاك، وصاروا بعجزهم عن صيانة حقوقهم غرضًا لكل نابل، وطُعمة لكل آكل، تستملك الأباعد بلادهم، وتستعبد رجالهم، وتستلب أموالهم، ولا ريب أن الأمة الخاضعة للأجانب لا يمكنها العروج إلى مدارج الكمال , التي لا تُنال إلا بهمة عالية تأبى العبودية، ولا نجاة لهم من هذه المصيبة التي تقهر النفوس، وتوجب الذل والخمول، إلا بالتفافهم تحت راية واحدة على الذود عن حقوقهم، من دون ملاحظة الاختلاف في الجنسية؛ لأنهم بتقارب أخلاقهم، وتلاؤم عاداتهم، وتوافق أفكارهم، صاروا كأنهم جنس واحد، وإن اختلفت لغاتهم فخضوع بعضهم لبعض مع تناسب طبائعهم لا يبعث على الذل والاستكانة، ولا يزيل النخوة التي هي الداعية إلى كل فضيلة وكمال، وإذا تفرقت كلمتهم، وتشتَّتت قوتهم، لا يمكنهم الخلاص من مخالب الذين ينتهزون الفرصة لاسترقاقهم، فيجب على كل شرقي دفعًا لهذه النازلة، وصيانة لأمته من ذل العبودية، أن يسعى جمعًا للكلمة في تشييد مباني الحكومات الباقية في الشرق، فإن الأجانب ما وضعوا أيديهم على بلد إلا عاملوا أهله معاملة الآلة، ولهذا يمكنني أن أقول: إن سيدي الخليل في مقالاته التي حررها إنهاضًا لهمم الأمة العربية , وإن كان ما أراد منها الأخير أبناء جنسه، قد حاد عن صراط السياسية القويمة بتعرضه للدولة العثمانية، وكان عليه أن يفقه أن هذه الدولة في هذه الأيام، بمنزلة نظام لأجناس مختلفة من الشرقيين يحفظها عن التفرق والضياع، ويمكِّن كل جنس منها أن يسعى رويدًا رويدًا في إصلاح شؤونه، ويرتقي إلى مدارج عزه، على حسب كده وجده , وإذا انقطع هذا النظام وتفرقت الكلمة، وتشتت الجمع، واستقلت كل طائفة بأمرها فإنها لا تستطيع وقتئذ صون نفسها عن تطاول الأجانب، ولا تطيق مقاومة الأباعد الذين لا يريدون إلا استعبادهم، فيصبح كل هذه الأجناس عبيدًا أذلاء لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا، فلا يُنتظر لهم إذًا كمال، ولا يرجى لهم فلاح أبدًا، وربما اضمحلت جنسيتهم التي نيطت ببقاء لغتهم، وهذا الموت الذي لا بعث بعده ما دامت الأرض دائرة , ولا أشك أن سيدي الخليل لو لمح ببصره لرآني محقًّا في مقالتي هذه، ورجائي منه بعد الإغماض عما جرى به قلمي أن يتخذ لكبح شِرَّة الأجانب اتفاق كلمة العثمانيين مسلكًا لجريدته الغراء , ويبني خدمته لعموم الشرق على أساس سياسته،لا زال هاديًا للعباد إلى سبيل الرشاد اهـ. قال جامع المقالات: وقد كانت هذه الرسالة سببًا في عدول تلك الجريدة عن مشربها الأول , إذ كانت شديدة الانحراف على الدولة العثمانية كما هو مذهب كثيرين من بعض الطوائف المستظلين بظلها لا زال وارفًا, ثم استقامت واعتدلت بعد أن التمست لنفسها العذر عما كان من رأيها فيما أجابت به أستاذنا، ثبتها الله على صراطها الأخير وألحق أمثالها بها، وأكثر في المسلمين من مثل سيدنا وأستاذنا وأطال بقاءه للدين والدنيا.

الدين والسياسة وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدين والسياسة وملاحدة المتفرنجين من العرب وغيرهم قد سبق لنا بحث كثير في موضوع هذا العنوان نشر بعناوين متعددة , وفي أثناء التفسير وغير التفسير من أبواب المنار، فقراء المنار يعلمون أن المدارس الإفرنجية والمدارس المتفرنجة على اختلاف أنواعهما من تبشيرية أنشئت لدعوة النصرانية، و (علمانية) أنشئت لمقاومة الأديان أو بمعزل عنها - ومن رسمية للحكومات المتفرنجة كالتركية والمصرية - ومن أهلية أيضًا - كلها قد أخرجت للشعوب الإسلامية نابتة مضطربة في أمر دينها ودنياها وسياستها وآدابها، يقل فيها من يعرف دينه معرفة صحيحة، ومن يحافظ على آدابه وفرائضه تقليدًا أو على بصيرة، ويقل في المتدينين منهم مَن يدري كيف يجعل ما استفاده من علوم العصر وفنونه غذاء معنويًّا لأمته وقوة وعزة لملته؛ لأن أكثرهم لم يحصل من العلوم والفنون ما يؤهله لعمل ينهض بالأمة نهوضًا ماديًّا أو معنويًّا , وإنما تلقوا قليلاً من المبادئ هم فيها مقلدون كما أن أكثرهم مقلدون في الطعن بدين أمتهم لبعض ملاحدة الإفرنج مع الفرق العظيم بيننا وبينهم في ذلك، ولا سيما فيما يسمونه الفصل بين الدين والسياسة، وفي براءة أوربة من التعصب الديني وهي مثاره وأتون ناره. ولكن يكثر فيهم الهادمون لبناء أمتهم وملتهم باحتقار مقوماتها التي كانت بها أمة ذات صلة ممتازة كالدين والتشريع والأخلاق واللغة، ومشخصاتها التي تعد مزيد رسوخ في مقوماتها وتميزها كالتقاليد القومية والأزياء الوطنية والعادات النافعة وهم في هدمهم لبنيان أمتهم يحسبون أنهم يبنون لها بنيانًا جديدًا خيرًا مما بناه لها التاريخ , فكانت به أمة ممتازة في الوجود لها تاريخ عظيم فيه من دين بلغ الذروة العليا في التهذيب، وشرع عادل رفعها فوق رؤوس الأمم قرونًا كثيرة، وفتوحات شهد لها فلاسفة التاريخ من الإفرنج بأن تاريخ البشر لم يعرف لها مثلاً في جمعها بين العدل والرحمة إلخ. ولو كان لهؤلاء رسوخ قدم في العلم والحكمة وحظ عظيم من فنون العصر لأحدثوا لأمتهم قوة وثروة يجددان مجدها، مع حفظ مقوماتها ومشخصاتها التي أشرنا إليها، بدلاً من محاولة قتلها وإعادة خلقها. صدق على هؤلاء الهادمين وعلى المدارس التي تخرجوا فيها قول اللورد سالسبوري الوزير البريطاني المشهور: إن هذه المدارس التبشيرية أول خطوة لاستعمار الشعوب التي تنشأ فيها - فإنها تخَرَّج فيها طائفة تخالف سائر أمتها في عقائدها وأفكارها وتقاليدها فتحدث فيها صدعًا وشقاقًا تنقسم به على نفسها - على تعبيرهم - فيقتلها هذا الانقسام بأيديها (أو ما هذا معناه) , ولم يذكر اللورد بالصراحة أن ما تحدثه هذه المدارس من إفساد العقائد يتبعه فساد الأخلاق وغلبة الأفكار المادية , وحب الشرف والزينة والشهوات على المتخرجين فيها , فيحول ذلك دون اتفاقهم حتى فيما يفتتنون به من أمور التفرنج. وإننا نرى من مصداق كلامنا وكلام اللورد من قبل أن متفرنجة الترك قد هدموا تلك السلطنة (الإمبراطورية) الراسخة الأساس، الواسعة المقياس، وانتهى أمرهم إلى إمارة صغيرة طردوا منها الشعوب المسيحية، وهم الآن يقاتلون فيها الشعب الكردي الذي يلي الشعب التركي في العدد والبأس والقوة، ونرى الشقاق بالغًا غايته بين هؤلاء المتفرنجين المرتدين وبين أهل الدين والمحافظة على التقاليد الإسلامية من الشعب التركي نفسه , فحكومته تسفك ما بقي من دماء شبانها وتفني بقايا ثروتها القليلة في مقاومة الفتن الداخلية والحروب الوطنية، ونرى من مصداق ذلك أيضًا هذا الشقاق بين أحزاب الشعب المصري الذي بلغ غايته في هذا العام، ولا يعلم غير الله ما سيكون من سوء مغبته إن دام. من المعلوم عند كل من يعرف الإسلام أنه دين وتشريع سياسي قضائي ونظام اجتماعي، وأنه حكم عربي كما نطق به كتابه المنزل، فإن كان من مثار العجب أن يحاربه ملاحدة الترك إيثارًا للعصبية اللغوية على عصبيته , بعد أن كان لهم به من العزة والسلطان ما كان، ولم يكن لهم بلغتهم أدنى قيمة في الوجود , فأعجب من ذلك أن يقوم من متفرنجة العرب أنفسهم من يحارب الإسلام، بعد أن كان لأمتهم به من المجد والملك والسلطان والحضارة والعلوم والآداب ما كان , وكانوا به أئمة لمئات الملايين من غير أبناء جلدتهم , يقتبسون دينهم من القرآن العربي والسنة العربية , ويتدارسون اللغة العربية في مشارق الأرض ومغاربها، ويحجون إلى بُهرَة البلاد العربية يتقربون بذلك إلى الله تعالى , وكل من لم يفسد التفرنج عليهم أمر دينهم , يفضلون الشعب العربي على شعوبهم , حتى إن مسلمي الهند الصادقين في الإسلام يفضلون استقلال العرب على استقلالهم وسعادة بلاد العرب وسلامتها من عدوان الاستعمار على سلامة وطنهم. مع هذا كله نجد بعض ملاحدة المتفرنجين من العرب يحاربون الدين الإسلامي نفسه , ويطعنون به ويصدون عنه، ويرون من تقليد الترك وغيرهم في العصبية الجنسية أن يعادوا جميع الشعوب الإسلامية حتى الشعب الهندي الذي يدافع عنهم، وتبذل جمعياتهم السياسية من الجهاد بالمال والنفس في سبيله ما لم نبذل عشره جمعية عربية، ويعدون إمامهم في عصبيتهم هذه الشريف حسين بن علي المكي وأولاده الذين كانوا بحركتهم العربية أكبر مصيبة على العرب وخدمة للأجانب , كما فصلناه في المنار وفي غيره من الجرائد بالبراهين التي لم يستطع أحد من أنصارهم رد شيء منها. ومن سوء الحظ أن الجرائد العامة تنشر لهؤلاء الملاحدة آراءهم حتى للجاهلين منهم الذين لا يرجعون فيما يكتبون إلى شبهات علمية ولا سياسية تستحق الذكر، أو تستأهل الرد، ومن ذلك ما رأيناه مرارًا في جريدة البيان العربية الغراء التي تصدر في نيويورك عدة مقالات في ذلك كان آخر ما نُشر منها رد وطعن علينا في خطتنا السياسية الإسلامية , وفي فهمنا للدين وتفسيرنا للقرآن، والكاتب لم يقرأ من تفسيرنا شيئًا، ولم يطلع على المنار أيضًا، ولو اطلع عليهما لا يفهم منهما شيئًا مما نقصده فهمًا صحيحًا؛ لضعفه في اللغة العربية وجهله التام بنحوها وبيانها كما تدل عليه عبارته المملوءة بالغلط , وذكره لبعض آيات القرآن محرفة.. ثم هو مع ذلك يسند إلينا من الأقوال الدينية والسياسية ما لم نقله بل ما قلنا ما يخالفه، وينفي عنا من الأقوال والأفعال ما هو ثابت لنا ومعروف عنا ومنشور في مجلتنا، وكذلك شأنه فيما ينقله عن غيرنا وما يسنده إلى التاريخ. لهذا لم يخطر في بالنا أن نرد على شيء مما كتبه، وإن وقتنا لأضيق وأثمن من أن يصرف في مثل ذلك، ولدينا من الأعمال ما هو خير منه وأنفع - ولكن بعض كبار الكتاب السياسيين حملته الغيرة على الحق والخوف على أغرار قراء تلك الجريدة الواسعة الانتشار , فيقرؤها العوام والخواص أن يغتروا ببعض ما يكتبه هذا الرجل - على كتابة رد طويل على نوع من مزاعمه الباطلة الضارة، كما أن بعض الكتاب المدققين المطلعين على بعض أجزاء المنار والعارفين بسيرتنا في السياسة العربية والإسلامية كتب ردًّا آخر دافع به عنا، ونشر كل منهما في جريدة البيان نفسها، فنشكر لكل منهما غيرته، وننشر الرد الأول العام، لأنه مفيد للخواص وللعوام، وهذا نصه: *** العالم الغربي والعرب والإسلام لا حيلة لك مع المكابر بالمحسوسات قد كان الناس يتمثلون بقول القائل: لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذب حيلة من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة ولكن نسوا أن هناك من تقل معه الحيلة مثل الكذاب وأكثر وهو المجادل المكابر في المحسوس , الذي لا يجبن عن أن يقول للشمس الطالعة في رأد الضحى: إنها ظلام، والذي يخلق أيضًا التواريخ لتأييد حجته وينكر الوقائع الثابتة المشهودة لتأييد حجته، ويتخيل ويخيل الأمور على ما يريده هو لا على ما هي عليه في الواقع، يهجم على المسائل التي يكاد يعرف منها شيئًا كأنه قتلها علمًا، ولا يتوب بعد أن يكون ظهر خطؤه في قضية أن يتوخى المكابرة في قضية أخرى ومن الأول إلى الآخر قصارى كلامه (عنزة ولو طارت) . فمن العبث أن تقول له: إن الناس لا تقدر أن تعيش بلا دين , وإنه لم يعهد إلى اليوم أن شعبًا عاش بدون دين , وإن أوربا باقية على نصرانيتها، وإن التعليم المسيحي لا يزال يعلم في أرقى المدارس والكليات في أرقى الممالك من شمالي أوربا مثل إنكلترة والدانمارك وهولندة والسويد وألمانية، وإنهم يعلمون كون المسيح هو ابن الله إلى هذه الساعة، وإنهم لا يريدون أن يعرفوا أنفسهم إلا مسيحيين. ومن العبث أن تقول له: إنه حيث كان الدين لازمًا للشعوب فهو في نفسه قوة عظيمة لا تقدر حكومات هذه الشعوب أن تتعرض لها بمهانة أو بجهالة حتى لا يصيبها من أجل ذلك ضرر، وتحصل هزاهز وفتن، وإنه ليس من باب خلط الدين بالسياسة أن يلجأ رجال السياسة إلى الدين، إما في تهذيب الأخلاق أو في السعي لتوهين روح الإجرام والدعارة، أو في النضال عن استقلال الأمة، أو في تقوية الروابط مع أمم أخرى , والاستفادة من تلك الروابط المؤثرة والعوامل الراهنة التي ليس إنكارها إلا محض حماقة. ومن العبث أن تقول له: إن أوربة الراقية لم تهمل أيضًا هذه الروابط ولا استخفت بها ولا وجدتها بدعة في السياسة، وإن ملك إنكلترة الراقية العظيمة بل العظمى هو في وقت واحد ملك الإنكليز ورئيس الكنيسة الإنكليكانية، وإن إمبراطور ألمانية هو رئيس الكنيسة اللوثيرية، وإن إمبراطور النمسة كان على رأس مملكة راقية جدًّا , وكان يُخاطَب بـ (ذي الجلالة الرسولية) إشعارًا بصفته الدينية، وإن المستر غلادستون رئيس نظارة إنكلترة وهامة حزب الأحرار كان قسيسًا , ومن أشد الخلق تدينًا لا بل تعصبًا، وإن دولة فرنسة التي يقال: إنها لا دينية تنعت نفسها (بحامية النصارى) في المشرق , وإن غمبتا ركن الجمهورية والسياسة اللادينية كان قد قال تلك الجملة التي ذهبت مثلاً: (عداوة رجال الدين ليست من بضائع التصدير) وإنه إن لم يكن الدين رابطة فأية رابطة بين فرنسة والموارنة وهم ليسوا بلاتين ولا بأوربيين , بل هم آراميون ساميون أبناء عم العرب وبالتالي فأقرب إلى المسلمين مما هم إلى الفرنسيين من جهة الدم , عبثًا تقول له ذلك؛ لأنه يجاوبك بل كل هذا غير صحيح , وأوربا تركت الدين. وكذلك من العبث أن تقول له:إن الأوربيين الذين تقول: إنهم نبذوا الدعوة الدينية لا يزالون يذكرون الحروب الصليبية , ويتكلمون في عداوة الإسلام أفلا تقرأ ما يرددونه كل يوم من توحيد الجبهة بإزاء المسلمين من الريف إلى الهند؟ أفلم تسمع بمساعي شامبرلين الأخيرة في باريس ورومية؟ أفما قرأت ماذا كانوا يكتبونه عند سقوط القدس في يد الإنكليز أثناء الحرب العامة من كون ذلك هو الصفحة الأخيرة من الحروب الصليبية؟ أفما اطلعت على أخبار الحفلات الدينية التي أقيمت في ذلك الوقت؟ أفما سمعت خطبة المارشال أللنبي نفسه على تتمة الحرب الصليبية على يده؟ أفما عرفت أن الجنرال غورو نفسه كان لأول وصوله إلى بيروت وعند الاحتفال بقراءة أمر تعيينه ألقى خطبة أشار فيها إلى الحرب الصليبية , وقال: إن بداية علاقات فرنسة بسورية هي من أيام الحرب الصليبية؟ أفما عرفت أن الذي عين غورو على سورية هو نفس كليمنصو الذي هو عدو للدين المسيحي ولكنه ليس بعدو للسياسة التي قد ينفعها الدين المسيحي؟ أفما علمت أن سبب صرف (ويغان) وهو كاثو

إيقاظ الغرب للإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إيقاظ الغرب للإسلام نقتبس ما يأتي من هذا الكتاب الذي ألفه (اللورد هدلي) الذي أسلم ولقب (بسيف الرحمن رحمة الله فاروق) لِما فيه من الفوائد والعِبَر للمتفرنجين وغيرهم , قال في أوله ما ترجمته بقلم مترجم الكتاب مع تصحيح بعض الألفاظ: *** تمهيد قال المستر آرثر بلفور هذه الحكمة منذ عدة سنوات (هناك ناصح واحد فقط أردأ من الخوف وذلك الناصح هو اليأس) . تملكتْ فؤادي تلك الحكمة في ذلك الوقت , وإني للإشارة إلى الموضوع المحتوية عليه الصحائف المقبلة والتعنيف المحقق الذي سألقاه لشرحي اعتقاداتي بصراحة وجلاء تام عن الدين الإسلامي أقول: (إن هناك رفيقًا واحدًا أردأ من الزندقة وذلك الرفيق هو الخوف) . كم من الناس جعلهم (خوف) العواقب يتمسكون بالاعتراف الصريح بدين واعتقادات لا يسلمون بها ولا يصدقونها في الواقع. يريد كل منا أن يختار لنفسه الأحسن - أحسن الأطعمة , أحسن المساكن , أحسن المراكز , أحسن الإخوان - ولكن كم منا من فكر في أن يختار أحسن الديانات؟ إن معظمنا راضٍ بالدين الذي وجد عليه آباءه، وإننا من حيث حب الذات والأنانية مُحقُّون في ذلك طبعًا؛ لأنه يوفر علينا كثيرًا من التعب , فنسير متبعين الطريق التي كان يسير فيها أسلافنا رافضين أن نبحث أو أن نلقي ولو نظرة واحدة على أي دين آخر - {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ} (المائدة: 104) - قرآن كريم. إنه من المستحيل على أي إنسان أن يصل إلى أسمى غرض في الحياة - الحياة بمعناها الحقيقي - إذا قيد نفسه بسيور العبادات التقليدية , وبنى كل خلاصه على المعمودية ومختلف الأعمال الكهنوتية , ونظرًا لأني نشأت بروتستانيًّا وعشت سنين عديدة في مملكة رومان كاثوليك , فقد سمحت لي الفرص بسعة فائقة أن أدرس صنفين من أصناف المسيحية متَّبعيْن بفصيلتين من أهم الفصائل في الكنيسة المسيحية، وقد عشت أيضًا في الشرق , وإنه لشد ما يسرني أن أعترف بأن ليس هناك بغض بين المسلمين , بل هناك المحبة بأوسع معانيها , وهي منتشرة بينهم أكثر مما هي منتشرة بين المسيحيين في الجزر البريطانية , فالمسلمون مثلاً متسامحون جدًّا ومطبوعون على إيتاء الخير إزاء جميع المسيحيين بخلاف ما عليه فروع الكنيسة بعضها بإزاء بعض. إني لا أتجاسر على أن أقول: إنه إذا عينت لجنة من الإنكليز الأكْفاء حقيقة ممن هم على شاكلة المأسوف عليه اللورد سالسبري والمأسوف عليه اللورد بيكونسفيلد والمستر بلفور واللورد هالدين والسير روفس إسحاق إلخ لفحص الدين الذي يجب أن يتدين به العالم كله لأجمعوا أمرهم على أن يختاروا الدين الإسلامي الذي يشهد له العقل , والذي يجيب رغبة الفؤاد والروح الشديدة من الاتصال بالخالق سبحانه وتعالى. إنني لا أعتذر من أجل وضعي للفصول القليلة التي ستظهر بين غلاف هذا الكتاب , وليس لدي أقل خوف من الاتهام بالإلحاد والجحود اللذين سأُرمَى بهما لابتعادي عن المسيحية واهتدائي بهدي الإسلام. إنني لا أعتقد وما سبق لي أن اعتقدت قط أنه من الضروري لخلاصي أن أصدق ألوهية المسيح , أو أن أعتقد الثالوث أو العقائد الأخرى التي تدعي الكنيسة أنها ضرورية للخلاص , إني أؤمن برسالات الله السماوية المرسلة لنا على لسان رسله المصطفين. *** مقدمة لكي أقدم الصحائف المقبلة إلى القراء لا أجد خيرًا من إعادة نشري هنا لمقالة صغيرة من قلمي ظهرت في إحدى جرائد لندرة الأسبوعية في نوفمبر سنة 1913. (ظهرت في جرائد عديدة قطع تشرح معتقدي الديني , وإنه ليبهجني أن أرى كل ما وُجِّه إلي من الانتقاد لغاية الآن لم يكن إلا بلطف مُتناهٍ , إنه لا ينتظر أن تخرج خطوة معلومة عن خط سير مألوف دون أن تستوقف النظر) . (ورد لي في أحد الأيام خطاب من أحد المسيحيين المتدينين يخبرني فيه بأن الدين الإسلامي إنما هو دين لذة , وأن النبي كانت له زوجات عديدات وأن ذلك قاعدة في الإسلام , فما أغرب هذه الفكرة عن الإسلام! إلا أنها فكرة راسخة في عقول تسعة وتسعين في المائة من البريطانيين الذين لم يُعنوا ببحث الحقائق الواضحة لديانة ما ينيف على مائة مليون من رعاياهم , ولو درسوا تلك الديانة لتبين لهم أن نبي بلاد العرب صلى الله عليه وسلم كان مشهورًا في كبح النفس عن الهوى وردِّها عن الشهوات , وكان مخلصًا لزوجته الوحيدة السيدة خديجة التي هي أكبر منه بخمس عشرة سنة , والتي كانت أول من آمن برسالته السماوية، وبعد وفاتها تزوج بالسيدة عائشة , وقد تزوج أيضًا ببعض أيامى متبعيه الذين استشهدوا في إعلاء كلمة الله وذلك لا بدافع الشهوة بل لكي يعولهن ويمنحهن مساكن , وينزلهن منزلة ما كنَّ ليحصلن عليها لولاه. (نحن معشر البريطانيين نعجب بأننا نحب العدل والإنصاف، ولكن أيُّ شيء أعظم جورًا وحيفًا من الحكم الذي يصدره كثير منا على الدين الإسلامي دون أن يجتهد أو يحاول أن يعرف ولو مجملاً بسيطًا من عقائده , حتى إنهم لا يفقهون معنى لكلمة (الإسلام) . (إنه من المحتمل أن يظن بعض من أصدقائي أنني قد غُلبت على أمري أو سيطر علي المسلمون إلا أن ذلك ليس بحقيقي؛ لأن اعتقاداتي الحالية ما هي إلا نتيجة بحث سنوات عديدة , وإن كانت مناقشاتي الحقيقية مع متعلمي المسلمين في موضوع الديانة لم تبتدئ إلا منذ زمن قريب , وإنني لمحتاج إلى القول: بأنه قد غمرني الفرح عندما وجدت أن كل نظرياتي واستنتاجاتي كانت مُطابِقة مُطابَقةً تامة للإسلام , إن أخي خواجا كمال الدين لم يحاول بتاتًا أن يتسلط على فؤادي ولو قليلاً , فإنه كان دائمًا مثال الأمانة والصدق إذ قد شرح لي في ترجمة القرآن الكريم الذي استطعت أن أفهم معناه من الترجمة المشوهة المنتشرة بين المسيحيين , فأنار من هذه الوجهة المحجة الواضحة التي تسير فيها جمعية التبشير الإسلامي , فإنها ما احتالت ولا خدعت أحدًا قط , فالهداية كما جاء في القرآن الشريف يجب أن تكون بمحض الرغبة والاختيار ومن تلقاء النفس؛ لذا لم يرتكب خواجا كمال الدين أي صفة من صفات الاحتيال والخديعة , وقد أراد عيسى نفس تلك الصفة عندما قال لحوارييه: (وكل من لا يقبلكم ولا يسمع لكم فأخرجوه من هناك , وانفضوا التراب الذي تحت أرجلكم شهادة عليهم) . (وقد علمت أمثلة كثيرة جدًّا من البروتستانت المتعصبين الذين ظنوا أن من واجباتهم أن يغشوا بيوت الرومان الكاثوليك , فيحتالوا على من يقطنها لنقله إلى دينهم ومثل هذا العمل المثير الذي لا يليق بكرامة جار هو طبعًا عمل كريه جدًّا , أدى إلى إثارة العواطف وإيجاد النزاع الذي جر عليهم الازدراء والاحتقار , وإنني لأتألم جد الألم عندما يعرض لفكري أن أولئك المبشرين المسيحيين حاولوا ذلك مع المسلمين أيضًا , وإن كان لا يوجد هناك باعث يدعوهم إلى هداية هؤلاء الذين هم (أصح منهم مسيحية) وأفضل منهم أنفسهم في مسيحيتهم , وقد عجزت تمامًا عن أن أعرف لم فعلوا ذلك , إنني لم أقل: (أصح منهم مسيحية) جزافًا بل بعد إعمال العقل والروية؛ لأن المحبة والألفة والتسامح في الدين الإسلامي أقرب جدًّا لما أتى به المسيح مما عليه رجال المسيحية إلى الكنائس المتنوعة. خذ مثلاً العقيدة الإنسيانية التي تختص بالثالوث بحالة مشوشة لا يقبلها العقل ترى أنه من الواضح جليًّا أن هذه العقيدة المهمة عندهم للغاية والتي تعتبر إحدى العقائد الرئيسية للكنيسة تمثل المذهب الكاثوليكي , وإننا إذا لم نعتقدها نهلك هلاكًا أبديًّا، وهكذا نؤمن بوجوب اعتقاد الثالوث إن أردنا الخلاص أو بطريقة أخرى نقول: إن الله رحيم وقادر على كل شيء , وفي الوقت نفسه نتهمه بالظلم والقساوة اللذين لا نستطيع ولا نرضى أن ننسبهما إلى أفظع سفاكي الدماء من الظلمة البشرية كأن الله الذي هو أمام الجميع وفوق الجميع يتغلب عليه اعتقاد مخلوق ضعيف فانٍ في الثالوث. (هذا مثل آخر يدل على عدم وجود الحسنى لديهم: وصلني خطاب لمناسبة اتجاهي نحو الإسلام أخبرني فيه كاتبه بأنني إذا لم أعتقد ألوهية المسيح لا يمكنني الخلاص، إن مسألة ألوهية المسيح ما ظهرت لي قط أنها مهمة، هل أرسل المسيح رسلاً من البشر برسالات إلهية؟ لو كان عندي الآن أي شك في تلك النقطة الأخيرة لآلمني ذلك جدًّا , إلا أنني أشكر الله سبحانه وتعالى لعدم وجود هذا الشك أرجو أن يكون اعتقادي في المسيح وتعاليمه ثابتًا جدًّا كاعتقاد أي مسلم أو مسيحي حقيقي آخر , لأنني سبق لي أن قلت مرارًا أن الديانة الإسلامية والديانة المسيحية كما علمت بالمسيح نفسه هما أختان ولم يفصلهما عن بعضهما إلا المذاهب , والاصطلاحات المسيحية فقط التي يمكن الاستغناء عنها بكل سهولة وارتياح. يطلب منهم أن يعتقدوا هذه المذاهب والعقائد التي لا تفهم , وهناك بلا شك رغبة واشتهاء إلى ديانة تقبلها العقول والميول , فمن سمع بمسلم ارتد إلى الكفر والإلحاد؟ ربما كانت هناك حالات من هذه إلا أنني أشك جدًّا فيها. (إنني أعتقد أن هناك آلافًا من الرجال والنساء أيضًا مسلمين قلبًا ولكن خوف الانتقاد والرغبة في الابتعاد عن التعب الناشئ على التغيير تآمرا على منعهم من إظهار معتقداتهم , إنني خطوت هذه الخطوة وإنني أعلم علم اليقين أن كثيرًا من إخواني وأقاربي ينظرون إليَّ الآن كروح ضالة ويصلون من أجلي , إلا أني لست - في الحقيقية - في اعتقاداتي اليوم إلا كما كنت منذ عشرين سنة تمامًا ولكن صراحتي في القول هي التي أفقدتني حسن ظنهم بي. الآن وقد شرحت بعضًا من الأسباب التي جعلتني أتبع الدين الإسلامي , وقلت: إنني أعتبر نفسي الآن أني أصبحت بإسلامي مسيحيًّا أفضل مسيحية مما كنت عليه من قبل؛ فآمل أن يتبع الآخرون مثالي ويعتقدون أحقية الإسلام الذي أقر بكل شهامة وفخر أنه أصح الأديان، إنه ستصل السعادة لأي امرئ ينظر إلى هذه الخطوة كخطوة متقدمة لا خطوة مضادة للمسيحية الحقة بأي وجه) اهـ. (المنار) سبق لنا نشر هذه المقالة في المنار عقب شيوع إسلام اللورد هدلي.

ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله (3) ذكرنا في المقالة الثانية جملة مطالب الأزهريين التي نظرت فيها لجنة الحكومة , وما قبلته وأقرته وصدر أمر الوزارة بتنفيذه , وكان طلبة الأزهر قد طبعوا مذكرة تفسيرية لمطالبهم الخاصة ورفعوها إلى البلاط الملكي والوزارة , ووزعوا منها نسخًا على من يرجون عطفهم ومساعدتهم من أصحاب الشأن , فرأينا نشر تفسيرهم لمطالبهم استقصاء للمهم من تاريخ هذا الطور الجديد للأزهر , وتمهيدًا لما سنبينه من رأينا فيه , وهذا نصها بعد تمهيد وجيز جعلوه مقدمة لها: (المطلب الأول) : (حسبان الأزهر جامعة كبرى تتكون عناصرها من الأزهر والمعاهد الدينية الحالية ومدارس القضاء الشرعي ودار العلوم والمعلمين الأولية , بشرط أن تكون هذه المدارس كلها تابعة للأزهر تبعية فعلية حتى يتوصل بذلك إلى توحيد جهات التعليم الخاص بالشريعة واللغة العربية) . هذا هو المطلب الأساسي الذي لا يمكن أن ينال الأزهر غايته من الإصلاح والكرامة بدونه، على أنه في الواقع من أساليب الإصلاح الأولية القاضية بعدم التجزئة في المعاهد التي يتحد فيها نوع التعليم وجوهره , وهذه المدارس في الحقيقة أجزاء للأزهر وأعضاء فُصِلت منه , ولا يمكننا أن نفهم انعزالها عنه مع ما بينها وبينه من الصلة الظاهرة في اتحاد الغرض وتَسَاوي برامج التعليم أو تقاربها , بل وفي زي الطلبة أيضًا , ولم يشاهد الناس فيما شهدوا أن تقطع الصلة في المعاهد التي من هذا النوع، ويفرق بينها هذا التفريق الكبير، إلا في مصر. إن الحقيقة المُرة نجهر بها الآن وهي أن الغرض الواضح من وجود المدارس المشار إليها على نظامها المعروف هو أن يترك الأزهر وشأنه مهملاً منسيًّا , يشقى طلابه وخريجوه ولا يؤدي وظيفته في المجتمع إلا بالمقدار اليسير الذي نراه في الوقت الذي نخص فيه هذه المدارس بالعناية والرعاية , حتى يعد خريجوها لأقصى درجات النفع والانتفاع. وهذه هي الفكرة الخطرة على الأزهر , فقد كان لها أسوأ النتائج في عرقلة سيره ووقوفه دون الغاية التي أداها للإنسانية في أزمنة متطاولة , وإذا كان مثار التفكير في إيجاد هذه المدارس ما كان يشاع من تعسر الإصلاح في الأزهر، فلا عذر اليوم وقد تطور الزمن وأصبح الأزهر نفسه ينادي بالإصلاح غير آنف من كل عمل يكسبه صبغة عصرية صالحة ما دامت لا تتنافى مع صفته الدينية , فالواجب إذن أن يُقابَل نداؤه بالترحاب , وأن يُعدل عن عزل هذه المدارس التي اقتضت الضرورة عزلها كما يقولون , ويكون من الجميع جامعة شرقية سامية , تقدم للبلاد الإسلامية عامة ومصر خاصة ما كان يؤديه الأزهر في زمنه الغابر من ثمرات ناضجة في العلوم والآداب , أما بقاء الحال على ما هو عليه اليوم فلا معنى له غير القضاء على الأزهر وتقويض ما بقي من أثره , في حين أن هذه المدارس تتسع وتنمو بما يسدى إليها من ضروب الرعاية والعطف , وهذا ولا ريب منافٍ للعدالة , موجب للتنافر والشقاق بين أبناء الطائفة الواحدة، وهو فوق ذلك تدبير خطر بالنسبة إلى المصلحة العلمية العامة، فإن الأزهر قوة كبيرة إذا عني بها جنت الأمة منها أوفر الثمرات وأنضجها , ولا سيما في الظروف المقبلة التي يتحتم فيها تعميم التعليم بين أفراد الشعب، ولقد بدت مخاطر العزلة التي يشقى بها الأزهر فعلاً في أزمة المعلمين التي تعالجها البلاد في العهد الأخير , فليس من الحزم أن يستفحل الداء والدواء قريب. لسنا نريد أن نُلغي هذه المدارس كما يدعي بعض المغرضين [1] ولكن مطلبنا واضح جلي , وهو كما قلناه: إدماجها في الأزهر مع إدخال الإصلاح على برامجه متى كانت الحالة تقضي بذلك , وهذا مطلب لا غبار عليه ولا يمكن أن ينازع فيه من يريد الإصلاح , وبودنا أن يفطن إلى ذلك كل مفكر؛ ليعتقد أن الأزهر يريد الخير لمحض الخير، ولهذا فليعمل العاملون. (المطلب الثاني) تعديل قانون التخصص بجعل مدة الدراسة فيه سنتين فقط , على أن تكون مدرستا القضاء الشرعي ودار العلوم فرعين من الأزهر، الأولى للتخصص في القضاء الشرعي، والثانية للتخصص في اللغة العربية، وباقي أقسام التخصص في الفنون الأخرى بالأزهر (مع إضافة قسم جديد للتخصص في العلوم الرياضية) على أن يكون الانتساب مقيدًا بالحصول على شهادة العالمية من الأزهر. يتناول هذا المطلب أمرين: أولهما يتعلق بقسم التخصص , وثانيهما بالنظام الذي يتبع بعد ضم مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي إلى الأزهر , أما فيما يرجع إلى التخصص فنطلب أن تخفض المدة الدراسية فيه إلى سنتين فحسب , إذ كان الغرض الذي أُنشئ من أجله هذا القسم هو التفوق في ناحية خاصة من العلوم التي تلقاها الطلبة , وهذا المبدأ وجيه لا اعتراض عليه , ولكن المدة المقدرة له من الطول بحيث لا تتفق مع المصلحة فهي إذا أضيفت إلى مدة الدراسة العامة (اثني عشر عامًا) كان المجموع ستة عشر يضاف إليها ما يمكن أن يعرض للطالب من الرسوب وهو أربعة أعوام , فيكون المجموع عشرين عامًا دراسية , وهي مدة لا نظير لها في معهد من معاهد التعليم فالشأن في مدد الدراسة أن يراعى فيها القصر الممكن؛ حتى توجد للمتعلمين فرصة من العمر صالحة للانتفاع بما حصلوا عليه من العلم. على أن مدة السنتين تعد كافية للاستزادة من علوم كررها الطالب مرارًا ونال الشهادات الدالة على تضلعه منها , وإذا غضضنا الطرف عن ذلك , ونظرنا إلى نظام الدراسة قام الدليل واضحًا على وجوب اختزال المدة , فإن طلبة التخصص بالأزهر لا يتلقون غير حصة واحدة في اليوم فلا مانع مطلقًا من مضاعفة الدراسة؛ عوضًا عن طول المدة التي يجب أن تستنفد في الصالح العام , وأما في تخصص القضاء الشرعي، فإن العلوم التي تدرس فيه من القلة والسهولة بحيث يستطاع دراستها بإتقان في عامين , مع مراعاة أن التخصص في الأقسام كلها إنما هو في العلم لا في الكتب كما هو في المتبع الآن. أما الأمر الثاني المتعلق بمهمة مدرستي دار العلوم والقضاء الشرعي بعد ضمهما إلى الأزهر، فينحصر طلبهما في أن تعاون هاتان المدرستان الأزهر على خدماته الجليلة، وتكونا قسمين من أقسام التخصص الذي أنشئ له في الأزهر سبعة أقسام في شتى العلوم , فتقصر دار العلوم على حاملي شهادة العالمية الأزهرية للتخصص في العلوم العربية , وتلقي ما يجب تلقيه للقيام بمهمة التعليم , ولا ريب أن قصرها على هذه المهمة بعد أن يكتمل نضوج الطلبة في الأزهر يعيد عصرًا مزدهرًا بالأدباء واللغويين , ويبث في البلاد روحًا جديدة في هذه الناحية الفقيرة ناحية الأدب واللغة , كما أنه ينشئ للبلاد نشأ يؤدي للتعليم أجلّ الخدمات. أما مدرسة القضاء فتُخصَّص لتلقي العلوم المؤهلة لتولي مناصب القضاء الشرعي التي لم تدرس بالأزهر , وهي وإن كانت الآن معدة لذلك فعلاً إلا أنها ليست تابعة للأزهر تبعية فعلية , ومدة الدراسة فيها تزيد عن حاجة العلوم التي تدرس بها الآن. ومما يجب التنبيه عليه أنه يلزم أن ينشأ في قسم التخصص بالأزهر فرع جديد للعلوم الرياضية بجانب ما فيه من العلوم الأخرى , فإن هذه العلوم لا مندوحة عن التوسع فيها في هذا العصر، كما أنها ضرورية لإتمام المهمة العظمى التي تطلب من جامعة الأزهر , ولإنشاء هذا الفرع ميزة أخرى هي استغناء الأزهر بخريجيه في القيام بتدريس هذه المواد بالأزهر , وتولي الأعمال الإدارية والحسابية على أتم وجه، وفيه أيضًا فتح مجال الأعمال أمام خريجه بالقدرة على تعاطي الشئون الحيوية النافعة. (المطلب الثالث) المساواة الفعلية بين حاملي شهادات الأزهر ونظرائهم من حاملي شهادات وزارة المعارف , فتتساوى الشهادة الأولية بالابتدائية والثانوية بالبكالوريا , والعالمية بالليسانس وشهادة التخصص بالدكتوراه وذلك فيما يختص بمميزاتها من المرتبات والترقيات واحتساب المعاشات مع حفظ الامتيازات الخاصة بهم مثل (كوبونات) السكك الحديدية. من المؤلم أن تجتمع على الأزهر عزلته عن الاشتراك بقسط وافر في الأعمال العامة، والغبن الفاحش في المرتبات والحقوق التي ينالها من أسعده الحظ من خريجيه , فعلى الرغم من أن الشهادات التي يحصل عليها الأزهريون معتبرة كنظيراتها من الشهادات التي تعطى لتلامذة المدارس، فإن البون شاسع جدًّا بين مرتبات هؤلاء وأولئك , ومثل هذا يقال عن نظم الترقيات والمعاشات , فالشهادة الابتدائية الأزهرية سُلب من حاملها حق التوظف مطلقًا , وعلى ذلك لا يمكن مقارنة حقوقها بالابتدائية في المدارس، والثانوية الأزهرية إذا سمح لحاملها بالتوظف في مثل الإمامة والخطابة مثلاً يفرض لها مرتب يتراوح بين جنيه وثلاثة جنيهات , ولا ريب أنه لا نسبة بين هذا المرتب الحقير وبين مرتب حامل (البكالوريا) إذ يتقاضى ثمانية جنيهات شهريًّا. وأما الشهادة العالمية التي هي شهادة عليا فإن نصيب حاملها إذا كان محدودًا والتحق بوظيفة تدريس في المعاهد الدينية أن يعطى له عشرة جنيهات , في حين أن مثيلاتها من الشهادات العليا تنيل صاحبها الحق في تقاضي خمسة عشر جنيهًا شهريًّا , وهذا الذي ذكرناه في مرتبات الأزهريين إنما هو بالنسبة إلى الوظائف التي تعد رئيسية , ومن ذلك يمكن إدراك المرتبات الضئيلة التي تفرض للوظائف الأخرى , ففي وزارة الأوقاف يعطى حامل العالمية في وظيفتي الإمامة والخطابة مرتبًا يتراوح بين أربعة جنيهات واثني عشر جنيهًا مصريًّا حسب التعديل الأخير , في حين أن فقهاء المكاتب يتقاضون من ستة جنيهات إلى ثمانية عشر. ومثل هذا الغبن في المرتبات واقع في الترقيات والمعاشات , فالترقيات في الأزهر تسير ببطء يبيد العزم ولا يشجع على العمل، وهي في غيره تبعث الأمل وتحيي الرجاء، أما المعاشات فلا نخطئ إذا قلنا: إنها في الأزهر تكاد ألا تكون شيئًا. ونحن لا ندري سبب هذه التفرقة البينة الغبن مع أن المجهودات التي يصرفها طالب المدرسة تقل كثيرًا عن مجهودات الأزهري , مع أنه يمتاز أيضًا بشرف الانتساب إلى الدين، فينبغي أن تحفظ كرامته وتصان حقوقه حتى للخدمة العامة وهو مطمئن على مستقبله , ولا سيما إذا ذكرنا أنه فوق صفته الدينية قادر على سد حاجات الأمة في كثير من الشئون العامة , التي تستلزم الدراية والكفايات المختلفة بما يتجمل به من شتى الفنون التي تدرس بالأزهر. أما (الكوبونات) التي تعطي العلماء حق السفر بأجور مخفضة فإن لها معنى ساميًا , عُرف أن العلماء خليقون به من زمن بعيد , فينبغي أن يبقى ما دامت لهم كرامة ومكانة خاصة. (المطلب الرابع) تنفيذ الحقوق التي كفلتها القوانين واللوائح لحملة الشهادات الأزهرية المعطل العمل بها الآن. إنما تلتمس الشهادات لنتائجها المترتبة عليها لا لذواتها , ومن المسلم به أن كل عمل لا فائدة له مبغض مكروه , وبودنا أن يكثر الإقبال على التعليم الديني حتى تعم تعاليمه الأفراد والجماعات , ولا يمكن ذلك إلا إذا كان للشهادات التي تعطى لطالبه قيمة مادية تغني عوزه وتسد حاجته , على أن الواقع يخالف ذلك في الأزهر ويسوءنا أن نقول: إن الأزهر له هذه الخاصة وحده دون معاهد العلم كلها , فقد سُطرت ميزات الشهادات في الأوراق ولا شيء غير ذلك! ففي القانون نمرة 10 نص على أن لحامل الشهادة العالمية الحق في وظائف القضاء الشرعي، والكتابة بالمحاكم الشرعية والأوقاف والمجالس الحسبية والتدريس بالأزهر والم

وهب بن منبه وكعب الأحبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وهب بن منبه وكعب الأحبار حضرة ملجأ الباحثين السيد محمد رشيد رضا المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فقد جرحتم الحبر بن وهب بن منبه وكعب الأحبار في تفسيركم بالمنار قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} (الشعراء: 32) بأنهما: (1) رويا أخبار غرائب بني إسرائيل , ومنها موت خمسة وعشرين ألفًا من قوم فرعون فزعًا من ثعبان العصى (كذا) . (2) وكانا يدسان في الدين بكذب الرواية. (3) ومن جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما. ولكون الحبرين من رجال كتب الحديث الصحيحة التي صار التعويل عليها في الدين الإسلامي بعد القرآن الكريم , وكان هذا التجريح غير منطبق على ما عُرف عنهما عند علماء الحديث , وقد صرحتم بأنه بحسب الغالب على ظنكم , وكان يترتب عليه الحط من اعتبار الحديث الشريف عند المطلعين عليه من قراء المجلة ممن لا يعرف عنهما سوى ما قلتم لوجود اسميهما في كتبه (كذا) , مع أن الأمة محتاجة للتمسك بالسنة؛ لأن سعادتها وإنقاذها مما هي فيه متوقفان على العمل بها والرجوع إليها كما كان سلفنا الصالح , فيعود إلينا ما كانوا فيه من عز ومجد. فحُبًّا في دفع ما يشين السنة المحمدية أحببت نشر ما دونه المتقدمون في توثيق الحبرين , مبتدِئًا بقاعدة من كتاب الجرح والتعديل للعلامة القاسمي حيث نقل بالصحيفة الخامسة عن المحدث السيوطي عبارة الأصولي صاحب كتاب الاقتراح أن من (الوجوه التي يعرف بها ثقة الراوي) تخريج أحد الشيخين له في الصحيح , وإن تُكُلم في بعض مَن خَرَّج له فلا يلتفت إليه , والحبران خرَّج لهما أحد الشيخين البخاري في صحيحه (كذا) وكذا باقي أصحاب الكتب الصحيحة مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي كما في خلاصة تهذيب الكمال للخزرجي (كذا) . وحينئذ لا يلتفت لتضعيف ابن الفلاس لسيدنا وهب خصوصًا وأنه لم يبين وجه التضعيف , والمتقرر في فن المصطلح أن التجريح لا يُقبل إلا مع البيان , وأن جرْح الواحد غير متفق عليه (كذا) . ومما يدل على ورع سيدنا وهب ما نقله البخاري في أول كتاب الجنائز ونصه: (وقيل لوهب بن منبه: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) يريد أن يلتزم السائل العمل بالأحكام الشرعية ولا يرتكن على مجرد النطق بالشهادتين , ومثله قوله: (مثل الداعي بلا عمل مثل الرامي بلا وتر) كما نقله صاحب الفتح في هذا المكان [1] . وصُنع البخاري في باب مطل الغنى ظلم من كتاب الاستقراض يدل على عظم سيدنا وهب أيضًا , حيث قال في سند الحديث هكذا: (عن همام بن منبه أخي وهب) وما كان همام مجهولاً فنسبه إلى وهب لتعريفه بل هو معروف , وأخذ عنه أصحاب الكتب الستة الصحيحة , وما كان البخاري لينسب رواية همام وهو بمنزلة شاهده إلى فاسق أو متهم بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإنما هي نسبة تشريف أراد بها التأكيد في تزكية راويه. ومن الحكم المأثورة عن سيدنا وهب قوله: العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والصبر أمير جنوده والرفق أبوه واللين أخوه: فجعل للمؤمن دولة من نفسه , نقل ذلك الحافظ الذهبي في ترجمته له في كتاب ميزان الاعتداد في نقد الرجال. وكعب الأحبار فضلاً عن أخذ المحدثين عنه لم يطعن عليه أحد منهم , والمذاكرة التي دارت بينه وبين أبي هريرة حال رحلته بالشام (في الساعة التي في يوم الجمعة) من الحجج الدينية الإسلامية التي يشير إليها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 197) كما هو موضح بموطأ الإمام مالك , ويكفيه توثيقًا أخذ أبي هريرة عنه وابن عباس ومعاوية وجماعة من التابعين , نص على ذلك صاحب الخلاصة المذكورة عند ترجمته باسم (كعب بن مانع الحميري أبو إسحاق الحبر وقال بالهامش: وهو المعروف بكعب الأحبار إلخ) . أما عن نفي أوجه الجرح الثلاثة السالفة: (فالأول) غير جارح أصلاً؛ لأن أخبار بني إسرائيل ليست مما تعبدنا الله بها , ولم نلزم بالتحري في نقلها إلزامنا بنقل الأحاديث الإسلامية لما رواه الإمام الشافعي في رسالته الأصولية الشهيرة في أواخر (باب تثبيت خبر الحجة) بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني ولا تكذبوا علي) ورواه صاحب كتاب رموز الأحاديث في حرف الحاء بلفظ (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج فإنكم لا تحدثون عنهم شيئًا إلا وقد كان فيهم أعجب منه) عن الشافعي وابن منيع وصححه السخاوي فأي وزر على من بلغه هذا الحديث فحدث بأخبار بني إسرائيل على علاتها كما سمعها , ما دام أنه لم يرد في ديننا ما يمنع من ذلك , ولم تصادم أصلاً من أصوله وإلا كانت منسوخة هذا وبمراجعة تفسير ابن جرير عند هذه الآية وجد أن في سند الخبر بموت الخمسة وعشرين ألفًا من هو مجهول , فيحتمل أن هذا المجهول هو الواضع لهذا الخبر والأصوب حمله على الحديث السالف , إذ لا ضرر علينا من ذلك دينًا , ولم نُكلَّف بتمحيص أخبار بني إسرائيل والبحث في أسانيدها وتبعتها عليهم. (الثاني) لم نعلم أحدًا قبل الآن نسبهما للكذب والدس في الأحاديث الإسلامية وكل ما نسب إليهما من بعض المتأخرين هو الإكثار من أخبار غرائب بني إسرائيل , وقد علمت ما فيه ولم يصرح الإمام أحمد بأن سيدنا وهبًا كان يختلف إلى قومه بعد إسلامهم؛ ليكذب أو يدس , والأقرب حمله على التودد والإرشاد , وقد ترجم للحبرين ابن جرير الطبري في تاريخه بالجزء الثالث عشر في ضمن الناقلين للأخبار من التابعين , وهو بصفته مؤرخ يحكي كل ما قيل فلم تصدر منه كلمة تشم منها هذه الرائحة , بل بعكس ذلك أفاد ما يدل على جلالتهما , وحكى لسيدنا كعب حادثة تدل على شدة ذكائه وتدينه فانظره. (الثالث) أن نسبتهما إلى جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين غير معقول من الوجهة التاريخية , فإن الخليفة الثاني قتل سنة 23 هـ , وسيدنا وهب قتل ظلمًا أيضًا سنة 110هـ أو سنة 114هـ فيكون بينهما تسعون عامًا (كذا) تقريبًا , فلا يبعد أن يكون لم يولد وقت قتله , وسيدنا كعب كان مقيمًا بالشام بعيدًا عن الفرس , وجمعية السبئيين لم تؤلف بعد؛ لأن عبد الله بن سبأ رئيسها لم يظهر إلا في خلافة سيدنا عثمان , وأكثر المؤرخين على أن قتل الخليفة الثاني فردي (كذا) وأن الذي قتله هو أبو لؤلؤة غلام سيدنا المغيرة بن شعبة الذي بعثه وهو عامل على الكوفة ليقوم بالصنائع التي تنفع المسلمين , وكان ضاربًا عليه مائة درهم في الشهر فتظلم منها إلى الخليفة , فلم يرها كثيرة فحنق عليه وقتله بعد أيام , وحينئذ لم يكن مرسلاً من جمعية سرية. والخليفة الثالث قتل سنة 35 هـ , فبينه وبين سيدنا وهب نحو الثمانين عامًا فإن كان وُجد فالأقرب أنه كان حينئذ في سن الطفولة , وإقامته كانت بصنعاء بعيدًا عن مراكز الجمعيات التي حكي عنها تدبير قتل الخليفة , أما سيدنا كعب فقد تُوفي سنة 32هـ أي قبل قتل الخليفة بثلاثة أعوام كما ذكره صاحب الخلاصة المذكورة , على أن الحالة تشهد ببُعدهما عن مثل هذه الأحوال لأنه لو نسب إليهما ذلك لشاع واشتهر , فلم يأخذ عنهما أحد من المحدثين وخصوصًا البخاري الذي كان يمتنع عن الأخذ عن الراوي لأدنى شبهة قيلت فيه , وأيضًا لحكى عنهما ذلك أحد المترجمين لهم المذكورين , ومع أن الحافظ الذهبي التزم في كتابه (تذكرة الحفاظ) أن يذكر فيه المحدثين الموثقين فقط , وقد ذكرهما (كذا) بترجمتين مستفيضتين عن علمهما وورعهما وكفى بذلك توثيقًا , هذا ما اطلعت عليه الآن مما دوَّنه المتقدمون عن هذين الحَبرين الجليلين , أرجو نشره بالمجلة مشفوعًا برأيكم واقبلوا فائق الاحترام. ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجوني (جواب المنار) يظهر أن المنتقد قرأ عبارتنا في التفسير فانتقد ما علق بذهنه منها من غير مراجعة لعبارتها , ولو رجع إليها في أي وقت لرأى جلّ ما كتبه غير وارد عليها، وما أطال به من الثناء على وهب في غير محله إذ ليس من موضوع الكلام، وكذا ما ذكره من نفي اشتراكه في الجمعيات السرية الفارسية وفي قتل الخليفة الثاني، وما ذكره من براءة كعب الأحبار من مثل ذلك فأنا لم أر مهمًّا بهذا، وإنما قلت فيهما: إنهما كانا (كثيرا الرواية للغرائب التي لا يعرف لها أصل معقول ولا منقول , وأن قومهما كانوا يكيدون للأمة الإسلامية العربية , فقاتِلُ الخليفة الثاني فارسي مُرسَل من جمعية سرية لقومه، وقتلة الخليفة الثالث كانوا مفتونين بدسائس عبد الله بن سبأ اليهودي , وإلى جمعية السبئيين وجمعيات الفرس ترجع جميع الفتن السياسية وأكاذيب الرواية في الصدر الأول) اهـ بحروفه وسنوضحه بعد. وذكرت قبله (أنني أرجح تضعيف عمرو بن الفلاس لوهب على توثيق الجمهور له , بل أنا أسوأ ظنًّا فيه على ما روي من كثرة عبادته , ويغلب على ظني أنه كان له ضلع مع قومه الفرس) إلخ , ولم أقل: إنه اشترك في مقتل عمر فيرد علي بتاريخه أو بغير ذلك، والذي يعنينا من هذا النقد ما هو المقصود منه بالذات وهو رواية لرجلين وما زعمه المنتقد من توثيق الشيخين لهما ولا سيما البخاري , وكون كل من رويا عنه أو روى عنه الأول ثقة لا يقبل فيه جرح , ولا يصح أن تكون روايته محل بحث، وفي كلام المنتقد أغلاط لغوية وفنية وتاريخية لا حاجة إلى إضاعة الوقت في بيانها , فأكتفي في الرد على ما ذكرت أنه المقصود بالذات فأقول: أما كعب الأحبار فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئًا ولكن ذكره فيه بما يُعد جرحًا له لا تعديلاً، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطًا من قريش بالمدينة , وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب , وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (تأمل) . قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في البخاري , وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له رقم البخاري فيوهم أنه أخرج له إلخ: يعني أن ذكر صاحب التهذيب رقم البخاري وهو حرف (خ) عند اسم كعب غلط , وقد صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره، والمنتقد يبدئ ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه له , وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من أصدق المحدثين عن أهل الكتاب , وأنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب- طعن صريح في عدالته وفي عدالة جمهور رواة الإسرائيليات إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم , ومن كان متقنًا للكذب في ذلك يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر , إذ لم تكن كتب أهل الكتاب منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا , فإن توراة اليهود بين الأيدي , ونحن نرى فيما رواه كعب ووهب عنها ما لا وجود له فيها البتة على كثرته، وهي هي التوراة التي كانت عندهم في عصرهما، فإن ما وقع من التحريف والنقصان منها قد كان قبل الإسلام، وأما بعده فجل ما وقع من التحريف هو المعنوي بحمل اللفظ على غير ما وضع له واختلاف الترجمة، ولا يعقل أن تكون هذه القصص الطويلة التي نراها في التفسير والتاريخ مروية عن التوراة قد حذفت منها بعد موت كعب ووهب وغيرهما من رواتها، فهي من الأكاذيب التي لم يكن يتيسر للصحابة والتابعين ولرجال الجرح والتعديل الأولين العثور عليها، و

المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مجلات وجرائد جديدة (الإخاء) (مجلة علمية تاريخية أدبية روائية مصوَّرة , تصدر في أول كل شهر أفرنكي لصاحبها سليم قبعين) قيمة الاشتراك فيها 80 بمصر والسودان ومئة قرش في سائر الأقطار - وسليم أفندي كاتب متفنن مشهور , وقد انفرد دون الكُتاب في مصر بمعرفة اللغة الروسية , فله منها مادة لا يشاركه فيها غيره , وقد أتمت مجلته السنة الأولى وهي أشق المراحل , فصار الرجاء باستمرارها ونجاحها وطيدًا وهو ما نتمناه له ولها. *** (المجلة الشهرية) مجلة جديدة يصدرها بالقاهرة إسكندر أفندي مكاريوس , ويتولى رئاسة تحريرها نجيب أفندي شاهين , وقد قال في مقدمتها: (هذه المجلة مرادة للعامة أولاً وللخاصة ثانيًا , وغايتها مزدوجة وهي إيجابية مع الأولين وسلبية مع الآخرين، ويكفينا من هؤلاء أن يرمقوها بنظرة عدم الإنكار، لأن الخاصة في كل بلد متعنتون وإرضاء المتعنت صعب كما جاء في المثل، وتعنُّتُهم هذا ناشئ عن رسوخهم في العلم وعلو كعبهم في الفن , ونحن إنما نلم بهما إلمامًا هنا) ونقول: هذه خطة المجلة وهي عن اختيار لا عجز , فإن نجيبًا كاتب بارع تولى التحرير في المقتطف عدة سنين , وكان قبل إصدار هذه الجريدة أحد محرري جريدة السياسة وقيمة الاشتراك في هذه المجلة خمسون قرشًا في مصر والسودان و17 شلنًا في الخارج. *** (صحيفة الإعلانات) صحيفة أسبوعية جديدة (تنشر الإعلانات مبوبة , وتبحث في المسائل الاقتصادية والتجارية والاجتماعية) , تصدر في كل يوم أحد في 16 صفحة كبيرة منها أربعة باللغة الفرنسية وباقيها باللغة العربية , صاحب امتيازها أحمد شفيق باشا العالم الإداري الشهير , ورئيس تحريرها الشيخ بولس مسعد من الكُتاب البارعين، وقيمة الاشتراك السنوي فيها 25 قرشًا في مصر و40 قرشًا في الخارج، والمنتظر منها أن تخدم النهضة الاقتصادية والصناعية والتجارية خدمة جليلة لم تُسبق إليها. *** (أم القرى) جريدة عربية إسلامية أسبوعية تصدر في مكة المكرمة مكان جريدة (القبلة) التي كان يصدرها الملك حسين، مديرها يوسف أفندي ياسين من أفضل شبان النابتة العربية السورية , وسنخصها بمقال مطول في جزء آخر إن شاء الله تعالى.

سبب اتباع المسلم للإسلام ونفوره من دعوة النصرانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سبب اتباع المسلم للإسلام ونفوره من دعوة النصرانية (س19 و20) من القس الدانمركي ألفرد نيلسن في دمشق ما هو الذي يجعلك تتبع دين الإسلام كدين الحق، وإذا تعرفت بالتبشير المسيحي وبالكتب المسيحية فما هو الذي يبعدك ويُنفِّرك عن دعوتها؟ (ج) ثبت عندي أن محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان رجلاً أميًّا لم يتعلم القراءة ولا الكتابة، ولا عاشر أحدًا من علماء الأديان ولا التاريخ والقوانين والفلسفة والآداب، ولا غير ذلك، وأنه لم يكن شاعرًا ولا خطيبًا، ولا محبًّا لما كان معهودًا بين كبراء قومه وأذكيائهم من الرياسة والمفاخرة والشهرة بالفصاحة والبلاغة، وإنما كان ممتازًا بين أقرانه في قومه بسلامة الفطرة وحب العزلة والصدق والأمانة والعفة والمروءة وغير ذلك من مكارم الأخلاق، حتى لقبوه بالأمين , قضى على ذلك سن الصبا والشباب الذي تظهر فيه جميع رغبات البشر ومزاياهم , ثم إنه بعد إكمال الأربعين والدخول في سن الكهولة ادعى النبوة , وأن الله بعثه رسولاً إلى الناس كافة كما أرسل من قبله من الرسل إلى أقوامهم بمثل ما أرسله به من الدعوة إلى توحيده تعالى وعبادته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحق والعدل بالمساواة بين الناس , وغير ذلك من أصول العقائد المعقولة , والآداب العالية , والأحكام والشرائع العادلة، التي أكمل الله تعالى بها الدين، وجعله بها خاتم النبيين , بما يعد إصلاحًا يفوق جميع ما كان عليه البشر من أتباع الأنبياء وغيرهم , وجاء بكتاب في ذلك قال: إن الله تعالى أنزله عليه , وأنه وحي من لدنه سبحانه يعجز جميع البشر عن الإتيان بمثله في علومه ومعارفه وإصلاحه وتأثيره في إبطال الشرك والخرافات والأباطيل الفاشية في البشر وإصلاح الفطر والقلوب والأعمال لمن اهتدى به. كما أنه معجز في أسلوبه وبلاغته وتحدَّى الناس بذلك فعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله وجاء فيه من أخبار الغيب الماضية والمستقبلة ما ثبت ثبوتًا قطعيًّا، ومنه أن الله تعالى سينصره ويخذل أعداءه , ويستخلف قومه وأمته في الأرض , ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم , وقد وقع جميع ما أخبر به، وما وضح به صلى الله عليه وسلم أخباره كفتح بلاد كسرى وقيصر , ومنها مصر التي وصى بأهلها خيرًا، وأيده الله تعالى بآيات أخرى. ومن أهم ما أخبر به القرآن مما لم يكن يعلمه أحد من قوم الرسول صلى الله عليه وسلم ولا في بلاده أن اليهود والنصارى {أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ} (آل عمران: 23) , وأنهم نسوا حظًّا مما ذكروا به، وأنهم حرفوا وغيروا وبدلوا، ودخل عليهم الشرك , ومن العجيب أن المسلمين لم يعلموا مصداق ذلك بالتفصيل إلا بعد اطلاعهم على مجموعة كتب الفريقين وتاريخها , ثم ما كتبه أحرار علماء أوربة من الطعن فيها، فمن أين عرف ذلك رجل أُميّ نشأ بين قوم أميين لولا وحي الله تعالى له بذلك؟ فهذه نبذة مجملة في بيان سبب استمساكي بعروة الإسلام , واعتقادي أنه الدين الحق بالاختصار الذي اقترحه القس السائل. وأما سبب نفوري من دعوة المبشرين دعاة النصرانية فهي اعتقادي بطلان دعوتهم في نفسها , فإن أساسها أن آدم عصى ربه فاستحق هو وذريته العذاب الأبدي بعدل الله، وأن عذابهم ينافي رحمة الله , فلم يجد سبحانه وسيلة للجمع بين رحمته وعدله إلا أن يحل في ناسوت أحد بني آدم , ويتحمل العذاب والألم واللعنة؛ لتخليصهم من العذاب , فحل في ناسوت المسيح لأجل ذلك , ومع هذا لم يتم له ما أراد فإنه اشترط لخلاصهم أن يؤمنوا بذلك , ولكن أكثرهم لم يؤمنوا به , ورأيت جل تأثير هذه الدعوة في الذين يجهلون حقيقة الإسلام تشكيكهم في أصل الدين، وجعْلهم من الإباحيين، وإيقاع الشقاق بينهم وبين غيرهم , ومن أهم تلك الأسباب التي جعلتني أحتقر أكثرهم ما ثبت عندي من كونهم يتَّجرون بالدين اتجارًا فيكذبون ويحرِّفون، ومنهم الملحدون الذين لا إيمان لهم، والمقلدون المتعصبون الذين يبغضون المسلمين بما تربوا عليه مما لا يجهله القس السائل، ولا أنكر مع هذا أنه يوجد فيهم المتدين المخلص في دينه، ولكن هذا بحسب اختباري قليل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الإسلام وأصول الحكم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام وأصول الحكم بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام بل دعوة جديدة إلى نسف بنائها، وتضليل أبنائها (تمهيد) ما زال أعداء الإسلام الطامعون في ثل عرشه والقضاء على ملكه وإبطال تشريعه، واستعباد الشعوب التي تدين الله به، يجاهدونه بالسيف والنار، وبالكيد والدهاء، وبالآراء والأفكار، وبإفساد العقائد والأخلاق، وبالطعن في جميع مقومات هذه الأمة ومشخصاتها، وتقطيع جميع الروابط التي ترتبط بها شعوبها وأفرادها، ليسهل جعلها طعمة للطامعين، وفريسة لوحوش المستعمرين، وقد كانت هذه الحرب السياسية العلمية للإسلام والمسلمين أضر وأنكى من الحروب الصليبية باسم الدين , فالحرب الصليبية كانت تجمع كلمة المسلمين للدفاع عن حقيقتهم والمدافعة عن سلطتهم، وهذه الحرب المعنوية فرقت كلمتهم وشقت عصاهم، ومزقت شمل شعوبهم، وأذاقت بعضهم بأس بعض، فصاروا عونًا لأعدائهم على أنفسهم , يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي خصومهم {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) . قد كان آخر فوز لهذه الحرب على المسلمين محو اسم السلطنة العثمانية الإسلامية من لوح الوجود، وإلغاء الترك لمنصب الخلافة من دولتهم الصغيرة، التي أمكنهم استبقاؤها من تلك السلطنة العظيمة , وتأليفهم حكومة جمهورية غير مقيدة بالشرع الإسلامي في أصول أحكامه ولا فروعها , وتصريحهم بالفصل التام بين الدولة والدين؛ فذعر العالم الإسلامي وزلزل بعملهم هذا زلزالاً شديدًا، وطرب له الإفرنج ومروجو سياستهم من نصارى الشرق وملاحدة المتفرنجين المارقين من الإسلام، ورفع هؤلاء عقائرهم في مصر، هاتفين لعمل الترك، وكذلك فعل أمثالهم في سائر البلاد، إلا أن هؤلاء نشطوا لجعل الحكومة المصرية حكومة لا دينية كحكومة أنقرة فهزئ العالم الإسلامي بدعوتهم وسخر منهم , وراجت في مقابلتها الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي عام؛ لإحياء منصب الخلافة بقدر ما تستطيعه قوى الإسلام في هذا الزمان. بينا نحن معشر المسلمين على هذا إذا نحن بنبأة جديدة في شكلها، تؤيد تلك النزعة الإفرنجية النصرانية في موضوعها، وتلك الفعلة الإلحادية في مشروعها. بينا نحن كذلك إذا نحن ببدعة حديثة , لم يقل بمثلها أحد انتمى إلى الإسلام صادقًا ولا كاذبًا، بدعة شيطانية لم تخطر في بال سني ولا شيعي ولا خارجي ولا جهمي ولا معتزلي، بل لم تخطر على بال أولئك الزنادقة الذين زعموا أن للإسلام باطنًا غير ظاهره، فظاهره للعوام الجاهلين، وباطنه للخواص العارفين، وأرادوا هدم سلطان الإسلام بالإسلام؛ لإعادة سلطان المجوسية الكسروية التي قضى عليها المسلمون القضاء الأبدي، وإنما سبق الناعق بها اليوم ناعق آخر من متفرنجة هذه البلاد ومن رجال القانون والقضاء الأهلي , قيل: إنه انضوى إلى دين البابية البهائية آخر فرق الباطنية , نعق بها هذا الرجل في مجمع عقده لها في الإسكندرية منذ بضع سنين بخطاب (محاضرة) ألقاه على كثير من رجال القانون , ثم طبعه ووزعه بالمجان فرددنا عليه ردًّا أعجزه فلم يستطع أن يدافع عن نفسه ولا دافع عنه أحد من أعداء الإسلام , لا من البهائية ولا من رجال قوانينهم الوضعية الذين يريدون أن ينسخوا بها الشريعة الإسلامية. وأما الناعق بهذه البدعة اليوم فمن العلماء المتخرجين في الأزهر ومن قضاة المحاكم الشرعية {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: 5) , ومن بيت كريم في هذه البلاد عُرف أهله بالآداب العالية والأخلاق وبالدين أيضًا , خلاصة هذه البدعة: أنه ليس للإسلام خلافة ولا إمامة ولا حكومة ولا تشريع سياسي ولا قضائي , وأنه دين روحاني محض كدين النصارى بالمعنى الذي فهمته شيعة البروتستانت منهم دون من قبلهم , وأن ما ادعاه المسلمون من عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى يومنا هذا من أمر الإمامة والخلافة باطل من القول وضلال من العمل، وفساد في الأرض، لما جعلوه للخليفة من السلطان الديني الإلهي، وإنما أضل جماعة المسلمين في ذلك الملوك؛ لتوطيد سلطانهم فيهم، وأن أبا بكر كان ملكًا للعرب أراد أن يحقق وحدتهم. ويجعل السلطان لقريش وحدهم فيهم، وليس له ولا لمؤيديه حجة من الدين، ولم يكن جميع الخارجين عليه والمانعين أداء الزكاة له مرتدين عن الإسلام، وأن قتالهم لم يكن دينيًّا بل سياسيًّا للدفاع عن دولة العرب ووحدتهم، والدين نفسه لم يوجب أن تكون للعرب ولا لغيرهم من المسلمين دولة ولا وحدة , بل لكل فريق من المسلمين عربهم وعجمهم أن يقيموا لأنفسهم حكومة يرضونها، ودين الإسلام لم يقيدهم في ذلك بقيد ما , بل هو بريء من كل ما عزوه إليه من ذلك. هذه خلاصة البدعة الجديدة التي قام ببثها اليوم في العالم الإسلامي الشيخ علي عبد الرازق (من علماء الجامع الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية) المصرية بكتاب ألفه فيها جاوزت صفحاته المائة، وهو يوزعه في الأقطار الإسلامية - على ما بلغنا - بغير ثمن، وما كان لدعاة الأديان والمذاهب والأحزاب السياسية والاجتماعية أن يستغلوا دعايتهم ويتجروا بالمال فيها فحسب الديني منهم ثواب الله في الآخرة، والدنيوي عظمة الدنيا وجاهها والانتظام في سلك مؤسسي الانقلابات الكبرى فيها. ولا ينبغي لنا أن نكتفي في بيان ملخص هذه البدعة بما فهمناه من الكتاب من غير نقل عبارته في النتيجة المرادة منه، وإن كان هذا الملخص مقدمة وتمهيدًا لرد طويل مفصل نبطل به نصوصه المختلبة، ومقاصده المختبلة، قال في الصفحة الأخيرة منه (ص103) ما نصه: (والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون وبريء من كل ما هيَّأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عزة وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية. كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنما تلك كلها خطط سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها ولا أمر بها، ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة) ، ثم قال إيضاحًا لهذا: (لا شيء في الدين يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها , وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه [1] وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم) . أقول: القضية الأولى من هذا الإيضاح حق أريد به باطل وهو ما بعده، فنظام الخلافة الإسلامية أفضل نظام عرفه البشر , وكان المسلمون أعز الأمم عندما أقاموه , وما ذلوا واستكانوا لغير ربهم إلا عندما تركوه، وما كان لأمة عاقلة مستقلة أن تبني قواعد ملكها ونظام حكومتها على أحدث تجارب غيرها من الأمم فتكون كقدح الراكب لا تستقر على حال من القلق والاضطراب، ومن ذا الذي يحكم لها بالخيرية بين الجمهورية والملكية، وبين الاشتراكية والبلشفية والرأسمالية مثلاً؟ وإذ كان يقول: هذا حكم الإسلام في المسألة عنده فماذا يقول فيما في القرآن والسنة من الأحكام السياسية: كالمعاهدات والمعاهدين وأحكام الحرب , والأحكام القضائية الشخصية كالمواريث والزواج والطلاق والعدة , والأحكام المدنية كتحريم الربا وأكل أموال الناس بالباطل، وأحكام العقوبات من حدود وتعزيزات؛ هل ينكرها من أصلها كما أنكر أحاديث الخلافة والإجماع على نصب الخليفة؟ أم يقول: إن طاعة الله ورسوله لا تجب فيها، وإنها مستثناة من حكم قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ويستدِلُّ على ذلك ببعض الشعر الذي يحفظه من الأغاني والعقد الفريد ودواوين الشعراء كما فعل فيما سنذكره من دلائله في بحث الخلافة. أم يقول فيها كما قال سلفه والسابق له إلى اقتراح هدم حكومة الإسلام من أساسها , ونسف أصولها الأربعة الكتاب والسنة والإجماع والقياس أحمد صفوت أفندي الذي أشرنا إلى بدعته آنفًا , تلك البدعة التي كانت سببًا فيما نرى لندب الإنكليز إياه لإصلاح القضاء في فلسطين! ! وملخصها: أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان حاكمًا للمسلمين , وكانت طاعته واجبة كما تجب طاعة كل حاكم في زمن حكمه، وأن أحكامه لا يجب أن تتبع من بعده، وأن لكل حاكم في كل زمن مثلما كان له من ذلك وله بمقتضاه أن يلغي كل حكم كان قبله، لا فرق بين الرسول وغيره، وكذلك إجماع المتقدمين وأقيستهم لا يجب أن يؤخذ بها من بعدهم فإجماعنا في هذا العصر خير لنا من إجماعهم، وأقيستنا خير لنا من أقيستهم. وأما أحكام القرآن فقد صرح بأنها هي التي فرضها الله على المسلمين في كل زمان دون غيرها , ثم جعل ما عدا المبادئ العامة منها (أي كالأمر بالعدل) ثلاثة أقسام: ما حرمه الله وما أوجبه وما جوزه - فحكم الأول عنده - وقد مثل له بتحريم الأمهات والبنات - أن لا يتعرض له ولا يحكم بشيء يخالفه في مرماه! ! وحكم الثاني عنده - وقد مثل له بالعدة والإشهاد على عقد الزواج - أن يبقى منه ما تتحقق به الحكمة المقصودة منه , فيستغنى بها عن التزام الحكم نفسه......... [2] حكومة أن تحرم بالقوانين الوضعية ما تشاء منه , ثم قال ما نصه: (وبذلك ينقض وجوب التقيد بالمعاني الحرفية للألفاظ الواردة في القرآن) . فخلاصة رأيه أن كل ما ثبت بالسنة أو الإجماع أو القياس من الأحكام الشرعية لا يجب على أحد من المسلمين العمل به، وأن أحكام القرآن نفسها لا يجب العمل بنصوصها ومدلول ألفاظها، وإنما يبحث المسلمون ما داموا يدَّعون الإسلام عن مرمى المحرمات منها فيراعونه، وعن حكمة الواجبات فيراعونها , وأما الجائزات فلهم أن يحرموا منها ما أحله الله أو يوجبوه بحسب ما يتراءى لحكوماتهم في كل زمان. ولكن ظاهر عبارة عالم الأزهر وقاضي الشرع الذي جاء خلفًا لهذا السلف القانوني في هدم التشريع الإسلامي أن أحكام القرآن كغيرها لا توجب على المسلمين التقيد في حكومتهم بها , ولا تمنعهم أن يأخذوا بأحدث تجارب الأمم فيها حتى إذا فرضنا أن أحدثها وهي البلشفية نجحت فلا حرج عليهم في الأخذ بها. أول ما يقال في وصف هذا الكتاب لا في الرد عليه: إنه هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه، وتفريق لجماعته، وإباحة مطلقة لعصيان الله ورسوله في جميع الأحكام الشرعية الدنيوية، من شخصية وسياسية ومدنية وجنائية , وتجهيل للمسلمين كافة من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين والمحدثين والمتكلمين، وبالجملة هو اتباع لغير سبيل المؤمنين , فالإسلام بريء منه بحسب ما فهمه المسلمون من العصر الأول إلى عصرنا هذا , وإننا سنرد على جميع أبوابه وفصوله ردًّا مفصلاً جريًا على خطتنا في الدفاع عن ديننا وملتنا، ولكننا لا نقول في شخص صاحبه شيئًا فحسابه على الله تعالى , وإنما نقول: إنه لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت عنه كما سكتت عن أحمد صفوت وأمثاله، فإن هذا المؤلف الجديد رجل منهم , فيجب عليهم أن يعلنوا حكم الإسلام في كتابه لئلا يقول هو وأنصاره: إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه، فإن كان ردنا عليه ودحضنا لشبهاته يرفع عنهم إثم الإنكار عليه وتحذير الناس من ضلالته - لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات - فإن للأئمة التي توجه إليهم بالسكوت عن مثل هذا لا ترتفع بردنا وحدنا، بل يحط من أقدارهم في نظر الأمة كلها، وحاشاهم الله من ذلك. ((يتبع بمقال

مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية ـ 1

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية (وهي من أعظم ما تصدى له , وقام به شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية - قدس الله روحه - من إقامة فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحياء السنة، ومحاربة البدعة، بعد أن أهمل ذلك الحكام , فالعلماء , ففشت البدع وصار كثير منها يُعد من شعائر الدين، أو خصائص الصالحين، فكان رحمه الله من أعظم المجددين) قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب السموات والأرضين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم تسليمًا دائمًا إلى يوم الدين. (أما بعد) فقد كتبت ما حضرني ذِكْره في المشهد الكبير بقصر الإمارة والميدان بحضرة الخلق من الأمراء والكُتاب والعلماء والفقراء العامة وغيرهم , في أمر البطائحية يوم السبت تاسع جمادى الأولى سنة خمس؛ لتشوُّف الهمم إلى معرفة ذلك , وحرص الناس على الاطلاع عليه، فإن من كان غائبًا عن ذلك قد يسمع بعض أطراف الواقعة , ومن شهدها فقد رأى وسمع ما رأى وسمع، ومن الحاضرين من سمع ورأى ما لم يسمع غيره ويَرَه لانتشار هذه الواقعة العظيمة، ولما حصل بها من عز الدين وظهور كلمته العليا وقهر الناس على متابعة الكتاب والسنة، وظهور زيف من خرج عن ذلك من أهل البدع المضلة، والأحوال الفاسدة والتلبيس على المسلمين. وقد كتبت في غير هذا الموضع صفة حال هؤلاء البطائحية وطريقهم وطريق الشيخ أحمد بن الرفاعي , وحاله وما وافقوا منه المسلمين وما خالفوهم؛ ليتبين ما دخلوا فيه من دين الإسلام وما خرجوا فيه عن دين الإسلام، فإن ذلك يطول وصفه في هذا الموضع، وإنما كتبت هنا ما حضرني ذكره من حكاية هذه الواقعة المشهورة في مناظرتهم ومقابلتهم، وذلك أني كنت أعلم من حالهم بما قد ذكرته في غير هذا الموضع , وهو أنهم وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام وطريقة الفقر والسلوك، ويوجد في بعضهم التعبد والتألُّه والوجد والمحبة والزهد والفقر والتواضع ولين الجانب والملاطفة في المخاطبة والمعاشرة والكشف والتصرف ونحو ذلك ما يوجد , فيوجد أيضًا في بعضهم من الشرك وغيره من أنواع الكفر، ومن الغلو والبدع في الإسلام والإعراض عن كثير مما جاء به الرسول والاستخفاف بشريعة الإسلام والكذب والتلبيس، وإظهار المخارق [1] الباطلة , وأكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله ما يوجد. وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة , بيَّنت فيها لمن خاطبته منهم ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق مثل ملابسة النار والحيات , وإظهار الدم واللاذن والزعفران وماء الورد والعسل والسكر وغير ذلك، وأن عامة ذلك عن حيل معروفة وأسباب مصنوعة، وأراد غير مرة منهم قوم إظهار ذلك , فلما رأوا معارضتي لهم رجعوا ودخلوا على أن أسترهم , فأجبتهم إلى ذلك بشرط التوبة، حتى قال لي شيخ منهم في مجلس عام فيه جماعة كثيرة ببعض البساتين لما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة , ومن احترق كان مغلوبًا، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك. وحكى ذلك الشيخ أنه كان مرة عند بعض أمراء التَّتَر بالمشرق , وكان له صنم يعبده قال: فقال لي: هذا الصنم يأكل من هذا الطعام كل يوم , ويبقى أثر الأكل في الطعام بيِّنًا يُرَى فيه، فأنكرت ذلك، فقال لي: إن كان يأكل أنت تموت؟ فقلت: نعم، قال: فأقمت عنده إلى نصف النهار ولم يظهر في الطعام أثر، فاستعظم ذلك التتري ذلك , وأقسم بأيمان مغلظة أنه كل يوم يرى فيه أثر الأكل لكن اليوم بحضورك لم يظهر ذلك , فقلت لهذا الشيخ: أنا أبين لك سبب ذلك , ذلك التتري كافر مشرك , ولصنمه شيطان يغويه بما يظهره من الأثر في الطعام , وأنت كان معك من نور الإسلام وتأييد الله تعالى ما أوجب انصراف الشيطان عن أن يفعل ذلك بحضورك [2] , وأنت وأمثالك بالنسبة إلى أهل الإسلام الخالص كالتتري بالنسبة إلى أمثالك، فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بيض، وأنتم بُلْق فيكم سواد وبياض , فأعجب هذا المثل من كان حاضرًا. وقلت لهم في مجلس آخر لمَّا قالوا: تريد أن نظهر هذه الإشارات؟ قلت: إن عملتموها بحضور من ليس من أهل الشأن من الأعراب والفلاحين أو الأتراك أو العامة أو جمهور المتفقهة والمتفقرة والمتصوفة , لم يُحسب لكم ذلك , فمن معه ذهب فليأت به إلى سوق الصرف إلى عند الجهابذة الذين يعرفون الذهب الخالص من المغشوش من الصُّفر، لا يذهب إلى عند أهل الجهل بذلك , فقالوا لي: لا نعمل هذا إلا أن تكون همتك معنا [3] , فقلت: همتي ليست معكم بل أنا معارض لكم مانع لكم؛ لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا , فانقلبوا صاغرين. فلما كان قبل هذه الواقعة بمدة كان يدخل منهم جماعة مع شيخ لهم من شيوخ البر مُطوَّقين بأغلال الحديد في أعناقهم [4] , وهو وأتباعه معروفون بأمور , وكان يحضر عندي مرات فأخاطبه بالتي هي أحسن , فلما ذكر الناس ما يظهرونه من الشعار المبتدع الذي يتميزون به عن المسلمين، ويتخذونه عبادة ودينًا , يوهمون به الناس أن هذا لله سر من أسرارهم، وأنه سِيماء أهل الموهبة الإلهية السالكين طريقهم: أعني طريق ذلك الشيخ وأتباعه - خاطبته في ذلك بالمسجد الجامع وقلت: هذا بدعة لم يشرعها الله تعالى ولا رسوله ولا فعل ذلك أحد من سلف هذه الأمة ولا من المشايخ الذين يقتدي بهم [5] , ولا يجوز التعبد بذلك ولا التقرب به إلى الله تعالى؛ لأن عبادة الله بما لم يشرعه ضلالة، ولباس الحديد على غير وجه التعبد قد كرهه من كرهه من العلماء للحديث المروي في ذلك , وهو أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى على رجل خاتمًا من حديد فقال: (ما لي أرى عليك حلية أهل النار) [6] , وقد وصف الله تعالى أهل النار بأن في أعناقهم الأغلال، فالتشبه بأهل النار من المنكرات , وقال بعض الناس: قد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث الرؤيا قال في آخره: (أحب القيد وأكره الغل القيد ثبات في الدين) فإذا كان مكروهًا في المنام فكيف في اليقظة [7] . فقلت له في ذلك المجلس ما تقدم من الكلام أو نحوًا منه مع زيادة , وخوفته من عاقبة الإصرار على البدعة , وأن ذلك يوجب عقوبة فاعله , ونحو ذلك من الكلام الذي نسيت أكثره لبعد عهدي به , وذلك أن الأمور التي ليست مستحبة في الشرع لا يجوز التعبد بها باتفاق المسلمين، ولا التقرب بها إلى الله , ولا اتخاذها طريقًا إلى الله وسببًا لأن يكون الرجل من أولياء الله وأحبائه، ولا اعتقاد أن الله يحبها أو يحب أصحابها كذلك، أو أن اتخاذها يزداد به الرجل خيرًا عند الله وقربة إليه، ولا أن يجعل شعارًا للتائبين المريدين وجه الله، الذين هم أفضل ممن ليس مثلهم. فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به , وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات , فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك دينًا لم يشرعه الله، وجعْل ما ليس من الواجبات والمستحبات منها بمنزلة جعْل ما ليس من المحرمات منها، فلا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرَّع دينًا لم يأذن الله به، ولمن حرم ما لم يأذن الله بتحريمه [8] فإذا كان هذا في المباحات فكيف بالمكروهات أو المحرمات؟ ولهذا كانت هذه الأمور لا تلزم بالنذر، فلو نذر الرجل فعْل مباح أو مكروه أو محرم , لم يجب عليه فعله كما يجب عليه إذا نذر طاعة الله أن يطيعه، بل عليه كفارة يمين إذا لم يفعل عند أحمد وغيره، وعند آخرين لا شيء عليه، فلا يصير بالنذر ما ليس بطاعة ولا عبادة [9] . ونحو ذلك العهود التي تتخذ على الناس لالتزام طريقة شيخ معين وعهود أهل الفتوة ورماة البندق ونحو ذلك , ليس على الرجل أن يلتزم من ذلك على وجه الدين والطاعة لله إلا ما كان دينًا وطاعة لله ورسوله في شرع الله , لكن قد يكون عليه كفارة عند الحنث في ذلك , ولهذا أمرت غير واحد أن يعدل عما أخذ عليه من العهد بالتزامه طريقة مرجوحة أو مشتملة على أنواع من البدع إلى ما هو خير منها من طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , واتباع الكتاب والسنة إذ كان المسلمون متفقين على أنه لا يجوز لأحد أن يعتقد أو يقول عن عمل: إنه قربة وطاعة وبر وطريق إلى الله واجب أو مستحب إلا أن يكون مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم , وذلك يعلم بالأدلة المنصوبة على ذلك، وما عُلم باتفاق الأمة أنه ليس بواجب ولا مستحب ولا قربة , لم يجُزْ أن يُعتقَد أو يقال: إنه قربة وطاعة، فكذلك هم متفقون على أنه لا يجوز قصد التقرب به إلى الله، ولا التعبد به ولا اتخاذه دينًا ولا عمله من الحسنات، فلا يجوز جعله من الدين لا باعتقاد وقول، ولا بإرادة وعمل، وبإهمال هذا الأصل غلط خلق كثير من العلماء والعباد يرون الشيء إذا لم يكن محرمًا لا ينهى عنه , بل يقال: إنه جائز [10] ولا يفرقون بين اتخاذه دينًا وطاعة وبرًّا وبين استعماله كما تستعمل المباحات المحضة، ومعلوم أن اتخاذه دينًا بالاعتقاد أو الاقتصاد أو بهما وبالقول أو بالعمل أو بهما من أعظم المحرمات وأكبر السيئات، وهذا من البدع المنكرات التي هي أعظم من المعاصي التي يعلم أنها معاصي سيئات. *** فصل فلما نهيتهم عن ذلك أظهروا الموافقة والطاعة , ومضت على ذلك مدة والناس يذكرون عنهم الإصرار على الابتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين، ويطلبون الإيقاع بهم، وأنا أسلك مسلك الرفق والأناة، وأنتظر الرجوع والفيئة، وأؤخر الخطاب إلى أن يحضر (ذلك الشيخ) لمسجد الجامع , وكان قد كتب إليّ كتابًا بعد كتاب فيه احتجاج واعتذار، وعتب وآثار , وهو كلام باطل لا تقوم به حجة، بل إما أحاديث موضوعة أو إسرائيليات غير مشروعة، وحقيقة الأمر الصد عن سبيل الله وأكل أموال الناس بالباطل , فقلت لهم: الجواب يكون بالخطاب , فإن جواب مثل هذا الكتاب لا يتم إلا بذلك، وحضر عندنا منهم شخص , فنزعنا الغل من عنقه، وهؤلاء هم من أهل الأهواء الذين يتعبدون في كثير من الأمور بأهوائهم لا بما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (القصص: 50) ؛ ولهذا غالب وَجْدِهم هوًى مطلق لا يدرون مَن يعبدون , وفيهم شَبَه قوي من النصارى الذين قال الله تعالى فيهم: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} (المائدة: 77) ؛ ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع أهل الأهواء. فحملهم هواهم على أن تجمَّعوا تجمع الأحزاب، ودخلوا إلى المسجد الجامع مستعدين للحراب، بالأحوال التي يعدونها للغلاب , فلما قضيت صلاة الجمعة أرسلت إلى شيخهم؛ لنخاطبه بأمر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم , ونتفق على اتباع سبيله، فخرجوا من المسجد الجامع في جموعهم إلى قصر الإمارة وكأنهم اتفقوا مع بعض الأكابر على مطلوبهم , ثم رجعوا إلى مسجد الشاغو على ما ذكر لي وهم من ال

العالم الغربي والعرب والإسلام ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العالم الغربي والعرب والإسلام (2) وماذا يقول الإنسان وماذا عساه أن يباحث أو يناظر لا يخجلون أن يقولوا: إن الأوربيين بقوا أصدقاء للمسلمين ثلاثة قرون، وأنهم ما ثاروا للحرب الصليبية إلا بسبب الأتراك، بما تعدوا به على أمم البلقان وعلى شواطئ الإدرياتيك. مرارًا تمنينا أن الذي لا يعلم شيئًا لا يتشدق به، ومرارًا أملنا أن الذي يرى نفسه مخطئًا يتجنب الخوض فيما لا يعرفه، إن القارئ ليرثي لهذا القول ولهذا القائل، وأحيانًا يغلب عليه الضحك، فإنه عندما زحف الأوربيون إلى سورية وفلسطين لم يكن فيهما أتراك، وما كان الترك إلا في قونية وإن كان الترك حاربوا الصليبيين في قونية وأنهكوهم نوعًا، فتكون تلك منهم خدمة للعرب الذين كانوا يومئذ هدفًا للصليبيين، وكان هؤلاء زاحفين إليهم، فإن الصليبيين كانوا قاصدين القدس والشام والحجاز ومصر لا قونية التي لم يكن لهم شغل بها، والقدس والشام ومصر والحجاز لم تكن تركية بل عربية، ثم لما قصدوا مصر لم تكن مصر للأتراك، ثم لما قصدوا تونس في زمان مارلويس لم تكن تونس للأتراك، ثم لما قصدوها وأخذوها في زمن شارلكان لم تكن للأتراك، ولما استولوا على وهران وأكثر سواحل مراكش لم يكن شيء من ذلك للأتراك، ولما قصد البرتغاليون زنجبار في القرن الخامس عشر، وأزالوا منها ملك العرب ثم عمان واستولوا عليها لم يكن ثمة أتراك، ولما تحالفوا مع الحبشة وقصدوا محاربة مصر وتحويل النيل الأزرق عن مصر لم تكن مصر للأتراك، وجميع الحروب التي قد وقعت بين الإفرنج وعرب الأندلس وممالك المغرب لم يكن شيء منها بسبب الأتراك، ولا كان هناك أتراك، ومما يقهقه له الإنسان من الضحك؛ كون الإفرنج غضبوا على المسلمين وحاربوهم؛ لكون المسلمين كانوا يُصلون لانتصار الأتراك.. . وانظر إلى هذه الجملة وتأمل ما فيها من الادعاء مع خلو معناها التام من الصحة وهي هذه. (إن التاريخ يوضح بما لا يحتمل التأويل ولا يقبل الشك ولا يجوز معه الجدل ولا نسوغ فيه مناقشة أن العالم الغربي (أي أوربا) بقي ملازمًا صداقة المسلمين نحو ثلاثة قرون بعد انتصار صلاح الدين الأيوبي الشهير عليه، إلى أن قام الأتراك وتعديهم عليه تباعًا في سهول البلقان وعلى الشاطئ الأدرياتيكي؛ مما حرك فيه عامل الانتقام لزعمه؛ وقد يكون زعمه حقيقة أن العالم الإسلامي راضٍ عن أعمال الأتراك هذه طالما مئات ملايين تصلي لله سرًّا وعلانية؛ كي ينصر الترك المسلمين على أعداء دينهم) انتهى بنصه الشائق. ولا يعلم الإنسان ماذا يصلح وماذا يصحح من الأغلاط في هذه الجملة التي يظهر أنها قرئت في كتاب إنكليزي، فعربت بهذه الصورة، واتخذت حجة، وظنت آية منزلة، وصارت لا تقبل الشك، ولا تحتمل التأويل.. نقول: أولاً - عندما قصد الإفرنج الشرق إنما كان مقصدهم بلاد العرب ولم يكن حينئذ بها أتراك. ثانيًا - اعتدى الإفرنج على مصر وجزيرة العرب وطرابلس وتونس والجزائر والقطر المراكشي وعرب الأندلس حينما لم يكن فيها أتراك، ولا لها علاقة بالأتراك كما قلنا. ثالثاً - عندما زحف الإفرنج في الصليبية الأولى (سنة 1099) إلى بيت المقدس لم يكن الأتراك وصلوا إلى سهول البلقان تباعًا ولا إلى الشاطئ الأدرياتيكي حتى يقال: إن العالم الغربي انتقم من غارات الأتراك في سهول البلقان والشاطئ الأدرياتيكي بالاعتداء على العرب في القدس والشام ومصر، فإن الإفرنج زحفوا إلى سورية وفلسطين في القرن الحادي عشر، وأن الأتراك زحفوا على سهول البلقان والساحل الأدرياتيكي في أواخر القرن الرابع عشر، فبمقتضى هذه العبارة يكون الإفرنج انتقموا من العرب في بلاد العرب عن أعمال عملها الترك معهم تباعًا في سهول البلقان والساحل الأدرياتيكي، قبل وقوعها بأربعة قرون ونصف، وهل تظن أن المكابر يعدل عن عناده ولو ظهر له هذا الجهل الفاضح ممن نقل عنه وصدق كلامه؟ كلا قد جربنا ذلك من قبل فلم يزل الذي يعرف بما لا يعرف مصرًّا على خطئه. رابعًا - كيف بقي العالم الغربي ملازمًا صداقة المسلمين نحو ثلاثة قرون بعد انتصار صلاح الدين عليه، وصلاح الدين انتصر على الإفرنج سنة 1192، وبعد ذلك جرت الصليبية الثالثة التي كانت أشد الصليبيات، وبقيت الحرب فيها على عكا سنتين ثم عقبتها الصليبية الرابعة سنة 1204، ثم الصليبية الخامسة سنة 1221، ثم الصليبية السادسة سنة 1229، ثم الصليبية السابعة سنة 1252 التي غزوا فيها دمياط، ثم الصليبية الثامنة سنة 1270 في زمن لويس التاسع وفيها غزوا مصر، وأُسر فيها مارلويس وبعد أن فدى نفسه عاد فغزا تونس، ومات في حصارها. فهذه كلها حروب اعتداء في اعتداء على المسلمين، لا سيما على العرب الذين ذاقوا فيها من الأهوال والنكبات ما لا يوصف، وكلها من بعد صلاح الدين وضمن ثلاثة قرون (الصداقة) التي زعمها صاحب تلك الجملة المعربة، فإن كانت هذه هي الصداقة فيكف تكون العداوة يا تُرى؟ ثم بعد تلك القرون الثلاثة حروب أخرى تقدم ذكرها لم يكن فيها أدنى رائحة للأتراك، وإنما اضطر عرب المغرب بتوالي تعدي الإفرنج عليهم إلى استنجاد الأتراك، الذين استخلصوا تونس والجزائر ووهران في زمن سليمان القانوني، كما أن سواحل مراكش استخلصها من البرتغال مولاي إسماعيل سلطان قابوس العظيم جد الأسرة السلجماسية، على أنه من الحقائق التاريخية أن الذي زاد رابطة العرب بالأتراك هو ما رأوه فيما بعد من جهاد الأتراك في دفع الإفرنج عن البلاد العربية، فالإفرنج هم الذين أحوجوا العرب إلى الأتراك. خامسًا - مضحك جدًّا قوله: إن العالم الغربي تحرك فيه عامل الانتقام لزعمه أن العالم الإسلامي راضٍ عن أعمال الأتراك يصلي لله سرًّا وعلانية؛ لنصر الترك المسلمين، فالعالم الغربي يذبح تلك الأمم ويوقع تلك المصائب كلها في أقوام كل ذنبهم أنهم صلوا لنصرة أبناء دينهم بالقتال فعلاً - كما يتطوع ألوف من الإنكليز وغيرهم اليوم في حرب الريف بجانب الأسبان - حقًّا قائل هذا القول الإفرنجي لا يخجل، ومصدقه يستحق الرثاء، لا يكفي الإفرنج أن قصدوا القدس من أقصى بلادهم، وخربوا ديار الشام، ونسفوا الحضارة العربية، ودخلوا بيت المقدس؛ فالتجأ المسلمون إلى المسجد الأقصى فدخلوا إليه وذبحوهم عن آخرهم نساء ورجالاً وأطفالاً، وكانوا سبعين ألفًا حتى غاصت الخيل في الدم إلى صدورها، وامتلأت القدس بأشلاء القتلى فاستحيا الإفرنج ثلاثمائة من المسلمين؛ لأجل نقل الجثث وتنظيف الشوارع من الدماء، وبعد أن فرغوا من عملهم هذا عاد الإفرنج فقتلوهم أيضًا، وارتكبوا فظائع لا يسع المقام ذكرها، بل بعد ذلك كله يأتي واحد فيقول: (إنما فعلوا ذلك) لأن العالم الغربي زعم وقد يكون زعمه حقيقة أن العالم الإسلامي راضٍ عن الأتراك الذين اعتدوا على العالم الغربي في سهول البلقان والشاطئ الأدرياتيكي، أي أنه يعطي العالم الغربي الحق في هذه المذابح بأجمعها التي مذبحة المسجد الأقصى واحدة منها، ويرى الذنب ليس من العالم الغربي بل من المسلمين الذين (صلوا لله سرًّا وعلانية؛ كي ينصر الترك المسلمين أبناء دينهم (أفلا تراهم يستحقون هذه المذابح وقد صلوا هذه الصلاة؟ هذا ولو كانوا صلوا لنصر الأتراك قبل وصول الأتراك إلى الأدرياتيكي بأربعمائة سنة.. . هنا حيلتي مع الذي لا يعرف ما يقول أصبحت قليلة. من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة وماذا عساني أن أعد من تلك الحقائق الناصعة والآراء الصائبة [1] ؟ أقول له: إن بلاد شمالي أفريقية بقيت عربية؛ لكون العرب ثبتوا فيها، لا من أجل كونها إسلامية؟ لم نعلم أي مؤرخ شرقي أو غربي أو فيلسوف اجتماعي قال هذا القول، ولا كيف يتصور العقل أن مراكش والجزائر وتونس وطرابلس تبقى عربية بدون إسلام، وأية رابطة تبقى للبربر الذين هم القسم الأعظم فيها مع العرب إن لم يكن الإسلام؟ وأية قوة كانت للعرب على البربر ليس في الوقت الحاضر فقط بل في وقت الفتح نفسه إن لم تكن قوة الإسلام، فإن فتح العرب لهذه الأقطار باتفاق جميع المؤرخين شرقًا وغربًا إنما تم واتسق بدخول البربر في الإسلام وليس بسبب آخر. أم ذلك القول: بأنه يجب أن نترك هذا الحلم الجميل الذي هو نشر العربية بواسطة القرآن والهزء بهذا (الحلم الجميل) ؟ فهذا أيضًا من الفلسفة التي عجزت العقول عن إدراكها.. . نعم إن المستعمرين ولا سيما الإنكليز تعجبهم هذه النقمة، ويتمنون انتشارها ورواج هذا التضليل بين العرب طمعًا في حص أجنحة الأمة العربية التي تخشى إنكلترة انتظام شملها واستئناف دولتها أكثر كثيرًا مما تخشى الأتراك، وهذا هو السبب الوحيد في كوننا نُعنى بإدحاض هذه الأقاويل وإزالة تلبيسها، وإظهار ما فيها من العته؛ لئلا يلصق منها شيء بأذهان الجالية العربية بأميركا وفيها كثير من السذج وغير المتعلمين، ومن ربما يظنون أن تلك الأقاويل على شيء من الصحة، فمعلوم عند الجميع أن كل الأمم العظيمة والصغيرة تجد وتدأب في نشر لغاتها، وتؤسس لذلك المعاهد العلمية، وتنفق عليها القناطير المقنطرة، وكلما ازداد انتشار لغة ازدادت سعادة المتكلمين بها وحق إعجابهم، فإن انتشار لغة أمة من الأمم يعتبر إضافة لعدد كبير من غير أبنائها إليها، فضلاً عما يُستجلب إليها من الميول؛ لأن من عرف شيئًا أحبه ومن جهل شيئًا عاداه، والأمة العربية تجسدها سائر الأمم على كون لغتها هي لغة سبعين مليونًا من العرب والمستعربين - المستعربين بسبب الإسلام ونفوذه الماضي لا يسبب آخر أصلاً - واللغة الدينية لثلاثمائة وخمسين مليون مسلم في الأرض قد امتزجت بلغاتهم الأصلية، وتشكلت منها أكثر ألفاظهم العلمية، وهذا كله بدون شيء من العناء الذي يعانيه الإفرنج، لأجل نشر لغاتهم، أفمثل هذا الغرض الذي ترمي إليه كل الأمم الراقية، وتبذل من أجل بعضه الجهود والأموال الطائلة يهزأ به؟ ويقال عنه: (حلم جميل) لا فائدة لنا به. قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم ثم عاد الكاتب إلى ذكر تلك الدعوى الغربية الغريبة في تعليل حرب الصليبيين للعرب بأسلوب آخر وقفّى عليه بقوله: ربما قيل لي: كررت هذا المعنى كثيراً ولم تزل ترجع إليه، فأقول: بلى؛ لأنه أعجبني وأطربني جدًّا، وحقًّا أراد أن يعامل ويغلط من يباهت في الحقائق التي لا يختلف فيها اثنان، فليأت بمثل هذه المزاعم وليُضحك قُراءه ويُطربهم وإلا فلا، ولا سيما عندما يقول: إن هذه الرواية هي مما لا يحتمل الشك ولا التأويل، ولا يقبل الجدل ولا يسوغ المناقشة) أنه هو كون الإفرنج لم يقصدوا سورية، ولا خربوا مدنها، ولا طمسوا حضارتها العربية، ولا ذبحوا مئات الألوف من أهلها كالشياه، ولا أجروا الدماء في المسجد الأقصى حتى غاصت الخيل فيها إلى صدورها، ولما وصل الخبر إلى بغداد قام العويل وعلا البكاء وهجمت العامة على دار الخلافة، وكان يومًا عظيمًا، كلا لم يعملوا شيئًا من هذه الأفعال سنة 1099 إلا نكاية بالأتراك عن حروب مستقبلة سيعملونها نحو سنة 1400 إلى 1450. وهذه أشبه بما كانت دول الحلفاء تقول للعرب قبل الحرب العامة وفي أثنائها: وهو أن هذه الدول (دول الحق والعدل) ليس لها غرض سوى تحرير العرب من عبودية الأتراك، وإنزال العقاب في هؤلاء الأتراك البرابرة، وتأسيس استقلال للعرب يستأنفون به مجدهم السابق، وما زالوا يكررون

ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله (4) تتمة شرح مطالب الأزهريين (المطلب السادس) : (تعديل الكشف الطبي بحيث لا يُمنع من تولي وظائف التدريس بالأزهر إلا من به مرض مُعْدٍ، ومعاملة العلماء معاملة خاصة في الكشف الطبي بوزارة المعارف، وحفظ الحق للمكفوفين في مباشرة وظائف التدريس بالأزهر، ووظائف الإمامة والخطابة بالمساجد) . إن من ينظر إلى الإجراءات التي يتخذها ما يسمونه (القومسيون الطبي) ليثبت بها صلاحية الشخص للوظيفة، يجد تلك الإجراءات شديدة وقاسية، وهي أشد وأقصى إذا عومل بها الأزهريون، الذين اعتادوا أو عودهم ولاة الأمور أن لا يُعتنى بهم صحيًّا، وأن يتركوا لجيوش الأمراض المختلفة تفتك بهم، فأماكن الدراسة في الأزهر والمعاهد الدينية التي لا تصلح - ولم توجد إلا لتكون أماكن للعبادة فقط - تنال من الطالب في مدة الدراسة الطويلة القاسية، وفي زمني الحر والقر ما يكفي لأن يهدم منه الجسم السليم ويضعف الصحة الجيدة، هذا إلى المتاعب الكثيرة التي يستلزمها الانكباب على الدرس والتحصيل، سيما في العلوم الأزهرية البعيدة الغور والطويلة المدى، ولا ريب أن ذلك كافٍ لأن يحول دون استيفاء خريجي الأزهر للشروط التي يفرضها القومسيون الطبي، فلابد أن تكون للأزهريين معاملة خاصة تراعى فيها الاعتبارات التي ذكرنا، سيما أن هذه الإجراءات لم يكن للأزهريين بها عهد، ولم يقيدهم بها قانون، على أنه إذا أجيب ما نطلب بشأن أماكن الدراسة وغير ذلك من المطالب فقد يكون لولاة الأمور الحق في أن يعاملوا من ينتفع بهذه الإصلاحات معاملة بقية إخوانهم خريجي المدارس. وإذا ثبت بما ذكرنا وجوب تعديل الكشف الطبي بالنسبة للأزهريين، فإنا نذكر أن هذا الطلب يشمل أموراً ثلاثة: (1) أن لا يمنع من وظائف التدريس بالأزهر إلا من به مرض مُعْدٍ. (2) أن يعامل العلماء إذا عينوا للتدريس بوزارة المعارف معاملة خاصة كالاكتفاء بنصف نظر في مجموع العينين. (3) حفظ الحق للمكفوفين في مباشرة وظائف التدريس بالأزهر، ووظائف الإمامة والخطابة بالمساجد، ونكتفي بما قدمنا عن الكلام في الأمرين الأولين، ونتكلم عن الأمر الثالث. ذلك أن المكفوفين الذين يمضون زمنًا طويلاً في الأزهر، يكدون؛ لنيل شهادة العالمية - هم أولى الناس بالعطف عليهم، وأجدرهم بالأخذ بناصرهم فلابد أن يفتح لهم باب الأمل بما يتناسب مع كدهم واجتهادهم وما أحاط بهم من اعتبارات أخرى، أما حرمانهم نهائيًّا من كل عمل فمعناه أنهم ليسوا أهلاً لشيء، وأنهم أضاعوا حياتهم سدى، وهو تصرف لا يستطيع إنسان تبريره أو الذود عنه، سيما أن كلهم أو جلهم يحتاج بعد تخرجه إلى المعونة وما يسد به رمقه في الحياة وإلى ما يجعله كذلك عضوًا نافعًا في الهيئة الاجتماعية، فلابد أن يعطوا حظهم من الإنصاف والرعاية. وإذا طلبنا لهم حق التدريس بالأزهر، وهو ما كان حقهم حتى الزمن القريب وحرمتهم منه القوانين الحديثة؛ فإنا لا نطلب لهم ما لا يستطيعون، فكثير منهم في كل زمان كانوا من رجال العلم النابهين وأساطينه الأجلاء. ولا يزال العلم والدين مدينين لأمثال عبد الله بن عباس وعبد الله بن أم مكتوم وو، في العصور الغابرة، وإن كثيرًا من مكفوفي العصر الحاضر في الأزهر خاصة وفي مصر عامة لدليل جدي على أن الله عوض هذه الطائفة المسكينة من فقد أبصارهم ذكاء حادًّا، وفكرًا ثاقبًا، وقلبًا بصيرًا، وليس من مصلحة العلم والدين أن تقبر تلك المواهب، ويحرم الناس من الانتفاع بها بحجة أن أهلها غير مبصرين. على أنه لا يزال إلى اليوم عدد كبير من علماء الأزهر المكفوفين يباشرون التدريس بالأزهر، وليس من يعيب كفايتهم فيما يكلفون به من مختلف الفنون. وإذا كان التدريس بالأزهر من الحقوق الضرورية للمكفوفين، فإنه يستلزم أن لا يحرموا من دخول قسم التخصص بالأزهر، ومما يساعد ذلك أن المرسوم الملكي الكريم الصادر بإنشاء قسم التخصص، لم يشترط لدخوله سوى نيل شهادة العالمية دون أن يفرق بين مكفوف ومبصر، فلا يصح مع هذا الإطلاق أن يكون التخصص وقفًا على طائفة خاصة لتهمل طائفة أخرى هي أحوج الناس إلى المعونة والعطف. وأما حقهم في الإمامة والخطابة فليس لأحد أن يقول: إن بهم مانعًا من الأهلية له فمن الواجب أن يعطوه؛ لتُكفَل لهم حاجتهم الضرورية، ولينتفع المجتمع بكثير من الكفايات التي منَّ الله بها عليهم. (المطلب السابع) : (إرسال بعثات إلى الجامعات الأوربية؛ لدراسة العلوم التي تتناسب مع التعليم في الأزهر، واتخاذ الطرق التي تكفل ذلك) . لقد دهش بعض الناس لهذا الطلب، واعتبروه غريبًا في ذاته، وأنه لا يليق بطالب العلم الديني، ولكن الأزهر الناهض الذي يريد أن يستعيد مجده وكرامته، وأن يشغل المركز الجدير به بصفته أكبر جامعة شرقية إسلامية، يجب أن ينال هذا المطلب الضروري، وأن تتخذ له الوسائل التي تكفل نجاحه. أوَلَسْنا في حاجة لعلوم جديدة في حياة الأزهر الجديدة؟ أو قل: إلى دراسة تلك العلوم التي جاءت الأزهر منذ زمن غير بعيد - كالتربية - دراسة وافية؟ ثم أليس من اللازم مثلاً أن ندرس في جامعات أوربا فلسفة الديانات وغيرها من العلوم التي لها علاقة بالأديان، وإلا فكيف نفعل ونحن نرى الأجانب يدرسون إلى جانب دينهم ديننا أيضًا؛ ليتقولوا علينا إذا شاؤوا، وليحرفوا الكلم عن مواضعه، في الوقت الذي لا ندري نحن من دينهم شيئًا لنرد باطلهم بحقنا! ! فمن الضروري أن نلم بذلك كله، ونتوسع فيه توسعًا نتمكن به من تأدية واجباتنا على الوجه الأكمل، فإن في عنقنا واجب الدفاع عن الدين وإذاعة شأنه بين الناس، وذلك يستلزم الوقوف على كل ما له مساس بالأديان. ومن الضروري أيضًا أن يكون من البعثة الأزهرية من يتخصص في الفلسفة والتاريخ والعلوم العقلية، فنكون قد عملنا على أن نعيد للعلم في الشرق والأزهر قوته وشبابه، وفي ذلك مفخرة عظيمة لمصر تجعلها على الدوام قبلة رواد العلوم والآداب في الشرق عامة. ولقد فطن إلى ذلك منشئ مصر الحديثة محمد علي باشا، فأرسل بعثات كثيرة إلى الخارج كانت كلها أو أغلبها من الأزهريين، وقد كان أولئك المبعوثون بعد عودتهم قواد النهضة العلمية المزدهرة التي غمرت مصر، ورددت البلاد الشرقية صداها، وكان لها منها الأثر الجميل. وإذا كان هذا أثر البعثات الأزهرية في الماضي، فإن بوسع مصر في الحاضر أن تستفيد مما يمتاز به الأزهر من نشاط وكفاية ودأب على العمل واستعداد للتفوق والنبوغ، فترسل إلى الخارج من الأزهريين من يكون عونًا لها في مستقبلها المحتاج إلى الكفاح الشديد في سبيل سعادة الأهلين. وما يقوله بعض قصار النظر: من أن إرسال الأزهريين إلى الخارج مفسد لدينهم هو من باب الوهم الذي لا يقبله عقل، فإنما يفتتن عن دينه أولئك الجاهلون بالدين الذين لم تمتزج تعاليمه بأنفسهم، ولم يدركوا أسراره ومبادئه لا الأزهريون الذين هم أعرف الناس بالدين، والذين عملوا جهدهم لحفظه، وكانوا على الدوام حُماته الأمجاد وحراسه القادرين. وإذا قال أحد: إن الأزهريين لا يملكون الوسيلة التي يتمكنون بها من السفر إلى الخارج كإتقان اللغة الأجنبية؛ فإنا نرد عليهم بأنا نقبل عن طيب خاطر أن ينشأ قسم اختياري بالأزهر لتعليم اللغات، يستطيع بواسطته الطالب إتقان اللغة التي يريدها؛ ليكون على استعداد للسفر، وليس في تعليم اللغة الأجنبية وإتقانها ما يمكن أن يكون موضع اعتراض من الوجهة الدينية أو غيرها، على أن عددًا غير قليل من الأزهريين يدرس الآن بعض اللغات خارج الأزهر، وكثير منهم يتقن هذه اللغات التي يدرسها، مما يدل على استعداد الأزهريين للسفر في البعثات من الآن إذا أجابهم إلى طلبهم ولاة الأمور. (المطلب الثامن) : (إيجاد أمكنة صحية صالحة للدراسة غير الأمكنة الحالية التي يدرس فيها الطلبة) . لقد قلنا فيما سبق عند الكلام على الكشف الطبي ووجوب تعديله بالنسبة للأزهريين: (إن أماكن الدراسة الحالية في الأزهر والمعاهد الدينية التي لا تصلح ولم توجد - إلا لتكون أماكن للعبادة فقط - تنال من الطالب في مدة الدراسة الطويلة القاسية، وفي زمني الحر والقر ما يكفي لأن يهدم منه الجسم السليم ويضعف الصحة الجيدة) والآن نقول: إن هذه الأماكن التي يدرس بها الأزهريون لا تستوفي شرطًا واحدًا مما توجبه التربية الحديثة، فالطلبة يضطرون للجلوس متربعين طول يومهم، لا يحول بينهم وبين الأرض سوى حاجز بالٍ من الحصير، لا يدفع رطوبة ولا يمنع أذى، ولا ريب أن تلك الجلسة الدائمة على الشكل الذي ذكرنا مما يعرض صحة الطلبة للضعف، ويجعلهم عرضة لشتى الأمراض، فضلاً عن تشتيت أذهانهم، وفقد انتباههم أثناء إلقاء الدرس، مع أن الانتباه واجتماع الذهن ضروريان؛ ليستفيد الطالب مما يُلقَى عليه استفادة صحيحة قيمة. هذا مع أن في تجاور الدروس بدون حاجز يفصلها عن بعضها ما يدعو لاختلاط أصوات المدرسين والتهويش على بعضهم، وما يتبع ذلك من الجلبة والضوضاء وسماع الطلبة الذين يجلسون في آخر الحلقات أصوات مدرسي الفصول الأخرى؛ التي قد تكون أصواتهم أقرب إليهم من أصوات مدرسيهم، وإن أقل نظرة لحالة الدروس بالأزهر وقت انتظامها تكفي للاقتناع، وليس هذا من المصلحة في شيء، على أنه ليس هناك ما يصح أن يسمى موازنة بين أماكن الدراسة بالمعاهد الدينية والمدارس الأخرى، من حيث استيفاء الشروط التي تستوجبها التربية، فإن شرطًا واحدًا من الشروط التي توجبها لا يوجد بأماكن الدراسة بالأزهر، في الوقت الذي لا تنقص فيه المدارس الأخرى شرطًا واحدًا، ونحن على يقين بأن ذلك لا يرضي ولاة الأمور؛ لأنهم مقتنعون بأنه من الضروري لمصلحة الطلبة ولتمام الاستفادة المدرسية صلاحية الأمكنة للدراسة، واستيفاءها للشروط اللازمة، وذلك ما يجب أن ينظر إليه بعين الاعتبار في المعاهد الدينية. (المطلب التاسع) : (جعل الوظائف الكتابية بالمحاكم الشرعية حقًّا مشتركًا بين جميع المذاهب) . لا ريب أن هذا الطلب مع عدالته لا يكلف الحكومة شيئًا من المال، وهو ليس إلا تنازلاً من علماء الحنفية عن بعض حق هو لهم، رضوا بأن يشركهم إخوانهم من المذاهب الأخرى في الانتفاع به؛ لأن لأولئك الإخوان من الكفاءة لهذا العمل ما لهم (الأحناف) . على أنا إذا اعتبرناه حقًّا للأحناف، فليس إلا مجاراة لما هو واقع دون شيء آخر؛ لأن القانون جعله حقًّا مطلقًا لحامل العالمية دون أن يفرق بين مذهب ومذهب أليس من المصلحة مراعاة هذا الإطلاق، لا سيما أن فيه تحقيقًا للعدالة؟ ؟ وما دامت الكفاية والأهلية موجودتين فلا سبيل لإهمالهما. لو أن الكتابة بالمحاكم الشرعية تشمل إصدار أحكام فقهية على مذهب الحنفية لمَا كان للأحناف أن يرضوا بمشاركة غيرهم لهم في هذه الوظيفة، ولما كان لغيرهم أن يطلبها، وإذا كانت وزارة الحقانية قد اتخذت - ولا تزال - مفتشين للمحاكم الشرعية من غير الحنفية، فأولى لها أن تقبلهم في وظائف الكتابة التي لا يسوغ حرمانهم منها. (المطلب العاشر) : (إلغاء القوانين الاستثنائية والإجراءات التي ترتبت عليها، وإباحة الانتساب والتحويل إلى الجهة التي يريدها الطالب) . لقد كان مما لا يُتوقع أن تصدر قوانين جائرة تقيد بها حرية رجال الدين الأزهريين في التعبير عن ميولهم وآرائهم، سواء ك

عاقبة الحرب وآخر عهد الإسلام بالأندلس

الكاتب: شكيب أرسلان

_ عاقبة الحرب وآخر عهد الإسلام بالأندلس شروط تسليم غرناطة لإسبانية وعاقبة المسلمين معها (مقتبس من خلاصة تاريخ الأندلس للأمير شكيب أرسلان) أما شروط تسليم غرناطة فقد سردها المرحوم ضيا باشا في تاريخه للأندلس، وهي خمس وخمسون مادة، تتضمن تفاصيل ما وقع عليه الاتفاق، وفي طيها من عهود المحاسنة والملاطفة والمراعاة والمحافظة على أعراض القوم، وعقائدهم ودمائهم وأموالهم وكراماتهم وراحاتهم ما لا يفي به إلا نصه. وقد تكرر في المادة الخامسة العهد من الملك والملكة باحترام ديانة المسلمين ومساجدهم وأوقافها وأموالها المحفوظة، وعدم التعرض لأمورهم الشرعية، بل إعادة ذلك إلى فقهائهم والمحافظة على أصول الفقهاء وعاداتهم وملابسهم، وأن يبقى هذا العهد معمولاً به في الأعقاب وأعقاب الأعقاب. وفي المادة السادسة عدم سلب أسلحة المسلمين ومراكبهم ومواشيهم إلا الأسلحة النارية فتَقرَّر أخذها. وفي المادة السابعة تسهيل السفر لكل من شاء الهجرة بأمواله وأمتعته، وفيما بعدها إجازته على نفقة دولة قشتالة من أي مرسى أراد، وتسهيل معاملات بيع العقار لمن شاء الرحيل، وإذا لم يتهيأ البيع ووكل صاحب المِلك وكيلاً، تعتبر وكالته، ويساعَد على استيفاء حاصلاته وإيصالها إليه بمكانه وراء البحر. وورد في المادة الحادية عشرة تشديد مجازاة كل من يدخل من النصارى جامعًا بدون رخصة الفقهاء. وورد في المادة الخامسة عشرة إعفاء السلطان أبي عبد الله وسائر أمراء المسلمين وقُوَّادهم وفقهائهم من الضرائب والرسوم، وإقرار الجميع على امتيازاتهم كما كانوا لعهد ملوكهم، وأن تكون كلمتهم نافذة وقولهم مسموعًا. وورد في المادة السادسة عشرة والتي بعدها ما يتضمن عدم جواز دخول أحد من النصارى بيوت المسلمين، حتى ولا الملك والملكة، ومن خالف ذلك من النصارى يجازَى بشدة. وفي المادة الخامسة والعشرين إذا فر أحد من أسرى المسلمين المعتقلين في سائر الممالك، ووصل إلى غرناطة فقد نجا، ولم يكن لمأموري شرطة غرناطة أن يمسكوه، لكن ذلك الامتياز مخصوص بعرب الأندلس لا يتناول أسرى المغرب. وفي المادة الثلاثين أن من أسلم من النصارى قبل هذه الكائنة فلا تجوز معاملته إلا بالحسنى، ولا يرى أقل تحقير، ومن خالف ذلك ينال من الجزاء شدة، وفي المادة الواحدة والثلاثين لا يجبر مسلم ولا مسلمة على قبول الدين المسيحي. وفي المادة الثانية والثلاثين إذا كان المسلم متزوجًا بنصرانية وأسلمت، لا تجبر على الرجوع إلى دينها الأصلي، والذين يتولدون من هذا الزواج يعدون مسلمين، ولو ارتدت الزوجة عن إسلامها. وفي الخامسة والثلاثين لا يرد المسلمون شيئًا مما غنموه أثناء الوقائع التي جرت إلى يوم تسليم البلد، وفي التي بعدها لا يعاقبون على شيء مما مضى من تحقير الأسرى أو إهانتهم. وفي الثانية والأربعين تفصل الخصومات بين المسلمين والنصارى في مجلس مؤلف من قائدين أحدهما مسلم والآخر مسيحي. وفي الثالثة والأربعين تعاد جميع أسرى المسلمين في مدة ثمانية أشهر من أي بلاد وُجدوا فيها من إسبانية، وفي مدة خمسة أشهر إن كانوا في بلاد الأندلس. وفي الثانية والخمسين عدم استخدام شرطة من النصارى؛ لمراقبة شؤون المسلمين، بل تكون شرطتهم من أنفسهم. وفي آخر هذه المعاهدة تعهد الملك فرديناند وامرأته صاحبا ممالك قشتالة وأراغون وليون وصقلية أن يحافظا على نص شروطها حرفًا بحرف، وينفذا جميع أحكامها من خاص وعام وكلي وجزئي بكمال التدقيق، وبدون أدنى زيادة ولا نقصان مهما يكن من الأسباب، وأن تبقى على شكلها وهيئتها، ولا يتغير ولا يتبدل حرف منها إلى الأبد، ولا يمكن أحدًا من خلفاء الملكين المشار إليهما، ولا خلفاء خلفائهما ولا حفدتهما ولا أولادهم إلى ما شاء الله أن ينقضوا أقل حكم من أحكامها، أو يبدلوا حركة من حركاتها، وأُعطِيَ الأمر بها إلى الأمراء والوزراء والقواد والأجناد والرهبان والرعية من حاضر وغائب، وقاصٍ ودانٍ، وكبير وصغير، وأعلن أن من يجترئ على الخلل بشيء مما تضمنته هذه المعاهدة، يجزى جزاء من أقدم على إفساد البراءات الملوكية أو تقليد الحجج والسندات بدون أدنى تأخير. وأقسم الملك فرديناند والملكة إيزابلا وسائر من أمضوا الشروط على دينهم وشرفهم برعايتها إلى الأبد على الصورة المبينة، وكتبت على رق غزال محلى ومطرز تحريرًا في ثلاثين من كانون الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وألف من الميلاد. وحررها فرناند وصفره بأمر الملكين، وأمضاها الملك فرديناند والملكة إيزابلا وأولادهما الدون جان والدونة وإيزابلا والدونة حنة والدونة ماريانة والدونة كتالينة ورئيس أساقفة أشبيلية الدون دياغو هرتادو رئيس أساقفة صانتياغو الدون ألفونس وكبير فرسان صانتياغو المسمى بالدون ألفونس أيضًا، والدون جان كبير فرسان القنطرة والدون الفارو زعيم رهابين ماريوحنا والدون بيروغونزالس كردينال أسبانية، ورئيس أساقفة المملكة، والدون هنري كبير حكومة أراغون، ومن أبناء عم الملك، والدون ألفونس من أبناء عمه أيضًا، والدون الفارو مدير دائرة الملكين، والدون بتروفاناندز رئيس جند قشتالة، ويليهم نحو من أربعين دونًا كلهم من أبناء السلالة المالكة، وأساقفة البلاد وأمرائها وأعيانها وقوادها. وكتب أيضًا معاهدة أخرى لسلطان غرناطة أبي عبد الله بن أبي الحسن متضمنة أربع عشرة مادة فيها تمليكه الإقطاعات والأراضي والبلدان التي وهبها إياه المَلِكان، معينًا كلاًّ منها بذاته والتعهد بإعطائه أربعة عشر مليونًا وخمسمائة قطعة من السكة المعروفة بالمراويد عند دخولهما قلعة الحمراء، وإفراز ملكيته لجميع العقار الموروث، وإعفاؤه من دفع الضرائب والرسوم وأداء المكوس عما يجلب من الأمتعة برسمه، وأنه في أي وقت شاء بيع هذه الأراضي والأملاك، يشتريها الملكان كلها بقيمتها العادلة، وإن لم يشأ بيعها، وأراد النقلة إلى بر المغرب فالوكيل الذي يعينه عليها يستوفي له حاصلاتها، ويوردها عليه في أي جهة كان مما وراء البحر، وفي أي وقت عول على الإجازة تنقله مع رجاله وعياله وأمواله سفن دولة قشتالة مجانًا، ولا يطالب بشيء، ولا يكون مسؤولاً عن شيء مما حصل إلى حين عقد الصلح، ولا يسترد شيء مما غنمه، وجميع هذه الشروط كما هي جارية في حقه تجري أيضًا في حق والدته وشقائقه وزوجته وزوجة مولاي أبي نصر، والعهدة الثانية مؤرخة في يوم تاريخ الأولى، إلا أنني وجدت أكثر المؤرخين يؤرخون إمضاء المعاهدات في 25 كانون الأول وفق 22 المحرم سنة 897. (ثم نقل المؤرخ رواية نفح الطيب في تسليم غرناطة، وبعض شروط الصلح بينهم وبين المسلمين مخلصًا بما نصه) . (وفي ثاني ربيع الأول من سنة 897 استولى النصارى على الحمراء، ودخلوها بعد أن استوثقوا من أهل غرناطة بنحو خمسمائة من الأعيان رهنًا خوف الغدر، وكانت الشروط سبعة وستين منها تأمين الصغير والكبير في النفس والأهل والمال، وإبقاء الناس في أماكنهم ودورهم ورباعهم وعقارهم، ومنها إقامة شريعتهم على ما كانت عليه، ولا يحكم على أحد منهم إلا بشريعتهم - وأن تبقى المساجد كما كانت والأوقاف كذلك، وأن لا يدخل النصارى دار مسلم ولا يغصبوا أحدًا -وأن لا يولى على المسلمين نصراني ولا يهودي، وأن يُفتكَّ جميع من أُسر في غرناطة من حيث كانوا، وخصوصًا أعيان نَُّص عليهم، ومن هرب من أسرى المسلمين ودخل غرناطة لا سبيل عليه لمالكه ولا لسواه، والسلطان يدفع ثمنه لمالكه، ومن أراد الجواز للعدوة لا يمنع، ويجوزون في مدة عينت في مراكب السلطان لا يلزمهم إلا الكراء، ثم بعد تلك المدة يعطون عشر مالهم والكراء , وأن لا يؤخذ أحد بذنب غيره , وأن لا يقهر من أسلم على الرجوع للنصارى , وأن من تنصر من المسلمين يوقف أيامًا، ويحضر له حاكم من المسلمين وآخر من النصارى، فإن أبى الرجوع إلى الإسلام تمادى على ما أراد؛ ولا يعاقب من قتل نصرانيًّا أيام الحرب، ولا يؤخذ ما سلب من النصارى أيام العداوة، ولا يكلف المسلم بضيافة أجناد النصارى ولا يسفر لجهة من الجهات , ولا يزيدون على المغارم المعتادة، وترفع عنهم جميع المظالم المحدثة، ولا يطلع نصراني للسور، ولا يتطلع على دور المسلمين، ولا يدخل مسجدًا من مساجدهم، ويسير المسلم في بلاد النصارى آمنًا في نفسه وماله، ولا يجعل علامة كما يجعل اليهود [1] ، وأهل الدجن , ولا يمنع مؤذن ولا مُصلٍّ ولا صائم ولا غيره من أمور دينه، ومن ضحك منهم يعاقَب، ويُتركون من المغارم سنين معلومة، وأن يوافق على كل الشروط صاحب رومة ويضع خط يده، وأمثال هذا مما تركنا ذكره، انتهى المراد منه. نقض الأسبانيول عهد مسلمي الأندلس وتنكيلهم بهم وإكراههم على التنصر قال صاحب المختصر المذكور: ولنذكر حالة بقية مسلمي الأندلس بعد ذهاب ملكهم فيها فنقول: ورد في تاريخ (الإسلام في إسبانية) تأليف ستانلي لانبول ما محصله (إن آخر أنفاس أبي عبد الله على تلك الربوة لم يكن بآخر حر أنفاس المسلمين في تلك الديار، بل بداية أنفاس يرسلونها الصعداء، وافتتاح عهد انتقام وابتلاء، وإن أسقف غرناطة الأول هرناندو دوتالافيره كان رجلاً حليمًا عادلاً، أحسن معاملة المغاربة، وأبى الجور عليهم، وتعلم العربية، وكان يصلي بها، وعلى يده ارتد ألوف من المغاربة إلى النصرانية، قيل: إن ثلاثة آلاف تنصروا في يوم واحد، إلا أن الكردينال كسيميناس الذي كان من القسم المحارب بين رؤساء الكنيسة اعتسف السبيل، ومال إلى العنف والإكراه، وأساء معاملة المسلمين، وحمل الملكة إيزابلا على ما بقي نقطة دهماء في تاريخ حياتها من اضطهادهم واستعبادهم وإكراههم على التنصر، فأثار ذلك ساكنهم، وأخرج كامنهم، وفي إحدى المرات حبست امرأة من البيازين لشأن من هذا القبيل، فثار سكان البيازين، وتحصنوا وحملوا السلاح، وكادوا يفتكون بالجند وأوشك الدم أن يسيل بحدة الكردينال كسيميناس. إلا أن المطران هرناندو الموصوف بالوداعة، دخل ربض البيازين بالسكينة والأنس مع نفر قليل من حاشيته بدون سلاح، وسأل القوم عن شكواهم، وتقبلها منهم بالاستماع والاحتفال، وهدأ روعهم وأعاد طائر الأمن إلى وكره، وحجب الدماء يومئذ، على أن كسمينيس المشهور لم يزل يُغوي الملكة، حتى أصدرت أمرها إكراه المسلمين على إحدى الخطتين الجلاء أو النصرانية، وذلك بأنهم كانوا يذكرون المسلمين بأنهم سلالة النصارى في الأصل، فأُقفلت المساجد وأحرقت الكتب، التي هي ثمرات القرون وزبد الحقب، وأذيق المسلمون العذاب أشكالاً وألوانًا، ففضل عامتهم فراق دينهم على فراق أوطانهم، إلا أن شعلة من الحمية الإسلامية بقيت تلمع في جبال البشرات، حيث حمتهم أوعارها من مضطهديهم. وأول جيش أرسل إليهم تحت قيادة الدون ألونزو دواغيلار البطل الشهير انهزم هزيمة شنعاء وذلك في سنة 1501، وقتل الدون المذكور، وقيل: إنه الدون الخامس المقتول من عشيرتهم في حرب المسلمين، فازداد انتقام الأسبانيول من المغاربة بعد هذه الغلبة، وهجم كونت طنديلة على قوجار، وهدم كونت سرين جامعًا على جماعة التجأوا إليه من المسلمين بنسائهم وأطفالهم، وأمسك الملك فرديناند بنفسه الطريق على الفارين من الجبال، فمن بقي حيًّا من الثوار فر إلى مراكش ومصر والبلاد

بطل العرب والإسلام وأندلسهما الجديدة الأمير محمد عبد الكريم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بطل العرب والإسلام وأندلسهما الجديدة الأمير محمد عبد الكريم وقول كاتب أسباني فيه ركدت عاصفة المعارك بين الدولة الأسبانية والأمير محمد عبد الكريم، وخمد لهيبها فبقي جل جمرها تحت الرماد من حيث اشتعلت نارها بينه وبين الدولة الفرنسية في منطقة حكومة المخزن المغربية الواقعة تحت حمايتها، وكان الكثيرون من الناس سيظنون أنَّ تقحُّم هذا البطل بِصِليِّ هذه النار الحامية سيحرق شهرته ويقضي على آماله؛ لما لفرنسة من الشهرة الطائرة في فنون الحرب علمًا وعملاً، ولكن فوزه في حرب الفرنسيس لم يكن دون فوزه في حرب الأسبانيول، بل كان فوزًا قامت له أعرق أمم في أوربة في الحرب وقعدت، فأسقط قيمة نقدها إلى أسفل دركة كانت ألقته فيها الحرب العظمى، واضطرها إلي متابعة سَوق الجيوش من الوطن أرسالاً، واستنفارهم خفافًا وثقالاً، وطفقت صحف العالم تتحدث بدنو الخطر من فاس وتوقع امتداده إلى الجزائر، هذا على كون أخبار الوقائع لا مصدر له دونها، ويعلم جميع الناس سنة الدول كلها في إفراغ هذه الأخبار في القوالب السياسية الموافقة لمصلحتها من كتمان بعض وتمويه بعض، والمنار لا يعنى بنشر الوقائع الحربية ووصف ميادين القتال، وإنما يدخل في موضوعه ما له شأن في الانقلابات والتطور الاجتماعي وأسبابه من حوادث التاريخ. وقد قرأنا في جريدة البيان العربية التي تصدر عن (نيويورك) مقالة لكاتب أسباني اسمه (إنريك دي مناس) ، نشرها في جريدة (هرالد تربيون) النيوركية، وصف بها ما عرف وما اعتقد من حرب الأمير محمد عبد الكريم وشؤونه ومقاصده بعد اختباره الشخصي، إذ كان من الذين شهدوا بعض معارك القتال بينه وبين قومه؛ فرأينا أن ننقل جل هذا المقالة عن عدد البيان الذي صدر في 22 شوال الماضي الموافق 16 مايو (أيار) . بدأ الكاتب كلامه بمقدمة ذكر فيها أن أخبار القتال في الريف لا يصدر شيء منها عن معسكر عبد الكريم، بل كلها تصد عن طريق خصوم العرب، فلا يوثق بشيء منها ولا سبيل إلى معرفة الحقيقة منها إلا لمن يستنبطها من فحوى الكلام، ويستشفها من لحن القول دون صريحه (وعبر عن ذلك بقراءة ما بين السطور وهي كناية عصرية غربية صارت مشهورة) وضرب لذلك المثل ببعض الأخبار الفرنسية المختَلَقَة التي لا تُعقل بحسب الفن العسكري من خسائر العرب وخسائر الفرنسيس، ولا ينسين القارئ أنه أسٍباني عدو لهم وناصح لفرنسة، ثم قال: وقد قدر لي أن حاربت عبد الكريم بنفسي من عهد غير بعيد، فأنا لذلك أعرف بعض الشيء عن نشاط الريفيين وشدة مراسهم، وأشهد علنًا بالقلم واللسان ببطولتهم، رأيت بعيني أولئك العرب الشجعان يواجهون المدافع الرشاشة، ويهاجمون رجالها غير مبالين بنيرانها الآكلة حتى كأنها ليست موجودة أو أنها عديمة الأذى، ومن أجل هذا أقول: إن دعوى الفرنساويين بأن مثل هؤلاء الأبطال يتراجعون إلى الوراء بسبب خمسين رجلاً من الأقوال المضحكة. فالمصيبة في هذا هي أن الأمير كان وغيرهم من أهل الغرب الموالين لفرنسة والمريدين لها الفوز يقبلون على هذه الأنباء كأنها آيات منزلة، ويصدقونها فلا يجهدون العقول ولو قليلاً للتمييز بين غثها وسمينها أو صدقها وكذبها، وهذا هو الباعث على خفاء حقيقة الخطر الكبير الذي يهدد كل أوربة من جانب المشكل المراكشي [1] ؛ ولهذا عقدت العزيمة على كتابة هذا المقال؛ لكي أوضح فيه نيات الريفيين وما يرمون إليه في ثورتهم هذه من الوجهتين السياسية والدينية. فالحركة التي يقوم بها عبد الكريم الآن متأتية في أصلها عن البواعث التالية: لقد كانت فرنسا تسعى من زمن غير يسير إلى موالاة القبائل المراكشية المختلفة، والاتفاق معها على ترويج المتاجر الفرنساوية هناك وذلك بواسطة الشريف حرقاوي، وهو زعيم كبير من قبيلة بني مولود، وقد حصرت أكثر قواها في ترويج هذه السياسة في قبيلة بني زروال المجاورة لقبيلة بني مولود، ثم إن القسم الأكبر من قبيلة بني زروال تحت زعامة ابن مناله وهو زعيم كثير الطموح صمم العزيمة عندما وجد نفسه في مركز منيع يخطب وده فيه الفرنساويون من جهة وعبد الكريم من جهة أخرى على سياسة مزدوجة. وكان في هذا الوقت أحد مناصري عبد الكريم وهو الفقيه الزهاري قد ناجز الشريف حرقاوي في وقعات عديدة، لم يكن فيها نصر فاصل لأحدهما، فابن مناله حافظ على خطة الحياد وهو لكي يقي رجاله من أن يستميلهم الفرنساويون أو العرب إليهم، ويحفظ ما له من السيطرة عليهم مال إلى استعمال القسوة فيهم؛ فأدى ذلك إلى تذمر شديد بينهم، فعلم عبد الكريم بذلك؛ لأنه كان يرقبهم بعين ساهرة، وسعى إلى اغتيال ابن مناله بوسائل مختلفة أهمها الرشوة والوعود التي بذلها لمحبي الزعامة فيهم. كان ذلك في شهر مارس (آذار) من هذا العام، فلما تخلص عبد الكريم من ابن مناله وتمكن بدهائه من إزالة ما للحرقاوي من النفوذ، أدرك أنه قد أصبح في مركز منيع يساعده على مهاجمة فرنسة؛ فحشد جموعه على ما علمنا قريبًا من تازه على مسافة ثلاثين ميلاً من فاس شمالاً بشرق، وأرسل كتائب من أنصاره؛ لتعيث فسادًا في منطقة متالزا الفرنساوية على التخوم التي تفصل بين مراكش الأسبانية ومراكش الفرنساوية، وكان الفرنساويون قد أنشأوا على مقربة من تازه عدة مراكز عسكرية، وعمل فرنسة في إنشاء تلك المراكز خطأ فاضح من الوجهة الحربية. ذلك أن مثل هذه المواقع العسكرية التي عرفت أسبانية بعد فوات الوقت أنها علة شقائها، والتي أمر المسيطر الأسباني دي ريفيرا بتخليتها في الحال يمكن قطعها عن مجموع الجيش بسهولة ومحاصرتها ومنع النجدات عنها، ولما كان عبد الكريم قد عرف باختباراته الماضية ملاءمة هذه المواقع العسكرية لحركاته لم يُضيع دقيقة من الوقت في التردد في مهاجمتها؛ لعلمه بأن ذلك هو الشيء الوحيد الذي يكسبه التفوق (أولاً) لأنها قريبة (وثانيًا) لأن فصلها عن بقية الجيش سهل للغاية (وثالثًا) لأن أول انتصار يحرزه مهما يكن قليل الشأن ينشط أتباعه، ويثير في صدورهم روح الشجاعة ويحملهم على المخاطرة والإقدام. وأنا أعتقد أن المواقع العسكرية الفرنساوية المحصورة المسلحة بمدافع رشاشة وغيرها عديدة ستتمكن من المقاومة وقتًا طويلاً، ولكن الصعوبة هي في طريقة تمكن فرنسة من إمدادها بالمؤن والذخائر، فإذا لم يحصل المحصورون على أقوات جديدة ومياه صالحة للشرب تصير مقاومتهم عديمة الجدوى، وبما أن الريفيين يدركون هذه الأمور فهم قد زادوا عدد المراقبين للطرق المؤدية إلى تلك المعاقل لكي يحولوا - مهما كلفهم ذلك - دون وصول أقوات إلى الرجال الذين فيها والذين يعدهم الريفيون الآن من أسراهم. وطريقة العرب في الحرب هي أن لا يوجدوا مقاومة رسمية منظمة إلا ما كان منها في الأقاليم الجبلية أو في الأماكن الملائمة لهم بنوع خاص، فأساليبهم الحربية منحصرة في الدفاع عن موقف معلوم وقتًا معلومًا عندما يهاجمهم العدو، ومن ثم ينهزمون منه اختيارًا يوهمون مهاجميهم إمكان الظفر بهم بسهولة، ولكنهم يعودون ذات ليلة أو في نفس تلك الليلة كأنما قد خرجوا من جوف الأرض، ويقومون بمهاجمة عنيفة، فهذه الطريقة قد مكنتهم من أعدائهم، وسهلت لهم الحصول على الغنائم والأسلاب، وتبديد شمل العدو. فالجيش الفرنساوي المؤلف من 12000 رجل تحت قيادة الجنرال ليوتي في الوقت الحاضر لا يكفي لسوى حماية مدينة فاس وأرباضها، على أنه لا يقوى على الحراك أو على مناهضة عبد الكريم إلا بعد أن تصله النجدات المنتظرة من الجزائر، وهي فيما يقال: ستكون متراوحة في العدد بين 15000 و 20000 جندي، وعندها يزحف إلى إنقاذ المعاقل العسكرية المحصورة على أن تلك النجدات سوف تلاقي صعوبات جمة في الوصول إليه؛ لأنها مضطرة إلى عبور نهر أوترغا، وهو في هذه الأيام بحالة فيضان يتعذر معها عبوره. وفي رأيي أن فرنسة لا تَقوى على مواجهة عبد الكريم بما يصون ماء وجهها في العراك بأقل من أربعين إلى خمسين ألف جندي، ومن المعلوم أن عجز فرنسة عن مناهضة عبد الكريم وصد هجماته قد أوجدت تأثيرًا سيئًا في نفوس القبائل التي لا تزال موالية لها، والتي قد تنقلب إلى أعداء في أقل من ارتداد الطرف كما قد وقع لأسبانية، فإذا جرى هذا يصبح موقف فرنسة في تلك الأرجاء حرجًا كبير الخطر. وأنا أعتقد أن فرنسة قد ارتكبت خطأ فظيعًا في غض نظرها عن النكبات التي لحقت بأسبانية في مراكشها مدة خمس عشرة سنة، فهي فيما أظن قد اعتقدت أن عبد الكريم بالرغم مما أحرزه من الانتصارات على أسبانية لا تحدثه نفسه بمهاجمة فرنسة، ففي هذا لم تكن ذات نظر بعيد، وقد كان من حقها أن تدرك أن سَكرة النصر التي قد تتملك عبد الكريم تحمله يومًا من الأيام على التمادي في إبعاد كل الأجانب عن بلاده - وهكذا يهاجم فرنسة - تلك أمور قد أدركها كثيرون من زمن طويل، وأما فرنسة فقد عجزت عن إدراكها. وإنني على ما يدعيه بعض الفرنساويين من أن العرب يكرهون الأسبانيين أقول عن اختبار: إنهم يكرهون الفرنساويين أضعاف ذلك، نعم إنهم كانوا يبدون احترامًا أكثر لفرنسة، ولكن ذلك الاحترام ناتج عن خوف لا عن حب، فالعرب كما لا يخفى لا يحترمون سوى القوة، وبما أنهم كانوا إلى اليوم يعتقدون أن فرنسة في مراكش أقوى منهم بالشيء الكثير لم يفكروا في مهاجمتها، وعلى هذا أقول: إن الفتنة الحالية منظورًا إليها من كل الجهات هي من الحركات العظيمة الأهمية، وقد تكون أهميتها في هذا الحين غير بادية للعيان إلا أن المستقبل مخيف. ويمكنني أن أدعي بعض العلم بالخطط التي رسمها عبد الكريم لنفسه،استقيت ذلك من صديق لي اسمه خوزي دياز، وهو من الناس القلائل الذين زاروا عبد الكريم في منزله بأكسدير، علمت من هذا الصديق وغيره أن عبد الكريم يفاوض على الدوام زعماء العالم الإسلامي في كل مكان في العالم، وغرضه من ذلك إيجاد حركة عدائية ضد كل الدول المسيحية التي تحتل بلدانًا إسلامية، وعبد الكريم يعتمد في خلق ما يلزمه من القوة على تعصب العرب الديني وهو يؤجج نيرانه ليبلغ من ذلك مُناه في طرد أسبانية وفرنسة من مراكش [2] ودعاية عبد الكريم مبثوثة بين جميع القبائل تدعوهم إلى مناصرته للبطش بالطامعين بأراضي الإسلام، وتؤكد لهم أنه سيقذف بهم جميعًا إلى البحر. ومما هو جدير بالذكر أن عبد الكريم ليس بطلاً مجربًا فقط فقد حدثته في مواضع كثيرة وحدثه غيري كثيرون، فهو رجل واسع الاطلاع وفيه ذكاء ودهاء وتعقل بمقدار يندر وجود مثله في رجل واحد، والرجل يعتقد أن عليه واجبًا وطنيًّا، وهو يعرف كل الحوادث المتعلقة بمدة السبعمائة سنة التي سيطر فيها العرب على أسبانية، وهو وأخوه الذي تلقى فن الهندسة في مدريد قد جالا في كثير من البلدان المتمدنة، وسكنا زمنًا طويلاً في جنوبي أسبانية. وفي مدة إقامة عبد الكريم في ذلك الجانب من أسبانية شاهد آثار أمجاد العرب الباقية في كل مكان من تلك البلاد، ولا سيما في غرناطة، فأثر ذلك فيه أيما تأثير، وولد فيه نزوعًا إلى محاولة استعادة أمجاد الأجداد، وهو أمر نبيل يشكر عليه الرجل مهما قيل عن مساوئه وأخطاره، وقد بث هذه الدعوة العربية في كل مكان بواسطة المشايخ والأئمة الذين يتجولون من مكان إلى آخر، ولهم سلطة معروفة على العامة. وقد لقب عبد الكريم نفسه منذ زمن بعيد برئيس جمهورية الريف حت

الحج في هذا العام (1343)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحج في هذا العام (1343) كان للدول المستعمرة المسيطرة على الشعوب الإسلامية غرض واحد من السعي لمنع الحج وهو معروف لكل المسلمين بسياسة الاستعمار، فصار لهم في هذا العام غرضان، ثانيهما: أن لا ترى شعوبهم إدارة إسلامية صالحة في حرم الله عز وجل كإدارة السلطان عبد العزيز آل سعود، فيحدث لهم أمل جديد في حكومة إسلامية عادلة مستعدة لأن تكون دولة قوية، تقدر أن تنقذ الحرمين الشريفين من وقوعهما تحت سيطرة الاستعمار الذي رضيه لهما الشريف حسين وأولاده علي وعبد الله فيصل كما رضوه للعراق وسورية وفلسطين، على شرط أن يكونوا ملوكًا وأمراء فيه تحت السيادة الإنكليزية، كما بيناه مرارًا بالبراهين التي لم يقدر أن ينقضها أحد منهم ولا من أُجَرائهم. أذاع السلطان عبد العزيز منشورًا في الدعوة إلى أداء فريضة الحج، ونشر في جريدة أم القرى المكية، ووزعت منه نسخ مستقلة كثيرة في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، ونشر في أشهر صحف مصر وسورية والهند وجاوه وغيرها من الأقطار، ذكر فيه أمن الطريق، وفتح ثلاث من ثغور الحجاز لنزول الحجاج فيها، القنفذة والليث في جنوب جدة ورابغ في شمالها، فطفق الأجانب يدسون الدسائس ويثيرون الهواجس والوساوس؛ لتخويف المسلمين من سبيل الحج، ويدَّعون أن جيوش الشريف على المحصور في جدة وأساطيله واقفة للحجاج بالمرصاد، فهم على خطر أينما توجهوا من بر وبحر، وأن الحجاز ولا سيما مكة المكرمة في مجاعة، فيخشى على من يجيئها من الحجاج أن يموتوا جوعًا إن هم نجوا من جيوش الشريف علي (ملك الحجاز) وتجاوبت بمثل هذا البرقيات الإنكليزية من جدة ولندن والهند، ولبعضها صفة رسمية بريطانية، كزعم قنصل الإنكليز في جدة عدم صلاحية الثغور المذكورة لنزول الحجاج، وعدم وجود الأقوات وغيرها مما يحتاجون إليه، فيها حتى نصحت الحكومة الهندية البريطانية مسلمي الهند بأن لا يحج أحد منهم في هذا العام، فلم يقبلوا نصحها (وقد يستفيد الظنة المتنصح) وتابعتها حكومة مصر فنصحت للمصريين بمثل ذلك، وزادت أن فرضت على من يريد الحج دفع تأمين لها ضِعفَي ما كانت تأخذه من كل حاج عاقبة ذلك على مثل هذه الإذاعات التي كانت تنشرها جريدة المقطم، المنشأة؛ لخدمة السياسة البريطانية والمنفردة بترويج الدعاية الحجازية، حتى إن أحد محرريها قال لبعض الناس قبل نشر الحكومة لقرارها بأيام: إننا قد نجحنا في منع الحج في هذا العام، ولا غرو فنفوذ الإنكليز بمصر في هذه الأيام، أقوى مما كان في كل زمان، وإننا كنا طبعنا نداء سلطان نجد عند وصوله، ووزعنا منه نسخًا كثيرة وهذا نصه: نداء عام إلى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. مكة المكرمة 1 شعبان سنة 1343 ... 25 فبراير سنة 1925. من سلطان نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود إلى كافة إخواننا المسلمين في أقاصي الأرض وأدانيها. نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ونستفتح بالذي هو خير، وبعد فلقد مَنَّ الله علينا وأمدنا بعنايته في دخول هذه البلاد المقدسة، وتفضَّلَ علينا ومكننا من طرد الحسين وأولاده الفئة الباغية من هذه الديار المطهرة، وبذلك زالت والحمد لله دولة الظلم والجبروت، وحلت الشريعة السمحة محل الأغراض والأهواء، وتوزع العدل بين الناس سواء في ذلك الصغير والكبير والشريف والوضيع، فسَادَ النظام في البلدة المطهرة وفي سائر أنحاء البلاد، واستتبَّ الأمن وعمَّتْ السكينة والطمأنينة سائر الأرجاء بصورة لم تعهد من قبل، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة: 54) , وهذا مصداق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) تبارك وتعالى. هذه هي الحقيقة الراهنة في البلاد، ولكن الحسين وأولاده وأشياعهم قعدوا في الخارج يخلقون الأراجيف، ويشيعون الأكاذيب عن الموقف الحربي في الحجاز وعما يمكن أن يؤول موسم الحج في هذا العام تضليلاً للأفكار وتشويهًا للحقائق. ولما كان من أجلِّ مقاصدنا خدمة الإسلام والعالم الإسلامي، وهو المبدأ الذي اتخذناه عند الشروع في هذه القضية العظيمة الشأن، رأيت الواجب يدعوني لأبين للمسلمين عامة ما يأتي: (1) أن جندنا قد حصر علي بن الحسين وجنده وقُواه في بلدة جدة التي أحاطها بالأسلاك والحصون، وضيق عليه تضييقًا عظيمًا، وسيخرجه منها في وقت قريب إن شاء الله تعالى. (2) أننا نرحب ونبتهج بقدوم وفود حجاج بيت الله الحرام من كافة المسلمين في موسم هذه السنة، ونتكفل بحول الله بتأمين راحتهم والمحافظة على جميع حقوقهم، وتسهيل أمر سفرهم إلى مكة المكرمة من إحدى المواني التي ينزلون إليها وهي رابغ أو (الليث) أو (القنفدة) وقد أحكم فيها النظام واستتب الأمن استتبابًا تامًّا منذ دخلتها جيوشنا، وسنتخذ من التدابير في هذه المراكز جميع الوسائل التي تكفل تأمين راحة الحجاج إن شاء الله تعالى. (3) أعلن لكافة إخواننا المسلمين أنه لم يبق أثر للمشاكل والعراقيل التي كان يضعها الحسين ضد المشاريع الخيرية والاقتصادية، وأن أبواب الحجاز مفتوحة لجميع من يريد القيام بأي عمل خيري أو اقتصادي، وأن الحكومة المحلية مستعدة للقيام بجميع التسهيلات الممكنة؛ لتنشيط من يريد القيام بهذه المشاريع الخيرية والاقتصادية. هذا ما أردنا إعلانه للناس كافة؛ ليحيط الجميع علمًا به، سائلاً الله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، ويهدينا وإياكم إلى سبيل الرشاد، إنه ولي التوفيق، نعم المولى ونعم النصير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سلطان نجد ... ... عبد العزيز عبد الرحمن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الفيصل السعود

عاقبة الشريف حسين بن علي مع الإنكليز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عاقبة الشريف حسين بن علي مع الإنكليز كتبت في الرحلة الحجازية فصلاً في صفات هذا الرجل وشمائله، وكان ذلك قبل اليأس من كل خير يُرجى منه لأمته وملته، والجزم بأنه لا يُتَوقع منه إلا الشر، على أنني لم أكن حرًّا في التصريح برأيي كله فيه عند كتابته، ومع شدة احتراسي من التصريح بانتقاد ما ينتقد منه، لأنني لم أكن أرى ذلك من المصلحة ولا من الذوق والأدب، ولأن ذلك كان في عهد المراقبة على الصحف، ولا سيما المنار، وقد أمرت المراقبة الإنكليزية بحذف بعض الجمل من ذلك الفصل لم تأمر بحذفه المراقبة المصرية قبلها، وكان ما يكتب في المنار من مسائل الحرب والبلاد العربية ونحوها يراقَب مراقبة مزدوجة. وَصَفْتُه في ذلك الفصل بشدة الاستبداد والعناد بسوء الظن وعدم الثقة بأحد، ولكن جعلت ذلك في معرض مظهره المدح ثم قلت: وقد وقفت منه على آراء سيكون لها أعظم شأن في سياسته، منها يأسه من الدولة العثمانية، ومنها (أن له ثقة بالدولة البريطانية وتقديرًا لقوتها وعظمتها لا حد لهما ولا سلطان لشيء عليهما) وعنيت بهذا أنه لا يمكن تحويله عن شيء من ذلك ببرهان عقلي ولا سياسي ولا ديني ولا بمراعاة مصلحة قومية إلخ. ثم كان من مصداق هذا القول فيه أنه رضي لنفسه أن يكون موظفًا بريطانيًّا في الحجاز، فكان إذا استاء من شيء يطلب من الحكومة الإنكليزية إقالته من ملك الحجاز وتعيين غيره في مكانه، حتى إنه نشر خبر استقالته في جريدته (القبلة) ونشر مرة صورة برقية، أرسلها إلى مدير جريدة التيمس، يرجوه فيها بأن يقنع حكومته بقبول استقالته، ونصح له غيرنا وكنا نصحنا له كغيرنا وأنى يقبل نصيحة أحد؟ . فكان عاقبة جهله وغروره واستبداده برأيه أن خذله الإنكليز في كل شيء، بعد أن نالوا منه ومن أولاده ما ثبت به لكل أحد مطلع على أمرهم وأمر العالم أنهم خانوا أُمتهم، ونبذوا دينهم وشرفهم وراء ظهورهم في خدمتهم، تعددت أحداث خذلانهم له هو، وبقي مصرًّا على الاتكال عليهم والثقة بحسياتهم النجيبة، وقد طرده سلطان نجد من مكة فانهزم إلى العقبة آخر ثغور الحجاز الشمالية، وكان الإنكليز خدعوه بأن يضم منطقة العقبة ومعان إلى إمارة ولده عبد الله (شرقي الأردن) ففعل وهو يتخيل أنها من مملكته العربية، وأنه هو الذي ولى نجله المحبوب عليها! ! ثم كان عاقبة هذه الجناية والخيانة أن أمره الإنكليز بالخروج من هذه المنطقة والسفر إلى البصرة، حيث أعد له نجله فيصل قصرًا لائقًا بمقامه، فتمنع وقال: إنه لا يخرج من أرض الحجاز مختارًا، فسررنا بذلك وعزمت على كتابة مقالة في تأييده والدفاع عنه والاحتجاج على الإنكليز، وكاشفت بعض أصدقائي بذلك، ولكن لم نلبث أن نُبِّئنا بأنه خضع وخنع عملاً برأي ولده عبد الله، وأبسل نفسه فأرسلوه إلى جزيرة قبرص حيث أعدت له الحكومة الإنكليزية دارًا لائقة به؛ ليقيم في ظل عَلمها الظليل، كما اقترح عليها من قبل مرارًا {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى} (الروم: 10) وإنما العاقبة الحسنى للمتقين، وسنعود إلى تفصيل القول في هذه المسألة وبيان العبرة فيها. ونختم هذه الكلمة هنا بإنذار الحكومة البريطانية أن لا تغتر بسوء حال المسلمين وتواكلهم، فتضم شيئًا من أرض الحجاز إلى ما نسميه منطقة الانتداب، فقد أصبح جميع الناس يعرفون معنى هذا الانتداب، وشروعها في الاستيلاء على الحجاز، إن هي تجرأت عليه سيكون مبدأ زوال سلطانها من الشرق الإسلامي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية ـ 2

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ مناظرة ابن تيمية العلنية لدجاجلة البطائحية الرفاعية كتبها شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية -نفسه رضي الله عنه (2) قال المخبر: فغدا أولئك الأمراء الأكابر، وخاطبوا فيهم نائب السلطان بتعظيم أمرهم الباهر، وذكر لي أنواعًا من الخطاب، والله تعالى أعلم بحقيقة الصواب، والأمير مستشعر ظهور الحق عند التحقيق، فأعاد الرسول إلي مرة ثانية فبلغه أنَّا في الطريق، وكان كثير من أهل البدع الأضداد، كطوائف من المتفقهة والمتفقرة وأتباع أهل الاتحاد، مجدين في نصرهم بحسب مقدورهم، مجهزين لمن يعينهم في حضورهم، فلما حضرت وجدت النفوس في غاية الشوق إلى هذا الاجتماع، متطلعين إلى ما سيكون طالبين للاطلاع، فذكر لي نائب السلطان وغيره من الأمراء، بعض ما ذكروه من الأقوال المشتملة على الافتراء، وقال: إنهم قالوا: إنك طلبت منهم الامتحان، وأن يحموا الأطواق نارًا ويلبسوها، فقلت: هذا من البهتان. وها أنا ذا أصف ما كان قلت للأمير: نحن لا نستحل أن نأمر أحدًا بأن يدخل نارًا، ولا يجوز طاعة من يأمر بدخول النار، وفي ذلك الحديث الصحيح، وهؤلاء يكذبون في ذلك، وهم كذابون مبتدعون قد أفسدوا من أمر دين المسلمين ودنياهم ما الله به عليم، وذكرت تلبيسهم على طوائف من الأمراء، وأنهم لبسوا على الأمير المعروف بالأيدمري، وعلى قفجق نائب السلطنة وعلى غيرهما، وقد لبسوا أيضًا على الملك العادل كتبغا في ملكه، وفي حالة ولاية حماه وعلى أمير السلاح أجل أمير بديار مصر، وضاق المجلس عن حكاية جميع تلبيسهم، فذكرت تلبيسهم على الأيدمري، وأنهم كانوا يرسلون من النساء من يستخبر عن أحوال بيته الباطنة، ثم يخبرونه بها على طريق المكاشفة، ووعدوه بالملك، وأنهم وعدوه أن يروه رجال الغيب، فصنعوا خشبًا طوالاً، وجعلوا عليها من يمشي كهيئة الذي يلعب باكر الزجاج، فجعلوا يمشون على جبل المزّة وذاك يرى من بعيد قومًا يطوفون على الجبل وهم يرتفعون عن الأرض، وأخذوا منه مالاً كثيرًا، ثم انكشف له أمرهم. قلت للأمير وولده: هو الذي في حلقة الجيش يعلم ذلك، وهو ممن حدثني بهذه القصة، وأما قفجق فإنهم أدخلوا رجلاً في القبر يتكلم أوهموه أن الموتى تتكلم، وأتوا به في مقابر باب الصغير إلى رجل زعموا أنه الرجل الشعراني الذي بجبل لبنان، ولم يقربوه منه، بل من بعيد؛ لتعود عليه بركته، وقالوا: إنه طلب منه جملة من المال، فقال قفجق: الشيخ يكاشف وهو يعلم أن خزائني ليس فيها هذا كله، وتقرب قفجق منه، وجذب الشعر؛ فانقلع الجلد الذي ألصقوه على جلده من جلد الماعز، فذكرت للأمير هذا، ولهذا قيل لي: إنه لما انقضى المجلس، وانكشف حالهم للناس كتب أصحاب قفجق إليه كتابًا، وهو نائب السلطنة بحماه، يخبره بصورة ما جرى. وذكرت للأمير أنهم مبتدعون بأنواع من البدع مثل الأغلال ونحوها، وإنا نهيناهم عن البدع الخارجة عن الشريعة، فذكر الأمير حديث البدعة، وسألني عنه، فذكرت حديث العرباض بن سارية، وحديث جابر بن عبد الله، وقد ذكرتهما بعد ذلك في المجلس العام كما سأذكره. قلت للأمير: أنا ما امتحنت هؤلاء، لكن هم يزعمون أن لهم أحوالاً يدخلون بها النار، وأن أهل الشريعة لا يقدرون على ذلك، ويقولون لنا: هذه الأحوال التي يعجز عنها أهل الشرع، فليس لهم أن يعترضوا علينا، بل يسلم إلينا ما نحن عليه سواء وافق الشرع أو خالفه، وأنا قد استخرت الله سبحانه أنهم إن دخلوا النار أدخل أنا وهم، ومن احترق منا ومنهم فعليه لعنة الله وكان مغلوبًا، وذلك بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فقال الأمير: ولم ذاك؟ قلت: لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع وباطن قشر البارنج وحجر الطلق، وغير ذلك من الحيل المعروفة لهم، وأنا لا أطلي جلدي بشيء، فإذا اغتسلت أنا وهم بالخل والماء الحار بطلت الحيلة وظهر الحق، فاستعظم الأمير هجومي على النار، وقال: أتفعل ذلك؟ فقلت له: نعم قد استخرت الله في ذلك، وأُلقيَ في قلبي أن أفعله، ونحن لا نرى هذا وأمثاله ابتداء، فإن خوارق العادات إنما تكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين له باطنًا وظاهرًا لحجة أو حاجة، فالحجة لإقامة دين الله، والحاجة لما لا بد منه من النصر والرزق الذي به يقوم دين الله، وهؤلاء إذا أظهروا ما يسمونه إشاراتهم وبراهينهم التي يزعمون أنها تبطل دين الله وشرعه، وجب علينا أن ننصر الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ونقوم في نصر دين الله وشريعته بما نقدر عليه من أرواحنا وجسومنا وأموالنا، فلنا حينئذ أن نعارض ما يظهرونه من هذه المخاريق بما يؤيدنا الله به من الآيات. وليعلم أن هذا مثل معارضة موسى للسحرة لما أظهروا سحرهم، أيد الله موسى بالعصا التي ابتلعت سحرهم، فجعل الأمير يخاطب من حضره من الأمراء على السماط بذلك، وفرح بذلك وكأنهم كانوا قد أوهموه أن هؤلاء لهم حال لا يقدر أحد على رده، وسمعته يخاطب الأمير الكبير الذي قدم من مصر الحاج بهادر، وأنا جالس بينهما على رأس السماط بالتركي ما فهمته منه أنه قال: اليوم نرى حربًا عظيمًا، ولعل ذاك كان جوابًا لمن كان خاطبه فيهم على ما قيل. وحضر شيوخهم الأكابر فجعلوا يطلبون من الأمير الإصلاح وإطفاء هذه القضية ويترفقون، فقال الأمير: إنما يكون الصلح بعد ظهور الحق، وقمنا إلى مقعد الأمير بزاوية القصر أنا وهو وبهادر فسمعته يذكر له أيوب الحمال بمصر والمولهين ونحو ذلك فدل ذلك على أنه كان عند هذا الأمير لهم صورة معظمة، وأن له فيهم ظنًّا حسنًا والله أعلم بحقيقة الحال فإنه ذكر لي ذلك. وكان الأمير أحب أن يشهد بهادر هذه الواقعة ليتبين له الحق، فإنه من أكابر الأمراء وأقدمهم وأعظمهم حرمة عنده، وقد قدم الآن وهو يحب تأليفه وإكرامه، فأمر ببساط يبسط في الميدان، وقد قدم البطائحية وهم جماعة كثيرون، وقد أظهروا أحوالهم الشيطانية من الإزباد والإرغاء وحركة الرؤوس والأعضاء، والطفر والحبو والتقلب، ونحو ذلك من الأصوات المنكرات، والحركات الخارجة عن العادات، المخالفة لما أمر به لقمان لابنه في قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ} (لقمان: 19) . فلما جلسنا وقد حضر خلق عظيم من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء والعامة وغيرهم، وحضر شيخهم الأول المشتكي، وشيخ آخر يُسمي نفسه خليفة سيده أحمد ويركب بعلمين، وهم يسمونه عبد الله الكذاب، ولم أكن أعرف ذلك، وكان من مدة قد قدم علي منهم شيخ بصورة لطيفة، وأظهر ما جرت به عادتهم من المسائلة، فأعطيته طِلْبته، ولم أتفطن لكذبه حتى فارقني، فبقي في نفسي أن هذا خفي عليَّ تلبيسه إلى أن غاب، وما يكاد يخفى عليَّ تلبيس أحد، بل أدركه في أول الأمر، فبقي ذلك في نفسي ولم أره قط إلى حين ناظرته، ذكر لي أنه ذاك الذي كان اجتمع بي قديمًا، فتعجبت من حسن صنع الله أنه هتكه في أعظم مشهد يكون حيث كتم تلبيسه بيني وبينه. فلما حضروا تكلم منهم شيخ يقال له حاتم بكلام مضمونه طلب الصلح، والعفو عن الماضي والتوبة، وإنا مجيبون إلى ما طلب من ترك هذه الأغلال وغيرها من البدع ومتبعون للشريعة (فقلت) أما التوبة فمقبولة قال الله تعالى: {غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ} (غافر: 3) هذه إلى جنب هذه، وقال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر: 49-50) فأخذ شيخهم المشتكي ينتصر للبسهم الأطواق، وذكر أن وهب بن منبه روى: أنه كان في بني إسرائيل عابد، وأنه جعل في عنقه طوقًا في حكاية من حكايات بني إسرائيل لا تثبت، (فقلت) لهم ليس لنا أن نتعبد في ديننا بشيء من الإسرائيليات المخالفة لشرعنا، قد روى الإمام أحمد في مسنده عن جابر ابن عبد الله أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى بيد عمر بن الخطاب ورقة من التوراة فقال: (أمتهوكون يا ابن الخطاب لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لو كان موسى حيًّا ثم اتبعتموه وتركتمونني لضللتم) وفي مراسيل أبي داود أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى مع بعض أصحابه شيئًا من كتب أهل الكتاب فقال: (كفى بقوم ضلالة أن يتبعوا كتابًا غير كتابهم، أنزل إلى نبي غير نبيهم) وأنزل الله تعالى {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) فنحن لا يجوز لنا اتباع موسى ولا عيسى فيما علمنا أنه أنزل عليهما من عند الله إذا خالف شرعنا، وإنما علينا أن نتبع ما أنزل علينا من ربنا، ونتبع الشرعة والمنهاج الذي بعث الله به إلينا رسولنا كما قال تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) ، فكيف يجوز لنا أن نتبع عباد بني إسرائيل في حكاية لا تُعلم صحتها، وما علينا من عباد بني إسرائيل {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 134) هات ما في القرآن وما في الأحاديث الصحاح كالبخاري ومسلم، وذكرت هذا وشبهه بكيفية قوية. فقال هذا الشيخ منهم يخاطب الأمير: نحن نريد أن تجمع لنا القضاة الأربعة والفقهاء، ونحن قوم شافعية (فقلت) له: هذا غير مستحب ولا مشروع عند أحد من علماء المسلمين، بل كلهم ينهى عن التعبد به ويعده بدعة، وهذا الشيخ كمال الدين بن الزملكاني مفتي الشافعية ودعوته، وقلت: يا كمال الدين ما تقول في هذا؟ فقال: هذا بدعة غير مستحبة بل مكروهة أو كما قال، وكان مع بعض الجماعة فتوى فيها خطوط طائفة من العلماء بذلك (وقلت) ليس لأحد الخروج عن شريعة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وأشك هل تكلمت هنا في قصة موسى والخضر، فإني تكلمت بكلام بعُد عهدي به. فانتدب ذلك الشيخ عبد الله، ورفع صوته وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة، لا يوقف عليها، وذكر كلامًا لم أضبط لفظه مثل المجالس والمدارس والباطن والظاهر، ومضمونه أن لنا الباطن ولغيرنا الظاهر، وأن لنا أمرًا لا يقف [1] عليه أهل الظاهر، فلا ينكرونه علينا (فقلت) له ورفعت صوتي وغضبت: الباطن والظاهر والمجالس والمدارس والشريعة والحقائق، كل هذا مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء، ولا من العلماء والقضاة وغيرهم، بل جميع الخلق عليهم طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذكرت هذا ونحوه. (فقال) ورفع صوته: نحن لنا الأقوال وكذا وكذا، وادعى الأحوال الخارقة كالنار وغيرها، واختصاصهم بها، وأنهم يستحقون تسليم الحال إليهم لأجلها (فقلت) ورفعت صوتي وغضبت: أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها:أي شيء فعلوه في النار فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، وربما قلت فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك، فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع، وقشر النارنج وحجر الطلق، فضجَّ الناس بذلك، فأخذ يظهر القدرة على ذلك، فقال: أنا وأنت نلف في بارية بعد أن تطلى جسومنا بالكبريت (فقل

أثارة من التاريخ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أثارة من التاريخ في حالة نجد قبل الشيخ محمد عبد الوهاب وما قام به من التجديد والإصلاح قال الشيخ سليمان بن سحمان في كتابه (تبرئة الشيخين) : قال أبو بكر حسين بن غنام - رحمه الله - في تاريخه: (وقد كان في بلدان نجد من ذلك أمر عظيم، والكل على تلك الأحوال مقيم، وفي ذلك الوادي مسيم {حَتَّى جَاءَ الحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} (التوبة: 48) ، وقد مضوا قبل بدو نور الصواب، يأتون من الشرك بالعجاب، ينسلون إليه من كل باب، ويكثر منهم ذلك عند قبر زيد بن الخطاب , ويدعونه؛ لتفريج الكرب بفصيح الخطاب، ويسألونه كشف النوب من غير ارتياب، {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (يونس: 18) ، وكان ذلك في الجبيلة مشهورًا، بقضاء الحوائج مذكورًا، وكذلك قرية في الدرعية، يزعمون أن فيها قبورًا، أصبح فيها بعض الصحابة مقبورًا، فصار حظهم في عبادتها موفورًا، فهم في سائر الأحوال عليها يعكفون {أَئِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} (الصافات: 86) ؟ وكان أهل تلك التربة أعظم في صدورهم من الله خوفًا ورهبة، وأفخم عندهم رجاء ورغبة، فلذلك كانوا في طلب الحاجات بهم يبتدون {قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) ، وفي شعب غبيرا يفعل من الهجر والمنكر، ما لا يعهد مثله، ولا يتصور، ويزعمون أن فيه قبر ضرار بن الأزور، وذلك كذب محض وبهتان مزور، مثله لهم إبليس وصور، ولم يكونوا به يشعرون، وفي بليدة الفدا ذكر النخل المعروف بالفحال، يأتونه النساء والرجال، ويفدون عليه بالبكور والآصال، ويفعلون عنده أقبح الفعال، ويتبركون به ويعتقدون وتأتيه المرأة إذا تأخرت عن الزواج، ولم تأتها لنكاحها الأزواج، وتقول: يا فحل الفحول، أريد زوجًا قبل أن يحول الحول، هكذا صح عنهم القول: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 43) وشجرة الطرفية تشبث بها الشيطان واعتلق، فكان ينتابها للتبرك طوائف وفرق، ويعلقون فيها إذا ولدت المرأة ذَكرًا الخِرقَ لعلهم من الموت يسلمون، وفي أسفل الدرعية غار كبير يزعمون أن الله تعالى فلقه في الجبل لامرأة تسمى بنت الأمير، أراد بعض الفسقة أن يظلمها فصاحت ودعت الله، فانفلق لها الغار بإذن العلي الكبير، وكان الله تعالى لها من ذلك السوء مجير، فكانوا يرسلون إلى ذلك الغار اللحم والخبز ويهدون {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات: 95-96) . ثم ذكر في جميع قرى نجد، من ذلك ما لا يحصى ولا يعد، وكذلك في الحرمين وفي سواد العرق وبغداد والمجرة والموصل والشام ومصر والحجاز واليمن ما هو معروف معلوم مذكور في التاريخ، وقد اشتهر ذلك وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، واستفاض ما كان عليه أهل نجد من الكفر بالله والشرك به قبل دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ودعوته الخلق إلى توحيد الله وعبادته وترك عبادة ما سواه؛ فاستجاب من استجاب لله رغبة في الحق، وجاهد في الله من أبى الدخول في دين الإسلام؛ حتى دخلوا في دين الله أفواجًا، وقد شهد بذلك الخاص والعام، وأقر به الموافق والمخالف، فالحق ما شهدت به الأعداء. وقد رأيت في حال تسويد هذا الجواب تاريخًا لبعض المؤرخين من النصارى في سنة ثلاثين وثلاثمائة وألف (قال فيه) ما نصه: *** نجد بعد الرسالة ومن بعد أن بعث الحكيم (صلى الله عليه وسلم) بالهدى والحق، وانتشر الدين الإسلامي في هاتيك الربوع، عم بلاد نجد من جملة ما عم، فصار أهلها على هذه الطريقة المثلى، بيد أن الحوادث التي طرأت على قادة الأمة من بعد أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) شغلتهم عن مشارفة تلك البلاد فأهملوها، هذا من جهة ومن الجهة الأخرى أن الحروب والمنازعات والاختلافات شغلت أهل نجد عن الإمعان في حقائق دينهم، فمرت عليهم السنون الطويلة وهم يحْبُون [1] في الإيمان والاعتقاد، إلى أن وصل الحال بهم إلى درجة أصبحوا فيها وقد تعددت فيهم الأوهام والخرافات والاعتقادات الباطلة بالشجر والحجر والنجم وعبادات القبور والعكوف عليها، والاعتقاد بأهلها النفع والضر إلى غير ذلك مما لأهل العراق فيه اليوم النصيب الأوفر، والحظ الأكبر، رغمًا عن انتشار العلم فيه، وبقي أهل نجد في هذه الحالة وليس لهم سوى الحرب والضرب والاعتقاد الضار بالإنسان دينًا ودنيا وأخرى، وليس لهم من الدين الحق إلا الاسم وذلك إلى زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. *** نجد في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب نشأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في بلدة العينية في حضن والده عبد الوهاب بن سليمان، فرباه أحسن تربية، ولقنه العلم هو بنفسه، وكان والده حينئذ قاضيًّا في بلدة العينية من قبل حاكمها الأمير عبد الله بن محمد بن أحمد المعمري، ولما كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب كثير المطالعة والتدبر والتفكر شديد الشوق إلى العلم وطلبه، حدثته نفسه بأن يسير في طلب العلم إلى بلاد أخرى، فحج ثم سار إلى المدينة فاتصل بالشيخين عبد الله بن إبراهيم مؤلف كتاب (العذب الفائض في علم الفرائض) والشيخ محمد حياة السندي المدني، فأقام عندهما مدة ثم رجع إلى نجد، ومن هناك سار إلى البصرة فبغداد وهو في هذه الأثناء يتزود الكفاية من علم التوحيد والفقه وسائر العلوم، ثم حاول المسير إلى الشام فمصر، ولكن صده عارض في الطريق، فرجع أدراجه إلى بلاده حاملاً من زاد العلم ما لم يتيسر لأحد غيره في وقته، ثم ذهب لرؤية والده وكان يومئذ في حريملا، وسبب تحول الوالد إلى هذه البلدة؛ هو أنه في غياب الشيخ محمد توفى الله الأمير عبد الله وخلفه في الإمارة ابنه محمد فعزل والد الشيخ عبد الوهاب بن سليمان عن القضاء، وأقام مكانه أحمد بن عبد الله بن عبد الوهاب ورحل عبد الوهاب القاضي إلى حريملا، ولما ثبت قدمه عند والده باشر الشيخ تزييف الخرافات والبدع والأضاليل، وشمر عن ساعده لإبادة الأوهام المضرة بالدين، وأخذ ينشر الاعتقاد الصحيح الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. *** هرب الشيخ محمد رحمه الله من بلدة حريملا كانت حريملا في عهد الشيخ بلدة لا ترجع إلى أمير ولا إلى إمارة، بل كانت كرة تتقاذفها صوالجة قبيلتين وهما قبيلة العبيد وقبيلة أخرى، فاتفق يومًا أن الشيخ زجر بعض السفهاء من قبيلة العبيد عن ارتكاب بعض المخازي الدالة على سوء الأخلاق، فعمد هؤلاء إلى إهانته بل إلى قتله، وأرادوا إتمام الأمر بالفعل، فساروا إليه ليلاً وتسوروا الجدار، وبينما هم في هذا الفعل إذ صاح صائح في المحلة، فظن هؤلاء المفسدون أن الصياح عليهم، فهربوا وكفاه الله شرهم، ولما أسفر الصباح ورحل إلى بلدة العينية، وكان محمد الأمير قد توفاه الله وقبض على زمام الإمارة من بعده عثمان بن حمد بن معمر فتلقاه الأمير عثمان بالتحية والترحاب والإكرام التام، وهناك أخذ يبث حقائق التوحيد، والأمير عثمان يتعاهده بحفظ حياته ونصره على أعدائه. (حكاية الشجرة والقبة) وقد طلب الشيخ من الأمير أن يقطع شجرةً كانت تُعبد في البلدة، وأن يهدم قبة زيد بن الخطاب - رضي الله عنه - فتمنَّع الأمير وبعد ذلك ألح الشيخ عليه وأقنعه، فأذن له في الآخر، ثم طلب إليه أن يسير هو أيضًا معه، فسار الأمير مع الشيخ ومعهما ستمائة فارس، ولما وصلوا إلى المحل المطلوب قطعت الشجرة وهدمت القبة، وكانت قرب بلدة الجبيلة فكان ذلك العمل من أخطر الأعمال التي أتاها الشيخ، فلما فعل الشيخ هذا الفعل الأول اشتهر أمره ونبه ذكره فبلغ خبره أمير الإحساء سليمان بن محمد وكان ذا قوة وبأس شديد، فبعث إلى عثمان بن حمد بن معمر يتهدده بقطع رواتبه عنه والسير إليه إن لم يطرد الشيخ من بلاده، فأذن حينئذ الشيخ عثمان للشيخ محمد بن عبد الوهاب أن يسافر إلى حيث يريد، فاختار الشيخ الذهاب إلى بلدة الدرعية، فسار وسير الشيخ عثمان معه جماعة تحافظ عليه من أعدائه حتى وصل الدرعية فحل ضيفًا عند عبد الله بن عبد الرحمن بن سويلم أحد أعيانها، ثم علم بعض كبار الدرعية فزاروه فلما اطلعوا على مبدئه استحسنوه وأحبوه، ثم أرادوا أن يسعوا عند أميرها محمد بن سعود؛ لينزله ضيفًا عنده فتخوفوا ففاوضوا بذلك أخاه ثنيان وزوجته وأخاه مشاري فاتفق الجميع على تحقيق ما في الأمنية، فتم الأمر وذلك أن الأمير لما دخل قصره وقابل زوجته اجتمع به أخواه فعرضا عليه الأمر مع زوجة الأمير، وأشاروا عليه بإكرامه واحترامه، فسار إليه برجِله، ثم أخذه من عند عبد الله السالف الذكر وجاء به إلى قصره، فاحتفى به أحسن الاحتفاء وأعزه وقام مؤيدًا لدعوته بكل قوته، فأخذ الناس يفدون إلى الدرعية أفواجًا أفواجًا؛ فازدادت بذلك قوة الأمير بل تضاعفت وشرع يكاتب بلدان نجد وقراها، ويدعوها إلى طريق الحق، وما لبث أيامًا قلائل إلا وأصغت له القبائل ودانت له أغلب البلدان، وما زالت الإمارة في امتداد واتساع حتى أصبحت دولة بني سعود في درجة لو وفق أمراؤها الذين تسلموا قيادة زمامها في آخر أيامها إلى ثروة ومد نظر في السياسة، لغَدَت اليوم من أعظم الدول الإسلامية قوة وسطوة ورهبة، ولامتدت أمراؤهم إلى بلاد شاسعة، إلا أنه دهمها ما لم يدُر في خَلَد أصحابها، فإنها لما شددت في بعض أمورها كثر أعداؤها؛ فاحتالوا على الفتك بها فأوقع بعض الأمراء ما يلقي النفور بين آل سعود وبين الحكومة العثمانية، وللحال اتقدت تلك النار الحامية: نار الحروب والمضاغنات والزحفات المتكررة فأضرت بالطرفين، ولا بد من ذكر تلك الأسباب التي حملت القوم الواحد على القوم الآخر في فرصة أخرى، والله ولي التوفيق، وهو نعم الرفيق، انتهى. (المنار) هذه نبذة صحيحة من تاريخ مجدد الإسلام في القرن الثاني عشر محمد بن عبد الوهاب، وقد اتفق الواقفون على تأثير ذلك الإصلاح من مؤرخي الشرق والغرب على أنه يشبه نشأة الإسلام الأولى، وأنه لولا الموانع التي اعترضته لجدد للإسلام مجده الديني والدنيوي معًا، وأعظم تلك الموانع مقاومة الدولة العثمانية له ومساعدة محمد علي باشا لها على قتال الوهابيين وتدمير قوتهم، وكان المحرك الخفي لهذه المقاومة دولة الدسائس الشيطانية، وعدوة الشرق ولا سيما الأمة الإسلامية، التي لا تزال هي المقاوِمة لكل إصلاح إسلامي وترقٍّ شرقي، طمعًا في استعباد الشرق كله، خذلها الله تعالى.

السفور والحجاب

الكاتب: شكيب أرسلان

_ السفور والحجاب (كثر في هذه السنين خوض الكُتاب في مسألة حجاب النساء المسلمات وسفورهن فأُلفت فيها الكتب، وأخذت مجالاً واسعًا من أبحاث الصحف المنتشرة، فالمتفرنجون يدعون إلى هتك الحجاب على ما يلزمه من خلع جلباب الحياء والتبرج والتهتك والفجور، وأهل الدين يدعون إلى المحافظة عليه أو على العرض والنسب به، ولكن أكثر ما كتب في ذلك مباحث نظرية، وتخيلات شعرية، حتى عثرت الجرائد في هذه الأيام على بحث علمي فيه لأمير البيان شكيب أرسلان فنشره الكثير منها على اختلاف مشاربهم في المسألة، ورأينا نحن أن ننشره في المنار أيضًا؛ لما فيه من العبرة والبيان الذي لا يعارَض بالمراء والخلابة وهو: منذ نحو ثلاث سنوات كانت المعيشة في ألمانيا في غاية الرخص، فكان طالب العلم في إحدى الكليات يقدر أن يعيش بنحو جنيهين أو ثلاثة في الشهر، فانتهزت هذه الفرصة لتذكير أبناء وطني سورية وفلسطين بكون المعيشة في ألمانيا هي أرخص منها في نفس بلادنا، فالذين يعتذرون عن تقصيرهم في تعليم أولادهم بقلة ذات اليد ليس عليهم إلا أن يرسلوهم إلى ألمانيا؛ فيتاح لهم أرقى تعليم عصري بأخف ما يتصور العقل كلفة وأقرب منالاً، ونشرت ذلك في جريدة الصباح التي كانت تصدر في القدس الشريف، فأقبل على إثر هذه الكتابة نحو أربعين طالبًا عربيًّا يريدون مناهل العلم في برلين ولايبسيغ وكونستانز وغيرها، وإنما كثرت علي الأسئلة يومئذ في موضوع التعليم في ألمانيا والمعاش في ألمانيا بصورة وصلت إلى أدق الأمور التافهة إلى أن عجزت عن الجواب، وأحلت ذلك إلى لجنة خاصة أشرت بتأليفها في برلين لهذا الغرض. وكان من جملة من استفتاني في أمر التعليم بأوربا رجل من أعيان فلسطين، كتب إلي أن له في ألمانيا ولدين ابنًا وابنة، فأما الصبي فهو في المدرسة المسماة جمنازيوم وهو في الثامنة من العمر، وأما الفتاة فهي في مدرسة بنات قد بلغت الثانية عشرة من العمر، وهو يلتمس رأيي في أمر تعليمهما هل يتركهما يكملان التحصيل في ألمانيا أم يسحبهما إلى الوطن، ولا سيما البنت فإنها كادت تبلغ سن الرشد وهذا محل شاهدنا في هذه القضية. فأتذكر أنني جاوبته بأن الولد يمكنه أن يتم تعليمه هناك بشرط أن يتعلم اللغة العربية، وبالفعل كل ولد عربي لا يتعلم لغة أهله منذ الصغر ولا يعرف نفسه عربيًّا منذ الصغر، لو بلغ من العلم أعلى درجة لم يكن لنا أن ندعوه غصنًا مهذبًا من أغصان هذه الشجرة بل نعده غصنًا اقتُطع منها وغُرس في حقل آخر، وهو قد أصبح ليس منا ولا يفيدنا بشيء، وأما من جهة البنت فقد جاوبته أنني لا أدري ماذا أقول لك؛ لأنني لا أعرف مشربك الخاص والمسألة هي بحسب مشربك، فيمكنك أن تسحب بنتك من ألمانيا منذ الآن وتكمل تعليمها في القدس، وثق أنه يوجد في القدس علوم تكفي ابنتك ولا تقصر عن شأو رغبتها، كما أنه يمكنك أن تُبقي ابنتك في ألمانيا إلى أن تتم تحصيلها كأحسن بنت ألمانية، ولكن على الوجه الأول تتعلم ابنتك مع بعض اللغات الأوربية والعلوم العصرية اللغة العربية والعقيدة الإسلامية وتخرج مسلمة، وأما على الوجه الثاني فتتعلم بعض اللغات الأوربية والعلوم العصرية، ولكنها تخرج مسلمة بالاسم فقط وعربية باللفظ العامي لا غير، وعلى الوجه الأول تبقى ابنتك لك ولا تتزوج إلا مسلمًا، وعلى الوجه الثاني تبقي ابنتك لك إذا هي شاءت وإن لم تشأ لم تقدر أن تعارض إرادتها في شيء، ولا ينبغي لك أن تكون مبغوتًا إذا قيل لك: إن ابنتك أحبت شابًّا ألمانيًّا وأخذته - لا بل شابًّا يهوديًّا واقترنت به، فاختر أنت لنفسك أحد الوجهين، فإنني لا أعرف مشربك الخاص في هذه المسألة ولا أنا عليم بذات صدرك حتى أقول لك: إن أخذت بهذا الوجه أو ذاك الوجه تتعب ويحصل لك كما يقال وجع رأس، وترى أني لست قائلاً لك هذا الوجه أولى من هذا وإياك أن تعمل هذا، كلا. لم أقل لك شيئًا من هذا المعنى بل قصارى ما قلت لك: إن كان يكرثك أن تلبس ابنتك البرنيطة، وتخاصر أي شاب استلطفته في الطريق، وتقترن بمن تريد ولو غير مسلم وما أشبه ذلك مما هو جديد في الإسلام [1] فأولى بك أن تسحب ابنتك من اليوم من ألمانيا قبل أن يعسو عودها فإنك بعد ذلك لا تقدر على ردها عما تريد، ولا أقول لك: إنها ستتزوج حتمًا بغير مسلم، وستخاصر حتمًا من شاءت من الشبان بدون إذن منك أو من أمها، كلا وإنما أقول لك: إنه يجوز أن تفعل ذلك، وحينئذ لا تقدر أنت أن تمنعها. وأما إذا كنت أنت ترى أن ما وسع الألماني وما وسع الأوربي بأسره يسع المسلم أيضًا وهم بشر ونحن بشر، وكما جاز للأوربية أن تتزوج مسلمًا برضا والديها أو بدون رضاهما، يجوز للمسلمة أن تقترن بأوربي أو بيهودي أو بصيني بوذي أو بهندي براهمي إلخ بدون رضا والديها؛ فعند ذلك أقول لك: دعها تكمل تحصيلها في ألمانيا. فالمسألة مسألة وجهة ونظر، فالذي يرى هذه الوجهة فطريقه هذا والذي يرى تلك الوجهة فطريقه هذا، فأما أن يرسل ابنته إلى أوربا ويخرجها في مدارس لا تعلم لغة عربية ولا عقيدة إسلامية، أو يخرجها عند الراهبات العذاريات أو عند راهبات الناصرة، ثم يطالبها بأن تبقى مسلمة دينًا وشرقية ذوقًا ومشربًا وأن لا يعطيها واحدًا، وأن يحاسبها على عشرة، فهذا تكليف ما لا يطلق، وأضم إلى هذا المثال مثالاً آخر: عند إعلان الدستور العثماني سنة 1908 قال أحمد رضا بك من زعماء أحرار الترك: (ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علنًا مع المرأة التركية على جسر غلطه وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستورًا ولا حرية) فكانت هذه المرحلة الأولى، وفي هذه الأيام بلغني أن أحد مبعوثي مجلس أنقرة الكاتب فالح رفقي بك الذي كان كاتبًا عند جمال باشا في سورية كتب: أنه ما دامت الفتاة التركية لا تقدر أن تتزوج بمن شاءت أيان شاءت ولو كان من غير المسلمين، بل ما دامت لا تقدر أن تعقد مقاولة مع رجل تعيش وإياه كما تريد مسلمًا أو غير مسلم - فإنه لا يعد تركيا قد بلغت رقياه) فهذه هي المرحلة الثانية. فأنت ترى أن المسألة ليست منحصرة في السفور ولا هي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما تشاء، بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها متصل بعضها ببعض، لا بد من أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها، وإذا كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة أن يقبلها بحذافيرها بدون تعنت ولا تثاقل، فإن كان ممن يرى رأي فالح رفقي بك - إن كان كما بلغني؛ لأنني لم أقرأ كلامه وإنما أرجح صحته - بهذه الصراحة التامة التي معناها أنه يجب لتمام الرقي أن تصير الفتاة المسلمة قادرة أن تتزوج بمن شاءت نصرانيًّا أو يهوديًّا أو مجوسيًّا، بل أن تخادن من شاءت كذلك ولا حرج عليها في قانون بلاها، فقد انحل المشكل وارتفع النزاع، ولم يبق حاجة إلى أن نقول: السفور خير من الحجاب، أو الحجاب خير من السفور، بل تنحصر المسألة في هل يجب أن نقبل هذه النتائج بحذافيرها أم لا؟ وأما أن نجمع بين حرية المرأة وعدم حريتها، وأن نطلق لها الأمر تذهب حيث أرادت، وتحادث من أرادت، وتضاحك من أرادت، وتغامز من أرادت، ثم إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا، فذهبت وساكنته، وكان بينها وبينه ما يكون بين الرجل وزوجته - أقمنا القيامة ودعونا بالمسدس وقلنا ياللحمية وياللأنفة ويا للغيرة على العرض! فهذا لا يكون وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون. والنتيجة التي نريدها قد حصلت وهي أن سلوكنا مسلك الأوربيين حذو القذة بالقذة في مسألة المرأة هذا، له توابع ولوازم لا بد أن نقبلها ولا يبقى معها محل لكلمة: أعوذ بالله، كلا. لا يوجد هناك (أعوذ بالله) بل تلك مدنية وهذه مدنية، تلك نظرية وهذه نظرية، فعلينا أن نختار إحدى المدنيتين أو إحدى النظريتين مهما استتبعت من الأمور التي كان يقال في مثلها عندنا: أعوذ بالله. إن الشاب المصري منطقي الحكم سريع الفهم، ما نطق بكلمة: أعوذ بالله. عندما قال له الأستاذ الرافعي: أفتَرضَى أن تقعد أختك عند أوروبي بالإجازة؟ أو بمعناه - ألا انتبه إلى كون تعوذه هذا مخالفًا للقاعدة التي زعم أن لا إصلاح إلا بها.. . وهي حرية النساء المطلقة في العالم الإسلامي كما في العالم الأوروبي: تأخذ المسلمة من تشتهيه نكاحًا أو سفاحًا ولا يُحرَّج عليها في ذلك، قاعدة فالح رفقي بك الذي مر بنا قوله، قاعدة عبد الله جودت الذي أشار لأجل تجديد دم الأتراك بتزويج التركيات من شبان الألمان والطليان والحصول على نسل جديد، وكتب ذلك منذ أشهر، وامتعض من كلامه بعض فتيان الترك من أنصار الجمهورية، ولكن لم يتحرروا من وساوس الغيرة على العرض فقام ورد عليه قائلاً: نحن الأتراك دمنا أطهر من أن نصلحه بهذا الاختلاط الذي أشار به عبد الله جودت، ولكن الحقيقة هي أن القاعدة ما قاله الدكتور عبد الله جودت وما قاله فالح رفقي وما قاله الشاب المصري مخاطب الأستاذ الرافعي، هذه هي القاعدة لا غيرها، ويأبى المنطق أن تكون هي القاعدة، وأن يقال على إثر قبولها: أعوذ بالله من مفاعيلها، لذلك لم يلبث الشاب المصري الذكي أن قال: ما أنا وأمثالي إلا شذوذ، والقاعدة يجب أن تبقى أبدًا قاعدة، وبعبارة أخرى يقول: أنا وأمثالي لا نزال تحت سلطان الوهم، ونأبى أن ندع أخواتنا يؤجرن أنفسهن من الأوربيين، لا عملاً بمقتضى الحكمة والعقل، ولا جريًا على سنن الطبيعة، ولا اتباعًا لمذاهب المدنية العصرية، بل خضوعًا لأوهام ووساوس لم نتحرر بعد منها، فهو يعترف بصحة القاعدة التي توجب هذه الإباحة، ولكنه لا يزال يخجل أن يعلن كونه يرضى بمخادنة أخته لشاب تتفق معه فتؤجره نفسَها بدون عقد نكاح شرعي، نعم هو لا يزال ينكص عن إعلان الرضا بمثل هذه الفضيحة، وإنما يرجو أن يكون ابنه أو حفيده ممن يغضي النظر عليها، أو يشترك في سن قانونها في مجلس النواب المصري سنة 1950 مثلاً. (للمقال بقية) ((يتبع بمقال تالٍ)) ... ...

النساء والتبرج والتمثيل

الكاتب: محمد أبو الفضل

_ النساء والتبرج والتمثيل فتوى مشيخة الجامع الأزهر وزعت مشيخة الجامع الأزهر على الصحف الاستفتاء الآتي وجوابه، وهو: سأل سائل: ما حكم الشرع في المرأة المسلمة المتبرجة والمتبهرجة، وفي مسئولية أبيها وزوجها أو أخيها، وفي المرأة المسلمة التي تظهر على مسارح التمثيل كممثلة. فنقول: التبرج قد نهى الله عنه بقوله سبحانه وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} (الأحزاب: 33) الخطاب في هذه الآية الشريفة موجه إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولكن الحكم عام ومعناه هو المشي بتبختر وتكسُّر، أو أن تُلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها، ويبدو ذلك كله منها، أو أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره، أو أن تبدي محاسنها من وجهها وجسدها، أو أن تخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة الرجال. فما يشاهَد الآن من كشف المرأة عن ساقيها وذراعيها وصدرها ووجهها، وما تتكلفه من زينة تكشف عنها، وما تفعله في غدوها ورواحها من تبختبر في مشيها وتكسر في قولها وتخلُّع يستلفت الأنظار، ويقوي الأشرار - تبرج منهي عنه بالإجماع لا تُقره الشريعة الإسلامية، ولا يتفق مع العفة والآداب، لما يؤدي إليه من إثارة الشهوات وتلويث النفوس وإفساد الأخلاق وإطماع ذوي النفوس المريضة وكثيرًا ما جر ذلك إلى الجنايات على الشرف والعفة والاستقامة، حتى اشتد الكرب، وعم الخطب، وأصبحت البلاد ترزح تحت آثاره الضارة ونتائجه السيئة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد أدب الله النساء بقوله: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) . واشتغال المرأة المسلمة بمهنة التمثيل أولى بالحرمة من المتبرجة؛ لأن التمثيل تبرج وتهتك، بل حضور النساء مجال التمثيل والرقص والحفلات التي شأنها أن يختلط فيها الرجال بالنساء تحرمه الشريعة؛ سدًّا للذريعة. وحيث كان الأمر كما ذُكر فالواجب على زوج المرأة وأولياء أمرها منعها من ذلك، ويجب أيضًا على كل مسلم قدر على هذا، وقد آن للناس أن يتداركوا أمر الأخلاق، فقد أوشك صرحها أن ينهار، وأن يقوِّموا منها ما اعوج، ويجددوا ما درس قبل أن تصبح أثرًا بعد عين، والله ولي التوفيق. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أبو الفضل

الإسلام وأصول الحكم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام وأصول الحكم كان صاحب هذه المجلة أول من قام بفريضة تفنيد ما أُودعَ في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) من الكفر والضلال، وتحليل الحرام وتحريم الحلال، ومنع الحكم بما أنزل الله، وإباحة حكم الطاغوت، وكان أول من دعا علماء الأزهر إلى رفع أصواتهم بالإنكار له والرد عليه، قبل أن تصل أيدي أكثرهم إليه، ومن ذلك ما رآه القراء في مقالة الجزء الماضي، وكنا نشرناها قبله في جريدة اللواء والأخبار، وقد أرسل إلينا طائفة منهم صورة عريضة في ذلك رفعوها إلى فضيلة شيخ الأزهر وإلى بعض المقامات العالية، ووزعوا نسخًا منها على الصحف، وهذا نصها: عريضة مقدمة من علماء الأزهر حضرة صاحب الفضيلة السلام عليكم ورحمة الله نحن الموقعين على هذا نرفع إلى فضيلتكم ما يأتي: يا صاحب.. .، نص قانون الأزهر أن الغرض من وجود الأزهر وسائر المعاهد العلمية الدينية هو حراسة الدين وتخريج رجال أكفاء يقومون بوظائف الشريعة وإرشاد الأمة، ونص كذلك أن شيخ الأزهر الشريف هو صاحب الرياسة العامة على كل المنتسبين إلى الدين من وجهة سيرهم الشخصي فيما يلائم صفتهم الدينية. ونص قانون الدولة أن دين الدولة المصرية هو الدين الإسلامي، واعترفت سائر القوانين الأجنبية بحرمة الأديان ومعاقبة الطاعن عليها، هذا من الجهة القانونية. ثم من الوجهة الشرعية لا نعلم فائدة للعلم الديني، ولا لعلماء الدين، ولا للأزهر الشريف منذ نشأته إلى الآن إلا القيام بحراسة الدين ودراسة العلوم النافعة في تأييده، والدفاع عنه بكل الوسائل المشروعة، ونشر هدي الشريعة السمحة الغراء بين المسلمين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الإلحاد والزندقة وسوء الأخلاق والمعاملة، ودراسة الشبهات والرد عليها، وغير ذلك من كل ما تقتضيه خدمة الإسلام، ويحبب إلى الناس الآخرين الانتظام في هداه، تلك هي وظيفة العلماء منذ كان الإسلام، وذلك هو واجبهم الشرعي كالصلاة والصيام، الذي لا يخرجون عند الله من عهدته ما لم يقوموا به حق القيام. فهل يجوز ونحن الآن في عهد يوالي حضرة صاحب الجلالة الملكُ الأزهرَ وعلماءه بما يتفق وكرامتهم، ويغنيهم عن الشغل بوسائل العيش؛ لأجل أن ينقطعوا لواجبهم العلمي الديني. وهل يجوز ونحن الآن من الكثرة بما لم يبلغه الأزهر في تاريخه من عدد العلماء؟ وهل يجوز ونحن الآن من تيسير دواوين الشريعة وأمهات الكتب الدينية وكثرتها بواسطة المطبوعات بما لم يبلغه عصر قبل؟ فهل يجوز مع هذه الاعتبارات أن يكون هذا العصر في الإلحاد والجهل بالشريعة والمجاهرة بمحاربتها، وانتشار الدعاية كل يوم في الجرائد وسائر المطبوعات ضدها، ممن هم من سلالة المسلمين أكثر من كل عصر مضى، ولا يوجد من يدفع هذه الهجمات، ولا يذود عن بيضة الدين خصمًا واحدًا، بينما نحن نتمتع باسم الدين بهذه الميزات الكبرى، وبينما نحن من الكثرة بحيث نملأ القرى والبلدان؟ فماذا هو العذر لنا في ذلك أمام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأمام حضرة صاحب الجلالة الملك الذي يوالي دائمًا إيقاظنا بجميع صنوف الرعاية؟ بل ماذا العذر لنا أمام الله سبحانه وتعالى وأمام رسوله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا ولد؟ فهل نعتذر بأن نظم الدراسة وشئون الطلبة ومصلحة التعليم البحتة استغرقت أعمارنا، واستنفدت هممنا حتى صرفنا بها عما وجدنا نحن ومعاهدنا من أجله؟ هل كان الأزهر قبل أربعين سنة من إهمال الدين وانصراف أهله عن نشره في الأمة والدفاع عنه بهذه الدرجة التي نحن بها الآن؟ بينما كان أولئك في شغل من العيش، ونحن في كفاية بفضل الدين وباسم الدين. هل يجوز أن يطعن الدين كل يوم بين أيدينا طعنات قاتلة؟ ولا شيء يلهينا عنه إلا نفس الرفاهية التي أغدقها علينا الدين؟ نعم في كل زمان وُجد إلحاد، ونجم للدين أعداء، وظهرت مقالات سخيفة واعتراضات فاسدة، وتحريف وتبديل ولكن كان العلماء على قلتهم وكدِّهم ممتطين هممهم العالية عند كل بادرة من ذلك بدافع الشرع، منتضين عزمهم القوي وبراهينهم الساطعة، فلا تظهر شبهة إلا كانوا أول من يقتلها بحثًا، ويقف على منشئها أكثر من صاحبها حتى يعود الحق جليًّا والضال مهديًّا. يشهد بذلك علم الكلام الذي ما تكوَّن إلا من ذلك، ويشهد بذلك تلك المصنفات العديدة في رد الشبهات، ويشهد بذلك تاريخ علماء الإسلام ومناظراتهم التي كانوا يقيمونها في كل زمان ومكان، ويشهد بذلك علم الخلاف والجدل وعلم آداب البحث والمناظرة. نقول هذا ونقدمه إلى فضيلتكم بمناسبة فشو دعاية الإلحاد في هذا الزمان، والمجاهرة كل وقت بمحاربة الدين والقضاء على آدابه وأحكامه ممن لم يدرسوا منه كلمة واحدة، ونحن من ذلك في سكوت عميق حتى اتخذوا من سكوتنا دليلاً قويًّا على عجزنا، واستطرد منه الجاهلون إلى أن ذلك العجز إنما هو في نفس الدين، فأصبحنا بذلك حجة على ديننا، وسدًّا بينه وبين الناس، شغلاً منا بمصلحة التعليم البحتة عن نتيجة ذلك التعليم، ولم يقف التشكيك في الدين وتسريب الريب فيه إلى المسلمين على أولئك الذين لم يدرسوه فحسب، حتى نجم اليوم ناجم، ونطق بعد دهره ناطق، لم يشأ أن يباحث العلماء في خواطر نفسه قبل أن يفاجئ الناس بها، وأخرج للناس كتابًا سماه (الإسلام وأصول الحكم) بصفة كونه عالمًا من علماء الأزهر، وقاضيًا من القضاة الشرعيين ملأه بالشك والترديد، وأنكر أشياء لا نعلم إلا أنها معلومة من الدين بالضرورة باتفاق العلماء. أنكر الخلافة وأنها مقام إسلامي واجب بالشرع، وأفاض في النعاية على معتقديها من عهد أبي بكر إلى الآن، ولم يُبالِ في ذلك بمس الصحابة أو الخلفاء الراشدين، من أن عملهم عليها كان من قبيل المُلك لا من قبيل الدين! وهكذا أنكر القضاء وسائر صنوف الحكومة، وأنها ليست من الدين في شيء.. . حاول أكثر من ذلك في القسم الثاني من كتابه: أن النبي كان نبيًّا فحسب أم كان نبيًّا ملكًا؟ وأكثر من الترديد في ذلك، ومراودة العقول عليه، وبسط الاعتراضات وأوجز الإجابة الواهية، ليَعبُر عابر من ذلك إلى أن سنة النبي صلى الله وآله وسلم التي هي توأم الكتاب العزيز وبيانه، وديوان الشرع وأدلته التفصيلية إنما هي أحكام محلية وقتية تنتهي بانتقاله صلى الله عليه وسلم، فلا يصح أن نأخذ بها الآن، ولا أن نقيمها في أي زمان أو مكان، بل نأخذ في كل شئوننا ومرافقنا بآخر ما أنتجته العقول البشرية: أي (طبعًا من أمثال رجال أوربة وأمريكا المسيحيين) وكثير من خصوم الدين من يتشدقون بذلك، فكيف يكون انتصارهم إذا رأوا بارقة تلوح لهم بذلك من عالم من علماء المسلمين. فنرغب إلى مقامكم السامي ورياستكم العظمى على تلك المصلحة الكبرى، مصلحة الدين التي تتمتع بكل الصفات المرعية في مصالح الدولة، من قوانين عالية، وإرادات سنية، ومقام لدى ولي الأمر لا يدانيه مقام، وكرامة في الأمة دونها كل كرامة، ومسئولية عند الله تعالى دونها كل مسئولية، نرغب إليكم وأنتم بهذه الصفة العالية أن تتخذوا الدفاع عن الدين وتأييده بالحجة والبرهان جميع وسائل النفوذ المشروعة التي تخولها لكم القوانين؛ حتى تظفروا به على كل خصم، وتنجلي آياته الباهرة رغم كل تشكيك، كما هو الشأن في حماية كل مصلحة من مصالح الدولة. كما أننا نرغب إلى فضيلتكم أن تساعدوا هذه الهيئة الدينية العظمى في النزول إلى معترك الحياة العامة، ومشاركة الناس في مصالح الحياة؛ إعلانًا بأن الدين لا ينافي الدنيا بل إنما جاء لصلاحها، والعمل على رفع الشر والظلم منها، وبث العدل والأمن فيها، وأن يدرس رجال الدين كل ما يطرأ عند الناس من شبهة في الدين؛ ليكشفوا عنها اللثام، ويعود الخلاف في الأمة وفاقًا، وتأمن الأمة شر الانقسام، ونقوم بواجب الشرع خير قيام والسلام. وهذه هي أرقام الصحائف التي تتضمن زيادة شذوذ وإغراب وتحريف: ص 20 دعوى الوجوب الشرعي دعوى كبيرة، وليس كل حديث وإن صح بصالح لموازنة تلك الدعوى. ص 36 (فإنما كانت الخلافة - ولم تزل - نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد) . ص53 (وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة والرهبة فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغ رسالته إلى العالمين، وما يكون لنا أن نفهم إلا أنه كان في سبيل المُلك، ولتكوين الحكومة الإسلامية - إلى أن قال: فذلك عندهم هو سر الجهاد النبوي ومعناه. ص55 المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الإسلام وخارج عن حدود الرسالة. ص57 القول بأن الإسلام سلطة دينية وسياسية قول لا نعرف سندًا له، وهو على ذلك ينافي معنى الرسالة. ص92 بيعة أبي بكر بيعة سياسية على القوة والسيف. ص96 اختراع لقب خليفة لأبي بكر ليأخذ الناس برهبة هذا اللقب. ص97 حرب أبي بكر لمن سُموا مرتدين ليس للدين وإنما هو للسياسة. ص 102 التصاق الخلافة بمباحث الدين من جناية الملوك. ص 103 وهي آخر صحيفة قال فيها: (والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة ومن عز وقوة، والخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم) إلى آخر الصحيفة. تحريرًا في يوم الثلاثاء غرة ذي الحجة سنة 1343 (23 يونيو سنة 1925) إمضاءات علماء الأزهر حضرات المشايخ: يوسف حجازي، محمد مطاوع نصير، إبراهيم عمارة، إسماعيل عبد الباقي، محمد علي شايب، إسماعيل علي، محمد علي القاضي الطماوي، عتمان صبره، على جاويش، أحمد المكاري. إبراهيم الدسوقي. حسب النبي محمود. علي شقير: عبد الحميد الهنامي. محمد خليل بدوي. جاد عزام. بركات أحمد عواد علي. شمس الدين أحمد. محمد مخلوف عيسى. معوض السخاوي. علي إبراهيم منيب. حسن حجازي. طه البيباتي. رفاعي عصر. محمد حماد. سعيد حسن. أحمد أبو العينين كامل. على الهنامي. أحمد عبد السلام. محمد علي الخولي. كمال القاوقجي. علي جاد الله عبد الجليل. عيسى أبو النصر. عبد الرحيم البرديسي. خليفة راشد. محمود عفيفي. حسن أبو عزب. علي أحمد صبره. عبد العزيز مهنا. محمد سامون. عبد الحميد البجيرمي. مصطفى بدر زيد. عبد الحميد السرو. محمد العربي. محمد عبد السلام القباني. سيد رضوان عثمان. محمد إبراهيم الحنبلي. قنديل الفقي. سليمان البيلي. عبد الحافظ محمد عسل. سليمان الشيخ. إبراهيم سليمان. محمد الشنواني: محمد البراوي. محمود زيد. توفيق البتشتي. محمد العشري. عبد المقصود عبد الخالق، أحمد المرشدي، حسين البيومي، عبيد عبد ربه، محمد مصطفى علي ناصر. عبد الفتاح قطب الملاح. ((يتبع بمقال تالٍ))

حرب الريف أو الأندلس الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حرب الريف أو الأندلس الجديدة مساعدة منكوبيها وضروب من العبر فيها ريف المغرب الأقصى بقعة صغيرة، اشتهر أهلها بعزة النفس، وشدة البأس، ورسخ فيهم حب الاستقلال أو غريزته، فلم يذلوا لفاتح ولا خنعوا لمقاتل، ولما ظهر للعالم كله عجز دولة إسبانية عن قهرهم في هذا العصر، وأنها باءت في جميع معاركها معهم بالخيبة والخسر، وذاع صيت أميرهم وقائدهم العظيم محمد عبد الكريم في الغرب والشرق، خافت فرنسة أن يستفحل أمره؛ فيستولي على فاس، ويفضي ذلك إلى تحيز جميع القبائل له؛ فيتجرأ أهل الجزائر فتونس على الانتقاض عليها وإلقاء نير العبودية الثقيل عن أعناقهم، وقد يئسوا من إنصافها إياهم إذ اشتد إعناتها وإرهاقها لهم بعد الحرب الكبرى التي سفكوا فيها دماءهم دفاعًا عنها، نعم خافت ذلك؛ فبادرت إلى قتال الريفيين كما قلنا في الجزء الماضي. قد كان ذلك ومن المعقول أن يكون , ثم من المعهود المألوف أن تتهم فرنسة الأمير محمد عبد الكريم وقومه بالبغي والعدوان , وأن تتهمهم بالتعصب الإسلامي الذي هو عند الأوربيين كراهة المسلمين لاستعباد أوربة لهم، وحبهم للاستقلال بأمر أنفسهم , ومن المعهود المألوف أن يرى صدى هذه التهمة في جميع ممالك أوربة , ومن المعهود المألوف أن تتفق دولها وساسة شعوبها على الدعوة إلى التنكيل بهم؛ لئلا يطمع المسلمون المستبعدون في سائر أفريقية وآسية في الحرية والاستقلال، والتفصي مما وضع في أيديهم وأرجلهم من السلاسل والمقاطر والأغلال. ولكن الأمر الذي لم يكن مثله معهودًا مألوفًا ولا منتظرًا عند أكثر الناس هو أن تمتد هذه الدعوة الصليبية إلى الولايات المتحدة الأمريكانية؛ فترسل سربًا من الطيارات إلى قتال أهل الريف انتصارًا لفرنسة وإسبانية، ومن تطوع للقتال معهما من ممالك أوربة، فيا ليت شعري هل يعتقد هؤلاء الأمريكيون الأحرار المتساهلون الذين يبرئهم نصارى الشرق من التعصب الديني المذموم، أن هؤلاء الشراذم من الريفيين الفقراء يمكن أن يكسروا جيش الدولتين، وينقذوا بلاد المغرب الإسلامي من العبودية، فعز عليهم ذلك فتطوعوا لوقاية هاتين الدولتين المسيحيتين أو المدنيتين من هذه الخسارة الخطرة؟ أم نفروا لمساعدتهما؛ ابتغاء وجه الله تعالى وطلبًا لرضوان يسوع المسيح يوم الدينونة بقتل أعدائه بقذائف الطيارات التي لا تفرق بين المحارب وغيره، فلا ترحم طفلاً ولا امرأة ولا حيوانًا، والرحمة لا يستحقها مسلم عند إعياء أتباع رسول الرحمة والسلام والزهد الآمر بمحبة الأعداء عليه الصلاة والسلام؟ ولعلهم يرون أنه لا يستحق الوجود أيضًا عملاً بنصائح مبشرهم القس زويمر الأمريكاني الذي لا يزال يحرض الدول المسيحية وشعوبها على مسلمي العالم كله؟ نعم ولكن هل يتدبر هذه المعاملة متفرنجة المسلمين؟ لا لا. وإن تعجب أيها المسلم فأعجب من هذا أن جمعية الهلال الأحمر المصرية قد اهتمت بإرسال بعثة طبية إلى جدة؛ لمساعدة جيش الشريف علي بن حسين في قتاله للنجديين والحجازيين المشايعين لهم بالفعل، وإن كانت لمساعدة الفريقين بالقول، وساعدتها الحكومة المصرية على ذلك بجمع الإعانات من الأهالي، ولكنها لم تتصد لإرسال بعثة طبية إلى الريف وهو أشد احتياجًا إليها من جنود الشريف علي في جدة، وقد سعينا إلى ذلك كغيرنا وكلمنا بعض أعضاء الجمعية، فسمعنا ممن ترجى منهم المساعدة جمجمة وغمغمة، واعتذارات مضطربة، لم نقنع بها ولا نقدر على الطعن الصريح فيها. وكنا اقترحنا في الاجتماع العام لجمعية الرابطة الشرقية أن تتصدى الجمعية للسعي في إرسال بعثة طبية إلى الريف، فاستحسن الحفل المجتمع ذلك، وصفقوا له، ثم أحيل الاقتراح على مجلس إدارتها؛ لينظر فيه فبحث فيه مرارًا، ولكنه أرهقه صعودًا، وألفى عقبته كئودًا ومرامه بعيدًا، وكان الله على ذلك شهيدًا. ثم انتدب لهذا الواجب شرعًا وعقلاً وإنسانية صاحب السمو والهمة السامية الأمير (عمر باشا طوسون) ، فألف لجنة للنهوض به تحت رياسته، ونشرت الدعوة إلى التبرع لها في الجرائد، ولكننا لم نر الإقبال عليها من الشعب كما يجب، ولا كما يليق بصيت بلادنا هذه وبثروتها وبنجدتها، ولا كما يعهد من تاريخها، فهي قد ساعدت الطليان في نكبات الزلازل والبراكين التي انتابت مسيني وغيرها، وساعدت أهل طرابلس وبرقة عند إغارة الطليان عليهم بغيًا وعدوانًا، وفي تلك الأثناء أسست جمعية الهلال الأحمر المصري. وما لي لا أذكر مساعدة هذه الجمعية الإسلامية لجمعية الصليب الأحمر المسيحية بألوف الجنيهات، ومساعدة البلاد المصرية كلها حتى علماء الأزهر (لأيام) الإعانات الإنكليزية كذلك، على كون الإنكليز أعداء للبلاد باحتلالهم إياها، ثم (إعلان الحماية عليها) - وعلى كونهم كانوا يحاربون دولة الخلافة صاحبة السيادة عليها - وعلى إرهاقهم إياها، وتحكمهم في استخدام رجالها وجمالها وحميرها وبغالها، كتحكمهم في أموال حكومتها ومرافقها ومبانيها وسككها. (فإن قلت) : إن هذا قد كان بقوة الحكومة المحلية وإكراهها للأهالي على ذلك، (قلت) : هذا بيت القصيد، والتعليل الأول لفتور الشعب في إعانة الريف، فالحكومة في مصر هي التي كانت ولا تزال تفعل كل شيء، وما كان يفعل فيها شيء مهم إلا بنفوذها أو برضاها وإقرارها على الأقل، ولا تستثن جمع الإعانات للوفد المصري ومظاهرة الأمة له، وإن وقع في إثر ثورة وطنية كانت أول عهد بجرأة الشعب على الإنكليز، ثم على الحكومة المصرية، فإن الوزارة كانت مرتاحة إلى تأليف الوفد، ولما شرع مستشار الداخلية الإنكليزي في مقاومة أعمال الوفد وأخذه وثائق التوكيل من وجهاء الأمة، صرح يومئذ رئيس الوزارة ووزير داخليتها بأن المستشار إنما فعل ذلك من تلقاء نفسه، وقد بينا في مقالنا التاريخي المبسوط في المسألة المصرية الذي نشرناه في المجلد 22 (سنة 1339 هـ 1919 م) ما كان من الشأن لمساعدة وزارة رشدي باشا في تكوين الوفد المصري، ثم ما كان من الشأن لوزارة عدلي باشا في الاحتفال الأعظم الذي استقبلت البلاد به سعد باشا عند عودته من أوربة، وقد صدقت الأيام بعد ذلك صحة رأينا على ما لا ينكر من نهضة الأمة وعملها مرارًا بما يخالف رغبة الحكومة، وما ساعد على بعثة جمعية الهلال الأحمر الأخيرة إلا كارهة أو مكرهة، إذ لا تجد باعثًا يرغبها فيه، ولكن ما بالها لم تقبل على التبرع لجرحى الريف مع كثرة الدواعي والأواصر التي تعطفها عليه، وتدعوها إلى تخفيف آلامه، من أخوة دينية، وآصرة عربية، ووطنية إفريقية، ورابطة شرقية، وجامعة إنسانية، وتألم من تألب الشعوب الأوربية، واعتبار بغيرتها الملية، إن لهذا الفتور موانع أكثرها فيما أرى سلبية من عدم رغبة الحكومة وعطفها، ومن صد ملاحدة المتفرنجين عن مثل هذا العمل؛ لئلا يقوي الجامعة الإسلامية، ومن عدم تنظيم لجنة الإعانة للعمل واتخاذ الوسائل المؤثرة لتعميمه، فعسى أن تعني اللجنة بذلك، وتنشر دعوتها في الجرائد المصرية وغيرها، وتنشئ لها لجانًا فرعية، في كل محافظة ومديرية، فحينئذ يقبل عليها المصريون الإقبال الذي يكونون به قدوة لغيرهم. وأما مجلس جمعية الرابطة الشرقية فقد قرر استنجاد الشعوب الشرقية كافة والشعب المصري خاصة، وحض الجميع على مساعدة لجنة الأمير طوسن باشا، وتبرع بعض أعضائه وأعضاء الجمعية لذلك قبل نشر نداء الاستنجاد واستنداء الأكف في الصحف، وتوزيع ألوف منه في المعاهد العامة والطرق، وهذا نصه: *** نداء جمعية الرابطة الشرقية لإعانة جرحى الريف في المغرب الأقصى لئن كان من سيئات هذا العصر أن صارت نكبات الحروب وفتكها فيه أشد مما كانت في جميع عصور التاريخ، فإن من حسناته كثرة الوسائل لتلافي شرور هذه المصائب وتخفيف آلامها، ومنها - ولعلها أفضلها - تضامن الشعوب البشرية بالعطف على المصابين والمنكوبين من جرحى الحرب وغيرها من النوازل العامة بعاطفة الإنسانية الجامعة بين الناس على اختلاف مللهم ونحلهم وأوطانهم وحكوماتهم وإننا نرى جميع هذه الشعوب قد أعرضت عن مد أيديها لمساعدة منكوبي الريف وجرحاهم في المغرب الأقصى، على ما يعلم الجميع من عدم وجود الأطباء والجراحين والممرضين في تلك المنطقة، ومن فقد الأدوات الطبية التي لا بد منها لمواساة الجرحى ومعالجتهم، فكأن هذا الشعب المنكوب ليس من البشر، فهو يقاسي جميع نكبات الحرب منذ سنين، ولم يعطف عليه أحد من الشرقيين ولا من الغربيين. إذا كانت مساعدة منكوبي البشر حقًّا على جميع البشر للاشتراك العام في الجامعة البشرية، فإن هنالك جامعات أخرى تجعل هذا الحق على بعض الناس آكد، وتوجب أن يكون الشعور به أقوى، كالجامعة الشرقية والجامعة الجنسية والجامعة اللغوية والجامعة الدينية، بداعية هذه الجامعات العامة والخاصة ارتفعت أصوات كثير من الكتاب في الجرائد الشرقية من عربية وعجمية بطلب جمع التبرعات؛ لمساعدة جرحى الريف ومنكوبي الحرب فيه، وتجاوبت الجرائد فيه بين مصر والهند. وقد كانت الجمعية العامة للرابطة الشرقية استحسنت اقتراحًا عرض عليها بجمع الإعانة لهؤلاء المنكوبين، وتبرع بعض أعضائها لذلك بالفعل، ثم نظر مجلس إدارتها في تنفيذ ذلك، ولما لم يجد وسيلة أو طريقة لإرسال بعثة طبية لم يتصد لذلك، ثم تألفت في هذه الأيام لجنة؛ للقيام بجمع التبرعات لهم برئاسة سمو الأمير الجليل عمر طوسون باشا، وعهدت بأمانة صندوقها إلى حضرة السيد أبي بكر بك راتب، بناء على وقوف سموه على طريق مأمون لإرسالها إليهم، فعاد مجلس إدارة الرابطة الشرقية إلى البحث في المسألة، وقرر استنهاض الهمم واستنداء الأكف؛ لمساعدة هذه اللجنة في عملها هذا. فالرابطة الشرقية تنادي كل شرقي كريم الخيم رقيق القلب سخي النفس من مصري وسوري وعراقي وإيراني وهندي وجاري وتركي، وقوقاسي وياباني وصيني قائلة: إن شعبًا صغيرًا من أكرم شعوبكم منبتًا، وأعزهم نفسًا، وأسوئهم في الحياة حظًّا، يعاني على فقره وقلة ذات يده، حربًا عاتية يدافع فيها عن نفسه، فتجندل أبطاله في حومة الوغى بقذائف الطيارات والمدافع والبنادق؛ فيكون أسعدهم حظًّا من يلاقي حتفه لساعته، وأشقاهم وأشدهم بؤسًا أولئك الذين تفصل القذائف الجهنمية أيديهم وأرجلهم من أبدانهم، أو يخترق الرصاص صدورهم فينفذ من ظهورهم، أو يقطع أمعاءهم ويمزق أكبادهم، ويبقى مستكنًا في طيات أحشائهم، ولا يجد طبيبًا ولا ممرضًا يأسو له قرحًا، أو يطهر له جرحًا، أو يحفظ له بقية دمه، أو يخفف عنه بعض ألمه {وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} (إبراهيم: 17) . أولئك أيها الشرقيون إخوانكم في الرابطة الشرقية، أولئك أيها العرب إخوانكم في الوشيجة العربية، أولئك أيها الأفريقيون أشقاؤكم في القارة الأفريقية، أولئك أيها المسلمون أخوتكم في الجامعة الإسلامية، أولئك أيها الناس أبناء أبيكم وأمكم في الإنسانية، فليعطف عليهم كل واحد منكم بما يجده في قلبه من عطف الجامعة التي تجمعه بهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وأما أنتم أيها المصريون الكرام فقد عرف الزمان لكم كل مكرمة، وحفظ لكم مواقف بركم بالمنكوبين من الأمم المختلفة، ولو لم يكن لكم من آثار البر إلا إنشاء جمعية الهلال الأحمر المصرية لكفى

المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الحديثة (كتاب حاضر العالم الإسلامي) لو كان المسلمون يُعنون بمعرفة شئون أنفسهم، ويبحثون عن أسباب تغييرهم لما كان بأنفسهم من عقائد وفضائل ومعارف، وما أعقبها من تغيير الله تعالى ما كان بهم من نعم السيادة والسلطان والعزة والقوة كما يعنى بذلك علماء الإفرنج - لما وصلوا إلى هذه الدركة من الضعف والهوان. قد أتى على الشعوب الإسلامية قرون متتابعة وهم يتدهورون من قنة إلى هوة، كما تتدهور الجلاميد من شماريخ الذرى، لا ندري من حطها من علٍ إلى أسفل، وتتحول من عزة إلى ذلة، ولا تعلم لم تتحول. {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} (آل عمران: 179) فقد قيض بفضله للمسلمين من يوقظهم من سباتهم، ويرشدهم إلى تغيير ما بأنفسهم الآن من أسباب التردي على علم وبصيرة، كما غيروا من قبل ما كان بأنفسهم من أسباب الترقي عن جهل وغفلة، ولكن طرأت عليهم في أثناء هذا الإيقاظ فتنة التفرنج فلبستهم شيعًا، وفرقتهم طرائق قددًا، فقد أفسد ساسة الإفرنج وملاحدتهم جبلاً كثيرًا من أبناء المسلمين، كانوا أضر عليهم من سائر أعدائهم في الدنيا والدين، فهم يضلون المسلمين ويخدعونهم عن دينهم ودنياهم، من حيث يوجد في أحرار الإفرنج من يرشد المسلمين إلى ما فيه صلاحهم وفلاحهم، بما يعنون به من تمحيص الحقائق في شؤونهم لذاتها، أو ليستفيد أقوامهم منها. أمامنا الآن ونحن نكتب هذا كتابان يشغلان مسلمي مصر وسيشغلان سائر البلاد الإسلامية التي يصلان إليها. (أحدهما) كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي رأى القراء في الجزء الماضي ويرون في هذا الجزء شيئًا من بيان مفاسده، وأنه لرجل متخرج في الجامع الأزهر وقاضٍ شرعي في بعض المحاكم المصرية، هو أضر على المسلمين من كل عدو. (والثاني) كتاب (حاضر العالم الإسلامي) وهو لعالم إفرنجي هو أنفع للمسلمين من كثير من أفرادهم الناصحين، دع متفرنجتهم الملاحدة المفرقين، ألا وهو العلامة البحاثة (مستر لوثروب ستودارد) الأمريكي الذي زاد به شهرة على شهرته، ألفه بلغته الإنكليزية وسماه (العالم الإسلامي الجديد) فراج في أمريكة وأوربة رواجًا عظيمًا، وطبع مرارًا متعددة، ونقل إلى أشهر اللغات الغربية والشرقية، وقرظه كبار الكتاب، وأعجبوا بدقة بحثه وسعة اطلاع صاحبه. ونقله إلى لغتنا العربية عجاج أفندي نويهض أحد أبنائها البررة المجيدين لها وللُّغة الإنكليزية؛ ليُطلع هذه الأمة على أصح ما كتب في وصف حالها، أدق من عرف من علماء الفرنجة بحثًا عنها، وأعد لهم حكمًا لها وعليها، وأصدقهم قولاً فيها، وذكر أن المحققين من العلماء الغربيين شهدوا له بهذه الصفات عند تقريظ كتابه هذا. ترجم الكتاب وعرض ترجمته على كاتب العصر - كما قال بحق - الأمير شكيب أرسلان الشهير، وطلب منه أن يكتب له مقدمة تليف به ففعل، بل أجاب السائل بأكثر مما سأل، وله في ذلك أسوة حسنة [1] ولكنه أربى في الكرم، فوضع على الكتاب حواشي وذيولاً يصح في وصفها قول العرب: على التمرة مثلها زبدًا، بل تُربي على صحائف الأصل عدًّا، ولعلها مدت مادته بضعفيها مدًّا، فهي بطولها واستطرادتها تضاهي الحواشي الأزهرية، ولا غرو فروح الأمير العلمية والأدبية، أغلب عليه من روحه الاقتصادية والاجتماعية، فإنه لو جعل هذه الحواشي كتابًا مستقلاً لكان أليق بمقامه وأجدر بإفادتها من جعله إياها تابعة لغيرها، ولكان له منها ربح مالي يزيد على ربح الكتاب الأصلي، بل ربما زاد عليه موشى وموشحًا بها أيضًا، فإن أكثرها موضوعات مستقلة بنفسها، وما فيها من إيضاح لبعض غوامض الكتاب أو استدراك عليه هو أقلها، ولكنه على ما يظهر من معرفته لقدر نفسه، وعلى ما يقول بعض حساده أو مكبري فضله من إعجابه بها، كثيرًا ما يهضمها، ويضعها تواضعه دون ما رفع الله من قدرها، ومن ذلك ظنه أن جعل هذه الحقائق الثمينة ذيولاً لترجمة هذا الكتاب أحرى باستمالة الناس إلى مطالعتها، كأنه لم يشعر بأنه أشهر من صاحب الكتاب لدى قراء العربية، ولم يستشعر أن الثقة به في شؤون الإسلام أقوى من الثقة بذاك عند جميع الشعوب الإسلامية، وغيرهم من الشعوب الشرقية، وكثير من علماء البلاد الغربية وإننا نكتفي الآن بذكر عناوين فصول الكتاب، وأهم عناوين الحواشي لتعريف قراء المنار قيمتها. - أما موضوع الكتاب ومواده فهي مودعة في مقدمة وتسعة فصول وخاتمة لا يستغني مسلم يهمه أمر أمته وملته عن الاطلاع عليها. المقدمة (في نشوء الإسلام وارتقائه وانحطاطه) وقد أنصف فيها الإسلام بالثناء عليه، وبيان أصول الإصلاح والهدى المودعة فيه، فتكلم في ذلك كلام عليم خبير منصف، وبين ما أصاب المسلمون بهدايته وما أصابهم بتركها وأسباب الارتقاء وأسباب الانحطاط في الحالين بما تعطيه فلسفة التاريخ وأصول علم الاجتماع للمطلع على تاريخ الإسلام القديم والحديث، والواقف على عقائده وآدابه بالإجمال. ولكن كلامه فيها لم يسلم من الخطأ في مسائل يتوقف تحقيق الحق فيها على علم استقلالي واسع في العقائد الإسلامية والفرق المختلفة فيهم، فهو على إدراكه لطهارة العقائد والآداب الإسلامية وموافقتها للفطرة البشرية والعقل السليم، ولعدالة التشريع الإسلامي وإصلاحه اللذين جحدهما الشيخ علي عبد الرازق - ولكون العرب كانوا أجدر الشعوب بفهم تلك المزايا لحريتهم وطباعهم السليمة غير المضطربة بتقاليد الأديان التي كان قد أفسدها الزمان - وعلى جعله هذين الأمرين- التعاليم الإسلامية والفطرة العربية - هما الأساس والعلة الأولى لنجاح الإسلام ومدنيته , وعلى إدراكه أن الأعاجم المبلبلة قلوبهم وعقولهم بالتقاليد الموروثة لم يفهموا الإسلام كما فهمه العرب، وأن تغلبهم على الخلفاء وسلبهم لسلطان العرب كان علة العلل للانحطاط الذي تلا ذلك بالارتقاء , هو على إدراكه لكل ما ذكر - قد اختلط عليه الأمر عند المقابلة بين أهل السنة ومتبعي النقل، والمعتزلة الذين حكموا العقل. علم أن الإسلام دين العقل والفطرة، فظن أن المعتزلة الذين أرجعوا كل شيء في الدين إلى أصول العقل هم الذين استمسكوا بجوهر الإسلام ولبابه الصحيح، وأن خصومهم المحافظين الذين ذهبوا إلى أن النقل والسنة مقياس كل شيء في الدين، هم الذين جهلوا جوهر الإسلام، وظن أن الذين دخلوا في الإسلام، وقد أشربوا في قلوبهم الدين البيزنطي القديم (وأمثالهم من الذين فهموا الإسلام بمرآة أديانهم وتقاليدها؟) قد كانوا من زمرة أهل السنة والنقل؛ لما اعتادوا من التقليد، وأنهم هم الذين أولوا القرآن والأحاديث النبوية تأويلات بعدت بها عن سهولتها وبساطتها قال: (فنتج من ذلك أن أصيب الإسلام بمثل ما أصيبت به النصرانية في الأجيال المظلمة، من تلبيس الدين عقائد غير عقائده، ونسبة الآراء الدينية الجافة إليه وهو براء منها، فلا غرو إذا اشتد الخلاف واتسعت شقته وطال عهده بين الذين اعتصموا بالسنة والنقل، فقاسوا عليهما، وبين الذين جعلوا العقل نفسه مقياسًا لكل شيء) . ثم زعم أن عقيدة السنة هي التي غلبت على العقل كما كان متوقعًا، وأن تاريخ السنة والتقاليد إنما هو تاريخ السير نحو أدوار الاستبداد وعواقبه المشؤومة. لم يفرق المؤلف بين السنة والنقل في الإسلام وبين التقاليد في الأديان الأخرى وهي عبارة عن العقائد والشعائر الموروثة عن الآباء والرؤساء والمعلمين، والحق الواقع أن كل ما ذكر من الفساد في الإسلام إنما كان من بدع الذين حكموا عقولهم أي آراءهم النظرية في الدين، وأنهم هم الذين حولوا الإسلام عن بساطته المعقولة الموافقة للفطرة، وهم الذين كانوا السبب في إدخال البدع وضلالات الأديان القديمة وسخافاتها وخرافات الوثنية في الإسلام بالشبهات النظرية التي سموها دلائل عقلية، والأقيسة الشيطانية فيما لا مجال للقياس فيه من عقائد الدين التي لا مأخذ لها إلا الوحي، ومن الأحكام الثابتة بالنص. أهل السنة والجماعة هم الذين كانوا يجمعون قداسة الدين وسهولته من تطرق بدع الأديان والآراء الفلسفية والشعرية إليها، لتحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته منها، فمنهم من منع القياس في أمور الدين مطلقًا، ومنهم من قال: إن القياس جائز في غير الأمور الاعتقادية والتعبدية، وقصره بعضهم على الأحكام القضائية والمدنية والسياسية. وكان من بدع المعتزلة دعوتهم إلى القول بخلق القرآن، وحملهم بعض خلفاء العباسيين الذين اتبعوا نحلتهم بحمل المسلمين على ذلك بالقهر والاضطهاد، وقد آذوا به خلقًا كثيرًا من أهل السنة من أجلهم قدرًا إمام الأئمة أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - فقد ضربوه ضربًا مبرحًا، وداسوه بأرجلهم ليقول بقولهم، فامتنع أن يقول: هو مخلوق أو غير مخلوق، احتجاجًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يأمروا بذلك ولم يقولوا به، فيسعنا ما وسعهم، ولا نعرف ديننا إلا عنهم، ولو أجزنا مجاوزة نصوص الوحي وتفسير السنة له بآرائنا العقلية تزول الوحدة ونتفرق شيعًا كما تفرق من حذرنا الله أن نكون مثلهم. ومبتدعة الشيعة الفاطميين، بل زنادقة الباطنيين كانوا يعتمدون في ترويج بدعهم على الفلسفة اليونانية، وهم الذين ابتدعوا في مصر احتفالات الموالد التي لا تزال مشوهة للإسلام وسبة للمسلمين، والإسلام بريء منها، وملوك الأعاجم وأمراؤهم هم الذين ابتدعوا جعل القبور مساجد، وكانوا سبب تقديس الجاهلين لها بل عبادتهم إياها، كما فعل أهل الكتاب قبلنا، وحذرنا نبينا من فعلهم، إذ قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - في سبب لعنه صلى الله عليه وسلم للذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد: يحذر ما صنعوا - كما في صحيح البخاري، ولا يزال المدافعون عن هذه البدع يحتجون لها بنظريات يسمونها عقلية كوجود الأرواح، وجواز قضائها أو حملها الخالق تعالى على قضاء الحاجات، ولا يوجد دليل نقلي علي شيء من هذه البدع والخرافات. من الأسف أن البدع التي يسمونها نظريات عقلية هي التي غلبت على السنة حتى أفسدت على المسلمين دينهم ودنياهم خلافًا لما قاله المؤلف، ولو اتبع الناس الإمام أحمد وأمثاله لما زادوا في الدين شيئًا ولا نقصوا منه شيئًا، ولصرفوا ذكاءهم وجهدهم في العلوم والفنون الكسبية التي تفيدهم وترفع شأنهم، ولم يخلطوا بالدين ما ليس منه. ألم تر أن مؤلف الكتاب يعد الدعوة الوهابية إصلاحًا في الدين وإرجاعًا له إلى أصله الطاهر، وهل الوهابية إلا الوقوف بالدين على صراطه المستقيم. الكتاب والسنة الصحيحة - ورد جميع ما ابتدع فيه سواء استحسنته العقول أم لا، وهل للعقول قاعدة أو حد تقف عنده في هذه الأمور؟ أليس لعباد الأوثان فلسفة دينية، وشبهات نظرية يسمونها دلائل عقلية؟ بلى، ويكفينا هذا في بيان غلط المؤلف في هذه المسألة. ولنعد إلى موضوعات الكتاب فنقول: الفصل الأول في اليقظة الإسلامية. وهو في الجزء الأول. الفصل الثاني في الجامعة الإسلامية. وهو في الجزء الأول. الفصل الثالث في سيطرة الغرب على الشرق. ج 2. الفصل الرابع في التطور السياسي. وهو في الجزء الثاني. الفصل الخامس في العصبية الجنسية. وهو في الجزء الثاني. الفصل السادس في العصبية الجنسية في الهند. وهو في الجزء الثاني. الفصل السابع في التطور ا

الوثائق الرسمية في المسألة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوثائق الرسمية في المسألة العربية بلاغ سلطان نجد [*] لمن في مكة وضواحيها من سكان الحجاز، الحاضر منهم والباد. نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو رب هذا البيت العتيق، ونصلي ونسلم على خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم. (أما بعد) فلم نقدم من ديارنا إليكم إلا انتصارًا لدين الله الذي انتهكت محارمه، ودفعًا لشرور كان يكيدها لنا ولديارنا من استبد بالأمر فيكم قبلنا. وقد شرحنا لكم غايتنا هذه من قبل، وها نحن أولاء بعد أن بلغنا حرم الله نوضح لكم الخطة التي سنسير عليها في هذه الديار المقدسة؛ لتكون معلومة عند الجميع فنقول: (1) سيكون أكبر همنا تطهير هذه الديار المقدسة من أعداء أنفسهم الذين مقتهم العالم الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بما اقترفوه من الآثام في هذه الديار المباركة وهم (الحسين وأنجاله وأذنابهم) . (2) سنجعل الأمر في هذه البلاد المقدسة - بعد هذا - شورى بين المسلمين، وقد أبرقنا لكافة المسلمين في سائر الأنحاء أن يرسلوا وفودهم؛ لعقد مؤتمر إسلامي عام، يقرر شكل الحكومة التي يرونها صالحة لإنفاذ أحكام الله في هذه البلاد المطهرة. (3) إن مصدر التشريع والأحكام لا يكون إلا من كتاب الله ومما جاء عن رسوله عليه الصلاة والسلام، أو ما أقره علماء الإسلام الأعلام بطريق القياس أو أجمعوا عليه مما ليس في كتاب ولا سنة، فلا يحل في هذه الديار غير ما أحله الله ولا يحرم فيها غير ما حرمه. (4) كل من كان من العلماء في هذه الديار أو من موظفي الحرم الشريف أو المطوفين ذا راتب معين فهو له على ما كان عليه من قبل، إن لم نزده فلا ننقصه شيئًا، إلا رجلاً أقام الناس عليه الحجة أنه لا يصلح لما هو قائم عليه، فذلك ممنوع مما كان له من قبل، وكذلك كل من كان له حق ثابت سابق في بيت مال المسلمين أعطيناه حقه ولم ننقصه منه شيئًا. (5) لا كبير عندي إلا الضعيف حتى آخذ الحق له، ولا ضعيف عندي إلا الظالم حتى آخذ الحق منه، وليس عندي في إقامة حدود الله هوادة، ولا يقبل فيها شفاعة، فمن التزم حدود الله ولم يتعدها فأولئك من الآمنين، ومن عصى واعتدى فإنما إثمه على نفسه ولا يلومن إلا نفسه، والله على ما نقول وكيل وشهيد وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم. عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود *** (بلاغ من علماء الحرم المكي الشريف) [**] في اتفاقهم مع علماء نجد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. من علماء حرم الله الشريف وأئمته الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي، والشيخ عمر باجنيد أبي بكر، والشيخ درويش عجيمي، والشيخ محمد مرزوقي، والشيخ أحمد بن علي النجار، والشيخ جمال المالكي، والشيخ عباس المالكي، والشيخ حسين بن سعيد، محمد بن سعيد عبد الغني، والشيخ حسين مفتي المالكية، والشيخ عبد الله حمد، والشيخ عبد الستار، والشيخ سعد وقاص، والشيخ عمر بن صديق خان، والشيخ عبد الرحمن الزواوي، إلى من يراه من علماء الحكومات الإسلامية وملوكهم وأمرائهم. (أما بعد) فقد اجتمعنا نحن المذكورين مع مشايخ نجد حين قدومهم إلى الحرم الشريف مع الإمام عبد العزيز حفظه الله، وهم: الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف، والشيخ عبد الله بن حسن، والشيخ عبد الوهاب بن مزاحم، والشيخ عبد الرحمن بن محمد بن داود، والشيخ محمد بن عثمان الشاوي، والشيخ مبارك بن عبد المحسن بن باز، والشيخ إبراهيم بن ناصر بن حسين. فجرى بيننا وبين المذكورين المحترمين مباحثة، فعرضوا علينا عقيدة أهل نجد وعرضنا عليهم عقيدتنا، فحصل الاجتماع بيننا وبينهم بعد البحث والمراجعة في مسائل أصولية: منها أن من أقر بالشهادتين وعمل بأركان الإسلام الخمسة ثم أتي بمكفر - ينقض إسلامه - قولي أو فعلي أو اعتقادي، أنه يكون كافرًا بذلك يستتاب ثلاثًا فإن تاب وإلا قتل. (ومنها) من جعل بينه وبين الله وسائط من خلقه يدعوهم ويرجوهم في جلب نفع أو دفع ضر، ومن طلب الشفاعة من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله أن ذلك شرك، فإن الشفاعة ملك لله ولا تطلب إلا منه، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: 255) وهو لا يأذن إلا فيمن رضي قوله وعمله كما قال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} (الأنبياء: 28) ، وهو لا يرضى إلا التوحيد والإخلاص (ومنها) تحريم البناء على القبور وإسراجها، وتحري الصلاة عندها، وأن ذلك بدعة محرمة في الشريعة، (ومنها) أن من سأل الله بجاه أحد من خلقه فهو مبتدع مرتكب حرامًا (ومنها) أنه لا يجوز الحلف بغير الله لا الكعبة ولا الأمانة ولا النبي ولا غير ذلك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك) . فهذه المسائل كلها لما وقعت المباحثة فيها حصل الاتفاق بيننا وبين المذكورين، ولم يحصل خلاف في شيء، فاتفقت بذلك العقيدة بيننا معاشر علماء الحرم الشريف وبين إخواننا علماء أهل نجد - نسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه آمين، وصلى الله على محمد وآله وسلم. *** الإنذار البريطاني للملك حسين بن علي هذا نص الإنذار الذي سلمه قائد المدرعة البريطانية فورن يوم 28 مارس إلى الملك حسين كما نشر في المقطم: (إلى جلالة الملك حسين من وكيل خارجية بريطانيا العظمى) : تبلغت حكومة جلالة ملك بريطانيا أن عظمة سلطان نجد هيأ قوة لمهاجمة (العقبة) ويفهم من هذا بأن الباعث هو جلالتكم وحكومة الحجاز التي جعلت مركز معان والعقبة بحالة عسكرية ضد ابن السعود، ولا يخفى أن حكومة جلالة ملك بريطانيا مسئولة عن الأمن العام بفلسطين وشرق الأردن مع معان التي قعد تحت انتدابها، فعندما أتيتم إلى العقبة كلفت حكومة جلالة الملك علي والأمير عبد الله بتعيين الحدود الفاصلة بين الحجاز والشرق العربي. ومع ذلك رأت العظمة البريطانية بأن المثابرة على المذاكرة بمثل هذه الأوقات الحرجة غير ممكنة بالنظر لحالة الحجاز الراهنة، وعليه فقد أجلت حكومة بريطانيا المذاكرة في هذا الموضوع لفرصة أخرى. ولكن هناك نقطة متخذة من قبل جلالة ملك بريطانيا، ولا يمكنه أن يتساهل بها وهي: أن يبقى أو يسمح بصورة ما بدوام الحالة الحاضرة؛ ولذلك بدأت بإظهار سلطة حكومة الشرق العربي في الأماكن التي هي مسئولة عنها أمام جمعية الأمم، وهي تحتوي على معان والعقبة، وتدعوكم أيضًا لمغادرة العقبة؛ لكي لا تكونوا سببًا لحصول مشاكل جديدة بين بريطانيا وسلطان نجد. وفي هذه المناسبة تصر بإلحاح على وجوب مغادرتكم العقبة قائلة: لا يمكنها أن تسمح لكم بالبقاء أكثر من ثلاثة أسابيع) اهـ. وقد أجاب حسين عن هذا جوابًا طويلاً افتتحه بإثبات إخلاصه لحكومة بريطانية كعادته، ولكنه زعم أنه لا يطيع الإنذار إلا بشروط، ثم أطاعه بغير شرط فأرسلته إلى قبرص، ووقع عليه ما اختاره لنفسه حين طلب أن تختار له ولأولاده بلدًا يقيمون فيه إذا كانت غير راضية عن عمله في الحجاز، كما بيناه مرارًا بالنقل عن جريدة القبلة. *** إلحاق منطقة العقبة ومعان الحجازية بمنطقة شرق الأردن البريطانية (صورة الإرادة من جلالة الملك علي المعظم ملك الحجاز بتاريخ 25 ذي القعدة سنة 1343 إلى والي معان بخصوص تسليم العقبة ومعان إلي حكومة الشرق العربي) . تقرر بين جلالة الملك علي وسمو الأمير عبد الله ما يأتي: أ - التصريح بسلامة الشرق العربي. ب- عدم إزعاج جلالة الخليفة الأعظم (؟) نظرًا لمقامه في العالم العربي والإسلامي: يعني لا يجري الاستلام إلا بعد تشريف جلالته لجدة. ج- لا يجري التسليم إلا بعد أن تصدر الأوامر لموظفي ولاية معان بذلك. د- عدم التعرض لمناقلات الحجاز الحربية مطلقًا. هـ - عدم التعرض لمناقلات الخط الحجازي الحاضرة. و إعطاء الحرية للحكومة بنقل جندها وممتلكاتها إلى أي محل تريد قبل الاستلام وبعده. وقد زاد جلالة الملك علي بعض مواد أيضًا، وأمر جلالته بأنه عند مجيء سمو الأمير عبد الله إلى معان تعتمد أوامره، وتنفذ وإليك المواد المذكورة. أ- تبقى جنود الخط الحجازي التابعون لمحافظة الخط والقطارات تحت قيادة قائدهم، وتحت نظرة ناظر الخط الحجازي. ب - تبقى لا سلكي معان بمعان؛ لأجل المخابرة مع الخط الذي تظل إدارته على حكمها. ج- على ناظر الخط الحجازي تقديم دفتر بموجود جند الخط الحجازي من معان إلى مدائن صالح. د- ترسل السيارات بالباخرة رضوى إلى جدة. (المنار) هذا ما نشرته جريدة المقتبس لمكاتبها في عمان تحت عنوان (وثيقة رسمية) ، ونشر مثله في غيرها، ثم نشرت هذه الجريدة وغيرها ما ترتب على الاتفاق بما نصه: معان والعقبة - أصدر سمو الأمير عبد الله المعظم الإرادة الآتية: نظرًا لتنسيب صاحب الجلالة الهاشمية الملك علي المعظم تلك البلاد المقدسة الحجازية أيده الله وأدام نصره ضم ولاية معان والعقبة إلى إمارتنا اقتضى إصدار إرادتنا إليكم - الخطاب لرئيس النظار - إعلامًا بذلك مع الشكر الدائم لجلالته الملوكية الهاشمية منا ومن شعبنا وحكومتنا. تشكيلات معان - سافر إلى معان قبل العيد سمو الأمير وبمعيته رئيس أركان حرب الجيش العربي ورجال المعية وفئة الحرس، وسافر إلى معان حضرة رئيس النظار وبعض الضباط والأركان والكتائب النظامية، وقد احتفل في معان بإعلان انضمام ولاية معان إلى إمارة الشرق العربي، ورفع علم الإمارة الجليلة عليها، وقد بوشر إجراء التشكيلات الجديدة فيها، وأبقى غالب باشا حاكمًا عليها اهـ. (المنار) ليعتبر العالم الإسلامي بأعمال هؤلاء الخونة المفتونين بلقب ملك وأمير! !

بمناسبة كتاب مفتوح

الكاتب: شكيب أرسلان

_ بمناسبة كتاب مفتوح [1] حضرة الأستاذ الثقة الحجة مفخر العالم الإسلامي السيد رشيد رضا نفع الله به. سنة 1918 أي السنة الأخيرة من سني الحرب الكبرى بلغني إذ أنا في الآستانة أن الأمير عليًا بن الملك الحسين بن علي أغار على أطراف حوران وجبل الدروز واستجاش أهالي تلك الديار للقيام على الدولة العثمانية والالتحاق بالجيش الحسيني العربي الذي كان يعمل يدًا واحدة مع الجيش البريطاني في جنوبي سورية، وبلغني أيضًا أن الزعماء الذين استفزهم للثورة أجابوه يومئذ بأنهم يأبون أن يقبلوا دعوة لم تكن لتفيد غير الأجنبي الطامح إلى الديار، والطامع في القضاء على ما بقي من ملك الإسلام، وأنذروه بالحرب إن لم يعد من حيث أتى، فحررت كتابًا مفتوحًا إلى الأمير علي بن الحسين أحذره فيه عاقبة هذه الغارات، وأنهاه عن التضريب بين العرب خدمة لمصلحة العدو، وأقول له: أتقاتل العرب بالعرب أيها الأمير حتى تكون ثمرة دماء قاتلهم ومقتولهم استيلاء إنكلترة على جزيرة العرب وفرنسة على سورية واليهود على فلسطين، وما أشبه ذلك مما ورد في مناركم في الجزء التاسع من المجلد الخامس والعشرين. إلا أنه بلغني فيما بعد أن الشريف الحجازي الذي ظهر يومئذ على ماء الأزرق جنوبي جبل الدروز على مسافة يومين منه لم يكن الشريف علي بن الحسين، بل شريفًا آخر اسمه علي من قواد الجيش الحجازي، وقد تبجحت بذلك (القبلة) في أحد أعدادها الصادرة سنة 1913 في عرض مقالة ردت فيها على كتابي المذكور بعد نشره بخمس سنوات؛ بمناسبة ظهوره في مجموعة أخبار ووثائق عن الحرب لأديب مسيحي سوري، وقد جعلت (القبلة) المنحرفة في الواقع عن القبلة الحجة القاطعة (! !) على عدم صحة ما كتبته في هذا الكتاب المفتوح من أوله إلى آخره كون الأمير علي بن الحسين لم يذهب إلى الأزرق. مع أن ذهاب علي بن الحسين أو علي آخر إلى الأزرق لا يقدم ولا يؤخر شيئًا في جوهر الموضوع، فالموضوع هو نهي هؤلاء الجماعة الثائرين يومئذ على الدولة عن التهور في مناصرة دولة أجنبية، كانوا يخدمونها ببذل دماء العرب؛ ليصلوا فيما بعد إلى غاية ليس منها شيء للعرب كما حققت ذلك الحوادث، ويا للأسف من بعد الحرب، وعلى فرض أن الأمير علي بن الحسين لم يكن ذهب إلى الأزرق قد ذهب أخٌ له من الأشراف إلى الأزرق، وكلهم كانوا في الثورة سواء الذي ذهب إلى الأزرق والذي لم يذهب. على أنني أنا كنت بعثت بالكتاب المفتوح المذكور إلى جريدة (الشرق) التي كانت تطبع بالشام، وصادف أنني يوم ظهوره في تلك الجريدة كنت في برلين، فلم أطلع على العدد الذي فيه هذا الخطاب من جريدة (الشرق) ، ويظهر أنه قد سقطت فيه أغلاط كثيرة في الطبع، لا بل جرى تقديم وتأخير في بعض الجمل وأهملت جمل برمتها، فجاء المجاور لها قلقًا غير مستو على وضين الأصل، ولم أشعر بذلك في وقته؛ لأنني لم أطلع على (الشرق) إذ أنا في الغرب ومضت الأيام والأعوام إلى السنة الماضية 1924 فإذا بجريدة أبابيل البيروتية، قامت تنشر هذا المكتوب إما نقلاً عن جريدة (الشرق) أو عن مجموعة الأديب المار ذكره، لست أعلم عن أي مصدر أخذته، وقصار ما أعلم أنني أول ما رأيته مطبوعًا في جريدة أبابيل البيروتية أيضًا، والآن أراه في المنار منقولاً عن جريدة (الوطن) الصادرة في البرازيل، والذي أريد أن أنبه عليه هو: أولاً - إن المكتوب كان موجهًا لا إلى الملك حسين رأسًا بل إلى ولده علي. ثانيًا - إنه يوجد في المكتوب إشارة لا إلى إنكلترة فقط بل إلى فرنسة أيضًا، فالجرائد البيروتية التي نقلته حذفت ما تعلق بفرنسة، ونشرت ما يمس إنكلترة؛ خوفًا من قلم المراقبة. ثالثًا - يوجد في المكتوب أغلاط كثيرة مطبعية وكلمات محرفة مثل (وبنوة النبوة) جعلوها (بنور النبوة) وكلمات مثل (أو ذمامًا يحفظونه لك أو بسواك إذا قضت سياستهم غير ذلك) فأطاحوا جملة (غير ذلك) ومثل (فيما لو قضت عليهم سياستهم عن سلب إمارتك) وأصلها (بسلب إمارتك) كما لا يخفى ومثل (وما إخالك تجهل التاريخ وتكابر في التواتر بمن شأنهم في الإخلال بالعهود والمواثيق، إلى الحد الذي تنكر فيه هذه الحقيقة التي تتجلى في جميع معاملاتهم سواء مع المسلمين أو مع سائر الأمم) وأصلها (التواتر عمن شأنهم الإخلال بالعهود والمواثيق إلى الحد الذي لا تقدر أن تنكر فيه هذه الحقيقة التي تتجلى) إلخ؛ ومثل (لا جرم أنك تقدر أن تدعي بوجود بعض عشائر من العرب توفر القوة التي تكفل دفع إنكلترة بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من عقلاء الخلق يرتاح إلى قبول هذه الدعوة) وهي جملة لا يخرج لها معنى وأصلها (لا جرم أنك تقدر أن تدعي وجود بعض عشائر من العرب توفر لك القوة التي تكفل بها دفع إنكلترة بجيوشها الجرارة عن مكة والمدينة، ولا أحد من عقلاء الخلق يرتاح إلى قبول هذه الدعوى) ومثل (ولا سيما على الحجاز منذ أحتاب) وأصلها (ولا سيما على الحجاز الذي هو نصب عينها منذ أحقاب) وأما جملة (وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم في داخل إمارة مكة أو في الحجاز فيمكنك أن تريح فكرك منها منذ الآن، ولا حاولوا إدخال عسكرهم إلى البلد الحرام، ولا وضعوا ضباطهم على أبواب حجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ تفاديًّا من العجلة إلخ، فإن عبارة (فيمكنك أن تريح فكرك منها منذ الآن) كانت فيما أتذكره موضوعة بين خطين هكذا - فيمكنك منذ الآن أن تريح فكرك منها - وهي جملة معترضة، والجملة الشرطية من عند قولي: (وإذا كانوا لم يعترضوك إلى اليوم) إلى قولي: (ولا حاولوا إدخال عسكرهم) إلى قولي: (ولا وضعوا ضباطهم إلخ) جوابها (أفليس عندك أنت بمكانك من الذكاء والفضل ومطالعة التواريخ) إلخ، وأما جملة (فما يؤثر على الأمة الإسلامية أو يفيدها) فهي من سبق القلم، والمراد أن أقول: فما يؤثر في الأمة العربية أو الإسلامية) بمعنى ما يؤثر بين الأمة أو في وسط الأمة، والخلاصة لم أجد فيما نقل عني كتابًا تعاورته الأيدي بالحذف والطرح والتقديم والتأخير، فضلاً عما أسقطه مرتبو الحروف مثل هذا الكتاب، فأرجو نشر هذا التصحيح ولكم الفضل. ... ... ... ... ... شكيب أرسلان

لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة بسم الله الرحمن الرحيم (مسألة) سُئلها الشيخ الإمام العالم العلامة، إمام الوقت، فريد الدهر، جوهر العلم، لب الإيمان، قطب الزمان، مفتي الفرق، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام شهاب الدين عبد الحليم ابن الشيخ الإمام العلامة مؤيد السنة مجد الدين عبد السلام ابن تيمية الحراني رضي الله عنه ونفع به آمين: في جماعة يجتمعون في مجلس، ويُلبسون لشخص منهم لباس الفتوة، ويديرون بينهم في مجلسهم شربة فيها ملح وماء يشربونها، ويزعمون أن هذا من الدين، ويذكرون في مجالسهم ألفاظًا لا تليق بالعقل والدين، فمنها أنهم يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألبس علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - لباس الفتوة، ثم أمره أن يلبسه من شاء، ويقولون: إن اللباس أنزل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في صندوق، ويستدلون عليه بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} (الأعراف: 26) الآية - فهل هو كما زعموا أم كذب مختلق؟ وهل هو من الدين أم لا؟ وإذا لم يكن من الدين فما يجب على من يفعل ذلك أو يعين عليه؟ ومنهم من ينسب ذلك إلى الخليفة الناصر لدين الله أبي عبد الجبار، ويزعم أن ذلك من الدين؛ فهل لذلك أصل أم لا؟ وهل الأسماء التي يسمون بها بعضهم بعضًا من اسم الفتوة ورؤوس الأحزاب والزعماء، فهل لهذا أصل أم لا؟ ويسمون المجلس الذي يجتمعون فيه دسكرة، ويقوم للقوم نقيب إلى الشخص الذي يلبسونه؛ فينزعه اللباس الذي عليه بيده، ويلبسه اللباس الذي يزعمون أنه لباس الفتوة بيده، فهل هذا جائز أم لا؟ وإذا قيل: لا يجوز فعل ذلك ولا الإعانة عليه فهل يجب على ولي الأمر منعهم من ذلك؟ وهل للفتوة أصل في الشريعة أم لا؟ وإذا قيل: لا أصل لها في الشريعة فهل يجب على غير ولي الأمر أن ينكر عليهم ويمنعهم من ذلك أم لا؟ مع إمكانه من الإنكار [1] ، وهل أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أو من التابعين أو من بعدهم من أهل العلم فعل هذه الفتوة المذكورة أو أمر بها أم لا؟ وهل خلق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من النور أم خلق من الأربع عناصر أم من غير ذلك؟ وهل الحديث الذي يذكره بعض الناس: لولاك ما خلق الله عرشًا ولا كرسيًّا ولا أرضًا ولا سماء ولا شمسًا ولا قمرًا ولا غير ذلك صحيح هو أم لا؟ وهل الأخوة التي يواخيها المشايخ بين الفقراء في السماع وغيره يجوز فعلها في السماع ونحوه أم لا؟ وهل آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أم بين كل مهاجري وأنصاري؟ وهل آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أم لا؟ بينوا لنا ذلك بالتعليل والحجة المبينة، وابسطوا لنا الجواب في ذلك بسطًا شافيًا مأجورين أثابكم الله تعالى. *** لباس خرقة الفتوة مبتدع (الجواب) الحمد لله أما ما ذكر من إلباس لباس الفتوة السراويل أو غيره، وإسقاء الملح والماء فهذا باطل لا أصل له، ولم يفعل هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا علي بن أبي طالب ولا غيره ولا من التابعين لهم بإحسان: والإسناد الذي يذكرونه من طريق الخليفة الناصر إلى عبد الجبار إلى ثمامة فهو إسناد لا تقوم به حجة، وفيه من لا يعرف ولا يجوز لمسلم أن ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الإسناد المجهول الرجال أمرًا من الأمور التي لا تعرف عنه، فكيف إذا نسب إليه ما يعلم أنه كذب وافتراء عليه، فإن العالمين بسنته وأحواله متفقون على أن هذا من الكذب المختلق عليه، وعلى علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - وما ذكروه من نزول هذا اللباس في صندوق هو من أظهر الكذب باتفاق العارفين بسنته، واللباس الذي يواري السوءة هو كل ما ستر العورة من جميع أصناف اللباس المباح، أنزل الله تعالى هذه الآية؛ لما كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ويقولون: ثياب عصينا الله فيها لا نطوف فيها، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأنزل قوله: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (الأعراف: 31) والكذب في هذا أظهر من الكذب فيما ذكر من لباس الخرقة، وأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تواجد حتى سقطت البردة عن ردائه، وأنه فرق الخرق على أصحابه، وأن جبريل أتاه، وقال له: إن ربك يطلب نصيبه من زيق الفقر، وأنه علق ذلك بالعرش، فهذا أيضًا كذب باتفاق أهل المعرفة، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لم يجتمع هو وأصحابه على سماع كف ولا سماع دفوف وشبابات ولا رقص، ولا سقط عنه ثوب من ثيابه في ذلك، ولا قسمه على أصحابه وكل ما يروى من ذلك فهو كذب مختلق باتفاق أهل المعرفة بسنته. *** فصل (شروط لباس خرقة الفتوة) والشروط التي تشترطها شيوخ الفتوة ما كان منها مما أمر الله به ورسوله: كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، ونصر المظلوم، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهد، أو كانت مستحبة: كالعفو عن الظالم، واحتمال الأذى، وبذل المعروف الذي يحبه الله ورسوله، وأن يجتمعوا على السنة، ويفارق أحدهما الآخر إذا كان على بدعة ونحو ذلك، فهذه يؤمن بها كل مسلم سواء شرطها شيوخ الفتوة أو لم يشرطوها، وما كان منها مما نهى الله عنه ورسوله مثل التحالف الذي يكون بين أهل الجاهلية، إن كلا منهما يصادق صديق الآخر في الحق والباطل، ويعادي عدوه في الحق والباطل، وينصره على كل من يعاديه سواء كان الحق معه أو كان مع خصمه، فهذه شروط تحلل الحرام وتحرم الحلال، وهي شروط ليست في كتاب الله [2] ، وفي الصحيح عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، كتاب الله أحق وشرط الله أوثق) رواه البخاري، وفي السنن عنه أنه قال: (المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً) وكل ما كان من الشروط التي بين القبائل والملوك والشيوخ والأحلاف وغير ذلك فإنها على هذا الحكم باتفاق علماء المسلمين، ما كان من الأمر المشروط الذي قد أمر الله به ورسوله، فإنه يؤمر به كما أمر الله به ورسوله، وإن كان مما نهى الله عنه ورسوله فإنه ينهى عنه كما نهى الله عنه ورسوله، وليس لبني آدم أن يتعاهدوا ولا يتعاقدوا ولا يتحالفوا ولا يتشارطوا على خلاف ما أمر الله به ورسوله، بل على كل منهم أن يوفوا بالعقود والعهود التي عهدها الله إلى بني آدم كما قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة: 40) ، وكذلك ما يعقده المرء على نفسه كعقد النذر، أو يعقده الاثنان كعقد البيع والإجارة والهبة وغيرهما، أو ما يكون تارة من واحد وتارة من اثنين كعقد الوقف والوصية، فإنه في جميع هذه العقود متى اشترط العاقد شيئًا مما نهى الله عنه ورسوله كان شرطه باطلاً. وفي الصحيح عن عائشة - رضى الله عنها - عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) . والعقود المخالفة لما أمر الله به ورسوله هي من جنس دين الجاهلية، وهي شعبة من دين المشركين وأهل الكتاب الذين عقدوا عقودًا أمروا فيها بما نهى الله عنه ورسوله، ونهوا فيها عما أمر الله به ورسوله، فهذا أصل عظيم يجب على كل مسلم أن يتجنبه. *** (فصل) (الفتى والفتوة والزعيم والحزب والدسكرة وما قالوه فيها) وأما لفظ الفتى فمعناه في اللغة الحدث كقوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ} (الكهف: 13) ، وقوله تعالى: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} (الأنبياء: 60) ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} (الكهف: 60) ، لكن لما كانت أخلاق الأحداث اللين صار كثير من الشيوخ يعبرون بلفظ الفتوة عن مكارم الأخلاق: كقول بعضهم طريقنا نتفتى وليس بتقوى (؟) ، وقول بعضهم: الفتوة أن تقرب من يقصيك وتكرم من يؤذيك، وتحسن إلى من يسيء إليك، سماحة لا كظمًا، ومودة لا مضارة، وقول بعضهم: الفتوة ترك ما تهوى لما تخشى، وأمثال هذه الكلمات التي توصف فيها الفتوة بصفات محمودة محبوبة سواء سميت فتوة أو لم تسم، وهي لم تستحق المدح في الكتاب والسنة إلا لدخولها فيما حمده الله ورسوله من الأسماء: كلفظ الإحسان، والرحمة، والعفو، والصفح، والحلم، وكظم الغيظ، والبر، والصدقة، والزكاة، والخير، ونحو ذلك من الأسماء الحسنة التي تتضمن هذه المعاني، فكل اسم علق الله به المدح والثواب في الكتاب والسنة كان أهله ممدوحين، وكل اسم علق به الذم والعقاب في الكتاب والسنة كان أهله مذمومين، كلفظ الكذب والخيانة والفجور والظلم والفاحشة، ونحو ذلك. وأما لفظ الزعيم فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين قال تعالى: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} (يوسف: 72) فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير كان محمودًا على ذلك، وإن كان شرًّا كان مذمومًا على ذلك. وأما رأس الحزب فإنه رأس الطائفة التي تتحزب: أي تصير حزبًا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم سواء كان على الحق والباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر) وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) ، وشبك بين أصابعه، وفي الصحيح عنه أنه قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يخذله) ، وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) قيل يا رسول الله: أنصره مظلومًا فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: (تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه) ، وفي الصحيح عنه أنه قال: (خمس تجب للمسلم على المسلم: يسلم عليه إذا لقيه، ويعوده إذا مرض، ويشمته إذا عطس، ويجيبه إذا دعاه، ويشيعه إذا مات) ، وفي الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يجب لنفسه) . فهذه الأحاديث وأمثالها فيها أمر الله ورسوله بما أمر به من حقوق المؤمنين بعضهم على بعض، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانًا) ، وفي الصحيحين عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثًا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم) . وفي السنن عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: (ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة، والصيام، والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟) قالوا: بلى يا رسول الله قال: (فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ول

كلمة في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير يقول محمد رشيد رضا صاحب منار الإسلام: كنت رأيت كلمة سلطان العلماء في عصره الشيخ عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله تعالى - في تفضيل كتابي المحلى لابن حزم والمغني للشيخ الموفق على غيرهما من كتب الفقه الإسلامي قبل أن أراهما، فدعتني الرغبة في تعرف قيمة هذه الشهادة إلى الاختلاف إلى خزانة الكتب الكبرى (المكتبة المصرية) مرارًا؛ للنظر في الكتابين، وقرأت عدة مسائل من كل منهما، رأيتها كافية في معرفة قيمة الشهادة وصحة الحكم، وعلمت أن العلماء الذين قالوا: إن ابن عبد السلام وصل إلى رتبة الاجتهاد المطلق، لم يقولوا إلا الحق. فأما كتاب (المحلى) فهو كتاب اجتهاد مطلق، وصاحبه أبو محمد بن حزم إمام الظاهرية في عصره، وهو صاحب القلم السيال واللسان الفصيح والحجة الناهضة، والعارضة التي تأبى المعارضة، ولولا سلاطة لسانه في الرد على مخالفيه من أئمة أصحاب الرأي وأهل القياس لاتسع نطاق مذهبه، وكثر الانتفاع بالمحلى وغيره من كتبه، فهو يذكر المسألة ويستدل عليها ويرد على المخالفين فيها على قواعد الظاهرية من الأخذ بالنصوص المأثورة، أو البراءة الأصلية، ولكنه لا يكتفي بمقارعتهم بالدليل، بل يرميهم بالجهل والتضليل، غير هياب لعلو أقدارهم، ولا وجل من كثرة أتباعهم وأنصارهم، وإذا أراد الله تعالى أن يتجدد فقه الإسلام فلا بد أن يعرف المجددون له من قدر كتابه ما عرف العز بن عبد السلام، ولا بد أن يطبعوه في يوم من الأيام. وأما (المغني) فصاحبه الموفق فقيه حنبلي، وهو مع ذلك محدث أثري، وقد ألف عدة كتب في فقه الحنابلة، وأراد أن يكون كتابه المغني في فقه المسلمين كافة، فهو يذكر أقوال علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المشهورين، كالأئمة المتبوعين، ويحكي أدلة كل منهم، وإذا رجح مذهب الحنابلة في كثير من المسائل فهو لا ينتقص غيرهم، ولا يحمله التعصب على كتمان شيء من أدلتهم، ولا على تكلف الطعن فيها، كما يفعل أهل الجمود من المقلدين، فالمزية الأولى لكتاب المغني أنه لخص لنا مذاهب فقهاء المسلمين المجتهدين بأدلتها في أمهات الأحكام ومهمات المسائل؛ فأغناها عن مراجعة كتب المذاهب الكثيرة فيما نحتاج إلى الوقوف عليه منها، وعن مراجعة كتب السنن والآثار لمعرفة أدلتها ومذاهب الصحابة والتابعين ومسائل الإجماع والخلاف، على أن المصنفات التي تتوسع في رواية هذه الآثار لم تطبع، ونسخها الخطية قليلة الوجود: كمصنفات ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وابن المنذر. ومن المعلوم أن كتب فقه المذاهب المتبعة والخلاف منها ما لا تذكر فيه الأدلة، ومنها ما يذكر فيها ما يؤيد مذاهب مصنفيها ويضعف المذاهب المخالفة لها، ولو بضروب من التأويل والتحريف وتضعيف الأحاديث التي لا توافق مذهب المؤلف وإن كانت صحيحة أو حسنة إن أمكن، وتقوية الأحاديث التي توافقه وإن كانت ضعيفة أو السكوت عن نقل الطعن فيها، وصاحب المغني لا يتعمد مثل هذا، فهو يرجح ما يعتقد رجحانه من أدلة الحنابلة، ولا يتكلف الطعن في أدلة من خالفهم، ولولا هذا وذاك لما فضله ابن عبد السلام على كتب الشافعية وكان من أجل علمائهم، وهي التي يشهد لها من لم يعرف من مزايا تحريرها ما يعرفه هو بأنها فاقت كتب سائر المذاهب في دقة التحرير والاستدلال، والجزم بالصحيح من الأقوال، وكان يعتمد على مراجعته في الفتوى إذ صار يفتي بالدليل ويسلك سبيل الاجتهاد. عرفت المغني، فتمنيت لو يسخر الله تعالى من يطبعه؛ ليعم نفعه الذي هو عندي فوق ما كان عند العز بن عبد السلام، وكان صديقنا حسن باشا عاصم خادم الأمة والملة - رحمه الله تعالى - يقول: إذا يسر الله لنا طبع كتاب (المحكم لابن سيده) فإنني أموت آمنًا على اللغة العربية أن تموت. ذلك لِمَا سمعه من إمام اللغة في هذا العصر الشيخ محمد محمود الشنقيطي من الثناء على المحكم وعلى النسخة الصحيحة الموجودة منه في المكتبة المصرية، وكان كلما قال لي هذه الكلمة أقول له: وإذا يسر الله تعالى لكتاب (المغني) من يطبعه فأنا أموت آمنًا على الفقه الإسلامي أن يموت، ثم ما زلت أفكر في السعي لطبعة إلى أن هداني الله تعالى إلى تبليغ أمنيتي هذه إلى السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إمام نجد وملحقاتها، فبُلِّغت عنه (أولاً) أنه أيد الله به العلم والدين، وأعز بسيفه الإسلام والمسلمين، عازم على طبع هذا الكتاب مع كتب أخرى لإحياء العلم وتوسيع نطاقه في بلاده - ثم خاطبني هو (آخرًا) في طبعه مع كتاب الشرح الكبير، وطبع تفسيري ابن جرير وابن كثير، وكتب أخرى من كتب السنة والفقه، وتلا ذلك إرساله المغني والشرح الكبير للمقنع؛ ليطبعا معًا. وكذا غيرهما مما عزم على طبعه، وقد شرعنا في طبعهما، والمطبعة غير مستعدة لإنجاز مطبوعات كبيرة كثيرة؛ فأخذنا في إعدادها لذلك، وسيحصل المراد عن قريب بفضل الله تعالى وقوته، وإنا وقد نجز الجزء الأول من الكتابين نبين بالإيجاز فوائدهما للأمة الإسلامية، وكونهما في الفقه الإسلامي العام لا فقه الحنابلة فنقول: تمهيد في اختلاف الأمة وسيرة الأئمة قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 92) ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأعضاء الجسد الواحد، ولم يكن شيء أبغض إليه بعد الكفر بالله من الاختلاف والتنازع ولو في الأمور العادية، ولما كان الاختلاف في الفهم والرأي من طباع البشر {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود: 118-119) خصَّ الاختلاف المذموم في الإسلام بما كان عن تفرق أو سببًا للتفرق، وجرى على ذلك السلف الصالح فحظروا فتح باب الآراء في العقائد وأصول الدين، وحتموا الاعتصام فيها بالمأثور من غير تأويل، وخصوا الاجتهاد بالأحكام العملية، ولا سيما المعاملات، وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته في فهمه. ثم إن كثيرًا من كبار العلماء حاولوا أن يجعلوا اختلاف العلماء في مسائل الأحكام رحمة بهذه الأمة، وتحقيقًا ليسر دينها الذي ثبت بنصوص الكتاب والسنة، ويتقوا ما حذر الله تعالى في كتابه من مضار التفرق والاختلاف الذي أفسد على الأمم السابقة دينها ودنياها، وأنذرنا الله تعالى أن نكون مثلهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) إلى قوله {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) وقد وجد في بعض الكتب حديث مرفوع، اشتهر على الألسنة وهو (اختلاف أمتي رحمة) ولما لم يوجد له سند في شيء من كتب السنة قال بعضهم: لعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا؛ احترامًا لمن ذكروه في كتبهم بالقبول أو التسليم، وحرصًا على العمل بمعناه. ولكن المتعصبين للمذاهب أبوا أن يكون الاختلاف رحمة، وشدد كل منهم في تحتيم تقليد مذهبه، وعدم الترخيص للمنتمين إليه في تقليد غيره، ولو لحاجة أو ضرورة، وكان من مناظراتهم في ذلك من طعن بعضهم في بعض ما هو معروف في كتب التاريخ والتراجم وغيرها: كالإحياء للغزالي، وصار بعض المسلمين إذا وجد في بلد يتعصب أهله لمذهب غير مذهبه: كالبعير الأجرب بينهم. وقد وقع من الفتن بين المختلفين في الأصول وفي الفروع ما سود صحف التاريخ، على أن الخلاف في الفروع أهون وأقل شرًّا، وقد ضعف في هذا الزمان بضعف أسبابه في أكثر البلاد، ولكننا لا نزال نسمع بمنكرات قبيحة منه في أخرى، من ذلك أن بعض الحنفية من الأفغانيين سمع رجلاً يقرأ الفاتحة وهو بجانبه في الصف فضربه بمجموع يده على صدره ضربة وقع بها على ظهره فكاد يموت. وبلغني أن بعضهم كسر سبابة مصلٍّ؛ لرفعه إياها في التشهد، وقد بلغ من إيذاء بعض المتعصبين لبعض في طرابلس الشام في آخر القرن الماضي أن ذهب بعض شيوخ الشافعية إلى المفتي، وهو رئيس العلماء وقال له: اقسم المساجد بيننا وبين الحنفية؛ فإن فلانًا من فقهائهم يعدنا كأهل الذمة بما ذاع في هذه الأيام من خلافهم في تزوج الحنفي بالشافعية، وقول بعضهم: لا يصح لأنها تشك في إيمانها؛ لأن الشافعية وغيرهم من الأشعرية يجوزون أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله، وقول آخرين: بل يصح نكاحها قياسًا على الذمية. فأين هذا التعصب والإيذاء والتفريق بين المسلمين بالآراء الاجتهادية من تساهل السلف الصالح، وأخذهم بما أراده الرحمن من اليسر في الشرع وانتفاء الحرج فيه، واتقائهم التفريق بين المسلمين بظنون اجتهادية، رجح بها كل ناظر ما رآه أقرب إلى النصوص أو إلى حكمة الشارع، حتى كان أشهر الأئمة لا يستحلون الجزم بالحكم فيها، فيقول أحدهم: أكره كذا، أو أستقبحه، أو أخشى أن يكون كذا أو لا ينبغي ولا يصلح ولا يعجبني أو لا أحبه ولا أستحسنه، ويقول في مقابل ذلك: يفعل السائل كذا احتياطًا أو أحب كذا أو يعجبني أو أعجب إليّ وهذا أحسن. هكذا كان يقول الإمام أحمد في المسائل الاجتهادية أو فيما لا نص صحيح صريح فيه من الكتاب أو السنة، ويؤثر نحوه عن غيره، ولكن مدوني المذهب جعلوا هذه التقوى والورع في التشريع قواعد له في أحكام التكليف وطرق الاستنباط والاستدلال، وصارت الحنابلة فرقة ذات مذهب مستقل في الفروع، بل صار المتكلمون يعدونهم فرقة مستقلة في أصول العقائد أيضًا، وإنما كان الإمام أحمد - رحمه الله - تعالى إمامًا لجميع أهل السنة في الأصول والفروع؛ باستمساكه في أصول الدين والعبادات بنصوص الكتاب والسنة، وما صح عن علماء الصحابة من فهم وهدي وعمل مفسر لهما، ولكن أصحابه حرصوا على ما نقلوا عنه من فهم واستنباط أن يضيع؛ فدونوه كما فعل سائل الأئمة وأصحابهم لا ليقلد لذاته بل لأجل فتح أبواب العلم وتسهيله لطالبيه من الأفراد في العبادات ومن الحكام في الأمور القضائية والدولية، وكانوا يقرنونه بأدلته؛ ليكون الدليل هو العمدة في العمل وفي الترجيح بينه وبين غيره، ولم يقصد أحد منهم أن يكون شارعًا أو كالشارع في كونه يتبع لذاته، فضلاً عن التزام طائفة من الأمة للتعصب له بمثل ما وقع، ولا أن تفترق الطوائف المقلدة لكل منهم وتتعادى فتكون كمتبعي الشرائع المتعددة المختلفة، هذه معاصٍ مجمع على تحريمها. قال الإمام المزني صاحب الإمام الشافعي في أول مختصره المشهور بعد البسملة ما نصه: قال أبو إبراهيم بن يحيى المزني، رحمه الله: (اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - ومن معنى قوله لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره، لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه، وبالله التوفيق) اهـ. وقال: ملا على القاريْ الحنفي المحدث في رسالته التي ألفها في إشارة المُسبِّحة: وقد أغرب الكيداني حيث قال: (العاشر من المحرمات الإشارة بالسبابة كأهل الحديث) أي مثل جماعة يجمعهم العلم بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا منه خطأ عظيم وجرم جسيم، منشؤه الجهل لقواعد الأصول ومراتب الفروع من المنقول، ولولا حسن الظن به وتأويل كلامه بسبب، لكان كفره صريحًا، وارتداده صريحًا، فهل لمؤمن أن يحرم ما ثبت فعله عنه صلى الله عل

رفيق العظم ـ وفاته وترجمته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رفيق العظم وفاته وترجمته في يوم عرفة (9 ذي الحجة سنة 1343 الموافق 30 حزيران يونيو) سنة 1925 فجعت البلاد المصرية والسورية، بل الأمة العربية، برجل كان من أعلى رجالها قدرًا، وأنبههم فيها ذكرًا، وأعظمهم لديها زخرًا، رجل الحسب الشامخ، والأدب العالي، والفكر المنير، والوطنية الصادقة، العالم المؤرخ، الكاتب الاجتماعي، العامل السياسي، صديقي الوفي (رفيق بك العظم) ابن محمود بك خليل العظم من أسرة آل العظم السورية العريقة في المجد، ففقدت الأمة بفقده زعيمًا كبيرًا، ونابغًا حكيمًا، وكاتبًا قديرًا، في زمن هي أحوج فيه إلى الرجال المحنكين، والزعماء المخلصين منها إلى العافية للأبدان، والطمأنينة للحيران، فرحمه الله تعالى. *** نشأته الأولى ولد الفقيد في دمشق سنة 1282هـ، ونشأ كما كان ينشأ أمثاله من أبناء الوجهاء المترفين في ذلك العهد، فلم يُعن والده بتعليمه في مدارس العلم العربية؛ لأنها خاصة برجال الدين، ولا في مدارس الحكومة العثمانية الإعدادية والعالية؛ لعدم شعوره بالحاجة إلى تخريجه فيها، أو عدم رغبته بجعله من عمالها وموظفيها، الذين لا تكنهم دار ولا يقر لهم بين أهلهم قرار، أو لمحض الإهمال، على أنه هو لم يتعلم تعلمًا منظمًا وإنما أخذ بعض المبادئ عن بعض شيوخ عصره، وكان يعاشر العلماء والأدباء والمتصوفة، ويطالع الكتب ودواوين الشعر لأجل التسلية، فكان بذلك شاعرًا ومؤلفًا في الأدب والتصوف، وجاء فقيدنا وارثًا له في ذكائه ونشأته؛ ولكنه فاقه في الجد والعلم النافع والعمل، أخذ التعليم الابتدائي في كتاب أهلي، ثم أخذ شيئًا من مبادئ اللغة العربية عن الأستاذ الفاضل الشيخ توفيق أفندي الأيوبي الشهير، وكان كل ما حصله بعد ذلك بمطالعاته الشخصية، فهل كان يدور في خلد أحد أن مؤلف كتاب أشهر مشاهير الإسلام وغيره من الكتب والرسائل والمقالات الكثيرة في كبرى الجرائد والمجلات المصرية لم يقرأ كتابًا حافلاً من كتب النحو والصرف ولا من كتب المعاني والبيان، ولم يتلقَّ علمًا ولا فنًّا قديمًا ولا حديثًا عن أستاذ؟ فما هذا الذكاء النادر الذي وضعه في مصاف العلماء المصنفين، والكتاب المجيدين؟ وما تلك الهمة العالية التي رفعته إلى مقام الزعماء السياسيين، ورجال الانقلاب المدبرين؟ كان رفيق ذكي الفؤاد ميالاً بفطرته إلى العلم والجد ومعالي الأمور، عزوفًا عن سفاسفها وصغائرها، نبت به هذه الفطرة الزكية عن صرف أوقات صباه في اللهو واللعب مع أمثاله من أبناء الموسرين، وجذبته إلى معاشرة أهل العلم والأدب والأفكار في الأمور العامة: كالأستاذ المرحوم الشيخ طاهر الجزائري والأستاذ الشيخ سليم البخاري والأستاذ الشيخ توفيق الأيوبي من كهول مشيخة الشام، والأستاذ الشيخ محمد علي مسلم ومحمد أفندي كرد علي من الأتراب، وحُبب إليه البحث ومطالعة كتب الأدب والتاريخ، وكانت نزعته العلمية وكذا الاجتماعية إسلامية، حتى إن علماء الأقطار البعيدة الذين وصلت إليهم كتبه ورسائله بعد ذلك كانوا يظنون أنه من علماء الدين. *** اشتغاله بالسياسة وهجرته إلى مصر ثم إنه كان يعاشر أحرار رجال الحكومة العثمانية من الترك وغيرهم أيضًا، وتعلم اللغة التركية باجتهاده حتى صار يقرأ كتبها وجرائدها، وإذ كان ميالاً بطبعه إلى السياسة والأمور العامة استماله بعضهم إلى الاشتغال معهم في جمعياتهم السرية، فدخل أولاً في جمعية الدستور التي أسسها في الشام أسعد بك مدير البوليس فيها، ثم في جمعية الاتحاد والترقي. ولما اشتد السلطان عبد الحميد في مطاردة السياسيين العثمانيين طلاب الدستور، وطفق ينكل بمن يتعذر استمالته منهم بالوظائف أو الرتب والنياشين؛ أزمع الفقيد الهجرة إلى مصر، ويقول شقيقه الكبير عثمان بك: إن ذلك كان سنة 1894م. وبعد استقراره في مصر واتخاذها دار هجرة ومقامة، طفق ينشر المقالات السياسية والاجتماعية في أشهر جرائدها اليومية: الأهرام، فالمقطم، فالمؤيد، فاللواء، وفي أشهر مجلاتها: كالمقتطف، والهلال، والمنار، والموسوعات، وكان يختلف إلى مجالس الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ولا سيما بعد تلاقينا وتوادنا، وكان له بالشيخ على يوسف صاحب المؤيد صلة ود وثيقة، ثم كان من أصدقاء الزعيمين السياسيين مصطفى كامل باشا ومحمد فريد بك منذ نشأتهما السياسية الأولى، وظهورها في ميدان السياسة إلى آخر عمرهما حتى إنه رثى محمد بك فريد حين علم بموته - طريد وطنيته - في أوربة بأبيات من الشعر وجدهما شقيقه عثمان بك في أوراقه، وقد رثى قبله الأستاذ الشيخ طاهرًا، ولعل هذين الرثائين آخر ما نظم، وليسا كل ما نظم، فقد كان - رحمه الله - ينظم الشعر بما يجده من الداعية في نفسه لإرضاء نفسه، ولكنه لم يكن يحب أن ينشر شيئًا من شعره في الجرائد ولا أن يظهره للناس، إما لأنه لم يكن يراه بالمنزلة اللائقة بشهرته، أو لأنه لم يكن يحب أن يسمى شاعرًا، وإذ كان الشعر عنده أمرًا ثانويًّا ذكرناه في ترجمته استطرادًا. *** تلاقينا وتعاوننا على خدمة الأمة في منتصف سنة 1315 (الموافق لخريف سنة 1897م) هاجر كاتب هذه الترجمة إلى مصر، وفي الربع الأخير منها أنشأ (المنار) فكان سببًا للتعارف والتآلف بينه وبين الفقيد، فالتعاون على الإصلاح السياسي والاجتماعي فالاشتراك في الأحزاب والجمعيات السرية والجهرية. وكانت أول جمعية سياسية أسسناها بمصر (جمعية الشورى العثمانية) وقد اشترك في تأليفها معنا رجال من سائر الشعوب العثمانية الكبرى وفي مقدمتهم الترك والجركس والأرمن، وكان من أعضائها المؤسسين الضابط صائب بك الذي كان حاجبًا لصاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي، ومندوبًا لجمعية الاتحاد والترقي بمصر، ثم ترك خدمة المندوب العثماني السامي؛ إيثارًا للسياسة التي تغضب السلطان عليها، ومنهم الدكتور عبد الله جودت بك المشهور أحد مؤسسي جمعية الاتحاد والترقي أول مرة، وكان هو (السكرتير التركي) لها، وكان الفقيد أمين صندوقها وابن خاله حقي بك (سكرتيرها العربي) وكاتب هذه السطور رئيس مجلس إدارتها. كان تأسيس هذه الجمعية موافقًا لرأي صاحب الدولة أحمد مختار باشا الغازي المندوب العثماني السامي بمصر، وأنا الذي استشرته في ذلك وطلبت منه أن يمنحها رعايته، ويأذن لنجله محمود باشا بأن يكون الرئيس العام أو رئيس شرف لها فيمدها بمساعدته، فقال: إن الإصلاح لا يأتي من الأعلى ومن رجال الدولة، إنما يأتي من وسط الأمة ومن الطبقات الدنيا فيها، وأخبرني أن السلطان علم بوجود الجمعية وهو أنه يرسل البرقيات إليه تترى في السؤال عنها وعن مؤسسيها، ويسميها جمعية إفسادية، وأنه تجاهل في جوابه أولاً، ثم كتب إليه بأن لا إفساد ولا ضرر منها، فإنها مؤلفة من بعض أهل العلم وأبناء الأسر الوجيهة المخلصة للدولة. ثم علمنا من شأن اهتمام السلطان بها ما هو فوق ذلك، فقد روى لنا حقي بك عن خاله المرحوم صادق باشا المؤيد عن السلطان نفسه أن نبأ هذه الجمعية أقض مضجعه؛ فبقي ثلاث ليالٍ لا تذوق عيناه النوم إلا غرارًا، ولم يقر له قرار حتى عرف مؤسسيها من بعض جواسيسه بمصر (وهو رجل اسمه كامل بك) دخل الجمعية بعد تأسيسها، وأظهر من الإخلاص لها والعناية بخدمتها ما كان محل إعجاب جميع الأعضاء. ولا غرو، فقد كان عمل الجمعية عظيمًا: تأسس لها فروع في الأقطار المختلفة، وكانت تطبع المنشورات بالعربية وبالتركية وترسلها إلى فروعها في البرد الأجنبية؛ فيوزعونها في الولايات التي يقيمون فيها وفيما جاورها، بل كان يرسل بعض هذه المنشورات في البواخر الروسية مع بعض المسافرين والمستخدمين فيها إلى ثغور البحر الأسود؛ فيأخذها هنالك منهم من يتولون إرسالها إلى جميع بلاد الأناضول. ثم أصدرت الجمعية (في فبراير سنة 907) جريدة باسمها (الشورى العثمانية) استغنينا بها عن المنشورات، وكان الفقيد يحرر القسم العربي منها، وحقي بك يحرر القسم التركي إما إنشاء وإما ترجمة لما يكتبه الفقيد أو غيره منها بالعربية، وقلما كنا نساعدهما على ذلك، وكان ينشر فيها بعض المقالات باللغة الفرنسية أيضًا. وبلغ من عناية جمعية الاتحاد والترقي بالجمعية فوق ما كان من التعاون والمراسلة بينهما من أوربة ومن المركز العام في سلانيك أن أحمد رضا بك الشهير جاء من باريس إلى مصر لأجل السعي لتوحيد الجمعيتين، وقد قصد الفقيد أولاً وكلمه في ذلك، فجاء به إليّ، فلما كلمني قلت له: إن جمعيتكم تركية وجمعيتنا عثمانية عامة، فنحن لا نتفق معكم إلا في مقاومة الاستبداد والظلم والسعي لجعل الحكم بالشورى النيابية، قال: ونحن جمعيتنا عثمانية لا يميز قانونها التركي على غيره، قلت: هي عثمانية بالقانون تركية بالفعل، فليس في زعمائها أحد من غير الترك، فقانونها كقوانين السلطان عبد الحميد ولو كان السلطان عبد الحميد ينفذ قوانين الدولة على علاتها لما أبحت لنفسي ولا لغيري أن يسعى لتغيير شكل الحكومة أو يقاوم نفوذه فيها.. . ثم اتفقنا على أن تعمل الجمعيتان بالتعاون مع بقاء كل جمعية على حالها. ثم إن جمعية الاتحاد والترقي عادت بعد إعلان الدستور، فكتبت إلى جمعيتنا من المركز العام تدعوها إلى الحلول فيها والاتحاد بها، فاشترطنا في ذلك شروطًا لم تقبلها، ولكن الفقيد وحقي بك دخلا في جمعيتهم عند زيارتهما للآستانة بعد الدستور، وتفرق سائر الأعضاء الذين لم يجمعهم في مصر إلا الاضطهاد، فلم يبق لجمعية الشورى عمل. أطلت بعض الإطالة في ذكر هذه الجمعية؛ لأن عمل الفقيد فيها كان عظيمًا، وقد أنفق من ماله في سبيلها ما لم ينفقه غيره، ولولا اغتراره بجمعية الاتحاد والترقي لرضي بما ارتأيته من إبقاء فروع الجمعية وتكثيرها في البلاد العربية؛ لتكون قوة للعرب أمام تعصب الاتحاديين للترك، ولكنه قال لي بعد عودته من الآستانة: إني عدت إلى جمعيتي الأصلية، وأن بقاء جمعيتنا تفريق غير جائز، على أنه عاد من الآستانة غير راضٍ عن سير الاتحاديين رضاء تامًّا، ثم صار يشاهد آنًا بعد آن من تعصبهم على العرب وهضمهم لحقوقهم ما حاول إن يتلافاه بطرق الإقناع، فألف في ذلك رسالة طويلة يئس من فائدتها قبل أن يتمها، فلم ينشرها وسيأتي الكلام عليها عند ذكر مؤلفاته وآثاره. وكان آخر الجمعيات السرية التي اشتركنا في تأسيسها جمعية عربية أسست للتأليف بين أمراء جزيرة العرب وللتعاون والاتفاق بين الجمعيات السياسية التي أنشئت في الولايات العربية وفي الآستانة؛ لمقاومة تعصب الاتحاديين وضغطهم على العرب، ولحفظ حقوق العرب في الدولة والعمل لمستقبلهم. كان تأسيس هذه الجمعية ضروريًّا؛ لأن آفة العرب المفسدة لجميع مواهبهم الفطرية هي التفرق والاختلاف، وكان الملجئ إليها انكسار الدولة العثمانية في حرب البلقان، والخوف على البلاد العربية أن تتخطفها الدول المستعمرة، فرأى المؤسسون أن قوة العرب في جزيرتهم، وأنها لا يمكن الانتفاع بها، إلا بتأسيس اتحاد حلفي يجمع بين أمرائها، وكان قد سبق لهذا تمهيد من بعض المؤسسين، ثم وضع له النظام الذي يرجى تنفيذه، وأما الجمعيات العربية فكانت مختلفة المقاصد، وليس بينها من التعارف والاستعداد للاتحاد عند الحاجة ما يؤمن معه سوء المغبة، ويرجى به حسن العاقبة، فوضعت الجمعية نظامًا لذلك، ول

السفور والحجاب

الكاتب: شكيب أرسلان

_ السفور والحجاب تتمة من مقال الأمير شكيب أرسلان (تنبيه من المنار) (كنا رأينا مقال الأمير في عدد من جريدة البيان العربية النيويوركية فحفظناه لأجل نقله منها، فلما نشرته بعض الصحف المصرية مجزءًا في عددين أو ثلاثة أعداد، جمعه عمال مطبعتنا من بعضها، فإذا هي قد حذفت منه ما نقله فيه الأمير عن الأديب الكبير صادق أفندي الرافعي من حوار دار بينه وبين شاب مصري من المتفرنجين لم تنقله الجريدة؛ لأن رأي قلم التحرير فيها ورئيسه هو رأي الشاب المتفرنج الذي سفه رأيه الرافعي وأقره الأمير شكيب، وكان من غفلة الجريدة أنها لم تحذف من بقية المقالة ما قاله صاحبها في رأي الشاب المصري وذكره بحرف التعريف والبحث في كلامه فلما وصلت عند تصحيح المقالة إلى هذا الموضع (في ص209 ج3 الماضي) أمرت بالإمساك عن نشر بقية المقالة في الجزء الماضي وطفقت أبحث عن نسخة جريدة البيان لنقل عبارة الرافعي، وهاكها بنصها، ومحلها بعد السطر الحادي عشر منها، قال: واقرأ النبذة الآتية للأستاذ حجة العرب السيد مصطفى صادق الرافعي أنقلها لك عن كتاب حديث أخرجه آية من آيات البلاغة وهي قوله في شاب حصل العلم في أوربا كان باحَثَه في هذا الموضوع. (كان صاحبنا فتى تلمع عليه غرة الشباب، وقد رق حتى كاد يخالط حد الأنوثة، ولان حتى قارب أن يفوت معنى الرجولة، وظرف حتى أوشك أن يكون إنسانًا تتفتح في روحه معاني الزهر، ولكنك إذا كنت رجلاً صحيحًا أمررته على عينيك كما تمر كتابًا لا تريد أن تقرأه، فقد تمدن في أوربة ولبث بعيدًا عن قومه ما شاء الله، ثم رجع إليهم كأن أمه لم تلده، وكأن أباه جده الأعلى، فبينه وبين أبيه هذا بضعة أجداد منهم المسيو والمستر أو السنيور أو الهر.. وأصبح يحس أن كل شيء في هذا الاجتماع الشرقي مسلط على نفسه الرقيقة النحيلة بالغلظة والجفاء والعنت والأذى، إلى أن قال: (سألت هذا الفتى: تُرى أنت مصري؟ قال: ووطني صميم، قلت: أفترى تصلح في علمك وتهذيبك أن تكون مثالاً يتأسى بك نشء بلادك؟ قال: إني لأرجو ذلك، قلت: وأنت من القائلين بتحرير المرأة الشرقية ومساواتها بالرجل في الحرية المطلقة وبعثها من هذه القبور التي تسمى المنازل؟ قال: ذلك مذهبي، قلت فكيف ترى إذا اقتدى بك المصريون فأصهروا إلى الأوربين وخلطوا الشمل بالشمل؟ قال: لعل ذلك خير الطب لبلادنا فلا معدل عنه في رأيي إذ يأتيها بالدم الجديد، ويدمج في طباعها النظام والدقة، ويبني البيوت من داخلها. قلت: أحسنت بارك الله عليك، فكيف ترى إذا سألناك التسوية وقلنا لك: دع أختك تصبُ إلى رجل أوربي وتتزوج منه إجازة.. . وتأتِ به إلى مصر كما أتيت أنت بصاحبة لك، ثم لتفعل كل امرأة مصرية فعلها؛ فيكون لكم أوربيات، ويقوم عليهن أوربيون؟ قال: أعوذ بالله! قلت: فعل الله بك وفعل، أفبلغ من غفلتك أن لا تعرف لعنة الله إلا إذا رأيتها ملء مملكة، ولا تعرف حق وطنك فيك إلا حين تراه غريبًا منقطعًا لا حق له في واحد من أهله. فقال (أي الشاب المصري) : فما أنا وأمثالي إلا شذوذ من القاعدة التي يجب أن تبقى أبدًا قاعدة. قلت: فعليكم غضب القاعدة ومقتها وسخطها، والله لأن تفجع البلاد فيكم جميعًا وتستركم بالقبور رمة بعد رمة خير من أن تتقلد منكم بلية الحياة في اختلاط الأنساب، وارتداد الأسماء العربية عن دينها إلخ. فقال الشاب: فكم من امرأة وطنية هي حمل على ظهر صاحبها، قلت: وكم من امرأة إفرنجية هي كَيَّة على قفا صاحبها (هذه عند العرب كناية عن المرأة، يسكت الناس عنها أمام زوجها، فإذا ولى عنهم قالوا في ظهره ما قالوا.. . وكووا قفاه) نكتفي بهذا القدر من كلام حجة العربية الرافعي [1] . ولا شك أن كثيرًا من قراء هذه المقالة سيفغرون أفواههم الآن، ويرفعون عقائرهم قائلين: ما هذا الذي جئتنا به؟ فليس هذا من لوازم هذا، وقد يجوز أن نطلق حرية المرأة، ونكون من أنصار العِرض والدين، وقد يصح أن ندعو إلى السفور، وأن لا نترك أخواتنا يصرن حظايا للآخرين، وما نحسب الأمم التي تدين بحرية المرأة ولا تعرف للحجاب معنى أقل منا شرف رجال وعفة نساء، ألا وإن حرية المرأة لا تأتي إلا مع التعليم، ألا وإن المرأة إذا تعلمت وتهذبت كان لها من عِلمها حجاب يحجبها عن الفاحشة - وغير ذلك من الأقوال التي كلنا نعلمها، والتي تكررت كثيرًا بحيث قد عرفها العوام فضلاً عن الخواص، فأنا أقول لإخواني هؤلاء: مهلاً مهلاً. لا تعجلوا عليَّ، ولا تخلطوا شيئًا بشيء، فالموضوع عريض متشعب الأطراف، لا تكفيه مقالة ولا اثنتان ولا ثلاث، فأما السفور مع العفة والصون وحفظ الأنساب ورعاية أحكام الدين فهو السفور الشرعي الذي يجيز للمرأة أن تبرز وتتعاطى الأشغال، وتذهب وتجيء، ولا يوجب أن تسدل على وجهها ولا أن تدفن نفسها في الحياة، وهذا سنكتب فيه مقالة تحت عنوان (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا) ولكن لا يجوز أن تنسوا أن هذا السفور لا يشمل إلى حد جواز المخادنة الجهرية، ولا إلى زواج المسلمة بغير المسلم، وأنه إذا كانت المسألة مقصورة على هذه الدرجة فليست في شيء من الرقي الذي يبغيه فالح رفقي وعبد الله جودت والشاب المصري، وكثيرون غيرهم ممن نعرف أسماءهم وممن لم نعرف، فهذا الرقي هو في عرفهم ليس بأن تمشي المرأة المسلمة في الأسواق سافرة عن وجهها فحسب، فإن هذه الدرجة هم يعلمونها جائزة شرعًا، وطالما برزت النساء المسلمات، وأخذن وأعطين في العهود الماضية، واشتركن في جلائل الأعمال مع الرجال، ولم يمنع ذلك شرع ولا عرف، وما جاء من الإفراط في الحجاب وعدم خروج النسوة من المنازل إلا في الندرى، إن هو إلا من التعصب الناشئ عن فرط الغيرة، ولم يكن من الدين الإسلامي. ولكن هذه الفئة لا ترى هذه الدرجة إلا أدنى درجات الرقي الذي يتطلبونه للنساء المسلمات في هذا العصر، وهم في ترقية المرأة لا يقنعون بشيء دون حرية الزواج بين المسلمين وغير المسلمين طردًا وعكسًا، لا بل حرية المسلمات أن يخادنَّ من شئن على نسق الأوربيات بالتمام، فإن كان هذا الذي تطلبونه أنتم معاشر الدعاة إلى السفور ولا سيما الذين ناشدوني إعطاء رأيي فيه، فينبغي أن تصرحوا بكل جرأة وتقبلوه بمتمماته، ولا تقولوا كما قال الشاب المصري (أعوذ بالله) فإن هذه النظرية هي نظرية مئات ملايين من العالم المتمدين، وحسبكم أن تكونوا مثلهم في الهيئة الاجتماعية، وإن كنتم لم تصلوا بعد إلى تلك الدرجة من (الرقي) ، وكان مرادكم إعطاء المرأة المسلمة الحرية المطلقة على شرط أن لا تخدن ولا تتزوج بغير المسلم أجبناكم: إن هذين نقيضان لا يجتمعان، الحرية المطلقة من جهة، والتقيد بزواج المسلم دون غيره، وبالزواج الشرعي دون غيره من جهة أخرى، نعم تنطبق على الشريعة الحرية المقيدة التي إن كنتم بتبغونها فالشريعة الإسلامية قد ضمنتها أحسن ضمان بدون أدنى مَنٍّ ولا تكلف، فأما الحرية النسوية المطلقة التامة والإسلام فلا يجتمعان أبدًا، وعلى المتخير أن يختار أحدهما، وليس الإسلام وحده غير مطابق للحرية النسوية المطلقة، بل النصرانية أيضًا هي غير مطابقة لها؛ لأن النصرانية تمنع المخادنة أيضًا، وتحظر على الفتاة المسيحية أن تقترن بغير مسيحي، وتزيد على الإسلام في التقييد في كون الإسلام قيد المسلمة بزواج المسلم دون غيره، ولكنه أباح للمسلم الزواج بغير المسلمة ولو بقيت على دينها، وأما النصرانية فإنها تمنع زواج المسيحية بغير المسيحي، وزواج المسيحي بغير المسيحية، فالإسلام في هذا الموضوع أسمح وأوسع، ثم إن النصرانية قيدت أبناءها في أمر الطلاق، بحيث لا تجيز للمرأة أن تطلق زوجها، ولا للرجل أن يطلق امرأته، وإذا أقدما على ذلك لم تُجِز لهما أن يتزوجا فيما بعد لا هو ولا هي، فأنت ترى أن حرية المرأة في الدين المسيحي هي أيضًا غير مطلقة ولا تامة، وإذا كنا نرى الأوربيين والأمريكيين قد خالفوا هذه القواعد، فالذين يخالفونها منهم ليسوا عاملين بمبادئ النصرانية، وإلى يومنا هذا كل من ينطبق عمله في الحياة الدنيا على مبادئ الكنيسة لا يقول بحرية مطلقة للمرأة. فأما كون الأمم التي ليس فيها حجاب لا تقل عن الأمم القائلة بالحجاب عفة نساء وصون حلائل فليس بصحيح، إن بين الفريقين في هذا الموضوع فرقًا بعيدًا، أما نصارى المشرق فإنهم مثلنا في العادات والأخلاق، وتقييد حرية المرأة في الأمور التي يخشون منها على عفتها، ولذلك لا نقدر أن نتخذهم هنا مثالاً، وأما العالم الغربي الذي أباح الحرية التامة للمرأة، وتركها تفعل ما تشاء بعد بلوغها سن الرشد، فلا أحد يمكنه أن يقول: إن العفة والصون اللذين هما من شرائط الإسلام والنصرانية متوافران فيه بالدرجة التي هما في العالم الإسلامي والعالم المسيحي الشرقي، لعمري إن ما يحصل في باريس وحدها من الفسق والفجور يساوي كل ما يحصل من هذا النوع في جميع العالم الإسلامي. وأما كون التعليم برقي المرأة إلى سنام العفاف، ويجعلها في غنى عن الحجاب وعن مراقبة بعلها، فمع كوننا لا ننكر أن التعليم يهذب كثيرًا من أخلاق المرأة ويعصم من هواها، فلا نستطيع أن نقول: إنه كافٍ في هذا الموضوع ساد مسد المراقبة الزوجية والقيود الشرعية، فالتعليم لا يقوم مقام الخوف ولا يصح وحده وازعًا، وها نحن أولاء نعرف من الرجال الذين بلغوا الدرجة القصوى من العلم، ولم يزدهم علمهم ولا فضلهم عفة مئزر ولا طهارة ذيل، فنقص الفسق والفجور في العالم الشرقي عن مثله في العالم الغربي لا يقدر ولا يحصى، إنما هو بقوة سيطرة الرجال على النساء، وينضم إليه كون الدين لا يزال في الشرق أرسخ مما هو في الغرب، فتجد المرأة المسلمة والمسيحية الشرقية تخاف عقاب ربها وعقاب زوجها، بخلاف كثير من الأوربيات اللائى أصبحن لا يخفن لا من الخالق ولا من المخلوق. بقي علينا اعتراض قد يقول به كثيرون من الذين يحبون أن يقال لهم: (عصريون) محررون من الأوهام والعقائد، سائرون في طريق الرقي بعقول علمية صرفة، وبصائر فنية محضة - وهو أن نفور المسلم من أن يرى أخته أو بنته حليلة لرجل مسيحي أو يهودي أو وثني، ونفور المسيحي من رؤية أخته أو بنته زوجة لرجل مسلم أو يهودي أو وثني، إنما هو من تأثير الأوهام ورسوخ العقائد، لا بل من رسوخ الوساوس التي ليست من الحقائق في شيء، وكذلك يقال في مخادنة المسلمة أو المسيحية العاملة بدينها لرجل تتفق معه على بدل معلوم تبيعه به عرضها، فهذا هو أيضًا من عمل الأوهام والوساوس التي بمرور الأزمان وشدة التكرار، انقلبت شرفًا وغيرة وحمية، حال كون العلم ينبغي أن يزيل هذه الأوهام من الأذهان، وأن يصفيها للحقائق دون غيرها، وأن أهم مهمة يقوم بها العصر الحاضر هو تبديد الأوهام وإزالة دولة الخرافات، فإن وقع هذا الاعتراض من أحد فنكون رجعنا إلى قاعدة فالح رفقي وعبد الله جودت والشاب الذي تحاور مع الرافعي، ولسنا في هذه المقالة رامين إلى تفنيد هذا الزعم من حيث هو، وإنما نقول لهم: إنهم كانوا يرون المدنية الأوروبية أرجح من الصون والطهر فلا بأس بقبول هذه النظرية على علاتها، وإلا فإذا كانوا يلتزمون مبادئ العفة والطهارة والاحتياط التام لأجل حصول الولد من صلب أبيه، فلا بد لهم من رفضها أو تقييدها على الأقل وإنني أؤكد لهم أن الإنسان ما دام إنسانًا وما دام هذا تركيبه فلن يمكنه

من عذيري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ من عذيري الشكوى من صاحب المنار وشكواه أو عذره رب لائم مليم، ورب ملوم بريء أو غير مسيء في يوم السبت 28 ذي القعدة (20 مارس) جاءني كتاب في البريد بإمضاء (عبد الغفار) يقول فيه: إنه تاجر هندي في مدينة لندن، وإنه جاء القاهرة لكي يقابلني ويقابل بعض الذين يعرفون شيئًا عن السيد جمال الدين الأفغاني لجمع ما لديهم من المعلومات عنه؛ لأنه يريد أن يكتب سيرة لهذا المجدد الشهير، وأنه يحمل خطابًا من حضرة صديقي فؤاد بك سليم حجازي الشهير، وأنه يلتمس أن أعين له وقتًا خاصًّا لذلك. وبعد يوم أو يومين جاء دارنا رسول من قبله ولم أكن فيها؛ فترك لي كتاب فؤاد بك سليم الذي يحمله من أوربة، وكتابًا آخر من حضرة صديقي إسماعيل بك شيرين وكيل محافظة مصر مؤرخًا في 29 ذي القعدة (21 مارس) يقدمه فيه، ويوصي بحسن قبوله، فعجبت من عنايته بطلب توصية بعد توصية فيما لا يحتاج إلى توصية، ثم من إرساله لهما مع رسول يطلب له تعيين وقت معين للقائه وعدم مجيئه هو، وحملت ذلك على حرصه على أوقاته وعلى وقتي أيضًا؛ لأنه يعلم عقلاً أنني كثير العمل، ومن المعقول في هذه الحالة أن أعين له وقتًا يمكنني أن أفرغ فيه لحديثه مدة طويلة، واطلاعه على ما عندي من المواد وليست بقليلة، وأنا لا أملك مثل هذا الوقت إلا في بعض أيام الجمع، وإذ كان أول جمعة لا يزال بعيدًا، رأيت أن أبلغه من أقرب الطرق - وهو طريق التليفون - أنني مستعد في كل يوم بل في كل ساعة من ساعات كل يوم للقائه، وأنني على قلة خروجي من الدار لا أخرج في وقت الصباح، وأنه لأجل الاحتياط يمكنه أن يسأل عني بالتليفون قبل مجيئه، بلغناه هذا في الفندق الذي نزل فيه، ولم يكن فيه عند التبليغ، فعهدنا أصحاب الفندق بتبليغه إياه المرة بعد المرة، ولو حضر لأخبرته بما عندي من المواد في ترجمة السيد وبعض مقالاته وآثاره، واتفقنا معًا على الأوقات التي يطلع فيها عليها، والطريقة التي يقتبس بها ما يريد اقتباسه منها - وهو لا يعرف العربية. بيد أنه فاجأني عصر اليوم الثالث من ذي الحجة (24 يونيو) كتاب هذا نصه: كتاب وجيه هندي لصاحب المنار 24 يونيو سنة 1925 سيدي الأستاذ الجليل سلامًا واحترامًا. وبعد، فقد حملتني الرغبة الصادقة في البحث عن كل ما يتعلق بحياة السيد جمال الدين الأفغاني - بمناسبة اعتزامي على تأليف يشتمل على حياة هذا الفيلسوف الإسلامي الشهير - حملتني هذه الرغبة على التقرب، ثم على التشرف بزيارتكم؛ لينالني تشرف الاستقاء عن علمكم الغزير، فبادرت بإرسال جواب إلى فضيلتكم ساعة وصولي إلى القاهرة؛ لتتكرموا بتحديد وقت أتمثل فيه بين أيديكم (!) ، فلما تأخر الرد كلفت صديقًا لي ليتفق مع فضيلتكم على الوقت الذي ترضون فيه بمقابلتي (!) ، ولما لم يجدكم في البيت؛ ترك هناك كتابي التعرف من حضرة صاحبي العزة فؤاد بك سليم وشيرين بك، لعلكم تتنازلون بهذه الوسيلة بزيارتي، وقد مكثت في القاهرة أنتظر الرد سبعة أيام [1] ، وما جنيت يا للأسف من هذا الاتفاق إلا الخيبة والملل. سيدي - الآن وقد عزمت الرحيل، من هذه الديار أرى من واجبي أن ألفتكم إلى بعض ما يجول بخاطري بمناسبة هذا الفتور الذي لقيته منكم في هذه الديار، وقد كنت أنتظر غير ما رأيت. على أن هذا الفتور لو كان مصدره رجل عادي غيركم وموجهًا إلى شخصي من حيث إنني بشر لا أكثر ولا أقل لما أتعبت نفسي بالشكوى إليكم، ولما رجوتكم قراءة هذه السطور، ولكن الرتبة العلمية التي تمثلونها، والصفة الإسلامية التي جعلتموها شعارًا لكم، والمسئوليات العظيمة التي تتحملونها بصفتكم من علماء الدين وحامل لواء الشريعة - كل هذه الأمور تحتم علي أن أنبهكم إلى الخطر العلمي والأخلاقي (!) الذي قد يجركم إليه مثل هذا الفتور، والإهمال غير اللائق بمقامكم (!) . شيء آخر يحملني على الإكثار من الشكوى إليكم، وقد اضطررت إلى ذكره اضطرارًا سيدي، أظنكم لم تنسوا بعد ذلك الاحتفال المهيب بقدومكم إلى البلاد الهندية، والمقابلات الحارة المخلصة التي استقبلكم بها الهنود، فكنتم موضع إجلال واحترام من جميع الطبقات بلا استثناء - أما كان يصح في هذه الحالة أن ينتظر أحد المحتفلين بكم من مكارمكم وتعطفاتكم ما يزيده إخلاصًا إليكم وحبًّا فيكم؟ ولكنني أقول والأسف يملأ قلبي: إن هذا الأمل كان في غير محله. سيدي، اعتقدوا أنني حاولت كثيرًا أن أبرر عملكم هذا، فكانت هذه المحاولة خائبة خيبة أملي بلقائكم. ولست أدري كيف أفسر عملكم هذا عندما أقدم للجمهور مؤلفي، وأذكر ما لاقيت في سبيل جمع مواده. وعلى كل حال قد حصلت إقامتي هنا على معلومات بقدر ما تمكنت الحصول عليها، وأغادر القاهرة اليوم وأنا كل اليقين (؟) والاعتقاد أنني سوف ألاقي في أوربا وغيرها من بلاد الكفر والإلحاد (؟) من العلماء من هم أوسع صدرًا وأرحب ساحة من علمائنا الكرام وأخيرًا تقبلوا سلامي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الخادم المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الغفار (المنار) لقد بلوت من الناس غرائب كثيرة، ولم أر أغرب من حال هذا الرجل في أمر سفره من لندن إلى مصر للبحث عن سيرة السيد جمال الدين، وجمع ما يمكن جمعه منها؛ لأجل تأليف كتاب خاص في سيرته، وللقيام ببعض الأعمال التجاريةأيضًا، ومكثه في القاهرة أسبوعًا واحدًا وعودته بسرعة، وهذه المدة لم تكن كلها تتسع لأخذ ما عندي من المواد الخاصة بسيرة السيد - رحمه الله تعالى - لو لم يكن لنا شغل غيرها، ولا من حاله في أمر اهتمامه بمقابلتي بالتوسل إليها بتوصيته مَن يعرف ومن لم يكن يعرف من الوجهاء، وبالكتابة وإرسال الرسول؛ لأجل تعيين موعد خاص للمذاكرة في سيرة السيد، وأخذ المعلومات المطلوبة، وعدم تفضله بالزيارة بدون سبق الموعد المطلوب، على كونه قد زار بعض الناس بدون أخذ موعد معين منهم، كإسماعيل شيرين بك ونور الدين بك مصطفى كما أخبراني بذلك، ثم إسراعه بالسفر بعد مجيء رسوله إلى مكتبة المنار وسؤاله عني فيها بيومين , وفي أمر كتابه الجامع بين التعظيم والتهكم والمن والتهديد. أما أنا فعلى شدة تعجبي من هذا الكتاب واستنباطي منه أن صاحبه شاذ في عقله وأخلاقه، أسفت أسفًا شديدًا لما فهمته منه أن الفندق لم يبلغه ما عهدناه إليه من الاستعداد للقائه في كل يوم، ولا سيما وقت الصباح على كونه وقت تزاحم الأعمال عليَّ الذي به كان وجودي فيه بمكتبي حتمًا لازمًا، وقد حملني هذا الأسف على الذهاب إلى محطة مصر قبل وقت سفر قطار المساء الحديدي إلى بورسعيد؛ لعلي أجده مسافرًا فأعتذر له، وأتفق معه على طريقة لإيصال ما يطلبه من المواد في سيرة حكيمنا الأكبر السيد جمال الدين رحمه الله تعالى. ذهبت إلى المحطة قبل موعد دخول المسافرين في القطار، وطفقت أتوسم وجوه ركاب الدرجة الأولى - وكذا الثانية احتياطًا - لعلي أجد سحنة هندية أتطفل بالسؤال عن صاحبها فلم أجد، وإنما فعلت هذا؛ لأنني أعد للرجل عليَّ حقين لا يبيح لي شذوذ كتابه هضمهما: (أحدهما) أنه خاطبني بالوسائط، ولم يعلم أنني أجبته، ولم يلتمس لي عذرًا على سعة باب التماس الأعذار الذي ضاق عليه. (وثانيهما) أنه يريد تأليف كتاب في سيرة أستاذنا الأكبر موقظ الشرق وحكيم الإسلام، وأنا أحرص الناس كما أعتقد على نشر سيرته الصحيحة والاعتبار بها. بعد هذا قصصت خبره على شابين هنديين نجيبين مشتغلين بطلب العلم بمصر، فجزم كل منهما وحده برأي واحد، وهو أن هذا الشذوذ بالامتناع من الزيارة أولاً وبالكتاب الجامع للغرائب ثانيًا، ليس من شأن هذا الرجل ولا من المعهود من آدابه وأخلاقه، وإنما هو تأثير مؤثر خادع من الهنود الزائغين، كالذين يبثون دعوة المسيح الدجال القادياني في مصر باسم الأحمدية، أو الملاحدة الذين فتنوا بأفكار بعض الزنادقة اللادينيين هنا، وكلا الفريقين يمقت المنار وصاحبه؛ لأنه أشد خصم لهم في العالم الإسلامي، وجزم كل منهما بأن الرجل لا يعرف العربية، وأن الذي كتب له هذا الكتاب الشاذ لم يخبره بكُنْه ما فيه، ولو أخبره لما أمضاه. ثم سألني عنه الزعيمان الهنديان الكبيران اللذان ألما بالقاهرة في هذه الأيام الحكيم محمد أجمل خان والدكتور مختار أحمد الأنصاري، فذكرت لكل منهما نبأه، وأطلعت كلاً منهما على كتابه، فوافقا الشابين بأن هذا ليس من دأبه ولا من آدابه، وأنه خدع به. *** اعتذار صاحب المنار عن تقصيره ولما كان من شأن هذا الغش وسوء الفهم أن يقع كثيرًا رأيت أن لا تثنيني هذه الشهادة من أربعة عدول، بما تقدم آنفًا عن ذكر بعض ما جال في خاطري، من الآراء عند قراءة هذا الكتاب بالإيجاز، وإظهار عذري فيما عسى أن يكون قد وقع أو قد يقع من سوء الفهم في مثل هذه المرة بيني وبين بعض الناس فأقول: (أولاً) إنني رجل ضعيف، دخلت في سن الشيخوخة، وأشكو بعض مبادئ الأمراض التي تهدد الناس في هذه السن، وأنا مع هذا مطالب بأعمال كثيرة أذكر مجامعها: (1) القيام بشئون أسرة كبيرة وأطفال لا عائل ولا مربي لهم غيري. (2) القيام بتحرير مجلة دينية اجتماعية ليس لها محرر ولا مساعد غيري. (3و4) إنني صاحب مكتبة ومطبعة لا بد لي من نظر ما في بعض أمر إدارتهما، ولضيق وقتي عن إتقان ذلك يفوتني ربح كبير أنا محتاج إليه، بل تحملت كثيرًا من الخسارات المالية والأدبية. (5) إنني أتولى تصحيح جميع مطبوعاتي من المنار وغيره بنفسي المرة بعد المرة، وأنظر في تصحيح غيرها مما يطبع في المطبعة مع مصححها، وهذا العمل يستغرق أكثر أوقاتي في هذه السنين، وقد جربت الاعتماد على المصححين فرأيت كل ما يصصحونه كثير الغلط، حتى إنني اضطررت إلى مراجعة جداول تصحيح الغلط الذي وضعوه لبعض الكتب على المطبوع والمخطوط كلمة كلمة، بمعارضتها على عدة نسخ في خلال سنين متفرقة، وأخرت إرسال بعض الكتب إلى أصحابها زمنًا طويلاً لأجل ذلك، فساءهم ذلك، وهم لا يعذرونني بأمانتي العلمية الدينية، ولو فعلت كما يفعل سائر أصحاب المطابع لكان أرضى لهم وأربح لي، ووضع لي بعض الأذكياء فهارس للمنار، فكان شغلي بتصحيحها أطول من شغلي بوضع خير منها. (6) إنني أعمل في بضع جمعيات علمية واجتماعية وسياسية، كالمجمع اللغوي والرابطة الشرقية، ومؤتمر الخلافة، ونقابة الصحافة، ولجنة المؤتمر السوري الفلسطيني إلخ، وقد كنت في الأسبوع الذي زار فيه حضرة الأخ محمد عبد الغفار القاهرة مكلفًا ثلاثة أعمال كتابية لبعض هذه الجماعات. (7) أنه تأتيني مكتوبات كثيرة من أقطار الشرق والغرب أقلها في شئون المجلة والمطبعة والمكتبة التي يوجد عندي من يساعدني على ما يطلب منهن - وأكثرها يتعلق بشؤون الأمة العامة أو بالشئون الأدبية العلمية والعملية أو السياسية أو الشخصية، أما الشخصية فأكثرها استفتاءات خاصة شرعية من دينية ودنيوية، غير ما يطلب نشره في المنار، وأقلها طلب مساعدات مالية أو شفاعات، وأما العلمية فمثل طلب الأخ محمد عبد الغفار، وكلها مبنية مثل ما حملني من التبعة والمسئولية بسبب الشهرة العلمية، ومن أغربها أن بعض المؤلفين المعاصرين طلبوا مني قراءة ما ألفوا، والشهادة لها بأنها جديرة بأن تدرس في المدارس الإسلامية لعامة المسلمين على أن بعضها لأهل السنة وبعضها لل

منشور عام

الكاتب: عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود

_ منشور عام [1] من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل السعود إلى إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. الحمد لله الذي لا إله إلا هو: والصلاة والسلام على رسوله محمد الشفيع المشفع يوم المحشر (وبعد) : فقد تفاوضت أنا والوفد الهندي الموفد من جمعية الخلافة الهندية وجمعية العلماء في المسائل التي يهم المسلمين الاطلاع عليها، والوقوف على حقيقة أفكارنا تجاهها، وكان رائد الجميع الإخلاص في العمل، والصراحة في القول، والنصح لله ولرسوله وللمسلمين، وإني أحمد الله على أن انتهى البحث في جميع المسائل التي دارت المفاوضة فيها. وإني دحضًا لما يفتريه أعداء الحق ونصراء الباطل ممن يستغلون التفرقة بين المسلمين، ويحاولون أن يطفئوا نور الله بسعيهم الباطل للتمويه على قلوب السذج من المسلمين الذين يجهلون حقيقة ما نحن عليه، أعلن ما يأتي {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيِيَ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) . (1) أشكر الشعوب التي وقفت تجاهنا موقف المدافع عن الحق، وأشكر الشعب الهندي خصوصًا على موقفه تجاه العرب وقضيتهم في الوقت الذي اشتغل العرب فيه بالمشاحنات والمخاصمات، ونسوا واجبهم نحو دينهم ووطنهم، وإني أشكر أهل الهند؛ لأنهم كانوا أول من لبى الدعوة، فجزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء. (2) إني لا أزال عند قولي فيما دعوت العالم الإسلامي إليه: من وجوب عقد مؤتمر عام ينظر في الأمور التي تهم سائر المسلمين في الحجاز من إصلاح الطرق وتأمينها، وتوفير وسائل الراحة لكل وافد، وتسهيل المواصلات بقدر ما يمكن، وبذلك نتحمل نحن وإياهم مسئولية إدارة الحجاز، وستجدد الدعوة لهذا المؤتمر الإسلامي متى تمهدت وسائل المواصلات. (3) إننا نحافظ على استقلال الحجاز الاستقلال التام محافظتنا على أرواحنا، وإننا لا نسمح أن يكون لغير المسلمين أي نفوذ فيه، محافظة على ديننا وشرفنا. (4) إن الشريعة الإسلامية هي القانون العام الذي يجري العمل على وفقه في البلاد المقدسة، وإن السلف الصالح وأئمة المذاهب الأربعة هم قدوتنا في السير على الطريق القويم، وسيكون العلماء المحققون من جميع الأمصار هم المرجع لكل المسائل التي تحتاج إلى تمحيص ونظر ثاقب. (5) إني أؤكد لكم القول: إن المدينة المنورة لا تزال حرمًا آمنًا لا يصح أن يحدث فيه حدث من قتل أو سلب أو نهب، وصونًا لشرفها، اكتفيت بحصارها، على ما في ذلك من طول وقت وخسائر مالية، وإني أستطيع بحول الله وقوته أن أفتحها في ساعة واحدة، ولكني حريص على سلامة البلاد والعباد، وإني مشدد الأوامر على الجنود ألا يهاجموا حرم المدينة بأي صورة، ولا يدخلوها حتى يستسلم العدو، وأن ما فها من المباني والمآثر يكون العمل فيه على ما تقدم في المادة السابقة. إن أعداءنا يشيعون أننا إذا استولينا على المدينة نهدم روضة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحاشا أن تحدث نفس مسلم بذلك، إني أفتديها بنفسي وولدي ومالي ورجالي، وإني لا أجد فرقًا بين ما حرم الله ورسوله من حرم مكة والمدينة، فإنه صلى الله عليه وسلم حرم ما بين لابتيها، كما حرم سيدنا إبراهيم حرم مكة - وأسأل الله أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، 28 ذي الحجة سنة 1343. (المنار) قد أجمع العارفون على أن النجديين لو واصلوا زحفهم بعد كسر جيوش الملك حسين في الطائف والهدوكرا لاستولوا على مكة وجدة وسائر الحجاز بدون قتال؛ لأنه لم يبق وراء تلك القوة قوة فيه للملك حسين، ولاستولوا على كنوزه كلها، ولكن السلطان عبد العزيز يكره سفك الدماء، ويتقي القتال في الحرم تدينًا، فأمر بوقف جيشه فوقف حتى جاء بنفسه ودخل مكة مع جيشه محرمًا بالعمرة، ثم تأنى حتى مكن حسينًا وأولاده من تحصين جدة، وترك الزحف على المدينة إلى هذا العام، فأمر بحصر حامية الشريف علي فيها، وأصدر هذا المنشور؛ ليعلم العالم الإسلامي بغرضه الشريف، وليحتاط لبهتان الشريف علي، ويتقي اتهامه بضرب المدينة أو حرمها المنيع لو دخلها فاتحًا، بل يستحل علي وقواده فعل ذلك؛ ليتهموا الوهابيين به، كما فعل والده إذ أمر بضرب الكعبة المشرفة بالنار، واتهم بذلك الترك عندما قاتلهم بمكة. ((يتبع بمقال تالٍ))

أسرار البلاغة أو فلسفة البيان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسرار البلاغة أو فلسفة البيان تكلم بعض البلغاء من علماء العربية في طرق البيان وبلاغة الكلام وفصاحته كلامًا إجماليًّا، حتى جاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس، فوضع القواعد والأصول لعلم البيان؛ بكتابه أسرار البلاغة ولعلم المعاني؛ بكتابه دلائل الإعجاز، وسلك فيها مسلك الفلسفة العقلية وعلم النفس، فعلمنا من كتابيه أن البلاغة عبارة عن إصابة موقع الإقناع من العقل، والتأثير من القلب، فإنه يثبت لك بلاغة الكلام؛ بإرجاعك فيه إلى ما تجده في نفسك من تأثيره وروعته والارتياح له، والتفرقة بينه وبين ما يؤدي معناه من غير البليغ، ويشرح لك ذلك حتى يقنع به جنانك، ويطمئن به وجدانك، بعبارة فصيحة هي أظهر مصداق لقواعده ومثال لفلسفته، فهو يفيدك العلم والعمل معًا بعبارته وأسلوبه. ثم إن الذين أخذوا عنه هذا العلم زادوا عليه في القواعد والأحكام، وحكوه فيما وضعوه من الحدود والرسوم لبلاغة الكلام، ولكن فاتتهم فلسفته، وعدتهم بلاغة عبارته، فكانوا كما قال الشاعر: (لقد حكيت ولكن فاتك الشنب) ، فإنهم جعلوا أحكام البيان مواضعات اصطلاحية، لأشكال التراكيب اللفظية، لا مرجع لها من علم النفس، ولا مستند لها من حكم العقل، ولا من وجدان النفس، ككون التمثيل - الاستعارة التمثيلية - عبارة عن تشبيه هيئة بهيئة تناسبها، كجملة ما لي أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. وأما كون التمثيل أعلى مراتب البيان، وأبلغ ما يفضل به الكلام الكلام، وسبب هذا وسره؛ فهو ما لم يعرضوا له، ولم يتبعوا إمامهم في البحث عنه، ولا في سائر خصائص محاسن الكلام من التشبيه بأنواعه الأخرى من صريح واستعارة، والتعريض والكناية، فكانت قواعد البلاغة وأحكام البيان عندهم اصطلاحات لفظية جافة، تؤخذ بالإيمان والتسليم كأنها أخبار الرسل - عليهم السلام - من عالم الغيب، وتطبق على كل قول، وإن كان له من السخف أوفر نصيب. لهذا لم تعد كتب علوم البلاغة تفيد قارئها البلاغة، ولا تساعده عليها، بل ربما صارت صادة له عنها، وحائلة دونها، فكأين من مدارس قرأ أدق كتبها كشرحي السعد للتلخيص مرارًا مع حواشيها الطويلة العريضة، وكان بعد ذلك كله عاجزًا عن فهم كلام البلغاء، ووجه تفضيله على غيره، دع عجزه عن ارتجال خطبة أو نظم قصيدة، أو كتابة رسالة، مما يصح أن يوصف بالبلاغة، إلا أن يكون من وصف الجاهل الفاقد الذوق لكلامه أو كلام أمثاله بما يراه في مرآته أو من التحكم في تطبيق كل كلام على تلك القواعد الاصطلاحية، التي لا يعرفون لها مدركًا علميًّا ولا نفسيًّا، كتشبيه حسن فهمي أفندي أحد مشايخ الإسلام في الدولة العثمانية للخد بالسفرجل تقليدًا لمن شبهوه بالتفاح بقوله: وقلبي هام في خد سفرجل ... وكقوله: حمد البلابل في الأغصان سبحان ... لذاك جاد على الناطور بستان اقتبس علماء البيان الأولون من عبد القاهر كالسكاكي والخطيب، ثم فقد كتاباه، ونسي ذكرهما مدة بضعة قرون؛ حتى إن بعض من ترجمه من المؤرخين لم يذكرهما له، وأعيا طلبهما بعض كبار أمراء العلم والحكم: كالإمام يحيى اليمني صاحب كتاب (الطراز في علوم الإعجاز) ، حتى هدانا الله تعالى إلى بعث بعض نسخهما من مقابر خزانات الكتب الخاصة في هذا القرن، فطبعناهما، وأحياهما شيخنا الأستاذ الإمام بتدريسهما في الجامع الأزهر؛ فكان ذلك سببًا لارتقاء فنون البلاغة وملكتها، وارتقاء الآداب العربية من طور إلى طور في القطر المصري عامة، وفي الأزهر خاصة، وإن خفي هذا السبب على الغافلين الذين لا يشعرون بأسباب الأطوار، التي تطرأ على الأمم ومسبباتها، وارتباط بعضها ببعض، فقد صار يوجد في الأزهر عشرات من الكتاب المجيدين، ولم تكن تقدر أن تعد على أناملك أحدًا منهم غير القدماء من تلاميذ السيد جمال الدين وتلاميذه الأستاذ الإمام في إبان النهضة الجمالية، ومن أشهر الكتاب الذين طار ذكرهم ممن حضروا الكتابين على الأستاذ الإمام المرحوم السيد مصطفى المنفلوطي. بل أقول: إن جميع الذين قرءوا الكتابين كليهما أو أحدهما حتى في بلاد الأعاجم قد ارتقت ملكة البيان فيهم شعروا بذلك أم لا، وإنما يشعر بمثل هذا أصحاب اللوذعية والعقل الفقيه، فقد كتب إليَّ صديقي أكتب الكتاب، وأخطب خطباء مسلمي الهند الشيخ أبو الكلام أحمد المجدد الشهير، يذكر لي أول عهده بمعرفتي قبل تلاقينا في الهند سنة 1330، من كتاب طويل كتبه إثر خروجه من السجن بعد الحرب ما نصه. (وماذا أستطيع أن أقول عن نفسي غير أن قلبي ممتلئ بالاعتراف لكم بخدماتكم الجليلة العلمية والعملية، فإني أحبكم وأحب من يحبكم، ولا غرو فإني قد عرفتكم في صباي لما كنت أقرأ شرح التلخيص للتفتازاني،،، فقرأت أسرار البلاغة ومقدمتكم عليه؛ فانفتح علي باب المعرفة الصحيحة، وهذا أول عهدي بكم (أتاني هواها إلخ) ، ثم ذكر اطلاعه على المنار، وما كان من تأثيره في نفسه مما ليس من موضوعنا. وأقول: إنني رأيت من قوة فهمه للغة العربية أنني كنت ألقي الخطبة في الهند في ساعتين أو أكثر من الزمن؛ فيقوم هو فيعيدها باللغة الأوردية، لا يفوته منها شيء. كنت عند طبعي لأسرار البلاغة سنة 1319 نشرت نبذة منه على سبيل النموذج، وقد رأيت أن أنشر عند إعادة طبعه الآن نموذجًا أطول من ذلك النموذج؛ ليكون مثلاً لما وصفت، ودليلاً على ما قررت، قال مؤلفه رحمه الله تعالى. *** (فصل) في مواقع التمثيل وتأثيره واعلم أن مما اتفق العقلاء عليه أن التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونقلت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، وكسبها منقبة، ورفع من أقدارها، وشب من نارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها، ودعا القلوب إليها، واستثار لها من أقاصي الأفئدة صبابة وكلفًا، وقسر الطباع على أن تعطيها محبة وشغفًا. فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم، وأنبل في النفوس وأعظم، وأهز للعطف، وأسرع للإلف، وأجلب للفرح، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وأفضى له بغرر المواهب والمنائح، وأسير على الألسن وأذكر، وأولى بأن تعلقه القلوب وأجدر. وإن كان ذمًّا كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده أحد، وإن كان حجابًا كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر , وإن كان افتخارًا كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه ألد [1] , وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسل، ولغرب الغضب أفل، وفي عقد العقود أنفث، وعلى حسن الرجوع أبعث [2] , وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وأدعى للفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وأجدر بأن يجلي الغياية [3] ، ويبصر الغاية، ويبرئ العليل، ويشفي الغليل , وهكذا الحكم إذا استقريت فنون القول وضروبه، وتتبعت أبوابه وشعوبه [4] ، وإن أردت أن تعرف ذلك، وإن كان تقل الحاجة فيه إلى التعريف، ويستغنى في الوقوف عليه عن التوقيف، فانظر إلى نحو قول البحتري: دانٍ على أيدي العفاة وشاسع ... عن كل ند في الندى وضريب [5] كالبدر أفرط في العلو وضوءه ... للعصبة السارين جدُّ قريب [6] وفكر في حالك وحال المعنى معك، وأنت في البيت الأول لم تنته إلى الثاني، ولم تتدبر نصرته إياه، وتمثيله له فيما يملي على الإنسان عيناه، ويؤدي إليه ناظراه، ثم قسهما على الحال وقد وقفت عليه، وتأملت طرفيه، فإنك تعلم بعد ما بين حالتيك، وشدة تفاوتهما في تمكن المعنى لديك، وتحببه إليك، ونبله في نفسك، وتوفيره لأنسك، وتحكم لي بالصدق فيما قلت، والحق فيما ادعيت [7] . وكذلك فتعهد الفرق بين أن تقول: فلان يكد نفسه في قراءة الكتب ولا يفهم منها شيئًا، وتسكت، وبين أن تتلو الآية، وتنشد قول الشاعر: [8] زوامل للأشعار لا علم عندهم ... يجيدها إلا كعلم الأباعر [9] لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوسافه أو راح ما في الغرائر والفصل بين أن تقول: (أرى قومًا لهم بهاء ومنظر، وليس هناك مخبر، بل في الأخلاق دقة، وفي الكرم ضعف وقلة) ، وتقطع الكلام، وبين أن تتبعه نحو قول الحكيم: أما البيت فحسن، وأما الساكن فرديء. وقول ابن لَنْكك: في شجر السرو منهم مثل ... له رُواء وما له ثمر وقول ابن الرومي: فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الأثمار كل الإباء وقول الآخر: فإن طرة راقتك فانظر فربما ... أمر [10] مذاق العود والعود أخضر وانظر إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يورق شجره ويثمر، ويفتر ثغره ويبسم، وكيف تشتار الأري من مذاقته [11] ، كما ترى الحسن في شارته [12] وأنشد قول ابن لنكك: إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجًا ... رأيت صورته من أقبح الصور وتبين المعنى، وأعرف مقداره، ثم أنشد البيت بعده: وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفر منها إذا مالت إلى الضرر وانظر كيف يزيد شرفه عندك، وهكذا فتأمل بيت أبي تمام: [13] وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود مقطوعًا عن البيت الذي يليه، والتمثيل الذي يؤديه، واستقص في تعرَّف قيمته، على وضوح معناه وحسن مزيته [14] ، ثم أتبعه إياه: لولا اشتعال النار فيما جاورتْ ... ما كان يُعرف طيب عَرف العُود وانظر هل نشر المعنى تمام حلته، وأظهر المكنون من حسنه وزينته، وعطرك بعرف عوده، وأراك النضرة في عوده، وطلع عليك من مطلع سعوده، واستكمل فضله في النفس ونبله، واستحق التقديم كله، إلا بالبيت الأخير، وما فيه من التمثيل والتصوير، وكذلك فرق في بيت المتنبي: ومن يك ذا فم مريض ... يجد مرًّا به الماء الزلالا لو كان سلك بالمعنى الظاهر من العبارة كقولك: إن الجاهل الفاسد الطبع يتصور المعنى بغير صورته، ويخيل إليه في الصواب أنه خطأ. هل كنت تجد هذه الروعة؟ وهل كان يبلغ من وقم الجاهل ووقذه [15] وقمعه وردعه، والتهجين له والكشف عن نقصه، ما بلغ التمثيل في البيت، وينتهي إلى حيث انتهى وإن أردت [16] اعتبار ذلك في الفن الذي هو أكرم وأشرف؛ فقابل بين أن تقول: إن الذي يعظ ولا يتعظ يضر بنفسه من حيث ينفع غيره، - وتقتصر عليه - وبين أن تذكر المثل فيه على ما جاء في الخبر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يعلم الخير ولا يعمل به مثل السراج الذي يضيء للناس ويحرق نفسه) ، ويروى (مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها) [17] ، وكذا، فوازن بين قولك للرجل وأنت تعظه: (إنك لا تجزى على السيئة حسنة، فلا تغر نفسك) وتمسك، وبين أن تقول في إثره: (إنك لا تجني من الشوك العنب وإنما تحصد ما تزرع) ، وأشباه ذلك. وكذا بين أن تقول: لا تكلم الجاهل بما لا يعرفه ونحوه، وبين أن تقول: (لا تنثر الدر قدام الخنازير. أو لا تجعل الدر في أفواه الكلاب) ، وتنشد نحو قول الشافعي رحمه الله (أأنثر درًّا بين سارحة الغنم) [18] وكذا بين أن تقول: الدنيا لا تدوم ولا تبقى، وبين أن تقول: (هي ظل زائل؛ وعارية تسترد، ووديعة تسترجع) ، وتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من في الدنيا ضيف، وما في يديه عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة) وتنشد قول لبيد: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يومًا أن ترد الودائع وقول الآخر: إنما نعمة قوم متعة ... وحياة المرء ثوب مستعار فهذه جملة من القول تخبر عن صيغ التمثيل، وتخبر عن حال المعنى معه، فأما القول في العلة والسبب: لم كان للتمثيل هذا التأثير؟ وبيان جهته ومعناه، وما الذي أوجبه واقتضاه، فغيرها. وإذا بحثنا عن ذلك وجدنا له أسبابًا وعللاً، كل منها يقتضي أن يفخم المعنى بالتمثيل وينب

حكم هيئة كبار العلماء في كتاب الإسلام وأصول الحكم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكم هيئة كبار العلماء في كتاب الإسلام وأصول الحكم هيئة كبار العلماء المجتمعة بصفة تأديبية بمقتضى المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية والإسلامية رقم 10 لسنة 1911 في دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية يوم الأربعاء 22 المحرم سنة 1344 (12 أغسطس سنة 1925) ، برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور أربعة وعشرين عالمًا من هيئة كبار العلماء، وهم حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة: الشيخ محمد حسنين، والشيخ دسوقي العربي، والشيخ أحمد نصر، والشيخ محمد بخيت، والشيخ محمد شاكر، والشيخ محمد أحمد الطوخي، والشيخ إبراهيم الحديدي، والشيخ محمد النجدي، والشيخ عبد المعطي الشرشيمي، والشيخ يونس موسى العطافي، والشيخ عبد الرحمن قراعة، والشيخ عبد الغني محمود، والشيخ محمد إبراهيم السمالوطي، والشيخ يوسف نصر الدجوي، والشيخ إبراهيم بصيلة، والشيخ محمد الأحمدي الظواهري، والشيخ مصطفى الههياوي. والشيخ يوسف شلبي الشبرابخومي , والشيخ محمد سبيع الذهبي , والشيخ محمد حموده , والشيخ أحمد الدلبشاني، والشيخ حسين والي، والشيخ محمد الحلبي , والشيخ سيد علي المرصفي. نظرت في التهم الموجهة إلى الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر، والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية التي تضمنها كتابه (الإسلام وأصول الحكم) ، وأعلنت له في يوم الأربعاء 8 المحرم سنة 1344 (29 يولية سنة 1925) . وقد قام بعمل السكرتارية لهذه الهيئة محمد قدري أفندي رئيس أقلام السكرتارية العامة لمجلس الأزهر الأعلى والمعاهد الدينية، وعلي أحمد عزت أفندي الكاتب الأول للجامع الأزهر، والمنتدب بالإدارة العامة للمعاهد الدينية. *** الوقائع نشر باسم الشيخ علي عبد الرازق أحد علماء الجامع الأزهر والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية الكتاب المسمى (الإسلام وأصول الحكم) ؛ فقدمت إلى مشيخة الجامع الأزهر عرائض وقع عليها جمع غفير من العلماء في تواريخ 23 ذي القعدة وأول و8 ذي الحجة سنة 1343 (15 و23 و30 يونية سنة 1925) وقد تضمنت أن الكتاب المذكور يحوي أمورًا مخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وإجماع الأمة. منها: 1- جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا. 2- وأن الدين لا يمنع من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين. 3- وأن نظام الملك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبًا للحيرة. 4- وأن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كانت بلاغًا للشريعة مجردًا عن الحكم والتنفيذ. 5- وإنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمورها في الدين والدنيا. 6- وإنكار أن القضاء وظيفة شرعية. 7- وأن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم كانت لا دينية. وقرر حضرة صاحب الفضيلة الشيخ الأكبر محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، بناءً على ذلك اجتماع هيئة كبار العلماء بصفة تأديبية في يوم الأربعاء 15 المحرم سنة 1344 (5 أغسطس سنة 1925) الساعة العاشرة صباحًا في دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية، وأعلن ذلك للشيخ علي عبد الرازق في يوم الأربعاء 8 المحرم سنة 1344 (29 يولية سنة 1925) ، وكلف الحضور أمام الهيئة المذكورة في التاريخ والمكان المذكورين. وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور ثلاثة وعشرين عالمًا من هيئة كبار العلماء، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً عدا فضيلة الأستاذ الشيخ دسوقي العربي، ولم يحضر الشيخ علي عبد الرازق، وإنما أرسل خطابًا مؤرخًا في 14 المحرم سنة 1344 يطلب فيه إعطاءه فرصة طويلة، تكفي لإعداد ما يلزم للمناقشة، وقد عرض الكتاب على الهيئة في هذه الجلسة؛ فقررت تأجيل النظر في الموضوع إلى يوم الأربعاء 22 المحرم سنة 1344 (12 أغسطس سنة 1925) الساعة العاشرة صباحًا في دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية، وأعلن ذلك للشيخ علي عبد الرازق في يوم الأربعاء 25 المحرم سنة 1344 (5 أغسطس سنة 1925) . وفي التاريخ المذكور اجتمعت الهيئة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر، وحضور أربعة وعشرين عالمًا من هيئة كبار العلماء، وهم المذكورة أسماؤهم أولاً، وقد حضر الشيخ علي عبد الرازق أمام هذه الهيئة، وسئل عن كتابه (الإسلام وأصول الحكم) المشار إليه؟ فاعترف بصدوره منه، ثم تليت عليه التهم الموجهة إليه ومآخذها من كتابه، وقبل إجابته عنها وجه دفعًا فرعيًّا، وهو أنه لا يعتبر نفسه أمام هيئة تأديبية، وطلب ألا تعتبر الهيئة حضوره أمامها اعترافًا منه بأن لها حقًّا قانونيًّا. فبعد المداولة القانونية في هذا الدفع قررت الهيئة رفضه؛ اعتمادًا على أنها إنما تنفذ حقًّا خوله إياها القانون، وهي المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية رقم 10 لسنة 1911. ثم دعي الشيخ علي عبد الرازق أمام هذه الهيئة، فأعلن له حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس رفض دفعه طبقًا للمادة المذكورة، فطلب الشيخ علي عبد الرازق أن تسمع له الهيئة مذكرة أعدها للدفاع عن التهم الموجهة إليه، فأذن له حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس أن يتلوها فتلاها، وبعد الفراغ من تلاوتها وتوقيعه على كل ورقة منها أخذت منه وحفظت في أضمامة الجلسة، ثم انصرف. *** هيئة كبار العلماء بعد الاطلاع على كتاب (الإسلام وأصول الحكم) المطبوع في مطبعة مصر الطبعة الأولى سنة 1343 هـ الموافقة سنة 1925 م السابق الذكر والعلم بما تضمنه من الأمور المخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، وإجماع الأمة، وسماع ما جاء في مذكرة دفاع الشيخ علي عبد الرازق عن التهم الموجهة إليه. وبعد الاطلاع على المادة الأولى بعد المائة من قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية رقم 10 لسنة 1911، وعلى المادة الرابعة من هذا القانون. وبعد المداولة القانونية: من حيث إن الشيخ عليًّا جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا، فقد قال في ص 78 و79: (والدنيا من أولها لآخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات أهون عند الله من أن يقيم على تدبيرها غير ما ركب فينا من عقول، وحبانا من عواطف وشهوات، وعلمنا من أسماء ومسميات، هي أهون عند الله من أن يبعث لها رسولاً، وأهون عند رسل الله من أن يشغلوا بها، وينصبوا لتدبيرها) . وقال في ص 85: (إن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينية لا غير. وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا. وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية أم لا. فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول) . الدين الإسلامي بإجماع المسلمين ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عقائد وعبادات ومعاملات لإصلاح أمور الدنيا والآخرة. وإن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كلاهما مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا وأحكام كثيرة في أمور الآخرة. والشيخ علي في ص 78 و79 يزعم أن أمور الدنيا قد تركها الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تتحكم فيها عواطف الناس وشهواتهم. وفي ص 85 زعم أن ما جاء به الإسلام إنما هو المصلحة الأخروية لا غير، وأما المصلحة المدنية أو المصلحة الدنيوية، فذلك مما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول. وواضح من كلامه أن الشريعة الإسلامية عنده شريعة روحية محضة جاءت لتنظيم العلاقة بين الإنسان وربه فقط. أما ما بين الإنسان من المعاملات الدنيوية وتدبير الشؤون العامة؛ فلا شأن للشريعة به وليس من مقاصدها. وهل في استطاعة الشيخ علي أن يشطر الدين الإسلامي شطرين، ويلغي منه شطر الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا، ويضرب بآيات الكتاب العزيز وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عرض الحائط؟ وقد قال الشيخ عليّ في دفاعه: إنه لم يقل ذلك مطلقًا لا في الكتاب ولا في غير الكتاب، ولا قال قولاً يشبهه أو يدانيه. وقد علمت أن ذلك واضح من كلامه الذي نقلناه لك , وقد ذكر مثله في مذكرة دفاعه. وقال في دفاعه أيضًا: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء بقواعد وآداب وشرائع عامة، وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر الحياة والأمم، فكان فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش والجهاد، وللبيع والمداينة والرهن، ولآداب الجلوس والمشي والحديث) . إلخ ص 84. غير أنه قال عقب ذلك ص 84 أيضًا: ولكنك إذا تأملت وجدت أن كل ما شرعه الإسلام وأخذ به النبي المسلمين من أنظمة وقواعد وآداب لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم ... إلى آخره. فآخر كلامه في الصحفة المذكورة يهدم كلامه، ولا ينفعه ركونه إلى حديث: (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما متع الكافر منها بشربة ماء) . وحديث: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) ، لأن الحديث الأول ضعيف لا يصلح حجةً , وهو على فرض صحته وارد في معرض التزهيد في الدنيا وعدم الإفراط في طلبها، وليس معناه كما يزعم الشيخ عليّ أن تترك الناس فوضى تتحكم فيهم العواطف والشهوات ليس لهم حدود يقفون عندها، ولا معالم ينتهون إليها. ولو لم يكن معناه كما ذكرنا؛ لهدم آيات الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا، وصادم آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) ، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (المائدة: 87) . ولأن الحديث الثاني وارد في تأبير النخل وتلقيحه، ويجري فيما يشبه ذلك من شؤون الزراعة وغيرها من الأمور التي لم تجئ الشريعة بتعليمها، وإنما تجيء لبيان أحكامها من حل وحرمة، وصحة وفساد ونحو ذلك، يعلم ذلك من له صلة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهل يجترئ الشيخ علي أن يسلخ الأحكام المتعلقة بأمور الدنيا من الدين، ويترك الناس لأهوائهم ويقول: (إن ذلك من الأغراض الدنيوية التي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون له فيها حكم وتدبير) ، ويدعي على النبي صلى الله عليه وسلم هذه الدعوى. وهل يرى الشيخ علي أن تدبير أمور الدنيا، وسياسة الناس أهون عند الله من مشية يقول الله في شأنها: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً} (الإسراء: 37) ، وأهون عند الله من شيء من المال يقول الله في شأنه: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} (النساء: 5) ويقول أيضًا: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ} (الإسراء: 29) ، وأهون عند الله من صاع شعير أو رطل مل

الإنكليز والحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإنكليز والحجاز لا يزال الساسة الإنكليز على افتضاح أمرهم وانتهاك سرائرهم، يعبثون بالشعوب الإسلامية، ولا سيما في البلاد التي أفسدها نفوذهم فيها، وقد جرأتهم غفلة هذه الشعوب وخيانة الكثير من أكابر مجرميها لها على الإسراع في القضاء الأخير على الإسلام والمسلمين الذين يعتقدون أن لا يتم لهم إلا بالاستيلاء على الحجاز، وقد بدؤوا السعي لذلك باصطناع الشريف حسين بن علي وأولاده، فأطمعوهم بأن يجعلوهم خلفاء وملوكًا في البلاد العربية الحجاز وغيره تحت حمايتهم وفي معدة إمبراطوريتهم المستعدة لهضم العالم كله، فرضوا وخدموهم بجد وإخلاص حتى تم لهم احتلال البلاد العربية من البحر الأحمر إلى شط العرب فخليج فارس، وكان نفوذهم في الحجاز نفسه أقوى منه في غيره؛ حتى كان الملك حسين إذا استاء منهم يرفع استقالته إلى الحكومة البريطانية رسميًّا، وينشر ذلك في جريدته (القبلة) كما نقلناه عنها مرارًا. ٍ إن أولاد حسين صغار النفوس كبار الشهوات، همهم اللذة وحب الفخفخة الظاهرة، لذلك رضي فيصل وعبد الله منهم بالملك والإمارة الصورية في خدمة الإنكليز، وأما حسين فكبير النفس، عاشق للحكم والسلطان الاستبدادي، واسع الطمع، زاهد في الشهوات البدنية، فلذلك لم يكن راضيًا من الإنكليز بحصرهم سلطته في الحجاز، وظل يطالبهم بما وعدوه من تأسيس مملكة عربية واسعة تحت حمايتهم حتى ملوا وسئموا منه، ولم يبالوا بإخراج الوهابية إياه من الحجاز بعد علمهم بكره العالم الإسلامي له، وعدم طمعهم بخدمة جديدة يسديها إليهم. ثم أرادوا أن يستفيدوا من التنازع على الحجاز، فساوموا سلطان نجد، فأبى الدخول في المساومة معهم، ورد مندوبهم مستر (فلبي) بخفي حنين، وأعلن رأيه الرسمي في الحجاز وهو تفويض أمر شكل الحكم فيه وإصلاحه إلى رأي مؤتمر إسلامي عام، مع عدم السماح لأدنى نفوذ أجنبي أن يصل إليه. وأما حسين وأولاده فتربصوا بهم الحاجة إلى المال والذخيرة، وساوموهم على منطقة العقبة ومعان من شمالي الحجاز فرضوا ببيعها لهم باسم الانتداب، وجعلها من إمارة عبد الله، فطلبوا خروج (الملك) حسين منها؛ إذ بقاؤه فيها يسوغ للوهابيين مهاجمتها، فتمنع ظاهرًا أو باطنًا لعدم رضاه بمكان آخر يقيم فيه أو ظاهرًا فقط - الله أعلم - ثم رضي بالخروج منها بعد إنذار حقيقي أو صوري - الله أعلم - ثم خرج منقادًا كالجمل الأنف، ولو لم يخرج لما استطاعوا إخراجه إلا بحرب ولن ترضى الحكومة البريطانية بأن تحاربه هنالك، وستكشف الأيام سر هذه المسألة. وأما أولاده علي وعبد الله وكذا فيصل - وقد استشير - فكانوا كلهم راضين، ولكن عليًّا اشترط بل اقترح أن يرجع والده إلى جدة؛ ليتمتع هو بأمواله ونفوذه فلم يجب إلى اقتراحه، وقد أصدر (إرادته السنية) بفصل المنطقة من (مملكته) الحجازية، وإلحاقها بمنطقة شرق الأردن، وذكر في نص الإرادة أن التسليم يكون بعد خروج (الخليفة الأعظم) منها إلى جدة. ثم أصدر الأمير عبد الله (إرادته السنية) بضم المنطقة الحجازية إلى (إمارته) ، والاحتفال بذلك رسميًّا، ونشر نص الإرادتين في جريدة (الشرق العربي الرسمية) وفي غيرها من الجرائد السورية، (وقد نقلناهما في جزء المنار الثالث م26) . تم بذلك للإنكليز الاستيلاء على أهم بقعة حربية برية بحرية من أرض الحجاز المقدسة باسم الانتداب الجديد الذي كان من حقوقه عندهم إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وصاروا على مقربة من المدينة المنورة، كل هذا والشعوب الإسلامية وعلماء المسلمين لاهون غافلون، لم ترتفع أصواتهم بالاحتجاج على هذا العدوان الإنكليزي على الإسلام، ناسين وصية نبيهم - عليه أفضل الصلاة والسلام -، اللهم إلا صوتنا الضعيف في المنار وبعض الأصوات الشخصية المشابهة له. وأما أصحاب الأصوات العالية التي تتجاوب أصداؤها في الأقطار، وتطير بها البرقيات كل مطار، لما لها من الصفة الرسمية أو شبه الرسمية؛ كالملوك، والأمراء، ورؤساء الهيئات العلمية، والزعماء، فقد ظلوا صامتين - اللهم إلا جمعية العلماء وجمعية الخلافة في الهند - كأن أمر اعتداء الإنكليز على الحجاز أمر عادي لا يؤبه له. ومن العجيب أن وجد في رجال الإنكليز المشهورين أنفسهم من أنكروا على حكومتهم حق ضم شيء من أرض الحجاز إلى منطقة الانتداب، ولم يوجد من أمراء المسلمين وحكوماتهم ولا من جماعاتهم الرسمية من فعل ذلك. إن هؤلاء لا يجهلون أن وضع الإنكليز أقدامهم بقرب المدينة المنورة بحجة حماية شرق الأردن من الوهابيين أو غيرهم سيحملهم على الاستيلاء على المدينة المنورة نفسها لحماية العقبة ومعان، ثم الاستيلاء على مكة؛ لأجل حماية المدينة المنورة، فأين أنتم أيها المسلمون وأين وصية رسولكم - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته؟ وأعجب من هذا السكوت والسكون أن الإنكليز مع هذا العدوان على الإسلام يهيجون الشعوب الإسلامية على السلطان ابن السعود الذي أعلن رسميًّا أنه يمنع أي نفوذ أجنبي أن ينفذ إلى الحجاز، ويحملونهم على الانتصار للشريف علي الذي وهب لهم منطقة من الحجاز حربية بحرية برية، فأذاعوا في العالم أن الوهابيين أطلقوا رصاصهم أو نارهم على قبة الحرم النبوي الشريف، وأنهم هدموا قبر حمزة - رضي الله تعالى عنه -، وهي فرية افتراها سماسرة الشريف علي بمصر، ونشروها في المقطم؛ فطارت بها البرقيات البريطانية، ودبر وفد الشريف علي في بمبي (الهند) فتنة، هيجوا بها بعض الغوغاء في المسجد ببرقية مزورة من القدس على الزعيم الكبير شوكت علي رئيس جمعية الخلافة؛ لمقاومته للاستبداد الإنكليزي في الهند، والعدوان على الإسلام والمسلمين [1] . وقد طيرت البرقيات البريطانية خبر هذه الفتنة المدبرة، فلم يبق قطر إسلامي إلا ونشرته فيه، وقد أظهر شيخة الجرائد البريطانية تعجبها من سكوت المصريين وعدم تهيجهم على ابن السعود، فعلم بهذا من لم يكن يعلم أن غرضها من ذلك هو التهييج، ومساعدة الشريف علي على الوهابية بالدعاية الباطلة. إن (التيمس) تعلم أن كذبها وكذب البرقيات الإنكليزية والسياسة البريطانية نفسها قد صارت مضرب الأمثال عند المسلمين وغيرهم، ولا سيما إذا كانت في الأمور الإسلامية، وآخرها زعمها أن الرأي الإسلامي العام بمصر مؤيد للشيخ علي عبد الرازق في زعمه أن حكومة الإسلام لا دينية، وفي إهانته للإسلام والمسلمين المفيدة لسياستهم في الاستعمار، ودعوة مبشريهم إلى تنصير المسلمين. ولم ينس المسلمون الأكاذيب الحجازية البريطانية التي أذيعت قبل موسم الحج لصرف المسلمين عن أداء الفريضة، كقولهم: إن أساطيل الحجاز تمنع الحجاج من النزول في ثغري رابغ والقنفذة، وأن جنود الحجاز تقطع عليهم الطريق إذا أمكنهم النزول، وإنهم مع ذلك لا يجدون ماءً ولا قوتًا، ثم ظهر أن ذلك كذب صادر عن سوء نية، فقد ذهب الألوف من أهل الهند الذين لم يصدقوا الإنكليز ولا دعاة الشريف علي، ونزلوا في تلك الثغور، وأدوا الفريضة بأمان واطمئنان وراحة لم يسبق لها نظير. مع هذا كله اغتر بعض الناس بخبر المدينة المنورة؛ فانتدب جلالة مليكنا العظيم بحكمته، وكشف للأمة الغطاء عن الحقيقة ببرقيته إلى السلطان ابن السعود، وما جاءه من الجواب المكذب لتلك الفرية [2] فقطعت جهيزة قول كل خطيب، وظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون اهـ. *** ما نشره الديوان الملكي في الجرائد بعنوان بين الحجاز ومصر ديوان جلالة الملك: (1) صورة البرقية المرسلة من حضرة صاحب الجلالة الملك إلى عظمة السلطان عبد العزيز سلطان نجد في 11 صفر سنة 1344 -30 أغسطس سنة 1925. عظمة السلطان عبد العزيز سلطان نجد: إن الحرب القائمة حول المدينة المنورة قد أقلقت خواطر المسلمين قاطبة؛ لما عساه يحدث من تأثيرها في الأماكن النبوية المقدسة التي نجهلها جميعًا؛ ونحافظ على آثارها الكريمة، ولا يخفى على عظمتكم ما لهذه الأماكن من الحرمة التي توجب أن تكون بعيدة عن كل أذى، رغم ما يقتضيه أي نزاع أو خلاف، ولكن ما نعهده في شديد غيرتكم الدينية لما يطمئن قلوبنا والمسلمين عامة على صيانة الحرم النبوي الشريف، وآثار السلف الصالح الدينية. والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فؤاد (2) صورة البرقية الواردة من عظمة السلطان عبد العزيز سلطان نجد إلى حضرة صاحب الجلالة الملك في 16 صفر سنة 1344 - 4 سبتمبر سنة 1925. حضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم الملك فؤاد دامت معاليه: إني أشكركم من صميم فؤادي على غيرتكم الدينية، وإني أقدر ما شرحتموه حق قدره - إن حرم المدينة كحرم مكة نفديه بأرواحنا وكل ما نملك، وإن ديننا يحمينا من الإتيان بأي حدث في المدينة المنورة، وسنحافظ على آثار السلف وكل ما هو في المدينة مما يهم كل مسلم المحافظة عليه - إن العدو يحاول أن يشوه وجهة جهادنا بما يفتريه من الكذب والبهتان، يحاول أن ينال بالبهتان ما عجز عنه بالسنان، ولكن الحق أبلج، والله مؤيد دينه، وآخذ بناصر أهله ولو كره المبطلون، هذا وأرجو أن تقبلوا تحياتي واحتراماتي. ... عبد العزيز بن عبد الرحمن السعود (3) صورة البرقية الواردة من جلالة الملك علي ملك الحجاز إلى حضرة صاحب الجلالة الملك في 13 صفر سنة 1344 (أول سبتمبر سنة 1925) . صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر المعظم: أهدي لجلالتكم الملوكية أعظم الشكر على غيرتكم الإسلامية الجديرة بذاتكم العلية ومقامكم السامي، فيما رغبتم فيه من تنزه البقاع المقدسة عن أن تكون ساحة قتال، ولا يستكثر ذلك على سليل محمد علي الكبير الذي سبقت له خدمة هذه الديار المباركة من قبل، وفي مثل هذه الكارثة نفسها مادة ومعنى، ونبرأ إلى الله أن يكون أحد منا - نحن أبناء الحرمين الشريفين - أراد القتال أو أخذ على الاستمرار فيه، سواء ذلك في مكة المشرفة أو المدينة المنورة، ونسجل على المتسبب مسؤولية ما تهدم منها من آثار، وما لا يزال يصيبها من أذى كجعل القبة الخضراء النبوية هدفًا للرصاص، وسائر قبب وقبور أهل البيت في البقيع، وتخريب مسجد سيدنا حمزة، وهدم ضريحه الشريف طبقًا للأساس الذي قام عليه المذهب الوهابي المعلوم، وبهذه المناسبة نؤكد لجلالتكم أننا قائمون بالواجب الديني والوطني من بذل النفس والنفيس في صيانة ما بقي من تلك الآثار، وترميم ما خرب منها؛ حتى يتم إخراج المعتدي - بحول الله وقوته - من الوطن المقدس كله، ونثق أن العالم الإسلامي يشد أزرنا في ذلك، وفي مقدمتهم جلالتكم الملوكية بصفتكم أكبر ملوك المسلمين وأعزهم غيرة على الله والدين. أدام الله جلالتكم مؤيدين بالتوفيق والنصر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي (المنار) نشر الديوان الملكي هذه البرقيات الثلاث في الجرائد بهذا الترتيب، وقد راب المفكرين علم الشريف علي بالبرقية المرسلة إلى سلطان نجد قبل وصولها إليه وجوابه عنها، وجعلها وسيلة للدعاية الهاشمية التي كانت أساس ما يدعيه من امتلاك الحجاز الذي ترتب عليه بيعه منطقة من أعظم مناطقه البرية البحرية للإنكليز؛ بجعلها تحت الانتداب البريطاني على فلسطين وشرق الأردن، كما كانت أساس ادعاء أبيه الملك على جميع البلاد العربية والخلافة على الأمة الإسلامية. ولا يزال الشريف علي هذا وأخوته متمسكين بخلافة أبيهم إذ نص في صك بيعه منطقة العقبة ومعان للإنكليز، أنه يشت

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (س6-36) من صاحب الإمضاء في بيروت حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي الأنام الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: فإني أرفع لفضيلتكم الأسئلة الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها، ولسيادتكم من الله تعالى جزيل الأجر، ومني عظيم الشكر. (1) هل رفع الحجاب عن وجوه المسلمات الحرائر، وإظهار أكفهن ظهرًا وبطنًا إلى الكوعين [*] خارج الصلاة في الطرقات والأسواق والمجتمعات العامة، جائز في الشريعة الإسلامية أم لا؟ (2) وهل صوت المرأة الأجنبية المسلمة الحرة عورة، يحرم على الرجال سماعه أم لا؟ (3-6) وهل التزيي بلبس القبعة (ما يسمونها بالبرنيطة) للرجل المسلم حرام أو مكروه أم لا؟ فإذا قلتم: حرام أو مكروه. فما الدليل على الحرمة أو الكراهة؟ وهل يجوز للرجل المسلم أن يتزيا بلبس البدلة الإفرنجية (ما يسمونها بالسترة والبنطلون) أم لا؟ وهل تجوز صلاة الرجل المسلم وهو متزيٍّ بلبسها بلا حرمة ولا كراهة، سواء كان إمامًا أو مأمومًا، أو منفردًا أو خطيبًا للجمعة والعيدين أم لا؟ وهل للمسلمين من الرجال والنساء زي مخصوص يلبسونه أم لا؟ فإذا قلتم: إن لهم زيًّا مخصوصًا يلبسونه فما هو شكله وكيفيته؟ أرجو التفضل ببيان ذلك. (7-8) وهل السكروتة (ما يسمونها بالستكروزة) من الدودة أم من النبات؟ وهل يحرم لبسها كالحرير للرجال أم لا؟ وهل حرمة التحلي بلبس الحرير للرجال من الكبائر أم من الصغائر؟ (9-13) وما هي الحرمة الكبيرة والصغيرة؟ وما كيفية عذابهما؟ وهل يتفاوتان في العذاب أم لا؟ وهل عذاب القبر للروح والجسد معا أم هو للروح فقط , وهل يكون العذاب مستمرًا دائمًا أم منقطعًا؛ أي: يرتفع ويعود وهكذا أم لا؟ (14-16) وما قولكم دام فضلكم في رجل مسلم مؤمن بالغ عاقل حر قتل نفسًا مسلمة مؤمنة بالغة عاقلة حرة عمدًا بغير حق، ولم يقاصص في الحياة الدنيا لا بدفع الدية ولا بغيرها مطلقًا وعليه أيضًا ديون ومظالم وخيانات وسرقات وكذب وغش لأناس ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا. ما حكمه في ذلك كله يوم القيامة؟ هل يعذب في قبره بسبب ذلك كله أم عذابه في الآخرة فقط؟ وهل إذا تاب إلى الله تعالى في الحياة الدنيا من ذلك كله تقبل منه التوبة ولا يعذبه في قبره ولا في الآخرة أم لا؟ (17) وهل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين أم لا - وما معناهما - وهما: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون الله فيغفر لهم) - رواه الإمام مسلم. (كل شيء يقدر حتى العجز والكيس) ، رواه الإمامان مسلم وأحمد. أرجوكم أن لا تحيلونا على فتاوى سبقت لكم في مجلدات مجلة المنار بهذا الخصوص، حيث إنه لم توجد لدينا مجلدات مجلة المنار مطلقًا. تفضلوا بالجواب، ولكم الأجر والثواب. (المنار) إننا نجيب عن هذه المسائل بشيء من الإجمال لبعض مباحثها، ومن التكرار لبعض معانيها، ولما سبق لنا من تفصيل القول في أكثرها. *** كشف وجه الحرة وكفيها نقل الحافظ ابن عبد البر وغيره أن المسلمين قد أجمعوا على أن على المرأة أن تكشف وجهها في الصلاة والإحرام، ومن المعلوم أن مدة الإحرام طويلة تبتدئ من الميقات المعين، وتنتهي بأداء النسك من حج أو عمرة، وأن النساء كن ولا يزلن يشاركن الرجال في أعمال فرائض النسك وواجباته، وأنهن كن يصلين مع الرجال، ويتوضأن حيث يتوضؤون في باقي الأوقات والأحوال، فالستر الذي فرض عليهن في أثناء الصلاة والنسك هو أكمل الستر وأتمه؛ لأنه يكون في أفضل المجامع الدينية المشتركة بينهن وبين الرجال، ولا ينافي ذلك كونهن يصلين صلاة الجماعة خلف الرجال، وأنهن قد يفرد لهن المطاف فيطفن وحدهن؛ إذ من المعلوم بالضرورة أنهن يقبلن على المساجد في الحالة التي يصلين فيها أو يطفن، فيراهن الرجال، وأنهن يتنقلن مع الرجال من مواقيت الإحرام إلى مكة، ومنها إلى عرفات والمزدلفة ومنى. ولا بأس بأن ننقل هنا ملخص مذاهب علماء الأمصار في المسألة في الصلاة وخارجها عن كتاب المفتي للشيخ الموفق الحنبلي، فإنه كتاب في فقه الإسلام لا في فقه الحنابلة وحدهم، قال (ص641ج1) : لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة، وأنه ليس لها كشف ما عدا وجهها وكفيها، وفي الكفين روايتان، واختلف أهل العلم، فأجمع أكثرهم على أن لها أن تصلي مكشوفة الوجه، وأجمع أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها الإعادة، وقال أبو حنيفة: القدمان ليسا من العورة؛ لأنهما يظهران غالبًا فهما كالوجه، وإن انكشف من المرأة أقل من ربع شعرها أو ربع فخذها أو ربع بطنها لم تبطل صلاتها. وقال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة؛ لأن ابن عباس قال في قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) : الوجه والكفين. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى المحرمة (أي بالحج أو العمرة) عن لبس القفازين والنقاب. ولو كان الوجه والكفان عورة لما حرم سترهما، ولأن الحاجة تدعو إلى كشف الوجه للبيع والشراء، والكفين للأخذ والإعطاء، وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة؛ لأنه قد روي في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المرأة كلها عورة) ، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. لكن رخص لها في كشف وجهها وكفيها لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة؛ لأنه مجمع المحاسن اهـ، ومثله في الشرح الكبير (ص 462ج1) . وذكر الإمام الشوكاني في نيل الأوطار خلاف هذه المذاهب وغيرها، فقال: (وقد اختلف في مقدار عورة الحرة، فقيل: جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين، وإلى ذلك ذهب الهادي والقاسم في أحد قوليه، والشافعي في أحد أقواله، وأبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه، ومالك. وقيل: والقدمين وموضع الخلخال: (أي: كالوجه والكفين) ، وإلى ذلك ذهب القاسم في قول وأبو حنيفة في رواية عنه، والثوري وأبو العباس، وقيل: بل جميعها إلا الوجه، وإليه ذهب أحمد بن حنبل وداود , وقيل: جميعها بدون استثناء، وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي، وروى عن أحمد. وسبب اختلاف هذه الأقوال ما وقع من المفسرين من اختلاف في تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (النور: 31) اهـ. أقول: بل هنالك أسباب أخرى كما تقدم عن المغني، وأقواها ما كان معروفًا في الصدر الأول من معاملة النساء للرجال في البيع والشراء والشهادة، وخدمتهن لجرحى الحرب، وإنما ورد النهي عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية وعن متابعة نظر الشهوة. وفي حديث ابن عباس من صحيح البخاري وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف الفضل بن العباس خلفه في سفر حجة الوداع، فعرضت له صلى الله عليه وسلم امرأة خثعمية جميلة تسأله، فطفق الفضل ينظر إليها، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذقن الفضل يحول وجهه عن النظر إليها. وفي رواية الترمذي للقصة أن العباس قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لويت عنق ابن عمك؟ فقال: (رأيت شابًّا وشابة فلم آمن عليهما الفتنة) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر المرأة بستر وجهها، ولم يأمرها ولا أمر الفضل بعدم نظر كل منهما إلى الآخر، إلا أنه حول وجه الفضل عنها؛ لما رآه يتعمد إطالة النظر إليها فعلم أنه عن شهوة. ولذلك ورد أن النظرة الأولى للمرء والثانية عليه، وهذا بعد نزول آية الحجاب بخمس سنين، وقد استدل به من السنة العملية، على أن الحجاب المنصوص في سورة الأحزاب خاص بنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو صريح الآيات، ولا سيما قوله تعالى في أولها: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} (الأحزاب: 32) إلخ. وتعليلهم المتقدم لكون الوجه والكفين لا يجب سترهما بالحاجة إلى كشفهما للبيع والشراء والأخذ والإعطاء، وبما في التغطية من المشقة؛ صريح في عدم قصر كشفهما على حال الصلاة. ومن حرم كشف الوجه والكفين من الفقهاء - كالنووي من الشافعية - عللوه بخوف الفتنة، وهو أمر عارض لا أصل ولا غالب في النظر، فهو يراعى في الأحوال التي هي مظنة الفتنة، وليست دائمة ولا غالبة، فإن البر والفاجر من جماهير الناس يرون أبرع النساء جمالاً في شوارع الأمصار العامة، ولا يكاد يفتتن أحد منهم برؤيتهن، على أن الكثيرات منهن يخرجن متبرجات بكل ما أباحته حرية الفسق من زينة وتهتك وإغراء، وإنما يفتتن بعض الفجار الذين يبحثون عن الفواجر، فمن يريد التحري لدينه من رجل وامرأة فلا يخفى عليه، ما كان مظنة الفتنة الواجب عليه اجتنابها والبعد عن مواقف الشبهة ومواضع الريبة. ولم يكن الأمر بالستر في عصر التشريع إلا لأجل هذا، وقد أبيح للإماء كشف رؤوسهن مع وجوههن، ومن العلماء من قال: إن عورة الأمة كعورة الرجل، ما بين السرة والركبة، وربما كانت الفتنة فيهن أشد؛ لأن الوصول إليهن أيسر، والعفة فيهن أقل وأضعف، ويجب عليهن ما يجب على الحرائر من صيانة أعراضهن، ويحرم عليهن من الفجور ووسائله ما يحرم عليهن، ولا يقول فقيه بإباحة تعرضهن للفتنة، فإذا وجدن في مكان يتعرض فيه الفجار لهن فعليهن أن يسترن رؤوسهن ووجوههن أيضًا وإلا فلا. وإنا لنعلم أن المتفرنجين من المسلمين يبغون برفع أدب الحجاب عن المسلمات التوسل إلى مثل إباحة نساء الإفرنج كما فعل الترك، فليحذر المسلمون الحريصون على دينهم وأعراضهم وأنسابهم ذلك، فإن الخوف من هذه العاقبة هو الذي يحمل أهل الدين - من صنف العلماء وغيرهم - على إطلاق القول: بوجوب كذا من الحجاب، وتحريم كذا من السفور مثلاً. والتحريم والتحليل الدينيان حق الرب وحده على عباده فهو يتوقف على النص، والنص عام وخاص، ومطلق ومقيد، وتطبيق النصوص على الوقائع والنوازل أعسر مسلكًا من معرفة النصوص وفهم معانيها، ولذلك ورد في الحديث (استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك) رواه أحمد والدارمي وأبو يعلى من حديث وابصة مرفوعًا. وأما صوت المرأة فليس بعورة فما زال النساء يكالمن الرجل في إفادة العلم واستفادته، حتى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي المحاكمات والشهادات والمبايعات وغير ذلك من المعاملات: كخطبة النكاح، وكذا الخطب السياسية بغير نكير. وقال الله لنساء نبيه في آيات الحجاب: {فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْروفاً} (الأحزاب: 32) . *** مسائل اللباس والزي قد حققنا هذه المسألة في كتابنا (الحكمة الشرعية) الذي هو أول مؤلفاتنا، ثم عدنا إليه في المنار مرارًا، وصفوة القول فيه: إن الدين الإسلامي لم يفرض ولم يحرم على المسلمين زيًّا مخصوصًا، بل ترك هذا وأمثاله من العادات إلى اختيار الناس، والإسلام دين عام فرضه الله تعالى على جميع الناس كما تراه مفصلاً في تفسير هذا الجزء، وما يصلح لهم من اللباس في بعض الأقطار لا يصلح في غيرها، ولكن شرعه حرم عليهم الضرر والضرار، فليس لمسلم أن يرتكب ما يضر نفسه ولا ما يضر غيره، فاجتناب الضرر والضرار قيد تقيد به جميع المباحات لذاتها من أكل وشرب ولباس وصناعة وزراعة وغير ذلك، فمن علم بالتجربة أو بقول الطبيب الصادق أن أكل الخبز أو شرب الم

مواد المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مواد المنار تتزاحم المواد على المنار بتزاحم الأحداث والجوائب في العالم الإسلامي، فتضيق صحائفه بها وبمواده الثابتة، فنضطر إلى ترك بعض ما بدأنا قبل إتمامه أو تأخيره، كنا شرعنا في كتابة بحث طويل في مسألة ترجمة القرآن المجيد؛ لإقدام الحكومة التركية على تنفيذ ما اقترحه بعض ملاحدتهم اللادينيين في أواخر عهد الدولة العثمانية التي قضوا عليها، فما عتم أن فاجأنا اللادينيون في مصر بكتاب (الإسلام وأصول الحكم) ، فصرفنا فضل وقتنا إلى السعي؛ لدمغ باطله، وإبطال ضلالته، وإظهار ما انطوى عليه من الكفر الخفي والجلي، وتأليب علماء المسلمين وعامتهم عليه، فكتبنا في ذلك عدة مقالات ضاق عنها المنار؛ فنشر بعضها في جريدة اللواء وبعضها لما ينشر، كما عقدنا مجالس لذلك حضرها بعض علماء الأزهر، وأساتذة المدارس العليا وغيرهم، ونشرنا صورة حكم هيئة كبار العلماء على مؤلفه بطرده من علماء الأزهر، وما ترتب عليه من حكم الحكومة بطرده من المحاكم الشرعية، وسنعود إلى ما تركنا بحسب الحاجة.

أسرار البلاغة أو فسلفة البيان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسرار البلاغة أو فلسفة البيان (تابع لما نشر في الجزء الخامس) وإذا ثبت هذا الأصل وهو أن تصوير الشبه بين المختلفين في الجنس مما يحرك قوي الاستحسان، ويثير الكامن من الاستظراف، فإن التمثيل أخص شيء بهذا الشان، وأسبق جار في هذا الرهان، وهذا الصنيع صناعته التي هو الإمام فيها، والبادئ لها والهادي إلى كيفيتها، وأمره في ذلك أنك إذا قصدت ذكر ظرائفه وعد محاسنه في هذا المعنى، والبدع التي يخترعها بحذقه، والتأليفات التي يصل إليها برفقه، ازدحمت عليك، وغمرت جانبيك، فلم تدر أيها تذكر، ولا عن أيها تعبر، كما قال: إذا أتاها طالب يستامها ... تكاثرت في عينه كرامها وهل تشك في أنه يعمل عمل السحر في تأليف المتباينين حتى يختصر بعد ما بين المشرق والمغرب، ويجمع ما بين المشئم والمعرق [1] ، وهو يريك للمعاني الممثلة بالأوهام شبهًا في الأشخاص الماثلة، والأشباح القائمة، وينطق لك الأخرس، ويعطيك البيان من الأعجم، ويريك الحياة في الجماد، ويريك التئام عين الأضداد، فيأتيك بالحياة والموت مجموعين، والماء والنار مجتمعين، كما يقال في الممدوح: هو حياة لأوليائه، موت لأعدائه، ويجعل الشيء من جهة ماءً ومن أخرى نارًا كما قال: أنا نار في مرتقى نظر الحا ... سد ماء جارٍ مع الإخوان وكما يجعل الشيء حلوًا مرًّا، وصابًا عسلاً، وقبيحًا حسنًا، كما قال: حسن في عيون أعدائه أقـ ... ـبح من ضيفه رأته السوام [2] ويجعل الشيء أسود أبيض في حال كنحو قوله: له منظر في العين أبيض ناصع ... ولكنه في القلب أسود أسفع [3] ويجعل الشيء كالمقلوب إلى حقيقة ضده كما قال: غرة بهمة ألا إنما كنـ ... ت أغرًّا أيام كنت بهيمًا [4] ويجعل الشيء قريبًا بعيدًا معًا كقوله: دانٍ على أيدي العفاة وشاسع وحاضرًا وغائبًا كما قال: أيا غائبًا حاضرًا في الفؤاد ... سلام على الحاضر الغائب ومشرقًا مغربًا كقوله: له إليكم نفس مشرقة ... إن غاب عنكم مغربًا بدنه وسائرًا مقيمًا كما يجيء في وصف الشعر الحسن الذي يتداوله الرواة، وتتهاداه الألسن، كما قال القاضي أبو الحسن: وجوابة الأفق موقوفة ... تسير ولم تبرح الحضرة وهل يخفى تقريبه المتباعدين، وتوفيقه بين المختلفين، وأنت تجد إصابة الرجل في الحجة وحسن تخليصه للكلام، وقد مُثلت تارة بالهناء ومعالجة الإبل الجربى به [5] , وأخرى بحز القصاب اللحم، وإعماله السكين في تقطيعه وتفريقه في قولهم: (يضع الهناء مواضع النُقب (وهو الجرب) ، ويطبق المفصل) [6] ، فانظر هل ترى مزيدًا في التناكر والتنافر على ما بين طلاء القطران، وجنس القول والبيان، ثم كرر النظر، وتأمل كيف حصل الائتلاف، وكيف جاء من جمع أحدهما إلى الآخر ما يأنس إليه العقل ويحمده الطبع، حتى إنك لربما وجدت لهذا المثل إذا أورد عليك [7] في أثناء الفصول، وحين تبين الفاضل في البيان من المفضول، قبولاً، ولا ما تجد عند فوح المسك ونشر الغالية [8] ، وقد وقع ذكر الحز والتطبيق منك موقع ما ينفي الحزازات عن القلب، ويزيل أطباق الوحشة عن النفس، وتكلف القول في أن للتمثيل في هذا المعنى المدى الذي لا يجارى إليه، والباع الذي لا يطاول فيه، كالاحتجاج للضرورات، وكفى دليلاً على تصرفه فيه باليد الصناع، وإيفائه على غايات الابتداع، أنه يريك العدم وجودًا والوجود عدمًا، والميت حيًّا والحي ميتًا، أعني: جعلهم الرجل إذا بقي له ذكر جميل وثناء حسن بعد موته كأنه لم يمت، وجعل الذكر حياة له كما قال: (ذكرة [9] الفتى عمره الثاني) ، وحكمهم على الخامل الساقط القدر الجاهل الدنيء بالموت، وتصييرهم إياه - حين لم يكن ما يؤثر عنه، ويعرف به - كأنه خارج عن الوجود إلى العدم، أو كأنه لم يدخل في الوجود. ولطيفة أخرى له في هذا المعنى هي - إذا نظرت - أعجب، والتعجب بها أحق ومنها أوجب، وذلك جعل الموت نفسه حياة مستأنفة، حتى يقال: إنه بالموت استكمل الحياة في قولهم: (فلان عاش حين مات) يراد: الرجل تحمله النفس الأبية وكرم النفس والأنفة من العار على أن يسخو بنفسه في الجود والبأس، ففعل ما فعل كعب بن مامة [10] في الإتيان على نفسه، أو ما يفعله الشجاع المذكور من القتال دون حريمه، والصبر في مواطن الإباء، والتصميم في قتال الأعداء، حتى يكون له يوم لا يزال يذكر، وحديث يعاد على مر الدهور ويُشهر، كما قال ابن نباتة: بأبي وأمي كل ذي ... نفس تعاف الضيم حرهْ يرضى بأن يرد الردى ... فيميتها ويعيش ذكره وإنه ليأتيك من الشيء الواحد بأشباه عدة، ويشتق من الأصل الواحد أغصانًا في كل غصن ثمر على حدة، نحو أن الزند بإيرائه [11] يعطيك شبه الجواد، والذكي الفطن وشبه النجح في الأمور والظفر بالمراد وبإصلاده [12] شبه البخيل الذي لا يعطيك شيئًا، والبليد الذي لا يكون له خاطر ينتج فائدة ويخرج معنى، وشبه من يخيب سعيه ونحو ذلك. ويعطيك [13] من القمر الشهرة في الرجل والنباهة والعز والرفعة، ويعطيك الكمال عن النقصان والنقصان بعد الكمال، كقولهم: (هلال نما فعاد بدرًا) يراد بلوغ النجل الكريم المبلغ الذي يشبه أصله من الفضل والعقل وسائر معاني الشرف كما قال أبو تمام: لهفي على تلك الشواهد منهما ... لو أمهلت حتى تصير شمائلا لغدا سكونهما حجًى وصباهما ... كرمًا وتلك الأريحية نائلا [14] إن الهلال إذا رأيت نموه ... أيقنت أن سيصير بدرًا كاملا وعلى هذا المثل بعينه يضرب مثلاً في ارتفاع الرجل في الشرف والعز من طبقة إلى أعلى منها كما قال البحتري: شرف تزيَّد بالعراق إلى الذي ... عهدوه بالبيضاء أو ببلنجرا [15] مثل الهلال بدا فلم يبرح به ... صوغ الليالي فيه حتى أقمرا ويعطيك شبه الإنسان في نشأته ونمائه إلى أن يبلغ حد التمام، ثم تراجعه إذا انقضت مدة الشباب، كما قال: المرء مثل هلال حين تبصره ... يبدو ضئيلاً ضعيفًا ثم يتسق [16] يزداد حتى إذا ما تم أعقبه ... كر الجديدين نقصًا ثم ينمحق وكذلك يتفرع من حالتي تمامه ونقصانه فروع لطيفة، فمن ذلك قول ابن بابك: وأعرت شطر الملك شطر كماله ... والبدر في شطر المسافة يكمل [17] قاله في الأستاذ أبي علي، وقد استوزره فخر الدولة بعد وفاة الصاحب وأبا العباس الضبي، وخلع عليهما [18] . وقول أبي بكر الخوارزمي: أراك إذا أيسرت خيمت عندنا ... مقيمًا وإن عسرت زرت لماما [19] فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه ... أغب وإن زاد الضياء أقاما المعنى لطيف، وإن كانت العبارة لم تساعده على الوجه الذي يحب، فإن الإغباب أن يتخلل وقتي الحضور وقت يخلو منه، وإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نوره لم يوالِ الطلوع كل ليلة، بل يظهر في بعض الليالي ويمتنع من الظهور في بعض، وليس الأمر كذلك؛ لأنه على نقصانه يظهر كل ليلة حتى يكون السرار. وقال ابن بابك في نحوه: كذا البدر يسفر في تمه ... فإن خاف نقص المحاق انتقب وهكذا ينظر إلى مقابلته الشمس واستمداده من نورها، وإلى كون ذلك سبب زيادته ونقصه وامتلائه من النور والائتلاف، وحصوله في المحاق، وتفاوت حاله في ذلك، فيصاغ منه أمثال ويبين أشباه ومقاييس، فمن لطيف ذلك قول ابن نباتة: قد سمعنا بالغر من آل ساسا ... ن ويونان في العصور الخوالي والملوك الأولى إذا ضاع ذكر ... وُجدوا في سوائر الأمثال مكرمات إذا البليغ تعاطى ... وصفها لم يجده في الأقوال وإذا نحن لم نضفها إلى مد ... حك كانت نهاية في الكمال إن جمعناهما أضر بها الجمـ ... ـع وضاعت فيه ضياع المحال فهو [19] كالشمس بُعدها يملأ البـ ... ـدر وفي قربها محاق الهلال وغير ذلك من أحواله كنحو ما خرج من الشبه من بعده وارتفاعه [20] ، وقرب ضوئه وشعاعه، في نحو ما مضى من قول البحتري: (دان على أيدي العفاة) البيتين. ومن ظهوره بكل مكان، ورؤيته في كل موضع كقوله: كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نورًا ساطعا في أمثال كذلك تكثر، ولم أعرض لما يشبه به من حيث المنظر، وما تدركه العين نحو تشبيه الشيء بتقويس الهلال ودقته، والوجه بنوره وبهجته، فأنا في ذكر ما كان تمثيلاً، وكان الشبه فيه منويًّا. *** فصل آخر وإن كان مما مضى إلا أن الأسلوب غيره، وهو أن المعنى إذا أتاك ممثلاً فهو في الأكثر ينجلي لك بعد أن يحوجك إلى طلبه بالفكرة، وتحريك الخاطر له والهمة في طلبه، وما كان منه ألطف، كان امتناعه عليك أكثر، وإباؤه أظهر، واحتجابه أشد. ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى، وبالميزة أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف، وكانت به أضن وأشغف، وكذلك ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ كما قال: وهن ينبذن [21] من قول يصبن به ... مواقع الماء من ذي الغلة الصادي وأشباه ذلك مما ينال بعد مكابدة الحاجة إليه، وتقدم المطالبة من النفس به، فإن قلت: فيجب على هذا أن يكون التعقيد والتعمية، وتعمد ما يكسب المعنى غموضًا مشرفًا له وزائدًا في فضله، وهذا خلاف ما عليه الناس، ألا تراهم قالوا: إن خير الكلام ما كان معناه إلى قلبك، أسبق من لفظه إلى سمعك، فالجواب: إني لم أرد هذا الحد من الفكر والتعب، وإنما أردت القدر الذي يحتاج إليه في قوله: فإن المسك بعض دم الغزال ... وقوله: وما التأنيث لاسم الشمس عيب ... ولا التذكير فخر للهلال وقوله: رأيتك في الذين أرى ملوكًا ... كأنك مستقيم في محال وقول النابغة: فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقوله: [22] فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب وقول البحتري: ضحوك إلى الأبطال وهو يروعهم ... وللسيف حد حين يسطو ورونق وقول امرئ القيس: بمنجرد قيد الأوابد هيكل [23] ... وقوله: ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة قارح الأقدام [24] فإنك تعلم على كل حال أن هذا الضرب من المعاني كالجوهر في الصدف لا يبرز لك إلا أن تشقه عنه، وكالعزيز المحتجب لا يريك وجهه حتى تستأذن عليه؛ ثم ما كل فكر يهتدي إلى وجه الكشف عما اشتمل عليه، ولا كل خاطر يؤذن له في الوصول إليه، فما كل أحد يفلح في شق الصدفة، ويكون في ذلك من أهل المعرفة، كما ليس كل من دنا من أبواب الملوك فتحت له وكان: من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ... وهاب رجال حلقة الباب قعقعوا [25] أو كما قال: تفتح أبواب الملوك لوجهه ... بغير حجاب دونه أو تملق وأما التعقيد فإنما كان مذمومًا؛ لأجل أن اللفظ لم يرتب الترتيب الذي بمثله تحصل الدلالة على الغرض، حتى احتاج السامع أن يطلب المعنى بالحيلة، ويسعى إليه من غير الطريق كقوله: وكذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل وإنما ذم هذا الجنس؛ لأنه أحوجك إلى فكر زائد على المقدار الذي يجب في مثله [26] وكدك بسوء الدلالة، وأودع المعنى لك في قالب غير مستو ولا مملس، بل خشن مضرس، حتى إذا رمت إخراجه منك عسر عليك، وإذا خرج خرج مشوه الصورة ناقص الحسن. هذا , وإنما يزيد الطلب فرحًا بالمعنى وأنسًا به وسرورًا بالوقوف عليه إذا كان لذلك أهلاً، فأما إذا كنت معه كالغائص في البحر يحتمل المشقة العظيمة، ويخاطر بالروح، ثم يخرج الخرز، فالأمر بالضد مما بدأت به؛ ولذلك كان أحق أصناف التعقيد بالذم ما يتعبك ثم لا يجدي عليك، ويؤرقك ثم لا يروق لك، وما سبيله إلا سبيل البخيل الذي يدعوه لؤم في نفسه، وفساد في حسه، إلى أن لا يرضى بضعته في بخله، وحرمان فضله، حتى يأبى التواضع ولين القول؛ فيتيه ويشمخ بأنفه، ويسوم المتعرض له بابًا ثانيًا من

كلمة في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة في فوائد كتابي المغني والشرح الكبير (تابع ما قبله) بعد هذا التمهيد أقول: إن للمسلمين في هذين الكتابين (المغني والشرح الكبير للمقنع) بضع فوائد: (إحداها) : أنهم باطلاعهم على أدلة الأحكام يكونون على حظ من البصيرة في دينهم، كما وصف الله تعالى رسوله وأتباعه بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) . (ثانيتها) : أن المتلقي لأحكام دينه من فقه أي مذهب من المذاهب المدونة يخرج باطلاعه على أدلتها في الكتابين من ربقة الجمود على التقليد المحض المذموم في القرآن، إلى الاتباع المقرون بالبصيرة الذي اشترطه الأئمة فيمن يتلقى العلم عنهم كما تقدم. (ثالثتها) : أن من اطلع على أقوال أئمة السلف وعلماء الأمصار أصحاب المذاهب المختلفة وأدلتهم عليها، بالطريقة التي جرى عليها صاحب المغني وتلميذه صاحب الشرح الكبير من احترام الجميع، وتقديم الأقدم في التاريخ على غيره في الذكر غالبًا يكون جديرًا باحترام جميع العلماء وجميع المذاهب، وعدم جعل المسائل الخلافية سببًا للتفرق أو التعادي بين المسلمين، ولا للتفاضل المفضي إلى ذلك، فإن المقلد لأي واحد منهم ينبغي أن يقتدي به في سيرته وهديه. (رابعتها) أن يعلم أن من أدلتهم ومداركهم ما هو مستند إلى نصوص الكتاب والسنة القطعية أو الظنية، وما مستنده القياس أو الاستنباط من القواعد العامة أو الخاصة بمذهب دون مذهب: كالمصالح عند المالكية وغيرهم، والاستحسان عند الحنفية، وبهذا يعلم غلط من زعم أن المسلمين استمدوا أحكام المعاملات من القوانين الرومانية، ومن زعم أن جميع ما يذكر في كتب الفقه هو من شرع الله المنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم - حتى رتب عليه بعضهم أن من أنكر شيئًا منه أو اعترض عليه يكون مرتدًّا عن الإسلام، وفي بعض هذه الكتب أن من عمل عملاً يعد في العرف إهانة لشيء من هذه الكتب أو لورقة فتوى عالم يحكم بردته، ويقتل إذا لم يتب، ولا يُصَلَّى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يرثه أولاده؛ لأنه أهان شرع الله، ويلزم منه كذا وكذا! ! بل قال: إن إهانة العالم كفر؛ لأنها إهانة للشرع إلخ، فهذه تشديدات ردها المحققون. والحق أن أكثر ما في كتب الفقه مسائل اجتهادية، وآراء ظنية مستنبط بعضها من أقوال فقهائهم، أو من علل دقيقة من علل القياس ينكر مثلها أكثر علماء السلف الصالح، فهي تحترم كما يحترم ما يخالفها في المذاهب الأخر على سواء، من باب احترام العلم واستقلال الرأي، وعدم جعل الخلاف ذريعة للعداوة والبغضاء في الأمة الواحدة المأمورة بالاتفاق والاعتصام. ولكن لا يتخذ شيء منها من قواعد الإيمان، ولا يعد مخالفه كافرًا ولا عاصيًا لله تعالى، سواء كان مستدلاًّ أو مقلدًا لغيره في مخالفتها، ولا يجعل ضعف شيء منها مطعنًا في أصل الشريعة، كما يفعل ذلك بعض أعداء الإسلام، بل يستعان بمجموعها على التيسير على الناس. كان كبار علماء الصحابة والتابعين وغيرهم من مجتهدي السلف يتحامون أن يسموا ظنونهم الاجتهادية حكم الله وشرع الله، بل كان أعظمهم قدرًا وأوسعهم علمًا يقول: هذا مبلغ علمي واجتهادي، فإن كان صوابًا فمن الله وله الفضل، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، وكان مما يوصي به النبي - صلى الله عليه وسلم - أمير الجيش أو السرية قوله: (وإذا حاصرت حصنًا فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا) رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه، وقال ابن القيم في أعلام الموقعين: لا يجوز للمفتي والحاكم أن يقول: هذا حكم الله أو أحل الله أو حرم الله؛ لما يجده في كتابه الذي تلقاه عمن قلده , وذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية حضر مجلسًا ذكرت فيه قضية، وقيل: حكم فيها بحكم الله، فقال: بل حكم فيها برأي زفر بن الهذيل. هذا في عصور التقليد المحض، ولقد صرنا إلى عصر كثر فيه استقلال الفهم والرأي مع قلة الإلمام بعلوم الدين، فصارت دعوى كون كل ما في تلك الكتب الفقهية من دين الله وأحكامه التي خاطب بها عباده , منفرة عن دين الله تعالى، وسببًا للارتداد والإلحاد، فينبغي أن يقال: إنها مستندة إلى الشرع؛ باشتمالها على نصوصه، وجعلها هي الأصل، وببناء الاجتهاد فيها على أصول ثبتت فيه، ولكن كل اجتهاد يحتمل الخطأ كما يحتمل الصواب. (خامستها) أن الذي يقرأ الكتابين أو يراجع المسائل فيهما يقف على مسائل الإجماع، وهي الواجبة قطعًا على جميع المسلمين، فلا يسع أحدًا منهم ترك شيء منها إلا بعذر شرعي، والواجب أن تراعى في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين المسلمين كافة على الإطلاق، وأما المسائل الخلافية فإنما يؤمر بالواجب أو المندوب، وينهى عن المحرم أو المكروه منها، من يعلم أن المأمور أو المنهي موافق له في اعتقاده، سواء كانت الموافقة عن دليل أو عن اتباع مذهب من المذاهب، أو كان يرجو قبول قوله فيه أو دليله عليه، وقد صرحوا بأنه ليس للشافعي أن يأمر الحنفي بالوضوء من لمس المرأة، أو أن ينكر عليه الصلاة إذا لم يتوضأ منه، وما أشبه ذلك , ومنها وهو المراد مما قبله أنها هي الجامعة بين المسلمين، والمناط للاتفاق والوحدة التي تقتضيها أخوة الإيمان، وهو أهم ما نقصد إليه من كتابتنا هذه. (سادستها) أنه يعلم من أدلة المذاهب أن جل الأحاديث التي يحتج بها أهل الحديث على أهل الرأي وعلى القياسيين من علماء الرواية هي من أحاديث الآحاد، التي لم تكن مستفيضة في العصر الأول أو نقل عن الصحابة والتابعين خلاف في موضوعها، فعلم بذلك أنها ليست من التشريع العام الذي جرى عليه عمل النبي وأصحابه، وليست مما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغ الشاهد فيه الغائب، بل كانت مما يرد كثيرًا في استفتاء مستفتٍ عرضت له المسألة فسأل عنها فأجيب، ولعله لو لم يسأل لكان في سعة من العمل باجتهاده فيها، ولكان خيرًا له وللناس، إذ لو كانت من مهمات الدين التي أراد الله تكليف عباده إياها لبينها لهم من غير سؤال، فإنه تعالى أعلم بما هو خير لهم، وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكره كثرة السؤال ونهى عنها؛ لئلا تكون سببًا لكثرة التكاليف؛ فتعجز الأمة عن القيام بها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، ورواه الدارقطني من وجه آخر، وقال: فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) الآية. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله فرض فرائض فلا تعتدوها، وحد حدودًا فلا تقربوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها) رواه الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا حسنه الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه والنووي في الأربعين، وله شواهد في مسند البزار ومستدرك الحاكم وصححه وغيرهما. وفوق كل هذا قول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، ومن الجهل الفاضح والجناية على الدين أن نهدم هذه القواعد والأصول القطعية بأقيسة من ظنون الرأي والقياس، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجيب كل مستفت بما يناسب حاله، وأن بعض فتاواه كانت رخصًا خاصة أو عامة، ومن ذلك أنه رخص لعقبة بن عامر ولأبي بردة بن نيار بأن يضحي بالجذع (أو العتود) من المعز، وهو ما رعى وقوي وأتى عليه حول، وقال الجوهري: وخيره ما بلغ سنة. والحديث متفق عليه والجمهور، ومنهم الأئمة الأربعة، يمنعون التضحية بالجذع من المعز، ومنه على قول حديث طلق بن علي: إنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يمس ذكره أعليه وضوء؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: (إنما هو بضعة منك) رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، والدارقطني، وصححه بعضهم، واختلفوا في التصحيح والترجيح بينه وبين حديث بسرة عند الخمسة أيضًا (من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ) ، والمحققون من أهل الحديث على ترجيح حديث بسرة، وأما العمل فقد روي الخلاف فيه عن بعض كبار الصحابة والتابعين وأهل البيت وعلماء الأمصار. وحمل الشيخ عبد الوهاب الشعراني الحديثين في ميزانه على مرتبتي التخفيف والتشديد: أي العزيمة والرخصة كما فعل في جميع مسائل الخلاف، وعلل ذلك بعلل بعضها معقول، وبعضها لا يعرف مثله إلا عن جماعته الصوفية: ككون سؤر الكلب يقسي قلب من شربه، أو شرب من الإناء الذي ولغ فيه قبل غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، وقد وافقه علماء عصره في مصر على قاعدته في إرجاع جميع مسائل الخلاف إلى المرتبتين، وكون أصلها كلها مستمدة من عين الشريعة على ما في توجيه الكثير منها من البعد، ولعله لرضاهم عن بناء ذلك على الاعتراف بأن جميع الأئمة المجتهدين على هدى من ربهم؛ وهذا حق من حيث إن المجتهد إذا أصاب كان له أجران، وإذا أخطأ كان له أجر واحد كما ورد في الحديث الصحيح، ولكن لا يمكن أن يكون كل اجتهاد صوابًا وهدى، وكل قول قاله مجتهد حقًّا، وأما العزائم والرخص في الشريعة فحق لا ريب فيه، وفي الحديث المرفوع (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) رواه أحمد وابن حبان والبيهقي وصححوه، وهو عام، وليست العزائم للخواص والرخص للعوام، إلا من حيث الخلق والطبع، لا الشرع، وأظهر المسائل في قاعدة الشعراني ما يدخل في أبواب الطهارة، فإن القطعي منها في القرآن أن الماء مطهر وطهور، وأن الله يحب المتطهرين، وأن طهارتي الوضوء والغسل فرضان وشرطان للصلاة، وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: 4) ، وقوله في القرآن {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) ، وأن التيمم واجب عند تعذر استعمال الماء لفقده أو للمرض. وأما السنة فلم يرد فيها تفصيل قطعي لأعيان النجاسات وأنواع المطهرات، وكان الأعرابي يجيء من البادية؛ فيسلم، فيعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفسه أو يأمر أصحابه بتعليمه ما أوجب الله عليه من الوضوء والغسل والتيمم وأركان الإسلام، وحديث الأعرابي الذي هو عمدة الفقهاء في تحديد أركان الإسلام مشهور. ولو كان هنالك نجاسات حكمية تطهيرها تعبدي تتوقف معرفتها على نصوص تفصيلية خاصة؛ لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تلقينها للأعرابي وأمثاله، كسائر قواعد العبادة التي كان يتعلمها كل من أسلم، ويبلغه الشاهد الغائب، كما كانوا يعلمونهم الوضوء والغسل والصلاة مثلاً، ولم تترك النصوص المجملة الواردة في الطهارة وطلب النظافة بغير بيان تفصيلي، والذي يفهمه أهل لغة الشرع من ذلك الإطلاق هو طلب التنزه عن جميع الأقذار، والتطهر مما يصيب البدن أو الثوب أو المكان منها؛ ليكون المؤمن نظيف الظاهر بقدر ما يتيسر له حسب حاله واجتهاده، كما يجعله الإيمان نظيف الباطن - فالنجس في اللغة هو المستقذر الذي تنفر منه الطباع، ولفظ النجس لم يرد في القرآن إلا في قوله تعالى: {إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا

الخطر على الحجاز وعلى الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخطر على الحجاز وعلى الإسلام (1) في أوائل هذا الصيف ألمَّ بالقاهرة رجل سوري كان يشغل عملاً مهمًّا في حكومة الشريف علي بجدة، فشرح لنا ما وصلت الحال هنالك من القلة والعسرة واليأس من كل شيء إلا من الإنكليز، وقال: إنه علم أن الشريف علي بن الحسين استغاث بالمعتمد الإنكليزي، وعرض عليه أن يطلب من دولته مساعدته على سلطان نجد، على أن يكون الحجاز كله تحت الحماية الإنكليزية.. . وأن المعتمد وعده بالكتابة إلى حكومته بذلك، وكتب بالفعل، قال الراوي: وقد سافرت قبل مجيء الجواب، فإن جاء بعدم القبول فلا شك عندي في أن الملك عليًّا يفر من جدة مبحرًا إلى حيث يعلم الله تعالى، وتسقط في أيدي الوهابيين، وإن جاء بالقبول تدخل المسألة في طور جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى. وأقول: قد سبق للشريف علي مثل هذا العرض كما علمنا من الوفد الهندي الذي كان عنده في جدة في العام الماضي، ولكن المعتمد قال له يومئذ: إن حكومته على الحياد. ثم حدثني رجل آخر من الثقات أنه سمع من لسان الشيخ عبد الملك الخطيب في الإسكندرية يوم أَلمَّ بها الملك فيصل، أن وزارة الداخلية المصرية بلغته أنها قررت إلغاء الحجز على الذخائر الحربية الهاشمية المحجوزة في السويس، وأن الحجز عليها كان بإيعاز من الإنكليز لوزير الداخلية إسماعيل صدقي باشا (كان) ، فعلمت أن هذه الحكومة الماكرة عادت إلى التدخل في أمر الحجاز بمساعدة صنائعها وملوكها حسين بن علي وأولاده على سلطان نجد، بل على الشعب العربي والأمة الإسلامية. وأما السبب في هذا فليس رضا الشريف علي بجعل الحجاز تحت الحماية الإنكليزية على قواعد والده حسين التي سماها (مقررات النهضة) فقط، بل السبب الأول المباشر هو بيعه للإنكليز أهم منطقة حجازية حربية، وهي منطقة العقبة ومعان المجاورة للمدينة المنورة مع اليأس من سلطان نجد أن يسمح بأن يكون لهم أدنى نفوذ في الحجاز أو غيره من بلاد العرب، وهذا أمر قد أصبح قطعيًّا؛ إذ صرح به السلطان عبد العزيز آل سعود في منشوراته الرسمية، ومنها المنشور الذي صدر بمكة المكرمة في آخر ذي الحجة الحرام الماضي، ونشر في جريدة أم القرى، ونقلته عنها أكثر الجرائد المصرية، وناهيك بتصريحه فيه وفيما سبقه بأن حكومة الحجاز تدار بالنظام الشرعي الذي يقرره المؤتمر الإسلامي العام، الذي اقترحه هو منذ تصديه لإنقاذ الحجاز من سلطة حسين الشخصية التي عرف فسادها العالم كله، حتى إن ولي عهده الشريف عليًّا وأنصاره القليلين الذين بايعوه تقربوا إلى العالم الإسلامي بزعمهم (أنهم خلعوا حسينًا ونصبوا عليًّا ملكًا دستوريًّا على الحجاز) . وهم كاذبون ومخادعون في دعوى الخلع وفي دعوى الحكومة الدستورية. لم يكتف الإنكليز بالعود إلى مساعدة هذا البيت المسخر لهم بالمال والسلاح كما بدؤوا في زمن الحرب الكبرى، بل أنشؤوا يساعدونه على الدعاية الإفسادية في العالم الإسلامي؛ لتنفيره من الوهابية، وعطفه على البيت الحجازي الذي استولوا بمساعدته على القدس الشريف والعراق، وأنشبوا براثنهم في قلب الجزيرة العربية، وبدؤوا يلتهمون الحجاز لقمة بعد لقمة. أعلن ابن السعود بأنه أرسل جيشًا إلى المدينة المنورة؛ لإخراج الحامية الهاشمية التي فيها بالحصر دون القتال، ولما كان يعلم أن خصومه يتهمون جيشه بأنهم إذا استولوا على المدينة المنورة يهدمون الروضة المشرفة وقبة الحرم المعظم، سبق إلى نفي هذه التهمة والتبرؤ منها، فقال في آخر منشوره الرسمي الذي نشره، عند إرسال الجيش المذكور ما نصه: (إن أعداءنا يشيعون أننا إذا استولينا على المدينة نهدم روضة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحاشا أن تحدث نفس مسلم بذلك، إنني أفتديها بنفسي وولدي ومالي ورجالي) إلخ. ولكن هذا الاحتياط لا يزيد خصومه إلا جرأة على الكذب والاختلاق، فكما أنهم اخترعوا للنجديين عقائد يتبرؤون منها، كذلك يختلقون لهم أعمالاً يتبرؤون منها، ولذلك قلت في تعليقي على هذا المنشور في منار آخر شهر المحرم: وأصدر هذا المنشور؛ ليعلم العالم الإسلامي بغرضه الشريف، وليحتاط لبهتان دعاية الشريف علي، ويتقي اتهامه بضرب المدينة أو حرمها المنيع لو دخلها فاتحًا، وقد يكون هذا الاحتياط مغريًا لا مانعًا من التهمة، بل يستحل علي وقواده فعل ذلك؛ ليتهموا الوهابيين به كما فعل والده (حسين) ؛ إذ أمر بضرب الكعبة المشرفة بالنار، واتهم بذلك الترك اهـ. إنني لست أريد بهذا المقال الانتصار لسلطان نجد على الشريف علي ولا الطعن بهذا والدفاع عن ذاك، بل أريد تنبيه العالم الإسلامي إلى الخطر الأكبر وهو استيلاء الأجنبي على مهد دينهم وقبلته ومشاعره وحرم الله ورسوله، واستعانته على ذلك بعوام المسلمين وبعض خواصهم الدنيويين المسخرين لخدمته، والذين لولا أمثالهم لم يستول على الهند، ولا على مصر، ولا على القدس والشام والعراق. وإني لأعرِّض نفسي بهذا التنبيه والتذكير لبلاء عظيم على ضعف أملي باستفادة جماهير المسلمين من نصحي وتذكيري كما يجب، فالعامة قتلها الجهل، والخرافات كعبادة القبور، ومعظم خاصة أهل الدنيا قتلهم جهل شر من جهل العامة، وفساد شر من فسادها، فأصبحوا آلات بأيدي الأجانب يسخرونهم؛ لهدم مجد دينهم ودنياهم، كما سخروا أمراء الهند وملوكهم في فتحها لهم، ثم سخروا بعض كبراء المصريين في احتلال مصر وشركتها في السودان، وفي استمرار هذا الاحتلال والاستئثار بالسودان، ثم سخروا الملك حسينًا والملك فيصلاً والملك عليًّا والأمير عبد الله، ولا يزالون يسخرونهم في سبيل امتلاكهم للبلاد العربية، وكما تسخر فرنسة سلطان مراكش اليوم في هدم قوة أبناء جلدته ووطنه ودينه الريفيين، وهي ما فتحت سلطنته إلا بمسلمي الجزائر، وما فتحت الجزائر من قبل إلا بمساعدة سلفه الصالحين من سلاطين مراكش. إن لدى سلطان نجد جندًا يفوق جند الريف المغربي أضعافًا مضاعفة في العدد، ولا يقل عنه في الشجاعة والصبر عن القتال، بل ربما يفوقه فيهما أيضًا، وإنما ينقصه النظام الحديث والأسلحة العصرية، وما هما عن متناوله ببعيد لو فطن سلطانه لذلك وأقدم عليه، وهذا هو الذي يخشاه الإنكليز الطامعون في امتلاك جزيرة العرب بعد استيلائهم على ما جاورها من البلاد العربية الخصبة؛ ليقتلوا الإسلام وقوم محمد - عليه الصلاة والسلام - في عقر دارهم ومهد دينهم، وقد أعياهم استخدام سلطان نجد وإمام اليمن في هذه السبيل، كما استخدموا الشريف حسينًا وأولاده، فهم يكيدون لهما المكايد. وقد كان آخر خدمة عملية خدمهم بها البيت الهاشمي جعله هذه المنطقة الحربية من أرض الحجاز (العقبة ومعان) تابعة لما يسمونه الانتداب البريطاني، وآخر دعوة لهم إلى التدخل في أمر الحجاز ما كتبه الشريف حسين من قبرص إلى الحكومة الإنكليزية يطالبها بالتدخل الفعلي في أمر الحجاز وإخراج النجديين منه وفاءً بوعدها له - كما لخصته جريدة كوكب الشرق في هذا الأسبوع عن بعض الصحف الإنكليزية - فأي مسلم يؤمن بالله ورسوله، ويغار على قبلته وشعائر دينه يرضى أن يكون لأحد من أهل هذا البيت أدنى سلطة في الحجاز؟ قلت: إن الإنكليز عادوا إلى مساعدة البيت الهاشمي حتى في نشر الدعاية لخداع العالم الإسلامي. وقد بدئت هذه الدعاية بفرية نشرها وكيل الشريف علي بمصر في المقطم، وهي أن الوهابيين قد جعلوا قبة الحرم النبوي الشريف والروضة الطاهرة هدفًا للرصاص، ولم تقل هذه الدعاية على ما نعهد من إسرافها في الكذب: إنهم رموها بالمدافع ولا أنهم أصابوها بسوء. وقد ثبت رسميًّا أنه ليس معهم مدافع، ومن المعقول ما قاله لنا ضابط مغربي كان في مدفعية الجيش الهاشمي بالمدينة وهو أن رصاص بنادق الوهابية يستحيل أن يصل إلى قبة الحرم الشريف؛ لأنهم يعسكرون في مكان بعيد عن العمران؛ لئلا تصيبهم مدافع حصون المدينة، على أنهم مأمورون رسميًّا بعدم إطلاق النار على شيء منها، ويعلمون أن رميها يضرهم ولا ينفعهم. ولكن شركة روتر البريطانية نشرت هذه الفرية في العالم الإسلامي كله وكبرتها تكبيرًا، وكان سماسرة الإنكليز في كل قطر يشرحونها ويثيرون بها الفتن، فيصدقهم كثير من المسلمين الغافلين الجاهلين، فأوهموهم أن الوهابيين يريدون تدمير الحرم النبوي بمدافعهم، بل أذاعوا في بعض الأقطار البعيدة كإيران أنهم دمروه بالفعل. فقد علمنا مما جاء من أخبار الهند العامة في جرائدها، والخاصة بنا وببعض معارفنا أن وفد الشريف علي الذي كان أرسله؛ لبث الدعاية في الهند قد اتفق مع جماعة أغاخان رئيس الإسماعيلية وغيرهم من الشيعة الباطنية والظاهرية كالخوجة والبهرة.. . على إثارة الفتنة في المساجد، واستخدموا بالدراهم بعض المعدين لذلك في كل مكان، فأعدوا لها الخطب والأدعية والاستغاثات، وساعدهم بعض الوجهاء المناوئين لجمعية الخلافة كأمين صندوقها السابق الذي أكل مئات الألوف من أموالها، وصار بعد ذلك عدوًّا لها، وتربص بها الدوائر؛ للطعن في رئيسها وأعضائها، وتشويه سمعتهم كما شوهوا سمعته بخيانته لها. فقد كتب إلينا أديب سائح من (بمباي) أنه تعجب من وجود هؤلاء الباطنية في المسجد، ومشاركتهم للمسلمين في الصلاة والدعاء على الوهابية، مع أنهم لا يصلون صلاتنا، ولا يتوجهون إلى قبلتنا، ولا يحجون، ولا يزورون قبر الرسول- صلى الله عليه وسلم - مع عبادتهم لمن يزعمون عصمتهم وألوهيتهم من آل بيته؛ ولكن لا عجب فإذا كان معبود هؤلاء (آغاخان) عبدًا للإنكليز قضى حياته في خدمتهم، فكيف يكون عبيد العبد؟! ومما يدل على أن الفتنة إنكليزية ما نشره أحد دعاة الشريف علي في المقطم عن تأثير الدعاية في عدن وما حولها من تهامة اليمن، واحتجاج السلاطين البريطانيين هنالك، فقد قال الكاتب في أول رسالته: إن الأخبار التي وصلت عن أحوال بلدة نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد تركت إخواننا في عدن اليمن، وفي هياج عظيم، فقد احتج عظمة سلطان لحج (؟) ، والشيخ فضل بن عبد الله سلطان العقارب (؟) ، وسلطان الحواشب (؟) ، وسلاطين يافع والعوالق (؟) - ما أكثر أسماء السلاطين عند الإنكليز! - وجميع أمراء العرب على الفعل الشنيع الذي ارتكبه رجال ابن سعود في حصارهم المدينة المنورة، ولا عبرة بتكذيب وكيل ابن سعود، بل إن هذه عقيدتهم إلخ. نقول: أين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام والملوك الفخام عندما انتهك الشريف حسين حرمة حرم الله - عز وجل - وقاتل الترك في بطن بكة مع قول الرسول الأعظم - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة (إنها أحلت له ساعة من نهار ولن تحل لأحد من بعده) أظن أن خدمته الإنكليز بذلك نسخت هذا الحديث عندهم. وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما حاصر الشريف حسين وأولاده المدينة المنورة والترك فيها، كما يحاصرها الوهابيون اليوم؟ أيحلون له ذلك؛ لأنه كان يحارب الترك بأمر الإنكليز وسلاحهم ومالهم؟ ويحرمونه على ابن السعود؛ لأنه يريد أن تكون هي وسائر الحجاز بمنجاة من النفوذ الإنكليزي تحت رعاية العالم الإسلامي؟ وأين كان هؤلاء السلاطين البريطانيون العظام عندما هدد الشريف علي كل من يقصد أداء فريضة الحج في الموسم الأخير بالقتل، وزعم أن أساطيله بالمرصاد لكل سفينة تحمل الحجاج إلى ثغور الحجاز الخاضعة للوهابيين: ا

أحوال العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحوال العالم الإسلامي ابن سعود وإنكلترة (تأخر نشرها) ترجمت جريدة ألف با الدمشقية عن جريدة (لاسيري) الإفرنسية أن السلطان ابن سعود كتب إلى إنكلترة طالبًا التصديق على المطالب الآتية: (أ) أن تترك إنكلترة ابن السعود ينهي أمره بأسرع ما يمكن مع الملك علي وجدة. (ب) أن تعترف بصورة رسمية بسيادته على الحجاز واستقلال نجد استقلالاً تامًّا، ذاك الاستقلال الذي حذف بعض مواده في الاتفاق الذي عقده مع إنكلترة عام 1915. (ج) أن تقبل إنكلترة بوضع الحجاز تحت سلطته بعد انتصاره التام على الملك علي، ويتعهد لقاء ذلك أن يشكل بصورة دائمة في مكة حكومة وطنية تعترف إنكلترة باستقلالها التام، ويكون لابن السعود السلطة التامة في تعيين من يشاء لمكة، أما فيما يتعلق بدستور الحجاز الإداري والديني فإنه يترك أمر تقريره إلى ممثلي الدول الإسلامية، الذين ينتخبون لجنة يعهد إليها أمر تطبيق الدستور المذكور. (د) أن تترك إنكلترة له حق تعيين ممثلي حكومة لوندرة في العراق وشرقي الأردن وفلسطين والبصرة والكويت. (هـ) أن تعترف له بإطلاق لقب الجلالة عليه نظير اعترافها بلقب أمير الأفغان والملك فيصل. (و) أن تضع حدًّا لنشر الدعاية ضده في الهند والعراق والبلاد الأخرى الواقعة تحت النفوذ الإنكليزي، والتي تمثل الوهابيين كزنادقة. فردت عليه إنكلترة مقدمة له المطالب التالية: - (أ) بقاء الحالة على ما هي عليه في شبه جزيرة العرب وتبذل جهودها في الحصول عليه خلا ما يتعلق بالحجاز طبعًا، ويتعهد ابن السعود أن لا يقسم شبه جزيرة العرب إلى منطقتي نفوذ، يختص المنطقة الشمالية بنفسه والمنطقة الثانية بصديقه الإمام يحيى إمام اليمن، وأن لا يعقد مع الإمام يحيى محالفة ما، بل يجب عليه بالعكس أن يعقد محالفة مع خصم الإمام يحيى؛ أي: مع سعيد بن علي الإدريسي إمام العسير، وأن يدعمه عند الحاجة. (ب) أن يعدها ابن سعود بأن لا يهاجم شرق الأردن ولا معان والعقبة وتبوك، وهي الأراضي التي انضمت مؤخرًا إلى شرقي الأردن؛ أي: أن يحترم البلاد الواقعة تحت الانتداب الإنكليزي. (ج) أن يحترم وأن يحمي السكة الحديدية التي تصل شرقي الأردن بالمدينة ليؤمن طريق الحج. (د) أن لا يقوم بأي حركة عدائية على حدود العراق الجنوبية. (هـ) أن لا يهتم مطلقًا بالمسائل المتعلقة بإمارات خليج فارس، وبنوع خاص إمارتي الكويت والبحرين. (المنار) نقل هذا الخبر بعض الصحف السورية والمصرية بما فيه من تحريف وغلط، فالتحريف كالتعبير عن الكويت بالكوفة، والغلط كالتعبير عن الإدريسي وإمارته بسعيد ابن علي إمام العسير، والصواب السيد علي بن محمد علي أمير تهامة اليمن، فإن منطقة عسير تابعة لسلطنة نجد بمقتضى اتفاق سابق مع المرحوم السيد محمد علي الإدريسي وسلطان نجد، ومنها مطالب حرف (د) والظاهر أن المراد منه أن يكون لنجد ممثلون في تلك البلاد. وقد ارتابت بعض الجرائد في صحة هذا الخبر، ولكن المطالب المعزوة إلى الفريقين هي التي تتبادر إلى الأذهان، وإن أعلن سلطان نجد لا يبغي ضم الحجاز إلى بلاده، فالظاهر أن الكاتب الفرنسي صورها بما ذكر إذا لم يكن للخبر أصل، وقد بينا في مقال آخر ما يبغي الإنكليز من سلطان نجد، ونزيد على ذلك موافقة الكاتب على أنهم يودون لو يعادي إمام اليمن؛ لتتمكن إنكلترة من تهديد كل منهما بالآخر أو حملهما على القتال لتفني هذه القوة الباقية في جزيرة العرب بأيدي أهلها، وقد قيل: إن دسائسهم فعلت هذه المرة فعلتها في إمام اليمن، فأغرته بالتحرش بسلطان نجد، بعد أن عجزت عن إغراء هذا به، وإنه تصدى هذا بدسائسها للتدخل في مسألة الحجاز وفاقًا لما كان يزعم المقطم من قبل، فإن صح هذا ولا نخاله صحيحًا يكون الإمام يحيى قد فقد أكبر فضيلة له عند العالم الإسلامي، وهي عجز إنكلترة عن خداعه، وجعله آلة لمطامعها في جزيرة العرب، وطالما صرح المقطم بأنه صارح سلطان نجد بالعداء، وأنه سيرسل جنوده لمساعدة الشريف علي على إخراج الوهابيين من الحجاز، وكنا وما زلنا نسخر من هذه الدعاية لما عندنا من الأدلة على كذبها، وكونها ليست من مصلحة الإمام في شيء، فإن من أُسس سياسة الملك حسين جعل اليمن تابعة له كما صرح به في جريدة القبلة، وسلطان نجد لا يطلب الحجاز ولا اليمن نفسه، وهو أقدر على مهاجمة اليمن من جهة عسير وجهة الطائف من مهاجمة الإمام له في الحجاز التي لا فائدة له من تركها له، وأما مشاركة الإمام لغيره من حكام المسلمين وزعمائهم في تقرير أمر الحجاز وفاقًا لما دعا إليه سلطان نجد فمعقول، ولا بد للإمام من إرسال وفد؛ لحضور مؤتمر مكة، وقد كان كتب إلينا بعزمه على ذلك، فهذا أمر يقيني عندنا لا نصدق غيره عنه. ((يتبع بمقال تالٍ))

زيارة زعماء الهند لمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ زيارة زعماء الهند لمصر ابتهجت مصر في صيف هذا العام بزيارة بعض أكابر زعماء الهند لها، كما ابتهجت في الشتاء الماضي بإلمام وفد الهند الحجازي بها، وأسفت لعدم تمكنه من إطالة المقام فيها، وكان لصاحب هذه المجلة الحظ الأوفر من تلك الإلمامة، تمتع فيها بلقاء صديقه العلامة السيد سليمان الندوي ورفيقيه الكريمين مولانا الشيخ عبد الماجد العبدايوني والشيخ عبد القادر القصور. وأما ضيوفها في هذا الصيف فهم الحكيم محمد أجمل خان الدهلوي الملقب بمسيح الملك، والنواب أمير الدين حاكم ولاية لاري المستقلة في إدارتها، والدكتور أحمد مختار الأنصاري، وكانوا قد سافروا من الهند إلى أوربة، ثم افترقوا فيها؛ فجاء الحكيم محمد أجمل خان والنواب أمير الدين بمصر فأقاما فيها أيامًا، ثم سافر النواب إلى الهند، والحكيم إلى سورية الجنوبية (فلسطين) ، فالشمالية، فأقام فيها مدة متنقلاً بين مدنها وفي بعض قرى جبل لبنان ذات الهواء النقي والماء العذب الصافي، وأما الدكتور أحمد مختار الأنصاري فذهب من أوربة إلى بلاد الترك، ومنها إلى سورية، فمصر، فالهند، وبعد سفره من مصر عاد إليها الحكيم محمد أجمل خان، فأقام فيها بضعة أيام ثم عاد إلى الهند. وقد رحبت مصر بهؤلاء الضيوف الكرام، والزعماء الأعلام، ولا سيما الجماعات والأحزاب التي تخدم الشرق والإسلام، وفي مقدمة المرحبين المرجبين مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية ومجلس إدارة مؤتمر الخلافة العام، ومولانا الأستاذ العلامة مفتي الديار المصرية، والأستاذ العلامة الشيخ حسين والي السكرتير العام للأزهر والمعاهد الدينية ولمؤتمر الخلافة، وغيرهم من كبار العلماء الأعلام، ويلي جماعة العلماء جمعية الرابطة الشرقية، فقد قام رئيسها صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري الصديقي (شيخ مشايخ الصوفية) ، ووكيلها صاحب السعادة أحمد شفيق باشا بما يجب من الحفاوة والإكرام، ومن الأحزاب السياسية الحزب الوطني، وهو الحزب المصري الذي يعنى بشؤون العالم الإسلامي، ولا سيما مسلمي الهند دون غيره من الأحزاب المصرية. كل جماعة من هذه الجماعات قد رحبت بالزعماء الكرام، وأقام كبراؤها لهم المآدب الحافلة، ودارت بينهم المحاورات في شؤون الإسلام والمسلمين، ومسألة الخلافة، وغير ذلك من المسائل الدينية والسياسية والاجتماعية، وكذلك كان شأن هؤلاء الزعماء المخلصين في سائر البلاد الإسلامية التي زاروها في هذه الرحلة المباركة: أي البحث مع العقلاء من رجال الدين والمتمرسين بالسياسة في حاضر الإسلام ومستقبله. وأهم المسائل التي كانت موضوع أبحاث الزعماء مسألة استقلال جزيرة العرب، وحفظها من كل نفوذ أجنبي ولا سيما الحجاز، ومسألة الخلافة، ومسألة فشو الإلحاد بين النابتة الإسلامية المتفرنجة، ومسألة تغلب العصبية الجنسية على الوحدة الإسلامية. وقد كان لكاتب هذه السطور شرف تعريف العلماء وغيرهم بمكانتهم، وحظ خاص من لقائهم، والبحث معهم والتكريم لهم لأسباب: (أحدها) : العلاقة القديمة الراسخة بينه وبين مسلمي الهند عامة، والصداقة الشخصية بينه وبين بعض الزعماء (ولا سيما الحكيم محمد أجمل خان) ، تلك العلاقة التي كانت سبب دعوة جمعية ندوة العلماء إيانا سنة 132 هـ 1912م، إلى تولي الصدارة والرياسة لمؤتمر الندوة العام. (وثانيها) : أنه منذ بضع وعشرين سنة يبحث في هذه المسائل التي اشتد اهتمام زعماء مسلمي الهند بها في هذه الأيام، وله فيها المقالات والمباحث الكثيرة في 16 مجلدًا من المنار، وكان لهذه المباحث شأن عند الزعماء وجمهور المفكرين في الهند نشكره لهم، وله مؤلف مستقل، في مسألة الخلافة قد وعى كل ما يحتاج المسلمون إليه في أمرها وكل ما يتعلق به. (وثالثها) : أنه في مصر عضو عامل في الجماعات التي تشتغل بهذه المباحث الإسلامية: كمؤتمر الخلافة، وجمعية الرابطة الشرقية وغيرهما، أقول: فلهذه الأسباب كان حظي من لقاء الزعماء مما أشكره لهما أمام قراء المنار في العالم كله، وإن كنت مع هذا قد عاتبتهم بإدلال المحبة على قلة حظي منهم، وأقنعتهم بمقتضى المصلحة بالحاجة إلى زمن أوسع لتفصيل بعض المسائل لهم وتمحيصها معهم.

الإسلام في جاوه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام في جاوه!! نقلت جريدة الوفاق العربية عن جريدة (هندياباروا) التي تصدر في (بتاوي) عاصمة جاوه الهولندية بلغة البلاد نبأً غريبًا مغزاه: أن الحكومة الهولندية قد بلغ من اضطهادها للمسلمين أن تراقبهم في صلاتهم، وتجعلها متوقفة على إذنها، ذلك أن (ألاسستين رصدين) حاكم مدينة جكجه، دعا إليه الزعيم المسلم الحاج فخر الدين رئيس الجمعية المحمدية وبعض أعضائها، وناقشهم الحساب على إقامتهم لصلاة العيد وخطبته في زكاة الفطر، وقال لهم: إنه كان يجب عليهم أن يطلبوا رخصة من الحكومة بالاجتماع للصلاة وإلقاء الخطبة، وقد ذكرت الجريدة المحاورة التي دارت بين الحاكم ورئيس الجمعية بالتفصيل، ثم علقت عليها تعليقًا قالت فيه: لماذا لا تعارض الحكومة المبشرين المنتشرين في البلاد والشوارع، وهم يعنون بدعوة التبشير؛ لتنصير المسلمين، ويخطبون حيث شاؤوا، وطالما أغووا العامة، وأدخلوا المئات من المسلمين في النصرانية. ثم قالت (الوفاق) : إيه أيها الإخوان إنني أشاطركم الحزن بصفتي مسلم، {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ المُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (يوسف: 18) ، ولا أظن أن مثل هذه الحادثة جرت في عموم الأقطار الإسلامية حتى في أوربا، بل لا تستطيع الدول الغربية منع المسلمين الصلاة، أو تشترط عليهم طلب الرخصة بها، لما يترتب على ذلك من غليان شعور المسلمين والتأثر بعاطفة الدين، ومقابلة الدول الحرة الإسلامية ذلك بالمثل، والتداخل في أمور دينهم بالقوة.. . إلخ. وأما (المنار) فيقول: إن دول أوربا لا تحسب للدول الإسلامية حسابًا، ولا تخاف لصلاة أحد من المسلمين في البلاد الأوربية عاقبة ولا مآبًا، فإن أصحاب المستعمرات الإسلامية منهن متواطئات على السعي لإرجاع المسلمين عن الإسلام بالتبشير والتعليم، وبالظلم والاضطهاد، ومن رفع رأسه وشكا من سوء معاملتهم فليس له جزاء إلا السيف والنار، وخراب الديار، ولكن بعضهم يختار في ذلك سياسة التحذير والخداع، فهل يعتبر المسلمون بذلك، ويتداركوا الخطر بالعلم والعمل والتعارف والاتحاد، قبل أن يخرج من أيديهم كل ما بقي فيها إلى الآن؟!

فتوى المنار في حظر ترجمة القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتوى المنار في حظر ترجمة القرآن نشرت في ص268 - 274 م11 ج4 منه المؤرخ 29 ربيع الآخر سنة 1326 (س1) من الشيخ أحسن شاه أفندي أحمد (من روسيا) حضرة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا نرجو أن تعيروا جانب الالتفات لهذه المسألة المهمة: والحج والزكاة، والعمل بكتب فقه الأئمة الأربعة التي وصفها بأنها مملوءة بالنفاق والشقاق، وزعم أن العمل بها غير جائز، ثم قال في صفات (قوم جديد) ما نصه: (وأما القوم الجديد فإنهم لا يبالون بمثل هذه الخرافات القديمة، بل استخرجوا من الأحكام القرآنية والحديثية الأركان الدينية الآتية: (1) العقل. (2) كلمة الشهادة. (3) الأخلاق الحسنة. (4) الجهاد مالاً وبدنًا والحرب. (5) السعي لإعداد لوازم الحرب.. . إلخ. ثم بسطنا هذه المسائل من وسائل ومقاصد في المجلد التاسع عشر، وقد صدق كل ما قلناه وارتأيناه من مقاصد ملاحدة الترك ما فعلته الحكومة الكمالية من إلغاء الأحكام الشرعية كلها، وجعل جميع سياستها وأحكامها حتى الشخصية مدنية أوربية، وإلغاء المحاكم الشرعية، والأوقاف الإسلامية، والمدارس الدينية، دع إلغاء ما عمل باسم الدين من المبتدعات كتكايا أصحاب الطرق مقلدة المتصوفة إلخ، صدقوا بالفعل كل ما قلناه من مقاصدهم، وكان بعض المسلمين الجاهلين بحال الدولة التركية وتأثير التفرنج فيها ينكرون علينا ما نقوله عن علم وخبرة وغيرة على الإسلام، ظنًّا منهم أنه إضعاف للدولة حامية الإسلام، وإنما كان حرصًا على تقوية الدولة بالإسلام وتقوية الإسلام بالدولة؛ لأننا نعلم ما لا يعلمون من إفضاء هذه الضلالات والعصبية الجنسية إلى إضاعة هؤلاء المتعصبين المفتونين للإسلام وللدولة معًا؛ وكذلك كان. وقد كان بعض الترك الروسيين استفتانا في مسألة الترجمة قبل أن نعلم بهذا الغرض الفاسد فأفتيناه فيها لذاتها، إذ لم يكن يخطر ببالنا أن أحدًا من المسلمين يتوسل بذلك إلى إخراج شعب إسلامي من الإسلام - وهذا نص السؤال والجواب: ذكر الفاضل أحمد مدحت أفندي من علماء الترك العثمانيين في كتابه (بشائر صدق نبوت) ما ترجمته: إن ترجمة القرآن مسألة مهمة عند المسلمين، وجميع المباحثات التي دارت بشأن ترجمة هذا الكتاب المجيد لم ترس على نتيجة، وذلك لوجوه: (الأول) : أن ترجمته بالتمام غير ممكنة لإعجازه من جهة البلاغة. (والوجه الثاني) : أن فيه كثيرًا من الكلمات لا يوجد لها مقابل في اللغة التي يترجم إليها، فيضطر المترجم إلى الإتيان بما يدل عليها مع شيء من التغيير، ثم إذا نقلت هذه الترجمة إلى لغة أخرى يحدث فيها شيء من التغيير أيضًا وَهَلُمَّ جَرًّا، فيخشى من هذا أن يفتح طريق لتحريف القرآن وتغييره. (الوجه الثالث) : أن كلمات الكتب السماوية يستخرج منها بعض إشارات وأحكام بطريق الحساب، فإبدالها بالترجمة يسد هذا الطريق، مثال ذلك أن سعدي جلبي كتب في حاشيته على البيضاوي عند تفسير سورة الفاتحة أنه إذا أخرجت الحروف المكررة من سورة الفاتحة التي هي أول القرآن، وسورة الناس التي هي آخر سورة، تكون الحروف الباقية ثلاثة وعشرين قال: وفي ذلك إشارة إلى مدة سني النبوة المحمدية، فإذا ترجم القرآن لا يبقى في الترجمة مثل هذه الفوائد التي هي من جملة معجزاته، انتهى، (من بشائر صدق نبوت) . أما أدباؤنا معشر الترك الروسيين، فإنهم مصرون على ترجمته ويقولون: لا معنى للقول: بأنه لا تجوز ترجمة القرآن إلا إيجاب بقائه غير مفهوم، فلذا يذهبون إلى وجوب ترجمته، وهو الآن يترجم في مدينة قزان، وتطبع ترجمته تدريجًا، وكذلك تشبث بترجمته إلى اللسان التركي زين العابدين حاجي الباكوي أحد فدائية القفقاز، فنرجو من حضرة الأستاذ التدبر في هذه المسألة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... حرره الإمام الحقير ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحسن شاه أحمد ... ... ... ... ... ... ... ... الكاتب الديني السماوي (جواب المنار له) إن من تقصير المسلمين في نشر دينهم أن لا يبينوا معاني القرآن لأهل كل لغة بلغتهم، ولو بترجمة بعضه [1] ، لأجل دعوة من ليس من أهله إليه، وإرشاد من يدخل فيه عند الحاجة بقدر الحاجة، وإن من زلزال المسلمين في دينهم أن يتفرقوا إلى أمم، تكون رابطة كل أمة منها جنسية نسبية أو لغوية أو قانونية، ويهجروا القرآن المنزل من الله تعالى على خاتم رسله، المعجز بأسلوبه وبلاغته وهدايته، المتعبد بتلاوته، اكتفاء بأفراد من كل جنس يترجمونه لهم بلغتهم بحسب ما يفهم المترجم. هذا الزلزال أثر من آثار جهاد أوربا السياسي والمدني للمسلمين، زين لنا أن نتفرق وننقسم إلى أجناس، ظانًّا كل جنس منا أن في ذلك حياته، وما ذلك إلا موت للجميع، ولا نطيل في هذه المسألة هنا، ولكننا نذكر شيئًا مما يخطر في البال من مفاسد هجر المسلمين للقرآن المنزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 195) - استغناءً عنه بترجمة أعجمية يغنيهم عنها تفسيره بلغتهم، مع المحافظة على نصه المتواتر، المحفوظ من التحريف والتبديل - مع مراعاة الاختصار فنقول: (1) إن ترجمة القرآن ترجمة حرفية تطابق الأصل متعذرة كما يعلم من المسائل الآتية، والترجمة المعنوية عبارة عن فهم المترجم للقرآن، أو فهم من عساه يعتمد هوعلى فهمه من المفسرين، وحينئذ لا تكون هذه الترجمة هي القرآن، وإنما هي فهم رجل للقرآن يخطئ في فهمه ويصيب، ولا يحصل بذلك المقصود المراد من الترجمة بالمعنى الذي ننكره. (2) إن القرآن هو أساس الدين الإسلامي، بل هو الدين كله؛ إذ السنة ليست دينًا إلا من حيث إنها مبينة له. فالذين يأخذون بترجمته يكون دينهم ما فهمه مترجم القرآن لهم، لا نفس القرآن المنزل من الله تعالى على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - والاجتهاد بالقياس إنما هو فرع عن النص، والترجمة ليست نصًّا من الشارع، والإجماع عند الجمهور لا بد أن يكون له مستند والترجمة ليست مستندًا. فعلى هذا لا يسلم لمن يجعلون ترجمة القرآن قرآنًا شيء من أصول الإسلام. (3) إن القرآن منع التقليد في الدين، وشنع على المقلدين فأخذ الدين من ترجمة القرآن هو تقليد لمترجمه، فهو إذًا خروج عن هداية القرآن لا اتباع لها. (4) يلزم من هذا حرمان المقتصرين على هذه الترجمة مما وصف الله به المؤمنين في قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) ، وأمثالها من الآيات التي تجعل من مزايا المسلم استعمال عقله وفهمه فيما أنزل الله [2] . (5) كما يلزم حرمانهم من هذه الصفات العالية يلزم منع الاجتهاد والاستنباط من عبارة المترجم؛ لأن الاجتهاد فيها مما لا يقول به مسلم. (6) أن من عرف لغة القرآن، وما يحتاج إليه في فهمه كالسنة النبوية وتاريخ الجيل الأول الذي ظهر فيه الإسلام يكون مأجورًا بالعمل بما يفهمه من القرآن وإن أخطأ في فهمه؛ لأنه بذل جهده في الاهتداء بما أنزله الله هداية له، كما يعلم ذلك من معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه فيما فهموه من كيفية التيممم، إذ عذر المختلفين في فهمها والعمل بها، ومثله معاملته لهم فيما فهموه من نهيه عن صلاة العصر إلا في قريظة، ولذلك شواهد أخرى، ولا أخال مسلمًا يجعل لعبارة مترجم القرآن هذه المزية. (7) إن القرآن ينبوع للهداية والمعارف الإلهية لا تخلق جدته، ولا تفتأ تتجدد هدايته , وتفيض للقارئ على حسب استعداده حكمته , فربما ظهر للمتأخر من حكمه وأسراره ما لم يظهر لمن قبله، تصديقًا لعموم حديث (فرُب مبلغ أوعى من سامع) ، وترجمته تبطل هذه المزية، إذا تقيد القارئ بالمعنى الذي صوره المترجم بحسب فهمه، مثال ذلك أن المترجم قد يجعل قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) من المجاز بالاستعارة؛ أي: إن اتصال الريح بالسحاب، وحدوث المطر عقب ذلك يشبه تلقيح الذكر للأنثى وحدوث الولد بعد ذلك كما فهم بعض المفسرين، فإذا هو جرى على ذلك بأن فرضنا أنه لا يوجد في اللغة التي يترجم بها لفظ يقوم مقام (لواقح) العربي في احتمال حقيقته ومجازه إذا أطلق، فإن القارئين يتقيدون بهذا الفهم، ويمتنع عليهم أن يفهموا من العبارة ما هي حقيقة فيه، وهو كون الرياح لواقح بالفعل، إذ هي تحمل مادة اللقاح من ذكور الشجر إلى إناثه، فإن لم ينطبق هذا المثال على القاعدة لتيسر ترجمة الآية ترجمة حرفية، فإن هناك أمثلة أخرى، وحسبنا أن يكون هذا موضحًا، والترجمة تقف بنا عند حد من الفهم، يعوزنا معه الترقي المطلوب. (8) ذكر الغزالي في كتاب (إلجام العوام عن علم الكلام) أن ترجمة آيات الصفات الإلهية غير جائزة، واستدل على ذلك بما هو واضح جدًّا، وقد ذكرنا عبارته في تفسير {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (آل عمران: 7) ، وبين أن الخطأ في ذلك مدرجة للكفر [3] . (9) ذكر الغزالي في الاستدلال على ما تقدم أن من الألفاظ العربية ما لا يوجد لها فارسية تطابقها - أي: ومثل الفارسية التركية وغيرها - فما الذي يفعله المترجم في مثل هذه الألفاظ، وهو إن شرحها بحسب فهمه ربما يوقع قارئ ترجمته في اعتقاد ما لم يرده القرآن؟ (10) قد ذكر في ذلك أيضًا أن من الألفاظ العربية مالها فارسية تطابقها (لكن ما جرت عادة الفرس باستعارتها للمعاني التي جرت عادة العرب باستعارتها لها) ، فإذا أطلق المترجم اللفظ الفارسي يكون هنا مؤديًا المعنى الحقيقي للفظ العربي؟ وربما كان مراد الله هو المعنى المجازي، ومثل الفرس غيرهم من الأعاجم، وهذا المقام من مزلات الأقدام إذا كان الكلام عن الله عز وجل وصفاته وأفعاله. (11) ذكر أيضًا في هذا المقام: أن من هذه الألفاظ ما يكون مشتركًا في العربية، ولا يكون في العجمية كذلك، فقد يختار المترجم غير المراد لله من معنيي المشترك، ولا يخفى ما فيه، وقد مر نظيره آنفًا. (12) من المقرر عند العلماء أنه إذا ظهر دليل قطعي على امتناع ظاهر آية من آيات القرآن فإنه يجب تأويلها حتى تتفق مع ذلك الدليل، والفرق بين تأويل ألفاظ القرآن وتأويل ألفاظ ترجمته لا يخفى على عاقل، لا سيما في الآيات المتشابهة والألفاظ المشتركة. (13) إن لنظم القرآن وأسلوبه تأثيرًا خاصًّا في نفس السامع لا يمكن أن ينقل بالترجمة، وإذا فات يفوت بفوته خير كثير، فيا طالما كان جاذبًا إلى الإسلام، حتى قال أحد فلاسفة أوربا وهو فرنسي نسيت اسمه: إن محمدًا كان يقرأ القرآن بحال مؤثرة تجذب السامع إلى الإيمان به، فكان تأثيره أشد من تأثير ما ينقل عن غيره من الأنبياء من المعجزات، وحضر الدكتور فارس أفندي نمر مرة الاحتفال السنوي لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، فافتتح الاحتفال تلميذ بقراءة آيات من القرآن، فقال لي الدكتور فارس أفندي: إن لهذه القراءة تأثيرًا عميقًا في النفس، ثم لما كتب خبر الاحتفال في جريدته (المقطم) كتب ذلك، فإذا كان لتلاوة القرآن هذا التأثير حتى في نفس غير المؤمن به، فكيف نحرم منها المسلمين بترجمة القرآن لهم. (14) إذا ترجم القرآن التركي والفارسي والهندي والصيني إلخ، فلا بد أن يكون بين هذه التراجم من الخلاف مثل ما بين تراجم كتب العهد العتيق والعهد الجديد عند النصارى [4] ، وقد رأينا ما استخرجه لهم صاحب إظهار الحق من الخلافات التي كنا نقرؤها

تتمة فتوى اللباس والزي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة فتوى اللباس والزي وفد نشرت إحدى جرائد مصر مقالاً لكاتب ألماني كبير، يخطئ فيه مصطفى كمال باشا في إكراهه لقومه الترك على تغيير زيهم الوطني، وخاصة ترك القبلق، واستبدال البرنيطة به، وإنما خطأه تخطئة صديق ناصح، لا عدو كاشح، وقال: إن هذا ينافي غرضه وهو تكوين القومية التركية، معللاً له بالقاعدة التي بيناها آنفًا، وشرحناها من قبل مرارًا، ومما قاله: إن القلبق يفوق البرنيطة جمالاً ومهابة.. ونحن نظن أن مصطفى كمال باشا - وإن لم يكن من علماء الاجتماع والأخلاق وطبائع الشعوب - لا يجهل أن المحافظة على المشخصات القومية مما يقوي تكوين الأمة، وأن تقليد شعب لآخر يراه أرقى منه يضعف قيمة المقلد في نظر نفسه، ويحقرها في قلوب أهلها، ويرفع منزلة الشعب الذي قلده بقدر ذلك، ونعتقد أنه يتعمد هدم جميع مقومات الشعب التركي ومشخصاته، ما عدا اللغة؛ لأنها إسلامية، أو مستندة إلى الإسلام، وهو يريد أن يسله من الإسلام كما تسل الشعرة من العجين إن أمكن، وإلا انتزعهم منه كما ينتزع الحسك ذو الأضلاع من الصوف، أو انتزعه منهم كما تنتزع الروح من الجسد، وقد بحث الذين بثوا هذه الدعوة في الترك من ملاحدة الروسيين وغيرهم عن مقومات ومشخصات تركية أو تورانية يستبدلونها بالإسلام، حتى عبادة الذئب الأبيض الذي عبده سلفهم من همج الوثنيين، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، فاختاروا التشبه بالإفرنج، ولا سيما أفسدهم دينًا وآدبًا كاللاتين بحجة الحضارة والترقي العصري، وسموه التمغرب، ونحن نسميه التفرنج، حتى إن بعضهم يستحسن استبضاع نسائهم من الإفرنج بالحلال وبالحرام لإدخال دمهم (الشريف المدني) في دم الشعب التركي (الفاسد) لإصلاحه. فظهر بمجموع ذلك أن هؤلاء الزعماء الدخلاء يريدون إفساد هذا الشعب التركي بكل نوع من أنواع الفساد الجسمي والعقلي والنفسي، وتكوين شعب آخر في بلاده مذبذب بين أمشاج الشعوب، روحه غير روحه، ودمه غير دمه، وأخلاقه غير أخلاقه، وعقائده غير عقائده، فيكون كلغته التي يسمونها التركية، هي لغة هذبها الإسلام كما هذب أهلها بما دخل في مادتها من الأسماء والأفعال العربية، وكذا الفارسية. وهم يريدون الآن أن يفعلوا بها ما يفعلون بأهلها، وإن لم يبق فيها من لغة قدماء الترك بعد أن تتفرنج وتتمغرب معهم، وتكتب بالحروف اللاتينية كما هو مقرر عندهم إلا قليل، وما يدرينا بعد ذلك لعلهم يغيرون اسمها أيضًا؟ ومن الثابت في سنن الاجتماع أن تغيير القوانين والنظم والأزياء لا يغير طبائع الأمم - كما يقول الدكتور غوستاف لوبون - فإن اللاتين الجمهوريين كاللاتين الملكيين في تشابه حكومتهم وطباعهم، حتى إن الذين مرقوا من الدين منهم لا تزال التربية الكاثوليكية الموروثة هي الحاكمة على قلوبهم وأرواحهم بعصبيتها، وإنما فقدوا من الدين فضائله فقط، وكذلك السكسونيون تشابهت حكومتهم الملكية في بريطانية، وحكومتهم الجمهورية في الولايات المتحدة كما تشابه أهلهما. فالترك يفقدون بهذا التفرنج اللاتيني ما بقي فيهم من فضائل الإسلام ورابطته الملية، وما كان لهم من الزعامة في مئات الملايين من البشر، ثم لا يقدرون على التفصي من الوراثة القومية التي طبعتها الأجيال والقرون في أنفسهم. فالغرض الأول لهم الآن التفصي من الإسلام بحجة الترقي العصري، وما في الإسلام شيء مانع من الترقي الذي يطلبونه، وأساسه القوة العسكرية والثروة والنظام، بل الإسلام يهدي إلى ذلك، ولولاه لم ينل العرب عقب اهتدائهم به من القوة والحضارة ما فاقوا به جميع الأمم، وظلوا كذلك إلى أن سلبهم الأعاجم سلطانهم بالقوة الهمجية، ونال الترك وغيرهم به حضارة وملكًا لم يكن لسلفهم مثلها، ولا ما يدانيها، ولو أنهم فهموا الإسلام فهمًا استقلاليًّا بإتقان لغته، والاجتهاد في شريعته، لملكوا به الغرب مع الشرق، ولسبقوا جميع شعوب الإفرنج إلى العلوم والفنون والصناعات، وسائر أسباب القوة والسلطان كما فعل العرب من قبلهم، وهذا ما يطلبونه الآن بترك ما بقي لهم من تقاليد الإسلام، ويتوسلون إليه بتقليد الإفرنج في زيهم وفجورهم، قبل إتقان شيء ما من علومهم وفنونهم، والوصول إلى مثل قوتهم وثروتهم. أما الزي فقد علمت مما بيناه في أول هذه الفتوى أن ما ورد في السنة وعمل السلف فيه هو الذي اتبع المسلمين فيه أرقى أمم أوربة، وأما إباحة الفسق والفجور فهي التي أهلكت جميع أمم الحضارات السابقة، وستهلك أوربة به أيضا كما يتشاءم جميع حكمائها وعقلائها، وسيعلم العالم مصير الترك بمحاولة مصطفى كمال جعلهم خلقًا جديدًا بهذه الطرق التي سلكها، ونسأل الله تعالى أن يقيهم سوء عاقبتها. وجملة القول في لبس البرنيطة وغيرها من أزياء الإفرنج: إنه مباح لذاته، وإنما يحرم بما يكون وسيلة له من ضعف الرابطة الملية، وتفضيل مشخصات خصوم الأمة الطامعين فيها على مشخصاتها كما يقصده المتفرنجون في بلاد الترك وأمثالها كسورية ومصر، وإذا قصد به ما يقصده ملاحدة الترك مما شرحناه في هذه الفتوى من التوسل به إلى الكفر كان كفرًا. جواب س 6 السكروتة: اختلف أكثر الناس في هذا النسيج الذي يرد من الشرق الأقصى ما أصله؟ كما أشير إليه في السؤال، وقد سألت عنه في العام الماضي السيد محمد بن عقيل، إذ كان ممن اتجر به، فأجابني بأنه رديء الحرير وخشنه، وظاهره أن دوده عين دود الحرير المعروف عندنا، فإن كان له دود آخر كما روي عن آخرين من تجاره، ففي جعله من الحرير نظر؛ لأن الديدان والحشرات التي تبني لأنفسها بيوتًا من لعابها كثيرة، ومنها العنكبوت، وقد اتخذ الإفرنج من بيوتها قفازًا لليدين كما روي لنا، على أنني كنت عازمًا قبل سؤال ابن عقيل عنه على استجداد ثياب منه؛ إذ كنت ألبسها في الصيف لخفتها في الحر، ثم تركت ذلك بعد جوابه بما ذكر. وإنني بعد كتابة ما تقدم وقبل نشره جاءني كتاب من الأخ المحب في الغيب خادم الإسلام الأمين، ومدير المعارف في الصين (سعيد سليمان) ، ذكر فيه أنه مرسل إليَّ قليلاً من الحرير الصيني هدية مودة، ثم جاءت الهدية فإذا هي من هذا النسيج الذي نسميه (السكروتة) ، فعلمنا قطعًا أنهم يسمونه حريرًا. (ج7و8) حكم التحلي بلبس الرجال الحرير: قد ثبت نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير، والوعيد عليه بعدم لبسه في الآخرة، كما في حديث الصحيحين عن عمر وأنس (رضي الله عنهما) ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعًا (إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة) ، وما ثبت من لبس النبي - صلى الله عليه وسلم - له محمول على أنه كان قبل النهي عنه، وما قاله أبو داود من أنه لبس الحرير عشرون نفسًا من الصحابة أو أكثر، منهم أنس (الذي روى خبر الوعيد) ، فيحتمل أن بعضهم لم يبلغه النهي، أو أنهم حملوه على الكراهة، كما قال به بعض العلماء، وقووه بأنه لو كان حرامًا لم يلبسه مثل هذا العدد الكثير، ولا سيما مثل أنس (رضي الله عنه) ، ولأنكره عليهم باقي الصحابة، ولم ينقل ذلك، وحديث التحريم فيه من العلل ما يمنع الاحتجاج به، والجمهور على أن الخالص منه حرام على الرجال، وكذا ما أكثره حرير خلافًا للإمامية، وعلى حل ما أكثره قطن أو صوف مثلاً وكذا المتساوي، واختلفوا هل هو من الكبائر أو الصغائر؟ فجمهور الشافعية على أنه من الصغائر، وناهيك بتشددهم، وقال بعضهم: بل هو من الكبائر، ورجحه ابن حجر المكي في الزواجر بناءً على ما اعتمده مؤلف أصله من تفسير الكبيرة الذي جعل به الكبائر 467 كبيرة، وقد عد منها ما هو مكروه عند الجمهور تنزيهًا، وقد علمت أن بعض العلماء قال بحله، وبعضهم قال بكراهته، وأما لبسه لحاجة كحكة فقد صح الإذن به. (ج9و10) الكبائر والصغائر وعذابهما: اختلف العلماء في تعريف الكبيرة والصغيرة من الذنوب فقيل: إن الذنب الواحد يكون كبيرة في بعض الأحوال وصغيرة في بعض؛ إذ من الناس من يرتكب المعصية بجهالة من غلبة غضب أو شهوة وهو خائف وجل، ولا يلبث أن يتوب ويصلح عملاً، ومنهم من يرتكبها بغير مبالاة بالدين، ولا خوف من الله، فالكبر والصغر يرجع إلى حال العاصي لا إلى الذنب في نفسه، وقيل: إن مناط الكبر والصغر ما يترتب على الذنب من الضرر الذي حرم لأجله، وقيل: إن الكبيرة ما ورد في الكتاب أو السنة وعيد شديد عليه، وهو ما اعتمده صاحب كتاب الزواجر. والتحقيق أن من المعاصي ما هو كبيرة في نفسه كالتي وردت بها النصوص في الصحاح، ومنها ما يختلف باختلاف حال فاعله، ويراجع التفصيل في الزواجر. وأما كون العقاب على الكبيرة أشد من العقاب على الصغيرة فهو ضروري. (ج11-13) مسائل عذاب القبر: المشهور عن جمهور أهل السنة أن عذاب القبر على الروح والجسد معًا، والمراد بعذاب القبر ما يسمونه عذاب البرزخ؛ أي: مابين الموت والحشر يوم القيامة سواء دفن الإنسان في قبر أم لا، ففي هذه المدة يشعر الأخيار بنوع من النعيم والأشرار بنوع من العذاب، ويقول الجمهور: إن النفس وإن كانت هي التي تشعر بالألم وباللذة لا مانع يمنع أن يكون لها نوع اتصال بالبدن، يصحح كون العذاب واقعًا عليهما معًا ما دام البدن موجودًا، ومن المعلوم أن الراجح عند متكلمي الأشاعرة أن الجسم ينعدم فلا يبقى منه شيء، أو إلا عجب الذنب كما قال في الجوهرة: وقل يعاد الجسم بالتحقيق ... عن عدم وقيل عن تفريق ونقل السفاريني في شرح عقيدته عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض أهل السنة يقولون كالمعتزلة: إن البرزخ على الروح فقط، وإنما يكون العذاب على الروح والجسد معًا بعد البعث، قال: وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيار ابن حزم وابن مرة (قال) : وليس هذا من الأقوال الشاذة، بل هو مضاف إلى من يقر بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح إلخ (ص22ج2) ثم نقل السفاريني (في ص24 منه) أدلة ابن حزم في كتابه (الفصل في الملل والنحل) على امتناع حياة الإنسان بعد موته قبل يوم القيامة، وتعقبها بما لابن القيم فيها من التفصيل والتحقيق الذي يؤيد به جمهور أهل السنة. وأما كون ذلك العذاب مستمرًّا دائمًا أو منقطعًا فظواهر بعض النصوص تدل على أنه غير دائم، منها قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُواًّ وَعَشِياًّ} (غافر: 46) ، قالوا هي في عذاب البرزخ بدليل ما بعدها وما ورد من دوام عذاب جهنم، ومنها ما جاء في الصحيحين من خبر اللذين يعذبان في قبورهما، وإن وضع النبي - صلى الله عليه وسلم - جريدة خضراء شقها وغرزها على كل قبر منهما مما يرجى أن يكون سبب التخفيف عنهما، وهذا من أمور الغيب التي لا تعرف إلا بنص من الشارع، وأقرب منه ما ورد من الأمر بالاستغفار للميت، والدعاء له بالتثبيت عند دفنه؛ إذ هو داخل فيما صح من نفع الدعاء عند الله تعالى. ورد في بعض الأحاديث أن بعض الأعمال الصالحة في الدنيا تنجي فاعلها من فتنة القبر وعذاب القبر: كالرباط في سبيل الله، وقراءة سورة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ} (الملك: 1) رواهما الترمذي، وقد أوجزنا في هذه المسائل؛ لأن ما صح من أخبار عالم الغيب لا ينبغي البحث في صفته وكيفيته ولا الزيادة فيه على الوارد، ولا يجوز قياسه على المعهود لنا في حياتنا الدنيا، وقد ضرب أبو حامد الغزالي لمنكري عذاب القبر مثلاً ما يراه ال

تنبيه مهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تنبيه مهم يظن الكماليون أنهم بارتدادهم عن الإسلام يعاملهم الأوربيون كأنفسهم، وسيعلمون أنهم إنما يكرهون منهم الإسلام؛ لأنه قوة لهم، ولن يعاملوهم معاملة الأكفاء وإن تنصروا كما يريد بعضهم. ولكن ماذا يطلب اللادينيون في مصر وسورية من تقليد الترك فيما يفعلون؟ أيظنون كما يظن الكماليون؟ أم لا يدرون مغبة ما يصنعون؟

أسرار البلاغة أو فلسفة البيان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسرار البلاغة أو فلسفة البيان (تابع لما نشر بالجزء السادس) وإذا كان هذا ثابتًا موجودًا، ومعلومًا معهودًا، من حال الصور المصنوعة، والأشكال المؤلفة، فاعلم أنها القضية في التمثيل واعمل عليها، واعتقد صحة ما ذكرت لك من أخذ الشبه للشيء مما يخالفه في الجنس، وينفصل عنه من حيث ظاهر الحال، حتى يكون [1] هذا شخصيًّا يملأ المكان، وذاك معنى لا يتعدى الأفهام والأذهان، وحتى إن هذا إنسان يعقل، وذاك جماد أو موات لا يتصف بأنه يعلم أو يجهل، وهذا نور شمس يبدو في السماء ويطلع، وذاك معنى كلام يوعى ويسمع، وهذا روح يحيا به الجسد، وذاك فضل ومكرمة تؤثر وتحمد، كما قال: إن المكارم أرواح يكون لها ... آل المهلب دون الناس أجسادًا وهذا مقال متعصب منكر للفضل حسود، وذاك نار تلتهب في عود، وهذا مخلاف، وذاك ورق خلاف [2] كما قال ابن الرومي: بذل الوعد للأخلاء سمحًا ... وأبى بعد ذاك بذل العطاء فغدا كالخلاف يورق للعين ... ويأبى الإثمار كل الإباء وهذا رجل يروم العدو تصغيره والازراء به، فيأبى فضله إلا ظهورًا، وقدره إلا سموًّا، وذاك شهاب من نار تصوب وهي تعلو، وتخفض وهي ترتفع، كما قال أيضا: ثم حاولت بالمثيقيل تصغيري ... فما زدتني سوى التعظيم كالذي طأطأ الشهاب ليخفى ... وهو أدنى له إلى التضريم وأخذ هذا المعنى من كلام في حكم الهند، وهو أن الرجل ذا المروءة والفضل ليكون خامل المنزلة غامض الأمر فما تبرح به مروءته وعقله حتى يستبين ويعرف كالشعلة من النار التي يصوبها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعًا. هذا هو الموجب للفضيلة والداعي إلى الاستحسان، والشفيع الذي أحظى التمثيل عند السامعين، واستدعى له الشغف والولوع من قلوب العقلاء الراجحين، ولم تأتلف هذه الأجناس المختلفة للمتمثل، ولم تتصادف [3] هذه الأشياء المتعادية على حكم المشبه، إلا لأنه لم يراع ما يحضر العين، ولكن ما يستحضر العقل، ولم يعن بما تنال الرؤية، بل بما تعلق الرويَّة [4] ، ولم ينظر إلى الأشياء من حيث توعى، فتحويها الأمكنة، بل من حيث تعيها القلوب الفطنة، ثم على حسب دقة المسلك، إلى ما استخرج من الشبه ولطف المذهب، وبعد التصعد إلى ما حصل من الوفاق استحق مدرك [5] ذلك المدح، واستوجب التقديم، واقتضاك العقل أن تنوه بذكره، وتقضي بالجنى في نتائج فكره [6] نعم وعلى حسب المراتب في ذلك، وأعطيته في بعض منزلة الحاذق الصنع [7] والملهم المؤيد، والألمعي المحدث [8] الذي سبق إلى اختراع نوع من الصنعة حتى يصير إمامًا، ويكون من بعده تبعًا له وعيالاً عليه، وحتى تعرف تلك الصنعة بالنسبة إليه، فيقال: صنعة فلان وعمل فلان. ووضعته في بعض موضع المتعلم الذكي والمقتدي المعيب في اقتدائه، الذي يحسن التشبه بمن أخذ عنه، ويجيد حكاية العمل الذي استفاده، ويجتهد أن يزداد. واعلم أني لست أقول لك: إنك متى ألفت الشيء ببعيد عنه في الجنس على الجملة فقد أصبت وأحسنت، ولكن أقوله بعد تقييد وبعد شرط، وهو أن تصيب بين المختلفين في الجنس وفي ظاهر الأمر شبهًا صحيحًا معقولاً، وتجد للملائمة والتأليف السوي بينهما مذهبًا وإليهما سبيلاً، وحتى يكون ائتلافهما الذي يوجب تشبيهك [9] من حيث العقل والحدس في وضوح اختلافهما من حيث العين والحس، فأما أن تستكره الوصف وتروم أن تصوره حيث لا يتصور فلا؛ لأنك تكرن في ذلك بمنزلة الصانع الأخرق، يضع في تأليفه وصوغه الشكل بين شكلين لا يلائمانه ولا يقبلانه، حتى تخرج الصورة مضطربة، وتجيء فيها نتوٌّ [10] ، ويكون للعين عنها من تفاوتها نبو، وإنما قيل شبهت ولا تعني في كونك مشبهًا أن تذكر حرف التشبيه أو تستعير، إنما تكون مشبهًا بالحقيقة بأن ترى الشبه وتبينه، ولا يمكنك بيان ما لا يكون، وتمثيل ما لا تتمثله الأوهام والظنون. ولم أرد بقولي: إن الحذق في إيجاد الائتلاف بين المختلفات في الأجناس، أنك تقدر أن تحدث هناك مشابهة ليس لها أصل في العقل، وإنما المعنى أن هناك مشابهات خفية يدق المسلك إليها، فإذا تغلغل فكرك فأدركها فقد استحققت الفضل. ولذلك يشبه المدقق في المعاني كالغائص [11] على الدر. ووزان ذلك أن القطع التي يجيء من مجموعها صورة الشنف [12] والخاتم أو غيرهما من الصور المركبة من أجزاء مختلفة الشكل، لو لم يكن بينها تناسب - أمكن ذلك التناسب أن يلائم بينها الملائمة المخصوصة، ويوصل الوصل الخاص - لم يكن ليحصل لك من تأليفها الصورة المقصودة. ألا ترى أنك لو جئت بأجزاء مخالفة لها في الشكل، ثم أردتها على أن تصير إلى الصورة التي كانت من تلك الأول طلبت ما يستحيل، فإنما استحققت الأجرة على الغوص وإخراج الدر، لا أن الدر كان بك، واكتسى شرفه من جهتك، ولكن لما كان الوصول إليه صعبًا، وطلبه عسيرًا، ثم رزقت ذلك وجب أن يجزل لك ويكبر صنيعك. ألا ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم لطف وحسن لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتفاق كان ثابتًا بين المشبه والمشبه به من الجهة التي بها شبهت، إلا أنه كان خفيًّا لا ينجلي إلا بعد التأنق في استحضار الصور وتذكرها وعرض بعضها على بعض، والتقاط النكتة المقصودة منها، وتجريدها من سائر ما يتصل بها. نحو أن يشبه الشيء بالشيء في هيئة الحركة فتطلب الوفاق بين الهيئة والهيئة، والهيئةُ مجردة من الجسم وسائر ما فيه من اللون وغيره من الأوصاف، كما فعل ابن المعتز في تشبيه البرق حيث قال: وكأن البرق مصحف قار ... فانطباقًا مرة وانفتاحا لم ينظر من جميع أوصاف البرق ومعانيه إلا إلى الهيئة التي تجدها العين له عن انبساط يعقبه انقباض، وانتشار يتلوه انضمام، ثم فكر في نفسه عن هيآت الحركات؛ لينظر أيها أشبه بها، فأصاب ذلك فيما يفعله القارئ من الحركة الخاصة في المصحف إذا جعل يفتحه مرة ويطبقه أخرى، ولم يكن إعجاب هذا التشبيه لك وإيناسه إياك؛ لأن الشيئين مختلفان في الجنس أشد الاختلاف فقط، بل لأن حصل بإزاء الاختلاف اتفاق كأحسن ما يكون، وأتمه، فبمجموع الأمرين- شدة ائتلاف في شدة اختلاف - حلا وحسن، وراق وفتن. ويدخل في هذا الموضع الحكاية المعروفة في حديث عدي بن الرقاع، قال جرير: أنشدني عدي: *عرف الديار توهمًا فاعتادها* [13] فلما بلغ إلى قوله: (تزجي أغن كأن إبرة روقه) [14] رحمته وقلت: قد وقع، ما عساه يقول: وهو أعرابي جلف جاف؟ فلما قال: *قلم أصاب من الدواة مدادها* استحالت الرحمة حسدًا [15] ، فهل كانت الرحمة في الأولى والحسد في الثانية إلا أنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر وبديهة الخاطر، وفي القريب من محل الظن شبه [16] ، وحين أتم التشبيه وأداه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف، وعثر على خبيء مكانه غير معروف، وعلى ذلك استحسنوا قول الخليل، في انقباض كف البخيل. كفاك لم تخلقا للندى ... ولم يك بخلهما بدعه فكفٌّ عن الخير مقبوضة ... كما نقصت مائة سبعه وكف ثلاثة آلافها ... وتسع مئيها لها منعه [17] وذلك أنه أراك شكلاً واحدًا في اليدين مع اختلاف العددين، ومع اختلاف المرتبتين في العدد أيضًا؛ لأن أحدهما من مرتبة العشرات والآحاد والآخر من مرتبة المئين والألوف، فلما حصل الاتفاق كأشد ما يكون في شكل اليد مع الاختلاف كأبلغ ما يوجد في المقدار والمرتبة من العدد كان التشبيه بديعًا، قال المرزباني: وهذا مما أبدع فيه الخليل؛ لأنه وصف انقباض اليدين بحالين من الحساب مختلفين في العدد متشاكلين في الصورة. وقوله هذا إجمال ما فصلته. ومما ينظر إلى هذا الفصل ويداخله ويرجع إليه حين تحصيله الجنس [18] الذي يراد فيه كون الشيء من الأفعال سببًا لضده كقولنا: أحسن من حيث قصد الإساءة، ونفع من حيث أراد الضر. إذا لم يقنع التشاغل بالعبارة الظاهرة، والطريقة المعروفة، وصور في نفس الإساءة الإحسان، وفي البخل الجود، وفي المنع العطاء، وفي موجب الذم موجب الحمد، وفي الحالة التي حقها أن تعد على الرجل حكم ما يعتد له، والفعل الذي هو بصفة ما يعاب وينكر، صفة ما يقبل المنة ويشكر، فيدل ذلك بما يكون فيه من الوفاق الحسن مع الخلاف البين على حذق شاعره، وعلى جودة طبعه وحدة خاطره، وعلو مصعده وبعد غوصه، إذا لم يفسده بسوء العبارة، ولم يخطئه التوفيق في تلخيص الدلالة، وكشف تمام الكشف عن سرو المعنى وسره [19] بحسن البيان وسحره. مثال ما كان من الشعر بهذه الصفة قول أبي العتاهية: جُزيَ البخيل على صالحة ... عني لخفته على ظهري أعلى وأكرم عن يديه يدي ... فعلت ونزه قدره قدري ورزقت من جدواه عافية ... أن لا يضيق لشكره صدري وغنيت خِلوًا من تفضله ... أحنو عليه بأحسن العذر ما فاتني خير امرئ وضعت ... عني يداه مؤنة الشكر ومن اللطيف مما يشبه هذا قول الآخر: أعتقني سوء ما صنعت من الرمـ ... ـق فيا بردها على كبدي فصرت عبدًا للسوء فيك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد

الحكومة الإسلامية

الكاتب: رفيق بك العظم

_ الحكومة الإسلامية كان رفيق بك العظم المؤرخ المشهور (رحمه الله تعالى) شرع في تأليف كتاب باسم (تاريخ السياسة الإسلامية) ، لم يكتب منه إلا مقدمته، وهي في ملخص السيرة النبوية، وقد طبعت في هذه الأيام مع بعض رسائله وخطبه، فرأينا أن نقتبس منها هذا الفصل بمناسبة نشر الكتاب السخيف الذي نشر في هذا العام، في الطعن في حكومة الإسلام، وهو: ذكر شيء مما كان على عهده صلى الله عليه وسلم أو نصت عليه شريعته، وترتب عليه نظام السلطنة الإسلامية اعلم أن ما ظهرت آثاره في الإسلام من ترتيب الدول، وتنظيم شؤون الحكومة، واتخاذ شعائر الارتقاء، إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يكن في عهده فمنصوص عليه في شريعته الطاهرة، وسنته الباهرة، وذلك: كالإمامة، والوزارة، والولاية، وإمارة الجيش، والقضاء، والخطابة، والكتابة، والسفارة، والترجمة، والحسبة، والمعاهدات، والأعطيات - أي: مرتبات الجند - والحجابة، والحراسة، وإمارة الحج، والرسائل، والإقطاع والديوان، والزمام، وكتابة الجيش، والعقود، والفرائض؛ أي: قسمة المواريث، وغير ذلك من آثار الفضل في ترتيب الحكومات الإسلامية، مما كان على عهده صلى الله عليه وسلم، واقتفى أثره به الخلفاء الراشدون، ثم أخذ يتوسع به من بعدهم من الخلفاء والسلاطين، ويقررونه على أوجه مضبوطة، وقيود وتراتيب لا تخرج عن صفة ما سبق إلا بنوع الترتيب، أو بما فيه الاستزادة من أبهة الملك وسطوة السلطان. ولكن لما بلغت دول الإسلام أقصى غايات الرفاه، واختلطت على الخلفاء والسلاطين الأمور باختلاط العناصر الداخلة في الإسلام؛ أخذت تتحول تلك الأنظمة والتراتيب إلى أعجمية تارة، وهمجية أخرى، حتى اختل بسبب ذلك نظام الملك، واستحال حال الدول في بعض العصور إلى ما يشبه ضلال الساري في ليلة مظلمة، يود سلوك الطريق المنجية فلا يجدها، والعاقبة للمتقين. وها نحن (أولاء) نورد لك طرفًا من تلك الوظائف والتراتيب بوجه إجمالي، معززًا بما يؤيده من الكتاب والسنة، ونبدأ من ذلك بالإمامة؛ لأنها المنصب النبوي المهم فنقولك: الإمامة الإمامة هي رئاسة عامة في الدين والدنيا، تنتهي إلى صاحبها خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، بدليل أن رسول الله - صلى عليه وسلم - لما ثقل عليه المرض وقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) ، وصلى أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - بالناس نيابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتخذها الصحابة دليلاً على استنابة أبي بكر في الخلافة العامة، فأقاموه خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استمر الحكم في الخلافة هكذا، حتى إذا استغرق الخلفاء بالترف، واستكانوا وراء الحجب، واستثقلوا الظهور للناس والاختلاط بعامتهم، استنابوا عنهم بالصلاة أولي الكفاءة من أئمة الدين، واكتفوا بمباشرة أمور السياسة. وقد ثبت أن نصب الإمام واجب على الأمة بالشرع وجوبًا كفائيًّا؛ أي: هو فرض كفاية إذا قام به البعض - وهم أهل الحل والعقد - سقط عن الباقين. وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من قال: تنعقد البيعة للإمام بمن حضرها من أهل الحل والعقد. ومنهم من قال: لا تنعقد إلا برضا عامة الناس. ولهم بهذا الصدد أبحاث طويلة ليس هذا موضع ذكرها، فليرجع إليها في كتب العقائد (وكتاب الأحكام السلطانية) للماوردي [*] ... ... ... ومما لا اختلاف فيه وجوب الطاعة للإمام لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) ، فإن طاعة الإمام العادل واجبة؛ ليتمكن من الأخذ بمقتضى العدل في تنفيذ الأحكام، وتوزيع الضرائب، وفصل الخصومات، وإقامة الحدود، وتجهيز الجيوش، وسد الثغور، وقهر المتغلبة، وبالجملة سائر ما يعود على المجتمع الإسلامي بالخير والمصلحة. قالوا: ومتى استقرت الخلافة العامة لمن هو لها أهل، فلا بد من استنابته في بعض الوظائف الموكولة إليه أناسًا ذوي كفاءة وعلم ودين: كالوزارة، والإمارة، والجباية والقضاء، وغير ذلك من الوظائف التي لا يمكن مباشرة جميعها بنفسه، والاستنابة فيها أصح في التدبير، وأدفع للخلل، وأجمع للنظام. وأهم الوظائف التي يستنيب فيها هي الوزارة. الوزارة اعلم أن الوزارة مرتبة جليلة من مراتب الدولة التي ينتظم بها الملك، وتشاد عليها دعائم الدولة؛ لهذا اشترط العلماء في الوزارة ما اشترطوه في الخلافة من الأحكام الجامعة لأوصاف العدل: كالأهلية، والكفاءة، والعلم، والصحة، والعقل. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه. وإن أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإذا ذكر لم يعنه) ، وقالوا: إن الوزارة على ضربين، وزارة تفويض (للحكومات المعتدلة) ووزارة تنفيذ (للحكومات المطلقة) . فأما وزارة التفويض فهي: أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده. وهذه بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المسؤولة في الحكومات المعتدلة؛ لأن للوزير فيها - متى استكملت فيه الشروط المعتبرة في وزارة التفويض - أن يحكم بنفسه، وأن يقلد الحكام، وأن ينظر في المظالم أو يستنيب فيها، وأن يتولى الجهاد بنفسه، وأن يقلد من يتولاه، وأن يباشر الأمور التي دبرها أو يستنيب فيها [1] . وبالجملة فقد قالوا في هذه الوزارة: إن كل ما صح عن الإمام صح عن الوزير إلا ثلاثة أشياء: (أحدها) ولاية العهد، (والثاني) أن للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة، وليس ذلك للوزير، (والثالث) أن للإمام أن يعزل من قلده الوزير، وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام. وما سوى هذه الثلاثة فحكم التفويض إليه يقتضي جواز فعله، على شرط أن يطالع الإمام بما أمضاه من تدبير وأنفذه من ولاية؛ لئلا يستبد بالأمر دون الإمام، وللإمام أن يتصفح ما يعرضه عليه الوزير؛ ليقر منه ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه، إلا الحكم في حق فإنه ينفذ على وجهه، أو في مال وضع في حقه، فإنه ليس للإمام استرجاعه. ووجه جواز هذه الوزارة في الإسلام، مأخوذ من قوله تعالى في القرآن حكاية عن موسى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} (طه: 29-32) فإذا صح مثل هذه الوزارة في النبوة فإنها في الخلافة أولى. وأما وزارة التنفيذ فإن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره، بحيث يكون الوزير كالواسطة بين الإمام والرعية، ينقل إليه ما وقع، ويؤدي عنه ما أمر، ويمضي عنه ما حكم، وينفذ ما ذكر. وهذه الوزارة بمثابة ما يسمونه الآن الوزارة المقيدة في الحكومات المطلقة، ومعنى تقييدها رجوعها في كل عمل إلى رأي السلطان وأمره فيما يراه، ويشترط في هذه الوزارة أوصاف الأمانة والصدق والفطنة كي لا يكذب فيما يبلغ، ولا يخون فيما يؤدي، ولا يدلس عليه، ولا يبعد الصواب عنه، وينسب التساهل في أمور الناس إليه. وقد رأيت كيف أن موسى الكليم - عليه السلام - طلب أن يجعل الله له وزيرًا من أهله وهو أخوه هرون، وأما نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فقد أشار إلى فضل الوزارة وما فيها من الموازرة بقوله عليه الصلاة والسلام: (وزيراي من أهل السماء جبريل ومكائيل، ووزيراي من أهل الأرض أبو بكر وعمر) [2] : أي أن الملائكة توازره بالوحي من السماء، وأبو بكر وعمر يوازرانه في الرض. وأما بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان أبو بكر يرجع في المشورة إلى عمر وعلي وأكابر الصحابة رضوان الله عليهم. ولما كانت الحكومة الإسلامية في صدر الإسلام أشبه بالحكومة الديموقراطية حذا حذو أبي بكر - في الرجوع إلى استشارة أهل العلم والرأي من أكابر سائر المسلمين - الخلفاء الراشدين، ومن أتى بعدهم من الخلفاء الأمويين، دون اتخاذ وزير مخصوص يسمى بهذا الاسم، أو يعطى شارة الوزارة، حتى قيام الدولة العباسية، وكان أول خليفة منهم السفاح، فاتخذ له وزيرًا أبا سلمة حفص بن سليمان، فكان أول من لقب بالوزير في دولة الإسلام، ومن ثم أصبحت الوزارة من الرتب الخاصة التي تجري عليها القوانين، وتدون لها الدواوين، على أشكال شتى كانت تترقى بترقي الدول الإسلامية، وتتدنى بتدنيها. *** القضاء إن ولاية القضاء خطة سامية، تتلو الوزارة في الأهمية، ولها في الشريعة الإسلامية شروط وأحكام، أفردت لها أبواب مخصوصة في كتب الفقه، لا مجال لإيرادها في هذا المختصر، وقد قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه، وقلد القضاء لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهم. وقد مر في هذه المقدمة ذكر الحديث الوارد بتقليد معاذ القضاء، ولم يرد في شريعة من الشرائع ما ورد في الشريعة الإسلامية من البيان بشأن القضاء وشروطه، وآدابه وأحكامه وحدوده، لهذا كان الخلفاء الراشدون يجلسون للقضاء بأنفسهم ويستنيبون أحيانًا من عرف بالعلم والنزاهة، وتحققت فيه الأهلية والكفاءة، وكذا من جاء بعدهم من الخلفاء الأمويين، وبعض الخلفاء العباسيين. ولما كانت المنازعات في صدر الإسلام، إنما تنشأ عن أمور مشتبهة، يترافع فيها الخصمان إلى القضاء ليوضحها الحكم، وتتعين فيها جهة الحق، فقد اقتصر خلفاء السلف على فصل المنازعات، والتشاجر بين الناس بالحكم والقضاء، لالتزام الناس جهة الحق، وانقيادهم إليه، ولما تجاهر الناس بالظلم، وتغالبت النفوس، وتغلبت الأهواء، واحتيج في رد الحق وتنفيذ الأحكام إلى القوة الإجرائية؛ تفرعت عن القضاء ولاية المظالم، فكان الخلفاء من بني أمية، منهم من جلس لرد المظالم بنفسه، كعمر بن عبد العزيز، ومنهم من أفرد وقتًا مخصوصًا للنظر في رقاع المتظلمين، ومنهم عبد الملك بن مروان، وهو أول من أفرد يومًا للنظر في الظلامات، وتصفح قصص المتظلمين، فما احتاج فيه إلى حل مشكل أو حكم منفذ رده إلى قاضيه أبي إدريس الأزدي، فكان هذا المباشر، وعبد الملك الآمر، ثم مع التمادي والتدريج، احتاج الخلفاء إلى جعل ولاية المظالم ولاية خاصة تتفرغ عن ولاية القضاء [3] ، فكانوا يختارون لها ذوي الهيبة وأهل السياسة، لتنفذ بواسطتهم قوانين العدل، وتستقيم طرق التناصف، وكان آخر من جلس بنفسه لرد المظالم من الخلفاء العباسيين المأمون، وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نظر في المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوام - رضي الله تعالى عنه - ورجل من الأنصار، وحضره صلى الله عليه وسلم بنفسه. *** الولاية وإمارة الحرب واللواء والجيش قد استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الإمارة كثيرين، منهم عتاب بن أُسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس، استعمله على مكة أميرًا سنة ثماني من الهجرة وولاة إمارة الموسم والحج بالمسلمين، وذكر الزمخشري في الكشاف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل عتاب بن أُسيد على أهل مكة وقال: (انطلق فقد استعملتك على أهل بيت الله) ، فكان شديدًا على المريب، لينًا على المؤمن، ومنهم باذان استعمله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على اليمن، وكان أميرًا عليها من قبل ملوك الفرس، وذكر المؤرخون أن باذان أول أمير أسلم من العجم، وأول أمير في الإسلام على اليمن. *** مطلب إم

لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة (تابع لما في الجزء الرابع ص 265) فصل وأما المؤاخاة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى بين المهاجرين والأنصار لما قدم المدينة، كما آخى بين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة حتى أنزل الله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} (الأنفال: 75) ، فصاروا يتوارثون بالقرابة، وفي ذلك أنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوَهُمْ نَصِيبَهُمْ} (النساء: 33) ، وهذا هو المحالفة، واختلف العلماء هل التوارث بمثل ذلك عند عدم القرابة والولاء محكم أو منسوخ؟ على قولين: (أحدهما) : أن ذلك منسوخ وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، ولما ثبت في صحيح مسلم عنه أنه قال: (لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة) (والثاني) : أن ذلك محكم، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى عنه. وأما المؤاخاة بين المهاجرين كما يقال: إنه آخى بين أبي بكر وعمر وأنه آخى عليًّا ونحو ذلك فهذا كله باطل، وإن كان بعض الناس ذكر أنه فعل بمكة، وبعضهم ذكر أنه فعل بالمدينة، وذلك نقل ضعيف: إما منقطع وإما بإسناد ضعيف، والذي في الصحيح هو ما تقدم من تدبر الأحاديث الصحيحة والسيرة النبوية الثابتة تيقن أن ذلك كذب. وأما عقد الأخوة بين الناس في زمامنا فإن كان المقصود منها التزام الأخوة الإيمانية التي أثبتها الله بين المؤمنين بقوله: ( {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه) ، وقوله: (لا يبيع أحدكم على بيع أخيه، ولا يستام على سوم أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه) ، وقوله: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه) ، ونحو ذلك من الحقوق الإيمانية التي تجب للمؤمن على المؤمن، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن، وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة. وإن كان المقصود منها إثبات حكم خاص كما كان بين المهاجرين والأنصار، فهذه فيها للعلماء قولان بناءً على أن ذلك منسوخ أم لا، فمن قال: إنه منسوخ - كمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه - قال: إن ذلك غير مشروع، ومن قال: إنه لم ينسخ - كما قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى - قال: إنه مشروع. وأما الشروط التي يلتزمها كثير من الناس في السماع وغيره مثل أن يقول على المشاركة في الحسنات: وأينا خلص يوم القيامة خلص صاحبه. ونحو ذلك، فهذه كلها شروط باطلة، فإن الأمر يومئذ لله، هو {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً} (الانفطار: 19) ، وكما قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} (الأنعام: 94) . وكذلك يشترطون شروطًا من الأمور الدنيوية ولا يوفون بها، وما أعلم أحدًا ممن دخل في هذه الشروط الزائدة على ما شرطه الله ورسوله وفى بها، بل هو كلام يقولونه عند غلبة الحال، لا حقيقة له في المآل. وأسعد الناس من قام بما أوجبه الله ورسوله فضلاً عن أن يوجب على نفسه زيادات على ذلك، وهذه المسائل قد بسطت في غير هذا الموضع، والله أعلم. ... قاله ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بن تيمية الحراني ... ... *** كتاب ابن تيمية إلى الشيخ نصر المنبجي الصوفي (قال الراوي) : كتاب كتبه الشيخ الإمام وحيد دهره، وفريد عصره، علامة زمانه، ناصر السنة، مؤيد الشريعة، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الحراني، فسح الله تعالى في مدته، وأعاد علينا من بركته، إلى الشيخ القدوة أبي الفتح نصر المنبجي سنة أربع وسبعمائة: بسم الله الرحمن الرحيم من أحمد بن تيمية إلى الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أبي الفتح نصر، فتح الله على باطنه وظاهره ما فتح به على قلوب أوليائه، ونصره على شياطين الإنس والجن في جهره وإخفائه، ونهج به الطريقة المحمدية الموافقة لشرعته، وكشف به الحقيقة الدينية المميزة بين خلقه وطاعته، وإرادته ومحبته، حتى يظهر للناس الفرق بين الكلمات الكونية والكلمات الدينية، وبين المؤمنين الصادقين الصالحين، ومن تشبه بهم من المنافقين، كما فرق الله بينهما في كتابه وسنته. (أما بعد) : فإن الله تعالى قد أنعم على الشيخ، وأنعم به نعمة باطنة وظاهرة في الدين والدنيا، وجعل له عند خاصة المسلمين الذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا منزلة علية، ومودة إليه لما منحه الله تعالى به من حسن المعرفة والقصد، فإن العلم والإرادة، أصل لطريق الهدى والعبادة، وقد بعث الله محمد - صلى الله عليه وسلم - بأكمل محبة في أكمل معرفة، فأخرج بمحبة الله ورسوله - التي هي أصل الأعمال المحبةَ التي فيها إشراك وإجمال، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: 165) ، وقال تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة: 24) . ولهذا كانت المحبة الإيمانية هي الموجبة للذوق الإيماني والوجد الديني كما في الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث من كن فيه، وجد حلاوة الإيمان في قلبه، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار) ، فجعل صلى الله عليه وسلم وجود حلاوة الإيمان معلقًا بمحبة الله ورسوله الفاضلة، وبالمحبة فيه في الله وبكراهة ضد الإيمان. وفي صحيح مسلم عن العباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً) ، فجعل ذوق طعم الإيمان معلقًا بالرضى بهذه الأصول، كما جعل الوجد معلقًا بالمحبة؛ ليفرق - صلى الله عليه وسلم - بين الذوق والوجد - الذي هو أصل الأعمال الظاهرة وثمرة الأعمال الباطنة - وبين ما أمر الله به ورسوله، وبين غيره، كما قال سهل بن عبد الله التستري: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل؛ إذ كان كل من أحب شيئًا فله ذوق بحسب محبته. ولهذا طالب الله تعالى مدعي محبته بقوله: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31) قال الحسن البصري: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله؛ فطالبهم بهذه الآية، فجعل محبة العبد لله موجبة لمتابعة رسوله، وجعل متابعة رسوله موجبة لمحبة الرب عبده. وقد ذكر نعت المحبين في قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) ، فنعت المحبين المحبوبين بوصف الكمال - الذي نعت الله به رسوله - الجامع بين منى الجلال والجمال المفرق في الملتين، قلنا: وهو الشدة والعزة على أعداء الله، والذلة والرحمة لأولياء الله ورسوله، ولهذا يوجد كثير ممن له وجد وحب مجمل مطلق كما قال فيه كبير من كبرائهم: مشرد عن الوطن ... مبعد عن السكن ... يبكي الطلول والدمن ... يهوى ولا يدري لمن؟ ... فالشيخ - أحسن الله إليه - قد جعل فيه من النور والمعرفة الذي هو أصل المحبة والإرادة ما تتميز به المحبة الإيمانية المحمدية المفصلة عن المجملة المشتركة، وكما يقع هذا الإجمال في المحبة يقع أيضًا في التوحيد، قال الله تعالى في أم الكتاب التي هي مفروضة على العبد، وواجبة في كل صلاة أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله يقول: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 1) قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة: 4) ، قال: مجدني عبدي، أو قال: فوض إلي عبدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) ، قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) ، قال: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل) . ولهذا روي أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في القرآن، ومعاني القرآن في المفصل، ومعاني المفصل في أم الكتاب، ومعاني أم الكتاب في هاتين الكلمتين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وهذا المعنى قد ثناه الله في مثل قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123) ، وفي مثل قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) ، وقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} (الرعد: 30) ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في نسكه: (اللهم هذا منك وإليك) , فهو سبحانه مستحق التوحيد الذي هو دعاؤه، وإخلاص الدين له دعاء العباد بالمحبة والإنابة والطاعة والإجلال والإكرام والخشية والرجاء، ونحو ذلك من معاني تألهه وعبادته، ودعاء المسألة، والاستعانة بالتوكل عليه، والالتجاء إليه، والسؤال له، ونحو ذلك مما يفعل سبحانه بمقتضى ربوبيته، وهو سبحانه الأول والآخر والباطن والظاهر. ولهذا جاءت الشريعة الكاملة في العبادة باسم الله وفي السؤال باسم الرب، فيقول المصلي والذاكر: الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، وكلمات الأذان، الله أكبر الله أكبر إلى آخرها ونحو ذلك. وفي السؤال {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) , {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} (نوح: 28) {رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلمجرمين} (القصص: 17) , {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (القصص: 16) , {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} (آل عمران: 147) , {رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (المؤمنون: 118) ونحو ذلك. وكثير من المتوجهين السالكين يشهد في سلوكه الربوبية والقيومية الكام

الشرق والغرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشرق والغرب رأي الشيخ محمد عبده أيام المجاورة بالأزهر في المسألة الشرقية ودسائس أوربة في الشرق قد أدرك الأستاذ الإمام في بدايته منذ كان مجاورًا في الأزهر من حقائق السياسة ودسائس الإفرنج في بلادنا من طريق الدين والسياسة، وتفرق كلمتنا، وتعصبنا الديني - ما لم يدركه بعد نصف قرن أو أكثر إلا الأفراد من المتمرسين بالسياسة في الشرق، فقد كتب في آخر سنة 1293 هـ الموافق لآخر سنة 1876 م مقالاً طويلاً في أعداد من السنة الأولى لجريدة الأهرام الأسبوعية، جاء فيه بعد كلام في فضائل الأوربيين ومزاياهم ما نصه: (إلا أن منهم من يتخذ هذه الفضائل اسمًا، ويتقلدها رسمًا، لتكون آلة لأعمالهم، وسلمًا لسوء آمالهم، خصوصًا الملك الكبير ذا الأرض الواسعة، والأقطار الشاسعة، الذي قد منح أهل مملكته تمام الحرية، حتى إنه لا يبيح لهم أن تدرس العلوم الفلسفية في مدارسهم الرسمية، بل الأهلية، بل إن أراد أحدهم أن يتبصر، اتخذ له كمينًا وتستر، وأولى أهل ملته من مقتضيات الحنو والشفقة، ما تنفطر منه قلوب أهل الرأفة والرقة، خصوصًا أهل دينه الكاثوليك الذين مزقهم كل ممزق، ونفى كثيرًا منهم إلى حيث لا يخاف ولا يفرق، وما ترك وسيلة إلى الاسترقاق إلا أقامها، ولا ذريعة إلى استعباد غيره إلا قص قصصها، كيف لا وقد تقلد رتبة البطركية التي هي مقدمة ركب الألوهية، فقام بمأموريته المقدسة ليؤدي بعض ما أسسه، وكتبه على نفسه من القيام بحقوق الإنسانية والتهافت على تقويم الحق على الوجه الأحق الأليق، فأوقد نيران الفتنة في بيوت أهل دينه الفقراء المحتاجين إلى رعاية دولتهم؛ ليجردهم من ذل الشوكة والقوة، ويلبسهم عز الضعف والمهنة، وينقذهم من ربقة الحرية التي قد نالوها حيث هم على حفظ عهودهم عاكفون، وعلى إصلاح أحوالهم الداخلية متألبون، يتدللون على دولتهم تدلل المعشوق على العاشق، وينالون منها ما ينال الولد من والده، أو الحبيب من محبه الصادق، وليستخلصهم من كل ذلك إلى فضاء عدله الذي قد بسط غطاءه على أنفاس أهل مملكته، وبحبوحة الحرية التي قد استعبد بها أبناء ملته، وقد صادقه على ذلك جل الممالك القاسطة، لما لكل واحد منهم من ساقطة ينتظر بها الالتقاط، وبذلك الملك المقدس في نيلها يكون الارتباط، وهم في ذلك ينادون ياللإنسانية، وياللحقوق المدنية، وتترنم منهم الخطباء على منابر الظلم والإجحاف بتلاوة آيات الإقلاع عن الإلحاد واقتناء شرف الإنصاف. (وإني لست الآن معهم في ميدان المحاكمة حتى أنبئهم أنه قد فعل ذلك بأبناء دينهم بل أبناء أوطانهم، وهم بمرأى من ذلك ومسمع، ما لا يصح في مثل هذه الأيام أن يسمع، وقد سودت بذلك وجوه الصحف، ومع ذلك لم يتحرك فيهم عرق الحماسة، ولا فتحوا في ذلك سجلات السياسة، وإن أمثال أولئك الكل لا يليق بهم مع هذه الدعوى التي بها منعوا بيع الرقيق قضاءً لحق المساواة، أن يجعلوا تلك الرأفة والرقة خاصة ببعض المقاطعات، أو منحصرة في جهة من الجهات، بل كان من الواجب أن ينظروا من وراء حجاب إلى خيوه وخوقند، كما نظروا جهارًا إلى الصرب والجبل الأسود، فإني لو تكلمت في هذا يطول، أو يجيبني مجيب بأنهم إلى الآن لم يبلغوا حد الكمال، حتى يفعلوا أفعال الرجال، ولا يتحرشون تحرش المغتال، وللإنسان كمال سوى ما هم فيه، وتلك التي تتوسم فيها العظم مباديه. ولكن أعجب لجعل المسألة شرقية وغربية، فإن العاقل يتفرس في ذلك أسرارًا خفية، تنبئنا عنها التواريخ القديمة والحديثة، وتحكي ما كانت تفعله القياصرة بالأكاسرة، والأكاسرة بالقياصرة، حيث كل من الشرقيين والغربيين - مع سعة أوطانه - ينتهز الفرصة للوثوب على الآخر، فهذا حقد بالميراث جدير بالاكتراث، إلا أنه لما جمعت الشوكة أسبابها وتوجهت نحو المغرب، وتركت الشرقيين بحمى يثرب، قويت من الغربيين المهاجمة، وبطلت من الشرقيين آثار رغبات عدو بلا معادي، ومبارز لا تصده الدواعي والعوادي، فخفي الأمر على غير بصير، وذهب على غير خبير. وما أوصل الشرقيين إلى هذا الحد سوى تفرق الآراء، واختلاف الأهواء، حتى إن بعض الناس ممن لا يُبالى بهم، يتهللون بسوء أحوالهم، ويبتهجون إذا بشروا بتسلط أعدائهم، وما ذاك إلا من تداني الهمم، وتراكم الظلم، والوقوع في حفرة الحيوانية، والانحطاط عن درجة الإنسانية، حيث فقدت منهم الغيرة والحمية، وذلك بدل أن ينبذوا في مثل هذه الأوقات جميع التعصبات الدينية، والاختلافات المذهبية لحماية أوطانهم ووقايتها من وطأة أعدائهم، الذين لا يرومون من الاستيلاء علينا معاشر الشرقيين إلا توسعة ممالكهم، والتمكن من استعبادنا بالدخول تحت حوزتهم، لنكون لهم خزينة عند الافتقار، وترسًا يقون به أوطانهم ورجالهم مما عسى يبرزه الاستقبال، وبعد ذلك يكون عارًا علينا أي عار، يذهب بهاؤكم، يتشفى منكم عدوكم، وينهدم بناؤكم، وينقطع من العزة رجاؤكم، أنتم يا معشر الشرقيين أبناء وطن واحد، تتشاركون في المنافع والمضار وسائر المقاصد، لا يمس أحدكم خير إلا نال الآخر منه مثل ما نال صاحبه، ولا توجه إليه خير إلا وهو إلى الآخر يتعاقبه، فما لهممكم تضاءلت، وخطباؤكم تمثلت. فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قَرَّ عينًا بالإياب المسافر ولم تخاطبوا عدوكم من صميم فؤادكم ... محا السيف أسطار البلاغة وانتحى ... إليك ليوث الغاب من كل جانب واذكروا إذ تسطر أحوالكم في صحف الرجال، ويستقبل بها ما يأتي من الأجيال، فإن أنتم أبرزتم حميتكم، ورعيتم حق وطنكم الذي منه ابتدئتم، وفيه سكنتم، ودافعتم عنه ببذل الأرواح فضلاً عن حسن المقال، وبالجملة سلكتم مسالك الرجال لا تهوس الأطفال، فتلك مآثر إنسانية تنالون بها مجدكم وفخاركم، وتمتلكون سعدكم، وحلية يختال فيها من تعقبونه بعدكم، وإلا فالعار والشنار لاحق بكم وليس إلا أن يحثى تراب الذل في وجوه أعقابكم، وانظروا إلى أحوال سلفكم؛ لتكون مرآة لأحوالكم، فإن قال قائل: إن الديانات ألقت بيننا إحنًا ... وأودعتنا أفانين العداوات فكل واحد منا يتوقد من صاحبه؛ لمخالفته له في مذهبه، ومناوأته إياه في مشربه، فكيف تميل تلك القلوب لرفع الشقاق، وجمع كلمة الاتفاق، والتخلص من خسة النفاق؟ فنجيبه: إن مثلنا في ذلك مثل أخوين تولدا من بطن واحد وأصل واحد، قد يقع بينهما بعض المنازعات المنزلية والمناوشات المعاشية، فيأخذ كلاًّ منهم ما شاء من الغيرة والحمية، ويكاد أن يفتك كل بالآخر، ومع كل ذلك إنهما عند اقتراح أجنبي على أحدهما يقوم الآخر بنصرته، ولا يحجم عن رد تبعته، فتلك العداوات الجزئية لا يصح لدى العاقل أن تضر بمصالحنا الكلية، وعلى فرض أن لو عدت تلك المزاحمات شيئًا يذكر، وأمرًا يصح إليه النظر، فما أشنع حال من ينتقم بيد الغير، ويلحق نفسه وعقبه عار السفاهة والضير، أين أنتم من (تيمستكليس) اليوناني الذي بعدما صنع المكايد مع (دارا) وهزمه، وجاهد ما جاهد في حماية وطنه، أقصاه اليونانيون وطردوه، وأجمعوا أمرهم على أن يقتلوه، فالتجأ إلى (دارا) يستنجده مما اعتراه، فأعظم منزلته، وأكرم مثواه، ثم إن (دارا) طلب منه أن يحشد جيشًا على اليونانيين، فقال: وجهني إلى أي مكان قاصٍ أو دانٍ سوى بلاد اليونان، فإنها وطني ومقر تربيتي، لا ترضى همتي بأن أقدمها لغير أمتي، وإنه وإن كان أهل اليونان طردوني، ولكن تراب اليونان ما صنع معي قبيحًا، فلما أغلظ عليه (دارا) في الطلب نادته هواتف الإنسانية إن ذلك من الموت أصعب، فاختار الموت على الحياة، وتناول السم ومات. ألا فانتبهوا من سنة الغفلة، واتخذوا لكم من الإنسانية ظلة، ومن الفضائل خلة واحذروا، وبالحمية الوطنية اتقوا واعتصموا. اهـ. (المنار) ليتأمل القراء وخاصة أهل سورية ولبنان آراء هذا الرجل التي كتبها منذ ستين سنة وهو مجاور الأزهر، يجدها عين ما انتهى إليه بحث المحققين من عقلاء الشرقيين بعد مكابدة الأحداث واختبار أوربة، ولا يزال الكثيرون من أهل بلادنا مخدوعين وراضين بأن يكونوا آلات بأيدي الأجانب.

العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العالم الإسلامي الدعوة الرسمية إلى مؤتمر الحجاز قد جدد السلطان عبد العزيز آل سعود الدعوة إلى عقد مؤتمر إسلامي في مكة، ولكن بصورة رسمية لا في الجرائد كما فعل أول مرة، فأرسل مكتوبات باسمه مختومة بختمه إلى الملوك والأمراء ورؤساء الحكومات الإسلامية: كمصر وإيران والترك والأفغان واليمن وتونس، وإلى أشهر الجماعات العلمية الإسلامية في الهند وسورية وفلسطين، وعبارة هذه المكتوبات واحدة لا فرق فيها إلا عناوين المرسلة إليهم، وإننا ننشر نص ما أرسله إلى إمام اليمن تخطئة للمقطم الذي زعم - تأييدًا لهواه - أن هذه الدعوة لم ترسل إليه، وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم السلطنة النجدية وملحقاتها مكة المكرمة 8 ربيع الآخر سنة 1344 هجرية عدد 221 من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرة الحسيب النسيب الأخ المكرم الإمام يحيى حميد الدين حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإننا نرجو لكم ولشعبكم النبيل كل خير وسعادة ويمن وتقدم، وإني لسعيد أن أمد يدي ليدكم الكريمة بالتعاون على خدمة الإسلام والمسلمين والبلاد الطاهرة، وإني مملوء ثقة أنه بتعاوننا على الخير سيكون السبيل السعيد لجميع الشعوب الإسلامية. يا صاحب الشهامة إني لست من المحبين للحرب وشرورها، وليس لدي شيء أحب من السلم والسكون والصفاء والهناء والتفرغ للإصلاح، ولكن جيراننا الأشراف أجبروني على امتشاق الحسام، وخوض غمرات الحرب خمس عشرة سنة لا في سبيل شيء سوى الطمع على ما بأيدينا، لقد صدونا عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، ودنسوا البيت الطاهر بكل نوع من الموبقات مما لا يتحمله مسلم. لقد رفعنا علم الجهاد؛ لتطهير بلد الله الحرام وسائر بلاد الله المقدسة [1] من هذه العائلة التي لم تترك سبيلاً لحسن التفاهم وحسن النية، ولما اقترفت من الشرور والآثام، وإني - والذي نفسي بيده - لم أرد التسلط على الحجاز ولا تملكه، وإنما الحجاز وديعة في يدي إلى الوقت الذي يختار الحجازيون لبلادهم واليًا منهم يكون خاضعًا للعالم الإسلامي، وتحت إشراف الأمم الإسلامية، والشعوب التي أبدت غيرة تذكر كالهنود. إن الخطة التي عاهدنا عليها العالم الإسلامي، التي لا نزال نحارب من أجلها مجملة فيما يلي: (1) إن الحجاز للحجازيين من جهة الحكم، وللعالم الإسلامي من جهة الحقوق التي لهم في هذه البلاد. (2) سنجري الاستفتاء التام لاختيار حاكم الحجاز تحت إشراف مندوبي العالم الإسلامي، ويحدد الوقت اللازم لذلك فيما بعد، وسنسلم الوديعة التي بأيدينا لهذا الحاكم على الأسس الآتية: (1) يجب أن يكون السلطان الأول، والمرجع للناس كافة هو الشريعة الإسلامية المطهرة. (2) حكومة الحجاز يجب أن تكون مستقلة في داخليتها، ولكن لا يصح لها أن تعلن الحرب على أحد، ويجب أن يوضع لها النظام الذي لا يمكنها من ذلك إذا أرادت. (3) لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات سياسية مع أية دولة كانت. (4) لا تعقد حكومة الحجاز اتفاقات اقتصادية مع دولة غير إسلامية. (5) تحديد الحدود الحجازية، ووضع النظم المالية والقضائية والإدارية للحجاز موكول للمندوبين المختارين من الأمم الإسلامية، وسيحدد عددهم باعتبار المركز الذي تشغله كل دولة في العالم الإسلامي والعربي، وسيضم لهؤلاء ثلاثة مندوبين من جمعية الخلافة وجماعة أهل الحديث وجمعية العلماء في الهند. هذا ما نويناه لهذه البلاد، وما سنسير عليه في المستقبل إن شاء الله تعالى، وإنا لنا الأمل العظيم في أن تسرعوا في إرسال مندوبيكم، وإخبارنا عن الوقت المناسب لعقد هذا المؤتمر، هذا ما لزم بيانه، وفي الختام تقبلوا ما يليق من التحيات والاحترام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ختم السلطان) *** خطبة الحكيم محمد أجمل خان في الهند فيما استفاده في رحلته الأخيرة قالت جريدة الخلافة الهندية الغراء: (انعقد في عاصمة الهند (دهلي) اجتماع عظيم حضره آلاف مؤلفة من علية القوم، وأهل العلم والفضل من الزعماء والرؤساء وقواد الأمة وساستها ورجال الأمة ومديري شؤونها، لسماع كلمات الزعيم الجليل مسيح الملك الحكيم محمد أجمل خان بعد عودته من سياحته التي استغرقت ستة أشهر كاملة) . وهذه ترجمة ما ألقاه عليهم: (قال) : إنني بعد أن قضيت عدة أشهر ستة في زيارة بلاد العرب، ومعظم الممالك الشرقية، عدت الآن بفضله تعالى إلى وطني ووطنكم المقدس. إن قلبي لمفعم بما رأيته أثناء رحلتي في بلاد تتطلعون دائمًا إلى معرفة شؤونها، والإحاطة بأفكار أبنائها، وآراء زعمائها السياسيين، ورؤسائها الدينيين، وما يتكنفهم من الأحوال والأهوال، وما هم عليه من الرقي والانحطاط، ولكن ضيق الوقت يحملني على طرق باب الاختصار، فأكتفي ببيان استنتاجي مما سمعته ورأيته في رحلتي هذه، وأما تفصيل الرحلة بأكملها فيذهب بأوقاتنا العزيزة سدىً، ونحن أحوج الناس إلى الوقت لتصريف أمورنا. زرت كثيرًا من الممالك الغربية، وألممت بأفكار عربية، ثم عدت إلى البلاد الشرقية المحبوبة كالشام ومصر وفلسطين وغيرها، قابلت أبناء هذه البلاد واختلطت بهم، ومكثت بين ظهرانيهم مدة نتبادل الآراء والأفكار، متجاذبين أطراف الأحاديث في مختلف الشؤون، فإذا روح النهضة القومية منتشرة فيهم، وإذا الشعوب الشرقية المهضومة يكادون يعرفون ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات، وإن في العالم الإسلامي اليوم حركة عظيمة جدية، تنبئ بتحقيق النتيجة المنشودة، وتخليص الشرق يومًا من الأيام من براثن الغرب، فتنال كل مملكة من ممالكه، وكل شعب من شعوبه حريته، ويسترد استقلاله، ولكن أيها السادة لا يمكنني تحديد ذلك اليوم المنشود، وإنما هو موقوف على مجهوداتكم الصادقة، وتضحياتكم واستهدافكم لأشد مما ذقتموه من العذاب والآلام في هذه السبيل، والله يحرسكم بعين عنايته إذا أخلصتم النية وصدقتم العزيمة. أيها السادة: إني رأيت ولاحظت في رحلتي هذه -ويالهول ما شهدت ورأيت- رأيت منظرًا مريعًا، ومشهدًا فظيعًا، وسيشاركني كل ذي غيرة على قومه ودينه في الأسف على هذا المصاب الأليم، مصاب الطبقة المتعلمة، رجال المستقبل المعقودة عليهم آمالنا والذين سينوبون عنا في الجهاد الديني والوطني، وسيتولون قيادة شعوبهم وصون كرامتهم وحفظ كيانهم، هذه الطبقة أخذت تنبذ الدين وراء ظهرها، وتترك صراط الله العزيز الحميد، أخذت تنحو نحو اللادينيين، وتميل إلى التفرنج أكثر مما تميل إلى عوائد قومهم واتباع سنن من قبلهم، فإذا استمر أفراد هذه الطبقة على هذه الحالة، وتمادوا في تجرع كأس اللادينية وإساغته، فعلى الوطن والوطنية والدين والمستقبل السلام. فويل للأمة، ثم ويل لها إذا تركت أبناءها في ظلمات الجهل بالدين وديجور الإلحاد. فالدين هو أمضى سلاح في يد الشعوب والأمم، يمكنهم أن يشقوا به غمام الظلم، ويثلوا به عرش الاستبداد والاستعباد، ومن الأسف الشديد أن هذه الحالة أخذت تنمو بسرعة شديدة في شبان الترك ومصر ومتعلمي البلاد العربية، وإبادة هذه الجرثومة القتالة في جسم الشرق المحبوب هينة في المبدأ، ففرض علينا منع تيارها الجارف، ويجب أن نقيم أمامه سدًّا منيعًا من التعليم الديني الحقيقي حتى لا ترتفع رايتها السوداء فتكتسح البقية الباقية. إن مسلمي العالم الإسلامي يكادون يكونون كتلة واحدة، وتتحد كلمتهم في مسألة الخلافة وضرورة مقامها؛ لإصلاح أمورهم الدينية والسياسية، وخير وسيلة لديهم لنيل مطلوبهم هذا انعقاد مؤتمر إسلامي عام، يجمع مندوبي العالم الإسلامي، فيبحثون فيما ينفعهم وما يضرهم، ويمهدون طريق سعادتهم الدنيوية والأخروية، إن أكثر الشعوب الإسلامية يرجحون عقد هذا المؤتمر في مكة المكرمة، وإن خالفهم بعض آخر في رأيهم هذا. ومما اطلعت عليه أثناء رحلتي أن الشعوب الإسلامية تعترف بما للهند من الخدمات البريئة عن الهوى، وتمتاز الأمة المسلمة الهندية في هذا الميدان بنزاهة أفرادها في الأغراض، وبراءة مجهوداتهم من المقاصد الخبيثة الذاتية، وأيضًا بما يتحملونه من أنواع المصائب وصنوف التضحية، وبذل النفس والنفيس في سبيل الإصلاح. فقد سمعتم الآن أيها السادة أخباركم وسيرتكم من أفواه إخوانكم الشرقيين إخوانكم في الدين والوطن، الآن علمتم فيمكنكم تقدير أعمالكم، يمكنكم بكل سهولة أن تستنبطوا منها أن صدوركم الواجفة بأنواع العذاب وضروب الآلام، وأن أيديكم البيضاء وغيرتكم الشماء على الدين والوطن، ومساعدتكم لإخوانكم، كل هذه قد أنتجت ثمرة، وستجنون ثمرها بقلب مطمئن وإيمان ثابت، والفضل في ذلك يرجع إلى التفافكم حول جمعية الخلافة التي لا تألو جهدًا في الوصول إلى نيل مقاصدها الشريفة، وحقوقها الشرعية، وكفانا برهانًا على خدمات هذه الجمعية، واعتراف الشعوب الإسلامية بخدماتها العظيمة، أنهم بدؤوا يقتفون أثر مناهجها، ويختارون مبادئها، ويترسمون خطاها. أيها السادة: إننا لا يمكننا يومًا من الأيام التخلص من براثن أعدائنا، أعداء ديننا ووطننا، أعداء الإنسانية الحرة، أنصار الظلم والاستبداد، أنصار الاستعباد والاستعمار، إلا إذا أصلحنا حال تعليم أبنائنا وربيناهم تربية صحيحة، وجعلنا محور التربية التعليم الديني، فإذا هم عرفوا الدين الحقيقي عرفوا الوطن وحقوقه وواجباته، فاسترخصوا كل تضحية دونه، وصانوا عرضه، وحفظوا بيضته، وإني ليسرني جدًّا أن هذه الفكرة سائدة في جميع الممالك الإسلامية، إلا أن التنفيذ لا يزال في حيز العدم) ثم ختم الخطيب كلامه بالثناء على الجامعة الملية الكبرى في دهلي وعلى أساتذتها، وبالدعاء بالنجاح والفلاح. *** خطبتان لعالم سوري في الهند أرسل إلينا صديقنا ووطنينا الأستاذ الفاضل الشيخ محمد عارف سلهب الطرابلسي هاتين الخطبتين اللتين ألقاهما في عليكره بالهند؛ فننشرهما إجابة لطلبه. *** الخطبة الأولى - ألقاها بعد قصة المولد أيها الإخوان: سعادة الدارين تكون بامتثال الأوامر الإلهية، وبحسن إيفاء الوظائف الاجتماعية، وتقديم المنافع العمومية على المنافع الذاتية، وبإنشاء المستشفيات والمدارس العلمية، وببث النصائح والحكم، وببيان أسباب تقدم الأمم، وبالاحتراز والتوقي مما يعوق التقدم والترقي، فالعلوم الرياضية وعلم الكيمياء والحكمة الطبيعية لا تخالف الحقائق الدينية، بل لها نفع عظيم في الاطلاع على الحقائق العلوية والأسرار الربانية، فإن الديانة الإسلامية كافلة لأنواع الاحتياجات البشرية، ومتكفلة ببقاء انتظام الهيئة الاجتماعية، وقد جاءت بالمصالح الدنيوية والأخروية، فمن تمسك بها نال السعادة العظمى، والشرف الأسمى. أيها الإخوان: من أراد سعادة الدارين فليتق الله فيما أمر، ولينته عما نهى عنه وزجر، وليشمر عن ساعد الجد والاجتهاد لنشر العلوم وإسعاد العباد، فيا سعادة من استعمر الأرض، وقام بالواجب والفرض، ونال حياة طيبة وشكر مولاه على ما أولاه، وجعل دنياه مزرعة لعقباه، ويا خسارة من كانت بضاعته كاسدة، وأخلاقه فاسدة، محرومًا من النعم الوافرة الفاخرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة. جاء في الرواية عن الإمام زوج البتول، وابن عم الرسول، باب مدينة العلم والمواهب، أمير المؤمنين علي بن أبي طا

اللادينيون في تونس ومصر وكتاب علي عبد الرازق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اللادينيون في تونس ومصر وكتاب علي عبد الرازق ما فتئت جريدة السياسة مصرة على ضلالها في التنويه بهذا الكتاب والثناء عليه وعلى مؤلفه، فذكرت أخيرًا أنها جاءها من مراسلها الخاص بتونس أنه كان للضجة التي قامت حولهما بمصر رنة استياء بين طبقات الأحرار والأدباء والمفكرين (أي: اللادينيين) ، وكذلك كان لموقف حزب الأحرار الدستوريين وجريدة (السياسة) الذي وقفاه انتصارًا لحرية الرأي وحرية النقد العلمي النزيه أثر حسن ووقع جميل لدى الطبقات التي عدته تسلية عما أصاب الإسلام خاصة والشرق عامة من آثار الموقف الأول المحزن، وعما يلحق الدين القيم دين التسامح من هذه النظرة الخاطئة التي سينظر إليه بها الغرب بعد تلك الضجة. (قال المراسل) : لكن بعض الجامدين من علماء وطلبة جامع الزيتونة، ومن الذين يتبعون خطة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) قد نظروا إلى المسألة من وجه آخر، واستصوبوا خطة زملائهم الأزهريين، وكان كتاب (الإسلام وأصول الحكم) حديث نواديهم طول هذه المدة، بل إن بعضهم قد عزم على الكتابة في الموضوع، وكان أول من بدأ منهم الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور كبير علماء المالكية ورئيس مجلسهم الشرعي (محكمة الاستئناف الشرعية) ، فنشر سلسلة مقالات في جريدة (النهضة) اليومية، لم تتم إلى اليوم، رد فيها ردًّا مطولاً على تفصيلات ما جاء في الكتاب، وستنشر (النهضة) - على ما اتصل بي من بعض محرريها - سلسلة مقالات أخرى بهذا المعنى للأستاذ الشيخ محمد بن يوسف وكيل المجلس الشرعي الحنفي ووكيل كبير علماء الحنفية أيضًا. وقد نشرت جريدة (الصواب) في أحد أعدادها كلمة ننقلها لقراء (السياسة) لأنها تعبر عن الرأي المستنير (؟) في قضية هذا الكتاب. قالت الرصيفة: برز أخيرًا بمصر كتاب ألفه أحد علماء الدين وسماه (الإسلام وأصول الحكم) . بحث فيه صاحبه بحثًا فلسلفيًّا، ونظر لما بين يديه من الحجج فاستخدمها بحرية وصراحة تامة، وقد تعرض فيما حبر إلى مسألة الخلافة، وصرح بأنها ليست من الدين في شيء، فقامت قيامة رجال الأزهر، وحاكمت مشيخة هذا المعهد الديني الشيخ المذكور، وبعد مرافعات ومناضلات جردته من رتبته العلمية ورفتته من كافة الوظائف التي كان يشغلها بدعوى أنه مرق من الدين، ولم يقولوا في حقه حسب العادة: إنه اجتهد وأخطأ فله أجر واحد) . ا. هـ هذا وقد منيت مصر بكثير من الحوادث على شاكلة كتاب (الإسلام وأصول الحكم) وظهرت فيها أفكار شتى من هذا القبيل، وناهيك بما وقع للشيخ محمد عبده - رحمه الله - وما اتهم به من مخالفة روح الدين الإسلامي بمناسبة فتوى البرنيطة (القبعة) والتذكية بالبلط وشركة جرشام الإنكليزية لتأمين الحياة، ومسألة حمل المطلق على المقيد في آيات الربا، ومع ذلك فقد اقتصر المعترضون على نقد ما قيل، وتتبعه بالرد إن مخطئًا وإن مصيبًا. وعلى هذا يظهر أن مصر قد سارت إلى الوراء ليس في الحرية السياسية فقط بل حتى في حرية القول في الشؤون الدينية التي هي ملك مشاع بين المسلمين، بشرط أن يكون ذلك ضمن دائرة المعقول، وبمقتضى منطوق ومفهوم النصوص الواردة على لسان صاحب الشرع صلوات الله عليه. أما سر هذه المصاولة والمقاومة العنيفة والتحامل من مشايخ الأزهر على ما يشاع، فإنما هو نيل رضا نواح معينة ذات مطامع في تَبْويء منصب الخلافة. وسواء كان ذلك حقيقة لا ريب فيها أو هو من باب اللغط والإرجاف الذي كان وما زال شنشنة العامة والبسطاء، فالذي يسوؤنا في هذه الحادثة بنوع خاص إنما هو تدخل أحد أعيان علمائنا في الأمر ووقوفه موقف الخصم العنود لهذا الشيخ الذي أراد - وإن أخطأ - خدمة الإسلام، وتخليصه من وصمات طالما ألصقها به الغربيون، ولله في خلقه شؤون) اهـ. (المنار) إن لجريدة السياسة غرضين في الانتصار لهذا الكتاب وصاحبه: (أحدهما) : سياسي، وهو ما أشار إليه مراسلها بتونس - الناطق بلسانها - في طعنه بإخلاص علماء مصر، وتعريضه بذلك المقام العالي، وهو ما يتجنب المنار الخوض فيه. (وثانيهما) : ديني اجتماعي، وهو أنها لسان حال اللادينيين في مصر، وأكبر مفاسد هذا الكتاب أنه يحاول هدم الشريعة الإسلامية من طريق الدين الإسلامي، فهي لهذا تنصره ولم تجد من مخازيه أهون من مسألة الخلافة، فجعلت جل خوضها فيها. وجميع اللادينيين في مصر وتونس على رأي أمثالهم من الترك يرون أن الخلافة سياج للشريعة مهما يكن حال المتولي لأمرها، فلا يسهل هدم الإسلام مع وجودها ولو بصفة ضعيفة. ونرى مراسل هذه الجريدة قد شايعها على المغالطة في التحزب له بدعوى المدافعة عن حرية الرأي، فزعم أن مصر رجعت فيها القهقرى، والصواب أنها زادت فيها قوة بل غلوًّا، فجريدة السياسة طعنت في الدين وفي كبار علماء الإسلام، ولم ينلها عقاب ولا حجز. وقد أخطأ المراسل في تسمية الطعن في الدين، وإنكار المجمع عليه من أحكامه وأصوله - اجتهادًا فيه، وتبع في هذا جريدة الصواب، وكان كل منهما أفضل من جريدة السياسة باعترافهما أن صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) أخطأ في اجتهاده، ولكن ما ذكره المراسل من شروط حرية الرأي في الإسلام ينافي كون الرجل اجتهد فأخطأ؛ لأنه خالف النصوص القطعية والإجماع الصحيح والمعقول، ولم يدفع شيئًا من شبه أعداء الإسلام عنه، بل كان طعنه فيه أقبح من طعنهم، ولذلك أثنوا عليه ونوهوا به. ومن أغرب ما تجرأ عليه هؤلاء اللادينيون بمصر وقلدهم فيه مراسل جريدتهم في تونس _ تشبيه شر الجناة على الإسلام بخير أنصاره في هذا العصر الأستاذ الإمام قدس الله روحه، ولم يخجلوا من جعل أنفسهم أولى بالأستاذ الإمام من أشهر مريديه وأنصاره بمصر وتونس، حتى في المسألة التي ذكروا إنكار بعض الحامدين على الإمام فيها، وهي الفتوى في ذبائح أهل الكتاب ولبس البرنيطة - فكما أن صاحب المنار كان أول مريدي الأستاذ الإمام الذين قاموا بنصره وتأييد فتواه في مصر - كذلك كان العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تونس، فقد كتب في ذلك رسالة نفيسة أرسلها إِلَيَّ في وقتها، ونوهت بها ولا تزال عندي بخطه. ولا يخجل اللادينيون اليوم من جعل مراسل السياسة المجهول وصاحب جريدة الصواب بتونس أولى بالأستاذ الإمام من صاحب المنار ومن العلامة المذكور والعلامة الشيخ محمد يوسف، وهما أشهر علماء المالكية والحنفية العارفين بحال العصر، القادرين على خدمة الإسلام في تونس، فإذا كان هذان الأستاذان العصريان يطعنان في كتاب الشيخ علي عبد الرازق فما القول في سائر علماء تونس الجامدين المتعصبين لكل ما في كتب الفقه والكلام، ورد كل ما خالف فقهاء مذاهبهم من غير نظر في الأدلة. وكأني بجريدة السياسة تقرن بهما قرينهما في العلم والفضل ومعرفة شؤون العصر العلامة الشيخ محمد الخضر بن الحسين نزيل مصر؛ لأنه ألف كتابًا من أنفس الكتب في إظهار جهل الشيخ علي عبد الرازق بالإسلام وجنايته عليه، سماه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) . فليهنأ الشيخ علي عبد الرازق وجريدة السياسة بانتصار جريدة الصواب لهما على هؤلاء العلماء الأعلام، وهي كأمثالها من الجرائد الأسبوعية في مصر ليست مما يعتد بفهمها ورأيها في مثل هذا الكتاب، ولعل صاحبها لو قرأه لما اغتر بخلابة ألفاظه وشعريَّاته، ولعلم أنه جان على الإسلام متعمد للتنفير عنه لا مخطئ في اجتهاده مع إرادته تخليصه مما ألصقه به الغربيون من الوصمات، والظاهر لنا أنه اغتر بكلام جريدة السياسة فكتب ما كتب، ولكنه على عدم قراءته للكتاب لم يتهور كما تهورت جريدة السياسة، فكانت جريدته أرقى منها.

تفسير المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفسير المنار تقريظ للأستاذ الفاضل الشيخ محمد أحمد العدوي من علماء الأزهر تفسير المنار فيما أعلم هو أمثل تفسير يتناسب مع روح العصر الحاضر: يتجلى فيه للقارئ عظمة التشريع الإسلامي بأسلوب جذاب، يفيض على قارئه هداية، ويبعث فيه روح الحياة العملية، ويعده لأن يكون عالمًا دينيًّا، وباحثًا اجتماعيًّا، وأستاذًا أخلاقيًّا، يريه أسباب تفرق الأئمة، ثم يعرفه كيف يجتمع شملها، ويبين له ما أدخله أعداء الدين عليه من البدع والمحدثات، ثم يرسم له طريق تطهيره منها. زد على ذلك ما يصدر به الآية من عقد صلة بينها وبين ما سبقها من الآيات، وبحث مستفيض في بيان لغة الآية واشتقاق كلماتها، ناقلاً له عن مصادر اللغة الموثوق بها. إذا تكلم على آية من آي الأحكام استوفى ما يتعلق بها من أصول، وما يرتبط بها من آيات وآثار، ويوفق بينها وبين ما عساه أن يتعارض معها من أدلة، ثم يتكلم على مآخذ الفقهاء بقلم ممتع، ويتخلص منها بما يتفق والآيات الواردة في موضوعها وترضاه السنة الصحيحة، ويتناسب مع سوقها العربي. وإذا تعرض لآية من آيات الاجتماع وجدته أعجب وأغرب، تراه قد بنى فلسفته على سنة الله في الكون، ونواميسه في الخليقة، ونظامه في الأمم والشعوب، فيصدقه في نظرياته، ويسلمه من العطب في منطقه شأن كل كاتب يعول على أساس صحيح وحجة ناهضة. وإذا مرت به آية من آيات الأصول والعقائد بينها على وجه يؤيده سلف الأمة الصالح، والدليل الراجح، وتشهد له القرون الأولى، ووقف عند ما رسمه الله له، فلا يخوض في أمور غيبية إلا بإذن من الله تعالى، ويرى في ذلك السلامة للدين، والبعد عن مواطن الشبه. وإذا تكلم في تاريخ الرسل والأنبياء صلوات الله عليهم، وما كان من قومهم معهم أبان للقارئ أن سنة الله تعالى مع كل من عصاه أن يصب عليه سوط غضبه، ويحل به عاقبة انتقامه، وسنة من أطاع ربه ونصر داعيه أن يستخلفه في أرضه، ويبدل ضعفه قوة، وذله عزًّا. وإذا كتب في آية من آيات الأخلاق ترى منه الوجدان الصادق والناقد البصير، يرغب في الفضيلة، وينفر من الرذيلة، يوازن بين الخُلق الإسلامي والخُلق العصري (الغربي) بما لا يدع للشك مجالاً، وللريبة موضعًا، ويُرِي القارئ أن الخُلق الصحيح إنما هو الخُلق الإسلامي الذي أتى به القرآن الكريم، وبينه الرسول الصادق صلى الله عليه وسلم. ولعل القارئ لو قرأ كما قرأت، لوجد من مزاياه أكثر مما وجدت. وحسبه إنه على طريقة شيخه الأستاذ الإمام في التفسير الذي كان يلقيه على تلاميذه بالأزهر، جزاه الله وجزى تلميذه عن الدين خير الجزاء.

القضايا الدينية في المحاكم ونتائج الحرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ القضايا الدينية في المحاكم ونتائج الحرية إن ما أحدث في مصر منذ عهد إسماعيل باشا من الحرية في الاعتقاد والقول والعمل قد كان سببًا لمفاسد كثيرة ومصالح قليلة، استباح الكثيرون به الفسق والفجور، وراجت أسواق البدع، وتجرأ المنافقون على إظهار الكفر والطعن في الدين، وجبن علماء الدين وقبعوا في كسور بيوتهم وزوايا مدارسهم ومساجدهم، فلم يبرزوا للإنكار على الفاسقين، ولا لنضال المرتدين؛ لأن الحرية ومخازيها جاءت من قبل الأمراء والحكام، وقد كان أول صوت سمع في الإنكار على مفاسد الحرية التي يجب أن تتقى، وفي بيان منافعها التي يجب أن تجتنى، شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في إثر توليته إدارة المطبوعات ورياسة تحرير جريدة الحكومة الرسمية (الوقائع المصرية) إذ دخلت البلاد في عصر جديد من الإصلاح في أول عهد إمارة توفيق باشا بتولي رجل مصر الأكبر مصطفى باشا رياض للوزارة، كان الأستاذ الإمام وإخوانه ومريدوه خطباء منبره، وفرسان حلبته، حتى إذا قضت الثورة العرابية على ذلك العهد المسعود، وانتهت بالاحتلال البريطاني المنحوس، وصلت حرية الفساد والشر إلى آخر حدود الإسراف، ولم تكن حرية الصلاح والإصلاح محظورة، ولكن الاستبداد السابق، والفساد اللاحق، أضعفا الاستعداد، وقَلَّلا أهل الرشاد والإرشاد، حتى إذا ما انتهت مدة نفي الأستاذ الإمام وعاد إلى مصر، طفق يطرق أبواب الإصلاح في جميع المصالح الرسمية وغير الرسمية، فلم يجد على شيء منها أعوانًا حتى قال لي: إن هذه الحرية المطلقة للأمة (دون الحكومة) في القول والعمل الشخصي والاجتماعي كانت كافية لإصلاح البلاد والنهوض بها إلى ذروة الفلاح والاستقلال، لولا فساد الأخلاق الذي بذرت بذوره في عهد إسماعيل باشا. ولما شرعنا في الإصلاح الديني والاجتماعي بإنشاء المنار وجدنا من كثير من العلماء الجامدين وشيوخ الطريق الخرافيين، مقاومة عنيفة، ودسائس كثيرة، ومن أمير البلاد وأحزابه تحريضًا شديدًا، سببه تنويه المنار بالأستاذ الإمام، وثناؤه عليه ودفاعه عنه. ولكن لم تستطع تلك الدسائس والتحريضات أن تسكت المنار، ولا أن تقطع عليه طريق الإصلاح، فانتشرت الدعوة حتى في الأزهر بالرغم من عصبية العلماء الجامدين، أعداء أنفسهم، وأعداء الكتاب والسنة، الذين يعذرون أنفسهم بالمحافظة على فقه الأئمة، وهم لم يستطيعوا بهذا الفقه الذي لا يعرفون منه إلا أماني من كتب المتأخرين والمقلدين أن يدفعوا عن الإسلام شبهة، ولا أن يميتوا به بدعة، ولا أن يحيوا به سنة، ولا أن يحيوه هو أيضًا، فهو يموت بين أيديهم وأيدي حكامهم، فيدفنونه ويهيلون عليه تراب القوانين وآخرها قانون الأحكام الشخصية الذي ساعد الحكومة عليه بعضهم وسكت الباقون، بل لم يمنعهم من نصر البدع والطعن في دين المنكرين على أهلها ونبزهم بالألقاب، ثم السعي لحكم الحاكم عليهم إما بالعقاب وإما بالكفر، وما يترتب على الردة من الأحكام كالتفريق بين المرء وزوجه. وقد رفعت عدة قضايا للمحاكم الشرعية والأهلية في قضايا تتعلق بالردة عن الإسلام، وبمخالفة تعاليمه وإهانة شعائره بعضها حق وبعضها باطل (أهمها) قضية رجل انتحل دين البابية البهائية، وزعم أنه لا ينافي الإسلام، فحكمت المحاكم الشرعية ابتداءً واستئنافًا بردته، والتفريق بينه وبين امرأته. وحكمها هذا حق ووددنا لو اطلعنا على صورته وأسبابه لننشرها في المنار، وقد ذكرنا من قبل حكم محكمة دمنهور الشرعية بردة الشيخ محمد أبي زيد بالباطل وتبرئة محكمة الاستئناف له بالحق. قضية الشيخ عبد الظاهر: (ومنها) قضية بعض أنصار البدع والخرافات على الشيخ عبد الظاهر محمد أبي السمح أحد دعاة السنة وأعداء البدع، فإنهم بعد ضروب من التهم والإيذاء له ونبزه بلقب الوهابي، أي: المتبع للسلف، حملوا النيابة العمومية على مقاضاته على ما اتهموه به، فرفعت عليه قضية في محكمة العطارين بالإسكندرية فحكمت ببراءته، ولدى استئناف الحكم حكمت محكمة الاستئناف بتأييده، وهذا نص حيثياته: حيث إن النيابة العمومية اتهمت المذكور بأنه في سنة 923 وما قبلها بدائرة قسم الرمل دنس رموزًا لها حرمة بإحدى المساجد، بأن صعد المنبر وأخذ البراقين [1] ، وألقى بهما في الأرض، وبأنه أيضًا في الزمان والمكان المذكورين تعدى على الدين الإسلامي، وعرض بصاحب الشرع بأنه كان يخطب في المساجد والمجتمعات، وينشر تعاليم مهينة لآداب المذهب ومناقضة لتعليماته المعروفة، وطلبت عقابه بمقتضى المادتين 138 و139 عقوبات، والمتهم حضر أمام الجلسة، وأنكر التهمة، وأجاب بما هو مدون بالمحضر. وحيث إن التهمة المنسوبة هي إلقاؤه البراقين في المسجد وتعديه على الدين الإسلامي، وحيث إنه بالنسبة لإلقائه براقين في المسجد، ففضلاً عما هو ثابت من أن هذا العمل حصل من مدة تزيد عن الأربع سنوات، فإن إلقاءها لا عقاب عليه قانونًا إلا إذا كان قصد المتهم من إلقائها إهانة الدين، وثابت من أقوال المتهم أن قصده كان بعيدًا عن هذه الإهانة؛ إذ علل إلقاءه لهذين البراقين بنفي نسبتهما إلى السلف الصالح، وعليه فيتعين براءته من هذه التهمة. وحيث إنه بالنسبة لتعدي المتهم على الدين الإسلامي، وتعريضه بصاحب الشرع بنشر تعاليم مهينة ومناقضة للدين، قدم المتهم مذكرة بدفاعه عنها تاريخها 26 يناير سنة 1924. وحيث إن المحكمة ترى من الاطلاع على هذه المذكرة ما يؤخذ منها صراحة أن المتهم ما كان يطعن ولا يقصد التعريض بالدين، بل إنه كان يفسر القرآن والأحاديث بما يراه ويعتقده صحيحًا، وحيث إن المحكمة لا تثق بما جاء عن لسان الشهود مما زاد عما جاء بهذه المذكرة؛ إذ لو كان لأقوال هؤلاء الشهود صحة لانفض من حوله من يستمعون لدروسه، الذين شهدوا أن المتهم لم يحصل منه طعن في الدين. وحيث إنه لذلك تكون التهمة المنسوبة إلى المتهم غير صحيحة، ويتعين براءته منها عملاً بالمادة 172 ج. فلهذه الأسباب وبعد رؤية المادة السالفة الذكر حكمت المحكمة حضوريًّا ببراءة المتهم مما أُسند إليه وأعفته من المصاريف. هذا الحكم حكمت به المحكمة بجلستها العلنية المنعقدة في يوم 12 أغسطس سنة 1924 و11 محرم 1343. وبعد أن صدر هذا الحكم بالبراءة استأنفته النيابة يوم صدوره. وبجلسة 6 ديسمبر سنة 1924 و9 جمادى الأولى سنة 1343 نظرته محكمة الاستئناف الأهلية، وأيدته تحت رياسة حضرة حسن بك زكي محمد القاضي وبحضور حضرتي محمد بك حسن عزت وحليم بك برسوم القاضيين وحضور حضرة حسن أفندي لطفي وكيل النيابة وأحمد زكي أفندي السيسي كاتب المحكمة وهذا نص حيثيات الحكم: المحكمة: بعد سماع التقرير الذي تلاه حضرة محمد بك حسن عزت وطلبات النيابة العمومية وبعد الاطلاع على الأوراق والمداولة قانونًا. حيث إن الاستئناف مقدم في الميعاد القانوني فهو مقبول شكلاً، وحيث إن الحكم المستأنف في محله للأسباب الواردة به والتي تأخذ بها هذه المحكمة فيتعين تأييده. فلهذه الأسباب وبعد رؤية المادة 172 ج حكمت المحكمة حضوريًّا بقبول الاستئناف شكلاً، وفي الموضوع برفضه وتأييد الحكم المستأنف بلا مصاريف.

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (مجموع أدبي تاريخي [*] ) (1) رواية آخر بني سراج. (2) (خلاصة تاريخ الأندلس) إلى سقوط غرناطة. (3) كتاب أخبار العصر، في انقضاء دولة بني نصر. (4) أثارة تاريخية، في أربعة مرسومات سلطانية أندلسية. نشر في هذه الأيام مجموع مطبوع مشتمل على هذه الآثار التاريخية الأربعة المتعلقة بتاريخ الأندلس، ذلك الفردوس الأرضي الذي كان أبدع مظهر للحضارة الإسلامية والثقافة العربية، والموازنة بينهما وبين ما يقابلهما وما قاومهما من الحضارة الأوربية التي وسموها بالمسيحية، ولم تكن قبل ولا هي الآن من المسيحية في شيء. فأما الرواية فهي تاريخية غرامية أدبية، ألفها بالفرنسية الفيكونت دوشاتوبريان الكاتب الفرنسي الشهير فأجاد، وراعى فيها حق العرب والمسلمين وشعور الأسبانيين على سواء، بما أورده من تنازع سلطان الغرام في كل من العاشقين العربي المسلم والأسبانية المسيحية، وسلطان الدين والنفرة الجنسية، فلم يأت بشيء نستنكره نحن، ولا بشيء يستنكره الآخرون. وقد ترجمها باللغة العربية الأمير شكيب أرسلان الشهير في أول عهده بالترجمة والتأليف، وطبعت الطبعة الأولى في مطبعة الأهرام سنة 1897 م، وترجمتها تشهد له بالإجادة ومتانة الإنشاء وسعة المادة اللغوية منذ عرفت أنامله الأقلام. وموضوعها سياحة شاب من بقايا آل سراج من سروات الغرناطيين في الأندلس حَنَّ إلى ذلك الوطن الذي عمره آباؤه وملكه قومه بضعة قرون، فشد رحاله من تونس إلى غرناطة، قال المترجم: (وبينما هو يجول في غرناطة مسكن أهله قبل الجلاء الأخير، ثمالة ما كان بقي في يد الإسلام من ذلك النعيم والملك الكبير، كانت منه لفتة وقع بصره فيها على فتاة من سريات الأسبانيول فعلقت بقلبه، ووقع نظرها منه على مثلها؛ فتعاشقا وتوزعت القصة بين حبها وحبه، وحال دون اقترانهما إعجاب كل منهما بدينه وإخلاصه لربه، ثم ما تبين لابن سراج بعد طول العشرة من كون معشوقته سلالة من آل بيفار الفاتكين - لدن الجلاء - بآبائه، فرأى اختلاط دم القاتل بدم المقتول غير خليق بآبائه، ولا ممتزج بشيمة وفائه، بل مضى كل من العاشقين بحبيبه صبًّا، قد اختلطت مهجتاهما حبًّا، ولم يفرق بينهما إلا الدين وإلا المودة في القربى) . ثم ذكر من أسباب ترجمته إياها: ما تضمنته من آداب المحبين، وما فيها من وصف مكارم الأخلاق، ومزايا الأشراف من الفرسان، والاطلاع على كثير من الصفات الملكية متزحزحة عن أفق الملأ العلوي إلى عالم الإنسان، استدلالاً على بديع صنع الله حين يجمع بين الحسن والإحسان، ثم ذكر منها التلذذ بذكرى السلف، والاستقراء لآثار العرب. وهذا السبب الأخير وهو الاجتماعي التاريخي، له الشأن الأعلى في قلب كل مسلم وكل عربي؛ لأن لحضارة الأندلس وآدابها من شعور اللذة المعنوية في هذه القلوب ما لا يقل عن شعور آدم - عليه السلام - بذكرى جنته، ثم إن لنكبة الأندلس وما كان من تعصب الأسبانيين وإكراههم المسلمين على التنصر وقسوتهم في استئصالهم من الأندلس - آلامًا في هذه القلوب كبارًا، لا يزال جرحها نغارًا. *** (خلاصة تاريخ الأندلس) وأما خلاصة تاريخ الأندلس فهو من تأليف الأمير، قصد أولاً أن يكون ذيلاً وجيزًا لهذه الرواية تفهم منه وقائعها، وتظهر مقاصدها، فما زال يسيل مداد القلم بما يمده به ذلك العلم الواسع بالتاريخ، حتى كان مؤلفًا حافلاً لا يوجد له باللغة العربية نظير، وقد راجع فيه أشهر ما كتب مؤرخو الأمم الأوربية في هذا الموضوع، ولم يكتف بما لخصه صاحب نفح الطيب من أخبار سقوط غرناطة، وأسباب زوال ملك العرب من الأندلس، فإنه قليل ووجيز، على أنه من أهم ما يجب تدوينه من وقائع التاريخ لما فيه من العبرة للمتأخر بسيرة من قبله، ولا سيما أسباب قيام الدول وسقوطها، وارتفاع الأمم وهبوطها، فعرب الأندلس يهم كل عربي وكل مسلم أن يعرف كيف كان آخر عهدهم بتلك المملكة الأوربية التي أسسوا حضارتها، وكانوا أساتيد أوربة بها. وقد نشرنا في الجزء الثاني من هذا المجلد (26) نموذجًا من هذا التاريخ وهو معاهدة صلح غرناطة بين مسلمي العرب ونصارى الأسبانيول، وما كان من نقض هؤلاء للمعاهدة عروة عروة، وإكراههم المسلمين على التنصر أو الجلاء عن البلاد، حتى لم يبق منهم أحد، وفي الكتاب من أخبار المعارك واستبسال المقاتلين ما هو من غرائب التاريخ، كما أن فيه من غرر القصائد ووصف المعاهد ما يعد من ألطف الآثار الأدبية الأندلسية. وأما كتاب أخبار العصر فهو تاريخ وجيز لآخر عهد المسلمين بتلك الديار لمؤلف شهد المعارك بنفسه، ولم يذكر في الكتاب اسمه. وأما الأثارة التاريخية في المراسيم السلطانية الأندلسية، فهو نموذج تاريخي أدبي من إنشاء ذلك الوقت، وفي الحالة السياسية الروحية التي حملت السلطان الأندلسي على كتابة تلك المراسيم لبعض قواد الأسبانيين. زادت صفحات هذا المجموع على أربعمائة صفحة من قطع المنار، قد طبع الطبعة الثانية بمطبعة المنار على صنفين من الورق، وجعل ثمن النسخة من الورق الجيد 20 قرشًا مصريًّا صحيحًا، ومن الورق المتوسط 15 قرشًا، وأجرة البريد 3 قروش في مصر و4 قروش في الخارج. *** (الدعاية إلى سبيل المؤمنين) الأستاذ الشيخ أبو اسحاق إبراهيم آل يوسف أطفيش الجزائري من علماء المسلمين العصريين الذين يلقبهم المنار بحزب الإصلاح المعتدل، أي: الذين يدعون إلى الجمع بين هداية الدين الحق اعتقادًا وأدبًا وعملاً وبين ما يتفق معها من مدنية العصر المبنية على قواعد السيادة والاستقلال والقوة العسكرية والثروة، وإن بين هذا الفريق من عقلاء الأمة الإسلامية وبين مقلدة الجامدين من (حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب) نزاعًا مستمرًا، وقتالاً مستحرًا، ميدانه الطروس وأسفه الأقلام، وإن كتاب (الدعاية إلى سبيل المؤمنين) وهو أول أثر من أثار هذا الأستاذ الغيور في هذا الجهاد - أبرزته المطابع لنا بعد هجرته إلى مصر وإلقائه عصا السير فيها، رد فيه على رسالة لأحد المتطفلين على التأليف من أولئك الجامدين، الذين أصبحوا فتنة للكافرين، وحجة على الدين الذي يدعون من علمائه بغير حق، فهم يعارضون المصلحين في كل قطر، لحثهم المسلمين على العلوم والفنون والصناعات التي تتوقف عليها القوة والسيادة في هذا العصر، وقد كان هؤلاء سبب ارتداد أكثر من ارتد عن الإسلام في هذا الزمان من الترك والعرب والفرس وغيرهم. ولم يذكر المصنف اسم هذه الرسالة ولا اسم مؤلفها ولا بلده؛ لئلا يكون دالاًّ على الضلالة للمستعد لها، وقد وصلت إلينا رسائل من قبيلها لبعض خطباء الفتنة في الشام، ومدعي الغيرة على الدين عند العوام، فأرجأنا الرد عليها إلى فرصة نقرؤها فيها. وقد لخص صديقنا المؤلف مسائل تلك الرسالة التي رد عليها في عشر (منها) ذم الفلسفة، والعلوم العصرية، والأسلوب العصري، والتعليم، والفصاحة، والبلاغة، ومدح الخمول، والذل، والاستكانة! ! وقد استطرد المصنف في الرد إلى مسائل إصلاحية كثيرة تقتضيها حالة العصر، وترجمة بعض علماء الإباضية - وهو منهم - في الشرق والغرب، وقد بلغت صفحات كتابه هذا 176 من قطع رسالة التوحيد والإسلام والنصرانية، وطبع في المطبعة السلفية في سنة 1342 على ورق جيد وثمن النسخة منه. *** (أسرار البلاغة) نبشر طلاب علوم البلاغة وآداب اللغة العربية بأننا قد أعدنا طبع هذا الكتاب المنقطع النظير في هذا الباب بإلحاح وزارة المعارف بطلبه في كل عام مصححًا على نسخة الأستاذ الإمام التي قرأها للعلماء والطلاب في الجامع الأزهر، وأودعنا حواشيه جميع تعليقاته عليها، وجعلنا ثمن النسخة منه على حسن ورقها وزيادة مادتها 25 قرشًا بدلاً من 35.

الثورة السورية والحكومة الفرنسية والتنازع بين الشرق والغرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الثورة السورية والحكومة الفرنسية والتنازع بين الشرق والغرب حدثت في أوائل الصيف من هذا العام الشمسي (1925م) ثورة في سورية لم يسبق لها نظير، اقتدح زنادها زعماء دروز حوران، وتولى القيادة العامة لها سلطان باشا الأطرش الشهير، وقد سبق لهم ثورة أخرى كان هو قائدها أيضًا، ولكنها كانت ثورة صغيرة موضعية، وأما الثورة الأخيرة فهي ثورة سورية كبيرة، لا يزال يمتد لهيبها ويتطاير شررها، ولم تكن قسوة السلطة العسكرية الفرنسية وشدتها في مقاومتها إلا كمحاولة إطفاء النار بزيت البترول والبنزين والبارود، أي لم تزدها إلا قوة واشتعالاً، وقد أسرفت السلطة في القسوة حتى إنها دمرت المئات من القرى والمزارع على رؤوس أهلها، وأطلقت المدافع وقذائف الطيارات على الأحياء الإسلامية خاصة من دمشق، فتبَّرت أهمَّ أحياء المدينة عمرانًا وثروة وآثارًا قديمة، وقتلت عددًا كثيرًا من النساء والرجال والأطفال، وخرج كثير من المخدرات من بيوتهن مع أطفالهن ما بين حافيات وناعلات هائمات على وجوههن، وأجهض كثير من الحوامل، وَجُنَّ مَنْ جُنَّ مِنَ العقائل، وفعلت السلطة نحوًا من ذلك في مدينة حماة التاريخية أيضًا، فقتلت من قتلت، ثم عذبت من عذبت من الأبرياء كما ثبت بمحاكمتهم في محكمة عسكرية فرنسية. ليس من موضوع المنار استقصاء الحوادث التاريخية، ولا من دأبه الوصف الشعري ولا المبالغة في تصوير حقوق أمته ومصالح قومه، أو هضم حقوق خصومهم، ولا سيما إذا كان بالباطل، وإنما موضوعه الذي يعنى به قبل كل شيء بيان الحقائق وفلسفتها ووجوه العبرة فيها، وبذل النصح لكل مستعد لقبوله، وتقرير المعروف للترغيب فيه، وإنكار المنكر للزجر عنه، وإنني أذكر هنا من الحقائق ما يعترف به المنصف وإن كان من خصومنا أنفسهم. *** جناية رجال فرنسة على سورية وعليها (1) إن ما عمله رجال فرنسة في سورية في بضع سنين قد حمَّل حكومتهم نفقات باهظة تقدر ببضعة ألوف الملايين من الفرنكات، قيل: إنها لو قسمت على هذه السنين لأصاب كل سنة قرابة ألف مليون، وخسرت به صيتها الأدبي وسمعتها السياسية والإدارية، حتى إن أشد الناس كرهًا للترك وطعنًا فيهم صار يرفعهم فوق الفرنسيس درجات كثيرة. وقد كان ما نشر من أنباء موبقاتهم في هذه المسألة من المقالات في الجرائد وما نظم فيها من القصائد، مُشَوِّهًا لسيرة فرنسة في المشارق والمغارب، وهادم لما شيدته لنفسها من حسن الصيت في عدة أجيال، أو من عهد ثورتها الكبرى إلى الآن، تلك الثورة التي ثل شعبها فيه عرش ملوكهم الظالمين، وينكرون ما دونها على السوريين، فهم يفخرون بمقاومة الفرنسي للظالم له ولو من قومه، ويذمون مقاومة السوري لظالمه الأجنبي عنه! ! ولو كان ما فعلوه في سورية خيرًا لهم وموافقًا لمصلحتهم، لما كان لنا أن نتكلم فيه معهم، ولكن ثبت به أن احتلال فرنسة لسورية كان شرًّا لسورية، وشرًّا لحكومة فرنسة وشعبها جميعًا، وأن حكومة فرنسا هي الظالمة لشعبها بما تحمّله من أعباء هذه النفقات الثقيلة في هذه السنين النحسات، وهي أحوج إليها في عسرتها الحاضرة، وبما تحمله على سفك دمه فيما ليس له منه فائدة مادية ولا أدبية، بل فيما فيه ضياع الفائدتين معًا، وأما الظالم للحكومة الفرنسية نفسها في هذا وأمثاله فهم الرجال الذين توليهم أمر البلاد، وتطلق لهم فيها العنان، فيعيثون فيها فسادًا، ويسمُّون إفسادهم إصلاحًا، ويتخذون لهم شهداء من أنفسهم ومن صنائعهم وعمالهم في البلاد، ومن المشاركين لهم في غنائمهم من أرباب رؤوس الأموال وأصحاب الصحف ورجال الأحزاب في فرنسة، يكذبون على الحكومة، ويرونها الباطل حقًّا، والمفسدة مصلحة، ويطعنون لها في الأحرار الصادقين، إذا تظلموا أو احتجوا عليهم، ويوهمونها أن ما يتظلمون منه ما هو بظلم، بل هو عين العدل والفضل، ولكنهم ينكرون الجميل ويغمضون الحق، إما لبغضهم لفرنسة لخبث طباعهم أو تعصبهم، وإما لمطامع لهم باطلة لم يجدوا مع العدل الفرنسي وسيلة إليها، وإما خدمة لدولة أخرى أجنبية يعملون لها. *** تفسير الانتداب الفعلي والقولي (2) كل هذا التقتيل والتعذيب، والتخريب والتتبيب، والتدمير والتتبير، وما يتبعه من المغارم والمآثم، وموبقات الفضائح والمحارم، كله تفسير وتنفيذ بالفعل لكلمة جديدة وضعت في معاهدة الصلح بعد حرب المدنية في قاموس السياسة، وهي كلمة (الانتداب) . وضعت هذه الكلمة دولُ الحلف البريطاني الفرنسي الذين كانوا يسمون قتالهم للتحالف الجرماني بقتال الحق والعدل والحرية والحضارة، وليس كذلك بل هو للباطل والجور والهمجية واستعباد الأمم، وفسروه بأنه عبارة عن مساعدة الشعوب المحررة من العبودية الجديرة بالاستقلال على النهوض بأعباء استقلالها، إلى أن يزول ما يحول دونه من فقرها وضعفها، وتصبح قادرة على السير وحدها، وزعموا أن الباعث عليه الرأفة والرحمة، لا مجرد العدل، والمكافأة على مساعدتهم في تلك الحرب، وأن النادب لهم والداعي إلى هذه المكرمة الإنسانية والضامن للدول المنتدبة الرقيب عليها في تنفيذها كما فسرت إنما هو جمعية الأمم المؤلفة من مسين أمة ونيف، فهل يجوز إذًا في شرع الرحمة والمحبة أن تترك الدولة المنتدبة هذه الفضائل الإنسانية كلها، وتخفر عهد هذه الأمم والدول كلها، لأن بعض الشعوب التي تبذل لها هذه المساعدة لتنتفع بما نالت من الحرية والاستقلال تتألم منها، تأبى أن تقوى من ضعف، وتغنى من فقر، وتعز بعد ذل، وتتحرر بعد رق؟ فإين الفضائل الإنسانية؟ وأين العهود الدولية؟ تلك إشارة إلى مسافة الخلف من أقوال منفذي الانتداب وأفعالهم، ثم إنهم يطلبون منا أن نصدق وعودهم، ونثق بعهودهم، وهم يعلمون أن هذا غير مستطاع، ولكنهم يريدون إكراهنا بالقوة على أن نحمد مساوئهم، أو نسكت عنها؛ لئلا تجد الأحزاب المعارضة في مجلسي نوابهم وشيوخهم حجة يسلبون بها منهم هذا السلطان الاستبدادي المطلق الذي هو أعظم اللذات التي فتن بها البشر، فهم لا يبالون بما نعتقد نحن فيهم، وإنما يبالون بمن يقول الحق ويطالب بالعدل في بلادهم، وقليل ما هم. *** الفرق بين الشرق والعرب في احترام القوة (3) إن شعوب أوربة شعوب دموية ما زالت تعتمد في جميع شؤونها على القتال وسفك الدماء حتى صار غريزة فيها، فكل اعتمادهم على القوة المادية الحربية، بل لما صار ذم القتال وسفك الدماء مما يذم عندهم بالكلام، ويتبرؤون منه برياء القول، ويدعون أن ما ينفقونه في كل عام من قناطير الذهب المقنطرة التي تجتاح معظم كسب شعوبهم على الاستعدادات الحربية من برية وبحرية وجوية لا يراد به إلا السلم، على أن هذه الدعوى على ما فيها من كذب ورياء حجة قطعية على أنهم لا يمكن أن يرتدعوا عن ذلك إلا بالخوف من القتال؛ لأجل هذا يقيسون طباع الشرقيين على طباعهم، بل قلبوا الحقيقة وعكسوا القضية فصاروا يزعمون أن الشرقيين لا يخضعون إلا للقوة، ولا يطيعون الأوامر إلا بالإذلال والإهانة، ونتيجة هذا أنهم لا يقبلون ما يُسْدونه إليهم من نعم الحماية والوصاية والانتداب إلا إذا حمل إليهم وحُمِلوا عليه بقوة الحديد والنار، وأقنعوا به بلغة قذائف المدافع والطيارات، وتدمير السيارات والدبابات، فهم يكررون هذه الأقوال كلما صالوا على شعب شرقي فدافع عن نفسه ولو بالحجج القولية المنطقية، فيكف إذا حَمل السيف مستبسلاً لتحميله ما لا يطيق يائسًا من إنصافه، كما يقولون اليوم في قضية ريف المغرب وفي قضية سورية. والحق الذي يشاهد اليوم ويحفظه التاريخ من قبل أن الشرقيين يخضعون للدلائل العقلية، وللوجدانات القلبية، وينقادون بالمسَّلمات المثالية والتخيلات الشعرية، فتغلب عليه المعنويات، كما استحوذت على الأوربيين الماديات، وأن المبالغة في الأمرين، مما يعد من عيوب الفريقين. وقد كان مما انتهى إليه فساد ضعف الشرقيين الاجتماعي والسياسي واستذلال الاستبداد لهم أن تحول عشقهم للفضائل والكمالات والمجد الصحيح إلى الرضا منها بالمجد الكاذب والكمال الصوري أو الوهمي، وقد نبه بعض عشاق فرنسة من وجهاء الموازنة بعض مندوبيها السامين إلى هذا النقص، ونصحوا لهم بأن يراعوه في إدارة البلاد؛ ليتم لهم أمر السيادة فيها بسهولة وتكون راضية عنهم. حدثني حبيب باشا السعد المشهور عن نفسه أنه قال للجنرال غورو: إننا نحن الشرقيين نحب المجد الكاذب، فولونا أعمال البلاد الرسمية، واكتفوا بوضع مستشارين ومراقبين منكم معنا، يرشدون رؤساء الموظفين إلى ما تريدون منا، ونحن ننفذه لكم بأحسن ما تنفذونه لأنفسكم، وقد نصح لهم بمثل هذا صديقهم عبد الله باشا صفير وهو مؤسس الحزب السوري الفرنسي بمصر، وأقام لهم الدليل عليه بسياسة الإنكليز بمصر التي نجح فيها لورد كرومر أتم النجاح، وقد ذهل سعادة الباشا عند إسداء هذه النصيحة قولاً وكتابة عما بين الفرنسيس والإنكليز من التباين في الأخلاق والغرائز وأساليب الاستعمار، وهي لا تخفى على مثله، وقد بينها الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون في كتبه التي وضعها لمباحث علم الاجتماع، على أن الإنكليز لم يَسلَموا من شذوذ الغرور بالقوة، وقسوة العظمة، واحتقار الشرق وأهله كما فعلوا في (حادثة دنشواي) وفي العراق والهند أخيرًا، ولكنهم لم يبلغوا فيه عشر معشار الفظائع الفرنسية في سورية، وقد أيقنوا أنهم كانوا فيه من الخاطئين المخطئين، وما رجع بعض كتابهم في هذه الأثناء قول الفرنسيين: إن أهل الشرق لا يدينون ولا يخضعون إلا لقوة النار والحديد إلا خداعًا وتغريرًا لهم ليتمادوا في بغيهم. *** عظمة فرنسة وقوتها الحربية (4) مما يعتذر به الفرنسيس عن أعمال القسوة، والإمعان في التخريب والتدمير، والتصميم على حل مشكلة الثورة السورية بقوة الجند، واشتراط تسليم الثائرين سلاحهم بلا شرط ولا قيد - أن كل ما عدا هذه الطريقة من إدارة البلاد ومعاملة أهلها يذهب بكرامة فرنسة، ويزيل مهابتها من القلوب، ويوهم أهل البلاد أن الثوار أقوى منها، وهذا الاعتذار خطأ محض مبني على النظرية التي بيَّنا فسادها آنفًا، وهي أن هؤلاء الناس أنفسهم لا يعترفون بفضيلة ولا كرامة للدول والأمم إلا للقوة والقدرة على التقتيل والتخريب، والحق الواقع يفند رأيهم ويؤيد رأينا، فإنهم كلما اشتدوا في القسوة اشتدت مقاومة الثائرين واستبسلوا في القتال، واستهانوا بالموت، ومن المعلوم بالضرورة أنهم يقاتلون مختارين، فقتالهم أدل على أخلاقهم وما في أنفسهم من قتال الجند الفرنسي وكل جند نظامي، فإن الجند النظامي إنما يقاتل مكرهًا ومضطرًّا، إذ هو يعلم أن الفارَّ من الزحف جزاؤه القتل قطعًا، وأن الذي يثبت يجوز أن يبقى وأن ينال مكافأة على ظفره، وقد كان موقدو نار هذه الثورة خاضعين لفرنسة قبل إهانتهم واحتقارهم وهضم حقوقهم، ومغترين بوعود رجالها، ولم يبق أحد يصدق لهم قولاً ولا يثق منهم بوعد. وإنا لنعلم أنه لا يوجد أحد من قواد الثورة ولا من مساعديهم يعتقد أن الثوار أقوى من فرنسة وأقدر على الحرب، ولا أن سورية كلها تساوي فرنسة أو تقاربها في القوة الحربية، وإنما يحاربونها لأن رجالها ألجأوهم إلى القتال إلجاءً، واضطروهم إليه اضطرارًا، إذ أقنعوهم فعلاً بأن سلطتها لا تطاق ولا تحتمل، وأن القت

انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انحطاط المسلمين وسكونهم وسبب ذلك [1] ] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا [[2] إن للمسلمين شدة في دينهم، وقوة في إيمانهم، وثباتًا على يقينهم، يباهون بها من عداهم من الملل، وإن في عقيدتهم أوثق الأسباب لارتباط بعضهم ببعض، ومما رسخ في نفوسهم أن في الإيمان بالله وما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم كفالة لسعادة الدارين، ومن حرم الإيمان فقد حرم السعادتين، ويشفقون على أحدهم أن يمرق من دينه أشد مما يشفقون عليه من الموت والفناء، وهذه الحالة كما هي في علمائهم متمكنة في عامتهم، حتى لو سمع أي شخص منهم في أي بقعة من بقاع الأرض عالمًا كان أو جاهلاً أن واحدًا ممن وسم بسمة الإسلام في أي قطر ومن أي جنس صبا عن دينه، رأيت من يصل إليه هذا الخبر في تحرق وتأسف، يلهج بالحوقلة والاسترجاع، ويعد النازلة من أعظم المصائب على من نزلت به، بل وعلى جميع من يشاركه في دينه، ولو ذكرت مثل هذه الحادثة في تاريخ وقرأها قارئهم بعد مئين من السنين لا يتمالك قلبه من الاضطراب، ودمه من الغليان، ويستفزه الغضب، ويدفعه لحكاية ما رأى كأنه يحدث عن غريب، أو يحكي عن عجيب. المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة على ما يدخل في ولايتهم من البلدان، وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم وبعيدهم ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على كل واحد منهم إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام. ومن فروضهم في سبيل الحماية وحفظ الولاية بذل الأموال والأرواح، وارتكاب كل صعب، واقتحام كل خطر، ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال حتى ينالوا الولاية خالصة لهم من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم إلى حد لو عجز المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعد مثبتة في الشريعة الإسلامية يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها تأويلات أهل الأهواء وأعوان الشهوات في كل زمان. المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره بما تطالبه به الشريعة، وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من إلهامات دينه، ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يُلِم بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يألم له بعضهم، فأهل بلوجستان كانوا يرون حركات الإنكليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم، ولا يجيش لهم جاش ولا تكون لهم نعرة على إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون تداخل الإنكليز في بلاد فارس، ولا يضجرون ولا يتململون، وأن جنود الإنكليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابًا وإيابًا وتفتك، ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم، بل السامعين لخريرها من حلاقيمهم، الذين احمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم وتحت أرجلهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم. تمسُّك المسلمين بتلك العقائد وإحساسهم بداعية الحق في نفوسهم مع هذه الحالة التي هم عليها _ مما يقضي بالعجب ويدعو إلى الحيرة، ويسبق إلى بيان السبب، فخذ مجملاً منه: إن الأفكار العقلية والعقائد الدينية وسائر المعلومات والمدركات والوجدانيات النفسية وإن كانت هي الباعثة على الأعمال وعن حكمها تصدر بتقدير العزيز العليم، لكن الأعمال تثبتها وتقويها وتطبعها في الأنفس وتطبع الأنفس عليها، حتى يصير ما يعبر عنه بالملكة والخلق، وتترتب عليه الآثار التي تلائمها. نعم إن الإنسان إنسان بفكره وعقائده إلا أن ما ينعكس إلى مرايا عقله من مشاهد نظره ومدركات حواسه يؤثر فيه أشد التأثير، فكل شهود يحدث فكرًا، وكل فكر يكون له أثر في داعية، وعن كل داعية ينشأ عمل، ثم يعود من العمل إلى الفكر، ولا ينقطع الفعل والانفعال بين الأعمال والأفكار، ما دامت الأرواح في الأجساد، وكل قبيل هو للآخر عماد. إن للأخوة وسائر نسب القرابة صورة عند العقل ولا أثر لها في الاعتصاب والالتحام لولا ما تبعث عليه الضرورات، وتلجئ إليه الحاجات، عن تعاون الأنسباء والعصبة على نيل المنافع، وتضافرهم على دفع المضار، وبعد كرور الأيام على المضافرة والمناصرة تأخذ النسبة من القلب مأخذًا يصرفه في آثار بقية الأجل، ويكون انبساط النفس لعون القريب، وغضاضة القلب لما يصيبه من ضيم أو نكبة، جاريًا مجرى الوجدانيات الطبيعية، كالإحساس بالجوع والعطش والري والشبع، بل اشتبه أمره على بعض الناظرين فعده طبيعيًّا، فلو أهملت صلة النسب بعد ثبوتها والعلم بها، ولم تدعُ ضرورات الحياة في وقت من الأوقات إلى ما يمكِّن تلك الصلة ويؤكدها، أو وجد صاحب النسب من يظاهره في غير نسبه أو ألجأته ضرورة إلى ذلك - ذهب أثر تلك الرابطة النسبية، ولم يبق منها إلا صورة في العقل تجري مجرى المحفوظات من الروايات والمنقولات، وعلى مثال ما ذكرنا في رابطة النسب - وهي أقوى رابطة بين البشر - يكون الأمر في سائر الاعتقادات التي لها أثر في الاجتماع الإنساني من حيث ارتباط بعضه ببعض إذا لم يصحب العقد الفكري ملجئ الضرورة أو قوة الداعية إلى عمل تنطبع عليه الجارحة وتمرن عليه، ويعود أثر تكريره على الفكر حتى يكون هيئة للروح وشكلاً من أشكالها، فلن يكون مُنْشِئًا لآثاره، وإنما يعد في الصور العلمية له رسم يلوح في الذاكرة عند الالتفات إليه كما قدمنا. بعد تدبر هذه الأصول البينة والنظر فيها بعين الحكمة، يظهر لك السبب في سكون المسلمين إلى ما هم فيه مع شدتهم في دينهم، والعلة في تباطؤهم عن نصرة إخوانهم وهم أثبت الناس في عقائدهم، فإنه لم يبق من جامعة بين المسلمين في الأغلب إلا العقيدة الدينية مجردة عما يتبعها من الأعمال، وانقطع التعارف بينهم، وهجر بعضهم بعضًا هجرًا غير جميل، فالعلماء وهم القائمون على حفظ العقائد وهداية الناس إليها لا تواصل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في غيبة عن حال العالم الحجازي فضلاً عمن يبعد عنهم، والعالم الهندي في غفلة عن شؤون العالم الأفغاني وهكذا، بل العلماء من أهل قطر واحد لا ارتباط بينهم، ولا صلة تجعلهم، إلا ما يكون بين أفراد العامة لدواعٍ خاصة من صداقة أو قرابة بين أحدهم وآخر، أما في هيئتهم الكلية فلا وحدة لهم، بل لا أنساب بينهم، وكل ينظر إلى نفسه ولا يتجاوزها كأنه كون برأسه. كما كانت هذه الجفوة وذاك الهجران بين العلماء كانت كذلك بين الملوك والسلاطين من المسلمين، أليس بعجيب أن لا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش ولا لمراكش عند العثمانيين؟ أليس بغريب أن تكون للدولة العثمانية صلات صحيحة مع الأفغانيين وغيرهم من طوائف المسلمين في الشرق؟ هذا التدابر والتقاطع وإرسال الحبال على الغوارب عم المسلمين حتى صح أن يقال: لا علاقة بين قوم منهم وقوم ولا بلد وبلد إلا طفيف من الإحساس بأن بعض الشعوب على دينهم ويعتقدون مثل اعتقادهم، وربما يتعرفون مواقع أقطارهم بالصدفة إذا التقى بعضهم ببعض في موسم الحجيج العام، وهذا النوع من الإحساس هو الداعي إلى الأسف وانقباض الصدر إذا شعر مسلم بضياع حق مسلم على يد أجنبي عن ملته، لكنه لضعفه لا يبعث على النهوض لمعاضدته، كانت الملة كجسم عظيم قوي البنية صحيح المزاج، فنزل به من العوارض ما أضعف الالتئام بين أجزائه فتداعت للتناثر والانحلال، وكاد كل جزء يكون على حدة وتضمحل هيئة الجسم. بدأ هذا الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية عند انفصال الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة وقتما قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة، دون أن يحوزوا شرف العلم والتفقه في الدين والاجتهاد في أصوله وفروعه كما كان الراشدون رضي الله عنهم. كثرت بذلك المذاهب وتشعب الخلاف من بداية القرن الثالث من الهجرة إلى حد لم يسبق له مثيل في دين من الأديان، ثم انثلمت وحدة الخلافة، فانقسمت إلى أقسام: خلافة عباسية في بغداد، وفاطمية في مصر والمغرب، وأموية في أطراف الأندلس. تفرقت بهذا كلمة الأمة، وانشقت عصاها، وانحطت رتبة الخلافة إلى وظيفة الملك، فسقطت هيبتها من النفوس، وخرج طلاب الملك والسلطان يدأبون إليه من وسائل القوة والشوكة، ولا يرعون جانب الخلافة. وزاد الاختلاف شدة وتقطعت الوشائج بينهم بظهور جنكيز خان وأولاده، وتيمور لنك وأحفاده، وإيقاعهم بالمسلمين قتلاً وإذلالاً حتى أذهلوهم عن أنفسهم فتفرق الشمل بالكلية، وانفصمت عرى الالتئام بين الملوك والعلماء جميعًا، وانفرد كل بشأنه، وانصرف إلى ما يليه، فتبدد الجمع إلى آحاد، وافترق الناس فرقًا، كل فرقة تتبع داعيًا إما إلى ملك أو مذهب، فضعفت آثار العقائد التي كانت تدعو إلى الوحدة، وتبعث على اشتباك الوشيجة، وصار ما في العقول منها صورًا ذهنية تحويها مخازن الخيال وتلحظها الذاكرة عند عرض ما في خزائن النفس من المعلومات، ولم يبق من آثارها إلا أسف وحسرة يأخذان بالقلوب عندما تنزل المصائب ببعض المسلمين، بعد أن ينفذ القضاء ويبلغ الخبر إلى المسامع على طول من الزمان، وما هو إلا نوع من الحزن على الفائت، كما يكون على الأموات من الأقارب، لا يدعو إلى حركة لتدارك النازلة، ولا دفع الغائلة. وكان من الواجب على العلماء قيامًا بحق الوراثة التي شرفوا بها على لسان الشارع - أن ينهضوا لإحياء الرابطة الدينية ويتداركوا الاختلاف الذي وقع في الملك بتمكين الاتفاق الذي يدعو إليه الدين، ويجعلوا معاقد هذا الاتفاق في مساجدهم ومدارسهم حتى يكون كل مسجد وكل مدرسة مهبطًا لروح حياة الوحدة، ويصير كل واحد منها كحلقة في سلسلة واحدة إذا اهتز أحد أطرافها اضطرب لهزته الطرف الآخر، ويرتبط العلماء والخطباء والأئمة والوعاظ في جميع أنحاء الأرض بعضهم ببعض، ويجعلون لهم مراكز في أقطار مختلفة يرجعون إليها في شؤون وحدتهم ويأخذون بأيدي العامة إلى حيث يرشدهم التنزيل وصحيح الأثر، ويجمعون أطراف الوشائج إلى مقعد واحد يكون مركزه في الأقطار المقدسة وأشرفها معهد بيت الله الحرام، حتى يتمكنوا بذلك من شد أزر الدين وحفظه من قوارع العدوان، والقيام بحاجات الأمة إذا عرض حادث الخلل، وتطرق الأجانب للتداخل فيها بما يحط من شأنها، ويكون كذلك أدعى لنشر العلوم وتنوير الأفهام وصيانة الدين من البدع، فإن إحكام الربط إنما يكون بتعيين الدرجات العلمية وتحديد الوظائف، فلو أبدع مبدع أمكن بالتواصل بين الطبقات تدارك بدعته ومحوها قبل فشوها بين العامة، وليس بخافٍ على المستبصرين ما يتبع هذا من قوة الأمة وعلو كلمتها واقتدارها على دفع ما يغشاها من النوازل. ألا إنا نأسف غاية الأسف إذ لم تتوجه خواطر العلماء والعقلاء من المسلمين إلى هذه الوسيلة، وهي أقرب الوسائل وإن التفت إليها في هذه الأيام طائفة من أرباب الغيرة. ورجاؤنا من ملوك المسلمين وعلمائهم من أهل الحمية والحق أن يؤيدوا هذا الفئة، ولا يتوانوا فيما يوحد جمعهم ويجمع شتيتهم، فقد دارستهم التجارب ببيان لا مزيد عليه، وما هو بالعسير عليهم أن يبثوا الدعاة إلى من يبعد عنهم، ويصافحوا بالأكف من هو على مقربة منهم، ويتعرفوا أحوال بعضهم فيما يعود على دينهم وملتهم بفائدة أو ما يخشى أن يمسها بضرر، ويكونون بهذا العمل الجليل قد أدوا فريضة وطلبوا سعادة، والرمق باقٍ والآمال مقبلة،

تربية أمراء العرب قبل الإسلام وكيف نستفيد منها في هذه الأيام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تربية أمراء العرب قبل الإسلام وكيف نستفيد منها في هذه الأيام (وجدت هذه الرسالة فيما لديَّ من أوراق شيخنا الأستاذ الإمام، فرجوت أن يكون الانتفاع بنشرها الآن أعظم مما كان في عهد من كتبها، وهو كما أظن أستاذ التربية والتعليم البصير حسن أفندي توفيق المصري رحمه الله وهذا نصها) : السؤال ما الذي كانت عليه أمراء العرب قبيل الإسلام، حسبما تفيده أوصافهم المشروحة في قول الحطيئة: يسوسون أحلامًا بعيدًا أنّاتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجدُّ أقلُّوا عليهم لا أبًا لأبيكم ... مَن اللوم أو سُدوا المكان الذي سَدُّوا أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا وإن كانت النعماء فيهم جزَوْا بها ... وإن أنعموا لا كدَّروها ولا كدُّوا مطاعين للهيجا مكاشيف للدُّجى ... بنى لهم آباؤهم وبنى الجدُّ ويعذلني أبناء سعد عليهم ... وما قلت إلا بالذي علمتْ سَعْدُ وكيف يستفاد من هذه الأبيات أنواع التربية؟ وما هي الطرق العمومية لأجل الوصول إلى مثل هذه التربية وتكميلها في أمتنا بواسطة المدارس خصوصًا. *** الجواب كانت تربية أمراء العرب قبل الإسلام كما ترشد إليه أبيات الحطيئة على أن يتخرج أولئك الأمراء متوفرة فيهم الشروط التي تؤهلهم إلى سد الأمكنة التي يشغلونها من المجتمع الإنساني في عصرهم. وتلك الشروط أوجبتها حالة اجتماع القبائل الذي كان قد أخذ يتقدم تقدمًا عظيمًا في ذلك الوقت، وذلك لأن من شأن المجتمعات لما تكبر أنها تكون موجهة لجملة أمور: (الأول) كما تكون ذريعة لاتساع الحضارة والعمران، تكون سببًا لازدياد العلوم وانتشار المعارف، ضرورة تبادل الأفكار بين أفراد الجمعية، وتجدد الأمور التي يقتضيها الترقي في المدنية، ومن المعلوم أنه لا يتم نظام جمعية قلَّت أو كثرت، إلا إذا كان على رأسها سادة يرجع إليهم الأمر في الحل والعقد، والنقض والإبرام، وأنه لا يتهيأ لها نجاح في أمورها إذا تولى رئاستها من لا علم لديه. لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جُهَّالهم سادوا فاقتضت حالة الاجتماع التي كانت عليها العرب قرب الإسلام أن يكون لجماعتها المتنوعة رؤساء يقومون بالمصالح العامة، وأن يكون أولئك الرؤساء لديهم كفاية من المعلومات يتنورون بها في تصرفاتهم، ويهتدون بها في سائر أحوالهم. ومن أجل ذلك لزمت تربيتهم تربية فكرية، لائقة بمنزلتهم بين أبناء جنسهم، ومناسبة للمعروف الجميل في عصرهم. (الثاني) لما كانت الكبيرة مسببة لعظم الاختلاط بين الناس، وداعية إلى كثرة العلاقات بينهم، وتتولد عنها الفرص العديدة التي يتمكن فيها الإنسان - إذا أُهمِل وطبيعته - من الاسترسال في الأهواء المستبدة، والشهوات المهلكة، ومن التستر على أحواله الخارجة عن حدود الاعتدال، وكان ذلك من دواعي الاختلال في نظام الاجتماعات - وجب اتباعًا للحكمة ورفقًا للمصلحة، أن يُعود أفراد الجمعيات على محاسن الأعمال، وخصائص الأخلاق. ولما كانت الخاصة أسوة العامة في السلوك الإنساني، وكان رؤساء كل جماعة أول مُطالب باستئصال عروق الشر والفساد، وتمكين أسباب الخير والصلاح - اقتضت حالة الاجتماع العربي قبيل الإسلام أن يتصف أمراء القبائل بأكمل ما يرام من الآداب التي يستحقون بها أن يكونوا قدوة لمرؤوسيهم، وأن يكون لديهم ما يتمكنون به من حمل أقوامهم على الانتظام في الأمور، وحسن السير في المعاملة، ومن ثم كانوا يرون من المتحتم عليهم أن يكونوا متربين (تربية أدبية) لائقة بمقامهم، وموافقة لمألوفات قومهم. (الثالث) عظم المجتمعات ينشأ عنه زيادة حاجات المعيشة، وبسبب تعاون الأيدي واشتراكها في تحصيل المنافع، تكثر الخيرات وتتوفر أمتعة الحياة، ويتضح من ذلك أن أهل الدعة والمحبين لأنفسهم، الساعين في منافعهم الشخصية، يأخذون في تسخير الناس لقضاء حوائجهم من غير أن ينفعوهم بشيء، وأن الأقوياء والماكرين يطمحون بأطماعهم إلى ما في أيدي الناس واغتصابه منهم بالقوة إذا أمكن، أو انتزاعه منهم بالحيلة، ومُمانعتهم عنه بكل ما يمكنهم من الطرق؛ ولهذا كان من الضروري للعائش بين قوم أن يكون صحيح الجسم، قوى البدن، ذا بأس شديد، حتى يتأتى له أن يعمل ما ينفع وينتفع به، ولكي إذا اضطرته الحالة يمكنه المدافعة عن نفسه ونفيسه ممن يتعدى عليه، وكان من أقصى الواجبات على من يرصدون أنفسهم لتولي أمور الجمهور أن يتخذوا الوسائل التي يكونون بها من الأصحاء الأقوياء الأشداء، ليقوموا بواجب حماية الضعفاء ونصر المظلومين، وحفظ حقوق الناس، ومنع أسباب التعدي من بينهم، وقد علم أمراء العرب بالتجارب هذه الغاية، فأوجبوا على أنفسهم (تربية جسمية) تعدُّهم لحماية أقوامهم، وتمكين الأمن بينهم. فذلك ما كانت عليه تربية أمراء العرب قبيل الإسلام حسبما ترشد إليه أبيات الحطيئة. فكانت إذن على أنواع ثلاثة: (1) تربية فكرية. (2) تربية أدبية. (3) تربية جسمية. فأما التربية الفكرية فقد جلى نورها في قوله: (مكاشيف للدجى) إذ هو عبارة عن أنهم عارفون بالأمور معرفة تامة، مبينون لها تبينًا كاملاً، فالواحد منهم فضلاً [1] عن أنه نير في نفسه منور لغيره. إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلاً كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع ... لذي إربة في القول جدًّا ولا هزلاً لأن العلم المتمكن أشبه بالضوء الساطع الذي يشرق على الأشياء فيجعلها في غاية الظهور حتى للضرير، والجهل المطبق أشبه بالظلام الذي يتراكم عليها فيصيَّرها في نهاية الخفاء حتى على البصير، كما قيل: العلم نور، والجهل عمى ... وقد لخص خلاصتها في قوله: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... حيث هو عبارة عن أنهم لا يشرعون في أمر من الأمور إلا أحكموه تمام الإحكام، فإن الأمر المحكم الذي لا يقبل النقض مدى الأزمان، كالبناء المتقن الذي لا يتهدم على توالي الأيام، ولا شك أن إبرام الأمور على أحكم نظام يحتاج إلى علم راسخ وتبصر تام. *** وأما التربية الأدبية فقد أودع ثمرتها في قوله: يسوسون أحلامًا بعيدًا أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والجد وفي قوله: وإن كانت النعماء فيهم جروا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا حيث أفاد أنهم يسلكون مع الناس على مقتضى العقل، ويعاملونهم بالحلم، ولا يغضبون عليهم إلا في الجد، ويثمر فيهم المعروف، ويحلو منهم الجميل. تخالهم للحلم صمًّا عن الخنا ... وخرسًا عن الفحشاء عند التهاتر ومرضى إذا لاقوا حياء ومنة ... وعند الحروب كالليوث الكواسر [2] لهم عزُّ إنصاف وذل تواضع ... بهم ولهم ذلّت رقاب العشائر كأن بهم وصمًا يخافون ثاره ... وليس بهم إلا اتقاء المعاثر [3] أليست هذه مكارم الأخلاق وخصائص الآداب؟ وأما التربية الجسمية فقد أجمل أثرها في قوله: (مطاعين للهيجا) لأنه لا يجيد الطعان عند احتدام القتال إلا مَنْ كان له جسم شديد، وقلب من حديد. وترى الفوارس من مهابة رمحه ... مثل البُغاث خشين وقع الأجدل الطريقة التي كانت متخذة في التربية العربية كانت طريقة تربية العربي طبيعية عملية، بمعنى أن العرب بنوها على مقتضى طبيعة الإنسان، وطبيعة الأشياء التي يمكنه أن يعلمها، وسنأتي على تفصيل هذا المعنى بعد إن شاء الله تعالى. وكانت تلك الطريقة متبعة في جميع أنواع التربية. *** أما في التربية الفكرية فكان العربي يدرس على نفس الأشياء، تتمثل له بذاتها، ويتصورها بنفسه، ويحكم فيها بعقله، ويجربها بشخصه، فيصفها عن مشاهدة، ويقضي فيها على بصيرة، ويستعملها عن تجربة. وكان يمشي في طول الأرض وعرضها، فيصعد الجبال والآكام، ويجوب البراري والقفار، يعبر الأنهار، ويشرف على البحار، وينزل في القرى والأمصار، فكان يعرف البلاد في مواضعها، ويطلع على الأراضي في مواقعها. وكان يحضر النوادي، ويسمع فيها أخبار الأولين وسير الماضين، من أفواه المعمرين والعالمين بأيام الناس، ويشاركهم برأيه في استحسانها أو استقباحها. وكان يُحصي عدة الأشياء بعقله، ويحسبها جمعًا وتفريقًا في نفسه، وكان يرسم أشكال الأشياء في ذهنه، ويقدَّر الأبعاد والمسافات بنظره. وكان يتلقى اللغة حية صحيحة عن أهلها، فكان يسمع الكلمات بأُذنه، ومعانيها حاضرة لحواسه أو متمثلة لعقله، وكانت تصور له الأشياء البعيدة عن حسه، أو الغريبة عن عقله، بمشابهاتها المحسوسة له أو المعروفة لديه، وتطرق مسامعه الأساليب الكلامية البديعة، التي يرى تأثيرها في الناس ولطف مأخذها بقلوبهم، وحسن مدخلها على أفهامهم، فكان يتلقن اللسان العربي المبين عن أرباب البلاغة العظيمة، فيحاكيهم في البيان، ويجادلهم في القول، ويسابقهم إلى الإبداع والاختراع. *** وأما في التربية الأدبية فكان يتأدب بآداب القوم الذين يعيش بين ظهرانيهم على وجه التأسي بهم، فكان يرى القناعة غالبة عليهم فيتخلق بها، ويجد العفة سائدة فيهم فيتحلى بها، وينظر إلى الكرم وهو منتشر فيهم فيتخذه شيمة له، وهكذا في سائر الأخلاق والشيم، كان يوجبها على نفسه اقتداءً بأفعالهم وأحوالهم، واتباعًا لما يصدر عنهم من الحكم الساطعة، وعملاً بما يضربونه من الأمثال السائرة. *** وأما في التربية الجسمية فكان نفس إقليم العرب وأحوال معايشهم حاملة للناشئ بينهم على مباشرة الأعمال التي تُكسبه قوة الجسم، وصلابة الأعضاء، وخفة الحركات، ما بين انتجاع للمرعى، وارتياد للماء، وسفر لمبادلة المنافع، وما يقتضيه الحل والترحال، من تحميل الأثقال وتنزيلها، ونصب البيوت وتقويضها، وسلوك السهول والأوعار في برد الليل وحر النهار، ولا يخفاك ما يلزم من البأس الشديد لمن يعيش بين الحيوانات الضارية والسباع الكاسرة، ومن يكون عرضة في كل وقت للإغارات التي تسوقها الأطماع؛ ولذلك كان العربي دائمًا في التمرن على المجالدة أو المصارعة أو المجاراة أو المطاردة، أو الفروسية وركوب الخيل، أو غير ذلك من الأعمال التي تجعل الجسم كالحديد، والأعضاء في حركاتها أسرع من الريح الشديد , ثم إنه كانت تتربى له من كثرة مشاهدة الحروب، وطول مجاورة الليوث، جراءة وبسالة وقوة نفس، لا يخاف معها لا من مخالب الأسود ولا من أسلحة الصناديد. *** الطريقة التي كانت متبعة في التربية العربية وبيان أنها طبيعية عملية من نظر في طبيعة الإنسان ومعلوماته، وكان له معرفة بالتجارب الإنسانية يجد بين ذلك وبين الطريقة التي كانت مستعملة في التربية العربية تمام الموافقة. أما في تربية العقول فلأن الإنسان بالطبع إنما يحصل على المعارف الأولية من طريق الحواسّ، وعقله دائمًا في احتياج إلى التغذي بالمعلومات التي تصل إليه بواسطتها. فكلما كانت حواس المرء أكثر تناولاً للأشياء وأعظم تمييزًا لأوصافها وأسرع وصولاً إلى دقائقها - كان المرء أوسع علمًا وأحدَّ ذهنًا، وأكمل نباهة. ومن أجل ذلك كان العربي يطّلع بقدر استطاعته على الأشياء بذاتها، ويتمرن على اكتشاف أسرارها بنفسه، فكان ينشأ غزير المعرفة قوي التصور شديد الفطنة. ومن (القواعد المقررة) أنه كلما كان العقل أكثر عملاً بنفسه في تصور الأمور والحكم عليها، كان أقوى حصولاً على المعارف وأمضى نظرًا في المعلومات، وأقرب إصابة للحقائق. وهذه هي الحكمة في اتخاذ العرب طريقة الإرشاد في تربية أفكارهم، فكان العربي يق

كتاب ابن تيمية إلى الشيخ ناصر المنبجي

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ كتاب ابن تيمية إلى الشيخ ناصر المنبجي هؤلاء الذين تكلموا في هذا الأمر لم يُعرف لهم خبر من حين ظهرت دولة التتار، وإلا فكان الاتحاد القديم هو الاتحاد المعين، وذلك أن القسمة رباعية، فإن كل واحد من الاتحاد والحلول إما معين في شخص وإما مطلق، أما الاتحاد والحلول المعين كقول النصارى والغالية في الأئمة من الرافضة، وفي المشايخ من جهال الفقراء والصوفية فإنهم يقولون به في معنى إما بالاتحاد كاتحاد الماء واللبن، وهو قول اليعقوبية وهم السودان ومن الحبشة والقبط، وإما بالحلول وهو قول النسطورية، وإما بالاتحاد من وجه دون وجه وهو قول الملكانية. (وأما الحلول المطلق) وهو أن الله تعالى بذاته حالٌّ في كل شيء، فهذا تحكيه أهل السنة والسلف عن قدماء الجهمية، وكانوا يكفرونهم بذلك. وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام فما علمت أحدًا سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع مثل فرعون والقرامطة، وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض هي نفس وجود المخلوقات، فلا يُتَصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه رب العالمين ولا أنه غني وما سواه فقير، لكن تفرقوا على ثلاث طرق، وأكثر من ينظر في كلامهم لا يفهم حقيقة أمرهم؛ لأنه أمر مبهم. (الأول) أن يقولوا: إن الذوات بأسرها كانت ثابتة في العدم ذاتها، أبدية أزلية حتى ذوات الحيوان والنبات والمعادن والحركات والسكنات، وأن وجود الحق فاض على تلك الذوات، فوجودها وجود الحق، وذواتها ليست ذوات الحق. ويفرقون بين الوجود والثبوت، فما كنت به في ثبوتك ظهرت به في وجودك، ويقولون: إن الله سبحانه لم يعطِ أحدًا شيئًا، ولا أغنى أحدًا ولا أسعده ولا أشقاه، وإنما وجوده فاض على الذوات فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك، ويقولون: إن هذا هو سر القدرة، وإن الله تعالى إنما علم الأشياء من جهة رؤيته لها ثابتة في العدم خارجًا عن نفسه المقدسة، ويقولون: إن الله تعالى لا يقدر أن يغير ذرة من العالم، وأنهم قد يعلمون الأشياء من حيث علمها الله سبحانه، فيكون علمهم وعلم الله تعالى من معدن واحد، وأنهم يكونون أفضل من خاتم الرسل من بعض الوجوه؛ لأنهم يأخذون من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحي به للرسل، ويقولون: إنهم لم يعبدوا غير الله، ولا يتصور أن يعبدوا غير الله تعالى، وأن عباد الأصنام ما عبدوا إلا الله سبحانه، وأن قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء: 23) معنى حكم لا معنى أمر، فما عبد غير الله في كل معبود، فإن الله تعالى ما قضى بشيء إلا وقع، ويقولون: إن الدعوة إلى الله تعالى مكر بالمدعو، فإنه ما عدم من البداية، فيدعى إلى الغاية، وأن قوم نوح قالوا: {لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَداًّ وَلاَ سُوَاعاً} (نوح: 23) لأنهم لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منهم؛ لأن للحق في كل معبود وجهًا يعرفه من عرفه وينكره من أنكره، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية، وأن العارف منهم يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، فإن الجاهل يقول: هذا حجر وشجر، والعارف يقول: هذا محل إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر، فإن النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وأن عباد الأصنام ما أخطأوا إلا من حيث اقتصارهم على عبادة بعض المظاهر، والعارف يعبد كل شيء، والله يعبد أيضًا كل شيء؛ لأن الأشياء غذاؤها بالأسماء والأحكام وهو غذاؤها بالوجود، وهو فقير إليها، وهي فقيرة إليه، وهو خليل كل شيء بهذا المعنى، ويجعلون أسماء الله الحسنى هي مجرد نسبة وإضافة بين الوجود والثبوت وليست أمورًا عدمية، ويقولون: (من أسمائه الحسنى العلي عن ماذا وما ثم إلا هو؟ وعلى ماذا وما ثم غيره؟ فالمسمى محدثات وهي العلية لذاتها وليست إلا هو، وما نكح سوى نفسه، وما ذبح سوى نفسه، والمتكلم هو عين المستمع) وأن موسى إنما عتب على هارون حيث نهاهم عن عبادة العجل؛ لضيقه وعدم اتساعه، وأن موسى كان أوسع في العلم، فعلم أنهم لم يعبدوا إلا الله، وأن أعلى ما عبد الهوى، وأن كل من اتخذ إلهه هواه فما عبد إلا الله. وفرعون كان عندهم من أعظم العارفين وقد صدقه السحرة في قوله: أنا ربكم الأعلى، وفي قوله: ما علمت لكم من إله غيري. وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول: إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون: نحن على قول فرعون [1] ، وهذه المعاني كلها هي قول صاحب الفصوص، والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياءُ منهم والأموات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) . والمقصود أن حقيقة ما تضمنه كتاب الفصوص المضاف إلى النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه جاء به وهو ما إذا فهم المسلم بالاضطرار [2] أن جميع الأنبياء والمرسلين وجميع الأولياء والصالحين، بل جميع عوام أهل الملل من اليهود والنصارى والصابئين يبرأون إلى الله تعالى من بعض هذا القول فكيف منه كله، ونعلم أن المشركين عباد الأوثان والكفار أهل الكتاب يعترفون بوجود الصانع الخالق البارئ المصور- الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور - ربهم ورب آبائهم الأولين، رب المشرق والمغرب. ولا يقول أحد منهم: إنه عين المخلوقات ولا نفس المصنوعات، كما يقوله هؤلاء، حتى إنهم يقولون: لو زالت السموات والأرض زالت حقيقة الله، وهذا مركب من أصلين: (أحدهما) أن المعدوم شيء ثابت في العدم كما يقوله كثير من المعتزلة والرافضة، وهو مذهب باطل بالعقل الموافق للكتاب والسنة والإجماع. وكثير من متكلمة أهل الإثبات كالقاضي أبي بكر كفَّر من يقول بهذا، وإنما غلط هؤلاء من حيث لم يفرقوا بين علم الله بالأشياء قبل كونها، وأنها مثبتة عنده في أم الكتاب في اللوح المحفوظ وبين ثبوتها في الخارج عن علم الله تعالى، فإن مذهب المسلمين أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق قبل أن يخلقها، فيفرقون بين الوجود العلمي وبين الوجود العيني الخارجي. ولهذا كان أول ما نزل على رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - سورة {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1-5) فذكر المراتب الأربع، وهي الوجود العيني الذي خلقه، والوجود الرسمي المطابق للَّفظي الدالّ على العلمي، وبين أن الله تعالى عَلِمه؛ ولهذا ذكر التعليم بالقلم، فإنه مستلزم للمراتب الثلاثة. وهذا القول - أعني قول من يقول: إن المعدوم شيء ثابت في نفسه خارج عن علم الله تعالى - وإن كان باطلاً ودلالته واضحة، لكنه قد ابتدع في الإسلام من نحو أربعمائة سنة، وابن العربي وافق أصحابه، وهو أحد أصلي مذهبه الذي في الفصوص. (والأصل الثاني) أن وجود المحدثات المخلوقات هو عين وجود الخالق ليس غيره ولا سواه، وهذا هو الذي ابتدعه وانفرد به عن جميع من تقدمه من المشايخ والعلماء، وهو قول بقية الاتحادية، لكن ابن العربي أقربهم إلى الإسلام وأحسن كلامًا في مواضع كثيرة، فإنه يفرق بين الظاهر والمظاهر فيقر الأمر والنهي والشرائع على ما هي عليه، ويأمر بالسلوك بكثير مما أمر به المشايخ من الأخلاق والعبادات، ولهذا كثير من العباد يأخذون من كلامه سلوكهم؛ فينتفعون بذلك وإن كانوا لا يفقهون حقائقه، ومن فهمها منهم ووافقه فقد تبين قوله. (وأما) صاحبه الصدر الرومي فإنه كان متفلسفًا، فهو أبعد عن الشريعة والإسلام، ولهذا كان الفاجر التلمساني المُلقَّب بالعفيف يقول: كان شيخي القديم متروحنًا متفلسفًا، والآخر فيلسوفًا متروحنًا - يعني الصدر الرومي - فإنه كان قد أخذ عنه، ولم يدرك ابن عربي في كتاب مفتاح غيب الجمع والوجود [3] وغيره يقول: إن الله تعالى هو الوجود المطلق والمعين، كما يفرق بين الحيوان المطلق والحيوان المعين، والجسم المطلق والجسم المعين، والمطلق لا يوجد إلا في الخارج مطلقًا، لا يوجد إلا في الأعيان الخارجة، فحقيقة قوله: إنه ليس لله سبحانه وجود أصلاً ولا حقيقة ولا ثبوت إلا نفس الوجود القائم بالمخلوقات، ولهذا يقول هو وشيخه: إن الله تعالى لا يرى أصلاً، وأنه ليس له في الحقيقة اسم ولا صفة، ويصرحون بأن ذات الكلب والخنزير والبول والعذرة عين وجوده، تعالى الله عما يقولون. (وأما) الفاجر التلمساني فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر؛ فإنه لا يفرق بين الوجود والثبوت كما يفرق ابن عربي، ولا يفرق بين المطلق والمعين كما يفرق الرومي، ولكن عنده ما ثم غير ولا سوى بوجه من الوجوه، وأن العبد إنما يشهد السوى ما دام محجوبًا، فإذا انكشف حجابه رأى أنه ما ثم غير يبين له الأمر؛ ولهذا كان يستحل جميع المحرمات حتى حكى عنه الثقات أنه كان يقول: البنت والأم والأجنبية شيء واحد ليس في ذلك حرام علينا، وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم، وكان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا،وكان يقول: أنا ما أمسك شريعة واحدة، وإذا أحسن القول يقول: القرآن يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى، وشَرَح الأسماء الحسنى على هذا الأصل الذي له، وله ديوان شعر قد صنع فيه أشياء، وشعره في صناعة الشعر جيد، ولكنه كما قيل: لحم خنزير في طبق صيني، وصنف للنصيرية عقيدة، وحقيقة أمرهم أن الحق بمنزلة البحر وأجزاء الموجودات بمنزلة أمواجه. (وأما) ابن سبعين فإنه في (البدو والإحاطة) يقول أيضًا بوحدة الوجود، وأنه ما ثم غير، وكذلك ابن الفارض في آخر نظم السلوك، لكن لم يصرح هل يقول بمثل قول التلمساني أو قول الرومي أو قول ابن العربي، وهم إلى كلام التلمساني أقرب، لكن ما رأيت فيهم من كفر هذا الكفر الذي ما كفره أحد قط مثل التلمساني، وآخر يقال له البلباني من مشايخ شيراز ومن شعره: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه وأيضًا: وما أنت غير الكون بل أنت عينه ... ويفهم هذا السر من هو ذائقه وأيضًا: وتلتذ أن مرت على جسدي يدي ... لأني في التحقيق لست سواكم وأيضًا: ما بال عينك لا يقر قرارها ... وإلام ظلك لايني متنقلاً فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن ... إلا إليك إذا بلغت المنزلا وأيضًا: ما الأمر إلا نسق واحد ... ما فيه من حمد ولا ذم وإنما العادة قد خصصت ... والطبع والشارع في الحكم وأيضًا: يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني ... والوجد أصدق نهَّاء وأَمَّار فإن أطعك وأعص الوجد عُدت عمي ... عن العيان إلى أوهام أخبار فعين ما أنت تدعوني إليه إذا ... حققته تره المنهيَّ يا جاري وأيضًا: وما البحر إلا الموج لا شيء غيره ... وإن فرقته كثرة المتعدد إلى أمثال هذه الأشعار، وفي النثر ما لا يحصى، ويوهمون الجهال أنهم مشايخ الإسلام وأئمة الهدى الذين جعل الله تعالى لهم لسان صدق في الأمة مثل: سعيد بن المسيب وال

الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية كتب إليّ الأستاذ أبو الحسنات الهندي أحد أعضاء دار المصنفين في (أعظمكده - الهند) رحمه الله تعالى، الكتاب الآتي بعد اطّلاعه على قانون جمعية الرابطة الشرقية في المنار، وهو من دعاة الجامعة الإسلامية. بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة المفضال مولانا رشيد رضا صاحب المنار، سلامًا سلامًا. لقد سرني ما قرأت في صفحات الجرائد الأردوية: أن عصبة من أصحاب النعرة والغيرة على الشرق من أهل مصر قامت بإصلاح شؤونه وترقية شعوبه، وإخراج أهله من الذل والانحطاط الذي وصلت هذه الأمم الشرقية إلى غايته، وألَّفتْ جمعية موسومة بجمعية الرابطة الشرقية، تكون مصر مركزًا لها، وتكون للجمعية شُعب في كل قطر من الأقطار الشرقية، وزاد فرحي إذ رأيت اسمكم الشريف من جملة بانيها ومؤسسيها، وكان هذا الفرح والسرور بما أني أحسن الظن بكم، فإنكم لستم كعامة علماء زماننا هذا، لا يفرقون القشر من اللباب، والماء من السراب. بينما كنت في هذا الفرح والسرور إذ وصلتني الأجزاء (الأول والثاني والثالث) لمجلة المنار الغراء من مجلدها الثالث والعشرين، وقرأت في فاتحة هذا المجلد ما نصه: (جرينا على منهج الإمامين الحكيمين في الدعوة إلى الوحدة، وجمع كلمة الأمة، بالتذكير بآيات الله المنزلة في القرآن.. .. ألا وإنه قد أتى الأوان للعمل بما أرشد إليه الإمامان، حتى كأنهما كانا يخاطبان أهل هذا الزمان، من أهل مصر والسودان، وسائر العرب والهند والترك والفرس والأفغان) . فازددت فرحًا على فرح، وبشّرتُ نفسي كما حررتم في هذه الفاتحة (بأن ليل الذل والعبودية قد عسعس، وصبح العزة والحرية قد تنفس) ولكن يالخيبة الأمل إما كان أقصر زمن فرحي وسروري؛ لما طالعت في الجزء الثالث مقاصد الجمعية وأغراضها، ووجدت الصراحة فيها بأن (غرض الجمعية نشر المعارف والآداب والفنون الشرقية وتعميمها، وتوسيع نطاقها، وتوثيق روابط التعارف والتضامن بين الأمم الشرقية على اختلاف أجناسها وأديانها) . فالألفاظ الأخيرة وإن كانت متشابهة بألفاظ السيد جمال الدين الأفغاني طاب ثراه، ولكن غرضكم الحقيقي من هذه الجمعية ليس ما كان غرض السيد المرحوم كما لا يخفى على الناظر في مقاصد جمعيتكم بأول النظر. أيها الحبر الأعظم: إن مقصد السيد المرحوم الذي قد وجه إليه أفكاره، وبذل في سبيل جهده قواه، وكتب على نفسه السعي إليه مدة حياته، وأصابه ما أصابه من البلاء في سبيله - هو إنهاض ما بقي من الدول الإسلامية من ضعفها، وتنبيهها للقيام على شؤونها تحت ظل الخلافة العظمى، حتى تصير الأمة الإسلامية من الأمم العزيزة، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجد كان له في الأيام السالفة [1] ، ولما كان النجاح بهذا العمل الجسيم موقوفًا على تقليص ظل الدول الغربية عمومًا عن رؤوس الطوائف الإسلامية، وعلى تنكيس الدولة البريطانية، خصوصًا في الأقطار الشرقية، بدأ السيد المرحوم هذا الجهاد الأكبر بإصلاح ذات بين الشرقيين عمومًا، والمسلمين خصوصًا، وبتقوية الصلات العمومية بين الأمم، وتمكين الألفة في أفرادها، وتأييد المنافع المشتركة بينها، وبالتنبيه على أن التكافؤ في القوى الذاتية والمكتسبة، هو الحافظ للعلاقات والروابط السياسية، وبالتنقيب عن المسالك الدقيقة التي يسري بها الطامعون في دياجر الغفلات [2] . أيها العلامة المفضال، هكذا كان سير السيد المرحوم وطريق عمله، وترونه كما أراه في صفحات مجلته (العروة الوثقى) وهي المجلة التي نفخ السيد المرحوم بها الروح العالية: روح الحياة، وروح النهضة، التي نرى ذراتها متحركة وسارية يومًا بعد يوم في الطبقة الراقية من أبناء الشرق، فأين يا مولانا مقاصده العلى من مقاصد جمعيتكم التي دعوتم إليها أرباب العلم والقلم من أبناء الشرق؟ هل الجهل فقط هو داء الشرق، ونشر العلوم وتوسيع نطاق المعارف فيه دواؤه؟ هل تجزمون بأن التعارف العلمي والتضامن الأدبي يؤول على أبناء الشرق بالسعادة الدنيوية والدينية (التي) تسعد بها الأمم؟ وهل تظنون أن قلوب أبناء الشرق تكون لها الطمأنينة، وقريحتهم تكون لها السكينة، ويد الأجانب عاملة في شؤونهم تدبر الأمر كيفما تشاء؟ لا والله لا. نعم ربما يظن قوم في هذه الأزمان أيضًا - مع أن التجارب تعرض عنه والشواهد تنكره - أن نشر الجرائد، وتأسيس المدارس، وبث العلوم، وتوسيع نطاق المعارف، أدوية تعالج بها أمراض الأمم المصابة، وأنها هي أسباب تكفل إنهاض الأمم، وتنبيه أفكارها، وتقويم أخلاقها، ولكن الحق أنه ليس الأمر كذلك. المدارس في الشرق كثيرة، والجرائد تزداد فيه أعدادها يومًا بعد يوم، وللعلوم والمعارف دور كثيرة في كل قطر من الأقطار، فمع هذه كلها ما هذا الذل والفقر والعبودية؟ هل صارت بوجود هذه الأسباب التي يظن سعادة الأمم نتيجة لها أحسن حالاًً مما كانت عليه قبل زماننا هذا؟ هل استنقذت أنفسها من أنياب الفقر والعسرة؟ هل نجت بها من ورطات الذل والعبودية؟ هل أحكمت الحصون، وسدت الثغور؟ هل نالت بها المنعة والمُنَّة [3] التي تدفع بها غارة الأعداء؟ لا والله لا. فمع هذا كله إلى أي شيء تدعون الأمم الشرقية عمومًا والمسلمين خصوصًا، وإلى أي سبيل مسيركم؟ واعلموا يا مولانا أن أول أمر يجب الاهتمام به هو معرفة أصل الداء وأسبابه الحقيقية، أيمكن لطبيب يعالج مريضًا أن يختار له نوعًا من العلاج قبل أن يعرف ما عرض له من المرض، وما هو سببه؟ كلا ثم كلا، نعم يمكن أن يكون هذا سير من ليس له الحظ الأوفى من الحذق والكمال، ويكون متطببًا لا طبيبًا، فعلى الطبيب الحاذق أن يهتم قبل كل شيء بمعرفة أصل الداء وأسبابه، ثم بطريق علاجه وتعيين دوائه؛ لكي لا يكون الداء أصعب والدواء أعز، فإن معالجة المرض قبل تعيين أسبابه لا تزيد إلا شدة في المرض، وصعوبة على المريض، بل ربما تفضي به إلى الموت، فأقول (وهذا قولي في مسألة الأمة المسلمة خاصة، وأما مسألة الأمم الشرقية فلست الآن بصددها، ويمكن أن أجرد لها فصلاًً آخر إن ساعدتني الفرصة) . إن أول مرض لحق الأمة المسلمة هو تشتت أهوائها، وتخالف أميالها، الذي فرق جمعها وبدَّد شملها، حتى ذهب كل واحد منها إلى ما قاده إليه هواه من غير أن يراعي جانب الأمة، ويستحفظ فوائدها، أو أن يلتفت إلى ما يمسها، ويهتم بالدفاع عنها. انظروا أيها الفاضل الجليل كيف كان بدء الانحلال والضعف في روابط الملة الإسلامية من جهة دينها ودنياها عندما انفصلت الرتبة العلمية عن رتبة الخلافة على عهد العباسية، حيث قنع الخلفاء العباسيون باسم الخلافة دون أن يستجمعوا شرف العلم والتفقه في الدين، فكثرت بذلك المذاهب، وانفصلت فيها المسالك، ووقع في الدين الإسلامي تشعب لا مثيل له في دين من الأديان، وكان هذا في مستهل القرن الثالث من الهجرة النبوية، وبعد ذلك عمت هذه السيول، واندفعت على كل قطر من أقطار العالم الإسلامي، حتى ما بقي موضع ليسكن فيه الاثنان من المسلمين إلا وهما المختلفان في المذهب، هذا من جهة دينهم، وأما من جهة دنياهم فاشتد ذلك الخلاف، وزاد بظهور المغول الذين أوقعوا بالمسلمين قتلاًً وإذلالاًً، حتى أذهلت الأمة عن أنفسها، وتقطعت الوشائج وانفصمت عرى الاتصال بينهما، فتفرق الشمل بالكلية، وافترق الناس فرقًا وشيعًا [4] . هذه هي الداهمة التي دهمت الأمة المسلمة، وطوحتها في غيابة الذل والهوان وقعر الخمول والسَّكَران [5] ، وما انتبهت وصَحَتْ إلى يومنا هذا انتباهًا صحيحًا وصحوًا كاملاًً، فالأمر واضح، والطريق ليس بملتبس على من يريد أن يسلك في سبيل إيقاظها وإنهاضها طريقًا مستقيمًا غير معوج، وما هو إلا السعي في سبيل توحيد كلمتها، وتشديد ارتباط بعضها مع بعض، هذه كلمة صدق قلتها لكم، وأريد أن أقولها مرة بعد أخرى، فإن قلبي قد ملئ بها إذعانًا وإيقانًا، وخاصة في زماننا هذا، خير الأمور التي تستحق أن يجهد في سبيله من يريد الجهاد في سبيل الأمة وسبيل الدين، بل وفي سبيل الله، هو أن يجاهد في جمع الكلمة المتفرقة لمسلمي العالم حيثما يمسون، وفي أي قطر يصبحون؛ لأن التشتت والتفرق فقط هو (أدوى) داء حل بهم، وأهبطهم في هاوية، وما أدراكم ماهيه، إنها هي كون المسلمين عبيدًا للأجانب حتى في أوطانهم، بعد ما كانوا مولى العالم في الشرق والغرب. وها هي (ذي) حقيقة ثابتة لا يسعها الخلاف، جديرة بأن تنظروا إليها. إن الأمة المسلمة قوية الرجاء بين الأمم، لا تقنط قنوطًا يحكم عليها بالهبوط الثابت، وبالسبات الدائم، بل كلما قامت لها قيامة رقدت من نوم غفلتها، وانتبهت فقامت وسارت سير التقدم والرقي، ألا ترون أنها بعدما صدمت بصدمات غارات التتر والحروب الصليبية جمعت بعد زمن يسير تحت لواء الخلافة الإسلامية العثمانية، وساقت الجيوش إلى أنحاء العالم، ودوخت البلاد، وأرغمت أنوف السلاطين، حتى دانت لها الدول الإفرنجية، ونفذت أوامرها في الشرق والغرب؟ لا ريب في أن هذه الأيام كانت للأمة المسلمة أيامًا بيضاء حسانًا، كأنما رجع لها الدهر بأيام الخلافة العباسية التي لا نظير لها في تاريخ الأمة، ثم بعد ذلك بحكم {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 140) قلب لها الدهر ظهر المجن، فأخذت تنزل من منزلتها الرفيعة، ودست لها الدول الإفرنجية الدسائس، فتفرقت كلمتها، وتمزقت جمعيتها، حتى ما بقيت دار من دور المسلمين إلا فيها الأمر والحكم للأجانب إلا ما شاء الله. ومع هذا كله ارجعوا البصر إلى ما وقع في زماننا هذا من انتصار الجيوش الإسلامية القاهرة تحت قيادة سيف الله المسلول، آية من آياته الكاملة، الغازي مصطفى كمال باشا أيده الله بنصر مزيد، فإنها لما سمعت انتصاره على اليونان، وانتزاعه الدولة العلية من مخالب الأعداء، فاهتزت لها نفوسها، وأحدث هذا الفوز حركة قوية في طباعها، حتى خافت عواقبها الدولة التي هي أقوى دول العالم وأعدى عدى الإسلام والمسلمين، وجعل يسعى أربابها في تسكين جأشهم بقولهم الزور أن نعوذ بالله أن نكون من أعداء الإسلام والمسلمين (والله يعلم ما يسرون وما يعلنون) . نعم قلت: إن الأمة المسلمة هي قوية الرجاء، ولها ميل شديد إلى الوحدة كما هي اجتمعت بعد الانتشار تحت لواء الخلافة الإسلامية العثمانية، فقويت بها شوكتها، وارتقت ارتقاءً نهائيًّا، مع هذا كله نقول: مما لا ريب فيه أنه كان ما كان لها من جهة دنياها لا من جهة دينها، والحق أن سر ضعفها الحقيقي كان مضمرًا في دينها؛ ولأجل ذلك ما مضت من أيام شوكتها أيام تذكر، حتى حصل السبات ونامت، فكأنما كان لها ذاك الحراك تحولاًً من شق إلى شق آخر في نومها فأقول لكم يا مولانا قول خبير بصير: إنه لا نجاح لمن يريد خدمة الأمة المسلمة إلا بدعوتها إلى الاعتصام بحبل دينها، والاقتداء بأحكام شريعتها، فإن لدين هذه الأمة وشريعتها سلطانًا على أنفسها لا يماثله سلطان الحمية الوطنية والنعرة الجنسية، فكلما دعيت إليها تحركت لها جؤوشها، واهتزت لها نفوسها، ولبَّتْ واجتمعت، فحينئذ تتنزل الملائكة عليها، ويؤيدها الله بروح منه، ويتحقق معنى الآية المباركة {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) . فالشريعة مورد هذه ا

جمعية منكوبي الإعانة السورية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية منكوبي الإعانة السورية أُلِّفَتْ في القاهرة جمعية لتنظيم جمع الإعانات لمنكوبي سورية على إثر الدعوة التي أذاعها الرئيس الجليل سعد باشا زغلول، وافتتح باب التبرع لها هو وأهل بينه وأعضاء الوفد المصري، وكان المؤسسون للجمعية قد ارتأوا أن تكون تحت رعاية عالية ورياسة سامية، فطرقوا أبواب بعض كبار الأمراء، فألفوا آذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وقد آن للناس أن يعرضوا عن ضخامة الألقاب وسمو الأنساب، ولا يعولوا إلا على أولي الألباب، فإن قيمة النسب الصحيحة لا تعدو حسن تأثير الوراثة في لب الإنسان وجوهره وهو العقل والقلب، على أن الجمعية قد أُلِّفَتْ من خيار البيوت المصرية والسورية حسبًا وأدبًا وأمًّا وأبًا، وقد أظهر الأعضاء السوريون لإخوانهم المصريين رغبتهم في إسناد رياسة الجمعية إلى واحد منهم، فقال صاحب المعالي فتح الله باشا بركات: بل الأولى أن تختاروا واحدًا منكم؛ لأن المصاب واقع على شعبكم، وإن كنا نحن والسوريون أمة واحدة باعتبار آخر، وليس المقام هنا مقام مباراة في رياسة، بل مقام تعاون على تخفيف آلام نكبة نشعر بها كلنا، وأنا مستعد للعمل معكم تحت رياسة أصغركم سنًّا، فحبذ قوله هذا أصحاب السماحة والسعادة والعزة عبد الحميد البكري وأحمد شفيق باشا وعبد الحميد بك سعيد، فلم يسعنا معشر السوريين إلا اتباع إجماعهم، فاعتزلنا الجلسة وانتخبنا الأمير ميشيل لطف الله لما له من السابقة الحسنة في أمثال هذه الجمعيات الخيرية سعيًا وإدارة ومساعدة. هذا وإن شاعر مصر أحمد شوقي بك الملقب بأمير الشعراء بغير منازع وشاعر الشام خير الدين أفندي الزركلي قد نظم كل منهما قصيدة في كارثة دمشق وثورة سورية، أنشدتا في حفلة حافلة لجمعية الإعانة، فرأينا أن ننشرهما في المنار وهذا نص الأولى: سلام من صبا (بَرَدَى) أرق ... ودمعٌ لا يكفكف يا دمشقُ ومعذرةُ اليراعة والقوافي ... جلال الرزء عن وصف يدق وذكرى عن خواطرها،لقلبي ... إليك تَلَفُّتٌ أبدًا وخفقُ وبي مما رَمَتْكِ به الليالي ... جراحات لها في القلب عمق دخلتُكِ والأصيل له ائتلاقٌ ... ووجهكِ ضاحك القَسَمات طلق وتحت جنانكِ الأنهار تجري ... وملء رُباكِ أوراقٌ ووُرْق وحولي فتيةٌ غرٌّ صِباحٌ ... لهم في الفضل غاياتٌ وسبْقُ على لَهَوَاتِهم شعراءُ لُسنٌ ... وفي أعطافهم خطباء شُدق رواةُ قصائدي فأعجب لشعر ... بكلِّ محلة يروية خَلْقٌ غمزت إباءهم حتى تلظت ... أنوف الأسد واضطرم المدق وضج من الشكيمة كل حرٍّ ... أبيٍّ من أمية فيهِ عِتق *** لحاها الله أنباءً توالت ... على سمع الولي بما يَشُقُّ يفصِّلها إلى الدنيا بريدٌ ... ويُجملها إلى الآفاق برْقُ تكاد لرَوْعةِ الأحداثِ فيها ... تُخالُ من الخرافةِ وهي صدقٌ وقيل معالم التاريخ دُكَّت ... وقيل أصابها تَلفٌ وحرقُ ألستِ دمشق للإسلام ظئرًا ... ومرضعةُ الأبوَّة لا تُعقُ صلاح الدين تاجك لم يُجمَّلْ ... ولم يُوسَم بأزين منه فرْقُ وكل حضارة في الأرض طالت ... لها من سرحك العلويِّ عرق سماؤك من حلى الماضي كتابٌ ... وأرضكِ من حلى التاريخ رَقٌّ بنيتِ الدُّولة الكبرى وملكًا ... غبارُ حضارتيه لا يُشقُّ له بالشام أعلامٌ وعرسٌ ... بشائرهُ بأندلس تدق *** رباع الخلد ويحك ما دهاها ... أحقٌّ أنها دَرَست أحقُّ وهل غرف الجنان منضَّداتٌ ... وهل لنعيمهنَّ كأمس نسقُ وأين دُمى المقاصر من حجال ... مُهتكة وأستار تُشَقُّ برزْن وفي نواحي الأَيْكِ نارٌ ... وخلف الأَيْكِ أَفْراخٌ تُزَقُّ إذا رُمنَ السلامة من طريقٍ ... أتتْ من دونه للموت طرقُ ليلٌ للقذائف والمنايا ... وراء سمائه خطفٌ وصعقُ إذا عصف الحديد احمرَّ أفقٌ ... على جنباته واسودَّ أفقُ على من راع غيدك بعد وهن ... أبين فؤاده والصخر فرق وللمستعمرين وإن ألانوا ... قلوب كالحجارة لا تَرقُّ رماكِ بطيشه ورمى فرنسا ... أخو حرب به صلفٌ وحمقٌ إذا ما جاءه طلابُ حقٍّ ... يقول عصابة خرجوا وشقوا *** دمُ الثوار تعرفه فرنسا ... وتعلم أنه نورٌ وحقُّ جرى في أرضها فيه حياةٌ ... كمنهل السماء وفيه رزقُ بلادٌ مات فتيتها لتحيا ... وزالوا دون قومهم ليبقوا وحُرِّرتِ الشعوب على قناها ... فكيف على قناها تُسترقُّ *** بني سورية أطَّرحوا الأماني ... وألقوا عنكم الأحلام ألقوا فمن خِدَعِ السياسة أن تغروا ... بألقاب الإمارة وهي رقٌّ وكم صَيَدٍ بَدَا لك من ذليل ... كما مالت من المصلوب عنقُ فتوقُ الملكِ تحدُثًُ ثم تمضي ... ولا يمضي لمختلفين فتقُ نصحتُ ونحن مختلفون دارًا ... ولكن كلنا في الهمِّ شرقُ ويجمعنا إذا اختلفت بلادٌ ... بيانٌ غير عطف ونطقُ وقفتم بين مَوْتٍ أو حياةٍ ... فإن رُمْتمْ نَعيم الدَّهرِ فاشقوا وللأوطان في دم كل حرٍّ ... يدٌ سَلَفَتْ ودَينٌ مستحقٌ ومن يَسفي ويشربُ بالمنايا ... إذا الأحرار لمْ يُسقَوْا وَيسقوا؟ ولا يَبني الممالكَ كالضحايا ... ولا يُدني الحقوقَ ولا يحقُّ ففي القتلى لأجيال حياة ... وفي الأسرى فدى لهمو وعتق وللحرية الحمراء بابٌ ... بكل يد مضرجة يُدَقُّ جزاكم ذو الجلال بني دمشق ... وعز الشرق أوله دمشق نصرتم يوم محنته أخاكم ... وكلُّ أخ بنصر أخيه حقُّ وما كان الدروزُ قبيلَ شرٍّ ... وإن أُخذوا بما لَمْ يَستحقُّوا ولكن ذادةٌُ وقراةُ ضيف ... كينبوع الصفا خَشنوا ورَقُّوا لهم جبلٌ أَشَمٌّ له شِعافٌ ... مواردُ في السحابِ الجونِ بُلْقُ لكلِّ لبوءة ولكلِّ شِبل ... نِضال دون غابتهِ ورَشقُ كأن من السموأل فيه شيئًا ... فكلُّ جهاتهِ شرفٌ وخُلُقُ

الجمعية العلمية للمعارف الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجمعية العلمية للمعارف الإسلامية أسس بعض المستشرقين من علماء الألمان الأعلام جمعية بهذا الاسم في (برلين) عاصمة السلطنة الألمانية العامة، وقد كان هؤلاء العلماء يبحثون قبل تأسيس هذه الجمعية في العلوم الإسلامية، كما أن جماعات أخرى منهم تبحث في جميع العلوم والفنون وشؤون الأمم، بدقتهم التي فاقوا فيها جميع علماء الشعوب الأخرى، ولكن هذه الجمعية لها شأن لم يكن لغيرها من جماعات العلماء يرجى أن يكون فاتحة خير عظيم، وإننا لم نطَّلع على قانونها، وإنما أحدث هذا الرجاء في أنفسنا ما نشروه من الدعوة إلى التعاون مع علماء المسلمين في مصر وغيرها، وقد أرسلوا إلينا نسخة من الدعوة العربية المبينة لأغراض الجمعية، وهذا نصها: *** دعوة الألمان إلى علماء الإسلام أي سادة العلماء: لدراسة تعاليم دين الإسلام وتعقب أحوال المسلمين العامة فيما يتعلق بجنسيتهم ومدنيتهم، وما هم عليه من حالة اقتصادية وعمرانية أسست جمعيتنا التي لا تتداخل في السياسة قط. وعملُنا في هذه الجمعية كما يُرى من أغراضها ليس بالأمر الهيِّن إلا أنه يصير سهلاً زلالاً لو أن إخواننا علماء الدين الإسلامي بسطوا أكفهم للتعاون معنا في مسعانا تعاونًا علميًّا حتى نحقق أغراضنا (التي) هي إحدى آمال الأمم الإسلامية الناهضة. ولما كانت في طليعة تلك الأمم الناهضة مصر: مصر ذلك البلد الذي بقي حتى اليوم يمد العالم الإسلامي بنور تعاليم تلك الديانة الحنيفة، فإننا نعتقد فيما بيننا أن أول من يلبي دعوتنا هذه لا شك علماء مصر الأماجد، فهم أكثر منا تشبعًا بوجوب العمل لتأييد ما نسعى إليه. نعم إن من نتائج هذا التفاهم العلمي أن تنقشع - قريبًا كان أم بعيدًا - تلك الضبابة الكثيفة التي مازالت حتى الساعة تحجب الشرق عن أعين الغربيين، وهو السر الوحيد فيما نراه من بقاء اختلاف كانت له نتائج وخيمة وقاسية، لم تتخلص منها الأقطار الشرقية والغربية على السواء. إلا أن ساعة الخلاص تقرب كلما ثبت للغرب شيئًا فشيئًا وجوب الاهتداء بنور التعاليم الحقة لدين الإسلام، ولن يتهيأ للغرب ذلك حتى يُمدَّ بمساعدة علمية محضة، وهذا ميدان عمل فسيح لنا ولكم يا حضرات أعلام الإسلام (ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً) والسلام ... ... ... ... رئيس الجمعية الألمانية للمعارف الإسلامية ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ المستشرق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كامفماير ... ... ... ... ... العنوان: Prof. Dr. G. Kampffmeier Werderstr. 10 Berlin - Dahlem Germani (المنار) نرجب ونرحب بهؤلاء الأعلام وبجمعيتهم، ونشكر لهم عملهم باللسان والقلم، والعلم والعمل، وإنا لما يدعوننا لمستجيبون في كل ما نحن عليه قادرون، وننصح لمشيخة الأزهر أن تجيب دعوتهم، وتطلب الوقوف على جميع أعمالهم وأبحاثهم، وأن يمد إليهم يد المساعدة في كل ما يطلبون منها، وبذلك تخدم الإسلام خدمة هي أحق بها من غيرها، ونحث سائر علماء الإسلام في الشرق والغرب على ذلك أيضًا. *** المجموعة المباركة في الصلوات المأثورة جاءنا من مشيخة الجامع الأزهر الشريف ما يأتي لينشر في المجلة: أرسل حضرة محمود شفيق البكري التاجر بميت غمر لمشيخة الجامع الأزهر الشريف مجموعة تدعى (بالمجموعة المباركة في الصلوات المأثورة والأعمال المبرورة تأليف عبده محمد بابا) لإبداء رأيها نحو ما تضمنته تلك المجموعة من الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم. والمشيخة تعلن أن ما جاء في هذه المجموعة من أحاديث الجزاء ظاهرة الوضع والاختلاق، سيما ما سماه مؤلفها حديث عبد الله بن السلطان، وفيه إغراء للعوام على اقتراف المآثم وترك الواجبات، وعدم المبالاة بها اتكالاً على كلمة استغفار أو دعاء يقولها مرتكب ذلك ليخلص من شر ما اقترف، وأن هذه المجموعة وأمثالها لا يضعها إلا جاهل أعماه جهله عن الطريق السوي , أو ضال مضل قصد أن يصرف العوام عن أحكام الشرع الشريف، ويجعلهم في حل من عدم الوقوف عند حدوده من طريق شبه شرعي اهـ. ... ... ... ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الختم) (المنار) دعاء عبد الله بن سلطان أو حديثه خرافة مضلة للعامة، كان قد طبعها من زهاء ثلاثين سنة دجال من الدجاجلة اسمه عبد الله القباج، وبينّا ما فيه من الإضلال وهدم الدين في العدد 40 من المنار الذي صدر في شعبان سنة 1346، ثم أعاد طبعه دجال آخر، فعدنا إلى التحذير منه بعد سنين.

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (الذهب الخالص، المنوه بالعلم القالص) كتاب في أصول الإيمان والإسلام من العقائد والعبادات والآداب، من تصانيف أكبر علماء الإباضية وأشهرهم في هذا العصر الشيخ محمد بن يوسف إطفيش الجزائري رحمه الله تعالى، وقد طبعه في العام الماضي، وعلق عليه بعض الحواشي تلميذه وحفيد أخيه الأستاذ الشيخ أبو إسحق إبراهيم إطفيش صاحب كتاب (الدعاية إلى سبيل المؤمنين) ومباحث الكتاب مؤلفة من سبعة أركان (الأول) معرفة الله تعالى وسائر المسائل الاعتقادية، ومنها الفرز بين كبائر الشرك والنفاق والخوف والرجاء إلخ، وأحكام الولاية والبراءة والوقوف بينهما، والملل الست وأحكامها (الركن الثاني) في النجاسة والطهارة والصلاة (الركن 3 و4 و5 و6) في الزكاة والصيام والحج والعمرة (الركن السابع) في الحقوق. فنحث كبار العلماء الرسميين وجميع العلماء المستقلين على الاطلاع على هذا الكتاب وهو مطبوع بالمطبعة السلفية 1443، على ورق جيد وصفحاته 340 من قطع المنار، وثمن النسخة منه 25 قرشًا. *** (المنهاج) مجلة علمية أدبية إسلامية لمنشئها الأستاذ الشيخ أبي إسحق إبراهيم إطفيش الجزائري نزيل مصر، وقد صدر منها جزآن حافلان بالمسائل الدينية والأدبية والتاريخية، وكان من بواكر ثمراتها الرد على كتاب الشيخ علي عبد الرازق راوندي هذا العصر في محاربة الإسلام، ونصر الإفرنج على المسلمين، ومؤيد دعاية الملاحدة اللادينيين بشبهات الدين، وإذا كان منشئ هذه المجلة من كبار علماء الإباضية وخليفة أشهر علمائهم في العصر علمًا وبيتًا، فالمرجو أن تكون مجلته من أسباب التأليف والوحدة بينهم وبين أهل السنة والشيعة، والخلاف بينهم وبين الشيعة أشد، وقد كان هو الذي بادر إلى الرد على بعض الكتب التي نشرها بعض دعاة التشيع في هذه السنين للطعن في أئمة حفاظ السنة ونبذهم بلقب النصب وكان ردًّا معتدلاً، فعسى أن تنال ما يكافئ اجتهاد منشئها الغيور على الأمة والملة من الرواج والانتشار، وقيمة الاشتراك فيها 100 قرش.

استفتاء في كلمة للملك فيصل في الأديان السماوية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استفتاء في كلمة للملك فيصل في الأديان السماوية (س37) نشرت جريدة الخلافة (خلافت) التي تصدر في بمبى (الهند) في عددها الذي صدر في 22 صفر من هذه السنة (1344) الاستفتاء الآتي، وقد نشر في كثير من جرائد الأقطار الإسلامية، ولهج كثير من الناس بعد اطلاعهم على ما قاله الملك فيصل عن الأديان والأنبياء بأنه ردَّة عن الإسلام، وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم إلى العلماء الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها: (عقيدة الأمير فيصل ملك العراق ابن الملك حسين بن علي المكي في الأديان السماوية) . هذه خطبة للأمير فيصل ابن الشريف حسين، ألقاها في الحفلة التي أقامها اليهود في دار الرئاسة الحاخامية لليهود في بغداد، ونشرتها جريدة دجلة التي تصدر هناك في عددها الثاني والعشرين تاريخ 12 ذي القعدة سنة 1329 هـ 19 تموز سنة 1921 ننقلها للقراء بحروفها، ليطلعوا على حقيقة معتقد هذا الأمير في الأديان السماوية، وأنه كوالده في اعتماده في كل أموره على الإنكليز لا على الله. *** الخطبة بنصها (إني أشكر مواطني الإسرائيليين العراقيين لإقامتهم هذه الحفلة الكريمة التي أعربت عن شعورهم نحو البلاد، وإني أسأل الله تعالى أن يوفقني إلى الأعمال التي تزيد ثقتهم بي، واعتمادهم علي) . (إني لا أرى في هذا الاحتفال مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، وإني أعتقد (أنه) لو جاء موسى وعيسى ومحمد إلى هذا الاحتفال، وشهدوا منا ما نقوله من يهود ونصارى ومسلمين [1] لغضبوا علينا غضبًا شديدًا، أنا أريد أن يقول الجميع: إننا ساميون عراقيون نرجع إلى جد واحد، وما الاختلاف [2] الدينية والمذاهب إلا دسائس دنيوية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية، ومتى عرفنا ذلك يرفع من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين، وإني لا أرى لزومًا لتكرار القول، فإنا أولاد جدٍّ واحد، إننا أولاد سام، وآباؤنا سكنوا العراق مدة طويلة، وقاموا بأمر تعميره مشتركين، قال أحد الخطباء الآن: إن للأمة العربية أيادي بيض (؟) على اليهود في جزيرة العرب، وأنا أقول: ما قام العرب تجاه اليهود إلا بالواجب المفروض الذي لا يطلبون مقابله حمدًا ولا شكرانًا. إن البلاء قد نزل باليهود والمسلمين [3] على حدٍّ سواء، إني أرغب أن يتزايد الاعتماد في هذه الأيام لننقذ البلاد من الخراب الذي أنزلته بها أيادي الظلم والاستعمار السابقة التي عاثت بأرض العراق فسادًا) . (فإني لم أزل أتذكر كلمة لأكبر رجل في العالم - وهو المستر لويد جورج زعيم الحكومة الإنكليزية - قالها في مانشستر على ما أظن، وهي قوله: نحن دخلنا العراق ونرغب أن نرجعها إلى حالها حال جنات النعيم) . (نحن لا نستطيع أن نبلغ بالبلاد العراقية إلى درجة جنات النعيم في خمسين عام أو أكثر، ولكننا نقول: كل من سار على الدرب وصل، إن لي الأمل العظيم في نجاحنا في هذه المسألة؛ لأننا اليوم بعهدة أكبر دولة وأعظم أمة ألا وهي بريطانيا العظمي، فإن المراحل البعيدة لا نستطيع قطعها، ولكن بمساعدة بريطانيا ومعاضدتها ستكون المراحل قصيرة، فإنا نبلغ مُنانا إذا ساعدتنا بريطانيا كما هي تساعدنا اليوم، فبسعي الإنكليز ومعاضدتهم سيكون النجاح قريبًا، إني أرغب أن أرى هذا النجاح، ولكن من أين لي ذلك العمر الطويل، فإننا إذا لم نراه (؟) فإن أبناءنا سيشهدوه (؟) ويشكرونا على ذلك العمل، وفي الأخير أقول: إن ليس لي غاية سوى تقدم البلاد، وليس لي حزب إلا الجميع، وأملي وطيد بأن إخواني الإسرائيليين سيبذلون جهدهم لرقي البلاد العراقية كما هو شأنهم في البلاد الأخرى اهـ، انتهت بحروفها. فنوجه رجاءنا إلى علماء الإسلام أن يفتونا في رجل يعتقد ويصرح على رءوس الأشهاد بأن الديانات والمذاهب ما هي إلا دسائس دنيوية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية، وأنه لو جاء موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وسمعوا كلامه يغضبون عليه غضبًا شديدًا، ومع ذلك هو لا يبالي بهم، ويريد أن يرفع اسم اليهود والنصارى والمسلمين من بين أفراد الشعب الذي يحكمه، هل هذا الرجل (يُعد) مسلمًا؟ أفتونا مأجورين اهـ، الاستفتاء. (جواب المنار) هذه الكلمة التي قالها فيصل ملك العراق البريطاني هي هِجّيرَى فريقين من الناس: دعاة اللادينية، وأعداء الرابطة الإسلامية، الذين يرى القارئ بعض مقاصدهم في مقالنا الخاص بالمسألة السورية - وقد فصلناه من قبل في مقالات كثيرة - ولقد كان فيصل في غنى عن اتباعهم وعن الحكم بهواه على ما يرضي رسل الله صلواته وسلامه عليهم وما يغضبهم، لو كان حريصًا على مظاهر الدين الذي نشأ فيه، نعم كان يسعه أن يدعو اليهود إلى الاتفاق مع المسلمين والنصارى في التعاون على ترقية العمران في العراق، فإن ذلك لا ينافي استمساك كل منهم بدينه. إن كان فيصل يعرف عقائد الإسلام وقواعده التي يكون بها المسلم مسلمًا، ويؤمن بما جاء في كتاب الله تعالى وبما أجمع عليه المسلمون منها، فعليه إذا لم يقل بها ويدعُ إليها أن يسكت عنها، أو أن لا يصرح بمخالفتها، وهذا أقل ما يباح له في مثل ذلك الموقف. إن حكم الإسلام في الاختلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في الدين هو أن دين الله تعالى على ألسنة رسله واحد وهو الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19) الآيات، وهو واحد في العقائد والمقاصد، ولكنه مختلف في الشرائع العملية والمناهج، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: 48) ، ومن أصول الإسلام أن محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وأن بعثته عامة، وأنه لا يعتد بدين أحد بلغته دعوته إلا إذا اتبعه، وأن موسى صلى الله عليه وسلم لو كان حيًّا ما وسعه إلا اتباعه، وكذا غيره من الرسل {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) . إن كان فيصل ملك العراق البريطاني مؤمنًا بما ذكر فالواجب عليه أن يقول: لو جاء موسى وعيسى ومحمد - عليهم صلوات الله وسلامه بالرغم من كل منافق وكافر مجاهر - لغضبوا غضبًا شديدًا من ترككم لوحدة الإسلام، وعدم اتباع خاتم الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام، الذي بعث هاديًا لإزالة الاختلاف والاختصام، وناسخًا لما كان من الاختلاف في الشرائع والأحكام، وداعيًا إلى ما يحبه الله ويرضاه من الإخاء الإنساني العام، ومحرمًا لعصبيات الأجناس والأوطان والآيات والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، والتفرقة بين من يؤمن بخاتم الرسل ويتبعه ومن يكفر به ويخالفه معلومة بالضرورة، لا يسع مسلمًا جهلها، ومن أنكرها وخالفها لا يعد مسلمًا، ولا أن يعامل معاملة المسلمين في ولاية عامة ولا خاصة ولا زواج ولا إرث ولا غير ذلك، ولولا أن أهل العراق خانعون لسلطة أجنبية قاهرة لطالبه علماؤهم من السنة والشيعة جميعًا أن يصرح بعقيدته، ويتبرأ مما تبادر إلى أذهان الناس الذين قرأوا خطبته في كل قطر من مخالفة ما ذكر، ويعتذر عنه بأنه لم يكن يريد بما ذكر في الخطبة ما يخالف شيئًا من تلك الأصول الاعتقادية القطعية في الإسلام، ولكن العبارة كانت قاصرة - مثلاً - أو يجدد إسلامه. إذا كان فيصل يجهل ما لا يسع مسلمًا جهله من عقائد الإسلام وأصوله، فهو بدين اليهود والنصارى وتاريخهما أجهل؛ لأنه لم يتلق علوم الدين ولا غيرها عن العلماء فيتكلم عن علم، وجل ما يعلمه مقتبس من الجرائد وأحاديث المجالس، ليس له قاعدة يرجع إليها فيها، فيكون على بينة من مراد قائليها منها، فيظهر أنه سمع أو قرأ قول بعض أهل العلم والرأي: إن اختلاف المذاهب الذي كان مثار الشقاق والتفرق بين أهل الدين الواحد كالإسلام، إنما كان سببه البدع والأهواء، والتنازع على الملك أو الجاه، ثم استغلته الأمم والدول الطامعة في ملك أهله واستعمار بلادهم كما فعل الإنكليز في الهند، وكما يفعلون الآن في العراق؛ ففهم الكلام مقلوبًا أو حرفه بهواه فحمله على اختلاف الأديان، جاهلاً أو غير مكترث بالإجماع ونصوص القرآن، ولو كان كلامه في الخلاف المذهبي بين أهل السنة والشيعة بقصد جمع كلمتهم لكان يكون له وجه، وكلامه نص في الخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى فلا وجه له. أي فيصل! إن الخلاف بين اليهود والنصارى منشؤه عدم إيمان اليهود بالمسيح عليه السلام، وأن الخلاف بين المسلمين من جهة وبين اليهود والنصارى جميعًا من جهة أخرى هو في التوحيد المحض والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولم يكن هذا ولا ذاك (دسائس أجنبية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية) ؛ ليوقعوا الشقاق بين أبناء سام كما زعمت حتى يصح قولك: (ومتى عرفنا ذلك يرفع من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين) ؟ ثم ما معنى قولك بعد هذا: (وإني لا أرى لزومًا لتكرار القول، فإنا أولاد جد واحد، إننا أولاد سام) فهل انتساب الشعوب إلى جد واحد يقتضي عقلاً أو طبعًا أن يكونوا على دين واحد؟ كيف وأولاد الأب الواحد القريب قد يختلفون في الدين، ولو صح قولك لما وجد في الأرض دينان، فإن جميع أهل الأرض من أولاد نوح أبي سام، ومن أولاد آدم عليهما السلام؟ على أن أهل العراق ليسوا كلهم من أولاد سام كما زعمت، فالمشهور أن الكلدانيين - وهم أقدم أمم الحضارة في العراق - من أولاد كوش بن حام بن نوح، وفي البلاد كثير من سلائل الفرس الآريين، ويقال: إن الكرد بدوهم، وقيل: من عرق آخر، وقيل: بل هم من العرب، ومع هذا فقد سمح فيصل لهم بأن يحافظوا على جنسيتهم، ثم أي حاجة إلى اشتراط انتساب أهل الوطن الواحد إلى جد واحد من ألوف السنين، وماذا يقول في الإنكليز الذي يمهد لهم سبيل السيادة الدائمة في البلاد بخطبته هذه وسائر أقواله وأعماله هل هم من أولاد سام أيضًا؟ وهل يقبلون أن يرتفع اسم النصارى عنهم أو عن بقايا الآشوريين والكلدانيين الذين يتخذونهم ذريعة لفصم عروة كل اتحاد في العراق، كيف وملك الإنكليز هو حامي الإيمان المسيحي، وشعبه من أشد شعوب الأرض عناية وبذلاً في سبيل نشر النصرانية؟ ومما أودعه الإنكليز في المعاهدة الإنكليزية العراقية حرية دعاة النصرانية في العراق؛ ليعملوا ما استطاعوا في تحويل المسلمين فيه عن الإسلام. يا حسرة على فيصل وعلى أبي فيصل وعلى إخوة فيصل! يا حسرة على أهل بيت ينتسبون إلى خاتم الرسل وسيد ولد آدم ثم يكون هذا حظ أمته وملته ومنهم! ولماذا هذا كله؟ لأجل التمتع بلقب (ملك) في ظل الإنكليز، ألا بعدًا لملك زائل بل لقب باطل، يتوسل إليه بهذه الوسائل، وصاحبه لا يملك به إلا تنفيذ أمر الأجنبي فيما يهدم به سلطان أمته وتشريع ملتها. يبشر الملك فيصل البريطاني أهل العراق بأن مستر لويد جورج الذي زعم أنه أكبر رجل في العالم قال: (نحن دخلنا العراق، ونرغب أن نجعلها جنات النعيم) ، وأن العوام ورعاة الإبل والغنم في العراق ل

كتاب الخلافة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب الخلافة الإسلامية جاءنا الكتاب الآتي من صاحب الفضيلة والمزايا الجليلة، خادم الملة والأمة، الأستاذ الكبير، الشيخ مصطفى نجا مفتي ولاية بيروت ورئيس جمعية المقاصد الإسلامية فيها: سلام الله تعالى وتحياته ورحمته وبركاته على حضرة العلامة الأجلّ المحقق المفضال السيد محمد رشيد رضا المكرم زاد الله فضله وعلاه. (وبعد) فقد اطلعت على كتاب الخلافة الإسلامية الذي يبين للأمة حكم هذه المسألة المهمة، ويرشد إلى صراط الاستقامة وسبيل السلامة، ويقول: إن الإسلام أعظم قوة معنوية في الأرض، وإنه هو الذي يمكن أن يحيي مدنية الشرق وينقذ مدنية الغرب، فإن المدنية لا تبقى إلا بالفضيلة، والفضيلة لا تتحقق إلا بالدين، ولا يوجد دين يتفق مع العلم والمدنية إلا الإسلام. فهو أفضل كتاب أُلِّف في هذا الزمان لهداية الحائرين وتنبيه الغافلين وإقناع المقلدين الذين انحرفوا عن الدين واتبعوا غير سبيل المؤمنين، لجهلهم وزعمهم أن الشريعة الإسلامية غير صالحة لكل زمان وأنها علة تأخر المسلمين. فلحضرتك أيها الأستاذ الداعي إلى الخير، الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بكتابك هذا، ومنارك الأسنى، أقدم بعد الدعاء لك بطول البقاء جزيل الشكر والثناء، على ما أهديت لنا من فرائد الفوائد السنية، وما أبديت من الحقائق المؤيدة بالأدلة الشرعية والبراهين الجلية، وأسأل الله تعالى أن يجزيك خير الجزاء على نصحك للأمة، ويمدك بعنايته وعونه بمنه وكرمه. وبالختام أبث مزيد شوقي إلى ذاتك الكريمة، وأهديك تحية الاحترام والسلام. في 5 رجب سنة 1334. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي بيروت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم

مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ مسألة صفات الله تعالى وعلوه بين النفي والإثبات جواب سؤال رفع إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (السؤال) ما تقول السادة الفقهاء أئمة الدين، في رجلين تباحثا في مسألة الإثبات للصفات والجزم بإثبات العلو، فقال أحدهما: لا يجب على أحد معرفة هذا ولا البحث عنه، ويعتقد أن الله واحد في ملكه، وهو رب كل شيء وخالقه ومليكه، ومن تكلم في شيء من هذا فهو مجسم حشوي، فهل هذا القائل لهذا الكلام مصيب أم مخطئ؟ فإذا كان مخطئًا فما الدليل على أنه يجب على الناس أن يعتقدوا إثبات الصفات والعلو ويعرفوه؟ وما معنى التجسيم والحشو؟ أفتونا وابسطوا القول في هذا مأجورين إن شاء الله تعالى؟ (الجواب) : الحمد لله رب العالمين. يجب على الخلق الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فما جاء به القرآن أو السنة المعلومة وجب على الخلق الإقرار به جملة، وتفصيلاً عند العلم بالتفصيل، فلا يكون الرجل مؤمنًا حتى يقر بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فمن شهد أنه رسول الله شهد أنه صادق فيما يخبر به عن الله. فإن هذا حقيقة الشهادة بالرسالة، إذ الكاذب ليس برسول فيما يكذبه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ} (الحاقة: 44-46) . وفي الجملة فهذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام لا يُحتاج إلى تقريره هنا، وهو الإقرار بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما جاء به من القرآن والسنة كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (آل عمران: 164) وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (البقرة: 151) وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ} (البقرة: 231) وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء: 64) وقال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ومما جاء به الرسول رضاه عن السابقين الأولين، وعمَّن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، كما قال: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: 100) ومما جاء به الرسول إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) ، ومما جاء به الرسول أمر الله له بالبلاغ المبين كما قال تعالى: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ} (النور: 54) وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (المائدة: 67) . ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أُمر ولم يكتم منها شيئًا، فإن كتمان ما أنزله الله إليه يناقض موجب الرسالة، كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة، ومن المعلوم في دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة، كما أنه معصوم من الكذب فيها. والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره الله، وبين ما أُنزل إليه من ربه، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين، وإنما كمل بما بلغه، إذ الدين لم يُعرف إلا بتبليغه، فعُلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) وقال: (ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به) وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكَر لنا منه علمًا. إذا تبين هذا فقد صح ووجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله تعالى من أسماء الله وصفاته مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، فإن هؤلاء الذين تلقوا عنه القرآن والسنة، وكانوا يتلقون عنه ما في ذلك من العلم والعمل كما قال أبو عبد الرحمن السلمي: لقد حدثنا الذين كانوا يقرؤننا القرآن: كعثمان بن عفان وغيره أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا. وقد قام عبد الله بن عمر وهو من أصاغر الصحابة في تعلم البقرة ثماني سنين؛ وإنما ذلك لأجل الفهم والمعرفة. وهذا معلوم من وجوه: (أحدها) أن العادة المطَّردة التي جبل الله عليها بني آدم توجب اعتناءهم بالقرآن المنزل عليهم لفظًا ومعنى، بل أن يكون اعتناؤهم بالمعنى أوكد، فإنه قد عُلم أن من قرأ كتابًا في الطب أو الحساب أو النحو أو الفقه أو غير ذلك فإنه لا بد أن يكون راغبًا في فهمه وتصور معانيه، فكيف من قرأ كتاب الله تعالى المنزل إليهم، الذي به هداهم الله، وبه عرّفهم الحق والباطل والخير والشر والهدى والضلال والرشاد والغي؟ فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات، بل إذا سمع المتعلم من العالم حديثًا فإنه يرغب في فهمه، فكيف بمن يسمعون كلام الله من المبلِّغ عنه، بل ومن المعلوم أن رغبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعريفهم معاني القرآن أعظم من رغبته في تعريفهم حروفه، فإن معرفة الحروف بدون المعاني لا تُحصِّل المقصود إذ اللفظ إنما يراد للمعنى. (الوجه الثاني) أن الله سبحانه وتعالى قد حضهم على تدبره وتعقله واتباعه في غير موضع، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} (ص: 29) وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} (محمد: 24) وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: 68) ، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، فإذا كان قد حض الكفار والمنافقين على تدبره، عُلم أن معانيه مما يمكن الكفار والمنافقين على تدبره [1] وعُلم أن معانيه مما يمكن فهمها ومعرفتها، فكيف لا يكون ذلك للمؤمنين (؟) وهذا يُبين أن معانيه كانت معروفة بيّنة لهم. (الوجه الثالث) أنه قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف:2) وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (الزخرف: 3) فبين أنه أنزله عربيًّا لأن يعقلوا، والعقل لا يكون إلا مع العلم بمعانيه. (الوجه الرابع) أنه ذم من لا يفقهه، فقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} (الإسراء: 45-46) وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: 78) فلو كان المؤمنون لا يفقهونه أيضًا لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به. (الوجه الخامس) أنه ذم من لم يكن حظه من السماع إلا سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه، فقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) وقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (الفرقان: 44) وقال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد: 16) وأمثال ذلك. وهؤلاء المنافقون سمعوا صوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يفهموا، وقالوا: ماذا قال آنفًا؟ أي الساعة. وهذا كلام من لم يفقه. قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} (محمد: 16) فمن جعل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلة الكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى عليه. (الوجه السادس) أن الصحابة رضي الله عنهم قرأوا للتابعين القرآن كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وكان ابن مسعود وابن عباس نقلوا عنه [2] من التفسير ما لا يحصيه إلا الله، والنقول بذلك عن الصحابة والتابعين ثابتة معروفة عند أهل العلم بها. *** أسباب الاختلاف في التفسير المأثور فإن قال قائل: قد اختلفوا في تفسير القرآن اختلافًا كثيرًا، ولو كان ذلك معلومًا عندهم عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا. فيقال: الاختلاف الثابت عن الصحابة بل وعن أئمة التابعين في القرآن أكثره لا يخرج عن وجوه: (أحدها) أن يعبر كل منهم عن معنى الاسم بعبارة غير عبارة صاحبه فالمسمى واحد، وكل اسم يدل على معنى لا يدل عليه الاسم الآخر، مع أن كلاهما حق بمنزلة تسمية الله تعالى بأسمائه الحسنى، وتسمية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأسمائه، وتسمية القرآن العزيز بأسمائه، فقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَياًّ مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى} (الإسراء: 110) ، فإذا قيل: الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام فهي كلها أسماء لمسمى واحد سبحانه وتعالى، وأن كل اسم يدل على نعت لله لا يدل عليه الاسم الآخر، ومثال هذا من التفسير كلام العلماء في تفسير الصراط المستقيم، فهذا يقول: هو الإسلام، وهذا يقول: هو القرآن: أي اتباع القرآن، وهذا يقول: السنة والجماعة، وهذا

الحجاز والعرب بين السلطان العامل الصامت وملوك الدعاية القوالين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحجاز والعرب بين السلطان العامل الصامت وملوك الدعاية القوَّالين {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) . ابتُلي العرب بالترك المتعصبين لجنسهم، يحاولون هدم لغتهم فدينهم، أو يكونوا تركًا فكان من أمرهم ما كان ... ثم ابتلوا بالشريف حسين بن علي أمير مكة، فظنوا أنهم ينالون بالنهوض معه استقلالهم فنهضوا، فإذا به وبأولاده يتخذون العرب سلعًا تجارية يبيعونها للإفرنج؛ ليكونوا ملوكًا في ظل دولتي الاستعمار الكُبريين، ففقدوا بسوء سياستهم مهد الحضارتين الأموية والعباسية، وقد ظل بعضهم مخدوعًا باستقلال حسين فولده علي في الحجاز، من حيث كان يسعى آخرون من أعقلهم وأعلمهم بالحقائق إلى القضاء عليهما قبل أن يفعلا فيه ما فعل عبد الله في شرق الأردن وفيصل في العراق، وقد قضى الله على الأولين قبل أن يقضيا على خير تراث للعرب والإسلام، ونسأله تعالى أن يكفيهما الآخرين. ثم ابتُلي العرب الآن في مهد أمتهم، والمسلمون في مأرز دينهم بزعيم هو في نفسه خير مما كان يعرف عنه ويقال فيه، كما كان أولئك شرًّا من كل ما كان يعرف عنهم ويقال فيهم، وهو عبد العزيز بن السعود سلطان نجد، فالمرجو أن يكون هذا من الابتلاء بالحسنات بعد السيئات وبالخير بعد الشر، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) وقال: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء: 35) وعسى أن تكون عاقبة ما ذكر من الابتلاء الرجوع إليه تعالى بإقامة سنته في السياسة والاجتماع، وشرعه في الحق والعدل والفضل. ولما كان بعض السوريين وغيرهم مرتابًا في أمر ابن في السعود إما للجهل بتاريخه وسيرته، وإما لقياسه على حسين وأولاده، وإما لتأثير دعايتهم الطاعنة فيه، وتأثير دعاية أجدادهم مع الترك في الطعن بسلفه وقومه المنبوزين بلقب الوهابية، رأيت أن أختم مقالاتي الكثيرة في هذا الموضوع بخلاصة من سيرة الفريقين. *** السلطان ابن السعود لما بلغ أمير نجد عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أشدَّه رأى نفسه مع والده وأهل بيته ضيوفًا عند ابن الصباح صاحب الكويت؛ إذ كان ابن الرشيد أمير شمر قد غلبهم بمساعدة الدولة العثمانية على أمرهم، وأخرجهم من الرياض عاصمة إمارتهم، فماذا فعل هذا الشاب الناشئ؟ عزم على استعادة ملكهم، فاستنفر زهاء ثلاثين رجلاً من قومه، فركب كل منهم ذلولاً، وخرجوا من الكويت إلى نجد يستنفرون من مروا به من عشائرها في طريقهم، وهو كما قال الشاعر: إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونقَّب عن ذكر الحوادث جانبًا فحارب ابن الرشيد المجهز بمدافع الترك ورشاشاتها وقهره، واستعاد إمارة آبائه وأجداده منه، ثم إنه غزاه بعد ذلك، وكان قد نزل له والده عن إمارة نجد، فأحسن الإدارة، ونظم القوة، وهجم على عشائر (شمَّر) في جبلهم المنيع، فحصرهم فيه في أيام الحرب الكبرى وشدة الغلاء، وكان قادرًا على أخذهم عنوة بالمناجزة، ولكنه على شجاعته يكره سفك الدماء، فيقف فيه عند حد الضرورة، وما زال يضيق عليهم الخناق حتى نزلوا على حكمه وخضعوا لأمره، فأزال إمارتهم بضمها إلى إمارته، وحجته أن قطرًا واحدًا يتفق أهله في اللغة والدين والعادات لا يجوز شرعًا ولا مصلحة أن يكون فيه حكومتان تتقاتلان وعَلَمَان يتنافسان، وقد وضع من بقي من أسرة آل الرشيد عنده في الرياض، يعاملهم فيها معاملة أولاده وأهل بيته سواء. وكان قبل ذلك قد وجه عزمه إلى أخذ سواحل نجد التي على خليج فارس المعروفة بالحسا من الترك (ويسميها الترك متصرفية نجد) ففاز بذلك، ولكن الترك رأوا أن يصالحوه كما صالحوا إمام اليمن، ويجعلوه صديقًا لهم بدلاً من الاستمرار على سفك دماء جيوشهم في بلاد العرب هدرًا من غير فائدة سياسية ولا اقتصادية كما جربوا في القرون الماضية، فعقدوا معه اتفاقًا رسميًّا اعترفوا له فيه بأن بلاد نجد إمارة مستقلة، وأن الحكم فيها له ولذريته من بعده بالإرث،واشترطوا فيه شروطًا هي نافعة له غير ضارة، ككونه إذا احتاج إلى ضباط ينظمون جيشه أو سلاح ونحوه يطلبه من الدولة دون الأجانب إلخ. صارت نجد في أيامه إمارة كبيرة أحسن إدارتها، وحفظ الأمن فيها ونظم الدعوة لنشر الدين والحضارة في قبائلها والقبائل المجاورة لها، كما نظم فيها القوة المقاتلة تنظيمًا كافيًا لحفظها والأمن من اعتداء أحد من المجاورين لها عليها، ولكنه ليس تنظيمًا فنيًّا كجيوش دول الحضارة المعروفة، على أن كبرى الدول صارت تحسب لقوته في البلاد المجاورة له ألف حساب، وخطبت مودته الدولة البريطانية، وحاولت أن تستعين به على قتال الترك في العراق فأبى، وعقدت معه اتفاقًا اعترفت له فيه بسيادته على نجد وملحقاتها، ومنها ما كان بيد الدولة العثمانية، وفي ذلك الاتفاق تقييد لاستقلال نجد الخارجي لا تشعر به حكومتها إلا إذا أرادت الخروج من عزلتها ومعاملة العالم، فإن لم يكن أُلغي فقد صار إنفاذه اليوم أسهل مما كان بالأمس؛ لأن الدولة البريطانية أحوج إلى موادة ملك الحجاز وسلطان نجد اليوم منها إلى سلطان نجد وحدها بالأمس، ولا تزال حريصة عليها في الظاهر، وإن كانت تكيد له في الباطن، على أنه هو قد صرح في مكة بأن استقلاله مطلق لا نفوذ عليه ولا في بلاده لأجنبي قط. فعل كل هذا عبد العزيز آل سعود، وما هذا بقليل على مثله في هذا الزمن القصير، وهو مع هذا في منتهى التواضع في معيشته وحكمه ومعاشرته للناس من أهل بلاده وغيرهم، لم تجنح نفسه للترف والنعيم، ولا للزينة والزخرف غير المعتاد أو المحظور شرعًا، ولا للعظمة والكبرياء، ولا للتمتع بالألقاب الضخمة، ولا لتسمية أعوانه بالوزراء والحجاب، ولا للإنعام عليهم بالرتب وشارات الشرف كما فعل الملك حسين، وكذا ولده عبد الله في إمارته الصغيرة الحقيرة التي هو فيها تحت سيطرة الأجانب وخدمتهم - ولا بثّ دعاية لنفسه ولا لقومه في البلاد العربية، ولا غيرها من البلاد الإسلامية، لا باسم الوحدة العربية ولا بعنوان الجامعة الإسلامية، ولا اصطنع جريدة ولا بذل للمادحين ولا للناقدين درهمًا ولا دينارًا، وهو لا يبالي بالأقوال، وإن كان يبالي بها ويهتم بأمرها ساسة الدول الكبرى، ويبذلون في سبيلها الملايين. ومن المعلوم أن حاله غير حالهم، وماله غير مالهم، وبيئته غير بيئتهم، وقد سخّر الله له كثيرين يعملون للمصلحة التي يبغيها لا له، فأغناه عن استئجار الأقلام المنافقة. وقد ناصبه الشريف حسين وأولاده العداء منذ صار أمر الحجاز بأيديهم، وكادوا له وتحرشوا به مرارًا، كان أقواها زحف الشريف عبد الله على (الخرما وطربة) بأعظم قوة منظمة وُجدت في الحجاز عقب استيلاء حسين على المدينة المنورة، وخروج الجيش التركي منها بانكسار دولته ودول أحلافه، فكسره الإخوان شر كسرة، ومزقوا شمل جيشه المنظم، وفرَّ هو منهزمًا يحاكي الإخوان من الوهابية في زيهم وكلامهم، حتى صرح له والده بأنه كان يفضل قتله على نجاته بهذه الصورة المزرية، ولم يكتفوا بخزي هذه الكسرة الشائنة، فتحرشوا بالنجديين بعد ذلك مرارًا، ومنعهم الملك حسين من أداء فريضة الحج، وضيق على تجارتهم حتى منعها من الحجاز، وأسرف في الكيد والدسائس لسلطانهم، والسعي لإعادة إمارة ابن الرشيد في نجد، وإمارة آل عايض في (عسير) وضمهما إلى الحجاز، بل وضع بناء سياسته في جزيرة العرب على أساس تقسيم السلطنة النجدية والبلاد اليمنية إلى عدة إمارات، تابعة لملك واحد (أي له) في السياسة والعسكرية، والشؤون العامة، وبالغ هو وأولاده في احتقار السلطان عبد العزيز بن السعود، حتى إن أضعفهم أجير الإنكليز في مديرية شرق الأردن، لا يعبر عنه إلا بشيخ عشائر نجد، دع طعنهم في دينه ودين قومه على حد تعيير مادر لحاتم الطائي بالبخل،. وقد عاملهم هو بالحلم الواسع فلم يزدهم حلمه إلا بغيًا وغرورًا، حتى إذا قامت عليه الحجة بوجوب إنقاذ الحجاز من ظلم حسين وإلحاده في الحرم على ما أفتينا به، بناء على الأخبار التي تواترت برواية الكثير من الحجازيين والآفاقيين من الحجاج وغيرهم، وقرر ذلك مؤتمر الشورى الذي عقد في الرياض عاصمة نجد - أمر بالزحف على الطائف الني هي أمنع معاقل الحجاز، ومركز أكبر قوته العسكرية، فزحف الإخوان من مُتَديِّنَة الحجاز ونجد، فأخذوا الطائف عنوة، ثم ما وراءه من المعاقل الحصينة، وأعظمها (الهدى وكرى) وفر الشريف عليّ القائد العام وولي عهد الحسين، كما فرَّ أخوه قبله من بأس الإخوان، واستأذن قائد الجيش - وهو الشريف خالد بن لؤي أحد شرفاء مكة - من السلطان بالزحف بمن معه على مكة المكرمة وغيرها، ولو أذن لهم لاستولوا على كنوز الملك حسين وذخائره كلها، وانتهى أمر الحجاز كله في شهر أو شهرين. ولكن هذا السلطان العاقل الحليم الصبور أمر بوقف الزحف حتى يحضر بنفسه، إذ بلغه أنه قد وقع من الإخوان في الطائف شذوذ مخالف للشرع؛ بقتل بعض الأهالي غير المقاتلين وسلب بعض الأموال، فخاف أن يقع مثل ذلك في أرض الحرم، ولأنه لا يستحل القتال في الحرم على ما فيه من الخلاف كما بيَّناه في الفتوى المشار إليها آنفا، فأمر بانتظاره حتى يحضر هو بنفسه، وكان يمكن الزحف على جدة، أو قطع الطريق على الملك حسين بينها وبين مكة المكرمة، ولكنه لم يأذن بذلك أيضًا، وقد شرحنا ذلك من قبل. ثم إنه - أي السلطان - جاء بنفسه وأمهل الملك حسينًا حتى فَرَّ بأمواله وذخائره إلى جدة، فاستولى على مكة سلمًا، ودخلها هو ومن معه محرمين بالعمرة، ثم أفرط في التأني والتريث حتى كان ما كان من تحصين الشريف علي لجدة، ووضع حامية في حصون المدينة المنورة، وكان قد تألف فيها حزب وطني نصبه ملكًا دستوريًّا على الحجاز بإذن والده، وقد اختار السلطان عبد العزيز حصار جدة على مناجزتها خلافًا لأكثر أنصاره وأوليائه من النجديين وغيرهم، وصابرها أكثر من سنة حتى سقطت من تلقاء نفسها، وكان قد حاصر حامية المدينة المنورة أيضًا، فاستسلمت قبل استسلام جدة بأيام كما علمه الخاص والعام، فكانت العاقبة حَسَنة على ما كان في الوسائل من الأغلاط، وَتَمَّ (لشيخ عشائر نجد) الاستيلاء على جميع الحجاز مع عسير، وصار ملكه ممتدًّا من البحر الأحمر إلى خليج فارس، ولم يزده هذا كله إلا خشية لله تعالى وتواضعًا للناس، وتنزهًا عن الدعوى والتنفج والتبجح الذي عهدناه من غيره. *** (2) الشريف حسين وأولاده وأما حسين بن علي شريف مكة وأميرها فملكها، فمدعي ملك العرب، فمنتحل الخلافة الإسلامية - فقد فُتن هو وأولاده بحب المجد الكاذب،والمُلك الصوري في ظل الأجانب. فأجمعوا أمرهم على جعل البلاد العربية تابعة للدولة البريطانية؛ ليكونوا خلفاء وملوكًا في ظلها، لعلمهم بأنهم من حيث هم هم كالهباء أو كالعدم لا ظلَّ لهم، وأنه ليس لهم عصبية قومية يتملكون في ظلها وأنه لم يكن لهم ولا لسلفهم من أمراء مكة حسنة في الحرمين الشريفين في علم ولا عمل يستميلون بها أهل الحجاز ولا غيرهم من العرب أو المسلمين بتمنيتهم العود إلى مثله، بل لا يحفظ التاريخ عنهم منذ بضعة قرون إلا الظلم والإلحاد في الحرم، وإنما كان أمر

استيلاء ابن السعود على جميع الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استيلاء ابن السعود على جميع الحجاز وثائق تاريخية (1) تسليم المدينة المنورة جاء في العدد الحادي والخمسين من جريدة (أم القرى) الذي صدر بمكة المكرمة في2جمادى الثانية سنة 1344 الموافق 18 ديسمبر سنة 1925 ما نصه: لقد كان أكبر هَمٍّ عظمة السلطان - أيده الله - في حربه مع الشريف حسين وأولاده أن يبذل كل وسعه ومجهوده لمنع حدوث أي حادث مكدر بجانب البلدتين المقدستين مكة والمدينة، وكان لمَّا تم أمر مكة، ودخل جند عظمة السلطان لها، قدم بعض أهل المدينة يطلبون الأمان على المدينة وما حولها، ويطلبون إرسال عدد قليل لاستلام البلدة المقدسة، فأرسل عظمة السلطان قوة قليلة من جنده بقيادة صالح ابن عدل إلى حوالي المدينة، ولما وجد الحامية التي فيها لا تنوي الاستسلام سِلمًا أصدر أمره الكريم بعدم مهاجمة المدينة، والاكتفاء بحصارها عن بعد، ولكن ذلك الحصار لم يكن شاملاً حتى لا يعظم الضيق على تلك البلدة المقدسة، ولما طال أمد الحرب، ووجد أن ترك أمر المدينة بدون تدبير مرتب يطيل الأمر، بعث عظمة السلطان قوة تحاصر المدينة، فتمنع وصول الأرزاق لحمايتها، وأرسل لأهلها أن يخرجوا من البلدة، وأمَّنهم على أرواحهم وأموالهم، واستقبلهم جنده أحسن استقبال، وسد عوزهم، وحمل قسمًا منهم إلى مكة، وأكرم مثوى الباقين، وإذ ذاك بدأ الضيق الشديد في المدينة على الحامية، وبدأت فكرة التسليم تسري إلى رجال الحامية، وقد بعث فريق منهم مصطفى عبد العال يكتب لعظمة السلطان، يطلبون التسليم على شروط اشترطوها، فأجابهم عظمة السلطان إليها إذا وفوا بشروط التسليم، وعلى ذلك أمر نجله سمو الأمير محمد بالتوجه لاستلام المدينة، فلما وصلها لم يوفِّ الذين كاتبوا بالأمان عهدهم في حينه، فازداد الحصار شدة على الحامية، وهذا نص البرقيات التي تبودلت بين جدة وحامية المدينة بشأن مصطفى عبد العال، عثرنا عليها في دائرة البرق اللاسلكي في المدينة المنورة، وهذا نصها: *** البرقيات التي تبودلت بين حكومة جدة وحامية المدينة المدينة 1 ربيع الثاني - قائد المدينة وكيل الأمير مصطفى عبد العال وصل مكة بالكتب، صادروا جميع أمواله وأملاكه في الحال. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي جدة 1 (ج1) إلى الملك نحن لا نشك بأن شحات كاتب ابن سعود بواسطة عبد العال، بعد أن قرأنا صورة الكتاب المرسل منه، ومختوم بختمه الخاص، وبعد أن حسَّ بمصادرة أموال مصطفى أخذ جميع صناديقه وذهبه الذي كان وضعه عند مصطفى سابقًا، ونحن نريد من الله أن يكون هذا ليس له صحة. ... ... ... ... قائد المدينة ... ... ... وكيل الأمير المدينة 1ج1 - قائد المدينة - وكيل الأمير إذا ظهر لكم منه حركة اقبضوا عليه هو ومن يلوذ به. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي المدينة 20 ربيع الثاني - قائد المدينة - وكيل الأمير قرأنا في أم القرى أن مأمورين المدينة طلبوا الأمان، وكاتبوا ابن السعود؛ لأجل التسليم ألحقوا المسألة وكذبوها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي جدة 22ربيع الثاني (كذا في أم القرى) إلى الملك غدًا سنرسل برقية للعالم الإسلامي ولابن سعود نفسه نكذبه بأن المدينة ما طلبت التسليم، وسنختمها باسم عموم المأمورين والقبائل وأعيان البلاد. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قائد المدينة جدة 10ج1 إلى الملك اليوم كتَّبنا الشريف شحات كتابًا إلى ابن سعود وإلى النشمي، وإلى الصعيدي مصطفى يكذبهم فيه جميعًا بأنه لم يكاتب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قائد المدينة (نشرنا هذه البرقيات ليعلم الناس أن هؤلاء القوم يعملون العمل ويعرفونه ثم لا يعتذرون عنه، بل يميلون للكذب فيه ليماروا على الناس، ومما يدل على ذلك برقية أرسلها الشريف علي لقائد المدينة ليرسلها إلى عمان ليموه على الناس فيها، وهذا نصها) : جدة 15ربيع الثاني- وكيل الأمير والقائد وقائد الخط ورئيس الديوان برقياتكم لشرق الأردن بخصوص إلحاق المدينة إلى الشرق العربي تناقلتها الصحف العربية الإسلامية، وستضر بموقفنا الحالي جدًّا، الْحَقُوا المسألةَ وكَذِّبوها في هذه البرقية، اكْتُبوها للأخ عبد الله بعمان تبتدئ (كنا سابقًا نظرًا للضيق الذي كنا فيه طلبنا معاونتكم لنا فقط، والآن الحمد لله العدوُّ انسحب من أمام خطوطنا، وقد وصل 350 حمل، ونحن ما زلنا مجاهدين ومدافعين عن قبر الرسول بأرواحنا، ونبذل الغالي والرخيص في هذا السبيل) عسى ولعل ترتق ما حصل في الأذهان والأفكار العمومية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي *** المراوغات لما نشر الشريف علي في الأنحاء الأكاذيب عن المدينة المنورة، وجاءت الوفود لرؤيتها أخذ يعمل الأساليب المتعددة لخداعهم في المدينة أيضا، وهذا نص البرقيات التي أرسلها من أجل قنصل إيران. 1ج1- قائد المدينة وكيل الأمير، قائد الخط رئيس الديوان نبشركم، العدو انسحب من أطراف ينبع، أرسلوا من يتجسس وعرفونا، وأظن أن العرافة رئيسهم توجه لعندكم، وكذلك محمد ولد ابن سعود توجه لطرفكم، بناء على الكتب التي أرسلت لأجل التسليم، ومعه قنصل لإيران وعبد الله الفضل، وهذا الأخير هو عدونا، فلا تخلوه يختلط بالناس، ولا يمشي بنفسه، راقبوه كل المراقبة، واعرفوا كيف تشتغلوا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي 8ج1- المدينة، الشريف شحات اجْمَعُوا جميع النخاولة والأهالي المظلومين، وخذوهم إلى القنصل الإيراني ويحكوا له الذي حصل عليهم من الفظائع. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ناصر بن علي جدة 9ج1 - ناصر بن علي عرضت عليهم جميع الأهالي والنخاولة المظلومين فلم يعملوا بمشورتي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شحات (وهذا نص البرقية التي أرسلها الشريف علي لمنع دخول وفد جمعية الخلافة الهندي إلى المدينة المنورة) . 8 ج1 قائد المدينة، وكيل الأمير بلغنا أكيدًا أن وفد جمعية الخلافة الهندية وصل رابغ، ومنها لمكة، ومنها سيتوجه لطرفكم، فإذا وصل وأراد دخول البلدة، فاطلبوا منه هل جبتوا أمر من الحكومة الهاشمية، فإذا ما معهم أمر فلا تدخلوهم، وإذا قالوا: معنا قولوا لهم: تفضلوا لأن هذا الوفد هو عدونا، وقريبًا سيصل جدة وفد آخر هندي ضد هذا الوفد فلا يهمكم ذلك. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي *** دور الشدة ومن تاريخ 10 جمادى الأول وبدأت المشادة بين حامية المدينة والشريف علي وهناك خرج الشريف علي عن جميع الحدود، فأباح في الحرم المدني المقدس السلب والنهب، وبيع المجوهرات، وهذا نص البرقيات التي عثرنا عليها في هذا الصدد ننشرها للتاريخ بحروفها وأغلاطها: جدة5ج1- إلى الملك نحن لا يهمنا لا ابن السعود ولا السعود بنفسه، إنما الذي يهمنا هو الأرزاق للجند، الجند بعد ما انتهت من تخريب البيوت بالخارج بدأت تنهب بيوت الداخل، وعدتونا بإرسال الطيارة بالدراهم المتيسرة، إلى الآن لم نر لها أثرًا دبروا وأرسلوا لنا الدراهم ولو ببيع إحدى البواخر، وترون منا ما يسركم. ... ... ... ... ... رئيس الديوان ... ... قائد المدينة المدينة 1ج ... وكيل الأمير ... قائد المدينة ج جاوبوا ولد السعود بأشد ما يمكنكم حتى لا تجعلوا له باب للمخابرة معكم قطعيًّا، وهكذا يقطع أمله منكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي جدة ... ... إلى الملك ... ... 10 ج1 تأكد لدينا أن محمد ولد السعود واجه أحد من أهل المدينة في رابغ، وحكوا له قضية بيع مجوهرات الحرم، ولكن تداركنا الأمر وكذبناها أمام القنصل الإيراني، بالطبع أم القرى ستنشرها يكون معلومكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قائد المدينة جدة 13 ج إلى الملك أمضوها وخلصونا فهمنا أنكم أنتم الذين مؤخرين إنهاء المسألة بسبب عدم إمضائكم المعاهدة للإنكليز انقضى الأمر ولا بقي في اليد حيلة، ووقعنا في الذي نخشاه، الجنود ما عندهم أرزاق إلا ثلاثة أيام، التحويل لا يمكن أخذه من البلدة، العدو الذي جانا قبل مدة لم يزل باقي هنا ينتظر الدراهم، وقصارى القول: إنه إذا للغد لم ترسلوا الطيارة في الساعة السادسة سنفاوض العدو. ... ... ... ... ... ... ... عزت عمير، عبد المجيد أحمد المدينة 13ج1 - وكيل الأمير قائد المدينة قائد الخط رئيس الديوان ج باكر الثلوث تجيكم الطيارة هل تريدون انتحاري؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي جدة 14 ج 1 إلى الملك تزييدًا لقوة معنوية الجيش وتنشيطًا لهم وإرهابًا للعدو لا بد من إرسال الطيارة إلى المدينة، ولو تحوم مؤقتًا وترجع حالاً، لا بد من ذلك، وليس لدينا غير هذا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن عمير المدينة 1 ج 1 - رئيس الديوان ج. لعدم وجود البنزين عندنا لا يمكننا إرسالها إلا بعد عشرة أيام لبينما نحضر لها البنزين في الباخرة مع ذلك سأجتهد أنا والطيارين في ذلك. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي المدينة 14ج1- رئيس الديوان برقياتكم أمس وملحقاتها أزعجتني للغاية، ما أدس عليك يا عبد الله، الحال واقف معانا بالمرة من شهر وزيادة، وأنا أتشبث لقرض برهن أو ببيع أملاك فلم نتوفق، الأجانب محتجين بأنهم على الحياد، لولا اعتمادي عليك ما أطلعتك على هذا، تبصر بالأمر أنا في حيرة بسبب إرسال الطيارة، قلت لكم: بيعوا الذهب والفضة التي بالحرم قلتو (؟) لما نحتاج فهل بقي احتياج بعد ما تقولوا إلى الغد للساعة السادسة، إن لم تروا الطيارة فنحن نفاوض العدو، الحالة التي أنتم بها تجيز لكم عمل كل أمر، انهبوا وكسروا ولا تهددوني بمثل هذا، الحالة التي نحن فيها لا تقل عن حالتكم، ارحموني دخيلكم، اصبروا مقدار عشرة أيام حيث يصلنا دراهم من سيدنا نرسل لكم منها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي المدينة 17 ج1 وكيل الأمير، قائد المدينة بلغنا من نجاب ورد اليوم من مكة أن ولد السعود محمد توجه من طرفكم إلى رابغ، حققوا وعرِّفونا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي جدة 17 ج1 إلى الملك ج ولد ابن سعود هنا قائم بتخريب وتجميع العربان، والتضييق علينا. ... ... ... قائد المدينة ... ... ... ... وكيل الأمير جدة 17 ج1 إلى الملك ج كررت الشرهة علينا وبالنتيجة تقول: كلوا المحرمات فلا بأس ولكن فيها مضرة، ولا نرى منكم إلا إشارة الإهانة، بحيث صرحنا للعالم الإسلامي ولا حصلت فائدة، وهذه من جملة إشارات ما عرضنا لكم ولا عاد فينا صبر بعد ذلك ونحن بدنا دولة مستقلة، وأنتم استقليتم بها في أول الوقت فكيف تشرهوا علينا في الآخر. رئيس الديوان ... قائد الخط ... ... ... ... قائد المدينة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وكيل الأمير ... والقائد ... وعزت ... ... وعبد الله المدينة 17 ج1 وكيل الأمير والقائد وعزت وعبد الله ج لولا غلاكم وغلاء من أنتم بجواره، وأعتقد أنكم تقولوا: إني ما شرهت عليكم، وأكل المحرمات مباح عند الضرورات، مع هذا ما قلت: كلوا حرام وأما الإهانة منكم ولو صدر مني شيء فبرقياتكم أمس تجعلني مثل المجنون، أقول ولا أدري عن الذي أقوله وله الحمد الذي ما ضيعت شعوري الغاية هي أن بعد الله أنتم استنادي اشتغلوا شغل العقال، ونحن ندبر الذي ييسره الله ونرسله لكم إما تحويل وإما بالطيارة، واستعينوا بالله والصبر، والشدائد لا بد لها من فرج ومثلكم يعرف كل شيء، وأما شرهتي كما تقولوا في مخابرة الأجانب فأنتم أعرف بذلك، فإذا فكرتوا تعرفوا محذورها، وقد حررنا على شحات في لزوم تأدية الدراهم لكم مع استشارتكم في تدبيرها، ولا تقصروا في جهدكم بشيء، وأيضًا أمرنا ناصر يؤكد عليه في ذلك هل استلم الحوالة من الخجا يكفي ما لقيته يا مسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي جدة 17

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ كتاب الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي [1] مقدمة إني مهتم بمسألة الصحة منذ عشرين سنة اهتمامًا خاصًّا، حتى إنني في زمن إقامتي بإنكلترا كنت أقوم بنفسي بإعداد طعامي وشرابي؛ ولذلك أتجرأ على القول بأن تجاربي في هذه المسألة مما يصح الاعتبار به، وقد حصلت بتلك التجارب على نتائج نهائية جمعتها في الصفحات التالية للقراء. لقد صدق المثل القائل (الوقاية خير من العلاج) فإن الابتعاد عن المرض بمراعاة قوانين الصحة أسهل وأسلم من مداواة الأدواء التي لا تصيبنا إلا لجهلنا وعدم مبالاتنا بتلك القوانين، فعلى هذا يجب على سائر الناس أن يعرفوا قواعد الصحة معرفة صحيحة، وهذا هو الغرض من تسويد هذه الصفحات لتكون بيانًا لتلك القواعد، هادية إلى الطرق المثلى لمعالجة الأمراض الكثيرة الوقوع. قال ملتون: إن الذهن هو الذي يقلب الجنة جحيمًا والجحيم جنة؛ لأن الجنة ليست في مكان فوق السموات العلى، ولا الجحيم في الدرك الأسفل من الأرض [2] ! وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه المثل السنسكريتي القائل (تتوقف عبودية المرء وحريته على حالته الذهنية) هكذا الصحة والمرض منوط أمرهما بذهن الإنسان نفسه، فالمرض لا يكون نتيجة لأعمالنا وإهمالنا وتفريطنا فقط، بل لشعورنا وميولنا، وأفكارنا النفسية أيضًا، وقد قال قائل من مشاهير الأطباء: (الناس يموتون جزعًا من الأمراض، كالجدري والهيضة والطاعون، أكثر مما يموتون بهذه الأوبئة نفسها) لقد أصاب القائل في قوله، فإن مما لا ريب فيه أن الجبان أكثر ما يلقى حتفه قبل أجله [3] . إن الجهل بقواعد الصحة علة من العلل الأساسية للأمراض، فكثيرًا ما نجزع ونضطرب من مرض تافه جدًّا، ثم نزيده خطرًا وشدة لجهلنا به وبأسبابه وطرق علاجه، وهذا الجهل نفسه يسوقنا إلى اتخاذ التدابير الخرقاء أو الالتجاء إلى المتطببين الدجالين، ما أعجب هذه الحالة! ولكن ما أصدقها. فإن علمنا بالأشياء القريبة منا أقل من علمنا بالأشياء البعيدة، فما أقل ما نعلمه عن قريتنا التي ولدنا فيها، والتي نعيش فوق أرضها وتحت سمائها طول عمرنا، ولكنا نستطيع أن نعيد عن ظهر القلب أسماء أنهار إنكلترا وجبالها، ما أشد رغبتنا في معرفة أسماء النجوم المتلألئة في السماء، على حين أننا قلما نبالي بمعرفة الأشياء التي يحتوي عليها بيتنا، إن حب المراسح والألعاب الصبيانية المتكلَّفة قد ملك قلوبنا، ولكنا قلما يخطر في بالنا أن نجيل نظرنا في هذا الملعب الأكبر الذي تلعب فيه الطبيعة أمام أعيننا لعبها الذي هو فوق كل جد؟ نحن لا نستحي مطلقًا من جهلنا المخل ببنية جسمنا، وكيفية نشوء العظام والعروق والأعصاب ونموها، وكيفية دوران الدم وتحوله إلى الفساد، وكيفية سريان الأفكار الخبيثة والأهواء الشيطانية إلى قلوبنا، بل ما هو أعجب من كل ذلك كيفية قطع ذهننا للمسافات الشاسعة، والأزمان الطويلة (اللانهائية) بينما الجسم لم يزل ساكنًا! إلى غير ذلك من العجائب التي تحير الألباب! أجل، لا شيء أقرب إلينا من جسمنا، ولكن ربما لا يوجد شيء نجهله أو نعرض عنه مثل ما نجهل ونعرض عن جسمنا. يجب على كل واحد منا أن يزيل هذا النقص المخزي، ويرى من أكبر وظائفه المحتمة عليه أن يعلم شيئًا من الحقائق الأساسية المتعلقة بجسمه، كذلك يجب أن يدخل هذا القسم من التعليم في مدارسنا ويجعل إجباريًّا، إن حالتنا الآن لمخجلة جدًّا، فإنه إذا أصابنا جرح خفيف أو حرق طفيف، فإنا لا نعرف ما نفعل إذًا، وإذا شاكتنا شوكة في قدمنا نقعد متحيرين لا ندري بم ننقشها؟ وإذا لسعنا ثعبان عادي فلا تسأل عن جزعنا وفزعنا! أجل، إن هذه الحالة لمخجلة، لو نتدبرها بجد لنختنقن حياء وخجلاً، ومن يزعم أن جميع الناس عامتهم وخاصتهم لا يمكن أن يعرفوا هذه الأمور فزعمه باطل، وإني أقدم الصفحات التالية إلى جميع أولئك الذين لا يحبون المعاذير، بل ينشدون المعرفة والعلم والعمل. إني لا أزعم أن الحقائق التي أودعتها في هذا الكتاب لم يسبق إليها أحد قبلي، ولكن سيجد القراء فيه لباب كتب كثيرة في هذا الموضوع، فإني ما أقدمت على التأليف إلا بعد درس هذه الكتب درسًا وافيًا، وبعد المرور على سلسلة من التجارب الجدية الشخصية، وعدا هذا فإن قرائي الذين ليس لهم سابق معرفة بالموضوع سيسلمون من التحير والارتباك في تمحيص الحق من الآراء المتضاربة المتناقضة التي شحن بها الأطباء كتبهم، فبينما يقول كاتب: إن الماء الساخن يجب استعماله في حالة خاصة، إذا بالآخر ينقض قوله زاعمًا أنه يجب استعمال الماء البارد فيها، ولكني قد درست هذه الآراء المتناقضة درسًا وافيًّا بكل تنبه ويقظة، حتى أمكنني أن أؤكد لقرائي أنه يحسن بهم الاعتماد على أفكاري الخاصة. لقد تعودنا دعوة الأطباء حتى في أخف الأمراض، وإن عجزنا عن دعوتهم عملنا بإشارات المتطببين الجاهلين، وما ذلك إلا لأنا قد خدعنا بخداع فظيع، فأصبحنا نعتقد أنه لا يمكن شفاء المرض إلا بالدواء، إن هذا الوهم لشر الأوهام، وهو العلة لأكثر متاعب النوع البشري ومصائبه، نعم يجب معالجة الأمراض التي تعترينا، ولكن ليس (بالأدوية) التي لا يقتصر أمرها على عدم الفائدة، بل قد تكون ضارة أيضًا، إن انكباب المريض على العقاقير والأدوية حماقة لا تقلُّ عن حماقة الذي يحاول تنظيف البيت بتغطية الأوساخ المتراكمة فيه عوضًا عن إزالتها، فكلما ازداد عناية في تغطيتها تزداد هي عفونة ونتنًا، وهكذا تغطية الأمراض بالأدوية في الجسم الإنساني. إن المرض ليس إلا (إنذارًا) من الطبيعة بأن الأوساخ قد تراكمت في جزء من أجزاء البدن، فمن الكياسة إذًا أن نترك الطبيعة تزيل الوسخ بنفسها [4] لا أن نحول بينها وبين وظيفتها بتغطية المرض بالأدوية، إن الذين يستعملون الأدوية إنما يضاعفون صعوبة وظيفته الطبيعة، مع أنه من السهل جدًّا أن يعينوها في مهمتها برعاية القواعد الأولية اللازمة للصحة، كالصوم الذي يمنع تراكم الوسخ، وكالرياضة المتعبة في الهواء الطلق التي تزيل بعض الأوساخ وتخرجها في صورة العرق، وإن هناك أمرًا هو رأس الأمور وعمادها في جميع الأحوال وهو أن نظل دائمًا ضابطين لعقلنا وشعورنا. لقد جربنا أن قارورة واحدة من الدواء إذا دخلت مرة في البيت لا تخرج منه أبدًا، بل لا تزال تدعو وتجلب من أخواتها قوارير أخرى، لقد وجدنا جمًّا غفيرًا من الناس يشكون أمراضًا طول عمرهم مع شدة شغفهم بالأدوية وتهافتهم عليها، فتراهم يقرعون اليوم باب هذا الطبيب، وغدًا يجرون وراء ذلك الطبيب، وهكذا يقضون أعمارهم في البحث عن نطاسي يعالجهم ويشفيهم من أوصابهم، ولكن هيهات أن يفوزوا ببغيتهم وينالوا الصحة والعافية! لقد صدق جوستيس اسطفان Stephen Justice في قوله: (إن من العجب العجاب أن يعالج الأطباء الأبدان التي يجهلونها بالعقاقير التي قلما يعرفون حقيقتها!) ، وقد أيد عدد من أعظم أطباء الغرب هذا الرأي نفسه فاعترف الدكتور إستلي كوبير Cooper istLei مثلاً بأن علم الأدوية أكثره تَخَرُّصٌ محض وقال الدكتور جوهن فيوربس Feorbes n. Jot Sir: (إن معظم الأمراض تشفى بعوامل الطبيعة أكثر من شفائها بالأدوية) وقال الدكتور باكير Baker والدكتور فرانق Frank: (إن عدد الذين يموتون بالأدوية أكثر من عدد الذين يموتون بالأمراض) وقد توسع الدكتور موزونغود Mosongood. حتى قال: (إن ضحايا الأدوية أكثر من ضحايا الحروب والجدوب والأوبئة بمجموعها!) . وكذلك مما قد جُرِّب أنه إذا كثر الأطباء في بلد ازدادت فيه الأمراض انتشارًا على قدر عددهم [5] . وقد قويت الرغبة في الأدوية هذه الأيام وازدادت ازديادًا عظيمًا حتى إن أحقر الصحف السيارة أيضًا قد أصبحت تعتقد أنه إذا لم يسعدها الحظ بإعلانات أخرى، فإنها لا بد من أن تفوز بإعلانات الأدوية. لقد قيل لنا في كتاب حديث عن الأدوية المسجلة بأن فرويت سولت [6] SoLts - Fruit وغيره من المسهلات التي يبلغ ثمنها من روبيتين إلى خمس روبيات لا تكلف أصحابها إلا بضع مليمات! فلا عجب إذا بالغ أصحابها في إخفاء طرق تركيبها هذه المبالغة الشديدة. وعلى هذا نحن نؤكد لقرائنا بأنه لا حاجة لهم أصلاً إلى الأدوية والأطباء، وكذلك نقول للذين لا يتجرأون على مقاطعة الأطباء والأدوية مقاطعة تامة: تثبتوا وتصبروا وتبصروا، واستغنوا عن الأطباء ما استطعتم، وإن اضطررتم وفقدتم كل حيلة، فالحذر كل الحذر من المتطببين، بل عليكم بطبيب حق تتبعون أوامره بكل دقة، ولا تراجعون طبيبًا غيره إلا بإذنه، ولكن اعلموا وتذكروا دائمًا وقبل كل شيء بأن الشفاء بيد الله تعالى وحده لا في يد الطبيب. موهن داس كرم شند غاندي *** القسم الأول في الصحة وأسبابها وفيه تسعة أبواب الباب الأول الصحة إن من يأكل ويشرب كثيرًا، ويمشي ويتنقل هنا وهناك على إرادته ولا يضطر إلى الطبيب يُحسب - عادة - صحيح الجسم سليم البدن. ولكنك إذا دققت النظر قليلاً في هذا الحسبان ظهر لك سقمه، فإنه قد شوهد كثير من الناس يأكلون كثيرًا ويغدون ويروحون بحُرِّية، وهم في الحقيقة مصابون بأمراض خفية، وقد ينخدع هؤلاء الناس أنفسهم بحالتهم فيزعمون أنهم أصحاء من كل الوجوه، وذلك لعدم مبالاتهم بأمر الصحة وبمعرفتهم إياها معرفة صحيحة. والحقيقة أنه قلما يوجد في هذه الدنيا الواسعة إنسان صحيح تمام الصحة بمعنى الكلمة، لقد قيل حقًّا: إن الصحيح تام الصحة إنما هو ذلك الذي يملك عقلاً صحيحًا كاملاً في جسم صحيح كامل؛ وذلك لأن الإنسان ليس إلا الروح، وأما الجسد فبمنزلة الظرف للروح [7] ، إن العلاقة بين الروح والجسد قوية جدًّا، حتى إنه إذا أصيب أحدهما بشيء تأثر به الآخر حالاً، لنأخذ الوردة مثالاً: إن مكان اللون من الوردة مكان الجسد في الإنسان [8] ومكان الرائحة فيها مكان العقل أو الروح فيه، ولا أحد يؤثر الوردة الصناعية على الوردة الطبيعية، ويحب استبدالها بها، وسبب ذلك ظاهر، وهو أن العطرية التي هي روح الوردة لا يمكن إيجادها في الوردة الصناعية، وهكذا نحن نفضل الإنسان الذي يملك روحًا كبيرًا طاهرًا وأخلاقًا كريمة عالية، على الرجل الذي لا يملك إلا جسمًا قويًّا مفتول العضلات. لا ريب أن الجسد أيضًا ضروري كالروح بحيث لا يمكن الاستغناء عن أحدهما، ولكن الروح أهم بكثير من الجسم على كل حال، فعلى هذا لا يصح أن يوصف الإنسان العاطل من الأخلاق الطاهرة بالصحة التامة مهما يكن قوي الجسم، وذلك لأن الجسم الذي يحمل روحًا مريضًا وخلقًا سقيمًا لا يكون إلا مريضًا بنفسه، فالأخلاق الطاهرة على هذا هي الأساس الحقيقي للصحة الحقيقية، والأفكار الخبيثة والأهواء الشيطانية ليست إلا أنواعًا وأشكالاً مختلفة للمرض. لقد تطورت هذه العقيدة في حزب من الناس بأوربا، حتى طفقوا يقولون: إن التقي النقي صاحب الروح الطاهرة البريئة لا يمرض أبدًا، وإن كل مَنْ يمرض يبرأ بتطهير روحه، فإنها إذا طهرت قويت بنيته واشتد جسمه، إن هذا الرأي حق لا غبار عليه، وإن المصلحين في الشرق قد بالغوا في العمل به، ولكننا على كل حال نستنتج منه: أن تطهير الروح خير وسيلة لنيل الصحة، وأن الصحة لا يمكن المحافظة عليها إلا بالمحافظة على طهارة الروح. إن الغضب والحقد واللؤم من أمارات المرض، وقد قال بعض الأطباء: إن السرقة وغيرها من العادا

الثورة السورية والحكومة الفرنسية والتنازع بين الشرق والغرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الثورة السورية والحكومة الفرنسية والتنازع بين الشرق والغرب (تابع لما نشر في الجزء الثامن ص 585) (6) (تقاليد السياسة الاستعمارية، والجامعات العربية والدينية والشرقية) إن للأوربيين تقاليد في السياسة والاستعمار قد جمدوا عليها، وإن لهم فيها حججًا داحضة قد ألفوها، لا يزالون يلوكونها بألسنتهم، وتقطر سمومها من أقلامهم، وهم لا يشعرون بأنها لا تصلح لهذا الزمان ولا تروج فيه كما راجت في أزمنة لا تشبهه، كأنهم على سعة علومهم واختبارهم لم يشعروا بما طرأ على الشعوب والأمم من التبديل والتحويل، وما تنقَّلت فيه من الأحوال والأطوار، فهم بالجمود على التقليد يقعون فيما يفرون منه، وينقضون ما بنوا، وينكثون ما فتلوا. إنهم يخافون عاقبة كل اجتماع في الشرق تستفيد به شعوبه وملله من تظاهرها على دفع الظلم والضيم عنها، وتعاونها على الارتقاء في أسباب الحرية والعمران، فإنكلترة وفرنسة تخشيان الجامعة الإسلامية والجامعة العربية وهما اللتان تسعيان في تكوينهما بدون تنبه منهما ولا شعور، وهما اللتان بثتا في بلاد الشرق فكرة الجامعة الوطنية بالأقوال، فلما استمسك المصريون والسوريون بعروتهما لم يجدا من رجال الدولتين إلا المقاومة. إن أوربة لم تتحول مع الزمان عن السياسة الصليبية بقدر ما تحولت عن الديانة الصليبية، فبهذه السياسة انتزعت من الدولة العثمانية الممالك الأوربية التي أكثر سكانها من النصارى، وبعد الفراغ من العمل (للأكثريات) المسيحية تصدت لحقوق الأقليات، فكانت إنكلترة أول من أطمع الشعب الأرمني بتأسيس دولة مسيحية له في الأناضول بين أنياب الأسد التركي وبراثنه، وقد كان هذا الشعب أسعد الشعوب العثمانية في دولة آل عثمان، ومحل الثقة لدى سلاطينهم ووزرائهم وأغنيائهم، كان هو الذي يدير مالية الدولة بوزراء من أفراده، وكان هو الذي يتولى شؤون الوزارة الخارجية، إذ كان أكثر سفراء الدولة منهم أيضًا، وكان ساسة أوربة يتعجبون من هذه الثقة ويعدونها من جهل الدولة، صرح بذلك أكبرهم شأنًا في عصره وهو البرنس بسمارك لأحمد مختار باشا الغازي وقال له: أنا لا يمكنني أن أعد رجلاً أرمنيًّا ممثلاً عندي لدولة إسلامية يعد سلطانها خليفة نبي الإسلام! وقد أفسد الإنكليز الأرمن بهذا الإغواء وحرموهم من تلك السعادة والهناء، حتى جعلوهم من أشقى شعوب الأرض على ذكائهم ونشاطهم واستعدادهم لكل حياة هنيئة إلا تأسيس ملك من أقلية ضعيفة بين دولتين حربيتين - دولة الترك ودولة الروس - فقتل الترك مئات الألوف من رجالهم الخونة وغير الخونة ومن نسائهم وأطفالهم أيضًا؛ لأن الشر إذا وقع لا يقف عند حدود العدل، والانتقام بعد الإحن والحقد لا يراعى فيه شعور الرحمة، وأجلَوْا الألوف الكثيرة من ديارهم فمزقوهم كل ممزق، وصاروا آلة الشر والعدوان لغيرهم، كما فعلت السياسة الفرنسية فيمن آوتهم إلى سورية منهم، فهي تسلحهم وتغريهم بقتال ثوار السوريين الذين يسكنون بلادهم ويشاركونهم في خيراتها، وليتهم وقفوا عند هذا الحد بل هم يقتلون النساء والأطفال أيضًا، وينهبون كل البيوت التي يقدرون على نهبها … كذلك خلقت إنكلترة في العراق أقلية نصرانية من بقايا الآشوريين، وسلحتهم وأطمعتهم بتأسيس ملك لهم في العراق؛ لتجعلهم أعداء وخصومًا للمسلمين من العرب والكرد لا للترك وحدهم، فإذا رسخ فيهم تغرير هذه السياسة الخادعة فربما تكون عاقبتهم شرًّا من عاقبة الأرمن؛ لأنهم أقل منهم عددًا وبأسًا وذكاءً وعلمًا، فخير لهم أن يكونوا كقبط مصر مع مسلميها من أن يكونوا كالأرمن مع الترك، وأنى لهم ذكاء القبط وعلمهم بدسائس أوربة التي تتجر بالمسيحية والمسيحيين. وأما فرنسة فإن سياستها في كاثوليك سورية معروفة والمعروف لا يعرَّف، وقد كان أول قائد من قوادها ولَّتْه أمر سورية بعد الحرب - وهو الجنرال غورو - قد ذكر السوريين في أول صوت رفعه فيهم بأنه من سلالة الصليبيين، وكان أول عمله تقسيم البلاد إلى ممالك دينية مذهبية، وقد جرى على ذلك وتابعه من جاء بعده: دولة مسيحية، ودولة إسلامية، ودولة درزية، ودولة عَلَوية، كل ذلك في القسم الشمالي من سورية التي هي وطن واحد يسكنه شعب متحد اللغة والعادات والمرافق، لا يمكن أن تستغني فيه دويلة من هذه الدويلات الصغيرة الحقيرة عن الأخرى، وهم يبذلون كل ما أوتوا من دهاء ومن سلطان لإيقاع الشقاق بين طوائف هذه الدويلات، فإذا تقرب إليهم فرد أو أفراد من أهلها بكلمة نفاق تؤذن بحب الافتراق وكراهة الاتحاد، ترتفع بنقلها أصواتهم، وتهتف بها صحفهم وبرقياتهم، حتى تعم الخافقين، وأما أصوات الأحزاب والجماعات والصحف التي تعبر عن الرأي العام في طلب الاتحاد الوطني، وكراهة الاقتراق الديني والطائفي والسياسي، فكلما سمعوا منها صوتًا أسكتوه، وإذا وصل شيء منه إلى أوربة كذبوه. إن يسمعوا الخير أخفوه وإن سمعوا ... شرًّا أذاعوا وإن لم يسمعوا كذبوا إن أهالي سورية غير مرتاحين ولا راضين بإسكان طُرَدَاء الأرمن في سورية؛ لأنهم يزاحمونهم في رزقها الذي لم يعد يكفيهم ببركة عمران الانتداب، وإن المسلمين يسيئون الظن في هذا الإسكان وما في معناه بنظر آخر، إذا كان الفرنسيس لا يبالون بهم فيه لضعفهم، ولا يحسبون حسابًا لعطف أبناء جنسهم وإخوان دينهم عليهم لجهلهم؛ فلا ينبغي أن يغفلوا عن كونه قد يكون سببًا من أسباب التهمة التي يشكون منها، ولا يدرون أنهم يشكون مما يفعلون. فيا ليت شعري كيف يغفل الفرنسيس والإنكليز - الذين يهتدون في سياستهم واستعمارهم بفلسفة التاريخ وعلوم النفس والاجتماع - عن نتائج أعمالهم في اللَّهج بالجامعة المسيحية ووجوب حماية المسيحيين وتأسيس الممالك لهم، مع ذم الجامعة الإسلامية والطعن فيها؟ وكيف يقاومون جامعة الجنسية العربية ويخشون عاقبتها في سورية ثم يمنعون السوريين من النهوض بالجامعة الوطنية؟ أيحسبون أن مسلمي سورية وهم الأكثرية العظمى فيها يرضون أن تسلبهم فرنسة كل حق من حقوق الحياة الاجتماعية والسياسية وطنية كانت أو جنسية أو دينية، وأن يُعدُّوها مع ذلك مصلحة لشؤونهم فيخضعوا لها طوعًا، ويطرونها مدحًا، ويسبحون بحمدها بكرة وأصيلاً؟ وأن يرضى أبناء جنسهم وإخوانهم مسلمو أفريقية وآسية منها بذلك، ويعدون دعوة الجامعة الإسلامية عبثًا لا حاجة إليه؛ لأن جميع الشعوب الإسلامية في غنى عنها بعدل المسيطرين عليها وإنصافهم، بما ادعته فرنسة من صداقتها وحبها للمسلمين عند إظهارها الرضا والارتياح لتعيين خليفة تركي تنحصر سلطته فيما لا يفهمه من أمور الدين؟ إن دهاقين السياسة الاستعمارية هم الذين علموا الشرقيين ما كانوا يجهلون من واجبات فطرتهم وحقوق أممهم ومللهم وأوطانهم الجامعة، فعلموا بعد جهل إذ كانوا قد فقدوا العلم، ولكنهم لم يعملوا بعلمهم هذا إذ كانوا قد فقدوا الهمة والعزيمة الرافعة إلى العمل؛ فهم الآن يسوقونهم إلى العمل سوقًا، بل يدُّعونهم إليه دعًّا، كما فعل الترك بتعليم العرب العصبية العربية، ثم دفعوهم إلى النهوض بها وهم يشعرون، فكل ما اتهم به ساسة أوربة أهل الشرق - من جوامع وطنية وقومية ودينية وشرقية عامة - كان باطلاً فأصبح حقًّا، هم خلقوه خلقًا وهم يربونه جهلاً منهم وحمقًا، فقد حَبَا حبوًا، ثم مشى مشيًا، وهم يأبون عليه إلا أن يعدو عدوًا، وسيعدو طوعًا أو كرهًا. كلما صرخ مكلوم أو صاح مظلوم من جورهم واضطهادهم له في قومه وعقر داره استعْدَوا عليه أوربة كلها والولايات المتحدة الأميركية أيضًا: يا للغرب مِن الشرق! إن الحضارة الغربية على خطر، إن نصارى الشرق على خطر، إن سيادة الجنس الأبيض في الشرق على وشك الزوال، إن السلمين يريدون حكم القرآن، فالغوث الغوث، هذا آن التناصر والتظاهر، هذا وقت التحالف والتكانف ... كما قالوا في مسألة الريف المغربي واتهام الأمير محمد عبد الكريم بإحياء منصب الخلافة، ولم يستحيوا من جعل ثورة سورية إسلامية أيضًا، بل هم يقولون ذلك ليجعلوها إسلامية، ولو أراد الثوار جعلها جنسية أو إسلامية لوجهوا دعوتها إلى جميع العرب المجاورين لهم، ولا سيما الوهابية أولي العصبية الدينية الحقيقية، ولو استنصروهم في الدين بأدلة الدين لنصروهم، ولعجزت السياسة أن تحول دون نصرهم لهم، ولكانت الطامة الكبرى على المتعصبين على الإسلام والمسلمين من أهل وطنهم، ولظهر لفرنسة أن هذه السياسة العتيقة لم تعد صالحة لهذا الزمان، وأن مودة المسلمين الصحيحة خير لها في سورية ولبنان. *** (7) السلطان الديني بين الإسلام والنصرانية قضى عليَّ الاستطراد أن أكتب هنا كلمة وجيزة في هذه المسألة بعد أن كنت أنوي ترك الإلمام بها فأقول: من المعلوم من الدين بالضرورة عندنا أن الإسلام دين سيادة وسلطان وتشريع، ومن المعلوم عن أوربة وأعوانها في الشرق ذم الجمع بين الدين والحكم، ووجوب الفصل بين الدين والسياسة، ووجوب نسخ الجامعة الدينية بالجامعة الوطنية، وقد راجت هذه الدعاية الأوربية في الشرق العربي بأقلام محرري الجرائد العربية من أبناء وطننا السوريين واللبنانيين المسيحيين، حتى صارت من المسَّلمات عند الجماهير من المسلمين في سورية ومصر وغيرهما من البلاد العربية، دع إلقاء بذورها وغرس فسيلها في المدارس العصرية في الشرق كله من مسيحية ورسمية، حتى في البلاد التركية والإيرانية، وقد بلغ من أخذها بالتسليم في مصر أن بعض مسلمي الإسكندرية كانوا أنكروا على المنار بعض ما كتبه في شأن الدولة العثمانية وسلطانها، فرغبوا إلى الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - أن يكلمني في ترك مباحث السياسة في المنار؛ لأنها مجلة دينية، فقال لهم: وإذا قال لي إن الإسلام دين سياسة فماذا أقول له؟ نعم راجت هذه الدعاية في البلاد الإسلامية ذات الحكومات الإسلامية من عربية وعجمية فكان الغبن والغرم فيها على المسلمين والغُنم لغيرهم، وقد بلغ من تأثيرها أن تجرأ رجل من اللادينيين معمم متخرج في الأزهر وقاضٍ في محكمة شرعية على تأليف كتاب مستقل في الدعوة باسم الإسلام إلى جعل الحكومة فيه (لا دينية) وإنكار التشريع الديني والإمامة الإسلامية العظمى، والطعن فيها، وأيدته في ذلك أكثر الجرائد التي تسمى إسلامية كالجرائد الإفرنجية سواء. بُثت الدعاية إلى الحكومة اللادينية في مصر كما بُثت في الدولة العثمانية، وصرح بعض الملاحدة عندنا بالدعوة إلى التصريح بذلك في الدستور المصري قبل أن يفعل الترك ما فعلوه بخلافتهم، ولا فرق بين الفريقين كما قلنا من قبل، إلا أن اللادينيين من الترك هم قواد الجيش وأصحاب السيوف والمدافع، وأن اللادينيين من المصريين لا قوة لهم إلا في ألسنتهم وأقلامهم؛ لأن القوة الحربية في مصر في يد الإنكليز وحدهم، وهم ردء لهؤلاء اللادينيين؛ لأنهم يعملون لهم في ظلمهم، ولولاهم لقضى عليهم الرأي العام الإسلامي على ضعفه، وهم لا يُشكُّون أن سيقضون عليه. وأما تأثيرها العملي في سورية فكان أول مظاهره نجوم الأفكار (اللادينية) في المؤتمر السوري العام الذي قام بأمر استقلال سورية ووضع القانون الأساسي لها، ثم في الدولة التركية بإلغاء خلافتها، ثم تشريعها الإسلامي حتى في الأحكام الشخصية وإبطال محاكمها

مبايعة أهل الحجاز لسلطان نجد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مبايعة أهل الحجاز لسلطان نجد ] قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [[1] . سبحان الذي يُغيّر ولا يتغير، ولا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيّروا ما بأنفسهم، سبحانه مِن حَكَمْ عَدْلٍ، يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْه، قد أنقذ أهل حرمه، وحرم رسوله من ذلك (المنقذ) الجبار، والمرائي الختار، ومن سلالته المخاتلين، وجعل العاقبة للمتقين. وردت أنباء الحجاز في الشهر الماضي بأن أهله قد نصَّبوا السلطان عبد العزيز آل سعود ملكًا عليهم، وكنا كالجمهور نتوقع من رويته تأخير القطع في شأن حكومة الحجاز إلى أن ينعقد المؤتمر الإسلامي الذي دعا إلى عقده في مكة أو يظهر اليأس منه، ثم علمنا من الأنباء الرسمية وغير الرسمية التي وصلت إلى مصر أن أهل الرأي في مكة وجدة أحبوا أن يكون أمر تعيين الحاكم العام في بلادهم لهم دون غيرهم من أهل الأقطار الإسلامية، الذين لا يعنيهم من أمر الحجاز إلا النظام الذي يحفظ به الأمن والعدل في البلاد، وتسهيل سبل المناسك والزيارة في الحرمين الشريفين، وهو ما يجب أن ينظر فيه المؤتمر أولاً، ويليه ما يحب أهل الفضل والغيرة من المسلمين أن يخدموا به الحجاز من نشر العلم ووسائل العمران، ولذلك ألحَّ هؤلاء على السلطان بأن يقبل مبايعتهم له، واحتجوا عليه بما صرَّح به مرارًا من جعل تقرير مصيرهم واختيار حاكمهم لهم - فتمنع وطلب إرجاء ذلك، فعلم به زعماء النجديين وأهل الحَل والعقد فيهم من العلماء والقواد فجاؤوه وأقاموا عليه الحجة بوجوب قبول مبايعة أهل الحجاز له؛ لئلا يذهب جهادهم في تطهير الحجاز من رجس الظلم والإلحاد عبثًا، بل أنذروه عاقبة الامتناع بحديث (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) رواه الإمام أحمد وغيره بهذا اللفظ وورد بلفظ آخر في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن - فلم يسعه إلا الإجابة؛ لأنه ليس بالمستبد دونهم كالطواغيت الذين أدال الله له منهم. وإننا ننشر أهم الوثائق الرسمية والتاريخية في ذلك نقلاً عن العدد 55 من (أم القرى) المكية، الذي صدر بمكة المكرمة في 30 جمادى الآخرة سنة 1344 الموافق 15 يناير سنة 1926، كما نشرنا مثلها في مبايعة الملك حسين بالملك ثم بالخلافة، مع العلم بأن هذه البيعة اختيارية كان يرى المبايَع تأجيلها، وتلك إجبارية كان تقرر في السر، ولم يكن أحد يشك في قتل من يمتنع عنها. *** صورة البيعة الآتية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود على أن تكون ملكًا على الحجاز، على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما عليه الصحابة رضوان الله عليهم، والسلف الصالح والأئمة الأربعة رحمهم الله، وأن يكون الحجاز للحجازيين، وأن أهله هم الذين يقومون بإدارة شؤونه، وأن تكون مكة المكرمة عاصمة الحجاز، والحجاز جميعه تحت رعاية الله ثم رعايتكم. وقد رفعوا مع كتاب البيعة الكتاب الآتي: *** كتاب كبراء مكة للسلطان حضرة صاحب العظمة السلطانية أيده الله تعالى المعروض إلى عظمة السلطان الموفق المُعان أنه قد اجتمع الداعون الموقِّعون أدناه من أهل الحَل والعقد بمكة المكرمة، وتذاكروا في الأمر وقابلوا بارتياح كل ما جرى بين عظمتكم وبين الهيئة المتمثلة في مجلسكم العالي صباح أمس من خيرة الأهلين، وبمناسبة اهتمامهم بذلك، ومزيد بشرهم به سارعوا جميعًا إلى تقرير عقد البيعة على المنوال المسطور أعلاه، راجين أن ينزل ذلك من رغبات عظمتكم منزلة القبول، وأن تتفضلوا بتتويجه بالإشارة السلطانية؛ ليكمل لهم مقصدهم الوحيد بحصول رضائكم العظيم، مسترحمين الإنعام بتعيين وقت عقد البيعة عند البيت العظيم، والله يديم بالتوفيق أيام دولتكم. 19 جمادى الثانية سنة 1344 عبد القادر الشيبي، حسن عدنان، محمد المرزوقي أبو حسين، محمد سعيد أبو الخير، عبد اللطيف عالم، محمد شرف رضا، محمد علي كتبي، حسين بن عبد الله العطاس، عباس عبد العزيز المالكي، عبد الرحمن الزواوي، محمد صالح قطب، عبد العزيز ريس، عمر جان، أحمد مفتي، عبد الرحمن بشناق، صالح شطا، بكري قزاز، عبد الله حموده، عبد الله أحمد زواوي، عمر علي بوقري، محمد عرابي، سجيني عايش ريس، محمد نور عقيلي، عيدروس بن عقيل السقاف، عمر أحمد فقيه، محمد فقيه، محمد نور فطاني، صدقة عبد الجبار، عبد الله باسلامة، أحمد أمين سراج، محمود شلهوب، عبد الرحمن محمد ياسين , محمد علي خوقير. *** توقيع السلطان على صورة البيعة بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل إلى إخواننا الموقعين أسماءهم سلام عليكم - وبعد فقد أجبناكم إلى ما طلبتم، ونسأله سبحانه وتعالى المعونة والتوفيق للجميع. في 12 جمادى الثانية سنة 1344 ... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم الكريم *** حفلة البيعة بعد أن أدى الناس صلاة الجمعة يوم 25 جمادى الثانية هرعوا إلى مكان الحفل عند باب الصفا من المسجد الحرام، حيث فرشت الطنافس، وأُعدَّ مجلس خاص لعظمة لسلطان، وأقيم منبر أمام مجلسه لخطيب البيعة، ولم تأزف الساعة السابعة والثلث حتى أقبل الموكب السلطاني المهيب، وأخذ عظمة السلطان مكانه فنادى المنادي {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب: 56) ثم اعتلى المنبر الشيخ عبد الملك مرداد الخطيب وتلى الخطاب الآتي: (أحمد رب هذا البيت المعظم، وأشكر الله على ما أنعم به علينا وتكرم، سبحانه وتعالى مَنَّ علينا بنعم لا تُحصى، ومنن لا تُستقصى أبدل خوفنا بالأمن العام، وأمرنا بالتآلف والتعاضد والوئام، فأحمده جل وعلا حمد عبد يعرف مقدار نعمته، وأشكره شكر من تداركه الله بإزالة نقمته. أيها الإخوان: إن الله سبحانه وتعالى قد أنعم علينا بالأمن بعد الخوف، وبالرخاء بعد الشدة، وقد انقشعت عنا غمة الحروب والعناء، وأقبلت علينا بفضل الله عز وجل أوقات المسرة والهناء، وقد توحدت الكلمة بحول الله تعالى وقوته، وتعطف علينا هذا السلطان المحبوب بقبول البيعة المشروعة، الواجبة علينا بعد طلبنا لها من عظمته، وها أنا أذكر صورة البيعة مع القبول حرفيًّا) وتلا ما نشرناه قبل هذا. ولما وصل الخطيب إلى تلاوة نص البيعة باشرت قلاع مكة بإطلاق المدافع إعلانًا لتلك البيعة، فأطلقت مائة مدفع ومدفع، وما انتهى الخطيب من خطبته حتى هرع الناس أفواجًا أفواجًا مزدحمين للمبايعة، ولولا رجال الحرس الخاص والشرطة يوقفون الزحام وينظمون سير المبايعة، لأودى الزحام بغير قليل من الناس، وقد كان ترتيب المبايعين على الشكل الآتي: الأشراف، فشيخ السادة، فالوجهاء والأعيان، فالمجلس البلدي، فأهل المدينة المنورة، فأهل جدة، فبقية خدم الحرم، فالمطوفون والزمازمة، فمشايخ الجاوه، فأهل الحرم ومشايخ الحارات، فأهل المحلات. وقد دامت حفلة المسجد الحرام ما يقرب من الساعة، والناس يمرون ويبايعون، وبعد ذلك مشى جلالة الملك إلى البيت الحرام، فطاف به سبعًا، وصلى في المقام، ثم شرف دار الحكومة فجلس في سرادقها، واكتظت بالناس على رحبها، ولما استقر بالحاضرين المقام نهض الشاب الأديب حسن قابل وتلا خطابًا ذكر فيه خلاصة تاريخية عن الأطوار التي مرت على الحجاز قبل رحيل الترك عنه إلى يومنا هذا، ثم عرض بما كان عليه الحال في العهد السابق، وأن الحق هو للحجازيين في تقرير مصيرهم، وأن لا بد للبلاد من ملك مستقل يكون قادرًا على صيانة الحجاز من الداخل والخارج، وأن الرجل الذي يستطيع القيام بهذا الأمر هو عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل، وأنه بالنيابة عن أهل جدة يمد يده مبايعًا، وطلب من عبد الله رضا أن يقوم ويبايع عن أهل جدة بملكية الحجاز. ثم قام حضرة الفاضل بكر ناظر فتكلم كلمة تناسب المقام، وتلاه الشاب الناشئ شاكر بن محمد عامر الزبدي فألقى خطابًا كان له وقع حسن، وتبعه حضرة الفاضل صدقة منصور فتكلم موجِزًا تاريخ العلاقات بين أمراء جزيرة العرب، وما أدى (إليه) النزاع الذي كان بين الحجاز ونجد إلى أن وفق الله الكريم بفضله، وتوحدت الكلمة بين البلدين، ثم أثنى على همة جلالة الملك بما هو أهله. ثم تكلم عبد الرحمن بشناق بصوت جهوري مخاطبًا جلالة الملك بأن الله ما أعطاك هذا العطاء إلا لأنك سائر في مرضاته، ودعا الله للأمة بالتوفيق. ثم تكلم صديقنا الشيخ عبد العزيز العتيقي، فذكر طرفًا من سيرة الأمة زمن السلف الصالح، ولزوم الاستمساك بذلك الحبل المتين، ليرجع للمسلمين ما كان لهم من عز وسؤدد. *** خطاب ملك الحجاز بعد البيعة ولما انتهى الخطباء من خطبهم أقبل جلالة الملك على الحشد المجتمع بوجهه الطلق ولسانه العذب، فحمد الله بما هو أهله، وسأله المعونة على الأعمال، ثم انطلق انطلاق السيل يعظ ويرشد ويدعو للاعتصام بكتاب الله وإلى التوحيد الخالص، بأسلوب يسترعي الأسماع ويأخذ بالألباب، ثم قال: (أوصيكم بتقوى الله في جميع أعمالكم، أوصي الجميع بالتقوى، كل يجب أن يتقي الله في عمله، التاجر في تجارته، والصانع في صنعته، والموظف في وظيفته، أسمع خطباءكم يقولون: هذا إمام عادل، وهذا كذا، فكل رجل مهما بلغ من المنازل العليا إذا لم يكن يخشى الله ويطلب مرضاته فلا أثر له ولا لعمله، فمتى تُرِكَتِ الشهوات، وهُجِرَتِ المحرمات، وعبدنا الله على بصيرة، لاقينا الخير كله، وهل جاء البلاء للناس إلا من اتباع شهوات النفوس التي فيها خراب الدين والدنيا؟ لذلك أدعوكم إلى الدين، واتباع آثار السلف الصالح، وأن نتخذ الصراحة في القول، وأن نترك الرياء والملق في الحديث، ومتى اتفق الأمراء والعلماء، كل واحد منهم يستر على صاحبه، فالأمير يمنح المراتب، والعلماء يُدلِّسون ويتملقون، ضاعت أمور الناس، وفقدنا - والعياذ بالله - الآخرة والأولى، إنه لم يُفسد الممالك إلا الملوك وأحفادهم وخدامهم، والعلماء وأعوانهم، وإنني والله لأود أن لا أكون في هذا المقام، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله. (إن الأمر - والحمد لله - قد استتب في البلاد على أحسن حال، ولم يبق لأحد حجة في النكوب عن العمل الصالح، ولينصرف كل إنسان لإصلاح عمله) . (إن التمدن الذي فيه حفظ لديننا وأعراضنا وشرفنا فمرحبًا به وأهلاً، وأما التمدن الذي يؤذينا في أدياننا وأعراضنا وشرفنا، فوالله لو قطعت منا الرقاب وذهبت فيه العيلات، لم نرضخ له ولم نعمل به) . (إني أحمد الله الذي جمع الشمل وأمَّن الأوطان، وإن لكم عَلَيَّ عهد الله وميثاقه أنني أنصح لكم كما أنصح لنفسي وأولادي وعائلتي، أحبكم في الله وأعاديكم فيه) اهـ. وقد تعالت الأصوات من الحاضرين (جزاك الله خيرًا جزاك الله خيرًا) . وقد كانت القهوة العربية تدار على الحاضرين حينًا بعد حين، ثم انصرف الناس من مجلسهم فرحين مسرورين اهـ.

الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية

الكاتب: أبو الحسنات الندوي

_ الجامعة الإسلامية والجامعة الشرقية الكتاب الثاني للشيخ أبي الحسنات الندوي رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة الفاضل الجليل، والعالم الكامل النبيل، أمتع الله المسلمين بطول بقائه سلامًا سلامًا. أما بعد فقد وصلني كتابكم، ووقفت على ما كتبتم فيه من حقيقة الأمر، ولاح لي المنهاج الذي أشرتم إليه بكلمة (وما كل أمر يمكن إعلانه) وهكذا كان يخطر ببالي أحيانًا، فالحمد لله على ما صدق ظنوني، وما أوردتم فيه من كلمة السيد المرحوم الأفغاني تغمده الله بغفرانه، التي قالها في المغفور له السلطان عبد الحميد خان، فإني على خبرة منها، ومن سعيه وبذل جهده في سبيل جمع كلمة الأمة المرحومة تحت اسم الخلافة الإسلامية على ذلك السلطان، حتى كان أقنع كثيرًا من مجتهدي الشيعة بالمساعدة على ذلك، وأيضًا إني على خبرة مما كان لسعيه وعمله هذا ضياعًا وخسرانًا بما كان أصيب به السلطان المرحوم في أواخر عمره من (ماليخوليا ووسواس) ولو سلّمت - كما حررتم - أن الاتحاديين الذين جاؤوا بعده كانوا شرًّا منه، فالسلطان إن كان سلاًّ في رئة الدولة، فالاتحاديون كانوا أشد منه وطأة عليها، حتى ذهبوا بقوتها وأسباب بقائها، لو لم يجعل الله تعالى رجلاً من الدولة حفاظًا لها، ولكن مع هذا كله ليس لنا أن نقطع الأمل ونترك العمل، فإن عدم نجاح العمل لا يثبت لنا إلا تقصيرًا في جهدنا، ولا يظهر لنا إلا نقصانًا في سعينا، فعلينا أن نجهد بكل الجهد، ونبذل كل الوسع مرة بعد أخرى، حتى نفوز بالأمل وننجح في العمل، وكيف يمكن القنوط والزمان قد تقلب بما هو خير لنا وأحسن، فإن القرن الماضي قد مضى، وكانت الأمة المسلمة في يوم غفلتها، ونجم هذا القرن وهي في يقظة لا سِنَة معها، وحركة لا فتور فيها. نعم كان بدأ السيد المرحوم بعمله دعوة المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية في زمان كانت الأمة فيه نائمة غافلة، فمضى أكثر أيام حياته في اتخاذ الوسائل إلى تنبيهها، وتهيئة الأسباب لإيقاظها، حتى توفاه الله تعالى قبل أن يتم العمل، ومع ذلك لا يجوز أن يقال: إن السيد المرحوم قد خاب في أمله، وخسر في عمله، فإن هذه كلمة كذب لا تحملها الأرض والسموات، وإني على يقين - ولا أزال عليه - أن صلصلة الوحدة الإسلامية التي تُسمع في عصرنا هذا هي من الجرس الذي دقه السيد المرحوم، وما وصفتم لي من ضعف الأمة وجهل الحكومات الإسلامية الذي يحول دون السعي ونجاح العمل، فهذا الحائل والعائق أيضًا قد ذهب به الزمان، فانظروا إلى الأمة ليس فيها شيء من ضعف النباهة والإحساس، والحكومات الإسلامية ما بقي فيها الجهل (؟) عن الأهوال والأحوال، الأمة قد شعرت بحاسة الأخوة الدينية، فترى القيام بها من الواجب، وهي تسعى لها. والحكومات الإسلامية قد علمت بمضارِّ التشتت والافتراق، فترى ارتباط بعضها مع بعض من اللازم، فكل واحدة منها تسير سير التعاون والوفاق، حتى صار أمر خدمة الأمة على من يريد أن يخدمها في هذه الأزمان هونًا والطريق إليها سهلاً. وما كتبتم في أمر الاتحاديين والكماليين، فإن يكن الأمر كذلك، ولكن ليس لنا الآن أن نقول في هذا الشأن قولاً مفصلاً، وأقول بالإجمال: من أعرض من الاتحاديين أو الكماليين ونأى بجانبه عن مصلحة الأمة المسلمة ونصوص الدين، فله ما له وعليه ما عليه - الأمة المسلمة لا تشترك بعمله، ولا تكون عونًا له إلا فيما يهمها من أمر دينها، نعم إني أعلم بعض زعماء الاتحاد والترقي: كالغازي أنور باشا حفظه الله تعالى وأدام له السلامة قد غلب عليه الاتحاد التوراني، وهو يجهد في سبيله ويبذل له ما في وسعه. فإن كان ذلك تابعًا للاتحاد الإسلامي وموافقًا له، فتكون الأمة المسلمة بأجمعها ساعدًا له وعضدًا. وهكذا الكماليون إن كانت تشتمل مساعيهم على مشروع الاتحاد الإسلامي ومصلحة الدين، فالأمة بأموالها وأنفسها تتعاون بهم، وتكون أنصارًا لهم، وإن نبذوه وراءهم وهجروه، فالأمة تنبذهم وتهجرهم. وما كتبتم في الكماليين من إلغائهم منصب الخلافة الإسلامية، وجعلها عبارة عن رياسة روحية بابوية، فنحن مسلمو الهند لسنا على علم بصدقه كما هو يروى ويقال (!) ومسلمو الهند - بل ومسلمو العالم - لا يرضون أبدًا بجعل منصب الخلافة منصبًا روحيًّا محضًا كمنصب البابا. ومن ذا الذي يعلم الكتاب ويعرف أصول الشريعة يرضى به ويستحسنه؟ ولا نخال كيف يمكن لمصطفى كمال باشا وحزبه أن يرتكبوا هذا الخطأ الكبير دينًا وسياسة، وهو يضرهم كما لا يضر غيرهم أحدًا، فإن هذا الإلغاء يذهب بشرف الدولة التركية بين الدول الإسلامية، وبمكانتها العليا في نفوس المسلمين قاطبة، هل أرادت الأمة التركية أن تضع حمل الخلافة عن كواهلها فإنه ثقيل عليها؟ هذا أمر لم أظنه بالأتراك، ولم أجد مؤمنًا به في الهند أحدًا (!) وأما ما ذكرتم من إطماع المسلمين مصطفى كمال باشا صانه الله تعالى وحزبه، بأنهم يوافقونهم على كل ما يفعلون، وإن كان مخالفًا للمصلحة ونصوص الدين، فليس بشيء، فإن المسلمين لا يتعاونون بهم على ما يخالف الشرع ونصوص الدين أبدًا؛ لأن روحهم الدينية تنفر عن مثل هذا التعاون، قال الله عز وجل {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) . وكنت كتبت وفقًا لما وعدتكم قبل ذلك مقالة في مسألة الجامعة للمسلمين وطريق الوصول إليها، والأخذ بها، وكنت هممت بإرسالها إليكم إذ ألقي إليَّ كتابكم قبل الأمس، ووجدت فيه ذكر الجزء التاسع للمنار في البريد الآتي فيه إشارات إلى شيء من المشروع الذي أوردتم ذكره في الكتاب، فأحببت أن أرسل مقالتي المذكورة بعد مطالعة (المنار) والوقوف على رأيكم في هذا الشأن. وأما ما سألتموني عن رأيي في الطريق الذي يمكن أن تتعاون به مع جمهور مسلمي الهند على تنفيذ المشروع الجليل، وكيف السبيل إلى إطلاعهم على تفصيله المبهم. فإني أنا بنفسي أُظهر لكم ما أرى بعد مطالعة المشروع. وأما طرحه على جمهور المسلمين، واستحصال تعاونهم عليه وسبيل إطلاعهم على تفصيله، فإن كان المشروع محتويًا على الظواهر ليس لها خفايا، فالسبيل إليه بنشره في الجرائد الهندية بعد ترجمته بالأردوية؛ حتى يراه ويطالعه زعماء المسلمين وخواصهم، ثم بعد ذلك يسأل عنه، وماذا يرون فيه؟ فإن وقع عندهم موقعًا حسنًا فيسهل إلى أن يتم العمل، ففي هذا السبيل إن شئتم وآذنتموني فأترجم مشروعكم الجليل بالأردوية فأرسله إلى الجرائد، ونسأل عنه رأي من هو أهل الرأي من المسلمين في الهند، وأيضًا إني لقادر على أن أترجمه بالفارسية، وأرسله إلى جرائد أفغانستان، وإن كان المشروع لم يفده مثل هذه الأعمال، فبينوا لي ما هو يفيده وأي سبيل عندكم إلى تنفيذه؟ وما ترون طريق عمله وكيف تقصدونه. وأما استئذانكم بنشر ما كتبت وأكتب في هذا الشأن فما كان لازمًا، الأمر إليكم والخيار لكم، فانشروا منه ما شئتم، وبأني رجل من الهند لست بعربي ولا صحبت عربيًّا، فأرجو أن تسودوا وتصلحوا ما وقع في العبارات من زيغ وفساد فتقبلوا مني أحسن التحية. أنا العاجز أبو الحسنات الندوي أحد رفقاء دار المصنفين. ... ... ... ... ... ... شبلي نزل ... أعظمكده (الهند) (المنار) رحمه الله وأثابه فقد كان من خيار المصلحين، وقد توفاه الله تعالى قبل أن نتمكن من إجابته إلى كل ما سأل.

وهب بن منبه وكعب الأحبار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وهب بن منبه وكعب الأحبار بيَّنا في الجزء الأول ما رأيناه كافيًا في إثبات جرح كعب الأحبار والرد على المنتقد الذي ذهب إلى أن جرحه يشين السنة المحمدية (برأها الله وأغناها عن كعب الأحبار وعن وهب بن منبه أيضًا) . وأما وهب بن منبه فقد كان تابعيًّا عابدًا، ولم يُتَّهم في شيء من دينه إلا بالقول بالقدر، وذكروا عنه أنه رجع عنه، وقد ضعفه عمر بن الفلاس، واغترًّ به الجمهور؛ لأن جل روايته للإسرائيليات، ولم يكونوا يدققون النظر في نقدها تدقيقهم في نقد روايات أصول الدين وفروعه، وقلما كان أحد من رجال الجرح والتعديل يعرف شيئًا من كتب أهل الكتاب ليصح حكمه على الرواة عنها، على أن البخاري رحمه الله تعالى لم يَروِ عنه حديثًا في صحيحه مرفوعًا ولا قصة إسرائيلية، ولا مسألة علمية، وإنما روى عنه أثرًا واحدًا، وهو ما حدَّث به عن أخيه همام عن أبي هريرة من قوله: ليس أحدٌ أكثر مني حديثًا إلا عبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان يكتب ولا أكتب. ولم ينفرد به وهب بل تابعه عليه معمر عن همام، فلا يصح أن يعد وهب من رواة صحيح البخاري الذين ائتمنهم على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. هذا، وإن ما نقلوه عنه من الرجوع عن عقيدة القدر لرمي له بعقيدة الجبر المحض وهي شر منها، فكانوا بذلك كمن يغسل الدم بالبول، وهو مع ذلك يدل على كذبه فيما يرويه عن كتب الأنبياء عليهم السلام، فقد ذكروا عنه أنه قال: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابًا من كتب الأنبياء في كلها (من جعل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر) فتركت قولي. اهـ. من تهذيب التهذيب ومقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر. أقول (أولاًً) : إن كتب الأنبياء التي بأيدي أهل الكتاب لا تبلغ هذا العدد. (ثانيًا) إننا تصفحنا أشهرها فلم نجد هذا القول فيها، ولا رأينا أهل الكتاب ينقلونه في مجادلاتهم في هذه المسألة. (ثالثًا) إن هذا القول باطل قطعًا بدليل الآيات الكثيرة في القرآن، المثبتة لمشيئة الإنسان، كقوله تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف: 29) {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} (التكوير: 28) {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} (فصلت: 40) {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} (النور: 62) {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (المدثر: 67) وفي معنى الآيات أحاديث كثيرة أيضًا، ولا ينافي هذه الآيات قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (الإِنسان: 30) ، بل يقررها ويؤكدها إذ هو صريح في أن الله تعالى شاء أن يكون للبشر مشيئة خلقها لهم فيما خلقه من صفاتهم وغرائزهم وقواهم. (رابعًا) إن وهبًا قد انتقل من بدعة القدرية إلى بدعة الجبرية التي هي شر منها وأضر، وأدهى وأمر، فهي التي أماتت قلوب المسلمين وهممهم التي فتحوا بها البلاد، ودكوا بها الأطواد، وأرضتهم بالذل والهوان، وتعبدتهم للظلمة منهم، ثم للمستعبدين لهم من غيرهم. إن المشيئة هي أعظم الصفات التي يتفاضل بها بعض البشر على بعض، وإن عقائد الإسلام وعباداته كلها مبنية على صحة المشيئة، ومربية لقوة الإرادة التي أعمل الجبرية فيها معاول التأويل لهدم الإسلام بهدمها، وقد فعلت في إضعاف المسلمين ما لم يفعله جميع أعدائهم منذ وجدوا إلى هذا اليوم، وإنما راجت دسائسها بما كانت تنفثه مواعظ العُبَّاد الجاهلين أو الخادعين الدساسين من سمومها القاتلة، أي أن الإنسان لا مشيئة له ولا إرادة، وإنما هو كالريشة الملقاة تقلبها الرياح باختلاف مهابها، وأن هذا هو المراد بالقدر الوارد في الكتاب والسنة، وقد بيَّنا بطلان ذلك مرارًا، وأن التقدير هو النظام والسنن التي اقتضتها الحكمة الإلهية في الخلق. هذا وإن عمدتنا في جرح رواية وهب ما جاء به من الإسرائيليات التي نقطع ببطلانها وهو آفتها كروايات كعب فيها، وقد شوَّها تفسير كتاب الله بما بثَّا فيها من الخرافات، وبما أدخلا فيها من العقائد الباطلة، ومن تأييد عقائد أهل الكتاب والشهادة لكتبهم التي بين أيديهم بالصحة. ونكتفي في هذه وهي شرها بما نقله الحافظ ابن كثير عنه في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 78) قال: قال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يُغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل، وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 78) فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول، رواه ابن أبي حاتم. (قال ابن كثير) : فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة، ونقصان ووهم فاحش، وهو من باب تفسير المعرب المعبَّر [1] وفهْمُ كثير منهم - بل أكثرهم بل جمعيهم - فاسد. وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه من عنده، فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شيء) اهـ. أقول: إن ابن كثير قد علم من حال كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلم أئمة الجرح والتعديل ممن فوقه كأحمد وابن معين والبخاري ومسلم الذين لم يروا هذه الكتب كما رآها، ولم يطَّلعوا على ما بيّنه المطَّلعون عليها قبله من تحريفها وأغلاطها ومخالفتها لما نقطع به من أصول الإيمان بالله ورسوله إلخ، كابن حزم وابن تيمية أستاذه، ولو علم أولئك ما علمه هؤلاء من ذلك لجزموا بأن وهبًا كان كذابًا غاشًّا للمسلمين بصلاحه، ولم يقبلوا له رواية قط، كما كانوا يجزمون بجرح من يقول في الدين بدون ما زعمه من كون التوراة والإنجيل اللذين في أيدي أهل الكتاب كما أنزلهما الله تعالى لم يتغير منهما حرف واحد. وإن تحريفهم لهما إنما كان في تأويلهما، وفي نسبة بعض المسائل التي ليست فيهما إليهما، أي كما يفعل المبتدعون في الإسلام والمتعصبون للمذاهب في تأويل القرآن والحديث لإثبات بدعهم ومذاهبهم، وكما أراد ابن كثير عفا الله عنه أن يلتمس لوهب تأويلات كتأويلات متعصبي المذاهب لمشايخهم، ولو نقل هذا القول عن جهمي أو معتزلي أو شيعي لقطع هو وأمثاله بخروجه به من الملة، فهذا التأويل بديهي البطلان؛ لأن كل أحد يجزم بأن وهبًا يتكلم عن التوراة والإنجيل الموجودين في الأرض لا عن اللوح المحفوظ، ولا عن علم الله عز وجل، وعن كلامه الذي هو صفة من صفاته. ولو أردنا أن نجمع من تفسير ابن كثير وحده ما فيه من الإسرائيليات وغيرها عن وهب نفسه وعن صنوه في روايتها كعب الأحبار، وننتقدها لألَّفنا في ذلك كتابًا خاصًّا، مع العلم بأن ابن كثير رحمه الله تعالى يحترس مما لم يحترس غيره منها، وأما إذا رجعنا إلى كتب القصاصين والمفسرين الذين جمعوا كل ما سمعوا فإننا نجد هنالك العجب العجاب والذي يقال فيه: إنه لا تلبس عليه ثياب، ويا حسرتا على من يظنون أن سنة النبي المختار، تزول الثقة بها بجرح وهب وكعب الأحبار اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

فؤاد بك سليم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فؤاد بك سليم خسرت سورية في ثورتها الحاضرة قائدًا من أكبر قوادها تدبيرًا وبلاء فيها، وفي الحركة العربية الأخيرة من أولها إلى آخرها، بل خسرت الأمة العربية رجلاً كان يرجى أن يكون من أكبر رجالها في هذا الطور الانقلابي تأثيرًا بعلمه وعمله، وعقله وأدبه، ولسانه وقلمه، رب السيف والقلم، شهيد الوطنية الصادقة، صديقنا فؤاد بك سليم، أصابت رأسه المفكر شظايا قذيفة من مدافع الفرنسيس في المعركة، فقضت عليه قبل أن يتم ما كان يلقيه على جيش الثورة وقواده من الأوامر والنواهي الحربية فيها، فلما ذاع نعيه اضطربت له مصر كما اضطربت له سورية، وأبَّنتْه جرائد القطرين ورثاه شعراؤهما، ولم تتناوب أقلام الكتاب المختلفي المذاهب والمشارب الرثاء والتأبين بمثل ما كتبته فيه إلا في أفراد معدودين من كبار الزعماء، ولعل ذلك يجمع في سفر خاص يكون ذكرى وقدوة للنابتة العربية في نهضتها القومية الحاضرة. كان فؤاد سليم مغمولاً مجهولاً قدره بإقامته في شرق الأردن إلا عند أصدقائه، فكان كنود الأمير عبد الله الحجازي له بإخراجه منها جزاء له على إنقاذه إياه من الهلاك، وإلجائه إياه إلى الإيواء إلى مصر من حُسن حظ الفقيد وخط أُمّته؛ إذ عَرَفه فيها - على عزلته - كبار العقلاء والكتاب، وأعجبوا بما نشره في أشهر جرائدها من المقالات السياسية والاجتماعية الدالة على نضوج فكره وسعة علمه وسداد رأيه. لم تكن دموعي عند فقد الكواكبي والزهراوي أشد حرارة من دموعي على فؤاد، وكنت أرجو له مستقبلاً عظيمًا في نهضة الأمة العربية، وقد يتعجب قراء المنار إذا قلت: إنني كنت أرجو أن يكون من أقوى أنصاري في الإصلاح الديني والأخلاقي، وفي مقاومة تيار التفرنج المفسد للعقائد والأخلاق، وللأبدان والأرواح، وفي السعي لإعادة طائفة الدروز العربية الباسلة إلى مذهب أهل السنة والجماعة، مع المحافظة على روابطها وتكافلها ومزاياها الشريفة الموافقة لأصول الإسلام، وإقناع نابتتها وزعمائها الأذكياء ما عدا ذلك من تعاليم الباطنية كان من دسائس المجوس وكيدهم للعرب؛ لسلب ملكهم انتقامًا منهم على إسقاطهم لدولة المجوس ودينهم، فالبلاد كانت أحوج إلى عقل فؤاد ورأيه منها إلى سيفه، فرحمه الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الاستخفاف بآيات الله وما عظم الله أمره ودعوى رؤية النبي (ص) في اليقظة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاستخفاف بآيات الله وما عظم الله أمره ودعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة (38 و 39) من صاحب الإمضاء في الجزائر. ما قولكم في كاتب يكتب في الجرائد تحت عنوان (النفخ في الصور) والإمضاء (إسرافيل) هل ينطبق عليه ما ذكر الشيخ (القاضي) عياض في كتاب الشفاء في مفتتح فصل من فصول آخر الكتاب ولفظه: (وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما يقتضي الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة مولاه، أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته ... إلى أن قال: وهذا كفر لا مرية فيه) اهـ. قلت: أليس التمثيل بالنفخ في الصور وإمضاء إسرافيل - عليه السلام - بعض ما عظم الله من ملكوته؟ أفيدوا الجواب، ولكم الأجر والثواب، من مُنزل الكتاب، الذي جعله الله حكمًا بين العباد إلى يوم المآب. ثم نذكر لكم سخافة وحديث خرافة ذكرها الشيخ عليش في فتاويه في باب الأصول من كتابه ذلك فقال: إن الشعراني نقل عن علي الخوَّاص أن الأئمة المجتهدين لا يثبتون حكمًا إلا إذا شاوروا النبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة، وأنهم معصومون من الخطأ، إلى غير ذلك مما لا يقبله الشرع ولا العقل، وأن السيوطي ذكر عن نفسه كما في ورقة بخطه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم خمسًا وسبعين مرة يقظة، حسبما تقفون على ذلك في كتابه المومأ إليه في باب الأصول. ثم إنا لما أنكرنا ذلك وكتبنا فيه نقدًا في بعض الجرائد هنا قام بعض من يزعم أنه على علم ما، فأنكر علينا إنكارنا على من يدعي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة بعد وفاته بثمانمائة سنة، إلى غير ذلك مما تقفون عليه من المدهشات بل المخزيات. والآن نطلب منكم عملاً بالأصول وقواعدها وانتصارًا لطريقتنا الإصلاحية السلفية أن تشيروا إلى ذلك في عدد من أعداد المنار المقبلة، وذلك يكون خدمة للعلم والفقه الصحيح إذ لا تتقرر الأحكام الشرعية بما ذكر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الزواوي) (جواب المنار) إننا لم نطَّلع على شيء مما كتب في بعض جرائد الجزائر بالعنوان والإمضاء المذكورين، فنعلم هل هو صريح فيما أراده القاضي عياض رحمه الله من الاستخفاف أو الاستهزاء بالله أو بآياته، أو بما عظم أمره من ملكوته بما يدل على ذلك دلالة واضحة، وهو قد ناط الحكم بالكفر بقصد الكفر والاستخفاف، أو بالتكرار الدالِّ على ذلك، فإن نص عبارته فيما جزم بأنه كفر (فإن تكرر هذا منه وعُرف به دل على تلاعبه بدينه، واستخفافه بحرمة ربه، وجهله بعظيم عزته وكبريائه، وهذا كفر لا مرية فيه، وكذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف والنقص لربه) اهـ. والمدار في الحكم بالكفر في أمثال هذه الأقوال على دلالتها القطعية على الاستخفاف والاستهزاء الذي لا يصدر من مؤمن عادة أو قصده ذلك، فإذا كان الناس يفهمون من عبارات ذلك الكاتب الاستهزاء بالقيامة وملك الصور استهزاء من لا يؤمن بهما فلهم أن لا يعاملوه معاملة المؤمنين، ولكن بعد أن ينصحوا له برفق بأن يرجع عن ذلك ويتوب إلى الله منه، وأن يقبلوا قوله إذا قال أنه لا يقصد به ما فهموه من الدلالة على الاستخفاف أو الاستهزاء، ويحتجوا عليه بأن فهمهم ذلك منه كافٍ في وجوب تركه، وإن كان الناس لا يفهمون هذا مما يكتبه بل يفهمون أنه يقصد الوعظ، وبأسلوب مؤثر ينبه الأذهان فلا وجه للقول بكفره مطلقًا، وهنالك صورة ثالثة وهي أن تختلف أفهام الناس فيما ذكر، وحينئذ يتجه أن يكون ما يكتبه معصية لا كفرًا، والغالب على ظني أنه لا يقصد الكفر، ولا يعتقد أن ما يكتبه محظور شرعًا، ولكن يجب عليه والحالة هذه أن يراعي ما يفهم الناس من كلامه، ولا يقف موقف التهمة عند من يستنكر ذلك، وأرجو أن يترك ذلك إذا بلغه هذا وصح حسن ظني فيه، فهذا ما اتجه عندي في مسألة الاستفتاء. *** دعوى التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وأما ما نقله الشيخ عليش عن الشعراني عن علي الخوّاص من استشارة الأئمة المجتهدين للنبي صلى الله عليه وسلم يقظة في كل حكم أثبتوه، ومن القول بعصمتهم، فهُما من الباطل الذي لا يقبله إلا الخرافي الجاهل، فالمسلمون قد أجمعوا على عدم عصمة العلماء المجتهدين، وصرحوا بجواز الخطأ عليهم، إلا أن بعض الشيعة قد قالوا بعصمة بعض الذين خلَوْا من أئمة أهل البيت كالأئمة الاثني عشر عند الإمامية، وقد كان المجتهدون يقولون القول ثم يظهر لهم أنه خطأ فيرجعون عنه، ولو لم يثبتوا حكمًا إلا بالتلقي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع أحد منهم عن قول قاله في إثبات حكم أو نفيه، ولَما أوصى مَنْ أوصى منهم (كالشافعي) بأن من صح عنده حديث يخالف قوله فليتبع الحديث ويضرب بقوله عرض الحائط، وكتب الشعراني مشحونة بالخرافات، وقد أطال القول في هذه المسألة في كتاب (الميزان) وسيأتي ما فيه. هذا، وإن أولئك المجتهدين لم يدَّعِ أحد منه هذه الدعوى، بل كانوا يستنبطون الأحكام من أدلتها ويتناظرون فيها، ويرد بعضهم قول بعض بالدليل، ولم يدَّعِ أحد منهم العصمة ولا ادعاها لهم أصحابهم ومؤيدو مذاهبهم، بل اعترفوا بأنهم يخطئون، وأن كل أحد يؤخذ من كلامه ويُرد عليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يقول مالك، ولو صحَّت الدعوى لكانت أقوالهم كلها على تعارضها وتناقضها كنصوص الكتاب والسنة، والواقع أن أكثرها اجتهادًا يحتمل الخطأ والصواب وهذا معنى وصفهم بالمجتهدين، والصحابة كانوا أعلم بدين الله من أئمة الفقه، ولم يقل أحد بعصمتهم ولا بأنهم كانوا يرون النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ويستفتونه فيما أشكل عليهم. والروايات في اختلافهم وتشاورهم فيما اختلفوا فيه في عهد الراشدين كثيرة، ولو كان كبار الصحابة والتابعين الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ويتلقَّون عنه الأحكام لعَرِف هذا عنهم الخوّاص والعوام، ولما وقع المسلمون فيما وقعوا فيه من الاختلاف العلمي والعملي. ثم إن الذين ادعوا أنهم يرون النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، ويسألونه عن الأحاديث المروية عنه وعن الأحكام والحقائق والحلال والحرام والكفر والإيمان، ويختلفون في كل ذلك اختلافًا يدور بين النفي والإثبات - فكيف يمكن أن تصح دعواهم؟ روي عن السيوطي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنه ليس في جامعه الصغير حديث موضوع، أي مكذوب عليه صلى الله عليه وسلم، وروي عن غيره أنه سأله صلى الله عليه وسلم عن عدة أحاديث من هذا الكتاب فأنكرها، وصرح بأنه لم يقلها، وهي من غير الأحاديث التي قال رجال الحديث كالمناوي وغيره بوضعها. ومن مفاسد هذه الدعوى أنها فتحت للدجالين باب الإفساد في هذا الدين، وبث العقائد الباطلة المخالفة لنصوص القرآن القطعية الدلالة والمجمع عليها في الملة، دع مخالفتها للأحاديث الصحيحة عند جميع حفاظ السنة، وتجد الكثير منها في كتب المتصوفة كالشيخ أحمد التيجاني الذي ضل بطريقته الألوف والملايين من أهل إفريقية، ولا سيما الجزائر، ولولا أن في كتب بعض المشهورين بالولاية والعلم كالشعراني إثباتًا لهذه الدعوى بدعوى أخرى هي ما يسمونه بالكشف لكُفِي المسلمون هذا الشر المستطير. لقد كان الضرر والفساد لهذه الدعوى كبيرين، ولم نر لها أدنى فائدة توازي أدنى غائلة منها، وعلماء أصول الدين وعقائده وأحكامه متفقون على أن الكشف والإلهام ليس من أدلة الشريعة، ولا يثبت به حكم، ولا تقوم به حجة، قال في جمع الجوامع وشرحه: لعدم ثقة من ليس معصومًا من الأولياء بخواطره، لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان فيها، وأهل السنة لا يقولون بعصمة أحد في إلهامه وغيره إلا الأنبياء عليهم السلام كما تقدم. وأما مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة، أي رؤية روحه الشريفة القدسية، متشكلة بصورته الكاملة الجسدية - فقد اختلف العلماء فيها، فنفاها قوم، وأثبتها آخرون ممن يدّعونها أو يُصدقون من ادّعوها من الصوفية، ومن الثقات من قال بإمكان حصولها في حالٍ بين النوم واليقظة، ونظم بعضهم هذا الرأي بقوله: ومن يدعي في هذه الدار أنه ... يرى المصطفى حقًّا فقد فاه مشتطا ولكن بين النوم واليقظة الذي ... يحاول هذا الأمر مرتبة وسطى ويجد القارئ هذا البحث في المواهب اللدنية وشرحها، وفي الإبريز، وفي بحث الكرامات من طبقات الشافعية الكبرى للسبكي وغيرها، وقد كنت قرأت هذا وغيره وكتبت في المسألة بحثًا طويلاً في كتاب (الحكمة الشرعية في المحاكمة بين القادرية والرفاعية) الذي ألفته في أثناء طلبي للعلم بطرابلس الشام. ويعلل النفاة لرؤية اليقظة ما روي عن بعض كبار الصوفية من ادعائها، ومنهم الأتقياء العدول، والعلماء الفحول، الذين يجلّون عن تهمة الكذب والافتراء؛ يعللون ذلك بأنهم هؤلاء لم يفتروا تلك الدعوى افتراء، وإنما كان ما يرونه نوعًا من المثال، يتجلى عند استغراق الفكر في الخيال، على حد قول الشاعر: يمثلك الشوق الشديد لناظري ... فأطرق إجلالاً كأنك حاضر ولكن كبار الصوفية على إثباتهم للرؤية الخيالية يقولون أن لهم رؤية أخرى هي جمعية روحية تكون في حال التجرد من الجسم المادي الكثيف، والانسلاخ من سلطان الحس، فهي مشاهدة الروح للروح في شكل الجسد، ولا تتوقف على فتح العينين ولا على وجود النور، بل هي تكون مع عدمهما أكثر، ومن الفرق بينهما وبين الرؤية الخيالية، أن الذي يتمثل في الخيال هو ما نقش في مركز التصور لما كان شاهده هذا الرائي أو تخيله، فهو يختلف باختلاف الأشخاص كالأحلام، والرؤية الروحية ليست كذلك، وآية صحتها أنها لا تتضمن أخذ شيء عنه ينافي القرآن أو غيره من أصول الشريعة أو فروعها القطعية. وقد ذكر صاحب الإبريز عن شيخه الدباغ من أمثلة الرؤية الخيالية جزارًا في مدينة فاس مات ولده؛ فوجد عليه وجدًا عظيمًا، فتمثل له وهو يمشي مع الجزارين في السحر يقصدون المذبح، وصار يتكلم معه، حتى نبهه أحد رفاقه سائلاً إياه عما سمع منه؟ فأخبره أن ولده كان يمشي بجانبه ويكلمه. وأعرف امرأة بلهاء في بلدنا كانت دائمًا تخاطب الموتى ممن لهم شأن كبير عندها كأخ لها مات شابًّا ومن غيرهم، وهذا نوع مما ينقل في هذا العصر عن الروحيين في بلاد الإفرنج كلها. وربما أعود إلى التوسع في هذه المسألة وما يتعلق بها مما يسمى اليوم باستحضار الأرواح. وجملة القول أن رؤية الأرواح على القول بصحتها إنما تقع في حالة غيبة عن الحس والإدراك العقلي، ومتى عاد صاحبها إلى الحالة الطبيعية يكون كالمستيقظ من النوم، فلا يوثق بضبطه لكل ما رآه، وهي لا يثبت بها حكم شرعي، ويجب القطع ببطلان كل ما ينقل في هذه الحالة عن روح النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء والمتقين مخالفًا لما ثبت شرعًا أو وجودًا بدليل قطعي والسلام.

مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات جواب سؤالٍ رُفع إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى فصل فإذا تبين ذلك فوجوب إثبات العلو لله تعالى ونحوه يتبين من وجوه: (أحدها) أن يقال: إن القرآن والسنن المستفيضة المتواترة وكلام السابقين والتابعين بل وسائر القرون الثلاثة مملوء بما فيه إثبات العلو لله على عرشه بأنواع من الدلالات، ووجوه من الصفات، وأصناف من العبارات. تارةً يخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وقد ذكر الاستواء على العرش في سبعة مواضع، وتارةً يخبر بعروج الأشياء وصعودها وارتفاعها إليه كقوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 158) {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) {تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (المعارج: 4) وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر: 10) وتارةً يخبر بنزولها منه أو من عنده كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} (الأنعام: 114) {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} (النحل: 102) {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت: 2) {حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} (غافر: 1) {تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} (الزمر: 1) وتارةً يخبر بأنه الأعلى والعلي كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) وقوله: {وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ} (البقرة: 255) . وتارةً يخبر بأنه في السماء كقوله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} (الملك: 16) {أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} (الملك: 17) فذكر السماء دون الأرض، ولم يعلق بذلك ألوهية أو غيرها كما ذكر في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} (الزخرف: 84) وقال تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} (الأنعام: 3) وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء؟) وقال للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: أعتقها فإنها مؤمنة) . وتارةً يجعل بعض الخلق عنده دون بعض، ويخبر عمن عنده بالطاعة كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (الأعراف: 206) فلو كان موجب العناية معنى عامًّا كدخوله تحت قدرته ومشيئته وأمثال ذلك لكان كل مخلوق عنده، ولم يكن أحد مستكبرًا عن عبادته، بل مسبحًا له ساجدًا، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60) وهو سبحانه وصف الملائكة بذلك ردًّا على الكفار والمستكبرين عن عبادته. وأمثال هذا في القرآن لا يحصى إلا بكلفة، وأما الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين فلا يحصيها إلا الله تعالى. فلا يخلو إما أن يكون ما اشتركت فيه هذه النصوص من إثبات علو الله نفسه وعلى خلقه هو الحق أو الحق نقيضه، إذ الحق لا يخرج عن النقيضين، وإما أن يكون نفسه فوق الخلق أو لا يكون فوق الخلق كما تقول الجهمية، ثم تارةً يقولون: لا فوقهم ولا فيهم، ولا داخل ولا خارج ولا مباين ولا محايث، وتارةً يقولون: هو بذاته في كل مكان، وفي المقالتين كلتيهما يدفعون أن يكون هو نفسه فوق خلقه. فإما أن يكون الحق إثبات ذلك أو نفيه، فإن كان نفي ذلك هو الحق، فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا قط لا نصًّا ولا ظاهرًا، ولا الرسول ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، لا أئمة المذاهب الأربعة ولا غيرهم، ولا يمكن أحدًا أن ينقل عن واحد من هؤلاء أنه نفى ذلك أو أخبر به، وأما ما نقل من الإثبات عن هؤلاء فأكثر من أن يحصى أو يحصر، فإن كان الحق النفي دون الإثبات _ والكتاب والسنة والإجماع إنما دل على الإثبات ولم يذكر النفي أصلاً - لزم أن يكون الرسول والمؤمنون لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل نطقوا بما يدل إما نصًّا وإما ظاهرًا على الضلال والخطأ المناقض للهدى والصواب. ومعلوم أن من اعتقد هذا في الرسول والمؤمنين فله أوفر حظ من قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) . فإن القائل إذا قال: هذه النصوص أريدَ بها خلاف ما يُفهم منها، أو خلاف ما دلت عليه، أو أنه لم يُرد إثبات علو الله نفسه على خلقه، وإنما أريد بها علو المكانة ونحو ذلك، كما قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، فيقال له: فكان يجب أن يبين للناس الحق الذي يجب التصديق (به) باطنًا وظاهرًا، بل ويبين لهم ما يدلهم على أن هذا الكلام لم يرد به مفهومه ومقتضاه، فإن غاية ما يقدَّر أنه تكلم بالمجاز المخالف للحقيقة، والباطن المخالف للظاهر، ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطِب المبيِّن إذا تكلم بمجاز فلا بد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي، فإذا كان الرسول المبلِّغ المبيِّن الذي بيَّن للناس ما نزل إليهم يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه، كان عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد، لا سيما إذا كان باطلاً لا يجوز اعتقاده في الله، فإن عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده إذا كان ذلك مخوفًا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة: هو اعتقاد باطل، فإذا لم يكن في الكتاب ولا السنة ولا كلام أحد من السلف والأئمة ما يوافق قول النفاة أصلاً، بل هم دائمًا لا يتكلمون إلا بالإثبات - امتنع حينئذ أن لا يكون مرادهم الإثبات، وأن يكون النفي هو الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وهم لم يتكلموا به قط ولم يظهروه، وإنما أظهروا ما يخالفه وينافيه، وهذا كلام مبين لا مخلص لأحد عنه، لكن للجهمية المتكلمة هنا كلام وللجهمية المتفلسفة كلام. *** مذاهب متفلسفة القرامطة في الصفات أما المتفلسفة القرامطة فيقولون: إن الرسل كلموا الخلق بخلاف ما هو الحق، وأظهروا لهم خلاف ما يبطنون، وربما يقولون: إنهم كذبوا لأجل مصلحة العامة، فإن مصلحة العامة لا تقوم إلا بإظهار الإثبات، وإن كان في نفس الأمر باطلاً. وهذا مع ما فيه من الزندقة البينة والكفر الواضح قول متناقض في نفسه، فإنه يقال: لو كان الأمر كما تقولون والرسل من جنس رؤسائكم، لكان خواص الرسل يطَّلعون على ذلك، ولكانوا يُطلِعون خواصهم على هذا الأمر، فكان يكون النفي مذهب خاصة الأمة وأكملها عقلاً وعلمًا ومعرفة، والأمر بالعكس، فإن من تأمل كلام السلف والأئمة وجد أعلم الأمة عند الأمة: كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود ومعاذ بن جبل وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأُبي بن كعب وأبي الدرداء وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو، وأمثالهم هم أعظم الخلق إثباتًا، وكذلك أفضل التابعين مثل سعيد بن المسيب وأمثاله، والحسن البصري وأمثاله وعلي بن الحسين وأمثاله، وأصحاب ابن عباس وهم من أجلّ التابعين، بل المنقول عن هؤلاء في الإثبات يجبن عن إظهاره كثير من الناس، وعلى ذلك تأول يحيى بن عمار وصاحبه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري، ما يروى أن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم بالله، فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغرة بالله، تأولوا ذلك على ما جاء من الإثبات، لأن ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين والتابعين لهم بإحسان، بخلاف النفي فإنه لا يؤخذ عنهم، ولا يمكن حمله عليه. وقد جمع علماء الحديث من النقول عن السلف في الإثبات ما لا يُحصِي عدده إلا رب السموات، ولم يقدر أحد أن يأتي عنهم في النفي بحرف واحد إلا أن يكون من الأحاديث المختلقة التي ينقلها من هو أبعد الناس عن معرفة كلامهم. ومن هؤلاء من يتمسك بمجملات سمعها، بعضها كذب وبعضها صدق، مثل ما ينقلونه عن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما، فهذا كذب باتفاق أهل العلم بالأثر، وبتقدير صدقه فهو مجمل، فإذا قال أهل الإثبات: كان ما يتكلمان فيه من هذا الباب لموافقته ما نقل عنهما كان أولى من قول النفاة: إنهما يتكلمان بالنفي، وكذلك حديث جراب أبي هريرة لما قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين، أما أحدهما فبثثته فيكم وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم؛ فإن هذا حديث صحيح لكنه مجمل، قد جاء مفسرًا أن الجراب الآخر كان فيه حديث الملاحم والفتن، ولو قدر أن فيه ما يتعلق بالصفات فليس فيه ما يدل على النفي بل الثابت المحفوظ من أحاديث أبي هريرة كحديث إتيانه يوم القيامة وحديث النزول والضحك وأمثال ذلك كلها على الإثبات، ولم ينقل عن أبي هريرة حرف واحد في النفي من جنس قول النفاة. *** مذهب الجهمية في الصفات وأما الجهمية المتكلمة فيقولون: إن القرينة الصارفة لهم عما دل عليه الخطاب هو العقل، فاكتفى بالدلالة العقلية الموافقة لمذهب النفاة، فيقال لهم: (أولاً) فحينئذ إذا كان ما تكلم به إنما يفيدهم مجرد الضلال، وإنما يستفيدون الهدى من عقولهم، كان الرسول قد نصب لهم أسباب الضلال، ولم ينصب لهم أسباب الهدى، وأحالهم في الهدى على نفوسهم، فيلزم على قولهم أن تركهم في الجاهلية خير لهم من هذه الرسالة التي لم تنفعهم بل ضرتهم. ويقال لهم (ثانيًّا) : فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بين الإثبات الذي هو أظهر في العقل من قول النفاة، مثل ذكره لخلق الله وقدرته ومشيئته وعلمه ونحو ذلك من الأمور التي تعلم بالعقل أعظم مما يعلم نفي الجهمية، وهو لم يتكلم بما يناقض هذا الإثبات، فكيف يحيلهم على مجرد العقل في النفي الذي هو أخفى وأدق، وكلامه لم يدل عليه بل دل على نقيضه وضده، ومن نسب هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فالله حسيبه على ما يقول. والمراتب ثلاث، إما أن يتكلم بالهدى أو بالضلال أو يسكت عنهما، معلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بما يضل، وهنا يعرف بالعقل أن الإثبات لم يسكت عنه بل بينه، وكان ما جاء به السمع موافقًا للعقل، فكان الواجب فيما ينفيه العقل أن يتكلم فيه بالنفي كما فعل فيما يثبته العقل، وإذا لم يفعل ذلك كان السكوت عنه أسلم للأمة. أما إذا تكلم فيه بما يدل على الإثبات، وأراد منهم أن لا يعتقدوا إلا النفي، لكون مجرد عقولهم تُعرِّفهم به فإضافة هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم أبواب الزندقة والنفاق. ويقال لهم (ثالثًا) : من الذي سلم لكم أن العقل يوافق مذهب النفاة؟ بل العقل الصريح إنما يوافق ما أثبته الرسول، وليس بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح تناقض أصلاً، وقد بسطنا هذا في مواضع بينَّا فيها أن ما يذكرون من المعقول المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما هو جهل وضلال، تقلده متأخروهم عن متقدميهم وسموا ذلك عقليات، وإنما هي جهليات، ومن طلب من تحقيق ما قاله أئمة الضلال بالمع

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الباب الثاني الجسم الإنساني الكون مركب من خمسة عناصر: التراب والماء والهواء والنار والأثير [1] وكذلك الجسم الإنساني الذي هو مثال مصغر للكون؛ ولذلك يحتاج الجسم إلى قدر متناسب من جميع هذه العناصر: التراب النقي، والماء النقي، والنار أو النور النقي، والهواء النقي، والمكان الطلق، فإن حصل نقص أو زيادة في القدر الضروري من هذه الأشياء فالمرض واقع لا محالة. الجسم مُكَوَّنٌ من الجلد والعظام والدم واللحم، فالعظام هي التي تكوِّن الهيكل الجسدي، إذ لولاها لما أمكننا أن ننتصب أو نتحرك أو نمشي، وهي التي تحمي الأجزاء اللينة الرخوة من الجسم، فالجمجمة تحمي الدماغ، والأضلاع تحمي القلب والرئتين، وقد أحصى الأطباء العظام في الجسم الإنساني فوجدوها تبلغ 238 عظمًا. إن ظاهر العظام كما لا يخفى صلب، وباطنها رخو مجوف، وهي متصلة بعضها ببعض بطلية من النخاع التي يصح أن نعتبرها عظامًا رخوة. والأسنان كذلك تعد من العظام، وتظهر اللبنية منها في الطفولية ثم تسقط وتخلفها الأسنان الثابتة التي إذا سقطت لا تحل محلها أسنان جديدة. تنبت الأسنان اللبنية في فم الطفل من ستة إلى ثمانية أشهر من عمره غالبًا، ولا تزال تنبت إلى أن يبلغ من العمر سنتين أو سنتين ونصف سنة، وأما الأسنان الثابتة فتنبت من السنة الخامسة حتى تُستكمَل بين سبع عشرة وخمس وعشرين سنة من العمر، وأما الأضراس فتظهر بعد جميع الأسنان. نجد اللحم في بعض الأماكن من الجسم صلبًا مطاطًا، هذه هي الأعصاب، وهي التي تُسهِّل لنا بسط أيدينا وقبضها، وتحريك فكَّينا، وتغميض عيوننا، ثم هي التي تؤدي لها أعضاؤنا الحساسة وظائفها. إن البحث التام في الهيكل الجسدي ليس من أغراض هذا الكتاب، ثم إن الكاتب نفسه ليس على علم تام به حتى يوفي البحث حقه، ولذلك نقتصر هنا على البحث في الأعضاء الرئيسية من الجسم. إن أهم أجزاء البدن المعدة، فإنها لو وقفت عن عملها ولو دقيقة من الزمن فسرعان ما يتداعى الجسم كله، إن وظيفة المعدة إنضاج الطعام وهضمه وتهيئة الغذاء للجسم، فالعلاقة بينها وبين الجسم كعلاقة القاطرة بالقطار، ولكن الحمل الذي نحمله عليها عادة أثقل من أن يتحمله أقوى حيوان ضارٍ، إن العصارة المَعِدية التي تتولد في المعدة تساعد على هضم الأجزاء المغذية من الطعام، وتفرز الحثالة من طريق الأمعاء في شكل البول والبراز، ويوجد في الجنب الأيسر من الجوف البطني الطحال، وفي الأيمن منه المعدة والكبد الذي وظيفته تنظيف الدم وإفراز الصفراء التي هي نافعة جدًّا للهضم. يوجد في الجوف الذي تحيط به الأضلاع القلب والرئتان، ومكان القلب بين الرئتين، ولكنه مائل إلى اليسار أكثر منه إلى اليمين، وعظام الصدر كلها 24 عظمًا، وضربات القلب يمكن الحس بها بين الضلع الخامس والسادس، والرئتان متصلتان بالقصبة الهوائية، فالهواء الذي نستنشقه يصل إلى الرئتين من طريق هذه القصبة الهوائية، وهو الذي ينظف الدم، إن من الضروري جدًّا التنفس من المناخر لا من الفم؛ لكي يصل الهواء من طريق المناخر إلى الرئتين ساخنًا، ولكن كثيرًا من الناس يجهلون ذلك فيتنفسون بالفم فيتضررون به ضررًا بليغًا، إن الفم للأكل والشرب لا للتنفس الذي هو وظيفة الأنف. يتوقف جميع أعمال الجسم ونشاطه على دورة الدم؛ لأنه هو الذي يهيئ الغذاء للجسم، وينتقي الأجزاء المغذية من الطعام، ويفرز الفضلات من طريق الأمعاء، وهكذا يحافظ على جرارة الجسم، لا يزال الدم في دورة وجريان في سائر الجسم من طريق العروق والشرايين، وضربات النبض إنما هي نتيجة لدورة الدم. إن نبض الشاب اليافع الصحيح الاعتيادي يبلغ نحوًا من 75 مرة في الدقيقة، ونبض الأطفال أسرع من هذا، كما أن ضربات نبض الشيوخ بطيئة. إن الآلة الأساسية لتنقية الدم إنما هي الهواء، فإنه إذا عاد إلى الرئتين بعد دورته الكاملة في الجسم، عاد غير طاهر، أي مشتملاً على عناصر سامة ولكن (الأكسيجين) الذي نستنشقه من الهواء ينفذ فيه فيطهره وينقيه، كما أن (النيوتروجين) يجذب السموم ويخرجها بالزفير، وهذا العمل لا يزال جاريًا ليلاً ونهارًا بلا انقطاع، وبما أن الهواء يؤدي وظيفة مهمة جدًّا في الجسم، يحسن بنا أن نفرد له بابًا مُنفصلاً. *** الباب الثالث الهواء قوام حياة الإنسان ثلاثة أشياء: الهواء والماء والغذاء، أما الهواء فأهمها جميعًا؛ ولذلك خلقه الله بمقدار عظيم جدًّا، وبثه في كل مكان ليحصل عليه جميع الناس بلا ثمن، غير أن المدنية الحاضرة قد جعلت حتى الهواء النقي غاليًا لا يُنال إلا بالثمن، وذلك لأننا نضطر للحصول عليه إلى أن نذهب خارج المدن، وهذا يقتضي شيئًا من النفقة، فسكان بمباي مثلاً يجدون الهواء النقي في (ماتهيرن) وأحسن منه في تلال (مالابار) ، ولكنهم لا يستطيعون أن يذهبوا إلى هذه الأماكن بدون إنفاق المال، ولذا يصعب القول بأن الهواء النقي ينال مجانًا في العصر الحاضر كما كان الحال في العصور القديمة. وسواء وجدنا الهواء مجانًا أو بثمن فإنا لا غنى لنا عنه ألبتة، لقد رأينا آنفًا أن الدم يدور في الجسم حتى يصل إلى الرئتين، وبعد أن يتطهر فيها بالهواء يعود إلى دورته ثانية، فنحن نخرج الهواء الفاسد بالزفير، ونستنشق الأكسجين من الخارج بالشهيق وهو الذي يطهر الدم، وهذا العمل للزفير والشهيق يسمى التنفس ولا يزال مستمرًّا دائمًا، وعلى استمراره وحده تتوقف الحياة. إن الغريق يموت لأنه لا يستطيع في داخل الماء أن يخرج الهواء الفاسد ويستنشق الهواء النقي، وأما الغواص الذي يغوص في الماء ويبقى فيه زمنًا، فذلك لأنه يحمل معه ما يسمى (بجهاز الغواص) فيتنفس بأنبوبة يتصل أحد طرفيها بالجهاز ويبقى الآخر فوق الماء فهو يحصل بها على الهواء النقي، ويستطيع أن يبقى في الماء وقتًا طويلاً. لقد أثبتت التجارب أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون الهواء أكثر من خمس دقائق، وكم نسمع بالأطفال الذين يموتون في أحضان أمهاتهم، فإن الأم الجاهلة تضم الطفل إلى صدرها ضمًّا شديدًا حتى ينقطع عنه الهواء فيختنق في مكانه! وبهذا تعلم شدة حاجة الإنسان إلى الهواء، وإنا على كل حال نجده بدون أن نبحث عنه هنا وهناك خلافًا للماء والغذاء، فإننا لا نجدهما إلا بالبحث والسعي. إن التنفس في الهواء الفاسد مكروه ومستقبح مثل شرب الماء الكدر، وأكل الطعام الوسخ، ولكنا تعودنا أن نتنفس في الهواء الفاسد، الذي هو أكثر فسادًا من الشراب والطعام. نحن كلنا بالحقيقة عبيد الظواهر، فكل ما نراه ونحس به نهتم به أكثر بكثير مما لا نراه ولا نحس به، وبما أن الهواء مما لا يُرى بالعين فلذلك لا نبالي بمعرفة الفساد الذي يجلبه علينا الهواء الفاسد، نحن نشمئز من تناول الطعام الذي أكل منه إنسان غيرنا، وشُرب الماء الذي أفسده غيرنا بإدخال شفتيه فيه، حتى إن أولئك الذين ليس لهم حس من التقزز أو الكراهة لهذا يستنكفون أن يأكلوا ويشربوا القيء مهما جاعوا وعطشوا، بل يفضلون الموت على أن يفعلوا ذلك، ولكن ما أقل أولئك الذين يفهمون حق الفهم أن الهواء الذي يستنشقونه قد يكون أكثر الأحيان فاسدًا مسمومًا بما مجَّه الآخرون فيه بتنفسهم، وليس بأحسن حالاً من القيء، ومما يُتَعَجب منه أن الناس يتجالسون وينامون مجتمعين ساعات طويلة في حُجَر ضيقة، ويتنفسون في هوائها القتَّال الذي قد أفسدوه هم وأصحابهم! ما أسعد حظ الإنسان في أن الهواء خفيف ومنبث إلى هذا الحد، وصالح للنفوذ من أضيق المنافذ! حتى إذا غلقت الأبواب والنوافذ بقي ينفذ إلى الداخل من بعض المنافذ الضيقة، التي تبقى على كل حال بين الجدران والسقوف، لكيلا يتنشق المجتمعون في الحجرة المغلقة الهواء المسموم بالتنفس فيه فيموتوا خنقًا. إن الهواء الذي نخرجه بالزفير يمتزج بالهواء الخارجي، ويتطهر ثانية بعمل الطبيعة المستمر في كل وقت. يتيسر لنا الآن أن نعرف السبب الذي أضعف صحة هذا العدد العظيم من الرجال والنساء، وما هو إلا الهواء الفاسد الذي قد قضى على صحة 99 في المائة من الناس، فالسُّل وحُمَّى الدق وسائر الأمراض العفنة يسببها الهواء الفاسد. فأحسن طريقة لاتقاء الأمراض المكث والعمل في الهواء الطلق الذي لا يباريه في المعالجة وشفاء الأمراض أي طبيب مهما يكن نطاسيًّا حاذقًا. إن السل يعرض من مرض الرئتين الذي ينشأ من التنفس في الهواء الفاسد، ومثلها مثل القاطرة التي يوضع فيها الفحم الردي فتخرج من وظيفتها وتغير سيرها؛ ولذلك قالت الأطباء: إن أسهل العلاج وأنجحه للمسلول هو البقاء في الهواء النقي طول 24 ساعة. لنعلم أننا لا نتنفس من طريق الرئتين فقط، بل كذلك يدخل بعض الهواء في أبداننا من طريق المسامِّ التي لا تعد ولا تحصى في جسمنا. إن من الضروري جدًّا معرفة الطريقة التي يمكن لنا المحافظة بها على نقاء الهواء وصفائه، يجب أن يعلم كل صبي بمجرد بلوغه سن التمييز قيمة الهواء النقي، وأنا أُسر غاية السرور إذا اهتم قرائي بمعرفة الحقائق البسيطة حول الهواء وعملوا بها، وعلموا أولادهم ما علموه وما عملوا به. ربما كانت المراحيض والمباول التي لم تُبْنَ على أسلوب صحي سببًا جوهريًّا لفساد الهواء، وقليل من الناس من يعرف الأضرار الجسيمة التي تجلبها هذه الأماكن، إن أحقر الحيوانات - كالكلاب والسنانير - تحفر بأظفارها حُفرًا تقضي فيها حاجتها وتغطي البراز بالتراب، فالأماكن الخالية من المراحيض الصحية الحديثة الطراز ينبغي أن نقلد فيها الكلاب والسنانير. يجب أن توضع صفيحة أو يبنى حوض في شكل كنيف، ويملأ بالتراب الجاف أو الرماد؛ لتغطية البراز بعد الفراغ من الحاجة، فإذا فعلنا ذلك فلا تبقى هناك رائحة قبيحة، ولا يتسلط الذباب على القاذورات فينقل ذراتها إلى أجسامنا. إن من لم يفقد حاسة الشم بتاتًا، ولم يتعود شم الرائحة الكريهة يعرف شدة العفونة التي تتصاعد من البراز وما شاكله من الأوساخ التي تترك مكشوفة في الخلاء، نحن قد نقيء إذا تصورنا وتخيلنا أن طعامنا يمزج بالقاذورات، ولكنا نلفظ الهواء المملوء قذارة وعفونة بلا مبالاة ناسين هذه الحقيقة الثابتة وهي أن الأمرين كليهما في درجة واحدة من القبح، ولا فرق بينهما إلا أن الأول محسوس مشاهَد والثاني ليس كذلك. يجب أن نهتم أشد الاهتمام بنظافة المراحيض ومجاري المياه نظافة تامة، نحن نستحي من أن ننظف مراحيضنا بأنفسنا مع أن الأحرى بنا أن نستحي من استعمال الكنُف الوسخة. هل يعيبنا أن ننقل بأيدينا المادة التي خرجت من بطوننا أنفسنا، ولا يشيننا أن نستخدم غيرنا لنقلها؟ يا للعجب كيف لا نستحي من هذا العمل المعيب؟! ليس هنالك أي مبرر لجهلنا عمل تنظيف الكنف وتعليمه لأبنائنا، يجب نقل المواد القذرة وإلقاؤها في حفرة عميقة قدر ذراع ثم تغطيتها بتراب كثير، وإن كنا متعودين على الذهاب للحاجة في الخلاء، فكذلك يجب أن نحفر حفرة بأيدينا أو أرجلنا ونغطيها بعد قضاء الحاجة بالتراب. كذلك نحن نُفسد الهواء بالبول في كل مكان بدون أي تمييز، ينبغي أن نقلع عن هذه العادة الوسخة من أصلها، إذا لم يكن لدينا مكان مُعَدٌّ لهذا الغرض خاصة، فلنذهب إلى أرض جافة بعيدة عن البيت فنبول فيها و

التربية التي يكون بها الإنسان إنسانا والجماعة الكبيرة أمة

الكاتب: محمد عبده

_ التربيةالتي يكون بها الإنسان إنسانًا والجماعة الكبيرة أمة للأستاذ الإمام ملخص خطاب ألقاه في احتفال الجمعية الخيرية الإسلامية سنة 1314 هـ إن الجمعية لم تأخذ على عاتقها أن تساعد كل عائلة فقيرة في الأمة؛ لأن ذلك فوق استطاعتها، بل وضعت لها قانونًا اتفق عليه جميع أعضائها، وهو قد اشتمل على شروط معينة يجب أن تراعيها الجمعية عند إعانة من تريد إعانته من الفقراء. ثم جعلتْ - كما قدمتُ - أهم مقصد لديها إصلاح حال الناشئين من أولئك الضعفاء المساكين بالتربية والتهذيب، إذ الواجب علينا أن نعتني قبل كل شيء بما تعتني به الأمم الأخرى الناجحة قبل غيره، وهي لم تعتن بشيء أكثر من التربية وتحسين أخلاق العامة، وها نحن أولاء نرى فساد الأخلاق عامًّا ومصائبه مشاهَدة للجميع. إذا رأينا مجالاً للفخار افتخرنا بآبائنا وأجدادنا الأولين، وإذا حاسبنا أنفسنا رجعنا بالملامة والذم على آبائنا الأقربين، وفي ذلك الفخار كبير العار، وفي هذا اللوم عظيم اللوم؛ لأننا نحن قد أهملنا وقصرنا وأضعفنا أهم ركن وهو التربية. أهملنا فتركنا ذلك الفخار التالد يذهب هباءً منثورًا، فلم نتدارك من آثاره شيئًا، وزدنا الطينة من إهمال أسلافنا الأقربين بلة بإهمال آخر، فقوضنا ما كان باقيًا من آثار ذلك الفخار، فكان لنا ذلك العار وهذا الشنار. إن الإنسان لا يكون إنسانًا حقيقيًّا إلا بالتربية، وليست هي إلا عبارة عن اتباع الأصول التي جاء بها الأنبياء والمرسلون من الأحكام والحِكَم والتعاليم، وهي عبارة عن السعادة الحقيقية، تعلم الإنسان الصدق والأمانة ومحبة نفسه، فإذا تربى أحب نفسه لأجل أن يحب غيره وأحب غيره لأجل أن يحب نفسه. إذ تربى الإنسان أحس في نفسه أنه سعيد بوجود الآخر معه، ولكن نحن في وسط لا يحس فيه أحدنا إلا بأنه شقي بوجود غيره، وقد ذهبت الثقة بيننا أدراج الرياح، وخلفتها الشكوك والريب والظنون الأثيمة المولِّدة للوساوس والأوهام، ولا شقاء للمرء أعظم من وجود ضميره في مثل هذا الشقاء والحسبان. ولكن لو كنا مُتَربين لانبثَّ فينا إحساس واحد يؤلف بين شعورنا وحاجاتنا، وحينئذ يحس كل فرد منا بأن عليه وظيفة يؤديها لنفسه ولغيره. إن بلادنا ليست بلاد الجوع القتَّال، ولا بلاد البرد القارس المميت، ولا بلاد الشقاء التي لا ينال الإنسان فيها قوت يومه إلا بالعذاب الأليم، بل نحن في بلاد رزقها الله سعة من العيش، ومنحها خصوبة وغنى يُسهِّلان على كل عائش فيها قطع أيام الحياة بالراحة والسعة، ولكنها ويا للأسف مُنِيَتْ مع ذلك بأشد ضروب الفقر: فقر العقول والتربية. ليست القوانين التي تفرض العقوبات على الجرائم وتقدِّر المغارم على المخالفات هي التي تربي الأمم وتصلح من شؤونها، فإن القوانين لم توضع في جميع العالم إلا للشواذ والهفوات والسقطات، وأما القوانين العامة المصلحة فهي نواميس التربية الملِّيَّة لكل أمة. ونحن على نموذج هذه التربية قد جرينا في خطة التعليم بمدارس الجمعية الخيرية [1] ، ونتمنى أن يصبح هذا النموذج يومًا ما عامًّا بين جميع أفراد الأمة المصرية، وإذا لم توجد التربية على مثل هذا النمط فلا حياة للأمة ولا سعادة. إن العلم الحقيقي هو الذي يعلم الإنسان العلاقة الموجودة بينه وبين غيره من أفراد جامعته، فهو إذًا يُعلم الإنسان من هو ومن معه، فيتكون من ذلك شعور واحد وروابط واحدة هي ما يسمونه بالاتحاد. وسنة الله في خلقه أن توجد الروابط في العائلات و (تنتقل) منها إلى الفروع ومنها إلى الأصول القومية ومنها إلى مجموع الأمة التي هو منها، إذا فلابد من الوقوف على كُنه هذه الروابط ومعانيها، وإذا تمكن هذا العلم من نفس الإنسان تعلم كل شيء، وبحث عن طرق النجاح في كل شيء. ولكن كيف يوجد الاتحاد مع هذا الفساد الذي نشاهده عامًّا في أخلاق الأمة، وقد انعكست آية الوجدان فإذا الإنسان أجفى ما لديه الأقرب فالقريب فالبعيد فالأبعد؟ ألا إن الاتحاد ثمرة لشجرة ذات فروع وأوراق وجذوع وجذور هي الأخلاق الفاضلة بمراتبها، فعلى المسلمين إذا أردوا الاتحاد أن يربوا أنفسهم تربية إسلامية حقيقية ليجنوا تلك الثمرة، وبغير ذلك كل أمل باطل، وكل الأماني أحلام أو أوهام وكل احتجاج بغير سعي عجز. الناس في كل الأمم أكفاء في التمثيل ولا نقص في الدنيا إلا من جهة العقول والأخلاق وهي لا تكمل إلا بالتربية، وما وراء ذلك من العلوم لا يَبُثُّ فينا غير اللقلقة والهذيان. وإن الجمعية الخيرية الإسلامية قد شرعت في طريقة ابتدائية للتربية، ولديها أمل أن تصل إلى الطريقة الانتهائية، طريقة العمل لا طريقة العلم المعيبة التي نرى مثالها في الذين يأتون إلينا كأساتذة عندما نعلن عن حاجتنا لمعلمين وليس لديهم ما يؤهلهم للتربية والتهذيب، ولست أقول ذلك قدحًا في طريقة التعليم الجارية بين ظهرانينا، ولكنني أقول بالإجمال: إنها غير ملائمة لمنهاج جمعيتنا التي تحسب أن تصلح شؤون الناشئين من الطبقات النازلة. نحن نتمنى تربية بناتنا، فإن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 228) {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (الأحزاب: 35) الآية، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي تُشرك الرجل والمرأة في التكاليف الدينية والدنيوية، فكان بذلك ترك البنات يفترسهن الجهل، وتستهويهن الغباوة من الجُرم العظيم. انظروا إلى المرأة حين تقول لابنها مثلاً إذا أرادت أن تمنحه شيئًا: خذ هذا وأخفه عن الأعين حتى لا يراك أخوك، فكم من نقيصة علمته بمثل هذا القول؟ علمته ثلاث خصال هن الموبقات المهلكات: الأثرة والدناءة والسرقة، وربما توصيه بإنكار ما أعطته إذا سأله أخوه، فتعلمه بذلك أقبح خصال السوء والفساد وهو الكذب، وقد لا يتعلم الطفل عندما يراد تمرينه على النطق والكلام غير ألفاظ السباب والشتائم القبيحة، فيشب الطفل متعودًا على أن تلفظ شفتاه كل كلام قبيح، لا يعبأ بماذا ينطق ولا يبالي بما يقول. وإنني أذكر حديثًا شريفًا أو أثرًا بمعناه هو: (إن الرجل لينطق بالكلمة لا يرى لها بالاً فيهوي بها في النار أربعين خريفًا) [2] . فتأملوا في فظاعة الأخلاق التي يشب عليها أبناء وبنات العامة من الأمة، ولا خلاص لنا من هذه الورطة الشنيعة إلا بالتربية الكاملة الشاملة للأبناء والبنات، وأن النساء الجاهلات والرجال الجاهلين لا يمكن أن تتكون من بينهم أمة ولا جمعية وعلى الخصوص إذا أصبحت العلائق والروابط الطبيعية مُهدَّة بين الناس كما نشاهده بيننا الآن. ولقد استنتجت بالاستقراء منذ كنت قاضيًا في إحدى المحاكم الجزئية أن نحو (75) في المائة من القضايا بين الأقارب بعضهم مع بعض بما لم يَحمِل عليه غير التباغض وحب الوقيعة والنكاية، فهل من المعقول أن يكون الفساد في العلائق الطبيعية إلى هذا الحد من التصرم، ونتساءل عن تصرم العلائق الوطنية؟ هل يمكن بعد أن نفقد الروابط الضرورية بين العائلات أن نبحث عن الروابط للجامعة الكبرى، أو ليس هذا كمن يطلب الثمر من أغصان الشجر بعد ما جذَّ أصولها وجذورها، وقطع أوصال عروقها، وغادرها قطع أخشاب يابسة. اللهم إن كنا نريد الحياة الطيبة والسعادة الدائمة فلنعمل لإصلاح شؤون الناشئين بالتربية المثقِّفة المهذِّبة، ولنجهد أنفسنا في طريق استكمال الأخلاق الفاضلة، وكلما زدنا في سبيل ذلك سعيًا توَفَرَ لدينا حب تعضيد هذه الجمعية ونَمَتْ ثروتها، فأدت وظيفتها للأمة كما ينبغي، ونسأل الله أن يصلح ما بيننا من فساد، وأن يوفقنا جميعًا إلى ما به نجاحنا وفلاحنا وسعادتنا. اهـ. (المنار) في هذا الخطاب حجة على المفسدين المقطِّعين لروابط الأمة بدعوتها إلى ترك الزي الوطني وتقليد الإفرنج حتى في لبس البرنيطة وحرية الفسق والفجور.

الثورة السورية والحكومة الفرنسية والتنازع بين الشرق والغرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الثورة السورية والحكومة الفرنسية والتنازع بين الشرق والغرب (8) موسيو (جوفنيل) وسياسته من أساليب السياسة الأوربية التي صارت معروفة بين جميع الباحثين في الشرق أن الجرائد والشركات البرقية تُخفي عن الشعوب ما يأتيه رجال الاستعمار من المنكرات، وأن تبدل سيئاتهم حسنات؛ خوفًا من حملات الأحزاب المعارضة للحكومة ومن انتقاد مستقلي الفكر أو أنصار الفضيلة، وقلما تصل إلى الرأي الأوربي العام أو الخاص بدولة استعمارية حقيقة ما ترهق به البلاد من المظالم والمآثم، إلا أن يكون المُبلِّغ لها لسان ثورة عامة أو قريبة من العامة في تعذر إنكارها. لهذا أقول لكل من يسألني عن رأيي في ثورة سنة 1919 على الإنكليز في مصر: إن أكبر فائدتها تكذيب رجال الإنكليز والجرائد المشايعة لهم في دعوى اغتباط جميع المصريين - ولا سيما الفلاحين - بالسلطة البريطانية في بلادهم، وإنما المتبرمون والطاعنون فئة قليلة من المتطرفين أصحاب الأهواء الشخصية أو الحزبية. كذلك كان من تأثير ثورة سورية الحاضرة وما كان من التخريب والتدمير في دمشق أن علم الشعب الفرنسي بالإجمال شيئًا يشين سمعة فرنسة وصِيتَها، ويحمِّلها خسائر تنوء بها خزينتها، ولم تعد دعاية شركات (هافاس) البرقية، وخلابة جرائد الاستعمار الفرنسية تستطيع إخفاء هذه الفظائع أو تأويلها، فأرادت الحكومة الجمهورية تدارك هذا الخطر الملصق بسلطة المندوب السامي العسكري (الجنرال سراي) الذي أوبقه الكائدون له من قومه حتى حملوه على ما فعل في دمشق وغيرها، فأخرجته من سورية واستبدلت به مندوبًا من أذكى رجال السياسة لديها، وهو موسيو (جوفنيل) الكاتب الصحفي والعضو الفرنسي في جمعية الأمم، عسى أن تفعل السياسة ما لم يفعل الحديد والنار، وتغني الكياسة ما لم يغن الدرهم والدينار، وماذا فعل (جوفنيل) ؟ شغل نفسه زمنًا طويلاً في درس المسألة في باريس، ثم بمعالجتها في لندن، ثم بدرسها في مصر، ثم بدرسها في سورية، وسمع فيهما أقوال الصادقين والمنافقين، وغلاة التعصب الديني والطائفي من اللبنانيين. ثم بمعالجتها في فلسطين، ثم بمعالجتها في أنقرة عاصمة الترك. وقد مرت بضعة أشهر على ندبه لهذه المعالجة على إثر الفظائع التي اقتُرفت في دمشق، فاهتز لهولها الشرق والغرب، ولم تزدد نيران الثورة إلا اشتغالاً، ولم تزدد البلاد إلا خرابًا، ولم يزدد المشاقُّون فيها إلا شقاقًا، ولم تزدد فرنسة إلا خسارًا لمالها ولرجالها ولصيتها، ولماذا؟ إنه أعد لمعالجة المسألة ما لا تحتاج إليه، ولا يتوقف علاجها عليه، والعلاج الوحيد نصب عينيه ولكنه لم يره، وبين يديه ولكنه لم يمسه، وكان يجب أن يُعوِّل عليه وحده، بيد أنه فكر في كل شيء دونه ولم يفكر فيه، فكر في أن إرضاء الإنكليز ضروري، وفي أن إرضاء الكاثوليك ضروري، وفي أن إرضاء الترك ضروري، وفي أن إرضاء ابن السعود ضروري، ولم يفكر في إرضاء السواد الأعظم من أهل سورية المسلمين السنيين، والشيعة والدروز، والعلويين، ومعتدلي المسيحيين، وإنما قدر ودبر وفكر في وسائل التفريق بينهم، وفكر في التهديد، وفي الوعد والوعيد، نعم إنه وعد وأوعد، وقال: ما عندي إلا السلم لمن يريد السلم، وإلا الحرب لمن يريد الحرب، وأنه يجب على الثوار أن يُلقوا السلاح ويستسلموا بدون قيد ولا شرط، وإنني أمنح.. . وأمنع.. . وأعفو وأصفح، وأضر وأنفع، وأمُنّ بالحياة، وأؤَمِّن على الأرواح. وفاته أنه لا يوجد سوري ولا شرقي يصدق قول سياسي أوربي، وأن الذين يبذلون أنفسهم ونفائسهم في سبيل الحرية والاستقلال، ولم يبالوا برؤية دورهم وقصورهم كدارس الأطلال، لا يرغبون في حياة ذليلة يمُنُّ عليهم بها مستعمر أجنبي منًّا، ويمنحها إياها - إن صدق - هبة وفضلاً. ولعنة الله على من يحب مثل هذه الحياة من الأنذال، ولن يكونوا إلا من أخساء الأنذال. كان مَثَل (موسيو جوفنيل) فيما ذكرنا من سعيه، كمثل صاحب الكنز مع الخضر في المبالغة في طلبه، فقد حكي في أساطير الأولين أن الخضر (عليه السلام) مر برجل فلاح فقير يجهد نفسه في أرض يصلحها للزراعة، فقال له: علام هذا التعب الكبير الذي لا يأتي إلا بربح صغير، والثروة واسعة بين يديك وأنت لا تدري؟ قال: ما هي؟ قال: إن في أرضك هذه كنزًا قريب المنال، يغنيك ويغني ذريتك من بعدك، قال: أين هو؟ أين هو؟ قال الخضر: خذ هذه القوس المعلقة في جدارك وضع فيها سهمًا وألقه أمامك ثم احفر حيث وقع يظهر لك الكنز. فلما ولى قام الرجل وأخذ القوس، فرأى وترها ضعيفًا غير مشدود، فألقاه، والتمس لها وترًا جديدًا شده أحكم الشد، وأخذ سهمًا ففوقه وألقاه وحفر حيث وقع، فلم يجد شيئًا، فظن أن السبب تقصيره في الرمي، فأخذ سهمًا آخر، ونزع في القوس أشد النزع، ورمى فبلغ سهمه مكانًا أبعد من الأول؛ فحفر فلم يجد شيئًا، فقال: لعل الكنز في غير هذه الجهة التي ذكرها الخضر، فما زال يرمي ويحفر حتى حفر جوانب الأرض البعيدة كلها، وترك المكان القريب الذي أمامه وهو الذي أشار إليه الخضر. فلما عاد الخضر من سياحته مرَّ به فإذا هو قد أعيا من التعب ويئس من الكنز وعاد إلى عمله الأول، فقال له الرجل: قد غششتني وأتعبتني زمنًا طويلاً في الرمي والحفر، وأنا لم آلُ جهدًا، فقد غيرت وتر القوس وأحكمت شده مرارًا وفعلت وفعلت كما ترى. فقال الخضر: إنك فعلت كل شيء إلا الذي قلته لك، أنا قلت لك: خذ هذه القوس المعلقة وضع فيها سهمًا وألقه أمامك واحفر حيث تقع تجد الكنز، وأنت لم تفعل هذا. ثم أخذ الخضر القوس، وكانت قد عادت كما كانت من كثرة الاستعمال، ورمى بها سهمًا من غير شد ولا جهد، ولا إغراق في النزع، وقال للرجل: احفر ههنا، فحفر فلم يلبث أن ظهر له الكنز بأقل عناء. إن (موسيو جوفنيل) لم يعدم ناصحًا صادقًا كالخضر، وإن للإنسان (خضرًا) من وجدان الحق والعدل هو أخلص نصحًا من (خضر) الأولياء والقديسين الذي يتناقل كثير من المسلمين والنصارى أخبار ظهوره لبعض الناس وإسعاده لهم، (ومسيو جوفنيل) وهو لم يُزيِّل بين نصيحة الصادقين وخديعة المنافقين، وكان بما اشتهر من ذكاء قريحته وسعة تجربته جديرًا بأن يفضل نصح هذا الخضر الذي يُهينم له المرة بعد المرة: دع الأهواء السياسية، وتقاليد الدولة الاستعمارية. وابحث في هذا الوطن السوري ذي التاريخ المجيد تاريخ الأنبياء والمرسلين والشهداء والصالحين، وحضارة العرب الأمويين، وملك نور الدين وصلاح الدين - عن ذلك الكنز الذي به سعدوا وأسعدوا العباد، وبه عمروا البلاد، فهو يغنيك عن كل ما بذلت من الجهد ولا يغني عنه شيء. ذلك الكنز المدفون، والسر المصون، هو الحق والعدل وتبادل المنافع بالتراضي، حق سورية في الحرية القومية والاستقلال الوطني الذي يجب أن يتساوى فيه الفرنسي والسوري، وأن تكون الثورة في طلبه على حكومة أجنبية، أشرف منها على حكومة وطنية، والعدل في الحقوق بين جميع الملل والنحل على سواء بدون تفرقة بين الأولياء والأعداء، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) أي: ولا يحملنكم بغض قوم واحتقارهم على ترك العدل فيهم، بل اعدلوا فالعدل أقرب للتقوى {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) أي: عالم ومُطَّلع على دقائقه وخفاياه. لقد كان ينبغي "لمسيو جوفنيل" أن يعلم أن مسلمي سورية الشمالية غير راضين عن أعمال الإنكليز في سورية الجنوبية (فلسطين وشرق الأردن) ولا غافلين عن خطرهم على العراق، وأنهم فوق ذلك غير آمنين منهم على الحجاز وسائر جزيرة العرب، وأن يعلم أن جمهورية أنقرة التركية، صارت أبعد من جمهورية فرنسة عن الأمة العربية؛ لطمعها في أهم بقاع العراق وسورية، مع قطعها لرحم الأخوة الإسلامية. فهذه فرصة سانحة لفرنسة إذا أرادت أن تتودد إلى العرب والمسلمين بما يناسب الطور الجديد الذي دخل فيه الشرق توددًا صحيحًا لا كيد فيه ولا خداع، لا كإظهار التودد أخيرًا لملك الحجاز وسلطان نجد، ولا كإظهار التودد قبله للخلافة التركية، وأعني بهذا التودد أن تسبق إلى عقد اتفاق مع سورية جارة الحجاز ونجد، وأول قطر فتحه الصحابة، ومهد الحضارة لأول سلطنة (إمبراطورية) عربية إسلامية، على قاعدة الاستقلال المطلق والتعاون المتبادل. ألا فليتذكر (موسيو جوفنيل) أن الشرق قد استيقظ، وأن صداقة ثلاثمائة مليون ونيف فيه أنفع لفرنسة من صداقة ثلاثمائة ألف كاثوليكي في لبنان، وأن العدوان على ثلاثة ملايين من المسلمين في سورية، وسلب استقلالهم، وتخريب ديارهم يسوء ثلاثين مليونًا من المسلمين الخاضعين لفرنسة وهم يدينون دين الإسلام ويتكلمون كالسوريين بلغة القرآن، كما يسوء ثلاثمائة مليون مسلم في سائر أقطار الشرق. وإذا كان لم يعرف هذا فلا يصعب عليه أن يبحث عما كتبت الجرائد الهندية في كارثة سورية. إن سياسة إثارة العصبية والعداء بين المسلمين والنصارى في سورية كانت معقولة ولم تعد اليوم معقولة، فإذا تركتها فرنسة رضي نصارى سورية ولبنان بحقهم حينئذ أن يزيدوهم على حقهم والمسلمون لا يأبون عليهم، وأما العداوة فلا خير فيها لهم ولا لفرنسة، وحسبها خسارة ستة مليارات أو أكثر في سورية وخسارة صيت فرنسة الأدبي والمدني. كتبت جل هذا المقال منذ عدة أشهر، وها أنا ذا أختمه، ولم يبدُ من الرجل ما يدل على اهتدائه إلى حل عقدة سورية، فكيف يُرجى منه أن يبتكر لفرنسة سياسة جديدة تُحيي بها مجدها، وتسابق الشعوب التي كانت وراءها فصارت أمامها؟ ولو فقه (مسيو جوفنيل) هذه الحالة، وانتهز هذه الفرصة، لأمكنه أن يقنع وزارتي المستعمرات والخارجية في باريس أنه لا يزال في الإمكان السير في سورية على سياسة جديدة تصلح بها ما أفسده مَنْ قبله من المفوضين والمندوبين العسكريين، وتكون لفرنسة بها المنزلة العليا لدى الأمة العربية وجميع شعوب المسلمين، فقد زالت زعامة المسلمين من الترك، وعادت إلى أهلها العرب، وستدخل في طور نظامي جديد تكون به قوة كبيرة لمن يصادقها، وبلاء عظيمًا على مَنْ يناوئها، وإذًًا لترك التهديد والوعيد، والاتكال على النار والحديد، وسلك هذا المنهج الجديد قبل أن يسبق دولتَه إلى هذه السياسة تلك الدولةُ التي مازالت تسبقها في كل ميدان، من قبل ظهور نابليون الكبير إلى الآن.

نكبة سورية وما قيل في إعانة منكوبيها

الكاتب: سعد زغلول

_ نكبة سورية وما قيل في إعانة منكوبيها قد كتُب في المسألة السورية من المقالات ونظم فيها من الشعر وأُلِّفَ من الرسائل ما يتألف منه عدة أسفار، وإن من أبلغ ما نُشر من النثر نداء رجل مصر وزعيمها الأكبر سعد باشا زغلول ونداء جمعية الرابطة الشرقية، وقصيدتا أحمد شوقي بك وخير الدين أفندي الزركلي، وقد نشرنا القصيدة الأولى في الجزء الثامن، وإننا ننشر هذا النداء والقصيدة الثانية هنا تخليدًا لهما: *** نداء دولة الرئيس سعد باشا لمصر لإعانة أختها سورية (سوريا، التي تربطنا بها روابط وثيقة من تاريخ، ولغة، ودين، وعادة، وجوار، نزلت بها هذه الأيام حوادث هائلة، تقشعر من هولها الأبدان، ونوازل جائحة تنخلع من بشاعتها القلوب، وشرور من أفظع ما يرتكبه إنسان ضد إنسان! منكرات ارتكبها عمال حكومة الانتداب ضد محكوميهم الآمنين فأزهقوا الكثير من أرواحهم البريئة، وأراقوا الغزير من دمائهم الطاهرة، وحرقوا كثيرًا من قراهم وبيوتهم، وعَفَوْا كثيرًا من آثار مدينتهم الفاخرة، ورَمَّلُوا الجم الغفير من نسائهم، ويتموا العدد العديد من أطفالهم، وصيروا كثيرًا من السكان بلا سكن يؤويهم، ولا غطاء يغطيهم، ولا خبز يتبلغون به! ! ! وبهذه الآثام أذلُّوا شعبًا كان عزيزًا، وأسلموه للعدم والشقاء، وأفهموا الناس جميعًا أن حكومة الانتداب لم تقم على ما زعموا لمصلحة المحكومين، بل لمصلحة الحاكمين [1] ، ووصموا اسم فرنسا المجيد في الغرب وفي الشرق، وصمات لا يمحوها إلا إنزال أشد العقاب بهم، وترك البلاد لأهلها، يحكمون أنفسهم كما يشاؤون. وإنا - معاشر المصريين - لنشعر في قلوبنا بكل عطف على إخواننا المصابين، ونرثي لمصابهم رثاء الإخوان للإخوان، ونحس بأن علينا واجب مساعدتهم بكل ما في الإمكان، مما يخفف من بلواهم، ويلطف من آلامهم، ونرى أن هذا أيسر ما يجب للجار على الجار، وأقل ما يساعد به الإنسان أخاه الإنسان) . ... ... ... سعد زغلول بيت الأمة في 18 ربيع الآخر سنة 1344 (5 نوفمبر سنة 1925) .

قصيدة شاعر الشام

الكاتب: خير الدين الزركلي

_ قصيدة شاعر الشام الأهلُ أهلي والديارُ دياري ... وشعار وادي (النَّير بَين) شعاري ما كان منْ ألم بجلّقَ نازل ... واري الزناد، فزندهُ بي واري إِنَّ الدَّمَ المُهَراقَ في جنباتِها ... لَدَمِي وإِنَّ شِفارها لشفاري دمعي لما مُنيتْ به جارٍ هنا ... ودمي هناك على ثراها جارِي *** يا وامِضَ البرق اطمئنَّ وناجني ... إِنْ كنتَ مطَّلعًا على الأسرار ماذا هناك فإن صَوْتًا راعني؟ ... والصوْتُ فيه جفوةُ الإذعار النارُ محدقةٌ بجلقَ بَعْدَ ما ... تَرَكَت (حماة) على شفيرٍ هارٍ تَنْسابُ في الأحياءِ مُسرعةَ الخُطَى ... تأتي على الأطمارِ والأعمارِ والقومُ منغمسون في حَمآتها ... فتكًا بكل مُبرأ صَبَّارِ الطفلُ في يدِ أُمهِ غَرَضُ الأذى ... يُرمى وليسَ بخائض لِغمار والشيخ متكئًا على عكازه ... يُرمى، وما للشيخ من أوزارِ صَبَرَتْ دِمَشق على النكال لياليا ... حَرُمَ الرُّقاد بها على الأشفار لهفي على المتخلفين برُحبِهَا ... كيفَ القرارُ ولات حين قرارِ يَترقبون الموتَ في غَدواتهم ... وإذا نجوْا فالمَوْتُ في الأَسحارِ لا يعلمون أفي سَوَادِ دُجُنَّةِ ... هم سهَّدٌ أم في بياض نهار الوابلُ المدْرارُ من حمم اللظى ... متواصِلٌ كالوابل المدْرارِ والظلم منطلق اليدين محكم ... يا ليت كل الخطب خطب النار! *** أمجالسَ السُّمَّار، ضاحكة بهم ... ضحك الهوى: ما حل بالسمار؟ أمعاهدَ الأدب الطريف ثكلتِه ... غَضَّ الصبا كتفتح الأزهار أُمَّ القصور نواعمًا رَبَّاتها ... ما للقصور دواثر الآثار أُمَّ الجنان الكاسيات رياضها ... حُلل السنا ما للرياض عواري أُمَّ الحياة، وللحياة نعيمها، ... هل في ديارك بعد من ديار؟ زهو الحضارة أنتِ مطلع شمسه ... أفتغتدين وأنت دار بوار ويح الحضارة كيف يَمتهن اسمَها ... مُتكالبون على الضِّعاف ضوار هم أوردوكِ وأصدروكِ على صدى ... فشقيتِ في الإيراد والإصدار هم أحرجوكِ فأخرجوكِ مَهيجة ... فصرختِ فيهم صرخة الجبار طالت لياليك الثلاث وإنما ... في مثلهن يلوح نهج الساري وإذا الظلام عتا تَبَلَّجَ فجره ... ظُلَمُ الحوادث مطلع الأنوار ما انهار قصرٌ في حماك ممرد ... إلا ليرفع فيك قصر فخار ما دمروك هم ولكن دمروا ... ما كان فيكِ لهم من (استعمار) حملوا عليك مواثبين وما لهم ... ثأر، وثُرتِ وأنت ربة ثار ما ينقمون عليك إلا أنهم ... شهدوكِ غير مَقودَة لصغار فإذا المنازل وهي شامخة الذُّرى ... مُنهار أطلال على مُنهار وإذا المدينة (تدمر) أو (نينوى) ... أنقاض عمران ورسم دمار *** قم سائل الأجيال يا ابن نسيجها ... واستوحِ غامض سرها المتواري فلعل عِبرة مجتلي صفحاتها ... في ما محاه الدهر من أسطار إن الشعوب لتستفيق إذا انتشت ... والصحو غاية نشوة الأسكار أرأيتَ كيف طغى الفرنج وأوغروا ... صدر الأسنَّة أيما إيغار أرأيتَ كيف استهتروا بمطامع ... فيها المصارع أيَّما استهتار الشرق بين قويهم وضعيفهم ... متداول الأنجاد والأغوار وبنوه بين وعيدهم ووعودهم ... شتى المذاهب شرَّد الأفكار لا تأمنن فأنت بين مكافح ... منهم وبين مخادع غرار وانظر إلى الآلاف من بُسلائهم ... يغزوهم مئة من (الثوار) من كل معوار صليب عوده ... يقتاد كلَّ مدجَّج مغوار الواثبين إذا يقال: تأهبوا ... والقاحمين إذا يقال: بدار إن أنصفت أيام (ذي قار) لنا ... سلفًا فنحن اليوم في (ذي قار) طارت بألباب الفرنجة صيحة ... في الشام فاندفعوا إلى الأسوار واستهدفوا الأطفال في حجراتها ... والطفلات وهُنَّ في الأخدار عمُّوا بمضطرب القذائف كلَّ ذي ... ضعفٍ وخصُّوا كل ذات إزار ستروا بضرب الآمنين فرارهم ... فأعجب لعارٍ ستروه بعار *** غَضِبَتْ لسورية الشهيدة أمةٌ ... في مصر تطفئ غلة الأمصار ورعت لها ذمم الوفاء فلم يضع ... عهدٌ تَسلسَلَ في دم الأعصار لله والتاريخ والدم واللغى ... حق وللآمال والأوطار تأبى الجماعة أن تهون لغاضب ... والفرد موقوف على الأقدار وإذا العرى انفصمت تولى أهلَها ... ضيمُ المغير بخطبه الكبَّار *** يا ابن (الكنانة) ما الجراح دواميًا ... في الشام إلا في طلى الأحرار المشترين ديارهم بدمارهم ... وهم يرون به رباح الشاري أنِفوا حياة الشاء كل عشية ... وضحى تعيث بها يد الجزار هلا نظرتَ إلى الشآم فإنها ... ترنو إليك بشاخص الأبصار ناءت بحمل نكوبها فتقلقلت ... موجًا بأطفال هناك صغار ليس الجوار إذا عدلت بمقنعٍ ... يأبى الشقيق عليك حقَّ الجار ... ... ... ... ... ... ... ... ... خير الدين الزركلي

الطريقة التجانية

الكاتب: محمد محمود المصري

_ الطريقة التجانية للأزهري الفاضل الغيور صاحب الإمضاء هي طريقة تُنسب لأحمد التجاني، وهو نسبة لـ (تجان) بلدة من بلاد المغرب توفي سنة 1230 هـ، وهو مبتدع غرر بضعفاء العقول حتى اعتقدوا أنه من الأولياء الكبار، وقد أتى بمخالفات للدين، وقضايا وأحكام غير شرعية، وادعى أنه تلقاها من الرسول يقظة - كذبًا وزورًا - وقد تصفحنا أكثر الكتب التي ألَّفها أصحابه وأيدها أتباعه، وادعوا جميعًا أنها عن لسان الشيخ، فوجدنا فيها ضلالاً وإلحادًا وزيغًا وعنادًا، تحث على التفرقة بين المسلمين، وتحض على التمسك بأقوال شيخهم مع العلم بمخالفتها لأقوال سيد المرسلين. وكم قرأنا فيها من نزغات مبكيات، وأضاليل وترهات، تتلاشى أمام العقل وتصير هباء عند من يعرف النقل، ويروج هذه الأضاليل ويعمل على نشر هذه الأباطيل قوم لا خلاق لهم، ولا معرفة عندهم، يتعصبون للبدعة، ويهدمون السنة، وكم غرسوا من إحن، ودبروا من فتن لهدم صرح الدين، ولكن أبى الله إلا أن يتم نوره، فتفطن الناس لهم وفحصوا مبادئهم، وحذروا الجمهور من ضلالهم. وأشهرهم (أحمد بن بابا الشنقيطي) ومحمد بن عبد الواحد النظيفي المراكشي في المغرب، وفي القطر المصري محمد الحافظ وبدر عبد الهادي سلامة، وقد ألف الثاني [1] كتابًا سماه (الطيب الفائح، في صلاة الفاتح) هو غاية في الضلال ونهاية في الوبال، وألف بدر عبد الهادي سلامة كتابًا سماه (النفحة الفضلية) وهو شر من سابقه، وادعى أنه نقله من كتبهم الصحيحة، وعن آرائهم الرجيحة، ويعلم الله أن أقوالهم زور وبهتان وداعية إلى الإثم والعدوان. ومرادنا أن نبين شيئًا مما في هذه الكتب، وأن نسطر قليلاً من الكثير الذي فيها من الكذب، ليحذر الناس منها، ويعمل العقلاء على مقاومتها والأمر بإحراقها فضلاً عن هجرها. فمما في كتاب النفحة الفضلية (ص186) تحت عنوان (تكفير الصلاة الفائتة) ما نصه: في كتاب الجامع من صلى أربع ركعات قبل العصر يوم الجمعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وآية الكرسي مرة، وسورة الكوثر خمس عشرة مرة، فإذا سلم استغفر الله عشرًا، وصلى على النبي بصلاة الفاتح خمس عشرة مرة - كانت كفارة للصلاة الفائتة. وعن علي (رضي الله عنه) ولو خمسمائة سنة، ومن صلى بها ولا قضاء عليه، إن كان في صلاة أبيه وأمه كانت كفارة لهم) اهـ. لمثل هذا يذوب القلب من كمد ... إن كان في القلب إسلام وإيمان متى سمعتم يا معشر المسلمين أن ركيعات مبتدعات تكفر ما على الإنسان من الصلوات المكتوبات؟ أليس هذا هدمًا للركن الذي لم يبق سواه؟ وليت شعري لماذا يجهد المصلي نفسه بأداء الصلوات الخمس في الحضر والسفر، والبرد والحر، وهو يصدق بهذه (الفائدة المنكرة، والبدعة المحرمة، والضلالة المحررة) إن هذا المُقرّ على هذه الفائدة والحاكي لها، والمعتقد بها، يريد أن يقول: دعوا الصلوات واهجروها ولا تقربوها، فهذه الفائدة فيها الكفاية. أليست هذه غواية؟ وفي الضلال نهاية؟ إن الرجل لا يستطيع أن يصرح بذلك فأشار بفائدته إلى ما يُكنُّه قلبه وما اخترعه خياله، ولكن لم تخْفَ مكيدته، وقد بانت خطيئته، ومن جهله وعدم حسن تعقله، إسناده هذه الضلالة إلى علي رضي الله عنه بغير سند، وإن أدنى طالب للعلم يجزم بأنها لا تصدر من مسلم فضلاً عن صحابي، فضلاً عن أمير المؤمنين، وأقضى المسلمين، وربيب الرسول صلى الله عليه وسلم وصهره. ولقد كان يرى الرسولَ صلى الله عليه وسلم والصحابة (رضي الله عنهم) يحافظون على الصلاة حتى عند اشتداد الملحمة، وفي وقت الحرب الضروس، فخسف (بدر عبد الهادي) بكذباته التي في فائدته، وقد أسقطتها، ومنها عرفنا قبح سريرته. وخبث طويته. ثم لم يكتفِ بجعله هذه الركيعات المحدَثات مكفرة لما على الشخص من الفوائت، بل قال: (إن لم يكن عليه فوائت كانت كفارة لوالديه) كأنها فوق الحج الذي ليس له هذه القوة، وفوق سائر العبادات التي ليس لها هذه المزية، سبحانك اللهم {إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} (الفرقان: 4) مع العلم بأن الصلاة التي ذكرها لم تَرِدْ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقُل بها أحد من رجال المذاهب المعتبرة، فهي على ذلك بدعة منكرة وفرية بلا مرية، وقد قرر فقهاء الحنفية والشافعية ورجال الشريعة الإسلامية أن تكرير سورة واحدة في ركعة مكروه وخلاف السنة، فكيف يدَّعي هؤلاء الضالون أن لها هذه المزية، مع أنها بدعة دينية، ونكِلُ الكلام في مسألة تكفيرها لفوائت الوالدين إلى الأستاذ الرشيد. وفي الصفحة الثالثة من الكتاب المذكور ما نصه: عدم زيارة الأولياء الأحياء والأموات. قال شيخنا: هذا شرط عندنا فمن أخذ وردنا لا يزور أحدًا من الأولياء الأحياء ولا الأموات أصلاً، وقال أيضًا: قال لي سيد الوجود صلى الله عليه وسلم مسألة أغفلها الشيوخ وهي أن كل من أخذ عن شيخ وزار غيره لا ينتفع به ولا بذلك الغير أصلاً. اهـ. يريد الرجل أن يجعل مَن عاهده سلعة يتّجر بها، ويتحكم في رقاب مَن اتبعه بإثارة هذه الفتنة المخالفة للسنة: فقطيعة الأولياء عنده أمر مقرر، وواجب محرر! حتى لقد قال في ص 120 (إياك أن تنظر إلى ما في (جواهر المعاني) إن المريد له أن يزور الأولياء الأموات، فإن الشيخ قد رجع عن ذلك قال شيخنا: كل من أخذ وردنا فلا يحل له أن يزور وليًّا لا حيًّا ولا ميتًا) وفي ص 6 (مَنْ زار وليًّا وقصد تبركًا أو مددًا دنيويًّا فليس من أهل هذه الطريقة لقول النبي لشيخنا: إذا مر أصحابك بأصحابي فليزوروهم فقط اهـ. وهذا القول مخالف لآيات القرآن والسنة المتبعة في ولاية المؤمنين ولأحاديث الزيارة المشهورة. ثم يأتي بعد هذا (أحمد التجاني وأتباعه) ويأمرون بمقاطعة أولياء الرحمن، والبعد عن ساحة أهل العرفان كأنهم لم يقرؤوا القرآن، ولم يعرفوا هدي الرسول عليه الصلاة والسلام {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) ومما يثبت حمق شيخهم دعواه أن النبي قال: (مسألة أغفلها الشيوخ إلخ) ، مع أننا نعرف آدابه العالية صلى الله عليه وسلم ومزاياه الغالية، هذه سقطة للتجاني لا ننساها له، وكيف يغفل السلف الصالح عن الحكم في هذه المسألة وقد شهد لهم الرسول وزكاهم وتداولتها كتبهم وشرحها الرسول قبلهم، وعلمهم الحق، وترك لهم كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه تبيان كل شيء. وهل يعقل أن قول النبي بعد وفاته يخالف قوله في حياته صلى الله عليه وسلم أيُتصور أن ما بلغه للناس كان غير حق، فلما انتقل تبين له الهدى ولم يخبر به إلا التجاني وتابعيه؟ ويترك أصحابه صلى الله عليه وسلم ومؤيديه؟ إن هذا يؤدي إلى الطعن في عصمته وأمانته، بل هو القدح في نبوته وفي كل ما جاء به، وليت شعري إذا لم يصح بلاغه لنا صلى الله عليه وسلم في حياته وهو المعصوم أيصح نقل التجاني وهو المنغمس في خطيئته، الغارق في ضلالته {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (البقرة: 79) . إننا إن تركنا التعرض لدعوى الاجتماع بالنبي ومكالمته والتلقي عنه فربما يتترس الملحد بقول بعض المتأخرين (بإمكان الاجتماع) ولكن ليعلم هذا الكذاب (أن جميع العلماء اتفقوا على أن كل من حكى عن الرسول صلى الله عليه وسلم شيئًا يخالف ما روي عنه فهو ضالّ، وفي كفره خلاف إن تعمد الكذب) . ولقد اجتمعت بمحمد الحافظ أحد ممثلي هذه الطريقة وكلمته في مسائل كثيرة من أضاليلهم، وانتقلنا إلى التكلم في مسألة الزيارة، فقال: إننا نمنع زيارة الاستمداد من الأولياء، ونأمر بزيارتهم كما كان الرسول يفعل، وهذا رأي الوهابية، فقلت له: كتبكم تنطق عليكم بأنكم لا تريدون هذا؛ بدليل ما سبق من أقوالكم في هذه المسألة، وتصريحكم مرة بمنع الزيارة للنفع الدنيوي ومرة للنفع الأخروي، على أنكم قلتم في صفحة 71 من الكتاب المذكور: من الآداب أن ييأس المريد من وصول مدد إليه من غير طريق روحانية شيخه، وأن يعتقد أنه أكمل الأولياء وأن لا يشرك معه أحدًا في مرتبة محبته اهـ. هذا مع أن من البدع التي نص عليها الشاطبي في الاعتصام المغالاة في الشيوخ واعتقاد بعض الناس أن شيخه أكمل الأولياء، على أنكم صرحتم بأخطر وأشنع وأقبح وأفظع مما ذكر، فقلتم في ص 21 من الكتاب المذكور: إذا جمع الله الخلق ينادي مناديًا يا أهل الموقف أحمد التجاني هو ممدكم في الدنيا. وقلتم غير مرة: إن شيخكم ممد للعالم من نشأته إلى نهايته، وكيف يعقل هذا؟ ألم يكن شيخكم صغيرًا يبول على نفسه ويزيد في هوسه؟ أيمد غيره وهو أحوج الناس إلى من يزيل عنه أقذاره؟ ثم إن الله قال في شأن الأولياء: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 63) فلا تثبت لهم الولاية إلا بعد خلقهم وتكليفهم. فبهت وتحير وزمجر وكشر عن أنياب قلت عند رؤيتها: (أذكرني فوك حمار أهلي) وعلمت أن الرجل يريد أن يفهم العوام أنه وهابي؛ ليكرهوا الوهابيين، فكشفت لهم حالته وبينت حقيقته، فعلم الناس ما دبره وفهموا خبره، وكادوا يودون به. ولهم في ص 21 من الكتاب المذكور أيضًا (جميع الأولياء من عصر الصحابة إلى النفخ في الصور ليس فيهم من يصل مقامنا) هذا الضال أي أحمد التجاني من أنذال القرن الثاني عشر، يريد أن يقول أنه أفضل من السلف الصالح إلى غير ذلك من الأوهام التي لا تحد، والخزعبلات التي لا تعد، وقوم هذا شيخهم وذلك كلامهم أبعد الخلق عن الدين. ومن وقاحته، وقد كتبه أتباعه في بيان فضل طريقته أنه قال فيه أيضًا: (ص 20) (قدماي على رقبته كل ولي من لدن آدم إلى النفخ في الصور) وليس لهم أن يقولوا: قد قال الشاذلي والجيلي مثل ذلك، أما أولاً: فلان هذا ليس بدليل، (ثانيًا) هما لم يقولا: (من لدن آدم إلى النفخ في الصور) وإنما أشارا إلى تفوقهم على أولياء عصرهما، وهؤلاء التجانية يعتقدون أنهم خير خلق الله على الإطلاق، وشيخهم كذلك، بل قالوا في ص 23 من الكتاب المذكور: (كل من أحب الشيخ ومات عليها - ومن شرطها محبة أتباعه وعدم إيذائهم - ضمن له جده صلى الله عليه وسلم أن يموت على الإيمان، ويخفف الله عنه سكرات الموت، ولا يرى في قبره إلا ما يسره، ويؤمِّنه الله تعالى من جميع عذابه وتخويفه من الموت إلى المستقر في الجنة، وتُغفر له كل ذنوبه، وتُؤدى تَبعاته ومظالمه، ويُظله الله تعالى في عرشه، ويُدخله في أول الزمرة الأولى جنة عدن، ولا يموت حتى يكون وليًّا قطعًا، هذا بإخبار النبي للشيخ مشافهة، وأما من أخذ ذكرًا ينال ما تقدم ويزيد بأن أبويه وأزواجه يدخلون الجنة من غير حساب ولا عقاب ما لم يصدر منهم سب للشيخ، قال لي سيد الوجود: أنت من الآمنين ومن أحبك من الآمنين، ولا مطمع لأحد من الأولياء في مراتب أصحابنا إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم يستثن الصحابة إلا بالنسبة لأصحابه فقط، وأما هو فقد قال (قدماي) إلخ، وفي ص26 (من أفراد هذه الطريقة مَن إذا رآه شخص يوم الإثنين أو يوم الجمعة دخل الجنة بلا حساب ولا عقاب، وأن الشيخ يُدخل أصحابه الجنة بلا حساب ولا عقاب) وفي ص28 (صاحبي لا تأكله النار ولو قتل سبعين روحًا إذا تاب بعدها) ، وفي صفحة 29

أنباء الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء الحجاز بيعة أهل الحجاز وسبب قبول السلطان لها (جاء في العدد 56 من جريدة (أم القرى) الذي صدر بمكة المكرمة في 8 رجب الماضي ما يأتي) جاءنا من ديوان جلالة الملك أنه بعد إعلان بيعة أهل الحجاز وردت عدة برقيات من جهات متعددة تسأل عن صحة ما وقع، وعن أسبابه فأرسل الجواب على تلك الأسئلة بما مآله: (ج) إعلان أهل الحجاز ملكيتنا على الحجاز صحيح، أما العهود المتكررة للعالم الإسلامي فلم نخلفها، وقد دعونا العالم الإسلامي دعوات عامة وخاصة متكررة، فلم يصل جواب من أحدهم في تلبية دعوتنا، ومع ذلك فإننا على استعداد لقبول آراء العالم الإسلامي في كل شأن له مساس براحة الحجاج والزوار ورفاهيتهم، وإجراء أعمال الخير في الحجاز. وأما السرعة في أمر النداء بملكيتنا على الحجاز فكنت أود من صميم قلبي أن لو تأخر ذلك، ولكنا أُلجئنا إلى ذلك مضطرين، فإن أهل الحجاز قاموا قومة رجل واحد يلزموننا بقبول البيعة، فطلبنا منهم التريث ريثما يجمع المسلمون أمرهم فأجابوا بأنك أعطيتنا الحرية في اختيار حاكم لنا وهذا حق لنا لا يشاركنا فيه أحد، ونحن لا نبغي بك بديلاً. ومع ذلك توقفتُ في الجواب فبلغ أهل نجد توقفي؛ فقامت قيامتهم عليَّ وأعلنوا لي أن حربهم في الحجاز لم يكن إلا لحفظ استقلال الحجاز، ومنع تدخل أي أجنبي فيه، ولتكون كلمة الله هي العليا وليُعمل في هذه الديار بكتاب الله وسنة رسوله، ولتأمين الطرق ومنع الإلحاد في الحجاز، وهذا ما وعدتنا به وإن توقفك عن قبول البيعة يجعلنا نعتقد بأنك لم تقاتل إلا لأغراضك ولا تسعى لاستقلال الحجاز، وإنك إذا لم تقبل البيعة فقد فعلت معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. فإزاء هذا الموقف الحرج الذي يتوقف عليه أمن الحجاز في الحالة الحاضرة واستقرار الأمر فيه لم أجد بدًّا من تلبية ما دُعيتُ إليه، وإلا كانت فتنة لا تُعرف نتائجها، فقبلت متوكلاً على الله. وإنني لا أزال على عهدي رعاية ما للمسلمين من الحقوق المشروعة في هذه الديار المقدسة، والله ولي التوفيق (أم القرى ع 56) . *** اعتراف الدول الأوربية بملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها اعتراف السوفييت ورد على جلالة الملك بتاريخ 3 شعبان من معتمد وقنصل جنرال حكومة اتحاد الجمهوريات السوفييت بجدة الكتاب الآتي: صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها الأفخم. بعد التحية والتوقير استنادًا على أمر حكومتي أتشرف أن أبلغ جلالتكم أن حكومة اتحاد الجمهوريات السوفييت بموجب المبدأ الأساسي نحو استقلالية وحرية الأمم واحترامًا لإرادة أهل الحجاز التي ظهرت في مبايعتهم لجلالتكم ملكًا للحجاز - تعترف بجلالتكم ملكًا للحجاز وسلطانًا لنجد وملحقاتها؛ فعليه حكومة السوفيت تُعد نفسها في الحالة المناسبة السياسية والملائمة مع حكومة جلالتكم، وختامًا تفضوا بقبول عظيم توقيراتي واحتراماتي 3 شعبان سنة 1344 - 16 فبراير سنة 1926. ... ... ... ... ... ... ... معتمد وقنصل جنرال حكومة ... ... ... ... ... ... اتحاد الجمهوريات السوفيت بجدة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كريم حكيم *** اعتراف بريطانيا وقد أعقب اعترافَ حكومة السوفييت اعترافُ الدولة البريطانية، وقد أخبر جلالة الملك بخبره سعادة معتمد الحكومة البريطانية بصورة شفاهية عند زيارة جلالته للبارجة الحربية. وفي صباح أول مارس ورد من نائب معتمد وقنصل بريطانيا بجدة وكيل القنصل لجلالة الملك الكتاب الآتي: 146م - 30، 2 جدة في أول مارس سنة 1926 صاحب جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد بعد إبداء عظيم الاحترام، أتشرف بأن أُخبر جلالتكم أني قد كُلفت من قبل حكومة جلالة ملك بريطانيا أن أعرف جلالتكم بأن حكومة جلالة الملك تعترف الآن بجلالتكم ملكًا على الحجاز، على أنه يقتضي لي أن أضيف على ذلك أنه بينما تعترف حكومة الملك بسلطتكم على الحجاز تدوم على اعتبارها أن أسلوب الحكم في الأماكن المقدسة الإسلامية، وجميع المسائل الدينية المتعلقة بذلك هي من المسائل التي تختص بالمسلمين فقط، والتي لا يجب على حكومة جلالة الملك أن تبدي رأيًا فيها، كما وأنها لا ترغب في ذلك، وتفضلوا بقبول فائق التحية وعظيم الاحترام. ... ... ... ... ... ... نائب معتمد وقنصل بريطانيا بجدة ... ... ... ... ... ... ... ... وكيل قنصل جوردان *** اعتراف فرنسا وقدم مساء الثلاثاء 17 شعبان سعادة قنصل فرنسا في جدة إلى القصر العالي بجدة، وأخبر جلالة الملك بأنه تلقى برقية من حكومته تأمره أن يبلغ جلالة الملك بأن حكومة الجمهورية الأفرنسية الفخيمة تعترف بجلالته ملكًا على الحجاز. ولم يصلنا حتى صدور هذه الجريدة الكتاب الرسمي المتضمن اعتراف حكومة فرنسا الخطي ومتى وصلنا نشرناه في حينه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (أم القرى ع 63) *** مآدب ملك الحجاز وخطبه فيها مأدبة جدة الرسمية أدبّ جلالته مأدبة رسمية في جدة دعا إليها معتمدي الدول وقناصلها وقائد البارجة (كارت فلاور) الإنكليزية الراسية في جدة زيارة، وكبار ضباطها، ورؤساء المحلات الأجنبية، ووفد الخلافة الهندي، ومصالح الحكومة، ووجهاء الأهالي، وبعد تناول الطعام وشرب القهوة العربية، ألقى نائب جلالته عبد الله بك الدملوجي خطابًا وثنَّى عليه جلالته بخطاب ملكي، وقد أجاب معتمد دولة إيطالية عن خطاب جلالته باسم معتمدي الدول؛ لأنه أقدمهم عهدًا في البلاد حسب الأصول، وهذا نص الخطب الثلاث كما نشرت في العدد 57 من جريدة أم القرى المؤرخ في 15 رجب سنة 1344 الموافق 29 يناير سنة 1926. *** خطاب نائب جلالة الملك يا صاحب الجلالة أستمنحكم الأذن في أن أُقدّم لحضرات المدعوين خالص الشكر لتلبيتهم الدعوة إلى هذا المنزل العامر، هذه الدعوة التي ستترك أثرًا جميلاً في النفوس يدعو لتوطيد العلائق الودية الثابتة بين الجميع. أيها الأفاضل الكرام: إن هذا الاجتماع الذي يعد الأول من نوعه بعد الانقلاب الأخير سيكون له بحول الله أجمل وقع في مجرى الأحوال في الأيام المقبلة، وإني أنتهز هذه الفرصة لأكرر على مسامع حضراتكم ما طالما صرح به مولاي جلالة الملك - أيده الله - عن نواياه في هذه الديار المقدسة التي لا يمكن أن تتبدل ولا تتغير في ساعة من الساعات مهما كلف أمر القيام بها من المشاقِّ والصعوبات. أيها الأفاضل: إن الأمن في هذه الديار هو الأساس المتين الذي ستدعمه الحكومة بيد من حديد، فلا تجعل بحال من الأحوال بحول الله وقوته - سبيلاً للإخلال فيه، ولذلك يستطيع كل مسلم من أي بلد كان أن يصل إلى هذه الديار المقدسة، ويجوب فيافيها وقفارها وهو آمن مطمئن، لا يجد من يروعه ما دام محافظًا على النظامات وأوامر الحكومة المحلية. ثم إن العدل المطلق ستطبقه الحكومة على جميع الناس كافة من أي نوع كانوا بغير تحيز أو محاباة، وإن الشرع الإسلامي هو الأساس الذي تُستقى منه الأحكام في هذه الديار لتكون نبراسًا عامًّا لكل ذي وجدان حر، وذي نظر ثاقب؛ ليُعلم من ذلك أن الإسلام دين عدل يزن الحق بقسطاسه المستقيم، فالديار مفتوحة لكل إنسان مستعد للرضوخ لأحكام هذه الشريعة المطهرة، وأسأل الله أن يجعل أعمالنا أصدق من أقوالنا، وفي الختام أنتهز هذه الفرصة لتقديم الشكر لكل فرد من أفراد حضرات الأفاضل الذين لبوا دعوتنا هذه والسلام. *** خطاب جلالة الملك وبيانه الدولي نعم إن ما تكلم به الدكتور عبد الله بك الدملوجي هو حقيقة غايتنا في هذه الديار المقدسة، وتلك هي خطتنا التي وطَّنّا النفس على السير عليها، وإني أنتهز هذه الفرصة الجميلة لأبدي لضيوفنا الكرام - وعلى الأخص معتمدي الدول وقناصلها المحترمين - بعض ما يجول في خاطري من آمالي وتمنياتي. إن هذا الوطن المقدس يوجب علينا الاجتهاد فيما يصلح أحواله، وإننا جادون في هذا السبيل قدر الطاقة، حتى تتم مقاصدنا في هذه الديار ويكمل للمسلمين جميعًا راحتهم وأمنهم، وتتم لجميع الوافدين لمنازل الوحي المساواة في الحقوق والعدل. إن للدول الأجنبية المحترمة علينا حقوقًا، لهم علينا أن نفي لهم بجميع ما يكون بيننا وبينهم من العهود {إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء: 34) وإن المسلم العربي ليشين بدينه وشرفه إنْ يخفر عهدًا أو ينقض وعدًا، وإن الصدق أهم ما نحافظ عليه. إن علينا أن نحافظ على مصالح الأجانب، ومصالح رعاياهم المشروعة محافظتنا على أنفسنا ورعايانا، بشرط أن لا تكون تلك المصالح ماسة باستقلال البلاد الديني أو الدنيوي، تلك الحقوق يجب علينا مراعاتها واحترامها، وسنحافظ عليها ما حيينا إن شاء الله تعالى. وأما حقوقنا على الدول ففيما يتعلق بهذه الديار نطلب منهم أن يسهلوا السبل إلى هذه الديار المقدسة للحجاج والزوار والتجار والوافدين، ثم إن لنا عليهم حقًّا فوق هذا كله، وهو أهم شيء يهمنا مراعاته، وذلك أن لنا في الديار النائية والقصية إخوانا من المسلمين ومن العرب، نطلب مراعاتهم وحفظ حقوقهم [1] ، فإن المسلم أخو المسلم، يحن عليه كما يحن على نفسه في أي مكان كان، وإني أؤكد لكم بأن المسلمين عمومًا والعرب خصوصًا كالأرض الطيبة كلما نزل عليها المطر أنبتت نباتًا حسنًا، وأن المطر الذي نطلبه هي الأفعال الجميلة المطلوبة من الحكومات التي لها علاقة بالبلاد التي يسكنها إخواننا من العرب ومن المسلمين، وإن الأرض الطيبة هم المسلمون عامة والعرب خاصة، ولي الأمل الوطيد بأن الحكومات المحترمة ذات العلاقة بالبلاد الإسلامية والعربية لا تدخر وسعًا بأداء ما للعرب والمسلمين من الحقوق المشروعة في بلادهم، وفي الختام أسأل الله أن يجعل أفعالنا أصدق من أقوالنا، وأن يوفقنا وإياكم لما فيه الخير والصلاح. *** خطاب قنصل إيطاليا الدولي إني أشكر جلالة الملك بالنيابة عن القناصل، وبالنيابة عن الجالية الأوربية لما تفضل به علينا من دعوتنا لمائدته الملكية، وللشرف الذي حصل لنا بهذه الليلة السعيدة المسرة. إني أشكر جلالتكم على ما أبديتموه من مقاصدكم الحسنة نحو هذا القطر وبالأخص عما قصدتموه من راحة البلاد من كل الوجوه، وهذا مما يسر جميع الدول التي نحن نمثلها، والتي يهمها أمور الأماكن المقدسة الإسلامية، ونحن نفتخر بأن نهنئ جلالتكم، وندعو لكم بالتوفيق التام في الخطة التي رسمتوها لراحة هذه البلاد، وبالاختصار فإن ما تفضل به جلالة الملك لا نقصر في إبلاغه لحكوماتنا الذين يعرفون حقيقة نيات جلالتكم بخصوص هذه البلاد، وإنه معلوم لدى الجميع بأن حكوماتنا تحترم وتكرم كافة الأديان كما أنها أيضًا تميل وتحب العرب، وبالأخص الشعوب الإسلامية من العرب، ونحن واثقون بأن حكوماتنا يبذلون الجهد بقدر الإمكان لمساعدة جلالتكم فيما يجلب الخير والراحة لهذه البلاد المقدسة، وإنني أكرر آيات الشكر لجلالة الملك على تفضله علينا بهذه الدعوة وهذا اللطف الذي لقيناه من جلالته في هذه الليلة السعيدة، اهـ. *** المأدبة الملكية بمكة وكلام الملك عبد العزيز في الجامعة الإسلامية جاء في جريدة (أم القرى) أيضًا أن جلالة الملك أقام مأدبة فاخرة في المنزل المعروف (بدار الحكم) دعى إليها من كان في مكة من وفود وعلماء مكة وأشرافها وأعيانها وكبار مطوفيها ورؤساء التجار، فكان عددهم ثلاثمائة مدعو، وذكرت الجريدة أن جلالة الملك أقبل عليهم يحدثهم كعادته بما يجيش في صدره من الأفكار والحكم، ثم استطر إلى الكلام في

مؤتمر الخلافة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مؤتمر الخلافة جدد مجلس إدارة هذا المؤتمر في مصر الدعوة إلى عقده، وحدد الوقت له فجعله غرة القعدة الحرام من هذا العام؛ لقربه من موسم الحج العام، وأرسل الدعوة الآتية بإمضاء رئيسه شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية بالقطر المصري إلى رؤساء الحكومات الإسلامية من ملك وسلطان وأمير - وإلى رؤساء الجماعات والجمعيات المشهورة - وإلى من عرفت الكتابة العامة للمجلس من أهل الرأي من علماء المسلمين وكتَّابهم ووجهائهم في الأقطار المختلفة، وقد ساوى في هذه الدعوة بين أهل السنة السلفيين كأهالي نجد، وأهل الحديث في الهند، والخلفيين في سائر الأقطار، وبين غيرهم من الفرق الإسلامية ذات الحكومات أو الجماعات الكبيرة كالشيعة الزيدية، والاثنى عشرية، والإباضية من معتدلي الخوارج، مع العلم بأن للزيدية إمامًا من أنفسهم، وبأن الاثنى عشرية يقولون بأن الإمامة لمحمد المهدي ابن الإمام حسن العسكري الغائب عن العيان، المنتظر ظهوره في كل آن، والعلم بأن بعض الشعوب الإسلامية قد خرج أمر الحكم فيها من يدها، وبأن الحكومات الإسلامية المستقلة حريصة على عدم خضوعها لخليفة ينصب في غير بلادها. أصاب المجلس في تعميم الدعوة وتوجيهها إلى جميع فرق أهل القبلة، بل قيل: إنه وجهها إلى إمام الإسماعيلية، وما هم من أهل القبلة. فإن منصب الخلافة الذي يراد البحث فيه إن كان خاصًّا بالسواد الأعظم من حيث الحكم والدولة، فإن النظام الذي يجب وضعه له مما ينبغي أن يشترك فيه جميع أهل القبلة، ويراعوا فيه حقوق الجامعة العاملة للملة، وإخاء الإسلام الروحي الذي لا يختلف بسبب الكثرة والقلة، فإن التنازع على هذا المنصب في القرون الأولى قد كان بسياسة دخيلة أراد بها مبتدعوها التفريق، وصدع الوحدة الإسلامية لمآرب لهم فيها، وقد تم لهم ما أرادوا من التفريق، ولكن لم ينالوا به تلك المآرب التي أرادوها، وقد زالت تلك الفتن وجهلت الجماهير ما كان من مقاصد أهلها، ولكن الاختلاف والتفرق الذي أحدثته ما زال يفتك بالإسلام والمسلمين، وانحصرت فائدته في خصومهم الساعين في القضاء على دينهم ودنياهم، فصار من الواجب أن يُراعى في نظام الخلافة جمع كلمة المسلمين على وقاية الإسلام مما يساوره في هذا العصر من دعاة الإلحاد والإباحية، ثم من دعاة الملل أو البدع المستحدثة، ووقاية المسلمين من غوائل العصبيات الجنسية والوطنية، فإن في الإمكان قيام كل قوم في كل وطن بما يرتقون به ويعمرون أوطانهم، مع المحافظة على عقائد الدين وآدابه الواقية من شرور الإلحاد والإباحية، وعلى المودة بين إخوانهم في الدين من الأقوام المقيمين في أوطان أخرى، وجعل ما ذكر من جمع الكلمة على الوقايتين والمحافظتين بنظام يشترك في وضعه مندوبون يمثلون الجميع ليمكن تنفيذه، وبهذا يكون منصب الخلافة معقد الارتباط بين جميع المسلمين الخاضعين لأحكام الخليفة الحكومية وغير التابعين لها. نُشرت الدعوة إلى عقد المؤتمر في الموعد الذي ضُرب له؛ فارتاح لها جماهير المسلمين الذين كانوا متفقين على اقتراح هذا المؤتمر، وتصدى للصد عنها والمناقدة فيها فريقان من محرري الجرائد والكاتبين فيها (أحدهما) فريق الملاحدة واللادينيين الذين يبثون في مصر دعوة الكفر والحكومة اللادينية (وثانيهما) فريق الذين يظنون أن دعاة المؤتمر من كبار العلماء وغيرهم يريدون جعل الخلافة في مصر، وهم يرون أن جعلها في مصر- وأعلام الجيش البريطاني مرفوعة فيها ونفوذ الدولة البريطانية مسيطر عليها - جناية على الإسلام والمسلمين، وقد اتفقت جرائد الوفد المصري أو السعدي، وجريدة السياسة التي هي لسان الحزب الحر الدستوري على استنكار عقد هذا المؤتمر بمصر، وإنكار أهلية كبار علماء الدين للدعوة إليه، وعلى أن مثل هذا الأمر السياسي الخطير من حقوق مجلسي الشيوخ والنواب المصريين، كما اتفقت على أن جعل الخلافة في مصر يضرها ولا ينفعها. نحن لا نريد مناقشة هؤلاء الكتاب، ولا مَن وراءهم من زعماء الأحزاب، ولكننا على اعتقادنا أن مسألة نصب خليفة للمسلمين يرضاه السواد الأعظم منهم ما أتى أوانها، ولا مُهدت سبلها. نرى الدعاة إلى عقد المؤتمر لهم حق الدعوة ولمن دونهم أيضًا؛ لأنها دعوة إلى أمر مشروع ومصلحة عامة، ولكن ليس لهم وحدهم حق الفصل فيها، وهم لم يدَّعوا هذا الحق، بل دعوتهم برهان على عدم دعواهم، ونرى أنه ينبغي لكل من قدر على إجابة دعوتهم أن يجيبوها، وأن فوائد عقد المؤتمر التي لا يمكن المراء فيها هي البحث في نظام الخلافة وفوائده وبيان أحوال الشعوب الإسلامية ووسائل استفادتهم منه، وأهمه ما أشرنا إليه آنفًا من الوقايتين والمحافظتين، والراجح عندنا أن مؤتمر هذا العام لا يتمكن من النظر في اختيار الخليفة مطلقًا، بل نشك في قدرته على وضع نظام الخلافة وتقريره في عشرة الأيام المحددة لاجتماع المؤتمر، وقد اقترحت جريدة الاتحاد التي هي لسان الوزارة المصرية الحاضرة والبلاط الملكي تأجيل انتخاب الخليفة إلى مؤتمر آخر يعقد في غير مصر. وليتدبر العقلاء والزعماء عاقبة فشل هذا المؤتمر، وليعلموا أنه عار عظيم عليهم ومبطل للثقة بالدعوة إلى مؤتمر آخر، وهو ما لا بد منه، فعليهم بالحزم والإقدام، وطرح الوساوس والأوهام، فقد ثبت أن في مصر من الحرية لإقامة هذا المؤتمر واستقلال جميع من يحضره بإبداء آرائهم فيه بدون محاباة ولا مراعاة لغير المصلحة العامة. *** نص الدعوة الرسمية لحضور مؤتمر الخلافة بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر الشريف ورئيس المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر. إلى حضرة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإني أحمد الله إليكم، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد الداعي إلى الله بإذنه، وعلى آله وصحبه الذين جمعوا كلمة المسلمين، وأظهروا شأن الدين خصوصًا الخلفاء الراشدين. ثم أنهي إليكم أنه لا بد أن يكون قد وصل إلى علمكم ما قررته الهيئة العلمية الدينية الإسلامية الكبرى بالديار المصرية يوم الثلاثاء 19 شعبان سنة 1342 هـ (25 مارس سنة 1924م) في شأن الخلافة، بعد أن حدث من الأتراك ما حدث في أمرها. وإنا ملحقون بكتابنا هذا صورة ما قررته الهيئة العلمية المشار إليها، وقد تضمنت المادة الرابعة عشرة منه أنه من الضروري أن يعقد مؤتمر ديني إسلامي عام، يدعى إليه ممثلو جميع الأمم الإسلامية للنظر في أمر الخلافة من الوجهة العلمية الدينية، وأن يكون عقد المؤتمر برياستنا في مدينة القاهرة في شهر شعبان سنة 1343 هـ (مارس 1925م) . وبعد ذك ألفنا مجلسًا إداريًّا للمؤتمر، فاهتم بإرسال ذلك القرار إلى الأمم الإسلامية، وبدعوة ممثليها إلى حضور المؤتمر العام، واتخذ لذلك وسائل كإرسال الكتب الخاصة والنشر في مجلة المؤتمر وفي الصحف السيارة، وسعى في هذا الأمر جهده، ونشر قرار الهيئة العلمية بألسِنة مختلفة في الجهات الإسلامية. وبعد ذلك جدَّت أمور لها اتصال بالحال الإسلامية العامة، وأهمها ما كان في جزيرة العرب من الاضطراب والحرب، ووردت اقتراحات من أهل الرأي والمكانة في العالم الإسلامي، فكان من اللازم النظر في ذلك بما يلائمه وفاءً بحق الإسلام والمسلمين. فاجتمع المجلس الإداري للمؤتمر برياستنا يوم السبت 22 جمادى الآخرة سنة 1343هـ (17 يناير سنة 1925م) ونظر في هذه الشؤون فرآها تتطلب تريثًا وسعة في الوقت تتجاوز الموعد المحدد لعقد المؤتمر، فقرر تأجيله سنة مراعاة لتلك الاعتبارات، ومحافظة على الصلة بين المسلمين، وعلى جمع كلمتهم في أمر الخلافة، وانتظارًا لأن يحضر المؤتمر أكثر عدد ممكن من ممثلي الشعوب الإسلامية. وقدَّر المجلس أن هذه الفرصة الزمنية تسع انجلاء الحوادث التي غشيت جزيرة العرب، وانقضاء الحرب من بلاد الحجاز، وأنها من أهم البلاد الإسلامية التي ينبغي أن تمثل في المؤتمر، وتسع معالجة الاقتراحات الواردة، ومعالجة غير ذلك من الأمور. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها في بلاد الحجاز اجتمع المجلس الإداري للمؤتمر برياستنا يوم الأربعاء 20 رجب سنة 1344 هـ (3 فبراير سنة 1926م) واطلع على الإجابات الواردة من الأمم الإسلامية بالاشتراك في المؤتمر، وقرر أن يعقد المؤتمر الإسلامي العام للخلافة في مدينة القاهرة ابتداء من يوم الخميس أول شهر ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (13 مايو سنة 1926م) ثم قرر أن تنتهي جلسات المؤتمر يوم السبت 10 شهر ذي القعدة (23 مايو) المذكورين. وقرر أن تُوجَّه الدعوة العامة والخاصة إلى الأمم الإسلامية؛ ليحضر المؤتمر ممثلوها ممن يقع الاختيار عليهم من أهل العلم والرأي والمكانة. فالإسلام يدعوكم إلى حضور المؤتمر، وغيرتكم الدينية تحتم عليكم ذلك. إن هذا المؤتمر أول مؤتمر إسلامي عام يجتمع فيه المسلمون؛ ليؤدوا فريضة النظر في أهم شؤونهم الدينية، وإن في ذلك لتشييدًا لدعائم الإسلام، ورأبًا لصدع المسلمين، فكل مسلم غيور على دينه يهمه أن يحضر المؤتمر الإسلامي العام، ويتغلب على ما عسى أن يعترضه من المشقات في سبيل الله والدين. إن في حضور المؤتمر الإسلامي العام لمظهرًا عظيمًا لاتحاد المسلمين وإن تباعدت أقطارهم، وتحقيقًا لقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ولقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: 38) ولقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا) . فنرجو أن يأتينا منكم خطاب أو برقية في وقت قريب بحضوركم أو حضور من يقع الاختيار عليه من المندوبين للاحتفاظ بحقكم في التمثيل، كما نرجو تعيين زمان الحضور إلى القاهرة. إن النظر في أمر الخلافة أو الإمامة العظمى والأخذ بالشورى، مما يدعو إليه الدين الإسلامي، وقد جاء في المادة الثانية عشرة من قرار الهيئة العلمية الدينية الإسلامية الكبرى (إن منصب الخلافة له في نظر الدين الإسلامي ونظر جميع المسلمين من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر، لما يترتب عليه من إعلاء شأن الدين وأهله، ومن توحيد جامعة المسلمين، وربطهم برباط قوي متين، فالواجب على المسلمين أن يفكروا في نظام الخلافة، وفي وضع أسسه على قواعد تتفق هي وأحكام الدين الإسلامي، ولا تتجافى عن النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظمًا لحكمهم) . فندعوكم بلسان الدين إلى حضور المؤتمر الإسلامي {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال: 24) . نسأل الله أن يحقق رجاء المسلمين ويمدهم بمعونته، ويذلل لهم الصعاب، وييسر لهم السبل حتى يحضر ممثلوهم المؤتمر الإسلامي العام، ويُشهدوا الله ورسوله والمؤمنين على أنهم قاموا بما أمر الله، ولم يخشوا في الله لومة لائم. اللهم فاشهد أننا قمنا بما فيه الخير والصلاح، وبيدك التوفيق والنجاح والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. رجب سنة 1344 ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر فبراير سنة 1926 ... ... ... ... ... ورئيس المؤتمر ... ... ... ... ... (الختم)

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (المصحف الشريف، طبعة الحكومة الأخيرة له) كانت المصاحف الشريفة تُكتب كالكَتْبة الأولى التي كتبها بعض كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرها أهل الحل والعقد، وأمر الإمام الأعظم عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه في عهد خلافته بتوزيع نسخ منها على الأقطار؛ ليعتمد عليها في الحفظ والنسخ. ويُسمى المصحف العثماني الرسمي المذكور بالمصحف الإمام؛ لأن المسلمين كانوا يأخذون عنه ما ينسخون من المصاحف في كل قطر، واشترط العلماء المقرؤون في القراءات المعتدّ بها أن تكون موافقة لرسم هذا المصحف، فما لا يوافقه لا يعد من القرآن المتواتر الواجب الاتباع، ولما ضعفت اللغة العربية بكثرة دخول الأعاجم في الإسلام اضطر المسلمون إلى نقط المصاحف وشكلها؛ لأجل ضبط القراءة وعدم الغلط والتحريف فيها ممن لم يتلق القرآن من المقرئين الحافظين. ثم استحسن بعض الناس في القرون الوسطى أن يغيروا من رسم المصحف الإمام ما يشتبه فيه القارئ غير المتلقي عن القراء، فيكتبوه بما استحدثوا من قواعد الرسم ففعلوا، وأكثر ما غيروا يدخل في باب واحد وهو زيادة حرف المد في الممدود كالعالمين ومالك، والكتاب، وأبصارهم، وغشاوة، ويخادعون، وطغيانهم، والضلالة، وظلمات، والكافرين، وأبصارهم، والثمرات، وصادقين، والأنهار، وأزواج، وأمثال ذلك مما يكثر حذف الألف فيه من رسم المصحف الإمام، وهذه الأمثلة التي أوردناها هي من سورة الفاتحة، وربع الحزب الأول من سورة البقرة، فصاروا يكتبون ذلك كله بالألف، وقد ترك أكثرهم ألفاظًا أخرى أبعد عن قواعد الرسم مما ذكر لندرتها: كالربا فإن رسمها في المصحف بألف قبلها واو هكذا (الربوا) وكذا كلمة العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) وكالصلاة والزكاة فإنهما فيه بالواو هكذا (الصلوة الزكوة) وجرت مطابع الآستانة وأكثر مطابع مصر وغيرها على هذا التغيير، وكان ينبغي أن يذكر في آخرها تنبيه يبين فيه ذلك في المصاحف المطبوعة والمخطوطة، وقد بقي في مصر وبعض بلاد الأعاجم من يستمسك باتفاق العلماء على وجوب اتباع رسم المصحف المأثور عن الصحابة (رضي الله عنهم) ويحافظون على ذلك خطًّا وطبعًا. ومنه المصحف المعروف بمصحف أبي زيد والمصحف المعروف بمصحف المليجي من مطبوعات مصر، والأول أصح وأضبط، وأما مصاحف الآستانة فلم نر منها شيئًا من ذلك. ثم إن الحكومة المصرية عنيت بطبع مصحف لم يطبع مثله في بلاد الإسلام، وقد ذكرنا في ترجمة المرحوم حفني بك ناصف خبر اللجنة التي أُلِّفت لتحرير رسمه على أصح الروايات المدونة في الكتب التي أُلِّفت في هذا الموضوع، ولضبطه وتصحيحه وشكله وعد آياته ووضع علامات الوقف له، وقد أتمت اللجنة عملها وكتبت بيانها له وأمضته في 10 ربيع الآخر سنة 1337، وكانت حروفه كلها قد جمعت في المطبعة الأميرية الشهيرة ببولاق، وقرئ كله مرارًا كثيرة في عدة سنين حتى تمت الثقة بأنه خالٍ من الغلط خلوًّا تامًّا، ثم طبع في مصلحة المساحة بالجيزة سنة 1342، وطبع بيان اللجنة في آخره، وهو جدير بأن يعوِّل عليه العالم الإسلامي كله، وقد طبع منه نسخ كبيرة على ورق سميك، وطبعت نسخ أصغر منها على ورق رقيق كأحسن ما طبع في الآستانة بل خير منها، ولكن النسخ المطبوعة المُعدَّة للبيع في مخازن وزارة المعارف لا تزال قليلة، لا تفي ببعض الحاجة، فعسى أن تزاد لتكفي حاجة مصر وسائر البلاد. وقد بينت اللجنة في التعريف الذي وضعته لهذا المصحف الشريف المآخذ التي اعتمدت عليها من الكتب المصنَّفة في الرسم وضبط الشكل، والعد والتجزئة والتحزيب، وبيان المكي والمدني، ومواضع الوقوف وعلاماتها، وسجدات التلاوة، حتى السكتات التي يوجبها حفص الذي يقرأ مسلمو الشرق كلهم على روايته. وانفرد هذا المصحف بأشكال من الحركات والحروف للضبط والوقف والأداء الموافق لقواعد فن التجويد فصَّلته اللجنة في بيانه، ومما لم أستحسنه من هذه الاصطلاحات إغفال بعض الحروف من علامة السكون للدلالة على الإدغام - وكذا الإخفاء - من تجويد الأداء وتشديد الحرف المدغم فيه، فإن أكثر القراء في هذه المصاحف لا يقرؤون بيان اللجنة لهذه الاصطلاحات، وأكثر مَنْ يقرأُها مِنْ العوام لا يفهمون المراد منها، فكان الأولى أن يكون الشكل كاملاً على المعهود في سائر المصاحف، ويزاد عليها الشدة الدالة على الإدغام منفردة كما في بعض المصاحف الهندية، وكذا علامة الإقلاب. *** تقرير الدكتور فخري (طبيب الجلد والأمراض التناسلية عن انتشار البغاء والأمراض التناسلية بالقطر المصري، وبعض الطرق الممكن اتباعها لمحاربتها) رفع الدكتور تقريره هذا سنة1924 لحضرة صاحب الجلالة الملك وحضرات أصحاب السمو الأمراء، وحضرات أصحاب الفضيلة العلماء ورؤساء الدين، وجميع الهيئات الرسمية وغير الرسمية بالقطر المصري. تكلم فيه عن البغاء الرسمي وغير الرسمي بمصر القاهرة، وتعرض فيه لبعض إحصائيات عن عدد العاهرات الأجنبيات والوطنيات بمصر، وقال أنه يأسف جد الأسف لعدم عناية مصلحة الصحة برقابتهن بطريق جدي يخفف من أضرارهن، ويوقف تيار العدوى بالأمراض الجلدية والتناسلية التي فشت في هذه الأمة البائسة التي أهملت دينها، ونسيت كرامتها وشرفها، ولا سيما العاهرات الأجنبيات ذوات الدرجة الأولى، فإنهن لا يخضعن لنظام الكشف الطبي على ما فيه من نقص فاحش، فأصبحن شرًّا مستطيرًا وخطرًا كبيرًا. والذي يقف على تقرير الدكتور يشعر بالألم الشديد مما وصلت إليه حالة البلد الأدبية والصحية من الانحطاط والتدهور، وحسب القارئ أن يرى من إحصائيات الدكتور أن عدد (مَنْ عَرَفَ مِنْ) المصابين بالأمراض الجلدية والتناسلية في عام واحد سنة 1920 بسبب البغاء الرسمي وغير الرسمي (820200) ثمانمائة وعشرون ألفًا ومائتان، وقد أنحى الدكتور - في أدب وصراحة - باللائمة على النظام المتَّبع في رقابة العاهرات بمصر، وقارَنَ بينه وبين نظم الدول الأخرى، وطلب من الحكومة بإلحاح العناية برقابة هذه الطائفة؛ كي يخف ضررها. وللدكتور في وصف أضرار العاهرات كلمات مؤثرة تشف عن وجدان صادق وإحساس شريف، إذ يقول وهو يصف العاهرات ذوات الدرجة الأولى: (فبعضهن يحترفن حرفة التمثيل أو الرقص أو الخدمة في بعض محال التجارة أو القهاوي والبارات وغيرها من الأعمال) . (وفي ساعات فراغهن ينتشرن كجيوش الجراد في أنحاء العاصمة؛ ليلقين شباكهن على شبيبة البلاد ورجالها وكهولها، ولهن من جمال شكلهن وسحر عيونهن الجنسي الوراثي أسلحة قوية للفتك بعقول الطائشين! ولمهاجمة قلوب من يتعطشون للجمال الأوربي الخلاب، ولهن من خروجهن على رقابة البوليس نوع من الكرامة يسحر كثيرًا من الرجال الذين تعودت نفوسهم أن تمجَّ كل ما له علاقة بالعاهر الرسمية. هذه هي الأفعى صاحبة صولجان الامتيازات، وتلك هي عقرب مصر الذي يتغذى من دماء أبنائها، ويسمم حياة رجالها، ويقتل مستقبلها تحت ستار نوع من الأنظمة لو وجهت له عناية قليلة لقل شره. وضعفت مصيبته) . اهـ (ص 12 و13) . ثم تكلم الدكتور على الأسباب التي تحمل على انتشار البغاء، وأهمها وجود المواخير المصرح بها في القطر، وإهمال الرجل زوجه، وصرفه الوقت الطويل في المقاهي وأماكن الطرب واللهو، وترك دور التمثيل الساقط يدخلها الشبان والنساء بدون رقابة، وكثرة الزواج الإجباري مع جهل الآباء بمصير بناتهم وبنيهم، ومثله في ذلك الزواج النفعي، واختلال حال البلد اقتصاديًّا وهو نقص برامج التعليم. ثم تكلم على طرق مقاومة البغاء وقال: لا بد فيها من وضع حد للرجل؛ لأنه شريك للمرأة في ذلك الفساد، فإذا ضُيِّق على العاهر وتُرك الرجل وشأنه لا يعدم بجبروته امرأة أخرى يفسدها حتى تصير عاهرًا، وهكذا. ولا بد من رفع المستوى الأخلاقي، وتعاون رجال الدين والتربية مع رجال السلطة في تنمية روح الفضيلة في نفس الناشئين، ومنع المواخير الرسمية. ويرى الدكتور كما يرى غيره ممن بحثوا نظام العاهرات أن منع البغاء دفعة - وإن كان فيه شيء من الضرر - إلا أنه أخف ضررًا من هذه الفوضى التي وصلت إليها حالة البلاد، ويطلب من جميع الهيئات التعاون على منعه. وإني أشكر للدكتور فخري غيرته الشديدة على حالة البلاد الصحية والخُلُقية وإخلاصه لمهنته، وقيامه بما توجبه عليه، ولو أن كل طبقة تقدمت لحكومة البلاد بما لديها من ضجيج وما يتفق مع عملها لتحسنت الحالة، ونهضنا بأمتنا نهضة مباركة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد العدوي (المنار) إن في هذا التقرير من العبر أعظم مما اختار الأستاذ المقرظ منه بل كله فوائد وعِبَر لمن يريد أن يعتبر، وأين المعتبرون؟ إن التقرير يثبت لنا أن جل رزايا فاحشة البغاء، سببها التفرنج، حتى إن تقليد نسائنا للأوروبيات في طراز الأزياء (الموضة) هي أكبر أسباب البغاء السري الوطني، ومع هذا نرى كتَّابنا ومنتحلي الفلسفة والتجديد فينا دائبين على ترغيب النساء والرجال في السير في هذا التقليد إلى آخر حدوده بلبس (البرنيطة) ليجهزوا على هذه الأمة في أجسادها وأرواحها وأموالها.

خاتمة المجلد السادس والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد السادس والعشرين بسم الله وبحمده نختم المجلد السادس والعشرين من المنار، وهو المحمود في كل حال، وفي بدء كل أمر ذي بال وختام، ولا نزال نحن والمشتركون في المنار على ما وصفنا في خواتيم السنين الماضية من تقصير، يقصرون عمدًا في الأداء والوفاء، فنقصر اضطرارًا في المضاء، ونقصر عمدًا في الاقتضاء والتقاضي، وفي أمثال العوام (المال السائب - أي المسيَّب - يعلم الناس الحرام) وقد كان من عاقبة تقصيرنا في المطالبة، وترك الأمر إلى أريحية المشتركين وديانتهم، وعدم محاكمة المماطلين منهم - أن رأينا غرائب من الدناءة والطمع من أغنيائهم ووجهائهم، منها أن غنيًّا مترفًا من أصحاب القصور الفخمة، والمركبات الكهربائية، والخدم والوصائف من الإفرنج والبرابرة، طلب بعد تكرار المطالبة وصلاً باشتراك المجلة عن سنين لم يدفع فيها شيئًا فأعطيه، فأخذه وضرب موعدًا قريبًا للدفع ولم يدفع فيه، ثم ضرب موعدًا آخر فموعدًا آخر فموعدًا آخر، وقد مرت السنون على هذه المواعيد العرقوبية، وهو لا ينكر الوصل، ولعله لو قُوضي إلى المحكمة لأنكره، أو دفع المال تفاديًا من المحاكمة. وأعجب من أمر هذا الغني الضعيف في العلم والدين وشرف النفس والبيت أمر غني آخر معدود من علماء الدين المؤلفين، ومن السادة العلويين، مطل ولوى عدة سنين، ثم أعطى قليلاً ما عليه وأكدى، ثم قال لجابي المجلة بعد سنين أخرى أنه يجب أن يعفى من الاشتراك الماضي والمستقبل؛ لعلمه وشرفه (! !) فإن كانت هذه آيات العلم والشرف وثمراتهما، فلا بد أن تكون آيات ضدهما - وهما الجهل والخسة وثمراتهما في النفس - الوفاء وأداء، الحق، ومساعدة نشر الدين والعلم، والترفع عن مثل هذا السؤال، واستثقال حمل منن الرجال، وإذًا يكون الجهل أفضل من العلم، وخسة الأنساب أفضل من شرفها (! !) كلا، بل كان حرمان منتحلي العلم الديني وحاملي شهادات الأنساب من التربية الدينية العالية - سببًا لضياع ما كان لسلفهما من الاحترام والمكانة، إذ كانوا أكرم الناس وأعزهم أنفسًا. ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما قد شرحنا في الجزء الرابع من هذا المجلد الذي صدر في آخر المحرم أنواع الأعمال الكثيرة التي تزاحم اشتغالنا بتحرير المنار، وقد زادت بعد ذلك عما ذكر فيه نوعًا أو نوعين، ثم سافر بعد صدوره بشهر أو شهرين وكيل الإدارة إلى سورية، فمكث بضعة أشهر فزادت صنفًا أو صنفين، حتى اضطررنا إلى تأخير بعض الأجزاء عن موعدها، ثم استعنَّا الله تعالى على تدارك هذا التقصير، حتى جعلنا خاتمة هذه السنة سلخ رمضان كالتي قبلها. وقبل تمام هذا الشهر نفسه يتم لنا ما كنا شرعنا فيه ووعدنا به في خاتمة المجلد السابق من توسيع المطبعة وإدارتها بقوة الكهرباء؛ فتتوفر الأسباب لإنجاز طبع المنار وسائر مطبوعاتنا بالسرعة والإتقان، وسيكون أكبر همنا في المجلد السابع والعشرين موجَّهًا إلى مجاهدة الملاحدة والإباحيين الذين نشطوا في هذه الأيام في تعميم دعوتهم إلى هدم العقائد، والتجرئة على الفواحش والرذائل، وتقطيع الروابط الملية والقومية، وإعداد الأمة لقبول السيطرة الأجنبية، وجميع الفتن المادية حتى البلشفية. وإلى مجاهدة البدع والخرافات القديمة التي يبثها أهل الطرق التي تسمى صوفية، وما ولدته من البدع الحديثة كالمسيحية القاديانية، وكل هذا من قبيل الهدم. ثم إلى تأييد دعوة الإصلاح، وتجديد أمر الإسلام، بالرجوع في عقائده وعباداته إلى القرن الأول، والاعتماد في قوته وعزته على فنون العصر الحاضر، هذا هو البناء المطلوب، ولعله لا يتم إلا في جزيرة العرب، كما أشارت إليه الأحاديث النبوية. وإننا نكل إلى دين قرائنا ومروءتهم وشرفهم أمر الوفاء لنا بتسديد قيمة الاشتراك في وقتها، ومساعدتنا على جهادنا بكتابة المقالات، وانتقاد ما يرون من الخطأ فيما ننشر {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فاتحة المجلد السابع والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد السابع والعشرين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد النبي الأمي العربي خاتم رسل الله، وآله وصحبه ومن والاه، ولعنة الله والملائكة والنبيين، وجميع عباد الله الصالحين، على جميع فرق المبتدعين في هذا الدين، الذين فرقوا كلمة الموحدين، وأضعفوا جماعة المسلمين، فكانوا شرًّا عليهم من جميع فرق المشركين، ونالوا من الإسلام ما لم ينل أحد من أعدائه الكافرين. أما بعد فإن المنار يبتدئ هديه في مجلده السابع والعشرين، وقد تجدد في العالم الإسلامي أمر عظيم أيّ عظيم، وهو استيلاء الدولة الإسلامية السُّنية السلفية الوحيدة على الحجاز، وتمكنها من مهد الإسلام، وظهور أمارات أعلام النبوة المصرحة بأن الإسلام سيأرز بين المسجدين (الحرمين الشريفين) كما تأرز الحية في جحرها. ويعتصم من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل فقد صار للإصلاح الإسلامي دولة مسلحة تقاوم البدع التي فتكت بالمسلمين ففرقت كلمتهم، ومزقت شملهم، وجعلتهم باتباع شياطين الأهواء أعداء بعد أن ألف الله قلوب سلفهم بالقرآن فأصبحوا بنعمته إخوانًا. وإننا نعرض على قراء المنار أهم شؤون الإسلام الحديثة في فاتحة هذا المجلد كعادتنا كما في سوابقه فنقول: حال الإسلام والمسلمين في هذا العهد: بالأمس خسر الإسلام دولة كانت منذ الأجيال الوسطى من تاريخه أشد دولة بأسًا - وهى آل عثمان - وخلفتها دويلة تركية هي أشد دول الأرض عداوة له، واليوم تجدد له دولة جديدة هي أرجى دولة لتجديد هدايته وإعادة مجده إلى شبيبته، إذا عرف سائر المسلمين كيف يؤيدونها وينصرونها، ويفيدونها ويفيدون بها، وهي الدولة العربية السعودية التي قامت في مهد الإسلام، ويرجى أن تكون مظهر أنباء الرسول عليه الصلاة والسلام. فأين مسلمو هذا الزمان منها ومن الإسلام؟ إننا نقرأ ما كتب أئمة الدين في خير القرون من إنكار البدع والمحدثات التي شوهت الإسلام، ثم نجد الشكوى من ذلك قد تضاعفت في القرون الوسطى، ثم تفاقمت وطغى طوفانها في القرون الأخيرة. حتى صرنا نسمع خطباء المساجد في هذا العصر -على جهل أكثرهم وابتداعهم- يقولون على منابرهم: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وإن المعروف قد صار منكرًا، والمنكر قد صار معروفًا، ومن المصائب أن هذه الأقوال تصدُق عليهم وعلى أمثالهم من المتصدرين للتعليم والوعظ والإرشاد، فالذي يحذرك من البدع والمنكرات هو من أشد أنصارهما. فرض الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأكد أمره، ولعن تاركي التناهي عن المنكرات التي يفعلها بعضهم في كتبه، وعلى ألسنة رسله، لئلا يترك المعروف، ويفشو المنكر فيصير كالمعروف، فيختل أمر الفضائل ويفسد نظام الآداب، بل قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وإذا كان إنكار المنكر بالقلب وحده - وهو كراهته واستقباحه والنفور منه ومن أهله - أضعف الإيمان، وكأن أقواه وأكمله لا يكون إلا بإزالته بالفعل، فما القول إذًا في الذين لا ينكرونه بقلوبهم لألفتهم له وأنسهم به؟ وما القول فيمن هم شر منهم وهم الذين مرنوا على المنكر واستحلُّوه واستعذبوه حتى استحلُوه، أو اعتقدوا أنه معروف وليس بمنكر؟ ترك المسلمون تغيير المنكر بالفعل بضعف الخلافة وصيرورتها لقب تشريف، ثم تركوا إنكاره بالقول لفشوّه في الحكام المستبدين والزعماء الظالمين وضعف الدين في جماعات المسلمين، إلا قليلاً منهم كانوا يظهرون حينًا ويخفون أحيانًا، ولا يجدون لهم شوكة ولا سلطانًا، حتى ظهر في أواخر القرن الثاني عشر للهجرة وأول ما بعده الإصلاح الوهابي في نجد. قام عالم نجدي اسمه محمد بن عبد الوهاب يدعو إلى التوحيد الخالص، وهو عبادة الله تعالى وحده بما شرعه للناس في كتابه وعلى لسان رسوله، ويأمر بالمعروف من السنن، وينهى عن المنكرات من المعاصي والبدع. قاومه الناس وآذوه كما آذوا من قبله ومن بعده كل داع إلى الحق والخير، وسخر الله من الزعماء الأقوياء من آزره حتى تأيد القول بالفعل، وكان أول منكر من منكرات الشرك أزيل بالفعل قطع شجرة كانت تعبد في تلك البلاد كذات أنواط في الجاهلية، وشجرة الحنفي وشجرة المنضورة في بلدنا هذا (مصر) فقامت البلاد وقعدت، وعزم عباد الشجرة على الفتك به، فحماه زعيم هذا البيت السعودي ومنعه من كل من يريد به سوءًا، وانتشرت دعوته الإصلاحية بقوه سيوف هذا البيت الكريم في جزيرة العرب حتى استولوا على الحجاز، وكادوا يجددون للإسلام مجده وحضارته بمثل نهضته الأولى، كما صرح بذلك كل من عرف كنه حالهم من الشرقيين والغربيين، لولا أن تصدت لهم الدولة العثمانية، فحاربتهم من جهة العراق والحجاز، ولما عجزت عنهم استعانت عليهم بدولة مصر الفتاة، فحاربهم محمد علي حتى أخرجهم من الحجاز. ولم تكتف الدولة التركية وأعوانها حتى من العرب بهذه الحرب، بل أثارت عليهم حربًا شرًّا منها وأشأم، وهي حرب الدعاية بالطعن في عقائدهم وأعمالهم، وتسمية سنتهم بدعة، وخيرهم شرًا، عرفهم نكرًا، بل إيمانهم كفرًا - أيضًا، وكتب المتزلقون في ذلك الكتب والرسائل الكثيرة وأودعوها من فنون الكذب والبهتان ما لايخطر إلا في بال الشيطان، حتى إن بعض زنادقة العراق، وملاحدته المجاهرين بالتعطيل والإلحاد، ألف كتابًا في الافتراء عليهم تزلفًا إلى الوالي التركي والدولة التي كانوا يدهنون لها بوصفها بحامية السنة، وإنما كانت تريد حماية ملكها وسلطانها وقطع الطريق على الأمة العربية، حتى لا تتجدد لها دولة قوية، وإلا فإن بلادها كانت مملوءة بالبدع والضلالات وهي لم تُزل منها شيئًا، وكانت تعترف بإسلام بقايا طوائف الباطنية حتى الإسماعيلية الذين يعبدون آغا خان المشهور. وقد ألقى رجال السلطان عبد الحميد الأخير الشقاق والعداوة بين آل سعود وآل رشيد في نجد، وما زالوا يمدون ابن الرشيد بالسلاح والمال إلى أن تمكن من إخراج آل سعود من نجد، واستولى على الرياض عاصمة إمارتهم، حتى كان ما كان من نهضة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل المؤيد بنصر الله وتوفيقه، واستعادته لنجد، ثم استيلائه على إمارة ابن الرشيد وعلى بلاد الإحساء وكل ما كان بيد الدولة العثمانية من تلك البلاد، ثم على بلاد عسير، ثم على المملكة الحجازية برمتها. هذا هو الطور الجديد المرجو للإسلام، وهذه هي الفرصة السانحة لتجديد هدية وإعادة مجده، فهل يضيعها المسلمون كما أضاعوها أول مرة؟ وما موقف حزب الإصلاح الإسلامي المنتشر في جميع الأقطار مع هذا الزعيم الشاكي السلاح، وقد فشل أئمة الإصلاح الذين أجرَّتهم الرماح؟ ثم ما موقف الأمة العربية معه وهي قد عرفت نفسها، وطفقت تنشد زعيمًا تجدد تحت لوائه حضارتها ومجدها؟ . ثم ماذا يكون عمل المبتدعة، وسدنة القبور المعبودة، والخرافات المستغَلَّة - وعمل المتفرنجيين واللادينيين من ناحية أخرى - في مقاومة الدولة الجديدة، والنهضة العتيدة؟ إن بين مسلمي هذه الأيام ومسلمي أول القرن الثالث عشر (الذي طفت فيه الدولة الوهابية الأولى ورسبت) وبين عرب القرنين أيضًا وبين الأحوال العامة فيهما فروقًا كثيرة نعد منها أهم ما يتعلق به الرجاء من إيجابية وسلبية ونقفي عليه بما يعارض هذا الرجاء من الخوف - فنقول: آيات الرجاء في الدولة الجديدة: (1) إن الدولة العثمانية التي كانت بالمرصاد للأمة العربية تمنعها من كل نهوض قد زالت من الوجود، والدولة التركية المحضة التي خلقتها لا شأن للإسلام ولا للعرب عندها، وليس لها أدنى مصلحة أو فائدة من عداوة الدولة السعودية، بل موادتها خير لها من محادّتها. (2) إن الدولة المصرية لا تزال تجاهد في سبيل استقلالها، فلا هي دولة عسكرية مستقلة يغريها حب التوسع في السلطان بفتح الحجاز ونجد، ولا هي حكومة شخصية استبدادية يتصرف فيها حاكم مطلق بهواه كما كانت في عهد محمد علي، فيخشى أن يدُعَّها إلى فتح الحجاز وغيره تلذذًا به، أو اقتفاء لأثر جده، ولم تبق آلة جامدة صامتة في أيدي الأجانب يدفعونها إلى ما شاءوا بغير معارض، بل هي دولة أمة عربية مسلمة من مصلحتها التواد مع الدولة الجديدة والاكتفاء منها بتأمين الحرمين الشريفين ليؤدي شعبها مناسكه وزيارته براحة واطمئنان، بل مصلحتها في التواد والتعاون مع الحجاز ونجد فوق ذلك وليس من غرضنا بيانه هنا. (3) إن مسلمي هذا العصر أوسع علمًا بالإسلام ومصلحة المسلمين من أهل ذلك العصر، فلا تروج فيهم الدعاية الظاهرة البطلان، التي راجت منذ قرن ونصف بأكاذيب أحمد زيني دحلان وأمثاله ومقلديه العميان، أو الطامعين بنوال السلطان، وقد كانت الدعاية التي أذاعها الشريف حسين وأولاده في الطعن في الوهابية وسلطانهم أوسع من كل ما سبقها نشرًا، ولكن كان جل تأثيرها الخيبة وخسران ألوف الدنانير أنفقت عبثًا، وقد كتبنا في إبطالها بضع مقالات نشرناها في جريدة الأهرام ثم في المنار، كان لها من حسن التأثير وقوة البرهان، ما يصح أن يسمى هدمًا لما كان بني في قرن ونصف قرن من الإفك والبهتان، لا لما بناه دعاة هذا الزمن وحده. (4) تغير ما يسمى (الرأي الإسلامي العام) في الحكم على الوهابية وسلطانهم حتى إن استيلاءهم على الحرمين الشريفين تُلُقي بالقبول والارتياح في جميع البلاد الإسلامية، ولم يظهر صوت عال في استنكاره وعده مصابًا على الإسلام في قطر من الأقطار كما كان يرجو الشريف حسين وأولاده وأعوانهم، وإنما سمع نئيم خافت وأنين ضعيف من بعض الروافض وعباد القبور وأنصار الخرافات. ومن الآيات على ذلك إقبال الألوف الكثيرة من المسلمين على طلب الرخصة بالسفر إلى الحجاز إلا دولة العجم الشيعية، فقد منعت الحج لسبب خرافي سنعود إلى الكلام عليه. ومن الآيات الخاصة ببعض الأقطار الإسلامية بل بأهمها وأعظمها شأنًا وقدرًا أن صاحب السيادة والمقام الجليل الإمام يحيى حميد الدين صاحب اليمن قد هنأ الملك عبد العزيز بن السعود على انتصاره، ووثق روابط المودة والولاء معه، وسيكون له مندوب يمثله في المؤتمر الحجازي القريب. ومن هذه الآيات أيضًا ما كان من روابط المودة بين ملك مصر وملك الحجاز، وقد بدأ الأول بإرسال مندوب من قِبله في أثناء زمن الحرب، ثم تلاه الآخر بإرسال مندوب يحمل هدايا المودة وعاد إلى مكة يحمل جزاءها. والذي يرجوه جميع المسلمين - وإن كرهته جماعة الملاحدة واللادينيين - أن يكون التوادّ والولاء بين مصر والحجاز مبنيًا على أقوى قواعد الصدق والإخلاص، وأن يكون التعاون المادي والمعنوي بينهما بالكمال. ومن هذه الآيات الخاصة بأرقى الطبقات الدينية في مصر، ذلك الاحتفال الفخم الجميل الذي كرم به أساتذة مدرسة القضاء الشرعي الحاضرون والسابقون وتلاميذها مندوب الملك عبد العزيز آل سعود في مصر، وهو الشيخ حافظ وهبة المصري الذي كان من تلاميذ هذه المدرسة. فقد اشترك فيه وحضره أرقى شيوخ التعليم وكهوله وشبابه في المدارس العليا وما دونها، وتبارى فيه مصاقع خطبائهم، وفحول شعرائهم في مدح الملك عبد العزيز آل سعود بالدين والإصلاح ونوط رجاء المسلم

نموذج من آراء أساتذة المدارس المصرية

الكاتب: عبد المطلب

_ نموذج من آراء أساتذة المدارس المصرية في الوهابيين ومؤسس الدولة السعودية من قصيدة للأستاذ الشيخ عبد المطلب شاعر البداوة في الحضارة، ألقاها في حفلة القضاء الشرعي التي أشرنا إليها في مقالنا الافتتاحي. عادت إلى الإسلام دولته ... وسما له ببلاده بند وعلى تِهامة من بشاشته ... سبغ الندى والعيشة الرغد نجد تمدُّ إلى الحجاز يدا ... ليست لغير الله تمتد هذي كتائبها تجول به ... غضبى لدين الله تحتد ومنها: فأتته خيل الله معلمة ... نجبًا تزاءر فوقها الأسد يحملن من نجد غطارفة ... للبأس في زفراتها وفد في الفيلق الخضراء يقدمها ... ملك أشم وكوكب نجد ينمي السعود إلى أرومته ... نسب أغر وطالع سعد لا يرهب الموت الزؤام ولو ... أن السماء لوقعه رعد فجلا عن الحرمين من خبث الأ طماع ما أشرى به الجهد والسيف أعدل في حكومته ... للعدل فوق ذبابه حد وحكومة الشورى أحق بهم ... من أن يحكم فيهم الفرد عبد العزيز لك السلام من ... الإسلام والإطراء والحمد أرضيت أحمد في شريعته ... شيدت منها ماله هدوا رضيت قلوب المسلمين بما ... قمتم به ورضاؤها أيد أنفذت حكم السيف حين قضى ... ورددته للسلم إذ ردوا وعفوت إذ فاءوا فلا إحن فيهم تحكمها ولا حقد وكذاك جند الله إن نُصروا ... نام الهوى واستيقظ الرشد فأعد إلى الحرمين مجدهما ... فخمًا فما لسواهما مجد وأعد لدين الله جدته ... إن الورى في كيده جدوا من الناس من لا يربيه ويهذبه إلا الشدة والبؤس، كما أن منهم من يربيه ويهذبه الرخاء والنعمة، وبكل يبتلي الله عباده ويمتحنهم كما قال: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35) وقال في بني إسرائيل: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) ولكن هؤلاء القوم لم يزدهم البؤس والسوء إلا عتوًا وإصرارًا على الفسق والظلم فدمدم عليهم ربهم بذنبهم ومسخهم مسخ خلق وبدن فكانوا قردة بالفعل، أو مسخ خلق ونفس، فكانوا كالقردة في طيشها وشرها، وإفسادها لما تصل إليه أيديها، والأول قول الجمهور والثاني قول مجاهد قال: مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق.

حكم الشرع الشريف في لبس القبعة

الكاتب: محمد عرفة

_ حكم الشرع الشريف في لبس القبعة بيان أصدره المعهد الديني في الإسكندرية، ورغب إلينا في نشره [1] . دعا بعض الشبان المسلمين في مصر من تلاميذ المدارس إلى التشبه بالأمم الأوروبية المسيحية فيما يلبسون على رؤوسهم، وأرادوا حمل أنفسهم وغيرهم على خلع الطرابيش واستبدال القبعات بها، وأيدهم في ذلك بعض الكتاب في مصر. ولما كان الظن بأولئك وهؤلاء أنهم لم يدعوا إلى ما دعوا إليه إلا لجهلهم حظر دينهم له وسوء نسبة ما يريدون أن يتردوا ويردوا غيرهم فيه، وضرر ذلك بالوحدة الوطنية التي تقطعت بها السبل، ولم يبق لنا طريق إلا هو في إقالة عثرتنا وإنهاضنا من كبوتنا، وإصلاح ما أثأث يد الغفلات منا، أردنا أن نبين لهم منع دينهم لما يدعون إليه، وأدلة ذلك وحكمة هذا المنع {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (الأنفال: 42) . ونحن بما قمنا به من ذلك العمل نؤدي نصحًا لأمة وجب علينا ألا نألوا جهدًا في نصحها، وإنارة السبيل أمامها، ونخدم وطنًا له دين في أعناقنا، ونرجو أن نخرج بذلك من رذيلة كتمان العلم التي توعد عليها الله أشد الوعيد بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} (البقرة: 159) . إن المنع من التشبه بالكفار في لباسهم مبني على أصل عظيم في الشرع وهو النهي عن التشبه بالكفار مطلقًا باطنًا وظاهرًا، والأمر بمخالفتهم فيهما، فلنتكلم عن ذلك الأصل الآن، ثم نرده بما اندرج فيه من منع التشبه بهم في لباسهم. *** النهي عن التشبه بالكفار إن المتتبع لآي القرآن الكريم والسنة النبوية وما جاء عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين يعتقد ذلك الأصل الذي قدمناه وهو النهي عن التشبه بمن خالفنا في الدين. فأما القرآن الكريم فمنه قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ} (الجاثية: 18-19) . وقوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) وقوله {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} (المائدة: 48) . وقوله {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} (المائدة: 49) . وقوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام: 153) . وقوله {كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} (التوبة: 69) . فإن قيل إن آي القرآن هذه تنهى عن التشبه بهم فيما كان فعله مفسدة في نفسه من الاعتقادات الباطلة والاستمتاع بالخلاق ... إلخ - وليست نصًّا في النهي عن التشبه بهم فيما ليس فعله مفسدة في نفسه وليس يأتيه الفساد إلا من جهة التشبه بهم - قلنا: إن السنة انتظمت الأمرين جميعًا والسنة مبينة للكتاب، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) . *** (السُّنّة) روى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبَّهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكف) وروى أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود، صوموا يومًا قبله ويومًا بعده) [2] وروى مسلم من خطبة حجة الوداع قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع) وروي في الصحيحين عن رافع بن خديج قال: (قلت يارسول الله إنا لاقوا العدو غدًا وليس معنا مُدى، أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلْ، ليس السِّن والظُّفر وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة) وروى أبو داود في سننه وغيره من حديث الآذان: (اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة كيف يجمع لها الناس؟ فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضًا، فلم يعجبه ذلك، فذكروا له القنع شبور اليهود - أي البوق - فلم يعجبه ذلك وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكر له الناقوس، فقال: هو من فعل النصارى) إلخ الحديث. *** أقوال الصحابة روى الإمام أحمد أن عمر لما دخل بيت المقدس، وأراد الصلاة سأل كعبًا أين ترى أن أصلي؟ قال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة، فقال عمر: ضاهيت اليهود، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم إلى القبلة فصلى. ودعي حذيفة بن اليمان إلى وليمة فرأى شيئًا من زي الأعاجم، فخرج وقال: من تشبه بقوم فهو منهم [3] ، ودخل على أنس بن مالك غلام له قرنان أو قصتان فمسح على رأسه وبرك عليه وقال: احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود. *** أقوال الأئمة المجتهدين علل الأئمة النهي عن كثير من الأشياء بمخالفة الكفار أو مخالفة الأعاجم وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه، فمن ذلك أن الحنفية كرهوا تأخير المغرب، وقالوا لِما فيه من التشبه باليهود، وقالوا: إن صام يوم الشك ينوي أنه من رمضان، كره لأنه تشبه بأهل الكتاب؛ فإنهم زادوا في مدة صومهم، وقالوا: أيضًا لا يجوز الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة للنصوص ولأنه تشبه بالكافرين، وقد تكلم أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في ملابسهم وأعيادهم. وقال مالك: لا يجوز أن يحرم بالأعجمية ولا يدعو بها ولا يحلف، وقال: يكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد، وقال بعض أصحاب مالك: من ذبح بطيخة في أعيادهم فكأنما ذبح خنزيرًا. وعلل الشافعية النهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس، لأن المشركين يسجدون للشمس حينئذٍ، وذكروا في تأخير السحور: إن ذلك فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، وقال الإمام أحمد: (أكره النعل الصرار وهو من زي العجم وكره حلق القفا وقال: هو من فعل المجوس) ، وقال: (من تشبه بقوم فهو منهم) [4] وكره تسمية الشهور بالعجمية، والأشخاص بالأسماء الفارسية. *** ما ورد من النهي عن التشبه بالكفار في اللباس وقد وردت آثار كثيرة تَنهى عن التشبه بالكفار في لباسهم فمن ذلك ما يأتي: روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن التشبه بالأعاجم وقال (من تشبه بقوم فهو منهم) وروى أبو داود [5] من حديث ركانة قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم- يقول (فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس) وروي أيضًا عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أو قال: قال عمر: (إذا كان لأحدكم ثوبان فليصلّ فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب فليأتزر ولا يشتمل اشتمال اليهود) وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث عياش عن بن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم-: (نهى عن أن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرًا مثل الأعاجم) وروى مسلم عن عبد الله بن عمر قال: (رأى النبي - صلى الله عليه وسلم- علي ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار لا تلبسها) . *** أقوال الصحابة في التشبه بهم في اللباس كتب عمر بن الخطاب إلى عامله على أذربيجان عتبة بن فرقد: (ياعتبة إياك وإيا التنعم وزي أهل الشرك) ومما أخذه عمر على أهل الذمة فيما شرطوه على أنفسهم قولهم أن نلزم زيَّنا حيثما كنا، وأن لا نتشبه بالمسلمين في شيء من ملابسهم قلنسوة أو عمامة، ورأى علي قومًا قد سدلوا في الصلاة، فقال: ما لهم كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم أي (مدراسهم) . *** حكمة الشارع في النهي عن التشبه بالكفار والأمر بمخالفتهم في لباسهم فإن قيل: قد علمنا حكمة الشارع في النهي عن التشبه بالكفار في عقائدهم، وهي أنهم كانوا على عقائد باطلة وأخلاق فاسدة، فنهى الشارع عن أن نعتقد اعتقادهم ونتخلق بأخلاقهم لما في نفس هذه الاعتقادات وتلك الأخلاق من قبح وفساد، فما الحكمة في النهي عن التشبه بهم في لباسهم وزيهم وعاداتهم؛ مع أن نفس اللباس والزي ليس فيه فساد؟ وهل فرق بين لباس ولباس؟ قلنا: إن للشارع في ذلك حكمة وهي: أنه يريد أن يجعل من المسلمين أمة متجانسة؛ متحدة ذات أخلاق وعادات، ونزعات، وعقائد، ومشارب متحدة فلما وفق بينهم في الهدى الباطن أراد أن يوفق بينهم في الهدي الظاهر ليكمل هذا التوافق والاتحاد، وأن الاتحاد في الزي الظاهر أدعى على التحاب والتوادّ والمشاكلة والمجانسة، ولذلك يقول علماء الاجتماع: (إن الاتحاد في العقيدة واللغة العادة واللباس من مقومات الأمة؛ ومن دواعي وحدتها؛ فتكون بينهما وحدة معنوية تجعلها كشخص واحد؛ إذا رمت عن قوس واحدة، وإذا لاقت الخطوب لاقتها جميعًا) . وأخرى، وهي: أن الشارع أراد أن يجعل للمسلمين زيًّا مخصوصًا ليتمايزوا فيتعارفوا لأول وهلة وبادئ الأمر، فيقدم أحدهم للآخر ما يقدر عليه من خير، ويدفع عنه ما يقدر على دفعه من شر، ويختصه بمعاملته؛ فتكون معاملاتهم ومتاجراتهم بعضهم مع بعض ما أمكن ذلك، وبذلك تكون خيراتهم لهم ومنافعهم منهم وإليهم، وقد أدركت ذلك (الجمعيات السرية) كالماسونية فجعلوا علامة تميز بينهم وبين غيرهم لهذا الغرض. لست أدري كيف يجمع هؤلاء الدعاة إلى تغيير زيهم ولباسهم بعد أن أصبح زيًّا قوميًّا بين الدعوة إلى ذلك وبين الدعوة إلى الوطنية التي يتفانون فيها؟ ليست الوطنية ألفاظاًَ تُلاك، وجملاً يملأ الشخص بها ماضغيْه، إنما هي أن يعطف الوطني على أخيه الوطني، ويختصه بمعونته ومنافعه، وأن يقوم أهل الوطن بالتعاون على جلب الخيرات إليهم ودفع المضرات عنهم، وكيف يسلس لهم ذلك إذا انبهموا فيما سواهم من الأمم المغيرة عليهم، وغمرتهم هذه السيول الجارفة من الشعوب النازحة إليهم. ألا إن مصر كانت تأكل فاتحِيها فتهضمهم وتحيلهم إلى عصارة تتحول إلى لحم ودم وأعصاب يتقوم بها بدنها، والآن يسعى أبناؤها ليأكلها غيرها من الشعوب الأخرى، وتنماع فيهم كما تنماع القطرة في المحيط. قالوا: إن لبسنا القبعة طريق إلى ذلك الحلم اللذيذ، وهو الوحدة الإنسانية العامة، والوحدة الإنسانية أغنية يتغنى بها الدكتور منصور فهمي ومحمد أفندي دياب وغيرهما، ونحن نقول لهؤلاء: إن وقت هذه الدعوة لم يحِن، إن الأمم تسعى في إنماء قوميتها وتقويتها، والوحدات القومية والجنسية والدينية هي أسلحة الأمم في الحياة وحصونها المنيعة ومعاقلها الرفيعة، فإذا دع

مكان الإسلام من مسلمي الزمان والحكم عليهم بنصوص القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مكان الإسلام من مسلمي الزمان والحكم عليهم بنصوص القرآن هو نص كتاب خاص أرسله الأستاذ -رحمه الله تعالى - إلى أحد خواص العلماء من أعضاء الجمعية السياسية الإسلامية التي كانت تصدر جريدة العروة الوثقى في باريس عقب احتلال الإنكليز لمصر. وهو من أجلّ كتبه الدينية الإصلاحية، بل من أبلغ ما قال أو كتب أئمة الدين وعرفاء الصدِّيقين، من المواعظ والنُّذر، والآيات والعبر التي تنير البصائر وتطهر السرائر وتُزيِّل بين المؤمن والكافر، وتفرّق بين البر والفاجر، فهي ميزان الإيمان، ومسبار العرفان، وهذا نصه منقولاً من الطبعة الثانية للجزء الثاني من تاريخه رحمه الله. لا إله إلا الله وحده لا شريك له وبه الحول والقوة سرني ما نقل إلي كتابك أنك استجبت لربك فيما دعا إليه عموم خلقه بقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} (الأنعام: 11) وإنما يستجيب إليه أهل الرغبة فيه، ولقد حمدت الله أنك لم تجعل سيرك سير الغافلين، ولم تمر على ما لاقاك مرور الذاهلين، بل استعملت بصيرتك ونظرت فيما قام لك من أحوال الناس، لتعلم ماذا أبقت الحوادث فيهم من الاستعداد لقبول الحق والميل للرجوع إليه، وما أظنه ذهب عليك أيام كنت تقلب عين اعتبارك في أطوار أولئك المحجوبين، إن ما هم فيه لا تختلف عن عواقب المكذبين، الذين يأمرنا الله بالنظر كيف كان عاقبة أمرهم، وما أحل الله بدارهم من بوار، وما ألحق بعمرانهم من دمار، وما ألصق بذكرهم من عار وشنار، وكيف يختلف الحال عن الحال، وإنما التكذيب أثر غين يُغشي عين القلب، فيواري عنها وجه الحقيقة، فتعمه ظلمة أشبه بظلمة الخسوف تعلو وجه القمر، فإذا أظلم القلب وهو مستودع السر الذي به كان الإنسان إنسانًا فقد أظلم الإنسان كله، وذهبت قواه تخبط في أفاعيلها على غير هدي، وتعسر عليها أن تلزم طريق الحق والصراط المستقيم. وهذه الحال كما تراها فيمن ينكر الحق بلسانه، ويكذب الداعي إليه بإنكار بيانه. تراها بعينها في هؤلاء المخدوعين الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله وبرسوله وبكتابه، ثم هم في أعمالهم وآمالهم أبعد الناس عن سننه، وأشدهم التواء على أمره ونهيه، وقد علمت أن الله لم ينظر إلى قوم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وأن اليهود لم ينفعهم أن آمنوا بموسى وخلفائه من الأنبياء، وبما جاءوا به من الوحي الإلهي إيماناً يحاكي ما يدعيه المسلمون في هذه الأوقات: كان اليهود يعرفون موسى نبيًّا لهم، والتوراة وكتب الأنبياء هدايات من الله لعقولهم، كما يعرف المسلمون ذلك في كتاب الله تعالى، ولكن الله نعى إلينا أحوالهم في مزاعمهم فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) . فقد جعل تأويلهم التوراة وصرفهم لألفاظها إلى غير ما أراد الله بها وحَيَدَانهم عن العمل بما دعت إليه تكذيباً بآيات الله، وجعل نقضهم لما حُمِّلوا من أحكامها مروقًا منها حيث قال (لم يحلموها) وجعل تصديقهم بها على هذا الوجه بمنزلة احتمال حمار لأسفار، فهو في عناء من ثقلها، على بعد من فائدة ما أودع فيها. أفليس هذا النبأ بعينه يحدث عن أحوال المنتحلين اسم الإسلام في هذه الأيام، وأنهم حملوا القرآن الكريم ثم لم يحملوه، إلى آخر الآية؟ ألم يكن في ظلم أهل هذا العنوان وجمودهم عن حدود الله ما يستحقون به تسجيل الضلالة عليهم كما سجلت على اليهود في قوله (والله لا يهدي القوم الظالمين) ؟ وأشد الظلم ظلم النفس بعدولها عن سنن الحق. ألا يصدق عليهم أنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون؟ ألا ينعي حالهم {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (الحشر: 14) ، ألا يحكي جهلهم {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (البقرة: 78) أي أنهم لا يعلمون منه إلا أن يتلوه تلاوة بغير فهم، فإن طلبوا شيئًا من المعنى لم يكونوا فيه على بصيرة أن يظنون إلا ظنًّا. إني أستلفتك إلى أولئك الذين يتناولون مصاحف القرآن الكريم بأيديهم خصوصاً في شهر رمضان، ثم يطفقون يلوكونه بألسنتهم ويزعمون أنهم يتقربون إلى الله بترنمهم، ويصعدون إلى منازل القرب عنده بنغماتهم ورنين أصواتهم، ويجعلون كل همهم في هز رؤوسهم، والتوفيق بين الهزات وتموج النغمات وما شاكل ذلك من لواحق الصور والهيئات، مما قد يعجب له عرفاء الدين، ويستغرب حدوثه في المسلمين أهل اليقين لبعد النسبة بينه وبين دينهم، والمنافرة الثابتة بينه وبين مقتضى إيمانهم، حتى إذا انصرف أولئك القارئون والتمسوا من قلوبهم عبرة مما قرأوا أو عظة مما سمعوا، لم يجدوا من ذلك قليلاً ولا كثيرًا، بل رجع كل منهم إلى هواه، وأوى إلى قعيدة نواه، وما كان قد انصرف عن وساوسه، ولا انقطع عما استحكم سلطانه في نفسه من شياطين أهوائه، إلا في ظاهر ما يرى للناظر، وإذا سئل أحدهم عن شيء من معنى ما قرأه التجأ إلى الجهل، أو خبط في مضلة من الوهم، وإذا قيس عمله إلى أحكام ما يقرأه، وجدت تبايناً كما بين الإسلام والكفر، فبالله إلا ما أجبتني: هل تجد فرقًا بينهم وبين اليهود فيما قص الله عنهم في قوله (ومنم أميون) ؟ إلخ. ألا تجد الوصول إلى الفرق نزر الوسائل، متعذر الذرائع، ولو سردت من أحوال اليهود والنصارى والمشركين التي قص الله علينا تحذيراً لنا من التدنس بمثلها ووضعتها مع أحوال المسلمين في كفتي ميزان ألا ترجح أحوال المسلمين سوءًا على أحوال أولئك الضالين؟ أصبح المسلم في هذه الأيام حجة للكافر على كفره، وفتنة له يضل بها عما أقام الحق من أعلامه، فإذا قيل إن الإسلام خير الأديان بل هو دين الله الذي أخذ به الأمم السابقة فضلوا فضربهم بأنواع من عذابه في الدنيا، واستبقى لهم ما لا نهاية له من الشقاء في الآخرة، ظهر فيهم بصور مختلفة، ثم جاء في أكمل صورة ببعثة خاتم الأنبياء، مستتمًّا لنوره مكملاً لأمره، لتقوم به الحجة، وتتضح به المحجة، وأصحب هذا القول بألف دليل كلها أوضح من الشمس، وأنفى للشك من ضوء البدر لظلام الليل - رأيت علة واحدة تهدم كل ما بني من الأدلة وهي: لو كان الإسلام دينًا صحيحًا ما وجدنا أهله المستمسكين به (في زعمهم) على ما نرى من فساد الأخلاق وسقوط الهمم، وضلال العقول، هكذا أيها الحبيب أصبحنا فتنة للذين كفروا، والله ينبهنا على ما صرنا إليه بتعليمه إيانا كيف ندعوه إذ يقول {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) وما كان تعليمه الدعاء إلا لنتوسل بالعمل إلى ما نطلب منه، ثم ندعوه المعونة على ما نقصد من موافقة رضاه، فلو فقه المسلم لابتعد جهده عما يجعله فتنة للكافر، وجعل ورده ليله ونهاره {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) ولكان همه في أن يكون بكماله قذى في عين أعدائه، لا أن يكون حقيرًا في أعينهم، ضحكة لهم في محافلهم. ولقد حدث في هذه الأيام الأخيرة أن قسيسًا إنكليزيًّا [1] هداه البحث إلى شيء من محاسن دين الإسلام فأخذ يبث ما علم في الجرائد الإنجليزية وفي المحافل الدينية في إنكلترا، إلا أنه يصعب عليه أن يعلن إسلامه، ويصرح بحقيقة إيمانه لأنه يخاف أن تطول إليه أيدي الاعتداء من قومه وهو يدعو إلى الإسلام تحت حجاب أنه لا يخالف المسيحية الحقيقية بل هو متمم لها، وله فيما يدعو إليه شيعة تنمو في لندرا، وبيننا وبينه مخاطبات لتشجيعه وتقريبه من حقيقة الإيمان، ولا نعلم اليوم ماذا يكون من نهاية أمره، وله معارضون كثيرون من الإنكليز وغيرهم، وإذا تقصيت البحث في جميع حججهم لا تجد في مقدماتها إلا ما يكون راجعًا إلى ما عليه المسلمون الآن من الأخلاق والعوائد والأفكار، وكلما جاء الرجل لهم بشيء من أحكام كتاب الله أو بأثر من آثار المسلمين الأولين. رأيت أولئك الجاحدين يقابلونه بأحكام يعدها المسلمون من حدود دينهم، يعولون عليها في أعمالهم، وهي مقصية لهم عن الكمال، ساقطة بهم عن أدنى مراتب الرجال، فكلما ردهم إلى الله ورسوله ردوه إلى أحوال المنتسبين إلى هذا الدين القويم، وهم عاره، وبهم يهدم مناره، وتخفي آثاره، لو بقى في أيديهم أمره، غير أني أرى الله سيحول أمر دينه عن هؤلاء الذين لبسوا على أنفسهم، وانقلبوا فتنة لغيرهم، ثم ينتقم منهم بأيدي الظالمين والصالحين {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (الأنعام: 89) - {وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد: 38) فهنيئاً لمن أعد نفسه، وسبق تعسة، فشحذ همته، وطهر نيته وقوم إرادته واستجمع عزيمته، للقاء ركب الله الذي سيفد عليه، فيكون إما راجلاً في مشاته، أو فارساً من كماته، أو خادمًا في حاجاته، أو سيدًا في رياساته، ولا يكون شيئًا من ذلك حتى يكون الله ورسوله أحب إليه من نفسه، وحتى يكون كتاب الله أصدق الشاهدين له لا عليه، وحاشا كتاب الله أن يشهد إلا لمن لبّى دعوته، وقبل شهادته، ونصبه إماماً في محراب الوجود يتبعه بصره، ويحذوه في سيره، يقوم إذا قام ويقعد إذا قعد يعظم ما عظم ويحقر ما حقر ويطلق ما أطلق ويقيد ما قيد، ثم أقام له من زواجره خطيبًا إلى قلبه، وواعظًا يصدع بأمر ربه على منبر لبه، يعلمه إذا جهل، ويوقظه إذا غفل، ويذكره إذا ذهل، ويحثه إذا كسل، ويسرع به إذا أبطأ، وينهضه إذا تلكأ ويستلفته إلى الصواب إذا أخطأ، يهديه إذا تحير، ولا يعدو به الخير إذا تخير، يرد جماحه إذا جمح، ويكف من غربه إذا طمح، حتى يقيمه على الصراط السوي ويصعد به إلى المقام العلي، وكيف يستعمر القرآن قلبًا تشغله الأهواء الباطلة وتستوكره الرغائب الزائلة؟ إن القرآن طاهر لا يجاور إلا طاهرًا، وقويم يأبى أن يساكن جائرًا، زكي لا يأنس للأرجاس عليّ يأنف من مقاربة الأدناس، فلا عجب إذا استوبل المقام في هذه القلوب المحتشية بالعيوب وتركها وشياطين الوساوس تخبط بها في مخاري الدنيا ومهالك الآخرة. يا عجبًا لمن يدعي الإسلام، وهو يعرف من نفسه أن أمرًا لو جاءه من أصغر الحكام عليه بلغة غير لغته لما قرت له راحة، ولا اطمأنت به نفس، حتى يقف على ترجمته. ولا يكتفي بمترجم واحد حتى تكون ثقته به كثقته بنفسه وإلا راجع ثانياً وثالثاً طلباً لدقائق المعاني لا يفوته شيء مما حواه أمر آمره فيقع في مخالفته إلى غير هواه، وكلما عظم مكان الأمر أشتد الحرص على استجلاء مراده، خشية الوقوع في حداده، أو ما يبعث الظن إلى التحرش بعناده، وقد يكون الأمر مما يضره ولا ينفعه، ويخفضه ولا يرفعه، كل ذلك للبعد عن مساخطه والارتياح إلى مراضيه - هذا وهو يزعم الاعتقاد بأن القابض على ناصية أمره هو الله سبحانه وتعالى وهو المقلب لقلبه والآخذ بعنان إرداته. ثم هذا أمر سام ورد له من عليّ متعال، رب الأرباب ومخضع الرقاب، قهار السماوات والأرض، الذي لا ترد مشيئته، ولا تخالف إرادته. الكتاب المجيد يتجلى به في منازل الرحمة، ويستفيض من ديم النعمة، ويقيم به على السعادة أعل

مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات جوابُ سؤالٍ رُفِعَ إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (الوجه الثاني) في تبيين وجوب الإقرار بالإثبات، علو الله على السموات أن يقال: من المعلوم أن الله تعالى أكمل الدين، وأتم النعمه، وأن الله أنزل الكتاب تبياناً لكل شيء وأن معرفة ما يستحقه الله وما تنزه عنه هو من أجلّ أمور الدين وأعظم أصوله وأن بيان هذا وتفصيله أولى من كل شيء، فكيف يجوز أن يكون هذا الباب لم يبينه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولم يفصله ولم يعلم أمته ما يقولون في هذا الباب؟ وكيف يكون الدين قد كمل وقد تركوا على البيضاء ولا يدرون بماذا يعرفون ربهم، أبما تقوله النفاة، أو بأقوال أهل الإثبات؟ (الثالث) أن يقال: كل من فيه أدنى محبه للعلم، أو أدنى محبة للعبادة لا بد أن يخطر بقلبه هذا الباب ويقصد فيه الحق ومعرفة الخطأ من الصواب، فلا يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون عنه، ولا يشتاقون إلى معرفته، ولا تطلب قلوبهم الحق منه، وهم ليلاً ونهارًا يتوجهون بقلوبهم إليه ويدعونه تضرعاً وخيفة ورغبًا ورهبًا، والقلوب مجبولة مفطورة على طلب العلم. فهذا ومعرفة الحق فيه وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى كثير من الأمور ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول المراد وهم قادرون على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وسؤال بعضهم بعضًا، وقد سألوه عما هو دون هذا: سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم. وسأله أبو رزين: أيضحك ربنا؟ فقال نعم فقال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا. ثم إنهم لما سألوه عن الرؤية قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس القمر) فشبه الرؤية بالرؤية. والنفاة لا يقولون يُرى كما تُرى الشمس والقمر بل قولهم الحقيقي أنه لا يرى بحال ومن قال يرى موافقة لأهل الإثبات ومنافقة لهم فسر الرؤية بمزيد علم فلا تكون كرؤية الشمس والقمر. والمقصود هنا أنهم لا بد أن يسألوا عن ربهم الذي يعبدونه - إن كان ما تقوله الجهمية حقًّا - وإذا سألوه فلابد أن يجيبهم، ومن المعلوم بالاضطرار أن ما تقوله الجهمية النفاة لم ينقله عنه أحد من أهل التبليغ عنه، وإنما نقلوا عنه ما يوافق قول أهل الإثبات. (الوجه الرابع) أن يقال: إما أن يكون الله يحب منا أن نعتقد قول النفاة أو نعتقد قول أهل الإثبات أو لا نعتقد واحداً منهما. فإن كان مطلوبه منا اعتقاد قول النفاة وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه وأنه ليس فوق السموات رب ولا على العرش إله، وأن محمداً لم يُعرج به إلى الله وإنما عُرج به إلى السموات فقط لا إلى الله، فإن الملائكة لا تعرج إلى الله بل إلى ملكوته، وأن الله لا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيئًا، وأمثال ذلك وإن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعه فيها إجمال وإبهام كقولهم: ليس بمتحيز ولا جسم ولا جوهر ولا هو في جهة ولا مكان، وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب تعالى عن النقائض، ومقصدهم أنه ليس فوق السموات رب، ولا على العرش إله يعبد، ولا عرج بالرسول إلى الله وإنما المقصود أنه إن كان الذي يحبه الله لنا أن نعتقد هذا النفي فالصحابة والتابعون أفضل منا، فقد كانوا يعتقدون هذا النفي والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتقده، وإذا كان الله ورسوله يرضاه لنا، وهو إما واجب علينا أو مستحب لنا فلابد أن يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو واجب علينا، ويدنينا إلى ما هو مستحب لنا، ولابد أن يظهر عنه وعن المؤمنين ما فيه إثبات لمحبوب الله ومرضاته، وما يقرب إليه لاسيما مع قوله عز وجل {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (المائدة: 3) لا سيما والجهمية تجعل هذا أصل الدين، وهو عندهم التوحيد الذي لا يخالفه إلا شقي، فكيف لا يعلِّم الرسول صلى الله عليه وسلم أمته التوحيد؟ وكيف لا يكون التوحيد معروفًا عند الصحابة والتابعين؟ والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم يسمون مذهب النفاة التوحيد وقد سمى صاحب المرشدة أصحابه الموحدين إذ عندهم مذهب النفاة هو التوحيد، وإذا كان كذلك كان من المعلوم أنه لابد أن يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتكلموا بمذهب النفاة، فعلم أنه ليس بواجب ولا مستحب، بل عُلم أنه ليس من التوحيد الذي شرعه الله تعالى لعباده. وإن كان يحب منا مذهب الإثبات، وهو الذي أمرنا به فلا بد أيضًا أن يبين ذلك لنا، ومعلوم أن في الكتاب والسنة من إثبات العلو والصفات أعظم مما فيهما من إثبات الوضوء والتيمم والصيام وتحريم ذوات المحارم وخبيث المطاعم ونحو ذلك من الشرائع. فعلى قول أهل الإثبات يكون الدين كاملاً، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغًا مبينًا والتوحيد عند السلف مشهورًا معروفًا. والكتاب والسنة يصدق بعضه بعضاً والسلف خير هذه الأمة وطريقهم أفضل الطرق، والقرآن كله حق ليس فيه إضلال، ولا دل على كفر ومحال، بل هو الشفاء والهدى والنور. وهذه كلها لوازم ملتزمة ونتائج مقبولة. فقولهم مؤتلف غير مختلف ومقبول غير مردود. وإن كان الذي يحبه الله ألا نثبت ولا ننفي بل نبقى في الجهل البسيط وفي ظلمات بعضها فوق بعض لا نفرق الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال ولا الصدق من الكذب بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكّين الحيارى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ} (النساء: 143) لا مصدقين ولا مكذبين - لزم من ذلك أن يكون الله يحب منا عدم العلم بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم العلم بما يستحقه الله سبحانه وتعالى من الصفات التامات، وعدم العلم بالحق من الباطل، ويحب منا الحيرة والشك. ومن المعلوم أن الله لا يحب الجهل ولا الشك ولا الحيرة ولا الضلال وإنما يحب الدين والعلم واليقين. وقد ذم الحيرة بقوله تعالى {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنعام: 71-72) وقد أمرنا الله تعالى أن نقول {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) . وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) فهو يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب الله عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد قال الله له: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) وما يذكره بعض الناس عنه أنه قال: (زدني فيك تحيرًا) كذب باتفاق أهل العلم بحديثه، بل هذا سؤال من هو حائر وقد سأل المزيد من الحيرة، ولا يجوز لأحد أن يسأل ويدعو بمزيد الحيرة إذا كان حائراً بل يسأل الهدى والعلم، فكيف بمن هو هادي الخلق من الضلال وإنما ينقل هذا عن بعض الشيوخ الذين لا يقتدي بهم في مثل هذا إن صح النقل عنه فهذا يلزم عليه أمور. (أحدها) أن من قال هذا فعليه أن ينكر على النفاة، فإنهم ابتدعوا ألفاظًا ومعاني لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة. وأما المثبتة إذا اقتصروا على النصوص فليس له الإنكار عليهم - وهؤلاء الواقفة هم في الباطن يوافقون النفاة أو يقرونهم، وإنما يعارضون المثبتة فعلم أنهم أقروا أهل البدعة، وعادوا أهل السنة. (الثاني) أن يقال: عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحب الله ورسوله فهذا القول باطل. (الثالث) أن يقال الشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين غاية ما في الباب، إن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت. فأما من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على العالم الجازم المستبصر المتبع المرسول للعالم بالمنقول والمنقول. (الرابع) أن يقال السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة وقالوا بالإثبات وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في هذا المكان، وكلام الأئمة المشاهير مثل مالك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبي عبيدة وأئمة أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد موجود كثير لايحصيه أحد. وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات فإن السائل قال له: يا أبا عبد الله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وفي لفظ: استواؤه معلوم أو معقول، والكيف غير معقول والإيمان به واجب، السؤال عنه بدعه. فقد أخبر رضي الله عنه بأن نفس الاستواء معلوم وأن كيفية الاستواء مجهولة، وهذا بعينه قول أهل الإثبات. وأما النفاة فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله أن الاستواء مجهول غير معلوم. وإن كان الاستواء مجهولاً لم يحتج أن يقال: الكيف مجهول لا سيما إذا كان الاستواء منفيًا فالمنفي المعدوم لا كيفية له حتى يقال: هي مجهولة أو معلومة، وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنه معلوم وأن له كيفية لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن. ولهذا بدع السائل الذي سأله عن هذه الكيفية، فإن السؤال إنما يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استوائه، وليس كل ما كان معلومًا وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا. يبين ذلك أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال: الله في السماء وعلمه في كل مكان حتى ذكر ذلك مكي في كتاب التفسير الذي جمعه من كلام مالك ونقله أبو عمر والطلمنكي وأبو عمر بن عبد البر وابن أبي زيد في المختصر وغير واحد ولو كان مالك من الواقفة أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات. والقول الذي قاله مالك قاله قبله ربيعة بن عبد الرحمن شيخه كما رواه عنه سفيان بن عيينة وقال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشوني كلاماً طويلاً يقرر مذهب الإثبات ويرد على النفاة وقد ذكرناه في غير هذا الموضع. وكلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم، وكلام أئمة المالكية وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور، لأن علماءهم حكموا إجماع أهل السنة والجماعة على أن الله بذاته فوق عرشه. وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أئمة السنة ولم يكن من أئمة المالكية من خالف ابن أبي زيد في هذا وهو إنما ذكر هذا في مقدمة الرسالة لتُلَقَّن لجميع المسلمين لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد. ولم يرد على ابن أبي زيد في هذا إلا من كان من أتباع الجهمية النفاة لم يعتمد من خالفه على أنه بدعة ولا أنه مخا

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتماغاندي ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الباب الرابع الماء الماء يلي الهواء في المكانة والمنفعة. فالإنسان يستطيع أن يعيش بدونه بضعة أيام. ولا بد له منه على كل حال. ويمكنه أن يعيش بدون غذاء مدة أكثر من المدة التي يستطيع أن يعيشها بدون الماء. إن نسبة الماء إلى غيره في أغذيتنا أكثر من 70 في المائة، وهو يوجد بمثل هذا المقدار في الجسم الإنساني، وإذا حرم منه ينقص ثقله كثيرًا. ولكنا مع شدة حاجتنا إلى الماء قلما نبالي بالمحافظة على نقائه ونظافته، إن الطاعون والهيضة وغيرهما من الأوبئة الجارفة تنشأ من فساد الهواء والماء، وكذلك يتولد مرض الحصاة (النواة) في المثانة من شرب الماء القذر. يفسد الماء بسببين: فهو إما أن يكون في مكان مفسد له، وإما أن نفسده نحن بأنفسنا. فأما الماء المجتمع في المكان القذر فيجب الحذر من شربه، ونحن نحترز منه فعلاً، ولكننا لا نشمئز من شرب الماء الذي أفسدناه نحن بأيدينا. فماء الأنهار الذي يعد أصلح المياه للشرب نفسده بإلقاء أنواع الأقذار فيه، وكذلك نغتسل ونغسل الأثواب الوسخة فيه. يجب أن نحذر كل الحذر من شرب الماء الذي يغتسل فيه الناس. ويجب أن نخصص الجهة العليا من النهر للشرب وحده، ونترك الجهة السفلى للاغتسال وغسل الأشياء الوسخة. أما البلاد التي لا يتبع فيها هذا النظام فقد تعود كثير من الناس هناك عادة حسنة وهي أنهم يحفرون حفرة في الرمل على طرف النهر ويأخذون منها الماء لشربهم، وهذا الماء يكون نظيفًا جدًّا، لأنه يصفو وينظف برشحه من غربال (مصفاة) الرمل. إن شرب ماء الآبار يحدث ضررًا كبيرًا إذا لم تكن البئر مبنية بناءً محكمًا. فتقاطر الماء الوسخ من فوقه، وسقوط الطيور والهوام وتعفنها فيه، واتخاذ الطيور أوكارها في داخله، كل ذلك يفسد ماءه. وكذلك قد تتسرب إليه الوساخات والرطوبات من باطن الأرض فتفسده وتجعله غير صالح للشرب، يجب علينا أن نحترس كثيراً في شرب ماء الآبار. وكذلك خزن الماء في الأحواض الوسخة المكشوفة تفسده، فللمحافظة على نقائه يجب تنظيف الأحواض حيناً بعد حين وتغطيتها، ويجب أن نراعي ونلاحظ الأحواض والآبار، هل هي في حالة حسنة أم لا؟ ومن المؤسفات أن قليلاً من الناس يراعي طهارة الماء مراعاة تامة. وأحسن طريقة لإزالة كل ما يطرأ على الماء من الفساد هي أن يُغلى جيدًا ويصفى بعد برده في قماش سميك نظيف إلى إناء آخر بكل احتياط. لا تنتهي وظيفتنا عند هذا الحد، بل علينا واجب آخر أكبر من هذا الواجب وهو أن نراعي صحة أبناء جنسنا أيضًا، فتتجنب كل ما من شأنه إفساد الماء الذي يشربه الناس بنحو الاغتسال أو غسل الملابس في موارد العامة للشرب خاصة، أو قضاء الحاجة والبول على شواطئ الأنهار، وكذلك إحراق الموتى هنالك وإلقاء رمادها في الماء [1] . مهما يفعل من العناية والاحتياط فإن المحافظة التامة على طهارة الماء في غاية العسر لأنه قد يذوب فيه الملح أو يسقط الحشيش وغيره من الأشياء التي إذا بقيت في الماء تعفنت وأفسدته. إن ماء المطر أطهر المياه وأنظفها بلا ريب. ولكنه أيضاً يفسد في أكثر الأحيان قبل وصوله إلينا لاختلاطه بالذرات الموجودة في الفضاء. إن الماء النقي له تأثير حسن جدًا في الجسم، ولذلك يهيىء الأطباء الماء المقطر لمرضاهم. فالذين يشكون الإمساك أكثرهم يشفون بشرب الماء المقطر. لقد جاء في كتاب حديث في (الماء المقطر وطرق استعماله) أن جميع الأمراض يمكن معالجتها بشرب الماء المقطر بطريقة مخصوصة. نعم، إن هذا القول لا يخلو من المبالغة، ولكن مما لا ريب فيه أن الماء الطاهر من جميع المفسدات يؤثر تأثيراً عظيماً جدًّا في الجسم. لا يعرف كثير من الناس أن الماء على نوعين: خفيف وثقيل. فالماء الثقيل هو الذي قد امتزجت فيه بعض الأملاح! ولذلك لا يرغو فيه الصابون كثيرًا، ولا ينضج معه الطعام بسهولة، ويكون طعمه مالحًا، وطعم الماء الخفيف حلو عذب، أو على الأقل بدون طعم. ويرى بعض الناس أن شرب الماء الثقيل أولى من شرب الماء الخفيف. ولكن التجارب أثبتت أن الماء الثقيل يضعف قوة الهضم. ولذلك يبدو لنا أن شرب الماء الخفيف بالجملة أحسن وأسلم. إن ماء المطر أصلح أنواع المياه الخفيفة للشرب إذا سلم من الفساد. إن الماء الثقيل إذا أغلي جيداً وترك على النار نحو نصف ساعة من الزمن يعود خفيفًا، ويصح شربه بعد تقطيره. كثيرًا ما سئلت الأطباء هذا السؤال: متى ينبغي شرب الماء؟ وما مقدار ما يشرب منه؟ والجواب الوحيد هو أنه لا ينبغي لإنسان أن يشرب الماء إلا إذا عطش، ولا يشرب إلا المقدار الذي يزيل عطشه، ولا بأس من شربه أثناء الأكل وبعده مباشرة. ولكن لا ينبغي إساغة اللقم به. إن بشاعة اللقمة واستعصاءها على البلع، معناه أنها لم تمضغ جيدًا أو أن المعدة ليست في حاجة إليها. لا ضرورة بل لا حاجة إلى شرب الماء في كل وقت، فإن في مواد غذائنا مقدارًا كبيرًا من الماء كما تقدم، ونحن نزيده في أثناء الطبخ، فإذن لماذا نحن نعطش؟ إن الذين لا يستعملون في أطعمتهم البهارات والتوابل والبصل وغيرها من الأشياء التي توجب العطش الصناعي، قلَّما يحتاجون إلى شرب الماء، والذين يعطشون كثيرًا لا بد أن يكونوا مصابين ببعض الأمراض. قد نرغب في شرب الماء من أي نوع كان. وما ذلك إلا لأننا نرى بعض الناس يفعلون ذلك بلا مبالاة فنقلدهم نحن أيضاً. لقد فصلنا جواب هذه المسألة في باب الهواء. إن في الدم نفسه قوة تقتل كثيرًا من الجراثيم السامة التي تدخل فيه، ولكن يجب تنظيفه وإصلاحه مثل ما يصلح حد السيف بالشحذ كلما تثلم بالاستعمال، إذا كنا نشرب الماء الفاسد فلا ينبغي أن نتعجب إن وجدنا دمنا قد تسمم على مر الأيام. *** الباب الخامس الغذاء إن الماء والهواء والحبوب كل هذه الثلاثة داخله في غذائنا، ولكننا نعد الحبوب وحدها هو الغذاء، مع أن الهواء هو أول غذاء لنا؛ لأننا لا يمكننا أن نعيش بدونه، ثم يليه الماء الذي هو أهم من الحبوب. وقد أوجدته الطبيعة بكمية كبيرة فنجده بسهولة خلافًا للحبوب التي هي في الدرجة الثالثة من غذائنا. لا يمكن وضع القوانين المنضبطة بكل دقة في مسألة الغذاء. وأي نوع من الغذاء ينبغي استعماله؟ كم يكون مقداره؟ وفي أي الأوقات؟ هذه المسألة قد اختلف فيها الأطباء اختلافًا كبيرًا. إن عوائد الناس في البلاد المختلفة متباينة جدًّا، حتى إن الغذاء الواحد قد يحدث تأثيرات مختلفة في فردين مختلفين. فعلى ذلك لا يمكن تحديد الغذاء والبتّ في الأسئلة السابقة. فإنه يوجد على الكرة الأرضية قوم يأكلون لحوم البشر، فلحم البشر غذاء لهم. وآخرون يقتاتون بالقاذورات فهي غذاء لهم. ويعيش أقوام على اللبن فهو غذاء لهم، ويعيش غيرهم على الثمار فهي غذاء لهم. ولكن مع تعذر تحديد الغذاء تحديدًا تامًّا يجب أن نتدبر في المسألة بكل اهتمام لا حاجة إلى التذكير بأن الجسم لا بقاء له بدون الغذاء، ولذلك نركب الصعاب ونتحمل المصائب في تحصيله. ثم إنه مما لا ريب فيه أن 99 في المائة من الرجال والنساء يأكلون للذة البطن واللسان فقط، فهم لا يتوقفون أثناء الأكل للتأمل في النتائج التي تتبعه بعد تناوله، ويشرب كثير من الناس المسهلات ويتعاطون الحبوب الهاضمة ليتمكنوا من الإكثار من الأكل ثانية وكذلك يوجد أناس يشحنون بطونهم فوق طاقتها ثم يستفرغون ما أكلوا ليتمكنوا من الأكل مثل المقدار الأول. ومن الناس من يكثر من الأكل حتى لا يجوع أيامًا عديدة، وقد وجد أناس ماتوا لأنهم أكلوا فوق طاقتهم، أقول: كل هذا على تجربتي الشخصية. وإني كلما أتفكر في حياتي الماضية أضحك على كثير من أعمالي ولا أتمالك من الاستحياء من بعضها. فقد كنت في تلك الأيام المظلمة أشرب الشاي صباحاً، ثم أتناول الفطور بعده بساعتين أو ثلاث، ثم أتغذى الساعة الواحدة، ثم أشرب الشاي ثانية، ثم أجلس للعشاء بين السادسة والسابعة، ولا تسأل عن تعاستي وسوء حالتي في تلك الأيام فقد كانت تستدعي العطف والرحمة، فكان حشو جسمي الكثير من الشحم وقوارير الأدوية لا تبرح يدي. وكنت أكثر من شرب المسهلات وأستعمل الأدوية المقوية لأتمكن من الأكل الكثير، وأما قواي العقلية والجسدية فكانت في حالة يرثى لها. فما كنت أملك ثلث نشاطي ومقدرتي على العمل التي أجدها الآن، مع أني كنت إذ ذاك في عنفوان شبابي. لا ريب أن مثل هذه الحالة تعسة حقًّا، وإننا لو نتدبر في الأمر بجد وتروِّ نجزم بأنها حالة رذلة آثمة مستحقة لكل مقت وتقبيح. إن الإنسان لم يخلق للأكل ولا ينبغي له أن يعيش للأكل. إن وظيفته الحق هي أن يعرف خالقه ويعبده حق عبادته وإنما الأكل لتقوية الجسم ليقوم بهذه العبادة لا غير. حتى إن الملاحدة أيضاً يسلمون أننا لا نأكل إلا لحفظ الصحة وكل ما زاد على ذلك فلا حاجة إليه مطلقًا. انظر إلى الطيور والحيوانات تجد أنها لا تأكل لمجرد التمتع باللذة، فهي لا تملأ بطونها ملأ ولا تقبل الأكل إلا إذا جاعت ولا تأكل إلا القدر الذي يزول به ألم الجوع وتقتصر عليه، ثم هي لا تجاوز الغذاء الذي هيئته لها الطبيعة بأيديها فلا تطبخ طعامها، ولا تغير طعمه بطرق صناعية. فهل يمكن يا ترى أن يكون الإنسان وحده قد خلق ليعبد لذته؟ وهل يمكن أن يكون هو وحده قد قدر عليه الشقاء بالأمراض دائمًا؟ إن الحيوانات التي تعيش وتحيا حياة حرة طبيعية لا يموت منها أحد بسبب الجوع، ولا يوجد بينها التمييز بين الفقير والغني - بين الذين يأكلون مرات عديدة في اليوم، والذين لا يجدون الطعام ولا مرة واحدة في يومهم - إن هذا التفاوت والتمايز لا يوجد إلا في البشر وحدهم. ومع ذلك نحن نعد أنفسنا أفضل وأعلى من الحيوانات! لا ريب أن الذين يقضون أعمارهم في عبادة بطونهم لأحطّ من الطيور والبهائم! إن التدبر العميق يثبت لنا أن جميع الذنوب مثل الكذب والغش والسرقة إنما هي نتائج لازمة لعبوديتنا للذة، والذي يستطيع أن يملك زمام لذته يستطيع أن يملك بسهولة مشاعره الأخرى. إن كنا نكذب أو نسرق أو نزني تسقط منزلتنا من أعين المجتمع الإنساني. ولكن ما أعجب ما نرى من أن الناس لا يبدون أي اشمئزاز أو تحقير لأولئك الذين يتدينون للذة بطونهم بلا خجل ولا استحياء كأن هذا الإثم لا علاقة لها بالأخلاق مطلقًا! وما ذلك إلا لأن أحسن الناس وأكبرهم أيضًا يعبدون لذاتهم. إن جميع المتمدينين يجتنبون مصاحبة الكذابين واللصوص والزناة، ولكنهم أنفسهم يأكلون فوق كل حد، ولا يعدون ذلك ذنباً أصلاً! إن الخضوع للذة لا يعد فينا ذنباً لأننا جميعاً نرتكبه، كما أن اللصوصية لا تعد جناية في قرية اللصوص! وأقبح من كل هذا أننا عوضًا من أن نستحي من هذه العادة نفتخر ونتباهى بها. فترى عبادة اللذة في الأعراس والأفراح والأعياد كوظيفة مقدسة واجبة علينا، حتى في المآتم لا نخجل من القيام بهذا العار الفظيع! وإذا جاءنا ضيف بادرنا إلى شحن بطنه بالحلوى، وإذا لم نُقم لأصحابنا وأقاربنا المآدب أو لم نشترك في ولائمهم ووضائمهم كل حين نبوء بسخطهم، ونكون عرضة لملامتهم، وإن دعونا أصحابنا إلى مائدتنا، ثم قصرنا في شحن بطونهم بالأطعمة الثمينة فإننا بلا ريب نعد من البخلاء! وأما أيام المواسم والأعياد فنرى إعداد الطعام اللذيذ الشهي فيها واجبًا كبيرًا علينا. لا

حديث عن الجامعة الأحمدية المشهورة في بلادنا باسم القاديانية

الكاتب: المغربي

_ حديث عن الجامعة الأحمدية المشهورة - في بلادنا - باسم القاديانية [*] تمهيد: اتفق لي في السنة الأولى من سني الحرب العامة وأنا في القدس أن تعرفت بشاب هندي اسمه (زين العابدين) من خيرة من عرفت من الشبان علماً وفضلاً، وأدبًا وأخلاقًا، وحمية لدينه، ودفاعًا عن يقينه، وقد استحكمت بيني وبينه وشائج الثقة. وكذلك كان شأنه مع كل من عرفه، ووقف على جميل سجاياه. وكان يقول: إنه إنما جاء سورية لأجل درس اللغة العربية وتحصيل ملكة الكتابة فيها. وأن جمعيته في الهند البالغ عددها خمسمائة ألف نفس هي التي أوفدته على نفقتها لهذا الغرض. وأن الحرب قد حالت بينه وبين الرجوع إلى بلاده. ثم انقضت الحرب فأوطن دمشق فنذرت به السلطة الإنكليزية فساقته إلى مصر وحاكمته بحجة أنه كان يشغتل في أثناء الحرب ضد المصلحة البريطانية. ثم تبرأ وعاد إلى بلاده (بنجاب) وجعل يكاتبني حتى زار دمشق في صيف سنة 1924 الميرزا بشير الدين زعيم الفرقة الأحمدية الملقب بخليفة المسيح الموعود ومعه كتاب من الصديق (زين العبادين) يخبرني فيه بقدوم الميرزا ويوصيني بحسن استقباله. ففهمت إذ ذاك أن زين العابدين هو من أتباع مسيح البنجاب بل هو (الماكينة) المحركة في ذلك الدولاب. كما فهمت أنه يتولى كتابة السر في المسيحية الموعودة ويقوم بشؤون التربية والتعليم في تلك الجامعة الجديدة. ثم كان من أمر (الميرزا بشير الدين) مع أهل دمشق وهياجهم عليه ما كان فغادر الرجل دمشق إلى لندره لشهود مؤتمر الأديان العام فيها. وفي صيف السنة التالية أي سنة 1925 جاء زين العابدين نفسه إلى دمشق، فرحبت به، ولم آل جهداً في معاتبته، ثم لم يكن يضمني وإياه مجلس إلا جاء فيه ذكر فرقتهم، وغريب دعوتهم، فكنا تارة نجادله، وطوراً نهازله، وآونة نعجب منه، وأحياناً ننافح عنه، وشد ما تمنيت عليه أو تفرغ نحلتهم في قالب إصلاحي جدي، غير القالب الذي أفرغوها فيه، فيكون لها من حسن الأثر في التربية العامة ما كان للطرائق الصوفية الحكيمة، فكان تارة يصغي إلى قولي ويرتاح إليه، وطورًا يخالفني إلى فكر يريغ مني الموافقة عليه. أما القصد من مجيئه مع رفيق له من علماء فرقتهم إلى دمشق - فهو أنه يريد إزالة سوء التفاهم الذي كان وقع بين أفاضلها وبين زعيم الفرقة الميرزا (بشير الدين) ويكشف الغموض والإبهام عن بعض تعابير وأقوال كانوا يسمعونها منه فيسيئون بها وبه الظن، مع أنها تنطبق - في زعمه - على تعاليم الإسلام وتلتحم بنصوصه. وقد باشر (زين العابدين) بالفعل وظيفته هذه ونشر بهذا المعنى مقالات في بعض الصحف، وناظر نفرًا من العلماء والشبان، وكتب رسالة وطبعها في دمشق تتضمن بعض تلك المناظرات، ثم رأى أن يضع كتابًا آخر يكون أغزر مادة، وأجمع للفائدة فألفه وسماه (حياة المسيح ووفاته) بلغ نحو (215) صفحة وقد طبعه في دمشق ووزعه على أصدقائه ومعارفه، وأهدى منه إلى بعض المشهورين من العلماء والصحافيين، وقد زارني في داري وقدم إليَّ نسخة منه، وكلفني بلهجة الصديق المحب أن أكتب كلمة تنشر وتؤثر عنه، فكتبت هذه الكلمة، وقد رأيتها خير كلمة تعبر عن الحقيقة، ويعاتب بها الصديق صديقه، واخترت (مجلة المنار) لتنشر فيها، ويكون الصديق الأبرّ السيد رشيد حكمًا ومهيمنًا عليها، وهذه هي الكلمة: *** كتاب حياة المسيح ووفاته طالعت كتابك يا صديقي (زين العابدين) في موضوع (حياة المسيح وموته) بعد أن كلفتني مطالعته وإبداء رأيي فيه، فها أنا ذا أذكر ذلك ما كان يجول في نفسي وأنا أتصفحه، وقد أعرضت في كلمتي هذه عن الاستشهاد بالنصوص الدينية وسرد ما قالوه في تأويلها، كما أنني لم أنازعك فيما ذكرت أنت وأولت من هذا القبيل؛ لأنني صرت أعتقد أن إصلاح أمرنا والتوفيق بين فرقنا - معشر المسلمين - عن طريق تلك النصوص وتأويلها أصبح عقيمًا لا يفيد. فأنا أرجح الإصلاح والتوفيق من طريق (المحاكمات) العقلية والاجتماعية والتاريخية، ثم الاعتبار بحوادث الزمان، والرجوع إلى نواميس العمران، فأقول: إن صاحب دعوتكم (غلام أحمد) يذهب إلى أن السيد عيسى عليه السلام أنزل عن الصليب وفيه رمق ثم تداوى وشفي وساح في الأرض حتى بلغ كشمير ودفن ثمة، فليس هو الآن حيًّا في السماء بجسده كما يعتقد المسلمون والنصارى. وبالضرورة أنه سوف لا ينزل من السماء في آخر الزمان وإنما يقوم من بين المسلمين رجل على سمته وهديه فَيَلِمّ شعث الأمة الإسلامية ويجمع فرقتها بعد الشتات، وقد ذهب (غلام أحمد) إلى أن هذا هو معنى ما ورد من نزول السيد عيسى عليه السلام، ثم أولَ جميع النصوص وأرجعها إلى هذا المعنى. قد يوجد في أحرار المسلمين المتعلمين اليوم من يقول بما قال به (غلام أحمد) بشان موت المسيح موتًا حقيقيًّا، ويؤوّل الآثار الدالة على نزوله ولكن ليس قولهم هذا من قبيل المتابعة لغلام أحمد ومذهبه المُوحى إليه به، وإنما هذه الموافقة له جاءت من كون حياة عيسى وصعوده إلى السماء ثم نزوله في آخر الزمان هي كسائر العقائد من نوعها التي اعتمد جمهور علمائنا رضي الله عنهم ظاهرها إيمانًا بشمول القدرة الإلهية. وقد غلب هذا الاعتقاد فيما كان من هذا النوع من مسائل الكلام، وشاع حتى دُوِّن في كتب العقائد الإسلامية، وإن كان يوجد في علماء الإسلام المتقدمين من يذهب إلى غير ما عليه الجمهور فيؤول ظاهر الآيات ويرجعها إلى معان توائم العقل، وتكون أظهر التحامًا مع النواميس الطبيعية وأمثله ذلك كثيرة منها: (1) الكوثر الذي أُعطي للنبي صلى الله عليه وسلم في الجنة: المشهور أنه نهر جارٍ، وهناك من يعتقد أنه الخير الكثير. (2) مسخ الذين اعتدوا في السبت قردة: المشهور أنهم مسخوا حقيقة، وهناك من يقول: إنه مسخ قلوب وأخلاق. (3) كرسي الله وعرشه: المشهور أنه جسم مادي في أعلى السماوات، وهناك من يعتقد له معنى مجازيًّا كالعظمة والسلطة. (4) النفخ في الصور: المشهور أنه بوق حقيقي ينفخ فيه يوم القيامة، وهناك من يعتقد أنه كناية عن إعلان الأمر وإشهاره. (5) وزن الأعمال يوم القيامة: المشهور أنه وزن حقيقي بميزان ذي لسان وكِفتين، وهناك من يعتقد أن المراد بالوزن القضاء العادل، وقال الطبري: إنه قول مجاهد. إلى غير ذلك من المسائل، ومن جملتها مسألة حياة عيسى بجسده العنصري في السماء ونزوله منها، وما دام ابن عباس يقول (كما في تفسير الطبري) : إن المراد بقوله تعالى {مُتَوَفِّيكَ} (آل عمران: 55) مميتك، لا جرم أن يوجد في المسلمين من يقول بموته اتباعًا لابن عباس لا اتباعًا لوحي (غلام أحمد) إذ إن المسألة مسألة فهم في الدين؛ فهي لا تحتاج إلى عناء دعوى الوحي أو نزول ملك من أجلها. غير أن الواحد من هؤلاء المخالفين للجمهور لا يصرح بما يذهب إليه في أمثال ما ذكرنا أمام الناس خشية تشنيعهم عليه، فهو يدع الناس في غفلاتهم ويعتقد هو أمرًا إن كان يخالفهم فيه فربما كان موافقاً لبعض علماء السلف أو لعلماء المعتزلة الذين هم من أهل قبلتنا، وليسوا بخارجين عن ملتنا. أما حضرة (غلام أحمد) فقد وجد من بيئة الهند وعقلة سكانها ومن ذلك الوسط المشبع بالحرية الفكرية التي أيدتها السلطة الإنكليزية - ما ساعده على الجهر برأيه في موت المسيح، لا سيما أن (غلام أحمد) في صدد ادعاء الوحي لنفسه وأنه هو المسيح الموعود ليتوصل بذلك إلى إفحام أعدائه المبشرين. فعيسى إذًا ميت على ما يُفهم من قول ابن عباس، وهو ما استند عليه غلام أحمد في دعوته، وربما ذهب مذهبه طائفة من أحرار علماء المسلمين المتقدمين والمتأخرين كما قلنا. أما أن عيسى كان موته قبل أن يُصلب أو وهو على الصليب أو أنزل عن الصليب حيًّا ثم مات في فلسطين أو في الهند؟ وفي أي مكان دفن؟ فكل هذا لم ينص عليه القرآن بصراحة، فيبقى بحثًا تاريخيًّا، ولكل إنسان أن يذهب فيه مذهبًا يراه صوابًا حسب الأدلة التي تتوفر لديه ويقتنع بها. بقي أن يقال: إن هناك آثارًا وأحاديث تدل على أن عيسى سوف ينزل (أي يظهر) في آخر الزمان. فبالطبع تكون هذه الأحاديث مؤولة بأحد طرق التأويل عند الطائفة التي تقول بموته، ومن هذه التآويل التي تتبادر إلى ذهن كل من له وقوف على العلوم الإسلامية - التأويل الذي ذهب إليه (غلام أحمد) من ظهور رجل من المسلمين في آخر الزمان يكون على سمت المسيح وهديه , فينهض بالمسلمين بعد خمولهم وذهاب ريحهم. ولا ريب أن الأعلق بمصلحة المسلمين أن لا يقال: إن عيسى الذي سيظهر في آخر الزمان هو شخص واحد يقوم في زمان واحد ومكان واحد , بل القول الصواب في ذلك ما قاله (غلام أحمد) نفسه ونقله عنه صديقنا زين العابدين في كتاب (حياة المسيح ووفاته) صفحة 211 وهذا هو نص قوله بحرفه: (وأنا كذلك لا أقول: إن مقام العيسوية ختم بي وانطوى ولا يأتي مسيح بعدي، كلا بل إني لأؤمن وأقول مرة بعد أخرى إنه بالإمكان أن يجيء أكثر من عشرة آلاف مسيح) . وعلى هذا فالمسحاء الذين يظهرون في آخر الزمان لهداية الناس كثيرون في اعتقاد (غلام أحمد) واعتقاده هذا يتفق مع مذهب أهل السنة من أنه تعالى (يبعث على رأس كل قرن من يجدد لهذه الأمة أمر دينها) بناءً على أثر وارد في هذا المعنى. لكن غلام أحمد يتسامح فيسمي كل من يقوم في آخر الزمان للهداية العامة (مسيحًا ومهديًّا) كما يسميه (مجددًا) أما أهل السنة فيسمونه (مجددًا) فقط ويحتفظون بلقب عيسى والمهدي للمجدد الأخير. ويوشك أن نتفق ونجعل الخلاف بيننا وبين (غلام أحمد) لفظياً لو لم نره يعود فيخالفنا ويزداد في التسامح والتساهل فيسمى المجدد (نبيًّا ورسولاً) كما يسميه (مسيحًا ومهديًّا) ، إذ تكون دائرة التجديد في العيسوية أوسع مما كنا نظن. فالآن وبعد الآن يقوم وسيقوم وسوف يقوم في المسلمين (مجددون ومسحاء ومهديون ورسل وأنبياء) ألفاظ مختلفة والمعنى واحد رجال من المسلمين يظهرون في أوقات متعددة وأمكنة متباينة لهداية المسلمين. في هذه الدائرة الواسعة وجد (غلام أحمد) لنفسه متبوءًا حسنًا فتبوأه، أعطى نفسه كل هذه الحُلى والألقاب، فهو يسمي نفسه في كتبه (نبيًا ورسولاً) من دون جمجمة ولا تقية. بل الأغرب أن صاحبنا (زين العابدين) لا يذكر اسمه إلا مشفوعًا بالصلاة والسلام عليه، كما يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. ويمكن أن يقال: ماذا يضركم التسامح في إطلاق الألفاظ؟ فإذا كان (غلام أحمد) يطلق على كل مجدد يظهر في الإسلام اسم (نبي ورسول) كما يطلق عليه اسم (مهدي) و (عيسى) فنسلم له هذه التسمية تفاديًا من النزاع حول الألفاظ. وكل ما في الأمر أننا نسمي المجدد مجددًا فقط. وهو يتسامح كل التسامح، فيسميه (نبيًّا ورسولاً) ويبني تسامحه هذا على التوسع في أصل المعنى اللغوي للنبوة والرسالة. فنقول في الجواب: نعم، ولكن (غلام أحمد) لا يكتفي بما مر، بل يعود فيفرط إفراطًا آخر، ويزعم أن ذلك المجدد المهدي المسيح النبي الرسول - يتلقى وحيًا من الله - وهو بالطبع يريد كل مجدد لا المجدد الذي قام بقاديان وحده. إذ لا يتصور أن يبشر بالمجددين ويسميهم أنبياء ومرسلين. ثم يقول: إنهم لا يُوحى إليهم، وإنما يوحي إليه وهو وحده خاصة. وبعد جدال وحوار طويلين مع (غلام أحمد) في مفهوم معنى كلمة (الوحي) الذي يكون لهؤلاء المجددين لغة واصطلاحًا - نعود ونقول له: سلمنا بما قلت ولكن: (1) هل هذا الوحي الذي تتلقاه أنت وزملاؤك يكون بتكليم ملك وبصوت مسموع كما كان يوحى إلى الأنبيا

سوانح وبوارح

الكاتب: عبد الرحيم مصطفى قليلات

_ سوانح وبوارح [*] حضارة الإسلام لا تعد بي إلى ربوع الخيام ... بل أنِخْها عند القصور الفخام عند صرح الحمرا وفسطاط مصر ... عند نادي الفيحا ودار السلام وقفة يا مطي قرب ثراها ... لأحيي عظام أهل عظام لأحيي الأرواح والعهد قد حـ ... ـلّ مداه عناصر الأجسام نحن منهم وسوف تجمعنا في ... ساحة الموت جامعات الرّغام ما شذذنا بالخلق عنهم ولكن ... بشذوذ الأخلاق والأفهام هم أباحوا ولوج باب اجتهاد ... هو نبراس دين خير الأنام كان نور الهدى لكل إمام ... سار بالقوم في طريق الأمام فانبرينا نقضي على ذلك الفضـ ... ـل بأحمى سهم وأردى حسام سهم حب الأفحام عن قول حق ... وحسام الإبهام والإيهام وسددنا الأبواب في كل وجه ... غير وجه التقليد والإلهام فالمنايا نصيب كل اجتهاد ... والأماني تئن تحت الرّجام والبلايا لناهض والرزايا ... لفهيم والويل للمقدام والعطايا لجامد والتحايا ... لخمول والخير للمتعامي آه واحسرة السلام على ما ... مضى من حضارة الإسلام ذهب الراشدون والشرع باك ... لذهاب الأئمة الأعلام وتولى على الجديدين عهد ... حال دون الإحكام في الأحكام فبدا الدين كالعروس بأهدا ... ـم ولا بزة ولا هندام وتبدّت للشامتين ثغور ... باسمات باللوم والإيلام أيها اللائمون مهلاً وعدلاً ... نحن لا الدين باب هذا الملام نحن لا الدين ـ وهو بدر تمام ... سر هذا الإعتام والإظلام قد تعاف الأنعام سوقًا وإنا ... بعمانا نساق كالأنعام وتعاف الأرسان هذي ونرضى ... بخطام الشقا وذل اللجام حسبنا عار ما جرى من خلاف ... حسبنا عيب ما مضى من خصام لا صديق للخلق يا خلق إلا ... صادق القول صادق الأحلام فأصيخوا وليت لي من أداة ... غير هذي الطروس والأقلام أجمود وقد قضت شرعة الدهـ ... ـر على الجامدين بالإعدام نقض هذي الأحكام حان فهيا ... نتهيَّا للنقض والإبرام بالتآخي نحيا وبالودّ نهنا ... وننال المرام بعد المرام إن في الدين فسحة هكذا ... قال نبي الأعراب والأعجام يسروا لا تعسروا كلُّ يسر ... هو للصالحات أقوى قوام بشروا لا تنفروا فلقول الـ ... ـعرف فعلٌ يُزري بفعل المدام واعملوا مثلما الفرنج بجدٍ ... وثبات وهمة واهتمام راقبوهم وراقبوا كيف سادوا ... باحتمال الصعاب والإقدام وافهموا كيف أنهم آخذونا ... بسنام ومقود وزمام أسمَعوا الكائناتِ شرقًا وغربًا ... واستمعنا للهو والأنغام أظهروا المعجزات برًّا وبحرًا ... وظهرنا بالعجز والانقسام سَبَحوا في الفضاء طولاً وعرضًا ... وسبحنا في عالم الأوهام بضليع التحصيل سادوا وسدنا ... قبل فك الحروف والأرقام هم لأوطانهم غيوث ولسنا ... في سماء الأوطان غير جهام كرم الدين بالتساهل فيه ... والمداراة مصدر الإكرام والتآخي مقام كل مقال ... والتراضي مقال كل مقام فخذوا شارة السماح شعارًا ... إنما السمح زينة الأقوام واكتساب القلوب باللين شرط ... في مجاراة حكمة الأيام لا تحلوا الحرام، لا بارك الله ... بمن يستحل أي حرام ما بأسيافنا القصار الدوامي ... قد غدا مجدنا طويل الدوام بل بعدل وحكمة واتحاد ... واقتصاد وألفة ووئام وصلاة طهورة الوِرد تنهى ... عن شرور الفحشاء والآثام هي للعبد صحة ونشاط ... وهي لله طاعة باحترام وصيام اللسان والقلب والجوف ... عفافًا وفهم سر الصيام فلئن لم نصم عن الشر قطعًا ... غير مُجد صيامنا عن طعام وزكاة تأتي على عوز المسكين ... فينا وشقوة الأيتام لو درى الاشتراك ما في جداها ... من جزيل الإحسان والإنعام وبنوالبلشفيك لو عرفوا ما ... للصعاليك من زكاة العام لرموا بالنظام واتخذوها ... لحياة الرفاق خير نظام أين أعياننا الكرام وأين ... البر منهم وأين جود الكرام أين أهل السخا ومن هو فيهم ... دافع الفقر والطوى والأوام أين أهل الحجى ومن هو منهم ... ناصر الحق رافع الآلام قيدوا سعينا وناموا ولا من ... حسنات لهم سوى في المنام وإذا حاول الفكاك حميم ... هدَّدوه وصحبه بالحمام ورموه بالكفر آنًا وبالإلحاد ... حينًا، وتارة بالذام ولو أن الطبيب أغضى لقالوا ... فيه مس الشيطان والسر سام راقب الله يا موارب واعلم ... أن علم القلوب للعلام أنا أشكو سقمي إلى الله لكن ... أنت والله أصل هذا السقام ما هيامي إلا بربي وقومي ... ولساني أفخر به من هيام أمتي، ملتي، بلادي وضادي ... هن قصدي وقصد كل همام كنت عبد الرحيم قبل غرامي ... وأنا اليوم عبد هذا الغرام أنا عند الأنساب ذاك العظاميّ ... وعند الألقاب ذاك العصامي حسنيّ الصفات جَدًّا وجِدًّا ... عربي الأخوال والأعمام ليس لي في البلاد خصم وأخصا ... ـم بلادي دون الورى أخصامي ليس لي في القضاء حكم ولا لي ... أي رأي في قصة الإدغام ولإدغام آل عيسى بآل الـ ... ... ـمصطفى كل خاطري وذمامي إن في ذا السبل سهل مسيري ... إن في ذا الحديث حلو كلامي إن في ذا التمام خير تمام ... إن في ذا الختام حسن الختام فسلام على الشفيعين مني ... وسلام على محب السلام

فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتنة ملاحدة الترك في سورية ومصر {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء:89) يود ملاحدة الكماليين من الترك لو يقتدي بهم مسلمو العرب في العراق وسورية ومصر، ومسلمو العجم من سائر الترك والتتار والأفغان والفرس، فيتركون الإسلام مثلهم، ويجعلونهم أئمة في اللادينية لهم، ويظن أولئك الملاحدة أنهم ينالون بكفرهم من الزعامة في الشرق ما لم تنل مثله الدولة العثمانية بإسلامها التي يحتقرونها لأجله، ويحاولون إخفاء ذكرها وذكره وتشويه تاريخها وتاريخه، وهم يبثون الدعوة إلى الإلحاد، ويجرءون الزنادقة والمرتابين على ترك الإسلام واحتقار تشريعه وآدابه، ولبس قلانس الإفرنج (البرانيط) لأنها الزي العام لهم، والمميزة بين المسلمين وبينهم، ولأنها مانعة من سجود لابسها في الصلاة. وقد علمنا والأسف والعجب يملأ القلب أن بعض السوريين والمصريين الذين لا يزالون يحتقرون أنفسهم ويفضلون الترك على قومهم، يميلون إلى تقليدهم في ذلك؛ لأنهم مثلهم في الكفر والتعطيل وعدم الشعور بالرابطة الدينية، ودونهم في النعرة القومية والعصبية الجنسية، ولو كان لهم كرامة دينية أو قومية لشعروا بكليهما أو بكل منهما أنهم أشرف من الترك وأولى بأن يكونوا قدوة لهم، فهم أكرم عنصرًا وأجل أثرًا في الدين والحضارة سواء كانوا من العرب أو من قدماء المصريين. على أن هؤلاء الملاحدة قلما يثبت لهم نسب صحيح في الشعب التركي الذي صار عريقًا في الإسلام، بل هم أو شاب منهم الروسي والرومي والبلقاني واليهودي الأصل، وقد سلطوا على إفساد هذا الشعب بدعاية العصبية الجنسية، ومحاولة جعله كأرقى الشعوب الأوربية علمًا وحضارة بقوتهم العسكرية، وترجمتهم للقوانين الأوربية ولبسهم البرنيطة الإفرنجية، وهذا جهل فاضح وخبث واضح. فإن أحوال الأمم وأطوارها لا تتبدل بتقليد غيرها في قوانينه وأزيائه، مع مخالفته لها في تاريخه وتربيته وعقائده، كما هو معلوم عند علماء الاجتماع. وقد روى لنا الثقات الخبيرون منا ومن الأوربيين أن السواد من الترك يمقتون هؤلاء الكماليين، أشد مما كانوا يمقتون إخوانهم الاتحاديين، وأنهم يتربصون بهم الدوائر، بل أكد لنا بعض الذين عاشوا في الآستانة أو الأناضول عدة سنين أن جمهور الشعب التركي كان يتمنى -منذ خرج الشريف حسين على الدولة- لو تجددت للعرب دولة تنقذهم من الكفر وتستولي على بلادهم، بل قالوا: إنهم صاروا يفضلون أية دولة أوربية على حكومتهم المعاصرة. أفليس من العجب أن يكون هذا شعور الترك في وطنهم، ثم يوجد في سورية من يمتهن نفسه بتقليد ملاحدة الكماليين، ويطب التجنس بجنسيتهم الجديدة المذبذبة التي لا ثبات لها ولا استقرار، ويتخلى لأجلها عن دين القرآن وهداية الإسلام، وأشرف لغات الأنام؟ ؟ {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بَالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} (البقرة: 61) {فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) . *** (آراء الإنجليز في العالم الإسلامي) جاء في برقية من لندن إلى الأهرام في 10 أبريل ما ترجمته: نشرت جريدة (الديلي نيوز) اليوم مقالاً لمكاتب تكلم فيه عن إمكان تأسيس جمعية أمم إسلامية ثم قال: (إذا تألفت هذه الجمعية فإن الأقطاب الذين يسيطرون عليها هم من أعظم الرجال الذين عرفهم العالم في هذا العصر جرأة وإقدامًا وشهرة، ولابد أن تقلب الحركات التي يديرونها الآن بين شعوبهم وجه العالم الإسلامي في خلال ربع القرن المقبل، ولو لم تتمكن من تأليف جمعية أمم. إن العالم الإسلامي في الوقت الحاضر هو في طور انقلاب عظيم يشبه الطور الذي مرت فيه أوربا عندما تلاشت الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وخلفت بعدها شعوبًا رغب كل منها أولاً في الانفصال عن الآخر. فإذا استطاع أولئك الرجال أن يؤلفوا جمعية أمم إسلامية، ويقيموا منها سدًّا في وجه السيطرة الأوربية، فقد تتقوض أركان الحضارة الغربية) . وهنا تكلم الكاتب عن زعماء العالم الإسلامي وقال: (إن عبد الكريم أحد الأقطاب في أقوى حركة موجودة على وجه البسيطة الآن، وهي الحركة التي تقوم بها الأمم المحكومة للمطالبة بحقها في تقرير مصيرها، على أن الإدارة الاستعمارية البالغة منتهى القوة والمقدرة في الجزائر وتونس وطرابلس قد جعلت الحركة القومية في هذه البلدان في منتهى الضعف. وزغلول باشا أول حاكم حكم مصر بعد حصولها على نظام ذاتي بعدما تغلب الفرس على الفراعنة منذ 2400 سنة، وهو أول رئيس وزارة منتخب في بلد إسلامي ديمقراطي في التاريخ كله، وقد شهدت بنفسي جماهير غفيرة من الطلبة المسلمين تتدفق كالسيل العرم في شوارع القاهرة، وتسير إلى منزل زغلول باشا وأصواتها تشق كبد الفضاء بالهتاف له. إن هؤلاء الفتيان ليسوا سوى زبد يعوم على بحار الحركات القومية الزاخرة في العالم الإسلامي. وليس زغلول باشا ومصر سوى نور ضئيل بإزاء نيران مصطفى كمال باشا والحركة القومية التركية. ويمثل مصطفى كمال باشا في تركية اللادينية دور موسوليني في إيطاليا، ولكنه مكروه من ابن سعود العاهل العربي العظيم الذي يسير في طليعة الحركة القومية العربية، وهو زعيمها الحربي. ولعله أقدر وأقوى شخصية ظهرت في العرب منذ عهد النبي الهاشمي، وهو في الوقت ذاته صديق حميم لبريطانيا. وأما إيران فإنها آخر معقل للفتور الذي أصاب العالم الإسلامي، ولكن الشاه رضا خان يبث فيها الآن روحًا قومية جديدة. وفي الهند ثمانية وستون مليوناً من المسلمين تقتسمهم حركتان لا يمكن التوفيق بينهما، فهم يتمسكون بالمبدأ القومي، فلا بد لهم من أن يكونوا هنودًا وهم مسلمون، ولذلك يعدون من ضمن العالم الإسلامي. (وفي جزائر الهند الشرقية الهولندية 35 مليونًا من المسلمين، يرسلون كل سنة عشرين ألفاً من الحجاج إلى مكة، ويعودون منها أعظم تمسكًا بالإسلام، فالحركة الإسلامية في جاوى تعدّ والحالة هذه من أعظم الحركات حماسة في العالم الإسلامي. فإذا وضعنا هذه الحقائق أمامنا وتأملنا فيها استخرجنا منها ما يأتي: 1- إن الحركة القومية في العالم الإسلامي قد تفوقت لأول مرة في التاريخ على رابطة الإخاء في بيت الإسلام، وانتثرت كنانة مشروع الجامعة الإسلامية القديمة، وظهرت منها سهام الحركات القومية. 2 - لم يظهر حتى الآن أي دليل على التحالف بَين هذه الحركات، فلا مصطفى كمال باشا ولا الملك ابن سعود يقبل أن يكون الملك فؤاد خليفة. 3 - إذا حاولت الدول الغربية أن تسيطر على هذه الأمم وتستغلها فإننا نسوقها إلى تأليف عصبة ضد العالم المسيحي في الغرب. فيجب على سياسة الغرب وتجارته أن يتخليا عن كل رغبة في السيطرة، ويقبلا موقف التعاون بكل ارتياح وإخلاص، ونحن في حاجة ماسة إلى مساعدة هذه الشعوب وإعداد زعمائها لحكمها حكمًا ذاتيًّا سلميًّا. ولا شك أن الجامعات الأمريكانية في القاهرة والآستانة وأزمير وبيروت قد خطَت الخطوات العظمى حتى الآن في هذا السبيل. وفي الكليات والمدارس الإنكليزية في فلسطين ومصر والعراق وإيران نحو خمسة آلاف طالب قد يخرج منهم زعماء في العالم الإسلامي، فهم يتعلمون الآن ويرقون مواهبهم الطبيعية، وسيكونون جسرًا بين العالم الإسلامي الجديد والعالم المسيحي الجديد) اهـ. فليتأمل. *** (الاحتفال بعيد المقتطف الخمسيني) جاءنا من سكرتيرة لجنة الاحتفال ما يأتي: حضرة العلامة صاحب مجلة (المنار) المفضال: أتشرف أن أقدم مع هذا بيان تأليف لجنة مركزية في آخر يونيو سنة 1925 للاحتفال بيوبيل المقتطف الذهبي، والنداء الذي وجهتْه اللجنة إلى الأدباء والشعراء والعلماء ليشتركوا في هذا اليوبيل. وقد نشرنا هذه الدعوة في مختلف الأقطار الشرقية كفلسطين وشرق الأردن وشبه جزيرة العرب وسورية ولبنان والعراق والجزائر والمغرب الأقصى وتركيا وبلاد الفرس والهند وفي الأقطار الأوربية والأمريكية، فلبى أهل العلم والفضل هذه الدعوة من كل جانب ووافونا بما جادت به القرائح شعرًا ونثرًا، مع رسائل الثناء العظيم على هذا المشروع، والشكر للقائمين به وشد أزره، وقد نوهت به بعض الصحف التركية والفارسية والهندية والفرنسية والألمانية والإيطالية، علاوة على الصحف العربية العديدة. وكان لدعوتنا، عدا تلك النفثات التي ستجمع في كتاب (الذكرى) لليوبيل النتائج التالية: أولاً: اكتتاب عام اشتركت فيه الجالية السورية واللبنانية في أمريكا الجنوبية لتقديم هدية تذكارية، وقد وصلت هذه الهدية، وهي تمثال فاخر من البرونز، مقام على قاعدة من المرمر، وعليها لوحة من الذهب الإبريز، نقش عليها بيتان من الشعر باسم الذين أهدوا الهدية. ثانيًا: اكتتاب أهالي حاصبيا في البرازيل لتقديم دوانين وقلمين من الذهب لصاحبَي المقتطف. ثالثًا: اشتراك الجامعة الأمريكية ببيروت اشتراكًا رسميًّا في هذا اليوبيل وقرارها أن تقيم احتفالاً حافلاً في منتداها في نفس اليوم الذي يقام فيه الاحتفال بالقاهرة. رابعًا: اشتراك جمعيات متخرجي الجامعة المذكورة في مختلف الأقطار للاحتفاء باليوبيل كل منها بالطريقة المتيسرة لها. خامسًا: اشتراك أهل طرابلس الشام يرأسه صاحب مجلة (المباحث) اشتراكًا فعليًا، فيقيمون حفلة في مدينتهم في اليوم الذي يقام فيه الاحتفال في القاهرة. أما الاحتفال في القاهرة فسيقام بعد رمضان الكريم وسيعلن عن الموعد فيما بعد. هذا وقد تفضل حضرة صاحب الجلالة المعظم الملك فؤاد الأول -أيده الله- فشمل هذا اليوبيل برعايته السامية. فالرجاء يا سيدي أن تفسحوا في صحيفتكم الغراء مكانًا لهذه التفاصيل بعد نشر نداء اللجنة ليشترك معنا أهل العلم والفضل في مصر، خدمة للنهضة العلمية الجديدة، وتقريرًا لجهود العاملين. وتقبلوا خالص الشكر سلفًا مع عواطف الإكرام. ... ... ... ... ... ... ... ... سكرتيرة اللجنة ... ... ... ... ... ... ... ... ... (مي) ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة 24 مارس سنة 1926 ترون مع النشرة التي مع هذا أنه قد تألفت في مصر جماعة للاحتفاء باليوبيل الذهبي لمجلة المقتطف تقديرًا لآثارها العلمية مدة نصف قرن. واختارت من بين أعضائها لجنة تنفيذية لبث الدعوة وتنظيم العمل. واللجنة تود أن يشترك في هذا الاحتفاء أبناء القومية العربية في أقطار الأرض جميعًا، لاعتقادها أن ذلك من رغبات أنفسهم. وإذا كان الاشتراك بالحضور فعلاً غير متيسر للجميع، فاللجنة تدعو العلماء والأدباء والشعراء والجمعيات والمعاهد، والأندية العلمية والأدبية والنقابات الصحافية، وأصحاب المجلات والصحف عامة إلى الاشتراك في هذا الاحتفاء بما يتيسر الاشتراك به من الحضور بالفعل، أو بإرسال ما تجود به القرائح من شعر أو نثر يناسب المقام. وسيجمع المختار مما سيرسل ويلقى في الاحتفال في كتاب يكون ذكرى هذا اليوبيل الذهبي. وترجو اللجنة أن يتفضل كل بإرسال بحثه أو قصيدته باسم (الآنسة مي زيادة سكرتيرة لجنة الاحتفال بيوبيل المقتطف، مكتبة المنار شارع زين العابدين رقم 63 بمصر) على أن يصل قبل 20 أبريل 1926، لكي يتسنى للجنة أن تودعه في كتاب الذكر

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (مرآة الحرمين الشريفين أو الرحلات الحجازية، والحج ومشاعره الدينية) كتاب نفيس، متقن الصنع، تأليفًا وترصيفًا وترتيبًا وتنسيقًا، وطبعًا وورقًا وحروفًا، وضعه اللواء إبراهيم رفعت باشا المصري الذي تولى قيادة حرس المحمل مرة، وتولى إمارة الحج المصري ثلاث مرات في ثلاثة مواسم عني فيها بكل ما يعنى به من يريد أن يؤلف كتابًا في شئون الحج والحجاز لم يُسبق إلى مثله، فتم له هذا في سِفرين كبيرين. وقد وصفه الأستاذ الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس في مدرسة القضاء الشرعي بتقريظ قال فيه ما نصه: (فبينما تراه قد رسم (جدة) ومنازلها ومعاهدها ومساجدها ومرساها ورجالها وذوي الشأن فيها؛ إذ تراه قدم لك من مناظر الطريق بين جدة ومكة صورًا مختلفة ورسومًا متغايرة، فإذا ما وصل بك إلى مكة رأيت المسجد الحرام بأروقته وأساطينه، تتوسطه الكعبة، تحيط بها المقامات، والناس حولها يصلون أفذاذًا وجماعات. وترى أمثلة عديدة لفن العمارة العربية، أضف إلى ذلك جوامعها ومستشفياتها، وثكناتها، ودور حكومتها، وأشكال أهلها. فإذا ما خرج بك إلى عرفة تراه قد رسم الجبال والأودية والجمرات والمشاعر والناس حولها خُشع يدعون، فإذا ما انتهى من الحج وواجباته ويمم المدينة المنورة أخذ من مناظر طريقها كما فعل في سابقتها، وسلك مثل ذلك في الطرق المختلفة، والمسجد النبوي، والجوامع الأثرية، والمشاهد المختلفة بالمدينة، ولا يمر بمكان إلا وصفه وذكر نبذة من تاريخه، ولا بئر إلا سبر غورها، وعَرَّفك بمائها، حلوًا ومُرًّا، قلا وكثرا، ولا بعقبة إلا دقق في وصفها، مبينًا لك أحسن السبل لاجتيازها، شارحًا ذلك بالخرائط الجغرافية التي لم يسبق إلى وضعها، ولم يدع في الحج صغيرة ولا كبيرة إلا تكلم فيها. ففي الكتاب حجة الوداع التي حجها الرسول - صلى الله عليه وسلم - سنة عشر مفصلة أحسن التفصيل ومشفوعة بخريتة فيها بيان الطريق الذي سلكه الرسول (صلى الله عليه وسلم) والأماكن التي مر بها، وفيه الكلام على أحكام الحج في المذاهب الأربعة بالتفصيل الواسع والجداول المجملة والصور الشارحة وفيه قسم في حكمة الحج قلما تظفر بها في كتب أخرى [1] . ولما كانت مكة في جزيرة العرب وكان المسلمون يفدون إليها من كل الأقطار، دعاه ذلك إلى كتابة فصل جغرافي موجز في بلاد العرب وأقسامها وشفعه بفصل تاريخي مجمل بَيَّن فيه كيف بدأ الإسلام وكيف انتشر وتكلم على دوله والبلاد التي سار فيها والتي لا تزال مقرًّا له بحيث أعطيناك تاريخًا موجزًا للدول الإسلامية وحال المسلمين من يوم أن وجدوا إلى وقتنا هذا. وتكلم في الكتاب على الحج وإمارته قديمًا وحديثًا، وعلى المحمل والكسوة كلامًا مسهبًا تتخلله الصور الأنيقة والمناظر البهيجة. فتراه ذكر المحامل وأنواعها وتاريخها وأشكالها ونفقاتها والدول التي تقوم بإرسالها، وكذلك تكلم في الكسوتين كسوة الكعبة وكسوة الحجرة النبوية. ومما يدل على عناية المؤلف الشديدة، أنه تمكن من إحضار صورة إشهاد كُتِب في منتصف القرن العاشر الهجري يتضمن ذكر القرى المصرية التي وقفت على كسوة الكعبة والحجرة النبوية، وتراه ذكر ما يجب على كل موظف في ركب المحمل وذكر ميزانية المحمل مفصلة بابًا بابًا، ونوعًا نوعًا، وأجمل ميزانيته في نحو أربعين سنة، وكلما دخل في موضع أشبع الكلام فيه. فتراه لما ذكر مكة تكلم على مواقعها وجبالها وشوارعها وأقسامها ومبانيها ومستشفياتها وتكاياها ودار خديجة بها ودار الأرقم التي كان يتجمع فيها المسلمون في مفتتح الدعوة الإسلامية. وتكلم على السيول في مكة وآثارها وذكر سكانها وجنسهم وأخلاقهم ولغتهم ودينهم وعادتهم ووصف جوها وتجارتها ونقودها ومياهها وعين زبيدة بها وأمراءها منذ الفتح الإسلامي إلى يومنا هذا. وكذلك فعل في المدينة والبلاد الهامة؟ . وحسبك من الكتاب أن فيه ما ينيف على أربعمائة صورة وعشرين خريطة كل طوابعها (أكلشيهاتها) مصنوعة في ألمانيا وإنجلترا، وهو يحتوي على 1000 صفحة يزينها حسن الورق وجمال الطباعة، ولا غرو فإنه مطبوع بمطبعة دار الكتب المصرية. اهـ (المنار) ومن مزايا الكتاب التنبيه والتذكير بما يجهله الجمهور من الأمور المبتدعة والقبور والمشاهد المزورة كقبر أمنا حواء في (جدة) وقبر أم النبي (صلى الله عليه وسلم) في مكة، وبدع تعظيم القبور وغير ذلك. وثمن الكتاب بالتجليد الجميل جنيه مصري وأجرة البريد 5 قروش في القطر المصري و 15 في الخارج وهو يطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر. *** (نهاية الأرب في فنون الأدب) هذا الكتاب من أعظم كتب الأدب وأوسعها مادة، وأفصحها عبارة، وهو تصنيف الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري المتوفي سنة 732، وهذه الفنون التي اختارها خمسة، يحتوي كل فن منها على خمسة أقسام يدخل كل قسم في عدة أبواب، فلم يدع شيئًا من هذا العالم إلا وأدخله فيها كالسموات والأرض وما فيهما وما بينهما والإنسان من ذكر وأنثى، وأعضاء كل منهما وصفاتهما، وأحوالهما، وشئونهما كالكلام بأنواعه، والحب والعشق، والأخلاق المحمودة والمذمومة، والخمر والغناء والشعر، والملك والخلافة والقضاء وما قيل في ذلك كله من نظم ونثر. شرعت مطبعة دار الكتب المصرية في طبع هذا الكتاب الكبير منذ سنة 1342هـ، بحروفها الممتازة على جميع حروف المطابع العربية في العالم على ورق جيد، صدر منه خمسة أجزاء كاملة القطع متوسطة الحجم، الجزء الأول منها كله في الفن الأول وصفحاته أربعمائة ونيف، والأربعة التي بعدها لا يبلغ شيء منها 400 صفحة ولم يستوف فيها الفن الثاني كله، وثمن الجزء من هذه الخمسة 15 قرشًا وأجرة البريد في القطر المصري 3 قروش و 6 خارجه وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.

مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات جواب سؤال رفع إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية [1] رحمه الله تعالى وهكذا ذكر أهل الكلام الذين ينقلون مقالات الناس مقالة أهل السنة وأهل الحديث، كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين، فذكر فيه أقوال الخوارج والرافضة والمعتزلة، والمرجئة وغيرهم، ثم قال: ذِكر مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث وجملة قولهم: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وبما جاء من عند الله، وبما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئًا إلى أن قال: (وأن الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (ص: 75) وأقروا أن لله علمًا كما قال {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (فصلت: 47) وأثبتوا السمع والبصر، ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة، وقالوا: إنه لا يكون في الأرض خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله، كما قال {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّه} (الإِنسان: 30) إلى أن قال: ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر فأغفر له) كما جاء في الحديث. ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) وذكر أشياء كثيرة، إلى أن قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قوله نقول وإليه نذهب. قال الأشعري أيضًا في مسألة الاستواء: قال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ولا نتقدم بين يدي الله في القول، بل نقول: استوى بلا كيف، وأن له يدَين بلا كيف كما قال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} (ص: 75) وأن الله ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث، قال: وقالت المعتزلة استوى على عرشه بمعنى استولى، وقال الأشعري أيضًا في كتاب الإبانة في أصول الديانة في باب الاستواء: إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل: نقول له إن الله مستوٍ على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقال: {ِإلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر: 10) ، وقال: {بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} (النساء: 158) وقال حكاية عن فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} (غافر: 36- 37) كذب فرعون موسى في قوله: إن الله فوق السموات، وقال الله تعالى: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} (الملك: 16) ، فالسموات فوقها العرش، وكل ما علا فهو سماء، وليس إذا قال: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ} (الملك: 16) يعني جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات، ألا ترى أنه ذكر السموات فقال: {وجعل القمر فيهن نورًا} (نوح: 16) ولم يرد أنه يملأ السموات جميعًا، ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن الله مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش، وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية: (إن معنى استوى استولى وملك وقهر، وأن الله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما قالوا كان لا فرق بين العرش الأرض السابعة؛ لأن الله قادر على كل شىء، والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش، والأخلية فلو كان مستويًا على العرش بمعنى الاستيلاء لجاز أن يقال: هو مستوٍ على الأشياء كلها وعلى الحشوش والأخلية فبطل أن يكون معنى الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها، وقد نَقل هذا عن الأشعري غير واحد من أئمة أصحابه كابن فورك والحافظ ابن عساكر في كتابه الذي جمعه في تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري، وذكر اعتقاده الذي ذكره في الإبانة، وقوله فيه: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحلولية، والرافضة، والمرجئة؛ فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون؛ قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي بها ندين: التمسك بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل ـ نضَّر الله وجهه ـ قائلون، ولِما خالف فيه مُجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكّين ورحمة الله عليه من إمام مقدم، وكبير مُفهم وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا: إنَّا نُقر بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ما تقدم وغيره في جمل كبيرة أوردت في غير هذا الموضع. وقال أبو بكر الآجرّي في كتاب الشريعة: الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلى وجميع ما في سبع أرضين يرفع إليه أفعال العباد، فإن قال قائل: أي شيء معنى قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} (المجادلة: 7) الآية. قيل له: علمه وهو على عرشه وعلمه محيط بهم كذا فسره أهل العلم والآية يدل أولها وآخرها أنه العلم وهو على عرشه هذا قول المسلمين. والقول الذي قاله الشيخ محمد بن أبي زيد وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه قد تأوله بعض المبطلين بأن رفع المجيد، ومراده أن الله هو المجيد بذاته، وهذا مع أنه جهل واضح فإنه بمنزلة أن يقال الرحمن بذاته والرحيم بذاته والعزيز بذاته. وقد صرح ابن أبي زيد في المختصر بأن الله في سمائه دون أرضه، هذا لفظه والذي قاله ابن أبي زيد مازالت تقوله أئمة أهل السنة في جميع الطوائف. وقد ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه الوصول إلى معرفة الأصول: (إن أهل السنة والجماعة متفقون على أن الله استوى بذاته على عرشه وكذلك ذكره عثمان بن أبي شيبة حافظ الكوفة في طبقة البخاري، ونحوه ذكر ذلك عن أهل السنة والجماعة، وكذلك ذكره يحيى بن عمار السجستاني الإمام في رسالته المشهورة في السنة التي كتبها إلى ملك بلاده، وكذلك ذكره أبو نصر السجزي الحافظ في كتاب الإبانة له، قال: وأئمتنا كالثوري ومالك وابن عيينة وحماد بن سلمة وحماد بن زيد وابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان. وكذلك ذكر شيخ الإسلام الأنصاري وأبو العباس الطرقي والشيخ عبد القادر ومن لا يحصي عدده إلا الله من أئمة الإسلام وشيوخه. وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء وغير ذلك من المصنفات المشهورة في الاعتقاد الذي جمعه: طريقنا طريق السلف المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال وما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة لا يزول ولا يحول، لم يزل عالمًا بعلم، بصيرًا ببصر، سميعًا بسمع، متكلمًا بكلام أحدث الأشياء من غير شيء وأن القرآن كلام الله، وسائر كتبه المنزلة كلامه غير مخلوق وأن القرآن من جميع الجهات مقروءًا ومتلوًا ومحفوظًا ومسموعًا وملفوظًا كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق، وأن الواقفة من اللفظية من الجهمية، وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية، وأن الجهمي عندهم كافر وذكر أشياء إلى أن قال: والأحاديث التي ثبتت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه، وذكر سائر اعتقادات السلف وإجماعهم على ذلك وقال يحيى بن عثمان في رسالته: لا نقول كما قالت الجمهية أنه مداخل الأمكنة وممازج كل شيء، ولا نعلم أين هو، بل نقول: هو بذاته على عرشه وعلمه محيط بكل شيء وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء وهو معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} (الحديد: 4) وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد شيخ الصوفية في هذا العصر: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين فذكر أشياء من الوصية إلى أن قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف، ولا تأويل والاستواء معقول والكيف مجهول، وإنه مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق بائنون منه بلا حلول ولا ممازجة، ولا ملاصقة، وإنه - عز وجل - بصير سميع عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب، يتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكًا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء بلا كيف ولا تأويل، ومن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال، وقال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني النيسابوري في كتاب (الرسالة في السنة) ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن الله فوق سبع سمواته على عرشه كما نطق به كتابه وعلماء الأمة، وأعيان سلف الأمة لم يختلفوا أن الله تعالى على عرشه فوق سمواته. قال: وأما إمامنا أبوعبد الله الشافعي احتج في كتابه المبسوط في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وأن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها بخبر معاوية بن الحكم وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة؛ وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن إعتاقه إياها، فامتحنها ليعرف أنها مؤمنة أم لا، فقال لها (أين ربك؟ فأشارت إلى السماء، فقال: أعتقها فإنها مؤمنة) فحكم بإيمانها لما أقرت أن ربها في السماء وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي باب القول في الاستواء: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) ثم استوى على العرش، {وهو القاهر فوق عباده} (الأنعام: 61) ، {يخافون ربهم من فوقهم} (النحل: 50) ، {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} (فاطر: 10) ، ? {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (الملك: 16) وأراد من فوق السماء كما قال: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه: 71) وقال: {فَسِيحُوا فِي الأَرْض} (التوبة: 2) أي على الأرض، وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السموات، فمعنى الآية، ءأمنتم من على العرش كما صرح به في سائر الآيات قال: (وفيما ذكرنا من الآيات دلالة على إبطال قول من زعم من الجهمية أن الله بذاته في كل مكان، وقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُم} (الحديد: 4) إنما أراد بعلمه لا بذاته. وقال أبو عمر

فتاوى لابن تيمية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى لابن تيمية بسم الله الرحمن الرحيم (1) وقال رحمه الله ورضي عنه في رجل تزوج بنتًا بكرًا بالغًا ودخل بها فوجدها بكرًا ثم إنها ولدت ولدًا بعد مُضي ستة أشهر بعد دخوله بها؛ فهل يلحق به الولد أم لا، وأن الزوج حلف بالطلاق منها أن الولد ولده من صلبه فهل يقع الطلاق أم لا والولد ابنًا سويًّا كامل الخلقة، وعمَّر سنين، أفتونا مأجورين. أجاب رضي الله عنه: الحمد لله؛ إذا ولدت لأكثر من ستة أشهر من حين دخل بها ولو بلحظة لَحِقه الولد باتفاق الأئمة؛ ومثل هذه القصة وقعت في زمن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- واستدل الصحابة على إمكان كون الولد يولد لستة أشهر بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) مع قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} (البقرة: 233) فإذا كان مدة الرضاع من الثلاثين حولين يكون الحمل ستة أشهر؛ فجمع في الآية أقل الحمل وتمام الرضاع، ولو لم يستلحقه فكيف إذا استلحقته وأقرّ به، بل لو استلحق مجهول النسب، وقال: إنه ابني لحقه باتفاق المسلمين؛ إذا كان ذلك ممكنًا ولم يذع به أنه ابنه كان بارًّا في يمينه ولا حنث عليه، والله أعلم. *** بسم الله الرحمن الرحيم (2) مسألة في الفقر والتصوف صورتها: ما تقول الفقهاء ـ رضي الله عنهم ـ في رجل يقول: إن الفقر لم يتعبد به، ولم نؤمر به، ولا جسم له، ولا معنى وأنه سبيل غير موصل إلى رضى الله - تعالى- وإلى رضى رسوله، وإنما تعبدنا بمتابعة أمر الله واجتناب نهيه من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ وأن أصل كل شيء العلم والتعبد والعمل به، والتقوى والورع عن المحارم، والفقر المسمى على لسان الطائفة والأكابر هو الزهد في الدنيا، والزهد في الدنيا يفيده العلم الشرعي؛ فيكون الزهد في الدنيا العمل بالعلم وهذا هو الفقر، فإذًا الفقر فرع من فروع العلم، والأمر على هذا، وما ثم طريق أوصل من العلم، والعمل بالعلم على ما صح وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إن الفقر المسمى المعروف عند أكثر أهل الزي المشروع في هذه الأعصار من الزي والألفاظ والاصطلاح المعتادة غير مرضي لله ولا لرسوله، فهل الأمر كما قال، أو غير ذلك أفتونا مأجورين. نسخة جواب الشيخ تقي الدين بن تيمية ـ رضي الله عنه ـ الحمد لله. أصل هذه المسألة أن الألفاظ التي جاء بها الكتاب والسنة علينا أن نتبع ما دلت عليه مثل لفظ الإيمان والبر والتقوى والصدق والعدل والإحسان، والصبر والشكر والتوكل والخوف والرجاء والحب لله والطاعة لله وللرسول وبر الوالدين والوفاء بالعهد، ونحو ذلك مما يتضمن ذكر ما أحبه الله ورسوله من القلب والبدن؛ فهذه الأمور التي يحبها الله ورسوله هي الطريق الموصل إلى الله مع ترك ما نهى الله عنه ورسوله كالكفر والنفاق والكذب والإثم والعدوان والظلم والجزع والهلع والشرك والبخل والجبن وقسوة القلب والغدر وقطيعة الرحم، ونحو ذلك؛ فعلى كل مسلم أن ينظر فيما أمر الله به ورسوله فيفعله وما نهى الله عنه ورسوله فيتركه. هذا هو طريق الله وسبيله , ودينه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا الصراط المستقيم يشتمل على علم وعمل، علم شرعي وعمل شرعي؛ فمن علم ولم يعمل بعلمه كان فاجرًا ومن عمل غير العلم كان ضالاًّ، وقد أمرنا سبحانه أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) . قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليهود المغضوب عليهم , والنصارى ضالون) وذلك أن اليهود عرفوا الحق ولم يعملوا به , والنصارى عبدوا الله بغير علم ولهذا كان السلف يقولون: (احذر فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون) ، وكانوا يقولون: (من فسد من العلماء ففيه شبه باليهود، ومن فسد من العباد ففيه شبه من النصارى) فمن دعا إلى العلم دون العمل المأمور به كان مضلاًّ، وأضل منهما من سلك في العلم طريق أهل البدع فيتبع أمورًا تخالف الكتاب والسنة يظنها علومًا وهي جهالات، وكذلك من سلك في العبادة طريق أهل البدع فيعمل أعمالاً تخالف الأعمال المشروعة يظنها عبادات وهي ضلالات فهذا وهذا كثير في المنحرف المنتسب إلى فقه أو فقر، يجتمع فيه أنه يدعو إلى العلم دون العمل، والعمل دون العلم؛ ويكون ما يدعو إليه فيه بدع تخالف الشريعة، وطريق الله لا تتم إلا بعلم وعمل يكون كلاهما موافق الشريعة. فالسالك طريق الفقر والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة، وإلا كان ضالاً عن الطريق، وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه، والسالك من الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجراً، ضالا عن الطريق، فهذا هو الأصل الذي يجب اعتماده على كل مسلم. وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله فهو من عمل الجاهلية، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، ولا ريب أن لفظ الفقر في الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين وتابعيهم لم يكونوا يريدون به نفس طريق الله، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه والأخلاق المحمودة ولا نحو ذلك، بل الفقر عندهم ضد الغنى، والفقراء هم الذين ذكر الله في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين} (التوبة: 60) وفي قوله: {لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّه} (البقرة: 273) وفي قوله: {لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} (الحشر: 8) والغني هو الذي لا يحل له أخذ الزكاة، أو الذي يجب عليه الزكاة، أو ما يشبه هذا، لكن لما كان الفقر مظنة الزهد طوعًا أو كرهًا؛ إذ من العصمة أن لا تقدر، وصار المتأخرون كثيرًا ما يقرنون بالفقر معنى الزهد، والزهد قد يكون مع الغنى، وقد يكون مع الفقر، ففي الأنبياء والسابقين الأولين ممن هو زاهد مع غناه كثير. والزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة، وأما كل ما يستعين به العبد على طاعة الله فليس تركه من الزهد المشروع، بل ترك الفضول التي تشغل عن طاعة الله ورسوله هو المشروع، وكذلك في أثناء المائة الثانية صاروا يعبرون عن ذلك بلفظ الصوفي نسبة إلى الصفة أو الصفاء أو الصف الأول؛ أو صوفة بن مر بن أد بن طابخة، أو صوفة القفا؛ فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، لكن من الناس من قد لمحو الفرق في بعض الأمور دون بعض بحيث يفرق بين المؤمن والكافر، ولا يفرق بين البر والفاجر، أو يفرق بين بعض الأبرار وبين بعض الفجار، ولا يفرق بين آخرين اتباعًا لظنه وما يهواه، فيكون ناقص الإيمان بحسب ما سوَّى بين الأبرار والفجار، ويكون معه من الإيمان بدين الله تعالى الفارق بحسب ما فرق به بين أوليائه وأعدائه. ومن أقر بالأمر والنهي الدينيين دون القضاء والقدر وكان من القدرية، كالمعتزلة ونحوهم الذين هم مجوس هذه الأمة , فهؤلاء يشبهون المجوس وأولئك يشبهون المشركين الذين هم شر من المجوس، ومن أقر بهما وجعل الرب متناقضًا؛ فهو من أتباع إبليس الذي اعترض على الرب سبحانه وخاصمه كما نقل ذلك عنه، فهذا التقسيم من القول والاعتقاد وكذلك هم في الأحوال والأفعال فالصواب منها حالة المؤمن الذي يتقي الله فيفعل المأمور ويترك المحظور ويصبر على ما يصيبه من المقدور , فهو عند الأمر والدين والشريعة يستعين بالله على ذلك على ذلك كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وإذا أذنب استغفر وتاب لا يحتج بالقدر على ما يفعله من السيئات، ولا يرى المخلوق حجة على رب الكائنات؛ بل يؤمن بالقدر، ولا يحتج به كما في الحديث الصحيح الذي فيه: سيد الاستغفار أن يقول العبد: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) فيقر بنعمة الله عليه في الحسنات ويعلم أنه هو هداه ويسره لليسرى، ويقر بذنوبه من السيئات ويتوب منها، كما قال بعضهم: (أطعتك بفضلك والمنة لك وعصيتك بعلمك والحجة لك فأسألك بوجوب حجتك عليّ وانقطاع حجتي إلا ما غفرت لي) . وفي الحديث الصحيح الإلهي (يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها , فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) وهذا له تحقيق مبسوط في غير هذا الموضع، وآخرون قد يشهدون الأمر فقط فتجدهم يجتهدون في الطاعة حسب الاستطاعة لكن ليس عندهم من مشاهدة القدر ما يوجب لهم حقيقة الاستعانة والتوكل والصبر، وآخرون يشهدون القدر فقط فيكون عندهم من الاستعانة والتوكل والصبر ما ليس عند أولئك لكنهم لا يلتزمون أمر الله ورسوله واتباع شريعته وملازمة ما جاء به الكتاب والسنة من الدين فهؤلاء يستعينون الله ولا يعبدونه، والذين من قبلهم يريدون أن يعبدوه ولا يستعينوه والمؤمن يعبده ويستعينه. (للكلام بقية)

دعاية الإلحاد في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعاية الإلحاد في مصر ليس الإلحاد بجديد في مصر، وإنما الجديد هو الدعوة إليه وتأليف الجمعيات لبثه وهدم الإسلام، وتأليف الكتب في الطعن على أعلام حكمائه المتقدمين الذين يُعلي الإفرنج قدرهم كالغزالي وابن خلدون، والتنويه بمن اتُّهموا بالكفر والإلحاد كالمعري والإشادة بأدب من اشتهر بالفسق والخلاعة كأبي نواس وقد كنا ذكرنا منذ بضع عشرة سنة خبر تأليف أول جمعية إلحادية من أعضائها معمم متخرج في الأزهر ثم إنهم خلعوا العِذَار وجهروا بدعايتهم في دروس مدرسة الجامعة المصرية ومحاضراتها وفي جريدة السياسة ناشرة هذه الدعاية ومؤيدة جمعيتها وأفرادها حتى أنها بعد مناصرتها الشيخ علي عبد الرازق المجاهر باللادينية اخترعت من عهد قريب معنى جديدًا زعمت أنه هو الذي يحل محل الدين في التكوين المعنوي للأمم والشعوب وضم الملايين منهم إلى جامعة واحدة - وهو ما يعبرون عنه بالثقافة القومية. وإذا كان لمصر مكانة ممتازة في العالم الإسلامي الذي يضم بين رجويه (طرفيه) أكثر من ثلثمائة مليون مسلم، وإذ كان سبب هذه المكانة الراسخة من زهاء ألف عام الجامع الأزهر الذي يتلقى العلوم الدينية والفنون العربية فيه ألوف كثيرة من الأقطار الإسلامية العديدة، ثم ما عزز ذلك في هذا العصر عصر المطابع من أصدار مصر للألوف من المطبوعات العربية من دينية إسلامية وأدبية وفنية إلى مشارق البلاد الإسلامية ومغاربها، عربيها وعجميها. وإذ كان هؤلاء الملاحدة من المصريين يدعون إلى الوطنية بالمعنى الاجتماعي العصري وهو تمايز الأقوام والشعوب وتكونها بأوطان محدودة تضمها دون ما هو أوسع من ذلك من الجوامع والمقومات كالدين واللغة، حتى إنهم ليعدون المسلم فيها وهي إسلامية ويعدون العربي فيها وهي عربية بل لها المكانة التي أشرنا إليها في العالمين الإسلامي والعربي - يعدونهما من الأجانب الذين لا تجمعهم بالمصري وشيجة، لا يمتنون إليه بوسيلة، فالشريف الحجازي أو السوري والوثني الصيني أو المنشوري عندهم سواء، ولكن يمتاز عليهما لابس البرنيطة الإفرنجي. وإذ فطنوا في هذه الأيام لما في وطنيتهم ولا دينيتهم من الخسارة الأدبية والسياسية على مصر أنشأت جريدتهم (السياسة) تعدهم وتمنيهم بأن ثقافتها الإلحادية الجديدة طفقت تتبوأ مباءة تلك الزعامة الدينية من أنفس الشعوب الشرقية عامة والسورية خاصة إذ شعرت هذه الشعوب بأن الدين صار الأدنى والأضعف من جوامع الأقوام، وروابط الأمم وأن مدرسة الجامعة المصرية (الإلحادية) وهي المظهر الأعلى للثقافة الجديدة قد خلفت الأزهر المتوفى غير مأسوف عليه وورثت مكانته المعنوية - كما أن جرائد مصر اللادينية ومطبوعاتها الحديثة قد خلفت مطبوعات المطبعة الأميرية وسائر المطابع العربية التي تصدر الكتب الدينية (ولم تعرض الجريدة لمسألة الكتب الحديثة والكتب القديمة) . لقد صدقت جريدة السياسة - وقلما كانت صادقة - فيما صورته من التنازع بين الجامعة الأزهرية الدينية والجامعة المصرية الإلحادية، فهذا أمر يعرفه البصيرون وإن غفل عنه الأكثرون، وأول من صرح به في مجلسنا من غير المسلمين شاب إسرائيلي ذكي سمعنا نتكلم في مسألة كتاب الشيخ علي عبد الرازق عقب ظهوره وكونه ينصر فيه دعاية الإلحاد الجديدة. فقال ليست المسألة مسألة كتاب ألفه شيخ مسلم في محاربة الإسلام فلو كان هذا كل ما تشكون منه لهان خطبه، ولكنما المسألة كل المسألة هي التنازع بين الجامعة المصرية وجامعة الأزهر فإذا غلبت الثانية بقيت هذه البلاد إسلامية، وإذا انتصرت الأولى لحقت مصر بالبلاد التركية وانقضى عصر الإسلام فيها. قلت: إن الإلحاد ليس بجديد في مصر وإنما الجديد هو الدعوة إليه.. . وأقول أيضاً إن مدرسة الجامعة المصرية ليست هي المدرسة التي بذرت بذور الكفر والإباحة في هذا القطر بل بُذرت هذه البذور في المدارس العصرية منذ وجدت في مصر، وكذا الدولة العثمانية. وإنما الجامعة المصرية هي دوحتها، التي ظهرت فيها ثمرتها، إذ برز دكاترتها عمي البصائر والأبصار -إحداهما أو كلتيهما- يبارزون الدين والفضيلة الحرب جهرًا بدون تقية ولا احتراس. من قرأ اللائحتين اللتين كتبهما الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إصلاح التربية والتعليم في المدارس العثمانية والمصرية يجده قد أثبت فيهما أن طلابها يخرجون منها وليس لهم دين يهتدون به، ولا ملة يعتصمون بعروتها وقد بين هذا في غيرهما من مقالاته ورسائله الإصلاحية، وحكم حكمًا فاصلاً بأن هذا التعليم الناقص الذي لا يقترن بتربية دينية صحيحة خطر على الأمة وعلى الدولة، ومضيعة لما كانت تعتز به الدولة من منصب الخلافة , وكذلك كان. هذا والأستاذ الإمام وأستاذه حكيم الإسلام هما أول من وضع في مصر أساس النهضة الوطنية بالحزب الوطني الذي أسساه في عهد إسماعيل باشا ورفعا قواعده بالعمل، ولكن وطنيتهما الحكيمة الصادقة غير وطنية دكاترة الجامعة المصرية ومحرري جريدة السياسة، تلك وطنية تتفق هي وهداية الدين، وهذه وطنية لا يبقى معها وطن، ولا دين، ولا فضيلة. لما كان الأستاذ الإمام منفيًّا في بيروت رأى في بعض الجرائد المصرية طعنًا في بطرس باشا غالي زعيم القبط الأكبر، وفي القبط أنفسهم، كان سببه استقالة شفيق بك منصور النابغة المسلم المشهور خَدَمة القضاء المصري ذاهبة إلى وكيل وزارة الحقانية هو الذي ألجأه إلى الاستقالة بتعصبه وتحامله عليه فرد الأستاذ على هذه الجرائد ردًّا حكيمًا محكمًا دافع فيه عن بطرس باشا وأنكر أشد الإنكار إدخال اختلاف الدين في هذه المسائل، وإدخال الشقاق بين أبناء الوطن فيما لا علاقة للدين به. وقد ظفرنا بهذه المقالة في أثناء اشتغالنا بالطبعة الثانية لجزء منشآت الأستاذ التي تمت في هذا الشهر فليراجعها من شاء أن يرى كيف تكون الوطنية الصحيحة، وكيف يهدي إليها زعماؤها الصادقون. أما بعد، فإن ما توقعناه في فاتحة الجزء الأول من هذا المجلد (السابع والعشرين) للمنار من خطر الدعاية الإلحادية على نهضة الإصلاح الإسلامي، ودولتها الجديدة مبني على الخوف من تمكن اللادينيين في مصر من جعل الأمة المصرية والدولة المصرية عدوًّا للدولة الحجازية النجدية بدسائس الأجانب وأعوان الأجانب من غير المسلمين، بل بغفلة رجال الدين وجهلهم بحال العصر وضعفهم أمام رجال الدنيا - وبقابلية العوامّ لتأثير الملاحدة بإتيانهم من ناحية البدع والخرافات التي تصدت جريدة المقطم لتأييدها والدفاع عنها، ووصفها بالتقديس (!!) ولماذا لم ينصر أصحاب المقطم تقاليد نصرانيتهم المقدسة عند آبائهم وأجدادهم، بل خذلوها باسم الإصلاح؟ أثارت جريدة السياسة سحابة خلاف بين حكومتي الحجاز ومصر في مسألة المحمل وركب المحمل وحرسه وقالت ما معناه: إن ملك الحجاز ابن سعود يمنع تقاليد المحمل الموروثة، فلا يسمح لعسكر مسلح مع موسيقى عسكرية تعزف له بدخول مكة وسائر أماكن النسك ... إلخ، فكثر الخوض في ذلك، وتحدث الناس بتوقع منع الحكومة المصرية للحج أو للمحمل ولمَّا يرسل مع ركبه عادة من الأموال والأرزاق التي هي من حقوق أهل الحرمين في مصر، وتطوعت جريدة المقطم بمقالات تتوسل بها إلى تقوية عزيمة الحكومة في مصر، وتطوعت جريدة المقطم بمقالات تتوسل بها إلى تقوية عزيمة الحكومة على منع الحج اقتداء بحكومة إيران التي كان قنصلها في سورية هو الذي وسوس في أذن الحكومة عقب عودته من مكة في هذا الشهر بأن ملك الحجاز يريد كذا ويأبى كذا، وهو الذي لقن جريدة المقطم ما أذاعته وكبرته، وظنت أنه بتكبيرها وإرجافها سيحمل الحكومة على اقتراف جريمة الموسم الماضي كما بسطنا الكلام فيه في مقال نشر في جريدة كوكب الشرق الوطنية. فتنة دبَّر مكيدتها شيعي متفرنج يغلب على الظن أنه من اللادينيين، إن لم يكن من البهائيين، وأذاعتها جريدة دعاية الإلحاد وأرجفت بها جريدة المقطم بما يوهم قارئها أن الشعوب الإسلامية وحكوماتها قد أجمعت على المنع والامتناع من أداء فريضة الحج، فلا ينقص إجماعها إلا ما يتوقع يومًابعد يوم من اتفاق مصر معها فتنة هذا شأنها، وتلك صفة مثيريها كان المعقول أن تقيم قيامة علماء الأزهر وأذكياء طلابه للدفاع عن ركن الإسلام ومجاهده قطاع طريقه، ولكنها - والشكوى إلى الله- لم تحرك منهم ساكنًا، ولم تنطق ساكتًا، فإذا كانوا يصدقون على أنفسهم ما قلناه من رأي الناس فيهم يوم دعوا إلى مؤتمر الخلافة من أنهم لا يتحركون إلا إذا حركوا ولا ينطقون إلا إذا أنطقوا، فما بال خريجي مدرسة القضاء الشرعي، وهم أفطن لهذه الدسائس وأجدر بنضال رماتها، وما بال قدماء أساتذة دار العلوم الذين غلبتهم دعاية الجامعة المصرية على طلبتها فألقوا بعمائمهم وجببهم، احتقارًا لها وبراءة من جامعة الأزهر التي هي منبت أسلتهم، والأساس لبناء مدرستهم؟ إنني كلمت بعض كبار علماء الأزهر الأذكياء في هذه المسألة كعادتي في أمثالها، فجادلني في بعض جزئياتها جدالهم المعهود في جزئيات الكتب التي يتدارسونها - واقفًا موقف المؤيد للحكومة المصرية فيما قيل من خلافها مع ملك الحجاز، لم يستطع أن يدافع عن مسألة موسيقى حرس المحمل لما في كتب فقه المذاهب المشهورة من تحريم جميع المعازف إلا ما استثني من دف العرس وطبل الحرب ونفيره - والاستثناء معيار العموم - ولم يتناول هذه المعازف الجديدة التي أخترعت بعد عصر الاجتهاد عندهم، وفيها أنواع من المزامير وهي محرمة بنص المذهب أو المذاهب فهو لا يجادل فيها، ولو تكلم معي فيها بالدليل لألفاني معتقدًا أن الموسيقى العسكرية كلها في معنى طبل الحرب الذي استثني لأجله من المعازف المحرمة وهو أنها تثير الشجاعة والإقدام، دون طرب الشهوة الذي ربما يبعث على ارتكاب الآثام. اقتصر الأستاذ على الاحتجاج للحكومة فيما تصر عليه من دخول حرس المحمل مكة وغيرها من أماكن النسك بأسلحتها، ولم يجد له علة تصح شرعًا إلا حماية الحجاج المصريين من الاعتداء على دمائهم وأموالهم لأن ما تدعيه حكومة الحجاز من تأمين البلاد لم يصح عند الحكومة المصرية، فلابد لها أن تأخذ بالاحتياط ولو في هذه السنة. قلت: لكن الحكومة المصرية لا تدعي هذه الدعوى وحرسها لا يمشي مع الحجاج بين جدة ومكة، بل تألفت في هذا العام شركة مصرية لنقل الحجاج بالسيارات (الأوتومبيلات) فهل يمكن أن يسير الجيش مع هذه السيارات لحراستها؟ بمثل هذا الجدل في الجزئيات يصرف الأزهريون عن النظر في الموضوع الكلي والإحاطة بأطرافه للتمكن من صحة الحكم فيه، وهذه الخطة يتلاقى في مدرسة القضاء ضررها بتكليف طلابها درس بعض المسائل (من الأصول كالاجتهاد والتقليد، أو الفروع كالطلاق والوقف) والنظر في أدلتها ووجوه الترجيح بينها، ولو عرضت مسألة الحج التي نحن بصدد الكلام الاستطرادي فيها على من اعتاد هذه الخطة لكان أول ما توجه إليه نفسه وجوب السعي لإحباط كل عمل يقصد به منع أداء فريضة الدين وإقامة ركن الإسلام. غرضنا من هذا الاستطراد ضرب المثل لضعف الجامعة الأزهرية فيما يجب عليها من صد هجمات ملاحدة الجامعة المصرية وكتاب جريدة السياسة على عقائد الإسلام وآدابه وتشريعه، وشكل حكومته، فإنهم أضر من دعاة النصرانية الذين يرد الأكثرون كلامهم

الإلحاد في الجامعة المصرية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإلحاد في الجامعة المصرية الدكتور طه حسين المتخرج من الجامعة المصرية والمدرس بها ألقى محاضرات فيها وجمعها في كتاب سماه (الشعر الجاهلي) وقد طعن فيه على الإسلام والقرآن، فأهاج الرأي العام، وتناول كتابه الأدباء والكتاب بالرد والتفنيد، وقد كلف فضيلة شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية لجنة من علماء الأزهر بالنظر في الكتاب ووضع تقرير عنه فقامت بذلك ورفعت لفضيلته التقرير الآتي. وهذا نصه كما جاء في مقطم يوم الأحد 26 شوال سنة 1344هـ. كتاب الشعر الجاهلي رأي لجنة العلماء فيه حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر السلام عليكم ورحمة الله: وبعد فقد اجتمعت اللجنة المؤلفة بأمر فضيلتكم من الموَقِّعين عليه لفحص كتاب طه حسين المسمى (في الشعر الجاهلي) بمناسبة ما قيل عنه من تكذيب القرآن الكريم واطلعت على الكتاب، وهذا ما ترفعه إلى فضيلتكم عنه بعد فحصه واستقراء ما فيه. يقع الكتاب في 183 صفحة وموضوعه إنكار الشعر الجاهلي وأنه منتحَل بعد الإسلام لأسباب زعمها. وقال: إنه بنى بحثه على التجرد من كل شيء حتى من دينه وقوميته عملاً بمذهب ديكارت الفرنسي، والكتاب كله مملوء بروح الإلحاد والزندقة، وفيه مغامز عديدة ضد الدين مبثوثة فيه، لا يجوز بحال أن تُلقى إلى تلامذة لم يكن عندهم من المعلومات الدينية ما يتقون به هذا التضليل المفسد لعقائدهم، والموجب للخُلْف والشقاق في الأمة، وإثارة فتنة عنيفة دينية ضد دين الدولة ودين الأمة. وترى اللجنة أنه إذا لم تكافح هذه الروح الإلحادية في التعليم، ويُقتلع هذا الشر من أصله، وتطهر دور التعليم من (اللادينية) التي يعمل بعض الأفراد على نشرها بتدبير وإحكام تحت ستار حرية الرأي اختل النظام وفشت الفوضى واضطرب حبل الأمن؛ لأن الدين هو أساس الطمأنينة والنظام. الكتاب وضع في ظاهره لإنكاره الشعر الجاهلي، ولكن المتأمل قليلاً يجده دعامة من دعائم الكفر، ومعولاً لهدم الأديان، وكأنه ما وضع إلا ليأتي عليها من أصولها وبخاصة الدين الإسلامي، فإنه تذرع بهذا البحث إلى إنكار أصل كبير من أصول اللغة العربية من الشعر والنثر قبل الإسلام مما يرجع إليه في فهم القرآن والحديث. هذا ما يرمي إليه الكتاب في جملته، ولنذكر نبذًا منه بعضها كفر صريح وبعضها يرمي إلى الإلحاد والزندقة فنقول: قال في صفحة 26 ما نصه (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة) . أنكر المؤلف بهذا هجرة [1] سيدنا إبراهيم مع ولده إسماعيل عليهما السلام وقال: إن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي وهو تكذيب صريح لقول الله تعالى في سورة إبراهيم حكاية عنه عليه الصلاة والسلام {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 35-37) وقال في الصفحة نفسها (ونحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة - يريد قصة الهجرة - نوعًا من الحيلة لإثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى) . وهو في هذا النص يصرح بأن القرآن اختلق هذه الصلة بين إسماعيل والعرب ليحتال على جلب اليهود وتأليفهم، ولينسب العرب إلى أصل ماجد زورًا وبهتانًا لأسباب سياسية أو دينية، وهذا من منتهى الفجور والفحش، والطعن على القرآن الكريم في إثباته أبوة إبراهيم للعرب في قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (الحج: 78) الآية. وقال في صفحة 27 (وقد كانت قريش مستعدة كل الاستعداد لقبول مثل هذه الأسطورة - الهجرة المذكورة - في القرن السابع للمسيح. إلى أن قال في صفحة 28: إذاً فليس ما يمنع قريشًا من أن تقبل هذه الأسطورة التي تفيد أن الكعبة من تأسيس إسماعيل وإبراهيم كما قبلت روما قبل ذلك، ولأسباب مشابهة أسطورة أخرى صنعتها لها اليونان تثبت أن روما متصلة بإينياس بن بريام صاحب طرواده، أمر هذه القصة إذًا واضح فهي حديثة العهد قبل الإسلام، واستغلها الإسلام لسبب ديني، وقبلتها مكة لسبب ديني، وسياسي أيضًا. وإذًا فيستطيع التاريخ الأدبي واللغوي ألا يحفل بها عندما يريد أن يتعرف أصل اللغة العربية الفصحى) . وهو تكذيب صريح لقول الله تعالى {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} (البقرة: 127) الآية. ولقوله {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (الحج: 26-27) وقوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125) إلى غير ذلك من الآيات التي في هذا الموضوع، وهو فوق تكذيبه للقرآن يقول: إن فيه تدليسًا واحتيالاً لأسباب سياسية ودينية من أجلها اختلق هذه الأخبار - بهذا وأمثاله يقرر المؤلف أن القرآن لا يوثق بأخباره ولا بما فيه من التاريخ. وكم يترك هذا الكفر الفاحش في عقول الطلبة من أثر سيئ، وهدم لعقائدهم ودينهم! وماذا بقي في القرآن من ثقة وحرمة في نفوسهم بعد هذا التكذيب؟ وقال في صفحة 33 (وهناك شيء بعيد الأثر لو أن لدينا أو لدى غيرنا من الوقت ما يمكننا من استقصائه أو تفصيل القول فيه، وهو أن القرآن الكريم الذي تُلي بلغة واحدة ولهجة واحدة، هي لغة قريش ولهجتها، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته، وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تباينًا كثيرًا إلى أن قال: إنما نشير إلى اختلاف آخر في القراءات يقبله العقل ويسيغه النقل، وتقتضيه ضرورة اختلاف اللهجات بين قبائل العرب التي لم تستطع أن تغير حناجرها وألسنتها، وشفاهها لتقرأ القرآن كما كان يتلوه النبي (صلى الله عليه وسلم) وعشيرته من قريش فقرأته كما كانت تتكلم) إلى آخر ما قال. وهذا تصريح منه بأن القراءات لم تكن منقولة كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي من اختلاف لهجات القبائل، فالسبع المتواترة ليست عنده واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم في أصول الدين أن السبع متواترة، وأن طريقها الوحي فمنكرها كافر. وعدا ما سردناه توجد صحائف عديدة فيها مغامز مؤلمة، منها ما قاله في صفحة 81 (وشاعت في العرب أثناء ظهور الإسلام وبعده فكرة أن الإسلام يجدد دين إبراهيم) وفي الصفحة التي قبلها (أما المسلمون فقد أرادوا أن يثبتوا للإسلام أولية في بلاد العرب كانت قبل أن يبعث النبي، وأن خلاصة الدين الإسلامي وصفوته هي خلاصة الدين الحق الذي أوحاه الله على الأنبياء من قبل) وهو في هذا يكذب قوله تعالى {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} (النحل: 123) وقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} (آل عمران: 68) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا الموضوع، ومنها غير ذلك كثير مما هو مبثوث في الكتاب. ولا ريب في أن هذا هو عين ما كان يطعن به المشركون على القرآن في مبدأ أمره قال تعالى في سورة الفرقان {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} (الفرقان: 4-5) . فاللجنة ترفع إلى فضيلتكم ما وصلت إليه على سرعة من الوقت مما سطره المؤلف من الكفر الصريح، وتترك ما ينطوي في ثناياه من الإلحاد والزندقة مما لا يخفى على الناظر. نرفعه مطالبين فضيلتكم والحكومة بوضع حد لهذه الفوضى الإلحادية خصوصًا التي تنبث في التعليم لهدم الدين بمعول الزندقة كل يوم، فما نفرغ من حادثة إلا ونستقبل حوادث لا تدع المؤمن مطمئنًا على دينه. نطالب فضيلتكم والحكومة بذلك حرصًا على أبناء الدولة أن يتفشى هذا الداء فيهم وهم رجال المستقبل، وسيكون بيدهم الحل والعقد في مهام الأمور. ونحن لا نفهم كيف تصرف أموال المسلمين وأوقافهم على تعليم نتيجته هذا الإلحاد الذي يبثه هذا الداعي ويتقاضى عليه مرتبًا ضخمًا من هذه الأموال. وهل بهذه الطريقة وعلى هذا النحو تخدم وزارة المعارف أبناء الأمة ورجال الغد وتبني صرح التعليم والتربية؟ ... ... ... ... نسأل الله أن يوفقكم لما فيه المصلحة والسلام ... ... ... ... ... ... ... 26 شوال سنة 1344هـ ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاءات محمد الديناري - عبد المعطي الشرشمي - محمد عبد السلام القباني - عبد ربه مفتاح - عبد الحكم عطا - محمد هلالي الإبياري - عبد الرحمن المحلاوي - محمد علي سلامة ((يتبع بمقال تالٍ))

بلاغ عام

الكاتب: عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود

_ بلاغ عام قد نشر منذ عام وأشارت إليه جريدة أم القرى ولم تنشره وهو وثيقة رسمية وحجة قطعية بسم الله الرحمن الرحيم من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلى كافة من يراه من إخواننا المسلمين من أهل مكة وأهل نجد كبيرهم وصغيرهم سلمهم الله تعالى وهداهم، ووفقنا وإياهم لما يحبه ويرضاه، وجعلنا وإياهم من صالحي عبيده وأوليائه، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فلا يخفاكم ما منَّ الله به علينا وعليكم من نعمة الإسلام. قال تعالى {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) وقال تعالى آمرًا عباده بما فيه صلاحهم في دينهم ودنياهم {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 41) وقال صلى الله عليه وسلم: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرًا أو ليوشكن أن يعمكم الله بعقابه) والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة لا تحصى. فإذا كان الناس هم المحتاجين إلى ربهم وهو صاحب المنة والفضل بما أنعم به علينا من نعمة الإسلام وجعلنا من أهله فالواجب علينا الاجتهاد فيما يرضي الله والقيام بأمره والاتباع لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد أوجب علينا فرائض الإسلام الخمس وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحقيقة ذلك النفي والإثبات فـ (لا إله) نافية جميع ما يعبد من دون الله سواء كان المعبود نبيًّا مرسلاً أو ملكًا مقربًا ودالة على التبرؤ من الشرك وأهله بالأفعال والأقوال و (إلا الله) تثبت العبادة لله ومعنى ذلك أن تكون عبدًا مطيعًا لله تطيعه فيما أمرك به، وتجتنب ما نهاك عنه. وشهادة أن محمدًا رسول الله حقيقتها ومعناها أن تقتدي به وتتبع سنته بفعل ما أمرك به، واجتناب ما نهاك عنه، وأن يكون الله ورسوله أحب إليك من نفسك وأهلك ومالك. (الركن الثاني) إقامة الصلاة لأنها أكبر أركان الإسلام بعد الشهادتين، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. والثالث والرابع والخامس إيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام. فأرجو أن يوفقنا الله وإخواننا المسلمين لإقامة أركان الإسلام جميعها مع الإخلاص بالعمل والنية الصالحة. ومن المعلوم أنه لا دين ولا إسلام إلا بالعمل بأركان الإسلام وأدائها على الوجه المشروع. وإن من جماع الأمر النصح لله ولرسوله ولدينه ولأئمة المسلمين وعامتهم بكل مكان وكل زمان وعلى الأخص في هذا الحرم الشريف. والذي أوصيكم به ونفسي تقوى الله والمسارعة إلى ذلك والاجتهاد فيما يحبه ويرضاه، وأن تفكروا فيما خلقتم له وفي مآلكم بعد انقضاء آجالكم، فإنه لا شيء بعد ذلك إلا جنة أو نار. والعاقل منا ومنكم مَن فكَّر وسعى فيما يرضي ربه وينجيه من عذابه. إن أول وصيتي لكم - إخواننا أهل مكة - أن على علمائكم الالتفات إلى أمر الله ومعرفة حقيقة التوحيد والاجتهاد بما يزيل البدع والضلالات، وتبيين الحق لعباد الله الفقراء إليه، فإن تعليم الناس وتبيين الحق من الباطل من أهم الأشياء التي يجب على العلماء القيام بها فإذا فعلوا ما يجب عليهم فقد برئوا من عهدتهم. وإن من أهم ما يجب عليهم بيانه للناس حقيقة التوحيد والعمل به وترك ما ينافيه من الشرك والضلال والبدع. ثم حض الناس على إقامة شرائع الإسلام مثل الصلاة والمحافظة عليها، ومعرفة أركانها وواجباتها ومفسداتها وكذلك غيرها من أركان الإسلام وأن ينهوا الناس ويزجروهم عن الأعمال الخبيثة من قول وفعل واعتقاد وعن جميع المنكرات التي تحرمها الشريعة وإني أطلب إلى العلماء أن لا يكتموا شيئًا مما في نفوسهم فيما يتعلق بأمر العقيدة التي تفاوضنا وإياهم فيها وأقروها فما كان موافقًا لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيجب علينا جميعًا العمل به؛ لأن دين الله واحد ونحن جميعًا عبيد لله، وأكرم الخلق على الله من اتقاه قال تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) وما كان مخالفًا للكتاب والسنة فالساكت عنه على خطر. إنه لا عذر بعد اليوم لأحد بالسكوت، وأكرر عليكم مرة ثانية إنه من رأى منكم منكرًا يخالف الكتاب والسنة من قول أو عمل فليراجع فيه العلماء الموجودين في مكة وهم الشيخ عبد الرحمن بن داود والشيخ محمد الشاوي ومن لم يستطع مراجعتهما فليبين لي الأمر ولكم عليّ أمان الله وعهده أن أنفذ ما يقتضيه الحق وما أثبتته الشريعة من نفي وإثبات على نفسي وأسرتي وعلى العلماء والعوام. وأما أنتم - يا أهل نجد علماءكم وعامتكم والمسؤول في هذا هم الذين ذكروا أعلاه الشيخ عبد الرحمن والشيخ محمد. فالواجب عليكم أن تتناصحوا فيما بينكم وتناصحوا إخوانكم جيران البيت الحرام وتشفقوا عليهم كشفقتكم على أنفسكم وأولادكم، وأن تسألوا الله لمهتديهم الثبات ولجاهلهم الهداية. وأن يكون نصحكم لهم كنصحكم لأنفسكم وأحبابكم بالرفق واللين والشفقة وأن تستروا عليهم كما تسترون على أنفسكم وأحبابكم، وأن لا تجسسوا عليهم وأن لا تظنوا بهم ظن سوء فمن خدعكم بالله فانخدعوا له، فإن كان صادقاً فالحمد لله، وإن كان غير ذلك فليس لنا إلا الظاهر وحسابه على الله. فعليكم أيها العلماء القيام بالوظيفة التي ألزمنا الله وإياكم بها، وأنتم أيها العامة عليكم أن ترتدعوا عما نهاكم الله عنه، ثم عمَّا نهيناكم عنه. أيها العلماء: إن الأمر قد جعلناه في ذمتكم فعليكم أن تقوموا بالواجب على الوجه المشروع، وأن تواسوا إخوانكم أهل بيت الله الحرام وجيرانه بأنفسكم من النصيحة بالقول والفعل وأن تأخذوا على يد السفيه من كافة أهل نجد وتمنعوهم من الاعتداء بالقول والفعل إذ ليس لأحد منهم رخصة في ذلك، وإنما على الموظفين أن يقوموا بوظائفهم حسبما يطلب منهم كما سنبينه. إن الذي آمركم به أيها العلماء هو أن تجتمعوا مع إخوانكم من أهل البلد الحرام وترتبوا أناسًا ترتضونهم في أمر دينهم ودنياهم توزعونهم في الأحياء والأسواق حتى إذا رأوا من أحد كلامًا أو عملاً يخالف المشروع من شرك أو بدعة أو فسوق أقبلوا عليه ونصحوه بلين ورأفة، فإن قبل منهم المخطئ واستغفر وتاب، فالحمد لله وهو المطلوب وإن تردد في ذلك وتعنت يأخذونه باللين والهون إليكم حيث تقيمون عليه بعد ذلك ما يجب سواء بنصيحة أو بأدب وهذا هو الأمر الأول الذي يجب على الموظفين القيام به. ثانيًا: عليهم أن يحضوا الناس على صلاة الجماعة وأن لا يتأخر أحد عن أدائها في المساجد، فمن تأخر لأول مرة نصحوه فإن تكرر منه ذلك رفعوا الأمر إليكم حيث تنفذون فيه الأمر المشروع. ثالثًا: أن يراقبوا كافة أهل نجد ويمنعوهم من الاعتداء بالألفاظ كقول جاهل: يا مشرك أو يا كافر أو يا فاسق، وكذلك يمنعونهم من الاعتداء باليد وغيرها فمن اعتدى يؤدبونه فإن عاند حملوه إليكم لتنفذوا فيه من العقوبة ما يستحقه عمله أما عامة أهل مكة: (أولاً) ترك ما يخالف الشرع من كلام شرك ودعوة غير الله واستغاثة بغير الله وتوسلات مبتدعة وزيارات القبور أو غيرها بقصد التبرك بها أو طلب شيء منها؛ لأنه لا يجوز الطلب من غير الله أما الزيارة المشروعة فلا بأس بها ولكن المحال التي كانت عليها القباب من قبل فدفعًا لشبهة وردًا لحجة جاهل لا نرى زيارتها، ولو أننا نبرأ إلى الله من تحريم زيارة القبور على الوجه المشروع ولكن مراعاة قاعدة من قواعد الشرع المشهورة وهي (أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) . (ثانيًا) عليكم بالمحافظة على الصلاة والمبادرة لأدائها مع الجماعة وترك الأعمال إلى انقضاء الصلاة. (ثالثًا) عليكم ترك التكلم بالكلام الخبيث الذي ينهى عنه الإسلام. (رابعًا) عليكم بالامتناع عن جميع الشبهات التي تحرمها الشريعة الإسلامية من قول وعمل مثل المسكرات أو جنسها والابتعاد عن مواقف الفساد والبعد عن البغي والمحرمات وترك الربا في جميع مظاهره. وعلى الإجمال أن تجتنبوا جميع ما حرمته الشريعة الإسلامية فمن اجتنب ذلك فهو أخونا ونحن إخوانه، ومن ترك شيئًا مِن المأمور به أو فعل شيئًا من المنهي عنه فلا يأمنن العتب ولا يلومن إلا نفسه ونبرأ إلى الله أن نفعل به فعلاً من تلقاء أنفسنا بل نرد أمره إلى الشريعة المطهرة وننفذ ما أمرت به فيه. أما أنتم يا عامة أهل نجد فليشتغل كل بعمله ولا يتعرض لما لا يعنيه وأنهاكم ثم أنهاكم عن الكلام الفاحش كأن يلعن أحدكم أحدًا أو يتكلم بقول: يا مشرك يا كافر يا فاسق يا خبيث أو يرفع يده على أحد بضرب أو غيره، فالفاعل لذلك هو مني في حرج أولاً، ثانياً (إذا) ثبت عندي أنه تكلم بهذا الكلام أو ضرب بيده ولو كان منكرًا لمنكر فإني مجبر على تأديبه وإصابته بما يضره فإن ادعى المنكر أنه أنكر عملاً بحديث (من رأى منكم منكراً فليغيره) فهذا صحيح ونقره على ذلك ولكن يشترط أن يكون الإنكار على وجه المشروع إذ يشترط فيه أولاً أن يكون المنكر متحققًا من أن الشيء الذي ينكره منكر بالنص، ثانيًا أن يكون عليمًا بما يأمر به عليمًا بما ينهى عنه، حليمًا فيما ينهي عنه رفيقًا فيما يأمر به، رفيقًا فيما ينهي عنه، فإذا كملت هذه الخصال الأربع فلينه برفق، ونصيحة، وستر فإن أطاعه المأمور فالحمد لله وإن أبى أو عاند فلا يتكلم معه بكلام فحش ولا يتجاوز عليه برفع يده أو غيرها بل يخبر بذلك الموظفين بالأسواق وهم ينظرون في شأن المخالف يرجعونه إلى العلماء. فمن تجاوز فقد عصى الأمر وجنى على نفسه واستحق التأديب. وعلى ذلك فقد برئت الذمة بما كلفنا به العلماء وأمرنا به الرعية، فمن رأى ذلك صوابًا موافقًا للكتاب والسنة فليجتهد في ذلك ونسأل الله لنا وله الهداية والثبات على ذلك، ومن أنكر شيئًا في هذا أو رأى فيه شيئًا يخالف الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح فليراجعنا فيه، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وقد أمرت الأمير خالدًا أن ينفذ ما يقرره العلماء وأن يكون خادمًا للشريعة ويقيم الأمر على المخالف سواء كان من أهل مكة أو أهل نجد. وبهذا برئت ذمتي وتعلق الأمر في رقاب العلماء أي علماء مكة وعلماء نجد وأكون معذورًا أمام من جنى على نفسه وخالف الأمر من أهل مكة المكرمة أو من أهل نجد، والرجاء بالله أن يجعلنا وإخواننا المسلمين من القائمين على النهج القويم والسائرين على الصراط المستقيم، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ... ... ... ... ... ... ... 10 شوال سنة 1343هـ ... ... ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود

مذكرة مقدمة إلى مؤتمر الخلافة العام في مصر القاهرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مذكرة مقدمة إلى مؤتمر الخلافة العام في مصر القاهرة بسم الله الرحمن الرحيم ] وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ [[*] أيها الإخوة الكرام، الذين اجتمعوا لخدمة الإسلام، بالنظر في مسألة الخلافة التي هي أهم المسائل الدينية والدنيوية، إن أخاكم هذا قد درس هذه المسألة من جميع جوانبها الشرعية والتاريخية والسياسية، وألّف فيها كتابًا حافلاً يشتمل على جُلّ ما يلزم لمن يريد درس المسألة والإحاطة بوجوهها، ثم كتب بعد ذلك مقالات أخرى فيها عقب إلغاء الحكومة الجمهورية التركية للخلافة العثمانية. ثم انتظم في عقد مجلس إدارة مؤتمركم هذا الذي قرر دعوتكم إلى هذا الاجتماع ووضع النظام له، وكان عضوًا في لجانه الفرعية، وهو يعرض عليكم رأيه فيما يراه أهم مسائل البرنامج الذي وضعه مجلس الإدارة معبرًا عن هذا الأهم بما يجب على المسلمين عمله والسعي له إذا رأى المؤتمر أن نصب إمام عدل مستجمع للشروط الشرعية على الوجه الشرعي الذي هو مبايعة أهل الحل والعقد من المسلمين الموصوفين بالصفات المقررة في موضعها من كتب الشرع لا يتيسر الآن. أيها الإخوة الكرام: إنني قبل بيان رأيي فيما أذكر أقول كلمة وجيزة في رأي سمعته من كثير من الباحثين والمفكرين وهو: أنه إذا تعذر نصب الخليفة الشرعي الذي هو الإمام الحق الذي تجب طاعته بمجرد مبايعته الشرعية على جميع المسلمين ملوكهم وأمرائهم ودهمائهم، ويعد الخارج عن أمره في غير معصية الله تعالى عاصيًا يجب على المسلمين قتاله إذا كان ذا شوكة - فالواجب في هذه الحالة نصب خليفة مستجمع للممكن من الصفات والشروط المطلوبة شرعًا كخلفاء دولة آل عثمان التي كان أكثر المسلمين يعترفون بها، عملاً بقاعدة: الميسور لا يسقط بالمعسور، وقياسًا على ما أجازه بعض الفقهاء من توليه القاضي المقلد (الذي يعبرون عنه بالجاهل) عند فقد العالم المجتهد، ويحتجون لذلك بما ورد في الصحيح أن (من مات وليس في عنقه بيعه مات ميتة جاهلية) ووجوب اعتزال المسلم لجميع فرق المسلمين إذا لم يكن لهم إمام وجماعة ولو بعضِّه بأصل شجرة حتى يموت على ذلك. وإنني أشير إلى أهم ما كنت أقوله لهؤلاء (وتجدون له تفصيلاً في كتابي الخلافة أو الإمامة العظمى) وهو: 1 - إن لبعض الشعوب الإسلامية مبايعًا جماعته يدعون أن بيعته شرعية لا ينقصها شيء من الشروط الشرعية، ولبعض آخر إمامًا يدعون أنه هو الذي يقيم الحق والعدل والسنة دون غيره، وإن لم يكن مستجمعًا لجميع ما ذكر العلماء من الشروط، ولكن سائر الشعوب الإسلامية لا تقر لهؤلاء ولا لأولئك بإمامتهم، فما الفائدة من مبايعة إمام آخر لا يمكن ادعاء استجماعه للشروط، ولا أن بيعته هي الصحيحة دون غيرها، وهل تكون البيعة إلا مزيدًا في التفرق والشقاق؟ 2 - كما توجد شعوب تدعي وجود الخلافة فيها ويوجد أفراد يدعون الخلافة ببيعة توجب على جميع المسلمين اتباعهم، وإن كان المعتدون قد فصلوهم بالقوة من شعوبهم، وهم محمد وحيد أفندي التركي السلطان الأخير من آل عثمان [1] وعبد المجيد أفندي التركي الذي سُمي خليفة بدون خلافة ولا سلطنة ثم طُرد من قصره ومن بلاد شعبه، والشريف حسين بن علي الذي كان أميرًا لمكة ثم صار ملكًا للحجاز، ثم بايعه بالخلافة فريق كبير من أهل فلسطين وسورية بالاختيار، ثم أهل الحجاز بالاضطرار، فماذا استفاد المسلمون من هذه البيعات؟ وهل من الحكمة أن يعود فريق آخر إلى مثلها؟ (3) إن خلافة سلاطين بني عثمان لم تكن خلافة شرعية صحيحة بحيث يعد الواحد منهم إمام المسلمين الحق كما اعترفوا بذلك، وإنما كانت خلافة تغلُّب يطاع أمر خلفائها شرعًا فيما لا يخالف الشرع لحفظ النظام وإقامة الأحكام واتقاء الفتنة وسفك الدماء، وقد نقل الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن المتغلبين على الحكم بالقوة حكمهم حكم البغاة الخارجين على الإمام، فإذا وجد الإمام الحق وجب عليه قتالهم وإكراههم على طاعته إذا قدر، وإنما كان أكثر المسلمين في غير بلادهم يعترف بخلافتهم لاعتزاز المسلمين بدولتهم التي صارت الدولة الإسلامية الوحيدة التي تعترف جميع دول الأرض بها وتحسب حسابًا لجيشها. فكان اعترافًا سياسيًّا وجدانيًا، أشد المسلمين تعصبًا له وعطفًا عليه، هم المستذلون باستيلاء الأجانب عليهم. وكانوا يتناقلون أنهم ورثوا الخلافة إرثًا شرعيًّا بنزول آخر الخلفاء العباسيين لهم عنها، ومن أدلة عامتهم عليها وجود الآثار النبوية عندهم وحفظهم للحرمين الشريفين. فمجموعة مزاياهم لا توجد في حكومة إسلامية ولا شعب إسلامي. والمهم منها هو القوة العسكرية المنظمة مع الاستقلال المعترف به من جميع دول الأرض. على أن هذا كله لم يُخرج خلافتهم من حكم التغلب إلى حكم الإمامة الحق، ولم ينالوا بها ما كانوا يرجون في الحرب العامة عندما أعلنوا الجهاد الشرعي. فتبين بهذه الأمور أن نصب خليفة غير مستجمع للشروط الشرعية ببيعة صحيحة شرعية لا يكون إقامة للشرع، ولا وسيلة لجمع كلمة المسلمين على إمام واحد، ولا لاعتراف أكثر شعوبهم به، وانتفاعهم بما عسى أن يوضع من نظام لخلافته. وبعد هذا التمهيد أعود إلى أصل الموضوع فأقول: من المعلوم بالقطع أن ذهاب الأصل يتبعه الفرع، وأن لا بقاء للثمرة إلا ببقاء الشجرة، فإضاعة المسلمين لنظام الإمامة العظمى، وتفريطهم في منصب خلافة النبوة، أضاع عليهم ما أوجبه الشرع بهذا النظام وجعله ثمرة له، من حراسة الدين، وعزة الملة والدعوة، ووحدة الأمة، وحفظ مصالحها الدينية والدنيوية. وكل ما يشكوه عقلاؤهم ودهماؤهم منه في أمورهم العامة من مصالح ضائعة، ومفاسد ذائعة، وفرائض متروكة، ومحرّمات مستباحة، فهو من فروع ذلك الأصل، ولا سبيل إلى إقامة تلك المصالح، ودرء هاتيك المفاسد، إلا بإعادة منصب الخلافة النبوية على وجهه الشرعي الصحيح الذي أجمع عليه سلف الأمة، فإذا تعذر ذلك الآن فما الذي يجب على زعماء المسلمين الذين يعنون بمصلحتهم العامة من اتخاذ الوسائل له والتمهيدات لإقامته؟ والذي يطالب هذا المؤتمر بتقريره والسعي لتنفيذه، الذي أراه أنه يحب السعي إلى إيجاد الوسائل الثلاث الآتية: *** (1) أهل الحَلّ والعقد: قد ناط الشرع الإسلامي أمر الحكم والسلطان بالأمة، وجعل إجماعها حجة، وضمن لها أن لا تجتمع على ضلالة، وإنما يمثل إرادة الأمة ويعرب عن إجماعها الكلي أو الأغلبي زعماؤها الذين هم محل ثقتها، وأهل الحل والعقد في شؤونها، الذين تُتّبع جماعتهم في جملة المصالح العامة، وتُتبع الأفراد أو الهيئات الخاصة منهم من كل نوع منها، كعلماء الدين في الأحكام الدينية، وقواد الجيوش في الأمور العسكرية، والأطباء في الاحتياجات الصحية، وأولي الرأي والتجارب والمعرفة في المصالح السياسية والإدارية، والفنيين البارعين في الأعمال الفنية ... إلخ. ويعتبر في كل فريق من هؤلاء وغيرهم الغيرة على الأمة، والصدق والإخلاص في خدمتها بحيث يكون موثوقًا عند الجمهور منها. وقد صرح أعلام الملة من علماء الأصول والفروع بأن مدار انعقاد الخلافة على بيعه أهل الحل والعقد في الأمة، فهم الذين ينصبون الإمام، وهم الذين لهم الحق في خلعه عند وجود المقتضي وانتفاء المانع الراجح، فأول ما يجب على أهل العلم بمصلحة الأمة ذوي الغيرة والرأي من أعضاء مؤتمر الخلافة وغيرهم هو البحث عن أهل الحق والعقد في كل شعب من شعوب المسلمين حيث وجدوا، والسعي لإيجادهم حيث فقدوا، ووضع نظام للتعارف والتعاون بينهم، وإعلام الجاهلين منهم بما أوجبه الله عليهم، فإن أكثر زعماء القبائل البدوية وكثير من البلاد القريبة من البداوة قد استحوذ عليهم الجهل المطبق، فهم لا يعرفون مصلحة قبائلهم وبلادهم في دينهم ودنياهم فضلاً عن مصالح الملة العامة، بل أقول إن أكثر زعماء البلاد الحضرية لا يعرفون أحكام الخلافة الإسلامية ومزاياها التي تفضل بها سائر أنظمة الحكم في شعوب الحضارة. (2) النظام الذي يوضع لمعرفة من يوجد من أهل الحل والعقد وأين يوجدون ومن هم؟ ولإيجاد جماعة منهم بالوسائل العصرية المعروفة في تأليف الأحزاب والجمعيات والنقابات. فإنه لا يمكن إيجاد خلافة عامة تعترف بها جميع الشعوب الإسلامية أو أكثرها إلا بوجود جماعة أهل الحل والعقد في جميعها أو أكثرها، وتعارف هذه الجماعات أو أكثرها وتواطئهم (أولاً) على نظام للخلافة يناسب حال هذا الزمان (وثانيًا) على المكان الذي يُختار لنصب الخليفة فيه (وثالثًا وأخيرًا) على الشخص الذي يُختار للخلافة ثم تبايعه تلك الجماعات. إذا ابتدأ المسلمون بالسعي لهذا عقب انفضاض المؤتمر، فمن الجائز أن يتم النجاح في آحاد من السنين، وليس من الكثير أن يحتاج إلى عشرات السنين، ولا يجوز لهم اليأس إذا لم يتم لهم في العشرات، فإن ما هدم في عدة قرون لا يسهل إعادة بنائه في أقل منها إلا بتوفيق من الله تعالى. *** 3 - نظام الخلافة المناسب لهذا العصر: يجب أن يراعى في هذا النظام: (أولاً) ألا يستطيع الخليفة أن يستبد بالأمر إذا زينت له نفسه ذلك. (ثانيًا) أن يكون مستجمعًا للشروط الشرعية حتى لا يكون لأحد زعماء المسلمين عذر في رفض بيعته، أو استحلال عصيانه، وذلك بإنشاء مدرسة يتخرج فيها الخلفاء والمجتهدون المستجمعون لصفات أهل الحل والعقد شرعًا ولشروط القضاء الشرعي. (ثالثًا) أن تبنى الأحكام ونظم الدولة في مملكة الخلافة على التشريع الإسلامي بنصوص الكتاب والسنة القطعية الجامعة بين العدل والرحمة والمساواة الصحيحة، وبالاجتهاد في غير القطعي الذي مداره على درء المفاسد، ومراعاة المصالح، واليسر ورفع الحرج، وإباحة الضرورات للمحظورات، مع تقديرها بقدرها، وغير ذلك من القواعد العامة الصالحة لكل زمان ومكان. (رابعًا) أن يكتفي من الشعوب الإسلامية غير الحرة المستقلة في أمرها، ولا القادرة على اتباع سلطان الخلافة في أحكامها، بأن تكون مرتبطة بمقام الخلافة في شؤونها الدينية كدعاية الإسلام الدينية المحضة، والدفاع عنه، وصيانته من الإلحاد والتعطيل، ومن البدع والخرافات، وفي منهاج التعليم الديني، وخطب الجمعة والأعياد، وغير ذلك من التعاون على البر والتقوى وأعمال الخير البريئة من السياسة وشبهاتها. (خامسًا) اتقاء كل ما يُعد عدوانًا على حكومات هذه الشعوب أو حجة صحيحة لها تحملها على اضطهاد رعيتها، وقطع الصلة الروحية المعنوية بينها وبين إمام دينها الأعظم. وإنني مستعد لتأليف رسالة أو كتاب في تفصيل هذه المسائل إذا قررها المؤتمر لأجل عرضها على المؤتمر الثاني الذي ينعقد بعده، وأختم كلامي باقتراح عقد مؤتمر آخر لذلك يعين مكانه بأصوات الشعوب والأقطار التي يتألف المؤتمر من رجالها، بحيث يكون لأهل كل قطر صوت واحد في ذلك، وأحمد الله على توفيق الأمة لعقد هذا المؤتمر، وأسأله تعالى أن يوفقها في مستقبلها إلى خير مَنّه، وصلى الله وسلم على محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله الطاهرين، وخلفائه الراشدين، وصحابته المرشدين وسائر الخلفاء وأئمة العلم العاملين، والسلام على جماعة المؤتمرين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... من أخيهم ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار الإسلامي ((يتبع بمقال تالٍ))

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي بحث في الأغذية والأشربة ينبغي لنا قبل الخوض في هذه المسألة أن نعرف الأغذية التي تضر بصحتنا فيجب علينا اجتنابها، نحن نطلق كلمة (الغذاء) على كل ما يدخل الجسم من طريق الفم، حتى الخمر والحشيش والأفيون والتبغ والشاي والقهوة والكاكاو والبهارات واللعوقات. إني موقن بأن جميع هذه الأشياء مضرة بالصحة ويجب تركها بتاتًا وقد علمت ذلك بتجربتي الشخصية وبتجارب الآخرين. إن الخمر والحشيش والأفيون قد قبحتها جميع الأديان بلسان واحد، ولكن مع ذلك نرى عدد المجتنبين لها قليلاً بالنسبة إلى المتهافتين عليها، إن الخمر قد أهلكت بيوتًا وأسرًا بأهلها، والسكير ينال جزاءه في صحته، وهو يعرف بنفسه أنه ينسى في سكره الفرق حتى بين أمه وزوجته وابنته! إن حياته تصبح ثقلاً محضًا عليه، والسكارى كثيرًا ما يوجدون ملقين في المراحيض ومجاري المياه الوسخة، وإن الناس الصحاح الحواس أيضًا يصبحون آلات صماء عاجزة عند ما يتعودون الشرب، بل إن قواهم العقلية تضعف فلا تؤدي وظيفتها حتى في حالة الصحو. يقول بعض الناس: إن الخمر غير مضرة إذا استعملت كالدواء، ولكن حتى الأطباء الأوربيين قد أخذوا الآن يتحولون عن هذا الرأي في أكثر الأحوال، يقول بعض حماة الخمر بأنه إذا كان يجوز استعمالها كالدواء بلا مضرة، فكذلك يجوز استعمالها كالسكر أيضًا، ولكنهم ينسون أن كثيرًا من السموم كذلك تستعمل كالدواء، فهل نتصور أن نستعملها كالغذاء؟ قد تنفع الخمر بعض النفع في بعض الأمراض، ولكن مع ذلك لا ينبغي لإنسان مفكر عاقل أن يرضى باستعمالها حتى كالدواء في حال من الأحوال، وإن كان لا بد له من ذلك فالأجدر به أن يفدي بجسمه الفاني على أن يرضى باستعمال شيء قد جلب الخراب والهلاك على الملايين من البشر، إن من حسن الحظ أنه لا يزال يوجد في الهند إلى هذا الزمن ألوف مؤلفة من الرجال والنساء لم يتناولوا ولا قطرة واحدة من الخمر قط، إن هؤلاء الناس يفضلون الموت على أن يأكلوا أو يشربوا ما يحترزون منه، مهما أمرتهم الأطباء بذلك. أما الأفيون فليس أقل ضررًا من الخمر ويجب اجتنابه كما يجب اجتناب الخمر، ألا نعتبر بأمة عظيمة قوية كأمة الصين قد أصبحت عاجزة عن حفظ استقلالها بسبب افتتانها بفتنة الأفيون المميتة؟ أولا نرى الأغنياء وأصحاب الأملاك في بلادنا نفسها قد ضيعوا أملاكهم مفتونين بهذه الفتنة العمياء؟ إن فتنة الدخان كذلك قد نسجت ثوبها السميك على عقول البشر نسجًا محكمًا، حتى إنه يحتاج لخرقة إلى سعي جيل أو أكثر. فالشباب والشيوخ قد وقعوا في هذه الفتنة العمياء على سواء، حتى إن أفاضل الناس لا يترددون في استعمال التبغ، والتدخين يكاد أن يصير طبعًا ثانيًا لنا، ويزداد كل يوم انتشارًا ورواجًا. قليل من الناس يعلمون الدسائس المتنوعة التي يستعملها صناع السجاير لإيقاعنا في شراك الدخان أكثر فأكثر، فهم يرشون التبغ بحامض الأفيون وغيره من الحوامض المعطرة لكي نعاني أشد المصاعب في تحرير نفوسنا من قبضته إذا أردنا ذلك، وهم كذلك ينفقون الألوف من الجنيهات في الإعلانات، وقد أسس كثير من الشركات الأوربية للسجائر المطابع، وأعدت لها الصور المتحركة واليانصيب، وأخذت في تفريق الجوائز، كل ذلك للترغيب فيه. والحاصل أنها تصب المال صبًا كالماء لنشر دعوتها ونيل بغيتها، بل النساء أيضًا قد أخذن الآن في التدخين، وقد نظمت القصائد في مدح التبغ، ومجدته الشعراء، ورفعت شأنه، ووصفته (بالصديق الحميم للفقراء!) . إن مضار التدخين كثيرة جدًّا لا يتيسر عدها للبيان، والمدخن يصبح عبدًا خاضعًا للتبغ إلى درجة يفقد فيها كل شعور للحياء والخجل، فهو لا يزال ينفخ الدخان العفن حتى في بيوت الأجانب! لقد أثبتت التجارب العامة بأن المدخنين كثيرًا ما يقدمون على ارتكاب الجنايات على اختلاف أنواعها للحصول على الدخان. فالصبيان يسرقون الدراهم من أكياس والديهم، والمسجونون في السجون يدبرون الحيل لاستراق السجائر، ويبدون مهارة في إخفائها. إن المدخن يستطيع البقاء بدون أكل حينًا من الزمن، ولكنه يرى نفسه عاجزًا عن الصبر بدون دخانه! لقد وجدت الجنود في ميادين الحروب تفقد كل مقدرة على الحرب في أحرج الأوقات إذا حرمت من السجائر التي قد اعتادتها! . إن المرحوم الكونت (ليون تولوستوي) الروسي قصّ علينا الحكاية الآتية: رجل أراد لسبب ما قتل زوجته فاستل مديته وهمَّ بالجناية، ولكن أحس حالاً بالندامة والأسف فأعرض عنها وجلس للتدخين، فلم يلبث أن غشي مشاعره تأثير التبغ فقام من فوره مرة أخرى ومضى في جريمته! فاستدل الحكيم بهذه الحكاية على أن الدخان أشد تأثيرًا على المخ من الخمر، وأكبر خطرًا منها. ثم إن المَبالغ التي تنفق على السجائر والسيجار كبيرة جدًّا وقد أعرف بنفسي أناسًا ينفقون على السيجار 75 روبية في كل شهر! إن التدخين يوجب انحطاطًا كبيرًا في قوة الهضم، فالمدخن لا يشعر بالميل إلى الغذاء، ولأجل أن يجعله مرغوبًا فيه نوعًا ما يستعمل فيه البهارات ويستعمل معه المربيات واللعوقات بكثرة، ثم إن نفسه يتعفن ويظهر في بعض الحالات على وجهة البثور والنفطات، وتسود الأسنان واللثة، بل يقع كثير منهم بسبب هذه العادة الخبيثة في أمراض خطرة. إن دخان التبغ يعفن الهواء ويفسده فتتضرر بسببه الصحة العامة ضررًا كبيرًا، وإني لا أستطيع أن أفهم كيف يتجرأ أولئك الذين يقبحون الخمر على حماية الدخان، وإني لا أتردد في القول بأن الذي لا يجتنب التبغ في جميع أشكاله لا يمكن أن يكون صحيحًا كامل الصحة. إن استعمال المسكرات مثل الخمر وغيرها لا يؤدي إلى انحطاط القوى الجسمية والعقلية وخسارة المال فحسب، بل كذلك يضعف الأخلاق ويقضي على كل قوة ضابطة للنفس. نحن نقدم الشاي أو القهوة حتى لأولئك الذين يزورونا بغتة، وإن الدعوات للشاي أصبحت الآن يومية. قد زاد رواج الشاي في الهند من عهد اللورد كرزون ازديادًا عظيمًا، وكذلك زاد بترغيبه نتاجه بسرعة حتى أصبح استعماله الآن عامًّا في كل بيت تقريبًا. لقد عمت هذه الأشياء إلى درجة كبيرة، حتى أصبح المرضى كذلك يشربون الشاي والكاكاو ويعدونهما من الغذاء المقوي. إني أؤكد بكل قوة أن الشاي والكاكاو والقهوة كل هذه المنبهات مضرة مفسدة للصحة على سواء؛ لأنها تحتوي على نوع من السم، مع علمي بأنه لا يوافقني في ذلك إلا القليل من الناس، أما الشاي والقهوة فإن لم يُخلط معهما اللبن والسكر فليس فيهما أية مادة مغذية. ولقد ثبت بالتجارب المتوالية الكثيرة أنه لا يوجد في شئ من هذه الأشياء ما من شأنه إصلاح الدم ألبتة، وقد كنا إلى قبل سنوات نشرب الشاي والقهوة في مواضع خاصة ولكن قد أصبحت الآن هذه العادة عامة لازمة. إن من حسن الحظ أن الكاكاو، وإن كان يستعمل في بيوت الأغنياء بكل حرية إلا أن غلاءه قد حال دون انتشاره يبن العامة كانتشار الشاي والقهوة. إن الشاي والكاكاو القهوة كلها رديئة لكونها تحتوي على مواد مضعفة لقوى الهضم، وإن أردت أن تختبر ذلك بنفسك فيمكنك أن تعلمه من هذا الأمر الواقع، وهو أن الذين تعودوها مرة [1] يصعب عليهم أن يعيشوا بعد ذلك بدونها. لقد جربت ذلك بنفسي في أيامي الماضية، أيام كنت أستعمل الشاي، فكنت إن لم أشربه في ساعته المعينة أحس بالكسل والارتخاء في الأعضاء. قد اجتمعت مرة 400 امرأة وصبي في حفلة، وكان قد قرر القائمون بها أن لا يقدموا الشاي للمدعوين، فماذا كانت حالة هذه النسوة اللائي كن متعودات على الشاي في الساعة الرابعة مساءً؟ إنهن بادرن حالاً إلى إعلام أصحاب الحفلة بأننا إن لم نتناول شاينا المعتاد نمرض ونعجز عن الحركة! فاضطروا هم إلى نسخ عزمهم، وأمروا بتحضير الشاي، وكان التأخير القليل الذي حصل أثناء التحضير قد أحدث صخبًا كبيرًا وفتورًا عامًّا في النسوة، ولم يعدن إلى رشدهن إلا بعد أن شربن الشاي! . ليست هذه الحكاية وضعية فكاهية، بل واقعة قد وقعت وأنا أشهد بصحتها، وكذلك رأيت حادثة أخرى مثلها وهي: أن إحدى النساء فقدت جميع قواها الهاضمة بسبب الشاي وأصبحت فريسة لصداع شديد مزمن، ولكنها منذ الساعة التي تابت فيها عن استعمال الشاي، أخذت صحتها تتحسن شيئًا فشيئًا. إن طبيبًا من أطباء بلدية Battersea في إنجلترا قد صرح بعد تحقيق دقيق بأن فساد القوى العقلية لألوف من نساء تلك الجهة إنما هو نتيجة لانتشار الشاي فيها انتشارًا عظيمًا. وقد شاهدت أناسًا كثيرين قد فقدوا صحتهم بسبب الشاي. وقد قال شاعر هندي في وصف القهوة (إنها تزيل البلغم والنفاخ، ولكنها مع ذلك تضعف الرجولية، وترقق المني، وترقق الدم، ففيها (نفعان وثلاث مضرات) . ليظهر أن الشاعر قد صدق، فإن للقهوة بعض التأثير في البلغم والنفاخ، ولكنها في الوقت نفسه تضعف الجسم بالقضاء على المادة المنوية الضرورية، وترقق الدم فتجعله كالمصل. ونحن نقترح على الذين يدافعون عن القهوة بنفعها في البلغم استعمال سائل الزنجبيل الذي هو أنفع لهم منها لهذا الغرض، ومن جهة أخرى لا ينبغي أن ننسى أن إثم القهوة أكبر من نفعها، فإذا كان شيء يفسد المادة المنوية ويسمم الدم أفلا يجب اجتنابه البتة؟ أما الكاكاو فهو كذلك مضر كالقهوة بل كالشاي، لأنه يحتوي على سم يضعف إحساس الجلد. إن الذين يسلمون بقوة الملاحظات الأخلاقية في هذه الأشياء يجب أن يتذكروا دائمًا أن الشاي والقهوة والكاكاو كلها إنما ينتجها في الأكثر تعب العمال تحت شروط (التعهد) الذي ليس هو إلا اسم حسن للعبودية، إننا لو نري بأعيننا تلك المعاملة القاسية التي يعامل بها العمال في بساتين الكاكاو لا نعود إلى استعماله أبدًا، وكذلك لو كنا نحقق الطرق التي تعالج بها جميع أطعمتنا بالتدقيق لكنا نترك 90 في المائة منها لا ريب. إنه يمكن تحضير بدل غير مضر بل صحي للقهوة (والشاي والكاكاو) أيضًا بكل سهولة، ولا يستطيع حتى الذين ألفوا شرب القهوة كثيرًا أن يجدوا فيه ما يفرقون به بين طعم القهوة وبينه، يوضع قمح جيد منتقى في مرجل فوق النار فيقلى حتى يحمر احمرارًا ويضرب إلى السواد، فينزل عند ذلك ويسحق كالبن ثم إذا أردت أن تشربه فخذ من المسحوق ملعقة وضعها في الفنجان وصب من فوقه ماءً فاترًا وإن وضعته على النار مدة دقيقة أحسن، وتزيد فيه اللبن والسكر إن شئت، فإذا شربته تجد شرابًا لذيذًا أرخص وأصح من القهوة. وأما الذين لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم في إعداد هذا المسحوق فلهم أن يطلبوه [2] من: Ahmedab Ashram Satiagraha *** الغذاء يمكن تقسيم النوع البشري من جهة الغذاء ثلاثة أقسام كبيرة: (فالقسم الأول) وهو أعظمها الذين يقتاتون بالنباتات وحدها، لرغبتهم فيها وتفضيلها أو لعجزهم عن الحصول على غيرها. ويدخل في هذا القسم معظم الهند وكثير من أهل أوربة والصين واليابان، ويجتنب اللحم عدد قليل من هذا القسم لأسباب دينية، والباقي يرحب به إن وجده، ويدخل في هذا القسم المضطر الطليان والأيرلنديون وأكثر الاسكوش، وفلاحو الروس المساكين، وجميع أهالي الصين واليابان تقريبًا، فقوام غذاء الطليان المكرونا، وأهل إيرلندا البطاطس، وأهل أسكاتليند دقيق الذرة، وأهل الصين واليابان الرز. (والقسم الثاني) الذين يعيشون بالأغذية

رجال الدين في أمريكا يعارضون عقد معاهدة مع أمة غير مسيحية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رجال الدين في أمريكا يعارضون عقد معاهدة مع أمة غير مسيحية لتعتبر جريدة السياسة، وجمعية الملاحدة بمصر صرح السناتور بوراه رئيس لجنة العلائق الأجنبية في مجلس الأمة الأمريكي بعدم موافقته على طلب المائة والعشرة من أساقفة الكنيسة الإبسكوبالية الذين اقترحوا على المجلس رفض معاهدة لوزان قائلين: إن الرأي الأمريكي العام معارض لاستئناف علائق ولائية مع أمة غير مسيحية، وقد كتب السناتور بوراه إلى الأسقف (مانين) كبير أساقفة الكنيسة المشار إليها كتابًا تولت جريدة (البيان) الأمريكية الغراء تعريبه فيما يلي: (أعترف مع الشكر بوصول الاحتجاج المذيل بتوقيعك وتواقيع 109 أساقفة آخرين ضد الموافقة على معاهدة لوزان التي حسبما أعتقد سوف تطرح للبحث والنظر قريبًا وأنا أشعر بوجوب بذل الجهد لجعل إجازتها أمرًا مقررًا ومعلوم أن هنالك أسبابًا عديدة مهمة توجب إجازة تلك المعاهدة حسبما يبدو لي. ولكني لو كنت طالبًا آراء الآخرين في شأنها لكان من الواجب عليّ إبداء مزيد الاحترام لآراء الأمريكيين المقيمين في تركيا ولهم فيها مصالح مختلفة قبل غيرهم. فهم بجملتهم حسبما علمت يشيرون بوجوب إجازة تلك المعاهدة. إن مصالحنا الدينية والتهذيبية والتجارية كلها متحدة ومجمعة على إجازة معاهدة مع تركيا علمًا منهم بأنها ضرورية لحمايتهم، وما أورده من هذا القبيل هو من البراهين التي لا ترد ولا تدفع. ولست أرى من الحكمة أو العدل على جانب الحكومة أن تهمل هؤلاء الناس وما لهم من المصالح المختلفة بدون معاهدة تحميهم، أو بدون علائق ودية ومعاملات ولائية تتولد كما لا يخفي عن مثل تلك المعاهدة وتتأيد بها. ومما هو جدير بالذكر بهذه المناسبة أن كل الدول العظمى في العالم قد عقدت معاهدات مع تركيا، والمعاهدة الأمريكية التي هي الآن رهن النظر سوف تعمل على حماية مصالحنا الدينية والتهذيبية والتجارية أسوة ببقية الدول الأخرى، فلا يكون مجال للقول بأن مصالح الولايات المتحدة غير محمية، أو غير حاصلة على العناية التي نالتها مصالح الأمم الأخرى. ويكون من الحماقة أن نقف وحدنا ونأبى عقد معاهدة لأننا لم نحصل على شروط أفضل من التي حصلت عليها بقية الأمم فإذا فعلنا ذلك نعرض مصالحنا في كل تركيا للأخطار. وإذا قيل إن من الواجب الحصول على معاهدة أفضل من هذه أقول: إن هذه المعاهدة هي أفضل ما نستطيع الحصول عليه في هذا الحين. فإذا نفذناها الآن تكون حسبما أعتقد وسيلة للحصول على أحسن منها في المستقبل. وأما قطع العلائق بالكلية فلا يكون منه نفع. ذلك فضلاً عن أن كل ما احتوته هذه المعاهدة موافق لنا مؤيد لمصالحنا. وفي رأيي أننا في قبولنا هذه المعاهدة لا نوافق على الماضي. ولا نجازف بالمستقبل. وفي احتجاجكم تقولون بعدم استئناف علاقتنا الولائية مع دول غير مسيحية وغير تائبة؟ فإنا يا حضرة الأسقف مانين أستحسن أن تعمد حكومتنا إلى إيجاد هذه العلائق الولائية مع كل الدول وكل الشعوب، لأنه برفضنا العلائق الولائية مع جميع الشعوب التي ترفض المسيحية. لا تكون حكومتنا تجري على خطة غير معقولة فقط. بل حسبما أعتقد أنها تكون تهمل الغرض العظيم من مفاد المسيحية في الشؤون الدولية، ألا وهو إيجاد علائق ولائية ليس فقط مع الدول المسيحية الأخرى بل بالأحرى مع غير المسيحية منها ذلك لكي ندنيها إلينا بحيث تتماسّ مع التعاليم المسيحية. ثم هل يمكننا القيام بخدمة فعلية لأتباعنا في تركيا؟ أو هل نتوقع التمكن من التأثير على تكييف السياسة على أنموذج إنساني أو سياق ديني في ذلك الإقليم الخصوصي من العالم إذا نحن قطعنا العلائق مع ذلك الشعب وابتعدنا عن كل ما يسهّل لنا سبل التأثير النافع على شؤونه؟ وأنت تلفت نظري أيضًا إلى المذابح التركية. فكلنا نعرف هذه الأمور جيدًا ونأسف لوقوعها، ونرغب في إزالتها أو تلطيفها في المستقبل على قدر الإمكان، ولكن كيف يتسنى ذلك لنا. بل كيف نتمكن من إيجاد تأثير إنساني فعال لبلوغ ذلك القصد؟ أنا لا أعرف سوى طريقتين وهما: إما قوة السلاح - وهو أمر أرفضه بتاتًا أو التوصل إلى ذلك عن طريق الصداقة والموالاة والنفوذ الأدبي. ثم هل أفهم من كتابكم مع المائة والتسعة أساقفة أنكم ترغبون في إنشاء وطن قومي للأرمن في تركيا وحماية ذلك الوطن بقوة السلاح؟ وهل تريدون من الحكومة الأمريكية استخدام الجيش والأسطول لإيجاد ما ترومونه من الصلاح والعدالة؟ أريد أن أعتقد بأنكم لستم راغبين في شيء من ذلك. فالطريقة الوحيدة إذن هي يجاد علائق ودية بالمعاهدة تخولنا حق البحث واستخدام وسائل الإقناع والزعامة الأدبية في ذلك السبيل. أما قطع المعاهدات والعلائق السياسية الولائية فإنه يعرض أتباعنا هناك للخطر الكبير ويضر بمصالحهم، فلا نعود قادرين على مساعدتهم بغير القليل الذي نتمكن من القيام به حينًا بعد آخر وعند سنوح الفرصة. ولست أعتقد بأن التركي قد تغير عما كان عليه بالكلية أو انقلب بطنًا لظهر بين ليلة وضحاها، ذلك لأن الشعوب لا تتغير كذلك، ولكننا نخطئ كثيرًا إذا أنكرنا التقدم والرقي وغير ذلك من التطورات التي طرأت على تركيا والبادية في سائر أنحائها اليوم. إن الشعوب والدول تنزع عنها خصالها وتقاليدها ببطء كما يدل على ذلك المظهر المخيف البادي في أعمال الدول المسيحية التي من يوم تعلمت تلك الأمثولة القاسية في الحرب العامة لا تزال مصممة على استخدام القوة بل لا تزال تخصص الملايين بعد الملايين لكي تبتدع وسائل قتالة وأدوات مدمرة تبغي بها إهلاك الشعوب المسيحية الأخرى وتدمير عمرانها، وغير خاف أن الحرب العامة لم تكن بوجه من الوجوه أفضل ما يمكن إيجاده من الأمثولات النافعة لغير المسيحيين من شعوب العالم (بل بالحري كانت أمثولة رديئة) . وأعيد ما قد سبقت فقلته وهو أني أظن أن من باب الحكمة والدراية على جانبنا أن نسعى في إيجاد علائق ولائية وتجارية مع كل الحكومات والشعوب. وبعملنا هذا لست أقول إننا نكون موافقين على شكل تلك الحكومات أو على نظرياتهم من حيث طريقة تمدينهم أو ما يفهمونه من حيث واجباتهم الاجتماعية وعلائقهم أو استحسان تاريخهم الماضي. بل أظن أننا في الجري على هذه الخطة نكون نسعى في إيجاد الأساس الحقيقي الوحيد للسلام، ووضع الدعائم التي على مثلها يجب أن يشيد بناء السلم المشمخر الذرى. وأزيد على ذلك ما أعرفه من أنه لا توجد طريقة أخرى - ما عدا طريقة القوة القاهرة - بها نتمكن من الاحتفاظ بمهابتنا ومقامنا الدولي والاحتفاظ بقوتنا بين الأمم حسبما ينبغي، فخلنا إذن نستخدم الطرق الفعالة الوحيدة العاملة للسلام المؤيدة للأشياء التي بها نتمكن في المستقبل من تغيير ما نريد تغييره.

علماء مصر يؤيدون مذهب السلف الصالح

الكاتب: عبد الرحمن قراعة

_ علماء مصر يؤيدون مذهب السلف الصالح فتوى صاحبَي الفضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية في زيارة القبور والموسيقى وشرب الدخان أرسل صاحب الجلالة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها برقية إلى الحكومة المصرية يبسط فيها القول في حكم الشرع في المسائل الثلاث المتقدمة وغيرها بسبب ما أذاعه دعاة السوء والتفرقة بين شعوب المسلمين من أن حكومة جلالته في الحجاز ستمنع كذا وكذا، فسألت الحكومة المصرية حكومة جلالته عما يريد أن يتخذه من الإجراءات مما يتعلق بالحجاج والمحمل على الأخص فورد عليها جواب جلالته بالبرق وهذا ملخصه كما نشرته جرائد القاهرة قالت: أما البرقية فطويلة وقد استهل الملك ابن السعود برقيته بشكر الحكومة المصرية وجلالة ملك مصر وامتداحهما على ما بذلوه من المساعدة للحجاز وأهله ثم قال: إنهم (أي حكومة مصر وملكها) ذخر الإسلام ولذلك فإنه يرجو أن يكونوا عونًا له في إقامة ما أمر به كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتكلم عن حالة الأمن واستتبابه في البلاد الحجازية وعدم وجود ما يخشى منه على سلامة الحجاج وذكر أنه يقابل المحمل وركب المحمل على الرحب والسعة ويرحب بهم الترحيب اللائق بمقامهم وبمصر وبأهل مصر وبملك مصر ويسمح بدخول البعثات الطبية كلها. وذكر أنهم لا يتعرضون لعقائد الناس ولا يتدخلون في معتقداتهم ولكنهم يمنعون ما لا يقره الدين. وقال: إنهم لا يمنعون أحدًا من زيارة القبور ولكنهم لا يسمحون بالغلو في ذلك مثل التمسح وتقبيل العتبة والحوائط، فإن الطواف لا يكون إلا ببيت الله الحرام فقط (أي الكعبة) وقد نهى الأئمة والسلف الصالح عن الطواف بالقبور. وتكلم عن الموسيقى والدخان، وذكر أنه يلفت نظر الحكومة المصرية إلى ما سيذكره في شأنهما ويرجو الموافقة عليه حفاظًا لأواصر الصداقة والود. وقال عن الموسيقى: إنها ولو كانت مسلية للجند ومنظمة لسيرهم فإنها تلهي عن ذكر الله في البلاد التي أوجدها الله لذكره. وقال: إنه يقبل مجيئها لغاية جدة فقط لأن فريقًا كبيرًا من أهل نجد وغيرهم يعدها من الملاهي التي لا يصح استعمالها لا سيما في أوقات العبادة. وقال عن الدخان: إنه شجرة خبيثة: يجب أن تطهر منها البلاد المقدسة التي لا يحرق فيها إلا العود والند والمسك. وذكر أنه منع شرب الدخان جهرًا. ولما وصل الكتاب إلى وزارة الداخلية المصرية أحالته على صاحبي الفضيلة شيخ الجامع الأزهر والمفتي؛ لأن ذلك من شأنهما فكان جوابهما ما نصه: علم ما جاء بخطاب سعادتكم رقم 10 مايو سنة 1926 نمرة 91 إدارة المرافق له صورة من التلغراف المرسل من حضرة صاحب الجلالة ملك الحجاز وسلطان نجد لحضرة صاحب الدولة وزير الداخلية بمصر المطلوب به الإفادة عما تقضي به الشريعة الغراء فيما اشتملت عليه صورة التلغراف من الموضوعات والإفادة أيضًا عما يتبع في إقامة الحج أو لا في هذا العام مع ما ذكره حضرة صاحب الجلالة الملك ابن السعود. وبالنظر فيه وجدنا أن ما يصلح موضعًا للاستفتاء هو ما جاء بالوجهين السادس والسابع مما يتعلق بزيارة القبور، والموسيقى، والدخان على الوجه المذكور بتلك الصورة. فأما ما يتعلق بزيارة القبور فنقول: إنها مندوب إليها شرعًا بقوله صلى الله عليه وسلم (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) وكان صلى الله عليه وسلم يزور قبور المسلمين ببقيع الغرقد ويقول (السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أسأل الله لي ولكم العافية) وكان يزور شهداء أحد على رأس كل حول ويقول (السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) ونقل محشي إمداد الفتاح عن القهستاني ما نصه: قال في الإحياء: والمستحب في زيارة القبور أن يقف مستدبر القبلة مستقبلاً وجه الميت وأن يسلم (ولا يمسح القبر ولا يقبله ولا يمسه) وبين الفقهاء جملة ما يكره عند زيارة القبور ثم أجملوا ذلك بقولهم (وكذا كل ما لم يعهد من غير فعل السنة) وهي قاعدة كلية ينبغي تطبيقها على أي فعل لم يعهد في السنة، وقد مثلوا له بالمس والتقبيل، ومعلوم أنه لم يعهد من فعل السنة الطواف بغير الكعبة. وأما ما يتعلق بشرب الدخان فنقول: إنه لم يكن موجودًا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد خلفائه الراشدين ولا الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا في زمن الأئمة المجتهدين، وإنما حدث في القرون الأخيرة واختلف العلماء فيه اختلافًا كثيرًا، فمنهم من قال بحرمته عملاً بحديث أحمد المروي عن أم سلمة رضي الله عنها (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) ، وقال (إنه إن لم يكن مسكرًا كان مفترًا) وجنحوا مع هذا إلى نهي ولي الأمر عنه، والقواعد الفقهية تقتضي أن ولي الأمر لو نهى عن مباح لمصلحة دينية حرم - ومنهم من ذهب إلى أنه مكروه نظرًا لما فيه من الضرر الظاهر للأبدان وإضاعة الأموال. ومنهم من لا يرى أنه مفتر، فقال بإباحته أخذًا بالقاعدة العامة، وهي أن الأصل في الأشياء الإباحة أو التوقف. ورد على من قال بالحرمة أو الكراهة بأنهما حكمان شرعيان لا يثبتان إلا بدليل ولم يوجد. والذي يظهر أن أعدل الأقوال هو القول بالكراهه فينبغي تركه وعدم الإصرار على تعاطيه، فإن الإصرار على الصغائر يقلبها كبائر. وأما الموسيقى فحكمها من جهة الإيقاع والاستماع حكم اللهو واللعب والعبث وهو الكراهة التحريمية، فإن فقهاءنا نصوا على كراهة كل لهو كالرقص والسخرية والتصفيق، وضرب الأوتار من الطنبور والبربط والرباب والقانون والمزمار والصنج والبوق فإنها كلها مكروهة تحريمًا، ولم يستثن من ذلك إلا ضرب الدف في الأعراس والأعياد الدينية، وإلا ملاعبة الرجل زوجه وتأديبه لفرسه ومناضلته بقوسه. هذا ونرى أن تأخذ حكومتنا السنية حرسها الله تعالى بتسهيل أمر الحج على المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله. مفتي الديار المصرية ... ... ... ... ... شيخ الجامع الأزهر إمضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ختم عبد الرحمن قراعة ... ... ... ... ... ... محمد أبو الفضل

علاقة الأحياء بالأموات

الكاتب: المغربي

_ علاقة الأحياء بالأموات [*] نحن معشر المسلمين اليوم نزور أمواتنا زيارة غير شرعية، ونطلب منهم ما لا يجوز طلبه إلا من الله، نعم إن هذا لا يفعله خاصتنا وعلماؤنا وأهل الفضل فينا، ولكن يفعله عامة المسلمين الذين هم إخواننا من رجال ونساء، وهؤلاء العامة هم ثلث الأمة الإسلامية على أقل تقدير، فهل يجوز لولاة أمورها وخاصة علماءها أن يروا مائة مليون مسلم ومسلمة على غير الحق والهدى في هذه الزيارة ثم يهملوهم من الوعظ والإرشاد؟ ألسنا نراهم يطلبون من الأموات أن ينفعوهم ويضروا غيرهم؟ ألا يطلبون منهم العافية والرزق وأن يُشفى مريضهم ويقهر عدوهم ويرد ضائعهم مما لا يصح طلبه إلا من الله تعالى؟ تقول: وهل يفعل المسلمون ذلك؟ أقول: نعم، زر السيد البدوي في طنطا وأبا العباس المرسي في الإسكندرية، والجيلاني في بغداد، وعبد السلام بن مشيش في مراكش تعلم صحة قولي. مع أن السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يزورون الأموات ويدعون لهم ولا يكلفونهم قط ما ليس من وظائفهم. وهذا نبينا وقرة أعيننا وبرد أكبادنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يطلب من جده إسماعيل ولا من جده الأكبر إبراهيم الخليل مطلبًا ما. وإنما كان يطلب من الخالق الحي سبحانه وتعالى مباشرة من دون واسطة. أفبعدما أدَّبنا ربنا بقوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) مقال لقائل؟ ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله) وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول (السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ ) ثم يدعو الله وينصرف، وهكذا كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. إن مطالب الإنسان قسمان: قسم من أمور الدنيا جعل الله البشر أنفسهم سببًا في الحصول عليه فيطلب من البشر: كأن تحتاج إلى قرض فتطلبه من صديقك الغني أو وظيفة فتطلبها من الوالي، وناظر الداخلية، أو زوجة فتطلبها من وليها الشرعي في نظير مهر، فإذا لم تطلب هذه المطالب من أربابها، ولم تتوسل إليها بأسبابها، وإنما تركت الأسباب جانبًا وطلبتها من الله فضلاً عن الأموات لم يقبل الله ذلك منك؛ لأنك خالفت أمره ودابرت سننه التي بنى حركة الكائنات عليها. وقسم من المطالب الدنيوية لم يجعل الله له أسبابًا تدخل تحت مقدور البشر، فهذه المطالب إنما تطلب من الله مباشرة خالق الكل ومفيض الخير على الكل. وهذه المطالب كتيسير أسباب الرزق والعافية والتوفيق للخير، وكممارسة الفضائل، والصرف عن الشر ومقارفة الرذائل، وجعل عمرنا طويلاً، وحياتنا طيبة، وتخفيف سكرات الموت، ودخول الجنة، وتبوأ أعلى درجاتها، وأن يرزقني أولادًا ويجعلهم سعداء في الدارين، وأن يكف عنا شر الأشرار ... إلخ فكل هذا مما لا يصلح طلبه إلا من الخالق الحي، فما المعنى لطلبه إذن من المخلوق الميت المحتاج إلى رحمة من الله وإلى (دعوة) منك. أصبح الناشئون اليوم بعد أن درسوا العلوم العصرية الفلسفية يشكون والعياذ بالله تعالى في الخالق الذي: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد فكيف يمكننا أن نقنعهم بعبادة ما لا يُعد ولا يحصى من الأولياء الأموات؟ لو كان الأولياء محصورين في عدد مثلاً لهان الأمر وقلنا للمسلمين الزموا هؤلاء، ولكن في كل قطر بل في كل بلد بل في كل قرية عدد كبير من هؤلاء الآلهة الصغار؟ وعلى كل مسلم أن يعتقد فيهم كما يعتقد في خالقه تقريبًا. والمسلمون اليوم محاطون بالأوربيين الأحرار في أفكارهم وآرائهم، بل إن كثيرين من الأحرار غير الأوربيين يعيشون بيننا وبعضهم من إخواننا وأبنائنا وأفلاذ أكبادنا فتكليفهم عبادة أولياء مخلوقين لا يدخلون تحت حصر وقولنا لهم: إن هذا دين يرضاه الله، لنا تكليف لا يقبلونه وربما أدى الأمر أخيرًا إلى شكهم في الله نفسه تعالى الله وتقدست صفاته وأسماؤه. فلا جرم أنَّا إذا اجتهدنا في إثبات الألوهية على أسلوب مقنع نكون خدمنا ديننا الإسلامي خدمة عظيمة، ولندع الآن تكليفهم عبادة الأولياء فقد كثروا وتراكموا، والأثقال إذا تراكمت على ظهر الدابة بحيث لم تعد تقدر على حملها تساقطت بنفسها. وأرى أن مزاعمنا في هؤلاء الأولياء الكثيرين زادت على طاقتنا فلم تعد تطيق حملها ظهورنا. لما كنت نزيل القطر المصري ذهبت من القاهرة إلى مدينة طنطا لزيارة (السيد البدوي) رضي الله عنه، وقد رأيت من جماهير الزائرين ما أنكرته واستبشعته، فرجعت إلى القاهرة، وكتبت في المؤيد مقالاً بهذا الموضوع منكرًا محذرًا. وبعد أيام ذهبت إلى دار المرحوم (أحمد بك الحسيني) وكان عنده جماعة من علماء الأزهر، فجرى ذكر زيارتي للبدوي وما كتبته في المُؤيد بشأنها فأيدني قوم وخذلني آخرون، وكان أشدهم حملة عليّ وتقبيحًا لقولي أستاذ يقال له (الشيخ مدوخ) وهو شيخ مبارك طيب القلب سليم النية، أحسن الله جزاءه، فقلت له: ياحضرة (الشيخ مدوخ) إنما أريد فيما كتبته في المؤيد تصحيح عقائد إخواننا العامة فلا يشركوا مع الله أحدًا ولا يصبح ديننا بسببهم مضغة في أفواه الإفرنج، فيقولوا عنا إننا وثنيون ونعبد آلهة كثيرة فلا يعود يسهل علينا بعد ذلك نشر ديننا في العالم، بل إن طعنهم فينا على هذه الصورة يغري بنا دولهم فيستولوا علينا ويمحونا من العالم بداعي أننا فاسدون مفسدون. أنت وإخوانك العلماء تعرفون كيف تزورون الزيارة الشرعية، ولكن لا تكونون ناجين من التبعة فتهملوا تعليم إخوانكم العامة المساكين وأرشادهم، ألستم أنتم ورثة الأنبياء قد ورثتم محمدًا (صلى الله عليه وسلم) في تعليم أمته الدين؟ وأن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) لبث في مكة قبل الهجرة نحو عشر سنوات يعلم الناس فقط أن لا يدعوا مع الله أحداً. فليقض كل واحد منكم سنة واحدة على الأقل في تعليم المسلمين الزيارة الشرعية فلا يدعوا مع الله أحدًا. علموهم أن زيارة الأموات والأولياء لأجل الاتعاظ والاعتبار فيرجعوا عن الشرور، ولأجل تذكر مناقب الولي العظيم فيقتدوا بها، هذا هو المقصود من زيارة الميت في الشرع، فكيف ساغ لزائري قبر السيد البدوي أن يطلبوا منه ما لا يطلب إلا من الله، ولعمري إن صنيعهم هذا لا يرضي الله ولا السيد البدوي نفسه. فاغتاظ مولانا (الشيخ مدوخ) وقال بحدة: إني أخاف عليك يا هذا أن يبطش بك السيد البدوي. فعجبت لقوله، وعجبت للحاضرين قائلاً: أصحيح أن السيد يبطش بشخص لم يعمل إلا ما كان هو نفسه في حياته يعمله من وعظ العامة وإرشادهم وحملهم على التمسك بآداب الدين وفضائل الإسلام؟ فتأثر الحاضرون من قولي. ثم انفض المجلس وذهبت إلى بيتي، وأويت إلى فراشي ونفسي تهجس بما كان من الحديث بيني وبين (الشيخ مدوخ) وقوله لي: إن السيد سوف يبطش بي. ثم نمت فرأيت فيما يرى النائم كأني في دار السيد أحمد بك الحسيني وعنده خلق كثيرون، وفي صدر المجلس شيخ جليل كأنما القمر يتلألأ في وجهه. قيل لي: إنه السيد أحمد البدوي. فخطر ببالي للحال (الشيخ مدوخ) وأنه لا بد أن يكون حكي له خبري معه، وكان الأمر كما قدرت، فإن السيد ما وقع نظره علي حتى تبسم وهز رأسه كالمعاتب اللائم. فأسرعت إليه وانكببت على يديه أشمهما وأقبلهما. وجعلت أحلف بالله وبجده صلى الله عليه وسلم [1] أني لم أتفوه بكلمة تمس مقامه الكريم (وأن الشيخ مدوخ) بلغه خلاف الحقيقة، وأن حضرات علماء الأزهر الذين كانوا حاضرين في المجلس مثل الشيخ بخيت والشيخ البيجرمي والشيخ سليمان العبد يشهدون بصحه قولي، ثم قلت له بإخلاص واحترام: لا أظنك أيها السيد ترضي أن ينزلك عامة المسلمين منزلة الرب إلهك، إنني يا سيدي أحبك ولكن أحب الحق أكثر منك. وأحترمك ولكن أحترم ديني أشد من احترامي لك. أزور قبرك وأذكر مناقبك وأتعظ بموتك، وأقرأ الفاتحة وأبعث بثوابها هدية إلى روحك الطاهرة [2] ولكن لا أطلب منك نفعًا في مقابل هذه الهدية التي أرسلتها إليك؛ لأن إعطاء الهدية بمقابل مخالف للآداب الإسلامية، والسجايا العربية. أنك يا سيدي لو سمعت من زائريك استغاثاتهم، وابتهالاتهم، وتكاليفهم لك بتفريج كرباتهم وقضاء حاجاتهم، مقتّهم وعذرتني، إنهم يا سيدي يعتقدون في أحجار قبرك وفي الأستار الملقاة على ضريحك تأثير الحب والبغض، والشفاء والمرض، والغنى والفقر، والنفع والضر. فتغير وجه السيد وجعل يلحظ (الشيخ مدوخ) شزرًا، فانبسطت أنا حينئذ بعد الانقباض وتفتحت في الكلام فقلت: إن عبد الله بن سبأ اعتقد في جدك أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب أن فيه شائبة ألوهية فنفاه إلى مصر ثم إلى المدائن، فما كنت أنت صانعًا في هؤلاء الذين يعتقدون فيك ما يعتقدون في الرب معبودك؟ فقطّب السيد وزوى حاجبيه وقال: لو أطلقت يدي فيهم لنفذت عليهم حكم الشرع، ثم التفت السيد رضي الله عنه إلى السادة العلماء وقال لهم عجبًا: كيف تسربت هذه الضلالات إلى العامة وأنتم فيهم؟ ثم كيف تغافلتم عنهم حتى خرجوا في الاعتقاد فينا وفي زيارتنا عن حدود السنة وآداب الشريعة؟ وكيف تلاهيتم عنهم فجعلوا ينسبون إليّ من الأعمال ما لا يصح ويعملون في مولدي من الآثام ما لا يجوز؟ لماذا لم تفهموهم أن طريقتنا نحن معاشر الأولياء هي الكتاب والسنة، وأن الذي يرضينا منهم إنما هو العمل بأحكام الشريعة كما كنا نعمل في حياتنا. ثم التفت السيد البدوي إلى شاب حسن الطلعة قاعد في طرف المجلس وقال له قم يا بني فاقرأ على الحاضرين ما ألقيته عليك وعلى رفاقك المريدين في هذا الصباح، فقلت لمن بجانبي ومن هذا الشاب؟ قال هو عبد العال أكبر تلامذة السيد البدوي، فأخرج الشاب من جيبه كراسة فقلب فيها ثم قرأ بصوت جهوري ما يلي: (يا عبد العال أشفق على اليتيم، واكس العريان، وأطعم الجيعان، وأكرم الغريب والضيفان عسى أن تكون عند الله من المقبولين) . (يا عبد العال: أحسنكم خلقًا أكثركم إيمانًا بالله تعالى، وإن الخلق السيئ يفسد العمل الصالح كما يفسد الخل العسل) . (يا عبد العال: هذه طريقتا مبنية على الكتاب والسنة، والصدق والصفا، وحسن الوفا، وحمل الأذى، حفظ العهود) . (يا عبد العال: لا تشمت بمصيبة أحد من خلق الله، ولا تنطق بغيبة ولا نميمة ولا تؤذ من يؤذيك، واعف عمن ظلمك، وأحسن إلى من أساء إليك، وأعط من حرمك) . (يا عبد العال: أتدري من هو الفقير الصادق؟ هو الذي لا يسأل أحدًا، ويعمل بالكتاب والسنة) . (يا عبد العال: إن شروط طريقتنا أن لا يكذب المتبع لها، ولا يأتي بفاحشة وأن يكون غاضّ البصر عن محارم الله، طاهر الذيل عفيف النفس، خائفًا من الله عاملاً بكتاب الله، ملازمًا للذكر، دائم الفكر) . (يا عبد العال: من لم يكن عنده علم لم تكن له قيمة في الدنيا، ولا في الآخرة) ثم سكت عبد العال وجلس، فالتفت السيد إلى الحاضرين، وقال هذه هي طريقتنا يا قوم وهذه هي آدابنا وهذا ما نريد من أحبابنا ومريدينا أن يقولوه ويفعلوه، فمن أين جاءوا في حقنا بهذه الغرائب والعجائب؟ وكيف أنزلونا منزلة الرب خالقنا؟ تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا. عندها نهض (الشيخ مدوخ) وقال بتأثر وانفعال: يا أيها السيد إن المسلمين الذين يزورونكم إنما يستشفعون بكم إلى ربكم ويتبركون تبركًا بلثم أحجار ضريحكم ويدعون الله تعالى ثم ينصرفون وليس في فعلهم ما يخالف الشرع ولا آداب السنة ولا هو مما يسمى عباد

مقدمة مجموعة مقالات الوهابيون والحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة مجموعة مقالات الوهابيون والحجاز بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، الذي أكمل الله تعالى ببعثه الدين، وما أرسله إلا رحمة للعالمين، لينذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الهداة المهديين، ومن تبعهم في هُدى الله وهدي رسوله إلى يوم الدين. أما بعد، فقد علم من سنة الله تعالى في خلقه، مصداقًا لما بينه الله تعالى في كتابه أن هداية الرسل للأمم تكون على أكملها فيمن اتبعهم في عصرهم والأعصر التالية له، وكلما تراخى الزمان ظهر الفسق والعصيان، ونجمت قرون البدع، وفشا التحريف والتأويل، وكثر ما يكرهه الله سبحانه من القال والقيل. وقد قصّ الله علينا في كتابه من أخبار الأمم مع رسلهم عامة وأخبار أقربهم منا في الزمن وهم اليهود والنصارى خاصة ما فيه العبرة والذكرى لنتقي التهوك [1] فيما تهوكوا فيه قبل أن يقع، ولنكون على بصيرة من ديننا فيه إذا وقع، وقد علم سبحانه وأعلم رسوله أنه واقع لا محالة؛ لأن سنن الله تعالى مطردة لا تبديل لها ولا تحويل، وهو صلوات الله وسلامة عليه قد أعلمنا بذلك لنكون على بصيرة من أمرنا فيه، ولا يلتبس علينا الحق بالباطل كما التبس عليهم، فقال: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟) رواه الشيخان وغيرهما بألفاظ متقاربة. وقع ذلك كله حتى عم البلاد الإسلامية، والأكثرون من المسلمين يجهلون ذلك فهم لا يشعرون أنهم غيروا وبدلوا، وحرفوا وأولوا، وأحدثوا وابتدعوا، وفسقوا عن أمر ربهم، وأن ما نزل بهم من الذل وضياع الملك، واستيلاء الأجانب على أكثر بلادهم، عقوبة من الله تعالى على ابتداعهم وفسقهم، كسنته فيمن قبلهم، قال الله تعالى في أوائل سورة الإسراء {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: 4-8) . وإن كثيراً منهم ليعلمون هذا بالإجمال حتى إن خطباء مساجدهم ليقولون من أعلى منابرهم: لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه. وأمثال هذا القول - ثم لا يحمل هذا العلم ولا هذا التصريح به على عمل، ولا على ترك زلل، بل هم يعادون كل من دعا إلى السنة، ويصرون على ما ألفوا من البدع الدينية؛ لأنها دخلت عليهم من باب الدين، وفتنوا بمن عمل بها ممن يلبسون لباس الصالحين، حتى إنهم إذا اعترفوا بأنها بدع قالوا: إنها بدعة حسنة، خلافًا لقول رسولهم الكريم - صلى الله عليه وسلم -: (كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) . وخلافًا لقول الله عز وجل: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وجهلاً بكون البدعة التي تنقسم إلى حسنة وسيئة لا تكون في التشريع الديني والزيادة في العبادات أو التصرف فيها بجعل ما ليس بشعار شعارًا، وإنما تكون فيما وراء ذلك من الأمور الموكولة إلى اجتهاد الناس من الأعمال والمصالح الدينية والدنيوية كابتداع آلات للقتال تزيد في قوة الأمة على حفظ دينها ودنياها، الذي يدخل في عموم قوله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال:60) وكتعبيد الطرق وتسهيل سبل المواصلات للمنافع الدينية والدنيوية المشروعة ولا سيما طريق الحج بإنشاء السكك الحديدية وأمثالها، وكتأليف الكتب المفيدة في ضبط لغة الدين (العربية) وغيرها من العلوم الشرعية أو الفنون العلمية النافعة. ومما خص الله تعالى به هذه الأمة المحمدية أن الكتاب المنزل لهدايتهم من عند الله تعالى قد نقل بالتواتر القطعي حفظًا في الصدور وكتابة في المصاحف، فلم يضع ولن يضيع منه كلمة ولا حرف واحد، ولم يتغير ولن يتغير منه لفظ واحد، وأن السنة المحمدية وسيرة سلف الأمة الصالح قد رويتا بالأسانيد ودونا في الكتب بعناية يسهل معها التمييز بين الصحيح وغيره متنًا وسندًا، ولولا هذا وذاك لضاع ديننا كما ضاعت أديان من قبلنا، حتى أقرب الناس منا تاريخًا، فقد طرأ على كتبهم التحريف بالزيادة والنقصان والتغيير، وفقدت أصولها التي كتبت في عهد من أوحيت إليهم وليس لشيء منها أسانيد متصلة بهم. ومما خص الله به هذه الأمة أيضًا أنها لا تجتمع على ضلالة وأنه لا يزال طائفة منها ظاهرين على الحق، وأن الله تعالى يبعث منها مجددين لأمر الدين، كما ورد في الأخبار المرفوعة من صحيحة وحسنة ثبتت صحة معانيها بالفعل. وقد كان انتفاع جماهير المسلمين بهؤلاء المجددين المصلحين يختلف باختلاف أحوالهم وأحوال أهل عصورهم في العلم والعمل والقوة والضعف في رسوخ التقاليد والبدع. وكان من أجِلّتهم في القرون الوسطى قدرًا، وأنبههم ذكرًا، شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى فقد آتاه الله من المواهب ما يندر أن يجتمع لأحد من البشر: سرعة الحفظ وعدم النسيان وقوة الاستحضار، وقوة الاستنباط وقوة الاستدلال، حفظ القرآن وما روي من تفسيره من الأحاديث المرفوعة وأقوال الصحابة والتابعين، حفظ كتب السنة وأقوال رجال الجرح والتعديل في أسانيدها، حفظ ما يروى عن الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار من الآثار في العقائد والآداب الدينية والأحكام الشرعية، نظر في كتب المذاهب المدونة وأدلتها، فكان يستحضر ذلك كله عند التأليف أو الإفتاء، قرأ كتب الملل والنحل، ومقالات فرق الإسلام وكتب المنطق والفلسفة والكلام والتصوف، ثم تصدى بذلك كله للرد على النصارى وأهل البدع، وألف في ذلك المصنفات الدالة على سعة اطلاعه وقوة حجته، ووجه جل عنايته لنصر السنة وترجيح مذهب السلف على كل ما خالفه من أقوال المتكلمين والمتصوفة حتى المنسوبين إلى السنة منهم فلم يدع بدعة ولا قوة تخالف الكتاب والسنة، ولا سيرة سلف الصالح إلا وبين بطلانها وضلال أهلها، مميزًا بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والهداية والضلالة، والطاعة والمعصية، ولم يقتصر في ذلك على تصنيف الرسائل والكتب الممتعة، والفتاوى المفصلة، بل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويناظر المخالفين، ويستتيب المبتدعة والفاسقين، لا يحابي حيًّا ولا ميتًا لكبر شهرته، ولا لكثرة أتباعه، ولا لضخامة ألقابه، وكان مع هذا كله من أعبد العباد، وأفراد الزهاد، وقد حل من المشكلات، وكشف من المشبهات وفند من التأويلات، ما عجز عن مثله فحول العلماء، وضل به كثير من المتكلمين والصوفية والفقهاء. وقد تلقى عنه وتخرج به كثير من العلماء المحققين في علوم الشرع كلها أشهرهم وأقربهم منه العلامة ابن القيم صاحب التصانيف التي نالت من القبول فوق ما ناله كتاب عند الجمهور لأسباب أهمها لين عبارته، وخفة وطأته على المخالفين ولا سيما بعض أكابر المتكلمين والصوفية. هذا وقد شهد لشيخ الإسلام أكابر العلماء المنصفين ولا سيما حفاظ الحديث بما لم يشهدوا به لغيره من أهل عصره حتى اعترفوا له بالاجتهاد المطلق، وتصدى لعداوته وإيذائه وصده عن نصر السنة وإحياء مذهب السلف الصالح بعض كبار العلماء الرسميين، المقربين من الملوك والسلاطين، المفتونين بتأويلات المتكلمين والجامدين على أقوال أمثالهم من مفقهة المقلدين، حتى كان أقوى ما آخذوه به تفسير الآيات والأحاديث الصحيحة الواردة في صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بما فسرها به علماء السلف حتى أئمة المذاهب المتبعة، وطلبوا من السلطان استتابته من قراءة هذه الآيات والأحاديث على الناس! ! فأوذي وحبس في هذه السبيل بما هو معروف في كتب التاريخ، وظل أخلاف أولئك المقلدين الجامدين يصدون الناس عن كتبه إلى أن أحياها الله تعالى في بلاد نجد بظهور المجدد الداعي إلى الله تعالى الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأولاده وأحفاده وأنصارهم من آل سعود أمراء نجد في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، ثم في نهضة الإصلاح الجديدة بمصر والهند وغيرهما من البلاد الإسلامية في عهدنا هذا من القرن الرابع عشر، فإن كتبه صارت تطبع وتلاقي من الرواج والانتشار عند أولي الاستقلال في الفهم، والاهتداء بالعلم ما لا يلاقي غيرها في موضوعها إلا كتب تلميذه ووارث هديه ابن القيم رحمهما الله تعالى. وكان الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله مجددًا للإسلام في بلاد نجد بإرجاع أهله عن الشرك والبدع التي فشت فيهم إلى التوحيد والسنة على طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية، وإنما كان نجاحه سريعًا بتأييد آل سعود له ومنعهم إياه ممن يريده بسوء، وما كان آل سعود أقوى شيوخ عشائر نجد وأمرائها، ولكن الله نصرهم بنصر دينه، فكان من أمرهم ما كان من فوز وفلاح، ثم من بلاء وامتحان ثم ما كان من رد الله الكرة لهم في هذه الأيام، ذلك بأن أمراء مكة المفسدين في الأرض، الملحدين في الحرم، قد تصدوا لمقاومة دعوة الإصلاح والتجديد الوهابية من بدء ظهورها، فأذاعوا في العالم الإسلامي كله أنها دعوة كفر وابتداع وعداوة للمسلمين والإسلام، كان مقامهم بمكة المكرمة مسهلاً لهم ذلك وصدقهم أكثر الناس الذين هم أتباع كل ناعق، وسعوا لحمل الدولة العثمانية على قتال آل سعود وهي استعانت على ذلك بالدولة المصرية العلوية الجديدة، ولسنا بصدد بيان الماضي هنا وإنما نحن بصدد بيان عاقبة أمرهم وأمر أمراء مكة المعروفين بالشرفاء. أما الدولة العثمانية فقد استمرت على معاداة آل سعود زهاء قرن كامل لاعتقادها أنهم يريدون تأسيس دولة عربية قوية تزيل ما لهم من السلطان في جزيرة العرب ويتبع ذلك هدم الخلافة التركية، ثم ظهر لها أن مصلحتها تقضي بالاتفاق مع آل السعود والاعتراف لهم بسيادتهم على نجد وملحقاتها حتى ما كان بيد الدولة منها ففعلت ذلك، وعلم بذلك أنها لم تكن تعاديهم لسبب ديني كما كان يظن الجاهلون. وأما أمراء مكة المعروفون بالشرفاء فظلوا على ضلالهم في الطعن على دين الوهابية وافتراء الأكاذيب عليهم، وكان أشدهم إسرافًا في الطعن وفي عداوة آل سعود الأمير حسين بن علي، ولما خلص أمر الحكم في الحجاز له وحده بتقلص ظل الدولة العثمانية عنه واعتراف الإنكليز وأحلافهم بالملك له عليه ظن أن الفرصة قد سمحت له ومكنته من الاستيلاء على نجد وجعلها تابعة لملكه الوهمي، فما زال يكيد ويدس الدسائس لآل سعود حتى آل تحرشه بهم وإلحاده في الحرم إلى زحف السلطان عبد العزيز آل سعود على الحجاز و

مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ مسألة صفات الله تعالى وعلوه على خلقه بين النفي والإثبات جواب سؤال رفع إلى شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية [1] رحمه الله تعالى (والقسم الرابع) شر الأقسام وهو من لا يعبده ولا يستعينه فلا هو مع الشريعة الأمرية ولا مع القدر الكوني، وانقسامهم إلى هذه الأقسام هو فيما يكون قبل القدر من توكل واستعانة ونحو ذلك، وما يكون بعده من صبر ورضا ونحو ذلك فهم في التقوى وهي طاعة الأمر الديني والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام. (أحدها) أهل التقوى والصبر، وهم الذين أنعم الله عليهم - أهل السعادة في الدنيا والآخرة -. (والثاني) الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ويتركون المحرمات، لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه عظم جزعه وظهر هلعه. (والثالث) قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على آلامهم في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام، والكتاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يجعل لهم من الأموال بالخيانة وغيرها، وكذلك طلاب الرياسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها كثير من الناس، وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والألم. وهؤلاء هم الذين يريدون علوًّّا في الأرض وفسادًا من طلاب الرياسة والعلو على الخلق، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان والاستمتاع بالصور المحرمة نظرًا أو مباشرة وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور وفعلوه من المحظور، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب كالمرض والفقر وغير ذلك ولا يكون فيه تقوى إذا قدر. وأما القسم الرابع فهو شر الأقسام: لا يتقون إذا قدروا ولا يصبرون إذا ابتلوا بل هم كما قال الله تعالى {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً} (المعارج: 19-21) فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم إذا قدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا، إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك وحبوك واسترحموك ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب والذل وتعظيم المسئول، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلبًا وأقلهم رحمة وإحسانًا وعفوًا، كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقايق الإيمان أبعد مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ومن يشبههم في كثير من أمورهم وإن كان متظاهرًا بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم فالاعتبار بالحقائق، فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم فمن كان قلبه وعمله من جنس قلوب التتار وأعمالهم كان شبيهًا لهم من هذا الوجه، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه؛ بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار، في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقول في خطبته (خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وإذ كان خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه كان إلى الكمال أقرب وهو به أحق، ومن كان عن ذلك أبعد وشبهه أضعف كان عن الكمال أبعد وبالباطل أحق، والكامل هو من كان لله أطوع، وعلى ما يصيبه أصبر، فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه، وصبر على ما قدره وقضاه كان أكمل وأفضل، وكل من نقص عن هذين كان فيه من النقص بحسب ذلك، وقد ذكر الله تعالى الصبر والتقوى جميعًا في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينتصر به العبد على عدوه من الكفار والمحاربين والمعاهدين والمنافقين وعلى من ظلمه من المسلمين، ولصاحبه تكون العاقبة، قال الله تعالى {بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (آل عمران: 125) . وقال الله تعالى {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} (آل عمران: 186) . وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران: 118-120) وقال إخوة يوسف له {أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (يوسف: 90) وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموما ًوخصوصاً فقال تعالى {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ} (يونس: 109) وفي اتباع ما أوحي إليه التقوى كلها تصديقاً لخبر الله وطاعة لأمره، وقال تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (هود: 114-115) وقال تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} (غافر: 55) . وقال تعالى {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} (طه: 130) . وقال تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: 45) . وقال تعالى {اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 153) . فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر وقرن بين الرحمة والصبر في مثل قوله تعالى {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد: 17) وفي الرحمة الإحسان إلى الخلق بالزكاة وغيرها. فإن القسمة أيضاً رباعية؛ إذ من الناس من يصبر ولا يرحم كأهل القوة والقسوة، ومنهم من يرحم ولا يصبر كأهل الضعف واللين مثل كثير من النساء ومن يشبههن، ومنهم من لا يصبر ولا يرحم كأهل القسوة والهلع، والمحمود هو الذي يصبر ويرحم كما قال الفقهاء في صفة المتولي: ينبغي أن يكون قويًا من غير عنف، لينًا من غير ضعف، فبصبره يقوى وبلينه يرحم، وبالصبر يُنصر العبد، فإن النصر مع الصبر وبالرحمة يرحمه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) وقال: (من لم يرحم لا يُرحم) ، وقال: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) والله أعلم. انتهى. *** بسم الله الرحمن الرحيم فصل في شروط عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي شرطها على أهل الذمة لمَّا قدم الشام وشارطهم بمحضر من المهاجرين والأنصار، وعليها العمل عند أئمة المسلمين لقوله - صلى الله عليه وسلم - (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وقوله صلى الله عليه وسلم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) لأن هذا صار إجماعًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا يجتمعون على ضلالة على ما نقلوه وفهموه، من كتاب الله وسنة رسوله، وهذه الشروط مروية من وجوه مختصرة ومبسوطة. منها ما رواه سفيان الثوري عن مسروق بن عبد الرحمن بن عتبة قال: كتب عمر حين صالح نصارى الشام كتابًا وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدنهم ولا ما حولها ديرًا ولا صومعة ولا كنيسة ولا قلاية لراهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعموهم، ولا يؤوا جاسوسًا ولا يكتموا غش المسلمين ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركًا ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين وأن يقوموا لهم من مجالسهم إن أرادوا الجلوس ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتكنوا بكناهم ولا يركبوا سرجًا ولا يتقلدوا سيفًا ولا يتخذوا شيئًا من سلاح ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم وأن يلزموا زيهم حيثما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليبًا ولا شيئًا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربًا خفيًا ولا يرفعوا أصواتهم بقراءتهم في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم ولا يظهروا النيران معهم ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا شيئًا مما اشترط عليهم فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق. وأما يرويه بعض العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من آذى ذميًّا فقد آذاني) فهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من أهل العلم، وكيف ذلك؟ وأذاهم قد يكون بحق وقد يكون بغير حق بل قد قال الله تعالى {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} (الأحزاب: 58) فكيف يحرم أذى الكفار مطلقاً وأي ذنب أعظم من الكفر؟ ولكن في سنن أبي داود عن العرباض بن سارية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يأذن لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب أبشارهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم) وكان عمر بن الخطاب يقول: أذلوهم ولا تظلموهم. وعن صفوان بن سليم عن عدة أبناء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا من ظلم معاهدًا أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر: مهاتما غاندي ترجمة الأستاذ الشيخ: عبد الرزاق المليح آبادي ثم فوق هذا يتوقف نقاء اللبن وعدمه على علف البقرة وحالتها الصحية. وقد حقق الأطباء بأن الذين يشربون لبن البقرة المسلولة يقعون بأنفسهم فريسة لهذا الداء الوبيل: ومن الصعب جدًا العثور على بقرة صحيحة. وعلى هذا فاللبن النظيف تام النظافة ربما لا نعثر عليه إلا بعد عناء شديد، لأنه كثيرًا ما يفسد في نفس منبعه. كل واحد يعلم أن الطفل الذي يرضع لبن أمه المريضة قد يصاب بمرضها. وكثيرًا ما نرى الأطباء يعطون الدواء للأمهات إذا أصيب أطفالهن بمرض. وذلك لأن تأثيره يصل إلى الطفل من طريق ثدي أمه، وهكذا تمامًا تتوقف صحة الرجل الذي يشرب لبن البقرة على صحتها. فإذا كان شرب اللبن محاطًا بمثل هذا الخطر الكبير أفليس من الحكمة تركه بتاتًا؟ سيما إن كنا نجد أشياء كثيرة تقوم مقامة، فهذا زيت الزيتون مثلاً يؤدي هذه الوظيفة إلى حد، واللوز الحلو بدل قوي جدًا للبن إذا وضع في الماء الساخن وأزيل قشره، ثم سحق جيدًا ومرس ومزج مزجًا، فهو يهيئ شرابًا محتويًا على جميع مزايا اللبن وسالمًا في الوقت نفسه من جميع مضاره. لنتدبر في المسألة من جهة سنن الطبيعة: إن العجل لا يرضع لبن أمه حتى تظهر أسنانه، فإذا ظهرت حجر اللبن واكتفى بالعلف، هذا يدل دلالة واضحة بأن الطبيعة تطلب من الإنسان أيضًا أن يكون كذلك. فهي ما أرادت منا أن نشرب اللبن حتى بعد أن نجتاز سن الطفولية. يجب علينا أن نتعود المعيشة على الثمار مثل التفاح واللوز، أو على خبز القمح إذا ظهرت أسنانًا. وينبغي أن لا تبرح من فكر القارئ الفوائد الاقتصادية التي نجنيها بتركنا اللبن. وكذلك لا احتياج إلى أي أكل من المأكولات التي تصنع من اللبن. فعرق الليمون الحامض بدل جيد للبن الحامض. أما السمن فألوف مؤلفة من اليهود حتى الآن يستعملون مكانه الزيت. أما اللحم فقد أثبت الفحص الدقيق في الهيكل الإنساني أنه ليس بغذاء طبيعي للإنسان. والدكتور هيج والدكتور كنجز فورد قد أظهرا بكل وضاحة مضارّه في جسمنا. فأثبتا أن الآسيد الذي يولده العدس في الجسم يولده اللحم أيضًا. وكذلك يسبب الأمراض في الأسنان والروماتيزم في الجسم ويحرك الأميال الرديئة - كالغضب - التي قد قررنا أنها ليست إلا صورًا للأمراض. وقد أخذ بعض آكلي اللحوم يهجرونها ويعودون إلى الغذاء النباتي البحت ويحثون عليه، الأمر الذي له معنى كيبر يستحق التأمل فيه. أما الذين يقتصرون على اللحم وحده فحالتهم من الرداءة بحيث لا تحوجنا إلى البحث فيهم حتى إنا لو نراها مرة بأعيننا لن نأكل اللحم أبدًا. إن الذين يقتصرون على اللحم لا يمكن أن يقال عنهم: إنهم أصحاء البنية. ولذلك تراهم بمجرد تقدمهم وتعلمهم القليل يقللون من أكله ويرغبون في النباتات. فنتج من كل ذلك أن عدد الذين يعيشون على الثمار وحدها قليل جدًّا، ومن السهل جدًا المعيشة على الغذاء المركب من الثمار والقمح وزيت الزيتون، الغذاء الذي يساعد مساعدة كبيرة في تقوية الصحة. إن الموز له المقام الأول في الفواكة ولكن التمر والعنب والبرقوق والبرتقال وأمثالها من الثمار كلها مغذية تمامًا ويمكن تناولها مع الخبز. إن الخبز لا يفسد طعمه إذا بُل بزيت الزيتون، ثم إن هذا الغذاء لا يحتاج فيه إلى الملح والفلفل واللبن والسكر، وتحضيره سهل جدًّا ورخيص. إن أكل السكر وحده حماقة والإكثار من الحلويات يضعف الأسنان ويضر بالصحة. إن المأكولات الجيدة التي يمكن صنعها من البر والثمار جامعة بين الصحة واللذة. أما المسألة الأخرى، وهي البحث في كمية الغذاء وأوقاته يوميًا فلأنها مهمة جداًّ نخصص لها بابًا مستقلاًّ. *** الباب السادس ما هو المقدار الذي يتناول من الغذاء؟ وكم مرة يجب أن نأكل؟ بين الأطباء اختلاف كبير في مقدار الغذاء الذي يجب أن يتناوله الإنسان فقال دكتور يجب أن يأكل أكثر ما يستطيع أكله. ثم ذكر مقادير الأطعمة المختلفة التي يمكن أن تؤكل. وقال دكتور آخر: إن غذاء العمال يجب أن يختلف في مقداره ونوعه عن غذاء المشتغلين بالأعمال العقلية ويعارضهما دكتور ثالث بقوله: إن الأمير والفلاح وكل الناس يجب أن يأكلوا مقدارًا واحدًا من الطعام، إن ما لا يصح النزاع فيه هو أن الضعيف لا يمكنه أن يتناول المقدار الذي يتناوله القوي. وكذلك غذاء النساء يكون أقل من الرجال ومثلهن الصبيان والشيوخ يأكلون أقل من الشباب وقد توسع كاتب حتى قال لو مضغ الطعام جيدًا بحيث تمتزج كل ذرة منه باللعاب فعند ذلك لا تحتاج إلى أكثر من أوقيتين أو أربع أوقيات من الغذاء. قال الدكتور هذا القول بعد أن جرب تجارب لا تحصى، وقد بيعت نسخ كتابه ألوفًا مؤلفة. فظهر من كل ذلك أن البت في تعيين مقدار الغذاء ليس من الحكمة في شيء. إن أكثر الأطباء يسلمون بأن تسعين في المائة من الناس يأكلون أكثر من حاجتهم. لا ريب أن هذه حقيقة واقعة يمكن مشاهدتها كل يوم وإن لم يعلن عنها الأطباء. إن الصحة لا تتقهقر من (قلة الأكل) بل من الضروري جدًّا للمحافظة عليها تقليل مقدار الأكل الذي نأكله. وإن من المهم جدًّا، كما قلنا آنفًا، مضغ الطعام جيدًا لتستفيد المواد الغذائية الكثيرة من طعام قليل. إن المجربين من الناس قد بينوا بأن براز الذي يأكل طعامًا نافعًا غير كثير ويكون قليل المقدار متماسكًا بعضه ببعض ولينًا ذا لون قاتم وخاليًا من كل رائحة خبيثة، فالذي ليس برازه هكذا ليعلم أنه يكثر من طعام غير نافع ولا يمضغ كما ينبغي. وكذلك الذي يشكو الأرق أو ينام نومًا متقطعًا مقلقًا بالأحلام أو يجد صباحًا على لسانه اللعاب متجمدًا، فهو كذلك يرتكب جناية الإكثار من الأكل. وإن كان يقوم في الليل مرات عديدة للتبول فمعناه أنه أكثر في الليل من أكل الأشياء السائلة الرقيقة. فبهذه وغيرها من التجارب يستطيع الإنسان أن يعرف بالضبط المقدار الذي يحتاج إليه من الغذاء. يصاب كثير من الناس بعفونة في نفسهم، فهذه العفونة دليل على أن طعامهم لم ينهضم تمامًا. ثم إن كثرة الأكل تسبب أكثر الأحيان ظهور البثور على الوجه وفي داخل الأنف وتولد الريح في بطون كثير من الناس. إن أصل هذه المصائب كلها، بكلام صريح، هو أننا قد جعلنا بطوننا مزبلة، فنحن نحمل هذه المزبلة معنا في كل مكان. كلما نتفكر في الأمر بجد لا نتمالك من استقباح عملنا هذا استقباحًا شديدًا ولا سبيل إلى التخلص من جناية كثرة الأكل إلا بأن نعاهد أنفسنا عهدًا أكيدًا بأن لا نشترك في العزائم والولائم على اختلاف أنواعها. نعم يجب الاعتناء بالضيوف ولكن ذلك لا يخرج بنا من حدود قوانين الصحة. هل خطر في بالنا مرة أن ندعو أصحابنا لينظفوا أسنانهم معنا أو ليشربوا كوبة من الماء عندنا؟ أليس الأكل شديد العلاقة بالصحة مثل هذه الأشياء؟ فلماذا نحن نحدث لأجله كل هذه الضجة الكبيرة؟ لقد أصبحنا نهمين بالعادة حتى أن لساننا لا يزال يتوق إلى ألوان كثيرة جدًّا من الطعوم في كل حين. فلذلك نرى من واجباتنا المقدسة أن نملأ بطون ضيوفنا بأطعمة لذيذة ونمني أنفسنا بأنهم أيضاً سيفعلون ذلك معنا في نوبتهم! إننا لو طلبنا من صديق لنا أن يشم فمَنا بعد ساعة من الأكل، ثم هو يخبرنا بشعوره الحقيقي بلا محاباة، فلا شك أننا نستر وجهنا من شدة الحياء والخجل! ولكن قد تجرد بعض الناس من الحياء بتاتًا فلا يستحون من أن يشربوا بعد الأكل مباشرة مسهلاً ليستطيعوا الإكثار من الأكل أو أنهم يستفرغون كل ما أكلوه ليعودوا حالاً إلى المائدة ثانية! . وبما أننا جميعًا حتى أفاضلنا يرتكبون جناية كثرة الأكل على سواء لذلك قد قرر أجدادنا العقلاء الصوم علينا أحيانًا كثيرة كفريضة دينية. لا شك أن الصوم مرة في كل أسبوعين نافع جدًّا للصحة. إن كثيرًا من المتمسكين بالدين من الهندوس يقتصرون على أكلة واحدة في اليوم طول فصل المطر. هذا حسن جدًّا ومبني على أحسن الأصول الصحية. وذلك لأن القوى الهاضمة تضعف عندما يكون الهواء رطبًا والسماء مغيمة ولذلك يجب تقليل مقدار الغذاء. والآن نبحث في عدد المرات التي ينبغي أن نأكل فيها. إن الملايين من الهنود قد تعودوا على الأكل مرتين كل يوم. والذين يشتغلون بالأعمال الشاقة يأكلون ثلاث مرات، أما عادة الأكل أربع مرات فقد دخلت بلادنا بعد قدوم الأدوية الإفرنجية إليها. لقد تأسست أخيرًا في إنجلترا وأمريكا جمعيات مختلفة تنصح الناس بأن يقتصروا على الأكل مرتين وتمنعهم من الفطور صباحًا مبكرًا. وذلك لأن نومنا في الليل يؤدي بنفسه وظيفة الفطور. فيجب بمجرد الانتباه صباحًا أن يستعد الإنسان للشغل عوضًا من الأكل، ثم يتغذى بعد ثلاث ساعات فقط، إن الذين يتمسكون بهذا الرأي لا يأكلون في اليوم إلا مرتين ولا يشربون خلالها حتى الشاي. إن دكتورًا محنكًا اسمه ديوي Dewai ألف كتابًا جليلاً في الصوم وأثبت فيه فوائد ترك الفطور، وأنا كذلك أستطيع أن أؤكد بناءً على تجربتي الشخصية ثماني سنوات بأنه لا حاجة إلى الأكل أكثر من مرتين للذي جاوز الشباب واستكمل جسمه كل نموه. *** الباب السابع الرياضة إن الرياضة ضرورية جدًّا للإنسان كضرورة الهواء والماء والغذاء، فالذي لا يواظب عليها لا يمكن أن يكون صحيحًا. نحن لا نقصد (بالرياضة) مجرد التمشي أو الألعاب كالصولجان وكرة القدم، بل تدخل في الكلمة جميع الأشغال الجسمية والعقلية. الرياضة ضرورية كضرورة الغذاء للجسم. فالمخ يضعف لعدم الرياضة مثل ما يضعف الجسم سواء بسواء، وضعف العقل نوع من المرض بلا ريب. فالمصارع الماهر في المصارعة لا يعتبر (صحيحًا) بالحقيقة إلا إذا كان عقله كذلك قويًّا كجسمه. وكما قد بين أن المخ القوي في الجسم الصحيح، هذه القاعدة وحدها تؤسس صحة حقيقية. ما هي إذن الرياضات التي يحافظ بها على قوة الجسم والعقل معًا؟ إن الطبيعة قد قدرت ذلك بطريقة تمكننا من أن نتريض الرياضة الجسمية والرياضة العقلية في وقت واحد. إن الأكثرية الكبيرة من البشر تعيش بالعمل في المزارع. فالفلاح مضطر أن يقوم بالرياضة البدنية المتعبة على كل حال؛ لأنه لا بد له من أن يشتغل من 8 إلى 10 ساعات بل أكثر من ذلك أيضًا ليحصل على قُوته ولباسه. ثم العمل الجسمي الشاق المتعب يستحيل القيام به إلا إذا كان المخ في حالة حسنة. والفلاح يكون مخه كذلك، فهو لا بد له من معرفة التفاصيل الكثيرة للزراعة، وكذلك لا بد من أن يكون له علم وافر بالأرض وأنواعها والفصول وتقلباتها، بل ربما بحركات الشمس والقمر والنجوم وسيرها، حتى إنه قد يغلب أعلم الناس في هذه الأمور. ثم هو يعرف حالة الوسط المحيط به كما ينبغي فيستطيع أن يعرف الجهات بمجرد النظر إلى الكواكب في الليل، ويتنبأ بأمور كثيرة جدًّا بمطار الطيور ومسير البهائم، فيعرف مثلاً أن المطر على وشك السقوط إذا رأى نوعًا خاصًّا من الطيور قد اجتمع وأخذ يضج ويصيح. والحاصل أنه يعرف من الأرض والسماء القدر الضروري لعمله، وكذلك يعلم شيئًا من علم الدين ليتمكن من القيام بعباداته وتربية أولاده. وهذا العلم هو يحصله بطريقة طبيعية لأنه يعيش تحت السماء الواسعة والفضاء الفسيح فيعرف بسهولة عظمة الله تعالى. أجل، الناس كلهم لا يمكن أن يصيروا فلاحين، ولا كتب هذا الفضل لدعوتهم إليه، بل إنما نذكر لهم معيشة الفلاح؛ لأ

أفحكم الجاهلية يبغون

الكاتب: محمد حامد الفقي

_ أفحكم الجاهلية يبغون ] وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [[*] اللهم لطفًا ورحمة بنا وبدينك الذي عاد غريبًا كما بدأ. ماذا دهى الإسلام والمسلمين من عظائم النكبات وصواعق المهلكات حتى انقلب الحق باطلاً، والباطل حقًّا، وأصبح المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا وغدا الهدى ضلالاً، والضلال هدى؟ وأي نكبة أعظم، وصاعقة أفتك من أن تجتمع بالكاظمية من بلاد العراق جماعة من علماء الشيعة ثم يقررون وينشرون على العالم أن إزالة المنكر مصيبة على الإسلام، ونكبة على المسلمين، وأن تقويض دعائم الباطل، وهدم أبنية الضلال وتطهير البلاد الحجازية المقدسة من آثار الجاهلية الأولى عدوان ولطمة للإسلام كان يخشاها. ما هذا؟ أتبدلت الأرض غير الأرض، والناس غير الناس، والعقول غير العقول، صار الأمر بالناس واتباعهم للهوى، وفتنتهم بالبدع وتماديهم في العدوان على الدين وتشويهه والإصاخة إلى صوت الباطل إلى هذا الحد الذي لا يتصور بعده غاية، والذي أفسد على المسلمين حياتهم الدنيوية والدينية؟ حسبي الله ونعم الوكيل. ماذا يقول أولئك المعولون الصارخون؟ أيقولون إن أمكنة أسست على غير هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه رضي الله عنهم أمكنة خير وبركة؟ وفوق ذلك يسمونها مقدسة؟ وأدهى من ذلك يسمون من لا يقول بها ولا يسمع قول الشيطان فيها ضالاًّ مارقًا؟ يا لله من هول ذلك! أفيقوا يا قوم من هذه الغفلة التي هي أعظم ما يبغي الشيطان منا، وزنوا قولكم قبل أن تقولوه واعرفوا موضعه من الدين قبل أن تذيعوه، فإنكم والله لو وزنتم قولكم وعرفتم موضعه لوجدتموه منكرًا من القول وزورًا وأي زور ومنكر أعظم من قول يصادم بل يناقض بل يهدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أجمع المسلمون خلفًا عن سلف على صحته، من قوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قالت عائشة - رضي الله عنها - يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرزت قبره) أخرجه البخاري ومسلم. وقال العلماء في شرحهم لهذا الحديث: في هذا نهي شديد صريح عن بناء القباب على القبور واتخاذ المساجد عليها وعندها. حتى عد ابن حجر الهيتمي بناء هذه القباب من الكبائر العظيمة التي يجب على علماء المسلمين وأمرائهم هدمها وإزالتها - قال: حتى قبة إمامنا الشافعي رضي الله عنه لذلك الحديث اهـ. ومن قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أحمد وأصحاب السنن، أي الذين يوقدون عليها الشموع ونحوها. ومن قوله صلى الله عليه وسلم (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري. وإلا فليخبرنا أولئك الباكون الصارخون عن حيلة نخرج بها من هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة ونستمع لقولهم ونعمل به دونها. ثم ماذا يقولون في إجماع كل فقهاء المذاهب المعتبرة على حرمة البناء على القبور وتجصيصها. قال الإمام الشوكاني في رسالته (شرح الصدور بتحريم رفع القبور) : اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها ولم يخالف أحد في ذلك من المسلمين أجمعين. ثم ساق أحاديث دالة على هذا ثم قال: وإذا تقرر لك هذا علمت أن رفع القبور ووضع القباب والمساجد مثلها: قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعليها، تارة كما تقدم، وتارة دعا عليهم بأن يشتد غضب الله عليهم بما فعلوه من هذه المعصية، وتارة نهى عن ذلك، وتارة بعث من يهدمه، وتارة جعله من فعل اليهود والنصارى، وتارة قال: (لا تتخذوا قبري وثنًا) وتارة قال: (لا تتخذوا قبري عيدًا) أي موسمًا يجتمعون فيه كما صار يفعله كثير من عباد القبور يجعلون لمن يعتقدونه من الأموات أوقاتًا معلومه (الموالد) يجتمعون عند قبورهم ويعكفون عليها كما يعرف ذلك كل أحد من الناس. اهـ كلام الشوكاني. ثم هذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه روى عنه مسلم في صحيحه أنه قال لأبي الهياج الأسدي (أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تجد قبرًا مشرفًا إلا سويته ولا تمثالاً إلا طمسته) وفي هذا أعظم دلالة على أن تسوية كل قبر مشرف بحيث يرتفع عن الأرض عن القدر المشروع واجبة متحتمة فهل فعل علي رضي الله عنه يعد نكبة على الإسلام والمسلمين؟ ويستحق قيامة أولئك الذين يدّعون أنهم شيعة علي كرم الله وجهه والتفاني في حبه بهذا الصريخ والعويل؟ ثم ما الذي تفهمونه من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم في بدء الإسلام عن زيارة القبور ولم يبح لهم زيارتها إلا بعد ما تمكن الإيمان في قلوبهم وتبينوا حقيقة التوحيد وأنها لا تتفق وتعظيم هذه القبور والعكوف عندها؟ ولفظ ذلك (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الدار الآخرة) وفي قوله: تذكركم الدار الآخرة أتم دلالة على أن زيارة القبور لا تجوز إلا إذا كانت للتذكر فقط، أما إذا كانت للتبرك والطواف والتقبيل فهي على أصلها من التحريم: الأول: أليس في هذا النهي ثم الإباحة بهذا القيد ما يدل أوضح دلالة عند عدم الهوى والعصبية على أن فتنة الشرك ما دخلت على العرب وغيرهم إلا من باب تعظيم قبور صالحيهم؟ كما جاء ذلك في صريح القرآن وفي أقوال الصحابة والتابعين في تفسيره مما يطول به المقال، وهو أوضح من أن نحتاج إلى تسطيره هنا. ثم تعالوا حدثونا إن كنتم تريدون النصفة والدين الحق، هل فعل ذلك أبو بكر أو عمر أو علي أو عثمان أو أحد غير أولئك من الصحابة رضوان الله عليهم؟ اللهم لا. هل بنى الحسن أو الحسين رضي الله عنهما لأبيهما قبة من هذه القباب؟ اللهم لا. هل بنى أحد من أولاد الحسن أو الحسين كعلي زين العابدين أو جعفر الصادق أو محمد الباقر رضي الله عنهم شيئاً من هذه القباب؟ اللهم لا. ثم هؤلاء الأئمة الأربعة ومن إليهم من فحول علماء السلف رضي الله عنهم هل يقدر واحد منكم أن يأتي لنا ونكون له من أعظم الشاكرين - بكلمة واحدة عنهم تشير إلى ذلك وإباحته فضلاً عن التصريح؟ إنكم لا تجدون في التاريخ ولا الدين. إلا أن أول من أظهر ذلك وابتدعه دولة بني بويه في أول القرن الرابع. وليس أحد يعتقد أن فعل ملوك هذه الدولة حجة في الدين. فلا برسول الله صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة تقتدون، ولا يسلم من اقتدى بهم من طعنكم وتشنيعكم فماذا بعد ذلك؟ نقول لكم إلا أن هذه مُشاقة لله ولرسوله واتباع لغير سبيل المؤمنين والله تعالى يقول {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) . يا قوم هذا دين الله الذي نعلمه ويعلمه المسلمون من كتاب الله وسنة رسوله ومذاهب العلماء، نعلنه وندعو الناس جميعًا إلى التمسك به. وإن كان عندكم غير هذا فهاتوه مؤيَّدًا بالحجة من قول الله وقول رسوله يشكر الله لكم عملكم وتكونوا قد أسديتم إلى الناس معروفًا ببيان دين قد خفي عليهم. وأما إن كنتم تبغون غير هذا من غير أن تأتوا بدليل أو حجة صادقة ولا تؤيدونه إلا بالهوى والعادة وقول الآباء والأجداد وغير ذلك مما هو الحجة الوحيدة للمبتدعين، فهذا أمر آخر لا نرضاه لكم ولا لأحد من هذه الأمة التي نسأل الله لها الهداية والتوفيق في القول والعمل. ثم اعلموا يا قوم أن المؤمنين الذين ملأ الله قلوبهم بنور الإيمان وحب الله ورسوله وتعظيمهما وتوقيرهما لا يقدمون قول أحد ولا فعله على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعله، ولا يتخذون من قول أحد ولا فعله حجة على دين الله بل لله الحجة البالغة وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة. ما هلك السالفون من الأمم إلا بتقديم أقوال الناس على قول الله ورسوله، وكانوا {َإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (المائدة: 104) . فاحذروا ذلك كل الحذر واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون. وفقنا الله لما فيه صلاح ديننا ودنيانا. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حامد الفقي ... ... ... ... ... ... من علماء الأزهر وإمام مسجد شركس

رأي في الجديد ومدعي التجديد

الكاتب: مصطفى صادق الرافعي

_ رأي في الجديد ومدعي التجديد للأستاذ مصطفى صادق الرافعي (كما نشر في عكاظ بتصرف قليل) لسنا نتحرج أن ننبّه هنا إلى أصل هذا الجديد الذي يزعمونه ويتشدقون به. فكل فاسق وكل ملحد وكل مقلد أحد هذين وكل متهوس بإحدى هذه العلل الثلاث، هو مجدد إذا جرى في انتحال الأدب العربي وتعاطيه مجرى التكذيب والرد والنقيصة والزراية عليه وعلى أهله والخبط ما بين أصوله وفروعه على أن لا يستخرج من بحثه إلا ما يخالف إجماعًا، أو يعيب فضيلة، أو يغض من دين، أو ينقض أصلاً عربيًّا جزلاً بسخافة إفرنجية ركيكة، أو يحقر معنى من هذه المعاني التي ينظمها الجامدون أنصار القديم من القرآن فنازلاً. وبالجملة فالتجديد أن تكون لصًّا من لصوص الكتب الأوروبية ثم لا تكون ذا دين أو لا يكون فيك من الدين إلا اسمك الذي ضرب عليك فلا حيلة لك فيه، ولا تستطيع أن تستدرك منه إلا في أولادك المساكين، ثم لا حاجة للجديد بإلحادك أو زيغك إلا إذا طبعت بأحدهما أو كليهما مسائل التاريخ الإسلامي والأدب العربي، وأفسدت الخالص بالممزوج، وحقرت الناس والمعاني وكنت حرًّا طليقًا من قيود السماء والأرض إذا صدرت أو وردت فتقول على قدر عقلك، ثم تفعل على قدر زيغك، ثم تزيغ على قدر ما أنت قادر. أما إن بحثت وقايست وتعقلت وكنت أذكى الناس وأبلغ الناس ثم كنت لا تستخرج من التاريخ والأدب إلا ما يزينهما ويكشف عن أسرارهما وحقائقهما الصحيحة ولم تكن لص كتب أوربية ومذاهب أوربية، فالويل لك. فما أنت إلا قديم وما أنت إلا نفس حجرية ولو قدسك المسلمون تقديس الكعبة وحجرها، وإن العصر لفي غنى عنك وعن كتبك وآرائك؛ لأن خمسة أو ستة أو خمسين أو ستين هم العصر وهم الأمة وهم من التاريخ المترامي إلى المستقبل كالقطار فيه ما فيه من عربات تحمل من العروض على أجناسها وأنواعها، ومن الناس على درجاتهم وطبقاتهم، ولكن الخمسة أو الستة وحدهم عربة الآلات والبخار وفحم نيوكاستل. بلى أيها المجددون، غير أنه ليس على الأرض معصوم من الخطأ وغير أننا نعرف أن غلطة العالم تدل على علمه كما يدل صوابه، وإن شبهة الجاهل تدل على جهله كما يدل خطأه إذ كان الأول متحرزًا يتوقى جهده وكان الثاني متحمقًا يسترسل جهده، فعلى قدر قوة الشبهة وضعفها، ويحسب نوع الغلطة وشكلها، يعرف نوع الفكر وتتبين حالة العقل. وبهذين تعرف صفة النفس، وبالنفس لا بغيرها يقوم التاريخ الإنساني. ولو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان معه خمسمائة ألف من أمثال (أدعياء التجديد) أفيردون عليه ما ردَّ عربي واحد قلبه روح سيفه؟ أرأيتم الآن أيها الفضلاء جدًّا ... أن الأمم في غنى عنكم وأن حاجتنا كل الحاجة إنما هي إلى إيمانها وقديمها، وأنكم لا تنزلون منها ومن تاريخها وأسباب تاريخها إلا منزلة الثرثرة في المعنى الصريح من المعنى الصريح. وأن مثلكم كمثل حادثة تاريخية عظيمة أخذت ما أخذت من الناس وتركت ما تركت فيهم حتى إذا مضت لسبيلها وصارت حديثًا في الأحاديث جاء رجل متسكع متلكع فاحتسى ألف كأس من الخمر وأحرق ألف دخينة من التبغ، وأضرم النار وروح النار على دماغه ليخرج من دماغه رواية تمثيلية في تلك الحادثة يزخرفها بالكذب ويزينها بالفلسفة ويزيدها بالتحليل والمنطق، ويجملها بالخيال والشعر، ثم لا تكون مع هذا كله في جنب الأصل إلا ملهاة وهزؤًا وسخرية، ليس فيها إلا حسام لا يقطع، وبطل لا يمنع، ونار لا تحرق، وبحر لا يغرق؟ أتظنون أن التجديد لا يقوم إلا بالهدم، وهل يبلغ ما أنتم فيه من الحماقة وضعف البصر بعواقب الأمور وأسرار الأشياء أن: إن البناء الجديد لا يقوم إلا بعد هدم القديم وإزاحة أنقاضه، وإقرار الجديد في موضعه أهو بناء من الطوب والحجارة والأخشاب، ترفعون هذا وتضعون هذا أم هو بناء بالكلام على أرض من الورق، فكل من جاء ليبني بنى، وكل من جاء ليهدم هدم؟ ألا تعلمون أن القديم لا يهدم البتة لأنه هو الذي يبدع الجديد وينشئه، فإن هدم في أمة من الأمم زال الجديد بزواله، ولم يبق من الأمة إلا بقايا لا تستمسك على حادثة، ولا تقر على صدمة، وإن سنة الكون في الجديد أنه ترميم في بعض نواحي القديم، وتهذيب في بعضها، وزخرف في بعضها الآخر، وإلا لوجب أن يتجدد التركيب الإنساني، والتركيب العقلي، وهو ما لم يقع ولن يقع منه شيء. فالشأن في الجديد أن تتصل المادة الجديدة بالقديم فإذا هو هو، ولكن ببعض الزيادة، أو بعض الزينة، أو بعض القوة، وكل ذلك لإحداث بعض المنفعة. فالرجل المجدد لا يوجد نفسه أيها الفضلاء جدًّا، وما هو من الهوان على الكون ونواميسه وعلله بحيث يقول: سأكون فيكون. ولو أن كل أسود في مطعم أو حانة كأسود بني عبس لفسدت الأرض، ولم يبق للشجاعة تاريخ يحفظ، ولو أن كل لون أحمر يقول: أنا الورد لما بقى للورد معنى إلا أن يكون خجلاً في وجه الدنيا. المجدد أيها الفضلاء جدًّا لا تخرجه للأمة إلا أقوى عناصر القديم متى اجتمعت فيه صحيحة متظاهرة يمد بعضها بعضًا. فإن من انتهى إلى غاية من الغايات كان هو الحري أن يستشرف لما بعدها، وأن يأتي بما لا يستطيع من دونه، ولكن الشرط أن يكون قد بلغ هذه الغاية وما يبلغها إلا إذا كان تهيأ بوسائلها، ولن تأتي لي هذه الوسائل على أتمها وأكملها إلا إذا شاءت الحكمة الإلهية أن تنقح شيئاً في أساليب الحياة ونظام القديم. فالذي يحصل من كل ما تقدم أن لا جديد إلا حيث تبدع الحكمة شيئًا، ثم تتصل نواميس الحياة النفسية بهذا الشيء، فإذا هي تفعل به ما اقتضته الحكمة مما نسميه هدمًا أو بناءً. فأنت إذا كنت مجدداً في اللغة مثلاً، وكانت فيك العناصر الكافية لاجتماع قوة من قوى الناموس العام، فلابد أن تبدع شيئًا غير موجود لا يستطيعه غيرك كما تستطيعه أنت، فإذا أبدعت وأحدثت رأيت القديم نفسه هو الدليل على أنك جددت، فكنت بشهادته مجددًا وهي شهادة كما ترى لا تنالها بأنك محرر صحيفة، أو مترجم مجلة، أو ملخص من بعض آراء الفلاسفة، بل من حياة عصرك وطبيعته، وقوانين وجوده؛ إذ تكون زيادة في العنصر وآية في الطبيعة، وكلمة جديدة في قوانين الأمة. اهـ.

مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*] محضر الجلسة الأولى يوم الخميس أول ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ 13 مايو سنة 1926م اجتمع المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر في دار المعاهد الدينية التابعة للجامع الأزهر الشريف في الحلمية بمدينة القاهرة، الساعة الحادية عشرة صباحًا يوم الخميس أول ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (13 مايو سنة 1926م) برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر الشريف ورئيس المؤتمر، وحضور حضرات أصحاب الفضيلة والسيادة والسعادة والعزة: الشيخ محمد مصطفى المراغي رئيس المحكمة الشرعية العليا من مصر. الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية من مصر. الشيخ حسين والي السكرتير العام لمجلس الأزهر والمعاهد الدينية. من مصر الشيخ أحمد هارون وكيل الجامع الأزهر والمدير العام للمعاهد الدينية ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... من مصر. الشيخ محمد فراج المنياوي السكرتير الخاص لشيخ الجامع الأزهر ورئيس مجلسه الأعلى) من مصر السيد الإدريسي السنوسي أمير برقة وطرابلس من طرابلس الغرب. أحمد شتيوي السويحلي بك حاكم مصراطة سابقًا من طرابلس الغرب. التهامي قليصة بك رئيس مالية مصراطة سابقًا من طرابلس الغرب. الشيخ عمر الميساوي مفتي الخمس سابقاً من طرابلس الغرب. محمد الصالحي التونسي العضو في مجلس الأمة الكبير في تونس. السيد محمد الصديق من أكابر العلماء والأشراف من مراكش. أحمد بهار الدين أفندي مندوب جمعية الخلافة بجنوب إفريقيا. أبو بكر جمال الدين أفندي مندوب الجمعية الإسلامية بجنوب إفريقيا. الدكتور الحاج عبد الله أحمد مندوب جزر الهند الشرقية. الدكتور الحاج عبد الكريم أمر الله مندوب جزر الهند الشرقية. السيد حسن العطاس مندوب سلطنة جوهور. عناية الله خان المشرقي رئيس دار العلوم بالهند. السيد الميرغني الإدريسي من أمراء تهامة اليمن. الشيخ عبد الرحمن بن علي من قضاة اليمن سابقاً وأعيانها. الشريف يحيى عدنان باشا من أكابر أشراف الحجاز. الشيخ خليل الخالدي رئيس محكمة الاستئناف الشرعية من فلسطين. أسعد الشقيري مجلس التدقيقات الشرعية بالآستانة سابقًا. إسماعيل الخطيب المحامي الشرعي بفلسطين. عارف باشا الدجاني من كبار أعيان فلسطين. الشيخ حسن أبو السعود من فضلاء فلسطين. محمد مراد أفندي مفتي حيفا من فلسطين. جمال الحسيني بك سكرتير اللجنة التنفيذية للمؤتمر السادس الفلسطيني. الشيخ عيسى منون مندوب المجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين. عطا الله الخطيب أفندي مدير أوقاف بغداد من العراق. الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي الأستاذ في كلية آل البيت ببغداد. يعقوب شنكوفيتش أفندي المفتى الأكبر لجمهورية بولونيا من أعضاء المؤتمر بأوربا. وتولى أعمال السكرتارية محمد قدري أفندي نائب السكرتير العام، حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسين والي وساعده في ذلك: علي أحمد عزت أفندي، أحمد عبد القادر أفندي، محمد شكري رجب أفندي، محمد عبد الرزاق أفندي، أحمد وهبي الحريري أفندي، محمد المهدي أفندي، وكلهم من موظفي المعاهد الدينية. وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر رئيس المؤتمر افتتاح المؤتمر بسم الله الرحمن الرحيم ثم تلا القارئ الشهير الشيخ سليمان محرز سورة الفتح. وبعد ذلك ناول حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس خطبة الافتتاح لفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي سكرتيره الخاص فتلاها نيابة عنه ونصها: (بسم الله الرحمن الرحيم أفتتح المؤتمر) الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، نحمده أن جمع بيننا وبينكم في سبيل الله على بعد الأقطار وطول الأسفار، ونشكره أن جعلنا مستمسكين بحبله الذي لا ينفصم، رغبًا في الوحدة والائتلاف، ورهبًا من الفرقة والاختلاف، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه الذين اتبعوا النور الذي أنزل معه، وجمعوا الكلمة، ووحدوا الوجهة. أيها السادة: نشكركم شكرًا يكافئ ما أقدمتم عليه من عمل للإسلام وما تحملتم من مشاق كثيرة في إجابة الدعوة، لقد فارقتم في سبيل الله دياركم آمِّين مصر مجيبين داعي الله. نشكركم شكرًا يكافئ عظمة الإيمان الذي في قلوبكم وقد أقمتم الحجج العملية على محبتكم لله ورسوله والمؤمنين، وسيكتب التاريخ لكم ولشعوبكم عمل عظماء الرجال. لقد قام بكم هذا المؤتمر العظيم، وهو أول مؤتمر إسلامي عام، فليقم بكم إن شاء الله تعالى بناء الوحدة، ولتوثق بكم عروة الألفة عن فكر رشيد، ورأي سديد. أيها السادة: كان لزوال الخلافة ما تعلمون من الوقع الشديد في أنفس الشعوب الإسلامية، ولقد تجاوبت أصواتهم من الأرجاء البعيدة والنواحي المختلفة يتلمسون سبيلاً إلى الرشاد، ويتطلبون عقد مؤتمر إسلامي عام ينظر في الأمر من ناحية الدين، فنظر العلماء في ذلك نظرة خالصة لله تعالى، واجتمعوا اجتماعاً تاريخيًّا، وقرروا عقد المؤتمر على ما علمتم قيامًا بواجبهم الديني. وقد أشير في أسباب هذا القرار إلى أن مركز الخلافة في نظر الدين الإسلامي ونظر جميع المسلمين له من الأهمية ما لا يعدله شيء آخر. لما يترتب عليه من إعلاء شأن الدين وأهله، ومن توحيد كلمة المسلمين وربطهم برباط قوي متين. فوجب على المسلمين أن يفكروا في نظام الخلافة على قواعد توافق أحكام الدين الإسلامي، ولا تجافي النظم الإسلامية التي رضيها المسلمون نظمًا لحكمهم. غير أن الضجة التي ترتبت على زوال الخلافة جعلت العالم الإسلامي في اضطراب لا يتمكن المسلمون معه من البت في هذه النظم وتكوين رأي ناضج فيها إلا بعد الهدوء، وبعد الإمعان والروية، وبعد معرفة وجهات النظر في مختلف الجهات. فاعملوا للإسلام ما يحفظه، وما يخلد لكم الذكر الجميل، مستعينين بالله مخلصين له الدين. {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى: 13) ونرى من الواجب علينا أن نشكر للأمم الأخرى احترامهم لشؤوننا الخاصة. ونسأل الله جل شأنه أن يهيئ لنا من أمرنا رشدًا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم) . ثم أستأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أسعد الشقيري وأرتقي منبر الخطابة وألقي كلمة في تأثير الدعوة إلى المؤتمر، وقال: إنها دعوة مباركة، وقد لقيت آذاناً سامعة، وقلوبًا واعية، ونفى غير ذلك مما كان يقوله بعض الظانين. ثم قال: إن المادة (الحادية عشرة) من النظام الداخلي للمؤتمر وضعت الخطب التي تلقى في المؤتمر تحت نظر لجنة، وكثير منا قد يخطب ارتجالاً، فأقترح تعديل المادة واستثناء الخطب. فاستأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي في الكلام وقال: إن الغرض من هذه المادة أن الخطب التي تكون مكتوبة تعرض على اللجنة للنظر فيها وتوزيعها على الجلسات كما يناسب موضوعاتها حتى تكون مهمة المؤتمر سهلة. وأما الخطب الارتجالية والمناقشات اللفظية التي تدور عادة بين المتفاهمين فحضرات الأعضاء أحرار فيها بعد إذن الرئيس كما في النظام الداخلي للمؤتمر، فاكتفى الأستاذ الشقيري واقتنع بهذا. ثم ألقى صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي كلمة حيا فيها الحاضرين بما يناسب المقام وشكر لهم إجابتهم الدعوة. ودعا الله سبحانه وتعالى أن يوفق المؤتمرين لما فيه خير المسلمين. ثم قال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: أهذا النظام الذي وضع ليجري عليه المؤتمر في أعماله غير قابل للتعديل أم قابل له؟ فربما يكون فيه ما هو محتاج للتعديل. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس: لقد وضع هذا النظام بعد استقصاء وبحث كثيرين. واستأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي في الكلام وقال: إن هذا النظام وضعه المجلس الإداري للمؤتمر وهو مؤلف من جمع كثير فيه الخبيرون بنظم المجالس النيابية الحديثة، وإذا رأيتم أن فيه ما قد يحتاج إلى تعديل فلا مانع من تقديم اقتراح بالطريقة النظامية. فاقتنع حضرة الأستاذ الثعالبي أفندي بذلك. ثم استأذن صاحب الفضيلة الأستاذ الشقيري وقال: إن كثيرًا كتبوا يقولون: قد يتوهم بعض الناس أن العواصم التي فيها تأثير أجنبي لا يمكن الكلام فيها بالحرية التامة، ولكن المسلمين أحرار فيما يقولون: فالبلاد الإسلامية التي فيها حاكم مسلم فيها الجمعة والجماعة والأحكام الدينية فالمحافظة على الدين موجودة بحمد الله في كل قطر إسلامي. وقد كتبت بعض الجرائد أن هذا المؤتمر ربما أخلّ بالمناسبات بين أمراء المسلمين، وهذا مردود. فطلب صاحب الفضيلة الأستاذ عطاء الله الخطيب أفندي من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس تطبيق المادة الحادية عشرة من النظام الداخلي للمؤتمر القاضية بأن هذه الجلسة إنما هي لخطبة الافتتاح والتعارف، وتأليف لجنة للنظر في الخطب والاقتراحات والأبحاث. فتقبل ذلك الأستاذ الشقيري، وقال: لم أتكلم إلا بإذن. ثم استأذن فضيلة الأستاذ الشيخ فراج المنياوي وارتقى منبر الخطابة وألقى كلمة بيَّن فيها أنه ليس لعلماء مصر غاية إلا أداء واجبهم الديني، وأن للمؤتمر الحرية التامة فيما يبحث وفيما يقرر. وشكر لحضرات أعضاء المؤتمر تفضلهم بإجابة الدعوة. وذكر لهم أن أمر المسلمين بين أيديهم دون سواهم، حاثًّا على الوحدة الإسلامية. ثم طلب حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس الشروع في تأليف لجنة من حضرات أعضاء المؤتمر للنظر في الخطب والاقتراحات والأبحاث قبل عرضها على المؤتمر. فاقترح حضرة جمال الحسيني بك الاستراحة ربع ساعة. فوافق على ذلك ثم عاد المؤتمر إلى الاجتماع، وأخذت الآراء على أعضاء اللجنة وهل يكون انتخابهم سريًّا، فكانت أغلبية الآراء أن عدد أعضائها بعدد الشعوب الإسلامية الممثلة في المؤتمر وبالانتخاب السري وأنه إذا جاء مندوبون من شعوب أخرى غير الموجودين الآن، فلمندوبي كل شعب الحق في انتخاب عضو لهذه اللجنة. وعلى ذلك تم انتخاب أعضاء هذه اللجنة. وأعلنت نتيجة الانتخاب فكانت كما يأتي: حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة: الشيخ حسين والي من مصر الشيخ محمد الصالحي التونسي من تونس السيد محمد الصديق من مراكش الشيخ أحمد بهار الدين أفندي من جنوب أفريقيا يعقوب شنكوفتش أفندي من بولونيا عناية الله خان المشرقي من الهند السيد حسن العطاس من سلطنة جوهور الشيخ خليل الخالدي من فلسطين عبد العزيز الثعالبي أفندي من العراق الشريف يحيى عدنان باشا من الحجاز الشيخ عبد الرحمن بن علي من اليمن الشيخ الميرغني الإدريسي من تهامة الشيخ عمر الميساوي من طرابلس الغرب ثم أعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس انتهاء الجلسة؛ إذ كانت الساعة الواحدة بعد الظهر على أن يجتمع المؤتمر الساعة الرابعة بعد ظهر يوم السبت المقبل 3 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (15 مايو سنة 1926م) . نائب السكرتير العام ... ... ... ... ... رئيس المؤتمر إمضاء/ محمد قدري ... ... ... ... ... ختم/ محمد أبو الفضل *** محضر الجلسة الثانية يوم السبت 3 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ 15 مايو سنة 1926م (اجتمع المؤتمر في الساعة الرابعة والنصف مساءً برئاسة الأستا

محاربة البغاء

الكاتب: محمود أبو العيون

_ محاربة البغاء تقرير رفعه فضيلة الأستاذ أبي العيون إلى أصحاب الدولة رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشيوخ، ورئيس مجلس النواب، خاص بإلغاء البغاء الرسمي. حضرة صاحب الدولة الرئيس السلام عليكم ورحمة الله وبعد. فإني أبرقت إلى دولتكم اقتراحًا بتاريخ يوم الاثنين 3 ذي الحجة سنة 1344هـ الموافق 14 يونيو سنة 1926م. بشأن إلغاء البغاء الرسمي، سألتكم فيه بحرمة الدين والوطن أن تعملوا على إلغائه أسوة بالممالك المتمدينة، كأمريكا وإنجلترا، وألمانيا. واليوم يا دولة الرئيس نرفع إليكم تقريرًا كمذكرة إيضاحية للبرقية السالفة الذكر مثبتين في ذلك التقرير بعض البيانات التي جعلتنا ننتهز الفرصة الحالية لرجائكم في العمل على إلغاء البغاء الرسمي، وإليكم نصها: أ - إن دستور الدولة المصرية اعتبر الإسلام دين الدولة الرسمي، ولم يكُ وضع ذلك في الدستور عبثًا، بل له شأنه وقيمته واعتباره في حياة الدولة وتقاليدها ومظاهرها العامة التي لها بالدين صلة وارتباط، وإن مشروعية الدعارة وتنظيمها لا يتفق ودين الدولة الرسمي. ذلك لأن الإسلام يحرم الزنا، وتشريعه وتنظيمه ويأمر بجلد الزاني والزانية ورجمهما. ولقد كان ذلك من الإسلام رأفة ورحمة بالمجتمع الإنساني. وحرصًا منه على حفظ النفس والعقل والمال وهي أهم أغراض التشريع الإسلامي والزنا يهدم هذه الأغراض من أساسها. ب - إن قسم اللوائح والرخص بحث رسمية البغاء من جميع نواحيها، وأثبت بعد استقرار المباحث الخاصة والعامة في الدولة المصرية وغيرها أنه من المتعذر تنفيذ قوانين وأنظمة البغاء، بل إن نظامه أصبح مؤذيًا أدبيًّا وصحيًّا، وساق على ذلك أدلة تكفي لإقناع من يطلع عليها، وأخيرًا نصح وزارة الداخلية بإلغاء الدعارة الرسمية وإنقاذ البلاد من خطرها الداهم. ج - إن مصلحة الصحة وافقت بمكاتبة رسمية قسم اللوائح والرخص على إلغائه وأشارت إلى النظام الذي يتبع عقب الإلغاء. د- إن كثيرًا من الممالك المتمدينة كإنكلترا وألمانيا والنرويج تجاهلته، أو حرمته وراقبت آثاره. ولا سيما أمريكا فإنها حرمته بتاتاً وعقدت كل ولاياتها مؤتمرًا للأمراض التناسلية ووضعت قرارًا حاسمًا في ذلك. ويتلخص في جملة واحدة وهي: (إن المؤتمر يعتقد بعد دراسة واسعة إن العلاقات التناسلية الغير الشرعية قلت كميتها بعد إيجاد نظام منع البغاء الرسمي) . هـ - إن الدول التي تجاهلت البغاء أو حرمته لم يكن الباعث لها على ذلك احترام الدين أو الآداب أو الرأي العام فقط. بل ظهر أن الاعتراف به رسميًّا (1) مفسد للأخلاق (2) مسبب للأمراض (3) مسهل لجريمة الاسترقاق (4) مروج لتجارة الرقيق الأبيض (5) معطل للزيجة. و إن التقارير الطبية أجمعت على أن تشريع البغاء وتنظيمه من أشد الأخطار وأفدحها في ذيوع البغاء، وانتشار الأمراض، وفوضى العلاقات التناسلية. (1) كتب الدكتور تسكالاس مندوب الجمعية الدولية لإلغاء الاعتراف رسميًّا بالبغاء للمسيو جراهام مدير الصحة العمومية المصرية يحثه فيها على السعي لإلغاء لائحة العاهرات حين أريد تعديلها سنة 1905 قائلاً (إنها خطأ فاحش من الوجهة الصحية، وظلم من الوجهة الاجتماعية، وفظاعة من الوجهة الأدبية وجريمة من الوجهة القضائية) . (2) وقال الدكتور شان فلوري سان استلستين الذي كان متوليًا عملية الكشف بمدينة لاهاي (إن الكشف على العاهرات لا يمكن أن يؤدي إلا إلى نفع قليل بعزل بعض المريضات عن الاختلاط بالرجال؛ إذ كم من مريضة تفلت من يد الطبيب لكمون دائها، أو لأنها تخفي علامات مرضها) . وقال (ومن هذا يتضح مقدار المضار التي تسببها الحكومات باعترافها بالبغاء رسميًّا، إذ إن اعتراف الحكومات بالبغاء رسميًّا يكون كعقد منها تجاه الجماهير تتعهد لهم به أنها كفيلة بمنع الأمراض بمراقبة العاهرات والكشف عليهن طبيًّا، وتكون كذلك حرضت عددًا من الرجال على الزنا، ولولا هذا الوهم الذي توهموه، ولولا ما دخل في نفوسهم من الاطمئنان على صحتهم ما كانوا أقدموا على الزنا، وبهذا تكون الحكومة قد جعلت من الناس زناة، ومن الأصحاء ضعفاء تسممت أجسامهم بالأمراض) . (3) وكتب الدكتور فخري تقريرًا مسهبًا بحث فيه مسألة البغاء والأمراض التناسلية بحثًا دقيقًا. ثم رفعه إلى جميع الهيئات والمقامات والصحف. ونظرة واحدة في التقرير تبعث القارئ على الأسف الشديد والحزن العميق لِما وصلت إليه حالة البلاد من جراء البغاء السري والجهري وما كان لهما من أثر سيئ في حالتنا الخلقية والصحية والاقتصادية. ز - إن مَواطن البغاء جعلت مأوى لتهريب المواد المحظورة بقانون سنة 1925م وأصبحت تلك المواطن فوق كونها مواخير للدعارة فهي (غرز) للحشيش والأفيون والكوكايين والهروين وغيرها من المواد السامة والعقاقير الضارة. وبعد، فإننا أوردنا في هذا التقرير برؤوس مسائل لم نرد أن نتوسع فيها خشية الإملال والسآمة. وبعد ذلك لا نرى مبررًا لبقاء العهر في البلاد. وإننا نرجو ونلح في الرجاء على دولتكم أن يقدر مجلسكم الموقر فظاعة رسمية الدعارة وأن يعمل على إلغائها بكل سرعة ممكنة رحمة بأبناء هذه الأمة المسكينة وإنقاذها من القلق. والله سبحانه وتعالى يتولانا جميعًا، ويوفقنا للعمل الصالح وصالح العمل. وتفضلوا يا صاحب الدولة بقبول إجلالي لشخصكم الكريم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... محمود أبو العيون ... ... ... ... ... ... مفتش الجامع الأزهر والمعاهد الدينية

جواب الأستاذ الإمام عن كتاب لبعض علماء الشام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جواب الأستاذ الإمام عن كتاب لبعض علماء الشام كتب إليّ بعض علماء الشام [1] جوابًا عن كتاب هنأه فيه بمنصب الإفتاء، وهو ألطف كتبه وفيه من الشكوى من سوء حال قومه ولا سيما الجامدين الرسميين ومن التحدث بالنعمة ما ليس في غيره. أنصفني قومك إذ سروا بتناولي منصب الإفتاء، ولعل ذلك لشعورهم بأنني أغير الناس على دين الله، وأحراهم بالدفاع عن حِماه، وأدراهم بوجوه الفرص عند سنوحها، وأحذقهم في انتهازها لإبلاغ الحق أمله، أو يبلغ الكتاب أجله، على أنهم مني بحيث لا يفسد نفوسهم الحسد، ولا يتقاذف بأهوائهم اللدد، وكل ذي دين يشتهي أن يرى لدينه مثل ما أحث إليه عزيمتي، وأخلص في العمل لتحقيقه نيتي، خصوصًا إن كفي فيه القتال، ولم يكلف بشد رحال، ولا بذل أموال. أما قومي فأبعدهم عني، أشدهم قرباً مني، وما أبعد الإنصاف منهم، يظنون بي الظنون، بل يتربصون بي ريب المنون، تسرعًا منهم في الأحكام، وذهابًا مع الأوهام، وولعًا بكثرة الكلام، وتلذذًا بلوك الملام، أقول فلا يسمعون، وأدعو فلا يستجيبون، وأعمل فلا يهتدون، وأريهم مصالحهم فلا يبصرون، وأضع أيديهم عليها فلا يحسون، بل يفرون إلى حيث يهلكون، شأنهم الصياح والعويل، والصخب والتهويل، حتى إذا جاء حين العمل، صدق فيهم قول القائل في مثلهم: لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا وأقول: ولا من الخير. وإنما مثلي فيهم مثل أخ جهله إخوته، أو أب عقّته ذريته، أو ابن لم يَحْنُ عليه أبواه وعمومته مع حاجة الجميع إليه، وقيام عمدهم عليه، يهدمون منافعهم بإيذائه ولو شاءوا لاستبقوها باستبقائه، وهو يسعى ويدأب، ليطعم من يلهو ويلعب، على أني أحمد الله على الصبر وسعة الصدر إذا ضاق الأمر، وقوة العزم وثبات الحلم، وإن كنت في خوف من حلول الأجل قبل بلوغ الأمل، خصوصًا عندما أرى أن العمل في أرض ميتة لو ذابت عليها السماء مطرًا لما أنبتت زرعًا، ولا أطلعت شجرًا، أفزع لذكرى ذلك وأجزع، ويكاد قلبي يتقطع، ثم أرجع إلى الله فأعلم أنه مع الصابرين، وأنه لا يضيع أجر العاملين، فيثلج صدري، وأمضي في جهادي الدائم، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا. ممن أشتكي؟ لو أن ما ألقى كان من لغط العامة ولقلقة الجاهلين لهان الأمر وتيسر المخرج. ولكن البلاء كل البلاء أن أشد الناس عداوة لأنفسهم هم أولئك المعلمون الذين يبعدون عن الدين، مدعين أنهم دعاته، ويمزقون أحشاءه زاعمين أنهم حماته، وما منهم إلا أحد شخصين: شخص ركب هواه فأعماه، فهو يرى الحق باطلاً، والصواب خطأ، وآخر غرَّته دنياه، وأضله جشعه، فران على قلبه ما يكسب، وامتنع عليه معرفة الصدق من كثرة ما يكذب، ولم يعد للحق إلى قلبه سبيل. ليتني كنت أشكو إلى الله جهل العالمين وحمق المعلمين، في مثل الجاهلية التي بعث النبي صلى الله عليه وسلم لمحو أحكامها، وإزالة أيامها، تلك جاهلية كان الضلال فيها بعيدًا، ولكن كان فهم القوم حديدًا، لذلك عندما لاح لهم ضوء الهدى أبصروه، وعندما قرع أسماعهم صوت الداعي أجابوه، كان القرآن يصدع أفئدتهم، فيليِّن من شدتهم، ويفل من شرتهم، ويفجر من صخر القسوة ينابيع الحنان والرحمة، وما كان أهل العناد فيهم إلا قليلاً، عرفوا الحق فأنكروه، وطائفة كانوا يفرون منه خوف أن يعرفوه، ولو سمعوا، لفهموا، ثم لم يجدوا بدًا من أن ينصروه، وإن الجحود مع ألفهم، كاليقين في العلم، كلاهما قليل في بني آدم. أما اليوم فإنما أشكو من قلة الفهم وضعف العقل واختلال نظام الإدراك وفساد الشعور عند الخاصة، فلا تجذبهم فصاحة، ولا تبلغ منهم بلاغة، وغاية ما يطلبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا، وأن يوصفوا بالعلم وإن لم يعقلوا، وأن تُقضى حاجاتهم إذا سألوا، وأن ترفع مكاناتهم وإن تنزّلوا، وأن استعداد السامع للفهم يستدر المقال، ويسدد الفكر للنضال في الجدال، أما عيشك فيمن لا يفهم، فإنه ينضب منك ينبوع الكلام، ويطمس عين الفكر، ويزهق روح العقل. جعلني الشيخ عبد الرزاق البيطار ثالث الرجلين [2] وما أنا في شيء من أمرهما، إلا نزر من الهمة، وكثير من معرفة قدرهما. الحمد لله لا أحصي ثناء عليه، وأشكره وأشكر نعمة مرجعها إليه، وأذكر من نعمه أكبر نعمة أمدني بها، وأكرمني بأسبابها إحسانه إليَّ، بعطف قلب الأستاذ علي وتقريبي من فؤاده وإحلالي مكانًا من وداده، كرمت نفس الأستاذ فكرم فيه مثالي، وكملت سجاياه فتخيل منها كمالي. نسب إليّ الشيخ الجليل شؤونًا كلها من سرائره، وألبسني من الأوصاف ثوبًا نسجته يد مظاهره. جعل لي السيد من حسن ظنه معينًا، وأفادني بثقته ركنًا ركينًا، وسندًا أمينًا، فأسأل الله تحقيق ظنونه، وأن يمدني دائماً بدقائق فنونه، وأن ينصرني بولائه، وأن يسلكني في عقد أوليائه، والسلام.

أمر القادياني قد فصل

الكاتب: أبو الوفاء ثناء الله

_ أمر القادياني قد فصّل بسم الله الرحمن الرحيم سيدي المدير لمجلة المنار، سلمه الله الغفار، السلام عليكم، رأيت العدد الأول من المجلد السابع والعشرين من مجلة المنار، وأنا بمكة المكرمة في شهر ذي القعدة، فنظرت فيها تحت عنوان: الجامعة القاديانية. ما ذكر غلام أحمد القادياني المدعي للمسيحية الموعودة، والمهدوية المعهودة، نشأ في البنجاب قريبًا من وطني أمرتسر فأنا جاره (وصاحب البيت أدرى بما فيه) صرفت حصة من عمري في تحقيق أمر القادياني، باحثته وجادلته حتى صار أمرنا إلى أن دعا الله أنه من كان منا كاذبًا عندك فأمته قبل الصادق وأشاع إعلاناً هنديًّا (هذا تعريبه) . الفيصلة الأخيرة بيني وبين المولوي ثناء الله بسم الله الرحمن الرحيم {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} (يونس: 53) بحضرة المولوي ثناء الله) . (السلام على من اتبع الهدى، إن سلسلة تكذيبي جارية في جريدتكم (أهل الحديث) (الحديث) مذ مدة طويلة أنتم تشهرون فيها أني كاذب دجال مفسد مفتر، ودعواي للمسيحية الموعودة كذب وافتراء على الله، أني أوذيت منكم إيذاءً، وصبرت عليه صبرًا جميلاً، لكن لما كنت مأمور بتبليغ الحق من الله وأنتم تصدون الناس عني فأنا أدعو الله قائل: يا مالكي البصير القدير العليم الخبير تعلم، ما في نفسي إن كان دعواي للمسيحية الموعودة افتراء مني وأنا في نظرك مفسد كذّاب، والافتراء في الليل والنهار شغلي فيا مالكي أنا أدعوك بالتضرع والإلحاح أن تميتني قبل المولوي ثناء الله، واجعله وجماعته مسرورين بموتي، يا مرسلي أنا أدعوك آخذًا بحظيرة القدس لك أن تفصل بيني وبين المولوي ثناء الله، أنه من كان مفسدًا في نظرك كاذبًا عندك فتوفّه قبل الصادق منا {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} (الأعراف: 89) الراقم عبد الله الصمد مرزا غلام أحمد المسيح الموعود، عافاه الله وأيد عزه، ربيع الأول سنة 1325هـ. أيها الناظرون: إن المدعي قد مات منذ سنين ودُفن في قاديان وأنا بحمد الله حي إلى الآن، فهل بقي شيء يريب أحدًا في أمر القادياني؟ لا والله قد فصل فحصحص الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال، فاعتبروا يا أولي الأبصار. ... ... ... ... ... ها أنا ذا الخادم لدين الله ... ... أبو الوفاء ثناء الله المدعو بفاتح قاديان الهندي الأمرتسري

ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله (5) ذكرنا في المقالة الثانية من هذا البحث جملة مطالب الأزهريين وما قبلته الحكومة منها، وذكرنا في الثالثة والرابعة تفسير الأزهريين لمطالبهم تلك ووعدنا بالتعليق عليها. ثم أمسكنا عن إتمام هذا البحث بضعة أشهر لما طرأ على مسألة الأزهر من التقلب والخلاف بين الحكومة ومشيخته، وما طرأ في العالم الإسلامي من الأطوار العامة من نبذ الحكومة التركية للشرع الإسلامي وتأثيره في قوة سير الإلحاد واللادينية في مصر من جهة، ومن الرجاء في قوة الدين من جهة أخرى بانتصار النجديين في الحجاز على حكومته السابقة الجائرة المفسدة، ونعود الآن إلى إتمام البحث في حال الأزهر وحاضره، ثم نبني عليه في مجلد المنار السابع والعشرين الكلام في مستقبله إن شاء الله تعالى فنقول: إن جُل مطالب الأزهريين من الحكومة منافع ماديَّة وإدارية يتوقف عليها جعل هذا المعهد العلمي الإسلامي كالعضو الرئيسي العامل في بنية الأمة والدولة، ولكن لن يكون بها كذلك إلا بالإصلاح العلمي والتهذيبي الذي يشعر الأمة والحكومة معًا بالحاجة إليه وتوقف ارتقاء البلاد على عمل المتخرجين فيه، وليس في مطالب أهله ولا في شرحها ولا فيما كتبوا في الصحف من المقالات انتصارًا لها أدنى بيان لأركان هذا الإصلاح، ولكن في بعضها إشارة إلى بعض المسائل الإصلاحية بالإجمال كطلب إرسال بعثات من الأزهريين إلى المدارس الأوربية الجامعة وهو المطلب السابع مما تقدم في المقالة الرابعة، وكذلك انتقاء الكتب وتعديل البرامج بما يناسب حاجة العصر الحاضر والتقدم العلمي الحالي، وهو المطلب الثاني عشر منها، وهو الأخير كما تقدم. قد يكون تنفيذ هذين المطلبين ركنًا من أركان الإصلاح العلمي، وقد يكون من أكبر المفاسد القاضية على هذا المعهد، فقد تعلم بعض متخرجي الأزهر وحملة شهادة العالمية ومن دونهم في مدارس أوربية فعادوا إلى مصر يفسدون ولا يصلحون، وهم من دعاة الحكومة اللادينية والإلحاد في البلاد، وإنما تكون العلوم العصرية إصلاحًا عظيمًا بما سنبينه بعد في الكلام على مستقبل الأزهر.

الإرشاد

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

_ الإرشاد ماضي المسلمين وحاضرهم، الإرشاد وما له من التأثير والمكانة في الحياة الإسلامية - الصفات التي يجب أن تتوفر في المرشد - أدلة وجوب الإرشاد من الكتاب والسنة - مَنْ يَصلح للإرشاد - أشهر طرق الإرشاد الخطابة - الدرس - التمثيل - الأسوة الصالحة - الكتابة - كيف يتكون المرشدون؟ كلما فكرت في أمر المسلمين، وما كان لهم من عز وما أصبحوا فيه من ذل وما عرف لهم من الملك الواسع، وعنهم من العدل الشامل، وما صاروا إليه من كلمة متفرقة وممالك ملتهمة وبلاد مستعمرة - كلما جد بي التفكير في ذلك حضرتني كلمة (الإرشاد) وملكت علي نفسي واستولت على فكري، وكيف لا تكون كذلك وبها قامت هذه الملة، وانتشرت هذه الشرعة، وتكون بها الملك الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها وشماليها وجنوبيها، فمحمد عبد الله ورسوله (صلى الله عليه وسلم) لم تكن له الجيوش المؤلفة، ولا الأساطيل القوية، ولا الغواصات الماخرة، ولا الطيارات السابحة، ولكن بين جنبيه نفس طاهرة وروح مكملة حركت لسانه بالدعوة إلى الحق وإرشاد الخلق والأخذ بهم عن اللمم، إلى السبيل الأمم ففعلت نفسه بنفوسهم وروحه بأرواحهم ما لا تفعله القوى الطاهرة، فإنها إن حركت الأجساد إلى حيث يريد المستعبدون الظالمون، فإنها لا تحرك القلوب نحو الغاصبين المستبدين، بل ربما أيقظت نائمهم وأجدت خاملهم، وبعثت ساكنهم إلى حيث يناوئ الغاصب ويقهر الغالب ويرد الكائد، ثم يختط لنفسه من طرق السعادة وسبل العزة ما يمكن له في الأرض، ويستعيد به الملك الغابر والمجد السالف وسيطرة الأولين وعزة المؤمنين. قام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا حول له ولا قوة إلا الدعوة إلى الخير ينطق بها قلبه قبل أن ينطق لسانه ويظهر أثرها في عمله وخلقه قبل أن تنظم في كلمة فكان الناس يسمعون مع صوته وحي قلبه، ويرون في خلقه وفعله أسوة حسنة وقدوة صالحة فكل عضو من أعضائه داعية وكل حاسة من حواس سامعيه مشغولة بدعوته منصرفة عن غيره، فكيف لا يسيرها حيث يحب ويسخرها حيث يود ولا يحب إلا الخير ولا يود للناس إلا ما انطوت عليه نفسه وجبلت عليه روحه من معالي الأمور ومكارم الأخلاق وكبار الآمال. وكذلك صَحْب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتابعون لهم بإحسان كانوا داعين بعملهم وقيلهم إلى هذا الدين فاستطاعوا أن ينشروه في قلوب الملايين من البشر قبل أن ينشروا سلطانه في معظم المعمور من الأرض إذ ذاك. وكما كان بهذه الكلمة قيام الأمم، وبناء الدول كان بتركها وإهمالها دكَّ هذا البناء الشامخ الذي بناه على أساس الحق والعدل آباؤنا السابقون وسلفنا الصالحون، وبعثرة هذا المُلك العريض الذي توطن (سرة) الكرة الأرضية، وخير ما فيها من بلاد، فهي كلمة من فهمها حق فهمها وقام بحقوقها وحفظ عليها حرمتها كانت له أكبر عون على آمال يريد تحقيقها وأماني يود حصولها. ومن ضيعها وحقر شأنها ونكث عهدها لم تؤاته على آماله، بل سلبت منه ما كان جمعه وهدمت ما كان أقامه. وإذ كانت هذه مكانة الإرشاد كان من الواجب علينا أن نعالج موضوعه ونُلم بأبحاثه حتى نحرك آلاف العلماء ليقوموا بواجب النصح ويؤدوا العمل الذي كتب الله عليهم أن يؤدوه، وأخذ عليهم الميثاق أن يبينوه ولا يكتموه. وحتى يعرف الذين قصدوا للإرشاد - ولم يحسنوا - الطريق السوي الذي يصلون منه إلى النفوس فيحركونها نحو ما يحبون، أو يكونوها كما يبغون - وقد رأيت أن أقسم الموضوع إلى أربعة أقسام: الأول - في وجوب الإرشاد. الثاني: في بيان من يصلح للإرشاد. الثالث: في طرق الإرشاد. الرابع: كيف يتكون المرشدون. *** 1- في وجوب الإرشاد: قال الله تعالى {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) . وقال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناًّ قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} (آل عمران: 187) وقال {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: 78-79) . وقال {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (المائدة: 63) . وقال تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 71) . وقال {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ} (فصلت: 33) . وقال تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125) . وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ} (يوسف: 108) وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132) وقال تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) . وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) . وروى الشيخان عن تميم الداري عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (الدين النصيحة) قاله ثلاثًا، قال: قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي ذكرنا كثيرًا منها وإن كان المتروك أكثر لنبين لحضرات العلماء الذين يعيشون لأنفسهم دون أمتهم ودينهم أن واجب الإرشاد ليس دون الصلوات والزكوات والفرائض المحتمة في الدين المعروفة بين جمهور المسلمين. فهل رأيت من الحث في القرآن على الصيام الذي هو ركن من أركان الإسلام مثل ما رأيت من الحث على الإرشاد ووجوب التذكير والعظة والإنذار بسوء العاقبة لمن قعد عن القيام بهذا الواجب الذي من أجله بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؟ والذي من أجله أنزل كتبه بين خلقه يستضيئون بنورها إذا أظلمت عليهم المقاصد والْتَوَت طرق الحق وضل الناس المحجة. وهل مدح الله العلماء بما مدحهم به في القرآن إلا لأنهم ورثة الأنبياء، يبلغون الشرائع للناس ويرشدونهم إلى طرق الفلاح والنجاح، يرشدونهم إلى أسباب السعادة والعزة في هذه الدار {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وفي الدار الآخرة {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64) . *** 1ـ من يصلح للإرشاد: ما خرج من اللسان لا يتجاوز الآذان، وما خرج من القلب وصل إلى القلوب فحرك دم الإصلاح فيها فحرك الأعضاء إلى الخير والعمل الصالح حركها إلى حيث السعادة للنفس والعشيرة والخلق، فالنفس الطيبة لا تصدر إلا طيباً، النفس المكملة تستطيع أن تكمل غيرها والنفس الناقصة أولى بها أن تتدارك عيوبها ثم تتطلع بعد ذلك لإصلاح غيرها، ولا يمكن أن يعطي الشيء فاقده بل ينفق كل امرئ من وجده. إذا أردنا أن نعرف المثل الأعلى للمرشدين فعلينا بالأنبياء والمرسلين، فمن صفاتهم نتعرف صفات المرشدين، ومن طرقهم نتبين طرق المصلحين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) . المرشد شخص كملت نفسه وتهذب خلقه، ورشد عقله عامل بما علم واقف عند ما رسمه له الشارع لا يلتوي عنه يمنة أو يسرة ملئ قلبه بخشية الله، فلا يفعل ما يفعل ولا يترك ما يذر خشية من الناس أو من قانون وضعي تنطبق عليه نصوصه بل يفعل الخير ويترك الشر؛ لأنه يرى سلطان الله محيطًا به من كل جانب ويرى عين الله تبصره كل حين. تبصره وهو على ملأ من الناس قد غمره نور الشمس، وتبصره وهو في زوايا بيته في الظلام الدامس والليل الحالك يحب ما يقربه إلى ربه ويبغض كل ما يبعده عن سبيله يرى أن كتاب الله إمامه فلا يحكم بغير ما يحكم، ولا يقول غير ما يقول يجعله سلوته في غذواته وروحاته، وفي أوقات فراغه يعكف عليه يتعلم منه الحكمة ويتبصر منه طرق الهداية وموارد الرشاد. يتأسى بالرسول (صلى الله عليه وسلم) في أعماله وأخلاقه وعقائده وآدابه. المرشد شخص بصير بأحوال الناس خبير بأمورهم ليس خبًّا ولا مغفلاً يضحك عليه ويسخر منه، عليم بالطريق الذي يسوسهم منه ويأخذ بهم إلى حيث عزهم ومجدهم وعلوهم وسعدهم المرشد شخص جعل الصبر عدته، وتحمل الأذى في سبيل الحق خلته، فما يصيبه من الآلام وما ينتابه من النائبات يتقبله بقلب ثابت وجأش رابط بل يستعذب المر في سبيل الدعوة ويستسهل الصعب في سبيل إعلاء كلمة الله، كلما طعن بطعنة أو قذف بسبه تأسى بالأنبياء قبله وقال: هذا سيد الرسل رمي بالسحر والجنون والافتراء على الله ومس الشيطان وأُوذي في سبيل الله أشد الإيذاء فما كان يقول إلا (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) ثم يقول لنفسه إن مرتبة الإرشاد من المراتب العالية التي لا تنال إلا بالجد والصبر على المشاق، ويتمثل قول الله تعالى {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُ

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الباب الثامن اللباس للباس أيضًا علاقة بالصحة إلى حد خاص. إن الأوربيات لها أفكار غريبة في الحسن وهي التي تسوقهن إلى جعل ملابسهن في شكل يضغط على الصدر والأرجل، وذلك يحدث أمراضًا مختلفة. إن أقدام الصينيات يضغط عليها إلى أن تكون أصغر من أقدام أطفالنا الصغار، وهذا ما جعل صحتهن غير جيدة. فهذان المثالان يثبتان تأثير هيئة اللباس في الصحة، ولكن اختيار اللباس ليس دائمًا في أيدينا لأننا مكرهون على تقليد أسلافنا، قد نسي الناس الغرض الأساسي من اللباس فجعلوه كعنوان لدين صاحبه ووطنه وجنسه وصنعته. إذن يصعب البحث في مسألة اللباس من الوجهة الصحية فقط مع أن هذا البحث كما لا يخفي ينفعنا قطعًا. نطلق كلمة (اللباس) على الأحذية والحلي وما شاكلها أيضًا. ما الغرض الأساسي من اللباس؟ إن الإنسان في حالته الأولى ما كان يلبس لباسًا ما، كان يمشى عاريًا ويترك كل جسده مكشوفًا تقريبًا فكان جلده متينًا قويًّا يقدر على تحمل حمارة [1] الصيف وصبارة الشتاء ووابل الأمطار، وكما قد أسلفنا أننا لا نتنفس الهواء من المناخر فقط بل من مسام الجلد التي لا تعد ولا تحصى أيضًا. فإذا غطينا الجلد بالأقمشة منعناه من أداء وظيفته الطبيعية، ولكن شاعت عادة اللبس لما أخذ أهالي البلاد الباردة يكسلون يومًا فيومًا فأخذوا يحسون بالضرورة لتغطية أجسادهم؛ لأنهم ما عادوا بعد ذلك يتحملون البرد (ثم أصبحت هذه العادة للزينة لا بمجرد الضرورة) ثم أصبح اللباس عنوانًا على الوطن والجنس وغيرهما. إن الطبيعة نفسها قد أعدت كسوة جليلة لنا في جلدنا. وما يتخيل من أن الجسم العاري يظهر غير جميل فوهم باطل. إن كنا نغطي حتى الأعضاء العامة من جسدنا فمعناه أننا نشعر بالخجل أن يراها الناس في حالتها الطبيعية. أي أننا نجد الخطأ في ترتيب الطبيعة فنصلحه. إننا كلما ازددنا غنى وثروة بالغنا في زيادة الأغطية والملابس طلبًا للزينة حتى خرجنا في ذلك عن الحد وصرنا نطري جمالنا وحسن منظرنا! مع أنها لو لم تعمنا حماقة التمسك بالعوائد الذميمة لرأينا بلا شك أن الجسم العاري أجمل على الإطلاق من الجسم المكسو بالألبسة، وذلك لأنه يجد صحته التامة في عراه. واللباس ينقص جماله الطبيعي. ثم إن الإنسان لم يكتف باللباس بل أخذ يستعمل الحُليّ كذلك. إن هذا جنون محض. يصعب جدًا أن نفهم كيف يزيد الحلي ذرة من الجمال الطبيعي للجسم. ولكن النساء قد تجاوزن جميع حدود الإدراك والحياء والأدب في هذا الشأن. فلا يستحين من أن يتحلين بالخلاخل الثقيلة التي تقيد أرجلهن وتمنعها من الحركة بسهولة. وأن يثقبن أنوفهن وآذانهن بطريقة بشعة ليلبسن الخزم فيها والأقراط ويشوهن سواعدهن وأصابعهن بالأسورة والخواتم من أنواع مختلفة. إن هذه الزينات لا خير فيها إلا أنها تزيد تراكم الدنس على الجسم، ولا سيما في الأنف والأذن فلا تسأل عن وساختهما. نحن مخطئون جدًّا في زعمنا أن هذه الأوساخ تجلب الجمال فنضيع المال في سبيلها بل لا نتردد في جعل نفوسنا عرضة لتعديات اللصوص. ليس هناك حد للآلام التي تقاسيها في تسلية نفوسنا بالأفكار الجنونية من الغرور والكبر الذي زرعناه في قلوبنا! إن النساء قد بلغ جنونهن وضلالهن إلى حد أنهن لا يرضين بإخراج القرط من الأذن حتى وإن مرضت الأذن وكذلك لا ترضى بخلع الأساور وإن انتفخت اليد وأصيبت بألم شديد. بل إنهن لا يرضين بنقل خاتم واحد من الإصبع المتقيحة لأنهن يزعمن بأن الحسن يصاب بنقص وسوء إن فعلن ذلك! [2] الإصلاح التام في اللباس ليس بسهل. ولكن يمكن بكل سهولة أن نترك استعمال الحلي والملابس الزائدة عن الحاجة بتاتًا. يصح أن نبقي بضعة أشياء للمحافظة على التقاليد ونخلع الباقي خلعًا. إن أولئك الذين لم يبتلوا بالوهم الباطل وهو جعل اللباس زينة، يمكنهم أن يدخلوا التغييرات الكثيرة في ملابسهم وينالوا بذلك صحة جيدة. لقد راجت في الأيام الأخيرة فكرة توهم الناس أن اللباس الإفرنجي ضروري للمحافظة على الحشمة والهيبة. ليس هذا مكان البحث في تفاصيل هذا الأمر بل تكفي الإشارة إلى أن اللباس الإفرنجي قد يكون صالحًا جدًّا للبلاد الباردة الأوربية ولكنه غير موافق للهند. إن اللباس الهندي وحده يمكن أن يكون صالحًا للهنود سواء الهندوس والمسلمين. إن لباسنا لكونه واسعًا ومفتوحًا، لا يحول دون وصول الهواء إلى أبداننا ثم إنه لبياضه لا يجذب أشعة الشمس خلافًا للباس الأسود الذي يكون أدفأ وأحر منه لأن أشعة الشمس تجتمع فيه، وتنتقل منه إلى الجسم. قد راجت العمامة فينا كثيرًا، ولكن مع ذلك ينبغي أن نجتهد في أن تبقى الرأس مكشوفًا أكثر ما يمكن من الزمن. وأما تربية الشعر وتمشيطه وتسريحه وتفريقه من وسطه وغير ذلك مما يفعله الناس فهمجية بعينها [3] إن التراب والغبار وكذلك الصئبان تكثر في الشعر وإن ظهرت البثور في الرأس فلا يمكن معالجته كما ينبغي إذا كان الشعر كثيرًا، فتربية الذين يستعملون العمائم للشعر ليست إلا حماقة صريحة. إن الأرجل سماسرة الأمراض، فأقدام الذين يلبسون الأحذية الإفرنجية تتوسخ وتعرق عرقاً متعفنًا، وقد تكون العفونة شديدة على أصحاب حاسة الشم الصحيحة حتى إنهم ليصعب عليهم أن يقفوا بجنب رجل من هؤلاء عند خلع نعله أو جواربه! إن الأسماء العامة للحذاء في لساننا مثل (محافظ القدم) و (عدو الشوك) تدل على أن النعل ينبغي في استعماله عند المشي على أرض ذات أشواك أو على أرض باردة أو حارة جدًّا. وإن التغطية يجب أن تكون لبواطن الأقدام دون ظهورها، وهذا الغرض يتحقق تماماً بالقبقاب [4] إن بعض الذين تعودوا لبس الأحذية الإفرنجية يشكون أحيانًا الصداع أو الوجع في الرجل أو الضعف في الجسم، ليجربوا المشي حفاة فإنهم يدركون حالاً فائدة ترك الأقدام حرة وبعيدة عن العرق بتعرضها للهواء. *** الباب التاسع الزواج [*] إني أرجو القراء ولا سيما الذين قرءوا هذا الكتاب بتأمل أن يخصوا هذا الفصل بتأمل أكثر، ويتفكروا في الأصول التي احتوى عليها بتروٍ وإمعان. بقيت عدة أبواب من الكتاب ستأتي، وهي وإنْ كانت كذلك نافعة إلا أنه ليس منها باب يبلغ أهمية هذا الباب، وإني كما أسلفت لم أدع شيئاً من محتويات هذا الكتاب لم أجربه بنفسي ولم أره حقًّا وحقيقة ولا سيما هذا الباب. إن للصحة مفاتيح كثيرة وكل منها ضروري جدًّا في مكانه. ولكن هنالك مفتاحًا هو أعظم المفاتيح وسيدها على الإطلاق وهو (التجرد) . لا ريب أن الهواء النقي والماء النقي والطعام الجيد - كل ذلك - يساعد في الصحة، ولكن كيف يمكن أن نكون أصحاء إن كنا نضيع كل الصحة التي حصلناها؟ كيف نحفظ أنفسنا من الإفلاس إنْ كنا نضيع جميع المال الذي ادخرناه؟ إن مما لا ريب فيه هو أن الرجال والنساء لا يمكن أن يكونوا أصحاء أقوياء إلا إذا راعوا (التجرد) الحقيقي. ماذا نقصد (بالتجرد) ؟ نقصد به أنه يجب أن يجتنب الرجال والنساء التمتع أي لا يتلامسوا لفكرة حيوانية، بل لا يتخيلوا ذلك حتى في أحلامهم. يجب أن تكون نظراتهم بينهم خالية من جميع الأميال الشهوانية الحيوانية، يجب أن نحافظ على القوة التي وهبنا الله إياها بضبط قوى النفس جيدًا وأن نحولها إلى الجد والعمل والقوة، لا إلى الجسم فقط، بل إلى المخ والروح كذلك. ولكن ما الحالة التي نشاهدها واقعة حولنا؟ نرى الرجال والنساء، الشيوخ والشباب بدون استثناء، قد وقعوا في شبكة الشهوة فعموا بها وصموا وفقدوا كل تمييز بين الخير والشر! لقد رأيت بنفسي حتى الصبيان والبنات يتعاملون بينهم كالرجال المجانين بجنون الشهوة المهلكة. ولست أزكي نفسي فقد فعلت ذلك مسوقًا بهذا المؤثر نفسه الذي لا يمكن أن يؤدي إلى غير هذه النتيجة السيئة. نحن نضيّع في دقيقة واحدة طلبًا للذة وقتية جميع ما خزَّنَّاه من القوة الحيوية. فإذا أفقنا من الجنون والحمق وجدنا أنفسنا في شقاء وتعاسة! وأحسسنا بكل أسف وخزي في الصباح التالي بالتعب والضعف ووجدنا المخ يرفض أداء وظيفته! فعند ذلك نجري وراء معالجة الشر الذي جلبناه على أنفسنا بأيدينا بتعاطي جميع أنواع (الأدوية المقوية للأعصاب) ونسلم أنفسنا إلى رحمة الأطباء ليرتُقوا ما فُتق من صحتنا، ويعيدوا لنا القدرة على التمتع ثانية! هكذا تمضي الأيام والشهور والسنون حتى تقبل علينا الشيخوخة بآلامها وأوصابها، فنجد أنفسنا قد ضيعنا رأس مالنا كله، ضيعنا الرجولية والعقل على سواء وأصبحنا صفر الكف بائسين تعسين! . على أن قانون الطبيعة يقضي عكس ذلك تمامًا. فكلما ازداد عمرنا ينبغي أن نزداد في قوتنا الذهنية. نزداد قدرة على نقل ثمار علمنا وتجاربنا المجتمعة إلى بني جلدتنا من البشر. هكذا تكون بالحقيقة حالة الذين يتمسكون بالتجرد الحقيقي، فهم لا يبالون الموت ولا ينسون الله تعالى حتى في موتهم ولا يدخلون في شكاوى باطلة، هم يموتون والتبسم فوق شفاههم! ويقابلون يوم الجزاء بكل جرأة! هم الرجال والنساء حقًّا! وفيهم وحدهم يصح أن يقال: إنهم قد حافظوا على صحتهم. يصعب علينا أن نفهم أن ترك التجرد هو الأساس الحقيقي لجميع المعايب كالكبر والغضب، والخوف والحسد إن كان مُخنا ليس في قبضتنا وإن كنا ننتهك قوانين الصحة مرة أو مرتين كل يوم، فنحن أكثر حمقًا حتى من الأطفال الصغار، فأي إثم عسانا لا نرتكبه قصدًا منا أو بغير قصد؟ وكيف يمكن لنا أن نقف وقفة لنتأمل في نتائج أعمالنا مهما كانت دنيئة آثمة؟ لك أن تسأل: من الذي وجد متجردًا تجردًا حقيقيًّا؟ إن كان يجب أن يصير جميع الناس متجردين فهلا تهلك الإنسانية وتفنى الدنيا كلها؟ نحن لا نتعرض للوجهة الدينية في المسألة، بل نقتصر في البحث على وجهتها الدنيوية فقط. إن هذه الأسئلة في رأيي ليست إلا دلائل على ضعفنا وخورنا لأننا لا نملك القوة الإرادية لمراعاة التجرد، ولذلك نتعلل بأعذار باطلة للتملص من وظيفتنا، إن نوع المتجردين الحقيقيين لا ينعدم بحال من الأحوال، بل هم موجودون في كل زمان وإن كنا لا نعرف أشخاصهم، يشتغل ألوف من العمال أشغالاً شاقة ويحفرون أعمال الأرض باحثين عن معدن الماس، وفي الآخر ربما يجدون قبضة كف منه تحت الصخور المتراكمة بعضها فوق بعض. فإذا كان البحث عن حجر من الأحجار الكريمة يتطلب هذا التعب الكبير فكم تكون المشقة عظيمة في اكتشاف ماس (التجرد) الذي هو أثمن بكثير من كل ماس؟ وإن كان يلزم من مراقبة التجرد هلاك الدنيا، فلماذا نحزن نحن؟ هل نحن الذين خلقنا الخلق فنهتم بمستقبل الدنيا هذا الاهتمام الكبير؟ إن الذي خلقها لهو الذي يدبر دوامها وبقاءها، وليس مما يعنينا أن نبحث عن الناس الآخرين، هل هم متمسكون بالتجرد أم لا؟ أفنحن إذا اتخذنا مهنة التجارة أو المحاماة أو الطب نفكر يوماً في مستقبل الدنيا إن أصبح جميع الناس مثلنا تجارًا أو محامين أو أطباء؟ إن المتجرد الحقيقي يجد بنفسه جوابًا لهذه الأسئلة إذا طال عهده بالتجرد. ولكن كيف يفعل الذين أحاطت بهم الأمور الدنيوية من كل جهة؟ وماذا يفعل الذين لهم أولاد؟ قد بيّنا أحسن حل لجميع هذه المشاكل آنفًا. يجب أن نضع نصب أعيننا هذا المثل الأعلى (التجرد) ونجتهد في التقرب منه أكثر ما نستطيع. لما نمرن الأطفال على الخط نقدم إليهم أحسن

ساعة مع جلالة الملك عبد العزيز بن السعود

الكاتب: أمين الرافعي

_ ساعة مع جلالة الملك عبد العزيز بن السعود بقلم الأستاذ أمين بك الرافعي (ونشرت بالسياسة) قال الأستاذ بعد وصف القصر وتقديم القهوة والشاي: أخذ جلالته يتحدث إلينا في مختلف الشؤون وهو جهوري الصوت يهش في وجوه المتحدثين معه وينتقل بسرعة من موضوع إلى آخر، يستدل في أقواله بالآيات الكريمة والأعمال النبوية والأبيات الشعرية وإذا ذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم قرنه بالصلاة والتسليم ولو تكرر ذلك عدة مرات. بدأ جلالة الملك حديثه بإظهار ارتياحه لاتجاه أفكار المسلمين إلى إيجاد رابطة تربطهم، وأنه قد سر كل السرور من اجتماع الوفود في مكة المكرمة، ومن التعرف بهم، ثم انتقل إلى الكلام في شئون الدين فقال: إن أساس سعادة المسلمين قائمة على التمسك بدينهم؛ لأن هذا الدين ضمن لهم سعادة الدارين والقرآن الكريم فيه كل ما يريده من يقصد الوصول إلى السعادة، فهو قد حثنا على التعليم وحثنا على الجهاد وحثنا على تدبير شؤوننا الدنيوية المختلفة ونحن نحمد الله على ما تفضل به علينا من نعمة التمسك بالدين فنحن كلنا نحرص على الدين كل الحرص ونضحي في سبيل ذلك كل ما نملك ونفديه بأرواحنا وأنفسنا ودمائنا. إن خصومنا يشنعون علينا ويشيعون عنا أمورًا غير حقيقية ويسموننا بأسماء لا حقيقة لها. إنهم يسموننا بالوهابيين ويزعمون أن لنا مذهبًا هو الوهابية في حين أن هذا غير صحيح؛ إذ إننا مسلمون لا نعرف في أصول الدين غير الكتاب والسنة ونقلد سيدي أحمد بن حنبل في الفروع وكل ما يقال غير ذلك لا يقصد به سوى التشهير بنا. ثم استمر جلالته يتكلم عن فضائل الإسلام وضرورة تمسك المسلمين بهذه الفضائل والعمل على توحيد كلمتهم. وبعد أن أتم الكلام في هذا الموضوع قلنا لجلالته: إن المسلمين كانوا يبحثون منذ زمن بعيد عن وسيلة لتوثيق رابطتهم فلمّا ظهرت فكرة المؤتمر الإسلامي ارتاح لها زعماء المسلمين وهرعوا لتنفيذها، ولما كان جلالته هو صاحب تلك الفكرة والداعي إلى تحقيقها فهو جدير بشكر العالم الإسلامي. والذي نرجوه الآن هو أن يكون المؤتمر هو الطريق العملي الموصل لما ينشده كل مسلم في جميع أنحاء العالم في رفعة شأن المسلمين وإصلاح أمورهم وتوطيد كلمتهم وتسهيل طرق الحج وتنظيم شؤونه والنهوض بالحجاز والأراضي المقدسة. فأجابنا جلالته بأن هذه هي أمنيته. ثم أردف ذلك بقوله: إننا ما حضرنا إلى هذه البلاد تحت تأثير مطامع ذاتية أو تعلقًا بالملك والملكية وإنما جئنا لننقذ حرم الله المقدس من الأذى الذي لحقه ولحق أهله. إن في الحجاز ثلاثة أقسام من الناس، فقسم ينتسب إليه دون أن يكون من أهله، وقسم من أبنائه ولكنهم يفسدون أمره وهم الأمراء والبادية، وقسم آخر يريدون الخير له ولكنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً. ولقد جئنا لنعمل لخير الحجاز والحجازيين، ونحن قد جعلنا نفسنا فداء للإسلام والمسلمين ننزل عن كل شيء مما نملكه ولكننا لا نسلم في شيئين مطلقًا (الأول) كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فنحن نعض عليهما بالنواجذ. (الثاني) شرف عربيتنا فنحن نتمسك به ونذود عنه لأنه أساس نجدنا وسر حياتنا. ثم انتقل الحديث إلى حالة المسلمين اليوم فقلنا لجلالته أن النكبات التي انتابت العالم الإسلامي في الأزمنة الغابرة والتي لا تزال تنتابه في العصور الحاضرة يجب أن تكون درسًا نتعلم منه كيف نزيل كل خلاف فيما بيننا. فأجابنا جلالته قائلاً: إن هذا حق فإن عدونا الحقيقي فينا وليس أجنبيًّا عنا ونحن لا نخاف من الأوروبيين وإنما نخاف من أنفسنا فإذا خلصت نيتنا نحو أنفسنا وطهرنا قلوبنا من أدران العداء أصبحنا أقوياء وأمنا على أنفسنا ولكن إذا دامت الشحناء فيما بيننا فإن هؤلاء الذين يتسببون في الشحناء يجعلون سبيلاً لتدخل أصبع الأجنبي، فالأجنبي لا يقوى على التدخل بنفسه وإنما هو يستعين بمن يساعدونه منا. ثم تحدثنا مع جلالته في الأمن العام فقال جلالته: إن من فضل الله ما نشاهده من توطيد الأمن في كل الجهات وها أنا قد غادرت نجدًا وليس فيها الآن أحد من أبنائي فهم قد حضروا لأداء فريضة الحج وكذلك سيدي الوالد ولم أترك هناك سوى شخص من أتباعي خولته أن يفصل فيما عساه يعرض عليه من الشؤون إذا احتاج الأمر لذلك فالحالة تدعو للاطمئنان التام. وفي خلال الحديث الذي دار بيننا ويبن جلالته عرض عليه كاتبه الخاص ثلاث أوراق قرأ ورقتين منهما وأعطى تعليمات شفوية بشأنهما. أما الورقة الثالثة فإنه ختمها بخاتم يحمله في خنصر يده اليسرى بعد أن غمسه في ختّامة صغيرة. ولما مضى على حديث جلالته أكثر من ساعة من الزمن استأذن في الانصراف شاكرين لجلالته ما لقيناه من حسن ترحيبه وما سمعنا من جميل حديثه. ... ... ... ... ... ... ... أمين الرافعي ... ... ... ... مكة المكرمة في 2 ذي الحجة (13 يونيه)

الوهابية والعقيدة الدينية للنجديين

الكاتب: أمين الرافعي

_ الوهابية والعقيدة الدينية للنجديين حديث مع رئيس القضاة في مكة مذهب أهل نجد - التوحيد العلمي والعملي - التوسل والوسيلة - زيارة القبور بناء القبور والبناء عليها - شارع المسعى والحرم - المرأة والحجاب - حاشية. يتطلع الكثيرون إلى معرفة العقيدة الدينية للنجديين وحقيقة مذهبهم؛ لأن الآراء تضاربت في هذا الموضوع تضاربًا كثيرًا، فرأيت أن أستقي الحقيقة من موردها الأصلي، فلم أجد سوى التحدث إلى رجل كبير من رجالهم، وعالم فاضل من علمائهم هو فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الله بن بليهد شيخ الإسلام ورئيس القضاة في مكة. عرفت فضيلته في المؤتمر الإسلامي فوجدت فيه عالمًا مُتقد الذكاء، واسع الاطلاع، صافي الذهن، يعرف كيف يحل المعضلات، ويوفق بين الآراء المختلفة ويقر الصلح محل الخصام. وقد بعثت لكم في رسالة سابقة موقفه من مشكلة زيارة القبور، ومن أجل هذا اعتقدت أنه ضالتي المنشودة، فطلبت إليه أن يجيبني إلى ما سألقيه عليه من الأسئلة في موضوع العقيدة الدينية للنجديين. فأظهر ارتياحًا كبيرًا لهذا الأمر وحدد لي ميعادًا في الساعة الثانية عشرة (على الحساب العربي) صباحًا من يوم الجمعة أول ذي الحجة فقصدت إلى داره، وهناك قابلني بما هو معهود فيه من كرم الأخلاق والبشاشة والظرف، وما لبثنا أن بدأنا الحديث كما يلي: *** العقيدة الإسلامية للنجديين سألته: إن الأقوال والآراء متضاربة فيما يتعلق بمذهب الوهابية والوهابيين ففريق يقول: إن هذا المذهب ليس سوى مذهب سيدي أحمد بن حنبل، وفريق لا يقول ذلك ويزعم أنه مذهب خامس، وفريق يدعي أنه خليط من مذهب ابن حنبل ومن أحكام دينية أخرى، فما هي الحقيقة في كل ذلك؟ الجواب: أهل نجد هم جميعهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فهم سلفية العقيدة (نسبة إلى السلف) حنابلة المذهب. أما تسميتهم بالوهابيين وتسميه مذهبهم بالوهابية فليست من عملهم وإنما هي من عمل خصومهم الذين أرادوا تنفير الناس منهم بإيهامهم الناس أن هذا مذهب جديد يخالف المذاهب الأربعة. أما محمد بن عبد الوهاب الذي كان اسمه من أسباب تسمية النجديين بالوهابيين فهو عالم من علماء نجد اتصل بدولة آل سعود فصار له قبول عندهم. وقواعد التوحيد لدينا مبسوطة في كتب المذهب، ففيما يتعلق بالتوحيد العلمي نقبل آيات الصفات وأحاديث الصفات على صورتها الحقيقية بغير أن نتعرض لها بتأويل. فاستواء الله على العرش {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) مثلاً لا نؤوله بأنه الاستيلاء أو القهر كما يرى البعض وإنما نسلم به كما هو عاملين بمذهب الأئمة الذي لخصه الإمام مالك في قوله: (الاستواء معقول والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) . فالكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات فهو ممنوع. وكما أنه سبحانه وتعالى لا تشبه ذاته بذوات المخلوقين فكذلك صفاته لا تشبه بصفات المخلوقين. أما فيما يتعلق بالتوحيد العملي فمذهبنا أن العبادة حق لله تعالى دون سواه فلا يجوز صرف شيء منها لغيره كائنًا من كان، لا لملِك ولا لنبي ولا لولي ولا لغيرهم. فمن سوى بين الله تعالى وبين أحد من المخلوقين في أي نوع من أنواع العبادات كان عمله شركًا. *** سألناه: وماذا ترون في التوسل بالأولياء والأنبياء؟ فأجاب: إن التوسل مبتدع وليس شركًا، وأهل نجد يمنعون ذلك ويعتبرونه منكرًا. وأما الوسيلة بالعبادات وهل تصل إلى الميت أو لا تصل ففيه كلام؛ لأن العبادات ثلاثة أنواع: بدنية ومالية ومركبة منهما. فالعبادة البدنية كالصلاة والتلاوة والذكر والدعاء فيها خلاف بالنسبة للصلاة؛ إذ يقول البعض إن صلاة الغير لا تصل إلى الميت. ونقول نحن: إنها تصل عملاً بعبارة بعض فقهاء الحنابلة: (كل قربة فعلها العبد وأهدى ثوابها للميت توصل إليه) أما التلاوة والذكر والدعاء فإنها تصل، وأما العبادة المالية كالصدقة فإنها تصل، والعبادة المركبة منهما كالحج فإنها تصل. *** زيارة القبور سألناه عن زيارة القبور فأجاب: هذه الزيارة ثلاثة أقسام: أولاً: زيارة شرعية وهي التي يقصد منها تذكر الآخرة والإحسان إلى الميت والدعاء له وإحسان الزائر إلى نفسه باتباع السنة ومثل هذه الزيارة سنة. ثانيًا: الزيارة البدعية، والقصد منها عبادة الله عند القبور بالصلاة ونحوها بحيث يعتقد أن للعبادة عندها مزية على العبادة في المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله. ثالثًا: الزيارة الشركية، والقصد منها دعاء الموتى لقضاء الحاجات وتفريج الكربات. *** بناء القبور والبناء على القبور سألناه عن القبور وبنائها وما يبنى عليها؟ فأجاب: بناء القبور نفسها لا يجوز رفعها أكثر من شبر، واختلف العلماء أن يكون مسطحًا أو مسنمًا، ولا يجوز تجصيصها ولا الكتابة عليها، وإنما يجوز وضع حجر عليها لتمييزها، أما البناء على القبور فإنه ممنوع منعًا باتًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه. وإذا أقيم فوق القبر مسجد فلا تجوز الصلاة فيه. ومن أجل ذلك كان قبر النبي صلى الله عليه وسلم ليس داخلاً في الحرم النبوي. وإنما هو موجود في بيت عائشة. ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم عند اعتكافه لم يكن يدخل بيت عائشة، بل كان يعتكف في المسجد نفسه. سألناه: وهل ترضون عن الحالة الحاضرة في شارع المسعى من حيث كونه قذرًا ومملوءًا بدكاكين الباعة وبالكلاب الضالة؟ ؟ فأجابنا: إن شارع المسعى كان عرضه واسعًا في الأصل، فما زال الناس يغتصبون أراضيه شيئًا فشيئًا حتى ضاق وصار عرضه إلى هذا المقدار الموجود الآن، فيجب إزالة هذا الاغتصاب وإزالة دكاكين الباعة منه ومنع دخول الكلاب فيه حتى يصبح خاصًّا بالسعي وسنعرض هذا الأمر على المؤتمر الإسلامي. سألناه وهل ترضون عن حالة الحرم المقدس من حيث نوم الحجاج فيه بملابسهم القذرة ومأكولاتهم المتعفنة الفاسدة. فأجاب: إن الواجب منع اتخاذ الحرم محلاًّ لتناول الطعام، أما النوم فإننا لا نمنعه إلا إذا ترتب عليه مفسدة. وكان الأستاذ الشيخ حافظ وهبه قد جاء في هذه اللحظة وحضر الحديث في هذه المسألة فقال لفضيلة قاضي القضاة (ولكن نوم الحجاج في موسم الحج بالحرم قد ترتب عليه ضرر) . فأجاب فضيلة القاضي: (إذن يمكن منع النوم في أثناء موسم الحج دفعًا للضرر المترتب عليه) . *** المرأة والحجاب وهنا كان الحديث قد انتهى فاستطرد فضيلة محدثنا من ذلك إلى إطلاعنا على أسئلة وردت عليه من بيروت ليجيب عنها، وكان منها سؤال خاص بالمرأة وحجابها فطلبنا إليه أن ننقل السؤال والجواب عليه؛ لأنه يتعلق بمسألة هي مثار الجدل في مصر، وهذا ملخص السؤال. ما رأيكم في رفع الحجاب وكشف المرأة وجهها وكفيها في الطرقات والمجتمعات العامة؟ وهذا نص ما أجاب به: إن ذلك ممنوع خشية الفتنة لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) . ولحديث عائشة، قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها. وإذا كان هذا في حالة الإحرام ففي غيرها أولى. وإلى هنا انتهى الحديث، فشكرنا فضيلة القاضي وطلبنا إليه أن يسمح لنا بنشر أقواله فأذن لنا بعد اطلاعه عليها. *** حاشية قد يصادف الإنسان في مكة بعض النجديين المتعصبين فيرى منهم عجبًا، فمن ذلك أنني تقابلت مع أحدهم قبل مقابلة الأستاذ الشيخ عبد الله بن بليهد فأردت أن أتحدث معه في موضوع العقيدة الدينية للنجديين، ووجهت إليه سؤالاً في هذا الصدد فأجاب بنفور: (لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا. فقلت إن السؤال يستوجب بيانًا، فأجابني بهذا الجواب الغريب: إني رجل جاهل لا أعرف شيئًا) . ثم أراد أن يهاجمني بعد ذلك فقال لي (هل أنت أجنبي عن مكة؟ أجبت نعم، فقال: لماذا تحلق ذقنك ولا ترسلها؟ أجبته هذه مسألة تعنيني وليس هذا موضوع الحديث) . ثم استأنفت سؤاله وقلت له: (وماذا ترون في التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام) . فأجابني قائلاً: (لا يُدعى إلا الله ولا يسأل إلا الله) فأردت أن أدون هذا الرد في ورقة لدي وبعد أن دونته قال لي: ماذا صنعت؟ أجبته (كتبت رأيك) فقال: أطلعني على هذه الورقة، فأطلعته عليها، فقال: أعطني قلمك فناولته إياه فوضعه في فمه ثم أخذ يمحو به تلك العبارة المكتوبة، ثم رد الورقة والقلم فقلت له: لا داعي للكتابة ولنقتصر على الكلام، ووجهت إليه سؤالاً عن زيارة القبور فأجاب بكل أدب أليس لك عقل؟ ألم أقل لك إني رجل جاهل لا أعرف شيئًا! فقلت له: لقد حصل لنا الشرف، ثم أردت أن لا تنتهي هذه الفكاهة دون أن أعرف صاحبها فسألت محدثي عن اسمه الكريم فأجاب: (إني أخ من الإخوة المسلمين) فقلت له: هذه صفة يشترك فيها كل المسلمين وإني أريد معرفة اسمك، فأجاب: (لا أقول شيئًا أكثر مما قلت) وأخذ يغط في نومه.. . وانتهى الحديث بسلام واكتفى صاحبنا بالخشونة والسب بينما بعض أمثاله يضربون، فقد سمعت من غير واحد من المصريين أنهم نالوا نصيباً قليلاً من الضرب؛ لأن نجديًا متعصبًا سمعهم يقولون (أنا في جاه رسول الله) . ولله في خلقه شئون ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمين الرافعي

مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*] باقي محضر الجلسة الثالثة (تابع لما نشر في الجزء الماضي) فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: نحن في بيان الشروط ولسنا في استفتاء، والشروط هي ما ذكرها الفقهاء في كتبهم، نحن ذكرنا رواية ابن خلدون وهو فقيه من الفقهاء ولم نأخذ برأيه. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة: الموضوع المعروض الآن جزء من البرنامج وهناك تقرير آخر لباقي المسائل والبحث إنما يكون بعد تلاوة التقرير الآخر فليتل التقرير الآخر. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: تعلمون أن مسألة الخلافة بحسب أصلها مسألة فقهية من فروع الفقه، ولكن لما اختلفت فيها قوم خارجون عن السنة والجماعة وكثر فيها القال والقيل، أخذ المتكلمون على عهدتهم الكلام فيها بحثًا طويلاً وألفوا فيها كتبًا خاصة كإمام الحرمين وغيره، فالمسألة ليست مسألة مذهبية يختلف فيها الحنفي والشافعي وإنما هي مسألة كلامية. فعندما يتكلم الباقلاني يتكلم باعتبار أنه من علماء الكلام بحسب ما يرى، وإنما الفقهاء تكلموا فيها قليلاً اعتمادًا على ما تكلم به المتكلمون، فهل يقول أحد منكم بعد ذلك أن الخليفة يكون غير مسلم أو يكون رقيقًا ليس بحرّ، أو يكون صبيًّا، أو يكون أعمى، أو يكون عاجزًا عن إدارة الأحكام وحفظ بيضة الإسلام بجيشه ومع هذا ألا يكون جبانًا. إن الله تعالى قال في كتابه العزيز لنبيه صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال: 62) والنبي ما حارب إلا بعد أن صار له عدد عديد من الجيش وقبل ذلك ما كان يفرض عليه الجهاد، وما شرع له الجهاد إلا بالتدريج. وشرع في أول الأمر أن يقاتل من قاتله وبعد ذلك شرع أن يقاتل من قاتله ويبدأ بالقتال، وذلك كله بالتبع للقوة فليس في استطاعة الخليفة أن يجاهد إلا بأمته فهذه الشروط إذًا لا ينازع فيها أحد فهي مما أجمع عليه. بقيت الشروط التي اختلفوا فيها، ومنها الاجتهاد فوجب في الإمام وكذلك القاضي أن يكون مجتهدًا وعلى ذلك كان السلف الصالح وقد استمر القضاء في مصر يتولاه المجتهدون إلى أن تضعضع الأمر فعهد في ذلك إلى غير المجتهدين، وجوّزوا أن يعمل برأي المفتي في القضاء وألا يكون الإمام مجتهدًا وأن يكتفي برأي العلماء. فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: من الذي ألغى الاجتهاد؟ فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: حصل خلاف: هل يتجزأ الاجتهاد أو لا يتجزأ؟ والذي يتجزأ يختص ببعض المسائل والفروع، وقد كان بعض الصحابة يرجع إلى بعض فيما لم يبلغ فيه مرتبة الاجتهاد المطلق. وأما مجتهد المذهب فهو القادر على استخراج المسائل الفرعية من قواعدها التي وضعها العلماء، وكذلك مجتهد الفتوى. هذا هو الأصل وقد تعذر الآن، ومعنى ذلك أنه لا يمكن مجتهد اليوم أن يستنبط غير ما استُنبط أو يَخرج عما قالوه ودونوه في كتبهم. فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: ما قول الأستاذ في: (يحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا [1] ) . فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: لقد حدث حادث السكورتاه والحوالات المالية وتكلم في ذلك المتأخرون بالقياس على ما قاله المتقدمون ولا يخرج عن المذاهب التي كانت في الزمن الماضي. ومن شروط الإمام أن يكون عدلاً فإذا وجدنا عدلاً شجاعًا لا يعدل عنه وإذا لم نجد من يجمع بين الشرطين فالشجاعة هي المطلوبة للدفاع عن الأمة. ومن الشروط أيضًا القرشية وقد اختلفوا فيها وتكلموا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) فقالوا هل حصر الأئمة في قريش لأنهم كانوا أصحاب عصبية في ذلك الوقت فالمناط العصبية؟ [2] وإذا كان الباقلاني قد تكلم في ذلك فبصفته متكلمًا لا فقيهًا. وهنا رفعت الجلسة لصلاة المغرب؛ إذ كانت الساعة السابعة مساءً. ثم أعيد انعقاد الجلسة الساعة السابعة والنصف. فأخذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت يكمل كلامه وقال: إن هذا التقرير بالاختصار اشتمل على مسائل ثلاث. وإن حقيقة الخلافة على الوجه المذكور في التقرير لا خلاف فيها وهي مسألة مفروغ منها. وهل يستطيع أحد أن يقول إن الخلافة ليست هي الرياسة العامة كما في التقرير؟ طبعًا لا ينازع في ذلك أحد. فلا معنى لأن يكون ذلك موضع بحث ويجب أن يقبله الجميع. ولا يمكن أن نقول: إن الخلافة روحية فقط كما قال الملحدون فإنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض. فالشروط المجمع عليها هي أن يكون الخليفة مسلمًا حرًّا ذكرًا شجاعًا بصيرًا، وليس لأحد أن يناقش في ذلك الإجماع. وإن من الشروط المختلف فيها الاجتهاد والنسب والعدالة، وأن الذين خالفوا في القرشية اعتمدوا على أن حديث (الأئمة من قريش) قابل للتأويل. وقد قال بعض العلماء: إن العدالة لا تتحقق في الواقع ونفس الأمر. والضرورات تبيح المحظورات. وتعلمون أن شرعنا جاء بمراعاة مصالح العباد. ومن هنا أمكن القياس في المسائل لأن النصوص قواعد معللة وهذا يمكن من مراعاة المصلحة. ولكم أن تنظروا ذلك في جلسة أخرى يكون موضوع البحث فيها المسائل التي وقع فيها الخلاف؛ وأعود فأقول: إذا بحثنا في القرشية فما الذي يتبع في إثبات النسب أبالطريقة التي كان يتبعها السلف أم بغير ذلك؟ وإذا كان هناك قرشي فهل توجد فيه الشجاعة والعلم أي الفهم. على أن الإسلام والشجاعة والعلم إنما ينظر إليها عند التنفيذ والتطبيق وليس كلامنا الآن في ذلك وإنما هو في بيان الشروط، وأما البيعة فمبينة في كتاب الأحكام السلطانية وكذلك أهل الحل والعقد. وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد هارون: لا نفصل في التقرير الأول الآن ونريد أن يتلى التقرير الثاني ثم يؤخذ الرأي. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: هذا تقرير وذاك تقرير آخر وقد حصلت مناقشات كثيرة، فإذا استحسنتم فليرجأ النظر إلى الغد. فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: أطلب أن يضم التقرير الأول إلى التقرير الثاني وبعد تلاوتهما يُؤخذ الرأي. وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الصالحي التونسي: إن المؤتمر الشريف الذي حضرنا إليه أعطى لنا برنامجًا وألف لما في البرنامج لجنتين: لجنة علمية تنظر في المسائل الثلاث الأولى من البرنامج ولجنة تنظر في المسائل الثلاث الأخيرة منه. وفي اللجنة العلمية المنتخبة علماء أجلاء ثلاثة من كل مذهب من المذاهب الثلاثة ومستشار حنبلي وقد وثق المؤتمر بهم في هذا وقدموا تقريرًا شافيًا كافيًا استندوا فيه إلى ما دون في المذاهب الأربعة وشرحوا المسائل أتم شرح ولخصوا المسائل المختلف فيها فلم يبق محل للمناقشة، ويلزم الاقتراع الآن على هذا التقرير فإن كانت هناك ملاحظات فلتبين. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد مراد أفندي. إننا آثرنا بحث الاجتهاد وأمضينا فيه وقتًا طويلاً نحن في حاجة إلى أن نمضيه فيما بين أيدينا وما زال هذا البحث مثارًا لنزاع العلماء. وأمامنا الآن تقريران نريد قراءتهما، وبعد ذلك نبحث فيهما مادة مادة أو يعطى حضرات الأعضاء مهلة لدرسهما ثم تعقد جلسة في الغد. وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد فراج المنياوي: ألف المؤتمر لجنتين لعملين، وخص كل لجنة منهما بعمل، فيحسن أن نأخذ الرأي في التقرير الأول. وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد حبيب العبيدي: ليس من الحكمة الخوض في موضوع قبل أن يكون أمام الخائض فيه نبراس، والسرعة والإتقان لا يجتمعان، أما أعضاء اللجنة العلمية فقد درسوا ما كتبوه، وأما الذين لم يكونوا في هذه اللجنة فإنهم يحتاجون إلى النظر والتدقيق. وكذلك درس أعضاء اللجنة الثالثة ما كتبوه في تقريرهم، فهم مستغنون عن النظر ثانيًا، ولا كذلك الذين لم يكونوا معهم في اللجنة وقراءة التقريرين في هذه السويعة بعد هذه المتاعب في المناقشات مما يسمى سرعة لا يحتمل معها الإتقان ولا سيما هذا الموضوع الخطير. وهنا طلب كثيرون من حضرات الأعضاء أن يتكلموا، فأقفل حضرة صاحب الفضيلة الرئيس باب المناقشة وأعلن انتهاء الجلسة إذ كانت الساعة الثامنة مساءً على أن يجتمع المؤتمر الساعة الرابعة والنصف بعد ظهر الغد. نائب السكرتير العام ... ... ... ... ... رئيس المؤتمر إمضاء (محمد قدري) ... ... ... ختم (محمد أبو الفضل) *** محضر الجلسة الرابعة يوم الأربعاء 7 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ 19 مايو سنة 1926م اجتمع المؤتمر في الساعة الخامسة برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبي الفضل شيخ الجامع الأزهر ورئيس المؤتمر. وحضور من حضروا الجلسة الثالثة وزاد عليهم الشيخ إسماعيل الخطيب المحامي الشرعي بفلسطين. والشيخ عيسى منون مندوب بالمجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين. والشيخ عبد القادر الخطيب مفتش الأوقاف بسوريا ولبنان. ولم يحضر السيد الميرغني الإدريسي لعذر، والسيد عبد الحميد البكري. وتولى أعمال السكرتارية من كانوا في الجلسة الثالثة. وأعلن حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس افتتاح الجلسة وأذن بتلاوة محضر الجلسة الماضية المنعقدة يوم الثلاثاء 6 ذي القعدة الحرام سنة 1344 هـ (18 مايو سنة 1926م) فتلاه علي أحمد عزت أفندي من السكرتيرين المساعدين. ولما وصل فيه إلى عبارة (ولا يمكن أن نقول: إن الخلافة روحية فقط كما قال الملحدون) الواردة في كلام حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت اعترض على كلمة (الملحدين) حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي وقال: هل قال فضيلة الأستاذ الشيخ بخيت هذه الكلمة. فقال الأستاذ: نعم قلتها. فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: ليس بيننا ملاحدة وطلب حذف هذه الكلمة من المحضر. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: إن الملاحدة موجودون قديمًا وحديثًا. فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذه الكلمة ليس فيها أي طعن شخصي، بل فيها رد على الذين يحاربون ديننا. فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: الذين يحاربون الدين الإسلامي موجودون في كل مكان. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: إن الذين قالوا: إن الخلافة روحية فقط ملحدون. فقال حضرة الأستاذ عبد العزيز الثعالبي أفندي: هل تخصيص أحكام الخلافة أو شروطها يعتبر إلحادًا. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بخيت: نعم؛ لأن شَطْر الخلافة شطرين وإلغاء أحد الشطرين إلحاد. فقال حضرة صاحب العزة وحيد الأيوبي بك: هذه فتوى من مولانا الأستاذ الشيخ محمد بخيت المفتي يجب أن نُجلها ونحترمها كل الاحترام. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ حسين والي: أرجو من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ بخيت أن يتسامح في هذه الكلمة فإنه صاحب الحق في ذلك وفي كلامه الباقي ما يشير إلى المخالف وقد يكون ذلك كافيًا. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الرئيس العام. لا داعي لتضييع الوقت في هذا فليؤخذ الرأي. فقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ إسماعيل الخطيب: لا رأي بعد الفتوى. وقال حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري: ليست المسألة فيما أرى الآن مسألة بحث وسيخرج بنا هذا عن الموضوع، والمفهوم أن لكل واحد ملء الحرية في كل ما يقول، ولا يعتبر ه

كتاب الموجز في الاجتماع ـ 1

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ كتاب الموجز في الاجتماع بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة ما أشد حاجة الأمم التي تتخبط في ديجور الجهل، أو ترسف في قيود الذل، إلى علم الاجتماع الذي يهديها إلى سنن الله تعالى في الوجود، ودرس أسرار تقدم الممالك والشعوب، واتقاء أسباب الفشل والحبوط. استنبط العرب (رحمهم الله تعالى) أيام حضارتهم من الكتاب الكريم علومًا وفنونًا كثيرة، وجعلوها ذات أصول راسخة، وقواعد محكمة، فلو رزق علم الاجتماع عندهم من العناية والتدقيق حظ هاتيك العلوم، وجرى ملوكهم وأولو الأمر فيهم في تسيير دفة الملك والسياسة على مقتضى تلك الأسس الثابتة، والسنن الكونية التي لا تقبل التبديل ولا التحويل، لما علقت بأصول مدنيتهم تلك الشوائب والأوضار، وأفضت بملكهم وعظمتهم إلى الزوال. تلوت كتاب (الموجز) في علم الاجتماع لمؤلفه العالم الضليع، والكاتب البليغ، عارف بك النكدي، أستاذ علم الاجتماع في معهد الحقوق وأحد أعضاء المجمع العلمي العربي في دمشق - فألفيته من أجود كتبنا العربية الحديثة، وكم يود الغيور على ملته أن يكون هذا العلم في جملة العلوم المتداولة يبن طلاب العلوم الدينية فإن مباحثه ليست بأدق من مباحث أصول الفقه التي يتلقونها ولا بأقل فائدة وعائدة منها، وإذا كان علم الأصول يتعلق باستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية على قاعدة جلب المصالح للأمة ودرء المفاسد عنها، فإن علم الاجتماع يبحث عن سنن الله تعالى في حياة الأمم وموتها، والمحافظة على مقومات الأمة ومشخصاتها التي تكون لها بها شخصية خاصة ووجود مستقل بين الأمم، وأَنَّى يتيسر لأمة مغلوبة على أمرها، مستعبدة لغيرها، أن تحافظ على دينها وتحتفظ بمصالحها، وتدرأ المفاسد عنها؟ *** ابن خلدون وعلم الاجتماع ذكر المؤلف الكريم أن للعلامة الشهير ابن خلدون سابقة فضل في استنباط هذا العلم، وأورد عنه أنه قد شرح أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وذكر أولية الأجيال والدول، وتعاصر الأمم الأول، وأسباب التعرف والحول، وما يعرض في العمران من دولة وملة، وعزة وذلة، وكثرة وقلة، وعلم وصناعة، وكسب وإضاعة، وأحوال متقلبة مشاعة. وتعرض للعصبية وسلطانها، والإقليم ونفوذه، والوراثة وتأثيرها، وتبدل الأخلاق والعادات، وما لذلك من العلل والأسباب، (ثم قال) وإذا كان ابن خلدون لم يجعل علم الاجتماع الذي يسميه (العمران البشري) وأحيانًا (الاجتماع الإنساني) علمًا ذا قواعد ثابتة، فلا يقدح ذلك فيه ما دام الناس لا يزالون إلى يومنا هذا وهم في شك من هذا العلم، وأصحابه في تردد من أمرهم، وحسب الرجل أنه أدرك العوامل الاجتماعية من اقتصادية وطبيعية ونفسية، قبل أن يدركها غيره من الغربيين بمئات السنين، فإذا لم يكن ابن خلدون مؤسس هذا العلم فهو لا ريب مهيئ أسبابه اهـ. أقول: لا شك أن الإمام ابن خلدون قد استقى ما أورده في مقدمته من ذلك المعين الذي لا ينضب وهو الكتاب الكريم الذي أشار (قبل ثلاثة عشر قرنًا ونصف قرن تقريبًا) في كثير من آيه إلى السنن الإلهية الثابتة في الأفراد والأمم، ومنه ما يسمى عندهم سنة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، وإليه الإشارة بمثل قوله عز اسمه {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) . وقوله {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: 55) وقوله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} (الرعد: 17) . ولولا أن الكلام في علم الاجتماع من حيث هو علم لا من حيث هو دين لأفضنا في ذكر الآيات التي يمكن أن يكون ما أورده الفاضل الكندي عن ابن خلدون عناوين لها، وفصوله الممتعة مفسرة لها، مفصلة لمجملها. *** الغرض من كتابة هذه الكلمة: غرضي من هذه الكلمة التي أكتبها عن كتاب (الموجز) النفيس استنهاض الهمم إلى الاستفادة من هذا العلم، وإيقاظ شعور من هم في غفلة عنه من رجال الدين إلى سبر غوره، والتقاط درره، فإنه على الأكثر حجة لهم، ينفي عن دينهم كثيرًا من المطاعن والشبه، ويكفيهم مؤونة الرد والدفاع من عند أنفسهم، وإني مورد بعض الجمل الجميلة من هذا (الموجز) الجليل، ليكون قولي مؤيدًا بالدليل. بطلان مذهب داروين: قال في بطلان مذهب داروين - القائل بتولد نوع من نوع آخر أخس منه عن طريق التحول (أي كتولد الإنسان من القرد!!) - معربًا عن كاترفاج نبذة مما جاء في كتابه (الجنس الإنساني) ص 71: (ومن أراد أن يستشهد بما هو كائن، وأن لا يبني حكمًا على شيء غير ما هو معلوم، استحال عليه أن يقول بتولد نوع من نوع آخر عن طريق التحول، ومن قال بهذا فقد قال بشيء مجهول وجاء بالممكن يحله محل الثابت بالتجربة. وبعد أن أفاض كاترفاج في هذا البحث وضرب له الأمثال قال: وجملة القول أن (داروين) ومريديه من أجل أن يقروا التحول من العنصر إلى النوع خلافًا لكل معارفنا المثبتة، ينبذون ما أثبتته التجربة والملاحظة، ليحلوا محلها حادثًا ممكنًا ومجهولاً. قال مؤلف الموجز: لقد أتينا بهذه الكلمة بيانًا لمذهب داروين الذي كثر أشياعه والمعجبون به، وهو مذهب لا يصح الركون إليه، لأنه - كما قال كاترفاج - لا يستند على أساس ثابت، وإنما هو قائم على الاحتمال والإمكان. ومهما يكن من الأمر فإن أصل الإنسان مسألة دقيقة غامضة، إذا لم يؤخذ فيها بما ذهب إليه داروين، فليس هناك رأي آخر يعتمد كل الاعتماد عليه، لتقادم العهد، وفقدان الأدلة الصحيحة) . وأقول {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} (غافر: 57) وأقدم , والبحث عن مادتهما الأصلية لتعرفها أشد وأبعد، وإلى هذا كله الإشارة بقوله عز شأنه {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً} (الكهف: 51) . *** وحدة أصل الإنسان، أو الإنسان الأول: قال في ص 71: وإذا نحن وازنا بين هذين الرأيين (كون الناس يرجعون إلى أصل واحد أو أصول مختلفة) وما جاء في حق كل منهما من البراهين التي أدلى بها إلى يومنا هذا، كُنا أميل إلى القائلين بوحدة أصل الإنسان، لأن الفرق ما بين أشد الأجناس الإنسانية بعدًا بعضها عن بعض، ليس بالشيء الذي يذكر في جنب الفوارق بين أصناف النوع الواحد من الحيوان والنبات. أقول: ما ذكره هو الظاهر المتبادر من قوله سبحانه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} (النساء: 1) . *** وظيفة المرأة في الحياة: شغلت المرأة عالَمي الكتابة والخطابة في كثير من الأقطار وقتًا طويلاً، ولولا حب الخروج بها عن أصل فطرتها ودائرة عملها، لما أشكل على الكثيرين أمرها ولما أكثروا من الكتابة والخطابة في شأنها، فإن وظائفها الطبيعية الأربع التي تنتقل فيها ولا تخرج عنها - وهي الحمل، والولادة، والرضاع، وتربية الأطفال - دع تدبير المنزل - هذه الوظائف الطبيعية لا تدع لها مجالاً لمشاركة الرجل في عمله الخارجي، وأنها تهدم من كيان الأسرة، وتفسد من شؤون المستقبل، بمقدار ما تهمل من وظيفتها المنزلية، وإليك شذرات من (الموجز) في الموضوع: (لقد قلنا: إن للنساء على الرجال سلطانًا لا يغالب، فإذا هن أجلسن على مقاعد النيابة والأحكام، وشاركن في السياسة، ففوضت إليهن السلطة، فقد زاد سلطانهن المعنوي سلطانًا سياسيًّا، فأصبح لهن الأمر كله، ووقعت السلطة العملية في يد أضعف الجنسين عملاً، وتراكمت المصالح العامة في عهدة أعجزهما قدرة على حفظها، فأين الفائدة بعد ذلك، بل أين المساواة؟ (وقال) : وقد شاءت هذه الطبيعة أن لا يجتمع الرجل والمرأة مجتمعًا لا مبالاة معه، وكيف يريان سبيلاً إلى المباحثة في شؤون الدولة الخطيرة، وللعيون مع كل نظرة بارقة من الأمل تذهب بالقضية بين سمع الأرض وبصرها [1] . (وقال) : إن المبالغة في المساواة بين الرجل والمرأة كان من شأنه أن أفسد كثيرًا من نظام الأسرة، فقد أدى ذلك إلى تعدد الطلاق في أمريكا تعددًا هائلاً، حتى جاء في بعض الإحصاءات أن الطلاق بين المتزوجين واحد في الثمانية، وسبب ذلك الغلو في المساواة، وكون المرأة أصبحت في غنى عن زوجها، لا تبالي أي حياة تحيا، وهل مصير هذا إلى غير تفسخ الروابط الاجتماعية، ثم الفوضى المطلقة، والرجوع بالإنسانية أجيالاً بعيدة إلى الوراء؟ وقد أفاض حضرته في هذا الموضوع، وأتى بالكثير الطيب، وذكر أن علم منافع الأعضاء يثبت بين الجنسين الفوارق الطبيعية التي تستلزم الفوارق النفسية والفكرية أيضاً (قال) وما دامت الطبيعة أسقطت عن المرأة مشاق الأعمال وصعابها، فلم لا تستفيد المرأة من ذلك؟ وعلام تريد أن تحشر نفسها في مأزق حرج، فتدخل في خطة صعبة يتمنى الرجل لو كان له مخرج منها؟ أقول: وإلى هذه الفوارق بين الرجل والمرأة، التي خصصت كلاًّ منهما بعمل، يشير قوله جل اسمه] وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ [ (النساء: 32) . ومما أثبته الفاضل (العارف) مستندًا فيه إلى علم الاجتماع ورجال الاشتراع يظهر جلياً أن الرجل بما وهبه الحكيم العليم من المواهب الطبيعية هو المكلف بالتوفر على عمله الخارجي، والقيام على عيله (عائلته من زوج وولد) بالنفقة وحسن التربية والمعاملة، وهو المستفاد من قوله عز وجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34) . وقد اقتصر الأستاذ النكدي في بحثه هذا على ضرر اشتغال النساء في القضايا العامة كالمجالس النيابية لأنه - كما أفادنا حضرته مشافهة - يتكلم من الوجهة الاجتماعية والسياسية ويقاس عليها اشتغالهن في القضايا الشخصية كالمحاماة والهندسة والدخول في المعامل، فإن في هذا من فساد نظام الأسرة ما في ذاك. ولم يذكر أضرار التفنن في التبرج والتفرنج وقتل الوقت في المسارح والمراقص، لأن هذا محله بحث (تفسخ الهيئة الاجتماعية) من الجزء الثاني الذي وعده بنشره، وسنراه قريبًا إن شاء الله تعالى. *** حكمة تعدد الزوجات: (قال) أما الحقيقة في تعدد الزوجات فهو يرجع في الأقاليم الحارة إلى مؤثرات طبيعية غير فوارق اللذات، وإلى عوامل القتال والحروب، وما تجره من فقدان الرجال في القبائل، التي لا تطفأ نار الشر بينها، وللرغبة في تكثير النسل، والتقوي بأحلاف من العمومة والخؤولة، ولرُخَص دينية بنيت على هذه الأسباب الاجتماعية كلها أو بعضها. اهـ. أقول: لا يخفي أن الحروب في الأمم والشعوب، أشد منها في القبائل إهلاكًا وتدميرًا، وأكثر أخذًا وتقتيلاً، فهذه الحرب العامة قد أزهقت قواها البرية والبحرية والجوية ملايين البشر، وتركت ملايين النساء والأطفال بلا رجال؛ إذا

الألفة والاتحاد أساس مجد الإسلام

الكاتب: محمد العدوي

_ الألفة والاتحاد أساس مجد الإسلام ] وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [[*] أصيب المسلمون بالخلاف زمنًا طويلاً، فذاقوا الأمرّين من جراء تفرقهم، وحرموا ما كان لهم من حول وما حصلوا عليه من عز ومنعة مُنوا بالتفرق أحقابًا من الدهر فضاع مجدهم، واضمحلت قواهم وتمكن الأجنبي من الفتك بهم والاستيلاء على بلادهم، فاسترق أموالهم، وضرب الرق عليهم، شأن القوي إذا استولى على ضعيف والمغلوب إذا ظفر به الغالب. ولو أن ذلك الأجنبي وقف عند ذلك الحد لهان الخطب وسهل المصاب، ولكنه صار حربًا عوانًا على دينهم، وعقبة كؤدًا في سبيل رقيهم في معارفهم، فعطل شعائرهم، وحال بينهم وبين إقامة حدودهم. نعم، أباح لهم ما لا ينفعهم إذا هم أقاموه، ولا يضره إذا حافظوا عليه، ليرى بسطاء العقول أنه لا يتعرض لأحد في أمور دينه، بل يترك الأمم حرة في تقاليدها الدينية وعاداتها الشرعية، أباح لهم من المواسم ما أحدثه الفاطميون باسم الدين في أيام سلطانهم ليقيموا من الحفلات في ليال من السنة ما شاء الله أن يقيموا، ويحيوا من الموالد للمشهورين بالصلاح ما طوعت لهم أنفسهم، ليقنع صغار العقول من إقامة الدين بهذه المظاهر وهي ليست من الدين في نقير ولا قطمير، بل هي المعاول التي تقوض بها أركانه، ويهدم بها بنيانه، فتذهب بالفضيلة بعد ذهابها بالثروة، وتقضي على التوحيد الخالص بعد قضائها على العفة والكرامة. ترى في هذه الحفلات أحاديث ينسبها القصاصون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عليه مكذوبة، وتشريع لا يتفق ومكانة هذا الدين، ولا يتناسب مع عظمة هذه الملة المحمدية، مما بَغَّضَ الراغبين في الدين من الدخول فيه، وبغَّضَ المنتسبين إليه من المقام عليه. تجد في الموالد قرابين لغير الله تذبح، واستغاثات لغير الله من الصالحين ترفع، وفوق ذلك تجد بكاء عند القبور وعويلاً وشكايات لا تكون إلا لله وحده، وتضرعات لا تنبغي إلا لمن بيده ملكوت كل شيء، وبعد هذا وذاك تجد ملحمة يشترك فيها الشبان والنساء في أماكن اللهو وبيوت الدعارة والفسوق مما يجرئ الشبان على محاربة الله تعالى ويحول بينهم وبين الفضيلة، ويذهب بالبقية الباقية من طهارة الخلق وشرف النفس. ولو أنك حاولت أن تقيم حدًّا من حدود الله لتطهير البلاد من رجس الفسق وعبث الفساد، لرُميت بالوحشية والهمجية، وأنك غير صالح؛ لأن تعيش في هذا العصر الذي تمدنت فيه الأمم، ورقيت فيه الشعوب، وأقمتَ عليك حربًا عوانًا، وأول من يشعل عليك نار هذه الحرب من تسمم من شبان المسلمين بمدنية الغرب الكاذبة وتشبع بروحهم الخبيثة. ذلك ما يتمشدق به الأجنبي والمعني به المستعمر من إطلاق سراح المسلمين في أمور دينهم، وشعائر ملتهم. وذلك ما جره على المسلمين تفرقهم وغفلتهم وأوقعهم فيه نزاعهم وتدابرهم، وقد فطن المسلمون لآثار ذلك التفرق وأحسوا عاقبة النزاع وشؤم الانحلال ففطنوا لذلك بعد أن تفاقم الأمر، وتوالت المصائب فأخذوا يتعرفون حكمة الله في شريعته وما تنطوي عليه تعاليمه، عرفوا أن الله تعالى ما شرع لهم الجُمع والجماعات إلا لتكون مدعاة للوحدة وذريعة لاجتماع الكلمة، ليأخذ قويهم بيد ضعيفهم، ويتصل أميرهم بمأمورهم. ولم يرد أن يقف تعارف المسلمين عند ذلك الحد، بل أراد أن يتعرف شماليهم بجنوبيهم وغربيهم بشرقيهم وعربيهم بعجميهم فشرع لهم الحج الأكبر ليجتمع فيه المسلمون على اختلاف لغاتهم وتباين نزعاتهم ومشاربهم فيفكروا في الطرق التي تعيد إليهم مجدهم وتحيي لهم شريعتهم وتعود عليهم بالخير في دينهم ودنياهم. ولقد كان أول مظهر من مظاهر هذا الإحساس ذلك المؤتمر الإسلامي الذي دعا إلى عقده بمكة المكرمة المصلح الكبير ملك الحجاز عبد العزيز آل سعود لينظر فيما يتطلبه الحجاز من إصلاح وما يحتاج إليه من مساعدة. وقد وفق الله شعوب المسلمين لإجابة دعوته فأرسلوا من الوفود من يمثلهم، ونظر المؤتمر في أمور (مهمة) وله قرارات ذات شأن خطير، ونرجو أن يكون فاتحة خير للحجاج خاصة ولشعوب المسلمين عامة، كما نرجو أن يوفق المفكرون منهم لإزالة ذلك الخلاف الطفيف الذي رأيناه في عامنا هذا حتى يتحدوا في عقائدهم ونزعاتهم، وبذلك تتفق كلمتهم وتتألف قلوبهم ويكونون أعوانًا على الخير، أنصارًا للإصلاح. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد العدوي

الجماعة الإسلامية في برلين ونداؤها العام وبلاغاتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجماعة الإسلامية في برلين ونداؤها العام وبلاغاتها كنا سمعنا أن بعض المسلمين المقيمين في برلين قد أسسوا جمعية بهذا الاسم رئيسها والداعي إليها الأستاذ محمد عبد الجبار الهندي، وسمعنا أن غرض هذه الجمعية الدفاع عن الإسلام ونشر تعاليمه وآدابه في العالم الأوروبي، وقد كتب إلينا بعض المسلمين المقيمين في برلين كتابًا يطعن فيه بهذه الجمعية طعنًا شديدًا ويحذرنا من وفد لها أرسلته إلى الحجاز وغيره من البلاد الإسلامية لبثّ دعوتها ثم قيل لنا: إن هذا الكاتب كان من أعضاء الجمعية وخرج أو أُخرج منها لخلاف شجر بينه وبين بعض مؤسسيها. ثم لم نلبث أن تلقينا في البريد صحائف منها مبدوءة بنداء عام منها موجه إلى جميع المسلمين شرحت فيه مبدأها وغايتها ووجه الحاجة إليها. يليه (حفلة مأتم) في إنكار العدوان على المسلمين في الشام وريف مراكش، وقد عقدت الجماعة لذلك احتفالاً حضره زهاء أربعمائة نسمة وألقيت فيه الخطب وختم بالدعوة إلى الجهاد في سبيل الله للنجاة من حكم الشيطان! ! - يليه خطاب عنوانه (صيحة الجهاد - الله أكبر) وموضوعه يعلم من عنوانه. يليه بلاغان نذكرهما بنصهما، ثم تعلق على الموضوع كله بما نراه من النصيحة لهذه الجماعة وللأمة الإسلامية كافة. *** البلاغ الأول حزب الله عقد الإسلام بسم الله الرحمن الرحيم إن المؤمنين من جماعة المسلمين التي تزيد على ثلاثمائة مليون مسلم يتعاقدون على ما يأتي ويقسمون أن لا يسكنوا قبل أن تتحقق نقاط هذا العقد، فهم يطلبون واثقين من حقهم الثابت: أولاً: استقلال جماعة المسلمين التام بتحرير جميع البلاد التي كلها أو أكثريتها مسلمون من النفوذ الأجنبي. ثانيًا: تشكيل حكومات إسلامية في عموم البلاد الإسلامية. ثالثًا: جمع كافة تلك الحكومات الإسلامية ضمن وحدة إسلامية بإمامة الخليفة المنتخب شرعًا. ويجب الوصول إلى الغاية المعينة في عقد الإسلام المتقدم، ولكيلا تسقط الخلافة في الهوة التي سقطت فيها من قبل عصورًا عديدة فسببت سقوط المسلمين وتشتيت جماعتهم: أولاً: أن تتحد كافة جمعيات الاستقلال لإسلامية ضمن حزب الله (العامة الإسلامية الخضراء) الذي يوحد مساعي تلك الجمعيات المنفردة إلى حركة عامة مشتركة. ثانيًا: ريثما تتمكن جماعة المسلمين المحررة المتحدة من انتخاب خليفة لرسول الله انتخابًا شرعيًّا يتولى إمارة حزب الله باسم ممهد الخلافة رجل ينتخب في مؤتمر إسلامي عام ويدعو المسلمين إلى إقامة الخلافة الحقة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حزب الله (طبع هذا النداء بالألمانية ووزع في حفلة المأتم الكبرى التي أقامتها الجماعة الإسلامية في برلين في 14 - 9 - 1296- 1925 لشهداء بلاد الشام والمغرب الأقصى) . *** البلاغ الثاني حزب الله بلاغ اليوم المولد بمناسبة المولد النبوي والحفلة التي أقامتها الجماعة الإسلامية في برلين في 12 ربيع الأول سنة 1344 - 1296 إن حزب الله يناديكم أيها المسلمون بذكرى يوم 12 ربيع الأول سنة 1344هـ (أشهر القبلة سنة 1296 من فتح مكة) ذلك اليوم المقدس الذي عمت الرحمة فيه العالم بمولد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدعوكم أن تبذلوا جهدكم لتعميم هذه الرحمة مرة ثانية في العالم أجمع؛ لأن الله تعالى يقول:] وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [1 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج: 78) . ويجب على كل مسلم لتنفيذ أمر الله هذا أن ينضم إلى جماعة المسلمين المحلية، ويدفع زكاته إلى بيت المال فيها بانتظام لتتمكن من القيام بأمور المسلمين كما يجب. ويجب على جماعات المسلمين المحلية أن تتحد إلى أقضية وولايات وأقطار ويجب على جماعات الأقطار أخيرًا الانضمام إلى جماعة المسلمين المركزية العالمية ليتم بناء الخلافة الحقة وتعم رحمة الله العالم وتعيش الأمة وترقى بسلام. إن من لا يتبع هذا البلاغ لا يخلص لله ولرسوله أيها الإخوان اعقلوا وأدوا ما عليكم كما أمر الله اللهم إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم *** نصيحة المنار إنه ليحزننا أن يخيب في هذه الجماعة أملنا الذي أملناه عندما سمعنا خبر تأسيسها بما ثبت لنا من هذا النداء والبلاغات من غرورها وتغريرها بالمسلمين لأجل جمع المال الكثير لتنفيذ هذه الدعوى الخادعة دعوى إعلان الجهاد المقدس على الدول المستعمرة لبلاد المسلمين في الشرق والغرب، وتحرير هذه البلاد، وإقامة خلافة النبوة على وجهها الشرعي وحكم الإسلام كما أنزله الله تعالى. أهذا العمل العظيم، تقوم به جمعية في برلين، تؤلف من شذاذ المسلمين؟ ما هذا الغرور والتغرير؟ أمثل هذا العمل العظيم - ولا مثل له في عظمته - يكون جهريًّا ويعلن في أوربا ثم في بلاد المشرق قبل أن تعد له عدته من تسليح الشعوب الإسلامية التي يدعوها محمد عبد الجبار الهندي لقتال بريطانيا العظمى وفرنسا وإيطاليا وهولندا في وقت واحد (؟ ؟) قد سبق لي الاجتماع بالأخوين الهنديين محمد عبد الجبار مؤسس هذه الجمعية في برلين وأخيه عبد الستار في بيروت سنة 1326هـ الموافق لسنة 1908م وجرى بيني وبين الأول مذاكرات في الإسلام والمسلمين كانت باعثًا لإعجابي باستقلال فكره وكبر همته وبعد آماله، ولاستغراب شذوذه في بعض المسائل الدينية وفهم بعض آيات القرآن، وللتفكر في عاقبة هذا الشذوذ، وما يلازمه من طموح وغرور، وهو ما نرى عاقبته في هذه الجمعية. عبد الجبار الهندي الخطيب الجدل الطماح الجريء، يؤلف جمعية في برلين من وسط أوربا لإقامة دين الإسلام، كما أنزله الله أو كما يفهمه هو بتحرير جميع بلاد المسلمين المستعمرة! ! وبتأليف حكومات إسلامية مستقلة في جميع البلاد الإسلامية ثم جمع هذه الحكومات وتوحيدها بإعادة منصب الخلافة العظمى سيرتها الأولى، ويطالب مسلمي الأرض بأن يرسلوا إليه زكاة أموالهم المفروضة عليهم لتمكن جمعيته بها من القيام بما انتدبت له من العمل العظيم. ولكن إرسال المسلمين زكاة أموالهم إلى بلاد بعيدة غير إسلامية وإعطاءها لجمعية سياسية فيها مخالف لنص القرآن، وما أجمع عليه المسلمون من أحكام الزكاة، فكيف تتوسل جمعية الأستاذ عبد الجبار الهندي إلى إقامة الإسلام بهدم أركان الإسلام؟ قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} (التوبة: 60) الآية، فمصارف الصدقات الشرعية هي الثمانية المنصوصة في الآية الكريمة، والأصل فيما كان منها للفقراء والمساكين أن تؤخذ من أغنياء كل بلد فتصرف إلى فقرائه كما نص في حديث معاذ في الصحيحين وغيره، وقد خرج بعض الأئمة بعدم جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر، وقيده بعضهم بمسافة القصر. وما كان في سبيل الله وسائر المصارف العامة، فالأمر فيه إلى الإمام الأعظم خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم - فبأي حق شرعي تطالب جمعية برلين المسلمين بأن يرسلوا إليها زكاة أموالهم؟ وكيف فات الأستاذ وأركان جمعيته أن طلب الأموال الكثيرة لعمل مجهول متعذر على مدعيه مظِنة للظِّنة، ومجلبة للتهمة؟ ولو كان من التبرع الذي يجوز لصاحبه أن يضعه حيث شاء ما لم يكن في معصية فكيف يطلب الملايين بوجه مخالف للشرع؟ إنه ليحزننا أن نرى هؤلاء الذين يدعون الدعاوى الكبيرة في سبيل الإصلاح الإسلامي لا يتقيدون بشرع ولا عقل كأنهم يعتمدون في نجاح أعمالهم على العوام الذين تستهوي أفئدتهم الدعاوى العريضة والمبالغات بل الإغراق والغلو الذي يسخر منه العقلاء، كدعوى غلام أحمد القادياني الهندي أنه هو المسيح الذي ينتظره السواد الأعظم من اليهود والنصارى والمسلمين وأنه يوحى إليه، وادعاء خلفائه أن الوحي متسلسل فيهم، والنبوة موروثة عندهم، كادعاء بهاء الله البابي الفارسي للألوهية، وادعاء عبد الجبار الهندي الآن أنه سيقيم الخلافة الإسلامية وأنه سيقاتل الدول الاستعمارية الكبرى، ويخرجهم من أرض سوريا والعراق ومصر وتونس والجزائر ومراكش وجاوه والهند والصين، ولا يتصور ذو عقل ورشد دخول هذه الدعوى في قدرة هذه الجمعية البرلينية، أو أية جمعية سياسية، وإنما الذي يتبادر إلى الذهن أن غرض الجمعية جمع المال وابتغاء الثروة الواسعة. فإن كنا مخطئين في رأينا هذا وكان لزعماء هذه الجمعية برنامج معقول، وخطة ممكنة الحصول، فليبينوها لنا، وإننا قبل ذلك ننصح لهم بالكف عن مطالبة المسلمين بإرسال زكاة أموالهم إليهم وننصح للمسلمين بأن لا يرسلوا إليهم شيئًا من الزكاة المفروضة ونعلمهم بأن الفريضة لا تسقط بإرسالها إلى هذه الجمعية.

استدراك على شروط عمر على أهل الذمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استدراك على شروط عمر - رضي الله عنه - على أهل الذمة نشرت إدارة المنار في الجزء الثالث الذي قبل هذا الجزء ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة شروط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة في الشام، وكنت في إبان طبع هذا الجزء في مكة، ولم تكن هذه الشروط مما أريد نشره في المنار من آثار شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وإنما أتحرى نشر رسائله وفتاواه التي يحتاج إليها المسلمون في هذا العصر للاهتداء بها، والعمل بما يحققه من أحكام الشرع في النوازل والأحوال الواقعة التي جاء فيها بما لم يأت به غيره من الشرح والدلائل، وليست مسألة معاملة أهل الذمة في أثناء الفتح والسياسة الحربية منها في شيء لأننا لسنا فاتحين، وإنما يفتح خصومنا بلادنا، ويعاملوننا بالظلم والقسوة اللذين لم يكن عمر رضي الله عنه ليرضى بمثلهما، وناهيك بما هو واقع في سوريا الآن من التخريب والتدمير، وتقتيل غير المقاتلين من النساء والأطفال والشيوخ. وقد استغربت من هذه الآثار عن شيخ الإسلام قوله: وأما ما يرويه بعض العامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من آذى ذميًّا فقد آذاني) فهذا كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يروه أحد من أهل العلم. استغربت هذا لأن الحديث مروي بلفظ قريب من هذا اللفظ وهو ما أخرجه الخطيب البغدادي من حديث ابن مسعود مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من آذى ذميًّا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة) وقد أورده السيوطي في الجامع الصغير وأشار إلى حسنه، ولولا ميل شيخ الإسلام إلى التشديد على المخالفين في أصل الدين أو في المذاهب المخالفة لما كان عليه السلف الصالح لما اقتصر على إنكار الحديث باللفظ الذي ذكر، وسكت عن اللفظ الآخر المروي بمعناه، على أنه يجوز أن يكون قد نسيه عندما كتب هذه المسألة وهو أقرب من عدم اطلاعه عليه. وأما إنكاره إطلاق تحريم الإيذاء، بأن منه ما يكون بحق كالقصاص فهو يرد على مثله في حديث (من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله) رواه الطبراني في الأوسط من حديث أنس. والجواب عنهما وعن أمثالهما تقييد الإيذاء بما علم من ضرورات الشرع وهو كونه بغير حق. هذا وإن بعض العلماء لا يعدون عمل عمر في مثل هذا رضي الله عنه حجة شرعية كما هو الأصل في عمل الصحابي، ولا يوجبون اتباعه، وبعض ما روي عنه من تلك الأعمال مروي بأسانيد ضعيفة. قال الشوكاني في بحث ما ضربه من العشور على أهل الكتاب وغيرهم: وفعل عمر وإن لم يكن حجة لكنه قد عمل الناس به قاطبة فهو إجماع سكوتي، ويمكن أن يقال: لا يسلم الإجماع على ذلك والأصل تحريم أموال أهل الذمة حتى يقوم دليل والحديث محتمل. والمراد حديث العشور على أهل الكتاب. ومما ضعفوه من تلك الروايات ما أخرجه البيهقي من طريق حزام بن معاوية قال كتب إلينا عمر: أدبوا الخيل ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب، ولا تجاوركم الخنازير، ومثله ما رواه البيهقي عن ابن عباس: كل مصرٍ مَصَّرَه المسلمون لا تُبنى فيه بيعة، ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير. وفي إسناده حنش وهو ضعيف. وجملة القول: إن سياسة عمر العسكرية والمالية والإدارية كانت سياسة فتح عسكري وعدل ديني، واجتهاد مبني على أساس المصلحة العامة، وهي تختلف باختلاف الأزمنة والأحوال، وليست من أمور العبادات التي يوقف فيها عند نصوص الشارع بقدر الاستطاعة، ولا يجب على ولاة الأمور التقيد بها في كل زمان، بل يتبع في كل عصر وفي كل حال ما فيه المصلحة مع مراعاة النصوص القطعية العامة من وجوب الوفاء بعهود المعاهدين، ما وفوا بعهودهم معنا، وتحريم الظلم، والخيانة والغدر، ونحو ذلك من فضائل السياسة الإسلامية التي تجردت منها السياسة الأوروبية المبنية على الغدر، والإفك، والخيانة، واستحلال جميع الرذائل في سبيل المنافع السياسية والاستعمارية.

استدراك آخر على إهداء العبادات أو ثوابها إلى الموتى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استدراك آخر على إهداء العبادات أو ثوابها إلى الموتى تقدم في حديث أمين بك الرافعي مع الشيخ عبد الله بن بليهد رئيس القضاة بمكة المكرمة قول هذا: أن النجديين يعتقدون أن جميع العبادات التي تُهدى إلى الموتى تصل إليهم يعني ثوابها. وهذه المسألة خلافيَّة بين علماء الحنابلة وغيرهم من فقهاء المذاهب وأهل الحديث المستقلين، ووصول الثواب أو العمل أو انتفاع الإنسان بعمل غيره خلاف نص قوله تعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وخلاف القياس المعقول، وقد يخصص بما ورد في السنة من استثناء دعاء الولد لوالديه أو حجه وصومه عنه، بل يصح أن يقال: إن هذا الأخير ليس استثناء لما ورد من أن الولد من كسب أبيه أي وأمه، وقد فصلنا هذه المسألة تفصيلاً واسعًا في تفسير قوله تعالى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) من آخر سورة الأنعام، وقد نعود إلى نقل أقوال الفقهاء فيها عند الحاجة.

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (سبل السلام) من الكتب القيمة التي أخرجتها المطابع في هذا العام كتاب (سبل السلام، شرح بلوغ المرام، من جمع أدلة الأحكام) فقد قام بطبعه جماعة من العلماء الذين يهمهم نشر السنة وأعنُوا بتصحيحه جد العناية، وأحسن ما نصف به الكتاب ذلك التعريف الذي وضعه له في صدر الجزء الأول مصححه صديقنا الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس بقسم التخصص في مدرسة القضاء الشرعي فنثبت هنا مجمل ما قال في ذلك التعريف وهو: (بلوغ المرام) كتاب جمع فيه الحافظ ابن حجر كل الأحاديث التي استنبط الفقهاء منها الأحكام الفقهية مبينًّا عقب كل منها من خرجه من أئمة الحديث كالبخاري ومسلم موضحًا درجة الحديث مرتبًا له على أبواب الفقه، وضم إلى ذلك في آخر الكتاب قسمًا مهمًا في الآداب والأخلاق والذكر والدعاء: فجاء محمد بن إسمعيل الأمير اليمني الصنعاني وشرح ذلك الكتاب وذكر ما يدل عليه الحديث من الأحكام الفقهية، ومن قال بها من كبار المجتهدين صحابة وتابعين وأئمة المذاهب (رضوان الله عليهم أجمعين) ومن خالفها مبينًا نوع المخالفة ودليلها ثم يقضي بينهم بالحق الذي يؤيده الكتاب والسنة غير متحيز إلى مذهب من المذاهب عملاً بقوله تعالى {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) وقوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً} (الأحزاب: 36) فمقتضى الإيمان أن نحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خلاف بين المسلمين وخاصة الفقهاء المشرعين الذين يرسون لنا أحكام العبادات والمعاملات، ولا يكفي مجرد التحكيم بل لابد معه من الإذعان النفسي وتنفيذ الحكم كما أمر العليم الحكيم الذي صرح في الآية الثانية بأن من قدم حكم غيره على حكمه وحكم رسوله فقد عصى الله ورسوله وضل ضلالاً مبينًا، وكان واجبًا على علماء المسلمين وأولي المكانة فيهم في العالم الإسلامي كله وخصوصًا مصر التي هي قطب رحى البلاد الإسلامية والتي فيها الأزهر كعبة الرواد للعلوم الإسلامية - كان الواجب عليهم أن يعرضوا آراء الفقهاء على كتاب الله وسنة رسوله، فما كان قريباً منهما أو يوافق صريحهما أخذ، وما كان بخلاف ذلك ترك، وليس في ذلك غمط للمذاهب - جزى الله أهلها خير الجزاء- ولكن في ذلك إحقاق الحق وترك التقدم بين يدي الله ورسوله امتثالاً لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الحجرات: 1) إنهم إن فعلوا ذلك وحدوا بين المسلمين في العبادات فكان مظهرهم فيها واحداً، ووحدوا بينهم في المعاملات فاستطاع المشرعون أن يضعوا القوانين المدنية والجنائية من هذه الشريعة الحكيمة الصادرة عن علم الله المحيط بأمراض النفوس والمحاكمات وما تُداوى به. الدين الآن ليس له وجود إلا بين المشتغلين به فلا هو في النفوس ولا هو في المحاكم، اللهم إلا بقايا يلتهمها الزمان شيئًا فشيئًا - فجدير بالعلماء أن يفكروا طويل التفكير في السبيل الذي يصلون منه إلى إحلال الدين في القلوب والعمل به في محاكم المسلمين. وإن هذا الكتاب - سبل السلام - الذي محص صحيح الآراء من سقيمها ووزنها بميزان الكتاب والسنة خطوة في هذا السبيل نتقدم به إلى كل مسلم غيور على دينه محب أن تكون له الكلمة. والكتاب لم يخل من عثرات لكنها قليلة ولكل جواد كبوة، ولكل صارم نبوة، والعصمة لله وحدة، ومع ذلك لم تفتنا هذه العثرات بل نبهنا عليها وبينا صريح الحق فيها فجاء الكتاب بحمد الله فيما نعتقد من خيرة كتب الأحكام التي ينبغي العكوف على تعلمها وتعرف ما فيها. الكتب المؤلفة في أحاديث الأحكام وشرحها كثيرة وكتابنا هذا وسط فيها خيار منها، فإنه يقصد المحز ويطبق المفصل فيأتي بالسمين دون الغث، ويعرض عن ذكر الخلافات التي لا ترتكز على دليل، ويقتصد في بيان الطعون التي في الأسانيد فجاء من أجل هذا كتابًا وسطًا في أربع مجلدات. ولقد عانينا في تصحيحه مشقات كبيرة، فإن النسخة التي طبعنا منها فيها خطأ كثير اضطرنا إلى الرجوع إلى الأصول التي منها استمد الكتاب وأصله. وكنا نراجع الأصل أيضًا على كتاب (فتح العلام) الذي طبع في المطبعة الأميرية والذي هو نسخة ثانية من سبل السلام سميت باسم جديد - ولم تخل من التحريف والخطأ كأصلها سبل السلام - وأن من حسنات مدرسة القضاء الشرعي أن قررت دراسة هذا الكتاب في أحاديث الأحكام لطلبة التخصيص فيها فكانت تلك حسنة في الدين إلى حسناتها في خدمة القضاء. وفي الختام ندعو المفكرين من المسلمين إلى أن يقوموا بواجبهم نحو الدين {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (المائدة: 15-16) . والكتاب أربعة أجزاء صفحات الأول 290 والثاني 304 والثالث 368 والرابع 312 عدا فهارسه الواسعة التي حوت كل مسألة في الكتاب وترجمة مؤلف المتن ومؤلف الشرح - والكتاب مطبوع على ورق أبيض ناعم ولكنه أصناف ثلاثة عادي وجيد وممتاز وثمن الصنف الأول 50 قرشاً والثاني 60 والثالث 100 عدا أجرة البريد - ويباع في مكتبة المنار ويطلب من مصححه الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس بمدرسة القضاء الشرعي. *** (تجريد التوحيد المفيد) رسالة مفيدة من تصنيفات الشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة 854هـ بَيَّن فيها حقيقة التوحيد ولبابه والتفريق بينه وبين قشرة - وهو نوعان: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وشرك الأمم بنوعيه، ومسألة القبور والنهي عن اتخاذها مساجد، وزيارتها الشركية والشرعية وعدم جواز الخضوع والتأله لغير الله، والاستعانة، وقد طبعها الشيخ محمد منير الدمشقي في مطبعة الشرق على ورق جيد سنة 1343هـ، وذيلها بكلام للمحقق ابن القيم في حلق الشعر وكونه يكون عبادة ويكون شركًا ويكون عادة، وصفحاتها كلها 48 صفحة. فنحن نحث المسلمين على قراءتها ونشرها، فإن الألوف الكثيرة منهم لا يعرفون حقيقة التوحيد ولا يفرقون بينه وبين الشرك بل يطعنون في الموحدين ويسمونهم وهابية! ! *** (مجموعة النشاشيبي) أهدي إلينا الكتاب من هذه المجموعة النفيسة عقب طبعه سنة 1341هـ، فرأيناه ثم ضل عنا حتى اهتدينا إليه بعد البحث عنه، ولم نر ما بعده. النشاشيبي صاحب المجموعة، هو أديب فلسطيني بل أديب العصر (إسعاف النشاشيبي) وهذا الكتاب مما اختاره من الكلام العربي البليغ ليستظهر النشء في المدارس (وغيرها) فيكون خير مادة له في إحكام ملكة الفصاحة والبلاغة العربية، وفيه 21 آية من كلام الله عز وجل في كتابه القرآن المعجز للبشر هي من قواعد الاجتماع، وسنن الله في سيرة نوع الإنسان، و 30 حديثًا نبويًّا في الأخلاق والآداب، و 96 مثلاً من أمثال العرب، و 124 حكمة من حكمهم و 122 مقطوعة من مختار الشعر. وقد أحسنت إدارة المعارف الفلسطينية بنشرها هذه المجموعة في مدارسها لتستظهر منها الصفوف العالية والثانوية ما يليق بكل منها. وقد طبع الكتاب الأول الذي وصفناه في المطبعة السلفية طبعًا جيدًا مضبوطًا أكثر الكلام فيه بالشكل فنحث جميع طلاب الآداب العربية الكلامية والنفسية على استظهار جميع هذا الكتاب أو أكثره، ونقيم بمثله الحجة على ملاحدة المتفرنجين بمصر الذين يهدمون بدعاية التجديد آداب أمتهم ولغتها، كما يهدمون تشريعها ودينها ليكونوا كإباحيي الفرنج وإنْ فقدوا بذلك كل ما يفخر به الإفرنج من آداب لغاتهم وتشريعهم ودينهم! ! *** (الأدب العصري في العراق) كتاب تاريخي أدبي انتقادي، يحتوي تراجم أدباء العراق ورسومهم ونخبة من آثارهم بين منثور ومنظوم. مؤلف الكتاب (رفائيل بطي) وناشره (نعمان الأعظمي) صاحب المكتبة العربية ببغداد، وكلاهما من أدبائها، وقد طبع الجزء الأول منه في المطبعة السلفية بمصر سنة 1341 هـ ثم لم نر ما بعده، وفي قسم المنظوم، وهذا الكلام على شعر سبعة من أشهر شعرائهم المعاصرين مع تراجم ستة منهم وهم جميل صدقي الزهاوي، وخيري الهنداوي، ورضا الشبيبي، وعبد المحسن الكاظمي، وكاظم الدجيلي، ومعروف الرصافي، وأجلت ترجمة سابعهم (حبيب العبيدي) إلى قسم المنثور، وقد بلغت صفحات هذا الجزء 222 فنحث طلاب الأدب العصري على اقتنائه.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حكم صلاة مكشوف الرأس س1 - من صاحب الإمضاء في بيروت (تأخر سهوًا) حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة مفتي الأنام السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. هل تجوز صلاة الرجل المسلم وهو حاسر الرأس، أي مكشوفة بلا حرمة ولا كراهة ولو لغير ضرورة ولا عذر مطلقًا أم لا؟ تفضلوا بالجواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي ج - نعم تجوز صلاة حاسر الرأس إذا كان رجلاً؛ لأنه لا يشترط في صحة الصلاة من اللباس إلا ما يستر العورة، والرأس عورة من المرأة دون الرجل. ولكن يستحب أن يكون المصلي في أكمل اللباس اللائق به، ومنه غطاء الرأس بعمامة، أو قلنسوة، أو كمة (طاقية أو عرقية) ونحو ذلك مما اعتاد لبسه كالطربوش، فكشف الرأس لغير عذر مكروه، ولا سيما في صلاة الفريضة، ولا سيما مع الجماعة، فإذا نوى به التشبه بغير المسلمين كان حرامًا؛ لأنه تشبه في متعلقات أمر ديني. وأما التشبه بهم في الأمور الدينية المحضة الخاصة بهم كأن يفعل فعلاً يعدّه به من يراه منهم، فقد صرّح الفقهاء بأنه ارتداد عن الإسلام. *** ملك سليمان ودعاؤه بطلبه وتسخير الريح له س2: من صاحب الإمضاء في بورتسعيد؟ بسم الله الرحمن الرحيم بورتسعيد في 30 رجب سنة 1344هـ و 13 فبراير 1926 حضرة صاحب الفضل والفضيلة الأستاذ المحقق الشيخ محمد رشيد رضا حفظه الله آمين. سلامي عليكم وتحية مباركة زكية وبعد، سيدي: لقد بدا لي توجيه سؤالي الآتي إلى جنابكم بعد أن عجز الكثيرون عن الإجابة عنه، وإني أرجو وأؤمل أن يكون الجواب تفصيليًّا. إن سليمان نبي الله عليه السلام قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} (ص: 35) .. . إلخ. ما جاء بالآيات الكريمات فما هو المراد بالملك في الآية؟ وما هو المراد بقوله: لأحد؟ هل المراد بأحد أحد الأنبياء أم الكلام عام؟ وإذا كانت الدعوة قد أجيبت فما هو الملك الذي كان له؟ وهل المراد به فتح البلاد من مطلع الشمس إلى مغربها؟ وإذا كان كذلك فما هي الأدلة التاريخية التي تؤيده؟ وما الذي حمله على أن يطلب هذا الطلب مع أن المتبادر إلى الذهن أن الأنبياء يحبون الزهد في الدنيا؟ وإن كان الجمع بين الملك والنبوة جائزًا. وهل سخّرت له الرياح معجزة أو كان يسبح في الهواء كما يسبح الناس اليوم؟ وإنما لكل زمن استعداده فيكون هو أول من امتطى ظهر الرياح، وما هي القوى التي أعطيت له حتى استطاع تسخير الشياطين والجن بلا رؤيتها؟ وما هو المراد بقوله تعالى {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداًّ ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34) ؟ وما هو الفرق بين سليمان بن داود نبي الله وبين ذي القرنين المذكور في القرآن الكريم؟ أرجو الإفادة عن ذلك فقد تعبنا شديداً فلم نجد من يدلنا على الحقيقة سواكم، وأنا منتظر الرد بفارغ الصبر، ولكم مني يا مولاي مزيد الشكر، ومن الله تعالى جزيل الأجر، وتفضلوا يا سيدي بقبول وافر التحيات والتسليمات. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... خادمكم ... ... ... ... ... ... ... ... محمود محمد النهري ج - لا نستطيع الآن أن نجيب جوابًا تفصيليًّا عن هذه الأسئلة؛ لأن هذا يقتضي تأليف رسالة أو كتاب نحن إلى غيره أحوج. وأقول بالإجمال: إن الذي ورد في تفسير فتون سليمان عليه السلام في الكتب الصحيحة أنه حلف ليطوفن ليلة على أربعين امرأة من نسائه، وفي رواية سبعين امرأة تأتي كل واحدة بغلام يقاتل في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله، وقد ذكره (ملك) بأن يقول فلم يقل، فحملت امرأة واحدة من أولئك النساء ووضعت غلامًا مشوهًا هو نصف غلام فألقى على كرسيه ليعتبر بعجزه، فاعتبر وتاب وأناب إلى ربه، وطلب منه أن يغفر له، ويهب له ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده. وكلمة أحد هنا نكرة في سياق النفي تفيد العموم. وطلب عظمة الملك ليس منكرًا؛ لأن سليمان عليه السلام لا يريد به إلا ما يقوم به الحق وحكم الشرع الإلهي والإصلاح بين الناس، فاستجاب الله تعالى له بما بينه بقوله {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} (ص: 36) إلى آخر الآيات. ولم يرد في الأحاديث الصحيحة بيان لتسخير الريح وجريانها بأمره حيث أصاب، وإنما ورد في التاريخ أنه كان له أسطول في البحر الأبيض المتوسط وأسطول في بحر الهند يستعملهما في تجارته الواسعة وجلب الذهب والفضة وغيرهما مما استعمله في بناء هيكل العبادة لله تعالى، فيحتمل أن يكون معنى تسخيرها له أنها كانت تكون عاصفة في غير الوقت الذي يسير فيه أسطوله، ثم تكون رخاء في الوقت الذي يسير فيه، وذلك من آيات له الخاصة به عليه السلام. ويحتمل أن الله سخرها له في أمور خاصة به لم يطلع عليها الناس مما هو من آيات الأنبياء عليهم السلام غير المقرونة بالتحدي؛ ولذلك لم تذكر في قصة من سفر الملوك ولا في غيره من تواريخهم في الروايات الإسرائيلية المنقولة عن مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه غرائب وعجائب فيما أوتيه سليمان ألصقت بالقرآن وصدقها الكثيرون، وتناقلوها من غير عزوها كلها إليهما وإلى أمثالهما. وأما تسخير الشياطين، فقد ورد في حديث أبي هريرة المرفوع عند الشيخين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تراءى له شيطان يريد الوسوسة له فأمكنه الله تعالى منه، وأنه لولا دعوة سليمان لأمسكه وربطه بسارية المسجد - أي في حال تشكله الجسدي - ليلعب به صبيان المدينة فهذا الحديث يردّ تأويل من تأوَّل تسخير الشياطين له بشياطين الأنس وهم عتاتهم الذين كان يستخدمهم في قطع الحجارة الكبيرة ونحت التماثيل وغير ذلك للمباني العظيمة التي بناها، وأعظمها الهيكل المشهور، على أن في القرآن تصريحًا بذكر الجن في موضوع الشياطين. والإسرائيليات في هذا كثيرة أيضًا. ولم يفتح سليمان الشرق والغرب، بل كان ملكه ممتدًا من حدود نهر الفرات إلى تخوم مصر. وأما ذو القرنين فهو رجل ضربه الله تعالى مثلاً لما هو مُبَيَن في قصته من سورة الكهف فسخر له أسباب السياحة في مشرق شمس الأرض ومغربها من العمران الذي كان في عصره. ومن الأعمال العظيمة الفنية كالسد، فتسخير تلك الأسباب المجهولة عندنا لذي القرنين يشبه تسخير الريح والشياطين لسليمان، وتسخير الجبال والطير لوالده ترجع صوته حين كان يسبح الله تعالى بتلاوة الزبور بصوته الشجي الندي، وإلانة الحديد له ينسج منه الدروع، ولكن أعمال ذي القرنين كلها كانت بالأسباب المعروفة وإن أُوتى منها ما لم يؤت غيره، وما أُوتي داود وسليمان كان كله أو بعضه من الآيات الإلهية التي لا تنال بالكسب. ومن الناس من يظن أن كل تسخير من هذا القبيل يجب أن يكون من الخوارق التي يغير الله تعالى بها سننه في الخلق وليس كذلك. فهو سبحانه وتعالى يَمنُّ على عباده بتسخير منافع الكون الطبيعية والصناعية لهم كقوله في سورة إبراهيم عليه السلام {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي البَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} (إبراهيم: 32-33) ولهذا أمثال. هذا وإننا ننصح لأخينا السائل ولكل من يطلع على جوابنا هذا بأن يقفوا في مثل هذه الآيات المنزلة فيما أعطاه الله من المواهب لسليمان عليه السلام عند نصها ولا يتقيدوا بشيء مما في كتب التفسير عن الصحابة والتابعين فمن دونهم في تفسيرها وإن صح سندها، ما لم تكن مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن جل الروايات في بني إسرائيل وأنبيائهم وفي خلق السموات والأرض مأخوذة عن رواة الإسرائيليات وكان من أمثلهم عندهم كعب الأحبار ووهب بن منبه، ونحن نوقن بكذب أكثر ما روي عنهما من ذلك وإذا قلنا فيه كله لا نكون مغالين. وقد قال الإمام أحمد ولا يغرن أحدًا قول المخرجين للتفسير المأثور: عن ابن عباس - رضي الله عنه - وعن مجاهد وقتادة وفلان وفلان. وعدم ذكر مثل كعب ووهب وغيرهما في السند، فإن هؤلاء كثيرًا ما كانوا يقولون ما يسمعونه منهما من غير ذكر السماع منهما إذا لم يكونوا يذكرونه على سبيل الرواية، بل على أنه معنى للآية. روى عبد الرزاق وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أربع آيات من كتاب الله لم أدر ما هي حتى سألت عنهن كعب الأحبار، وذكر منها قوم تبع وجواب كعب المخترع له ولا محل لذكره هنا - قال: وسألته عن قوله {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} (ص: 34) قال: الشيطان أخذ خاتم سليمان الذي فيه ملكه فقذف به في البحر فوقع في بطن سمكة، فانطلق سليمان إذ تصدق عليه بتلك السمكة فاشتواها فأكلها، فإذا فيها خاتمة فرجع إليه ملكه. وهذا الجواب من أكاذيب كعب التي كان يغش بها الصحابة والتابعين لاغترارهم بعبادته وكلامه المنمق الذي يرويه عن التوراة وغيرها من كتب بني إسرائيل، ويفسر بها آيات القرآن في أخبارهم وفي أصل الخليقة. فهو كأمثاله التي لا تحصى لا أصل له في شيء من تلك الكتب، وهو مخالف لنص حديث الصحيحين الذي أشرنا إليه في تفسير {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: 34) ولكن ابن عباس أخذه بالتسليم إذ لم يكن قد بلغه الحديث المرفوع فيما يظهر، وأنا لا آمن أن يكون بعض أحاديث أبي هريرة المرفوعة الغريبة المتون التي لم يصرح فيها بالسماع مما رواه عن كعب الأحبار فقد صرحوا أنه روى عنه. وقد قال الزركشي في التفسير المرفوع: إنه الطراز المعلم (ولكن يجب الحذر من الضعيف) والموضوع فإنه كثير. ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاثة كتب لا أصل لها: المغازي والملاحم والتفسير. قال المحققون من أصحابه: مراده أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحيحة متصلة.. الخ، أقوال وقد غلط من جعل أقوال الصحابة في هذا الباب من قبيل المرفوع بعلة أنه لا يُعرف بالرأي، وفاتهم أنه من رواية الإسرائيليات، فلا يعد كأحكام الدين والحلال والحرام. ثم أقول إن الروايات المتعددة عن سليمان أن ملكه كان بسر في خاتمه وأن الشيطان أخذ خاتمه فصار يتصرف في الإنس والجن والطير كما كان يتصرف سليمان، حتى كان يأتي نساءه (!) إلخ، خرافة فيها مفاسد كثيرة، وأنها وأمثالها معارضة بل منقوضة ومردودة ومضروب بها وجوه مختلقيها وأقفيتهم بقوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} (ص: 36) إلخ، فالله تعالى يخبرنا أنه استجاب دعاء فسخر له الريح والشياطين، ولو كان ملكه الذي لا ينبغي لأحد من بعده منوطًا بسر في خاتمه يمكن أن تسخر للشياطين إذا هم حملوا ذلك الخاتم لم يكن خصوصية لسليمان نفسه جزاء إنابته واستجابة لدعائه كما صرح به القرآن، وهل هذا إلا مما كانت تتلوه الشياطين على ملك سليمان وتعزوه إليه من مخلتقات السحر، ولو أنه من الخرافات والكفر، {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} (البقرة: 102) وروجوا كفرهم وفتنوا به بعض المؤمنين بِعَزْوِه إلى سليمان وخاتمه السري، ذي الطلاسم السحري، ولا يزال شياطين الإنس وسحرتهم على هذا إلى اليوم! ! هذا ما نراه في الجواب الإجمالي، وإذا أحيانا الله تعالى ومنَّ علينا بالوصول إلى تفسير قصة سليمان عليه السلام من سورة النمل، فإننا نحرر هذا المقام بالتفصيل وليس لدينا من الوقت الآن ما يسمح لنا بالمراجعة ولا بالتفكر فيه، حتى إننا ذكرنا الحد

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان وغير ذلك لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم قال شيخنا شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه: الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم. (أما بعد) فهذه قاعدة في الأحكام التي تختلف بالسفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان ونحو ذلك، وأكثر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم جعلوها نوعين؛ نوعًا يختص بالسفر الطويل وهو القصْر والفطر، ونوعًا يقع في الطويل والقصير كالتيمم والصلاة على الراحلة، وأكل الميتة هو من هذا القسم، وأما المسح على الخفين، والجمع بين الصلاتين فمن الأول، وفي ذلك نزاع. والكلام في مقامين (أحدهما) الفرق بين السفر الطويل والقصير فقال: *** المقام الأول (الفرق بين السفر الطويل والقصير) هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقًا كقوله تعالى في آية الطهارة: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ} (النساء: 43) . وقوله تعالى في آية الصيام {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184) . وقوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة) [1] وقول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر. وقول عمر: صلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (يمسح المقيم يومًا وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وقول صفوان بن عسال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفرًا أو مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط أو بول أو نوم [2] . وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم) [3] وقوله صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم نومه وطعامه وشرابه فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليتعجل الرجوع إلى أهله) [4] فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير، فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقًا لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي ذكر من تعليق الشارع الحكم بمسمى الاسم المطلق وتفريق بعض الناس بين نوع ونوع من غير دلالة شرعية له نظائر: (منها) أن الشارع علق الطهارة بمسمى الماء في قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} (النساء: 43) . ولم يفرق بين ماء وماء، ولم يجعل الماء نوعين طاهرًا وطهورًا. (ومنها) أن الشارع علق المسح بمسمى الخف ولم يفرق بين خف وخف فيدخل في ذلك المفتوق والمخروق وغيرهما من غير تحديد، ولم يشترط أيضًا أن يثبت بنفسه (ومن ذلك) أنه أثبت الرجعة في مسمى الطلاق بعد الدخول، ولم يقسم طلاق المدخول بها إلى طلاق بائن ورجعي. (ومن ذلك) أنه أثبت الطلقة الثالثة بعد طلقتين و (افتداء) . والافتداء: الفرقةُ بعوض، وجعلها موجبة للبينونة بغير طلاق يحسب من الثلاث. وهذا الحكم معلق بهذا المسمى لم يفرق بين لفظ ولفظ (ومن ذلك) أنه علق الكفارة بمسمى أيمان المسلمين في قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة: 89) وقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (التحريم: 2) ولم يفرق بين يمين ويمين من أيمان المسلمين، فجعل أيمان المسلمين المنعقدة تنقسم إلى مكفرة وغير مكفرة مخالف لذلك (ومن ذلك) أنه علق التحريم بمسمى الخمر وبَيَّن أن الخمر هي المسكر في قوله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) ولم يفرق بين مسكر ومسكر. (ومن ذلك) أنه علق الحكم بمسمى الإقامة كما علقه بمسمى السفر، ولم يفرق بين مقيم ومقيم، فجعل المقيم نوعين نوعًا تجب عليه الجمعة بغيره ولا تنعقد به، ونوعًا تنعقد به لا أصل له. بل الواجب أن هذه الأحكام لمّا علقها الشارع بمسمى السفر فهي تتعلق بكل سفر سواء كان ذلك السفر طويلاً أو قصيرًا، لكن ثَمَّ أمور ليست من خصائص السفر بل تشرع في السفر والحضر فإن المضطر إلى أكل الميتة لم يخص الله حكمه بسفر؛ لكن الضرورة أكثر ما تقع به في السفر فهذا لا فرق فيه بين الحضر والسفر الطويل والقصير فلا يجعل هذا مغلقًا بالسفر. وأما الجمع بين الصلاتين فهل يجوز في السفر القصير؟ فيه وجهان في مذهب أحمد أحدهما لا يجوز كمذهب الشافعي قياسًا على القصر، والثاني يجوز كقول مالك؛ لأن ذلك شرع في الحضر للمرض والمطر فصار كأكل الميتة إنما علته الحاجة لا السفر وهذا هو الصواب، فإن الجمع بين الصلاتين ليس معلقًا بالسفر وإنما يجوز للحاجة بخلاف القصر. وأما الصلاة على الراحلة فقد ثبت في الصحيح بل استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي على راحلته في السفر أيَّ وجه توجهت به، ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. وهل يسوغ ذلك في الحضر؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره فإذا جوز في الحضر ففي القصر أولى، وأما إذا منع في الحضر فالفرق بينه وبين القصر والفطر يحتاج إلى دليل. *** المقام الثاني (حد السفر الذي علق الشارع به الفطر والقصر) وهذا مما اضطرب الناس فيه، قيل: ثلاثة أيام وقيل: يومين قاصدين؟ وقيل: أقل من ذلك؛ حتى قيل: ميل والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال: ثمانية وأربعون ميلاً، وقيل: ستة وأربعون، وقيل خمسة وأربعون، وقيل أربعون، وهذه أقوال عن مالك، وقد قال أبو محمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهًا. وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتًا بنص ولا إجماع ولا قياس وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير، ويجعلون ذلك حدًّا للسفر الطويل ومنهم من لا يسمي سفرًا إلا ما بلغ هذا الحد، وما دون ذلك لا يسميه سفرًا فالذين قالوا: ثلاثة أيام احتجوا بقوله (يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن) وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال (لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم) وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (مسيرة يومين) وثبت في الصحيح (مسيرة يوم) وفي السنن (بريدًا) فدل على أن ذلك كله سفر، وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما هو تجويز لمن سافر ذلك وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن يمسح يومًا وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة، والذين قالوا: يومين اعتمدوا على قول ابن عمر وابن عباس، والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى ابن عمر وابن عباس وما روي (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان) إنما هو من قول ابن عباس ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث، وكيف يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة بالتحديد، وإنما أقام بعد الهجرة زمنًا يسيرًا وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حدًّا، كما حده لأهل مكة وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين؟ وأيضًا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس، ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدًا وليس هو مما يقطع به، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً فكيف يقدر الشارع لأمته حدًا لم يجر به له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس فلا بد أن يكون مقدار السفر معلومًا علمًا عامًّا، وذرع الأرض مما لا يمكن بل هو إما متعذر وإما متعسر؛ لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما يمسحونه على خط مستوٍ أو خطوط منحنية انحناء مضبوطًا، ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق وقد يسلكون غيرها، وقد يكون في المسافة صعود وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض. والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في تقدير الأرض بالأزمنة كقوله في الحوض (طوله شهر وعرضه شهر) وقوله: (بين السماء والأرض خمسمائة سنة) [5] وفي حديث آخر: (إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة) فقيل الأول بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام والثاني سير البريد فإنه في العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات، وكذلك الصحابة يقولون يوم تام ويومان ولهذا قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام لكن هذا لا دليل عليه. وإذا كان كذلك فنقول: كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة؛ فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة، والبريد هو نصف يوم سير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة يومين وليلتين وهو الذي قد يسمى مسافة [6] ، وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن يرجع من يومه، وأما ما دون هذه المسافة إن مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل يقصر في ميل. وروي عن ابن عمر أنه قال: لو سافرت ميلاً لقصرت قال ابن حزم: لم نجد أحدًا يقصر في أقل من ميل ووجد ابن عمر وغيره يقصرون في هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حدًا فقلنا بذلك اتباعًا للسنة مطلقة، ولم نجد أحدًا يقصر بما دون الميل ولكن هو على أصله وليس هذا إجماعًا، فإذا كان ظاهر النص يتناول ما دون ذلك لم يضره أن لا يعرف أحداً ذهب إليه كعادته في أمثاله، وأيضًا فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك، وأيضًا فقد ثبت عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين فإما أن تتعارض أقواله أو تحمل على اختلاف الأحوال، والكلام في مقامين. (للبحث بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

كتاب الموجز في الاجتماع ـ 2

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ كتاب الموجز في الاجتماع بحث علمي ديني للأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار عضو المجمع العلمي بدمشق والمؤتمر الإسلامي بمكة المكرمة (2) (تابع لما نشر في ج4 ص 295) الرابع مبحث الخلافة الإسلامية الحكم في الإسلام أهو ثيوقراطي أو ديمقراطي؟ عد حضرة المؤلف الخلافة في الإسلام من النوع الثيوقراطي، قال: وهو الحكم الذي يستمد نفوذه وقوّته من الله، والقائمون بهذا الحكم باسم الله يحكمون وباسمه يتكلمون، حتى إنهم لينزلون أنفسهم من الله في منزله الوزراء. أهـ أقول: يبدو للإنسان إزاء هذه الكلمة آراء ووجوه: (1) أن الحكم في الخلافة الإسلامية لله وحده على قاعدة العدل والمساواة بين الناس في الحقوق، لا فرق في ذلك بين الصعاليك والملوك، قال تعالى: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً} (النساء: 105) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} (النساء: 135) وقال: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} (المائدة: 8) أي: لا يحملنكم بغض قوم لكم أو بغضكم لهم على ألا تقيموا سنة العدل فيهم، ثم أمرهم بالعدل الكامل الشامل للمسلمين وغيرهم على اختلاف طبقاتهم بقوله (اعدلوا) وحذف المعمول يؤذن بالعموم. ومن هذا النوع قصة المخزومية التي أوردها المؤلف في كتابه عن الصحيحين وأنها لما سرقت أهم قريشًا أمرها، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم معاتبًا أسامة الذي استشفع لها (أتشفع في حد من حدود الله؟ والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) فهذه الخلافة هي المثل الأعلى في حكومات الأرض، وهي التي جرى عليها الخلفاء الراشدون من بعد، وسأنقل عن الأستاذ المؤلف تفضيلها على كل حكومة أخرى. (2) لا نعرف أحدًا من خلفاء المسلمين الراسخين يدعي لنفسه هذه الرتبة، (ينزل نفسه منزلة الوزير من الله) ، أو يزعم أنه مؤيد بالعصمة، كما هو شأن رجال هذا النوع من الحكم، ولا نعرف في الإسلام أقل حق يمتاز به أكبر خليفة عن أصغر واحد من الرعية، وليس الإمام إلا حافظًا ومنفذًا للأحكام العادلة المأخوذة أو المستنبطة من النصوص الشرعية العامة تحت مراقبة أولي الأمر، وهم أهل الحل والعقد والشورى في الإسلام، ويبقى له هذا الأمر، وتجب طاعته فيه، وإعانته عليه مدة استقامته كما أمر، فإذا أعوج وجب تقويمه بالكلام أو بحد الحسام يؤيد ذلك قول عمر رضى الله عنه: إن رأيتم فيَّ اعوجاجا فقومومني بألسنتكم، قالوا: بل نقومك بسيوفنا، فإذا لم يرجع إلى الحق وجب خلعه، ما لم تترتب على ذلك مفسدة أكبر من مفسدة بقائه. (3) الظاهر أن المؤلف يعرض بالحكومة الإسلامية في دور التقهقر والخذلان أيام تغلغل نفوذ الأعاجم - الذين لم يرسخوا في الإسلام رسوخ أهل العرب فيه في البلدان الإسلامية باستعمال الملوك إياهم، وفشت أخلاقهم في المسلمين، فتعطلت أحكام الخلافة، وعادت اسمًا بلا مسمى، ولفظًا بلا معنى، وطفق المتملقون والمستجدون من الشعراء، يكيلون المدح لمن سموهم خلفاء المسلمين جُزافًا، وانتهى الأمر باجتياح التتار بلاد المسلمين، والقضاء على الخلافة الإسلامية العربية. (4) فتن كثير من الناس بما صنع الترك الكماليون من القضاء على الدولة التي كانت تنتحل اسم الخلافة واستبدال حكومة جمهورية لا دينية بها، وظنوا كما ظن زعماء الترك أن هذه الفعلة الشنعاء هي التي أورثتهم استقلالهم، وأن الإسلام هو الذي كان عثرة في سبيلهم، وموغرًا لصدور الأوروبيين عليهم، فلما وضعوا القبعة على رؤوسهم وعملوا بقوانين أهلها زال تعصب الغربيين عنهم، وصاروا يعاملونهم معاملة أنفسهم؛ لأنهم صاروا أمة متمدنة في نظرهم! ! والجواب من وجوه: (الأول) : أن رئيس الجمهورية قد صرح بأنهم لم ينالوا استقلالهم إلا بالقوة الحربية التي استخدموها في الدفاع عن حوزتهم، واسترداد ملكهم. (الثاني) أن المعروف أنهم انتصروا باسم الدين لا الإلحاد، وهم أثناء الحرب قد أزالوا المنكرات من بلادهم بأيديهم كالمواخير العامة والحانات وغيرهما. (الثالث) أن الإفرنج لا يبغضون من الإسلام حروفه، وإنما يبغضون منه ما يوجبه على أهله من الأخذ بأسباب النصر، والتماس وسائل القوة والعزة والثروة والسيادة في الأرض {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) ، {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) . فهذه الوسائل والمقاصد يحاربها الغرب الطامع المستعبد حيثما وجدت، وتحت أي عنوان استترت أو ظهرت، سواء أكان إسلامًا أم إلحادًا، صلاحًا أم فسادًا، وهم الآن إذا جاملوا الكماليين فلقوتهم وبأسهم، لا لكفرهم أو فسقهم. (الرابع) أن عمل الجمهورية على كونه فعلة شنيعة في الإسلام - مناقض للقواعد الاجتماعية، مخالف للسنن الكونية، بل هو ضربة قاضية على الحكومة الديمقراطية، ذلك بأنه ليس مستمدًّا من روح الأمة، بل هو مخالف لعقيدتها وتربية دهمائها، وقد أوقد عملها في شعبها الآمن المتدين نار الثورة، وأثار عليها حفائظ الانتقام، وفتح بابًا الدسائس الأجنبية في بلادها، فهي تضعف باقتتالها من حيث تطلب القوة، وتنقسم على نفسها من حيث تريد الوحدة. (الخامس) أنها لو أرادت أن تتمتع وتعيش - كشعب أوروبي - بالقوة والثروة والوحدة والنظام لما رأت في الإسلام ما يعارض ذلك، بل الإسلام قد سبقها وسبق أوربا بمئات السنين إليه، وجرى ملوكه العدول أيام حضارتهم عليه، ولكنها أرادت أن تعيش كأشد شعب أوربي إيغالاً في المفاسد، وتفننًا في الرذائل، كاستباحة الإبضاع والأموال وغيرهما. وهذه من آفات المدنية المادية، ومقطعات روابط الهيأة الاجتماعية، وهي ما تنزهت عنه مدنية الإسلام، وامتازت به حضارته الأخلاقية - التي أساسها العدل والفضيلة - على سائر المدنيات التي تبيح الظلم والرذائل. (السادس) أن الله تعالى قيض للإسلام حماة ودعاة في الشرق والغرب، وتجددت دعوته بقوة في جزيرة العرب، وبدأ ينقشع عن محياه ما تكثف عليه من غيوم البدع والأوهم، وما علق به من شبه الماديين وأعداء الإسلام، فمن مرقوا منه بفتنة تفرنج أو شبهة إلحاد، عوضنا المولى عنهم بمن هم خير منهم. *** الحكومة الإسلامية ديموقراطية وبعد هذا كله أقول: إن الخلافة في الإسلام هي روح الديموقراطية الحرة؛ لأنها تستمد قوانينها من كتاب الله الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ومن سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم التي تبين للناس ما نزل إليهم من ربهم. ومن مميزات هذه الحكومة الإسلامية على سائر الحكومات النيابية المدنية أن قوانينها مبنية على النصفة والعدل، (لا ضرر ولا ضرار) بخلاف هذه القوانين التي تبيح كثيرًا من الضرر بالنفس والعقل والعِرْض والمال. ومن مميزاتها الرجوع عند تنازع أولي الحل والعقد إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهما الأصلان اللذان تسلم الأمة لحكمها تسليمًا، والقول في كل قضية لمن كان أصح دليلاً، وأهدى سبيلاً، وأدنى في حكمة إلى المصلحة العامة، بخلاف المجالس القانونية التي كثيرًا ما تحكم الأكثرية فيها بما تملي عليها المصلحة الخاصة أو الهوى، وتخالف الحق الصريح مخالفة ظاهرة، فلا هي معتقدة بصحة حكمها، ولا الأقلية المنصفة مقتنعة بفساد رأيها، ولكنها تكون مغلوبة للأكثرية. قال الأستاذ الإمام في كتاب الإسلام والنصرانية: (ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (كراتيك) أي سلطان إلهي، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة بالتشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة، لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة، بل بمقتضى الإيمان، إلى أن قال: يقولون: إن لم يكن للخليفة ذلك السلطان الديني، أفلا يكون للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام؟ وأقول: إن الإسلام لم يجعل لهؤلاء أدنى سلطة على العقائد وتقرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي) . وقال عالم الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر في كتابه (الخلافة أو الإمامة العظمى) ص 91: (إن صحفنا العربية تصرح في هذا العهد آنًا بعد آخر بأن أحدث أصول التشريع هو أنه حق للأمة، ويظن هؤلاء الذين يكتبون هذا، وأكثر من يقرءون كلامهم أن هذا الأصل من وضع الإفرنج، وأن الإسلام لا تشريع فيه للبشر؛ لأن شريعته مستمدة من القرآن، والأحكام المدنية والسياسية فيه قليلة محدودة، ومن السنة - والزيادة فيها على ما في القرآن قليلة، ومناسبة لحال المسلمين في أول الإسلام دون سائر الأزمنة ولا سيما زماننا هذا، وأن الإجماع والاجتهاد - على استنادهما إلى الكتاب والسنة قد انقطعا، وأقفلت أبوابهما باعتراف جماهير علماء السنة في جميع الأقطار الإسلامية، وأن هذا هو السبب في تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدينية واضطرار الحكومتين المدنيتين الوحيدتين التركية والمصرية إلى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة الإسلامية تقليدًا ثم تشريعًا! !) ثم بين منشأ هذا الغلط العظيم، وساق أدلة الاشتراع في الإسلام بنحو ثلث صحائف (ثم قال) : (فنبين بهذا أن للاشتراع المدني والجنائي والسياسي والعسكري دلائل كثيرة، منها قواعد الضرورات ونفي الحرج، ومنع الضرر والضرار، فلو لم ينص في القرآن على أن أمور المؤمنين العامة شورى بينهم، ولو لم يوجب طاعة أولي الأمر بالتبع لطاعة الله وطاعة الرسول، ولو لم يفرض على الأمة رد هذه الأمور إليهم ويفوض إليهم أمر استنباط أحكامها، ولو لم يقر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذًا على الاجتهاد والرأي فيما يعرض عليه من القضايا والأحكام التي لا نص عليها في كتاب الله ولم تمض فيها سنة من رسوله - لو لم يرد هذا كله وما في معناه - لكفت الضرورة أصلاً شرعيًّا للاستنباط الذي يسمى في عرف هذا العصر بالتشريع. وراء هذا وذاك عمل الأمة في صدر الإسلام، وخير القرون، وكذا ما بعدها من القرون الوسطى التي خرجت فيها الخلافة الكافلة للأمور العامة عن منهج العلم الاستقلالي فزالا معًا لتلازمهما) اهـ. ومن أراد تحقيق كون حكومة الخلافة في الإسلام أعدل حكومات الأرض وأفضلها فعليه بمراجعة كتاب الخلافة أو الإمامة العظمى الذي أثرنا عنه هذه الكلمة، وكتاب (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) ، لمؤلفه العلامة الجليل السيد محمد الخضر التونسي، فإنهما من خير ما أخرج للناس في هذا العصر. *** الخامس مبحث الدين والعلم قال صاحب (الموجز) ص 72: وعلى رجال العلم ألا يتقيدوا فيما يذهبون إليه بشيء من عوامل الدين والسياسة، بل بما توحيه إليهم معارفهم، وبما توصلهم إليه مساعيهم. أهـ أقول: لا يخفى أن دين الحق لا يصادم العلم الصحيح، ولا يمنع أهله من الاستفادة من نتائج قرائحهم، وثمرات معار

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي القسم الثاني الباب الأول العلاج بالهواء قد فرغنا الآن من البحث في أساسات الصحة وأصولها وكذلك عن طرق صيانتها والمحافظة عليها. ولو أن جميع الناس - رجالاً ونساء - يخضعون لقوانين الصحة ويتمسكون بالتجرد التام، لا تبقى أي حاجة للأبواب الآتية؛ لأنهم يكونون في مأمن من جميع الأمراض والأوصاب سواء في أجسامهم أو عقولهم. ولكن أين نجد هؤلاء الناس؟ وأين الذين لا يصابون بالأمراض؟ وعلى كل فإنَّا كلما نعتني بالتمسك في الأصول التي دونت في هذا الكتاب، فالأغلب أننا نسلم من الأمراض، ولكن إن أصابنا مرض فيجب أن نعالجه باهتمام، والأبواب الآتية تبين كيفية العلاج بدون الاستعانة بالطبيب. إن الهواء النقي كما هو لا بد منه لصيانة الصحة، كذلك لا غنى عنه في معالجة الأمراض، فالمصاب بالنقرس مثلاً إذا عولج بالبخار الساخن يعرق بكثرة وتلين أعصابه، وتستريح مفاصله، وهذا القسم من علاج البخار يسمى (الاستحمام التركي) . ومن كان يشكو حمى شديدة، فليجرد من ملابسة، ويلقى في الهواء الطلق، تنزل الحرارة حالاً ويشعر براحة بينِّة، وعندما يحس بالبرد فليلفّ في ثوب فيعرق حالاً وتزول الحمى سريعًا. ولكن ما نفعله عادة هو على عكس ذلك تمامًا، حتى إنا نمنع المريض من البقاء في الهواء الطلق ولو أراد بنفسه، ونغلق عليه جميع أبواب حجرته ونوافذها ونغطي جميع جسده مع رأسه وأذنيه باللحف والأغطية. فتكون النتيجة أن المريض يجزع فيزداد ضعفًا عن مقاومة مرضه. ينبغي أن نفهم أنه إن كان سبب الحمى شدة الحر، فالعلاج بالهواء الذي ذكر آنفًا غير مضر أصلاً، ويشعر بتأثيره حالاً نعم يجب الاحتراس لئلا تأخذ المريض القشعريرة في الهواء الطلق، فإن كان لا يستطيع البقاء عاريًا فيجوز تغطيته جيدًا بالدثار. إن تغيير الهواء علاج مفيد للحمى المزمنة وغيرها من الأمراض، فالعادة العامة التي جرت بتغيير الهواء ليست إلا عملاً بأصول العلاج الهوائي، وكثيرًا ما نغير محل إقامتنا متوهمين أن البيت الذي تعاوده الأمراض محل الأرواح الشريرة هذا وهم محض. إن (الأرواح الشريرة) الحقيقية في مثل هذه الأحوال إنما هي الهواء الفاسد في داخل البيت، إن تغير البيت يتبعه تغيير للهواء، وهذا هو الذي يدفع المرض. إن العلاقة بين الصحة والهواء قوية جدًّا حتى إن التغيير القليل له يؤثر حالاً تأثيرًا رديئًا أو حسنًا، يستطيع الأغنياء أن ينتقلوا إلى أماكن بعيدة وأما الفقراء فكذلك يستطيعون الانتقال من قرية إلى قرية، أو على الأقل من بيت إلى بيت، بل إن تغيير حجرة بحجرة في البيت نفسه كثيرًا ما ينفع المريض نفعًا محسوسًا، ولكن تجب مراعاة الأحوال ليكون للتغيير نفع حقيقي، فالمرض الذي سببه الهواء الرطب مثلاً لا يمكن علاجه بالانتقال إلى محل رطب، وبما أن الناس لا يهتمون بمثل هذه الاحتياطات البسيطة الاهتمام الكافي لذلك لا يجدي تغيير الهواء نفعًا في أكثر الأحيان. إن هذا الباب قد احتوى على بعض الأمثلة البسيطة لاستعمال الهواء علاجًا للأمراض، وقد مر في القسم الأول من الكتاب باب يبين قيمة الهواء النقي للصحة، ولذا أرجو من قرائي أن يقرءوا البابين معًا. *** الباب الثاني العلاج بالماء إن الهواء غير منظوم، فنحن لا ندرك تأثيره العجيب، لكن عمل الماء وتأثيره الصحي يمكن إدراكه وفهمه بسهولة. يعرف جميع الناس شيئًا من استعمال البخار وسيلة صحية، فكثيرًا ما نستعمله في الحميات ونعالج به وحده الصداع الشديد، وكذلك المصاب بالوجع الروماتيزمي في المفاصل يشعر بالراحة السريعة عند استعمال البخار وإتباعه استحمام بارد، والدمامل والقروح لا تبرأ بمجرد وضع المرهم أو الدهان عليها، ولكنه تشفى تمامًا باستعمال البخار. ثم إن الاستحمام الحار أو الاستحمام بالماء الحار يتبعه مباشرة الاستحمام البارد مفيد جدًّا في التعب الشديد، وكذلك النوم في الهواء المطلق بعد الاستحمام البخاري يصحبه استحمام بارد نافع جدًّا في الأرق. إن الماء الساخن يصح استعماله دائمًا كبدل للبخار، وإذا أصيب الإنسان بوجع شديد في بطنه، يشفيه حالاً تدفئة البطن بقنينة مملوءة بماء مغلي توضع فوق قماش غليظ على البطن، وإذا ما أريد التقيؤ فيمكن ذلك بشرب كمية وافرة من الماء الساخن، إن الذين يشكون الإمساك يستفيدون كثيرًا بشربهم كوبة من الماء الساخن، إما وقت النوم في الليل أو بعد تنظيف الأسنان صباحًا مباشرة. إن سير جوردن سبرنج spring gordon sir قد عزى صحته الجيدة إلى تعوده شرب كوبة من الماء الساخن يوميًّا قبيل النوم في الليل وبعد اليقظة صباحًا، إن كثيرًا من الناس لا تلين معدتهم إلا إذا شربوا الشاي صباحًا، فيعتقدون -حمقًا- أن الشاي هو الذي أحدث هذا التأثير، مع أن الشاي وحده مضر في الحقيقة. وإنما الذي أثر هذا التأثير هو الماء الساخن في الشاي، فهو الذي يلين المعدة ويزيل الإمساك. قد اخترعت أرجوحة تستعمل عادة للاستحمام البخاري، ولكنها ليست ضرورية جدًّا بل يصح أن يوقد (وابور) من الاسبرتو أو الغاز أو كانون من الوقود أو الفحم تحت كرسي اعتيادي من الخيزران، ويوضع فوق الموقد قِدْر مملوء بالماء مغطى بغطاء وينشر فوق الكرسي رداء أو دثار بحيث تنزل أطرافه إلى الإمام لتقي المريض من حر النار، ثم يقعد المريض على الكرسي ويلف في رداء أو دثار، وعند ذلك يرفع غطاء القدر بحيث يكون المريض معرضًا للبخار الذي يتصاعد منه، أما ما تعودناه من تغطية رأس المريض فهو احتياطي غير ضروري؛ إذ حرارة البخار تتصاعد من طريق الجسم إلى الرأس وتسبب عرقًا كثيرًا في الوجه، وإن كان المريض ضعيفًا جدًّا بحيث لا يستطيع القعود، فحينئذ يصح أن يضجع على سرير ذي فتحات وفرجات ولكن يحترس أن لا يذهب شيء من البخار سدى، وكذلك - كما لا يخفى - يجب الاحتياط لئلا تصل النار ملابس المريض أو دثاره، وكذلك تجب المراعاة التامة لحالة صحة المريض؛ لأن استعمال البخار بدون مبالاة يخشى منه الخطر أيضًا، إن المريض لا بد من أن يشعر بضعف بعد هذا الاستحمام البخاري، ولكن ضعفه لا يلبث أن يزول. إن الإكثار من استعمال البخار يضعف البنية على كل حال؛ ولذلك لا ينبغي أن يستعمل إلا لضرورة شديدة، والبخار كما يستعمل للجسد كله كذلك يصح استعماله لجزء خاص منه، فمثلاً إذا استعمل في الصداع فلا احتياج إلى عرض سائر الجسم له، بل يوضع الرأس وحده فوق قدر صغير الفم مملوء بماء فاتر ويلف عليه قماش، ثم يستنشق البخار بالأنف ليتصاعد إلى الرأس، وإذا كانت المناخر مسدودة فهي تنفتح بهذا العمل، وهكذا أن تورم عضو من الجسم فهو وحده يعرض للبخار. قليل من الناس يعرفون القيمة الصحية للماء البارد، مع أنه في الحقيقة أنفع في هذا الباب من الماء الساخن. ويمكن أن يستعمله حتى أضعف الناس بنية، فالتلفُّف بثوب مبلول بالماء البارد نافع جدًّا في الحمى والجدري والأمراض الجلدية ويمكن لجميع الناس استعماله بدون أدنى خطر، إن الدوار والهتر (جنون الحمى) يمكن دفعه حالاً بلف ثوب مبلول في ثلج مذاب على الرأس. والذين يشكون الإمساك ينفعهم جدًّا لف ثوب مبلول بثلج مذاب على البطن لحين من الزمن، وكذلك يمكن منع كثرة الاحتلام في أكثر الأحيان بهذه الطريقة نفسها. إن نزف الدم من أي عضو كان يمكن منعه باستعمال ثوب مبلول بماء بارد مثلج ' وكذلك الرعاف يمنع بصب الماء البارد فوق الرأس، إن أمراض الأنف الزكام والصداع يمكن معالجتها باستنشاق الماء البارد من الأنف، ويمكن استنشاقه بمنخر وإخراجه بمنخر آخر أو يستنشق بمنخرين معًا ويخرج من الفم. ولا ضرر من وصول الماء إلى المعدة إن كانت المناخر نظيفة. إن هذه أحسن طريقة لجعل المناخر نظيفة دائمًا. وأما الذين لا يستطيعون استنشاق الماء بالمناخر فيجوز لهم أن يستعملوا المحقن، ولكنهم يتعلمون بسعي قليل كيفية الاستنشاق بسهولة، بل يجب على جميع الناس أن يتعلموها؛ لأنها سهلة نافعة جدًّا للصداع والرائحة الخبيثة في الأنف، وكذلك لإزالة الأوساخ في مجرى الأنف. يخاف كثير من الناس من استعمال المحقنة، بل يزعم بعضهم أن الجسم يضعف به، ولكن هذه المخاوف ليست إلا وهمية، ليس هناك طريقة للإسهال القوي أكثر تأثيرًا من هذه الطريقة، وقد ثبت نفعها العظيم في كثير من الأمراض حينما لم تجد غيرها من المعالجات. ولا عجب فهي تنظف الأحشاء تمامًا وتمنع تراكم المواد السامة فيها. إن الذين يتأذون من الأوجاع الروماتيزمية أو سوء الهضم أو الأوجاع من سوء حالة الأحشاء الصحية ينبغي لهم أن يحقنوا برطلين من الماء فيرون تأثيره السريع القوي. قال أحد الكتاب في هذا الموضوع: إنه كان يشكو مرة سوء هضم مزمن واستعمل جميع الأدوية سدى وعبثًا فنحل جسمه بذلك. ولكن حقنة الماء ردت إليه شهية الطعام وشفته من دائه في بضعة أيام، حتى إن بعض الأمراض مثل اليرقان يمكن معالجتها باستعمال حقنة الماء. إن الذي يستعمل الحقنة أحيانًا كثيرة يجب أن يستعمل الماء البارد، لأن الماء الحار ربما يضعف البنية بتكراره. إن الدكتور الألماني لويس كوهن kuhne louis قد حكم أخيرًا بعد التجارب المتوالية بأن العلاج المائي نافع جدًّا في جميع الأمراض، وقد نالت كتبه في الموضوع قبولاً عامًّا، حتى إنها ترجمت إلى جميع لغات العالم تقريبًا ومن جملتها بعض اللغات الهندية. قال هذا الدكتور: إن البطن هو بيت الأدواء كلها، فإذا كثرت الحرارة في البطن كثرة زائدة، تجلت على الجسم في صورة الحمى والروماتيزم والقروح والبثور وغيرها من الأمراض. إن منافع العلاج المائي قد عرفها قبل كيوهن بكثير أناس عديدون، ولكنه هو أول من قال بأنه أصل مشترك لجميع الأمراض، لسنا بمجبورين على أن نسلم بآرائه كلها على علاتها، ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن أصوله وطرقه قد ثبت نجاحها في كثير من الأمراض، وإني أذكر لذلك مثالاً واحدًا من أمثلة كثيرة قد اختبرتها بنفسي، وذلك في مصاب بروماتيزم شديد جدًّا، فقد حصل له الشفاء التام بطريقة كيوهن بعد أن خابت جميع المعالجات الأخرى. قال الدكتور كوهن: إن حرارة البطن تزول باستعمال الماء البارد، وعلى ذلك أكد غسل البطن وما حوله من الأعضاء بماء بارد جدًّا، ولتسهيل الغسل قد اخترع نوعًا خاصًّا من المغاسل من الصفيح، ولكنها ليست بلازمة، إذ قصاع الصفيح الهلالية الشكل في مقادير مختلفة لأناس مختلفي القامات التي تباع في أسواقنا تقوم مقامها تمامًا، يجب أن يملأ (ثلاثة أرباع) من القصعة بالماء البارد ويجلس فيها المريض بهيئة تبقى معها رجلاه وجسمه الأعلى خارج الماء، ويبقى وسطه من الفخذ إلى ما فوق البطن في داخله، والأحسن أن تسند الرجلان على كرسي قصير، ويجلس المريض في الماء عاريًا بالمرة، وإن كان يحس بالبرد فيغطي رجليه وجسده الأعلى برادء، وإن لبس القميص فليبق القميص خارج الماء بالمرة، ويجب أن يكون هذا الغسل في مكان طلق حيث يكثر الهواء النقي والنور، ثم يفرك بطنه بنفسه أو غيره بخرقة خشنة من خمس إلى ثلاثين دقيقة أو أكثر. فيرى نفع هذه العملية حالاً في أكثر الأحوال. ففي الروماتيزم مثلاً يأخذ الريح في الخروج حالاً في صورة الجشاء وغيره، أما في ال

مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [1] (3) باقي محضر الجلسة الرابعة تقرير اللجنة التي ألفها المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر بجلسته المنعقدة في 3 ذي القعدة سنة 1344 - 15 مايو سنة 1926 للنظر في المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر. انعقدت اللجنة المشكّلة بقرار المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر الصادر في 3 ذي القعدة سنة 1344هـ (15 مايو سنة 1926) بدار المعاهد الدينية التابعة للجامع الأزهر الشريف بالحلمية الجديدة في يوم الأحد 4 ذي القعدة سنة 1344هـ (6 مايو سنة 1926) لبحث المواد الرابعة والخامسة والسادسة من برنامج المؤتمر، وباشرت عملها في جلستين إحداها قبل الظهر والثانية بعد الظهر من اليوم المذكور، وكان محمد شكري رجب أفندي كاتبًا لها، وقد كانت منعقدة من جميع حضرات أعضائها ما عدا السيد محمد الصديق مندوب مراكش والسيد الميرغني الإدريسي لغيابهما، وبعد البحث والمداولة قررت ما يأتي: أولاً: أن يكون حضرة صاحب الفضيلة والسماحة السيد عبد الحميد البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية رئيسًا للجنة. ثانيًا: أن يكون حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عطاء الله الخطيب أفندي مندوب العراق مقررًا للجنة. ثم تذاكرت في المسائل الأخيرة من برنامج المؤتمر مسألة مسألة، وقررت ما يأتي: أولاً: المسألة الرابعة (هل يمكن الآن إيجاد الخلافة المستجمعة للشروط الشرعية؟) قررت اللجنة فيها ما يأتي: إن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المبينة في تقرير اللجنة العلمية (الذي أقره المؤتمر في الجلسة الرابعة) والتي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحققها بالنسبة للحالة التي عليها المسلمون الآن. ثانياً: المسألة الخامسة (إذا لم يكن من الميسور إيجاد هذه الخلافة فما الذي يجب أن يعمل) . قررت اللجنة الآتي: إن مركز الخلافة العظمى في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفي نظر أمم العالم جميعًا (له) من الأهمية الكبرى ما يجعله من المسائل التي لا يمكن البت فيها الآن للأسباب المذكورة. لما يجب أن يراعى في حل مسألتها الحل الذي يتفق مع مصلحة المسلمين في الحاضر والمستقبل. من أجل هذا تقرر ما يأتي: تبقى هيئة المجلس الإداري لمؤتمر الخلافة الإسلامية بمصر على أن ينشئ له شعبًا في البلاد الإسلامية المختلفة يكون على اتصال بها لعقد مؤتمرات متوالية فيها حسب الحاجة للنظر في تقرير أمر الخلافة الإسلامية النظر الذي يتفق مع مركزها السامي [2] . ثالثاً: المسألة السادسة (إذا قرر المؤتمر وجوب نصب خليفة فما الذي يتخذ لتنفيذ ذلك) قررت اللجنة فيها ما يأتي: حيث إن المادة المذكورة معلقة على قرار المؤتمر فلم تر اللجنة ضرورة للبحث فيها للأسباب المذكورة في قرار اللجنة بالمادة السابقة. ثم ختمت الجلسة حيث كانت الساعة الرابعة والنصف مساء على أن تجتمع في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي. إمضاءات الأعضاء ... ... ... ... ... ... رئيس اللجنة محمد مراد ... عطاء الله الخطيب ... ... عبد الحميد البكري أبو بكر جميل الدين يعقوب شنكوفتش ... ... ... إمضاء ... ... ... ... ... ... ... محمد الصالحي عبد الله أحمد ... ... ... ... ... محمد إدريس السنوسي عناية الله خان *** لجنة بحث المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر انعقدت اللجنة المؤلفة لبحث المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر الإسلامي العام للخلافة بمصر للمرة الثالثة الساعة الحادية عشرة من برنامج صباح يوم الاثنين 5 ذي القعدة الحرام سنة 1344هـ (17 مايو سنة 1926) في دار المؤتمر برياسة حضرة صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري، وبحضور حضرات أصحاب الفضيلة والسعادة أعضائها ما عدا حضرات السيد محمد الصديق والسيد الميرغني الإدريسي والحاج عبد الله أحمد لغيابهم. وبحضور محمد شكري رجب أفندي الكاتب المكلف بتدوين قراراتها، فتلى محضر الجلستين الماضيتين، فوافقت عليه اللجنة كما هو. ثم نظرت فيما يأتي: أولاً: الاقتراح المرفوع إليها من سكرتارية المؤتمر بناءً على قرار لجنة الاقتراحات والأبحاث والخطب. وهو مقدم من حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ خليل الخالدي (ومرافق لهذا) فقررت اللجنة أن موضوعه داخل في أبحاث المؤتمرات التي ارتأت اللجنة انعقادها للبحث في تقرير أمر الخلافة. ثانياً: في وضع تقرير يشمل بيان الأسباب والاعتبارات التي بنت عليها رأيها في المسائل الثلاث الأخيرة المبينة في برنامج المؤتمر. وبعد البحث والمداولة قررت اللجنة وضع هذا التقرير بالصورة الآتية: (تتشرف اللجنة المشكلة للنظر في المسائل الثلاث الأخيرة من برنامج المؤتمر برفع تقريرها ببيان الاعتبارات التي بنت عليها رأيها في المسائل المحولة إليها ليقرر المؤتمر ما يراه، ورأيه مقرون بالتوفيق إن شاء الله. إن للخلافة شأنًا عظيمًا بين المسلمين، وكان ذلك الشأن بارزًا بكل ما يتصور من مجد وعظمة أيام الخلفاء الراشدين، وأيام كانت كلمة المسلمين متحدة، وآمالهم متجهة نحو جهة واحدة من إعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه، ورفع شأن الإسلام والمسلمين إلى أن ظهر الضعف فيهم، وتضاءل نفوذ الخلافة فأصبحت عبئًا ثقيلاً على من يتحملها حتى إن الأتراك نبذوها بدلاً من أن يروها عمادًا عظيمًا يبنون عليها مجدهم، ومسندًا هامًّا يسندون إليه ظهورهم، وعلى أثر ذلك اجتمعت هيئة كبار علماء مصر، وأصدرت قرارها المعروف بشأن الخلافة، فأثارت بذلك مسألة البحث فيها من جميع نواحيها. ولقد اشتمل قرار العلماء على أن الإمام يحوط الدين وينفذ أحكامه ويدير شؤون الخلق على مقتضى النظر الشرعي وعلى أنه صاحب التصرف التام في شؤون الرعية وأن جميع الولايات تستمد منه، فعلم من ذلك أن أهم الشروط في الخليفة أن يكون له من النفوذ ما يستطيع معه تنفيذ أحكامه وأوامره، وأن يدافع عن بيضة الإسلام وحوزة المسلمين طبق أحكام الدين. وهل من الممكن الآن قيام الخلافة الإسلامية على هذا النحو؟ إن الخلافة الشرعية بمعناها الحقيقي إنما قامت على ما كان للمسلمين في الصدر الأول من وحدة الكلمة واجتماع الممالك مما جعل الإسلام كتلة واحدة يأتمر بأمر واحد، ويخضع لنظام واحد كما ذكرنا آنفًا. أما وقد تناثر عقد هذا الاجتماع، وأصبحت ممالكه وأممه متفرقة بعضها عن بعض في حكوماتها وإدارتها وسياستها وكثير من بنيها تملكته نزعة قومية تأبى على أحدهم أن يكون تابعًا للآخر فضلاً عن أن يرضخ لحكم غيره ويدخله في شؤونه العامة فمن الصعب تحققها الآن. هذا إذا فرضنا أن الشعوب الإسلامية كلها كيان مستقل يحكم نفسه بنفسه على أن الواقع غير ذلك، فإن أكثر هذه الشعوب تابع لحكومات غير أهلية، وهنا يزداد أمر الخلافة الشرعية تعقيدًا لما يوجد بطبيعة هذه الحال من العلاقات والروابط الدقيقة من الأمم المستقلة فيها وغير المستقلة. فإذا فرض أن أقيم خليفة عام للمسلمين فلا يكون له النفوذ المطلوب شرعًا، ولا تكون الخلافة التي يتصف بها خلافة شرعية بمعناها الحقيقي، بل تصبح وهمية ليس لها من النفوذ قليل ولا كثير. إزاء هذه المصاعب التي تحول دون إيجاد الخلافة الشرعية بالنسبة للأحوال التي عليها الأمم الإسلامية، وإزاء الأهمية القصوى التي لمركز الخلافة وما يترتب على إقامتها بين المسلمين من المزايا والمنافع الكبرى. قد قررنا القرار الآتي على المادة الرابعة من المواد التي نيط بنا النظر فيها على الوجه الآتي: (إن الخلافة الشرعية المستجمعة لشروطها المبينة في تقرير اللجنة العلمية (الذي أقره المؤتمر في هذه الجلسة) والتي من أهمها الدفاع عن حوزة الدين في جميع بلاد المسلمين، وتنفيذ أحكام الشريعة الغراء فيها لا يمكن تحققها بالنسبة للحالة التي عليها المسلمون الآن) . ولما كان إبقاء أمر المسلمين مهملاً على ما هو الآن بدون مدبر غير جائز فإننا نرى أن الحل الوحيد لهذه المعضلة أن تتضافر الشعوب الإسلامية على تنظيم عقد مؤتمرات بالتوالي في البلاد الإسلامية المختلفة لتبادل الآراء بين أعضائها من وقت إلى آخر حتى يتيسر لهم مع الزمن تقرير أمر الخلافة على وجه يتفق مع مصلحة المسلمين. أما إذا لم تساعد الأحوال والظروف على استمرار عقد المؤتمرات، وتعذر انعقادها للنظر في أمر الخلافة فتفاديا من أن يبقى مسندها شاغرًا زمنًا طويلاً وما يتبع ذلك من بقاء المسلمين دون مركز يرجعون إليه في أمور دينهم العامة، ينبغي إيجاد هيئة مكونة من زعماء المسلمين وأهل المكانة والرأي تنعقد في كل سنة للنظر في شؤون المسلمين وتؤلف في كل أمة إسلامية لجنة تنفيذية ذات صبغة قومية تكون ذات اتصال بالهيئة العامة، وهذه اللجان يقوم كل منها بتنفيذ قرارات الهيئة العامة في بلادها. 1 - ظهر جليًّا مما تقدم أن إقامة الخلافة في مثل هذه الأحوال والظروف التي وصفناها أمر متعذر إن لم يكن في حكم المستحيل من الوجهة العملية، وهذا يستتبع حتمًا استبعاد فكرة النظر في تنصيب إمام أو خليفة للمسلمين الآن؛ لأن إقامة خليفة في الوقت الحاضر على ما هي عليه الأمم الإسلامية لا يحل مشكلة الخلافة بل من شأنه أن يزيدها تعقيدًا على تعقيد فضلاً عن أنه لم يوجد إلى الآن هيئة من أهل الحل والعقد في أمور المسلمين تملك حق البيعة شرعًا كما أنه لم يشترك في هذا المؤتمر كثير من الأمم الإسلامية التي دعيت للاشتراك. ولهذا قد قررنا أن يكون الجواب على المادة الخامسة الواردة في البرنامج على الوجه الآتي: (إن مركز الخلافة العظمى في نظر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وفي نظر أمم العالم جميعًا له من الأهمية الكبرى ما يجعله من المسائل التي لا يمكن البت فيها الآن للأسباب المذكورة لما يجب أن يراعى في حل مسألتها الحل الذي يتفق مع مصلحة المسلمين في الحاضر والمستقبل. من أجل هذا تقرر ما يأتي: تبقى هيئة المجلس الإداري لمؤتمر الخلافة الإسلامية بمصر على أنه ينشئ له شعبًا في البلاد الإسلامية المختلفة يكون على اتصال بها لعقد مؤتمرات متوالية فيها حسب الحاجة للنظر في تقرير أمر الخلافة الإسلامية النظر الذي يتفق مع مركزها السامي) . ولا غضاضة في ذلك على الأمم الإسلامية إذا كانت لم توفق إلى الآن إلى حل مسألة الخلافة الشرعية، ونصب الإمام كما أنه لا غضاضة على المؤتمر الحاضر إذا لم يتيسر له تقرير أمر الخلافة والخليفة نهائيًّا. ويكفيه من ذلك أنه قام بأجل خدمة المسلمين بأن شخَّص لهم الداء ووصف لهم الدواء فيكون بذلك قد قام بالواجب الديني نحو الإسلام والمسلمين. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) . رئيس اللجنة ... ... ... ... ... امضاءات الأعضاء عبد الحميد البكري ... ... ... محمد مراد ... عطاء الله الخطيب (إمضاء) ... ... ... ... أبو بكر جمال الدين يعقوب شينكه ويج ... ... ... ... ... محمد الصالحي ... ... عبد الله أ

مبحث في الجرح والتعديل ـ 1

الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني

_ مبحث في الجرح والتعديل بسم الله الرحمن الرحيم إثبات توثيق كعب الأحبار ووهب بن منبه حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فإنكم كثيرًا ما تدعون إلى انتقاد المنار. وإن هذه أكبر مزية له؛ لأن تحقيق المباحث العلمية من أسمى ما يتشوق إليه طلاب الحقائق الذين لا يستريحون إلا بالوقوف عليها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالانتقاد والمناقشة والأخذ والرد. فإن الحقيقة بنت البحث، وإن المناقشة في أي مبحث كان تولد فيه من الفوائد العلمية ما تجعله مقدمًا على غيره من المواضيع الغفل التي لم يطرقها بحث فلم تنضج بعد. ولم يكن لها في نفس القارئ ذلك الأثر الثابت الذي يشعر به عند تلاوة مواضع البحث والمناظرة، وشتان بين اطلاعه على ما يحتمل أنه رأي شخصي، وبين ما يعلم عنه من سميته في الحال. لذلك أكتب ما يأتي: أتيتم في خلال تفسير قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) من سورة الأعراف بما يؤخذ منه أنكم تجرحون وتطعنون على كعب الأحبار ووهب بن منبه بأنهما: (1) رويا أخبار غرائب بني إسرائيل المكذوبة. (2) وكانا يدسان في الدين الإسلامي بكذب الرواية. (3) وأنهما من جمعيتين دبرتا قتل الخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما كما هو موضح بصحيفة 169 من الجزء الثالث الصادر في 29 شعبان سنة 1342هـ ولما كان هذا التجريح غير المعروف عنهما عند رجال الحديث من المتقدمين والمتأخرين إلى عصرنا هذا. ويوجب سوء سمعتهما عند قراء المجلة. ويترتب عليه الحط من اعتبار أشهر كتب الحديث (البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه وموطأ الأمام مالك) لذكرهما فيها على سبيل الرواية عنهما والاحتجاج بهما في عدة مواضع. وكنا في وقت كثر فيه الملحدون والمارقون الذين يثيرون على الدين الإسلامي أقل شبهة، فخشية أن يقول مارق: إن صاحب المنار قد أظهر في رجال كتب الحديث التي تدعون صحتها من هو كذاب، دساس، ويحاول أن يقيم من وراء ذلك دليلاً على تقصير أصحابها في انتقاء رجالهم، ولا يخفى ما في ذلك من الخطر، وإيفاء للرجلين حقهما بادرت إلى انتقاد هذا الطعن والتجريح مثبتًا براءة الحبرين مما ذكر بالإشارة إلى محال نصوص علماء الجرح والتعديل الصريحة في توثيقهما توثيقًا لا يصح معه جرحهما بشيء مما ذكر. فلم تنشروا الانتقاد إلا بعد أكثر من عام أي في صحيفة 73 من الجزء الأول الصادر في 29 رمضان سنة 1343 متبعين له بشيء من الرد على. ثم لم تنشروا بقية الرد إلا بعد عام آخر بصحيفة 716 من الجزء التاسع الصادر في 15 شعبان سنة 1344 فلما كمل الرد ولم أجد فيه ما يشفي العلة. بل زاد الطين بلة. فإنكم وإن سلمتم ببرائتهما من الطعن الثالث فقد بالغتم في نسبتهما إلى الأولين وهما محل الخطر (فوقفت حائرًا) لأن الأمر أصبح في احتياج لمزيد من بحث ودرس، وأنا مشتغل بالحرث والدرس. ولم يكن بد من بيان الواقع من توثيق الحبرين وإلا كنت جانيًا عليهما بتركهما بعد تعريضهما لأسنة البحث والمناظرة. فرجعت إلى ردكم منقبًا عما حال دون إدراك الحقيقة، فوجدت السبب ينحصر في ثلاثة مواضع مهمة. فتجدد أملي في أنه مع بيانها يزول ما كنت أحذر. حيث إنها في نفس المنار تنشر ومن علق بنفسه شيء مما سبق يزول. وننال معكم بذلك من الله تعالى الرضا والقبول. *** الموضع الأول قلب نص قاطع في الموضوع من الإثبات إلى النفي - وذلك فيما نقلتم في سياق جرحكم كعب الأحبار بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ونصه (وقد صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره) . ولما كان هذا غير المعروف راجعت ترجمته في الطبقات، أي تذكرة الحفاظ بصحيفة 45 من الجزء الأول فوجدت النص هكذا (وله شيء في صحيح البخاري وغيره) . هذا وقد قال الحافظ الذهبي في أول هذا الكتاب الجليل ما نصه (هذه تذكرة بأسماء معدلي حملة العلم النبوي ومن يرجع إلى اجتهادهم في التوثيق والتضعيف والتصحيح والتزييف) واسما الحبرين ثابتان فيها وقال في ترجمة كعب المذكورة (إنه من أوعية العلم ومن كبار علماء أهل الكتاب أسلم في زمن أبي بكر فقدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم وأخذ هو من الكتاب والسنة عن الصحابة وتوفي في خلافة عثمان، وروى عنه جماعة من التابعين مرسلاً. وله شيء إلخ وترجمة وهب بن منبه في صحيفة 88 من الجزء نفسه وقال فيها (إنه عالم أهل اليمن ولد سنة 34هـ وروى عن أبي هريرة وعن عبد الله بن عمر وابن عباس وأبي سعيد وجابر بن عبد الله وغيرهم وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير فإنه صرف عنايته لذلك وبالغ. وحديثه في الصحيحين عن أخيه همام) . وقد نص صاحب الفضيلة الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس بقسم التخصص في القضاء الشرعي في رسالته مفتاح السنة المطبوعة والمنشورة بمجلة المنار على أن تذكرة الحفاظ هذه من كتب الثقات. كما نص العلامة القاسمي في كتابه الجرح والتعديل المطبوع والمنشور بالمنار أيضًا (على أن من الوجوه التي تعرف بها ثقة الراوي ذكره في تاريخ الثقات) ، وحيث ثبت ذكر الحبرين في هذه التذكرة وهي من تواريخ الثقات فيكون هذا حكمًا بتوثيقهما توثيقًا لا يقبل نقضًا ومن ادَّعى غير ذلك فعليه البيان. *** الموضع الثاني حمل أقوال بعض سلف الأمة وعلمائها على غير مرادهم لعدم البحث - وذلك ثابت في قولكم ضمن الرد بصحيفة 77 من الجزء الأول المذكور ما نصه (أما كعب الأحبار، فإن البخاري لم يرو عنه في صحيحه شيئاً ولكن ذكره فيه بما يعد جرحًا له لا تعديلاً. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته من تهذيب التهذيب: وروى البخاري من حديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطًا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب (تأمل) . قال الحافظ بعد نقل هذه العبارة عن الأصل: (قلت) هذا جميع ما له في البخاري وليست هذه رواية عنه فالعجب من المؤلف كيف يرقم له ورقم البخاري وليست هذه رواية عنه فيوهم أنه أخرج له.. . إلخ، يعني أن ذكر صاحب التهذيب رقم البخاري وهو حرف (خ) عند اسم كعب غلط، وقد صرح الحافظ الذهبي في الطبقات بأنه ليس له شيء في صحيح البخاري وغيره. والمنتقد يبدي ويعيد ذكر رواية البخاري عنه وتوثيقه له، وأقول: إن قول معاوية: إن كعبًا كان من أصدق المحدثين عن أهل الكتاب، وإنهم مع ذلك اختبروا عليه الكذب طعن صريح في عدالته وفي عدالة جمهور رواة الإسرائيليات؛ إذ ثبت كذب من يعد من أصدقهم ومن كان متقنًا للكذب في ذلك يتعذر أو يتعسر العثور على كذبه في ذلك العصر إذ لم تكن كتب أهل الكتاب منتشرة في زمانهم بين المسلمين كزماننا هذا، إلى أن قلتم: وجمله القول أن جرح كعب لا يقتضي خسران شيء يذكر من العلم في صحيح مسلم، ويوافق ما عند البخاري من إثبات معاوية لكذبه عنده وعند غيره؛ ولذلك امتنع البخاري عن الرواية عنه على غرور الجمهور بعبادته. اهـ منار. فهذه الجملة اشتملت عدا رأيكم على ثلاث عبارات للمتقدمين (الأولى) عبارة سيدنا معاوية المروية في البخاري (الثانية) عبارة الحافظ ابن حجر المنصوصه في كتابه تهذيب التهذيب (الثالثة) عبارة الحافظ الذهبي المثبتة في كتابه الطبقات المذكورة. أما عبارة الذهبي فقد بينا ما فيها قريبًا وآفتها من كلمة (ليس) التي حشيت فيها فقلبتها من الإثبات إلى النفي، وعبارة ابن حجر مترتبة معنى على عبارة سيدنا معاوية. فوجب الكلام أولاً على عبارة معاوية رضي الله عنه من جهة نصها ومعناها مع بيان غرض الإمام البخاري من ذكرها في صحيحه حتى يتبين بجلاء إن كانت طعنًا على كعب أو توثيقًا له. أما من جهة نصها في صحيح البخاري فهي في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، وقد أتى بها البخاري عقب ترجمته هكذا (بسم الله الرحمن الرحيم باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء. وقال أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطًا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال: إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب. اهـ بخاري وأثبت صاحب الفتح (إن) في رواية (وحدثنا أبو اليمان) وأنّ إنْ مخففة من الثقيلة، وضبط شيخ الإسلام (وذكر) بالبناء للمفعول وفي النسخ المضبوطة بالقلم علامة صحة حذف كلمة (أهل) عن أبي ذر الهروي فتكون روايته هكذا (الذين يحدثون عن الكتاب) هذا ما يتعلق باللفظ. وأما من جهة المعنى فأحسن ما يبين معناها هو نفس كلام سيدنا معاوية ذاته عن كعب الأحبار شخصه. وقد اطلعتم على عبارة أخرى لسيدنا معاوية صريحة في الثناء على كعب وهي قوله: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار، وإن كنا فيه لمفرطين كما هو منصوص في تهذيب التهذيب قبل ما نقلتم منه مباشرة. والعبارتان صدرتا منه رضي الله عنه بعد وفاة كعب لتصريحه بالتفريط في الأخذ عنه في هذه، ولا ولى، قالها لما حج بالناس في خلافته كما نص عليه في الفتح وكعب توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه كما سبق، أي فلم يطرأ ما يوجب تغيير رأيه بين العبارتين. فلا يصح مع ذلك قولكم إن العبارة - طعن صريح في عدالة كعب - إذ ثبت كذبه - بل كان متقنًا للكذب - ومغررًا للجمهور بعبادته - كما سبق نقله عن المنار، لأن هذا تناقض بين عبارتي خليفة من خلفاء الإسلام وصحابي من أكابر الصحابة هداة الأنام مشهور بحصافة الرأي ومعروف بالبلاغة، فلا يتأتى منه أن يأسف على التفريط في الأخذ عن كذاب، وليس من البلاغة وصف رجل في أول جملة بأنه من أصدق المحدثين وفي آخرها بأنه من أكذب الكذابين وكيف يكون ذلك من أحد الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. على أن العبارة من حيث تركيبها العربي لا تصلح دليلاً مطلقًا على أقل ألفاظ هذا التجريح فإن إسناد الكذب فيها إلى (الكتاب) باعتبار ما فيه من التبديل أقرب من إسناده إلى (كعب) كما قرره شارح البخاري في توجيه احتمال رجوع الضمير في (عليه) إلى (الكتاب) ولأنه أقرب مذكور. وعلى كل حال فقد صارت هذه العبارة لا تصلح حجة على الطعن في كعب لأن الدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال. لذلك لم يقل أحد من علماء الحديث الذين شرحوا البخاري وغيرهم: إن هذه العبارة قصد بها سيدنا معاوية تجريح كعب مطلقًا بل بعكس ذلك فهموا أنها صدرت منه للدلالة على توثيق كعب بأنه كان من أصدق المحدثين عن الكتاب وأن الخليفة ابتلى الكذب على الكتاب نفسه لما علمه فيه من التحريف والتبديل بناء على عود الضمير على أقرب مذكور - وقد رأى ذلك العلامة السيوطي كما يؤخذ من كتابه (إسعاف المبطأ) المطبوع حديثاً مع الموطأ بمطبعة عيسى الحلبي حيث ترجم لكعب الأحبار بصفته أحد رجال الموطأ (المعروف بانتقاء الإمام مالك لرجاله من أوثق رجال الحديث) مقتصرًا على صدر عبارة سيدنا معاوية في الاستدلال على توثيق كعب لكونه يرى إعادة الضمير على الكتاب وأنه بناءً على ذلك لا ارتباط بين صدر هذه العبارة وآخرها. فالسيوطي جعل العبارة توثيقًا وهو متوفى سنة 911هـ (هذا) ومن رأى عود الضمير على كعب حمل الكذب في العبارة على ما يوجد في بعض أخباره من الخطأ الذي سرى إليه من أهل الكتاب قبل إسلامه، ولا علاقة له بأمر الدي

جمعية تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة مهاجمة اللغة العربية وآدابها لم تقنع جمعية تجديد الإلحاد والإباحة في مصر بصد الشعب المصري وسائر الشعوب العربية بل الأمة الإسلامية عن الدين أو تشكيكها فيه تمهيدًا لإباحة الأعراض وعبادة الشهوات، وتقليد الإفرنج فيما يسهل التقليد فيه من الفواحش والمنكرات، بل نراهم يعنون بتحقير آداب اللغة العربية ليجردوا الأمة من هذا الفصل المنطقي الذي يفصلها من غيرها من الأمم ويثبت لها استقلالها خاصًّا بمقومات خاصة ومشخصات خاصة. وأعظم مقومات الأمم الدين الذي هو مصدر الفضائل والآداب النفسية، واللغة التي هي مظهر العلوم والمعارف والآداب، ويليهما التشريع الذي هو مجلي السيادة والحكم، وقد بدأ هؤلاء الزنادقة بهدم الدين هدمًا مطلقًا لا هدم تجديد كما يدعون في غيره، وهدم التشريع الإسلامي لاستبدال التشريع الأوروبي به، ثم شرعوا في تحقير آداب اللغة بزعم تجديدها بآداب لغات ساداتهم الإفرنج. ألف الدكتور طه حسين أستاذ تجديد الإلحاد والإباحة في الجامعة المصرية غير الرسمية كتيبًا كذب فيه نقلة اللغة العربية ورواة آدابها فيما رووه من شعر العرب في عصر الجاهلية، وزعم أنهم هم الذين وضعوا المعلقات السبع وافتروها على امرئ القيس وطرفة وعنترة. . . إلخ كما افتروا غيرها من الدواوين وما دون الدواوين، واستطرد إلى تكذيب كتاب الله وتكذيب خاتم رسله عليه صلواته وسلامه في إسناد بناء بيته الحرام إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام وفي غير ذلك، وجعل ذلك من الأساطير لا يثبته العلم، وهذا جهل منه بمعنى كلمة العلم، فإنه لم يقل أحد من العلماء المتقدمين ولا المتأخرين أن وقائع التاريخ يتوقف ثبوتها على عدم نفي العلم لما رواه الرواة منها. فخبر بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لبيت الله تعالى تناقلته الأمة العربية بالتواتر المؤيد بتقاليد دينية عملية، ثم أثبته الوحي الإلهي الثابت بالآيات القطعية، ولا يوجد دليل علمي يعارضه، فما معنى قوله: إن العلم لا يثبته؟ - وقد ألقى هذا الكتاب دروسًا في الجامعة المصرية الرسمية، وربما يصدق الكثيرون من طلابها هذا الأعمى البصر والبصيرة فيما يكذب به علماء الأمة الإسلامية وكتاب ربها وحديث نبيها المعصوم فيما يريد به تجريد أمتهم من الدين واللغة والنسب والأدب والتاريخ ليجددهم بذلك فيجعلهم أمة أوربية! ! بل طعمة للدول الأوربية كما جدد نفسه وبيته بتزوج امرأة غير مسلمة وبتسميته أولاده منها بأسماء الإفرنج رغبة عن الأسماء العربية القديمة والجديدة واحتقارًا لها، وقد حدثنا الثقة عن أحد أصدقائه أو أساتذته أنه قال: لا مانع يحول دون إقناعنا للمصريين بسيادة الإنكليز وحكمهم إلا الدين، أي فلا بد من إزالة هذا المانع! . وقد رأيت بعد عودتي من الحجاز مقالاً لأحد مقلدته أو أعضاء جمعيته في صحيفتهم السياسة ناشرة دعايتهم وحاملة لوائهم عنوانها (العقلية العربية وشعر رامي) أنشأها لتقريظ ديوان شعر (أحمد رامي) أحد أدباء النابتة المصرية، وكأنه راعه من شعره ذوقه العربي الصحيح، وأداؤه المصري الفصيح، وقريحته النضاخة بالمعاني، وخياله المصور لها في أجمل المباني، فعز عليه أن يكون شعره عربيًّا صحيحًا، وأن يكون في دوحة الآداب العربية غصنًا قويمًا، فأراد دعوته إلى جمعية التجديد؛ ليكفر بطرافة شعره أدب لغته التليد، ويترك السبح في بحارها، والاقتباس من أنوارها، وينسلخ من سليقته العربية، ويتبرأ من فطرته الإسلامية، ويتكلف تقليد الفرنجة في ترك القوافي والأوزان العربية، ويتنحل المعاني اللاتينية والإغريقية، فيكون من جمعية المجددين، بهدم ما استطاع مما لأمته من لغة وأدب ودين. ومن الغريب أن عمدة دعاة الزندقة في هدم مقومات هذه الأمة ومشخصاتها وصفها بالقديمة، وشبهتهم عليه أن كل قديم فهو قبيح يجب تركه، ومن المعلوم بالبداهة أن حسن الأشياء وقبحها الحقيقيين في ذاتها، وفائدتها، لا في قدمها ولا في جدتها، وما من قديم إلا وكان جديدًا ولا جديد إلا وسيكون قديماً، ومن لا قديم له لا جديد له بل لا وجود له، وإنما الأمم بتاريخها، ومثل من يحاول هدم تاريخ الأمة لأجل تجديدها كمثل من يحاول هدم بنية كل فرد منها ليجدد له بنيه أحسن منها. نعم، إن كل حي يحتاج آنًا بعد آخر إلى جديد يكون مددًا لقديمه لا هادمًا له ومصلحًا لما فسد منه، ومن عجيب أمر هؤلاء أننا نراهم يدعون إلى انتحال ما هو أقدم مما يذمون من قديم أمتهم كالأدب الإغريقي والشعر الإغريقي الذي هو دون الأدب والشعر العربي الجاهلي والإسلامي، والحق أن كلمة الجديد والتجديد كلمة خادمة للنابتة، مستهوية لخيال الشببة؛ لأنهم لا يريدون إلا جعل هذه الأمة لقمة سائغة لسادتهم المستعمرين، بتقطيع ما يربط بعضها ببعض من لغة وأدب وتشريع ودين، وأنهم ليدعون دعاوى لا تثبتها بينة، ويؤلفون أقيستهم من قضايا لا تقوم عليها حجة، بل هي كذب وبهتان، يكذبه الحس والعلم، كوصف مقرظ ديوان رامي للشعر العربي و (العقلية العربية) وهذا نص تقريظه نقلاً عن (جريدة السياسة في 22 المحرم سنة1345) قال: العقلية العربية وشعر رامي بينما كتاب مصر يحسون تمام الإحساس بخطورة العقلية الشرقية القديمة. يلمسون في تضاعيف النهضة الحاضرة رغبة صادقة في الخلاص من المصطلحات والعقائد [1] والنظم الرجعية الآسنة فيحاولون السعي بما أوتوا من مواهب لتحرير الفكر وتجديده وتلقيحه بخصائص الثقافة الأوربية سواء في المقالات أو في الأبحاث أم في الروايات القصصية أو التمثيلية - يظل شعراؤنا في المؤخرة جمودًا ضاربين حول أنفسهم نطاقًا محرمًا كجماعة الفقهاء أو اللاهوتيين، يتعهدون في أنفسهم ملكة النظم على أهازيج الحداء البدوية باستظهار ما يمكن استظهاره من شعر العرب موقنين أن الحافظة المشحوذة المتوقدة المحملة بآثار السلف الصالح هي وحدها مثار العبقرية الشعرية على اختلاف أشكالها وميولها [2] . إنهم يعودون أنفسهم بمجهود آلي مدهش الانتشاء بتسلسل القوافي المتشابهة وانصبابها في رنين لفظي واحد، ولا يخطر لهم ببال أبدًا بل لا يخالط وجدانهم لحظة أن هذه الموسيقى المتشابهة أنصع ما تكون دليلاً على سذاجة فطرية وبغاء غريزي وهمجية متأصلة كعلالات الأطفال أو ألحان البرابرة [3] . ثم هم لا يفطنون إلى أن كل فن محدود الرسوم ثابت الأشكال متشابه الأجزاء ينبئ عن جمود في الفكر وضعف في قوى الابتكار واستمتاع بضرب من الركود المعنوي منه نشأ هذا الفن [4] لا لشيء سوى مجرد الترفيه والتسلية وقتل الوقت ومداراة عوامل اليأس الضجر. وإن من يمعن النظر مليًّا في الينابيع التي يستمد منها معظم شعرائنا وحي قريضهم لا يكاد يتبين فيها أثر الحياة الحرة، بل هو على النقيض يلمس تكرارًا مملاًّ مشينًا وتحديًا غريبًا مزريًا لما قاله العرب ورددوه في عصور قضت، بل ويلمس فوق هذا تدلُّها سخيفًا وعبودية عمياء لما اتصفت به العقلية العربية في إلهاماتها الشعرية من عيوب جعلت أدب العرب ضد الفن أي ضد الحياة، كالحذلقة اللفظية الطنانة الجوفاء، والمبالغة المضحكة في الأوصاف، والجرأة على الاستعارة البعيدة عن الواقع، والجنون بالخيال الذي عوض أن يقرب إليك الحقيقة يقصيها عنك جهده. والولع الشديد بالكذب، وادعاء العاطفة دون الشعور بها. والفرار من رسم أفاعيل الوجدان وتقلبات النفس وأطوارها، واعتقادهم المتوارث أن الشعر شيء والحقيقة شيء آخر، وأن خصائص العقل كالروية وإحكام النظر وصدق الملاحظة لا تتفق والفن الشعري الذي يجب أن يكون في عرفهم مجرد تخيل غشاش لصور وعواطف لا وجود لها إلا في مخيلة شاعر دجال [5] . كل هذه المميزات المشهورة - ويجب أن نفهم ذلك ونسلم به [6] ، هي التي تستهبط منها غالبية شعرائنا وحيها، وهي التي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تعد فنًّا سليمًا. إذ الفن الإغريقي الذي عنه أخذت أوربا وتأخذ حتى اليوم لم يتأثر به العرب ولم يلقحوا به أدبهم. وهو الفن الصحيح لأنه يقوم على رسم الحقيقة وإبداعها مخيلة وفق مزاج كل فنان وهواه. فيصبح الفن حياة جديدة تحبب المرء في الحياة الواقعة؛ لأنها تجملها له وتضاعفها وتميط اللثام عن دفائن أسرارها. ومواطن الجمال فيها. فيلحق الفن بالفلسفة والعلم في تأسيس الحضارات الإنسانية وتحقيق المثل الأعلى. أما الفن العربي - إذا صح أن للعرب فنًّا - فهو الهرب من الحياة، هو تخيلها جوهرًا غريبًا عن حقيقتها. وفي رأيي أن قد نشأ ذلك من أن العربي رجل حاد الشهوة بعيد مطلب الحس، جوالة، رحالة، متفنن في استغلال قواه البدنية لذة، والعقلية مرحًا ونسيانًا، فهو يود الحصول على اللذتين؛ لذة الاستمتاع بالحياة الواقعة في جو شهوي رحب لا قيد فيه ولا نظام، ولذة الاستمتاع بالحياة الفنية المخيلة في عالم غير عالمه الأرضي فيه لذائذ أخرى وشهوات أخرى وغرائب أخرى، فهو رجل لا يتطلب في الفن رسم الواقع لدرسه والعمل لتجميله وإصلاحه بل هو يعيش الواقع هذا (؟) ويستوعبه ويستمرئه ويمتص عصارته حتى إذا ما مجَّته نفسه هرع إلى عالم مخيل كاذب كعالم آكل الأفيون فلا يزال به حتى يدرك قراراته فيعاوده سأمه فينزع إلى ميله الأول وهكذا [7] . وإن من يعرف أن العرب قد تأثروا بعلوم الإغريق على ضآلتها دون آدابهم وفنونهم وهي التي كانت قد ازدهرت أيما ازدهار وبلغت من العمق والصدق والروعة ما لم تبلغه فنون في أي عصر ذهبي يفهم تمامًا أن عقيدة العرب في أن القرآن ليس كتاب دين منزل فحسب بل كتاب أدب منزل أيضًا، هو الذي حال بينهم وبين استغلال أدب الإغريق وجعلهم يرون الكمال المطلق في الخلق الأدبي مجاراة الأسلوب القرآني والنقل عنه والاقتباس منه إلى حد أنهم كانوا يقيسون مقدرة التأثر منهم (؟) بقدرته على محاكاة البلاغة القرآنية في صوغ العبارة وصقلها، الأمر الذي أحال الأدب نوعًا آخر من أنواع العبادة فخنق وظائف الابتداع وابتلى المصنوعات الأدبية بمرض اللفظ والعناية بالمبنى دون المعنى والعرض دون الجوهر [8] ؛ فكانت سخرية عجيبة لا مثل لها في تاريخ الإنسانية، هي أن الأدب العربي منذ الإسلام لم يخرج للناس سوى كتاب عظيم واحد هو كتاب الإسلام نفسه أي القرآن. تلك هي العقلية العربية وهي المتسلطة على معظم شعرائنا حتى اليوم لا سيما أفراد السلالة المنصرمة منهم، وتلك هي التي يحاول التجرد منها بعض شبابنا كالشاعر أحمد رامي في ديوانه الثالث الذي نحن بصدده الآن. (رامي شاعر نزَّاع إلى التجديد، توَّاق إلى استئصال جراثيم الثقافة العربية من نفسه وكبح ما تولده من ولع بالصناعة اللفظية وانصياع لعواطف مفتعلة زائفة، هو يروض إحساسه بالثقافة الفرنجية جهده كي تستضيء على نور عقله المستنير أفاعيل وجدانه فيشرف على حالاته النفسانية إشراف الفنان الأوروبي الذي لا يقنع من عواطفه بالشعور بها؛ بل هو يريد أن يفهم هذا الشعور ويحلله، يريد التمييز بين عميقه وتافهه، بين جيده ورديئه، بين إنسانية العامة والخاصة، يريد أن ينفد إلى باطن نفسه ما استطاع مستنبشًا أغوارها السحيقة النائية كيما يؤدي إحساسه تأدية أمينة صحيحة لا كلفة فيه ولا غش. رامي شاب يتدفق في شرايينه دم الصبا، وتغلي في فؤاده نزوات ا

البابية البهائية في بلاد العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البابية البهائية في بلاد العرب كان بلغنا أن الشيخ محمد الخراشي المصري سافر من مصر إلى العراق، ثم كتب إلينا في أواخر العام الماضي (عام 1344هـ) أنه قصد الكويت فالبحرين وأنه يجاهر بدعوة المسلمين إلى الديانة البهائية، فنحذر إخواننا مسلمي العرب هنالك من هذا الداعية المضل فالواجب أن يفروا منه فرار السليم من الأجرب؛ لئلا يفتن بعض الضعفاء عن دينهم أو يشككهم فيه، ولا يغرن أحدًا منه ادعاؤه للإسلام، وما كان من انتسابه إلى الأزهر ومدرسة الدعوة والإرشاد، فهو قد تقلب وتذبذب، وذهب مع أهوائه كل مذهب، حتى انتهى أمره إلى البهائية، وإن أدري أعقيدة دينية أم مصلحة دنيوية؟ ثم لا يغرنهم مع ادعائه للإسلام ادعاؤه أن البهائية إصلاح وتجديد له، وأن البهاء زعيم هذا الدين هو المهدي أو المسيح المبشر به، فالحقيقة أن البهائية مشركون قد اتخذوا البهاء إلهًا يعبدونه، وهم يحرفون القرآن والتوراة والإنجيل في مواضع يزعمون بتأويلاتهم الباطنية أنها تدل على هذه الديانة وزعيمها البهاء. وليعلموا أن رجلاً مصريًّا اغتر بدعاية الخراشي وأمثاله فانتحل البهائية وادعى أنها لا تنافي الإسلام، فحكمت إحدى المحاكم الشرعية -وقد رفع إليها أمره- بارتداده وخروجه من الملة المحمدية وفرقت بينه وبين زوجه، ولعل هذا الحكم هو سبب فرار الخراشي من مصر. هذا وإن للبهاء كتابًا سماه الكتاب الأقدس زعم أنه عارض فيه القرآن الحكيم المعجز للبشر إلى يوم الدين، ولكنه أودعه من الأنباء عن المستقبل ما أظهرت الأيام كذبه وبطلانه، ولأجل هذا وغيره من مخازيهم أخفى زعماء البهائية نسخ هذا الكتاب فلا يطلعون عليه أحدًا، وبلغنا أنهم مجتهدون في جمع كل ما طبع منه حتى إذا ما تم لهم ذلك أحرقوا هذه النسخ كلها، وحذفوا منه كل ما ظهر بطلانه، وما يحتمل ظهور بطلانه في المستقبل، ثم يزيدون فيه بعض المسائل الجديدة المقبولة في عالم المدنية ويطبعونه وينشرونه، ويدعون أن البهاء هو الذي قال بها كما كان يفعل ولده عباس أفندي الملقب بعبد البهاء، وكان وهو المنقح المشذب المنظم لهذا الدين، المتصرف فيه بما تقتضيه شؤون العالم الحديثة. كنا أول من صرح في مصر بأن البهائية دين جديد بني على أساس نحل الباطنية، وكان داعيتهم الوحيد أبو الفضل الجوزقاني يأبى التصريح بذلك بل ينكره أمام جمهور الناس، كما أن خليفة البهاء ولده و (عبده) عباس أفندي كان ينكر ذلك ويصرح في القطر المصري بأنه مسلم سني، ولكنهم يصرحون بذلك لمن يضلونه بعد أن يثقوا بأنه ثابت على دينهم، كما كان سلفهم من الباطنية الأولين يفعلون. بل قد صرح عباس نفسه بأن دينهم جديد فيما كتبه إلى جمعية لاهاي، ففي أول ص 16 من ترجمة كتابه هذا بالعربية التي نشرها أحد دعاتهم بمصر وهو الشيخ فرج الله زكي الكردي ما نصه: (فالجميع يجدون في تعاليم بهاء الله منتهى آمالهم ورغائبهم، فمثلاً يجد أهل الأديان في تعاليم بهاء الله تأسيس دين عمومي في غاية الموافقة للحالة الحاضرة) .. . إلخ فالبهائية شر من (الأحمدية) القاديانية؛ لأنهم اتخذوا زعيمهم (غلام أحمد القادياني) نبيًّا ومسيحًا لا إلهًا ولم ينسخوا من الشرعية المحمدية إلا أحكامًا قليلة كالجهاد وما يتعلق به دهانًا للإنكليز، كلهم أعداء للإسلام كافرون به مضلون لأهله.

عودتنا من الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عودتنا من الحجاز قد منَّ الله تعالى علينا وله الفضل والمنة بأداء مناسك الحج والعمرة مرة ثانية في الموسم الأخير (سنة 1344 هـ) وبحضور المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد بمكة المكرمة في شهري ذي القعدة، وذي الحجة، وبلقاء زعيم الإسلام والعرب في هذا العصر عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها ومذاكرته في شؤون الإصلاح الإسلامي وترقية الأمة العربية بما تقتضيه حال العصر فألفيناه ولله الحمد فوق ما كنا نظن فيه من الهدى والعقل، وجودة الرأي، وعلو الهمة، ونبشر الأمة بأنه لم يقع بيننا وبينه خلاف في الرأي البتة، ورأينا معروف لدى قراء المنار وكثير من غيرهم، وإننا سنكتب رحلة ثانية للحجاز نبين فيه ما نرى ما فيه الفائدة مما استفدناه من هذه الرحلة. وقد مَنَّ الله علينا بالعودة إلى مصر فوصلنا إلى القاهرة في ليلة 20 المحرم من هذا العام الجديد جعله الله تعالى عام إصلاح وتجديد.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة عن الجمعة والتوسل والذكر وابن تيمية وكتبه مع أجوبتها (س 4 - 9) من معمل السكر في الحوامدية من محمد أحمد عبد السلام إلى فضيلة مولانا الأكبر محيي السنة ومميت البدعة معدن الأسرار الربانية وخزائن العلوم الاصطفائية، ووارث الحضرة النبوية، شيخ الإسلام والمسلمين، وإمام أئمة وقته أجمعين [1] الفاضل السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار حرسه الله تعالى وفسح في مدته ونفع به المسلمين آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فالرجا إفادتي عن الآتي ذكره ولك الفضل والشكر والمنة. *** شروط مكان الجمعة وعدد جماعتها وتقليد الظاهرية فيه (س 1، 2) هل صلاة الجمعة تصح داخل المعمل المشهور بفابريقة السكر عند السادة الشافعية، مع العلم يا سيدي بأن الفابريقة المذكورة في وسط أبنية، فمن الجانب الأيمن عزبة بناؤها ملصوق ببناء سور الفابريقة، ومن الجانب الأيسر عزبتان بين الأولى والسور مسيرة دقيقتين وربع، وبين الثانية والسور مسيرة خمس أو ست دقائق، وبين الجانب الغربي عزبة بينها وبين السور مسيرة دقيقة أو دقيقة ونصف والعمال مضطرون لأداء الجمعة بالفابريقة من وجهين (الأول) أن ترك الجمعة كبيرة (الثاني) أنهم لا يمكنهم الخروج لأدائها بالمسجد، وعليه فهل تصح الجمعة على هذا التفصيل بالفابريقة أم لا؟ وهل يجوز أن يقلدوا قول داود وابن حزم بأن الجمعة كسائر الصلوات تصح ولو برجل وامرأة لا فرق بين فلاة وبلد أم لا؟ (ج) شروط مذهب الشافعي في مكان الجمعة أن تكون أبنية فيها جمع تصح به الجمعة وهو أربعون رجلاً مقيمًا بشروطهم المشهورة في المذهب أو يبلغهم صوت مؤذن عال في هدو من طرف بلد آخر يليهم، فإذا كانت المباني المتصلة بمعمل السكر تحوي من أهل الجمعة الذين تنعقد بهم أربعين رجلاً وجبت عليهم وصحت منهم. والواجب في الأحكام الاجتهادية أن يعمل كل مكلف بما قام عنده الدليل عليه منها، فإن عجز عن معرفة الدليل قلد من وثق بعلمه ودينه من أهل الاستدلال الأحياء أو الأموات. وداود بن علي وعلي بن حزم من أئمة الظاهرية منهم، وما روي عن الظاهرية من أن صلاة الجمعة كصلاة الجماعة تصح من اثنين فأكثر رواه الحافظ ابن حجر في شرح البخاري عنهم وعن النخعي عن أئمة التابعين والحسن بن يحيى. ويقرب منهم قول أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة باشتراط اثنين مع الإمام، وقول أبي حنيفة باشتراط ثلاثة مع الإمام، وقال بهذين القولين آخرون من المجتهدين، ولكن الحنفية يشترطون إقامة الجمعة في مصر تقام فيه الأحكام الشرعية. والتحقيق أنه لم يثبت في عدد الجمعة حديث، ولذلك قال هؤلاء بأن جماعتها كسائر الجماعات. *** حكم أكل عمال معمل السكر منه وركوب مركبات الترام (س 3) هل يجوز لعمال معمل السكر أن يأكلوا من سكره شيئًا أم لا؟ وهل الركوب في مثل الترام والسكة الحديد جائز أم لا؟ مع العلم بأن أكل الآكل أو ركوبه لا يضر المصلحة بشيء، وأصحابهم كفار، أفيدوا هل ذلك حرام أم حلال؟ . (ج) هذه المسألة يُعمل فيها بالعرف؛ فإذا كان المعهود المعروف عند أصحاب المعمل أن العمال يأكلون منه ويرضون بذلك فلا هم ينهون العمال ولا العمال يأكلون في حال غيبتهم دون مشهدهم لاعتقادهم أنهم يسمحون لهم بالأكل - فأكلهم منه حلال وكذلك ركوب مركباته إذا كان معروفًا بلا نكير، ولم يكن من نظام إدارة المعمل أخذ أجرة منهم على ذلك فلا يحرم ركوبها. فالعرف هو المحكم في المسألتين والعمدة فيه اعتقاد العامل أنه غير سارق ولا متصرف في متاع غيره بدون رضاه، هذا إذا كانت مركبات الترام أو السكة للشركة التي يقوم العمال بشؤونها؛ وإلا فلا شك في عدم رضا أي شركة بركوب الغريب في مركباتها بدون رضاها، ولا فرق في هذه الأحكام بين المؤمن والكافر، وإنما الفرق بين دار الإسلام ودار الحرب فأهل دار الحرب الذين لا يلتزمون من أحكام شريعتنا لا يجب علينا التزام أحكامها في أكل أموالهم برضاهم وإنما يحرم علينا أكلها بالخيانة والسرقة. وليعلم أن قول السائل إن أصحاب الشركة كفار أنهم غير مسلمين كما هو الاصطلاح الشرعي وليس المراد به الإهانة. *** التوسل بالأنبياء والصالحين (س 4) هل يجوز التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو الأنبياء أو الصحابة أو الأولياء، ولو قيل بالجواز أو عدمه فهل من دليل؟ وما رأي فضيلتكم في رواية البخاري (اللهم بحق ممشاي وبحق الصالحين عليك) وهذا يفيد جواز التوسل، وما قولكم في حديث (توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) هل صحيح أو حسن أو ضعيف أو مكذوب وأين أجده في كتب المحدثين؟ أفتونا وابسطوا لنا القول؛ حيث إن بلدتنا بخصوص ذلك قامت على ساق ولم نرض ولم يطمئن قلبنا إلا بفصل قضائك بيننا جعلكم اللهم ملجأ للحائرين. المعروف عند عامة أهل عصرنا من معنى التوسل أن يعتمد المرء في قضاء حاجاته من جلب نفع أو كشف ضر أو نجاة في الآخرة من عذاب الله أو فوز بنعيم الجنة على أشخاص الأنبياء والصالحين وسؤالهم ذلك، أو سؤال الله تعالى بأشخاصهم أن يعطيه إياه، دون العمل بما جاء به الرسل عن الله من علم اعتقادي وعمل صالح وهو ما كان الصالحون صالحين باتباعهم فيه. وهذا التوسل مخالف لأصول الإسلام وهداية القرآن، وجار على قواعد الوثنية، وتعاليم النصرانية الكاثوليكية، فإن قاعدة الإسلام أن النجاة في الآخرة وسعادتها ينالان باتباع الرسل فيما جاءوا به من الإيمان، وعبادة الله تعالى وحده بما شرعه، لا بوجود أشخاصهم، ولا بدعائهم وسؤالهم، والتوسل هو التقرب ولا يتقرب إلى الله تعالى إلا بما شرعه على لسان رسوله لأنه هو الذي تتزكى به النفس وتصير أهلاً لرضوان الله تعالى. قال الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس:9-10) وقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} (الأعلى: 14) وقال بعد ذكر دخول الجنة: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى} (طه: 76) وقال: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وأشخاص الأنبياء والصالحين ليست من سعيه ووجودهم لا يزكيه ولا يهدي باتباعهم قال الله تعالى في صفة من كتب لهم رحمته: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} (الأعراف: 157) إلخ ثم قال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158) وقد ثبت أن وجود بعض المرسلين لم يكن سببًا لهداية بعض أبنائهم وآبائهم وأزواجهم ولا لنجاتهم من العذاب الذي عوقب به من كفر بهم كولد نوح ووالد إبراهيم وامرأة لوط عليهم السلام. والآيات المصرحة بأن دخول الجنة والنجاة من النار بالإيمان والأعمال كثيرة جدًّا لا نحتاج إلى التذكير بها. وأما مقاصد الدنيا فهي منوطة باتخاذ ما سخر الله للناس من أسبابها كأسباب الرزق من زراعة وصناعة وتجارة وأسباب شفاء الأمراض من أدوية وأعمال جراحة وأسباب النصر على الأعداء من نظام وإعداد ما يستطاع من قوة، وكل ما يعجز الإنسان عن تحصيله من طريق الأسباب فلا يجوز له أن يدعو غير الله تعالى فيه. وأما الاعتماد في تحصيل ما وراء الأسباب من رغائب أو رفع مضار، وفي النجاة من النار ودخول الجنة على وجود الصالحين وتوسطهم عند الله تعالى بمجرد طلب ذلك منهم فهي قاعدة الديانات الوثنية كما تقدم. وقد قال تعالى في صفة يوم القيامة {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 19) وأمر خاتم رسله أن يقول لأمته: {قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراًّ وَلاَ رَشَداً} (الجن: 21) أي ضرًّا ولا نفعًا ولا رشدًا ولا غيره - اقرأ ما بعدها أيضًا وفي معناها آيات. وجملة القول أن التوسل هو التقرب وإنما يتقرب إلى الله تعالى بما شرعه على ألسنة رسله لا بأشخاصهم، وباتباع الصالحين في ذلك لا بذواتهم وأن غير ذلك غير مشروع ومنه ما هو شرك بالله كدعاء غيره بما لا يدعى به غيره كما فصلناه مرارًا ومنه ما هو ذريعة إلى الشرك، ومنه ما هو معصية. وما ذكره السائل من عزو: (اللهم بحق ممشاي إليك وبحث الصالحين عليك) إلى صحيح البخاري خطأ فهو ليس من رواية البخاري كما قال، وإنما روى أحمد عن أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - علم الخارج إلى الصلاة أن يقول في دعائه: (وأسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا، ولا بطرًا، ولا رياء، ولا سمعة، ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك) وهو من طريق عطية العوفي وقد ضعفه أحمد والجمهور؛ وقالوا: كان مُدلِّسًا وشر تدليسه ما حكاه ابن حبان في الضعفاء من كونه يأتي محمد بن السائب الكلبي المفسر الكذاب فيأخذ عنه الأحاديث ويرويها، فإذا قيل له: من حدثك بهذا؟ يقول: أبو سعيد، فيوهم السامع أنه سمعه من أبي سعيد الخدري الصحابي رضي الله عنه إذ كان قد لقيه وروى عنه، وإنما تأول هذا التدليس واستحله بتلقيبه الكلبي بأبي سعيد على أن معنى الدعاء المذكور لو صح لا يدل على التوسل بالأشخاص، فإن حق السائلين على الله تعالى أن يستجيب دعاءهم كما وعد بقوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) فكأنه يقول: أسألك بوعدك الحق أن تستجيب دعائي، وحق الصالحين عليه أن يثيبهم على صلاحهم كما وعد في آيات كثيرة ومنه توسله بممشاه إلى الصلاة بالصفة التي ذكرها فهو توسل بعمل صالح من أعماله لا بشخص عامل آخر. *** حديث التوسل بجاهه صلى الله عليه وسلم هذا الحديث موضوع لا أصل له ولا يمكن أن تجدوه في شيء من دواوين السنة لا الصحاح ولا السنن ولا المسانيد ويذكر بلفظ (إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب التوسل والوسيلة وغيره: هذا الحديث كذب ليس في شيء من كتب المسلمين التي يعتمد عليها أهل الحديث ولا ذكره أحد من أهل العلم بالحديث مع أن جاهه أعظم من جاه جميع الأنبياء والمرسلين.. إلخ، إلى أن قال: ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ... إلخ وقد بينَّا هذا من قبل في المنار مفصلاً. *** ذكر النبي وأصحابه لله تعالى وأذكار أهل الطريق (س 5) ما كيفية الذكر الذي كان يذكره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هل كانوا يتمايلون كما عليه أهل الطريق الآن أم لا؟ وهل سير أهل الطريق موافق لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه - رضي الله عنهم - يرقصون عند الذكر ولا يتمايلون ولا يصيحون، والأذكار المأثورة عنه - صلى الله عليه وسلم - مدونة في كتب السنة، ومن أجمع الكتب لها كتاب الأذكار للإمام النووي رحمه الله، وقد فصلنا القول في هذا مرارًا وتجدون في باب التقريظ كلامًا لبعض كبار علماء الأزهر فيه. *** شيخ الإسلام ابن تيمية وكتبه (س 6) ما قول فضيلتكم في شيخ الإسلام ابن تيمية: هل هو ممن يؤخذ كلامه ويطلع على كتبه أو كما يقوله ويدعيه عليه اللئام؟ وما الموجود من مؤلفاته؟ أهـ وأنا أرفع طرفي إلى السماء وأبسط أكف الضراعة إلى الله تعالى في رد هذا الجواب وإفادتي وأهل بلدي عما في ذلك الخطاب: نفعنا الله بكم والمسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... كثير الآثام ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد عبد السلام ... ... ... ... ... .

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة مثل قصر الصلاة والفطر في شهر رمضان وغير ذلك لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (المقام الأول) أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات يقصر، وأما إذا قيل ليست محدودة بالمسافة بل الاعتبار بما هو سفر؛ فمن سافر ما يسمى سفرًا قصر وإلا فلا. وقد يركب الرجل فرسخًا يخرج به لكشف أمر، وتكون المسافة أميالاً ويرجع في ساعة أو ساعتين ولا يسمى مسافرًا، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافرًا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرًا لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه، والدليل على ذلك من وجوه: (أحدها) إنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة وفي أيام منى، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، وكان يصلي خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم بإتمام الصلاة ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصرًا وجمعًا ثم العصر ركعتين: يا أهل مكة أتموا صلاتكم ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر ولا نقل أحد أن أحدًا من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما صلى بجمهور المسلمين أو نُقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أو عمر قال بهذا اليوم (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) فقد غلط، وإنما نُقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا في جوف مكة لأهل مكة عام الفتح وقد ثبت أن عمر بن الخطاب [1] لأهل مكة لما صلى في جوف مكة، ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعًا وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة بل لو أخروا صلاة العصر، ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصرًا لنقل ذلك، فكيف إذا أتموا الظهر أربعًا دون سائر المسلمين؟ وأيضًا فإنهم إذا أخذوا في إتمام العصر والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد شرع في الظهر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام وإما أن يفوتهم معه بعض العصر بل أكثرها فكيف إذا كانوا يتمون الصلوات؟ وهذا حجة على كل أحد وهو على من يقول إن أهل مكة جمعوا معه الظهر، وذلك أن العلماء تنازعوا في أهل مكة، هل يقصرون ويجمعون بعرفة؟ على ثلاثة أقوال فقيل لا يقصرون ولا يجمعون وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد، كالقاضي في المجرد وابن عقيل في الفصول لاعتقادهم أن ذلك معلق بالسفر الطويل وهذا قصير. (والثاني) أنهم يجمعون ولا يقصرون وهذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد، ومن أصحاب الشافعي والمنقولات عن أحمد توافق هذا فإنه أجاب في غير موضع بأنهم لا يقصرون ولم يقل لا يجمعون وهذا هو الذي رجحه أبو محمد المقدسي في الجمع وأحسن في ذلك. (والثالث) أنهم يجمعون ويقصرون وهذا مذهب مالك وإسحاق بن راهويه، وهو قول طاوس وابن عيينة وغيرهما من السلف، وقول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي كأبي الخطاب في العبادات الخمس وهو الذي رجحه أبو محمد المقدسي وغيره من أصحاب أحمد فإن أبا محمد وموافقيه رجحوا الجمع للمكي بعرفة. وأما القصر فقال أبو محمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، والمعلوم أن الإجماع لم ينعقد على خلافه، وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبرها، فإن من تأمل الأحاديث في حجة الوداع وسياقها علم علمًا يقينًا أن الذين كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرًا وجمعًا ولم يفعلوا خلاف ذلك ولم ينقل أحد قط عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لا بعرفة ولا مزدلفة ولا منى (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه، وقوله ذلك في داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومِنى دليل على الفرق، وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان يقول بِمِنى: (يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وليس له إسناد. وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال: إنه لأجل النسك كما تقوله الحنفية وطائفة من أصحاب أحمد وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة ولم يمنعه من الجمع، وقال في جمع المسافر: إنه يجمع في الطويل كالقصر عنده، وإذا قيل لأجل النسك ففيه قولان: أحدهما لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة كما تقوله الحنفية، والثاني أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع وإن لم يكن سفرًا وهو مذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وقد يقال؛ لأن ذلك سفر قصير وهو يجوز الجمع في السفر القصير كما قال هذا، وهذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، فإن الجمع لا يختص بالسفر والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة، ولم يجمع بمنى ولا في ذهابه وإيابه ولكن جمع قبل ذلك في غزوة تبوك. والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر كما قصر للسفر؛ بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النزول ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة وكان جمع عرفة لأجل العبادة وجمع مزدلفة؛ لأجل السير الذي جد فيه وهو سيره إلى مزدلفة، وكذلك كان يصنع في سفره، كان إذا جد به السير أخر الأولى إلى وقت الثانية، ثم ينزل فيصليهما جميعًا كما فعل بمزدلفة وليس في شريعته ما هو خارج عن القياس بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره كما يقوله الأكثرون ولكن أبو حنيفة يقول: هو خارج عن القياس وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن لفوات شرط أو وجود مانع دل على فسادها، وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا تناقض؛ بل حكم الشيء حكم مثله والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها. وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر ولا تعلق له بالنسك ولا مسوّغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها، إلا أنهم بسفر وعرفة عن المسجد بريد كما ذكره الذين مسحوا ذلك، وذكره الأزرقي في أخبار مكة، فهذا قصر في سفر قدره بريد، وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر وإنما كان غاية قصدهم بريدًا، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر؛ فعلم أنهم كانوا مسافرين والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلي أربعًا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة في مكة (أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء، ولكن في مذهب مالك نزاع. (الدليل الثاني) أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو زوج تارة يقدر، وتارة يطلق، وأقل ما روي في التقدير بريد؛ فدل ذلك على أن البريد يكون سفرًا، كما أن الثلاثة أيام تكون سفرًا واليومين تكون سفرًا، واليوم يكون سفرًا، هذه الأحاديث ليس لها مفهوم؛ بل نهى عن هذا وهذا وهذا. (الدليل الثالث) أن السفر لم يحده الشارع، وليس له حد في اللغة، فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه؛ فما كان عندهم سفرًا فهو سفر، والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه، وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها ويرجع في نصفها، وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي، والعدو على الخصم، والحضانة وغير ذلك مما هو معروف في موضعه. وهو أحد القولين في مذهب أحمد فلو كانت المسافة محددة لكان حدها بالبريد أجود؛ لكن الصواب أن السفر ليس محددًا بمسافة بل يختلف فيكون مسافرًا في مسافة بريد وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا. (الدليل الرابع) أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان، وأقل الفطر يوم، ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع في يوم فيحتاج إلى الفطر في شهر رمضان ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك؛ فإنه قد لا يحتاج فيه إلى قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال؛ وإذا كان غدوه يومًا ورواحه يومًا فإنه يحتاج إلى القصر والفطر، وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له أن يقصر ويفطر في بريد، وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد مسافرًا. (الدليل الخامس) أنه ليس تحديد من حد المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن حدها بيومين، ولا اليومان بأولى من يوم، فوجب أن لا يكون لها حد؛ بل كل ما يسمى سفرًا يشرع، وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد فعلم أن في الأسفار ما قد يكون بريدًا، وأدنى ما يسمى سفرًا في كلام الشارع البريد. وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأتي قباء كل سبت، وكان يأتيه راكبًا وماشيًا، ولا ريب أن أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة ولم يقصر الصلاة هو ولا هم. وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة والجمعة على من سمع النداء والنداء قد يسمع من فرسخ وليس كل من وجبت عليه الجمعة أبيح له القصر، والعوالي بعضها من المدينة، وإن كان اسم المدينة يتناول جميع المساكن كما قال الله تعالى {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: 101) وقال {مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ} (التوبة: 120) . وأما ما نقل عن ابن عمر فينظر فيه هل هو ثابت (أم لا) فإن ثبت فالرواية عنه مختلفة، وقد خالفه غيره من الصحابة، ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلاً فلا ريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل، وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة وعدم قصر أهل المدينة الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق والله أعلم. والصلاة على الراحلة إذا كانت مختصة بالسفر فلا تفعل إلا فيما يسمى سفرًا ولهذا لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على راحلته في خروجه إلى مسجد قباء مع أنه كان يذهب إليه راكبًا وماشيًا، ولا كان المسلمون الداخلون من العوالي يفعلون ذلك، وهذا لأن هذه المسافة قريبة كالمسافة في المصر، واسم المدينة يتناول المساكن كلها؛ فلم يكن هناك إلا أهل المدينة والأعراب كما دل عليه القرآن فمن لم يكن من الأعراب كان من أهل المدينة، وحينئذ فيكون مسيره إلى قباء كأنه في المدينة فلو سوغ ذلك سوغت الصلاة في المصر على الراحلة وإلا فلا فرق بينهما. والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلي بأصحابه جمعًا وقصرًا لم يكن يأمر أحدًا منهم بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلي ركعتين من غير جمع، ثم صلى بهم - صلى الله عليه وسلم - الظهر بعرفة ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلي العصر بعدها، ثم صلى بهم العصر ولم يكونوا نووا الجمع وهذا جمع تقديم، وكذلك لما خرج من المدينة صلى بهم بذي الحليفة العصر ركعتين ولم يأمرهم بنية قصر، وفي الصحيح أنه لما صلى إحدى صلاتي العشيّ وسلم من اثنتين قال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: (لم أنس ولم تقصر) قال: بلى قد نسيت، قال: (أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم فأتم الصلاة) ولو كان القصر لا يجوز إلا إذا نووه لبين ذلك ولكانوا يعلمون ذلك، والإمام أحمد لم ينقل عنه -فيما أعلم- أنه

جمعية الإلحاد والزندقة ـ العلم والدين

الكاتب: محمود أحمد الغمراوي

_ جمعية الإلحاد والزندقة العلم والدين [*] (رد على مقال للدكتور طه حسين نشر في العدد 19 من جريدة السياسة الأسبوعية في 17 يوليو سنة 1926) . نشر الدكتور هيكل في العدد الرابع عشر من السياسة الأسبوعية مقالاً بحث فيه في العلم والدين وما بينهما من وفاق أو خلاف، وقد انتهى به بحثه إلى أنه لا خصومة بين العلم والدين، ولن تكون بينهما خصومة، وأن الخلاف والخصومة هما بين رجال العلم ورجال الدين، ومنشؤهما سعي كل من الطائفتين سعيًا أنانيًّا صِرْفًا ليكون بيدها الحكم والسلطان. وختم بحثه بما ملخصه أن النصر سيكون دائمًا حليف الفريق الذي يرضي الإنسانية ويخفف أعباءها، وتجد في يده مفتاح راحتها ومرهم جراحها. ونصح لرجال الدين بأن ينقطعوا عن العالم ويعتزلوا الدنيا ويبعدوا عن شئونها ويعكفوا على العبادة والزهد والتقشف، وقد تناولت أقلام الكاتبين بالبحث والتحليل والنقد عناصر هذا الموضوع الذي أثاره الدكتور هيكل، وكتب كاتب ديني مقالاً قيمًا ألمَّ فيه كاتبه الفاضل بمعلومات نفيسة قال عنها بحق: إنها مقدمات لا بد منها للحكم فيما بين الدين والعلم من وفاق أو خلاف. وفي الحق أن من يجهل الأساس التي قام عليها الدين، والأساس التي قام عليها العلم، ولا يعرف من مبادئ الدين تلك المقدمات الأولية التي ألمَّ بها ذلك المقال لا يحق له أن يتصدى للبحث في هذا الموضوع الخطير، وبالأولى لا يسوغ له أن ينصب نفسه منصبا الحكم الذي لا ينقض حكمه ولا يرد قضاؤه، وهو جاهل بالقواعد الأساسية التي لا يقوم إلا عليها الحكم. كنت أظن أن سيجد حضرات الكتَّاب في مقال ديني درسًا ينفعهم ويعصمهم من الزلل حينما يريدون أن يبحثوا فيما بين الدين والعلم من صلة، وكان أكثر من نرجو لهم النفع بهذا الدرس أولئك الذين لم تهيئ لهم تربيتهم المدرسية وسائل الإلمام بقواعد العلم الديني، فأما الذين قضوا شطرًا ليس بالقليل من أعمارهم في دراسة العلوم الدينية، وقطعوا في الأزهر مرحلة ليست بالقصيرة من مراحل تربيتهم العقلية، فما كنا نظنهم بحاجة إلى مثل هذا الدرس، وما كنا نحسبهم من الجهل بأمور الدين بحيث لا يعرفون بسائط القواعد المقررة. دهشت وايم الحق حين قرأت في العدد التاسع عشر من السياسة الأسبوعية مقال الدكتور طه حسين في العلم والدين وما ضمنه من تناقض وسخف. وما كان دهشي لأن الدكتور طه أخطأ الصواب وكان من عادته أن يصيب، ولا لأنه جانبه التوفيق في هذا البحث وكان قبلاً موفقًا، كلا فقد عرفنا الدكتور هجامًا كثير العثرات شديد الجرأة على العلم وعلى الدين، بعيدًا عن التوفيق والإصابة في كثير من أبحاثه لا سيما ماله صله بالدين، ولكن دهشي كان للفرق العظيم بين عقليتين ممتازتين وذكائين مصدودين، عقلية تكونت بعيدة فيما نعلم عن مناهل الدين فكانت موفقة في كثير من آرائها في الدين، وأخرى نشأت نشأتها الأولى في معاهد الدين غير أنها فيما تكتب عن الدين تخبط خبط العشواء في الليلة الظلماء. عجبت لما بين عقلية الدكتور هيكل وذكائه، وبين عقلية الدكتور طه وذكائه من الفوارق العظيمة. فهذا يتورط في الخطأ تورط من لا يعرف إلى الصواب سبيلاً، وذاك يهتدي بفطرته وذكائه إلى مواطن الإصابة حيث كان يخشى عليه من التورط في الزلل، وهذا كله في بحث كان المفروض أن المخطئ أولى بالإصابة فيه من المصيب. وأن من الحق أن أقول: إنني لم أجد مأخذًا على الدكتور هيكل في مقاله وبحثه إلا في أمرين اثنين: أحدهما: أنه أرسل الكلام في الدين إرسالاً فهم منه أنه يقصد من الدين الجنس الذي يتحقق في أي دين من الأديان، وهذا ما لا يتفق والواقع فإن الوثنية مثلاً ليست كما لا مقرر القواعد والأركان. وثانيهما: أنه يريد رجال الدين على أن يكونوا ناسكين بعيدين عن الدنيا معتزلين شئون العالم، ولعل هذا هو الهدف الذي يرمي إليه من بحثه، ولكن هذا ليس من الإسلام في شيء، ففي القرآن الكريم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) وقد يكون هذا النصح غير المخلص أثرًا من آثار الأنانية والتنازع على الحكم والسلطان كما هو رأي الدكتور. هاتان النقطتان هما في رأيي موضوع المؤاخذة في مقال الدكتور هيكل، فأما مقال الدكتور طه فإنك لن توفق إلى العثور فيه على رأي صائب مهما حسنت نيتك في طلبه، ولن تجد فيه إلا عثرات تتلوها سقطات، ولن تقف منه إلا على متناقضات تهيب بك إلى أن تدين بالمتناقضات. لا يعنيني كثيرًا أن أَلْفِتَ القارئ إلى ما يَفْجؤه في مستهل كلام الدكتور من الركة والتهافت؛ إذ يقول: (ليس لي ما يحول بيني وبين التفكير في هذا الموضوع والتعليق على ما كتب فيه، وفي الحق أني فكرت في هذا الموضوع وكتبت فيه) ، كذلك لا يهمني أن أقف به على ما يعقب هذه الجملة من التناقض واشتباه الرأي واختلاط الفكر؛ إذ يقول: قد تكون المسألة (يعني مسألة العلم والدين) جديدة في مصر، ولكنها قديمة في أوربا ثم يقول (هي ليست جديدة في مصر ولا في العالم الإسلامي فقد عرض لها الغزالي وابن رشد، وعرض لها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده وتلاميذه غير مرة) . أقول لا يهمني أن أنبه القارئ إلى شيء كثير من أمثال هذه الهنات المعيبة ولكني أَلْفِتُ القارئ إلى ما يتخلل الجملتين من غرور وتغرير، فللدكتور طه في الكتابة سنة قل أن يشاركه فيها غيره من الكاتبين؛ فهو حين يكتب في موضوع يحاول جهده أن يغرر بالقارئ، يوهمه أنه قبل أن يعالج الكتابة في الموضوع الذي تناوله قد قرأ فيه كتبًا قيمة وأنه قتله بحثًا وفهمًا، وأنه ألم بجميع أطرافه وخَبُرَ جميع دُرُوبه ومسالكه؛ وإذًا فليس على القارئ بعد أن قام عنه الدكتور بكل وسائل التنقيب والبحث والقراءة والفهم إلا أن يتجرد من دينه، وإلا أن يلغي عقله وفهمه، وكل ما أودع الله فيه من قوة دراكة، ويسلم بعد ذلك قياده للدكتور يصرف منه العنان، كما يصرف الصبي دواجن الطير والحيوان. أليس الدكتور طه هو صاحب كتاب الشعر الجاهلي؟ أليس قد طلب إلى قارئ ذلك الكتاب قبل أن يقرأ كتابه أن يتجرد عن دينه وعقله ووجدانه وعاداته وقوميته ليسير مع الدكتور فيصرفه كيف يشاء؟ هذه هي روح الدكتور طه في كتاب الشعر الجاهلي بارزة صريحة لا حجاب دونها، وهي هي بعينها في مقال العلم والدين، واضحة جلية، وإن كان وضوحها هنا بمقدار يناسب قدر هذا المقال الصغير. فترى الدكتور قبل أن يدخل بك في متناقضاته يلقي عليك أمثال قوله: (وفي الحق أني فكرت في هذا الموضوع وكتبت فيه قبل صديقي هيكل وعزمي، وفي الحق أن السياسة اليومية قد نشرت لي في ربيع سنة 23 فصلاً غضب له مولانا الشيخ بخيت، وفي الحق أني كتبت في العلم والدين وما بينهما من خلاف فصلاً آخر كنت أريد أن أنشره) ثم يعود فيكرر على سمعك مثل قوله: (لست إذًا حديث عهد بمسألة العلم والدين، وما يمكن أن يكون بينهما من خلاف، وقد قرأت في هذه المسألة كتبًا قيمة قبل أن أكتب فيها) إلى غير ذلك من إلحاح ثقيل ممل، فماذا يقصد الدكتور من هذا كله؟ أليست هذه الروح المقنعة بقناع مهتوك يشف عما وراءه، هي بعينها تلك الروح البادية العارية في كتاب الشعر الجاهلي، وكلتاهما تريدان قارئ كلام الدكتور على أن يلغي عقله وفهمه ليستطيع أن يشترك مع حضرته في أن يكون ذا نفس واحدة تحمل بين جنبيها شخصيتين متباينتين متعاديتين متناقضتين، وفي الحق أن الدكتور لن يجد معه شخصًا آخر يستطيع أن يهيئ نفسه لاحتمال أمرين متباينين، ويدين باعتقادين متناقضين - كما يريد في مقاله - إلا شخصًا ألغى عقله وسفه نفسه وتجرد من كل ما منحه الله من إحساس وإدراك، فهو من أجل ذلك يطلب إلى قرائه في إلحاح مضجر أن يتجردوا من عقولهم ووجدانهم وإدراكهم ليستطيعوا أن يشاركوه في آرائه وأفكاره، كأنه يأبى أن يكتب أو يتحدث إلا إلى المجانين. هذا شيء ألفت القارئ إليه، وشيء آخر أرجو أن يقف القارئ معي عليه، وهو - قصة باستور - فقد ساق الدكتور هذه القصة ليقنع القارئ بأنه ليس فذًّا في نفسيته العجيبة التي تستطيع أن تكون في وقت واحد مشرقة مغربة، مصدقة مكذبة، مؤمنة مرتابة، وهل في ذلك من غرابة؟ ألم يكن باستور العالم الفرنسي المشهور من أشد الناس إيمانًا بالمسيحية، ومن أحرصهم على تأدية واجباته الدينية، وهو من العلم بالمكان الذي لا ينكر ولا يمارى؟ لا أجادل الدكتور في شأن باستور، ولا فيما نعته به من أنه جمع بين الصدق في الدين والإخلاص للعلم فلست ممن يرون أن من خصائص العلم معاداة الدين، ولا أرى من خصائص العالم الإلحاد في الدين والجرأة على العلم، وقد يصح أن يكون باستور كغيره من العلماء الذين اختصهم الله بفهم ثاقب وعلم وافر في فن من الفنون حتى صار رأيه حجة في فنه، ولكنه إذا اضطر إلى الأخذ بما ليس من فنه سأل أهل الذكر وأخذ بآراء الأخصائيين من غير نزاع ولا جدال، كما يأخذون هم أيضًا برأيه في فنه من غيره مماراة ولا خصومة. وتفسير قصة باستور وغيره من علماء المسيحية في أخذهم بالعلم واطمئنانهم إلى الدين على هذا الوجه الذي قدمت قريب من الصواب جدًّا. فباستور وأضرابه يعملون بحكمة الإنجيل (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) . فإما أن يكونوا مثل دكتورنا الفيلسوف الأديب المؤرخ الحقوقي المتشرع الأصولي الفقيه المحدث الطبيعي الكيماوي الفلكي الجيولوجي الفيسيولوجي الأمبريولوجي، ثم هم مع كل هذا يحملون بين جنوبهم نفسًا قلقة مضطربة تدين بالمتناقضين وتطمئن إلى المتباينين المتنافرين - فهذا ما أنزّه هؤلاء العلماء عنه ولا أسلم لدكتورنا بصحته. ولعل باستور لم يؤثر عنه أنه وقف مرة في حياته من رجال دينه موقف دكتورنا من علماء الدين، يقول لهم في جرأة وصلابة وجه: إنني أفهم للدين وأجدر بمعرفة قضاياه، وإدراك مراميه منكم، فهل لدكتورنا أن يتشبه بباستور وغيره من علماء المسيحية فلا يتعدى طوره ولا يقفو ما ليس له به علم؟ لا أظن أن الذي حال بين باستور ولم يحل بين دكتورنا وبين هذا الموقف الجريء هو ما بين طبيعة المسيحية والإسلام من تفاوت في السهولة والسماح والتوسيع على العقل الإنساني في أن يحلق في سماء الفكر والبحث حيث يشاء، لا أظن هذا فما كان لباستور أن يعتقد في المسيحية أنها تغل العقل الإنساني وتحول بينه وبين التفكير الحر؛ إذ لو كان هذا رأيه في المسيحية لما كان كما وصفه لنا دكتورنا من أشد الناس إيمانًا بها، ولأعلن عليها حربًا عوانًا كما فعل غيره من ملاحدة المسيحية، وإذاً فليس جمود المسيحية هو الذي جعل باستور يقف من دينه هذا الموقف المهذب، وليست سماحة الإسلام هي التي جعلت دكتورنا يقف من دينه هذا الموقف الجريء المغموز، ولكن السبب فيما أظن هو أن باستور قد أوتي حظًّا من العلم والحياء يحول بينه وبين أن يقف هذا الموقف {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ، على أنه مهما يكن في طبيعة دين من سهولة وسماح، ومهما أرخى للعقل الإنساني من عنان لكي يجول في مسارح التفكير إلى حيث يشاء، فإنه ليس من المعقول أن يأذن الدين بل ولا أن يأذن العلم نفسه للعقل في أن يخرج في تفكيره وبحثه عن المناهج التي أقراها، والتي أقر العقل أيضًا أساسها وقواعدها، فإن معنى هذا الإذن أن يهدم كلاًّ من الدين وال

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الباب الثالث العلاج بالتراب نشرع الآن في بيان الخواص الصحية للتراب الذي نفعه أكبر من الماء في بعض الأحوال. لا ينبغي لنا أن نتعجب من خواصه؛ لأن جسمنا نفسه مركب من عناصر أرضية، وفعلاً نحن نستعمل التراب للتطهير، فنغسل به الأرض لتزيل الروائح الخبيثة منها، ونغطي به الأشياء المتعفنة لنمنع فساد الهواء وننظف به أيدينا وكذلك نستعمله لتنظيف أواني المراحيض. إن رهبان الهندوس يلطخون به أجسامهم، ويعالج به بعض الناس القروح والبثور وتدفن الأموات فيه لئلا يفسد الجو، كل هذا يثبت جليًّا أن في التراب كثيرًا من الخواص الثمينة للتطهير والعلاج. وكما أن الدكتور كيوهن بذل جهده الخاص في موضوع العلاج المائي، كذلك الدكتور الألماني الآخر (just) قد تفرغ لدرس التراب وخواصه. وقد توسع حتى قال بأن التراب يمكن استعماله بنجاح في معالجة جميع الأمراض حتى أشدها وأعقدها. وقد حكي عنه أنه لسع ثعبان رجلاً فيئس الناس من حياته، ولكني داويته بأن واريته في التراب مدة من الزمن فزال السم من جسده وشفي تمامًا. ليس لنا أن نطعن في صدق الدكتور؛ لأننا نعلم أن حرارة شديدة تتولد في الجسم إذا دفن الإنسان في الأرض، وإنا وإن كنا لا نستطيع بيان تولد التأثير تمامًا لا يمكن أن ننكر أن في التراب خاصية جذب السم؛ أجل قد لا تنجح هذه الطريقة في كل حادثة للملسوع ولكن يجب حتمًا تجربتها في كل حادثة. وأنا أستطيع أن أقول بتجربتي الشخصية: إن استعمال الطين في مثل حوادث لدغ العقرب نافع جدًّا. قد جربت بنفسي الأشكال الآتية للعلاج الترابي ونجحت فيها؛ فالإمساك والدوسنتاريا ووجع المفاصل المتأصل قد عالجته باستعمال لبخة من الطين فوق البطن يوميًّا مدة يومين أو ثلاثة أيام؛ وقد تحقق النفع العاجل في حوادث الصداع باستعمال ضمادة طينية تشد على الرأس. وكذلك قد عولجت العيون المتهيجة بنفس هذه الطريقة فشفيت، إن الإصابات سواء كانت متورمة أو غير متورمة تعالج كذلك بها؛ وإني قد كنت في حياتي الماضية السوداء لا أستريح بدون المواظبة على استعمال ملح الفاكهة (فروت سالت) وما شاكله من المسهلات؛ ولكني منذ علمت في سنة 1904 قيمة العلاج الترابي لم استعمل أي مسهل ولا مرة واحدة إلى الآن. إن لبخة طينية فوق البطن والرأس تنفع كثيرًا في الحمى الشديدة. وإن الأمراض الجلدية مثل الدمامل والقروح والقوباء والحرق بالنار أو الماء الحار قد عولجت بالطين أيضًا؛ إلا أن القروح المتقيحة ذات الصديد لا تشفى به بسهولة. وكذلك البواسير تعالج بنفس هذا العلاج. وإذا احمرت الأيدي والأقدام وتورمت بسبب البرد فالطين علاج نافع جدًّا لها، وكذلك وجع المفاصل يزول به، فبهذه وغيرها من التجارب في العلاج الترابي قد علمت أن التراب عنصر مفيد للعلاج البيتي للأمراض. نعم، إن جميع أنواع التراب ليست بنافعة على سواء؛ فالتراب الجاف الذي حفر من مكان نظيف يكون أنفع بكثير من غيره، لا ينبغي أن يكون التراب لزجًا جدًّا، بل أحسنه ما كان بين الرمل والأملس، ويجب أن يكون خاليًا من الروث والقذر فيصفي جيِّدًا في غربال نفيس ويعجن بماء بارد عجنًا جيدًا قبل الاستعمال ثم يربط في قماش نظيف غير مكوي ويستعمل كلبخة غليظة، ويجب رفعها قبل أن يأخذ الطين في اليبس وهو لا يتجفف في الأحوال العادية من ساعتين إلى ثلاث ساعات. إن الطين الذي استعمل مرة لا يستعمل بعد ذلك أبداً، ولكن الثوب المستعمل يصح استعماله ثانيًا بعد أن يغسل جيدًا ليتنظف من الدم، وغيره من المواد الوسخة وإذا أريد استعمال اللبخة على البطن يوضع فوقه قماش دافئ، يجب على جميع الناس أن يبقوا عندهم صفيحة من التراب المجهز للاستعمال لئلا يضطروا إلى البحث عنه هنا وهناك عند الحاجة إليه، وربما تفوت الفرصة في حوادث مثل لدغ العقرب التي يؤدي التأخير فيها إلى خطر شديد. *** الباب الرابع الحمَّى وعلاجها لننظر الآن في بعض الأمراض الخاصة، ونبحث في طرق علاجها، وأولها (الحمى) . نحن نطلق كلمة (الحمى) على حالة للحرارة في الجسم، غير أن أطباء الإفرنج قد نوعوا هذا الداء على أنواع كثيرة وخصصوا لكل منها علاجًا، ولكنا نظرًا للخطة التي سلكناها في هذا الكتاب، والأصول التي دوناها فيه؛ نقول: إن أنواع الحمى كلها يمكن معالجتها بعلاج واحد وبطريقة واحدة؛ لقد جربت هذا العلاج الساذج في جميع أنواع الحمى من أخفها إلى أشدها مثل الطاعون الغدي، وحصلت على نتائج حسنة عامة. فقد انتشر هذا الطاعون سنة 1904م بين الهنود في أفريقيا الجنوبية، وقد كان فظيعًا للغاية، حتى إن 23 إصابة حدثت قد مات بها 21 نفسًا خلال 24 ساعة أما الاثنان اللذان بقيا فقد أرسلا إلى المستشفى ولكن لم يسلم منهما إلا واحد، وقد كان هذا الناجي هو ذلك الذي استعملت له اللبخة الطينية، نعم ليس لنا أن نستنتج من ذلك بأن هذه اللبخة هي التي شفته، ولكن مما لا شك فيه أنها لم تضره أي ضرر، وكلاهما كانا مصابين بحمى شديدة كان سببها الالتهاب الرئوي وكانا قد أغمي عليهما. وكان الرجل الذي استعملت عليه اللبخة الطينية في أخطر الأحوال فكان يبصق الدم، وعلمت بعد ذلك من الدكتور بأنه كان لا يغذى إلا بلبن قليل جدًّا. وبما أن أكثر أنواع الحمى تكون نتيجة للارتباك في الأحشاء فأول ما ينبغي عمله هو تجويع المريض، والقول بأن الضعيف يزداد ضعفًا بالتجويع وهم باطل، إذا علمنا بما تقدم أن الجزء الذي ينفع من الغذاء إنما هو ذلك الذي يتحلل في الدم. وأما الباقي فيبقى حملاً على المعدة، وبما أن القوى الهاضمة تضعف جدًا في الحمى لذلك يتوسخ اللسان وتتصلب الشفاه وتجف، فإن أعطي المريض طعامًا في هذه الحالة فلا ينهضم ويزيد الحمى، ولكن التجويع يعطي القوى الهاضمة وقتًا لإتمام أعمالها، ولذلك فإن تجويع المريض ليوم أو يومين ضرري، وكذلك يجب عليه في الوقت نفسه أن يستحم كل يوم على الأقل مرتين على طريقة كيوهن فإن كان ضعيفًا أو مريضًا إلى درجة لا يستطيع فيها الاستحمام؛ فيجب أن تستعمل على بطنه اللبخة الطينية وإن يشتكي يوجعه الرأس كثيرًا أو يحس بحرارة شديدة فتستعمل اللبخة على رأسه أيضًا، ومهما أمكن ينبغي أن ينوم المريض في الهواء الطلق ويغطى جيدًا، ويعطى وقت الطعام عصير الليمون بعد أن يصفى جيدًا ويمزج بماء بارد أو مغلي حار ولا يخلط معه السكر ما أمكن. إن هذا العصير يؤثر تأثيرًا نافعًا جدًّا ويقدم وحده للمريض إن كانت أسنانه تتحمل حموضته، ويجوز بعد ذلك أن يقدم إليه نصف موزة أو موزة كاملة بعد أن تمزج جيدًا بملعقة من زيت الزيتون وبملعقة من عصير الليمون، وإن كان المريض يحس بالعطش فيعطى ماء مغليًّا مبردًا، ولا يسمح له بشرب ماء غير مغلي يجب أن تكون ملابس المريض خفيفة وتغير كثيرًا. وقد شُفِي بهذا العلاج السهل محمومون كثيرون، حتى الذين أصيبوا بالحمى التيفودية وأمثالها من الأمراض الخطرة وهم يتمتعون إلى الآن بصحة تامة. إن الكينا كذلك تُؤثر وتنفع بادي الرأي ولكنها في النتيجة تجلب أمراضًا أخرى، حتى إن الحمى الملاريا التي تعتبر فيها الكينا نافعة جدًا قلما رأيتها تعطي شفاءً دائمًا، ولكني بالعكس رأيت حوادث مختلفة في المصابين بالملاريا قد شفوا شفاءً دائمًا بالعلاج الذي ذكر آنفًا. يقتصر كثير من الناس على اللبن وحده أثناء الحمى ولكنه وجدته بتجربتي مضرًّا في الدرجات الأولية من الحمى؛ لأنه عسر الهضم، فإن كان لا بد من اللبن فالأحسن أن يكون مخلوطًا (بقهوة القمح [1] ) أو بقليل من دقيق الرز المغلي جيدًا بالماء، ولكن لا يصح أبدًا أن يعطاه في الحمى الشديدة، بل ينفع في مثل هذه الحالة عصير الليمون نفعًا كبيرًا، فإذا زالت الحمى وتنظف اللسان يصح أن يزداد الموز في الغذاء على الطريقة المبينة آنفًا، وإن كان إمساك فحقنة من الماء الساخن والبورق (لزاق الذهب BORAX) عوضًا عن المسهل يصحبها غذاء زيت الزيتون لتنظف البطن جيدًا. *** الباب الخامس الإمساك والدوسنتاريا والمغص والبواسير يبدو لأول وهلة ذكر هذه الأمراض الأربعة المختلفة في باب واحد عجيبًا، ولكن الحقيقة أنها كلها مرتبطة بعضها ببعض ارتباطًا شديدًا ويمكن معالجتها تقريبًا بطريقة واحدة. لأنها إذا انضغطت المعدة بغذاء غير مهضوم سببت مرضًا من هذه الأمراض حسب استعداد الرجل واختلاف بنيته، فيحدث عند بعضهم الإمساك فلا تتحرك المعدة مطلقًا أو تتحرك بعض التحرك، أو يحدث وجع شديد عند قضاء الحاجة حتى إنه ينتج نزيف الدم أو المادة المخاطية، أو البواسير، ويحدث لبعضهم الإسهال الذي كثيرًا ما ينتهي بالدوسنتاريا، ويحدث لبعضهم المغص المعوي الشديد مصحوبًا بالوجع في البطن والمادة المخاطية في البراز. وفي جميع هذه الحوادث يقهي المريض أي يفقد شهوة الطعام ويصفر جسمه وتضعف بنيته ويتوسخ لسانه ويتعفن نَفَسُه، وكذلك يتأذى كثير من الناس بالصداع وغيره من الأمراض، إن الإمساك عام جدًّا، حتى إن المئات من الحبوب والمسحوقات قد أوجدت لمعالجته. إن الوظيفة الأصلية مثل هذه الأدوية المسجلة مثل ملح الفاكهة (فروت سالت) و (Sirup Siegel,s Mother) لإزالة الإمساك، ولذا ترى ألوفًا من الناس يجرون وراءها في رجاء باطل لينالوا فيه الشفاء، كل طبيب يخبرك بأن الإمساك وما شاكله من الأمراض إنما هو نتيجة لسوء الهضم، فأحسن طريقة لعلاجها هي إزالة سبب سوء الهضم، وقد صرح أصدقهم قولاً بأنهم قد اضطروا إلى اختراع هذه الحبوب والمسحوقات؛ لأن المرضى لا يتركون عاداتهم القبيحة التي ألفوها، وفي الوقت نفسه يريدون الشفاء. إن أرباب الإعلانات عن هذه الأدوية يبالغون مبالغة عظيمة حتى إنهم يعدون الذين يشترونها بأنهم لا يحتاجون إلى مراعاة أي أصل من أصول الغذاء والوقاية بل يجوز لهم أن يأكلوا ويشربوا ما يحبون إذا استعملوا أدويتهم، وأظن أن قرائي لا يحتاجون إلى التذكير بأن هذا كذب محض. إن جميع أنواع المسهل حتى أكثرها اعتدالاً مضرة بالصحة؛ لأنها - وإن أزالت الإمساك ونفعت نفعًا بالجملة - تحدث أنواعًا أخرى من الأمراض، فيجب على المريض أن يغير طرق معيشته تمامًا حتى لا يضطر إلى المسهل مرة أخرى فيقع في مرض جديد. إن أول ما يجب عمله في حالة الإمساك وأمثاله من الأمراض هو تقليل الغذاء لا سيما السمن والسكر والقشدة وما شاكلها، والاحتزاز التام من الخمر والدخان والحشيش والشاي والقهوة والكاكاو والخبز المصنوع من دقيق المطاحن، وأن يحتوي الغذاء في أكثر أجزائه على ثمار رطبة مع زيت الزيتون. يجب أن يجوع المريض قبل البدء في العلاج 37 ساعة، وتستعمل أثناء هذا وبعده اللبخة الطينية على البطن أثناء النوم، ويستحم المريض كما ذكرنا مرة أو مرتين يوميًا على طريقة كيوهن. يجب أن يكره المريض على المشي على الأقل ساعتين كل يوم، ولقد رأيت بنفسي أشد حوادث الإمساك والدوسنتاريا والبواسير والمغص قد شفيت تمامًا بهذا العلاج السهل، لا شك أن البواسير لا تزول كلية ولكنه يبطل أذاها حتمًا ثم أنه يجب على المصاب بالمغص أن يحتاط فلا يأكل شيئًا غير عصير الليمون في ماء حار حتى يبطل نزيف الدم أو المخاطية، وإن كان وجع المغص شديدًا جدًّا في المعدة فيمكن معالجته بتدفئة

مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مذكرات مؤتمر الخلافة الإسلامية [*] باقي محضر الجلسة الرابعة (تابع لما نشر في الجزء الماضي) وبعد الفراغ من تلاوة تقرير اللجنة قام حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري وألقى الخطبة الآتية: أبدأ حديثي باسم الله الرحمن الرحيم، وأقول: إني أشكر اللجنة جزيل الشكر على ما أراه من غيرتها الدينية وحرصها على اتخاذها كل الوسائل التي توصل إلى إيجاد حالة تسر المسلمين، ولا يرضون عنها بديلاً وهي إعادة مجد الإسلام كما كان، وأن نعمل لنحفظ ذلك التراث العظيم. ذلك الدين الذي يجب أن نفديه بأرواحنا، وأموالنا، وأن نعمل كما عمل آباؤنا، وأن نلاقي على الأقل بعض ما لاقوه، أشكرهم شكرًا جزيلاً؛ لأني أرى ذلك ظاهرًا في كل سطر من كلامهم، وأوافقهم كل الموافقة على ما قالوه من أن الهيئة التي تملك البيعة لا بد أن يكون ممثلاً فيها كل الأقطار تمثيلاً يمنع الفتن التي عانى الإسلام منها كثيرًا. كفى ما لاقى المسلمون من المصائب والأحزان من جراء الخلاف على الخلافة في هذه السنين الطوال، من عهد عمر رضي الله عنه إلى الآن، ذلك الخلاف الذي كان هو المهلكة العظمى، والعامل الذي حفر القبر الذي كاد معاذ الله يُدفن فيه الإسلام لولا أن الله يحفظ دينه، أقول بملء الارتياح كما قلت سابقًا: إن هذه المسألة العظمى التي تتوقف عليها حياة الإسلام لا بد أن تجري على الوجه الذي يمنع الفتن بين المسلمين في جميع الأقطار، ولا يوجد بينهم الحرب الداخلية عملاً بأوامر الله تعالى، وما تقتضيه نظم العقل ونظم السياسة ونظم الاجتماع، فبكل قلبي أوافقكم على أنه لا بد من هذا التمثيل. واسمحوا لي أن أقول دون أن أمس أية عاطفة: إنه لا بد أن يكون هذا التمثيل معبرًا عن الرأي العام في كل قطر حتى يكون المسلمون راضين وحتى نأمن شر الانقسام. نحن لا نريد أن نعيد المهازل التي جرت في بعض البلدان كما جرت في سالف الأزمان، نريد أن نعمل للإسلام عملاً جديًّا يرأب الصدع، فإن لم نعمل فلا نهدم هذا هو ما ندين الله عليه وما نفديه بأرواحنا وما نشكر اللجنة عليه، وذلك ما نريده من غير جدل ولا مناقشة بملء الصراحة وبدون أخذ ورد فيه؛ إلا أني أستسمح اللجنة في شيء آخر: أريد أن أًلاحظ على المادة الأولى ملاحظتين: الأولى: أن اللجنة تعرضت لأمر البيعة، وأن هذا المؤتمر لم يشترك فيه كثير من الأمم الإسلامية. وقالت: لم يوجد إلى الآن هيئة من أهل الحل والعقد تملك حق البيعة، وأنا أقول: إن برنامج المؤتمر ليس فيه أمر البيعة، ولكني أشكرها؛ لأنها ذهبت في البحث إلى الصميم، وأوافقها فيه كل الموافقة. الثانية: إن البت في أن الخلافة المستجمعة لشروطها المقررة في كتب الشريعة لا يمكن تحقيقها بالنسبة للحالة التي عليها المسلمون الآن، نحتاج لأخذ آراء الكثير من أمراء البلاد والسياسيين فيها وأهل الحل والعقد. وقد قلنا في التقرير العلمي: إن أهل الحل والعقد هم الذين يطاعون في الناس من العلماء والأمراء والأعيان، ومهمة اللجنة في هذا كانت صعبة وشاقة جدًّا. وليعذرني المؤتمر في أن أقول: إنه لا يجوز لنا أن نقول: إن العالم الإسلامي أصبح شراذم وجماعات، وفي الصف الثاني وأن نفت في عضد المسلمين، أرى من العسير عليّ وعلى إخواني - والأسف ملء قلبي والحزن يشملني - أن نعلن أننا اجتمعنا لنقول: إن المسلمين قد فقدوا كل حول وكل قوة. ولنقول: إن المسلمين أصبحوا متفرقين في الأرض طوائف يستحيل اجتماعها على كلمة واحدة، يعز عليَّ جدًّا أن نقول هذا ونقرره، وأن يكون هذا نتيجة مؤتمرنا. وإذا كنا لسنا أهلاً لأن نبتّ في مسألة الخلافة؛ فكيف نكون أهلاً لأن نبت في أن المسلمين قد فقدوا كل حول وقوة. إننا كدينيين واجبنا [1] أن نقوي روح الإسلام في الناس، يعز علي جدًّا أن نقول ذلك؛ لأن هذا شيء لا يجوز للديني أن يقوله، فيثبط عزائم المسلمين في بقاع الأرض؛ إن الله يبعث من العدم قوة ومن التفرق جمعًا. (فقال حضرة صاحب العزة وحيد بك الأيوبي: الإسلام الذي فيه أئمة أمثال فضيلتكم لا يضعف إن شاء الله) . وعاد فضيلة الأستاذ الشيخ الأحمدي فقال: كيف نقول هذه الكلمة التي سيكون لها أثر فعال في المسلمين، وهي قضاء عليهم ثم نحاول أن نحيهم من جديد بلجان وفي كم قرن يمكن ذلك. أنتم ترون أن تعاليم الإسلام تؤخذ من كل جانب [2] ، فإلى أن تعمل اللجان يكون قد ضاع كل شيء، فأناشدكم الله أن تتدبروا فيما قالته اللجنة وليست المسألة مسألة أخذ وردّ بين عضوين أو أكثر، المسألة أكبر من ذلك وأكبر من مؤتمرنا وجيلنا، وهي الحد الفاصل بين الحرب المعنوية القائمة بين تعاليم شتى وبين تعاليم الإسلام. هذا الجاوي، وهذا الهندي، وهذا البولوني إنما يعيش في شعاع من الأمل فلا يجوز لنا أن نقطع هذا الشعاع. (وهنا صفق الحاضرون تصفيقًا حادًّا) . إني لقد أخذتني عبرة، وما كنت [3] ولا كانت حياتي؛ إذا كان من عملنا أن أقوم كأن أرثي الإسلام، وأن أستنهض رجال الإسلام، وأنتم أكثر غيرة مني. فرجائي أن يقرر المؤتمر أن الخلافة الشرعية ممكنة، وأن بيعة الخلافة يجب أن تكون من هيئات ممثلة لشعوب المسلمين على وجه يمنع الفتن، ويظهر [4] الوحدة كما هو الغرض الأسمى من الخلافة، وألا تكون على الوجوه التي تثير الفتن بأن تجتمع جماعة هنا، وجماعة هناك لمبايعة زيد وعمرو. إن الخلافة ممكنة ولكن وسائلها لم تعد للآن، ومن أهم وسائلها أن يدعى الناس جميعًا (؟) ليمثلوا طبقاتهم ليمكنهم أن يبتوا في هذا الأمر وفي هذا الواجب المقدس. نحن ندعو المسلمين جميعًا إلى ألا يهملوا الأخذ بالواجب المقدس، وعلى الشعوب أن تستحث أممهم [5] لعقد اجتماع جامع يمكنه أن يبت في مسألة الخلافة، وإلا فلو طال الزمن لماتت الخلافة، وأصبحنا كإبل بلا راعٍ. نرجو أن نلم شعثنا ونوحد وجهتنا، فعلى المسلمين جميعًا أن يعملوا لإيجاد هذه الهيئة الجامعة. لعلي بهذا أكون قد وفقت بين مطالب الإسلام وما قررته اللجنة. قولوا: إن الأمر ممكن، وحضوا المسلمين على أن يعملوا ليل نهار لتحقيقه وإلا كنا آثمين، ولتكن مأمورية (؟) هذا المؤتمر توجيه رسالة إلى العالم الإسلامي بما قلته. فاللازم أن يكون في صيغة القرار المذكور في المادة الأولى من التقرير إمكان إيجاد الخلافة المستجمعة للشروط الشرعية بدل عدم إمكانها إذ ما المانع من أن يتاح للأمم الإسلامية الاتفاق والاتحاد فيما بينها وتتعرف ما سببته هذه الفرقة فتتكاتف جميعًا وتضع يدها في يد من تجعله خليفة لعموم (؟) المسلمين عملاً بأوامر الدين الحنيف، لا شك أن هذا ممكن ولا استحالة فيه أصلاً متى عالج المسلمون ذلك، وقاموا متساندين وأوجدوا كل الوسائل التي تؤدي إلى هذه الغاية الشريفة أهـ. وعلى أثر فراغه من خطبته قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عطاء الله الخطيب مقرر اللجنة: أشكر فضيلتكم شكرًا جزيلاً باسم اللجنة، وأشكركم على ما أبديتموه من الحماسة، وأعرض على حضرات الحاضرين أن اللجنة في قرارها لم تكن مخالفة للرأي الحسن الذي أبديتموه، والاختلاف بين رأيكم وما تريده اللجنة اختلاف لفظي فقط وإلا فالمعنى واحد؛ إذ كيف يمكننا أن نقول: إنه ليس في المسلمين اليوم من يستحق أن يكون بهذه الصفة، وقد كان هذا مثار بحث في اللجنة، غير أن أفكارنا لم تتسع لمعرفة الموجودين، ويؤيد قولي هذا انعقاد المؤتمرات في بلاد العالم وهذا ليس اعترافًا بعدم الوجود. وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد حبيب العبيدي: الخلاف بينكما لفظي فقط. ويجب السعي على جميع المسلمين فلا تفتروا ساعة من نهار عن القيام بهذا الواجب. وإنكم لتعلمون أن الخلافة واجبة في الإسلام وإهمال الواجب إثم فيجب على المسلمين أن يتخلصوا من هذا الإثم. وأن الخلافة فرض كفاية. وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إسماعيل الخطيب: إذا كان الخلاف لفظيًّا، فأرى وجوب حذف العبارة التي تجعل اليأس في قلوب المسلمين وتوهم أننا نحفر حفرة في الإسلام. وهذه العبارة هي من قوله: ظهر جليًّا مما تقدم إلى قوله كما أنه لم يشترك في هذا المؤتمر كثير من الأمم الإسلامية التي دعيت للاشتراك (؟) . فوافق المؤتمر على ما ذكر. وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ حسن أبي السعود: أرى أن ينشر تقرير اللجنة في الصحف محذوفًا منه الجملة المذكورة. فوافق المؤتمر على ذلك. ثم قال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ عطاء الله الخطيب مقرر اللجنة: هل لأحد من حضراتكم بعد ذلك سؤال يتعلق بتقرير اللجنة؟ فلم يسأله أحد شيئًا. فقال قبل أن أرجع إلى مكاني: أشكر حضرات الأعضاء على حسن ظنهم باللجنة. وقال حضرة صاحب الفضيلة الشيخ إبراهيم الجبالي: أتقدم لحضرات الأعضاء بالشكر الجزيل على هذه الغيرة الدينية، وأبدي سروري بهذه العاطفة التي تجلت أخيرًا وكانت كامنة من قبل، وهي أننا مسلمون، اجتمعنا من مشارق الأرض ومغاربها لإعزاز وطن عام لنا هو الإسلام، اجتمعنا لأجل إحياء هذا الوطن العام؛ فوسيلتنا واحدة وغايتنا واحدة وكأن غمامة كانت بين نفس هذا وذاك فزالت، وأشكر الله أن تجلت النفسية للجميع، وأصبحنا كلنا متفاهمين على غاية واحدة وغرض واحد. لقد أبان فضيلة الأستاذ الشيخ الأحمدي أجلى بيان، وأبدى من الغيرة الدينية ما نعهده فيه من قبل، وكأنما كان يحدث بما في النفوس وبما انطوت عليه القلوب مما دل على أن الغاية واحدة، وأن الكل ينشدون الحق، وناشدوه لا بد أن يتلاقوا، هذه حالة أُبدي اغتباطي بها. وعلى ذلك تحددت مهمتنا ووصلنا إلى نتيجة، وكأننا كنا نتألم لتفرق وحدتنا، وأن كل شعب منعزل عن أخيه لا يشعر بما يشعر به. وأنَّ الواجب أن تتضام تلك الشعوب وتتساند حتى لا يكون كل شعب بمعزل عن الآخر، بل يكون الجميع كتلة واحدة في الظاهر، كما هم -ولله الحمد- في الباطن، ويكون ما يرجوه المؤتمر من تشخيص الداء ووصف الدواء قد تحقق، والأمر من الخطورة (؟) بحيث لا يكفي فيه مؤتمر واحد، فليكن هذا نواة لما بعده، ولتكن مهمتنا قد انتهت الآن. نقول: الخلافة واجبة وهي ممكنة في كل وقت ولم نصل بعد لتحقيق طرق إيجادها، ولا أوصلنا البحث عمن يتصف بها اتصافًا تامًّا ولم يجتمع فيما بيننا من يأخذون على عهدتهم تحقيقها، ولكن هذا إذا قيل الآن فلا يقبل من المسلمين أن يسكتوا عليه. فيا أيها المسلمون في كل إقليم جدّوا في البحث عمن تتحقق فيه وأنقذوا دينكم وأجمعوا أمركم، ويد الله مع الجماعة. ثم رفعت الجلسة للاستراحة وصلاة المغرب إذ كانت الساعة السابعة مساءً، ثم عادت إلى الانعقاد إذ كانت الساعة الثامنة مساءً. فاستأذن حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، وقال: بناءً على ما تقدم أعرض على هيئة المؤتمر صيغة قراريصدره المؤتمر معدلاً لتقرير اللجنة، اشتركت في وضعها مع حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ أحمد هارون والسيد محمد الببلاوي والشيخ حسن أبي السعود والشيخ محمد عبد اللطيف الفحام والشيخ خليل خالدي والشيخ إبراهيم الجبالي وهي: (قرر المؤتمر، أن إيجاد الخلافة الإسلامية الشرعية ممكن فيجب على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تهيئة أسبابها ووسائلها، وإعداد ما يلزمها من عدة) . ويرى المؤتمر، أنه يجب أن يراعي في تحقيقها الوجه الذي لا يفرق جماعة لا المسلمين ولا يثير الخلاف بينهم، ولذلك يقرر أنه لابد لذلك من تمثيل جميع

مبحث في الجرح والتعديل ـ 2

الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني

_ مبحث في الجرح والتعديل (2) إثبات توثيق كعب الأحبار ووهب بن منبه هذا ما يتعلق بكعب الأحبار في هذا الموضع، وأما وهب بن منبه، فهو من جهة عدِّه من رجال البخاري محل اتفاق؛ لأن البخاري روى عنه في صحيحه حديثًا صحيحًا نافعًا لأنه يتضمن إثبات كتابة العلم أي (الحديث) في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري كما أن البخاري احتج (بوهب) في أول كتاب الجنائز من صحيحه حيث قال: وقيل لوهب بن منبه: (أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ ، قال: بلى، ولكن ليس مفتاح إلاَّ له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك) ، وهذا يدل على أن وهبًا لم يكن جبريًّا في عقيدته حيث قال في الفتح وروى عن معاذ بن جبل مرفوعًا نحوه بل كان سنيًّا. وخلاصة هذا الموضع، ثبوت أن كلاًّ من كعب ووهب من رجال البخاري الأول احتجاجًا، والثاني احتجاجًا ورواية، وأن ذلك توثيق لكل منهما معتبر عند رجال الحديث، وأما كونهما من رجال بقية الكتب الستة المبينة في أول كلامنا فحسبنا دليلاً على ذلك كتاب تهذيب التهذيب نفسه وفي ذلك توثيق أيضاً، مؤكد لما قبله، وصار تضعيف ابن الفلاس لوهب لا يعبأ به بعد احتجاج ورواية البخاري عنه، قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري صحيفة 450 في الكلام على وهب بن منبه ما نصه: (وثقه الجمهور وشد الفلاس فقال: كان ضعيفاً) فأصبح هذا التضعيف لا أثر له بعد أخذ البخاري عنه، والتقليل من شأن أو عدد ما أخذه البخاري أو مسلم عن أحد الحبرين لا يصلح حجة على عدم توثيق كل منهما، فإن المدار في ذلك على ما يدل على ثقة صاحبي الصحيحين بأحدهما، وحديث أو احتجاج واحد كافٍ في الدلالة على ذلك بدليل أن علماء مصطلح الحديث لم يشترطوا تعدد الأخذ في قولهم: (كل من أخذ عنه البخاري أو مسلم فهو ثقة، ولا يقبل قول من جرحه بعد) . *** الموضع الثالث (الاحتجاج بما لا يحتج به لعدم صحة سنده أو لخروجه من موضوع البحث) . وقبل الكلام في ذلك أنقل يسيرًا مما قرره علماء الحديث في التحذير من جرح رجال الحديث بغير تثبت. قال العلامة ابن الصلاح في المقدمة في النوع الحادي والستين ما نصه: (على الآخذ في ذلك أن يتقي الله تبارك وتعالى ويثبت ويتوقى التساهل كيلا يجرح سليمًا أو يسلم بريئًا بسمعة سوء يبقى عليه الدهر عارُها) . ونقل العلامة القاسمي في كتابه الجرح والتعديل صحيفة (4) من علماء الحديث أنهم قالوا: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس المحدثون والحكام. أهـ فأمام هذا التحذير الشديد لا يصح الاحتجاج في تجريح كعب، ووهب بما نسب إليهما من الأخبار المنتقدة في بعض كتب التفسير أو التواريخ أو القصص لاحتمال أن ذلك موضوع ومنسوب إلى أحدهما من باب حسن السبك وخصوصًا ما كان من ذلك من أخبار بني إسرائيل فلشهرة الحبرين بمعرفتهما تلك الأخبار جعلهما الوضاعون هدفًا لأغراضهم، ومن ذلك الخبر الذي هو مثار هذا المبحث من أوله إلى آخره، وهو ما نقلتم عن ابن كثير في التفسير عند قوله تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) من قصة سيدنا موسى مع فرعون في سورة الأعراف من أن وهبًا قال: (إن العصا لما صارت ثعبانًا حملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا قتل بعضهم بعضًا، وقام فرعون منهزمًا) قال ابن كثير رواه ابن جرير والإمام أحمد وابن أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم. أهـ منار أما غرابة السياق فمسلمة؛ لأن اجتماع هذا العدد الذي مات فقط فضلاً عمن نجا على غير انتظار أمر لا يتصوره عاقل لأن دخول سيدنا موسى وأخيه على فرعون أول أمره كان على غير انتظار، ولكن من جهة صحة سند هذه الرواية إلى وهب فإن في سند ابن جرير من هو مجهول كما قدمنا في أصل الانتقاد والرواية عن المجهول لا يعتد بها لاحتمال أن ذلك المجهول هو الواضع لها. والإمام أحمد لم يروه في مسنده كما هو ظاهر عبارتكم؛ لأن ابن كثير صرح في عبارته أنه في الزهد وهو لم يكن من كتب الحديث المعروفة فلا مانع أن يكون في سنده انقطاع أيضًا. وابن أبي حاتم تفسيره كتفسير ابن جرير، بل إنه يروي في الموضع الواحد المتناقضات بدليل ما نقله عنه الحافظ ابن حجر في الفتح في تعيين (مجمع البحرين) في تفسير سورة الكهف، حتى قال ابن حجر: وهذا اختلاف شديد فانظره، وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من وهب، وحينئذ فلا تصح مؤاخذته به، ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد من أصحاب كتب الحديث المعتبرة مثل البخاري أو مسلم، أو غيرهما من الكتب التي يصح للمطلع عليها أن يقطع أو يظن أن ذلك صدر منه، وما دام أنه لم يوجد ذلك فلا محل لتوجيه اللوم إليه بناءً على أمر وضعه عليه أقرب جدًّا من صدوره منه. ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحَبْرين، أخيرًا حيث قلتم بصحيفة (718) من الجزء التاسع المذكور في بقية الرد علينا ما نصه: هذا وإن عمدتنا في جرح رواية وهب ما جاء به من الإسرائيليات التي نقطع ببطلانها، وهو آفتها كروايات كعب فيها، وقد شوَّها تفسير كتاب الله بما بثَّا فيها (كذا) من الخرافات، وبما أدخلا فيها (كذا) من العقائد الباطلة ومن تأييد عقائد أهل الكتاب، والشهادة لكتبهم التي بين أيديهم بالصحة. ونكتفي في هذه، وهي شرها بما نقله الحافظ ابن كثير عنه في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ ... إلخ} (آل عمران: 78) قال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ} (آل عمران: 78) فأما كتب الله فإنها محفوظة ولا تحول. رواه ابن أبي حاتم. أهـ (منار) فهذا رواه ابن أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا وهبًا بناءً على مثل هذه الرواية الساقطة بقولكم بعد ذلك: (إن وهبًا كان كذابًا غاشًّا للمسلمين بصلاحه) اهـ. هذا مما احتجيتم به وهو لم يصح الاحتجاج به لعدم صحة سنده. وأما ما جعلتموه حجة وهو خارج عن الموضوع فهو ما ذكرتموه بصحيفة (78) من الجزء الأول المذكور في أول ردكم من الإطناب في ذكر توراة اليهود وإنجيل النصارى الموجودين وجعلهما حجة على كذب الحبرين لكون كثير من الأخبار نسبت إليهما عن بني إسرائيل لم توجد فيهما حيث قلتم: فإن توراة اليهود بين الأيدي، ونحن نرى فيما رواه كعب ووهب عنهما ما لا وجود له فيها ألبتة على كثرته إلخ. فهذا فضلاً عن خروجه عن الموضوع لما هو مقرَّر عند جميع علماء المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح الاحتجاج بهما لما ثبت بالقرآن والأحاديث الصحيحة من تحريفهما وتبديلهما. فقد نقضتموه بقولكم أخيرًا بصحيفة 719 من الجزء التاسع المذكور في آخر ردكم علينا بما نصه: أقول إن كثير قد علم من حال كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلم أئمة الجرح والتعديل ممن فوقه كأحمد وابن معين والبخاري ومسلم الذين لم يروا هذه الكتب كما رآها ولم يطلعوا على ما بينه المطلعون عليها قبله من تحريفها وأغلاطها ومخالفتها لما نقطع به من أصول الإيمان بالله ورسوله إلخ، كابن حزم وابن تيمية أستاذه إلخ. أهـ منار وعلى أيّ حالة كانت فإن ذلك لا يوجب جرح الحبرين فإن رأي ابن حزم وابن تيمية معروف لدى جمهور العلماء فيما يختص بتحريف كتابي أهل الكتاب وغيره، وقد فصل القول في مسألة التحريف الحافظ ابن حجر في الفتح في كتاب التوحيد عند شرح باب قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21-22) ونقل كلام ابن حزم وابن تيمية وغيرهما، ولم ينقل عن أحد الطعن على الحبرين مطلقًا. وابن حزم متوفى سنة 456 وابن تيمية توفي سنة 728 وقد وثق الحبرين بعد ذلك كثير من العلماء المطلعين على أقوالهما، وقد تقدم ذكرهم واستمر توثيقهما إلى الأعصر القريبة فصاحب كتاب إظهار (الحق) ممن سبق توثيقه لكعب وهو فرغ من تأليفه سنة 1280 هو صاحب الفضيلة الشيخ الخضري الموجود وثق وهبًا في كتابة تاريخ التشريع الإسلامي بصحيفة 158 وابن حزم وابن تيمية لم يصدر منهما طعن على أحد الرجلين فكل ما يتعلق بكلامهما خارج عن الموضوع. (والكلمة الختامية) أن مبحث الجرح والتعديل مبحث نقلي محض لا مجال للعقل فيه مطلقًا إلا من حيث الاطلاع على ما دوّنه علماؤه في سجلات أسفارهم فالمجروح من جرحوه والموثَّق من وثقوه، وما علينا إلا الاطلاع على أحكامهم في ذلك فننفذها كما صدرت، والله ولي التوفيق. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجموني (المنار) سنبدي رأينا في هذا النقد في الجزء التالي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

ذات بين مصر والحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذات بين مصر والحجاز حادثة المحمل الشريف وأثرها في الصحافة: قد ذاع في أرجاء العالم كله نبأ حادثة سميت (حادثة محمل الحج المصري) في (منى) من أرض الحرم المكي المقدسة فقد طارت به الشركات البرقية، وخاضت فيه جرائد الشرق والغرب، ولم أر جريدة من الجرائد المصرية ولا السورية بينت الحادثة كما وقعت على كثرة من كان في موسم الحج من مراسلي هذه الجرائد، وجريدة (أم القرى) المكية وهي التي تحرت الصدق في الرواية اختصرت الخبر، وأوجزت فيه، ومن الغريب أن البلاغ الذي أذاعته الوكالة الحجازية النجدية بمصر لم يخلُ من غلط ولم يبين الحقيقة ومن كل وجه، وسنبينها في رحلتنا الحجازية. وكانت وجهة الجرائد المصرية فيه سياسية لا دينية فقد عدته نزاعًا بين حكومتي القطرين وشعبيهما فطفقت تطعن في النجديين وحكومتهم كدأب الجرائد السياسية في هذا العصر، ولا يوجد الآن في مصر جريدة إسلامية تراعى أحكام الشريعة الإسلامية في كتابتها كالجرائد الدينية المعروفة في جميع الشعوب وإن كانت سياسية (كجريدة البشير الكاثوليكية في بيروت) والجرائد المصرية التي قد تسمى إسلامية يراد بنسبتها إلى الإسلام أن أصحابها من الشعب الإسلامي، وإن كان بعضها يطعن في الإسلام ويدعو إلى تركه، ومنها ما لا يقبل أصحابها نشر شيء فيها يؤيد الإسلام ولا يمتنعون عن نشر ما يخالفه، وإن كانوا لا يدعون إلى تركه كغيرهم ممن يسمون مسلمين. وإن أمين بك الرافعي قد اشتهر بين محرري الجرائد المصرية ومديريها بالتدين ومراعاة أحكام الإسلام، وما اشتهر إلا بحق فهو مسلم فعلاً لا سياسة وجنسية فقط، وهو مع ذلك من أركان الوطنية وعلماء القوانين وقليل الإلمام بالفقه الإسلامي وكان في أيام هذه الحادثة في الحجاز كثير الاتصال بأمير الحج ورجاله ومراسلاً لجريدة (السياسة) اللادينية، وقد رأيت من مقالاته فيها ما أنصف به الوهابية وتحرى الحق فيما كتبه عنهم كعادته الحميدة، ولكن ما كتبه في حادثة المحمل لم يكن كذلك؛ لأنه تلقى أخبارها من أمير الحج ورجاله من جهة؛ ولأنه ظن مع هذا أن ما صوروه له من تعدي الأعراب النجديين على المحمل ورميه بالحجارة وإصابة هذه الحجارة بعض حرسه يبيح لأمير الحج شرعًا أن يرميهم في أرض الحرم بقذائف المدافع والرشاشات فتقتل من تقتل بغير حساب. (وسنبين في الرحلة أن هذا خطأ محض لا يحتمل الصواب) . فكان ما كتبه انتصارًا لأمير الحج وحجة للجرائد الوطنية في خطتهم التي أشرنا إليها آنفًا، وبابًا مفتوحًا لخصوم الوهابية السياسيين كالإيرانيين وغيرهم والدينيين كعباد القبور ومرتزقة الخرافات، على أن السياسيين المجاهرين والدساسين قد ألبسوا سياستهم ثياب الدين اتباعًا لسنة آبائهم الأولين. حملت الجرائد على الوهابيين حملة واحدة لا يصدها صد، ولا تقف دون حد وأباحت صفحاتها لأصحاب الأهواء السياسية والخرافية الدينية المخالفين لهم في عقائدهم وآرائهم وأفكارهم، وانتصر السعديون والدستوريون منهم لمنفذ سياسة حزب خصومهم (الاتحاديين) في الحجاز وهو أمير الحج وهم غافلون، ولكن الحكومة الائتلافية الحاضرة لم يخف عليها ما خفي على كل هؤلاء، فهي لم تكد تحل محل الحكومة الاتحادية حتى بادرت إلى الاعتراف بما لم تعترف به من ملكية جلالة عبد العزيز آل سعود على الحجاز وبإرسال وفد رسمي إلى المؤتمر الإسلامي الذي دعا إليه وأقامه بمكة المكرمة، ثم إنها علمت من خطأ أمير الحج ما لم يعلمه أصحاب الجرائد والجمهور، وإنما علمته من تقريره الرسمي الذي هو أكبر حجة عليه كما يدل عليه ما نشره في جريدة الأهرام، علمت هذا وثبت عندها أن جلالة ملك الحجاز وسلطان نجد برهن بمعاملته لأمير الحج وبغير ذلك على شدة حرصه على موادة مصر والحكومة المصرية، وهي أجدر بأن تعلم ما لا يعلم الجمهور من مصلحة البلاد في هذه الموادة. *** إلمام الأمير سعود بمصر وحسن تأثيره: بينما الجرائد الكثيرة تسرف في خطتها التي بيناها مع الإشارة إلى عذر أكثرها فيها، حتى إن بعضها حث الحكومة المصرية على التصدي لإخراج الوهابيين من الحجاز لتنفيذهم أمر الشريعة بهدم ما بني على القبور المعبودة من المساجد والقباب، كأن إخراجها إياهم من الهنات الهينات، والراجح أن المقترح لا يدين الله بهذه الخرافات، بل نخشى أن لا يدين الله تعالى بالعقائد اليقينيات، ولا بالصلاة والزكاة، والجميع يجهلون ما عند الحكومة من المعلومات، الثابتة بالحجج والبينات. بينا ما ذكر كما ذكر؛ إذا بأسلاك البرق تنبئ أن الأمير سعودًا أكبر أنجال ملك الحجاز وسلطان نجد سيؤم مِصر لمعالجة عينيه (لا لغرض آخر) ، وأن الحكومة المصرية قد دعته إلى نزوله ضيفًا عليها، وتلا ذلك أخبار الجرائد تترى بإعداد دار خاصة لضيافة سموه، قد وُكِّل تنظيمها وتأثيثها إلى سعادة محافظ مصر (بالنيابة) وبأن دولة وزير الخارجية قد زار هذه الدار بنفسه وأشرف على ما يعمل فيها.. .، وبأن الأوامر الرسمية قد صدرت إلى قنصلية مصر في جدة وإلى محجر الطور وإلى السويس بأن يقوم رجال الحكومة في كل منها بما يجب من خدمة سمو الأمير في مكانه.. . وبأخبار تنفيذ هذه الأوامر بالعناية التامة. ثم وصل الأمير إلى القاهرة فاستقبل فيها استقبالاً فخمًا من قبل الحكومة والأمة وفتح له الباب الملكي في محطة مصر، ثم أقبل على زيارته في دار الضيافة مندوب جلالة الملك، والوزراء، وكبار العلماء، والشيوخ والنواب، ومندوبو الصحف، وغيرهم، وزار هو دولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول في بيت الأمة، ودولة رئيس الوزراء في ديوانه ومجلسي الشيوخ والنواب ومعاهد العلم والدين كالمساجد الكبرى، ودور الآثار القديمة المصرية والعربية والكتب المصرية، وحديقة الحيوانات، وبنك مصر، والمطبعة الأميرية.. . إلخ. وكان يقابل في كل مكان رسمي وغير رسمي بالحفاوة والإجلال، وتحدث معه بعض مندوبي الصحف فسمعوا منه أحسن الحديث وأحكم الأجوبة عما سألوه عنه، وفي كل يوم تنشر الصحف أخبار تنقله وزائريه وتنزهه كما تنشر أخبار ملك البلاد، وكتب بعضها مقالات خاصة في الثناء عليه ووجوب الحفاوة به ومنافع المودة والاتفاق بين حكومة جلالة الملك والده، والحكومة المصرية ومن أحقها بالتأمل مقالة لجريدة البلاغ الوفدية السعدية (ولا نتنزه عن الإشارة لشذوذ ثلاث جرائد أسبوعية سفهت علينا وعلى الوهابية رجاء أن يلقمها الأمير حجارة جنيهات يقطع ألسنتها البذيئة كدأبها ودأب أمثالها) . كان كثير من الناس يظنون بما كانوا سمعوه من مطاعن أعداء الوهابية الغابرين وخصومهم الحاضرين أن أهل نجد المنبوذين بلقبها أعراب شذاذ في دينهم وأخلاقهم وعاداتهم وآرائهم فرأوا من الأمير سعود وبطانته وحاشيته مثلاً أعلى وأكمل مما كانوا يظنون ومما يعهدون من غيرهم دينًا وأدبًا وفضيلة، أكبروا تقوى الأمير واستمساكه بعروة الدين الوثقى، وأعجبوا بآدابه وشمائله، واستحسنوا آراءه وأفكاره في كل ما حدثوه به. رأوا أن الأمير كان يصلي كل صلاة في أول وقتها بالجماعة أنى أدركته من مكان رسمي كمجلس النواب، أو ضاحية عامة كحديقة الحيوانات، أو دار خاصة كدار محافظ مصر، كانوا سمعوا أن من عناية الحكومة بدار الضيافة أن جعلت فيما جعلته فيها من خدم وحرس عسكري وموظفين مؤذنًا أوصته بأن يلتزم في أذانه مذهب الوهابية، فتوهم بعضهم أن أذان الوهابية مخالف لأذان سائر المذاهب الإسلامية، ثم سمع من زاروا تلك الدار أو مروا بها وسمعوا أذان مؤذنها أن الحكومة لم تجامل الأمير باتباع مذهبه المخالف للمذاهب المعروفة فيها! بل سمعوا الأذان الشرعي المتفق عليه في جميع مذاهب السنة المنصوص في كتب السنن النبوية كلها وكتب فقه المذاهب الأربعة كلها بدون زيادة في كلماته المعدودة المنقولة بالتواتر كما يزيد بعض مبتدعة المؤذنين في مصر في بعض الأوقات ولا سيما أذان الفجر صلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ونداء لبعض المعتقدين المعبودين بدعائهم مع الله أو من دون الله، كقول بعضهم في آخر الأذان: (يا شيخ العرب) دعاء ونداء للسيد البدوي المشهور بهذا اللقب، وبدون زيادة في نغم الأذان وصفة أدائه، وتجاوب اثنين أو أكثر فيه كالأذان الذي يسمونه بالسلطاني، ويخالف مذهب الشيعة الذين يقولون في الأذان (حي على خير العمل) وهي كلمة منسوخة. فهذه المسألة تجلي لمن يحب معرفة الحقائق كنه الفرق بين الوهابية ومخالفيهم. الوهابية على مذهب إمام السنة أحمد بن حنبل رحمة الله تعالى وهو رابع أئمة الفقه الأربعة، وإنما يذكر رابعًا؛ لأنه متأخر عنهم ولادة ووفاة لا لأن ترتيبهم ترتيب فضيلة، فكل منهم مجتهد مطلق، وكان هو أعلمهم بالسنة من حيث سعة الرواية ونقد الرجال ومعرفة الآثار، ومن تلاميذه أكبر مدوني السنة كالشيخين البخاري ومسلم وأبي داود وأجل من بعدهم تلاميذ تلاميذه رضي الله عنهم أجمعين، إلا أن الوهابية أشد أهل السنة استمساكًا بها، ورفضًا للبدع المخالفة لها بالزيادة أو الصفة كما ذكرنا في الأذان أو النقص بالأولى، وقد شنع عليهم بعض أعدائهم بما جعل اتباعهم للسنة وإجماع مذاهبها ضلالاً، وخروجًا منها أو من الإسلام بتحريف باطل إذ قالوا: إنهم يمنعون الصلاة على النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأطلقوا القول في ذلك حتى إن بعض حجاج بلدنا في الموسم الأخير قالوا لي بمكة: إننا كنا سمعنا أن الوهابية منعوا الشهادة بالرسالة من الأذان ويعاقبون من يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سمعنا الأذان في الحرم كاملاً كما نعلمه (! !) وذكر أمين بك الرافعي في رسالة من رسائله المكية إلى جريدة السياسة حديثًا، جرى بينه وبين الملك عبد العزيز آل سعود فنص فيه أن من عادته تكرار الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكره في المجلس وإن كثر، وهو لم يعهد هذا من أحد غيره. هذا مثل واضح من مطاعن أعداء الوهابية فيهم بالباطل والتحريف جعلوا تمسكهم بالسنة مخالفة للسنة، ولو جازت الزيادة في الدين ولا سيما شعائر الإسلام كالأذان لزاد الناس في الصلاة والحج وغيرها حتى لا يعرف الأصل من الزائد وذلك مخالف لقوله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ولاقتضى ذلك أن يكون الآخذون بالزيادة أكمل عبادة من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين لهم وخير القرون الذين شهد صلى الله عليه وسلم لهم بأنهم خير الأمة. صلى الأمير الجمعة في الجامع الأزهر ففرشت له الطريق من الباب الخارجي إلى المحراب كما يفرش لملك البلاد واجتمع الجماهير من العلماء والطلاب حفاوة به، وصلى بجانبه بجوار المنبر الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر ورئيس المعاهد الدينية والمفتي الأكبر وغيرهما من كبار العلماء الرسميين، وزار بعد الصلاة مجلس إدارة الأزهر وقدمت له فيه المرطبات، ونفح خدم الأزهر بطائفة من الجنيهات، وودعه العلماء بمثل ما استقبلوه به من الإجلال. وصلى جمعة أخرى في المسجد الحسيني، وزار بعد الصلاة حجرة الآثار النبوية المشهورة فكان كلما عرض عليه شيء منهما قال: اللهم ارزقنا اتباع آثار نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأذاعت الجرائد له أنه زار المشهد الحسيني أي القبر المنسوب إلى الإمام الحسين السبط عليه سلام الله ورضوا

نموذج من كتاب القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بدع أهل الطرق المنسوبة إلى الصوفية نموذج من كتاب القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، حمدًا لله، والصلاة والسلام على نبيه ومن والاه فقد رفع إلينا سنة 1312هـ، سؤال هذا نصه: ما قول السادة العلماء في حكم الأذكار الملحونة وقصر لفظ الجلالة واستماع الأذكار المحرفة، والذكر جهرًا، ومع الجماعة وما حكمه، والهزة والتمايل والإنشاد في الذكر، واستعمال الخرقة والحزام، وعلم الراية، والذكر بمثل أنا أنت وأنت أنا، وفي التكلم بين العامة بعبارات الصوفية الغامضة، وفي الطبل والزمر والتصفيق بالأيدي ورفع الأصوات بالألفاظ الساذجة حال الذكر، وفيما يحصل من الرطانة المعروفة عند أهل مصر بضرب اللوندي، وفيما يقع من أرباب الطرق حال ذهابهم إلى بعض الأضرحة أو البيوت لإقامة حفلة الذكر فيه من رفع أصواتهم في الطرق بالأذكار المحرفة والصلوات المبدلة، والفواتح المتعددة كلما وصلوا لجهة فيها بعض إخوانهم أو جعلوها موعدًا للقائهم - وحمل واحد يسير أمامهم بفانوس يسمى بالزي، وفيما يفعلونه في الموالد والليالي الرسمية أثناء ذهابهم إلى مركز مشيخة الطرق من الاصطفاف ميمنة وميسرة، يحمل لهم الشموع الموقدة والمجامر الأرجة غلمان مجملون بالملابس الفاخرة والمناطق المطرزة الناعمة، وفيما يسمى بزفة الرفاعي والبيومي وزفة الفار، وفي التصدي لمشيخة الطرق وأخذ العهود وإرشاد الخلق ممن ليس أهلاً للإرشاد؟ أفيدوا الجواب ولكم من الله حسن الثواب. فأجبت مستعينًا بالله تعالى. تمهيد: أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وأيما قول أو عمل صادم نصًا من كتاب الله أو هدي رسوله فهو رد على صاحبه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) وقال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) [1] وأن غالب هذه الأمور التي اشتمل عليها السؤال المذكور من البدع السيئة المحدثة في الدين التي يجب على كل قادر من المسلمين إزالتها لقوله عليه الصلاة والسلام: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) [2] وقوله: (ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا فلم يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب) [3] وقوله: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها) [4] . وإلى الناس بالمسارعة إلى ذلك سواس الأمة وعلماؤها الذين لهم الزعامة في الدين، وإليهم المرجع في أمور المسلمين، وعليهم الاحتفاظ بمعالم الشريعة والإرشاد والذود عن حماها؛ لأنهم رعاة والناس مرعيون، وقادة والناس مقتدون. فإذا تغاضوا عنها أو تواكلوا في إزالتها، أو بدا منهم ما يشعر باستحسانها والرضا عنها كانت التبعة عليهم مضاعفة، واندرجوا في وعيد قوله عليه الصلاة والسلام (إذا ظهرت البدع وسكت العالم فعليه لعنة الله) [5] وليس المراد بالعالم من تزيا بالزي الخاص، بل كل من يعلم الحكم الشرعي في الحادثة، وقوله: (من مشى إلى صاحب بدعة ليوقره، فقد أعان على هدم الإسلام) [6] وقوله: (من نظر إلى صاحب بدعة بغضًا له في الله ملأ قلبه أمنًا وإيمانًا، ومن انتهر صاحب بدعة أمَّنه الله يوم الفزع الأكبر، ومن استحقر صاحب بدعة رفعه الله في الجنة مائة درجة ومن لقيه بالبشر أو بما يسره فقد استخف بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم) [7] . وكثيرًا ما كان يتمثل الإمام أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه بهذين البيتين: من الدين كشف العيب عن كل كاذب ... وعن كل بدعيٍّ أتى بالمصائب ولولا رجال مسلمون لهدمت ... صوامع دين الله من كل جانب وأول من أحدث هذه البدع في الطرق الصوفية جماعة من مرتزقة الأعاجم في أواخر القرن الرابع استمرءوا مرعى الخوانك [*] التي أحدثها بمصر أهل الخير والنجدة ليأوي إليها الزهاد والعباد فتدثروا بشعار الصوفية لينسبوا إليهم، وتعطف القلوب عليهم، وانتهجوا مناهج أهل الإباحة فأتوا من المنكرات ما يبرأ منه الدين وأهل التصوف. (له بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

أنباء العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء العالم الإسلامي (منطقة العقبة ومعان) قد علم الخاص والعام أن المؤتمر الإسلامي العام قرر بإجماع الآراء مطالبة ملك الحجاز بالسعي لإعادة منطقة العقبة ومعان إلى الحجاز، وحث العالم الإسلامي على تأييده في هذا الطلب، ويظهر أن ملك الحجاز بدأ بما يجب عليه شرعًا وسياسة من السعي لذلك، فإن لم ينقل هذا بخبر رسمي؛ فقد يدل عليه ما جاءتنا به البرقيات من (لندن) من تصريح الجرائد الإنكليزية بذلك ودفاعها عنه بأن جمعية الأمم قبلت أن تقيد إلحاق هذه المنطقة بشرق الأردن وجعلها تحت الانتداب البريطاني (! !) ، وبأن عظمة شأن هذه المنطقة البرية والبحرية والحربية والجغرافية والاقتصادية يوجب امتلاخها من الحجاز ومن سلطان العرب والمسلمين، وجعلها تحت إدارة دولة متمدنة كالدولة البريطانية (!) . ولم يبلغنا في هذه المرة أن جريدة بريطانية تقول في هذه المسألة كلمة حق وإنصاف كما تفعل بعض الجرائد البريطانية في بعض المسائل وإن لم تسمع لها حكومتها، ولكن وُجد إنكليزي واحد قال فيها كلمة حق هي وجوب إرجاع المنطقة إلى أصلها وهو (مستر فلبي) المشهور، وهذا الرجل هو الذي انفرد بدرس شؤون نجد، وبلاد العرب، وابن السعود، وإظهار الصداقة له ومطالبة حكومته بمودته، وصداقته، وإظهار ما في ذلك من المنافع لها، كما أن (الكولونيل جاكوب) قد اختص بدرس شؤون اليمن وإمامها ومطالبة حكومته بمودته وبيان ما في ذلك من المنافع لها، ولم يفعل أحد من الرجلين شيئًا. الحكومة الإنكليزية مجتهدة في جعل هذه المنطقة الحجازية بريطانية محضة، - وهي لم تبتدع نظام جمعية الأمم إلا لتؤيدها في مثل هذا - فهي قد خصصت أربعة وخمسين ألف جنيه، لبناء معقل عسكري في معان يسع بضعة عشر ألف جندي، وستجعل هنالك محجرًا صحيًا للحجاج تحول إليه جميع حجاج سوريا وفلسطين والعراق وإيران، وغير ذلك من الأقطار التي يرغب حجاجها في الحج من طرق هذه البلاد، وقررت أيضًا مد خط حديدي من معان إلى العقبة لينقل الحجاج إليها ويسافرون منها إلى جدة أو ينبع من موانئ الحجاز، ويستغنون عن الإلمام بالثغور المصرية وقنال السويس. وأما العالم الإسلامي فلما يبدأ بتنفيذ ما قرره المؤتمر في مكة المكرمة من تأييد حكومة الحجاز في مطالبتها برد هذه المنطقة إلى الحجاز كما توجبه عليهم وصية النبي صلوات الله عليه وسلامه في مرض موته وهي التي بنى عليها المؤتمر العام قراره على أن استقلال الحجاز وتأمينه من اعتداء غير المسلمين عليه من أهم الفروض الإسلامية ولو لم يكن هنالك وصية من النبي - صلى الله عليه وسلم - بجعل الحجاز بل جزيرة العرب كلها إسلامية محضة. ينبغي لأعضاء المؤتمر الذين يبثون الدعوة لهذا السعي في بلادهم تنفيذًا لقراره أن يتدبروا في هذا الأمر حق التدبر، وأن يسلكوا له أقصد السبل، وأهمه الاستعانة على الحكومة الإنجليزية بشعبها بعد البحث عن خير الوسائل، لإقناعه بأن مودة العالم الإسلامي له تتوقف على ذلك لأن أمر الحجاز ليس كأمر سائر البلاد الإسلامية كما هو معلوم بالبداهة، ولا يخفى على ذكي ولا بليد أن انتقاص هذه المنطقة من الحجاز خطر على الحرمين قريب بل على الإسلام نفسه وسنعود إلى التفصيل في هذه المسألة إن شاء الله تعالى. *** (منصب المندوب السامي الفرنسي لسوريا ولبنان) قد عزل موسيو جوفنيل المندوب السامي السياسي لسوريا ولبنان واستبدل به فرنسي آخر اسمه موسيو يصح أن يقال فيه وفيمن قبله من المندوبين ما قاله الرصافي في تولية حقي باشا لمنصب الصدارة بعد حلمي باشا وكامل باشا في عهد الاتحاديين. مضى كامل من قبل حلمي وإن جرى ... كما جريا حقي فمثلهما حقي نحن قدرنا لموسيو جوفنيل الفشل منذ عرفناه بمصر والغرور بالنفس يملأ دماغه وجوانحه، وتغرير أولي الأهواء يحيط به من جميع جوانبه، ثم فصلنا القول في خطل سياسته وضربنا له الأمثال، وكان أبعدها عن المصلحة الفرنسية عندنا ما كان يظنه هو السياسة المثلى، ويتوهم أنه هو الحز في المفصل، والضرب على الأكحل، وهو بدء عمله في لندن ثم في أنقرة (!) فهو قد اهتم بأن يبدأ بالاتفاق مع من ربحوا بسوء عمله من فرنسا ولم تربح منهم فرنسا شيئًا. إننا والله لنعجب من أمر هذه الأمة ذات التاريخ الفياض بنوابغ الرجال كيف آل أمرها إلى عوز رجل واحد يستطيع أن يكون مستقلاًّ بعمل صالح في سوريا دون عبث أولئك الأفراد من اللبنانيين المتعصبين، ومستعمري الفرنسيس المنهومين، الذين سفكوا دماء الألوف من رجالها، وأخسروها ألوف الملايين من فرنكاتها، وشوهوا محاسن تاريخها، وكسبوها تجاه ذلك عداوة الأمة العربية ومقت الشعوب الإسلامية كلها. نعم أن كل ما خسرته فرنسا في سوريا من دماء بعدما نزفته الحرب العظمى من دماء رجالها، ومن ألوف ملايين الفرنكات في الوقت الذي خوت فيه خزانتها، وسقطت قيمة ماليتها، ومن تشوية تاريخها وسمعتها، كل ذلك كان بعبث أولئك الأفراد بالمندوبين الساميَيْن، وغرور هؤلاء بما يتوهمون من إخلاصهم لفرنسا وهم ليسوا بمخلصين، اللهم إلا لجيوبهم، وإرضاء تعصبهم. إن أكبر عقل في فرنسا كلها في هذا العصر هو عقل الفيلسوف غوستاف لوبون الذي نصح لأمته بأن تعتبر بتاريخ الإنكليز وبأعمالهم في الاستعمار، إن الإنكليز هم الذين استفادوا أكبر الفوائد من سوء سيرة رجال فرنسا في سوريا ومن الثورة السورية، فهم يوطدون أقدامهم في فلسطين وفي شرق الأردن وفيما ضموه إليها من أرض الحجاز وفي صحراء سوريا العربية الممتدة إلى العراق بأقل النفقات (على حساب الثورة السورية! !) . لقد وجد في العقلاء المنصفين من نصارى سوريا ومن المسلمين، المسلمين أنفسهم - بل من علمائهم أيضًا - من حاولوا النصح لفرنسا بمنتهى الإخلاص، ومن كلموا من استطاعوا أن يكلموه من رجالها، وأرشدوهم إلى الجمع بين مصلحتي سوريا وفرنسا فاقتنعوا ولكن لسان حال فرنسا تمثل لهم بقول البوصيري. محضتني النصح لكن لست أسمعه ... أذن المحب عن العذال في صمم لو فوض منصب المفوض السامي في سوريا إلى رجل عليم خبير مستقل في عقله وفكره وشعوره دون منهومي الاستعمار ومتعصبي الكثلكة الإمبراطورية المسيحية، وعرف أهل البلاد حق المعرفة، وعرف من حولهم من أمتهم، لاستطاع أن يرفع اسم فرنسا، وأن يكسبها بعمله في سوريا مالاً ونفوذًا وشرفًا، ولكن هذا الرجل لم يوجد فهل يوجد قبل أن يقضي الله في سوريا ما يذهب بكل أماني فرنسا وأحلامها، أو قبل أن تستيقظ الأمة الفرنسية فتعلن بسبب سوريا حكومتها وحكامها؟ الله أعلم. *** (الشيخ محمد الخراشي والدعاية البهائية) قد ذكرنا في الجزء الماضي ما كتب إلينا من بلاد العرب وما كتب إلى غيرنا من بث الشيخ محمد الخراشي لدعوة البهائية، ثم أخبرنا مخبر آخر أن الخراشي قد تبرأ من دين البهائية، وأنكره جهرًا أمام الناس، فإن صح هذا عنه فعسى أن يكتب مقاله في براءته ينشرها في الجرائد تكون صريحة في ذلك بحيث لا تحتمل التأويلات الباطنية، وإلا فإن البهائية يدعون الإسلام مع المسلمين حتى إن أكبر رجالهم وملفق ديانتهم عباس أفندي ابن معبودهم البهاء، الملقب (بعبد البهاء) كان يدعي في مصر الإسلام والدعوة إليه حتى انخدع بكلامه مثل عثمان باشا مرتضى العلامة القانوني المنطقي، وجادلني في الدفاع عنه بما ذكرته في وقته في المنار، وانخدع به أيضًا صاحب المؤيد الشيخ علي يوسف وأثنى عليه في المؤيد بما رددته عليه في مقالة نشرها في المؤيد. ويسرنا جد السرور أن يتبرأ الشيخ محمد الخراشي من هذا الدين الملفق الوثني؛ لأنه كان من أصدقائنا وما فرق بيننا وبينه إلا ما نقل إلينا هنا قبل سفره إلى العراق وبلاد العرب وخليج فارس من دعوته إلى البهائية ودفاعه عنهم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. *** (سماسرة العروش وطلابها) فتن أبناء الشريف حسين بن علي بحب ألقاب الملك وعظمتها في ظل دول الاستعمار، ففيصل ملك العراق قد أستأنف في هذا الصيف في فرنسة ما بدأ به في صيف العام الماضي هنالك من السعي لجعل أحد أخويه (علي وزيد) ملكًا لسورية في ظل الانتداب الفرنسي جزاء لما يدعيه من قدرته على إخماد الثورة، وإخضاع البلاد للانتداب الذي كان فيصل أول من قبله وسعى لإقناع سورية به ليبقى ملكًا عليها في ظله فأحبط الجنرال غورو عمله، وقد آن لمن كانوا مخدوعين بهذه الأسرة أن يعلموا ما علمه سائر الناس من سوء حالها وكونه لا يصلح لشيء، على أننا لا نظن أن فرنسة تنخدع لفيصل إن كان لا يزال في السوريين من ينخدع له. هذا وإن جعْل الشريف علي أو الشريف زيد ملكًا لسورية فيه عداء لمك الحجاز وسلطان نجد لا تؤمن عاقبته. وقاعدة الملك فيصل في سعيه الآن هي جعل سورية ملكية مرتبطة مع فرنسة بمعاهدة كالمعاهدة البريطانية العراقية، وإن صك انتداب فرنسة لأهون من تلك المعاهدة، ولولا سوء تنفيذ رجال فرنسة له لكانت خيرًا من العراق وأدنى إلى الاستقلال، فمن كان في شك من هذا من زعماء البلاد فليخبرنا ننشر له ذيول تلك المعاهد التي ليس فيها للعراق إلا الألقاب الضخمة. *** (أفن رأي دعاة الإلحاد والإباحة) كلمة من كتاب، لأمير الكتاب ما كتبتم لي بشأنه أنا منتظر الفرصة له. ولا بد أن أبدي رأيي في الشعر الجاهلي، وما أشبه ذلك من المواضيع التي أثارها ذلك الأعمى.. . ولكني أجد مع الأسف في مصر نزعة إلحاد وإباحة من قبيل ما في تركيا وعذرهم كعذر الأتراك أن هذه الأمور لم تمنع ترقي أوربا، لا بل هي سبب رقيها؛ إذ سبب رقي أوربا هو الحرية، والإلحاد في العقائد والإباحة في الاجتماع هما من باب الحرية. وهؤلاء المجانين لا يدركون أن مبدأ رقي أوربا وقع حينما لم تكن هذه الحرية التي يذكرونها لا بل تأثل ونما وصالت أوربة على العالم وهي بعد رجعية على رأيهم، ولما فشت فيها مبادئ الإلحاد والإباحة لم تزعزع قوتها إذ كانت رسخت وتأسست والجسم القوي يتحمل الصدمات. وأما الإسلام فقد انحط بعوامل عديدة من الداخل ومن الخارج، وقد فقد استقلاله ولم يبق له شيء يقاتل به إلا هذا الإيمان، فهو يقوم عند المسلم مقام المال والصناعة والوسائل كلها، وهو الهاتف الوحيد بالمسلم أن يهب ويذب عن حوضه ويأبى عبودية الأجنبي. وهذه الفئة آتية لتقول للمسلمين: شريعتكم بالية، وعقائدكم سخيفة، ودعونا من كل ما أنتم فيه ولننشئ نشأة جديدة وبهذا نحيا، وبهذا يهدمون القوة الوحيدة الباقية بيد الإسلام، وهي العقيدة والرابطة الإسلامية، ومن الآن إلى أن تتكون الهيئة الاجتماعية العلمية الفلسفية العصرية في الشرق ينبغي الصبر مائة سنة على الأقل فنكون أضعنا ما بيدنا على أمل بآت بعد مائة سنة أي نكون تمزقنا كل ممزق وفقدنا وجودنا الشخصي ودخلنا في تركيب الأمم الأخرى، فإن كان هذا مراد أولاد.. . [1] وأضرابهم أن نفقد كيوننا السياسي، من حيث إننا أمة ونصير مندمجين في الأمم الأخرى الغالبة الآن، وأن ذلك لا ضرر به، وأنه أية ضرورة ليقال أمة عربية، أو مصرية، أو عالم إسلامي فكل البشر خلائق فهكذا يكونون سائرين على خطة منطقية. وأما استقلال أمم شرقية وهي ضعيفة والأمد أمامها إلى إدراك أوربة [2] بعيد وطرحها رأس المال المعنوي الوحيد الذي بيدها وهو الإسلام، فهذا حمق وما وراءه حمق، وبرهاننا على قوة الإسلام هذه كون الاستعمار لا يحارب مبدأ في ا

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (الرد على كتاب الإسلام وأصول الحكم) قد علم قراء المنار من مجلد المنار السادس والعشرين نبأ جرأة الشيخ علي عبد الرازق الذي كان من علماء الأزهر وقضاة المحاكم الشرعية على نشر كتاب باسم (الإسلام وأصول الحكم) حاول فيه هدم شريعة الإسلام من أساسها والإباحة المطلقة للمسلمين بأن يختاروا لأنفسهم من الشرائع ونظم الحكم ما شاءوا من غير تقيد بنص كتاب إلهي ولا سنة نبوية، ولا هدي سلف، ولا اجتهاد إمام متبع بالأولى. وعلموا أننا أول من انتدب لتزييف هذا الكتاب وإبطال كفره وضلاله، وتحريض علماء الأزهر وغيرهم على الرد عليه ومؤاخذته، وأنهم قد فعلوا فقررت جمعية كبار العلماء اشتمال هذا الكتاب على ما ينافي الدين، ويرد المعلوم منه بالضرورة بإجماع المسلمين، وحكمت بمحو اسمه من علماء الأزهر ووجوب طرده من وظيفة القضاء الشرعي وعدم إسناد وظيفة أخرى في الحكومة إليه، وأن الحكومة نفذت هذا الحكم فعزلته من منصب القضاء الشرعي، وأنه زاد احترامه عند الزنادقة والمنافقين ولا سيما جمعية الدعوة إلى الإلحاد والزندقة، والإباحة المطلقة، وصارت جريدتهم السياسة تلقبه بالعلامة المحقق. ونذكر الآن أن بعض العلماء ألفوا كتبًا في الرد التفصيلي على ذلك الكتاب وقد أهدي إلينا منذ العام الماضي كتابان حافلان في ذلك (أولهما) سمي (بنقض الإسلام وأصول الحكم) من تصنيف الشيخ محمد الخضر حسين أحد مدرسي جامع الزيتونة وقضاة المحاكم الشرعية في وطنه تونس قبل هجرته منه - وقد نال أخيرًا شهادة العالمية الرسمية من الجامع الأزهر بعد الامتحان الرسمي فيه - (وثانيهما) سمي (حقيقة الإسلام أصول الحكم) وهو من تصنيف الشيخ محمد بخيت المطيعي أحد كبار علماء الأزهر الحاضرة وأشهر المدرسين فيه، وقد كان تقلب في القضاء الشرعي ورياسة المحاكم حتى كان أشهر أعضاء المحكمة الشريعة العليا في مصر ثم أسند إليه منصب مفتي الديار المصرية. فهذان المصنفان في الرد على كتيب الشيخ علي عبد الرزاق يفوقانه فيما نال من شهادة أزهرية، وقضاء شرعي في محكمة ابتدائية، ولا يلحق غبار واحد منهما في العلوم الشرعية، إذ انصرف كل همه إلى الكتابة الأدبية، وتقاليد أعداء الإسلام من الشعوب الإفرنجية، وهذا تعريف وجيز بالكتابين. *** (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم) بلغت صفحات هذا الكتاب 245 صفحة كصفحات المنار، وقد رتبه ترتيب الأصل المردود عليه كتابًا كتابًا، وبابًا بابًا، وقال في مقدمته: (وطريقتنا في النقد أن نضع في صدر كل باب ملخص ما تناوله المؤلف من أمهات المباحث ثم نعود إلى ما نراه مستحقًّا للمناقشة من دعوى أو شبهة فنحكي ألفاظه بعينها، ونتبعها بما يزيح لبسها أو يحل لغزها، أو يجتثها من منبتها. وتخيرنا هذا الأسلوب لتكون هذه الصحف قائمة بنفسها، ويسهل على القارئ تحقيق البحث وفهم ما تدور عليه المناقشة، ولو لم تكن بين يديه نسخة من هذا الكتاب الموضوع على بساط النقد والمناظرة. وقد طبع الكتاب في العام الماضي بالمطبعة السلفية طبعًا حسنًا وأهداه مؤلفه إلى خزانة جلالة ملك مصر المعظم، وثمن النسخة منه 10 قروش ما عدا أجرة البريد، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) بلغت صفحات هذا الكتاب 447 صفحة بقطع المنار، وحروفه فهو مرتب ترتيب ما سبقه، ولكنه لم يكتف بتفنيد مزاعم الشيخ علي عبد الرازق، وإبطال دعاويه بكونها دعاوى لا تقوم عليها بينة على كونها كما قال سلبية، بل استطرد إلى إيراد الشواهد على إثبات ما ادعى نفيه من نظم الحكومة الإسلامية بالنقول من الكتب المعروفة، وأهمها مبحث بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لنظام القضاء وما يتوقف عليه، وقد عقد لذلك سبعة أبواب (الأول في الوظائف والأعمال البلدية) وفيه 23 فصلاً، أدخل فيها الوظائف الدينية كإمامة الصلاة (الثاني في العمالات المتعلقة بالأحكام) ، وفيه ستة فصول (الثالث في العمالات الجهادية، وما يتشعب منها) ، وفيها 11 فصلاً (الرابع في العمالات الجبائية) وفيه ثلاثة فصول ... إلخ وقد طبع الكتاب في المطبعة السلفية أيضًا طبعًا حسنًا، وثمن النسخة منه 15 قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق) يستدل بعض العوام على مشروعية البدع الفاشية فيهم عامة وفي المنتسبين إلى طرائق المتصوفة خاصة بسكوت علماء الشرع عن الإنكار عليها وحضور بعضهم أقبح احتفالاتها كالموالد وزيارتهم معهم للقبور المشرفة التي بنيت عليها المساجد وتضاء عليها السرج والشموع كل ليلة ولا سيما ليالي الموالد، وهذا الاستدلال باطل وغير صحيح على إطلاقه. أما بطلانه فلأن سكوت هؤلاء العلماء ليس بحجة شرعية وكذا أعمالهم ومن سكت منهم عن المنكر وأقره وهو قادر على إنكاره، أو شارك أهله فيه لمنفعة له منه كالذين يعطون نصيباً مما ينذر لأصحاب القبور أو من أهله فهؤلاء ممن قال الله فيهم: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) وأما كونه غير صحيح فلأن كثيرًا من العلماء ينهون عن البدع، والمنكرات في كل زمان، وكل قطر إسلامي وهذه كتبهم مودعة في الخزائن، وقد طبع بعضها في هذا العصر ككثير من كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وكتاب تلبيس إبليس للحافظ ابن الجوزي، وكتاب الاعتصام للإمام الشاطبي، وكتاب المدخل للفقيه ابن الحاج، وكتاب الطريقة المحمدية للبركوي، وكتب المجدد الشيخ محمد عبد الوهاب، وأولاده وأحفاده وتلاميذه من علماء نجد وبعض رسائل القاضي الشوكاني وغيره من علماء اليمن وكتبهم - وأما علماء هذا العصر فلهم رسائل ومقالات كثيرة في ذلك منها مقالات الأستاذ الإمام وبعض رسائله، وهذه مجلدات المنار ولله الفضل والمنة. وبين يدينا الآن رسالة مطبوعة في إنكار الفاشي من بدع أهل الطرق في مصر هي جواب سؤال للشيخ محمد حسنين العدوي من كبار علماء الأزهر في هذا العصر، وكان وكيلاً للأزهر ومديرًا للمعاهد الدينية وسماها (القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق) ، وقد رأينا أن ننشر نص السؤال وبعض نص الجواب تأييداً لخطة المنار، ولأن فيه بدعًا لم يسبق لنا الإنكار عليها، وتجد ذلك في باب المقالات (ص 469) . *** (جريدة الصراط المستقيم) وقد أتمت هذه الجريدة الإسلامية الوطنية الفلسطينية السنة الأولى بجد وثبات من مؤسسها ومحررها الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الله القلقيلي الأزهري فقد نوهض واعتدي عليه وأحرقت مطبعة جريدته؛ فصبر صبرًا يبشر بنجاحه في عمله فقد قال بعض حكماء الصوفية: من لم تكن له بداية محرقة، لا تكون له نهاية مشرقة، وإنا ليسرنا نجاحه لأنه على مشربنا في الإصلاح، لا جامدًا كجمهور الأزهريين، كما يسوؤنا أن يكون خصماً للمجلس الإسلامي الفلسطيني فإنه شديد الانتقاد عليه قد لا يخلو عدد من أعداد الجريدة من ذلك، ولا ننكر عليه أنه ينتقد ما يراه منتقدًا، ولا نتهمه بأنه كالخصوم السياسيين الذين يجعلون حق خصومهم باطلاً، وباطلهم حقًّا في كل شيء، ولكننا نذكره بأن يحاسب نفسه على النظر بعين السخط إلى هذا المجلس وبعين الرضا إلى خصومه وكل من العينين خادعة لصاحبها، ونحب له أن يتحرى إقامة ميزان القسط في الفريقين، ويجعل جريدته للمصلحة العامة لا لحزب دون حزب، فإن كان عند نفسه على هذا الرأي، فلا يثقلن عليه أن يذكره أحد شيوخ الصحافة الإصلاحية بالتحري ومحاسبة النفس والاستعانة على ذلك بمطالعة كتاب النية والصدق والإخلاص من جزء الإحياء الرابع.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من جدة - الحجاز (س 11 - 14) من صاحبي الإمضاء بجدة 1- هل كاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ملوك الأرض العظماء الموجودين في أيامه أو أكبرهم شكيمة كملك الصين وملك الترك وإمبراطور روما الغربية، وإذا كان لم يكاتب هؤلاء - كما هو المتبادر من التاريخ - فلماذا؟ 2 - فيما نرى عرفنا أن أشهر الأنبياء كلهم كانوا آسيويين ولم نسمع بنبي أرسل في أوربا مع أنها من الدنيا القديمة المعمورة فما هي الحكمة؟ 3 - يقول علماء الدين -ولا سيما العصريين منهم- إن الإسلام هو الدين الصالح لكل الأمم وفي كل الأرض، فما هي تلك الأفكار الخالدة الموافقة لعناصر جميع الأمم التي أتى بها الإسلام؟ 4 - لماذا فرض الإسلام الجزية على اليهود والنصارى فقط ولم يقبل من العرب سوى الإسلام أو السيف؟ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا دام نفعه. نؤمل إجابتنا تحريريًّا على هذه الأسئلة وإذا تكرمتم بنشرها في المنار نكون شاكرين تفضلكم. ... ... ... ... ... حسن أبو الحمايل. محمد حسن عواد (ج) نجيب عن هذه الأسئلة بالترتيب وإن كان قد سبق لنا فيها تحقيق من قبل فنقول: *** (حكمة مكاتبة النبي (ص) لبعض الملوك دون بعض) كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك العرب في جزيرتهم وإلى ملوك البلاد المجاورة لها وهي مصر وسوريا والعراق وفارس يدعوهم إلى الإسلام؛ لأن الدعوة إنما تفيد من عقلها وأهل البلاد التي يمكن نشر الإسلام وتنفيذ أحكامه فيها بمجرد دخول أهله فيه، أو خضوعهم لسلطانه بالصلح وإعطاء الجزية، ولو تيسر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنه مكاتبة فغفور الصين وخان الترك وقيصر رومية بإرسال رسل إليهم يحملون كتبه العربية، وأمكن لهؤلاء الرسل الوصول إلى بلادهم وأمكن لهؤلاء الملوك فهم هذه الكتب وإجابة الدعوة، لكان من المتعذر في ذلك الوقت نشر الإسلام وتنفيذ أحكامه في تلك الأقطار النائية، التي يحول بينها وبين مهده - جزيرة العرب - شعوب معادية، فالدعوة العامة ما كان يمكن نشرها إلا بالتدريج والانتقال من محلها إلى الأقرب فالقريب، فالبعيد فالأبعد من البلاد والأقطار. ومن المعلوم في التاريخ أن بلاد سوريا عربية الأصل، وكذلك العراق وإن لم تكن اللغة المضرية عامة فيهما في زمن البعثة، وإن مصر استعمرها العرب زمنًا طويلاً وكانت مدينتها الأولى عربية المنشأ ولغتها الهيروغليفية ممزوجة بالعربية مزجًا، وهي لمجاورتها لجزيرة العرب قد سهل تعريب أهلها في زمن غير طويل. كذلك المجاورة بين عرب العراق وعجم إيران كانت مسهلة لنشر الإسلام ولغته العربية ببلاد فارس في مدة قريبة. وما كان يمكن مثل هذا في الصين لو أمكن إيصال الدعوة إليهم وقبولهم إياها. *** بعثة الرسل في جميع الأمم وبطلان ادعاء أنهم كلهم أسيويون إن بني إسرائيل لم يكونوا يعرفون غير أنبيائهم فزعموا أن النبوة محصورة فيهم، وحرفوا آيات التوراة المبشرة برسول يبعثه الله من بني إخوتهم - أي أبناء إسماعيل عليه السلام - ولما بعث الله خاتم النبيين وأتم على لسانه الدين بين لنا في الكتاب المنزل عليه أنه أرسل في جميع الأمم رسلاً يدعون إلى مثل ما دعا إليه في أصوله وجوهره كما قال {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (النحل: 36) . وقد قص الله تعالى عليه في كتابه قصص أشهر الرسل والنبيين الذين عرفت العرب والمجاورون لهم من أهل الكتاب شيئًا من تاريخهم لأجل العبرة بسيرتهم كما قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} (غافر: 78) ولو قص عليه خبر نبي أرسل في الصين لا يعرف أحد من المخاطبين الأولين بالقرآن ولا من يجاورهم من أهل الكتاب عنه شيئًا لكان قصصه فتنة لا عبرة، ولقالوا: إنه يفتري علينا ما لا سبيل لنا إلى معرفته، والمثل العامي يقول: (إذا أردت أن تكذب فبعد شهودك) ، والله تعالى يقول في حكمة أخبار الرسل: من آخر سورة يوسف بعد ذكر الرسل إجمالاً: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} (يوسف: 111) الآية وقال {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (هود: 120) فهذه الحكم التي ذكرها الله تعالى لبيان قصص الرسل لا تحق إلا بمن يعرف عنهم شيئًا في الجملة، ويفصل الوحي ما لم يعرف منها. نعم، لو أخبرنا الله تعالى في كتابه أن برهما أو بوذا من دعاة التوحيد والفضيلة في الهند وكونفشيوس من دعاتهما في الصين وبعض حكماء مصر واليونان من دعاتهما في أوربا وأفريقيا كانوا من رسل الله تعالى مثلاً وأنه لما طال الأمد على اتباعهم أشركوا بالله وفسقوا عن أمره، كما قال في أهل الكتاب المعروفين عند العرب {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} (التوبة: 31) وقال في وعظ المؤمنين: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) لو أخبرَنا الله تعالى بما ذكر لكان آية لأهل القرون الأخيرة على أخبار القرآن بالغيب ولكن بعد أن يكون فتنة لأهل القرون الأولى - ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. روي عن علي رضي الله عنه وكرم وجهه أن المجوس كانوا أهل كتاب كما سيذكر في بحث الجزية من هذه الفتاوى. وثبت في تاريخ غيرهم من الشعوب التي عرف تاريخها أنه ظهر فيها حكماء ربانيون دعوا الناس إلى توحيد الخالق وعبادته وحدة والإيمان بالبعث والجزاء، والأمر بالعمل الصالح، وهذه الأصول الثلاث هي التي دعا إليها جميع الرسل وعليها مدار سعادة الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 62) فالظاهر أن أولئك الدعاة إلى الأصول الثلاثة كانوا رسلاً يوحى إليهم فإن نقل عنهم ما ينافي الرسالة فلا يعد حجة نفي صحيحة؛ لأننا قد عرفنا ما حل بكتب المتأخرين عنهم الذين حفظت كتبهم في الجملة فكيف بهؤلاء الذين طمس جل تاريخهم؟ بل نرى المسلمين الذين كفل الله تعالى حفظ كتابهم في الصدور والسطور فلم يفقد ولم يحرف منه حرف واحد، وضبطت سنه رسولهم - صلى الله عليه وسلم - ضبطًا لم يضبط مثله كتاب في تاريخ البشر - نراهم قد سرت إلى كثير منهم عقائد الوثنية وعباداتها المخالفة لنصوص القرآن والسنة القطعية ولعمل الصدر الأول المنقول بالتواتر - ونسمع الآن شيعة إيران ودعاة الفتنة في الهند يصيحون ويولولون نادبين هدم هياكل الوثنية التي بنيت على القبور المعبودة من دون الله تعالى في الحجاز وهي التي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناة أمثالها إذ لعن كل من يبني مسجدًا على قبر ومن يضع عليه سراجًا.. .إلخ. *** أصول الإسلام الصالحة المصلحة لكل الأمم في كل زمان إن الجواب عن هذا السؤال لا يمكن بيانه التفصيلي إلا في سِفْر مستقل وموضوع هذه الفتاوى الاختصار، فنشير إلى مهمات هذه الأصول بالإيجاز فنقول: (الأصل الأول) كون الإسلام دين الفطرة فليس فيه شيء غير معقول كالتثليث ولا غير ممكن طبعًا كحب الأعداء، وأساسه تجريد التوحيد الذي يعتق البشر من رق الخرافات والأوهام وقد شرحنا هذا الأصل مرارًا كثيرة. (الأصل الثاني) ختم الرسالة والنبوة المقتضي أن لا يوجد بعد محمد صلوات الله وسلامه عليه نبي معصوم يبلغ الناس شيئًا عن وحي الله أو يشرع لهم شيئًا من الدين أو يحرم عليها شيئًا تحريمًا دينيًّا. وهذا من إتمام عتق البشر من الأدعياء الذين يتحكمون في أفكار الناس وإرادتهم يدعون أنهم نواب فيهم عن ربهم، أو أنهم آلهة بالفعل كما يدعي البهائيون في زعيمهم أو أنبياء كما يدعي الأحمدية القاديانيون في مسيحهم الدجال. (الأصل الثالث) أن حكومة الإسلام مقيدة بالنصوص وبالشورى ورئيسها مقيد باختيار أهل الحل والعقد الذين يمثلون الأمة فلا يكون سلطانًا لها إلا باختيارهم إياه للخلافة ومبايعتهم له، وهو مساو لسائر المسلمين في الحقوق فيُقتل قصاصًا يقتل أضعف السوقة وأفقرهم، ولا يطاع في معصية الله تعالى وإنما الطاعة في المعروف. (الأصل الرابع) استقلال الفكر في فهم الدين، والعلم، وجميع شؤون الحياة، فليس في الإسلام سلطة دينية روحانية تلزم المسلمين اتباع مذهب لمجتهد وآراءه في العقائد، والعبادات الدينية، والحلال والحرام الدينيين، وإنما هنالك نصوص قطعية وأصول وفروع إجماعية يشترك جميع المسلمين في التزامها ولا يعد أحد متبعًا لأحد غير الرسول وجماعة الأمة فيها، ويقرب من الإجماع ما جرى عليه جمهور سلف الأمة الصالح من أمر الدين ولم يشذ عنهم إلا أفراد لا يعتد بهم، وماعدا ذلك من المسائل فهو اجتهادي ويجب على كل مسلم أن يعمل باجتهاد نفسه، فإن عجز فله أن يأخذ بعلم من يثق بعلمه ودينه. والراجح المختار في العبادات أنه لا اجتهاد في التشريع فيها بل في التنفيذ، والأحكام الدينية منوطة بنصوص الكتاب والسنة، والقضائية يعتبر فيها مراعاة المصالح وعليها مدارها، وهو مذهب مالك إمام دار الهجرة. (الأصل الخامس) المساواة بين المسلمين في جميع أحكام الشرع، وهو أصل مستقل ذكر استطرادًا في بعض الأصول قبله. وهذه حرية دينية لا توجد في دين آخر، ومقتضاها أن البشر صاروا أحرارًا أعزة وإخوانًا لا يفضل أحد منهم أحدًا بتفضيل إلهي محتوم، ولا بمنصب موروث كالقديسين في بعض الملل، وإنما يتفاضلون بكسبهم العلمي والعملي حتى يجوز أن يكون ابن أفقر الناس وأضعفهم أعلم علماء عصره وأتقاهم فيكون أفضلهم. (الأصل السادس) تقييد المسلمين بعقائد، وأحكام وآداب وفضائل دينية بالوازع النفسي لا تتغير، ولا تنقض وهي تؤمنهم من فوضى الحرية المسرفة التي أوقعت شعوب أوربا في أسر النظام المالي وسلطان أهله من جهة وفي البلشفية من جهة أخرى، وفي المفاسد الأدبية التي هتكت الأعراض وأضاعت الأنساب وبددت الأموال من جهة ثالثة ... إلخ إلخ. (الأصل السابع) بناء الأحكام السياسية والمدنية على أساس درء المفاسد وحفظ المصالح - والأحكام القضائية على العدل المطلق والمساواة - ووجوب حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والعرض، ولازمه النسب من الاعتداء عليهن. (الأصل الثامن) مساواة النساء للرجال في جميع الحقوق بالمعروف إلا الولاية بقسميها العام، وهو منصب الإمامة العظمى، والخاص كرياسة الأسرة، لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) وب

الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق ـ 1

الكاتب: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

_ الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق من رسائل إمام نجد في عصره العلامة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن حسن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى ويعلم منها ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير المخالفين واحتياطهم فيها أكثر من سائر علماء المذاهب الأخرى بسم الله الرحمن الرحيم من عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن إلى عبد العزيز الخطيب، سلام على عباد الله الصالحين. وبعد فقرأت رسالتك وعرفت مضمونها وما قصدته من الاعتذار، ولكن أسأت في قولك، إن ما أنكره شيخنا الوالد من تكفيركم أهل الحق واعتقاد إصابتكم أنه لم يصدر منكم، وتذكر أن إخوانك من أهل البقيع يجادلونك وينازعونك في شأننا، وأنهم ينسبوننا إلى السكوت عن بعض الأمور، وأنت تعرف أنهم يذكرون هذا غالبًا على سبيل القدح في العقيدة، والطعن في الطريقة، وإن لم يصرحوا بالتكفير فقد حاموا حول الحمى، فنعوذ بالله من الضلال بعد الهدي، ومن الغَي عن سبيل الرشد والعمى، وقد رأيت سنة أربع وستين رجلين من أشباهكم المارقين بالإحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفرَّا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: أهل الإحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله ممن لم يكفر بالطاغوت، ولم يصرح بتكفير جده الذي رد دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها، قالا: ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله لم يكفر بالطاغوت [1] ومن جالسه فهو مثله، ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد السلام، فرفع إليّ أمرهم، فأحضرتهم وهددتهم، وأغلظت لهم القول، فزعموا أولاً أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم وأدحضت ضلالتهم بما حضرني في المجلس، وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، فإنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسوله أو بشيء منها، بعد قيام الحجة وبلوغها المعتبر، كتفكير مَنْ عَبَدَ الصالحين ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادًا يستحقه على خلقه من العبادات والألهية، وهذا مجمع عليه عند أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلدة يفردون هذه المسألة بباب عظيم يذكرون فيه حكمها وما يوجب الردة ويقتضيها، وينصون على الشرك الأكبر، وقد أفرد ابن حجر [2] هذه المسألة بكتاب سماه (الإعلام بقواطع الإسلام) . وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم وزعما أن الحق ظهر لهما ثم لحقا بالساحل وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين، بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين، ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى والحور بعد الكور [3] . وقد بلغنا عنكم نحو من هذا، وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، ولا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب، والكلام في هذا يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها، وأعرض عنها وعن تفاصيلها، فإن الإجمال والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب وتفاصيله، يحصل به من اللبس والخطأ وعدم الفقه عن الله ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها وبين فهم القرآن. قال ابن القيم في كافيته رحمه الله تعالى: فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ ... إطلاق والإجمال دون بيان قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والآراء كل زمان وأما التكفير بهذه الأمور التي ظننتموها من مكفرات أهل الإسلام فهذا مذهب الحرورية المارقين الخارجين على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة، فإنهم أنكروا عليهم تحكيم أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص في الفتنة التي وقعت بينه وبين معاوية وأهل الشام، فأنكرت الخوارج عليه ذلك وهم في الأصل من أصحابه من قراء الكوفة والبصرة، وقالوا حكمت الرجال في دين الله، وواليت معاوية وعمرًا وتوليتهما وقد قال تعالى: {إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ} (الأنعام: 57) وضربت المدة بينكم وبينهم وقد قطع الله هذه الموادعة والمهادنة منذ أنزلت براءة، وطال بينهما النزاع والخصام، حتى أغاروا على سرح المسلمين وقتلوا من ظفروا به من أصحاب علي، فحينئذ شمر رضي الله عنه لقتالهم، وقتلهم دون النهروان بعد الإعذار والإنذار، والتمس المخدج المنعوت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من أهل السنن فوجده علي فسر بذلك وسجد لله شكرًا على توفيقه، وقال: لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم- لنكلوا عن العمل، هذا وهم أكثر الناس عبادة وصلاة وصومًا. *** فصل ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون، والشرك، ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4) الآية وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 43- 44) ، وكذلك اسم المؤمن والبر والتقي يراد بها عند الإطلاق والثناء غير المعنى المراد في مقام الأمر والنهي، ألا ترى أن الزاني والسارق والشارب يدخلون في عموم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} (المائدة: 6) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} (الأحزاب: 69) الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} (المائدة: 106) ولا يدخلون في مثل قوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15) وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} (الحديد: 19) الآية وهذا هو الذي أوجب للسلف ترك تسمية الفاسق باسم الإيمان والبر. وفي الحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه أبصارهم فيها وهو مؤمن) وقوله: (لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه) [4] لكن تقي الإيمان هذا لا يدل على كفره، بل يطلق عليه اسم الإسلام، ولا يكون كمن كفر بالله ورسله، وهذا هو الذي فهمه السلف وقرروه في باب الرد على الخوارج والمرجئة ونحوهم من أهل الأهواء، فافهم هذا فإنه مضلة أفهام، ومزلة أقدام. وأما إلحاق الوعيد المرتب على بعض الذنوب والكبائر فقد يمنع منه مانع في حق المعين كحب الله ورسوله والجهاد في سبيله ورجحان الحسنات ومغفرة الله ورحمته وشفاعة المؤمنين والمصائب المكفرة في الدور الثلاثة، وكذلك لا يشهدون لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإن أطلقوا الوعيد كما أطلقه القرآن والسنة فهم يفرقون بين العام المطلق، والخاص المقيد، وكان عبد الله (حمار) [5] يشرب الخمر فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) [6] مع أنه لعن الخمر وشاربها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه [7] . وتأمل قصة حاطب بن أبي بلتعة وما فيها من الفوائد فإنه هاجر إلى الله ورسوله وجاهد في سبيله، لكن حدث منه أنه كتب بسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين من أهل مكة يخبرهم بشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسيره لجهادهم ليتخذ بذلك يدًا عندهم يحمي بها أهله وماله بمكة فنزل الوحي يخبره، وكان قد أعطى الكتاب ظعينة جعلته في شعرها فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًّا والزبير في طلب الظعينة، وأخبر أنهما يجدانها في روضة خاخ فكان ذلك، فتهدداها حتى أخرجت الكتاب من ضفائرها فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حاطب بن أبي بلتعة فقال له: ما هذا؟ فقال: يا رسول الله إني لم أكفر بعد إيمان، ولم أفعل هذا رغبة عن الإسلام، وإنما أردت أن تكون لي عند القوم يد أحمى بها أهلي ومالي، فقال - صلى الله عليه وسلم - (صدقكم خلوا سبيله) واستأذن عمر في قتله، فقال: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: (وما يدريك أن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وأنزل الله في ذلك صدر سورة الممتحنة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} (الممتحنة: 1) الآيات فدخل حاطب في المخاطبة باسم الإيمان، ووصفه به، وتناوله النهي بعمومه وله خصوص السبب الدال على إراداته مع أن في الآية الكريمة ما يشعر أن فعل حاطب نوع موالاة، وأنه أبلغ إليهم بالمودة، وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن قوله: (صدقكم خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنًا بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي، ولو كفر لما قيل (خلوا سبيله) لا يقال قوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر (وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنعه من لحاق الكفر وأحكامه فإن الكفر يهدم ما قبله لقوله تعالى {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: 5) وقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) والكفر محبط لحسنات والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا. وأما قوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) وقوله: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (المجادلة: 22) وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (المائدة: 57) فقد فسرته السنة، وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة. وأصل الموالاة هو الحب والنصرة والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة ولكل ذنب حظه وقسطه من الوعيد والذم، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين معروف في هذا الباب وغيره، وإنما أشكل الأمر، وخفيت المعاني

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما نشر في الجزء الماضي) حكم المولاة بين صلاتي الجمع: والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال، لا في وقت الأولى، ولا في وقت الثانية، فإنه ليس لذلك حد في الشرع، ولأن مراعاة ذلك يسقط مقصود الرخصة، وهو شبيه بقول من حمل الجمع بالفعل؛ وهو أن يسلم من الأولى في آخر وقتها، ويحرم بالثانية في أول وقتها، كما تأول جمعه على ذلك طائفة من العلماء أصحاب أبي حنيفة وغيرهم، ومراعاة هذا من أصعب الأشياء وأشقها فإنه يريد أن يبتدئ فيها إذا بقى من الوقت مقدار أربع ركعات أو ثلاث في المغرب، ويريد مع ذلك أن لا يطيلها، وإن كان بنية الإطالة تشرع في الوقت الذي يحتمل ذلك، وإذا دخل في الصلاة ثم بدا له أن يطيلها، أو أن ينتظر أحدًا ليحصل الركوع والجماعة لم يشرع ذلك ويجتهد في أن يسلم قبل خروج الوقت، ومعلوم أن مراعاة هذا من أصعب الأشياء علمًا وعملاً وهو يشغل قلب المصلي بغير مقصود الصلاة، والجمع شُرع رخصة ودفعًا للحرج عن الأمة، فكيف لا يشرع إلا مع حرج شديد، ومع ما ينقض مقصود الصلاة؟ فعلم أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أخر الظهر عجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء، يفعل ذلك على الوجه الذي يحصل به التيسير ورفع الحرج له ولأمته، ولا يلتزم أنه لا يسلم من الأولى إلا قبل خروج وقتها الخاص، وكيف يعلم ذلك المصلي في الصلاة وآخر وقت الظهر وأول وقت العصر إنما يعرف على سبيل التحديد بالظل، والمصلي في الصلاة لا يمكنه معرفة الظل ولم يكن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - آلات حسابية يعرف بها الوقت، ولا موقت يعرف ذلك بالآلآت الحسابية؛ والمغرب إنما يعرف آخر وقتها بمغيب الشفق، فيحتاج أن ينظر إلى جهة الغرب هل غرب الشفق الأحمر أو الأبيض؟ والمصلي في الصلاة منهي عن مثل ذلك. وإذا كان يصلي في بيت أو فسطاط ونحو ذلك مما يستره عن الغرب ويتعذر عليه في الصلاة النظر إلى المغرب فلا يمكنه في هذه الحال أن يتحرى السلام في آخر وقت المغرب بل لا بد أن يسلم قبل خروج الوقت بزمن يعلم أنه معه يسلم قبل خروج الوقت، ثم الثانية لا يمكنه على قولهم أن يشرع فيها حتى يعلم دخول الوقت وذلك يحتاج إلى عمل وكلفة مما لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يراعيه بل ولا أصحابه، فهؤلاء لا يمكن الجمع على قولهم في غالب الأوقات لغالب الناس إلا مع تفريق الفعل، وأولئك لا يكون الجمع عندهم إلا مع اقتران الفعل، وهؤلاء فهموا من الجمع اقتران الفعلين في وقت واحد أو وقتين، وأولئك قالوا: لا يكون الجمع إلا في وقتين، وذلك يحتاج إلى تفريق الفعل، وكلا القولين ضعيف. والسنة جاءت بأوسع من هذا وهذا، ولم تكلف الناس لا هذا ولا هذا، والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت كما جمع بعرفة، وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة وفي بعض أسفاره وتارة يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين، وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى، وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية، وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، وكل هذا جائز؛ لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك والتقديم والتوسط بحسب الحاجة والمصلحة، ففي عرفة ونحوها يكون التقديم هو السنة. وكذلك جمع المطر، السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد، هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية؟ على وجهين. وقيل: إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه وجه ثالث أن الأفضل التأخير في الجمع أفضل مطلقًا؛ لأن الصلاة يجوز فعلها بعد الوقت عند النوم والنسيان، ولا يجوز فعلها قبل الوقت بحال، بل لو صلاها قبل الزوال، وقبل الفجر أعادها، وهذا غلط فإن الجمع بمزدلفة إنما المشروع فيه تأخير المغرب إلى وقت العشاء بالسنة المتواترة، واتفاق المسلمين وما علمت أحدًا من العلماء سوغ له هناك أن يصلي العشاء في طريقه، وإنما اختلفوا في المغرب، هل له أن يصليها في طريقه على قولين. وأما التأخير فهو كالتقديم، بل صاحبه أحق بالذم، ومن نام عن صلاة أو نسيها فإن وقتها في حقه حين يستيقظ ويذكرها، وحينئذ هو مأمور بها لا وقت لها إلا ذلك فلم يصلها إلا في وقتها. وأما من صلى قبل الزوال وطلوع الفجر الذي يحصل به، فإن كان متعمدًا؛ فهذا فعل ما لم يؤمر به، وأما إن كان عاجزًا عن معرفة الوقت كالمحبوس الذي لا يمكنه معرفة الوقت؛ فهذا في أجزائه قولان للعلماء، وكذلك في صيامه إذا صام، حيث لا يمكنه معرفة شهور رمضان كالأسير إذا صام بالتحري، ثم تبين له أنه قبل الوقت ففي أجزائه قولان للعلماء، وأما من صلى في المصر قبل الوقت غلطًا فهذا لم يفعل ما أمر به وهل تنعقد صلاته نفلاً أو تقع باطلة؟ على وجهين في مذهب أحمد وغيره. والمقصود أن الله لم يبح لأحد أن يؤخر الصلاة عن وقتها بحال كما لم يبح له أن يفعلها قبل وقتها بحال فليس جمع التأخير بأولى من جمع التقديم، بل ذاك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل وقد يكون هذا أفضل، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره، ومن أطلق من أصحابه القول بتفضيل أحدهما مطلقًا فقد أخطأ على مذهبه. *** الأحاديث في الجمع تقديمًا وتأخيرًا: وأحاديث الجمع الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مأثورة من حديث ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومعاذ وأبي هريرة، وجابر، وقد تأول هذه الأحاديث من أنكر الجمع على تأخير الأولى إلى آخر وقتها وتقديم الثانية إلى أول وقتها، وقد جاءت الروايات الصحيحة بأن الجمع كأن يكون في وقت الثانية، وفي وقت الأولى وجاء الجمع مطلقًا، والمفسر يبين المطلق، ففي الصحيحين من حديث سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء، رواه مسلم، وروى مسلم من حديث يحيى بن سعيد، حدثنا عبيد الله أخبرني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا جدَّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق، ويذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء. *** حديث ابن عمر في جمع التأخير: قال الطحاوي: حديث ابن عمر إنما فيه الجمع بعد مغيب الشفق من فعله، وذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع بين الصلاتين، ولم يذكر كيف كان جمعه؛ هذا إنما فيه التأخير من فعل ابن عمر لا فيما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر المثبتون ما رواه محمد بن يحيى الذهلي، حدثنا حماد بن مسعدة عن عبيد الله بن عمر، عن نافع أن عبد الله بن عمر أسرع السير فجمع بين المغرب والعشاء فسألت نافعًا فقال: بعدما غاب الشفق بساعة، وقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك إذا جدّ به السير، ورواه سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن نافع، أن ابن عمر استصرخ على صفية بنت أبي عبيد وهو بمكة وهي بالمدينة، فأقبل فسار حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فقال رجل كان يصحبه: الصلاة الصلاة، فسار ابن عمر، فقال له سالم: الصلاة فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عجل به أمر في سفر جمع بين هاتين الصلاتين، فسار حتى إذا غاب الشفق جمع بينهما وسار ما بين مكة والمدينة ثلاثًا. وروى البيهقي هذين باسناد صحيح مشهور، قال وراه معمر عن أيوب وموسى بن عقبة عن نافع، وقال في الحديث فأخر المغرب والعشاء، قال: وكان سول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك إذا جدّ به السير أو جزبه أمر (قال) ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن نافع فذكر أنه سار قريبًا من ربع الليل ثم نزل فصلى، ورواه من طريق الدارقطني، حدثنا ابن صاعد والنيسابوري حدثنا العباس بن الوليد بن يزيد، أخبرني عمر بن محمد بن يزيد، حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر، أنه أقبل من مكة وجاءه خبر صفية بنت أبي عبيد فأسرع السير، فلما غابت الشمس، قال له إنسان من أصحابه: الصلاة. فسكت، ثم سار ساعة فقال له صاحبه: الصلاة، فقال الذي قال له الصلاة: إنه ليعلم من هذا علمًا لا أعلمه فسار حتى إذا كان بعدما غاب الشفق بساعة نزل، فأقام الصلاة وكان لا ينادي لشىء من الصلاة في السفر فأقام فصلى المغرب والعشاء جميعًا جمع بينهما ثم قال: (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشفق بساعة، وكان يصلي على ظهر راحلته أين توجهت به السبحة [1] في السفر) ويخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع ذلك. قال البيهقي: اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصاري، وموسى بن عقبة، وعبيد الله بن عمر، وأيوب السختياني، وعمر بن محمد بن زيد، على أن جمع عبد الله بن عمر بين الصلاتين بعد غيوبة الشفق، وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ أحاديث نافع، وذكر أن جابر رواه عن نافع ولفظه: حتى إذا كان في آخر الشفق نزل فصلى المغرب ثم أقام الصلاة وقد توارى الشفق فصلى بنا ثم أقبل عليها فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به الأمر صنع هكذا، وقال: وبمعناه رواه فضل بن غزوان وعطاف بن خالد عن نافع، ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب فقد رواه سالم بن عبد الله، وأسلم مولى عمر وعبد الله بن دينار، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن ذويب، عن ابن عمر نحو روايتهم، أما حديث سالم فرواه عاصم بن محمد عن أخيه عمر بن محمد عن سالم، وأما حديث أسلم فأسنده من حديث ابن أبي مريم، أنا محمد بن جعفر، أخبرني زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كنت مع ابن عمر فبلغه عن صفية شدة وجع فأسرع السير حتى كان بعد غروب الشفق نزل فصلى المغرب والعتمة جمع بينهما، وقال: إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جدّ به السير أخَّر المغرب وجمع بينهما، رواه البخاري في صحيحه عن ابن أبي مريم. وأسند أيضًا من كتاب يعقوب بن سفيان أنا أبو صالح وابن بكير قالا: حدثنا الليث قال: قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: حدثني عبد الله بن دينار، وكان من صالحي المسلمين صدقًا ودينًا، قال: غابت الشمس ونحن مع عبد الله ابن عمر فسرنا، فلما رأيناه قد أمسى قلنا له: الصلاة فسكت حتى غاب الشفق، وتصوبت النجوم، فنزل فصلى الصلاتين جميعًا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جدّ به السير صلى صلاتي هذه، يقول جمع بينهما بعد ليل. وأما حديث إسماعيل بن عبد الرحمن، فأسند عن طريق الشافعي وأبي نعيم عن ابن عيينة عن أبي نجيح عن إسماعيل بن الرحمن بن ذؤيب، قال: صحبت ابن عمر فلما غابت الشمس هبنا أن نقول له: قم إلى الصلاة فلما ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء نزل فصلى ثلاث ركعات وركعتين ثم التفت إلينا، فقال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل. *** حديث أنس في جمع التقديم وأما حديث أنس ففي الصحيحين عن ابن شهاب عن أنس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب. هذا لفظ الفعل عن عقيل عنه، ورواه مسلم من حديث ابن وهب، حدثني جابر بن إسماعيل عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا عجل به السير [2] يؤخر الظهر إلى وق

العلم والدين ـ 2

الكاتب: محمد أحمد الغمراوي

_ العلم والدين (2) وبعد: فما هي عناصر الخلاف وعوامل الخصومة التي توجب أن يكون الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى. وأن ليس إلى التقائهما من سبيل؟ ساق الدكتور في الجواب على هذا السؤال ثلاثة أمور: (الأمر الأول) أن الدين حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء ويأخذ الناس بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما، فالعلم لم يصل بعد إلى إثبات وجود الله، ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء، ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا يوم يعترف العلم بوجود الله ونبوة الأنبياء، أو يوم ينزل الدين عن وجود الله ونبوة الأنبياء، هذا أمر. (الأمر الثاني) أن الكتب السماوية لم تقف عند إثبات وجود الله ونبوة الأنبياء، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم بحكم وجوده ولا يستطيع أن ينصرف عنها، وهنا ظهر تناقض صريح بين نصوص الكتب السماوية، وما وصل إليه العلم من النظريات والقوانين. (الأمر الثالث) وهو في رأي الدكتور ثالثة الأثافي أن العلم طمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا تناقضه؛ وإنما يزعم أن له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث، وقد فعل، وأن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة واللباس من حيث إنها كلها ظواهر اجتماعية تتبع الجماعة في تصورها وتتأثر بالبيئة والإقليم والوضع الجغرافي، فهو لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض. هذه هي ثلاثة الأدلة التي أرسلها الدكتور في سياق التدليل على متناقضاته. وإني أسأل الدكتور ما حد الخصومة التي يزعمها قائمة بين العلم والدين، أليست الخصومة هي الجدل والغلب حيث يدفع أحد الخصمين ما يثبته الآخر ويثبت ثانيهما ما ينفيه صاحبه؟ فإذا كان هذا معنى الخصومة، فهل نفى العلم ما أثبته الدين من وجود الله ونبوة الأنبياء؟ إن في كلام الدكتور جواب هذا السؤال الأخير، فهو يصرح بأن العلم لا ينفي وجود الله ونبوة الأنبياء، ويقرر في وضوح أن العلم ينصرف عنهما انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص.. . فهو إذن مسلم بأن العلم لا يستطيع أن يتناول بالبحث والتمحيص هذين الأمرين لعجز آلاته عن بحثهما وتمحيصهما. وهو إذًا مسلِّم بأن العلم منصرف عنهما انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص. وإذًا فلا خصومة بين العلم والدين في وجود الله ونبوة الأنبياء، إذ كيف تقع الخصومة بين طرفين في أمر يعترف أحدهما بأنه عاجز عن مباشرة أسباب الخصومة فيه، وكيف تتصور الخصومة ممن هو منصرف انصرافًا تامًّا عن تناول ما هو مثار الخصومة؟ فالحق أنه لا خصومة بين الدين والعلم على وجود الله ونبوة الأنبياء، وأن ميدان الدين أوسع دائرة من ميدان العلم الحسي، وأنه إذا كان العلم الحسي لم يستطع أن يجري مع الدين في ميدانه الفسيح فإن العقل لم ينقطع عن الجري مع الدين في هذا الميدان ولم تنضب موارده الخصبة [1] ولم يضن على الدين بالمساعدة والتأييد فالأدلة العقلية على وجود الله وعلى نبوة الأنبياء متظاهرة متضافرة، وليست الصحف اليومية بميدان صالح لنشرها وبسطها [2] ، وهي في كتب العقائد مبسوطة مدعمة ومن أحسن تلك الكتب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فليرجع القارئ إليها إذا شاء. بعد هذا نعرض للأمر الثاني الذي ساقه الدكتور للتدليل على رأيه في وجود الخصومة بين العلم والدين، وهو أن الكتب السماوية عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم بحكم وجوده، ولا يستطيع أن ينصرف عنها، قال الدكتور: وهنا ظهر تناقض صريح بين نصوص هذه الكتب السماوية وما وصل إليه العلم من النظريات والقوانين. على أن الدكتور في هذا الموقف الخطير لم يذكر لنا ولو قانونًا واحدًا من تلك القوانين العلمية التي تناقض نصوص القرآن تناقضاً صريحاً في زعمه، واكتفى بالإشارة إلى أن في القرآن ذكراً للخلق وصورته ومدته، وفي علم الجيولوجيا تعرض لهذا، وبين نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلاف قوي عنيف، هذا خلاف، وخلاف آخر بين الدين والعلم في نشأة الإنسان. زعم الدكتور أنه ليس بأقل من الخلاف في خلق السموات والأرض، وأن مذهب النشوء والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه، ولن يتفق علم الأمبريولوجيا مع ما جاء في القرآن من تكوّن الجنين، ومثل ذلك ما بين نصوص القرآن وعلم الفلك من خلاف، هذه هي جملة الأمور التي بني الدكتور عليها حكمه بأن الدين والعلم ليسا متفقين، ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل أحدهما لصاحبه عن شخصيته كلها. ولن نرى موقفًا أدنى إلى السخف، وأدعى إلى السخرية، والاستهزاء بصاحبه من هذا الموقف بفقه الدكتور من كتاب الله، ومن علوم لا يحسن القول فيها، ولا يدري الفرق بين نظرياتها وقوانينها، فيريك كيف يذري الجهل بصاحبه وكيف تجني الحماقة على جانيها، ويعطيك صورة مضحكة لأولئك الثرثارين المتفيهقين الذين يقع نظرك عليهم كثيراً في النوادي ومجالس السمر حتى يتشدقون بالحديث في مختلف الشئون العلمية والسياسية والاقتصادية وهم لا يدرون شيئًا عما يتحدثون فيه، ولا يعرفون إنْ كانت السياسة طعامًا يؤكل، أو ثيابًا تلبس أو ألعوبة يتسلى بها الصبية؛ فلو أن الدكتور كان من علم ما عرض للكلام فيه بالمكان الذي يدعيه لنفسه وبالمنزلة التي يوهم البسطاء والمخدوعين أنه لا يشق له فيها غبار؛ لما جهل الفرق بين النظريات والقوانين في العلوم ولا سمح لنفسه أن يتحدث عن ظهور تناقض صريح بين نصوص القرآن وما وصل إليه العلم من النظريات، إذ ما الذي يضير القرآن إذا كان مخالفًا لنظريات لم يبرهن عليها في العلم، ولم تصر بعد من اليقينيات المسلمات فيه؟ ولو أن الدكتور كان يحسن من هذه العلوم شيئًا كما يوهم لما اكتفى بأن يرسل الكلام إرسالاً يقف فيه عند حد القول بأن بين نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلافًا قويًّا عنيفًا، وأن مذهب النشوء والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه، إلى غير ذلك من أقوال مرسلة ودعاوى عريضة، ولذكر لنا ولو بحثًا من أبحاثه الفلكية المخالفة لنصوص القرآن. بيد أننا في هذا الموقف نطمئن الدكتور إشفاقًا عليه، ونقول له: هون عليك فإن الأمر أهون مما تظن فلن ينزل الدين عن شخصيته للعلم، ولن ينازع العلم الدين في شيء من الأصول الأساسية التي أقرها، وسيظل العلم والدين صديقين وفيين وخليلين متناصرين على ترقية الإنسانية وتوفير الخير لها حتى تقوم الساعة. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) . ولأجل أن ننزع عن الدكتور ما أحاط به من اللبس ونكشف له عما اشتبه عليه من هذه المسائل التي ذكرها نقول له: إن القرآن نزل لهداية البشر لما فيه سعادتهم في الدنيا والآخرة. وهذه الغاية تتحقق بثلاثة أمور: أولها: تصحيح عقائد الناس فيما يختص بذات الإله وما يجب لها من صفات الكمال. وثانيها: تهذيب الأخلاق بالمواعظ الحسنة، وتكميل النفوس وترغيبها في العبادات والأعمال الصالحة والأخلاق الطيبة التي أجمعت العقول على حسنها. وثالثها: إصلاح حال الجماعة بتجديد علائق بعضهم ببعض ووصف العلاج الناجح الذي يشفي الجماعة من أمراضها المستعصية، وهو في كل ذلك لم يعرض إلا قليلاً لجزيئات الأمور؛ لأن الجزيئات كثيرة التغير سريعة التحول، فقرر القواعد العامة التي تتمارى العقول فيها والتي ترمي إلى إصلاح الأرواح والنفوس من غير إخلال بمصالح الجسد، واكتفى من الجزيئات بذكر ما فيه نفع ظاهر أو ما فيه ضرر بَيِّن. فالقرآن لم ينزل لتقرير قواعد العلوم وتفصيل مسائل الفنون إذ لو كان كذلك لكان كسائر الكتب العلمية التي لا ينتفع بها إلا قليل من الناس، وإذًا يفوت الغرض المقصود منه - أعني هداية البشر - ولو نزل بتفصيل قواعد العلوم وتفصيل مسائلها لاستنفد عمر الإنسانية في إدراك قواعده والتصديق بمسائله. فهو إذاً عرض لذكر شيء من الآيات الكونية في سياق التدليل بها على ما يقرره من القضايا فإنما يتناوله بالقدر الذي يشترك في التسليم به كافة الناس عامتهم وعلماؤهم ويلفت الأذهان إلى ما في تلك الآيات من أسرار تدق على عقول الدهماء، ولا تجل عن أفهام العلماء، في أسلوب يحفز العقول إلى المعرفة ويستثير ما كَمُن في النفوس من الغرائز والقوى إلى التبسط في العلم، واستجلاء آيات الله في الكائنات، مجزلاً للعلماء حظهم من الثناء والتكريم. فتراه حين يدلل على وحدانية الله بما في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى غير ذلك من الآيات الكونية تراه حين يدلل على الوحدانية بما في هذه الكائنات وغيرها من سنن ثابتة محكمة مطردة تدل على وحدانية صانعها وعلمه وقدرته يعقب ذكرها ببيان أن في ذلك آيات لقَوْمٍ يَعْقِلُون، وأن في ذلك آيات لقوم يعلمون، وأن في ذلك آيات لقوم يتفكرون، ليوجه العقول إلى معرفة ما فيها من آيات، ويسوق النفوس والهمم إلى استجلاء ما في الكائنات من أسرار. وأما إذا عرض لذكر السموات وما فيها من النجوم والكواكب، وللأرض وما فيها من المخلوقات والعجائب؟ فلا يعرض لبيان حقائق الكواكب وأشكالها، ولا لتفصيل مقادير أبعادها ونظام سيرها في أفلاكها، ورجوعها واستقامتها وميلها، واختلاف مناظرها، إلى غير ذلك من الأبحاث الفلكية، كذلك لا يعرض عند ذكر الأرض لوصف شكلها وإثبات حركتها أو سكونها [3] ، وما يترتب على ذلك من اختلاف الليل والنهار، والفصول الأربعة، ولا يذكر أسباب وجود الجبال واختلاف طبقاتها وألوانها، ولا أسباب وجود الوديان والزلازل وغير ذلك من الظواهر الطبيعية، وإنما يكتفي بذكر تلك الظواهر وما للناس فيها من نفع أو غيره لافتًا الأذهان إلى ما فيها من سنن وعبر - فهو كما قدمنا يتناولها بالمقدار الذي يشترك سائر الناس في العلم به لينال كل حظه من الهداية كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 27-28) ومن ذا يماري أن الماء منه حياة كل شيء نامٍ، وأن الله يخرج به من الأرض ثمرات مختلفًا ألوانها؟ وأن في اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب والأنعام آيات وأسرارًا عظيمة؟ وإن كان لا يقف على كنه هذه الآيات والأسرار إلا العلماء. وكذلك إذا لفت الناس إلى ما في خلق الإنسان من إبداع الصنع وإحسان الخلق وذكر الأطوار التي تكون للجنين في الرحم وأنه يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم يصير مضغة فتخلق المضغة عظامًا، فتكتسي العظام باللحم؛ فإنما يذكر الظواهر التي يشترك سائر الناس في إدراكها فإذا أثبت علم الأمبريولوجيا أن النطفة تشتمل على حيوان إنساني، وأنه يتصل ببويضات في الرحم يلقحها فيتكون من مجموعها إنسان يتطور في الرحم في أطوار شتى، وإذا أثبت هذا العلم بواسطة الميكروسكوب أن تلك النطفة التي يراها الناس علقة ومض

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمةالأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الباب السادس الجدري وهل هو من الأمراض المعدية نبحث الآن في معالجة الأمراض المعدية، إن هذه الأمراض كلها ترجع إلى أصل واحد مشترك، ولكن بما أن الجدري له أهمية خاصة بينها نخصص له بابًا مستقلاً وفي أخواته في باب آخر. لقد اعتدنا أن نخاف كثيرًا من الجدري لأوهام واهية نتوهمها فيه؛ فقد أخذنا في الهند نعبده كإله، والحقيقة أنه يتسبب من فساد الدم لارتباك في المعدة، كبعض الأمراض الأخرى؛ فالسم الذي يجتمع في البنية يخرج بصورة الجدري، وما دام هذا الرأي صحيحًا فليس هنالك أدنى محل للخوف منه، لو كان الجدري مرضًا معديًا بالحقيقة لتعدي بمجرد لمس المريض. ولكن الواقع ليس كذلك دائمًا، والحقيقة أن لمس المريض لا يضر إذا اتخذت بعض الاحتياطات الضرورية، نعم نحن لا نستطيع أن نقول: إن الجدري لا يتعدى باللمس مطلقًا، فالذين هم في حالة جسدية ملائمة لانتقاله ينتقل إليهم، وهذا هو السبب في انتقال الجدري إلى الآخرين إذا ظهر في جهة من الجهات، وهذا الذي وسع المجال للوهم بأنه مرض معد؛ ومن هذا أتى تضليل الناس بإقناعهم بأن اللقاح طريقة مؤثرة لمنعه، إن اللقاح عبارة عن حقن سائل الجدري الذي يستحصل من ثدي البقر [1] بعد أن يدخل في ثديها مادة الجدري، لقد كانت الفكرة القديمة هي: بأن اللقاح مرة واحدة يحفظ الإنسان من هذا المرض طول العمر؛ ولكن لما وجدوا أن الملقحين أيضًا يصابون به عدلوا عن تلك الفكرة وأخذوا يقولون: بأن التلقيح يجب أن يعاد بعد كل زمن معين؛ وعلى هذا قد جرى عامة الناس الآن سواء كانوا ملقحين؛ فإنهم يلقحون أنفسهم كلما انتشر هذا المرض في إحدى الجهات. ولذلك ليس بعجيب أن نرى الآن أناسًا قد لقحوا بضع مرات. إن التلقيح عمل همجي ومكيدة من أكبر المكائد التي انتشرت في أيامنا والتي لا توجد حتى في الأمم التي نسميها متوحشة [2] إن المدافعين عن التلقيح لم يكتفوا بأولئك الذين لا يرون أي اعتراض إزاءه، بل قد اجتهدوا ولا يزالون يجتهدون في إجرائه على جميع الناس بالقوانين التعزيزية والعقوبات الإجبارية الصارمة، إن عملية اللقاح ليست بقديمة العهد بل قد ابتدأت من سنة 1798م ولكن في خلال هذه المدة الوجيزة من الزمن قد سقط الملايين من الناس فريسة للوهم القائل بأن الذين يلقحون أنفسهم يسلمون من الجدري، لا يستطيع أحد أن يدعي أن اللذين لا يلقحون لا بد من أن يهاجمهم الجدري؛ لأنه قد وجدت أمثلة كثيرة لغير الملقحين لم يصابوا به فقط، وكذلك لا يصح أن يستنتج من إصابة غير الملقحين بالمرض أنهم لو لقحوا لسلموا منه. على أن التلقيح عمل (وسخ) للغاية لأن المصل الذي يدخل في الجسم الإنساني لا يحتوي على ما يخرج من البقر فقط بل كذلك يكون قيحًا حقيقيًّا للجدري إن الرجل العادي ليتقيأ بمجرد النظر إلى هذا الشيء، وإذا تلوثت يده بهذه المادة يغسلها حالاً بالصابون، ولو طلب منه أن يأكله لنفر وغضب غضبًا شديدًا، ولكن الذين يرضون بالتلقيح لا يفهمون بأنهم في الحقيقة يأكلون هذا الشيء الوسخ بعينه! [3] ، يعرف كثير من الناس بأن الأدوية والأطعمة الرقيقة تحقن في كثير من الأمراض في الدم فتتحلل في البدن بسرعة أكثر مما لو أكلت بالفم، وكل ما هنالك من الفرق بين الحقن والأكل العادي بالفم بأن الأول يمتزج حالاً بينما الثاني يمتزج ببطء، ولكن مع هذا نحن لا نتردد في تلقيح أنفسنا، قد قيل حقًّا (إن الجبان يموت مرات كثيرة قبل موته) كذلك تهافتنا على التلقيح بسبب خوفنا من الموت أو من تشويه الجدري لوجوهنا. وأنا لا أملك دفع الشعور بأن التلقيح هتك لأحكام الدين والأخلاق معًا. إن شرب الدم وإن كان من البهائم المذبوحة يمقته أشد المقت حتى أولئك الذين يأكلون اللحم عادة! ، وليس التلقيح دم حيوان حي معصوم بعد تضميمه؟ ، فما أجدر الذين يخشون الله بأن يقعوا فريسة للجدري ويموتوا موتًا سريعًا من أن يرتكبوا جناية خسيسة مثل هذه الجناية! لقد اكتشف بعض المفكرين في إنكلترا بعد تحقيق دقيق المضار المتنوعة للتلقيح، وقد أسست جمعية هنالك ضد هذا العمل تسمى بـ Soiety Vaccination ـ Anti وأعلن أعضاء هذه الجمعية حربًا علنية على التلقيح ورضوا بأن يدخلوا السجون عوضًا من أن يخضعوا له أو يسكتوا عليه، إن اعتراضاتهم على اللقاح تتلخص فيما يأتي: 1 - إن تجهيز المادة من ثدي البقر والعجل يوجب عذابًا أليمًا على ألوف من المخلوقات المعصومة، وهذا لا يمكن أن يجوز مهما كانت فوائد التلقيح كبيرة. 2 - إن التلقيح عوضًا من أن ينفع يجلب ضررًا كبيرًا؛ لأنه يسبب أمراضًا كثيرة جديدة، حتى إن المدافعين عنه أيضًا لا يستطيعون أن ينكروا أن أمراضًا كثيرة جديدة قد ظهرت بعد شيوعه. 3 - إن المادة التي تستحصل من دم المصاب بالجدري قد تحتوي على ميكروبات لأمراض مختلفة كامنة في المريض فينقلها إلى السليم الذي يلقح به. 4 - ليس هناك أي ضمان يضمن أن لا يصاب الملقح بالمرض فالدكتور جينر Jenner مخترع اللقاح زعم في أول الأمر أن الصيانة التامة تحصل بلقاح واحد في ذراع واحد؛ ولما ثبت بطلان هذا قالوا: إن اللقاح على الذراعين يحصل به المقصود، ولما ثبت خيبة هذا الرأي أيضًا أخذوا يزعمون أن الذراعين كليهما يلقحان في أماكن متعددة، ويجدد التلقيح في كل سبع سنين، وقد نقصوا أخيرًا مدة هذه الصيانة إلى ثلاث سنين! فكل هذا يثبت أن الأطباء أنفسهم ليسوا بمتفقين في المسألة، والحق ما بيناه آنفًا، وهو أنه ليس هناك قول بأن الملقح لا يصاب بالجدري، أو أن جميع أحوال الصيانة إنما هي نتيجة للتلقيح. 5 - إن المادة جوهر وسخ ومن الحمق الاقتناع بأن وساخة تزيل وساخة أخرى؛ فبهذه وغيرها من الدلائل قد حولت هذه الجمعية رأي جم غفير من الناس ضد اللقاح، يوجد في إنكلترا بلد يرفض أكثر أهاليها التلقيح، ولكن مع ذلك قد أثبتت الإحصاءات بأنهم سالمون من المرض بطريقة عجيبة [4] . إن الحق الصراح هو أن المنافع الشخصية للأطباء هي التي تحول دون نسخ هذا العمل الوحشي، فإنهم لخوفهم من ضياع إيراد كبير يحصلونه الآن من هذه الطريقة قد عموا عن الشرور الكثيرة التي تنجم من هذا العمل الشنيع! ولكن هنالك من الأطباء من اعترفوا بهذه الشرور وهم ألد الخصوم للتلقيح. لا ريب أن الذين يمقتون التلقيح مسوقين من قِبَل وجدانهم هم الذين يملكون الجرأة على أن يقابلوا جميع العقوبات التي يصبها عليهم القانون بقلب ثابت، وإنْ دعت الضرورة يقفون وحدهم أمام جميع الدنيا للمدافعة عن معتقدهم، إن الذين يتحرزون من التلقيح لأسباب صحية فقط يجب أن يحققوا تحقيقًا تامًا في المسألة حتى يتأهلوا لإقناع الآخرين بصحة أفكارهم ويسوقوهم إلى العمل بها، ولكن الذين ليست لهم أفكار معينة في المسألة أو ليست فيهم الجرأة الكافية للمدافعة عن عقائدهم فلا ريب أنه يجب عليهم الخضوع لقانون الحكومة، والأَوْلى لهم مجاراة الوسط الذي يعيشون فيه. إن الذين يتحرزون من التلقيح يجب أن يراعوا بكل قوة أصول الصحة التي قد بينت في هذا الكتاب؛ لأن المراعاة التامة لهذه الأصول هي التي تحفظ في الجسم تلك القوى الحيوية التي تزاحم ميكروبات جميع الأمراض، وتكون أحسن وقاية من الجدري وغيره من الأمراض، ولكنهم إن كانوا أثناء مخالفتهم لإدخال المادة السامة - التي هي اللقاح - في أجسامهم يسلمون أنفسهم للسم الذي هو أكبر من هذا السم - أي سم الشهوة والفسوق - فإنهم بلا ريب يحرمون أنفسهم من قبول الناس لأفكارهم. *** علاج الجدري: إذا ظهر الجدري على الجسد ظهورًا تامًّا فأحسن علاج له هو (ويت - شيت - باك) الذي يجب أن يستعمل كل يوم على الأقل ثلاث مرات، فإنه يزيل الحمى ويشفى الجروح بسرعة، وليس هناك حاجة لاستعمال الزيوت أو الدهان فوق الجروح. نعم؛ إذا أخذت البثور تنشف فزيت الزيتون يستعمل دائمًا ويستحم المريض كل يوم، هكذا تسقط القشور بسرعة وتزول البثور سريعًا، ويستعيد الجلد لونه الطبيعي ورونقه. يجب أن يكون غذاء المجدور من الرز والثمار الطرية الخفيفة مع عصير الليمون، ويجتنب جميع الثمار الثقيلة مثل التمر واللوز، إن الجروح عامة تأخذ في الاندمال تحت تأثير (ويت - شيت - باك) في أقل من أسبوع، وإن لم يحصل ذلك فمعناه أن السم لا يزال في الجسم ولم ينفجر تمامًا، فعوضًا من أن نعد الجدري مرضًا فظيعًا يجب أن نعده كأحسن علاج من الطبيعة لإخراج السم من الجسم لتبقى الصحة كأحسن ما ينبغي. إذا شفي الجدري فالمجدور يبقى ضعيفًا لمدة من الزمن وفي بعض الأحوال يصاب بأمراض أخرى. ولكن هذه الأمراض لا تكون نتيجة للجدري نفسه، بل للمعالجات الخاطئة التي تستعمل له، وكذلك استعمال الكينا في الحمى قد يوجب الصمم وقد يقود إلى أشد أشكاله، وهو يعرف (Quininism) بالكينينسم، وكذلك الزئبق في الأمراض التناسلية يسوق إلى أمراض كثيرة جديدة، وهكذا الإكثار من شرب المسهلات في الإمساك يحدث أمراضًا كالبواسير. إن الطريقة الوحيدة المؤثرة في المعالجة هي تلك التي تزيل الأسباب الأساسية للأدواء بمراعاة قوية للقواعد الأساسية الصحية حتى إن الجواهر المحرقة التي تعد علاجًا ناجحًا حتميًّا لمثل هذه الأدواء مضرة جدًّا في الحقيقة؛ لأنها وإن كانت تعد نافعة بادئ الرأي فإنها تحرك دواعي الشر وتقضي في الأخير على الصحة. إذا عولج الجدري بالطريقة الساذجة الطبيعية التي ذكرناها آنفًا فهي لا تزيل المرض فحسب، بل تجعل المجدور في مأمن منه إلى آخر العمر [5] . *** الباب السابع الأمراض المعدية الأخرى نحن لا نخاف من الحماق كما نخاف من أخيه الجدري، لأنه أقل خطرًا على النفس وأقل تشويهًا للوجه منه، مع أنه الجدري بعينه في شكل آخر، ولذلك تجب معالجته بنفس تلك الطريقة التي يعالج بها الجدري. *** الطاعون وعلاجه الغدّي: إن الطاعون الغدي مرض خطر، وقد سبب موت الملايين من إخواننا منذ دهم بلادنا سنة 1896م، ولم يهتد الأطباء إلى الآن مع عظيم جهدهم إلى علاج ناجع لهم، وقد راجت في هذه الأيام عملية التلقيح له أيضًا رواجًا عظيمًا، وتأصل في النفوس الاعتقاد بأن حملة الطاعون يمكن الأمن منها به، ولكن التلقيح للطاعون رديء وإثم مثل تلقيح الجدري، إنا وإن كنا نعلم أنه لم يعرف لهذا الداء علاج ناجع إلى الآن، نتجرأ على اقتراح العلاج الآتي لأولئك الذين يثقون ثقة مطلقة بالخالق سبحانه [6] والذين لا يخافون من الموت. وهو: 1 - استحمام (ويت - شيت - باك) بمجرد ظهور علائم الحمى. 2 - وضع اللبخة الطينية الغليظة على الغدة. 3 - تجويع المريض تمامًا. 4 - إن أحس المريض بالعطش يسقى عصير الليمون في ماء بارد. 5 - ينوم المريض في هواء طلق. 6 - يجب أن لا يكون بجنبه أكثر من ممرض واحد. يمكننا أن نقول بكل ثقة: إنه إن كان هذا الداء الوبيل يتأتى الشفاء منه بعلاج ما فهو هذا العلاج. إنه وإن كان المصدر الحقيقي لهذا المرض غير معلوم إلى الآن، لا يمكن أن ننكر أن للفيران أثرًا مهمًّا في انتشاره، فعلى هذا يجب أن نتخذ جميع الاحتياطات في الجهة التي دخل فيها الطاعون لمنع دخول الفيران فيها، وإن عجزنا عن التخلص منها فلنهجر البيوت. إن أمثل طريقة لصد هجوم الطاعون هي المراعاة التامة لأصول الصحة: المعيشة في هواء طلق، وأكل غذاء جيد خفيف بالاعتدال، والتريض بري

كعب الأحبار ووهب بن منبه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كعب الأحبار ووهب بن منبه في انتقاد الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرحمن الجمجوني علينا في جرحنا لكعب الأحبار ووهب بن منبه أغلاط وآراء غير صحيحة، لو أردنا أن نبينها كلها بالتفصيل لأخذنا من صحائف المنار ما لا يسمح لنا به جمهور القراء؛ فإنه أطال الكلام فذكر انتقاده الأول وردنا عليه وتاريخ نشره، وأعاد بعض عباراتنا وعباراته كما أعاد ذكر شبهته على ضرر جرح الحبرين بأنه يثير شبهات الملاحدة على الإسلام وهو لاشتغاله بالزراعة كما قال لم يختبر في هذا الموضوع بعض اختبارنا في ثلث قرن قضيناه في معالجة هذه الشبهات ومناظرة هؤلاء الملاحدة وأمثالهم من خصوم الإسلام والرد عليهم قولاً وكتابة، وقد ثبت عندنا أن روايات كعب ووهب في كتب التفسير والقصص والتاريخ كانت مثار شبهات كثيرة للمؤمنين لا للملاحدة والمارقين وحدهم، وأن المستقلين في الرأي لا يقبلون قوله: (إن كل من قال جمهور رجال الجرح والتعديل المتقدمون بعدالته فهو عدل وإن ظهر لمن بعدهم فيه من أسباب الجرح ما لم يظهر لهم) . وأنا لا أتكلم فيما أطال به من المباحث الخارجة عن الموضوع ولا في الأقوال والنقول في توثيق جمهور رجال الجرح والتعديل للحبرين كعب ووهب حتى النقل عن المعاصرين الذين ليسوا منهم كالقاسمي والخولي والخضري وما يتعلق بذلك من مدح بعض الأفراد أو الكتب الذي لا أنازعه فيه وإن لم يكن كله مقبولاً عندي وإنما أتكلم في أهم ما جاء به المنتقد في مقاله الأخير من تخطئتي في الموضوع والاستدلال عليه فأقول: الانتقاد الأول عبارة الحافظ الذهبي في كعب (وله شيء في صحيح البخاري وغيره) ووقع في قولنا وليس له شيء.... ولا ندري الآن كيف وقع ذلك هل نقلناه من كتاب آخر أو سبق به القلم لما هو معلوم عندنا من أن البخاري لم يرو عنه شيئًا في صحيحه؟ ومهما يكن من السبب فإننا نعترف بأن الذي في تذكرة الحفَّاظ هو الإثبات كما ذكره. *** الانتقاد الثاني رمي معاوية لكعب بالكذب اعترف المنتقد بأن ما رواه البخاري عن معاوية من قوله: إنهم كانوا يبلون (أي يختبرون) الكذب على كعب الأحبار هو طعن شديد في عدالته، إذا أخذ على ظاهره، وقد رده بما يأتي: 1- ادعى أن الصواب في العبارة أنها ثناء عليه بدليل ما نقل عنه في تهذيب التهذيب (أي معاوية) من قوله فيه: ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالثمار وإن كنا فيه لمفرطين. ووجه الاستدلال بهذا عند المنتقد أن بين هذا القول وذلك القول تناقضًا بين عبارتي (خليفة من خلفاء الإسلام وصحابي من أكابر الصحابة هداه الأنام، مشهور بحصافة الرأي ومعروف بالبلاغة) .. إلخ ما قاله في تعظيم معاوية مما يكاد يجعله به معصومًا من الخطأ مع إجماع أئمة السنة والشيعة على أنه كان باغيًا على أمير المؤمنين عليّ المرتضى، وترتب على بغيه عليه سفك دماء غزيرة وفتن ومعاص لم يخلص المسلمون من شرها إلى هذا اليوم، والظاهر أنها ستبقى إلى يوم القيامة. نعم، يقول المتكلمون: إنه كان في بغيه متأولاً لا متعمدًا، وقد نقلوا من تأوله: أنه لما احتج عليه بالحديث الصحيح في عمار بن ياسر (تقتله الفئة الباغية) ، قال: إنما قتله من أخرجه! ! فرد عليه أمير المؤمنين علي لما بلغه ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي قتل عميه حمزة وجعفرًا وغيرهما من شهداء بدر وسائر الغزوات فهذا استطراد نقابل به استطراده في مدح معاوية بغير مناسبة لغرضه. والجواب عن هذا الفهم الغريب الذي قوّاه بالإطراء والثناء هو أن العبارتين لا تناقض بينهما كما فهم، ففي كل منهما اعتراف بأن كعبًا كان ذا علم كثير وثبوت العلم الكثير لا يقتضي نفي الكذب؛ فكم من عالم كان أعلم من كعب الأحبار وكان يكذب، إن علم كعب كان جله عندهم ما يرويه عن التوراة وغيرها من كتب قومه وينسبه إليها ليقبل ولا شك في أنه كان من أذكى علماء اليهود قبل إسلامه، وأقدرهم على غش المسلمين بروايته بعده، ومن كبار علماء التفسير الذين رماهم المحدثون بالكذب السدي الصغير - وكذا الكبير - والكلبي وأمثالهم كثيرون. والأستاذ المنتقد نسي ما قاله العلماء في تعريف التناقض، وشروط تحققه، أو لم يقرأ المنطق، فإن كان معاوية معصومًا منه فهذه العصمة لا تخدش ما فهمه هو من عبارتيه، وهما لا تدلان عليه. 2 - قوله: إن العبارة المذكورة لا تصلح من حيث تركيبها العربي دليلاً على أقل ألفاظ هذا التجريح قال: (فإن إسناد الكذب فيها إلى الكتاب باعتبار ما فيه من التبديل أقرب من إسناده إلى (كعب) كما قرره شراح البخاري (ولأنه أقرب مذكور) ثم ادَّعى أن جميع شراح البخاري فهموا من هذه العبارة توثيق معاوية لكعب (! !) (وأن الخليفة ابتلى الكذب على الكتاب نفسه لما فيه من التحريف والتبديل بناءً على عود الضمير إلى أقرب مذكور) وليس الأمر كذلك. أسدل المنتقد على هذه الدعوى بعبارة نقلها عن فتح الباري في شرحه لكلمة معاوية فتصرف فيها كما يشاء، وهي لا تدل على دعواه ولا توضحه كما ادعى وإنما هي عبارة عن تفسير لفظ الكذب بقول الحافظ: (أي يقع بعض ما يخبرنا عنه بخلاف ما يخبرنا به) ، ولكن زاد عليها المنتقد (فلفظ يقع يدل على أن المخبر به أمور من قبيل ما يسمونه ملاحم ولا علاقة لذلك بأمر الدين الإسلامي) . أقول: هذا فهم غريب جدًّا جدًّا؛ فإننا لا نعلم أن أحدًا من علماء اللغة فسر كلمة يقع بما فسرها به، فمن أين جاءته هذه الدلالة؟ أما والله إن من يفهم مثل هذا الفهم ويكتبه في انتقاد علمي ليس جديرًا بأن يُرد عليه في شيء. قال المنتقد بعد هذا: ثم نقل الحافظ ابن حجر عقب رأيه الشخصي المذكور عبارة ابن التين على طولها، وعبارة ابن حبان في توثيق كعب بما يقرب من هذا المعنى. اهـ وأقول الحق عبارة ابن التين قصيرة لا طويلة وهذا نصها: وهذا نحو قول ابن عباس في حق كعب المذكور: بدل من قبله فوقع في الكذب، قال: والمراد بالمحدثين أنداد كعب ممن كان من أهل الكتاب وأسلم فكان يحدث عنهم، وكذا من نظر في كتبهم فحدث عما فيها، إلا أن كعبًا كان أشد منهم بصيرة وأعرف بما يتوقاه، وقال ابن حبان في كتاب الثقات: أراد معاوية أنه يخطئ أحيانًا فيما يخبر به ولم يرد أنه كان كذابًا. اهـ وأقول: إن عبارة الحافظ وعبارتي ابن التين وابن حبان لا يدل شيء منها على ما ادعاه المنتقد وأورد العبارات لتأييده وتوضيحه وهو أن نص عبارة معاوية العربي لا يدل على وصفه بالكذب بل يدل على الثناء وتوثيقه؛ لأنه يتعين أن يكون قوله: (نبلو عليه الكذب) للكتاب لا لكعب، وإنما هي إيراد احتمال في سبب الكذب وتسميته خطأ، ولكن الحافظ نقل احتمال عود الضمير إلى الكتاب عن مجهول وعن القاضي عياض صحة الوجهين وسيأتي ما فيهما. ثم قال المنتقد: (أما القسطلاني فابتدأ شرح الموضوع بتوجيه الاحتمالين في مرجع الضمير مباشرة ثم نقل عن الحافظ ابن الجوزي المعروف بتشدده في التعديل ما نصه توثيقًا: (يعني أن الكذب فيما يخبر عن أهل الكتاب لا منه؛ فالأخبار التي يحكيها عن القوم يكون في بعضها كذب، فأما كعب الأحبار؛ فمن خيار الأحبار) . (وكذا عبارة العيني والكرماني والسندي وهو آخر من كتب على البخاري فيما نعلم) . اهـ أقول: هذا الذي عزاه إلى القسطلاني أيضًا تلبيس وإيهام، وأجله عن تسميته كذبًا ككذب كعب الأحبار، فالمقام مقام إيراد شواهد على ما ادعاه من كون عبارة معاوية لا تدل بنصها العربي على إسناد الكذب إليه بل تدل على إسناد الكذب إلى الكتاب؛ لأنه أقرب مذكور (!) والقسطلاني لم يوجه الاحتمالين في مرجع الضمير مباشرة كما فهم خطأ أو أدعى، وإنما جزم برجوع الضمير إلى كعب وذكر رجوعه إلى الكتاب بصيغة التمريض (قيل) لأنه ضعيف بل غلط وهذا نص عبارته: (الضمير المخفوض بعلى يعود على كعب الأحبار يعني أنه يخطئ فيما يقوله في بعض الأحيان، ولم يرد أنه كان كذابًا، كذا ذكره ابن حبان في كتاب الثقات) . وقيل: إن الهاء في (عليه) راجعه إلى الكتاب من قوله: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب. قال القاضي عياض وعندي أنه يصح عوده على كعب أو على حديثه، وإن لم يقصد الكذب أو يتعمده كعب؛ إذ لا يشترط في الكذب عند أهل السنة التعمد بل هو إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، وليس في هذا تجريح لكعب بالكذب، ثم ذكر بعدها عبارة ابن الجوزي المارة. فظهر بهذا أن القسطلاني جزم بأن الضمير يعود على كعب خلافًا لما قال المنتقد، وأنه تبرأ من قول ابن حبان: بأن معاوية لم يرد بقوله: إنه كان كذابًا لقوله: كذا قال ابن حبان، وإن نص القاضي عياض ليس فيه احتمال عود الضمير إلى الكتاب بل هو راجع إلى كعب نفسه أو إلى حديثه المفهوم من فعل يحدثون؛ إذًا لم يقل باحتمال عوده إلى الكتاب إلا ذلك المجهول الذي عبر عنه الحافظ بقوله (وقال غيره) بعد عبارة ابن حبان، وقال القسطلاني في حكايته: (وقيل) . والقول الفصل في هذه المسألة أن المتبادر من عبارة معاوية الذي يفهمه كل من يعرف اللغة العربية من إطلاقها، أن الضمير راجع إلى كعب الأحبار نفسه كما فسرها ابن حجر والقسطلاني والجمهور، وذلك أن الكتاب لم يذكر في العبارة عمدة مستقلاً فيعود عليه الضمير، وإنما ذكر مضافًا إليه كلمة أهل، فأهل الكتاب هم العمدة في العبارة، وإنما قاله مجهول لا قيمة لقوله لمخالفته للمتبادر الذي جرى عليه الجمهور، وهذا يدحض دعوى المنتقد أن عبارة معاوية لا تدل بنصها العربي إلا على عود الضمير على الكتاب، ودعواه أن الجمهور جروا على هذا، والسياق يقتضي أن تكون كلمة معاوية في ابتلاء الكذب عليه استدراكًا على ما قبلها، إذ قال: إلا أننا كنا نبلو عليه الكذب - ولا معنى لهذا الاستثناء على القول باحتمال عود الضمير إلى الكتاب. غاية الأمر أن هؤلاء الشراح لما كانوا مقلدين لمن عدل كعبًا من رجال الجرح والتعديل أولوا عبارة معاوية بما علمت من كونه غير متعمد للكذب إذ كان ناقلاً له عن غيره؛ وأنه كان مخطئًا لا كذابًا ... إلخ، وهذه غفلة منهم عن الواقع وهو أنه كان يزعم أنه ينقل عن الكتاب نفسه لأنه قرأ الكتب وما كان حبرًا عند اليهود إلا بذلك ولم يكن راويًا لها عن غيره، على أن التأول له بتسمية الكذب خطأ جرح له ينافي صحة روايته ولكن لا يقتضي أنه وضاع كما أثبتنا بالدليل. 3 - ادعاؤه أن غرض معاوية مما ذكره للقرشيين في سياق الكلام عن رواة الإسرائيليات (إرشادهم إلى الثقة بما صح سنده إلى كعب مما حدث به عن كتب أهل الكتاب القديمة) إلخ. وضرب المنتقد مثلاً لذلك ما نقله عنه الحافظ في الفتح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - موصوف في التوراة بصفة واضحة حيث قال في السطر الأول منها: (محمد رسول الله عبدي المختار مولده بمكة ومهاجره المدينة وملكه بالشام) . أقول ذكر المنتقد في دعواه هذه المسألة الثقة بما صح سنده عن كعب مبنية على ما سيأتي التنبيه عليه من ادعائه، إن كل ما ينتقد من المرويات عنه فآفته الرواة عنه، وهذه القاعدة لم تكن مما يخطر ببال في معاوية إذ كان معاصرًا لكعب وسمع منه هو وأهل عصره، ومن لم يسمع مروياته من أولئك القرشيين منه فقد سمعها ممن سمعها منه، ولم يكن هذا يسمى سندًا، ولا كان في زمن معاوية شيء من هذا الاصطلاح ولا من هذا البحث، وسياق الكلام يأبى هذه الدعوى كما يأبى ما قبلها؛ وهو أن معاوية ذكر عبارته عند ذكر كعب، فالكلام فيه لا في الكتاب و

الزعيمان شوكت علي ومحمد علي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الزعيمان شوكت علي ومحمد علي هذان الزعيمان المشهوران في الهند ممن ولدت الحرب العظمى من الزعماء في البلاد المختلفة، وعندما زرنا الهند سنة 1330هـ (الموافقة لسنة 1912م) لم يكن لهما ذكر فيها، وسبب زعامتهما اضطهاد الحكومة الإنكليزية لهما بشدة انتقادهما إياها على قتال الدولة العثمانية الممثلة للخلافة الإسلامية. ملأ ذكر شوكت علي ومحمد علي الآفاق بعد الحرب العظمى وقد كان من فوائد رحلتنا إلى الحجاز في موسم الحج الأخير لقاء الزعيمين الكبيرين في مكة المكرمة ومعرفة كنه حالهما، ولما دعاني جلالة ملك الحجاز إلى الانتظام في سلك المؤتمر الإسلامي العام الذي دعا إليه، كنت أعدّ من ثمراته الدانية الجنى الاشتغال في خدمة الإسلام والحرمين الشريفين مع الوفود الإسلامية عامة والوفود الهندية خاصة، ووفد الخلافة الذي يعد الزعيمان أشهر أركانه على الوجه الأخص. وقد كاشفت رئيس هذا الوفد صديقي الأستاذ السيد سليمان الندوي بذلك وبأنه يحسن أن نتذاكر في المسائل المختلف فيها أو التي هي مظنة الاختلاف عندما تعرض على المؤتمر وتمحصها ليسهل علينا التعاون على إقناع غيرنا بتقريرها فيه وأن نراعي في هذه المباحث ما يمكن، وما لا يمكن، وما يسمى في عرف هذا العصر (بالأمر الواقع) وما يترتب عليه، وقد استحسن الأستاذ الندوي هذا الرأي وقال: إنه سيعرضه على رفاقه، ثم رأيت رفيقيه غير مباليين بمذاكرة أحد ولا بالتعاون مع أحد، كأنهما يظنان أنهما بنفوذهما الشخصي يفعلان في المؤتمر ما يفعلان في جمعية الخلافة، حتى بدا لهما أفن هذا الرأي وبطلان هذا الظن في أثناء المؤتمر، وسنفصل ذلك في رحلتنا الحجازية بما فيه العبرة والعظة للعالم الإسلامي ونكتفي هنا بتعليق وجيز على أول خطبة لأخينا محمد علي ألقاها في ميناء كراجي أول ثغر ألما به من موانئ الهند، وقد بلغنا أن ما بثاه بعد ذلك في خطبهما ومكتوباتهما شر منه وأنهما أحدثا شقاقًا في الهند بأقوالهما الجديدة في ابن السعود المخالفة لأقوالهما السابقة. *** خطبة مولانا محمد علي في كراجي: خطب مولانا محمد علي في أهالي كراجي خطبة حماسية طويلة بكى فيها واستبكى - وما أسهل هذا عليه! فرأيت من واجب التناصح أن أعلق على بعض عباراته فيها تعليقات مؤيدة بالبرهانين الديني والعقلي فأقول: تزكية نفسه وشهادته لها بالمغفرة: 1 - بدأ خطبته بالتودد إلى أهل تلك الناحية بذكر حبه الشديد لهم وحبهم له وتذكيرهم بجلب القضاء البريطاني له إلى بلدهم لمحاكمته محاكمة المجرمين، وهذا أعظم ما يتقرب به إليهم لعدهم محاكمة الدولة له أكبر مناقبه، وقال في أثناء ذلك (وقد تم من إرادة الله وكرمه أن أعود إليكم بعد أن طهرني الله من جميع الذنوب والأوزار) وقد كرر هذا المعنى مرتين لتأكيده. فنذكر أخانا في الإسلام الذي تأكدت أُخوته لنا باشتراكنا في غسل بيت الله الحرام، وتطييب جدرانه من الداخل بعطر الورد، بأن لا يعود إلى مثل هذا فإن الجزم القطعي بغفران الله تعالى وتطهيره لشخص معين من الذنوب والأوزار لا يُعلم إلا بوحي من الله علام الغيوب، والأعمال المكفرة للذنوب كالحج لا تكون كذلك إلا إذا كانت صحيحة باستيفاء شروطها وواجباتها الظاهرة والباطنة كالإخلاص وكانت مقبولة عند الله تعالى، والعلم باستيفاء الشروط والواجبات عسر، وأما العلم بالمقبول عند الله تعالى فمتعذر، وقد قال بعضهم في واجب واحد من شروط الحج الظاهرة. إذا حججت بمال أصله دنس ... فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل من حج بيت الله مبرور ولا محل هنا لذكر ما استدل به العلماء على عدم القطع لأحد بالمغفرة والجنة إلا من بشرهم بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فسروا الحج المبرور المكفر للذنوب الذي ورد الحديث فيه بأنه الذي لا يقع فيه معصية، أو لا رياء فيه. أخذوا هذا من حديث الصحيحين واللفظ للبخاري (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - بأن يجعل حجه لا رياء فيه ولا سمعة، وقالوا: مع هذا إن الحج المبرور إنما يكفر حقوق الله تعالى لا حقوق العباد. وقد قال الله تعالى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32) ويدخل في هذا النهي مدح المرء لنفسه وتزكيتها ولو بالحق ولا سيما إذا كان في سياق الفخر والتبجح، ويمكن لأخينا أن يراجع في هذه المسألة وما حولها كتب التفسير وكتب السنة ولا سيما رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن أبي وقاص فيمن قال فيه إني لأراه مؤمنًا - فقال له - صلى الله عليه وسلم - (بل مسلمًا) وهو في الصحيحين - ويراجع أيضًا كتاب الحج وكتابي (العجب والغرور من إحياء علوم الدين) ، ويتذكر كيف كان يستغيب ملك الحجاز حتى في بيت الله تعالى وفيما لا مصلحة فيه له وللمسلمين كالكلام في لحيته وزواجه ... إلخ. *** دعواه إخلاف ابن سعود وكذبه: 2 - قال: إن ابن السعود كان كتب إليه أن الحجاز أمانة في يده للمسلمين وإنه يخضع لما يراه المؤتمر الإسلامي ومستعد لتخلية الحجاز لمن يختاره هذا المؤتمر. (وقال) فلما قصدت الحجاز وجدت أن الأفعال غير الأقوال - ثم أطال الكلام في الوعود والعهود والمواثيق، والكذب والخداع؛ وذكر من الأفعال المخالفة هدم القباب العالية، والمنارات الشامخة، والمقابر، والمآثر - وبالغ في تعظيم أمر هذا الهدم لهذه المبتدعات كأنما هدم بها أركان الإسلام، وبكى في أثناء هذا التهويل، وبالغ في الندب والعويل، حتى استبكى الجم الغفير، من عباد القبور ومخبولي القباب الشامخة الباذخة الضخمة الفخمة، التي لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين يبنونها مساجد على المقابر في مرض موته ليحذر أمته من فتنتها ومن بناء مثلها. ونذكر هذا الزعيم بأنه ليس من الذنوب المغفور له عند الله أن يدافع عن هذه القباب والمساجد المبنية على القبور التي هي شر من مسجد الضرار الذي قال الله تعالى فيه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ} (التوبة: 107) الآية. ثم نذكره بقوله وقول أخيه: إنهما لا يقولان بأن هذه القبور والقباب والمساجد عليها مطلوبة شرعًا ولا أنها كما يزعم العوام الجاهلون تنفع وتضر - وإنما يدافعان عنها مراعاة للشيعة والعوام في الهند لأجل الانتفاع بعصبيتهم أو ما هذا معناه. ولكن ابن السعود لا يحابي الشيعة ولا العوام في الدين، وقد قال لهما ولغيرهما من أعضاء المؤتمر وغيرهم ولا سيما ليلة دعوته الكبرى لرجال المؤتمر قال: إن مسألة المقابر والمآثر قد عمل فيها بفتوى العلماء؛ فإذا اجتمعت جمعية من علماء السنة وفقهاء المذاهب الأربعة وأعادوا المذاكرة وأثبتوا بالدليل خطأه في شيء فعله، ووجوب تلافي هذا الخطأ؛ فإنه يأخذ بقولهم، هذا ما صرح به مرارًا. وأما الأخذ بقول الزعيمين السياسيين شوكت علي ومحمد علي، وليسا من علماء الدين، أو بأهواء الشيعة والعامة لأجل السياسة فلا سبيل إليه. وأما قول الزعيم الهندي بأن الملك السلطان العربي وعده ووعد جمعية الخلافة بأن يخضع لقرار المؤتمر الإسلامي في حكم الحجاز ويخليه لمن يختاره هذا المؤتمر - وأن أفعاله خالفت أقواله - فنسأله: هل يُعد رأيه ورأي أخيه الشاذ في جعل حكومة الحجاز جمهورية، وجعل حق انتخاب رئيسها للمؤتمر - قراراً من المؤتمر بذلك؟ إن المؤتمر لم يقرر شيئًا في هذه المسألة، ولا جعلها من موضوع مذكراته، والسواد الأعظم من مندوبي المؤتمر، ومنهم مندوبو الحكومات المستقلة معترفون بأن جلالة عبد العزيز بن السعود ملك الحجاز، فما معنى هذه المخالفة بين الأقوال والأفعال في هذه المسألة؟ أيليق بزعيم كبير أن يقول هذا في خطاب عام؟ *** افتخار محمد علي بالشجاعة في سبيل الله: 3 - افتخر الزعيم أمام أهل كراجي وتبجح بالشجاعة والإقدام وعدم المبالاة بالموت في سبيل الله إذ صارح ابن السعود بالانتقاد على أعماله وباختصاصه بالسلطة الشخصية في الحجاز (ورفع صوته عاليًا غير هياب في الحق ولا وجل) وذكرهم بأنه (لم يَرهب الحكومة البريطانية التي هي أقوى دول الأرض في هذا العهد) وأطال في ذلك وكرره، حتى خُيل لسامع كلامه أنه كان موطنًا نفسه على سفك هذا الملك الجبار لدمه (أمام كعبة الله) كما قال! ! ! ونحن لا نرى لهذا الفخر أدنى مجال ولا مسوغ فابن سعود ليس جبارًا ولا بطاشًا بمن ينتقده، ولا بمن يذمه، ولم ينقل عنه أنه عاقب رجلاً أساء إليه، بل نقل عنه أنه عفا عن رجل كان يريد قتله بعد أن قبض عليه رجاله، واعترف بأنه كان يريد قتله، وقد وقفت إدارة الأمن العام في الحجاز على جمعية سرية في مكة تأتيها الأموال والأسلحة والديناميت من الخارج.. . ولم يأمر الملك بقتل أحد من أعضائها، ولما أعلنت حكومة الحجاز المنع من بيع هذا السلاح في الحجاز انتدب الزعيمان (محمد علي وشكوت علي) للإنكار عليها كأنهما راضيان بعمل هذه الجمعية واستعدادها لسفك الدماء في حرم الله الذي يحرم فيه قتل القاتل قصاصًا شرعيًّا (! !) ثم إننا لا نرى معنى لاستدلاله على عدم الخوف من ابن سعود بقوله: إنه كذلك لم يخف من الدولة البريطانية، وهي أقوى دول الأرض فإن عقاب الحكومات للأفراد لا تفاوت فيها بين حكومة قوية وضعيفة، ولكنه يتبجح بأن الحكومة البريطانية تحميه من ملك الحجاز إذا أراد الانتقام منه؟ وهذا التبجح لا يليق به على أنه في غير محله أيضًا؛ لأن ملك الحجاز إذا أراد معاقبة مثل محمد علي على قدحه فيه وذمه إياه - ولن يريد - فلا يكون عقابه له بالقتل ولا بالجلد، ولا بالحبس أيضًا - حتى يحتاج إلى هذه الشجاعة كلها، أو إلى حماية الإنكليز أقوى دول الأرض له، وإنما يكون بمثل ما عاقب به المشاغبين من أعضاء جمعية خدام الكعبة، وهو إخراجهم من الحجاز، أو بالحرمان من حضور جلسات المؤتمر، وكلاهما أمر يسير غير عسير، ولكن الملك عبد العزيز الحليم العادل المتواضع قد قابل ما كان يستفرغه الزعيم الشجاع بسعة الصدر التامة، وما كان يزيده ذلك إلا إكرامًا لضيفه العزيز في قومه. *** طعن الزعيم على رجال المؤتمر: 4 - طعن الزعيم الكبير في رجال من أعضاء المؤتمر بأنهم أصحاب أغراض شخصية ومآرب ذاتية، وأنه لا ضمير لهم ولا مبدأ، ولماذا؟ قال: إن أحدهم قال له: يجب أن لا تقول شيئًا ضد ابن السعود. سبحان الله! لماذا يجوز له أن يطعن هو في ابن السعود أشد الطعن؛ لأنه يخالفه في سياسته التي يستميل بها الشيعة وعوام الهنود الخرافيين في بلاده - ويخالفه هو وأهل الحجاز فيما لا يعنيه من شكل حكومته، ولا يجوز لغيره أن يعد ابن السعود مصلحًا بإزالته للبدع وذرائع الشرك والمعاصي - ويدافع عنه لأجل هذا أو لأن الطعن فيه غير مفيد في نفسه، ولا لائق بآداب رجال المؤتمر ومقاماتهم في أقوامهم، ولا لائق بآداب الشرع، ولا لائق بالحرم الشريف، ولا سيما للحجاج لأن أقل ما فيها إثارة الجدال والمراء المذمومين شرعًا، ولا سيما في الحرم أو لغير ذلك من الأسباب، وإنما حلمنا نهي من نهي الزعيم الكبير عن الكلام فيما سماه (ضد ابن سعود) على الطعن فيه، وإن كان في سياق شكل حكومته أو أعماله في إزالة البدع؛ لأن هذا هو الذي كان معروفًا واشتهر عنه، لإسرافه فيه وإكثاره منه. *** دعواه أنه منع من حريته في المؤتمر: 5 - ق

نموذج من كتاب القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من كتاب القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق (تابع لما سبق في الجزء الماضي) أما السادة الصوفية فهم صفوة أهل الله وخلاصة هذه الأمة كما قال أبو القاسم القشيري: الصوفية خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة وقال شهاب الدين السهروردي: الصوفي يضع الأشياء في مواضعها ويدير الأوقات والأحوال كلها بالعلم، يقيم الخلق مقامهم ويقيم أمر الحق مقامه، ويَستر ما ينبغي أن يُستر، ويُظهر ما ينبغي أن يُظهر، ويأتي بالأمور من مواضعها بحضور عقل وصحة توحيد وكمال معرفة ورعاية صدق وإخلاص. إلا أن هذه المنكرات كانت خفية جدًّا لا تكاد تظهر إلا بين أفراد من الناس منعزلين عن عامة المسلمين بسبب سطوة العلماء وأولي الأمر وشدة تمسكهم بالدين، واعتصامهم بحبله المتين، ووجود الغيرة في قلوب العامة، إلى أن تقادم عهد هؤلاء الأكابر وأهمل في الأمر أولياؤه، وفقدت الغيرة الدينية من قلوب المسلمين وأسندت الأمور إلى غير أهلها، فكثرت هذه البدع والمنكرات واتسع نطاقها واشتهر أمرها بين الخاصة والعامة وأصبحت من الأمور التي تلتزم التزام الفرائض والسنن، وصار الإنكار عليها ممن أحيا الله في قلبه غيرة الدين وفضيلة الإسلام من الشذوذ بمكان يستحق عليه اللوم والتعنيف فلا حول ولا قوة إلا بالله. ولنبين لك أيها السائل أرشدك الله إلى الحق حكم فعل ما سألت عنه بإيجاز فنقول: 1- الأذكار الملحونة: أجمع المسلمون على حرمة الإلحاد في أسمائه تعالى والتحريف في آياته وعلى حرمة ذكره على وجه ينافي الإعظام والإجلال قال تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) وقال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى: 1) . ولا ريب أن اللحن في الكلمة المشرفة إلحاد وتحريف في الاسم الشريف، وذكر له تعالى على وجه لا تسبيح فيه ولا تقديس، ولم يسمع عن أحد من الصحابة والتابعين ومن يعول عليه من أئمة الدين وأهل الطريق أنه ذكر الله تعالى، أو قال بجواز الذكر على غير الوجه المشروع الوارد كتابًا أو سنة المتلقى من أفواه الرواة والشيوخ بالكيفية المعروفة بين أهل الأداء المضبوطة في الكتب، وقد نصوا على أن أسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت وضعًا وكيفية إلا بكتاب أو سنة صحيحة، وأن الكلمة المشرفة من القرآن والزيادة فيه كالنقص حرام، وممن نص على حرمة ذلك العلامة (الأمير في رسالته) (نتائج الفكر في آداب الذكر) عند ضبطه للكلمة المشرفة والولي الشهير سيدي عبد الرحمن الأخضري بقوله في منظومته: ومن شروط الذكر أن لا يسقطا ... بعض حروف الاسم أو يفرطا في البعض من مناسك الشريعة ... عمدًا فتلك بدعة شنيعة فواجب تنزيه ذكر الله ... على اللبيب الذاكر الأوّاه عن كل ما يفعله أهل البدع ... ويقتدي بفعل أرباب الورع لقد رأينا فرقة إن ذكروا ... تبدعوا وربما قد كفروا وصنعوا في الذكر صنعًا منكرًا ... صعبا فجاهدهم جهادًا أكبرا خلوا من اسم الله حرف الهاء ... فألحدوا في أعظم الأسماء لقد أتوا والله شيئًا إدّا ... تخر منه الشامخات هدّا (وفي الجوهر الخاص في أجوبة مسائل الإخلاص) للعارف بالله تعالى سيدي محمد الغمري ما يوافقه ومثله في شرح الخريدة لأبي البركات سيدي أحمد الدردير وفي تحفة السالكين لسيدي محمد المنير خليفة الشمس الحفني وفي النفحات القدسية لأبي المواهب الشعراني، وفي شرح العلم الشهير سيدي محمد السنوسي على صغراه. وجملة القول أن هذا الحكم مما تضافرت عليه أكابر الصوفية وأهل السنة والجماعة ولم يستثنوا منه إلا مفقود الإحساس غائب الحواس الذي يغيب في القرب عن القرب لعظيم القرب، ولا يبقى يعرف ما يقول ولا ما يقال له فنسلم قياده إلى وارده يتصرف فيه كما شاء؛ لأنه ليس محلاً للتكليف وأمره بيد الله تعالى يفعل فيه ما يشاء. أما هؤلاء الجهلة الذين يتغيبون من غير غيبة ويتواجدون من غير وجدان فما أسوأ حالهم وأخسر أعمالهم (راجع شمس التحقيق لأبي المعارف سيدي أحمد شرقاوي رضي الله عنه) . *** 2- قصر لفظ الجلالة: وكما لا يجوز اللحن في أسمائه تعالى لا يجوز قصر لفظ الجلالة وهو نقصه عن المدّ الطبيعي الذي لا وجود للحرف إلا به؛ لأنه من جملة اللحن وقد نص الفقهاء على أن الإتيان به مقصورًا لا يعد ذِكرًا ولا تنعقد به يمين وتفسد به الصلاة في تكبيرة الإحرام وذكره الفخر الرازي وأبو السعود في تفسيرهما والمحقق الأمير في نتائج الفكر، وأما قصره في قول الشاعر: ألا لا بارك الله في سهيل ... إذا ما الله بارك في الرجال فضرورة كما صرح به ابن منظور في لسان العرب وأئمة التفسير وسيدي مصطفى البكري وسيدي محمد الغمري واللقاني في وسطه والزرقاني والخرشي في كبيرة والعدوي والأمير في مجموعه. على أن صاحب المصباح نقل عن أبي حاتم أن حذف ألف الله خطأ لا أصل له في اللغة ولا يعرفه أئمة اللسان والبيت موضوع، ولئن سلمنا جوازه لغة، فلا يلزم منه جوازه شرعًا، ولذلك نظائر كثيرة ليس هذا موضوع إيرادها وأسماء الله تعالى توقيفية ولم يرد في الكتاب أو السنة قصر هذا الاسم الشريف. وما تعلل به بعض القاصرين لتجويز الذكر بالاسم الشريف مقصورًا وبغيره على أي كيفية وقع من قوله عليه الصلاة والسلام (إنما الأعمال بالنيات) ومما ينقله مشايخهم من أن هذا الذكر بهذه الهيئة كان في عصر فلان وفلان من آبائهم وأسلافهم الغابرين فمردود بهذه النصوص الواضحة، وبأن النية لا تقترن بالعمل على الوجه المشار إليه في الحديث إلا إذا أتمت صورة العمل وهيئته المبنية في الشرع وأن تشبثهم بما أقره أسلافهم وتركهم أوامر الدين في ذلك كتشبث اليهود والنصارى بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} (الزخرف: 22) [1] . وما أحسن قول الأستاذ أبي المعارف في نصيحة الذاكرين: وماذا علينا إذا وافقنا الله والرسول، وتركنا ما عليه الأسلاف والأصول، فإن الشرع حجة عليهم كما هو حجة علينا، وليسوا هم حجة على الشرع، فإنه يحتج به لا عليه فالاحتجاج بالأسلاف، لا فائدة فيه ولا إسعاف، وإنما هو ذكر لمساويهم، وإظهار لمعاصيهم، وقد نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساويهم) اهـ وجملة القول أن هذا منكر من القول وزور يجب على الأمة الإسلامية وخاصة علماءها وقادتها إزالته بما لهم من الحول والسلطان، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (المواكب) نظرات شاعر ومصور في الأيام والليالي جبران خليل جبران أديب سوري عربي هاجر إلى أمريكا لأجل التجارة كغيره وأقام فيها، لكن روح جبران شعرية فلسفية، تغوص في بحر لجي من الفلسفة النظرية، وتطير في جو واسع من الخيال الشعري، وقد ينظم أحيانًا ما يجنيه بغوصه من درر الفلسفة في أسلاك من الشعر، تحكي خيوط أشعة القمر أو أسلاك أشعة الشمس، يراها [1] الرائي في الصحائف بعينيه، ويسمعها المصغي بأذنيه، ويقرؤها القارئ بلسانه ويشعر بها الشاعر بوجدانه، ولا يملك أحد أن يقبض على شيء منها، كشأن اليد مع الأشعة، إذا غابت عن الحس، غابت عن النفس، إلا صورة مبهمة في الخيال، وذكرى تخطر بالبال، ذلك شعر الفلسفة النظرية وفلسفة الخيال الشعري، وذلك جبران خليل جبران في مواكبه الجديدة، وله شعر آخر يدخل في أبواب الأعمال ونظم الاجتماع، ليس أمامنا منه الآن شيء. تصفحنا صفحاتها الثلاثين التي أهديت إلينا مطبوعة منذ ثلاث سنين، فإذا هي مقاطيع من الشعر أشبه بالمواصيل، تصور للناظر فلسفة حياة البشر الفطرية والمدنية، في بضعة عشر شأنًا من شؤونهم الأدبية والاجتماعية، وهي: الخير والشر الحياة وما فيها من رغد وبؤس وكدر، السُّكر والنشوة، الدين، العدل والعقاب، العزم، العلم، الحرية، اللطف، الظرف، الحب، جنون الحب، القوة والفتح والظلم، السعادة، الروح مع الجسد، الجسم للروح والعقم، الموت والخلود. تلك موضوعات المواكب، وكل منها مركب من مقاطيع كمجاميع الكواكب: مقطوعة من بحر البسيط وقافية الراء المضمومة في وصف حال أهل الحضارة في موضوعها يليها أربع أبيات لا يلتزم فيها قافية في وصف عيشة الغاب أي سذاجة الفطرة وعيشة البادية، يليها بيتان في غناء الناي: وهاك المثال وهو الموكب الأول: الخير في الناس مصنوع إذا جبروا ... والشر في الناس لا يفنى وإن قبروا وأكثر الناس آلات تحركها ... أصابع الدهر يوما ثم تنكسر فلا تقولن هذا عالم علَم ... ولا تقولن ذاك السيد الوقُر فأفضل الناس قطعان يسير بها ... صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر *** ليس في الغابات راع ... لا ولا فيها القطيع فالشتا يمشي ولكن ... لا يجاريه الربيع خلق الناس عبيدًا ... للذي يأبى الخضوع فإذا ما هب يومًا ... سائرًا سار الجميع *** أعطني الناي وغني ... فالغنا يرعى العقول وأنين الناي أبقى ... من مجيد وذليل قوله: السيد الوقر بضم القاف أصله الوقور فخفف لضرورة الشعر وهذا جائز وقد يجيز هذا الشاعر وأمثاله من العصريين في مثل هذا ما لم يجزه علماء العربية من قبل وينظر ما معنى قوله: فالغنا يرعى العقول - فهو من مبهماته التي يقف فيها الذهن مفكرًا.

ما يباح للرجل من محارمه وشراء السلعة بأكثر من ثمن المثل لأجل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما يباح للرجل من محارمه وشراء السلعة بأكثر من ثمن المثل لأجَل س11: من صاحب الإمضاء في بيروت حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي الأنام ومرجع العلماء الأعلام الأستاذ الجليل السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. تحية وسلامًا، وبعد أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه وهو: هل يجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن محارمه من النساء ومعانقتهن وضمهن وتقبيلهن ولمسهن بلا حائل أم لا؟ وهل يجوز مشتري شوال أرز أو ثوب من القماش وغير ذلك بزيادة عن سعر يومه لأجل الأجل أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولسيادتكم عظيم الأجر والثواب.. . ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت *** تحريم نظر الرجل إلى محارمه أو تقبيلهن أو لمسهن ومعانقتهن بشهوة ج - لا يجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن الرجل من أقاربه ولا غيرهم فضلاً عن المرأة بل ينظر إلى غير العورة، ولكن قال بعض العلماء: إن عورة المرأة من المحارم على ابنها أو أخيها أو عمها أو خالها مثلاً ما بين السرة والركبة فهو الذي لا يجوز النظر إليه، وقال آخرون: بل عورتها بالنسبة إلى المحارم هو ما يستر عادة في البيوت عند خدمتها، وهذا أقرب. فيجوز أن ينظر المحرم من محارمه ما يبدو في البيت من البدن عند لبس ثياب المهنة كالذراعين والساقين، ويشترط في هذا النظر أن يكون بدون شهوة فالنظر بالشهوة محرم مطلقًا، ومثله معانقتهن وتقبيلهن ... إلخ؛ فهو مع الشهوة محرم قطعًا، بل هو أشد تحريمًا من مثله مع الأجنبية، كما أن الزنا بالمحارم، وبحليلة الجار أفظع وأشد إثمًا؛ لأنه أشد ضررًا وفسادًا في الفطرة، وإفسادًا للأسرة وإضاعة لحق الجوار. والسؤال ينم عن وقوع ذلك وكون السؤال عنه، وإن كان وقوعه مما يتعجب منه لولا ضياع الدين واستحواذ الشهوات الحيوانية على الناس، وقد وقع في مصر في هذه الأيام أن حيوانًا من هذه الحيوانات السافلة المخلوقة بشكل البشر افترع بنتين له فعلقت منهما واحدة، والعياذ بالله تعالى. والأصل في هذا الجواب دليلان: (أحدهما) ما أمر الله تعالى به في سورة النور من وجوب استئذان المملوك من ذكر وأنثى والأولاد الذين لم يبلغوا الحلم في الدخول على أهل البيت من رجل وامرأة في الأوقات التي هي مظنة ظهور العورات: قبل صلاة الفجر وعند تخفيف الثياب للاستراحة أو القيلولة في وقت الظهيرة ومن بعد العشاء عند النوم. (ثانيهما) سد ذرائع الفساد واتقاء الفتنة، كلاهما ظاهر لا مراء فيه. *** شراء السلعة بأكثر من ثمن المثل إلى أجل إن هذا الشراء جائز وليس من الربا المحرم، والله أعلم.

الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق ـ 2

الكاتب: عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

_ الإيمان والكفر والنفاق والظلم والفسق (2) من رسائل إمام نجد في عصره العلامة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن بن الشيخ حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى. ويعلم منها ما عليه علماء نجد في مسألة تكفير المخالفين واحتياطهم فيها أكثر من سائر علماء المذاهب الأخرى تابع ما نشر في الجزء الماضي وقد بلغني أنكم تأولتم قوله تعالى في سورة محمد: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} (محمد: 26) على بعض ما يجري من أمراء الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض رؤساء الضالين، والملوك المشركين، ولم تنظروا لأول الآية وهي قوله: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى} (محمد: 25) ولم تفقهوا المراد من هذه الطاعة، ولا المراد من الأمر بالمعروف المذكور في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة، وفي قصة صلح الحديبية وما طلبه المشركون واشترطوه وأجابهم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي في رد مفهومكم ودحض أباطيلكم. *** فصل وهنا أصول (أحدها) أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية وما يراد من النصوص الواردة في كتاب الله في باب معرفة حدود ما أنزل الله، كمعرفة المؤمن والكافر، والمشرك والموحد، والفاجر والبر، والظالم والتقي، وما يراد بالموالاة والتولي ونحو ذلك من الحدود، كما أنها المبينة لما يراد من الأمر بالصلاة على الوجه المراد في عددها وأركانها وشروطها وواجباتها، وكذلك الزكاة فإنه لم يظهر المراد من الآيات الموجبة ومعرفة النصاب والأجناس التي تجب فيها من الأنعام والثمار والنقود ووقت الوجوب واشتراط الحلول في بعضها، ومقدار ما يجب في النصاب وصفته، إلا ببيان السنة وتفسيرها. وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطهما ومفسداتهما ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك الصوم والحج جاءت السنة ببيانهما وحدودهما وشروطها ومفسداتهما ونحو ذلك مما توقف بيانه على السنة، وكذلك أبواب الربا وجنسه ونوعه وما يجري فيه وما لا يجري، والفرق بينه وبين البيع الشرعي، وكل هذا البيان أخذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برواية الثقات العدول عن مثلهم إلى أن تنتهي السنة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن أهمل هذا وإضاعه فقد سد على نفسه باب العلم والإيمان، ومعرفة معاني التنزيل والقرآن. (الأصل الثاني) أن الإيمان أصل له شُعب متعددة كل شعبة منها تسمى إيمانًا فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، فمنها ما يزول الإيمان بزواله إجماعًا كشعبة الشهادتين، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعًا كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبين هاتين الشعبتين شعب متفاوته منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب، والتسوية بين هذه الشعب في اجتماعها مخالف للنصوص، وما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وكذلك الكفر أيضًا ذو أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان، فشعب الكفر كفر، والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، ولا يسوى بينهما في الأسماء، والأحكام، وفرق بين من ترك الصلاة والزكاة والصيام وأشرك بالله أو استهان بالمصحف، وبين من سرق، أو زنى، أو شرب، أو انتهب، أو صدر منه نوع من موالاة [1] كما جرى لحاطب، فمن سوى بين شعب الإيمان في الأسماء والأحكام، وسوى بين شعب الكفر في ذلك فهو مخالف للكتاب والسنة، خارج عن سبيل سلف الأمة، داخل في عموم أهل البدع والأهواء. (الأصل الثالث) أن الإيمان مركب من قول وعمل، والقول قسمان: قول القلب وهو اعتقاده، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو قصده واختياره ومحبته ورضاه وتصديقه وعمل الجوارح كالصلاة والزكاة والحج والجهاد ونحو ذلك من الأعمال الظاهرة، فإذا زال تصديق القلب ورضاه ومحبته لله وصدقه زال الإيمان بالكلية، وإذا زال شيء من الأعمال كالصلاة والحج والجهاد مع بقاء تصديق القلب وقبوله فهذا محل خلاف هل يزول الإيمان بالكلية إذا ترك أحد الأركان الإسلامية كالصلاة والحج والزكاة والصيام أو لا يكفر؟ وهل يفرق بين الصلاة وغيرها أو لا يفرق؟ وأهل السنة مجمعون على أنه لابد من عمل القلب الذي هو محبته ورضاه وانقياده، والمرجئة تقول: يكفي التصديق فقط ويكون به مؤمنًا، والخلاف - في أعمال الجوارح - هل يكفر أو لا يكفر؟ واقع بين أهل السنة، والمعروف عند السلف تكفير من ترك أحد المباني الإسلامية كالصلاة والزكاة والصيام والحج، والقول الثاني أنه لا يكفر إلا من جحدها، والثالث الفرق بين الصلاة وغيرها. وهذه الأقوال معروفة. وكذلك المعاصي والذنوب التي هي فعل المحظورات فرقوا فيها بين ما يصادم أصل الإسلام وينافيه وما دون ذلك، وبين ما سماه الشارع كفرًا وما لم يسمه، هذا ما عليه أهل الأثر المتمسكون بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأدلة هذا مبسوطة في أماكنها. (الأصل الرابع) أن الكفر نوعان: كفر عمل وكفر جحود وعناد وهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودًا وعنادًا من أسماء الرب، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه، وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه. وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد، وكذلك قوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) [2] وقوله: (من أتى كاهنًا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -[3] فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - وسبه وإن كان الكل يطلق عليه الكفر وقد سمى الله سبحانه من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنًا بما عمل به، وكافرًا بما ترك العمل به، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ} (البقرة: 84) إلى قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (البقرة: 85) الآية، فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه وهذا يدل على تصديقهم به، وأخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقًا آخر وأخرجوهم من ديارهم، وهذا كفر بما أُخذ عليهم، ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق، وهذا إيمان منهم بما أخذ عليهم في الكتاب. وكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه. فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي، والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي، وفي الحديث الصحيح (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) فرق بين سبابه وقتاله وجعل أحدهما فسوقًا لا يكفر به والآخر كفر ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العملي لا الاعتقادي، وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية، كما لم يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان. وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما، فلا تتلقى هذه المسألة إلا عنهم، والمتأخرون لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقًا أخرجوا من الملة بالكبائر وقضوا على أصحابها بالخلود في النار، وفريقًا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان، فأولئك غلوا، وهؤلاء جفوا، وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الملل. فها هنا كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دون شرك، وظلم دون ظلم، فعن ابن عباس في قول: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} (المائدة: 44) قال: ليس هو الكفر الذي تذهبون إليه. رواه عنه سفيان وعبد الرزاق وفي رواية أخرى: كفر لا ينقل عن الملة، وعن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وهذا بَيّن في القرآن لمن تأمله فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزل الله كافرًا وسمى الجاحد لما أنزل الله على رسوله كافرًا، وسمى الكافر ظالمًا في قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 254) وسمى من يتعدى حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالمًا، وقال: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) وقال يونس عليه السلام: {إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87) وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) وقال موسى {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} (القصص: 16) وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم. وسمى الكافر فاسقًا في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ} (البقرة: 26) وقوله: {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ} (البقرة: 99) وسمى العاصي فاسقًا في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6) وقال في الذين يرمون المحصنات: {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 4) وقال: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ} (البقرة: 197) وليس الفسوق كالفسوق [4] . وكذلك الشرك شركان شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر وشرك لا ينقل عن الملة وهو الأصغر كشرك الرياء وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة: 72) وقال: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} (الحج: 31) الآية وقال في شرك الرياء: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} (الكهف: 110) وفي الحديث (من حلف بغير الله فقد أشرك) [5] ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار، ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل) [6] . فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم إلى ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما لا ينقل عنها. وكذلك النفاق نفاقان نفاق اعتقاد ونفاق عمل، ونفاق الاعتقاد مذكور في القرآن في غير موضع أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار، ونفاق العمل جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا اؤتمن خان) وكقوله - صلى الله عليه وسلم - (آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد خلف) [7] قال بعض الأفاضل وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم [8] فإن الإيمان ينهي عن هذه الخلال فإذا كملت للعبد لم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما نشر في الجزء الماضي) وأما حديث معاذ فمن إفراد مسلم رواه من حديث مالك وزهير بن معاوية وقرة بن خالد وهذا لفظ مالك عن أبي الزبير والمكي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن معاذ بن جبل أخبرهم أنهم خرجوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يومًا ثم خرج فصلى الظهر والعصر ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء. (قلت) الجمع على ثلاث درجات أما إذا كان سائرًا في وقت الأولى فإنما ينزل في وقت الثانية، فهذا هو الجمع الذي ثبت في الصحيحين من حديث أنس وابن عمر وهو نظير جمع مزدلفة، وأما إذا كان وقت الثانية سائرًا أو راكبًا فجمع في وقت الأولى فهذا نظير الجمع بعرفة، وقد روي ذلك في السنن كما سنذكره إن شاء الله، وأما إذا كان نازلاً في وقتهما جميعًا نزولاً مستمرًّا فهذا ما علمت روي ما يستدل به عليه إلا حديث معاذ هذا فإن ظاهرة أنه كان نازلاً في خيمة في السفر وأنه أخر الظهر، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل إلى بيته ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعًا فإن الدخول والخروج إنما يكون في المنزل وأما السائر فلا يقال دخل وخرج، بل نزل وركب وتبوك هي أخر غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسافر بعدها إلا حجة الوداع، وما نقل أنه جمع فيها إلا بعرفة ومزدلفة، وأما بمنى فلم ينقل أحد أنه جمع هناك بل نقلوا أنه كان يقصر الصلاة هناك، ولا نقلوا أنه كان يؤخر الأولى إلى آخر وقتها، ولا يقدم الثانية إلى أول وقتها، وهذا دليل على أنه كان يجمع أحيانًا في السفر وأحيانًا لا يجمع وهو الأغلب على أسفاره أنه لم يكن يجمع بينهما وهذا يبين أن الجمع ليس من سنة السفر كالقصر بل يفعل للحاجة سواء كان في السفر أو في الحضر فإنه قد جمع أيضًا في الحضر لئلا يحرج أمته، فالمسافر إذا احتاج إلى الجمع جمع سواء كان ذلك لسيره وقت الثانية أو وقت الأولى وشق النزول عليه أو كان مع نزوله لحاجة أخرى مثل أن يحتاج إلى النوم والاستراحة وقت الظهر ووقت العشاء فينزل وقت الظهر وهو تعبان سهران جائع محتاج إلى راحة وأكل ونوم فيؤخر الظهر إلى وقت العصر، ثم يحتاج أن يقدم العشاء مع المغرب، وينام بعد ذلك ليستيقظ نصف الليل لسفره، فهذا ونحوه يباح له الجمع. وأما النازل أيامًا في قرية أو مصر وهو في ذلك كأهل المصر، فهذا وإن كان يقصر؛ لأنه مسافر فلا يجمع، كما أنه لا يصلي على الراحلة ولا يصلي بالتيمم ولا يأكل الميتة، فهذه الأمور أبيحت للحاجة ولا حاجة به إلى ذلك بخلاف القصر فإنه سنة صلاة السفر. والجمع في وقت الأولى كما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة فمأثور في السنن مثل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث المفضل ابن فضالة عن الليث بن سعد عن هاشم بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين الظهر والعصر، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى ينزل للعصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء وإن ارتحل قبل أن تغيب الشمس أخر المغرب حتى ينزل للعشاء ثم نزل فجمع بينهما، قال الترمذي: حديث معاذ حديث حسن غريب (قلت) وقد رواه قتيبة عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لكن أنكروه على قتيبة. قال البيهقي: تفرد به قتيبة عن الليث وذكر عن البخاري قال قلت لقتيبة: مع من كتبت عن الليث ابن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل فقال: كتبته مع خالد المدائني قال البخاري: وكان خالد هذا يدخل الأحاديث على الشيوخ قال البيهقي: وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل فهي محفوظة صحيحة (قلت) وهذا الجمع الذي فسره هشام بن سعد عن أبي الزبير، والذي ذكره مالك يدخل في الجمع الذي أطلقه الثوري وغيره فمن روى عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء عام تبوك وهذا الجمع الأول ليس في المشهور من حديث أنس؛ لأن المسافر إذا ارتحل بعد زيغ الشمس ولم ينزل وقت العصر فهذا مما لا يحتاج إلى الجمع بل يصلي العصر في وقتها وقد يتصل يسره إلى الغروب فهذا يحتاج إلى الجمع بمنزلة جمع عرفة لما كان الوقوف متصلاً إلى الغروب صلى العصر مع الظهر؛ إذ كان الجمع بحسب الحاجة. وبهذا تتفق أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يفرق بين متماثلين، ولم ينقل أحد عنه أنه جمع بمنى ولا بمكة عام الفتح ولا في حجة الوداع مع أنه أقام بها بضعة عشر يوماً يقصر الصلاة، ولم يقل أحد إنه جمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة فعلم أنه لم يكن جمعه لقصره، وقد روي الجمع في وقت الأولى في المصر من حديث ابن عباس أيضاً موافقة لحديث معاذ ذكره أبو داود فقال: وروى هشام بن عروة عن حسين بن عبد الله عن كريب عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو حديث الفضل (قلت) هذا الحديث معروف عن حسين وحسين هذا ممن يعتبر بحديثه ويستشهد به ولا يعتمد عليه وحده فقد تكلم فيه على ابن المديني والنسائي ورواه البيهقي من حديث عثمان بن عمر عن ابن جريج عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا زالت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر وإذا لم تزل حتى يرتحل سار حتى إذا دخل وقت العصر نزل فجمع الظهر والعصر وإذا غابت الشمس وهو في منزله جمع بين المغرب والعشاء وإذا لم تغب حتى يرتحل سار حتى أتت العتمة نزل فجمع بين المغرب والعشاء. قال البيهقي: ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج أخبرني حسين عن كريب، وكان حسين سمعه منهما جميعًا، واستشهد على ذلك برواية عبد الرزاق عن ابن جريج وهي معروفة، وقد رواها الدارقطني وغيره وهي من كتب عبد الرزاق. قال عبد الرزاق عن ابن جريج حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة وعن كريب عن ابن عباس أن ابن عباس قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر؟ قلنا: بلى قال: كان إذا زاغت له الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما قال الدارقطني: ورواه عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن حسين عن كريب، فاحتمل أن يكون ابن جريج سمعه أولاً من هشام بن عروة عن حسين كقول عبد المجيد عنه، ثم لقي ابن جريج حسينًا فسمعه منه كقول عبد الرزاق وحجاج عن ابن جريج قال البيهقي: وروي عن محمد بن عجلان ويزيد بن الهادي وأبي رويس المدني عن حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس، وهو بما تقدم من شواهده يقوى، وذكر ما ذكره البخاري تعليقًا: حديث إبراهيم بن طهمان عن الحسين عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره، وجمع بين المغرب والعشاء. أخرجه البخاري في صحيحه، فقال: وقال إبراهيم بن طهمان فذكره. (قلت) قوله: على ظهر سيره قد يراد به على ظهر سيره في وقت الأولى، وهذا مما لا ريب ويدخل فيه ما إذا كان على ظهر سيره في وقت الثانية كما جاء صريحًا عن ابن عباس، قال البيهقي: وقد روى أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس لا نعلمه إلا مرفوعاً بمعنى رواية الحسين وذكر ما رواه إسماعيل بن إسحاق ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس ولا أعلمه إلا مرفوعًا، وإلا فهو عن ابن عباس أنه كان إذا نزل منزلاً في السفر فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، قال إسماعيل: حدثنا عارم حدثنا حماد فذكره، قال عارم: هكذا حدّث به حماد قال: كان إذا سافر فنزل منزلاً فأعجبه المنزل أقام فيه حتى يجمع بين الظهر والعصر، ورواه حماد بن سلمة عن أيوب من قول ابن عباس قال إسماعيل: ثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس قال: إذا كنتم سائرين فَنَبَا بكم المنزل فسيروا حتى تصيبوا نزولاً فعجل بكم أمر فاجمعوا بينهما ثم ارتحلوا. (قلت) فحديث ابن عباس في الجمع بالمدينة صحيح من مشاهير الصحاح كما سيأتي إن شاء الله. وأما حديث جابر ففي سنن أبي داود وغيره من حديث عبد العزيز بن محمد عن مالك عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غابت له الشمس بمكة فجمع بينهما بسرف. قال البيهقي ورواه من حديث الحماني عن عبد العزيز، ورواه الأجلح عن أبي الزبير كذلك قال أبو داود: حدثنا محمد بن هشام جار أحمد بن حنبل حدثنا جعفر بن عون عن هشام بن سعد قال: بينهما عشرة أميال يعني بين مكة وسرف (قلت) عشرة أميال ثلاثة فراسخ وثلث، والبريد أربعة فراسخ، وهذه المسافة لا تقطع في السير الحثيث حتى يغيب الشفق، فإن الناس يسيرون من عرفة عقب المغرب ولا يصلون إلى جمع إلا وقد غاب الشفق، ومن عرفة إلى مكة بريد، فجمع دون هذه المسافة وهم لا يصلون إليها إلا بعد غروب الشفق فكيف بسرف، وهذا يوافق حديث ابن عمر وأنس وابن عباس أنه إذا كان سائرًا أخَّر المغرب إلى أن يغرب الشفق ثم يصليهما جميعًا. قال البيهقي: والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين مع الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم عن أصحابه، ثم ما أجمع المسلمون من جمع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة وذكر ما رواه البخاري من حديث سعيد عن الزهري أخبرني سالم عن عبد الله بن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء. قال سالم: وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك إذا أعجله السير في السفر يقيم صلاة المغرب فيصليها ثلاثا ثم يسلم، ثم قلَّما يلبث حتى يقيم صلاة العشاء ويصليها ركعتين ثم يسلم ولا يسبح بينهما بركعة ولا يسبح بعد العشاء بسجدة حتى يقوم من جوف الليل. وروى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال لسالم بن عبد الله بن عمر ما أشد ما رأيت أباك عبد الله بن عمر أخر المغرب في السفر؟ قال: غربت له الشمس بذات الجيش فصلاها بالعقيق قال البيهقي: رواه الثوري عن يحيى بن سعيد وزاد فيه: ثمانية أميال. ورواه بن جريج عن يحيى بن سعيد وزاد فيه قال (قلت) أي ساعة تلك؟ قال: قد ذهبت ثلث الليل أو ربعه قال: ورواه يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن نافع قال: فسار أميالاً ثم نزل فصلى. قال يحيى: وذكر لي نافع هذا الحديث مرة أخرى فقال: سار قريبا من ربع الليل ثم نزل فصلى. وروي من مصنف سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس أنه كان يجمع بين الصلاتين في السفر ويقول: هي سنة ومن حديث علي بن عاصم أخبرني الجريري وسلمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال: كان سعيد بن زيد وأسامة بن زيد إذا عجل بهما السير جمعا بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء. وروينا في ذلك عن سعيد بن أبي وقاص وأنس بن مالك وروي عن عمر وعثمان وذكر ما ذكره ما

القرآن والعلم الحديث

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي

_ القرآن والعلم الحديث لقمان الحكيم، وبلعام بن باعورا جاء في القرآن الكريم عن لقمان {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 12-13) الآيات من سورة لقمان فلقمان الحكيم في نظر القرآن كان رجلاً حكيمًا مؤمنًا ولكن من هو لقمان الذي اشتهر عند العرب بالحكمة مع أنه لم يكن منهم ولم يرد له ذكر عند غيرهم ومن البعيد أن يحفظ العرب ذكره ولا يكون له ذكر عند قومه. وهم أولى بحفظ ذكره من العرب. على أن علماءنا الأقدمين ليسوا علي بينة من أمر لقمان فمن قائل أنه لقمان بن باعورا بن أخت أيوب أو ابن خالته ومن قائل: إنه من أولاد آزر عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام ومن قائل: إنه كان قاضيًا في بني إسرائيل، ومن قائل أنه أسود من سودان مصر، وقد اختلفوا بعد هذا في أنه كان خياطًا أو نجارًا أو راعيًا وهذا الاضطراب يدل علي أنهم لا يعرفون يقينًا ما لقمان ولا من أي قوم كان وقد شك الألوسي المفسر في صحة هذه الروايات كلها ولكنه لم يبين لنا أصل هذا الاسم الأعجمي الذي حفظه العرب بدون أن يعرفوا أصله ولم يرد فيه عند غيرهم ما يوضح أمره. وقد حاول العلم الحديث أن يحل هذه المسألة فهداه البحث إلى أن لقمان بن باعورا الحكيم المؤمن هو بلعام بن بعور المذكور في التوراة والمشهور عند اليهود بأنه فيلسوف الشعب الكافر، وقد قالوا عنه: إنه لا توجد في الدنيا فلاسفة مثله وممن ذهب إلى هذا الدكتور ج درانبورج أحد أعضاء الجمعية الشرقية بمدينة باريس ودليله عليه أن الأسماء المشهورة الواردة في التوراة والتي ذكر معظمها في القرآن بالشكل الذي هي عليه في التوراة ينقصها اسم بلعام بن بعور فليس هو إلا لقمان بن باعورا ويؤيد هذا اتفاق اسم الأب فيهما وأن الفعل العربي (لقم) معناه باللسان العبري بلع على أنه يوجد في كتاب صغير لمؤلف يسمى أنوخ ما يؤخذ منه أن دلالة هذين الاسمين على شخص واحد كان معروفا قديما فقد جاء فيه أن بلعام هو الفيلسوف المسمى في العربية (لقنين) يعني لقمان وإنما أوقعه في هذا التحريف بعده عن العربية وأنه ليس من أهلها. وهذا الأمر إن صح لا يحل المسألة إلا من وجهتها التاريخية ولكنها من الوجهة الدينية تبقى معقدة؛ لأن لقمان في نظر القرآن حكيم مؤمن وفي نظر التوراة إذا كان هو بلعام فيلسوف كافر فقد ورد فيها أن بني إسرائيل لما ارتحلوا إلى موآب ليحاربوا أهلها، أجمع شيوخها وأرسلوا إلى بلعام ليلعن هذا الشعب الذي يغير علي بلاده، فقال له الرب: لا تلعن هذا الشعب لأنه مبارك ولما ألحوا عليه أذن له الرب أن يذهب معه بشرط أن لا يتكلم إلا بما يأمره به فركب حماره، وغضب الرب لذهابه تأمل؛ فأرسل له ملكًا في الطريق وفي يده سيف مسلول فلما أبصره حماره وقف وكشف الله عن عينه؛ فرأى الملك متعرضًا في طريقه فأراد أن يرجع ولكن الملك سمح له أن يذهب معهم بشرط أن لا يفعل إلا ما أمر به، ولما وصل إلى مكان يرى منه شعب إسرائيل ظهر له الرب وأمره أن لا يلعنه فذهبوا به إلى مكان آخر لعل الرب يظهر له ويغير أمره؛ فلم يأذن له في لعنهم فتركهم ورجع إلى مكانه الذي كان فيه ولما استولى موسى وقومه علي بلاد موآب قتلوه مع كل ذكر فيها، وسبوا النساء والأطفال فغضب موسى لعدم قتلهم النساء والأطفال، وقتل كل طفل فيها وكل امرأة ثيب فهذا ما ذكرته التوراة الموجودة بأيدي اليهود عن بلعام. وقد نقلت هذه الرواية إلى المسلمين مع من أسلم من أهل الكتاب ولكن بتغيير قليل فإن التوراة لا تنص علي أنه دعا على موسى وقومه، وأما رواية مسلمي أهل الكتاب فتنص علي أنه دعا عليهم فوقعوا بسبب دعوته في التيه؛ فقال موسى: يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه. فقال بدعاء بلعام فقال: كما سمعت دعاءه فاسمع دعائي عليه فدعا أن ينزع منه الإيمان فسلخه مما كان عليه. ولم يشأ علماؤنا إلا أن يصدقوا هذه الرواية التي لم ينزل بها إليهم كتاب ولم يأت بها إليهم رسول فكان بلعام عندهم غير لقمان، وقد ذهبت الظنون بهم فيه أيضًا ؛ حتى قال بعضهم: إنه كان نبيًا، وقال آخرون: إنه كان من أهل اليمن وحمل عليه ابن عباس قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ} (الأعراف: 175) وقالوا: إنه كان يعرف اسم الله الأعظم الذي ما دعا به داع إلا استجيب له، ولا يخفى أن كل هذا من الإسرائيليات التي رواها لنا كعب الأحبار وغيره من مسلمي أهل الكتاب، ولا يوثق بها عند كثير من محققي المؤرخين عندنا، فإن مسلمي أهل الكتاب الذين نقلت عنهم هذه الروايات كانوا في نشأتهم بين البدو من العرب بعيدين عن معرفة الأخبار الصحيحة عن أهل الكتاب ولم يكن عندهم من العلم ما يميزون به غثها من سمينها. وأما قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 175) الآية [1] فليس فيه ما يدل على أن المراد به بلعام أو غيره، وقد قال ابن عمر: إنها نزلت في أمية بن أبي الصلت كان على علم بكتب الله وآياتها وكان يعلم أن الله سيبعث رسولاً من العرب ويرجو أن يكون هو فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حسده ومات كافرًا، وقيل: إنها نزلت في أبي عامر الراهب وقيل: إنها مثل لكل من يعرف الهدى ويعرض عنه؛ فليس في القرآن إذًا ما يمنع أن يكون بلعام هو لقمان الحكيم. وأما رواية التوراة عن بلعام فلا يلزمنا أن نصدقها وقد نسبت إلى غير بلعام من الأنبياء الذين لا نشك في عصمتهم كداود، وسليمان، وغيرهما أمورًا لا نشك في أنهم منزهون عنها فما ورد فيها عن بلعام لا يمنعنا من أن نجاري العلم الحديث في أنه هو لقمان الحكيم، علي أن بعض علماء المسيحيين يشك في صحة قصة بلعام الواردة في التوراة للتناقض الذي فيها، فكيف يأذن له الله على ما سبق في الذهاب مع قومه، ثم يغضب عليه لذهابه معهم، وكيف يقتله موسى -عليه السلام - مع من قتل من قومه مع أن التوراة لم تنص علي أنه لعن بني إسرائيل كما كان يريد قومه بل نصت علي أنه لما لم يأذن له الرب في لعنهم قال لبالاق بن صفور ملك موآب قم يا بالاق واسمع؛ فليس الله إنسانًا فيكذب ولا ابن إنسان فيندم، وهل يعد ولا يفي؟ وأخبره بأن بني إسرائيل سيملكون بلاده فبأي ذنب يقتل من هذا حاله وبأي وجه يكون هذا الرجل عند اليهود فيلسوف الشعب الكافر؟ وإذًا ليس هناك من جهة الدين ما يمنع أن يكون لقمان هو بلعام، وأنه لخير لنا أن نجاري العلم الحديث في هذا، وأن لا نتأثر بما رواه اليهود من كفر بلعام كما تأثر به آباؤنا من قبلنا فحال بينهم وبين الاهتداء إلى الحقيقة في أمر لقمان وجعلهم حيارى لا يدرون من أي قوم كان؛ وإذا لم نذهب إلي ذلك فسنظل مطالبين أمام العلم بالأدلة التي نقنعه بأن لقمان غير بلعام وبالآثار القديمة التي تكشف عن أمر هذا الحكيم الذي ورد به القرآن الكريم. ولماذا نكلف أنفسنا عناء هذا البحث والتفتيش ولا نقنع بما قنع به العلم الحديث، ونحمده على هذه الخدمة التي خدم بها القرآن وقطعه الطريق على من تحدثه نفسه من زنادقة هذا العصر بأن روايات القرآن عن لقمان حديث خرافة إذ لا يجد له حديثًا في التاريخ القديم ولا ذكرًا عند الأقوام الذين نسبه إليهم علماء المسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي ... ... ... ... ... ... ... ... أحد علماء الجامع الأحمدي

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمةالأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الباب الثامن الأمومة والولادة كان غرضنا في الأبواب الماضية بيان وحدة الأصل والعلاج لبعض الأمراض الكثيرة الشيوع وإننا لنعلم أن الذين أصبحوا لسوء عاداتهم عرضة للأمراض أو الذين يخافون من الموت دائمًا لا يزالون يضعون أنفسهم تحت رحمة الأطباء مهما حاججناهم ومنعناهم من ذلك، ولكنا على كل حال نظن بأن هنالك على الأقل أفرادًا يريدون أن يزيلوا أمراضهم بطرق طبيعية محضة ويحفظوا أنفسهم من هجوم الأمراض الجديدة فهم بلا شك يحبون أن يتبعوا النصائح الساذجة التي بسطناها في هذا الكتاب وقبل أن نغلقه نريد أن نشير بعض الإشارات إلى الأمومة وتربية الطفل، وكذلك إلى بعض الحوادث الفجائية التي يكثر وقوعها. إن أوجاع الولادة غير معروفة لدى الحيوانات الدنيا وكذلك النساء الصحيحات صحة تامة وإن أكثر القرويات ليعددن الولادة شيئًا عاديًّا صرفًا فلا يزلن في أشغالهن العادية المتعبة إلى آخر لمحة من الحمل تقريبًا وقلما يتألمن من الوضع. لماذا إذن تتعذب نساء المدن هذا العذاب الأليم عند الوضع؟ ولماذا يضطررن إلى التداوي الخاص قبل الولادة وبعدها؟ الجواب ظاهر وهو أن هاتة النسوة تعيش عيشة غير طبيعية فطعامها وعوائدها وطرق معيشتها كل مخالفة للقوانين الطبيعية للحياة الصحية، ثم إنها فوق هذا ومع حملها قبل أن يكمل استعدادها للحمل استعدادا تامًّا تكون ضحية مأسوفًا عليها لشهوة الرجال أثناء الحمل، وبعد الوضع مباشرة وهكذا تحمل مرة قبل أن يمضي على خلو الرحم مدة يعتد بها هذا هو سبب العذاب والتعاسة التي نجد فيها مئات الألوف من بناتنا وأخواتنا الآن. إن مثل هذه الحياة في رأيي قلما تختلف عن حياة المجرمين في جهنم، وما دام الرجال يعاملون النساء بهذه المعاملة الفظيعة فلا يمكن أن يكون هناك أي رجاء للمسرة لنسائنا؛ يحمل كثير من الناس اللوم على كواهن النساء نحن لا نناقشهم في ذلك لأنه ليست وظيفتنا هنا الموازنة في الإثم المشترك بين الرجل والمرأة في هذه المسألة، وإنما الذي يهمنا هو معرفة الشر الواقع والإشارة إلى علاجه ليعلم المتزوجون والمتزوجات جيدًا أنه ما دام التمتع الزوجي موجودًا قبل أوانه وأثناء الحمل وبعد الوضع مباشرة فلا يمكن أن تنجو النساء من أوجاع الولادة أو ترى الولادة السهلة بل يبقى هذا الأمر حلمًا غير محقق. تتحمل النساء بسكوت جميع أوجاع الولادة؛ لأنها تعترف باطلا بأنه لابد لها منها، ولكنها لا تعلم أن جهلها وضعف إرادتها هو الذي يجعل ولادتها تتعسر وأولادها يكبرون ضعفاء غير نشطين، إن من وظائف كل رجل وامرأة السعي في إزالة هذه المصيبة بأي طريقة تتيسر. ولو أدى رجل واحد أو امرأة واحدة هذه الوظيفة تكون الدنيا قد تقدمت إلى الأمام إلى ذلك الحد ومن البديهي أن هذا ما لا يحتاج الإنسان في القيام به ولا ينبغي أن يحتاج إلى القدوة بإنسان آخر. فعلى هذا أول وظيفة تجب على الزوج أن يقطع كل علاقة زوجية مع زوجته من ساعة الحمل. إن المسئولية التي تقع على الزوجة خلال مدة الحمل لعظيمة جدًّا يجب عليها أن تعلم جيدًا أن أخلاق الطفل الذي ستلده تتوقف كلها على حياتها وسيرتها أثناء هذه المدة المقدسة، فإن هي ملأت مخيلتها بالحب لجميع الأشياء الطيبة العالية والتفكر فيها، فالطفل كذلك ينطبع على هذه الطبيعة نفسها وبالعكس إن وسعت المجال للغضب وغيره من الميول الفاسدة فطفلها كذلك يرث هذه الميول حتمًا. فإذن يجب عليها خلال هذه الأشهر التسعة أن تشغل نفسها تمامًا بأعمال طيبة فتطهر مخها من كل خوف، وقلق، وانزعاج، ولا توسع المجال على نفسها لفكرة خبيثة أو ميل فاسد ولا تضيع دقيقة واحدة في لغو الكلام أو الفعل عبث؛ فالطفل الذي يولد لمثل هذه الأم لابد من أن يكون شريفًا نبيهًا قويًّا. يجب أن تبقى الحامل نظيفة الجسم مثلما تبقى نظيفة المخ، وأن تستنشق كمية كبيرة من الهواء النقي، وتقتصر على الغذاء الخفيف الجيد بقدر ما تستطيع هضمه بسهولة، فإن هي قامت بجميع النصائح التي قد بينت في مسألة الغذاء وغيره فلن تضطر إلى الاستعانة بالأطباء، وإن هي أصيبت بالإمساك فلتزد كمية زيت الزيتون في الطعام، وفي حالة الغثيان والقيء يجب أن تشرب عصير الليمون في الماء بدون سكر، ثم عليها أن تهجر جميع البهارات والتوابل على اختلاف أنواعها. والميل الذي يتولد في الحامل إلى أكل أشياء مختلفة جديدة يمكن إزالته باستحمام (كيوهن) الذي يزيد فوق ذلك قوتها الجسدية والحيوية ويسهل أوجاع الولادة، وعليها أن تقوي إرادتها، فتقتل مثل هذه الرغبات في أول نشأتها، ويجب على الوالدين أن يهتما غاية الاهتمام بخير الجنين في الرحم. وكذلك يجب على الزوج أن يجتنب المشاجرة والخصام مع زوجته أثناء هذه المدة؛ فيسير معها سيرًا يسرها ويرضيها وعلى الزوجة أن تقلل من واجبات البيت الثقيلة وأن تمشي في هواء طلق مدة كل يوم وأن لا تستعمل أي دواء أثناء الحمل. *** الباب التاسع تربية الطفل ليس غرضنا في هذا الباب ذكر وظائف القابلة أو المرضع بل نريد أن نبين الاحتياطات الواجب اتخاذها إذا ولد الولد. إن الذين قرءوا الأبواب المتقدمة لا يحتاجون إلى التنبيه على عظم الضرر الذي يلحق الأم بحبسها في حجرة مظلمة فاسدة الهواء وتنويمها على فراش وسخ مع نار تحت سريرها أثناء مدة النفاس. إن هذه العادة مهما تكن قديمة فهي محاطة بمخاطر كثيرة على كل حال، نعم، إن التدفئة في أيام الشتاء واجبة ولكن ذلك يتم على أحسن صورة باستعمال الأغطية الدافئة، وإن كانت الحجرة باردة جدًّا ولا بد من وضع النار فيها فلتوقد خارجها فإذا ذهب دخانها تدخل فيها، وفي هذه الحالة أيضًا لا ينبغي وضعها تحت السرير وكذلك تحصل التدفئة بوضع قوارير الماء الساخن على الفراش يجب أن تنظف جميع الملابس والأقمشة تماماً بعد الولادة وقبل استعمالها ثانية. وبما أن صحة الطفل تتوقف على صحة الأم فلذلك يجب الاهتمام العظيم بغذائها وطرق معيشتها فيقدم إليها الطعام من القمح مع كمية كبيرة من الثمار الجيدة كالموز وزيت الزيتون حتى تسري فيها الحرارة والقوة وتدر لبنًا كثيرًا. إن زيت الزيتون يوجد الخواص المسهلة في لبن الأم وهكذا يساعد في حفظ الطفل من الإمساك وإن انحرفت صحة الطفل وجب الاهتمام بحالة صحة الأم. إن معالجة الطفل بالأدوية تساوي قتله؛ لأن الطفل بسب ضعف بنيته يمرض سريعاً من تأثيراتها السامة؛ ولذلك يجب أن تعطى الأدوية للأم لا للطفل لكي تنتقل فوائدها إليه مع لبنها، وإن أصيب الطفل بالسعال أو الإمساك كما يحصل كثيراً فلا ينبغي الخوف من ذلك بل يجب الانتظار يوماً أو يومين لنعرف أساس المرض فنداويه، إن الجزع والخوف لا يزيد الأمر إلا سوءًا وشدة. يجب أن يغسل الطفل في الماء الفاتر دائمًا وتقلل ملابسه ما أمكن بل الأحسن أن لا يلبس بضعة أشهر ثوبًا ما وينوم علي قماش أبيض لين ويغطى بقماش دافئ ويترك حرًّا في حركاته ليتقوى ويتصلب يجب أن توضع قطعة من القماش الجيد مطوية أربعة طيات على السرة وتربط فوقها عصابة. إن عملية ربط السرة بخيط وتعليقه في العنق مضرة جدًّا بل يجب أن تكون عصابة السرة غير مشدودة شدًّا محكماً وإن كان المكان حول السرة رطباً فينبغي أن يذر عليه ذرور (بودرة) دقيق الرز الجيد الناعم جيدًا. وما دام اللبن عند الأم كافيًا فيجب أن يقتصر عليه الطفل وحده، فإن قل يجوز استعمال دقيق القمح المشوي المطحون جيدًا في الماء الساخن مع قليل من السكر فإنه يأتي بنتائج حسنة، وكذلك نصف علبة من دقيق الموز معجوناً بنصف ملعقة من زيت الزيتون نافع جدًّا، وإن كان لا بد من إعطائه لبن البقرة فيجب أن يمزج أولاً بالماء بمقدار الثلث ثم يوضع على النار حتى يغلي ثم يزاد فيه قليل من سكر القصب كذلك. إن استعمال السكر عوضًا من سكر القصب مضر يجب أن يعود الطفل تدريجًا على أكل الغذاء من الثمار ليبقى دمه طاهرًا من أول الأمر ويكبر قوي الاستعداد للرجولية، وعظائم الأمور، إن الأمهات اللاتي يبادرن إلى إطعام أطفالهن الأشياء الثقيلة كالرز والنباتات والعدس بمجرد ظهور الأسنان بل قبل ذلك أيضًا فإنهن يضررنهم ضررًا بليغًا ولا احتياج إلى القول بأن القهوة والشاي يجب منعها عنهم بتاتًا. إذا كبر الطفل وأخذ في المشي فيلبس القميص وما شاكله من الملابس، ولكن يجب أن تبقى أقدامه حافية لتكون حرة للمشي والتنقل على إرادتها. إن لبس الحذاء يمنع دورة الدم ونماء القدم والرجل، إن كسو الطفل الملابس الحريرية أو الأقمشة المزركشة مع الطربوش والحلل والحلي عمل همجي، وإن سعينا لزيادة الجمال الذي وهبته الطبيعة بمثل هذه الطريقة المضحكة إنما يدل على غرورنا وجهلنا يجب علينا دائما أن نعرف أن تعليم الطفل يبتدئ بمجرد ولادته فيتلقى هو هذا التعليم من والديه أكثر من كل أحد. إن تهديد الأطفال وتخويفهم وشحن بطونهم بالأغذية كل ذلك إغارة على أصول التعليم الحق، وكما يقول المثل القديم (إن الطفل يكون مثل والديه) فقدوة الوالدين وعملهما لا بد من أن يفرغ في قالبه سير الطفل وأخلاقه؛ فإن كانوا ضعافًا فيكون أطفالهم كذلك ضعافًا نحافًا، وإن كانوا يتكلمون بفصاحة وبيان فكذلك يكون أطفالهم، وإن كانوا يتلعثمون ويجمجون، فأطفالهم يقلدونهم في ذلك، وإن كانوا يسبون ويشتمون أو كانوا متعودين العادات القبيحة فأطفالهم أيضًا تقلدهم وتكبر في أخلاق سيئة، والحقيقة أنه ليس هناك عمل لا يقلد فيه الطفل والديه. فترى من ذلك كيف أن المسئولية ثقيلة عظيمة إلى أكتاف الوالدين فأول ما يجب على الإنسان هو أن يعلم أولاده تعليمًا يجعلهم مستقيمين صادقين وحلية للمجتمع الذي يعيشون فيه. نحن نرى في عالم الحيوان والنبات أن كل شيء ينزع إلى شبه والديه وأسلافه ولكن الإنسان وحده قد خرق هذا الناموس الطبيعي فنرى فيه وحده أن الأشرار يولدون من والدين فاضلين، والضعاف من الأصحاء، وليس هذا ذنب الأولاد بل هو ذنبنا نحن الآباء والأمهات الذين ندخل في حياة الأبوة والأمومة ونحن غير مستعدين تمام الاستعداد لحمل مسئولياتها العظيمة الثقيلة. إن من الواجبات المقدسة على جميع الآباء الأفاضل أن يربوا أولادهم تربية عالية وهذا يتطلب أن يكون الوالدان قد تعلما تعليمًا صحيحًا، فإن كانا يريان أنهما لم يتلقيا مثل هذا التعليم ويشعران بنقصهما فعليهما تسليم الأولاد إلى تربية مربين صالحين، وإن من الحمق وقبح التصور أن نظن بأن الأولاد يحصلون على العلم بمجرد إرسالهم إلى المدرسة وما دام التعليم والتربية في المدارس يخالف ما في البيت فلا يمكن أن يكون هناك رجاء لإصلاح النشء الجديد. وحيث إن التعليم الصحيح للطفل يبتدئ بمجرد ولادته مباشرة فينبغي أن يلقن مبادئ العلم أثناء اللعب. وعلى هذه الطريقة كان يمشي القدماء في تعليم أولادهم، وأما عادة إرسال الأطفال إلى المدرسة فمن بنات الأمس، وإذا قام الوالدان بما يجب عليهما لأولادهما فلا يكون هناك حد لرقيهم ولكنا - ويا للأسف - لا نقوم بواجبنا بل الواقع أننا نتخذ أطفالنا ألعوبة لنا نحن نزين أجسامهم بالملابس الجميلة ونحليهم بالذهب والمجوهرات ونملأ بطونهم بالحلوى ونفسد عادات

بطلان الدفاع عن جرح كعب الأحبار ووهب بن منبه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بطلان الدفاع عن جرح كعب الأحبار ووهب بن منبه تتمة ما نشر في الجزء الماضي الانتقاد الرابع الاحتجاج بما لا يحتج به ادعى المنتقد الفاضل أننا احتججنا في جرح الحبرين بما لا يصح الاحتجاج لعدم صحته أو لخروجه عن موضوع البحث، قال: ومنه تفسير وهب بن منبه لقوله تعالى في قصة موسى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ} (الأعراف: 107) . سلم المنتقد أن ما نقلناه عن ابن كثير في ذلك أمر لا يتصوره عاقل وطعن في صحة إسناده إلى وهب عند ابن جرير والإمام أحمد في الزهد وابن أبي حاتم في تفسيره، قال: في سند ابن جرير من هو مجهول، وكتاب الزهد للإمام أحمد لم يكن من كتب الحديث المعروفة، فلا يبعد أن يكون في سنده انقطاع، وابن أبى حاتم تفسيره كتفسير ابن جرير، بل إنه يروي في الموضع الواحد متناقضات. (قال) (وعلى ذلك لم يوجد سند صحيح بأن هذا الخبر الغريب صدر من وهب ويدل على أنه موضوع على وهب أنه لم يروه أحد من أصحاب كتب الحديث المعتبرة مثل البخاري أو مسلم أو غيرهما من الكتب التي يصح للمطلع عليها أن يقطع أو يظن أنه صدر منه) . أقول (أولاً) : إذا سلمنا أن في سند ابن جرير مجهولاً، فلا نسلم أن الراوي المجهول حاله عند المؤلفين في الجرح والتعديل يقتضي أن تكون روايته موضوعة فهذا لم يقل به أحد منهم ولا من غيرهم وإنما غايته التوقف عن الاحتجاج بما ينفرد به وليس هذا منه إذ رواه غيره. و (ثانيًا) إن طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد جرأة عظيمة لا ينبغي أن يقدم عليها الحريص على توثيق كعب الأحبار، ووهب بن منبه؛ لئلا يعد جرحهما طعنًا في رواة الحديث فنحن لو طرحنا كل ما روي عنهما لم نخسر من الدين ولا من العلم شيئًا مهمًّا، وأما الإمام أحمد فهو إمام الأئمة شيخ البخاري ومسلم، وغيرهما من أساطين السنة أحد الأربعة الذين عرض عليهم البخاري صحيحه قبل أن يظهره للناس؛ ليرى رأيهم فيه عمدة المحدثين في الجرح والتعديل صاحب المسند الذي كتبه ليكون إماماً يرجع إليه العلماء فيما اختلفوا فيه من السنة، أفقه المحدثين، وأزهد الزهاد، وأورعهم، فهل يصح أن نطعن في كتاب ألفه لهداية الناس لأجل توثيق وهب بن منبه، ويدعي الطاعن أنه يوثق وهبًا وكعبًا لئلا يعد الطعن فيهما طعناً في السنة؟ سبحان الله! أيقول الشيخ عبد الرحمن الجمجوني المشتغل في جل أوقاته بالزراعة الذي يرجع عنده إرادة الكتابة في مثل هذا المقام إلى الكتب فيقرأ منها ما يريد أن يؤيد به رأيه الذي سنح له، وقد تقدم ما يدل على مبلغ فهمه لعباراتها الجلية؟ أيقول: إن كتاب الزهد للإمام أحمد غير معروف عنده، ويرتب على هذا أن يعد بعض ما روي فيه موضوعًا أي كاذبًا، وهو لم يطلع على سنده؟ ! أيروي الإمام أحمد الموضوعات في كتاب ألفه لهداية الناس في الدين، ولا يعد ذلك شبهة على السنة وهو إمامها الأعظم ثم يعد من الشبهة عليها الطعن في مرويات كعب الأحبار ووهب بن منبه الخرافية؟ و (ثالثاً) إن طعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تشبيهه بتفسير الإمام محمد بن جرير الطبري أغرب من طعنه في كتاب الزهد للإمام أحمد رحمهم الله تعالى، إننا نحن نخبره بأن هذين التفسيرين هما أعظم ما كتبه أئمة الحفاظ رواة الأثر على الإطلاق وإذا كانوا قد اتفقوا على أن تفسير ابن جرير أجل التفاسير على الإطلاق وأن الذي يليه هو تفسير ابن أبي حاتم كما نقله السيوطي، فما ذلك إلا لما في الأول من علوم اللغة والنحو الترجيح بين الروايات واستنباط الأحكام، وأما من جهة الرواية عن الصحابة والتابعين فابن أبي حاتم أشد من ابن جرير وسائر رواة التفسير تحريًا للصحيح. قال السيوطي في سياق كلامه عن الروايات المأثورة في التفسير ورواتها بعد نقله عن الإرشاد تفضيل تفسير السدي ما نصه: وتفسير السُّدِّي الذي أشار إليه يورد منه ابن جرير كثيرًا من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة هكذا، ولم يورد ابن أبي حاتم منه شيئًا؛ لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد والحاكم يخرِّج منه في مستدركه أشياء ويصححه لكن من طريق مرة عن ابن مسعود إلخ (راجع الإتقان) . فكيف أباح لك دينك وحرصك على الصحيح من السنة أيها المسلم أن تطعن في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم مع تصريح أهل الحديث بأنه التزم فيه أصح ما ورد وتحامى ما تساهل في روايته الإمام ابن جرير، والحاكم في مستدركه على الصحيحين وغيرهما من رواة التفسير المأثور أتجعل روايات هذا الحافظ مع هذه الشهادة في حكم الموضوع لتبريء وهب بن منبه صاحب الخرافات من رواية من رواياته غير المعقولة، وترى مع هذا أنك تنصر السنة وتدفع الشبه عنها؟ ؟ ومن غرائب منطق هذا المنتقد أنه يجعل كلامه المفتجر قواعد وأصولاً علمية دينية يبني عليها أحكامًا كما فعل بطعنه في تفسير الحافظ ابن أبي حاتم الذي قال الحافظ السيوطي: إنه التزم فيه إيراد أصح الروايات فقد قال بعد ما تقدم: (ومثل ذلك بل أقل منه ثبوتًا ما جعلتموه عمدتكم في الطعن على الحبرين أخيرًا وذكر ما نقلناه عن الحافظ ابن أبي حاتم من زعم وهب بن منبه أن التوراة والإنجيل لا يزالان كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منها حرف ثم قال: فهذا رواه ابن أبي حاتم وحده فهو أقل ثبوتًا من سابقه فلا يصح أن تجرحوا وهبًا بناءً على مثل هذه الرواية الساقطة) . أقول: جعل هذه الرواية أقل ثبوتًا مما قبلها وهي التي حكم بوضعها أي كذبها ولا نعلم أن عند المحدثين شيئًا أقل ثبوتًا من الموضوع ولكن عند الأستاذ الجمجوني من فنون الحديث ما ليس عند المحدثين ومن قواعد العلم ما ليس عند أحد من العلماء ووجه هذه الأقلية أنه افتجر أي: اختلق ما لم يقل به أحد ولا يوافقه عليه أحد من الطعن بكل ما رواه ابن أبي حاتم ولما كانت كذبة وهب في مسألة عصا موسى قد رواها عنه ابن أبي حاتم وابن جرير، والإمام أحمد، وحكم هو بأنها موضوعة، كان لا بد أن تكون هذه الكذبة التي رواها ابن أبي حاتم وحده فيما يظهر أقلّ ثبوتًا منها عنده. *** الانتقاد الخامس ما احتججنا به وهو خارج عن الموضوع عنده هذا آخر انتقاد له علينا وخلاصته أننا احتججنا بالتوراة والإنجيل على كذب ما رواه عنهما كعب الأحبار ووهب بن منبه من حيث إن ما يعزوانه إليهما لا يوجد فيهما شيء منه على كثرته، قال: فهذا فضلا عن خروجه عن الموضوع لما هو مقرر عند جميع علماء المسلمين من أن كتابي اليهود والنصارى الموجودين لا يصح الاحتجاج بهما ... إلخ. أقول: ليتأمل العلماء والعوام المُلمُّون بالقراءة والكتابة وغير السلمين أيضًا هذا الفهم العجيب والمنطق الغريب: يقول الأستاذ الجمجوني النقادة: إن قولنا فيما رواه الحبران الإسرائيلي والفارسي النسب عن التوراة والإنجيل: إنه لم يوجد فيهما شيء منه، وعدم وجوده فيهما دليل على كذبهما فيما روياه عنهما خارج عن الموضوع؛ فما موضوع طعننا فيهما؛ إذًا إنه قد اعترف أولاً بأن هذا الدليل هو عمدتنا في تكذيبهما في رواياتهما عن الكتب السابقة ثم يقول: إنه خارج عن الموضوع وما هو إلا عين الموضوع وإن لم يكن عين الموضوع فما الموضوع إذاً؟ سبحان الخلاق العظيم ماذا في خلقه من عجائب! ثم زعم بعد هذا أنني نقضت هذا القول بقولي: إن ابن كثير كان يعلم من كتب أهل الكتاب ما لم يكن يعلمه رجال الجرح والتعديل الأولون الذين جعلوا كعبًا ووهبًا من الثقات في الرواية؛ ولذلك انتقد بعض ما روي عنهما ولم يأخذه بالتسليم فأي نقض هذا؟ ؟ وقد ذكرت أيضًا أن ابن حزم وابن تيمية من علماء القرون الوسطى قد اطلعوا على كتب أهل الكتاب التي لم يطلع عليها المتقدمون الذين وثقوا الرجلين كابن حبان وغيره قال المنتقد: ولكن لم يرد عن أحد من هؤلاء ولا من غيرهم أنهم طعنوا فيهما وهذا قول يقال ليس خارجاً عن العقل والفهم كالأقوال السابقة. ويقال في الرد عليه أولاً: إن هذا النفي العام يحتاج إلى دليل ولا دليل عليه فعدم علمه لا يدل على عدمه كما أنه لا يدل على وجوده. (ثانيًا) إن من ذكرناهم لا يبحثون في جرح راوٍ إلا إذا عرض لهم بحث في تمحيص رواياته غير الثابتة عندهم، فمن سكت عن جرح الرجلين يمكن أن يقال: إنه لم يتفق له ذلك فإن ابن حزم وابن تيمية لما تصديا للرد على أهل الكتاب ونظرا في كتبهم لأجل ذلك لم يخطر في بالهما مراجعة ما روي عن هذه الكتب والرد عليه؛ لأنه ليس من موضوعهما بل ربما يعد حجة عليهما من حيث إن بعض كبار الرواة الموثقين قد شهدوا لهذه الكتب. (ثالثًا) إننا نرى الحافظ ابن كثير يستنكر بعض الروايات عن كعب ووهب من غير طعن في سندها لعلمه بصحته وهذا يتضمن تكذيبها وإن لم يصرح به إذ موضوعه نقد المروي؛ لأنه باطل لا الطعن في الرواة. *** خلاصة الرد على الانتقاد: إننا لم ننكر ولن ننكر أن جمهور رجال الجرح والتعديل عدوا كعبًا ووهبًا من الثقات في الرواية ولم يقبلوا طعن ابن الفلاس منهم في وهب؛ لأنهم نقلوا عنه ما يدل على رجوعه عما رماه به من البدعة، وإن منهم من تأول تكذيب معاوية لكعب بأنه يعني به وقوع الكذب في رواياته لكذب من أخذ عنهم لا لكذبه هو أو بغير ذلك حتى قال بعضهم ما ترده العبارة العربية ولا تحتمله ولو تكلفًا. وإننا مع هذا نقول: إنه ظهر لنا ما لم يظهر لأولئك الموثقين لهما وهو أننا رأينا الشيء الكثير من رواياتهما مما نقطع بكذبه، كمخالفة ما رواه عنهما الثقات مما كانا يعزوانه للتوراة وغيرها من كتب الأنبياء لما عند أهل الكتاب فجزمنا بكذبهما وهذا مما لم يكن يعلمه المتقدمون؛ لأنهم لم يطلعوا على كتب أهل الكتاب، وإننا بهذا الطعن في روايتهما ندفع شبهات كثيرة عن كتب الإسلام سيما تفسير كتاب الله تعالى بالمأثور عن السلف، وقد حشي خرافات كثيرة يأخذها القارئون للتفسير وقصص الأنبياء بالتسليم. وإننا إذا سلمنا للمنتقد أن كل من وثقه جمهور المتقدمين فهو ثقة، وإن ظهر خلاف ذلك بالدليل نفتح بابًا آخر للطعن في أنفسنا بنبذ الدليل، والأخذ في مقدماته بالتقليد ومخالفة هداية القرآن المجيد، نعم، إننا نعترف بأن نقض رواة السنة والآثار من حيث جودة الحفظ والضبط وعدم الشذوذ ونحوه من العلل قد محصه رجال الجرح والتعديل ووفوه حقه إلى درجة تقرب من الكمال ولم يبقوا لمن بعدهم فيه إلا اجتهادًا قليلاً جُلّه فيما اختلفوا فيه. وأما تمحيص متون الروايات وموافقتها أو مخالفتها للحق الواقع وللأصول أو الفروع الدينية القطعية أو الراجحة وغيرها فليس من صناعتهم ويقل الباحثون فيه منهم ومن تعرض له منهم كالإمام أحمد والبخاري لم يوفه حقه كما نراه فيما يورده الحافظ ابن حجر في التعارض بين الروايات الصحيحة له ولغيره ومنه ما كان يتعذر عليهم العلم بموافقته أو مخالفته للواقع، كظاهر حديث أبي ذر عند الشيخين وغيرهما أين تكون الشمس بعد غروبها؟ فقد كان المتبادر منه للمتقدمين أن الشمس تغيب عن الأرض كلها وينقطع نورها عنها مدة الليل؛ إذ تكون تحت العرش تنتظر الإذن لها بالطلوع ثانية، وقد صار من المعلوم القطعي لمئات الملايين من البشر أن الشمس لا تغيب عن الأرض في أثناء الليل وإنما تغيب عن بعض الأقطار وتطلع على غيرها، فنهارنا ليل عند غيرنا وليلنا نهار عندهم كما هو المتبادر من قوله تعالى: {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} (الزمر: 5) وقوله جلت قدر

الدعوة إلى الإلحاد بالتشكيك في الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الدعوة إلى الإلحادبالتشكيك في الدين كتاب (في الشعر الجاهلي) ظهر بمصر في أواخر السنة الماضية كتاب بهذا الاسم من وضع الدكتور طه حسين مدرس الآداب في (الجامعة المصرية) وأحد أركان جمعية دعاية الإلحاد بمصر، بنى بحثه فيه على منهج البحث في الآداب وغيرها، غريب هو أن يبنى على الشك في كل ما روي عن المتقدمين، أو تكذيبه، وإن أجمعوا عليه وعلى التجرد من الدين والجنسية والوطنية وجميع الروابط القومية والملية، وهو بناء على هذه القاعدة يطعن فيما ثبت بنص القرآن المجيد وفي جميع ما صح عند علماء الملة الإسلامية من الروايات الدينية والتاريخية والأدبية دع ما ليس له أسانيد تصل إلى درجة الصحة كتواريخ سائر الأمم ومروياتها حتى إنه تجرأ على التصريح بتكذيب القرآن المجيد فيما أثبته من بناء إبراهيم وإسماعيل لبيت الله الحرام بمكة المكرمة، وشكك في آيات أخرى وفي أحاديث وروايات كثيرة من صدقه فيها من تلاميذ الجامعة أو غيرها من الدهماء ينبذ الدين وراء ظهره ويمشي عاريًا مجردًا من الوازع النفسي الذي ينهى عن الفواحش والمنكرات؛ فيستحل جميع ما قدر عليه من أموال الناس وأعراضهم إذا عنت له وأمن العقاب عليها في الدنيا وحينئذ يكون كالدكتور طه حسين في فلسفة وأحكامه التي كان منها عد أفسق الفساق في التاريخ كأبي نواس، من كبار المصلحين ونشر أخبار فسقه في صحيفة السياسة وفيه ما فيه من ترغيب الناس فيها. إن قاعدة الدكتور طه حسين التي جرى عليها في كتابة هذا، وفي غيره هي أن الفلسفة العليا التي يتوقف عليها وصول الإنسان إلى العلم الصحيح في الآداب والتاريخ وغير ذلك هي أن يكذب الله ورسله وأفضل البشر بعد الرسل كالخلفاء الراشدين وأئمة العلم والدين أو يشكك في أقوالهم على الأقل، ويأخذ بالقبول والتسليم ما فيه طعن في الإسلام وفي سلفه الصالح وكبار أئمته، وإن لم يقله إلا بعض فساق المسلمين ومن لا ثقة بصدقه منهم ومن غيرهم، ثم ماذا؟ ثم يستبدل بها نظريات بل ضلالات اخترعتها مخيلات ملاحدة الإفرنج وكذا دعاة النصرانية الذين تعلموا وربوا على الطعن في الإسلام، وجعل مدار معيشتهم من جمعياتهم الدينية على تشكيك المسلمين بدينهم إن لم يقدروا على تحويلهم عنه وجعلهم أعداء له، ويزين ذلك بخلابة اللفظ وشقشقة اللسان والقلم، وسفسطة الجدل ولماذا؟ لأجل أن تنحل روابطهم الملية وتزول عقيدتهم الدينية وتفسد ملكاتهم الأدبية فيقبلوا بارتياح أن يكونوا تابعين لدول الاستعمار الأجنبية فإن لم تكن هذه اللام لام العلة والغاية، فلابد أن تكون لام الصيرورة والعاقبة. إن موضوعات هذا الكتاب هي من دروس للدكتور طه الأدبية التي يلقيها على تلاميذ الجامعة المصرية؛ لأجل أن ينسلخوا من الإسلام الذي صار قديمًا رثًّا باليًا في نظره، ويصيروا أمة جديدة لا يدينون بدين ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يأبون الخنوع لكل حاكم وإن كان أجنبيًّا. وكذلك فعل صديقه وأحد أركان جمعيته الشيخ علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) فأرضيا بذلك دول الاستعمار ودعاة النصرانية فأثنيا على هذا أجل الثناء كما أثنيا على ذاك وكانا عندهم محل الرجاء. ظهر هذا الكتاب وأنا في مكة المكرمة فرأيت في الجرائد خبره وقيام رجال العلم والدين بالرد عليه والطعن فيه ومطالبة الحكومة بمصادرته ومنع قراءته ورأيت فيه أن الحكومة (عاقبته) بشراء نسخ جميع الكتاب منه دفعة واحدة بدلاً من أن يبيعها هو في عدة سنين وحفظها لدى وزارة المعارف ولا ندري لماذا؟ ولما رجعت إلى مصر لم يتح لي الحصول على نسخة منه وإنما اطلعت أمس علي نسخة منه استعرتها ساعة واحدة أو أقل من ساعة فتصفحت فيها أهم صحائفه ورأيت قبل هذا في الجرائد اضطربًا في مجلس النواب؛ إذ طلب بعض أعضائه عقاب هذا المعتدي على دين الحكومة الرسمي وهو من عمالها، وإخراجه من المدرسة الجامعة حرصًا على عقائد طلبتها وآدابهم وكاد هذا الاضطراب يؤول إلى استقالة الوزارة العدليه؛ لأن صاحب الدولة رئيسها ووزير الداخلية فيها رأى أنه لا حق لمجلس النواب في مطالبتها بما طالبها فطفق يرد على بعض النواب، وانبرى صاحب الدولة الرئيس الجليل سعد باشا زغلول رئيس المجلس لمناقشته والدفاع عن حقوق المجلس حتى اعتقد الحاضرون أن الجلسة لا تنتهي إلا باستقالة الوزارة، ولما كان اتفاق هذه الوزارة مع المجلس هو قطب الرحى لاتحاد الأمة المصرية بعد طول الشقاق اقترح بعض الأعضاء تأجيل الفصل في هذه المسألة إلى الجلسة التالية لتلك الجلسة وذهب في تلك الليلة كل من صاحبي الدولة رئيس الوزارة ورئيس مجلس الشيوخ حسين رشدي باشا إلى بيت الأمة، فسمرا مع دولة سعد سمراً طويلاً انتهى بالاتفاق على قبول ما صرحت به الحكومة في مسألة الدكتور طه حسين وهو: أنها تعمل ما يحب عليها، وأن يطلب بعض النواب من النيابة العامة إقامة الدعوى على الدكتور طه حسين وهكذا كان. طلب بعض النواب محاكمة الدكتور طه حسين فطلبته النيابة العامة للتحقيق معه، وعين جماعة من كبار العلماء الجامع الأزهر لمناقشته ومناقشة وكلائه في القضية، وقد ظهر من ضعف هؤلاء العلماء في المناقشة ما كان مدعاة الامتعاض والأسى من أهل الدين والتقوى وقال بعض الملاحدة: إن علماء الأزهر أرادوا أن يثبتوا كفر الدكتور طه حسين فأثبت هو كفرهم! ! ليست هذه القضية قضية فرد اسمه طه حسين يشك ويشكك في الدين فقط -بل هي أعظم من ذلك - ولا هي قضية أستاذ في مدرسة الجامعة المصرية أعطي حقًّا رسميًّا في إفساد عقائد الطلبة في المدرسة الجامعة الرسمية وتجريدهم من دينهم وإن هذا لعظيم جدًّا جدًّا جدًّا، ولكن وراءه ما هو أعظم منه وهو الذي يفقهه أهل الفقه في مصر، وفي أوربة، وسائر العالم، وبه كانت القضية أعظم وأكبر شأنًا من قضية فرد اشتهر بعدم التدين، وبالصد عن الدين وأعظم وأكبر شأنًا من كونها قضية أستاذ في الجامعة المصرية أعطى حقًّا رسميًّا من الحكومة يبث رأيه على زيغه أي بإفساد عقائد الطلبة. بماذا كانت هذه القضية أعظم من هذا الأمر الذي اعترفنا بأنه عظيم جدًا جدًا جدًّا. يذكر قراء المنار أننا كتبنا في إحدى المقالات التي استنكرنا فيها جريمة كتاب الشيخ علي عبد الرازق أن أحد أذكياء الإسرائيليين في مصر صرح في محفل أدبي بأن قضيته هي قضية التنازع بين مدرسة الجامعة الأزهرية الدينية ومدرسة الجامعة المصرية اللادينية، أو لتنازع بين الدين والإلحاد في البلاد المصرية ولعلهم يذكرون أيضاً أن الشيخ علي عبد الرازق هدد خصومه في بعض المقالات التي نشرها في جريدة السياسة وأنذرهم الخيبة والفشل في مقاومته ومحاكمة الأزهر له، ثم ظهر أن وزير الحقانية ورئيس الحزب الحر الدستوري يعارض في محاكمة هيئة كبار علماء الأزهر له بحسب قانون الأزهر، ولما أصر رئيس الوزارة في ذلك الوقت (يحيى إبراهيم باشا) على وجوب محاكمته وعضده أكثر أعضائها استقال وزير الحقانية هو وسائر الوزراء الذين من حزبه الحر الدستوري كما هو مشهور ولم ينسه الجمهور. وهذا الدكتور طه حسين قد جعل كتابه الجديد هدية إلى صاحب الدولة عبد الخالق باشا ثروت وزير الخارجية في الوزارة الحاضرة وأحد الأركان المؤسسين للحزب الحر الدستوري وصدره باسمه وفهم الكثيرون أن رئيس الوزارة صاحب الدولة عدلي باشا قد ناضل مجلس النواب واشتدت الملاحة بينه وبين صاحب الدولة سعد باشا رئيس المجلس لأجله حتى كاد يسمح بترك الوزارة في هذه السبيل. ومما يعلمه الجمهور مع هذا أن جريدة السياسة التي هي لسان الحزب الرسمي هي اللسان غير الرسمي لهؤلاء الذين يطعنون في الإسلام ويحاولون هدم دعائمه الدينية واللغوية والأدبية كالشيخ علي عبد الرازق والدكتور طه حسين وغيرهما وهنالك جريدة أخرى أسبوعية تمُتّ إلى هذا الحزب بسبب وهي تهزأ بالدين ورجاله في كل عدد ولو بغير سبب. ومما يعلمون مع هذا أن الملاحدة والزنادقة قد كثروا في مصر وأنهم صاروا يجاهرون بالدعوة إلى الإلحاد وإلى تقليد زعماء الترك في المروق منه والتفصي من جميع مقوماته والانسلاخ من جميع مشخصاته وتقليد ملاحدة الفرنج وإباحيهم دون أهل الدين منهم الذين يبذلون الملايين في تأييد دينهم ونشر دعوته في العالم ومن هؤلاء الملاحدة أصحاب المناصب العالية والدانية. فمن فكر في هذه المقدمات كلها يعلم أن قضية الدكتور طه حسين هي قضية التنازع بين دين الإسلام والجهر بالإلحاد الصريح كما كانت قضية الشيخ علي عبد الرازق كذلك، وقد صرح بهذا فيهما بعض كتاب الجرائد الأوربية في مصر وفي أوربة نفسها فإذا برئ الدكتور طه حسين منها تعد تبرئته في عرف الشرق والغرب انتصارًا للكفر على الإيمان وللإلحاد على الإسلام وثأرًا للملاحدة من المسلمين وشبهة في حزب الأحرار الدستوريين تجرئ سائر الملاحدة على الطعن في الدين وأنه لم يبق بين أتباع الحكومة المصرية خطوات الحكومة التركية الحاضرة إلا قليل ولا أقول أكثر من هذا ولا حاجة إلى قول يعرفه جماهير المفكرين من شرقيين وغربيين لا من المصريين وحدهم. ولكن يمكنني مع هذا أن أقول: إن الحزب الحر الدستوري في جملته مغبون ومظلوم في جعل جريدة السياسة لسان حاله في كل ما تنشره خارجًا عن الخطة السياسية الوطنية للحزب كالحملة على الدين ورجاله ودعوتها إلى تجديد الأمة المصرية بثقافة جديدة تحل روابط الثقافة الإسلامية وتحل محلها فإننا نعرف من أعضائه المسلمين الصادقين المصلين الصائمين بل ربما كان في أعضائه من يكره كثيرًا مما نشرته في سبيل سياسة الحزب أيضًا، وأقول أيضًا: إن ما أشرت إليه من سبب نضال صاحب الدولة عدلي باشا لمجلس النواب هو المعقول دون ما قيل وما انتشر من كون المراد به الدفاع عن طه حسين وكتابه وأقول ثالثًا: إن صاحب الدولة ثروت باشا لا يعقل أن يكون قد استشير في تصدير كتاب (في الشعر الجاهلي) باسمه أو أنه رضي بذلك على علم بما في الكتاب. ثم أقول رابعًا: إن النيابة العامة إذا قررت عدم محاكمة طه حسين، وإن القضاء إذا برأه بعد محاكمته من عقاب الطعن في الدين وتكذيب القرآن وكذا التوراة فلا يكون هذا ولا ذاك برهاناً منطقيًّا ولا قانونيًّا على تعمد نصر القضاء الكفر علي الإيمان والإلحاد على الإسلام؛ لأن كلاًّ من رجال النيابة والقضاء المشتركين في هذه القضية قد ينظرون ويحكمون بمقتضى الألفاظ التي يقولها الخصوم في مجالس التحقيق والمحاكمة وقد يغفلون عن كون كلام طه حسين ووكلائه مخالفًا لكل ما فهمه رجال الدين وجماهير المسلمين والغربيين في كتاب الدكتور طه حسين، وعن كون فهم هؤلاء الجماهير يجب أن يكون له قيمة، بل أكبر قيمة في إدانته، فإن العبرة أو العمدة في إثبات طعنه في الدين وإهانته له بما يفهمه جماهير الناس منه لا بما يمكن أن يقال في تأويل الكلام والجدال فيه، وقد فهم العرب والإفرنج جميعًا أن الكتاب طعن صريح في القرآن والنبي وسلف المسلمين الصالحين وأئمتهم، ونكتفي بنشر برقية واحدة مما جاء من أوربة في ذلك. *** رأي أوربة في قضية الدكتور طه حسين لندن في أول نوفمبر لمراسل الأهرام الخاص نشرت جريدة (الدايلي تلغراف) اليوم مقالاً رئيسيًّا جاء فيه ما يأتي: (ليس في العالم دين لا يوجد بين معتنقيه عدد من الهراطقة، فالدك

جهل زعماء المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جهل زعماء المسلمين ومفاسد أهل الطرق والشرفاء وكونهما سببًا لفشل زعيم الريف المغربي إن أهل الطرق المنتسبين إلي الصوفية قد أفسدوا على عامة المسلمين في الشرق والغرب دينهم ودنياهم وكان إفسادهم في أفريقية أشد منه في أسية ولم يكفهم تشويه الإسلام بالبدع الذي يعد كثير منها ارتدادًا، عن الإسلام بل صاروا أعوانا للفاتحين السالبين لملك المسلمين وأولياء لهم على المسلمين وقد بلغنا من رواية الثقة من أهل المغرب الأقصى أن بعض مشايخ الطريقة التيجانية الزائغة وغيرها كانوا أكبر أعوان الأجانب على الزعيم محمد عبد الكريم في قتاله لدولتي أسبانية وفرنسة في الريف، ثم قرأنا في جريدة الشورى الأسبوعية حديثًا له في معتقله نشر في بعض الجرائد الغربية، وهو كما يدل على فساد مشايخ الطرق وإفسادهم يدل على جهل في الزعيم كان سبب فشله وانتصار المشايخ فالأجانب عليه؛ فبعض الحديث حجة له وبعضه عليه قال: حديث محمد عبد الكريم أردت أن أجعل الريف بلادًا مستقلة كفرنسة، وأسبانية، وأن أنشئ فيها دولة حرة ذات سيادة، لا إمارة خاضعة لأحكام الحماية، أو الوصاية فحاولت في بدء الأمر أن أفهم موطني أنهم لا يستطيعون البقاء إلا إذا كانوا متضامنين كالبنيان المرصوص وعملوا بصدق وإخلاص على تأليف وحدة قومية من القبائل المختلفة الأهواء والنزعات؛ أي إني أردت أن يشعر مواطني بأن لهم وطنًا كما لهم دين. انتقدني المنتقدون كثيرًا لأني في مفاوضات (وجدة) طلبت بإلحاح تحديد معنى الاستقلال؛ فإن هذا التحديد كان ضروريًّا جدًّا؛ لأن غرضنا كان الاستقلال الحقيقي الذي لا تشوبه شائبة الاستقلال الذي يكفل لنا الحرية التامة في تعيين مصيرنا، وإدارة شؤوننا الاستقلالية، وعقد الاتفاقات والمحالفات التي نراها موافقة لنا. وكنا أنا وأخي أطلقنا على بلادنا اسم (جمهورية الريف) منذ سنة 1923م وطبعنا في فاس أوراقًا للحكومة عليها هذا الاسم لدلالة على أننا دولة مؤلفة من قبائل مستقلة متحالفة لا دولة نيابية ذات برلمان منتخب، أما اسم الجمهورية فلم يكن ليتخذ معناه الحقيقي في نظرنا إلا بعد مدة من الزمن؛ لأن جميع الشعوب تحتاج حين تأليفها إلى حكومة حازمة وسلطة قوية ونظام قومي متين. ولكن لسوء الحظ لم يفهمني غير أفراد قلائل يعدون على أصابع اليدين بل كان أخلص أنصاري وأكثرهم علمًا، وذكاء يعتقدون أني بعد إحراز النصر سأترك لكل قبيلة حريتها التامة مع علمهم بأن ذلك يعيد البلاد إلى أشد حالات الفوضى والهمجية. وكان التعصب الديني أعظم أسباب فشلي، إن لم أقل: إنه سببه الوحيد؛ لأن مشايخ الطرق أعظم نفوذًا في الريف منهم في المغرب الأقصى وفي سائر بلدان الإسلام وكنت عاجزًا عن العمل من دونهم ومضطرًّا إلى التماس مساعدتهم كل حين، وقد حاولت في أول الأمر أن أستميل الجماهير إلى رأيي بالحجج والبراهين، ولكني صادفت مقاومة عظيمة من الأسر الكبيرة ذات النفوذ إلا أسرة (خملاشة) التي كان رئيسها صديقًا قديمًا لوالدي وأما الباقون فقل كانوا أعداء لي، ولا سيما بعد ما أنفقت من أموال الأوقاف لشراء معدات الحرب؛ فإنهم لم يفهموا أن الأموال لا يمكن أن تصرف على مشروع أشرف من مشروع استقلال البلاد. ولا أنكر أني اضطررت في بعض الأحوال إلى استخدام الشعور الديني لتأييد سياستي , مثال ذلك أن الأسبانيين بعدما احتلوا أجدير أكرهوا على الجلاء عن قسم منها كان فيه مسجد لم يحترموه بل جعلوه إصطبلاً فلما بلغني ذلك أمرت ثلاثة من القواد المشهورين بالورع والتقوى أن يحققوا الأمر بأنفسهم وقد ضاعف عملي هذا حماسة المحاربين وزاد تعلقهم بي وبقضيتي. والحقيقة أن الإسلام عدو التعصب والخرافات، وأنا أعرف من قواعده ما يجعلني أؤكد للملأ أن الإسلام الذي أعرفه في المغرب والجزائر بعيدًا جدًّا عن الإسلام الذي جاء به النبي العظيم فإن الذين ادعوا خطأ أو صوابًا أنهم من تلك السلالة الطاهرة وجهوا كل اهتمامهم إلى اكتساب عطف الشعب على أشخاصهم الفانية، وأقاموا أنفسهم أصنامًا يعبدها الجهلاء وأنشئوا طرقًا دينية حولوها إلى جيش منظم لخدمة أغراضهم الشخصية مع أن الإسلام أبعد ما يكون عن تقديس الأشخاص ؛ لأنه يأمر بالإخاء، والاتحاد في وجه العدو ويحض على الموت في سبيل الحرية والاستقلال؛ ولكن مشايخ الطرق ورؤساء الدين عبثوا بكتاب الله وسنة رسوله إرضاء لشهواتهم وسدًّا لأطماعهم ولم يشتركوا في الثورة بحجة أن القتال في سبيل الوطن لا يعنيهم وأنهم لا يقاتلون إلا في سبيل الدين. وقد أفرغت قصارى جهدي لتحرير بلادي من نير مشايخ الطرق هؤلاء الذين هم عقبة في سبيل كل حرية واستقلال، وكانت خطة تركيا قد أعجبتني كثيرًا لعلمي بأن البلدان الإسلامية لا يمكن أن تستقل ما لم تتحرر من التعصب الديني وتقتدي بالشعوب الأوربية، ولكن الريفيين لم يفهموني لسوء حظي وحظهم حتى إن قيامة المشايخ قامت عليّ؛ لأني خرجت في إحدى الأيام بلباس ضابط على أني لم أعد إلى مثل هذا العمل فيما بعد. وكان مشايخ الطرق ألد أعدائي وأعداء بلادي كما تقدم فلم يحجموا عن شيء في سبيل إحباط مسعاي حتى أذاعوا في طول البلاد وعرضها أني أريد الاقتداء بتركيا وأن ذلك يقضي حتمًا بتغيير عادات البلاد وتقاليدها وإطلاق حرية المرأة فتخرج سافرة بالبرنيطة وتلبس كنساء الإفرنج، وتقلدهن في عاداتهن إلى غير ذلك مما عزوه إليّ وقد أقنعتني دسائس هؤلاء المتعصبين الجهلاء بأن التطور في كل بلاد لهم فيها نفوذ قوي لا يمكن أن يتم إلا ببطء وبالالتجاء إلى القوة والعنف. ويجب أن أعلن هنا أني لم أجد في الريف أقل عضد في مساعي الإصلاحية وأن فريقًا قليلاً من سكان فاس والجزائر فهموني وأيدوني ووافقوا على خطتي لأنهم على احتكاك بالأجانب ولأنهم يعرفون أين هي مصلحة بلادنا الحقيقية. وخلاصة القول: أني جئت قبل الأوان للقيام بمثل هذا العمل ولكني موقن بأن آمالي ستحقق كلها عاجلاً أو آجلاً بحكم الحوادث وتقلبات الأحوال. اهـ كلامه (المنار) قد شهد الزعيم المغربي على نفسه بأنه لم يدر كيف يسوس قومه فهو كما استفاد من خدمة الدولة الأسبانية ما علم به كيف يدير حركة الدفاع عن بلاده إدارة فنية عصرية زادت قيمة شجاعة قومه أضعافًا قد فتن بظواهر الحضارة الأوربية حتى إنه أراد أن يقلدها فيما يضعف قوة قومه الروحية ويحل روابطهم الملية ويستبدل بهما ما يسمى بالرابطة، أو الحمية الوطنية، أي أراد أن يقتدي بالأتراك الكماليين اللادينيين فيما لا يدركه ولا يستحسنه غيره هو في وطنه جاهلاً، وإن الترك ما أقدموا على هذا الخطب العظيم بعد الاستعداد له زهاء قرن كامل، ولولا أن أكثر رؤساء الجند الكبير المنظم الحاملين للسلاح على رأي مصطفي كمال لما استطاع أن ينفذ هذه الخطة في هذا الشعب الإسلامي مع تمهيد جمعية الاتحاد والترقي السبيل له ومع هذه يرى البلاد قد ثارت عليه وحاولت اغتياله مرارًا. إن ما سماه محمد عبد الكريم تعصبًا دينيًّا، وذمه ولم يجد وسيلة لقمعه إلا تقليد الترك الكماليين ليس تعصبًا للدين بل هو جهل لا يداوى بقمع القوة بل بنشر العلم وكان يجب عليه تأجيل ذلك إلى ما بعد نيل الاستقلال وكان يمكن للزعيم أن يعبر عن قتاله بأنه قال: في سبيل الله لأن الشرع يأمر به والنصوص على ذلك في جميع كتب الفقه صريحة ولكنه قصر لقلة اطلاعه على كتب الشرع وانخداعه بإمكان جعل الوطنية مكان الدين وجهله بإمكان الجمع بينهما، وقد كان هذا أهم ما ينقصه من صفات الزعيم الحاكم لبلاد إسلامية، والدليل على جهله هذا إعجابه بخطة الترك الذين أضاعوا أعظم سلطنة في الأرض بجهلهم ما يحتاج إليه من يسوس الشعوب الإسلامية في هذا العصر، وافتتانهم بما رباهم عليه وأقنعهم به الإفرنج، وصاروا إمارة صغيرة تحيط بها الأخطار من كل جانب وسنرى ما يكون من أمرهم في أنفسهم، ومع الأجانب فإن أول خطأ ظهر لهم في نبذ الشرع الإسلامي وانتحال التشريع الأوربي وليس البرنيطة أنهم كانوا يظنون أن أوربة تعاملهم بهذا معاملة الأقران والأمثال وأنها لم تكن تناولهم إلا لتمسكهم بالإسلام فبدأ منهم ما لم يكونوا يحتسبون.

الحجاز والمؤتمرات الإسلامية في الهند وجاوة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحجاز والمؤتمرات الإسلامية في الهند وجاوة ألفت في الهند منذ بضع عشرة سنة جمعية إسلامية سميت جمعية خدام الكعبة كان من مقاصدها الأساسية الدعاية للسياسة التركية وجعلت اسم خدمة الكعبة حجابًا لها دون حكومة الهند وقد هتك جورج فيلبيدس الذي كان رئيس البوليس السري بمصر حجابها للدولة البريطانية في أثناء الحرب فطاردتها فانحل عقدها وخلف من بعدها جمعيتان جهريتان إحداهما سياسة تركية وهي جمعية الخلافة المناوئة للسياسة البريطانية وجمعية خدام الحرمين الموالية لحكومة الهند والدولة البريطانية كجمعية الديانة المسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية. أما جمعية الخلافة ففيها أساطين رجال الهند وهي أقوى جمعيات المسلمين فيها وسنتكلم عنها في مقال خاص عند سنوح الفرصة وأما جمعية خدام الحرمين فأكثر أعضائها من الحشوية وطلاب المنافع المادية وأنصار البدع والخرافات، ولما تصدت جمعية الخلافة للانتصار للسلطان ابن السعود كجمعية أهل الحديث على الملك حسين بن علي لإلحاده في الحرم، وخدمته مع أولاده للسياسة الأجنبية وموالاتهم لها قامت جمعية خدام الحرمين بمشايعة الملك حسين ثم ولده الشريف علي وكان المحرك لها من وراء الدسائس السياسية حزب الشيعة المناوئين للنجديين لاعتصامهم بالسنة اعتقادًا وعملاً؛ ولأنهم من العرب الخلص وقد أرسلت هذه الجمعية وفدًا إلى الحجاز لبث الدسائس والفتن فيه وذلك قبل موسم الحج الماضي؛ فعاملهم ابن السعود أولاً بالحلم وسعة الصدر ولما علم بدسائسهم وفتنهم وسوء نيتهم طردهم من الحجاز فجاءوا مصر ونشروا في المقطم وغيره طعنًا شديدًا فيه، وكراسة ذكروا فيها من قصصهم أنهم سألوه أسئلة كثيرة كلفوه أن يجيبهم عنها كتابة وهي متضمنة لاتهامه واتهام قومه بالجرائم كأنهم قضاة يحققون قضايا جنائية من رعية دولتهم، يطلبون من الملك أن يعترف بها؛ أو يبرئ نفسه منها ومتضمنة أيضًا للبحث عما عنده من الأسلحة وعن أمكنتها كأنهم مجلس أركان حرب يحاكم قائدًا من القواد التابعين له على تهم وخيانات عسكرية فأي صعلوك من صعاليك الناس يرضى لنفسه أن يقف أمام هؤلاء الأجانب الفضوليين هذا الموقف الذي أرادوا أن يقفه ملك الحجاز وسلطان نجد بين أيديهم، ثم رجع هذا الوفد إلى الهند وقوي اتحادهم بشيعة لكهنو، وقد ألفوا فيه ربيع الأول الماضي مؤتمرًا في بلدهم لكهنو بإرشاد حزب الشيعة افتروا فيه الكذب واختلقوا الإفك على ملك الحجاز وسلطان نجد والنجدين كعادتهم وأرسل رئيس الجمعية برقية بقراراته إلى نقابة الصحافة بمصر وإلى سائر الأقطار ننقلها عن جريدة كوكب الشرق تعليقها عليها من العدد الذي صدر في 27 ربيع الأول الماضي وهذا نصهما: قرار غريب حول الحجاز تلقت نقابة الصحافة المصرية التلغراف الآتي ليل أمس من لوكنو (الهند) . (اجتمع مؤتمر الحجاز الذي يمثل جميع طبقات مسلمي الهند في لوكنو تحت رئاسة (سالبهوي باروداوال) شريف بومباي ووضع قرارات خطيرة سجل فيها استياءه العظيم من أعمال النجديين كتدمير المقامات والآثار القديمة والاعتداء على المسلمين الأبرياء من رجال ونساء وصرح أن المسلمين عازمون على اتخاذ جميع التدابير الممكنة لإخراج ابن السعود من الحجاز الذي لا يحق له أن يحكمه، ولا سيما بعد هذه الأعمال. ومن جملة القرارات التي وضعها المؤتمر قراران ينص أحدهما على وضع نظام للحجاز يقبله الحجازيون ويرضي روح العالم الإسلامي وينص الثاني على تنفيذ الشرع ومبدأ حق تقرير المصير. واحتج المؤتمر في قرارات أخرى على تجريد حكومة نجد للحجازيين من السلاح، وأعرب عن عدم استطاعة مسلمي الهند أن يساعدوا في أي مشروع كتمديد الخطوط الحديدية وما أشبه ذلك في ظل النظام الحالي. وقرر المؤتمر وقف الحج (!) ؛ لأن النجديين يعدون جميع المسلمين من غير الوهابيين كفارًا أبيحت لهم أموالهم وأرواحهم ونصح المؤتمر لجميع البلدان الإسلامية أن تفعل مثل ذلك وتساعد الحجازيين المتألمين، وقرر أن يؤلف وفدًا من كبراء المسلمين يطوف المراكز الإسلامية الكبرى لهذه الغاية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... قطب الدين ... ... ... ... ... ... ... رئيس جمعية خدام الحرمين (الكوكب) ونحن نقول: إن هذا القرار لم يكن له محل ولا مكان بعد البيان الرسمي الذي أذاعه جلالة ملك الحجاز بشأن المقامات الدينية في مكة المكرمة وإنصافًا للحقيقة نعيد اليوم نشر هذا البيان بنصه وهو نشر بعض المرجفين أن في النية هدم القبة النبوية؛ لذلك انشروا باسمنا أن كل ما يقال من العزم على هدم القبة النبوية كذب لا أصل له، والقبة الخضراء وقبر الرسول في حفظ وأمان بحول الله وإنا لنفديها بأموالنا وأولادنا وأنفسنا ولا يمكن أن يصيبها أذى وفينا عرق ينبض كذلك جميع قبور الصالحين نحافظ عليها ونحترمها ونصونها من كل أذى ونرى ذلك دينًا نعاهد الله عليه. ... ... ... ... ... ... ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاتها ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز وإنما ردت عليهم صحيفة كوكب الشرق بالبرقية الرسمية التي نشرها ملك الحجاز لظنها أنهم يعتقدون صحة ما رموه بها، وأنهم سيرجعون عنه بعد علمهم ببرقية الملك؛ لذلك كتبنا مقالاً نشرناه في جريدة البلاغ بينا فيه حقيقة هذه الجمعية وما جاء في جرائد الهند من كون مؤتمرها قد ألف بأمر وسعي ومال زعيم الشيعة الأكبر (راجا محمود آباد) ، وأن هذا المثري الكبير قد جمع من ماله وأموال أغنياء الشيعة في الهند مبلغًا كبيرًا من المال لأجل بث الدعوة في الهند وأفغانستان وغيرها من البلاد لإقناع عوام أهل السنة بترك فريضة الحج ما دام ابن السعود ملكا على الحجاز والسعي لإقناع أمراء المسلمين وملوكهم بالاتحاد مع دولة إيران الشيعية لإخراجه من الحجاز واستأجر (الراجا) هذه الجمعية لبث الدعوة وكان هذا أول عملها، ولكن لم يحضر مؤتمرها أحد من كبار أهل السنة ولا من جمعياتهم ولولا الغرور بالمال لما تجرأت جمعية حقيرة في وطنها على التصريح بعزم (المسلمين) على اتخاذ جميع التدابير الممكنة لإخراج ابن السعود من الحجاز. ولما رأى المهراجا عظيم الشيعة أن هذا المؤتمر كان هزؤًا وسخرية للمسلمين سعى إلى عقد مؤتمر آخر في بمبي كانت عاقبته شرًا من عاقبة المؤتمر الأول وهاك نص البرقية التي جاءتنا وجاءت نقابة الصحافة في أمره وهذه ترجمتها: *** مؤتمر الحجاز الهندي (ختم المؤتمر المسمى مؤتمر الحجاز الهندي أعماله في 26 سبتمبر الماضي ولم تشترك فيه قط أية هيئة إسلامية مهمة كلجنة الخلافة المركزية وجمعية علماء الهند وجمعية أهل الحديث ولجنة حماية الإسلام ومؤتمر التعليم الهندي العام في البنجاب ومعاهد عليكره الإسلامية المهمة وإنما حضره الزعيمان محمد علي وشوكت علي بصفتهما الشخصية وقد تمت جميع إجراءات المؤتمر طبقًا لتعليمات ورغائب عميد الشيعيين في لكنو (مهراجا محمود آباد جهانكير باد) وبعض العلماء الإيرانيين وعرضت رياسة المؤتمر على كثيرين من مشاهير زعماء المسلمين فلم يقبلها أحد منهم وقبلها (صالح بهائي بارودا ولا) وهو شيعي من بهرة غير معروف لا في عالم الدين ولا في عالم السياسة. (وقد احتج المؤتمر على وجود السلطان ابن السعود في الحجاز ومن الخطط المحزنة التي اقترحت نشر الدعوة لمقاطعة الحج فأسف لهذا العمل البعيد عن روح الإسلام جميع كبراء الساسة ورجال التعليم والمعرفة وعدوه غير قابل للتطبيق ومناقضًا للحكمة السياسية وضربة في صميم الوحدة الإسلامية) . ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل الغزنوي ... ... ... ... ... ... ... ... من أعضاء لجنة الخلافة مؤتمر جمعية الخلافة المنتظر: وستعقد جمعية الخلافة مؤتمرًا في لكهنو أيضًا يبحث في مسألة الحجاز ومؤتمره وسيكون الزعيمان محمد علي وشوكت علي فيه خصومًا لملك الحجاز فيما يظهر لنا ونحن نعتقد أن جميع رجال الإصلاح الديني في الجمعية والعقلاء المعتدلين من رجال السياسة يعتقدون أن الزعيمين مخطئان في معاداة ملك الحجاز وسلطان نجد؛ لأنه أكبر قوة إسلامية في الأرض بعد سقوط الدولة العثمانية وصيرورة حكومة الترك لا دينية، وأن هذه القوة هي الوحيدة التي تنصر السنة وترفض البدع والدجل الذي هو سبب ارتداد كثير من المسلمين عن دينهم آنًا بعد آن وأنهما إنما يناوئانه بالباطل اتباعًا لهواهما واستمالة لشيعة الهند وعوامها الخرافيين وهؤلاء الزعماء أعلم من محمد علي وشوكت علي بحقيقة الإسلام وبالسياسة المثلى له وبمصلحة المسلمين وأبعد منهما عن اتباع الهوى ولكن الزعيمين الأخوين أقوى إرادة وأمضى عزيمة وأقدر على استمالة العوام بغلوهما في الكلام وبدموعهما السجام. فإذا أتيح لهما الرجحان على أصحاب العقول الراجحة كحكيم الزمان أجمل خان والدكتور أحمد أنصاري وعلى أصحاب اللسن والعلم الديني كالشيخ أحمد أبي الكلام فستكون جمعية الخلافة آلة بيد غلاة الشيعة لمحاربة السنة، بل لمحاربة الفرض والسنة كالدعوة إلى ترك فريضة الحج ولتفريق كلمة المسلمين التي يحاول ابن السعود جمعها في المؤتمر الإسلامي. *** مؤتمر الجمعيات الإسلامية بجاوة سمعنا من بعض دعاة التشيع ومناوأة ابن السعود في مصر أن مؤتمر الجمعيات الإسلامية في جاوه قد انعقد في سوراباية، واشترك فيه زهاء أربعين جمعية تمثل الرأي العام الإسلامي في جزائر الهند الشرقية وقرر مقاومة ابن السعود والدعوة إلى ترك أداء فريضة الحج ما دام مستوليًا على الحجاز فقيل له قد بقي عليكم شيء آخر أشد نكاية فيه وهو ترك الصلاة إلى قبلة الإسلام بيت الله الحرام، فإن من يستحل ترك فريضة الحج لما ذكر يستحل ترك صلاة الإسلام أيضًا؛ ثم علمنا من جرائد سوراباية العربية حتى المعادية لابن السعود أن المؤتمر المذكور أيد ابن السعود، وقد زارنا في هذه الأيام الشاب الذكي النبيه السيد عبد الله بن سالم العطاس قادمًا من سوراباية وبلغنا سلام زعماء المسلمين وطلاب الإصلاح في جاوه وكان ممن حضر المؤتمر وسافرا بعده إلى جدة بطريق مصر ليكون عضواً في فرع البنك الهولندي الذي سيفتح فيها لتسهيل المعاملات مع الحجاج الجاويين وغيرهم، فسألناه عن دعوة التشيع الذي بثها بعض العلويين في جاوه فكانت سبب الشقاق بين المسلمين ومشاقة الكثيرين للعلويين بعد ما كان من الإجماع على إجلالهم فأخبرنا أن تأثيرها ضعيف، وأن الكثيرين من العلويين أنفسهم مخالفون لها ودعاة سنة واتفاق بين المسلمين ثم سألناه عن خبر المؤتمر فقال ما ملخصه: (عقد المؤتمر جلسته الأولى في 12 ربيع الأول الأنور تيمنًا بذكر المولد النبوي الشريف وهو مؤلف من مندوبي جميع الجمعيات الإسلامية في البلاد الجاوية أو جزائر الهند الشرقية بمدينة سورابايه ماعدا جمعية واحدة وحضر المؤتمر أيضًا مندوبون عن الجرائد المعتبرة في جميع البلاد وكثير من وجهاء البلاد وأهل الرأي والمكانة فيها ومئات من دهماء الشعب ولولا أن فرضوا على كل من يدخله دفع روبية هولندية لدخله ألوف كثيرة ويظهر أنهم أرادوا تقليل ازدحام العوام فيه قال وكان أول الخطباء فيه أعضاء المؤتمر المكي الحاج عمر سعيد شكر وأمينوتو والحاج منصور فذكرا لممثلي الأمة ما شاهداه من الأمن في الحجاز وأثنيا على الملك ابن السعود أجل الثناء ولخّصَا لهم المهم من قرارات المؤتمر الإسلامي

البدعة اللغوية والبدعة الشرعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البدعة اللغوية والبدعة الشرعية وحديث (كل بدعة ضلالة) ومن زعم أنه مخصوص (س 13) من صاحب الإمضاء في بلده طنبدي - البتانون (المنوفية - مصر) طبنده في 10-11-1926 حضرة صاحب الفضيلة الأعظم محيي السُّنة ومميت البدعة السيد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فإن القرية عندنا فريقان فريق ينفون البدعة بتاتًا في الدين ويتمسكون بأحاديث وآيات كثيرة وعلى رأسها حديث (كل بدعة ضلالة) وفريق يقولون: إن حديث (كل بدعة ضلالة) ... إلخ، عام مخصوص كما قال عنه الزرقاني على الموطأ، ويقولون: إن للبدعة أحكامًا خمسة منها الواجب كتعلم النحو وما يتعلق عليه فهم الشريعة، والمحرم كمذهب القدرية والمندوب كإحداث الربط والمدارس وكل إحسان لم يعهد في العصر الأول والمكروهة كزخرفة المساجد والمباحة كالسلام خلف الأذان والقرآن خلف الجنائز كما قال ابن عبد السلام: ويحتجون بقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} (الحديد: 27) وقوله عليه السلام: (ما استحسنه المسلمون فهو حسن ومن سن سنة حسنة ... إلخ) وقول عمر رضي الله عنه في الموطأ بشأن جماعة التراويح: (نعمت البدعة) . هذا وإنا قد ارتضيناك بيننا حَكَمًا، ونأمل أن ترشدونا بما جبلتم عليه من نصر الحق ودفع الباطل والسلام. ... عن أهل القرية ... ... ... ... ... ... متولي أحمد ... ... ... ... ... ... ناظر طنبدي مركز شبين الكوم نرجو توضيح أسماء الكتب التي يرجع إليها في هذا الأمر (ج) قد شرحنا هذه المسألة في المنار مرارًا، فنختصر الآن ما نقول فيها اختصارًا: إن لكلمة بدعة إطلاقين إطلاقًا لغويًّا بمعنى الشيء الجديد الذي لم يسبق له مثل وبهذا المعنى يصح قولهم: إنها تعتريها الأحكام الخمسة ومنه قول عمر - رضي الله عنه - في جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح نعمت البدعة، وإطلاقًا شرعيًّا دينيًّا بمعنى ما لم يكن في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجئ به من أمر الدين كالعقائد والعبادات والتحريم الديني وهو الذي ورد فيه حديث (فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وهو لا يكون إلا ضلالة؛ لأن الله تعالى قد أكمل دينه وأتم به النعمة على خلقه فليس لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يزيد في الدين عقيدة، ولا عبادة، ولا شعارًا دينيًّا ولا أن ينقص منه ولا أن يغير صفته كجعل الصلاة الجهرية سرية وعكسه، ولا جعل المطلق مقيدًا بزمان أو مكان أو اجتماع أو انفراد لم يرد الشارع ولا أن يحرم على أحد شيئًا تحريمًا دينيًا تعبديًا بخلاف التحريم غير التعبدي كالمتعلق بمصالح الحرب أو المعاش كالزراعة.. إلخ وفي هذا النوع ورد حديث (من سن سنة حسنة) ... إلخ وهو حديث صحيح معروف، وأما قول ابن مسعود رضي الله عنه ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن فلا حجة فيه لا لكونه غير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط بل؛ لأنه في معنى الإجماع وهو لا يكون إلا عن دليل وليس معناه أن الابتداع في الدين مشروع لكل أحد أو كل جماعة. فما ذكر في السؤال عن الزرقاني من أمثلة البدعة اللغوية صحيح إلا جعله السلام خلف الأذان والقرآن خلف الجنائز من المباحات نقلاً عن ابن عبد السلام فالأذان عبادة من شعائر الإسلام ورد بألفاظ معدودة، جرى عليها العمل في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين فلو جاز أن يزاد فيه سلام لجاز أن يزاد فيه غيره من الأذكار كسبحان الله، والحمد لله، وبعض آيات القرآن، ومقتضى هذا أنه يجوز لكل أحد أن يغير شعائر الإسلام بما استحسن من زيادة أو نقصان ولم يقل بجواز هذا أحد من أئمة المسلمين المجتهدين ولو جرى المسلمون على هذه البدعة فعلاً لما بقي شيء من شعائر الإسلام على ما جاءنا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله تعالى ولصرنا في أديان جديدة كل طائفة أو جماعة أو فرد يخالف فيها سائر المسلمين. ولو جاز أن يزاد في عبادة الآذان لجاز أن يزاد في غيرها كجعل الصلاة الثلاثية رباعية والرباعية خماسية وجعل الركوع في ركعة مرتين أو أكثر والسجود ثلاثًا أو أكثر وهلم جرا، وهل يوجد أحد شم رائحة العلم الديني والعقل يجيز هذه الفوضى والتصرف في دين الله؟ وليعلم السائل أن الفقيه ابن حجر الهيتمي ذكر مسألة البدعة في موضعين من فتاواه الحديثة أولهما جواب سؤال عن الموالد والأذكار التي تفعل في مصر هل هي سنة أو فضيلة أو بدعة؟ فأجاب بأن أكثرها مشتمل على خير وعلى شر، بل شرور وإن ما كان هكذا يجب منعه عملا بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ثم ذكر أن الاجتماع للبدع المباحة جائز وذكر الأحكام الخمسة للبدعة ومثَّل لها بما نقلتم عن الزرقاني إلا المباحة فإنه مثَّل لها بالمصافحة بعد الصلاة وهذا أهون من التمثيل بالسلام خلف الآذان؛ إذا كان المراد به الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - كما هو الظاهر وإباحة المصافحة بعد الصلاة مقيدة بالأمن من اعتقاد الناس أنها مشروعة بعدها ومن جعلها شعارًا دينيًّا، وقد شرح الإمام الشاطبي اشتراط مثل هذا في كتاب الاعتصام ثم ذكر ابن حجر المسألة في جواب من سأله عن أصحاب البدع الذين ورد في الحديث الترغيب في الإعراض عنهم وفي انتهارهم وصرح بمثل ما قلناه من أن قول عمر في التراويح نعمت البدعة هي أراد به البدعة اللغوية وهو ما فعل على غير مثال كما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ} (الأحقاف: 9) وليست بدعة شرعًا فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال - صلى الله عليه وسلم - فمعناه البدعة الشرعية. اهـ وذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بعض ليالي رمضان صلاة القيام واقتدى به الصحابة ولم يستمر على ذلك لئلا تفرض أو تعد فرضًا ثم صار الناس بعده يعقدون لها عدة جماعات حتى جمعهم عمر- رضي الله عنه- على إمام واحد كراهة التفرق المذموم شرعًا فجماعتها مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا بدعة شرعية، وأما استدلال محبي البدع وأنصارها بآية رهبانية النصارى فلا دليل لهم فيه؛ لأن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا ولأن الآية ليست نصًّا في موضع النزاع إذ قيل إن الاستثناء فيها متصل وقيل منقطع وقد فصل الشاطبي الكلام فيها بما يدحض شبه المبتدعة فيراجع في كتابه الاعتصام وهو أوسع الكتب في هذا الشأن.

طلاق الغضبان والتزوج بالنصرانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طلاق الغضبان والتزوج بالنصرانية (س 14و15) من صاحب الإمضاء بمصر حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ المحقق الشيخ محمد رشيد رضا حفظه الله آمين السلام عليكم وبعد: 1- هل يقع يمين طلاق الحالف به وهو في حالة الغضب وهو يعي ما نطق به؟ وإذا لم يقع فما معنى الحديث الآتي: معنى الحديث أربعة يلزم هزلها: طلاق، رجعة، عتق، نكاح. 2- هل يجوز التزوج من النصرانية مع اعتقادها بألوهية المسيح. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد مندور الجواب عن السؤال الأول طلاق الغضبان الذي يعي ويدرك ما يقول يقع، وقلما يطلق أحد امرأته وهو غير غضبان؛ وإنما الخلاف فيمن أغلق عليه الغضب إدراكه ورشده، هذا وإن الحلف بالطلاق غير إنشاء الطلاق وعزمه، فقد اختلف العلماء في الحلف به على ثلاثة أقوال: 1- أنه يقع به الطلاق. 2- أنه لا يقع ولا يجب به شيء. 3- أنه تجب به كفارة يمين. ولا حاجة مع هذا إلى الكلام في الحديث الذي أشرتم إليه فأخطأتم وهو ما رواه أصحاب السنن ما عدا النسائي عن أبي هريرة مرفوعًا ثلاث جدهن جد وهزلهن جد (النكاح والطلاق والرجعة) وفيه مقال عند العلماء لا حاجة إليه هنا. *** الجواب عن السؤال الثاني نعم: فإن الله تعالى لما أحل لنا نكاح الكتابيات في سورة المائدة يعلم أن النصرانيات منهن يقلن بألوهية المسيح، وقد حكى لنا هذا عن النصارى في هذه السورة نفسها.

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما نشر في الجزء الماضي) وأما الجمع بالمدينة لأجل المطر، أو غيره فقد روى مسلم وغيره من حديث أبي الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: (صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا من غير خوف ولا سفر) وممن رواه عن أبي الزبير مالك في موطئه، وقال: أظن ذلك كان في مطر. قال البيهقي: وكذلك رواه زهير بن معاوية وحماد بن سلمة عن أبي الزبير في غير خوف ولا سفر، إلا أنهما لم يذكرا المغرب والعشاء وقالا: (بالمدينة) ورواه أيضًا ابن عيينة وهشام بن سعد عن أبي الزبير، بمعنى رواية مالك وساق البيهقي طرقها وحديث زهير رواه مسلم في صحيحه، ثنا أبو الزبير عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير: فسألت سعيدًا لِم فعل ذلك؟ قال: سألت ابن عباس كما سألتني، فقال: أراد أن لا يَحْرِج أحدًا من أمته، قال: وقد خالفهم قرة في الحديث فقال: في سفرة سافرها إلى تبوك، وقد رواه مسلم من حديث قرة عن أبي الزبير عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقلت: لابن عباس ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته. قال البيهقي: وكان قرة أراد حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل عن معاذ، فهذا لفظ حديثه، وروى سعيد بن جبير الحديثين جميعًا فسمع قرة أحدهما ومن تقدم ذكره، والآخر، قال: وهذا أشبه، فقد روى قرة حديث أبي الطفيل أيضًا، قلت: وكذا رواه مسلم فروى هذا المتن من حديث معاذ ومن حديث ابن عباس، فإن قرة ثقة حافظ، وقد روى الطحاوي حديث قرة عن أبي الزبير؛ فجعله مثل حديث مالك عن أبي الزبير، حديث أبي الطفيل، وحديثه هذا عن سعيد، فدل ذلك على أن أبا الزبير حدث بهذا وبهذا، قال البيهقي ورواه حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير، فخالف أبا الزبير في متنه، وذكره من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قيل له: فما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته، وفي رواية وكيع قال سعيد: قلت لابن عباس: لم فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كيلا يحرج أمته، ورواه مسلم في صحيحه. قال البيهقي: ولم يخرجه البخاري مع كونه حبيب بن أبي ثابت من شرطه، ولعله إنما أعرض عنه والله أعلم لما فيه من الاختلاف على سعيد بن جبير، قال: ورواية الجماعة عن أبي الزبير أولى أن تكون محفوظة، فقد رواه عمر وابن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس بقريب من معنى رواية مالك عن أبي الزبير قلت: تقديم رواية أبي الزبير على رواية حبيب بن أبي ثابت لا وجه له، فإن حبيب ابن أبي ثابت من رجال الصحيحين، فهو أحق بالتقديم من أبي الزبير، وأبو الزبير من أفراد مسلم، وأيضًا فأبو الزبير اختلف عنه عن سعيد بن جبير في المتن تارة يجعل ذلك في السفر كما رواه عنه قرة موافقة لحديث أبي الزبير عن أبي الطفيل، وتارة يجعل ذلك في المدينة كما رواه الأكثرون عنه عن سعيد. فهذا أبو الزبير قد روى عنه ثلاثة أحاديث: حديث أبي الطفيل عن معاذ في جمع السفر، وحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وحديث سعيد بن جبير عن ابن عباس الذي فيه جمع المدينة، ثم قد جعلوا هذا كله صحيحًا؛ لأن أبا الزبير حافظ فلم لا يكون حديث حبيب بن أبي ثابت أيضًا ثابتًا عن سعيد بن جبير وحبيب أوثق من أبي الزبير؟ وسائر أحاديث ابن عباس الصحيحة تدل على ما رواه حبيب فإن الجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن لأجل المطر، وأيضًا فقوله بالمدينة يدل على أنه لم يكن في السفر، فقوله: جمع بالمدينة في غير خوف ولا مطر، أولى بأن يقال من غير خوف ولا سفر، ومن قال أظنه في المطر؟ فظن ظنه ليس هو في الحديث، بل مع حفظ الرواة، فالجمع صحيح، قال: من غير خوف ولا مطر، وقال: ولا سفر، والجمع الذي ذكره ابن عباس لم يكن بهذا ولا بهذا. وبهذا استدل أحمد به على الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى، فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه الأمور أولى، وهذا من باب التنبيه بالفعل، فإنه إذا جمع ليرفع الحرج الحاصل بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع، والجمع لها أولى من الجمع لغيرها. ومما يبين أن ابن عباس لم يرد الجمع للمطر، وإن كان الجمع للمطر أولى بالجواز بما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد عن الزبير بن الخريت عن عبد الله ابن شقيق، قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة. قال: فجاء رجل من بني تيم لا يفتر: الصلاة الصلاة. فقال: أتعلمني بالسنة (لا أم لك؟) ، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدَّق مقالته. ورواه مسلم أيضًا من حديث عمران بن حدير عن ابن شفيق، قال: قال رجل لابن عباس: الصلاة؛ فسكت، ثم قال: الصلاة. فسكت، ثم قال: (لا أم لك) أتعلمنا بالصلاة؟ كنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فهذا ابن عباس لم يكن في سفر ولا في مطر، وقد استدل بما رواه على ما فعله فعلم أن الجمع الذي رواه لم يكن في مطر، ولكن كان ابن عباس في أمر مهم من أمور المسلمين يخاطبهم فيما يحتاجون إلى معرفته، ورأى أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته، فكان ذلك عنده من الحاجات التي يجوز فيها الجمع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع بالمدينة لغير خوف ولا مطر، بل للحاجة تعرض له كما قال: أراد أن لا يحرج أمته، ومعلوم أن جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة ومزدلفة لم يكن لخوف ولا مطر ولا لسفر أيضًا، فإنه لو كان جمعه للسفر، لجمع في الطريق ولجمع بمكة، كما كان يقصر بها، ولجمع لما خرج من مكة إلى مِنى وصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولم يجمع بمِنى قبل التعريف ولا جمع بها بعد التعريف أيام مِنى، بل يصلي كل صلاة ركعتين غير المغرب، ويصليها في وقتها، ولا جمعة أيضًا كان للنسك، فإنه لو كان كذلك لجمع من حين أحرم فإنه من حينئذ صار محرمًا، فعلم أن جمعه المتواتر بعرفة ومزدلفة لم يكن لمطر ولا خوف، ولا لخصوص النسك ولا لمجرد السفر، فهكذا جمعه بالمدينة الذي رواه ابن عباس، وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن أمته، فإذا احتاجوا إلى الجمع جمعوا. قال البيهقي: ليس في رواية ابن شقيق عن ابن عباس من هذين الوجهين الثابتين عنه نفي المطر، ولا نفي السفر، فهو محمول على أحدهما، أو على ما أوله عمرو بن دينار، وليس في روايتهما ما يمنع ذلك التأويل، فيقال يا سبحان الله! ابن عباس كان يخطب بهم بالبصرة، فلم يكن مسافرًا ولم يكن هناك مطر، وهو ذكر جمعًا يحتج به على مثل ما فعله، فلو كان ذلك لسفر أو مطر، كان ابن عباس أجل قدرًا من أن يحتج على جمعه بجمع المطر أو السفر، وأيضًا فقد ثبت في الصحيحين عنه أن هذا الجمع كان بالمدينة، فكيف يقال لم ينف السفر وحبيب بن أبي ثابت من أوثق الناس، وقد روى عن سعيد أنه قال: من غير خوف ولا مطر. وأما قوله: إن البخاري لم يخرجه، فيقال هذا من أضعف الحجج فهو لم يخرج أحاديث أبي الزبير وليس كل من كان من شرطه يخرجه. وأما قوله: ورواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء، قريب من رواية أبي الزبير، فإنه ذكر ما أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعًا وثمانيا: الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي رواية البخاري عن حماد بن زيد، فقال لأيوب: لعله في ليلة مطيرة؟ فقال: عسى، فيقال: هذا الظن من أيوب وعمرو فالظن ليس من مالك، وسبب ذلك أن اللفظ الذي سمعوه لا ينفي المطر، فجوزوا أن يكون هو المراد ولو سمعوا رواية حبيب بن أبي ثابت الثقة الثبت لم يظنوا هذا الظن، ثم رواية ابن عباس هذه حكاية فعل مطلق، لم يذكر فيها نفي خوف ولا مطر، فهذا يدلك على أن ابن عباس كان قصده بيان جواز الجمع بالمدينة في الجملة، ليس مقصوده تعيين سبب واحد، فمن قال: إنما أراد جمع المطر وحده فقد غلط عليه، ثم عمرو بن دينار تارة يجوز أن يكون للمطر موافقة لأيوب، وتارة يقول هو وأبو الشعثاء: إنه كان جمعًا في الوقتين، كما في الصحيحين عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار: سمعت جابر بن زيد يقول: سمعت ابن عباس يقول: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانيا جميعًا وسبعًا جميعًا قال: قلت: يا أبا الشعثاء أراه أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك، فيقال: ليس الأمر كذلك؛ لأن ابن عباس كان أفقه وأعلم من أن يحتاج إذا كان قد صلى كل صلاة في وقتها الذي تعرف العامة والخاصة جوازه أن يذكر هذا الفعل المطلق دليلا على ذلك، وأن يقول: أراد بذلك أن لا يحرج أمته. وقد علم أن الصلاة في الوقتين قد شرعت بأحاديث المواقيت، وابن عباس هو ممن روى أحاديث المواقيت، وإمامة جبريل له عند البيت، وقد صلى الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله، وصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثليه، فإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما جمع على هذا الوجه، فأي غرابة في هذا المعنى؟ ومعلوم أنه كان قد صلى في اليوم الثاني كلا الصلاتين في آخر الوقت، وقال: الوقت ما بين هذين فصلاته للأولى وحدها في آخر الوقت أولى بالجواز، وكيف يليق بابن عباس أن يقول: فعل ذلك كيلا يحرج أمته، والوقت المشهور هو أوسع وأرفع للحرج من هذا الجمع الذي ذكروه؟ وكيف يحتج على من أنكر عليه التأخير لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى في الوقت المختص بهذا الفعل، وكان له في تأخيره المغرب حين صلاها قبل مغيب الشفق وحدها، وتأخير العشاء إلى ثلت الليل أو نصفه ما يغنيه عن هذا؟ وإنما قصد ابن عباس بيان جواز تأخير المغرب إلى وقت العشاء ليبين أن الأمر في حال الجمع أوسع منه في غيره، وبذلك يرتفع الحرج عن الأمة، ثم ابن عباس قد ثبت عنه في الصحيح أنه ذكر الجمع في السفر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر في السفر إذا كان على ظهر سيره، وقد تقدم ذلك مفصلا ً، فعلم أن لفظ الجمع في عرفه وعادته إنما هو الجمع في وقت إحداهما. وأما الجمع في الوقتين فلم يعرف أنه تكلم به، فكيف يعدل عن عادته التي يتكلم بها إلى ما ليس كذلك؟ وأيضًا فابن شقيق يقول: حال في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته. أتراه حاك في صدره أن الظهر لا يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت؟ ، وأن العصر لا يجوز تقديمها إلى أول الوقت؟ وهل هذا مما يخفى على أقل الناس علما حتى يحيك في صدره منه؟ وهل هذا مما يحتاج أن ينقله إلى أبي هريرة أو غيره حتى يسأله عنه؟ إذن هذا مما تواتر عند المسلمين وعلموا جوازه، وإنما وقعت شبهة لبعضهم في المغرب خاصة، وهؤلاء يجوزون تأخيرها إلى آخر وقتها،فالحديث حجة عليهم كيفما كان، وجواز تأخيرها ليس معلقا بالجمع، بل يجوز تأخيرها مطلقا إلى آخرالوقت حين يؤخر العشاء أيضًا، وهكذا ف

إعجاز القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعجاز القرآن كان صديقنا خزانة الأدب، ولسان العرب مصطفى صادق الرافعي خص الجزء الثاني من كتابه آداب اللغة العربية ببيان إعجاز القرآن والبلاغة النبوية ثم رأى أن يفصله منه ويصدره بالعنوان الدال على موضوعه واقترح عليَّ أن أكتب له مقالا وجيزًا يُصدر به الكتاب ويعرضه به على أولي الألباب فكتبت له ما يأتي فصدَّره وعرضه به وهو: بسم الله الرحمن الرحيم {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} (الإسراء: 88) . القرآن كلام الله المعجز للخلق في أسلوبه ونظمه وفي علومه وحكمه وفي تأثير هدايته وفي كشف الحجب عن الغيوب الماضية والمستقبلة وفي كل باب من هذه الأبواب للإعجاز فصول، وفي كل فصل منها فروع ترجع إلى أصول وقد تحدى محمد رسول الله النبي العربي الأمي العرب بإعجازه وحكى لهم عن ربه القطع بعجزهم عن الإتيان بسورة من مثله فظهر عجزهم على شدة حرص بلغائهم إلى إبطال دعوته واجتثاث نبتته، ونقل جميع المسلمين هذا التحدي إلى جميع الأمم فظهر عجزها أيضًا وقد نقل بعض أهل التصانيف عن بعض الموصوفين بالبلاغة في القول أنهم تصدوا لمعارضة القرآن في بلاغته ومحاكاته في فصاحته دون هدايته ولكنهم على ضعف رواية الناقلين عنهم لم يأتوا بشيء تقر به أعين الملاحدة والزنادقة فيحفظوه عنهم ويحتجوا به لإلحادهم وزندقتهم. ثم ابتدع بعض الأذكياء في القرن الماضي دينًا جديدًا وضعوا له كتابًا [1] توخوا وتكلفوا فيه تقليد القرآن في فواصله وادعوا محاكاته في إعجازه بهدايته ومساهمته بإنبائه عن الأمور الغائبة المستقبلة فكان من خزيهم وخذلان الله لهم أن اضطروا إلى كتمان هذا الكتاب المختلق والإفك الملفق لكيلا يفتضحوا بظهوره وهم مازالوا يجمعون ما كانوا طبعوه من نسخه قبل أن يظهر فيهم الداهية [2] الواقف على مخازي تزويره وهم يحرقون ما جمعوه منها، ولعلهم ينقحونه ثم يبرزونه لجيل لم يطلع عليها. وقد نبتت في مصر نابتة من الزنادقة الملحدين في آيات الله الصادين عن دين الله قد سلكوا في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابًا جددًا وللتشكيك في الدين طرائق قددًا منها الطعن في اللغة العربية وآدابها والتماري في بلاغتها وفصاحتها وجحود ما روي عن بلغاء الجاهلية من منظور ومنثور وقذف رواتها بخلق الإفك وشهادة الزور ودعوة الناطقين باللسان العربي المبين إلى هجر أساليب الأولين واتباع أساليب المعاصرين ومنهم الذين يدعون إلى استبدال اللغة العامية المصرية بلغة القرآن الخاصية المضرية، والغرض من هذا وذاك صد المسلمين عن هداية الإسلام وعن الإيمان بإعجاز القرآن؛ فإن من أوتي حظًّا من بيان هذه اللغة وفاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن ببلاغته وفصاحته وبأسلوبه في نظم عبارته، وقد صرح بها من أدباء النصرانية المتأخرين الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأميركانية في كتابة الخواطر الحسان [3] . وقد رأيت شيخنا الأستاذ الإمام مرة يقرأ في كتاب إفرنسي اللغة لحكيم من حكمائها فكان مما قرأه علي منه بالترجمة العربية رد المؤلف على من قال من دعاة النصرانية: إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لم يأتِ بمثل آيات موسى وعيسى المسيح (ع. م) ، قال: إن محمدًا كان يقرأ القرآن مولهًا مدلها [4] ، صادعًا متصدعًا فيفعل في جذب القلوب إلى الإيمان به فوق ما كانت تفعل جميع آيات الأنبياء من قبله اهـ. لقد حار العلماء في حجب البيان عن وجوه إعجاز القرآن بعد أن ثبتت عندهم بالوجدان والبرهان حتى قال بعضهم: إن الله - تعالى - قد صرف عنه قدر القادرين على المعارضة بخلق العجز في أنفسهم وألسنتهم وذلك أن إدراك كنه العجز والإحاطة بأسبابه وأسراره ضرب من ضروب القدرة، والمقام مقام عجز مطلق فالقرآن في البيان والهداية كالروح في الجسد والأثير في المادة والكهرباء في الكون تعرف هذه الأشياء بمظاهرها وآثارها، ويعجز العارفون عن بيان كنهها وحقيقتها وفي وصف ما عرف منها أو عنها لذة عقلية لا يُستغنى عنها كذلك ما عرف من أسباب عجز العلماء والبلغاء عن الإتيان بسورة مثل سور القرآن في الهداية أو الأسلوب أو حسن البيان فيه لذات عقلية وروحية وطمأنينة ذوقية وجدانية تتضاءل دونها شبهات الملحدين وتنهزم من طريقها تشكيكات الزنادقة والمرتابين. فالكلام في وجوه إعجاز القرآن واجب شرعًا وهو من فروض الكفاية وقد تكلم فيه المفسرون والمتكلمون وبلغاء الأدباء المتأنقون ووضع الإمام عبد القاهر الجرجاني مؤسس علوم البلاغة كتابيه (أسرار البلاغة، ودلائل الإعجاز) لإثبات ذلك بطريقة فنية وقواعد علمية وصنف بعض العلماء كتبًا خاصة فيه اشتهر منها كتاب (إعجاز القرآن) للقاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النظار والمتكلمين في عصره؛ لأنه طبع مرتين أو أكثر فإن كان ذلك قد وفى بحاجة الأزمنة التي صنفت فيها تلك الكتب فهو لا يفي بحاجة هذا الزمان إذ هي داعية إلى قوم أجمع وبيان أوسع وبرهان أنصع في أسلوب أجذب للقلب وأخلب للب وأصغى للأسماع وأدنى إلى الإقناع. استوى إلى هذا وانتدب له الأديب الأروع والشاعر الناثر المبدع صاحب الذوق الرقيق والفهم الدقيق الغواص على جواهر المعاني الضارب على أوتار مثالثها والمثاني صديقنا الأستاذ (مصطفى صادق الرافعي) فصنف في إعجاز القرآن سفراً لا كالأسفار، أتى فيه -وهو الأخير زمانه- بما لم تأت الأوائل، فكان مصدقًا للمثل السائر (كم ترك الأول للآخر) ناهيك بمنثور للآلئه في نظم القرآن العجيب وأسلوبه المباين لجميع الأساليب فلا هو مرسل طلق العنان كالنوق المراسيل، يتعاصى على ترسل التجويد ونغمات الترتيل ولا هو مسجوع كسجع الكهان ولا شعر تلتزم فيه القوافي والأوزان، ومن آياته القصار ذات الكلمة المفردة والكلمتين والكلمات والوسطى المؤلفة من جمل مثنى وثلاث ورباع والطولى منها لا تتجاوز سطورها جمع القلة وأطولها آية الدين فقد تجاوزت مئة كلمة وكل نوع منها يؤدي بالترتيل اللائق به المعين على تدبره. وإني على شهادتي للرافعي بأنه جاء في هذا المقام بما تجلت به مباين الإعجاز ومواضحه وأضاءت لوائح الحق فيه وملامحه وددت لو مد هذا البحث مد الأديم بل أمد بحيرات نيله بجداول الغيث العميم فعم فيضانه الفروق بين نظم الآيات في طولها وقصرها، وقوافيها، وفواصلها، ومناسبة كل منها لموضوع الكلام واختلاف تأثيره في القلوب والأحلام [5] . كلفني المصنف -أيد الله به اللغة والدين- أن أكتب ثلاث صفحات أو أربعًا أعرض بها كتابه هذا على القارئين، وأنى لي بإيجاز الكتاب المنزل ولا سيما قصار سور المفصل فأعد في هذه الصفحات عناوين أبوابه وفصوله، دع ما فيها من غرر مباحثه وحجوله إذاً لست أملك من الاستجابة له فوق ما تقدم إلا أن أنصح لقراء العربية عامة وللمسلمين خاصة ولطلاب العلم منهم على الأخص بأن يقرؤوا هذا الكتاب بغية الاستعانة على النبوغ في بلاغة لغتهم والتفقه في كتاب الله تعالى وتعرف الشيء الكثير من أسرار إعجازه مما لا يجدونه في غيره قال شيخنا الأستاذ الإمام -رحمه الله تعالى-: (إن لكلام الله تعالى أسلوبًا خاصًّا يعرفه أهله ومن امتزج القرآن بلحمه ودمه، وأما الذين لا يعرفون منه إلا مفردات الألفاظ وصور الجمل فأولئك عنه مبعدون) . وقال أيضاً: (فهم كتاب الله تعالى يأتي بمعرفة ذوق اللغة وذلك بممارسة الكلام البليغ منها) . وقال في وصف من امتزج القرآن بلحمه ودمه حاكيًا عن نفسه: إني عندما أسمع القرآن أو أتلوه أحسب أني في زمن الوحي، وأن الرسول - صلى الله تعالى عليه وسلم - ينطق به كما أنزله عليه أو نزل به عليه جبريل عليه السلام. اهـ وبهذا امتاز الأستاذ الإمام -رحمه الله تعالى- على الأقران إن كان له أقران. إن الله تعالى قد أوجد بالقرآن أعظم انقلاب في البشر بتأثيره في أنفس العرب إذ جعلهم بعد أميتهم أساتيذ الأمم وسادت العجم وما فقد المسلمون هدايتهم إلا لجهلهم بأسرار لغته لذلك يهاجمه أعداؤه الملاحدة والمستعمرون من طريق لغته فليعلم المسلمون هذا وليحرصوا على حفظ دينهم بحفظ لغتهم وممارسة آدابها وأسرار بلاغتها، ولتكن غاية هذا كله فهم القرآن كما كان يفهمه سلفنا الصالح {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة المنار ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة ... ... ... ... ... ... ... ... ربيع الأول سنة 1345 تنبيه كتاب إعجاز القرآن والبلاغة النبوية جزء ضخم تبلغ صفحاته 369 صفحة وثمن النسخة منه غير مجلدة عشرون قرشًا ما عدا أجرة البريد. وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.

كتاب في الشعر الجاهلي دعاية إلى الإلحاد والزندقة وطعن في الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب في الشعر الجاهلي دعاية إلى الإلحاد والزندقة وطعن في الإسلام (تمهيد) أتيح لي النظر ثانية في هذا الكتاب وقرأت الكثير من كتبه وفصوله في فرص متفرقة فحكمت بقراءتها حكمًا تفصيليًّا لا شك فيه بمثل ما أجملته في مقالتي الأولى بعد تلك النظرة العجلى حكمت بأن الدكتور طه حسين ما ألف هذا الكتاب لتحقيق ما يمكن الوصول إليه من الشعر الجاهلي يقينًا أو ظنًّا أو شكًّا، بل ألفه لأجل الطعن في الإسلام والصد عن سبيل الإيمان والدعوة إلى الزندقة والإلحاد، هذا هو المقصد والشعر الجاهلي والأدب العربي وسيلة إليه. وقد كنت أردت أن أقرأه كله، وأحصي ما فيه من المطاعن، وأبين بطلانها ثم رأيت أن خلس الفراغ من أيام الجمع لا تمكنني من ذلك إلا في عدة أشهر فرجعت إلى رأيي الأول وهو ترك الرد التفصيلي للذين صنفوا، والذين لا يزالون يصنفون كتبًا خاصة في ذلك يُعْنَى كل منهم برد نوع من أباطيل الكتاب وصاحبه أو برد عدة أنواع منها كما فعل (مصطفى صادق أفندي الرافعي) و (محمد فريد أفندي وجدي) فإن هذا قد بين أغلاطه وجهله من الوجهة العلمية والتاريخية دون ضلالاته الدينية وكأنه رآه مفيدًا من هذه الوجهة بهدمه للإسلام المعروف عند أكثر المسلمين لعله يكون وسيلة وتمهيدًا للإسلام الصحيح إسلام القرآن الحكيم؛ إذ كان كتب مقالات في جريدة الأخبار ارتأى فيها أن المسلمين لا يمكن أن يكونوا مسلمين كما يجب إلا إذا تركوا الإسلام المعروف عندهم وارتدوا عنه معتقدين بطلانه، ثم دعوا إلى الإسلام الآخر، وقد حفظت هذه المقالات عندي لأبين ما فيها من خطأ وصواب عند سنوح الفرصة. وإنني أبدأ الآن ببيان خطة الدكتور طه في دعايته الإلحادية وما مهد لها به في كتابه الجديد (في الشعر الجاهلي) من الدعاوى والقواعد الخادعة مع تفنيدها وبيان ما فيها من التعارض والتناقض، ثم أقفي على ذلك ببيان أهم مطاعنه في الدين الإلهي وفيما ختمه الله وأكمله به ببعثة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -. *** الفصل الأول (المقاصد والأصول والمقدمات التي جرى عليها الدكتور طه حسين) (في طعنه في الإسلام ودعوته إلى الإلحاد) 1- إن الدكتور طه حسين قد أخذ على عاتقه أن يحارب دين الإسلام والأمة الإسلامية بالطعن فيهما وصرف الناس عنهما إلى الزندقة والإباحة. ذلك شأنه في مصنفاته من (ذكرى أبي العلاء) إلى (في الشعر الجاهلي) وفي مقالاته التي نشرها في جريدة السياسة تحت عنوان (حديث الأربعاء) إلى مقاله الأخير (العلم والدين) وهي خطة قد ابتدعها بعض اليهود في أوربة لإفساد دين النصرانية على أهله، ويقال: إن لبعض أعضاء جمعية الإلحاد والزندقة هنا صلة ببعض الجمعيات اليهودية. 2- إن من أساليب الدكتور طه حسين المعروفة في كل ما كتبه أنه يخترع مسائل يجعلها من قبيل القضايا المسلمة بما يزينها من خلابة القول ثم يستدل بها أو يورد عليها بعض الشبهات ويرد عليها دفاعًا عنها وهذا كثير في كتابه هذا وسنذكر أمثلته عند بيان بطلانه. 3- إن من أساليبه أنه يشكك في المسائل الثابتة بضروب من خلابة المغالطة أو السفسطة، ويزين هذا التشكيك لقارئ كلامه ويحاول حمله على قبوله بدعوى أن الشك في كل شئ هو الطريق اللاحب الموصل للعلم الحق والفلسفة الصحيحة والتجديد فيجب على طالب الحقيقة أن يقبله، ولو على سبيل الفرض بأن يفرض أن ما يؤمن به إيمانًا يقينيًّا هو باطل لا حقيقة له؛ لأجل أن يكون سالكًا للمنهج الذي زعم أن الذي نهجه وأشرعه للناس هو الفيلسوف (ديكارت) للبحث عن حقائق الأشياء وهو تجرد الباحث من كل شيء كان يعلمه من قبل (ص11) أو ليلذذ عقله بالشك والقلق والاضطراب (ص 5) أو ليتمتع بلذة قبول كل جديد ونبذ كل قديم ولا سيما إذا كان إسلاميًّا. فيكون من المجددين الذين يكونون أشد شكًّا في القديم أو أشد ما يملكهم الشك حين يجدون من القدماء ثقة واطمئنانا (ص5) يعني جل لذتهم وغبطتهم في هدم ما بناه المتقدمون. 4- إنه قد بيَّن في التمهيد من كتابه هذا المذهب الذي يجرى عليه هو وإخوانه المجددون للإلحاد والإباحة وزيَّنه بقوله (ص 2) (أريد أن لا نقبل شيئًا مما قال القدماء في الأدب وتاريخه إلا بعد بحث وتثبت إن لم ينتهيا إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان) . 5- إنه ذكر الفرق بين هذه المذهب ومذهب القدماء بزعمه فقال والفرق بين المذهبين في البحث عظيم فهو الفرق بين الإيمان الذي يبحث علي الاطمئنان والرضا والشك الذي يبعث علي القلق والاضطراب وينتهي في كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود. ثم وصف هؤلاء المجددين وثمرة مذهبهم بقوله: والنتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر فهي إلى الثورة الأدبية أقرب منها إلى شيء آخر، وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقينيًّا وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه اهـ. ثم وصفهم بما هو أبعد في الصراحة مدى من ذلك وهو قوله: وهم قد ينتهون إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك فيها. 6 - إنه فصل إجمال هذا المذهب بما أوجبه على هذه الطائفة، بقوله: نعم، يجب حين نستقبل البحث عن الأدب العربي وتاريخه أن ننسى قوميتنا وكل مشخصاتها وأن ننسى ديننا، وكل من يتصل به وأن ننسى كل ما يضاد هذه القومية وما يضاد هذا الدين يجب أن لا نتقيد بشيء ولا نذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح ذلك أننا إذا لم ننس قوميتنا وديننا وما يتصل بهما فسنضطر إلى المحاباة وإرضاء العواطف وسنغلّ عقولنا بما يخالف هذه القومية وهذا الدين وهل فعل القدماء غير هذا؟ وهل أفسد علم القدماء غير هذا بحروفه؟ اهـ بحروفه. 7 - من مناهج الدكتور طه حسين في مباحثه العلمية والأدبية ومقاصده الإلحادية الإباحية أنه يعمد إلى شيء من الباطل كالخرافات أو الروايات التي لا تصح؛ فيقرن به شيئًا من الحق المشابه له ليوهم المطلع على كلامه أن حكمهما واحد، ثم إنه يجعل الباطل هو الحق الذي لا مرية فيه، ولا مراء إذا كان مشككًا في الإسلام أو مزريًا به وصادًّا عنه كما جمع بين خرافات الجاهلية في الجن وتلقينهم الشعر للشعراء، وبين ما ثبت في الكتاب والسنة من وجود الجن وإيمان بعضهم وكفر بعض ليوهم المسلمين، أن هذا من ذاك كل منهما خرافات. 8 - من منطق الدكتور طه حسين في البحث والاستدلال أنه يجعل بعض جزئيات الأخبار التي توافق هواه قواعد كلية وحججًا علمية لا يتسرب إليها شيء من الشك الذي فرضه في كل كلام قديم حتى الكلام القديم الأزلي وهو كلام الله تعالى، وإن لم ترو بسند صحيح، ولم تمحص بنقد ولم تثبت بدليل، كزعمه أن سعد بن عبادة قد قتله المسلمون قتلاً، لما زعم من ذنوبه وادعوا أن الجن قتلته، وسيأتي بيان ما فيه من الكذب المتعمد؛ فكيف إذا كانت تلك الجزيئات مأخوذة بالتسليم ومن هذا أنه جعل وقائع الأحوال في العصبية القومية بين العرب أصلا يحمل عليه ما ليس منه حتى أدخل في عمومه المهاجرين والأنصار الذين ألف الله بين قلوبهم بالإسلام فأصبحوا بنعمته إخوانًا كما يشهد لهم القرآن والتاريخ الصحيح الثابت بالتواتر. 9 - من منهج الدكتور طه أنه يأخذ كلام بعض أعداء الإسلام في الطعن فيه بالقبول ولا يجري فيه علي قاعدته في رد كلام المتهم بعداوة، أو عصبية، ولا بقاعدة (باكون) التي ادعى أنه لا يحيد عنها في مباحثه فقد رأيناه ينتحل بعض كلام دعاة النصرانية التي جعلت جمعياتهم الدينية رزقهم ومادة معيشتهم وتكريمهم الطعن في الإسلام ودعوة أهله إلى تركه من حيث يطعن في روايات أئمة المحدثين الذين يتقربون إلى الله تعالى بتمحيص الروايات مهما يكن موضوعها حتى إن بعضهم صحح بعض ما يعد طعنًا في الإسلام، أو يغري بالطعن فيه وحكموا بالضعف تارة وبالوضع أخرى على أحاديث لا يختلف عاقلان في صحة معناها وتأييدها للإسلام. 10 - من سنن الدكتور طه ودأبه أنه يخترع للقضايا والمسائل الصحيحة والمخترعة المفتراة منه عللا باطلة يفتجرها افتجاراً للطعن في الإسلام كما علل ما زعمه من اختراعهم للشعر الجاهلي بأنهم كانوا محتاجين إلى ذلك لتأييد لغة القرآن وكما علل به انتساب العرب العدنانيين إلى إسماعيل بن إبراهيم وما علل به تسمية الإسلام بملة إبراهيم إلخ إلخ. *** الفصل الثاني (1) تفنيد زعمه أنه هو وأعوانه طلاب علم يقيني في الشعر الجاهلي: زعم الدكتور طه حسين أو يوهم تلاميذه وقراء كتابه أن الغاية الثمينة النفيسة الغالية التي ينسى هو وإخوانه المجددون للإلحاد والزندقة قوميتهم ودينهم وما يتصل به من كتاب ربهم وسنة رسوله لأجل الوصول إليها هي تحقيق الحق في الشعر الجاهلي ونحوه من الأدب العربي وتاريخه فإن لم ينتهوا بعد تكذيب كل قديم فيه والبحث الجديد إلى اليقين فحسبهم الانتهاء إلى الرجحان (ص 2 و 3) . ثم قال إن أول شيء يفاجأ به القارئ أنه بإلحاحه في الشك وإلحاح الشك عليه أخذ يبحث ويفكر ويتدبر حتى انتهى به ذلك كله إلى شيء إلا يكن يقينًا فهو قريب من اليقين؛ ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعرًا جاهليًّا ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام ثم صرح بأن المسلمين هم الذين اختلقوا هذا الشعر واخترعوه وقد أشرك المفسرين والمحدثين والمتكلمين في هذا الاختلاق والاختراع؛ لأنه يريد أن يعتقد تلاميذه أن جميع علماء المسلمين كانوا كذابين أفاكين حتى أئمة الدين منهم. لكنه نقض كل ما كان بناه في هذا الفصل وهو الأول التمهيدي وهدمه في آخره بعد أن أطال فيما أراد أن يجعله قاعدة مسلمة في سبب ما قذف به علماء المسلمين من الاختلاق فقال (ص10) : (فإذا انتهينا من هذه الطرق كلها إلى غاية واحدة هي هذه النظرية التي قدمتها فسنجتهد في أن نبحث عما يمكن أن يكون شعرًا جاهليًّا حقًّا وأنا أعترف منذ الآن بأن هذا البحث عسير كل العسر وبأني أشك شكًّا شديدًا في أنه قد ينتهي بنا إلى نتيجة مرضية ومع ذلك فسنحاوله) اهـ. فقصارى فلسفة الدكتور وإخوانه دعاة الإلحاد أنهم يدعون تلاميذ الجامعة المصرية وغيرهم من قراء العربية إلى أن يتجردوا من دينهم وهدايته التي هي مناط سعادة الدنيا والآخرة حسب أصول الإيمان وأن يتجردوا من جنسيتهم ووطنيتهم التي بها يعتزون ويتناصرون ويحافظون على شرف الاستقلال والحرية القومية وإباء ذل العبودية، وأن يلقوا أنفسهم بعد هذا التجرد في تيار من بحر الحيرة والاضطراب في إثبات الشعر الجاهلي يدفعهم شك ويتلقاهم ريب ولا ينتهون إلى نتيجة مرضية {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} (البقرة: 16) والشك باليقين والحيرة والاضطراب بالسكينة والطمأنينة {فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة: 16) . أما والله إن هذا مذهب باطل لا يرضاه لنفسه فاضل، وتجارة لا يختار بضاعتها المزجاة عاقل، وإن هؤلاء المجددين للإلحاد والإباحة لا يقصدون هذا الشك المظلم ولا يتلذذون به وإنما يتوخون التشكيك لغيرهم لينتظموا في سلك ملاحدة أوربة الذين نسب اليهم صد أهلها عن النصرانية، إن لم يكونوا كلهم مستأجرين لذلك من المستعمرين الطامعين أو من البلشفيين وأمثال البلشفيين. *** (2) تصريحه بأنهم دعاة كفر وجحود للدين: وصف الدكتور طه حسين هذا الشك في آخر الصفحة الثانية بأنه ينتهي في كثير من الأحيان إلى الإنكار والجحود، وقال في وصف أهله

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي الباب العاشر بعض الحوادث الفجائية (الغرق) نتوجه الآن إلى بعض الحوادث الفجائية الكثيرة الوقوع وطرق معالجتها إن المعرفة بهذه الأمور ضرورية جدًّا لكل إنسان ليتمكن من المساعدة في الوقت اللازم ويمنع ضياع كثير من النفوس الثمينة، حتى إن الأطفال يجب أن يعلموا ما ينبغي أن يفعل إزاء هذه الحوادث ليشبوا على عواطف الرحمة والكرم والتفكر والتأمل. ** لنبحث أولاً في الغرق: بما أن الإنسان لا يمكن أن يعيش بدون الهواء أكثر من خمس دقائق لذلك يموت الغريق سريعًا فإذا أخرج من الماء يجب الاهتمام به حالا قبل أن تذهب حياته بالكلية؛ ولهذا الغرض يجب السعي لشيئين خاصة وهما تدفئة الغريق وإيجاد التنفس الصناعي فيه لا ينبغي أن ننسى أن هذه المساعدة الأولية تعمل على حافات البرك وشواطئ الأنهار حيث لا تتيسر جميع الأشياء الضرورية لذلك. وإن هذه المساعدة تكون مفيدة كثيرًا إذا كان هنالك على الأقل رجلان أو ثلاثة يجب أن يكون المساعد الأول فطنًا نشطًا قوي الجأش؛ لأنه إن ضيع ثبات نفسه فكيف ينفع غيره وكذلك إن أخذ الحاضرون يتجادلون في طرق المعالجة فيضيعون الوقت ويقضى على الغريق؛ ولذلك يجب أن يقود الجماعة في العمل أحزم رجالها ويتبعه الآخرون بكل دقة. إذا أخرج الغريق من الماء يجب المبادرة إلى نزع ملابسه المبلولة وتنشيف جسده ثم ينوم مبطوحًا على بطنه وتجعل يداه تحت جبهته ثم يضع الممرض يديه تحت صدره فيضمه ويعصر ما في داخل بطنه من الماء والتراب وعند ذلك يخرج الغريق لسانه بنفسه خارج فمه فيقبض عليه بمنديل ولا يترك ليعود إلى مكانه حتى ترجع إليه حواسه وعند ذلك يقلب على ظهره حالا بحيث يكون رأسه وصدره أعلا قليلاً من رجليه ثم يجثو عند رأسه أحد الحاضرين ويشد ذراعيه ويمدهما ويرفعهما بسهولة من الجهتين فتعلو بهذه الطريقة أضلاعه ويتمكن الهواء الخارجي من الدخول في الصدر وعند ذلك تعاد يداه بسرعة وتوضع فوق صدره لتضغط عليه وتساعد على خروج الهواء وكذلك يرش بالماء الساخن والبارد على صدره ويجب تدفئة الغريق بالنار إن أمكن إيقادها حوله، وإلا فيغطى جسده بجميع الملابس المتيسرة ويدلك دلكًا جيدًا لتعود إليه الحرارة كل هذا يجب عمله مدة طويلة بدون استسلام لليأس. فقد عملت في بعض الحوادث هذه الأشياء إلى بضع ساعات قبل أن يعود إلى الغريق التنفس فإذا ظهرت بوادر الإحساس فينبغي أن يسقى حالاً شرابًا ساخنًا، وإن عصير الليمون في الماء الساخن أو مغلية القرنفل أو الفلفل الأسود أو قشر شجرة الفار tobacco Bay يكون نافعًا في هذه الحالة وكذلك قد تنفع رائحة التبغ، ويجب منع الناس من الازدحام حول الغريق لئلا ينحبس الهواء. إن علائم الموت في الغريق كما يلي: الوقوف التام للتنفس وضربات القلب والنبض، ويعرف ذلك بوضع ريشة قرب أنفه فلا تتحرك وتبقى واقفة على حال أو مرآة أمام فمه فلا ترطب بنفسه وتبقى العينان شاخصتين ونصف مفتوحة ويتصلب الفكان وتتقلص الأصابع، ويقف اللسان بين الأسنان، ويميل الفم إلى الأمام ويحمر الأنف، ويصفر الجسم، إن ظهرت جميع هذه العلائم في وقت واحد فيمكننا أن نحكم بموته ولكن قد شوهد في بعض الحوادث النادرة أن الحياة باقية بعد وجود جميع هذه العلائم فعلم أن الجزم بالموت إنما يكون إذا أخذ الجسم في الفساد والانحلال فعلى هذا لا يصح ترك الغريق إلا بعد استعمال جميع الطرق المفيدة مدة طويلة. *** الحرق إذا اشتعلت ملابس رجل ففي أكثر الأحيان نحن نجزع ونفزع، فعوضًا من أن نساعد المسكين نزيد الطين بلة بجهلنا؛ ولذلك يجب علينا أن نعرف تمامًا ما ينبغي عمله في مثل هذه الحوادث. إن الذي تشتعل النار في ملابسه لا ينبغي له أن يدهش ويفقد ثباته فإن كانت النار في طرف واحد من الثوب يجب الضغط عليه باليد وفركه حالاً، ولكن إن كانت قد امتدت إلى أكثر الثوب أو كله فعليه أن يلقي نفسه حالاً على الأرض ويتمرغ عليها تمرغًا؛ وإذا وُجد ثوب سميك فليلفه على جسمه حالاً، ويرش عليه الماء إذا كان حاضرًا فإذا انطفأت النار تجب المبادرة إلى البحث في الجسد عن آثار الحروق لمداواتها، إن الثوب يلتصق عادة في الأماكن المحروقة من الجسم ولكن لا ينبغي نزعه بالقوة بل يقرض بلطف بالمقص ويترك المكان المحروق على حاله مع غاية الاحتياط حتى لا ينسلخ الجلد ثم تستعمل بعد هذا مباشرة اللبخة الطينية الطاهرة في جميع هذه الأماكن وتربط على كل منها بعصابة. إن اللبخة تخفف الحرق كثيرًا وتسهل على المريض آلامه وهي تستعمل كذلك على الأماكن التي التصق بها الثوب فإذا أخذت تجف تغير حالاً وليس هناك سبب للتخوف من مس الماء البارد. ولكن إن لم يتيسر هذا الإسعاف الأولي فالنصائح الآتية تفيد كثيرًا. يبلل ورق الموز الأخضر بزيت الزيتون جيدًا أو الزيت الحلو ويوضع فوق الحرق وإن لم يتيسر ورق الموز فتستعمل قطعة من الثوب النظيف الجيد، وكذلك مزيج من زيت الكتان وماء الجص في مقدار واحد يأتي بنفع عظيم. إن قطعات الثوب التي لصقت بالحروق يمكن إزالتها بسهولة ببلها بمزيج من اللبن الفاتر والماء، إن العصابة الزيتية الأولى يجب أن ترفع بعد يومين ثم تستعمل العصابات الجديدة كل يوم إن تكونت الغراغر على الجلد المحروق يجب فقؤها ولكن سلخ جلدها ليس بضروري، وإن احمرّ الجلد فقط بسبب الحروق فليس هنالك علاج أنفع من استعمال اللبخة الطينية. إن احترقت الأصابع فيجب الاحتياط عند استعمال اللبخة الطينية بأن لا يلمس بعضها بعضًا وهذا العلاج نفسه يستعمل كذلك في حوادث الحرق من الحوامض [1] (Acids) وينفع نفعًا عظيمًا جدًّا. *** نهش الحية شاعت بيننا أوهام لا تحصى في شأن الحيات فقد زرعنا من الدهور السالفة الخوف الشديد في نفوسنا منها حتى إننا نخاف من مجرد ذكر اسمها، والهندوس يعبدونها فقد خصصوا من كل سنة يومًا لهذا الغرض وسموه بـ (ناغ بنجمي) وقد بلغ بهم الوهم إلى أن أخذوا يزعمون أن الأرض إنما قامت بإعانة الحية الكبرى المسماة (سيشا) ويسمونه الإله (وشنو) بـ (سيشا شائي) لأنهم يعتقدون أنه ينام فوق ظهر إله الحية، وأن الإله (سيوا) يعلق في عنقه عقدًا من الحيات حتى إنه ضرب المثل بذكاء الحية وعقلها؛ فإدا عسر فهم شيء قالوا: هذا ما لا يمكن أن يفسره حتى صاحبة الألوف من الألسنة كناية عن الحية (أذي سيشا) اعتقادًا بقوة شعورها ودقة عقلها وقد زعموا أن الثعبان (كركولاكا) قد نهش الملك نالا وشوه وجهه لئلا يتعذب أثناء سياحته في الغابات بسحر السحرة ومثل هذه الأوهام توجد في الأمم المسيحية الغربية أيضًا فيصفون بالإنكليزية عقل الرجل ودهاءه بأنه كالحية، وقد قيل في التوراة: (إن الشيطان قد اتخذ صورة الثعبان ليغوي حواء) . والسبب الحقيقي في هذه العبادة هو الخوف من الثعبان لما نراه من سرعة موت الذين يسري السم في أجسادهم سريعًا من الملدوغين وفكرة الموت تريعنا ولذلك نخاف من اسم الثعبان، ولو كان خلقًا حقيرًا لما عبدناه بسهولة. أما علماء العرب اليوم فيقولون: إن الحية ليست إلا خلقًا شريرًا ويجب قتلها أينما وجدت وقد أثبتت الإحصاءات الرسمية بأنه لا أقل من عشرين ألف نفس يموتون سنويًّا في الهند من نهش الثعابين والحيات والحكومة تجازي على قتل كل ثعبان سام بجوائز، ولكن لم يثبت حتى الآن أن البلاد استفادت من ذلك شيئًا لقد علمنا بالتجربة أن الحية لا تلدغ أبدا تعديًا وبطرًا، بل إنما تفعل ذلك منتقمة إذا أوذيت وأقلقت أليس هذا وحده يثبت عقلها أو على الأقل عصمتها؟ [2] إن السعي لتطهير الهند أو أي قسم منها من الثعابين سعي مضحك عبث يشبه السعي لمحاربة الهواء قد يمكن منع الثعابين من الدخول في مكان خاص بطريقة علمية للقتل والهلاك ولكن هذا العمل لا يمكن القيام به في بلاد واسعة، إن مهمة منع حوادث النهش في قطر عظيم مثل الهند بقتل عام للحيات حماقة بحتة من أصلها. لا ينبغي لنا أن ننسى أبدًا أن الثعابين أيضًا من خلق الله خالقنا وخالق جميع المخلوقات، إن حكمة الله لا يمكن معرفتها ولكن لا يجوز أن نثق بأنه تعالى لم يخلق الحيوانات المفترسة كالأسد والنمر أو السامة كالحيات والعقارب إلا لأجل أن يتيسر له هلاك النوع الإنساني لو تجتمع الحيات في مؤتمر لها وتحكم بأن الإنسان ما خلقه الله إلا ليبدها ناظرة إلي أنه يقتلها حيث يجدها فهل نحن نوافقها في قرارها؟ كلا ثم كلا؛ فهكذا نحن أيضًا مخطئون في عدنا للثعبان عدوًّا طبيعيًّا للإنسان. إن [3] Francis. ST الكبير الذي كان تعود السياحة في الغابات لم يتأذ قط بالثعابين ولا الحيوانات المفترسة بل إنها كلها قد عاشت معه بكل محبة وألفة وهكذا الألوف من رهبان الهندوس يعيشون في غابات الهند بين الأسود والنمور والثعابين ولم نسمع قط أن هذه الحيوانات قتلتهم، قد يعارضنا معارض بأنهم يقتلون في الغابات ونحن لبعدنا الكثير عنهم لا نسمع ذلك سلمنا ولكن مما لا يمكن المماراة فيه هو أن عدد هؤلاء الرهبان الذين يعيشون في الغابات لا يكاد يذكر أمام عدد الثعابين والحيوانات المتوحشة فلو كانت هي عدوة طبيعية للإنسان لفتكت بهذا النوع من الناس فتكًا ذريعًا ولأهلكتهم بسرعة عظيمة لأنهم لا يحملون معهم أسلحة يمكن أن يدافعوا بها عن أنفسهم حملاتها ولكنا نرى أنهم لم يفنوا مطلقًا؛ فيمكننا أن نستنتج من هذا أن الثعابين والحيوانات المتوحشة تتركهم يعيشون في الغابات بدون أن تؤذيهم، وإني قد تشبعت بعقيدة في هذا الشأن وهي مادام الإنسان لا يعادي خلقاً فإنه كذلك لا يعاديه أحد، إن الحب هو أكبر صفات الإنسان ومميزاته حتى إنه إذا خلت منه عبادة الله تعالى فلا تكون إلا شيئًا فارغًا وهو بالاختصار أصل الأصول لجميع الأديان بلا استثناء. ثم لماذا نحن لا نعد شراسة الثعابين والحيوانات المتوحشة مجرد نتيجة وانعكاس لطبيعة الإنسان نفسه؟ وهل نحن أقل فتكًا منها؟ أليست ألسنتنا سامة كأسنان الثعابين؟ ألسنا نحن أيضًا نهاجم إخواننا المعصومين كما تفعل الأسود والنمور مثلا بمثل؟ تنادي جميع الكتب المقدسة بأن الإنسان إذا خلي من الشر تأخذ سائر الحيوانات الأخرى في المعيشة معه بسلام، ومادامت نار الحرب والعداوة والبغضاء تتأجج في صدورنا ونحن نفترس بني جلدتنا كما تفترس الذئاب الغنم فهل ينبغي لنا أن نتعجب إن رأينا مثل ذلك يجري فيما حولنا من الدنيا وهل هذه الدنيا الخارجية إلا انعكاسًا للدنيا الداخلية في أدمغتنا؛ فإذا نحن غيرنا طبعنا فلا بد أن تتغير الدنيا في سلوكها معنا ألا نري نحن هذه الوحوش تسالم أولئك الناس الذين أصلحوا نفوسهم وقبضوا على أزمة شهواتهم بيد حديدية؟ أو تعاملهم بضد ما تعامل غيرهم به، إن هذا لسر كبير لخلق الله [4] وكذلك للمسرة الحقيقية أن مساراتنا وأحزاننا تتوقف تمامًا على أنفسنا نحن لا نحتاج أن نتكل في هذا الأمر على أناس آخرين. إن عذرنا في إطالة الكتابة في مسألة النهش هو أننا أحببنا عوضًا من أن نصف مجرد العلاج له أن نتروى قليلاً في المسألة ونتبين أحسن طريقة للخلاص من مخاوفنا الوهمية وإني لو لم يسلم بصحة ما كتبته إلا واحدًا من القراء ويعمل بها أرى أني قد جوزيت جزاء حسنًا على تعبي ثم إن غرضنا من كتابة هذه الصفحات ليس مجرد ع

مذكرة مرفوعة

الكاتب: عبد الرحمن الجمجموني

_ مذكرة مرفوعة لحضرة صاحب الفضيلة العلامة الشيخ السيد محمد رشيد رضا المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد فقد وصلني ج 5 م 26 من المنار النافع وتصفحته فبدت لي عليه الملاحظات الآتية: (الأولى) قلتم في تفسير فتون سليمان عليه السلام ص 41 س 6 ما نصه: (ووضعت غلامًا مشوهًا هو نصف غلام، فألقي على كرسيه ليعتبر) . ثم نسبتم ذلك لنص حديث الصحيحين في ص 343 س 14 وحيث إن جملة فألقي على كرسيه ليعتبر لم ترد في الحديث لا بلفظها ولا بمعناها كما يعلم لفضيلتكم بمراجعة نص الحديث في البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء ضمن باب واذكر عبدنا داود مع ملاحظة ما ذكره صاحب الفتح في شرح قوله إلا واحدًا ساقطًا أحد شقيه، حيث قال ما نصه: (حكى النقاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي ألقي على كرسيه وقد تقدم في البخاري قول غير واحد من المفسرين أن المراد بالجسد المذكور شيطان وهو المعتمد والنقاش صاحب مناكير كما هو منصوص في هذا الباب قبل هذا الحديث في البخاري أيضًا. وحيث إنكم صرحتم في آخر هذا الموضع بأنكم كتبتموه بغير مراجعة لكثرة الأشغال فلكم العذر فطبعًا إنكم تستدركونه في الجزء الآتي صيانة للفظ الحديث الصحيح، وقد سبق مثل ذلك في ص 91م5 فلعلكم تنوهون إلى ذلك أيضًا. (الثانية) قلتم في ص 322س 4 من الجزء الحاضر ما نصه (ولو ذكر في القرآن أن الرجل الذي آتاه الله آياته هو (بلعام) هذا أو لو صح هذا في خبر مسند متصل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان صحيحًا) وقد نقل العلامة الجزائري في كتابه توجيه النظر عن الحاكم النيسابوري في الكلام على الموقوفات من الروايات ص 165 من توجيه النظر ما نصه (فأما ما نقول في تفسير الصحابي: إنه مسند فإنما نقوله في غير هذا النوع الموقوف وذلك فيما أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا وكذا فإنه حديث مسند) لذلك قال العلامة الزرقاني في شرحه على البيقونية في المصطلح في الكلام على الموقوف أيضًا ما نصه: (ومحل كون ما أضيف للصحابي موقوفًا حيث كان للرأي فيه مجال فإن لم يكن للاجتهاد فيه مجال ظاهر فهو مرفوع وإن احتمل أخذ الصحابي له عن أهل الكتاب تحسينًا للظن به) . اهـ وإن أكثر الأحاديث التي لم ترضونها في هذا الموضوع مروي عن أجلاء الصحابة الذين شهدوا الوحي والتنزيل كما يتضح بالمراجعة. وقلتم أيضًا في هذا الموضوع ص323س20 (ولقد رأينا شيخ المفسرين ابن جرير لم يعتد بها) وبناء على القاعدة التي ذكرها الحاكم راجعنا تفسير ابن جرير فلم نهتد إلى عبارة يؤخذ منها عدم اعتداده بهذه الأحاديث. لذلك أرجو إمعان النظر في الموضوع أيضًا والاستدراك عليه وعلى عبارتكم عن ابن جرير بما تروه أو أن تتكرموا علينا بإبداء رأيكم الثاقب في عبارتي الحاكم والزرقاني مع إرشادنا إلى الجملة التي صدرت من ابن جرير الدالة على عدم اعتداده بهذه الأحاديث ولكم من المولى الثواب الجزيل. (الثالثة) قلتم في آخر ص 342 (وقد قال الإمام أحمد) ثم لم تذكروا عبارته إلا في آخر الصفحة الثانية مصدرة بإعادة هذه الجملة أيضًا فالأولى زائدة طبعًا فأرجو التنويه بحذفها من آخر ص 342 رفعًا للإبهام وتحقيقًا لنسبة النصوص ولكم الشكر. هذا ما عنَّ لي الآن من الملاحظات على هذا الجزء كتبته على عجل كي تدركون ما يلزم تحريره في الجزء التالي خدمة لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم - والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً واقبلوا فائق الاحترام من المخلص. ... ... ... ... ... ... ... ... 7 ربيع أول سنة 1345 ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجموني *** تعليق المنار على هذا الانتقاد (وفيه القول الفصل بين المقلدين الجامدين وبين طلاب الإصلاح المستقلين) (في الإسرائيليات وإفهام المؤلفين الميتين) في هذه المذكرة عدة مسائل منتقدة نجيب عنها واحدة بعد واحدة الأولى تفسير الجسد الذي فتن به سليمان: وزعم المنتقد أنني أسندت إلى حديث الصحيحين ما ليس فيه صرحت في جواب هذه المسألة من الجزء الخامس بأنني كتبت ما كتبته من غير مراجعة شيء من الكتب في تفسير الآية والروايات الواردة فيها وذلك أنني كتبت ما هو مخزون في نفسي من مطالعاتي السابقة لكتب التفسير فيها وكان سبق لي مثل ذلك بإيجاز منذ 26 سنة في (م5 منار) كما صرحت بأنني لم أراجع شيئًًا من ألفاظ الأحاديث الواردة فيها فلا يمكن إذًا أن أريد مما كتبت عزوه إلى نصوصها وقد راجعت عند كتابة هذا التعليق بعض تلك الكتب فظهر لي أن تلك العبارة التي كتبتها على عجل هي خلاصة أقوال المحققين من المفسرين وأنا لم أعز العبارة التي نقلها المنتقد من (ص 341 س6) إلى نص حديث الصحيحين كما ادعى بل قلت: (وأقول بالإجمال: إن الذي ورد في تفسير فتون سليمان في الكتب الصحيحة كذا) وإنما أشرت إلى حديث الصحيحين إشارة بذكر معناه فلا يصح مع هذا أن يقال إنني عزوت إلى هذا الحديث شيئًا ليس فيه ولو بغير تعمد كما قال وإنما غرضي من عزو ما أجملته إلى كتب التفسير أن جملة ما قاله أصحابها المحققون أن المراد بالجسد هو الولد المشوه الذي ورد ذكره في حديث الصحيحين وإنني أنقل الآن عنها ما يؤيد مما كتبته من غير مراجعة شيء منها ولا من غيرها كما صرحت به في تلك الفتوى في الموضوع. وأقول: قبل ذلك إن الذي جعل الشيخ عبد الرحمن الجمجموني يُعنى بهذا الانتقاد هو أن ما نرفضه من تفسيرها، وهو أن الذي ألقاه الله على كرسي سليمان فتنة له شيطان تمثل بصورته وصار يحكم بين الناس باسمه مروي عن بركان الخرافات كعب الأحبار الذي شغل الجمجموني إثبات تعديله والدفاع عنه حتى ألهاه عن زراعته وحمله على وضع نفسه حيث وضعها من مقام نقد التفسير والحديث وهو لا يمكن إتقانه له مع الاشتغال بالزراعة. أما ما ذكره الحافظ في الفتح من حكاية النقاش (المفسر) لما اخترناه من أقوال المفسرين في الجسد وقوله فيه إنه صاحب مناكير فلا يضرنا لأننا لم نختر هذا القول لحكاية النقاش له، ولا اعتمادًا على روايته التي لم نطلع عليها وإنما اخترناه تبعًا لبعض المحققين كما ستعلمه مما ننقله عنهم وقد سبقنا القسطلاني في شرحه للبخاري في نقل اعتماد القاضي البيضاوي لما ذكره النقاش وأشار إلي تصويبه وترجيحه على ما ذكره البخاري عن بعضهم كمجاهد ولم يذكر القسطلاني في شرحه للحديث ما قاله ابن حجر في تضعيف قول النقاش لأنه لم يعتد به. وأما اعتماده لقول من نقل البخاري عنهم أن الجسد المذكور شيطان فهو ليس حجة علينا أعني ليس حجة علي وعلى من اخترت قولهم لأن الروايات الأخرى إسرائيلية ومروية عن كعب الأحبار الذي أجزم بكذبه بل لا أثق بإيمانه ولأن فيها طعنًا على نبي الله سليمان عليه السلام كما قالوه وصاحب الفتح لا مانع عنده من ترجيح رواية سندها إلى كعب الأحبار قوي على رواية النقاش المجروح في روايته عند أهل هذا الفن وأما البخاري فلم يرو تفسير الجسد بالشيطان بسند من أسانيد الصحيح وإنما ذكره في تفسير بعض المفردات فهو تعليق له في تفسير كلمة مفردة. *** خلاصة من أقوال محققي المفسرين في المسألة من المعقول والمنقول (1) قال الفخر الرازي إمام مفسري المعقول في تفسير الآية: اعلم أن هذه الآية شرح واقعة ثانية لسليمان عليه السلام اختلفوا في المراد من قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: 34) ولأهل الحشو والرواية فيه قول ولأهل العلم والتحقيق قول آخر أما قول أهل الحشو فذكروا فيه حكايات. (وذكر أربع روايات مختصرة مما سيأتي مطولاً ثم قال) (واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه: (الأول) أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع فلعل هؤلاء الذين رأوهم الناس في صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية. (الثاني) أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد وحينئذ وجب أن يقتلهم وأن يمزق تصانيفهم وأن يخرب ديارهم ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى. (الثالث) كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان ولا شك أنه قبيح. (الرابع) لو قلنا: إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه، وإن لم يأذن فيه ألبتة فالذنب على تلك المرأة فكيف يؤاخذ سليمان بفعل لم يصدر عنه فأما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب أشياء: (الأول) أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين: إن عاش صار مسلطًا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو مشتغل بمهماته إذ أُلقي ذلك الولد ميتًا على كرسيه فتنبه على خطئه في أنه لم يتوكل فيه على الله فاستغفر ربه وأناب. (الثاني) روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنه قال: قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء على كرسيه فوضع في حجره [1] فوالذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا كلهم في سبيل الله فرساناً أجمعون فذلك قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} (ص: 34) (الثالث) قوله: (ولقد فتنا سليمان) بسب مرض شديد ألقاه الله عليه {وألقينا على كرسيه جسدًا} (ص: 34) منه وذلك لشدة المرض والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم وجسم بلا روح ثم أناب أي رجع إلى حال الصحة فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة ألبتة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة. (الرابع) أقول لا يبعد أيضًا أن يقال: إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط خوف أو توقع بلاء من بعض الجهات عليه وصار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الملقى على ذلك الكرسي ثم إنه أزال الله عنه ذلك الخوف وأعاده إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب. اهـ المراد من كلام الرازي. (2) وبمثل القول الثاني من تفسير الجسد عند الرازي قال البيضاوي الشافعي والطوفي الحنبلي وأبو السعود الحنفي. وجعل القسطلاني في شرحه للبخاري اعتماد البيضاوي لقول النقاش إشارة إلى تصويبه واكتفى بذلك ولم يذكر اعتماد ابن حجر لغيره كما تقدم. (3) قال الألوسي الجامع في تفسيره روح المعاني بين المعقول والمنقول والفروع والأصول ما نصه: (أظهر ما قيل في فتنته عليه السلام أنه قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله - ولم يقل إن شاء الله - فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل. وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعًا وفيه (فوالذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانًا) لكن الذي في صحيح البخاري أربعين بدل سبعين [2] وأن الملك قال له: قل إن شاء الله فلم يقل، وغايته ترك الأولى فليس بذنب، وإن عده هو عليه السلام ذنبًا، فالمراد بالجسد ذلك الشق الذي ولد له ومعنى إلقائه على كرسيه وضع القابلة له عليه ليراه) . ثم ذكر أشهر الروايات التي وردت في تفسير الجسد بالشيطان، وأن منها ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وقال الحافظ ابن حجر وتلميذه السيوطي: إن سنده قوي. وفيها أن الشيطان الذي تولى ملك سليمان وتشبه به كان

نموذج من كتاب القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من كتاب القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق (تابع لما قبله) (3) (استماع الأذكار المحرفة) لا يختلف حكم الاستماع والفعل في هذه الأذكار المحرفة لأن للسماع حكم المسموع كما أن للنظر حكم المنظور حسبما تقرر في كتب الفروع وأشارت إليه الأحاديث المتقدمة وحديث (من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا فعليه لعنة الله) [1] قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: من أحب صاحب بدعة أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه اهـ. وقال الله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود: 113) فيحرم استماع هذه الأذكار المحرفة ويجب على السامع إنكارها والنهي عنها وبذل المجهود في نصح الذاكرين بها وإرشادهم إلى تصحيحها جهد المستطاع. *** (4) (الذكر جهرًا ومع الجماعة) اعلم أن ذكر الله تعالى على الطريقة الشرعية من أفضل الأعمال وأعظم القربات التي حث عليها الشرع لما له من جميل الأثر في تهذيب النفوس واطمئنان القلوب واستنزال الرحمات وقمع الشهوات سواء كان سرًّا أو جهرًا قيامًا أو قعودًا كان الذاكر منفردًا أو في جماعة لعموم قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ} (الرعد: 28) وقوله سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة: 152) وقوله -عليه الصلاة والسلام - (مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت) وقوله: (من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرَة (تبعة) ومن اضطجع مضطجعًا لا يذكر الله فيه كانت عليه ترة وما مشى أحد ممشى لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه قال في تفسير قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (النساء: 103) لم يعذر الله أحدًا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله، وعنه أنه قال في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} (البقرة: 200) إن هذه الآية نزلت في أهل الجاهلية كانوا يجتمعون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم فنهوا عن ذلك وأمروا بالاجتماع للذكر على هذا الوجه. وقد أكد الصوفية أمر الذكر جهرًا ومع الجماعة نظرًا إلى أن النفوس لما كانت كثيرة الخواطر والخطرات، شديدة التقاعد عن العبادات تعتريها الغفلة عن الحق وتطبيها [2] رؤية الأغيار كانت محتاجة في سيرها إلى هذا المقصد الأسمى وبلوغها تلك الغاية القصوى إلى استنهاض همتها وتنشيط قواها وتقوية عزيمتها وذلك يكون بالجهر والرفقة الصالحة في هذا السبيل أخذ في الأول (الجهر) بما ورد في باب الدعاء من الأحاديث الصريحة في سماع النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء الداعين جهرًا وإقرارهم على ذلك وما ورد في كيفية قراءته عليه السلام للقرآن من الأحاديث الدالة على أنه كان يقرؤه بعض الأحيان جهرًا والذكر إن لم يكن باسم من أسمائه تعالى الواردة في القرآن فهو من باب الدعاء كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف: 180) . وأما ما ورد عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي: - صلى الله عليه وسلم - (أربعوا على أنفسكم (ارفقوا) فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا بصيرًا وهو معكم والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته) فمحمول على إرهاق النفس وإجهاد القوى في الدعاء، وأما الجهر مع الرفق واللين فسائغ في الحالين. واستنادًا في الثاني (الرفقة والجماعة) إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (لأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة الغداة حتى تطلع الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون الله تعالى من صلاة العصر حتى تغرب الشمس أحب إليّ من أن أعتق أربعة) أخرجه أبو داود، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله في من عنده) أخرجه مسلم والترمذي وقوله عليه الصلاة والسلام: (يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إليّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) أخرجه الشيخان، والترمذي، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تعالى تنادوا هلموا إلى حاجتكم فيحفونهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، فيسألهم ربهم -وهو أعلم بهم- ما يقول عبادي؟ فيقولون: يسبحونك، ويكبرونك، ويحمدونك، ويمجدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: كيف لو رأوني؟ فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا، قال: فيقول: فما يسألون؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبةً، قال: فمِمَّ يتعوذون؟ فيقولون: يتعوذون من النار، فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا، وأشد لها مخافةً، قال: فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، قال: فيقول ملك منهم: فيهم فلان خطاء ليس منهم إنما مر لحاجة فجلس، فيقول: قد غفرت له، وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم) أخرجه الشيخان والترمذي، والمراد أنهم يلتمسون أهل الذكر في الأمكنة التي يليق أن يذكر الله فيها لا في الطرق كما يرشد إليه آخر الحديث قوله: فجلس إذ لم يعهد الجلوس للذكر في الطرق بل قد نهي عن الجلوس فيها إلا بحقها ولم يعد منها الذكر كما ورد في حديث (إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها فقال: إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه قالوا: وما حقه يا رسول الله قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر المعروف والنهي عن المنكر) وفي بعض الروايات (وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال) . وهذه الأحاديث الصحيحة مع إثباتها مشروعية الجماعة وفضلها في الذكر تثبت مشروعية الجهر وفضله فيه؛ لأنه هو الذي صيرهم جماعة كما هو المعهود لغة وعرفًا إذ مع الأسرار في الذكر يكونون فرادى وإن جمعهم مكان واحد. هذا وللعلماء في مسألة الجهر بالدعاء ومثله الذكر خلاف فمنهم من ذهب إلى كراهته أخذًا من قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55) وحديث (أربعوا على أنفسكم) وقال (إن دعاءً لا تضرع فيه ولا خشوع لَقليل الجدوى) فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه وروى ابن جرير أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55) اهـ. ومنهم من ذهب إلى أنه مما لا بأس به ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي فقد أخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل) ثم قرأ {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (الأعراف: 55) . وفصّل بعضهم فقال: الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند عدم خوفه وأولى من هذا التفصيل ما قيل إن القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصلٍّ أو نائم أو قارئ أو مشتغل بعلم شرعي، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة من مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعته أو نحو ذلك وقد سن الشافعية الجهر بآمين [3] بعد الفاتحة وهي دعاء ويجهر بها الإمام والمأموم عندهم. وفرّق بعضهم بين رفع الصوت جدًّا كما يفعله المؤذنون في الدعاء على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده (راجع تفسير الألوسي لآية الدعاء المذكورة) . وبالتأمل في عموم الآيات والأحاديث السابقة وفيما نقله الألوسي في آية الدعاء تعلم أنه لا وجه للقول بكراهة الجهر بالذكر إذا خلا عن الموانع الشرعية ولم يكن فيه إخلال بشيء من آدابه المعروفة كما أنه لا داعي إلى صرف أحاديث الاجتماع على الذكر والجهر به عن ظاهرها وحملها على خصوص الاجتماع للتفهم والمدارسة احتجاجاً بأن سلف الأمة لا يعهدون خلاف ذلك فإنه لم يثبت أن عمل السلف كان قاصرًا على الإسرار في الدعاء والذكر وعدم الاجتماع لهما بل قد ورد ما يؤخذ منه مشروعية الجهر والاجتماع للذكر خصوصًا إذا توفرت الدواعي على ذلك كما أشرنا إليه. على أن الحق أنه ليس كل ما خالف عمل السلف في مثل النوافل وفضائل الأعمال بدعة مذمومة فقد يتوفر في الإسرار بالذكر بالنسبة إلى السلف وما كانوا عليه من الصفاء والبعد عن الشواغل وخطرات النفوس ما لا يتوفر لغيرهم مما يدعو إلى الإتيان بالذكر على غير هذا الوجه ولو عد كل ما خالف عمل السلف في كيفية من كيفيات الأعمال الشرعية بدعة سيئة مذمومة لأسرع ذلك في كثير من العبادات خصوصًا ما يتعلق بأحوال القلوب. نعم لا بد من رعاية الحدود والآداب الشرعية وعدم الإخلال بشيء منها فتبصر هديت إلى الحق ولا تعول على كل ما ذكر هنا وإن نسب إلى بعض الأجلَّة فإنه تشدد دعاه إليه إما طرد سد الذريعة أو رد طرد إباحة وكلاهما طرف وخير الأمور الوسط. *** (5) (الهزة والتمايل والإنشاد في الذكر) . لا خلاف في أنه يجب مراعاة الحدود والآداب الشرعية التي ذكرها الفقهاء والسادة الصوفية في الذكر فلا يجوز تخطيها والإتيان بما ينافيها كما تقتضيه العقول الصحيحة والنصوص الصريحة. فالهزة والتمايل أثناء الذكر إن كانا بحالة لا تنافي الآداب وجلال المشهد ووقار الذكر فلا بأس بهما بل فيهما من استنهاض الهمم وتنشيط القُوى وتقوية العزائم إلى هذا المقصد الأسمى ما يجعلهما في مرتبة الطلب؛ لأن للمبادئ والوسائل حكم المقاصد والغايات وإن كانا بحالة تنافي الآداب وتخرج بالذاكر عن السمت اللائق والوقار الواجب كما يفعله الجهلة الآن من التولي بالوجوه إلى الظهور والنزول بالرؤوس إلى الأقدام والتثني والتكسر والرقص والاضطراب فلا شك في حرمتها على غير مغلوب الحال حقيقة لا تصنعًا وروى الفضيل أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا ذكروا الله تعالى تمايلوا يمينًا وشمالاً كما تتمايل الشجرة في الريح العاصف إلى قدام ثم ترجع إلى وراء وقال أبو البركات: ولا يعيبهم ذكر الله قيامًا وقعودًا أو هزهم في الذكر والإنشاد الذي وقع منهم وليس هذا بخفة كما يزعمه المنكرون فإن للذكر حلاوة ومخامرة باطنية يعلمها أربابها. وقال سلطان العاشقين رضي الله عنه: وإذا ذكرتكمو أميل كأنني ... من طيب ذكركمو سقيت الراحا ومحمل عباراتهم في ذلك وفي الرقص أثناء الذكر على هزة وتمايل لا يخرج بهما الذاكر عن الحدود والآداب الشرعية. وأما الإنشاد في الذكر لتنشيط

أنباء العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء العالم الإسلامي (قرارات الجمعية الإسلامية الكبرى في بومباي في شأن الحجاز والإسلام) (جاءتنا برقية من ببمبي باللغة الإنكليزية في هذا الموضوع أوسع مما نشر في بعض الجرائد فيه فترجمها لنا بالعربية مترجم ضعيف العربية فصححناها بإيضاح لا يخرج عن المعنى وهذا نص الترجمة) . التأمت الجمعية الإسلامية الكبرى في بومباي في يوم السبت الموافق 23 أكتوبر في الساعة التاسعة الزوالية بشارع ريبون تحت رئاسة الحاج عبد الغني وقد حضرها مولانا مولوي إسماعيل الغزنوي فبين للجميع حقيقة الأحوال الحاضرة في أراضي الحجاز المقدسة بصورة واضحة جلية للغاية وقد ألم الشعب بالأعمال الشائنة التي اقترفها (إخوان علي) [*] المشهورون في الحجاز خلال حجهم الأخير (التي أثارت الهنود عليهم عند عودتهم إلى الهند) وقد فند الخطيب انتقادات كثيرة باطلة أذاعوها ونصح للمسلمين عامة بأن يفكروا في ذلك النزاع المشترك وسوء عاقبتهم لئلا يقعوا في مخالفة أصول الإسلام القطعية ويهدموا بعض أركانه الاجتماعية ويحلوا رابطة وحدته ويقطعوا رحم إخوته ثم وافق المجتمعون على القرارات الآتية بالإجماع: 1- تعلن جمعية الإسلام في بومباي استنكارها لأعمال مؤتمر (لكهنو) الذي تكلم في مسألة الحجاز باسم مسلمي الهند وهو لا يمثل الهند كلها ولا جمهور مسلميها. 2- هذا الاجتماع العام لجمعية مسلمي بومباي الذي يبحث في شأن المصالح الإسلامية في الهند يقرر أنه بنعمة ربهم وبالمساعي المشكورة الخاصة التي بذلها ابن السعود في تأمين جميع الطرق في الحجاز قد صار أداء الحج والزيارة سهلاً ميسورًا لكل مسلم فيجب على المسلمين أن يذهبوا إلى الحجاز فرقًا فرقاً ليؤدوا الفريضة ويجعلوا بيت الله وحرمه مثابة لهم ويتعاونوا على عمرانه وفلاح أهله ويغلقوا أبواب الفساد وطرقه التي يدعو إليها المفرقون الداعون إلي هدم هذا الركن الإسلامي العظيم بترك الحج والسعي إلى خراب المسجد الحرام بيت الله عز وجل. 3- تقدر جمعية إسلام بومباي مساعي لجنة الخلافة قدرها بما كان من دعوتها إلى الوحدة الإسلامية التي بها كسبت الشهرة الواسعة في زمن قصير وتذكرهم بأن عليهم أن يستمسكوا بعروة سياسة الوحدة ولا يجعلوا للتفرقة سبيلاً وعلى لجنة الخلافة أن تحاسب (إخوان علي) على ما جنوا به على نفوذ لجنتهم وما افتاتوا عليها به بتصريحاتهم في كراشي ودهلي وبومباي قبل نشر تقرير وفدهم الرسمي وهي تصريحات ذات تبعة عظيمة وتود هذه اللجنة أيضًا، إن ترجع لجنة الخلافة عن التقريرات المعارضة وغير الصحيحة التي نشرت باسم بعض المندوبين فإذا لم تفعل فإنها تقضي على نفوذها الذي لم يبق منه إلا القليل. 4- توجه هذه اللجنة النظر إلى الثقة المعطاة للمستر محمد علي والمستر شوكت علي وتسجل معارضتها لها في أعمالهما إثارتهما الاختلاف بين أهل الإسلام وإلحاق الأذى بأراضي الحجاز المقدسة وترفع صوتها بعذلهما وتؤكد لهما أن هذه الأعمال خطر على الزعامة يودي بها. 5- تقدم هذه اللجنة شكرها الخالص لصاحب العظمة الملك عبد العزيز بن سعود لجعله بلاد الحجاز آمنة مطمئنة لأهلها وللحجاج، كذلك تشكر له حكمته وسيرته في حادثة (مِنى) التي دلت على شجاعته وحلمه وطول أناته وتقديره لتكافل العالم الإسلامي وذلك دليل على شدة عنايته بالشؤون الإسلامية فتؤكد هذه اللجنة لصاحب العظمة إخلاص كل مسلم صادق له في الهند. 6- تدعو الجمعية العامة الإسلامية ببومباي بإجماع الآراء جميع المسلمين أن يكونوا يدًا واحدة وقلبًا واحدًا في المحافظة على نفوذ الإسلام وتعلم الأشخاص أولي الهوس أنهم انقادوا لأهوائهم ببث الخلاف بين المسلمين بالرغم مما بذلناه من مجهودات كبيرة وفي النهاية ترجو اللجنة من ناصح الملك الحكيم أجمل خان ومولانا أبو الكلام أن يفرجوا الأزمة وينقذوا المسلمين من شقاقهم المهلك. وقد فُضَّت اللجنة في ساعة متأخرة من الليل شاكرة للرئيس بما قام به. ... ... ... ... ... ... ... ... ... سكرتير اللجنة ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود حصري *** (معاهدة إيطالية يمنية) خرج الإمام يحيى حميد الدين صاحب اليمن من عزلته السياسية السلبية التي ورثها عن سلفه الأئمة السابقين، وعقد مع الدولة الإيطالية معاهدة سياسية اقتصادية وهو الآن يجلب الأسلحة والذخائر الحربية والطيارات من إيطالية بل يجلب رجال الطليان أيضًا يستخدمهم في تعليم الطيران وغيره مما يرى حكومته محتاجة إليه. قد مهد رجال إيطالية في مستعمرتهم (الإريترة) السبيل لهذه المعاهدة في مدة طويلة وقدموا لجلالة الإمام هدايا كثيرة قبل إقناعه بها ولما وقع عليها ظهرت أمارات السرور والابتهاج في بلادهم ورددتها جرائدهم من حيث إن إنكلترا أطلقت يدا إيطالية في بلاد اليمن، والله أعلم. قد تكون عبارات مواد المحالفة غير منذرة بالخطر القريب على اليمن وقد يكون الذين انتقدوا اشتمالها على تقديم إيطالية على جميع الدول فيما تحتاج إليه اليمن من أوربة مبالغين في انتقادهم وفي عدهم هذا منافيًا للاستقلال. ولكن في مثل هذه المسألة قواعد عامة أثبتها التاريخ (منها) أن التدخل التجاري مقدمة للتدخل السياسي فالتدخل العسكري، (ومنها) أن القوي يأخذ بالمعاهدة ما له وما ليس له مضاعفًا والضعيف لا يستطيع أن يأخذ إلا ما يعطيه القوي لمصلحة القوي لا لمصلحتة (ومنها) قول البرنس بسمارك قطب سياسة أوربة في عصره المعاهدات حجة القوي على الضعيف، ومنها قولهم: إن التجارة تتبعها الراية، وهل كان سبب استيلاء الدولة البريطانية على الهند واستيلاء الدولة الهولندية على جاوه وما حولها إلا عاقبة تأليف شركتين تجاريتين في القطرين الغنيين فنسأل الله وقاية هذا القطر العربي وحفظه وحسن العاقبة له فإنه لم يبق لنا بعد فوات زمن النصح والإنذار إلا الدعاء والابتهال. *** (الموسيو علي عبد الرازق ينزع العمامة ويودعها ويفتري على الأستاذ الإمام وعلينا) موسيو علي عبد الرازق صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) المعروف الذي طرد بسببه من حظيرة علماء الأزهر ومن منصب القضاء الشرعي بقرار من هيئة كبار علماء الأزهر الذين كان أهون ما قالوه في كتابه: إنه لا يصدر مثله عن مسلم - فضلاً - عن عالم , ونفذت ذلك الحكومة - نزع عمامته في فرنسة واستبدل بها البرنيطة في أوربة كالمعتاد وعزم ألا يعود إلى العمامة ولم يتركها ساكتًا بل كتب مقالة ودعها بها، واحتقرها فيها، هي وأهلها علماء الدين الذين كان قد قال في دينهم وشرعهم شرًّا مما قال في عمامتهم الآن. كتب هذه المقالة من باريس وأرسلها إلى جريدة السياسة لسان حاله وحال جمعيته المعلومة فنشرتها له مغتبطة بها. لم يكتف موسيو علي عبد الرازق بفعلته وجنايته على الإسلام من قبل وسوء قيله في مشخصات علمائه اليوم لعلمه بأن كلامه لا قيمة له عند غير الملاحدة والزنادقة فأراد أن يجعل له قيمة عند غيرهم فافترى على حكيم الإسلام شيخنا الأستاذ وعلينا كانت إحدى الفريتين ناقضة للأخرى. أراد أن يحتج لإلقائه العمامة إذ لم تعد لائقة به بعد طرد علماء الأزهر إياه من جماعة علماء الإسلام فزعم أن الأستاذ الإمام كان يحتقر العمائم ويكرهها ولما لم يكن له دليل ولا شبهة على زعمه إلا محاولة استنباطه ذلك من أحد الأبيات التي نظمها الإمام رحمه الله تعالى في مرض موته فلم يجد بدًّا من إيراده وهو: ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم ثم لما كانت هاته الأبيات متضمنة لأمل الأستاذ الإمام - قدس الله سره - في تلميذه ومريده محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي بقوله فيها: فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم وكان صاحب المنار أول من أثار علماء الأزهر والعالم الإسلامي على كتاب موسيو علي عبد الرازق الذي هاجم به الإسلام وحاول فيه هدم شريعته وتشويه محاسن تاريخه افترض ذكر بيت العمائم للانتقام منه بزعمه أنه هو الذي نظم تلك الأبيات المشهورة التي نشرتها الجرائد المصرية يوم وفاته ونسبها إلى أستاذه وعزا ذلك إلى الثقات، ومَن هؤلاء الثقات؟ ولماذا لم يسمع لأحد منهم صوت إنكار من سنة 1323 التي توفي فيها الأستاذ الإمام إلى هذه السنة 1345؟ كذب موسيو علي عبد الرازق في زعمه أن الأستاذ الإمام كان يحتقر العمامة فلو كان يحتقرها لتركها ولكنه لم يتركها في سفر ولا حضر وقد رغب إليه بعض كبراء حكومته في تركها ليزول باستبداله الزي الإفرنجي بها المانع من ارتقائه إلى منصب الوزارة فلم يقبل وإذا كان الجامدون من حملة العمائم قد جنوا على الإسلام بتقصيرهم فيما يجب عليهم من النهوض به ومقاومتهم للمصلحين فيه فليس الذنب في ذلك لعمائمهم كما لا يخفي بل من المجرب أن أكثر المعممين ولو من غير علماء الدين أبعد من غيرهم عن ارتكاب الفواحش والمجاهرة بالمنكرات والمعاصي. نحن قد سررنا بما فعله الموسيو علي عبد الرازق وبما كتبه سررنا بنزعه للعمامة؛ لأن من العار على المسلمين أن يطعن في دينهم من يتزيا بزي علمائهم وسررنا بما ظهر من عدم تنزهه عن الكذب الصريح الذي هو شر الرذائل على الإطلاق لا لذاته فإننا نستاء من كل رذيلة، بل لأن خصمنا في ديننا لا قيمة لآدابه ولا ثقة بروايته، بل أقول والحق ما أقول: إن هذا السرور ليس إلا تعزية لنا عن خسارة شخص كنا نرجو أن يكون صديقًا لنا وعونًا على مقاومة رذائل الإلحاد ومفاسد التفرنج في أمتنا فظهر لنا أننا لم نخسر بضياع أملنا فيه شيئًا ومن حسن الحظ أن أكثر هؤلاء الملاحدة فساق فجار مجان سكيرون مقامرون وليس فيهم من له قيمة أخلاقية إلا نفر معدودون على أنهم مراءون مذبذبون. ذلك وإننا لا ندري ماذا يضع علي عبد الرازق على رأسه بعد عودته من أوربة إلى مصر فإذا أصر على لبس البرنيطة فإن لقبه سيكون موسيو أو مستر وإذا لبس الطربوش فسيكون لقبه أفندي، وكل من اللقبين أهون علينا من تحليه بلقب الشيخ ولكن هذا يسوء أصدقاءه خصوم الإسلام من الإفرنج ومن ملاحدة الترك المتفرنجين أو (المتغربين) كما يقولون عن أنفسهم لأن مزيته عندهما أن يطعن في الإسلام ويصد عنه وهو شيخ معمم. *** (تناصر ملاحدة الترك وملاحدة مصر) (وتنويه الصحف التركية بعلي عبد الرازق وطه حسين) لما ظهر كتاب موسيو علي عبد الرازق فرح به ملاحدة الترك وقرظوه وأثنوا على مؤلفه بل ترجموه بلغتهم التركية ونشروه في جرائدهم الإلحادية؛ لأنه جاء معززًا لرفضهم الشريعة الإسلامية والخلافة الصورية وتأسيسهم حكومة لا دينية ولهؤلاء الملاحدة عناية بنشر الإلحاد في جميع البلاد الإسلامية ويرجون أن يكون السبق في اتباعهم للبلاد المصرية (خيب الله رجاءهم) . ولما ظهر كتاب الدكتور طه حسين في هذا العام أكبروه وقرظوه وأنكروا على الذين ردوا عليه وجهلوه وكانت حجتهم حجة جمعية الإلحاد والزندقة هنا وهي (حرية الرأي) ، فإذا كان أولئك الملاحدة يحترمون حرية الرأي حقيقة لذاتها فلماذا يخصون هذا الاحترام برأي الكفر دون رأي الإيمان وبدعاة الإلحاد دون المدافعين عن الإسلام؟ قد احترموا رأي علي عبد الرازق وطه حسين في الطعن في الإسلام وخلفائه وعلمائه وفي تكذيب كتاب الله ورسوله أيضًا فهلا احترموا رأي علماء الإسلام ونصراء الإيمان الذين كتبوا ما يعتقدون وأما ذانك فقد طعنا في الإسلام

مطبوعات المكتبة الأهلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مطبوعات المكتبة الأهلية لصاحب المكتبة الأهلية الأديب (محمد جمال أفندي) حسن اختيار للكتب التي يطبعها سواء كانت للمدارس الإسلامية أو للمطالعة الشخصية وكنا قرظنا في المنار بعض مطبوعاته وروجناها في مكتبة المنار منذ كانت مكتبته في بيروت وقد أهدانا الآن مجموعة منها مطبوع أكثرها في المطبعة الرحمانية بمصر فنذكرها بالاختصار تنويهًا بها وترغيبًا فيها. *** (دروس التاريخ الإسلامي) هي خمسة أجزاء مختصرة مفيدة من تأليف أديب بيروت المرحوم الأستاذ الشيخ محي الدين الخياط 1- في مجمل السيرة النبوية. 2- في مجمل تاريخ الخلفاء الراشدين. 3- في مجمل تاريخ دولة بني أمية في الشرق. 4- في مجمل تاريخ الدولة العباسية. 5- في مجمل تاريخ الدولة الإسلامية العربية في الأندلس، وثمن هذه المجموعة كلها عشرون قرشًا. *** (دروس الفقه) في العقائد والعبادات على الطريقة النقلية والعقلية للمرحوم الشيخ محيي الدين الخياط طبع الطبعة الرابعة وصفحاته 66 وثمن النسخة 3 قروش. *** (لباب الخيار في سيرة المختار) مختصر في السيرة المحمدية المقدسة متضمن لأسباب انتشار الدعوة الإسلامية للأستاذ الشيخ مصطفى الغلاييني من أدباء بيروت العصريين طبع الطبعة الثالثة بالشكل الكامل سنة 1342 وصفحاته 142 وثمنه خمسة قروش. *** (رجال المعلقات العشر) كتاب أدب ولغة وتاريخ مصدر بمقدمتين: 1- خلاصة تاريخ العرب قبل الإسلام. 2- خلاصة تاريخ آداب اللغة العربية من العصر الجاهلي إلى عصرنا تصنيف الشيخ مصطفى الغلاييني أيام كان أستاذ اللغة العربية في المدرسة السلطانية وطبع مرتين في المطبعة الأهلية في بيروت سنة 1331 و 1332 وأشعاره مشكولة وصفحاته 306 وثمنه 15 قرش. *** (عظة الناشئين) كتاب آداب وأخلاق واجتماع للشيخ مصطفى الغلاييني أيضًا وهو مجموع مقالات نشرت في جريدة المفيد البيروتية ثم طبعت مرتين المرة الثانية سنة 1344 وهي مشكولة شكلاً تامًا وثمن النسخة منها سبعة قروش. *** (بلوغ الأرب في أحوال العرب) تاريخ حافل للأمة العربية قبل الإسلام لعالم العراق ورحلة أهل الآفاق صديقنا المرحوم السيد محمود شكري الألوسي وهو الذي استحق به الجائزة الأولى في مؤتمر (استوكهلم) التي كان قد تبرع بها الملك أوسكار لمن يؤلف أمثل كتاب في ذلك وكان قد طبع في ثلاث مجلدات ثم أعاد طبعه في العام الماضي صاحب المكتبة الأهلية مصححًا ومعلقًا عليه بعض الفوائد بقلم العالم الأديب الشيخ محمد بهجت الأثري أفضل تلاميذ المؤلف ومريديه وثمن النسخة منه ستون قرشًا صحيحًا يضاف إليها أجرة البريد ونفقة التجليد لمن أراده.

أسئلة عن الأبدال والأوتاد والقطب الغوث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة عن الأبدال والأوتاد والقطب الغوث (س16-21) من صاحب الإمضاء. 1- الأبدال في هذه الأمة ثلاثون رجلاً قلوبهم على قلب إبراهيم خليل الرحمن كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجل (حم عن عبادة بن الصامت) بإسناد صحيح. 2- الأبدال في أمتي ثلاثون بهم تقوم الأرض وبهم تمطرون وبهم تنصرون (طب عنه) أي عن عبادة بإسناد صحيح. 3- الأبدال في أهل الشام بهم ينصرون وبهم يرزقون (طب عن عوف بن مالك وإسناده حسن) . 4- الأبدال بالشام وهم أربعون رجلاً كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً يسقى بهم الغيث وينتصر بهم على الأعداء ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب (حم عن علي) بإسناد حسن. 5- الأبدال أربعون رجلاً وأربعون امرأة كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة (الخلال) في كتابه كرامات الأولياء (فر) عن أنس بن مالك وهو حديث ضعيف. 6- الأبدال من الموالي (الحاكم في الكنى والألقاب عن عطاء بن رباح مرسلاً وهو حديث منكر) . إلى حضرة صاحب الفضيلة صاحب المنار هذه الأحاديث الستة وجدت بالجامع الصغير بصحيفة 115 و116 من الجزء الثاني [1] وفي كتب الوهابيين ما يفيد الجزم بعدم وجود شيء من ذلك مع زيادة الإنكار على من قال الأبدال والأقطاب والأوتاد وقطب الغوث فنرجو الإفادة عن هذه الأحاديث هل هي صحيحة يعتمد عليها؟ وإن لم تكن في كتب الأحاديث المعول عليها ويكون كلام الوهابيين في غير محله ونرده عليهم أو أن هذه الأحاديث لم يعرف لها سند ولا ذكرها المحدثون فتكون في حيز الإهمال لا تصح دليلاً وكلام الوهابيين في محله وإذا كانت هذه الأحاديث صحيحة فنؤمل شرح معنى الأبدال وما وظيفتهم وما معنى اختصاص الشام بهم؟ وما معنى رفع العذاب عن أهل الشام ونصرهم ورزقهم بالأبدال؟ وهل أهل الشام يرزقون وينصرون ويرفع عنهم العذاب دون غيرهم من أهل الأرض؟ نرجو الإفادة عن ذلك بالقول الصحيح مع الدليل من الكتاب والسنة والسلف الصالح، ونؤمل سرعة الإفادة حيث النزاع بالغ النهاية جعلكم الله ملجأً للقاصدين. ... ... ... ... ... ... ... أحمد أبو زينة بالقطوري *** (ج- المنار) اعلم أن هذه الأحاديث باطلة رواية ودراية سندًا ومتنًا وإنما راجت في الأمة بعناية المتصوفة وقد ذكرها الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات وطعن فيها واحداً بعد واحد وتعقبه السيوطي الذي جعلها في الجامع الصغير على أقسام صحيح وحسن وضعيف ومنكر بل جوَّز أن تكون متواترة والحق أنه لا يصح منها شيء وأما الحسن فإنما جاء على قاعدتهم فيما تعددت طرقه وهو مقيد بما كان التعدد فيه من طرق متفرقة ليس لها جهة واحدة تصدر عنها، وأما ما كان له مصدر واحد فكثرة الطرق لا تزيده إلا ضعفًا؛ لأنها دليل على كونه مصنوعًا من دعاة هذا المصدر كدعاة الشيع السياسية والدينية ومنها الصوفية حتى إن فقهاء المذاهب وضعوا أحاديث في تفضيل أئمتهم والطعن في غيرهم وقد بينا في تفسير آية الساعة التي فسرناها في هذا الجزء أن أحاديث المهدي كلها لها مصدر سياسي واحد من الشيعة وله ينبوعان: أحدهما علوي، والآخر عباسي ولكننا أخرنا هذا البحث إلى الجزء التالي من المنار (وهو ج 1م28) لأن التفسير قد طال حتى كاد يكون نصف هذا الجزء. وأحاديث الأبدال اشترك فيها المتصوفة، والشيعة، والباطنية ورواة الإسرائيليات ككعب الأحبار وغيره من أصحاب الترهات الصحاصح دون أهل الأحاديث الصحائح فنحن نبين هذا الأصل ثم نرجع إلى كلام المحدثين في أسانيد أخبار الأبدال والمعقول في متونها فنقول: قال حكيمنا المحقق ابن خلدون في سياق كلامه في علم التصوف من مقدمة تاريخه بعد أن بين منشأ التصوف وحال أهله في علمهم وعملهم ما نصه: (ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملؤا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضًا بالحلول وإلهية الأئمة مذهبًا لم يعرف لأولهم فأُشرِب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله ثم يورث مقامه لآخر من أهل العرفان وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد اهـ. وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة ودانوا به (ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء، حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلاً لطريقتهم وتخليهم رفعوه إلى علي - رضي الله عنه - وهو من هذا المعنى أيضًا وإلا فعلي - رضي الله عنه - لم يختص من بين الصحابة بتخليه ولا طريقة في لباس ولا حال بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكثرهم عبادة ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه في الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والمجاهدة. يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم والله يهدي إلى الحق، ثم إن كثيرًا من الفقهاء وأهل الفُتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل اهـ. المراد منه. وأما أهل الحديث المحققون فقد تكلموا في أسانيد هذه الأحاديث فالحافظ ابن الجوزي حكم بوضعها كما علمت آنفاً وتابعه شيخ الإسلام ابن تيمية بما تقدم تفصيله في المنار وسنجمله قريبًا، وكذلك السخاوي وهو والسيوطي من تلاميذ الحافظ ابن حجر إلا أن الأول أدق وأدنى إلى التحقيق وقد قال خبر الأبدال له طرق بألفاظ مختلفة كلها ضعيفة، وهذا القول أصح من كلام ابن حجر نفسه منها ما يصح ومنها ما لا يصح كما تعلم من التفصيل الذي نورده هنا باختصار من الكلام في أسانيدها وهو: (الأول) حديث عبادة بن الصامت وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته وقال هو نفسه في الدرر المنتثرة وهو حسن له شواهد اهـ. وقال الهيثمي في منبع الفوائد في مجمع الزوائد: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الواحد بن قيس وقد وثقه العجلي وأبو زرعة وضعفه غيرهما وأقول: قال ابن حبان في عبد الواحد هذا: يتفرد بالمناكير عن المشاهير وقال في كتاب الضعفاء لا يحتج به وقال في كتاب الثقات: لا يعتبر بمقاطيعه ولا بمراسيله ولا برواية الضعفاء عنه وهو الذي يروي عن أبي هريرة ولم يره وقال أبو أحمد الحاكم: منكر الحديث وزد على هذا أنه كان معلم بني يزيد بن عبد الملك وهذه شبهة قوية في جرحه فإن أنصار كل دولة وصنائعها كانوا يروون لها ما يقوي ثقة الأمة بها وهذا الحديث يرجع إلى مدح أهل الشام أنصار بني أمية وستعلم ما فيه وقال الحافظ ابن عساكر: رواه عبد الله في زوائد مسنده وفيه الحسن ابن ذكوان وهو منكر الحديث أقول وقال عبد الله ابن أحمد عن أبيه: أحاديثه أباطيل وقال الأثرم مثل ذلك عن أحمد. (الثاني) هو لفظ آخر من الحديث الأول. (الثالث) حديث عوف وفي إسناده عمر بن واقد ضعفه جمهور رجال الجرح والتعديل وفيه شهر بن حوشب التابعي الشامي وهو لا يحتج بحديثه كان يروي المعضلات والمنكرات عن الثقات والمقلوبات عن الأثبات فالحديث ضعيف على أقل تقدير وإنما حسنه السيوطي بتعدد طرقه وهو الذي يسمى حسنًا لغيره على اصطلاحهم. (الرابع) حديث علي - كرم الله وجهه - وإسناده منقطع كما قال ابن عساكر وفيه شريح بن عبيد وثقه النسائي وابن حبان وغيرهما ولكن انتقد عليه أنه روى عن بعض الصحابة والتابعين الذين لم يدركهم حتمًا ومنهم كعب الأحبار وإنما أعجبهم منه في ذلك أنه لم يكن يصرح بأنه سمع منهم. (الخامس) حديث أنس وقد أعترف السيوطي بضعفه على حرصه بتقوية هذه الروايات وقال ابن الجوزي موضوع. (السادس) مرسل عطاء بن أبي رباح وتمامه عند الحاكم: (ولا يبغض الموالي إلا منافق وقد اعترف السيوطي بكونه منكرًا على كونه مرسلاً وزاد بعضهم على ذلك أن فيه مجهولاً وهو الرجال بن سالم قال الحافظان صاحبا الميزان واللسان: لا يدرى من هو والخبر منكر) وذكر ملاَّ علي القارئ في الموضوعات عن ابن الصلاح أنه قال أقوى ما روينا في الأبدال قول علي إنه بالشام يكون الأبدال. هذا يوافق ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في أهل الصفة والصوفية من جهة الرواية وأما ما حققه شيخ الإسلام في المسألة من جهة الدراية فهو غاية الغايات وقد نشر ذلك في المنار برمته فلا نعيده وإنما نذكر القراء ببعض الجمل منه قال - رحمه الله تعالى -: (فصل) وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي يكون بمكة والأوتاد الأربعة، والأقطاب السبعة والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة؛ فهذه الأسماء ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد صحيح، ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي بن أبي طالب مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن فيهم - يعني أهل الشام - الأبدال أربعين رجلاً كلما مات رجل أَبدل الله مكانه رجلاً) ولا توجد هذه الأسماء في كلام السلف كما هي على هذا الترتيب ... إلخ. ثم ذكر أن لفظ الغوث والغياث لا يستحقه إلا الله تعالى، وأن القول بالقطب من جنس دعوى الرافضة بالإمام المعصوم، بل ذلك الترتيب لطبقات كبار الأولياء يشبه ترتيب الإسماعيلية والنصيرية ونحوهم في السابق والتالي والناطق والأساس والجسد وغير ذلك من الترتيب الذي ما أنزل الله به من سلطان. ثم تكلم في مسألة الأوتاد والقطب بكلام معقول موافق للغة وعاد إلى الأبدال فقال: ولذلك جاء لفظ البدل في كلام كثير منهم، فأما الحديث المرفوع فالأشبه أنه ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الإيمان كان بالحجاز واليمن قبل فتوح الشام وكانت الشام والعراق دار كفر. ثم في خلافة علي، قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (تمرق مارقة على خير فرقة من المسلمين يقتلهم أولى الطائفتين بالحق) فكان علي وأصحابه أولى بالحق ممن قاتلهم من أهل الشام. ثم تكلم في لفظ الأبدال وجميع ما قيل في معناه وما يصح منه وما لا يصح في اللغة وفي الوجود وكلامه فيهم يؤيد كلام ابن خلدون. فمن أراد أن يعرف تحقيق هذه المسائل وأمثالها فعليه بهذه الرسالة للشيخ في الجزء الأول من (مجموعة الرسائل والمسائل) له وهي الرسالة الثالثة من المجموعة من صفحة 25-60 فإنه لا يحتاج معها إلى مراجعة كتاب آخر. ولكنني أزيد عليه أن سبب ما ورد من الأثر المروي عن علي - رضي الله عنه - هي أن بعض جماعته كانوا يسبون أهل الشام فنهاهم عن ذلك الإطلاق وقال إن فيهم الأبدال، أي إن الله تعالى يبدل من أنصار معاوية غيرهم أو ما هذا معناه - ف

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما نشر في الجزء الماضي) (فصل) في تمام الكلام في القصر وسبب إتمام عثمان الصلاة بمِنى وقد تقدم فيها بعض أقوال الناس والقولان الأولان مرويان عن الزهري وقد ذكرهما أحمد. روى عبد الرزاق: أنا معمر عن الزهري، قال: إنما صلى عثمان بمِنى أربعًا لأنه قد عزم على المقام بعد الحج ورجح الطحاوي هذا الوجه مع أنه ذكر الوجهين الآخرين فذكر ما رواه حماد بن سلمة عن أيوب عن الزهري قال: إنما صلى عثمان بمنى أربعًا لأن الأعراب كانوا كثروا في ذلك العام فأحب أن يخبرهم أن الصلاة أربع قال الطحاوي: فهذا يخبر أنه فعل ما فعل ليعلم الأعراب به أن الصلاة أربع فقد يحتمل أن يكون لما أراد أن يريهم ذلك نوى الإقامة فصار مقيمًا فرضه أربع فصلى بهم أربعًا فالسبب الذي حكاه معمر عن الزهري [1] ويحتمل أن يكون فعل ذلك وهو مسافر لتلك العلة قال: والتأويل الأول أشبه عندنا لأن الأعراب كانوا بالصلاة وأحكامها في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجهل منهم بها وبحكمها في زمن عثمان وهم بأمر الجاهلية حينئذ أحدث عهدًا إذ كانوا في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العلم بفرض الصلوات أحوج منهم إلى ذلك في زمن عثمان فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتم الصلاة لتلك العلة ولكنه قصرها ليصلوا معه صلاة السفر على حكمها ويعلمهم صلاة الإقامة على حكمها كان عثمان أحرى أن لا يتم بهم الصلاة لتلك العلة قال الطحاوي: وقد قال آخرون: إنما أتم الصلاة لأنه كان يذهب إلى أنه لا يقصرها إلا من حل وارتحل واحتجوا بما رواه عن حماد بن سلمة عن قتادة قال: قال عثمان بن عفان إنما يقصر الصلاة من حمل الزاد والمزاد وحل وارتحل، وروي بإسناده المعروف عن سعيد بن أبي عروبة، وقد رواه غيره بإسناد صحيح عن عثمان بن سعد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عباس بن عبد لله بن أبي ربيعة أن عثمان بن عفان كتب إلى عماله ألا لا يصلين الركعتين جابٍ ولا (تأن) ولا تاجر إنما يصلي الركعتين من كان معه الزاد والمزاد وروي أيضًا من طريق حماد بن سلمة أن أيوب السختياني أخبرهم عن أبي قلابة الجرفي عن عمه أبي المهلب قال: كتب عثمان أنه قال: بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارة وإما لجباية وإما لجريم ثم يقصرون الصلاة، وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو: قال ابن حزم: وهذان الإسنادان في غاية الصحة، قال الطحاوي: قالوا: وكان مذهب عثمان أن لا يقصر الصلاة إلا من يحتاج إلى حمل الزاد والمزاد ومن كان شاخصًا، فأما من كان في مصر يستغني به عن حمل الزاد والمزاد فإنه يتم الصلاة، قالوا: ولهذا أتم عثمان بمِنى؛ لأن أهلها في ذلك الوقت كثروا حتى صارت مصرًا يستغني من حل به عن حمل الزاد والمزاد. قال الطحاوي: وهذا المذهب عندنا فاسد؛ لأن منى لم تصر في زمن عثمان أعمر من مكة في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بها ركعتين ثم يصلي بها أبو بكر بعده كذلك ثم صلى بها عمر بعد أبي بكر كذلك فإذا كانت مع عدم احتياج من حل بها إلى حمل الزاد والمزاد تقصر فيها الصلاة فما دونها من المواطن أحرى أن يكون كذلك قال: فقد انتفت هذه المذاهب كلها لفسادها عن عثمان أن يكون من أجل شيء منها قصر الصلاة غير المذهب الأول الذي حكاه معمر عن الزهري فإنه يحتمل أن يكون من أجلها أتمها وفي الحديث أن إتمامه كان لنيته الإقامة على ما روينا فيه وعلى ما كشفنا من معناه. (قلت) الطحاوي مقصوده أن يجعل ما فعله عثمان موافقًا لأصله وهذا غير ممكن فإن عثمان من المهاجرين والمهاجرون كان يحرم عليهم المقام بمكة ولم يرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم إذا قدموا مكة للعمرة أن يقيموا بها أكثر من ثلاث بعد قضاء العمرة كما قال في الصحيحين عن العلاء بن الحضرمي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه ثلاثًا، ولهذا لما توفي ابن عمر بها أمر أن يدفن بالحل ولا يدفن بها، وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عاد سعد بن أبي وقاص وقد كان مرض في حجة الوداع خاف سعد أن يموت بمكة فقال: يا رسول الله أخلف عن هجرتي فبشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يموت بها، وقال: إنك لن تموت حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن مات بمكة. ومن المعروف عن عثمان أنه كان إذا اعتمر ينيخ راحلته فيعتمر ثم يركب عليها راجعًا فكيف يقال: إنه نوى المقام بمكة؟ ثم هذا من الكذب الظاهر فإن عثمان ما أقام بمكة قط بل كان إذا حج يرجع إلى المدينة. وقد حمل الشافعي وأصحابه وطائفة من متأخري أصحاب أحمد كالقاضي وأبي الخطاب وابن عقيل وغيرهم فعل عثمان على قولهم فقالوا: لما كان المسافر مخيرًا بين الإتمام والقصر كان كل منهما جائزًا، وفعل عثمان هذا؛ لأن القصر جائز والإتمام جائز وكذلك حملوا فعل عائشة واستدلوا بما رووه من جهتها وذكر البيهقي قول من قال أتمها لأجل الأعراب ورواه من سنن أبي داود ثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد عن أيوب عن الزهري أن عثمان بن عفان أتم الصلاة بمنى من أجل الأعراب؛ لأنهم كثروا عامين فصلى بالناس أربعًا ليعلمهم أن الصلاة أربع. وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا يعقوب عن حميد ثنا سليمان بن سالم مولى عبد الرحمن بن حميد عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن عثمان بن عفان أنه أتم الصلاة بمنى ثم خطب الناس فقال: أيها الناس إن السنة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة صاحبيه ولكنه حدث العام من الناس فخفت أن تعيبوا قال البيهقي: وقد قيل غير هذا والأشبه أن يكون رآه رخصة فرأى الإتمام جائزًا كما رأته عائشة (قلت) : وهذا بعيد فإن عدول عثمان عما داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفتاه بعده مع أنه أهون عليه وعلى المسلمين، ومع ما علم من حلم عثمان واختياره له ولرعيته أسهل الأمور وبعده عن التشديد والتغليظ لا يناسب أن يفعل الأمر إلا ثقل الأشد مع ترك ما داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخليفتاه بعده لمجرد كون هذا المفضول جائزًا، إن لم ير أن في فعل ذلك مصلحة راجحة بعثته على أن يفعله، وهبْ أن له أن يصلي أربعًا فكيف يلزم بذلك من يصلي خلفه؟ فإنهم إذا ائتموا به صلوا بصلاته فيلزم المسلمين بالفعل الأثقل مع خلاف السنة لمجرد كون ذلك جائزًا وكذلك عائشة وقد وافق عثمان على ذلك غيره من السلف أمراؤهم وغير أمرائهم وكانوا يتمون وأئمة الصحابة لا يختارون ذلك كما روى مالك عن الزهري أن رجلاً أخبره عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد يغوث كانا جميعًا في سفر وكان سعد بن أبي وقاص يقصر الصلاة ويفطر وكانا يتمان الصلاة ويصومان فقيل لسعد نراك تقصر من الصلاة وتفطر ويتمان فقال سعد: نحن أعلم وروى شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الرحمن بن المسور قال كنا مع سعد بن أبي وقاص في قرية من قرى الشام فكان يصلي ركعتين فنصلي نحن أربعًا فنسأله عن ذلك فيقول سعد نحن أعلم وروى مالك عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان قال جاء عبد الله بن عمر يعود عبد الله بن صفوان فصلى بنا ركعتين ثم انصرف فأتممنا لأنفسنا (قلت) عبد الله بن صفوان كان مقيماً بمكة فلهذا أتموا خلف ابن عمر وروى مالك عن نافع أن ابن عمر كان يصلي وراء الإمام بمنى أربعًا وإذا صلى لنفسه صلى ركعتين قال البيهقي: والأشبه أن يكون عثمان رأى القصر رخصة فرأى الإتمام جائزًا كما رأته عائشة قال: وقد روي ذلك عن غير واحد من الصحابة مع اختيارهم القصر ثم روى الحديث المعروف من رواية عبد الرزاق عن إسرائيل عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي ليلى قال: أقبل سلمان في اثني عشر راكبًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فحضرت الصلاة فقالوا: تقدم يا أبا عبد الله فقال: إنا لا نؤمكم ولا ننكح نساءكم إن الله هدانا بكم قال: فتقدم رجل من القوم فصلى بهم أربعًا قال فقال سلمان ما لنا ولا لمربعة إنما كان يكفينا نصف المربعة ونحن إلى الرخصة أحوج قال فبين سلمان بمشهد هؤلاء الصحابة أن القصر رخصة (قلت) هذه القضية كانت في خلافة [2] . وسلمان قد أنكر التربيع وذلك أنه كان خلاف السنة المعروفة عندهم فإنه لم تكن الأئمة يربعون في السفر وقوله ونحن إلى الرخصة أحوج يبين أنها رخصة وهي رخصة مأمور بها كما أن أكل الميتة في المخمصة رخصة وهي مأمور بها وفِطْر المريض رخصة وهو مأمور به والصلاة بالتيمم رخصة مأمور بها والطواف بالصفا والمروة قد قال الله فيه {فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158) وهو مأمور به إما ركن وإما واجب وإما سنة، والذي صلى سلمان أربعًا يحتمل أنه كان لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو غزو وكان لكثير من السلف والخلف نزاع في جنس سفر القصر وفي قدره فهذه القضية المعينة لم يتبين فيها حال الإمام لمثله إما لأن سفره كان قصرًا عنده، وإما لأن سفره لم يكن عنده مما يُقصر فيه الصلاة فإن من الصحابة من لا يرى القصر ومتابعة سلمان له تدل على أن الإمام إذا فعل شيئًا متأولاً اتُّبع عليه كما إذا قنت متأولا أو كبر خمسًا أو سبعًا متأولا والنبي - صلى الله عليه وسلم- صلى خمسًا واتَّبعه أصحابه ظانين أن الصلاة زِيدَ فيها، فلما سلم ذكروا ذلك له فقال (إنما أنا بشر أنسى كما تنسون فإن نسيت فذكروني) ، وقد تنازع العلماء في الإمام إذا قام إلى خامسة هل بتابعة المأموم أو يفارقه ويسلم أو يفارقه وينتظره أو يخير بين هذا وهذا على أقوال معروفة وهي روايات عن أحمد أو رأى أن التربيع مكروه وتابع الإمام عليه فإن المتابعة واجبة ويجوز فعل المكروه لمصلحة راجحة ولا ريب أن تربيع المسافر ليس كصلاة الفجر أربعًا، فإن المسافر لو اقتدى بمقيم لصلى خلفه أربعًا لأجل متابعة إمامه، فهذه الصلاة تفعل في حال ركعتين، وفي حال أربعًا بخلاف الفجر فجاز أن تكون متابعة الإمام المسافر كمتابعة المسافر للمقيم؛ لأن كلاهما اتَّبع إمامه وهذا القول وهو القول بكراهة التربيع أعدل الأقوال وهو الذي نص عليه أحمد في رواية الأثرم، وقد سأله هل للمسافر أن يصلي أربعًا؟ فقال: لا يعجبني ولكن السفر ركعتان وقد نقل عنه المروذي أنه قال: إن شاء صلى أربعًا وإن شاء صلى ركعتين ولا يختلف قول أحمد: إن الأفضل هو القصر بل نقل عنه إذا صلى أربعًا أنه توقف في الإجزاء ومذهب مالك كراهية التربيع وأنه يعيد في في الوقت ولهذا يذكر في مذهبه هل تصح الصلاة أربعًا؟ على قولين. ومذهب الشافعي جواز الأمرين وأيهما أفضل فيه قولان أصحهما أن القصر أفضل كإحدى الروايتين عن أحمد وهو اختيار كثير من أصحابه وتوقف أحمد عن القول بالإجزاء يقتضي أنه يخرج على قوله في مذهبه وذلك أن غايته أنه زاد زيادة مكروهة وهذا لا يبطل الصلاة فإنه أتى بالواجب وزيادة والزيادة إذا كانت سهوًا لا تبطل الصلاة باتفاق المسلمين وكذلك الزيادة خطأ إذا اعتقد جوازها وهذه الزيادة لا يفعلها من يعتقد تحريمها وإنما يفعلها من يعتقدها جائزة ولا نص بتحريمها بل الأدلة دالة على كون ذلك مخالفًا للسنة لا أنه محرم كالصلاة بدون رفع اليدين ومع الالتفات ونحو ذلك من المكروها

منهج الدكتور طه حسين العلمي في البحث

الكاتب: محمد عرفة

_ منهج الدكتور طه حسين العلمي في البحث للأستاذ الشهير صاحب الإمضاء أظن أن الصحف لا تأبى على نشر هذا النقد للشعر الجاهلي للدكتور طه حسين وأن ليس لأحد سبيل عليها إذا نشرته لأنه لا يتعلق بدينه ولا بإثبات كفره بما كتبه في الشعر الجاهلي ولا بإثبات أنه طعن في الدين الإسلامي الذي تقام شعائره في مصر فيكون مستحقًّا للعقوبة المنصوص عليها في القانون المصري، وإنما هو مناقشة هادئة علمية محضة في المنهج الذي اصطنعه الدكتور في البحث في الشعر الجاهلي يتبين منها: أهذا النهج الذي سلكه في البحث علمي منطقي يرضى عنه العلم؟ أم هو منهج خاطئ لا يحترمه العلم، يحتقره المنطق؟ ويرى أنه من المغالطات. إننا سنحاول ذلك وستكون النتيجة كما سيراها القارئ أن منهج الدكتور في البحث من ضلالات العقول ومغالطات الوهم، وأنه ليس يسلك هذا المنهج إلا الذين لم يمارسوا صناعة المنطق ولم يمرنوا على صناعة البرهان، وكانوا سطحيين في بحوثهم لم يتعمقوا إلى الغور ولم يبعدوا المرمى، وغرضنا من ذلك أمور ثلاثة: (أولها) أن تسقط دعوى الدكتور طه حسين بأن ما سلكه في البحث منهج علمي حديث، وأنه بذلك يحشر نفسه في زمرة العلماء حشرًا في عداد المخترعين والمبتكرين والمستكشفين، وليس يعلم إلا الله ما ينال هؤلاء العلماء من الأذى في مضاجعهم بانتساب الدكتور إليهم وحشره نفسه قسرًا في زمرتهم. (ثانيًا) أن أحمي شباب مصر من عدوى ذلك المنهج ومن أن يتأثروا الدكتور في طرائقه الفكرية؛ فإن مستوى البحث في مصر لما ينضج بعد وذيوع أمثال طرائق الدكتور مما يكون ضغثًا على إبالة. (ثالثها) أن يعلم الذين يدينون بالإسلام في مصر أن دينهم لم يصادمه علم ولا عقل كما يدعي الدكتور ويفتري، وحاشا الإسلام أن يصادمه علم أو عقل، وأنه إذا كان ثم ما يصادمه فليس العلم والعقل؛ وإنما هو الجهل المخزي والباطل الشائن والعقل الفجّ الذي لم يستكمل بعض شرائط الإنتاج سيسوء ذلك الدكتور طه حسين، ولا ترضيه ولكنني لست أتوخى رضاه ولا أتحرز من مساءته وإنما أتوخى رضى الحق وأتجنب مساءة الصواب، فأما من عداهما فلا علي أن يكونوا غاضبين وليس يدخل في غرضي أن يقتنع الدكتور طه حسين، فإنه ليس ممن يرجى منهم اقتناع فإنه ليس طالب حق وإنما هو طالب رواج وليس ممن يعنيهم الصواب وإنما ممن يعنيهم الربح فهو كالتاجر همه أن تروج بضاعته لا أن تنقد فيعلم جيَّدها من رديئها وكما أن التاجر إذا بصرته عيب بضاعته ناكرك وجاحدك كذلك الدكتور إذا ألمسته عيب ما يقول بيده جحد واستكبر؛ لأن ذلك يقف دون رواجه وربحه وإياهما يريد. إن الذي أفسد على الدكتور أمره اعتقاده أن أمته أمية فهو يلقي إليها مباحثه على عواهنها لا يعنى بتمحيصها ونفي الزائف عنها عالماً بأنه ليس عندها من ملكة النقد ما يبن عيبه ويظهر شينه وقد مد له في هذا الاعتقاد أنه يرى المعجبين برأية والمقرظين لعلمه مهما كان فيه من الباطل والخطأ. ألا فليعلم الدكتور بعد أنه ليس ينشر بحوثه في أمة وحشية متبدية كقبائل الزنوج وإنما هو ينشرها في أمة متحضرة متمدينة ضربت في العالم بسهم وأخذت منه حظًّا وأن بني قومه فيهم من ينقدون الآراء ويعلمون حقها من باطلها ويعلمون المغالطات مهما بولغ في تزيينها وأنهم لم تستعص عليهم نحل الفلاسفة ومعتقداتهم في الإلهيات والأخلاق والسياسة والاجتماع فنقدوها وعلموا زائفها من خالصها فكيف تستعصي عليهم آراء سطحية تتعلق بتاريخ أو شعر؟ وأنهم إن كانوا إن كانوا قليلاً ففي استطاعة هؤلاء القليل أن يبينوا لجمهرة الأمة عثرات الرأي وكبوات الأفهام. جاء شقيق عارضًا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح نفى الدكتور طه حسين في الفصل الذي عنوانه (الشعر الجاهلي واللغة) وجود إبراهيم وإسماعيل وبناءهما الكعبة وهجرتهما إلى مكة وتعلم إسماعيل العربية من العرب العاربة الذين هم من قحطان وإن كان قد ورد ذكرهما في التوراة والقرآن، نفى ذلك الدكتور وليس له اختيار في هذا النفي؛ لأنه مضطر أمام الدليل القطعي والدليل الذي اضطره إلى ذلك هو أنه قد ثبت أن لغة قحطان أي لغة جنوب جزيرة العرب تخالف اللغة العربية التي يتكلم بها أهل الحجاز فنسبتها إلى اللغة العربية كالنسبة بين اللغة العربية وبين أي لغة سامية فإذا كانت هذه القصة صحيحة وكان إسماعيل وبنوه قد تعلموا العربية من القحطانية فكيف بعد ما بين اللغة العربية العدنانية واللغة القحطانية؟ نحن إذًا بين أمرين إما أن نقبل هذه القصة ونرفض ذلك الدليل القطعي أو العكس، ولا مندوحة تجوز رفض الدليل القطعي فلا بد من رفض هذه القصة وإنكارها والإذعان للدليل القطعي ننكرها بجملتها فلم يوجد إبراهيم وإسماعيل فضلاً عن بنائهما الكعبة وهجرتهما إلى مكة وتعلم إسماعيل العربية من القحطانية نحن مضطرون إلى ذلك وإن حدثنا القرآن والتوراة عنها فإن ورود هذين الاسمين فيهما لا يكفي لوجودهما التاريخي. هذا دليل الدكتور وسنبدأ في مناقشته قبل الدخول في تفصيلات المناقشة نذكر مقدمة ينبغي أن نتعلم وهي أن القرآن لم يعرض لحديث تعلم إسماعيل العربية من قحطان وإنما الذي عرض له وجودهما وهجرتهما وبناؤهما الكعبة وإنما الذي عرض لتعلم إسماعيل العربية من القحطانية هم مؤرخو اللغة وبعد فسنسلم للدكتور جدلاً كل ما قاله من البعد بين القحطانية والعدنانية بعداً يجعلهما لغتين مستقلتين ومن أنه لو تعلم إسماعيل من القحطانية لكانت اللغتان متفقتين أو متقاربتين. ولكننا نقول له: إن دليلك لا ينفي إلا أن إسماعيل تعلم اللغة العربية من القحطانين فأما وجودهما وهجرتهما إلى مكة وبناؤهما الكعبة وهي الأمور التي عرض لها القرآن فلا ينفيها ولا يتعرض لها، فمما يتفق مع دليلك أن يكون إبراهيم وإسماعيل قد وجدا وهاجرا إلى مكة وبنيا الكعبة وتعلم إسماعيل وأبناؤه العربية من غير القحطانيين من العرب الذين خلقهم الله يتكلمون العربية الحجازية التي بقيت إلى مجيء الإسلام فالدليل قطعي لا ينفي إلا شيئًا واحدًا وهو تعلم إسماعيل وبنيه العربية من القحطانية فمن الواجب أن يقتصر به على ذلك ولا يعدي إلى القصة جميعها فينفيها إذ لا منافاة بينه وبين بقيتها ومثل الدكتور في ذلك مثل من يسمع مؤرخين أحدهما يقول: إن اللورد كتشنر كان عميد الدولة البريطانية في مصر والآخر يقول: إنه كان عميدها في مصر ستة 1920 فيقول: إن التاريخ يفيد أن اللورد كتشنر غرق زمن الحرب العظمى التي انتهت قبل هذا التاريخ فيما قاله المؤرخان كذب ولم يكن اللورد كتشنر عميدًا لإنكلترا في مصر وقتًا ما، كذب المؤرخين وكذب القصة جميعها ولو اتبع المنطق لنفي كونه عميدًا في زمن سنة 1920 ولم يعد النفي إلى كونه عميدًا ولم يكذب المؤرخ الأول إذ لم يتعرض لتعيين الزمن وكذلك الأمر عندنا الدليل ينفي ما قاله المؤرخون من أن إسماعيل تعلم العربية من القحطانية فينفي به الدكتور القصة حتى ما ذكره القرآن من وجودهما وهجرتهما وبنائهما الكعبة مما لم ينفيه الدليل ولم يتعرض له ويكذب القرآن فيما قاله وهو لم يعرض لما نفاه الدليل وإنما عرض لغيره. فيا دكتور دليلك أقصر من دعواك أنت تدعي نفي وجود إبراهيم وإسماعيل وهجرتهما إلى مكة وبناءهما الكعبة وتعلم إسماعيل العربية من القحطانية، ودليلك إنما ينفي الأخير، وهو تعلم إسماعيل العربية من القحطلنية، فأما ماعدا ذلك فلا، ويسمي علماء المناظرة ذلك بمنع التقريب، والتقريب سوق الدليل على وجه يستلزم المطلوب ويقولون في مثل ذلك: إن التقريب غير مسلم، أي إنك سقت الدليل على وجه لا يستلزم المطلوب فمثلك مثل من ادعى أن هذا الشبح إنسان ويستدل على هذه الدعوى بأنه متحرك بالإرادة وكل متحرك بالإرادة حيوان، نعم، الدليل مسلم ولكنه لا يستلزم المطلوب وهو أنه إنسان. فالمنطق يأمرنا إذا نفى الدليل شيئًا أن نقصره على ذلك الشيء ولا نعد به إلى ما عداه وقد رأيت في مثال اللورد كتشنر كيف نخطئ إذا عدينا النفي إلى غير ما مقام عليه الدليل، ولو أردنا أن نصوغ دليلك في قالب منطقي لكان هكذا: لو كانت الحجازية أصلها القحطانية لما بعد ما بينهما هذا البعد لكنهما متباعدتان إذن فليست الحجازية أصلها القحطانية هذه النتيجة فقط، ولكنك تزيد فيها ما يأتي: لم يوجد إبراهيم وإسماعيل ولم يبنيا الكعبة ولم يهاجرا إلى مكة وهذا هوس ليس منطقًا. ويظهر أن الدكتور طه علم أن دليله لا ينتج تكذيب القرآن فيما ذكر فلم يرتب التكذيب على الدليل ولم يقل: وإذن. التي يستعملها دائمًا في كلامه، وقال فواضح جدًّا لكل من له إلمام بالبحث التاريخي عامة وبدرس الأساطير والأقاصيص خاصة أن هذه النظرية متكلفة مصطنعة في عصور متأخرة دعت إليها حاجة دينية أو اقتصادية أو سياسية وهو بين شرَّين لا مفر منهما، إما أن يكون اجترأ على تكذيب القرآن في وجود إبراهيم وإسماعيل بدون دليل وليس بيده إلا قوله: فواضح جدًّا، وحينئذ تكون دعوى لا دليل عليها الدعاوى إن لم تقم عليها بينة لم يعبأ بها وإما أن يكون قد كذب القرآن بذلك الدليل قد علمنا أنه أقصر من دعواه ولا ينتج تكذيب القرآن. هذا وقد رأى القراء أننا لم نناقش الدكتور على قاعدة أن القرآن نص يقيني وهو حجة على كل ما خالفه، وإنما ناقشناه على قاعدة أنه نص تاريخي كنص أي مؤرخ من البشر تنزلاً منا، وبينا له أن دعواه لم تتم؛ لأن الدليل العقلي الذي استعمله لا ينهض فلم نلزمه بنصوص الدين لئلا يقال: إن ذلك لا يلزمه إلا المتدين وإنما ألزمناه بالأدلة العقلية المشتركة للإنسانية كلها من تدين منهم ومن لم يتدين. ولا يظن ظان أن أدلة الدكتور الحديثة تقف عند هذا الحد من العبث والبطلان بل إن لها لونًا أخر من ألوان العبث والبطلان وهو ما سنبينه. يزعم الدكتور طه أن قصة إبراهيم وإسماعيل موضوعة وضعها اليهود لغرض وهو أنهم كانوا يريدون أن يثبتوا القرابة بينهم وبين العرب ليعيشوا معهم عيشة راضية وقبلتها مكة لغرض سياسي وديني؛ لأنهم كانوا يريدون أن يتصل نسبهم بأصل من تلك الأصول الماجدة وقبلها الإسلام لغرض ديني وهو أنه يريد أن يثبت صلة بينه وبين اليهودية. هكذا زعم الدكتور وليس معه نص تاريخي يفيد ذلك وليس بيده إلا أن ذلك يمكن أن يكون قد كان وإذا تصور على هذا الحال كان منسجمًا ونحن نقول له: يا دكتور أن التاريخ لا يثبت بمثل ذلك وليس كل ما يمكن أن يكون قد كان يجب أن يكون قد كان ولا يثبت الأمر بأن هذه العلة يجوز أن تكون له وأن مثلك في ذلك مثل مؤرخ يأتي بعد مائتي سنة يقول يزعم المؤرخون أن أمريكا اشتركت مع فرنسا في حرب ألمانيا في الميدان الغربي وهذا باطل فأين أمريكا من فرنسا إن بينهما المحيط الأطلانطيقي على سعته القصة مكذوبة وقد اخترعها بعض الأمريكان ليقرب الشعبين الأمريكي والفرنسي بعضهم من بعض إن هذه القصة تفيد أنهما حاربا معًا جنبًا لجنب عدوًّا مشتركًا فهي تدعوا إلى تآلف الشعبين فقد وضعت لذلك وإن الذي يدعوا إلى أن توضع علوم الأوائل كلها موضع الشك ولا يثبت إلا ما قام العلم على إثباته لا يسوغ له أن يطلب منا الاقتناع بمثل هذه الظنون والأوهام وليس عنده من الحجة إلا أن ذلك يمكن أن يكون قد كان فيجب أن يكون قد كان اللهم إلا إذا كان يدعو إلى رفض تقليد الماضين إلى تقليده هو وإن قار

الصحة

الكاتب: مهاتما غاندي

_ الصحة تأليف زعيم الهندوس الأكبر مهاتما غاندي ترجمة الأستاذ الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي إن المنكشفات الحديثة قد أثبتت بأن الإنسان الصحيح التام الصحة - وهو الذي لم يفسد دمه بكثرة الحرارة والذي غذاؤه جيد صحي- لا يتأثر حالا بِسُم الثعبان وأن تأثيره يكون سريعًا وخطرًا في جسم من أفسد دمه بالخمر أو الغذاء الرديء، وقد توسع في هذا المعنى أحد الأطباء حتى قال (إن دم الرجل الذي لا يأكل الملح وما شاكله بل يقتصر على تناول الثمار وحدها يبقى دمه نظيفًا نظيفًا، حتى إنه لا يؤثر فيه أي نوع من السم تأثيرًا ما) إني ما جربت هذا الأمر تجربة كافية حتى أجزم بصحته؛ لأن الرجل الذي يترك الملح وأمثاله من الأشياء سنة أو سنتين فقط لا يمكن أن يقال: إنه وصل إلى ذلك الحد من الصيانة والمناعة؛ لأن الدم الذي قد فسد وتسمم بعمل رديء دام سنين كثيرة لا يتأتى رده إلى حالته المعتدلة من الطهارة في مدة وجيزة. لقد ثبت بالتجارب أن الإنسان يتأثر بالسم إذا كان في حالة الغضب، أو الخوف أسرع بكثير من تأثره إذا كان في حالته الاعتيادية كل منا يعرف كيف يزيد الخوف والغضب دقات القلب في الحالة الاعتيادية وكلما كثرت دورة الدم في الشرايين يزداد تولد الحرارة كثرة، ولكن الحرارة التي تتولد من الانفعالات الخبيثة ليست صحية بل مضرة للغاية وليس الغضب إلا نوعًا من الحمَّى فأحسن ترياق لنهش الثعبان هو استعمال الغذاء الصحي المعتدل، وتطهير المخ من نوازع الشر كالغضب والخوف واجتناب توسيع المجال للذعر والرعب والثبات والثقة التامة بالقوة الواقية وضبط النفس والقوى مع الاعتماد على الله والإيمان التام بأن أنفسنا في يده سبحانه وبأن المدة الوجيزة من الحياة التي قدرها لنا لا يمكن بحال من الأحوال أن ينقصها أحد، أو يزيدها هذه هي صفات الحياة الطاهرة المقدسة. إن الدكتور (فيتزسومان) seaman - fitz مدير متحف Elizabeth port (ثغر أو مرفأ أليصابات) قد أنفق قسطًا كبيرًا من حياته في تعرف أحوال الحيات ودرس طبيعتها وخواصّها وهو يعد حجة كبيرة في النهش وعلاجه وهو يقول لنا في بيان نتيجة تجاربه العديدة التي لا تحصى (إن أكثر ميتات النهش المزعومة هي في الحقيقة نتيجة للخوف والمعالجات الخاطئة التي يستعملها المتطببون) . يجب أن نتذكر دائمًا أن بعض الثعابين ليست سامة، وأن نهش السام منها ليس فيه خطر مباشر على أن هذه الثعابين لا تجد دائمًا فرصة لإفراغ سمها في جسم الملدوغ وقت النهش، ولذلك ينبغي ألا نجزع إذا نهشنا ثعبان سام مادام العلاج السهل جدًّا متيسرًا ويمكن أن نستعمله بأنفسنا بدون استعانة بأحد وهو: يجب أن يربط ما فوق محل النهش مباشرة ربطًا جيدًا بعصابة تشد شدًّا تامًّا بإدخال قلم الرصاص أو عود آخر وتُزوى به لئلا يصعد السم من طريق العروق ثم يجب أن يشق الجرح شقًّا قدر نصف قيراط في العمق برأس سكين مرهف ليتمكن الدم من الخروج بكثرة ثم يملأ بمسحوق أصهب اللون أسود أحمر يباع في الأسواق يسمى permanganate potassium، وإن لم يتيسر ذلك فيمص محل اللدغ مصًّا جيدًا ويبصق الدم، وسواء كان الماص هو المصاب أو غيره فكله جائز؛ إلا أنه لا يجوز أن يكون الماص في فمه جرح لئلا يسري إليه السم إن هذا العلاج يستعمل خلال سبع دقائق من وقوع الحادثة أي قبل أن يجد السم وقتًا للصعود والانتشار في الجسم، وإن الدكتور الألماني السابق الذكر الذي أخصي في العلاج الترابي يدعي كما مر أنه عالج النهش بدفن المنهوش في حفرة جديدة بالتراب وإني وإن كنت ما جربت التراب في النهش ولكني أعتقد بدون شك نفعه بتجربتي إياه في حوادث أخرى. وبعد استعمال permanganate potassium أو مص الدم يجب أن تستعمل لبخة طينية سميكة بقدر نصف قيراط وكبيرة تكفي لتغطية المحل المنهوش وما حوله تماما يجب أن تبقى في كل بيت كمية من التراب المطحون المصفى جيداً في صفيحة معدة لاستعمال اللبخة ويعرض التراب دائمًا للشمس والهواء ويحافظ عليه من الرطوبة كذلك يجب أن تبقى العصابات الصالحة لذلك من القماش مهيأة لتستعمل عند الحاجة حالاً إن هذه الأشياء تكون نافعة لا في النهش فقط بل في حوادث كثيرة أخرى. إذا فَقَدَ المنهوش شعوره أو ظهر أن التنفس قد انقطع فعملية التنفس الصناعي التي قد ذكرت في شأن الغريق تستعمل هنا أيضًا وكذلك الماء الساخن أو بالأولى المغلي فيه القرنفل وقشر شجرة الغار؛ فإنه نافع جدًّا لاستعادة الشعور ويجب أن يبقى المنهوش في الهواء الطلق، ولكن إن ظهر أن الجسم أخذ يبرد فتستعمل لتدفئته قنينات الماء الساخن، أو يدلك الجسم بقطعة من الفلالين المبلولة بالماء الساخن المعصورة لتوليد الحرارة. *** لسع العقرب يقول المثل السائر عندنا (لا يبتلي الله أحدًا بوجع لدغ العقرب) فهذا يظهر شدة الوجع والحقيقة أن هذا الوجع أشد من نهش الحية، ولكنا لا نخاف منه كثيرًا لأنه أقل خطرًا منه بكثير لا شك، كما قال الدكتور (مور) moor: إن الرجل الطاهر الدم تمامًا ينبغي أن يكون خوفه قليلا من إبرة العقرب؛ لأنه لا يتأذى بها إلا قليلاً. إن علاج اللسع سهل يجب أن يشق الموضع الملدوغ برأس سكين حاد ويمتص الدم مصًّا. إن عصابة صغيرة تشد بقوة فوق المكان الملدوغ لتمنع السم من الصعود واللبخة الطينية تخفف الوجع حالاً. نصح بعض الكتاب بربط خرقة سميكة مبلولة بمزيج من الخل والماء في نسبة واحدة فوق الموضع الملدوغ، أو يبقى هذا المكان وما حوله مغموسًا في ماء الملح ولكن اللبخة الطينية أحسن علاج، ويمكن أن يجربها بنفسه كل من قدر عليه أن تلدغه العقرب يجب أن تكون اللبخة سميكة جدًّا، حتى إن الرطلين من التراب أيضًا لا يعدان كثيرًا. إذا كان اللدغ في الإصبع مثلا فاللبخة تستعمل إلى المرفق وإن إبقاء اليد مغموسة لمدة في طين رخو في إناء كبير نظيف يخفف الوجع أيضًا. إن لدغ أم أربعة وأربعين وغيرها من الحشرات يجب أن يعالج بعلاج العقرب نفسه *** الباب الحادي عشر الخاتمة لقد فرغت من كل ما أردت أن أقوله في موضوع الصحة. والآن أريد أن أقول لقرائي قبل أن أودعهم كلمة في زيادة البيان لغرضي من كتابة هذه الصحائف لقد كررت نفسي أثناء كتابتي هذا السؤال: وهو لماذا أكتب أنا هذا الكتاب دون سائر الناس؟ ، هل هناك مبرر لرجل مثلي لم يتعلم الطب ولم يتقن - كما لا يخفى -المسائل التي جاءت في المباحث أن يحاول تأليف هذا الكتاب؟ إن عذري في ذلك هو أن علم الطب نفسه مبني على تجارب وعلم ناقص وأكثره تخرص محض. وهذا الكتاب على كل حال ساقني إليه أطهر الأسباب وأقدسها. إني لم أبذل جهدي في بيان المعالجات للأمراض مثل ما بذلت لبيان طرق الوقاية منها، وإن قليلا من التأمل يثبت أن الاحتياط وتوقي المرض أمر سهل بالنسبة (إلى تشخيص الأمراض ومعالجتها) ، وهو لا يتطلب علمًا خاصًّا، وإن كان العمل بهذه الأصول ليس بهين بلا ريب. كان غرضنا أن نبين اتحاد الأصول والعلاج لجميع الأمراض ليعرف الناس معالجة أنفسهم بأنفسهم إذا داهمتهم الأمراض كما يحصل كثيرًا مع تنبه كبير لمراعاة أصول الصحة. وهنا يرد سؤال: هل الصحة الجيدة ضرورية إلى هذا الحد حتى يهتم لها هذا الاهتمام الكبير؟ إن سيرتنا المعاشية تثبت أننا لا نقيم للصحة وزنًا كبيرًا، ولكنا إن كنا نرى الصحة التمتع والتلذذ بالشهوات أو لنفتخر بحسن جسمنا ونعده غاية من حيث هو هو، فأحسن بكثير في هذه الحالة أن نشوه أجسامنا بلحم رديء بالسمن المفرط وما شاكله من المشوهات والمفسدات له. إن الأديان كلها متفقة على عد الهيكل الإنساني مسكنًا لله سبحانه وتعالى. إن الرب قد وهبنا الجسم لنستعمله في طاعته ونعبده به عز وجل عبادة خالصة لوجهه ولذلك وجب أن نحافظ على طهارته؛ وأن لا نتركه عرضة للرجس ظاهرًا ولا باطنًا لنرجع به إذا جاءت ساعة الرجوع إلى موهبه سبحانه في نفس الحالة التي أخذناه فيها إذا نحن وفينا بشروط المعاهدة لرضاء الرب؛ فهو بلا ريب يجازينا ويجعلنا الوارثين لدار البقاء. إن أجسام سائر المخلوقات الحية قد وهبت القدرة، وأعطيت آلات الإحساس كالبصر والسمع والشم وغيرها من الحواس، ولكن الجسم الإنساني قد فضل عليها جميعًا ولذلك نسميه نحن الهنود (بالمعطي لسائر الخيرات) إن الإنسان وحده يستطيع عبادة الله بالعلم والفهم، وإذا خلت العبادة من الفهم فهي ليست بعبادة حقًّا ومعلوم أن العبادة إذا بطلت يستحيل أن نجد المسرة الحقيقية لا يمكن أن نستخدم الجسم في الخدمة حق الخدمة إلا إذا حسبناه معبدًا لله، وسخرناه لعبادته تعالى وإلا فهو ليس بأشرف من ظرف وسخ من العظام واللحم والدم بل الهواء الذي يخرج منه شر من السم. إن الأشياء التي تخرج من مسام الجسم وغيرها من السبل الدنسة التي لا نستطيع أن نمسها بل لا نتصورها بدون اشمئزاز ولا بد للمحافظة عليها نظيفة من جهد وعناء أفليس من العار الكبير أن نتعمد على الكذب والغش وأعمال الفسق بل ما هو شر منها لأجل شهوات هذا الجسم الضعيف، أو ليس من الخزي المخجل أن نهتم هذا الاهتمام الكبير للمحافظة على هذا الجسم المهين لنتمكن من الدناءات والفسوق؟ إن هذه هي الحقيقة العارية لجسمنا، وإن أحسن الأشياء وأنفعها أيضًا قد أودعت فيها قابلية لإظهار الشر والمصائب. ولولا ذلك لما سهل علينا أن نقدرها حق قدرها في قابليتها للصلاح والخير، فنور الشمس الذي هو منبع للحياة والذي لا نستطيع أن نعيش بدونه ساعة واحدة من الزمن يصلح لأن يحرق جميع الكائنات ويجعلها رمادًا. ويقدر الملك أن ينفع رعاياه نفعًا عظيمًا كما يمكن أن يكون سببًا للعذاب الأليم كذلك يمكن أن يكون الجسم خادمًا جيدًا ولكن إذا أصبح هو الحاكم فقوته إلى الشر فوق كل حد. إن بين العقل والشيطان حربًا عوانًا في أنفسنا للاستيلاء على جسمنا، فإن غلب العقل يصبح الجسم آلة نافعة للخير. وإذا غلب الشيطان يصير مثارًا للشرور والفسوق. وإن جهنم نفسها تكون خيرًا من الجسم المسخر للفسوق المملوء بالأوساخ المثير للروائح الكريهة الذي تستعمل أرجله وأيديه في الأعمال القبيحة الذي يستعمل فمه في أكل الأشياء التي يجب أن لا تؤكل ولسانه في التكلم بأمور يجب لأن لا يتكلم بها، وعينيه في النظر إلى الأشياء التي يحرم النظر إليها، وأذنيه في سمع الأشياء التي يحظر سماعها، وأنفه في شم الأشياء التي لا ينبغي شمها، وإذا كان لا يوجد أحد يختار النار على الجنة، فالعجب كل العجب أن حسبنا الجسم الذي جعلناه بأنفسنا أشر من جهنم حسنا كالجسم المطهر يستحق الجنة ما أقبح كبرنا وزهونا وما أحط إدراكنا في هذا الأمر، إن الذين جعلوا مثواهم كالكفيف لا بد من أن يجنوا ثمر حماقتهم وهكذا شأننا إذا كان جسمنا بالحقيقة في يد الشيطان ونحن نحسب أننا نتمتع فيه بالسعادة الحقيقية، فيجب أن لا نلوم إلا أنفسنا إذا فاجأتنا العواقب المريعة التي لا بد من وقوعها، والحاصل أن قصدنا في هذه الصحائف أن نعلم هذا الحق الأكبر وهو أن الصحة التامة إنما يمكن نيلها بالعيشة الخاضعة للسنن الإلهية والمضادة لنزغات الشيطان. إن المسرة الحقيقية مستحيلة بدون الصحة الحقيقية، والصحة الحقيقية مستحيلة بدون أن يملك الإنسان نفسه ويتغلب على هواه، إن الحواس كلها تخضع لنا بنفسها إذا تغلبنا على اللذة، إن من غلب على حواسه فقد غلب على الدنيا كلها، وأصبح جزءًا من الله تعا

الطحال والكبد هل هما دمان

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي

_ الطحال والكبد.. هل هما دمان؟ ذكر الفقهاء أن الدم حرام إلا الطحال والكبد، فإنهما يحل أكلهما وإن كانا من الدم. فهل هما من الدم حقيقة حتى يحتاج الفقهاء إلى استثنائهما من حكمه؟ نظن أن ذلك بعيد لغة وتشريحًا وقبل إثبات ذلك نرى أنه لا بد من الكلام على الحديث الذي ورد في سنن ابن ماجه وأوقع الفقهاء في هذا الخطأ اللغوي التشريحي لنبين قيمته كحديث. حديث ابن ماجه قال ابن ماجه في باب الكبد والطحال: حدثنا أبو مصعب حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أحلت لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالحوت والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال) وقال في باب صيد الحيتان والجراد: حدثنا أبو مصعب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أُحلت لنا ميتتان الحوت والجراد) . درجة الحديث قال البيجوري في حاشيته على ابن قاسم: إن سند هذا الحديث ضعيف وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر، وقال: حكمه حكم المرفوع. ولذلك قال في المجموع الصحيح: إن ابن عمر هو القائل: (أحلت لنا ميتتان ... إلخ) . وإنه يكون بهذه الصيغة مرفوعًا. وسبب ضعف سند هذا الحديث أن فيه عبد الرحمن بن زيد الذي ضعفه رجال الحديث وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: سأل رجل عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حدثك أبوك عن أبيه، أن سفينة نوح طافت بالبيت وصلت خلف المقام ركعتين قال نعم وذكر رجل لمالك حديثًا، فقال: من حدثك به؟ فذكر إسنادًا منقطعًا. فقال: اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوح عليه السلام فمثل هذا الرجل (عبد الرحمن بن زيد) الذي زعم أن سفينة نوح طافت بالبيت ما كان للفقهاء أن يجروا وراء حديثه السابق الذي جعل فيه الكبد والطحال من الدم مخالفًا بذلك لغة العرب وعلم تشريح الأعضاء كما خالف بحديثه عن سفينة نوح حكم التاريخ وبديهة العقل. الدم في اللغة جاء في كتاب قطر المحيط للبستاني أن الدم سائل أحمر يسري في عروق الحيوان. (الكبد والطحال في اللغة) جاء في لسان العرب أن الكبد لحمة سوداء في البطن. وأن الطحال لحمة سوداء عريضة في البطن لازقة بالجنب الأيسر. فالدم في اللغة من الأخلاط والكبد والطحال من اللحم ولا يوجد عاقل يتوهم أنهما من الدم حتى نحتاج إلى استثنائهما من حرمة أكله. (الدم في علم التشريح) جاء في دائرة معارف البستاني أن الدم سائل لزج قليلاً محتوٍ على كريات جامدة لا تحصى ولا تُرى إلا بالنظارات المكبرة. وأنه ليس في الجسم سائل مركب من مواد مختلفة مثله. (الكبد والطحال في علم التشريح) جاء في قانون ابن سينا أن الكبد لحم أحمر كأنه دم لكنه جامد، وهي خالية عن ليف العصب ... إلخ، وأن الطحال عضو مستطيل لساني متصل بالمعدة من يسارها إلى خلف يجذب السوداء بعنق متصل بتعقيد الكبد ... إلخ. فقد اتفق علم التشريح مع اللغة أن الكبد والطحال ليسا من الدم وليس للفقهاء دليل علي أنهما دمان إلا رواية ذلك الشيخ الضعيف عبد الرحمن بن زيد ومثله لا يحتج بروايته المخالفة لما ثبت في اللغة، وعلم التشريح ولبداهة العقل التي لا يسوغ فيها مثل ذلك. وقد يقال: إن جعل الكبد والطحال من الدم في هذا الحديث المزعوم ليس علي سبيل الحقيقة، وإنما الكلام فيه جار على التشبيه فنقول: إن القلب وأعضاء كثيرة من الجسم تشبه الدم أيضًا، فلو كان الكلام جاريًا على التشبيه لَذَكَرَ مع الكبد والطحال سائر ما يشبه الدم من الأعضاء على أن أسلوب الكلام بعيد عن التشبيه والمحرم في القرآن هو الدم الحقيقي لا ما يشبهه فلا وجه لاستثناء ذلك منه؛ ولذا لم يفهم الفقهاء الحديث إلا على وجه الحقيقة، وحكموا بأن الكبد دم متجمد ولم يذكروا شيئًا في الطحال؛ لأن المخالفة فيه أصرح فما أحرانا أن نزيل مثل هذا من كتب الفقه إنصافا للحقيقة والعلم. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي ... ... ... ... ... ... ... المدرس بالجامع الأحمدي (المنار) حديث الميتتين والدمين رواه الشافعي، وأحمد، وابن ماجه، والدارقطني من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعًا، وعبد الرحمن ضعيف متروك، وقال أحمد: حديثه هذا منكر، ورفعه أيضًا أخواه عبد الله وأسامة وقد ضعف الثلاثة ابن معين، وعليه الجمهور. قال الحافظ ابن حجر: تابعهم شخص ثالث أضعف منهم وهو أبو هاشم كثير بن عبد الله الأبلي، ورواه المسور بن الصلت من حديث أبي سعيد، والمسور كذاب، ورواه الدارقطني من طريق سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم موقوفًا وقال وهو أصح، أو قال صوب. وصحح الموقوف أبو زرعة وأبو حاتم لأن سليمان ثقة عند الجمهور ورواه عن زيد دون أولاده الضعفاء. وسليمان لم يسلم من مقال فقد قال عثمان بن أبي شيبة: لا بأس به وليسممن يثعتمد حديثه. وقد قال الحافظ في التلخيص: إن لمثل هذا الموقوقوف حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا وحرم علينا، كقوله: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، أي ولهذا أخذ الفقهاء به وإن لم يصح رفعه، أقول فإذا سلمنا لهم هذا ولم نعتد بما ذكرنا من الطعن في سليمان فإنما نأخذ بمعناه من حل الأربعة ولا يمكننا أن نجزم بأن التعبير بالدمين من قول ابن عمر أو من قول زيد، وحل الكبد والطحال لا يتوقف على هذه الرواية، فإنهما من جنس اللحم كغيرهما من أجزاء الحيوان وكانوا يأكلونها وقد حصر نص القرآن المحرمات في الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به. والمسفوح السائل المهراق وليسا منه لغة ولا عرفًا ففي كتب اللغة التعبير عن كل منهما بأنه لحمة صفتها كذا وكذا، وعندي أن التعبير عنهما بالدمين لما يتخللهما من الدم الكثير، وقد نص الفقهاء عن العفو عما يتخلل اللحم من دم قليل، فلعل مراد ابن عمر أنه أحل لنا ما يتخلل الكبد والطحال من الدم وإن كان كثيرًا لتعذر إزالته أو لأنه لا يبلغ أن يكون دمًا مسفوحًا. فلا حاجة إلى القول بأنهما دم متجمد فمن المعلوم بالقطع أنهما لم يكونا دمًا عبيطًا سائلاً ثم جمد، بل تكونا في الحيوان بقدرة الله تعالى كتكون غيرهما من الأعضاء لوظائف اقتضتها الحكمة الإلهية، وإن كانت وظيفة الطحال أخفى من وظيفة الكبد عند الأطباء، والله أعلم.

وجوب الحج

الكاتب: محمد بسيوني عمران

_ وجوب الحج جاءتنا هذه الرسالة من الأستاذ صاحب الإمضاء (مهاراج) إمام سمبس جزيرة من برنيو (جاوه) يحذر فيها المسلمين في جاوه وغيرها مما يسعى إليه بعض زعماء الشيعة و (شوكت علي) و (محمد علي) زعيمي السياسة الهندية من إقناع المسلمين بترك الحج وهدم هذا الركن الإسلامي العظيم ويبين لهم أن استحلال الدعوة وإجابتها كفر وردة عن الإسلام قال أثابه الله تعالى. (بسم الله الرحمن الرحيم) حضرة أستاذنا العلامة المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي نفعني الله والمسلمين بعلومه وبمناره. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فقد كتبت مقالة باللغة الملاوية أنشرها في جرائد جاوية (ملاوية) وهى كما يأتي: (قد علم كل مسلم أن الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة؛ فيجب مرة واحدة في العمر على كل مسلم عاقل، بالغ، حر استطاع إليه سبيلاً، لقوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) قال الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره: يعني بذلك جل ثناؤه وفرض واجب على من استطاع من أهل التكليف السبيل إلي حج بيته الحرام الحج إليه. واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) وما السبيل التي يجب مع استطاعتها فرض الحج. فقال بعضهم هي الزاد والراحلة. ذكر من قال ذلك حدثنا محمد بن بشار قال: ثنا محمد بن بكر قال أخبرنا ابن جريج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (من استطاع إليه سبيلا) الزاد والراحلة، عن الحارث عن علي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا) وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: 97) الآية [1] . وفي رواية عن الحارث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من ملك زادًا وراحلة فلم يحج مات يهوديًّا أو نصرانيًّا) وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إن ذلك على قدر الطاقة؛ لأن السبيل في كلام العرب: الطريق فمن كان واجداً طريقاً إلى الحج لا مانع له منه من زمانه أو عجز أو عدو أو قلة ماء في طريقه أو زاد أو ضعف عن المشي فعليه فرض الحج لا يجزيه إلا أداؤه فان لم يكن واجدًا سبيلاً أعني بذلك فإن لم يكن مطيقًا الحج بتعذر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه فهو ممن لا يجد إليه طريقاً ولا يستطيعه لأن الاستطاعة إلى ذلك هو القدرة عليه ومن كان عاجزًا عنه ببعض الأسباب التي ذكرناها، أو بغير ذلك فهو غير مطيق ولا يستطيع إليه السبيل. وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها؛ لأن الله عز وجل لم يخصص إذ ألزم الناس فرض الحج بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلاً بعموم الآية؛ فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك بأنه الزاد والراحلة فإنها أخبار في أسانيدها نظر لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين اهـ باختصار. لو قال قائل: هل توجد الآن طريق إلى الحج أم لا؟ وهل فيها أمان أم لا؟ لقلنا: نعم بناء على أخبار من سافروا في العام الماضي عام 1344 من الحجاج الجاويين وغيرهم إلى الحجاز (مكة والمدينة) لأداء فريضة الحج إلي بيت الله الحرام وزيارة قبر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة فإنهم وجدوا طريقًا إلي الحج وزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يروا فيها إلا ما يسر خاطرهم، ويقر أعينهم فقد أدوا ما عليهم من فريضة الحج بالتمام كما أمر الله تعالى به رسوله وزاروا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فعلوا ما شاءوا من العبادات فلم يحصل لهم من أذى لا في أبدانهم، ولا أموالهم ولا، ولا …، كما أن أمثال هذه الأخبار سمعنا بها من الجرائد والمجلات الجاوية والملاوية والعربية. ولذلك تعجبت مما ذكره الأستاذ صاحب المنار في كتابه إلى من قوله وهذا نصه: وسمعت أمس من داعية التشيع في جاوه أنه جاءه مكتوبات منها أو من سنغافورة تخبره بأنه تألف مؤتمر من أربعين جمعية من الجمعيات الإسلامية وقرروا الدعوة إلى ترك الحج ما دام ابن السعود ملكًا في الحجاز - إنني لم أصدقه في قوله كما أنني لا أجزم بأن الخبر ليس له أصل ألبتة اهـ إلخ. وقد أخبرت الأستاذ المصلح الغيور بأن هذا الخبر غير صحيح فإننا لم نسمع بهذا المؤتمر أصلاً [2] ، بل إننا سمعنا من جزائر جاوه وسومطرا وبورنيو من كل بلد أن من أرادوا السفر إلى الحجاز هذا العام لأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة المنورة كثيرون جدًّا أكثر من العام الماضي. ومع ذلك أقول لو وجد أحد مسلم أو غير مسلم أو مؤتمر مهما كانت صفته يدعو إلى ترك الحج لكون ابن مسعود ملكًا في الحجاز فإني أنصح لكل مسلم أن لا يسمع قوله ولا يلتفت إليه فإنه شيطان أو دجال فليس هو مؤمنًا حقًّا، وهل يجوز في دين الإسلام أن يترك الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام الاجتماعي العام؛ لأن ابن السعود ملك في الحجاز؟ ومن تجرأ على استحلال أو تجويز ترك فريضة الحج لأن ابن السعود ملك في الحجاز فهو مرتد عن الإسلام بل قال الأستاذ السيد صاحب المنار: بل قال بعض أهل السنة: إن ترك الحج كفر مطلقًا لظاهر آية آل عمران اهـ. ذلك بأن ابن السعود ليس مانعًا لمن أراد أن يؤدي هذه الفريضة ويقوم بما عليه من المناسك وغيرها من أنواع العبادات. ولكنه ليس قاصرًا على ذلك فقط، بل آمن طرق الحجاز حتى يسهل على الحجاج أداء فريضة الحج والسفر إلى زيارة قبر النبي وقبور أصحابه عليه وعليهم الصلاة والسلام. وكانت هذه الطرق قبل أن صار ابن السعود فيها ملكًا في الحجاز قلما سمعنا فيها إلا النهب والاعتداء على الحجاج وغيرهم من سالكيها. كيف لا وإن جلالة الملك المعظم عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ملك الحجاز وسلطان نجد هو مسلم مؤمن شديد التمسك بالدين الإسلامي، وكذا أهل بلده الذين لقبوا بالوهابيين فإنهم مسلمون من أهل السنة والجماعة وإنهم في فروع الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - فلا يجوز لأحد أن يطعن في دينهم وإن كانوا مخالفين لمألوفات الناس من بناء القبور وتجصيصها واتخاذ السرج عليها وطلب الحاجات من أهلها. فهؤلاء الوهابيون يهدمون القباب على القبور لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفا إلا سويته) وقال الإمام الشافعي في كتابه (الأم) إن ولاة مكة كانوا يهدمون ما بني في مقبرتها من القبور ولا يعترض عليهم الفقهاء. ونقله عنه النووي في شرح مسلم عند شرح ما ورد في هذا المعنى من الأحاديث. أيها الإخوان المسلمون اتفقوا ولا تتفرقوا ولا يعاد بعضكم بعضًا، وإن كنا مختلفين في المذاهب كشافعي وحنفي ومالكي وحنبلي وذلك لاختلاف الأفهام في مسألة من المسائل الدينية أو غير الدينية. وربما يكون ذلك الاختلاف في شيء من تلك المسائل مما لم يرد فيه نص من كتاب أو سنة بل هو مما هو مجال لاجتهاد المجتهدين. وليتذكر المسلمون ضرر التنازع كما قال تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) . هذا وإنه يجب على المسلمين أن يشكروا جلالة الملك عبد العزيز ملك الحجاز وسلطان نجد على ما فعله من الخيرات للحجاز والحجازيين ونشر الأمن في جميع بقاعه وقد جاء في الخبر النبوي (لا يشكر الله من لا يشكر الناس) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. ... ... ... ... ... سمبس في 16 جمادى الأولى سنة 1345 ... ... ... ... ... ... ... ... 22 نوفمبر 1926 ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران

تتمة القول في مسألة الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة القول في مسألة الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان عليه السلام ذكرنا في الجزء الماضي خلاصة في المسألة من أقوال أشهر مفسري القرآن المجيد الذين طبعت كتبهم واستنار بها العالم في فهمه وهي صريحة فيما كتبناه في بعض فتاوينا المختصرة من غير بحث ولا مراجعة. وما ذكروه من مفاسد الروايات المأثورة في تدخل الشيطان في أمر ملك سليمان ظاهر وفيها ما لم يذكروه أيضًا من مخالفة القرآن والعقل والتاريخ ولا محل لبسطه هنا وإنما محله تفسير الآيات الواردة في ملك سليمان وهو ما وعدنا بتحقيقه فيه إذا شاء الله تعالى وأنسأ لنا في الأجل وإنما أذكر القارئ فيه بما ورد من الآيات الناطقة بأن الله تعالى لم يجعل للشيطان أدنى سلطان على عباده المخلصين وإنما سلطانه على من اتبعه من الغاوين والكافرين وهذا السلطان عليهم هو سلطان الإغواء والوسوسة لا التصرف في الملك والملك (بضم الميم وكسرها) والتمثل بصور الملوك والحكام وإدارة أمور الأمم. وقد وردت هذه الآيات في سياق خلق آدم وإبليس واستعداد جنس كل منهما فهي بيان لسنة الله التكوينية في خلق الجنسين قال تعالى في سورة الحجر بعد ذكر خلقهم بالتفصيل: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ} (الحجر: 39-42) وفي سورة النحل والتي بعدها {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} (النحل: 99-100) فهل يقول أخونا الشيخ عبد الرحمن الجمجموني: إن نبي الله سليمان عليه السلام من عباد الله المخلصين الذين ليس للشيطان عليهم أدنى سلطان من أي نوع كان من أنواع السلطان كما يقتضيه نص الكتاب المنزل بصيغة النكرة في سياق النفي وبصيغة الإثبات بعد النفي بالاستثناء الذي هو معيار العموم وهي أقوى صيغ الحصر ثم بالحصر بينما التي هي لما صار معلوما أو شأنه أن يكون معلومًا مقررًا كما أفاده الإمام عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز. أم يقول أخونا وناصحنا المذكور: إن نبي الله سليمان من أتباع الشيطان الغاوين الذين يتولونه والذين هم به مشركون؟ أي يجعلونه شريكًا لله تبارك وتعالى في التصرف في عباده؟ ، لا شك في أن أخانا المذكور يقول بالأول، وإذًا يجب عليه، أن يرد جميع هذه الروايات الإسرائيلية المضلة كما ردها محققو المفسرين كالرازي والبيضاوي والطوفي وأبو حيان التوحيدي وابن كثير وأبو السعود العمادي والألوسي وأن يجزم بما جزم به أبو حيان من أن قصة الشيطان في استيلائه علي ملك سليمان من أوضاع اليهود والزنادقة وما صرح به الحافظ ابن كثير من أنها (كلها من الإسرائيليات) وإن رواها بعض مفسري السلف فإن ابن كثير صرح بروايتها عنهم وقال مع ذلك: (وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب) . ثم ليعلم أن شر رواية هذه الإسرائيليات، أو أشدهم تلبيسًا وخداعًا للمسلمين هذان الرجلان اللذان ترك زراعته للإطالة في الدفاع عنهما لتلك العلة الواهية التي ذكرها من قبل: كعب الأحبار ووهب بن منبه فلا تجد خرافة دخلت في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي من أمور الخلق والتكوين والأنبياء وأقوامهم والفتن والساعة والآخرة إلا وهي منهما مضرب المثل (في كل واد أثر من ثعلبة) . ولا يهولنه انخداع بعض الصحابة والتابعين بما بثاه هما وغيرهما من هذه الأخبار فإن تصديق الكاذب لا يسلم منه أحد من البشر ولا المعصومين من الرسل فإن العصمة إنما تتعلق بتبليغ الرسالة والعمل بها، فالرسل معصومون من الكذب ومن الخطأ في التبليغ ومن العمل بما ينافي ما جاءوا به من التشريع؛ لأن هذا ينافي القدوة ويخل بإقامة الحجة، ولكن الرسول إذا صدق الكاذب في أمر يتعلق به وبعمله أو بمصلحة الأمة فإن الله تعالى يُبين له ذلك ومنه ما كان من بعض أزواجه الذي نزل فيه أول سورة التحريم وعلم من قوله تعالى فيها: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ} (التحريم: 3) أنه لم يعلم المكيدة بملكة العصمة بل بوحي الله تعالى بعد وقوعها. ومنه قوله تعالى فيما كان كذب عليه بعض المنافقين الذين اعتذروا عن الخروج معه صلى الله عليه وسلم إلى تبوك: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) وأما ما نقله عن الزرقاني من رأيه أن ما روي عن الصحابي مما لا مجال للرأي فيه موقوفًا عليه؛ فإن له حكم المرفوع (وإن احتمل أخذ الصحابي له عن أهل الكتاب تحسينًا للظن به) فهو رأي باطل مردود عليه لا نتخذه قاعدة وأصلاً في ديننا، وما علله به ظاهر البطلان إذ لا محل هنا لتحسين الظن ولا لمقابله فمن المعتاد المعهود من طباع البشر أن يصدقوا كل خبر لا يظهر لهم دليل على تهمة قائله فيه ولا على بطلانه في نفسه فإذا صدق بعض الصحابة كعب الأحبار في بعض مفترياته التي كان يوهمهم أنه أخذها من التوراة أو غيرها من كتب أنبياء بني إسرائيل وهو من أحبارهم أو في غير ذلك فلا يستلزم هذا إساءة الظن فيهم وإذا كانت هذه الخرافات الإسرائيلية مما يصدر عن الإسلام ويجري الألسنة والأقلام بالطعن فيه مع العلم بأنها مروية عمن لا تعد أقوالهم ولا آراؤهم نصوصًا دينية ولا أدلة شرعية وإن كانوا من أفراد علماء السلف كما هو واقع بالفعل فكيف يكون موقفنا مع هؤلاء الطاعنين فيه من الملاحدة ودعاة الأديان المعادين للإسلام والمسلمين من زنادقة المسلمين أيضًا؛ إذا قلنا: إن كل تلك الترّهات والخرافات الإسرائيلية إذا كان بعض رواتها من الصحابة فإنها تنظم في سلك الأحاديث المرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ويجب الإيمان بها؟ إلا أن هذا باب واسع في الطعن في الإسلام والصد عنه لو فتحه علينا من هو أكبر من الزرقاني من مقلدة القرون الوسطي المظلمة لأغلقناه في وجهه، وقلنا له: إن علماء الأصول قد اتفقوا على أن طروء الاحتمال في المرفوع من وقائع الأحوال يكسوها ثوب الإجمال فيسقط بها الاستدلال وهذا الاحتمال أولى من ذاك أن يمنع عند الموقوف مرفوعًا وجعله دليلا شرعيًّا. والصواب في هذا المقام قلب الموضوع وهو أن الأثر الموقوف وكذا بعض المرفوع الذي لم يصرح الصحابي فيه بالسماع وهو ممن كان يروي عن كعب الأحبار وأمثاله هذه الإسرائيليات معلولين باحتمال كونهما من الإسرائيليات إذا كانا من موضوعها ومتنهما مخالفًا لبعض النصوص الثابتة كآيات القرآن في نفي سلطان الشيطان على عباد الله تعالى أو معارضًا لغير ذلك من أصول الشرع أو فروعه الثابتة أو لسنن الله في خلقه أو لغير ذلك من الأدلة القطعية، ويرى الجمجموني وغيره شيئًا من تفصيل هذا البحث في تفسير آية الساعة من هذا الجزء وما بعده. *** الملاحظة الثانية مسألة بلعام بن باعورا أنكر المنتقد علينا رفض ما روي عن بعض رواة التفاسير المأثورة في تعيين الرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها بأنه (بلعام بن باعورا) بأنه مروي عن بعض أجلاء الصحابة (الذين شهدوا الوحي والتنزيل) وأيده بما نقله عن الزرقاني وأجبنا عنه آنفًا ثم أنكر علينا قولنا: إن (ابن جرير) شيخ المفسرين لم يعتد بهذه الروايات، وقال: إنه راجع ابن جرير فلم يهتد فيه إلى (عبارة يؤخذ منها عدم اعتداده بهذه الأحاديث) ، وإنما عبرنا عنها بالأحاديث بناء على ما ذكره من عد موقوفات الصحابة في حكم الأحاديث المرفوعة، وإن احتمل أنها من الإسرائيليات. ونقول في جوابه: إننا لم نتقول عليه ولكنه هو لم يفهم عبارته على صراحتها في عدم الاعتداد بكون الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها هو بلعام وهو هو نفسه قد روي عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعن بعض كمجاهد وعكرمة أنه بلعام، وكان أعلم منه ومن الحاكم النيسابوري ومن الزرقاني بقيمة الصحابة من شهود الوحي، وبما قال العلماء في الحديث الموقوف وهو من أئمتهم.. ونحن ندله على هذه العبارة لاشتغال فكره بالزراعة وهي في الصفحة 84 من الجزء التاسع من تفسيره المطبوع بالمطبعة الأميرية. قال بعد سوق الروايات في أن الرجل المبهم هو بلعام والخلاف في كونه من بني إسرائيل أو من اليمن والروايات في كونه أمية بن أبى الصلت ما نصه: (قال أبو جعفر) : والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره آمرًا نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتلو على قومه خبر رجل كان الله آتاه حججه وأدلته وهي الآيات وقد دللنا على أن معنى الآيات الأدلة والأعلام فيما مضى بما أغنى عن إعادته وجائز أن يكون الذي كان الله آتاه ذلك بلعام وجائز أن يكون أمية. كذل الآيات إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية وعناه بها فجائز أن يكون الذي كان أتيها بلعام وجائز أن يكون أمية؛ لأن أمية كان فيما يقال قد قرأ من كتب أهل الكتاب وإن كانت بمعنى كتاب أنزله الله على من أمر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتلو على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوة فغير جائز أن يكون معنيًّا به أمية لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئًا من ذلك، ولا خبر بأي ذلك المراد، وأي الرجلين المعني يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أن ذلك المعني به من أي، فالصواب أن يقال فيه ما قال الله ويقر بظاهر التنزيل على ماجاء به الوحي من الله) ، انتهى بحروفه. فهذا الكلام صريح في أن ابن جرير قال: (إنه لا خبر بأي ذلك المراد وأي الرجلين المعني يوجب الحجة) أي لا يوجد حديث نبوي يحتج به في تعيين الرجل الذي آتاه الله آياته، ثم قال: ولا في العقل دلالة على ذلك أي: وإذا انتفى الدليلان النقلي والعقلي (فالصواب أن يقال فيه ما قال الله، ويقر بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله) ، وهذا عين ما اخترناه واعتمدناه في تفسيرنا للآية، وإن كنا كتبناه في زمان ومكان لا نملك فيهما شيئًا من كتب التفسير، وبهذا يعلم أخونا الجمجوني مكانه من النقد الذي تكلفه وترك زراعته لأجله، ويعلم أننا كرمناه بنشر نقده على تفاهته وتهوكه فيه أولا وآخرا، وقد لامنا بعض أهل العلم والفهم على نشر انتقاده الأول وسيشتدون في لومنا على نشر هذا أيضًا وهو آخر ما ننشر له من هذا القبيل، على أننا توسلنا به لكشف الشبهة عنه وعن أمثاله في مسألة الأحاديث الموقوفة والإسرائيليات السخيفة وقد سنحت لنا بعد البدء بنشر نقده التعليق عليه مناسبة أخرى لبيان الحق في هذه المسألة وهي الروايات في أشراط الساعة فاكتفينا بما كتبنا عما كنا ننوي أن نطيل به ونسأله تعالى أن يرينا الحق حقًّا ويوفقنا لاتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويحفظنا منه قولاً وعملاً واعتقادًا.

أثر المقتطف في نهضة اللغة العربية بالعلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أثر المقتطف في نهضة اللغة العربية بالعلم الخطبة التي ألقاها صاحب هذه المجلة في حفلة عيد المقتطف الذهبي التي أقيمت بدار الأوبرا الملكية في 30 إبريل سنه 1926. سادتي الأفاضل.. كان لي الحظ أن كنت أول من اقترح الاحتفاء بالمقتطف عندما يتم الخمسين من عمره، إذ كان هذا منذ عشر سنين، وأحمد لله تعالى أن اقتراحي قد تحقق، ورغبتي قد استجيبت، وأنني كنت عضوًا في اللجنة التي نشرت الدعوة إلى هذا الاحتفال ووضعت النظام له.. على أني صرت أكره الاحتفالات بعد أن أصبحت (مودة) تقليدية تقام لكل إنسان له بعض الأنصار والمحبين سواء عمل ما يستحق الاحتفاء به أو لم يعمل وهو أمر تضيع به فائدة الاحتفاء ويصير تمتعًا بلذة أدبية لجماعات من الناس وكان ينبغي أن لا يحتفل إلا بأصحاب الأعمال النافعة للأمة. صار الناس يتنافسون في إقامة احتفالات عظيمة للحفاوة ببعض الوجهاء أو الأدباء لا ينقصها إلا اشتراك الملوك فيها، وحفلتنا هذه تمتاز باشتراك جلالة مليكنا المعظم فيها بجعلها تحت رعايته وندب دولة رئيس ديوانه العالي ليمثله فيها وتمتاز أيضًا باشتراك بعض الجماعات والجاليات العربية في الأقطار البعيدة وبعض المدارس العالية فيها.. إن الاحتفال والتحاشد على الحفاوة بالعامل المفيد للأمة بعمله ضرب من ضروب الشكر العام، والشكر للمحسن مدعاة للمزيد من الإحسان، وحافز للهمم وباعث لها على إتقان الأعمال، كما أن شكر أهل المظاهر وإن أساءوا مثبط للهمم، وصاد للدهماء عن خدمة الأمة وسبب للغرور بالباطل وفي الحديث الشريف (المشبع بما لم يعط، كلابس ثوبي زور) [1] قد أحيا ملك مصر باشتراكه في عيد المقتطف سنة من سنن خيار ملوك الإسلام المتقدمين جرى عليها من بعدهم ملوك أوربة المتأخرون في تكريم العلماء لإعلاء منار العلم والحث على النبوغ فيه، فقد حكى عن بعضهم (ملك شاه أو غيره) أنه كان إذا نبغ عالم في عهده يقيم له احتفالاً فخمًا يمشي فيه ذلك العالم ومن حوله من عظماء الدولة والأمة من الوزراء والعلماء وأمامهم بعض الجياد من خيل الملك وعليها شارته الملكية (الأرمة أو الإمرة الرسمية) للإشعار باشتراكه في الاحتفال وأمره بالحفاوة بذلك العالم. وقد نبغ بتأثير هذه العادة في تكريم العلماء عالم فاق الأقران فكان من شأن الملك في المبالغة والعناية بتكريمه أن مشى هو في الحشد المحتفل ووضع تلك الشارة الملكية على عاتقه بدلا من وضعها على بعض جياده للإيذان باشتراكه، فقيل له في ذلك؛ فقال: إن هذا العمل سيكثر في الأمة أمثال هذا العلامة الكبير، وقد كان ذلك.. إننا قد اجتمعنا اليوم لإقامة هذه السنة الاجتماعية، اجتمعنا لنثني على إثارة علمية نافعة لأمتنا العربية، ثبت العامل عليها نصف قرن كامل، هذا العمل هو مجلة المقتطف العلمية الصناعية الزراعية التي أنشأها العالمان العصريان الكبيران: الدكتور يعقوب صروف والدكتور فارس نمر منذ خمسين سنة وقد أحسنا فيها خدمة هذه الأمة من وجوه.. عهد إلي زملائي أعضاء لجنة الاحتفال أن أقول كلمة وجيزة في أحد تلك الوجوه وهو (أثر المقتطف في نهضة اللغة العربية بالعلم) وهو موضوع واسع لا يوفى حقه وتبلغ غايته إلا بتأليف سفر كبير، وإنني مهما أوجز في القول لا أستطيع بيان المسائل التي يصح أن تكون فهرسًا لهذا السفر. وحسبي أن أشير إلى ما خطر في بالي منها اليوم عندما فكرت في موضوع خطابي، وهو يدخل في خمسة أبواب لا يبيح لي الوقت المقدر لكل منا (خطباء الحفلة وشعرائها) تجاوز عتبة باب منها، فأكتفي بذكرها.. الباب الأول: حاجة أمتنا العربية في حياتها الاجتماعية والاقتصادية أو حياتها العصرية إلى العلوم والفنون الكثيرة، إذ لا يعرف قيمة خدمة المقتطف للعلم إلا الذين يشعرون بهذه الحاجة. الباب الثاني: كون هذه العلوم والفنون لا تفيدنا الفائدة التامة إلا إذا أخذناها باستقلال الفكر والاجتهاد في الحكم، بحيث تصير ملكات راسخة في الأمة، وأما حشو الأذهان بالألفاظ والمصطلحات وشغل العقول بحفظ بعض المسائل تقليدا لمن نقلت عنهم قد يكون ضرره أكبر من نفعه. الباب الثالث: توقف هذا الاستقلال في العلم واجتناب التقليد الصوري فيه على تلقيه بلغة الأمة حتى يكون ملكة من ملكاتها التي تصدر عنها أعمالها. الباب الرابع: إشراع الطريق الموصل لجعل لغة الأمة تتسع لهذه العلوم والفنون وما يتجدد منها في كل آن. الباب الخامس: ضرب الأمثال للفروق بين تعلم العلوم بلغة الأمة وتعلمها بلغة أجنبية، وبين الاستقلال الذي تكون به العلوم والفنون ملكات في أنفس الأمة وصناعات في أيديها، والتقليد الذي حظ صاحبه حفظ بعض الاصطلاحات والمسائل التي قد يذهب بها النسيان، ولا تؤتي كل ما يراد بها من الأعمال وإنني أشير إلى مثل واحد يغني عن أمثال كثيرة. أيها السادة: إنني لم أتعود الإطراء والمدح الشعري ولا المبالغات الخطابية التي تثير الإعجاب، وتبعث على التصفيق والهتاف، وإنما أنا كلف بحب الحقيقة مشغوف بالتصريح بها وإن لم يرض به إلا القليل من الناس.. فأستأذنكم بأن أقول ما أعتقد في اشتغال أمتنا المصرية العربية بالعلم، أقول: إن تلقيه بلغة أجنبية جعله تقليديا لا غناء فيه، ولا ترتقي البلاد به إلى ما تبتغيه، وهو أن يكون العلم ملكة في أنفس الأمة وصناعات في أيديها، إنه قلما يوجد فينا من يسمى عالمًا بكل ما يفهم أهل الغرب من معنى هذا اللقب، ويوجد في الأمة اليابانية ما لا يحصى من العلماء المماثلين لعلماء أوربة في كشف الحقائق والاختراعات، وذلك أنهم نقلوا العلوم والفنون إلى لغتهم، وتلقوها تلقيًا استقلاليًّا فكانت ملكات في أنفس الأمة وصناعات في أيديها، مع محافظتهم على جميع مقوماتها ومشخصاتها الملية، وأزيائها وعادتها الوطنية، فهذا سبب فوزهم بما لم نفز به من ثمرات العلوم الفنون مع أننا سبقناهم إلى اقتباسها بعشرات السنين، ولهذا نرى رجال التربية والتعليم عندنا قد شرعوا بتلافي هذا الخطأ في عهد الاستقلال لو أننا نقلنا العلوم والفنون إلى لغتنا العربية لكان انتشار المقتطف والاستفادة منه أضعاف ما نعلم الآن. ويمكنني أن أقول: إن المقتطف لم يقدر قدره، ولم ينتشر الانتشار الذي يستحقه بعنايته في نقل العلم إلى لغة الأمة. إن صاحبي المقتطف قد هيأهما القدر ليكونا ركنًا من أركان النهضة العلمية العربية فبلغا منها الغاية المعروفة لأهلها، ولم يكن لهما ولا لأمتهما ولا لدولتهما سعي فيما أسندناه إلى القدر الإلهي، وهذا بيانه بالإجمال: زين لبعض أغنياء الأميركان أن يؤسسوا في بيروت مدرسة كلية يتوسلون بها إلى الدعوة إلى مذهبهم الديني بنشر العلم والتربية الأميركانية الاستقلالية، وأن يجعلوا التعليم فيها بلغة الأمة السورية وهي العربية، ففعلوا خلافًا لعادة أمثاله من مؤسسي المدارس في الشرق الذين يتوخون فيها إحياء لغاتهم وإماتة لغة البلاد، وجعل العلم الجديد فيها تقليديًّا ضعيفًا لا يرجى بلوغ الكمال فيه، ولا يثمر جميع الثمار المقصودة منه.. وكان من حسن التوفيق أن وجد في أساتذة هذه المدرسة من أحب العرب والعربية وسورية والسوريين حبًّا خالصًا غير مشوب بالهوى، وفي مقدمتهم الدكتور كارنيليوس فانديك الشهير، ذي الذكر الحميد، وكان هذان الشيخان الكبيران يعقوب صروف وفارس نمر من تلاميذه في الرعيل الأول من حلبة العهد الأول لهذه المدرسة، فتخرجا فيها عاشقين للعلم يتجلى في معارض اللغة العربية وحللها، وللغة العربية تكون مجلى للعلوم العصرية وفنونها، فاشتغلا زمنًا بالتعليم على هذه الطريقة في المدرسة، ثم بدا لمؤسسي المدرسة فتحولوا عن النهج الأول وجعلوا تعليم العلوم والفنون فيها باللغة الإنكليزية فخرج الأستاذان البارعان منها وعولا على خدمة العلم باللغة العربية وخدمة للغة العربية بالعلم بإنشاء مجلة لذلك فأنشئا مجلة المقتطف في بيروت وبعد بضع سنين انتقلا بها إلى مصر حيث مجال العلم أوسع، وبضاعة الفنون أروج، وقيمة العاملين أرفع ولو عارض أولو العلم بهذه اللغة عبارة المقتطف من المجلات والكتب الإنكليزية في كل علم وفن بعبارة غيره من المترجمين الذين تلقوا تلك العلوم والفنون باللغات الأجنبية لحكموا للمقتطف بأن أثره في نهضة اللغة العربية بالعلم أفضل الآثار وأمثلها، فإن العربي الذي يقرأ المقتطف يفهم كل ما يقرأه إلا ما يجهله من الاصطلاحات وبعض الأسماء الأعجمية، ولا يشعر بأنه يقرأ كلامًا مترجمًا. وإذا كان القارئ من علماء هذه اللغة يعرف قدر الجهد الذي بذل في كل باب من أبواب المقتطف لإبراز ما يتجدد من مسائل العلوم الكونية والاجتماعية والطبية والاقتصادية وفي الصناعة والزراعة والتجارة بعبارة عربية في الزمن الذي هجرت فيه أكثر مفردات اللغة، ونسيت المصطلحات التي وضعها سلفنا في نهضتهم العربية السابقة، على قصورها عن أداء معشار ما تجدد في هذا العصر كان محرر المقتطف يقف عند الكلمة الأعجمية المفردة وقفة قصيرة أو طويلة يبحث فيها عن كلمة عربية ترادفها وكان مما يراجعه فقه اللغة - ولا سيما قبل طبع المخصص - ومفردات ابن البيطار وقانون ابن سينا وكتاب الحيوان للجاحظ أو للدميري وغيرها ولو أن الدكتور صروف جمع ما سبق إلى استعماله من الألفاظ التي كانت مهجورة فوصل شملها بما يناسبها، ومن المصطلحات الجديدة لبلغت سفرًا كبيرًا. على أن الاصطلحات الجديدة التي تعلمها منشئا المقتطف بالعربية في المدرسة كانت يسيرة لا غناء فيها ينتقد بعض علمائنا الغيورين على اللغة تساهل المقتطف في التعريب وكثرة استعماله للمفردات الأعجمية التي يسهل وجود ما يحل محلها من اللغة بالترادف أو التجوز أو الترجمة أو وضع جديد يشهر بالاستعمال، وهذا مذهب لا يمكن لفرد من العلماء أن ينهض به بل يتوقف على مجمع لغوي علمي دائم ينهض به وهذا عمل كبير لا ينهض به فرد ولا أفراد وقد ذكر في الحفلة التي أقامها صديقنا المرحوم إسماعيل بك عاصم لصاحبي المقتطف احتفاء بمضي أربعين سنة من حياته وحضرها بعض كبار الوزراء والعلماء وأصحاب المجلات سعينا مع بعض من حضر تلك الحفلة إلى إنشاء المجمع وأنشئ بالفعل وكان صاحبا المقتطف من أعضائه العاملين ثم كانت أحداث سنة 1919 سببًا لتوقيفه ثم تجدد السعي لإعادته والظاهر أنه لن يتم ذلك إلا بمساعدة الحكومة لرجال العلم على إحيائه فنسأل الله تعالى أن يوفقها لذلك، وحسب المقتطف حسن أثر في نهضة اللغة العربية بالعلم بضع وستون مجلدًا كتبت بهذه اللغة تخلد لكاتبها الفخر وتنطق ألسنة المنصفين بالشكر وما من حسن من أعمال البشر إلا وفي الإمكان أحسن منه؛ لأن استعداد هذا النوع لا غاية له ولا حد، وقد قال معلم الخير - عليه الصلاة والسلام - (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) .

العرب وجزيرتهم بين الإمامين يحيى بن حميد الدين وعبد العزيز آل سعود

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العرب وجزيرتهم بين الإمامين يحيى بن حميد الدين وعبد العزيز آل سعود وخطر الاستعمار الأوربي لا يزال العرب أوسع أمم الأرض أوطانًا، ومن أكثرها حصى وتعدادًا، فهم زهاء مائه مليون نسمة منبثون في الشطر الشمالي من أفريقية، والشطر الغربي من آسية، ولكن لم يبق لهم من الاستقلال المطلق شيء لا سيادة للأوربيين فيه، ولا سيطرة لهم عليه، إلا مهدهم الأول من جزيرتهم وهو اليمن وتهامة والحجاز ونجد، وقد حل زمن تصدي المستعمرين للقضاء عليه بيديه فالاستيلاء عليه، وهذا مثار الخوف دون غيره، فلولا الخوف من الأجانب على هذه البقية لما كنا نثط من أثقال الهم لتعادي أمرائنا وأئمتنا فيها، ولا نعد تقاتلهم خطرًا عليها، فإنه إما أن تبقى به البلاد على حالها، وإما أن يفوز الأقوى بالانفراد بالسيادة عليها، وما أحوج هذه الأمة النبيلة إلى توحيد حكومتها وسياستها؛ لتجديد قوتها وحضارتها، وليس الجيل العربي هو الجيل الذي انفرد بالتفرق والتمزق بالتعادي على الحكم والرياسة فيصدق من يزعم أنه لا يتحد أو لا تجتمع حكمته مطلقًا أو إلا بدعوة دينية، بل ذلك من طبائع البشر من جميع الأجيال، فإن تعذر اليوم اتحاد العرب عامة أو عرب الجزيرة خاصة بحكومة مركزية فلا يتعذر اتحادهم بنظام كنظام الوحدة الألمانية، فمصلحتهم تقتضيه، ودينهم يقضي به. عرب الجزيرة كلهم مسلمون، والسواد الأعظم منهم عريق في العربية العدنانية، والقليل منهم يرجعون إلى عروق معروفة أو غير معروفة من غير العرب الخُلَّص، ولكنهم مستعربون، وإنما يختلفون في المذاهب الدينية، فالسواد الأعظم منهم سنيون ينتسبون إلى مذاهب الفقهاء الأربعة في الفروع إلى السلف الصالح أو الأشاعرة في الأصول، وفي اليمن كثير من الزيدية وأصولهم الكلامية أصول المعتزلة، وفي الأحساء بعض الشيعة الإمامية، ويوجد في بعض بلاد اليمن والحجاز جماعات من طوائف أخرى من الشيعة، وفي بلاد عمان كثير من الأباضية ولهم إمام في داخل البلاد ليس عليه من سيطرة الأجنبي ما على سلطان مسقط منهم، وإنما كلامنا في مستقر القوة ومستودع السلطان والسطوة، ومنبت الأرومة وهو اليمن وتهامة والحجاز ونجد. القوة الحربية التي هي سياج الاستقلال منبثة في الجزيرة، موزعة في القبائل، ولكن ليس لها قيادة عامة إلا في اليمن ونجد، والقوة الغالبة في اليمن للزيدية الذين يعتصم أكثرهم في الجبال، ويدين لهم بالطاعة السواد الأعظم، وهم من الشافعية طوعًا أو كرهًا، ويدين كثير منهم للزعيم الإدريسي فهو الذي نازع إمام الزيدية السيادة في إقليم عسير جباله وخيوفه، وما انحدر عنها من سهوب تهامة وثغورها وجزائرها، والقوة الغالبة في نجد لأعرق أهل السنَّة وأثبتهم في السنة، وكان لأئمتها من آل سعود شركاء فيها ومنازعون فيما حولها، ثم دانت كلها في هذا العصر لعبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل فزالت إمارة آل الرشيد وكانوا أقوى المشاركين لآل سعود في عقر تلك الديار، وزال سلطان الترك من السواحل قبل زوالها، ودانت له هذه البلاد وملحقاتها، ثم زالت إمارة آل عايض من عسير ثم إمارة الشرفاء آل قتادة من الحرمين بعد أن صارت ملكًا مستقلاًّ، ودانت لابن السعود بلاد الحجاز كلها، وقسم من بلاد عسير ثم انتهى الأمر بدخول إمارة السيد الإدريسي في حمايته، ودانت لسلطانه، فقربت بذلك المسافة الشاسعة المانعة من الوحدة العربية الحلفية، ولم يبق إلا وضع نظام يراعى فيه اختلاف مذهبي السنة والزيدية، وتُتقى به الدسائس الأجنبية، ولكن لم يكد يتم التمهيد لهذا حتى كانت حكومة إيطالية الفاشستية الموسولونية المهطعة إلى الاستعمار المتوخية إحياء مجد الرومان قد عقدت مع الإمام يحيى معاهدة صورتها تجارية، وروحها سياسية يقصد بها استعمار الجزيرة العربية. انحصر استقلال جزيرة العرب في مملكتي الإمام يحيى بن حميد الدين صاحب اليمن العليا والسفلى والإمام عبد العزيز بن السعود سلطان نجد وملك الحجاز وعسير، وبتنا نرجو قرب تأويل ما نسعى إليه منذ بضع عشرة سنة من التأليف بينهما ومن عقد حلف عربي يحفظ به استقلال الجزيرة، ويعود للأمة مجدها، ولكن كثر خوض برقيات السياسة العامة وصحف الشرق والغرب في هذه الأيام بإمكان تصادمهما، بل بقرب زحف قوات اليمن على عسير فالحجاز- كثر هذا بعد عقد الإمام يحيى الاتفاق مع الدولة الإيطالية وما تلاه (على ما قيل) من تولي الضباط الإيطاليين لبعض الأعمال العسكرية في جيشه، وتدفق أسلحتهم وذخائرهم، وكذا دراهمهم ودنانيرهم على بلاده ورجاله وقبائله - وإنشائهم لمحطات التلغراف اللاسلكي في الحديدة وصنعاء لا له وحده، بل للدولة الإيطالية نفسها تخاطب بها مستعمرتها (الإرتيرة) المصاقبة لليمن وعاصمتها (رومية) أيضًا. فإن صحت هذه الأنباء، وأوقد الإمام يحيى في شيخوخته نار الحرب العظمى في جزيرة العرب (حماه الله وأعاذه من ذلك) فسيكون هو وقومه أول من يحترق بنارها؛ بإدخاله لأجرأ دول أوربة الاستعمارية فيها، ولا يشك أحد من البشر يومئذ في أن هذه الدولة هي التي استخدمته في فتح بلاده لها، وتعريضه بقية الجزيرة للاستعمار الأوربي حتى البلاد الحجازية المقدسة وحرم الله تعالى وحرم رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يكون الخطر على الحجاز قريبًا إذا اتفقت الدولة الإيطالية مع صديقتها الدولة البريطانية على القضاء الأخير على الإسلام، لا على العرب وحدهم، ولا خطر على الحجاز ونجد إلا من الدولة البريطانية. قد كان أكبر مناقب الإمام يحيى في نظر الأمة العربية والعالم الإسلامي كله تلك السياسة السلبية مع الأجانب التي تجلت المرة بعد المرة بفشل الدولة البريطانية وعجزها عن عقد أي اتفاق معه يفتح أدنى منفذ لتدخل نفوذها السياسي أو الاقتصادي في بلاده، وقد كان أكبر ذنوب السيد محمد علي الإدريسي الكبير في نظره ما كان من موادة هذا للدولة الإيطالية واستفادته من سلاحها في أثناء قتال الترك له. ولما بدأ صاحب هذه المجلة بدعوة أمراء الجزيرة العربية وأئمتها للتآلف والتحالف على حفظ بلادهم من التدخل الأجنبي وتقويتها وترقيتها سنة 1330 (الموافق 1911م) كان الإمام يحيى حميد الدين أول من أجابه منهم باستعداده للاتفاق والتعاون مع إخوانه أمراء الجزيرة، إلا أنه استثنى جاره بالجنب السيد الإدريسي، واحتج على عدم إمكان الاتفاق معه، وإطفاء ما كان بينهما من نار الحرب بأنه (حالف أعداء الله الطاليان) - بهذا الضبط - وكان يرى أن هذا العمل لا يبيحه الشرع ولا يتفق مع مصلحة العرب. هذا وإن السيد الإدريسي رحمه الله تعالى لم يعقد معهم محالفة سياسية ولا أعطاهم في بلاده شيئًا من الحقوق الاقتصادية لولا مطامع إيطالية في اليمن المعروفة لجميع المشتغلين بالسياسة ولولا ما يتحدث به كبار رجال السياسة في أوربة من قرب نيل مطامعها، ولولا اهتمام صحف الشرق والغرب فيها، ولولا مذاكرة الدولة البريطانية للدولة الإيطالية ومفاوضتها إياها للاتفاق على مصالحهما الاقتصادية وكذا السياسة والحربية في اليمن والبحر الأحمر، ولولا ما بذلت إيطالية وما تبذل في هذه السبيل، لولا هذه وغيره مما لا نقوله الآن لأمكن أن يقال: إن ما عقده الإمام الجليل مع إيطالية لا خوف منه، وإن هذه المعاهدة الإيطالية اليمنية كظاهر موادها التي نشرت بعيدة عن المطامع السياسة، وإغراء الشقاق، وإيقاد نار الحرب في الجزيرة العربية لأجل تمهيد بل تعبيد الطريق للمقاصد الاستعمارية، على ما في المادة الثالثة من تقييده الحكومة اليمنية نفسها بجلب الرحال الفنيين من الحكومة الإيطالية. فإن وقع القتال فعلاً وكانت زحوف اليمن المتوكلية هي البادئة به علمنا علم اليقين أن أمر الإمام وجيشه قد صار آله بيد المستعمرين الطامعين للقضاء على الأمة العربية، وعلى جزيرتها المقدسة ومهد دينها - حاشاه الله - وبرأه من ذلك. إن الذي عرفناه من أخلاق الإمام الجليل أنه على ما أوتي من شجاعة النفس وشدة البأس، رؤوف سلمي يكره الحرب، وينظر إليها بعين الشرع، لا بعين الطمع الجشع، فيعدها من الضرورات، لا من الضروريات والضرورات تقدر في الشرع بقدرها وهو مع ذلك رجل اقتصاد يقدر نفقاتها عندما يوازن بين خيرها وشرها، وما يرجى لبلاده من خيرها ويخشى عليها من ضررها، ولولا هذا لما صبر على البيت الادريسي إلى هذا اليوم، ولا سيما بعد وفاة السيد محمد علي مؤسس هذه الإمارة لهم. ولولا أن هذا كان يعلم أن قوة الإمام يحيى تفوق قوته لما التجأ إلى ابن السعود ونزل له عن منطقة أبها من عسير العليا ثم لما رضي خلفه السيد حسن في هذا العام بأن تكون إمارتهم كلها تحت سيادته، وفي ظل حمايته، فكيف يعقل أن يتصدى هذا الإمام السلمي الإسلامي الاقتصادي لقتال ابن السعود بعد أن آتاه الله تعالى هذا الملك العظيم الممتد من حدود اليمن إلى حدود الشام ومن البحر الأحمر إلى خليج فارس، وله فيه السلطان الذي لا ينازع، والأمر الذي لا يرد. لقد استولى هذا السلطان على منطقة أبها المجاورة لليمن ولم ينازعه الإمام يحيى فيها بالسيف والسنان ولا بالقلم أو اللسان، ولقد قتل الجند النجدي هنالك - مع الأسف - جمًّا غفيرًا من اليمانيين - خطأ - ولم يتخذ الإمام الحكيم الرشيد ذلك ذريعة لقتال النجديين، ولا حجة على وجوب إخراجهم من تلك المنطقة من عسير، ولقد استغاثة الشريف علي بن حسين أيام كان محصورًا في جدة على السلطان عبد العزيز بن السعود وعرض عليه جعل الحجاز تحت سيادته، وتابعًا لمملكته وأن يكون هو فيه عاملاً من عماله؛ فأبى الإمام الحكيم أن يغيثه بالرجال أو المال، وإنما نصح له بما اقتضته الحال من المقال، وقد كان ابن السعود يومئذ في بؤس وضنك يجلب إليه المال والقوت من الإحساء ونجد، فهل يعقل بعد هذا أن يهاجمه الآن؟ وماذا في هذا العدوان وما يستلزمه من إنفاق بدر الأموال، وقتل الألوف الكثيرة من الرجال؟ وإن فرض أنه انتصر في ميادين القتال. ما من شيء يمكن أن يتأله بهذا النصر غير المضمون إلا وقد كان أيسر منالاً من قبل، وقد رجح الإمام بعقله وحكمته الزهد فيه، وعدم سفك دماء المسلمين لأجله بل كان عرض عليه التصدي لإنقاذ الحجاز من إلحاد الملك حسين وإفساده فيه بالاستقلال أو الاشتراك مع سلطان نجد؛ فأبى بل وضع له مشروع لدعوة الخلافة الإسلامية العامة فلم تستشرف نفسه له، قناعة بما أعطاه الله من ملك اليمن إلا أنه يطمع في شيء واحد وهو الاستيلاء على اليمن وتهامته كلها، ولكن بما يمكن من الاقتصاد في الدماء والمال، ويقال: إنه يدعي أن عسير منها وقد علمنا سيرته المعتدلة فيها. لهذا كله قلنا: إنه صدق ما يقال من عزمه على القتال ووقع ذلك بالفعل فلن يجد له أحد تعليلاً إلا استيلاء الأجانب على لبه، وتسخيرهم له بشر مما سخروا أمثاله من قبله، وإنا لنجله ونربأ بدينه وعقله أن يكون كذلك. نعم إننا نعلم أن هنالك سعاية ودعاية من طريق آخر لإغراء العداوة بين الإمامين وإضرام نار القتال بين الفريقين وهي طريق عصبية التشيع والرفض، وقد بثت هذه الدعاية أولاً في جزائر الهند الشرقية الهولندية والبريطانية ثم في العراق وإيران ثم في مصر والهند، أما بين الشيعة فلجعل الحجاز تحت سيادة إمام شيعي من آل البيت - وما ث

خاتمة المجلد السابع والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد السابع والعشرين باسم الله وبحمده نختتم المجلد السابع والعشرين من المنار كما افتتحناه بهما ونقفي عليهما هنا بما قفينا به هناك من الصلاة والسلام على خاتم النبيين وسيد ولد آدم أجمعين محمد النبي الأمي الذي أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه والهادين والمهديين وقد تم لنا في أثناء نشر هذا المجلد ما وعدنا به القراء من تجديد المطبعة، وإدارتها بقوة الكهرباء وإصدار أجزاء المنار في كل شهر على ما عرض لنا من السفر إلى الحجاز وانحراف الصحة فيه والاشتغال بالمؤتمر الإسلامي العام بمكة المكرمة، واقتضاء ذلك غيبة زهاء أربعة أشهر عن مصر وقد وفينا ولله الحمد بما وعدنا به من خدمة الملة والأمة ومجاهدة الملاحدة، والزنادقة، والمبتدعة، والقيام بدعاية الإصلاح والتجديد الإسلامي على قواعد الكتاب والسنة. وأما مسألة الاعتماد في عزة الأمة على فنون العصر العملية فقد مهدنا السبيل لها بالسعي المرجو فيها، والتأليف والتعاون بين شعوبها وما نحن من الذين يعملون لأجل الفخر والمباهاة فيعلنون ما لا حاجة إلى إعلانه، وبيان ما لا تتوقف المصلحة على بيانه، وقد بينا ما انتقد به على المنار في هذه المدة وما قبلها حتى انتقد علينا بعض القراء ما لا فائدة في نشره منه وإننا على ثباتنا على دعوة أهل العلم والرأي إلى انتقاد ما يرونه منتقدًا في المنار نذكرهم بما يجب فيه من الإيجاز والاختصار، وأن يتحروا فيه الفائدة لا الافتخار والاشتهار الذي قد يؤدي إلى ضد ما يتمنون إذا كان كلامهم على غير ما يهوون، ولعل من الصواب أن نكتم أسماء المنتقدين أو نحذف من كلامهم ما لا يتعلق بجوهر النقد من القيل والقال أو إعادة نشر ما ينتقدونه من كلامنا بحروفه اكتفاء بالإشارة إلى مراجعته في موضوعه وفي هذه الحالة تكون حريتنا أوسع في بيان ما يظهر لنا من خطأ المنتقد؛ فنسمي الكذب كذبًا، والجهل جهلاً إن اقتضت الحال ذلك وسيكون من مواد المجلد الثامن والعشرين رحلة الحجاز، والكلام فيها على المؤتمر الإسلامي العام والإدارة السعودية في الحجاز ومسلك أمير الحج المصري معها، وفي ذلك من الحقائق ما يهم العالم الإسلامي كله مما لم ينشر في الجرائد العربية، ولا غيرها. وسيكون منها تأثير دعوة الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى، ومسألة ترجل النساء وتهتكهن واشتغالهن بالسياسة والأمور العامة، ومسألة الأزهر والبرلمان في مصر وإنشاء باب لمختارات الصحف النافعة من اجتماعية وسياسية وأدبية وعلمية وغير ذلك من المباحث الإصلاحية المقصودة بالذات، وعسى أن يساعدنا القراء على ذلك بدفع قيمة الاشتراك سنة بسنة، والله الموفق وله الحمد في البدء والختام.

فاتحة المجلد الثامن والعشرين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الثامن والعشرين وفيها بيان علاقتنا بالإمام عبد العزيز ملك الحجاز وسلطان نجد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه الصالحين المصلحين، والتابعين لهم في ذلك إلى يوم الدين. أما بعد: فقد تم للمنار سبعة وعشرون مُجلَّدًا صدرت في مدى 30 سنة هجرية (توافق 29 سنة شمسية) إذ عجزنا عن إصداره في كل شهر من سني الحرب العظمى، وما تلاها من سِنِي الغلاء والعسرة، التي تضاعفت فيها النفقات، وكثرت أفراد الفصيلة العامة، وتكونت الأسرة الخاصة، ونضبت الموارد التي كانت تسِحُّ من الخارج، وشحَّت الموارد التي كانت تنبجس في الداخل، ولم يتم لنا لمُّ الشعث إلا منذ عامين ونصف عام، وتلاه بفضل الله تنظيم العمل بأحسن مما كان منذ كان، وما أضعنا على المشتركين شيئًا بهذا الإدغام؛ لأننا نتقاضى قيمة الاشتراك بحساب الأجزاء لا بحساب الأعوام؛ ولكن من لا وفاء لهم قد اتخذوا عجزنا عن إصدار المنار في كل شهر من سني العسرة حجةً على هضم حقنا، ونحن ما زلنا نكلهم إلى وجدانهم، واستفتاء قلوبهم، وهداية إيمانهم، وحسابهم على الله تعالى، فهو يقضى بالحق بيننا وبينهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل. على أننا نرجو أن يوفقنا الله تعالى في القابل لاستدراك ما نقص من المجلدات عن عدد السنين إلى أن يتفقا في العدد، وأن يعيننا على إكمال النظام في العمل، والزيادة من الفوائد في العلم، وأن يوفق قراء المنار لمساعدتنا على ذلك بحسن الوفاء، ولا يحقق معنى الاشتراك إلا تعجيل الأداء، وقد اقترح علينا بعضهم أن نزيد في أبوابه مباحث في الآداب، والتاريخ، وبعض الفنون الحديثة، ومنهم من يريد بذلك ترويجه، وكثرة سواد المشركين فيه، ورأيهم هذا صحيح، وإننا على علمنا بصحته كنا نختار أن تملأ صفحات المنار بما لا تكاد الأمة تجده في غيره من الصحف إلا قليلاً، ونحن نستفتي جمهور القراء في ذلك، ونعمل بما يراه الأكثرون أقوى حجةً، وأقوم قيلاً، وإن كانت فائدته المالية أقل، وقد بينا في فاتحة السنة الأولى أننا فيما اخترناه من الخطة الإصلاحية لا نرضي إلا القليل من الناس {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام: 116) لو أنشأنا المنار لأجل الكسب؛ لما اخترنا هذه الخطة، أو لما اقتصرنا عليها. لو كنا نعمل للمال؛ لاتبعنا أهواء الجماهير في اختيار الهزل على الجد، وإيثار الإفساد على الإصلاح، وترجيح أهواء الناس على هداية كتاب الله، ولهو الحديث على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصور القِيَانِ والراقصات، والبغايا، والممثلات، ومن وصفهن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كوشف به من أنباء الغيب بالكاسيات العاريات، المائلات المميلات، وما دون ذلك من المسليات، وصور الحيوانات والحشرات، وغرائب الآلات والمخترعات التي يصورها أهلها لأغراض عليمة صناعية، وتجارية، ونصورها للَّهو، والتسلية. أو لو كنا نعمل للمال؛ لصانعنا رجال المال من الأفراد والجماعات، كالأحزاب والحكومات، ولوجد من الحجج علينا في ذلك ما لا نستطيع رده، ولا كتمانه، ونحمد الله تعالى أننا لم نسلك طريقًا في الإصلاح الخاص بالحكام الباذلين، والأمراء والملوك والسلاطين، وجماعات الدينيين والسياسيين، إلا كان نقصًا في دنيانا، وكمالاً في شرفنا وديننا، وانتهى الجماهير فيه إلى رأينا، وفي مقدمتهم الذين كانوا ينكرونه علينا، تلك سيرتنا في نقد الحكومة الحميدية، ثم في التشنيع على الجمعية الاتحادية، وخليفتها الحكومة الكمالية، وفي جهاد الملك حسين بن على , وأولاده، وفي إنكارنا على متعصبي المذاهب من الشيوخ الجامدين، ورجال الطرق الخرافيين. نعم إنه قد عرضت في هذه الأيام شبهة علينا في تأييدنا للحكومة السعودية، والطريقة الوهابية، فتحدث بعض الذين لا يعقلون أنه يوجد في البشر أحد ينصر عقيدة دينية، أو يؤيد طريقة إصلاحية إلا لأجل منفعة شخصية، بأننا نأخذ من ابن السعود أجرًا على تأييدنا لحكومته، والدفع عن قومه، وشيعته، ثم تجلى هذا التصور في صورة الواقع، وظهر هذا الرأي في مظهر الرواية، فصدقه من رآه من الناس معقولاً، حتى إن بعض كبار علماء الأزهر قال لي في مجلس من مجالس الخواص في هذه الأيام: يقال: إنك أخذت من ابن السعود خمسة آلاف جنيه - فقال أحد كبار الوجهاء الحاضرين: بل أنا سمعت في أوربة أنه أخذ منه عشرة آلاف جنيه، وليس هذا بكثير، فإن فلاناً خدم ابن سعود وقومه منذ سنين خدمة لا تكثر هذه المكافأة عليها، فما كان أحد يسمع في هذا الرجل، ولا في هؤلاء القوم كلمة خير قبل مقالاته الرنانة في مناره، وفي بعض الجرائد اليومية. *** الوهابية ودعوة المنار إلى مذهب السلف: أقول: لو صح ما تخيله هؤلاء معقولاً؛ فخالوه أمرًا مفعولاً، فأحدثوا فيه قالاً وقيلاً - وما هو بصحيح -؛ لما صح أن يجعل حجة على أن المنار أنشئ لجمع المال، لا يبالي أجمعه من حرام أو حلال، وإنما كان يعد مساعدة على خطة دينية قديمة في خدمة الإسلام وهدايته، كما يدعو إلى فنون العصر، وسنن الخلق في سياسته، وقوته، ولم يكن في ذلك الوقت ملك، ولا سلطان نتهم بالطمع في مساعدته، بل لم نكن يومئذ نعلم أن الوهابية يعتصمون بمذهب السلف، بل كنا نصدق الدعاية التركية التي أذيعت في العالم الإسلامي منذ القرن الثالث عشر للهجرة النبوية، وجددها السلطان عبد الحميد منذ أوائل القرن الرابع عشر لأسباب سياسية من أن الوهابية فرقة مبتدعة معادية للسنة وأهلها. وأول رجل سمعت منه أن هؤلاء الوهابية قوم مصلحون أرادوا إعادة هداية الإسلام إلى عهدها الأول، وأنه كان يرجى أن يجددوا مجد الإسلام والعرب، هو محمد مسعود (بك) المصري الكاتب المؤلف المشهور، ثم قرأت ما كتبه في نشأتهم مؤرخ عصر ظهورهم الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الأزهري، ثم ما كتبه محمود فهمي المهندس المصري في تاريخه (البحر الزاخر) ، وصاحب (الاستقصاء في تاريخ المغرب الأقصى) ، ثم ما كتبه الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت في (تاريخ الإسلام) له، كما أنه أتيح لي الاطلاع في أثناء ذلك على كتاب التوحيد، وكتاب كشف الشبهات للشيخ الإمام المجدد الشيخ محمد عبد الوهاب رحمه الله تعالى، ثم على غيره من كتبهم بالتدريج، وأطلعت شيخنا الأستاذ الإمام على كتاب التوحيد وكشف الشبهات، فأثنى عليهما، ورأيته موافقًا لرأي محمد مسعود، وأنه لم تظلم طائفة من المسلمين في التاريخ بمثل ما ظلم به هؤلاء القوم، على كثرة طعن أعوان الدول، والمذاهب بعضهم في بعض. وكنت أسمع من والدي قبل هجرتي إلى مصر شيئًا مما افتراه على الوهابية أحمد زيني دحلان، وأمثاله من صنائع شرفاء مكة، والترك، وثناءً على محمد علي باشا الذي أخرجهم من الحجاز بالدين والتقوى، وأنه كنس الكعبة المعظمة، ومرغ لحيته بها، أو بكناستها. وفي شهر صفر سنة 1320 احتفل ديوان الأوقاف العامة بمرور مائة عام على تأسيس محمد على باشا للإمارة المصرية، واحتفلت به مشيخة الأزهر في الجامع الأزهر؛ فانتقدت ذلك في المنار من حيث صرف أموال الأوقاف الإسلامية، وتزيين المساجد بذكر أمراء الدنيا، وسلاطينها، والأوقاف إنما وقفت؛ للتقرب إلى الله تعالى، والمساجد إنما أُنشِأَت؛ لذكره تعالى، وعبادته. وذكرت يومئذ حرب محمد علي للوهابية، واعتقاد عموم المسلمين الجاهلين بالتاريخ أنها كانت خدمة للإسلام، واعتقاد الخواص العارفين أنها جناية عليه، وبينت فيما كتبته ما كنت وقفت عليه من حقيقة أمر الوهابيين في اتباعهم للسلف، واعتصامهم بالسنة، وسبب الطعن فيهم - وكل ما كتبته في هذه السنين الأخيرة يدور حوله لا يزيد في بيان حقيقتهم عليه، فأنا أدافع عن الوهابية، وأثني عليهم منذ ربع قرن. كتبت ذلك يومئذ لوجه الله، وخدمة للإسلام، وأنا لا آمن إيذاء أمير البلاد لي على ذلك - وقد فعل بقدر الإمكان في ذلك الزمان - وما كنت أرجو أن يكون لي تجاه هذا الإيذاء أدنى نفع من أحد من الوهابيين، ولا أدري أن لهم أميرًا يحسن أن أرسل إليه ما كتبت عنهم، وقد صار للوهابيين حزب كبير في القطر المصري من نجباء علماء الأزهر، وغيره من المعاهد الدينية، وغيرها بإرشاد المنار لا تشوبه أدني شائبة دنيوية. *** علاقتنا بصاحب نجد وسببها: بعد هذا التاريخ ببضع سنين بدأت المكاتبة بيني، وبين الأمير عبد العزيز بن السعود في مسألة العرب، وجزيرة العرب , ووجوب الولاء والتحالف بين أمرائها؛ لأجل حفظها من تدخل الأجانب، وإعلاء شأنها بالعمران، والثروة، والقوة - كما كاتبت في ذلك نفسه الإمام يحيى بن حميد الدين، والسيد محمد علي الإدريسي (رحمه الله تعالى) ، وأرسلت رسلاً إلى كل منهم، وأنفقت في هذه السبيل مالاً يعد كثيرًا عليَّ، وأذكر أن في أول كتبي إلى ابن السعود إنكارًا شديدًا على شيء بلغني عنه عاتبني عليه بأنه لا يقبل مثله من غيري، وإنما قبله مني لِمَا بلغه من خدمي للسُنَّةِ، واعتقاده أنه صدر عن إخلاص الله تعالى، وتَحَرٍّ لخدمة الإسلام والعرب. أجابني كل واحد من هؤلاء الأئمة باستحسان ما دعوتهم إليه، إلا أن الإمام يحيى استثنى الاتفاق مع جاره الإدريسي مُعَلِّلاً ذلك بأنه كان قد عقد معه اتفاقًا؛ فغدر، (وحالف أعداء الله الطليان) ، وأما الإمام عبد العزيز السعود، فرغب إليَّ أن أرسل إليه رسولاً بصيرًا عارفًا؛ ليشرح له هذا المشروع من الوجهة الشرعية والسياسية؛ لإقناع أهل الحل، والعقد من قومه به - وقد أرسلت إليه رسولاً، وحمَّلتُهُ صندوقًا من الكتب الدينية، وغيرها هدية للإمام، وفي أثناء ذلك استَعَرَت نار الحرب العامة الكبرى، فتعذَّر وصول الرسول إلى نجد، وأخذ منه صندوق الكتب في (بمبي) من ثغور الهند، أُخِذَ لأجل تفتيشه، ثم لم يعرف عنه شيء، ولعلهم أحرقوه. ثم قضت الحرب الكبرى بانقطاع المراسلة بيني، وبين أمراء العرب المذكورين، وكان من أحداثها دخول أمير مكة الشريف الحسين بن علي في حلف البريطانيين، وكنت قد بلغته مشروع الاتفاق الحلفي بين أئمة الجزيرة بمشافهة ولده الشريف عبد الله في مصر أطلع طِلعَه فيه، وقد استحسنه، ووعد بإقناع والده به، وكان من عواقبها أن صار حسين ملكًا سماه الإنكليز، وأحلافهم ملك الحجاز، وسمى نفسه ملك العرب، وقد أظهرنا له الولاء؛ لأجل إقناعه بإتمام مشروع الاتفاق الحلفي مع سائر الأمراء، فلما تعذر ذلك، وسار في الحجاز تلك السيرة السوءى اضطررت إلى مقاومته بما علمه القراء، وغير القراء، وكان قد جدد الدعوى إلى الطعن في دين الوهابية، وتنحل لنفسه دعوى الإمامة الرافضية الباطنية، وأقامها في مقام التشريع الذي يراه إرثًا للهاشمية العلوية، فأريناه أن بني عمه من أنصار السنة فيهم رماح، وكلنا له الصاع عدة أصواع. ثم إنني عدت بعد الحرب إلى دعوة إمامي اليمن , ونجد إلى الولاء، وأفتيت في أواخر سنة 1341 بوجوب إنقاذ الحجاز من إلحاد حسين بالظلم فيه، وجعله قطرًا حرًّا حياديًّا بضمان العالم الإسلامي كله، وكتبت في ذلك مقالاً طويلاً نشر في بعض الجرائد اليومية، وفي المنار (ج 8 م24) بينت فيه أن المخاطب بالقيام بهذا الواجب أولاً وبالذات الحكومات الإسلامية، وأن أولاها بذلك أقربها

تعدد الزوجات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعدد الزوجات وجدت بين أوراق شيخنا الأستاذ الإمام الفتاوى الآتية , فأحببت نشرها؛ لتصدي الحكومة المصرية لتقييد إباحة التعدد , وكثرة الكلام فيه وهي: (السؤال الأول) ما منشأ تعدد الزوجات في بلاد العرب (أو في الشرق على الجملة) قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؟ (ج) ليس تعدد الزوجات من خواص المشرق، ولا وحدة الزوجة من خواص المغرب، بل في المشرق شعوب لا تعرف تعدد الزوجات كالتبت , والمغول، وفي الغرب شعوب كان عندها تعدد الزوجات كالغولوا , والجرمانيين، ففي زمن سيزار كان تعدد الزوجات شائعًا عند الغولوا، وكان معروفًا عند الجرمانيين في زمن ناسيت، بل أباحه بعض البابوات لبعض الملوك بعد دخول الدين المسيحي إلى أوربة كشرلمان ملك فرانسا، وكان ذلك بعد الإسلام [1] . كان الرؤساء , وأهل الثروة يميلون إلى تعدد الزوجات في بلاد يزيد فيها عدد النساء على عدد الرجال توسعًا في التمتع، وكانت البلاد العربية مما تجري فيها هذه العادة لا إلى حد محدود، فكان الرجل يتزوج من النساء ما تسمح له , أو تحمله عليه قوة الرجولية، وسعة الثروة للإنفاق عليهن , وعلى ما يأتي له من الولد. وقد جاء الإسلام , وبعض العرب تحته عشر نسوة، وأسلم غيلان رضي الله عنه، وعنده نسوة؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإمساك أربعة منهن , ومفارقة الباقيات، وأسلم قيس بن الحارث الأسدي وتحته ثمان نسوة؛ فأمره بأن يختار منهن أربعًا، وأن يخلي ما بقي، فسبب الإكثار من الزوجات إنما هو الميل إلى التمتع بتلك اللذة المعروفة , وبكثرة النساء، وقد كان العرب قبل البعثة في شقاق , وقتال دائمين، والقتال إنما كان بين الرجال، فكان عدد الرجال ينقص بالقتل , فيبقى كثير من النساء بلا أزواج، فمن كانت عنده قوة بدنية , وسعة في المال كانت تذهب نفسه وراء التمتع بالنساء، فيجد منهن ما يرضي شهوته، ولا يزال يتنقل من زوجة إلى أخرى ما دام في بدنه قوة، وفي ماله سعة، وكان العرب ينكحون النساء بالاسترقاق، ولكن لا يستكثرون من ذلك، بل كان الرجل يأخذ السبايا , فيختار منهن واحدة، ثم يوزع على رجاله ما بقي واحدة واحدة , ولم يعرف أن أحدًا منهم اختار لنفسه عدة منهن، أو وهب لأحد رجاله كذلك دفعة واحدة. *** (السؤال الثاني) على أي صورة كان الناس يعملون بهذه العادة في بلاد العرب خاصة؟ (ج) كان عملهم على النحو الذي ذكرته: إما بالتزوج واحدة بعد واحدة، أو بالتسري , وأخذ سرية بعد أخرى، أو جمع سرية إلى زوجة، أو زوجة إلى سرية، ولم يكن النساء إلا متاعًا للشهوة لا يرعى فيهن حق، ولا يؤخذ فيهن بعدل، حتى جاء الإسلام؛ فشرع لهن الحقوق , وفرض فيهن العدل. *** (السؤال الثالث) كيف أصلح نبينا صلى الله عليه وسلم هذه العادة , وكيف كان يفهمها؟ (ج) جاء صلى الله عليه وسلم , وحال الرجال مع النساء كما ذكرنا لا فرق بين متزوجة وسرية في المعاملة، ولا حد لما يبتغي الرجل من الزوجات، فأراد الله أن يجعل في شرعه صلى الله عليه وسلم رحمةً بالنساء , وتقريرًا لحقوقهن، وحكمًا عدلاً يرتفع به شأنهن، وليس الأمر كما يقول كتبة الأوربيين: (إن ما كان عند العرب عادة جعله الإسلام دينًا) ، وإنما أخذ الإفرنج ما ذهبوا إليه من سوء استعمال المسلمين لدينهم , وليس له مأخذ صحيح منه. حكم تعدد الزوجات جاء في قوله تعالى في سورة النساء: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) . كان الرجل من العرب يكفل اليتيمة , فيعجبه جمالها ومالها , فإن كانت تحل له؛ تزوجها , وأعطاها من المهر دون ما تستحق , وأساء صحبتها , وقتَّر في الإنفاق عليها , وأكل مالها، فنهى الله المؤمنين عن ذلك , وشدد عليهم في الامتناع عنه، وأمرهم أن يؤتوا اليتامى أموالهم، وحذرهم من أن يأكلوا أموالهم، ثم قال لهم: إن كان ضعف اليتيمات يجركم إلى ظلمهن , وخفتم ألا تقسطوا فيهن إذا تزوجتموهن , وأن يطغى فيكم سلطان الزوجية , فتأكلوا أموالهن , وتستذلوهن، فدونكم النساء سواهن , فانكحوا ما يطيب لكم منهن من ذوات جمال ومال من واحدة إلى أربع، ولكن ذلك على شرط أن تعدلوا بينهن، فلا يباح لأحد من المسلمين أن يزيد في الزوجات على واحدة إلا إذا وثق بأن يراعي حق كل واحدة منهن , ويقوم بينهن بالقسط , ولا يفضل إحداهن على الأخرى في أي أمر حسن يتعلق بحقوق الزوجية التي تجب مراعاتها، فإذا ظن أنه إذا تزوج فوق الواحدة لا يستطيع العدل؛ وجب عليه أن يكتفي بواحدة فقط، فتراه قد جاء في أمر تعدد الزوجات بعبارة تدل على مجرد الإباحة على شرط العدل، فإن ظن الجور؛ منعت الزيادة على الواحدة، وليس في ذلك ترغيب في التعدد , بل فيه تبغيض له، وقد قال في الآية الأخرى: {وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء: 129) فإذا كان العدل غير مستطاع , والخوف من العدل يوجب الاقتصار على الواحدة؛ فما أعظم الحرج في الزيادة عليها! فالإسلام قد خفف الإكثار من الزوجات , ووقف عند الأربعة، ثم إنه شدد الأمر على المكثرين إلى حد لو عقلوه لما زاد واحد منهم على الواحدة. وأما المملوكات من النساء؛ فقد جاء حكمهن في قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (النساء: 3) ، وهو إباحة الجمع بينهن، وإن لم يكن من الرجل عدل فيهن؛ لأن المملوكة لا حق لها، ولمالكها أن يتركها للخدمة، ولا يضاجعها ألبتة، وقد اتفق المسلمون على أنه يجوز للرجل أن يأخذ من الجواري ما يشاء بدون حصر، ولكن يمكن لفاهم أن يفهم من الآية غير ذلك، فإن الكلام جاء مرتبطًا بإباحة العدد إلى الأربعة فقط، وإن الشرط في الإباحة التحقق من العدل، فيكون المعنى أنه إذا خيف الجور؛ وجب الاقتصار على الواحدة من الزوجات، أو أخذ العدد المذكور مما ملكت الإيمان، فلا يباح من النساء ما فوق الأربع على حال، ويباح الأربع بدون مراعاة للعدل في المملوكات دون الزوجات؛ لأن المملوكات ليس لهن حقوق في العشرة على ساداتهن، إلا ما كان من حقوق العبد على سيده. وحق العبد على سيده أن يطعمه، ويكسوه، وأن لا يكلفه من العمل في الخدمة ما لا يطيق، أما أن يمتعه بما تتمتع به الزوجات فلا. [2] وقد ساء استعمال المسلمين لما جاء في دينهم من هذه الأحكام الجليلة , فأفرطوا في الاستزادة من عدد الجواري، وأفسدوا بذلك عقولهم , وعقول ذراريهم بمقدار ما اتسعت لذلك ثروتهم. أما الأسرى اللاتي يصح نكاحهن , فهن أسرى الحرب الشرعية التي قصد بها المدافعة عن الدين القويم , أو الدعوة إليه بشروطها , ولا يكن عند الأسر إلا غير مسلمات، ثم يجوز بيعهن بعد ذلك , وإن كن مسلمات، وأما ما مضى المسلمون على اعتياده من الرق , وجرى عليه عملهم في الأزمان الأخيرة , فليس من الدين في شيء , فما يشترونه من بنات الجراكسة المسلمين اللاتي يبيعهن آباؤهن , وأقاربهن طلبًا للرزق، أو من السودانيات اللاتي يتخطفهن الأشقياء السلبة المعرفون (بالأسيرجية) ؛ فهو ليس بمشروع , ولا معروف في دين الإسلام , وإنما هو من عادات الجاهلية، لكن لا جاهلية العرب، بل جاهلية السودان , والجركس. وأما جواز إبطال هذه العادة - أي: عادة تعدد الزوجات - فلا ريب فيه. *** (السؤال الرابع) هل يجوز تعدد الزوجات إذا غلبت مفسدته؟ [3] (ج) أما (أولاً) ؛ فلأن شرط التعدد هو التحقق من العدل , وهذا الشرط مفقود حتمًا , فإن وجد في واحد من الميليون , فلا يصح أن يتخذ قاعدة؛ ومتى غلب الفساد على النفوس , وصار من المرجح أن لا يعدل الرجال في زوجاتهم؛ جاز للحاكم , أو للعالم [4] أن يمنع التعدد مطلقًا مراعاةً للأغلب. (وثانيًا) قد غلب سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد , وحرمانهن من حقوقهن في النفقة , والراحة , ولهذا يجوز للحاكم , وللقائم على الشرع أن يمنع التعدد دفعًا للفساد الغالب. (وثالثًا) قد ظهر أن منشأ الفساد , والعداوة بين الأولاد هو اختلاف أمهاتهم , فإن كل واحد منهم يتربى على بغض الآخر , وكراهته , فلا يبلغ الأولاد أشدهم إلا وقد صار كل منهم من أشد الأعداء للآخر , ويستمر النزاع بينهم إلى أن يخربوا بيوتهم بأيديهم , وأيدي الظالمين، ولهذا يجوز للحاكم , أو لصاحب الدين أن يمنع تعدد الزوجات والجواري معًا؛ صيانةً للبيوت عن الفساد. نعم، ليس من العدل أن يمنع رجل لم تأت زوجته منه بأولاد أن يتزوج أخرى؛ ليأتي منها بذرية، فإن الغرض من الزواج التناسل , فإذا كانت الزوجة عاقرًا , فليس من الحق أن يمنع زوجها من أن يضم إليها أخرى. وبالجملة فيجوز الحجر على الأزواج عمومًا أن يتزوجوا غير واحدة إلا لضرورة تثبت لدى القاضي , ولا مانع من ذلك في الدين ألبتة , وإنما الذي يمنع ذلك هو العادة فقط اهـ. (المنار) هذا نص الفتوى , وهي مبنية على قاعدة جواز منع كل مباح ثبت ضرر استعماله لدى أولي الأمر، ومنه منع حكومة مصر لصيد بعض الطيور التي تأكل حشرات الزرع؛ فيسلم من الهلاك، ومنع ذبح عجول البقر أحيانًا للحاجة إليها في الزراعة مع قاعدة إعطاء الفساد الغالب حكم العام , ثم استثنى من منع تعدد الزوجات ما كان لغرض شرعي صحيح , وهو طلب النسل. أقول: ومثله ما كان لضرورة أخرى تثبت لدى الحاكم الشرعي، وهذه الضرورات لا يسهل حصرها في عدد معين. ومن أظهرها: أن تصاب الزوجة الأولى بمرض يحول دون الاستمتاع الذي يحصل به الإحصان، ومنها وصولها إلى سن اليأس مع إمكان النسل منه، فالإحصان المانع من العنت - أي: اندفاع الطبع إلى الزنا - من أغراض الزواج الشرعية. ومفاسد الزنا ومضاره أكبر من مفاسد تعدد الزوجات ومضاره؛ فإنه يولد الأمراض , ويقلل النسل , ويوقع العداوة بين الأزواج، ويفسد نظام البيوت , ويضيع الثروات، وإنما أباح الإسلام التعدد المعين بشرط إرادة العدل، والقدرة على النفقة لدفع مفاسد، وتقرير مصالح متعددة جعلته من الضرورات الاجتماعية في أمة ذات دولة وسلطان فرض عليها تنفيذ شريعتها، وحماية بيضتها، وتدين الله بالفضيلة، فهي تحرم الزنا، وهي عرضة لأن يقل فيها الرجال , ويكثر النساء بالحروب وغيرها حتى يكون من مصلحتهن أن يكفل الرجل اثنتين , أو أكثر منهن. وما ذكره رحمه الله من مفاسد التعدد ليس سببه التعدد وحده لذاته، بل يضم إليه فساد الأخلاق، وضعف الدين، وقد كان يعرف من ذلك ما يقل أن يعرفه غيره من أهل البصيرة والخبرة لشدة غيرته , وعنايته بالإصلاح، وهو الذي كان يؤلم قلبه , ويذهله عما لهذه الضرورة الاجتماعية من الفوائد التي أشرنا إلي أهمها. ولعمري إن ما عرفناه نحن هنا من قلة احترام ميثاق الزوجية، ومن كثرة تعدد الزوجات، وكثرة مفاسده لا نعرف له نظيرًا في غير هذه البلاد المصرية من بلاد الإسلام، وقد فصلنا القول في هذه المسألة في تفسير آية النساء بعد أن أوردنا ما قاله شيخنا في تفسيرها في درسه , فليراجعه في الجزء الرابع من التفسير من شاء أن يزداد بيانًا في المسألة. *** حكمة تعدد أزوج النبي صلى الله عليه وسلم: جاءنا السؤال الآتي من الباحثة الفاضلة صاحبة الإمضاء من طنطا مع كتاب قالت

استقلال مملكة ابن السعود

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استقلال مملكة ابن السعود (س1) من صاحب الإمضاء في (بونس أيرس) عاصمة الأرجنتين: جناب حضرة الأستاذ السيد رشيد رضا الأفخم، من بعد التحية والسلام: أرجو الإفادة على سؤالي الآتي , ولكم منا مزيد الثناء بذلك: هل مملكة ابن سعود مستقلة استقلالاً تامًّا مطلقًا في كل شؤونها الداخلية والخارجية , أم لا؟ وإذ لم كانت , من هي الدولة الوصية عليها؟ والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي سعيد يوسف مراد ... ... ... ... ... ... ... ... من شركة مراد إخوان (ج) إن مملكة ابن السعود مستقلة استقلالاً تامًّا مطلقًا، لا وصاية عليها لدولة من الدول، وليس فيها موظف أجنبي إلا بعض قناصل للدول التي لها رعايا من المسلمين في جدة من عهد حكم الترك، وقد سئلت مجلة المقتطف هذا السؤال , فأجابت بمثل هذا الجواب، ومن الأدلة على فسخ الاتفاق القديم مع الإنكليز الخاص بنجد أنه أخذ بلاد الحجاز بالسيف , وعقد معاهدة سابقة مع السيد الإدريسي , ثم معاهدة أخرى جعلت بلاد الإدريسى كلها تحت حمايته.

البناء على القبور ومن استثنى من تحريمه قبور الأنبياء والصالحين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البناء على القبور ومن استثنى من تحريمه قبور الأنبياء والصالحين (س2) لصاحب الإمضاء في (أوغاندة) . إلى حضرة جلالة (؟) الأستاذ الكامل الشيخ الفاضل محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى , وسلام عليك ورحمة الله وبركاته؛ أما بعد: فهذا سؤال موجه لحضرتكم الشريفة عن البناء على القبور من كتاب تنوير القلوب لصاحبه محمد أمين الكردي نسبًا النقشبندي مذهبًا بصحيفة 213 ما نصه: (ويحرم البناء على المقبرة الموقوفة إلا لنبي , أو شهيد , أو عالم , أو صالح) ، هل المراد من فحوى كلامه هنا الحوش المستدير على قبر النبي، أو الشهيد، أو العالم، أو الصالح كما يفيده استثناؤه، أو نفس البناء عليه بالجصِّ , والآجر؟ وعلى كلا الحالين لأي شيء يحل له ويحرم لما عداه؟ وهل يحل أيضًا لما عدا قبر غير النبي , أو العالم فيما إذا كانت المقبرة غير موقوفة؟ أليس منع البناء على المقابر مطلقًا كما علم بالضرورة؟ ومع هذا إنكم صرحتم بعدم الجواز في عدة مواضع بمجلتكم الغراء، أفيدونا بالجواب , ولكم الأجر والثواب , والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... مقبل فاضل ... ... ... ... ... ... ... ... ... أوغاندة، مبالي (ج) إن كلام هذا الكردي شرع لم يأذن به الله، ولا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لنا أن نبحث عن مراده منه، بل هو مردود عليه، وأنتم في غنى عنه بما نشرناه في المنار مرارًا من الأحاديث الصحيحة في تحريم البناء على قبور الأنبياء والصالحين، ويؤخذ منها أن قبورهم هي المقصودة بالحظر أولاً وبالذات؛ لافتتان الأولين والآخرين بها، وعبادتها بالتعظيم والطواف والدعاء، وغير ذلك كالحديث المتفق عليه في أهل الكتاب: (أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا , أولئك شرار الخلق عند الله) , وعند ابن سعد: (إن من قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد , فلا تتخذوا القبور مساجد , فإني أنهاكم عن ذلك) , وسواء فيما بني على قبر النبي , أو الصالح , أكان مسجدًا , أم غير مسجد؟ فإن مقصد الشارع سد ذريعة تعظيم قبورهم , أو تعظيمهم بما لا يبيحه الشرع من الدعاء والنذر , وأمثال ذلك مما هو خاص بالله تعالى كالحلف , أو خاص ببيته كالطواف. وما ذكره الفقهاء من تحريم البناء في المقبرة المسبلة، فله مدرك آخر يشمل الصالح والطالح، وهو تصرف الإنسان في الوقف بغير ما وقف عليه، ومثله التصرف في ملك غيره كما هو ظاهر.

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما قبله) مذهب عثمان (رضي الله عنه) في قصر الصلاة: وأما إتمام عثمان , فالذي ينبغي أن يحمل حاله على ما كان يقول، لا على ما لم يثبت عنه , فقوله: (إنه بلغني أن قومًا يخرجون إما لتجارة، وإما لجباية، وإما لجَرِيمٍ يقصرون الصلاة، وإنما يقصر الصلاة من كان شاخصًا، أو بحضرة عدو) ، وقوله بين فيه مذهبه، وهو: أنه لا يقصر الصلاة من كان نازلاً في قرية، أو مَصْرٍ إلا إذا كان خائفًا بحضرة عدو، وإنما يقصر من كان شاخصًا؛ أي: مسافرًا، وهو الحامل للزاد , والمزاد؛ أي: للطعام والشراب، والمزاد: وعاء الماء، يقول: إذا كان نازلاً مكانًا فيه الطعام والشراب؛ كان مترفهًّا بمنزلة المقيم، فلا يقصر؛ لأن القصر إنما جعل للمشقة التي تلحق الإنسان، وهذا لا تلحقه مشقة، فالقصر عنده للمسافر الذي يحمل الزاد والمزاد، وللخائف. ولما عمرت مِنَى , وصار بها زاد ومزاد؛ لم ير القصر بها لا لنفسه، ولا لمن معه من الحاج، وقوله في تلك الرواية: (ولكن حدث العام) لم يذكر فيها ما حدث , فقد يكون هذا هو الحادث، وإن كان قد جاءت الجهال من الأعراب , وغيرهم يظنون أن الصلاة أربع، فقد خاف عليهم أن يظنوا أنها تفعل في مكان فيه الزاد والمزاد أربعًا، وهذا عنده لا يجوز، وإن كان قد تأهل بمكة؛ فيكون هذا أيضًا موافقًا، فإنه إنما تأهل بمكان فيه الزاد والمزاد، وهو لا يرى القصر لمن كان نازلاً بأهله في مكان فيه الزاد والمزاد، وعلى هذا؛ فجميع ما ثبت في هذا الباب من عذره يصدق بعضه بعضًا. وأما ما اعتذر به الطحاوي من أن مكة كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أعمر من منى في زمن عثمان , فجواب عثمان له أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، ثم في غزوة الفتح، ثم في عمرة الجعرانة كان خائفًا من العدو، وعثمان يجوِّز القصر لمن كان خائفًا , وإن كان نازلاً في مكان فيه الزاد والمزاد , فإنه يجوِّزه للمسافر , ولمن كان بحضرة العدو، وأما في حجة الوداع , فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم آمنًا لكنه لم يكن نازلاً بمكة , إنما كان نازلاً بالأبطح خارج مكة هو وأصحابه، فلم يكونوا نازلين بدار إقامة، ولا بمكان فيه الزاد والمزاد. وقد قال أسامة: أين ننزل غدًا؟ هل ننزل بدارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار؟ ! ننزل بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر. وهذا المنزل بالأبطح بين المقابر ومنى. وكذلك عائشة رضي الله عنها أخبرت عن نفسها: أنها إنما تتم؛ لأن القصر لأجل المشقة , وأن الإتمام لا يشق عليها والسلف والخلف تنازعوا في سفر القصر في جنسه وفي قدره , فكان قول عثمان وعائشة أحد أقوالهم فيها. وللناس في جنس سفر القصر أقوال أخر، مع أن عثمان قد خالفه علي , وابن مسعود , وعمران بن الحصين , وسعد بن أبي وقاص , وابن عمر , وابن عباس , وغيرهم من علماء الصحابة، فروى سفيان بن عيينة , عن جعفر بن محمد , عن أبيه قال: اعتل عثمان - وهو بمنى - فأتى علي، فقيل له: صل بالناس فقال: إن شئتم صليت بكم صلاة رسول الله ركعتين. قالوا: لا إلا صلاة أمير المؤمنين - يعنون أربعًا - فأبى , وفي الصحيحين عن ابن مسعود ... [1] *** (الخلاف في جواز تمام الرباعية في السفر) وقد تنازع الناس في الأربع في السفر على أقوال: (أحدهما) : إن ذلك بمنزلة صلاة الصبح أربعًا، وهذا مذهب طائفة من السلف والخلف , وهو مذهب أبي حنيفة وابن حزم وغيره من أهل الظاهر، ثم عند أبي حنيفة: إذا جلس مقدار التشهد؛ تمت صلاته، والمفعول بعد ذلك كصلاة منفصلة قد تطوع بها، وإن لم يقعد مقدار التشهد؛ بطلت صلاته ومذهب ابن حزم , وغيره: إن صلاته باطلة، كما لو صلى عندهم الفجر أربعًا. وقد روى سعيد في سننه , عن الضحاك بن مزاحم قال: قال ابن عباس: (من صلى في السفر أربعًا كمن صلى في الحضر ركعتين) ، قال ابن حزم: وروينا عن عمر بن عبد العزيز , وقد ذكر له الإتمام في السفر لمن شاء , فقال: كلا، الصلاة في السفر ركعتان حتمان لا يصح غيرهما. وحجة هؤلاء أنه: قد ثبت أن الله إنما فرض في السفر ركعتين، والزيادة على ذلك لم يأت بها كتاب , ولا سنة، وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه صلى أربعًا , أو أقر من صلى أربعًا , فإنه كذب. وأما فعل عثمان , وعائشة , فتأويل منهما أن القصر إنما يكون في بعض الأسفار دون بعض، كما تأول غيرهما أنه لا يكون إلا في حج أو عمرة أو جهاد، ثم قد خالفهما أئمة الصحابة , وأنكروا ذلك. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صدقة تصدق الله بها عليكم , فاقبلوا صدقته) , فأمر بقبولها , والأمر يقتضي الوجوب. ومن قال: يجوز الأمران؛ فعمدتهم قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) قالوا: وهذه العبارة إنما تستعمل في المباح لا في الواجب كقوله: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} (النساء: 102) , وقوله: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} (البقرة: 236) , ونحو ذلك، واحتجوا من السنة بما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم حسن لعائشة إتمامها، وبما روي من أنه فعل ذلك , واحتجوا بأن عثمان أتم الصلاة بمنى بمحضر الصحابة , فأتموا خلفه , وهذه كلها حجج ضعيفة. أما الآية , فنقول: قد علم بالتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يصلي في السفر ركعتين , وكذلك أبو بكر , وعمر بعده، وهذا يدل على أن الركعتين أفضل كما عليه جماهير العلماء، وإذا كان القصر طاعة لله ورسوله , وهو أفضل من غيره، لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا فضيلة فيه، ثم ما كان عذرهم عن كونه مستحبًّا هو عذر لغيرهم عن كونه مأمورًا به أمر إيجاب، وقد قال تعالى في السعي: {فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} (البقرة: 158) , والطواف بين الصفا والمروة هو: السعي المشروع باتفاق المسلمين، وذلك إما ركن , وإما واجب , وإما سنة، وأيضًا فالقصر - وإن كان رخصة استباحة المحظور - فقد تكون واجبة كأكل الميت للمضطر، والتيمم لمن عدم الماء، ونحو ذلك، هذا إن سلم أن المراد به قصر العدد، فإن للناس في الآية ثلاثة أقوال: قيل: المراد به قصر العدد فقط، وعلى هذا فيكون التخصيص بالخوف غير مفيد، (والثاني) : أن المراد به قصر الأعمال , فإن صلاة الخوف تقصر عن صلاة الأمن , والخوف يبيح ذلك، وهذا يرد عليه أن صلاة الخوف جائزة حضرًا وسفرًا , والآية أفادت القصر في السفر، (والقول الثالث) - وهو الأصح -: أن الآية أفادت قصر العدد , وقصر العمل جميعًا، ولهذا علق ذلك بالسفر والخوف , فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف؛ أبيح القصر الجامع لهذا ولهذا، وإذا انفرد السفر؛ فإنما يبيح قصر العدد، وإذا انفرد الخوف؛ فإنما يفيد قصر العمل. ومن قال: إن الفرض في الخوف والسفر ركعة. كأحد القولين في مذهب أحمد , وهو مذهب ابن حزم، فمراده: إذا كان خوف وسفر، فيكون السفر والخوف قد أفاد القصر إلى ركعة، كما روى أبو داود الطيالسي، ثنا المسعودي هو عبد الرحمن ابن عبد الرحمن بن عبد الله، عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر: أقصرهما؟ قال جابر: (لا، فإن الركعتين في السفر ليستا بقصر، إنما القصر ركعة عند القتال) . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا , وفي السفر ركعتين , وفي الخوف ركعة) قال ابن حزم: ورويناه أيضًا من طريق حذيفة وجابر وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد في غاية الصحة. قال ابن حزم: وبهذه الآية قلنا إن صلاة الخوف في السفر إن شاء ركعة , وإن شاء ركعتين؛ لأنه جاء في القرآن بلفظ: {لاَ جُنَاحَ} (النساء: 102) ، لا بلفظ الأمر والإيجاب، وصلاها الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم مرة ركعة فقط , ومرة ركعتين , فكان ذلك على الاختيار كما قال جابر. وأما صلاة عثمان , فقد عرف إنكار أئمة الصحابة عليه , ومع هذا فكانوا يصلون خلفه؛ بل كان ابن مسعود يصلي أربعًا وإن انفرد، ويقول: الخلاف شر. وكان ابن عمر إذا انفرد صلى ركعتين. وهذا دليل على أن صلاة السفر أربعًا مكروهة عندهم , ومخالفة للسنة، ومع ذلك فلا إعادة على من فعلها، وإذا فعلها الإمام؛ اتبع فيها؛ وهذا لأن صلاة المسافر ليست كصلاة الفجر، بل هي من جنس الجمعة والعيدين، ولهذا قرن عمر بن الخطاب في السنة التي نقلها بين الأربع , فقال: (صلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى) . رواه أحمد والنسائي من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى , عن كعب بن عجزة قال: قال عمر، ورواه يزيد بن زياد ابن أبي الجعد عن زبيد الأيامي [2] عن عبد الرحمن، فهذه الأربعة ليست من جنس الفجر. ومعلوم أنه يوم الجمعة يصلي ركعتين تارة , ويصلي أربعًا أخرى، ومن فاتته الجمعة؛ إنما يصلي ركعتين، وكذلك من لم يدرك منها ركعة عند الصحابة , وجمهور العلماء، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أدرك ركعة من الصلاة , فقد أدركها) وإذا حصلت شروط الجمعة؛ خطب خطبتين , وصلى ركعتين، فلو أنه خطب , وصلى الظهر أربعًا؛ لكان تاركًا للسنة، ومع هذا فليسوا كمن صلى الفجر أربعًا، ولهذا يجوز للمريض والمسافر , والمرأة , وغيرهم ممن لا تجب عليهم الجمعة أن يصلي الظهر أربعًا أن يأتم به في الجمعة؛ فيصلي ركعتين، فكذلك المسافر له أن يصلي ركعتين , وله أن يأتم بمقيم , فيصلي خلفه أربعًا , فإن قيل: الجمعة يشترط لها الجماعة , فلهذا كان حكم المنفرد فيها خلاف حكم المؤتم وهذا الفرق ذكره أصحاب الشافعي , وطائفة من أصحاب أحمد، قيل لهم: اشتراط الجماعة في الصلوات الخمس فيه نزاع في مذهب أحمد وغيره، والأقوى أنه شرط مع القدرة، وحينئذ المسافر لما ائتم بالمقيم دخل في الجماعة الواجبة , فلزمه اتباع الإمام كما في الجمعة، وإن قيل: فللمسافرين أن يصلوا جماعة، قيل: ولهم أن يصلوا يوم الجمعة جماعة , ويصلوا أربعًا، وصلاة العيد قد ثبت عن علي أنه استخلف من صلى بالناس في المسجد أربعًا: ركعتين للسنة، وركعتين لكونهم لم يخرجوا إلى الصحراء، فصلاة الظهر يوم الجمعة، وصلاة العيدين تفعل تارة اثنتين، وتارة أربعًا، كصلاة المسافر، بخلاف صلاة الفجر، وعلى هذا تدل آثار الصحابة، فإنهم كانوا يكرهون من الإمام أن يصلي أربعًا , ويصلون خلفه، كما في حديث سلمان , وحديث ابن مسعود , وغيره مع عثمان، ولو كان ذلك عندهم كمن يصلي الفجر أربعًا؛ لما استجازوا أن يصلوا أربعًا، كما لا يستجيز مسلم أن يصلي الفجر أربعًا. ومن قال: إنهم لما قعدوا قدر التشهد؛ أدوا الفرض , والباقي تطوع. قيل له: من المعلوم أنه لم ينقل عن أحدهم أنه قال: نوينا التطوع بالركعتين. وأيضًا فإن ذلك ليس بمشروع، فليس لأحد أن يصلي بعد الفجر ركعتين، بل قد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من صلى بعد الإقامة السنة، وقال: الصبح أربعًا. وقد صلى قبل الإمام

الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى يتشابه مشرق العالم الإسلامي ومغربه، فيما فشا فيهما من الجهل والبدع والخرافات التي أضعفت جميع شعوب الأمة، ويتشابهان أيضا فيما يشعر به العقلاء السليمو الفطرة من الحاجة إلى الإصلاح الديني الذي يتوقف عليه الإصلاح الاجتماعي والسياسي، مع بقاء هداية الإسلام جامعة لهذه الشعوب مميزة، كالفصل المنطقي المميز للنوع دون أنواع جنسه القريب. ولدينا من مواد المجلد الثامن والعشرين من المنار رسالتان طويلتان في موضوع الإصلاح في المغرب الأقصى: إحداهما لأستاذ من شيوخه، والأخرى لسائح تغلغل في تلك البلاد، وهما ممن يرجع بهداية الدين إلى مذهب السلف الصالح في العصر الأول، ويُعَوِّل في المدنية وعزة الأمة على أحدث فنون العصر، ونظمه الملائمة لتلك الهداية، وإننا ننشرهما بالتدريج للتعاون بين الملوين، وتبادل الشعور الذي تخفق له قلوب الأمة في الخافقين. ونبدأ بالأولى وهي: نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقًا بسم الله الرحمن الرحيم مُنِيَ المسلمون في جميع بقاع الأرض بفئة ضالة تقمصت الإسلام على ظهرها، وأما قلوبها فقد ملئت عليه حقدًا وحسدًا حملاها على النكاية به، والعمل على نقضه من أساسه، ولولا أن الإسلام قوي بنفسه وبتعاليمه، ولولا أنه نور من نور الله لا ينطفئ أبدًا ولو كره الملحدون الحاقدون، لكانت المصيبة أدهى وأمر، ولكن العاقبة للمسلمين، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19) وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) أخرجه البخاري في صحيحه عن المغيرة بن شعبة في كتاب الاعتصام في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون) ؛ (وهم أهل العلم) . وقد اختارت هذه الفئة الضالة في كل عصر من أول الإسلام إلى يومنا هذا أقوامًا لنشر دعوتها من أعظم الأبالسة، وأبلغ الخطباء المصاقيع، وأجرئهم على ذلك، فلبسوا لبوس الإسلام، ولابسوا قادة المسلمين من ملوك وعلماء، وتظاهروا بالزهد ومحبة الإٍسلام والغيرة عليه وعلى أهله، وصاروا يزيدون فيه ما ليس منه، ويستظهرون على ذلك برواية أحاديث بعضها صحيح؛ ليستدرجوا الناس إلى قبول الموضوع، ويتظاهرون بأن ذلك من تعظيم الإسلام، فاستحوذوا بذلك على قلوب العامة لأنهم تبع للخاصة، حتى كاد زمام العامة يصير في يدهم، فصارت لهم بذلك مكانة ومنزلة عند الملوك وكبار الدولة، وصاروا يتداخلون في كل شيء حتى في نصب الوزراء والقضاة، وما أدراك ما هذه المكيدة! وصاروا يحلون ويحرمون للملوك، ويفتونهم بما فيه ضررهم وضرر الإسلام، كل ذلك تحت ستار الزهد والتقشف، ومكيدة ما يشيعه أتباعهم من الكرامات الكاذبة الباردة إلخ. وطوائف منهم خالطت عامة الناس، ودونت لهم أقاويل، وأوراقًا كلها مشعوذة، وتقوُّل على الدين، ومحاربة له، وهدم لبنيانه، وما قصة الحلاَّج بمجهولة. وبعد خراب البصرة، استفاق العلماء من الغفلة وتجردوا للرد عليهم، كابن حزم والغزالي وأبي بكر بن العربي المعافري وابن تيمية وابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب في نجد وغيرهم، إلى أن قذف الله بنور من عنده بنابغة الدهر (السيد) جمال الدين الأفغاني فنبه الأمة الإسلامية من رقادها الطويل، وصدع فيهم بأمر القرآن، كأنه المعني بقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الحجر: 94) وجاهد في الله حق جهاده، ونشر علومه وهديه في الهند والفرس والأفغان ومصر والآستانة، وخلف رحمه الله تلاميذ نبغاء في هذه الأقطار: أعظمهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والعلامة السيد رشيد رضا صاحب المنار، وسعد زغلول باشا، وغيرهم كثير. فقامت هذه الفئة القليلة بنشر محاسن الإسلام، وببيان أصوله وسهولته، وموافقته لكل زمان ومكان، وبالرد على المبتدعة والملحدة والجاحدة؛ فغلبت فئات كثيرة بإذن الله؛ لأنها صبرت والله مع الصابرين، قال جل علاه: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) وما مناظرة جمال الدين الأفغاني لرينان ببعيدة، وأقرب منها رد الشيخ محمد عبده على هانوتو، وردود صاحب المنار على الجامدين والملحدين في كل عدد من أعداد المنار معروفة، وفي مقالات سعد باشا وخطبه وردوده القاهرة على دهاقين السياسة أكبر شاهد على ما قلنا. في تلك الأيام المحلولكة كان علماء الدين في الأزهر، وأيا صوفيا والجامع الأموي، والزيتونة ملازمين لظلهم، يخافون من خياله رغمًا عما نفخ فيهم الشيخ محمد عبده من كهرباء روحه الطاهرة، وعما قرعهم به ووعظهم بالحجج الساطعة، والآيات القاطعة، إلى أن قام صاحب كتاب الإسلام وأصول والحكم فضرب على وجهه صفيحة من نحاس. ولم يشهد التاريخ لها شيئًا في العالمين، فغضب لذلك أسد الإسلام ومؤسس مناره السيد رشيد رضا، وصفعه صفعة قضت على أمثاله، ونبه مشيخة الأزهر لعمل الواجب ضد ضلاله، وإذا غضب رشيد رضا رأيت العلماء العاملين كلهم غضابًا، فقام حينئذ علماء الأزهر بالأمر خير قيام، وأسقطوه من زمرة علماء المسلمين. حينئذٍ تنبه الأزهريون فرأوا أنفسهم مسوقين بحبال الملحدين إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فتحفزوا للوثوب إلى الميدان وبرزوا للمعركة أسودًا شم العرانين منشدين: وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول وأول من برز للميدان وبز، وحاز قصب السبق وأحرز، الأستاذ الشيخ محمد بخيت دام بقاؤه، فقد شحذ سيفه البتار (حقيقة الإسلام وأصول الحكم) ، وضرب الملحدين ضربة قاضية أسقطتهم من صياصيهم التي كانت موضوعة على شفا جرف هار من آراء الضالين الإباحيين الذين يستدرجون الأمة الإسلامية؛ ليزيغوها عن دينها الذي هو أعظم حصن واقف للضالين بالمرصاد، فإذا أزاحوها عنه، وتقمصت عقائد الإباحيين، وفرطت في أثمن سلوة لها، وابتليت بالإباحة المطلقة، واستحلت الربا والخمر والزنا، ورفعت الحجاب عن فتياتها، واختلط الحابل بالنابل، هنالك يجد الماليون مفاتيح الاستيلاء على المسلمين واستهواء قلوبهم، زيادة على ملك رقابهم وأموالهم، وهناك يصبح المسلمون لا مفر لهم من الاستخذاء للماليين، واستخدامهم في المعامل الجهنمية، وجر الأثقال، ومزاولة الأشغال الشاقة ليلاً ونهارًا بأجور زهيدة لا يستطيعون معها أن يأكلوا الخبز والزيت، ولا يستطعيون أن يلبسوا إلا ما يفضل عن الأورباويين من صدار وقميص وسراويل وسخة متلاشية، ونعال بالية متعفنة، تكسو أكثر لابسيها أمراض متنوعة تذهب بأكثرهم إلى القبور، دع عنك الحفاة والعراة والجائعين الذين هم أزيد من خمسين في المائة. هنالك تغلق المدارس والمعاهد الدينية، وتملأ السجون والمارستانات، هناك هناك.. إلخ، هذه نتيجة ما يدعو إليه الملحدون في مصر وغيرها. فكان الواجب على قادة الملحدين أن يختبروا مقاصد سادتهم ومسخريهم وإلى أي هوة يسوقونهم، وفي أي مجزرة يذبحونهم. كان عليهم أن يتبينوا أحوال المسلمين في المستعمرات، ويبحثوا عن معايشهم ومكاسبهم ومدارسهم ومصانعهم وصنائعهم ومتاجرهم، ثم بعد الدرس العميق والبحث المتوالي يحكمون، فإذا وجدوا الماليين يعاملونهم معاملة جميلة، ويعلمونهم، ويسهرون على مصالحهم كما يدعون؛ فلا بأس حينئذ بالميل إليهم كما يريد بعض المتهاونين بالوطن. أما والحالة على النقيض، وليس هناك إلا الفقر والجهل والإهانة والحرمان والبؤس والشقاء، فيظهر بادئ بدء أن دعوة الملحدين لمواطنيهم إلى ما ذكر غش وتدليس وخيانة، فتجب مقاومتهم بكل ما يمكن، ويجب الاستعداد لمحاربتهم استعدادًا هائلاً تستحضر عدده من معامل الأزهر والمعاهد الدينية. لذلك جاء كتاب (حقيقة الإسلام) في أشد أوقات الحاجة إليه، فأشبه النجدة إلى المحارب الذي كاد ينهزم في المعركة النهائية الفاصلة؛ فانتصر به إلى غاية الانتصار، وهزم جيوش الملحدين هزيمة شنعاء لا تقوم لهم بعدها قائمة. وقد حوى حقائق الإسلام وبين أهم ما يحتاج إليه منها، بعبارة واضحة ليس فيها تكلف ولا غموض، جلب المؤلف فيها الآيات، والأحاديث النبوية، ونصوص الأصوليين المعتمدة، مذَيِّلاً ذلك بنقول المؤرخين، وأهل السير، وآراء فلاسفة المسلمين المعتمدة، ولكون ذلك معروفًا عند المسلمين ومؤلفات الإسلام فيه كثيرة جاءت عبارة الكتاب منسجمة غاية الانسجام، كأنما المؤلف يغرف من بحر فطلع منه بِدُرَر نفيسة ينبغي - بل يتحتم - على كل مفكر أن يزين مكتبته به، ويتعين على كل كاتب أو عالم أو فيلسوف أن ينير أفكاره بآرائه وآياته اللامعة. ... ... ... ... ... ... ... من مراكش (مسلم غيور) للرسالة بقية وفيها تعقب لكتاب حقيقة الإسلام. ((يتبع بمقال تالٍ))

سياسة الإنكليز في الشرق وزعماء العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سياسة الإنكليز في الشرق وزعماء العرب مذهبان في سياسة بريطانية في الشرق الأوسط - قرارات لجنة لويد جورج - إنجلترة وابن السعود - تصرفات الملك حسين - الإدريسي وبريطانية - شكاوى الحجاج إلى الدول الأوربية - الجزيرة العربية تهم العالم الإسلامي أجمع. إن العلائق الودية بين الحكومة البريطانية والسلطان ابن السعود التي أنتجتها مفاوضات السير جلبرت كلايتن في بحرا، والمعاهدات السلمية التي ارتبط بها إمام اليمن يحيى مع نفس الحكومة لا بد أن يكون لها أثر حميد في تحسين سياسة بريطانية العظمى في الشرق الأوسط؛ إذ إن هذه السياسة كانت ولا تزال حتى يومنا هذا متقلبة، لا يعرف لها قرار نهائي، واتفاقات بحرا هذه ليست في عالم السياسة بأمور غير معتادة، اتفق عليها لتحسين العلائق بين إنكلترة والبلاد العربية. إلا أن أنصار العرب في (دوننغ ستريت) جعلوها نصب أعينهم؛ لما رأوا لها من الأهمية، وكانت مدار حديثهم في المدة الأخيرة مع السير جلبرت كلايتن السكرتير المدني السابق لحكومة فلسطين الذي لم يكن مسئولاً إلا عن إيصال المفاوضات الأخيرة على علاتها إلى حكومته، وغير خافٍ أن معاهدات ذات تأثير في حركة الاستقلال العربي، وفي توحيد السياسة الإنكليزية في الشرق الأوسط - هي ولا شك من الوجهة التاريخية ذات بال، وأي ذات بال! ولذا يجدر بنا أن نبحث في شأنها بعض البحث: لما حملت إنكلترا على عاتقها مسئولية إدارة شئون إمبراطورية الشرق الأوسط؛ تضاربت الآراء العامة، وآراء الساسة الحذاق، خاصة فيما ستؤول إليه نتيجة هذا الأمر، ووقف في المضمار فريقان: فأما الفريق الأول، فكان من المحافظين أرباب الفلسفة السياسية، وكان الكولونيل (لورنس) و (المس جزتروديل) ألسنتهم الناطقة، فهؤلاء احتجوا بأن سياسة الإلحاق السرية أو الجهرية لا توافق ولا بوجه من الوجوه روح الحماية، أو ما تمليه سياسة الإنكليز الحق، وأخذوا يبثون آراءهم بكل الوسائل، ويطلبون استقلالاً تامًّا للممالك والإمارات العربية التي أسست حديثًا. وكانوا يعدون أنفسهم مسئولين بذواتهم عما كان يحدث في البلاد العربية على يد بريطانية العظمى، ويؤنبون أولي الأيدي التي كانت عاملة آنئذ على سحب العهود التي قطعوها للأمة العربية، وأما الفريق الثاني - وكان جله من الأحرار - فاعتبروا ضمانة أية حماية من غير ضم البلاد المحمية رأسًا، أو بالواسطة إلى الإمبراطورية البريطانية إنما هو تفريط في غير محله، وما هو إلا زيادة عبء ثقيل إلى العبء البريطاني في آونة كان العالم فيها يئن من نتائج الحرب العظمى. وظني أن كثيراً من المسائل الجوهرية البريطانية المدفونة في السجلات السرية في وزارة الخارجية البريطانية ووزارة المستعمرات لم يطلع عليها الشعب، ولن يطلع عليها إلا بعد أجيال عديدة إذ يظهرها المؤرخون. وهذه المعجزة الإنكليزية التي تتعلق بالشئون العربية لا يسأل عنها إلا أنصار العرب من الإنكليز ذوي الضمائر الحرة. واستدعي المفاوضون من العرب المرة تلو الأخرى، ولكن لم يكن هنالك مفاوضات حقيقية، ولا تزال قصة استدعاء الدكتور ناجي الأصيل السياسي السوري الذي مثل الملك حسينًا في بلاط سنت جيمس تخدش مخيلة من يهمهم هذا الأمر. فالعرب البسطاء هم الذين أوقعوا أنفسهم في أيدي من لا يعرفون للعهود معني، ولما اعترف بسلالة الشريف حسين كالعائلة الوحيدة المالكة في عموم الأقطار العربية؛ قامت الضجات والصرخات، وأصبح بعض الإنكليز يقولون: إن دولتهم جازفت بأن راهنت على الحصان الذي لا يكسب الرهان، ولما انتخب فيصل - أنجب أفراد هذه السلالة - للاستواء على عرش العراق رميت وزارة الخارجية البريطانية بقصر النظر والتحزب، ولما أشار السير أوستين تشمبرلن على الملك حسين الشيخ أن يغادر البلاد العربية إلى قبرص أيضًا هطلت الشكاوى التي يناقض بعضها البعض مدرارًا. دعنا الآن نعير التفاتة نحو الحقائق العارية من كل شائبة لنرى - إن أمكننا - نتيجة الخطط التي رسمها رجال السياسة الذين يسمون أنفسهم أحرارًا: في سنة 1921 قررت وزارة لويد جورج تشكيل لجنة وزارية (لتتعهد بتأسيس الأقطار التي للإنكليز علاقة بها في الشرق الأدنى) ، وهذه اللجنة التي كان يساعدها قواد القوات البحرية والحربية أتيح لها درس الحالة الإدارية والسياسية في هذه البقاع، وكانت تستعين بنصائح من كان يحكم البلاد من العمال الإنكليز، وأعني بهم: مندوبي فلسطين والعراق - السير هربوت صموئيل والسير برسي كوكس - ومعتمدي عدن والبحرين. واستطاعت هذه اللجنة بعد البحث الطويل، أن تصل إلى نتائج قدمتها بصورة تقرير لوزارة الخارجية، ولكن مع الأسف لم تر الشمس هذا التقرير حتى وقتنا هذا، بل خبئ في ظلمات صناديق الوزارة، مع أنه بلا شك أهم الأوراق السياسية التي تبين مجرى الأمور في الشرق في الوقت الحاضر. وهذه اللجنة عينت لجانًا ثانوية، وليس غرضنا هنا تعديد هذه اللجان، وعلى كل؛ فكان غرض أحدها - وهي التي كان يرأسها سكرتير وزارة الخارجية وكان يتألف أعضاؤها من ونستون تشرتشل والسير برسي كوكس والكولونل لورنس والجنرال سكوت - أن تضع على بساط البحث أمورًا تتعلق بالسياسة البريطانية الشرقية، وخصوصًا بما يتعلق بأمراء العرب، وملوكهم المسيطرين في شبه الجزيرة العربية، وأول ما نظرت فيه هذه اللجنة هو: مسألة التقدمات المالية، التي كانت تدفع لهؤلاء الزعماء استنادًا على أسس واهية، هذه اللجنة قررت بعد البحث والتدقيق ما يأتي: 1- أن تدفع الإمبراطورية البريطانية لابن السعود مائة ألف ليرا سنويًّا. 2- أن يدفع لفهد بك الهذال مائتان وأربعون ألف روبية. 3- أن يدفع الملك حسين مائة ألف ليرا إنكليزية سنويًّا. 4- أن يدفع للإدريسي اثنتا عشرة ألف ليرا سنويًّا. وبنت اللجنة حكمها على الأمور الآتية: ابن السعود أعظم يد عاملة في السياسة العربية، وذو الشخصية البارزة، والذكاء المفرط عقد معاهدة مع الدولة البريطانية، ولم يخطر له يومًا ما أن يحل عقد العلائق الودية بينه وبينها، مع أنه قادر على ذلك، وفي استطاعته أن يعرقل مساعي الدولة البريطانية، ولا يكلفه ذلك أكثر من أن يأمر أتباعه بشن الغارة على الجنوب الغربي من بلاد ما بين النهربن، كما أنه يمكنه أن يهاجم بخيله ورجله الكويت وجبل شمر إن أوحت إليه إرادته بذلك، والإخوان - الفريق المجاهد من أتباعه - دومًا يحثونه على مهاجمة جيرانه المسلمين، وقد حدثت مؤخرًا أربع غزوات من هذا القبيل. ولابن السعود تأثير في نفوس أتباعه الإخوان، وقد تمكن من أن يردهم عن مهاجمة جيرانهم مرارًا، وذلك بفضل تصرفه بحكمة في التقدمة المالية التي تساوي ما تجمعه حكومته من الضرائب، وقبيل أن تضمن هذه التقدمة المالية لابن السعود يجب عليه أن يوافق على الشروط الآتية: 1- أن لا يهاجم العراق ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده. 2- أن لا يهاجم الكويت ولا يسمح لقواته باجتياز حدوده أيضًا. 3- أن لا يهاجم الحجاز ولا يرسل حملات من أتباعه لمهاجمته. وكانت التقدمة الأساسية لابن السعود ستين ألف ليرا إنكليزية، وأما الآن [1] فازدادت حتى بلغت مائة ألف ليرا إنكليزية في السنة، ظنًّا من اللجنة أن هذه الزيادة المالية تقوى نفوذ ابن السعود وتمكنه من أعناق أتباعه، وبذلك يتسنى له أن يعمل على موافقة الإدارة البريطانية، وحثت اللجنة ابن السعود على إبقاء حبل المودة متصلاً بينه وبين فيصل من جهة، وبينه وبين الملك حسين من جهة أخرى، زد على ذلك أن اللجنة اعترفت بابن السعود سلطانًا على نجد، وأوصت من لهم علاقة بالأمر أن يعترفوا به. وفهد بك الهذال زعيم عشائر عنزة - التي على حدود ما بين النهرين إلى الجهة الغربية من بغداد وكربلاء، وعلى ضفة الفرات الغربية - اعتادت حكومة الهند أن تدفع له مقابل خدماته لها مائتي وأربعين ألف روبية، وغير خافٍ أن الطريق الجوية الحاضرة التي تؤدي إلى فلسطين تمر بمنطقة مسافة مائتي ميل، ولذا فلا مشاحة في أن مساعدته أمر لا بد منه، إن أرادت الحكومة البريطانية أن تحافظ على سلامة سفنها البرية التي تمر بهذه المنطقة؛ لهذا قررت اللجنة إبقاء ما كان على ما كان؛ أي: الاستمرار بدفع التقدمة المالية البالغة مائتين وأربعين ألف روبية للزعيم المذكور. أما الملك حسين فمع أنه أضعف من ابن السعود من الوجهة العسكرية، فهو ولا شك حامي البلاد المقدسة، فمن مصلحة بريطانية أن تحافظ على ولائه، وخصوصًا للعقيدة التي أظهرها للملأ تجاه ما قرر الحلفاء بشأن المقاطعات العربية إن هو لم يذعن لقرار الحلفاء الجديد. والآن فلا جدال أنه سيكون ثورة فتن وقلاقل في الحجاز ينتشر منها شرر يشعل نيران ثورات في المناطق العربية التي تحت الحماية، ويعتقد العالم الإسلامي أن لندن هي التي خلقته من العدم، فلذا تكون بريطانية العظمى هي الملومة، بل المسؤولة إن أصبحت حالة الحجاج أسوأ مما كانت يوم كان بيد الأتراك عصا السيادة في البلاد العربية. وأما الشروط التي عرضت على الملك حسين مقابل ضمان هذه التقدمة فتتخلص فيما يلي: 1- أن يصادق على معاهدة فرسايل ويصادق على المعاهدة التركية، ويوقعها. 2- أن يعترف بالمعاهدات البريطانية مع ابن السعود والإدريسي، ويحترمها، ويمتنع من عمل كل ما يمس حقوق المذكورين، كما أنه يتعهد بأن لا يعتدي عليهما. 3- أن يحسن حالة الحج، وخصوصًا أن يحافظ على الأمن العام، ويحترم حقوق الحجاج، ويعتني اعتناءً خاصًّا بالأمور الصحية، ويعيد تأسيس المستشفيات في جدة، كما أنه يتعهد بتحسين موارد المياه. 4- أن يعترف بحقوق الرعايا الإنكليز في الحجاز، ويحافظ على مصالحهم. 5- أن يرحب بقنصل إنكليزي ووكيل في جدة، وإن أبى ذلك فيرحب على الأقل بوكيل بريطاني مسلم. 6- أن يطهر البلاد المقدسة من الذين يسعون ضد المصالح الإنكليزية، وينشرون الدعوة للجامعة الإسلامية (Infrique Pan-lslamic) . 7- أن يمنع عائلة الشرفاء من الإتيان بأية حركة تهدد مصالح الفرنسيين، أو بكلمة أخرى: أن يكبح جماح أتباعه من القبائل التى تقطن سورية عن القيام بأية مظاهرة تمس مصالح البريطانيين ومصالح حلفائهم. وكان المتوقع أن إنشاء حكومتي العراق وشرقي الأردن سوف ينال استحسان الملك حسين، ويغريه بقبول نصائح البريطانيين كما فعل سابقًا. ولكن الواقع ونفس الأمر كان خلاف ذلك، فلذا أنقصت التقدمة المالية حين رجعت المياه إلى مجاريها، وتوافد الحجاج إلى البلاد المقدسة من كل فج عميق، غير أن هذا لم يحجز الحجاز عن أن يقع في هاوية الإفلاس مرة أخرى. وأما الإدريسي فكان أول حاكم عربي انضم إلى بريطانية العظمى أثناء الحرب العالمية الكبرى، وبمعاهدة سنة 1917 تعهدت له بريطانية بمده بكل ما يلزمه من عدد حربية، وأسلحة نارية أثناء الحرب وبعدها، وكذلك تعهدت له بأن تؤويه إلى بلادها، وتحميه إن حدث له أمر يضطره إلى الجلاء عن وطنه، بل تعهدت له أيضا أن تبذل جهدها لإرجاعه إلى مركزه الأول دون أن تدخل في أحكام بلاده. ومقابل هذه الضمانات ضمن الإدريسي للدولة حليفته امتيازات في بلاده، وهكذا استطاعت بريطانية أن تمنع تدخل غيرها من الدول في بلاد عسير. وكان الإدريسي على وفاق تام مع ابن السعود، مع أنه كانت هناك أمور كادت تقطع حبل المودة بينهما، لولا أ

إثبات شهر رمضان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إثبات شهر رمضان وبحث العمل فيه وفي غيره بالحساب ما زلنا منذ بلغنا سن الرشد إلى أن أدركنا سن الشيخوخة نسمع المسلمين يتألمون من الاضطراب والاختلاف الذي يحدث في إثبات أول شهر رمضان؛ لأجل الصيام الواجب، وإثبات أول شوال؛ لأجل الفطر الواجب في يوم العيد، وكذا هلال ذي الحجة؛ لأجل وقوف عرفة، وقد سبق لنا الكتابة في هذه المسألة في بعض المجلدات السابقة، وقد عرض لنا في هذا اليوم (الجمعة 30 شعبان) أن سمعنا قبيل ذرور قرن الشمس دوي المدافع تنفجر من قلعة القاهرة إعلانًا لإثبات شهر رمضان، وكان الحاسبون من الفلكيين قد نشروا في جميع الجرائد تذكيرًا بما دون في جميع التقاويم (النتائج) لهذه السنة الهجرية من أن أول رمضان فيها ليلة السبت 5 مارس (آذار) ؛ لأن هلاله يولد في ليلة الجمعة بعد ثلاث ساعات ونصف ساعة ودقيقة واحدة من غروب الشمس، فرؤيته مستحيلة قطعًا في ليلة الجمعة، وممكنة لكل معتدل البصر في ليلة السبت، وما كان من الممكن إثبات رمضان بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا، كدأبهم في حال عدم الرؤية؛ لأن يوم الجمعة هو اليوم الثلاثون من شعبان بحسب التقاويم، ولم يثبت خلافه بحكم شرعي، فكان الناس موقنين بأن أول رمضان يوم السبت، وإن أعلنت الحكومة أن رجال القضاء يجتمعون ليلة الجمعة في المحكمة الشرعية لأجل سماع شهادة من عساه يشهد أنه رأى الهلال كعادتهم. وقد تساءلنا كيف كان إثبات الشهر؟ فعلمنا أن برقية جاءت من العريش بأن قاضيه الشرعي قد حكم بأن يوم الخميس (أمس) الموافق لليوم الثالث من شهر مارس هو الثلاثون من شهر شعبان، وهذا مبني على أنه قد ثبت عنده أن أول شعبان كان يوم الأربعاء الموافق 2 فبراير (شباط) ، وأنه صدر بذلك حكم شرعي، وهم لا يعتدون برؤية الهلال وإثبات الشهور إلا بصدور حكم شرعي به، ولأجل ذلك يلفقون دعوى صورية يتوسلون بها إلى هذا الحكم. وهي طريقة مبتدعة منتقدة غرضهم منها إزالة الخلاف في إثبات الشهر، وصيام بعض الناس، وإفطار بعض في القطر الواحد، وفي البلد الواحد أيضًا، ولكن هذا لم يرفع الخلاف بين الأقطار البعيدة، ولا القريبة التي لا تختلف مطالع الهلال فيها. فما زال هذا الإثبات بهذه الطريقة يتخذ في كل محكمة شرعية من المحاكم، فتختلف أحكامها فيه، ويتعذر إبلاغ أسبقها حكمًا، وأحقها بالتقديم إلى سائر البلاد، فلهذا نقرأ في الجرائد كل عام أن أهل الشام صاموا يوم كذا، وأهل مصر يوم كذا، وأهل مكة يوم كذا إلخ يتفقون تارة، ويختلفون أخرى، ولا يرجعون إلى إمام واحد يتبعون حكمه. وأهل القطر المصري وملحقاته هم الذين يصومون ويفطرون في يوم واحد؛ لأن محاكمهم تعمل بخبر البرق كما حدث لنا اليوم، وقد تبرم الناس بهذا الإثبات اليوم؛ لأن جميع أهل المعرفة منهم يعتقدون أن هذا اليوم من شعبان، فإن ما أثبته الحاسبون من اليقينيات القطعية، وهو أصح وأثبت من تحديدهم لوقت طلوع الفجر من كل يوم الذي نعمل به في صيام كل يوم وصلاة فجره، والشهادة برؤية الهلال إذا انحصرت في واحد أو اثنين أو ثلاثة لا تفيد إلا الظن لكثرة مايقع فيها من الاشتباه. وقد وقع لي في بعض السنين، وأنا في سورية أن رأيت الشمس غربت كاسفة في اليوم التاسع والعشرين من شعبان، ثم شهد شاهدان ذوا عدل بعد غروبها بساعة زمانية أنهما رأيا الهلال، فحكم القاضي الشرعي بإثبات الشهر بالرؤية، ومن المعلوم باليقين أن رؤية الهلال كانت من المحال؛ لأنه غرب مع الشمس، فلا يمكن أن يكون عاد ورأياه، وأنا أعتقد أن ذينك الشاهدين لم يتعمدا الكذب فهما من أهل التقوى والعلم، ولكنهما تخيلا الهلال تخيلاً، ولأجل مثل هذا الاشتباه قال المحققون من الفقهاء في هذه المسألة: إن الشهادة برؤية الهلال في أيام الصحو لا تثبت إلا برؤية جمع كثير، وينبغي تقييد هذا بما إذا تراءى الهلال كثيرون كما هي العادة، وذلك أن العبرة في الرؤية رؤية معتدل البصر، لا أمثال زرقاء اليمامة في حدة البصر. وأما إكمال عدة الشهر ثلاثين فهو أضعف من شهادة الآحاد برؤية الهلال؛ لأن الأشهر القمرية وإن كان بعضها 29 وبعضها 30 كما هو معروف في الحساب ويشير إليه حديث: (الشهر هكذا وهكذا وأشار صلى الله عليه وسلم بالعقد إلى عددي 30 و 29) وهو في الصحيحين. قد يتتابع شهران منها تامين، وشهران ناقصين، والعمل بإكمال العدة في حال عدم رؤية الهلال، مقيدة في الحديث بما إذا غم علينا الهلال. والأصل في المسألة حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم - وللبخاري غبي - عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) هذا لفظ البخاري، ولم يذكر مسلم والجمهور لفظ: شعبان، وقال بعضهم: إنه تفسير من شيخ البخاري لا مرفوع. وفي رواية لأحمد والنسائي زيادة (وانسكوا لها) وزيادة (فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا) وفي حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي وغيرهما: (فان حال بينكم وبينه سحاب؛ فأكملوا عدة شعبان، ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً ولا تَصِلُوا رمضان بيوم من شعبان) وهو حديث صحيح، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: (لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له) ، وروي بلفظ آخر بمعناه. فهذه الأحاديث، وما في معناها تقيد العلم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا بما إذا غم الهلال، وغبي على الناس بأن حال دونه سحاب، ولم يكن أمس في السماء قزعة من سحاب، دع علم أهل العلم بأن الهلال لا يمكن أن يرى. وقد اختلف علماء السلف والخلف بما يجب عمله إذا لم ير الهلال، فقد روى الإمام أحمد، عن عبد الله بن عمر راوي الحديث الأخير أنه كان إذا مضى من شعبان 29 يومًا يبعث من ينظر، فإن رأى فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر؛ أصبح مفطرًا، وإن حال؛ أصبح صائمًا. وروى عنه الثوري في جامعه أنه قال: (لو صمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه) . وقال عمار بن ياسر: (من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم) ، ذكره البخاري تعليقًا، ورواه أصحاب السنن ما عدا ابن ماجه، وغيرهم موصولاً، وهو صريح في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم له، فهو مرفوع في المعنى. وجمهور السلف من علماء الصحابة والتابعين، وأئمة الأمصار على عدم صيام الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال، مع عدم المانع من رؤيته كالغيم والقتر، وقد صرحت به الأحاديث الصحيحة، وكان بعضهم يصومه احتياطًا، وهو منهي عنه في الأحاديث المتفق عليها، بل المروي بعضها عند الجماعة كلهم كما سيأتي، فعدم رؤية الهلال في حال الصحو دليل على عدم وجوده، وفي هذه الحالة لا نؤمر بإكمال شعبان 30 يومًا، وإنما نؤمر بذلك إذا وجد المانع من الرؤية كالغيم والضباب. وقال الحافظ - في شرح حديث: (لا تصوموا حتى تروا الهلال) إلخ -: وهو ظاهر في النهي عن صوم رمضان قبل رؤية الهلال، فيدخل فيه صورة الغيم وغيرها، ولو وقع الاقتصار على هذه الجملة لكفى بذلك لمن تمسك به، لكن اللفظ الذي رواه أكثر الرواة أوقع للمخالف شبهة، وهو قوله: (فإن غم عليكم فاقدروا له) فاحتمل أن يكون المراد: التفرقة بين حكم الصحو والغيم فيكون التعليق على الرؤية متعلقًا بالصحو، وأما الغيم فله حكم آخر، ويحتمل عدم التفرقة، ويكون الثاني مؤكدًا للأول، وإلى الأول ذهب أكثر الحنابلة، وإلى الثاني ذهب الجمهور اهـ. وقد ذكر المحقق ابن القيم في الهدي النبوي جملة الأحاديث الواردة في رؤية الهلال، أو إكمال شعبان إذا حال دون رؤيته سحاب أو قتر، والأحاديث في النهي عن صيام يوم الشك، أو آخر يوم من شعبان في غير الحالتين المنصوصتين آنفًا، ثم ذكر اختلاف عمل السلف في هذه الأحوال، ومداركهم التي ظاهرها اختلاف النصوص؛ إذ كان بعضهم يصوم آخر يوم من شعبان مع عدم تحقق إحدى الحالتين؛ لأجل الاحتياط، ولكن النهي يشمل الاحتياط كما سيأتي، ثم قال في آخر البحث: فهذه الآثار (أي: في ترك الصوم) إن قدر أنها معارضة لتلك الآثار التي رويت عنهم في الصوم فهذه أولى لموافقتها النصوص المرفوعة لفظًا ومعنى، وإن قدر أنها لا تعارض بينها، فههنا طريقان من الجمع: (أحدهما) : حملها على غير صورة الإغمام، أو على الإغمام في آخر الشهر كما فعله الموجبون للصوم، (والثاني) : حمل آثار الصوم عنهم على التحري والاحتياط استحبابًا لا وجوبًا. وهذه الآثار صريحة في نفي الوجوب، وهذه الطريقة أقرب إلى موافقة النصوص وقواعد الشرع. اهـ. وقال الحافظ في الكلام على حديث ابن عمر: (لا تصوموا حتى تروا الهلال) إلخ من الفتح ما نصه: قال ابن الجوزي في التحقيق: لأحمد في هذه المسألة - وهي ما إذا حال دون مطلع الهلال غيم أو قتر ليلة الثلاثين من شعبان - ثلاثة أقوال: (أحدها) يجب صومه على أنه من رمضان. (ثانيها) لا يجوز فرضًا ولا نفلاً مطلقًا، بل قضاء وكفارة ونذرًا ونفلاً يوافق عادة، وبه قال الشافعي، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز عن رمضان ويجوز عما سوى ذلك. (ثالثها) المرجع إلى رأي الإمام في الصوم والفطر. اهـ وذكر بعد ذلك أن عمل راوي الحديث يؤيد الأول، وقد تقدم ما ذكره عنه وهو لا يؤيد القول الأول مطلقًا بل في حال الإغمام، والراجح في هذه الأقوال الثاني، وأضعفها الأول. وأما الأحاديث في النهي عن صيام آخر يوم من شعبان فأشهرها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومًا فليصم ذلك الصوم) رواه الجماعة من حديث أبي هريرة، وفي بعض ألفاظه عند بعضهم: (لا تقدموا بين يدي رمضان بصوم - ولا تقدموا صوم رمضان بصوم - ولا تقدموا شهر رمضان بصيام قبله) ، قال الحافظ في شرحه للحديث من الفتح: قال العلماء: معنى الحديث: لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان. قال الترمذي لما أخرجه: (العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان) اهـ. واعتمد الحافظ مما قيل في حكمة هذا النهي قول من قال: إن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم. أقول: فعلم مما ذكرنا أن الحكم بإكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا مقيد بما إذا غم الهلال، وحال دون رؤيته مانع، وفي هذه الحال يقبل في إثبات الرؤية إخبار رجل عدل واحد؛ لاحتمال أنه لم يظهر من خلال السحاب إلا لحظة رآه فيها دون غيره، وخلاصة القول: إن إثبات أول رمضان هذا ليس عملاً بنص حديث الرؤية، وإنما هو عمل بقول تقليدي، يقابله قول من قال من الفقهاء بالعمل بالحساب واعتبار اختلاف المطالع، ولنا كلمة فيه. إن حكمة نوط الشارع أوقات العبادة من صلاة وصيام وحج بالرؤية معروفة لا تنكر، وحسنها لا يجحد، وذلك أن الإسلام دين عام للبشر، من بدو وحضر، ليس فيه رياسة دينية تقيد العبادات برجالها، وتخضع الدهماء لإرادتهم (أو هو دين ديمقراطي كما يقال في عرف هذا العصر) وناهيك بأنه ظهر أولاً في أمة أمية - كما ورد في الحديث الصحيح - فمن اليسر والاستقلال الشخصي فيه، وعدم الاختلاف أن تكون أوقات العبادات فيه مما يسهل على كل فرد من أهله أن يعرف طرفيها بنفسه، بدون توقف على شيء من العلوم والفنون التي لا يعرفها إلا بعض الناس في المدائن وأمصار الحضارة، أو على رياسة رجال يتحكمون في العبادة بأهوائهم. فأول وقت الفجر يعرف برؤية النور المستطي

أنباء العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء العالم الإسلامي (الحجاز ونجد) هما خير الأقطار الإسلامية في هذا العصر أمانًا في الأنفس والآفاق، وعدلاً في الأحكام، وطاعةً للإمام، وقد شرعت حكومة الحجاز السعودية في رصف الحجارة في المسعى بين الصفا والمروة لمنع الغبار، وتسهيل فريضة السعي على الحجاج، وهو عمل قد فضلت به هذه الحكومة جميع ما قبلها من حكومات الإسلام، وشرعت أيضًا في نشر التعليم، فناطت إدارة المعارف العامة بصديقنا الأستاذ الشيخ محمد كامل قصاب الشهير، فأنشأ المعهد السعودي العلمي الجامع للتعليم الديني والدنيوي وبعض اللغات الأجنبية، وناط إدارته بصديقنا الأستاذ الشيخ محمد بهجت البيطار فأحسن الاختيار، وأنشأ مدارس جديدة، وسنبين تفصيل ذلك في باب التربية والتعليم من جزء آخر، وإدارة الصحة هنالك مجدة في عملها. وقد انتشر صيت الإمام السعودي في بلاد الغرب، وزار ثغر جدة بعض الأوربيين والأميركانيين، فأثنوا عليه وعلى إدارته وأحكامه الإسلامية ثناءً لم يكن يتصوره أحد، حتى شبهه كاتب ألماني يراسل كثيرًا من صحف بلاده بالبرنس بسمارك أعظم ساسة أوربة في عصره، مع الشهادة بالنقل عن جميع قناصل الدول بصراحته وصدقه، وأثنى عليه وعلى حكمه الإسلامي المستر كراين سفير الولايات المتحدة في الصين من قبل، فقال: (لو رجع النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا لما رأى دينه الذي جاء به من النور والهدى إلا في بلاده نجد) . وقد نشر ثناؤهما في أشهر الجرائد المصرية. *** (اليمن) يسوءنا من أخبارها رسوخ أقدام الدولة الإيطالية فيها يومًا بعد يوم، بإقدام رجلها الطماع الطماح الضاري باستعمار البلاد العربية السنيور موسوليني الجريء، وما تلا تدخل هذه الدولة من استعداد الإمام يحيى للحرب والكفاح، ولا مجال للحرب هنالك إلا قتال جيرانه من العرب والمسلمين، ويقال: إن موعد زحف جيوشه على جاره السيد الإدريسي شهر شوال الآتي. أعاذ الله العرب والمسلمين من هذه الفتنة التي أجمعوا على كراهتها، والخوف من سوء عاقبتها، ولا نزال نستبعد على حكمة الإمام يحيى إيقاد نارها؛ لما نعهد من بصيرته وأخلاقه، وقد شرحنا ذلك في الجزء الماضي من المنار. *** (مصر) يعمل برلمانها عمله بهدوء واتفاق، وتسير حكومتها سيرها في إدارة البلاد، مؤيدة بتضامن الأحزاب، وهي تتمتع فيها باستقلال إداري تام، ولكنه مقيد بالامتيازات الأجنبية، والمراقبة البريطانية، وقد رزئت البلاد بعسرة مالية، كانت عثرة في سبيل الغلو الفاحش في الإسراف والزينة، وانتشر وباء الإلحاد، وفساد الأخلاق، وتهتك النساء، وفشو المسكرات والمخدرات، فهو يفتك بالأرواح والأجساد، ويجرف ثروة البلاد، وقد أبت النيابة محاكمة داعية هذا الإلحاد ولوازمه القاتلة الدكتور طه حسين، وأبت وزارة المعارف إخراجه من مدرسة الجامعة، فنابتة الجامعة المصرية الجديدة خطر عظيم على مصر. *** (العراق) تسير حكومته كما تحب الدولة البريطانية وترضى في الظاهر، والشعب مضطرب الباطن، وأداء فريضة الحج ممنوع إرضاءً للملك فيصل وأخيه، وتغليبًا لأهواء متعصبي الشيعة، وقد حدثت في بغداد ثورة مدرسية فصحفية أيدها أحرار البلاد بسبب اضطهاد وزير المعارف الشيعي لأستاذ سوري ألف كتابًا في التاريخ يفضل به خلافة معاوية على خلافة أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه، وذكر رأيه هذا في المدرسة للطلبة، فهاجت التلاميذ من الشيعة؛ فعزله الوزير، وعزل سائر المدرسين السوريين، وأخرجتهم الحكومة من البلاد العراقية، وعزلت بعض المدرسين البغداديين أيضًا، وطردت بعض الطلبة المتظاهرين لحرية العلم على الوزارة طردًا، هكذا بلغتنا الحادثة ولم نر الكتاب المذكور. *** (سورية) تنتظر البلاد السورية ما عسى أن يكون من دراسة المندوب السامي الأخير (موسيو بونسو) لأحوالها، وسماعه لآراء كبرائها وأحزابها، وزعماء الثورة ينتظرون مع الأمة آخر أمل لهم في وحدة البلاد وحريتها واستقلالها؛ فلذلك هدأت الثورة , ولكن لم تنطفئ جذوتها. *** (فلسطين) أسوأ ما يسوء من حوادثها تخاذل المسلمين بعد اتحاد كان مثار الإعجاب، ومضيّ المستعمرين في عملهم بمنتهى النجاح، ودخول الصهيونيين لمأربهم الأسمى من كل باب، وقيام الأمير عبد الله (الحسين علي) بخدمته لمستعمليه على شرق الأردن بمنتهى الاجتهاد، فقد قضى على استقلالها، وجعلها ملحقة بفلسطين في انتدابها، واقتطع بالتواطؤ مع أخيه (علي) الذي كان مملَّكًا في جدة قطعة من أثمن أرض الحجاز المقدسة، فألصقها بها، ومكن بها الأجانب مقاتلها، بل مقاتل الحجاز أيضًا، وألقى الشقاق بين أعرابها وبين جيرانهم من أهل نجد والحجاز إلخ " وكل الصيد في جوف الفرا ". *** (جاوه) مسلمو جاوه يسيرون في نشر العلم والإصلاح في بلادهم سيرًا حسنًا , ولم تؤثر في بلادهم دعاية الرفض والشقاق شيئًا، ولكن حدث في بلادهم ثورة بلشفية لم تكن منتظرة منهم؛ لأن هداية الإسلام أقوى من نزعات التفرنج فيهم، وقد نكلت حكومتهم الهولندية بكثير من رجال الثورة والمتهمين بها، فنحن ننصح لرجال الدين أن يبينوا للشعب ما بين البلشفية والإسلام من الخلاف والتباين، وننصح للحكومة الهولندية أن تكف من غلواء دعاة النصرانية في هذه البلاد , فإنه لا شيء يبغضها إلى المسلمين ويعدهم لقبول الثورات البلشفية , وغيرها من الفتن إلا الطعن في دينهم , واضطهادهم فيه. وليعلم أحرار هذه الأمة أن نقل شعب مسلم من أفق التوحيد إلى حظيرة التثليث غاية لا تدرك، وأكبر ما فعله دعاة النصرانية في البلاد الإسلامية تشكيك بعض المسلمين في دينهم , وفي كل دين بالأولى، ومتى ضاع دين المسلم صار قابلاً لجميع الآراء والأفكار العصرية، التي هي أشد خطرًا على الدول الاستعمارية بما حدث في الشرق من اليقظة العامة والجرأة التامة. *** (الهند) كان مسلمو الهند في السنين التي تلت الحرب أحسن حالاً مما كانوا قبلها في اتفاقهم مع الوثنيين من أهل وطنهم على الحكومة الإنكليزية، كما كانوا أحسن حالاً في شؤونهم الإسلامية الخاصة بهم، فساء الحالان كلاهما في هذا العام، واشتد الشقاق والخصام، ومما ينتقد على أهل الهند في مسألتهم الوطنية أن أكبر مثار للشقاق بين المسلمين والهندوس هو إصرار المسلمين على ذبح البقر على مرأى من الهندوس وأكلها، ومرور هؤلاء بمعازفهم على مساجد أولئك للتهويش عليهم في أثناء صلواتهم، ولو ترك كل من الفريقين ما يسوء الآخر من هذين الأمرين لم يكن آثمًا في حكم دينه، والأولى بالإثم من يعمل عملاً مباحًا في الدين وهو يعلم أنه يفضي إلى شقاق وقتال تسفك فيه الدماء , إن الله تعالى أحل للمسلمين أكل البقر , ولم يفرضه عليهم، وإن أكثر المسلمين الذين عرفنا بلادهم لا يأكلون لحم البقر , ولا يحرمونه. وأما الشقاق بين المسلمين أنفسهم , فقد بدأ بإثارته غلاة التعصب من الشيعة , واستخدموا جمعية خدام الحرمين في (لكهنو) ، ولكن تأثير هؤلاء بدعاية ملكي مكة الشريف حسين وولده الشريف علي كان ككيد الشيطان ضعيفًا، فنفخ في ناره الزعيمان السياسيان شوكت علي ومحمد علي بتحولهما عن سياستهما السابقة في تأييد ابن السعود إلى سياسة الإسراف والإفراط في عداوته؛ لأنه لم ينفذ لهما رأيهما في جعل حكومة الحجاز جمهورية بالشكل الذي يقترحانه، وهو ما لا يوافقهما عليه العالم الإسلامي , وإنما يوافقهم عليه الشيعة وبعض المقلدين لهما من عوام الهنود، وسنبين ذلك بالتفصيل في رحلتنا الحجازية إن شاء الله تعالى. ونقول هنا: إنه لا يوجد شيء أضر على الأمم والشعوب من الخلاف والشقاق، فإن فرضنا أن رأي الزعيمين الكبيرين حسن في نفسه، فإن مساوي الوسيلة التي يتوسلان بها إليه تزيد على حسنه أضعافًا كثيرة، وهذه المساوي دينية وسياسية، من أقبحها تجديد النزاع والتباغض بين أهل السنة والشيعة بعد أن خبت نارهما بسعي العقلاء المصلحين، بدعوة حكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني ومريديه من الفريقين - ولعلنا أشدهم اجتهادًا في ذلك - ومنها الدعوة إلى ترك أداء فريضة الحج ما دام ابن سعود مستوليًا على الحجاز، ومن استحل هذا يرتد عن الإسلام بإجماع أهل السنة والشيعة , وقد كان من مفاسد هذا الشقاق سعي بعض الهنود لدى الدولة البريطانية بقتال ابن السعود في حرم الله ورسوله , وإخراجها إياه منه. وزعيم هذه الجناية على الإسلام والمسلمين زعيم الشيعة محمد علي راجا محمود آباد - فهل يجهل أجهل مسلم في الدنيا أن خصوم ابن السعود أعدى أعداء الإسلام؟ ؟

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات مجلات جديدة (لغة العرب) (مجلة شهرية أدبية علمية تاريخية - بيد الآباء الكرمليين المرسلين. صاحب امتيازها الأب أنستانس ماري الكرملي) . أنشئت هذه المجلة ببغداد سنة 1329 الموافقة سنة 1911، وصدر الجزء الأول في منتصف هذه السنة الميلادية , وقرظناها في الجزء الثامن من المجلد الرابع عشر , واستمرت ثلاث سنين , ثم حجبت في سنة 1914 ميلادية بسبب الحرب العظمى ونكباتها , وقد استؤنف إصدارها في منتصف السنة الماضية (1926) , وهي تصدر في بغداد كل شهر (وبدل اشتراكها في بغداد 12 ربية (هندية) , وفي الديار العربية اللسان 13 ربية، وفي الديار الأجنبية 15 ربية تدفع كلها سلفًا) , فعسى أن تلقى في جميع البلاد العربية , وعند أهل العلم والأدب العربي في كل قطر ما تستحقه من الرواج، ويكافئ عناية صاحب امتيازها المدقق بهذه اللغة الجليلة. *** (الجامعة) مجلة علمية تاريخية فلسفية أدبية تصدر في بغداد من قبل المدرسة العالية التي أنشئت في ضواحي بغداد باسم (جامعة آل البيت) , وفي طرتها أنها مختصة بمحاضرات الأساتذة , ومقالات المنتمين إلى الجامعة، وأنه يقوم بطبعها طلبة الجامعة، وأنها تصدر في الشهر مرة أو مرتين، وأن بدل الاشتراك فيها عن اثني عشر عددًا 15 ربية (هندية) , وقد صدر العدد الأول منها في 30 شعبان سنة 1344 الموافق 15 آذار (مارس) سنة 1926 , وصفحاته 96 من القطع الكامل , وصدر العدد الثاني في 5 صفر سنة 1345 الموافق 15 آب (أغسطس) , ولم نطلع على غير هذين العددين. جامعة آل البيت هذه أثر للملك فيصل يحفظه له التاريخ , فهو الذي اقترحها , وينفذ اقتراحه بالتدريج , وسنتكلم عنها في فرصة أخرى بعد الوقوف على ما يجب من شؤونها , وفي المجلة جل المباحث العلمية منه , وإن لنا لعودة إليه إن شاء الله تعالى. *** (الوحي) مجلة شهرية تبحث في الأدب والدين لمنشئيها: محمود عثمان، وزاكي عثمان تصدر في مدينة (حماه) ، وقيمة اشتراكها في حماه وسورية 40 قرشًا ذهبًا , وفي بقية الأقطار 30 قرشًا مصريًّا , ويحسم ربع القيمة لمعلمي المدارس وتلاميذها , والجزء منها مؤلف أربع كراريس (ملازم) من القطع الوسط (أي: 32 صفحة) . *** (مرآة المحمدية) مجلة اجتماعية أخلاقية تصدر مرة في كل شهر أصدرها مؤلفات الكتب للجمعية المحمدية في (جكجاكرتا - جاوه) باللغة العربية في هذا العام , فصدر العدد الأول منها في عاشر ربيع الأول منه , ومحررها السيد (محمد علي قدس) ومديرها المالي السي (محمد أسلم بن زين الدين) , وهي ترسل لكل من يطلبها مجانًا؛ لأن اشتراكها على أريحية المحسنين , فبارك الله بمحسني الجاويين. وأما الجمعية المحمدية نفسها فقد أُلِّفت منذ بضع عشرة سنة بإرشاد داعية الإصلاح الحاج أحمد دحلان - رحمه الله تعالى - ونجحت نجاحًا عظيمًا، ولها في مركزها العام مكتبة مفتوحة للمطالعين فيها المختارات النافعة من المطبوعات العربية والجاوية , وقد أنشأت جماعة النساء المنتسبات إلى الجمعية مسجدًا خاصًّا بهن يصلين فيه الصلوات , وللجمعية أيضًا فرقة كشافة تتولى تربيتها على الأساليب الحديثة زادها الله نجاحًا وتوفيقًا. *** (التمدن الإسلامي) مجلة تبحث في الدين والأدب وشؤون الاجتماع، شعارها: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) , أنشأها في طرابلس الشام كل من عبد الحليم بك مراد صاحب الامتياز بها والمدير المسؤول عنها , وعبد الله أفندي الشامي رئيس تحريرها , وهي تصدر في كل شهر قمري مرتين , كل جزء منها عشرون صفحة كبيرة , وقيمة الاشتراك فيها مدة سنة كاملة ثلاثون قرشًا سوريًّا ذهبًا في سورية، وخمسون قرشًا في خارجها , وقد رأينا فيما صدر منها مقالات في أهم المسائل الإسلامية التي تهم مسلمي هذا العصر لعلماء طرابلس وأدبائها، تبشر بإمدادهم إياها , وعنايتهم بها، فنتمنى لها سعة الانتشار والتوفيق. *** (الكشاف) مجلة علمية أدبية مصورة غايتها: الاجتماعي عن طريق التربية والتهذيب , يصدرها في بيروت مقر الكشاف العام. مديرها المسئول محمود أفندي أحمد عيتاني، ومدير شؤونها بهاء الدين أفندي الطباع، واشتراكها السنوي في البلاد السورية 75 قرشًا ذهبيًّا , وفي الخارج عشرون شلنًا (جنيه إنكليزي) , وللكشافة في سورية 60 قرشًا , وفي الخارج 17 شلنًا , وقد صدر الجزء الأول منها في رجب الماضي في 64 صفحة حافلة بالفوائد. والرجاء في ثباتها , والانتفاع بها قوي بهمة الكشافة , واستعداد الشعب. *** (اللطائف العصرية) مجلة علمية أدبية روائية فكاهية تصدر في بيروت مرتين في الشهر- لصاحبها عبد الرحمن أفندي عكاوي مديرها المسؤول , وعزت أفندي الطيان , واشتراكها السنوي 40 قرشًا ذهبًا في سورية ولبنان , وفي الخارج 75 قرشًا , أو ما يعادلها قروشًا سورية , مع خصم 15 بالمائة لطلبة المدارس ومعلميها. كان صدر منها بضعة أجزاء , ثم حجبت عن قرائها , ثم عادت إلى الظهور , وبين يدينا الآن الجزآن 8 و 9 , وينتهيان بالصفحة 2889 , وقد صدرا في جمادى الآخرة من هذا العام. *** (غابر الأندلس وحاضرها) تاريخ وجيز للأستاذ محمد كرد علي أفندي رئيس المجمع العلمي في دمشق، أودعه خلاصة تاريخية جامعة مفيدة مما طالعه في الكتب العربية , والإفرنجية في ذلك التاريخ العربي الذهبي في بدايته , الناري في نهايته , ومما أُطلِعَ عليه واستفاده في سياحته , وقد طبع سنة 1341 بالمطبعة الرحمانية بمصر , وثمن النسخة منه خمسة قروش. *** (مجلة كلية الحقوق) للمباحث القانونية والاقتصادية , يصدرها في مصر جماعة من كبار رجال القوانين , وطلبة كلية الحقوق , ورئيس تحريرها الأستاذ حسني عبده الشنتناوي , وقد صدر الجزآن الأولان منها , وفي صدورهما مقالان لصديقنا الأستاذ الشيخ أحمد إبراهيم مدرس الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق , أفقه فقهاء مصر في هذا العصر , فهو من محرري هذه المجلة , وهي تطبع على ورق جيد من القطع الكامل, ومن الغريب الشاذ أن الأرقام العددية لصحائفها غير متسلسلة في أجزائها , بل جعل للجزء الثاني أرقامًا مستأنفة كأنه كتاب مستقل. *** (البلاغ الجزائري) جريدة علمية إرشادية دفاعية , يصدرها في مدينة الجزائر مديرها وصاحب امتيازها السيد حدوني محمد بن محيي الدين في ورقة ذات صفحتين، وهي تُنَوِّهُ بالصوفية , وتدافع عن مشايخ الطرق الذين قامت عليهم قيامة أهل هذا العصر من المسلمين , وقيمة اشتراكها في الجزائر 30 فرنكًا , وفي بقية الأقطار 35 فرنكًا.

حكمة تعدد أزواج النبي (ص)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكمة تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي الفتوى الثالثة الخاصة بنا في هذا المجلد نشرنا في الجزء الماضي سؤالاً عن حكمة تعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، بإمضاء الباحثة الفاضلة (بهيجة ضيا) من طنطا , كان أجابها عنه الأستاذ الشيخ محمود غراب وأرسلت إلينا جوابه؛ لنبين رأينا فيه، فنشرناه ووعدنا بالعود إلى إبداء رأينا فيه بعد ما سبق لنا من بيان ذلك في المنار والتفسير فنقول: إن ما أجاب به الأستاذ المذكور حسن , ولكن يتوقف تحقيقه من كل وجه على العلم بتاريخ نزول آية حصر تعدد الأزواج في أربع , وآية تخيير الرسول صلى الله عليه وسلم لأزواجه. ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن التخيير كان سنة تسع من الهجرة، ولم نقف على تاريخ نزول آية سورة النساء في التعدد، إلا أن المذكور في كتب المصاحف أن سورة الأحزاب المشتملة على آية التخيير قد نزلت قبل سورة النساء، فإن كانت سورة الأحزاب نزلت دفعة واحدة لكان التخيير وقع قبل تقييد التعدد بالأربع , وقد ورد أن غيلان بن سلمة الثقفي لما أسلم كان عنده عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعًا، وكان إسلامه عند فتح الطائف بلده سنة ثمان من الهجرة، وروي أن قيس بن الحارث أسلم وله ثمان نسوة؛ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك أربعًا منهن أيضًا، ولكننا لا نعرف سنة إسلامه، وكان آخر زواج له صلى الله عليه وسلم هو زواج ميمونة في أواخر سنة سبع , وذلك بعد نزول سورة النساء فيما يظهر. وقد اتفق العلماء على خصائصه صلى الله عليه وسلم , وأن منها عدم التقييد بالأربع , وذهب بعضهم إلى نسخ تحريم النساء عليه بعد اختيار أزواجه التسع له، ولكن هذا ضعيف بالرغم من ترجيح بعض المتأخرين له، والتحقيق المختار أنها محكمة , وأن الله تعالى حرم عليه أن يتزوج على نسائه التسع اللاتي خيرهن فاخترن الله ورسوله , أو أن يستبدل بهن غيرهن بالطلاق كما يباح لغيره , وهذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن البصري وابن سيرين وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن زيد وابن جرير. قاله في فتح البيان ورجح غيره. ومن أدلة الأول ما رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم , عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه في قوله تعالى: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} (الأحزاب: 52) قال: (ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل، وقد كان ينكح بعدما نزلت هذه الآية ما شاء) قال: (ونزلت وتحته تسع نسوة , ثم تزوج بعد أم حبيبة - رضي الله عنها - بنت أبي سفيان , وجويرية بنت الحارث. اهـ. وأقول: إن هذا غلط , والرواية معلقة فيما يظهر؛ لأن التخيير كان سنة تسع من الهجرة كما تقدم آنفًا، وكان تزوجه بجويرية بنت الحارث سنة خمس وبأم حبيبة سنة ست , وقيل سبع , وهما من التسع اللاتي خيرهن كما رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة والحسن قالا: (وكان تحته تسع نسوة: خمس من قريش عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية , وأما الأربع الباقيات فهي: صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجورية بنت الحارث من بني المصطلق (قالا أو قال قتادة) : وبدأ بعائشة , فلما اختارت الله ورسوله والدار الآخرة رؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتابعن كلهن على ذلك، فلما خيرهن واخترن الله ورسوله والدار الآخرة شكرهن الله على ذلك أن قال: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الأحزاب: 52) فقصره الله عليهن وهن القسم اللاتي اخترن الله ورسوله. اهـ. وخبر التخيير والبدء بعائشة في الصحاح، وذكره البخاري في عدة مواضع. وأما الشق الثاني من سؤال الباحثة الفاضلة (بهيجة ضيا) وهو السبب , أو الحكمة في تزوجه صلى الله عليه وسلم بغير السيدة زينب بنت جحش المعروف سبب زواجها بالنص , وهو ما لم يقل فيه الشيخ محمود الغراب شيئًا , فقد سبق لنا بيانه في المجلد الخامس من المنار في تفسير آية النساء، من جزء التفسير الرابع , فنعيده مع زيادة في الفائدة , فنقول: إن أول امرأة تزوجها صلى الله عليه وسلم بعد خديجة هي سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية العامرية، وأمها الشموس بنت قيس بن زيد الأنصارية من بني عدي ابن النجار، وهي من المؤمنات السابقات إلى الإيمان المهاجرات الهاجرات لأهاليهم خوف الفتنة في دينها، توفي زوجها، وهو ابن عمها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، ولو رجعت إلى أهلها لعذبوها ليفتنوها عن الإسلام كغيرها , فاختار صلى الله عليه وسلم كفالتها , وتزوج بها في مكة عام الهجرة، وفي هذا الاختيار تأليف لبني عبد شمس أعدائه , وأعداء بني هاشم كلهم من قبله، وتشريف لبني النجار أخوال عترته الهاشمية وأكرم أنصاره، وقد هاجر على أثر بنائه بها إلى المدينة. روى عنها ابن عباس وغيره. وفي السنة الثانية من الهجرة تزوج بعائشة بنت أبي بكر الصديق الأكبر , وأول من آمن به من الرجال، وفداه بالنفس والمال، وصاحبه في الغار، ورفيقه الوحيد في الهجرة من الدار، ولم يتزوج بِكْرًا غيرها، وكانت من أذكى البشر عقلاً، وأزكاهم نفسًا، وهي أكثر أمهات المؤمنين وغيرهن روايةً وفقهًا في الدين. وفي السنة الثالثة , وقيل الثانية: تزوج حفصة بنت عمر بن الخطاب وزيره الثاني بعد أبي بكر، وأعز صحبه، ومظهر دينه، وكان عمر عرضها بعد وفاة زوجها الأول على أبي بكر (رضي الله عنهما) , فعلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم , فاختارها لنفسه؛ ليساوي بين وزيريه في تشريفهما بمصاهرته، ولم يكن من الممكن أن يكافئهما في هذه الحياة الدنيا بأكبر من هذا الشرف , ويقابل ذلك إكرامه لعثمان وعلي (رضي الله تعالى عنهما) بتزويجهما ببناته، وهؤلاء الأربعة أعظم أصحابه في حياته، وخلفاؤه في إقامة دينه ونشر دعوته بعد وفاته , روى عن حفصة أخوها عبد الله بن عمر وابنه حمزة وزوجه صفية وكثيرون. وفي السنة الثالثة , وقيل الخامسة: تزوج زينب بنت جحش الأسدية , وهي ابنة عمته أميمة , بعد أن زوجها بمولاه (عتيقه) زيد بن حارثة الذي كان تبناه في الجاهلية , فلما حرم الله التبني في الإسلام، وأبطل كل ما كان يتعلق به من أحكام، ومن أهمها: تحريم زوجة الدعي على متبنيه كحرمتها على والده , وكان العمل بإلغاء هذه الأحكام شاقًّا على الأنفس , لا يسهل على الجمهور إلا إذا بدأ به من يشرف كل كبير وصغير بالاقتداء به , فلا يعيره أحد , أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يزوج زيدًا بزينب هذه؛ لعلمه تعالى بأنهما لا يثبتان على هذه الزوجية؛ لأنها بطبعها ونسبها تترفع عليه , وتسيء عشرته , ففعل , فاشتد الشقاق بينهما , فطلقها , فأنزل الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (الأحزاب: 37) الآية. ولشيخنا مقال طويل في هذه المسألة , ولنا مقال وضحناه فيه , وهما منشوران في المجلد الرابع من المنار , ومع تفسير سورة الفاتحة الذي طبع مرارًا. وفي سنة أربع تزوج بهند أم سلمة بنت أبي أمية المخزومية، وكان أبوها من أجواد العرب المشهورين، وتزوجت ابن عمها عبد الله بن عبد الأسد المخزومي وكان من السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم بعد عشرة أنفس، وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وكان أول من هاجر إلى الحبشة، وكانت معه، وولدت له سلمة في أثناء ذلك , ثم عاد إلى مكة، ولما أراد الهجرة بها إلى المدينة صدها قومها، وانتزعوها منه هي وابنها سلمة، ثم انتزع بنو عبد الأسد آل زوجها ابنها سلمة من آلها بالقوة حتى خلعوا يده، فكانت كل يوم تخرج إلى الأبطح تبكي، حتى شفع فيها شافع من قومها، فأعطوها ولدها، فرحَّلت بعيرًا، ووضعت ابنها في حجرها، وهاجرت عليه؛ فكانت أول امرأة هاجرت إلى الحبشة، ثم كانت أول ظعينة هاجرت إلى المدينة , وكانت تجل زوجها أيما إجلال، حتى إن أبا بكر وعمر خطباها بعد وفاته من جرح أصابه في غزوة أحد، فلم تقبل، وعزاها النبي صلى الله عليه وسلم عنه بقوله: (سلي الله بأن يؤجرك في مصيبتك ويخلفك خيرًا) فقالت: ومن يكون خيرًا من أبي سلمة؟ فلم ير لها - صلوات الله تعالى عليه وعلى آله - عزاءً ولا كافلاً لها ولأولادها ترضاه غيره، ولما خطبها لنفسه اعتذرت بأنها مسنة، وأم أيتام، وذات غيرة، فأجاب صلى الله عليه وسلم بأنه أكبر منها سنًّا، وبأن الغيرة يذهبها الله تعالى، وبأن الأيتام إلى الله ورسوله , فالنسب الشريف، والسبق إلى الإسلام، والمتانة فيه، وعلو الأخلاق، وكفالة الأيتام لمثل هذا البيت كل منها سبب صحيح لاختيار صاحب الخلق العظيم المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق لهذه المرأة الفضلى، على أن لها فوق ذلك فضيلة أخرى هي جودة الفكر وصحة الرأي، وحسبك من الشواهد على هذا استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لها في أهم ما أحزنه، وأهمه من أمر المسلمين في مدة البعثة، وما أشارت به عليه، ذاك أن الصحابة رضي الله عنهم كان قد ساءهم صلح الحديبية الذي عقده صلى الله عليه وسلم مع المشركين، على ترك الحرب عشر سنين بالشروط المعلومة التي تدل في ظاهرها على أن المسلمين مغلوبون، ولم يكونوا بمغلوبين، وإنما حبه صلى الله عليه وسلم للسلم، ولاختلاط المسلمين بالمشركين، وكان دونه خرط القتاد , كان من أثر هذا الاستياء أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالتحلل من عمرتهم بالحلق أو التقصير، والعود إلى المدينة، فلم يمتثل أمره أحد، فلما استشارها رضي الله عنها في ذلك وقال: (هلك الناس) هونت عليه الأمر وأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويحلق رأسه، وجزمت بأنهم لا يلبثون أن يقتدوا به، وكذلك كان. وروى عنها كثيرون من الرجال والنساء، فهي تلي عائشة في كثرة الرواية. وفي سنة خمس تزوج برة بنت الحارث سيد بني المصطلق وسماها جويرية، وكان أبوها هو وقومه قد ساعدوا المشركين على المؤمنين في غزوة أحد سنة أربع , ثم بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجمع الجموع لقتاله؛ فخرج له , فالتقى الجمعان في المريسيع وهو ماء لخزاعة , فأحاط بهم المسلمون , وأخذوهم أسرى بعد قتل عشرة منهم , وكانت برة بنت سيدهم في الأسرى , فكاتب عليها من وقعت في سهمه , فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم , فتعرفت إليه بأنها بنت سيد قومها , وذكرت بلاياها , واستعانته على كتابتها لتحرير نفسها فقال: (أو خير من ذلك؟ أؤدي عنك كتابتك , وأتزوجك) ، قالت: نعم. ففعل، فقال المسلمون: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأعتقوا جميع الأسرى والسبايا، فأسلموا كلهم، فكانت أعظم امرأة بركة على قومها، وكان لهذا العمل أحسن التأثير في العرب كلها. وروي أن أباها جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنتي لا يسبى مثلها، فخل سبيلها. فأمره صلى الله عليه وسلم أن يخيرها، فسر بذلك، فخيرها؛ فاختارت الله ورسوله، وكانت من أعبد أمهات المؤمنين، وروى عنها ابن عباس وجابر وابن عمر وعبيد بن السباق وابن أختها الطفيل وغيرهم. وفي سنة ست، تزوج صفية بنت حيي بن أخطب الإسرائيلية ذرية نبي الله هارون أخي موسى عليهما السلام، كانت من بني النضير، وأسرت بعد قت

مال الزكاة لإعانة المدارس الخيرية الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مال الزكاة لإعانة المدارس الخيرية الإسلامية (س4) من صاحب الإمضاء في بلدة الشيخ سعيد (عدن) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، المقتدى بهم - رضي الله عنهم - فيمن دفع شيئًا من زكاة ماله المفروضة لإعانة مدرسة خيرية , تعلم أولاد الفقراء العاجزين عن أجرة تعليم القرآن والكتابة والنحو والصرف والحساب والفقه , وغيره من العلوم الشرعية , هل تجزئ الدافع , وتسقط عنه الفرضية لمشروعنا المذكور , أم لا؟ أفيدونا زادكم الله علمًا وهدًى. ... ... ... ... ... ... ... السائل عبد الله بن عمر مدحج ناظر الإدارة والمدرسة الإسلامية في بلدة الشيخ عثمان من ملحقات عدن. (ج) الجمهور على أن الإنفاق على المدارس ليس مصارف الزكاة الثمانية، وهنالك قول بأن قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 195) عام يشمل ما يرضي الله تعالى من أعمال البر , ويدخل فيه التعليم المشروع , واختاره شيخنا الأستاذ الإمام , ومن يقلد الجمهور يمكنه أن يعطي ما يريد إنفاقه على تعليم أولاد فقراء المسلمين لأوليائهم إن كانوا قاصرين لينفقوه على تعليمهم , ولهم أنفسهم إن كانوا راشدين , والله أعلم وأحكم.

سماع الغناء والتلاوة من آلة الفونغراف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سماع الغناء والتلاوة من آلة الفونغراف (س5) من صاحب الإمضاء في دنقلا (السودان) حضرة صاحب الفضل والفضيلة، الأستاذ الجليل، العلامة السيد محمد رشيد رضا , حفظه سرمدًا، وجعله منارًا للأنام ومرشدًا، وبعد: أريد أن أوجه لفضيلتكم سؤالاً لإرشادنا بالإجابة عنه للوقوف على الحقيقة، وها هو السؤال، ونرجو نشره في مجلتكم المنار الغراء: ما قولكم - دام فضلكم - في الغناء بالآلة المسماة بالفونوغراف، هل هو محرم أو مكروه؟ وإن كان، فما نوع الكراهة؟ وما حكم قراءة القرآن به؟ هل يترتب عليها ما يترتب على القارئ من نحو سجود التلاوة، أو الموانع التي تترتب على منع القارئ من القراءة؟ وهل يجوز استعماله إن كان لا يمنع صاحبه من أداء الفرائض في أوقاتها كالصلاة، ونحوها مع حفظ مجلسه من استعمال المحرمات فيه كالخمر وما شاكله، وإنما يقصد مسمعه منه ترويح النفس من عناء الأعمال، وإدخال السرور على المستمعين له من الأصدقاء والأحباب والأهل والعشيرة؟ أفيدونا الجواب، ولكم الأجر والثواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ودمتم في حفظه تعالى. ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... محمود حسين الحكم طالب علم بدنقلا (ج) سبق لنا فتوى في سماع القرآن من الفونغراف، وما يتعلق من الأحكام، نشرت في (ج6: م 10 من المنار سنة 1325) ، ذكرت فيها أن بعض أصحاب العمائم تجرأ على القول بإباحته مطلقًا، وأن شيخنا الأستاذ الإمام كان يتأثم من ذلك مطلقًا، وأن الأقرب أن يكون ذلك تابعًا لقصد المستعمل للآلة، فإذا قصد بذلك الاتعاظ والاعتبار بسماع القرآن؛ فلا وجه لحظره، وإذا قصد به التلهي، وهو ما عليه الجماهير في كل ما يسمعونه من الفونغراف؛ فلا وجه لاستباحته، وأخشى أن يدخل صاحبه في عداد الذين اتخذوا دينهم هزوًا ولعبًا، وذكرت بعض الآيات في هذا المعنى، وأنه يترتب على ما ذكر كل ما يتعلق به من وجوب احترام الألواح التي تنقش فيها آيات القرآن، وسجود التلاوة، وغير ذلك. هذا، وإنني لا تطيب نفسي لاستعمال الفونغراف في تلاوة القرآن، ولكن تحريمه على من يمكن أن يتعظ به ويستفيد ليس بالأمر السهل. وأما سماع الغناء والشعر من هذه الآلة، فحكمه حكم السماع من مُغَنٍّ ليس في غنائه فتنة، ولا تحريض على معصية، ولا شغل عن واجب، وهو في هذه الحال التي تسألون عنها مباح، ومن العلماء من شدد في السماع، ولا سيما للمعازف تشديدًا عظيمًا، وقد محصنا المسألة في المجلد التاسع من المنار بذكر أدلة الحظر والإباحة كلها وترجيح الحق فيها، وهو الإباحة.

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما قبله) (2) فصل الخلاف في السفر الشرعي، وحكمه: السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق , ثم قد تنازع الناس في جنس السفر وقدره , أما جنسه فاختلفوا في نوعين: (أحدهما) حكمه , فمنهم من قال: (لا نقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو) , وهذا قول داود وأصحابه إلا ابن حزم، قال ابن حزم: وهو قول جماعة من السلف , كما روينا من طريق ابن أبي عدي، حدثنا جرير , عن الأعمش , عن عمارة بن عمير , عن الأسود , عن ابن مسعود , قال: (لا يقصر الصلاة إلا حاج , أو مجاهد) , وعن طاوس أنه كان يُسأَلُ عن قصر الصلاة , فيقول: (إذا خرجنا حجاجًا , أو عُمَّارًا؛ صلينا ركعتين) , وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يرى القصر إلا في حج , أو عمرة , أو جهاد. وحجة هؤلاء أنه ليس معنا نص يوجب عموم القصر للمسافر , فإن القرآن ليس فيه إلا قصر المسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا , وهذا سفر الجهاد , وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حجه وعُمَرِه وغزواته , فثبت جواز هذا , والأصل في الصلاة الإتمام , فلا تسقط إلا حيث أسقطتها السنة. ومنهم من قال: لا يقصر إلا في سفر يكون طاعة , فلا يقصر في مباح كسفر التجارة. وهذا يذكر رواية عن أحمد، والجمهور يجوزون القصر في السفر الذي يجوز فيه الفطر، وهو الصواب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة) ، رواه عنه أنس بن مالك الكعبي، وقد رواه أحمد وغيره بإسناد جيد، وأيضًا فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره , عن يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) فقد أمن الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه , فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك , فقال: (صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته) , وهذا يبين أن سفر الأمن يجوز فيه قصر العدد، وإن كان ذلك صدقة من الله علينا أمرنا بقبولها. وقد قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد: إن شئنا قبلناها , وإن شئنا لم نقبلها , فإن قبول الصدقة لا يجب؛ ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين , وهذا غلط , فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقبل صدقة الله علينا , والأمر للإيجاب , وكل إحسانه إلينا صدقة علينا , فإن لم نقبل ذلك؛ هلكنا , وأيضًا فقد ثبت عن عمر بن الخطاب أنه قال: (صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم , وقد خاب من افترى) ، كما قال: (صلاة الجمعة ركعتان , وصلاة الأضحى ركعتان , وصلاة الفطر ركعتان) ، وهذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن للمسلمين الصلاة في جنس السفر ركعتين , كما سن الجمعة والعيدين , ولم يخص ذلك بسفر نسك , أو جهاد , وأيضًا فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر) , وهذا يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط , وحينئذ فما أوجب الله على المسافر أن يصلي أربعًا , وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه أربع، وحينئذ فمن أوجب على مسافر أربعًا , فقد أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله. فإن قيل: قوله: وضع، يقتضي أنه كان واجبًا قبل هذا , كما قال: إنه وضع عنه الصوم , ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط , لكن لما انعقد سبب الوجوب , فأخرج المسافر من ذلك؛ سمي وضعًا لأنه كان واجبًا في المقام , فلما سافر وضع بالسفر , كما يقال: من أسلم وضعت عنه الجزية , مع أنها لا تجب على مسلم بحال، وأيضا فقد قال صفوان بن محرز: قلت لابن عمر: (حدثني عن صلاة السفر) ، قال: (أتخشى أن يكذب علي؟) قلت: (لا) ، قال: (ركعتان , من خالف السنة كفر) ، وهذا معروف , رواه أبو التياح , عن مورق العجلي، عنه , وهو مشهور في كتب الآثار , وفي لفظ: (صلاة السفر ركعتان، ومن خالف السنة كفر) , وبعضهم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم , فبين أن صلاة السفر ركعتان , وأن ذلك من السنة التي من خالفها , فاعتقد خلافها؛ فقد كفر، وهذه الأدلة دليل على أن من قال: إنه لا يقصر إلا في سفر واجب , فقوله ضعيف. ومنهم من قال: لا يقصر في السفر المكروه , ولا المحرم , ويقصر في المباح. وهذا أيضا رواية عن أحمد , وهل يقصر في سفر النزهة؟ فيه عن أحمد روايتان , وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد: لا يقصر فيه , وأما أبو حنيفة , وطوائف من السلف والخلف , فقالوا: يقصر في جنس الأسفار. وهو قول ابن حزم وغيره، وأبو حنيفة , وابن حزم , وغيرهما يوجبون القصر في كل سفر وإن كان محرمًا , كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر المحرم، وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم. والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعًا في جنس السفر , ولم يخص سفرًا من سفر , وهذا القول هو الصحيح , فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر , قال تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185) , كما قال في آية التيمم: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (النساء: 43) الآية , وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين، ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص سفرًا من سفر , مع علمه بأن السفر يكون حرامًا ومباحًا , ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات , ولو بين ذلك لنقلتها الأمة , وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئًا. وقد علق الله ورسوله أحكامًا بالسفر , كقوله تعالى في التيمم: {وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (النساء: 43) , وقوله في الصوم: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} (البقرة: 185) , وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (النساء: 101) , وقول النبي صلى الله عليه وسلم: يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن , وقوله: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج , أو ذي محرم , وقوله: (إن الله وضع عن المسافر الصوم , وشطر الصلاة) ، ولم يذكر قط في شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع، فكيف يجوز أن يكون الحكم معلقًا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك؟ بل يكون بيان الله ورسوله متناولاً للنوعين، وهكذا في تقسيم السفر إلى: طويل وقصير، وتقسيم الطلاق بعد الدخول إلي: بائن ورجعي، وتقسيم الأيمان إلى: يمين مكفرة، وغير مكفرة , وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام , فجعله بعض الناس نوعين: نوعًا يتعلق به ذلك الحكم , ونوعًا لا يتعلق من غير دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة , لا نصًّا ولا استنباطًا. والذين قالوا: لا يثبت ذلك في السفر المحرم , عمدتهم قوله تعالى في الميتة: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173) , وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن الباغي هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله , والعادي هو العادي على المسلمين , وهم المحاربون قطاع الطريق، قالوا: فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم , فسائر الرخص أولى، وقالوا: إذا اضطر العاصي بسفره؛ أمرناه أن يتوب ويأكل , ولا نبيح له إتلاف نفسه، وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي وأحمد , وأما أحمد ومالك , فجوزوا له أكل الميتة دون القصر والفطر، قالوا: ولأن السفر المحرم معصية , والرخص للمسافر إعانة على ذلك , فلا تجوز الإعانة على المعصية. وهذه حجج ضعيفة , أما الآية فأكثر المفسرين قالوا: المراد بالباغي: الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال , والعادي: الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه، وهذا التفسير هو الصواب دون الأول؛ لأن الله أنزل هذا في السور المكية: الأنعام والنحل , وفي المدنية، ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل , والضرورة لا تختص بسفر، ولو كانت في سفر , فليس السفر المحرم مختص بقطع الطريق، والخروج على الإمام، ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه , ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرًا , والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين، ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولاً مسافرين , بل كانوا من أهل العوالي المقيمين , واقتتلوا بالنعال والجريد , فكيف يجوز أن يفسر الآية بما لا تختص السفر؟ وليس فيها كل سفر محرم , فالمذكور في الآية لو كان كما قيل , لم يكن مطابقًا للسفر المحرم , فإنه قد يكون بلا سفر , وقد يكون السفر المحرم بدونه، وأيضًا فقوله: {غَيْرَ بَاغٍ} (البقرة: 173) حال من {اضْطُرَّ} (البقرة: 173) , فيجب أن يكون حال اضطراره وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد , فإنه قال: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 173) , ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل , لا عن نفس الحاجة إليه , فمعنى الآية: فمن اضطر؛ فأكل غير باغ ولا عاد، وهذا يبين أن المقصود أنه لا يبغي في أكله , ولا يتعدى، والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان , فالبغي ما جنسه ظلم , والعدوان مجاوزة القدر المباح , كما قرن بين الإثم في قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) , فالإثم جنس الشر , والعدوان مجاوزة القدر المباح، فالبغي من جنس الإثم، قال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: 14) , وقال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (البقرة: 182) , فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد، وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد , وبغير عمد , لكن قال كثير من المفسرين: الجنف: الخطأ , والإثم: العمد؛ لأنه لما خص الإثم بالذكر - وهو العمد - بقي الداخل في الجنف الخطأ، ولفظ العدوان من باب التعدي للحدود , كما قال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) , ونحو ذلك، ومما يشبه هذا قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} (آل عمران: 147) , والإسراف: مجاوزة الحد في المباح , وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم. وأما قولهم: إن هذا إعانة على المعصية , فغلط , لأن المسافر مأمور بأن يصلي ركعتين , كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم , وإذا عدم الماء في السفر المحرم كان عليه أن يتيمم ويصلي , وما زاد على الركعتين ليست طاعة , ولا مأمورًا بها أحد من المسافرين , وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهيًّا عنه , فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن , فهل يصليها إلا ركعتين , وإن كان عاصيًا بسفره , وان كان إذا صلى وحده صلى أربعًا؟ وكذلك صومه في السفر ليس برًّا , ولا مأمورًا به , فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال: (ليس من البر الصيام في السفر) , وصومه إذا كان مقيمًا أحب إلى الله من صيامه في سفر محرم , ولو أراد أن يتطوع على الراحلة في السفر المحرم لم يمنع من ذلك، وإذا اشتبهت عليه القبلة أما كان يتحرى ويصلي؟ ولو أخذت ثيابه أما كان يصلي عريانًا؟ فإن قيل: هذا لا يمكنه إلا هذا. قيل: والمس

الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى ـ 2

الكاتب: مسلم غيور من مراكش

_ الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى (2) نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقًا [*] ولكن هذا العمل من الجهة التي اشتمل عليها لا تمنع من ملاحظتنا على بعض جمل , من ملاحظة لا تمس جوهر الموضوع الذي خرج لمَّاعًا لمعان الشمس برزت تختال بعد احتجابها أيامًا فوق سحب كثيفة , انهملت أمطارًا وسيولاً أنطقت شاعر البداوة أن يقول: وحديثها كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا فأصاخ يرجو أن يكون حيًّا ... ويقول من فرح هيا ربا جاء في صفحة 13 نقلاً عن ابن خلدون: (وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان , واختلاف الصحابة من بعده , وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة) إلخ، نقول: ونحن لا نشك , ولا نرتاب أبدًا في نزاهة الصحابة وحسن نيتهم , وسلامة طويتهم , كما هو معلوم من ضروريات الدين , كما نعلم وجوب محبتهم على المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: (فمن أحبهم فبحبي أحبهم , ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم) . ولكن لا بأس أن يلاحظ المسلم الباحث الغيور أنهم رضي الله عنهم كانوا مخطئين في السكوت , كما أخطأ عثمان في استسلامه للثوار , وكف جماعة من الصحابة عن نصرته والدفاع عنه؛ لأن حق الخلافة وفائدتها غير مقصورة على الخليفة وحده، بل الدفاع عن نصرته , وحفظه حفظ للإسلام والمسلمين , {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) . وقد فسدت أمور المسلمين فعلاً باستسلامه , وعدم الدفاع عنه , ونشأت عن ذلك فتن لا تزال آثارها ماثلة للعيان , فكان مقتضى الشريعة أن يقوم رضي الله عنه لحماية الخلافة , التي هي حماية للإسلام والمسلمين , ويقابل الثوار , ويستنصر عليهم بكل ما يمكن إن كانوا محاربين , كما هو الواقع الذي أيدته الأخبار الصحيحة , أو يعتزل الخلافة إن كانت معهم شبهة حق , أو عجز عن حماية بيضة الإسلام , فهو راع للأمة , يجب أن ينظر لها بما فيه صلاحها، فقد أخرج البخاري في كتاب الأحكام من صحيحه , عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا كلكم راع , وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راع , وهو مسؤول عن رعيته) الحديث. فأنت ترى استسلامه رضي الله عنه كيف جر على المسلمين رزايا متسلسلة إلى الآن لا زلنا نرزح من شدة ثقلها. وقد دافع الإمام أبو بكر بن العربي المعافري في كتابه: (العواصم والقواصم) عن استسلام سيدنا عثمان دفاعًا مجيدًا بقلمه السيال , وبلاغته النادرة مستندًا في دفاعه هو وغيره على ما جاء في الحديث الصحيح في البخاري , وغيره بأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة على بلوى تصيبه، وهي الشهادة , إلخ , ونقول: إنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالاستسلام , بل غاية الأمر أنه بشره بالشهادة , ولو دافع عن نفسه , وقاتل الثوار المحاربين , واستشهد في قتالهم لحصلت النتيجة؛ لأنها غير متوقفة على الاستسلام , فهو رضي الله عنه مجتهد (مخطئ) في استسلامه. وأما سكوت الصحابة رضي الله عنهم , فهم مخطئون فيه أيضًا؛ لأن الله جلت عظمته بين لنا ما نفعل في مثل هذه الأزمة في قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) , ثم أكد ذلك بقوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات: 10) , وفي صحيح مسلم , عن عرفجة , عنه عليه الصلاة والسلام قال: (من أتاكم , وأمركم جميع على رجل واحد , يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم , فاقتلوه) . فكان الواجب كما هو صريح الآية والحديث أن يدافعوا عنه بقوة السيف , أو بحكمة السياسة والموعظة الحسنة، ولا يساعدوه في الاستسلام؛ لأن الدفاع عنه كما قلنا دفاع عن الإسلام والمسلمين، فظهر بذلك أنهم مخطئون في سكوتهم , والله أعلم بغيبه. وإننا نحمد الله على أن المسلمين ابتدأوا يفهمون سر هذه الآية , ويعملون بها، فمن ذلك ما حصل من اجتماع قادة الأحزاب المؤتلفة في مصر السعديون , والوطنيون والدستوريون , فلو لم يوفقوا لذلك الاتفاق المحبوب ويسقطوا الاتحاديين أو الاحتلاليين؛ لكانت حركة مصر الناهضة ذاهبة إلى الشلل والانحلال , أدام الله وفاقهم وتوفيقهم. ومن ذلك ما قيل - ولا نظنه إلا صادقًا - من اتفاق السلطان عبد العزيز بن السعود والإمام يحيى صاحب اليمن , فقد انشرحت الصدور لهذا الاتفاق المتين الذي سيكون بمثابة سياج لجزيرة العرب , حقق الله الآمال. ومن ذلك ما شاع من تأسيس عصبة أسيوية في بلاد آسيا تضاهي عصبة الأمم الغربية في جنيف لربط أواصر الشرقيين , وإحياء الحضارة الآسيوية من الوجهتين العقلية والمادية إلخ. وفي صفحة 15 نقلاً عن ابن خلدون أيضًا: (وهكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك , ونسيان عوائده حذرًا من التباسها بالباطل، فلما استحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم , استخلف أبا بكر على الصلاة؛ إذ هي أهم أمور الدين، وارتضاه الناس للخلافة , وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة، ولم يجر للملك ذكر.. إلخ) . (نقول) : إن قوله: (ولم يجر للملك ذكر) إلخ، إن كان المراد به الملك الطبيعي الذي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة , فقد كان يذكره دائمًا بالذم والتنفير منه , ومحاربته للملك الطبيعي المبني على القسوة معروفة في غير ما حديث، ومنذ مكاتبته لقيصر , وكسرى , وغيرهما يدعوهم {إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64) إلخ، وإن كان المراد به الملك السياسي المندرج في الخلافة , فقد جرى ذكره في أحاديث كثيرة لو امتثل المسلمون ما جاء فيها؛ لما أصيبوا بشيء مما أصيبوا به، فقد أخرج البخاري في باب: الأمراء من قريش، عن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا الأمر - أمر الخلافة - في قريش، لا يعاديهم أحد إلا أكبَّه الله على وجهه ما أقاموا الدين) ، وأخرج في باب: الاستخلاف، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حديث قد جاء في آخره: (لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، فأعهد، أن يقول القائلون، أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون) , قال القسطلاني: قوله: (فأعهد , أو أوصي بالخلافة لأبي بكر) كراهة أن يقول القائلون: الخلافة لفلان أو لفلان، أو يتمنى المتمنون الخلافة، فأعينه قطعًا للنزاع , وقد أراد الله أن لا يعهد ليؤجر المسلمون على الاجتهاد. وجاءت أحاديث كثيرة في هذا الباب , فأنت تراه كما اعتنى بالخلافة جدًّا , واهتم بها في حال صحته وفي مرضه , وأوصى بالخليفة ممن يكون، وأوجب طاعته , وشرط فيها وفي ولايته إقامة الدين , وهو قوله: (ما أقاموا الدين) أوصى بذلك , وكرر الوصاية بالخلافة في مناسبات كثيرة، وفي أحاديث شهيرة، بلغت بمجموعها حد التواتر. ... ... ... ... ... ... ... ... من مراكش ... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غيور (المنار) الظاهر أن عثمان رضي الله عنه كان يحسن الظن بالذين ثاروا عليه , كما أحسن الظن بعترته من بني معيط المفتونين بحب الرياسة والملك، ولذلك كان يرى أن إقناع الثائرين بما يجب اتباعه ممكن، وكان جمهور الصحابة مخالفين له في ظنه ورأيه , فوقعوا في الحيرة: لا يمكنهم القتال بدون أمره؛ لما فيه من سنن الخروج والافتيات على ولي الأمر , وهي أم المفاسد، ولا يسهل عليهم خلعه إجابة لمطالب الثوار؛ لأنهم مفسدون، ولأن بني أمية يقاتلون دونه، كما فعلوا في القتال بعده لمن هو دونه , وما فعله المصريون ألجأتهم إليه الضرورة، وليس من العمل بالآية , وأما الإمامان يحيى وعبد العزيز فيحبان الاتفاق دينًا وسياسة، ولكن المفسدين من الأجانب , والروافض , ومفسدي الهنود يغرون الأول بقتال الثاني, وعسى الله أن يسلمه من وسواسهم وخناسهم. ((يتبع بمقال تالٍ))

محاضرة مستر كراين عن جزيرة العرب ـ 1

الكاتب: مستر كراين

_ محاضرة مستر كراين عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن في جمعية الرابطة الشرقية [*] لأسباب عديدة قمت في هذا الشتاء برحلة في البحر الأحمر , وقد سبق لي أن زرت قبل هذه المرة (جدة) , وأعجبت كثيرًا بمناظر البحر، وإني طفت معظم بحار العالم , فلم أر له مثيلاً بينها، فبينما ترى فيه الزرقة القاتمة تراها تخضرّ , ثم تحمرّ وتميل إلى لون الذهب، وترى شاطئًا رمليًّا أصفر , ومن ورائه سلاسل طويلة من الجبال الوردية القفراء. إن طراز الحياة في مواني البحر الأحمر الصغيرة لا يزال كما كان عليه منذ قرون عديدة، ففي عرض هذا البحر تمخر السفن العظيمة بين السويس وعدن دون أن تحدث أثرًا في هذه المواني القديمة التي ما زالت تحتفظ بعاداتها الأولى لعلاقاتها بالحج والحجاج. إني مولع برؤية الحياة الإسلامية القديمة التي شاهدتها في مصر والشام، والقسطنطينية عندما أتيت هذه البلاد منذ خمسين عامًا، ولكن هذه البلاد الآن أضاعت رونقها القديم، وتغير فيها طراز الحياة تغيرًا محسوسًا، ويقال: إن (بخارى) أيضًا أضاعت سابق أسواقها الجميلة القديمة، ولذلك سررت كثيرًا منذ أربعة أعوام لما رأيت أن جدة لا تزال محتفظة ببهائها الإسلامي القديم، وبحجاجها المحرمين، وبوسائط نقليتها القديمة , ألا وهي: الجمل والفرس والأتان، وأن أسواقها المعوجة الصغيرة لا تزال ملأى بالتجار الشرقيين يروحون ويغدون فيها، وتنحصر تجارتهم في بعض الأشياء الضرورية , وبعض المصنوعات اليدوية. إن شبه جزيرة العرب هي مهد الأنبياء , ومهبط الوحي، ولما كنت أهتم كثيرًا بهذه الشؤون؛ شئت أن أتقرب بقدر الإمكان إلى حياة هذه الجزيرة التي كانت تنجب الأنبياء آونة بعد أخرى، ومن البديهي أن البلاد المتمدنة لا تنجب أنبياء. ومن أهم الأشياء في الجزيرة الآن الحركة الوهابية التي ترمي إلى الرجوع لحياة التقشف كما كانت عليه الحال أيام النبي محمد صلى الله عليه وسلم. نحن في الغرب نقول: إن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن لهذه القاعدة شواذ في الصحراء، فالحياة فيها دائمًا تعيد نفسها. يقال: إن الدين في العالم منشؤه بعض الشخصيات البارزة التي تضيء كالأنوار مثل بوذا [1] , والمسيح ومحمد، وهذه الشخصيات لها حياة خاصة , وتعاليم خاصة , وأتباع خاصة، ولكنها عندما تختفي؛ يقوم بعدها بعض الأتباع الذين كانوا مقربين إليها كثيرًا , ويفسرون أعمالها , وينشرون أخبارها، وهم المعروفون بالتلاميذ أو الصحابة، ولكن النور الأصلي يضعف عندما ينتقل إليهم، ومن بعدهم تقوم الهيئات الدينية , وتنشر أعمال تلك الشخصيات حسب ما يتراءى لها؛ وبذلك يزداد ضعف النور، ولا شك أن بوذا لو بعث حيًّا الآن لا يوافق على أن الصينيين واليابانيين يتبعون حياته وتعاليمه , وخصوصًا متى شاهد البون الشاسع بين تعاليمه الصحيحة , وبين تعاليم كهنوت اللاميين [2] , وإنه لا يمكن للمسيح أن يعترف بأن أوربا الحديثة المعروفة بمسيحيتها , والتي يقال: إنها تتبع حياته وتعاليمه هي حقيقة مسيحية [3] . لقد أدرك محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا من أمر هذا التحريف الذي لعب دورًا مهمًّا في تاريخ الديانات القديمة على ممر الأيام؛ ولذلك حدد أقواله بحديثه , وأظهر بصورة واضحة علاقة المسلم مع خالقه، ولم يترك ميدانًا واسعًا لتدخل الهيئات الدينية من بعده , ومع هذا كله رأينا أن الدين الإسلامي عندما ابتعد عن مركزه الأصلي في الصحراء , وأخذ يتزاحم مع غيره من الديانات والمدنيات في العجم والصين مثلاً؛ خرج عن الصراط المستقيم، وأضاع شيئًا كثيرًا من بساطته وبهائه. ولما كانت الحياة في نجد بعيدة عن مثل هذا الضغط , وبعيدة عن المدنية الحاضرة , فلا شك أن هذه البلاد هي المكان الوحيد المعد لحفظ علاقة المسلم الحقيقية بخالقه بصفة لا تشوبها شائبة، وقد ظهر الآن أشياء عديدة تثبت جميعها أن القاعدة الأساسية في الدين الإسلامي , والمسيحي , واليهودي هي علاقة الإنسان بخالقه , وأصبح الاعتراف بهذه الحقيقة أمرًا لازبًا؛ لأن البولشفيك ينظمون دعاية ضد جميع الديانات , وقد وجهوا سهامهم إلى قلب هذه الحقيقة الظاهرة , ألا وهي: وجود الخالق , وتدبيره لهذا الكون، وقد أدرك العالم المسيحي هذا الخطر , وأصبح ميَّالاً إلى ترك الجزئيات , والتمسك بالكليات، ويوجد في الغرب أناس كثيرون يعتقدون أن في الإمكان التأليف بين العالم المسيحي , وغيره من البشر ممن يعتقدون بوجود الخالق , ويسعون لطاعته. ولاشك أن العالم ليشهد منذ أول التاريخ إلى عهدنا هذا ثورة شديدة على الدين , كالثورة التي يديرها البولشفيك. يوجد بين المسيحيين طائفة صغيرة تقول بالتوحيد , وتشابه عقائد هذه الطائفة من وجوه عديدة العقائد الإسلامية القديمة، وقد ظهر بين أفرادها كثير من العظماء الذين أفادوا العالم فائدة تذكر فتشكر، ففي النمسا مثلاًُ ظهر بعض أفراد منها للعالم، وشغلوا وظائف سامية، وكانوا موضع إعجاب جميع من عرفهم، وفي أمريكا ظهر أيضًا بعض أتباع هذا المذهب المحترم , وكان في مقدمتهم الرئيس (إيليوت) الذي بقي مدة أربعين سنة رئيسًا لأعظم جامعة أميريكية ألا وهي: جامعة (هارفرد) وقد توفي في السنة الماضية عن عمر جاوز اثنين وتسعين عامًا , ولا شك أنه كان أحد رجال أمريكا العظام [4] , وقد كان يهتم كثيرًا برحلاتي إلى البلاد الإسلامية، وشعر أنه من الواجب أن يحصل تعارف بين الموحدين المسيحيين , وبين المسلمين، وكنت دائمًا عند عودتي أزوره , وأطلعه على جميع اختباراتي الحديثة. إنه بقي محافظًا على قواه العقلية إلى آخر دقيقة من حياته، وكان لصوته أعظم وقع على الأميركيين , كما أنه كان الخادم الأمين لحفظ الضمير الأميركي الحي، وعندما كان يتكلم في موضوع سياسي , أو تهذيبي , أو اجتماعي كان يتكلم دون خجل , أو وجل. وقبلما أنشبت المنون أظفارها فيه شعر بدنو أجله , فقلت له: اسمع هذه الصلاة الإسلامية الجميلة , وقرأت له: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 2-7) , وقد أعجب بهذه الصلاة الوجيزة كثيرًا , وكانت هي آخر العهد بيننا، وكان صديقي هذا دائمًا يتمنى الحج إلى شواطئ البحر الأحمر , والتقرب من الحركة الوهابية؛ لأنه هو نفسه كان يعيش عيشة بسيطة , ويعتقد بعظم فائدة الصلاة , وتأثيرها في العالم , ولكنه كان بعيدًا عن الظواهر الدينية الميكانيكية [5] , وسأرسل إليكم عندما أعود إلى أمريكا جميع ما قاله عظماء الأميركيين بشأن هذا الرجل الجليل عند وفاته. إن بوذا , والمسيح عاشا عيشة روحية , ولم يكونا يومًا من الأيام إداريين , ولا فكرا أن ينظما الحياة الدينية، وأما محمد صلى الله عليه وسلم , فكان نبيًّا وإداريًّا عظيمًا، وقد مد الله في أجله إلى أن تمكن من تنظيم الحياة الاجتماعية على أسس دينية، وها هو ذا ابن سعود ينسج اليوم على منواله، ويتبع سننه في كل خطوة بحزم وعزم، وهو يسعى لأن يوفق بين الحياة الاجتماعية , وبين الشريعة الغراء , ولست مغاليًا إذا قلت لكم: إنه لا جنايات في مملكة ابن سعود، وإن البدو الذين مازالوا منذ الأزل يضربون في بلاد الله الواسعة , ويغزو بعضهم بعضًا أخذوا في عهده يبنون البيوت الثابتة، ويشتغلون بالأشغال النافعة. ولاشك أن الأمن في الطرقات أصبح مستتبًّا، والتجارة في البلاد محمية، ومال الحاج مضمونًا، وأسعار الحاجيات محددة. *** فليحيا ابن سعود إن الحماسة التي تدعم حركة كحركة ابن سعود الوهابية , والتي ترمي إلى إرجاع الدين الحنيف , كما كان عليه قديمًا , تتعارض في بعض الأحيان مع العادات الإسلامية الحاضرة، وليس بالعجيب أن نرى (الإخوان) في حماستهم قد هدموا أشياء كثيرة ذات قيمة تاريخية ومعنى ديني للحجاج الذين يحجون إلى هذه البلاد المقدسة , وقد قتلوا أثناء حماستهم بضعة آلاف حاج من حجاج اليمن , بينما كانوا قادمين إلى مكة بقصد الحج، واعتذروا عن عملهم بأن نيتهم كانت سيئة نحو الإخوان [6] , ومع ذلك , لا شك أن الأحوال الآن أحسن من ذي قبل، وإذا مد الله في عمر ابن سعود؛ فالحالة تزداد تقدمًا، والروح الاجتماعية تنتشر أكثر فأكثر بين العرب مستمدة نشاطها من بعد ابن سعود من روحه. نزلت بجدة في دار السيد محمد نصيف , وهي كأنها مجمع علمي يحتوي على مكتبة عامرة , يؤمه جميع أقطاب جدة وأشرافها. والسيد محمد نصيف عالم محقق , ورجل شريف يزوره جميع من يمر بجدة من العلماء والنبلاء قبل ذهابهم إلى مكة، وقد اجتمعت عنده بأناس كثيرين , وتكلمت معهم بصراحة زائدة، وكانوا جميعهم عنوان اللطف بي , والعطف علي، وأفهموني حقيقة سير الحياة بالحجاز في هذه الأيام، وبعد وصولي إلى جدة جاء سمو الأمير فيصل من مكة , ورحب بي , وتأكد بنفسه أن راحتي مضمونة , وقال لي: إن كل شيء في جدة تحت أمري. في الليل كنت أدعو الكثيرين؛ ليسمعوني الأناشيد الوطنية والغناء العربي القديم والحديث , وكان بين هؤلاء المنشدين شيخان ضريران يترددان دائمًا على دار السيد محمد نصيف، وقد أسمعاني مرارًا ترتيل القرآن، والحق يقال: إن ترتيلهما كان في غاية الإبداع. لا يسمح الوهابيون لأحد أن يغني غناءً عاديًّا , ولا أن يستعمل معازف موسيقية، وقد منعوا الحجاج المصريين من جلب المحمل التي كانت العادة أن يجلبوه مع موسيقى الحج [7] , ولكنهم لا يتعرضون لترتيل القرآن , وقد تسامحوا معي في بعض الشؤون , ولم يمنعوني من دعوة بعض البدو إلى داري , وسماع أناشيدهم، وقد أسمعني أحد أصحاب القوافل بعض الأناشيد التي ينشدها الحداة من رجال القافلة أثناء سيرهم في البادية. كان ابن سعود يوم زرت جدة في طرف البادية [8] , ولم أتمكن من مقابلته، ولكنه تلطف , وأرسل لي عدة برقيات تنم جميعها عن عطفه علي، وقبل سفري ببضعة ساعات أخذت وأنا على ظهر الباخرة برقية منه أعرب لي فيها كثرة أشغاله، وأفصح عن أسفه الشديد؛ لعدم تمكنه من مقابلتي، وتمنى لي سفرًا سعيدًا [9] . والحق يقال: إن ابن السعود كالإمام يحيى لا يوجد حوله رجال عاملون يساعدونه في إدارة دفة الحكم , فهو يعتمد على نفسه في كل شيء. وقد مضى عليه ثلاث سنوات , ولم يزر في خلالها أرض نجد؛ ولذلك ذهب هذه السنة؛ ليزورها، ولينظر في شؤون الإخوان , وتنظيم أعمالهم. *** السيد أحمد السنوسي كان من جملة الأسباب التي حملتني على القيام برحلتي هذه؛ رغبتي في مقابلة صديقي القديم السيد أحمد السنوسي , الطائر الصيت الذي تعرفت إليه في بورصة في صيف سنة 1919 , وكانت تلك الرحلة التي تعرفت إليه في خلالها من أهم الرحلات التي قمت بها في هذا العالم. قلت: إني قمت برحلات عديدة في هذه الأرض , وكنت دائمًا أدرس نفسية البشر في أطرافها، وقد أعجبت مرارًا ببعض العقول التي لم تبلغها أيدي التهذيب , وقابلت كثيرًا من أصحاب هذه العقول , ولا غرو أن مقابلتهم ساعة عملهم كانت نهاية الإبداع , وهذه العقول لا تنمو إلا بين أصحاب الفيافي والقفار , وكل ذرة , لا بل كل خلية من خلايا دماغ هؤلاء الأشخاص هي حية في ذاتها، وحساسة لكل عارض يعرض لها، وسريعة في تنفيذ أحكامها , وحكيمة في استنت

مشروع بريطاني جديد لتنصير جزيرة العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع بريطاني جديد لتنصير جزيرة العرب (هذه ترجمة المنشور الذي أذاعته جمعية لندن كما نشروها في فلسطين وغيرها) . يسوع المسيح لبلاد العرب الآن (ها أنا ذا صانع أمرًا جديدًا، الآن ينبت. ألا تعرفونه، أجعل في البرية طريقًا في القفر أنهارًا) (أشعيا 43 - 19) . صلوا من أجل العرب بلاد العرب تبلغ مساحتها مليون ميل مربع، لم يدخلها التنصير بعد، وفيها من السكان من أربعة ملايين إلى اثني عشر مليونًا [1] ، يموتون ميتة وثنية , لم تبلغهم دعوة الإنجيل بعد، بلاد العرب هي مهد الإسلام ومنبعهم، وفيها مكة التي هي القبلة زهاء [2] مائتين وعشرين مليونًا من المسلمين يتوجهون نحوها (بإغراء الشيطان؛ ليصلوا صلاة كاذبة كل يوم) . صلوا من أجل العرب كي ينجيهم الله (هم مخدوعون من الشيطان الذي اخترع لهم كتابًا مزيفًا هو القرآن الذي) حل محل (كلمة الله الحية) ، الكلمة القادرة على تخليص نفوسهم، فمن يحمل كلمة الدعوة إلى العرب؟ فمن يخرج، ويبكي، ويزرع زرعا جيدًا؛ يعود فرحًا، ويقطف ثمار زرعه جنيًّا. ويسوع المسيح يأمر بما يلي: 1- وها أنا أرسل إليكم موعد أبي، فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي. (لوقا 24 - 49) . 2- وقال لهم: اذهبوا إلى العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها (مرقص 16 - 15) . 3- فاذهبوا، وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب، والابن، والروح القدس (متى 28 - 19 - 20) ، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا ذا معكم كل الأيام لانقضاء الدهر. (قدرتنا على طاعة أمره) : فتقدم يسوع، وكلمهم قائلاً: دفع إلي كل سلطان في السماء وعلى الأرض، وأنا معكم لانقضاء الدهر (متى 28 - 18) . (استعدادنا لذلك) : وها أنا معكم كل الأيام لانقضاء الدهر (متى 28 - 20) . إن كلمة (و) ، وكلمات (إلى انقضاء الدهر) تبين أن كلمات المسيح موجهة إلى كل تلاميذه خلال كل العصور، وهي تعنينا إيانا، المسيح مات فدية عن الجميع، ثم قام من الموت، هو مات عنكم وعني وعن العرب، فمن يطيع أمر المسيح، فيذهب إلى العرب بهذه الرسالة؟ إن حجاجًا لا يحصيهم عد يقطعون فلوات الجزيرة؛ ليحجوا إلى مكة، (وفيها ولد النبي) … [3] ، وليزوروا المدينة، وفيها قبره، فمن يذهب إلى هناك أيضًا من حجاج المسيح، ويهدي أولئك الحجاج الذين لا يحصيهم عد هداية بنعمة الله حتى يصيروا حجاج المسيح وحده [4] ؟ فإذا نحن شاركنا المسيح في تحمل العذاب، فإننا سنشاركه أيضا في الملكوت، وقال الله للابن: عرشك باق إلى الأبد، يا حجاج المسيح هبوا. فلنذهب، ولنأت بالملك. هؤلاء سيحاربون الخاروف (؟) ، والخاروف يغلبهم؛ لأنه رب الأرباب [5] ، وملك الملوك، والذين معه مدعوون، ومختارون، ومؤمنون (رؤيا 17 - 14) . وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم، نعمة ربنا يسوع المسيح معكم (روميا 16 - 20) . قل إلى أبناء إسرائيل [6] أن يتقدموا إلى الأمام - إلى بلاد العرب - إلى كل العالم، لأن… لأن أمر الملك كان معجلاً (صموئيل الأول 21 - 8) . مع المسيح صليت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا في، فما أحياه الآن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني، وأسلم نفسه لأجلي، وأحرقوا المدينة بالنار. (يشوع 6 - 4) . إن الحاجة شديدة الآن إلى مائة مبشر: يذهبون إلى قبائل بلاد العرب المهملة التي لم تبلغها الدعوة بعد، هناك نحو مائة قبيلة في بلاد العرب يمكن تبليغهم الدعوة، وهم يسكنون بلادًا غير إنجيلية، مساحتها ثلثا مساحة الهند، وهم يعيشون في الخيام كما كان يعيش إبراهيم من قبل [7] . إحدى هذه القبائل هي (الصليبية) المنتمية إلى أهل الصليب حصل لها زيارة مرتين، وهي تريد أن تزار أكثر من ذلك. إن رجال هذه القبيلة هم من نسل الصليبيين القدماء الذين أسرهم العرب، وهم لا يزالون إلى اليوم يستعملون بضع كلمات إنكليزية مثل: (غو) أي: اذهب. إن العاملين قلال العدد، أيجوز ترك هذه القبائل؛ فتفنى؟ ألا يليق بكنيسة الله التي اشتراها بدمه أن تلبي نداء الله؟ فمن أرسل (أشعيا - 6 - 8) ، فماذا يكون جوابك أيها القارئ، أتريد أن تسقط في الخجل، وتحتقر احتقارًا مؤبدًا؟ أو تبادر إلى أن تعمل عملاً مجيدًا يرضي الذي أحبنا، وفدى نفسه عنا، وهو غسلنا بدمه من خطايانا. أتريد أن يقال عنك، وعن الآخرين: من الآن إلى الأبد، إنك أنت وإخوانك قد غسلتم من خطاياكم بأثمن دماء المسيح، وقد اطلعتم على أوامره، وقد عرفتم الحاجة، وقد سمعتم نداء الله، وقد اتخذتم من المسيح قوة وكفاية، وبعد كل هذا لا تذهبون. أرجو منك أن تصلي من أجل العرب. اذهب أنت نفسك إلى بلاد العرب، أرسل غيرك أيضا إلى بلاد العرب، احمل الكتاب المقدس إلى العرب، لا تقطع صلاتك لأجل بلاد العرب، والعرب إلى المسيح، ادع ال220 مليونًا من المسلمين ليتدينوا بديانة المسيح، صل من أجل مائة مبشر، الحاجة شديدة إليهم ليذهبوا إلى بلاد العرب، وليسدوا ما العرب بحاجة إليه، صل؛ لكي يصل الكتاب المقدس إلى بلاد العرب، وصل أن يبارك الله المائة مبشر، يقول المسيح: سآتي بسرعة، آمين. *** عنوان الجمعية ناشرة هذه الدعاية الجمعية العالمية الصليبية للتنصير في العالم، وبلاد العرب: 19- هيلندرود أبر نورود لندن 19. ... ... ... ... الرئيس: ... ... ... ... المراقب: ... ... ... ... مستر أستد ... ... ... القس باركلين (المنار) قد بذلت هذه الجمعية، وأمثالها مئات الملايين من الدنانير الذهبية؛ لتنصير المسلمين، فما استطاعوا أن ينصروا شعبًا من شعوبهم، ولا مدينة من مدنهم، ولا قرية من قراهم، وإنما لجأ إليهم في بعض البلاد أفراد من تحوت الفقراء الجياع الذين لا يعرفون من الإسلام إلا بعض ما يسمعونه، ويرونه في الطرقات من التقاليد التي مزج فيها بعض تعاليم الإسلام بنزغات الخرافات النصرانية التي يتبرأ منها المسيح، ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد دخل في الإسلام من كرام الشعب الإنكليزي أضعاف من تنصر من هؤلاء التحوت الجائعين، وأرى أن من حماقة هذه الجمعية أنها تريد أن تبدأ عملها بالدعوة إلى النصرانية في الحرمين الشريفين المحميين بجند الله النجديين الموحدين، أليس من الحكمة والأناة الإنكليزية أن يصبروا ليروا ما يفعل دعاتهم في عرب العراق، وفلسطين بحماية صنيعتي دولتهم: الملك فيصل، والأمير عبد الله نجلي الملك حسين بن علي؟ إن المعاهدة البريطانية العراقية قد ضمنت لدعاة النصرانية الحرية المطلقة، ولن يمضي لهم الإمام عبد العزيز بن السعود ملك الحجاز ونجد معاهدة مثلها، كما أمضى الملك فيصل بن حسين، بل لا يأذن لمبشر واحد أن يدخل بلاده، فكان من العقل أن لا يعجلوا بتنبيهه، وتنبيه أهل القطرين الخاضعين إلى سوء نيتهم. هذا، وإننا نعلم أن هذا العمل عمل سياسي وتجاري، لا ديني، ونعلم أن تعاليم الإسلام تنشر في بلاد الإنكليز، وأبناء عمهم الأميركان نفسها بطبيعة البحث الحر الذي ينتهي بأصحابه إما إلى عقيدة القرآن، وكما ترى في محاضرة مستر كراين في هذا الجزء، وإما إلى الكفر، وإنكار الوحي كما يعلم من المقال الآتي.

تحول الكنيسة الإنكليزية عن التقاليد النصرانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحول الكنيسة الإنكليزية عن التقاليد النصرانية جاء في جريدة الديلي إكسبريس التي صدرت في لندن بتاريخ 21 نوفمبر سنة 1925 تحت هذا العنوان ما ترجمته: القسيس أنج ينكر المعجزات قنبلة مصوبة إلى قلب الكنيسة اتركوا التضليل اعتقاد التلاميذ (الحواريين) : أن المسيح نزل في جوف الأرض , ثم قام من قبره في اليوم الثالث , وصعد إلى السماء بجسده. قال القسيس أنج: أليس من اللائق بالكنيسة أن تفكر في هذه المشكلة التي ظلت نحوًا من 400 سنة وهي ترغم الناس على الاعتقاد بها؟ من الراجح أن ما أحدثه أكبر مناقشة دينية منذ أيام (بوسي) و (ينومان) هو كتاب جديد اسمه: (العلم والدين والحقيقة) يصوب به صاحبه القس (أنج) قنبلة تصيب شظاياها جميع الكنائس المسيحية. ويطالب هذا القس الكنيسة بأن تدع التضليل جانبًا، وأن تنبذ كثيرًا من تعاليمها التقليدية القديمة , كما يطالب بترك فكرة وجود سماوات بالمعنى الذي اصطلح عليه الجغرافيون , ويبني على ذلك عدم الاعتقاد بصعود جسم المسيح كما يرى أن هذه المسألة مرتبطة ارتباطًا تامًّا بمسألة البعث نفسها , وهو يوافق العلماء (نسبة إلى قسم علمي) في رفضهم للمعجزات كأنها إيقاف لقانون دنيء بقانون أرقى منه، ومع أنه يتجنب البحث في مسألة مولد المسيح , فإن قراء كتابه قد يصلون إلى أن القس يرفض الاعتراف بهذا الأمر كما ينكر الصعود أيضًا، وهو فوق ذلك يقترح الابتعاد التام عن نسبة صفات البشر إلى الله. وكتابه هذا (الذي تقوم بنشره مطبعة شلدون) يتكون من ثماني مقالات بقلم أساتذة مشهورين في موضوعات وأبحاث علمية ودينية، وله مقدمة بقلم اللورد بلفور، ويتلو ذلك ملخص مؤلف من 40 صفحة شائقة بقلمه هو. ويقول اللورد بلفور بأنه: ليس بين القراء من يعتقد أن الكتاب المقدس ليس إلا كتابًا تاريخيًّا ومرجعًا للعلوم الكونية لا يمتاز عن غيره إلا بأنه موحى به، وبذلك يكون منزهًا عن الخطأ، ويضيف إلى ذلك أن القس أنج يسلم بأنه موحى به، وأما مسألة تنزيهه عن الخطأ فينكرها ألبتة. ويعلن القس أنج في صراحة تامة وبلا أدنى خوف أن هناك معركة اشتد وطيسها بين العلم والدين، وأن أصل هذه المعركة يرجع في الحقيقة إلى اكتشاف أن الأرض تدور حول الشمس، وفي الأربعة القرون التالية لذلك الاكتشاف وصفت الكنيسة البحث في المشاكل الدينية التي أثارها هذا الاكتشاف جانبًا، فلم يبذل أي مجهود لتخفيف العبء عن كاهل العالم المسيحي الذي أثقل عقله وضميره. وحقيقة ما يقصده (أنج) أن بعض العقائد المسيحية أصبحت لا يمكن التصديق بها علميًّا؛ فلا يمكن التصديق بها دينيًّا، وهو يقول: (إن هؤلاء القساوسة الذين يصرون على أنه ليس ثمة تناقض بين العلم والدين إما أن يكونوا ذوي عقول ضيقة، أو متعامين عن الحقيقة، والحق الواقع أن هناك صراعًا عنيفًا بين العلم والدين لا يرجع تاريخه إلى أيام داروين، ولكنه يرجع إلى عهد كوبرنيكوس وغاليليو) . *** الخريطة المسيحية ويقول: (إن التوصل إلى معرفة أن الأرض ما هي إلا كوكب يدور حول الشمس التي هي نفسها واحدة من ملايين الأجرام السماوية، ذلك الاكتشاف قد مزق النظرية المسيحية التي تقول بأن الأرض هي مركز العالم، وأنها كطبق يحدده غطاؤه. وإلى ذلك الوقت كان الناس سواء منهم العالم والجاهل يصورون العالم كبناء ذي ثلاث طبقات أعلاها السماء مسكن الإله والملائكة والأرواح الطاهرة، ويتلو هذه الطبقة الأرض التي نسكنها، والطبقة السفلى مسكن الشيطان وأتباعه، وحيث تعذب الأرواح الشريرة في سجنها، وكان للجنة والنار في عرفهم حقيقة جغرافية. وتؤكد العقائد الدينية مسألة نزول المسيح إلى الجحيم، ثم صعوده إلى السماء ومن الواضح الجلي أن مسألة بعث المسيح بجسده مرتبطة تمامًا بمسألة صعوده بجسده أيضًا، وعلى ذلك فقد مست العلوم الكونية بالعقائد الدينية مساسًا عظيمًا. ويزيد على ذلك أن الكنيسة إنما بشرت بهذه التعاليم؛ لأنها نقلتها حرفيًّا عن نصوص الإنجيل، ويستدل على ذلك بالنص الإنجيلي القائل: (إن المسيح قد صعد إلى السماء حيث هو الآن بلحمه وعظامه، وكافة الأشياء المتعلقة بالكيان الإنساني البشري الطبيعي. ونظرية أن المسيح ناسوتًا ولاهوتًا، والتي تقول بأن جسد المسيح في السماء ينكرها تناقضها مع القانون القائل: باستحالة وجود الجسم الطبيعي في أكثر من مكان واحد في وقت واحد. كما أن نظرية كوبرنيك الفلكية، وكافة معلوماتنا عن السماء التي بنيت على هذه النظرية لا تدع مجالا للقول بوجود سماء جغرافية. وهو يقول: يخيل إلي أن الفراغ السماوي لا نهائي، ولا يمكنني أن أتصور أنه قد وقع الاختيار على أحد هذه النجوم والسدم والكواكب المنتثرة بلا نظام في رقعة السماء؛ لتكون مقرًّا للخالق، ومكانًا لأورشليم السماوية. ويضيق إلى ذلك قوله: (أما القول بوجود مكان سفلي مخصص للتعذيب فقد اندثر وانمحى بدون أن يكلف العلم مشقة الإجهاز عليه) . وهناك مشكلات أخرى في مسألة الزمن، ولكن الذين يقولون بحيوية هذه المسألة قليلون، وإن المسيحي الذي رفض بنظرية الوحي اللفظي لا يجد صعوبة في تصديق نظرية النشوء والارتقاء. على أن النظرية القديمة لا تزال مضطربة فقد قرأت منذ زمن يسير كتابًا يعتبر من أهم كتابنا اللاهوتيين فوجدت فيه هذه الجملة: (إن المسيحيين لم يعودوا يعتقدون بوجود سماء محلية فوق رءوسنا) , وقد رحبت بهذا الاعتراض على وجود سماء جغرافية؛ لصدوره من رجل يعتبر من أئمة الأرثوذكسية ودعائمها. ولشد ما عجبت عندما علمت أن الكاتب قد ادعى أني ألحقت به وبسمعته ضررًا عظيمًا لحذفي بعض كلماته، ولكني لا أنكر أنه قال: بأنه يعتقد بوجود سماء محلية (ولكنها ليست فوق رءوسنا) (ولكن غاب عنه أن الأرض تدور) . وقد قال إمام آخر في الأمور اللاهوتية في معرض حديثه عن صعود المسيح: (إن كلمة: إلى السماء قد يمكن أن تحمل على المجاز، ولكن يلزم أن نعتقد أن جسد المسيح الطبيعي قد رفع إلى مسافة شاسعة البعد عنا) . وإني لأتساءل بكل جد وإخلاص: هل من الممكن احتمال مثل هذا التحكك بالألفاظ بعد؟ أَوَليس من الضروري أن تواجه الكنسية هذه المسألة التي ظلت حوالي 400 سنة وهي تجبر الناس على التسليم بها، وتقهرهم على التصديق بها؟ هل للمسيحي أن يعتقد بتلك النظريات والتعديلات التي أدخلها رجال الكنيسة على الأساطير الدينية , وفرضوا عليه الإيمان بها؟ أم عليه أن يصدق تلك النظريات الفلكية المبنية على أسس مدعمة ثانية؟ ألا إن التحكك بالألفاظ لم يعد يرضي أحدًا. واستطرد القس أنج فقال: إنه ليس أمام المسيحيين إلا إحدى ثلاث طرق: (1) أن يحكموا على العلوم الفلكية بالتحريف والزيغ والكفر. (2) أن نعتبر أن هذه الأساطير الدينية لا تتمشى مع روح العلم , ولكنها تحمل على أنها رموز عن حقائق أزلية. (3) أن نعترف أن كل التعاليم اللاهوتية المؤسسة على النظرية التي تقول: بأن الأرض هي مركز العالم يجب أن تنبذ ما دامت لا تتفق مع النتائج العلمية الصحيحة. وأضاف إلى ذلك قوله: ولا إخالني جاهلاً ما في هذه الخطوة , ولا غافلاً عما يعترض الأخذ بها من المصاعب، ولكني أعتقد أن القيام بأي عمل كائنة ما كانت العقبات التي تقف في سبيل تنفيذه خير من محاولة ستر قرحة تنغص علينا حلاوة الاعتقاد والإيمان. على أننا إذا أخذنا بالوجه الثالث؛ فإننا نكون مساقين إلى عدم تشبيه الإله بالإنسان، وإسناد خصائص الإنسان له، كما نفكر في السماء بأنها أقرب إلى الروحية منها إلى المادية؛ أي: أنها حالة لا مكان. حالة أعمق في معنى الخلود من أن تحدد بتعاقب الأيام وكر السنين. ويظهر أنه ليس للمعجزات نصيب في فلسفة أنج؛ لأنه يقول: إذا كان كل شيء في العالم قد وضع لغرض، فإنني لا أستطيع أن أفهم، أو أن أنتظر نشوء نتائج خاصة من حالات معينة. إن قوانين الطبيعة الموافقة لهذه النظرية هي كغيرها قوانين صحيحة ذات غرض معين، وهي قائمة بوظيفتها تمامًا، وإذا كانت من صنع إله قدير عالم، فإنا لا ننتظر منها إلا أن تؤدي وظيفتها بنجاح , وانتظام على وتيرة واحدة. إن الآله التي تحتاج إلى إصلاحها لهي آلة فاسدة , وأما تلك التي لم تصنعها يد حكيمة , فمن الصعب أن نطلق عليها اسم آلة على الإطلاق، على أن كل ما عمله العلم ليثبت أن للعالم نظامًا مطردًا واحدًا يدل أصدق دلالة على أن هنالك قوة خالقة واحدة. وأما فيما يتعلق بنظرية الآلهة، أو وجود قوتين قوة للخير وقوة للشر تتنازعان الغلبة بأسلحة متساوية، فإنه يقول: (إن الرجال العلميين , وأولئك الذين لا يستطيعون أن يلقبوا أنفسهم بهذا اللقب؛ إنما يحتجون على ذلك الصراع بين إله الخير وإله الشر , وعلى نظرية تعدد الآلهة عندما يرفضون الاعتراف بالمعجزات كأنها إيقاف لقانون دنيء بقانون أرقى منه؛ لأنهم لا يجدون دليلاً صحيحًا على هذا الإيقاف , ولكنهم في الوقت نفسه يعتقدون أن تقسيم الأشياء والحوادث إلى طبيعية وغير طبيعية يبعد النظام الطبيعي عن دائرة النفوذ الإلهية المباشرة) . اهـ. (المنار) لا مخرج للقسيس أنج وغيره من الذين تطالبهم فطرتهم وعقولهم بدين يتآخى فيه العقل والقلب، ويؤيده المنطق والعلم، إلا باتباع دين القرآن، المبني على أساس الحجة والبرهان، ويا ليته يطلع على ما كتبناه من وجوه إعجازه، وإذًا لا يرى بدًّا من أن يكون من دعاته.

آثار المساجد في إصلاح الأمة

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

_ آثار المساجد في إصلاح الأمة الخطبة المنبرية (خطبة منبرية ألقاها صديقنا الأستاذ: محمد عبد العزيز الخولي المدرس بمدرسة القضاء الشرعي في افتتاح معالي وزير الأوقاف لجامع الخازنداره بشبرا، بمصر، في يوم الجمعة 8 شعبان سنة 1345هـ، الموافق 11 فبراير سنة 1927م، ويعد ذلك الجامع من أهم جوامع القاهرة نظامًا واتساعًا) . الحمد لله يجزي كل امرئ مما عمل، فمن عمل صالحًا؛ فله جزاء الحسنى، ومن عمل سيئا فله سوء العقبى {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى} (النجم: 39-41) . أشهد أن لا إله إلا الله، يعلم نفوسًا طيبة طاهرة مخلصة صادقة أنفقت مالها في سبيل دينه، وإظهار شعائره، وإعلاء كلمته {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: 22) ، ويعلم نفوسًا أخرى غرتها زخارف الدنيا حتى ألهتها عن الأخرى، فأنفقت مالها في سبيل المظاهر الكاذبة، والدعاية الباطلة {أَوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أسوتنا في مكارم الأخلاق، قدوتنا في صالح الأعمال، سباقنا إلى الخيرات، فصلوات الله وسلامه عليه , وعلى آله وصحبه الذين رووا من علمه، واستنوا به في عمله (جزاهم الله أحسن ما كانوا يعملون) . (أما بعد) : فإن من أبر الأعمال، وأعظمها منزلة عند الله بناء المساجد، وتعمير بيوت {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (النور: 36-38) ? كيف لا تكون المساجد خير ما يبنى، وفيها تقام الصلاة التي هي عماد الدين؟ ومن أقامها أقامه، ومن هدمها هدمه، الصلاة التي حسب الجاهلون أنها حركات رياضية لا صلة لها بالأخلاق، وسياسة الكون، وما دروا أن بالصلاة توثيق العلاقات بين أهل السماء وأهل الأرض، وتوثيق العلاقات بين المخلوقين وأحكم الحاكمين، إن مصر لتسعى جهدها في توثيق العلاقات بينها وبين الدول الأجنبية؛ لتأمن شرها، وتستجلب خيرها، فهل تلكم الدول أعظم خطرًا وأعز جندًا من دولة السماء التي على رأسها رب العالمين، وأعدل الحاكمين، الذي له جنود السموات والأرض، الذي بيده ملكوت كل شيء، الذي إذا أراد أمرًا فإنما يقول له: كن؛ فيكون؟ فإذا كنا ننفق الكثير من أموالنا في سبيل توثيق العلاقات، وإقامة المؤتمرات، فهلا ننفق القليل من وقتنا في القيام بصلوات نوثق بها الروابط بيننا وبين ربنا وخالقنا؛ فيمدنا بجنده الذي لا يغلب، وجيشه الذي لا يقهر {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 40-41) . إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما آذاه قومه في سبيل الدعوة، ولم ير في مكة جوًّا صالحًا لتتم له الكلمة؛ هاجر منها إلى المدينة حيث الأنصار الذين {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: 9) ، فلما أن وصل إلى قباء أول ضاحية من ضواحي المدينة مكانتها من المدينة مكانة شبرا من القاهرة، كان أول عمل قام به بناء مسجد قباء الذي يقول الله فيه: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} (التوبة: 108) ، وكان صلى الله عليه وسلم يعمل فيه بنفسه، ولما أتمه، تحول إلى المدينة، فتلقاه أهلها فرحين مستبشرين، وخرجت ذوات الخدر يقلن: أشرق البدر علينا ... واختفت منه البدور مثل حسنك ما رأينا ... قط يا وجه السرور وكان أول ما عمله أن شرع في إقامة مسجده المعروف، وكان مكانه لغلامين يتيمين، فاشتراه منهما بخمسة جنيهات، ثم أخذ يبني فيه مع أصحابه، وكان صلى الله عليه وسلم ينقل الطوب والحجارة، ويقول: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة * فاغفر للأنصار والمهاجرة) ، فأنتم ترون أن أول أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة إقامة مسجدين، فلم يبدأ بفتح المدارس، أو إقامة المستشفيات، أستغفر الله، بل فتح المساجد، وأقام المدارس، وبنى المستشفيات. هل المساجد إلا مدارس تكون فيها الأخلاق، وتهذب الأرواح، وتلقى فيها الدروس العلمية والعملية؟ ألست في المساجد تسمع آيات لله تتلى؟ وتسمع الحكم العالية، والنصائح الغالية من كلام خاتم النبيين وسيد المرسلين، وإن ذلك شفاء لما في الصدور، وهل مداواة الأجسام خير، أم مداواة الأرواح؟ إن المساجد بحق بيوت للعبادة، مدارس للتعليم الصحيح، مستشفيات لأمراض النفوس. إن المدارس الأولية التي تسعى الحكومة في نشرها جهد الطاقة، إنما تعم الصبيان، وإن المساجد يعلم فيها الصبيان والشباب والشيوخ، بل يعلم فيها النساء والرجال، وإن أنواع المدارس الأخرى، إنما تعلم بالأجر، والمساجد فتحت أبوابها لكم لا تتقاضى منكم على التعليم أجرًا ولا ثمنًا. فالمساجد في الأمة تؤدي خدمة عظيمة، لا تماثلها خدمة أخرى لو أن القائمين فيها ممن عرفوا الدين حق معرفته، ودرسوا أصلية كتاب الله والسنة، لو أنهم ممن خبروا الحياة، وعرفوا شؤونها، وكان لهم بجانب ذلك أرواح طاهرة، وعقول نيرة، وحكمة بالغة، وعسى أن يكون ذلك قريبًا {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} (الكهف: 10) . روى البخاري ومسلم، عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من بنى لله مسجدًا؛ بنى الله له مثله في الجنة) .

قانون الأحوال الشخصية في مصر ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قانون الأحوال الشخصية في مصر والتنازع بين جمود الفقهاء وإلحاد زنادقة المتفرنجين (1) لقد بيَّنَّا في مقالات كثيرة من مجلدات المنار منذ سنته الأولى إلى الآن ما كان من تقصير علماء المسلمين فيما يجب عليهم للإسلام وأهله، واشتراكهم مع الحكام والمتصوفة في أسباب إضعافه , وإضاعة ملكه. وبيَّنَّا في مقالات أخرى مفاسد ملاحدة المتفرنجين من المسلمين، وإضاعتهم بقايا تراث الإسلام في شعوبهم من أدب وفضيلة ودين، وكنا نبين في أثناء بعض هذه المقالات , وفي مقالات مستقلة شدة حاجة المسلمين إلى حزب إصلاحي معتدل يعرف أهله حقيقة الإسلام الصحيح الخالي من الخرافات والبدع، الداعي إلى الصلاح والإصلاح والسعادة والسيادة والملك، ويعرفون ما يتوقف عليه الجمع بين هذين الأمرين في هذا العصر من علوم وفنون ونظام , وليكونوا هم أهل الحل والعقد في شعوب الإسلام، ثم فصلنا القول في هذه الأحزاب الثلاثة في كتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) الذي كتبناه , ونشرناه عند شروع الترك في هدم خلافة آل عثمان الصورية؛ لبيان ما يجب على المسلمين في هذه الحال. كان الفقهاء المقلدون أعوان الملوك، والسلاطين المستبدين، والحكام المفسدين، وكان هؤلاء أنصارهم ورافعي شأنهم، وكان الغبن في ذلك على الشعوب الإسلامية التي ابتليت برياسة الفريقين , ثم اشترك مع الفقهاء في هذه المكانة من الأمراء والملوك، وأعوانهم شيوخ طرق الصوفية بعد أن صارت رياسة للعوام في الاحتفالات البدعية ومآدب الطعام، ليس فيها شيء من التصوف ولا من هداية الإسلام، فلولا الملوك الجاهلون وأوقافهم؛ لما تفرق المسلمون شيعًا وأحزابًا باسم المذاهب، بل كانوا يستقيمون على هدي السلف الصالح، أمة واحدة متحدة في دينها ودنياها، تستفيد من علم كل نابغ مجتهد فيها من غير تعصب، ولا تحزب لأفراد من العلماء يرجح كل حزب منهم ظن إمامه على نصوص الشارع، بل جعلوا أقوال شيوخهم المتأخرين من مقلدي مقلدي المقلدين، كنصوص القرآن فيما يشبه التعبد بألفاظها، وعدم الخروج عن معانيها، وإن خالفت نصوص الكتاب والسنة، ونافت جميع مصالح الأمة، حتى ضاق من الحكام بهم كل ذرع، واضطروا إلى مخالفة ما تعارفوا على أنه هو الشرع، إلى أن انقلب ذلك الوضع، وصار الحكام على هؤلاء الجامدين ضدًّا، بعد أن كانوا ردءًا لهم ورفدًا. فأما الترك فقد تركوا الشرع كله، ونبذوا فرعه وأصله، وألغوا محاكمه ومدارسه الشرعية، واستبدلوا به تشريع الغرب , وقوانينه الوضعية. وأما مصر فقد سبقت الترك إلى أخذ القوانين المدنية والجزائية عن الإفرنج، ثم جهر ملاحدتها في أثناء وضع القانون الأساسي للحكومة الدستورية , وفي أثناء وضع مشروع قانون الأحوال الشخصية الأول بأنهم يطلبون حكومة لا دينية , وقانونا مدنيًّا للأحوال الشخصية يكون عامًّا نافذًا على جميع المصريين، من ملاحدة ودينيين، مسلمين وغير مسلمين، ثم نشرت جريدتهم (السياسة) مقلات كثيرة إلحادية بقلم تحريرها , وبأقلام أنصارها من غيرهم، ونصروا كتاب الشيخ علي عبد الرزاق وهو من أركان حزبهم، نصرًا مؤزرًا؛ لجحده التشريع الإسلامي , وزعمه أن الإسلام ليس له دولة ولا حكومة ولا تشريع؛ لأنه دين روحاني محض، ومن ذلك الحين طفق كُتَّابُ جريدة السياسة يطعنون في جميع علماء الدين ويحقرونهم، وكان الدكتور طه حسين أول طاعن في الإسلام والمسلمين من أركان محرري السياسة، ومنهم: محمود أفندي عزمي أول من كتب في الجرائد مقترحًا أن تكون الحكومة المصرية لا دينية , والأحكام الشخصية فيها مدنية، وهو الآن إمام هذه الدعاية من محرري السياسة. ثم نجم قرن الإلحاد في مجلس البرلمان في دورته السابقة , ثم في دورته الحاضرة من أفراد من الأعضاء لم يجدوا لهم مفندًا، بل وجدوا مؤيدًا , طلب بعض المسلمين منهم في الدورة الماضية فرصة لصلاة المغرب , وتخصيص مكان يصلون فيه كما كانت تفعل الدولة العثمانية، فقال بعض الأعضاء: إننا لا نريد صلاة , أو ما هذا معناه فنفذ قوله. وفي الدورة الحاضرة طرحت مسألة تكذيب الدكتور طه حسين للقرآن , وطعنه في الإسلام في مجلس النواب الحاضر , فأنحى بعض الأعضاء باللائمة على الحكومة؛ لتركها إياه معلمًا لأولاد الأمة في أعلى مدارسها (الجامعة المصرية) ، وعدم عقابه على الطعن في دينها الرسمي؛ فتصدى للرد عليهم صاحب الدولة رئيس الوزارة عدلي باشا يكن , ولكن شايعهم في إدارة نظام المفاوضات صاحب الدولة سعد زغلول باشا رئيس المجلس حتى كاد يلجئ رئيس الوزارة إلى الاستقالة , فتلافى ذلك بعض النواب , وأجلوا البحث إلى أن اجتمع الرئيسان , واتفقا على ترك هذه المسألة للقضاء , ثم لم يفعل القضاء شيئا. وبقي الدكتور طه حسين يلقن نابتة الأمة التشكيك في الدين , ويجرئهم على الإلحاد فيه. وصاح عضو من أعضاء مجلس النواب في إحدى جلساته: بأنه يجب القضاء على الدين الذي يبيح تعدد الزوجات - يعني دين الإسلام - وقال آخر: (إن مصطفى كمال باشا لم يفعل إلا إزالة تكايا أهل الطريق الخرافيين) , فلم ينكر عليهما المسلمون منهم , ومعناهما واحد , ولكن قال قائل في هذا المجلس: (إنني بصفتي مسلمًا) أقول كذا , في مسألة إسلامية خاصة بالمسلمين، فصاح بعضهم في وجهه: لا تقل: إنني مسلم , ليس ههنا إلا مصري يمثل جميع المصريين , أو ما هذا معناه؛ فلم ينكر هذا أحد على قائله بأن تمثيل النائب لجميع المصريين يحرم على المسلم أن يصرح بدينه، فههنا مسألة غفل عنها هؤلاء المتفرنجون , وهي أن هذا المجلس يضع قوانين شرعية إسلامية خاصة بالمسلمين , وهي موضوع مقالنا هذا , فيجب أن يعلم المسلمون بأي صفة , أو بأي حق يشرعونها. ثم إن المعاهد الأزهرية كانت قد نالت من الحكومة المصرية مطالب كانت تعدها ثمرة؛ لاشتراكها في الأعمال الوطنية التي قامت بها الأمة منذ ثورة سنة 1919 , فسلبتها إياها الحكومة الائتلافية الدستورية الحاضرة؛ فثار طلاب الأزهر , وملحقاته بإغراء بعض المدرسين ثورة شؤمى سددوا فيها سهامهم إلى الدستور، على ما يعتقد الجمهور، فنصح لهم العقلاء من أساتذتهم بترك هذا التهور , والإعراض عمن أغراهم به، فغرتهم كثرتهم , وشقشقة ألسنتهم , فلم تغنيا عنهم شيئًا، كبحت الحكومة كل ما كان لهم من جماح، وقصصت كل ما كان لهم من جناح؛ فأصبحوا في معاهدهم جاثمين، وانطلقت ألسنة الجرائد في أعراضهم، وطفقت النيابة العامة تبحث عن موجبات العقاب القانوني من أقوالهم، وتدعو إلى دور القضاء المتهمين من طلابهم وأساتذتهم، ثم حكمت على بعضهم؛ فغلبوا هنالك , وانقلبوا صاغرين، ولم يكونوا في ثورتهم , ولا في سكونهم بمهتدين. ثُم نقب بعض النواب عما أخذ الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر من وزارة الأوقاف من المال الذي أنفق في سبيل مؤتمر الخلافة الذي تولى مع هيئة كبار العلماء الدعوة إليه، فجاءهم وزير الأوقاف ببيانه، وقدره 2500 جنيه؛ فهاجت الأحزاب الائتلافية الساخطة على شيخ الأزهر، وعلى العلماء العاملين في مؤتمر الخلافة، وأنشأت جرائدها تشايع من بالغ من النواب في إنكار هذا العمل، وكان لذلك سببان سياسي , وإلحادي؛ (السبب الأول) أن الأحزاب البرلمانية المؤتلفة التي تمثلها الحكومة الحاضرة تعد شيخ الجامع الأزهر، وكبار علمائه من أنصار حزب الاتحاد الذي كان يؤيد الوزارة التي تولت أمر الحكومة في عهد تعطيل الدستور بقوة الاحتلال القاهرة؛ إذ كان يعد نفسه ويعدونه هم حزب السراي) العامرة، وكان حسن نشأت باشا وكيل وزارة الأوقاف، ورئيس الديوان الملكي بالنيابة، هو المرجع لشيخ الأزهر، والسكرتير العام للمعاهد الدينية في أمر الدعوة إلى تأليف مؤتمر الخلافة، ولذلك كان حزب الاتحاد وحده هو المؤيد لهذا المؤتمر , وهو الذي لا يزال يدافع عنه وعن أهله في جريدته إلى اليوم كما بلغنا , وكانت الجرائد الوفدية , والدستورية تطعن فيه، وهي التي أثارت مسألة نفقاته من بعد، وألبسوها ثوبًا من التدليس , أو التزوير، تولى كبره بزعمهم الأستاذ الأكبر، وشاركه في وزره كل من أصابه شيء من المال للمساعدة على هذا العمل، ذلك بأنه وجد في الوثائق الرسمية أن الشيخ طلب من وزير الأوقاف مبلغًا من أموال الأوقاف الخيرية؛ لينفق على بعض (الأعمال السائرة) في المعاهد الدينية , وهو (لا يدخل في ميزانيتها) , فأعطاه وزير الأوقاف خمسمائة جنيه من فضل وقف يسمى وقف أم حسين عملاً برأي لجنة الأوقاف الاستشارية، ثم طلب مبلغًا بعد مبلغ , فكان جملة ما أخذه 2500 جنيهًا أنفقها في هذه السبيل، وهو زهاء. (السبب الثاني) أن حزب الملاحدة افترض هذه الحملة وما ألبسته من ثوبي زور؛ للانتقام من رجال الدين وتحقيرهم، وإبطال ثقة العامة بدينهم وعلمهم، فطفق كتابه يحبرون المقالات في إثر المقالات، ويوالون الصيحات الهيعات: أيها المسلمون، انظروا ما فعل علماؤكم الدينيون، أكلوا أموال الفقراء والمساكين، واستحلوا ما حرم رب العالمين، فأثبتوا لكم أنه لا ذمة لهم ولا دين، وإننا نحن الذين ينبذوننا بألقاب الإلحاد والزندقة، والإباحة المطلقة، نغار على دينكم وأوقافكم، ونضرب على أصابعهم أن تسدر أخلافكم , الأوقاف الأوقاف، ذهبت الأوقاف، هلك مستحقو الأوقاف , فعاقبوا شيخ الأزهر، على ما دلس وزوّر …. هل يصدق أحد من علماء الدين، أو رجل مستقل الفكر، ولو من غير المسلمين، أن أحدًا من هؤلاء الصائحين النائحين، يغار على الأوقاف، أو يدافع عن الفقراء والمساكين، وهم يعلمون أن عشرات الألوف من الجنيهات تصرف منتها كل عام في غير مصارفها الشرعية، ولا يرون جريدة تقول كلمة في ذلك؟ أم يعتقد عاقل أن شيخ الأزهر خدع وزير الأوقاف العالم القانوني، وغشه بإيهامه إياه أن ما طلبه من المال لبعض الأعمال السائرة في المعاهد الدينية كان يريد إنفاقه على العلم والتعليم بشرط أن لا يدخل ميزانية المعاهد؟ أيجهل أحد من رجال الحكومة وأصحاب الصحف ومحرريها , أو من الواقفين على الشؤون العامة من أعضاء البرلمان وغيرهم أن وزير الأوقاف , ووكيل وزارته , ولجنة الشورى فيه كانوا يعلمون أن شيخ الأزهر قد طلب المال؛ لأجل النفقة على مؤتمر الخلافة الذي شرع في دعوة العالم الإسلامي إليه؟ كلا , إنهم يعلمون ذلك , ولكنهم يغشون من لا يعلم من النواب والعوام، فإن كان في الطلب تزوير , فالمسئول الأول عنه وزير الأوقاف , لا شيخ الجامع الأزهر. والحق أن شيخ الأزهر طلب ما يعتقد أنه حق مشروع , وأنفقه في سبيله، وإن أساءت السكرتارية في تفصيله، فإن مسألة الخلافة من أهم المسائل الإسلامية التي يجوز الإنفاق في سبيلها من أموال الأوقاف الخيرية العامة , وأما الشكل الذي أبرز الطلب فيه , وبنى الدفع عليه , فالظاهر أنه أمر شكلي وضعته لجنة الاستشارة في الأوقاف. كان مجموع ما أجملناه من حوادث مصادمة الدين، وتحقير رجاله موسعًا لمسافة الخلف، وسوء الظن بين رجال الدين، وبين دعاة الإلحاد الذين صرحوا في مقالات عديدة نشرت في جريدة السياسة بأن ثقافة التفرنج الجديدة التي ترفع أركانها مدرسة الجامعة المصرية ستقضي على الثقافة الإسلامية التي كان ينبوعها الجامع الأزهر. في أثناء هذا التنازع، والتصارع بين الإسلام والإلحاد قامت الحكومة بمشروع قانون الأحكام الشخصية الذي نص فيه على: منع عقد المسلم ا

أنباء العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء العالم الإسلامي (دعاة الشقاق للحرب بين الإمامين يحيى وعبد العزيز) لا تزال إشاعات الشر عن استعداد الإمام يحيى لإيقاد نار الحرب تطوف الأقطار؛ فتشغل الصحف وقراءها، ويتردد في بعض المجالس الخاصة ما هو شر مما تنشر الصحف منها. ومن هذا النوع ما ورد في مكتوبات خاصة من عدن , وغيرها من أن محاضيء الفتنة من روافض الأعاجم، وأنصارهم من الهنود السياسيين قد أرسلوا إلى الإمام يحيى وفدًا يعرض عليه إمداده بألف ألف جنيه مساعدة له على قتال الملك ابن السعود لإخراجه من الحجاز، ويقال: إن مع العضو الإيراني من هذا الوفد عضوًا أفغانيًّا. فيا ليت شعري! هل هو عضو ملفق في الهند أم استطاع شاه إيران استمالة أمير الأفغان السني المصلح المدني؛ ليساعده على هدم السنة، ومعاداة أنصارها؟ الراجح عندنا أن الوفد كله ملفق بإغواء أعداء الإسلام والعرب راجا محمود آباد , وأعوانه الساعين في منع الحج، ولهؤلاء حزب في بعض بلاد الشرق. وفي سورابايا (جاوه) جريدة عربية لهذا الحزب، تجهر بالدعوة إلى هذه الحرب، وهي التي كان قد أسسها بعض غلاة الرفض من علوية الحضارم؛ لدعايته في تلك البلاد التي ينتمي جميع أهلها إلى مذهب الإمام الشافعي من أئمة السنة، فأحدثوا بينهم من الشقاق ما اشتهر أمره، وكان سببًا لتأليف عدة جمعيات تطعن في العلويين أقبح الطعن بعدما كان الإجماع على تعظيمهم وتكريمهم، وفاء لأسلافهم الذين نشروا الإسلام، ومذهب الشافعي هنالك. تعظم هذه الجريدة أمر الإمام يحيى حميد الدين، وتكبر قوته، وتغلو في استعداده الحربي، وتحبذ ما عقده من الاتفاق مع الدولة الإيطالية، وتطعن في الإمام عبد العزيز ابن السعود، وتهون أمره، وتحقر قوته، ولا عجب فقد سمع بعض علماء مصر , وفضلائها من زعيم من أشهر رجال هذا الحزب أنه يفضل استيلاء دولة أوربية على الحجاز , ويراه أضعف ضررًا من استيلاء ابن سعود عليه، ولكن الإمام يحيى أعلم من هؤلاء المتهورين بحقيقة قوته، وقوة ملك الحجاز ونجد، وأعلم منهم بمصلحته، ومصلحة بلاده، وسيرى العالم منتهى شوطهم في إغرائه، وتوريطه. وأما نحن، فإننا نرى أن السياسة المثلى التي يجب أن يتبعها الإمامان في الجزيرة العربية هي سياسة التآلف، والتحالف، والتعاون على حفظ استقلال مهد الإسلام أن تمتد إليه يد الاستعمار، ونفوذ الأجانب، ونرى أن من يوقد نار الحرب منهما على الآخر هو أكبر المجرمين، ولا يقبل له عذر من الأعذار، ونرى مع هذا أن الخطر على اليمن أقوى وأقرب من الخطر على الحجاز ونجد، ولعل الإمام يحيى قد شعر بزلته في الاتفاق مع إيطالية، وإذًا لا يختار لنفسه الدخول في مأزق يضطره إلى تمكينها من قياده، ورسوخ قدمها في بلاده. *** (الحج في هذا العام) نحمد الله تعالى أن أرى حزب الجريدة (الحضرموتية) بوادر خذلانه في الدعوة إلى هدم ركن الإسلام الركين (الحج) في البلاد التي ينفث سمومه الرفضية فيها، وهي جزائر جاوه , وما جاورها، فإن المسلمين قد لبوا دعوة الله تعالى على لسان رسوله وخليله إبراهيم، ولسان رسوله وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما إلى حج بيته الحرام ألوفًا وراء ألوف , وداسوا بأرجلهم دعوة هذا الحزب الذي كان يرفض السنة؛ فانتهى إلى رفض الفرض، كما خذل أمثالهم في الهند الإنكليزية أيضًا بالرغم من أنف المتجرين بالدين في سوق السياسة شوكت علي , ومحمد علي، والمرجو أن لا يقل حجاج هذا العام من البحر عن مائة وخمسين ألفًا، وقد بلغنا أن حكومة العراق لم تمنع الحج رسميًّا، ولكن بعض الزعماء من أعداء السنة، ومن أصدقاء الملك هم الذين يصدون عنه صدودًا، فانحصر المنع الرسمي لأداء هذه الفريضة في الدولة الإيرانية، فأين علماء الشيعة في بلادها في الهند، والعراق، وجبل عامل؟ كيف يسكتون عنها في هذا العام، بعد أن ثبت بالتواتر بطلان ما بنت عليه المنع في العام الماضي من عدم الثقة بالأمن، ودعوى إلزام الناس أن يؤدوا المناسك على مذهب الحاكم دون مذاهبهم؟ ونحن نطلب من علماء النجف، وكربلاء، وجبل عامل إصدار بيان ينشر في الصحف بأركان الحج، وشروط وجوبه؛ لنعلم هل لحكومة إيران عذر في المذهب الجعفري , أو الاثني عشري في منع المسلمين من إقامة هذا الركن من أركان الدين بنص قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) .

حكم بناء فنادق المسافرين وإجارتها لغير المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكم بناء فنادق المسافرين وإجارتها لغير المسلمين (س5) جاءنا من عمر بك الداعوق أحد أعضاء جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية العاملين في بيروت كتابًا يتضمن: الاستفتاء في بناء فندق للجمعية كفنادق مصر الكبرى , وتأجيره … , فأجبناه بالجواب الآتي المتضمن للسؤال: من محمد رشيد رضا إلى حضرة الوطني العمراني العامل عمر بك الداعوق، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد كتبت إلي بأن جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت قد طلب منها إنشاء فندق على الطراز الحديث كفنادق القطر المصري الكبرى؛ لاستثماره بالإجارة، وصرف أجرته السنوية في تعليم أولاد فقراء المسلمين، وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة. وسألتني: هل في تأجير الفندق محذور شرعي يحرمه؟ ولم تذكر لي ما عرض لك من الشبهة على تحريمه؛ فكانت سبب السؤال، وما تأجير الفندق إلا كتأجير دور السكنى للأفراد , وأهل بيوتهم , وحوانيت التجارة ومخازنها، وأنا أعلم أن للجمعية شيئًا من ذلك تؤجره، كما أن لبعض أعضائها مثل ذلك، فما بالكم تؤجرون هذه المباني , ولا تستفتون في تأجيرها؛ لأن الإجارة من العقود المعلوم حلها من الدين بالضرورة، وخصصتم إجارة الفندق بالاستفتاء. والحال أن المراد صرف أجرته في أشرف الأعمال وأفضلها , ويتسامح في المصالح العامة ما لا يتسامح في المنافع الخاصة. فإذا كانت الشبهة على هذا أن بعض المسافرين الذين ينزلون في هذه الفنادق قد يشربون الخمر فيها، والمستأجر يعدها لهم , ويبيعهم إياها، فسكان البيوت والدور وغيرها , وتجار الحوانيت منهم من يشربون الخمر , ويفعلون غير ذلك من المعاصي كالبيوع الباطلة , أو الفاسدة , والغش، ولا نعلم أن أحدًا من أئمة الفقه اشترط في صحة إجارة الدار أن يكون المستأجر مسلمًا من الصالحين المتقين؛ لئلا يرتكب فيها محرمًا. فالتأجير لغير المسلم , وللمسلم الفاسق جائز بالإجماع، وإننا نرى وزارة الأوقاف بمصر , ونظار الأوقاف الخاصة في هذه البلاد , وغيرها من بلاد الإسلام يؤجرون الدور الموقوفة للمسلمين وغير المسلمين , ولا يبحثون عن عقائدهم , ولا عن أعمالهم، وأوقاف المساجد , والأعمال الخيرية في ذلك سواء , والفنادق الكبرى في مصر يستأجرها , ويدير نظامها أناس ليسوا من المسلمين , ولا من دار الإسلام. وقد نص الفقهاء على أن غير المسلم لا يكلف مراعاة الأحكام الشرعية الإسلامية المدنية في غير دار الإسلام، كشروط البيع , والإجارة , والشركات، وكذلك يكون فندق جمعيتكم في بيروت غالبًا , وإن كان فيها فنادق أخرى صغيرة محلية يتولى إدارتها بعض المسلمين. وأنتم تعلمون أن بيروت , وسائر سورية الآن ليست دار إسلام , أي: الأحكام المدنية فيها ليست على الشرعية الإسلامية، والسلطة فيها ليست في أيدي المسلمين، هذا , وإن أكثر أحكام المعاملات المدنية في الشريعة الإسلامية اجتهادية مبنية على ضبط المعاملات التي تدور على حفظ المصالح , ودرء المفاسد، وقد أفتى الفقهاء بحل جميع أموال أهل الحرب , فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها، فما كان برضاهم , أو عقودهم؛ فهو حلال لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح، ويجري على هذا مسلمو بعض الأقطار كالصين , وكذا بعض بلاد الهند فيما بلغنا. ومن أفظع الجهل بأحكام شريعتنا , وحكمها أن نجعلها - وهي الحنيفية السمحة التي غايتها سعادة الدارين - سببًا لشقاء المسلمين , وفقرهم , واستيلاء غيرهم على ثروتهم في دارهم وغير دارهم، وهم يعلمون أن جميع الأحكام المالية حتى الدينية منها كالزكاة لم تشرع إلا بعد أن صار للمسلمين دار تنفذ فيها أحكامها بعد الهجرة النبوية. فإن قلت: هل يحل للمسلم أن يبني معبدًا؛ ليؤجره لأهل ملة يعبدون فيه غير الله تعالى؟ أو حانة للخمر , أو ماخورًا للفسق يؤجرهما لغير المسلمين؛ لينتفع بمالهم؟ قلت: لا يحل له ذلك؛ لأنه يبني لأجل الشرك بالله , ونشر الفسق الذي حرمه الله؛ ابتداءً وقصدًا لذلك. والفندق ليس كذلك؛ إذ لا يبنى لأجل الشرك , ولا لأجل الفسق , ولا يؤجر لأجلهما مباشرة وقصدًا، بل القصد منه إيواء المسافرين , فهو كالدور التي يسكنها الأفراد والأسر، والمستشفيات التي تعد لمداواة المرضى، وفي كل من الدور والمستشفيات قد يقع بعض المحرمات من شرب الخمر، وغيره من المكلفين بفروع الشريعة , وغيرهم، ولكن الدار لم تبن، ولم تؤجر لأجل هذه المحرمات التي قلما يخلو منها مكان في هذا العصر، وكذلك المستشفى. وههنا مدرك آخر للنازلة المسؤول عنها , وهي مراعاة حال العصر التي يعبر عنها الفقهاء بعموم البلوى , فمن المعلوم أن مدينة بيروت أكثر أهلها من غير المسلمين , وأن المسلمين فيها قد فشت فيهم ضروب من الفسق كشرب الخمر , والزنا من الكبائر، والظهور على عورات النساء المحارم , وغير المحارم من الصغائر التي هي ذرائع الكبائر، والكثير من دورها , وحوانيتها , أو أكثرها للمسلمين، فإذا لم يبح لهم إجارة دورهم , وحوانيتهم إلا لمسلم صالح تقي يرجح المستأجر أنه لا يرتكب فيها محرمًا , فإن أكثرها يصير معطلا ًخاليًا لا ينتفع به , بل يسرع إليه الخراب، كما يسرع إلى أهله الفقر والفناء؛ لأن المسلم الصالح التقي المأمون فسقه قليل , وربما يكون مالكًا لبيت يسكنه. وهذا حجة الإسلام الغزالي من أكبر فقهاء الشافعية , وصوفية المسلمين الورعين قد أفتى بأن المال إذا حرم كله في بلد , أو قطر حل كله , وقال هو وغيره: (إن البلاد التي يغلب , أو يعم المال الحرام بالمعاملات الباطلة , والفاسدة لا يؤخذ فيه بقول من قال: إنه يتعدى , بل يكفي المسلم الورع فيه أن يأخذ المال من طريق حلال , وإن كان أصله حرامًا) . فإذا راعينا مع هذا قاعدة إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - في كون العبادات يؤخذ فيها بظواهر النصوص من الكتاب والسنة , وكون مدار أحكام المعاملات على المصلحة , وأن النصوص ترد إليها، وتذكرنا مع هذا أنه ليس لدينا نص من الكتاب , ولا من السنة في تحريم بناء الفنادق , ولا تحريم إجارتها يعارض أصل الإباحة , أو يعارض المصلحة المعلومة بالقطع؛ لم يبق لديك احتياج إلى دليل آخر على الحل الذي لا تشوبه شبهة. وفوق هذا كله خطر تحريم ما لم يحرمه الله تعالى في كتابه , ولا على لسان رسوله بنص قطعي لا شبهة فيه. هذا الخطر أكبر , وأشد , وأعظم من خطر اتقاء شبهة في عمل حلال في الأصل كالشبهة التي فرضناها في نازلتنا. يقول علماء الأصول: إن التحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا، فأين هذا الخطاب في مسألتنا؟ قد أنزل الله تعالى في أم الخبائث , وأضر الرذائل قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) , وما كان ضرره أكبر من نفعه , والمفسدة فيه أكبر من المصلحة بتجارب الناس , فهو محرم عند جميع فقهائنا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم الخمر والقمار على جميع المسلمين بهذه الآية التي أخبر فيها رب العالمين المحيط بكل شيء علمًا بأن إثمهما أكبر من نفعهما، فعلم منه أن هذا لا يقتضي ترك جميع الناس لهما اقتضاء قطعيًّا جازمًا؛ إذ بقي فيه مجال لاجتهاد الأفراد في الموازنة بين النفع والضرر؛ ولذك ترك الخمر والميسر بعض الصحابة؛ لأنهم فهموا منها التحريم , وظل بعضهم يشرب الخمر , ويأكل مال الميسر، وظل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (اللهم بين لنا في الخمر بيانًا) حتى إذا ما نزلت آيات سورة المائدة آمرة باجتنابها أمرًا صريحًا لا يحتمل التأويل مؤكدة له ببيان علته , وبقوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (المائدة: 91) قال جميع المسلمين: قد انتهينا يا ربنا. وصار كل من عنده خمر يهرقها حتى سالت بها شوارع المدينة كأودية السيل. إن التحريم الديني على العباد حق الله وحده , وقد قال: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: 116) , وقال في بيان أصول الكفر والمعاصي الكلية: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) قال بعض المحققين: إن هذه المحرمات قد ذكرت على طريقة الترقي في الغلظة , والشدة كل نوع أغلظ مما قبله، وذلك أن كلاًّ من المعاصي , والشرك , والكفر قسمان: قاصر على فاعله، ومتعد إلى غيره , فمعصية البغي على الناس أشد من الفاحشة والإثم القاصر على فاعله، والشرك بالقول على الله تعالى بغير علم أغلظ من الشرك القاصر على فاعله، وقد صرح الكتاب العزيز بأن القول في الشرع بغير وحي من الله تعالى شرك به في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) , وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه في حديث عدي بن حاتم بأنهم كانوا يحلون لهم , ويحرمون عليهم , فيتبعونهم، فهذا معنى اتخاذهم أربابًا، ويراجع النص في التفسير المأثور من شاء. أكتفي بهذا في بيان دحض شبهة تحريم بناء الفندق , وتحريم إجارته {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) .

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما قبله) (النوع الثاني) من موارد النزاع أن عثمان كان لا يرى مسافرًا إلا من حمل الزاد والمزاد دون من كان نازلاً , فكان لا يحتاج فيه إلى ذلك كالتاجر , والتاني [1] , والجابي الذين يكونون في موضع لا يحتاجون فيه إلى ذلك , ولم يُقَدِّر عثمان للسفر قدرًا , بل هذا الجنس عنده ليس بمسافر , وكذلك قيل: إنه لم ير نفسه والذين معه مسافرين بمنى لما صارت منى معمورة. وذكر ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون: (السفر الذي تقصر فيه الصلاة الذي يحمل فيه الزاد والمزاد) , ومأخذ هذا القول - والله أعلم - أن القصر إنما كان في السفر لا في المقام , والرجل إذا كان مقيمًا في مكان يجد فيه الطعام والشراب، لم يكن مسافرًا , بل مقيمًا بخلاف المسافر الذي يحتاج أن يحمل الطعام والشراب , فإن هذا يلحقه من المشقة ما يلحق المسافر من مشقة السفر , وصاحب هذا القول كأنه رأى الرخصة إنما تكون للمشقة , والمشقة إنما تكون لمن يحتاج إلى حمل الطعام والشراب، وقد نقل عن غيره كلام يفرق فيه بين جنس وجنس , روى ابن شيبة عن علي بن مسهر , عن أبي إسحاق الشيباني , عن قيس بن مسلم , عن طارق بن شهاب , عن عبد الله بن مسعود قال: (لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم , فإنه من مصركم) . فقوله: (من مصركم) يدل على أنه جعل السواد بمنزلة المصر لما كان تابعًا له , وروى عبد الرزاق , عن معمر , عن الأعمش , عن إبراهيم التيمي , عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن , فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة فأذن لي , وشرط علي أن لا أفطر , ولا أصلي ركعتين حتى أرجع إليه , وبينهما نيف وستون ميلاً , وعن حذيفة: (أن لا يقصر إلى السواد) , وبين الكوفة والسواد تسعون ميلاً , وعن معاذ بن جبل , وعقبة بن عامر: (لا يطأ أحدكم بماشية أحداب الجبال , أو بطون الأودية , وتزعمون أنكم سفر , لا ولا كرامة , إنما التقصير في السفر من الباءآت [2] من الأفق إلى الأفق) . (قلت) : هؤلاء لم يذكروا مسافة محدودة للقصر لا بالزمان , ولا بالمكان لكن جعلوا هذا الجنس من السير سفرًا كما جعل عثمان السفر ما كان فيه حمل زاد ومزاد , فإن كانوا قصدوا ما قصده عثمان من أن هذا لا يزال يسير في مكان يحمل فيه الزاد والمزاد , فهو كالمقيم , فقد وافقوا عثمان , لكن ابن مسعود خالف عثمان في إتمامه بمنى، وإن كان قصدهم أن أعمال البلد تبع له كالسواد مع الكوفة , وإنما المسافر من خرج من عمل إلى عمل كما في حديث معاذ من أفق إلى أفق , فهذا هو الظاهر؛ ولهذا قال ابن مسعود عن السواد: (فإنه من مصركم) , وهذا كما أن ما حول المصر من البساتين , والمزارع تابعة له , فهم يجعلون ذلك كذلك , وإن طال , ولا يجدون فيه مسافة , وهذا كما أن المخاليف وهي الأمكنة التي يستخلف فيها من هو خليفة عن الأمير العام بالمصر الكبير. وفي حديث معاذ: (من خرج من مخلاف إلى مخلاف) يدل على ذلك ما رواه محمد بن بشار: حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا شعبة، سمعت قيس بن عمير يحدث عن أبيه , عن جده أنه خرج مع عبد الله بن مسعود وهو رديفه على بغلة له مسيرة أربعة فراسخ , فصلى الظهر ركعتين، قال شعبة: أخبرني بهذا قيس بن عمران , وأبوه عمران بن عمير شاهد , وعمير مولى ابن مسعود. فهذا يدل على أن ابن مسعود لم يحد السفر بمسافة طويلة , ولكن اعتبر أمرًا آخر كالأعمال , وهذا أمر لا يحد بمسافة , ولا زمان لكن بعموم الولايات، وخصوصها، مثل من كان بدمشق , فإذا سافر إلى ما هو خارج عن أعمالها؛ كان مسافرًا. وأصحاب هذه الأقوال كأنهم رأوا ما رخص فيه للمسافر؛ إنما رخص فيه للمشقة التي تلحقه في السفر، واحتياجه إلى الرخصة، وعلموا أن المنتقل في المصر الواحد من مكان إلى مكان ليس بمسافر , وكذلك الخارج إلى ما حول المصر , كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا، ولم يكن يقصر , وكذلك المسلمون كانوا ينتابون الجمعة من العوالي , ولم يكونوا يقصرون , فكان المنتقل في العمل الواحد بهذه المثابة عندهم. وهؤلاء يحتج عليهم بقصر أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، ومزدلفة، ومنى، مع أن هذه تابعة لمكة , ومضافة إليها , وهي أكثر تبعًا لها من السواد للكوفة , وأقرب إليها منها , فإن بين باب بني شيبة , وموقف الإمام بعرفة عند الصخرات التي في أسفل جبل الرحمة بريد بهذه المسافة , وهذا السير وهم مسافرون , وإذا قيل: المكان الذي يسافرون إليه ليس بموضع مقام؛ قيل: بل كان هناك قرية نمرة , والنبي صلى الله عليه وسلم لم يزل بها , وكان بها أسواق , وقريب منها عرنة التي تصل واديها بعرفة , ولأنه لا فرق بين السفر إلى بلد تقام فيه , وبلد لا تقام فيه إذا لم يقصد الإقامة , فإن النبي صلى الله عليه وسلم , والمسلمين سافروا إلى مكة , وهي بلد يمكن الإقامة فيه , وما زالوا مسافرين في غزوهم وحجهم وعمرتهم , وقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في جوف مكة عام الفتح وقال: (يا أهل مكة , أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر) , وكذلك عمر بعده فعل ذلك , رواه مالك بإسناد صحيح , ولم يفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا أبو بكر , ولا عمر بمنى [3] , ومن نقل ذلك عنهم؛ فقد غلط , وهذا بخلاف خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء كل سبت راكبًا وماشيًا , وخروجه إلى الصلاة على الشهداء , فإنه قبل أن يموت بقليل صلى عليهم , وبخلاف ذهابه إلى البقيع , وبخلاف قصد أهل العوالي المدينة؛ ليجمعوا [4] بها , فإن هذا كله ليس بسفر , فإن اسم المدينة متناول هذا كله , وإنما الناس قسمان: الأعراب , وأهل المدينة , ولأن الواحد منهم يذهب , ويرجع إلى أهله في يومه من غير أن يتأهب لذلك أهبة السفر , فلا يحمل زادًا , ولا مزادًا لا في طريقه , ولا في المنزل الذي يصل إليه؛ ولهذا لا يسمى من ذهب إلى ربض مدينته مسافرًا؛ ولهذا تجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء , وهو يقدر بسماع النداء وبفرسخ , ولو كان ذلك سفرًا لم تجب الجمعة على من ينشئ لها سفرًا , فإن الجمعة لا تجب على مسافر , فكيف يجب أن يسافر لها. وعلى هذا , فالمسافر لم يكن مسافرًا لقطعه مسافة محدودة , ولا لقطعه أياما محدودة؛ بل كان مسافرًا لجنس العمل الذي هو سفر , وقد يكون مسافرًا من مسافة قريبة , ولا يكون مسافرًا من أبعد منها , مثل أن يركب فرسًا سابقًا , ويسير مسافة بريد , ثم يرجع من ساعة إلى بلده , فهذا ليس مسافرًا , وإن قطع هذه المسافة في يوم وليلة , ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد؛ فكان مسافرًا كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة , ولو ركب رجل فرسًا سابقًا إلى عرفة , ثم رجع من يومه إلى مكة؛ لم يكن مسافرًا , يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: (يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن , والمقيم يومًا وليلة) , فلو قطع بريدًا في ثلاثة أيام؛ كان مسافرًا ثلاثة أيام ولياليهن؛ فيجب أن يمسح مسح سفر , ولو قطع البريد في نصف يوم؛ لم يكن مسافرًا , فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما اعتبر أن يسافر ثلاثة أيام سواء كان سفره حثيثًا , أو بطيئًا , سواء كانت الأيام طوالاً , أو قصارًا. ومن قدره ثلاثة أيام , أو يومين جعلوا ذلك بسير الإبل والأقدام , وجعلوا المسافة الواحدة حدًّا يشترك فيه جميع الناس حتى لو قطعها في يوم؛ جعلوه مسافرًا ولو قطع ما دونها في عشرة أيام؛ لم يجعلوه مسافرًا , وهذا مخالف لكلام النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضًا فالنبي صلى الله عليه وسلم في ذهابه إلى قباء , والعوالي وأُحُد , ومجيء أصحابه، من تلك المواضع إلى المدينة إنما كانوا يسيرون في عمران بين الأبنية، والحوائط التي هي النخيل، وتلك مواضع الإقامة لا مواضع السفر، والمسافر لا بد أن يسفر؛ أي: يخرج إلى الصحراء، فإن لفظ السفر يدل على ذلك، يقال: سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته , فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف فيها من بين المساكن؛ لا يكون مسافرًا , قال تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: 101) , وقال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} (التوبة: 120) , فجعل الناس قسمين: أهل المدينة والأعراب. والأعراب: هم أهل العمود , وأهل المدينة: هم أهل المدر، فجميع من كان ساكنًا في مدر، كان من أهل المدينة , ولم يكن للمدينة سور ينهز به داخلها من خارجها , بل كانت محال، محال، وتسمى المحلة دارًا، والمحلة: القرية الصغيرة فيها المساكن , وحولها النخل والمقابر ليست أبنية متصلة، فبنو مالك بن النجار في قريتهم حوالي دورهم أموالهم ونخيلهم، وبنو عدي بن النجار دارهم كذلك، وبنو مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك , وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك، وبنو عمرو بن عوف كذلك , وبنو عبد الأشهل كذلك، وسائر بطون الأنصار كذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير دور الأنصار دار بني النجار , ثم دار بني الحارث , ثم دار بني ساعدة , وفي كل دور الأنصار خير) , وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل في بني مالك بن النجار , وهناك بنى مسجده , وكان حائطًا لبعض بني النجار فيه نخل وخرب وقبور , فأمر بالنخل فقطعت , وبالقبور فنبشت , وبالخرب فسويت , وبنى مسجده هناك , وكانت سائر دور الأنصار حول ذلك , قال ابن حزم: ولم يكن هناك مصر. قال: وهذا أمر لا يجهله أحد , بل هو نقل الكوافي عن الكوافي , وذلك كله مدينة واحدة , كما جعل الله الناس نوعين: أهل المدينة , ومن حولهم من الأعراب، فمن ليس من الأعراب , فهو من أهل المدينة، لم يجعل للمدينة داخلاً وخارجًا وسورًا وربضًا كما يقال مثل ذلك في المدائن المسورة، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حرم المدينة بريدًا في بريد , والمدينة بين لابتين، واللابة: الأرض التي ترابها حجارة سود , وقال: (ما بين لابتيها حرم) , فما بين لابتيها كله من المدينة , وهو حرم , فهذا بريد لا يكون الضارب فيه مسافرًا. وإن كان المكي إذا خرج إلى عرفات مسافرًا فعرفة ومزدلفة ومنى صحاري خارجة عن مكة , ليست كالعوالي من المدينة , وهذا أيضًا مما يبين أنه لا اعتبار بمسافة محدودة , فإن المسافر في المصر الكبير لو سافر يومين أو ثلاثة؛ لم يكن مسافرًا , والمسافر عن القرية الصغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرًا , فعلم أنه لا بد أن يقصد بقعة يسافر من مكان إلى مكان , فإذا كان ما بين المكانين صحراء لا سكان فيها يحمل فيها الزاد والمزاد؛ فهو مسافر , وإن وجد الزاد والمزاد بالمكان الذي يقصده. وكان عثمان جعل حكم المكان يقصده حكم طريقه , فلا بد أن يعدم فيه الزاد والمزاد , وخالفه أكثر علماء الصحابة , وقولهم أرجح , فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر بمكة عام فتح مكة , وفيها الزاد والمزاد , وإذا كانت منى قرية فيها زاد ومزاد فبينها وبين مكة صحراء يكون مسافرًا من يقطعها كما كان بين مكة وغيرها , ولكن عثمان قد تأول في قصر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة أنه كان خائفًا؛ لأنه لما فتح مكة والكفار كثيرون , وكان قد بلغه أن هوازن جمعت له , وعثمان يُجَوِّزُ القصر لمن كان بحضرة عدو , وهذا كما يحكى عن عثمان أنه - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - إنما أمرهم با

الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى (3) نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم لصاحب الفضيلة الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقًا [*] وفي صفحة 16: (وكان أبو موسى الأشعري يتجافى عن أكل الدجاج؛ لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ) إلخ، نقول: وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يتجافى عن أكل المباح الذي لم يتعوده كما في قصة الضب إلخ. ففي الموطأ عن خالد بن الوليد أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فأتي بضب محنوذ , فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه. فقيل هو ضب يا رسول الله. فرفع يده , فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: لا ولكنه لم يكن بأرض قومي , فأجدني أعافه. قال خالد: فاجتررته , فأكلته , ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر.. اهـ. فانظر إلى هذه الوطنية [1] الصادقة حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (لم يكن بأرض قومي) , وإلى امتناع أبي موسى الأشعري عن أكل الدجاج؛ لأنه لم يعهدها للعرب.. إلخ. ومن الغريب أن يتجافى الرسول وأصحابه عن أكل طعام مباح؛ لعدم اعتياد فقط , بينما ترى كثيرًا من المسلمين وبعض فقهائهم وزعمائهم يتساقطون على قصاع الخنزير ومأكولات الإفرنج، ويتغالون في شراء علب المربيات والسمك والضفادع والحشرات رغمًا عما يرد يوميًّا في الكتب والمجلات الطبية من النهي عن أكلها , والتحذير من قربانها؛ لتعفنها من جهة , ولغشها بخلطها بمواد أخرى الله أعلم من أين يؤتى بها. وفي صفحة 16 فانظر تجد أن النكبة إنما جاءت على المسلمين من مخالفتها ما تقتضيه الخلافة إلخ، نقول: وعليه , فيجب على جميع العلماء في العالم الإسلامي السعي العظيم لإرجاع الخلافة , وبذل أعظم المجهودات؛ لجمع مؤتمر الخلافة ثانيًا , وتنظيمه لانتخاب الخليفة ومحاربة الملك الطبيعي أين وجد. وفي صفحة 48: (وحكم مثل هذا الإجماع أن يكون المجمع عليه عقيدة , ويكون منكره كافرًا [2] ) إلخ، نقول: إن ذلك صار عقيدةً راسخةً عند المسلمين اهتم العلماء بها , وبحثوها في مؤلفاتهم الدينية في الحديث والأصول والكلام , وأودعوها حتى في التآليف التعليمية والأراجيز الابتدائية التي تؤلف للمبتدئين قديمًا وحديثًًا؛ لتنشئتهم على العلم بأنها من المعتقدات الدينية , قال في الجوهرة: وواجب نصب إمام عدل ... بالشرع فاعلم لا بحكم العقل فإلى متى يعتذر عن هذا الأصم المتخرج من الأزهر الذي يحارب الدين بالبهتان والسفسطة , {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ} (الأنفال: 22) . وفي صفحة 65: (وإن لم يكن إلا ما كان في القرآن من سياسة , وإلا ما في كتب الفقه من سياسة , وتقسيمه الأحكام إلى مغلظة وغير مغلظة إلخ) , نزيد على ذلك أن كتب الحديث الستة , والموطأ قد استقصت أكثر الأحكام السياسية الشرعية المدنية والجنائية، ففي صحيح البخاري ما يناهز 4000 ترجمة بعضها في العبادات: الإيمان والتوحيد والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج، وأكثرها في الأحكام السياسية الشرعية المدنية والجنائية. ففي كتاب العلم نحو 55 ترجمة، وفي كتاب الزكاة نحو 80 ترجمة، وفي كتاب البيوع وما شاكلها كالصرف والمرابحة والسلم والشفعة والإجارة وأجور العملة، والسماسرة، وأهل الحرف اليدوية وشبهها، والكراء، والجعل الحوالات نحو 170 ترجمة. وفي المعاملات وما ألحق بها كالوكالة , والشركة , والمزارعة , والمساقاة، والقرض , والقراض، وأداء الديون، والحجر , والتفليس، والخصومات، والصلح، والإصلاح، والرهن، والضمان، والإقرار، والاستحقاق، والوديعة، والعارية , والغصب، والاستحقاق، والمظالم , والكتابة، والعتق , والهبة، والشهادات، والشروط؛ أي: التوثيق نحو 390 ترجمة، وفي كتاب الوصايا والأوقاف نحو 40 ترجمة، وفي كتاب النكاح والطلاق والنفقات نحو 195 ترجمة، وفي كتاب الأطعمة والأشربة والذبائح والصيد نحو 130 ترجمة، وفي كتاب المرضى والطب نحو 80 ترجمة، وفي كتاب اللباس نحو 100 ترجمة، وفي كتاب الآداب العامة كصلة الرحم , والاستئذان، وآداب الزيارة , والضيافة، والصحبة , والمعاشرة، وحفظ السر , وإفشاء السلام، والتواد , والإيثار على النفس، والتواصي بالصبر والمرحمة نحو 180 ترجمة، وفي كتاب الجهاد وأحكامه نحو 240 ترجمة، وفي كتاب النكاح.. إلخ , وفي كتاب الحدود والديات والعفو عنها نحو 95 ترجمة، وفي كتاب الحيل والخداع في البيوع والمعاملات نحو 15 ترجمة، وفي كتاب الأحكام والخلافة والاستخلاف نحو 55 ترجمة. *** هذه نبذة مما اشتمل عليه صحيح البخاري رحمه الله وقد اشتمل كتاب الموطأ على أزيد من 600 ترجمة. وصحيح مسلم على أزيد من 1000 ترجمة. وسنن الترمذي على ما يناهز 2000 ترجمة. وسنن أبي داود علي ما يناهز 200 ترجمة. وسنن النسائي على ما يناهز 1000 ترجمة. وسنن ابن ماجه على زهاء 200 ترجمة. هذه أمهات كتب الحديث الصحيحة المعترف بها المسلمة عند جميع أهل السنة، أما غيرها من كتب الحديث , فلا تحصى، وكذلك كتب الأصول , ومدونات الفقه لا حصر لها، فهل مع هذا يتمادى الملحدون , وأذنابهم على إصرارهم وقولهم: إن حظ العلوم السياسية عند المسلمين كان سيئًا، وإن وجودها بينهم كان أضعف وجودًا، وإنهم لم يجدوا للمسلمين مؤلفًا في السياسة، ولا يعرفون لهم بحثًا في شيء من أنظمة الحكم. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وإذا لم يتفق للمأجور علي عبد الرازق هو وأربابه الملحدون أن يطالعوا مؤلفات الإسلام وأمهات الدين، أفلم يقف على كتاب كشف الظنون , وفهارس دار الكتب السلطانية , وخزائن الأزهر وغيره، والخزانتين التيمورية والزكية، وإذا كان لم ير شيئًا من ذلك، فكيف ساغ له أن يهاجم حصون الإسلام المنيعة , وهو خاوي الوفاض من كل شيء إلا سلاح الإلحاد والقحة {أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 59) . وفي صفحة 100: (والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد؛ إنما هو مراعاة المصلحة إلخ) , نقول: هذا الرأي هو الرأي السديد الذي أنتجته قرائح المفكرين من جهابذة العلماء؛ فيتحتم قبوله , واعتقاده [3] ، وأما ما في بعض كتب التاريخ والأدب من أن معاوية أغرى بعض قادة الأمة , ورؤساءها بأن يسألوه في المجلس العمومي أن يوصي بولاية العهد إلى ابنه يزيد كما يقع اليوم بين رؤساء الوزارات , وبين أقطاب الأحزاب في أوربا وأميركا في المسائل الهامة كالانتخابات وإبرام المعاهدات , أو نقضها , فذلك كله من الروايات المدخولة، وآتٍ فقط من خصوم معاوية غير النزيهين , ومن أعداء الأمويين كذلك , فلا يوثق بها أصلاً. فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه , وكان من الفراسة بمكان لا يلحق، وكان يعلم من حال معاوية أكثر مما يعرفه غيره، فلو كان يظن به الهوادة في أدنى شيء لما ولاه أعظم قطر وهو الشام بعد موت أخيه يزيد , وقد تركه في منصبه بقية حياته - أي: حياة عمر - التي تزيد على أربع سنين. وناهيك بشدة عمر على عماله , وما كان يعاملهم به من المراقبة الشديدة , ومحاسبتهم على النقير , والقطمير , وكثرة عزلهم من وظائفهم لأقل سبب، وقد ولَّى معاوية مع وجود أساطين الصحابة السابقين للإسلام , والمهاجرين من أجله , أفلا يكون ذلك منه أعظم تزكية لمعاوية؟ وأعظم شهادة له على حسن سيرته [4] . وفي الاستيعاب عن عبد الله بن عمر قال: (ما رأيت أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية) , فقيل له: فأبو بكر , وعمر , وعثمان , وعلي؟ فقال: (كانوا والله خيرًا من معاوية , وكان أسود منهم) . وفي صفحة 114: (وإن عصر النبي لم يخل أصلاً من مخايل الملك إلخ) , نقول: إن المخايل التي عناها الشيخ بخيت , وسطرها لم يخل منها عصر النبوة , نعم إنه خلا من المخايل التي يريدها أهل الغطرسة من بناء القصور الشامخة , واشتمالها على الفرش الوثيرة، والرياش الثمين، والأواني الفضية المزخرفة التي يظنها صغار الأحلام هي عنوان الملك. وقد خلا عصر النبوة أيضًا من كثرة الخدم , والحجاب، والأعوان الظلمة بالباب , وحيلولتهم بين الراعي , والرعية، ومنعهم للمتظلمين من رفع ظلاماتهم للملك , وخلا أيضًا من اشتغالهم بسفاسف الأمور , ومصاريف دار الملك التي تأخذ أكبر قسط من الميزانية على عاتق الرعية، ومن اشتغالهم بغصب أرزاق الناس من اللحوم , والفواكه , وأطيب الأطعمة بلا ود , ولا حساب. خلا أيضًا من الشرطة حملة الرماح , والسيوف , والبنادق أمام الملك؛ لإرهاب الرعية , وتعوديها على الذلة , والمسكنة أمام الولاة الجائرين مما لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم , وعصر الخلفاء الراشدين , فذلك وما أشبهه من المخايل الكسروية التي جاء عليه السلام لمحاربتها , والقضاء عليها قد خلا منه عصر النبي صلى الله عليه وسلم , وطهره الله من أرجاسه , وهناته , وقد صدق الشيخ علي عبد الرازق في هذه فقط , وقد يصدق الكذوب. *** (الملاحدة بين أمرين) فظهر مما تقدم أن الملاحدة واقعون بين أمرين: (أحدهما) أن يكونوا عارفين حقيقة الإسلام , وما أتى به من المنافع الدنيوية والأخروية , وأنه صالح لكل زمان ومكان , وأنه دين الفطرة الذي تنشده الإنسانية , وتصبو إليه. إلا أن ما جاء به من بعض التكاليف الخفيفة التي تربي الناس على الثبات والشجاعة , وما أوجبه من ترك المنكرات التي تخدش وجه الهيئة الاجتماعية قد ثقل حمله على عاتقهم , وجبنوا عن معاناته؛ فحملهم ذلك على الانسلاخ منه , والانحلال، والفرار من أداء الواجبات القليلة في مقابلة ما منحهم من الحقوق العامة، والحرية الطاهرة النظيفة. فالتكاليف الخفيفة مثل الطهارة التي لا يغيب عن أحد ما لها من المزايا العظيمة , وأهمها المحافظة على الصحة التي هي رأس مال الحياة. (2) ومثل الصلاة التي أخبر سبحانه أنها شاقة على الملاحدة المبعدين , فقال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: 45) الآية، ولو لم يكن فيها إلا تعويد الناس على الثبات , وضبط الوقت , واطّراح الكسل الذي هو علة الفشل لكفى. (3) ومثل الصوم الذي فيه تعويد الناس على الصبر , وتذكيرهم بما يكابده الفقراء من آلام الجوع عند اشتداد الأزمات , خصوصًا عند انحباس الأمطار , وفي أوقات البرد الشديد التي يحتاج الناس فيها للأكل أكثر من أيام الحر , فجوع الصائم يحمله على رحمة الضعفاء , وإعانتهم على مكاره الحياة , ويفتح قلبه لولوج نسمات الرحمة , والرأفة بالمحتاجين. (4) أما الزكاة , فقد حسدنا عليها عقلاء الأورباويين , وفلاسفتهم حتى قال لي أحدهم: لو كانت مشروعة عندهم؛ لما سمعت بالاشتراكية , والشيوعية أبدًا , ولما وقعوا في مصائب الاعتصابات المتوالية. (5) وأما الحج , ففوائده بارزة تكاد تلمس باليد , فالأسفار عند الإفرنجيين لا تنقطع صيفًا وشتاءً , وهي التي أكسبتهم ما هم فيه من الرخاء , وبسطة العيش زيادة على ما يكتسبه المسافر من الأرباح إن كان تاجرًا , والعلوم إن كان مفكرًا وباحثًا , وزيادة على ما ينعم به من الصحة التامة , والنزهة البهجة. هذه بعض فوائد التكاليف الإسلامية التي عمي الملحدون عن إدراكها , وعجزوا عن احتمالها؛ لضعفهم وجبنهم , وقد عد الغزالي كثيرًا من أسرارها في كتابه: الإحياء. ((يتبع بمقال تالٍ))

محاضرة مستر كراين عن جزيرة العرب ـ 2

الكاتب: مستر كراين

_ محاضرة مستر كراين عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن في جمعية الرابطة الشرقية (2) (مدينة سواكن) زرت بعض المواني الواقعة على الشاطئ الغربي من البحر الأحمر , وكان القصد من هذه الزيارة مشاهدة مدينة (سواكن) القديمة التي اعتاد الحجاج أن يأتوا إليها من قبل إفريقية؛ ليبحروا منها إلى مكة وكانت قديمًا بلدة تجارية عظيمة , ولكنها اليوم خالية خاوية. ولا تمر بعض السنين عليها حتى تنعق فيها البوم والغربان، وذلك بسبب مزاحمة بور سودان ومصوع لها، ويوجد في ضاحيتها قريتان من القش , وأصل سكانهما من الحجاج الذين انقطعوا في الطريق , ولم يصلوا لا إلى مكة ولا إلى بلادهم، وكانت علامات الفقر الشديد بادية عليهم , فلا زراعة , ولا صناعة لهم , ولا هم يتقنون كأهل الساحل صيد الأسماك. *** (الكلام على اليمن) (من الحديدة إلى صنعاء) ذهبت من مصوع إلى الحديدة ميناء صنعاء , وقد أعد لي الإمام جميع أسباب الراحة , واستقبلني حاكم الحديدة أحسن استقبال. وهذه البلاد اليمانية الإسلامية العجيبة منزوية عن العالم أكثر من القطب الشمالي , ولا يزال طراز الحياة فيها كما كان عليه قبل مئات السنين , ولكنه يختلف كثيرًا عنه في نجد لوجود جبال عالية بين صنعاء والحديدة. ركبنا في رحلتنا البغال؛ لأن البغال تسلك حيث لا تسلك الخيل ولا الجمال , وبعد ما انقضى على سفرنا من الحديدة يومان ابتدأنا نشاهد هندسة البناء في اليمن تختلف اختلافًا كليًّا عن هندسة البناء في الحجاز , وقد شاهدنا في طريقنا حقول شجر البن في بطون الجبال والوديان. إن هندسة البناء في جدة , ومكة متقنة , وجميلة، وتدل نوافذها الكثيرة الواسعة , وأبوابها الكبيرة التي تفتح , وتغلق بسهولة على حب القوم للضيافة، وعلى عراقتهم في المدنية , وميلهم إلى ضبط الأمن، بعكس اليمن التي تدل عزلة قراها , وانفرادها في الأماكن العالية الوعرة التي لا يصل الإنسان إليها إلا بصعوبة على خوف اليمانيين من غزو بعضهم بعضًا , وعلى عدم استتباب الأمن [1] وتشبه أبنية هذه القرى القلاع الحصينة , والدور الأول منها يخصص للحيوانات , والدور الثاني للحبوب والذخيرة , ولا يوجد في هذين الدورين منافذ للنور ولا الهواء , وأما الأدوار الباقية , وهي عادة اثنان فما فوق؛ فتخصص للسكن , ونوافذها صغيرة جدًّا لا يكاد يدخل منها الهواء , ولا النور , وجميع هذه الأعمال تدل أن تلك الأبنية على هذا الشكل؛ قصد الدفاع عن النفس. ومن المعلوم أن القطرين اليمن والحجاز يختلف بعضهما عن بعض اختلافًا عظيمًا , ففي الحجاز سهول واسعة , وصحار مقفرة , وأما اليمن , ففيه الجبال المرتفعة , والوديان المنخفضة [2] , وتختلف الحياة الاجتماعية فيهما اختلافًا عظيمًا , فالحجاز المقدس بنظر المسلمين تأتيه الحجاج من جميع أطراف المعمورة سنويًّا؛ لقضاء مناسك الحج , ولذلك ترى أهل الحجاز مضطرين بحكم الضرورة إلى ضمان راحة سكان الأرض , وقلما يأتيها الزوار , أو السياح , وأهلها يخشى بعضهم من بعض , ويخشون الدسائس التي يدسها لهم جيرانهم؛ فلذلك تراهم معتادين شظف العيش , ومعتصمين بالقلاع في رؤوس الجبال. على أن الإمام أعد لي جميع وسائل السفر , وكنت أينما حللت بالمساء؛ أجد غرفة معدة لنزولي بها , ولكنني اضطررت أحيانًا إلى النزول في بعض الخانات القديمة الواقعة على طريق القوافل بين عدن والقدس. ولهذه الخانات أبواب , ولكن لا نوافذ لها , وفيها ممر طويل , وغرفة واسعة خصص قسم منها بالحيوانات , والقسم الآخر بالعائلة صاحبة الخان , وبديهي أن كثيرًا من الأولاد يولدن في هذه الخانات , وقد خطر لي عند ما رأيتها أن المسيح ولد في مزود خان كهذه الخانات. إن المناظر الطبيعية بين الحديدة وصنعاء جميلة للغاية , وقد مررنا بطرقات تعلو تسعة آلاف قدم عن سطح البحر , ونزلنا في وديان عميقة حارة , وقد وصلنا إلى صنعاء في الليل على حين غرة , ولما كانت الشوارع لا تضاء بالأنوار؛ وصلنا إلى الدار المعدة لسكنانا بصعوبة شديدة على ما كان من معونة أنوار الجند لنا. وأما الدار التي نزلنا بها , فهي مؤلفة من دورين مبنيين بناءً حديثًا جيدًا , وفيها حديقة تبلغ مساحتها أكثر من فدان أرض , وقيل لنا: إن هذه الدار بيعت منذ بضعة أشهر بمبلغ (150) ريال أميركي أي: ثلاثين جنيهًا مصريًّا. وقد أخبرنا بعض الجنود الذين رافقونا في الطريق أن الجندي منهم يتناول راتبًا يبلغ ريالين ونصف أميركيين في الشهر , ويتناول ثلاثة أرغفة من الخبز لا يبلغ وزنها تسعمائة غرام , ولا يأكل الجند تقريبًا غير الخبز , ولكن بعضهم يشتركون مع بعض أحيانًا , ويبتاعون شيئًا من اللحم , ويطبخونه لأنفسهم مرة أو مرتين في الأسبوع , ومن العجب العجاب أن يرى الإنسان هذه الجنود رغم تناولها المقادير القليلة من الغذاء تحمل البنادق الثقيلة , وتتمنطق بالعتاد الكثير , وتركض على أرجلها مسافات شاسعة غير مبالية بالتعب , أو شاعرة بالجوع. زارنا ذات يوم أحد أمناء سر الإمام المدعو محمد راغب بك , وهو تركي الأصل , ولد في القسطنطينية , وترعرع في ضواحي البوسفور قرب المدارس الأميركية التي لي بها علاقات منذ زمن بعيد , وقد حدثني عنها حديثًا طويلاً , ومما قاله: إن بعض أقربائه درسوا فيها , وهذا كان لحسن حظي؛ إذ أدخلني إلى حالة الوئام مع حضرة الإمام , وكان باستطاعته أن يتوسط بيننا بطريق حكيمة. وفي اليوم الثاني قابلنا الإمام على انفراد في غاية الحفاوة والإكرام , فقال لي أنه يأذن لي أن أذهب حيث شئت بتمام الحرية , وأن آخذ رسم ما أريد أيًّا كان ما عدا رسم شخصه , وأنه لم يسمح لأحد غيري قدر ما سمح لي من الحرية في صنعاء. إن الإمام في أوائل العقد الخامس من عمره قوي البنية نشيط الحركة , ولما كانت ولاية حكمه ضيقة الرقعة؛ كان شديد الرغبة في أن يتولى إدارة شؤونها كلها بيده من جليلها إلى حقيرها. فهو يجلس كل صباح في مجلس يقصده فيه من يشاء؛ ليسأل ما يشاء , ويعرض ما لديه من أنواع الشكاوى والدعاوى , وعلاوة على ذلك , فإنه يذهب يوميًّا إلى أحد الأماكن العامة دون حارس , ولا تابع من الجند , فيصرف فيه نحو ساعة , وقد يكون منفردًا تحت أشعة الشمس , ولا يرافقه إلا رجل بمظلة الشمسية حيث يستمع الدعاوى , وينظر في المعروضات المرفوعة إليه , فهو بذلك جامع في شخصه بين مقامي السلطان , والخليفة معًا مستمدًّا قوة نفوذه من أنه سلالة الإمام علي الصحيح الخلافة. وأما ساعة ذهابه إلى المسجد يوم الجمعة , فتلك ساعة خطيرة الشأن جلالاً وبهاءً يشترك في إقامة معالمها الناس أجمعون؛ لأنه يوم المهرجان كل أسبوع , وعندما يمر راكبًا في العربة عائدًا من الصلاة , فلأقل إشارة يبديها أحد الشعب يقف المركبة؛ ليتقبل أي معروض , أو يعنى بأي أمر يرى الناس فيه على أتم استعداد لقبوله , والخضوع له. وفي المملكة اليمانية جيش نظامي , وجند من المتطوعة , وكثيرًا ما يشتركان بالإنشاد العسكري يضجان فيه بأصوات خشنة , وهو يتضمن أبياتًا يرنمون بها بما أعطوا من قوة وحماسة , ويقال: إنها أنشودة قديمة العهد. ثم إن الإمام - وإن أبدى لي حين مقابلته مزيد المجاملة , وأباح لي الحديث على غاية الإخلاص - لم ير من الحكمة أن يظهر فرط العناية بي أمام الجمهور؛ إذ كان من الضروري له أن يحتفظ بمقام الاستقلال العظيم , بل بشيء من الاستخفاف بالأجانب مراعاة القبائل الحربية المتعصبين في الحدود الشرقية من البلاد. فإن سلطانه , وأحكامه نافذة في مملكته نظير ابن السعود؛ لمجيئها عن طريق الدين , وعليها مسحة من الشدة فيه كأنه يتخذ في السلطة نوع الحكم المتحد المزدوج؛ لأنه مع كونه زيدي المذهب شخصيًّا , ومدار أحكامه على هذه القاعدة، فإن ثلث شعبه [3] على جانب البحر الأحمر من أهل السنة , ومنهم عدد معين يشغل بعض المقامات الصغرى في حكومته. *** (الضرائب) أهل اليمن من ذوي الفقر والبؤس الشديد، ولكنهم لانزوائهم في بقعتهم , وانحباسهم عن العالم الخارجي لا يشعرون بهذه الحال. وإن المرء ليأخذه العجب: كيف يستطاع في هذه الفاقة أن تفرض الضرائب على اليمنيين , وتجبى إلى الحد المؤذن بإقامة حكومة , ولا سيما في تجهيز جيش في تلك المملكة كبير؟ ذلك لا ريب عائد إلى حذق من الإمام فريد , والظاهر أن معظم واردات الحكومة هو من ضريبة العشر المفروضة على الحاصلات في عامة أنواعها، على أن الناس باحوا لي أن العشر قد يترقى - بعسرهم والتضييق عليهم - إلى الربع! وإنهم لذلك متألمون ناقمون. *** (المباني) قل أن ترى في مباني اليمن ما يقل عن ست من الطباق (أو الأدوار) , وأما البناء فعلى درجة عظيمة من مخالفات الجمال , ولم أر إلا القليل مما يدل على حسن الذوق سواء أكان في هيئة البناء , أو مواده , أم في ملابس الناس وغنائهم , وإنما يستثنى من ذلك بناء الجوامع , فإن منها عددًا يبدو فيه شيء من الجمال النسبي على ما فيه من بساطة الهندسة , والرسم خلافًا لبناء المنازل. وبعض تلك الجوامع يرجع تاريخ تشييدها إلى عدة قرون , وقد ظننت لأول الأمر أن البنائين أتوا من القسطنطينية لهندستها , وبنائها، ولكنهم أكدوا لي أن كلا الأمرين من صنع أهل البلاد أنفسهم. *** (تعرفي إلى الناس) لم يكد يستقر بي المقام في صنعاء حتى بادر إلى زيارتي الجم الغفير من أهلها، وكلما أردت أن أدرس وجهًا من وجوه حياة اليمن كان أمري ينتشر بين الطبقات , فكان يوافيني واحد , أو جماعة من أهل ذلك الشأن , فقابلت الرؤساء , والبنائين , والتجار , ورجال العسكرية , ولا سيما العلماء , وفيهم القاضي الكبير الذي يحمل سمة المسلم التاريخي القديم , وبلغ بيننا التعرف مبلغه حتى أقبل لزيارتي المرار العديدة. ولقب (القاضي) في اليمن له معنى خاص؛ فإنه يطلق عادة على طائفة ممتازة من جميع طلاب العلم , كما أن كلمة (شيخ) تستعمل كذلك في الشمال. *** (سبأ وسد مأرب) كنت شديد الرغبة في الرحلة إلى سبأ , وعلى الخصوص لمشاهدة السد القديم الذي كان مصدر خصبها , وزهوها. إن مؤسس هذه المدينة هو (عبد شمس) الذي ابتدع عبادة البعل , أو الشمس , ثم أضاف إليها القمر , وخمسة كواكب سيارة أخرى , فتم بذلك عددها؛ أي: السيارات السبع , فكان هذا العدد أصل تلك المدينة (سبأ) , وقد بنى أيضًا سدًّا عظيمًا بين جبلين بحيث ينشأ به خزان من الماء يحيي المدينة , وما حولها من الأرجاء , ويهب لها الخصب والنماء. ثم بعد 1500 عام تصدعت جوانب السد؛ فطغى الماء على المدينة , وما جاورها من البلاد , ودمر كثيرًا من القرى , ولعل هذه الكارثة كانت أصل الحديث (الطوفان) . وأما الإمام , فمع أنه شديد الحرص على إعطائي كل ما أطلب إلا أنه قال لي في شأن هذه الأمنية: إن هذه الرحلة من المستحيلات , ومع أن سبأ لا تبعد عن صنعاء أكثر من 75 ميلاً , فهو لم يتمكن من الذهاب إليها إلا بعد أن اتخذ أشد الاحتياط لما أن قبائل تلك الناحية على أعظم جانب من التعصب (الذميم) يعدون ذواتهم حراس الكنز العظيم المقدس الباقي من آثار تلك العاصمة القديمة , فلا يأذنون لأجنبي أن تطأها قدمه , أو يقترب منها , ومما قال لي الإمام: إن بعثة ألمانية ذهبت للبحث في تلك الناحية قبل الحرب العالمية , فلم يبق البدو على أحد من رجالها. *** (حفلة استقبال لرجوع ابن الإمام من سفره) لم ينقض على نزولي صنعاء عدة أيام حتى ورد نبأ بمجيء ابن الإمام ولي عهد إمامته بعد يوم واحد , وكان غائبًا

نساء العرب السياسيات

الكاتب: عبد الحميد الزهراوي

_ نساء العرب السياسيات مقتبس من كتاب سيرة السيدة (خديجة أم المؤمنين) [*] للشهيد الشهير السيد عبد الحميد الزهراوي رحمه الله تعالى ولقد كان كثير من نساء العرب يشاركن في السياسة , والأمور العمومية , وناهيك أن الحرب التي ظلت مستمرة نحوًا من أربعين سنة بين بني ذبيان , وبني عبس لم يتفكر في إطفاء نارها إلا امرأة , ولم تتمكن من إطفائها إلا بما لها من المكانة , وحسن الرأي , وذلك أن بيهسة بنت أوس بن حارثة بن لام الطائي لما زوجها أبوها من الحارث بن عوف المري , وأراد أن يدخل عليها قالت: أتتفرغ للنساء , والعرب يقتل بعضها بعضًا؟ - تعني بني عبس وبني ذبيان - فقال لها: ماذا تقولين؟ قالت: (اخرج إلى هؤلاء القوم , فأصلح بينهم , ثم ارجع إلي) , فخرج وعرض الأمر لخارجة بن سنان , فاستحسن ذلك , وقاما كلاهما بهذا الأمر , فمشيا بالصلح , ودفعا الديات من أموالهم. وحسبك من اشتهرن من العربيات في السياسة، منهن اللاتي كن من شيعة الإمام علي أيام مناصبة معاوية له كسودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية، وبكارة الهلالية، والزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية، وأم سنان بنت جشمة بن خرشة المذحجية، وعكرشة بنت الأطرش بن رواحة، ودارمية الحجونية، وأم الخير بنت الحريش بنت سراقة البارقي , وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب الهاشمية. وفدت سودة على معاوية بعد موت علي , فاستأذنت عليه؛ فأذن لها , فلما دخلت عليه؛ سلمت سودة , فقال لها: (كيف أنت يا ابنة الأشتر؟) , قالت: (بخير يا أمير المؤمنين) ، قال لها: آنت القائلة لأخيك: شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران وانصر عليًّا , والحسين , ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان إن الإمام أخا النبي محمد [1] ... علم الهدى ومنارة الإيمان فقد الجيوش , وسر أمام لوائه ... قِدَمًا بأبيضَ صارمٍ وسنان قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد نسي) , فقال: (هيهات , ليس مثل مقام أخيك ينسى) , قالت: (صدقت والله يا أمير المؤمنين، ما كان أخي خفي المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء: وإن صخرًا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وبالله أسألك يا أمير المؤمنين إعفائي مما استعفيته. قال: (قد فعلت , فقولي حاجتك) , فقالت: (يا أمير المؤمنين إنك للناس سيد، ولأمورهم مقلد، والله سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط بسلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما عزلته؛ فشكرناك، وإما لا؛ فعرفناك) , فقال معاوية: (إياي تهددين بقومك؟ والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس , فينفذ حكمه فيك) , فسكتت , ثم قالت: صلى الإله على روح تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا قد حالف الحق لا يبغي به ثمنا ... فصار بالحق والإيمان مقرونا قال: (ومن ذلك؟) , قالت: (علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى) , قال: (ما أرى عليك منه أثرًا) , قالت: (بلى أتيته يومًا في رجل ولاه صدقاتنا , فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين , فوجدته قائمًا , فانفتل من الصلاة , ثم قال برأفة وتعطف: (ألك حاجة؟) , فأخبرته خبر الرجل , فبكى , ثم رفع يديه إلى السماء فقال: (اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك) , ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب , فكتب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) , {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} (هود: 85-86) , إذا أتاك كتابي هذا , فاحتفظ بما في يديك حتى يأتي من يقبضه منك , والسلام) . قال معاوية: (اكتبوا لها بالإنصاف لها , والعدل عليها) , فقالت: (أَلِي خاصة , أم لقومي عامة؟) فقال: (ما أنت وغيرك؟) قالت: (هي والله الفحشاء واللؤم؛ إن كان عدلاً شاملاً , وإلا يسعني ما يسع قومي) , قال: (اكتبوا لها بحاجتها) . ووفدت بكارة الهلالية أيضًا على معاوية بعد موت علي , فدخلت عليه , وكان بحضرته عمرو بن العاص , ومروان , وسعيد بن العاص , فجعلوا يذكرونه بأقوالها التي قالتها في مشايعة علي , ومعاداة معاوية , فقالت: (أنا والله قائلة ما قالوا , وما خفي عنك مني أكثر) , فضحك , وقال: (ليس يمنعنا ذلك من برك) . وكتب معاوية إلى عامله بالكوفة أن يوفد إليه الزرقاء ابنة عدي بن قيس الهمدانية مع ثقة من ذوي محارمها , وعدة من فرسان قومها , وأن يوسع لها في النفقة , فلما وفدت على معاوية؛ قال: (مرحبًا قدمت خير مقدم قدمه وافد , كيف حالك؟) فقالت: (بخير يا أمير المؤمنين) , ثم قال لها: (ألست الراكبة الجمل الأحمر , والواقفة بين الصفين تحضين على القتال , وتوقدين الحرب , فما حملك على ذلك؟ قالت: (يا أمير المؤمنين، مات الرأس , وبتر الذنب، ولا يعود ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر؛ أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر) . قال لها: (أتحفظين كلامك يومئذ؟) قالت: (لا - والله - لا أحفظه) , قال: (لكني أحفظه) , وتلا عليها خطبة من خطبها التي هي في منتهى البلاغة , ثم قال لها: (والله يا زرقاء لقد شركت عليًّا في كل دم سفكه) , قالت: (أحسن الله بشارتك , وأدام سلامتك؟ فمثلك يبشر بخير , ويسر جليسه) ، قال: (أو يسرك ذلك؟) , قالت: (نعم والله) فقال: (والله لوفاؤكم له بعد موته، أعجب من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك) , فقالت: (يا أمير المؤمنين، آليت على نفسي أن لا أسأل أميرًا أعنت عليه أبدًا , ومثلك من أعطى من غير مسألة، وجاد عن غير طلبة) , قال: (صدقت) وأمر لها وللذين جاءوا معها بجوائز. ووفدت عليه أيضًا أم سنان بنت جشمة , وعكرشة بنت الأطرش، ولما حج سأل عن دارمية الحجونية , فجيء بها إليه , فقال لها: بعثت إليك؛ لأسألك: علام أحببت عليًّا وأبغضتني , وواليته وعاديتني؟ فاستعفته؛ فلم يفعل , فقالت له: (أحببت عليًّا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بالحق، وواليت عليًّا على حبه المساكين، وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى. ثم قال لها: يا هذه هل رأيت عليًّا؟ قالت: (إي والله) قال: (فكيف رأيته؟) قالت: (رأيته - والله - ولم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك) , قال: (فهل سمعت كلامه؟) قالت: (نعم - والله - فكان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت صدأ الطست) قال: (صدقت , فهل لك من حاجة؟) قالت: (نعم تعطيني مائة ناقة حمراء) قال: (ماذا تصنعين بها؟) فقالت: (أغذو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين العشائر) قال: (فإن أعطيتك ذلك , فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟) قالت: (سبحان الله , أو دونه؟) ، فقال: (أما والله لو كان علي حيًّا ما أعطاك منها شيئًا) , قالت: (لا والله , ولا وبرة واحدة من مال المسلمين) . وكذلك وفدت عليه أم الخير بنت حريش من الكوفة , ووفدت عليه أروى بنت الحارث , وجرى لهما معه حديث من مثل ما تقدم. فهكذا كان مقام المرأة العربية، من أخوات سيدتنا القرشية، وهكذا كان حظهن من الفصاحة , والحصافة، ومبلغهن من المشاركة في الأمور العمومية , والأخذ بالأسباب، والمشايعة لبعض الأحزاب، وما أتينا إلا باليسير؛ توطئة لمعرفة مقام السيدة خديجة في قومها.

خطبة الأستاذ إسعاف أفندي النشاشيبي

الكاتب: إسعاف النشاشيبي

_ خطبة الأستاذ إسعاف أفندي النشاشيبي مفتش معارف فلسطين، وعضو المجمع العلمي العربي في الشام ألقيت في دار الجمعية الجغرافية الملكية بالقاهرة العربية وشاعرها الأكبر أحمد شوقي بك ليست دار العربية رمال الدهناء , أو هضبات نجد , أو الحجاز , أو إقليم الشام , أو أرض العراق , بل دارها كل مكان ينطق بالضاد أهله، ويتلو فيه كتاب محمد - صلوات الله عليه - قراؤه. وأقوى القوم عربية بل العرب العرباء أعرفهم بأدب العربية , فأهل مصر إذًا هم القبيل المقدم في العربية , وهم سادات العرب. وليست اللغة العربية يا أيها الراجع من لندن , أو من برلين , أو من باريس , وقد لبث في تلك المدائن حينًا؛ ففتنته مدنية المغاربة السحرة ليست اللغة العربية بلغة بدوية، بلغة صحراوية، حتى تعرض عنها إعراضك هذا , وحتى تؤثر عليها غيرها حين جهلتها، ولكنها لغة سَامِيَةٌ سَامِيَّةٌ - إن كان ثمة سامٍ - قد نشأت من قبل في جنات النعيم عند دجلة , ولم تنبت في القفر فتظمأ وتضحى، وقد جاورت كل ذات مدنية (* إن العلا تعدي *) كما قال أبو تمام، وقد سطر أيوب الصابر بها في ذلك الزمان سفره , أو قصيدته (كما قال فولتير في المعجم الفلسفي) وسفر أيوب أجمل سفر في التوراة، وأيوب العربي كهومير هو من أكبر شعراء العالم. ثم جاءت هذه اللغة مواطن الحجاز (وكم في الهجرات من خيرات) , فنشأها الدهر هنا أفضل تنشئة , وهذبها خير تذهيب. وإن البيئة التي أخرجت في الدنيا عظيمها هي التي جلت لغته , ولن تكون لغة ذلك العظيم لغة محمد صلى الله عليه وسلم إلا عظيمة. على أن قد تخبث البيئة بعد طيبها وصلاحها , فلا تقذف إلا خبيثًا {وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} (الأعراف: 58) كما قال الله. ليست العربية بلغة بدوية صحراوية (كما قالوا لك) , بل هي اللغة الحضرية كل الحضرية , بل هي (إن استكثرت هذا النعت) لغة الأناسية الكملة الألى سوف يخلفون هذا الإنسان بعد أزمان كما خلف هو قدمًا الذين هم أدنى منه من جماعة الربابيح المحاكية. ولقد دعا العربية من قبل قرآنها (وهو القرآن هو القرآن) ؛ لتكتب معجزاته , فما وهنت , ولا عجزت , ولا ضاقت , بل اتسعت , وهذا الكتاب , وهذه آياته , وهذه ألفاظ في المصاحف تتكلم , وهذه معاني الكتاب , الكتاب العبقري , كتاب الدهر، قد تجسدت , وتجسمت , وعهدنا بالمعاني معنوية لا تتجسم , فلن تعجز لغة كتب بها الله [1] كتابه عن أن يكتب بها البشر. ولقد دعا العربية في الزمان الأول كل علم وكل فن - ولا كتاب علم واحدًا عند القوم في ذاك الوقت - فلباهما منها خير ندب وخير ظهير، وشهد الأقوام في برهة من الدهر أكداسًا من الكتب مكدسة بل أجيالاً. قال غستاف لوبون في فاتحة كتابه مدنية العرب: (إذا بحث الباحث عن آثار العرب في العلم , وعما ابتدعوه؛ علم أن ليس هناك أمة ضارعتهم , فجاءت في الزمن القصير بمثل صنعهم الكبير) . فلو لم يك عند العربية عساكر من الثروة في اللفظ والأسلوب؛ ما أنفقت هذا الإنفاق على علوم أصحابها , وعلوم سواهم , والفقير المسكين في الدنيا (يا صاحب) لا يقدر أن يعول نفسه , بله أن يمون الناس. وقد أغرق التتر طوائف من تلكم الكتب في النهر , وحرق الأسبان نفائس منها بالنار , لكن الباقي (والحمد لله) كثير , وجلت العرب عن أن تجرم إجرام ذينك الجيلين. وكذاب أي كذاب من قال: إنا حرقنا دار كتب في الإسكندرية. وكيف يقرفنا القارفون بهذا ظلمًا , وما ندب الناس إلى العلم كمثل كتابكم كتاب، ولا دعا إلى التفكير , وحب الدنيا كزعيمكم محمد زعيم. وآوى إلى هذه العربية في آونة كثيرات كل أديب , وكل عالم , وكل شاعر , وكل كاتب , فبوأت معانيهم في أكرم مبوأ , وألبستها أفتن ثوب , وقرتها (وهي المضيافة , وهي الكريمة بنت الكرام) خير قرى , فاجتلى الناس من تلكم المعاني السماويات، في هذى الحلل العدنيات، حورًا عينًا رضوانيات. فإذا لاقيتم في عصور المولدين , أو في عصور المتأخرين قبحًا في القول يمض الأذن أن تسمعه , وتقتحمه العين إما أبصرته. وإذا ألفيتم كلامًا بهرجًا قد وهت أعضاده , وتشوه تركيبه , وفقد ذاك الرونق. وإذا وجدتم شعرًا سخيفًا قد عميت معانيه، وقد استعجم على تاليه، وإذا سمعتم سجعًا غير طبيعي مرتجًا زحافًا متدحرجًا قد لعنته العربية - إذا وجدتم ذلك؛ فلا تلومن العربية , ولا تتنقصنها، ولوموا أمة ضعفت؛ فضعف قولها، وذلت؛ فذل شعرها، وحارت في دنياها؛ فاستجار كلامها. لا تلوموا العربية , ولوموا أمة ركضت إلى الدعة - قبح الله الدعة - ثم قعدت. ليس المروءة أن تبيت منعمًا ... وتظل معتكفًا على الأقداح ما للرجال وللتنعم إنما ... خلقوا ليوم عظيمة وكفاح (والحركة - كما قالوا -: ولود , والسكون عاقر) , وقد قال أبيقور: أي معنى للكون بالسلم لفقدان الحركة؟ ولام هذا الحكيم (المظلوم والله بتلك التهمة) هومير حين سأل الآلهة أن تصطلح كي تزول الحروب. إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال الهوينا بالفتى أن تقطعا وفريدريك ننشه، يرى أن عمل الرجال إنما هو القتال , وعمل النساء هو تمريض الجرحى , ولا عمل لهما غير هذا. وليس القصد يا بني أن تغلب , أو أن تغلب , بل القصد أن تكون حرب، أن تكون حركة. ألا أيها الباغي البراز تقربن ... أُساقِكَ بالموت الذُّعَافَ المُقَشَّبَا فما في تساقي الموت في الحرب سبة ... على شاربيه فاسقني منه واشربا لا تلوموا العربية , ولوموا أمة تعبدها حاكمها , وتفرعن عليها , و (استجار كيدها وعدا مصالحها) كما قال ذاك الشيخ , فلم تغضب , ولم تمش إليه بالسيف , وقد علم أوائلها التلميذ الثاني لشائد الوحدة العربية طريقة تقويم الملوك. لا تلوموا العربية , ولوموا أمة صغرت هممها , وتضاءلت عزائمها وتهزعت (تكسرت) أخلاقها (يا أسفى على صوادق الأخلاق , يا أسفى على الأخلاق الجيدة) , وكان ابن الخطاب يقول لها: (ولا تصغرن هممكم , فإني لم أر أقعد عن المكرمات من صغر الهمم) , وكان معاوية كاتب وحي النبي يقول: (يا قوم، إن الله قد اختاركم من الناس , وصفاكم من الأمم كما تصفى الفضة البيضاء من خبثها , فصونوا أخلاقكم , ولا تدنسوا أعراضكم , فإن الحسن منكم أحسن لقربكم منه، والقبيح منكم أقبح لبعدكم عنه) . لا تلوموا العربية , ولوموا أمة اجتزأت بالقليل , وقنعت من دهرها بالدون , وأنامها (قتلها) هذا القول الخبيث الأفيوني الكوكيني: (القناعة كنز لا يفنى) , وكانت ما ترضى قبل من شيء الكثير، وكانت ما تقبل حالاً وسطًا، لا شيء أو كل شيء كما يريد نتشه. ونحن أناس لا توسط بيننا ... لنا الصدر دون العالمين أو القبر وقالوا: عليك وسيط الأمور ... فقلت لهم أكره الأوسطا وكان دستورها في دنياها: (القناعة من طباع البهائم) , و (عليك بكل أمر فيه مزلقة ومهلكة) ؛ أي: بجسام الأمور. وصاحب هذا القول الكريم هو ابن مصر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا عمرو بن العاص (سلام الله عليه ورضوانه) . وقد راع تقهقر هذه الأمة , وتدهورها حين تقهقرت وتدهورت شاعريها الأكبرين في عهد انحطاطها؛ فأنكرا الحال , واستفظعاها , وراح ابن الحسين يقول: أحق عاف بدمعك الهمم ... أحدث شيء عهدًا بها القدم وإنما الناس بالملوك وما ... تفلح عرب ملوكها عجم لا أدب عندهم ولا حسب ... ولا عهود لهم ولا ذمم في كل أرض وطئتها أمم ... ترعى بعبد كأنها غنم وقعد رهين المحبسين في كسر بيته: يكفيك حزنًا ذهاب الصالحين معاً ... وأننا بعدهم في الأرض قطان إن العراق وإن الشام مذ زمن ... صفران ما بهما (للعدل) سلطان ساس الأنام شياطين مسلطة ... في كل قطر من الوالين شيطان من ليس يحفل خمص الناس كلهم ... إن بات يشرب خمرًا وهو مبطان متى يقوم (زعيم) يستقيد لنا ... فتعرف العدل أجيال وغيطان صلوا بحيث أردتم فالبلاد أذى ... كأنما كلها للإبل أعطان. فليست اللغة العربية (والحالة في تلكم العصور كما سمعتم عنها) بمستأهلة أن تلام , أو أن تعاب , فإنها لابست ضعفاء؛ فلبست كساء ضعف، وعاشرت وضعاء؛ فارتدت شعار ضعة، وما الضعف وما الضعة (والله) من خلائقها. ولو استمرت تلك القوة , ولو استمرت تلك المدنية , ولو لم يكن ما كتب في اللوح أن يكون لملأت بدائع العربية الدنيا، فإنها معدن البدائع، ومنجم كل عبقري رائع. على أن لغة العلم في العربية (وللعلم لغة وللأدب لغة) لم تضم ضيم أختها , وما المقاصد والمواقف , وشرحاهما , وأقوال ابن الخطيب , ومقدمة ابن خلدون (على مغربيتها) , وكلها في العصور المتأخرة بالتي تذم (في أسلوب اللغة العلمي) جملتها. ويخيل إلي أن نفوس الحكماء العلماء تكون في أحايين الضعف أقوى من نفوس الأدباء، فلا تهن وهنها، ولا تهون هوانها، أو كأن العلماء في الدنيا وليسوا في الدنيا , ومن الناس وليسوا من الناس , وقد يلاقي هؤلاء القوم المساكين ربهم , ولا أثر لحوادث دهرهم فيهم، وقد يقتحمون ميادين الحياة؛ فيتأخرون ولا يتقدمون , وكل منهم ينشد متحسرًا: وأخرني دهري وقدم معشرًا ... على أنهم لا يعلمون وأعلم يئست من اكتساب الخير لما ... رأيت الخير وُفِّرَ للشرار وربما لبسوا التبان للمصارعة؛ فيصرعون، وقد نازل أمس صاحبنا ولسن ذينك العفريتين لويد جورج , وكلمنصو , فعقلاه عقلة في السياسة شغزبية [2] , فصرعاه سريعًا {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} (طه: 86) كما قال الله، وأضحى جميع الناس ضحكة , ثم قضى كمدًا. *** أين الأمم المحررة يا ولسن؟ ليست العربية يا سادة بالمقصرة , ولا العاجزة , وليس الضعف , وليس العجز , وليس القبح من طبائعها. وقد كانت تنشد في هذا الدهر الأطول في أرجاء الأرض كافة هممًا بعيدات، ونفوسًا سرياتٍ أبِيَّاتٍ، وارتقاء في أمة عربية وعلاء، كيما تتجلى في الدنيا تجليها، وكي تضيء كعادتها إضاءتها، فلما ألفت في أرض مصر مرغبها، لما وجدت (محمدًا ومحمودًا) ظهرت , بل ائتلقت , بل قد تحاقر عند ضياها نور الشمس , فكان (يوم التجلي) كما يقول إخواننا النصارى , وكان عيده , وأصبحت الدنيا , وقد علت كلمة العربية , وأعلن الدهر سلطانها. وغدا محمود سامي يحمل الشعر , ويبشر الحال برسول في القريض يأتي من بعد محمود اسمه (أحمد) , ولا تسأل يا هذا قوة سامي الشعرية أن تعطيك أكثر أكثر مما أعطتك , فبحسبك ما أخذت , وحسب الرجل ما جاء منه، ولا تجود يد إلا بما تجد. وغدا الشيخ محمد عبده يحمل علم النثر , ويد جمال الدين عند محمد , وعند مصر , وعند المشرق لا تكفر. * فاذكر في الكتاب جمال الدين * وأثن عليه بالذي هو أهله ... ولا تكفرنه لا فلاح لكافر إن جمال الدين لم يكن شخصًا فذًّا، إن جمال الدين كان أمة، وإنه لم يتنبه من أمم الشرق في ذاك الوقت إلا أمتنان لا ثالثة معهما , الأولى: هي الأمة اليابانية والأمة الثانية: هي جمال الدين , فجمال الدين أمة وحده. وقد أراد ابن الحريري في البدء، أن يقتل الإمام , فنجاه كتاب الله , وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. فارجع يا فتى إلى أسلوب القرون الثلاثة الأولى , إلى الأسلوب الطبيعي العربي , إلى الأسلوب الباريسي , إلى أسلوب القرن العشرين , بل الثلاثين , بل الأربعين، وانبذ انبذ مقامات الحريري , ومقامات الهمذاني , وما شاكلها، ولا تتصفحنها إما ابتغيت تعرفها، إلا خائفًا، وحذار بك أن يستعبدك متقدم في الزمان , أو متأخر، وإياك وأن تقلد في القول أحدًا، فالمقلد عبد , ولا يرضى بالعبودية حر، والعاقل لا يهب كينونته لسواه، وإن ساواه أو علاه، وبعضهم لا يهبها ل

البيت الحرام وسدنته، بنو شيبة وحقوقهم، والهدايا له ولهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ البيت الحرام وسدنته بنو شيبة وحقوقهم , والهدايا له ولهم (س7 10) جاءتنا الأسئلة الآتية من صاحب الفضيلة الشيخ عبد القادر الشيبي رئيس سدنة البيت الحرام بمكة المكرمة، فرأينا وقد تم باب الفتوى من هذا الجزء أن ننشرها هنا مع الأجوبة عنها هنا؛ ليطلع عليها حجاج هذا العام. بسم الله الرحمن الرحيم صاحب السماحة مولانا العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا دام فضله آمين السلام عليكم ورحمه الله وبركاته. (1) إن ما نتناوله من الصلة والإكرام من زوار بيت الله الحرام بطلب , وبغير طلب بدون جبر , هل يجوز لنا نحن سدنة بيت الله أخذه أم لا؟ أفتونا مأجورين ولكم الثواب من رب العباد. (ج) يحل ما يعطى عن طيب نفس بغير طلب إجماعًا، وأما الطلب وسؤال ما ليس بحق للسائل , فهو مذموم لغير المضطر، وسنفصل القول في ذلك فيما نجيب به عن السؤال الرابع , وهو فتاوى بعض مفتي مكة المكرمة في المسألة. (2) هل من يتناولنا بالتشنيع والتنقيد في وظيفتنا؛ لتقديم ناس وتأخير ناس آخرين في دخول البيت المشرف كما تقتضيه الحالة، وفيما يصلنا من الزوار، هل على ولاة الأمر منع المتعرضين والمنتقدين؛ لما رواه يونس عن الزهري، عن بلال، وعثمان بن طلحة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن لله بيتًا؛ فاحترموه، واحترموا سدنته) ؟ ، أفتونا مأجورين ولكم الثواب. (ج) التشنيع والانتقاد على سبيل الإهانة من الغيبة المحرمة بالإجماع، فلا حاجة إلى الاستدلال عليها بمثل هذا الحديث الذي ليس من الأحاديث التي تقوم بها الحجة في الرواية، وإن كان معناه صحيحًا، بل لم أره في شيء من كتب السنة، وصيغة الاحترام لم ترد فيها، ولا في القرآن، وقد استعملها الفقهاء، وأراها مولدة، ويجب على ولاة الأمور منع من يعتدي عليهم، ويؤذيهم عند الإمكان. (3) ما قولكم دام فضلكم فيمن يصل إلى بيوت السدنة لبيت الله الحرام، ويطلب منهم ورقة تتضمن الفسح (الإذن) لدخول البيت المعظم، وتبين الوقت الذي يفتح فيه، وعند دخوله تؤخذ منه الورقة التي أعطيت له، هل يجوز ذلك أم لا؟ أفتونا لا زلتم مأجورين. (ج) إن هذا العمل يقصد به النظام، وعدم الازدحام المخل به فيما يظهر، فهو بهذا القصد حسن لا بأس به في كل حال، وقد يكون ضروريًّا في حال الازدحام. (4) مولانا، أقدم إلى مقامكم طي هذه صورة فتاوى من أسلافكم مفاتي مكة المكرمة وعلمائها الأعلام، وهي من قديم الأعوام، ونحن متمسكون بما احتوت عليه من الأحكام , والنصوص الشرعية في سدانتنا , وفي أعمالنا , وإجراء وظيفتنا , نسترحم اطلاعكم عليها , والتصديق على ما احتوت عليه من الحق والصواب الذي نرجوكم أن ترشدونا إليه ليكون عملنا عليه. ولكم الثواب. وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين صورة سؤال قدم لمفاتي مكة المكرمة ما قول العلماء الأعلام في ولاية الكعبة المعظمة , وخدمتها , وما يوجد فيها، وما يهدى لها , وما تكسى به خارجها وداخلها، وفتحها وإغلاقها، وما يأخذونه من النذور , وزوارها , والهدايا , ونحو ذلك؟ , هل يجوز لبني شيبة أخذه، ولا يشاركهم أحد في خدمتها أم لا؟ أفتونا مأجورين. فأجاب حضرة العلامة السيد عبد الله المرغني مفتي مكة المكرمة بقوله: الحمد لله رب العالمين، رب زدني علمًا، اللهم يا من لا هادي لنا سواك، أنطقنا بما فيه رضاك، فليعلم السائل أرشدنا الله وإياه للصواب، ووفقنا لما جاءت به السنة ونطق به الكتاب، أنه يختص بما ذكر بنو شيبة الموجودون الآن وإلى يوم القيامة؛ لما أرشد إليه الكتاب من الخطاب , وأورده من السنة أجلاء الأصحاب , والفقهاء الأعلام، ومفاتي بلد الله الحرام، فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر المنازعة فيه، ولا معارضة من قام منهم بما عليه بما يؤذيه، فمن فعل شيئًا من ذلك؛ استحق الطرد والإبعاد، والخزي والنكال من رب العباد؛ لدخوله في سلك من ظلم، بصريح قول المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويجب على ولاة الأمر تأييدهم وردع من يتصدى لذلك؛ اقتداءً به صلى الله عليه وسلم؛ لينالوا بركة اتباعه , ويكونوا ممن أحبهم الله لقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) , وقد ذكر العلامة أبو السعود في تفسيره كغيره من المفسرين عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) بعد أن ذكر أنه خطاب يعم المكلفين قاطبة ما نصه: ورد في شأن عثمان بن أبي طلحة بن عبد الدار سادن الكعبة المعظمة , وذكر القصة إلى آخرها , والله سبحانه وتعالى أعلم. ... ... ... ... ... كتبه المفتقر عبد الله بن محمد المرغني ... ... مفتي مكة المكرمة كان الله لهما حامدًا مستغفرًا مصليًا مسلمًا وأفتى في عين هذا السؤال حضرة العلامة الشيخ جمال الحنفي مفتي مكة المكرمة بقوله: سدانة البيت الشريف خدمته , وتولي أمره , وفتح بابه وغلقه، فسدنتها هم خدمتها، ومن يتولى أمرها الشيبيون العبدريون الثابت نسبهم ما بقي الزمان، وتوالى الملوان، المتصل نسبهم إلى ابن أبي طلحة , وأبو طلحة اسمه عبد الله بن عبد العزيز بن عثمان بن عبد الدار بن قصي القرشي العبدري الثابتة لهم هذه المباشرة الشريفة جاهلية وإسلامًا كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ المفتاح من عثمان يوم فتح مكة حتى ظن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدفعه إليه , وقال العباس بن عبد المطلب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أعطنا المفتاح مع السقاية فأنزل الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) , قال عمر رضي الله عنه: فما سمعتها من رسول الله قبل تلك الساعة. فتلاها , ثم دعا عثمان بن أبي طلحة ودفع إليه المفتاح , وقال: (غيبوه) , ثم قال: (خذوها خالدة تالدة يا بني أبي طلحة بأمانة الله , واعملوا فيها بالمعروف، فلا ينزعها منكم إلا ظالم) وروى الفاكهي عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناول المفتاح إلى عثمان قال: (غيبوه) قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح. وإنما استوردت هذه الأحاديث؛ ليستنبط منها أحكام الشيبيين، وما به جرت عادتهم القديمة منها هذه الولاية لهم من الله ورسوله جاهلية وإسلامًا فيا لها من مزية، لا تضاهيها قضية. ومنها أن لهم تغييب المفتاح , وعلى ولاة الأمر الحلم عليهم , والصفح عن زلاتهم اقتداءً به عليه الصلاة والسلام، وأخذًا من قوله صلى الله عليه وسلم: (كلوا بالمعروف) . إن ما يهدى إليهم من الصلات والإحسان على وجه التبرع يحل لهم أخذه , وهو من الأكل بالمعروف كما وضحه في البحر العميق [1] ، وكذا ما رث من كل ما أبدل، وعمر فيها كما جرت به العادة القديمة لهم بالأخذ. ومما يؤيد ذلك، ويدل عليه ما ذكره الفاكهي أنه لما حج الناصر محمد بن قلاون في سنة سبعمائة وثلاث وثلاثين أمر بقلع باب البيت المعظم، فأخذه الحجبة. ثم قال الفاكهي: (يؤخذ من هذا أن ما أزيل من البيت الشريف من المؤمن وعمل بدله يكون لبني شيبة لا يشاركهم فيه غيرهم قد شاهدناهم على مثل هذا، وإنهم يصرحون بأن هذا حقنا بالقواعد القديمة. وقد أجاب خاتمة المفتين ببلد الله الأمين حضرة السيد عبد الله المرغني في عين هذا السؤال، وقد رفع إليه في ضمن كلام طويل بما لفظه: فلا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر المنازعة فيه، ولا معارضة من قام منهم بما عليه بما يؤذيه، فمن فعل شيئًا من ذلك استحق الطرد والإبعاد، والخزي، والنكال من رب العباد؛ لدخوله في سلك من ظلم، والله أعلم. أمر برقمه راجي لطف ربه الخفي جمال بن عبد الله شيخ عمر الحنفي. مفتي مكة المكرمة كان الله لهما حامدًا مصليًا مسلمًا. وأفتى في عين هذه المسألة حضرة الشيخ عبد الله سراج الحنفي مفتي مكة المكرمة بقوله: الحمد لله على نعمة الإيجاد والإمداد , والصلاة والسلام على من حث على حفظ أمانة العباد. بنو شيبة الصحابي هم سدنة الكعبة المعظمة إلى يومنا، وإلى يوم القيامة لما صرَّحت به السنة , وليس لأحد مشاركتهم في فتحها , وإغلاقها وخدمتها؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) , وذكر أكثر المفسرين , والإمام أحمد في تفسيره الكبير عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) أنها نزلت في عثمان بن أبي طلحة الحجبي سادن الكعبة المعظمة , وروى جبير بن مطعم: قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما دام هذا البيت , أو لبنة من لبناته قائمة؛ فإن المفتاح , والسدانة في أولاد عثمان بن أبي طلحة إلى يوم القيامة) , وروى بشر بن السري في المناسك عن نافع الحجبي , وعن أبيه عبد الرحمن أن أباه حدثه أن الإمام أبا حنيفة لما حج , ودخل البيت الشريف , وصلى فيه , وأعطا له [2] ألف دينار , وقال: (بنو شيبة هم سدنة البيت إلى يوم القيامة لا يشاركهم أحد في خدمتها) . وأعظم الإمام مالك أن لا يشرك [3] مع الحجبة أحد في الخزانة لأنها ولاية من النبي صلى الله عليه وسلم إذ دفع المفتاح لعثمان. قال القاضي عياض: (الخزانة أمانة البيت , وما ينذر , وما يأخذونه من الزوار , فلهم أخذه؛ لأنه من الأكل بالمعروف) , كما أوضحه في البحر العميق , وأما ما رث من كسوتها , وجدد فيها , فهو لهم , وقول عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: ما بال بابه مرتفعًا؟ قال: (فعل ذلك قومك؛ ليمنعوا من شاءوا) وقولها: يا رسول الله كل زوجاتك دخل الكعبة غيري. فقال: (اذهبي لقرابتك شيبة؛ يدخلك) , فذهبت له فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إنها لم تفتح ليلاً في جاهلية , ولا في إسلام , فإن أمرتني؛ فتحتها , فأخذها , وأمرها أن تصلي في الحجر , رواه البخاري في صحيحه , وأما تغييب مفتاح الكعبة , فلهم تغييبه كما رواه الفاكهي , عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ناول المفتاح إلى عثمان قال: (غيبوه) . قال الزهري: فلذلك يغيب المفتاح , ولا يجوز عزل صاحب المفتاح , ولو كان غير مرضي الحال كما صرح به مفاتي مكة المشرفة؛ لأنها وظيفة من الله , ورسوله , فيا لها من مزية لا تقاس بوظيفة , أو قضية! والله أعلم. قال بفمه , وأمر برقمه خادم الشريعة , والمناهج عبد الله سراج الحنفي. وأفتى بما يؤيد ذلك ابنه العلامة الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة المكرمة بقوله: قد اطعلت على ما أجاب به والدي عبد الله سراج الحنفي , وما أجاب به شيخي الشيخ جمال بن عبد الله مفتي الأحناف بمكة , والعلامة السيد عبد الله المرغني؛ فوجدته هو الحق والصواب , ولا يعول على سواه , وجوابي كما أجابوا والله سبحانه وتعالى أعلم. كتبه خادم الشرعية والمنهاج عبد الرحمن بن عبد الله سراج الحنفي مفتي مكة المكرمة كان الله لهما حامدًا مصليًا مسلمًا. *** علاوة لهذه الفتوى من مرسلها فيما يظهر أخرج الترمذي عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأنصار، ومزينة، وجهينة، وغفار وأشجع، ومن كان من بني عبد الدار موالي ليس لهم مولى دون الله، والله ورسوله مولاهم) ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. وما أشار إليه العلامة الشيخ عبد الله سراج في فتواه السابقة إلى قول المحقق مفتي مكة المكرمة في القرن العاشر العلامة ابن ظه

دعوة مفسدي الرافضة يحيى إلى قتال ابن السعود

الكاتب: ابن زمزم

_ دعوة مفسدي الرافضة يحيَى إلى قتال ابن السعود وأهلَ الحجاز إلى الثورة ننشر هذه الأبيات الآتية من قصيدة نشرتها جريدة حضرموت بإمضاء ابن زمزم؛ ليعلم حزبها أننا نعلم أنه لا قيمة له , ولا تأثير لفتنته عند الإمام يحيى , ولا عند غيره بالأولى، فلم يبق لهم ملجأ بعد خذلان أبي الأشبال لهم إلا أن يتضرعوا لإخوانهم في إيران , فيقيموا لهم ملكًا كالملك الذي أقاموه لأئمة آل البيت من قبلهم! ! قال الناظم الأحمق: يا نفس ذوبي , ويا قلب اتقد ألمًا ... وأمطري الدم يا عيني منسجما ويا قضاء إلهي لا تذر أبدًا ... في القوم من ناطق بعد الذي دهما دهى الجزيرة خطب لا حدود له ... أعيا النهى وأثار الشر والنقما خطب يعيد بلاد العرب أندلسًا ... أخرى ويرمي على طول المدى حمما فلست مستصرخًا بالمسلمين وهم ... يرون ما فاض في بيت الهدى وطمى وما أصيب به دين النبي ضحى ... والأمر لله يجزيه بما حكما لكنني [1] سوف أدعو من إذا كشفت ... عن ساقها الحرب كان الصارم الخذما ومن تحدر من بيت محانده ... إن أجدب الناس كانوا فيهمو ديما ومن أتى جده الهادي وعترته ... من بعده ما بقوا بين الورى نعما نفسي الفداء لأهل البيت لا بقيت ... نفس إذا لم تسر في حبهم قدما يا ملجئي وأمير المؤمنين ومن ... نلقي عليه من الآمال ما عظما يا راعي اليمن الخضراء يملؤها ... تقًى وعدلاً وإيمانًا بها اعتصما يا تاج يعرب والإسلام قاطبة ... يا من يجير الحمى والدين والذمما ويا شديد العرى في كل نائبة ... أدعوك مولاي للأمر الذي قصما يا ابن النبي وأنت اليوم وارثه ... حتام يهدم في الإسلام من هدما حتام يعبث في قلب الجزيرة؟ لا ... خوف من الله لا صدق ولا شمما سكت للمعتدي يستن مندفعًا ... كيما يكون هو البادي الذي ظلمًا ثم قال يحث أهل الحجاز على الثورة تمهيدًا للزحف الموهوم: فلن يحل لكم در الحجاز وقد ... قنعتموا بالردى لا عزم لا همما بالله موتوا فقد ماتت شمائلكم ... ولا حياة لجسم يفقد الشيما أولاً فأحيوا زمانًا كنتمو شهبًا ... فيه وثوروا سراعًا واحملوا العلما كأنكم بأبي الأشبال سيدنا ... يحيى الإمام يقود البحر ملتطما كأنكم بحميد الدين يهتف في ... أكناف مكة: زال البؤس منتقما من خلفه ضيغم الفتيان أحمد قد ... خاض العجاج ففر الخصم وانهزما وخلص البيت مما قد أحاط به ... ورد للعرب والإسلام ما عدما

حجاج الشيعة الإيرانيين ومصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حجاج الشيعة الإيرانيين ومصر تعددت الأخبار من سورية بأن كثير من حجاج الشيعة الإيرانيين قد وفدوا عليها في طريقهم إلى الحجاز عصيانًا لحكومتهم في طاعة الله تعالى. وذلك أن هؤلاء الحجاج قد رأوا أن الأراجيف التي نشرت في العام الماضي لمنع الشيعة من الحج كانت كاذبة خاطئة، فالوهابيون لم يسألوا أحدًا من الحجاج عن مذهبه , ولا عن حجه , ولا كلفوا أحدًا اتباع مذهبهم , والبلاد كلها آمنة مطمئنة , فلا عذر لمسلم في ترك الفريضة مع القدرة اتباعًا لهوى حكومته , وقد روى الشيخان , وأبو داود , والنسائي من حديث علي كرم الله وجهه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله , إنما الطاعة في المعروف) , ولكن بعض الملاحدة في مصر يدسون الدسائس؛ لإقناع حكومة مصر باتباع حكومة إيران في منع الحج , وتحبيذ عملها، والمسلمون لا يثقون بأقوالهم في أمر الدين؛ لأنهم خصومه.

لا بد من قتل صاحب المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لا بد من قتل صاحب المنار بلغنا أن الكاتب المغرور، محمد حسين هيكل بك رئيس تحرير جريدة السياسة الغرور، لسان حال الحزب الحر الدستوري وحزب الملاحدة قد قرر لمرؤوسيه محرري جريدة السياسة لا بد من قتل صاحب المنار فوافقوه، وهم يعنون بهذا القتل ما يكون بأسنة أقلامهم الطعانة , فالمتبادر أنهم يعنون القتل المعنوي , أو ما يسمونه الأدبي , وإن كانوا لا يدخرون وسعًا إذا قدروا على إيذائه بغير ذلك كما فعلت السياسة حين اتهمته من قبل أنه يعمل مع جمعية سرية دينية سياسية بإغراء الأمير عباس حلمي (الخديوي السابق) , ولولا أن كذبت الحكومة هذه التهمة تكذيبًا رسميًّا عقب إذاعة جريدة السياسة لها لانتزع صاحب المنار من بين أهله , ووضع في غيابة السجن رهن التحقيق , فكان ذلك أطرب لرئيس تحرير السياسة من الصبوح والغبوق، وبلوغ العيوق. كان ذنب صاحب المنار لدى جريدة السياسة يومئذ إنكاره على علامتها المحقق الشيخ علي عبد الرازق كتابه الذي أنكر فيه التشريع الإسلامي من أساسه. وقد تضاعفت ذنوب صاحب المنار من هذا النوع , فهو بالمرصاد لجميع أنواع الدعاية الإلحادية التي تبثها جريدة السياسة باسم التجديد والثقافة العصرية التي تزعم أن مصر بدعايتها وبعناية مدرسة الجامعة المصرية ستنسخ بها ثقافة الإسلام التي مصدرها الأزهر وغيره، وتحل محلها، ويتبعها في ذلك سائر العرب بزعمها. يظن محرر السياسة أن الذي يطلق لسانه وقلمه من كل قيد من قيود الحق والصدق والأدب يستطيع إذا كان ذا خلابة أن يجعل الحق باطلاً والنور ظلامًا والشرف خسة والفضيلة رذيلة، ويظنون أنهم فعلوا بخلابتهم بسعد ووفده ما لم يفعله جيش الاحتلال , وفعلوا لحزبهم ما لا يسمح لنا ببيانه المجال. هذا وإن سعدًا قد بلغ من ارتفاع المكانة في مصر ما لم يبلغه أحد يعرفه التاريخ , فماذا يكون رشيد رضا الغريب السوري الضعيف؟ يقولون: إنا قتلناه نصف قتلة بما كتبناه في مسألة مؤتمر الخلافة , وكما قتلنا الأزهر نفسه , فهو الآن مثخن جراحًا , وسنقضي عليه ببضع مقالات أخرى. غرور كبير، ما قتلوا ولن يقتلوا إلا حزبهم وأنفسهم، وسنقضي بحول الله وقوته على أباطيلهم {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} (الأنبياء: 18) . ((يتبع بمقال تالٍ))

استفتاء في فتوى وطلب إقرارها وتصحيحها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استفتاء في فتوى وطلب إقرارها وتصحيحها (س6) من صاحب الإمضاء في (أمرتسر - الهند) ما قولكم سادة العلماء الكرام (كثر الله سوادكم) في رجل فسر آية الاستواء، وغيرها من آيات الصفات على طريق المتكلمين , هل هو من أهل السنة , أو أهل الكفر , أو أهل البدع؟ بينوا الحق والصواب تؤجروا من الله الوهاب يوم الحساب. أقول الجواب طالبًا من الله توفيق الصواب: إن مسألة الصفات الإلهية عقدة عجز عن حلها بنان العقول، وحقيقة تحير في إدراكها أذهان الفحول، قال الإمام الرازي: نهاية إقدام العقول عقال ... وغاية سعي العالمين ضلال وكان يقول أعلم خلق الله بالله صلى الله عليه وسلم في دعائه: (لا أحصي ثناءً عليك , أنت كما أثنيت على نفسك) , فلأجل إشكال الأمر , وصعوبة الخطب؛ سلك علماء السنة , وأئمة الأمة مسلكين: التفويض , والتأويل، لا يكفر صاحب أحدهما الآخر , ولا يبدعه؛ إذ مطمح نظر كلا الفريقين تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة المحدثات، وعن أن يكون ذاتًا مجردة عن الصفات، وكلا المسلكين منقول عن جماعة من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم الأئمة المتبوعين، كما قال القاضي الشوكاني: وإذا عرفت معنى الظاهر [1] فاعلم أن النص ينقسم إلى قسمين: (أحدهما) يقبل التأويل , وهو قسم من النص مرادف للظاهر، والقسم (الثاني) لا يقبله , وهو النص الصريح) , ثم أخذ بعد ذلك في تفصيل ما يقبل التأويل , فقال: (الفصل الثاني) فيما يدخله التأويل , وهو قسمان: (أحدهما) أغلب الفروع , ولا خلاف في ذلك , (والثاني) الأصول كالعقائد , وأصول الديانات , وصفات الباري عز وجل , وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب: (الأول) أنه لا دخل للتأويل فيها، بل يجرى على ظاهرها , ولا يؤول شيء منها , وهذا قول المشبهة. (والثاني) أن لها تأويلاً , ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه , والتعطيل؛ لقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} (آل عمران: 7) , قال ابن برهان: وهذا قول السلف. ثم قال بعد ذلك: (والمذهب الثالث) أنها مؤولة , قال ابن برهان: والأول من هذه المذاهب باطل , والآخران منقولان عن الصحابة , ونقل هذا المذهب الثالث عن علي , وابن مسعود , وابن عباس , وأم سلمة (إرشاد الفحول صفحة 164) . ثم قال رحمه الله: وقال ابن دقيق العيد: والذي نقوله في الألفاظ المشكلة: إنها حق , وصدق على الوجه الذي أراده الله، ومن أوَّل شيئًا منها , فإن كان تأويله قريبًا على ما يقتضيه لسان العرب تفهمه في مخاطباتهم لم ننكر عليه , ولم نبدعه، وإن كان تأويله بعيدًا؛ توقفنا عليه , واستبعدناه , ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه مع التنزيه , وقد تقدمه إلى مثل هذا ابن عبد السلام كما حكاه عنهما الزركشي في البحر (صفحة 165 إرشاد) . ثم ذكر الشوكاني شروط التأويل؛ ليبين المقبول من التأويل مما هو مردود فقال: (الفصل الثالث) في شروط التأويل , (الأول) : أن يكون موافقًا لوضع اللغة , أو عرف الاستعمال , أو عادة صاحب الشرع , وكل تأويل خرج عن هذا , فليس بصحيح، ثم قال: والتأويل في نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قد يكون قريبًا؛ فيترجح بأدنى مرجح، وقد يكون بعيدًا؛ فلا يترجح إلا بمرجح قوي , ولا يترجح بما ليس بقوي , وقد يكون متعذرًا لا يحتمله اللفظ؛ فيكون مردودًا لا مقبولاً (إرشاد صفحة 165) . وقال خاتمة الحفاظ في الفتح: قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس بآثم إذا كان تأويله سائغًا في لسان العرب , وكان له وجه في العلم (جزء 28 [2] باب ما جاء في المتأولين) , وقال مولانا حكيم الأمة , وأستاذ الهند في الحجة [3] : وقال الحافظ ابن حجر: لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم , ولا عن أحد من الصحابة من طريق صحيح التصريح بوجوب تأويل شيء من ذلك - يعني المتشابهات - , ولا المنع من ذكره.. إلخ (جلد أول صفحة 62) . وذكر حكيم الأمة قبل ذلك كلامًا رصينًا جامعًا يحل معضلات الباب , ومشكلات الخطاب في آيات الصفات ما نصه: واعلم أن الحق تعالى أجل من أن يقاس بمعقول , أو محسوس , أو يحل فيه صفات كحلول الأعراض في محالها، أو تعالجه العقول العامية، أو تتناوله الألفاظ العرفية، ولا بد من تعريفه إلى الناس؛ ليكملوا كمالهم الممكن لهم، فوجب أن تستعمل الصفات بمعنى وجود غاياتها , لا بمعنى وجود مباديها، فمعنى الرحمة إفاضة النعم , لا انعطاف القلب والرقة , وأن تستعار ألفاظ تدل على تسخير الملك لمدينة؛ لتسخيره لجميع الموجودات؛ إذ لا عبارة في هذا المعنى أفصح من هذه، وأن تستعمل تشبيهات بشرط أن لا يقصد إلى أنفسها , بل إلى معان مناسبة لها في العرف , فيراد ببسط اليد: الجود مثلاً , وبشرط أن لا يوهم المخاطبين إيهامًا صريحًا أنه في ألواث البهيمية (حجة الله باب الإيمان بصفات الله تعالى صفحة 62) . أيها الناظر! إن كان لك مسكة من علم الكلام , أو ملكة في بلوغ المرام , فتدبر عبارة حكيم الأمة كيف سلك مسلك التأويل , وأيد مذهب المتكلمين في فهم المراد من الألفاظ الدالة على صفات الله عز وجل - فلله دره! حيث أفاد وأجاد. فظهر بفضل الله مما ذكر ظهورًا بينًا أن علماء السنة لا ينكرون التأويل مطلقًا , بل هم (أنار الله براهينهم) يميزون الصحيح من الفاسد، والرائج من الكاسد، كيف ولم يزل العلماء بعد الصحابة يؤولون بعض آيات الصفات , والأحاديث إلى يومنا هذا كما تشهد النقول الآتية , والله ولي الهداية، وقد أطنب الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم الظاهري وكفى به قدوة في كتاب الفصل له , والمحدث الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات له , ونحن نلتقط لك نبذًا من كلامهما , وشيئًا يسيرًا من كلام غيرهما. (1) قوله عز وجل: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) إنما معناها: فثم الله بعلمه , وقبوله لمن توجه إليه (كتاب الفصل ص 166 مجلد 2) , وقال البيهقي: وأما قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (البقرة: 115) , فقد حكى المزني , عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: يعني - والله أعلم - فثم وجه الله الذي وجهكم الله إليه (كتاب الأسماء والصفات ص 227) , وقال البيهقي , عن مجاهد في قوله عز وجل: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} (الزمر: 56) : يعني ما ضيعت من أمر الله (ص261) . (2) , وقال ابن حزم رضي الله عنه في حديث النزول: وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن الله ينزل كل ليلة إذا بقي ثلث الليل إلى السماء الدنيا , (قال أبو محمد) وهذا إنما هو فعل يفعله الله في سماء الدنيا من الفتح؛ لقبول الدعاء , وإن تلك الساعة من مظان القبول , والإجابة للمجتهدين , والمستغفرين , والتائبين.. إلخ (ص172 ج2) , ثم ذكر أدلة صحة هذا التأويل , واستشهد بالعقل , والنقل , ثم قال: فهذا كله على ما بينا من أن المجيء , والإتيان يوم القيامة فعل يفعله الله تعالى في ذلك اليوم يسمى ذلك الفعل مجيئًا وإتيانًا، وقد روينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ} (الفجر: 22) إنما معناها: وجاء أمر ربك (ص 173 ج3) , وقال البيهقي: وأما الاقتراب والإتيان المذكوران في الخبر , فإنما يعني بهما إخبارًا عن سرعة الإجابة , والمغفرة كما رويناه عن قتادة (ص 212) , وقال الشهيد الدهلوي في العبقات (عبقة 24) : من التجليات المثالية الشهودية تجلي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا , وهو ظهور للتجلي.. إلخ (ذكر الإشارة في التجليات ص 88) . (3) وقال الإمام أبو محمد بن حزم في القول في المكان والاستواء (قال أبو محمد) : ذهبت المعتزلة إلى أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان , واحتجوا بقول الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} (المجادلة: 7) , وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} (ق: 16) , وقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) - قال أبو محمد -: وقد تأول المسلمون في هذه الآية آية الاستواء أربعًا , (والقول الرابع) في معني الاستواء هو أن معنى قوله تعالى: {عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) أنه فعل فعله في العرش , وهو انتهاء خلقه إليه , فليس بعد العرش شيء , ويبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنات , وقال: (فاسألوا الله الفردوس الأعلى , فإنه وسط الجنة , وفوق ذلك عرش الرحمن) , فصح أنه ليس وراء العرش خلق , وأنه نهاية جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء , ولا ملاء , ومن أنكر أن يكون للعالم نهاية من المساحة , والزمان , والمكان؛ فقد لحق بقول الدهرية , وفارق الإسلام. والاستواء في اللغة يقع على الانتهاء , قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 11) أي: إن خلقه وفعله انتهى إلى السماء بعد أن رتب الأرض على ما هي عليه , وبالله التوفيق , وهذا هو الحق , وبه نقول؛ لصحة البرهان به , وبطلان ما عداه (125ج2) . وقد أطنب , وأطال الحافظ المحدث أبو بكر البيهقي في مسألة الاستواء , وسرد أقوال السلف , ثم قال: والآثار عن السلف في مثل هذا كثيرة , وعلى هذه الطريقة يعمل مذهب الشافعي رضي الله عنه , وإليها ذهب أحمد بن حنبل , والحسين بن الفضل البجلي , ومن المتأخرين أبو سليمان الخطابي , وذهب أبو الحسن على بن إسماعيل الأشعري إلى أن الله تعالى جل ثناؤه فعل في العرش فعلاً سماه استواءً كما فعل في غيره فعلاً سماه رزقًا , أو نعمة , أو غيرها من أفعاله , ثم لم يكيف الاستواء إلا أنه جعله من صفات الفعل؛ لقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الأعراف: 54) , وثم للتراخي , والتراخي إنما يكون في الأفعال , وأفعال الله تعالى توجد بلا مباشرة منه إياها , ولا حركة (ص292 كتاب الأسماء) , ثم قال الإمام البيهقي بعد ذلك بأسطر ما نصه: وفيما كتب إلي الأستاذ أبو منصور بن أبي أيوب: إن كثيرًا من متأخري أصحابنا ذهبوا إلى أن الاستواء هو القهر , والغلبة , ومعناه أن الرحمن غلب العرش , وقهره , وفائدته الإخبار عن قهره مملوكاته , وأنها لم تقهره , وإنما خص العرش بالذكر؛ لأنه أعظم المملوكات , فنبه بالأعلى على الأدنى , قال: والاستواء بمعنى القهر والغلبة شائع في اللغة كما يقال: استوى فلان على الناحية إذا غلب أهلها , وقال الشاعر في بشر بن مروان: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق يريد أنه غلب أهله من غير محاربة , قال: وليس ذلك في الآية بمعنى الاستيلاء؛ لأن الاستيلاء غلبة مع توقع ضعف. قال: ومما يؤيد ما قلناه قوله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} (فصلت: 11) , والاستواء إلى السماء هو القصد إلى خلق السماء , فلما جاز أن يكون القصد إلى السماء استواءً؛ جاز أن تكون القدرة على العرش استواء (ص293 كتاب الأسماء والصفات) . وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية الحراني رحمه الله في المنهاج ما نصه: ثم إن جمهور أهل السنة يقولون: إنه ينزل , ولا يخلو منه العرش كما نقل مثل ذلك عن إسحاق بن راهويه , وحماد بن زيد , وغيرهما , ونقلوه عن أحمد بن حنبل في رسالته [4] إلى أبي مدر , وهم متفقون على أن الله ليس كمثله شيء , وأنه لا يُعْلَمُ كيف ينزل , ولا تمثل صفاته بصفات خلقه، وقد تنازعوا في النزول: هل هو فعل منفصل عن الرب في المخلوق أو فعل يقوم به؟ على قولين معروفين لأهل السنة من أصحاب مالك , والشافعي , وأبي حنيفة , وغيرهم من أهل الحديث , و

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع لما قبله) (والطريقة الثانية) أن يقولوا: هذا قول ابن عمر , وابن عباس , ولا مخالف لهما من الصحابة؛ فصار إجماعًا. وهذا باطل , فإنه نقل عنهما هذا وغيره , وقد ثبت عن غيرهما من الصحابة ما يخالف ذلك، وثم طريقة ثالثة سلكها بعض أصحاب الشافعي وأحمد , وهي أن هذا التحديد مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه ابن خزيمة في مختصر المختصر , عن ابن عباس , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان) , وهذا ما يعلم أهل المعرفة بالحديث أنه كذب على النبي صلى الله عليه وسلم , ولكن هو من كلام ابن عباس، أَفَتَرَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنَّما حدَّ مسافةَ القصر لأهل مكة دون أهل المدينة التي هي دار السنة , والهجرة , والنصرة , ودون سائر المسلمين؟ وكيف يقول هذا , وقد تواتر عنه أن أهل مكة صلوا خلفه بعرفة ومزدلفة ومنى؟ ! ولم يحد النبي صلى الله عليه وسلم قط السفر لا بمسافة , لا بريد , ولا غير بريد , ولا حدها بزمان. ومالك قد نقل عنه أربعة بُرُدٍ كقول الليث والشافعي وأحمد وهو المشهور عنه. قال: فإن كانت أرض لا أميال فيها؛ فلا يقصرون في أقل من يوم وليلة؛ للثقل , قال: (وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي) , وقد ذكر عنه: (لا قصر إلا في خمسة وأربعين ميلاً , فصاعدًا) , وروي عنه: (لا قصر إلا في اثنين وأربعين ميلاً , فصاعدًا) , وروي عنه: (لا قصر إلا في أربعين ميلاً , فصاعدًا) , وروى عنه إسماعيل بن أبي أويس: (لا قصر إلا في ستة وأربعين ميلاً قصدًا) . ذكر هذه الروايات القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه المبسوط، ورأى لأهل مكة خاصة أن يقصروا الصلاة في الحج خاصة إلى منى , فما فوقها , وهي أربعة أميال , وروى عنه ابن القاسم أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال كالرعاء وغيرهم , فتأول؛ فأفطر في رمضان: (لا شيء عليه إلا القضاء فقط) ، وروي عن الشافعي أنه: (لا قصر في أقل من ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي) . والآثار عن ابن عمر أنواع، فروى محمد بن المثنى , حدثنا عبد الرحمن بن مهدي , حدثنا سفيان الثوري , سمعت جبلة بن سحيم يقول: سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلاً؛ لقصرت الصلاة. وروى ابن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا مسعر، عن محارب بن زياد، سمعت ابن عمر يقول: (إني لأسافر الساعة من النهار؛ فأقصر) ؛ يعني الصلاة. محارب قاضي الكوفة من خيار التابعين أحد الأئمة , ومسعر أحد الأئمة. وروى ابن أبي شيبة , حدثنا علي بن مسهر , عن أبي إسحاق الشيباني , عن محمد بن زيد بن خليدة , عن ابن عمر قال: (تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال) . قال ابن حزم: محمد بن زيد هو طائي , وَلاَّهُ محمد بن أبي طالب القضاء بالكوفة مشهور من كبار التابعين. وروى مالك , عن نافع , عن ابن عمر أنه قصر إلى ذات النصب , قال: وكنت أسافر مع ابن عمر البريد , فلا يقصر. قال عبد الرزاق: ذات النصب من المدينة على ثمانية عشر ميلاً , فهذا نافع يخبر عنه أنه قصر في ستة فراسخ , وأنه كان يسافر بريدًا - وهو أربعة فراسخ - فلا يقصر , وكذلك روي عنه ما ذكره غندر , حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب قال: (خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب , وهي من المدينة على ثمانية عشر ميلاً , فلما أتاها؛ قصر الصلاة) , وروى معمر , عن أيوب , عن نافع , عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد. وما تقدم من الروايات يدل على أنه كان يقصر في هذا , وفي ما هو أقل منه , وروى وكيع , عن سعيد بن عبيد الطائي , عن علي بن ربيعة الوالبي الأسدي قال: سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة , قال: (حاج أو معتمر أو غاز؟) فقلت: لا , ولكن أحدنا يكون له الضيعة في السواد، فقال: (تعرف السويداء؟) فقلت: سمعت بها , ولم أرها. قال: (فإنها ثلاث وليلتان وليلة للمسرع، إذا خرجنا إليها؛ قصرنا) قال ابن حزم: من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلاً أربعة وعشرون فرسخًا. (قلت) : فهذا مع ما تقدم؛ يبين أن ابن عمر لم يذكر ذلك تحديدًا؛ لكن بين بهذا جواز القصر في مثل هذا؛ لأنه كان قد بلغه أن أهل الكوفة لا يقصرون في السواد؛ فأجابه ابن عمر بجواز القصر. وأما ما روي [1] من طريق ابن جريج، أخبرني نافع أن ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر , وهي مسيرة ثلاث قواصد لم يقصر فيما دونه، وكذلك ما وراه حماد بن سلمة , عن أيوب بن حميد كلاهما , عن نافع , عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر , وهي بقدر الأهواز من البصرة لا يقصر فيما دون ذلك - قال ابن حزم: بين المدينة وخيبر كما بين البصرة والأهواز , وهي مائة ميل غير أربعة أميال , قال: وهذا مما اختلف فيه على ابن عمر , ثم على نافع أيضًا , عن ابن عمر. (قلت) : هذا النفي , وهو أنه لم يقصر فيما دون ذلك غلط قطعًا ليس هذا حكاية عن قوله حتى يقال: إنه اختلف اجتهاده , بل نفي لقصره فيما دون ذلك , وقد ثبت عنه بالرواية الصحيحة من طريق نافع , وغيره أنه قصر فيما دون ذلك , فهذا قد يكون غلطًا , فمن روى عن أيوب - إن قدر أن نافعًا روى هذا - فيكون حين حدث بهذا قد نسي أن ابن عمر قصر فيما دون ذلك , فإنه قد ثبت عن نافع عنه أنه قصر فيما دون ذلك. وروى حماد بن زيد , حدثنا أنس بن سيرين قال: خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه , وهي على رأس خمسة فراسخ , فصلى بنا العصر في سفينة , وهي تجري بنا في دجلة قاعدًا على بساط ركعتين , ثم سلم , ثم صلى بنا ركعتين , ثم سلم. وهذا فيه أنه إنما خرج إلى أرضه المذكورة , ولم يكن سفره إلى غيرها حتى يقال: كانت من طريقه , فقصر في خمسة فراسخ , وهي بريد وربع , وفي صحيح مسلم: حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؛ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال , أو ثلاثة فراسخ - شعبة شك -؛ صلى ركعتين. ولم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا؛ لأن السائل سأله عن قصر الصلاة , وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها , ثم إنه لم يقل أحد: إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال , أو أكثر من ذلك , فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك , ولم يقل ذلك أحد؛ فدل على أن أنسًا أراد أنه من سافر هذه المسافة؛ قصر، ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر , أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر؟ فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره , فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر , فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه يقصر إليه إذا كان هو السفر , يقول: إنه لا يقصر إلا في السفر , فلولا أن قطع هذه المسافة سفر؛ لما قصر. وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرًا لا يكتفي مجرد قصده المسافة التي هي سفر , وهذا قول ابن حزم , وداود , وأصحابه، وابن حزم يحد مسافة القصر بميل. لكن دواد , وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا في حج , أو عمرة , أو غزو. وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر. وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة , وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر؛ لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع , وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر , ولم يجدوا أحدًا قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر. وابن حزم يقول: السفر هو البروز عن محلة الإقامة؛ لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى وخرج إلى الفضاء للغائط، والناس معه، فلم يقصروا، ولم يفطروا، فخرج هذا عن أن يكون سفرًا، ولم يحدوا أقل من ميل يسمى سفرًا، فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً؛ لقصرت الصلاة، فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفرًا، ولم نجد أعلا منها يسمى سفرًا؛ جعلنا هذا هو الحد، قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر؛ فلا يقصر فيه , ولا يفطر، وإذا بلغ الميل، فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة، ويفطر فيه، فمن حينئذ يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع، فكان على أقل من ميل؛ فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه. (قلت) : جعل هؤلاء السفر محدودًا في اللغة قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفرًا هو الميل، وأولئك جعلوه محدودًا بالشرع، وكلا القولين ضعيف، أما الشارع فلم يحده، وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنهم قالوا: الفرق بين ما يسمى سفرًا وما لا يسمى سفرًا هو مسافة محدودة، بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدودًا بمسافة ميل، فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز , ولا يقصر، ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشمله اسم مدينة ميلاً؛ قيل له: فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر، والغائط، وفي ذلك ما هو أبعد من ميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل، ويأتون إليها أبعد من ميل، ولا يقصرون كخروجهم إلى قباء , والعوالي , وأحد , ودخولهم للجمعة وغيرها من هذه الأماكن. وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل , فإن حرم المدينة بريد في بريد حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يومًا، وهذا يومًا، وقول ابن عمر: (لو خرجت ميلاً؛ قصرت الصلاة) هو كقوله: (إني لأسافر الساعة من النهار؛ فأقصر) ، وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التي يقصدها، فيكون قصده أني لا أؤخر القصر إلى أن أقطع مسافة طويلة، وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول: إذا سافر نهاراً؛ لم يقصر إلى الليل. وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وقد يحمل حديث أنس على هذا، لكن فعله يدل على المعنى الأول، أو يكون مراد ابن عمر: من سافر؛ قصر هذه المسافة إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافرًا لا يكون متنقلاً بين المساكن، فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر، فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع، فهو أيضًا مسافر، فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع، ولا لغة، ولا عرف، ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض، فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا قدر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا بأميال، ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به، فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب، ويرجع من يومه؛ فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا، فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد، بخلاف الثاني، فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا، فالسفر يكون بالعمل الذي سمي سفرًا لأجله. والعمل لا يكون إلا في زمان، فإذا طال العمل وزمانه، فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد؛ سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد لم يسم سفرًا، وإن بعدت المسافة، فالأصل هو العمل الذي يسمى سفرًا، ولا يكون العمل إلا في زمان؛ فيعتبر العمل الذي هو سفر، ولا يكون

الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح الإسلامي في المغرب الأقصى (4) نظرة في كتاب حقيقة الإسلام وأصول الحكم أقل الشيء الذي لم يطيقوه , وعجزوا عن معاناته عجزًا تامًّا , فهو ما في الإسلام من محاربة الاستبداد , والاحتكار , والغش , والقمار , والربا , والبغاء , والخمر أمهات الرذائل , والجرائم الاجتماعية التي أَنَّتْ منها الإنسانيةُ. فهم يريدون الانحلال من هذه التكاليف؛ للمسارعة خفافًا وثقالاً إلى الانهماك في الآثام والشرور، وملازمة الحانات , والمواخير، وليعيشوا عيشة البهائم والكلاب يسكرون , ويتسافدون على قارعة الطريق، ويرابون , ويقامرون جهارًا كما يقامر الماليون ويرابون في البنوك والبورصة يحتكرون الأرزاق والأقوات , ويستبدون بها وبأسعارها إلى ما لا يحصى من الموبقات والمحاكم الإباحية تؤيدهم بحرابها وجنودها. وثانيهما أن يكونوا جاهلين حقيقة الإسلام , ومزاياه إلا ما يعرفونه مما كتبه عنه الاستعماريون المعطلون , والرهبان المتنطعون الحاقدون , فإذا كانوا كذلك , وهو ما تدل عليه كتاباتهم المشوشة , وخطبهم المعقدة , فينبغي تعليمهم من جديد إن كانوا حسني النية , وإرشادهم إلى الكتب النافعة , وجدالهم بالتي هي أحسن حتى يرجعوا إلى طريق الهدى , فإن الحق يعلو ولا يعلى عليه {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) . لذلك استنسبنا أن نختم هذه الملاحظات على كتاب حقيقة الإسلام بلاحقة , أو نداء عام للأزهريين , وسنتابع ملاحظتنا على الكتاب حتى تمامه متى ساعدتنا الفرصة. لاحقة أو نداء عام لعلماء الأزهر والمعاهد الدينية ليسمح لنا مشايخ الأزهر وقرهم الله , وأبد حرمتهم أن ننبههم لبعض الواجبات المتعين عليهم القيام بها؛ عملاً بالحديث الذي أخرجه مسلم , عن تميم الداري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة) , قلنا: لمن؟ قال: (لله , ولكتابه , ولرسوله , ولأئمة المسلمين , وعامتهم) , فنقترح على ساداتنا الأزهريين اقتراحين: (أحدهما) إحداث جمعيات من علماء الأزهر , والمعاهد الدينية في القطر المصري كله تكون وظائفها الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر امتثالاً لقوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) , وذلك بإنشاء جرائد , ومجلات , ومنشورات دورية توزعها بأرخص ثمن , والبعض مجانًا , وبإذاعة ذلك على لسان التلاميذ في المعاهد والمدارس , وبتبليغ التلاميذ لأوليائهم وأقاربهم وجيرانهم وجلسائهم , وبإلقاء الخطب والمسامرات في المساجد والمدارس والمنتديات والاحتفالات. وأول وظائفها: حض الحكومة على إزالة المنكرات , والمحرمات , وإرشاد مشايخ الطرق لتبديل تعاليمهم لتابعيهم بأن يعلموهم قواعد الإسلام الخمس , ومحاسن الأخلاق , وأن يحضوهم على التعلم والتعليم , ومزاولة الصنائع النافعة , فذلك خير من الشطح , والرقص , وتضييع الوقت بتلاوة أوراد ما أنزل الله بها من سلطان أكثرها لا يفهم , ولا معنى له. وقد أحسن المصلح الكبير السلطان عبد العزيز بن السعود أعانه الله في سبقه العالم الإسلامي إلى هذه المنقبة الجليلة , فأصدر أمره بتأسيس جماعات للقيام بالأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر. (وثانيهما) إحداث جمعيات تشتغل بالسياسة العامة؛ لتظهر للعالم أجمع أن الإسلام دين ودولة , وذلك بإحضار المعدات اللازمة لذلك من كل وجه , وأهمها: إصدار الجرائد والمجلات على نفقة الجمعيات يومية وأسبوعية وشهرية ودخول معترك الحياة السياسية بسلاح متين , وإذا قلنا: السياسة , فمرادنا بها السياسة الشرعية المنزهة عن التدجيل والتضليل وقلب الحقائق والكذب والبهتان وقول الإنسان ما يعتقد بطلانه , أو تكذيب , وإبطال ما يعتقده حقًّا , وصوابًا , فهذه السياسة سياسة الختل , والمراوغة لا يعرفها الإسلام. وأول ما يتحتم عليهم دخول الحياة النيابية , فإن أعظم وظائف مجلس النواب هو التشريع , ومراقبة الحكومة , وذلك معنى (الإسلام دين ودولة) , فإذا لم تكن قوانين المجلس مرتكزة على آراء علماء الدين , فتكون قوانين مبتورة , ومجحفة معًا. وإذا تقاعستم يا شموس الأزهر أو جبنتم فإنكم تضيعون نفوسكم ومكانتكم ووجودكم زيادة عن ضياع الدين الذي أنتم حراسه وحماته. فلو أنكم كنتم دخلتم المعترك في أيام سعيد , وإسماعيل؛ لكان مرجع التشريع اليوم كله , أو جله إليكم , ولكنكم فرطتم تفريطًا أضاع عليكم أكبر وظيف كان من أول واجباتكم , فيجب أن تتداركوا ذلك ما أمكن ما دام رجل الإسلام , وأبو المصريين سعد باشا معكم , وما دام هو روح مصر , وشمسها المنيرة مساعدًا , ومظاهرًا لما يعتقد أنه الواجب. بقي أن يقال: أين المال اللازم لتأسيس هذه الأعمال؟ فنقول: إن في علماء مصر أغنياء كثيرين بحمد الله , فيجب أن يتنازلوا عن بعض أموالهم لذلك اقتداء بكرام الصحابة رضي لله عنهم , فأبو بكر تنازل عن أمواله كلها لمصلحة الإسلام , وكان من أغنياء قريش، وعمر تنازل عن أكثر أمواله، وعثمان تنازل عن أموال كثيرة جدًّا , وجهز جيش العسرة , وكان كل واحد من الصحابة يتنازل عن المال اختيارًا رغبة لا رهبة؛ فإذا لم يتنازل أغنياء العلماء فيكونون مقصرين , ويسوغ للوطني الغيور أن يظنهم أو يعدهم جبناء خائنين. إذا تنازل بعض أغنياء العلماء في مصر , فإن الأمور تسهل جدًّا , فإنكم ستجدون من بقية العلماء , ومن جمهور المصريين أناسًا صدقوا ما عاهدوا الله عليه يناصرون مشروعكم , ويؤيدونكم إن صبرتم , وأحسنتم النية , فإن الله مع الذين اتقوا , والذين هم محسنون. أمامكم وأمام أنصاركم ومريديكم عقبات لا تزال إلا بتضحيات، والمشاريع النافعة العامة لا تقام إلا على تضحيات في أول الأمر وقد قال تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) , لا يهولنكم الأمر فإنه سهل مع الثبات والصبر , فإن الشاب الكامل مصطفى كامل رحمه الله أسس الحزب الوطني وجرائده في القطر المصري من شبان أكثرهم ليسوا بأغنياء , ثم دارت الأيام دورتها حتى صار الحزب الوطني في أيامه وأيام المرحوم محمد فريد بك هو قلب مصر النابض، وقبض على زمام الرأي العام يأتمر بأمره , وينتهي بنهيه. لا فائدة في المال إذا لم يثمر مجدًا خالدًا , أو عزًّا أبديًّا , فهذا جمال الدين الأفغاني , والشيخ محمد عبده قد أنفقا مالهما , وروحهما لإحياء مجد الإسلام , وماتا , ولم يخلفا درهمًا , وإنما خلفا من ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم , والهدى , والإرشاد , ولو توجها للمال لخلفا الملايين. وهذا أسد الإسلام السيد رشيد رضا صاحب المنار لا يملك دارًا للسكنى التي يقول الفقهاء فيها: إنها أول ما يشترى , وآخر ما يباع , وقد أنفق ماله , وراحته , وحياته أطالها الله في الدفاع عن الإسلام , ونشره , وتأييده , ولو توجه للمال؛ لكان من أصحاب الأملاك , والأطيان , والأموال الكثيرة. فالبدار البدار يا علماء الأزهر قبل الفوت , واستعدوا كما أمركم الله بقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) إلخ , {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} (الأنعام: 152) . وأول ما يلزمكم في الحال أن تطهروا أنفسكم من تعاطي ما يخل بالمروءة مهما كان فيه من وفور المال، فقد أضحكني، وأبكاني ما نشره فكري أباظه في رده على الشيخ أبو العيون الذي امتثل ما أمره الله به , ورفع لائحة للحكومة يأمرها بإلغاء البغاء الرسمي. جاء في آخر الرد تشنيع على العلماء بأن بعضهم يتعامل بالربا , وبعضهم يأكل أموال المحاجير , واليتامى إلخ , فهؤلاء إذا ثبت عليهم ذلك يجب التشهير بهم والتشنيع عليهم بخصوصهم ومحاسبتهم بما أكلوه. ونقول لفكري أباظه: إن ذلك لا يكون لك حجة في إبقاء البغاء , وإذا كان بعض العلماء يتعاطى بعض المحرمات؛ فإنهم بشر وليسوا بمعصومين , ولأمثالهم وغيرهم من الحكام الجائرين شرعت الحسبة والمراقبة , وأسست مجالس الشورى والنواب , فلا يكون تلطخهم بتلك الهنات مسوغًا لإهمال النزيهين للأمر بالمعروف , والنهي عن المنكر , بل إنهم إذا أخلوا بذلك يكونون آثمين , وتكون رواتبهم التي يتقاضونها من الأوقاف , ومن الأمة سحتًا. وعجيب من فكري أباظه كيف ينعي على الشيخ أبي العيون قيامه بواجب النهي عن منكر البغاء الذي نهت عنه جميع الشرائع , مع أنه يمتدح تؤدة الشعب الإنكليزي , وتعقله لدى إصدار القوانين التشريعية , ومراعاة حكومته لأميال المتدينين منهم , فقد عُلِم أنه لما اكتشف تلقيح الجدري سنَّت حكومة الانكليز قانونًا للعمل به على وجه الإلزام , فقاومها الذين رأوا تحريمه دينًا ولم يسكن الاضطراب حتى أضيف للقانون مادة خاصة بإعفاء من يعتقدون حرمته من إلزامهم به , ولا يزال هذا الإعفاء مستمرًّا إلى الآن. فما يقوله فكري أباظة لو قام أبو العيون أو غيره , وقاوم تلقيح الجدري الذي كاد الأطباء يتفقون على فائدته العظمى ونفعه العام، إذًا لطبق السموات والأرضين بالعويل والصريخ هو وزملاؤه ورموا الدين الإسلامي بأعظم المفتريات , والمفتي بالبله , والجنون. ثم نقول لفكري أباظه أخيرًا: يظهر أن جنابكم من جماعة الاحتلاليين؛ لأن حكومة الاحتلال هي التي سنَّت هذه السنة السيئة المشئومة , فالمؤيد لأعمالها محبذ للاحتلال وأذنابه , وبالتالي يكون خائنًا لدينه ووطنه. وفي الختام أرجو بإلحاح من مشايخ الأزهر الكرام أن يسارعوا إلى إعداد المعدات , ويتداركوا ما فاتهم , وليتشبهوا بالرسل أولي العزم , ويتدبروا قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159) , وليستعينوا بالله , فهو نعم المولى , ونعم النصير. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غيور (المنار) إنه ليحزننا أن نضطر إلى إخبار أخينا المصلح المراكشي أن علماء الأزهر أضعف منةً وإرادة من أن يقوموا بمثل ما دعاهم إليه وأن سعد باشا ليس معهم وليسوا معه , وأن الحزب الوطني لم يكن كما تصور في نفسه فصور بقلمه، وأن الخديو هو الذي كان يستخدم المرحوم مصطفى كامل بماله ونفوذه , ونخبره أيضًا بأن فكري بك أباظه ليس احتلاليًّا كما ظن , ولا يتسع هذا التعليق لبيان الحقيقة فيما أنكره عليه. وسيرى في المنار ما يجب على المسلمين لحفظ الإسلام في هذا العهد.

محاضرة مستر كراين عن جزيرة العرب ـ 3

الكاتب: مستر كراين

_ محاضرة مستر كراين عن جزيرة العرب - أو - الحجاز واليمن في جمعية الرابطة الشرقية (3) (يهود اليمن) إن قسمًا يذكر من أهالي صنعاء يهود، وهم يسكنون في حي خاص بهم , ويقولون: إنهم لقرنين مضيا كان يؤذن لهم بالسكون فيها حيث أرادوا , ولكن الحاكم في ذلك الحين أمر بذلك الفصل. وإنهم مع السماح لهم بالطواف أين شاؤوا لقضاء الأعمال لم يكن يؤذن لهم بركوب غير الحمير من الدواب. وقد زرت حيَّ اليهودِ هناك مرارًا عديدة وقابلت ربانيهم ومعابدهم فرأيتهم كسائر مواطنيهم من أهل الفاقة؛ ولكنهم بفضل ما أوتوا من الحذق والقبض على أزمة الحرف تراهم أرقى شيئًا من إخوانهم مما ينيلهم شيئًا من عطف الحكام مع ما بينهم وبين المسلمين من بلوى التفرقة المذهبية. وقد تعسر عليك التفرقة بين اليهودي والمسلم العربي لولا فارق من الشعر يتحتم عليه اتخاذه شعارًا له. ثم إن هناك مسألة تاريخية تتعلق باليهود , ولا سيما أول ظهورهم في اليمن , قال لي الإمام والشيوخ: إن اليهود كانوا في اليمن منذ فجر التاريخ , ويروى أن (يارم) يعرب الملك الذي ملك قبل المسيح بألفي سنة فصل العبرية عن العربية , على أن الربانيين يقولون: إن اليهود أتوا إلى اليمن من أورشليم سنة 200 قبل المسيح تقريبًا. وكنت حيث أذهب في اليمن نحو الجنوب؛ أجد يهودًا حتى في أحقر القرى , وأفقرها , وقد كان من بواعث دهشتي أني لقيت في قرية غاية في الفقر مبنية من القش يهوديًّا مر عليه فيها ثلاث سنين في حالة لا بأس بها يشتغل فيها صائغًا , فلم يكن ينجلي لي كيف يمكن وجود سوق للصياغة في مثل تلك القرية من بلاد الدنيا؟ ولكني فطنت للأمر لما علمت أن اليمينين مولعون بزينة واحدة تستهوي أفئدتهم , وهي الخناجر المنحنية ذات المقابض والأغماد المزينة أو المموهة بصنع الصياغ. *** (أعمال الإمام العمرانية) لقد وضح أن هم الإمام الأعظم هو جيشه العزيز , ومع ذلك فهو يقول: إنه كثير العناية , والاهتمام بأمر التعليم - والحق أن ذلك على قياس ضئيل محدود - وبإصلاح الطرق أيضًا. فقال لي: إنه أصدر الأوامر لكل حاكم مدينة أن يقوم بشغل معين كل سنة يتعلق بإصلاح الطرق التي في نطاق حكمه , ويظهر أن بعض الحكام أتوا شيئًا من هذا الإصلاح مع بناء الجسور (الكباري) , وكنا في طريقنا إلى عدن نسلك في الأحايين آثارًا من طرق قديمة لا بد أن تكون قد بنيت بحذق , وحسن نظر قبل الإسلام بنحو ألفي سنة على ما قيل. وفي سفرنا نحو الجنوب , وعلى إحدى طرق القوافل المستغرقة في القدم الآتية من عدن إلى أورشليم كان من بواعث دهشتنا كثرة ما وجدنا من آثار التجارة , فكثيرًا ما كنا نمر وسط قافلة صغيرة من الجمال أو الحمير أو البغال وهي تسير بغاية المشقة بسبب رداءة الطرق , فكان مشيها شديد الإيلام , والتعسر , وهي تتسلق المسالك العالية الوعرة. والظاهر أن من أسباب تلك التعسيرات في الطرق هو أن يجعلوها صعبة السلوك على الأجانب الذين يقصدن تلك الجهات. *** (من كلامي في وداع الإمام) في حديثي الأخير مع الإمام قبل الوداع تكلمنا في كثير من الشؤون المتعلقة ببلاده عسى أن أجد شيئًا أستطيع فيه خدمة ما له، فذكر أنه يوجد في اليمن قدر وافر من المعادن الثمنية , وأنه يرغب في الحصول على أهل العلم الواسع في المعدنيات؛ ليقوموا بدرس الموجود فيها. إنه يعسر جدًّا على هؤلاء الفقراء أن يزيدوا كثيرًا على ما عندهم من أدوات الزينة , وكل ما يأتونه من الجهود العقلية في هذا السبيل يؤسف له , ويرثى؛ فإن الجندي هناك شديد الولوع بأن يشكل في وعاء رأسه عذقًا صغيرًا أخضر اللون، وأما الرجال والنساء، فلرغبتهم في زيادة التجمل؛ كثيرًا ما يلجؤون إلى النيلة , وما تجديهم إلا قليلاً. إن حاكم (صعدة) السابق المؤتلف الآن مع الإمام أنبأنا أن في (صعدة) , وحولها اعتاد الناس من قرون أن يرقصوا نوعين من الرقص يشترك فيها الرجال , والنساء يشبهان نوعين آخرين من رقص أهل الغرب. يوجد في اليمن جنسان آخران من الشعوب , أو القبائل غير اليهود (أحدهما) يزعم أنه من سلالة قحطان , أو (يقطن) , وهو من أخلص الأجناس البشرية، حسن البنية والشكل، وقوي البأس، عادم اللحية، ربعة القوام , عريض الجهة، يميل جلده إلى اللون النحاسي على اختلاف في المقدار، وآحاد هذه القبيلة يقلون من الملابس بحكم البيئة حتى إن شيوخهم ومقدميهم الذين يذهبون إلى عدن يضطرون اضطرارًا إلى زيادة شيء من الملابس المصنوعة لهذا الغرض , وأما الجنس الثاني , فإنسانه أطول قامة , وعليه مسحة من الجمال , وتراه على الغالب كامل اللحية كثير الملابس. ولما كانت درجة الحرارة الجوية واحدة في كل من البقعتين؛ نرى أن مذهب الفيلسوف هربوت سنبسر تنجلي حقيقته في حال هذا الشعب , (وهو أن الزينة تسبق الاكتساء) , وأما أصل هذا الجنس الثاني فيقال: إنه من ذرية إسماعيل صلى الله عليه وسلم، وإنه أتى من الشمال , وإن دمه ودم اليهود مشتركان. *** (همة اليمني في العمل) إن اليمني بما يتيسر له من عدة العمل الحاضرة؛ يمكنه زيادة إنتاجه بكده , وكدحه في العمل الذي يمتد من شروق الشمس إلى غروبها حالة كون الأميركي بما له من تفوق العدة , والأدوات تقدر قوته قوة أربعين حصانًا , أو ما يعادل 250 من قوة اليمني , وتكون نتاج عمله على هذه النسبة. وإن من اعتاد حياة الغرب ليحار في هذا السؤال وهو: كيف يتأتى لشعب كأهل اليمن أن يعيشوا في بيئة كبيئته حيث أحوال الحياة تكاد تكون واحدة للإنسان , والحيوان؟ وكيف يستطيعون تحمل مشاقها وشظفها؟ لكنا بالرغم من ذلك كله نراهم عائشين مع قلة وسائل العيشة والراحة ونصب العمل دون أن تبدو منهم أمارات الشكوى المؤلمة، ولقد انقضى على سكان اليمن القرون وهم في هذه الحالة من بؤس العيش وخلوهم من مادة البقاء لا يدرون شيئًا من حالة غيرهم في أمور المعيشة , ومع ذلك تراهم على الجملة قانعين راضين يحمون أرضهم وحكومتهم التي منها وعن يدها تنتج لهم هذه الأحوال. أما بلاد الغرب , فهي مع وجود أسباب الراحة , والهناء حتى لا أقول: معدات اللذات , والمسرات؛ ترى الناس لا ينقطعون عن التشكي , والتبرم من أحوالهم , وهم أبدًا على قدم الانفجار , والقيام بإيقاد نيران الثورات كلما أتاحت لهم الفرصة , وأتاحت لهم الأقدار ذلك. إن سكان الجبال في جميع الأرض معروفون بحب الاستقلال , وإيثاره على كل ما سواه من أمور الحياة , مشهورون بقوة البدن , وشدة البأس على نسبة بيئتهم , وشظف حياتها , ومما يحسن ذكره ووقعه على الخواطر أني لقيت رجلين يمنيين: أحدهما يهودي , والآخر مسلم زارا أميركا , وبعد أن أقاما فيها عدة أعوام غلبهما الحنين إلى تلك الجبال اليمنية التي ولدا فيها ورضعا لبانها وغذيا بهوائها ومائها؛ وإذ جد بهما الوجد واستحكم الهيام؛ عادا أخيرًا إلى تلك الربوع؛ ليقضيا فيها ما كتب لهما من بقية العمر. ثم إن اليمنيين لم يكونوا يطيقون حكم الأتراك بحال , ولا بوجه من الوجوه , فلم يحولوا عن الاعتقاد بأن إمامهم هو الخليفة الحقيقي , وأن لا خليفة إلا من تحدر من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم. على أن هناك من ذراريه قومًا يدعون بالأسياد (على ما تعلمون) . *** (الطب والعلاج في اليمن) ليس في اليمن شيء يسمى دواءً وطبًّا حتى أن أحقر عشبة من أعشاب الأرض التي يتداوى بها أحيانًا غير معروفة , فإذا أصيب أحدهم بألم؛ لم يجد مفرًّا من تحمله، وإذا غلبته عادية الداء؛ قضى نحبه بحكم الطبع بلا علاج , ولا دواء. على أن هناك عشبة يغلب استعمالها عندهم هي (القات) , فقد أتي بها من بلاد الحبشة أيام أتي بشجرة القهوة أيضًا. وعلى مقربة من ساحل البحر مدينة أشهر , فيها شجرتان غرستا فيها في بادئ الأمر , وهما شجرة (القات) , وشجرة (القهوة) , وقد تمكنت في اليمني عادة كعادة الإنكليز , وهي أنهم في نحو الساعة الرابعة من ظهر كل يوم يجلسون جماعات؛ لتناول (القات) ؛ إذ يعدونه ممضوغًا منبهًا , ويزيدونه بهجة ولذة بتعاطي أقداح الحديث كما يتعاطى الندامى كؤوس المدام. ومع ما في هذا النبات من أذى إضعاف الأعصاب , فإن كل يمني حتى الجندي العادي على أجره الذي لا يستحق الذكر يجتهد في اقتصاد شيء ما في سبيل تناول (القات) وكأن ذلك يذكرنا بعادة الكوكايين عند أهل الغرب. *** (عند ولادة الأولاد) إن طريقة ولادة الأم في اليمن شديدة القسوة , فالأمر الوحيد المساعد لها حينئذٍ هو الإتيان بمن ترقص على بطن المتألمة البائسة مدة المخاض , ومع كثرة النسل , فإن متوسط الوفيات منهم وافر جدًّا , وقد قال لي أحد حكام المدن الكبيرة: إنه قد فقد 22 صبيًّا وهو عدد يستحق الذكر ويستلفت الأنظار حتى في أسرة عادية أمريكية , ومع ذلك فقد أبقت له العناية ثمانية أولاد على حالة حسنة من الصحة.

السعي لمنع الحج ومفاسد البدع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السعي لمنع الحج ومفاسد البدع إن استيلاء إمام السنة في هذا العصر عبد العزيز السعود على الحجاز , وشروعه في تطهير الحرمين الشريفين من بدع الضلالة , وقيامه بتجديد السنة قد كشف لأهل البصيرة من المسلمين أن ما كان من تساهل القرون الوسطى في مقاومة أهل البدع؛ قد جر على الإسلام وأهله من الأرزاء , والفساد ما هو شر من تلك البدع نفسها حتى إن طوائف من المسلمين الجغرافيين صاروا يفضلون بعض تلك البدع على أركان الإسلام , ويحاولون تعليق أداء فريضة الحج , وهو ركن الإسلام الجامع لشعوبه على بعض تلك البدع بحيث تترك الفريضة , ويهدم الركن الإسلامي إذا لم يسمح ملك الحجاز بإقامة تلك البدع. بدأ هذا الإمام منذ تم له السلطان على الحجاز بإبطال بدع القبور , والمباني التي افتتن عامة المسلمين بصبغها بصبغة الإسلام التعبدية الذي كان بعمل سلاطين الأعاجم وأمرائهم؛ فقامت عليه قيامة الشيعة أو أعاجمهم وبعض زعماء الأهواء السياسية في الهند والخرافيين عبدة القبور وطلاب الحياة من الموتى , فمنعت حكومة إيران رعاياها من أداء فريضة الحج وبثت الدعاية في الهند لذلك , وتولى الإنفاق على الدعاية غني من أكبر أغنياء الشيعة هو محمد علي راجا محمود آباد , ونصره في عمله في هذا العام السياسيان الزعيمان شوكت علي ومحمد علي، ورئيس جمعية خدام الحرمين وبعض أعضائها الخرافيين المأجورين , وقد بلغ من طغيان هذه الفئة أن طلبت باسم زعيمها من الحكومة الإنكليزية التدخل في أمر الحجاز بالقوة لإزالة الحكومة السعودية منه , وهم يعلمون أن هذا لا يتم إلا بمحاربة هذه الدولة النصرانية له في حرم الله تعالى، وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن اتباع الهوى , ونصر البدعة أركسهم بما كسبوا؛ فاستحلوا أكبر الكبائر من صد المسلمين عن فريضة الحج إلى دعوة خصوم الإسلام لانتهاك أعظم حرمات الإسلام , واستحلال ذلك كفر بالإجماع , ولكن الله تعالى خذلهم , ونصر دينه , وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على عداوتهم لهما , وأقبل الألوف من أهل الهند , وكذا أهل إيران على بيت الله تعالى؛ لإقامة ركن الإسلام , واعترفت الدولة البريطانية بملكية ابن السعود على الحجاز , ونجد , واستقلاله المطلق رسميًّا. بعد هذا كله حدث في مصر ما لم يكن ينتظره مسلم ولا عاقل من السعي لمنع أداء فريضة الحج بأراجيف اختلقها حزب الإلحاد والزندقة , وبحجة الانتصار لبدعة المحمل , والإصرار عليها. وكان قد ظهر فضل مصر , وسائر البلاد العربية على بلاد الأعاجم كلها بأنه لم تظهر فيها معارضة لما قام به ملك الحجاز , ونجد من إزالة البدع , ونصر السنة على كثرة الخرافيين فيها من أهل الطرق وغيرهم بل أيده رؤساء العلماء على حكومتهم فيما طلب منعه من عزف الموسيقى في مشاعر النسك , وفي شرب الدخان في مكة , أو الحجاز كله. بدأت بذلك جريدة السياسة المشهورة بدعايتها الإلحادية , ومحاربتها للأزهر، وسائر رجال الدين , ونصرها للطاعنين في الإسلام كعلي عبد الرازق وطه حسين , فزعمت أنه جاءها نبأ من (مقيم في جزيرة العرب) بأن رؤساء الوهابيين اجتمعوا في عاصمة نجد (في 20 رجب) بحضرة الملك عبد العزيز بن السعود , وأنكروا عليه في وجهه إخلاف وعده لهم بإقامة شرع الله في الحجاز , وتطهير البلاد , ومما قالوه له بزعم الكاتب: (ألم ترخص لصنم مصر المسمى بالمحمل بدخول الحجاز مع أولئك العسكر الكفار؟ ألم تدافع عن أولئك الكفار حينما أردنا أن نقوم بالواجب الشرعي من إنكار المنكر؟ إلخ , واستدلت جريدة السياسة بهذا الحديث على أن الوهابيين أخذوا يفلتون من سلطة الملك ابن السعود , ورتبت عليه أنه يجب على الحكومة المصرية أن تأخذ (الضمانات اللازمة) ؛ للاطمئنان على أرواح الحجاج المصريين , وعلى كرامة مصر من غير ابن السعود قبل أن تأذن بالحج في هذا العام - تعني أنه يجب أخذ الضمانات من رؤساء الوهابيين الذين في نجد , وهي تعلم أن هذا لا سبيل إليه - فالمراد دعوة الحكومة إلى منع الحج. وقد كتب إليها رئيس ديوان جلالة ملك الحجاز ونجد (محمد طيب الهزاز) الحجازي كتابًا كذَّب فيه خبر ذلك الاجتماع تكذيبًا رسميًّا قال فيه: إنه في التاريخ الذي ذكرت اجتماع رؤساء النجديين فيه كان في خدمة جلالة الملك بنجد , ولو حصل ذلك الاجتماع لكان من أعلم الناس به , فهو لم يحصل , وأكد فيه أن طاعة رؤساء النجديين ودهمائهم لإمامهم الملك على أكلمها؛ لأنها عقيدة دينية , فكتبت جريدة السياسة مقالاً آخر أصرت فيه على دعوتها الأولى مرجحة النبأ الذي زعمت أنه جاءها من رجل مقيم في جزيرة العرب على هذا البلاغ الرسمي. ونحن على علمنا بأن الذي كتب ذلك النبأ هو رجل مصري مقيم في القاهرة حانق على الحكومة الحجازية , وله صديق كان في الكويت يوهم أنه هو الذي كتبه. قد كتبنا مقالاً في الرد على جريدة السياسة نشرناه في جريدة كوكب الشرق تجاهلنا فيه ذلك , وتكلمنا بلسان الشرع , والعقل , والمصلحة الإسلامية , وذكرنا في آخره أننا نعلم أن المسلمين لا يبالون بما تنشره جريدة السياسة , فلا نخشى أن يؤثر في أنفس مريدي الحج من المصريين , فيصرفهم عنه , ولكننا ننتظر؛ لنرى تأثير كلامها في الحكومة المصرية , وكانت جريدة السياسة ذكرت أن الحكومة المصرية عهدت إلى قنصلها في جدة أن يبلغ جلالة ملك الحجاز ونجد ما تشترطه لإرسال المحمل , وما يتعلق به في هذا العام , وتنتظر جوابه. ثم لم تلبث الحكومة أن نشرت البلاغ الرسمي التالي الذي قرره مجلس الوزراء مجتمعًا , ووافق عليه جلالة الملك: بلاغ رسمي وصل إلى علم الحكومة المصرية أن حكومة الحجاز تشترط في حج هذا العام شروطًا معينة، فخابرت وزارة الخارجية حضرة قنصل المملكة المصرية في جدة؛ للاستيثاق من مبلغ هذا الخبر من الصحة , وكلفته بمفاوضة جلالة الملك ابن السعود في ذلك شخصيًّا. وقد ورد إلى الحكومة نبأ برقي من حضرة القنصل المذكور يفيد أن جلالة ملك الحجاز يشترط لحج هذا العام: أولاً: تجريد الحامية المصرية التي تصحب المحمل عادة من سلاحها؛ تفاديًا من حصول مصادمات بينها , وبين الوهابيين. ثانياً: منع عرض المحمل بالحرم الشريف , وكذلك تسيير المواكب المعتادة. واشترط فوق ذلك شروطًا أخرى تغاير التقاليد المتبعة من قديم , وتقيد حرية الحجاج. وترى الحكومة مع هذه الاشتراطات أنه لا يمكن الاطمئنان على سلامة ركب المحمل والحجاج. ولما عرضت هذه المسألة على مجلس الوزراء قرر بجلسة 10 ذي القعدة سنة 1345 (12 مايو سنة 1927) العدول عن إرسال المحمل في هذا العام , وإعلان الحجاج المصريين بأنهم بسفرهم قد يستهدفون لبعض المخاطر , وأنهم إذا رأوا مع ذلك السفر في هذه الظروف , فإن ذلك يكون تحت مسؤوليتهم. اهـ. وقد استغربنا من هذا البلاغ قول الحكومة: إن الحجاج المصريين يستهدفون لبعض الأخطار في الحجاز؛ إذ فيه تثبيط , وصد عن أداء الفريضة بالإيهام الذي لا دليل عليه , ثم ازداد استغرابنا بما أجاب به رئيس الوزارة عبد الخالق ثروت باشا عن سؤال في مجلس النواب: لماذا لم تمنع الحكومة المصريين من الحج , وهي تعتقد أنهم يستهدفون فيه للخطر , وحمايتهم واجبة عليها؟ فأجاب بأن سبب عدم المنع اعتبارات دينية. يعني أن دعوى الحكومة الاستهداف للخطر لم يمكنها من أخذ فتوى شرعية بمنع الحج , فلم تستطع حمل تبعة منع المسلمين من أداء فريضتهم! وبعد ذلك نشرت وكالة المملكة الحجازية النجدية بمصر البلاغ الرسمي التالي: بلاغ الحكومة الحجازية ننشر هذا البلاغ تنويرًا للرأي العالم المصري الكريم، ودحضًا لأقوال مثيري الضحة بمناسبة عدم سفر المحمل والبعثة الطبية والصدقات المراد إرسالها إلى الحجاز؛ فنقول: إن الحكومة المصرية كانت طلبت من حكومة الحجاز ونجد وملحقاتها أن يرافق أمين الحج أورطه كاملة بملحقاتها من طوبجية , وسواري , وهجانة , وغيرها من المعدات , وأن ترافق القوة المذكورة المحمل في كل مكان , وأن تكون دورة المحمل بالمراسم المعتادة كالمتبع سنويًّا بغير أي تعديل , فقد كان جواب الحكومة الحجازية النجدية على هذه النقطة ما يأتي: إن الحكومة الحجازية تحب أن تتأكد للحكومة المصرية رغبتها؛ لأنها مستعدة لإجراء جميع التسهيلات الممكنة للمحمل وركبه؛ بل لسائر الحجاج على القواعد التي تحفظ الأمن , وتصون حرمة الدين الإسلامي المقدس الذي جاء به الكتاب المنزل على لسان النبي المرسل صلى الله عليه وسلم , وأنها - أي: الحكومة الحجازية النجدية - لا يخامرها الريب في أنها ستجد في الأمة المصرية الكريمة , وعلى الأخص في علماء الدين أعظم منشط ومساعد على إقامة شرع الله في أقدس بلاد الله , وأنها مستعدة للعمل بما يقره الدين , ويقرره علماء المسلمين , وأن ذلك سيكون مقبولاً لديها , ومرعي الحرمة. وبما أن جلالة الملك قد منع التجول بالسلاح في البلاد المقدسة لكائن من كان من أهل نجد وغيرهم , وعلى الأخص أيام الحج , ومنع أيضًا إتيان أي عمل لم يأذن الله به من الأعمال المخالفة للشرع , والتي ينبغي أن يكون المرد فيها إلى كتاب الله , وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فيمكن للمحمل , وركبه شهود الحج هذا العام بعد مراعاة أمور ثلاثة دعت إليها العبر من حوادث العام الفائت , وهي: أولا: أن لا يكون مع ركب المحمل سلاح ما أسوة بحجاج سائر بلاد الإسلام. ثانياً: أن لا يعرض المحمل لأن يكون سببًا في تبرك الناس به تبركًا دينيًّا لم يأذن الله به , ولا جاء في شرع الإسلام. ثالثاً: أن يكون سير المحمل في أيام الحج كسير الناس جميعًا حفظًا لراحة سائر الحجاج. وفيما عدا ذلك فسيلقى المحمل وركبه كل إكرام ورعاية من الحكومة المحلية , وإن الحكومة الحجازية النجدية تحب أن تتأكد الحكومة المصرية أنها لم تشترط مراعاة هذه الأمور إلا صيانةً لراحة المصريين , وراحة حجاج المسلمين من سائر بلاد الله. وقد كان جواب الحكومة النجدية الحجازية على طلب الحكومة المصرية فيما يتعلق بالبعثات الطبية؛ للاعتناء بحالة الحجاج الصحية , وإسعافهم أثناء تأدية الفريضة , والزيارة أنها ترحب بهم , وحبًّا وكرامة بقدومهم. وكذلك أجابت الحكومة الحجازية طلب الحكومة المصرية بالموافقة على أن تشكل لجنة من مندوبين من قبل الحكومتين المصرية والحجازية؛ لتوزيع المرتبات المخصصة للفقراء , والمحتاجين بدون قيد ولا شرط , وعلاوة على ما سردناه أعلاه , فإننا حبًّا في تطمين آل الحجاج , وذويهم من المصريين الكرام , وإزالة للمساوئ , والمخاوف التي علقت بأذهانهم ننشر خلاصة كتاب ورد إلينا من جلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها , وهي: وبما أننا نرغب في إجراء التسهيلات اللازمة لجميع وفود بيت الله الحرام , وعلى الأخص الحج المصري الذي تربطنا بأهله روابط عديدة , فليكن المصريون واثقين بأن حجاجهم سيلقون الحفاوة التامة , والرعاية الكاملة , والتسهيلات المطلوبة. نرجو الله أن يحسن العواقب في جميع الأمور. ... ... ... ... ... ... ... ... (فوزان السابق) (المنار) في أثناء هذه المدة أسرفت جريدة السياسة في الطعن في الوهابيين؛ لتقوية الأوهام في الأنفس , وإثارة المخاوف في القلوب لمنع الحج , ومن أشد مقالاتها إسرافًا في البهتان ما نشرته في 21 ذي القعدة (23 مايو) من تصوير الوهابيين بصورة الحيوانات المفترسة التي تستحل افتراس كل من ليس بوهابي , وأنه (لا يمكن

قانون الأحوال الشخصية بمصر ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قانون الأحوال الشخصية بمصر والتنازع بين جمود الفقهاء المقلدين وإلحاد زنادقة المتفرنجين (2) قد تضمن مقالنا الأول في هذه المسألة أن الذين يتكلمون في الأمور الإسلامية العامة باسم الإسلام ثلاث جماعات: (1) جماعة الفقهاء المقلدين للمذاهب الإسلامية المدونة التي جرى عليها العمل، ولا يزال السواد الأعظم من عوام المسلمين يتبعونهم، ويثقون بهم، وأما الخواص من جميع الطبقات؛ فهم يعرضون عنهم، وينبذونهم عامًا بعد عام. (2) جماعة المتفرنجين، ويكثر فيها الزنادقة، ويقل المجاهرون بالإلحاد والكفر قلة تتحول بالتدريج إلى كثرة، وأقل منهم المسلمون الصادقون فيها، وهذه الجماعة بأصنافها الثلاثة: الزنادقة المنافقون، والملحدون المجاهرون، والمسلمون الصادقون - هي الجماعة التي تتغلب على مصالح الحكومة وأعمالها يومًا بعد يوم، وينتصر فيها الإلحاد على الإسلام في مسألة بعد مسألة، كما ثبت في مسألة الدكتور طه حسين، فقد امتنعت النيابة العامة من محاكمته مع تصريحها الرسمي بطعنه في الإسلام طعنًا صريحًا لا يحتمل التأويل، وامتنعت وزارة المعارف من عزله من وظيفة التدريس في الجامعة، وإفساد عقائد النشء المصري , ونصره أحمد لطفي بك السيد مدير الجامعة نصرًا مؤزرًا. (3) جماعة المستقلين في فهم الإسلام من كتابه وسنته وسيرة سلفه الصالح العارفين بمصلحة المسلمين في هذا العصر , وهذه الجماعة هي الوسطى المرجوة للوصل بين عقلاء المسلمين الصادقين من الطرفين الآخرين إلا من كان إلحاده وزندقته لا عن شبهة عارضة , أو توهم تعارض بين الإسلام , وبين حضارة القوة , والعزة , والثروة، فإن الملاحدة ثلاثة أصناف: (1) أولو شبهات سببها الجهل بحقيقة الإسلام , ورجوع هؤلاء إلى حظيرة الإسلام , ولو بنصر آدابه وسياسته مرجوة. (2) مصطنعون لخدمة الأجانب , وهم الذين يطعنون في الإسلام بترجمتهم لأقوال أعدائه فيه من المبشرين والسياسيين حتى إنهم لينصرون اليهود الصهيونيين على عرب فلسطين من المسلمين , والنصارى - كما يراه المطلعون على جريدة السياسة المصرية فيها - وهم إلى إلحادهم , وتعطيلهم مأجورون. (3) الذين يعلمون أنهم بترك الأمة للإسلام يكون لهم فيها مقام الزعماء، والرؤساء، والحكام على فسقهم، وفجورهم الذي لا يمكنهم تركه - وأنهم بتجديد هداية الإسلام يكونون محتقرين لا قيمة لهم. بعد هذا الإيضاح لحال الجماعات الثلاث نذكر نص مشروع القانون الجديد، ثم نقفي عليه بوجهة نظر كل جماعة منهم - وهذا نصه: - مشروع مرسوم بقانون خاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية 1- (تعدد الزوجات) : (المادة 1) لا يجوز لمتزوج أن يعقد زواجه بأخرى , ولا لأحد أن يتولى عقد هذا الزواج , أو يسجله إلا بإذن من القاضي الشرعي الذي في دائرة اختصاصه مكان الزوج. (المادة 2) لا يأذن القاضي بزواج متزوج إلا بعد التحري , وظهور القدرة على القيام بحسن المعاشرة , والإنفاق على أكثر ممن في عصمته , ومن تجب نفقتهم عليه من أصوله وفروعه. (المادة 3) لا تسمع عند الإنكار أمام القضاء دعوى زوجية حدثت بعد العمل بهذا القانون إلا إذا كانت ثابتة بورقة رسمية. *** 2- (الطلاق) : (المادة 4) لا يقع طلاق السكران والمكره. (المادة 5) لا يقع الطلاق غير المنجز إذا قصد به الحمل على فعل شيء , أو تركه. (المادة 6) الطلاق المقترن بعدد لفظًا أو إشارة لا يقع إلا واحدة. (المادة 7) كنايات الطلاق , وهي ما تحتمل الطلاق , وغيره لا يقع بها الطلاق إلا بائنًا. (المادة 8) كل طلاق يقع رجعيًّا إلا المكمل للثلاث , والطلاق قبل الدخول , والطلاق على مال , وما نص على كونه بائنًا في هذا القانون رقم 25 سنة 1920. *** 3- (الفسخ بإخلال الزوج بالشروط) : (المادة 9) إذا اشترطت الزوجة في عقد الزواج شرطًا على الزوج فيه منفعة لها , ولا ينافي مقاصد العقد كألا يتزوج عليها , أو أن يطلق ضرتها , أو أن لا ينقلها إلى بلدة أخرى؛ صح الشرط , ولزم , وكان لها حق فسخ الزواج إذا لم يف لها بالشروط , ولا يسقط حقها في الفسخ إلا إذا أسقطته , أو رضيت بمخالفة الشرط. *** 4- (الشقاق بين الزوجين والتطليق للضرر) : (المادة 10) إذا ادعت الزوجة إضرار الزوج بما لا يستطاع معه دوام العشرة عادةً بين أمثالها , وطلبت التفريق طلقها القاضي طلقة بائنة إن ثبت الضرر , وعجز عن الإصلاح بينهما , وإن لم يثبت الضرر؛ بعث القاضي حكمين , وقضى بما يريانه على ما هو مبين بالمواد (11 و 12 و 13 و 14 و 15 و16) . (المادة 11) يشترط في الحكمين أن يكونا رجلين عدلين من أهل الزوجين إن أمكن , وإلا فمن غيرهم ممن لهم خبرة بحالهما , وقدرة على الإصلاح بينهما عالمين بأحكام النشوز , ولو بتعليم القاضي. (المادة 12) على الحكمين أن يتعرفا أسباب الشقاق بين الزوجين , ويبذلا جهدهما في الإصلاح , فإن أمكن على طريقة معينة قرراها. (المادة 13) إذا عجز الحكمان عن الإصلاح , وكانت الإساءة من الزوج , أو منهما , أو جهلا الحال؛ قررا التفريق بلا عوض بطلقة بائنة. (المادة 14) إذا كانت الإساءة من الزوجة؛ قررا - الحكمان - ما تعينت فيه المصلحة من بقاء الزوجة في عصمة زوجها , وائتمانه عليها , أو التفريق بينهما بعوض عليها بطلقة بائنة , وعند عدم تعيين المصلحة يكون للحكمين الخيار في تقرير التفريق , أو البقاء إن لم يرد الزوج الطلاق , فإن أراد الطلاق؛ قرراه بعوض عليها. (المادة 15) إذا اختلف الحكمان؛ أمرهما القاضي بمعاودة البحث، فإن استمر الخلاف بينهما؛ حكم غيرهما. (المادة 16) على الحكمين أن يرفعا إلى القاضي ما يقررانه في جميع الأحوال , وعلى القاضي أن يمضيه. (المادة 17) إذا غاب الزوج سنة فأكثر؛ كان لزوجته أن تطلب من القاضي أن يطلقها بائنًا إذا تضررت من بُعْدِه عنها , ولو ترك مالاً تستطيع الإنفاق منه. (المادة 18) إن أمكن وصول الرسائل إلى الغائب؛ ضرب له القاضي أجلاً , وأعذر إليه بأنه يطلقها عليه إن لم يحضر للإقامة معها , أو ينقلها إليه , أو يطلقها , فإذا انقضى الأجل , ولم يفعل؛ فرق القاضي بينهما بتطليقة بائنة , وإن لم يمكن وصول الرسائل إلى الغائب؛ طلق القاضي عليه بلا إعذار وضَرْبِ أجل. (المادة 19) لزوجة المحبوس المحكوم عليه نهائيًّا بعقوبة مقيدة للحرية مدة ثلاث سنين فأكثر؛ أن تطلب إلى القاضي بعد مضي سنة من حبسه التطليق عليه بائنًا للضرر , ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه. *** 5- (دعوى النسب) : (المادة 20) لا تسمع دعوى النسب لولد زوجة ثبت عدم التلاقي بينها , وبين زوجها من حين العقد. (المادة 21) لا تسمع دعوى النسب لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج عنها إذا ثبت عدم التلاقي بينهما في هذه المدة. (المادة 22) لا تسمع دعوى النسب لولد المطلقة والمتوفى عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة. *** 6- (النفقة) : (المادة 23) تقدر نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرًا , وعسرًا مهما كانت حالة الزوجة. (المادة 24) لا تسمع الدعوى بنفقة عدة لمدة تزيد عن سنة من تاريخ الطلاق. *** 7- (سن الحضانة) : (المادة 25) للقاضي أن يأذن بحضانة النساء للصغير بعد سبع سنين إلى تسع , وللصغيرة بعد تسع سنين إلى إحدى عشرة سنة إذا تبين له أن مصلحتهما في ذلك. (المنار) هذا نص المشروع , ونرجئ التعليق عليه إلى الجزء التالي.

الاحتفال بتكريم أمير الشعراء أحمد شوقي بك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بتكريم أمير الشعراء أحمد شوقي بك ومشروع مؤتمر أدبي عربي عام دعا صديقنا صاحب السعادة أحمد شفيق باشا وكيل جمعيتنا (الرابطة الشرقية) رهطًا من أهل العلم والأدب للاجتماع في نادي الرابطة للتشاور في تكريم أحمد شوقي بك لنبوغه في الشعر؛ فلبوا دعوته , واستحسنوا اقتراحه , وأنشؤوا لجنة للسعي لتنفيذه اختاروه رئيسًا لها، واختاروا أحمد حافظ بك عوض صاحب جريدة كوكب الشرق سكرتيرًا عامًّا لها , وقرروا نشر ذلك في الجرائد، ولم يلبثوا بعد نشره أن أقبل عليهم المحبذون يطلبون الدخول في زمرتهم كالعادة، حتى زاد عدد اللجنة على الخمسين، وألفت منهم لجنة تنفيذية تولت نشر الدعوى، وقررت جعل هذا الاحتفال ذريعة لمؤتمر عام لترقية الأدب العربي واللغة. وقد أرسل إلى اللجنة كثير من القصائد والخطب في موضوع الاحتفال , وخطب وأبحاث علمية أدبية (محاضرات) لأجل المؤتمر، وكان صاحب المنار عضوًا في اللجنة التنفيذية , ثم في اللجنة العلمية التي نظرت فيما أرسل؛ فجعلته أقسامًا ثلاثة، قسمًا يتلى في جلسات الأسبوع الذي سمي أسبوع شوقي , وقسمًا ينشر في الكتاب الذي يؤلف في هذا الموضوع , وقسمًا يطرح ويهمل. واشترك في هذا الاحتفال سورية , وفلسطين , ولبنان بإرسال وفود منها، والناديان العربيان اللذان في جزيرة البحرين , وثغر بمبي (الهند) بإرسال هديتين نفيستين، خيرهما نخلة من الذهب على أرض من حجر الكهرباء حملها خمسة عثاكيل بسرها من اللؤلؤ - وهي من نادي جزيرة البحرين , وقد أعجب بها كل من رآها , وأثنى على الذوق العربي , والجود العربي. وجاءتنا خطبة نفيسة من أحد علماء المغرب الأقصى باسم أهل العلم والأدب في ذلك القطر، وقصائد من أقطار أخرى. وكان بدء الاحتفال يوم الجمعة 27 شوال الموافق 29 إبريل (نيسان) في دار الأوبرة الملكية برعاية جلالة الملك , ورياسة الشرف لدولة سعد باشا زغلول , فألقى صاحب المعالي محمد فتح الله باشا كلمة لدولته في شأن اشتراكه في الاحتفال , واعتذاره بضعف البدن عن الحضور - وكان خطباء الحفلة 3: رئيسها أحمد شفيق باشا، والأستاذ محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي بدمشق ووفده الرسمي , والآنسة إحسان أحمد حفيدة المرحوم الشيح علي الليثي الشهير , وهي أول فتاة عربية مصرية برزت في محفل أدب للرجال , وخطبت فيهم في هذا العصر. وكان شعراؤها شبلي بك ملاط شاعر لبنان ووفده , ومحمد حافظ بك إبراهيم شاعر مصر , وخليل بك مطران شاعر القطرين، وختمت الحفلة بقصيدة شكر لشوقي نفسه , وتلاها حفلات أخرى في الجمعية الجغرافية الملكية , وجمعية الاقتصاد السياسي والجامعة المصرية وجمعية الرابطة الشرقية ومسرح التمثيل العربي , وكازينو الجزيرة , وكرمة ابن هاني (أي: دار أحمد شوقي بك) , وختمت هذه الحفلات بدعوة محمد شوقي بك الخطيب العضو في مجلس النواب لضيوف مصر في هذا الاحتفال , وأعضاء لجنته إلى قصر المرحوم المنشاوي في بلدة القرشية , وأعد لهم في جنينة المنشاوي الكبرى موائد الطعام , والمثلوجات في ظلال تلك الأشجار التي تجري من تحتها الأنهار، وهنالك ألقيت الخطب والقصائد في الموضوع، ثم انفض الجمع.

مسألة نفقات مؤتمر الخلافة في مجلس النواب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة نفقات مؤتمر الخلافة في مجلس النواب أسرف بعض النواب في تكبير أمر نفقات مؤتمر الخلافة بتأثير النزعة الإلحادية في مصر، وبما كان من انتماء بعض كبار شيوخ الأزهر إلى حزب الاتحاد الممقوت عند الأكثرية الساحقة في المجلس وغيره حتى طلب بعض النواب محاكمة الشيخ الأكبر رئيس الأزهر والمعاهد الدينية بما أنفقه في مؤتمر الخلافة، وتغريمه إياه. ولما عاد المجلس إلى المناقشة في (الاستجواب) المقدم من النائب خليل بك إبراهيم أبو رحاب إلى وزير الأوقاف بها؛ أجاب الوزير بما ننقله عن جريدة السياسة التي هي أشد خصم في الموضوع؛ لأنه حجة عليها - مع عدم ثقتنا بتحريها الأمانة في النقل - وهذا نصه: - وزير الأوقاف: تقدمت في جلسة ماضية ببيان جميع الوقائع المتعلقة بهذا الموضوع من واقع المخاطبات الرسمية التي دارت بين فضيلة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر , ووزارة الأوقاف , وليس عندي فيما يتعلق بهذه الوقائع ما أزيده على بياني السابق. وإذا كان لا بد من بيان في هذا الصدد بعدما سمعته من حضرة العضو المحترم المستجوب , فإنه يخيل لي أن من واجبي أن أشرح للمجلس وجهة نظر فضيلة شيخ الجامع الأزهر في صرف المبلغ على النحو الذي صرفه به , وبينه المجلس. وما كان يدور بخلدي قبل أن أحضر إلى هذه الجلسة أنني سأكون في حاجة , أو أنه سيكون هناك أي داع لأن أشرح للمجلس الموقر موقف شيخ الجامع. ولكن بعدما سمعت من حضرة العضو المحترم , وهو يتكلم عن هيئة مهما كان تصرف أحد المنتسبين إليها , ومهما كان مركز ذلك الشخص كبيرًا كان أو صغيرًا؛ فإنها هيئة ندين لها جميعًا , وأظن أن المجلس الموقر يشاركني في ذلك في وجوب ... . فقاطعه الدكتور ماهر: ندين بالأكاذيب. الوزير - فإنها مهما قيل هيئة دينية. أصوات - لا لا , ما فيش هيئة دينية. دينية إيه؟ الوزير - هل لا يزال المجلس في حاجة إلى وزير الأوقاف. أحمد عبد الغفار - أيوه الوزير - إذن أطلب من المجلس أن يفتح لي صدره , أقول: إنه ما كان يخطر ببالي قبل أن أتشرف بالوجود بينكم في هذه الجلسة أنني سأكون بحاجة إلى أن أبين وجهة نظر شيخ الجامع الأزهر , ولكني بعدما سمعته من حضرة العضو المحترم وهو يتكلم عن شخص ينتسب إلى هيئة أرى من واجبي - إن لم ير غيري - أننا ندين لها بالاحترام , أو نقف إزاءها موقف الاحترام، أقول: إني مضطر لأن أسفر عن وجهة نظر شيخ الجامع , وللمجلس الموقر حريته التامة في توجيه دفاعه. وليس معنى هذا أني أوافق , أو لا أوافق على وجهة النظر هذه، ولكن من حق المروءة , ومن حق الإنسانية أنه إذا مس شخص , أو نوقش شخص في غيبته أن يقوم من يعرض وجهة نظره على الأقل. فإن قمت بهذا الواجب؛ فإني مدفوع فيه بعامل الإنسانية , والمروءة , والشعور بأن من واجبي أن أقدم وجهة نظر شخص قوبل بألفاظ قاسية. والذي يؤخذ على فضيلة شيخ الجامع الأزهر أنه طلب صرف المبالغ التي طلب صرفها على شؤون المعاهد الدينية في حين أنه تبين من الحساب الذي قدمه للوزارة أنه صرف تلك المبالغ على مؤتمر الخلافة؛ فيؤخذ عليه , وقد يكون ذلك (كذا في جريدة السياسة) أنه صرف المبالغ في وجه غير الوجه الذي أثبته في كتابه [1] . أصوات - يبقى معناه إيه؟ أظن أن لي الحق بصفتي عضوًا نائبًا على الأقل في هذا المجلس أن ألقي رأيًا؛ لأني لم أقصد لهذا الموضوع قبل أن يستوفوا كلامهم، بل هم الذين طلبوا مني الكلام قبلهم. يرى فضيلة شيخ الجامع أنه لا تناقض بين تصرفه , وبين صيغة طلبه , يرى ذلك , وقد يكون مخطئًا فيما يراه , وقد أكون أول من يخطئه في ذلك , لكن هذا لا يمنع من أن تعرفوا عقليته - (أعضاء يضحكون) - قبل أن تحكموا على هذا التصرف حكمًا قاسيًا. إنه يقول: إن الخلافة الإسلامية كانت شاغرة , وإنه كان يحسن بل يجب ملؤها , فكان الواجب أن يتفاهم مع كبار رجال المسلمين في العالم. فهذا إذا كان أنفق مبالغ طلبها للمعاهد الدينية؛ أنفقها للخلافة الإسلامية , فإنما قام بعمل هو في رأيه من أعمال المعاهد الدينية. فإن أنتم دهشتم فاسمحوا لي أن أؤكد لكم أنه أيضًا - ولا أدري إذا كان مخطئًا , أو مصيبًا - قد دهش عندما سمع أنه يتهم بأنه طلب مبالغ لعمل , وأنه صرفها في عمل آخر. ولو كنت من شيخ الجامع - (كذا في السياسة) - لطلبت من وزارة الأوقاف المبلغ بعد أن أخبرها بوضوح , وصراحة عن أبواب الصرف حتى لا يقع مثل هذا اللبس الذي نحن فيه الآن. على أن شيخ الجامع لا يكون هو المسئول الأول عن الكتب التي يمضيها , وهو شيخ كما تعرفون في سنه , وفي مشاغله العديدة , وبحكم وظيفته ... الدكتور ماهر - ما تطلعوه (المنار: أي أخرجوه من المشيخة) . الوزير - إن كانت صيغة الكتاب جاءت موجزة إيجازًا معيبًا , أو أنها لم تعبر عن أفكار شيخ الجامع , فأرجو أن تكتفوا بما شرحته لحضراتكم , وأن تكون ماثلة أمام حضراتكم جميع الظروف التي أحاطت بالموضوع. وقبل أن أختم كلامي أصرح أني عندما كنت عضوًا بالوزارة السعدية؛ لم يتصل بعلمي أن ذلك المبلغ كان له علاقة بمؤتمر الخلافة. كما أني أصرح بأني لم أجد في الوزارة ما يدل على شيء من هذه العلاقة، ولذلك فإن البيانات التي أدليت بها في الجلسة السابقة هي كل البيانات التي أستطيع تقديمها. بعد ذلك لي كلمة أعتقد من واجبي أن أدلي بها أيضًا , وهي خاصة بسؤال حضرة النائب المحترم عما اعتزمته وزارة الأوقاف إزاء شيخ الجامع. يطلب حضرة العضو المحترم مني , وأنا وزير الأوقاف أن أحاكم شيخ الجامع على تصرفه، ولكني أنبه حضرته إلى أن المعاهد الدينية ليست تابعة لوزارة الأوقاف , ولو سلمت جدلاً قبل أي بحث بأن موقف أحد موظفي المعاهد يستوجب مؤاخذته , فليس من شأني , ولا من اختصاصي , ولا في استطاعتي أن أحاكمه تأديبيًّا؛ لأنه ليس من موظفي وزارتي , ولأنه تابع لسلطة مستقلة , فهذا خارج عن سلطاني واختصاصي , وتكليفي به هو تكليفي بالمستحيل. وأما فيما يختص بالمبلغ , وهو الذي لوزارة الأوقاف شأن فيه , فقد ثبت لحضراتكم أن وزارة الأوقاف قد تبرعت بهذا المبلغ إلى المعاهد الدينية. فوزارة الأوقاف ترى أن صرف المبالغ في مؤتمر الخلافة مخالف لما طلب لأجله , وشيخ الجامع يرى أنه صرف للغرض الذي طلب من أجله , ولم أتبين وجهًا قانونيًّا يساعدني على مطالبة شيخ الجامع برد المبلغ ما دام له وجهة النظر التي قدمتها. أعضاء - يضجون الوزير - افرضوا أن الوزارة اقتنعت , ورفعنا الدعوى , وجاء شيخ الجامع , وقد ثبت أنه لم يصرف المبلغ في شؤونه الخاصة , ولكن في موضوع مادي وجد فعلاً هو مؤتمر الخلافة , وعلى أي حال فأنا كشخص أعرف شيئًا من القانون لا أرى أني في موقف يسمح لي بأن أرفع الدعوى في هذا الموضوع على شيخ الجامع , وأن أكون مطمئنًّا على القضية. اهـ بيان الوزير في المسألة. (المنار) هذا ما صرَّح به وزير الأوقاف في مجلس النواب , وهو من علماء الحقوق والقوانين , فأثبت أن شيخ الأزهر رئيس مؤتمر الخلافة لا يُؤاخَذ قانونًا في إنفاقه ما أخذه من الأوقاف الخيرية , وأنفقه برأيه في شأن مؤتمر الخلافة، وأن كل ما في الأمر من المؤاخذة خاص بصيغة الطلب , وأنه يراها لا تخل بغرضه منه، وكل من له إلمام بالمسألة؛ يعلم أن إيهام الطلب , وعدم التصريح به , وهو مما كان من التواطؤ بين وكيل وزارة الأوقاف السابق , وبين السكرتير العام للأزهر ولمؤتمر الخلافة، ولكن بعض النواب لا يعلمون الحقائق , وبعضهم لا ينطقون بها. وممن كان يعرفها (الأستاذ الجنيدي) , فقال في المجلس: إن كتاب شيخ الجامع الأول صدق عليه في اليوم الذي قدم فيه من وكيل الوزارة - وكان حسن نشأت باشا - , فسأل عن وجود المبلغ؛ فأحيب بأنه يوجد , فجمع اللجنة الاستشارية فيه , وعرض عليها الأمر , فوافقت عليه , وتقرر صرفه في الحال , وكان هناك نائب حر أشار إليها , فقال كلمة حق ننقلها عن جريدة السياسة , وإن جاءت بها ملخصة فاقدة لبعض قوتها , وهي: الأستاذ فكري أباظه: المسألة خطيرة , والمسألة تستدعي أن تعالج بشيء غير قليل من الصراحة. كلكم تعلمون أنه في ذلك الوقت ظنت الحواشي - والحاشية دائما تصدر منها المصائب - ظنت الحاشية أن إرادة سامية كانت تريد الخلافة، ففي وزارة سنة 1924 وسنة 1925 كانت المبالغ تصرف بسرعة , وبغير الإجراءات المتبعة في وزارة الأوقاف، إذن بأي حق , وعلى أي أساس من العدل , والشريعة نصُبُّ جام غضبنا على الشيخ , والرؤوس باقية لا يحاسبها أحد؟ يقول الناس: سيعاقبون شيخ الجامع , وهم يعلمون أنه كان محركًا بقوة لا يمكن لمجلس النواب أن يمنعها، فماذا فعلتم بالنسبة للوزراء السابقين , وقد ارتكبوا من الجرائم ما ارتكبوا؟ لم تستطيعوا أن تعملوا شيئًا؛ لأنه لم يكن هناك قانون يسمح بعقابهم. يقول وزير الأوقاف: أنه بحث الموضوع , وهو يرى كشخص يعرف القانون أنه لا يستطيع مقاضاته , فلا تحصروا المسئولية في دائرة ضيقة , وضعوا يدكم على المسئول الحقيقي. أنقذوا كرامة المجلس، فالناس يعلمون كل التفاصيل اهـ. (المنار) وكان في الجلسة من عارفي الحقيقة النائب أحمد حافظ عوض بك , فارتأى الاكتفاء ببيان معالي وزير الأوقاف، وكذلك كان. وانتهت هذه الضجة التي كانت مما يحزن المسلمين , ويسر الملحدين , وإن باءوا بالخيبة , وسوء الخاتمة.

صاحب المنار وجريدة السياسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ صاحب المنار وجريدة السياسة ذكرنا في الجزء الماضي ما بلغنا من قول رئيس تحرير السياسة: إنه لا بد من قتل صاحب المنار. ذكرناه تعجبًا من غروره , وتمهيدًا لإثبات سوء نيته فيما سيكتبه ويعده قاتلاً، وإذا به قد كتب مقالة في جريدة السياسة اليومية بقلمه , ثم استكتب بعض أجرائه مقالاً آخر في مرآة السياسة الأسبوعية صورت آدابهما أوضح تصوير , وأدقه؛ قذع بأفحش الهجو الشعري , وجرأة على البهتان الصريح وقلب الحقائق استغربهما الناس من السياسة بعد أن انتشرت , وصارت تقرأ , وقد بَعُد عهدهم بما سبق لها من هذا النحو أيام كانت تحمل أمثال هذه الحملات على الرئيس الجليل سعد باشا زغلول؛ لامتهان الأمة لها , ولحزبها الحر الدستوري المشاق له , وللوفد المصري حتى إنه قلما كان يوجد من يقرؤها. ولكن حنق رئيس تحريرها , وبعض مرءوسيه على صاحب المنار إنما هو في شيء لا يمس أرزاقهم , ولا رواج جريدتهم , فما باله حملهم على قذع وبهتان أشد من كل ما عهد منهم ومن غيرهم من أصحاب الجرائد التي يلقبونها بالساقطة؟ حتى أجمع كل من اطلع من العارفين , ولا سيما رجال القانون أننا إذا حاكمنا الكاتبين عليه؛ يحكم عليها بالعقاب قطعًا؛ لأنه لا يمكن أن يعتذر عنه بأنه خلاف علمي , أو سياسي , أو غير ذلك من أنواع الخلاف الذي يؤيد فيه كل فريق رأيه. إن بين المنار , والسياسة خلافًا أهم مما كان بين حزبها , وبين الوفد المصري , وهو أن المنار داعية الدين الإسلامي , والمدافع عنه، والسياسة تقوم بدعاية إلحادية تريد أن تنسخ بها هداية الإسلام , وتقطع الرابطتين الإسلامية والعربية بما تعبر عنه بالثقافة المصرية , والتجديد، ولكن ليس في شيء من المقالتين تخطئة للمنار في شيء من رأيه في ذلك , ولا دفاع عن ثقافتها وتجديدها، وإنما كله بهت في مثالب شخصية مختلقة كزعمها أن صاحب المنار ليس ليه دين ولا عقيدة ولا مذهب , فتارة يكون مسلمًا سنيًّا أو شيعيًّا أو وهابيًّا , وتارة بوذيًّا أو برهميًّا وتارة ملحدًا! ! وما أشبه هذا. لعل جريدة السياسة تريد أن تستدرجنا بهذا إلى منازلتها في هذا الميدان الذي تعلم علم اليقين أننا لسنا من فرسانه , وإن جميع فرسانه المبرزين ينهزمون أمامها فيه، وقد سبق لنا أن قلنا في تفسير قوله تعالى: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} (الأعراف: 199) : إن الجرائد البذيئة في هذا العصر قد بذت الشعراء الهجائين في العصور الخالية , فيجب الإعراض عنها، وإذا نحن عاتبنا , أو عتبنا على أحد في هذا المقام , فإنما نعتب على الحزب الحر الدستوري الذي جعل أمثال هؤلاء الكتاب لسان حاله , ومحررين لجريدته، فهو المسؤول عن قذعهم , وبذاءتهم , وعن إلحادهم أيضًا , فإن كنا لا نعرف رأي زعمائه كلهم , أو أكثرهم في الأمر الثاني , فإننا نجزم بنزاهتهم كلهم عن الأول، ومن يمتري في آداب عدلي باشا , وثروت باشا , والدكتور حافظ بك عفيفى إلخ. نعم إن الأحزاب لا بد لها من جرائد تنشر دعوتها , وتحمي حماها , ولو بالطعن الشخصي في خصومها كما كانت القبائل تختار لها شاعرًا هجاء يدافع عنها إذا هجيت يلقب بسفيه القوم، وكان خصوم القبيلة يهجونها في جملتها دون سفيهها عملاً بقول الشاعر: ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل بلاء الناس من رابط الكلب ونحن لم نكن من خصوم الحزب الدستوري , ولا هجونا رجلاً من زعمائه , ولا من دهمائه , وما كان الهجو والثلب من شأبنا. ولو كانت السياسة ترد على ما ننشره من تفنيد بعض نشرياتها الإلحادية عملاً بحرية الرأي والنشر الذي تدافع به عن الكتب الإلحادية ككتب علي عبد الرازق وطه حسين , وتعترف لنا بمثل هذه الحرية لما شكوناها إلى حزبها , ولا لامها أحد , فإن هذا التباين بيننا لا يمكن السكوت عليه.

قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ قاعدة جليلة فيما يتعلق بأحكام السفر والإقامة لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى (تابع ما قبله) فصل والذين لم يكرهوا أن يصلي المسافر أربعًا ظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك , أو فعله بعض أصحابه على عهده؛ فأقره عليه، وظنوا أن صلاة المسافر ركعتين , أو أربعًا بمنزلة الصوم والفطر في رمضان، وقد استفاضت الأحاديث الصحيحة بأنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم , فمنهم الصائم , ومنهم المفطر , وهذا مما اتفق أهل العلم على صحته. وأما ما ذكروه من التربيع , فحسبه بعض أهل العلم صحيحًا , وبذلك استدل الشافعي لما ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقة تصدق الله بها عليكم؛ فاقبلوا صدقته) , فدل على أن القصر في السفر بلا خوف صدقة من الله , والصدقة رخصة لا حتم من الله أن يقصر. ودل على أن يقصر في السفر بلا خوف - إن شاء المسافر - أن عائشة رضي الله عنها قالت: (كل ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتم في السفر , وقصر) . (قلت) : وهذا الحديث رواه الدارقطني , وغيره من حديث ابن عاصم , حدثنا عمرو بن سعيد , عن عطاء بن أبي رباح , عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر , ويتم، ويفطر , ويصوم) . قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح. قال البيهقي: وهذا شاهد من حديث دلهم بن صالح , والمغيرة بن زياد , وطلحة بن عمر , وكلهم ضعيف , وروى حديث دلهم من حديث عبيد الله بن موسى , حدثنا دلهم بن صالح الكندي , عن عطاء , عن عائشة قالت: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرجنا إلى مكة أربعًا حتى نرجع) , وروى حديث المغيرة وهو أشهرها , عن عطاء , عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر , ويتم. وروى حديثَ طلحة ابنُ عمر , عن عطاء , عن عائشة قالت: (كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتم , وقصر، وصام في السفر , وأفطر) . قال البيهقي: وقد قال عمر بن ذر - كوفي ثقة -: أخبرنا عطاء بن أبي رباح أن عائشة كانت تصلي في السفر المكتوبة أربعًا , وروى ذلك بإسناده , ثم قال: وهو كالموافق لرواية دلهم بن صالح , وإن كان في رواية دلهم زيادة سند. (قلت) : أما ما رواه الثقة , عن عطاء , عن عائشة من أنها كانت تصلي أربعًا فهذا ثابت عن عائشة معروف عنها من رواية عروة وغيره , عن عائشة دل ذلك على ضعف المسند , ولم يكن ذلك شاهدًا للمسند. قال ابن حزم في هذا الحديث: انفرد به المغيرة بن زياد , ولم يروه غيره , وقد قال فيه أحمد بن حنبل: (ضعيف، كل حديث أسنده منكر) , (قلت) : فقد روي من غير طريقه لكنه ضعيف أيضًا , وقد ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أن أباه سئل عن هذا الحديث فقال: (هذا حديث منكر) . وهو كما قال الإمام أحمد، وإن كان طائفة من أصحابه قد احتجوا به موافقة لمن احتج به كالشافعي , ولا ريب أن هذا حديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم مع أن من الناس من يقول لفظه: كان يقصر في السفر , وتتم، ويفطر , وتصوم، بمعنى أنها هي التي كانت تتم , وتصوم , وهذا أشبه بما روي عنها من غير هذا الوجه من أنه كذب عليها أيضًا. قال البيهقى: وله شاهد قوي بإسناد صحيح. وروي من طريق الدارقطني من طريق محمد بن يوسف حدثنا العلاء بن زهير , عن عبد الرحمن بن الأسود , عن أبيه , عن عائشة قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان، فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصمت، وقصر، وأتممت، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي أفطرتَ , وصمتُ , وقصرتَ , وأتممتُ؟ قال: (أحسنت يا عائشة) , ورواه البيهقي من طريق آخر عن القاسم بن الحكم , ثنا العلاء بن زهير , عن عبد الرحمن بن الأسود , عن عائشة لم يذكر أباه. قال الدارقطني: الأول متصل , وهو إسناد حسن , وعبد الرحمن قد أدرك عائشة , فدخل عليها , وهو مراهق. ورواه البيهقي من وجه ثالث من حديث أبي بكر النيسابوري , ثنا عباس الدوري , ثنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير , ثنا عبد الرحمن بن الأسود , عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي قصرت، وأتممت، وأفطرت، وصمت، فقال: (أحسنت يا عائشة) ، وما عاب علي. قال أبو بكر النيسابوري: هكذا قال أبو نعيم , عن عبد الرحمن , عن عائشة، ومن قال: عن أبيه في هذا الحديث؛ فقد أخطأ. (قلت) : أبو بكر النيسابوري إمام في الفقه والحديث، وكان له عناية بالأحاديث الفقهية , وما فيها من اختلاف الألفاظ , وهو أقرب إلى طريقة أهل الحديث , والعلم التي لا تعصب فيها لقول أحد من الفقهاء مثل أئمة الحديث المشهورين , ولهذا رجح هذا الطريق , وكذلك أهل السنن المشهورة لم يروه أحد منهم إلا النسائي , ولفظه: عن عائشة أنها اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قصرتَ وأتممتُ وأفطرتَ وصمتُ فقال: (أحسنت يا عائشة) , وما عاب علي. وهذا بخلاف من قد يقصد نصر قول شخص معين , فتنطق له من الأدلة ما لو خلا عن ذلك القصد؛ لم يتكلفه , ولحكم ببطلانها. والصواب ما قاله أبو بكر , وهو أن الحديث ليس بمتصل , وعبد الرحمن إنما دخل على عائشة وهو صبي ولم يضبط ما قالته، وقال فيه أبو محمد بن حزم: هذا الحديث تفرد به العلاء بن زهير الأزدي لم يروه غيره , وهو مجهول , وهذا الحديث خطأ قطعًا , فإنه قال فيه: إنها خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في رمضان , ومعلوم باتفاق أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط , ولا خرج من المدينة في عمرة في رمضان , بل ولا خرج إلى مكة في رمضان قط إلا عام الفتح , فإنه كان حينئذ مسافرًا في رمضان , وفتح مكة في شهر رمضان سنة ثمان باتفاق أهل العلم , وفي ذلك السفر كان أصحابه منهم الصائم , ومنهم المفطر , فلم يكن يصلي بهم إلا ركعتين , ولا نقل أحد من أصحابه عنه أنه صلى في السفر أربعًا , والحديث المتقدم خطأ كما سنبينه إن شاء الله تعالى، وعام فتح مكة لم يعتمر، بل ثبت بالنقول المستفيضة التي اتفق عليها أهل العلم به أنه إنما اعتمر بعد الهجرة أربع عُمَر منها ثلاث في ذي القعدة، والرابعة مع حجته: عمرة الحديبية لما صده المشركون؛ فحل بالحديبية بالإحصار , ولم يدخل مكة، وكانت في ذي القعدة , ثم اعتمر في العام القابل عمرة القضية، وكانت في ذي القعدة أيضًا، ثم لما قسم غنائم حنين بالجعرانة اعتمر من الجعرانة، وكانت عمرته في ذي القعدة أيضًا، والرابعة مع حجته، ولم يعتمر بعد حجه لا هو , ولا أحد ممن حج معه إلا عائشة لما كانت قد حاضت , وأمرها أن تهل بالحج، ثم أعمرها مع أخيها عبد الرحمن من التنعيم، ولهذا قيل لما بني هناك من المساجد: مساجد عائشة , فإنه لم يعتمر أحد من الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا قبل الفتح ولا بعده عمرة من مكة إلا عائشة، فهذا كله مما تواترت به الأحاديث الصحيحة مثل ما في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجه: عمرة من الحديبية في ذي العقدة , وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة , وعمرة من الجعرانة في ذي القعدة حيث قسم غنائم حنين , وعمرة مع حجته، وهذا لفظ مسلم. ولفظ البخاري: اعتمر أربعًا؛ عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون، وعمرة في العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم، وعمرة حنين، وعمرة مع حجته. وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين. وهذا لفظ البخاري، وأراد بذلك العمرة التي أتمها , وهي عمرة القضية , والجعرانة. وأما الحديبية , فلم يمكن إتمامها؛ بل كان منحصرًا لما صده المشركون , وفيها أنزل الله آية الحصار باتفاق أهل العلم , وقد ثبت في الصحيح عن عائشة لما قيل لها: إن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب. فقالت: (يغفر الله لأبي عبد الرحمن , ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو معه , وما اعتمر في رجب قط، ما اعتمر إلا وهو معه) , وفي رواية عن عائشة قالت: (لم يعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ذي القعدة) , وكذلك عن ابن عباس. رواهما ابن ماجه , وقد روى أبو داود عنها قالت: (اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين عمرة في ذي القعدة , وعمرة في شوال) . وهذا إن كان ثابتًا عنها , فلعله ابتداء سفره كان في شوال , ولم تقل قط: إنه اعتمر في رمضان؛ فعلم أن ذلك خطأ محض. وإذا ثبت بالأحاديث الصحيحة أنه لم يعتمر إلا في ذي القعدة , وثبت أيضًا أنه لم يسافر من المدينة إلى مكة , ودخلها إلا ثلاث مرات: عمرة القضية , ثم غزوة الفتح، ثم حجة الوداع , وهذا مما لا يتنازع فيه أهل العلم بالحديث والسيرة وأحول رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولم يسافر في رمضان إلى مكة إلا غزوة الفتح - كان كل من هذين دليلاً قاطعًا على أن هذا الحديث الذي فيه أنها اعتمرت معه في رمضان , وقالت: أتممت وصمت , فقال: (أحسنت) , خطأ محض، فعلم قطعًا أنه باطل لا يجوز لمن علم حاله أن يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: (من روى عني حديثًا , وهو يرى أنه كذب , فهو أحد الكاذبين) ؛ ولكن من حدث من العلماء الذين لا يستحلون هذا فلم يعلموا أنه كذب. فإن قيل: فيكون قوله: (في رمضان) خطأ , وسائر الحديث يمكن صدقه؛ قيل: بل جميع طرقه تدل على أن ذلك كان في رمضان؛ لأنها قالت: قلت: أفطرت وصمت وقصرت وأتممت , فقال: (أحسنت يا عائشة) , وهذا إنما يقال في الصوم الواجب. وأما السفر في غير رمضان , فلا يذكر فيه مثل هذا؛ لأنه معلوم أن الفطر فيه جائز , وأيضًا فقد روى البيهقي وغيره بالإسناد الثابت عن الشعبي , عن عائشة أنها قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب؛ ففرضت ثلاثًا , فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر صلى الصلاة الأولى , وإذا أقام؛ زاد مع كل ركعتين ركعتين إلا المغرب؛ لأنها وتر , والصبح؛ لأنها تطول فيها القراءة) . أخبرت عائشة أنه كان إذا سافر؛ صلى الصلاة الأولى ركعتين ركعتين , فلو كان تارة يصلي أربعًا؛ لأخبرت بذلك , وهذا يناقض تلك الرواية المكذوبة على عائشة، وأيضًا فعائشة كانت حديثة السن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات , وعمرها أقل من عشرين سنة , فإنه لما بنى بها بالمدينة كان لها تسع سنين , وإنما أقام بالمدينة عشرًا , فإذا كان قد بنى بها في أول الهجرة؛ كان عمرها قريبًا من عشرين , ولو قدر أنه بنى بها بعد ذلك؛ لكان عمرها حينئذ أقل , وأيضًا فلو كانت كبيرة؛ فهي إنما تتعلم الإسلام , وشرائعه من النبي صلى الله عليه وسلم , فكيف يتصور أن تصوم وتصلي معه في السفر خلاف ما يفعله هو , وسائر المسلمين وسائر أزواجه , ولا تخبره بذلك حتى تصل إلى مكة؟ هل يظن مثل هذا بعائشة أم المؤمنين؟ وما بالها فعلت هذا في هذه السفرة دون سائر أسفارها معه؟ وكيف تطيب نفسها بخلافه من غير استئذانه , وقد ثبت عنها في الصحيحين بالأسانيد الثابتة باتفاق أهل العلم أنها قالت: (فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين , ثم أتمها في الحضر , وأقرت صلاة السفر على الفريضة) وهذا من رواية الزهري عن عروة عن عائشة , ورواية أصحابه الثقات , ومن رواية صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة , يرويه مثل ربيعة، ومن رواية الشعبي , عن عائشة. وهذا مما اتفق أهل العلم بالحديث على أنه صحيح ثابت

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة القبور والمشاهد عند الشيعة مناظرة بين عالم شيعي، وعالم سني من المعلوم في كتب التاريخ أن رفع بناء قبور آل البيت وغيرهم من الصالحين، وبناء القباب عليها، وإيقاد السرج والقناديل فيها، وجعلها مساجد يصلى فيها , وشعائر يحج إليها خلافًا للأحاديث الصحيحة الزاجرة عن ذلك لعمل الصدر الأول - كل ذلك مما ابتدعه الشيعة الباطنية والظاهرية , وقلدهم فيه بعض المنتسبين إلى السنة من الملوك , والسلاطين الجاهلين , ولا سيما الأعاجم منهم كالجراكسة , والترك , ومن مشايخ الطرق الصوفية. ويعلم قراء المنار أننا منذ أنشأناه في أواخر سنة 1315 إلى الآن , ونحن ننكر هذه البدع , ونشنع على أهلها في مصر وغيرها من غير تعرض لذكر الشيعة؛ لأن هؤلاء أشد الفرق الإسلامية تعصبًا وجدلاً , فتوجيه الكلام إليهم قلما يفيد إلا زيادة الشقاق الذي نسعى لإحالته وفاقًا، ولكن نشرنا في المجلد الثاني , والمجلد الثالث عشر من المنار رسالتين لسائحين من أهل العلم (أولاهما) عن حال العراق تعرض فيها لدعاة الشيعة هنالك , وذكر مسألة المتعة , (والثانية) من البحرين بحث فيها مرسلها في مسألة القبور والمشاهد في مذهب الشيعة , فما زلنا نسمع الطعن في المنار من أجل نشرهما قولاً وكتابة، وقد ألف بعض علمائهم في سورية كتابًا سماه: (الشيعة والمنار) , فعرقل المتعصبون منهم جهادنا في سبيل التأليف بينهم , وبين أهل السنة. وجملة القول: إن بعض علمائهم المتعصبين جعلوا المنار خصمًا للشيعة , ولو اشتغلنا بالرد والإنكار على الشيعة عشر معشار اشتغالنا بالبدع المنتشرة في البلاد التي يعد أهلها من متبعي السنة؛ لقضينا كل عمرنا في الجدل الذي يبغضه الله تعالى , ويبغض أهله. وكنا نود أن نرى كتابة لبعض علمائهم المعاصرين يبين فيه أدلتهم في هذه المسألة , ولا نعثر عليها حتى زارنا في هذا الشهر عالم سني كان في العراق، وقعت بينه وبين أحد علماء الشيعة مناظرة شفاهية فيها تلتها مناظرة قلمية اطلعنا عليها؛ فاستأذناه في نسخها ونشرها؛ فأذن لنا، وهي مبنية على الرسالة الثانية من الرسالتين اللتين أشرنا إليهما آنفًا. ونبدأ بنشر ما كتبه العالم الشيعي , وهو الأستاذ الشهير (سيد مهدي الكاظمي القزويني) , ثم نقفي عليها برد العالم السني , وهو (الأستاذ الشيخ محمد بن عبد القادر الهلالي) , ولكننا نعلق في الحواشي بعض الفوائد قبل الاطلاع على الرد كله , ونشره. *** رسالة العالم الشيعي [*] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم , وعترته الطاهرين، وعلى صحبه المنتخبين [1] , وعلى التابعين لهم بإحسان. ثم تحية وسلام على جناب العام الفاضل الشيخ محمد بن عبد القادر الهلالي سلمه الله تعالى , ووفقه معنا , وسائر المؤمنين لما يرضيه. أما بعد , فقد تناولنا بكمال الاحترام كتابكم الكريم المؤرخ لأربع خلون من شعبان , وسبرنا ما أوعزتم إليه مما نشره المنار عن أحد مكاتبيه في الجزء الرابع من المجلد الثالث عشر في صفحة 311 , وتلقينا سؤالكم عن الحقيقة بتمام السرور , والانشراح رغبة بكشف الالتباس , ورفعًا لسوء التفاهم بين المسلمين، ولذا تتبعنا كلام المكاتب فقرة فقرة , وإن استلزم ذلك طولاً في البحث , لكنكم ستسامحوننا عليه إن شاء الله تعالى. قال المكاتب: والعجب من علمائهم - يعني الشيعة - أنه لا يوجد كتاب من فقههم إلا وفيه: لا يجوز البناء على القبور , والسرج عليها , وتجديدها , وبناء المساجد عليها. ثم لا نرى منهم منكرًا لذلك , بل يعدونه من أفضل القربات انتهى. نقول: كان على المكاتب أن يذكر على الأقل كتابًا واحدًا من كتب الشيعة في الفقه مصرحًا فيه بعدم جواز هذه الأمور؛ ليكون شاهدًا على صدقه فيما ادعاه، وأنى له بذلك؟ وهذه كتب الشيعة منتشرة في غاية الكثرة لم نجد في واحد منها ما نسبه إليهم. قال المكاتب استدلالاً بما قال الشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب الجواهر المتوفى في أواسط القرن الثالث عشر على عدم جواز البناء على القبور عند ذكر صاحب المتن: إنه لا يجوز. انتهى. نقول: سبحانك اللهم مغفرة وعفوًا، وعجبًا من مدعي العلم كيف يحرف الكلم عن مواضعه؟ ولم ينقله على وجهه، إن نص عبارة كتاب الجواهر هكذا: ولما فرغ (يعني المحقق الحلي المتوفى سنة ست وسبعين وستمائة مصنف كتاب شرائع الإسلام في الفقه , وهو المتن الذي شرحه الشيخ محمد حسن النجفي , وسمى شرحه: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) من الكلام في المسنونات شرع في الكلام في المكروهات , فمنها: (إنه يكره فرش القبر بالساج إلا لضرورة) , ثم ذكر جملة من المكروهات إلى أن قال: (ومنها: تجصيص القبور) . هذا نفس المتن , فهل يتوهم أحد من هذه العبارة عدم جواز البناء على القبور بعد تصريح المصنف بأنه يكره تجصيصها؟ حاشا , وكلا. ثم إن صاحب الجواهر بعد أن ذكر المتن المزبور أخذ يستدل على كراهة التجصيص , ومن جملة ما استدل به: الحديث المروي عن علي بن جعفر رضي الله عنه قال: سألت أبا الحسن موسى - يعني الكاظم رضي الله عنه - عن البناء على القبر والجلوس عليه هل يصلح؟ قال: (لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا تطيينه) . أما وجه الاستدلال به على كراهة التجصيص , فهو أن الجلوس على القبر ليس بمحرم عندنا , فتكون سائر الأمور المذكورة معه ليست محرمة؛ للزوم تساوي المتعاطفات في الحكم [2] , فقوله رضي الله عنه: لا يصلح؛ إنما يريد به الكراهة , لا التحريم بقرينة ذكر الجلوس الذي ليس بحرام. ولكن مكاتب المنار لم يذكر من الحديث إلا قوله: لا يصلح البناء على القبر , وأسقط منه الباقي؛ ليوهم القارئ أن الحديث دال على التحريم , ولا شك أن إسقاط بعض الحديث خيانة في النقل، على أن لفظ الحديث: (لا يصلح) , وهو بنفسه لا يدل على التحريم؛ لأن نفي الصلاح في شيء لا يستلزم ثبوت الفساد فيه، فلا تحريم إذن. ثم قال صاحب الجواهر: وربما يشعر بكراهة التجصيص قول الصادق رضي الله عنه: كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر؛ فهو ثقل على الميت. وهذا الحديث لا دخل له بموضوع المسألة؛ لأن المفهوم منه: كراهة أن يهال على الميت من غير تراب القبر , فالصادق رضي الله عنه كأنه قال: لا يهال على القبر إلا التراب الذي استخرج من نفس القبر عند حفره , ولا يؤتى بشيء من غيره , فيوضع في القبر [3] إلا أنه يمكن أن يفهم منه كراهة تجصيصيه (أيضًا) ؛ لأن الجص من غير تراب القبر , ولهذا جعل صاحب الجواهر هذا الحديث مشعرًا بكراهة التجصيص لا دليل عليه , ومعلوم أن الإشعار نظير الإيماء , والتلميح ليس من دلالات الألفاظ , ومفهوماتها الظاهرة منها [4] . وقال أمير المؤمنين رضي الله عنه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور , وكسر الصور , وسنذكر فيما يأتي معنى هذا الحديث إن شاء الله , والمهم هنا بيان أن صاحب الجواهر ذكر هذه الأحاديث استدلالاً على كراهة تجصيص القبور حسب ما صرح به الماتن , ونحن وضحنا وجه الاستدلال بها. ثم قال الماتن: ومنها؛ أي: من المكروهات (تجديد القبور بعد اندراسها) , وأخذ صاحب الجواهر يستدل على كراهة ذلك بما لا حاجة إلى ذكره؛ لأن مكاتب المنار لم يتعرض له [5] , ثم إنه لا الماتن ولا الشارح تعرض لمسألة السرج على القبور؛ فيفهم من ذلك أنها غير مكروهة عندهما , ولهذا أهملا ذكرها [6] , وسائر كتب الشيعة على هذا النسق , فليرجع إليها من شاء , فكيف قال مكاتب المنار: إنه لا يوجد كتاب من فقههم إلا وفيه: لا يجوز البناء على القبور , والسرج عليها , وتجديدها؟ سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم [7] ، ولا عجب منه , فإنه لما تظاهر بالتمدن الغربي , وأدخل نفسه في عداد المتنورين بزعمه , وتراءى للناس بمظهر بيان الحقائق؛ سولت له نفسه أن قارئ كتابه لا يتهمه بالافتراء على تحريف كلمات العلماء , وساق الأحاديث على غير مساقها بعد أن لعب بها [8] كل ذلك؛ ليشوه وجه الشيعة , وسمعتهم عند من لم يعرف حقيقة الحال، ولم يدر , وليته درى بأنه سود بذلك صحيفة تاريخه وتاريخ المنار، فأين الكراهة من التحريم؟ وأين تجصيص القبور أو البناء عليها من البناء الذي قصد التشنيع به كالقباب وغيرها [9] ؟ فإن من الواضح أن البناء المذكور في حديث الكاظم عليه السلام سؤالاً وجوابًا؛ إنما هو بناء نفس القبر , وهو الذي لا يصلح كما يشهد به قوله في الحديث: (ولا الجلوس عليه , ولا تجصيصه , ولا تطيينه) , فهل يفهم من هذه الكلمات غير نفس القبر؟ وكم من فرق بين بناء نفس القبر [10] , وبين القبة المبنية على أساسات لا دخل لها بالقبر أصلاً. قال المكاتب: وفي كتاب محمد بن يعقوب الكلينى عن سماعة قال: سألت الصادق رضي الله عنه عن زيارة القبور , وبناء المساجد عليها , فقال: (أما زيارة القبور , فلا بأس , ولا يبنى عليها مساجد) , قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) انتهى. نقول: يوجد فيما نقله المكاتب من حديث سماعة بعض تغييرات لا يختلف بها المعنى , ولكن العجب منه أنه ذكر الحديث النبوي عقيب حديث سماعة بصورة توهم أن الصادق رضي الله عنه استشهد به على قوله، مع أن الحديث النبوي لا وجود له في كتاب الكليني أصلاً، نعم توجد روايته مرسلة في بعض كتب الشيعة. وكيف كان , فليعلم أن جميع ما جاء من بناء المساجد , أو اتخاذها على القبور، أو فيها، أو عندها حسب اختلاف النقل؛ إنما يراد به النهي عن جعل نفس القبر مسجدًا؛ أي: موضعًا يسجد عليه , وليس المراد بالمسجد ما هو المعروف بين المسلمين من المكان الذي يصلى فيه؛ لأنه حينئذ لا يكون معنى معقول لبناء المسجد على القبر , أو اتخاذ المسجد عليه، وهل يتصور في الإمكان بناء مسجد على نفس القبر؟ ويشهد لما قلناه نفس الحديث النبوي: (لا تتخذوا قبري قبلة , ولا مسجدًا) , فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره قبلة يتوجه إليه المصلي ولا يستقبل القبلة , ونهى عن اتخاذ قبره موضعًا للسجود عليه , فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد , ومن المعلوم أن ليس لليهود مساجد بالمعنى المعرف عند المسلمين، فالمقصود إذن بيان أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مواضع يسجدون عليها [11] . وفي صحيح البخاري: باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور , وذكر حديث عائشة رضي الله عنها , عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد , ولولا ذلك لأبرز قبره غير أني أخشى أن يتخذ مسجدًا) . انتهى فهل يفهم من هذا الحديث إلا اتخاذ نفس القبر موضعًا يسجد عليه؟ قال في فتح الباري: قوله: (لأبرز قبره) أي: لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم , ولم يتخذ عليه الحائل , فهل يوجد أصرح من ذلك؟ ولا شك أن السجود على نفس القبر لا يجوز، وهذا المعنى هو المنهي عنه في جميع أحاديث الباب، وربما حملها بعض العلماء على إرادة السجود لنفس القبور؛ تعظيمًا لها , وهذا المعنى وإن كان غير جائز أيضًا؛ لأنه عبادة للقبور إلا أن الأحاديث ليست مسوقة للنهي عن ذلك , بل للنهي عن السجود على نفس القبر , وسنذكر أقوال العلماء بالنسبة إلى هذا المعنى فيما يأتي إن شاء الله. وتوجد (أيضًا) معان ثلاثة غير المعنى الذي قررناه إلا أنه لا يمكن تفسير الأحاديث بواحد منها , (أحدها) أن يراد النهي عن وصل المساجد بمواضع ال

قرار النيابة العامة في قضية الدكتور طه حسين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ قرار النيابة العامة في قضية الدكتور طه حسين وصلت إلينا نسخة من هذا القرار فإذا هو يؤيد ما كتبه الكاتبون من علماء الشرع , ومن علماء القوانين , ومن سائر طبقات العرافين من إثبات جهل طه حسين فيما كتبه , وطعنه في الدين الإسلامي , وتكذبيه للقرآن , وتقليده في ذلك لبعض دعاة النصرانية، وإننا ننقل منها ما سبقتنا إلى تلخيصه جريدة الأخبار الغراء للثقة بها قالت: أصدر حضرة صاحب العزة محمد بك نور رئيس نيابة مصر قرارًا مسببًا عن البلاغات التي قدمت ضد الدكتور طه حسين؛ لتأليفه كتابًا أسماه الشعر الجاهلي. ويقع هذا القرار في ست عشرة صفحة من القطع الكبير , وقد تناول في مقدمته الإشارة إلى أسماء الأشخاص المبلغين , وهم الشيخ خليل حسنين الطالب بالقسم العالي بالأزهر , وفضيلة شيخ الجامع الأزهر , وحضرة عبد الحميد أفندي البنان عضو مجلس النواب. ثم أتى القرار على التهمة التي وجهها المبلغون إلى الدكتور , وهي أنه طعن في الدين الإسلامي في مواضع أربعة من كتابه: (الأول) أن المؤلف أهان الدين الإسلامي بتكذيب القرآن في أخباره عن إبراهيم وإسماعيل. (الثاني) ما تعرض له المؤلف في شأن القراءات السبع المجمع عليها. (الثالث) ينسبون للمؤلف أنه طعن في كتابه على النبي صلى الله عليه وسلم طعنًا فاحشًا من حيث نسبه. (الرابعة) أنكر المؤلف أن للإسلام أولية في بلاد العرب؛ وأنه دين إبراهيم. *** عن الأمر الأول تناول القرار الكلام عن الأمر الأول باستفاضة واسعة , وذكر أقوال الدكتور طه في الشعر الجاهلي ولغة العرب , وعاب طريقة المؤلف الاستدلال والاستنتاج ثم انتقل إلى تعرضه لإبراهيم وإسماعيل , فقال: إن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في أبحاثه حيث يبدأ بافتراض يتخيله، ثم ينتهي بأن يرتب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير , وبين لغة عدنان، ثم في مسألة إبراهيم وإسماعيل , وهجرتهما إلى مكة , وبناء الكعبة؛ إذ بدأ فيها بإظهار الشك , ثم انتهى باليقين [1] . بدأ بقوله: (للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل , وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضًا , ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي فضلاً عن إثبات هذه القصة التي تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة؛ ونشأة العرب المستعربة فيها) , إلى هنا أظهر الشك؛ لعدم قيام الدليل التاريخي في نظره كما تتطلبه الطرق الحديثة، ثم انتهى بأن قرر في كثير من الصراحة قوله: (أمر هذه القصة إذن واضح , فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام , واستغلها الإسلام لسبب ديني) إلخ , فما هو الدليل الذي انتقل به من الشك إلى اليقين؟ هل دليله هو قوله: (نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى. وإن أقدم عصر يمكن أن تكون قد نشأت فيه هذه الفكرة إنما هو هذا العصر الذي أخذ اليهود يستوطنون في شمال البلاد العربية , ويبثون فيه المستعمرات) إلخ , وإن ظهور الإسلام , وما كان من الخصومة العتيقة بينه , وبين وثنية العرب من غير أهل الكتاب قد اقتضى أن تثبت الصلة بين الدين الجديد , وبين ديانتي النصارى , واليهود، وإنه مع ثبوت الصلة الدينية يحسن أن تؤيدها صلة مادية إلخ. إذا كان الأستاذ المؤلف يرى أن ظهور الإسلام قد اقتضى أن تثبت الصلة بينه , وبين ديانة اليهود , والنصارى، وأن القرابة المادية الملفقة بين العرب , واليهود لازمة لإثبات الصلة بين الإسلام , وبين اليهودية؛ فاستغلها لهذا الغرض , فهل له أن يبين السبب في عدم اهتمامه أيضًا بمثل هذه الحيلة؛ لتوثيق الصلة بين الإسلام , وبين النصرانية؟ وهل عدم اهتمامه هذا معناه عجزه أو استهانته بأمر النصرانية؟ وهل من يريد توثيق الصلة مع اليهود بأي ثمن حتى باستغلال التلفيق هو الذي يقول عنهم في القرآن: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (المائدة: 82) ؟ إن الأستاذ ليعجز حقًّا عن تقديم هذا البيان؛ إذ إن كل ما ذكره في هذه المسألة إنما هو خيال في خيال، وكل ما استند عليه من الأدلة هو: (1) فليس يبعد أن يكون , (2) فما الذي يمنع , (3) ونحن نعتقد , (4) وإذن فليس يمنع قريشًا من أن تقبل هذه الأسطورة , (5) وإذن فنستطيع أن نقول - فالأستاذ المؤلف في بحثه إذا رأى إنكار شيء؛ يقول: لا دليل عليه من الأدلة التي تطلبها الطرق الحديثة للبحث حسب الخطة التي رسمها في منهج البحث، وإذا رأى تقرير أمر لا يدلل عليه بغير الأدلة التي أحصيناها له , وكفى بقوله حجة! سئل الأستاذ في التحقيق عن أصل هذه المسألة (أي: تلفيق القصة) , وهل هي من استنتاجه , أو نقلها؟ فقال: هذا فرض فرضته أنا دون أن أطلع عليه في كتاب آخر، وقد أخبرت بعد أن ظهر الكتاب أن شيئًا مثل هذا الفرض يوجد في بعض كتب المبشرين , ولكن لم أفكر فيه حتى بعد ظهور كتابي. على أنه سواء كان هذا الفرض من تخيله كما يقول , أو من نقله عن ذلك المبشر الذي يستتر تحت اسم هاشم العربي؛ فإنه كلام لا يستند إلى دليل , ولا قيمة له، على أننا نلاحظ أن ذلك المبشر مع ما هو ظاهر من مقاله من غرض الطعن على الإسلام؛ كان في عبارته أظرف من مؤلف كتاب (الشعر الجاهلي) ؛ لأنه لم يتعرض للشك في وجود إبراهيم , وإسماعيل بالذات، وإنما اكتفى بأن أنكر أن إسماعيل أبو العرب , وقال: إن حقيقة الأمر في قصة إسماعيل أنها دسيسة لفقهاء قدماء اليهود للعرب تزلفًا إليهم إلخ. كما نلاحظ أيضًا أن ذلك المبشر قد يكون له عذره في سلوك هذا السبيل؛ لأن وظيفة التبشير لدينه غرضه الذي يتكلم فيه، ولكن ما عذر الأستاذ المؤلف في طرق هذا الباب , وما هي الضرورة التي ألجأته إلى أن يرى في هذه القصة نوعًا من الحيلة إلخ. وإن كان المتسامح يرى له بعض العذر في التشكك الذي أظهره أولاً اعتمادًا على عدم وجود الدليل التاريخي كما يقول , فما الذي دعاه إلى أن يقول في النهاية بعبارة تفيد الجزم: " أمر هذه القصة إذن واضح , فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام , واستغلها الإسلام لسبب ديني إلخ " مع اعترافه في التحقيق بأن المسألة فرض افترضه. يقول الأستاذ: إنه إن صح افتراضه؛ فإن القصة كانت شائعة بين العرب قبل الإسلام , فلما جاء الإسلام استغلها , وليس ما يمنع أن يتخذها الله في القرآن وسيلة لإقامة الحجة على خصوم المسلمين , كما اتخذ غيرها من القصص التي كانت معروفة وسيلة إلى الاحتجاج , أو إلى الهداية , وهاشم العربي يقول في مثل هذا: ولما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم رأى المصلحة في إقرارها؛ فأقرها , وقال للعرب: إنه إنما يدعو إلى ملة جدهم هذا الذي يعظمونه من غير أن يعرفوه) , فسبحان من أوجد هذا التوافق بين الخواطر (! !) . إن الأستاذ المؤلف أخطأ فيما كتب , وأخطأ أيضًا في تفسير ما كتب , وهو في هذه النقطة قد تعرض بغير شك لنصوص القرآن , ولتفسير نصوص القرآن , وليس في وسعه الهرب بادعائه البحث العلمي منفصلاً عن الدين؛ فليفسر لنا إذن قوله تعالى في سورة النساء: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ} (النساء: 163) وقوله في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ} (مريم: 41) , {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِياًّ} (مريم: 54) , وفي سورة آل عمران: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 84) . وغير ذلك من الآيات القرآنية الكثيرة التي ورد فيها ذكر إبراهيم وإسماعيل لا على سبيل الأمثال كما يدعي حضرته، وهل عقل الأستاذ يسلم بأن الله سبحانه وتعالى يذكر في كتابه أن إبراهيم , وأن إسماعيل رسول نبي مع أن القصة ملفقة؟ وماذا يقول حضرته في موسى وعيسى , وقد ذكرهما الله سبحانه وتعالى في الآية الأخيرة مع إبراهيم وإسماعيل , وقال في حقهم جميعًا: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} (آل عمران: 84) ؟ الحق أن المؤلف في هذه المسألة يتخبط تخبط الطائش، ويكاد يعترف بخطئه؛ لأن جوابه يشعر بهذا عندما سألناه في التحقيق عن السبب الذي دعاه أخيرًا لأن يقرر بطريقة تفيد الجزم بأن القصة حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام؛ فقال ص38 من محضر التحقيق: هذا العبارة إذا كانت تفيد الجزم؛ فهي إنما تفيده إن صح الفرض الذي قامت عليه , وربما كان فيها شيء من الغلو , ولكنني أعتقد أن العلماء جميعًا عندما يفترضون فروضًا علمية يبيحون لأنفسهم مثل هذا النحو من التعبير , فالواقع أنهم مقتنعون فيما بينهم وبين أنفسهم بأن فروضهم راجحة. والذي نراه نحن أن موقف الأستاذ المؤلف هذا لا يختلف عن مواقف الأستاذ هوار حين يتكلم عن شعر أمية بن أبي الصلت , وقد وصف المؤلف نفسه هذا المؤلف في ص 82 و 83 من كتابه بقوله: (مع أني أشد الناس إعجابًا بالأستاذ هوار , وبطائفة من أصحابه المستشرقين , وبما ينتهون إليه في كثير من الأحيان , ومن النتائج العلمية القيمة في تاريخ الأدب العربي وبالمناهج التي يتخذونها للبحث , فإني لا أستطيع أن أقرأ مثل هذه الفصل دون أن أعجب كيف يتورط العلماء أحيانًا في مواقف لا صلة بينها وبين العلم) . حقًّا إن الأستاذ المؤلف قد تورط في هذا الموقف الذي لا صلة بينه وبين العلم لغير ضرورة يقتضيها بحثه , ولا فائدة يرجوها؛ لأن النتيجة التي وصل إليها من بحثه , وهي قوله: (إن الصلة بين اللغة العدنانية , وبين اللغة القحطانية كالصلة بين اللغة العربية , وأي لغة أخرى من اللغات السامية المعروفة، وإن قصة العاربة , والمستعربة , وتعلم إسماعيل العربية من جرهم كل ذلك حديث أساطير لا خطر له , ولا غناء فيه) ما كانت تستدعي التشكك في صحة أخبار القرآن عن إبراهيم , وإسماعيل , وبنائهما الكعبة , ثم الحكم بعدم صحة القصة , وباستغلال الإسلام لها لسبب ديني. ونحن لا نفهم كيف أباح المؤلف لنفسه أن يخلط بين الدين , وبين العلم , وهو القائل بأن الدين يجب أن يكون بمعزل عن هذا النوع من البحث الذي هو بطبيعته قابل للتغيير والنقض والشك والإنكار (ص22 عن محضر التحقيق) , وإننا حين نفصل بين العلم والدين؛ نضع الكتب السماوية موضع التقديس ونعصمها من إنكار المنكرين وطعن الطاعنين (ص24 من محضر التحقيق) , ولا ندري لم يفعل غير ما يقول في هذا الموضوع؟ لقد سئل في التحقيق عن هذا؛ فقال: إن الداعي أني أناقش طائفة من العلماء والأدباء والقدماء والمحدثين , وكلهم يقررون أن العرب المستعربة قد أخذوا لغتهم عن العرب العاربة بواسطة أبيهم إسماعيل بعد أن هاجر، وهم جميعًا يستدلون على آرائهم بنصوص من القرآن , ومن الحديث , فليس لي بد من أقول لهم: إن هذه النصوص لا تلزمني من الوج

ما يسمى النهضة النسائية بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما يسمى النهضة النسائية بمصر وعدنا بأن نكتب شيئا في هذا الموضوع , فإن فساد النساء الذي يسميه دعاة الإلحاد والإباحة نهضة تجديد قد تفاقم , واستشرى في هذه السنين حتى صار العقلاء من أهل الدين , والصيانة يخشون أن يفضي في أقرب وقت إلى هدم بناء الأسر والفصائل (العائلات) التي تتألف منها وحدة من الشعب المصري , وذهاب ما بقي من مقوماته القومية والملية وذهاب الثروة والصحة في أثرها , وقد كنت أتربص فرصة فراغ أبين فيها هذه الحقائق بعبارة لا تهيج عليَّ زنابير السفهاء حماة هذا التجديد حتى رأيت المقالة الرابعة من سلسلة مقالات تنشرها في جريدة السياسة نفسها امرأة أوربية فاضلة اهتدت إلى الإسلام، فإذا هي قد وصفت المرأة المصرية بعد الاختبار وصفًا لم ينكر أحد عليها شيئًا منه للطفه واعتداله , فرأيت أن أنشره بنصه , وهو: المرأة المصرية أتيت في مقالي السابق على ما كان للمرأة المسلمة من الشأن , وتنقلت بها في جميع الأدوار التي مرت بالإسلام منذ بدئه إلى هذا العهد. إلا أن لي كلمتين أقولهما عن المرأة المصرية في هذا العصر، وأختم كلامي عن المرأة. ولكي أقوم بهذا التحليل الذي أرجو أن يكون من ورائه فائدة لكل أخت مصرية مسلمة؛ أرجو أن يقابل كلامي بشيء من روح التسامح، وأن ينظر إليه نظرة ودية إصلاحية لا انتقادية عدائية. فلتعذرني إذن القارئة إذا كنت أجرؤ على القول بأني لم أجد في المرأة العصرية في مصر ما أستطيع أن أشيد بذكره , أو أتغنى بمحاسنه. فكم كنت أتمنى أن أراها آخذة في دور الرقي الحقيقي , والحضارة الصحيحة المؤسسة على روح الدين , وحب الفضائل والآداب الإسلامية التي لم أجد فيها ما يحول دون التقدم المنشود , والتمشي مع التطور الاجتماعي كما أقمت الدليل على ذلك فيما أسلفت من مقال , وقبل أن أبدأ في شرح وجوه النقص في التربية الأخلاقية الحاضرة، أرى أن أقسم المرأة في مصر إلى ثلاث طبقات، أتكلم عن كل طبقة بما استطعت أن أراه وأشهده، فإن رأى القارئ مني خطأ؛ فليتراكم بتصحيحه , أو شططًا فليعذرني , وينبهني. *** طبقة العامة أستطيع أن أقول بوجه عام: إن هذه الطبقة من النساء لم تمتد إلى رؤوسهن بعد يد العلم والتهذيب , ولا ما عداها من الفنون العادية أو الجميلة , وقليل منهن من تفهم , أو تدرك معنى من معاني الرابطة الزوجية , أو التربية العائلية يخيم على ربوع تلك الفئة الجهل المطبق بأبسط شؤون الحياة. كما أنهن بعيدات كل البعد عن معرفة أمور دينهن حتى أكثرها بساطة وسهولة! ! وتكاد نساء هذه الطبقة لا يفهمن من العيش أكثر من التمتع باللذتين على نحو ما تعيش العجماوات في الغابات! وما كانت كذلك البدوية الساذجة؛ فقد كان من بينهن من تقرض الشعر , وتستظهر القرآن , أو بعضًا منه , ولو كانت أمية، وكن على تمام التمسك بالدين وآدابه , وتأدية فرائضه. وما هكذا نساء هذه الطبقة في أوربا , فجلهن - إن لم أقل كلهن - يعلمن القراءة , والكتابة ومبادئ الحساب والتاريخ والجغرافيا وغيرها. حتى لتراهن يزاحمن الرجال في ميادين الخدمة , والأعمال الكتابية البسيطة. فأين أختنا المصرية في هذه الطبقة من ربيبتيها العربية والأوربية! *** (الطبقة المتوسطة) أخذ أكثر فتيات هذه الطبقة بقسط من الثقافة والتهذيب , وكثيرات منهن الآن يعرفن القليل من الموسيقى , وغيرها من الفنون الجميلة، وأرى أن هذا القدر من التعليم يكفي لأن يجعل من الفتاة زوجة تعرف كيف ترضي بعلها، وأُمًّا صالحة لتربية طفلها , وأغلب نساء هذه الطبقة يفهمن من آداب المجالس واختيار الأحاديث , وإن كان لا يزال من بينهن من قد يحملك مجلسها على الملل في بعض الأحيان خصوصًا إذا كانت من عشاق (المودة) والأزياء! وفتاة هذه الطبقة لا تخلو من العلم بالمبادئ الدينية , وإن كانت الأغلبية قد انصرفت عنها , وأخذت في التهاون والتفريط! … إني لأقنع من المرأة الشرقية بهذا النصيب من الثقافة , وإن تفوقت عليها الغربية في هذا المضمار، وأرى أن المسلمة في القرون الأولى لم تكن تفوق فتاة هذه الطبقة علمًا وتهذيبًا , وإن سبقتها إلى الفضيلة والدين. *** (الطبقة الراقية) يجب أن أكون شجاعة إلى حد ما حتى أستطيع أن أخاطب صراحة نساء هذه الطبقة. لا أنكر على الفتاة الراقية في مصر ما أحرزته من العلم والتهذيب , ولا كيف تستطيع أن تنقل أناملها الرقيقة فوق (بلابل) البيانو , وأوتار العود! … ولا يستطيع بصري أن يأخذ به بريق لآلئها البحرية، التي تخشع أمام در ثناياها اللؤلؤية, ولا يمكنني أن أنكر عليها رشاقتها , وخفة حركاتها، ولا رطانتها بالفرنسية والطليانية كأنها إحدى بنات روما والسين، ولا أقوى على مباراتها في تموجاتها فوق مراقص (هليوبليس) ، و (جروبي) على نغمات (التانجو والشالستون) . كل ذلك يا سيدتي العظيمة لا قبل لي على إنكاره والمكابرة فيه , فأنت قد أصبحت أوربية؛ أوربية قلبًا وقالبًا، عادة ولسانًا، رشاقة وفتنة؛ ولكن اسمحي لي كمسلمة أن أسألك بالله , ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم: أين إلى جانبك هذا كله.. التمسك بالدين وتعاليمه! .. قد انتهيت من التقسيم , ولكن بقي لي كلمة إجمالية أقولها بصراحة، وأرجو أن أرى لي بعدها مشجعات لا ناقمات. ها أنا (ذا) قد استعرضت أمامك يا سيدتي المصرية صورتك في طبقاتك الثلاث؛ فلم أر الدين , ولا لآدابه في أخلاقكن أثرًا، وكأنه الكابوس على النفوس، وكأني بكن تتمثلنه شبحًا مخيفًا مزعجًا يريد أن يهوي بكن إلى الظلمات , أو يرجع بكن إلى عهد البرابرة والوحوش. وإلا فأين تلك المرأة التي كانت لا تخرج من خدرها إلا نادرًا، ولا تزور غيرها إلا غبًّا، وإن برزت في الأسواق فعلى صورة , وفي زي يخشع له نظر الفاجر، ويرق له قلب العابد، ويكبره ويجله شباب الرجال قبل شيبهم؟؟ أين ذلك العصر الذي كانت فيه المساجد عامرة زاخرة بالمصليات الخاشعات في مقاصير أفردت لهن خاصة في بيوت الله؟ أين تلك المرأة التي كانت إذا جلست من الرجل مجلسًا ملأت قلبه خشوعًا , وإجلالاً، وألقت عليها بنظراتها الطاهرة البريئة دروسًا بالغة في العفة. بيض غرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكة صيدهن حرام يحسبن من لين الكلام زوانيا ... ويصدهن عن الخنا الإسلام دالت دولة تلك المرأة المتعففة الفاضلة، وأصبحت لا ترى في الأسواق إلا كل بارزة النهدين، مزججة الحاجبين، مكحولة العينين، دامية الشفتين، عارية السواعد والسيقان، متمايلة في مشيتها، مداعبة في نظرتها، متراخية متكاسلة، حركتها تطمع، ونظراتها توقع، ثم دعك قليلاً من الطريق، وادخل معي دكانًا من الدكاكين (الكبيرة) , وانظر هل ترى إلا بحرًا زاخرًا من الأجسام النسائية، وسواعدَ ونهودًا وصدورًا عارية وضحكات كأنها نغمات الموسيقى أو أحلى، تستوي في ذلك كله الثلاث الطبقات. وأسمع أن هناك جمعيات نسائية، غير أني لم أر مع الأسف أثرًا جديًّا في سبيل نهضة المرأة المصرية , والرجوع بها إلى حظيرة الفضيلة والدين، وصونها عن التبذل والخلاعة، وإلا فمن من الرجال لا يشكو اليوم إسراف زوجه , وبناته في الملبس والمسكن واقتناء الحشم، ومن منهم لا يشكو كثرة الخروج , والزيارات وإنفاق الأموال في الملاهي والسياحات؟ وأين الفتاة أو والد الفتاة اللذان لا يشكوان إعراض الشبان عن الزواج ورغبتهم عن البنات؟ وأين الكتَّابُ والأُدَبَاءُ والشعراء الذين يحضون بكتاباتهم وخيالهم وأشعارهم على حب الفضيلة والعفة والتمسك بآداب الدين؟ ثم أين المجتمع والخطباء الذين يبينون مواضع الضعف الأخلاقي وعلاجه ويرشدون إلى مواطن الفضيلة والشرف؟ إني لا أرى الغرب يكتسح بمدنيته الخداعة كل ما بقي في هذه الديار من آثار التقى , وآداب القرآن، وأرى النفوس تستعذب هذا الطريق , وتستمرئه، وتصبو إلى المزيد منه , والتمادي فيه! لم تتعلم المصرية من الغربية حب الاقتصاد , والتدبير في المنزل، ونظافة الداخل، وتربية الأطفال؟ لم تقلدها في القبيح، وتقف جامدة أمام الحسن المليح؟ لِمَ لَمْ تنقل عنها خروجها يوم الأعياد والآحاد إلى المعابد والهياكل تصلي وتذكر ربها قبل أن تنصرف إلى أماكن اللهو والنزهة. وما لنا لا نبتدع إن كنا قد شغفنا بحب تقليد الغربيين إلى هذا الحد أناشيد دينية , وألحانًا أخلاقية مستعيضين بها عن تلك (الطقاطيق) السخيفة المبتذلة تثير في القلوب نشوة الدين، وتحث على التمسك بالفضيلة، وتزجر عن التمادي في التبذل والغواية؟ ثم ما لنا لا نعمر بيوت الله بذوي الأصوات الشجية يرسلون مثل تلك الأناشيد الدينية والأخلاقية على مسامع الشبان والفتيات قبل أو بعد الصلاة [1] ؟ وليس فينا من يجهل تأثير النغمات على النفوس، ولعب الصوت الحسن بالقلوب , والعقول؛ فتنمو فينا بذلك روح الطهر , وتزكو النفس، وتتهذب بالأخلاق، وتسمو بالرجل والمرأة إلى أعلى مراتب الفضيلة! سيدتي! الأخلاق الأخلاق، الفضيلة، العفة، كل أولئك لا تجدينه إلا في دينك، ولا يمكن أن تري لك منزلة عالية في القلوب قبل المكانة التي تنشدينها في المجتمع إلا بعد أن تتفهمي ما انطوى عليه دينك من حكمة عالية، وآداب سامية. سيدتي؛ اعملي على تقويم الأخلاق، وأحبي الدين , والشريعة، وحضي على التمسك بهما، ثم دعي بعد ذلك المرأة تخرج سافرة , أو مقنعة، تخالط الرجال , وتمشي في الأسواق، فلن تقع عيناك إلا على كل فاضلة عفيفة، ثم انظري هل ترين رجلاً يبغي الزواج من اثنتين، أو شابًّا راقيًا يفضل عيش العزوبة على الزواج من فتاة طاهرة نقية، أو حياة زوجية لا تسودها السعادة , ولا الهناء؟ ثم انظري وانظري! .. ألا إنما المرأة كشجرة، فاسقوها بماء الفضيلة وغذوها ببذور العفة واجتثوا منها - وهي ناشئة - جراثيم التبذل والرذيلة، وأنموها على التقوى ومبادئ الدين، فالمرأة إن سَمَتْ كانت مخلوقًا سماويًّا يوحي إلى الرجل كل عزيمة، ويبث في قلبه روح التضحية وغيرة الرجولة وعبقرية العظماء. فإن أحبت - ولست أجهل ما في الحب من سر قدسي - فهو عذري طاهر كحب ليلى وقيس، وحب معنى لا مبنى، وهيام روح طاهرة إلى روح طاهرة تجانسها , وتكمل ما فيها من نقص , لا حب بهيمي إرضاء لغريزة الحيوان. فإن تزوجت فزوجة كخديجة تناصر زوجها وتؤازره، وإن أنجبت فبأمثال عمر وعلي، وإن جلست من الرجال؛ فمجلسًا كمجلس عائشة. وإن عملت فعلى طراز خالدة أديب التي قدم لها رجال تركيا كرسي وزارة المعارف اعترافًا منهم لها بفضلها ويدها على النهضة التركية. لا أريد لمصر امرأة كالتي قيل فيها: إنها أحبولة الشيطان , أو واحدة من ثلاث من تجارة إبليس. إنما أريد المرأة الطاهرة السماوية التي يخشع أمامها قلب الرجل كأنه يرى فيها صورة الرحمن..! وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا ... ... ... ... ... ... ... ... ... مدام رئيفة كامل (المنار) لا يوجد في أوربة كلها شعب أهمل التربية الدينية للإناث كإهمال مصر شعبًا وحكومة وهي مع ذلك تبيح حرية الكفر والفسق كالرقص والسباحة مع الرجال والزنا في بعض الأحوال فكيف يكون المآل؟

الشيخ أحمد عباس الأزهري البيروتي وفاته وترجمته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ أحمد عباس الأزهري البيروتي وفاته وترجمته في يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر شوال هذا العام توفي الأستاذ العالم العامل الشيخ أحمد عباس الأزهري في مدينة بيروت مسقط رأسه، وموطن عمله، ودفن في مقبرة الباشورة باحتفال كبير يليق بمقامه. وقد كتبت خبر وفاته مع الوعد بترجمته؛ لينشر في الجزء الماضي، ولم أعلم بأنه لم ينشر لكثرة مواد الجزء إلا بعد صدوره. كان الأستاذ صديقًا لي، وكان لي معه مجالس إصلاحية خاصة في زياراتي الأخيرة لبيروت، ولكنه لم يكن يعلم فيما أظن أنني أفضله على جميع علماء بلادنا في مجموعة معارفه، لا في كل نوع منها، ولا في علم , أو فن خاص امتاز به، وفي إقدامه , وسعيه لنشر علوم الدين والدنيا , وفي وطنيته وقوميته. لا أعرف أحدًا من علماء سورية كان خبيرًا بزمانه وأهله كما قال بعض السلف في وصف العالم أو الفقيه , وكان بخبرته يهتم بأمر أمته ووطنه , ويحب لهم أن يسابقوا غيرهم في العلم والعمل - إلا أستاذي الشيخ حسين الجسر , فصديقي الشيخ أحمد عباس رحمهما الله تعالى , وكان الشيخ حسين أوسع من الشيخ أحمد علمًا, ولكن الشيخ أحمد كان أنشط منه في العلم والسعي. سعى الأول لإنشاء مدرسة وطنية في طرابلس تجمع بين العلوم الدينية والفنون العصرية , وبعض اللغات الأجنبية التي تقتضيها ترقية التجارة والعلم , ثم سعى لأن تعترف الحكومة العثمانية بأنها مدرسة دينية يعفى طلابها من الخدمة العسكرية , فلما لم تقبل الحكومة؛ سقطت المدرسة , وقضى الأستاذ بقية عمره في تدريس فنون العربية والعلوم الدينية على الطريقة الأزهرية التقليدية مع نوع من سهولة الإلقاء , والتنبيه الفكري , ولو ثبت على النهوض بإدارة المدرسة الوطنية؛ لأحدث انقلابًا كبيرًا في سورية. وأما الشيخ أحمد عباس؛ فما زال يجاهد في هذه السبيل إلى أن قضى نحبه كما ترى في ترجمته، وهو لم يلق من أغنياء سورية ولا بيروت , ولا من وجهائها ما كان يجب عليهم من مساعدته. ولو ساعدوه؛ لأمكن أن يستغنوا بسعيه عن مدراس الأجانب. جاهد الشيخ أحمد عباس في سبيل نشر العلم بالتعليم نصف قرن , وقد احتفل بعيده الذهبي في بيروت احتفالاً حسنًا لم يتح لنا الاشتراك فيه، وقد ألقى صديقنا الأستاذ عبد الباسط فتح الله خطابًا في ذلك الاحتفال أودعه تاريخ الأستاذ المحتفل به , وهو أجدر الناس بذلك علمًا واطلاعًا وحسن بيان، فنحن ننشر هذا التاريخ بنصه في المنار مع تغيير ألفاظ قليلة جدًّا اقتضاها الفرق بين الكلام عن رجل في حياته , ثم بعد وفاته , وهو: مولد الأستاذ ومنشؤه كان مما تركته الحملة المصرية التي اكتسحت الديار الشامية سنة 1245هـ بقية صالحة تأصلت في ثغر بيروت؛ فنشأ منها فرع أزهر , وأثمر، وانتظم البلاد خيره. العباس بن سليمان من جند إبراهيم باشا ابن محمد علي الخديوي تزوج ببيروتية من بني الشامي؛ فرزق منها عدة أولاد صفوتهم (أحمد) الذي لبس حلة الوجود عام سنة 1270 هجرية؛ فكان شعلة من نور أضاءت بيت والد فقير , فلما بلغ الخامسة من عمره؛ أدخله إلى الكتاب , فقرأ القرآن الكريم على الشيوخ الحفاظ المجودين، واستظهر منه بضعة أجزاء , وفي السنة العاشرة دخل المدرسة الرشدية التي أنشأها المرحوم الشيخ حسن البنا حيال سنة 1280 , وهي أول مدرسة إسلامية عصرية سماها صاحبها بالرشدية قبل أن تنشئ الدولة مدارسها المعروفة بهذا الاسم نسبة إلى راشد باشا والي سورية لذلك العهد , فتعلم الخط والحساب , وكان من شيوخه فيها علامة الفقه والأدب المرحوم الشيخ إبراهيم الأحدب. إلى ذلك الزمن ظل العلم عزيزًا , والعلماء نادري الوجود , والناس ولا سيما المسلمون في هجعة قطعت صلتهم بالماضي، وتراكمت على فكرهم سحب من الجهل حجبتها عن التطلع إلى المستقبل، فظلوا في فترة من العلم حتى نبغ الأستاذان الفاضلان الكبيران الشيخ محمد الحوت , والشيخ عبد الله خالد قدس الله روحيهما، فصاحا بالقوم صيحة أيقظتهم من سباتهم، وزحزحتهم عن مضاجع غفلتهم، وجعلا ينيران بدروسهما عقول الكافة، ويثقفان عقول النابهين من الخاصة، حتى استرشدوا , وأحسوا الحاجة إلى العلم؛ فهبوا لطلبه، وكان آنئذ بدء النهضة العلمية في الطائفة الإسلامية في بيروت. ثم أراد العلامة الناهض الشيخ عبد الله خالد أن يتوسع في نشر العلم , فاقترح على زملائه والنابهين من تلاميذ قرينه العلامة الشيخ محمد الحوت الكبير انتخاب طائفة من نجباء تلامذة الرشدية , واختصاصهم بدروس توسع ما أدركوا من علوم الدين , فتزيدهم معرفة بالعلوم العربية؛ ليتسنى لهم أن يخدموا الأمة بنشر العلم فيها عملاً بقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) فارتاح الأساتذة إلى هذا الاقتراح , واقتسموا المنتخبين , فكان (أحمد) من نصيب الأستاذ الأديب الشاعر الشهير السيد عمر أنسي؛ فلزم دروسه , ووجد فيه السيد عمر أنسي نباغة , وحرصًا على التحصيل , فزاده من عنايته حتى فاق رفاقه , وصار يذاكرهم الدرس عندما كان يغيب الأستاذ الذي شغلته تجارته بعد حين عن مواصلة التدريس في الأوقات المعينة. واتفق أن الأمير محمد أرسلان صادف الشيخ عمر , ومعه تلميذه الصغير (أحمد) يماشيه , فسأله عنه , فعرفه إليه , وأثنى عليه , فجعل الأمير يباحثه في بعض مسائل النحو , وهو يحسن الجواب حتى التفت الأمير إلى الشيخ عمر , وقال له: جدير بتلميذك أن يدخل الأزهر , فكان لهذه الكلمة أثرها في نفسه , وبعد قليل يمم الأزهر أحد رفقائه في طلب العلم , وهو الشيخ خضر خالد , فهاجت رغبته الكامنة , واشتد شوقه إلى ورود ذلك المورد العلمي العظيم غير أن أباه الفقير كان كثيرًا ما يمنعه من الانقطاع إلى الدرس في نفس بيروت للاستعانة به على الكسب , فكيف إذا سأله السفر , وما يستلزمه من النفقة؟ فجعل يستنجد بأستاذه؛ ليبلغه مقصده، والأستاذ الأنسي يقول له: رويدك لا يصبر على الأزهر إلا كل ضامر مهزول. فيجيبه (أحمد) : وهل أنا إلا ذلك الضامر المهزول؟ واتصل الخبر بالسري الأديب المفكر الناهض السيد حسين بيهم , فأجرى عليه وظيفة شهرية من ريع لأسرتهم كان موقوفًا على عمل الخير , ثم انتدب الشيخ الأنسي , ورفيقه الشيخ عبد الرحمن الحوت , فهونا الأمر على والده , وأقنعاه؛ فأذن له , وفرض على نفسه مبلغًا أضافه إلى ما رتبه المرحوم السيد حسين بيهم , وولى أحمد وجهه شطر الجامع الأزهر سنة 1285هـ , فعكف على التحصيل مدة ست سنين , فنال من فضل الله بجده ما لم ينله غيره في مثلها من الزمن. والناس مشتبهون في إيرادهم ... وتفاضل الأقوام في الإصدار فتلقى علوم العربية وآدابها من خواص مدرسيها لذلك العهد كالشيخ المرصفي والأشرافي والإبياري والبابي الحلبي، وأخذ الشريعة على مذهبي الإمام محمد بن إدريس الشافعي , والإمام أبي حنيفة عن أعلام علمائها (الأشموني والعز والرافعي ومنقاره) , واضطلع بالعلوم العقلية والنفسية والتصوف بين يدي جهابذتها حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ أحمد البابي الحلبي والشيخ محمد الولي الطرابلسي. وعندما كان يأتي بيروت أثناء العطلة الأزهرية لم يكن يقضي أيامه في الاستراحة , بل كان يتزود في المنطق والأدب من دروس العلامة الشيخ يوسف الأسير رحمه الله. وبينما هو على وشك الفراغ من التحصيل أصابته في السنة الخامسة مصيبة كادت تعجله عن الإتمام؛ إذ توفي أبوه , ففقدت أسرته المعين , وأعوزته النفقة، فاضطر إلى ترك الأزهر في بدء السنة السادسة , وقفل راجعًا , وحل ضيفًا على رجل المروءة والإحسان المرحوم سعد الله بك حلابه بالإسكندرية , فسأله عن أسباب عودته في غير ميعاد العطلة , فنبأه بخبره، وما كاد يتم قصته حتى نقده - تغمده الله برحمته - مبلغ الراتب الذي كان يرسله إليه أبوه عن السنة كلها , وأمره بالعود , وإتمام التحصيل , فأحسن له الدعاء , وعاد؛ فأتم , ونال إجازات التدريس سنة 1219 من أساتيذه في العلوم التي تعلمها (بعد التحصيل) . تلك المرحلة الأولى من حياة الأستاذ الرئيس , وهي في كثير من ماجرياتها تشبه حياة أكثر العصاميين , فأين مميزات ذاته ومقومات ماهيته التي ترتسم بها صورته الخاصة في أذهان المعاصرين، ويحتفظ بها لوح التاريخ؟ لا جرم أنه يسهل على الإنسان تصور حقيقة ما كما هي كلما كانت أقرب إلى السذاجة , فإذا تشعبت وعلت مرتبتها في الوجود عز ضبطها , فتفاوتت صورها في الأذهان بتفاوت المدارك ووسائل التصوير، من أجل ذلك نرى الناس يختلفون في وصف الرجل الواحد من العلماء , والمفكرين المصلحين. فكل يرسم له صورة حسبما وصل إليه من خيره، وقلما يصيب الحق فيه واصف؛ لما يعترضه من وعورة الرواية , واختلاف أهواء الراوين، وفي هذه الحال لا يبقى إلى معرفة الحقيقة غير سبيل واحدة , وهي النظر في العمل؛ لأن الأعمال هي وحدها مرآة الرجال الصافية التي تحتفظ من حقائقهم أمثل صورة , وأصدق مثال، فهلم نستقرئ شيئًا من أعمال شيخنا التي تتجلى فيها صورته المعنوية الخالدة. نرى للمعاهد العلمية الكبرى أثرًا خاصًّا تطبعه في نفوس واردها بقصد , أو بغير قصد؛ حتى ليدركه البصير في نقد الرجال أثناء المعاملة أو المذاكرة والمباحثة غير أن الأزهر - وإن اتحد أثره في الأزهرين من حيث التحقيق في البحث والاستقصاء في التقرير إلا أن له آثارًا مختلفة من حيث العمل بالعلم والاستفادة منه - فترى في الأزهريين المجتهد العامل الذي استعد عقله للجري على نظام التجدد , وقبول الحقائق التي يقررها العلم الحديث , وتأهلت نفسه لسلوك سبل الحياة سهلها وحزنها، كما ترى فيهم الجامد والخامل الذي لا فرق بينه وبين الصحيفة تؤثر فيها المطبعة , أو يد الخطاط , فلا تعود تقبل الزيادة، ويعتريها النقص بما ينتابها من عوارض الطبيعة، ثم هي تستقر حيث تلقى لا تغيير , ولا تبديل حتى يدركها الفناء، فمن أي الفريقين جاء الأستاذ الرئيس؟ كأني بكم تقولون معي: من الفريق الأول , ولا ريب. عاد من الأزهر إلى بيروت سنة 1291 هجرية , وكان العلامة العامل الكبير المعلم بطرس البستاني قد أنشأ مدرسته الوطنية , وازدحم فيها الطلبة من كل ملة , فدعا الأزهري الجديد إلى التدريس فيها , واختصاص التلامذة المسلمين بدرس ديني. فلبى الدعوة , وقام بالعمل إلى آخر سنة 1294 حيث صرفت المدرسة تلامذتها , وأقفلت بسبب انتشار الهواء الأصفر، وهكذا أصبح الأزهري بلا عمل , فماذا فعل؟ لم يكن ثوبه العلمي ليمنعه من كسب الرزق الحلال من موارده المشروعة , فاتخذ له دكانًا , وجهزها بما استطاع من البقول والأثمار , وقعد يبيع , ويشتري كعامة الناس، ومر به الوجيه الورع المرحوم الحاج محيي الدين بيهم , فعز عليه أن يرى الشيخ الفتى يحترف الحرفة المبتذلة , فدنا منه , وقال له: أرى أن هذا غير لائق بك. فأجابه: أرى أن هذا أليق من التسول للقيام بأود الأهل , وبعد قليل من الزمن - أي: في سنة 1295 - دعاه الأمير مصطفى أرسلان إلى التدريس في المدرسة الداودية في (عبية) , فلبى دعوته , وظل يعمل هناك بجد وإخلاص مدة ثلاث سنين آخرها سنة 1298. وكان من تلاميذه ثمة المحامي المشترع المرحوم عباس حميه , والأفاضل محمود بك تقي الدين مدير المعارف السابق , وسامي بك العمار وث

المسلمون في أميركا يطلبون أستاذا من الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسلمون في أميركا يطلبون أستاذًا من الأزهر وقفنا على الكتاب الآتي الذي أرسل إلى شيخ الأزهر بوساطة وزارة الخارجية المصرية , ولم نعلم ماذا كان من أمر الجواب عنه، وهذا نصه: 226 يونيون هول جمييكا. ل. ا. مدينة نيويورك صاحب الفضيلة المفتي الأكبر شيخ الجامع الأزهر القاهرة القطر المصري. أود أن أبين لفضيلتكم - معبرًا ببياني عن عواطف الكثرة من السكان - الحالة الدينية السيئة التي تحيط بمسلمي هذا القطر خصوصًا المتزوجين منهم العائلين للأطفال , ليس لقومنا إمامة دينية تهديهم، الرجال أحرار في معتقداتهم , ولهم أن يصدقوا ما يشاءون , وليس للشبان فضيلة إلا أنهم مسلمون صادقون، أما الأطفال فيشبون جاهلين بميراث أسلافهم , وبمبادئ الدين لا جامع , ولا مدرسة تؤويهم. أما الأساتذة القليلون الذين يفدون إلى هذا القطر , فإن مكاسب التجارة تغريهم بمجرد وفودهم؛ فيهجرون التعليم , ويقبلون على الدخول في غمار المتاجرة , وحينئذ ينبذ عامتنا فكرة تلقي الهدي الروحي عنهم، وقد أصبحوا رجال أعمال مثلهم. ومن الممكن أن نثق وثوقًا صحيحًا أنه إذا تحسنت أحوال الأسر التي يجرى فيها الدم الإسلامي؛ فإن عدد المسلمين يزيد زيادة عظيمة , ويكون ذلك يومئذ أجل المكافأة للجهود التي تبذل في هذا الصدد، ولقد حاول القوم كثيرًا أن يُنْشِئُوا عدة مراكز للعمل، ولكن لم تكلل تلك الجهود بالنجاح؛ لعدم وجود قيادة ذات سلطة , ولضعف الإلمام بأحوال القطر المحلية. هذا , وهناك رغبة ظاهرة تقضي بتسيير الأعمال في حدود الدائرة الوطنية , مع إهمال روح الإسلام العامة إهمالاً كليًّا؛ فلذلك يمكن أن يجني المسلمون الأميركيون من جراء توحيد جهودهم أكبر الفوائد. وليكن من المفهوم يا صاحب الفضيلة أن عريضتنا هذه ليس لها أية صبغة سوى الصبغة الدينية، وأن قضيتنا ما هي إلا قضية قوم ذوي دين خاص يريدون لهم أستاذًا هاديًا. والآن قد رغبنا في إيجاد وحدة دينية , فإنا نلتمس بهذا أن تكون حاجاتنا المساسة المستعجلة موضع التروي والفحص منكم , وأن يبعث إلينا أستاذ معلم يعرف أحوال هذا البلد , ويبقى بيننا حتى تصبح هذه الجماعة قادرة على إخراج أساتذتها. 15 نوفمبر سنة 1926 ... ... (إمضاء) حسين أديب نيويورك، الولايات المتحدة ا. ل. ... ... الداعي الأول ... ... ... ... ... ... أسماء وعنوانات بعض العاملين معه

المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الحديثة (مفتاح الخطابة والوعظ) كتاب في العقائد والعبادات والأخلاق والفضائل وآداب المعاملات الشرعية للحكام وسائر الناس، صنفه صديقنا الأستاذ الشيخ محمد أحمد العدوي أحد علماء الأزهر المشتغلين بالسنة، ومدرسي القسم العالي فيه، ووعاظ المساجد الرسميين؛ ليستعين به في وعظه وخطبه، ويكون خير مادة لغيره من خطباء المساجد وغيرهم من الواعظين، ومباحثه تدخل في بضعة عشر كتابًا: الإخلاص، العلم، العقائد، الأخلاق، الطهارة، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، المعاملات المدنية، النكاح، الجهاد، القضاء، والولايات، المنكرات الظاهرة، وختمها بالكلام في التوبة وما تنال به سعادة الدارين، ولم يسمه كتابًا. وفي كل كتاب من هذه الكتب فصول فيما تشتد حاجة جميع المسلمين إلى العلم به؛ ومادتها كلها من الكتاب والسنة التي يحتج بها. يبتدئ كلاًّ منها بالآيات معدودة معزوة إلى سورها، ويقفي عليها بالأحاديث النبوية مقترنة بأسماء مسنديها إلى النبي صلى الله عليه وسلم معزوة إلى مخرجيها من كتب حفاظ السنة وجامعيها لا يزيد على ذلك إلا تفسير بعض الألفاظ التي يحتاج الجمهور إلى تفسيرها في حواشي الكتاب. عرض المؤلف كتابه هذا على وزارة الأوقاف لتقرر إرشاد خطباء المساجد التابعة لها ووعاظها على الاستعانة به على عملهم؛ فندبت لجنة من كبار علماء الأزهر لفحصه، ثم قررت (تحت رقم 1282 سنة 1341) : (إن هذا الكتاب صالح لأن يكون مادة يستعين بها الوعاظ والمدرسون في إلقاء مواعظهم، ودروسهم) . بعد هذا طبع الكتاب في مطبعة المنار طبعًا متقنًا على ورق جيد في سنة 1344، فبلغت صفحاته 212 بقطع المنار، وثمن النسخة منه عشرة قروش يضاف إليها أجرة البريد، وهو يطلب من مكتبة المنار، فننصح لكل مسلم قارئ أن يتخول نفسه بمواعظه وحكمه. *** (الأخلاق والواجبات) (مباحث في القرآن والحديث، الأخلاق والإيمان، الأخلاق والعبادات، الدنيا والآخرة، الخير والواجب، الواجبات الشخصية، الواجبات العائلية، الواجبات الاجتماعية، الواجبات المدنية، ستون آية وحديثًا) . صنف هذا الكتاب صديقنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي الطرابلسي الشهير، وعضو المجمع العلمي بدمشق، وكان قد اقترحه عليه، ورسم خطته له الأستاذ ساطع بك الحصري مدير المعارف في العراق أيام كان مديرًا للمعارف في سورية في فترة استقلالها القصيرة، قال المؤلف في فاتحته بعد بيان الحاجة إلى مثله في هذا العصر التي كنت سبب الاقتراح ما هو أصح وصف له قال: (ورغب إلى أن أضع كتابًا مدرسيًّا في تهذيب أخلاق الناشئة الإسلامية يجمع بين حاجة المربي والمعلم؛ فيستعينان به على ما هم بصدده من تربية الأحداث، وتكوين أخلاقهم، وفائدة المتعلم؛ فيجد فيه كلمات جامعة، وأقوالاً في الحكم والآداب رائعة، تكون عونًا له إذا راعاها على تهذيب نفسه، وتقوية ملكاته، وإن اقتصر فيه من المنقول والمأثور على اقتباس ما ورد في الكتاب السماوي والحديث النبوي. اللهم إلا ما جاء عرضًا من أقوال الحكماء مما يلتحم معناه في معنى الآية والحديث، وأن أفرغ ذلك كله في أسلوب سهل المأخذ، قريب التناول، وأعلق عليه من الشرح والتفسير ما تستدعيه الحاجة، ويتطلبه ذهن المطالع) ثم ذكر أنه احتذى في تأليفه هذا المثال الذي رسمه، ووضعه ساطع بك له، وزاد عليه مقدمة في مباحث القرآن، والحديث (توسع المطالع بيانًا، وتزيده رسوخًا وإيمانًا) . وكنا قد اطلعنا على طائفة من هذا الكتاب قبل طبعه، وانتقدنا على صديقنا المؤلف عدم ذكر مخرجي الأحاديث التي جمعها فيه، وعدم تحري الصحيح، والحسن منها، فأجاب عن ذلك في خاتمته بمثل ما كان كتبه إلينا في كتاب خاص قال: (ولم نعن بتخريج هذه الأحاديث، ولا بينا درجتها قوة وضعفًا؛ لأن مواقف كتابنا خطابية مراعى فيها التأثير في نفوس المخاطبين، وقد يوجد فيهم من إذا سمع أن الحديث ضعيف؛ فترت همته عن العلم به، ولم يكترث لموضوعه. على أن كتابنا هذا لم نؤلفه في فن الحديث؛ وإنما ألفناه في الفضائل، وهذه يتسامح فيها، ويستشهد لها بأي حديث كان اللهم إلا الحديث الموضوع الذي خلا كتابنا هذا منه، والحمد لله) اهـ. ونقول: إن هذا الإطلاق غير مسلم، فإن الحديث الواهي الشديد الضعف أو النكارة لا يقول أحد بالعمل به، بل اشترطوا للعمل بالضعيف الذي لا يصل إلى هذا الحد شروطًا بينها الحافظ ابن حجر , وسبق للمنار نشرها. وجملة القول؛ إن الكتاب نفيس مفيد جدير بأن تستفيد منه النابتة الإسلامية الحديثة، فإنهم لا يجدون فيه شيئًا مما يستنكرونه من كتب القدماء في الأدب؛ لاختلاف التربية والتعليم في المدارس العصرية، والعادات المنزلية والاجتماعية بين هذا العصر وما تقدمه، وقد أشار إلى ذلك المؤلف بقوله: (وقد اجتهدنا أن نشرح هذه الأحاديث النبوية، والآيات القرآنية شرحًا يقرب فهمها، ويسهل حكمها على أبناء هذا العصر، ولم نخالف فيما قلناه أصلاً تقرر بين علمائنا رضي الله عنهم، نعم خالفناهم في بعض التراكيب الاصطلاحية، وكثير من الأساليب الكتابية، مما اختلف باختلاف الزمان، وتطور العمران، وتبدل القرائح والأذهان) , واستشهد على الحاجة إلى هذا بعبارة من كتاب (أدب الدنيا والدين) للعلامة الماوردي في اختلاف الأدب باختلاف الزمان والعرف. وقد طبع الكتاب في سنة 1334 في المطبعة السلفية طبعًا حسنًا، وبلغت صفحاته 227 صفحة، وثمن النسخة منه 25 قرشًا. (البينات) مقالات في الدين والاجتماعات والأدب والتاريخ للأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي جمعت في جزأين. سبق لنا تقريظ الجزء الأول منها، وقد طبع الجزء الثاني في سنة 1344 بالمطبعة السلفية أيضًا، وهو مُصَدَّر بمقدمة لنا في ترجمة مؤلفه , ومكانته في العلم والأدب والإصلاح , وهو جدير بأن يطالعه قراء العربية , ولا سيما نابتة المدارس العصرية , والمولعون بقراءة المجلات والصحف الدورية المتعارضة المتناقضة في أمثال هذه المباحث التي ولج المؤلف أبوابها على علم وبصيرة، وقد بلغت صفحاته 314 بقطع المنار , وثمن النسخة منه 25 قرشًا.

الحج في هذا العام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحج في هذا العام بلغ عدد حجاج هذا العام 225 ألفًا بالرغم من أنوف الملاحدة والمبتدعة والروافض الذين بثوا الدعاية لمنع الحج , وكان منهم ألوف من الشيعة الإيرانيين , وغيرهم بالرغم من حكومتهم التي منعت الحج رسميًّا، وقد كان الأمن العام والخاص على أكمله كما ثبت بالتواتر , وقد بلغنا أن حجاج الشيعة كانوا في غاية الغبطة والهناء , وقال من سبق لهم الحج منهم: إن الشيعة لم يكونوا مكرمين أحرارًا في موسم كهذا الموسم , ففي سبيل الله ما سيلقون من ظلم حكومتهم , وعقابهم على أداء ما فرضه الله عليهم، فقد بلغنا أنها أمرت بنزع أملاكهم , وعقارهم من أيديهم، وسكت لها علماء الشيعة الأعلام على ذلك! ! وقد ظهر للعيان خطأ الحكومة المصرية فيما فعلت من تخويف المصريين من الحج , وزعمها أنهم يستهدفون للخطر؛ لعدم خروج المحمل وحرسه معهم، وقام البرهان الحسي على أن ذلك الحرس لا حاجة إليه؛ لأن الأمن في الحجاز أتم وأكمل منه في مصر , بل هو هنا مختل معتل أعيا أمره الحكومة , والشكوى عامة. هذا , وإننا ننتقد ما كتبه بعض الحجاج في الجرائد من ذم الحجاز بحرارته , وطرز مبانيه القديمة , وغلاء بعض الحاجات والأجور فيه , فإنهم يجهلون أن الحج تقشف ينافي الترفه , والتنعم شرعًا , وأن أهله فقراء , وحكومته فقيرة , وأن المسلمين كانوا يقضون في سبيل الحج عدة أشهر , وينفقون ألوفًا كثيرة , ويعدون ذلك أفضل ما أنفقوا طول عمرهم , فمن لم يفقه هذا؛ فهو لم يحج , ولم يعرف الحج، ومن لم يرض به؛ فليحج مع الملاحدة الفاسقين إلى منتزهات أوربة , ومعاهد الخلاعة فيها , ولا يدعي الإسلام.

أسئلة من البحرين في الأئمة والمذاهب وما يجب على العامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من البحرين في الأئمة والمذاهب وما يجب على العامي (س 7-10) من صاحب الإمضاء في جزيرة البحرين؛ هل يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، وهل يجوز للعامي ألا يتمسك بمذهب من المذاهب الأربعة , وألا يقلد إمامًا من الأئمة الأربعة , وأن يكون مذهبه مذهب من أفتاه، وأن يلقب نفسه محمديًّا، ويومًا يسأل عالمًا شافعيًّا ويعمل بقوله، ويومًا يعمل بفتوى مالكي , ويومًا بفتوى حنبلي، ويتبع الرخص في مسائل العبادات. وهل يجوز له إذا أفتاه عالم من المسلمين من الفقه أن يقول: ما أقبل الفقه , أقبل الكتاب والسنة فقط. أفتونا على ذلك ولكم من المولى جزيل الثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... لمخلصكم خليل الباكر (أجوبة المنار) (1) هل ابن تيمية أعلم من الأئمة الأربعة؟ إن لأئمة الفقه الأربعة المتبعين فضلاً على الشيخ أحمد تقي الدين ابن تيمية؛ لأنه لم يصر فقيهًا إلا باطلاعه على فقههم، كما أن لأئمة الحديث كأحمد , والشيخين , وأصحاب السنن الأربع وغيرهم فضلاً عليه بأنه لم يكن محدثًا إلا بكتبهم. ولقد كان مثل مالك والشافعي وأحمد أصح منه فهمًا للكتاب والسنة فيما أعتقد؛ لأن اللغة العربية كانت لهم سليقة لا صناعة فقط كعلماء عصره، وهو قد بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، واطلع على ما لم يطلعوا عليه كلهم من الأخبار والآثار؛ لأنه اطلع على ما رووه وعلى غيره وحفظه وعرف ما قالوه هم , وما قاله غيرهم من أقرانهم في أسانيدها وفي معانيها , فهو في فتاويه يذكر خلاف الأئمة المجتهدين في المسألة وأدلة كل منهم , ويمحص هذه الأدلة؛ فيتبين الراجح منها بالدليل، فمن تأمل فتاويه بنظر الإنصاف؛ يرى أن ما رجحه هو الحق في الغالب , كما ترى في رسالة أحكام السفر التي خالف فيها الأئمة الأربعة في بعض المسائل كتحديد السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويباح الفطر , ووافقه من جاء بعده من فقهاء الحديث المستقلين كالشوكاني. ثم إنه قد حَدَثَ بعد الأئمة الأربعة بدع خلع عليها مبتدعوها ثياب زور عزيت إلى الدين، فاتبعها خلق كثير من المسلمين، منها ما جاء من شبهات الفلسفة , ومنها ما جاء من تصوف الهنود، ومنها ما كان من أوضاع غلاة الشيعة الظاهرية والباطنية إلخ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية من أعلم الناس - إن لم يكن أعلمهم - بمثارات هذه البدع وشبهاتها ومنتحليها، ومن أقدرهم على بيان وجوه مخالفتها للدين الإسلامي , والاستدلال على بطلانها، ولم يكن الأئمة يعرفون ذلك كله؛ لأنه لم يكن في زمنهم إلا بعضها، فالأمة الإسلامية محتاجة إلى شيء من علوم ابن تيمية لا تجده في شيء مما روي عن الأئمة - رضي الله عنهم أجمعين - وأهمه بيانه لحقيقة التوحيد , وهدم قواعد الشرك والبدع , ودحض شبهات أهلها. مع هذا كله لا ينبغي لأحد أن يقول: إن ابن تيمية كان أعلم من هؤلاء الأئمة هكذا على الإطلاق لما فيه من الدعوى بأنه - أي القائل - من طبقتهم , أو أعلم منهم، ولذلك قدر أن يرجح بعضهم على بعض، ولما فيه أيضًا من إثارة الخلاف والشقاق بينه وبين أتباعهم , وهم سواد المسلمين الأعظم مما هو في غنى عنه إن لم يكن صاحب هوى، ولأن الله تعالى قد نفع بعلمهم وهديهم أضعاف من انتفعوا به، وهذا أمر عظيم , مثاله في المتأخرين الشيخ محمد عبد الوهاب وأولاده وأحفاده الذي يظهر من كتبهم أن الشيخ عبد اللطيف كان أوسع علمًا بفنون العربية وأصول الفقه وفروعه ومصطلح الحديث من جده شيخ الإسلام، ولكن جده هو الذي هدى إلى العلم الواسع الدقيق بتوحيد الله تعالى الذي هو أساس الإسلام , وقام بالدعوة وهدى الله به الألوف ومئات الألوف إلى دين الله الخالص , وكان أولاده وأحفاده - ومنهم الشيخ عبد اللطيف هذا من بعض حسناته , وله مثل أجورهم كلهم رحمهم الله أجمعين. **** (2) هل يجوز لعامي ترك تقليد كل من الأربعة ... إلخ؟ زعم بعض المقلدين من المتكلمين والفقهاء أنه يجب على جميع المسلمين تقليد أحد هؤلاء الأربعة في الأحكام الدينية العملية من العبادات والمعاملات، وزاد بعضهم تقليد الشيخ أبي القاسم الجنيد إمام الصوفية كما قال اللقاني في عقيدته (جوهرة التوحيد) . ومالك وسائر الأئمة ... كذا أبو القاسم هداة الأمة فواجب تقليد حبر منهم ... كذا حكى القوم بلفظ يفهم قالوا كما قال هو في شرحه: إنه أراد بسائر الأئمة الثلاثة - أبا حنيفة والشافعي وأحمد , وهذا ما عليه جمهور متأخري العلماء الرسميين من أهل الأزهر ومن على شاكلتهم في سائر الأمصار , إلا من آتاه الله حظًّا من الاستقلال في العلم , والنظر في الأدلة , واتباع ما تقوم عليه الحجة، وكنا نسمع هذا من مشايخنا منذ أول عهدنا بطلب العلوم الدينية، وكانوا يحتجون على ذلك بأن هؤلاء الأئمة هم الذين دونت مذاهبهم وبسطت فيها المسائل وكثرت الفروع بحيث يجد الناس فيها جميع ما يحتاجون إليه دون غيرها، وكل هذا غير صحيح فإن للظاهرية كتبًا مدونة , ولا سيما الإمام أبي محمد ابن حزم وهم من أهل السنة، وكذلك الشيعة الزيدية والشيعة الإمامية والأباضية قد دون فقه مذاهبهم في مجلدات كثيرة. هذا وما ذكروه ليس متفقًا عليه عند علماء القرون الوسطى ومن بعدهم ممن صرحوا بوجوب التقليد، بل قال بعضهم: بجواز تقليد غيرهم من الأئمة كالليث بن سعد وداود الظاهري وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري وسفيان بن عيينة كما تراه في حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري شيخ الأزهر في عهده على الجوهرة - وقد ذكر هو وغيره أنهم استدلوا على أصل وجوب التقليد الذي حصره بعضهم في الأربعة بالعلة المتقدمة بقوله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) , قال: فأوجب التقليد على من لم يعلم , ويترتب عليه الأخذ بقول العالم وذلك تقليد له. وأقول: إن هذا الاستدلال ظاهر البطلان , فإن من لا يعلم حكم الله تعالى في مسألة يجب أن يسأل عن النص فيها من كتاب الله تعالى , أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا عن رأي أحد الأربعة أو غيرهم , والاجتهاد ظن المجتهد في المسألة الذي أداه إليه بذل الجهد في البحث عنها، وهو ساقط الاعتبار مع وجود النص بغير خلاف، ولا يجب على أحد من خلق الله أن يدين الله بظن غيره , والتقليد أن تأخذ بقول لم تعرف له دليلاً، وما المانع أن يقال: إن الجاهل يسأل عن نص الشارع الذي كلف اتباعه فإن لم يوجد؛ سأل المجتهد عن ظنه , وعن الدليل الذي استنبطه منه، فإذا اقتنع به واطمأن قلبه أخذ به وإلا فلا، فقد روى أحمد من حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه مرفوعا: (البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس , ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون) حديث حسن , وروى أحمد , والبخاري في التاريخ من حديث وابصة بن معبد رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئًا من البر والإثم إلا سألته عنه. فقال لي (ادْنُ يا وابصة) , فدنوت حتى مست ركبتي ركبته , فقال: (يا وابصة أخبرك ما جئتَ تسأل عنه , أو تسألني؟) فقلت: يا رسول الله أخبرني. قال: (جئت تسألني عن البر والإثم) قلت: نعم، فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: (يا وابصة! استفت نفسك، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك) وفي طريق إسناده مقال , ورواه أحمد من طريق آخر باختصار , وهذا المعنَى مروي عن غيرهما من الصحابة , وفي صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان مرفوعًا (البر حسن الخلق , والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) , وأخرجه النووي في الأربعين , وقد أورد الحافظ ابن رجب في شرحه له حديث وابصة , وتكلم على طرقه , ثم قال: وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة , وبعض طرقه جيدة , فخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه من طريق يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن أبي أمامة قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإثم؟ قال: (إذا حاك في صدرك شيء؛ فدعه) , وهذا إسناد على شرط مسلم إلخ , ثم ذكر رواية أحمد لحديث أبي ثعلبة المار بإسناد جيد، والمراد من اطمئنان القلب هنا ما يعبر عنه في هذا العصر بالوجدان وراحة الضمير، وعليه المعول في المشتبهات بين الحلال والحرام دون البين منها كما حديث: (الحلال بين , والحرام بين , وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات؛ فقد استبرأ لدينه وعرضه , ومن وقع في الشبهات؛ وقع في الحرام (الحديث رواه الجماعة كلهم من حديث النعمان بن بشير , وإن من الجاهلين من يقترف المعصية , أو يطلق امرأته , ثم يستفتي أحد العلماء ويحرف له القول؛ ليفتيه بما يوافق هواه , فإن أفتاه بما يحلل له المعصية كأكل مال غيره بالباطل , أو معاشرة مطلقته معاشرة الأزواج؛ فعل وإن كان قلبه غير مطمئن للفتوى ظانًّا أن الله يعذره بفتوى المفتي كما يفعل الحكام في الدنيا. ألا فليعلم كل مسلم أن المفتي ليس شارعًا للدين , وإن كان مجتهدًا , وإنما وظيفته بيان حكم الله الذي أنزله في كتابه , أو بينه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم , فإذا لم يكن في المسالة نص عنهما؛ فليس له أن يحمل الناس على أن يدينوا الله ويعبدوه بمقتضى رأيه واجتهاده الذي هو ظن من ظنونه فضلاً عن حمله إياهم على العمل برأي غيره مما يقرؤه في الكتب، ولم يكن أحد من الأئمة المجتهدين بحق - ولا سيما الأربعة - يأمر الناس بالعمل باجتهاده وتقليده في رأيه وفهمه، وإنما كانوا يبينون للناس ما يفهمون من نصوص الشارع بطرق الدلالة المعروفة عندهم، فمن وافق فهمه فهم أحد منهم فعمل به؛ كان عاملاً بما اعتقد أن الله شرعه له، ومن لم يوافقه؛ تركه وعَدَّهُ كأن لم يكن , وليس له أن يدين الله تعالى به , والنصوص عنهم في ذلك مشهورة سبق لنا ما يكفي منها في (محاورات المصلح والمقلد) وغيرها , ولا سيما ما نقلنا بعد ذلك عن كتاب (أعلام الموقعين) للمحقق ابن القيم وسيأتي بعضها. قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} (الأعراف: 3) , وقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الشورى: 13) الآية. وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) , وقال في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) فقال عدي بن حاتم عندما سمعها وكان نصرانيًّا فأسلم: يا رسول الله إنهم لم يكونوا يعبدونهم؟ فبين له صلى الله عليه وسلم أن المراد بها أنهم كانوا يحلون لهم ويحرمون عليهم؛ فيتبعونهم. فاعترف بذلك، وما كان يفعله علماء اليهود والنصارى من التحليل والتحريم , والقول في دين الله برأيهم , وفهمهم للتوراة والإنجيل من غير أن يكون نصًّا ظاهرًا في الحكم فعله كثير من علماء المسلمين المقلدين؛ فاتبعهم العوام فيه حتى صارت الجرأة على التحليل والتحريم موضع العجب والاستغراب عند العقلاء المستقلين؛ بل صار العوام يحلون ويحرمون، وليس لأحد حق في التحليل والتحريم على العباد إلا ربهم تبارك وتعالي , ولكن كان ذلك وهو مصداق ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من اتباع

كيف تنهض اللغة العربية ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كيف تنهض اللغة العربية بحث للأستاذ عبد السميع أفندي البطل من حذاق مدرسي المدارس الأهلية عرضه على مؤتمر اللغة العربية المتصور بمناسبة الاحتفال بأحمد شوقي بك أمير الشعراء بمصر - قال بعد مقدمة مناسبة للاحتفال ما نصه: (آمالنا في المؤتمر) طالما تمنت نفوس الغيورين من شداة الأدب، والذادة عن لسان العرب، عقد مؤتمر كهذا للبحث والتشاور في حالة اللغة ومستقبلها، وما يجب عمله على أبنائها؛ لتثبيت قدميها أمام هذا التنازع المستحر بينها وبين اللغات الحية قبل تطبيق قانون بقاء الأصلح على المصروع منهن في ميدان التجاذب. حقًّا! إن الفرصة سانحة، والوقت مساعد، وما نرى اللغة في وقت بمسيس الحاجة إلى هذه المباحث أشد منها في هذا الوقت الذي أصبحت فيه اللغات أداة من أدوات المزاحمة في الحياة الزاخرة بعلومها وآدابها وصناعاتها ومخترعاتها وكل ناحية من نواحيها. وإن مما يذكر بالشكر للقائمين بتنظيم الاحتفال بشاعرنا العبقري أن دعوا دعوة جفلى , كل من له اقتراح أو عنده رأي في خدمة اللغة ونهضتها أن يقدمه لهم؛ ليكون له ما بعده، ففتحوا بذلك بابًا واسعًا يجدر بكل غيور على اللغة أن يلجه غير متوان ولا متواكل. لذلك يتقدم هذا الضعيف إلى جماعة المحتفلين بالشكر والثناء، عارضًا عليهم ما يراه الطريق اللاحب إلى تعليم اللغة - عرض خبير زاول تعليمها بضع عشرة سنة بدت له في خلالها عيوب كثيرة في طرق التدريس، ويرى أنها هي التي قعدت بالمتعلمين عن إجادة لغتهم - بله النهوض بها وخدمتها من طريق العمل كالتصنيف والترجمة والتعريب والوضع العرفي. ولما كان استقصاء هذه العيوب , وشرح مضارها , وذكر طرق إصلاحها بالتوسع المطلوب لا يتسع له وقت المؤتمر - رأيت أن أسلك سبيل الإيجاز، ورب قليل خير من كثير. فإذا أسعدني المؤتمر بقبول هذه الرسالة ونشرها فيما يرتئي نشره؛ كان ذلك إعزازًا للفكرة وأطير لها ذكرًا، والفكرة متى برزت من مكمنها , ووجدت تربة خصبة، وجوًّا ملائمًا، نمت وترعرعت وآتت أكلها ضعفين. *** (الموضوع) ليست اللغة العربية ببدع من اللغات الحية الناهضة النشيطة، فسبيل تلقينهن والتبحر فيهن، هو عين السبيل المهيع للغتنا إذا أردناها غضة بضة، وما سبيلهن إلا الحفظ والتقليد في الكتابة والمحادثة، وليس لنا من وسيلة إلى إتقان لغتنا في قليل من الزمن غير هذه الطريقة، وما سواها باطل وضلال وإليكم أسوق الدليل: يقضي الطالب في مدارسنا صدر حياته بتعلم اللغة، فينفق الشطر الأكبر من هذا الزمن في دراسة الوسائل بطريقة ملتوية غير مفيدة , وكلما أمعن فيها زاد بعدًا عن الغاية , وإن هو وصل إليها؛ وصل وقد أنهكه السرى، وأضناه التعب، وقعد به الملل، وهيهات أن يحصل شيئًا نافعًا يكسبه ملكة الذوق بحيث يقتدر على ارتجال خطبة بليغة، أو كتابة رسالة عالية الأسلوب؛ لذلك أرى أن تكون طريقة التعليم هكذا: *** (النحو والصرف) ليست قواعد النحو والصرف مطلوبة لذاتها، بل لتعصم اللسان عن الخطأ في النطق، وكلما كانت طريقة تعليمها سهلة قريبة المنال، مقتصرًا فيها على القواعد الأساسية التي يحتاج إليها في تصحيح اللسان وتركيب الجمل - كان ذلك أدعى إلى الاقتصاد في الوقت , وتوفير جزء كبير منه يصرف في دراسة اللغة نفسها؛ لذلك يجدر أن يفرغ من دراسة النحو والصرف عند الفراغ من المدارس الابتدائية [1] مراعى في ذلك تطبيق العلم على العمل في كل قاعدة وبحث، ومراعى في ذلك أيضًا سنة التدريج مع الطالب في سني الدراسة المختلفة، فيُسْتَغْنَى إذن عن كثير من أبواب النحو والصرف كلها أو بعضها، كالتوسع في الكلام على المبتدأ والخبر والمجرد والمزيد من الأسماء، ومواضع الإعلال والإبدال والتصغير والنسب والإمالة وإعراب (لا سيما) , وفعلي التعجب وصيغ الاستغاثة والندبة والاختصاص والمنادى المرخم، لعدم الحاجة إليها في الاستعمال، وعدم الاشتباه في بعض الصيغ إذا جهل إعرابها، لأنها ملازمة لحالة واحدة لا تختلف عنها، والإعراب لا يكسبها شيئًا جديدًا إلا التهويش واضطراب الذهن وقتل الوقت فيما لا يجدي. والمهم في تثبيت القواعد: التطبيق في أثناء المطالعة، والتنبيه إلى مواضع الرفع والنصب والجزم والجر وتوابعها، مع سلامة المفردات، وجعلها موافقة للفصيح، وقد يكون ذلك صعبًا على الطالب في أول الأمر - ككل شيء في أوله , ثم لا يعتم أن يمرن عليه لسانه مع طول الدربة، وكثرة التنبيه، ولا نريد من القواعد أكثر من هذا. ولو وجدت هذه الطريقة عناية من المعلم لنجحت نجاحًا باهرًا في أقل زمن وقد جربتها أنا نفسي في درس خصوصي فكان من نتائجها أن صار الطالب مع قلة الدروس بعد سنة واحدة في مستوى طلبة السنة الثالثة من المدارس الثانوية بحيث كنت أعطيه من التطبيقات ما كنت أعطيهم إياه، ولا تسل عن باقي فروع اللغة، فقد أظهر فيها مهارة عجيبة. *** (البلاغة) البلاغة إحساس روحي، وشعور وجداني، وسلامة في الذوق، وملكة في النفس، ولا يتهيأ ذلك كله لأمثالنا إلا بكثرة مزاولة الكلام البليغ نظمًا ونثرًا، ومحاكاته كتابة وقولاً، فمن كان حظه من القراءة والحفظ وفيرًا؛ كان قسطه من البلاغة عظيمًا، ومن كانت حافظته مهزولة مجدبة، وقريحته بليدة مفلسة؛ نأت عنه البلاغة بجانبها، ولوت عنه أعنتها، وشمست به رامحة، ورفسته جامحة، وهيهات أن يذلل قيادها، ويمتلك عنانها، إلا بفضل دربة ومرانة، وطول صبر وأناة. عرف ذلك رجال الأدب المبرزون، الأقدمون منهم والمحدثون، فكانوا حفظة بارعين، ورواة ناقلين، والتاريخ يحدثنا عنهم بما يثير في النفس العجب، ويبعثها على تلمس السبب، فمن في زماننا يتصور أن شاعرًا كأبي تمام كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة غير المقطعات والقصائد، ولا يخجل أن يسميه الناس أديبًا، أو يخلع هو هذه الخلعة السنية على غيره من الأدعياء؟ قد يكون في مثل هذا الخبر بعض المبالغة، ولكنه يفيد على كل حال في موضوعنا. لذلك أقول في غير مواربة: إن قراءة هذه الكتب التي يطلقون عليها كتب البلاغة - مضيعة للوقت، مهزلة في الحياة، فما كانت إلا مبعدة للبلاغة عن طلابها، حابسة لها عن ورادها، وما علمنا يومًا أن ضليعًا في البلاغة وقواعدها، خبيرًا، برسومها واصطلاحاتها، كان كاتبًا مجيدًا، أو شاعرًا مفلقًا، أو خطيبًا مصقعًا اللهم إلا إذا كان ممن لم تشغلهم المباني عن المعاني، ولم ينصرفوا إلى العناية بالأشباح مجردة عن الأرواح، في حين أنك تستطيع أن تعد ألوفًا من أهل الخبرة والذوق في البلاغة، وهم لم يقرؤوا من قواعدها حرفًا، ولا سمعوا فيها درسًا، ولكنهم عرفوها بالتقليد والمحاكاة، والموازنة بين كلام وآخر، فانطبعت صورتها في نفوسهم، وتغلغلت في صدورهم، ثم جرت على لسانهم عفوًا لا قصدًا، وهدرت شقاشقهم بها طبعًا لا تعملاً، وتلك - لعمري هي البلاغة التي تبلغ بصاحبها ما أراد، وتنزل به في كل واد، ويقتاد بها العاصي، ويستدنى القاصي. وقد أخجل إذا ذكرت لكم الطريقة التي نتبعها في دراسة البلاغة بالمدارس الثانوية، وأخبرتكم كيف نضحي بوقت الطلبة بلا جدوى. إن الطلبة لا يجهلون القواعد الأساسية لعلوم البلاغة، ولا يجهلون التطبيق عليها، إنهم يدرسون ذلك , وينفقون فيه سنتين من عمرهم، ولكنها دراسة فنية اصطلاحية محضة، لا حظ فيها للعلم من حيث يكسب ملكة الذوق، ويشعر بجمال المعنى وطلاوته، فيعرف الطالب مثلاً مواقع التشبيه أو الاستعارة وأركانهما وإجراءهما بطريقة فنية، ويفرق بين الاستعارة الأصلية والتبعية، والتصريحية والمكنية، والمرشحة والمجردة والمطلقة، ويعرف التشبيه المجمل والمفصل والمرسل والمؤكد والبليغ الاصطلاحي وغير البليغ، ولكن ذوقه لا يساعده على التمييز بين تشبيه بليغ رائع، وآخر مبتذل خامل، ولا بين استعارة بديعة طريفة، وأخرى ركيكة سخيفة، وقل مثل ذلك في البديع، فهو يستطيع أن يبين المحسنات البديعية فيما يقرأ من النظم، ولو كان مهلهل النسج فاتر الخيال مبتذل المعنى، ولا تساعده بلاغته على إدراك هذه العيوب، بل متى ظفر بحاجته من المحسنات؛ طار بها فرحًا غير ناظر إلى ما وراءها من حسن أو قبح , وهذا الحكم نفسه يجري في علم المعاني. وأظنني لست بحاجة إلى التدليل على فساد هذه الطريقة وعقم نتيجتها. *** (خير الطرق لدرس البلاغة) وأنفس الطرق عندي لدرس البلاغة دراسة جدية نافعة، أن يوضع كتاب مختصر على طريقة إمام الفن عبد القاهر الجرجاني في الإكثار من الأمثلة والشواهد البليغة من القرآن فما دونه من كلام الفصحاء، ويوجه الأستاذ نظر تلامذته إلى ما أودع فيها من أسرار البلاغة ونكتها، والإحساس الذي شعرت به نفوسهم عند قراءتها، وارتياح القلب واهتزازه حين استخراج دفائنها، ثم يقفي على ذلك بسرد عدة شواهد دونها في البلاغة والروعة، ويوازن بين القولين، ويزيّل بين النفوس في الحالين، عند ذلك تستقيم طباع الطلبة، وتسلم أذواقهم، فلا ترمحهم البلاغة مولية، ولا تجمح بهم هاربة، بل تضع في أيديهم زمامها، وتسفر لهم عن بدرها. *** (الأدب وتاريخه) هذا فن حديث العهد بمدارسنا، ولذلك لما تتعبد طريقته، ولا تزال فجة ثمرته، ولم تجذب التلامذة إليه روعته، وأكثرهم يستثقله؛ فيلفظه، ومنهم من يتجرعه ولا يكاد يسيغه، لو أضيف إليه قليل من التوابل، ووضع بجانبه بعض الكوامخ؛ لاشتهته نفوسهم ولم تصد عنه، ولفتحت له صدورهم ولم تنقبض دونه. ورأيي أن يبدأ بدراسته عندما يضع التلميذ قدمه على عتبة المدارس الثانوية، فيدرس له في السنتين الأولى والثانية حالة اللغة في عصورها المختلفة لا بطريق التلقين والحفظ، بل بطريق الاستنباط والاستقلال، فإذا أراد الأستاذ مثلاً أن يتكلم عن مميزات النظم أو النثر في عصر من العصور، استعرض طائفة منه، ووجه نظر الطلبة إلى ما فيها من متانة التركيب وقصر الجمل، وقلة الاستعارة والغلو، وترك التمهيد، والبعد عن العجمة، إن كان الكلام في نثر الجاهلية، أو وصف الخمر ومجالس الشراب والأنس، والقصور البديعة ومحاسن الطبيعة، والمعارك الحربية، والأساطيل البحرية، وعذوبة الألفاظ والمحسنات البديعية، والأخيلة الجملية، إن كان الكلام في مميزات النظم في العصر العباسي. عند ذاك تكون دراسة الأدب نافعة شائقة لا يملها الطلبة. وفي باقي السنين يدرس ترجمة النابهين , ومن لهم أثر بارز في اللغة من الكتاب والخطباء والشعراء ومدوني العلوم كالفقهاء والمؤرخين بالطريقة المتقدمة عينها، فيذكر المترجم نشأته وبيئته وحياته المادية والأدبية وصلة الثانية بالأولى وتأثرها بها، وما لذلك من أثر في نفسه وأفكاره وتخيلاته، ثم تعرض أثارة من قوله، وينبه الأستاذ إلى ما فيها من حسن وإبداع، أو تقليد لقول سابق، أو تكلف باد، وما أشبه ذلك. ويحسن أن تدرب التلامذة على إجراء موازنات بين شاعر وشاعر، أو خطيب ومثله، وكاتب وتاجر، فإن ذلك مما يزيد في سلامة الذوق وصحة الحكم، وتنبيه الذهن، وتفتق القريحة. ويتوسع بعض التوسع في الكلام على القرآن الكريم: إعجازه وأسلوبه وأثره في اللغة، ويقرر جزء كبير منه في كل سنة لدرسه وحفظ بعضه؛ ليستعان به على إصلاح النفوس التي استفحل مرضها، وأعيا نطس الأطباء علاجها، وتثقيف الألسنة التي اعوجت، وخصوب الملكات التي أجدبت، ولا يخفى

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد ـ 2

الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي

_ مناظرة في مسألة القبور والمشاهد الرد على رسالة العالم الشيعي للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا (2) بسم الله الرحمن الرحيم إلى العالم الجليل، المحقق النبيل، السيد مهدي الكاظمي القزويني سلمه الله ووقاه، وبلغه مناه، وسلام عليكم ورحمة الله: أما بعد فقد وافاني جوابكم الكريم المؤرخ في 22 شعبان سنة 1345 , فتلقيته بكامل التجلة وعظيم الارتياح، وأثنيت على همتكم الشماء وعنايتكم السامية بما يقتضيه المنصب الذي ولاكم الله إياه، ومن كمال لطفكم ووافر ظرفكم أن استسمحتموني في تطويلكم الجواب عما في المنار، وإلا فهو رياض بهيجة، وموارد عذبة، وثمار بحث شهية، بعبارات رائقة طلية، فبها يحق لكم أن تفتخروا لا أن تعتذروا. ولما التمستم مني القضاء بينكم وبين المنار بعد الإمعان فيما كتبتم في الرد عليه؛ وجب علي أن ألبي التماسكم معترفًا بقصور باعي وقلة اطلاعي متجردًا من الهوى ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، غير متحيز إلى مذهب، ولا واقف مع مشعب، إذ لا مذهب لي إلا الحق، وأتمثل بقول الشاعر البليغ الشيعي: وما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب وهذا الجواب الذي سأجيب به عن كلامكم هو الذي أنوي أن أجيب به بين يدي الجبار سبحانه وتعالى إن سألني - والملائكة والأنبياء والصالحون شهود - فإذا تحققتم إخلاصي؛ فلا أظن أنكم تجدون من شيء من كلامي، وإن باين مذهبكم {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: 148) . (المقام الأول) قولكم: إن مكاتب المنار حرف الكلم عن مواضعه، ولم ينقله على وجهه. أقول: لا يمكنني أن أبدي رأيي في هذه القضية؛ لعدم اطلاعي على الكتاب المنقول منه. (المقام الثاني) تكذيبكم إياه في قوله [1] : (إنه لا يوجد كتاب من كتب فقه الشيعة إلا وبه:، أنه لا يجوز البناء على القبور) ، يعكر عليه ما نقلتم عن كتاب جواهر الكلام أنه ذكر خبرًا عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام قال: (لا يصلح البناء عليه) . ونفي الصلاح فيما يتعبد به؛ يستلزم الفساد، إذ لا واسطة بينهما، والفاسد شرعًا لا يجوز التعبد به، وعليه فمن قال: إن عدم جواز البناء على القبور موجود في كتب فقه الشيعة صادق في قوله. نعم إذا كان عدم جواز البناء على القبر يوجد في بعض كتب الفقه دون بعض لم يصح كلامه. (المقام الثالث) تأويلكم الخبر فيه نظر بيّن لأن الإمام سئل عن البناء على القبر: هل يصلح أم لا؟ فقال لا يصلح البناء عليه ولا الجلوس ولا تجصيصه ولا تطيينه. هذه أربعة أشياء نفَى عنها الإمام الكاظم (عم) الصلاح في مقام السؤال عن حكمه شرعًا فلزم أن فعلها فساد عند الإمام (والله لا يحب الفساد) والفساد محرم لقوله تعالى {وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} (الأعراف: 56) . وقولكم: (وجه الاستدلال به على كراهة التجصيص أن الجلوس على القبر ليس محرمًا عندنا فتكون سائر الأمور المذكورة معه ليست محرمة للزوم تساوي المتعاطفات في الحكم) في غاية البعد مع ما فيه من الإبهام إذ لم تبينوا دليل جواز الجلوس على القبر: أهو البراءة الأصلية أم نص من القرآن أو من حديث إمام معصوم، أما القرآن فليس فيه دليل على جواز ذلك فإن كان هناك نص صريح عن النبي أو أحد من الأئمة كان ينبغي لكم أن تذكروه لنضعه إلى جانب كلام الإمام الكاظم فإن تعارضا ولم يمكن الجمع بينهما ولا ترجيح لأحدهما على الآخر بشيء من المرجحات توقفنا عن العمل بهما جميعًا وطلبنا دليلاً من الخارج، فإن وجد؛ حكمنا به، وإلا، قلنا: لا نص معتبر في الجلوس على القبر , ويسلم لنا نص الإمام الكاظم على عدم جواز البناء على القبر بغير معارض، وظاهره الحرمة لأن عدم الصلاح في مقام السؤال عن الحكم شرعًا يستلزم الفساد، وهو حرام كما تقدم. (المقام الرابع) قولكم: (ولكن مكاتب المنار لم يذكر من الحديث [2] إلا قوله: لا يصلح البناء على القبر، وأسقط منه الباقي؛ ليوهم القارئ أن الحديث دال على التحريم، ولا شك أن إسقاط بعض الحديث خيانة في النقل) فيه نظر أيضًا لأنه ليس كل إسقاط موهمًا، وإنما يكون الإسقاط تحريفًا وخيانة إذا كان مخلاًّ بالمعنى المقصود، أما الاقتصار على ذكر دليل المسألة من الخبر وحذف سائره إذا كان لا يتغير المعني بحذفه كما هنا؛ فليس بخيانة، بل هو اختصار، وهو مقبول عند أهل العلم، موجود في كتب الثقاة الأمناء كالبخاري وغيره. (المقام الخامس) قولكم: ثم قال صاحب الجواهر: وربما يشعر بكراهة التجصيص [3] قول الصادق (ع) كل ما جعل على القبر من غير تراب القبر , فهو ثقل على الميت: قلتم: وهذا الحديث لا دخل له بموضوع المسألة؛ لأن المفهوم منه كراهة أن يهال على الميت من غير تراب القبر فالصادق (ع) كأنه قال: لا يهال على القبر إلا التراب الذي استخرج من نفس القبر عند حفره، ولا يُؤْتَى بشيء من غيره , فيوضع في القبر إلخ. أقول: كلام الإمام يقتضي قطعًا أنه لا يوضع على القبر شيء إلا تراب القبر سواء أكان ذلك الشيء ترابًا أم جصًّا أم تابوتًا وستورًا ومباخر وشموعًا وغيرها؛ لأن الإمام لم يقل: كل تراب يهال على القبر من غير تراب القبر، فهو ثقل بل عبر (بما) التي هي من ألفاظ العموم، فلا يصح تخصيصها بجنس التراب بلا دليل، ولذلك فهم منه صاحب الجواهر النهي عن التجصيص، وحمله على الكراهة، والظاهر الحرمة؛ لأنه من جنس البناء على القبر، وتقدم الدليل على حرمته. (المقام السادس) قولكم: وقال صاحب الجواهر: وكذا يشعر بالكراهة حديثه عليه السلام [4] قال أمير المؤمنين (عم) : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور، وكسر الصور. أقول: استدلال صاحب الجواهر بهذا الحديث على كراهة التجصيص يدل على أنه فهم منه مشروعية هدم القبور مطلقًا سواء أكانت للكفار، أو المؤمنين، وكسر الصور مطلقاً ولو كانت صور الأنبياء والأئمة، وينافي ما ملتم إليه فيما بعد من أن مشروعية الهدم خاصة بقبور الكفار. (المقام السابع) اعترافكم بأن تجديد القبور بعد اندراسها مكروه في مذهب الشيعة [5] وهو يرشد إلى أن المشروع عند سلف الشيعة هو إهمال القبور وتركها لأيدي الزمان؛ تعفوها، وتمحو آثارها، وأن تجصيصها وتطيينها والبناء عليها واتخاذها مساجد، وأعياداً، ومواسم، وجعل التوابيت المزخرفة المذهبة، والستور المزركشة الموشاة، وتبخيرها واتخاذ السرج عليها، والحج لها والعكوف عندها، والطواف بها، وتقبيلها والتسمح بها وأخذ ترابها للاستشفاء، والنذر لها، وتقريب القرابين لها، والإقسام على الله بأهلها؛ وغير ذلك مما يجعلها أوثانًا تعبد من دون الله، كل ذلك بريد الكفر بل الكفر بعينه، وقد عمت البلوى بهذا الداء العضال الذي هو أعظم أسباب شقاء المسلمين واستيلاء العدو عليهم وضرب الذالة والمسكنة عليهم وضلالهم ضلالاً بعيدًا، حتى صار المخلوق في صدورهم أعظم من الخالق، وصاروا أكثر توكلاً، وأخضع وأرجى للمخلوق منهم للخالق، حتى إنك إذا اتهمت أحدهم، فسألته أن يحلف بالله ويجمع أسماءه، وصفاته يفعل ذلك بدون مبالاة ولا خجل ولا وجل، وإذا قلت له: احلف بالشيخ فلان إن كان ممن ينتسب إلى السنة أو بالإمام فلان إذا كان ممن ينتسب إلى الشيعة ظهرت عليه علامات الاهتمام والرعب، وخاف أن يحلف بها كاذبًا، وبعضهم يخاف أن يحلف بالمخلوق، ولو صادقًا، ولا يبالي أن يحلف بالملك القهار ألف مرة كاذبًا. وكذا يتصدق لوجه المخلوق بكرائم الأموال، ولا يتصدق لله إذا سئل به بفلس، وهذا أعظم الشرك والكفر، وهو مشاهد في العوام، وفي أكثر الخواص معلوم بالضرورة إنكاره جحد للضروريات، ومكابرة فيها لكنه عام في الشيعة وأهل السنة ما رأيت فرقًا بينهم في ذلك إلا أن كثيرًا من أهل السنة متجنبون لذلك متبرئون منه، وأما الشيعة فلم أختبر خواصهم كثيرًا، ويغلب على ظني أنهم لا يجمعون على ذلك الضلال البعيد، وهم يتلون كتاب الله ويدرسون أحاديث النبي وآثار الأئمة، هذا ظني بهم والله أعلم. (المقام الثامن) إنكاركم على المكاتب قوله: لا يوجد كتاب من فقههم إلا، وفيه: لا يجوز البناء على القبور وتجديدها والسرج عليها [6] ، وقولكم: إنه لم يتعرض أحد من فقهاء الشيعة لذكر الإسراج على القبر، وذلك يقتضي أنه غير مكروه عندهم، فادعاء المكاتب وجود ذلك في كل كتاب من فقههم بهتان عظيم، هذا معنى كلامكم. أقول: الذي يغلب على ظني أنكم أنتم أعلم بما في كتب الشيعة من المكاتب , ولو كان ذلك في كل كتاب؛ لما خفي عليكم، وعليه فظاهر كلامه غير صحيح، لكن يمكن أن يكون قد اطلع على النهي عن الإسراج في بعض كتب الشيعة , ولم تطلعوا عليه أنتم، أو سهوتم عنه حين كتابتكم هذا الجواب، فظن أن ذلك موجود في جميع كتبهم؛ فأطلق في كلامه، ولا غرابة في ذلك , فقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، وعلى كلٍّ؛ فالواجب عليه ألا يطلق إلا بعد تحقق وجود ذلك في كل كتاب من فقههم. (المقام التاسع) تشنيعكم على المنار ومكاتبه ورميه بالافتراء والتحريف والتحامل على الشيعة والسعي في تشويه سمعتهم [7] . أقول: أما مكاتب المنار؛ فلا أعرف حاله، وأما صاحب المنار فالذي أعتقده فيه هو الصدق فيما ينقله، وأنه لا يتحامل على الشيعة، ولا يغضي عن عيوب أهل السنة ويبحث عن عيوب الشيعة، بل كل من طالع المنار علم يقينًا أنه انتقد على أهل السنة , وأنكر عليهم أكثر مما أنكر على الشيعة، وهذه مجلدات المنار شاهدة بذلك , وقولكم: وكم من فرق بين بناء نفس القبر وبين القبة المبنية على أساسات لا دخل لها بالقبر أصلاً [8] . أقول: لو لم يرد في الأحاديث إلا النهي عن البناء على القبر؛ لخص النهي به , ولم يتناول القبة، أما وقد عزز الشارع النهي عن البناء بالنهي عن اتخاذ المساجد عليها ولعن فاعل ذلك في مرضه الذي توفي فيه فواضح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن كل بناء على القبر أو حوله ويأمر بهدمه، وكذلك فعل عليٌّ (عم) بعده وسائر الأئمة، ولم يتجرأ أحد على بناء قبة على قبر في زمانهم. والذي أعتقده في علي عليه السلام أنه لو رأى ما يفعله الغلاة عند القباب التي ابتدعوها لحرقهم كما حرق الغلاة، وحاشا للسلف الصالح أن يرضوا بهذه الأوثان، وهذا الذي أعتقد وأدين الله به. (المقام العاشر) في قولكم: قال المكاتب: وفي كتاب محمد بن يعقوب الكليني عن سماعة قال: سألت الصادق عن زيارة القبور وبناء المساجد عليها , فقال: (أما زيارة القبور فلا بأس، ولا يبنى عليها مساجد) . قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا , فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) اهـ. ثم قلتم: ولكن العجب منه أنه ذكر الحديث النبوي عقيب حديث سماعة بصورة توهم أن الصادق (ع) استشهد به على قوله مع أن الحديث النبوي لا وجود له في كتاب الكليني أصلاً. نعم توجد رواية مرسلة في بعض كتب الشيعة وكيف كان؛ فليعلم أن جميع ما جاء من بناء المساجد واتخاذها على القبور أو فيها أو عندها حسب اختلاف النقل؛ إنما يراد به النهي عن جعل نفس القبر مسجداً، أي موضعاً يسجد عليه، وليس المراد ما هو معروف بين المسلمين من المكان الذي يصلى فيه. أقول: فيه اعترافكم بأن الإمام الصادق (ع) أفتى بأنه لا يبنى على القبور مساجد , وهو صريح في المنع من بناء المساجد على القبور، ولكن تأولتموه على أن النهي إنما هو

الزي الإسلامي والشعائر الإسلامية والألقاب العربية عند خواص أمريكا

الكاتب: شكيب أرسلان

_ الزي الإسلامي والشعائر الإسلامية والألقاب العربية عند خواص أمريكا ذكر مستر تشارلس كراين الأميريكاني الشهير في محاضرته التي ألقاها في جمعية الرابطة الشرقية (أنه يوجد بين المسيحيين طائفة صغيرة تقول بالتوحيد , وتشابه عقائد هذه الطائفة من وجوه عديدة العقائد الإسلامية القديمة) , وذكر أنه ظهر فيها رجال عظماء في أوربة وأمريكا أفادوا العالم فائدة تذكر فتشكر، وذكر أنه كان في مقدمتهم في الولايات المتحدة صديقه الرئيس (إيليوت) الذي بقي مدة أربعين سنة رئيسًا لأعظم مدرسة جامعة أمريكية وهي جامعة هارفرد , وقد توفي في العام الماضي , وذكر أنه لقنه قبل وفاته سورة الفاتحة قائلاً له: اسمع هذه الصلاة الإسلامية الجميلة - وذكرها قال: (فأعجب بهذه الصلاة الوجيزة كثيرًا , وكانت هي آخر العهد بيننا) . وقد زار صديقنا الأمير شكيب أرسلان الشهير الولايات المتحدة في الشتاء الماضي , فكان مما اطلع عليه من نفائس مخبآتها جمعية سرية مؤلفة من خواص العلماء والكبراء تعقد اجتماعات خاصة في محافل لها يلبس فيها أعضاؤها الطربوش والعمامة، وألقابهم فيها عربية إسلامية، وتحيتهم فيها (السلام عليكم) , واسم الجمعية مرادف لاسم الكعبة , واسم المحفل من محافلهم الجامع إلخ ما ستراه. فظهر لنا من هذا أن مستر تشارلس كراين منهم , وأن صديقه العلامة (إيليوت) كان منهم , ذلك بأن مستر كراين كان إذا دخل علينا يحيينا بالسلام , فنظن أن ذلك مجاملة منه , وتمرين للسانه على النطق بالتحية العربية التي يحب أهلها. كتب الأمير شكيب مقالته في المقارنة بين هؤلاء الأمريكيين وبين حكام الترك الكماليين ومقلدتهم من المصريين الدعاة إلى هدم مقومات الإسلام والعرب تقليدًا للإفرنج فيما يسهل التقليد فيه من زي ولغة وعادات مهما تكن قبيحة، ونشرت هذه المقالة في جريدة الشورى , ونقلتها عنها جريدة كوكب الشرق بعد مقدمة، ثم نقلتها مجلة العرفان , وأضافت إليها بعض الصور والرسوم لأعضائها جاءتها من مراسل لها في الولايات المتحدة , ونحن ننشرها مع مقدمة الكوكب وهي: *** مهين عند قومه مكرم عند الناس سفير مصر يلبس القبعة في تركيا مراعاة لشعور حكومتها وسفير تركيا في مصر لا يحفل بشعور حكومة مصر مقال بديع من قلم الأمير شكيب أرسلان قرأنا في الصحف أن سعادة عبد العظيم راشد باشا وزير مصر المفوض في تركيا بدأ عمله الرسمي في الآستانة بحديث امتدح فيه البرنيطة , وحقر الطربوش ناسيًا أنه شعار بلاده الرسمي من مليكها إلى نوابها وشيوخها وأعضاء حكومتها , وأنها في وقت ما نهضت لتستبدله بالبرنيطة عارضت كل هيئاتها الرسمية في ذلك , وفي المقدمة حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس النواب سعد باشا زعيم الأمة. لا بد أن سفيرنا العظيم أراد أن يستميل إليه الأتراك وأن يكون قريبًا من قلوبهم , ولكن ألا يتم ذلك إلا بتحقير شعارنا الرسمي , وإلا بأن يكون التقرب على حساب قومه وبلاده؟ ؟ وهل هو عين في وظيفته ليرفع رأس مصر وليعلي من شأن زيها؟ أو ليكون في المجلس الذي هو فيه لا يهمه إلا أن يرضي جلساءه , ولو بالنيل منه فيكون ذلك شأن (الستري) لا عمل السفير؟ ؟ لقد أدى عبد العظيم باشا راشد في مثل هذه الأيام فريضة الجمعة في جامع عمرو بالجزمة , وها هو مع أنه يلبس الطربوش , ومع أنه يمثل لابسيه يراه دون البرنيطة ورمز التأخر، فهل تقره وزارة الخارجية على ذلك؟ وهل يبقى مع هذا أهلاً لأن يمثل البلاد؟ وهل غاب عن سعادة عبد العظيم راشد باشا سفير مصر في تركيا أن محيي الدين باشا سفير تركيا في مصر يلبس القبعة التي اختارتها حكومة بلاده لشعارها في جميع الحفلات الرسمية وغير الرسمية في هذه الديار؟ ولقد كان من الواجب عليه ألا يلبس غير الطربوش الذي لا يزال شعار الحكومة التي يمثلها. بهذه المناسبة ننشر المقال الآتي الذي أرسله إلى (الشورى) الأمير شكيب أرسلان من الديار الأمريكية تحت العنوان الذي صدرنا به هذا المقال. خلع بعض الشرقيين الطربوش , وعدوا لبسه دنيئة من الدنايا , وحاكموا عليها الناس ودقوا أعناقهم. وأوشك آخرون أن يقتدوا بهم لو لم يمسك رجال الحل والعقد برمق الكرامة الشرقية ويقفوا في وجه أولئك الحمقى الذين ألقوا على دعايتهم الأجنبية اسم (تجدد) , وأنكرت فئات لبس العمائم , وزعمت أنها رمز الهمجية , وضربت الرقاب من أجل لبسها , وودت زعانف آخرون أن تضرب الرقاب على لوث العمائم , كما تضرب على لوثها في تركيا , ولو قام أحد منذ سنوات قلائل وحدثنا بأنه سيكون من الشرقيين أناس يبلغ بهم التقليد الأعمى أن يجازوا بالقتل من لبس الطربوش , أو العمامة؛ لظننا أنه ممسوس يخلط أو محموم يهذي , ولكننا رأينا ذلك بأعيننا وسمعناه بآذاننا. وحاول أناس أن يحملوا الشرقيين والعرب خاصة على التفصي من كل شيء شرقي أو عربي , وزعموا أن لا حياة للأمم الشرقية بدون ذلك. ولسنا نعجب من أن يصاب الشرق بمثل هذه الأمراض الاجتماعية على أثر الحرب الكبرى , وأن ينكر الشرق بعض بنيه , وأن يحتقروا كل ما هو منسوب إليه؛ فما زالت الأمم قديمًا وحديثًا تبتلى بمثل هذه الأمراض , إذ مجموع الأمة عبارة عن جسم معنوي لا يخلو من أن تطرأ [1] على الجسم الحيواني عوارض الأمراض البدنية. ولكن الطربوش والعمامة والزي الشرقي واللغة العربية كل ذلك كان مكرمًا معززًا مقدسًا في بلاد غربية تعرف الفضل وذويه , ولا يمنعها كونها أعرق البلاد في التغرب أن ترفع للشرق منارًا، وتحيي له آثارًا. يوجد في أمريكا جمعية شريفة نابهة عالية القدر اسمها (شراين) , ومعنَى هذه الكلمة (الكعبة) , أو المكان المقدس الذي يحج إليه. وليست هذه الجمعية من الجمعيات الماسونية ولكن مبادئها أشبه بمبادئ الماسونية , وبعبارة أخرى: لا يوجد في مبادئ الجمعية ما يناقض المبادئ الماسونية , ثم إن بين جمعية (شراين) والماسونية رحمًا ماسة؛ إذ لا يدخل هذه الجمعية إلا من كان منسوبًا إلى الماسونية , ولا يكفي أن يكون منسوبًا إلى الماسونية , بل شرط الدخول في جمعية (شراين) أن يكون المريد مترقيًا في الماسونية إلى درجة 32 , ومن علم مبلغ أهمية الماسونية في أميركا , وأنها هي مصاص هذه الأمة الأميركية العظيمة , وتأمل في شرط الدخول إلى جمعية الكعبة المشار إليه؛ أمكنه أن يفهم في أي ذروة هي هذه الجمعية من ذرى الاجتماع الأميركي. ويقدر عدد المنسوبين إلى جمعية الكعبة هذه بمائتي ألف وخمسين ألف شخص. من الفضول أن نقول بعد الذي تقدم من الكلام: إنهم جميعًا من الطبقة الراقية , ولهم محافل عديدة , ومنهم عدد كبير من رجال الحكومة من أمير وأعضاء مجلس الشيوخ , بل ممن تولوا رياسة جمهورية الولايات المتحدة , والمحفل يسمَّى عندهم (Mosque) أي (الجامع) , والمريد يسمَّى (شريفًا) , فكل المنتظمين في سلك هذه الجمعية يطلق عليهم لقب شريف. ويوجد عدا لقب شريف لقب (حاج) , وهذا يطلق على من يكون قد جاء من محفل زائرًا محفل مكة وأثبت لدى هذا المحفل أنه ترك عند عائلته مالاً يكفيهم لمعيشتهم إلى أن يكون رجع إليهم، فإنه يوجد عندهم محافل بأسماء عربية , ولكن أسماها محفل نيويورك , وهو الذي يسمَّى بمحفل مكة وقد علمت من أسماء محافلهم محفل سلام في نيويورك من ولاية نيوجرسي، ومحفل الملائكة في لوس أنجليوس من ولاية كاليفورنيا، ومحفل عنزه بالمكسيك وبلغني أن عندهم: محفل دمشق، ومحفل بغداد، ومحفل مصر، ومحفل عمر، ومحفل علي، ومحفل رمضان، ومحفل زمزم، ومحفل المدينة، ومحفل فلسطين، ومحفل الناصرة، ومحافل أخرى تحمل كلها أسماء عربية. وهذه الأسماء يلفظونها بالعربي لا بترجمتها في اللغة الإنجليزية. ولهم في ولاية بنسلفانيا محفل كبير فخم البناء مكتوب عليه بأحرف كبيرة (أشهد أن لا إله إلا الله) وإذا دخل الواحد منهم إلى المحفل فلا بد أن يقول: (السلام عليكم) يلفظها بالعربية، وعلى جدران أبهاء المحافل توجد آيات قرآنية كما هي على جدران المساجد عندنا، ولا يجوز للداخل أن يدخل المحفل إلا بالطربوش , فالطربوش هو اللباس الرسمي للمنسوبين إلى جمعية (شراين) , أما أصحاب الرتب الذين ترقوا في الجمعية؛ فيلبسون العمائم والطيالس. وكثيرًا ما يجتمعون في الاحتفالات , ويخرجون في الشوراع مئات وألوفًا وهم بالطرابيش والعمائم , وليس التعارف فيما بينهم على الطريقة الأوربية أي أن الإنسان لا يكلم الآخر إلا بواسطة رجل يعرفه , بل طريقة التعارف عندهم أشبه بطريقة الشرقيين , فإذا شاهد الواحد الآخر لابسًا طربوشًا؛ تقدم إليه وصافحه بدون واسطة قائلاً له: السلام عليكم. ثم إن المنسوب إلى هذه الجمعية يحمل على صدره زرًا عليه صورة سيف وهلال ونجمة , فالهلال راكب عليه السيف والنجمة من فوقه , وهذا هو شعار الجمعية. قصدت بهذه المقالة أن يعلم من في الشرق أن الطربوش والعمامة والجبة واللغة العربية والآية القرآنية والأزياء الشرقية يتنافس بها المتنافسون في أكمل وأغنى مراكز المدنية الغربية , بينما كثيرون من الشرقيين يحقرونها , وينفضون أيديهم منها {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان (المنار) إن للجمعية الماسونية أسرارًا ورموزًا لا يفقهها إلا بعض أولي النهاية من زعمائها كما كان شأن جمعية الباطنية من الشيعة. ومنها أن هيكل سليمان رمز عند اليهود من أولئك الزعماء المؤسسين لاستعادة الهيكل من المسلمين؛ بل لتجديدهم ملك سليمان؛ ولذلك نجد للصهيونيين أعوانًا كثيرين من النصارى كلهم من الماسون فيما أظن. وقد كان المعروف من رموز الماسونية بعضه يهودي , وبعضه نصراني كالتثليث مثلاً. ولم يبلغنا أن فيها شيئًا إسلاميًّا قبل جمعية الكعبة التي علمنا خبرها في هذه الأيام، وهو في رأينا الاجتماعي ارتقاء في الماسونية إلى أفق أعلى، جزم الأمير شكيب بأنه خروج منها. فمن لنا بمن يكشف لنا سر ذلك ويعرف الواضع له؟

أموال ابن السعود التي اتهم بها صاحب المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أموال ابن السعود التي اتهم بها صاحب المنار (5000 جنيه مكافأة على خدمته للملك وقومه 10000 جنيه رواية أخرى 1000 أو 2000 أجرة تعب العمل في المؤتمر 6000 جنيه بحيلة طبع المغني وابن كثير , 600 جنيه باسم الجرائد المصرية. آلاف الجنيهات مبهمة في رواية أخرى) . لا بدع ولا غرابة إذا خطر في بال بعض الناس أن الملك العربي عبد العزيز بن السعود يكرم صاحب المنار , أو أكرمه بالمال وبغير المال - ولا غرابة في تقدير بعضهم لهذا الإكرام بكذا وكذا من المبالغ بحسب آرائهم، ولا عجب إذا ذكر بعض الناس ما قدروه من هذا المال؛ فظن آخرون أن هذا التقدير رواية لا رأي، وتناقلوه تناقل الروايات. نقول: إن كل هذا ليس بغريب لأن من شأن مثله أن يقع، وقد وقع بالفعل , وكثر فيه القيل والقال , وتناقله خواص الناس كما ذكرنا ذلك في فاتحة الجزء الأول من هذا المجلد من المنار (28) نقلاً عن بعض كبار العلماء والوجهاء , ونسمي الآن من كبار العلماء الذين تحدثوا به في مصرالأستاذ الشهير الشيخ محمد بخيت فهو أول من سمعنا منه رواية الخمسة الآلاف من الجنيهات التي تحدث بها بعض الخواص في مصر - وأما صاحب رواية العشرة الآلاف التي تحدث الناس بها في أوربة فقد سمعها الأمير ميشيل لطف الله في مدينة (جنيف - سويسرة) . أمثال هذه الأحاديث إذا دارت بين خواص الناس لا ينبغي أن يهتم مثلنا بتكذيبها إن ذا كانت كاذبة؛ لأن الذين يتحدثون بها لا يعدونها عارًا , ولا يقصدون الطعن في عالم يأخذ مساعدة أو مكافأة على نشر العلم والدين من ملك من الملوك الكرام. وأما غيرهم من اللئام والحاسدين والسفهاء والخصوم الذين يفترضون سماع مثل هذه الإشاعات أو يفترونها للطعن على من يأخذ أمثال هذه المبالغ التي تعد عظيمة في هذا العصر , فيذمون آخذها بما شاءت آدابهم، وتحركت به أهواؤهم، فقد اعتدنا أن نحتقر كل ما يقولون ويكتبون ونعده كالعدم، وماذا يهمنا إذا سفه سفيه , أو احترق قلب حسود؟ ؛ لهذا ذكرنا الخبر في أهم مكان من المنار (وهو فاتحة المجلد) ولم نصدقه؛ لأنه غير صدق، ولم نكذبه لما ذكرنا آنفًا. وقد سمعنا وقرأنا في بعض الصحف لغطًا كثيرًا في ذلك منذ العام الماضي إلى الآن؛ فلم نحفل به على عادتنا. ولكن السفهاء لم يقفوا عند حد أخذ صاحب المنار ألوفًا من الجنيهات مكافأة من ملك الحجاز ونجد على خدمته السابقة له ولقومه على قولهم، أو مساعدة له على خدمته المستمرة للعمل والدين على ما يدين الله به ذلك الملك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهاج سلف الأمة الصالح، وإن عد ذلك بعضهم نقيصة فينا ودليلاً على أن هذه الخدمة التي كاد يمر عليها ثلث قرن لم تكن لوجه الله تعالى , وإنما كانت لأجل أموال ابن السعود - كأننا كنا نعلم الغيب على تقدير صحة زعمهم. لم يقف خصومنا في ديننا ومذهبنا السلفي من ملاحدة وطننا هذا - ومن روافض العلويين في جاوه الداعين إلى عبادة علي رضي الله عنه وذريته، ومن بعض الحاسدين لنا على مكانتنا عند هذا الملك المسلم التقي السلفي - لم يقفوا عند هذا الحد، بل أخذوا يختلقون علينا سلب مال الملك بالحيلة والسرقة (والنصب) , ويكتبون ذلك في بعض الصحف , ومنها صحف لا نراها عادة لعدم المبادلة بينها وبين مجلتنا , أو لأنها لا تصدر إلا عند الحاجة إليها، وقد كان من سوء تأثيرها أن كتب إلينا صديق لنا من خيرة فضلاء الحجاز رقعة أودعها كتابًا له يذكر فيها هذه الإشاعات , ويزيد عليها قوله: (هذا عدا ما أتحفكم به جلالة الملك من الهدايا والتحف الثمنية) - ويقول: إنه دافع عنا من حدثوه بتلك التهم على عدم وقوفه على شيء مما قيل إلخ , وقد كان لهذه الرقعة من سوء التأثير في نفسنا ما كان هو الحامل المباشر على بيان الحقيقة في المنار؛ فنقول: أرسل إلينا أحد أصدقائنا في سورية نسخة من عدد جريدة ألف باء المشهورة الذي صدر في دمشق في 9 يوليو (تموز) الماضي فإذا فيه ما قاله من راسل الجريدة بمكة المكرمة بإمضاء (أبو هشام) في ذي الحجة الماضي يثني فيها على ملك الحجاز ونجد ويخاف على أعماله الإصلاحية أن يتركها لمن لا يهمهم إلا جمع الآلاف من الجنيهات , أو حب الذات وكرسي الوظيفة - وحينئذ تبوء مساعيه بالفشل، ثم قال المراسل بعد هذا السياق: ولنعد الآن لموضوعنا , فإننا ذكرنا ما التهم سادتنا المتعممين (كذا) من ألفي جنيه وألف جنيه أجرة أتعابهم بالمؤتمر , فظن البعض أننا مغالين (كذا) وربما جاراهم الأستاذ صاحب ألف باء بهذا الظن، ولكن ما قولهم وقول الأستاذ بالتهام ستة آلاف جنيه آخر (كذا) ؟ وإليك البيان: يوجد في نجد كتابان خطيان وهما: (شرح المغني لابن قدامة , وتفسير ابن كثير) وهما كتابان سلفيان؛ فلما كان المؤتمر الإسلامي منعقدًا أطلع جلالة الملك عليهما الشيخ رشيد رضا؛ فتعهد الشيخ بطبعها لقاء ستة آلاف جنيه , وهكذا تم الاتفاق , وتناول المبلغ , وباشر بالطبع , ولكن أتعلم ماذا طبع؟ طبع من كل كتاب جزءًا واحدًا , وأهمل بقية الأجزاء، وقد خاطبه جلالة الملك مرارًا بتنفيذ تعهده وما تناوله لقاءه (كذا) , فكان الشيخ يحاول تارة ويعتذر أخرى إلى أن ضاق ذرع جلالة الملك؛ فطلب أن يرد الكتابين وهو مسامح بالستة آلاف جنيه , وللآن لم يردهما , ولم يقم بطبعهما مع أنه تناول المبلغ سلفًا. فما قول الأستاذ صاحب ألف باء الذي مسخ لي مقالي السابق في هذا الموضوع؟ , وما قول القراء الكرام؟ , وما قول سادتنا العلماء؟ ولا يظن أحد أن هذه القصة مختلقة , أو تصورتها مخيلة الكاتب، كلا فأنا مستعد أن أناقش كل فرد يكذبني لأن الذي أطلعنا عليها كان هو الواسطة , وهو رجل ثقة أمين واقف على كل شيء حتى إنه من أنصار الشيخ , ولكنه قالها عفوًا , وما علم أنها ستذهب إلى ألف باء , ولولا الخوف على الرجل لذكرت اسمه [1] ولكن لا سبيل إلى ذلك. حتى إن السيد الطيبي كان حاضرًا ذلك المجلس , ويقول المثل: (إذا أردت أن تكذب فبعد شهودك) , ولكن ولله الحمد الشهود موجودون. وهذه الحادثة يعلمها كثيرون من أعضاء المؤتمر من أهل الحجاز وغيرهم من الأعضاء. ونحن لا نقصد التشهير , وإنما نقصد أن يعرف الناس أن هؤلاء العلماء الذين يدعون الإصلاح مرة والتقوى أخرى لا يهمهم من وراء هذه الدعوى الفارغة إلا صيد القروش. ورب معترض يقول: إن الشيخ رشيدًا قام بدعاية عظيمة لابن السعود , وخدمه أجل خدمة , فهو يستحق هذا المبلغ أو أكثر منه - فنحن لا ننكر ذلك , ولا نجحد خدمة الشيخ للملك , ولكنه لماذا ينادي بخدمة الإسلام والإصلاح وعز العرب طالما يتقاضى أجرة أتعابه ودعايته؟ ... ... ... ... ... أبو هشام (المنار) لا أعرف أبا هشام هذا , ولم أطلع على مقالته الأولى التي يظهر من هذه الثانية أنه ذكر فيها أنني أخذت من جلالة الملك ألف جنيه أو ألفين أجرة عملي في المؤتمر، وكل ما كتبه عني في المقالتين كذب واختلاق , لو كان محررًا في جريدة السياسة أو جريدة حضرموت؛ لما كنت أبحث ولا أتعجب من اختلاقه. ويظهر من تأكيداته للخبر وتصريحه بأنه يدفع بها عن نفسه تهمة الكذب أنه يعلم أن الأستاذ صاحب جريدة ألف باء وغيره يعهدون منه الكذب , كما يظهر من حرصه على تصديقه , ومن استنباطه لما استنبطه منه أن له هوى فيه , إما لأنه مأجور عليه وهو الراجح عندنا قياسًا على أمثاله وأقتاله , وإما لسبب آخر. الراجح عندنا أنه قد أخذ أصل هذه الفرية , وما قبلها في الحجاز عن ذلك الرجل المصري الذي كان هو المصدر الوحيد لكل ما نشر في جريدة السياسة وغيرها , من الطعن فينا وفي السوريين الذين استخدموا في حكومة الحجاز أو عن أحد أعوانه. ونحن نعلم من مخازي ذلك الرجل وخياناته القطعية ما نستطيع أن ننشره في جرائد العالم الإسلامي كله , لو كنا ممن يتصدى لعقاب المجرمين بمثل هذا. ولكن ما بال أبي هشام أصلح الله باله يخرج عن حدود الشرع والعدل في تأكيد بلاغ هذا المبلغ له , لو لم يكن مستأجرًا له والله تعالى يقول للمؤمنين: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) . وقد اطلعنا في جريدة ألف باء على رسالة لكاتب مطلع كذب فيها رواية أبي هشام التي يدعي أنه يراهن على صحتها , فما له لا يبرز للرهان؟ أليس لأن التكذيب مؤيد بالبرهان؟ وحسبه منه أن كلاًّ من كتابي المغني وابن كثير يقدر بنحو من عشر مجلدات كبيرة , وأنه طبع من كل منهما ثلاث مجلدات من القطع الكبير - فإن كانت رواية مخبره (الأمين) بأن صاحب المنار أخذ من الملك في أيام المؤتمر ستة آلاف جنيه لنفقة طبع الكتابين صحيحة؛ فكيف يتصور عقله أن يطبع مثل هذان الكتابان اللذان يقدران كلاهما بعشرين مجلدًا في أقل من سنة؟ , وإن عدم إنجاز طبعهما في أقل من سنة يوجب ما ذكره من تبرم الملك وطلبه إعادة الكتابين إليه مرارًا؟ ؟ وأنا أعتقد أنه لا يوجد بمصر مطبعة يمكنها طبع هذين الكتابين في سنة ولا في سنتين ولا ثلاث لا مطبعة المنار ولا غيرها , ولا أستثني المطبعة الأميرية التي تعد آلات الطبع فيها بالعشرات إلا أن تترك أكثر أعمالها الأخرى. وقد طبع القسم الأدبي الخاص بطبع الكتب (صبح الأعشى) في ست سنين وهو أصغر من أحد الكتابين. وإذا لم يكن مأجورًا على التشهير في الطعن على صاحب المنار فما معنى قوله إنه يقصد إعلام الناس أن هؤلاء العلماء الذين يدعون الإصلاح مرة والتقوى أخرى , لا يهمهم من وراء هذه الدعوى إلا صيد القروش؟ , وهذه العبارة هي عبارة مصدر سائر المطاعن التي أشرنا إليها وإلى صاحبها آنفًا. ثم إنه قال في آخر مقاله: بأن صاحب المنار خدم ابن السعود أجل خدمة , وأنه يستحق عليها هذا المبلغ الذي ادعى أنه أخذه وأكثر منه - فإذا لم يكن صاحب هوى ومأجورًا على التشهير فلماذا استدرك على هذا بقوله: ولكن لماذا ينادي بخدمة الإسلام والإصلاح وعز العرب طالما يتقاضى أجرة أتعابه ودعايته؟ ؟ من المعلوم الذي لا يمكن إنكاره أن صاحب المنار كتب مقالات كثيرة , وألف كتبًا في الرد على الطاعنين على الإسلام من المبشرين والملاحدة وغيرهم، وأنه كتب مقالات كثيرة في التنفير عن البدع والخرافات والتقاليد والعادات الضارة منذ أول سنة من سنة (1315هـ) ؟ , وأنه يفسر القرآن تفسيرًا هو الآن عمدة أشهر مدرسي التفسير بمصر , وأنه كتب مقالات كثيرة في سبيل النهضة العربية - فهل كانت هذه الأعمال من سنة 1315 إلى سنة 1346 لأجل تقاضي ابن سعود أجر خدمته مدة ثلاثين سنة , لو صح خبر التقاضي الذي افتراه؟ . ماذا يعلم الطاعن المشهور من دين الإسلام وعلومه؛ فيسوغ له الحكم على علمائه , ويفرق بن المحصلين والأدعياء منهم - وهو لا يحسن ضروريات اللغة العربية حتى التمييز بين البديهيات التي يعرفها المبتدئون؟ . ثم ماذا يعلم من قوادم النهضة العربية وخوافيها؛ حتى يصح له الحكم على العاملين منهم وغير العاملين؟ دع المخلصين وغير المخلصين؟ أيدري من أسس جمعية الجامعة العربية وكان يكاتب بمقاصدها أئمة الجزيرة يحيى والإدريسي وابن السعود منذ بضع عشرة سنة , ويرسل إليهم الوفود؟ هل قرأ رد المنار على ما كتب أشهر كتاب الترك في مصر سنة 1921 في تفضيل العرب على الترك؟ هل قرأ تلك المقالات التي نشرت في الآستانة بعنوان (العرب والترك) مع ترجمتها (عربار تركار) التي شرعت في نشرها جريدة إقدام التركية , ثم لم تتمها؛ لعجزها

أحاديث الدجال وانتقاد بعض النجديين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحاديث الدجال وانتقاد بعض النجديين كتب إلينا بعض القراء من جاوه ومن فلسطين يشكرون لنا ما كتبناه من التحقيق في مشكلات أحاديث المهدي وأحاديث الدجال وبيان المخرج من مشكلاتها، وسألنا بعضهم عن أحاديث نزول المسيح عيسى بن مريم لعلاقتها بتلك الأحاديث، ولكن ليس فيها من التعارض والتناقض والإشكاليات مثل ما فيها، وإن كان بعضها لا يخلو من ذلك. وانتقد علينا بعض النجديين هذا البحث، وتمنوا لو لم ينشر، وإنهم لا يعرفون لنا عذرًا في نشره، ولو كان جميع المسلمين كمسلمي نجد لما كنا في حاجة إلى مثل هذا البحث، فإنهم قوم يأخذون بالإيمان والتسليم كل ما يجدونه في كتب الحديث من غير بحث في تعارض ولا إشكال، حتى إن ناصحهم يحتاج إلى الاحتراس في بيان ضعف بعض الأحاديث متنًا وسندًا؛ لئلا يخدش ذلك التسليم والإذعان لكل ما نسب إلى السنة، وإن كان لا يصح عزوه إليها أو يعارض الصحيح القطعي منها، وإذا بحث بعض المشتغلين بالعلم منهم على قلتهم في هذه المسائل؛ فإنه يقبل في الجمع بين الحديثين، أو في دفع الإشكال الذي يرد على بعض الأحاديث كل ما يقوله الباحثون في ذلك كالكثير مما أورده الحافظ ابن حجر مما لا يكاد يعقل، حتى إنه قد يدافع عن الحديث الذي يعد من أقوى المطاعن على أصول الدين كالتوحيد والرسالة إذا كانت صناعة فن رواية الحديث تعده مقبولاً كحديث الغرانيق الصريح في إقرار عبادة الأصنام والثناء على اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، والمجوز لإلقاء الشيطان في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة النجم في مدح هذه الأصنام الكبري: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لتُرْتَجَى. دافع الحافظ عفا الله عنه عن هذا الحديث الذي يعترف بأنه لم يصح له سند بأن تعدد طرقه يقويه! ! ! و ... قاعدة للمحدثين لم ينزلها الله تعالى في كتابه، ولا ثبتت في سنة عن رسوله صلى الله عليه وسلم وإنما هي مسألة نظرية غير مطردة، فتعدد الطرق في مسألة مقطوع ببطلانها شرعًا كمسألة الغرانيق أو عقلاً لا قيمة له لجواز اجتماع تلك الطرق على الباطل؛ ولذلك حكم صفوة المحققين من أهل الحديث والأصول بأن حديث الغرانيق موضوع باطل. ونحن قد علمنا منتهى شوط الانتقاد علينا من بعض النجدبين بلقائنا هنا لرجل من أوسعهم اطلاعًا في الحديث , ومراجعته لنا في المسألة مرتين في مجلسين طويلين , فيذكر صفوة ما دار بيننا وبينه في ذلك باختصار لبعض المسائل وإيضاح لبعض. بدأ الكلام في مجلسه الأول بالثناء علينا وعلى المنار وبحب النجديين لنا لقيامنا من زهاء ثلث قرن بالدعوة إلى التوحيد الخالص ومحاربة الشرك والبدع وتأييد السنة ومذهب السلف , ثم انتقل إلى مسألة البحث في أحاديث الدجال والطعن أو إيراد الإشكالات حتى على الصحاح منها، وما في هذا من مخالفة خطة المنار ومنهاجه , قال: ولا ندري السبب المقتضي لذلك. قلت له: إن استشكال هذه الأحاديث وأمثالها من أشراط الساعة قديم حتى إنك تجد أكثره في شراح صحيحي البخاري ومسلم , وإن لأهل هذا العصر من الاستشكال ما ليس لغيرهم , ومنهم من يجعلها شبهة على صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وقد كثر سؤال الناس إياي عنها مشافهة ومكاتبة , فكنت أجيبهم بالإجمال , وأعد بكتابة التفصيل في فرصة أخرى، وقد قال لي من عهد قريب بعض إخواننا من السلفيين المشتغلين بعلم الحديث: الأولى أن لا تكتب في ذلك شيئًا؛ لأن الإقناع بها متعذر , فنحن نفوض علم الحقيقة فيها إلى الله تعالى ونعدها كأنها غير موجودة. ولكن الناس يظلون يسألون ويستشكلون، وبعضهم يشككون ويطعنون، فكان من الواجب على صاحب المنار القائم بفريضة الدفاع عن الإسلام أن يبين للناس ما يدفع الشبهات عنه، ويثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع ما صح عنه صحة لا شبهة فيها. وقد صرحت فيما كتبت في آخر بحث أشراط الساعة بأن من صدق رواية مما ذكر فيها ولم يجد فيها إشكالاً , فالأصل فيها الصدق , ومن ارتاب في شيء منها [1] أو أورد عليه بعض المرتابين أو المشكلين إشكالاً في متونها؛ فليحمله على ما ذكرنا من عدم الثقة بالرواية بالمعنى أو غير ذلك مما أشرنا إليه. فعلم بهذا أن غرضنا من أصل البحث تبرئة رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل طعن يورده أحد على بعض هذه الروايات تبرئة يقبلها عقله , ويطمئن لها قلبه، ومن كان يكتفي برواية الشيخين أو أحدهما فإنه لا يستشكل ما رويا. قال أخونا النجدي الفاضل: إن بعض ما ذكرتموه من الأجوبة عن التعارض بين الأحاديث وحل مشكلاتها , مما يتضمن الطعن في أسانيد ما في الصحاح منها كحديث الجساسة يمكن أن يجاب عنه بأجوبة أخرى مقنعة مع الجزم بصحة الأسانيد. قلت: إن من جاءنا بأحسن مما جئنا به دفاعًا عن هذه الأحاديث وجمعًا بين رواياتها؛ نشكر له صنعه , وننشره في المنار؛ ليهتدي الجمهور به، ومن أقنعنا بخطأ في شيء مما جئنا به؛ نقبله مع الشكر أيضًا. فعليك إذًا أن تكتب لنا ما عندك في ذلك؛ لننشره , وعسى أن يكون خيرًا وأهدى سبيلاً. ثم ذهب الرجل وغاب عنا غيبة طويلة جاءنا بعدها بمقال طويل غير ما اقترحناه عليه , وقد اتهمنا فيه أننا أنكرنا أحاديث الدجال كلها , وحاول الرد علينا بإثباتها وفيه أغلاط أخرى - فقرأنا عليه طائفة منه بينا له ما فيها من الغلط، وإن بعضه قد جاء من عدم فهم عباراتنا التي صرحنا فيها بأنها متواترة تواترًا معنويًّا، وإن القدر المشترك الذي يدل عليه التواتر المعنوي هو كذا وكذا (ص20 ج1م) فاعترف بالخطأ , وأخذ منا المقالة ورسمنا له خطة لمقالة أخرى يقول فيها: إنه اطلع في المنار على بحث كذا , فوجد فيه مطاعن في بعض أسانيد الأحاديث وإشكالاً وتعارضًا بين بعض المتون , يمكن الجواب عنها بما يدفعها ويثبت صحة تلك الأحاديث كلها أسانيد ومتونًا، ثم يسرد ذلك بالعدد , ويجيب عن كل منها بما عنده , وأعطيناه المنار؛ لينقل منه ما يقتضيه الرد بالحرف لئلا يخطئ، بنقله بالمعنى , ونصحنا له بأن يراجع عند الكتابة شرح البخاري للحافظ ابن حجر وشرح مسلم للنووي في الكلام على هذه الأحاديث , فوعد بذلك , وانصرف شاكرًا , ولما يعد. وإننا نطالب كل منتقد بما طالبنا به هذا النجدي الفاضل الغيور , ومن المعلوم من أصول ديننا بالضرورة أن كل أحد يجوز عليه الخطأ إلا المعصوم فيما هو معصوم فيه , وحسن النية مع بذل الجهد في استبانة الحق مما يرجى به عفواته تعالى عن المخطئ.

مصاب مصر بأكابر رجال العلم والدين والسياسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصاب مصر بأكابر رجال العلم والدين والسياسة الدكتور يعقوب صروف، شيخ الأزهر بطرك القبط، زعيم الأمة سعد باشا زغلول اشتدت وطأة الحر في صيف هذا العام على تشبع هوائه الضعيف بالرطوبة؛ فثقل علينا القيام بأعمالنا العادية الكثيرة، فعزمنا على جعل شهري إجازة المنار السنوية شهري المحرم وصفر متتابعين، وقد حدث في هذه الفترة وفاة أكبر أكابر رجال مصر في المنصب والمقام والسن جميعًا يتلو بعضهم بعضًا: مات أولا الدكتور يعقوب صروف أحد مؤسسي مجلة المقتطف الشهيرة والمحرر الأول لها عن 75 سنة , وما عهد الاحتفال بعيد المقتطف الذهبي الخمسيني ببعيد، فكان لموته رنة أسف في مصر وسورية وسائر البلاد العربية , وجدد عشاق العلوم والفنون فيها الاعتراف له بخدمتها نصف قرن كامل. وتلاه الشيخ أبو الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية , مات عن 85 سنة , وكان في الرعيل الأول من العلماء المتقنين للعلوم الأزهرية كلها يقل نظراؤه فيها، ولم يكن معاديًا للإصلاح في عهد الأستاذ الإمام، بل كان صديقًا له، ولكنه لم يعمل شيئًا في أيام مشيخته، على أن الأزهر في هذا العهد مقيد بقيود ثقيلة , ودخل جمهور شبابه في مآزق السياسة فصار أمر إدارته أعقد من ذنب الضب. وتلاه بطرك القبط الأرثوذكس الملقب برئيس الكنيسة المرقسية , مات عن زهاء 95 سنة , وكان عظيم الملة القبطية وأعطى منصبه حقه من الوقار والمحافظة على التقاليد الكنسية، وفي عهده ترقت القبط في الشؤون الاجتماعية وطالبوا رجال الدين الذي هو رأسهم بإصلاحات كثيرة أهمها: ما يتعلق بشؤون أوقافهم , وانتفاع الشعب بها، وكانوا أمثل من المسلمين في خدمة دينهم وأوقافهم وتكافلهم وأدبهم مع رئيسهم الديني , وفي مصالحهم السياسية والاجتماعية وسائر أمور دنياهم. *** سعد باشا زغلول وتلاه زعيم البلاد الأكبر الرئيس الجليل سعد باشا زغلول , مات عن زهاء سبعين سنة , فزلزلت الأرض، وعظمت أهوالها، وشاركت الشعوب العربية أخاها الشعب المصري في المصاب , وعدوه مصاب الأمة العربية بأعظم رجل سياسي نبغ فيها، وتجاوبت برقياتها مع مصر بالتعزية حتى كان أكبر ملوك العرب صاحب الحجاز ونجد ونائبه الأمير فيصل في مقدمة المعزين للشعب المصري ولحكومته. بل اهتزت لموته أرجاء الشرق والغرب وأكبرته جرائد الأمم كلها، حتى إن جرائد أوربة عامة وإنكلترة خاصة قد أظهرت لنا من معرفة قدره وتقدير مواهبه ما غاب بعضه عن جرائد مصر نفسها. وأما الأحزاب المصرية وجرائدها؛ فقد أجمعت على إكبار الرجل في نفسه، وإكباره في عمله، وإكباره في مصاب البلاد به، إجماعًا ظهر أنه خرج من صميم أفئدة الكتاب، بالرغم مما كان من شذوذ بعض الأفراد والأحزاب. وقد كان مشهد جنازته والاحتفال بتشييعه مما لم ير له أحد نظيرًا في هذه البلاد ولا في غيرها إلا في يوم عودته من أوربة إلى مصر عظمة وحفلاً وجلالاً ووقارًا، إلا أن الحزن العام، وقد اقتضى بطبعه شيئًا من الإخلال بالنظام، فإن الجماهير من دهماء الشعب كانوا يهجمون المرة بعد المرة على النعش بسائق أقرب إلى الاضطرار منه إلى الاختيار، وظهر أنهم كانوا يريدون انتزاعه , وإخراجه من مركبة المدفع التي وضع عليها لحمله على أعناقهم. لا يتسع هذا الجزء من المنار لوصف المصاب , ولا لوصف الفقيد العظيم وترجمته، وإنما نقول: إن الشعور بأن المصاب بسعد مصاب كل فرد من أفراد الشعب كان شعورًا عامًّا , ولكن لا نزاع في أن وقع الرزء على قرينته كان أعظم من وجوه يعرفها بالإجمال كل أحد , ويعرفها بالتفصيل من عرف كيف كانت حياتهما الزوجية في جميع أطوارهما , ولا سيما الجهاد السياسي الأخير فنحن نعزيها بقول أشهر النساء في الحزن وهي الخنساء الشاعرة الصحابية رضي الله عنها: ولولا كثرة الباكين حولي ... على أحبابهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي بل نقول: إن الخنساء تعزت بكثرة الناس الذين يبكون حولها من فقدوا وإن لم يكن في نظرها كمن فقدت - ولكن قرينة سعد أولى منها بالعزاء لأن الذين يبكون حولها إنما يبكون من تبكي هي , فلا تستطيع أن تقول كما قالت الخنساء. (وما يبكون مثل أخي) فإن كان المصاب لا نظير له في عظمته , فالتعزية لها لا نظير لها أيضًا فهي على قدر المصاب سواء. سننشر لهذا الزعيم الكبير ترجمة نودعها من العبرة ما يوافق خطة المنار , ونعجل الآن بذكر مسألة مهمة وهي أن مجلس الوزراء قرر أخذ بيت سعد باشا الذي يدعَى (بيت الأمة) , وهو موقوف بطريق الاستبدال المعروف , وجعله من المنافع العامة ذكرى للفقيد مع إبقاء كل آثاره فيه , وشراء البيتين المجاورين له , وهدمهما وإنشاء قبة عظيمة يجعل فيها قبره بنقل جثته إليها , وتجعل مسجدًا ومزارًا للناس؛ فتكون كقبة الشافعي والبدوي ونحوهما، وقد رسم الرسامون شكل القبر وشكل القبة، وطُبِعَا في بعض الجرائد. وقد أنكر هذا العمل القبط ومن على رأيهم من وجهين (أحدهما) أن الفقيد كان زعيمًا سياسيًّا للشعب المصري كله , لا للمسلمين وحدهم , ولم يكن زعيمًا دينيًّا إسلاميًّا , بل هو الذي جمع بين الهلال والصليب , ولم يكن يفرق بين المسلمين وغيرهم , فلا يجوز أن يجعل قبره معبدًا للمسلمين. (ثانيهما) أن شكل القبة التي رسمت لقبره عربي إسلامي , والواجب أن يكون مصريًّا فرعونيًّا؛ لأنه هو كان مصريًّا قبل كل شيء , ويعنون بهذه الكلمة أن الجنسية المصرية الوطنية مقدمة على كل رابطة أخرى دينية كانت أو لغوية أو غيرهما. وقال بعض الكاتبين في ذلك: إن الزمن الذي كان فيه المصريون من القبط , والمسلمين يلعنون الفراعنة لأجل دينهم (الوثني) ولا سيما فرعون موسى تبعًا للتوراة والإنجيل قد مضى , وصار جميع المصريين الوطنيين يفتخرون بفرعون وبأنهم سلالة فرعون. ولعل هؤلاء يستحسنون أن يجعل ما يبنى على قبره بشكل الهرم كما قالت إحدى السيدات المسلمات. ونحن نتعجب لسكوت علماء الدين , ولا سيما أهل الحديث منهم عما نستدركه عليهم من النصح للحكومة أن لا تجعل قبره مسجدًا لأن بناء المساجد على القبور محرم شرعًا , وقد وردت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم والسنن الأربع وغيرها بلعن فاعليه , ووصفهم بشرار الخلق، ونحن نعلم أن العلماء إنما يسكتون عن مثل هذا البيان والنصح للحكام لاعتقادهم أنهم لا يعملون به، ولولا الملوك والسلاطين؛ لما وجدت هذه القباب العظيمة والمساجد على قبور الأئمة والصالحين وعلى الملوك بالتبع لهم , فهم الذين ابتدعوا ذلك , ونفذوه بالرغم من أنوف العلماء؛ ولذلك أجاب بعض العلماء الأعلام في كتاب له من احتج بوجود هذه القباب والمساجد في أكثر بلاد الإسلام على مشروعيتها , فكان مما قاله: إن هذه أمور حكومية لا حكمية، ودولية لا دليلية، ولكن الحكومة المصرية الحاضرة لا ترضى أن تجعل قبر سعد باشا فتنة لعوام الشعب يضلون به كما ضلوا بقبور الأولياء فعبدوها بالدعاء والنذور والطواف بها وغير ذلك مما شرحناه مرارًا، وإنني قوي الرجاء في امتناعها عن جعل قبة قبره مسجدًا؛ لمخالفته لنصوص الشارع ولحكمة التشريع معًا، وهو افتتان الجاهلين بتعظيم القبر تعظيمًا دينيًّا , وتعليق آمال زائريه بقضاء الحاجات، ودعائه لذلك في المهمات والنذر له , فهذه الحكومة لا تريد أن يكون قبر رجلها السياسي سببًا لازدياد الخرافات والضلالات في البلاد، ولكنها لا تسمع كلام العلماء فيما عدا ذلك من المباني والتماثيل التي قررتها , وقد يتأول لها من يبالي بالدين من رجالها بأنها خالية من الحكمة أو العلة التي حرمت لأجلها، وهي كونها ذريعة للشرك محتجين بأنه لا يوجد في مصر أحد يعظم تمثال محمد علي باشا أو ولده إبراهيم باشا تعظيمًا دينيًّا , ولا غير ديني أيضًا، فإذا كان هذا مأمونًا فيما ستنصب الحكومة لسعد من التماثيل , فليس مأمونًا في قبر عليه مسجد يصلى فيه بجانب القبر , والصلاة إلى القبر ممنوعة شرعًا أيضًا. وقد ظهر أن قرن الفتنة بعبادة سعد قد نجم في الأرياف؛ إذ بلغنا أن بعض أهل الطرق ابتدعوا طريقة سموها السعدية الزغلولية. وإننا لا نشك في أن جعل البناء على قبره مسجدًا معدًّا للصلاة فيه بفرشه ووضع محراب فيه لمعرفة القبلة يكون ذريعة لجعله كقبر البدوي والسيدة زينب وأمثالهما. وهل يظن عاقل أن جميع عوام المصريين يفهمون أن خدمة سعد للبلاد سياسية محضة لا شائبة للدين فيها؟ , كيف وإن بعض كبار علماء المغرب الأقصى قد ذكر في مقال له نشر في المنار ما يدل على أن العلماء المستنيرين هنالك يعتقدون أنه زعيم ديني , فعسى أن تتدبر الحكومة المصرية هذا الأمر وتحول دون وقوع هذه الفتنة التي هي خلاف مرادها من إحياء ذكرى سعد بقبره وداره وآثاره وما تنصب له من تماثيل، وإنما مرادها أن تحفظ ذكرى خدمته السياسية ومقاصده الاستقلالية ويتمسك الشعب بها ويكون عونًا للقائمين بعده بتنفيذها كما كان عونًا له يؤيده في كل أعماله. وأما تعليل دعاة الإلحاد من القبط والمسلمين طلبهم جعل شكل القبة فرعونيًّا تبعًا لجعلهم جنسية المصريين في هذا العصر فرعونية , وجعل سعد من ذرية فرعون , فهو تعليل باطل، فسعد من أسرة عربية الأصل , كما أخبرني ابن أخيه العالم الفاضل الثقة عبد الرحمن زغلول رحمه الله تعالى، والجنسية المصرية في هذه العصر جنسية سياسية شاملة لكل سكان هذا القطر من عرب - وهم السواد الأعظم - وقبط وترك وإفرنج وغيرهم من الأجانب الذين قبلوا هذه الجنسية الوطنية السياسية , ولا دخل للأنساب القديمة ولا للحديثة فيها.

خيرية القرون الثلاثة مع وقوع الفتن فيها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خيرية القرون الثلاثة مع وقوع الفتن فيها (س11) من صاحب الإمضاء في فكلوغن جاوه إلى حضرة الإمام مفتي الأنام خليفة شيخ الإسلام السيد محمد رشيد آل رضا أطال الله بقاه ونفعنا بعلومه آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فليقين علمي بإخلاصكم في خدمة الإسلام والمسلمين كما أشاهد (؟) في مقالاتكم على صفحات مناركم المنير , ولحرصي على فتاويكم الشافية الكافية؛ ألتمس من فضيلتكم أن تبينوا لي مقصود هذا الحديث الشريف: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) بيانًا وافيًا كعادتكم في حل المسائل، وتوضيح المشاكل، فإنه قد أشكل علي مقصود قوله صلى الله عليه وسلم (خير) ما هو ذلكم الخير الذي يقصده صلى الله عليه وسلم مع العلم بأن قرون الفتن والزلازل والزندقة ما نجمت [1] إلا في تلكم القرون الثلاثة المشهود لها بالخير. ألم تروا إلى فتنة عبد الله بن سبأ ذالكم اليهودي اللعين التي أدت إلى قتل الخليفة الثالث رضي الله عنه وإيقاد نار الحرب بين الخليفة الرابع وسيدنا معاوية رضي الله عليهم التي كانت السبب في إزهاق أرواح الألوف من خيرة رجال الصحابة، وظهور الحرورية وقتلهم للإمام علي كرم الله وجهه، وواقعة كربلاء، واستباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه، ورمي الكعبة بالمنجنيق، ونبوغ الجهمية وغيرها من الفرق الضالة المضلة وافتراء الألوف المؤلفة من الأحاديث الموضوعة على رسول الله إلخ إلخ، بل إن خذلان المسلمين اليوم وسقوطهم في هاوية الذل والمسكنة؛ إنما هي عاقبة تلكم الوقائع السود التي وقعت في تلكم القرون الثلاثة , وما تليها أفيدونا مأجورين، ولا زلتم ملجأ ومأوى للحائرين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... سعيد بن طالب الهمذاني (ج) الحديث ورد في الصحيحين وغيرهما بلفظ: (خير الناس قرني) إلخ وبلفظ: (خير أمتي أهل قرني) إلخ، وفي عدة روايات البخاري (خيركم قرني) ، وقد بين علة الخيرية في الرواية المتفق عليها من حديث عبد الله بن مسعود (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) ، وفي رواية من حديث عمران بن حصين في البخاري (ثم يجيء من بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يفون , ويظهر فيهم السمن) وفي رواية له زيادة (ثم يفشو الكذب) وفي رواية الترمذي والحاكم عنه: (ثم يأتي بعدهم قوم يتسمنون ويحبون السمن، يعطون الشهادة قبل أن يسألوها) ، فالمراد بخيرية كل قرن على ما بعده خاص بتفضيل المسلمين فيه على من بعدهم فيما يليه، قيل: في جملتهم، وقيل: في أفرادهم، والمشهور تفضيل الصحابة على من بعدهم مطلقًا. والقرن: أهل زمان تجمعهم فيه جامعة يكون فيها بعضهم مقارنًا لبعض كرئيس يجمعهم من نبي أو حاكم أو غيرهما أو عمل مشترك، وحدده بعضهم بالزمان، وفيه أقوال: من عشرة إلى مائة وعشرين، والأشهر الذي جرى عليه الناس أن القرن مائة سنة، وليس بمتعين في هذا الحديث، وعليه يمكن تفسير قرنه صلى الله عليه وسلم بزمانه من بعثته …. والقرن التالي له بقرن الخلفاء الراشدين لتشابهه، أو إلى آخر مدة عمر، أو إلى حدوث الفتن في زمن عثمان لامتيازه بذلك، والمشهور عند جمهور العلماء أن القرن الأول قرن الصحابة، والثاني قرن التابعين، والثالث قرن تابعي التابعين، قال الحافظ ابن حجر: (واتفقوا على أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورًا فاشيًا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرًا شديدًا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن) , وظهر قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يفشو الكذب) ظهورًا بيِّنًًا , حتى شمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان اهـ. وجملة القول؛ أن التفضيل خاص بما يكون عليه المسلمون من الاعتصام بعروة الدين من صحة التوحيد، والبعد عن الشرك وخرافاته، واجتناب الرذائل وشرها الكذب، والتحلي بمكارم الأخلاق، والإخلاص في العبادات، وما وقع من الدعوة إلى الشرك من عبد الله بن سبأ ثم إلى فتن السياسة والملك، فإنما وقع من الكفار كعبد الله بن سبأ اليهودي وأمثاله من زنادقة أهل الكتاب وزنادقة الفرس واصطلى المؤمنون بنارها. وفي الصحاح أحاديث أخرى تؤيد هذا المعنى وهو أن كل زمن شر مما بعده أي من حيث الدين والتقوى في مجموع الأمة، وهو مقتضى سنة الله في البشر التي يدل عليها قوله تعالى: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 16) , ولا ينافي هذا وجود بعض المزايا والأعمال في بعض الأزمنة المتأخرة بحيث تفضل بها على ما كان قبلها , كزمان عمر بن عبد العزيز على ما قبله من أزمنة ولاية قومه. وقد روى الترمذي بإسناد قوي من حديث أنس وابن حبان من حديث عمار وصححه: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره) قال الحافظ ابن حجر: حديث حسن له طرق قد يرتقي بها إلى الصحة , وحملوا الآخر فيه على زمن المسيح وهو مع ذلك لا يظهر بالنسبة إلى قوة الإيمان وفضائل الأفراد , بل بالنسبة إلى ما يكون فيه من جمع كلمة المسلمين وقوتهم وكثرة البركة في أموالهم ومعايشهم وخفض كلمة الكفر وذلة أهله على ما روي في ذلك , والله أعلم.

أسئلة من إيبك ـ يوغوسلاويا (أوربة)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من إيبك - يوغو سلاويا: (أوربة) (س12 15) من صاحب الإمضاء حضرة صاحب الفضل والفضيلة، سيدنا ومولانا العالم العلامة، المحقق المدقق مفتي الأنام السيد محمد رشيد رضا أطال الله بقاءه وحفظه آمين. (1) هل يجوز أداء صلاة الظهر في يوم الجمعة بالجماعة لأهل القرى في القرى، مع أن الجمعة قد أقيمت قبلها؟ هكذا يفتي بعض العلماء , ويخصون هذه بالقرى دون الأمصار , ونحن نظن أن إقامة صلاتين متغايرتين في وقت واحد من الجماعة لا تجوز , كما قررت في الأصول، ومع هذا إذا أقيمت صلاة الظهر مع الجماعة بعد صلاة الجمعة في المسجد؛ هل تبطل الجمعة بأداء الثانية؟ إذ المصلون هذه يشكون من أن صحة الجمعة ليست قطعية (في القرى) لفوات بعض شروطها. (2) هل يعد من الزكاة الخراج المستأدية للحكومة المطروح من عندها - أي حكومة كانت - ويسد مسدها؟ (3) ما معنى حديث: (استنزهوا عن البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه) , أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه، والدارقطني عن أنس بلفظ (تنزهوا) ؟ , وما حكمة تعميم النبي صلى الله عليه وسلم عذاب القبر بالبول؟ (4) هل (وجودك ذنب لا يقاس عليه ذنب آخر) حديث صحيح أو من الموضوعات , إن كان من الأحاديث الصحيحة , فما معناه؟ وما سبب إيراد النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ ومن كان المخاطب بهذا؟ أقدم لفضيلتكم هذا , وأرجو الجواب والإفتاء عنها , مع فائق احترامي وتشكري. ... ... ... ... ... ... المخلص والمشترك لمجلتكم الغراء ... ... ... ... ... ... ... يحيى سلامي صلاة الجمعة في القرى والظهر بعدها جماعة الجواب عن السؤال الأول أنه من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الله تعالى لم يفرض على عباده صلاتي فريضة في وقت واحد. فمن كان في قرية فيها مسجد تقام فيه الجمعة؛ يجب عليه أن يصليها مع الجماعة , إلا إذا كان يعتقد أن صلاة الجمعة فيها باطلة شرعًا لفقد بعض شروطها , وحينئذ لا يجوز له أن يصليها لأنه شروع في عبادة باطلة غير مشروعة في اعتقاده , وإن كان مخطئًا , وهو عصيان لله تعالى، وإذا عصى وصلاها معتقدًا بطلانها؛ تبقى صلاة الظهر متعلقة بذمته فعليه أن يصليها، وليس له أن يقيم له مع غيره جماعة أخرى لأنه تفريق بين هؤلاء وبين إخوانهم المسلمين الذين أقاموا الجمعة قبلهم , وهذه مسألة اجتهادية , هذا ما أراه في حكمها. وأما إذا صلاها معتقدًا صحتها , فلا يجوز له أن يصلي بعدها ظهرًا لا منفردًا ولا جماعة؛ لأنه يكون بهذا مخالفًا للمعلوم من الدين بالضرورة , وهو قطعي بظن بعض الفقهاء. وهذه المسألة قد بيناها بدلائلها التفصيلية من قبل، وإذا كان لمن تحكون عنهم شبهات غير ما سبق لنا بيانه والرد عليها , فاذكروها لنا. وليعلم المسلمون في بلادكم وأمثالها أنه لا ينبغي لهم تقليد من يقول من الفقهاء: إن صلاة الجمعة لا تصح في القرى , فإن أول جمعة أقيمت في الإسلام قد أقيمت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قرية جواثي من البحرين كما في صحيح البخاري وشروحه , ولا تقليد من يشترط لصلاة الجمعة دار الإسلام , وإقامة الأحكام الشرعية من قبل الإمام، لأنه تقليد في إبطال شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، قال بعض الأئمة بعدم اشتراط ما ذكر في صحتها. *** (2) اجتماع العشر والخراج الجواب عن الثاني أن مذهب الحنفية عدم اجتماع الخراج والزكاة في أرض واحدة , ومذهب الجمهور أنهما يجتمعان لأن الخراج أجرة الأرض لبيت المال , فهو واجب عليها، وأما الزكاة فهي حق على الغني المسلم لأصحاب الحاجة من المسلمين ومصالحهم العامة؛ ولذلك لا تجب على الذمي , والخراج يجب عليه، وهذا كله خاص بالحكومة الإسلامية سواء كانت حكومة الإمام الحق في دار العدل أو حكومة البغاة المتغلبين منهم. وأما إذا أقام المسلمون في غير دار الإسلام وملكوا فيها أرضًا , أو تحولت دار الإسلام إلى دار حرب لغير المسلمين , فالمختار عندنا أنه لا وجه لجعل ما تأخذه هذه الحكومة من المسلم كالخراج الشرعي في دار الإسلام، وإذا كان للمسلمين إمام يقيم العدل في قطر آخر؛ فالمصلحة الإسلامية العامة تقتضي أن يرسلوا إليه من زكاة أموالهم كل ما يتعلق بالمصالح العامة بعد أن يؤدوا للفقراء والمساكين ما لهم فيها، وكذا المؤلفة قلوبهم والغارمون إن وجدوا، وإلا كان حالهم كحال المسلمين قبل الهجرة. وهنا مسائل يفتقر بيانها بأدلتها إلى بحث طويل لا محل له هنا , وهذا الوقت ليس بوقته. وإنما أقول للسائل الفاضل - وهو من أهل العلم ومتدارسي الفقه -: إن أحكام الخراج وما يتعلق بها أحكام اجتهادية لا تعبدية , وإن جعل جماهير الفقهاء اجتهاد الخليفة الثاني ومن بعده من الراشدين , كنصوص الشارع في التزام العمل به عند عدم المعارض، وعدوا المتفق عليه منها داخلاً في مسائل الإجماع الأصولي، والذي نعتقده: أنها من أحكام المصالح العامة المفوضة إلى الأئمة وأولي الأمر من المسلمين , يقررون بالتشاور في كل زمان وحال ما فيه المصلحة. وأما الزكاة فهي من العبادات الأساسية , والنصوص القطعية فيها معلومة وكذا الاجتهادية , ومنها الخلاف في عشر غلات الأرض هل هي زكاة تعبدية أو من قبيل الخراج؟ ، ومن فروع ذلك: هل يجب الوقوف فيها عند النصوص أم يدخل فيها القياس؟ فليتذكر هذا على إطلاقه وإجماله , وليجعله محل تذكر وتأمل وبحث لا موضع مناقشة ومراجعة معنا. *** (3) حديث (استنزهوا من البول) إلخ الحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: (استنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه) , والحاكم لم يروه بهذا اللفظ , وإنما روى عن أبي هريرة وابن عباس: (عامة عذاب القبر من البول) , وأما الدارقطني فرواه من حديث أنس بلفظ: (تنزهوا) إلخ , ومعناه الأمر بالاحتراز والتوقي من البول أن يصيب البدن أو الثوب , والتطهر منه إذا أصابهما أو أحدهما: ومعنى أصل المادة (ن ز هـ) البعد , فالمراد أن يبتعد المسلم من نجاسة البول ويتقيها. وأما حكمة كون عذاب القبر منه ومن النميمة كما في حديث الصحيحين في الرجلين اللذين وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجريدة على قبورهما؛ فهو من عالم الغيب الذي لا مجال للرأي فيه، ولم نقف على بيان له من الشارع. *** (4) جملة (وجودك ذنب) إلخ. هذه الجملة لا نعلم أن أحدا رواها حديثًا , وإنما المعروف أنها مصراع بيت من الشعر من غير كلمة (آخر) فإن كنتم اطلعتم على كتاب ذكر به أنها حديث؛ فأخبرونا بنصه في ذلك.

زكاة الفطر وقت وجوبها وحكم تعجيلها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ زكاة الفطر وقت وجوبها وحكم تعجيلها (س16و17) من فكلغان جاوه. إلى جناب السيد الأفخم محمد رشيد رضا أدام الله عزه , وجعله ذخرًا للإسلام والمسلمين , السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. بعد السلام التام وأفضل التحية والإكرام , بما أنكم منار الإسلام وقبلته الذي يرجع إليه المسلمون في جميع المشكلات العويصة؛ نتقدم إلى أيديكم البيضاء بهذه المسألة , ونرجوكم إفادتنا بالأدلة الواضحة؛ لأن هذه المسألة صارت موضع اختلاف الناس في هذه الديار ولكم منا مزيد الشكر وعاطر التحية والثناء وهي: (1) متى يجب إخراج زكاة الفطر؟ (2) وهل يجوز تعجيلها قبل العيد بيوم أو يومين أم لا؟ وإذا قلتم: إنه لا يجوز؛ فلماذا أجاز الباجري في شرحه ص (303) , وهل هو معتمد على حديث قوي أم لا؟ وإذا قلتم: إنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين؛ فهل تسمى صدقة أو زكاة؟ والسلام. ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن أحمد باشراحيل ... ... ... ... ... ... ... ... دفكلنغان جاوه (المنار) أما الجواب عن السؤال الأول , فجمهور الفقهاء المجتهدين وأتباعهم على أن زكاة الفطر تجب بوقت الفطر من آخر يوم من رمضان , ووقته غروب الشمس , واستدلوا على ذلك بتسميتها بزكاة الفطر في الأحاديث الصحيحة , ونازع بعضهم في هذا الاستدلال، وزعم بعضهم أن المراد بالفطر الفطرة أي الخلقة ويرده رواية (زكاة الفطر في رمضان) . وأما الجواب عن الثاني , فهو أنه يجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين عند جمهور الأئمة المجتهدين , وادعى بعضهم الإجماع عليه لضعف الشذوذ فيه، والأصل فيه ما رواه البخاري في صحيحه من أنهم كانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. وسبب ذلك أن الغرض من زكاة الفطرة إغناء الفقراء في يوم العيد عن السؤال , وهو يوم ضيافة الله لعباده المؤمنين. وكانوا يعطون الفقراء الحَبَّ في الغالب كالبر والشعير , فإذا أعطوه يوم العيد ولو وقت الفضيلة عند الجمهور , وهو ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد , فربما لا يتيسر لبعض الفقراء طحنه وخبزه والفطر منه. وفي هذه الحالة تسمى زكاة كما تسمى صدقة , باعتبار أن لفظ الصدقة يشمل المفروض والمندوب , وإنما ورد اختلاف التسمية في حال أدائها بعد صلاة العيد , ففي حديث ابن عباس قال: (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر للصائم طهرة من اللغو والرفث وطعمة للمساكين فمن أداها قبل الصلاة؛ فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة؛ فهي صدقة من الصدقات) . ورواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني والحاكم وصححه ووافقه الحافظ الذهبي بأنه على شرط الصحيحين. والجمهور على أن الأداء جائز في نهار العيد كله وهو خلاف هذا الحديث. والنبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بزكاة الفطر قبل صلاة العيد ويقسمها بعدها على المستحقين , والاحتياط أن يؤديها الإنسان قبل العيد بيوم أو يومين , كما كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه الشهير بالحرص على اتباع السنة. والخلاف في صحة هذا التعجيل لها أضعف من الخلاف في صحة أدائها بعد صلاة العيد من حيث الدليل , وجوز بعض الأئمة أداءها من أول رمضان وهو ينافي حكمة فرضيتها.

حظر أخذ العلم الشرعي من الكتب بدون توقيف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حظر أخذ العلم الشرعي من الكتب بدون توقيف (س18) من صاحب الإمضاء في الإسكندرية. حضرة الإمام العالم العامل الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا أمد الله في أجله , ونفع المسلمين بعلمه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد جاء في كتاب الإمام ابن حجر الموسوم بالفتاوى الحديثية صحيفة نمرة 20 من طبع مطبعة الجمالية ما يأتي: كل من أخذ العلم عن السطور كان ضالاًّ مضلاًّ؛ ولذا قال النووي رحمه الله: من رأى المسألة في عشرة كتب مثلاً لا يجوز له الإفتاء بها؛ لاحتمال أن تلك الكتب كلها ماشية على قول أو طريق ضعيف اهـ. فما رأيكم في ذلك؟ وإذًا فما فائدة الكتب الدينية والمجلات العلمية؟ ألا يجب بناء على ذلك أن نَدَعَهُمَا بطون المكاتب , حتى يتيسر لنا أخذها عن صدر عالم , أو ما معنى هذا الكلام؟ أفيدونا ولكم من الله الجزاء , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. محمد عثمان (ج) يعني الفقهاء أن علم الدين لا يوثق به إلا إذا أخذ بالتلقي عن أهله من العلماء الراسخين، وأن الجاهل إذا احتاج إلى العلم بمسألة فبحث عنها في بعض الكتب , وإن تعددت فأخذ بما رآه مدونًا فيها؛ يكون ضالاًّ بأخذه بها في نفسه، مضلاًّ في فتواه بها لغيره، إن لم يكن هو عالمًا يقدر أن يميز بين ما يراه في الكتب , فيعرف بالدليل صحيحه من غيره وحقه من باطله , لاحتمال أن يكون ما رآه قولاً ضعيفًا دليلاً أو مدلولاً. وأنا قد اختبرت بنفسي أفرادًا من الناس تعرض لهم المسألة , فيأخذون بعض الكتب ويراجعون فيها عنها في مظانها؛ فيجدون شيئًا لا يفهمونه حق الفهم؛ فيعملون به ويفتون ويحتجون ويجادلون، وهم لا يفهمون ما يقولون وما يكتبون، لضعفهم في العلوم التي يتوقف عليها فهم المسألة من عربية وشرعية، وقد انتقد بعضهم علينا بعض ما نشرناه في المنار , فنشرناه لهم على عادتنا وبينا لهم أنهم لم يفهموا النقول التي استدلوا بها على آرائهم كلها أو بعضها. ومنهم من ذكرنا في الرد عليهم بعض قواعد الأصول , فطعنوا في علم الأصول نفسه , واحتجوا على طعنهم بأنه مبتدع ما أنزله الله تعالى ومثله النحو والمعاني والبيان في ذلك , فتأمل وتدبر. هذا سبب ما كتبه الفقهاء , وهو لا ينافي الانتفاع بكثير من الكتب السهلة العبارة والمجلات وغيرها ومراجعة أهل العلم فيما يخفى على القارئ منها.

الصريح والكناية في الطلاق وكتاب الرجل بطلاق امرأته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصريح والكناية في الطلاق وكتاب الرجل بطلاق امرأته (س19و20) من صاحب الإمضاء في سمبس برنيو (جاوه) وهو من قضاة الشرع فيها. بسم الله الرحمن الرحيم حضرة مولاي الأستاذ العلامة المصلح السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي نفعني الله والمسلمين بوجوده. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني أرجو من فضلكم أن تفيدوني بالجواب عن الأسئلة الآتية وهي: (1) هل ورد في الكتاب أو السنة نص في تقسيم ألفاظ الطلاق إلى ما هو صريح وكناية فالأول لا يحتاج إلى، النية والثاني يحتاج إليها، أم هو من الأمور الاجتهادية؟ (2) ما قولكم في رجل كاتب معروف الخط أو الإمضاء كتب إلى زوجته أو إلى غيرها من أحد أقاربها يبين فيه أن طلقها بلفظ صريح كأن قال فيه: - (طلقت زوجتي ثلاثة) وقدمت الزوجة الكتاب إلى قاضي بلدها ليثبت الطلاق ويمكن لها أن تنكح زوجا غيره فهل يجوز للقاضي أن يعمل بمضمون ذلك الكتاب أو يجب عليه أن يسأل صاحبه الذي هو الزوج عن الطلاق الذي هو فيه - هل نواه أم لا؟ وهل تلفظ به بعد كنايته أم لا؟ أو حال الكتابة. لو قال قائل يجيب عن هذه الأسئلة كما قال في شرح الروض: كتب الطلاق ولو صريحًا كناية ولو من الأخرس فإن نوى به الطلاق وقع وإلا فلا.ا. هـ لقلت له سائلاً: أليست الكتابة تدل على القصد والإرادة فهي كاللفظ، ولم لا تعبر في الطلاق كاللفظ ولا يقع بها الطلاق إلا مع النية؟ على أننا لو نظرنا صحيحا إلى الكتابة لقلنا إنها أثبت من اللفظ فإنه يسهل على اللافظ إنكار لفظه ما لا يسهل على الكاتب إنكار كتابته فإنها باقية مخطوطة مقروءة فهل يتسامح في دين الله تعالى لمن كتب إلى زوجته كتاب الطلاق الصريح أن يقول: إنني كتبته بلا نية ولا قصد بل كتبته لأجل تمرين الكتابة فيقبل قوله بيمينه؟ أليس هذا تلاعبا بالدين؟ هذا والمرجو أن تبينوا لي ولقراء المنار وغيرهم أحكام الكتابة التي تتعلق بالأمور الدينية كالطلاق والوصية والهبة والشهادة وهي كشاهد كتب شهادته إلى الحاكم فهل يجوز له أن يعمل بكتاب شهادته بغير حضوره مجلس الحكم أم لا؟ وأسأل الله تعالى أن يجزيكم جزاء حسنا وفاقا. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران سمبس في 13 جمادى الآخرة 1345 (ج) أما الجواب عن الأول فهو أن تقسيم الطلاق إلى صريح وكناية من اصطلاح الفقهاء لا مما ثبت في نصوص الكتاب والسنة فهو يتعلق بمفهومات لغات المطلقين. وأما الجواب عن الثاني فهو أن الكتابة كالنطق في مفهوم الكلام كما هو بديهي، فإذا ثبت عند القاضي أن الخط خط الزوج المطلق حكم به. وقد قصر الفقهاء في أحكام الخط على ما كان من عناية كتاب الله تعالى بها وسننشر إن شاء الله تعالى فصلاً طويلاً في المسألة إجابة لاقتراحكم. ((يتبع بمقال تالٍ))

الطلاق الثلاث باللفظ الواحد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الطلاق الثلاث باللفظ الواحد (س21) من صاحب الإمضاء في (بوسعيد) نسألكم سيدي في رجل طلق زوجته ثلاثًا دفعة واحدة , يقع ثلاثًا أو واحدة؟ وهذا الأمر وقع عندنا , وأفتانا شخص بأن الطلاق يقع واحدة , ونسب الفتوى لشيخ الإسلام ابن تيمية , ولم يرنا الفتوى , وهو من أهل الطريقة لم أثق بكلامه؛ لأن أهل الطرائق إلى دين النصرانية أقرب , لمحبتهم أن يعظموا إلى الحد الذي لا ترخص الشريعة الإسلامية به حسب علمكم بهم سيدي، والآن مرادنا الإفادة منكم إن كان هذا حقًّا؛ فالحق أحق أن يتبع. ... ... ... ... ... ... من تلميذكم راجي عفو المنان ... ... ... ... ... سليمان بن علي بن سليمان البوسعيدي (ج) أصل المسألة خلافية , فجمهور العلماء على أن من طلق زوجه ثلاثًا بلفظ واحد؛ يقع عليه ثلاث طلقات , ولا تحل له بعد ذلك إلا إذا تزوجت بعد انقضاء عدتها زوجًا آخر ودخل بها وواقعها ثم مات عنها أو طلقها، وذهب آخرون إلى أنه لا يقع عليه في هذه الحالة إلا طلقة واحدة. وقد كان شيخ الإسلام يفتي بوقوع الواحدة , وكذلك تلميذه العلامة ابن القيم , وهذا الذي نعتقده ونختاره كما بيناه في تفسير الآية من سورة البقرة. وقد وضع بعض العلماء بمصر عدة مسائل بصفة مواد قانونية للعمل بها في المحاكم الشرعية , منها الحكم في الطلاق الثلاث باللفظ الواحد بطلقة واحدة رجعية , فاعترض عليه جمهور علماء الأزهر , وأقره بعضهم ودافع عنه. وقد ذكرتم أن علة عدم ثقتكم بالمخبر لكم بفتوى شيخ الإسلام من مشايخ الطريق بأنهم إلى دين النصرانية أقرب لحبهم الغلو في التعظيم إلخ , وهذا خطأ منكر بهذا الإطلاق والتعميم , فأهل الطرائق ليسوا أشد حبًّا للتعظيم من غيرهم من طبقات وجهاء الناس كالحكام والعلماء والأغنياء. نعم إن هذه الطرائق مشتملة على بدع كثيرة محرمة , وبعضها لا يخلو من الشرك الصريح , ولكن أتباعها متفاوتون في اتباع هذه البدع , فمن مقل ومكثر، ومنهم من يتقي الكذب , ولا سيما في الشرع كما يجب فإطلاقكم خطأ. ((يتبع بمقال تالٍ))

كيف تنهض اللغة العربية ـ 2

الكاتب: عبد السميع البطل

_ كيف تنهض اللغة العربية (2) (تتمة ما جاء في الجزء الماضي) فقه اللغة ومتنها: يضطر التلميذ كثيرًا إلى تصوير بعض الأشياء أو وضعها أو معرفة مرادفها أو ضدها؛ فيتعاصى عليه ذلك، ولا يجد في خزانة فكره ما ينفق منه، وهنا يظهر عجزه عن إبراز ما في نفسه، فيطوي صحيفته، ويكسر قلمه، ويتنفس الصعداء، أو يركب متن التعسف والركة، ويؤدي مراده على أية صورة تهيأت له , فلا يكاد يبين. ولو درس فقه اللغة؛ لتدفقت عليه الألفاظ تدفقًا، ولوجد من ثوبها الفضفاض خير حلة يجمل بها فكره، ويجلي ما في نفسه. ومع أهمية هذا العلم لا تسمع به في مدارسنا ولا تحس له وجودًا، وحسبك ذلك في جهل التلامذة وفقرهم المدقع في اللغة. وأما متن اللغة؛ فيكفي فيه ما يحفظه الطلبة في تضاعيف الكتب التي يدرسونها , والقطع التي يحفظونها مع الضبط ومعرفة المعنى الصحيح واشتقاقه، ولكي تكون الفائدة محققة؛ يحسن تجريد الألفاظ من الكتب وتدوينها في كراسات الطلبة لسهولة حفظها والرجوع إليها عند الحاجة. وهنا أنبه إلى شيء مهم جدًّا يجدر بالمعلم الالتفات إليه، وهو تعويد التلامذة مراجعة الكلمات , والكشف عليها في معاجم اللغة، فإن جلهم إن لم يكن كلهم يجهل ذلك. وأقول - والأسف شديد -: إن معاجمنا أصبحت بحاجة إلى تهذيب كبير، ولم تعد أداة صالحة مع بقائها على ما هي عليه بل أقول: إننا في أشد الحاجة إلى معجم عصري (وأريد أوسع معنى لكلمة عصري) . ولعل جماعة المؤتمر تفترض الوقت لبحث هذا الموضوع , وترغيب حكومة مصر في العمل لذلك بالمساعدة والتنشيط , فهي أحرى الحكومات بذلك لوجوه كثيرة لا محل لبسطها الآن. *** المطالعة هي إحدى الأركان الثلاثة المهمة في تكوين اللغة , أعني الإنشاء والمحفوظات والمطالعة، ويجب الإكثار منها مع الفهم والتطبيق، وإنما تفيد المطالعة حيث تكون كتبها منتقاة من أعلى الكلام وأبلغه ككلام الله ورسوله , وما دونهما من كلام الفصحاء في الجاهلية والإسلام، ولا أرى لذلك كتبًا تصلح من كل الوجوه، فينبغي وضع كتب لذلك يراعى فيها الشروط السابقة، وملاءمتها لحال الطلبة وأسنانهم. *** الإنشاء يكتب الطلبة ما يستطيعون كتابته في الموضوعات المختلفة، وتصحح كتابتهم بدقة وعناية، ويقفون على أخطائهم اللفظية والمعنوية والأسلوبية والتعابير العامية والمبتذلة والدخيلة، ويرشدون إلى مواضع الصواب فيها؟ , ويحسن بالأستاذ أن يقرئ بعض الطلبة موضوعاتهم ليوازن بين جدها ورديئها، ويشجع المجد بإظهار استحسانه، لتدب روح الغيرة في نفس المقصر؛ فيجتهد في اللحاق به، كما يحسن أن يقرأ التلميذ موضوعه غير مصحح؛ ليصلحه بإرشاده. ولا بأس أن يتخولهم بدرس عناصر الموضوع قبل الكتابة فيه بطريقة المحاورة والاستنباط. *** المحفوظات هي الركن الضخم في تكوين ملكة اللغة والبلاغة، وما نبغ خطيب أو شاعر، أو كاتب إلا بعد أن كان له من محفوظه مدد لا ينفد، وهؤلاء شعراء الجاهلية والإسلام قضوا عهد الثقافة والمرانة رواة ناقلين، قبل أن يكونوا شعراء مبرزين , وما قلناه في المطالعة من حيث الاختيار والفهم والتطبيق نقوله هنا، وأنفع المختار للحفظ وأولاه بالتقديم كلام الله ورسوله , فينبغي الإكثار منهما. *** العروض والقوافي لا أقول: إن درس هذا العلم يتوقف عليه قرض الشعر , فكثير من الشعراء المفلقين يجهلونه جهلاً تامًّا، وأكثر الذين يعرفونه يتعاصى عليهم معالجة النظم؛ لأن قرض الشعر ملكة تقوى بالعكوف على دواوين الشعراء وحفظ الكثير المتخير منها وفهمه، ثم تقليده ومعارضته، وتلك طريقة المتقدمين والمتأخرين , وحسبك بالبارودي رحمه الله مجدد الشعر في العصر الحديث , فقد كان فحلاً من فحول الشعراء دون أن يتعلم اصطلاحات العروض والقوافي , بله النحو والصرف والبلاغة. نعم إن هذا العلم يفيد من لم يكن شاعرًا بطبعه أن يقرأ ما يقرأ من الشعر صحيحًا سليمًا من الاضطراب، فيسهل عليه فهمه، ولا يعزب عنه مراد الشاعر، وقد يكون منشطًا له إلى معالجته , ثم التبريز فيه. لذلك يحسن وضع مختصر فيه؛ ليدرس على الطريقة التي رسمناها في القواعد كأن يقرأ الأستاذ البيت أمام الطلبة، ثم يبين لهم وزنه، ويسنده إلى بحره، ويرشدهم إلى ما فيه من زحاف أو علل، ويساعدهم بمعرفة الأسباب والأوتاد على طريقة الوزن، ثم يأتي بآخر من نوعه ويطالبهم بوزنه , وهلم جرًّا , حتى يثبت ذلك في أذهانهم. ولا بأس أن يطرح أمامهم بيتًا من الأبيات , ويطالبهم بمعارضته، أو يضع معنى من المعاني , ثم يطالبهم بالنظم فيه، فإن في ذلك تنشيطًا لأفهامهم، وشحذًا لقرائحهم، ومعينًا على قرض الشعر لمن عنده استعداد لقرضه. *** الكلمة الأخيرة هذه فكرتي في تعليم اللغة , أقدمها لجماعة العلماء المحتفلين بتكريم أمير الشعراء , وكلهم إمام في اللغة غيور عليها، وفيهم كبار رجال التعليم في وزارة معارفنا المصرية، وهم الذين يسند إليهم وضع نظم التعليم ومراقبة سيره في المدارس , ووضع التقارير الضافية له، بل هم أجدر الناس بلمس عيوب التعليم وتلافي ضررها، وقد أصبحوا الآن والحمد لله أحرارًا لا تسيطر عليهم رقابة أجنبية، ولا تغل أيديهم عن العمل قوة دنلوبية. ولعل هذه الكلمة الهادئة المتواضعة تتقبل بقبول حسن، فتكون نواة لأبحاث مستفيضة في هذا الباب، بل جذوة لإضرام ثورة أدبية تأتي على الأخضر واليابس من نظم التعليم العتيقة الرثة. والله يوفق من شاء لخير الأشياء , والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل ... ... ... ... ... ... ... مدرس الأدب بالمدارس الثانوية

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد ـ 3

الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي

_ مناظرة في مسألة القبور والمشاهد الرد على رسالة العالم الشيعي للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا (3) (المقام الحادي عشر) قولكم: ويشهد لما قلناه نفس الحديث النبوي (لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجدًا) , فإنه نهى عن اتخاذ قبره قبلة يتوجه إليه المصلي , ولا يستقبل القبلة , ونهى عن اتخاذ قبره موضعًا للسجود عليه , فإن الله لعن اليهود حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، قلتم: ومن المعلوم أنه ليس لليهود مساجد بالمعنى المعروف عند المسلمين , فالمقصود إذًا أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد مواضع يسجدون عليها [1] أقول: لا شك أن الحديث دال على ما ذكرتم , وهو النهي عن التوجه إلى القبر والسجود عليه , ولكن معناه غير منحصر فيما ذكرتم؛ لأن من تحرى السجود عند قبر النبي أو الصالح , فإنما يفعل ذلك تبركًا وتعظيمًا , وذلك هو المعنى الذي وقع النهي لأجله؛ لأنه ذريعة للشرك، فالسجود على القبر وعنده سواء ما دام المعنى المحذور موجودًا، وهنالك قرائن كثيرة لفظية ومعنوية تدل على ما ذكرت , فإن أبيتم إلا الوقوف مع ظاهر اللفظ , ففي غيره من الأحاديث التي تدل على تحريم تحري السجود عند قبور الصالحين كفاية , وقد تقدم ما فيه الغنية منها , وربما يأتي زيادة على ذلك. (وقولكم) : (من المعلوم أنه ليس لليهود مساجد بالمعنى المعروف عند المسلمين) [2] إن أردتم أن المتقدمين والمتأخرين منهم في مشارق الأرض ومغاربها ليس لهم معابد عند قبور أنبيائهم؛ فذلك ممنوع , والعلم به مستحيل , وعدم العلم بالشيء ليس علمًا بعدمه. وكيف ينفَى عن اليهود ذلك , وقد أخبر به الصادق المصدوق , وذكرت له أم سلمة كنيسة رأتها في أرض الحبشة وذكرت له ما رأت فيها من الصور , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح؛ بنوا على قبره مسجدًا , وصوروا فيه تلك الصور , أولئك شرار الخلق عند الله) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الكنيسة مسجدًا؛ لأنها بمعناه , لأن المسجد محل عبادة الله من ذكر وصلاة ودعاء , وكذلك الكنيسة عند النصارى. وروى مسلم عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا , وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد , ألا فلا تتخذوا القبور مساجد) , والمراد بالحديثين واحد , وهو النهي عن الصلاة عند القبر وجعله محلاًّ للعبادة , وبناء المسجد عليه. وخص قبور الأنبياء والصالحين بالذكر؛ لأن الفتنة إنما وقعت للأولين والآخرين بها. واتخاذ قبور الصالحين محالَّ للعبادة هو أعظم باب للإشراك بالله , وما قرت عين إبليس بفتح باب مثله - نسأل الله تعالى العافية - ويظهر من حديث عائشة أن الكنيسة التي ذكرتها أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت على قبر صالح تبركًا به , وصوروا فيه الصور؛ لأن الصور التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وصوروا فيه تلك الصور) هي التي رأتها أم سلمة، وهي كانت في كنيسة , فسماها النبي صلى الله عليه وسلم مسجدًا، والكنيسة لا يمكن أن تكون مبنية فوق القبر فقط , فلا بد أنها كانت حوله أو بقربه , وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من بنوها شرار الخلق , ونهانا عن ذلك في حديث جندب وغيره , فوضح أن المعنى المقصود بأحاديث الباب كلها هو النهي عن تحري العبادة عند قبور الصالحين والسجود على القبور نفسها , وإن كان اللفظ شاملاً له. وقد فهم البخاري , وهو من أدق الناس فهمًا وأورعهم وأبعدهم من تحريف النصوص , ومن التعصب للمذاهب أن من ضربت قبة على قبر زوجها استمتاعًا بقربه وتعليلاً للنفس وتخيلاً باستصحاب المألوف من الأنس، ومكابرة للحس، يشملها نص اتخاذ القبور مساجد؛ لأنها لا بد أن تصلي مدة إقامتها في تلك الخيمة , وكانت سنة مع أنها لم تضرب عليه القبة لأجل الصلاة عنده , والتبرك به؛ لأن هذه البدعة لم تكن موجودة في ذلك الزمان , وإنما قصدت الاستئناس بقربه , وكانت قبتها من شعر أو نحوه لا من مدر، فسمعت هاتفًا فهمت من كلامه أن فعلها مكروه عند الله، ولما كان كلام ذلك الهاتف مطابقًا للدليل؛ أورده البخاري في الباب , ولم يورده على أنه دليل يحتج به؛ لأن الأحكام لا تثبت بمثله , فكيف بمن يبني قبة من مدر مزخرفة على القبر يقصدها الناس من كل صوب للدعاء والصلاة عندها , وذلك هو معنى بناء المساجد عليها واتخاذها أعيادًا , وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك أشد النهي , ولعن فاعله , وأخبر أنه من شرار الخلق عند الله؟ وشرار الخلق عند الله هم الكفار , وذلك يقتضي كفر من يتخذون القبور مساجد , ويؤيده ما رواه أحمد بن حنبل عن علي عليه السلام من حديث كسر الأوثان وتسوية القبور ولطخ الصور فإنه قال في آخره: يا رسول الله لم أدع بها وثنًا إلا كسرته , ولا قبرًا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عاد إلى صنيعة شيء من هذا؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) .ا. هـ وهو صريح في أن من بنى بناء على قبر؛ كفر بذلك , ولا إشكال فيه؛ لأنه لا يبني على القبر إلا من غلا في صاحبه , وذلك باب الشرك كما تقدم , والحديث يدل على أنهم كانوا يجعلون التماثيل في القبور , ويبنونها تعظيمًا لأهلها؛ فخاف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته الشرك؛ فنهاهم عن اتخاذ القبور مساجد , ولو كان السجود فيها لله وحده لأنها مظنة الشرك وبابه , لأن المصلي عند القبور يخشع في صلاته لأهلها , ويكون قلبه مع الله تارة ومع أصحاب القبور أخرى , ولا يزال الغلو يزداد في الجهلة , ويستدرجهم الشيطان حتى ينسوا الله , ويخلصوا التوجه لصاحب القبر، وهذا أمر واقع معلوم يقينًا عند كل من خالط القبوريين، ومن كان مبتلى بعبادة القبور , ثم تاب منها يقر على نفسه بذلك , فلا معنى لتجاهله وهو وشمس الضحى صحوًا سواء. وما أكثر ذلك في هؤلاء الذين ينتسبون إلى السنة , وهم من أبعد الناس عنها وأشدهم عداوة لها. اللهم إلا أن تكون سنة الشيطان الليطان، استذلهم وأغواهم، وأضلهم وأرداهم، فنعوذ بالله من حال أهل النار. (المقام الثاني عشر) نقلتم عن فتح الباري أنه قال عند لفظ: (لأبرز قبره) أي لكشف عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم , ولم يتخذ عليه الحائل [3] , واقتصرتم على هذا الكلام من شرح الحديث , وحذفتم قوله بعده: والمراد الدفن خارج بيته، وهذا الكلام قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي , ولهذا لما وسع المسجد؛ جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر انتهى كلامه , وحذفكم لبقية كلامه أخل بالمعنى وأبهمه , لأن من رأى ما نقلتم , ولم يطلع على بقية كلامه يظن أن الحائل المذكور هو الذي جعل على القبر بعد إدخاله في المسجد , فيكون المعنى: ولولا ذلك أي خشية اتخاذ الناس قبر النبي مسجدًا؛ لأبرز قبره , أي كشف ولم يتخذ عليه حائل بعدما دخل في المسجد , وليس كذلك , بل مراد الحافظ ولولا ذلك لأبرز قبره - أي - كشف عنه بأن يدفن خارج البيت ولا يتخذ عليه حائل , وهو الحجرة التي كانت تسكنها عائشة , هذا معنى كلامه ولعل لكم عذرًا في حذف ما حذفتم لم نطلع عليه. (المقام الثالث عشر) قولكم بعد نقل كلام الحافظ: فهل يوجد أصرح من ذلك؟ ولا شك أن السجود على نفس القبر لا يجوز. [4] أقول: إنما يستقيم ما أردتموه لو كان الحائل المذكور في كلام الحافظ هو الجدران الثلاثة المتخذة على القبر بعد إدخال الحجرة في المسجد , كما أوهمه إسقاطكم ذيل كلام الفتح , أما وقد تبين أن المراد بالحائل إنما هو حجرة عائشة , فالمخشي منه أولاً هو السجود عند القبر تبركًا وتعظيمًا , والسجود على القبر نفسه تابع له , ولذلك دفن النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة مسكونة , فكان قبره محجوبًا عن الناس لا يسهل الوصول إليه , ولا سيما للعامة الذين يخشى عليهم أن يصلوا عند القبر ويفتنوا به لجهلهم , فحصر المعنى في السجود على القبر نفسه دون ما حوله لا تدل عليه أحاديث الباب , ولا كلام الحافظ , وسأنقل من كلام الحافظ ما لا يبقى معه شك في أن صاحب الفتح فهم من أحاديث الباب النهي عن الصلاة عند القبر كما فهمه سائر الأئمة , لكن بعض المتأخرين التبس عليهم الأمر؛ لأنهم نشئوا في أوطان غلبت البدع على أهلها حتى ألفوها وصارت دينًا يدان به لما ماتت السنن وعفت معالمها. ومن أولئك البيضاوي فإنه لم يفهم معنى الحديث؛ فتناقض في كلامه أقبح تناقض، إذا جوز بناء المسجد عند قبر الصالح تبركًا به إذا أمن التعظيم , أولا يدري أن التبرك هو العظيم أو هو ملازم له؟ فلا يبني أحد قبة أو مسجدًا على قبر للتبرك به إلا وقصده تعظيم صاحب القبر. والشارع صلى الله عليه وسلم سد هذا الباب البتة؛ فنهى أشد النهي عن الصلاة عند القبور واتخاذ المساجد عندها , ولعن فاعل ذلك , وأخبر أنه من شرار الخلق عند الله , ولم يفرق في ذلك بين من قصد التعظيم لأهل القبور أو التبرك بهم , فكيف يسوغ للبيضاوي أو غيره أن يفتح هذا الباب الجهنمي الذي سده النبي صلى الله عليه وسلم بالتأويل والتحريف؟ فعسى أن يكون قد التبس عليه الأمر، قال الحافظ في الفتح عند قول البخاري: (باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وما يكره من الصلاة في القبور) قوله: وما يكره من الصلاة في القبور , يتناول ما إذا وقعت الصلاة على القبر أو بين القبرين. وقال الحافظ أيضًا في آخر شرحه حديث عائشة في الباب المذكور: وفيه كراهية الصلاة سواء كانت بجنب القبر أو عليه أو إليه. وقال: (في ص141 ج1 بعد ما تقدم بقليل: قوله - أي البخاري -: باب كراهية الصلاة في المقابر , استنبط من قوله - يعني النبي صلى الله عليه وسلم -: (ولا تتخذوها - أي بيوتكم - قبورًا) أن القبور ليست بمحل للعبادة؛ فتكون الصلاة فيها مكروهة , ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود والترمذي مرفوعًا (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) . وقد اتضح مما نقلته من كلام صاحب الفتح أنه لا يفهم من كلامه أن النهي خاص بالسجود فوق القبر فقط كما ذكرتم قائلين: إنه لا يوجد أصرح من كلامه في رده. (المقام الرابع عشر) قولكم: وتوجد أيضًا معان ثلاثة غير المعنى الذي قررناه، إلا أنه لا يمكن تفسير الأحاديث بواحد منها أحدها: أن يراد النهي عن وصل المساجد بموضع القبور، وهذا التأول خطأ فاحش؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد وصل بموضع قبره في زمن الصحابة والتابعين , فكيف يدعي أن ذلك منهي عنه , وقد رضي به الصحابة والتابعون وسائر المسلمين؟ [5] . (أقول) : قولكم: لا يمكن تفسير الأحاديث بواحد منها , ممنوع لما تقدم وما يأتي إن شاء الله. قولكم: أحدها أن يراد النهي عن وصل المساجد , إلى قولكم: وهذا التأول خطأ فاحش (أقول) : من نظر في أحاديث الباب متجردًا من العصبية وله أدنى نصيب من معرفة لغة العرب؛ يعلم يقينًا أن الأحاديث ناطقة ومصرحة أتم تصريح بالنهي عن وصل المساجد بالقبور , والنصوص في ذلك واضحة كشمس الضحى لا تحتاج إلى تفسير ولا تأويل، تفسيرها قراءتها عند من يعرف لغة العرب، وليس له في العصبية من أرب , ولم لا يمكن تفسير الأحاديث بذلك؟ , ولم صار تأولاً وهو نص جلي؟ ولم صار خطأ فاحشًا؟ , قلتم: لأن

دعاية المسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعاية المسيحية القاديانية الملقبة بالأحمدية كتب إلى جريدة البلاغ البيروتية مراسل من مدينة لاهور في بلاد الهند فصلاً مسهبًا سماه (عقائد الجماعة الأحمدية في الهند) قسم فيه الفرقة إلى اثنتين: فرقة (قاديان) وهي التي بنت الجامع الذي في لندن، وفرقة (لاهور) عاصمة حكومة البنجاب وهي التي بنت جامع برلين. وإننا ننشر ما جاء في البلاغ عن هذا المكاتب , ونعلق عليه بتحذير المسلمين من هذه الدعاية التي تنشرها جرائدهم السياسية غير عليمة بما وراءها من الجناية على الإسلام , وهذا نصه بأغلاطه العربية لم تصحح منها إلا آيات القرآن: الفرقة الأحمدية في لاهور هي تحت رئاسة مولانا الأمير محمد علي مترجم القرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية، وهي اعتقاد عامة المسلمين، لا تختلف عنهم إلا ببعض نظريات كوفاة سيدنا عيسى، والناسخ والمنسوخ في القرآن، وقد قامت هذه الفرقة بتضحيات عظيمة في الهند وأوربا في سبيل نشر الإسلام، وافترقت عن الأحمديين القاديانيين منذ وفاة السيد أحمد مؤسس تلك الفرقة، وقد كان إسلام اللورد هدلي على يد فرقة الأحمدية؛ لأن خوجه كمال الدين معين مبشرًا في إنكلترا من قبل الأمير محمد علي. هذه كلمة يقول عنها المراسل إنها توطئة لرسائله التي سيوافي بها البلاغ، وإننا ننشر منذ اليوم أولى هذه الرسائل، قال: إن تبليغ الأحمدية هو تبليغ الإسلام الروحاني [1] , ومقصدها تطهيره من العناصر الأخرى , وتغلبه في هذه الدنيا. كان المؤسس لهذه الدعوى هو مرزا غلام أحمد قادياني مجدد القرن الرابع عشر حسب وعود النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها، ورجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء) [*] ، وقد قام هذا الشخص بدعوى مجدد ومحدث. وبعد وفاته أقام لحفظ وإشاعة الإسلام (مجلس شورى خدام الإسلام) الذي مركزه في لاهور (الهند) . وعقائد هذه الجماعة هي مثل عقائد أهل السنة التي تطابق القرآن والحديث، ولكن بإمعان النظر؛ فإن أفكار هذه الجماعة مبنية على المعنى الصحيح من القرآن والحديث وهي: 1- تعليم القرآن والحديث: إن حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وبعده لا يأتي نبي، وجاء في الحديث أيضًا: (لا نبي بعدي) , وعقائد الجماعة الأحمدية في لاهور هي مطابقة لهذا الحديث , على أنه لا يأتي نبي إن كان قديمًا أو جديدًا بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن مجيء أحد الأنبياء قديمًا أو جديدًا قد تكون بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ختمت، ومن غير الإيمان بالنبي الآتي لا يحصل أحد على النجاة، وعلى ذلك؛ فإن أفراد هذه الجماعة يفهمون بأن من خلاف المسلمات مجيء عيسى بن مريم الذي كان رسولاً إلى بني إسرائيل في الأمة المحمدية , ومنه على حسب الآيات القرآنية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) ، {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) , وغير ذلك من الآيات الكريمة التي تبرهن على وفاته، ولهذا أيضًا ممنوع مجيء نبي جديد؛ لأن الأنبياء من لدن الله عز وجل يأتون إلى الناس إما ببعض الهدايات أو الشرائع، ولأن القرآن أتى بدين مكمل كما هو دعواه {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) , ولهذا ممنوع للمستقبل مجيء إحدى الهدايات والشرائع الجديدة، ومن هذا الوجه؛ فإن مجيء أحد الأنبياء الآن هو لغو ولهج في الألسن فقط , وهي بعيدة عن شأن الله تعالى، من هذه الدلائل؛ فإن هذه الجماعة مصدقة بأن النبوة المحمدية ووحي القرآن كافيان إلى يوم القيامة , ولا ضرورة لنبي جديد أو قديم إلى يوم القيامة [2] . 2- إن ألفاظ القرآن كلها واجبة العمل وليس فيها ناسخ ومنسوخ؛ لأن دعواه {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) , ومعنى التصديق في مسألة ناسخ ومنسوخ في الآيات القرآنية هو وجود الاختلاف فيها؛ لذلك فإن هذه الجماعات لا توافق على مسألة الناسخ والمنسوخ في القرآن , بل هم يفهمون بواجب العمل على جملة أحكام القرآن طبقًا لحالات الزمان وضروراته. 3- معنى الإسلام هو مذهب الصلح والسلامة؛ لذلك فإن هذه الجماعة يفهمون بأنه لا يجوز أي نوع من أنواع التشدد والجبر في الإسلام؛ لأن حكم القرآن {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256) , وحضرة النبي الكريم وصحابته لم يستعملوا السيف ولا الجبر قط في تبليغ الدين الإسلامي , والقرآن أمرنا بالجهاد لأجل الدفاع فقط {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (البقرة: 190) , والإسلام انتشر بقوته الروحانية , وسينتشر كذلك في المستقبل إن شاء الله , وثبوته موجود في هذا الزمان , فالجماعة القليلة لمجدد هذا القرن , قد فازوا في إدخال الألوف من طبقة الأدباء والفضلاء في أوربا وأمريكا في الدين الإسلامي، ونعلم علم اليقين أنه إذا كان عقلاء المسلمين وعلماؤهم يقومون مع هذه الجماعة باتحاد العمل في هذا الشغل الصالح، ويعضدوا قوتها؛ فتفوز بسرعة بغلبة الإسلام الروحانية على جميع الدنيا , وتدخل الطبقة العاقلة المخالفة للإسلام في الدين الإسلامي , ومتى زاد عدد المعاونين في هذا العمل؛ يرتفع كثير من المشكلات السياسية عن المسلمين. 4- هذه الجماعة لا تأخذ حصة في التبليغ السياسي في أي مملكة كانت، وفي أي بلاد مختلفة تشتغل فيها بالتبليغ، فعضوها المبلغ يحترم قوانين تلك البلاد. 5- هذه الجماعة تعتقد بأن جميع الناس الذين يؤمنون بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله من قلب خالص هم مسلمون، وتفهم بأن تكفير أحد أصحاب كلمة الشهادة هو مناف لاتحاد المسلمين , واعتقاد هذه الجماعة بأن جميع المؤمنين إخوة , ويفهمون بأن معاونة جميع المسلمين من أي فرقة كانوا هي ضرورية؛ لأن الجماعة التي تريد أن تَرْقَى , وتظهر في الدنيا تعليم الله ورسوله , فهي لا تقدر أن تفهم بأن إخوانها الناطقين بالكلمة هم خارجون عن الإسلام. 6- إن أفراد هذه الجماعة يحترمون جميع الأنبياء والصحابة والأئمة والمجددين , وليست طريقتهم بأن يهينوا أحد مشايخ الأمة , وعلى هذه الصورة أيضًا يعززون كبار المذاهب الأخرى , وعلى موجب التعليم الإسلامي لا يذمون أحدًا منهم. إن الخدمات الإسلامية التي قامت بها هذه الجماعة المختصرة في ظرف مدة قليلة هي على حسب ما يأتي , ندرجها ههنا؛ ليشترك المسلمون معنا في العمل في هذا التبليغ والعمل الصالح , وليس مرادنا من درجها أن نحرز الفخر؛ لأن هذه الجماعة إنما تعمل لخدمة الإسلام خدمة خالصة , وليس لأجل الفخر وهذه هي: 1- التبشير بالإسلام في الممالك الأخرى. أ - أقيم على صرف الألوف من الدراهم مركز للتبشير في محلة (وكنج) في إنكلترا، حيث تصدر هناك مجلة مصورة بالإنكليزية؛ لأجل تبليغ الإسلام , ومنها يوزع عدد كبير مجانًا لغير المسلمين , وعلاوة على ذلك , ينشر كثير من الكتب الإسلامية المفيدة باللغة الإنكليزية هناك. ب - ثم إن هذه الجماعة لإعلاء كلمة الإسلام بنوا مسجدًا في برلين عاصمة ألمانيا , وصرفوا على تعميره نحو 150 ألف روبية , وأيضًا تصدر مجلة باللغة الألمانية؛ لأجل تبليغ الإسلام , وكثيرًا من الكتب الإسلامية المفيدة انتشرت باللغة الألمانية. ج- ثم إن حركة التبليغ الإسلامي جارية في جزيرة (جاوا) التابعة لحكومة هولاندا , وكثير من الكتب الإسلامية قد انتشرت لسكان هذه الجزيرة باللغة الملائية ولغة هولاندا حاكمة البلاد , وقد يترجم الآن القرآن باللغة الملائية. د- والتبليغ الإسلامي يجري في أوروبا وأمريكا وإفريقيا وآسيا والجزائر المختلفة بواسطة الخط والكتابة وإرسال الكتب الإسلامية مجانًا، ويعطَى إلى جميع المكتبات الكبرى في العالم كثير من المجلات والكتب مجانًا بدون ثمن. 2- التبليغ في داخل بلاد الهند: أ- إن التبليغ الإسلامي جار في الأماكن التي لا يوجد فيها مسلمون , وقد دخل إلى الآن ألوف من الناس في الدين الإسلامي. ب- ويجري استعداد المبلغين الواقفين على العلوم الدينية والعلوم العصرية؛ لأجل دعوة المجوس والمشركين والمذاهب الأخرى إلى الإسلام , ثم إن كثيرين من طلبة (البلاد) الأخرى يحصلون العلم في مدرسة " إشاعة الإسلام " بحيث يمكنهم القيام بالتبليغ الإسلامي في بلادهم بعد فراغهم من تحصيل العلوم. 3- سلسة التصانيف: أ - لكي يمد المبلغون الإسلام؛ تنتشر كثير من الكتب الإسلامية باللغة العربية والتركية والإنكليزية والفرنسوية والألمانية والإيطالية وغير ذلك من اللغات الأخرى. ب - طبعت ترجمة القرآن باللغة الإنكليزية والهندية , وأرسل منها الألوف إلى جميع أنحاء العالم؛ فحازت القبول [3] , والآن يترجم إلى اللغة الصينية والملائية وفي بعض اللغات الأوربية، وفي هذه السنة وزعت 500 نسخة من القرآن باللغة الإنكليزية على جميع مكتبات الدنيا المشهورة مجانًا. ج - أرسلت أيضًا ترجمة السيرة النبوية باللغة الإنكليزية إلى جميع المكتبات مجانًا، وترجمتها باللغة الألمانية والإيطالية تحت التصنيف. - تنشر جريدة (لايت) الإنكليزية في كل خمسة عشر يومًا مرة، وتوزع تقريبًا خمسمائة نسخة منها مجانًا على المكتبات وعلى بعض الإخوان من المسلمين وغير المسلمين، وتعطَى القيمة إلى تلامذة المدارس والفقراء. 4- وسائل الدخول: أ - لسد هذه النفقات الكثيرة كلها؛ يعطي كل فرد من هذه الجماعة حسب اقتداره إلى (بيت المال القومي) المبلغ المعين له شهريًّا , وعلاوة على ذلك فإن دراهم زكاة وصدقة هذه الجماعة أيضًا تجمع في (بيت المال) , ثم تصرف على الشعبات المختلفة بواسطة إدارة منظمة، وأما جماعات المسلمين الأخرى فالقليل منهم الذين قاموا بمد يد المساعدة لإشاعة الإسلام. 5- الواردات الداخلة والخارجة في السنة الماضية: بلغ مجموع الواردات في السنة الماضية للجماعة الأحمدية في لاهور 934، 189 روبية , صرفت على الأشياء الآتية: أ - شراء اللوازم العامة لجميع الدوائر (بيت الضيوف) , وإشاعة الكتب والمجلات مجانًا , وللواعظين ومدرسة إشاعة الإسلام , ومساعدة المساكين واليتامى المكتبة والأملاك غير المنقولة، متفرقة 31723 روبية. ب - تبليغ الهند 5412 روببة. ج - تبليغ البلاد الأخرى 30360 روبية. د - الصحافة 12527 روبية. هـ - نفقة تثقيف المتوحشين 3880 روبية. و تصنيف وتأليف - 24924 روبية. ز - تعليم المدارس 35534 روبية. ط - تعمير المحلة الأحمدية - 83 روبية. ثم إن الخدمات التي أتت بها هذه الجماعة المتحدة للإسلام والمسلمين لا ينكرها أحد من عقلاء المسلمين، فنظامها قابل التقليد للمسلمين , فإذا كانت جماعة متحدة صغيرة أتت بهذه الأعمال العظيمة، فكيف لو كانت القوة المتحدة للمسلمين مع هذه الجماعة؟ لا شك إذ ذاك تكون للإسلام قوة شديدة وكبيرة جدًّا، ولخدمة الإسلام يلزم على إخواننا المسلمين أن يشتركوا معنا في هذا العمل الجليل. ومما تجب الإشارة إليه أن تبليغ الجماعة الأحمدية في لاهور (البنجاب) ليس لها تعلق مع الجماعة التي تدعي بأن مرزا أحمد قادياني هو نبي حقيقي ورسول ويكفر جميع المسلمين. وقد أعلنت جماعتنا بأنها بريئة من هذه العقائد؛ لأن هذه العقائد اخترعت بعد وفاة المجدد والمؤسس لهذه الحركة , وهو بريء من هذا الافتراء , وا

بول الصبي وبول الصبية حكمهما في الفقه، تركيبهما الكيميائي، الأحاديث التي وردت فيهما

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي

_ بول الصبي وبول الصبية حكمهما في الفقه، تركيبهما الكيميائي الأحاديث التي وردت فيهما (1) اتفق العلماء على أن ما تزول به النجاسة أمور ثلاثة: الغسل والمسح والنضح [*] . والنضح هو الرش، وقد اختلف الفقهاء في الاكتفاء به في طهارة بول الصبي وبول الصبية على ثلاثة أقوال: (الأول) أنه خاص بإزالة بول الصبي , ولا يكفي في إزالة بول الصبية , بل لا بد في إزالة بولها من غسله , ولا يكفي فيه الرش , وهو مذهب الشافعي في المشهور عنه. (الثاني) أنه لا يكفي فيهما , بل لا بد فيهما من الغسل , وإلى هذا ذهب مالك، وعنده أن الغسل طهارة ما تيقنت نجاسته والنضح طهارة ما شك فيه. وقد أخذ في هذا بحديث أنس المشهور حين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته , فقال: (فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما يبس , فنضحته بالماء) . (الثالث) أنه يكفي فيهما , وهو مذهب الأوزاعي وحكي عن مالك والشافعي , وحجتهم في ذلك قياس الأنثى على الذكر الذي وردت أحاديث النضح فيه. وإنا إذا رجعنا إلى العلم الحديث؛ نجد أنه لا يفرق بين تركيب بول الصبي وبول الصبية , بل لا يفرق في ذلك بين بول الذكور وبول الإناث على العموم. ومن الواجب أن نرجع إليه في ذلك , وأن نأخذ فيه رأيه , ولا نعتمد على رأي بعض الفقهاء الذين يفرقون بين تركيب بول الصبي وبول الصبية , مع أنهم ليسوا من علماء الكيمياء الذين يعرفون تركيب المواد والأجزاء التي تتألف منها. يقول البيجوري في حاشيته على ابن قاسم: إن بول الصبي أرق من بول الصبية [1] , والائتلاف بحمله أكثر من الائتلاف بحملها؛ فخفف فيه دونها. وأضاف إلى هذا أن أصل خلقه من ماء وطين , وأصل خلقها من لحم ودم , فإن حواء خلقت من ضلع آدم , وأن بلوغ الصبي بمائع طاهر وهو المني , وبلوغها بذلك وبمائع نجس وهو الحيض. ولا شك أن البيجوري لم يحلل بول الصبي وبول الصبية حتى يكون حكمه بأن بولها أرق من بوله ناشئًا عن بحث علمي؛ فيقبل منه، فضعف حكمه في هذا ليس بأقل من ضعف حكمه بأن الائتلاف بحمل الصبي أكثر من الائتلاف بحمل الصبية. وكذا حكمه بأن أصل خلقه من ماء وطين وبلوغه بمائع طاهر بخلافها فيهما , فما لهذا والاكتفاء بالنضح في بوله دونها؟ . ولو كان لنا أن نحكم في تركيب بول الصبي وبول الصبية بظاهر الرأي كما فعل البيجوري؛ لقلنا بأن بول الصبية أرق من بول الصبي؛ لأن الأنثى أرق من الذكر جسمًا , فلماذا لا تكون أرق منه بولاً [2] ؟ ولكن الواجب تحكيم العلم في هذا , وعدم الأخذ بظاهر الرأي فيه. *** (2) رجعنا إلى بعض الأطباء؛ فأمكننا أن نحصل منه على هذه الأمور: (1) أهم أجزاء البول هي: البولينا وحمض البوليك وكلور الصوديوم والسولفات والفوسفات وأكسيدات الجير والصودا. (2) إن هذه الأجزاء توجد في بول الذكور والإناث بكميات متساوية , ولا فرق في ذلك بين الكبار والصغار من النوعين. (3) تختلف النسبة بين أجزاء البول باختلاف السن وباختلاف الأغذية وكيفية هضمها. فمن يتغذى بالألبان كالأطفال؛ تقل في بوله كمية البولينا وحمض البوليك , وهما اللذان يكسبان البول الرائحة الكريهة الخاصة به. ولعل هذا هو السر الذي يهدينا إليه العلم الحديث في تفريق الشارع بين بول الأطفال الرضع وغيرهم في الاكتفاء في طهارته بالنضح؛ لأنه لا يوجد فيه من الرائحة الكريهة بسبب هذا ما يستوجب الاعتماد في طهارته على الغسل , وكذلك الأطفال لسلامتهم من الأمراض المعدية كالبلهارسيا وغيرها؛ يكون بولهم خاليًا من جراثيم تلك الأمراض , فلا يخاف منه كما يخاف من بول غيرهم , ولذا لم يشدد الشارع في طهارته , واكتفى فيها بالنضح , وشدد في طهارة غيره , وأوجب فيها الغسل الذي يزول به ضرره , وتتقى عدواه. فانظر كيف استفدنا من الرجوع إلى العلم في هذا الحكم , وكيف وقفنا على هذه الأسرار الجليلة التي تدل على فضل الشريعة الغراء. وما كنا لنصل إليها؛ لو فعلنا كما فعل البيجوري , ووقفنا عند ظاهر الرأي، ولم نسبر أغوار العلم. *** (3) ورد في هذا الباب أحاديث - أولها - عن أم قيس بنت محصن أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبال على ثوبه فدعا بماء، فنضحه عليه ولم يغسله. ثانيها - عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بول الغلام الرضيع ينضح , وبول الجارية يغسل) . ثالثها - عن أبي السمح خادم رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يغسل من بول الجارية , ويرش من بول الغلام) . رابعها - عن أم كرز الخزاعية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بول الغلام ينضح وبول الجارية يغسل) . خامسها - عن أم الفضل لبابة بنت الحارث قالت: بال الحسين في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت، يا رسول الله، أعطني ثوبك، والبس ثوبا غيره حتى أغسله , فقال: (إنما ينضح من بول الذكر , ويغسل من بول الأنثى) . ومثل الحديث الأول لا يوجد فيه ما يمنع قياس الأنثى على الذكر؛ وفقًا للمذهب الذي رجحناه , وقلنا: إنه الذي يوجد في العلم الحديث ما يؤيده , ولكن الكلام في الأحاديث الباقية الناطقة بالفرق بين الأنثى والذكر في النضح , التي قال فيها الشوكاني: إنه لم يعارضها شيء يوجب الاشتغال به. وقد يكفيني في التخلص منها أن العترة والحنفية وسائر الكوفيين والمالكية لم يروا العمل بها جملة , وآثروا عليها قياس بول الصبي على سائر الأبوال , فأوجبوا الغسل فيه مثلها. وإذا صح لهم إيثار هذا القياس عليها , وعدم العمل بها جملة؛ فإنه ليصح من باب أولى أن نؤثر قياس الجارية على الغلام على ما جاء منها بالتفرقة بينهما. ففي هذا إعمال لها في الجملة بخلاف ذاك , ولكنا نحب أن نبدي فيها رأيًا حديثًا , بعد أن نلاحظ عليها إجمالاً أنها لم ترد في صحيحي البخاري ومسلم , وقد قال ابن حجر في فتح الباري: (إنها لم تستوف شرط البخاري فيما يورده في صحيحه من الأحاديث) . وقد يكفيني عدم إيراد البخاري لها في صحيحه لهذا الذي يذكره ابن حجر في التخلص منها أيضًا , فهو يرى أنها ليست من القوة بحيث تقضي بالفرق بين بول الصبي وبول الصبية في ذلك الحكم , ولو كانت تكفي عنده في ذلك لذكرها في صحيحه , لتكون حجة في ذلك , كما ذكر أحاديث بول الصبي؛ لتكون حجة في الاكتفاء في طهارته بالنضح. وكذلك نلاحظ مع هذا أنها ليست إلا أحاديث آحاد , والحنفية يقدمون عليها القياس؛ لأنه من الأصول المعلومة المقطوع بها من الشرع , وخبر الواحد مظنون. وهذا يسوغ لنا أيضًا أن نقدم قياس بول الجارية على بول الصبي على تلك الأحاديث السابقة , التي هي أحاديث آحاد , ومع هذا فيها ما سنورده عليك. حديث علي: رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد والترمذي , أما ابن ماجه ففي سنده إلى علي رضي الله عنه معاذ بن هاشم وأبوه هشام وقتادة بن دعامة. ومعاذ بن هشام قال عنه ابن معين: إنه صدوق وليس بحجة , وقال الحميدي بمكة لما قدم معاذ بن هشام: لا تسمعوا لهذا القدري , وقال النسائي: حدثنا إسحاق بن إبراهيم , حدثنا معاذ بن هشام , حدثني أبي , عن قتادة , عن أبي نضرة , عن عمران بن حصين أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يجعل لهم شيئًا. ومن يروي مثل هذا؛ لا يصح أن يحتج بحديثه. وأبوه هشام أحد الأثبات إلا أنه رُمي بالقدر , وقيل رجع عنه. وقتادة بن دعامة حافظ ثقة ثبت؛ لكنه مدلس , ورمي بالقدر , ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح , وأما أبو داود , فروى هذا الحديث موقوفًا على علي رضي الله عنه من غير طريق معاذ وأبيه هشام , ورواه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم , ومن طريقهما عن قتادة , وقد عرفت ما في الثلاثة , وأما أحمد فرواه عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن هشام عن قتادة أيضًا , وقد عرفت ما فيهما. حديث أم الفضل: رواه ابن ماجه وأبو داود وأحمد , أما ابن ماجه وأبو داود , ففي سندهما إليها سماك بن حرب وقابوس بن أبي المخارق , وسماك قال سفيان: إنه ضعيف , وقال جناد المكتب: كنا نأتي سماكًا؛ فنسأله عن الشعر , ويأتيه أصحاب الحديث , فيقبل علينا , ويقول: سلوا فإن هؤلاء ثقلاء. وقابوس لم يحدث عنه سوى سماك، وقال النسائي: ليس به بأس , وكلنا يعرف معنى هذه الكلمة (ليس به بأس) . وأما أحمد , ففي بعض طرق سنده إليها سماك وقابوس هذان , وفي بعضها حماد بن سلمة وعطاء الخراساني , وحماد ممن تحايده البخاري , واحتج به مسلم. وعطاء ذكره البخاري في الضعفاء، وقال: لم أعرف لمالك رجلاً يروي عنه , يستحق أن يترك حديثه غير عطاء الخراساني , وفي بعضها عفان بن مسلم , وقد قال سليمان بن حرب: إنه كان رديء الحفظ بطيء الفهم. وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري: حدثنا عفان , حدثنا حماد بن سلمة , عن ثابت، عن أنس مرفوعًا (أعطي يوسف وأمه شطر الحسن) يعني سارة , ورواه الناس عن حماد موقوفًا , وقال أبو عمرو الحرضي: رأيت شعبة أقام عفان من مجلسه مرارًا من كثرة ما يكرر عليه. حديث أبي السمح: رواه ابن ماجه وأبو داود والنسائي , وفي طريق الثلاثة إليه يحيى بن الوليد , قال النسائي: ليس به بأس , ومع هذا فمن هو أبو السمح خادم رسول الله؟ قال أبو زرعة: (لا أعرف اسم أبي السمح هذا , ولا أعرف له غير هذا الحديث) . حديث أم كرز: رواه الطبراني وغيره، وفي إسناده انقطاع؛ لأنه من طريق عمرو بن شعيب عنها، وهو لم يدركها، وقد اختلف على عمرو بن شعيب، فقيل: عنه عن أبيه عن جده كما رواه الطبراني. البيهقي وأحاديث هذا الباب: وبعد ففي هذا الباب أحاديث مرفوعة وموقوفة , وهي كما قال البيهقي: إذا ضم بعضها إلى بعض قويت , ويكفينا هذا في الحكم على هذه الأحاديث بأنها لا قوة لها إلا في اجتماعها , ومعنى هذا أنه لا قوة لها في ذاتها. وإذا كان هذا حالها؛ فالواجب تقديم القياس السابق عليها , والتخفيف في بول الجارية مثل الغلام , فالائتلاف بحملها مثل الائتلاف بحمله , وقد ذم الله في كتابه العزيز من لا يأتلف بالبنات ويسود وجهه إذا بشر بأنثى , فكيف يفرق بينهما في ذلك وهو يؤدي إلى قلة الائتلاف بالبنات؟ وكيف يذم الشيء ويشرع ما يؤدي إليه , وهو أحكم الشارعين. ... ... ... ... ... ... ... عبد المتعال الصعيدي ... ... ... ... ... ... ... المدرس بالجامع الأحمدي (المنار) ما ذكره الأستاذ الكاتب من نقد أحاديث المسألة وطرق الاستدلال , فيه نظر من وجوه لا حاجة إلى بسطها , وأهم ما نحب أن لا يعود إليه إعلال الحديث بترك تخريج البخاري له في جامعه , فإن شرطه فيه معلوم , انفرد به دون سائر علماء الملة , فهو على كونه احتياطًا في التصحيح , لا يقتضي ترك العمل بما لا ينطبق عليه لا عنده ولا عند غيره بالأولى , فمتى صح الحديث؛ وجب العمل به بالإجماع ما لم يعارضه ما هو أقوى منه دلالة على خلافه. والحافظ ابن حجر صحح حديث علي المرفوع , ولم يعد الموقوف علة قادحة فيه، ونقل عن ابن خزيمة تصحيح حديثي لبابة وأبي السمح وأقره , فهو لم يذكر أن هذه الأحاديث ليست على شرط البخاري إلا لبيان سبب عدم تخريجها في جامعه , لا للتخلص منها كما تخلص الكاتب منها بعدم عمل العترة (الزيدية) والحنفية وغيرهم بها، فأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على كل مسلم , ولا حجة لأحد عليها. وأما ترجيح القياس على خبر الواحد , فليس على إطلاقه كما قال , فليراجعه في كتب الأصول.

الاحتفال الخمسيني لدار العلوم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال الخمسيني لدار العلوم احتفلت مدرسة دار العلوم في مساء الجمعة ثاني المحرم بمرور خمسين عامًا على تأسيسها، فحضر احتفالها كبار رجال الحكومة والعلم وشيوخ البرلمان ونوابه، وكان في مقدمتهم الرئيس الجليل المرحوم سعد باشا زغلول، فافتتح الجلسة الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش رئيس لجنة الاحتفال بخطاب وجيز مفيد، بين فيه حال المتعلمين قبل إنشاء هذه المدرسة، ووجه الحاجة إلى إنشائها، وقيام المرحوم علي باشا مبارك بذلك. وتلاه الخطباء والشعراء من كبار أساتذة المدرسة وبعض طلابها، وكانت خطبة الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار من أنفع تلك الخطب، جامعة بين تاريخ تأسيس المدرسة والأطوار التي مرت فيها، وبين الفكاهات الأدبية، ومنها نبذ من إنشاء الكتاب قبل ظهور ثمرات هذه المدرسة، ونوَّه بالإصلاح الأول الذي قام به الأستاذ الإمام للُّغَةِ والإنشاء , بمساعدة صحبه الذين كانوا أعوانه في تحرير جريدة الوقائع الرسمية في عهد رياسته للمطبوعات , ومنها الرئيس الجليل. وإننا ننشر من تلك القصائد الغر قصيدة شاعر البداوة في الحضارة (الشيخ محمد عبد المطلب) لا لانفرادها بالبلاغة , فالقصائد كلها غر , وناهيك بشعر الجارم والهراوي الشهيرين؛ ولكن هذه القصيدة امتازت بالرد على خصومنا الملاحدة الذين يريدون إفساد ديننا ولغاتنا علينا , بشبهة التجديد الذي يزعمونه , وما هو إلا تجديد الزندقة والإباحة المطلقة. وقد سرنا أنه لما كان يتلو تلك الأبيات العامرة في الرد عليهم؛ كان الجماهير يصفقون له تصفيقا شديدًا متواترًا , لا محرك له إلا تصفيق قلوبهم قبله. وكان في مقدمة المصفقين المرحوم سعد باشا , وهذا نص القصيدة: لي في ظلالك مسرح ومقيل ... روض أغن ومنزل مأهول ومعاهد نشر الحياة بها الحيا ... فالعيش أخضر والنعيم ظليل سر الجمال جمال مصر إذا سرت ... ريح الشمال بها وعب النيل بلد جريت إلى المنى في ظله ... سبحًا على اللذات وهي شكول أرد المرابع والمصايف سادرًا ... أختال بين ظلالها وأجول لي في الصعيد إذا شتوت منازل ... فيها سراة العالمين نزول بهرت مصانعها الزمان ولم تزل ... للعقل فيها حيرة وذهول جلست على الآباد في جبرية ... يقف البلى من دونها فيحول مشتى الملوك مراد أرباب النهى ... هذا يحل بها وذاك يزول وإذا تربع أسل نجد بالغضا ... أوقاظ منهم بالشريف قبيل فبغور وادي النيل كل منضر ... للعيش فيه غرة وحجول فيح إذا نهض القريض لوصفها ... يحلو القريض بوصفها ويطول أمرابعي والعمر فينان الهوي ... ومراد لهوي والصبا معسول بالرمل منها منزل أشتاقه ... إن شاق صنوي حومل ودخول يزهي ظباء النيل روح رياضه ... ونسيم ذاك البحر وهو عليل أهوي إليه على البخار إذا سرت ... بالمنجدين هوادج وحمول كالطيف يختلس الظلام إذا سرى ... لمحًا وطرف النجم عنه كليل وإذا بكى الأثلات يحيى شاقه ... مغنى جفاه بقرقرى ومقيل غنيت نشوان القريض يهزني ... سدر بريف جهينة ونخيل أو غردت ورقاء رامة هزها ... حي هناك بذي الأراك حلول فبجانب الفسطاط من غربيه ... وُرْقٌ لها بالمنيلين هديل حيث القصور الشم تزهو حولها ... غلب الحدائق والنسيم عليل والنيل في ثوب المخيلة بينها ... يسطو على جنباتها ويصول متبهنسًا بين الرياض كما حبا ... ليث العرين دجا عليه الغيل يا نيل أنت ثراء مصر وغيثها ... والأرض قفر والبلاد محول بك يرتوي الوادي إذا جف الثرى ... ويبل من صادي الفؤاد غليل وعلى يمينك بالمنيرة حلة ... للعلم فيها جمة وحفيل راقت بها دار العلوم موارداً ... تُرْوَى بهن بصائر وعقول أُمٌّ لنا في المنجبات مهادها ... دعم لمجد بلادها وأصول أم إذا درج الوليد بحجرها ... فالدين يرعى والبيان يعول لله در شبيبة كفلتهم ... أم لنا في الأمهات بتول أخذت علينا منذ أيام الصبا ... عهد الكريم وعهدها مسئول يا أم عندك في القلوب موثق ... صدق الوفاء بحبله موصول الدين عهدك والمكارم بيننا ... والعلم والآداب والتنزيل علمتنا أن الحنيفة ملة ... لا نَهْجُهَا وعر ولا مجهول تهدي إلى سبل الرشاد إذا هوى ... المفتون بالإلحاد والتضليل رفعت منار الحق لا يعيا به ... عقل ولا ينجاب عنه دليل إلا الذين تبوءوا وخم الهوى ... فالنهج أعمى والمناخ وبيل نزعوا إلى دنس الإباحة فانجلى ... للناس ذاك المنزع المرذول مازوا الجديد من القديم وما دروا ... أن الجديد من القديم سليل جلبات إفك في مهالك فتنة ... هوجاء كيد غواتها تضليل دعوى وما ضربوا لنا مثلاً بها ... يجري عليه من القياس مثيل وإذا الدعاوى لم تقم بدليلها ... في العقل فهي على السفاه دليل إن كان ما زعموا قديمًا ديننا ... فليأت منهم بالجديد رسول أو عَلَّه لغة السماء؟ وإنها ال ... قرآن والتوراة والإنجيل أو ذلك الأدب الذي شهدت له ... في كل شعب بالجمال عدول زخرت به أم اللغات ولم تزل ... بعلاه تفترع اللغى وتطول وسيعلمون إذا الحقيقة أعرضت ... أن الضلالة جندها مخذول وترى الجديد يصيح في حجراتهم ... يا قوم عن تلك المهالك زولوا ما في القديم معابة إن لم يكن ... فيه عن السنن السوي عدول وذر الجديد إذا رأيت سبيله ... عوجًا عن الحق المبين تميل واسلك سبيلك غير ذي عوج ترد ... شرع الحياة وصفوها مكفول يا أم كم من شرعة لك في الهدى ... لا وردها رنق ولا مملول وهديتنا سبل العلوم قواصدًا ... فالغور نجد والحزون سهول دان القريض لنا فأما روضه ... فجنى وأما صعبه فذلول ولنا إذا شئنا جزالة جرول ... وإذا نرق فتوبة وجميل ولربما ملك النديّ خطيبنا ... والجمع يبهر والمقام يهول وإذا كتاب الله عب عبابه ... قسمت إليه قراوح وفحول فهناك منا من إذا شاء انبرى ... فدنا المدى وتبين التأويل يا أم كم لك من يد في شكرها ... يعيا المقال ويعجز التفصيل أحييت أحياء الجزيرة من نمى ... قحطان من ولد وإسماعيل فبكل فصل منك مظهر أمة ... من أهلها وبكل يوم جيل ولو استدار بك الزمان لأصبحت ... لك في عكاظ من البيان فضول لم تقصري عن أهلها في خير ما ... صنعوا ولم يردد عليك مقول أو عاد للزوراء عهد بيننا ... هارون يسمع والوفود تقول لشأوت فرسان القريض إلى المدى ... لم يعدك الترتيب والترتيل هذا مجالك في البلاغة فاسلكي ... ما شئت نهجك في البيان ذلول وارعي تلادك أن يحيط به البلى ... فيحول أو ينتابه التبديل لغة الكتاب وديعة الأحقاب ميراث ... إلى الأعقاب عنك يَئُول من لم يحط بقديمها لم يعتقد ... علمًا بمجد الشرق وهو أثيل وخذي المعاني في جمال جديدها ... ما شئت لا حجر ولا تخذيل وتبختري في الابتداع فإنه ... دين أتى بكتابه جبريل يا أم إن ملأ القريض بحاره ... فجرى سريع واستطال طويل وتساجلت في المرسلات يراعها ... فانهل مندفق وفاض سجيل لم يبلغوا معشار حقك مدحة ... فليقصروا إن المرام جليل أو ما جريت إلى العلى لم تقصري ... عن غاية والسابقات قليل خمسين عامًا أو تزيد قضيتها ... والعزم لا واه ولا مفلول دأبًا على الإخلاص بين حوادث ... للدهر تخترم القوى وتغول طورًا ينازعها البقاء معوق ... هو للمعارف والعلوم خذول وتصيبها غول السياسة تارة ... بيد الهوان وللسياسة غول خصمان مختلفا الهوى فإلى الهدى ... هذي وذاك إلى الضلال يميل لولا دفاع الله عن أنصاره ... راحت بها في الذاهبات سبيل فمضت مضاء البحر ليس يعوقه ... وعر ولا يعمى عليه مسيل تأبى معاتبة الزمان شعارها ... صبر يعوذ به الكريم جميل لم يعنها عرض الحياة وإنه ... ظل وإن طال المدى سيزول ما لي وأيامًا مضين غواشمًا ... والدهر ألوى والليالي حول دار الزمان بمصر دورة مقبل ... فالليل أقمر والرياح قبول وامتد بالدستور ظل سريرها ... يرعاه ظل الله وهو ظليل (بقي 12 بيتًا في مدح الملك والدستور والبرلمان ورجاله ورئيسه ضاقت عنها الصحيفة) .

حل أموال أهل الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حل أموال أهل الحرب (س 22) من صحاب الإمضاء في (بيتزرغ - جاوه) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده ما قول السيد البار بالمسلمين، والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين، في فتوى بعض العلماء بحل أموال أهل الحرب , فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها , مما كان برضاهم وعقودهم فهو حل لنا مهما يكن أصله , حتى الربا الصريح؟ ! أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله , والتعدي على الحدود التي لم يستثن منها اضطرارًا ولا عذرًا لفاعل؟ كالشرك والكفر بغير إكراه والقتل عمدًا وفي القصاص (كذا) والسرقة والربا ونحو ذلك، لا كالخمر والميتة والدم ونحوها للمضطر , وتأجيل بعض العبادات لعذر , كما بينه الشارع مع بقاء الحرمة والحكم والقضاء والكفارة إلا في الخطأ والنسيان , عدا ما استثناه منهما كما هو الحق المنصوص به في كتاب الله المؤيد بالتواتر , والحق المهيمن بالإجماع والتواطؤ! ! أفتونا بما أمر الله به أن يوصل , واصدعوا بما أراكم الله , والله يتولى الصالحين، والعاقبة للمتقين، لا معقب لأمره وحكمه , وهو أحكم الحاكمين. ... ... ... ... ... مدير جريدة الوفاق ببيتنزرغ - جاوا ... ... ... ... ... ... محمد بن محمد سعيد الفته (ج) أصل الشريعة الإسلامية أن أموال أهل الحرب مباحة لمن غلب عليها وأحرزها بأي صفة كان الإحراز , إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة , فقالوا: إن المسلم لا يكون خائنًا في حال من الأحوال , فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيًّا على مال؛ وجب عليه حفظ الأمانة , وحرمت عليه الخيانة، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة؛ أفلا يكون حله أولى إذا أخذه المسلم برضاه , ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين والخاضعين لحكمهم من غيرهم؟ إنه لم يظهر لي أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة - وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب جميعًا - على مال الحربيين المباح في أصل الشريعة، إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في علة الحكم لا بضده. هذا وإن الربا الذي حرمه الله تعالى في دار الإسلام , وكذا في دار الحرب بين المسلمين إن وجدوا فيها هو نوع من أنواع أكل المال المحترم بالباطل، وأخذ المال من صاحبه برضاه واختياره ليس من أكله بالباطل، والمضطر إلى أخذ المال بالربا؛ لا يعطي الزيادة برضاه واختياره , والشرع لم يجعل له حقًّا بأخذها , فكانت حرامًا لأنها من قبيل الغصب على كونها بدون مقابل، ولذلك عللت في نص القرآن بأنها ظلم إذ قال تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) , وظلم الحربي غير محرم؛ لأنه جزاء على ظلمه، فإنه لا يكون إلا أشد ظلمًا من المسلم، لأنه يخون , والمسلم لا يخون، ولأن المسلم يمنعه دينه من أعمال في الحرب , ومع أهل الحرب لا يمنع الكافر دينه منها كقتل غير المقاتلين، والتمثيل بالقتلى وغير ذلك مما هو معروف في الإسلام، ونرى غير المسلمين يرتكبونه حتى في البلاد التي جعلوها تحت حكمهم , لا المحاربة لهم فقط، والمسلمون يساوون غيرهم ممن يدخل تحت حكمهم بأنفسهم. على أن المسلم في دار الإسلام يجوز له أن يقضي دائنه دينه بأفضل مما أخذ منه , إذا كان بمحض اختياره , وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم من كان اقترض منه بعيرًا بسن فوق سن بعيره كما في الصحيحين، ولو كان ذلك مشروطًا؛ لكان ربا، قال أبو هريرة - كما في البخاري -: إن رجلاً تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأغلظ له , فهم به أصحابه , فقال: (دعوه , فإن لصاحب الحق مقالاً , واشتروا له بعيرًا , فأعطوه إياه) فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه، فقال: (اشتروا؛ فأعطوه إياه , فإن خيركم أحسنكم قضاء) . وما رواه الحارث عن علي (كل قرض جر منفعة فهو ربا) , فسنده ضعيف , بل قالوا: إنه ساقط , فإن راويه سوار بن مصعب متروك يروي المنكرات، بل اتهم برواية الموضوعات. لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله , لما فهمنا قوله فيه: إن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى , فقد كتب إلينا أن بعض المستمسكين بحبل الدين في جاوه , قد استنكروا الفتوى المسؤول عنها؛ لأنهم فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي كالزنا واللواط والقتل وغير ذلك فيها أو مطلقًا. وهذا سوء فهم منهم , فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقًا كما تقدم. ولا يخفى على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ المال بغير حق , فهل يقيسون إذًا إباحة قتل المحارب على إباحة قتل المسالم من مسلم وذمي ومعاهد؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها: عدم إقامة الحدود فيها. ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام فهل يدعون أن الله تعالى يأمره بأن يدفع لأهلها كل ما يوجبه عليه قانون حكومتها من مال الربا وغيره - ولا مندوحة له عن ذلك - ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم؟ أعني هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون على الغرم من حيث يكون لغيره الغنم، أي يوجب عليه أن يكون مظلومًا مغبونًا. إن تحريم الربا من الأحكام المعقولة المعنى لا من التعبديات , وما حرم الله تعالى شيئًا إلا لضرره على عباده الخاضعين لشرعه، وقد علل تحريم الربا في نص القرآن؛ بأنه ظلم من حيث إنه استغلال لضرورة الفقير الذي لا يجد قوته أو ضرورته إلا بالاقتراض. والقرآن إنما حرم الربا الذي كان معهودًا بين الناس في الجاهلية , وهو الربا المضاعف كما تراه في تفسير ابن جرير وغيره من كتب التفسير المأثور , ومنه قول ابن زيد (زيد أحد علماء الصحابة الأعلام , وابنه من رواة التفسير المأثور) : (إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن: يكون للرجل على الرجل فضل دين , فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: تقضيني أو تزيدني؟ فإذا كان عنده شيء يقضيه؛ قضى , وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض (أي في السنة الثانية) يجعلها ابنة لبون (أي في السنة الثالثة) , ثم حقة (أي ابنة السنة الرابعة) , ثم جذعة (في الخامسة) , ثم رباعيًا (وهو ما ألقي رباعيته , ويكون في السنة السادسة) , ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (أي الذهب والفضة) يأتيه , فإن لم يكن عنده؛ أضعفه في العام القابل , فإن لم يكن عنده؛ أضعفه أيضًا، فتكون مائة , فيجعلها إلى قابل مائتين , فإن لم يكن عنده؛ جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه) . اهـ من تفسير آية آل عمران. وضرر هذا عظيم , وهو قسوة تحرمها الآن جميع القوانين، ثم أوجب القرآن على التائب منه أخذ رأس المال فقط. وذكر ابن حجر المكي في الزواجر أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور , وهو الذي يسمى في عرف المحدثين بربا النسيئة , وفيه ورد حديث: (لا ربا إلا في النسيئة) رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد مرفوعًا، ورواه مسلم عن ابن عباس عنه بلفظ: (إنما الربا في النسيئة) , وفي لفظٍ: (ألا إنما الربا في النسيئة) , وما صح من النهي عن ربا الفضل في الحديث؛ فلسد الذريعة كما نص عليه المحققون. وإننا قد فصلنا القول في مسألة الربا في التفسير وغيره من قبل , فلا نعود إليها هنا , وإنما غرضنا بيان أن تلك الفتوى ليس فيها خطر على التوحيد , ولا تقتضي تحليل شيء من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها؛ فلا يعملن بها.

المراد بالطعن في الدين ـ وكون مخالفة القرآن كفرا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المراد بالطعن في الدين وكون مخالفة القرآن كفرًا (س 23و24) لصاحب الإمضاء في دمشق الشام , بنصه على غلطه في عبارته. لجناب الفاضل صاحب مجلة المنار الأستاذ رشيد رضا المحترم. قد وصلني جزء المنار الخامس , فقرأت فيه قرار النيابة العامة عن كتاب الدكتور طه حسين , وما علقه المنار عليه , وإذ لم أتيسر للحصول على نسخة من الكتاب المذكور , حيث منعته الحكومة؛ لم أقرأ منه إلا ما طبعته جريدة الميزان في دمشق , ولكني مع ذلك سأوجه لكم الكلمات التالية فيها سؤالان , أرجو إجابتكم إياهما في المنار. ولربما تتعجبون من ذلك كما تعجبتم مرة من قبل عند ما سألتكم بعض الأسئلة , فجاوبتم عليها في المنار، ولا بد أن سبب تعجبكم هو الفكر الغارس فيكم أنه من واجبات المبشر المسيحي أن يطعن في الإسلام، ولكني أتأمل أن المستقبل سيزيل هذا الفكر عنكم وعن بقية المسلمين , فيدرك الجميع أن المسيحي لا يبشر بالمسيح بين المسلمين إلا لاعتقاده بوجود بشارة في ديانته المسيحية ليس لها وجود في الإسلام , ولا يمكن وجودها فيه , مع كل ما يحتويه القرآن من الأوامر والنواهي المفيدة , حيث يرفض الاعتقاد بموت المسيح على الصليب , وقيامته من بين الأموات. وذلك ليس فقط اعتقاد بولس كما يقال , ولكنه يظهر بكل وضوح من سفر أعمال الرسل، ومن رسائل بطرس ويوحنا أن موت المسيح وقيامته هما محور تعليم الرسل، فأساس الديانة المسيحية منذ الأول، ولكن ليس قصدي هنا أن أطيل الكلام في هذا الموضوع؛ بل أتقدم إلى السؤالين الناتجين عن قراءتي جزء المنار الخامس. وأولهما: ما هو معني الطعن في الدين؟ إنه ليس من أمري , ولا من مقدرتي أن أحكم فيما إذا كانت استنتاجات الدكتور طه حسين ثابتة أم لا علميًّا، ولكنه - بحسب ما يفهم من كتابه - وصل إليها عن مبادئه العلمية , دون غاية أخرى , فهل يجوز تسميتها طعنًا في الدين؟ أليس معنى الطعن نوعًا من الاستهزاء والاحتقار؟ أما إذا كان طعنًا كل ما يقال عن ديانة خلاف عقائدها؛ فكيف نتجنب عنه في بلاد يسكنها المسلم بجانب المسيحي واليهودي , وكل منهم لا يعتقد بعقائد الآخر , بل يرفضها؟ أفيكون كل ما يقولونه عن دين بعضهم لبعض طعنًا , وهم يتكلمون به عن ضمير صالح وإن كانت أدلتهم غير مقبولة وغير مسلم بها عند الخصم؟ أما الطعن إذا كان بمعنى الاستهزاء والاحتقار؛ فيمكن التجنب عنه؛ بل هو واجب. وسؤالي الثاني هو هذا: إذا وصل مسلم في أبحاثه العلمية إلى نتيجة تخالف شيئًا من تعاليم القرآن أو من العقائد الإسلامية , فهل يحسب لذلك كافرًا أو طاعنًا في الدين , ولو كان لم يزل يعتبر نفسه مسلمًا في الأمور الدينية والأدبية؟ وهذا السؤال يهمني جدًّا جوابه؛ لأنني بصفتي مبشرًا مسيحيًا , لا أريد أن أقول عن مبادئ الإسلام , ولا أن أفتكر عنها غير ما هو مُسَلَّم به من أهله، ولا يبعد عني الفكر أن المسلمين المتنورين بعد مدة وجيزة سيغيرون اعتقادهم في القرآن , فيميزون فيه بين الأمور الدينية والأدبية من جهة , وبين الأمور التاريخية والعلمية من جهة أخرى، كما صار أيضًا بين المسيحيين؛ لأن كثيرين من المسيحيين اليوم يختلفون عن مسيحيي القرن الثامن عشر في أفكارهم عن عصمة الكتاب المقدس , مع أنهم لم يزالوا يشاركونهم بالإيمان بالمسيح كمخلص العالم , والوسيط الوحيد بين الله والناس. ويوجد بعض الدلائل لحدوث تغيير كهذا في العالم الإسلامي , كالذي يعمله الأتراك اليوم , أو كالذي نجده في بعض المجلات الإسلامية العصرية كمجلة Revue Islamic حيث يقال في العدد الأخير إن قصة آدم لربما مجازية , ولا واقعة تاريخية. قد باحثت في هذه الأمور بعض المسلمين الأتقياء المتفكرين من الذين لا يرفضون البحث مع مبشر مسيحي , ولكني للتخلص من المشاكل العلمية في القرآن لم أجد عندهم غير فكر التأويل؛ لأنهم لا يريدون أن يسلموا بوجود غلطة واحدة في القرآن من أي نوع كان، وإلى الآن لم أجد أحدًا يعرف بإمكان بقاء المسلم مسلمًا تقيًّا إذا أوصلته دروسه العلمية إلى نتيجة تخالف نص القرآن , كمسألة وجود إبراهيم أو عدم وجوده التاريخي. قد يكون للمنار أسباب أخرى لتسمية الدكتور طه حسين بكافر , ولكن سؤالي هو هذا فقط: إذا قال عالم مسلم بعد دروس علمية بعدم وجود إبراهيم التاريخي , فهل بطل إسلامه؟ أم بصورة أخرى: هل يجب على المسلم أن يعتبر كل ما يقال في القرآن من الأمور التاريخية والطبيعية أساسًا متينًا , لا يجوز له أن يخالفه بشيء؟ ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... القسيس ألفريد نيلسن الدانيمركي (المنار) ما ذكرتم في مقدمة السؤال من توقع تعجبي من سؤالكم؛ فخطأ، وما قلتم في الدفاع عن المبشرين , وتبرئتهم من الطعن في الإسلام , فقد طعن فيه بعضهم بالمعنى الذي به فسرتم الطعن، وكذلك قولكم: إن المسيحي لا يبشر بالمسيح بين المسلمين إلا لاعتقاده.... فقد عرفنا من بعض المبشرين أنهم كانوا مستأجرين للتبشير , فلما وجدوا رزقًا من طريق آخر؛ تركوه البتة، وقولكم فيها: إن كتاب أعمال الرسل ورسائل بطرس ويوحنا تثبت موت المسيح وقيامته , لا يقوم حجة على المسلمين؛ لعدم ثبوت هذه الرسائل عندهم , وأنتم لا يمكنكم إثباتها بالتواتر إلى مؤلفيها , كما علم مما كتبه علماء أوربة المحققون في تاريخها. أما الجواب عن السؤال الأول وهو: ما معنى الطعن في الدين؟ فهو أن الطعن في أصل اللغة قد وضع لمعناه الحسي المعروف وهو الطعن بالرمح أو الحربة ثم أطلق على الذم والهجو والتكذيب والتحقير القولي الذي يؤذي المطعون فيه إيذاء نفسيًّا , كما يؤذيه الطعن بالرمح أو الحربة إيذاء بدنيًّا، وما كتبه طه حسين في كتابه المذكور قد آذى المسلمين وآلمهم , فصدق عليه أنه طعن في دينهم. فالمسألة من المسائل التي تعرف بالبداهة، وأما إذا نقل أحد من النصارى أو المسلمين أو اليهود نصوصًا من كتب الآخرين مع الأدب في العبارة , وبحث في أدلتها، وقال: إنها لم تصح عنده أو عند أهل ملته , وإن ما يعارضها عنده هو الذي يعتقدون صحته , فإن هذا لا يعده أحد طعنًا، ومنه ما كتبه السائل في مقدمة سؤاله هذا , وما رددناه به , فهو ليس طاعنًا في الإسلام بتلك العبارة , ولا نحن طاعنون في النصرانية بردها. وأما الجواب عن الثاني , فهو أن من يعتقد اعتقادًا مخالفًا لنص القرآن القطعي الدلالة عالمًا غير متأول , بحيث يعتقد أن خبر القرآن غير حق؛ فلا شك أنه لا يعد من جماعة المسلمين. فمن أنكر وجود آدم أو إبراهيم وإسماعيل؛ فهو كافر لأنه مكذب لكلام الله تعالى، لا من تأول قصة آدم في معصيته وتوبته وسجود الملائكة له إلا إبليس , وما ورد في شأن إبليس من التخاطب مع الرب عز وجل , فقال: إن كل خطاب فيها تكويني لا تكليفي , وإنها تمثيل لسنن الله تعالى في النشأة الآدمية البشرية، فمن يقول بهذا (وقد قال به بعض علماء المسلمين كما تراه في تفسيرنا) ؛ لا يعد مكذبًا للقرآن كمنكر وجود آدم وإبراهيم وإسماعيل بشبهة عدم ثبوت وجودهم بدليل علمي , فإنه ليس من شأن قواعد العلم العقلي أو الطبيعي إثبات وجود زيد وعمرو , أو نفيه كما سيأتي. وهذا الذي صدر عن مصطفى كمال باشا ورجال حزبه من الترك كفر محض , وارتداد عن الإسلام , لا شبهة فيه , وهم يقصدون به هذا الارتداد بغضًا في الإسلام وعداوة له، وأما السواد الأعظم من الشعب التركي , فلا يزالون على دين الإسلام وتقاليده كما عرفوها , وهم يتربصون الدوائر بهؤلاء الذين يجبرونهم على الكفر بقوة الشعب ومال الشعب وجند الشعب. وأما ما ارتأيته أن المسلمين المتنورين سيغيرون اعتقادهم في القرآن بعد مدة وجيزة , فيميزون بين الأمور الدينية والأدبية من جهة، وبين الأمور التاريخية والعلمية من جهة أخرى، فيجعلونه معصومًا في الأولى دون الثانية , كما فعل النصارى؛ فهو بعيد , وإنما قربه إلى ذهنك قياس الإسلام على النصرانية , وقياس القرآن على العهدين القديم والجديد، والفرق بين الأمرين مثل الصبح ظاهر، وفرضك إمكان قيام أدلة علمية تنفي وجود إبراهيم عليه السلام غير معقول؛ لأن هذا النفي ليس مما يثبت بالعلم. فإن وجود إبراهيم وإسماعيل متواتر عند الإسرائيليين وعند العرب , وإن نازعنا منازع في التواتر التاريخي المتصل , وفي الأنساب المتسلسلة به المثبتة له علميًّا , فلا يمكن الإتيان بدليل ينفي وجوده علميًّا؛ لأن نفي وجود شيء في القرون الخالية لا يمكن إلا إذا كان وجوده محالاً عقلاً، ووجود رجل اسمه إبراهيم غير محال عقلاً، وقد جاء خبر الوحي مؤيدًا لخبر البشر المشهور أو المتواتر , وهو أقوى منه متى ثبتت صحة الوحي , وهي ثابتة عند أهلها , فإذًا لا يمكنهم الجمع بين التصديق بالوحي , وإنكار وجود إبراهيم. نعم قد يوجد شبهات تاريخية قوية تعارض إثبات وجود رجل مشهور خبره غير متواتر , أو تُعارِض دعوى تواتره , كقول بعض من أنكر وجود المسيح عليه السلام: إن يوسيفوس مؤرخ اليهود الشهير لم يذكره في تاريخه , مع أنه كان في العصر الذي قالوا إنه وجد فيه , وقد ذكر من تاريخ اليهود ما هو دون مسألة وجود المسيح , فليس من المعقول أن يحفل بتلك الأخبار الصغيرة , ويسكت عن هذا النبأ العظيم الذي هو أهم ما عزي إلى تاريخ قومه عندهم , إذ كانوا كلهم ينتظرون قيام المسيح , ولا يزالون كذلك إلى اليوم. وقد رددنا هذه الشبهة بأنها أمر سلبي , قد يكون له علة أقربها إلى التصور أن هذا المؤرخ لم يصدق دعوى المسيح؛ فأحب أن لا يذكرها لئلا تكون فتنة لبعض قارئي كتابه , فيكون كالداعية له. ومثل ذلك إنكار بعضهم لوجود (هوميروس) شاعر اليونان , وزعمهم أنه رجل خيالي , نسب إليه ذلك الشعر الكثير البليغ , ولا بدع في ذلك , فالقصص الخيالية والأبطال الخياليون مما عهد وكثر في تاريخ الإغريق، ومثله (مجنون ليلى) في تاريخ العرب , المشهور أنه رجل من بني عامر اسمه قيس كان يعشق امرأة اسمها ليلى , وجن بحبها؛ فلقب بمجنون ليلى , وشبب بها بأشعار اشتهرت في الأدب العربي شهرة واسعة , وقيل: إن هذه الأشعار لرجل من بني أمية نسبها إلى قيس العامري؛ لأجل إخفاء اسمه. بقي شيء لا ينكره علماء المسلمين , وهو يقرب مما عليه أهل الكتاب في التفرقة بين ما جاء به الدين من أصول الإيمان بالله واليوم الآخر , وعالم الغيب، وأصول الآداب الدينية والعبادات , وأحكام التشريع - وبين ما يذكر في الكتب الإلهية من أمور الخلق والتكوين وأحوال المخلوقات العلوية والسلفية. وذلك أن القسم الأول هو المقصود بذاته؛ لإصلاح أمور البشر , وتزكية أنفسهم , وتهذيب أخلاقهم , وإعدادهم لحياة أعلى من الحياة الدنيا , فهو يؤخذ برمته لذاته , كما أمر الله ورسله. وأما القسم الثاني فإنما يذكر في الكتب الإلهية؛ لبيان آيات الله في خلقه الدالة على وحدانيته وقدرته وحكمته ورحمته , وسائر صفات الكمال الثابتة له، ولأجل الموعظة والعبر , ولا يراد من ذكرها ما يريده أهل الفنون والصناعات , ولا مدونو التواريخ من بيان حقائق أمور العالم العلوي والسفلي بقدر الطاقة التي توصلهم إليها أبحاثهم , كعدد الكواكب وأبعادها ومساحتها وحركاتها وطبائع المواليد الثلاثة , وسنن الله فيها ومنافعها ومضارها , وغير ذلك مما جعل الله في استطاعة البشر الوصول إليه ببحثهم وحدهم , بدون توقف على الوحي الإلهي. ويرى السائل هذا المعنى في الجزء الأول وغيره من تفسيرنا , فإذا وصل بحث الب

سعد زغلول ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سعد زغلول (1) فطرته واستعداده - تربيته العقلية والنفسية - تعليمه - ونتيجة ذلك إن اسم (سعد زغلول) أو (سعد) وحده قد صار أشهر وأكبر - وهو غفل من الألقاب والنعوت - من كل ما تتحلى به أسماء العظماء وتحلى هو به من لقب ونعت كالزعيم والرئيس الجليل وذي الرياستين والوزير الخطير ورئيس الوزراء أو رئيس مجلس النواب؛ أعني أن جميع طبقات الناس صاروا يعدون شخص الرجل أكبر وأعلى بصفاته ومزاياه الذاتية، من كل المناصب الرسمية وغير الرسمية التي وصل إليها. ذلك بأن هذه المناصب قد تحلى بها غيره، ولم يكن لأحدٍ منهم معشار ما بلغه من إجلالِ أمته وغير أمته له. وعدتُ بأن أكتب شيئًا في ترجمة سعد يليق بمشرب المنار، وقد كان يخطر بالبال أن اضطراري إلى تأخير إنجاز الوعد يجعلني مضطرًا للاقتباس مما كتبه غيري لأن جمهور الكتاب من تاريخيين وسياسيين ومترسلين وجمهور الشعراء المفلقين قد تسابقوا إلى تأبين سعد ورثائه وكتابة تاريخه ببلاغة رائعة وعناية تامة، شارك فيها المصريين سائر الشعوب العربية من فلسطين إلى سورية إلى العراق إلى عمان وجزيرة العرب في الشرق ومن تونس والجزائر إلى مراكش في الغرب. ناهيك بحفلة التأبين الكبرى في العاصمة وما قاله فيها الوزراء والرؤساء، ومصاقع الخطباء وخناذيذ الشعراء، وبتراجم الجرائد الكبرى وما توخاه محرروها من الاستقصاء. حضرت حفلة التأبين الكبرى وسمعت ما قيل فيها مما أبكاني وأبكى جمهرة الحاضرين، وقرأت كثيرًا مما نشر في أشهر الجرائد، ولا أدعي أنني قرأتُ كل ما كتب في الصحف التي ترسل إليَّ وهي تعد بالعشرات، دع ما لا يرسل إليَّ منها وهو أكثر؛ ولكنني على كثرة ما سمعت وقرأت قد بقي لي ما أقوله مبتدئًا غير مقتبس، ومبتكرًا غير منتزع، بَيْدَ أنَّه لا بد من مزجه بغيره مما قد يعرفه كل أحد. ومن الغريب أن جميع من وقفت على كلامهم قد قصروا في بيان أهم شيء في تاريخ الرجل وهو تربيته وتعليمه مع إجماعهم على أن التربية والتعليم هما بعد الاستعداد الفطري كل شيء، على أنهم قصروا في الكلام على استعداده أيضًا كما قصروا في الكلام على إيمانه بالله عز وجل الذي هو السبب الأكبر في كل ما رأوا من شجاعته واستهانته بالمصائب، واهتمامه بمعالي الأمور وعزوفه عن سفسافها، نعم إنهم قصروا فيما يجب بيانه من هذه الأمور الأربعة وهي البذرة والجرثومة فالشجرة، وكيف نبتت واستوت على سوقها ورسخ أصلها وعلا في المساء فرعها، فأينعت ثمراتها، وآتت أكلها ضعفين بإذن ربها. وحق المنار على قرائه أن يتلافى هذه التقصير ويتم ما كتب غيره في موضوعه. *** (1) نفس سعد وفطرته قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه: (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) رواه البخاري. في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في جواب مَن سألوه عن أكرم الناس وأرادوا معادن العرب وأنسابها. وقوله: (كمعادن الذهب والفضة) من زيادة رواية العسكري. والمعنى أن الناس في اختلاف استعدادهم للخير والشر كما في رواية أبي داود الطيالسي للحديث معادن بعضهم كالذهب والفضة في صفاء جوهره وجماله وبقائه وقلة قبوله للخبث والصدأ، وبعضهم كالزنك والقصدير في ضعف مادته وسرعة قبوله للصدأ والتلف، وبعضها كالنحاس والحديد بين ذينك وذين، وقد كان سعد ذا مزايا فطرية ووراثية يعد بها جوهر نفسه من أزكى النفوس، وعقله من أذكى العقول، كان ذكي الفؤاد شجاع القلب دقيق التمييز عظيم الإقدام عالي الهمة، يحب المعالي ويحتقر الصغائر، عرفت فيه هذه الصفات الفطرية من صغره، وتجلت تمام التجلي في كبره، فكانت هي الأصل في استفادته مما صادفه من حسن التربية والتعليم، وقد روى الطبراني في الكبير من حديث الحسين بن علي مرفوعًا وحسنه (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سَفسافها) . ولد سعد سوي الخلق، جميل الصورة، تام البنية، كبير الدماغ، مستعدًّا لتربية يكون بها من عظام الرجال، وهو من عرق عربي أصيل ورث عنه الشجاعة والإقدام، وغريزة الحرية والاستقلال، ولم يكن يحتاج إلا إلى رجل حكيم جمع بين العلم الصحيح ومكارم الأخلاق وعلو الهمة وشرف المقصد يربي فيه هذه الغرائز وينميها ويصقل معدنها ويضعه حيث ينتفع به، وكم وكم يولد في الأمة من أطفال أزكياء الفطرة فيفسد فطرتهم سوء التربية؛ كما يوضع المعدن النفيس في السبخة، فيعلوا طبعه الطبع، إلى أن يأكله الصدأ. *** تربيته وتعليمه إذًا إن خير ما قيضه الله لسعد فكان بعد ما ذكرنا من استعداده سببًا لكل ما ظهر منه من المزايا أن ساقه في أول نشأته إلى كنف نادرة الزمان المصلح الكبير الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عند ما أراد طلب العلم في الأزهر، ولم أسأله ولا سألت شيخنا وشيخه عن أول أمره فيه ولكنني علمت منهما أنه لم يكن يعجبه درس غير درس الأستاذ الإمام بعد أن اعتاده، فسعد قد جلس إلى كثيرٍ من شيوخ أستاذه وغيرهم من شيوخ الأزهر ولم يستفد إلا من واحدٍ منهم ولم يتخرج إلا به؛ بل كان كثيرًا ما يجلس إلى تلك الدروس مختبرًا للشيوخ والطلبة منتقدًا عليهم في نفسه تارةً وبلسانه تارةً كما سمعت من لسانه، وسأنشر في هذه الترجمة بعض مكتوباته المصرحة بذلك. قال لي مرة: علمت أن الشيخ أحمد الرفاعي يقرأ درسًا في المنطق - لعله قال شرح السلم أو إيساغوجي - فجلست في درسه لأعلم كيف يقرأ علمًا هو في عقله من أبعد الناس عنه، فإذا هو يبدي احتمالين في إعراب عبارة يقتضي أحدهما بطلان القاعدة المنطقية التي يقررها وهي كون القضية الكلية السالبة تنعكس جزئية ولا يطرد عكسها كلية فلا يصح. فقلت له: يا سي الشيخ إن هذا الإعراب يبطل القاعدة من أساسها فلا يصح أن يكون مرادًا. فقال: ما لنا؟ هم العلماء قالوا إذا صح الإعراب صح المعنى؟ فعجبت لأستاذ يقرر بطلان قواعد العلم القطعية فيه بإيراد احتمال في إعراب عبارة مؤلف فيه! أو ما هذا معناه. وقال لي مرة إنه حضر له درسًا آخر في علمٍ آخر - لعله السعد أو جمع الجوامع - فاستمر الدرس ساعتين كاملتين (قال) ولم أحضره من أوله، وكان موضوعه مسألة واحدة لم يستقر ذهن الشيخ على فهم رضيه فيها إلا بانتهائه، وهنالك تنفس الصعداء وقال الحمد لله، هذه المرة فهمناها في درس واحد، وقد قرأت هذا الكتاب مرتين قبل هذه، فأما الأولى فقد استغرق بحثنا في هذه المسألة ثلاثة دروس مثل هذا الدرس، وأما الثانية فقد فهمناها في درسين مثله في طوله. قال سعد فقلت له: ياسي الشيخ لِمَ لَمْ تكتبوا الحل الذي فهمتوه في المرة الأولى أو الثانية بعد ذلك التعب الطويل فيها ليستغنوا عن هذا التعب في كل مرة؟ وإننا رأينا بعض الجرائد تذكر أن الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى كان من أشياخه كفلان وفلان، نعم وكان من أشياخ شيخه أيضًا؛ ولكن هل علم أولئك الكاتبون بما استفاده من فلان وعلان؟ ولَمْ أَرَ أَحَدًا منهم بين أن أستاذه الذي تخرج به هو فلان؛ بل ذكروا أو ذكر بعضهم أنه كان يحضر مع (صديقه) الشيخ محمد عبده دروس الحكيم السيد جمال الدين الأفغاني، والسيد لم يكن يقرأ إلا دروسًا عالية في الفلسفة والكلام والأصول، ذكرنا كتبها في تاريخ الأستاذ الإمام؛ إذ كان سعد مبتدئًا لم يستعد لحضور تلك الكتب؛ ولكنه كان يختلف إلى مجلسه بالتبع لأستاذه فيستفيد منها علمًا وحكمة وأدبًا وسياسة؛ لأن مجالس السيد - رحمه الله - كانت كلها كذلك كما قلت في المقصورة الرشيدية: وأشرع الطريق للإصلاح من ... علم وحكم ولسان وحجا بما أفاض من هوامي حكمة ... قد زانها فصل الخطاب ونثا [1] في خطب يُحْيِي القلوب وقعها ... وتكشف الخطب وتبعث الرجا وفي دروس كتب أحيا بها ... من دارس العلوم ما كان عفا وفي آمالي بها أنشأ من ... معالم الإنشاء ما كان أمحي يقبسهن في ثبا [2] من داره ... مريده والشمس في رأد الضحى ثبا له ينحوه أهل الرشد ما ... بين ثبات وفرادى وثنى وفي كؤوس سمر يديرها ... في سامر (البورصة) ما الليل سجا [3] لا لغو بين شربها يخشى ولا ... غول فيغتال الجسوم والنهى [4] تنازعوها حيث لا تنازع ... صرفا بأفواه العقول تحتسى كان سعد زغلول مريدًا للأستاذ الإمام لا تلميذًا فقط، أعني أنه كان ربيبه ولا يصح لكل من حضر دروسه أن يدعي أنه مريده ولا ربيبه، وكان هو يعبر عن نفسه في مكتوباته للإمام بالمريد، وهذا اللقب من اصطلاح الصوفية الذين كان مدار التربية الروحية عندهم على تربية الإرادة. وتربية الإرادة هي التي يكون بها الرجل رجلاً حرًّا من الرق والعبودية لغيرِ الله عزَّ وجلَّ - طليقًا من الأسر؛ أسر الشهوات والأهواء، فلا تكون إرادته خاضعة إلا لاعتقاده، ولا يتصرف فيها ملك من الملوك، ولا يستخذي لناسك من النساك؛ بل يأبَى أن تذل ويخزَى لسلطان الجمال أيضًا. وكان منهاج الأستاذ الإمام في التربية أن تكون غاية التأديب والتثقيف حرية الإرادة وقوية العزيمة، ومنهاجه في التعليم أن تكون غايته حرية الفكر، واستقلال العقل في الحكم، ويدخل في هذا تعليم الدين فقد كان منهاجه فيه الرجوع إلى مذهب السلف الصالح، وفهم الدين من الكتاب والسنة كما كانوا يفهمون، والاهتداء به في الأخلاق والعمل كما كانوا يهتدون، والتوسل إلى ذلك بتحصيل ملكة اللغة العربية قَوْلاً وكِتَابَةً وخَطَابَةً عن فَهْمٍ وذَوْقٍ للكلام العربي الفصيح بكثرة مزاولته مع الاستعانة بأحسن ما كتب في فنونه. وجعله صديقًا للعلم وعونًَا له على إصلاح البشر، وكان يمزج التربية والتعليم بشيء من السياسة يرى أنه لا تتم إنسانية المرء ولا كونه حرًّا مستقل الإرادة والفكر بدونه، وهو الدعوة إلى استقلال الأمة وحريتها، وعدم استبعاد حكامها لها. ويدخل في هذا الروح السياسي مسألة الوطنية واتفاق أهل الوطن على مصالحهم الوطنية من غير جناية على الهداية الدينية. وقد كتب فيما شرع فيه من ترجمة نفسه هذه المقاصد قال: وارتفع صوتي بالدعوى إلى أمرين عظيمين: (الأول) تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه، وتقلل من خبطه وخلطه، لتتم حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وإنه على هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، ومطالبًا بالتعويل عليها في آداب النفس وإصلاح العمل. وكل هذا أعده أمرًا واحدًا. وقد خالفت في الدعوة إليه رأي الفئتين العظيمتين اللتين يتركب منها جسم الأمة: طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم. (وأما الأمر الثاني) فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير سواء كان في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها أو فيما تنشره الجرائد على الكلفة منشأ أو مترجمًا من لغات أخرى أو في المراسلات بين الناس. وكانت أساليب الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يمجه الذوق وتنكره لغة العربي؛ إلخ. (ثم قال) وهناك أمر آخر كنت من دعاته، والناس جميعًا في عمى عنه وبعد عن تعقله؛ ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهن والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه. وذلك هو ا

أول كتاب من سعد إلى الأستاذ الإمام

الكاتب: سعد زغلول

_ أول كتاب من سعد إلى الأستاذ الإمام بعد عودته من أوربة إلى بيروت أيام النفي بعد الثورة العرابية من مصر 24 ربيع الآخر سنة 1300 إلى بيروت مولاي الأفضل، ووالدي الأكمل، أحسن الله معاده؛ بعد تقبيل الأيدي الكريمة , قد ورد الكتاب الكريم على طول تشوقنا إليه، فتلوناه ووعيناه في الفؤاد، وحمدنا الله تعالى على أن شرفتم تلك الديار سالمين، مبالغًا في إكرامكم والاحتفال بكم من كرام أعيانها المسلمين، وأماجد نبهائها المؤمنين، جزاهم الله عن كل مصري يعرف مقداركم خير الجزاء. ولهم منا معشر أتباعك ومريديك بما تقبلوك به من كريم الاحتفال، وعظيم الإجلال ألسنة مرطبة بالثناء عليهم، وضمائر مطوية على مزيد احترامهم وفائق تعظيمهم. صحتي البدنية معتدلة , أما فكري فقد تولاه الضعف من يوم أن صدع الفؤاد بالبعاد، وتمثلت فيه بعد تلك الحقائق التي كنت تجلو مطالعها معان، نعرفها أوهامًا يضيق بها الصدر ولا ينطلق بردها اللسان؛ مخافة فوات مرغوب، أو لحاق مكروه مما تعلمون. توجهت إلى البيك صاحب تاريخ العرب وسألته إعارته فأجاب بأن محمود سامي أخذه منه وسافر , ولم يرده إليه، ثم هو يسلم عليكم أطيب السلام ويقول: إنه مستعد لخدمة جنابكم في أي شيء تريدون حسيًّا كان أو معنويًّا. وسأتحرى هذا الكتاب في كتب سامي عند بيعها فإذا وجدته فيها؛ اشتريته، وأرسلته في الحال إلى حضرتكم أو أحضرته معي إن وافق ذلك استجماعي لوسائل السفر. الحال العمومية على ما تركتها، غير أن الناس أخذوا في نسيان ما فات من الحوادث وأهوالها، وقلَّت قالتهم فيها، وخفت شماتة الشامتين منهم، وأصبح المادحون للإنكليز من القادحين فيهم وبالعكس، والكثير يتوقع انقلابًا أصليًّا , والله أعلم بما يكون. رفعت تحيتكم لجميع من ذكرتم في الكتاب تصريحًا وتلويحًا، فتقبلوها بمزيد المسرة والانشراح. يسلم على جنابكم الصادق في صداقته ومودته حسين أفندي وهو في غاية من الصحة والعافية وقد عاد من الريف فرارًا من شروره، آسفًا على ما وقع لجنابكم أكثر من أسفه على نفسه. الشيخ محمد خليل والشيخ عامر إسماعيل والشيخ حمادة الخولي والسيد عثمان شعيب والشيخ حسن الطويل ووالدي عبد الله وأخواي شناوي وفتح الله (هو المرحوم أحمد فتحي باشا) وكثير غيرهم يقبلون يديكم، ويسلمون عليكم، ويقدمون مزيد تشكرهم لحضرات أولئك الكرام الأماجد الذين أحسنوا وفادتكم وأكرموا مثواكم، زادهم الله كرمًا وكمالاً. مولاي: ذكرت لحضرتك أن الضعف ألم بفكري فبالله إلا ما قويته بتواصل المراسلة غير تارك فيها ما عودتنا على سماعه من النصائح والحكم التي نهتدي بها إلى سواء السبيل، ونتمكن بها من السير في العالم المصري الذي اختبرت حقائقه، وعرفت خلائقه، وما يناسبها من ضروب المعاملة , وفقنا الله لمتابعتك، ولا أطال على بلادك مدة غيبتك، إنك إمامها وإن اقتدت بغيرك، ومحبها الصادق وإن لم تعرف بقدرك، والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولدكم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سعد زغلول ((يتبع بمقال تالٍ))

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد ـ 4

الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي

_ مناظرة في مسألة القبور والمشاهد الرد على رسالة العالم الشيعي للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا (4) (المقام السابع عشر) قوله: (ثالثها أن يراد بها النهي عن إنشاء المساجد , واتخاذها حول القبور , وهذا التأويل أيضًا خطأ؛ لأنه لا محذور في أن يتقرب العبد إلى الله تعالى ببناء مسجد تقام فيه الصلوات في تلك البقاع الشريفة، مع ما ورد من أن (من بنى مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة) , وهو حديث عام لا يختص بقعة دون بقعة , ولا بزمان دون زمان , بل بناؤه وإنشاؤه أولى؛ لأنه حينئذ يشتمل على جهتين من الشرف شرف البقعة وشرف المسجدية [*] ) , ثم أيد تأويله بكلام البيضاوي الذي سبق رده. (أقول) : فيه مردودات , أولها قوله: إن تفسير الأحاديث بذلك تأويل , وليس كذلك , بل ذلك معناها الذي تدل عليها مطابقة بلا تأويل , ولا تحتمل خلافه البتة، وقوله: (إنه خطأ) تسمية للشيء بضده , ونحن وجميع علمائنا شاهدون بالله أن ذلك هو عين الصواب يقينًا. قوله: (إذ لا محذور في أن يتقرب العبد إلى الله ببناء مسجد في تلك البقاع الشريفة) , أقول: بلى - والله - فيه أعظم محذور , وهو معصية الرسول صلى الله عليه وسلم , ومحادته , كما تقدم عن شيخ الإسلام , والتعرض للعنة الله , وفتح باب الشرك وإضلال الناس والتشبه بالأمتين المغضوب عليها والضالة , فنشدتك , أي محذور أعظم من هذا؟ وهل يكون التقرب إلى الله بمعصية رسوله ومشاقته والاستخفاف بأمره ونهيه؟ وقوله: (مع ما ورد من أن من بنى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة) إلخ , أقول: هذا عام , والنهي عن اتخاذ المساجد على القبور خاص , فهو مخصوص به , ولو ترك على عمومه , ولم يلتفت إلى المخصصات؛ لكان الذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا مستحقين أن يبني الله لهم بيوتًا في الجنة , ولكن الله أخبرنا عنهم بما يقتضي أنهم يعاقبون على بناء ذلك المسجد؛ لأنهم بنوه لمعصية الرسول , وكذلك من بنى مسجدًا عند قبر , وفي الزواجر لابن حجر الهيتمي - وهو ممن يُجوِّز شد الرحال لزيارة القبور , وغير ذلك من المردودات - قال: إن اتخاذ القبور مساجد , وإيقاد السرج عليها , واتخاذها أوثانًا , والطواف بها , واستلامها كل ذلك من كبائر المعاصي , ثم أورد الأحاديث في ذلك , وذكر كلام الفقهاء من الشافعية والحنابلة , ومنه أنها من أسباب الشرك , إلى أن قال: وتجب المبادرة لهدمها , وهدم القباب التي على القبور؛ إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية الرسول اهـ. فمن بنى لله مسجدًا مأذونًا فيه بنى الله له بيتًا في الجنة , وأما من بنى مسجدًا منهيًّا عنه أشد النهي، ملعونًا بانيه , معدودًا من شرار الخلق , مشتدًّا غضب الله عليه , فإنما يتبوأ دركًا في النار؛ إن لم يتب , ويسارع إلى هدم ما بني على القبر. قوله: بل بناؤه وإنشاؤه في البقاع الشريفة أولى؛ لكونه حينئذ يشتمل على جهتين من الشرف. أقول: هذا قياس مصادم للنص , وهو فاسد الاعتبار , وشرف الأماكن لا يثبت بالعقل , بل مرجعه إلى الوحي. وأعلم الناس بالشرف والفضل هو الذي لعن باني المسجد على القبر , ونهانا عن ذلك , وقال: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) , وأخبر أن فاعل ذلك من شرار الخلق , فيتصور بعد هذا أن يكون للمسجد المتخذ على القبر شرف , فضلاً عن أن يكون أشرف من المساجد التي أذن الله فيها , وأثنى على عامريها. وأما كلام البيضاوي في تجويز بناء المسجد عند قبر الصالح للتبرك , فهو فاسد , وقد تقدم رده، ثم رأيت الشوكاني رده بمثل ما رددته به , فلله الحمد وهذا نفسه في المجلد الثاني من نيل الأوطار ص 140 , (واستنبط البيضاوي من علة التعظيم جواز اتخاذ المساجد في جوار قبور الصلحاء للتبرك دون التعظيم , ورد بأن قصد التبرك تعظيم) اهـ بتفسير يسير. (المقام الثامن عشر) قوله: (إنه لا يتصور صدور السجود للقبور من مسلم [1] ) , إن كان مراده المسلم المؤمن الذي يميز التوحيد من الشرك؛ فنعم , وأما إن كان مراده أن كل من انتسب إلى الإسلام لا يتصور منه السجود لغير الله، فليس كذلك؛ بل هو متصور ومصدق أيضًا، يعني أنه تجاوز التصور إلى التصديق أي إدراك وقوعه. وسجود أصحاب الطرق لأشياخهم مشهور حتى إنهم يدعون جوازه، ويجادلون فيه، وكذلك السجود للقبور والصلاة موجودان في زماننا، وقد أخبرني ثقة , وأنا أكتب هذا , أنه شاهد في السنة الماضية حين كان في النجف وكربلاء الناس يصلون إلى الضرح , ويسجدون لها , فقلت له: إن السيد مهديًّا يستبعد هذا , بل يعده محالاً , فقال لي: أنا أروح معك إلى السيد مهدي بعد الفطر , وأخبره أني رأيت ذلك بعيني , وأنا عازم أن آتيكم به , وقد تعجبت كثيرا كيف لم تطلعوا على ما يفعله الجهلة بالنجف وكربلاء وبغداد من الأعمال الشركية التي تقشعر منها الجلود، ولا يختص ذلك بالشيعة , بل لمن ينسبون أنفسهم إلى السنة الحظ الأوفر منه عياذاً بالله. قوله: (مع أن قبور الأئمة محاطة بصناديق وشبابيك تمنع من وصول أحد إلى نفس القبر) , أقول: ولكنها لا تمنع من السجود حول الصندوق والصلاة له , بل التوابيت المزخرفة هي التي تملأ قلوب الجهلة هيبة وإجلالاً , فيعبدون القبور وأصحابها , ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبر , وأمر بهدمه. (المقام التاسع عشر) قوله: وأهل السنة مشاركون للشيعة في ذلك [2] , أقول: اللهم نعم , وأشهد بالله , وكل من يقرأ المنار أو يعرف صاحبه أنه شدد النكير عليهم أكثر مما أنكر على الشيعة. (المقام العشرون) قوله: مضافًا إلى أنّا لم نجد أحدًا بنى مسجدًا حول القبور المشهورة [2] , أقول: إن لم تطلعوا على ذلك؛ فلا ينبغي لكم أن تنفوا كل ما لم تطلعوا عليه فإنكم إن فعلتم نفيتم أشياء كثيرة واقعة , بلى - والله - قل أن يوجد مسجد في مصر القاهرة وغيرها إلا وهو على قبر أو بقرب قبر، حتى صار العامة وبعض من يزعم أنه من الخاصة إذا أراد أن يبني مسجدًا بحث عن قبر رجل صالح يبني عليه , ويجد حرجًا في صدره أن يبني المسجد على غير قبر {فَاسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} (الفرقان: 59) , وهذه من أعظم معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم , فإن الله أطلعه على ذلك؛ فلذلك شدد النهي عنه. (المقام الحادي والعشرون) قوله: على أن مجرد الصلاة والدعاء - يعني في مشاهد قبور الأئمة - لا يصيرها مساجد [2] , ولو أن أحدًا واظب على أن يصلي ويدعو ويقرأ القرآن في مدة حياته في مكان خاص من بيته , فإن ذلك المكان بالضرورة لا يصير مسجدًا بكثرة العبادة فيه. أقول: ما قاله غير مُسَلَّم , بل كل مكان أعد للصلاة؛ فهو مسجد شرعًا , سواء اتخذه رجل في بيته , أم عند قبر , أم في غير ذينك. قال البخاري (باب المساجد في البيوت) : وصلى البراء بن عازب في مسجد داره جماعة , ثم روى بسنده عن عتبان بن مالك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فقال: قد أنكرت بصري , وأنا أصلي بقومي، فإذا كانت الأمطار وسال الوادي الذي بيني وبينهم؛ لم أستطع أن آتي مسجدهم , فأصلي بهم , ووددت يا رسول الله أنك تأتيني , فتصلي في بيتي , فأتخذه مصلى , الحديث وفيه أن النبي غدا عليه ومعه أبو بكر فصلى في ناحية من بيته اهـ بعضه بالمعنى. وأخرج أبو داود والترمذي عن عائشة قالت: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب وفي البخاري أن أبا بكر ابتنى مسجدًا بفناء داره؛ فكان يصلي فيه , ويقرأ القرآن قلت: وكان ذلك في مكة وفيه: وصلى ابن عون في مسجد في دار يغلق عليهم الباب. فثبت ما قلته من أن كل ما كان أعد للصلاة يسمى مسجدًا شرعًا ولغة. (المقام الثاني والعشرون) قوله: أما الحديث الذي وعدنا فيما سبق ببيان معناه وهو المروي عن أمير المؤمنين (ع) قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في هدم القبور وكسر الصور , فليس فيه بيان المواضع المبعوث إليها , ولا بيان القبور التي بعثه في هدمها , لكن متن الحديث يرشدنا إلى أن الموضع كان في بلاد المشركين يومئذ أو من بلادهم , وأن القبور قبورهم. ثم ذكر أن الصور هي الأصنام المعبودة أو التماثيل , وأيد ذلك بما يجده المنقبون عن الآثار في قبور الفراعنة وغيرهم , ثم قال: ومن المعلوم أن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن قبور المسلمين مشيدة بالبناءات الضخمة , حتى يبعث من يهدمها , ولم يكن المسلمون يعملون الصور والتماثيل , ونظير هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي عنه (ع) قال: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته , ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته [3] . قوله: ليس فيه بيان الموضع ولا بيان القبور إلخ , أقول: هنا حجة لنا على أن الحديث عام غير مخصص بشيء , بل لو عين الموضع والقبور فيه أو في غيره من الأخبار ما كان ذلك مخصصًا للفظه؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , وكل ما تكلف في استنباطه لتأييد أن القبور قبور المشركين؛ لا يجدي شيئًا؛ لأن (أل) في القبور للاستغراق أو الجنس , فاللفظ شامل لقبور الأنبياء والأئمة , بل هي من باب أولى لعظم المفسدة ببنائها , والبناء عليها , وللوعيد الشديد الوارد في بنائها بالخصوص من اللعن وشدة غضب الله , وكون فاعل ذلك من شرار الخلق , ولو زعم زاعم أن الهدم مخصوص بقبور الأنبياء والصالحين للوعيد الوارد فيها بالخصوص؛ لكان أقرب من عكسه عند من أنصف , ومما يرد تأويله أن هذا الحديث اتفق الفريقان على روايته , ولم يطعن أحد في صحته , وقد استدل به أهل السنة قاطبة على عدم جواز بناء القبور كائنة ما كانت , بل نقل الشوكاني اتفاق المسلمين على ذلك , وهو خبير بمذهب الإمامية وسائر فرق الشيعة، وكثيرًا ما ينقل أقوالهم في الأصول والفروع , قال في جزء له سماه شرح الصدور بتحريم رفع القبور) أجاد فيه كل الإجادة: اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة إلى هذا الوقت؛ أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها , واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعله كما يأتي، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحيى بن حمزة مقالة تدل على أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه اهـ. ثم رد عليه أبلغ رد، وساق النصوص في ذلك، وقد تقدم منها ما فيه مقنع للمنصف، ومزجر للمتعسف، ثم قال أثر حديث أبي الهياج وحديث جابر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يوطأ قال: في هذا التصريح بالنهي عن البناء على القبور، وهو يصدق على من بنى على جوانب حفرة القبر , كما يفعله كثير من الناس من رفع قبور الموتى ذراعًا فما فوقه؛ لأنه لا يمكن أن يجعل نفس القبر مسجدًا , فذلك مما يدل على أن المراد بعض ما يقربه مما يتصل به , ويصدق على من بنى قريبًا من جوانب القبر كذلك , كما في القباب والمساجد والمشاهد الكبيرة على وجه يكون القبر وسطها , أو في جانب منها , فإن هذا بناء على القبر لا يخفى ذلك على من له أدنى فهم , كما يقال: بنى السلطان على مدينة كذا سورًا , وكما يقال: بنى فلان في المكان الفلاني مسجدًا , مع أن سمك البناء لم يباشر إلا جوانب المدينة أو المكان , ولا فرق بين أن تكون تلك الجوانب التي وقع البناء عليها قريبة من الوسط كما في المدينة الصغيرة والمكان الض

معاهدة جدة بين جلالة ملك بريطانيا وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ معاهدة جدة بين جلالة ملك بريطانيا وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها نقلت عن جريدة (أم القرى) الصادرة في يوم الجمعة 27 ربيع الأول سنة 1346. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. نحن عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل آل سعود، ملك الحجاز ونجد وملحقاتها: بما أنه قد عقدت بيننا وبين حضرة صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظيم وأرلندا والممتلكات البريطانية فيما وراء البحار وإمبراطور الهند معاهدة صداقة وحسن تفاهم؛ لأجل تثبيت وتقوية العلاقات الودية، وحسن التفاهم بين بلادينا. ووقعها مندوبنا المفوض ومندوب جلالته الحائزان للصلاحية التامة المتقابلة. وذلك في مدينة جدة في اليوم الثامن عشر من شهر ذي القعدة سنة ألف وثلاثمائة وخمس وأربعين هجرية (الموافق 20 مايو سنة 1927) , وهي مدرجة فيما يلي: - بسم الله الرحمن الرحيم جلالة ملك بريطانيا وأيرلندا والممتلكات البريطانية من وراء البحار وإمبراطور الهند من جهة , وجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها من جهة أخرى. رغبة في توطيد العلاقات الودية السائدة بينهما , وتوثيقها وتأمين مصالحهما وتقويتها؛ قد عزما على عقد معاهدة صداقة، وحسن تفاهم. لذلك أوفد صاحب الجلالة البريطانية حضرة السير جلبرت فلكنجهام كلايتن مندوبا مفوضًا عنه، وانتدب صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبد العزيز نجله ونائبه في الحجاز مندوبًا مفوضًا عنه. بناء على ما تقدم , وبعد الاطلاع على مستندات اعتمادهما والتثبت من صحتها , قد اتفق سمو الأمير فيصل بن عبد العزيز وحضرة السير جلبرت فلكنجهام كلايتن على المواد الآتية: - (المادة الأولى) يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالاستقلال التام المطلق لممالك صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها. (المادة الثانية) يسود السلم والصداقة بين صاحب الجلالة البريطانية، وصاحب الجلالة ملك الحجاز ونَجْد وملحقاتها، ويتعهد كل من الفريقين المتعاقدين بأن يحافظ على حسن العلاقات مع الفريق الآخر، وبأن يسعى بكل ما لديه من الوسائل لمنع استعمال بلاده قاعدة للأعمال غير المشروعة الموجهة ضد السلم والسكينة في بلاد الفريق الآخر. (المادة الثالثة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بتسهيل أداء فريضة الحج لجميع الرعايا البريطانيين، والأشخاص المتمتعين بالحماية البريطانية من المسلمين أسوة بسائر الحجاج، ويعلن جلالة الملك بأنهم يكونون آمنين على أموالهم وأنفسهم أثناء إقامتهم في الحجاز. (المادة الرابعة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بتسليم مخلفات من يتوفى في البلاد التابعة لجلالته من الحجاج المذكورين آنفًا، والذين ليس لهم في بلاد جلالته أوصياء شرعيون إلى المعتمد البريطاني في جدة , أو من ينتدبه لذلك الغرض؛ لإيصالها لورثة الحاج المتوفى المستحقين , بشرط أن لا يكون تسليم تلك المخلفات إلى الممثل البريطاني إلا بعد أن تتم المعاملات بشأنها أمام المحاكم المختصة وتُسْتَوْفَى عليها الرسوم المقررة في القوانين الحجازية أو النجدية. (المادة الخامسة) يعترف صاحب الجلالة البريطانية بالجنسية الحجازية أو النجدية لجميع رعايا صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها , عندما يوجدون في بلاد صاحب الجلالة البريطانية، أو البلاد المشمولة بحماية جلالته، وكذلك يعترف صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بالجنسية البريطانية لجميع رعايا صاحب الجلالة البريطانية، ولجميع الأشخاص المتمتعين بحماية جلالته عندما يوجدون في بلاد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها , على أن تراعى قواعد القانون الدولي المرعي بين الحكومات المستقلة. (المادة السادسة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بالمحافظة على علاقات الود والسلم مع الكويت والبحرين ومشايخ (قطر) والساحل العماني الذين لهم معاهدات خاصة مع حكومة صاحب الجلالة البريطانية. (المادة السابعة) يتعهد صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها بأن يتعاون بكل ما لديه من الوسائل مع صاحب الجلالة البريطانية في القضاء على الاتجار بالرقيق. (المادة الثامنة) على الفريقين المتعاقدين إبرام هذه المعاهدة , وتبادل قرارات الإبرام بأقرب وقت، وتصير المعاهدة نافذة اعتبارًا من تاريخ تبادل قرارات الإبرام، ويعمل بها مدة سبع سنوات ابتداءً من ذلك التاريخ , وإن لم يعلن أحد الفريقين المتعاقدين الفريق الآخر قبل انتهاء السنوات السبع بستة أشهر أنه يريد إبطال المعاهدة؛ تبقى نافذة، ولا تعتبر باطلة إلا بعد مضي ستة أشهر من اليوم الذي يعلن فيه أحد الفريقين إبطالها للفريق الآخر. (المادة التاسعة) تعتبر المعاهدة المعقودة بين صاحب الجلالة البريطانية وصاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها في 26 ديسمبر سنة 1915 يوم كان جلالته حاكمًا لنجد وما كان ملحقًا بها؛ إذ ذاك - ملغاة ابتداء من تاريخ إبرام المعاهدة. (المادة العاشرة) دونت هذه المعاهدة باللغتين العربية والإنكليزية، وللنصين قيمة واحدة , أما إذا وقع اختلاف في تفسير أي قسم منها؛ فيرجع إلى النص الإنكليزي. (المادة الحادية عشرة) تعرف هذه المعاهدة بمعاهدة جدة. وقعت هذه المعاهدة في جدة يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة 1345 هجرية الموافق (20 مايو سنة 1927) . جلبرت فلكنجهام كلايتن ... ... ... فيصل بن عبد العزيز السعود فبعد أن اطلعنا على هذه المعاهدة السالفة الذكر، وأمعنا النظر فيها؛ صدقناها , وقبلناها , وأقررناها جملة في مجموعها , ومفردة في كل مادة وفقرة منها , كما أننا نصدقها ونقبلها ونثبتها ونبرمها , ونتعهد ونعد وعدًا ملوكيًّا صادقًا بأننا سنقوم بحول الله بما ورد فيها , ونلاحظه بكمال الأمانة والإخلاص، وبأننا لن نسمح بمشيئة الله بالإخلال بها بأي وجه كان , طالما نحن قادرون على ذلك، وزيادة في تثبيت صحة كل ما ذكر فيها؛ أمرنا بوضع خاتمنا على هذه الوثيقة , ووقعناها بيدنا , والله خير الشاهدين. حرر في اليوم الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وست وأربعين هجرية الموافق للسابع عشر من شهر سبتمبر سنة ألف وتسعمائة وسبع وعشرين ميلادية. الختم الملكي ... ... ... عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود *** تصديق ملك بريطانيا ومن المفيد في تتمة هذه الوثيقة التاريخية أن نثبت هنا النص الذي كان من قبل صاحب الجلالة البريطانية في التصديق على نسخة المعاهدة , حيث جاء فيه ما يلي: - جورج بنعمة الله ملك بريطانيا العظيم وأيرلندا والممتلكات البريطانية فيما وراء البحار حامي الإيمان وإمبراطور الهند إلخ إلخ إلخ إلى كل من يطلع على كتابنا هذا , سلام. بما أنه قد عقدت بيننا , وبين حضرة صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها معاهدة وقعت في جدة من قبل مندوبنا المفوض , ومندوب جلالته الحائزين للصلاحية التامة المتقابلة , وذلك في اليوم العشرين من شهر مايس (مايو) , والحمد لله بين بلادينا وهي كلمة بكلمة كما يلي: (هنا يأتي نص المعاهدة , وبعد النص ورد في التصديق ما يأتي) : فنحن بعد أن اطلعنا , وأمعنا النظر في المعاهدة المتقدمة؛ صدقناها , وقبلناها وأثبتناها مجملة، وفي كل مادة وفقرة منها. كما أننا بموجب هذا؛ نصدقها ونقبلها ونثبتها ونبرمها عن أنفسنا , وعن خلفائنا وورثتنا، ونتعهد ونعد وعدًا ملوكيًّا صادقًا بأننا سنقوم , ونلاحظ بكمال الأمانة والإخلاص ما ورد فيها إجمالاً وإفرادًا من الأشياء الموجودة والمبينة في المعاهدة المذكورة، وبأننا لا نسمح لأحد بالإخلال بها , أو مناقضتها بأي وجه كان طالما نحن قادرون على ذلك، وزيادة في الاستشهاد والصحة في كل ما ذكر فيها؛ أمرنا بوضع خاتمنا الكبير على هذه المستندات، ووقعناها بيدنا الملكية. *** تبادل قرارات الإبرام وبعد أن أبرم جلالة الملك المعاهدة على الشكل المتقدم , تبادل مدير شؤون خارجيتنا , ومعتمد وقنصل الحكومة البريطانية في جدة قرارات الإبرام , ونسخ المعاهدة بعد أن وقعا شهادة التبادل الآتي ذكرها: إن الموقعين أدناه قد اجتمعا لأجل تبادل قرارات إبرام معاهدة الصداقة , وحسن التفاهم المعقودة بين صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى وأيرلندة والممتلكات البريطانية من وراء البحار إمبراطور الهند، وبين حضرة صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها , والتي وقع عليها في مدينة جدة في اليوم العشرين من شهر مايس (مايو) سنة 1927 (الموافق 18 ذي القعدة سنة 1345) وبعد أن قابلا نسخ قرارات إبرام المعاهدة السالفة الذكر بدقة , ووجدا كل واحدة مطابقة تمام المطابقة للأخرى , قد جرى التبادل المذكور هذا اليوم على الصورة المعتادة , وإقرارًا على ذلك قد وقعا على هذه الشهادة. حرر في جدة في اليوم الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 1346 معتمد وقنصل صاحب الجلالة البريطانية ... مدير الشؤون الخارجية للمملكة ... ... ... ... ... ... ... الحجازية والنجدية وملحقاتها ... ف. هـ، أستون. هبوور. بيرد ... ... ... عبد الله الدملوجي * * * الكتب التي تبودلت تبودلت مع المعاهدة كتب يتعلق بعضها ببيان بعض مواد المعاهدة، وبعضها مستقل بذاته، نثبت نصها فيما يلي: (1) إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها. يا صاحب الجلالة. إشارة إلى الاقتراح الذي تفضلتم به لوضع مادة في المعاهدة تشرط على حكومة صاحب الجلالة البريطانية عدم الممانعة في شراء وتوريد جميع الأسلحة والأدوات الحربية والذخيرة والآلات , وغير ذلك من اللوازم الحربية , التي قد تحتاج إليها حكومة الحجاز ونجد لاستعمالها لنفسها. لي الشرف أن أخبر جلالتكم أن حكومة صاحب الجلالة البريطانية ترى أن هذه مسالة لا تحتاج إلى ذكر في نص المعاهدة، وقد فوضتني حكومة صاحب الجلالة البريطانية بأن أخبر جلالتكم أن تحريم تصدير الأدوات الحربية إلى جزيرة العرب قد رفع، وأنه إذا استحسنتم طلب أسلحة أو ذخيرة، أو أدوات حربية من أصحاب المعامل البريطانيين لاستعمال حكومة جلالتكم، وبمقتضى شروط اتفاقية الاتجار بالأسلحة (1925) , فحكومة صاحب الجلالة البريطانية لا تعارض في تصديرها , ولا تضع أي عرقلة في سبيل توريدها إلى بلاد جلالتكم، وسأجتهد إجابة لرغبة جلالتكم أن أقدم نسخة من الاتفاقية المشار إليها بأقرب وقت، وأرجو من جلالتكم أن تتفضلوا بقبول أجل الاحترام عن جدة 19 مايو سنة 1927 الموافق 17 ذي القعدة سنة 1345 ... ... ... ... المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية ... ... ... ... ... ... ... جلبرت كلايتن *** الجواب من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى حضرة صاحب الفخامة المندوب المفوض عن صاحب الجلالة البريطانية. جوابًا على كتاب فخامتكم المؤرخ في 17 ذي القعدة سنة 1345 الموافق 19 مايو سنة 1927 تحت رقم 3 بشأن الأسلحة , فإني أشكركم على ذلك البيان الذي يفيد أن جزيرة العرب غير ممنوعة من استيراد الأسلحة. وتفضلوا بقبول فائق احتراماتي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الختم الملكي) *** (2) إلى صاحب الجلالة ملك الحجاز ونجد وملحقاتها. يا صاحب الجلالة: لي الشرف أن أذكر جلالتكم أنه في أثناء المفاوضات التي دارت بيننا , والتي أدت - ولله الحمد - إلى عقد معاهدة صداقة وحسن تفاهم بين صاحب الجلالة البريطا

الكتابة أو الخط وثيقة شرعية يجب العمل بها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكتابة أو الخط وثيقة شرعية يجب العمل بها أمر الله تعالى المؤمنين في أواخر سورة البقرة (282: 2) بكتابة الدين المؤجل، وأكد الأمر بالكتابة، ونهى الكاتب الذي يدعى إلى الكتابة أن يمتنع، وأكد ذلك بأمره بأن يكتب، ثم نهاهم عن السآمة أن تكون مانعة من الكتابة للصغير والكبير والقليل والكثير، ثم أمر بالاستشهاد , وعلل الأمرين بقوله: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} (البقرة: 282) , وقد ذكرنا في تفسير هذه الآية من جزء التفسير الثالث (ص 125) أن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى قال عند تفسير {وَلاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كبِيراً إِلَى أَجَلِهِ} (البقرة: 282) : إن هذا دليل على أن الكتابة يعمل بها، وأنها من الأدلة التي تعتبر عند استيفاء شروطها.اهـ. وقلت هنالك: إن الآية دليل على وجوبها أيضًا , ثم ذكرت (في ص 133) الخلاف بين العلماء في وجوب كتابة الدين وأمثاله أيضًا , وأن من القائلين بالوجوب عطاء والشعبي وابن جرير في تفسيره كما هو الأصل في الأمر عند جماهير العلماء. وقد عقد العلامة المحقق ابن القيم فصلاً للعمل بالخط في كتابه (الطرق الحكمية، في السياسة الشرعية) , وعده من الطرق التي يحكم بها الحاكم، وهو الذي إذا قال لم يترك مجالاً لقائل , فاخترنا نقله لإفادة من لم يطلع عليه من الفقهاء , وإيجازًا لوعدنا في الفتوى 20 كما في ص 511 ج 7 الماضي وهذا نصه: *** فصل (الطريق الثالث والعشرون) الحكم بالخط المجرد , وله صور ثلاث: (الصورة الأولى) أن يرى القاضي حجة فيها حكمه لإنسان , فيطلب منه إمضاءه , فعن أحمد ثلاث روايات , (إحداهن) أنه إذا تيقن أنه خطه؛ نفذه وإن لم يذكره , (والثانية) أنه لا ينفذه حتى يذكره , (والثالثة) أنه إذا كان في حرزه وحفظه؛ نفذه وإلا فلا. قال أبو البركات: (الرواية في شهادة الشاهد بناء على خطه إذا لم يذكره) , والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا يعتمد على الخط لا في الحكم، ولا في الشهادة، وفي مذهبه وجه آخر أنه يجوز الاعتماد عليه إذا كان محفوظًا عندهما كالرواية الثالثة. وأما مذهب أبي حنيفة فقال الخفاف (؟) : قال أبو حنيفة: إذا وجد القاضي في ديوانه شيئًا لا يحفظه كإقرار الرجل بحق من الحقوق , وهو لا يذكر ذلك , ولا يحفظه , فإنه لا يحكم بذلك , ولا ينفذه حتى يذكره. وقال أبو يوسف ومحمد: ما وجده القاضي في ديوانه من شهادة شهود شهدوا عنده لرجل على رجل بحق , أو إقرار رجل لرجل بحق , والقاضي لا يحفظ ذلك , ولا يذكره , فإنه ينفذ ذلك , ويقضي به إذا كان تحت خاتمه محفوظًا، ليس كل ما في ديوان القاضي يحفظه. وأما مذهب مالك فقال في الجواهر: لا يعتمد على الخط إذا لم يذكر؛ لإمكان التزوير عليه. قال القاضي أبو محمد: إذا وجد في ديوانه حكمًا بخطه , ولم يذكر أنه حكم به؛ لم يجز له أن يحكم به إلا أن يشهد عنده شاهدان , قال: وإذا نسي القاضي حكمًا حكم به , فشهد عنده شاهدان أنه قضى به؛ نفذ الحكم بشهادتهما , وإن لم يذكره. وعن مالك رواية أخرى أنه لا يلتفت إلي البينة بذلك , ولا يحكم بها. وجمهور أهل العلم على خلافها , بل إجماع أهل الحديث قاطبة على اعتماد الراوي على الخط المحفوظ عنده , وجواز التحديث به إلا خلافًا شاذًّا لا يعتد به، ولو لم يعتمد على ذلك؛ لضاع الإسلام اليوم , وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فليس بأيدي الناس بعد كتاب الله إلا هذه النسخ الموجودة من السنن. وكذلك كتب الفقه الاعتماد فيها على النسخ , وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك وغيرهم , وتقوم بها حجته , ولم يكن يشافه رسولاً بكتابه بمضمونه , ولا جرى هذا في مدة حياته صلى الله عليه وسلم , بل يدفع الكتاب مختومًا , ويأمره بدفعه إلى المكتوب إليه , وهذا معلوم بالضرورة لأهل العلم بسيرته وأيامه. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه , يبيت ليتلين إلا ووصيته مكتوبة عنده) , ولو لم يجز الاعتماد على الخط؛ لم يكن لكتابة وصيته فائدة , قال إسحاق بن إبراهيم: (قلت) لأحمد: الرجل يموت ويوجد له وصية تحت رأسه من غير أن يكون أشهد عليها , أو أعلم بها أحدًا , هل يجوز إنفاذ ما فيها؟ , قال: إن كان قد عرف خطه - وكان مشهور الخط - فإنه ينفذ ما فيها , وقد نص في الشهادة أنه إذا لم يذكرها , ورأى خطه؛ أنه لا يشهد حتى يذكرها , ونص فيمن كتب وصيته , وقال: اشهدوا علي بما فيها؛ أنهم لا يشهدون إلا أن يسمعوها منه , أو تقرأ عليه فيقر بها , فاختلف أصحابنا , فمنهم من خرج في كل مسألة حكم الأخرى , وجعل فيها وجهين بالنقل والتخريج، ومنهم من منع التخريج , وأقر النصين وفرق بينهما , واختار شيخنا التفريق , قال: والفرق أنه إذا كتب وصيته , وقال اشهدوا علي بما فيها فإنهم لا يشهدون؛ لجواز أن يزيد في الوصية وينقص ويغير , وأما إذا كتب وصيته ثم مات وعرف أنه خطه , فإنه يشهد به لزوال هذا المحذور. والحديث المتقدم كالنص في جواز الاعتماد على خط الموصي , وكتبه صلى الله عليه وسلم إلى عماله وإلى الملوك وغيرهم تدل على ذلك , ولأن الكتابة تدل على المقصود , فهي كاللفظ , ولهذا يقع بها الطلاق. قال القاضي: وثبوت الخط في الوصية يتوقف على معاينة البينة أو الحاكم لفعل الكتابة؛ لأنه عمل , والشهادة على العمل طريقها الرؤية. وقول الإمام أحمد: إن كان قد عرف خطه وكان مشهور الخط؛ ينفذ ما فيها، يرد ما قال القاضي، فإن أحمد علق الحكم بالمعرفة والشهرة من غير اعتبار لمعاينة الفعل، وهذا هو الصحيح فإن القصد حصول العلم بنسبة الخط إلى كاتبه , فإذا عرف ذلك , وتيقن كان العلم بنسبة اللفظ إليه , فإن الخط دال على اللفظ , واللفظ دال على القصد والإرادة , وغاية ما يقدر اشتباه الخطوط , وذلك كما يفرض من اشتباه الصور والأصوات , وقد جعل الله سبحانه في خط كل كاتب ما يتميز به عن خط غيره كتميز صورته وصوته عن صورته وصوته، والناس يشهدون شهادة لا يستريبون فيها على أن هذا فيه خط فلان , وإن جازت محاكاته ومشابهته , فلا بد من فرق , وهذا أمر يختص بالخط العربي , ووقوع الاشتباه والمحاكاة لو كان مانعًا لمنع من الشهادة على الخط عند معاينته إذا غاب عنه لجواز المحاكاة. وقد دلت الأدلة المتضافرة التي تقرب من القطع على قبول شهادة الأعمى فيما طريقه السمع إذا عرف الصوت , مع أن تشابه الأصوات إن لم يكن أعظم من تشابه الخطوط , فليس دونه , وقد صرح أصحاب أحمد والشافعي بأن الوارث إذا وجد في دفتر مورثه: إن لي عند فلان كذا؛ جاز له أن يحلف على استحقاقه , وأظنه منصوصًا عنهما , وكذلك لو وجد في دفتره: إني أديت إلى فلان ما علي؛ جاز له أن يحلف على ذلك إذا وثق بخط مورثه وأمانته، ولم يزل الخلفاء والقضاة والأمراء والعمال يعتمدون على كتب بعضهم إلى بعض , ولا يشهدون حاملها على ما فيها , ولا يَقْرءُونه عليه، هذا عمل الناس من زمن نبيهم إلى الآن. وقال البخاري في صحيحه (باب الشهادة على الخط المختوم وما يجوز من ذلك وما يضيق عليهم فيه وكتاب الحاكم إلى عامله والقاضي إلى القاضي) : وقال بعض الناس [1] : كتاب الحاكم جائز إلا في الحدود , قال: وإن كان القتل خطأ؛ فهو جائز لأنه مالٌ بزعمه , وإنما صار مالاً بعد أن ثبت القتل , فالخطأ والعمد واحد. وقد كتب عمر إلى عامله في الحدود , وكتب عمر بن عبد العزيز في سن كسرت. وقال إبراهيم: كتاب القاضي إلى القاضي جائز إذا عرف الكتاب والخاتم , وكان الشعبي يجيز الكتاب المختوم بما فيه من القاضي , ويروى عن ابن عمر نحوه، وقال معاوية بن عبد الكريم الثقفي: شهدت عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة وإياس بن معاوية والحسن وثمامة بن عبد الله بن أنس وبلال بن أبي بردة وعبد الله بن بريدة وعامر بن عبيدة وعباد بن منصور يجيزون كتب القضاة بغير محضر من الشهود , فإن قال الذي جيء عليه بالكتاب أنه زور , قيل له: اذهب؛ فالتمس المخرج من ذلك، وأول من سأل على كتاب القاضي البينة ابن أبي ليلى وسَوَّار بن عبد الله , وقال لنا أبو نعيم: حدثنا عبد الله بن محرز: جئت بكتاب من موسى بن أنس قاضي البصرة , وأقمت عنده البينة أن لي عند فلان كذا وكذا وهو بالكوفة فجئت به [2] القاسم بن عبد الرحمن , فأجازوه، وكره الحسن وأبو قلابة أن يشهد على وصية حتى يعلم ما فيها , لأنه لا يدري لعل فيها جورًا، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر (إما أن تدوا صاحبكم , وإما أن تأذنوا بحرب) . اهـ[3] . وأجاز مالك الشهادة على الخطوط , فروى عنه ابن وهب في الرجل يقوم يذكر حقًّا قد مات شهوده، ويأتي بشاهدين عدلين على خط كاتب الخط , قال: تجوز شهادتهما على كاتب الكتاب إذا كان عدلاً مع يمين الطالب , وهو قول ابن القاسم , وذكر ابن شعبان عن ابن وهب قال: لا آخذ بقول مالك في الشهادة على الخط , وعد قوله شذوذًا، قال ابن حارث: ولقد قال مالك - في رجل قال: سمعت فلانا يقول: ورأيت فلانا قتل أو قال: سمعت فلانًا طلق امرأته أو قذفها -: إنه لا يشهد على شهادته إلا أن يشهده، فالخط أبعد من هذا وأضعف، قال: ولقد قلت لبعض القضاة: أتجوز شهادة الموتى، فقال: ما هذا الذي تقول؟ ، فقلت: إنكم تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا وجدتم خطه في وثيقة , فسكت. وقال محمد بن عبد الحكم: لا يقضى في دهرنا بالشهادة على الخط؛ لأن الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور. وقد قال مالك في الناس تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا من الفجور , وقد روى ابن نافع عن مالك قال: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتيم، حتى إن القاضي ليكتب للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه , فيجاز لهم حتى اتهم الناس فصار لا يقبل إلا بشاهدين اهـ. واختلف الفقهاء فيما إذا أشهد القاضي شاهدين على كتابه , ولم يقرأه عليهما , ولا عرفهما بما فيه , فقال مالك: يجوز ذلك ويلزم القاضي المكتوب إليه قبوله، ويقول الشاهد: إن هذا كتابه دفعه إلينا مختومًا، وهذا إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور: إذا لم يقرأه عليهما القاضي؛ لم يعمل المكتوب إليه بما فيه , وهو إحدى الروايتين عند مالك، وحجتهم أنه لا يجوز أن يشهد إلا بما يعلم، وأجاب الآخرون بأنهما لم يشهدا بما تضمنه , وإنما شهدا بأنه كتاب القاضي وذلك معلوم لهما، والسنة الصريحة تدل على صحة ذلك , وتغير أحوال الناس وفسادها يقتضي العمل بالقول الآخر , وقد يثبت عند القاضي من أمور الناس ما لا يحسن أن يطلع عليه كل أحد مثل الوصايا التي يتخون الناس فيها , ولهذا يجوز عند مالك وأحمد في إحدى الروايتين أن يشهدا على الوصية المختومة , ويجوز عند مالك أن يشهدا على كتاب مدرج , ويقولا للحاكم: نشهد على إقراره بما في هذا الكتاب. وقال المانعون من العمل بالخطوط: الخطوط قابلة للمشابهة والمحاكاة , وهل كانت قصة عثمان ومقتله إلا بسبب الخط , فإنهم صنعوا مثل خاتمه , وكتبوا مثل كتابه حتى جرى ما جرى , ولذلك قال الشعبي: لا تشهد أبدًا إلا على شيء تذكره , فإنه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا، قالوا: وأما ما ذكرتم من الآثار فنعم , وهاهنا أمثالها , ولكن كان ذاك إذ الناس ناس. وأما الآن فكلا , إذ كان الأمر قد تغير في زمن مالك وابن أبي ليلى , حتى قال مالك: كان من أمر الناس القديم إجازة الخواتم , حتى إن القاضي ليكتب للرجل الكتاب , فلم يزد على ختمه حتى اتهم الناس , فصار لا يقبل إلا

زيارة القبور للتبرك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ زيارة القبور للتبرك بسم الله الرحمن الرحيم من مصطفى نور الدين إلى شيخ المرشدين وزعيم المصلحين وإمام المجددين لما درس من أمر الدين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد , فإني سمعت بكتاب اسمه (الإبداع في مضار الابتداع) لمؤلفه الشيخ علي محفوظ , فاستحضرته؛ لأقرأه , فلما وصلت في قراءته إلى صحيفة 87 عثرت على هذه العبارة في السطر الثالث عشر من هذه الصحيفة وهي: (ومن الزيارة التي يرجع نفعها إلى الزائر ما تكون للتبرك , فتستحب لأهل الخير؛ لأن لهم في برازخهم بركات، وعليهم تتنزل الرحمات) , فهل يحسن السكوت على هذه العبارة؟ إن السكوت على هذه العبارة وأمثالها يعد من الكتمان الذي توعد الله عليه في كتابه بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} (البقرة: 159) الآية، خصوصًا وأنها منشورة في كتاب موضوعه من أهم مقاصد أهل الإصلاح , فالثقة والاغترار بها أقرب، وأيضًا فإن المفاسد والأضرار المترتبة على مدلولها كثيرة لا يحصيها إلا الله من الافتتان بالقبور وأصحابها، وهي الفتنة التي عم بلاؤها، وانتشر وباؤها، وعظم داؤها، وعز دواؤها - ولا سبب للإفساد بالقبور وأصحابها إلا الاعتقاد بالانتفاع بما لهم في برازخهم من البركات، وما ينزل عليهم من الرحمات، فإن الإنسان مطبوع على حب النافع , فإذا اعتقد ذلك؛ سعى بكل وسعه في تعظيم أهلها , ثم تدرج من تعظيمهم إلى تعظيم قبورهم بالصلاة عندها والطواف بها وتقبيلها واستلامها ووضع التماثيل عليها , وهي مزينة بأنواع الزينة , حتى العمامة للذكر والخمار للأنثى، وبأشياء كثيرة مما كان يفعله عباد الأصنام لأوثانهم. إن دعوى استحباب زيارة قبور أهل الخير لأجل التبرك دعوى باطلة , وقول على الله بغير علم , ولا دليل عليه أصلاً، بل قامت الأدلة على حرمتها، فإن الأحاديث التي وردت في التحذير من الافتتان بالقبور وأهلها؛ تدل على أن الزيارة لمجرد التبرك محرمة؛ لأن اعتقاد التبرك ذريعة من أعظم الذرائع المفضية إلى أكبر الكبائر وهو الشرك , فقد قال ابن القيم في باب سد الذرائع: (ومن تأمل مصادر الشريعة ومواردها؛ علم أن الله ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها) , وقال في موضع آخر: (إن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بشجر أو حجر، لهذا تجد كثيرًا من الناس عند القبور يتضرعون , ويخشعون , ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في مساجد الله , ولا في أوقات السحر) إلخ. فهذا هو الدليل على حرمة الزيارة إذا كان الغرض منها التبرك , فما الدليل على استحبابها؟ إن الأحاديث التي جاءت بشأن زيارة القبور لا تدل على استحباب الزيارة إلا إذا كان الغرض منها التذكر والاعتبار بالموت وما بعده , ففي حديث مسلم (زوروا القبور؛ فإنها تذكر الآخرة) , فقد قصر علة الزيارة على تذكرة الآخرة فلم يطلق بدون ذكر علة , حتى يمكن أن يقال ولو للتبرك , بل قيدها بهذه العلة , واقتصر عليها , ولم يذكر علة أخرى، وعلى هذا؛ فدعوى استحباب الزيارة لعلة غير التي ذكرت في الحديث , وزيادة علة لا تشبهها في معناها؛ يعد من الابتداع والتشريع لما لم يأذن به الله، ويعد افتياتًا على الشارع، بل معارضة لمقاصده من سد الذرائع المفضية إلى الشرك بالقبور وأهلها , وهذا هو الابتداع بعينه، ومن المصيبة أن هذه العبارة منشورة في كتاب اسمه (الإبداع في مضار الابتداع) , ويا ليته ابتداع لم يترتب عليه ضرر؛ بل قد ترتب على هذه الفرية (استحباب الزيارة للتبرك) من المضار والمفاسد ما لا يحصيه إلا الله. فجميع أنواع البدع التي تفعل عند قبور الصالحين لا سبب لها إلا الاعتقاد بأن لهم في برازخهم بركات , وعليهم تنزل الرحمات، وأنهم ينتفعون بتلك البركات والرحمات، ولذلك تجد عوام الناس , بل وخواصهم لا يقصدون من زيارة قبور الصالحين إلا هذه الغاية، فهل تجد أحدًا يقصد قبور الصالحين للتذكر والاعتبار بالموت وما بعده؟ كلا , إنما كانت زيارة القبور عبادة مستحبة؛ لأن الغرض منها أمر محبوب للشارع مقصود له , وهو التذكر والاعتبار، فكيف تكون الزيارة بقصد التبرك عبادة مستحبة والغرض منها إنما هو من هوى النفس وحظوظها؟ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ} (النجم: 23) . ثم يقال لأهل هذه الضلالة أيضًا: من أين أتاكم أن البركات التي لأهل الخير في برازخهم , والرحمات التي تنزل عليهم تنال زائريهم؟ والحال أن هذا أمر غيبي لا يصح أن يقال إلا عن توقيف من الشارع , إذ لا مجال للرأي والعقل فيه , ويا ليتهم اقتصروا على هذه الفرية؛ بل رتبوا عليها حكماً شرعيًّا , وقالوا: يستحب زيارة أهل الخير لما لهم في برازخهم من البركات , وما ينزل عليهم من الرحمات , سبحانك هذا بهتان عظيم، وهل تدري أيها القارئ من أين أتت هذه الضلالة , وأدخلت في الدين؟ جاءت من الفلاسفة الضالين المضلين التاركين لنصوص الشريعة معتمدين على عقولهم وآرائهم؛ فضلوا , وأضلوا، فقد قال ابن القيم في إغاثته: (إن أصل هذه الزيارة البدعية الشركية مأخوذة من عباد الأصنام , فإنهم قالوا: إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا يزال تأتيه الألطاف من الله تعالى , وتفيض على روحه الخيرات، فإذا علق الزائر روحه به , وأدناه منه؛ فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها) .ا. هـ ثم قال: وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي، ثم قال: وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذها مساجد , وبناء المساجد عليها , وتعليق الستور عليها، وإقامة السدنة لها، ودعاء أصحابها، والدعاء بهم , والنذر لهم، وغير ذلك من المنكرات، والله قد بعث رسله , وأنزل كتبه بإبطال ذلك , وتكفير أصحابه ولعنهم , وهو الذي قصد رسول الله إبطاله , ومحوه بالكلية، وسد الذرائع المفضية إليه، فوقف هؤلاء الضالون المضلون في طريقه , وناقضوه في قصده، وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وقرب من السلطان , وهو شديد التعلق به , فما حصل من السلطان من الإنعام والإفضال نال ذلك المتعلق من حصته بحسب تعلقه به، وبهذا السبب عبد الناس أصحاب القبور. وقال أيضًا رضي الله عنه: ولا تحسبن أيها المؤمن المنعم عليه باتباع الصراط المستقيم أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانًا فيه غض من أصحابها , وتنقيص لهم، كلا ليس هذا من تنقصهم كما يحسبه الجهال أهل البدع والضلال، بل هو من تعظيمهم وإكرامهم واحترامهم وسلوك فيما يحبون، واجتناب لما يكرهون، وأنت - وايم الله - وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم، وأنت على هداهم. وأما هؤلاء المبتدعون الضالون , فقد نقصوهم في صورة التعظيم، فهم أبعد الناس من هداهم ومتابعتهم , كالنصارى مع المسيح، واليهود مع موسى، والروافض مع علي. هو من قبيل الصديق الجاهل الذي هو أضر من العدو العاقل، فأهل الحق أحق بأهل الحق من أهل الباطل , والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض , والمنافقون والمنافقات بعضهم من بعض , فإن القلوب إذا اشتغلت بالبدع؛ أعرضت عن السنن، ولذلك نجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من كان يتبع السنن ويحييها، مشتغلين بغير ما أمر به ودعا إليه. وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما تكون باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعلم الصالح , واقتفاء آثارهم , وسلوك طريقهم دون عبادة قبورهم , والعكوف عليها , واتخاذها أوثانًا , فإن من اقتفى آثارهم كان سبباً لتكثير أجورهم باتباعه لهم، ودعوة الناس إلى اتباعهم، فإن أعرض عما دعوا إليه , واشتغل بضده، حرم نفسه وإياهم من ذلك الأجر، فأي تعظيم واحترام له في هذا.. انتهى. هذا وإني كنت أود أن الرد على هذه العبارة المضلة يكون من فضيلتكم؛ لما هو معلوم من البون الشاسع بين ما أوتيتم من سعة العلم , وما أوتيه مثلي، ولكن لعلمي بكثرة مشاغلكم الإصلاحية؛ كتبت هذا الذي يسر الله لي , فقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) , وقال: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (الطلاق: 7) , ولكن ما فائدة الكتابة بدون نشر، ومن ينشر مثل هذا غير مجلتكم المنار مجلة الإصلاح الوحيدة في هذا الزمان، وإني لا أجد من ينصر هذا الحق ويعينني عليه غيركم , فقد قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2) , وقال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (التوبة: 71) وفقنا الله وإياكم، وبارك لنا فيكم , ونفعنا بعلومكم والسلام عليكم. ... ... ... ... ... ... كاتبه: مصطفى نور الدين بدمياط (المنار) إن كتاب الإبداع هذا لم يهد إلينا , وإنما رأينا نسخة منه جيء بها إلى مكتبة المنار لأجل تجليدها لصاحبها , فنظرنا في فهرسه وبعض أوراقه؛ فسرَّنا أن يؤلف مدرس في الأزهر كتابًا في مضار الابتداع , وينكر كثيرًا من البدع التي يشارك الأزهريون فيها العامة , ويتأولون النصوص الدالة على حظرها، ورأينا في النظرة العجلى القصيرة الزمن بعض مسائل منتقدة , لعل هذه المسألة منها , وأحببنا لو يتاح لنا تصفح الكتاب كله لبيان منافعه وفوائده , والتنبيه لما ينتقد منه لعله يجتنب في الطبعة الثانية المرجوة لمثله , ثم لم نره بعد ذلك.

تقريظ الأستاذ الكبير صاحب الفضيلة الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ الأستاذ الكبير صاحب الفضيلة الشيخ: مصطفى نجا - مفتي بيروت لخلاصة السيرة المحمدية حضرة الأستاذ العلامة المفضال السيد محمد رشيد رضا المكرم أدام الله تعالى توفيقه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد اطلعت على كتاب (خلاصة السيرة المحمدية) , وتأملت فيه؛ فوجدته من أنفس الكتب التي ألفت لتهذيب نفوس أولاد المسلمين , وتعليمهم مكارم الأخلاق التي بعث بها نبينا صلى الله عليه وسلم. فيا له من كتاب علمنا كيف يكون الاقتداء بإمام المرسلين ورسول رب العالمين الذي شرف الإنسانية بفضائله وآدابه الصحيحة السامية! ، ولكن أكثر الذين تعلموا من أولادنا , وتربوا في مدارس الأغيار , وغيرها من المدارس الأهلية التي اقتفت أثر الغرب في التربية والتعليم لا يعرفون فضل ما جاء به هذا النبي الكريم حق المعرفة , فإذا ذكر اسمه الشريف لا يصلون عليه , ولا يسلمون لغفلتهم عما يجب عليهم من تعظيمه , وقلما نرى أحدًا منهم متدينًا حق التدين، وربما كان السبب في ذلك الآباء والمعلمون , فلأجل المحافظة على عقائدهم الدينية , وتنوير عقولهم بأنواره عليه الصلاة والسلام؛ أرى من الواجب على نظار المدارس الإسلامية أن لا يوسدوا أمر التربية والتعليم إلا إلى العالم المتدين الذي يهتم بأمر المسلمين , ويعرف طرق التربية الحقيقية , وأن يقرروا كتاب خلاصة السيرة المحمدية للتدريس في مدارسهم لأنه من أفضل كتب المطالعة التي لها في القلوب أجمل تأثير , وشأن عظيم في التربية الروحية والأدبية والاجتماعية، بل هو فريد في بابه، مفيد لطلابه، رواياته صحيحة، وعباراته فصيحة، والأخذ منه سهل على المعلم والمتعلم، وهو ذخيرة للناشئين، وتذكرة للمتعلمين، كما قلت أيها الأستاذ الناصر للسنة السنية الحريص على نفع الأمة. فلك منا على تأليفه الثناء الجميل , ونرجو الله تعالى أن يمنحك الأجر الجزيل؛ ... ... ... ... ... ... ... ... (الختم) مفتي بيروت

حفلة التأبين الكبرى

الكاتب: أحمد شوقي

_ حفلة التأبين الكبرى كانت الحفلة الكبرى لتأبين سعد باشا ورثائه أفخم وأعظم وأشجى من كل ما سبقها من أمثالها كسائر مظاهر إجلال الرجل حيًّا وميتًا , وقد خطب فيها أعظم رجال مصر من الوزراء والشيوخ والنواب وغيرهم , وأنشدت القصائد لأشعر الشعراء كما أشرنا إليه في فصل ترجمة الفقيد، وإننا ننشر في هذا الجزء مرثية أحمد شوقي بك أمير الشعراء , وسننشر من بعدُ بعضَ الخطب الجليلة؛ حتى لا يحرم قراء المنار من أبلغ ما قاله أفصح العرب في هذا العصر في نابغة العرب في السياسة والفصاحة العربية , وهي هذه: شيعوا الشمس ومالوا بضحاها ... وانحنى الشرق عليها فبكاها ليتني في الركب لما أفلت ... يوشع همت فنادى فثناها جلل الصبحَ سوادًا يومها ... فكأن الأرض لم تخلع دجاها انظروا تلقوا عليها شفقًا ... من جراحات الضحايا ودماها وتروا بين يديها عبرة ... من شهيد يقطر الورد شذاها آذن الحق ضحاياه بها ... ويحه! ! حتى إلى الموتى نعاها كفنوها حرة علوية ... كست الموت جلالاً وكساها ليس في أكفانها إلا الهدى ... لُحْمة الأكفان حق وسَداها خَطَرَ النعشُ على الأرض بها ... يحسر الأبصار في النعش سناها جاءها الحق ومن عاداتها ... تؤثر الحق سبيلاً واتجاها ما درت مصر بدفن صُبحت؟ ... أم على البعث أفاقت من كراها صرخت تحسبها بنت الشَّرى ... طلبت من مخلب الموت أباها وكأن الناس لما نسلوا ... شعب السيل طغت في ملتقاها وضعوا الراح على النعش كما ... يلمسون الركن فارتدت نزاها خفضوا في يوم سعد هامهم ... وبسعد رفعوا أمس الجباها سائلوا (زحلة) [1] عن إعراسها ... هل مشى الناعي عليها فمحاها عطل المصطاف من سماره ... وجلا عن ضفة الوادي دماها فتح الأبواب ليلاً ديرُها ... وإلى الناقوس قامت بيعتاها صدع البرق الدجى تنشره ... أرض سوريا وتطويه سماها يحمل الأنباء تسري موهنًا ... كعوادي الثكل في حر سراها عرض الشك لها فاضطربت ... تطأ الآذان همسًا والشفاها قلت يا قوم اجمعوا أحلامكم ... كل نفس في وريديها رداها قلت والنعش بسعد مائل ... فيه آمال بلاد ومناها كلما أمعن في نقلته ... ضجت الأرض على قطب رحاها يا عدو القيد لم يلمح له ... شبحًا في خطة إلا أباها لا يضق ذرعك بالقيد الذي ... حز في سوق الأوالي وبراها وقع الرسل عليه والتوت ... أرجل الأحرار فيه فعفاها يا رفاتًا مثل ريحان الضحى ... كللت عدن بها هام رباها وبقايا هيكل من كرم ... وحياة أترع الأرض حياها ودع العدل بها أعلامه ... وبكت أنظمة الشورى صُواها حضنت نعشك والتفت به ... راية كنت من الذل فداها ضمت الصدر الذي قد ضمها ... وتلقى السهم عنها فوقاها عجبي منها ومن قائدها ... كيف يحمي الأعزلُ الشيخُ حماها منبر الوادي ذوت أعواده ... من أواسيها وجفت من ذراها من رمى الفارس عن صهوتها ... ودها الفصحى بما ألجم فاها قَدَرٌ بالمدن ألوى والقرى ... ودها الأجيال منه ما دهاها غال (بسطورا) وأردى عصبة ... لمست جرثومة الموت يداها طافت الكأس بساقي أمة ... من رحيق الوطنيات سقاها عطلت آذانها من وتر ... ساحر رن مليا فشجاها أرغنٌ هام به وجدانها ... وأَذانٌ عشقته أُذُناها كل يوم خطبة روحية ... كالمزامير وأنغام لغاها دلهت مصرًا ولو أن بها ... فلوات دلهت وحش فلاها ذائد الحق وحامي حوضه ... أنفذت فيه المقادير مناها أخذت سعدًا من (البيت) يد ... تأخذ الآساد من أصل شراها لو أصابت غير ذي روح لما ... سلمت منها الثريا وسُهَاها [2] تتحدى الطب في قفازها ... علة الدهر التي أعيا دواها من وراء الإذْن نالت ضيغمًا ... لم ينل أقرانه إلا وجاها لم تصارح أصرح الناس يدًا ... ولسانًا ورقادًا وانتباها هذه الأعواد من آدم لم ... يهد خفاها ولم يعر مطاها نقلت (خوفو) ومالت (بمنا) ... لم يَفُتْ حيًّا نصيب من خطاها تخلط العمرين شيبًا وصبًا ... والحياتين شقاءً ورفاها زورق في الدمع يطفوا أبدًا ... عرف الضفة إلا ما تلاها تهلع الثكلى على آثاره ... فإذا خف بها يومًا شفاها تسكب الدمع على سعد دمًا ... أمة من صخرة الحق بناها من ليان هو في ينبوعها ... وإباء هو في صم صفاها لقن الحق عليه كهلها ... واستقى الإيمان بالحق فتاها بذلت مالاً وأمنًا ودما ... وعلى قائدها ألقت رجاها حملته ذمة أوفى بها ... وابتلته بحقوق فقضاها ابن سبعين تلقى دونها ... غربة الأسر ووعثاء نواها سفر من عدن الأرض إلى ... منزل أقرب منه قطباها قاهر ألقى به في صخرة ... دفع النسر إليها فأواها كرهت منزلها في تاجه ... درة في البحر والبر نفاها اسألوها واسألوا شانئها ... لِمَ لَمْ ينف من الدر سواها ولد الثورة سعد حرة ... بحياتي ما جدٌّ حُرٌّ نماها ما تمنى غيرها نسلاً ومن ... يلد الزهراء يزهد في سواها سالت الغابة من أشبالها ... بين عينيه وماجت بلباها بارك الله له في فرعها ... وقضى الخير لمصر في جناها أو لم يكتب لها دستورها ... بالدم الحر ويرفع منتداها قد كتبناها فكانت صورة ... صدرها حق وحق منتهاها رقد الثائر إلا ثورة ... في سبيل الحق لم تخمد جذاها قد تولاها صبيًّا فكوت ... راحتيه وفتيا فرعاها جال فيها قلمًا مستنهضًا ... ولسانًا كلما أعيت حداها ورمى بالنفس في بركانها ... فتلقى أول الناس لظاها أعلمتم بعد موسى من يد ... قذفت في وجه فرعون عصاها وطئت ناديَه صارخة: ... شاهَ وجهُ الرق يا قوم وشاها ظفرت بالكبر من مستكبر ... ظافر الأيام منصورًا لواها القنا الصم نشاوى حوله ... وسيوف الهند لم تصح ظباها أين من عيني نفس حرة ... كنت بالأمس بعيني أراها كلما أقبلت هزت نفسها ... وتواصى بشرها بي ونداها وجرى الماضي فماذا ادكرت ... وادكار النفس شيء من وفاها ألمح الأيام فيها وأرى ... من وراء السن تمثال صباها لست أدري حين تندى نضرة ... علت الشيب أم الشيب علاها؟ حلت السبعون في هيكلها ... فتداعى وهي موفور بناها روعة النادي إذا جدت فإن ... مزحت لم يذهب المزح بهاها يظفر العذر بأقصى سخطها ... وينال الود غايات رضاها ولها صبر على حسادها ... يشبه الصفح وحلم عن عداها لست أنسى صفحة ضاحكة ... تأخذ النفس وتجري في هواها وحديثًا كروايات الهوى ... جد للصب حنين فرواها وقناة صعدة لو وهبت ... للسماك الأعزل اختال وتاها أين مني قلم كنت إذا ... سمته أن يرثي الشمس رثاها خانني في يوم سعد وجرى ... في المراثي فكبا دون مداها في نعيم الله نفس أوتيت ... أنعم الدنيا فلم تنس تقاها لا الحجى لما تناهى غَرَّهَا ... بالمقادير ولا العلم زهاها ذهبت أوابة مؤمنة ... خالصًا من حيرة الشك هداها آنست خلقًا ضعيفًا ورأت ... من وراء العالم الفاني إلها ما دعاها الحق إلا سارعت ... ليته يوم (وصيف) ما دعاها ((يتبع بمقال تالٍ))

شعر في وصفة طبية قديمة جواب عن سؤال

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شعر في وصفة طبية قديمة جواب عن سؤال مقتبسة من كتاب أطباء العرب في ألمانيا الذي يشتغل بتأليفه الدكتور زكي كرام. شكا الوزير أبو طالب العلوي آثار بثر بَدَا على جبهته , ونظم شكواه شعرًا , وأنفذه إلى الشيخ الرئيس (ابن سينا) وهو: صنيعة الشيخ مولانا وصاحبه ... وغرس إنعامه بل نشء نعمته يشكو إليه أدام الله مدته ... آثار بثر تبدى فوق جبهته فامنن عليه بحسم الداء مغتنمًا ... شكر النبي له مع شكر عترته فأجاب الشيخ الرئيس عن أبياته ووصف في جوابه ما كان به برؤه , فقال: الله يشفي وينفي ما بجبهته ... من الأذى ويعافيه برحمته أما العلاج فإسهال يقدمه ... ختمت آخر أبياتي بنسخته وليرسل العلق المصاص يرشف من ... دم القذال ويغني عن حجامته واللحم يهجره إلا الخفيف ولا ... يدني إليه شرابًا من مدامته والوجه يطليه ماء الورد معتصرًا ... فيه الخلاف مدافًا وقت هجعته ولا يضيق منه الزر مختنقًا ... ولا يصيحن أيضًا عند سخطته هذا العلاج ومن يعمل به سيرى ... آثار خير ويكفى أمر علته ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ز. ك

أنباء العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء العالم الإسلامي (بلادنا المصرية) فقدت هذه البلاد بموت زعيمها الأكبر سعد باشا زغلول ركن نهضتها، وسياج وحدتها، وروح قوتها، ومناط آمالها في نيل الاستقلال التام المطلق، وأثبت لها ما قالته الجرائد البريطانية فيه بعد موته أنها غير مخطئة في آمالها فيه وتعلقها به، ولكنه قد مهد السبيل قبل وفاته للسياسي المحنك عبد الخالق ثروت باشا رئيس الوزارة الائتلافية، للاتفاق مع الحكومة البريطانية على حد عقد الخلاف بمعاهدة بين المملكتين، فإذا أمكن لرجال الوفد وسائر الأحزاب المحافظة على وحدة البلاد واتفاق كلمتها بنظام حكيم يؤدي وظيفة الزعيم في ذلك؛ فإن البلاد تنال بذلك ما كان مرجوًّا لها بوجوده أو ما يقرب منه , وإلا تعذر الاتفاق بين الدولتين , وعاد الجهاد إلى ما كان عليه، فالفرصة الآن سانحة للفريقين بهذا وبحرص الدولة البريطانية على تسوية المشاكل بينها وبين الشعوب الشرقية لئلا تفاجئها الحرب البلشفية العامة الآتية، وهذه الشعوب على عداوتها؛ فيتعذر عليها الاستفادة منها كالحرب التي قبلها أو الأمن من قيامها عليها وانتقامها منها. *** (الشعب التركي) كنا نعلن أن مصطفى باشا كمال يشنأ الإسلام , ويمقته من قبل أن يظهر ذلك، ونعلم أن ملاحدة الترك الموافقين له على السعي لتحويل الشعب التركي عن الإسلام بغضًا فيه , وفي العرب قوم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كثيرون، وكنا نتمنى قبل تأليفه للجمهورية اللادينية لو يظل هو وأركان حزبه يظهرون الإسلام ويحافظون على اسمه وشعائره الظاهرة , ولا يعلنون عداوته مراعاة للشعب التركي فأبوا إلا أن يهدموا كل ما بقي للدولة فيه من مظهر وشعيرة وحكم وعمل وعلم، بعد أن وضعوا في قانون الجمهورية أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، فلم نشك وقد رأينا ما رأينا من هدمهم للإسلام من الدولة , ثم محاولة هدمه في الأمة أن هذا اللقب قد وضع تقية لئلا يكون لمفاجأة الأمة بترك دينها اسمًا ومعنى تأثير تخشى غائلته، وقد صرح مصطفى كمال باشا نفسه أخيرًا بعد أن صرح مرارًا بأن التركي حر في اختيار الدين الذي يعجبه وثنيًّا كان أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، ولعمري إنه ليس حرًّا في أن يكون مسلمًا , فإنه يجبر إجبارًا على استباحة شرائع الإسلام من حلال وحرام. إن الحكومة الكمالية الشخصية العسكرية (الدكتاتورية) قد خصصت زهاء نصف ميزانيتها للمصالح العسكرية وما يتعلق بها من حفظ الأمن في البلاد , وهي في حال السلم , فمزقت شمل المعارضة التي قام بها الزعماء المسلمون , وكذلك الثورات المتتابعة , ولما لم يبق في المملكة صوت يرتفع صرح مصطفى كمال باشا بأن وضع اسم الإسلام في قانون جمهوريته كان مؤقتاً , وقد حان الوقت. ومن أعجب أمر انتكاس المسلمين في دينهم وعقولهم أن أكثرهم لم يكونوا يصدقون أن مصطفى كمال باشا قد انتزع الدولة التركية من حظيرة الإسلام , وأنه يحاول انتزاع الشعب التركي منها، فإن منهم من سمى إلغاءه للأحكام الشرعية ومحاكمها توحيدًا للمحاكم لا ينافي الإسلام - وسمى منعه للتعليم الإسلامي وإبطاله لمدارسه توحيدًا للتعليم التركي لا ينافي الإسلام , وسمى تفضيله للقوانين الأوربية المسيحية الأساس كقانون سويسرة للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث إيثارًا للأحكام المدنية الجديدة على الأحكام الدينية القديمة الرثة البالية كما يقول هو وحزبه. ولم يصرحوا بهذا إلا بعد أن صرح به كبراء الدولة الجديدة من الحكام وأصحاب الجرائد، فكل ما ذكر لم يمنع بعض مسلمي الهند من إرسال وفد له يعرض عليه منصب الخلافة الإسلامية؛ فرده خائبًا خاسرًا كما يستحق.! ! ! وقد بلغنا رواية عن بعض كبراء الترك في أوربة ونحن فيها منذ بضع سنين أن مصطفى كمال باشا يرجح تنصير الشعب التركي , ولكنه يود أن يأخذ ثمنًا على ذلك من الدولة البريطانية هو أن تعامل الشعب التركي معاملة الأقران والأمثال، وتحالفه محالفة الأنداد والأقتال، وكان يرجو هذا بإلغاء الخلافة وإعلان اللادينية؛ فعز المنال. من أشهر الكتاب الذين كانوا يغشون المسلمين بهؤلاء الملاحدة عمر رضا أفندي المصري الأصل المقيم في الآستانة الذي كان يراسل جريدة الأخبار المصرية الإسلامية قبل أن يصير أمر الحكومة التركية إلى هذا الحد من إظهار الكفر وعداوة الإسلام , فلما برح الخفاء استبدل جريدة السياسة المؤيدة لنزعة الترك الإلحادية بجريدة الأخبار الإسلامية التي صارت مناوئة ومقاومة لهم. كتب الأمير شكيب أرسلان مقالات في إظهار خفايا شنآن الحكومة التركية الجديدة للإسلام وللعرب نشرتها جريدة الأخبار , فتولى الرد عليها عمر رضا أفندي هذا وبعض أصحاب الجرائد التركية، ثم شايعتهم جريدة السياسة في مصر، ولم يرد له أحد حجته، ولا نقض له قضيته، وإنما جادلوا وماروا بالباطل , وزعموا أنه ليس له حق في الدفاع عن الإسلام لأنه من طائفة الدروز! ! ولا عجز أظهر من عجز من يحاول دفع حجة خصمه بأنه ليس أهلاً لإيرادها بسبب نسبه أو زعامته وزعامة بيته لطائفة كذا - فأي علاقة بين المباحث العلمية والشرعية والتاريخية , وبين كون الباحث زعيمًا لطائفة من الناس لا علاقة لهم بموضوع بحثه إلا أن تكون موافقته على الانتصار للإسلام، وتأييده في جهاد الكفر والإلحاد؟ طائفة الدروز من الشيعة الباطنية الذين انشقت عصا الخلافة بينهم وبين أهل السنة في القرون البائدة؛ فكانوا طرائق قددًا , منها جمعيات سرية ألبست لباس الدين لجعل صلتها برؤسائها تعبدية لا مجال للرأي فيها وهم من صميم الأمة العربية ولبابها , لا يعرف أكثر أفرادها من تلك التعاليم الباطنية شيئًا، والذين تعلموا التاريخ من رجالها قد عرفوا أن تلك التعاليم كانت مكرًا من مجوس الفرس بالعرب ليفرقوا كلمتهم، ويضعفوا شوكتهم؛ ليزول ملكهم، ويتقلص ظلهم عن بلاد فارس فيعود لها ملكها التليد، ولذلك يسعى هؤلاء العلماء إلى رد من بقي من طائفتهم محافظًا على تلك التعاليم الباطنية إلى مذهب أهل السنة والجماعة، وقد استشارني كثيرون من نابغي شبانهم في هذا، على أن الذين لا يزالون يعرفون تلك التعاليم السرية أفراد من الطائفة يسمون رجال العقل ويشترط في اطلاعهم عليها استمساكهم بكثير من الفضائل والآداب التي يقل في الناس من يحافظ عليها. وباقي أفراد الطائفة لا يعرفونها فهم لا يعدون دروزًا إلا بالنسب، ككثير من المنتسبين إلى السنة وهم على بدع بعضها شرك صريح بالله، وبعضها من كبائر المعاصي , ومنهم الذين عرفوا مذهب السنة واعتصموا به. وأما الأمير شكيب نفسه فهو من أنبغ مريدي الأستاذ الإمام الذين تلقوا عنه عقائد السنة السلفية وحكمتها العالية في بيروت حيث ألف رسالة التوحيد التي لم يؤلف مثلها في الإسلام، فكان بهذا من أنصار الإسلام والسنة لا من آحاد المسلمين أو عوامهم، وقد قال له السيد جمال الدين حكيم الملة: حيا الله أرض إسلام أنبتتك. وقد كان يصلي معي في فنادق أوربة أيام صحبته لي فيها، فيا ليت لهؤلاء الذين عَرَّضُوا بدينه أو مذهبه بعض ما هو عليه من العلم الصحيح بالإسلام والعمل به، دع الدفاع عنه والنضال دونه. ولما كان الانتقاد في فوضى هذا العصر القلمية كالحمارة العرجاء يركبها كل ضعيف؛ رأينا في بعض الجرائد انتقادات لغوية وشرعية على بعض عبارات للأمير شكيب في بعض مقالاته , كان المنتقدون له فيها هم المخطئين , حتى في مسألة المصالح المرسلة ويسر الشريعة التي كانت عبارته فيها غير محررة على الاصطلاح الإسلامي الفقهي , ولم نفرغ يومئذ لتحقيق الحق فيها. *** (الشعب السوري والثورة) لكل مظهر من مظاهر الاجتماع البشري ظاهر وباطن، ولا سيما الثورات والحروب فإنها كثيرًا ما تخفي حقيقتها وحقيقة رجالها زمنًا طويلاً إن لم يكن دائمًا. وقعت الثورة السورية فعمل فيها بعض الناس اختيارًا، واضطر بعضهم إلى الدخول فيها اضطرارًا، وكان هَمُّ بعض هؤلاء استغلالها والربح منها، وشاركهم في هذه القصد آخرون ممن يشتغلون بالسياسة السورية حيثما وجدوا سواء كانوا في داخل البلاد أو في خارجها، ومن طلاب الربح من يطلب المال، ومنهم من يطلب الجاه كالزعامة والرياسة وكثرة الأتباع والأنصار. وكان من أكبر جنايات هؤلاء المرائين أنهم أحدثوا شقاقًا في الأمة بطعن بعضهم في الرجال الذين كانوا يتولون إيصال الإعانات إلى أهلها، لأنهم لم يستطيعوا إرضاء طمعهم وإشباع نهمتهم، ومن دلائل سوء نيتهم وفساد طويتهم استعانتهم على فعلتهم ببعض الجرائد المستأجرة للمستعمرين خصومهم، ومن جرائمهم أنهم كتبوا إلى كرام المهاجرين الذين في البلاد الأميركانية مكتوبات تثبط عزيمتهم وتقبض أيديهم عن إعانة المنكوبين في هذه الثورة، ولا سيما أباة الضيم الذين أَبَوْا التسليم المخزي وأووا إلى حدود نجد يعتصمون فيها بعد أن أخرجتهم حكومة الأمير عبد الله بن حسين الهاشمي من أرض الشرق العربي بأمر سادته الإنكليز. ولم يكتف هؤلاء بهذه الجريمة، بل ارتكبوا جريمة شرًّا منها أو مثلها , وهي الوشاية باللاجئين إلى حدود نجد وبمن يخدمونهم ويسعون لسد رمقهم , فقد كتبوا إلى جلالة ملك الحجاز ونجد من الطعن الكاذب في إخوانهم ما لا يرضاه لنفسه إلا الشيطان الرجيم عدو البشر. ثم دبت عقاربهم إلى اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني التي كانت منذ أسست موضع إجلال جميع السوريين وثنائهم، فاحتلوا مكتبها وناديها وجعلوه مركزًا لجميع ما تقدم ذكره آنفًا من الفساد والفتن، حتى اضطر أكثر الأعضاء إلى هجر ذلك المكتب والاشتغال في مكان آخر - وقد بذلت كل ما استطعت من جهد لتلافي ذلك فما استطعت إلى ذلك سبيلاً، وقد سعى بعض فضلاء الإخوان هنا لما عجزت عنه , ولا أزيد الآن على ما ذكرت إلا إذا خاب سعيهم. ولكن من المحزن أن يلجأ من رفعه سادة المسلمين وكبراؤهم , ووضعوه فوق رؤوسهم إلَى الاستعانة على مقاومتهم برجال الكنيسة ومتعصبي الدين والسياسة؛ لينصروه باسم النصرانية على المسلمين، ويزعم هو وهم أنهم نبذوه لأجل دينه، فهل كان حين رفعوه مسلمًا أو " ما عدا مما بدا "؟ نفاق وشقاق، وخلف وافتراق , وقر لا يطاق، وبيوت مخربة، وقرى مهدمة، ومزارع مستأصلة، وهجرة من البلاد متصلة، وذل وعبودية، وشكوى عامة من الحالة الاقتصادية، وتخبط في التصرفات السياسية - كل هذا بعض ما تئن منه سورية، وكل هذا وأكثر منه لم يصرف بعض شبان أم الوطن (دمشق) وشوابها عن فتنة التفرنج، القاتلة للتدين، والتعرب، المزينة باسم التجدد. فأما الشبان فيريدون تزيين رءوسهم بالبرنيطة ليكونوا كبعض محرري جريدة السياسة المصرية والهلال المصري مجددين، فإن كانوا لا يعلمون من هذا التجديد أو التجدد إلا لبس البريطانية لسهولته، وخفة مؤنته، والسبق إلى التميز عن الجمهور به، فليعلموا أن من أساتذتهم في مصر من يدعو جهرًا إلى ترك الدين - كل دين ألبتة، ومنهم من يدعو إلى ترك الجنسية النسبية، وقطع الرابطة الوطنية، والتجنس بجنسية أوربية، فإن كانوا كذلك فما عليهم إلا أن يتجنسوا بالجنسية الفرنسية مباشرة كما يقول المثل الذي يكثر من ضربه أبو حامد الغزالي: (كن يهوديًّا صرفًا وإلا فلا تلعب بالتوراة) , وإلا فلبس البرنيطة وحدها لا تفيدهم علمًا ولا عملاً، ولا عزًّا، ولا شرفًا، وأقل

سمت القبلة وأدلتها وأقواها بيت الإبرة والقطب الشمالي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سمت القبلة وأدلتها وأقواها بيت الإبرة والقطب الشمالي (س25) من صاحب الإمضاء في أسريجه - منوفية مصر. حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا أطال الله حياته السلام عليكم ورحمة الله , وبعد عهدناك نصيرًا للشريعة عاملاً على توضيح ما يَدْلَهِمّ علينا منها؛ لذا طرقنا باب فضيلتكم لنستنير برأيكم في موضوع تجادلنا فيه , ولم يقتنع كل منا بأقوال أخيه , نرجو التكرم بإثبات الحقيقة ولكم الأجر والثواب. يا صاحب الفضيلة قال بعضنا: إن البوصلة (بيت الإبرة) هي العلامة الوحيدة لقبلة الصلاة لأن عقربها لا يقف إلا مقابلاً لبناء الكعبة , فراجعه البعض الآخر قائلاً: إن البوصلة ما وضعت إلا لمعرفة الجهات الأربع (الشمال , والجنوب , والشرق , والغرب) وبها يهتدي الملاحون والطيارون إلى الجهات التي يقصدونها. وعلامة القبلة: هي قطب السماء مستدلاًّ على ذلك بقول سادتنا العلماء في كتب الفقه (شعرًا) : قطب السما اجعل حذو أذن يسرى ... بمصر والعراق حذو الأخرى والشأم خلفًا وأمامًا باليمن ... مواجهًا تكن بذا مستقبلن وفسر الحذو أن يجعل القطب مقابلاً لثقب الأذن اليسرى. فقال البعض الأول: إن معنى الحذو أن يكون القطب خلف الأذن لا مقابلاً لها، وقال أيضًا: إن كتب الفقه محرفة , وكل واقف للصلاة في محراب المساجد كلها حتى محراب الجامع الأزهر يجعل القطب خلف أذنه اليسرى لا مقابلاً لها , ثم قال: إنه لا يصح مخالفة محراب المساجد , ولو تبين له بالدليل الشرعي أنه منحرف انحرافًا كبيرًا , ثم قال: إنه لو قال كائن من كان بخلاف ذلك يكون كاذبًا ولا يصح الاقتداء به. لذا نرجو التكرم علينا بشرح أقوال الطرفين شرحًا وافيًا؛ حتى يتبين لنا الحق فنتبعه , وهل الذي يجعل القطب خلف أذنه بمصر عامدًا متعمدًا صلاته صحيحة أم لا؟ جعلكم الله مصباحًا نستضيء به في ظلمات الشبهات. وتفضلوا يا صاحب الفضيلة بقول احتراماتنا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... مرسي سيف ... ... ... ... ... ... ... ... ... بأسريجة - منوفية (ج) إن بيت الإبرة تقف إبرته المشابهة لعقرب الساعة وأحد طرفيها متجه إلى جهة الشمال دائمًا , وهو الطرف الأخضر القصير , والطرف الآخر متجه إلى جهة الجنوب فيعرف بذلك الشرق والغرب وسائر الجهات غير الأصلية من الخطوط التي ترسم في قاعدتها , فيستدل بها على القبلة من يعرف موقعها في كل قطر , والعلم الخاص بذلك علم تقويم البلدان , ولكن الفقهاء يذكرون ذلك في كتبهم , ومنهم من ألف في ذلك رسائل مخصوصة، ومن المعلوم المنصوص في الكتب أن الجنوب قبلة المدينة والشام , والشمال قبلة اليمن وأما قبلة مصر فهي بين الجنوب والشرق، ويقابلها العراق فقبلتها بين الجنوب والغرب، ويعرف هذا وذاك بخطوط بيت الإبرة. وأما نجم القطب الشمالي فهو أضبط الأدلة لمعرفة الجهات لأنه ثابت لا يتغير موقعه في الشمال، فمن استدبره؛ كان متوجهًا إلى الجنوب , لذلك يجعله أهل الشام وراء ظهورهم في صلاتهم إلخ. فعلم من ذلك أن أهل مصر يجعلونه خلف الأذن اليسرى لأن قبلتهم بين الجنوب والشرق , وحذو الشيء وحذاؤه مقابله وتجاهه لا خلفه , وإنما يكون القطب حذاء ثقب الأذن اليسرى لمن كانت قبلته جهة الجنوب كأهل المدينة المنورة وأهل الشام، وكذلك قال الفقهاء في الكتب التي نعرفها، فصواب الشعر الذي ذكرتموه " خلف أذن يسرى " وإلا فهو خطأ. وأما المحاريب في البلاد الإسلامية فالمتواتر منها معتمد لا يحتاج فيه إلى اجتهاد، وليس لأحد فيها رأي، ومنها محراب الجامع الأزهر، ولا يعتد بقول من يخالف ذلك ولا قول من يقول إن كتب الفقه محرفة - هكذا على الإطلاق - فكثير من كتب الفقه في غاية الضبط والإتقان، وما يقع في بعضها من تحريف النساخ أو المطابع فيعرفه الفقهاء، ومنها الأصول المصححة على مصنفيها أو خطوطهم والمتلقاة بالإجازة والتلقين أحدهما أو كليهما. والله أعلم.

تعريف الأمراض بالأوهام وسؤال عن 3 أحاديث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعريف الأمراض بالأوهام وسؤال عن 3 أحاديث (س26) لصاحب الإمضاء في بيروت. حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام مفتي الأنام ومرجع العلماء الأعلام شيخ الإسلام الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , وبعد فإني أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه خدمة لله تعالى ولرسوله ولعامة المسلمين وخاصتهم , وأطلب إلى سيادتكم أن لا تحيلونا على فتاوى سبقت لكم في مجلدات مجلة المنار بهذا الشأن لأننا خلو منها , والله تعالى يكلؤكم برعايته , ويمدكم بتوفيقاته ويجزل لكم الأجر والثواب في الدنيا والآخرة. ما قولكم دام فضلكم فيمن يتوهم له أنه إذا لبس الثوب الفلاني أو إذا دخل المنزل الفلاني أو إذا فعل الأمر الفلاني أو إذا قرأ السورة الفلانية أو الآية الفلانية أو الفائدة الفلانية وغير ذلك يصيبه المرض الفلاني أو المرض الفلاني أو يموت , وإذا قرأ أوراده في الصباح والمساء يتوهم أنه لم يقرأ الجملة الفلانية أو لم يبينها أو يلحن فيها فيكررها المرة بعد المرة , فهل كل ذلك وسوسة شيطانية أم لا؟ وما حكم الله تعالى ورسوله في ذلك كله؟ وهل لكل ذلك دواء شاف في الشريعة المطهرة أم لا؟ - وهل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين أم لا وهما (يس لما قرئت له) وفي رواية أخرى: (يس قلب القرآن) و (خذوا من القرآن ما شئتم لما شئتم) ؟ تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... السائل: عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت (ج) للأمراض أسباب ليس منها لبس ثوب معين، أو دخول دار معينة، أو قراءة آية أو سورة أو ورد ولا تركها، ولكن قد يكون في بعض الثياب أو الدور أقذار مشتملة على جراثيم بعض الأمراض؛ فيكون لبسها أو دخولها سببًا للمرض باتصال تلك الجراثيم باللابس أو المقيم في الدار لا لذات الثوب أو الدار- وما عدا ذلك فأوهام خرافية لا علاج لها إلا العلم الصحيح بالأسباب والمسببات وسنن الله في صحة الأبدان، ويحكم الشرع بأن هذه الأوهام جهالة ما أنزل الله بها من سلطان , وتكرار الآية أو الجملة أو الكلمة من الورد أو غيره لتوهم اللحن أو الترك وسوسة شيطانية سببها كما قال العلماء قلة العقل أو الجهل بالشرع. أما حديث: (يس لما قرئت له) فقال الحافظ السخاوي: لا أصل لهذا اللفظ , ولكن حديث (يس قلب القرآن) مروي وله تتمة , ولكنه ليس بصحيح , وأما حديث (خذوا من القرآن ما شئتم لما شئتم) فلم أره في شيء من كتب الحديث.

الاعتماد على كتب ابن تيمية والطاعن فيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاعتماد على كتب ابن تيمية والطاعن فيه (س27) من صاحب الإمضاء في زنجبار ما قولكم فيمن اعتقد وصرح بأن من يعتمد على كتب ابن تيمية الإمام المشهور لا يؤخذ قوله ولا يجوز العمل بأقواله ولا أن يولى القضاء ولا الشهادة؟ بحجة أنه خرق الإجماع في ستين مسألة في مذهب أهل السنة والجماعة محمد عبد الله قرنح (ج) إن من اعتقد ما ذكر جاهل بالشرع مقلد لأمثاله من العوام المقلدين , فإن كان يعني بالاعتماد على كتب ابن تيمية تقليده في كل ما يراه فيها , فحكم مقلده فيها حكم مقلد غيره من علماء المسلمين , ومنهم أئمة الفقه المشهورون , دع من دونهم من مقلديهم , وقد بينا ذلك مرارًا بالتفصيل تارة وبالإجمال أخرى , وآخر ما نشرناه في ذلك وفي بيان مكان ابن تيمية وكتبه ما رآه السائل في باب الفتاوى من الجزء السادس من هذا المجلد وهو يغنينا عن الإطالة هنا. إلا أننا نزيد عليه أن جميع أئمة الشرع يقولون بأن شرط من يولى القضاء أن يكون مجتهدًا في الشرع، ومن قال: يصح تولية المقلد القضاء اشترط فيه عدم وجود المجتهد الصالح للقضاء، وقالوا: إنه يُسْتَفْتَى في الوقائع غير المنصوصة , وهم يشترطون الاجتهاد في المفتي. وأمثال هؤلاء ينتفعون بكتب ابن تيمية أكثر من انتفاعهم بكتب سائر فقهاء المذاهب لأنه يذكر المسائل بأدلتها ويرجح بينها بدون التعصب لمذهب أو إمام، وأمثال هؤلاء يعرفون ما عساه يخالف الإجماع من أقواله إن وجد كما ادعى بعض المتعصبين عليه ممن لا يبلغون رتبة أوسط تلاميذه. وأما الشهادة فشرطها العدالة ولا دخل فيها لكتب ابن تيمية ولا غيره.

افتراء عقائد في عالم الغيب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ افتراء عقائد في عالم الغيب وحياة الرسول فيه وجعله عقيدة وتكفير من لا يتبع مبتدعها فيها (ومنه) هل يجب على المؤمن أن يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم حي في قبره حياة دنيوية، وأنه يتمشى في الكون على ما يشاء وأن ذاته الشريفة تحضر في المجلس الذي تقرأ فيه قصة مولده صلى الله عليه وسلم وبالأخص البرزنجي، وأن من لم يعتقد كل ذلك يخرج من دائرة الإسلام , ويفسخ نكاح زوجته ومأواه النار والعياذ بالله؟ وألتمس من حضرتكم فتوى يطمئن بها الخاطر وينشرح الصدر حجة لنا لا علينا , ودمتم محفوظين بالعناية الإلهية آمين والسلام. (ج) ليس لأحد من خلق الله أن يوجب على أحد من عباده عقيدة ليس فيها نص قطعي في كتاب الله أو سنة رسوله , وأجمع عليها أهل الصدر الأول، فإن العقائد لا يقبل فيها دليل القياس عند من يقولون إنه حجة في الشرع دع من يرفضون الاحتجاج به مطلقًا , أو فيما عدا المنصوص على علة الحكم فيه، وذلك لأنه عند المحتجين به دليل ظني خاص بالأحكام العملية , والتحقيق أنه خاص فيما دون التعبديات منها، والله تعالى يقول: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئاً} (يونس: 36) , وأجمعوا على أن أمور الغيب تؤخذ من نصوص الشارع القطعية , ولا يقاس عليها , ولا يحتاج فيها إلى القياس؛ لأنها من أصول الدين والله تعالى يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فإذا تذكرت هذه القواعد القطعية علمت أن من أوجبوا على المؤمن أن يعتقد ما ذكر في السؤال , وكفروه بعدم قبول زعمهم ضالون مضلون قد كذبوا على الله ورسوله وشرعه , ويصدق عليهم قوله تعالى في أصول المحرمات والكفر: {وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) وقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) ومكذبون لقوله عز وجل: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) ومخالفون لإجماع المسلمين، فهم أجدر بالكفر والخروج من الملة ممن يكفرونه بعدم تصديق بدعهم في المولد وقصة البرزنجي وغيره , والواجب عليهم عند إعلامهم بذلك أن يتوبوا ويجددوا إسلامهم , فإن التشريع الديني كفر صريح , وصرح بعضهم أنه أشد من الشرك لأن ضرره متعد , كما بيناه في تفسير سورة الأعراف تبعًا لغيرنا من العلماء , ومنه تكفير المسلمين الذين لا يقبلون بدعهم , وأئمة أهل السنة لا يكفرون مسلمًا إلا بجحد ما هو مجمع عليه ومعلوم من الدين بالضرورة لأن غير المعلوم من الدين بالضرورة يعذر منكره بالجهل. قال صاحب عقيدة الجوهرة: ومن لمعلومٍ ضرورةً جَحَدَ ... من ديننا يقتل كفرًا ليس حد فكيف يكفر المسلم بإنكار البدع , وإنكارها واجب شرعًا؟ وقراءة قصة المولد بدعة , ومن أشد فسادها اعتقاد هؤلاء المبتدعة ما ذكرتموه بشأنها , وهو كفر صريح , وقصة البرزنجي وغيرها فيها مشتملة على أكاذيب أغنى الله خاتم رسله عنها بما مدحه به في كتابه , وما هدى به من خلقه، وحياته بعد الموت من عالم الغيب , من قال فيه قولاً من رأيه قياسًا على حياة الدنيا التي انقطعت بموته وإلا لم يكن ميتًا؛ فهو كاذب مفتر على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومنه ما ذكرتم في السؤال. ومن عجيب أمر هؤلاء المبتدعة أنهم يخترعون عقائد للإسلام ليس لها أصل من كتاب ولا سنة ولا إجماع، ولم يقل بها أحد من الأئمة المجتهدين على أنه لو قال بها لردها المسلمون عليه. ثم إنهم يطعنون في كتب الإمام المجتهد شيخ الإسلام ابن تيمية لما افتراه عليه بعض المقلدين بزعمهم أنه خالف الإجماع في بعض مسائل الفروع يَعْنُونَ إجماع فقهائهم , وهم يجهلون اختلاف الأئمة وعلماء الأصول في حجية هذا النوع من الإجماع وفي إمكانه أيضًا. وأشهر المسائل التي زعموا أنه خالف فيها الإجماع مسألة الطلاق الثلاث بلفظ العدد مرة واحدة , وسترى قيمة زعمهم في الفتوى التالية.

طلاق الثلاث بلفظ واحد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ طلاق الثلاث بلفظ واحد (س28) من صاحب الإمضاء بكفر مجر (مصر) . حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا المحترم؛ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فقد قلتم في المنار في م28 ج7 ص 12 س 14: (وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية يفتي بوقوع الواحدة وكذا تلميذه العلامة ابن القيم وهذا الذي نعتقده ونختاره) , وحينئذ تكونون أحق من يرجع إليه في استيضاح عبارتيهما , وقد استدل ابن تيمية على رأيه هذا بحديث رواه الإمام أحمد بن حنبل في المسند ص2 ج1 من طريق ابن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن ركانة بن عبد يزيد طلق زوجته سهيمة ثلاثًا , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما تلك واحدة) , وقال: إن هذا الحديث رواه أبو داود في سننه عن ابن عباس من وجه آخر , ولام أبا داود على طعنه على هذا الحديث مع جعله رواية أبي داود شاهدًا لرواية الإمام أحمد هذه كما أوضحه في الجزء الثالث من فتاويه من ص18 إلخ , وقد راجعت سنن أبي داود , فوجدته كما يتضح لكم في (باب نسخ المراجعة بعد الثلاثة تطليقات) , الثاني أن الذي رواه من طريق عبد الرازق عن ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة أيضًا عن ابن عباس أن المطلق هو عبد يزيد أبو ركانة طلق أم ركانة , ونكح امرأة من مزينة , فعابته؛ فاستحضر النبي صلى الله عليه وسلم أولاده ركانة وغيره وأمر عبد يزيد فطلق المزنية وراجع له أم ركانة مع قوله له طلقتها ثلاثًا وأن أبا داود أتبع هذه الرواية بقوله: وحديث نافع بن عجير وعبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم أصح؛ لأن ولد الرجل وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلق امرأته ألبتة فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة ثم بعد ثلاثة أبواب ترجم (باب في ألبتة) وأتى بروايات عن نافع بن عجير وعبد الله المذكورين من طريق الإمام الشافعي رضي الله عنه وغيره، وفيها أن المطلق هو ركانة , وأن طلاقه كان بلفظ ألبتة وأنه حلف أنه ما أراد إلا واحدة , فردها إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأي شاهد في ذلك (يقصد ابن تيمية) لحديث الإمام أحمد , وأي رواية رواها أبو داود عن ابن عباس بما في الحديث من وجه آخر؟ فإن رواية باب نسخ المراجعة بعكس ما ذكر أي أنها تعتبر معارضة لحديث الإمام أحمد حيث إن الراوي فيهما واحد وهو عكرمة , والمروي مختلف فأين أن المطلق ركانة من أن المطلق والده بناء على حادثة زواج المزنية , فلا سبيل للجمع بين الروايتين بحال كما أنه لا قائل بتعدد الحادثة مطلقًا , وكون المطلق ركانة وأن طلاقه كان بلفظ ألبتة , وأنه حلف بعد استحلاف النبي صلى الله عليه وسلم له على ما أراد بلفظ ألبتة أمر مستفيض بين المحدثين من أنه حلف ما أراد إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبأي الروايتين نصدق عكرمة؟ وتصديقه في إحداهما يلزم عليه تكذيبه في الأخرى , فصار المتعين رفض الروايتين. وليس من غرضنا ذكر كل ما يؤخذ على ابن تيمية في هذه المسألة التي خرج فيها على الأئمة الأربعة بدون مبالاة , إنما نريد فهم عبارته التي نسب فيها لأبي داود أحد أصحاب الكتب الستة مراجع المسلمين عكس مراده , بل ما تبرأ منه صراحة , أما الإمام أحمد فلم يعلق على حديثه بشيء يفيد التبرأ منه أو التمسك به , ولكن نقل عنه مجد الدين بن تيمية الكبير في كتابه (منتقى الأخبار) ما يدل على تبرئه وهو قوله: (كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قال طاوس) يشير بذلك لرد رواية طاوس عن ابن عباس من أن الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنهما طلاق الثلاث واحدة. لأنه ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه بواسطة ثمانية من أشهر أصحابه القول بلزوم الثلاث , وتأول العلماء أثر طاوس تأويلات كثيرة أصحها أن ذلك كان في غير المدخول بها كما رواه أبو داود وغيره , وهذا هو المتعين أمام ثلاثة من أصحاب الكتب الستة جزموا برواية أن ركانة طلق ألبتة وحلف , كما سبق وهم أبو داود المذكور والترمذي وابن ماجه، وباقي الستة البخاري ومسلم والنسائي لم يخالفوهم وكما رواه الحاكم وابن حبان وصححه والدرامي المطبوع على هامش منتقى الأخبار ومثلهم أبو يعلى والبغوي وابن شاهين وابن منده كما نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة يزيد بن ركانة وكذا الدارقطني وغيره , وعلى ذلك إجماع المحدثين , بل هو قول جميع المسلمين. ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن الجمجموني ... ... ... ... ... ... ... ... بكفر مجر غربية (ج) إن اضطراب السائل في روايتي عكرمة , وفي فهم كلام الشيخ تقي الدين بن تيمية لحديث أبي داود وفي رأي جده مجد الدين المخالف لرأيه هو في المسألة , وما أوهمه أول سؤاله من أن ابن تيمية لم يستدل إلا بهذا الحديث وقوله: إن البخاري ومسلمًا والنسائي لم يخالفوا أبا داود والترمذي وابن ماجة في حمل حديث عدم وقوع الطلاق الثلاث باللفظ الواحد على غير المدخول بها من أنهم يقولون بذلك , وإن كان هذا الإيهام على بطلانه لا ينطبق على قاعدة من القواعد بل يستلزم الباطل القطعي , وهو أن كل ما رواه راوٍ أو رآه باحث , ولم يكذبه فيه سائر العلماء يكون ثابتًا عندهم إن ما ذكر كله وما هو أبعد منه عن أبحاث أهل العلم وأهل العدالة والفهم من دعوى الإجماع في المسألة والتعبير بالخروج على الأئمة الأربعة مما لا نضيع وقتنا بالبحث فيه لأننا لا نكلف مناقشة أقوال السائلين، ولا إفهام العوام دلائل المجتهدين، وإنما نتكلم هنا في أصل المسألة لبيان ما اعتمدنا عليه في اختيارنا لفتوى شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية لكثرة السؤال عنها، ومنه يعلم أنا نتبع الدليل , ولسنا مقلدين له فيها، فنقول: إن الحافظ ابن حجر ذا الاطلاع الواسع على كتب الحديث كلها ووجوه الترجيح بين الروايات فيها، وعلى أقوال أئمة السلف وأئمة الأمصار وأساطين المفسرين وفقهاء المذاهب المشهورة قد لخص المسألة في فتح الباري، وذكر أشهر الأقوال فيها حريصًا في ذلك على ترجيح مذاهب الفقهاء الأربعة، فنذكر هذا لأنه أجمع ما رأيناه لتأييدهم في المسألة، ونقف عليه بما نراه فيه من ضعف وقوة وما هو إلى الحق أقرب، والقبول أجدر، كما هو شأن طالب الحق بدليله لذاته لا لتقوية حجة القائل به، فنقول: قال الحافظ في شرح قول البخاري في صحيحه (باب من جوز الطلاق الثلاث) ما نصه: (وفي الترجمة إشارة إلى أن من السلف من لم يجز وقوع الطلاق الثلاث , فيحتمل أن يكون مراده بالمنع من كره البينونة الكبرى , وهي بإيقاع الثلاث أعم من أن تكون مجموعة أو مفرقة، ويمكن أن يتمسك له بحديث أبغض الحلال إلى الله الطلاق (, وقد تقدم في أوائل الطلاق، وأخرج سعيد بن منصور عن أنس أن عمر كان إذا أتي برجل طلق امرأته ثلاثًا؛ أوجع ظهره , وسنده صحيح، ويحتمل أن يكون مراده بعدم الجواز من قال: لا يقع الطلاق إذا أوقعها مجموعة للنهي عنه , وهو قول للشيعة وبعض أهل الظاهر وطرد بعضهم ذلك في كل طلاق منهي كطلاق الحائض وهو شذوذ، وذهب كثير منهم إلى وقوعه مع منع جوازه , واحتج له بعضهم بحديث محمود بن لبيد قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا فقام مغضبًا فقال: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟) الحديث أخرجه النسائي ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت له منه سماع وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في مسنده , وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صرح فيه بالسماع , وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه , وعلى تقدير صحة حديث محمود فليس فيه بيان أنه هل أمضى عليه الثلاث مع إنكاره عليه إيقاعها مجموعة أم لا؟ فأقل أحواله أن يدل على تحريم ذلك وإن لزم , وقد تقدم في الكلام على حديث ابن عمر في طلاق الحائض أنه قال لمن طلق ثلاثًا مجموعة: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وله ألفاظ أخرى نحو هذه عند عبد الرزاق وغيره، وأخرج أبو داود بسند صحيح من طريق مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثًا , فسكت حتى ظننت أنه سيردها إليه , فقال: ينطلق أحدكم فيركب الأحموقة ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس , إن الله قال: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاّ} (الطلاق: 2) , وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجًا , عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وأخرج أبو داود له متابعات عن ابن عباس بنحوه. ومن القائلين بالتحريم واللزوم من قال: إذا طلق ثلاثًا مجموعة وقعت واحدة وهو قول محمد بن إسحاق صاحب المغازي , واحتج بما رواه عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فحزن عليها حزنًا شديدًا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف طلقتها) , قال: ثلاثًا في مجلس واحد , فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما تلك واحدة , فارتجعها إن شئت فارتجعها) , وأخرجه أحمد وأبو يعلى وصححه من طريق محمد بن إسحاق، وهذا الحديث نص في المسألة لا يقبل التأويل الذي في غيره من الروايات الآتي ذكرها , وقد أجابوا عنه بأربعة أشياء: (أحدها) أن محمد بن إسحاق وشيخه مختلف فيهما , وأجيب بأنهم احتجوا في عدة من الأحكام بمثل هذا الإسناد، كحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على أبي العاص بن الربيع زينب ابنته بالنكاح الأول , وليس كل مختلف فيه مردودًا [1] . (الثاني) معارضته بفتوى ابن عباس بوقوع الثلاث كما تقدم من رواية مجاهد وغيره , فلا يظن بابن عباس أنه كان عنده هذا الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يفتي بخلافه إلا بمرجح ظهر له، وراوي الخير أخبر من غيره بما روى , وأجيب بأن الاعتبار برواية الراوي لا برأيه؛ لما يطرق رأيه من احتمال النسيان وغير ذلك، وأما كونه تمسك بمرجح , فلم ينحصر في المرفوع لاحتمال التمسك بتخصيص أو تقييد أو تأويل , وليس قول مجتهد حجة على مجتهد آخر. (الثالث) أن أبا داود رجح أن ركانة إنما طلق امرأته ألبتة , كما أخرجه هو من طريق آل بيت ركانة , وهو تعليل قوي لجواز أن يكون بعض رواته حمل ألبتة على الثلاث , فقال: طلقها ثلاثًا , فبهذه النكتة يقف الاستدلال بحديث ابن عباس [2] . (الرابع) أنه مذهب شاذ فلا يعمل به، وأجيب بأنه نقل عن علي وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف والزبير مثله، نقل ذلك ابن مغيث في كتاب الوثائق له وعزاه لمحمد بن وضاح ونقل الغنوي ذلك عن جماعة من مشايخ قرطبة كمحمد بن تقي بن مخلد ومحمد بن عبد السلام الخشني وغيرهما ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس كعطاء وطاوس وعمرو بن دينار، ويتعجب من ابن التين حيث جزم بأن لزوم الثلاث لا اختلاف فيه وإنما الاختلاف في التحريم مع ثبوت الاختلاف كما ترى. ويقوي حديث ابن اسحق المذكور ما أخرجه مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم , فأمضاه عليهم، ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد ـ 5

الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي

_ مناظرة في مسألة القبور والمشاهد الرد على رسالة العالم الشيعي للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا (5) (المقام الرابع والعشرون) قوله: فبأي وجه يزعم من ليس له قدم راسخة في العلم أنه عليه السلام أمر بهدم القباب والبناءات التي حول قبور الأنبياء والأئمة والشهداء والصالحين. أقول: ادِّعاء الإنسان لنفسه رسوخ القدم في العلم، ونفيه ذلك عن علماء الأمة وسلفها الصالح يقدر عليه كل واحد , ولا يمتنع منه إلا الورع؛ ولكن الشأن كل الشأن في إثبات الدعوى وتدعيمها بأساطين البراهين التي تثلج الصدور وتستولي على الألباب، وتنقاد لها أعناق النقاد، والحق أبلج، والباطل لجلج، وجوابه أن ما أنكره من مشروعية هدم القباب وما يشابهها ثابت بالأخبار المحمدية والآثار الصحيحة الجياد، وإجماع السلف الذي هو أصح إجماع. وقد استوفيت الكلام على ذلك بقدر ما يحتمله المقام , وهل يشك عالم بأحاديث الباب، ناصح لنفسه، خائف من ربه، في وجوب هدم القباب التي بنيت على معصية الرسول؟ ولا يقدح في الأنبياء والصالحين هدم قبورهم وقبابهم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بحقوقهم وأرعاهم لها، وقد لعن من اتخذ المساجد على قبور الأنبياء ونهى عنها أشد النهي، فلا يجوز لمسلم عالم بذلك أن يترك القباب مشيدة على القبور، بل هي شر من المساجد لأن المقصود منها هو التعظيم المجرد بخلاف المساجد، فإن ظاهر الحال أن المقصود منها الاجتماع لذكر الله لكن لما كان اتخاذها عند قبور الأنبياء والصالحين يفضي إلى الغلو ثم الشرك؛ حرم الله اتخاذها، وشدد الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عنها؛ فوجبت إزالتها، كما تقدم عن شيخ الإسلام وابن حجر الهيتمي والشوكاني وتقدم أنها أولى بالهدم من مسجد الضرار. (المقام الخامس والعشرون) قوله: ومع أن هذه لم تكن مشيدة في زمانه حتى يأمر بهدمها هل تقاس بقبور المشركين والتماثيل والصور؟ حاشا وكلا فإن هذا من أقبح القياسات وأشنعها. أقول: عدم وجودها في زمن علي دليل على أنها شر محض لا خير فيها، وقال مالك: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وقال أيضًا: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) وما لم يكن يومئذ دينًا لا يكون اليوم دينًا. ولو كان بناء القباب على قبور الصالحين جائزًا لفعله النبي , أو أمر به , ولو كان في الدين نص يشتم منه رائحة مشروعية القباب أو أن فيه شيئًا من الخير ما تركها أهل القرون الثلاثة المفضلة , فهل يريد الشيعة وأهل السنة بزعمهم أن يسبقوا إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم قال: فإذا قدر أن الصلاة هناك توجب الرحمة أكثر من الصلاة في غير تلك البقعة كانت المفسدة الناشئة من الصلاة هناك تربي على هذه المصلحة حتى تغمرها أو تزيد عليها بحيث تصير الصلاة هناك مُذْهِبَة لتلك الرحمة ومثبتة لما يوجب العذاب. ثم ذكر كلامًا طويلاً في تقرير تحري الصلاة والدعاء عند القبر من المنكرات، وفي كلامه خفاء بالنسبة إلى بعض الأذهان، ويوضحه أنه ليس كل بقعة يثبت لها فضل أو نزول رحمة أو ملائكة تشرع الصلاة والدعاء فيها , وينال المصلي والداعي بركتها، لأن رحمة الله قريب من المحسنين , ولا تكتب إلا للذين يتبعون الرسول النبي الأمي , ويطيعونه كما تدل عليه آيات الأعراف، والمصلي عند القبور قصدًا مسيء عاص للرسول، معدود عنده من شرار الخلق، فاعل ما أوجب اللعنة، فلا يناله شيء من تلك الرحمات، ولا تصلي عليه الملائكة؛ بل تناله اللعنات الواردة في الحديث، ولا سيما إذا بلغه حديث النبي صلى الله عليه وسلم فأصر على مخالفته للهوى والأغراض الفاسدة. ومن العجب أن السيد مهديًّا جعل السبب الذي لأجله حرمت الصلاة عند القبور هو فضل أصحابها ونبوتهم سببًا لاستحباب الصلاة عندها وفضلها على الصلاة في غيرها، وهذا عكس قضية أحاديث الباب وفقنا الله وإياه لاتباع الحق، وإنما قلنا: إن علة النهي عن الصلاة عند القبور هي فضيلة أهلها المفضية إلى الافتتان المفضي إلى الشرك , لأننا رأينا النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين , ونبش قبور المشركين وبنى مكانها مسجدًا لأنها لا حرمة لها , ولا تخشى منها فتنة، وقد أشار البخاري في صحيحه إلى هذا المعنى وبينه شارحه، وقد نقل الشوكاني في المجلد الثاني من نيل الأوطار تحريم الصلاة في المقبرة عن أحمد ابن حنبل والظاهرية قال: قال ابن حزم: وبه يقول طوائف من السلف , فحكى عن خمسة من الصحابة النهي عن ذلك وهم عمر وعلي وأبو هريرة وأنس وابن عباس قال: وقد ذهب إلى تحريم الصلاة على القبر من أهل البيت المنصور بالله والهادوية وصرحوا بعدم صحتها إن وقعت فيها , ثم قال: وقال الرافعي يعني أحد أئمة الشافعية -: أما المقبرة؛ فالصلاة فيها مكروهة في كل حال وهو مذهب الثوري والأوزاعي وأبي حنيفة. اهـ ببعض تغيير. وذكر البخاري في صحيحه أن عمر رأى أنسًا يصلي عند قبر فقال: القبر القبر. أقول: فانظر كيف حذره عمر منه مع أن أنسًا لم يقصد الصلاة عنده , والخلفاء الراشدون وسائر الصحابة والتابعون لا جرم أنهم لا يبغونهم إلى رذيلة وبدعة ضلالة. وروى الجم الغفير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) ، ورووا عنه أنه قال: (المدينة حرام) الحديث وفيه: (فمن أحدث حدثًا , أو آوى محدثًا؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين , لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً) , فنحن نسأل أصحاب القباب والمشاهد: أهي من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أهي من الدين؟ فإن زعموا أنها من الدين؛ سألناهم: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعلمون ذلك أم لا؟ فإن قالوا: كانوا يعلمونه؛ قلنا: فلم لم يفعلوه , ولم يبنوا قبة واحدة مع عناياتهم بزيارة القبور المشروعة، فإن زعموا أنهم لم يتمكنوا من ذلك مع تمكنهم من بناء بيوتهم وبيوت الله وخط المدن والقرى؛ أبطلوا وأحالوا، وإن قالوا: تركوه كسلاً؛ فقد جعلوا أنفسهم أنشط إلى الأعمال الصالحات , وأحرص عليها من محمد وأصحابه , وذلك هو البهتان والضلال البعيد، وإن قالوا: إن النبي وأصحابه كانوا يجهلون أن بناء القباب والمشاهد على قبور الصالحين من الدين , فعلمنا ما لم يعلموا؛ فقد جاءوا بالطامة الكبرى المهلكة في الدنيا والآخرة. وروى الدارمي وابن وضاح أن عبد الله بن مسعود بلغه أن قومًا يجتمعون في مسجد الكوفة حلقًا فيقول أحدهم: سبحوا مائة , فيسبحون , وبين أيديهم الحصى يعدون به، ثم يقول: هللوا مائة , فيهللون، ثم يقول: كبروا مائة , فيكبرون , فقال لهم: (ويحكم يا أمة محمد! ما أسرع هلكتكم والله , لقد فقتم أصحاب محمد علمًا، أو جئتم ببدعة ظلمًا) ، فقال أحدهم: والله يا أبا عبد الرحمن ما أردنا إلا الخير , فقال: (وكم مريد للخير لم يصبه) الحديث أو كما قال مما هذا معناه , ومحل الشاهد منه قوله: (لقد فقتم أصحاب محمد علمًا أو جئتم ببدعة ظلمًا) . وكذلك يقال لأصحاب القباب؛ بل هم أولى بذلك لأن بدعتهم أقبح البدع وأنكرها , وهذا وحده كاف للرد عليهم، وقوله: إن القول بهدم ما يبنى على قبور الأنبياء والصالحين مأخوذ من القياس وهو من أقبحه عجيب لأن العلماء متفقون على أن الهدم مشروع بالنص النبوي , والأثر العلوي عاضد له لا بالقياس , وأي حاجة بهم إلى القياس سواء أكان حسنًا أم قبيحًا مع وجود النص الصحيح الصريح، فإن قال: إن حديث علي لا يدل على هدم قبور الأبرار، بل هو مخصوص بقبور الكفار، فقد تقدم جوابه , ونقول الآن: إن تخصيصه بقبور الكفار مع أن عليًّا أمر أبا الهياج بهدم ما على القبور تخصيص بلا مخصص، وهو تحكم لأنه عزل اللفظ عن بعض مدلولاته بلا دليل مع أن قوله: (أن لا تدع قبرًا مشرفًا إلا سويته) بمنزلة قولكم: سَوِّ كل قبر. اهـ. لأن النكرة في سياق النفي تعم , ولو كانت هناك قبور مستثناة لذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لعلي , وذكرها علي لأبي الهياج الأسدي , ولم يكونا يتكلمان بالأغاليط وما كان فيهما عيّ عن بيان مرادهما، بل قبور الأنبياء والصالحين إذا بني عليها بناء كان أولى بالهدم من قبور غيرهم لنص النبي صلى الله عليه وسلم على النهي عن ذلك , وإيعاده الشديد في ذلك لا بتأويل ولا رأي ولا قياس، وإذا كان فهم دخول البناء على قبور الصالحين في حديث علي وغيره من أقبح القياس فكيف يكون فهم علماء الشيعة الذين فهموا من حديث علي كراهة التجصيص مع أنهم لا يقولون بالقياس لا حسنًا ولا قبيحًا. (المقام السادس والعشرون) قوله: مضافًا إلى ما عرض به مكاتب المنار من أن القباب والبناءات المعتمدة على أساس لا دخل لها بالقبور أصلاً لأنها كانت مشيدة منذ عدة قرون بمرأى من المسلمين ومسمع لم ينكره أحد منهم حتى الذين رووا حديث أبي الهياج الأسدي لعلمهم أن هذا ونحوه إنما ورد في المعنى الذي ذكرناه. أقول: من أين لك أنه لم ينكره أحد؟ هذا لا يعلمه إلا الله , وليس مما تتوفر الدواعي على نقله , وهذا لو لم يبلغنا إنكار أحد منهم فكيف وقد مر إجماعهم على إنكاره؟ سلمنا أنهم لم ينكروه أفلا يكفي إنكار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنه فاعله قبل وفاته بخمس ليال؟ , والأخبار بذلك مستفيضة , فسكوت الناس على إنكار المنكر لا يصيره معروفًا، وعدم العلم بالإنكار ليس علمًا بعدمه. والذي عليه المحققون من علماء الأصول أن الإجماع السكوتي ليس حجة , والساكت لا ينسب له قول , كما حققه الشافعي في المجلد الأول من الأم صفحة 134 وغيره في غيره. ثم إن هذا يحتج به من يحتج به فيما لا نص فيه، وأما ما فيه نصوص ناطقة صريحة صحيحة فعدم عمل الناس بها لا ينسخها , ولو كان الأمر كذلك لنسخت أكثر النصوص , ونسخ بعضها في إقليم دون إقليم , بل في مصر دون مصر , وهذا في غاية الفساد، بل كل مسألة فيها نص , فواجب على الناس أن يعملوا به , وإن ترك بعضهم العمل به , فلا تزر وازرة وزر أخرى. على أن العلماء من جميع المذاهب أنكروا القباب ونحوها أشد الإنكار , ومن لا يعتد بإجماع خير القرون الصريح القولي وبيعتهم في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وكيف يليق به أن يحتج بسكوت شرار القرون على منكر عمت به البلوى كالقباب، هذا لو لم ينقل لنا إنكار أحد كما ادعاه السيد مهدي , كيف وقد مر نقل إجماعهم على إنكاره؟ قال في الإقناع وشرحه , وهو المعتمد في الفتوى منذ زمان عند الحنابلة في المجلد الأول صفحة 410: (ويكره البناء عليه) ؛ أي القبر (سواء لاصق البناء الأرض أو لا , ولو في ملكه من قبة أو غيرها للنهي عن ذلك) لحديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يعقد عليه. رواه مسلم , وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) : وكذلك القباب التي على القبور يجب هدمها كلها لأنها أسست على معصية الرسول لأنه قد نهى عن البناء على القبور انتهى. وهو أي البناء في المقبرة المسبلة أشد كراهة , وعنه - يعني أحمد بن حنبل - منع البناء في وقف عام وفاقًا للشافعي وغيره قال: رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى , ثم قال:

رسالة من يحيى محمد البكري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة من يحيى محمد البكري بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل والسيد [1] ؛ سلامًا وتكريمًا، وتحية وتعظيمًا , ما أوضح مناركم للمؤمنين سبل الإسلام، وبدد عن طريق رفعته غياهب الأدران والأوهام، أما بعد، فقد بلغ السيل الزبى، وطعن الإسلام في صدره طعنات قاتلة، وأوشك المسلمون أن يفقدوا ما بقي بين أيديهم من رمق القوة والأمل، فبينما نحن نرى السواد الأعظم من الدول الإسلامية يرسف في قيود الاستعمار والعبودية، إذا بالقسم المستقل منها تلعب فيه أيدي العابثين، ثم بينما نرى تركيا قد أديرت عنا وشغفت بمظاهر الغربيين الذين شغفوا بإفنائها إذ بإيطاليا ترسل عقاربها وتبث سمومها باليمن، وإذ بإنكلترا تحاول أن تخادع ابن سعود , وتريد أن تظفر به، وإجمالاً هذه كلمتي التي أملاها ضميري على لساني، الذي أناب عنه بناني في تحريرها إليكم، وليس على فضيلتكم إلا أن تنظروها وتفحصوها نقدًا وتمحيصًا، ولكم أن تدرجوها في صحيفة مذاكرات النهوض الإسلامي , أو أن تنشروها على صفحات صحيفتكم الغراء؛ كي يتمكن القراء من الاطلاع عليها ويبدوا فيها الآراء العامة، ولكم أن تضربوا عنها صفحًا وعفوًا عن إقدامي هذا وإنا لما يرتضيه الأستاذ لمنتظرون. *** روح الثقة في الإسلام للدين الإسلامي المكان الأجل من قلوب معتنقيه، والسلطة العظمى على خواطرهم وأعمالهم، حتى إنك لتجد من إذا طرق سمعه اسم من بعث به في الأرض بشيرًا عليه أزكى السلام لابتهل فازعًا إلى الله بالصلاة والتسليم عليه , لا فرق بين عامتهم وخاصتهم في ذلك - أو إذا نودي إلى الصلاة؛ لرأيت منهم كل مقبل من كل فج ابتغاءًا لمرضاة الله واجتنابًا لمعصيته وخشية من عقابه، يقفون صفوفًا في انتظام وقور يؤدون ما كتب الله عليهم في كتابه الحكيم والخشوع يملأ جوانحهم {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} (الفتح: 29) . الديانة الإسلامية هي العقيدة التي تكفل لبني الإنسان طريق السعادة الدنيوية والسعادة الأبدية , لا يجنح من يسير ويستنير على سننها وشرائعها إلى ضلة الإثم والعدوان، أو إلى هاوية الذل والخذلان، بل لا يهتدي إلا إلى طريق الهدى والمنهج القويم والصراط المستقيم، ولا يرضى أن يشوب ما أوضحه له دينه الحنيف من المبادئ والشرائع أدنى شائبة من الحبائل الأجنبية ومظاهرها الخلابة، ويشفق على نفسه أن يصيبها تزعزع في العقيدة أو أن يتصدع منها في قلبه ركن من أركانها يتهدم به كل ركن من أركان الخير والفلاح , وكل أصل من أصول السعادة، ويبذل في سبيل صيانتها وقوتها ونصرتها ما كان بين يديه وكل ما تملك أيمانه من قوة ومال ونفوذ، بل يقدم أبناءه وفلذات كبده واحدًا واحدًا، بل يقدم نفسه معهم في ساعة الحرب طعمة لما يريد أن يهشم شيئًا من أطراف شدة عقيدته وعظمتها ومجدها , ولا ينثني مطلقًا عن هذه الجهود والتضحيات، ما لم يكن قد تسرب إلى قواه العقلية والنفسية شيء من النقص والاضطراب، أو تطاير شيء من أوراقها وعروقها مع عواصف الانقلابات والتطورات الاجتماعية، أو أصيبت صحتها بعدوى أخلاقية خارجية. الدين الإسلامي هو نور الحق الذي انبلج في أفق الكون منذ أربعة عشر قرنًا مضت، ذلك النور الذي أديرت وانقشعت أمام أشعته ظلمات الجهالة والضلالات، وعلى بنيانه خفقت أعلام اليقين والعمران، وانتشرت روح الثقة والإيمان، ورسخت في نفوس الشعوب كرسوخ النقوش في الأحجار الصلدة، فبذلك أصبحوا بنعمة الله إخوانًا يشد بعضهم بعضًا، يتعاونون في السراء، ويتناصرون في الضراء، يشفق غنيهم على فقيرهم؛ فيساعده، ويلتف صغيرهم حول كبيرهم؛ فيظاهره، فتجدهم أشداء على الكفار العادين رحماء فيما بينهم، يرون السعادة كل السعادة في الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون. هكذا دينهم في كل زمان ومكان {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (البقرة: 5) . الدين الإسلامي هو الدين الذي ألف بين قلوب الناس؛ فجرى في عروقهم دم المحبة والألفة، وأمرهم أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يستعفوا، وأن يأكلوا بالمعروف؛ فانغرست في نفوسهم الأمانة والعفة. وعد الصابرين بأحسن الأجر، وأمرهم إذا عزموا أن يتوكلوا على الله، فجبلوا على الإقدام والصبر، وبين لهم أن الأعمال بالنيات، وأمرهم بالطهارة؛ فنبت في قلوبهم الإخلاص والطهر، أمرهم أن يتعاونوا على البر والتقوى , وكرم منهم من يمشي سويًّا على صراط مستقيم؛ فنشئوا على الاتحاد والاستقامة، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونهم؛ فتمكن منهم روح الشمم والشهامة، بين لهم أن في كتابه آيات لأولي النهى، وعبرة لمن يخشى، وأن من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا؛ فادرعوا بالموعظة والحكمة، وأمرهم أن يكونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسهم؛ فلاذوا بالعدل والرحمة، أمرهم أن يتقوا الله ويكونوا مع الصادقين , وأن يثبتوا ويذكروا الله كثيرًا؛ فاستعانوا بالصدق والثبات، وبين لهم أن من اعتدى عليهم فليعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليهم؛ ففطروا على الحرية والمساواة، بين لهم أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وأمرهم إذا قضيت الصلاة أن ينتشروا في الأرض , ويبتغوا من فضل الله؛ فلجئوا إلى العمل والعلم، وبين لهم أن علو الهمة من الإيمان؛ فحثهم بذلك على المجد والعزم، أمرهم أن يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فتوطد بينهم أساس النجدة والمروءة، وبين لهم أن لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وأمرهم أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله؛ فسادت بينهم الآداب والسماحة. ذلك هو دين القيمة الذي منحه الله عباده , وفضل المؤمنين به على سائر الأمم، يأمرهم بالمعروف والعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى واليتامى أموالهم، ويجنبهم عن الفحشاء والمنكر والبغي , وأكل أموال الناس بالإثم، وينهاهم عن النميمة والحقد والحسد , وما فيه الخسران المبين لهم، وما كانت تلك الأوامر والنواهي منه سبحانه إلا رحمة منه , ونعمة من كبريات نعمه رغبة في سعادتهم في الدنيا والآخرة، وحفظًا لكيانهم من أن يصيبه عدوان المعتدين , وهم في غيهم وغفلتهم يعمهون. كان والله عجبًا أن يحدث ما يقع في كل يوم , بل في كل ساعة تحت مشاهد أنظارنا ومدارك حواسنا من صنوف الفتك والإجحاف بالعقد الإسلامي، ومحاولة كسر أجنحته، وإفناء قوته، وإزهاق روحه، والمسلمون يكادون لا يشعرون بما ينوبهم من طوارق الحادثات مع شدة وطأتها , وتحكيم أغلال الذل والاسترقاق في أعناقهم وأيديهم وأرجلهم، بل في ضروراتهم وإراداتهم، بل في أفكارهم وعواطفهم، كأنهم يحسبون أن الإسلام هو الخنوع لسيطرة العدو الباغي , والاستسلام لما ينصب عليهم من المحن والبلاء. عجبًا والله ما نشاهد من الممالك الأوربية إذ كلما قام قائمهم يدعو إلى الفتح والغزو وظلم الشعوب لا يقابل ذلك النداء لدى شعوبهم إلا بالتلبية والإجلال والتأييد، فينقضون على أطراف ممالكنا ويشبعون أهلها طعنًا وسلبًا ونهبًا وتقتيلاً، حتى إذا ما استقر لهم الأمر فيها جرعوا البقية الباقية منهم من سموم المدنية الغربية ما فيه هلاك للأجسام وذهاب للإيمان، ويقلبون نظامها الإسلامي الجليل حتى تندثر معالمه , ويصير كأن لم يكن شيئا من قبل، هذا هو محور غايتهم من كل أفكارهم وحركتهم {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) . كما كانت غرائز الجور والطغيان , وحب الفتك متمكنة من مشاعر الغربيين كان إزاء ذلك من التخاذل والتجافي المتغلب على نفوس الأمة المحمدية , وميلها إلى اللهو والطرب والغفلة عن عواقب الأمور مما جعل الأولين يتمادون في طيشهم وظلمهم ووحشيتهم، ويغرقون في سلب حياة الإسلام , وضياع زهوه وبهائه بين أمواج ما ينشرون من دعوات الفسق والكفر والفجور، وتحطيم حصون الدين المنيعة، وهدم صروحه الجميلة، فيهيم المسلمون على وجوههم في مهامه الحيرة والارتباك حتى يأخذهم أولئك لقمة سائغة، وغنيمة باردة إذا شاءوا محقوهم عن آخرهم، وإن أرادوا أبقوهم آلات بين أيديهم يدفعون بها أينما تريد لهم أهواؤهم، يسوقونهم لمحاربة بعضهم بعضًا سوق الأنعام إلى مواطن نحرها. أليس بعجيب أن ينهض الريفيون في مراكش ويهبوا للمطالبة بحقوقهم المهضومة؛ فيردهم على أعقابهم جنود سورية [2] والجزائر وتونس وغيرهم من الشعوب التي تربطهم بهم رابطة العروبة والدين التي هي أقوى الروابط وأوثقها فضلاً عن اشتراكهم في شاكلة الخسف والضيم، أليس من الغريب أن تغلب سورية على أمرها بواسطة جنود مراكشية وصومالية، أليس ما يبعث على التحرق والحوقلة أن تستعمل الجنود الهندية للمحاربة في مصر والعراق وتركيا، والجنود الإفريقية في الهند وفلسطين، رحمتك اللهم الطف بعبادك المؤمنين , واهدهم إلى سبل الرشاد , واجعل لهم من ماضيهم وحاضرهم عبرة وموعظة لمستقبلهم فأنت خير الراحمين. تفرق كلمة المسلمين فيما بينهم وعدم اجتماعهم في الآراء العقلية والوجدانيات النفسية مما حسن في مخيلة الأوربيين غارتهم تلك , وسهل لهم سبلها حتى اندفعوا يهدمون بناء الإسلام حجرًا حجرًا، ويخربون حديقته شجرة بعد شجرة، ويسعون جهدهم في غرس المفاسد والآثام , وتحليل ما حرمه الله ومعصية ما أمر به، حتى أذهلوا المسلمين عن أنفسهم، وزادوهم سكرًا على سكرهم وغفلتهم، وحمقًا على حمقهم وغباوتهم، ذلك بأنهم فقدوا كثيرًا من موازنة إرادتهم وشعورهم بتكرار الأعمال المغايرة لطبيعة أخلاقهم وشريعتهم، فتنكبوا سبل دينهم , وحادوا عن طرق إرشاده وإصلاحه , واندفعوا وراء الشهوات والموبقات وأسباب الشقاق، كاندفاع الجنادب إلى المواضع القذرة، ضاربين صفحًا عن هاتف الإيمان الذي يهتف من أعماق صدورهم، الذي يهيب بهم إلى التعقب والاعتبار، والرجوع إلى أنفسهم، ودفع عادية ما قد يغتال روح الإسلام وينقض دعائمه , مع عدم إحساسهم بداعية الحق والواجب عمله في سبيل نصرة ملتهم وعقيدتهم، أشد ظلمًا لأنفسهم وأكبر ضلالاً عند الله {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (التوبة: 109) . إذا ضعفت ملكة العاطفة والحساسية من القلب , وهي القاعدة التي تبنى عليها عماد العقيدة؛ ذهبت معها وسائل الشجاعة والإقدام وما يلازمها من خلال الشهامة والثبات واقتحام المهالك، ويعدم الإنسان الصفات التي بها يتمكن من دفع المؤذيات والذب عن حوضه وكيانه، بل تجده كثير التواني في حقوقه الشخصية والوطنية والدينية، لا يحرك ساكنًا في سبيلها , ضربت عليه الذلة والمسكنة، وعاش طول حياته كسيف الضمير حزينًا حسيرًا. ولما كان لكل عمل من الأعمال وكل هيئة من الهيئات البشرية حيز معلوم ودائرة محدودة لا يتعداها الإنسان؛ كان فيها ما يحمي قيامها ويقوم اعوجاجها ويردع من ينزع إلى أحد حدي التفريط والإفراط فيها , ويرده إلى مواط

التمدن الآثم، القاضي مترنيخ، تلقيح القضاء المصري

الكاتب: مسلم غيور من مراكش

_ التمدن الآثم، القاضي مترنيخ، تلقيح القضاء المصري الجامعة المصرية تحت راية القرآن رسالة من مسلم عالم غيور من مراكش لجريدة السياسة خطط متبرقشة وبرنامج متموج يتدفق بالتفرنج الآثم، وتهلل السياسة في إذاعته مهما كان بشعًا متوحشًا، وإن قراءها يعرفون الكثير من ذلك، ومن أسمج ما رأينا فيها قصة مترنيخ المنشورة في عدد 1519 تاريخ 24 ربيع الأول عام 1346 ولا ترى في (قصة اليوم) التي تنشرها السياسة في كل عدد إلا أمثالها وأشنع منها. وخلاصتها لمن لم يقرأها أن هذا القاضي الفاجر أو الوحش مترنيخ سطا على فتاة , ويعلم الله كم استعد لسرقتها , واستشار إبليس اللعين في خداعها حتى تمكن منها؛ فغصبها أثمن شيء لدى الفتاة (وهو عفافها) , ولا شك أنه دفع لها قناطير مقنطرة من الأيمان بشرفه وشرف تمدنه أنه سيتزوجها على عادة شأن هذا التمدن الوحشي. حملت نيتاشا من ذلك القاضي المتمدن وولدت طفلاً ألقته في البحر خوف العار والشناعة. عثر البوليس على جثة طفل حديث الولادة , وشوهدت فتاة تدعى نيتاشا تلقي به في قاع البحر , فقبض عليها , والبحث جار لمعرفة والد هذا الطفل. يقول القاضي المتمدن بعد ذلك: ماذا يكون جزاء نيتاشا؟ لا بد أن يقتص منها القانون , ثم يقول الوحش: تخيلت نيتاشا وهي واقفة تستعطفني في قاعة المحكمة أن أرحمها وأرحم شبابها الغض , ثم يقول الفاجر مترنيخ بعد أن تكلف إظهار تشنجات وخيالات مبرقشة كاذبة مغزاها أنه غالب نفسه (المتيمة) , ونفذ القانون كما يجب. لقد غصت المحكمة بجمهور المتفرنجين , وبكت نيتاشا واسترحمتني بصوت مؤثر أهاج الشفقة في القلوب (الله في قلبه القاسي) , وأسال العبرات من العيون , ولكن حكمت … نعم حكمت , ويا لقساوة القانون … القانون يا دكتور … العدل يا عزيزي. نحن لا نفهم من شر هذه القصة وأمثالها إلا تلقيح الشباب بهذه الجراثيم الفتاكة , وإغرائهم بهذه الموبقات , وتعليمهم الاعتذار بعد الوقوع. إذا كان هذا الوحش خان هذه الفتاة التي تفنن في وصف جمالها بدون خجل , فهل ضاق عليه القانون ولم يهتد لحيلة يخلص بها فريسته من العقاب والعار؟ إنه لو تأمل قليلاً واعتمد على مادة من مواد القانون لما عدم مادة من مواده المرنة يمكنه بها من تخليص نيتاشا بسهولة. لا أدري أيهما أشد إجرامًا؟ خداعه إياها وسلب عفافها وحنثه في أيمانه , ثم افتخاره بتنفيذ القانون الوضعي وهو المجرم المحتال المتعمد؟ , أو فحص مواد القانون للعثور فيه على بند يخلص تلك الفتاة المخدوعة بلا شك، هلا راجع كتب الحكمة التي تحض دائمًا على الرحمة والشفقة والتخلق بهما , والإيثار على النفس , ولو مع الخصاصة عوض تكرار مواد القصاص القاحلة الجافة؟ هلا درس باب بدل الغلط الذي هو أصل من أصول الشرع الوضعي كما قيل وإن كنت أستبعده. *** (بدل الغلط) وقعت لي محاورة مع محام يقال: إنه بارع في فنه جدًّا في موضوع الغلط (والعهدة عليه) خلاصته أن غلط القاضي في إلقاء نص الحكم يخلص الجاني أو يدين البريء، فإذا سرق جانٍ ألف جنيه مثلاً , وثبت ذلك عليه ثبوتًا صريحًا , أو أقر , وأراد القاضي أن ينطق بنص الحكم في مجلس القضاء كأن قصد أن يقول: حكمت عليه بأداء الألف جنيه , فسبقه لسانه , وقال: حكمت ببراءته , فإن الألف جنيه تضيع على ربها , وتذهب مع الإجراءات التي اتخذت تحت الأحكام العرفية في مصر. وإن أراد أن ينطق في مجلس الحكم على متهم ثبتت براءته بالحجج القاطعة , وأن يقول: حكمت ببراءته , فسبقه لسانه , وقال: حكمت بإعدامه نفذ الحكم، وهكذا. وكم انتفخ هذا المحامي انتفاخ العصفور بلله القطر , واغتاظ , وتهجم على الشرع الإسلامي حين قلت له: إن القضاء الذي يدين البريء , ويفلت الجاني لا يمكن أن يكون قضاء الإنسانية , وإن قضاء الإنسانية هو القضاء الإسلامي الذي لا يعتمد إلا النصوص الصريحة والحجج الناهضة , ولا يُعرِّج أبدًا على أبواب الغلط والشبه والأوهام. وقد اشتد غيظه جدًا لما قلت له: إن قضاء القاضي الإسلامي لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً، وإن خطأ القاضي إذا كان صريحًا أو ظاهرًا فإنه ينقض الحكم , ولو طالت عليه الأيام والشهور. دعاني إلى تسطير ما ذكر تنبيه الرأي العام الإسلامي الذي هو الأكثرية الساحقة في مصر لما تريده جريدة السياسة وأذنابها من نشر هذه الأقاصيص السمجة , فهي لا تفتأ تنشر أقاصيص اليونان والرومان والتفرنج الآثم، ولا تزال ترغب في قراءة اليونان وأدبهم وفنونهم في حالة أنها تسعى هي وطاهاها في إغراء المصريين بالإعراض عن آداب العرب وعلومهم وتاريخهم، ومع ذلك لا تأتينا من آداب اليونان وغيرهم إلا بأبشعه وأثقله على النفوس. ومن أعظم كبائرها وأكبرها جرمًا منصارتها لطه حسين , ونشر حماقته وإلحاده فيها , والتمويه به وبجراءته , مع أن أكثر الجرائد حكمت بمروقه وتجرده من القومية المصرية، وبتهجمه على الشريعة الإسلامية، دين الأمة والدولة، والتحريش بالآداب العربية التي هي مادة الأدب العالي من آداب الإفرنج. وأدهى من ذلك حماية الجامعة المصرية لذلك الأخرق المتطاول على آداب الإسلام كأنها خلفت الدولة الإنكليزية في حماية الأقلية التي لم يسلم بها أحرار المصريين لأعظم دولة على وجه الأرض. وأدهى من ذلك وأمر ما نراه من استخذاء المصريين بما فيهم مجلس النواب للجامعة المصرية , مع ظهور مكابرتها وشدة عنادها في ترك طاهاها على طغيانه. أفلا تغري الجامعة بعملها هذا كثيرًا من الهيئات التي هي أشبه بحكومات بتمسكهم بقوانينهم الداخلية في حالة أن مصر الفتاة تبذل أكثر جهودها لمحو جميع الامتيازات. يظهر أن الجامعة لا تهتبل بالمصريين ولا ببرلمانهم , وأن أساتذتها أو بعضهم مأجورون لناحية من النواحي إن لم يكونوا مكرهين على حماية طه حسين داعية الكفر والعصيان. لو كانت تعتبر المصريين لقرأت انتقاداتهم بإمعان وتدبر , وأحلتها محلها , واقتدت على الأقل بمدارس العراق التي أكرهت.... نصولي.... على مغادرة مدارسها بسبب كتابته على الدولة الأموية التي يحبذها جمهور المسلمين , ومع ذلك انقادت وزارة المعارف لإرادة الأكثرية , وسكنت الفتنة. لو قرأت الجامعة كتاب (تحت راية القرآن) لمؤلفه حامل راية البيان مصطفى صادق الرافعي لما تركت طه حسين لحظة واحدة , ولتنازل كل واحد من أعضائها والمدرسين فيها عن مرتب شهر , وأخرجوه من مصر , ونفوه إلى جزيرة لارينون عوض الشهم الكريم بطل الريف العظيم. من أعظم كبائر الجامعة أنها كادت تمزق شمل الأمة في سبتمبر سنة 1926 فاصطدم مجلس النواب مع الحكومة اصدامًا مفزعًا بسبب طاهاها , ولو لم يسع أحرار مصر والمخلصون لها للتوفيق بينهما لخلاص مصر من ذيول محنها لوقعت فتنة عظيمة , ولكن الله سلم. هل تحب الجامعة أن يكون طه حسين في الجامعة أشبه بمومسة عجفاء علق في أشراكها شاب مهذب عزيز على أهله , وأقاربه وأصدقاؤه يسعون لتخليصه من تلك الحية الرقشاء , ويتوسلون بكل الوسائل لإنقاذه , والمحافظة على سمعته وسمعة أهل بيته، والمومسة الفاجرة لا تقاومهم إلا باستبكائها على قلب ذلك الشاب الطيب السريرة , وقبضها على فؤاده قبضًا محكمًا , وتظاهرها بحبه وتعشقه، ولولا محافظتهم على فلذة كبدهم لسحقوا المومسة بنعالهم. وأعجب من ذلك إبقاء المصريين على هذه الجامعة وإرسالُهم , أولادَهم لتعلم الزندقة والإلحاد فيها؛ ليهلك من هلك عن بينة ويلحد من ألحد على رغم أنف المصريين. فسر إلى الإمام يا صادق الرافعي , واحمل كل يوم راية من رايات البيان , واحرق كتاب الأدب الجاهلي كما مزقت كتاب الشعر الجاهلي , ولا تفتر عن هدم الجامعة بريشة قلمك حتى تقضي عليها قضاء مبرمًا كما قضى (أسد الإسلام) السيد رشيد رضا في مجلته المنار على دولة الحسين طاغية الحجاز فدارت عليه الدوائر , ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. وهذه جريدة الأخبار الغراء مفتوحة على مصراعيها لنشر كتابتك الرائعة , والله في عونكم جميعًا ما دمتم في عون الإسلام دين الإنسانية {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) . سيقول ساسة السياسة: ما لمراكش ومصر , فإن نظرت القذى الطفيف في عيون المصريين , فما بالها تعامت عن الأخشاب في أبصار المراكشيين؟ وهلا نظر المراكشيون إلى حالتهم , وما هم فيه من التأخر والانقياد الأعمى للمحتلين , والجهل الضارب أطنابه حتى إنه لا يوجد في مراكش مدارس ولا جرائد أو مجلات أو أندية ولا جمعيات خيرية أو سياسية , ولا مجالس شورية أو تشريعية حتى المجالس البلدية لا وجود لها هناك , فالرعية في مراكش كالغنم في يد الجزار متى أرادها للذبح يسوقها بسهولة؟ سيقولون ذلك أو أكثر منه , ولهم الحق كل الحق , ونقول في الجواب , ونحن في غاية الخجل، نقول لهم: لا يذفف على جريح ونقر لهم سلفًا بكل ما قد يدعونه , ومع ذلك نعيد عليهم النصيحة بأنه ما قاد المراكشيين إلى جحيم الاحتلال , ثم الهوان والخزي إلا أمثال طه حسين بمثل حماقته وانقياد القادة لأمثاله , حتى حلت الحاقة الحاقة، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وإن العاقبة للمتقين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... مسلم غيور

لماذا دخلت في الإسلام؟

الكاتب: قسطنطين ملحم

_ لماذا دخلت في الإسلام؟ (نشرت بعض الجرائد العربية في أمريكا ثم في مصر مقالاً بهذا العنوان لصحاب الإمضاء الذي هداه الله تعالى إلى الإسلام ببحثه الحر , وعقله المستقل , وفطرته السلمية؛ فلغط أهل ملته التقليدية في إسلامه بما شاءت عصبيتهم , فكتب مقاله النزيه ردًّا عليهم قال) : لم ألزم الصمت حتى الآن , ولم أتحاش إذاعة إسلامي على صفحات الجرائد إلا لاعتقادي بأن الأمر ليس بذي أهمية تذكر. وما هو إلا حادث بسيط خاص بي وحدي دون سواي، ولست بمؤد عنه حسابًا إلا لخالقي عز وجل. وما كنتُ لأحسب - وايم الحق - أن شخصي الحقير يستأهل مثل هذه الاهتمام , ويستفز كل هذه الجلبة والضوضاء مستثيرًا الظنون المتضاربة والأقاويل المتنوعة حول عمل كنت أعده بسيطًا , ولم يقعدني عن إذاعته إلا خوفي من أن يحسب العاذل أنني أرمي من ورائه إلى حب الشهرة والمجد الباطل. أما وقد وقع ما كنت أتحاشاه تواضعًا لا خوفًًا , فإنني لم أخف قط في قول الحق , ولا خشيت فيه لومة لائم , فلم يبق بد من بسطي لبني وطني رأيي الصراح في الأمر المذكور كي لا تبقى حسرة في نفس يعقوب. ليس في اعتناق الإسلام مدعاة للاستغراب , ولا موضع للظنة والريبة، فإن هو بحسب اعتقادي إلا تطور طبيعي يؤدي إليه التعمق في درس الأديان المتسلطة اليوم على عقول البشر، اللهم إذا كان عقل الدارس غير مقيد بقيد غليظ يربطه بأحد الأديان ربطًا محكمًا لا يستطيع الإفلات منه. وليس غرضي الآن التبسط في شرح كل دين على حدة لتبيان أفضلية الواحد على الآخر , فذاك أمر يستلزم مجلدًا ضخمًا، لا مقالاً واحدًا ينشر في جريدة سيارة , فأكتفي إذن من هذا البحر الواسع بالوشل مقتصرًا على بعض المميزات بين الدين المسيحي الذي ولدت في أحضانه والدين الإسلامي الذي اتبعته. لا جدال في أن الأول دين سام غاية في الجمال والنفع لبني البشر إذا جردناه من الزوائد التي أدخلها عليه الأكليروس فمسخته مسخًا , وشوهته تشويهًا جعله اليوم دينًا أقرب إلى المادة الفانية منه إلى الروح الشريفة السامية. ادخل مثلاً إحدى الكنائس؛ فترى التماثيل والأيقونات والرسوم محيطة بك من كل جانب. تأمل ملابس الكهنة وزخرفتها وزركشتها، لاحظ بدقة طقوس الصلاة والعبادة , وما يعتورها من رائحة بخور وابتهال حار لطغمة لا يحصى عديدها من قديسين وقديسات يقومون سدًّا منيعًا دون الوصول إلى العزة الصمدانية. تبصر في كل هذا وقل لي: ألا تحسب نفسك في هيكل أعد لعبادة الأوثان؟ تعالى معي الآن لندخل هذا الجامع الخالي من التماثيل والصور. انظر هذه الجموع الغفيرة المؤلفة من مئات وألوف الرجال الأشداء. تأمل خشوعهم العديم المثال , وسجودهم بورع زائد كأنهم رجل فرد أمام الواحد القهار , أصغ إلى صلاتهم السامية في بساطتها والمختصرة [1] في كلمات الشهادة (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الله أكبر الله أكبر) انظر إلى إمامهم اللابس ثيابًا بسيطة كواحد منهم , والمتعمم بعمامة من الشاش الأبيض الرخيص الثمن , وقابل ملابسه بملابس ذاك الكاهن أو المطران المزركشة بخيوط الفضة والذهب , والمرصعة قلنسوته بالحجارة الكريمة. في الجامع كل شيء يحولك عن بهرجة هذا العالم الفاني , ويصعد بك في عوالم اللانهاية؛ ليضعك عند أقدام العزة الصمدانية. أما في الكنيسة فكل ما يحيط بك يبعد عن الواحد الأحد , ويلصقك بالمادة. قد يقول لي قائل: إن البروتستنت وهم شيعة من المسيحية قد نسخوا من كنائسهم الرسوم , فلماذا لم تتبع مذهبهم وفضلت الإسلام عليه؟ ، فجوابي أن المذهب البروتستنتي هو أقرب المذاهب المسيحية إلى الدين المسيحي الحقيقي , غير أنه يعاب في نظري لإقراره بألوهية المسيح. وأنا مع اعتباري السيد المسيح من فضلاء المصلحين والأنبياء وفي اعتباري النبوة وحي إلهي لا أقر له بالألوهية , ولن أعبد قط رجلاً مثلي من لحم ودم. وهذه العقيدة راسخة في منذ بلغت رشدي , وقد جاهرت بها منذئذ بين أهلي وأقربائي وكل من شافهني في هذا الموضوع من سنين طوال إلى يومنا هذا , فتطوري إذن ليس حديث العهد كما يتوهم غير عارفي، بل هو نتيجة اقتناع راسخ مستحوذ لا عليَّ فقط , بل وعلى السواد الأعظم من المسيحيين المتعلمين الذين سنحت لي مباحثتهم في الأمر، وجلهم ينكرون حتى وجود الباري تعالى عز وجل. أما ميلي إلى الدين الإسلامي الحنيف , فليس حديث النشأة أيضًا، ولهم بذلك علم (أعني) من كانوا يطلعون على كتاباتي في جريدتي المحتجبة (أداليد) ومجلتي (لابالابرابورتانيا) ، فمنذ خمس سنوات خلت بدأت بالمدافعة جهرًا عن الإسلام بقلمي ولساني بعد أن كنت أدافع عنه سرًّا بلساني فقط. غير أن ميلي المذكور لم يصل بي إلى حد التدين نهائيًّا بالدين الذي آليت على نفسي الدفاع عنه. وما ذلك إلا لأني كنت لم أزل أجهل عنه الشيء الكثير , فعندما عولت على وضع كتابي (شرائع الإسلام) رغبة مني في دحض افتراءات المفترين على الشريعة السمحة رأيت نفسي مضطرًّا لمراجعة مصنفات الأئمة الأعلام , ومطالعة أكثر من واحد من كتب الدين؛ فاتضح لي عندئذ بجلاء جمال هذا الدين السامي وفضل المصلح الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم على الإنسانية جمعاء؛ فصممت حينئذ على اتخاذ الإسلام دون باقي الأديان دينًا أتدين به , وكان ذلك عام 1924، أي حين انتهائي من وضع الكتاب المذكور. بيد أني للأسباب التي ذكرتها آنفًا، ولحذري من سوء ظن أولئك الضعفاء العقول الذين لا يبصرون أعمال بني جنسهم إلا مدفوعة بدافع مادي، ولا يتصورون أن المرء قد يعشق الجمال لمجرد الجمال , بل لما يتضمن من لذة مادية وحشية قلت: إني لهذه الأسباب تركت أمر إسلامي طي الخفاء إلى أن جاء زمن إعلانه , ولم يبق في وسعي السكوت، لأن سكوتي الآن إما أن يحسب عليّ جبنًا وخيانة , وإما مراوغة ومداجاة، فأكون نصرانيًّا مع النصارى ومسلمًا مع المسلمين، وأنا بعيد عن ذلك. فأنا منذ ثلاث سنوات مسلم بكل ما في الإسلام من مبادئ سامية وأفكار راقية وروح تعاضد وحب خير وابتعاد عن المنكر. والذي يزيدني تمسكًا به ما وجدته فيه من الحض على العلم والعرفان , ومطابقته روح المدنية الحقيقية. فالإسلام دين علم وعمل , وبعبارة أخرى هو دين إيجابي، بعكس الدين المسيحي الذي هو سلبي: يأمر بإنكار الذات التام , ويحض على الابتعاد عن كل ما في هذه الدنيا من رزق ومتاع بصورة أن من أراد العمل [2] بأوامر الدين المسيحي بالحرف الواحد؛ لزمه ترك الدنيا والتنسك في صومعة. أما الدين الإسلامي فيمكننا العمل بأوامره تمامًا دون أن يحوجنا ذلك إلى الابتعاد عن العالم وما فيه من لذة وتمتع غير محرمين. ورب قائل يقول: إنه كان بوسعي أن أفعل كباقي متعلمي النصارى المحافظين بالاسم فقط على دينهم , والعاملين فعلاً ضد تعاليمه , فجوابي على قولهم هو أني لا أرضى لنفسي ادعاء ما ليس في , فما دمت لا أستطيع العمل بتعاليم الدين المسيحي فما لي وللادعاء الفارغ بحملان اسمه. ثم إني لأشعر بذاتي حقيرًا في عيني نفسي إن لم أجسر على التصريح بأفكاري بحرية واستقلال , وكيف يحق لي طلب استقلال لبني أمتي وبلادي إذا كنت لا أبدأ بإنالة روحي استقلالها؛ لتفعل ما تراه صالحًا وموافقًا لخلاصها وراحتها الأبدية؟ وهل يليق بمن كان مثلي أن يظل أسير التقاليد إذا كان في هذه التقاليد ما ينافي عقله واعتقاده؟ فإذا ولدت مسيحيًّا من أبوين مسيحيين، هل يكفي ذلك لبقائي على الدين المسيحي حتى لو كان هذا مخالفًا لما يوحيه إلي ضميري ويمليه عقلي؟ ولو كان هذا صحيحًا ومقبولاً لما جاز للسيد المسيح عليه السلام وتلاميذه الأبرار ترك اليهودية والتبشير بالنصرانية , ولا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته (رضي الله عنهم) هجر عبادة الأصنام، ونشر الإسلام من المشرق إلى المغرب. إن سنة النشوء والارتقاء تقضي ببقاء الأصلح , فمن ترك أمرًا صالحًا للتمسك بما هو أصلح منه , أو بما يعتقده أصلح منه كان عاملاً بأوامر تلك السنة الأزلية التي لا مرد لأحكامها. هذه هي حقيقة حالي والأسباب الجوهرية التي حملتني على اعتناق الإسلام لأقف على خدمته البقية الباقية من عمري. ... ... ... ... ... ... ... ... ... قسطنطين ملحم

سعد زغلول ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سعد زغلول (2) تكلمنا في النبذة الأولى من هذه الترجمة على فطرة سعد الزكية، وغريزته الاستقلالية، ووراثته للسجايا العربية، كالفصاحة والشجاعة والحرية، وحاجته إلى تربية حكيمة وتعليم نير يكمل بهما استعداده لعظائم الأمور. ثم تكلمنا على هداية الله له , وسوقه إياه عند إرادته طلب العلم إلى حضن الأستاذ الإمام , فكان له تلميذًا عنه يتلقى العلم، ومريدًا إليه ألقى مقاليده في تربية النفس، كما أنه أدرك معه أواخر عهد حكيم الأمة السيد جمال الدين الأفغاني، فكان يختلف إلى مجالسه، ويلتقط بعض ما ينثر من درره، وتنفعل روحه بما يتجلى في شكل خلقته، وعلو همته، وملامح نظرته، من شعاع ينبعث من عينيه، وحرارة تفيض من بين جنبيه، وحكمة تتدفق من بين ماضغيه، وهمة تتضاءل أمامها العظائم، وشجاعة تجبن دونها الضياغم، وناهيكم بفصاحة لسانه، وقوة عارضته، وتأثير خطابته. حدثني حفني بك ناصف وهو كسعد ومحمد باشا صالح من الرعيل الأول من تلاميذ الأستاذ الإمام قال: كنا إذا قيل لنا: إن السيد سيخطب الليلة نفضل سماع خطبته على سماع أطرب المغنيين (كالسي عبده) فنؤثرها عليها حتى إن المدعو منا إلى وليمة عرس يترك الإجابة لها، وكنا نجد في أنفسنا من سماع خطبته (وكذا سائر كلامه في الإصلاح) أن الواحد منا جدير بإصلاح مديرية أو إصلاح مملكة اهـ. قد صار جميع الذين اختلفوا إلى مجلسه خطباء يتفاوتون بقدر معارفهم ولسنهم، وكان الأستاذ الإمام أوسعهم علمًا وأصحهم حكمًا وأفصحهم لسانًا وأحسنهم بيانًا وأبلغهم قلمًا، وكان يليه في سلاسة الإنشاء ودقة التعبير إبراهيم بك اللقاني، وانفرد إبراهيم بك المويلحي ببلاغة الترسل ونكت النقد، فخلف وراءه فيهما كل أحد، وخطابة إبراهيم بك الهلباوي معروفة للجماهير لأن الشيخوخة لم تنل من منته، ولم تضعف من شرته، ولم تخفض من جرس صوته، وقد اشتهر السيد عبد الله نديم بخطابة التهييج في عهد الثورة العرابية فكان مسعر نارها , ولم تكن تصلح إلا له ولم يكن يصلح إلا لها، فإنه ذو خلابة وغلو، ولا يهيج العوام إلا الغلو، وأما سعد فقد بز الجميع في الخطابة الجدية بعد أن زاولها في عهد اشتغاله بالمحاماة، وإن أصعبها مركبًا، وأعزها مطلبًا، وأعلاها على العقول منالاً، وأعصاها على فصاح الألسنة مقالاً، لهي الخطابة السياسية، في متنازع المصالح الدولية والمطامع الاستعمارية، كما هو شأننا مع الدولة البريطانية، وقد أصاب سعد القدح المعلى منها، حتى شهد له أشهر خصومه الإنكليز وغيرهم بنبوغه فيها، وكانت أفعل مواهبه في زعامته، وكان مع هذا كاتبًا مجيدًا، والأستاذ الإمام هو الذي علمه الإنشاء، ثم مرنه عليه بجعله أحد المحررين بالقسم الأدبي في الجريدة الرسمية (الوقائع المصرية) في عهد توليه لرياستها مع إدارة المطبوعات العامة. وقد رأى القراء نموذجًا من مكتوباته العادية لأستاذه وأستاذنا إذ كان في بيروت عقب نفيه من مصر [1] . *** (3) إيمان سعد وخلائقه وتأثيره في عمله قد علم مما تقدم أن سعدًا تربى في حجر الأستاذ الإمام تربية إسلامية استقلالية , فكانت عقيدته الدينية راسخة , وآدابه الإسلامية عالية ظهر أثرهما في أعماله الكسبية , ونزاهته فيها عن الطمع والدناءة وأهل السحت، بل كان يقيد في دفاتره ما يأخذه من مقدم جعل الوكالة في المحاماة في دفتر الأمانة لا في دفتر الدخل والإيراد، ليردها إلى صاحبها إذا لم يقدر على عمل شيء له.. ولم يكن يقبل الوكالة في دعوى يعتقد أن صاحبها على الباطل، وربما كان ينصح لبعض الذين يطلبون توكيله عنهم نصائح يستغنون بها عن توكيله، حدثنا عن نفسه أن رجلاً عرض عليه أن يوكله في قضية ذكرها له , فقال له: إنني لا أقبل جعلاً منك أقل من مائتي جنيه، وقضيتك هذه بسيطة لا يحتاج المدافع فيها عنك علمًا واسعًا , ولا حججًا تعجز أنت عن الإدلاء بها كما ألقنك، فأنا أذكر لك ما أدافع به عنك إذا قبلت الوكالة , وأرجو أن يحكم لك به كما يحكم لي إذا كنت صادقًا فيما ذكرت لي من موضوع القضية، فاسمع ما أقوله لك , ووفر على نفسك مبلغ 200 جنيه , وذكر له ما يجب أن يدافع به , فقال الرجل: بل أرجو أن تقبل الوكالة عني , وتدافع لي في المحكمة بنفسك وتأخذ الجعل حلالاً طيبة به نفسي. قال سعد: فقلت له قبلت , وسترى وتسمع صدق ما نصحت لك به، وذهب إلى المحكمة في بنها ومعه الموكل , وقال فيها عند الدفاع عنه ما كان ذكره له بعينه , وحكمت له المحكمة على خصمه , (قال) : وكان دفع لي نصف الجعل فلما جاءني بالنصف الآخر قال لي: أتظن أني أبله (عبيط) لم أفهم نصيحتك لي أو لم أصدقها؟ كلا إنني فهمتها وصدقتها , ولكنني رجل ذو نعمة وأطيان واسعة , وقد كثر المعتدون علي , فأردت أن يعلموا أن وكيلي (سعد زغلول) ليكفوا عن الاعتداء علي , فأنا وفرت بهذا المبلغ مالاً كثيرًا أو تعبًا لا يُعْرَف آخِره! . اهـ وهذا القول يدل على بعد مدى الصيت الذي وصل إليه سعد في أثناء اشتغاله بالمحاماة. ثم إن سعدًا دخل في أطوار التفرنج في معيشته وأفكاره الاجتماعية والقانونية، وغلبت نزعة الوطنية المصرية عنده على فكرة الجامعة الإسلامية، وظل يقول بأن المسلمين لا يرتقون ارتقاء صحيحًا إلا بالإصلاح الديني الذي كان يدعو إليه الحكيمان أستاذه وأستاذ أستاذه، وأما العبادات فلا نعلم أنه كان يذهب إلى المساجد إلا في بعض الاحتفالات الرسمية في عهد وزارته وبعض صلوات الجمعة في زمن زعامته، وأنكر عليه أهل الدين أمورًا منها عمله في تجرئة النساء على السفور المتجاوز للحد الشرعي، ولكنه قاوم الدعوة إلى لبس البرنيطة. وأما إيمانه بالله وتوحيده له وتوكله عليه فلم يزدد في هذه السنين الأخيرة إلا قوة وثباتًا، حتى إنه صار حالاً له ووجدانًا، وقد بلغ من الإيمان بالقضاء والقدر أن صار من قبيل من يسميهم الصوفية أهل الفناء في التوحيد , أو ممن يسميهم المتكلمون بالجبرية , فكان كثيرًا ما يصرح في الكلام على كل ما مسه من مصيبة، وكل ما أُوتي من فلج على الخصوم في حادثة، بأن هذا فعل الله وحده، وأنه لا حول له فيه ولا قوة، حتى إنني ناظرته في بعض كلامه هذا , وبينت له فيه مذهب السلف ومذهب متكلمي السنة , فكان يقول: إنني أعبر عما أشعر به , وأراه ضروريًّا لا اختيار لي فيه مهما تكن المذاهب، وكان أول عهدي بهذه الحال فيه عقب فوزه المضاعف في انتخابه للجمعية التشريعية في دائرتين، بعد أن تصدى لمناهضته في الانتخاب صاحبا السلطتين، سلطة الأمير الشرعية، وسلطة عميد الاحتلال الفعلية. وقد جرى بيني وبينه مناظرات كثيرة في بعض المسائل الشرعية الاجتهادية , وبعض المشكلات في تفسير القرآن , فكان فيها كلها متحليًا بالاستقلال والإنصاف لا يتعصب لرأيه ولا فهمه، ولا يجد أدنى غضاضة في قبول ما يظهر له أنه الصواب وكان يسأل عن بعض المشكلات سؤال استفهام لا يشوبه رأي يحتج له أو يدافع عنه. جلست بجانبه في مأتم صديق الجميع حسن باشا عاصم رحمه الله تعالى , وكان القارئ يقرأ سورة النمل , فسألني عدة مسائل في بعض الآيات , وقبل مني كل ما أجبته به عنها , وربما كان يكون الجواب كلمة واحدة. مثال ذلك أنه سأل عند قوله تعالى حكاية عن بلقيس ملكة سبأ {إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} (النمل: 34) الآية , قال: إن الأمر ليس كذلك الآن، وكم يحفظ التاريخ مثل ما تراه الآن من زيارة الملوك لعواصم غير بلادهم , فما المراد من الآية؟ قلت: المراد إذا دخلوها فاتحين , قال: ظاهر. وسألني مرة عن الإنجيل المنزل على عيسى بن مريم كما ورد في القرآن أين هو؟ وإنما عند النصارى أربعة أناجيل هي عبارة عن تواريخ وجيزة كالسيرة النبوية عندنا، قلت: إن الإنجيل المفرد المذكور في القرآن مذكور في هذه الأناجيل الأربعة أيضًا , وفي غيرها من كتب تلاميذ المسيح ورسله المعبر عنها عندهم بالعهد الجديد كقوله للحواريين (التلاميذ) : (واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها) كما ترى في أواخر إنجيل لوقا عنه عليه السلام. وأول كلمة في إنجيل مرقس: (بدء إنجيل يسوع المسيح ابن الله) , فهذا الإنجيل المفرد في كلامهم هو الذي يعنيه القرآن , وهو ما كان يعظهم ويبشرهم به , ولم يوجد كله في كتاب كما يدل عليه قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 14) إلخ ما فصلته له , فأعجبه , ومن شاء الوقوف عليه فليراجعه في أول تفسير سورة آل عمران وغيره من تفسيرنا. فمن كان يسمع منه إشكالاً مثل هذا أو ذاك يظن أنه معترض على القرآن وهو لا يبالي ذلك، والأقرب أن يقال: هو مستشكل لا معترض، ولولا أنه كان صريحًا في أمثال هذه الإشكالات إذا عرضت , ومجاهرًا بما أنكرنا وأنكر غيرنا عليه لما ذكرناه. وأرجى ما يرجى له عند الله تعالى قوة إيمانه به وتوحيده إياه توحيدًا علميًّا وجدانيًّا لا يشوبه شرك في ألوهيته تعالى ولا في صفاته ولا في أفعاله، حتى كاد يكون منكرًا للأسباب أن يكون لها تأثير في الوجود كما علمت , وأنه كان إذا ظهر له الحق يذعن له وينقاد , فهو حسن النية فيما أخطأ فيه. لهذا أنكرت على الذين كانوا انشقوا عليه من الوفد , وطفقوا يطعنون عليه بأنه متكبر مستبد، وعلى من قلدهم في ذلك، أنكرت على هؤلاء كلهم قولاً ومناظرة لبعضهم في المجالس وخطابًا على المنابر وكتابة في المنار، وقد كتبت مقالاً طويلاً في تلك الأثناء نشرته في الجزء 7 من المجلد 22 (سنة 1329 هـ 1921م) بلغت صفحاته 27 صفحة عنوانه (الطور الجديد للمسألة المصرية) ومما ذكرته فيه من خطبة لي في إحدى الاحتفالات بعد عودته من أوربة إثر تولية عدلي باشا للوزارة وظهور الشقاق في أثنائها ردًّا على من اتهم سعدًا بالكبرياء والاستبداد بالرأي (إن الذي نعهده فيه بالاختبار هو الاستقلال في الرأي , واحترام الحقيقة , والاعتراف بها إذا ظهرت له، وطالما شهدنا له في داره محاورات في مسائل علمية وشرعية واجتماعية كان ينصف فيها مناظريه ومحاوريه بكل ارتياح، ويعترف بصحة رأيهم إذا ظهر له أنه الصواب، وربما كنا معهم أو منهم في بعض الأحيان) اهـ. على أنه كان شديد الإعجاب بنفسه، وعدم المبالاة بخصمه؛ بل غلبت عليه في المدة الآخرة المحاباة السياسية، على ما سبق له في الأولى من العدالة القضائية، فصار يؤثر المتملقين له على المتنزهين عن التملق والدهان حتى من محبيه الناصحين , وكنت ذكرت في مقالي المذكور آنفًا (الطور الجديد للمسألة المصرية) ما ينتقد عليه من ضعف السياسة بغلب ملكة القضاء عليه، ولما قرأ تلك المقالة في المنار قال: هذه مقالة تحفظ للتاريخ، سمع هذا منه محمد بك يوسف المحامي المشهور , وهو الذي نقله إلي. وجملة القول أن سعدًا قد ربي تربية إيمان وعقل، واستدلال واستقلال، وحب للحق والعدل، وعزيمة قوية، وشجاعة أدبية، فكانت هذه التربية سبب نجاحه في كل عمل تولى أمره، وكانت أعماله في الكتابة والتحرير , ثم في المحاماة , ثم في القضاء في وزارتي المعارف والحقانية , ثم في الجمعية التشريعية هي المكملة لاستعداده الفطري لزعامة الأمة , واضطلاعه بما حمل من أعبائها، والاستهانة بأعظم الأخطار في سبيلها، وكان استعداد الشعب مع استعداده هما السبب فيما نال من الف

التقريظ والانتقاد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التقريظ والانتقاد (الحديث) مجلة: (تبحث في الآداب والتاريخ والعلوم الاجتماعية) أنشأها في حلب كل من سامي أفندي الكيالي وهو محررها ومديرها المسئول , وأدمون أفندي رباط. قيمة الاشتراك فيها 75 قرشًا , وإنه ليسرنا أن تكثر المجلات العلمية والأدبية في أمتنا , ولكن يسوءنا أن يكون بعض هذه المجلات أضر على الأمة من بعض الجرائد السياسية التي تخدم الأجانب الضراة باستعبادها واستعمار بلادها، وتمهد لهم السبيل لذلك , فإن جمهور الأمة يسهل عليه أن يدرك خيانة هؤلاء , فإن ثوب الوطنية المزور الذي يلبسونه نهنهٌ يشف عما وراءه، وأما إفساد المجلات والجرائد لتكوينها بتقطيع الروابط التي توحد جمعها وتجمع كلمتها من دين ولغة وأدب وتشريع وهو ما نعبر عنه بمقوماتها، ومن عادات وأزياء وهو ما نعبر عنه بمشخصاتها، فلا يدرك كنهه ويحيط بمفاسده إلا أفراد قليلون، ذلك بأن أولئك المفسدين يدعون أنهم يخدمون العلوم والآداب ويرقونها لتنهض بها الأمة إلى مستوى الأمم العزيزة الراقية، ويقل من يدرك أنهم يخربون بيوتها بأيديها وأيدي أعدائها من حيث يعجزون عن بناء بيوت أخرى لها تكون خيرًا مما هدموا. ذلك مثل بعض محرري جريدة السياسة ومجلة الهلال بمصر كسلامة موسى وطه حسين ومحمود عزمي … المنتحلين لأنفسهم صفة تجديد الثقافة، وإننا نرى مجلة الحديث السورية معجبة بهؤلاء منوهة بآرائهم مثنية عليهم، فإن كان محررها العريق في هذه الأمة العربية، الأصيل في بيوتات هذه الملة الإسلامية، غير مقلد لهؤلاء الواغلين عليهما، الأدعياء فيهما، الذين لا ينزع بهم عرق غيرة عليهما , ولا موافق لهم في كل رأي من آرائهم، ولا مائل مع كل ريح من أهوائهم، وهو ما نعتقده في نفي الكلية لا الكل المنطقيين فلماذا لا يفتأ ينوه بهم، بما يغري قراء مجلته باتباع خطتهم، وهي ما يسمونه الثقافة الجديدة التي يحكمونها في كل ما أشرنا إليها من مقومات الأمة ومشخصاتها، وبذلك كانوا دعاة هدم وإفساد فيها؟ الثقافة في اللغة مصدر ثقف الرجل (كضخم) أي صار ثقفًا وثقيفًا , ويقال ثقف (كتعب) أيضًا أي صار ثقفًا أي حاذقًا خفيفًا، وهذا الحذق والخفة اللذين يدعو إليهما هؤلاء الملاحدة مفسدة ظاهرة للأمة الإسلامية وشعوبها , ولا سيما العربية ذات التشريع العادل والتاريخ المجيد، غايتهما تقليد ملاحدة الإفرنج وفساقهم فيما يشكو منه جميع عقلائهم وحكمائهم، وهو فيهم عرض من أعراض الترف والثروة والسيادة والملك الواسع، فلو لم يكن في نفسه مفسدة لكان ضارًّا للشعوب الضعيفة الفقيرة الجاهلة كشعوبنا، فكيف وهو الذي أفسد شعوب المدنيات القديمة ذات البأس والقوة، ولا يشك حكماء أوربة اليوم بأنه سيفسد مدنيتهم في زمن لم يعد بعيدًا حتى إن بعضهم يعد عمر بعض الدول الكبرى بعشرات السنين، ولدينا عنهم نقول كثيرة في ذلك قد نشرنا بعضها. هذا , وإن هؤلاء الدعاة للثقافة الجديدة التي تشمل في استعمالهم ثمرة العلوم والفنون والآداب والأديان ليس لأنفسهم حظ منها إلا بعض مدلولها اللغوي , وهو الخفة الشبيهة بخفة الصبيان فهم عاقون لأمتهم هادمون لهدايتها وتشريعها وآدابها , بل ساعون لابتلاع الإفرنج لها، ومنهم المستخدمون لذلك , وهم يوهمون الناس في هذه الأيام أنهم مبدعو هذه الدعوة في بلادهم , وليس كذلك بل ابتدعها في مصر الخديو إسماعيل اغترارًا بزينتها وشهواتها , فهو أول من أراد أن يجعل مصر أوربية , وله في ذلك كلمة مشهورة , فكان أول ثمرة منها جناها فقد ملكه، وأما جده محمد علي فإنما أخذ عن أوربة أسباب الثروة من صناعة وزراعة وأسباب القوة، وهو الواجب على كل شعب شرقي يملك أمر نفسه دون تقليد القردة في الأزياء والزينة والعادات وحرية الفسق والفجور والكفر التي يدعو إليها منتحلو الثقافة الجديدة، وإنا لنرجو من مجلتنا السورية الجديدة التي لا يملك هو ولا غيره من أهل وطنه شيئًا من أمر تعليم الشعب ولا تربيته ولا إدارته ولا سياسته أن يحرر أولاً تحديد الثقافة والتجديد الذي يحييه , ويجعله شعبا حرًّا قويًّا؟ فإنا لنضن بابن الكيالي الكريم أن يكون مقلدًا لسلامة موسى ومحمود عزمي وطه حسين الذي لا وطن لهم ولا ملة ولا أمة عليهم. *** (العصور) (مجلة انتقادية في الأدب والعلم والسياسة، محررها وصاحب امتيازها إسماعيل مظهر) تصدر بمصر في كل شهر إفرنجي , وقيمة الاشتراك فيها كل سنة 60 قرشًا في مصر و15 شلنًا في سائر الأقطار. إسماعيل مظهر بك شاب بحاث في العلوم العصرية عاشق لها , وقد جعل عنوان مجلته المبين لغرضه منها قوله الذي ينشره تحت عنوانها في كل جز منها: (حرر فكرك من كل التقاليد والأساطير الموروثة حتى لا تجد صعوبة ما في رفض رأي من الآراء أو مذهب من المذاهب، اطمأنت إليه نفسك، وسكن إليه عقلك، إذا انكشف لك من الحقائق ما يناقضه) . هذا عنوان فلسفي حسن , ونصيحة أحاول الجري عليها في جميع أبحاثي حتى الدينية منها، ولكن لا أدري أفهمي لها موافق لفهم كاتبها أم مخالف له؟ ، التقاليد في عرف علمائنا هي العادات الموروثة , وكل رأي غير قطعي يتبع فيه الإنسان من لا يمتاز عليه بعصمته عن الخطأ في تبليغ عن الله تعالى، فهو يتبعه بغير دليل , والأساطير هي أخبار الأوائل المسطورة في الكتب الخرافية التي لا يثبت فيها نقل، ولا يعرف لها أصل، والمذهب هو طريق من طرق الاستدلال الاجتهادية التي لم تصل عندك إلى درجة اليقين، الحقائق جمع حقيقة وهي ما ثبت باليقين والقطع , والنقيضان هما الأمران اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان كإثبات الشيء ونفيه في حال واحدة وزمن واحد إلخ ما هو مقرر في علم المنطق من شروط التناقض. فالقرآن وما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدين لا يدخل عندنا من التقاليد ولا الآراء ولا المذاهب، فضلا عن الأساطير، فإذا كان فهمنا لكل ما ذكر واحدًا، فإن عنوان مجلته لا يعارض ديننا الإسلامي في عقائده وأصوله ولا في فروعه الاجتهادية أيضًا. وذلك أن نؤمن برب وإله واحد نعبده ولا نعبد غيره، ونؤمن بأن محمدًا عبده ورسوله وخاتم النبيين وأن القرآن كتابه المنزل الثابت بالتواتر القطعي عن رسوله صلى الله عليه وسلم نؤمن بما دل عليه دلالة قطعية، ونأخذ بظاهر ما دل عليه دلالة ظنية، إلا إذا عارضه دليل قطعي يبيح لنا حمله على مجاز أو كناية تتفق مع الدليل القطعي المعارض , وكذلك نأخذ بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدين بالدليل القطعي رواية ودلالة ونستعمل اجتهادنا فيما روي عنه من الظني فيهما. وفي هذه الحالة لا يجوز له أن ينشر في مجلته ما يشكك القراء في الدين الذي هو الوازع النفسي لاجتناب الفواحش والمنكرات , واستحلال الأموال والأعراض، والتحلي بالفضائل والأعمال الصالحات، بل لا يباح هذا الإفساد في الأمة لعاقل , فإن الفلسفة الحق تحظره أيضًا كما بينه الفيلسوف العربي الكبير ابن رشد بما معناه أن الفيلسوف لا يبيح لنفسه البحث في حقيقة الدين وصحته لأنه عبارة عن التشكيك في الفضيلة , ومحاولة البحث هل هي ثابتة أم لا. الناس يمكنهم التشكيك في كل شيء وقد فعلوا، فإذا أرادوا أن يشككوا في فائدة علم الطب مثلاً فإنهم يجدون على ذلك شبهات كثيرة وحقائق ووقائع صحيحة تشكك غير المحقق في ذلك , ولكنهم يكونون في ذلك مفسدين جانين على الناس، وإن نفع الدين للبشر فوق نفع الطب فالتشكيك فيه أشر وأضر، وأدهى وأمر. وإننا مع هذا نسأل صاحب العصور الواسع الاطلاع أن يعد لنا كل ما أجمع علماء الغرب وعقلاؤهم عليه , ويعدونه من حقائق العلوم القطعية التي يجزمون بأنه لا يمكن الارتياب فيها ولا الرجوع عنها، أو كل ما يعلمه من ذلك ليعلم قراؤه منه ما الذي يجب ترك كل مذهب وكل رأي يخالفه لأجله، ولنرى نحن علماء الدين الإسلامي والدعاة إلى هدايته والمدافعين عنه رأينا في موافقته أو مخالفته لقطعيات الإسلام وما هو بين هذا وذاك، وأما إطلاق المشككات في هداية الدين تلذذًا بنظريات بعض الباحثين، فهو فتنة في الأرض وفساد كبير، فعسى أن يتأمل فيلسوفنا الشاب في ذلك ويراعيه فيما ينقله إلينا من علوم الغرب الناضجة. *** مطبوعات المطبعة العصرية لصاحب المطبعة العصرية المتقنة إلياس أفندي أنطون إلياس عناية بنشر الكتب والرسائل التي يصح أن توصف بالعصرية كمطبعته وهذه طائفة منها أهداها إلينا. (التربية الاجتماعية) تأليف علي أفندي فكري أمين دار الكتب المصرية وموضوعه الآداب التي تجب مراعاتها في هذا العصر بين أصناف الناس من شخصية ومنزلية واجتماعية ووطنية ودينية وآداب المحادثة والمناظرة والمراسلة والمرافعة والضيافة والزيارة والتهنئة والتعزية وجميع أنواع الاجتماع، والكتاب مؤلف من 200 صفحة ونيف بقطع رسالة التوحيد، وهو يطلب من طابعه ومن مكتبة المنار وثمن النسخة منه 10 صاغ. *** (المرأة الحديثة وكيف نسوسها) بقلم الكاتب القانوني الاجتماعي (عبد الله حسين الخريج في الحقوق والعلوم السياسية) وفيه فصول عن المرأة الإنكليزية للموسيو (جلليكان) افتتح هذا الكتاب مؤلفه بمقدمة في وجه الحاجة إلى مباحثه , وخلاصة تلك المباحث وهي في عشرين فصلاً: (1) في الخلاف بين الجنسين في القبائل الوحشية والحب والبغض وكونهما يوجدان معًا. (2) في سوء التفاهم الدائم بين الجنسين ومن مباحثه: المرأة والدين، المرأة والفن , ظلم النساء. (3) الزوجان في الحب. (4) الحرب الزوجية , ومن مباحثه: الزواج الأمثل، رأي المرأة الحديثة في الزوجية، الزواج في الحال والاستقبال، المقابلة بين الحياة الزوجية والمعاشرة الحرة أي السفاح واتخاذ الأخدان. (5) العراك في الأسرة. (6) النزاع في الكسب , وفيه الكلام في احترام النساء ونتائجه. (7) المعركة السياسية، ومن مباحثه الخوف من حكم النساء , تطلع المرأة إلى الحرية , عداء الرجال باستعمال القوة في الحرب الجنسية. (8) هل السلام ممكن؟ ذات بين الزوجين. (9) المرأة والكتاب , ومن مباحثه: المقابلة بين المرأتين الإنكليزية والمصرية , مسائل المرأة في العالم الواحد، الحب وَهْم. (10) صفات الزوجية , ومن مباحثه: الزواج ليس ضروريًّا دائمًا , خطر النسل على هناء الزوجية , المرأة تحت القوة , الفتور في الزوجية. (11) اختيار المرأة خطيبها , ومن مباحثه: تعدد الزوجات , والطلاق , جهل الفتاة بخداع الشبان. (12) مطالب المرأة المصرية يعني مطالب جماعة الاتحاد النسائي كحقوق الانتخاب ومنع تعدد الزوجات والطلاق. (13) الأمانة الزوجية، ومن مباحثه: احتكار الرجل لزوجه، وذوبان حمية الرجولية في هذا العصر، وخطر الجناية على الأمانة الزوجية وهو انحلال الأسرة، وفضائح الأسرة الكبيرة في أوربة ومصر. (14) الزواج والطلاق. (15) هل تتزوج؟ , ومن مباحثه: الرغبة عن الزواج وعللها , انتشار الفجور، الراحة في الحياة الطليقة، كثرة المشاكل الزوجية، الجمال الزائل , الأولاد، الاستقلال عند الرجل والمرأة. (16) بمن نتزوج؟ (17) الزواج بالأجنبيات. (18) المناعة الجنسية , وهو فصل مهم لا يدل عنوانه على مباحثه , وهي شكاية الأخلاق الفاضلة سيئات اللهو غير الشرعي، مشاكل الخليلات (أي ذوات الأخدان) … والصحة والشهوة الجنسية والعفاف، وأهمه قرارات المؤتمرات الطبية والمجامع الدولية في فضل العفاف وبحث طبي في ذلك. (19) البغاء، ومن مباحثه: أسبابه ا

أسئلة من تونس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من تونس (تأخرت سهوًا) (س 29-33) من صاحب الإمضاء بتونس. حضرة صاحب الفضيلة والفضل، والرأي والقول الفصل. سيدي أعزك الله وأخذ بيدك , من بعد تقديم السلام والاحترام لسعادتكم، وما يجب عليّ أن أبرز ما أشعر به بفؤادي نحو خدمتكم من الشكر الجزيل، والدعاء لكم بالبقاء والعمر الطويل , فإني أرجو من فضيلتكم أن تعيرونا فترة من وقتكم النفيس كي تجيبونا على السؤالين التاليين خدمة للعلم ودحضًا للدعاية التي يبثونها جماعة المبعوثات البروتستانت بهذه البلدة المنكوبة الحظ , مما جعل الناس في حيرة من القبض على دينهم , وكأنه قد انطبقت عليهم كلمة الرسول (يأتي يوم) الحديث - ولكم المنة والشكر وعظيم الأجر. أولاً: أن تفسروا في مناركم المنير: ما معنى أو كنه الآية التي بعد: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) الآية , وما يقصد بالمثلية؟ وإن كانت في العدد كما هو المتبادر فكيف يتصور عدهن؟ وإن كانت طبقات طبقات بعضها فوق بعض (حسب ما أشار إليه ذو الجلالين) وتحيط بجميعها الكرة الأرضية فلماذا لحد الآن لم يكشف شيئًا من هذا الانفصال العلم الحديث رغم ما حفروا ونقبوا الأرض تنقيبًا , ولماذا يفرق بينهن إن كانت على هاته المنوال والحالة هذه؟ , وإن فرضنا أن كل أرض مصورة بكرة أرضية خاصة والحال أننا في واحدة فقط كما هو المقرر فالباقيات الست أين هي؟ ومن يسكنها؟ وما أقوال الباحثين فيها؟ انتهى. ثانيًا: ما حالة سيدنا عيسى الآن؟ وأين جسم سيدنا عيسى من ورحه؟ وما قولكم في الآية التي بعد {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) الآية، وإن كان حيًّا يرزق كما كان في الدنيا فمم يأتيه الغذاء الذي يحتاج إليه كل جسم حيواني كما هي سنة الله في خلقه؟ وإن قلنا: إنه في السماء , وأثبتنا من الآية أو غيرها ما تقدم فعند نزوله في أي مكان ينزل؟ ومن أين يأتي؟ وما أقوال السادة العلماء فيه؟ وما حكم من ينكر وجود سيدنا عيسى الآن حيًّا ويعتقد [1] في يوم يأتي؟ وما نصيب هذا المفكر من الإيمان؟ أفيدونا عن ذلك ولكم الدعاء بالإعانة والامتنان. ويا حبذا لو تسرعون بنشر السؤالين في المجلة حتى ينفصم حبل الإلحاد والتضليل (وإبادة كل بدعة أو ضلالة أنفع لجميع المسلمين) والله يحق الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا على لسان من يقيضه من خلقه ويجعله بذلك خليقًا، والسلام. ... ... ... ... ... ... من محبكم الداعي لكم مشترككم ... ... ... ... ... ... ... فقير ربه عمر خوجة بتونس تفسير ] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [[2] جاء ذكر السموات والأرض معًا في عشرات من الآيات، وجاء ذكر الأرض وحدها في آيات أخرى كثيرة , ولم تذكر في القرآن إلا مفردة، بل ليس فيه ما يشير إلى تعدد الأرض إلا هذه الآية في آخر سورة الطلاق على بعض الوجوه المحتملة في المثلية , وهي مبهمة لا يمكن تعيين المراد منها بالرأي على سبيل القطع، وقد تغلغلت الإسرائيليات في تفسيرها , ولا سيما أقوال كعب الأحبار , ووهب بن منبه التي صرح المحققون بعدم الثقة بشيء منها، وناهيك بهذه الإسرائيليات في وصف السموات السبع والأرضين السبع وما فيهن، ومن أغربها أثر ابن جريج الطويل العريض في خرافات طولهن وعرضهن , وما فيهن , والمسافات بينهن , وبالصخرة الخضراء المكللة , والثور ذي الثلاث القوائم والقرنين , وبالحوت الذي ذنبه عند رأسه , وبالخرافة التي أخرجها أبو الشيخ في العظمة عن كعب الأحبار قال: الأرضون السبع على صخرة , والصخرة في كف ملك , والملك على جناح الحوت , والحوت في الماء , والماء على الريح , والريح على الهواء ريح عقيم لا تلقح , وإن قرونها معلقة بالعرش. وروي عن ابن عباس في تفسير الآية أنه قال: (لو حدثتكم بها لكفرتم , وكفركم تكذيبكم بها) , وروي عنه أنه قال: (سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم , وآدم كآدمكم , ونوح كنوحكم , وإبراهيم كإبراهيمكم , وعيسى كعيساكم) . قال البيهقي: إسناده صحيح ولكنه شاذ بمرة , لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعًا , وقال الذهبي مثل ذلك , وزعم أبو حيان أنه موضوع من رواية الواقدي , وهو رأي في المثلية معناه: وخلق من الأرض مثلهن في الصفة , وهو كونها كأرضنا حتى في حياة أمثالنا من العقلاء المكلفين فيها , وهذا المعنى يقتضي أن في السموات السبع , ولو في جملتهن ومجموعهن أحياءً كبني آدم بعث فيهم رسل كرسلهم , وهو ليس بشاذ لا يعرف له أصل كما زعموا , بل له أصل في القرآن نفسه وهو {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} (الشورى: 29) . وقال جمهور المفسرين: إن المراد بالمثلية العدد وهو كونها سبعًا وحاول بعضهم وصفهن بكل ما وصفت به السموات السبع من كونهن طباقًا بعضها فوق بعض إلى غير ذلك، ومن وجود السكان فيهن قيل من الملائكة وقيل من الجن - ولكن الملائكة والجن لم يطلق عليهما اسم الدواب، ولا أدري لماذا يهرب هؤلاء من إثبات أنواع الحيوان فيهن والله تعالى يقول: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ} (الشورى: 29) أي السموات والأرض ولو في جملتهما. وقال بعضهم تبعًا للضحاك: إنهن سبع طبقات متصل بعضها ببعض , لا متفرقة , وفصله بعضهم بما يقرب من قول علماء الجيولوجيا في طبقات الأرض. وقال آخرون: ومن الأرض مثلهن في العدد فقط مع الإمساك عن الاتصال والانفصال. والسائل مطلع على هذه الأقوال , والآية ليست نصًّا في شيء مما قيل , والمتبادر منها بحسب العبارة وصرف النظر عن الروايات والأقوال أن الله خلق سبع سموات , وخلق الأرض مماثلة لهن , أو خلق من الأرض مثلاً ونظيرًا لهن , أي أن خلق الأرض كخلق السموات، والمثلية تصدق في الأمور المشتركة بين المثلين , ولا يجب أن تكون من كل وجه في المادة والصفات، كيف وقد ضرب الله المثل لنوره المصباح في المشكاة، وإنما تعرف الصفات المشتركة بين الأشياء بالحس يقينًا أو بالقياس ظنًّا أو بالوحي إيمانًا، وليس عندنا نص من الوحي في وجه المماثلة، وأما الحس فإننا نرى الأرض على قرب , ونعرف من صفاتها شيئًا كثيرًا إن لم نقل كل شيء ولو بالإجمال، وأما السموات السبع فإذا كان المراد بها الدراري التابعة لنظام شمسنا هذه كما كان يفهم العرب مثل أمية بن أبي الصلت الذي ذكر السبع في شعره , وكما يقول الكثيرون من العلماء بالتفسير وبعلم الهيئة الفلكية فوجه الشبه ظاهر عندهم وهو أن هذه الأرض نفسها كوكب من كواكب النظام الشمسي كالمريخ والمشترِي التي تستمد النور من الشمس , وترتبط معها بسنة الجاذبية العامة، إلا أن بينها فروقًا , وأقربها إلى صفة الأرض في أحيائها النباتية والحيوانية المريخ. وقد نقل الراغب عن بعض العلماء عبارة بديعة في هذا المعنى وهي: كل سماء بالإضافة إلى ما دونها فسماء وبالإضافة إلى ما فوقها فأرض، إلا السماء العليا فإنها سماء بلا أرض , قال: وحمل على هذا قوله {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) . وأقول: إن هذه الدراري إنما كانت تعد سبعًا في عرف المتقدمين بعد الشمس والقمر منها دون الأرض، وهي تعد الآن ثماني منها الأرض وكوكبان عرفا بمراصد هذا العصر , وهما أورانوس ونبتون , ومكانهما وراء زحل أي فوقه ودونه المشتري فالمريخ فالزهرة فعطارد , وهي سبع سموات بالنسبة إلينا كما تقدم , فبقيت عبارة القرآن صحيحة في نفسها , وإن كانت السموات السبع مجهولة لنا كأن تكون من عالم الغيب فالواجب أن يحمل معنى المثلية على أعم الوجوه ككونها من خلق الله الدال على قدرته وعلمه , كما يدل عليه آخر الآية وسيأتي، ولكن هذا القول مردود بالآيات القرآنية المتعددة. وقد ورد في الأحاديث والآثار روايات كثيرة في ذكر السموات السبع والأرض , وفي بعضها ذكر لتعدد الأرض , وقد عقد البخاري في كتاب بدء الخلق من صحيحه بابًا سماه (باب ما جاء في سبع أرضين) , وقول الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) إلخ الآية , وذكر فيه حديث عائشة مرفوعًا (من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين) , وحديث سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل (أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين) , وظاهره يوافق قول من قال: إن المراد بالسبع الطبقات , وإنهن متصلات كطبقات الجيولوجية قال الحافظ في شرح الحديث من كتاب المظالم من الفتح: وفيه أن الأرضين السبع متراكمة لم يفتق بعضها عن بعض لأنها لو فتقت لاكتفي في حق هذا الغاصب بتطويق التي غصبها لانفصالها عما تحتها، أشار إلى ذلك الداودي , وفيه أن الأرضين السبع طبقات كالسموات , وهو ظاهر قوله تعالى: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} (الطلاق: 12) خلافًا لمن قال: إن المراد بقوله سبع أرضين سبعة أقاليم إلخ. وأنت ترى أن هذين القولين مختلفان , فإن كانت السبع الطبقات من السموات منفصلاً بعضها عن بعض لا يظهر معنى التطويق منهن في الحديث الصحيح، وهو الحديث الصحيح في التعدد دون غيره , ولا ندري أكان هذا الجمع مستعملاً بالسبع عند العرب كالسموات أم لا. وروى أحمد والترمذي عن الحسن عن أبي هريرة حديثًا مرفوعًا فيه عد سبع أرضين بين كل منها خمسمائة عام، وهو حديث غريب منقطع , والحسن لم يسمع عن أبي هريرة , ورواه البزار والبيهقي من حديث أبي ذر مرفوعًا بنحوه , وهو مرسل قال في البداية: ولا يصح إسناده. وقد علم مما تقدم أن أصح ما ورد في تعدد الأرض حديثا عائشة وزيد بن سعيد رضي الله عنه في مغتصب شيء من الأرض أنه يطوقه من سبع أرضين , وهذا لا يدل على تعدد الأرض بوجود سبع مستقلة منفصل بعضها عن بعض كالسموات , وهو لم يرد تفسيرًا للآية. ويليه حديث ابن عباس في كون كل أرض منها منفصلة عن غيرها مستقلة يسكنها عقلاء مكلفون فيهم رسل منهم كأشهر الرسل منا. وقد ضعفوه بشذوذ متنه عندهم لاستغراب وجود رسل في عالم آخر غير أرضهم. قال القسطلاني: ففيه - أي في تضعيف البيهقي والذهبي له بالشذوذ - أنه لا يلزم من صحة الإسناد صحة المتن كما هو معروف عند أهل هذا الشأن , فقد يصح الإسناد ويكون في المتن شذوذ وعلة تقدح في صحته , ومثل هذا لا يثبت بالحديث الضعيف. وقال في البداية: وهذا محمول إن صح نقله على أن ابن عباس أخذه من الإسرائيليات. اهـ. وأقول: إن هذه القاعدة صحيحة عند المحدثين والأصوليين جميعًا , ولكن قل من عني بتحكيمها في الأحاديث الشاذة المتون بمخالفة القطعيات حتى الحسية منها كحديث أبي ذر رضي الله عنه في غروب الشمس , وكونها تكون مدة غيابها عن الأرض ساجدة تحت العرش تستأذن ربها في العودة إلى الطلوع إلخ , وهو متن مخالف للحس , فإن الشمس لا تغيب عن الأرض كلها طرفة عين , وإنما تغرب عن قوم وتطلع على آخرين، وهذا مشاهد معلوم بالقطع. ولما أوردنا رد طعن الطاعنين على الإسلام به , وبينا الرد على ذلك من عدة وجوه طعن في ديننا دجال بيروت يوسف النبهاني الشاعر بجهله وتعصبه لأنه مروي في الصحيح. ومما سبق لنا بيانه في هذا المقام من وقوع مثل هذا الشذوذ في الصحيحين على قلة أن حديث أبي هريرة عند أحمد ومسلم في خلق السموات والأرض في سبعة أيام وأوله (خلق الله

الإصلاح الحقيقي والواجب للأزهر والمعاهد الدينية

الكاتب: محمد عرفة

_ الإصلاح الحقيقي والواجب للأزهر والمعاهد الدينية [*] إن الأمة المصرية كسائر أمم الشرق جماعة دينية جمعها الدين ووحد بينها، وبنيت أخلاقها وحضارتها عليه. وقد تغلغل الدين في جميع شؤونها، فنظم سلوك الرجل في منزله، وسلوك المدنيين بعضهم مع بعض، وسلوك الملك مع رعيته والرعايا مع ملوكهم. فلو قد سألت مصريًّا: لماذا تصدق في قولك، وتتوخى العدل في حكمك وتؤدي الأمانة إذا اؤتمنت؟ ولماذا لا تأتي الفحشاء والمنكر، ولا تكذب، ولا تجور، ولا تخون؟ لأجابك بأن الله أمر بالأولى ونهى عن الثانية، وإذا كان عالمًا أو متعلمًا؛ تلا عليك الآيات والأحاديث الدالة على ذلك مثل آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل: 90) , ومثل حديث (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف , وإذا اؤتمن خان) ، فإذا لم تقو الروح الدينية في نفوس المصريين أو ضعف الدين عندهم؛ انهارت هذه الفضائل لأنه الأساس لها عندهم، وقد بنيت عليه فتتداعى وتتصدع بانصداع الأساس، وكذلك إذا شوه بإدخال البدع والخرافات عليه فسدت الأمة وضعف أمرها. وإذا قوي الدين، واستحكمت عقيدته فيهم، وبقي بمنجاة من الزوائد والبدع؛ صلحت الأمة وقوي أمرها، لذلك كان حتمًا مقضيًّا على أولي الأمر في مصر أن يعنوا بأمر الدين ويتعهدوه؛ مخافة أن تضعف العقيدة في نفوس الأمة , أو تطرأ البدع والمحدثات عليه؛ فتشوه جماله , ولا يكون في الأمة أداة عز ومنعة. ولما كان الأزهر والمعاهد الدينية هي معقل الدين في مصر , والمنبع الذي يتخرج منه رجاله؛ وجب أن يعنى بها , وأن تتعهد بالقيام عليها وإصلاحها. لذلك كان المصلحون الأولون: الشيخ جمال الدين الأفغاني والأستاذ الإمام وغيرهما يولون وجوههم قبل الأزهر، ويرجون صلاح الأمة بصلاحه، ورقيها برقيه. ولكن الأزهر أبى على المصلحين , وامتنع عليهم من الإصلاح، والسبب في إبائه أن الأزهريين لم يكونوا قد اطلعوا إلا على علومهم في كتبهم التي تدرس في الأزهر، ولم تكن قد أخرجت لهم المطابع من كتب السلف , ولا نتائج قرائح الأمم فما كانوا يرون وراء علمهم علمًا، ولا غير تعليمهم تعليمًا، ويعتقدون أن كل يد تمتد إليهم فإنما تمتد بالمسخ والتشويه والإفساد. تلك كانت العقيدة السائدة، ليس غير الأزهر معهدًا , وليس غير ما فيه من علوم علمًا , ولا غير الأزهريين علماء، لذلك أبى ما كان يريده منه المصلحون، فاضطروا إلى إنشاء مدارس يراد منها ما كان يراد منه، فعلوا ذلك وهم يعلمون أنه لا يجدي إلا قليلاً، لأن الأزهر لما له من المكانة الدينية والتاريخية في الأمة هو المسموع الكلمة , والنافذ الرأي فيها , والمعلم الموثوق به عندها في شأن الدين، فعقيدتها عقيدته، وآراؤها في الحياة والاجتماع آراؤه، وإن هذه المدارس التي تنشأ بجانبه ليست لها هذه المنزلة فلا تؤثر الأثر المطلوب، ولكنهم فعلوا ذلك ريثما يفيء إليهم ليكون الإصلاح به تامًّا وشاملاً. هذا شأن الأزهر في الماضي البعيد , أما بعد ذلك فقد أذعن للإصلاح لأنه قد اتسع أفقه بما خرجته له المطابع من كتب السلف ومن علوم الشعوب فعلم أن وراء علمه علمًا، وأن وراء كتبه كتبًا، لأنه رأى أبناءه يعزلون عن الحياة لأنهم لا يتسلحون بأسلحتها الجديدة، لكن ذلك الإصلاح كان كذلك الإصلاح الذي بنيت عليه مدرسة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي في الشكل والعرض لا في الصميم والجوهر. لقد اقتصر الإصلاح في مدرسة دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي والمعاهد الدينية إلى الآن على إدخال بعض علوم جديدة واختصار بعض الكتب وترتيبها وتبويبها. وأما العلوم نفسها فقد بقيت كما كانت لم تمتد إليها يد بتغيير ولا تبديل , وربما كان ذلك الإصلاح خيرًا في ذلك الزمن ليتقى به الطفرة , ولأنه كان ملائمًا لحاجة ذلك العصر. أما الآن وقد تطورت الأمة وتغير الزمن وتطلبت أساليب الحياة الجديدة أنماطًا من التعليم جديدة فمن الواجب لمصلحة مصر والعالم الإسلامي أن يكون الإصلاح في موضوع العلوم وجوهرها , وأن يتناول ما في الكتب نفسها ومسميات العلوم فربما يغير مسمى العلم نفسه , ولا يبقي منه إلا اسمًا يدل على مسمى آخر ليس بينه وبين المسمى الأول إلا الاشتراك في الاسم. يجب أن يكون الإصلاح أبعد في الوهم وأقصى في الأمد من تلك القشور التي يقترحها المقترحون والتي وقف عندها المصلحون إلى الآن. ومنذ صدر القانون بتنظيم سلطة صاحب الجلالة الملك على المعاهد الدينية , وأصبحت تابعة لرئيس مجلس الوزراء وأصبح مسؤولاً عنها أمام مجلس النواب، أبدى مجلس النواب غير مرة رغبته في إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية , وقد أبدت لجنة الأوقاف والمعاهد في تقرير ميزانية الأزهر تلك الرغبة أيضًا وتقدمت إلى الحكومة أن تؤلف لجنة يكون فيها جماعة من النواب لوضع الإصلاح المنشود ليقدم إلى البرلمان في الدورة المقبلة - ولما كنت قد درست الأزهر والمعاهد الدينية مدة ربع قرن , وبحثت عن عللها وأمراضها بحثًا مستفيضًا؛ فعلمت داءها الدوي ودواءها الناجع , وكنت أتربص الوقت الذي تتجه فيه نيات أولي الأمر إلى إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية إصلاحًا جديًّا , ورأيت الفرصة قد سنحت الآن لإظهار أولي الأمر رغباتهم في ذلك الإصلاح , وفي تعيين لجنة لوضعه أردت أن أعرض على أولي الأمر إجمال الإصلاح الذي رأيته بعد جهود بذلتها، ومشقات عانيتها، وأن أضع بين أيديهم القواعد الكلية التي ينبني عليها ذلك الإصلاح، فإن رأوا فيه غناءًا ورأوه جديرًا بأن يرضي حاجات الأمة التواقة إلى النهوض من إصلاح الأزهر فصلت ما أجملته وأوضحت ما اختصرته وشرحته شرحًا وافيًا مبينًا. وسأقصر بحثي هنا على الإصلاح العلمي، أما الإصلاح الإداري فقد تركته لمن هم أمس به مني. وها أنذا آخذ في إجمال الإصلاح الذي أراه: هذا الإصلاح الذي نقترحه على أولي الأمر ونجمله هنا , ونأخذ على عاتقنا بسط القول فيه وتنفيذه قد نظر إلى تطورات العلوم فرآها في طور عظمتها وارتفاعها , ورآها في طور ضعفها وإسفافها. رآها حين كانت مصاحبة لقوم أعزة فقويت بقوتهم، وحينما صارت مع قوم آخرين أذهانهم كالمملحة لا يقع فيها شيء إلا أحالته ملحًا فضعفت بضعفهم، فيبعث العلم الحي في طوره الحي من مرقده، ويرمس تلك الرسوم الميتة البالية التي هي حثالة الأذهان الجامدة ونخالة الأفكار المتبلدة. هذا الإصلاح خبير وجريء وحكيم: أما خبرته فلأنه ساير الدين في أطواره المختلفة فرآه وهو في جدته ونضرته في الصدر الأول حينما كان مبعث العظمة والمجد والسعادة لمن يدينون به، ورآه وقد أدخلت عليه البدع وغير فيه كثير من رسومه وتواضع الناس على رسوم وأوضاع أدخلوها في الدين على أنها من الدين، ونظر إلى تاريخ العقائد والنحل المختلفة والفرق الإسلامية المتباينة ورأى ما عند بعضها من حق ونافع، وباطل وضار. وأما أنه جرئ فلأنه سيعم إلى تلك الأوضاع والزوائد والبدع والخرافات التي حشرت في الدين وليست منه ويزلزلها من قواعدها ويهدم شامخها ويحل محلها تلك المبادئ العلوية السامية، ويعود بالدين إلى عهد السابقين الأولين، فيضحي كما كان نورًا وسعادة ورحمة للعالمين، ويأخذ من الفرق الإسلامية أيًا كانت حقها ونافعها، وينفي باطلها وضارها وأما إنه حكيم فلأنه لا يغير فجأة وقسرًا واستبدادًا، وإنَّما يغير تدريجًا، ولا يغير شيئًا إلا بعد أن تقوم الحجة على صحته ووجوبه وقبول الجمهرة له، فإن الإصلاح بالرفق والأناة خير وأجدى منه بالعنف والشدة , وأدعى إلى الطمأنينة والسلام. وبذلك تصبح مصر الإمام المقتدى به في الشرق والمعلمة للثقافة الإسلامية. وسيكون الإصلاح مبنيًّا على قاعدتين: أولاهما أن العلوم لم يفرغ من تمامها , ولم تبلغ الكمال المرجو لها، وإنما هي سائرة نحو التطور والكمال أمامها لا وراءها، ثانيتهما أن الأخلاق والشرائع والأديان والعقائد والعلوم وكل ما في الكون جعلت لمصلحة البشر وسعادته وعظمة الإنسانية وعزتها. هذا الإصلاح ليس إصلاحًا للمعاهد الدينية فحسب , وإنما هو انقلاب اجتماعي خطير له فائدته وخطره في الحياة الاجتماعية المصرية خصوصًا، والحياة الإسلامية عمومًا. ذاك أنه نظر إلى أمم الشرق وإلى أمم الغرب فوجد الأولى أممًا اتكالية، ووجد الثانية أممًا استقلالية. وجد الأولى وانية قليلة الأمل في الحياة ترضى بالدون , ووجد الثانية بعيدة الأمل لا ترضى من الغايات إلا أبعدها منالاً، وأشرفها مقصدًا. وجد الأولى أممًا مكسالاً تألف الدعة والراحة , وقد أشربت نفوسها شيئًا من معاني اليأس والقنوط، فهي نائمة تغط غطيطًا لا تكاد تصحو أو تفيق , وأما الثانية فهي أمم ذات عزائم وذات جلد، تألف التعب والجهد، وهي آملة متطلعة تبسم للحياة وتبسم الحياة لها , وبحث في علة ما في الشرق من أمراض؛ فوجد من بعض أسبابها تلك العقائد والآراء التي أدخلتها الفرق المختلفة من المتصوفة وغيرهم على الإسلام وليست منه فتأصلت في نفوس الشرقيين , وآتت أكلها الخبيث المستوخم , فذلك الإصلاح سيجتث هذه العقائد الباطلة من الأمة ويحل محلها العقائد الإسلامية الصحيحة التي تدعو إلى الجد والعمل والمثابرة والجهاد في هذه الحياة , وسيعد الأزهريين ليكونوا عونًا على ذلك، فهم معقد الأمل لهذه المهمة ومناط الرجاء , وسأمثل لبعض هذه الآراء ليعلم الناس أي خير يحل بالأمة، وأي شر يرفع عنها، وأي بركة تنزل، وأي وباء يزول، إذا أدخل هذا الإصلاح. من هذه الآراء ما أدخله المتصوفة من أن التوكل على الله ينافي الادخار والكسب، والأخذ في الأسباب، وينافي التداوي، ولن يكون المتوكل متوكلاً حقًّا حتى يقطع الأسباب، وأن التوكل ينافي التدبير والاحتياط والاحتراز، وكأنه هو إهمال العواقب، وإطراح التحفظ، ويروون لتثبيت ذلك ما قاله أبو سليمان الداراني وهو: لو توكلنا على الله تعالى ما بنينا الحيطان , ولا جعلنا لباب الدار غلقًا مخافة اللصوص. ويروون أن أبا يعقوب الزيات سئل عن مسألة في التوكل فأخرج درهمًا كان عنده ثم أجاب فأعطى التوكل حقه، ثم قال: استحييت أن أجيبك وعندي شيء، ويروون عن ذي النون المصري أنه قال: سافرت وما صح لي التوكل إلا وقتًا واحدًا: ركبت البحر فكسر المركب , فتعلقت بخشبة , فقالت لي نفسي: إن حكم الله عليك بالغرق فما تنفعك هذه الخشبة , فخليت الخشبة , فطفت على الماء فوقعت على الساحل. وهذه العقيدة تنافي الدين والعقل ومذلة للأمم: أما مخالفتها الدين فلأن الدين يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) , ويقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (الجمعة: 10) , ويقول: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء: 71) , ويقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) , وقد ظاهر النبي صلى الله عليه وسلم بين درعين. وأما مخالفتها العقل فلأن العقلاء ما زالوا يوصون بالادخار وكسب المال والأخذ في الأسباب، ويقولون: لا عقل كالتدبير , ويطلبون أن ينظر المرء في الأمور ببصر , وينفذ البصر بالعزم بعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف. وأما أنها مذلة للأمة فلأنها تدعوها إلى الإخلاد

نظرة عامة في حالة الإسلام

الكاتب: مصطفى بك نجيب

_ نظرة عامة في حالة الإسلام (مقالة للمرحوم مصطفى بك نجيب الذي كان من أشهر كتاب المسلمين في مصر أرسلها إلى المنار مشايعة له على خطته منذ أكثر من ربع قرن، فلم ننشرها يومئذ لكثرة لحنها وخجلنا من الافتيات على صاحبها بتصحيحها بدون إذنه، ثم ضلت بين الأوراق , حتى عثرنا عليها في هذه الأيام، فرأينا الحاجة إليها كما كانت أو أشد مما كانت سنة كتابتها فصححنا أكثر غلطها ونشرناها وهذا نصها) . من الأمور التي يحار فيها لب المدققين في الأمور الاجتماعية والذين لهم إلمام بعلوم التاريخ وأسباب تقدم الأمم أن يرى الإسلام في درجة الشقاء التي أصبح بها وهذه الحالة التي عليها الأمم المختلفة المتدينون بالدين الحنيف قد استلفتت أنظار كل المجتهدين في أسباب تقدم وارتقاء سعادة الأمم , ومن جهة أخرى قد شمتت أعداء الإسلام لأنهم جعلوا ذلك حجة قوية يحتجون بها على أن الدين المنيف هو دين الهمجية والانحطاط , وقد كذبوا في زعمهم , ولكن المقادير لم تساعد المسلمين في الارتقاء والارتفاع , ولا يسند هذا إلى الإسلام لأنه بريء من كل ما يسند إليه من الخزعبلات والتعصب الأعمى. ولو نظرنا نظرة عامة في أحوال المسلمين لوجدناهم في أسوأ حال لأنهم تركوا فضائل ما يأمرهم به دينهم القويم , واتخذوا الكسل عادة , والخرافات طبعًا غريزيًّا، مع أن القرآن الشريف يأمرهم بالاجتهاد والعمل، ويرغبهم في الكسب والارتزاق، وأن يسعوا في الأرض من مشارقها لمغاربها ليحصلوا على الفوائد والمنافع التي تعلي شأنهم وتنمي ثروتهم. يتأسف المسلم الغيور أن يرى ما آلت إليه أحوال المسلمين من (ضلال عن) سواء السبيل، فقد ضلت الأفراد , وتغيرت معالمهم , وصار بينهم وبين الدين بون عظيم مع أنهم لو ساروا على مبدأ الدين الإسلامي لأصبحوا في العز الرفيع والسؤدد الجليل، ولكن أين ذلك، وقد ضربت على أفئدتهم غشاوة من الجهل , وتركوا لأنفسهم مسلك الغباوة حتى حادوا عن الفضائل، وتشبثوا بالرذائل، ومع ذلك تراهم مصممين على ما هم عليه قائمون، وإليه متجهون؟ أما آنت لهم الفرصة؟ ألم يستفيدوا من الدروس المدهشة التي يرونها اليوم بعد الآخر؟ ألم تعلمهم الأهوال كيف المآل؟ فقد انتهز الأجنبي فرصة نومنا وتداخل في أمورنا، ورمانا بعدم الكفاءة والأهلية للعمل، هل بعد ذلك احتقار؟ كيف تكون أحوال المسلمين وقد أمسوا مستعبدين بالأجانب لا يملكون لنفسهم حرية , ولا يمكنهم أن يجعلوا لدينهم صفة ولا شأنًا بين الأديان، أين العلماء المجتهدون منهم الذين يهبون أنفسهم للتعليم ويرغبون في تهذيب أخلاق إخوانهم المُفْتَقِرِينَ لتنبيههم عن غفلتهم؟ لا غيرة عندهم، ولا نفس ترغبهم في العمل للمنفعة العامة. سمعت من سائح سألته عن حالة المسلمين في جاوه وسوماطرة , فجاوبني أنهم في أتعس عيش وأحط حالة , لا يسوغ لهم أن يجتمعوا في اجتماعات، ولا تأذن لهم الحكومة ببناء مساجد وجوامع يقيمون بها الصلاة، حتى مدائنهم خالية من كل ما يقام فيه شعائر العبادات الدينية الإسلامية، وإذا وجد شيء من هذا القبيل فيمكن العثور عليه صدفة في القرى، فالمسجد يكون مركبًا من أكواخ حقيرة تقام فيه بعض الفروض، ولا يسمح لساكني هذه الجزر بشيء سوى الضروري جدًّا مع أنهم ملايين عديدة يسكنون هذه البقاع الخصبة , والتي لا ينقصها إلا العلم والانتظام في سلك المدنية، كل ذلك حاصل والمسلمون في غفلة شديدة لا يحركون ساكنًا , ولا يرفعون صوتًا، فهل هذا ما يأمرهم به دينهم السديد؟ هل يأمرهم بالذل والمسكنة؟ كلا ثم كلا. وهذا مثل من الأمثال التي يصادفها الإنسان بنفسه في حياة الأمم الإسلامية , وإذا قلنا: إن هذا الضعف ناتج من الضغط على الأفراد وعدم تمكنهم من حكم أنفسهم بأنفسهم , فإليك أمثالاً متنوعة تشاهد بالعين ونراه , وإذا لم نرها فقد سمعنا عن أخبارها. فعدد الممالك الإسلامية التي تحكم نفسها فترى (؟) أن حالهم أسوأ وأردأ من غيرهم , لا نظام لحكوماتهم , ولا مبدأ لدى الحكام إلا الاستبداد والظلم، حتى إن هذه الأسباب تجعل بابًا للتداخل الأجنبي كما هو مشاهد الآن بمراكش وغيرها من الممالك الأسيوية الإسلامية المستقلة. ما الذي ينتظر من هذه الأمم ما دامت على هذه الحالة من الضعف؟ هل يؤمل منهم خير بعد أن سلموا أرواحهم وبلادهم للأجانب وبعد أن سيطر هؤلاء عليهم وأخذوا زمام أعمالهم في قبضتهم؟ . أرى أنه ما دام أمراء المسلمين لاهين في شهواتهم ولذاتهم، مبتعدين عن كل ما يجلب السعادة لشعبهم، غير مبالين إلا بمنافعهم الشخصية ومزاياهم النفسانية، فذلك ما يجلب الدمار ويورث الضياع، لأن الملك إذا ترك لنفسه العنان , وانقاد إلى أهوائه؛ ضاع وضيع من هو عليهم سلطان، فمن الوبال أن يحرم الإسلام من الأمراء العاملين لنفعه الساعين في مصلحته وإعلاء كلمته. وإني أرى أن السلطان العادل أو الأمير العارف يفيد المسلمين كثيرًا , ويصلح شأنهم لأنهم يعدون أن الحاكم عليه صلاح الرعية، وبفساده تفسد البرية، وقد رسخ ذلك في أوهامهم بدرجة غريبة لأنهم تعودوا ذلك من قديم مع أن ذلك لم يكن إلا بدعة من البدع التي أضاعتهم وهضمت حقوقهم، لأنهم إذا طالبوا الحكام بواجباتهم لم يستطيعوا أن يفعلوا مثل ما يفعلون معهم، ويستبدوا مثل ما يستبدون، ويجحفوا بحقوقهم مثل ما هم عليه قائمون. هذا ومن جهة أخرى ترى أن المسلمين أصبحوا في حالة تأخير من جهة الفكر والتصور لأنهم امتثلوا للخرافات وزودوا عقولهم بأفكار سخيفة , وتركوا الأصول الحقيقية فلذلك أثرت في حياتهم ووجودهم هذه الاعتقادات المأخوذة عن محض الجهل حتى صارت لهم عادة مأثورة وقياسًا مألوفًا مع أن ذلك مخالف لنصوص الشرع على خط مستقيم. ترى أيضًا أن المسلمين منقسمون بينهم لا تربطهم محبة , ولا تجمعهم ألفة ولا جامعة لأنهم أصبحوا محكومين , ولا يخفى أن الضغط والاستبداد يذهبان ما في الإنسان من الغيرة والحمية وخصوصًا إذا جعل هذا الأمر عادة فيصير كأنه مخلوق لهذه الحالة. فلهذه الأسباب لا تجد جامعة واحدة حتى إنك ترى في البلدة الواحدة فتورًا بين الأهل والأفراد , وقد نسوا كل النصائح الحكيمة التي أتى بها القرآن الشريف من الآيات البينات في الاتحاد {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} (القصص: 35) , {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) إلى آخر تلك الآيات البينات. ومن الحديث الشريف ما يغني عن البيان , ويفصح عن المقصود في مثل هذا الموضوع. وأما من يسمون بالعلماء فهم في حالة تأخر وانحطاط , فهم يرمون وراء ظهورهم وينبذون نبذ النوى كل المبادئ الحديثة من العلوم , ويكفرون من اتبعها زعمًا أن ذلك مخالف للشريعة السمحة ولو تصوروا قليلاً لعرفوا تمامًا سوء فهمهم وقلة إدراكهم. 30 أغسطس سنة 905 ... ... ... ... ... مصطفى نجيب

كتاب الصحة لمهاتما غاندي

الكاتب: عبد الرازق المليح آبادي

_ كتاب الصحةلمهاتما غاندي كلمة المترجم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، محمد وآله وصحبه الهادين المهديين. (وبعد) فإني أقدم هذا الكتاب الصغير في حجمه، الكبير في معناه، إلى الأمة العربية في لغتها الشريفة التي لها فضل كبير علي وعلى العالمين، وقد خصصت مجلة (المنار) الغراء بنشر هذه الترجمة لما لها من الأيادي البيضاء في الإصلاح الاجتماعي والديني، وما لصاحبها من المنة الكبيرة علي بتثقيفي وتربيتي، إذ أنا تلميذه ومريده، وتشرفت بالمثول بين يديه سنين عديدة. ترجمت الكتاب إلى العربية بعد أن استأذنت مصنفه مهاتما غاندي [1] فاستحسن فكرتي، وأذن لي , بل ألح علي بذلك قائلاً: (إني أحب العرب وأحترمهم، وأنتظر منهم أعمالاً عظيمة لخير الشرق والإنسانية، وأرغب في عرض أفكاري عليهم) . فقلت له: (ولكن العرب فطروا على عيشة تصدهم أن يأخذوا ببعض أفكارك التي بسطتها في الكتاب، بل ربما يستهزئون بها) . فقال: (لا عجب إن فعلوا ذلك , إني لا أنتظر من جميع الناس أن يقبلوا كل ما أقول , وظيفتي أن أقول، لا أن أكره الناس على اتباعي) . ألف مهاتما غاندي كتابه هذا وهو ليس بطبيب، وترجمته أنا ولست بطبيب. أراد غاندي بتأليفه أن يخدم الناس بما جربه بنفسه من قواعد الصحة , وأردت أنا بترجمته أن أخدم الناطقين بالضاد بما قرأته , ولم أجربه بنفسي قط. فغرضي من هذه الترجمة ليس دعوة الناس إلى العمل بكل ما جاء في هذا الكتاب، لأني لا أجزم بصحة كل ما جاء فيه , بل إنما غرضي الإخبار بما قاله في مسألة الصحة هذا الزعيم السياسي والمصلح الاجتماعي والقائد الديني في القارة الهندية، والذي يحسب كثير من الأوربيين والأمريكان - وفيهم عدد من القسيسين أنه مسيح جديد، جاء ليجدد تعاليم المسيح القديم! وأقواله مهما تبدو غريبة، وأفكاره مهما تظهر شاذة، تستحق الاعتبار والتأمل على كل حال. إن من سوء حظ الشرق أنه لم يفقد استقلاله السياسي فحسب؛ بل قد فقد استقلاله الفكري أيضًا، ولذلك تراه يقلد الغرب في كل شيء، حتى إنه أصبح لا يتفكر في نفسه، ولا يقيم للأشياء وزنًا ولا يميز بين الحق والباطل، بل لا يزال نظره إلى الغرب فإن رآه يقول لشيء إنه حق، قال هذا أيضًا: إنه حق وبالعكس. وأنا لا أكره الغرب ولا أنكر فضله في العلم والمدنية , ولا أحرم الاقتباس والاستفادة منه، ولكن الذي أقبحه وأشئمز منه هو الاستعباد الفكري للغرب، لأن هذا الاستعباد إذا تمكن من نفوسنا لن نسترد حريتنا السياسية المغصوبة، ولن نجدد أسس قوميتنا المتهدمة. أقول هذا لأني أخشى أن ينبذ فريق من القراء هذا الكتاب قبل أن يطلع عليه لا لأنه يستحق النبذ، بل لأنه جاء من مصدر شرقي بحت، فيحسبه سخافة شرقية , فلذلك أرجو من هو على هذه الشاكلة أن يتمهل في الحكم عليه ليقرأه بإمعان، فإن لم يعجبه فليرمه إن شاء. وإني تطمينًا لهؤلاء أقول: إن هذه الآراء ليست خاصة بغاندي وحده، بل هناك في أوربا وأمريكا أيضًا ثورة كبيرة على الطب وأساليبه وأدويته , بل إن تقدم العلوم قد أخذ يهدم أركان هذا الطب الذي نسميه (الحديث) ويسمونه هنالك (القديم) . إن مهاتما غاندي - وإن لم يكن طبيبًا - مهتم بمسألة الصحة اهتمامًا كبيرًا، ذلك دأبه من نعومة أظفاره , وكتب ما كتب بعد أن جربه بنفسه على نفسه سنين طويلة، وهو لا يزال متمسكًا بكل ما قاله , وعاملاً به بكل دقة وشدة. يعلم اهتمام غاندي بمسألة الصحة من كتاباته , وخطبه الكثيرة فيها , وقد صرح مرارًا بأنه لو لم يقدر له أن يكون سياسيًّا ومصلحًا اجتماعيًّا، لكان كناسًا في بلدته، ينظف المراحيض , ويزيل القاذورات من البيوت، ليعيش الناس بالصحة والعافية! وقد سمعت ممن شهد المؤتمر الوطني سنة 1921 في بلدة أحمد آباد مقر غاندي - ولم أستطع الاشتراك فيه لأني كنت يومئذ مسجونًا - أن مهاتما غاندي كان ينظف المباول وبيوت الخلاء بنفسه ومعه تلاميذ مدرسته , مع أنا نعلم أن هذا المؤتمر كان عظيمًا جدًّا اجتمع فيه أكثر من نصف مليون نفس. وقد يتعجب الذين بهرتهم المدنية الغربية، وغرتهم أبهة الزعامة الوطنية، كيف يقوم هذا الزعيم الجليل بهذا العمل القذر؟ هؤلاء يتعجبون لأنهم لم يعرفوا هذه الشخصية العجيبة النادرة: شخصية مهاتما غاندي. إن هذا الرجل - وإن ظهر ونبغ في القرن العشرين - يضرب لأبناء هذا العصر في نفسه مثل بوذا وكونفوشيوس وغيرهما من المصلحين وقادة البشر في العصور الغابرة الذين أسسوا دعوتهم على مكارم الأخلاق وحب الإنسانية والعيشة الساذجة والروحانية النقية , والثقة التامة بذات الله العلي الكبير والتوكل عليه. إن هذا الزعيم كذلك يدعو الناس إلى المعيشة الفطرية الساذجة ونبذ البذخ والترف، وإلى التخلق بالأخلاق الفاضلة، والمحبة الشاملة العامة، والتمسك بجميع ما في الأديان من الخير والتقوى وخشية الله والرأفة بالبشر. ليت شعري كيف كان يكون عجب المغترين بالمدنية الغربية إذا رأوا هذا الزعيم الهندي بأعينهم؟ إنهم ليرونه عاريًا، حافيًا، حاسرًا قد تجرد من الملابس قائلاً: (لا يصلح لي أن أتجمل بالملابس , والملايين الكثيرة من بني جلدتي لا يجدون ما يسترون به عوراتهم ويقون به أجسادهم من الحر والبرد) فتراه الآن متجردًا ليس على جسده لباس , اللهم إلا إزار صغير يستر به عورته! وكذلك شأنه في مأكله: لا يأكل الملح ولا اللحم ولا العدس ولا الحبوب ما عدا خبز القمح نادرًا , وقد حصر غذاءه في الفواكه , وهو يكثر من أكل البرتقال والموز , ويفضلهما على غيرهما من الفواكه. وقد أخبرني عن سبب تركه الملح فقال: مرضت زوجتي في إفريقية الجنوبية (وكان يشتغل هنالك بالمحاماة) مرضًا شديدًا فداويتها أولاً بنفسي فلم ينفعها شيء فراجعت أحد الأطباء , وأدخلتها في مستشفاه الخصوصي فأمرها أن تترك أكل الملح والعدس , فغضبت من نصحه , وأبت امتثاله فغضب الطبيب أيضًا، وكان حديد المزاج قاسيًا فدعاني في نصف الليل , وقال: إن زوجتك عصت أمري، فأنا لا أعالجها بل لا أسمح لها بالبقاء عندي دقيقة واحدة، فاذهب بها حيث تشاء حالاً بدون أدنى تأخير! قال مهاتما غاندي: فتحيرت في أمري , ورجوت الطبيب أن يسمح لها بالبقاء إلى الصباح , ولكنه أبى ذلك , وأصر على أمره، فاضطررت أن أخرج زوجي في تلك الساعة من الليل البهيم البارد , وأحملها على ظهري مسافة 15 ميلاً حيث كان مقامي! فلما وصلت بها إلى البيت، قلت لها: بئس ما فعلت , إنك لا تشفين إلا باتباع نصح الطبيب , يجب أن تتركي أكل العدس والملح , وإلا تموتين , فقالت: إن الامتناع عن العدس سهل، ولكن الملح لا أستطيع تركه , وإن مت بسببه، ولو كنت أنت في مكاني لما وسعك تركه! فقلت: تقولين ذلك! فها أنا ذا أترك الملح سنة كاملة مختارًا! فلما سمعت ذلك أخذت تبكي وتعتذر من قولها. ولكني هدأت روعها , وقلت لها: لا بأس عليك , لم أقل ذلك لأني غضبت من قولك، بل إنما أفعل ذلك لتتشجعي أنت في مكانك فيسهل عليك ترك الملح. قال: (فلما مضت السنة , ورأيت فوائد ترك الملح، ما عدت إليه إلى الآن) أما صحته - فجسمه نحيف جدًّا، لا يجاوز ثقله أكثر من 104 أرطال (Pound) ولكنه يرى نفسه أصح الناس جسدًا , ويقول: إن الرطوبات والشحم الزائد والفضلات التي لا احتياج إليها قد خرجت من جسمي , وأصبحت قويًّا بكل معنى الكلمة. وكلامه هذا ليس جزافًا لأنه يقوم بأعمال قد يعجز عنها الرجال الأشداء , فهو يحرر ثلاث جرائد أسبوعية , وهي تصدر في أوقاتها المعينة بدون أن يحدث فيها أي خلل , ونحن نعلم أنه يشتغل بالأشغال العقلية 16 ساعة كل يوم , ومع ذلك لا يشعر بالتعب. وكذلك نراه من سنين كثيرة في السفر، لا يستقر في مكان، يدور من بلد إلى بلد، يخطب مرات عديدة في يوم واحد , ويقابل ألوفًا من الناس. وأكبر دليل على قوته أنه صام أربعين يومًا متتابعة لم يذق فيها أي شيء , ومع ذلك لا أغمي عليه ولا أحس بضعف، بل ما زال يكتب لجرائده المقالات , ويغزل كل يوم من القطن المقدار الذي قرره لنفسه , ومن أعجب ما رأيناه أنه بينما كان ثقله قد قل كثيرًا في الأسبوع الأول من الصوم حتى خافوا على نفسه، أخذ يزداد وزنًا بعد ذلك , وقد تحير الأطباء في تعليل ذلك! ثم إنه فوق ذلك قد ملك زمام نفسه، فيعيش كما قرر لنفسه أن يعيش فلا ينام إلا القدر الذي قرر أن ينام، ويقوم بجميع أعماله بنظام تام، بدون أن يطرأ عليه أي خلل. ثم إنه لا يغضب أبدًا , ولا يستعجل ولا يفزع، بل يبقى دائمًا هادئًا مطمئنًا كأنه مالك نفسه , سخرها؛ فأصبحت له أطوع من بنانه. ومن عجيب أمره أنه يعيش مع زوجته , ولكنه يحسبها كأخته أو أمه كما أشار في هذا الكتاب، وكما صرح في إحدى خطبه هذه الأيام فقال: (أنا وزوجتي قد اتفقنا على أن نعيش كالأخ والأخت , أو كالابن والأب , أو البنت والأم , فأنا لها كأب وهي لي كأم) . وكلامه هذا لا يرتاب فيه , لأن عيشته مفتوحة , وليست بسر , وهو لا يكذب أبدًا مهما اضطرته الأحوال. فيعلم من كل هذا أن صاحب هذا الكتاب، وإن لم يكن طبيبًا قد عرف أسرار الصحة وجربها في نفسه فأصبح رجلاً غير عادي في صحته الجسدية وصحته العقلية , وقد قدم في نفسه نموذجًا للرجل الصحيح تمام الصحة , وأودع تلك الأسرار في هذا الكتيب ليجربها الآخرون فإن وجدوها خيرًا؛ تمسكوا بها , وإلا ضربوا بها عرض الحائط. هذا ما أردت أن أقوله للقراء قبل أن يطلعوا على الصفحات الآتية. إلا أنه بقي علي أن أشكر صديقي ورفيقي في الدرس حضرة الأستاذ الشيخ عبد العزيز العتيقي من أهل نجد الذي ساعدني في تقويم عبارة الترجمة , فأشكره شكرًا جزيلاً , وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بيده ويمهد له السبيل لخدمة شعبه، الذي كنت أعهده متفانيًا في حبه. والحمد لله أولاً وآخرًا؛ ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرازق المليح آبادي (المنار) لما عرض علينا ولدنا الروحي الفاضل الخادم لملته وأمته الإسلامية ترجمته لهذا الكتاب النفيس؛ استحسناه , وقبلنا أن ننشره في أجزاء المنار ليستفيد منه قراؤه الاهتمام بصحة أجسادهم وسلامة أرواحهم , فهو يَفْضُل جميع ما ألفه الأطباء أنه يعنى بالأمرين معًا، ولعمري إن حاجة البشر إلى صحة أرواحهم أشد كما أن تفريطهم فيها أعم، ولنا على قول المترجم إن المؤلف غير طبيب أن الطب الصحيح ما صدقته التجارب , وكان مستنبطًا منها , وهو صادق في خبره عن تجاربه إلا أنه لا بد من تكرار التجربة، وأن يراعى فيها اختلاف الأحوال والأمزجة، وكذلك صفات الأنفس وقواها فإن المؤلف ذو إرادة قوية هي الركن الأعظم لعظمته التي ساد فيها قومه , وأصبح زعيمهم الأكبر في دينهم ودنياهم باستحقاق , وهي مع الذكاء والبصيرة ركن لصحته الجسدية أيضًا. ومثله في استقلال عقله وكبر همته وعقائد ملته لا يخلو من شذوذ ذاتي , ومخالفة دينية لكثير من الناس. وقد علقنا في حواشي الكتاب على أهم ما شذ به في نظرنا , وإننا نشكر له بلسان أمتنا الإسلامية عنايته بالتأليف بين مسلمي الهند وهندوسها وفاقًا لرأينا ونشكر له أيضًا ثناءه على أمتنا العربية وحسن أمله فيها , وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل) .

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد ـ 6

الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي

_ مناظرة في مسألة القبور والمشاهد الرد على رسالة العالم الشيعي للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب مطلقًا (6) (المقام السابع والعشرون) قوله: ومن جاء بعدهم قوم لم يتدبروا معاني الحديث , ولم يتفطنوا لما عليه أسلافهم فشددوا النكير على تشييد القباب والبناءات حول القبور زعمًا منهم أنهم فهموا من الأحاديث ما لم يصل إليه أئمة المسلمين وهيهات ذلك. أقول: وددت أن هذه المغالطة القبيحة لم تصدر من السيد مهدي - والمقدر كائن- وما أدري كيف طاوعه ضميره ولم ينهه عن عكس القضية , فناشدتك الله الذي هو عند لسان كل قائل: من أحق بهذا الكلام؟ في الاستدراك على السلف , والحكم عليهم بالجهل , والرغبة عن الخير , وعدم الفطنة لفضيلة بناء القباب مع أنهم زعموا أنها من أعظم القربات. الذين ابتدعوا بناء القباب وزخرفها , وزينوا للغافلين الجاهلين الغلو فيها , ولم ينصحوهم حتى وقعوا في الكفر البواح , وعصوا الرسول , وضربوا بنصوصه المستفيضة عرض الحائط , وجاءوا بموبقة لم تخطر ببال أحد من السلف؛ سلف جميع الطوائف فضلاً عن أن يقولوا بها , بل أجمعوا على تركها. ولو كانت خيرًا ما قصر عنها السلف , وسبق إليها الخلف، أم الذين تلوا نصوص نبيهم , فقالوا: سمعنا وأطعنا , وأجروها على ظواهر دلالتها بلا تأويل ولا تحريف ولا تعسف , وفهموا منها ما فهمه الأسلاف , فانتهوا عما نهتهم عنه كما انتهى سلفهم , فوافقوا السلف علمًا وفهمًا وعملاً , ولم يبتدعوا بعدهم مثقال ذرة، فهذه أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم , وأقوال السلف وأفعالهم وفيها هدم ما يبنى على القبر وتروكهم , ومنها ترك بناء القباب وغيرها على القبور كلها مع المانعين من القباب , وليس مع المجيزين لها حرف واحد عن الرسول , ولا لهم سلف به في بدعتهم ألبتة إلا من هو مثلهم أو قريب منهم , أو زلة صدرت من غير معصوم , ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحدث الناس بالأغاليط حتى تلتبس أحاديثه على الأفكار , وتتضارب فيها الأفهام , وكيف وهو أفصح الفصحاء وأقدرهم على إيصال مراده إلى الأذهان السليمة والقلوب البصيرة الطاهرة من البدع بكل سهولة , فكل من له أدنى معرفة بلغة العرب , ورأى نصوص الباب , وتلقاها بقلب سليم من العصبية تبين له كالشمس مراد الرسول فيها بلا كلفة لا يختلف في ذلك اثنان , ولا ينتطح فيه عنزان. ثم لو سكت الرسول صلى الله عليه وسلم عن البناء على القبور , وسكت السلف لكان محرمًا بلا شك لأدلة (منها) أنه بدعة وكل بدعة ضلالة على لسان محمد صلى الله عليه وسلم , ومنها أنه حدث , وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) , (ومنها) إجماع السلف على تركه , (ومنها) أنه باب جهنمي من أبواب الشرك ما قرت عين إبليس بمثله , وما ولجه أحد إلا ارتطم في قعر هاوية الكفر كما هو مشاهد بالعيان , ولا يحتاج إلى إقامة برهان , (ومنها) اتفاق العقلاء , (ومنها) أنه من سنن المشركين وقد أمرنا بمخالفتها إلى غير ذلك. (المقام الثامن والعشرون) قوله: مع أن هؤلاء ليس لهم أن يجتهدوا لو كانت لهم أهلية الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية , ومعرفة الحلال والحرام بعد تقرر إجماع أهل السنة على وجوب التقليد , والأخذ بقول أحد الأئمة الأربعة [1] . أقول: لقد حجرت واسعًا , وما أنصفت علماء أهل السنة إذ أبحت لنفسك ولعلماء فرقتك الاجتهاد وحظرته عليهم , ولا أدري لم فعلت ذلك؟ أظننت أن جمهور علماء المسلمين من أول المائة الرابعة إلى اليوم ما وجد فيهم أحد يعرف حكم الله ويقوم بحجته؟ إني لأربأ بك عن تصور هذا فضلاً عن تصديقه , وما المانع لهم من الاجتهاد بعد التبحر في علوم الشريعة والتضلع من موارد أدوات الاجتهاد؟ وهل منعهم من الاجتهاد بعد ذلك إلا تحكم محض , وتلك إذا قسمة ضيزى؟ ولو فرضنا أن علوم الاجتهاد انمحت ودرست معالمها عند جميع المسلمين ما عدا الشيعة؛ ما جاز على علماء أهل السنة أن يقتنعوا بالجهل في تلك القرون المديدة , وليس بعزيز عليهم أن يرحلوا إلى علماء الشيعة من جميع الأقطار , ويتلقوا عنهم من العلم ما يؤهلهم لمعرفة الحلال والحرام بالدليل وذلك أهون عليهم من درس فلسفة اليونان والتبحر فيها , واستنباط العلوم الرياضية الدقيقة كعلم الجبر والمقابلة ودقائق الهندسة وعلم النحو وغيرها. وإن أمة مضى عليها ألف سنة إلا قليلاً , وليس فيها أحد يعرف حكم الله بدليله , ويقوم لله تعالى بحجته ويحمل ميراث محمد صلى الله عليه وسلم ويبثه في الناس , ويدعو إلى الله على بصيرة لفي خسران مبين. وإن كنت معترفًا بأن علماء أهل السنة يعلمون من علوم الاجتهاد ما يعلمه علماء الشيعة أو أكثر , فكيف تختلف النتيجة عن المقدمات الصحيحة , ويتجرد الملزوم بلا مانع عن لازمه؟ وقوله: (ليس لهم أن يجتهدوا لو كانت لهم أهلية الاجتهاد) فيه نفي لأهلية الاجتهاد عنهم وحجره عليهم حتى لو وجدت أهلية وما بعد هذا تحكم! وقوله: (في استنباط الأحكام ومعرفة الحلال والحرام) أدهى وأمر لأنه لم يقتصر على نفي استنباط الأحكام عنهم , بل نفى عنهم معرفة الحلال والحرام , ويلزم منه أن قضاتهم ومفتيهم جميعًا في تلك الأعصار كانوا يسفكون الدماء , ويبيحون الفروج [2] ويتصرفون في الأموال غير عالمين بحلالها وحرامها , وأي قدح أعظم من هذا؟ قوله: (بعد تقرر إجماع أهل السنة على وجوب التقليد) . (أقول) : متى تقرر هذا الإجماع؟ وأين تقرر؟ ومن هم المجمعون؟ ومن هم الناقلون له؟ فهذه أسئلة أربعة يجب الجواب عنها، والحق الذي لا شك فيه هو أن علماء أهل السنة مجمعون على تحريم التقليد , والقول على الله بلا علم , وأجمعوا أيضًا على أن التقليد ليس بعلم , وأن المقلد ليس بعالم ولا هو من أهل الإجماع , فلا يعتد بوفاقه ولا خلافه , بل هو بمنزلة الصبيان , حكى ذلك ابن عبد البر في كتاب العلم وأبو شامة وابن حزم وابن القيم والسيوطي والشوكاني والفلاني ونقلوه عن أئمتهم نقلاً يفيد العلم النظري , وهذه كتبهم شاهدة بذلك , وقد ألف في رد التقليد كثير من السلف والخلف قال الإمام عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي في كتابه (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) في ص42 ط الجزائر (الباب الثالث) في ذكر من حث على الاجتهاد وأمر به وذم التقليد ونهى عنه: اعلم أنه ما زال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد ويحضون عليه , وينهون عن التقليد ويكرهونه ويذمونه , وقد صنف جماعة لا يحصون في ذم التقليد , فممن صنف في ذلك المزني صاحب الإمام الشافعي ألف كتاب (فساد التقليد) نقل عنه ابن عبد البر في كتاب العلم والزركشي في البحر , ولم أقف عليه , وألف ابن حزم ثلاثة كتب في إبطال التقليد وقفت عليها , وألف أبو شامة في ذلك كتابه خطبة الكتاب (المؤمل في الرد إلى الأمر الأول) وقفت عليه , وألف ابن دقيق العيد كتاب (التسديد في ذم التقليد) لم أقف عليه , وألف ابن قيم الجوزية كتابًا في ذم التقليد وقفت على كراسين منه , وألف المجد الفيروزآبادي صاحب القاموس كتاب الإصعاد إلى رتبة الاجتهاد ولم أقف عليه , وهذه نصوص العلماء في ذم التقليد. اهـ. ثم ذكر أقوال العلماء ومنهم الأئمة الأربعة في تحريم التقليد , فأين إجماع أهل السنة على جواز التقليد فضلاً عن وجوبه؟ فمن الورع اللائق بالناس عامة وبالعلماء خاصة أن لا يسارعوا إلى الحكم في مسألة , ولا سيما إن كانت أجنبية عنهم إلا بعد تمحيصها. (المقام التاسع والعشرون) قوله: (وقد فات المنار ومكاتبه أن يطعنا بمثلها على أهل السنة حيث شيدوا بناءات القبور وقبابًا منذ أكثر من تسعمائة سنة , ومن المعلوم بالوجدان أن القبور التي شيدها أهل السنة في مكة المكرمة والمدينة المنورة والطائف ومصر والشام والعراق وغيرها من الأقطار أكثر بكثير مما شيده الشيعة. (أقول) : لم يفت صاحب المنار انتقاد ما صنعه من ينتسبون إلى السنة من بناء القباب وعبادة القبور , بل رد عليهم بما لم يرد بمعشار عشره على الشيعة , وهو معروف بعدم التعصب والمجاملة والتساهل ما لم يفض إلى تضييع الواجب , وهو مسالم للشيعة متودد إليهم حتى إن جماعتهم بالقاهرة يدعونه لحضور المأتم السنوي فيجيبهم إلى الحضور [3] فإذا قيل له في ذلك أجاب بأنه ارتكب أخف المفسدتين لأن ما ينشأ عن عدم إجابتهم من التقاطع والتدابر بين المسلمين أعظم فسادًا من حضوره بمكان تعمل فيه بدعة، وله أصدقاء كثير من علماء الشيعة، ولو عرفتموه حق المعرفة لرفعتموه عن وصمة التعصب للمذاهب والوقوف مع المشارب , ولا أدعي فيه العصمة فلا معصوم إلا محمد صلى الله عليه وسلم. من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسن فقط؟ غير محمد الذي ... عليه جبريل هبط ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه ... ... ... (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

رحلة جلالة ملك الأفغان أمان الله خان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رحلة جلالة ملك الأفغان (أمان الله خان) تواترت أنباء البرق من أوربا ثم من الهند بعزم صاحب الجلالة أمان الله خان ملك الأفغان على القيام برحلة طويلة من بلاده إلى الهند فمصر فأوربا فتركية فروسية ثم تتابعت بشروعه فيها، ثم بوصوله إلى كراجي فبمباي فإبحاره منها إلى مصر. وأهم أنبائه في الهند عندنا أنه صلى الجمعة في مسجد بومباي الجامع فاكتظ بعشرات الألوف من المصلين فيه وفي رحبته وفنائه حتى قال مراسل روتر إنهم بلغوا خمسين ألفًا , وقد التمسوا منه أن يخطب فيهم فخطب خطبة بليغة بالفارسية حثهم فيها على التسامح الديني والاتفاق مع الهندوس ووصاهم باحترام دينهم الوثني ليحترموا هم الإسلام , وقد ترجمت الخطبة باللغة الأوردية في المسجد فكان لها تأثير عظيم. ومن أغربها أنه ظهر منه هنالك ما استدل به على جفوته للإنكليز. ولما وصل إلى هنا سر أهل هذه البلاد جد السرور بزيارته وبدعوة جلالة ملكهم إياه إلى ضيافته الملكية , وضيافة حكومته السنية لأنه ملك شرقي قد نالت بلاده استقلالاًّ تامًا مطلقًا من كل قيد بعد الحرب العالمية الكبرى، التي هدم تأثيرها ممالك , وبنى ممالك أخرى، وأخص من ذلك أنه ملك شعب إسلامي , وهذه البلاد شرقية إسلامية وقد دخل كل من الشرق والإسلام في طور جديد من تعارف شعوبهما وتآلفهما. وثم سبب ثالث لاهتمام شعبنا المصري بالملك الأفغاني , وهو أن لقب (الأفغاني) مرسوم في القلوب والأدمغة من رجال النهضة العصرية في مصر وسائر الشرق وفي كتبها العصرية ومجلاتها العلمية والأدبية والدينية وصحفها السياسية بأحرف من نور إذ كان هو اللقب الوطني لمصلح الشرق وموقظه من رقاده وحكيم الإسلام الداعي لإصلاحه (السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني) الذي كان الأستاذ الإمام والزعيم الأكبر للإصلاح الديني والعلمي والاجتماعي أول مريديه وخليفته من بعده، وكان سعد باشا زغلول الزعيم السياسي الأكبر من أصغر تلاميذه سنًّا، وأوائل تلاميذ خليفته وأظهرهم نبوغًا، رحمهم الله تعالى. أجمعت الجرائد المصرية على التنويه بالزائر الكريم، والضيف العظيم، وعنيت اليومية منها بنشر أخباره، وذكر ما عرفت من أقواله وأحواله، في زيارته للمعاهد العامة من المساجد ودور الآثار العادية والكتب والبرلمان والمدارس العليا، كقوله في دار الكتب المصرية الكبرى وقد قدمت له صورة السيد جمال الدين: (أوه هذا رجلنا) , وكاستعباره عند رؤية سعد زغلول باشا وتمنيه رؤيته حيًّا , وكاستقصائه في السؤال عن كل شيء مهم , ولا سيما الآثار المصرية , ومنها السؤال عن سبب معرفتهم للغتها الهيروغليفية , وتعجبه من سماح حكومتهم لخروج (حجر رشيد) المشهور الذي عرفوها منه إلى بلاد أجنبية , والسؤال عن طريقة استخراج الآثار , واستغرابه لكون الأخصائيين من الأجانب يتبرعون بالحفر عنها واستخراجها والعناية بحفظها بغير أجر خدمة للعلم، وقوله إنه سيراعي ذلك في استخراج آثار بلاده. وخير ما أعجب به الجمهور من شمائله وآدابه تواضعه حتى لطبقة الخدمة , وذكروا من ذلك أن أحد خدم مسجد السلطان حسن قدم له عند إرادة الدخول ذلك الجرموق الذي يلبسه السياح فوق أحذيتهم عند دخول المساجد، فلما انحنى ليربطه له على حذائه كالعادة استكبر ذلك وقال: أستغفر الله، أستغفر الله، وانحنى هو وربطه بيده. وذكروا أيضًا أنه كان يصافح عامة الناس كخاصتهم في حديقة الإسكندرية التي دعاه إليه مجلسها البلدي , ثم يضع يده على صدره ورأسه , ولم يخل وجوده في القاهرة والإسكندرية من أمور تدل على كراهته للإنكليز كما ظهر في إلمامه بالهند، ومثل هذا غير معهود في المعاملات الدولية بين الملوك ورجال الدول الرسميين في الأحوال الودية العادية، وهو مع هذا يريد زيارتهم في عاصمتهم زيارة رسمية، ويقال: إنه يرغب في التأليف بين دولتهم ودولة الجمهورية التركية، ويسعى لعقد اتفاق ودي ثلاثي هو الركن الثالث فيه! ! وقد زرناه مع إخواننا من هيئة مجلس إدارة جمعية الرابطة الشرقية في دار الضيافة فاستقبلنا فيها واقفًا إذ دخل علينا وألقى السلام , فصافحنا وصافحناه واحدًا بعد واحد، وكان يعرفه بنا أحدنا ميرزا مهدي بك رفيع مشكي , ثم قرأ الرئيس خطابَ ترحيبٍ به مُوَقَّعًا عليه من الأعضاء تلاه بالعربية , وتلا مهدي بك ترجمته بالفارسية، فأجاب جلالته بخطاب وجيز رحب به بالجمعية , وأثنى عليها ونصح لها بمثل ما نصح لمسلمي الهند بالتساهل الديني وعدم التعصب بين الملل والطوائف، وقد علم أن هذا من مقاصد الجمعية وأنه ليس في مصر مثل ما في الهند من التعصب. ثم قدم له الخطابان مع صندوق لهما من الفضة منقوش نقشًا صناعيًّا دقيقًا جميلاً من صناعة مصر لهذا العهد , وقدمت له من ذلك بعض كتبي وكتب شيخنا الأستاذ الإمام المختصرة مجلدة بالسندس الأخضر، وقدم له توفيق بك من أعضاء الجمعية الحاضرين كتابًا شعريًّا خطيًّا وجيزًا أيضًا فقبل الجميع بالشكر، ولما انفتل راجعًا أراد حمل هذه الكتب بيديه فأخذها منه بعض بطانته فكان هذا مما عد من تواضعه المطبوع غير المتكلف، ولكن لم يكن منه استقباله للجماعة وقوفًا , وإن كان هو واقفًا أيضًا. وأما الكتب التي قدمتها لجلالته فهي رسالة التوحيد للأستاذ الإمام , وكتاب الوحدة الإسلامية وفيه محاورات المصلح والمقلد , وخلاصة السيرة المحمدية، والدعوة الإسلامية , وكتاب الخلافة أو الإمامة العظمى. هذا وإنه لولا لبس هذا الملك البرنيطة , وكذلك جلالة الملكة زوجه مع سفورها الذي لم يجد له في مصر مجالاً واسعًا مع محافظة جلالة ملكة مصر على الحجاب لما كان لأحد من أهل مصر أدنى انتقاد عليه، ولكان السرور به عامًّا , والثناء عليه غير مشوب بشيء إلا ما يقال همسًا من عدم تبرعه بشيء من المال لشيء من الأعمال الخيرية كما هي عادة الملوك والأمراء في أمثال هذه الزيارات، وأخبار تبرعات جلالة ملك مصر في ممالك أوربة لا تزال ترن في الآذان، وتلوح في آفاق الأذهان. كانت مخيلات المفكرين عندنا تصور ملك البلاد التي أنبتت السيد جمال الدين بصور شتى، فبعضهم يتصور أنه متوج بتاج قد كورت عليه عمامة عجراء كعمامة هارون الرشيد، وبعضهم يخيل إليه أنه يزين مفرقه خوذة عليها عمامة مخصرة كخوذة صلاح الدين، وأنه يلبس قباء خسروانيًّا، ومعطفًا مزركشًا هنديًّا، وأكثر الواقفين على حال العصر كانوا يعتقدون أنه يلبس الزي الإفرنجي كملوك أوربا وسلاطين آل عثمان إلا أنه يمتاز بعمارة [1] شرقية غير الطربوش العثماني المصري كالقلبق الإيراني أو غيره، ولم يكن يلوح في خيال أحد أنه يضع على رأسه برنيطة عادية حتى رأوا ذلك بأعينهم حتى في زيارته لبعض المساجد الأثرية والمعاهد العامة. *** تأثير لبس ملك الأفغان البرنيطة: إنما يسيح صاحب الجلالة الأفغانية في الأرض بقصد الاختبار والاعتبار , فمهما يجب أن يعلمه ويتلقاه بصدر واسع أن السواد الأعظم من علماء الإسلام وأهل الدين من سائر الطبقات قد امتعضوا من رؤية البرنيطة على هامته، بل خشوا أن تكون أثرت في نفسه دعاية الترك الكماليين , وأن يتلو تلوهم في حكومتهم اللادينية، ويحذو مثالهم في مدنيتهم التقليدية، أعاذه الله وشعبه من ذلك. قد شرع الترك في تقليد الإفرنج منذ قرن أو أكثر بتدريج بطيء ليكونوا مثلهم مع اتقاء خطر الطفرة في التحول والانقلاب , فلم يزدهم التقليد إلا وهنًا على وهن، ولذلك يقدر أهل الرأي والبصيرة من علماء الاجتماع أن وثبة مصطفى كمال ستكون أشد خطرًا على قومه , وإن أوهم ظاهرها أنها دخلت في حياة جديدة، فإن الدولة المهرمة يظهر فيها مثل هذا الانتعاش قبل موتها فيكون كإيماض الذبالة (الفتيلة) في السراج قبل الخمود والانطفاء , كما قال مؤسس علم الاجتماع حكيمنا العربي عبد الرحمن بن خلدون، وإننا نرى حكماء أوربة يسخرون من التقليد التركي الجديد الجهلي، والأفغان أجدر بالحياة من الترك إذا راعوا في تجديد دولتهم جميع مقومات ملتهم. وأما دعاة الغلو الإلحادية في التفرنج من زنادقة المسلمين والملاحدة منهم ومن سائر الطوائف المقيمة في هذا القطر فقد ابتهجوا وانشرحت نفوسهم برؤية الملك الشرقي المسلم قد آثر البرنيطة الإفرنجية على كل عمارة إسلامية أو شرقية , وجددوا دعوتهم إلى إلقاء الطربوش واستبدال البرنيطة به اقتداء بالملك الشرقي العظيم الذي صرح بأنه يعني بذلك أن لا يدخل في عموم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من تشبه بقوم فهو منهم) ورواه الطبراني في الأوسط من حديث حذيفة رضي الله عنه أيضًا. أول ما رأيناه في تجديد الدعوة إلى لبس البرنيطة اقتداءً بالملك أمان الله خان بعد أن خفت أصوات دعاتها زمانًا ليس بقصير مقالة نشرت في المقطم , وأول ما نقوله في ذلك: إننا نعلم أن دعاة البرنيطة لا يقصدون بالدعوة إليها إلا جذب الناس إلى التفريج بترك مشخصات أمتهم وقوميتهم كما يدعونهم إلى ترك مقومات الأمة الملية من تشريع وآداب ولغة ودين بحجة أنها عتيقة بالية , وأن لذة الحياة بالجديد، وما التعلق بالجديد لأنه جديد إلا شأن الأطفال: يسرع إليهم الملل مما ألفوا، فيؤثرون ما يعرفون كل يوم على ما كانوا عرفوا، وأما من بلغ أشده واستوى، وكملت فيه جميع القوى، فإنه مهما يألف من المنازل فحنينه أبدًا للمنزل الأول، ومهما ينقل فؤاده من الهوا فلا يزال حبه الصادق للحبيب الأول، ولذلك يعدون الرابطة الوطنية من أقوى روابط الحضارة للإنسان، حتى أسندوا إلى حكم النبوة قول بعضهم: (حب الوطن من الإيمان) وعلماء الاجتماع يقولون: إن الأمة سليلة التاريخ القديم، لا وليدة العهد الجديد، فإن ملكات العلوم والفنون فيها لا تحصل لها إلا بتعدد الأجيال جيل الاقتباس وجيل الحضرمة وجيل الاستقلال. والحق الحقيق بالقبول أن كل إنسان مركب من قديم موروث، وجديد مخلوق ومكسوب، وإنما يطلب المكسوب لحفظ الموروث وتكميله فهو تابع للمصلحة والمنفعة، وإننا نرى أقوى الأمم وأعزها هي الشديدة المحافظة على القديم والتروي في الجديد كالإسرائيليين والسكسونيين، فما لهؤلاء الأحداث المتفرنجين يبثون في هذه الأمة الدعاية إلى تحقير كل قديم، والترغيب في كل جديد، حتى ما ينكره كل عقل سليم، كتهتك النساء , والإسراف في الزينة والشهوات , وتقطيع ما لأممهم من روابط وصلات، حتى المقومات والمشخصات. يريد ناشر الدعوة إلى البرنيطة اليوم أن يخدع الشعب المصري بالاقتداء بهذا الملك العظيم ملك الأفغان، فإن كان هذا الشعب ينتظر ملكًا شرقيًّا يقتدي به في مثل هذا , فأقرب الملوك إليه ملكه , وممثل حكومته فهو أحق من غيره بالاتباع في هذه الحالة التي عدوها من أحوال التنازع بين القديم والجديد، فجلالته شديد المحافظة على زي قومه وحكومته الرسمي، وجلالة ملك الأفغان قد اعتذر عن لبس البرنيطة بعذر إن صدق عليه فإنه لا يصدق علينا في مصر وأمثالها من الأقطار كسورية التي سرى سم التفرنج التقليدي إلى بعض شبانها المغرورين , وقد قلت في مطلع قصيدة نظمتها في عهد طلب العلم بينت فيها مضار هذه التقاليد الصورية وأهمها تفريق وحدة الأمة: ليس التمدن تقليد الأربي ... فيما انتحاه من العادات والزي إن المقلد لا ينفك مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل

جمعية الشبان المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية الشبان المسلمين أحمد الله تعالى أن وفق المسلمين في مصر إلى تأليف هذه الجمعية التي يرجى أن تكون على تأخرها عن أخوات لها في بلاد أخرى هي الرأس لهن وهن أعضاؤها، وأن تكون مصر هي الدوحة الباسقة لهن وهن فروعها، ولم يسرني تأليف جمعية بعد جماعة الدعوة والإرشاد كتأليف هذه الجمعية التي طال تفكري في شدة حاجة المسلمين إليها وتحدثي مع أهل الرأي في السعي لها، وقد مكثت سنين أبحث عن تاريخها وتطورها وتعاليمها السرية، وعز علي أن أختار طائفة تنهض بتأسيسها ثم تقوم بأعبائها، وكلفت الأستاذ توفيق دياب الخطيب المشهور في أيام الحرب الكبرى أن يبحث في المسألة وهل يمكن لنا تأليف جمعية للمسلمين كجمعية الشبان المسيحيين مع مراعاة قانونها في اجتناب السياسة أم تعارض السلطة العسكرية في ذلك؟ ، ثم علمت منه ومن غيره عدم الإمكان في ذلك الزمان، على أنني لم أهتد بعد عودة الحرية إلى البلاد إلى رجال ينهضون بهذا العمل الجليل، ويستقلون بهذا الحمل الثقيل، ولكل قدر أجل، فلما استعدت البلاد بتطورها له ظهر ظهورًا طبيعيًّا بتداعي بعض شباب المدارس العليا إليه، وهم أحق وأولى وأجدر به، فلما تم تكوين أعضاء الجنين ظهر له الرأس الطبيعي القمين بتدبيره، وما كان كذلك طبيعيًّا فهو الذي يحيا حياة طبيعية، فتأسست الجمعية ولله الحمد، وتأسس مجلس إدارتها ولله الحمد، ووضع لها القانون وهذا نصه ولله الحمد: *** القانون الأساسي لجمعية الشبان المسلمين الباب الأول في تأليف الجمعية ومقاصدها (المادة الأولى) تألفت في القاهرة عام 1346 من هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام (1937 من ميلاد المسيح عليه الصلاة والسلام) جمعية تسمى (جمعية الشبان المسلمين) . (المادة الثانية) لا تتعرض هذه الجمعية لشئون السياسة بأي حال. (المادة الثالثة) تنحصر أغراض الجمعية فيما يأتي: 1- بث الآداب الإسلامية والأخلاق الفاضلة. 2- السعي لإنارة الأفكار بالمعارف على طريقة تناسب روح العصر. 3- العمل لإزالة الاختلاف أو الجفاء بين الطوائف والفرق الإسلامية. 4- الأخذ من حضارتي الشرق والغرب بمحاسنهما جميعًا، وترك ما فيهما من مساوئ. (المادة الرابعة) تتوسل الجمعية إلى هذه الأغراض بالطرق الأدبية؛ فتنشئ ناديًا لإلقاء محاضرات أدبية علمية اجتماعية، وتنشر ما تدعو المصلحة إلى نشره بأي لغة تمس الحاجة إلى استعمالها. *** الباب الثاني في أعضاء الجمعية (المادة الخامسة) تتألف الجمعية من أعضاء عاملين وأعضاء مؤازرين، فالعضو العامل هو كل من يثبت على تأدية قيمة الاشتراك وهو عشرة قروش شهريًّا، والعضو المؤازر هو كل من يعطف على الجمعية فيخدمها أدبيًّا أو يعينها ماليًّا ويرجع تقرير عضويته إلى تقدير مجلس الإدارة. (المادة السادسة) يشترط في العضو العامل أن يكون مسلمًا حسن السيرة طيب السمعة، وألا يكون معروفًا بنزعة تخالف أصل العقيدة الإسلامية. (المادة السابعة) يجب فيمن يطلب الانضمام إلى الجمعية أن يزكيه اثنان على الأقل من أعضائها. *** الباب الثالث في الجمعية العمومية (المادة الثامنة) تتألف الجمعية العمومية من جملة الأعضاء العاملين وتنعقد في خلال الأسبوع الثاني من شهر رمضان في كل عام، أو في غير هذا الميعاد إذا اقتضت الحال انعقادها. (المادة التاسعة) تكون قرارات الجمعية العمومية صحيحة نافذة إن تكامل في أول اجتماع لها بعد دعوتها إليه ثلثا الأعضاء، فإذا لم يتكامل هذا العدد تأجل انعقادها أسبوعين. وعلى رئيس مجلس الإدارة أن يجدد الدعوة إلى هذا الاجتماع الثاني قبل ميعاده بأسبوع على الأقل، وحينئذ تكون كل قراراتها صحيحة نافذة مهما كان عدد الحاضرين من الأعضاء. (المادة العاشرة) إذا طرأ في المدة الواقعة بين آخر انعقاد للجمعية والانعقاد الذي يليه شيء يدعو إلى عقد الجمعية العمومية بصفة غير عادية؛ وجب أن تنعقد في الموعد الذي تحدده الدعوة إلى ذلك، وتجرى عليها حينئذ أحكام المادة التاسعة فيما يختص بانعقادها وقراراتها. (المادة الحادية عشرة) إذا اتفق خمس أعضاء الجمعية العمومية على دعوتها إلى انعقاد غير عادي ووجهوا الدعوة من أجل ذلك إلى مجلس الإدارة؛ كانت دعوتهم قانونية، وكانت تلبيتها واجبة، ومثل ذلك أن يقرر هذا الانعقاد مجلس الإدارة بأكثرية ثلثي أعضائه. *** الباب الرابع في مجلس الإدارة (المادة الثانية عشرة) يتألف مجلس الإدارة من اثني عشر عضوًا تنتخبهم الجمعية العمومية من أعضائها بالاقتراع السري لإدارة شئون الجمعية مدة سنتين وفي نهاية السنة الأولى لانتخاب هؤلاء الأعضاء الاثني عشر يقترع المجلس سريًّا لإسقاط نصفهم , وتكمل الجمعية العمومية - بطريق الانتخاب - عدد أعضاء مجلس الإدارة بالانتخاب , وهلم جرا في كل عام. أما رئيس المجلس ووكيل الرئيس وكاتب السر العام وأمين الصندوق فتختارهم الجمعية من أعضاء المجلس. (المادة الثالثة عشرة) يختص المجلس بالإدارة العامة، ويكون مسئولاً عنها وعن تنفيذ أحكام القانون ونظام الجمعية، وعليه أن يفكر فيما يرقى بالجمعية ويحقق مقاصدها ويتسع به نطاقها. (المادة الرابعة عشرة) يكون انعقاد مجلس الإدارة قانونيًّا إذا حضر سبعة من أعضائه، وتكون قرارات مجلس الإدارات قانونية متى صدرت عن الأكثرية المطلقة، وهي ما تزيد على النصف بصوت واحد، وإذا تساوت الأصوات؛ ترجح الجانب الذي يكون الرئيس معه. (المادة الخامسة عشرة) إذا تخلف أحد أعضاء مجلس الإدارة عن حضور جلساته ثلاث مرات متوالية بدون عذر صحيح كتب إليه المجلس في ذلك , فإن لم يحضر الجلسة الرابعة بعد وصول الكتاب إليه عد مستقيلاً عن عضوية مجلس الإدارة. (المادة السادسة عشرة) إذا خلا مكان أحد أعضاء مجلس الإدارة يحل محله العضو الذي حاز أكثرية الأصوات في الجمعية العمومية بعد أعضاء المجلس، فإن لم يتيسر هذا ندب مجلس الإدارة من أعضائه العاملين من يحل محله إلى أن تعقد الجمعية العمومية فتنتخب من تشاء. (المادة السابعة عشرة) على مجلس الإدارة أن يقدم للجمعية العمومية تقريرًا سنويًّا ببيان أعمال الجمعية وميزانيتها من إيرادات ومصروفات. *** الباب الخامس في مالية الجمعية (المادة الثامنة عشرة) تتكون مالية الجمعية من الاشتراكات التي يدفعها الأعضاء العاملون , ومن إعانات أهل الغيرة والخير من الأعضاء أو غيرهم. ومن ريع المطبوعات التي تصدرها الجمعية، ولمجلس الإدارة أن يوسع موارد الجمعية بالطرق الشريفة المشروعة متى كانت متفقة مع روح الجمعية وغير منافية لأغراضها. (المادة التاسعة عشرة) مجلس الإدارة مسئول عن مالية الجمعية وعليه أن يودع أموالها باسمها أمانة في مصرف يختاره , ويجوز أن يبقي المجلس في عهدة أمين الصندوق عشرين جنيهًا ينفق منها لحاجة الجمعية. (المادة العشرون) لأمين الصندوق بالاشتراك مع رئيس مجلس الإدارة أن يتصرف من مالية الجمعية في مبلغ لا يزيد على عشرة جنيهات عند الضرورة، وعليه أن يقدم حسابها لمجلس الإدارة في أول اجتماع له. (المادة الحادية والعشرون) لا يصح أن يسحب شيء من أموال الجمعية من المصرف المعين إلا بقرار قانوني من مجلس الإدارة وتوقيع الرئيس وأمين الصندوق. *** أحكام عامة (المادة الثانية والعشرون) على مجلس الإدارة أن يضع لائحة داخلية للجمعية تتضمن تفصيل ما أجمله القانون من أحكامه، وتأليف لجان من الأعضاء العاملين يكون اختصاصها تحقيق أغراض الجمعية في وجوهها المختلفة، وتحديد واجبات الأعضاء الأدبية , وما يتبع ذلك من أحكام تأديبية تختص بما يقع من الأعضاء من مخالفة هذا القانون أو الخروج على الجمعية أو العمل ضد مقاصدها، وتعرض هذه اللائحة على الجمعية العمومية للنظر فيها ثم إقرارها. (المادة الثالثة والعشرون) للجمعية أن تنشئ فروعًا داخلية في القطر المصري وشعبًا في الأقطار الأخرى، وتتكفل اللائحة الداخلية بتحديد الصلة بين المركز وهذه الشعب والفروع. (المادة الرابعة والعشرون) لا يجوز بحال من الأحوال تعديل شيء من مواد هذا القانون إلا إذا اقترح ذلك ثلاثة أرباع الإدارة أو خمس أعضاء الجمعية العمومية، وفي كلا الحالين لا بد من عرض مشروع التعديل على الجمعية العمومية لتقبله أو ترفضه بأكثرية ثلثي أعضائها الحاضرين. (المادة الخامسة والعشرون) لا يصح تغيير المادة الأولى والمادة الثالثة والمادة السادسة من هذا القانون بأي حال. (المنار) في بعض مواد هذا القانون إجمال من جهة وتحديد من جهة أخرى سيدعو الاختبار إلى تلافيهما على أن تنفيذه مع ذلك خير وبركة، وسيكون أول فوائده صد سيل الإلحاد الآتي دون جرف عقائد الأمة وآدابها بدعاية التجديد العمياء الصماء، ومناط الرجاء في التنفيذ أعضاء مجلس الإدارة الجامعون بين العلم بالحاجة، وعلو الهمة في العلم، فرئيسهم عبد الحميد بك سعيد، والوكيل الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاويش، وأمين الصندوق الأستاذ أحمد باشا تيمور، وأمين السر الأستاذ محب الدين الخطيب، فهم لعمري أولو كفاءة وكفاية، وجد وعناية، تغني شهرتهم عن الثناء عليهم، وفقهم الله تعالى وسائر أعضاء الإدارة ومساعديهم المصلحين، وخذل معارضيهم من الملاحدة والضالين والمفسدين، آمين.

وفيات الأعيان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفيات الأعيان توفي في هذه الفترة - فترة تعطيل المنار السنوي - ثلاثة رجال من الممتازين في أشخاصهم وبيوتاتهم: أمين بك الرافعي صاحب جريدة الأخبار بمصر والأمير نسيب أرسلان في (لبنان سورية) والحكيم محمد أجمل خان في الهند، ولكل منهم مقام معلوم، وحق من الفضل مشاع أو مقسوم، وعمل في خدمة الأمة ظاهر أو مكتوم فعلى الأمة شكر ما ظهر، ولا يخفى على الله شيء مما بطن، والله شكور حليم. (أمين بك الرافعي الفاروقي) هو ابن الشيخ عبد اللطيف الرافعي الفقيه مفتي الإسكندرية في آخر عهده، وبيت الرافعي أشهر بيوتات العلم في مصر وسورية على الإطلاق ووطنهم الأصلي طرابلس الشام وتخرج أكثر علمائهم في الأزهر ونيطت بهم الوظائف الشرعية في هذا القطر من قضاء وإفتاء وولي كبيرهم الشيخ عبد القادر الملقب بالرافعي الكبير إفتاء الديار المصرية في آخر عمره بعد الأستاذ الإمام وهم ينتسبون إلى الخليفة الثاني الإمام العادل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد علم الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى ولديه أمينًا وعبدَ الرحمن في المدارس المصرية حتى تخرجا في مدرسة الحقوق ونالا شهادتها (الليسانس) واختارا الاشتغال بالمحاماة الحرة على خدمة الحكومة لميلهما إلى السياسة، وقد انتسبا كلاهما إلى الحزب الوطني فكانا من أركانه العاملين المتحمسين المخلصين، واشتغل أمين بالتحرير في جرائد الحزب من اللواء والعلم والشعب فكان خير محرريها بل خير محرري الصحف في هذا القطر علمًا وبيانًا وإخلاصًا وثباتًا واستقامة. ثم انفرد بإدارة جريدة الأخبار ورياسة تحريرها فكان إمامًا مستقلاًّ تمام الاستقلال في كل ما يعتقد أنه الأصلح للأمة والملة والوطن لا يتقيد بقرار الحزب الوطني ولا غيره على كونه أشد أعضاء هذا الحزب استمساكًا بمقاصده وغايته وهي استقلال مصر والسودان التام المطلق من كل قيد، وعدم الاعتراف للمحتلين فيهما بأدنى حق، السعي لإخراجهم منهما بخفَّي حُنين. وكانت تربية أمين وأخيه الإسلامية على كمالها اللائق ببيته ونسبه لم يؤثر التعليم العصري تحت مراقبة الاحتلال في أنفسهما أدنى تأثير يزلزل العقيدة أو يفسد الأخلاق أو يخل بأداء الفرائض أو يفتن الشباب باقتراف الشهوات المحرمة، وناهيك بتربية دينية تحفظ على مثل هذين الشابين الموسرين الجميلي الصورة عفتهما وصيانتهما في بلد مصر في حرية الفسق وانتشاره. وقع بيني وبين أمين من التلاقي والمخالطة في السنين الأخيرة ما لم يكن من قبل فعلمت منه بالاختبار المحافظة على الصلوات وتلاوة القرآن للتعبد والاهتداء، وليس في سعي الإنسان عمل أقوى من هذين العملين في ملكة التقوى في القلب وما للتقوى من حسن الأثر في عزة النفس وشرفها وشجاعتها وعزوفها من الدنايا والمطامع والشهوات السافلة: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ المُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: 19-23) إلخ لهذا كان أمين ممن قال الله تعالى فيهم: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} (المائدة: 54) وكان من أركان حرب هذا الجهاد وقواده وإن تراءى في صورة الجندي المعتاد بتواضعه وتَأَبُّهه عن الشهرة عوضًا عن تَأَبُّهه بها، وزهده في الزعامة وفي الرياسة التي يعمل الكثيرون لها. ويبتغون إليها الوسيلة بالوطنية وغيرها. على أن هذا الجهاد الشريف لمصلحة الملة والأمة والوطن لما يوجد له جيوش ولو وجدت لعرفت أن أمينًا من قوادها وأركان حربها وأعطته حقه من قيادتها وزعامتها. بل أقول إن أمينًا الرافعي كان من طبقة الشهداء الذين هم حجة الله على متبعي الهوى والباطل في هذا الزمن باستقامته والتزامه الحق الذي يعتقده ودعوته إليه وجهاده في الدفاع عنه، لا يثنيه عن ذلك خوف إيذاء قوي ولا الطمع في منافع ذي سلطان، وحجة على الذين يزعمون أن ما يسمونه الوطنية معارض للاستمساك بعروة الرابطة الدينية، فقد كان أقوى أركان الوطنية في هذه البلاد لا من أقواها، وكان مع ذلك مستمسكًا بعروة الإسلام الوثقى التي لا انفصام لها إيمانًا وعملاً ودفاعًا، لم يتهمه قبطي ولا إنكليزي ولا يهودي بأنه من المتعصبين الذين تحملهم عصبية دينهم على هضم حق أي وطني في بلادهم لمخالفته له. وهو حجة أيضًا على زنادقة المسلمين ودعاة الإلحاد فيهم سواء منهم الذين يدعون إليه وما يستلزمه من الإباحة بالصراحة، والذين يدعون إليه بحيلة تجديد شباب الأمة، وهدم كل ما للأمة من بنيان وتاريخ … فإنه لا يوجد فيهم أحد يدعي أنه عرف من شؤون العصر وعلومه ونظمه وقوانينه المثبتة للحاجة إلى التجديد ما لم يعرفه أمين فيتهم أمينًا بأنه معتصم بالدين لجهله أن الدين الإسلامي ينافي ما يحتاج إليه أهله في العصر من علوم وفنون ونظام، ولذلك نرى الجرائد على اختلاف منازعها ومشاربها وعلى وجود الزنادقة وغير المسلمين في محرريها قد أجمعت بعد وفاة أمين على إطرائه بأعلى الأخلاق والصفات الوطنية العليا، مع البر والتقوى. نعم إنهم لم يصرحوا بأن سبب هذه الفضائل كلها هو هداية الإسلام، وتأثير تلاوة القرآن، والمحافظة على الصلوات، فرحمه الله ورحم أحمد مختار باشا الغازي الذي كان يقول إن الصلاة هي (بوليس المسلمين) المانع لهم من ارتكاب الفواحش والمنكرات، ولكن مركزه في الباطن لا في الظاهر. اهـ وليست فائدة الصلاة محصورة في التخلية والمعنى السلبي المعبر عنه بقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) بل هي تعين مقيمها بالخشوع والحضور على جميع معالي الأمور كما قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ} (البقرة: 45) وكما علم من آيات: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} (المعارج: 19) إلخ، وقد ذكرت آنفًا. مات أمين الرافعي فاهتز القطر المصري لموته هزة عنيفة بل زلزل زلزالاً شديدًا، وأجمعت الهيئات الدينية والسياسية الحكومية والنيابية والوطنية والصحفية على تشييع جنازته، والاختلاف إلى مأتمه، وإنشاء المقالات الحافلة والقصائد الطنانة في تأبينه ورثائه، وتبيين فضائله ومناقبه، على أنه كان صاعقة شديدة على بعض هذه الهيئات السياسية والإلحادية، وحسب المنار التذكير بهذه الكليات من سيرته الحميدة وقد ترجمه وسيترجمه كثيرون من سائر نواحي فضائله، رحمه الله تعالى رحمة واسعة ووفق محرري جريدة الأخبار للثبات على طريقته في الدفاع عن الدين وفضائله، والتنفير عن الإلحاد ورذائله، والمحافظة على الوطن وحقوقه. (الأمير نسيب أرسلان) هو من خيرة أمراء هذا البيت الكريم أمراء أرسلان تهذيبًا وعلمًا وأدبًا، كان رحمه الله تعالى ركنًا من أركان النهضة العربية الجديدة وشاعرًا من أبلغ شعرائها وخطيبًا من مصاقع خطبائها، وحسبك أنه ثالث القمرين لأميرين الشهيرين شقيقه الأمير شكيب والأمير عادل، وإن لم يشتهر في مصر والبلاد غير العربية كشهرتهما، لأنه لم يتح له من السياحة في الأرض ما أتيح لهما، بل قضت عليه شؤون الأسرة النبيلة أن يظل في وطنه كما أشرت إلى ذلك في تعزيتي عنه لآله وأسرته خطابًا لأخي الكريم، ووليي الحميم، الأمير أبي غالب شكيب، وهذا نصها: من محمد رشيد رضا إلى أخيه الأمير شكيب أرسلان: أطال الله تعالى بقاء أمير البيان، وعماد بيت أمراء أرسلان، وأحسن عزاءه وعزاءنا به عن شقيقه الأمير نسيب، الكاتب الأديب، والشاعر الخطيب، والكافل لخدمة أم الأمراء في الوطن، وقد طوحت بأخويه طوائح الزمن؛ وأطال له ولنا بقاء شقيقه الأمير عادل، رب السيف والقلم، ورافع الراية والعلم، خواض الغمرات، ومتقنص الطيارات، قائد الكماة الأباة في ميادين الجهاد، والحماة الرماة في مواطن الجلاد، وَأَبْقَى الله فيما يطيل من عهده، وللأمة في مستقبلها البعيد بعده، عمر نجله النجيب، وغصن دوحته الرطيب (الأمير غالب) يحسن تأديبه وتربيته، ويتم تثقيفه وتنشئته، فله منهما ولنا منهم خير عزاء وسلوة، وفيما فقدنا وفقدوا من السلف والخلف أحسن أسوة. ولأنت أيها الأمير بعلمك وتجاربك، وبكبر نفسك وعلو همتك، وبما يتنشب في قلبك من حب وطنك، وما يلوث بزعامتك من حقوق أمتك، لأجدر بالصبر عن أخيك من الخنساء بالصبر عن أخيها، على كونك أحق منها بالتمثل بقولها: ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي فأطال الله بقاءك لأمتك العربية المظلومة، ولملتك الإسلامية المهضومة، ولوطنك السوري المجتاح. فكل منهن محتاج إلى علمك وبيانك، وإلى قلمك ولسانك، وأطال الله حياتك لأمراء آل أرسلان، تجدد من مجدهم ما لا يخلقه الزمان، وإنما هو طور جديد، وأسلوب طريف لفضل تليد، جمعت به بين قلم ابن خلدون ومقول سحبان، في حكمة تملى بألسنة العرب والترك والفرنسيس والألمان، أفليس هذا تجديدًا لأدب أجدادك الذين قال فيهم اليازجي الكبير شاعر لبنان: شبانهم مثل الشيوخ نباهة ... وشيوخهم في البأس كالغلمان ويخاطبون بكل فن أهله ... فكأن واحدهم بألف لسان بلى، فهذا هو المجد، لا ما يكذب دعيّه فيه الأب والجد، وهذه هي الزعامة والإمارة، لا الألقاب المزورة والمستعارة، فاصبر فإن مصابك بالجناة على وطنك وأمتك، أوجع من مصابك بابن أبيك وأمك، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (النحل: 127-128) . (الحكيم محمد أجمل خان مسيح الملك) هو من أكبر بيوتات المجد القديم المسلسل الذي لم ينقطع، يتصل نسبه بملا علي القاري المحدث الفقيه المشهور كما أخبرني بلسانه. ومن آثار هذا المجد الموروثة خزانة كتبه المشتملة على نفائس المخطوطات في العلوم المختلفة من شرعية ولغوية وطبية وفنية باللغتين العربية والفارسية المكتوب بعضها على ورق الحرير بالخط الفارسي أو النسخي الجميل الذي يستحق كل سطر منه أن يكون زينة تحلى بها جدران القصور وأندية العلم والأدب. انتهت إلى هذا الحكيم الزعامة الطبية والاجتماعية والسياسية في مسلمي الهند وكان من أبرع الأطباء على الطريقة العربية اليونانية مع إلمام بالطب الأوربي المصري يجمع به أحيانًا بين الطبين في بعض صفات الأمراض ومشخصاتها وبعض المؤثرات في الأدوية لها، وكان أمراء الهند في الممالك الهندية المستقلة يعتمدون على طبه ويدعونه لمهمات الأمور. وداره في دهلي عاصمة الدولة، تدعى (بيت الحكمة) وفيها يدرس الطب القديم كما كان على عهد آبائه وأجداده الذين لقب كثير منهم بلقب الحكيم. وقد كان رحمه الله تعالى من أصحاب الرأي والبصيرة في الأمور العامة وتولى رياسة جمعية الخلافة وعقد بعض المؤتمرات الهندية العامة تحت رياسته وكان من رأيه وجوب الاتفاق بين المسلمين والهندوس في الأمور الوطنية من سياسية واقتصادية وغيرها، وكان الزعيم - أكرم الله مأواه - صديقي، ولما زرت مدينة دهلي في أثناء سياحتي الهندية في أوائل ج

تفسير همت به وهم بها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفسير:] هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا [[*] كتب إلي الشيخ عبد الظاهر الإمام في المسجد الحرام يقول: إن بعض الإخوان أنكر علي تفسيري (الْهَمّ) في سورة يوسف عليه السلام بما خالف إجماع المفسرين وخاصة شيخهم ابن جرير وأنه هو أي الكاتب وافقهم على ذلك. وجوابه أن المفسرين اختلفوا في تفسير الآية فلم يجمعوا على قول، وأن إجماعهم ليس بحجة ولا يمكن العلم به إن أمكن وقوعه ووقع، والإمام أحمد يحتج بإجماع الصحابة إن علم وينفي ما سواه. وإن الذي قلته أنا منقول عن بعض المفسرين في يوسف عليه السلام وهو أنه هم بضرب امرأة العزيز. وظاهر أنها هي أولى بإرادة هذا لأن الإنسان إنما يهم بفعل ما يقدر عليه وهي تقدر على ضربه والضرب معتاد من السيدة لفتاها , ولا سيما إذا أهانها بمثل الإهانة التي أهان بها يوسف مولاته إذ راودته عن نفسها فاستعصم , وهذا معهود في كل زمن , وأما الفاحشة فهي لا تَقْدِر عليها وَحْدَها , وهو قد استعصم منها عقب المراودة , ولم يجنح إلى القبول , وإنما تكون المرأة في حال التراضي مواتية لا مُبْتَدِئَة , واستعمال هم بفلان في معنى هم بقتله أو ضربه وارد وله شواهد في الآثار الصحيحة لأن الهم يتعلق بفعل لا بجثة , ويفسر الفعل بالقرائن فإذا قيل: إن فلانًا فعل كذا من المنكر فهم به عمر مثلاً , فالمعنى الذي تقتضيه القرينة أنه هم بتأديبه بالقتل أو ما دونه كالضرب ولو بالدرة. وقد رأى جمهور المفسرين أن القرينة في قصة يوسف تقتضي أن يكون متعلق الهم المشترك بينه وبين سيدته هو الفحشاء , وهذا إنما كان يترجح على إغماض في تسمية قبولها همًّا لو كانت الداعية عندهما واحدة , ولكن الأمر لم يكن كذلك بدليل عدة آيات من السورة , فتعين ترجيح تفسير الهم بالضرب والإيذاء منها كما هو المعهود من الطباع في مثل هذه الحال في كل زمان: همت بضربه وهم بالدفاع عن نفسه أولاً كما هو حق من صال عليه غيره، فرأى من برهان ربه ما حمله على الفرار فاستبقا الباب إلخ. والدليل على هذا من القصة المنزلة أمور: (1) أنهما لما ألفيا العزيز لدى الباب شكت إليه فتاها بقولها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً} (يوسف: 25) إلخ , واللائق بمعنى السوء هنا التعدي والإهانة بالضرب ونحوه لأن معناه في اللغة ما يسوء فعله أو الموجه إليه من قول أو عمل , فهو يطلق حتى على المكروه وصغائر المعاصي. (2) أنها لم تكن تتهم يوسف بإرادة الفحشاء بدليل قوله تعالى حكاية عنها: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} (يوسف: 32) , ثم قوله تعالى في آخر قصتها حكاية عنها: {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ} (يوسف: 51) إلخ فترجح أنها لم ترد بكلمة السوء لزوجها إلا التعدي. (3) أنه عليه السلام كان عرضة لأمرين الفحشاء التي دعته إليها بالقول الصريح، والسوء الذي كادت تلجئه إليه بالهمِّ بضربه وقد صرفهما الله عنه كما قال {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} (يوسف: 24) ومثل هذا قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} (البقرة: 169) . ويؤيد ذلك من المعقول أن المرأة يبعد أن تفتح باب التهمة لزوجها على نفسها فلما اتهمته بإرادة السوء بها دافع عن نفسه وصرح بأنها راودته عن نفسه، أي فامتنع حتى همت بالانتقام منه، فأنكرت بالطبع، فشهد الشاهد من أهلها، بما دل على صدقه وكذبها، ثم اعترفت بمراودتها هي له مرتين: مرة للنساء وشهدت له فيها بأنه استمسك بعروة العصمة ومرة للرجال لما أرسل الملك من سأل النساء عن سبب مراودتهن له عليه السلام هل كانت عن إظهاره الميل إليهن {قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} (يوسف: 51) أي أدنى ميل سيئ بدليل النكرة المنفية المؤكد عمومها بكلمة (من) {قالت امرأة العزيز} (يوسف: 51) حينئذ: {الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) . وأما مخالفة ابن جرير فلا يستنكرها على أحد من الناس مسلم يعرف أصول هذا الدين فمن المعلوم من الدين بالضرورة أن فهم ابن جرير ليس أصلاً من أصول الدين , ولا حجة من حججه , ولم يوجد عالم من علماء المسلمين قال بوجوب اتباعه أو التزم اتباعه بالفعل تدينًا، وما من مفسر إلا وقد خالفه في بعض آرائه , وهو نفسه قد خالف في التفسير بعض ما رواه عن الصحابة , وهم أعلم منه , وصرح بأنه لا يحتج بقول أحد بعينه في تفسير آية إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانتقد الشيخ عبد الظاهر أيضًا إيراد المثنى المجرور بالألف في ص469 ج6 م28 من المنار , وسأل عن إعرابه , وجوابه أنه كتب أو جمعه عمال المطبعة هكذا سهوًا في الغالب , وهو مع هذا ليس خطأ فإن لغة استعمال المثنى بالألف في أحوال إعرابه الثلاثة مشهورة , وهي لغة فصيحة حملوا عليها قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (طه: 63) من سورة طه على قراءة تشديد إنَّ , فليراجع المنتقد تفسيرها في كتب التفسير التي تعنى بالإعراب أو في المغني لابن هشام أو ما شاء من كتب النحو. وينبغي لمن ينتقد الإعراب أن يكون عارفًا بضروريات النحو على الأقل.

خاتمة المجلد الثامن والعشرين من المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الثامن والعشرين من المنار بسم الله وبحمده نختم المجلد الثامن والعشرين كما افتتحناه بهما، ونصلي ونسلم على خاتم النبيين، ومن أكمل الله برسالته الدين، محمد النبي الأمي العربي الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وآله وصحبه الهادين المهديين، ومن اتبع هديه الذي بلغه وبلغوه عنه بالقول والعلم إلى يوم الدين. أما بعد: فإننا قد ازدادت أعمالنا في هذه السنة بما حدث من الخلاف في اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني التي كانت تقوم بأعمالها في خدمة الوطن بالنظام التام وبكثرة المطبوعات لدينا بعد تجديد مطبعتنا وإدارتها بالكهرباء، وتوسيع أعمال مكتبتنا وتنظيمها، فأما اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني فقد علم الخاص والعام أن سبب الخلاف الذي حدث فيها هو ما ظهر من محاولة أولاد لطف الله استغلال القضية السورية وثورتها بالتزلف لفرنسة لجعل أحدهم أميرًا للبنان الكبير، والتوسل إلى ذلك بما يدعونه من خضوع جميع المعارضين للانتداب للجنة للتنفيذية، وكون مقاليد اللجنة بيد رئيسها الأمير ميشيل بك لطف الله , وقد رأت اللجنة أنه لا علاج لذلك إلا إسقاط هذه الرياسة ففعلت ذلك , وانفردت بالعمل , وألف الرئيس السابق لنفسه لجنة خاصة به ينعم برياستها , ولكنها لا تمثل حزبًا موجودًا لا يثق بها حزب من تلك الأحزاب , بل زالت ثقة جماهير الوطنيين به وبمن جرأه على الشقاق والانفصال من أعضاء اللجنة وصار أعضاء اللجنة الحقيقية الممثلة للأحزاب والزعماء في سورية وفلسطين على رأي واحد وشعور واحد , ولكن بعد الاشتغال عن كل عمل بمفاوضات الصلح على أساس عودة ميشيل بك لطف الله إلى الرياسة كما كان فلم يمكن ذلك. وأما إدارة المجلة والمطبعة والمكتبة فقد انتظمت في سلك واحد , وصار لدينا سعة في الوقت للعود إلى العناية بالمنار والتفسير الذي تطالبنا بإتمامه الأمة من جميع الأقطار. ولم يبق إلا أن يؤدي لنا قراء المنار قيمة الاشتراك في أوقاتها , وستقاضي الإدارة الجديدة الماطلين المسوفين في هذا القطر لدى المحاكم إن لم يؤدوا ما عليهم من الحقوق من تلقاء أنفسهم. وإننا نطالب أهل العلم والرأي بأن يكتبوا إلينا بكل ما يرونه في المنار مخالفًا للحق أو منافيًا لمصلحة الأمة مؤيدًا بالدليل ومراعى فيه الاختصار، {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

فاتحة المجلد التاسع والعشرين من المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد التاسع والعشرين من المنار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الأعظم الأجل، والثناء الأكبر الأكمل، لربنا ذي العظمة والجلال، والكبرياء والكمال، مقدر الآجال للأفراد والأجيال، ومقلب القلوب ومحول الأحوال على ممر السنين والأحوال , والتسبيح الأرفع الأسمى، لاسم ربنا الأعلى (الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) . خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأقام بين عباده ميزان الحكم بالعدل، وحكمه في كل من التكوين والتشريع هو الفصل، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد: 11) . والصلاة الإلهية النورانية، وتحية السلام الربانية الرحمانية، على خاتم دولة النبيين، ولبنة الزاوية الذي أكمل الله به بناء الدين، وأتم نعمة هداية الوحي على المؤمنين، محمد بن عبد الله العربي الأمي الملقب من قومه بالأمين، المرسل من ربه رحمة للعالمين، وعلى آله الأطهار، وأصحابه المهاجرين والأنصار، ومن اقتفى آثارهم من المقربين والأبرار، واجعلنا اللهم من هؤلاء المصطفين الأخيار، الذين يذكرونك ذكرًا كثيرًا، ويسبحون بحمدك بالغدو والآصال. أما بعد، فإن المنار يذكّر قرّاءه في فاتحة مجلده التاسع والعشرين، بمثل ما عهدوا منه في غابر السنين، من العظات والمثلات العامة والخاصة بالمسلمين، وما هم عرضة له من صلاح وفساد، وما يحتاجون إليه من إصلاح وإرشاد، وما له من هذا شأن فيه، وذكرى في نواحيه، وما أريد أن أذكرهم به اليوم أجل مما سبق من أمثاله خطرًا، وأوسع فجاجًا وسبلاً، وأدق علمًا وعملاً، على أنه عين ما ذكرتهم به من قبل في جملته، وإنما هو أجل منه شأنًا وأبعد شأوًا في تفصيله مع ضيق وقته. كان سير الأمم والشعوب فيما سبق وئيدًا، كالأباعر يحملن جندلاً أو حديدًا، ثم صار يسير بسرعة البخار، فيما يجر من المركبات في البر والجواري المنشآت في البحار، ثم صار يطير في الهواء، ويسير سفنه في جو السماء، ثم إن الإنسان العالم العامل، فسر لنا كيف سخر الله له ما في السموات وما في الأرض باستخدام الكهرباء لمنافعه، وتصرفه بنورها وقوتها النافذين في الكائنات كلها لمصالحه، وهذا ما أشرنا إليه آنفًَا في الصفحة الأولى من الصحيفة الأولى من المنار؛ منذ إحدى وثلاثين سنة هجرية. كان أكثر ما وصفنا به أعمال الإنسان المستيقظ يومئذ حقائق واقعة، وأقلها تصورات متوقعة، وقد وقع ما كان متوقعًا، وتجاوز كل ما كان متصورًا، وعدا كل ما كان مقدرًا، وأغربها المناطيد والطيارات، وتقريب المسافات، ونطق الجمادات، وتراسل أهل الأمصار البعيدة بالصور والمخطوطات؛ كتناجيهم بالأصوات، واستماعهم للخطباء والعازفين والمسمعات (المغنيات) ، فمن هو في العالم القديم، قد صار بمرأى ومسمع ممن في العالم الجديد، بل ظهر من أسرار الله في هذه الكهرباء ما صار به كل ما كان يستغرب من أخبار الوحي عن عالم الغيب غير غريب، وكل ما كنا وصفنا من سعة سير الإنسان في أطوار الحضارة بطيئًا غير سريع، بل كشف من عجائب سنن الله في الكهرباء ما لم يكن يخطر على قلب بشر، وهو كل يوم في ازدياد، والناس من عجائب صنع الله في شأن، يتنقلون بها من طور إلى طور، يتوقلون في نجد ويهبطون إلى غور، وقد عمت مصنوعاتها الخافقين، فهي مبصرة بالعينين، مسموعة بالأذنين، ملموسة باليدين موطوءة بالرجلين. لكن كل هذه العلوم الزاخرة، والفنون الساحرة، والصناعات التي لو خفيت أسبابها لعدت من السحر أو المعجزات، لم تزد المستمتعين بها إلا فسادًا في الأخلاق وكفرًا بنعم الخلاق باستعمالها وسائل للحرب والنزال، وأسلحة للعدوان والصيال، وآلات لتخريب ما لغيرهم من عمران، وتدمير ما لهم من بنيان، أو يكون لهم ملكًا وأهله من العبدان، فماذا يجب على المسلمين أن ينتفعوا به من تلك العلوم، وماذا يجب عليهم من اتقاء ضررها؟ . طغى الغرب على الشرق بقواه العلمية والآلية يستغله ويستذله، ثم دفع دوله التنازع على غنائمه والسيادة على أهله إلى طغيان بعضهم على بعض في حروب صغيرة وكبيرة، حتى جاءت الطامة الكبرى وحرب المدنية العظمى، فخربوا بيوتهم بأيديهم، وأحرقوا ثمرات كسبهم بنارهم، وأضاعوا فيها من رجالهم العاملين زهاء عشرين ألف ألف نسمة بين قتيل ومشوه، من أقطع وأبتر وأجذم، دع عدد المسلولين من مخابئ الخنادق والسراديب الشديدة الرطوبة على جوعهم، وفقدهم الثياب الكافية لتدفئتهم، وأكثرهم كَلّ على أهله وحكومته، ولعل جملة خسائرهم في أربع سنين تربي على ما ربحوه كلهم من الشرق في مائة سنة أو أكثر. فإن كانوا كسبوا بهذه الحرب توسعًا في العلوم والفنون والصناعات، فقد أعقبتهم فسادًا على فسادهم، وزادتهم رجسًا إلى رجسهم، فهم يستعدون في الباطن لحرب أشر منها وأضر وأدهى وأمر، من حيث يسعون في الظاهر إلى عقد المحالفات؛ لتحديد صنع الأسلحة وتقليل إنشاء الأساطيل والطيارات، وما كانت عهودهم إلا دخلاً بينهم؛ أن تكون أمة هي أربى من أمة. فكل دولة من دولهم تمكر بالأخرى وتكيد لها، بل هم يكيدون لشعوبهم ويمكرون بها، أعني أن كل حكومة تمكر بشعبها نفسه وتخدعه؛ ليواتيها ويؤيد سياستها الحربية ويقرر لها نوابه المال الذي تطلبه لها، وقد أحدثت الحرب الأخيرة في قلوب هذه الشعوب مقتًا للحرب ورعبًا؛ مما عرفوا من أهوالها، ضاعف ما في الغرائز من كراهتها، فإذا جاءت الحرب التالية كانت هي القاضية، ولن يستطيع أعداء البشر من وزراء دول الاستعمار أن يتصرفوا في أموال شعوبهم وأنفسها بكيدهم تصرف سفهاء الوارثين، وخونة القوامين على اليتامى والمجانين، ولا أن يسوقوا مئات الألوف بل الملايين من شبان مستعمراتهم إلى جحيم الحرب، كما تساق الغنم إلى مجازر الذبح، ولا أن يستحوذوا على ذهبها وفضتها وغلالها ومواشيها وجمالها وخيلها وبغالها وحميرها فينتزعوها بالقوة القاهرة، كما فعلوا في الحرب السابقة، وإن صادفوا من رجال حكوماتها المحلية من يسخرونهم لذلك كما سخروا الحكومة المصرية، فكيف إذا لم يجدوا حكومةً وطنيةً قابلةً لمثل ذلك التسخير الذي لا يرضى به إلا الحمير؟ فلا ييأسن مسلم ولا شرقي من تحرير أمته من رق أوربة، فإن الفرصة ستسنح عن قريب، والويل يومئذ للغافلين والمتخاذلين، بل الويل الأكبر للشعب الذي يفرق شمله ملاحدة المجددين، فهم الخطر الأكبر على المسلمين وسائر الشرقيين. ازدادت أوربة بعد الحرب علمًا وصناعة، وكذلك ازدادت جشعًا في الاستعمار، وطمعًا في الدرهم والدينار، وضراوة في سفك الدماء , وتفننًا في المكر والدهاء، وصراحة في نقض العهود، وإخلاف الوعود، كما فعلوا في البلاد العربية التي ضمنوا لها الاستقلال والحرية، ثم تجاوزوا بالعدوان عليها ما كانوا قرروه سرًّا من اقتسام ذات الثروة الغزيرة منها: تجاوزوا العراق وسورية الساحلية إلى الصحراء العربية، بل إلى البلاد المقدسة الحجازية، فاقتسموا سكة الحديد الممتدة من سورية وفلسطين إلى المدينة المنورة؛ وهي وقف إسلامي على الحرمين الشريفين ثم انتزع الإنكليز منطقة العقبة ومعان التابعة لمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنشئوا يقيمون فيها الثكنات العسكرية والمعاقل الحربية، وسيمدون فيها سكة حديدية تصل ما بين العقبة والبصرة، أو ما بين ساحل الحجاز من البحر الأحمر وشط العرب، وحينئذ يكون أداء فريضة الحج تحت مظلة سلطانهم، وذلة صلبانهم من كل بر وبحر، ويكون الحرم النبوي تحت رحمة طياراتهم وجنودهم في كل وقت، كل هذا فعلوه بمساعدة الشريفين المكيين الهاشميين والحسنيين الأميرين الملكين ملك الحجاز - بزعمه - في ذلك الوقت الشريف علي، وأمير شرق الأردن البريطاني إلى يومنا هذا الشريف عبد الله، فإذا سكت العرب على هذا العدوان جهلاً، فلماذا يسكت سائر المسلمين والحجاز قبلة ومنسك للجميع؟ وماذا يخافون والله يقول: {فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) . سارع الإنكليز وحلفاؤهم بعد الحرب إلى استعباد ما لم يكونوا قد استعبدوه من الشرق، وجعله كله من غنائمهم المحللة لهم، وظنوا أنهم قد ملكوا القسطنطينية العظمى وبحر مرمرة والبحر الأسود والقسمين الجنوبي والشرقي من البحر المتوسط وبلاد العرب من مصر والبحر الأحمر إلى شط العرب وبلاد إيران، وأن قد اتصلت مصر بالهند، وستتصل بمدينة الرأس، ولكن ماذا كان؟ استبسل لهم الترك استبسال المستيئسين فطردوهم من الآستانة وما حولها، وتنمر لهم الفرس تنمر المستهتر المستقتل، فأحبطوا أملهم في إيران وضربوا بقصاصة معاهدة كرزون عرض الحائط، وأعلنوا الاستقلال المطلق، وإلغاء الامتيازات الأجنبية فتم لهم ما يريدون، وقامت في وجوههم ثورة مصر العزلاء، فاضطرتهم إلى إلغاء الحماية والاعتراف لمصر بالاستقلال والسيادة القومية. ولكنهم قدموا هذا الاعتراف بتحفظات، لا تزال مثار النزاع والمفاوضات. وقامت على إدارتهم الهندية في العراق الثورة المسلحة، فألجأتهم إلى تأليف حكومة عراقية ملكية. لكنهم جعلوا فيصل بن حسين أخلص صنائعهم لهم ملكًا عليها، يحقق لهم بالسلم والاقتصاد كل ما يريدون منها، وسوف يخيب بتوفيق الله أملهم فيها. وآذنهم بالحرب أمان الله خان أمير الأفغان، فاضطروا للاعتراف له بالاستقلال المطلق التام، وكانت بلاده تحت حمايتهم المذلة، فأصبحت عزيزة مستقلة، وكان ما كان من أمر ثورة الصين عداوة لهم ونبذًا لسيطرة امتيازاتهم واستعمارهم، فحاولوا تأليب أوربة عليهم كما هو المعروف من شنشنتهم، فخذلتها الدول في هذه المرة، وما كل مرة تسلم الجرة، فعادوا خاسرين وانقلبوا خاسئين. وثبت الإمام يحيى في اليمن على سياسته السلبية معهم، فلم يستطيعوا إقناعه بالاعتراف لهم بأدنى حق في بلاده، بل لا يزال يطالبهم بالمقاطعات التسع وبعدن نفسها. وانتزع ابن السعود الحرمين الشريفين من صنيعتهم الشريف حسين الذي ولوه عليه، وكان يعترف لهم بأنه موظفهم فيه، ونقض ما كان من اتفاق سنة 1915 الذي كان ضربًا من الحماية، واضطرهم إلى الاعتراف له بالاستقلال التام المطلق في الحجاز ونجد وملحقاتها ولا يزال الخلاف بينهما قائمًا على السكة الحجازية ومنطقة العقبة ومعان، يطالبونه بالاعتراف بدخول هذه في شرق الأردن أو بالسكوت لهم عنها، وينذرونه تأليب عرب العراق والأردن عليه، وتهييج مسلمي الهند وإيران ومصر عليه. نعم.. يطمع الإنكليز بالاستيلاء على الحجاز بقوة المسلمين عامة والعرب خاصة؛ لأنهم رأوا من تخاذل العرب الوطني والجنسي، مثلما رأوا من تخاذل المسلمين الديني، فكان زعيمان من أشهر خصومهم في الهند أشد خدمة لهم في هذا السبيل من أخلص صنائعهم في بلاد العرب (الملك فيصل والأمير عبد الله) ، هذان يهددان ملك الحجاز ونجد، ويعتديان حدود الله بالتعدى على حدوده والتحرش بقوته، وذانك قد اجتهدا في إيقاع الفشل في المؤتمر الإسلامي العام الذي أجمع على الإنكار على الإنكليز مسألة العقبة ومعان، ومسألة اقتسام منافع السكة الحج

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة عن أحاديث الصحيحين وما قيل من أغلاطها ورواية أبي هريرة، والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها س 1-9 من صاحب الإمضاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله هادي الأنام، والصلاة والسلام على البشير النذير خاتم الرسل الكرام وعلى آله هداة الأمم ومنار الإسلام. أما بعد: من أحمد محمد شهاب إلى حضرة من بعثه الله مجددًا لما اندرس من معالم الدين، ناصر السنة، وقامع البدعة، حامي بيضة الإسلام، إمام الأئمة الأعلام [*] صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا. السلام عليكم ورحمة الله، اطلعت على كتاب سبل السلام شرح بلوغ المرام الذي صححه وعلق عليه حضرة الأستاذ النابه الشيخ محمد عبد العزيز الخولي المدرس بقسم التخصص في القضاء الشرعي، فَإذَا الكتاب طبع في مطبعتين إحداهما المطبعة المنيرية لصاحبها حضرة الشيخ محمد منير أغا، والأخرى للشيخ محمد علي صبيح، وقد جاء في نسخة المطبعة الأولى صحيفة 9 جزء 1 تعليق لحضرة المصحح على شرح الحديث الشريف 12 عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب فليغمسه ثم لينزعه؛ فإن في أحد جناحي داء وفي الآخر شفاء) نقلاً عما كتبه حضرة الطبيب محمد توفيق صدقي العالم المتدين في كتابه سنن الكائنات صحيفة 162 جزء10 ومما جاء فيه: إن من عادة الذباب أن يجتمع على القاذورات والنجاسات، ثم ينتقل منها على طعام الإنسان أو يسقط في شرابه أو يقف فوق عينيه، وبذلك تنتقل جراثيم الأمراض إلى الإنسان وتنتشر بين أفراد هذا النوع، واستشهد على ذلك بما قرره أطباء الإنكليز في حرب الترنسفال من انتقال العدوى في أفراد الجيش بواسطة الذباب، إلى أن قال: إذا وقف الذباب على الأعين وجب طرده في الحال وإذا وقف على الطعام أو سقط في الشراب فالأسلم تطهيرهما بالنار. أما ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث مشكل وإن كان سنده صحيحًا، فكم في الصحيحين من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها، كحديث (خلق الله التربة يوم السبت) مثلاً وغيره مما ذكره المحققون، وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ بها الأئمة في مذاهبهم، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلاً قاطعًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله بلفظه؛ مع منافاته للعلم وعدم إمكان تأويله، مع أن مضمونه يناقض حديث أبي هريرة وميمونة؛ وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في السمن، فقال: (إن كان جامدًا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي، وإن كان ذائبًا فأريقوه أو لا تقربوه) فالذي يقول ذلك لا يبيح أكل الشيء إذا وقع فيه الذباب؛ فإن ضرر كل من الذباب والفئران عظيم، على أن حديث الذباب هذا رواه أبو هريرة، وفي حديثه وتحديثه مقال بين الصحابة أنفسهم! خصوصًا فيما انفرد به كما يُعلم ذلك من سيرته، وهَبْ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك حقيقة، فمن المعلوم أن المسلم لا يجب عليه الأخذ بكلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في المسائل الدنيوية المحضة التي ليست من التشريع، بل الواجب عليه أن يمحصها ويعرضها على العلم والتجربة، فإن اتضح له صحتها أخذ بها وإن علم أنها مما قاله الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) بحسب رأيهم، وهو يجوز عليهم الخطأ في مثل ذلك! وقد حقق هذه المسألة القاضي عياض في كتابه الشفاء، فليراجعه من شاء. ومما رواه فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قِبَل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب) انتهى. والذي نريد أن نعرفه من فضيلتكم: 1- ما هي أحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها؟ 2- ما في حديث وتحديث أبي هريرة رضي الله عنه من المقال؟ وما الذي قيل في سيرته؟ 3-إذا كان لا يجب الأخذ بكلام الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) في المسائل الدنيوية المحضة، أفلا يكون الأخذ بها سنة أو مندوبًا؟ 4- هل يوجد ضابط لا يتطرق إليه القيل والقال في التمييز بين ما قيل من النبي صلى الله عليه وسلم في المسائل الدنيوية، وما قاله من قبل نفسه، وما قاله على سبيل التشريع؟ 5- جواز خطأ الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) ، فما قالوه من أنفسهم ودليله وحكمه؟ وهل ما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من هذا القيل محصور وما هو؟ 6- التوفيق بين حديثي الذباب والفأرة؟ 7- هل حديث الذباب مع ما يشتمل عليه من الأخبار، يقال من قبل الرأي أو التشريع. 8- كيف يكون القول الصادر عن الطبيب محمد توفيق صدقي كفرًا مع قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي) .. إلخ، وما درجة هذا الحديث ومن خرجه؟ 9- جاء في تعليق النسخة طبعة صبيح، طعن مر على ما كتبه الدكتور محمد صدقي وأنه كفر، فهل يجوز هذا الطعن، وما حكم قائله؟ نرجو الإفادة عن كل ما تقدم بتوسع، حتى تكون الأمة على بينة منه، وإنا منتظرون فيما تكتبون الشفاء، والمعهود في سماحتكم الوفاء، ودمتم محفوظين، وبعناية المولى القدير ملحوظين، والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... 28/11/1927 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شهاب ... ... ... ... ... رئيس نقطة الحبابية مركز منوف منوفية (المنار) نحيي السائل بخير من تحيته، من السلام ورحمة الله وبركاته ونعمته، ونسأله تعالى أن يجعلنا أهلاً لحسن ظنه وإخلاص نيته، ونخبره بأن أسئلته المهمة قد سبق لنا تحقيقها في المنار؛ لذلك نجيب عنها بالاختصار، فنقول: (أجوبة المنار بالترتيب) 1- أحاديث الصحيحين التي ظهر غلط الرواة فيها لم أقف على إحصاء لأحاديث الصحيحين التي اتضح لعلماء الحديث أن الرواة غلطوا فيها، وعلماء الحديث قلما يعنون بغلط المتون فيما يخص معانيها وأحكامها الذي هو مراد السائل، وإنما كانت عنايتهم التامة بالأسانيد وسياق المتون وعباراتها والاختلاف والاتفاق فيها والمرفوع والموقف منها، وما عساه أن يكون مدرجًا فيها من كلام بعض الرواة ليس من النص المرفوع إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) ، وإنما يظهر معاني غلط المتون للعلماء الباحثين في شروحها وما فيها من أصول الدين وفروعه وغير ذلك، ولو لم يكونوا من المحدّثين في الاصطلاح على أنهم يرجعون في ذلك إلى أصول المحدثين؛ كقولهم: إن صحة السند لا تقتضي صحة المتن في الواقع ونفس الأمر حتمًا، وعدم صحة السند لا تقتضي وضعه في الواقع ونفس الأمر حتمًا، وقولهم: إن من علامات وضع الحديث - وإن صح سنده - أن يكون مخالفًا لنص القرآن القطعي، وفي معناه كل قطعي شرعي كبعض أصول العقائد أو الأعمال المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، بحيث يتعذر الجمع بينهما، ولهذا جزموا بغلط حديث أبي هريرة عند مسلم في خلق السموات والأرض في سبعة أيام الذي أوله: (خلق الله التربة يوم السبت) ؛ لأنه مخالف لآيات القرآن الصريحة في خلق السموات والأرض وما فيها في ستة أيام، بل حكموا بغلط حديث شُريك بن أبي نمر في الإسراء والمعراج من أحاديث الصحيحين في السند والمتن وهو الحديث الذي فيه أن الإسراء والمعراج كانا في رؤيا منامية، وذكروا له عللاً أشار إليها مسلم مقرونة بسياقه على أن بعض العلماء والحفاظ انتصروا له فيه. وإذا كانت مخالفة القطعي سببًا للحكم؛ إما بعدم صحة الحديث لعدم الثقة برواته، وإما لغلطهم في سياق متنه. فمن الضروري أن تختلف الأفهام في ذلك باختلاف مدارك أصحابها ومعارفهم، فالذين لا يعلمون أن الشمس لا تغيب عن الأرض ولا تحتجب عن جميع سكانها من البشر ساعة ولا دقيقة، لا يرون شيئًا من الإشكال في حديث أبي ذر في بيان أين تكون بعد غروبها؛ لأنهم يظنون أن غروبها عنهم غروب عن جميع العالم. ولكن حفاظ الحديث ورجال الجرح والتعديل، قد انتقدوا بعض أحاديث الصحيحين، وجرحوا بعض رجالهما بحسب أفهامهم ودرجات معرفتهم، وجاء آخرون فانتصروا للشيخين في أكثر ما انتقد عليهما، وأشهر هؤلاء المنتقدين وأوسعهم تتبعًا وإحصاء الحافظ أبو الحسن الدارقطني صاحب السنن المشهورة، وإذا أردت معرفة ذلك مع ما فيه وما يرد عليه، فراجع الفصلين الثامن والتاسع من مقدمة الحافظ ابن حجر لشرح البخاري. فأما الأحاديث المنتقدة في البخاري فهي 110 أحاديث، منها ما انفرد به ومنها ما أخرجه مسلم أيضًا - وما انتقدوا من إفراد مسلم أكثر من إفراد البخاري - وإذا قرأت ما قاله الحافظ فيها، رأيتها كلها في صناعة الفن التي أشرنا إلى المهم منها عندهم. ولكنك إذا قرأت الشرح نفسه (فتح الباري) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها، مع محاولة الجمع بين المختلفات وحل المشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض، فهذا النوع ينبغي جمعه وتحقيق الحق فيه بقدر الإمكان، كما حاول الطحاوي في كتابه مشكل الآثار، وترى نموذجًا منه في كلامنا على أشراط الساعة ومشكلاتها في الروايات الصحيحة وغيرها، على أن من أطال البحث فيه وفيما قبله يدهش لدقة الشيخين ولا سيما البخاري في انتقاء أحاديث الصحيحين وتحريهما فيها. وأما موضوع الفصل التاسع؛ وهو تضعيف كثير من رجال الجامع الصحيح فقد سردها فيه الحافظ سردًا وأحصاها عدًا، وترى أن الطعن في أكثرهم مبني على الاختلاف في أسباب الطعن والجرح، فيبني هذا جرحه على ما يخالف اصطلاح الآخر، وترى أن المطعون فيهم قلما يخرج لهم حديث في الجامع الصحيح إلا في المتابعات؛ للتقوية لا لأصل الاستدلال به، فإن جعله أصلاً كان له من الشواهد والمتابعات ما يقويه، مثال ذلك حديث كثير بن شِنظير (بكسر الشين) البصري عن عطاء: في الأمر بتغطية الأواني في الليل وربط الأسقية وإقفال الأبواب ومنع الصغار من الخروج مساء خشية الجن أو الشياطين، كثير هذا قال فيها ابن معين ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الساجي: صدوق فيه بعض الضعف ولكن احتج به الجمهور، وقال البخاري عقب تخريج حديثه من كتاب بدء الخلق: قال ابن جريج وحبيب عن عطاء (فإن للشياطين يعني أن ابن جريج وحبيبًا المعلم رويا هذا الحيث أيضًا إلا أنهما قالا: (فإن للشياطين انتشارًا وخطفة) بدل قول كثير بن شنظير (فإن للجن) إلخ، أقول: ويختلف في غير هذه الكلمة أيضًا، ولم يذكر البخاري المتابعة إلا لعلمه بأن كثير هذا قد قيل فيه ما قيل، وهو لم يخرج له غيره إلا حديثًا آخر في السلام على المصلي، له متابع عند مسلم. فأنت ترى أن هذا من دقائق التحري في الروايات، وإنما اخترت التمثيل بحديث كثير هذا على كثرة نظائره؛ للإشارة إلى شيء يتعلق بالمتن لم يكن مما يلتفتون إليه ويبحثون فيه، وهو ما فيه من الخبر عن انتشار الجن والشياطين في أول الليل والخوف على الأولاد منهم، في هذا من الإشكال أن أكثر أهل الأرض لا يمنعون أولادهم من الخروج في هذا الوقت، وتمر الأعصار ولا يعرف أحد أن الشياطين فعلت بأحد منهم شيئًا - هذا إشكال يخطر في بال كل متعلم في الأمصار التي انتشرت فيها العلوم والفنون التي يسمونها العصرية، وكل متعلم على طريقتهم في القرى والمزارع، فيقولون: إنه مخالف للواقع في تعليل منع الصغار من الخروج في المساء أي في أول الليل، وقد يزيد على هذا بعض المشتغلين بالعلوم الدينية؛ أن هذا خبر عن أمر يتعلق بعالم الغيب، فلا يقبل فيه انفراد راوٍ واحد فيه من هذه الطرق الثل

تفسير القرآن الحكيم

الكاتب: أحمد إبراهيم إبراهيم

_ تفسير القرآن الحكيم رأي الأستاذ العلامة الفقيه - مدرس الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بالجامعة المصرية - فيه وفي مجلة المنار إلى الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا تعلم أيها الصديق الحميم إعجابي بك وشغفي بما تخطه يمينك من مقالات الإصلاح؛ لا لأنك صديقي (وعين الرضا عن كل عيب كليلة) بل لأنك تكتب وتقول عن علم صحيح، وتفكير صائب، وقلب فاهم، ونفس تريد الخير للمسلمين في كل ما يصدر عنها، فلا عجب إذا كنت أدعو كل من آنسُ فيه الاستعداد للخير أن يقرأ المنار فينتفع منه على قدر استعداده، فقد تناولتَ فيه من وجوه الإصلاح الإسلامية - بفضل الله ونعمته - ما لم يتيسر في جملته لغيرك، وقد زدته حسنا على حسن بما ضمنته من جواهر الكلام، لشيخنا الأستاذ الإمام، عليه من الله الرحمة والرضوان، فنظمت فيه من اللآلئ ما كان ينثره رضي الله عنه في دروس التفسير التي يلقيها على الجماهير في الأزهر المعمور، وضممتَ إليها ما شاء الله أن يفتح به عليه من نفيس الفرائد، ثم انفردت به بعد أن استأثرتْ بالشيخ رحمة ربه فكنته فيما استقللت به، ولا غَرْو (فإن العصا من العصية) . ثم جردتَ تفسير المنار وطبعته على حدة جزءًا جزءًا مبتدئًا بالجزء الثاني، وأخيرًا طعبت الجزء الأول كذلك بعد أن أنشأته خلقًا جديدًا، وقد أسعدني الحظ بتصفحه وقراءة أدق مباحثه بعد قراءة مقدمتيه - فاتحتكم والمقدمة المقتبسة من دروس الأستاذ الإمام - فرأيت نور الهداية الربانية قد فاض عليه وغمره من أوله إلى آخره، وقد استوقفني في فاتحتكم عدة مواضع كان يتوارد على خاطري في كل موضع منها بحكم تداعي المعاني الشيء الكثير. من ذلك ما جاء من جعل مقلدة المذاهب - أصولاً وفروعًا - مذاهبهم أصلاً، والقرآن فرعًا لها فعكسوا القضية، حتى لقد غلا بعضهم غلوًّا فاحشًا نعوذ بالله منه إذ يقول: إذا خالف النص من كتاب أو سنة قول أصحابنا فإن النص يحال على النسخ أو التأويل. وأذكر أني تناولت مرة بعض التفاسير المطولة [1] لأراجع فيه تفسير آية من آيات الأحكام، فكنت في أثناء قراءتي أجدني قد قرأت مثل هذا الكلام في بعض الكتب الفقهية فما انتهيت إلى آخره، حتى وجدته يقول كذا في فتح القدير، فأطبقت الكتاب وعقدت النية على أن لا أعود إلى قراءة شيء فيه بعد ذلك؛ لأني إنما تناولته لأقرأ في كتاب تفسير لا في كتاب الفتاوى الهندية. ومن ذلك ما أوردتموه من الملاحظات الجيدة على التفسير بالمأثور، وأنه لا يؤخذ بكل ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم من ذلك لما ثبت أن بعضهم روى عن أهل الكتاب كأبي هريرة وابن عباس، فالحق هو ما قلتم أن كل ما لا يعلم إلا بالنقل عن المعصوم من أخبار الغيب الماضي أو المستقبل وأمثاله لا يقبل فيّ إثباته إلا الحديث الصحيح المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهذه قاعدة الإمام ابن جرير التي يصرح بها كثيرًا، فبهذا الطريق نسلم مما لا يحصى كثرة من الأكاذيب والخرافات المخجلة، وتطهر منها كتب تفسير كلام الله. ومن ذلك ما حكيتموه عن الأستاذ الإمام من قوله: (إن بعض الناس يوجد فيهم خاصية أنهم يقدرون على الكلام في أي موضوع أمام أي إنسان؛ سواء أكان يدرك الكلام ويقبله أم لا، وهذه خاصية كانت موجودة عند السيد جمال الدين يلقي الحكمة لمريدها وغير مريدها. وأنا كنت أحسده على هذا؛ لأنني تؤثر في حالة المجالس والوقت، فلا تتوجه نفسي للكلام إلا إذا رأيت له محلاً وهكذا الكتابة، فإنني أتصور أن أكتب في موضوع، وعندما أوجه قواي لجمع ما تحسن كتابته، تتوارد على فكري معان كثيرة ووجوه للكلام جمة ثم يأتيني خاطر: لمن ألقي هذا الكلام ومن ينتفع به؟ فأتوقف عن الكتابة وأرى تلك المعاني التي اجتمعت عندي قد امتص بعضها بعضًا، حتى تلاشت ولا أكتب شيئًا) فأذكرني هذا ما صنعه أبو حيان التوحيدي بكتبه إذ أحرقها ضنًا بها على الناس بعد أن بذل ما في وسعه في تحريرها، وكتب في ذلك خطابه المؤثر لبعض أصدقائه، فهذه ثلاث مراتب مرتبة من يلقى الحكمة على أيٍّ كان غير ناظرِ إلى من تُلقى عليه، فلعلها إن أخطأت مرة أصابت مرة، وهذه هي مرتبة السيد رحمه الله، وهي مرتبة حب الخير المطلق والإخلاص والغيرة على الإصلاح والطمع في هداية الناس أجمعين، فكان لا جرم أن غبط الأستاذ الإمام السيد عليها قدس الله سرهما. ومرتبة الحكيم الحذر الذي يتحين الفرص، فلا يلقي الحكمة إلا على من هو مستعد لقبولها والانتفاع بها، وهذه هي مرتبة الأستاذ الإمام كما حدّث عن نفسه، لكنه بعد ذلك ما كان يضن بدرره الغوالي كما شاهدنا ذلك منه في دروس التفسير وفي غيرها، بل كان يصرح كثيرًا بمخالفة ما ألِفه العامة بمنتهى الشجاعة والإقدام مؤيدًا ما يقوله بالبراهين الناصعة، والحجج الدامغة، والجمهور يستمع لما يقول. ومرتبة الضنين على الناس بما يراه صالحًا لهم، فكأنهم وتروه فثأر لنفسه منهم، وهذه مرتبة أبي حيان. فصاحب المرتبة الأولى ينظر إلى الناس نظر الرحمة والشفقة، وصاحب المرتبة الثانية ينظر إليهم بعين الحذر والحكمة مع محبته الخير لهم، وصاحب المرتبة الثالثة ينظر إليهم نظر المقت والانتقام. هذا بعض ما استوقف نظري مما مر به. لكن أشد ما استوقفني تلك الكلمة الجامعة الحكيمة التي كأن روح القدس نطق بها على لسانك: (إذا صلحت النفس البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) فوقفتني وقفة غارقة في بحار التأمل، تارةً أستعيد ماضي الإسلام المجيد وما طرأ على المسلمين بعد عصر النور من ظلم الفساد، وأخرى أنظر إلى حاضر المسلمين وما هم عليه من سوء الأحوال الاجتماعية، وتفرقة الكلمة والانحراف عن كتاب الله تعالى، ثم أفكر في مستقبلهم إذا استمروا على هذا الحال، فأرتد كئيبًا حزينًا يقتلني الأسى ويمزقني الغيظ. وكان مما خطر ببالي في وسط تلك الدهشة؛ ما يظنه بعض المساكين من متعلمي المسلمين ذلك التعليم الحديث الذي ظنوه كاملاً، وما هو إلا في أحط دركات النقص، ظنوا - هداهم الله - أن السيادة والاستقلال يكفي لاستحقاقهما ذلك القدر من العلم الذي حصلوه، وتلك الشهادات الدراسية العليا التي نالوها من أرقى المعاهد العملية الأوربية بجدارة وتفوق؛ حتى على كثيرين من أبناء تلك الأمم التي نالوا تلك الشهادات من معاهدها، حتى قال مسكين منهم معتزًا بما حمله من تلك الشهادات، وما حصل عليه من قشور القشور التي ظنها علمًا قيمًا: ما بالنا لا نُعطى الاستقلال وقد أعطيه العربُ الجهال رعاة الإبل، ونحن (أولاً) على درجة من العلم والمدنية الغربية تجعلنا خير أهل لذلك. (وثانيًا) نحن من نسل أولئك الفراعنة ذوي الحضارة القديمة التي بهرت أنظار الغربيين؟ وفات هذا الشيخ الطفل أن الاستقلال ليس منحة تُعطى، بل هو نتيجة طبيعية لازمة لحالة الأمة الاجتماعية سنة الله في خلقه {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) . فهؤلاء العرب الجهال رعاة الإبل الذين لم يتشرف واحد منهم بنيل شهادة الدكتوراه ولا ما دونها، إنما نالوا الاستقلال بنفوسهم الصالحة تربية ووراثة، فلم يمسسهم ولا أسلافهم ذلك الاستعباد، ولم يتطرق إلى أخلاقهم الرفيعة الفساد الوضيع، وأما أعلى الشهادات وأرقى أنواع تلك العلوم فمحال أن تكون من مهيئات الاستقلال والسيادة مع فساد النفوس وضِعتها، وانحطاط الأخلاق وانحلالها، والانغماس في الشهوات البدنية والتفاني فيها، فليس للاستقلال والسيادة إلا طريق واحد هو النفس الصالحة فهي حسبهما وكفى، وأما التبجح بالانتساب إلى الفراعنة فهو عجيب ممن ينتمون إلى الإسلام، بل الأولى بهؤلاء المنتسبين أن ينسبوا أنفسهم إلى الأمة التي استعبدتها الفراعنة، وساموها الخسف والهوان وسخروها لخدمتهم لا غير، فهذا هو الواقع. والانصاف يقضي عليهم بأن ينتسبوا إلى أصولهم الحقيقيين. على أن العلم المادي في أقوى معداته ومجهزاته المهلكة المدمرة، لم يستطع أن يقف بأصحابه أمام الأخلاق المتينة. ولدينا أقرب شاهد على ذلك من الحرب العظمى التي انهزم بها ذلك العلم المادي بجبروته وعظمته أمام الأخلاق الثابتة والنفوس المطمئنة الهادئة، وولت الأدبار القوى المادية أمام القوة المعنوية، وما انتصر المسلمون في عصور الهداية والنور إلا بنفوسهم الصالحة، فانتصروا على دولتي الفرس والروم وكل من حاربوهم من الأمم مع كثرتها الساحقة في العدد والعدد قديم حضارتها. ولكن ما قيمة كل ذلك أمام النفوس الصالحة؟ ولما استقرت قدم المسلمين في البلاد التي فتحوها ونشروا فيها نور الإيمان الصحيح بالله تعالى، أحلوا فيها العدل محل الظلم، والأمن محل الخوف، والسكينة محل الاضطراب، والوفاء محل الغدر، والحرية الصحيحة محل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، فأصلحوا بنفوسهم الصالحة كل شيء اتصلوا به. نعم.. (إذا صلحت النفس البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به) هذه حقيقة لا ريب فيها، ففي صلاح النفس عزها وفلاحها وإعدادها لإصلاح كل ما اتصل بها ولا طريق لصلاح النفس صلاحًا حقيقيًا إلا الأخذ بما جاء به الكتاب العزيز والاهتداء بهديه، ففي ذلك الخير كله، بذا جف القلم وقُضي الأمر. إن خير تفسير لكتاب الله تعالى على ما نعلم من حيث هو كتاب هداية وإرشار لهو تفسير المنار، أقول لك ذلك أيها العالم الموفق غير مُداجٍ ولا ممالئ، بل أترجم لك عما تتحدث به إليّ نفسي غير أني أقترح عليك وأرجو أن يسمح لك وقتك بما أقترح عليك أن تقتبس من هذا التفسير الممتع تفسيرًا مختصرًا، يحتوي زبدته لينتفع به العامة، ومن لا يتسع وقته لقراءة التفسير المطول. أسأل الله تعالى أن يكون معك ويمدك بروح منه، ويهبك القدرة على إتمام هذا التفسير ومختصره، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... أخوك المخلص ... ... ... ... ... ... أحمد إبراهيم إبراهيم ... ... ... أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق بالجامعة المصرية

من عهد الصليبيين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ من عهد الصليبيين عثر أحد العمال في حي الميناء بطرابلس الشام على لوحة رخامية مكتوب عليها بالفرنسية القديمة ما ترجمته: (باسم الروح القدس نحن بومون بنعمة الله أمير أنطاكية وكونت طرابلس صنعنا هذا البرج من أموال جالية طرابلس عام 1268 لميلاد السيد المسيح) . وقد أرسلت هذه البلاطة إلى دائرة الآثار في المفوضية الفرنسية لإصلاحها ووضعها في المتحف اللبناني.

مناظرة في مسألة القبور والمشاهد ـ 7

الكاتب: محمد عبد القادر الهلالي

_ مناظرة في مسألة القبور والمشاهد الرد على رسالة العالم الشيعي للأستاذ الشيخ محمد عبد القادر الهلالي وهو عالم سلفي مستقل لا يتعصب لمذهب من المذاهب المقلدة (7) (المقام الثلاثون) قوله سيما أن أول من شيد قبر أمير المؤمنين (عفى الله عنه) هو هارون الرشيد خليفة المسلمين في عصره، وتابَعه على ذلك سائر الخلفاء حتى عبد الحميد خان التركي، فإنهم لم يزالوا يجددون عمارته. أقول: لم يأت السيد مهدي بدليل يصح به ما نقله عن الرشيد، وأنا لا أدري أول من بنى القبر المنسوب إلى أمير المؤمنين علي (كرم الله وجهه) . ولكني أذكر أني قرأت في بعض كتب شيخ الإسلام - وهو من أثبت الناس في النقل - أن أول من بنى المشاهد وسنها للناس هم الشيعة، وظني بهارون الرشيد أنه لا يفعل ذلك، ولا يبلغ به الجهل إلى هنالك، فإن صح ذلك عنه قلنا كان ماذا؟ غير معصوم فعل ذنبًا فهو إلى الله، وأقوال هارن الرشيد وأفعاله ليست شرعًا يحتج بها إلا عند الشيعة الذين يعتقدون أنه من أظلم الناس إن لم يكفروه، بل المفهوم من كلام بعضهم تكفيره، ولا عند أهل السنة الذين يعتقدون أنه خليفة المسلمين وأفعاله كأفعال غيره من الأمة، ليست حجة ولو لم تخالف نص الرسول، فكيف إذا خالفته، وليت شعري أي فائدة في الاحتجاج بأفعال الملوك، وقد حبس الرشيد الكاظم رضي الله عنه حتى مات في حبسه، فلو قال لك قائل: هذا خليفة المسلمين يجوز له تعزير من خرج عليه أو توقع خروجه بالنصوص الصحيحة، بل يجوز له قتل من خرج عليه، لا نعلم في ذلك خلافًا بين أهل السنة، فهل كان في حبسه للكاظم محسنًا أم مسيئًا؟ فما جوابك؟ وبالاحتجاج بفعل الملوك يتأول المتأولون قتل من قتله بنو أمية وبنو العباس في دولتيهم من أهل البيت وغيرهم، مع أن أكثرهم قُتَلوا بلا حق، وبلغ ببعضهم التأول إلى أن قال في قتل الحسين إنما قُتل بسيف جده يريد بذلك أنه خرج على الإمام، وقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بقتل من خرج، وهذه زلة من الزلات صدرت ممن قالها. وسبب ذلك كله هو الغلو في الملوك، وجعل كل ما صدر منهم شرعًا يدان به، وهذا مسلك وخيم لا يرضى به أهل العلم، بل يجب أن تعرض أقوال الناس وأفعالهم كائنين من كانوا على ما جاء به الرسول، فما وافقه فهو الحق وما خالفه فهو باطل، ولو فعله أو قاله خليفة أو إمام كبير، فلا معصوم إلا النبي (صلى الله عليه وسلم) . أما قوله: إن ما شيده المنتسبون إلى السنة من القباب أكثر مما شيده الشيعة، فقد يكون صحيحًا، والظاهر أن المبتدعين من المنتسبين إلى السنة والشيعة في بناء القباب والغلو في المقبورين فيها سواسية، وبدعة القباب ضلالة أتباعها شياطين الجن وشياطين الإنس {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} (الأنعام: 112) . (المقام الحادي والثلاثون) أطال السيد مهدي في لوم صاحب المنار وتعنيفه والنيل منه، وليته تجنب ذلك لا لأنه لا يجدي نفعًا في الحجاج، وإنما يوغر الصدور ويكثر به اللجاج. ومن العجائب قوله: يحق للشيعة ولكل مسلم أن يعدوا تشييد تلك القبور الشريفة من أعظم القربات؛ لأن الجهات القاضية برجحان زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور أهل بيته تستدعي اجتماع المؤمنين من سائر الأقطار والكون فيها؛ للصلاة وسائر العبادات، وذلك موجب لإعداد محال واسعة حول القبور تكون مجمعًا للزائرين، وهي تفتقر إلى بناءات فخمة واقية لنفس القبور والفُرش التي حولها، والقناديل المسرجة ليلاً لقراءة القرآن والأدعية، وحافظة لمن يزور القبور من الحر والبرد والمطر وعواصف الرياح. أقول هذا الكلام فيه منكرات تقشعر منها الجلود، فيا أسفا لصدوره من أحد العلماء المتبوعين في الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وسأختصر الجواب عنه اختصارًا، فقد طال الكلام جدًا. كيف يكون ما لعن النبي فاعله وأخبر باشتداد غضب الله عليه مباحًا؛ فضلاً عن أن يكون قربة؛ فضلاً عن أن يكون من أعظم القربات؟ وأما زيارة القبور فهي مشروعة ولا تشد لها الرحال؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيدًا وصلوا عليّ حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني) ؛ ولنهي حسن بن حسن وعلي بن الحسين عن إتيان قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم سندًا، ولقول الله تعالى {لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (النساء: 171) ، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر: 7) وغير ذلك، ومن وصل قبر نبي أو صالح فليسلم، ويدعو لصاحب القبر وينصرف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل وكذا أصحابه، فلا حاجة إلى قبة أو فرش ولا قنديل إلا من أراد أن يحادّ الرسول فيتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وأعيادًا، ويتعرض للعنة الله واشتداد غضبه، ويتخذ القبور أوثانًا، فإنما حسابه عند ربه وجزاؤه عليه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21) . متى شرع الله الحج لغير البيت العتيق؟ ومتى شرع الله الاجتماع لذكر في غير المساجد المأذون فيها؟ ولِم يسافر إلى قبر نبي أو صالح؟ إن كان مراده الاتعاظ والتذكرة فهي حاصلة برؤية قبور بلده كفارًا كانوا أو مسلمين، وإن كان قصده الدعاء لصاحب القبر فليدع في مكانه والله سميع عليم، وتقدم حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره (صلى الله عليه وسلم) عيدًا، ونهي أهل البيت (عم) عن إتيانه للسلام والدعاء، فلا حاجة إلى القباب ولا منفعة فيها، بل فيها مضرة وأي مضرة؛ لأنها نفق منها يتنزل إلى دركات الشرك، فالخير والقربة والبر في هدمها وتسوية القبور، وتركها كما كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، وما أحدث الناس بعدهم في الدين إلا شرًّا. (المقام الثاني والثلاثون) قوله: فإن بيت النبي وبيوت أهل بيته من أعاظم البيوت التي أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كما روى السيوطي ما دل عليه في تفسير هذه الآية الكريمة، وإن تلك البيوت مما يجب احترامها وتعظيمها في حال حياتهم فكذا قبورهم، وإن تعظيم بيوتهم في حال حياتهم إنما هو لوجودهم فيها فكذا قبورهم؛ لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون. أقول الاحتجاج بما رواه السيوطي محتاج إلى ذكر الإسناد وتصحيح الخبر، والسيوطي في الدر المنثور ذكر الخبر المشار إليه، وحاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قول الله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} (النور: 36) ببيوت الأنبياء، فسأله أبو بكر عن بيت علي وفاطمة أهو منها؟ فقال: (نعم من أفاضلها) وعزاه لابن مردويه بلا سند كعادته، ولم يلتزم أن لا يذكر فيه إلا الصحيح، بل يذكر فيه ما ورد صحيحًا كان أم ضعيفًا، فالاحتجاج به والحال هذه فيه ما فيه، سلمنا أنه صحيح فأي علاقة له في مسألة النزاع؛ لأن الله لم يقل في قبور أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره بذلك، وأكثر المفسرين على أنها المساجد، وفسرت ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وببيت عليّ في الخبر المتقدم، وعلى هذا التفسير يكون المراد بالرفع الاحترام، وهو أن لا يدخلها أحد إلا بإذن كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ} (الأحزاب: 53) فدلت الآية على تحريم دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإذنه وتحريم كل ما يؤذي النبي فيها كالاستئناس للحديث، ويلحق بيوت النبي في ذلك بيت علي وفاطمة وبيوت سائر بناته، بل وسائر بيوت المسلمين لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} (النور: 27) ولا يخفى أن بيوت النبي وبيوت آله أعظم حرمة من بيوت عامة الناس، وأي دلالة في ذلك على جواز البناء على القبور والصلاة عندها، وقد امتثل الصحابة ما أُمروا به من تعظيم بيوت النبي ورفعها، ولم يبن أحد فيها قبة، ويقصدها للصلاة والدعاء، وإنما يصلي فيها أهلها ومن أذنوا له في دخولها، أما تحري الصلاة والدعاء فيها كالمساجد فلم يشرع لا في حياتهم ولا بعد مماتهم، ولو سلمنا أن تحري الصلاة والدعاء مشروع في بيوت النبي وآله، ما دل ذلك على مشروعية الصلاة والدعاء عند قبورهم، وقياس قبورهم على بيوتهم في مشروعية الصلاة والدعاء عند قبورهم فاسد؛ لأنه مصادم للنصوص الناهية عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد؛ ولأنه قياس مع الفارق، فإن البيوت يستحب لأهلها أن يتخذوا فيها مساجد كما تقدم في حديث عائشة، والقبور ليست كذلك والبيوت يستحب لأهلها أن يجعلوا فيها نوافلهم أو شيئًا منها كما تقدم في حديث (لا تتخذوا قبري عيدًا ولا بيوتكم قبورًا) ولا كذلك القبور؛ فإن الصلاة عندها محرمة وإن قصد بها التبرك والتعظيم كانت أحرم، وأيضًا البيوت ينتفع بها غير أهلها ولا كذلك القبور والبيوت يجلس فيها وتوطأ بإذن أهلها وتُبنى وتشيد بخلاف القبور، وكون الأنبياء والشهداء أحياء في قبورهم لا يقتضي جواز إتيانهم للصلاة والدعاء، والنظر إلى وجوههم وسؤالهم، وتلقي العلم منهم، والشكوى إليهم من أفعال الكفرة والمنافقين والظلمة والتحاكم إليهم، وسؤالهم أخذ الحق من الظالم وتغيير المنكر وغير ذلك مما هو مختص بالحياة الدنيوية، وقد ورد أن الناس يأتون الأنبياء واحدًا بعد واحد يسألونهم الشفاعة في فصل القضاء يوم القيامة؛ لأنهم حينئذ يرونهم ويسمعون كلامهم كما في الحياة الدنيا بخلاف الحياة البرزخية، فلا يجوز ولا يمكن ذلك فيها؛ ولذلك لم يشرعه الله تعالى ولا فعله السلف الصالح ولا من تبعهم بإحسان، وبقية كلام السيد مهدي يفهم جوابه مما سبق. وليكن هذا آخر ما أكتب في الحكم بهذا القضية؛ راجيًا أن يكون مقبولاً عند الله والمؤمنين، وأسأل الله أن يشرح صدور من كتبوا في هذه القضية جميعًا إلى اتباع ما أنزل الله على رسوله بلا تغيير ولا تبديل، وأن يجمعنا وإياهم على الهدى وينزع ما نزغه الشيطان في صدور المسلمين من الغل، حتى يكونوا كالبنيان المرصوص وكالجسد الواحد، فيحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويغفر لنا ما طغى به القلم {ربنا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا} (البقرة: 286) إلى آخر السورة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. قال كاتبه محمد بن عبد القادر الهلالي عفا الله عنه: كتبته في مدة يسيرة وأنا مشغول البال بالتأهب للسفر إلى الحج - يسره الله على أحسن حال - ومكتنف بأشغال وافرة، وكل ذلك يمهد لي سبيل المعذرة عند من يقف عليه من الأفاضل، فيغضي عما فيه من القصور والتقصير {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) .

مقدمة كتاب يسر الإسلام وأصول التشريع العام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة كتاب يسر الإسلام وأصول التشريع العام بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله الذي أكمل لنا بالقرآن هذا الدين، وختم بمحمد صاحب الرسالة العامة دولة النبيين، وجعله المثل البشري الأعلى للهداية الإلهية العليا، وأرسله رحمة للعالمين، وبعثه بالحنيفية السمحة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجعلها يسرًا لا عسر معه، وسعة لا حرج فيها، فبلغ عنه أصحابه ما أمرهم بتبليغه من كتاب الله تعالى بالتلاوة والحفظ والكتابة، ومن سنته في بيانه للناس بالقول والعمل، والحكم بين الناس بما أراه الله من الحق والعدل، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: 22) . تلقى العرب الأميون كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) في بيانه بالقبول؛ إذ لم يكن لديهم فلسفة دينية يحكمونها في دين التوحيد والفضيلة، بعد أن اجتث الله به شجرة الشرك الخبيثة، ولا كان لديهم تقاليد تشريعية يعقدون بها شريعته العادلة النقية، فسهل فهم الشعوب والأمم له منهم، وتلقوه بالقبول عنهم، فلم يلبث الألوف من مواليهم الأعاجم منذ العصر الأول والثاني أن حذقوا لغة هذا الدين ففهموا كتابه المنزل، وشاركوا أساتذتهم العرب في نشر الدعوة وتدوين اللغة والسنة، ثم فيما استلزم ذلك من فتح الأمصار، ونشر دين الله في الأقطار، فانتشر الإسلام في الشرق والغرب بسرعة لم يعهد لها نظير في التاريخ، فبلغ ملكه في جيل واحد ما لم يبلغ ملك الروم (الرومان) في ثمانية قرون، فكانوا أعظم دول الفتح والاستعمار في الأرض، وأشدها مراعاة للرحمة والعدل. ثم نجمت قرون البدع في المسلمين، ودخلت عليهم فلسفة الأمم وتقاليد الملل من أقطارها، واحتاجوا إلى التوسع في التشريع المدني والقضائي والسياسي، فوضعوا علم الفقه بداعية حاجة الحكام، وعلم الكلام لحراسة العقائد من البدع ونظريات الفلسفة المختلفة، فاختلط بعقائد الإسلام وأحكامه العملية ما ليس منها، وخرجت تعاليمه من فضاء السهولة والبساطة واليسر، إلى مضايق الحزونة والتعقيد والعسر؛ إذ كان الأعرابي في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) يتعلم من عباداته الشخصية في مجلس واحد ما يكون به مسلمًا، فصار يتعذر على المسلم الناشئ بين المسلمين أن يتعلم مذهبه الديني الموروث في عدة سنين؛ لأن الأحكام كثرت بأقيسة المذاهب وتفريعاتها، وعسر فهمها بضعف لغة المصنفين لكتبها، فضاق ذرع الأمة بها، وانحصر الطالبون لتحصيلها في عدد قليل من أهل الأمصار، يطلبها أكثرهم لأجل الدنيا لا لأجل الدين، فزال بذلك ما ذكرنا من مزايا الإسلام القطعية التي كان بها على أكمله قبل أن يكتب شيء من المصنفات، ففي الخبر المتفق على روايته مرفوعًا المجمع على معناه (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته) . ثم انتقل المسلمون من طور إلى طور، وركبوا طبقًا عن طبق، بعضهم ينتقد هذه الكتب الكثيرة، ويقول: إما أن يكون جلها ليس من الدين، وإما أن يكون الدين نفسه غير حق، وبعضهم لا يزال يقول: إن ما هو مقرر فيها هو دين الله لا مندوحة لمسلم عن اتباعه وإلا كان خارجًا من هذه الملة، حتى انتهت حال بعض حملة العمائم، وسكنة الأثواب العباعب إلى أن يقول: إن من يهتدي بالكتاب والسنة من دون كتب المذاهب الفقهية والكلامية فهو زنديق، وكان لهؤلاء الجامدين الجاهلين مكانة عند الحكام وعند جمهور الأمة تخشى بها غائلة مخالفتهم، فزال ذلك رويدًا رويدًا وهم لا يشعرون، حتى إذا لم يبق منها إلا القليل في بعض البلاد (كمصر) بعد أن زال من بلاد أخرى، وزال بشؤمة الدين كله من دواوين حكومتها ومحاكمها ومدارها (كبلاد الترك) ، طفق بعضهم يشعر بالخطر على البقية الباقية من ظواهره ماثلة على شفا جرف، ولكنهم لا يدرون كيف يخرجون من جحر الضب كما يخرج هو عند الخطر. قد أنذر دعاة الإصلاح هؤلاء العلماء الرسميين هذا الخطر الذي هو عاقبة ضرورية لجمودهم على تقاليدهم فتماروا بالنذر، وكان لنا في المنار جولات تفصيلية في بيان ذلك أسبابًا ومسببات، وعللاً ومعلولات، ونتائج لمقدمات، مؤلفة من اليقينيات أو المسلمات. ولما كان أصل الداء، والمانع من قبول كل علاج له ودواء هو التقليد الأصم الأعمى للكتب المؤلفة لا للأئمة، بدأنا تلك الحملات والجولات بتك المحاورات التفصيلية التي نشرناها في المجلد الثالث وما بعده تحت عنوان: (محاورات المصلح المقلد) ، وعرضناها للنقد فلم يرجع إلينا أحد في تفنيدها قولاً، ولم يكتب لنا أحد في نقدها فصلاً، بل حازت القبول فطبعت وحدها مرة بعد أخرى. ثم كان من أوسع ما كتبناه في هذه الموضوع تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) إلخ، والفصل الاستطرادي الذي جعلناه علاوة لتفسير الآيتين الكريمتين، فالقارئ لذلك يرى فيه من الآيات المنزلة والأحاديث الصحيحة، ومن مدارك أساطين علماء الملة وأئمتها من الأولين والآخرين، ما هو حجة على الجامدين من المقلدين، وعلى الملاحدة والزنادقة المعطلين، وعلى المحرفين والمسرفين من المستقلين، كما أنه برهان مبين لدعاة الإصلاح المعتدلين، ولا يزال هؤلاء هم الأقلين {ثُلَّةٌ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ} (الواقعة: 13- 14) و {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) . كنا نعد فرق المسلمين الذين يتنازعون أمر الأمة في هذا العصر ثلاثًا: (الأولى) : حماة تقليد الكتب المدونة في المذاهب المتبعة من سنة وشيعة زيدية وشيعة إمامية وإباضية. وحجتهم أن علوم الشريعة المودعة في الكتاب والسنة إجمالاً وتفصيلاً قد انحصرت فيها، فمن لم يأخذ بمذهب منها فليس على ملة الإسلام، دع ما يرجح به كل منهم مذهبه على غيره. (الثانية) : دعاة الحضارة العصرية، والنظم المدنية، والقوانين الوضعية، الذين يقولون: إن هذه الشريعة الإسلامية المدونة لا تصلح لهذا الزمان، ولا يمكن أن تصلح بها حكومة، ولا تستقيم بها مصالح أمة. فيجب تركها، واستبدال قوانين الإفرنج بها، أو استقلال كل قوم أو شعب من المسلمين كغيرهم بتشريع جديد يوافق مصالحهم، وإلا كانوا من الهالكين، ومن هؤلاء من يرى من مصلحة قومه وبلاده المحافظة على مهمات شعائر الإسلام، وما لا ينافي المدنية من خصائصه الاجتماعية والأدبية، ومنهم من لا يرى وجوب ذلك، وهم درجات أو دركات في هذه المسائل، منهم المسلم المتأول، والزنديق المجاهر أو المستكتم. (الثالثة) : دعاة الإصلاح الإسلامي المعتدلين الذين يثبتون أنه يمكن إحياء الإسلام، وتجديد هدايته الصحيحة باتباع الكتاب والسنة الصحيحة وهدي السلف الصالح، والاستعانة بعلوم أئمة المذاهب كلها بدون التزام شيء معين من كتب الفقه والكلام المذهبية التي جمد عليها الفريق الأول، وأنه يمكن الجمع بينه وبين أشرف أساليب الحضارة والنظام وهو ما ينشده الفريق الثاني، بل يرى هؤلاء أن ما يدعون إليه - وهو أقدم هداية الدين وأحدث وسائل الحضارة والقوة - صديقان يتفقان ولا يختلفان، وإن كلا منهما يزيد الآخر قوة وشرفًا، فدين العصر الأول للإسلام ينفي خبث المدنية المادية الحاضرة، وينقي قلوب أهلها من الرجس، وينقذهم من فوضى الحرية البلشفية، وأخطار الفلسفة المادية، ويزكي أنفسهم من الظلم والفسوق والعصيان. كما أن علومها وفنونها الصحيحة تظهر من إعجاز القرآن، ومن آيات الله في الأكوان ما يكمل به الإيمان، ويوجه قوى هذه العلوم إلى العمران، وإصلاح نوع الإنسان. ثم تولد من بين هذه الفرق أناس مذبذبون بين كل منها. لا إلى هؤلاء إن نسبوهم ... وجدوهم ولا إلى هؤلاء يذمون التقليد ويدعون الاجتهاد، ويزعمون أنهم من دعاة الإصلاح وما هم إلا دعاة فساد. ولكنهم متقنعون بما أوتوا، راضون بما أتوا {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 11-12) . أولئك الذين يدعون الاستقلال في علم الكتاب والسنة، والاجتهاد المطلق في أحكام الشريعة، وهم لم يعدوا لذلك عدته، ولا سلكوا لاحِبَ طريقته، لم يحفظوا القدر الكافي من مفردات اللغة العربية، ولم يطبعوا على سليقة البلاغة المضرية، ولم تستحكم لهم ملكة البيان بالتمرس والصناعة، ولا حذقوا قواعد الأصول، ولا مرنوا على مدارك الفروع، ولا جمعوا بين حفظ النصوص وقوة استحضارها عند عروض الحاجة إليها، وإنما قصارى أحدهم أن يقرأ تفسير آية أو شرح حديث فيعجبه ما فهم منه، ويغتر بما عساه يخطر بباله أنه انفرد به، مما شأنه أن يقع للعامي والخاصي، وأن يكون تارة صوابًا وتارة خطأ، ومن شاء منهم أن ينصف نفسه بامتحانها في دعواها، فليكتب كتابًا أو رسالة طويلة في بعض المباحث الاجتهادية التي يظن أنه انفرد بها، من غير أن يراجع فيها الكتب وينقل عن العلماء، ثم لينشرها على أهل العلم، ولو كانوا ممن لا يدعون دعواه، ويعرضها على نقدهم ثم لينظر قيمتها بعد نقدهم إياها، على أن الصواب في مسألة واحدة من هذا القبيل أو مسائل معدودة لا يدل على ملكة الاجتهاد المطلق، فالاجتهاد يتجزأ. من هؤلاء الأدعياء في العلم، المغرورين بالفهم، من هم أشد إحالة ليسر الشريعة إلى العسر، وسعتها إلى الحرج من مقلدة كتب الفقهاء وغيرهم، ومن هم أجرأ على شرع ما لم يأذن به الله، وعلى القول على الله ما لا يعلمون، هذا حلال وهذا حرام، وهذا كفر وهذا إيمان، هذا بدعة وتلك سنة. وهم في كل ذلك مفترون على الله، وشارعون لما لم يأذن به الله، وما أسهل ذلك على الغلاة في الدين , ولا سيما تحريم ما حرموا من زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وما جهلوا من العلوم والفنون والصناعات التي عليها مدار سيادة الأمة وتعايش الخلق. ومنهم من يتعدى حدود اليسر إلى ما هو أدنى إلى الإباحة المطلقة، ويتأول النصوص بما تتبرأ به مفردات اللغة وأساليبها، حتى يكون كزنادقة الباطنية أو أشد تحريفًا وتبديلاً، ومن هؤلاء من لا يحتج إلا بما يفهمه هو من نصوص القرآن، فيرد الأخبار النبوية كلها، ومنهم من يرد ما لا يعجبه منها، ويستدل على ذلك بأن معناها غير صحيح (عنده) ، فلا يمكن إذًا أن يكون النبي (صلى الله عليه وسلم) قاله. وتجد على الطرف المقابل لهؤلاء ممن يدعون مذهب السلف، وينظمون أنفسهم في سلك أهل الحديث؛ أناسًا يأخذون بظواهر كل ما رواه الرواة من الأخبار والآثار الموقوفة والمرفوعة أو التي لم توصف بأنها موضوعة أو مصنوعة، وإن كانت شاذة أو منكرة أو غريبة المتن، أو من الإسرائليات مثل كعب ووهب، أو معارضة بالقطعيات التي لا يعرفونها من نصوص الشرع، أو مدركات الحس، ويقينيات العقل، ويكفرون أو يفسقون من أنكرها أو خالفها. فالجامدون على تقليد ظواهر كتب الفقه والكلام؛ كالجامدين على ظواهر كتب الأخبار والآثار، كل منهما فتنة منفر للواقفين على علوم هذا العصر عن الإسلام؛ لأنه يتوقف عند كل منهما على ما ليس

كتاب آخر جوابي من سعد زغلول

الكاتب: سعد زغلول

_ كتاب آخر جوابي من سعد زغلول إلى شيخه ومربيه الأستاذ الإمام عقب نفيه إلى بيروت في إثر الحوادث العرابية مولاي الأفضل، ووالدي الأكمل، أحسن الله مآبه. أكتب إلى السيد الأستاذ بعد تقبيل يده الشريفة عن شكر مزيد لمكارمه التي لم يمنع من تواترها على صنائعه تباعد الديار، ولا تنائي البلدان، معترفًا بالعجز عن وفاء واجب الحمد، مع الاعتقاد بأن هذا لا يثنيه عن المكرمات يوليها، والمبرات يسديها، فما يفعل الخير التماس الثناء، ولا يصدر البر ابتغاء الجزاء، إنما يحسن محبة في الإحسان، ويبر شفقة بالإنسان. تفضل - أدام الله فضله - على خريج حكمه، الناشيء في نعمه، بكتاب هو المحكم آياته، المعجز دلالته، الشافي لما في الصدور، الكاشف لحقائق الأمور، الهادي إلى سبيل الرشد وإلى صراط مستقيم فسر لمرآه، سرور العليل بالشفاء وافاه، وتلاه متدبرًا دقيق معناه مكررًا رقيق مبناه، فازداد إيمانًا بفضل مولاه، ويقينًا بحكمة من أوحاه، وشكر الله على صحة من أهداه، دامت نامية وارفة الظلال. وتكرم - أبقى الله كرمه - ببيان بعض أسماء الكملة الكرام الذين دارسوه فصولاً من المروءة وأبوابًا من النجدة، وما لهم من كمال الفضل، وما فيهم من تمام العقل فرسمنا أسماءهم على صفحات القلوب، وحفظنا أمثلة فضائلهم في الصدور، وتشوقنا لأن تتشرف أبصارنا برؤياهم، كما تحلت بصائرنا بمعرفة أعلامهم ومزاياهم، وما يحتاج في إقناع النفوس بضعف تلك الحجة، وإن كانت تمكنت في الأذهان إلى قوة البيان، فمعرفتهم بمقام فضله، ومقدار حكمته ونبله، كافية بذاتها في الدلالة على نزاهة نفوسهم، وطهارة قلوبهم وغزارة فضلهم، وسمو عقولهم، ورجاحة هممهم، وسجاحة شيمهم، وفي توجيه ما ثبت من الفساد في أخلاق غيرهم إلى أسباب أخرى؛ نود أن يبينها الأستاذ الجليل في كتاب مخصوص إذا وجد من الوقت مساعدًا، إنما نحتاج إلى قوة البيان في هذا الموضع؛ لنتبين كيف يكون تدارس المروءة بين الأفاضل، وتداول النجدة بين الكرام الأماثل، فما رأيتنا [1] من قبل لدينا إلا فاضلاً كريمًا يدرس الفضائل بين من لا يعرفون للفضل مقدارًا، ولا يفقهون للكرامة اعتبارًا. ولقد زادني ميلاً في السفر، وبغضًا في الحضر، ما جاء في وصف أولئك الأماجد ذوي النفوس الزكية، والمحامد العلية، وما تلاه من بيان حقيقة غوازي الأمم، ساقطي الهمم، سافلي القيم، جاهلي مقادير النعم، غير أني عدلت عن داعية هذا الميل امتثالاً للأمر، وفي النفس حسرات لا يقاومها صبر، وبها إلى السفر أشواق لا يتناولها حصر. وأحسن - خلد الله إحسانه - على صنيع آدابه، اليتيم في أترابه، بحكم من مثل التي تعودها غذاء للعقل، ونورًا للفكر، فتلقاها بقلب شاكر، وتقبلها بفؤاد حامد، وحفظها في الوجدان، راجيًا من الله التوفيق إلى الأخذ بمعانيها، والهداية إلى اتباع ما فيها، آملاً من مكارم مواليها، دوام تواليها. أسفت بل خجلت مما بلغ المقام الشريف عن الشيخ عبد الكريم الفاضل [2] ثابتًا صدقه بشهادة من سئلوا من الصادقين، ولولا التحقق من سعة بال الأستاذ الكريم، ومن وثوقه بي فيما أرويه لكان الأسف مضاعفًا. إني - كما تعلمون - كثير الاجتماع بهذا الشيخ، وما سمعت منه ما يقصد به مس مقامكم الكريم، ولم يتكلم أمامي يوم أن بلغه خبر الاعتراف باليمين المعروف، إلا بما معناه الأسف والإشفاق من عاقبة هذا الاعتراف، فلعل ما بلغ المسامع الشريفة من هذا القبيل، والسامعون لشدة حرقتهم وبلوغ الأسف من فؤادهم مبلغه، انصرف خاطرهم عن رعاية مقام القول فتوجه ذهنهم إلى مفهوم الكلام الحقيقي، وطبقوا المقام على ما فهموه، ولهم العذر، فهم لم يتعودوا سماع كلام مثل هذا في جانب حضرتكم ولو مرادًا به غير حقيقة معناه، ولم يألفوا تأويل العبارات وصرفها عن ظواهرها، ولم يعرفوا عادة ذلك الشيخ في كيفية تأدية مراده، والعبارة في حد ذاتها يصعب تأويلها إلى غير المتبادر للأفهام منها كل الصعوبة على من لم يكن أزهريًا متعودًا من الشيخ سماع أفظع منها مفهومًا وأشنع تركيبًا. وكيف يتأتى له إرادة الظاهر مع علمه بكون ذلك لا يصدر إلا عن لؤم طبيعة وخراب ذمة وسفاهة عقل؟ أنسي ما أوليته من كرائم النعم، وجلائل الأمم؟ التي لا يزال متمتعًا بها متفيئًا ظلالها، وإنك لمؤرق أسفًا المحترق حزنًا المشفق عليه يوم وجدت اسمه مكتوبًا في تقارير اللئام، حتى شغلك همه عن همك، وسعيت وأنت مسجون في تنجيته من التهمة بواسطة المحامين. ما نسي كل هذا وما قدم العهد عليه حتى ينقض ولاءك، ويبتكر هجاءك، ويمس مقامك، في بيت أواه، ومنزل طالما رتع في بحبوحة نعماه. فهذه العبارة - إن صح النقل - لا يمكن أن يكون المراد بها شيئًا وراء إعلان الأسف والإشفاق، أما كونه لم يرسل خطابًا فمولاي يرى أنه من الأدلة الصادقة على كون ذلك الشيخ الفاضل صادقًا في ولائه، حريصًا على دوام تذكر أوليائه، إذ لم يدعه إلى ذلك الإتمام رغبته في المحافظة على النعمة التي غرستم أصولها، وأنميتم فروعها، ليكون على الدوام متذكرًا الحقيقية مبدئها، متصورًا صورة منشئها. أما كتاب الشيخ محمد خليل فقد علمت ما في إرسال صورته من (حسن التعليل) وكمال التلطف في التأديب، على ما جرى به عادتكم الشريفة، وقد طالعت هذه الصورة، فرأيت أنها من أقوى الأدلة على شدة ميل صاحب الأصل إلى الصدق ورغبته عن التمويه، حيث أوضح حاله صادرًا في الإيضاح عن الحق، برهانًا على شدة إخلاصه بإثبات العبارة التي نفيتها بين يدي حضرتكم في الدائرة. فإن إثباتها لا يصدر إلا عن تمام إخلاص لا يشوبه تمويه، ومن هنا يتبين لحضرتكم سلامة نيته وحسن طويته. أما عنوان الجواب، فما أداه إلى نسجه على ذلك الأسلوب إلا اعتماده على معرفتكم بكونه من الصادقين المعظمين لجنابكم الكريم، وعلى كل حال فنحن لا نستغني عن كريم عفوك، وجميل صفحك، فإن لم تعف عنا وتصفح كنا من الخاسرين. إن ظنكم فيما رأيتموه في جريدة البرهان هو الموافق للصواب، ويحق لحضرتكم السرور بما نال ولدكم [3] فهو المتربي في نعمتكم، المغترف من بحار حكمتكم، المحفوف بعنايتكم، المشمول بعين رعايتكم، البالغ ما بلغ ويبلغ من مراتب الكمال بحسن توجهاتكم، وكريم تعطفاتكم، أدامكم الله لكل خير مبدأ. رفعت تحيتكم إلى حضرات من ذكرتم أسماءهم، وأشرتم إليهم فتقبلوها بالاحترام، وهم جميعًا يقبلون يديكم، ويسلمون عليكم، وأخص منهم بالذكر منبع الصفا ومصدر الوفاء الذاكر لفضائلكم في كل حين، والدي حسين أفندي. وحضرة ولدكم الصادق في متابعتكم الشيخ عامر إسماعيل الذي امتن غاية الامتنان بما اختصصتموه به في كتابكم الشريف وحضرة الشيخ سليمان العبد والسيد أمين أفندي. ونحن جميعًا نرفع أحسن التحيات وأزكاها لحضرات الكرام الذين تشرفنا بمعرفة أسمائهم من الذين دارسوكم فصول الكرامات، ونقدم لهم واجبات الاحترام، أدامهم الله مثالاً للفضل وعنوانًا للكمال، ونسلم على حضرات أخينا الفاضل إبراهيم أفندي اللقاني وإبراهيم أفندي جاد ونجلكم الكريم وجميع من بمعيتكم حفظهم الله. أحوالنا العمومية أنتم أعلم بها منا فلا حاجة إلى بيانها. نرجو تفصيل أحوالكم وما تشتغلون به من قراءة وتأليف إذا حسن لديكم ذلك. كتب سامي لم تشهر إلى الآن في المزاد، ولا زلت مراقبًا لإشهاره. حضرة البيك صاحب الكتاب، توجه قبل ورود كتابكم إلى البلد، ولم يحضر إلى الآن. وعند العلم بحضوره أتوجه إليه وأرفع لحضرته مزيد تشكراتكم، دامت معاليكم. أفندم , في 8 جا سنة 1300. ... ... ... ... ... ... ... ... صنيعكم - سعد زغلول أرجو عدم انقطاع المراسلات , وأتمنى أن لا أحرم كل أسبوع من كتاب تطمينا للخاطر وترويحًا للفؤاد، ولمولاي في إجابة هذا الرجاء النظر العالي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سعد [3]

اقتراح إبطال الأوقاف الأهلية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اقتراح إبطال الأوقاف الأهلية ومكان الدين من الدولة المصرية في قسميها التشريعي والتنفيذي اضطربت هذه البلاد اضطرابًا عظيمًا؛ لاقتراح أحد أعضاء مجلس النواب وضع قانون تلغى به الأوقاف الأهلية، ويحرم إنشاء شيء منها في المستقبل؛ لما فيها من المفاسد الاقتصادية وغيرها، فكان الناس في هذا الاقتراح فريقين: فريقًا يود ذلك لأن في أيديهم أعيانًا من هذه الأوقاف، يريدون أن يتصرفوا فيها تصرف المالكين، فتكون لهم دون من بعدهم، ويؤيد هذا الفريق زنادقة المسلمين دعاة الإلحاد في هذه البلاد، وكل ما يحب من غير المسلمين إبطال حكومتها لكل ما بقي من التشريع الإسلامي فيها، وفريقًا لهم منافع في بقاء هذه الأوقاف على حالها، ويؤيدهم جمهور علماء الشرع، ومن يؤلمهم التعدي على التشريع الإسلامي أن يكون مباحًا للبرلمان، فيتصرف فيه برأي أكثرية أعضائه، فيكون تشريعه فوق الشرع المستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو اجتهاد أئمته، وهذه الأكثرية قد تحصل بمن لا يدينون بالإسلام من ملاحدة وكتابيين، فإن من هؤلاء الملاحدة من صرحوا - حتى في بعض جلسات النواب الرسمية - بردتهم عن الإسلام وطعنهم في القرآن؛ لأنه يخالف مدنية أوربة في إباحة تعدد الزوجات ولغير ذلك. كتب كل من الفريقين مقالات كثيرة في الجرائد، يؤيد فيها رأيه بأدلة من الشرع والقوانين والمصلحة العامة، ولا يعدم الفريق الأول شيئًا منها، فإن في هذه الأوقاف من المفاسد ما لا يجيزه شرع الله بنص صريح، ولا باجتهاد صحيح على ما فيه من المفاسد الاقتصادية، وكثر إلحاح أناس من الفريقين عليّ أن أكتب في تحقيق الحق في المسألة؛ ما يعهدون أو يعتقدون من فصل الخطاب في أمثال هذه المشكلات كمسألة الخلافة وغيرها، فكنت أقول لكل مقترح: إن لدى كل فريق صوابًا وخطأ وحقًّا وباطلاً، وضارًّا ونافعًا، وإن الأوقاف الخيرية المسكوت عنها الآن كذلك، فيها أوقاف باطلة مخالفة لأصول الشرع وفروعه، وفي التصرف فيها مثل ما في التصرف في الأوقاف الأهلية من المفاسد والمضار، وتمحيص القول في هذا الباب كله، وتحقيق الحق فيه من كل وجه لا يمكن إلا بتأليف كتاب ككتاب (الخلافة أو الإمامة العظمى) ، ولو كان البرلمان المصري والحكومة يأخذان بما يقوم عليه الدليل الأقوم، وتظهر فيه المصلحة العامة، لتركت جل أعمالي وتفرغت لذلك. ولكن لا سبيل إلى هذا ولا سبيل إلى إقناع أهل الشأن به. على أنه قد وضح من مجموع ما كتب الكاتبون أن للوقف أصلاً في الشرع الإسلامي ثابت بالنص والعمل المتواتر من العصر الأول إلى اليوم، فلا يمكن إبطاله باجتهاد مجتهد متقدم ولا متأخر، وإن سوء التصرف فيه وكون بعضه مخالفًا لمقاصد الشرع، أو ما يعبر عنه بروحه وهو مناط التشريع، وبعضه مخالفًا للنصوص أيضًا بحيلة شرعية أو بآراء فقهية؛ فهو واقع لا مراء فيه، فقلما يوجد وقف أهلي أريد به القربة ومرضاة الله تعالى التي هي الأصل فيه، وما عساه يحلي به مما صورته الخير، فمنه ما هو شر ومنه ما يحول بسوء التصرف إلى شر وفساد، ومن ذلك ما يوقف على تشييد القبور وتجصيصها أو تزيينها، ووضع المصابيح عليها وحمل الأطعمة إليها في الأعياد والمواسم المبتدعة أو المبتدع فيها وغير ذلك، قلما يوجد في شيء من ذلك شيء مشروع يرضاه الله تعالى، فالوقف عليها باطل كالوقف على بعض الوارثين لحرمان الآخرين. ولكن سوء التصرف والاستعمال ليس مقتضى للشرع في ذلك، ولا لازمًا من لوازمه، حتى يقال: إنه يجب إبطاله بإبطال مقتضيه وملزومه، فإن المبطلين والأشرار يسيئون التصرف بجميع النعم الفطرية والكسبية: يسيئون التصرف بمداركهم العقلية وبحواسهم وقواهم كلها، ويسيئون التصرف بأموالهم وبمعاملة أزواجهم وأولادهم، وبالقوانين والعلوم والفنون والصناعات، فالواجب على أنصار الحق وأهل الخير من أولي الأمر والحكم أن يمنعوا سوء التصرف بالشرائع والقوانين وبالقوى والمشاعر وبالنعم؛ ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، كما يجب على العلماء أن يبينوه للناس. *** الدين في الدولة المصرية فأول ما أنكره ويوافقني على إنكاره كل مسلم يعرف دينه ويغار عليه؛ أن هذا البرلمان المصري لا يجوز أن يعطى من حق التشريع ما ينسخ شيئًا من شرع الله الثابت بنص الكتاب أو السنة الصحيحة؛ التي جرى عليها عمل سلف الأمة أو بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وأعني ليس للقانون الأساسي أن يعطى هذا الحق؛ وهو يعترف بأن دين الحكومة الرسمي هو الإسلام. وأما ما دون ذلك من مسائل الفقه الاجتهادية: فلأولي الأمر أن يتركوا منها ما ضعف دليله، أو ضر فعله، أو كان منافيًا لمصلحة الأمة العامة، فإن مخالفة مثل هذا من اجتهاد الفقهاء لا ينافي الإسلام. وقد آن لهذه الحكومة الدستورية أن تفرق بين نصوص الإسلام القطعية من الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح؛ وبين اجتهادات أئمة الفقه الظنية، فتعلم أن الأول لا بد من الاعتراف به لمن يدين الإسلام، وأن الثاني تحكم فيه الأدلة ومنها مراعاة مصلحة الأمة، وإلا كان نص القانون الأساسي في كون دين الدولة هو الإسلام لغوًا، كما كان في قانون الجمهورية التركية. وقد ظهر بهذه المسألة مسألة ما اقترحته الحكومة من إصدار قوانين ببعض أحكام الزوجية من: نكاح وطلاق ونفقة وفسخ عقد وتطليق حاكم؛ أن بعض علماء مصر لا يرضيه من الحكومة إلا أن تتقيد بتقليد ما قرر اعتماده في كتب الفقه المشهورة في الأزهر على مذاهب الفقهاء الأربعة المشهورة، بل يوجب عليها بعض الحنفية منهم التقيد بمذهبهم وحده، وإن كان بعض المذاهب الأخرى أقوى منه دليلا ً، وأقوم مصلحة وأيسر في التعامل، وأن بعضهم يقول بوجوب النظر في أدلة الأحكام واتباع الأقوى والأصلح منها، فعلى الحكومة أن تؤلف مجلسًا شرعيًّا من الفريقين يكون من أعضائه شيخ الأزهر، والمفتي الأكبر، ورئيسا المحكمة الشرعية الكبرى والعليا، وبعض المشتغلين بالتفسير والحديث وآثار السلف وتطرح على هذا المجلس ما تحتاج إلى معرفة حكم الشرع فيه، وتعتمد ما تقوم الحجة على أنه الحق الموافق لما ثبت بنصوص الكتاب والسنة القطعية من يسر الشرع، وتقرر في نظام هذا المجلس أنها مقيدة من الإسلام بالمُجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة الذي أجمعوا على تكفير جاحده، ولا تقيد بغير ذلك من المسائل الخلافية بل تتبع فيها الأصح والأصلح. اقترح بعض النواب في مجلسهم إلغاء منصب المفتي الرسمي؛ لأجل الاقتصاد المالي، وليس راتب المفتي وكاتبه ونفقة مكتبه بالشيء الذي يعد كثيرًا على الحكومة المصرية الغنية المسرفة؛ التي يمكن إدارة جميع أعمال وزاراتها ومصالحها بنصف ما تنفقه عليها أو أقل من نصفه، وإنما الذي صار يثقل على كثير من النواب أن يكون لهذه الحكومة مظهر للشرع الإسلامي مثل مظهر المفتي الأكبر، ما أشد جهل هؤلاء المسلمين الجغرافيين بطبائع المال ونظام الاجتماع، كنا ألفنا لجنة في حزب الاتحاد السوري؛ لتضع مشروع قانون أساسي لسورية، واخترنا لرياستها إسكندر بك عمون المحامي الشهير؛ لأنه أعلم الأعضاء بالحقوق والقوانين، فقال: أنا لا أقبل رياسة لجنة كهذه وفيها السيد رشيد؛ وهو أعلمنا بالشريعة الإسلامية التي يجب علينا الاستمداد منها في هذا القانون؛ لأن أكثر أهالي البلاد من المسلمين. إننا نرى كثيرًا من المسلمين، ينشرون في بعض الصحف مقالات، يقيمون بها الحجة على الحكومة المصرية بمخالفة نصوص الدين الإسلامي القطعية في أحكام وأعمال بعض وزاراتها ومصالحها ولا سيما وزارتي المعارف والحقانية، وهو الدين الرسمي لها بنص القانون الأساسي، ومن أفظع هذه المخالفة بل الجناية على الأمة فيها إباحة الطعن في الإسلام في الجامعة المصرية، وإفساد عقائد النابتة ووجدانها وآدابها النفسية بالإلحاد والإباحة، فيجب على الحكومة أن تتنصل من هذه المطاعن بما ذكرنا؛ ليعلم رجالها وجمهور الأمة بما هو دين لا مندوحة عن الإيمان به واحترامه، وما هو محل نزاع واجتهاد لا يكلفه إلا من ثبت عنده. إني أوافق الذين يعتقدون من رجال الحكومة وغيرهم أنه ليس من الميسور لها أن تدير نظام حكومة مدنية في هذا العصر، مع التزام مذهب الحنفية أو الشافعية مثلاً، ولا سيما المذهب التقليدي الذي يوجبه المقلدون من أهل الأزهر وغيرهم من كتبهم، وأقول مع هذا: إن الله لم يوجب على فرد ولا حكومة التزام تقليد كتب مذهب من المذاهب، بل أبطل ذلك في محكم كتابه، ومن يدعي وجوب هذا التقليد لتحقيق الأخذ بالإسلام، فهو أجنى على الإسلام ممن يرده وينكره، فقد كان الإسلام على أكمله في الزمن الذي لم يكن فيه من هذه الكتب شيء، على أن في هذه الكتب شيئًا كثيرًا تحتاج إليه الأمة، ولكن يكفي في ثبوت الإسلام ما أجمع عليه أهل الصدر الأول من الدين؛ ومنه نصوص الكتاب والسنة القطعية الرواية والدلالة، وما عداه فهو محل للاجتهاد، ومن أصول الإسلام فيه مراعاة مصلحة الأمة العامة في جميع المعاملات السياسية والقضائية والإدارية، وإنه لا يكلف أحد أن يدين الله باتباع أحد من الفقهاء فيه إلا ما صدر به حكم حاكم شرعي، فيجب اتباعه إقامة للنظام العام.

المسألة السورية بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المسألة السورية بمصر كتبنا في جزء سابق كلمة وجيزة؛ فيما وقع من الخلاف بين أعضاء اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني وبين رئيسها السابق الذي اقتضى أن تقرر اللجنة إلغاء الرياسة الشخصية الدائمة لها، وذكرنا أن بعض الفضلاء يسعون للصلح بين الأعضاء، والرئيس السابق الذي ألف لجنة جديدة تعترف له برياسته الملغاة، ليس فيها أحد من أعضاء اللجنة القانونية إلا واحد مستخدم عنده براتب شهري، ونذكر الآن بالإيجاز أن الساعين بالصلح قد فشلوا، وظهر لهم ولغيرهم أن سبب الخلاف الذي شجر؛ هو ما ثبت من أن الرئيس السابق يسعى مع أخويه لاستغلال القضية السورية وثورتها لدى فرنسة، بزعمه أنه يمكنه بنفوذ اللجنة إخضاع البلاد كلها لفرنسة بالشروط التي يتفق هو معها عليها سرًّا، وينفذها باسم اللجنة جهرًا، وقد صرحت الجرائد الفرنسية حتى الطان منها: بأن أولاد لطف الله معترفون بالانتداب ويسعون للاتفاق مع فرنسا خلافًا لرشيد رضا وأسعد داغر من الأعضاء المتطرفين الذين يسعون للاستقلال العربي، وأن لطف الله وجد قوة جديدة ترجح على هؤلاءالمتطرفين بمشايعة الدكتور عبد الرحمن شاهبندر له، واشتغاله معه في خدمته السياسة الفرنسية. كانت حجة طلاب الصلح علينا؛ أن اتفاق ميشيل وشاهبندر يحدث مضار كثيرة في القضية السورية، يزيد شرها على قبولنا لرياسة ميشيل للجنة مع حفظ الأكثرية فيها، واشتراط جعل الرياسة صورية بسلب الرئيس حق تمثيل اللجنة في الخارج والكلام باسمها إلخ، ما قالوا: إنه قد قبله، وقبل أن يوضع في النظام الداخلي. وقد حدث بعد العلم بتعذر الاتفاق أن الهيئات السورية في داخل البلاد وخارجها وفي مقدمتها سلطان باشا الأطرش والأمير عادل أرسلان وسائر جماعة المرابطين في الصحراء، كلها أيدت إلغاء اللجنة للرياسة الذي اقتضى خروج رئيسها السابق من جماعتها، وأصبح تأليفه للجنة أخرى عبثًا وسدى، ثم إن الحزب الوطني في الأرجنتين قد ألغى تمثيل الدكتور شهبندر له في اللجنة كما فعل الحزب الوطني في شيلي، والجمعية السورية الوطنية في الولايات المتحدة بإلغاء تمثيل توفيق أفندي اليازجي، فلم يبق للجنة الجديدة وجود يصح أن يستند إلى مؤتمر جنيف، ولا حزب يمكن أن تتوكأ عليه، ولا عصبية في الوطن ولا في المهاجر يمكن أن يتقرب رئيسها إلى فرنسة بها، والمال وحده لا يفعل ذلك، وقد راينا منتهى ما عمل، فإذا هو ضعف وعجز وخذلان. رأينا وعلمنا أن بعض الجرائد السورية الساقطة، تنشر لهم بالأجور الكبيرة مقالات في إطراء أنفسهم بما يهوون من ألقاب الرياسة والزعامة ‍! والطعن في خصومهم بألفاظ البذاء والسفاهة حتى لقب الكلاب. وتنزهت الجرائد المصرية المحترمة عن نشر شيء من ذلك لهم، وعهد التضليل لا يطول في هذه المسالة، فسيعلم من لم يعلم من الشعب السوري من يخدمه ويخدم وطنه، ومن يستغلهما ويتجر بهما. ولكن الذي بدا لنا من حيث لم نحتسب، أن يخيب الأمير ميشيل وشقيقه آمالنا في آدابهما الشخصية برضاهما من مستخدميهما أن يكتبوا تلك المقالات الحمقاء المشتملة على التبجح الدنيء؛ بذكر موائد سراي لطف الله وإهانة ضويفهم الآكلين عليها وضيوف القوم أمثالهم أو أكبر؛ ومن أحقر ذلك وأمسه بكرامتهم زعمهم أن فلانًا وفلانًا بايعا جورج لطف الله بإمارة لبنان عقب غداء ثقيل. ألا يفهم هؤلاء أن هذه مسألة لا تذكر إلا مداعبة ومزاحًا أو سخرية واستهزاء؛ لأن الإمارة في مثل سورية ولبنان لا تكون بمبايعة أحد من أهلهما ولا سيما في خارجهما وهما تحت سلطة أجنبية، فلا يكون الحديث فيها من الجد في شيء. إننا عاشرنا ميشيل وجورج بضع سنين، لم نر فيها منهما إلا الأدب العالي في القول والعمل؛ ولذلك كنا مغتبطين بمعاشرتها، وقد قال لي الأمير ميشيل عقب قرار 19 أكتوبر: إن اختلافنا في السياسة لا يمنع الصداقة الشخصية بيننا، فإن مثل هذا معهود بين الأصدقاء في أوربة وغيرها، وقلت له أخيرًا عندما اجتمعنا باقتراحه؛ لبحث في مسألة الصلح إنه لا يليق بآدابكم الشخصية استئجار السفهاء البذاء، والطعن واستئجار الجرائد لنشرها ثم توزيعها من مكتب لجنتكم، ولا تظنوا أن معرته لا تلحقكم فقد قال الشاعر: ومن يربط الكلب العقور ببابه ... فكل أذاة الناس من رابط الكلب فأطرق ولم يعتذر، وقد ذكرت له أنني أحتقر الشتامين وجرائدهم فلا أقرأها؛ ولذلك أرد لمكتبه السياسي بشارع عابدين جميع الجرائد التي يرسلها بغلافها وطابع البريد عليها كما هو، ولولا أنه كان مما نشروه في منشوراتهم وجرائدهم المأجورة للكذب؛ أننا قبلنا أن يكون من قواعد الصلح إعادة رياسة الجنة كما كانت، وسكتوا عن القيود التي جعلنا الرياسة معها سدى لما نشرت هذه الكلمة هنا، وقد كان أخسر الناس بما حصل عاشق الرياسة وعاشق الزعامة؛ إذ خسراهما وخسرا ما كان من حسن ظن الأمة بهما (والعاقبة للمتقين) .

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار نظرية النصارى في خطيئة آدم الطعن في حديث البخاري س 10و 11 لصاحب الإمضاء حضرة صاحب الفضيلة والإجلال؛ شيخ الإسلام ومفتي الأنام مولانا الأستاذ الإمام السيد رشيد رضا نفع الله المسلمين به. السلام عليكم ورحمة الله (أما بعد) : فإن اعتقادي ومذهبي واعتقاد الكثيرين من الذين اطلعوا وقرءوا مؤلفات فضيلتكم في الكتب والصحف: أن فضيلتكم أكبر عالم بحقيقة روح الإسلام ومقاصده السامية، وأعلم المدافعين عنه الذابين عن بيضته، فنسأل المولى جل ثناؤه أن ينسأ في عمركم، ويمتعكم بالصحة والهناء. رحمةً منه تعالى بالمسلمين إنه سميع مجيب. اللهم آمين. أحيط علم سيادتكم أنه ضمني وبعض المبشرين مجلس، فتباحثنا في الدين ونتج من هذا البحث؛ أن أسأل سيادتكم هذين السؤالين، وأرجو أن تتفضلوا وتتكرموا بالجواب عنهما في المنار الأغر المحبوب. أولاً - يقول المبشر: إن خطيئة آدم صلى الله عليه وسلم بأكله من الشجرة التي نهي عن الأكل منها، صارت عالقة بذريته جميعهم لم يخل منها أحد؛ مهما عمل صالحًا وتاب من ذنوبه؛ لذلك جاء المسيح وصلب، وبصلبه كفر عن خطيئة من آمن به (أي المسيح) من ذرية آدم، ومن لم يؤمن بالمسيح أنه مات فداء عنه، لم يزل خاطئًا بالوراثة من آدم، مهما عبد الله أو تاب من ذنوبه؛ لأنه بدون سفك دم (كذا) لم تكفر خطيئته، وأن المسلمين لحد الآن يضحون عن أنفسهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى عن نفسه، وقال ما معناه: اللهم اغفر لي ذنوبي، واجعل هذه الضحية فداء عني. فما هو اعتقاد المسلم في ذلك، وهل حقيقة خطيئة سيدنا آدم عالقة بذريته لا يمكن أن تغفر أبدًا أم لا علاقة بين خطيئة آدم صلى الله عليه وسلم وذريته؟ أرجو الجواب. ثانيًا - تقول العلماء: إن أصح كتب الحديث صحيح البخاري رضي الله عنه، ويليه صحيح مسلم رضي الله عنه إلخ، فهل إذا أنكر أحد من المسلمين حديثًا في صحيح البخاري يعد طاعنًا في الدين الإسلامي؟ مع العلم أن الأحاديث دونت في الكتب بعد زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم بمدة مديدة، وأن البخاري رفض أكثر من ستمائة ألف حديث، بل قال أحد نقاد الأحاديث: إن في صحيح البخاري نفسه أحاديث موضوعة مثل (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) يعنى من الدم، ذكر في (كتاب اللؤلؤ المرصوع فيما لا أصل له أو بأصله موضوع) . أرجو الجواب أثابكم الله تعالى ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص المتعاني في حبكم ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز نصحي عبد المجيد ... ... ... ... أمين مخزن الجمية الزراعية الملكية بأشمون ... (جواب المنار) أقول ما ذكر السائل من المبالغة في الثناء والتفضيل، فليس مما يثبت في نفسه بما ذكره من دليل، وأما دعاؤه فأسأله تعالى أن ينفعني به ويجزيه عني خيرًا وأما السؤالان: فأجيب عنهما بالاختصار؛ لما سبق لنا في موضوعهما من تفصيل. *** عقيدة النصارى في خطيئة آدم وفداء المسيح اعلم أولاً أن هؤلاء الدعاة للنصرانية الملقبين بالمبشرين جيش من جيوش الدول الغربية؛ لفتح البلاد الشرقية ولاسيما الإسلامية كما قال لورد سالسبوري الوزير الإنكليزي الشهير: (إن مدارس المبشرين أول خطوات الاستعمار، فأول ما يحدثونه في البلاد التي ينشرونها فيها تفريق الكلمة، وإيقاع الشقاق بين الشعب الواحد حتى ينقسم على نفسه، ويكون بعضه لبعض عدوًا) . هذا، وإن الله تعالى قد أكمل دينه الذي أرسل به جميع رسله بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لو كان موسى وعيسى وغيرهما من الرسل أحياء، لما وسعهم إلا اتباعه صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لمسلم أن يقرأ شيئًا من كتب هؤلاء المبشرين، ولا أن يضيع وقته بمجادلتهم؛ لأنهم بجملتهم جند مستأجر؛ للإفساد في الأرض كما علمنا بالاختبار، وإن شذ بعض الأفراد. ثم اعلم أن عقيدة كون المسيح جاء ليفتدي البشر من خطيئة آدم؛ هي عقيدة وثنية قديمة كما هو مفصل في كتاب (العقائد الوثنية في الديانة النصرانية) ، ومثلها عقيدة التثليث، وأن مستقلي الفكر من علماء النصارى في أوربة وغيرها، لا يعتقدون هذا ولا ذاك، ولا ما يتعلق بهما من البدع كالعشاء الرباني، وتحويل الخبز إلى لحم المسيح والخمر إلى دمه حقيقة بمجرد القداس الذي يتلوه الكاهن أو بدونه؛ لأن كل ذلك مخالف لبداهة العقل ومدارك الحس جميعًا، ومخل بعظمة الله وتنزيهه عن الظلم والحلول في أجساد خلقه، فبعض أحرارهم فند هذه العقائد الخرافية بكتب كثيرة، وبعضهم يسكت للجمهور عليها؛ لئلا تكون معرفة العوام ببطلانها سببًا لمروقهم من الدين، واستباحتهم لجميع الرذائل والمعاصي المفسدة للعمران. أذكر أنه كان لهؤلاء المبشرين مدرسة في باب الخلق، فبينما كنت مارًّا من أمامها منذ 29 سنة، قال لي رجل منهم: تفضل واسمع كلام الله، فدخلت، فإذا بخطيب يقرر لهم عقيدة الصلب والفداء، فلما أتم كلامه قمت بجانبه، وقلت له: اسمح لي أن أعيد عليك ما فهمته منك؛ لتعلم هل كان فهمي صحيحًا كما أردت أم لا؟ فأذن، فقلت: ملخص كلامك: أن الله تعالى وقع في مشكل عظيم بعد خلقه لآدم وعصيان آدم له؛ وهو أنه لما كان سبحانه رحيمًا كامل الرحمة، وعادلاً كامل العدل، رأى أنه إذا عاقب آدم لا يكون رحيمًا، وإذا عفا عنه لا يكون عادلاً، فظل يتفكر في استنباط وسيلة للجمع بين العدل والرحمة، حتى اهتدى إليها بعد ألوف من السنين وذلك في السنة التي ولد فيها المسيح، وهذه الوسيلة هي أن يعذب المسيح المعصوم من كل ذنب بعذاب الصلب، وقبول اللعن، ودخول الجحيم - المسجلين في الكتاب على كل من يصلب - لأجل إنقاذ آدم وذريته من عذاب تلك الخطيئة التي لحقت بهم كلهم على دعواكم، وبذلك جمع بين العدل الرحمة. ولكنني رأيت أن الظاهر المتبادر من هذه الحكاية؛ أن الرب سبحانه وتعالى قد فقد كلاً من العدل والرحمة بتعذيبه للبريء وعفوه عن المذنب بل عن الملايين من المذنبين، فضلاً عما يلحقهم من خطيئة آدم على زعمكم. ثم إنه مع هذا لم يتم للرب تعالى عما تقولون ما أراد من الرحمة ببني آدم؛ لأنكم تقولون: إنه لا ينال نعمة النجاة من العذاب بهذا الفداء إلا من صدق، هذه الحكاية غير المعقولة وغير اللائقة بجلال الرب وعظمته وتنزهه عن كل نقص، ومن المعلوم عندنا بالضرورة أن أكثر بني آدم لم يصدقوها، فإذًا لا بد أن يعذبهم الله بذنب آدم، حتى من كان منهم لم يعص الله تعالى قط، فهل تدعوننا لأن ننسب كل هذا الجهل والحيرة والفشل إلى الله تعالى الكامل المنزه عن كل نقص؟ فصاح المسلمون الحاضرون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقال القس المبشر: جوابي أننا غير مأمورين هنا بأن نجادل أحدًا، ولكن لنا مكتبا مفتوحًا؛ لأجل الجدال، فإذا زرتنا فيه نجيبك عن كل ما ذكرته، قلت: إننى على علم برهاني فيما أقول وأعتقد، فلست بمحتاج إلى جوابكم عن شيء. ولكن كيف تلقنون الناس ما يفسد عليهم إيمانهم بتنزيه الله وتعظيمه، وتتركونهم في ضلالهم يعمهون إن صدقوكم؟ وإذا أراد السائل الفاضل أن يعرف فساد هذه العقيدة بالأدلة التفصيلية، فليقرأ تفسير قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} (النساء: 157) .. إلخ من أواخر سورة النساء في الجزء السادس من تفسيرنا، أو رسالة (عقيدة الصلب والفداء) المستخرجة من هذا التفسير وهي مطبوعة على حدتها مع رسالة (نظريتي في قصة الصلب) للمرحوم الطبيب محمد توفيق صدقي، ففيهما يجد القارئ ما لا يجده في الأسفار الكبار المؤلفة في الرد على النصارى مؤيدة بالحجج من كتبهم وكتب أحرار علماء أوربا. وأما سفك الدم في الأضاحي وأمثالها، فلم يشرع في الإسلام لمثل هذه الخرافات الوثنية، وإنما شرع شكرًا لنعم الله تعالى علينا بهذه الأنعام بالتمتع بها مع حمده وشكره وإطعام المحتاجين منها، وقد قال عز وجل فيها: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) ، فاقرأ الآية وما قبلها، تجده صريحًا في ذلك، وقد فصلناه من قبل. وأما ما ذكره المبشر من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند التضحية كذا فهو كذب؛ يريد به إثبات الفداء في الإسلام بالمعنى الوثني الذي يقولون به. *** أحاديث البخاري وحكم من أنكر شيئًا منها لا شك في أن أحاديث الجامع الصحيح للبخاري في جملتها أصح في صناعة الحديث، وتحري الصحيح من كل ما جمع في الدفاتر من كتب الحديث، ويليه في ذلك صحيح مسلم، ومما لا شك فيه أيضًا أنه يوجد في غيرهما من دواوين السنة أحاديث أصح من بعض ما فيهما، وما روي من رفض البخاري وغيره لمئات الألوف من الأحاديث التي كانت تروى يؤيد ذلك، فإنما نفوا ما نفوا لينتقوا الصحاح الثابتة. ودعوى وجود أحاديث موضوعة في أحاديث البخاري المسندة بالمعنى الذي عرفوا به الموضوع في علم الرواية ممنوعة، لا يسهل على أحد إثباتها. ولكنه لا يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر، قد يصدق عليه بعض ما عدوه من علامة الوضع؛ كحديث سحر بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنكره بعض العلماء كالإمام الجصاص من المفسرين المتقدمين، والأستاذ الإمام من المتأخرين؛ لأنه معارض بقوله تعالى: {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الفرقان: 8-9) وقد أجاب الجمهور عن ذلك بما كانوا يرونه مقبولاً، لا يمس مقام الرسول صلى الله عليه وسلم وعصمته. ويغنيكم عن التفصيل في هذا المقام ما فصلنا فيه في باب الفتاوى من الجزء الماضي. هذا، وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات، والغرائز ليست من أصول الدين ولا فروعه، كما بيناه في تلك الفتوى. فإذا تأملتم هذا وذاك، علمتم أنه ليست من أصول الإيمان ولا من أركان الإسلام؛ أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري مهما يكن موضوعه، بل لم يشترط أحد في صحة الإسلام ولا في معرفته التفصيلية الاطلاع على صحيح البخاري والإقرار بكل ما فيه، وعلمتم أيضًا أن المسلم لا يمكن أن ينكر حديثًا من هذه الأحاديث بعد العلم به إلا بدليل يقوم عنده على عدم صحته متنًا أو سندًا، فالعلماء الذين أنكروا صحة بعض تلك الأحاديث، لم ينكروها إلا بأدلة قامت عندهم قد يكون بعضها صوابًا وبعضها خطأ، ولا يعد أحدهم طاعنًا في دين الإسلام. وأما حديث (تعاد الصلاة من قدر الدرهم) يعني من الدم، فالذي في اللؤلؤ المرصوع - نقلاً عن النووي - أن البخاري ذكره في تاريخه لا أنه رواه في صحيحه، وما يدريك أنه ذكره في ترجمة أحد الوضاعين، واستشهد به على أنه يروي الموضوعات. وأما قول السائل: إن البخاري رفض أكثر من ستمائة ألف حديث فهو خطأ، أخذه من قوله رحمه الله تعالى: (صنفت الجامع الصحيح من ستمائة ألف حديث في ست عشرة سنة، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى) ولم تكن بقية هذه الستمائة موضوعات عنده، بل كان منها الصحيح والحسن والضعيف، ولم يكن يثبت في الجامع الصحيح كل ما صح عنده، بل كان من عنايته في أحاديثه فيه اشتراط العلم باجتماع كل راو بمن روى عنه؛ لأجل الثقة بسماعه منه، ولم يكن كل ما ذكره فيه على هذا الشرط بل الأحاديث المسندة بالأسانيد المتصلة، وكان الذي يحفظه أكثر من ذلك، قال بعضهم: كان يحفظ ألف أ

بحث في الطبيعة النشأة الأولى

الكاتب: طبيعي

_ بحث في الطبيعة النشأة الأولى [*] إذا أراد الإنسان أن ينظر في نفسه وما حوله؛ ليتأمل في الوجود ونشأته، وما في الطبيعة من مخلوفات، يرى نفسه قد خلق من نطفة، وأصله أبونا آدم عليه السلام، وقد خلق من تراب، يرى في السماء والأرض وما بينهما مخلوقات كثيرة الأنواع سائرة في حياتها بنظام متحد، والبعض منها له مواعيد منتظمة، وكل نوع من هذه المخلوقات كالإنسان والحيوان والنبات والجماد إلخ خلقت بشكل منتظم، وصنع دقيق؛ يزعم بعض الطبيعيين أن هذه الطبيعة وُجدت من تلقاء نفسها أو من لا شيء، ونسائلهم: هل نظامها وجد معها أيضًا في كل نوع من المخلوقات؟ وإذا حدث ما يخل بنظام شيء منها، كيف يعاد نظام سيرها؟ لو صح زعمهم لما أمكن سير الطبيعة في نظامها سنين طويلة، ولرأينا منها اعوجاجًا واختلافًا كثيرًا من حين لآخر؛ إذ أمد من حاد منها عن نظام سيرها لا يهتدي لطريقه، ولضل عنه واضطرب في سيره. بل الحقيقة أن المخلوقات التي نشاهدها في الطبيعة على اختلاف أنواعها، خلقت بدقة ونظام، وهي تحيا حياة منتظمة مما يدل على أن نظامها هذا سائر بقوة كبيرة جدًا تديره بعناية تامة ولا تفتر عنه لحظة واحدة، وهذا القدرة العظيمة لا تراها العيون، ولا تدركها العقول. وإذا رجع الإنسان إلى تاريخ أصله، يجد بالكتب السماوية قصة آدم من وقت نشأته، ومنها يعرف أن الذي أنشاه وصوره في أحسن صورة إله عظيم الشأن، هو صاحب هذه القوة العظيمة، وهو الخالق لهذا الكون الكبير وما فيه من مخلوقات. عاش آدم في الأرض، وعلّم بنيه بما علم، وعرفهم ربهم لعبادته وتكاثر النسل جيلاً بعد جيل، حتى صارت الذرية قبائل وشعوبًا في أنحاء الأرض، وبعضًا منهم أغواهم الشيطان وأضلهم، فبغوا وطغوا وازدادوا في الأرض فسادًا، ولقد اتخذ بعض المضلين منهم آلهة من دون الله، وهم لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، فأنذرهم ربهم وحذرهم بأن أرسل لهم رسلاً مبشرين ومنذرين، يرشدونهم للطريق القويم، ويأمرونهم بالإيمان بالله الذي خلقهم وخلق هذه الكائنات، واتباع أوامره، ومن عهد آدم للآن أرسل الله تعالى الرسل للناس في أوقات مختلفة، وأنذرهم بالإيمان بالله الذي خلقهم ولطاعته، فبعضهم كفروا بالله وأنكروه ولم يؤمنوا لهم استكبارًا وعنادًا، ولقد كان في الناس أمم شديدة البأس، ظلموا أنفسهم بما كفروا، فأخذهم الله بظلمهم {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (الكهف: 49) ، وصاروا عبرةً لأمم من بعدهم. بعد الذي ذكر ما على الإنسان إلا أن يؤمن بما أنزل الله تعالى من كتب على رسله الكرام من عهد آدم للآن، وعليه أن يعلم بما أمره أخيرًا بكتابه المنزل على رسوله آخر الأنبياء {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) ، وبذلك يعتبر نفسه مؤمنًا بالله وكتبه ورسله جميعًا. إن من يؤمن ببعض ما أنزل الله، ويترك البعض كالذين لا يؤمنون بالقرآن لأي سبب كان، يدل على أنه مكابر، وقد ظلم نفسه أو لم يعقل شيئًا في نظام الوجود، وليس له عذر بل عليه أن يبحث ويسأل أولي الألباب إذا كان لم يفهم ما جاء بالكتب السماوية، ولا ريب أنه تظهر له الحقيقة، أما إذا عاش جاهلاً في طريق حليته دون أن يفكر فيها، فقد جازف بنفسه في طريق الضلال دون أن يشعر، وربما تمادى في جهله وتبعه بعض الجهلاء؛ لعقيدة حسنت في نظرهم، وهو في الحقيقة كسراب اغترت به أنظارهم، وتمشت معها أفكارهم، وصاروا حزبًا من الأحزاب له مبدأ العقيدة وبرنامج الطريق. ومن هنا، اختلف الناس في عقائدهم في الأزمان الغابرة، فإذا بحثنا في مبدأ كل عقيدة على ما جاء بالكتب السماوية، وجدنا أنها أجمعت على أن الله سبحانه وتعالى إله واحد لا شريك له في ملكه، ولنترك ما قيل فيها للذين يعقلون، ولنجعل بحثنا في الطبيعة ونظام الحياة فيها، فالناس جعلهم الله تعالى قبائل وشعوبًا وولى عليهم ملوكًا وحكامًا، وزين للناس حب البنين ليكونوا لهم ورثة من بعدهم، ولا يكتفي الإنسان من الذرية بواحد أو اثنين، بل يلتمس المزيد، وكذلك الملوك يلتمسون من البنين والحفدة أكثر من واحد حفظًا لملكهم، حتى إذا خلا ملكهم من الوراث الأول شغله الثاني وهكذا؛ لكيلا يأخذه ملك غريب، أو يغتصبه قوي رقيب. علمنا أن الله تعالى إله واحد ولا شريك له في ملكه، وأنه يحيي ويميت؛ لأنه على كل شيء قدير، وهو باق لا يموت أبدًا، وكل مخلوق في هذه الحياة سيفنى بانحلال عناصر حياته أو بموته، والأرض وما عليها من ميراث ونعيم يرثها رب السموات والأرض، ثم بإذنه تعالى تحيا الناس في الآخرة حياة أبدية، وفي مبدئها يحاسبهم ربهم على حياتهم الأولى، ويفعل ما يشاء بهم حسبما بشرهم وأنذرهم في كتبه السماوية، ومما ذُكر يُعلم أن الله سبحانه وتعالى حقيقة غني عن كل شيء، وقادر على كل شيء، وملك ومالك لملكه يفعل به ما يشاء {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29) ، ولا وارث له إلا هو؛ لأنه باق لا يفنى. ومن العقائد القديمة التي سار الناس عليها بالوراثة للآن؛ اعتقاد النصارى بأن لله تعالى ولدًا - وحاشا لله أن يكون له ولد لأنه غني عن ذلك - ونسائلهم في عقيدتهم هذه: لأي شيء يتخذ لنفسه ولدًا واحدًا؟ ولماذا لم يتخذ أكثر من ذلك وهو قادر على كل شيء؟ وكيف يسمح بصلب ولده والتمثيل به؛ فداء للعالم مع أنه سبحانه وتعالى فدى إسماعيل بكبش، ولم يرض بتضحيته في سبيل طاعته؟ وهل يعز العالم على ولده فيتركه لأعدائه يمثلون به تمثيلا؟ إن ذلك لا يعقل أبدًا؛ إذ لا يوجد مخلوق يرضى بتسليم ولده لأعدائه لا سيما إذا كان وحيدًا والله أعز وأرحم وأعدل، وحيث إن الله تعالى قادر على كل شيء، فهو قادر على أن يغفر لمن يشاء من خلقه خطاياهم بدون حدوث فداء لأحد من العالمين، ولقد خلق في السموات ملائكة يسبحون بحمده ويستغفرون لمن في الأرض كما ذكر في القرآن الشريف. ثم إن حقيقة مسألة الصلب؛ هي أن الذي صلب كان أكبر أعداء المسيح، فأراد الله تعالى رفع المسيح إلى السماء، وألقى شبهه في الخلقة على الذي صلب، فبحث الأعداء عن المسيح للتنكيل به، فوقع الذي هو شبهه في أيديهم، وعرفهم باسمه الحقيقي. ولكنهم لم يصدقوه فأخذوه وصلبوه ودفنوه بعد موته، فإذا قالت اليهود والنصارى: إن ما نجادلهم فيه مذكور في الكتب السماوية التي تؤمن بها، لقلنا لهم: إن ربنا أرسل كتبه بالحق لا يقول إلا الحق للذين يعقلون، وعليهم أن يبحثوا عن حقيقة ما أسند إلى الله تعالى بغير الحق، وأن لا يتبعون إلا ما يجدونه أمامه حقًا؛ إذ ربما حصل شيء لم يكن في الحسبان، وخال على قوم كانوا في غفلة منه فضلوا الطريق القويم، وضل من تبعهم من الذرية بغير علم. ويدهشني أن يعرف بعض الناس الحقيقة ولا يرضى بها؛ إما حياء من عشيرته أو اقتناعًا بميراث أبيه من الدين وإن كان على غير هدى، وبذلك يضحي بنفسه في سبيل آبائه وأجداده، والله تعالى أحق منهم بذلك؛ إذ خلقه ورباه ووالاه جنينا في بطن أمه قبل أن يراه والده ثم طفلاً ورجلاً وكهلاً، وهو الذي أحياه مدى عمره ثم يميته ثم يحييه تارة أخرى كما ذكر آنفًا. أفبعد ذلك يقول: أتبع أبي إلا إذا كان على غير هدى من ربه؟ وكل إنسان مسئول عن نفسه لا ينفعه أحد إلا إيمانه وعمله. وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يرضاه، ويحسن لنا العاقبة ولجميع المسلمين إنه سميع مجيب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... طبيعي

دعوة المنار السنوية إلى انتقاده

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعوة المنار السنوية إلى انتقاده فاتنا التصريح في فاتحة الجزء الأول وفي خاتمته بهذه الدعوة؛ لأننا اضطررنا إلى إطالة الفاتحة، حتى احتجنا إلى الحذف منها، وإلى إعادة جمعها بحرف صغير بعد جمعها بحرف كبير. فنقول الآن: إننا نرغب إلى قراء المنار، بل نطالبهم بأن يكتبوا إلينا ببيان ما يرونه من الخطأ في مباحثه ولا سيما مسائل الدين ومصالح الأمة العامة؛ بشرط أن يقتصروا في بيانهم على موضع الخطأ ووجه الصواب فيه بالدليل من غير مقدمات ولا استطرادات، ونعدهم بأننا ننشر لهم ذلك ونقفي عليه: إما بقبوله والرجوع إليه إذا ظهر لنا أنه الحق، وإما ببيان ما عندنا من الرد عليه ولو من بعض الوجوه دون بعض. وبهذه المناسبة، نصرح بأنه جاءنا في العام الماضي كتاب من أحد أعضاء الجمعية المؤسسة في برلين - ألمانيا - يؤنبنا فيه على ما كتبناه من استنكار أمرها في دعوتها إلى الخلافة وجمع أموال الزكاة من جميع أقطار العالم الإسلامي، وما هذا الذي كتبه برد ولا بيان لحقيقة حال الجمعية وإنما هو انتقام من المنتقد بسبه وشتمه، فكيف يتصور عاقل أن يُشتَم إنسان ثم يحمله على نشر شتمه في صحيفته؟

أعداء الإسلام المحاربون له في هذا العهد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أعداء الإسلام المحاربون له في هذا العهد للإسلام أعداء كثيرون من أهله ومن غير أهله، كلهم يحاربونه ويسعون لإطفاء نوره، وخضد شوكته، وتمكين أعدائه من مقاتله. منهم من يسعى لهذا عالمًا به متعمدًا له، ومنهم الجاهل غير المتعمد، والجاهل الذي يظن أن ينصره ويدافع عنه. ويمكننا أن نحصر هنا هؤلاء المحاربين للإسلام في تسعة جيوش: ثلاثة من الأجانب، وخمسة من المسلمين - وأعني المسلمين الجغرافيين أو الرسميين - أي الذين يعدون في الإحصاء العام لأهل كل قطر من المسلمين. فأما الأجانب منهم فهم: المستعمرون والمبشرون (دعاة النصرانية) والمعلمون منهم لأولانا في مدارسهم ومدارسنا. وأما المسلمون الجغرافيون فقسمان: منهم قدماء طال عليه العهد وهم مقلدة الكتب الجامدون ومشايخ الطرق المبتدعون , وقسمان منهم حدثوا بعد ذلك وهم: المتفرنجون والملحدون , والقسم الثامن دعاة التجديد والثقافة الناسخة لما قبلها، وهو آخر جيش تألف لمحاربة الأديان كافة والإسلام خاصة , والقسم التاسع المتفرنجات من النساء وهو الآن في طور التكوين، على أن هذه الأقسام يتداخل بعضها في بعض. من المفروض على المنار أن يكافح جميع أعداء الإسلام المهاجمين له في عقائده وتشريعه وآدابه وملكه ولغته، وهو منذ أنشئ قائم بأعباء هذه الفريضة على قلة النصير والظهير، وقد بدأنا في السنين الأولى بجهاد أعداء دينهم وأنفسهم من المسلمين، فدعوناهم إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلناهم بالتي هي أحسن، ثم خضنا معامع مهاجمي الأجانب ولا سيما دعاة النصرانية (المبشرين) ، فكان من أبواب المنار المفتوحة في كل جزء باب (شبهات النصارى وحجج الإسلام) ، كما كان من أبوابه فيها باب (البدع والخرافات والتقاليد والعادات) ، وفي أثناء ذلك كنا نلم المرة بعد المرة بمضار التفرنج الصورية والمعنوية والاجتماعية، ثم ظهرت مفاسد الملاحدة من المتفرنجين؛ بمجاهرتهم بمهاجمة الدين في المحاورات والخطب تلقى في المحافل، والمقالات تنشر في الجرائد، فنهد إليهم المنار متتبعا عوارهم مقلمًا أظفارهم، مبينًا مفاسدهم ومضارهم. وماذا عسى أن يبلي قلم واحد في صحيفة واحدة؛ يناضل هؤلاء المهاجمين الكثيرين؟ جهد المقل، وأداء فرض كفاية أو فروض كفايات، تأثم الأمة الإسلامية كلها بتركها، وما كان عمل المنار بدافع هذا الإثم عن جميع شعوبها في جميع أقطار الأرض التي ظهرت فيها تلك الإغواءات النصرانية والإلحادية والبدعية، وإنما كان يغني عنهم ويدفع لو كان منتشرًا كانتشارها، يصل إلى كل من تصل إليه منهم بنفسه أو بترجمة ما ينشره، على أن هذه المفاسد تظهر في كل بلد أو قطر؛ بشكل قد يحتاج في رده وبيان بطلانه إلى عبارات وحجج غير التي يحصل بها المراد في قطر آخر. نعم.. إن بعض الجرائد الهندية كانت أكثر الجرائد الإسلامية عناية بالترجمة عن المنار، وإن بعض أصدقائه قد نهض بمساعدته في تفنيد شبهات المبشرين، وإبطال دعوتهم، وتخسير دعايتهم، وفي الرد على ملاحدة المسلمين أيضًا - ألا وهو الطبيب محمد توفيق صدقي تغمده الله تعالى برحمته، وكل ما نشر لغيره من أصدقاء المنار في مجلداته الثمانية والعشرين، لا يوازي بعض ما نشر له في مجلد واحد، إنما الذي يفوقه قدرًا وتأثيرًا؛ ما نشرناه لشيخنا الأستاذ الإمام أجزل الله ثوابه، ولا سيما مقالات الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية. ولم يكن هذا التقصير من قلة حملة الأقلام من طلاب الإصلاح الإسلامي الذي يدعو إليه المنار، فإنه أنشئ ليكون صحيفتهم، وقد كثروا بدعوته - ولله الحمد - ولكن أكثرهم يرى خطأ أن اضطلاع منشئه يغنيه عن مظاهرتهم له، وبعضهم غافل عن وجوب هذا التعاون. هذا ما كان من قبل حرب المدنية الكبرى، ثم كان من عقابيل هذه الحرب أن اشتدت وطأة جميع أعداء الإسلام، كل يحاول الإجهاز عليه من جهته، وينصر بعض الأجانب منهم بعضًا عليه، فكان من عدوان المستعمرين الظافرين ما كان، وشرحناه مرارًا آخرها ما أجملناه في فاتحة هذا المجلد إجمالاً أشد تأثيرًا من التفصيل، وكان من جرأة المبشرين عقد المؤتمر في تلو المؤتمر جوار المسجد الأقصى؛ لجمع كلمة الشعوب النصرانية، وتنظيم عمل الدعاة للإجهاز على الدين الإسلامي، ونشر عبادة المسيح في جزيرة العرب عامةً والحرمين الشريفين خاصةً. وأما مكافحو الإسلام من المتفرنجين والزنادقة الملحدين، فقد ابتدعوا دعاية شرًا من دعاية المبشرين، وهي دعوة جمهور الأمة إلى التعطيل والإلحاد، وعلى ما يترتب عليهما من الزندقة وإباحة الأعراض والأموال، وانتهاك حرمات الفضائل والآداب، وحل جميع الروابط التي تتكون بها الأمة من مقومات ومشخصات، لا يراعي في شيء من اقتراف هذه المفاسد والمخازي إلا اتقاء عقاب الحكومة على مخالفة قوانينها وإنما يراعي هذا من يخاف هذا العقاب لترجيحه اطلاع الحكومة على جرمه وإثباته عليه وأكثر المجرمين يرجحون إمكان إخفاء جرائمهم أو تعذر إثباتها في المحاكم - فهم يحاولون هدم الدين الإسلامي من جميع جهاته: الاعتقاد والتشريع والآداب والفضائل، وكذا هدم سائر مقومات الأمة الإسلامية ولا سيما العربية من: اللغة والزي؛ حتى لا يكون للأمة شيء من ماضيها تحافظ عليه بل حتى لا تكون أمة؛ فإن الأمم بماضيها وتاريخها ومقوماتها الصورية والمعنوية بل منهم من يدعوها جهرًا إلى ترك جنسيتها ووطنيتها والالتحاق بدولة أجنبية قوية كالإنكليز، دع من يعملون لذلك سرًّا. وحجتهم على هذا الإفساد كله؛ أن كل ما كانت به الأمة أمة في الماضي، قد صار قديمًا باليًا ضارًّا، يجب أن يستبدل به غيره من الجديد، يقتبس من النظريات والآداب والتقاليد والأزياء الأوربية، فهم يدعون إلى كل جديد، وينفرون من كل قديم. متكلين في رواج دعايتهم على النابتة الجديدة من الشبان والشابات الذين يتعلقون عادة بكل جديد؛ لطرافته ولذته؛ ولعدم رسوخ عقائدهم وآدابهم واستكمال عقولهم، ثم على العوام الذين يتلذذون بكسر قيود الصيانة وإباحة الشهوات، وناهيك بمسلمي بلادنا الذين ليس لهم حكومة تغار على عقائدهم وآدابهم وتربي أولادهم عليها، وهم على فقدهم للحكومة الإسلامية الموصوفة بما ذكر لا الإسلامية الرسمية، فاقدون لطبقة أهل الحل والعقد من السروات الذين يحافظون على مقومات أممهم واستقلالها ورفعة قدرها من جهة، ويقومون لها في كل طور وحال بما يقتضيه من علم وعمل من جهة أخرى، فأمْر الناس فوضى ليس لديهم قواعد ثابتة يلوذون بها عند اشتداد عصف هذه الرياح المتناوحة التي تهب عليهم؛ بما ينشر في الصحف الضارة والمصنفات المفسدة، وقلما توجد في البلاد جريدة أو مجلة تتجنب ما يضر الجمهور نشره في عقائدهم وآدابهم، وتتحرى ما تعتقد أنه النافع، دع اختلاف آراء كتّاب هذه الصحف وأفهامهم وشعورهم في الضار والنافع الذي سببه اختلاف التربية والتعليم والمعاشرة. ولكن يوجد جرائد يومية وأسبوعية ومجلات تتوخى وتتحرى وتتعمد الدعاية إلى هذا الهدم والتجديد، على تفاوت بينها في التصريح أو التعريض والتلويح، وأشهرها جريدة السياسة التي يكفلها الحزب الحر الدستوري؛ المؤلف من أصحاب الدولة والمعالي والسعادة الوزارء والكبراء وكبار رجال الحكومة. ومثلها في ذلك بل أشد مجلة الهلال المشاركة لها في أشهر محرريها، التي تدعي أنها لسان حال الشبان العصريين، ففي كل جزء من أجزائها عدة مقالات لدعاة تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة، وقلما تنشر لغيرهم شيئًا يخالفه، وحسبك أن سلامة أفندي موسى هو الركن الثابت المتين في تحريرها، وهي لا تكتفي بما تنشر له من المقالات في ذلك، بل تطبع له في كل عام كتاب في تأييد هذه الدعاية الهادمة للأمة المصرية؛ ولكل أمة شرقية تغتر بفلسفته المادية الإفسادية، وترسله هدية إلى قرائها ترغيبًا لهم في قراءته. وقد زاد هذا الرجل على إخوانه بأنه يدعو إلى خلع ثوبي الجنسية والوطنية، والانضمام إلى دولة أجنبية. ثم إنها تنشر مجلات أسبوعية مصورة، تجرئ قراءها على نبذ كل عفة وصيانة وفضيلة سمعنا عنها، وقرأنا في الأخبار من تفنيد لها، وإنه ليعز علينا أن يتنكب زميلنا أميل أفندي زيدان منهج والده الفاضل في مراعاة العقائد والفضائل الدينية وسائر مقومات الأمة، ولو في مجلة الهلال وحدها، إذا كان يصعب عليه ترك المال العظيم الذي يجنيه من مجلاته الأخرى التي تزين للناس اتباع أهوائهم وشهواتهم، وإننا كنا منذ سنتين ننوي بيان هذا بعد مجاهرته به حتى جاء أوانه. ثم ظهرت منذ سنتين مجلة أخرى أشد جرأة على هدم الدين؛ والجهد بالطعن فيه بسخافات من النظريات الفلسفية العصرية، وقد سبق لي تقريظ لها قبل غلوها في المجاهرة، وأشرت إلى ما أنكره عليها، ثم ظهر من غرور صاحبها في دعوى العلم والفلسفة ومن معرفة الدين أيضًا ما يقضي العاقل منه العجب. وما له بذلك من علم ولا فلسفة، هي رأي ومذهب له يقدر أن يثبته ويدافع عنه وكذلك أمثاله، وإنما يترجمون من بعض الكتب والصحف الإفرنجية بعض آراء أهلها ونظرياتهم، ويأخذونها قضايا مسلمة بغير علم ولا بصيرة، وحسبنا دليلاً على هذا ما يردون عليه من أمور الدين، ومنها ما هو افتراء يتبرأ منه الدين. وقد اقتفت أثر هذه الصحف فيما ذكر مجلة حديثة أنشئت في حلب، فأنكر عليها بعض الناس هنالك ما نشرته من حكاية طعن في الإسلام؛ لأن أكثرهم لا يزال غافلاً عما تعنيه بالجديد والحديث والاستغناء به عن القديم، وأن المراد ترك الإسلام من أساسه. لا نريد في هذا المقال الرد على هؤلاء، وإنما نريد إعلام قراء المنار بحالهم وبرواج إفسادهم في البلاد؛ بسبب الجهل بحقيقة الدين وعدم التربية عليه، مع عدم التربية الاجتماعية والسياسية أيضًا، وأن نعلمهم مع هذا بأن بعض قراء المنار ومحبيه، يقترح عليه أن نزيد فيه بعض الفصول العلمية والأدبية والمباحث الفنية العصرية؛ لترغيب القراء من كل الطبقات في قراءته. أعود إلى أول سياق المقال فأقول: إنه لولا جمود مقلدة الفقهاء الذين احتكروا التعليم الديني في بلاد الإسلام منذ قرون، ولولا بدع أهل الطرق الصوفية وخرافاتهم؛ وهم الذين كان سلفهم يعنون بالتربية الدينية؛ ليكون الدين وجدانًا عند صاحبه لا يقبل البحث والجدل، فانقلب بعدهم إلى إفساد لا يقبل الإصلاح بحيلة من الحيل؛ لولا هؤلاء وأولئك لما كان لهؤلاء المفسدين ولا للمبشرين أدنى تأثير في إغواء المسلمين. لئن كانت مقلدة المذاهب المعروفة هي بقية الآخذين بظواهر الإسلام، فما هذا بمبرئ لهم من تهمة الجناية عليه والتنفير عنه في هذا العصر؛ باحتكارهم لأنفسهم الحكم في كل شيء باسم الدين، وإيجابهم على الناس اتباعهم فيه، لتعودهم هذه الرياسة منذ قرون؛ وهي رياسة ما أنزل الله بها من سلطان، وكان ضررها في الزمن الماضي قليلاً فأصبح عظيمًا؛ إذ كان من أسباب ارتداد من لا يحصى عن الدين، إلى أن تجرأت حكومة إسلامية عظيمة الشأن والتاريخ على الارتداد عنه، ومحاولة محو أصوله وفروعه وآدابه، وكل ماله صلة به من أمتها، كما محته من حكومتها؛ وهي حكومة مصطفى كمال التركية. العلوم والفنون والصناعات العصرية لا يمكن لحكومة أن تحفظ استقلالها بدونها، ولا يمكن لأمة أن ترتقي في زراعتها وتج

كلمة الأستاذ الزنكلوني

الكاتب: الزنكلوني

_ كلمة الأستاذ الزنكلوني في تفسير القرآن الحكيم ومجلة المنار حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ العظيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية حفظه الله، وأدام النفع به آمين. السلام على سيدي الصديق ورحمة الله، أما بعد: فقد طلع على العالم الإسلامي في هذا الأيام الجزء الأول من تفسير القرآن الحكيم، الذي دبجه يراعك، وأحكمه تفكيرك ورسوخك في علوم الدين، فقد أودعت فيه من آيات العلم والحكمة ما يشهد لك بالنبوغ والتفوق على رغم من حسادك، ولقد كان من دلائل نصر الله لك على الدوام أن تزداد ثقة الناس بك واقتناعهم بعظيم فضلك، كما برز لك أثر جليل - وآثارك الجليلة لا تنقطع - وأن تشتد حاجتهم إليك وإلى قولك الفصل كلما ظهرت فتنة عمياء، تكاد لشدتها تقضي على الكثير من الحق، وتنتقص من أطراف النور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وسار عليه الراشدون من أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين؛ لأنك من وقت إلى آخر تطلع على الناس في منارك بما يزيل الجهل ويمحو آثار الظلمة، ولقد عرفك الناس من عهد بعيد، وعرفك المنصفون منذ بدء حياتك العلمية على خير ما يعرف العلماء الأفذاذ. ولقد كان إعجاب رجال العلم الديني بك شديدًا في جميع بلاد الإسلام؛ منذ ظهرت مجلة المنار الإسلامية التي أنشأتها من ثلاثين عامًا، ولا تزال تنشئها بفضل الله إلى اليوم حافلة بالأبحاث العلمية القيمة التي لا توجد في أمهات الكتب، ولا يخلو عدد من أعدادها من مشكلة دينة يكشفها منارك، وقد خفي أمرها وتعذر حلها على كثير من الرجال المبرزين. أما المتقدمون فعذرهم أن أحداث الناس الاجتماعية التي لها صلة بالدين، لم يكن قد اتسع نطاقها، ولم تصل في كثرة وجوهها المختلفة إلى ما وصلت إليه اليوم وقد كانت أمارات الحوادث الدقيقة التي يحملها كتاب الوجود العام غير واضحة للعقول، وليس في إمكان العقل مهما قوي أن يقضي قضاءه الصحيح في حادثة لم يكشف لها الوجود وجه الدليل، والعقل الإنساني في فطرته السليمة اليوم أقوى منه بالأمس؛ لأن مواد التغذية العقلية الآن بين يديه أدسم وأوفر، وليس التفاضل بين المتقدم من القرون والمتأخر منها راجعًا إلى جوهر العقول، واستكمال عناصرها الذاتية، فالعقل هو العقل، والقرآن هو القرآن، وشواهد هذا العصر أتم منها في كل عصر سابق، وإنما مرجع التفاضل؛ ضعف الإرادة وتأثرها بالأوساط السيئة التي لم تكن لها قوة في عصر النبوة ولا في القرون التي تليها. أما العقل من حيث ذاته وجوهره فلا دخل له في هذا التفاضل، فالمسألة هنا وهناك مسألة هداية وتوفيق. وأما المتأخرون، فعذرهم إن صح أن يكون ذلك عذرًا أنهم أضاعوا كل شيء وباعدوا بينهم وبين منهل التشريع الإلهي، وما مثلهم في حياتهم العلمية الدينية إلا كمثل من استعمل الماء الآسن في حياته للشرب، ينحدر من مستنقع إلى مستنقع، وقد انقطع تمام الانقطاع عن مهبط السيل ومجاري الأنهار، لا يحمل غير جراثيم الضعف وعوامل الفناء - كذلك رجال الدين في عصورهم المتأخرة، قد انقطعوا عن الكتاب والسنة وعن فهمهما على الوجه الصحيح، وهما بلا شك مصدر الحياة والقوة، عليهما مدار السعادة التامة - لهذا لا بدع إذا وهبك الله من الذكاء والفهم في الدين ما لا عهد للناس به، ومكنك من استعراض الحوادث والحكم عليها بما لاح لك من الأمارات والدلائل، وليس ذلك بدعًا في دين الله ولا من الدعاوى العريضة كما يظن الجاهلون؛ لأن الإنسانية الكاملة التي لا تسابق ولا تجارى هي إنسانية الأنبياء وحدهم لا يشاركهم فيها مشارك؛ لأنها موهبة من الله تعالى خاصة بهم لا دخل للكسب فيها و {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) . أما من عداهم من الورثة فلكل نصيبه بقدر اجتهاده، فكتاب الله الذي خاطب به العالم على السواء، لم يتغير ولم يتبدل وكذلك سنة رسوله، وفضل اليوم على الأمس ما دام الإنسان مرموقًا بالهداية والتوفيق، إن العقل أقوى والدلائل أوضح، وإن كان الفضل دائما للمتقدم. وليست المسألة أكثر من متشابهات في الدين، يجليها الله على يد من يمنحهم فضله، ولا تقوم الساعة إلا والحلال كله بيِّن والحرام كله بيِّن، حيث يرد العقل بالدليل كل مشتبه في الماضي إلى فصيلته الحقيقية. وإذا لم يحقق الله بك وبأمثالك هذه السنة فيمن يحققها؟ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} (الحديد: 21) . وقد كان من مزيد توفيق الله لك؛ أن خصصت جزءًا عظيمًا من منارك لتفسير كتاب الله تعالى على طريقة لم تسبق إليها من كبار رجال التاريخ [1] في عصور الإسلام، فقد وجهت كل عنايتك إلى بيان أغراض الكتاب والكشف عن مراميه، وأجهدت نفسك في لفت العقل إلى روح التشريع الإلهي وإظهار سره في الوجود، ولم يفتك المهم من الأبحاث الإصلاحية التي ألهت جمهور المفسرين عن غرض الكتاب الأسمى، وصرفتهم عن الغاية التي من أجلها نزل الكتاب الكريم؛ وهي الهداية والسعادة. نعم.. لا ننكر نحن ولا أنت أن واضع طريقتك ومحكم أساسها هو أستاذنا الإمام؛ الذي جدد الله به عهد الإسلام على رأس القرن الرابع عشر الهجري (الشيخ محمد عبده) رحمه الله ورضي عنه. ولكن إحكام البناء إلى التمام على الوجه الذي وضع عليه هذا الأساس المتين لشاهد صدق على النبوغ والتفوق. ومن الإنصاف أن نجاهر بأن الروح التي جارت في عملها التكميلي روح ذلك المؤسس الحكيم؛ لهي الروح الكبيرة التي تستحق مزيد الإكبار والإجلال، والتي لها مع استعدادها الفطري القوي بالمؤسس العظيم مزيد صلة وارتباط؛ لأنك في أبحاثك القيمة تأتي كل يوم بالجديد المثمر، ولا زلت ترقب عن كثب في تفسيرك وأبحاثك الدينية آثار سنن الله في الوجود، وهي نعمة كبرى لن تستطيع شكرها مهما حاولته، وسر هذه النعمة فيما أعتقد أنك آمنت، كما آمن الموفقون من قبلك بأن خير ما يفسر به كتاب الله فعل الله وسننه في عالم الشهادة، وكثيرًا ما أسمع من أهل العلم وعنهم أن سبب انحطاط المسلمين؛ هو عدم العمل بالدين، وهو كلام حق في ذاته إن لم يريدوا الدين بحسب تقدير عقولهم. إلا أن وراء هذا القول حلقة مفقودة يجب إظهارها للعالم والتصريح بها على الدوام، حيث السعادة موقوفة عليها في نظر العقل والدين معًا: هي أن سبب التأخر الحقيقي عدم فهم الكتاب والسنة على الوجه الصحيح؛ لأن فهمهما كذلك يولد الإيمان بهما إيمانًا قويًا، والإيمان بهما كذلك لا محالة يولد السعادة والقوة والعمل الصالح، رغم الصوارف التي ازدحم بها الوجود، فالوجود ملوث بمثل هذه الصوارف منذ بدء الخلقة، والصراع قديم بين الخير والشر وبين النور والظلمة. ولقد أخذتني الدهشة يا صديقي حينما اطلعت على الجزء الأول من التفسير الذي أخرجته في هذه الأيام مستقلاًّ عن مجلة المنار، لأنا كلما تصفحنا منارك وراجعنا ما ظهر من التفسير، نظن أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإذا بالجزء الأول يطالعنا بخير ما أخرج للناس في هذا الباب. وفي الحق أن هذا السفر آية الآيات ومعجزة المعجزات في التفسير إلى اليوم وليس من المبالغة في القول أن أصارحك بأن هذا السفر الجليل منحة إلهية كبرى، قدر الله بها أن يكمل فضلك، ويعظم أمرك، وما يدرينا ما يجود به الغيب عليك في المستقبل القريب والبعيد. لهذا أحمد الله لك، وأرجو أن يديمك سعيدًا آمنًا في سربك، صحيحًا في بدنك؛ لتكمل التفسير على النحو الذي سرت عليه إلى اليوم، كما أرجو أن يوفقك الله قريبًا لإنجاز تفسير متوسط ينتفع به العامة والخاصة، فالخير كل الخير في هدي الكتاب. ولقد حقق الله لي يا صديقي ما كنت أرجوه من قبل، فقد تمنيت من عهد بعيد أن أكتب عنك كلمة الحق التي امتلأت بها نفسي؛ ليسجلها التاريخ لي ولك فيما يسجل، وأنا أحوج إليها منك؛ فلك من الآثار الخالدة في خدمة العلم والدين ما لا سبيل إلى إنكاره. أما أنا فأقل ما أنتفع به من وراء هذه الكلمة الصادقة أن يقول المنصفون: إنها كلمة حق بريئة من الحقد والحسد، فرحم الله قائلها. وقد كانت هذه الأمنية اللذيذة تتردد وتقوى في نفسي كلما انتشر فضلك، وازدادت عناية الله بك، إلا أن الحياء الشديد قد حال دوني ودون أمنيتي، فقد خشيت أن تقصر العبارة عن آداء ما تحمله نفسي لك من الإكبار، فيمقتني منصفوك وعارفو فضلك، أو يقول حسادك وهم كثيرون: إن الأمر لا يعدو مدح صديق لصديق؛ أما وقد ظهر الجزء الأول من تفسيرك وفيه من الإبداع ما لا عهد لنا به، ومن الزيادات ما لم يشافهنا به الأستاذ الإمام في درسه، فها أناذا أتقدم إليك بكلمتي هذه شاكرًا داعيًا لأبلغ النفس أمنيتها غير مبال بالتقصير، ولا بما يتحدث به الجاهلون والحاسدون، وتفضل يا صديقي بقبول خالص تحياتي والسلام. ... ... ... ... ... ... ... علي سرور الزنكلوني ... ... ... ... مدرس التفسير والحديث بالقسم العالي للأزهر (المنار) الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني من أشهر علماء الأزهر المستقلي الفكر العارفين بحال العصر، وحاجة المسلمين إلى الإصلاح الديني والمدني، وإخوانه المشاركون له في هذه المزية قليلون، ولو كانوا كثيرين لما كان الأزهر محتاجًا إلى الإصلاح، وحاجته إلى الإصلاح صارت مسألة اجتماعية بين جمهور أهله حتى الجامدين منهم وبين سائر طبقات الناس، لا خفية كما كانت في أول عهد الأستاذ الإمام , وقد كان الجامدون يضطهدون هؤلاء العلماء المستقلين ولا سيما دعاة الاعتصام بالكتاب والسنة. ولكن الزمان يظهر فضلهم وشدة حاجة الأزهر إليهم وسيكونون هم المحبين للعلم فيه إذا أذن الله أن يعود إليه مجده كما يحب كل مسلم ثم إن الأستاذ الزنكلوني ممتاز فيهم بالصراحة والفصاحة قولاً وكتابة وخطابة ومناظرة، يمده في ذلك ما أوتي من عزة النفس والشجاعة الأدبية، فهو يقول ما يعتقد ولا يبالي بمخالفه فيه مهما تكن منزلته، ومهما يكن سبب خلافه له، وهذا ما أشار إليه بقوله في آخر كلمته: إنه لا يبالي بما يتحدث به الجاهلون والحاسدون. لست أقول هذا لأثيبه حمدًا بحمد، وأقارضه ثناء بثناء، فكل منا بعيد الطبع والخلق عن هذه التجارة أو المداينة، وإنما قلته لأبين لبعض قراء المنار في الأقطار النائية الذين لا يعرفون من مزايا الرجل ما تعرفه مصر، ومن لا يحصى من زائريها في هذا العصر، أن قيمة كلمته عندي ليست في إطرائي الذي لا أستحقه بل في صدورها عن عقيدة وإخلاص، مع تواضع حمله على الاعتذار، فقد أرسل إليَّ معها رقعة قال فيها: (هذه كلمتي أبعث بها إليك؛ عنوان فرح وشكر لله على ظهور الجزء الأول من التفسير، أكتبها وأنا متحقق بأنها غير وافيه بالغرض. ولكن شفيعها إخلاص صاحبها) فهو كأفراد أجواد العرب الذين كان أحدهم يبذل النوال العظيم وربما كان كل ما في يده؛ ثم يعتذر مع هذا لمن يبذله له. ما هذه أول منة لصديقي التليد الشيخ علي سرورعلى المنار، بل كان في أيام المجاورة يدعو إلى المنار في أيام مسامحات الأزهر، ويطوف على البلاد في مديرية الشرقية وغيرها فيحصل قيمة الاشتراك من المشتركين، ثم يوصلها إلينا ولا يأخذ على ذلك عمولة ولا جزاءً - وكان هذا قبل شروعه في حضور دروس الاستاذ الإمام - فهو عملٌ دعته إليه فطرته الزكية وميله العقلي إلى الإصلاح، فالله تعالى يشكر له ذلك ويثيبه عليه والله شاكر عليم.

الوقف وأصح ما ورد فيه وأشهر أحكامه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوقف وأصح ما ورد فيه وأشهر أحكامه [*] روى الجماعة - أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث عبد الله بن عمر: أن عمر أصاب أرضًا من أرض خيبر، فقال يا رسول الله: أصبت أرضًا بخيبر، لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث، ولفظ الشيخين أنه لا يباع أصلها - زاد مسلم ولا يبتاع - ولا يورث ولا يوهب: في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف؛ لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير متمول، وفي لفظ غير متأثل مالاً، وفي بعض روايات الصحيح أن تلك الأرض يقال لها ثمغ وأنها نخل. وذكر الحافظ في الفتح الروايات في وصية عمر، أن تكون بنته حفصة أم المؤمنين هي التي تتولى أمر هذا الوقف بعده، ثم يكون بعدها إلى الأكابر من آل عمر، وذكر من رواية عمر بن أبي شبة أنه اطلع على نسخة صدقة عمر قال: أخذتها من كتابه الذي كان عند آل عمر فنسختها حرفًا حرفًا؛ هذا ما كتب عبد الله عمر أمير المؤمين في ثمغ؛ أنه إلى حفصة ما عاشت تنفق ثمره حيث أراها الله، فإن توفيت فإلى ذوي الرأي من أهلها. (قال الحافظ) : فذكر الشرط كله نحو الذي نقده في الحديث المرفوع، ثم قال: والمائة وسق الذي أطعمني النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنها مع ثمغ على سننه الذي أمرت به، وإن شاء والي ثمغ أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل، وكتب معيقيب وشهد عبد الله بن الأرقم. (وكذا أخرج أبو داود في روايته نحو هذا، وذكرا جميعًا كتابًا آخر نحو هذا الكتاب وفيه من الزيادة: وصرمة بن الأكوع والعبد الذي فيه صدقة كذلك. وهذا يقتضي أن عمر إنما كتب كتاب وقفه في خلافته؛ لأن معيقيبًا كان كاتبه في زمن خلافته، وقد وصفه فيه بأنه أمير المؤمنين فيحتمل أن يكون وقفه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم باللفظ، وتولى هو النظر عليه إلى أن حضرته الوصية فكتب حينئذ الكتاب. ويحتمل أن يكون أخر وقفيته، ولم يقع منه قبل ذلك إلا استشارته في كيفيته، وقد روى الطحاوي وابن عبد البر من طريق مالك عن ابن شهاب قال: قال عمر: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها. فهذا يشرع بالاحتمال الثاني، وأنه لم تجز الوقف إلا عند وصيته، واستدل الطحاوي بقول عمر هذا لأبي حنيفة وزفر في أن إيقاف الأرض لا يمنع من الرجوع فيها، وأن الذي منع من الرجوع؛ كونه ذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فكره أن يفارقه على أمر ثم يخالفه إلى غيره. ولا حجة فيما ذكره من وجهين: (أحدهما) أنه منقطع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك عمر. (ثانيهما) أنه يحتمل ما قدمته، ويحتمل أن يكون عمر كان يرى صحة الوقف ولزومه، إلا إن شرط الواقف الرجوع فله أن يرجع. وقد روى الطحاوي عن علي مثل ذلك، فلا حجة فيه لمن قال: بأن الوقف غير لازم مع إمكان هذا الاحتمال، وإن ثبت هذا الاحتمال كان حجة لمن قال بصحة تعليق الوقف وهوعند المالكية، وبه قال ابن سريج وقال: تعود منافعه بعد المدة المعينة إليه ثم إلى ورثته فلو كان التعليق مآلاً صح اتفاقًا، كما لو قال: وقفته على زيد سنة ثم على الفقراء. (قال الحافظ) : وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف: قال أحمد: حدثنا حماد - هو ابن خالد - حدثنا عبد الله هو العمري - عن نافع عن ابن عمر قال: أول صدقة - أي موقوفة - كانت في الإسلام صدقة عمر، وروى عمر بن شبة عن عمرو بن سعد بن معاذ قال: سألنا عن أول حبس في الإسلام، فقال المهاجرون: صدقة عمر، وقال الأنصار: صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إسناده الواقدي [1] وفي مغازي الواقدي أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أراضي مخيريق - بالمعجمة مصغر - التي أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوقفها النبي صلى الله عليه وسلم، قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة المتقدمين من أهل العلم خلافًا في جواز وقف الأرضين. وجاء عن شريح أنه أنكر الحبس ومنهم من تأوله، وقال أبو حنيفة: لا يلزم، وخالفه جميع أصحابه إلا زفر ابن الهذيل، فحكى الطحاوي عن عيسى بن أبان قال: كان أبو يوسف يجيز بيع الوقف، فبلغه حديث عمر هذا فقال: من سمع هذا من ابن عون؟ فحدثه به ابن عُلية فقال: هذا لا يسع أحدًا خلافه، ولو بلغ أبا حنيفة لقال به، فرجع عن بيع الوقف حتى صار كأنه لا خلاف فيه بين أحد. ا. هـ، ومع حكاية الطحاوي هذا فقد انتصر كعادته، فقال قوله في قصة عمر حبس الأصل وسبل الثمرة لا يستلزم التأبيد، بل يحتمل أن يكون أراد مدة اختياره لذلك، ولا يخفى ضعف هذا التأويل ولا يفهم من قوله وقفت وحبست إلا التأبيد، حتى يصرح بالشرط عند من ذهب إليه وكأنه لم يقف على الرواية التي فيها حبيس ما دامت السموات والأرض. (قال القرطبي: رد الوقف مخالف للإجماع فلا يلتفت إليه، وأحسن ما يعتذر به عمن رده ما قال أبو يوسف؛ فإنه أعلم بأبي حنيفة من غيرهم وأشار الشافعي: إلى أن الوقف من خصائص أهل الإسلام؛ أي وقف الأراضي والعقار، قال: ولا نعرف أن ذلك وقع في الجاهلية، وحقيقة الوقف شرعًا ورود صيغة تقطع تصرف الواقف في رقبة الموقوف الذي يدوم الانتفاع به، وتثبت صرف منفعته في جهة خير. وفي حديث الباب من الفوائد؛ جواز ذكر الولد أباه باسمه المجرد من غير كنية ولا لقب، وفيه جواز إسناد الوصية والنظر على الوقف للمرأة، وتقديمها على من هو من أقرانها من الرجال. وفيه إسناد النظر إلى من لم يسم إذا وصف بصفة معينة تميزه، وأن الواقف يلي النظر على وقفه إذا لم يسنده لغيره، قال الشافعي: لم يزل العدد الكثير من الصحابة فمن بعدهم يلون أوقافهم، نقل ذلك الألوف عن الألوف لا يختلفون فيه، وفيه استشارة أهل العلم والدين والفضل في طرق الخير، سواء كانت دينية أو دنيوية، وأن المشير يشير بأحسن ما يظهر له في جميع الأمور، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر لرغبته في امتثال قوله تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، وفيه فضل الصدقة الجارية، وصحة شروط الواقف واتباعه فيها [2] وأنه لا يشترط تعيين المصرف لفظًا، وفيه أن الوقف لا يكون إلا فيما له أصل يدوم الانتفاع به، فلا يصح وقف ما لا يدوم الانتفاع به كالطعام. (وفيه أنه لا يكفي في الوقف لفظ الصدقة؛ سواء قال تصدقت بكذا أو جعلته صدقة حتى لا يضيف إليها شيئًا آخر؛ لتردد الصدقة بين أن تكون تمليك الرقبة أو وقف المنفعة، فإذا أضاف إليهما ما يميز أحد المحتملين صح بخلاف ما لو قال: وقفت أو حبست، فإنه صريح في ذلك على الراجح، وقيل الصريح الوقف خاصة وفيه نظر؛ لثبوت التحبيس في قصة عمر هذه، نعم.. لو قال: تصدقت بكذا على كذا، وذكر جهة عامة صح. وتمسك من أجاز الاكتفاء بقوله: تصدقت بكذا بما وقع في حديث الباب من قوله، فتصدق بها عمر ولا حجة في ذلك لما قدمته من أنه أضاف إليها لا تباع ولا توهب، ويحتمل أيضًا أن يكون قوله فتصدق بها عمر؛ راجعًا إلى الثمرة على حذف مضاف أي فتصدق بثمرتها، فليس فيه متعلق لمن أثبت الوقف بلفظ الصدقة مجردًا، وبهذا الاحتمال الثاني جزم القرطبي. وفيه جواز الوقف على الأغنياء؛ لأن ذوي القربى والضيف لم يقيد بالحاجة وهو الأصح عند الشافعية. وفيه أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءًا من ريع الموقوف؛ لأن عمر شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف، ولم يستثن إن كان هو الناظر أو غيره، فدل على صحة الشرط، وإذا جاز في المبهم الذي تعينه العادة كان فيما يعينه هو أجوز، ويستنبط منه صحة الوقف على النفس، وهو قول ابن أبي ليلى وأبي يوسف وأحمد في الأرجح عنه، وقال به من المالكية ابن شعبان وجمهورهم على المنع إلا إذا استثنى لنفسه شيئًا يسيرًا بحيث لا يتهم أنه قصد حرمان ورثته، ومن الشافعية ابن سريج وطائفة وصنف فيه محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري جزءًا ضخمًا، واستدل له بقصة عمر هذه وبقصة راكب البدنة [3] بحديث أنس في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها، ووجه الاستدلال به أنه أخرجها عن ملكه بالعتق، وردها إليه بالشرط، وسيأتي البحث فيه في النكاح، وبقصة عثمان الآتية بعد أبواب. واحتج المانعون بقوله في حديث الباب: (سبل الثمرة) وتسبيل تملكيها للغير، والإنسان لا يتمكن من تمليك نفسه لنفسه، وتُعُقِّبَ بأن امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعه تمليكه لنفسه إنما هو لعدم الفائدة، والفائدة في الوقف حاصلة؛ لأن استحقاقه إياه ملكًا غير استحقاقه إياه وقفًا؛ ولا سيما إذا ذكر له مالاً آخر، فإنه حكم آخر يستفاد من ذلك الوقف، واحتجوا أيضًا بأن الذي يدل عليه حديث الباب أن عمر اشترط لناظر وقفه أن يأكل منه بقدر عمالته؛ ولذلك منعه أن يتخذ لنفسه منه مالاً، فلو كان يؤخذ منه صحة الوقف على النفس لم يمنعه من الاتخاذ، وكأنه اشترط لنفسه أمرًا لو سكت عنه لكان يستحقه لقيامه. وهذا على أرجح قولي العلماء: إن الواقف إذا لم يشترط للناظر قدر عمله جاز له أن يأخذ بقدر عمله , ولو اشترط الواقف لنفسه النظر اشترط أجره، ففي صحة هذا الشرط عند الشافعية خلاف؛ كالهاشمي إذا عمل في الزكاة، هل يأخذ سهم العاملين؟ والراجح الجواز ويؤيده حديث عثمان الآتي بعد. واستدل به على جواز الوقف على الوارث في مرض الموت، فإن زاد عن الثلث رد، وإن خرج منه لزمه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد؛ لأن عمر جعل النظر بعده لحفصة وهي ممن يرثه، وجعل لمن ولي وقفه أن يأكل منه، وتُعُقِّبَ بأن وقف عمر صدر منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والذي أوصى به إنما هو شرط النظر. واستدل به على أن الواقف إذا شرط للناظر شيئًا أخذه، وإن لم يشترط له لم يجز إلا إن دخل في صفة أهل الوقف؛ كالفقراء والمساكين، فإن كان على معينين ورضوا بذلك جاز. واستدل به على أن تعليق الوقف لا يصح؛ لأن قوله: حبس الأصل يناقض تأقيته، وعن مالك وابن سريج يصح، واستدل بقوله لا تباع على أن الوقف لا يناقل به [4] وعن أبي يوسف: إن شرط الواقف أنه إذا تعطلت منافعه بيع وصرف ثمنه في غيره، ويوقف فيما سمي في الأول، وكذا إن شرط البيع إذا رأى الحظ في نقله إلى موضع آخر، واستدل به على وقف المشاع؛ لأن المائة سهم التي كانت لعمر بخيبر لم تكن منقسمة. وفيه أنه لا سراية في الأرض الموقوفة بخلاف العتق، ولم ينقل أن الوقف سرى من حصة عمر إلى غيرها من باقي الأرض، وحكى بعض المتأخرين عن بعض الشافعية أنه حكم فيه بالسراية وهو شاذ منكر، واستدل به على أن خيبر فتحت عنوة، وسيأتي البحث فيه في كتاب المغازي إن شاء الله تعالى اهـ، كلام الحافظ وفي بعض كلامه بحث. وروى أحمد والشيخان وغيرهم من حديث أنس واللفظ للبخاري قال: لما نزلت {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) ، جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، يقول الله تعالى: {لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (آل عمران: 92) وإن أحب أموالي بيرحاء؛ قال: وكانت حديقة كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) يدخلها، ويستظل فيها ويشرب من مائها، فهي إلى الله وإلى رسوله (صلى الله عليه وسلم، أرجو بره وذخره، فضعها أي رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله: (بخ يا أبا طلحة، ذلك مال رابح، قبلناه منك ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين) فتصدق به أبو

إبطال الوقف الأهلي

الكاتب: محمد نصيف

_ إبطال الوقف الأهلي فتوى للإمام مصلح نجد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في إبطال الوقف على الذرية. نقلها صديقنا الأستاذ الشيخ محمد نصيف من كتاب روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام، وتعداد غزوات ذوي الإسلام (وهو تاريخ نجد في زمان الإمام محمد بن عبد الوهاب وأمراء نجد آل سعود) المطبوع في بومباي الهند بالمطبعة المصطفوية عام 1337، الجزء الأول صفحة 160 وهو كثير الأغلاط والتحريف. بسم الله الرحمن الرحيم هذه كلمات جواب عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجَنَف والإثم، ونحن نذكر قبل ذلك صورة المسألة، ثم نتكلم على الأدلة؛ وذلك أن السلف اختلفوا في الوقف الذي يراد به وجه الله على غير من يرثه مثل: الوقف على الأيتام وصوام رمضان أو المساكين أو أبناء السبيل. فقال شريح القاضي وأهل الكوفة: لا يصح ذلك الوقف، حكاه عنهم الإمام أحمد، وقال جمهور أهل العلم: هذا وقف صحيح؛ واحتجوا بحجج صحيحة صريحة ترد قول أهل الكوفة، فهذه الحجج التي ذكرها أهل العلم، يحتجون بها على علماء أهل الكوفة مثل (صدقة جارية) [1] ومثل وقف عمر وأوقاف أهل المقدرة من أصحابه على جهات البر التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها تغيير لحدود الله. وأما مسألتنا: فهي إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفر من قسمة الله، وتمرد عن دين الله؛ مثل أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل ولا تأكل منه إلا حياة عينها، أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض فرارًا من وصية الله بالعدل، أو يريد أن يحرم نسل البنات، أو يريد أن يحرم على ورثته بيع هذا العقار لئلا يفتقروا بعده، ويفتي له بعض المفتين أن هذه البدعة الملعونة صدقة بر تُقَرِّب إلى الله [2] ويوقف على هذا الوجه قاصدًا وجه الله، فهذه مسألتنا. فتأمل هذا بشراشر قلبك، ثم تأمل ما نذكره من أوله، فنقول: من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه والتحيل على ذلك بالتقرب إليه وذلك مثل أوقافنا هذه، إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأته أو امرأة ابن أو نسل بنات أو غير ذلك، أو يعطي من حرمه الله أو يزيد عما فرض الله أو ينقص من ذلك، ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعدًا عن الله، فالأدلة على بطلان هذا الوقف وعوده طلقًا، وقسمه على قسم الله ورسوله أكثر من أن تحصر، ولكن من أوضحها دليل واحد؛ وهو أن يقال لمدعي الصحة: إذا كنت تدعي أن هذا مما يحب الله وسوله وفعله أفضل من تركه، وهو داخل فيما حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة الجارية وغير ذلك، فمعلوم أن الإنسان مجبول على حبه لولده وإيثاره على غيره حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن: 15) ، فإذا شرع الله لهم أن يوقفوا أموالهم على أولادهم ويزيدوا من شاءوا، أو يحرموا النساء والعصبة ونسل البنات، فلأي شيء لم يفعل ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولأي شيء لم يفعله التابعون؟ ولأي شيء لم يفعله الأئمة الأربعة وغيرهم؟ أرغبوا عن الأعمال الصالحة، ولم يحبوا أولادهم، وآثروا البعيد عليهم وعلى العمل الصالح، ورغب في ذلك أهل القرن الثاني عشر [3] أم تراهم خفي عليهم حكم هذه المسألة، ولم يعلموها حتى ظهر هؤلاء فعلموها؟ سبحان الله ما أعظم شأنه وأعز سلطانه. فإن ادعى أحد أن الصحابة فعلوا هذا الوقف، فهذا عين الكذب والبهتان؛ والدليل على هذا أن هذا الذي تتبع الكتب وحرض على الأدلة، لم يجد إلا ما ذكره ونحن نتكلم على ما ذكره. فأما حديث أبي هريرة الذي فيه (صدقة جارية) فهذا حق، وأهل العلم استدلوا به على من أنكر الوقف على اليتيم وابن السبيل والمساجد، ونحن أنكرنا على من غيَّر حدود الله وتقرب إليه بما لم يشرعه، ولو فهم الصحابة وأهل العلم هذا الوقف من هذا الحديث لبادروا إليه. وأما حديث عمر أنه تصدق بالأرض على الفقراء والرقاب والضيف وذوي القربى وأبناء السبيل، فهذا بعينه من أبين الأدلة على مسألتنا، وذلك أن من احتج على الوقف على الأولاد ليس له حجة إلا هذا الحديث؛ لأن عمر قال: لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف، وأن حفصة وليته ثم وليه عبد الله بن عمر، فاحتجوا بأكل حفصة وأخيها دون بقية الورثة. وهذه الحجة من أبطل الحجج، وقد بينه الشيخ الموفق رحمه الله والشارح [4] وذكر أن أكل الولي ليس بزيادة على غيره، وإنما ذلك أجرة عمله كما كان في زماننا هذا، يقول صاحب الضحية لوليها الجلد والأكارع، ففي هذا دليل من جهتين: (الأول) : أن من وقف من الصحابة مثل عمر وغيره، لم يوقفوا على ورثتهم، ولو كان خيرًا لبادروا إليه، وهذا المصحح لم يصحح بقوله: (ثم أدناك أدناك) ، فإذا كان وقف عمر على أولاده أفضل من الفقراء وأبناء السبيل، فما باله لم يوقف عليهم؛ أتظنه اختار المفضول وترك الفاضل؟ أم تظنه أنه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره لم يفهما حكم الله. (الثاني) : أن من احتج على صحة الوقف على الأولاد وتفضيل البعض، لم يحتج إلا بقوله: (تليه حفصة ثم ذوو الرأي وأنه يأكل بالمعروف) وقد بينا معنى ذلك وأنه لم يبر أحدًا، وإنما جعل ذلك للولي عن تعبه في ذلك. فإذا كان المستدل لم يجد عن الصحة إلا هذا، تبين لك أن قولهم تصدق أبو بكر بداره على ولده وتصدق فلان وفلان، وأن الزبير خص بعض بناته ليس معناه كما فهموا، وإنما معناه أنهم تصدقوا بما ذكر صدقة عامة على المحتاجين، فكان أولاده إذا قدموا البلد نزلوا تلك الدار؛ لأنهم من أبناء السبيل كما يوقف الإنسان مسقاة ويتوضأ منها وينتفع بها هو وأولاده مع الناس، وكما يوقف مسجدًا ويصلي فيه، وعبارة البخاري في صحيحه: وتصدق أنس بدار فكان إذا قدم نزلها، وتصدق الزبير بدوره واشترط للمردودة من بناته أن تسكن. فتأمل عبارة البخاري يتبين لك أن ما ذكره عن الصحابة مثل: من وقف نخلاً على المفطرين من الفقراء في هذا المسجد، ويقول إن افتقر أحد من ذريتي فليفطر معهم، فأين هذا من وقف الجَنف والإثم على أن هذه العبارة من كلام الحميدي، والحميدي في زمن القاضي أبي يعلى. وأجمع أهل العلم على أن مراسيل المتأخرين لا يجوز الاحتجاج بها، فمن احتج بهذا فقد خالف الإجماع، هذا لو فرضنا أنه يدل على ذلك، فكيف وقد بينا معناه؟ ! ولله الحمد. إذا تبين لك أن من أجاز الوقف على الأولاد والتفضيل، لم يجد إلا حديث عمر وقوله ليس على من وليه جناح.. إلخ، وأن الموفق وغيره ردوا على من احتج به [5] تبين لك أن حديث عمر من أبين الأدلة على بطلان الوقف الجنف والإثم. وأما قوله: لم يكن من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذو مقدرة إلا وقف، فهل هذا يدل على صحة وقف الجَنف والإثم، وما مثله إلا كمن رأى رجلاً يصلي في أوقات النهي، فأنكر عليه فقال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} (العلق: 9-10) ، ويقول: إن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يصلون أو يذكرون فضل الصلاة؛ وكذلك مسألتنا إذا قلنا {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) ، {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} (النساء: 12) ، وغير ذلك أو قلنا: (إن الله أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث) ، أو قلنا: إن النبي (صلى الله عليه وسلم) غلَّظ القول فيمن تصدق بماله كله، أو قلنا: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم) [6] وادعوا علينا أن الصحابة وقفوا هل أنكرنا الوقف كأهل الكوفة حتى يحتج علينا بذلك؟ وأما قول أحمد: من رد الوقف فكأنما رد السنة، فهذا حق ومراده وقف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه كما ذكره أحمد في كلامه. وأما وقف الإثم والجنف، فمن رده فقد عمل بالسنة ورد البدعة واتبع القرآن. وأما قوله: إن في صدقة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يأكل بالمعروف، وأن زيدًا وعمر سكنا داريهما التي وُقفتا؛ فيا سبحان الله من أنكر هذا وهذا كمن وقف مسجدًا وصلى فيه هو وذريته، أو وقف مسقاة واستقى منها وذريته، وقول الخرقي: والظاهر أنه عن شرط فكذلك، وهذا شرط صحيح وعلم صحيح؛ كمن وقف داره على المسجد أو أبناء السبيل واستثنى سكانها مدة حياته، وكل هذا يردون به على أهل الكوفة، فإن هذا ليس من وقف الجنف والإثم. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) ، وقوله: (صدقتك على رحمك صدقة وصلة) وقوله: (ثم أدناك أدناك) وأشباه ذلك، فكل هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن لا يدل على تغيير حدود الله، فإذا قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} (النساء: 11) ، وقف الإنسان على أولاده ثم أخرج نسل الإناث محتجًا بقوله: (ثم أدناك أدناك) أو صلة الرحم، فمثله كمثل رجل أراد أن يتزوج خالة أو عمة فقيرة فتزوجها يريد الصلة، واحتج بتلك الأحاديث، فإن قال: إن الله حرم نكاح الخالات والعمات، قلنا: وحرم تعدي حدود الله التي حدَّ في سورة النساء، قال: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} (النساء: 14) فإذا قال الوقف ليس من هذا، قلنا: هذا مثل قوله: (من تزوج خالة إذا تزوجها لفقرها ليس من هذا) فإذا كان عندكم بين المسألتين فرق فبينوه. وأما قول عمر: إن حدث بي حادث إن ثمغي صدقة هذا يستدلون به على تعليق الوقف بالشرط، وبعض العلماء يعطله فاستدلوا به على صحته، وأما القول: إن عمر وقفه على الورثة فيا سبحان الله كيف يكابرون المنصوص ووقف عمر وشرطه ومصارفه في ثمغ وغيرها معروفة مشهورة، وأما قول عمر: إلا سهمي الذي بخيبر أردت أن أتصدق بها فهذا دليل على أهل الكوفة كما قدمناه، فإن هذا دليل على صحة هذا الوقف المعلول الذي بطلانه أظهر من بطلان أصحابه بكثير [7] . وأما وقف حفصة الحلي على آل الخطاب فيا سبحان الله هل وقفت على ورثتها أو حرمت أحدًا أعطاه الله أو أعطت أحدًا حرمه الله أو استثنت غلبة مدة حياتها فإذا وقف محمد بن سعود نخلاً على الضعيف من آل مقري أو مثل ذلك هل أنكرنا هذا وهذا وقف حفصة، فأين هذا مما نحن فيه. وأما قولهم: إن عمر وقف على ورثته فإن كان المراد ولاية الوقف فهو صحيح وليس مما نحن فيه، فإن كان مراد القائل أنه ظن أنه وقف يدل على صحة ما نحن فيه فهذا كذب ظاهر ترده النقول الصحيحة في صفة وقف عمر، وأما كون حفصة وقفت على أخ لها يهودي فهو لا يرثها ولا ننكر ذلك، وأما كلام الحميدي فتقدم الكلام عنه. وسر المسألة أنك تفهم أن أهل الكوفة يبطلون الوقف على المساجد وعلى الفقراء والقربات الذين لا يرثونهم فرد عليهم أهل العلم بتلك الأدلة الصحيحة، ومسألتنا هي إبطال هذا الوقف الذي يغير حدود الله وأشياء [8] حكم الجاهلية، كل هذا ظاهر لا خفاء فيه، ولكن إذا كان الذي كتبه يفهم معناه، وأراد به التلبيس على الجهل كما فعل غيره فالتلبيس يضمحل وإن كان هذا قدر فهمه وأنه ما فهم هذا الذي تعرفه العوام في الخلفاء والخليفة على الله؟ وأما ختمه الكلام بقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} (الحشر: 7) فيا لها من كلمة ما أجمعها، ووالله إن مسألتنا هذه من إنكارها وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزوم حدود الله والعدل بين الأولاد ونهانا عن تغيير حدود الله، والتحيل على محارم الله، وإذا قدرنا

من عنيزة إلى قاهرة مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ من عنيزة إلى قاهرة مصر في رجب سنة 1346 بسم الله الرحمن الرحيم أبعث جزيل التحيات، ووافر السلام والتشكرات، لحضرة الشيخ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم حرسه الله تعالى من جميع الشرور، ووفقه وسدده في كل أحواله آمين، أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فالداعي لذلك ما اقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بها الشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصر الإسلام والمسلمين، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم، وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة، وأنعم عليكم بنعمه الظاهرة والباطنية، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثًا واسعًا لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون وأنفعها لشدة الحاجة بل دعاء الضرورة إليه ألا وهو ما وقع فيه كثير من فضلاء المصريين وراج عليهم من أصول الملاحدة والزنادقة من أهل وحدة الوجود والفلاسفة بسبب روجان كثير من الكتب المتضمنة لهذه الأمور ممن يحسنون بهم الظن ككتب ابن سينا وابن رشد وابن عربي ورسائل إخوان الصفا بل وبعض الكتب التي تنسب للغزالي وما أشبهها من الكتب المشتملة على الكفر برب العالمين والكفر برسله وكتبه واليوم الآخر، وإنكار ما عُلِمَ بالضرورة من دين الإسلام، فبعض هذه الأصول انتشرت في كثير من الصحف المصرية بل رأيت تفسيرًا طبع أخيرًا منسوبًا للطنطاوي قد ذكر في مواضع كثيرة في تفسير سورة البقرة شيئًا من ذلك ككلامه على استخلاف آدم وعلى قصة البقرة والطيور ونحوها بكلام ذكر فيه من أصول وحدة الوجود وأصول الفلسفة المبنية على أن الشرائع إنما هي تخييلات وضرب أمثال لا حقيقة لها، وأنه يمكن لآحاد الخلق ما يحصل للأنبياء ما يجزم المؤمن البصير أنه مناقض لدين الإسلام وتكذيب لله ورسوله، وذهاب إلى معانٍ يُعلم بالضرورة أن الله ما أرادها وأن الله بريء منها ورسوله، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها، ويلومهم على إهمالها وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسبب إهمال علمها وعملها. وَيْح من قال ذلك، لقد علم كل من عرف الحقائق أن هذه العلوم هي التي أوهنت قوى المسلمين وسلطت عليهم الأعداء وأضعفتهم لزنادقة الفرنج وملاحدة الفلاسفة، وكذلك يبحث كثير منهم في الملائكة والجن والشياطين ويتأولون ما في الكتاب والسنة من ذلك بتأويلات تشبه تأويلات القرامطة الذين يتأولون العقائد والشرائع فيزعمون أن الملائكة هي القوى الخيرية التي في الإنسان فعبَّر عنها الشرع بالملائكة كما أن الشياطين هي القوى الشريرة التي في الإنسان فعبَّر عنها الشرع بذلك، ولا يخفى أن هذا تكذيب لله ولرسله أجمعين، ويتأولون قصة آدم وإبراهيم بتأويل حاصله أن ما ذكر الله في كتابه عن آدم وإبراهيم ونحوهما لا حقيقة له، وإنما قصد به ضرب الأمثال، وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه شيء من ذلك وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن مثل هذه الأمور إلا على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونها بكثير، وهذه الأمور يكفي في ردها في حق المسلم المصدق للقرآن والرسول مجرد تصورها، فإنه إذا تصورها كما هي يجزم ببطلانها ومناقضتها للشرع، وأنه لا يجتمع التصديق بالقرآن وتصديقها أبدًا، وإن كان غير مصدق للقرآن ولا للرسول صار الكلام معه كالكلام مع سائر الكفار في أصل الرسالة وحقيقة القرآن. وقد ثبت عندنا أن زنادقة الفلاسفة والملحدين يتأولون جميع الدين الإسلامي: التوحيد والرسالة والمعاد والأمر والنهي بتأويل يرجع إلى أن القرآن والسنة كلها تخييلات وتمويهات لا حقيقة لها بالكلية ويلبسون على الناس بذلك ويتسترون بالإسلام، وهم أبعد الناس عنه كما ثبت أيضًا عندنا أنه يوجد ممن كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ويعظم الرسول وينقاد لشرعه وينكر على هؤلاء الفلاسفة ويكفرهم في أقوالهم أنه يدخل عليه شيء من هذه التأويلات من غير قصد ولا شعور لعدم علمه بما تؤول إليه ولرسوخ كثير من أصول الفلسفة في قلبه، ولتقليد من يعظمه وخضوعًا أيضًا، ومراعاة لزنادقة علماء الفرنج الذين يتهكمون بمن لم يوافقهم على كثير من أصولهم ويخافون من نسبتهم للبلادة وإنكار ما علم محسوسًا بزعمهم فبسبب هذه الأشياء وغيرها دخل عليهم ما دخل، فالأمل قد تعلق بأمثالكم لتحقيق هذه الأمور وإبطالها فإنها فشت وانتشرت وعمت المصيبة بها الفضلاء فضلاً عمن دونهم، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة يهتدي به الضالون، وتقوم به الحجة على المعاندين، وقد ذكرت لحضرتكم هذه الأشياء على وجه التنبيه والإشارة؛ لأن مثلكم يتنبه بأدنى تنبيه، ولعلكم تجعلونه أهم المهمات عندكم؛ لأن فيه الخطر العظيم على المسلمين، وإذا لم ير الناس لكم فيه كلامًا كثيرًا وتحقيقًا تامًا فمن الذي يعلق به الأمل من علماء الأمصار؟ والرجاء بالله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ويجعلنا وإياكم من الهادين المهتدين إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وسلم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم الداعي ... ... ... ... ... ... ... عبد الرحمن بن ناصر السعدي (المنار) إننا لا نألو جهدًا في الرد على كل ما نطلع عليه من البدع المخالفة لكتاب الله والصحيح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الدعوة إليهما على الوجه الذي كان عليه جمهور السلف الصالح، وفي الرد على خصومهما كما يرى في مقالة أعداء الإسلام من هذا الجزء، والذي نعلمه أن بدعة وحدة الوجود وفلسفة اليونان في الإلهيات والرسالة التي فتن الناس بها الباطنية وغيرهم في عصرهم قد نسخت وزالت في هذا العصر فلم يبق لهم دعاة، وإن كان لها اتباع قليلون وتفسير الشيخ طنطاوي جوهري لم نطلع عليه وإنما رأينا جزءًا واحدًا منه عند أحد أصدقائنا فتصفحت قليلاً منه في بضع دقائق فرأيت أن همه منه حث المسلمين على علوم الكون وشرح الكثير من مسائلها بمناسبة الآيات التي ترشد الناس إلى آياته تعالى في خلقه ونعمه على عباده كما جرى عليه في كتب أخرى له، وما نعرفه إلا مسلمًا يغار على الإسلام ويحب أن يجمع المسلمون بين الاهتداء به والانتفاع بعلوم الكون التي تتوقف عليها قوة الدول وثروة الأمم في هذا العصر، ونحن قد سقناه بالدعوة إلى هذا، وبيناه بالدلائل في مواضع كثيرة من تفسيرنا من المنار وإن كنا أشرنا إلى الانتقاد على خطة الأستاذ المذكور في تفسيره فيما بيناه من أساليب المفسرين في فاتحة الجزء الأول من تفسيره ومراجعة ما كتبه من الآيات التي ذكرتموها. ويجب عليكم أن تفرقوا بين علوم الكون التي ندعو إليها وبين الفلسفة قديمها وحديثها، فالفلسفة آراء ونظريات فكرية، وعلوم الكون عبارة عن العلم بما أودع الله تعالى في خلقه من المنافع كمنافع الماء وبخاره والهواء وما تركبا منه ومنافع الكهرباء التي منها التلغراف والتليفون وغيرهما بجميع الصناعات العجيبة والآلات الحربية من برية وبحرية وهوائية وجميع العقاقير الطبية مأخوذة من هذه العلوم فهي حقائق قطعية ثابتة بالحس، فمن يزعم أنها تخالف ما بعث به الله رسله فقد طعن في دين الله وصد العلماء بها عنه؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكذبوا حواسهم. وأما كفر من يكفرون في هذا العصر فأكثره من تأثير فلسفة الإفرنج المخالفة لفلسفة اليونانيين ومن جرى على طريقتهم كالعرب، وإن خالفهم في بعض النظريات كابن سينا وابن رشد وغيرهما، والرد على هؤلاء بما يرجى أن ينفعهم أو يقي كثيرًا من الناظرين في فلسفة العصر من إضلالهم يتوقف أحيانًا على تأويل بعض الآيات والأحاديث تأويلاً ينطبق على مدلولات اللغة في مفرداتها وأساليبها ويتفق مع العلم والعقل. وليعلم أخونا صاحب هذه الرسالة أن الملاحدة والمعطلين في مصر وأمثالها قد يصرَّحون بكفرهم ولا يخشون عقابًا ولا إهانة فهم لا يحتاجون إلى التستر بالإسلام كزنادقة الباطنية المتقدمين، وقصارى ما يلقونه من النقد إذا صرَّحوا بكفرهم في الكتب أو الجرائد أن يرد عليهم بعض المسلمين بالكتابة والناس أحرار فيها، فإذا ادعى بعضهم مع نشر الكفر أنه مؤمن وجد من ينصره ويقول: إن ما كتبه لا ينافي الإيمان ولا يصادم الإسلام، ولم يصرح أحد من المصريين في هذا العهد بالطعن في الإسلام وتكذيب القرآن بمثل ما صرَّح به الدكتور طه حسين المشتغل بالجامعة المصرية تدريسًا وتأليفًا ولم يلق أحد من التكفير والتجهيل والطعن على ذلك مثل ما لقي من الكُتَّاب والمؤلفين من علماء الدين وعلماء الدنيا حتى اقترح بعض أعضاء مجلس النواب عزله من الجامعة فلم تعزله الحكومة؛ لأن أنصاره فيها كانوا أقوى من خصومه وكان منهم عدلي باشا رئيس الوزارة وثروت باشا وزير الخارجية الذي طرز الدكتور طرة كتاب الطعن باسمه، وعلي باشا الشمسي وزير المعارف وأحمد لطفي السيد مدير الجامعة. وقد بيَّنا في فاتحة تفسيرنا وفي مواضع أخرى منه مسألة التأويل فذكرنا أننا نلم بتأويل بعض الآيات لأجل الدفاع عن القرآن، ورد بعض الشبهات التي يوردها الفلاسفة أو غيرهم عليها حتى لا يكون لهم حجة مقبولة عليها مع تصريحنا بأن اعتقادنا الذي ندعو إليه ونرجو أن نموت كما نحيا عليه هو اتباع مذهب السلف في كل ما يتعلق بعالم الغيب من الإيمان بالله وصفاته وملائكته وجنته وناره. والتأويل قد يكون المنقذ الوحيد لبعض الناس من الكفر وتكذيب القرآن؛ إذ من المعلوم أن الموقن بصدق القرآن لا يخرج من الملة بفهم بعض آياته فهمًا مخالفًا لفهم غيره إذا لم يكن في فهمه هذا جحد لشيء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، ونرجو أن يقرأ أخونا صاحب هذه الرسالة الجزء الأول من تفسير المنار المشتمل على هذا البحث ويكتب إلينا بما يراه فيه، فإنني كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطلع بعض علماء نجد على المنار ويفتح بيني وبينهم البحث والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقدًا لينجلي وجه الصواب فيها، وقد كنت كتبت إلى إمامهم بذلك، وإنني سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء ليوزعها على أشهرهم، وفعلت ذلك عدة سنين ولكن لم يأتني منه جواب، ثم ترجَّح عندي أن تلك النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سني الحرب وما بعدها.

خرافات عباد القبور في الصومال

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خرافات عباد القبور في الصومال جاءنا من الموحد السني صاحب الإمضاء الرمزي في (مركة - بنادر) بالصومال الرسالة الآتية: ظهرت بهذا القطر الصومالي الإسلامي البحت فئة تشبه الأَرَضَة التي تأكل خشب السفينة، تلك الفئة الضالة المضلة التي تجردت من كل عاطفة بعد أن خلت من كل مزية وفضيلة، تلك الفئة التي تظهر في كل زمان ومكان يفتنون المسلمين بزيارة المشاهد والقبور والذبح والنذور ويزينون لهم الخرافات بزخرف أقوالهم وبظاهر كبر عمائمهم وطول ذقونهم حتى ليخيل للناظر لأول مرة أنهم من أفاضل العلماء أو من الرجال والوجهاء على حين لو اطلعت على ما في قلوبهم أو تيسر لك الوقوف على أسرارهم وما يفعلونه في الخفاء لوليت منهم فرارًا ولملئت منهم رعبًا. فياللأسف وايم الله لقد فشت بهذا القطر الإسلامي البحت المنكرات والخرافات بزيارات المشاهد والقبور والذبح لها والطواف بها كطواف الكعبة المشرفة وخصوصًا عند مشهد عويس (أويس القرني) بمقدشوه إذ تجتمع بهذه الزيارة الألوف المؤلفة وعند الطواف كل طائفة تأمر الأخرى بآية الاستغفار هكذا {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} (نوح: 10-11) ثم يتوجهون نحو البلاد يطوفون طولاً وعرضًا صائحين بأعلى أصواتهم بآية الاستغفار على ما تقدم إلى أن تصل كل قبيلة حارتها فينتهي الاحتفال، وبعد غروب الشمس يتوجه نساء البلاد نحو المشهد للزيارة ومعهن طبول وعيدان خشب مثقوب يصفقن بها بأيديهن حاملات للبخور ويمكثن هناك قدر ساعتين يغنين ويمدحن سيدتنا فاطمة الزهراء، وعند القيام يتبركن بصاحب المشهد بأخذ شىء قليل من تراب المحل يأكلن منه لأجل الحبل أو للجاه والقبول عند الرجال وغير ذلك. وكذلك تأسست من مدة قريبة زيارات جديدة للسيد أحمد الرفاعي بمقدشوه وغيرها وهي من أكبر المنكرات، وليلة زيارة السيد المذكور ترخص الدولة جميع اللعوبات والملاهي، كاليوم يعمل بها الطبول والمزامير والرقص والطنبرة السودانية ولعب الزار ورقص في الخدم وغيرها من أصناف لعب الأرض حول المسجد الذي تقام فيه بدع الطريقة الرفاعية مدة أربع ليال، وشيخ الطريقة ومريدوه وأنصاره الناشرون للخرافات داخل المسجد يتلون مناقب السيد أحمد الرفاعي، والغوغاء والطبول والمزامير حولهم ولا ينكرون عليهم شيئًا سوى أنهم يهنئ بعضهم بعضًا بأن هذه السنة للزيارة تحسنت جدًّا، يكثر أصناف الرقص والملاهي أمام المسجد والغرض من قولهم: تحسنت الزيارة لديهم، نعم تحسنت جدًّا بحصول الدراهم والمال من عامة الجهال، عباد القبور والخيال، حتى إن أحد السادة ادعى أنه رأى سيدتنا الزهراء فبنى لها مشهدًا يُزَار كل سنة وتجتمع عنده ناس كثيرون لتلاوة المولد النبوي الشريف، وإن المنكبين على هذه الزيارة النساء فقط؛ لأن منهم يحصل المقصود. وكذلك زيارة الشيخ صوفي المشهور بعلمه وورعه المدفون بمقدشوه له زيارة عظيمة تجتمع إليها الخلائق من جميع أنحاء القطر، ويكون بها رخصة لجميع الملاهي والرقص مثل ما تقدم ذكره، ولكن قبة الشيخ المذكور خارج المدينة بعيدة من محل الراقصات والطبول والمزامير، وعشية ليلة الزيارة تروح إلى القبة جميع الطرائق بزفات كمثل زفة الرفاعي والقادري وزفة الصالحية والأحمدية، ويذكرون هناك أذكارًا مبدلة وأسماء محرَّفة إلى غروب الشمس فإذا غربت توجهت زفات الطرائق نحو المدينة إلى بيت أولاد الشيخ المذكور وهناك يتلون الفاتحة وينتهي عملهم، وتلك الليلة تروح نساء المدينة ويمكثن هناك طول الليل إلى قرب الفجر وتذبح البقر وبعض الغنم ويستمر الطبخ هناك طول الليل، والبعض إلى ثاني يوم إلى وقت الرجوع يدخلن لتقبيل التابوت وأخذ قليل من تراب القبر. ومن هذا النوع زيارة الشيخ عثمان بمركة يطوفون بقبته مثل زيارة عويس (أويس) القرني المتقدم ذكره، وتلك الزيارة لها فسحة لجميع اللعوبات أصحاب الطبول والمزامير وغيرها وتجتمع خلائق من أنحاء القطر الصومالي رجالاً ونساء وأغلبية هذه الخلائق تجتمع لأجل الفحشاء والمنكرات، وثاني ليلة تكون زيارة النساء الناشئات على الخرافات وسيء العادات فيغتسلن من ماء بركة المسجد عاريات؛ لأن الشيخ المدفون كان يغتسل عند هذه البركة في أيام حياته، ومن اعتقاداتهم أن من اغتسل من تلك البركة فقد محا الله ما تقدم من ذنوبه، ويقضي الله مراده ولا يصيبه داء طول السنة ولا يخلو من اختلاط بعض الشبان معهن، وثالث ليلة تجتمع جميع الطرائق، وكل طريقة تأخذ راية من الرايات التي على المسجد ويدخلون في البلاد بزفات وحامل الراية أمامهم وعند مرورهم بالأزقة يقرب حامل الراية حول شبابيك البيوت قصد التبرك بمسح الراية على وجوه النساء ويربطن بالراية بعض نقود لحامل الراية الولي المذكور إلى أن يصل الجميع إلى دار القائم بخدمة الولي المذكور فتنتهي الزيارة هكذا. ومثله زيارة رجل عالم من علماء مركة وشيخ الطريقة الأحمدية تجتمع لها جميع البوادي البرية وأهل بلدان أخرى رجالاً ونساء ويختلط الحابل بالنابل فهي أعظم زيارة من نوعها لجمع المال من الجهال العامة ويجري بها حسب ما تقدم من الكلام، وأحيانًا يقف أحد أولاد الميت ويخطب في القوم بأن من فاته هذه الزيارة كمن فاته الحج بمكة والوقوف بعرفات. وكذلك زيارة أحد علماء مقدشوه ورئيس القضاة سابقًا توفي إلى رحمة الله من مدة قريبة فبنت الدولة على قبره أحسن قبة وأنشأت له زيارة بكل سنة مثل هذه الأمور المتقدمة من عباد القبور الخرافيين، وإنها لخطة طيبة لجمع المال من عامة الجهال بدون تعب، ومن هذا القبيل كل من مات له والد أو ولد أو أخ بنى على قبره وبعد حلول سنة رتب الزيارة على القبر ونادى في البلاد بحضور زيارة الشيخ فلان اليوم فتجتمع خلائق كثيرة: فبعض لأجل الأكل، وبعض للزيارة والتبرك من الشيخ المدفون، وبعد تلاوة المولد النبوي الشريف يقف عند الباب أحد أقرباء الميت يسأل الناس الخارجين من القبة واحد بعد آخر إيش جبت للشيخ حق الزيارة فيتلجلج الزائر فيدفع الذي يتيسر له بجيبه خوف أن يبطش به الشيخ المدفون في الليل عند المنام. فإذا نصح لهم ناصح كفَّروه وأخرجوه من الدين بسبب أنه أهان معبودهم المشهور أو المقبور فلقبوه بعدئذ بالوهابي أو الإرشادي وعندهم أصحاب هذه الألقاب أهل بدعة وزندقة وخارجون عن المذاهب الأربعة: فهل يجوز لهم أن يتجروا بالأموات؟ وهل يجوز أكل تراب المشهد؟ أو تقبيل التابوت أو يحلفوا بهم؟ وهل يجوز الطواف على الصفة المتقدمة؟ وما حكم هذه الأمة وهذه حالتها وهذه الزيارات المذكورة وخلافها أغلبها بدعية وشركية؟ ربنا اهدنا إلى الصراط المستقيم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... غيور حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار أحيي فضيلتكم، وبعد فإن دفاعكم عن الدين الإسلامي يشجعني على سؤالي هذا، وأن أرفع طرفي إلى السماء وأبسط أكف الضراعة إلى الله تعالى راجيًَا رد هذا الجواب وإفادتي وأهل هذا القطر بنشره في مجلة المنار، نفعنا الله بكم وبالمسلمين آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمضاء الحقيقي (المنار) إن خرافات أهل الطرائق المنسوبة إلى الصوفية قد أفسدت عوام المسلمين في المشرق والمغرب، وإن فتنتها في إفريقية أعظم مما في غيرها، ويظهر أن إفسادها لدين أهل الصومال أشد من إفسادها لغيرهم؛ لعدم وجود العلماء العارفين بالكتاب والسنة ومذاهب الأئمة، وإن هذا الفساد عندكم لم يُبق للتوحيد الإسلامي بقية تعصم أصحابها من دعاء غير الله ورجاء النفع وخوف الضرر من الموتى بدون الأسباب العادية التي يتساوى فيها البشر. فما سألتم عنه من المتاجرة بالأموات وأكل تراب المشهد والقبر وتقبيل التوابيت لو لم يكن ناشئًا عن عقيدة وثنية وخرافية شركية لكانت من المعاصي العادية، ولكن كل هذه أعمال وثنية صرفة وأصحابها ممن وصفهم الله في كتابه بأنهم {اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) وبقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (البقرة: 165) وبقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (الزمر: 3) الآية، وبقوله: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) نعم، إن كل هذه الجموع التي وصفتم أعمالها عند هذه المشاهد والمقابر يتقربون إلى الله تعالى بما يعملون، وكل ما يتقرب به إلى الله فهو عبادة. وأجمع المسلمون على أن الله تعالى لا يُعْبَدُ إلا بما شرعه من الدين وبيَّنه عنه خاتم رسله صلى الله عليه وسلم، فإن عُبِدَ بما لم يشرعه كانت العباده معصية كما قال الفقهاء في صلاة الرغائب وصلاة شعبان قال النووي في المنهاج: (وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان) فكيف القول ببدع القبور الوثنية وهي عبادة لغير الله، نسأله تعالى أن ينصر إمام السنة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز ونجد وقومه ليجعل الحرمين الشريفين مثابة لإعادة دين التوحيد بالعمل كما كان، فإن نشره بالعلم وحده صار متعذرًا؛ لعموم الجهل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

مختارات من الجرائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مختارات من الجرائد فصل الدين عن السياسية [1] من جملة بنود بروغرام الوزارة البلجيكية الجديدة مساعدة المبشرين للدين المسيحي على تنصير أهل الكونغو الوطنيين. وهذا البروغرام قد قُرئ في المجلس النيابي وجرى قبوله مع أن أكبر حزب في بلجيكا هو حزب الاشتراكيين إذا قيس بكل من سائر الأحزاب السياسية في هذه البلاد، ومعلوم أن حزب الاشتراكيين غير متدين لكنه لم يعترض. ونحن لا يسوءنا أصلاً أن يتنصر أهالي الكونغو ويتخلصوا من الفتيشية ولا نخشى أن النزر من المسلمين العرب الذين في تلك البلاد يتحولون عن الإسلام، كما أننا نعتقد أن مرمى الحكومة البلجيكية في مشروع الدعاية المسيحية هو الفتيشيون الذين هم الأكثرية في الكونغو، لذلك فكلامنا ليس من باب الاعتراض على مشروع التنصير الذي قرَّرت الحكومة البلجيكية معاضدته، ولكن مقصودنا من هذا الخبر شيء آخر، وهو أن الحكومات المتشبعة بروح المدنية لا تعادي الدين كما يقول بعض الملحدين، بل هي تعاونه وتتزلف بنشره إلى شعوبها. وعلى كل الأحوال فدولة بلجيكا دولة مدنية تامة الإرادة. وعلى كل الأحوال أمة بلجيكا أمة متمدينة راقية لا تنحط عن أمة أخرى أوربية في سلم الاجتماع ولا في درجات الثقافة. وهي مع ذلك تجعل من أركان بروغرامها نشر الدين المسيحي في مستعمرة الكونغو التي هي من أعظم مستعمرات أوربة في أفريقية وأغناها. إذن المدنية تجتمع مع الدين إذن الحكومة تتصل بالكنيسة. إذن اللادينية ليست شرطًا من شروط الحضارة الأوربية. إذن بلجيكا أمة مسيحية، لا تزال مسيحية وحكومتها تتقرب إليها بإعلان نشر الدين المسيحي. إذن هذه الدعاية الدينية لن تضير رقي بلجيكا شيئًا. إذن الحكومات الشرقية التي تزعم أنها إنما تقطع صلتها بالدين الإسلامي اقتداء بحكومات أوربة التي بزعمها قطعت صلتها بالدين المسيحي إنما هي حكومات تضلل أفكار السُّذَّج من رعيتها وتموه عليهم وتقصد حربًا وتوري بغيرها. إذن هذه الحكومة كاذبة فيما تزعم، وإذن ناشرو دعايتها في مصر والبلاد العربية كاذبون أيضًا. إذن على الأمة المصرية وعلى الأمة العربية جمعاء أن يتنبهوا للحقائق. بروكسل 16 ديسمبر (ش) (المنار) من الجلي الواضح أن الكاتب يعني أن الحكومة التركية كانت تقصد حرب الدين الإسلامي وتدعي أنها إنما تتبع مدنية أوربة الراقية، وقد برح الخفاء وظهر غرضها لكل أحد. *** الإسلام في أميركا قسيس مسيحي يسلم نشرت إحدى المجلات الأمريكية بحثًا ممتعًا لراهب جزويتي تناول فيه مسألة سرعة انتشار الدين الإسلامي في الولايات المتحدة الأمريكية، ومما جاء فيه: لقد أخذ الإسلام ينتشر بسرعة مدهشة في جميع أنحاء الديار الأمريكية، ويبذل ناشروه جهدًا عظيمًا في هذا السبيل حتى عم القرى والمدن الأمريكية، وكلما حل بجهة اتخذ له مقامًا فيها بشكل محفل أو لجنة أو جمعية يرأسها أناس من المسلمين. وفي أميركا خمسة مراكز إسلامية عالية: أهمها مركز نيويورك وأعضاؤه 135 شخصًا ثم مركز ديترويت ثم مركز أنديانانوس وأعضاؤه 36 شخصًا. وإمام المسجد مسلم من إفريقيا، وفي سنت لويس 75 مسلمًا، ويرجع الفضل في ذلك كله إلى قسيس مسيحي أسلم، وقام بمهمة التبليغ بالإسلام بين عامة الشعب وقد كلل جهاده بالنجاح. وهناك أيضًا سبعين عضوًا من عِلْيَة الأميركيين يقومون بوظيفة تبليغ الدين الإسلامي ونشره في الأرجاء الأميركية، ولقد صار مركز المسلمين الأميركيين في بلدة (ووتوكارو) وفيها مسجد شامخ. وقد كثرت المساجد في أميركا، والصلاة تقام فيها في كل أوقاتها بانتظام مستمر، وقد أثرت وأثمرت تعاليم الدين الإسلامي في قلوب الكثير من أبناء أميركا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجامعة العربية *** النصب الصهيوني جامع عمر وهيكل سليمان في العام الماضي نشرت جريدة الحرية التي تصدر في ديترويت من الولايات المتحدة الأمريكية ما يأتي: هل الصهيونية يهودية محضة أم هي أحدث الزحافات التي أخترعتها لندن لتدويخ العالم أجمع؛ ولإنهاء أجل التمدن الحالي بالمعامع الكبرى الآتي وقوعها في الشرق الأدنى، وستشعلها شرارة الصهيونية حول القبر المقدس وجامع عمر ورجمة حجارة يحجها اليهود ويبكون مجد الهيكل الزائل منذ زوال الدولة اليهودية على أيام الرومانيين أو بعد المسيح بنحو ستين سنة. *** شيء عن الصهيونية وحكاية الهيكل تذيع أخبار البروبغندا اليهودية أن الصهيونيين ساعون في الاستعداد لإقامة هيكل سليمان مكانه القديم وعلى أنقاض أقدس جامع لدى العالم الإسلامي بعد مكة والمدينة، وقد توسعت البروبغندا المذكورة فقالت: إن اليهود قد أتموا معدات الهيكل لكنهم لم يجمعوها بعد، ولكنها معدة من حجارة ورخام وحديد وهلم جرَّا وموزعة على مراكز الجمعيات اليهودية في أقطار أوربا وأميركا، وقد اصطنعوها على طريقة منظمة كما تصنع أجزاء سيارة فورد في معامل عديدة، ثم متى حان تركيبها معًا تجمع في المكان المعد لتأليفها وتركيبها وبقليل من الوقت تخرج من المعمل معدة للاستعمال، وهكذا قضية الهيكل السليماني في أخبار الجرائد الأميركية، وقد شفعه مذيعوه بالإشارة إلى ما دون ذلك من أهوال الحروب؛ لأن العالم الإسلامي بأجمعه يقاوم بالقوة اعتداء كهذا على مقام ديني له أمجد أثر في تاريخ التمدن الإسلامي بعد المقامات النبوية في مكة والمدينة ويعترف مخترعو هذه الدعوة اليهودية أن مجرد ترويجها خطر على سلام فلسطين فكيف بهم إذا حاولوا تنفيذها. ويقولون - وليسوا بمكترثين لوخامة العاقبة -: إن أكبر المعامع في تاريخ العالم ستجيء في فلسطين، ولكنهم يعتقدون أن مسيحهم المنتظر سيظهر على الأرض وينصر الدولة اليهودية الجديدة ويُرجع إليها عز داود ومجد سليمان ويكون الهيكل الجديد قصر الملك اليهودي ومقام النبي أو المخلص مسيّا الآتي، وتشف البروبغندا التي يذيعونها بهذا الصدد عن كون الجامعات اليهودية قد أعدت مسيّا مع معدات الهيكل وأخذت تمهد للهجوم بخيلها ورَجْلها ومالها وآمالها على جامع عمر فتهدمه وعلى كنيسة القيامة فتكمل ما فعلته بها الزلازل، ثم بعد أن تكتسح المحمدية والمسيحية من أرض الفلسطينيين تعيد إلى العالم اليهودي دولته وتجمع أشتاته من أطراف الدنيا، وإذا لم تستطع الصهيونية تحقيق كل هاتيك الأوهام والأحلام تعود قانعة بما تستطيعه من جمع أموال التبرعات اليهودية في الولايات المتحدة وسائر بلدان العالم. (المنار) لا شك عندنا أن كلا من اليهود والإنكليز يكيد للآخر ليستعمله في الوصول إلى غرضه المنافي لغرض الآخر، ولا شك عندنا في أن الفتنة المنتظرة هي من أعظم فتن الأرض أو أعظمها على الإطلاق، وهي محاولة إعادة ملك اليهود المعبر عنها في الأحاديث بفتنة المسيح الدجال.

الملك فيصل بمصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الملك فيصل بمصر مر الملك فيصل بمصر في الخريف الماضي عائدًا من أوربة إلى العراق واتفق لنا التلاقي مع جلالته بسعي الأخ إحسان بك الجابري الذي كان رئيس الأمناء له في دمشق إذ كنت فيها؛ لاعتقاده أن تلاقينا قد يفضي إلى ما يفيد الأمة العربية ما كنا سعينا له هنالك، ولم يتم أو أكثر منه، ذلك بأنه ذكر لي بعد زيارته له أنه جرى ذكري في الحديث معه في اختلاف السوريين المشتغلين هنا بسياسة المسألة السورية، وأن جلالته أثنى عليَّ بهذه المناسبة ونوَّه بما كان من احترامه إياي وتقديمي والثناء عليَّ، وأنه لم يجر بيننا من التغاير ما يسوغ في نظره ما كان بعد ذلك من طعني فيه، وذكر أنه مع ذلك لم يقل فيَّ كلمة سوء وما زال يقول كل خير. وسألني إحسان بك هل لدي مانع يصدني عن لقائه بعد هذا العلم بشعوره الشريف، وكلامه اللطيف، قلت: إن إخواني من هيئة إدارة جمعية الرابطة الشرقية قد كتبوا إليَّ بأنهم قرروا أن يستقبل جلالته وفد منهم ودعوني إلى ذلك فلم أذهب؛ لأنني لم أر من الذوق أن أقابله بادئ ذي بدء بعد أن كان ما كان من كلامي في سياسته وسياسة والده وإخوته، ولو فعلت لكان ذلك مدعاة للقيل والقال، وسوء التأويل. قال: وما تقول إذا أبدى جلالته رغبة في هذا التلاقي؟ قلت: أقابل هذه الرغبة بمثلها بل بخير منها؛ لأنني أسأت إليه ولم يسئ إليَّ، فهل يصح أن يرضى هو وأظل أنا ساخطًا؟ إذًا أكون حكمت على نفسي باللؤم، وحكمت له بأعلى مكارم الأخلاق، مهما أكن موقنًا بأنني كنت مصيبًا في انتقادي عليهم وخادمًا لأمتي وملتي فيه وأنه كان واجبًا عليَّ. ثم جاءني إحسان بك وأخبرني بأنه كلَّم جلالة فيصل في الموضوع فأظهر حسن الرغبة في التلاقي، وقال: إنه لم يبق وقت فراغ للقاء الخاص إلا الليلة المستقبلة، وكان ذلك مساء يوم الثلاثاء، وأن جلالته سيتعشى مع المندوب السامي البريطاني ويعود إلى الفندق في منتصف الساعة الحادية عشرة ويكون مستعدًا لمقابلتك، فإن لم يكن لديك مانع أخبرته، قلت: لا مانع وقد عاد جلالته في الموعد وكان كل منا قد سبقه بدقائق قليلة فخلونا به في حجرة صغيرة من الحجرات التى خصت به ومكثنا معه إلى نهاية الساعة الأولى بعد نصف الليل، وكنت أنا الذي استأذنت بالانصراف خلافًا للمعتاد في لقاء الملوك معتذرًا عنه بأنه يريد السفر ظهر غد فلا بد من ترك فرصة له للنوم، ولم يحضر مجلسنا أحد غير إحسان بك إلا الأمير أمين أرسلان الذي كان حضر بمعيته من الإسكندرية. بدأت الكلام معه بعد السلام والمصافحة بذكر وساطة إحسان بك الجابري وأنه ذكرنا بعهدنا في التلاقي بدمشق، وذكرت له ما قلته له وقال هو مثل ما نقله لي عنه إحسان أيضًا من استغرابه لطعني فيه مع ما كان بيننا من المودة وعدم صدور شيء منه يكدرها، وكون اختلافي مع والده لا ينال منه شيء؛ لأنهما لم يكونا متفقين في موضوعه، بل كان والده ساخطًا عليه وبقى خمس سنين لا يكتب له. لا أستحسن أن أنقل من حديثه في هذا الخلاف إلا قوله: إنه بذل جهده لدى والده في أمور منها ما كنا بدأنا بالسعي له في دمشق من الصلح بينه وبين ابن سعود قال: إنه كان يعتقد أنه مهما يتساهل والده فيه يكن خيرًا له ولهم وللقضية ولا سيما مسألة الحدود بين الحجاز ونجد وبين سبب ذلك بما علمت منه أنه كان يريد به حصر ابن السعود مع قومه في دائرة نجد الفقيرة؛ لاعتقاده أنه لا يمكنهم الحياة فيها فتذكرت أنني لما اتفقت معه على السعي لإقناع كل من والده وابن السعود بالصلح والاتفاق وكتب كل منا كتابًا لابن السعود بذلك وكتب هو وحده لولده جاء في جواب ابن السعود لي مع التصريح بالرغبة في الاتفاق بطاقة صغير بأنه هو يرغب في ذلك ظاهرًا وباطنًا بخلاف شرفاء مكة الذين تنقض أفعالُهم أقوالَهم، وأما هو فلم يستطع أن يحول والده عن رأيه فيه، ولكنه على كل حال والده يجب عليه تقبيل يده والمحافظة على كرامته والأدب معه فيما وافق رأيه وفيما خالفه كما قال، ووافقته على قوله هذا. ولما ذكر جلالته أن موقفي معه كان غير موقفي مع والده وافقته أيضًا مع الإشارة بلطف إلى أن سياسة أهل بيتهم في أساسها واحدة، وصرحت بأنني لم أكتب شيئًا في ذلك كله إلا وأنا أعتقد أنه حق وواجب عليَّ لمصلحة ملتي وأمتي قال: وأنا ووالدي نعتقد مثل ذلك، ولكن كل أحد يخطئ في اجتهاده ويصيب أفلست أنت كذلك؟ قلت: بلى، وحاش لله أن أدعي العصمة، ولكني أرجع عن خطئي إذا ظهر لي، وإنني قد صرحت في أول مقالة كتبتها في انتقاد سياستهم ونشرت في جريدة الأهرام قبل المنار بأنه هو ووالده من قبله وأخوه الأمير عبد الله من قبلهما قد عاملوني بمنتهى الاحترام والتكريم والآداب العالية، وإنني لم أنتقد أحدًا وأنا في خجل من نفسي مما سبق من حسن لقائه وتكريمه غير أهل هذا البيت، ولكن مصلحة الأمة فوق المجاملات الشخصية. ثم ذكرت له أنني من عهد قريب ذكرت في المنار ما كان في دمشق من لطف احتياله عليَّ لقبول شيء لائق من التكريم المادي منه؛ إذ ألح عليَّ بأن أستأجر دارًا لأن طول الإقامة في الفندق غير لائقة بي وقال: عليك الدار وعلينا الفرش والأثاث وأنني لما استأجرت الدار لم أخبر جلالته بها، وكتبت إلى نسيبي في طرابلس فأحضر لي جميع الأثاث منها (قلت له) : إنني ذكرت هذا في ردي على الذين زعموا أنني أخدم الآن ملك الحجاز ونجد لما بذل لي من المال وأنني فعلت ذلك معكم من قبل، ليعلموا أنني لم أخدم أحدًا ولا أخدم أحدًا، إنما أخدم أمتي في كل وقت بما أعتقد أنه الصواب والمصلحة وإنكم تعلمون ذلك كملك الحجاز ونجد، ويعلمه كل من اطلع على كلامي. ثم انتقلنا من بحث العتاب إلى البحث الأهم وهو بحث الأمة العربية ومستقبلها وما يجب على ولاة أمورها وأهل الرأي والعمل فيها وهو الذي كنت أحاول استخلاصه من لقائه لأعلم ما عسى أن يكون بقي من تأثير تلك الأيمان المغلظة والعهود الموثقة التي أخذتها عليه جمعيته العربية، بل لأعلم ما يقول في المسألتين العربية والإسلامية اللتين بينت له في دمشق القول الفصل فيهما، وقد صار ركنًا في تنفيذ ما وافقني عليه يومئذ من ذلك ولا سيما الاتفاق مع عبد العزيز آل سعود الذي بدأنا به في دمشق وقد علمت من فحوى الحديث أنه لا مجال لعمل شيء في المسألتين على أنه ذكر في حديثه رأيه في ابن السعود وملكه، وليس من الأصول أن أذكر ما سمعته ولا استنبطته من كلامه، ولكنني أجيز نشر كلمة صالحة من كلامه في خصمه باعترافه الملك عبد العزيز بن سعود ومعاهدته الأخيرة مع الإنكليز قال ملخصه: إن عبد العزبز زعيم كبير ذو مزايا نادرة تفتخر به الأمة العربية فإنه عمل بكفايته الشخصية عملاً عظيمًا في زمن قصير، إنه وفق في هذه المعاهدة توفيقًا عظيمًا، ثم لما ذكر رأيه في قومه وسياسته لهم وتعذر دوامها مع فقرهم وصعوبة مراسهم، ذكر مسألة إغارة فيصل الدويش على العراق وقال: إنه يعتقد أن هذا الاعتداء بدون إذنه ولا رضاه وأنه لا يبعد أن يسر بتمكن العراق من كبح جماحه إن حصل، ثم جاءت الأنباء بما يؤيد هذا بعد وصوله إلى العراق بمدة طويلة، لكن لم تلبث المصادر الشبيهة بالرسمية في الحجاز أن بينت أن حكومة العراق هي المتحرشة بالنجديين وحكومتهم ببنائها سلسلة حصون على الحصون خلافًا للمعاهدة بين الحكومتين المانعة من ذلك.

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (إعجاز القرآن) الطبعة الثالثة، وهي الملكية بمطبعة المقتطف، صفحاته 450 تقريبًا. سبق لنا أن قرظنا هذا السِّفْر الجليل بمقدمة الطبعة الثانية، ونشرها الأستاذ المؤلف في صدر الكتاب وجعلها عرضًا له على الأنظار، ولما نفدت نسخ هذه الطبعة رأى صاحب الجلالة الملكية الجالس على عرش مصر أن يعاد طبعه ويعم نشره فأصدر أمره الكريم بطبع ألوف كثيرة من نسخه على نفقة الخاصة الملكية وأمر -وفقه الله- أن يباع الكتاب للجمهور بخمسة قروش مصرية وهي تكاد تكون نصف النفقة المطبعية، وقد أخرجه مؤلفه الفاضل في هذه المرة بثوب قشيب وحلة جميلة ازدانت بصورة جلالة مولانا الملك فؤاد الأول مع صور شمسية لأوراق من القرآن الكريم المعروف (بمصحف الملك) الذي لم يطبع بعد كذلك تحلى جيد هذا الكتاب بتقريظ من أسمى التقاريظ وأبلغها يكفي أن يعرف أن كاتبه الرئيس الجليل المرحوم سعد زغلول باشا وأضيف إلى ذلك حكمة للمؤلف كتبها لهذه الطبعة الثالثة من خيرة ما خطه يراعه البليغ، والناس تتهافت على شرائه فهو في غنًى عن ترغيبهم فيه. *** (تاريخ اليمن) المسمى (فرحة الهموم والحزن في حوادث وتاريخ اليمن) تأليف الأستاذ العلامة الشيخ عبد الواسع اليماني تناول فيه مؤلفه طرفًا هامًّا من تاريخ اليمن وجغرافيتها، وقد انتصر على ذكر الحوادث التى اختارها بعد المائة الثانية عشرة للهجرة، وقد طبع على ورق من القطع المتوسط والعادي وثمن الأول اثنى عشر قرشًا والثاني عشرة قروش مصرية ويباع في مكتبة المنار. *** (الوجيز في الأدب وتاريخه) تأليف الأستاذ عبد السميع أفندي البطل أستاذ الأدب بمدرسة رقي المعارف يشمل مقرر الكفاءة والبكالوريا مطبوع على ورق صقيل جيد من القطع المتوسط وثمن النسخة عشرة قروشٍ يباع في مكتبة المنار وغيرها.

الرد على الزعيم محمد علي الهندي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرد على الزعيم محمد علي الهندي في موضوع ملك الحجاز وحكومته وقومه والخلافة (1) وردت على مؤتمر الصحافة بمصر برقية من مكة المكرمة تنبئ بأنه (اكتشف في مكة مؤامرة خطيرة ضد حكومة الحجاز أدت إلى القبض على شخص يدعى الشيخ عبد الله من العسير بتهمة التجسس، وقد ضبطت في حيازته أوراق من بينها خطابات إلى الإمام يحيى وولي عهده من (شوكت علي) الهندي يحثهما فيه على النهوض لغزو ابن السعود كما ضبطت خطابات أخرى في حيازة حسن عطاس وعبد العزيز اليمني تثبت اتصالهما بهذا الزعيم الهندي) . وقد اتفق أن ألم بمصر في أثناء ورود هذه البرقية الزعيم محمد علي الهندي شقيق شوكت علي الشهيرين في طريق سفره إلى أوربة فاطلع على هذه البرقية فرد عليها (بتصريحات) ألقاها إلى جريدة الأخبار الغراء فنشرتها في اليوم 23 من ذي الحجة الحرام، فألفينا فيها من المواربة وإخفاء الحقيقة التي نعرفها منه ومن أخيه أيام عقد المؤتمر الإسلامي العام بمكة المكرمة ومن بعض ما خطب به في الهند ونشره في جرائدها ما دَعَّنَا إلى الرد عليه دعًّا (على إردام الحُمَّى [*] علينا منذ شهر ونصف ونهي الأطباء إيانا عن الكتابة والقراءة) فكتبنا مقالاً لم يتيسر نشره في الأخبار حيث نشرت تلك التصريحات بل فُقِدَ فاضطررنا إلى كتابة هذا المقال الثاني، وكان بعض الكتاب من إخواننا المسلمين نشروا في جرائد أخرى ما استهجنوا به طعن الزعيم محمد علي في جلالة ملك الحجاز وبث دعايته بمصر في عداوته له في الوقت التي تظهر الأمة كلها شكر جلالته والثناء عليه لما قام به من خدمة حجاج بيت الله الحرام بتأمين البلاد المقدسة وتسهيل المواصلات فيها وغير ذلك، وتحث الحكومة على موالاته وشد أواخي الاتفاق مع حكومته لمصلحة القطرين؛ ولما يقتضيه دين الحكومتين والأمتين، وإنني أقسم الكلام إلى ثلاثة فصول: (1) في دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه. (2) في حكومة الحجاز وما وعد به ابن السعود فيها. (3) في قوم ابن السعود وقوته والخلافة، وتصدي الزعيمين لإقامتها أو الاتجار بها. *** (1) دفاع الزعيم عن أخيه ونفسه احتج على تبرئة أخيه مما جاء في برقية مكة بأمور: (أحدها) قوله: (وهل مبادئنا وآراؤنا وأفكارنا في حاجة إلى مؤامرات أو تدبيرات خفية أو أعمال غير مشروعة) ؟ (ثانيها) قوله: (إننا لم نكن ضد ابن السعود شخصه، ولكن لأنه جعل نفسه ملكًا على الحجاز، ونكون ضد الإمام يحيى إذا حدثته نفسه بأن يكون ملكًا على الحجاز؛ لأننا نعتقد أن الملوكية هي أول بدعة في الإسلام بخلاف الخلافة التي لا تعرف الملوكية بحال) وسماها في آخر تصريحاته وثنًا قال: إنه يجب هدمه والتخلص منه، ذكر أنهم يحاربون مبدأ الملوكية، ويعتقدون أنهم ينتصرون بالحق ومقارعة الحجة بالحجة، ويعتقدون: (أن غير ذلك من الوسائل التي يلجأ إليه ذوو الغايات من التدبيرات والمؤامرات أو استخدام وسائل الضعف (كذا) والقتل والاغتيال من أضر الوسائل المؤدية إلى الفشل) إلى أن قال: (ولا نعمل كما يعمل غيرنا؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال في سبيل تقوية دعائم ملكه، ولو علم أنها لا تنفق إلا على الملذات والشهوات لضن بها وصرفها فيما هو خير من ذلك) اهـ (رمتني بدائها وانسلت) . ونقول في تفنيد هذا الدفاع: (أولاً) إن مما لا يمكن إنكاره ولا المكابرة فيه أن عداوته وعداوة أخيه لابن السعود عداوة سياسية، والسياسة هي التي تكون دائمًا ذات مبادئ ظاهرة ودسائس باطنة، فهما ينازعان الرجل في ملكه ويسعون لإسقاطه، ولا يظن عاقل أن الغرور قد بلغ منهما أن يعتقد أنهما يقلبان ملكًا عن كرسي ملكه بالحجج، وقد تألب العالم الإسلامي كله (تقريبًا) على الملك حسين وكان هو وأخوه من أشد الناقمين عليه، وكان كاتب هذا الرد أشد منهما في ذلك وله في ذلك المقالات السياسية والفتاوى الشرعية، والحجج الدينية الناهضة التي نشرت في المنار وفي غيره من الجرائد اليومية السياسية، ومنها مقالات (السيد العلوي) التي نشرت في جريدة الأخبار، ولم يستطع العالم الإسلامي بسخطه ولا بإنكاره وحججه أن يثل عرش الملك حسين ثم ولده علي من الحجاز، وإنما ثله سيف ابن السعود فقط فالمبادئ الظاهرة لا تنافي السعي في الدسائس الباطنة، والأعمال الخفية غير المشروعة. (ثانيًا) إنه لا معنى لنفي العدواة الشخصية لملك ممن يعترف أنه يسعى لإسقاط ملكه؛ لأن عداوة الملك الشخصية لا تكون شرًّا من هذا؛ إذ لا يعقل أن يعادى الملك لطوله أو قصره أو لونه أو سمنه أو هزاله أو دمامة صورته أو غير ذلك من صفاته الشخصية. ولو كانت عداوة الزعيمين لجلالة عبد العزيز آل سعود لأجل تسميته ملكًا على الحجاز عداوة لصفة حكمه لا لشخصه، وكان سببها ما زعمه الزعيم محمد علي من كون الملكية أول البدع في الإسلام - وكانا لشدة تمسكهما بالسنة يعاديان كل صاحب بدعة- لعاديا جلالة ملك مصر وجلالة ملك الأفغان أيضًا، ولواليا الإمام يحيى؛ لأنه لم يلقب بلقب الملك، ومراده ومراد قومه بلقب الإمامة عين ما يريده الزعيمان من لقب الخلافة، وإذًا يصح ما يقال من أنهما يغريانه بالزحف على الحجاز وإنقاذه من الملك عبد العزيز؛ لتعميم إمامته وتقرير خلافته، فإن كان يصدهما عن هذا ما ينتحلان من مذهب السنة وعلمهما أنه هو وقومه على مذهب الزيدية وأصول المعتزلة فيما يسمونه العدل والتوحيد بالمعنى الذين ينكره عليهم أهل السنة، فلم لا يعاديانه لأجل بدعتي التشييع والاعتزال، وهما المدعيان القيام بإقامة السنة وهدم الابتداع. على أن الزعيمين يطعنان في شخص عبد العزيز آل سعود بما لا علاقة له بملكه ولا بشكل حكمه، وما أظن الأخ محمد علي نسي يوم وجدته في الصباح جالسًا في الحرم الشريف مع جماعة وأنا منصرف من طوافي فسلمت عليهم وجلست إليهم فألفيته يغتاب ابن السعود حتى في شكل لحيته، وما يقال من كثرة زواجه، فأنكرت عليه ذلك أمام بيت الله تعالى حيث تتضاعف السيئات كما تتضاعف الحسنات، وما اعتذر به من إخلاصه وحسن نيته وما رددت عليه بالمعروف واللطف من كون الإخلاص وحسن النية لا يحيلان المعصية طاعة ولا يبدلان السيئة حسنة، وكونهما سريرة بين العبد وربه لا نعلمهما فتقوم بهما علينا الحجة. حينئذ استدل على إخلاصه وإخلاص أخيه باضطهاد حكومتهما البريطانية لهما واعتقالها إياهما ورفع شعبهما لهما إلى مقام الزعامة، فقلت له: أنا لا أطعن في إخلاصكما فيما قاومتما به حكومتكما ولا في غيره، لا لما احتججت به عليه بل لأنه سريرة خفية لا يعلمها إلا الله تعالى، وأما هذه الحجة فهي داحضة عند من يعرف التاريخ الماضي وأحداث العصر الحاضر، فإننا نعرف في بلادنا أناسًا اعتقلتهم السلطة الأجنبية بجهل وغباوة منها فصارت العامة تعظمهم وتجلهم وتعدهم من المجاهدين في سبيل الأمة والوطن، ومنهم من نعرفه معرفة الخبر الطويل بأنه مادّيّ محض يتجر بالوطن والأمة، ويحتقر الدين والملة، ثم يدعي الزعامة بمثل هذه الشبهة. (ثالثًا) إن كانا لا يسعيان إلى غرضهما من تحويل حكومة الحجاز الملكية إلى الجمهورية كما قالا في الحجاز، أو الخلافة كما قال هو في مصر إلا من الطرق المشروعة كما ادعى فما بالهما قد بثا الدعوة في الهند إلى ترك إقامة فريضة الحج ما دام ابن السعود ملكًا في الحجاز، فهل شرع الله لهما أن يهدما الركن الاجتماعي الديني العام من أركان الإسلام (وهو ركن الحج) لأجل نكاية ابن سعود وإخضاعه لسياستهما الوهمية؟ ماذا يجيبان الله تعالى يوم القيامة إذا سألهما عمن أضلا من عوام الهنود فتركوا أداء فريضة الحج مع الاستطاعة حتى ماتوا ثم جاءوا في ذلك اليوم يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ} (الأعراف: 38) . (رابعًا) أغرب ما جاء في تصريحات الزعيم الهندي قوله: (ولا نعمل كما يعمل غيرنا؛ إذ يجمع النقود من المسلمين باليمين لينفقها بالشمال) إلخ، ما تقدم، فأول العبارة صريح في أن الذي يجمع النقود هو الملك ابن السعود، وأن غرضه منها تقوية دعائم ملكه، وهو غرض شريف وآخرها صريح في كونه لا يعلم أين تنفق، ولوعلم لضن بها وأنفقها فيما هو خير من ذلك (وهذه شهادة صالحة) (والفضل ما شهدت به الأعداء) ولكن العبارة تنافي ما قبلها فهي تدل على أن الذي يجمع النقود المشار إليها غيره، ولعل المراد أنه يجمعها له وباسمه ولكنه لا يوصلها إليه، ولم يبلغنا أن فردًا من الأفراد ولا جماعة من الجماعات تجمع نقودًا من الهند ولا من غيرها لملك الحجاز أو باسمه، وإن وجد من يعمل ذلك وصح ما قاله الزعيم فيهم فإن ذلك لا يعيب جلالة الملك الصالح المصلح الذي علم مئات الألوف من الحجاج بالمشاهدة وعلم الملايين من الناس بالنقل المتواتر أنه ينفق المال فيما لم يسبقه إليه أحد من ملوك المسلمين ولا خلفائهم من تسهيل أداء فريضة الحج ومنع الأذى عن مؤديها، ومنه ما رأوه في الموسم الأخير من تبليط المسعى بين الصفا والمروة ومنع الرواحل والدواب منه وإراحة الحاج من ذلك الغبار الذي كان يملأ الأفواه والأنوف حتى يصل إلى الصدور، ومنها المظلات العامة في الحرم الشريف وفي منى وفي طريق عرفات لوقايتهم من ضربة الشمس التي كان يموت بها في كل عام عدد كثير، دع الأمن العام الشامل من أول يوم والإسعافات الطبية والسيارات التى كانت تغدو وتروح بين مكة وعرفات لافتقاد من يعجز عن المشي أو يصاب بأذًى في الطريق فتحمله إلى مواضع الإسعاف. ولعل الزعيم لم يجرؤ على التصريح بمن عرَّض به أو بهم في مسألة النقود؛ لئلا يسألوه عن مئات الألوف من الجنيهات التي أخذتها جمعيته من بلاد الهند، وقيل: إن كذا وكذا منها قد ذهب بإفلاس أمين الصندوق، والباقي علمه عند علام الغيوب ثم يضربوا له ولهم المثل المشهور (رمتني بدائها وانسلت) . هذا، وإنه قد ورد النبأ الرسمي من حكومة الحجاز على الوكالة العربية في مصر بأن خبر المؤامرة على الحكومة الذي بلغته نقابة الصحافة المصرية لم يثبت وإنما ثبت وجود الخطابات من (شوكت علي) مع الجاسوس عبد الله العسيري، ويؤخذ من فحوى هذه الخطابات أنها اتخذت ذريعة لابتزاز الأموال. لو شئت لأحصيت كل دعاوى الزعيم الكبير محمد علي في تصريحه وفندتها وجنيت على قراء مقالي بتكليفهم قراءتها، وهي لا تعنيهم ولا يعنيهم أمر صاحبها، وإن كان زعيمًا لبعض الهنود على أنه فَقَدَ جُلَّ زعامته، والباقي منها على شفا جرف هار، لهذا أكتفي بالمسألتين اللتين تعنيان جماهير المسلمين ومحبي التاريخ الصحيح من غيرهم، وهما وعد ابن سعود للعالم الإسلامي بعقد مؤتمر يستنير برأيه في أمور الحجاز، وكتابته لملوك المسلمين ورؤساء حكوماتهم وأشهر جماعاتهم وبعض علمائهم بذلك، ومسألة رجال قوم ابن السعود وشعبه ومسألة الخلافة وخطل الزعيمين فيها فأقول: *** (2) حكومة الحجاز وما وعد ابن السعود فيها قد صرَّح الإمام عبد العزيز آل سعود بقصده وغرضه من الزحف على الحجاز تصريحات أذاعت بعضها الصحف المصرية وغيرها، أولها ما فاه به في نجد قبل خروجه منها إلى الحجاز، وخلاصتها أنه يريد تطهيره من إلحاد الظلم والاستبداد ويؤمنه ويقيم فيه الشرع والعدل مسترشدًا بآراء أهل العلم والرأي في العالم الإسلامي، وبعد أن التقى في مكة المكرمة بفضيلة الأستاذ المراغي مندوب

مسألة اجتماع صاحب المنار بالملك فيصل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة اجتماع صاحب المنار بالملك فيصل وسعاية العتل الزنيم ومفاسده فيها كتب إلينا من أكبر أمصار الحجاز أن رجلاً من مستخدمي الحكومة الحجازية كان بمصر وعاد إليها قبل موسم الحج الأخير فأذاع في جدة والمدينة المنورة ثم في مكة أن صاحب المنار لما قابل ملك العراق بمصر أعطاه عهدًا وميثاقًا بأنه لم يعد يدافع عن هؤلاء الوحوش النجديين، إلخ، وكان يقول في الاستدلال على صحة هذا الزعم: إنه قد نُشر في بعض الجرائد ورآه صاحب المنار ولم يكذبه ولو لم يكن صحيحًا لكذَّبه، أما صاحب هذه الفرية الحقيرة الدنيئة فقد عرفناه، وإن لم يَذكر اسمه أحد ممن كتب إلينا بالخبر: عرفناه مما سبق له من أمثال هذه السعاية: هو هو ذلك الذي أذاع تلك الإذاعات الباطلة في ضد ما وجهت سعيي له في حادثة المحمل المصري، هو هو ذلك الذي كان يطعن عليَّ في كل مجلس بمصر حتى أمام المرحوم سعد باشا والذي اجتهد في السعي للإيقاع بيني وبين سمو الأمير سعود عندما كان هنا، هو هو الذي أوعز إلى صنيعته بمصر في الطعن عليَّ في الجرائد مرارًا أو بذل لها المال أجرة نشرها، هو هو الذي أذاع تلك الأكاذيب في مسألة طبع كتاب المغني من كتب جلالة الإمام، ولقنها لبعض مراسلي بعض الجرائد السورية، وأنا لا أعلم سببًا لعداوته لي إلا أن يكون الحسد لما رآه من عناية الملك وشدة ثقته بي وخوفه أن أذكر لجلالته ما أعلم من مخازيه، ولكن هذا خلقه لا خلقي، وإذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدّق ما يعتاد من أوهامه وقد زاد في حقده عليَّ أخيرًا أنه دخل مكانًا بالقاهرة فيه كثير من الوجهاء فقاموا له ولم أقم؛ لأنه مجاهر بعداوته لي وأحمد الله أنني لا أعرف المداهنة ولم أعتد النفاق. وقد كان استغرابي لفريته الأخيرة أعظم من كل ما سبقها من أمثالها؛ لأن ثنائي على الإمام وقومه ودفاعي عنهم لا ينقطع ما دامت مناقب الإمام وأعماله الإصلاحية متجددة، وما دام يوجد في الناس من يطعن في قومه بالباطل إما اتباعًا للهوى وإما للجهل، ووالله إنني لا أبغي بهذا الزلفى عنده بل عند الله وحده. إن هذا العتل الزنيم والحسود الباغي كاذب في قوله الأخير ككذبه في أمثاله، وإنه كاذب في استدلاله عليه بأنني رأيت الخبر منشورًا في الجرائد ولم أكذبه، فإنني لم أر ذلك ولم يبلغني أن أحدًا نشر في جريدة، بل الأرجح أنه هو الذي افتحره على أنني لو رأيته في بعض هذه الجرائد الهُمزة اللُّمزة التي تلقب بالساقطة لما باليت به، ولما رددت عليه فإننا مأمورون بالإعراض عن الجاهلين، فكيف إذا كانوا كأصحاب هذه الجرائد الساقطة من الأدنياء المأجورين. ولكنني علمت أن جريدة لبنانية منها مأجورة لخصمنا في مسألة السياسة السورية قد كتب إليها أُجراء هذا الخصم بأن صاحب المنار قابل الملك فيصل واعتذر له عن طعنه فيه من قبل، وتذلل له ليعفو عنه أو ما هذا معناه، ولذلك صرحتُ فيما نشرت قبلاً من حديثي مع الملك فيصل بأنني قلت له في وجهه: إن كل ما كتبته فيهم صدر عن عقيدة وقصدت به خدمة أمتي وملتي، فأجابني بأن والده كان يعتقد أيضًا أن كل ما فعله وخالفناه نحن فيه إنما كان من اعتقاد منه بأنه عين المصلحة وخدمة الأمة، وبأنه إذا لم يكن والده معصومًا من الخطأ في عمله أو اعتقاده فلا يمكنني أنا ادعاء العصمة لنفسي في ذلك، وذكرت أنني قلت له: نعم لا أدعي العصمة من الخطأ، ولكنني إذا ظهر لي خطئي أرجع عنه، ولا يخفى أن مفهوم هذا الكلام أو فحواه أن والده لا يرجع عن خطئه وإن ظهر له، وأنه لو ظهر لي أنني كنت مخطئًا فيما كتبته فيهم لرجعت عنه حيث نشرته، وهذا تكذيب صريح لمن كتبوا إلى تلك الجريدة بأنني اعتذرت له، ولكني أكرم نفسي عن ذكر تلك الجريدة، وذكر من كتب لها وعن الرد عليهم بأن العفو إنما يطلب ممن يملك العقوبة، والملك فيصل لا يملك ذلك. ومن العجب عندي أن صديقًا من أخلص أصدقائي كتب إليَّ بمناسبة السعاية الأخيرة أن الذي زين لي لقاء الملك فيصل كان خادعًا، وأنه ما كان ينتظر من مثلي أن أنخدع له وإن قيل: (إن الكريم إذا خادعته انخدعا) وتمنى أن لا أعود إلى مثل هذا، وقد أجبته بأنني أعتقد أنه غير مخادع وأن نيته صالحة، وأنها تتعلق بخدمة الأمة العربية والإسلام من الناحية التى ذكرتها في المنار، وأنني قبلت وساطته لأجلها، على أن لي مقاصد أخرى من ذلك ذكرت بعضها دون بعض، ويمكنني أن ألخصها كلها هنا ليعلم ذلك الصديق وغيره أنني لم أكن منقادًا لصديقي إحسان بك الجابري للثقة بحسن قصده فقط وهي: 1- أنه كان مما افتراه عليَّ سفيه الملاحدة هنا أنني كنت أخدم سياسة فيصل في دمشق للانتفاع بماله، وأنني أخدم ابن السعود الآن لمثل ذلك فكانت فرصة لقاء فيصل التى سنحت من غير قصد ولا توقع ممكنة لي من تذكيره في وجهه بما كان من حرصه على إسداء منفعة مادية إليَّ لا ينافي قبولها الإباء وعزة النفس، واختياره منها أن يفرش لي الدار الواسعة التى استأجرتها، وما كان من سبقي إلى استحضار الفرش والأثاث لها من طرابلس حتى لا يبقى له مجال لإرسال ما لا بد لي من رده، ولم يكن يعلم بهذا أحد في الشام غير إحسان بك الجابري رئيس أمنائه؛ لأنه عرض ذلك عليَّ أمامه وعلى مسمعٍ منه، وقد تم لي هذا المقصد وأذعته في المنار. 2- إن فيصلاً أظهر وهو في أوربة في الزيارتين الأخيرتين لها ميلاً لمساعدة السوريين على قضيتهم، ولكن لدى فرنسة وكان بعض السوريين يرجون منه نوعًا آخر من المساعدة على فرنسة، والأذكياء منهم يعتقدون أنه لا يسعى إلا لنفسه أو إخوته، وأنه إنما يبغي بإظهار مساعدتهم أن يثقوا به فيقنع فرنسة بجعل أخيه ملكًا على سورية، وبذلك يأخذ ثأره ويجعل سلطان بيت الحسين الهاشمي ممتدًا من خليج فارس إلى البحر الأحمر على طول مملكة ابن السعود معتزًا بالدولتين الكبريين إنكلترة وفرنسة مؤقتًا إلى أن تؤول البلاد كلها إلى إنكلترة كما يتوقعون، فأحببت أن أسمع من لسانه ما لعلي أعلم به مراده، وقد كان. 3- رغبتي الخاصة في الوقوف على رأيه في ابن السعود وقومه ومستقبل ملكه كما ذكرت ذلك من قبل، وقد كان. 4و5 - ما كان موضوع الحديث بينى وبين إحسان بك الجابري، وهو استنباء جلالته عما كان موضوع بحثنا في الشام من أمر الجامعة العربية والجامعة الإسلامية، وما كان من توسلنا إلى الأولى بمكاتبة والده وابن السعود، إذ كتب هو إلى والده كتابًا أطلعني عليه بوجوب الاتفاق مع ابن السعود وكتب كل منا لابن السعود كتابًا أطلع الآخر عليه، وأرسل هو الكتب الثلاثة إلى صاحبيها، إلخ ما سبق ذكره في المنار. وأما الجامعة الإسلامية فكان موضوعها إزالة الشقاق والتفرق الذي حدث بسبب المذاهب وجمع كلمتهم على مصالحهم المشتركة في دنياهم ودينهم، كان فيصل قد سألني في دمشق هل هذا من الممكن؟ قلت: نعم، قال: وما الوسيلة إليه ؟ فذكرت له ما أراه وما كنت مهدته له في مقالات المصلح والمقلد وبينت له أن الخلاف والشقاق لا يزال على أشده بين أهل السنة والشيعة وأن من الممكن الاتفاق بينهما إذا سعى له أهل النفوذ والتأثير سعيه بالإخلاص، فأردت أن أعرف ما اختبره في العراق من حال الفريقين، وهو ما سألته عنه وعما قبله بالتصريح، وعلمت رأيه فيهما ولا يجوز في عرف الصحافة نشره بالتفصيل بدون إذنه، وهو بالإجمال يدل على الآفة المؤسفة ضعف الدين في الفريقين لا التعصب له باسم المذاهب، وإنما يتعصب كلٌّ لمنافعه المادية، وأما رأيه في الأمرين الثاني والثالث فإنما استدرجته إلى الحديث فيهما استدراجًا واستنبطت رأيه فيهما استنباطًا. أفرأيت أيها الصديق أن من له مثل هذه المقاصد المفيدة يكون مخدوعًا بحسن الظن وسلامة النية في ذلك الاجتماع؟

كتاب الأمير شكيب أرسلان

الكاتب: شكيب أرسلان

_ كتاب الأمير شكيب أرسلان إلى صديقه صاحب المنار في الجواب عما كتبه في تعزيته عن شقيقه المرحوم الأمير نسيب نشر كلاً من الكتابين كثير من الجرائد العربية المشهورة في مصر وسورية وفلسطين ولبنان وعَدُّوهُمَا من الآثار الأدبية في عبارتهما، كما أنهما من آيات الإخلاص في الأخوة الروحية بين صاحبيهما، وقد كان من سهو الإدارة تأخير نشر كتاب الأمير إلى الآن، وهذا نصه: إلى حضرة الأستاذ الأكبر والسراج الأزهر، القدوة الحجة، مذكي المنار الهادي إلى أقوم محجة، السيد محمد رشيد رضا، أمتع الله الإسلام بطول حياته آمين. إذا كنتُ قد فقدت أخي الكبير، فما زال لي منك أخ أكبر، وإذا كان قد انهد ركني المتين، فلم يبرح لي منك ركن أركن، وعماد أمتن، وليس بمهيض الجناح، من أنت جناحه، ولا بأعزل في الميدان، من رضي السيد من آل الرضا سلاحه، ولقد كان ما تفضلتَ به من التعزية على صفحات الصحف السيارة، خير جابر لخاطري الكسير، ومرقئ لمدمعي الغزير، ولم يكن بأول برهان على خلقك العظيم، وقلبك الكبير، وعلى أنك تعطف على القليل، فإذا به بإكسير نظرك كثير، وكأنك علمت بما فتَّ هذا الخطب من عضدي وكوى من كبدي، فبدرت إليَّ بما يكف سَوْرَة الخطب، ويكفكف صوبة الدمع، ويشفي حرقة الصدر ويهيب بي إلى ما أُمرنا به من الصبر. فأسأل واجب الوجود، أن يمتع الإسلام كله بطول بقائك، وأن يهدي القاصي والداني بأشعة ضيائك، وأن يبقيك للأمة العربية السندَ الأقوى، والجناب الأمنع، والبرهان الأسنع، والحجة القاطعة التي لا تُدْفَع، وأن يجعل البرَكة في حياة أنجالك، وأن يُقر عينك بذريتك وكلالتك وآلك، ولعمري إنه بسلامتكم يحسن العزاء، وبوجودك تهون الأرزاء، وبطلعة محياك عِوض عن كل ما ساء، وما ضر أن يكابر مكابر، أو يعاند معاند، فالحق شديد المِحال، والنور لا يختفي بحال، وما يُتعب هؤلاء أنفسهم إلا بالمُحال. وفي تعب من يحسد الشمس نورها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أخوك ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان

أصل دعوة التجديد الإسلامي في نجد وقاعدتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أصل دعوة التجديد الإسلامي في نجد وقاعدتها لا يزال كثير من الناس يجهلون تفصيل حقيقة هذه الدعوة التي يسمونها الوهابية؛ لجهلهم بتاريخها أو بحقيقة الإسلام التى كان عليها السلف الصالح، وقد ورد على الشيخ العلامة عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب صاحب الدعوة كتاب من العلامة الشيخ عبد الله الصنعاني يسأله فيه عما يدينون به وما يعتقدونه من الحق، فأجابه بالكتاب الآتي، فاستشكل الصنعاني مسألة المذهب في الجواب، فرد عليه الشيخ عبد الله بما أزال استشكاله فرأينا أن ننشر الجوابين في المنار؛ لأنهما فصل الخطاب في الموضوع، وهذا نص الجواب الأول. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني وفقه الله وهداه، وجنَّبه الإشراك والبدعة وحماه، وعليكم السلام ورحمة الله بركاته. (أما بعد) فوصل الخط، وتضمن السؤال عما نحن عليه من الدين. (فنقول) وبالله التوفيق الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بعبادة غيره، ومتابعة الرسول النبي الأمي حبيب الله وصفيه من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم فأما عبادة الله وحده فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل: 36) فمن أنواع العبادة الدعاء، وهو الطلب بياء النداء؛ لأنه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة أو بإحدى أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس فأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يدعوه ولا يدعوا معه غيره، وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60) وقال في النهي: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) و (أحدًا) كلمة تصدق على كل ما دُعِيَ به غير الله تعالى، وقد روى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء مخ العبادة) وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الدعاء هو العبادة) ثم قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، قال العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث (الدعاء مخ العبادة) قال شيخنا قال في النهاية: مخ الشىء خالصه، وإنما كان مخها لأمرين: (أحدهما) أنه امتثال لأمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) فهو مخ العبادة وخالصها. و (الثاني) أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع علقته عمن سواه ودعاه لحاجته وحده؛ ولأن الغرض من العبادة هو الثواب عليها، وهو المطلوب بالدعاء، وقوله: (الدعاء هو العبادة) قال شيخنا: قال الطيبي: أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر، وإن العبادة ليست غير الدعاء. انتهى كلام العلقمي [1] . إذا تقرَّر هذا فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدًا من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها، وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرَّمه الله تعالى ورسوله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 5-6) وقال تعالى: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ المُعَذَّبِينَ} (الشعراء: 213) وقال تعالى: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ} (يونس: 106) الآيات، وهذا من معنى (لا إله إلا الله) فإن (لا) هذه هي نافية للجنس فتنفي جميع الآلهة و (لا) حرف استثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل، والإله اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق، وهو الله تعالى الذي يخلق ويرزق ويدبر الأمور، وهو الذي يستحق الإلهية وحده، والتأله التعبد، قال الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة: 163) ثم ذكر الدليل فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (البقرة: 164) إلى قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً} (البقرة: 165) الآية. وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات والأقوال والأفعال قال الله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قُبِلَ، وما خالف رُدَّ على فاعله كائنًا مَن كان، فإن شهادة أن محمدًا رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله ومَن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتابعون لهم بإحسان وما عليه الأئمة المقتدى بهم من أهل الحديث والفقهاء كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى لكي تتبع آثارهم، وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة ولا إجماع الأمة ولا قول جمهورها. والمقصود بيان ما نحن عليه من الدين وأنه عبادة الله وحده لا شريك له فيها نخلع جميع الشرك، ومتابعة الرسول وبها نخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في الشرع [2] كجمع المصحف في كتاب واحد، وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة على التراويح جماعة، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كل خميس ونحو ذلك، فهذا حسن، والله أعلم، وصلى الله علي محمد وآله وصحبه وسلم. أجاب الصنعاني الشيخ عبد الله (رحمهما الله) على كتابه بالموافقة على كل ما فيه إلا قوله: إن مذهبهم مذهب الإمام أحمد فإنه يقتضي تقليده والتقليد محظور، وإنما المشروع اتباعه في الأخذ من الكتاب والسنة، فأجابه الشيخ عبد الله بهذا الكتاب وهو الثاني قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله الذي نزَّل الكتاب على النبي المختار، وبينه صلى الله عليه وسلم وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التابعون لهم من الأبرار. إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني سلمه الله من الشرك والبدع، ووفقه للإنكار على من أشرك وابتدع، والصلاة والسلام على محمد الذي قامت به على الخلق الحجة، وبيَّن وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده. (أما بعد) فقد وصل كتابكم وسر الخاطر، وأقر الناظر، حيث أخبرتم أنكم على ما نحن عليه من الدين وهو عبادة الله وحده لا شريك له ومتابعة الرسول الأمي سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات، والأحاديث الباهرات، وإن الرد عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى أقوال الصحابة ثم التابعين لهم بإحسان فذلك ما نحن عليه، وهو ظاهر عندنا من كل قول له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته العمل {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: 31) الآية {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} (الصف: 2) . وكل يدعي وصلاً لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا فنحن أقمنا الفرائض والشرائع والحدود والتعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علم الجهاد على أهل الشرك والعناد فلله الحمد والمنة. وأما استفصالكم عن قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريدوا أن نسلك في أخذ المسائل من الكتاب والسنة مثل مسلكه فنعم ما قلتم، وإن تريدوا بقولكم ذلك التقليد له فيما قاله من غير نظر إلى الحجة من الكتاب والسنة كما سلك بعض أتباع الأئمة الأربعة من جعل آرائهم وأقوالهم أصولاً لمسائل الدين واطَّرَحُوا الاحتجاج بالكتاب والسنة وسدوا بابهما إلى آخره. انتهى كلامكم ملخصًا. فالجواب وبالله التوفيق من أوجه (الوجه الأول) : إن في رسالتنا التى عندكم ما يرد هذا التوهم، وهو قولنا فيها: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (آل عمران: 31) الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم، فتوزن الأقول والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قُبِلَ وما خالف رُدَّ على قائله كائنًا مَن كان إلى آخره، فتضمن هذا الكلام أنه لا يُقدم رأي أحد على كتاب الله وسنة رسوله، والعجب كيف نَبَا فهمكم عنها. (الوجه الثاني) قد صرَّح العلماء أن النصوص الصريحة الصحيحة التى لا مُعَارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنما المذاهب فيما فهمه العلماء من النصوص أو علمه أحد دون أحد أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك. (الوجه الثالث) قد ذكر العلماء أن لفظة المذهب لها معنيان: معنى في اللغة، ومعنى في الاصطلاح، فالمذهب في اللغةَ مفْعَل ويصح للمصدر والمكان والزمان بمعنى الذهاب وهو المرور أو محله أو زمانه، واصطلاحًا ما ترجَّح عند المجتهد في أيما مسألة من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقدًا ومذهبًا، وعند بعضهم ما قاله مجتهد بدليل ومات قائلاً به، وعند بعضهم أنه المشهور في مذهبه كنقض الوضوء بأكل لحم الجزور ومس الذكر ونحوه عند أحمد، ولا يكاد يطلق إلا على ما فيه خلاف، وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء ما ذهب إليه إمام من الأئمة من الاجتهادية [3] ، ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى وهو ما قوي دليله، وقيل: ما كثر قائله، فقد تَلَخَّصَ من كلامهم أن المذهب في الاصطلاح: ما اجتهد فيه إمام بدليل أو قول جمهور أو ما ترجَّح عنده ونحو ذلك، وإن المذهب لا يكون إلا في مسائل الخلاف التى ليس فيها نص صريح ولا إجماع، فأين هذا من توهمكم أن قولنا لكم: مذهبنا مذهب الإمام أحمد أنا نقلده فيما رأى وقاله، وإن خالف الكتاب والسنة والإجماع. فنعوذ بالله من ذلك والله المستعان. (الرابع) قال ابن القيم في إعلام الموقعين لما ذكر المفتين بمدينة السلام، وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة إلى أن قال: وكانت فتاواه مبنية على خمسة أصول: (أحدهما) النصوص فإذا وجد النص أفتى بموجبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه كائنًا من كان، ثم ذكر أحاديث تمسك بها الإمام أحمد ولم يلتفت إلى ما خالفها إلى أن قال: (الأصل الثاني) من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصحابة فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يَعْدُهَا إلى غيرها، ولم يقل: إن ذلك إجماع بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يدفعه، ونحو هذا إلى أن ق

الجزء الثالث من المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجزء الثالث من المنار ومرض منشئه ألمَّ بنا مرض كان خفيف الوطأة لكنه صار طويل المدة، واقتضى أشد الحمية، ونهي الأطباء إيانًا عن القراءة والكتابة والتصحيح، وأمرهم لنا بالاستراحة العقلية والجسدية مدة المرض والنقاهة، فاقتضى ذلك تأخير هذا الجزء من المنار وجعل تاريخه سلخ ذي الحجة - وكان موعده سلخ ذي القعدة - وأن نجعل جله من المقتبسات والمختارات التى هي أولى بالمنار من غيره من الصحف لما فيها من بيان مزايا الإسلام، ونسأله تعالى أن يُتم لنا الشفاء ويسبغ علينا العافية.

الديموقراطية الحقيقية في الإسلام

الكاتب: شكيب أرسلان

_ مختارات من الصحف الديموقراطية الحقيقية في الإسلام لسعادة الكاتب الجليل الأمير شكيب أرسلان لما تأخر الإسلام سلبه الناس محاسنه الحقيقية بل سلبوه محاسن ثبتت له ولم تثبت لغيره، وهكذا شأن الضعيف في كل وقت، وهو أن يُسْلَب كل شيء حتى الحقيقة وحتى التاريخ. اطلعت في (الأخبار) في عددها المؤرخ في 29 جمادى الأولى على مقالة عنوانها ملاحظات وتحقيقات توخى فيها محرِّرها الشيخ محمد السيد الطويل من القسم العالي بالأزهر إثبات روح الديموقراطية والحكم النيابي والنظام الشورى للشريعة الإسلامية والرد على من زعم أن الحكم النيابي إنما جاء من الغرب، وإننا إذا نظرنا إلى الوراء لا نجد شيئًا من روح الديموقراطية عندنا في الشرق. ولقد أتى صاحب الرد بآيات بينات على ديموقراطية الإسلام ووجوب الشورى في أحكامها مما لا حاجة معه إلى التكرار لكن أحببت بهذه العجالة أن أزيد الموضوع بيانًا فأقول لمن ظن أن الديموقراطية هي من وضع الأوربيين: إن الأمة الفرنسية كانت من القديم تنقسم في طبقاتها الاجتماعية إلى ثلاثة أقسام: الأشراف والكهنة وسواد الأمة، ولكن لم تكن حقوق هذه الطبقات واحدة، وكان الأشراف يستبدون بالعامة كما يشاءون وكذلك الإكليروس أي الكهنة كانت لهم امتيازات عظيمة، والشعب إنما كان آلة يستخدمها في مصالحه الملك وكل من الأمراء أصحاب الإقطاعات، وما زال الأمر كذلك إلى زمان لويس الثالث عشر إذ حصلت أزمة اقتصادية احتاجت المملكة بها إلى عقد مجمع من الطبقات الثلاث للمذاكرة في تسديد الأمور؟ فاجتمعوا في سنة 1912 أو 1913 لا أتذكر الآن جيدًا تاريخ ذلك المجمع العام، وفي أثناء المذاكرات تلفظ أحد نواب الشعب بجملة معناها أن الأمة الفرنسية عائلة واحدة، فما كادت تخرج تلك الكلمة من فيه حتى قامت قيامة الأشراف. التفت إليه أحدهم قائلا: (ويحك أتجرؤ أن تقول: إن الأمة الفرنسوية عائلة واحدة، وبذلك تجعلنا أقارب لكم، ما أنتم إلا خدم عندنا) ثم إنهم عندما أرادوا إعطاء الآراء لم يقبل الأشراف أن يكون لنواب الشعب حق التصويت على قاعدة المساواة في الأصوات أي أن صوت النائب الشعبي يكون مساويًا لصوت النائب النبيل. وبقي هذا الحق منكرًا على الشعب إلى زمن لويس السادس عشر أي زمن الثورة الفرنسوية عندما نالوه بالقوة. فليذكر لنا التاريخ من أوله لآخره نادرة واحدة للإسلام مثل هذه النادرة، ومتى تجرأ مسلم خليفة كان أو ملكًا أو أميرًا من الأمراء أو شريفًا من آل البيت على أن ينكر على أقل مسلم كونه أخًا له. وليقس القارئ هذه النكبة بنكبة الملك الغساني جبلة الذي كان نصرانيًّا وأسلم في زمن عمر وجاء يطوف البيت الحرام فداس أعرابي على ثوبه فالتفت نحوه ولطمه، فذهب الأعرابي إلى الخليفة عمر وشكا إليه لطم جبلة إياه فأمر الخليفة بإحضار هذا أمامه، وقال للأعرابي: إن شئت الطمه كما لطمك. فقال جبلة لعمر: (أيستوي عندكم الملك والسوقة؟) فقال له: (نعم) فذهب جبلة بعد ذلك إلى الشام ومنها التحق بالقسطنطينية ورجع إلى النصرانية. وليتأمل القارئ كيف كان عمر يقيم الحد على أولاده حتى الموت، وليتأمل كيف أن الشريعة لم تجعل لأحد على أحد مزية ولا امتيازًا، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: لو سرقت فاطمة بنت محمد لأمرت بقطع يدها [1] . وليقايس بين ذلك وبين قوانين الأوربيين الأساسية التى فيها أن الملك مقدس وغير مسؤول، وإذا قيل: إن الرق قد وجد في الإسلام، فالجواب أنه لم يوجد فضيلة حث عليها الإسلام بصريح القرآن ومتواتر السنة أكثر من تحرير الرقيق، على أن النصرانية لم تنكر الرق كما ظهر من كلام بولس الرسول. وإن كانوا في أوربا قد اتفقوا مؤخرًا على إلغاء الرق فلا يجوز أن ننسى أن الشعب الروسي إلى زمان الإمبراطور بولس كان رقيقًا لأمرائه، وأن النبيل كان إذا باع قرية يملكها يبيعها مع الأهالي الذين فيها لا يملكون لأنفسهم أمرًا بل حكمهم كان حكم الحيوانات التي في القرية، هذا كان شأن الأمة الروسية منذ 150سنة لا زيادة، ولا يجوز أن ننسى أن الفرنسيس بعد أن تمكنوا من طرد المسلمين من جنوبي فرنسا استعبدوا البقية التى بقيت من المسلمين، واغتصبوا أملاكهم، واستعملوهم خولاً وخدمًا مدة طويلة حتى اندمجوا في غمار الأمة الفرنسية، وتُنوسيت أصولهم، ولا يجوز أن ننسى أن الحرب قامت في أمريكا من سنة 1863 إلى 1866 من أجل تحرير العبيد، وأن الأميركيين سكان جنوبي الولايات المتحدة حاربوا سكان شماليها مدة سنوات عديدة من أجل إصرارهم على استعباد السود، وكذلك إلى هذه الساعة، وقد رأيت ذلك بعيني في سياحتي إلى أميركا في الشتاء الماضي، لا يقدر السود أن يجالسوا البيض ولا في مكان. وفي الولايات الجنوبية للسود قُطُر مخصوصة يركبون فيها بالسكة الحديدية ومقاعد انتظار في المحطات خاصة بهم بحيث لا يختلطون مع البيض، بل أولادهم لا تقدر أن تتعلم مع أولاد البيض في مدارس واحدة وكنائسهم أيضًا لا يدخل إليها البيض. وفي أفريقيا الرسالات التبشيرية منذ قرنين أو ثلاثة تعمل لتنصير السود وقد تمكنت إلى هذا اليوم من تنصير ثمانية ملايين في غربي أفريقيا وجنوبيها وأواسطها. وقد نصت كتب أعمال الرسالات الدينية المذكورة على أنه في مدة الثلاثة القرون التي استمر بها التبشير الديني لم يعهد أن مبشرًا اقترن بامرأة سوداء إلا اثنين أو ثلاثة؛ ذلك لأن الأبيض يأنف من التنزل إلى خلط دمه بدم الأسود، أقول الأبيض والأسود كلاهما خلقه الله تعالى، وكلاهما بشر ويمشي بحسب قول نبيه: (إنما بعثت إلى الأحمر والأسود) ويتذكر كتابه الذي فيه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) فإذا كان المبشر الأوربي الذي يعظ طول النهار في أباطيل الدنيا، وفي العدل والمساواة هو نفسه لا يتنزل إلى خلط نسبه بنسب أولئك الذين يعظهم ويرَّغِبهم في قبول دينه، فكيف تكون حالة التاجر الأوربي أو الحاكم أو الجندي الذي ليست مهنته التبشير؟ لا جرم أن مبدأ المساواة هو أبعد المبادئ عن عقلية الأوربيين، وإن كانوا قرَّروها في الأعصر الأخيرة، فإنما قرروها فيما بين شعوبهم، ولم يكونوا ليعترفوا بها للشعوب الأخرى، وإنني لأتعجب ممن يقول: إن آثار الرقي التى شوهدت في الشرق في الخمسين سنة الأخيرة إنما هي ثمرة إدخال القانون الروماني في إدارة الشرق. فأنا أقول لمثل هذا: أين كان القانون الروماني في أوربا، وفي فرنسا بخاصة عندما كان لا يجرؤ أحد نواب الشعب في هذه المملكة أن يقول: إن الأمة الفرنسية عائلة واحدة حتى تقوم قيامة الأشراف ويعتدوا تلك الكلمة كفرًا؟ هل كانت فرنسة غير مملكة رومانية لاتينية روح رومة وثقافتها وقوانينها منبثة في جميع شعاب إدارتها؟ إن الكاتب الفيلسوف الإنكليزي المستر ولسن عندما جاء منذ أشهر إلى باريس واحتفل أدباء الفرنسيس بتكريمه في السوربون وخطبوا الخطب الشائقة وجاوبهم بخطبة عن الديموقراطية الحقيقة نشرتها الجرائد كان من جملة قوله فيها: (إن الديموقراطية الحقيقة لم تثبت إلا للإسلام والنصرانية) . وأنا أقول: إن شهادته بها للإسلام هي أغلى جدًّا من شهادته بها للنصرانية التى هي مذهبه ومذهب أمته ومذهب الأمة التى كانت مختلفة في تكريمه. فالإسلام يشهد له كثير من فلاسفة الأوربيين بالديموقراطية الصحيحة مع قصور معلوماتهم عنه وينكرها عليه أناس من أبنائه، لا بل وينسبون إلى غيره محاسنه ويجردونه من المزايا التى فُطِرَ عليها. وهكذا أولعنا بتشويه محاسن أنفسنا وبجحد فضائل قومنا وبنحل غيرنا ما هو في الحقيقة لنا، وصرنا - لمجرد أن نُنعت بالرقي - نقلب حسنات أجدادنا سيئات، ونقلب سيئات الأوربيين حسنات، أو نتعامى عنها أو نتلمس لها عذرًا، هكذا. يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن برلين 4 ديسمبر 1927 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان

أزمة كتاب الصلاة في إنجلترا

الكاتب: شكيب أرسلان

_ أزمة كتاب الصلاة في إنجلترا [*] لصاحب السعادة أمير البيان الأمير الجليل شكيب أرسلان إن الموضوع الذي سنخوض فيه لا نقصده لذاته بل لمتعلقه ولا نتعرض إليه من قليل أو كثير من جهة أساسه بل تَعَرُّضنا له إنما هو من جهة مغزاه، وما يئول إليه فقد راق لبعض الناس في الشرق حتى لبعض حكوماته والهيئات الرسمية فيه أن يوهموا عامة الشرقيين أن الدين في أوربة منفصل انفصالاً تامًّا عن السياسة، وأن أوربة لم تبلغ هذا المبلغ من الرقي إلا بفصل السياسة عن الدين، وأن الحكومات الأوربية لا تُدْخِل المسائل الدينية في شئونها، بل تَعُدُّها خارجةً عن اختصاصها. وقد يبالغون لهم في هذه الترهات حتى يخيلوا لهؤلاء الشرقيين المساكين أن الدول الأوربية تنظر إلى الدين كأنه غير موجود في الدنيا، وأن هذا قد كان السر في نجاحها، وكثير من الشرقيين المساكين يصدقون هذه الأقاويل؛ لعدم اطلاعهم على الحقائق وليس هؤلاء المصدقون بطبقة العوام؛ لأن العوام جهلهم بسيط، والجهل البسيط أقرب إلى العلم، وأبعد عن الخطر، ولكن أولئك المصدقين بهذه الأضاليل هم من الفئة التى تدعي أنها راقية، وأنها متعلمة وأنها عصرية المشرب [1] الحقيقة أن هذه الفئة عندنا في الشرق مؤلفة من أنصاف متعلمين هم من أشد الناس خطرًا على المجتمع، ومن الملائمين للاستعمار الأوربي في الشرق؛ لأن العلم الناقص أضر بالمجتمع من الجهل التام فإن الجهل التام يقبل أصحابه النصح والإرشاد، وأما العلم الناقص فإن أصحابه هم على حد من لا يدري ولا يدري أنه لا يدري وفي ذلك البلاء الأعظم. ولندخل الآن في الموضوع فنقول: منذ أشهر تخوض الجرائد الأوربية في قضية الخلاف الذي نشب في إنكلترا بين الأساقفة والحكومة من أجل كتاب الصلاة حتى إنه لا يكاد يمر يوم إلا نجد فيه بحثًا عن هذه المسألة. ولما كان الناس عندنا في الشرق لا يعلمون لد نبات هذا الخلاف ولا سبابه (كذا) وكانوا يقرءون عنه ولا يفهمون الدواعي التى دعت إلى اختصام الحكومة الإنكليزية والإكليروس الأنكليكاني في كتاب الصلاة الذي يعتمد عليه الشعب الإنكليزي رأينا أن نشرح لهم هذه المسألة مُعَوِّلِينَ في ذلك على مقالة نشرها الأستاذ توماغرينفود أحد أساتذة جامعة لوندرة ورأيناها منشورة في مجلة جنيف في عددها الأخير، قال: وجد على باب كنيسة ليفربول الكاتدرائية عبارة من قلم لونج بوتون من رؤساء الكنيسة البروتستنتية يقول فيها: إن البروتستنتية في خطر. ولم يخطئ القسيس المذكور في هذا الحكم إذا نظرنا أنه من أجل مسألة دينية قامت في إنجلترا أساقفة على أساقفة ووزراء على وزراء ومحافظون على محافظين، وعملة على عملة وقد كان معظم ذلك يومي 13و15 ديسمبر سنة 1927؛ إذ مجلس اللوردة ومجلس العموم تحولا إلى شكل مجمع من المجامع الدينية كالتي كان يعقدها آباء الكنيسة في القرون الأولى وأخذ الاعضاء يتشاحنون في سر استحالة الخبز والخمر إلى جسد السيد المسيح وفي تناول القُرْبَان المُقَدَّس وفي الأسرار الإلهية وفي الطقوس الكنسية بينما الجدال قائم أيضًا في المطبوعات وفي الرعويات وفي العائلات على أشده من أجل كتاب الصلاة الجديد حتى إن أزمة الفحم وحركة العمال وقضية استعدادات أمريكا البحرية ومشكلات عصبة الأمم أصبحت نسيًا منسيًّا في جانب مسألة كتاب الصلاة، فبمجرد ما تلفظ الإنسان بكلمة (book prayer) تقوم القيامة فأناس معه وأناس ضده فلا تجد إلا متعصبًا لهذه الجهة أو للأخرى، فلماذا البرلمان يتدخل في مسألة دينية كهذه؟ الجواب هو ما سترى. من المعلوم أن الكنيسة الإنكليكانية هي كنيسة الدولة في إنكلترا، وفي الأصل كان الانشقاق ناشئًا عن فضائح زوجية بدت من هنري الثامن الذي كان أول من انشق عن رومة وحمل البرلمان الإنكليزي سنة 1534 على قرار معناه أن ملك إنكلترا هو الرئيس الأعلى لكنيسة إنكلترا، ثم جاء بعد هنري الثامن خلفه إدوارد السادس وأضاف إلى علم سلفه هذا طقسًا كَنَسِيًّا جديدًا أنشأه له (كرافير) سنة 1549 ودستورًا للإيمان يشتمل على 42 مادة صدر سنة 1552 وهو دستور مشرب بروح عقيدة كلفين، ثم إن هذه العقيدة قد هُذِّبَتْ ونُقِّحَتْ في أيام الملكة إليزابث ولخصت في 39 مادة سنة 1526 وصارت دستورًا للإيمان الإنكليكاني فمنها نفي رياسة البابا ونفي ذبيحة القداس , ونفي عقيدة استحالة الخبر والخمر إلى جسد المسيح، وإنكار القول بالمطهر، وإنكار عبادة القديسين والصور، وإنكار سر الاعتراف والغفرانات وغير ذلك، وأما الطقس الجديد الذي يشتمل على العقيدة، وعلى المبادئ التى هي عمدة المذهب الإنكليكاني فقد انحصر في كتاب اسمه كتاب الصلاة العامة، فهذا الكتاب محرَّر فيه نص الصلوات وترتيبها ونص العظات والتراتيل والمراسم الدينية وإدارة الأمور المقدسة ونظام الرتب الكهنوتية وهلم جرَّا، فكتاب الصلاة هو للإنكليز عبارة عن كتاب قداس وكتاب سواعية وكتاب مزامير وكتاب طقوس وكتاب رتب كهنوتية وحبرية وهو يتماز بأمور كثيرة عن كتب الكنيسة الرومانية التى انشقت الكنيسة الإنكليزية عنها، فهو أولا محرَّر بالإنكليزية، وفيه تلخيص للكتب الدينية الضرورية للقداس الإلهي وبموجبه تنزلت الساعات القانونية السبع إلى خدمتين كل يوم إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، وهو يلغي الأوراد وطلب الشفاعات والاستغاثات بالقديسين وبمريم العذراء ويحذف الأماثيل المأخوذة من حياة القديسين والآباء ويختصر الفرض الكنسي والكلمات المكررة فيه، ويطوي الاحتفال بكثير من أعياد القديسين، وعلاوة على ذلك يحدث تغيرًا في قانون القداس ويحوله إلى معنى آخر يخرجه من معنى الذبيحة وعن استحالة الخبز والخمر إلى جسد المسيح، وكذلك يلغي التذكارات المتنوعة فيما يتعلق بالموتى والصلوات على أرواحهم مما يؤول إلى الاعتقاد بالمطهر، ويبطل على الخصوص كل ما له تعلق بسر القربان المقدس. وفي أيام الملكة ماري التى رجعت إلى الكثلكة ألغي كتاب الصلاة هذا مدة وجودها لكن لم يطل الأمر حتى أعيد في أيام الملكة إليزابيث سنة 1559 ثم إنه في أيام جيمس الأول سنة 1604 وفي أيام كارلوس الثاني سنة 1662 وأخيرًا في سنة 1859 أدخلت على الكتاب المذكور تعديلات غير أساسية، فكتاب الصلاة الحاضر هو الكتاب الذي صدر سنة 1662 على أنه إذا كان هذا الكتاب لم يتغير منذ ثلاثة قرون، فلا يمكن أن يقال: إن حياة الكنيسة الإنكليزية الداخلية لم يقع فيها تغيير طيلة هذه القرون، بل هذه منقسمة إلى ثلاث كنائس: الكنيسة الدنيا وهي التي أصحابها يمليون إلى العقيدة الكلفينية والبرسبيتيرية والكنيسة الواسعة وهي التى أصحابها يميلون إلى الحرية والأفكار العصرية، والكنيسة العليا وهي التي أبناؤها يميلون شيئًا إلى الكثلكة. ففي أواسط القرن التاسع عشر هب نفر من اللاهوتيين المنسوبين إلى الكنيسة العليا وأرادوا الرجوع إلى الكثلكة، لكن بدون خضوع للبابا ولا اعتقاد بعصمته ومع التمسك بالرتب الكنسية الإنكليكانية فحصلت لهم مقاومة شديدة وقفتهم عند حدهم إلا أن هذه الحركة قد تقدمت اليوم ونمت واشتدت الرغبة في استعمال الطقوس الرومانية وفي الاعتقاد بحضور المسيح في الخبز والخمر، وتسمى هذه الفئة بالأنجلوكاتوليك، ولقد تجاوزوا في الحقيقة حدود كتاب الصلاة الذي عليه المُعَوَّل من سنة 1662 وأخذوا بإقامة شعائر مخالفة لروح الكتاب المذكور ولنصه، مثال ذلك أنهم اتخذوا الملابس الحبرية في كنائسهم كما في الكنائس الرومانية واستعملوا البخور ورجعوا إلى ممارسة الاعتراف واستعملوا ما يقال له: بيت الجسد مع مكان خاص لحفظ الخبز والخمر ليتمكن المؤمنون من عبادتهم في أي وقت أرادوا فلذلك تبقى أبواب كنائسهم مفتوحة دائمًا، وفي بعض الأبرشيات نجد بعض الأساقفة يقدمون بكل صراحة على مخالفة قواعد المذهب الإنكليكاني وطقوسه وفي أبرشيات أخرى يغضون النظر عنها فهذه الاختلافات جعلت الصلاة العامة المشتركة في غاية الصعوبة وأحدثت شقاقًا خطيرًا في وسط الكنيسة الإنكليكانية يدعو إلى النظر في مسألة توحيد الطقس، ففكر الأساقفة في وجوب النظر إلى نزعة فرقة الأنكلوكاتوليك، وفي سنة 1956 تألفت لجنة للتدقيق في كتاب الصلاة والنظر في تعديله فاستمرت هذه اللجنة تعمل نحو عشرين سنة، وفي شهر يناير سنة 1927 أخرجت مشروع التعديل الذي تقدم في 29 سنة 1927 إلى المجلسين الروحانيين في كنتربري ويورك فهذان المجلسان لم يكن لهما إلا إبداء الرأي على المشروع بمجمله فقد صدقاه بالأكثرية العظيمة، وخالف فيه بعض الإنجيليين وبعض أناس من الأنكلوكاتوليك لأسباب تخالف الأسباب التي خالف من أجلها الإنجيليون، ولكن كان لا بد من تصديق الجمعية الوطنية الكنسية المسماة (Assembly church) التى تأسست بموجب قانون سنة 1919 لأجل مهمة النظر في القوانين العائدة إلى كنيسة إنكلترا قبل تصديقها في البرلمان، وهذه الجمعية مؤلفة من مندوبين غير أكليريكيين تابعين للأبرشيات ومن مندوبين أكليريكيين ومن الأساقفة، ففي اجتماع عقدته هذه الجمعية سنة 1927 للمذاكرة في مشروع تعديل كتاب الصلاة قررت بأكثرية عظيمة المشروع الجديد؛ إذ وافق 34 من الأساقفة، وخالف أربعة فقط، ووافق 253 من المندوبين الأكليريكيين وخالف 37 لا غير، وكذلك المندبون غير الأكليريكيين، أو العالمانيون فقد وافق منهم 230 وخالف 92 أما المطارين الأربعة المخالفون فكانوا مطارين فورسستر وإكزيتر ونورفيش، وبير منغام، ولم يبق إلا طرح المشروع في البرلمان. فقبل أن نتكلم على ما جرى في البرلمان بشأن كتاب الصلاة نرى من الواجب أن نبين ماهية التعديلات الجديدة، فكتاب الصلاة الجديد يبقى على ما كان عليه كتاب الصلاة المحرَّر سنة 1663 بوجه عام، ولم يقع تغيير في النصوص التى ارتضى بها الشعب حتى اليوم، وإنما أضيف إلى النصوص سنة 1662 نصوص أخرى يكون بموجبها الخيار لأبناء الأبرشيات في الترك والأخذ بحسب ميلهم، فهذه الطريقة أرادوا بها اتقاء الانقسام فكانت نتيجتها زيادة الانقسام؛ لأنها مخالفة لروح عهد الوحدة الذي صدر سنة 1659 ففي هذا العهد مادة خاصة بالخدمات الدينية تصرح بأن الشعائر التى هي تحت الاستعمال في سالسبري وهيرفورد وبانجور وبروك ولينكولن قد ألغيت كلها وتوحدت بصورة واحدة عامة لكل المملكة فليس إذن في جميع الاختصاصات التى يعترف بها البرلمان للكنيسة الأنكليكانية ما يخول هذه حق الإذن بإقامة شعائر مختلفة عن الأولى، ثم إن ملك إنكلترا عندما يتوج من رئيس أساقفة كنتربري يجب أن يقسم اليمين بأنه يحفظ كنيسة إنكلترا بتمامية طقوسها وبعقيدتها وشعائرها ونظامها كما هي مبينة في قوانين المملكة الأساسية، وعلى هذا يكون متعذرًا أخذ موافقة الملك على كتاب الصلاة الجديد بدون تغيير العهود السابقة. فمن التغييرات التى أدخلت على كتاب الصلاة نذكر أنه أضيف إلى جدول القديسين الذين تعترف بهم الكنيسة الأنكليكانية قديسون آخرون لم يكونوا معروفين لديها وهم مثل ماريو ليكارب القديس يوحنا فم الذهب والقديس كوتبرت والقديس لاوون الكبير والقديس أفسلمس والقديسة كاترينة دوسبين والقديسة مونيك والقديس باسيلوس والقديس أيزينوس والقديس برناردوس والقديس فرنسيس داسيس والقديس أغناطيوس فهؤلاء صاروا بحسب

مضار المشروبات الروحية في البلدان الحارة

الكاتب: شرومف بييرون

_ مضار المشروبات الروحية في البلدان الحارة بقلم الأستاذ الدكتور شرومف بييرون يظهر أن العادة التي جرى عليها كثيرون من الأوربيين المتوطنين في البلدان الحارة من شرب المشروبات الروحية آخذة في التناقص لحسن الحظ، وقد نشأت هذه العادة السيئة التى سأبين مضارها هنا من مبدأ باطل، ولكنه شائع وهو أن المشروبات الروحية خير ذريعة لمكافحة تأثيرات الحرارة المضعفة للدم والمنهكة للجسم من جهة؛ ولتوقي أمراض البلدان الحارة من جهة أخرى. ولقد كان أطباء جيوش المستعمرات أول من انبرى لبيان ما للمشروبات الروحية من المضار الوبيلة في البلدان الحارة بقوة ما اكتسبوه من الخبرة ثم جاهدوا حتى وصلوا شيئًا فشيئًا في معظم البلدان إلى إبطال عادة إعطاء الجنود في المستعمرات جراية يومية من تلك المشروبات كالكونياك والوسكي والروم. وهنا نقتبس بعض أقوال الخبيرين في هذا الشأن قال هنت وكني في سنة 1882: (لقد اتفق جميع الثقات على أنه كلما قلل الأشخاص الذين يقطنون في الأقاليم الحارة من شرب المشروبات الروحية سهل عليهم احتمال جوها. وكتب السير ل. روجرس - وهو أعظم الأطباء الذين يُعَوَّل على رأيهم في الهند في سنة 1915 يقول: كان معظم الأطباء من عشرين سنة يعدون شرب المشروبات الروحية ضروريًّا للذين يقطنون في البلدان الحارة، وأما اليوم فلا يوجد طبيب ذو مقام يجسر على إعلان هذا الرأي) . ومن المعلوم أن حبوط المشروع الأول لقنال بناما يرجع إلى كثرة عدد الذين كانوا يموتون من العمال سواء من الإصابة بحمى الملاريا أو من المشروبات الروحية فلما أبيد البعوض وحرم تعاطي المشروبات الروحية في منطقة العمل تحريمًا قاطعًا تيسر نجاح المشروع الثاني، وفي ذلك الحين كتب الدكتور غورغاس كبير أطباء منطقة القنال يقول: كان الأوربيون في الماضي يصابون بالأمراض ويموتون في جهاتنا هذه؛ وأما اليوم فإنهم يعيشون فيها ويشتغلون كما يعيشون ويشتغلون في جهات العالم الأخرى. ولنذكر الآن أهم الأمراض التى يصاب بها الأوربيون العائشون في البلدان الحارة ويرجع سببها إلى المشروبات الروحية. أولاً: يؤخذ من جميع الإحصاءات الطبية في المستعمرات أن إصابات الرعن التى حدثت في جيوش الميدان لم تكد تصب [1] إلا الجنود الذين شربوا مشروبات روحية، ولو بمقادير يسيرة بدعوى أنهم يريدون الحصول على القوة، وقد كتب السر فكتور هورسلي في هذا الصدد يقول: (إن المرء لترتعد فرائصه حين يذكر أن ألوفًا من النفوس أزهقت وحل بها الفناء بسبب فكرة باطلة، وهي أنه يجب أن يتناول الجنود المشروبات الروحية قبل الزحف في البلدان الحارة) . ثانيًا: من الحقائق المُسَلَّم بها أن حوادث النزيف المخي تحدث بنوع خاص على أثر تعاطي جرعات ولو صغيرة من المشروبات الروحية؛ وذلك لأن هذه المشروبات تحدث تمددًا في الشرايين وتصعد الدم إلى الرأس. ثالثًا: لوحظ دائمًا أن إصابات الأوربيين القاطنين في الأقاليم الحارة بأمراض الكبد والكلى كثيرة، وكانوا إلى بضع سنوات مضت ينسبون ذلك إلى تأثير الجو، أما اليوم فقد اقتنعوا بأن الأوربيين الذين يعيشون في أشد الأجواء حرارة ولا يذوقون المشروبات الروحية لا تظهر فيهم أمراض الكبد والكلى التى كانوا قبلاً ينسبونها إلى الحرارة، وهي ليست ناشئة على ما يظهر إلا من تأثير المشروبات الروحية، بل إنهم أثبتوا علاوة على ذلك أن بعض أمراض الكبد الطفيلية كالخراجات الديسنطارية مثلا تشاهد خصوصًا عند الأشخاص الذين يشربون المشروبات الروحية، وقد كتب روجرس يقول: (إن 70 في المئة على الأقل من المصابين بخراجات الكبد في الهند هم من شريبي المشروبات الروحية والجانب الأكبر من هؤلاء المرضى أوروبيون، أما الوطنيون فإن هذا المرض يكاد يكون غير معروف عند نسائهم اللائي لا يشربن المشروبات الروحية؛ ولهذا السبب عينه ترى الإصابات بخراجات الكبد تزداد مع ازدياد تعاطي المشروبات الروحية ومع ذلك فإنك تجد الأوربيين والوطنيين يصابون على السواء بالديسنطاريا) . رابعًا: إن المشروبات الروحية ولو تُعُوطِيَتْ بانتظام بمقادير صغيرة تضعف في الجسم قوة المقاومة لجميع الأمراض المعدية وخصوصًا في البلدان الحارة؛ سواء كانت هذه الأمراض هي ذات الرئة أو حمى التفوئيد أو الديسنطاريا أو الملاريا أو السل الرئوي أو الزهري أو الكوليرا أو غير ذلك، وفي كل هذه الأمراض نجد أن الذي يمتنع امتناعًا تامًّا عن شرب المشروبات الروحية هو الذي يقاوم العدوى أكثر من غيره، ويشفى في أسرع وقت وتقل عنده المضاعفات والتعرض للموت، وهذه حقيقة أيدتها تمام التأييد جميع الإحصاءات العسكرية والمدنية. وموجز القول أن الرأي الذي انعقد عليه إجماع الثقات الطيبين الذين أقاموا في البلدان الحارة هو أن الأوربي الذي يروم أن يتحمل جو تلك البلدان يتعين عليه أن يمتنع عن شرب كل نوع من أنواع المشروبات الروحية أو أن لا يشرب منها إلا مقادير يسيرة جدًّا في أحوال استثنائية. فلننظر الآن في مبلغ تأثير المشروبات الروحية في الشرقيين عامة وفي المصريين خاصة: إن جميع الأطباء الذين مارسوا صناعتهم في البلدان الحارة يدهشهم ما يرونه في العربي المسلم وفي المسلم عامة أيًّا كان الجنس الذي ينتمي إليه من قوة المقاومة لأكثر الأمراض التي تصيبه ففي مصر تجد عند الفلاح قوة مقاومة مدهشة إذا قيست بمثلها عند الأوربيين لجميع الأمراض المعدية ولا سيما للسل الرئوي والسرطان ولما ينشئه الزهري من المضاعفات العصبية والقلبية وللحميات المختلفة التى تحدث في البلدان الحارة وللالتهابات التى تحصل بسبب النفاس والعلميات الجراحية إلى غير ذلك. وقد لبث معظم المؤلفين طويلاً يحاولون تفسير قوة المقاومة هذه فعزَوْهَا إلى خصائص قالوا: إنها اختصت بها بعض الأجناس أو إلى فعل الجو أو غير ذلك من الأسباب، ولكن علماء هذا العصر الذين درسوا تحول الأمراض في الشرق بوجه عام في البلدان التى أكثرية سكانها من المسلمين مجمعون رأيًا على أن سببها الرئيسي هو نهي الدين الإسلامي للمسلمين عن شرب المشروبات الروحية، وإذا وجد في البلدان المسيحية من يخامره شك في خطر النتائج التى تنشأ من تعاطي المشروبات الروحية فما عليه إلا أن يذهب بنفسه إلى البلدان الإسلامية ليقتنع بذلك؛ لأنه حالما يبدأ المسلم الشرقي بشرب المشروبات الروحية تأخذ قوة مقاومته للأمراض تنقص تدريجيًّا، فلذلك يسهل فهم الضربة التى جاءت مع الحضارة التي يسمونها (الحضارة الأوربية) . ولا نزاع في أن الشرق أقل احتمالاً لنتائج المشروبات الروحية من الأوربي، فإن تاثير هذه المشروبات في البلدان الحارة أبلغ ضررًا منه في البلدان الباردة للأسباب التى قدمناها، والرياضة البدنية تضعف ولو إلى حد ما تأثير شرب المشروبات الروحية، وهذا يفسر استطاعة العمال في الأعمال اليدوية والذين يلعبون الألعاب الرياضية تعاطي المشروبات الروحية وفي أحوال كثيرة لمدة طويلة من غير أن يظهر عليهم آثار مضارها، وهذا الرياضة قليلة في الشرق ولا سيما في المدن بسبب أحوال المعيشة والحر، ويجب أن لا يغيب عن البال أيضا أن الأوربيين يشربون المشروبات الروحية من قرون، والراجح أن ذلك أنشأ فيهم على مر الأجيال نوعًا من العادة أو من المناعة النسبية بإزائها، وهذه الظاهرة قد توضح علة ما يرى في بعض بلدان أوربا كنورمنديا وبافاريا واسكتلندا وغيرها من أن سكانها يمكنهم احتمال جرعات كبيرة من المشروبات الروحية، ومع ذلك فإن سن قوانين ضد المشروبات الروحية في أسوج وهي بلاد باردة وجبلية، وكان سكانها المولعون بالألعاب الرياضية يشربون مقادير كبيرة من هذه المشربات قد أدى إلى تحسن الصحة العمومية فيها تحسنًا كبيرًا مما دل على أن المناعة من مضار المشروبات الروحية ضعيفة جدًّا، على أن هذه المناعة إذا صح أنها توجد غير موجودة عند المسلمين الذين لم يكن أسلافهم يتناولون الأشربة الروحية. ومن أعظم قوى الإسلام نهي الشريعة الإسلامية عن تعاطي المشروبات الروحية، وفي كل بلد دخله الإسلام كإفريقية الوسطى والهند مثلاً أنقذ الشعوب التى اعتنقته من شر آفة الخمر التى جلبتها أوربا وحفظها من التدهور التام، ولهذا السبب نرى فرنسا في إدارة مستعمراتها تشجع ما أمكن على نشر الدين الإسلامي في الأراضي الواقعة تحت سيطرتها. ففي الوقت الذي نرى فيه أوربا وأمريكا تكافحان المشروبات الروحية وتعانيان في ذلك ما تعانيان حتى فرضت الولايات المتحدة الأميركية على رعاياها شريعة مدنية تضارع في شدتها شريعة النبي محمد الدينية يحسن بأهل البلدان الإسلامية أن يدركوا جيدًا ما لشريعة نبيهم هذه من عظم الأهمية من الوجهات الاجتماعية والأدبية والصحية غير أن كثيرين من المسلمين قد تعلموا شرب المشروبات الروحية لسوء الحظ فبات متعينًا على أولي الحل والعقد في هذه البلدان ولا سيما مصر أن يتخذوا التدابير الضرورية لمنع استفحال هذا الشر، فإن مستقبلها يتوقف على ذلك. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المقطم (المنار) ليعتبر هؤلاء الفاسقون المتفرنجون من أغنياء المسلمين ومقلدوهم من سائر الطبقات بكلام هذا الطبيب الحكيم من كبار علماء الإنكليز ونصحه لهم بترك شرب الخمور اتباعًا لهداية دينهم الذي يحرمها عليهم إلا لمضارها الكثيرة التى بين بعضها هذا الطبيب الناصح، ولا سيما في البلاد الحارة كمصر، وأما استصراخه لأولي الحل والعقد باتخاذ التدابير لمنع استفحال هذا الشر فنخشى أن يكون صرخة في واد؛ لأن الكثيرين منهم سكيرون وقدوة سيئة لغيرهم، وقلما يوجد في الآخرين المسلم الناصح الذي يهتم بأمر أمته في مثل هذه الأمور مهما تكن في نفسها مهمة. ومن المصائب أن هؤلاء الفجرة صاروا يفتخرون بشرب الخمر وتعويد نسائهم وأولادهم عليها؛ لأنها عندهم من آيات المدنية العصرية، كما أشار إليه الطبيب ويحتقرون من لا يشرب بأنه رجعي على الطرز القديم البالي، وقد سبقهم الترك إلى هذا الصغار في التقليد الفردي فآل بهم إلى ما نرى من الكفر والضلال: زار رجل من طرابلس منذ خمس وثلاثين سنة رجلاً من كبارهم في الآستانة معروفًا بالوقار والدين فرأى في حديقة داره ولده يتحاسى مع بعض بنات الأرمن كؤوس الجعة (البيرا) فذكر له هذا المنكر وسأله كيف يرضى به؟ فأجابه بأن (هذه مقتضيات تمدن) !

الصحافي النمسوي (يحيى بك)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصحافي النمسوي يحيى بك كيف صار مسلمًا حنيفيًّا بعد ما كان مسيحيًَّا كاثوليكيًّا كان يحمل لقب سيد ومزارع في بلاد التيرول وكان له بمقتضى هذا اللقب أن يقابل جلالة إمبراطور النمسا في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار، وكان يحمل نيشان القديس غريغريوس المهدى إليه من قداسة بابا روما، وكان يمتلك في بلاد التيرول [1] قصرًا فخمًا يحتوي على ثمان وثمانين قاعة وكان اسم هذا القصر (فرودشتاين) وكان صدره يتلألأ بالأوسمة التى أنعم عليه بها؛ إما لحسن بلائه في سبيل بلاده بصفته ضابطًا في المدفعية النمسوية، أو للخدمات الجليلة التى أسداها إلى الكنيسة الكاثوليكية؛ إذ كان في مقدمة العاملين على إعلاء شأنها في بلاد النمسا، وقد سافر غير مرة إلى المدينة الخالدة (روما) لتسوية بعض المسائل الحزبية بين الفاتيكان وفريق من الكرادلة الذين في النمسا، فكان ينجح كل مرة في مهمته، ويثوب إلى وطنه، وقد أضاف مجدًا جديدًا إلى اسمه. هكذا كان (يحيى بك) نزيل القاهرة اليوم. أما الآن فإن (يحيى بك) مسلم متزوج من مسلمة وأولاده مسلمون وهو شديد التمسك بالتعاليم الإسلامية والفروض الدينية، يصوم رمضان ويؤدي يوميًّا الصلوات الخمس ولا يذوق المشروبات الروحية، وقد أنسنا بالتعارف به من مدة في المفوضية الألمانية فاجتمعنا به منذ أيام وطلبنا إليه أن يقص علينا كيف اتخذ الإسلام دينًا له بعد ما كان كاثوليكيًّا شديد الإيمان بمذهبه عظيم الإخلاص لدينه. *** حكاية القرآن فقصَّ علينا أنه لما كان في الخامسة عشرة من عمره كان جالسًا يومًا في إحدى قاعات قصره؛ فإذا بالسماء ترعد وتبرق وإذا بها تمطر الأرض مطرًا غزيرًا فعدل عن نزهته ودخل مكتبته وأخذ يقلب كتبها فعثر بينها على نسخة ألمانية للقرآن الكريم منقول عن اللغة العربية فتناولها واستلقى على كرسي كبير وشرع في تصفحها وقراءة بعض آياتها فتبين له بعد فترة قصيرة أن القرآن يحتوي على موضوعات كثيرة متعلق بعضها ببعض ولكنها متفرقة في السور غير متصل بعضها ببعض مع أنه لو تم هذا الاتصال يومئذ لتفهم القارئ معناها ومغزاها على الوجه الأكمل فنهض في الحال ولبس قبعته وحمل مظلته وخرج إلى السوق فاشترى نسختين أخريين من الكتاب الكريم وبضعة عشر دفترًا، وعاد إلى قصره على جناح السرعة، وبدأ يَقُصُّ من القرآن الموضوعات المتعلق بعضها ببعض، ويصل كل موضوع بالآخر فاستغرق عمله هذا شهرين كاملين؛ لأنه لم يكن يعمل فيه إلا في أوقات فراغه، ولكنه ما كاد يفرغ منه حتى طرح القرآن جانبًا خوفًا من أن يؤثر في نفسه تأثيرًا لا يتفق وشدة إيمانه وتعلقه بأهداب دينه. *** مسألة الاعتراف بالإسلام وانقضت على تلك الأيام خمسة أعوام، وانتظم صاحب قصر (فرودشتاين) بجامعة فينا ليواصل علومه العالية فاجتمع فيها بطلبة مسلمين من بلاد البوسنة، وكانوا قد قدموا العاصمة النمسوية ليتلقوا علومهم العالية فتوثقت بينه وبينهم عرى الصداقة والألفة. ولم يكن الدين الإسلامي من الديانات المعترف بها رسميًّا في بلاد النمسا يؤمئذ فشق على أولئك الطلبة أن يظلوا مشتتين ممتهنين لا تجمعهم رابطة دينية اجتماعية قوية تبعث السلطات الحكومية على الاعتراف رسميًّا بالديانة الإسلامية فألفوا جالية إسلامية، وعهدوا برياستها إلى الشيخ حافظ عبد الله كريجوفتش وكان هذا الشيخ إمامًا للجنود البوسنيين المسلمين المعسكرين في فينا، ولكنه خشي أن تثير رياسته للجالية غضب الحكومة النمسوية، فأبلغ الطلبة بعد يومين أنه مستقيل من المنصب الذي أسندوه إليه فحزنوا وأخذوا يبحثون على رجل يحلونه محله، فقال لهم صاحب القصر (فرودشتاين) أي (يحيى بك) إنه مستعد لمساعدتهم وتأييد مطلبهم فأسندوا إليه رياستهم مع أنه مسيحيٌّ كاثوليكيٌّ، وما كاد الخبر يذاع حتى دعاه وزير المعارف إلى مقابلته، وسأله عن مسلكه فأجابه بأنه من العار أن يكون بين أبناء النمسا رعايا مسلمون ولا تعترف النمسا بدينهم رسميًّا، فقال الوزير: (إننا لا نستطيع الاعتراف بالإسلام رسميًّا لمبدأ تعدد الزوجات فقال: إن الإسلام لا يحتم تعدد الزوجات كفرض واجب على كل مسلم متزوج ولكنه يترك له الحرية في اختيار أكثر من زوجة بشروط معينة وما دام القانون النمسوي لا يسمح بالتزوج بأكثر من واحدة فالنمسويون المسلمون سيضطرون إلى احترام هذا القانون حتمًا وخصوصًا أن احترامهم له لن ينقض شيئًا من مبادئ دينهم، فقال له الوزير: إذا كان الأمر كذلك فإني أرجو منك أن تُعِدَّ لَيَ مشروع قانون بالاعتراف بالدين الإسلامي رسميًّا كي أتقدم به إلى البرلمان) فأعد له المشروع وحمله إليه فنقَّحه قليلاً وعرضه على البرلمان فأجازه كما هو، ومنذ ذلك الحين سنة 1908 صار الدين الإسلامي من الأديان المعترف بها رسميًّا في الإمبراطورية النمسوية، وعلى أثر إحراز هذا الفوز الباهر تنحى (يحيى بك) عن رياسة الجالية الإسلامية، وعكف على الاهتمام بشئون الكنيسة الكاثوليكية. *** اعتناقه الإسلام وغادر صاحب القصر (فرودشتاين) جامعة فينا بعد ما أتم علومه فيها، وقام برحلة كبيرة في أفريقية الشمالية ثم عاد إلى النمسا ودخل مدرسة الضباط للمدفعية، وتعرف في تلك الأثناء بالدوق برجالس الذي كان يطالب يؤمئذ بعرش البرتغال فدعاه الدوق إلى مرافقته إلى أسبانيا ليعاونه في حركته التي كان يريد التوصل بها لقلب الحكومة القائمة في البرتغال، ولكنه لم يوفق في مساعيه لقلة ماله فودعه يحيى بك وعاد إلى النمسا، ولما بلغها استأنف سفره منها إلى ألبانيا تنزيهًا للخاطر، وهناك بدأ يدرس ديانات العالم، ويقابل بينها ثم استأنف هذا الدرس عند عودته إلى قصره وبعد المراجعة والتمحيص خرج من درسه الواسع باعتقاد راسخ وهو أن الدين الصحيح هو الدين الإسلامي، ولكن نشوب الحرب العظمى أكرهه على الانقطاع عن مواصلة بحثه واستقصائه إذ دعي إلى امتشاق الحسام ومرافقة فرقته إلى ساحة القتال فجرح أربع مرات وأنعم عليه بأكثر من اثني عشر نشانًا ومدالية، ثم أرسل إلى تركيا أستاذًا للمدفعية في بعض فرقها العسكرية فأنعم عليه بالبكوية، وظل في الديار التركية حتى انتهاء الحرب العالمية فعاد إلى بلاده وكلف بالذهاب إلى روسيا لمفاوضة حكومتها الجديدة في شأن الأسرى النمسويين، والظاهر أن الثوار الروس اشتبهوا في أمره، وأرادوا أن يدبروا له مكيدة يتخلصون بها منه، فاتصل به خبر هذه المكيدة بواسطة فتاة تهواه كانت شقيقتها متزوجة أحد أعضاء (التشيكا) البلشفيا ففر إلى ميناء (ريغا) بعد أهوال تشيب لها الرجال، ولما وصل إلى ذلك الميناء اعتنق الإسلام رسميًّا واتخذ اسم يحيى اسمًا له، ثم لم يلبث أن تزوج من سيدة شركسية تقيم معه الآن في مصر وكان يحيى بك أراد أن يقطع كل صلة بالغرب فتجنس بالجنسية الأفغانية. ويقيم يحيى بك الآن في القاهرة كما تقدم، وهو يراسل منها طائفة كبيرة من الصحف النمسوية والهولندية وغيرها، وهو يتكلم على ما عرف الفرنسية والألمانية والتركية والروسية والبولندية، وقد بدأ يُلِم باللغة العربية، وقد اضطر إلى بيع قصره وأملاكه في بلاد (اليرول) على أثر احتلال الإيطاليين لها ولكنه باعها (بالكورون) الورق وما هي إلا عشية وضحاها حتى أصبح هذا النوع من العملة لا قيمة له. وهنا ابتسم يحيى بك وكان قد فرغ من سرد حكايته، وقال لنا: (لقد خسرت كل شيء إلا حرية فكري) اهـ من مجلة كل شيء، بتصحيح لبعض الألفاظ.

أنباء العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء العالم الإسلامي خطب جلالة الملك عبد العزيز بن السعود في الأمصار الحجازية بعد عودته من سياحته في نجد زار جلالة الملك ابن السعود في هذا العام بلاده النجدية وأقام في عاصمتها عدة أشهر، ثم عاد منها على طريق القصيم وحائل إلى المدينة المنورة فاستقبلته فيها وفود البلاد، فألقى عليها خطبة سياسية إضافية في محطة الغبرية (بالمدينة المنورة) قال فيها: *** خطبته في المدينة المنورة (إننا نبذل النفس والنفيس في سبيل راحة هذه البلاد وحمايتها من عبث العابثين ولنا الفخر العظيم في ذلك، وإن خطتي التي سرت ولا أزال أسير عليها هي إقامة الشريعة السمحة، كما أنني أرى من واجبي ترقية جزيرة العرب والأخذ بالأسباب التى تجعلها في مصاف البلاد الناهضة مع الاعتصام بحبل الدين الحنيف. إنني خادم في هذه البلاد العربية لنصرة هذا الدين وخادم للرعية، إن الملك لله وحده، وما نحن إلا خدمٌ لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم، ونأخذ على يد ظالمهم وننصح لهم ونسهر على مصالحهم كنا قد خنا الأمانة المودعة إلينا، إننا لا تهمنا الأسماء ولا الألقاب [1] وإنما يهمنا القيام بحق واجب كلمة التوحيد والنظر في الأمور التى توفر الراحة والاطمئنان لرعايانا، إن من حقكم علينا النصح لكم في السر والعلانية، ومن حقنا عليكم النصح لنا، فإذا رأيتم خطأ من موظف أو تجاوزًا من إنسان عليكم رفع ذلك إلينا لننظر فيه، فإذا لم تفعلوا ذلك فقد خنتم أنفسكم ووطنكم وولايتكم، وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته إنه على ما يشاء قدير. *** خطبته في جدة ثم انتقل من المدينة إلى جدة وألقى فيها على الوفود والأهالي المستقبلة له هذه الخطبة: حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله لما أعطى من فضله وكرمه ثم قال: إن العرب في هذه المدن تأخروا كثيرًا وليس لهم من المجد شيء، فوسائل القوة كلها بيد غيرهم، وإذا لم ترجع العرب للأصل الذي نشأ عليه أولهم فما هم ببالغين شيئًا إلا أن يشاء الله، إن القوة التي يمكن أن نستند عليها هي الاستمساك بما كان عليه سلفنا من اتباع كتاب الله وسنة رسوله وليس اتباع الكتاب الكريم بقراءته والتغني به، ولا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم بإعلان صحبته باللسان، والأفعال تخالف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا الأساس أساس الاتباع الصحيح هو الذي يمكن أن يجعل لنا وحدة قوية يمكننا أن نعتز بها ونرفع من شأننا، وبغير ذلك لا مزية لنا ولا احترام، انظروا للعرب في كثير من الأمصار فإن لديهم من الأموال أكثر مما لديكم، وعندهم من وسائل المدنية أكثر مما عندكم، ولكن كثرة الأموال ووفرة الوسائل المدنية لم تفك رقابهم من الأسر والذل، ولم ينفعهم ما جمعوا ولا ما صنعوا، إن المدنية الصحيحة والحياة ما نراه في البلاد المتمسكة بدينها، وذلك ما يسرني أن أراه في نجد والحجاز، فكلما ازداد هذان البلدان تمسكًا بدينهم وحافظوا على الأصل الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله كان له من العز والسؤدد بمقدار ما يظهر من قوة تمسكهم ومحافظتهم، فإن تمسكتم بهذا الأصل تمسكًا صحيحًا ولا أستثني فإن الله ينصركم ويؤيدكم، إن الدين هو مركز المغناطيس الذي يجذب قلوب الناس إليكم فتقوى بذلك قلوبكم، ويعظم مركزكم في الوجود، فدينكم وشرفكم العربي هو المغناطيس الحقيقي فتمسكوا بهما تنجحوا وتروا الحرية الصحيحة. ليست الحرية أن يُتْرَك الإنسان لهواه في الوقت الذي يكون فيه عنقه تحت الرق والأسر، ولكن الحرية الصحيحة هي حرية الإسلام الذين جعل الأمير والوضيع أمام العدل والحق سواء، وإنه لمما يُثْلِج الصدر أن ترى الأمير والضعيف يسيران معًا ليقفا أمام الشرع ليقضي بينهما، وإني أسأل الله أن يوفقكم للخير ويجعلكم ممن ينصرون دينه ويعلون كلمته. *** خطابه بمكة المكرمة ولما عاد إلى مكة المكرمة ألقى فيها على مستقبليه خطابًا بمعنى ما تقدم صرَّح فيه جلالته خلال الحديث بأن الغاية الى يتوخاها والمطمح الأسمى الذي يدعو إليه ويعمل في سبيله هو إعلاء كلمة التوحيد أولاً ورفع شأن العرب ومجدهم ثانيًا، ثم تطرَّق إلى الحرية والمدنية فأفاض جلالته في هذه الموضوع مبينًا أن الحرية التي جاء بها الإسلام هي أوسع من تلك الحرية المهيضة الجناح التى يدعيها الغير، وأن المدنية الإسلامية التى سطع نورها في العالم وكانت أساسًا لنهضات الأمم والشعوب، لم تكن مدنية مزيفة تقتصر على الماديات، وعلى الزينات فحسب، وإنما كانت مدنية علم وعمل، وحث المسلمين على التمسك بالشريعة السمحة كعادته في كل خطبة.

الجهر بالإلحاد ودعايته باسم التجديد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجهر بالإلحاد ودعايته باسم التجديد حكومة الترك اللادينية قد وقع ما توقعنا وصرَّحنا به مرارًا من عزم ملاحدة الترك الاتحاديين فالكماليين على نزع ثوب الإسلام الذي كانوا يلبسونه زورًا ورياء للشعب التركي الذي يدين الله به وجدانًا وتقليدًا، وأنهم كانوا يعملون لهذا متريثين، ويسيرون إليه متمكثين، مراعاة لسنة التدريج، وحذرًا من خيبة الطفور، ولكن التركي إذا ظفر بَطَرَ، وظن أنه العزيز المقتدر، فلذا كان ظفرهم الأخير باليونان مجرئًا للكماليين على الإيجاف والإيضاع في هذه السبيل فأبطلوا التعليم الديني ومدارسه والشريعة الإسلامية ومحاكمها، واستبدلوا بها ما يجافي طباعهم وتقاليدهم وأخلاقهم من شرائع بعض الشعوب الأوربية وقوانينها، وأعلنوا إباحة الردة عن الإسلام وجواز التدين بكل دين، والبراءة من كل دين، وتزوج المسلمة بالكافر، ورقصها مع الفاسق والفاجر، وأكرهوا شعبهم على لبس البرانيط - كل هذا كان مع وجود مادة في قانون الجمهورية الأساسي صُرِّحَ فيها بأن دين الدولة هو الإسلام. ولأجل هذه المادة التي كذَّبتها الأقوال الرسمية والأفعال الرسمية والأحكام الرسمية والقوانين الرسمية، وتصريحات الجرائد الرسمية وغير الرسمية باحتقارهم للدين وبراءتهم منه لأجل هذه المادة كان بعض المسلمين الأغبياء الغافلين يظن بإغواء الملاحدة المارقين، أن الدولة التركية لا تزال دولة إسلامية، وأن كل تلك الأقوال والأفعال والأحكام الكفرية المعادية للإسلام لا تنافي الإسلام؛ لأنها من التجديد المدني والتقدم إلى الأمام، وترك القديم البالي الذي أخلقته الأيام وأبلته الأعوام. هكذا كان يقول ملاحدة بلادنا المصرية في تأييد الكماليين والترغيب في كفرهم، وهكذا كانوا يكتبون، ولهذا كانوا يدعون، ولمثله عندهم فليعمل العاملون، ولكن الحكومة التركية الكمالية لم تعد تطيق الصبر على بقاء كلمة الإسلام في قانونها، فقررت إزالتها ومحوها، بل قررت إزالة اسم الله تعالى من اليمين الرسمية المقررة في القانون؛ لأنها لم تكن وضعت اسم الإسلام في القانون خوفًا من قيام الشعب عليها، فلما ظفرت بإخماد كل ثورة عليها والتنكيل بأهلها تجرأت على البراءة من الاسم كالمسمى. وإنه ليسر عقلاء المسلمين الصادقين هذا الجهر لسببين: (أحدهما) : أن كراهة المسلم الصادق للنفاق أشد من كراهته للكفر الصريح، ولا سيما النفاق بالقول الذي يصرح العمل بتكذيبه. (ثانيهما) : أن تلبس الحكومة التركية بظاهر الإسلام أو تحليلها باسمه زورًا وبهتانًا يخدع العالم الإسلامي الجاهل بها، ويظل على ما تعود معتمدًا في إعزاز الإسلام عليها، فيظل غافلاً عن قوة الإسلام نفسه وعن قوته هو بالإسلام، وإني لمعتقد أن ما كان شائعًا من قيام السلطان العثماني التركي بمنصب الخلافة كان أقوى الأسباب في ضعف المسلمين، وتمكن الأجانب من استعبادهم، والاستئثار بخيرات بلادهم. فإذا كان في هذا الكفر البواح من حكومة الترك ومجلس الأمة لها ضرر بغيرهم من المسلمين فهو سوء القدوة بالترك التابع لما كان من المبالغة في تعظيمهم بالباطل، وتعلق الآمال بهم بالوهم، لا فوات ما كانوا عليه من إقامة أركان الإسلام وإحياء كتابه وسنته والدفاع عنه، فإنهم لم يكونوا كذلك ولا سيما الجيل الأخير منهم. ولما وثق الأوربيون بارتداد الحكومة الكمالية بهيئتيها التشريعية والتنفيذية عن الإسلام وبعدواتهم له وبدعايتهم للشعوب الإسلامية، ولا سيما الأعجمية إلى اتباع خطواتهم في ذلك فرحوا، وصرَّح بعضهم بأن الإسلام قد فقد كل قوة وعصبية، وطمع دعاة النصرانية منهم بتحويل سائر المسلمين عن الإسلام وأرصدوا لذلك الأموال الكثيرة على تصريحهم بأن العقبة الكؤود في طريقهم هي عصبية جزيرة العرب ولا سيما الوهابية منهم. وطلب بعض جمعياتهم إرسال مائة مبشر إلى جزيرة العرب خاصة. ومما زاد في طمعهم في تقصير جميع المسلمين دعاية الإلحاد في مصر. *** الإلحاد والزندقة بمصر ها نحن أولاء نرى ملاحدة بلادنا هذه تُنَوِّه بكفر الترك الكماليين وتثني على كل خطوة من خطواتهم فيه، وتنافح عنه في جرائدها، وتدعو إلى مثله كلما سنحت فرصة، ولجريدة السياسة مراسل خاص في الآستانة مصري الأصل اسمه (عمر رضا) يمدها في كل أسبوع بمقالة ينوِّه فيها بأعمالهم، ويجلي كفرهم وضلالهم بحلي الخلابة وحللها، وهو الذي كان يراسل جريدة الأخبار الإسلامية من قبل بقوة دينهم ومتانة إسلامهم، ولكل وقت وكل حال سياسة ودين عند هؤلاء. ولكن كان من حسن حظنا أن كان أول ماقتٍ لهذه الدعاية الإلحادية وصادّ عنها هو جلالة ملك البلاد، ولم يكن الزعيم المؤثر سعد زغلول باشا براض عنها، ولا بمساير لها، بل كان ضدًّا على دعاتها في الجملة، حتى إنه اشتد في أثناء المناقشة بمجلس النواب في كتاب طه حسين الذي كذَّب فيه القرآن، وكاد يرفس وزارة عدلي باشا رفسة يسقطها بها إسقاطًا يجعل زعماء الحزب الدستوري في سفل سافلين، ولكنهم أجلوا البحث في المسألة حتى تمكنوا من إسلاس قياده وإسكاته عن تأييد المطالبين بعقاب طه حسين في المجلس، حرصًا على ما يسمونه بالسياسة الائتلافية ولولاه لنجحوا في دعايتهم إلى لبس البرنيطة. *** التفرنج ومبادئ الإلحاد في الأفغان كان المشهور في العالم الإسلامي أن أشد الشعوب الإسلامية عصبية إسلامية مسلمو نجد ومسلمو أفغانستان، وقد ذكرنا هذا من قبل، ولكن رُزِئَتْ الحكومة الأفغانية في هذا الزمن الأخير ببعض ملاحدة الترك فأفسدوا عقائد بعض رجالها الأفغانيين وزيَّنوا لملكها شر أنواع التفرنج وأضرها وهو تفرنج النساء بالتبرج والزينة وهتك حجاب الحياء والصيانة المقتضي للإسراف في النفقات؛ لأجل الانغماس في الشهوات واللذات. واتباع سنن الترك في لبس البرنيطة وانتحال القوانين الأوربية وغير ذلك من المفاسد التي جنت على الدولتين العثمانية والمصرية، وقد شرعت الدولة الأفغانية الجديدة تقلد الترك ولا ندري إلى أي شوط تصل في ذلك وإنا لمنتظرون. كنا كتبنا ما تقدم كله منذ أشهر، ولم يتسع له الجزء الثاني وتأخر إصدار هذا الجزء لما تقدم من السبب، وفي أثناء هذه المدة أتم ملك الأفغان رحلته الأوربية الآسيوية، وكان من أخبارها أن زوجته الملكة ثريا كانت في أوربة وفي أنقرة سافرة متبرجة بزينتها مسرفة فيها حتى إننا رأينا في بعض صورها الشمسية صورة نصفية برزت فيها عارية من كل ثوب ليس عليها إلا الجواهر التي تتلألأ على صدرها - ومنها أنها كانت ترقص مع الرجال وخص بالذكر مصطفى كمال باشا - ومنها أن كبار العلماء في إيران لما علموا بأخبارها هذه أرسلوا إلى بعلها الملك برقية صرَّحوا له فيها بأنهم لا يقبلون أن يروا في بلادهم الإسلامية ملكة مسلمة تنتهك حرمة الإسلام بسفورها وتبرجها المحرم شرعًا، فاضطرت عند وصولهما إلى إيران أن تحتجب احتجابًا تامًّا كنساء إيران، وكانت تبرز في مصر كالمصريات غير المسرفات في التبرج. ومن أخبار هذه الرحلة أن الملكة ثريا قد ابتاعت من الحلي والحلل وهي في باريز ما قيمته مئات الألوف من الجنيهات، وهذا يدل على أن التفرنج الأفغاني قد بدأ مسرفًا على طريقة إسماعيل باشا الخديو في مصر، كأن ملك الأفغان ورجاله لم يطلعوا على تاريخ ذلك الإسراف ولا علموا بما كان من نتائجه. بيد أن ملك الأفغان قد فَضَلَ إسماعيل بعنايته بأمر القوة العسكرية العصرية التي لا يمكن لدولة حفظ استقلالها بدونها وجعل الشعب كله عسكريًّا مستعدًّا في كل وقت لبذل النفس في سبيل الدفاع عن بلاده وغير عاجز عن الهجوم على غيره إن اضطر إلى ذلك. ولكن الاستعداد النظامي والآلي لذلك لا يكفي إلا إذا أمدته القوة الروحية والوحدة القومية. والشعب الأفغاني الآن عرضة لفساد العقائد والأخلاق بالتفرنج الجديد وما يتبع ذلك طبعًا من التفرق أو (انقسامه على نفسه) كما يقال في التعبير العصري. وسنبين في جزء آخر أسباب ما نخافه على هذا الشعب الإسلامي الباسل من فساد العقيدة والأخلاق والتفرق، وكون ذلك أضر فيه منه في الشعب التركي وأشد خطرًا على حكومته، وما حاولنا من نصح من لقينا من رجال الحكومة الأفغانية بمصر ومكة المكرمة ثم ما كتبناه إلى جلالة الملك أمان الله خان في مصر. ((يتبع بمقال تالٍ))

الحكومة السورية الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحكومة السورية الجديدة أجمهورية تكون أم ملكية وفق موسيو بونسو المندوب السامي الفرنسي الأخير لسورية ولبنان لِمَا لم يوفق له مَنْ قبله من المندوبين، فألف فيها حكومة مؤقتة عهد إليها بتأليف جميعة تأسيسية منتخبة تضع قانونًا أساسيًّا لحكومة البلاد على قاعدة الاستقلال والسلطان القومي، ثم ينتخب بمقتضى هذا القانون مجلس نيابي للبلاد يكون من وظائفه عقد اتفاق مع الدولة الفرنسية تحدد به علاقتها بسورية موضوعًا وزمنًا، وقد وعد هذا المندوب بالسماح لمنتخبي أعضاء الجمعية التأسيسية بالحرية التامة التي لا يشوبها شيء من تدخل السلطة المحتلة في انتخابهم. عهد بتأليف الحكومة المؤقتة إلى الشيخ تاج الدين الحسيني نجل الأستاذ المحدث الشيخ بدر الدين الحسيني الشهير فألفها من بعض الوطنيين وبعض الحكوميين ووقف هو فيها موقف الوسط بين الفريقين، فلما وقع الانتخاب انتخب هو من قبل كل منهما، فكانت هي البراعة الثانية التي أتقنها ونجح فيها، وأما البراعة الأولى فهي أنه ما زال يسعى لرياسة الحكومة سعيها منذ سنين حتى أمكنه استمالة السلطة الفرنسية من ناحية وقوة المعارضة الوطنية من ناحية، ولكن الثقة به عند الأولى أقوى، وهو يستعين بمكانته عند كل منهما على الأخرى. إنني قد سررت بوجود سيد شريف وشيخ معمم يملك هذه البراعة، وأتمنى من صميم قلبي لو يوفق لحفظ مركزه بالإخلاص لقومه وحسن الصلة بينهم وبين الدولة التي امتحنوا بها - وأحب له الثبات على الزي العلمي العربي في وقت ينفر فيه الجمهور العصري من زيّ رجال العلم الإسلامي حتى صار بعضهم أميل إلى البرنيطة منه إلى العمامة ولا سيما المتفرنجين الذين يعدونها كقلانس رجال الكهنوت الديني عند النصارى وغيرهم الذين حبسوا أنفسهم على خدمة دينهم وإرشاد أهله إلى الاعتصام به ودعوة غيرهم إليه ودفاعهم عنه، وحملة العمائم عند المسلمين ليسوا كذلك، وإن سروري بوجود الشيخ تاج الدين على رأس الحكومة السورية متحليًا بعمامته البيضاء (ولم يبق له من هذا الزي القومي غيرها) لا يشوبه رجاء في خدمة للدين الإسلامي يقوم بها، وإنما أنا خصم لدعاية التفرنج التي يُقَبِّح أهلُها - قبَّحَهم الله - كل ما هو من مشخصات أقوامهم وأوطانهم ومن مقوماتها أيضًا ويدعون إلى استبدال غيره به بشبهة التجديد الذي معناه احتقار تاريخهم وأمتهم وتفضيل غيرها عليها، فأنا أُلاحظ في هذا قول صديقنا الأمير شكيب أرسلان في المقابلة بين قومنا العرب وبين الإفرنج: يملك إذا ما بات فيهم متوّجا ... فيا طالما قد كان فينا معمما هذا وإن مسيو بونسو وعد بعدم تدخله في انتخاب الجمعية التأسيسية كما قلنا، ولكن الوزراء الحكوميين وسياستهم الفرنسية تدخلوا وبذلوا جهدهم في ترجيح كفة رجالهم على الوطنيين، ويقال أيضًا: إن بعض الموظفين الإفرنسيين في الأقضية قد تدخلوا أيضًا، ومع هذا كان النجاح الأكبر في الانتخاب لجماعة الوطنيين المشهورين بمعارضتهم لكل ما فعلته السلطة العسكرية في البلاد من المنكرات وللانتداب الفرنسي نفسه. بعد أن تم انتخاب الجمعية التأسيسية وانتخب صديقنا هاشم بك الأتاسي رئيسًا لها، وبدأ الأعضاء يجتمعون كثر خوض الناس والصحف فيما تقره من شكل حكومة البلاد هل هو الجمهورية أم الملكية، وصار كل من يرجح رأيًا يدلي بحججه على ترجيحه، وترجح الصحف أن الرأي الغالب في البلاد تفضيل الملكية على الجمهورية، وإن الجمعية التأسيسية ستقرر هذا الرأي بالأكثرية، وإن لم يسمع أحد من أعضائها كلمة في هذا الموضوع، ونقلت إلينا أن المرشحين لمنصب الملك هم الشريف علي حيدر بك، والشريف علي بن الحسين، وأخوه الشريف زيد، والأمير فيصل آل سعود نجل ملك الحجاز ونجد. ومن الناس من يذكر السيد تاج الدين الحسيني رئيس الحكومة السورية، وأحمد نامي بك سلفه، وأن رجاء هذين في رياسة الجمهورية أقوى، فأما الشريف علي حيدر فله رجال في سورية يرشحونه، وقد سبق نجله الشريف عبد المجيد بك (الداماد) إلى هذا السعي منذ سنين إذا اتخذ مدينة بيروت مقامًا له، وأما نجلا الملك حسين أخوا الملك فيصل فيسعى لهما أو لأحدهما أخوهما الملك، ويروى أن مجيء رئيس ديوانه وبعض كبار الوزراء والرؤساء للدولة العراقية إلى سورية في هذا العهد يراد به السعي لذلك بصفة غير رسمية، ولذلك كذبوا ما عزي إليهم. وحجة من بقي في سورية من أنصار هذا البيت أنه أرجى لتحقيق وحدة بلاد الحضارة العربية العراق وسورية والأردن، وكذا فلسطين ولو بعد حين في دائرة الأمبراطورية المرنة - بتوحيد التعليم وتوحيد اللغة التى يستمد منها العلم العصري والفنون وتوحيد المعاملات الاقتصادية وغير ذلك، فإن وجود الشريف علي أو الشريف زيد ملكًا في سورية بين حكومتي أخويه: فيصل وعبد الله يمهد السبيل لذلك وهو مرجو عندهم. وأما خصومهم فلا يسلمون لهم هذا، ويرون أن انفراد إنكلترة بالسلطان من مصر إلى خليج فارس أعظم خطرًا على الأمة العربية وعلى الملة الإسلامية، على ما ظهر من سوء نيتها في مسألة الصهيونية والتعدي على أرض الحجاز، ويعدون من غوائله أيضًا ما يخشى من وقوع الشقاق بين سورية وجارتيها الحجاز ونجد كما هو واقع على حدود العراق وشرق الأردن. وعندي أن أقوى الموانع من اختيار أحد أفراد هذا البيت أنه قد ثبت بالتجربة أنهم مفتونون بحب الملك والإمارة وأنهم يبذلون في هذه السبيل استقلال البلاد ومنافعها ورقبتها أيضًا للأجنبي الذي يكفل لهم لقب ملك أو أمير، فهذا الشريف عبد الله أظهر قد جاء منطقة شرق الأردن، التي كانت تابعة لحكومة سورية باتفاق فرنسة وإنكلترة وليس فيها احتلال أجنبي؛ لأن الجنرال غورو لم يعتد عليها بعد احتلاله لدمشق وإسقاطه لحكومة فيصل فولاه أهلها والنازحون إليها من رجال حكومة سورية العسكريين والمدنيين أمرها، فلم يلبث أن جلب لها الاحتلال البريطاني وجعلها تابعة لفلسطين في الانتداب عليها، ثم ترك للحكومة البريطانية ما كان بيده من أمر سكة الحديد الحجازية بكتابة رسمية، ثم عقد معها محالفة فيها من مخازي الذل والاستعباد ما ضج منه بدو أهلها والحضر، ولو لم يكن منه إلا أن الأمر والنهي والتصرف المطلق فيها لجلالة ملك الإنكليز حتى إن له أن يحشد فيها من الجنود البريطانية ما شاء، وأنه ليس للأمير المُوَلَّى من قبله أن يحشد جنديًّا واحدًا بدون إذن بريطاني، لكفى خزيًا وذلاًّ ومهانة واستعبادًا وخطرًا على الحجاز. وقد أرسلت البلاد وفودًا إلى الأمير يحتجون على المعاهدة ويطلبون منه رفضها فحبس بعضهم وأهان بعضًا وهدَّد آخرين، وكان من جوابه لبعضهم أنه لو لم يكن في المعاهدة من الفائدة إلا تصريحها بأن للبلاد أميرًا لكفى، قال: ولا يخفى ما في هذا اللقب من الإشارة إلى الاستقلال! فليتعز إذًا عن استعبادهم بهذه الإشارة. وأما الشريف علي فقد كان الذين رغبوا إليَّ السعي للصلح بينه وبين ابن السعود يقولون: إنه خير من أبيه وإخوته، وإنه إذا صالحه على شيء وفَّى له.... ثم علمنا من الثقات أنه عرض على الدولة الإنكليزية أن يعترف لها بالحماية الرسمية والانتداب على الحجاز [1] في مقابلة مساعدته على صرف ابن السعود عنه.. . فأجابته بأنه لا يسعها في مسألة الحجاز إلا الحياد التام؛ لأنه المركز الديني الذي يسوء العالم الإسلامي كله تدخل أي دولة غير مسلمة فيه. لم يمكنه جعل الحجاز كله تحت السيادة البريطانية ليتمتع بلقب (ملك) في ظل هذا السلطان ولكن أمكنه أن يبيع الدولة البريطانية أهم بقعة حربية بحرية اقتصادية من بلاد الحجاز، وهي البقعة الممتدة من خليج العقبة المنيع على شاطئ البحر الأحمر إلى معان ذات الموقع البري العظيم وأهم محطات سكة الحديد الحجازية قلب البلاد، ولكن كيف باعه وبأي ثمن باعه؟ كنا نجهل كيف سمح الشريف علي بن الحسين بسلخ هذه المنطقة العظيمة الشأن من أرض الحجاز وجعلها تابعة لشرق الأردن الواقع تحت السلطان البريطاني حتى كشفه لنا الريحاني في كتابه (تاريخ نجد) فإنه قال بعد ذكر ما خسره الملك علي من نقل الإنكليز لوالده من العقبة إلى قبرص، وهو ما كان يمده به من المال ما نصه: (وهناك خسارة أكبر للحجاز كانت تتعلق بسفر الحسين، وكان الأمير عبد الله يسعى لها، فهو الذي أقنع أخاه وحكومة أخيه بأن يسلموا بضم العقبة ومعان إلى شرق الأردن، وقد ضرب الأمير يومئذ على الوتر الحساس؛ إذ قال في إحدى مذكراته لجلالة أخيه ما معناه: سلموا بضم العقبة ومعان وأنا أضمن لكم من الإنكليز ما يأتي: أي ثلاثمائة ألف ليرة تعويض الضم ومئتا ألف ليرة ثمن الأملاك غير المنقولة، وقرض قيمته خمسمائة ألف جنية يعقد حالاً، ثم إبعاد ابن السعود عن الحجاز حتى تربة والخرمة، وجعل الخط الحجازي رهن إشارتكم في كل وقت. (أية حكومة في موقف تلك الحكومة الهاشمية لا تقبل بيع قطعة من أملاكها بهذا الثمن؟ وأي ملك في مركز الملك علي لا تغره تلك الأرقام؟ ولكنها أرقام في كتاب الأحلام) اهـ الريحاني. ونحن نقول: إن كل حكومة أمينة غير خائنة لا تبيع شيئًا من بلاد أمتها لدولة أجنبية مهما يكن الثمن الذي يبذل عظيمًا، على أن الثمن الذي خدع به الأخ أخاه حقير بالنسبة إلى خليج العقبة وحده الذي يقول العارفون: إن زقاق البوسفور دونه مناعة، ثم نقول: إن كل ملك غير خائن ينزه نفسه رذيلة بيع وطنه لدولة أجنبية بثمن بخس، وكل ثمن تباع به الأوطان فهو بخس. فكيف إذا كان هذا الملك مسلمًا وشريعة الإسلام لا تبيح للملوك والسلاطين بيع بلاد الإسلام لغير المسلمين وتجعل لهم السلطان عليها. فكيف إذا كانت هذا البلاد من أرض الحجاز المقدسة التى أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى فيها ولا في سياجها من جزيرة العرب دينان، وأخبر بأن الإسلام سيأرز أي ينكمش وينضوي إلى الحجاز إلخ، هل يعقل - والحال هذه - أن يَنْقُض رجل مسلم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرض مهد دينه لخطر استيلاء الأجنبي عليه طمعًا في المال، أو في لقب لا قيمة له في مثل هذا الحال؟ وإذا عقل وقوع هذا من رجل دنيء الأصل خسيس المنبت يريد أن يعلو بين الناس بالمال واللقب، ولو بخسران الدين والشرف، فهل يتصور من شريف صحيح النسب، عالي الأدب والحسب؟ نعم قد وقع بالفعل ما هو بعيد عن المعقول والمنقول والدين والشرف. وإن الافتتان بزهو الملك وتنفجه وشهواته لا يكفيان في الإسفاف والتسفل إلى هذا الدرك الأسفل إلا إذا صحبه جهل فاضح وخذلان من الله تعالى، نعم قد خدع الشريف الأمير عبد الله ابن الشريف الملك الحسين أخاه الشريف الملك عليًّا بأن يبيع للإنكليز أعظم مواقع الحجاز وحصونه البرية والبحرية بثمن ذكره له، فأجابه إلى ذلك من غير عقد ولا قبض ثمن، فكانت هبة مجانية للإنكليز، وقد أعلن الشريف عبد الله هذا الظفر بانقطاع هذه المنطقة من الحجاز وإلحاقها بشرق الأردن في عاصمة إمارته وأمر بإطلاق مائة مدفع ومدفع إيذانًا وسرورًا بهذا الفتح المبين؟ فهل يأمن السوريون إذا ولوا عليهم من هذه حالهم أن يبيعوا ما يمكن بيعه من سورية لمن يشتريه من الأجانب وليست سورية بأعظم عندهم من الحجاز الذي هو مهد دينهم وموطن إمارتهم وفخرهم؟ وأولاد حسين بن علي كلهم صنائع الإنكليز، وأولاهم بذلك الشريف

لجنة يوبيل الرافعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لجنة يوبيل الرافعي الأعضاء بحسب حروف الهجاء الشيخ محمد أفندي الجسر رئيس ... ... الشيخ كاظم أفندي الميقاتي موسى أفندي نحاس أمين الصندوق ... لطف الله أفندي خلاط سابا زريق سكرتير ... ... ... ... مصطفى عادل أفندي الهندي الشيخ إسماعيل أفندي حافظ ... ... الدكتور ميشال أفندي رحمه جورجي أفندي يني ... ... ... ... نديم أفندي جسر الدكتور حسن أفندي رعد ... ... ... هاشم أفندي ذوق الدكتور رشاد أفندي حجه ... ... ... يعقوب أفندي صراف الشيخ سامي أفندي صادق ... ... ... يوسف أفندي إسكندر نصر عبد الحميد أفندي كرامي اليوبيل الذهبي للشاعر الكبير عبد الحميد بك الرافعي درجت الأمم الراقية على تكريم أعلامها النوابغ مظهرة بتكريمها هذا شعورها بالمجهودات الصادقة التى بذلوها في سبيل نشر أريج نبوغهم والخدم الجلى التى قدموها لأوطانهم، ومستنهضة للهمم في الوقت نفسه لاقتفاء آثارهم والسير على مناهجهم، ولما كان حضرة الشاعر الكبير عبد الحميد بك الرافعي ممن رفعوا لواء الشعر عاليًا في هذه البلاد، وقد مر عليه خمسون عامًا، وهو يبعث للعالم العربي من شعره الدرر الغوالي فقد رأت طرابلس أن تقدم طاقة من زهر تقديرها لحضرته اعترافًا بعبقريته الشعرية الممتازة فتألفت لجنة مركزية لتحقيق هذا الغاية، وضرب الثامن عشر من شهر تشرين الثاني المقبل عام 1928 موعدًا لإقامة يوبيل ذهبي لحضرته. فاللجنة تدعو أهل الأدب والفضل في كل قطر ناطق بالضاد إلى مشاركتها في مشروعها إنهاضًا لكرامة الأدب العربي وتشجيعًا لرجاله على متابعة العمل في سبيل رفع لوائه، وذلك بتأسيس لجنة في حاضرتكم ومؤازرة المشروع من الوجهتين المادية والأدبية، أما المؤازرة المادية فمهما قلت فاللجنة تسجل لمرسليها فضلاً، فالعبرة للعاطفة في مثل هذا التبرع لا للمال، وهذه التقدمات المالية ترسل باسم أمين صندوق اللجنة لتحوَّل يومًا ما إلى تقدمة واحدة تذكارية تليق بعواطف المتبرعين. وأما التقدمة الأدبية نثرًا كانت أم شعرًا فترسل باسم سكرتير اللجنة فتقبلها اللجنة بملء الارتياح فاتحة لها صدر كتاب اليوبيل الذي سيصدر مع ذكر التقدمات المادية والأدبية وما أنشد في الحفلة. وسيظل باب المراسلات مفتوحًا حتى الخامس عشر من تشرين الأول سنة 1928 لا برحتم أنصارًا للأدب العربي الصحيح. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سكرتير اللجنة ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سابا زريق ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (الكويت) مجلة دينية تاريخية أدبية شهرية صدر الجزء الأول من هذه المجلة في مدينة الكويت لمحررها الأديب الفاضل الشيخ عبد العزيز الرشيد المعروف من خيرة أدباء تلك البلاد العربية العزيزة، فألفيناه وقد تناول المواضيع الإصلاحية الدينية بعناية تنم عن مشربه الحسن في الإصلاح الديني كما أنه ألم برد الشبهات وبحث بحثًا طريفًا في الآداب والأخلاق وعني بما يسمونه القديم والجديد، وكذلك أفرد بابًا خاصًّا في الكويت للبحث التاريخي فبدأ الكلام فيه عن نجد وما جاورها لأهمية الدور الذي لعبته تلك الأقطار في هذا الأيام، وهناك قِطَع مختارة من الشعر العربي والحِكَم العربية، والمجلة مطبوعة على ورق جيد ومطبوعة طبعًا حسنًا وقيمة اشتراكها في الكويت تسعة روبيات وفي خارجها 12روبية فنرجو (للكويت) تقدمًا مضطردًا ورواجًا يليق بهمة وإخلاص منشئها الفاضل. *** (كتاب الإبهاج في شرح المنهاج) للشيخ تقي الدين السبكي ومعه نهاية السول في شرح منهاج الأصول، تأليف الشيخ الإمام جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن الإسنوي على متن منهاج الأصول تأليف القاضي ناصر الدين عبد الله بن عمر البيضاوي، والكتاب ثلاثة أجزاء قام بطبعه محمود أفندي صبيح صاحب المكتبة المحمودية بميدان الأزهر على ورق جيد في أكثر من 700 صفحة، وهو من الكتب العظيمة المُعَوَّل عليها في علم أصول الفقه، وهو مقرر على طلبة العلم بالجامع الأزهر الشريف والمعاهد الدينية وثمنه خمسون قرش صاغ خلاف أجرة البريد ويطلب من مكتبة المنار وجميع المكاتب الشهيرة في كل الجهات. *** (بلوغ المرام من أحكام ذوي الأرحام) ويليه القول الصائب في تقديم ولد الغاصب تأليف الأستاذ العلامة الشيخ محمد رحيم من علماء طرابلس الشام وهو كتاب ألم بموضوعه من جميع الوجوه فجاء وافيًا بالغرض المطلوب منه، وقد قرَّظه رهط من كبار علماء مصر والشام، ثمنه أربعة قروش مصرية ويباع في مكتبة المنار. *** (مهاتما غاندي) وضع العالم الإفرنسي الشهير روس روللان كتابه هذا باللغة الفرنسية فأقبل عليه الجمهور إقبالاً فائقًا ونقل الكتاب إلى عدة لغات، وقد رأى الأستاذ السيد عمر فاخوري الأديب البيروتي أن يقدم للأمة العربية هذا المؤلف الجميل فترجمه إلى لغة الضاد، وقدمته مجلة الكشاف التى تصدر في بيروت هدية لقرائها، وقد وصف المؤلف غاندي ومبادئه وصفًا شائقًا يستحق الإعجاب، والكتاب يطلب من مؤلفه الفاضل في بيروت ومن مكاتبها الشهيرة. *** (سرح الأعين) كتاب في الأخلاق والعادات لمؤلفه الفاضل الأستاذ علي فؤاد المنوفي مفتش التعليم الأولي بمجلس مديرية الدقهلية، وهو بحث أخلاقي انتقادي طبع مشكولاً على ورق جيد ويطلب من المكاتب الشهيرة. *** (الوهابيون والحجاز أو نجد وحجاز) نقل الأستاذ العلامة مولانا عبد الرحيم ناظم مكتبة العلوم المشرقية بلاهور رسالتنا (الوهابيون والحجاز) إلى اللغة الأوردية الهندية، ونشرته مكتبة الهلال الشهيرة بلاهور، وهو يطلب من مديرها السيد عبد العزيز المحترم.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار ترجمة محمد علي الهندي للقرآن س16من صاحب الإمضاء في سمبس برنيو (جاوه) بسم الله الرحمن الرحيم حضرة مولاي الأستاذ العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر نفعني الله والمسلمين بعلومه آمين. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أما بعد فالمرجو من فضلكم وشفقتكم على الأمة الإسلامية الجواب عن هذا السؤال وهو: هل يجوز العمل بتفسير مولاي محمد علي الهندي الذي فسَّر به القرآن باللغة الإنكليزية أم لا؟ وقد ترجمه باللغة الملاوية الحاج عثمان جوكرو أمينوتو (IJokroaminoto) وقد صار النزاع بين الجاويين في أمر هذا التفسير فأكثرهم اعترضوا عليه، ولكن قال المترجم: إنه لم ير أحدًا بيَّن خطأ هذا التفسير، ولهذا أرجو أن تبدوا رأيكم فيه، نعم قد علمت أن مفتي مصر وبيروت لم يأذنا بإدخال هذا التفسير الإنكليزي فيهما، ولكن عدم إذن المفتيين في ذلك لم يكن كافيًا لإقناع الناس بعدم جواز العمل به، هذا وتفضلوا بقبول شكري وشكر الأمة سلفًا على جوابكم الشافي المنتظر، ودمتم سالمين وملجأ للمسترشدين. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران (ج) الظاهر أنكم تريدون من العمل بهذا التفسير الاعتماد على ما بيَّن به معاني التنزيل من أحكام العبادات والمعاملات أو ما هو أعم من ذلك كالاعتماد عليه في العقائد الدينية، ولا يمكن أن يفتي بهذا إلا من قرأ هذا التفسير أو الترجمة التفسيرية كلها ورأى أن صاحبها لم يخرج فيها عن شيء من القطعيات التى أجمع عليها المسلمون أو جرى عليها جمهور السلف الصالح ولم يشذ عن مدلول الألفاظ العربية فيما ليس بقطعي، والمشهور أن صاحبه محمد علي هذا من القاديانية وأنه حرَّف بعض الآيات المتعلقة بالمسيح لأجل الاستدلال بها على كون ميرزا غلام أحمد القادياني هو المسيح المنتظر، هذا هو سبب منع شيخ الأزهر ومفتي بيروت لإدخال المصحف الشريف المطبوعة معه هذه الترجمة الإنكليزية إلى مصر وسورية لئلا يضل المسلمون بهذا التحريف، وقد ذكرت هذا في الجزء التاسع من تفسير المنار، والطائفة القاديانية مارقة من الإسلام تدعي الوحي لمسيحها الدجال وخلفائه، ولهم في تحريف القرآن مفاسد لم يسبقهم إليها دعاة الباطنية من زنادقة الفرس وغيرهم، ومنها أنهم يزعمون أن سورة الفاتحة تدل على استمرار الوحي الإلهي إلى آخر الزمان، وقد رددنا على دجالهم في حياته وبيَّنا ضلالهم بعد موته مرارًا في مجلدات المنار المتعددة. وعندي أنه لا ينبغي للمسلمين أن يعتمدوا على هذا الترجمة ولا غيرها في فهم القرآن والعمل به، وإنما ينتفع بهذه التراجم في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام ممن لا يعرفون العربية ويعرفون لغة الترجمة، وراجعوا كتابنا (ترجمة القرآن) في هذا الموضوع فهو يغني عن الإطالة هنا في هذه المسألة. *** من استباح التزوج بأكثر من أربع (س17 -20) ومنه أيضًا: مولاي الأستاذ السيد الأجل فخر الأنام، نفع الله تعالى بوجوده الإسلام. أرجو من فضلكم الجواب عن هذه الأسئلة وهي: هل قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (النساء: 3) نص على عدم جواز الزيادة على أربع زوجات أم لا؟ وهل يجوز لأحد أن يتزوج بأكثر من أربع نسوة تقليدًا لمن قال بتسع أو ثماني عشرة امرأة أم لا؟ وما حكم الأولاد الذين هم من النساء الزوائد مع حديث غيلان، الذي صحَّحه الحاكم وابن حبان، وهو (أمسك أربعًا وفارق سائرهن) وإذا فعل ذلك أحد من الكبراء (الأمراء والسلاطين) أو غيرهم فهل يجب على العلماء إنكار فعله عليه بالنصيحة له أم لا؟ هذا والمرجو منكم الجواب، ولكم مني الشكر ومن الله الثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران (ج) الآية الكريمة نص على جواز نكاح الأربع بشرطه وعدم الزيادة عليها، ومن قال: إنها تدل على جواز 18 فهو محرف للنص بجهله باللغة أو بسوء القصد، وتقليده ممنوع بإجماع أهل الحق من المسلمين؛ ومن فعل ذلك عن جهل يُعْذَر به فأولاده مما زاد على الرابعة أولاد شبهة، ولا شك في أنه يجب على علماء المسلمين الإنكار على مَن يخالف هذا الإجماع المستَمَد من نص القرآن المؤيد بالسنة العملية والأحاديث الصحيحة أميرًا كان أو مأمورًا ملكًا كان أو سوقة فحكم الله واحد لا يختلف باختلاف المظاهر وغيرها، وإنما يختلف أسلوب إنكار المنكر والأمر بالمعروف، فيراعى فيه من الحكمة والموعظة الحسنة ما يُرْجَي به القبول. *** إمامة الجمعة وما يشترط فيها الشافعية (س20-22) وله أيضًا بسم الله الرحمن الرحيم حضرة العلامة الحجة، مولانا الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي أدامه الله تعالى للأمة إمامًا مصلحًا آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرجو من فضلكم أن تتفضلوا بالجواب عن الأسئلة التى تتعلق بصلاة الجمعة فلم تزل أفهام الناس تختلف فيها باختلاف أقوال الفقهاء فيها ألا وهي: (1) قال بعض العلماء: يُشْتَرط أن يكون إمام الجمعة ممن سمع الخطبة، وإن زاد على الأربعين، فهل هذا القول صحيح أم لا؟ (2) قال في الجمل على شرح المنهج: (فرع) لو خطب شخص وأراد أن يقدم شخصًا غيره ليصلي بالقوم فشرطه أن يكون ممن سمع الخطبة وينوي الجمعة إن كان من الأربعين وإلا فلا؛ إذ تجوز صلاة الجمعة خلف مصلي الظهر اهـ شوبري، فما معنى قوله: (وإلا فلا) فسِّروه لنا، وهل يشترط على الصبي أو العبد أو المسافر أو مصلي الظهر أن يسمع الخطبة إذا كان إمامًا للجمعة أو لا؟ إذ هم قد قالوا: إن أحد الأربعة يصح أن يكون إمامًا للجمعة، فإني لم أفهم اشتراطهم على الإمام أن يكون ممن سمع الخطبة، وإن زاد على الأربعين، فإنهم ليسوا من أهل الجمعة، وإن سمعوا الخطبة فسماعهم لها لم يجعلهم معدودين من العدد الذي تصح به الجمعة، ومع ذلك تصح إمامتهم، هذا والمرجو منكم الجواب عن هذه الأسئلة، ولو كانت عند أهل العلم من البديهات، ولكن الجواب عن أمثالها لا يخلو من حسن الإفادات. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران (ج) الحق أن تشديد فقهاء الشافعية في أحكام صلاة الجمعة لا يطاق وهم يستنبطون من كل استباط أحكامًا، وإن كان الأصل الأول لا يقوم عليه دليل كاشتراط الأربعين الموصوفين بالصفات المعلومة في انعقاد الجمعة، وإذا كان هذا غير صحيح؛ لأن الأدلة قامت على خلافه سقط كل ما بُنِيَ عليه مما سألتم عنه هنا وغيره، والمتبادر من أحكام الإمامة عند جماهير العلماء أن من صحت إمامته لغير الجمعة صحت إمامته لها، وكل من صلى الجمعة وجب عليه أن ينويها، والشوبري ليس شارعًا لهذه الأمة ولا إمامًا مجتهدًا فيها، فمن كلَّف نفسه ما لم يكلفه الله من التعبد بآرائه وآراء أمثاله فحسبه ما يرهق به نفسه في الدنيا، والذي يجب على كل مسلم حضر الجمعة حيث تقام أن يصلي مع المسلمين كما يصلون، فإن كان ممن لا تجب عليه كالمسافر ذهبت رخصة السفر بدخوله فيها، وكانت صلاته كصلاة سائر المسلمين، ولا يجب عليهم أن يعدوا المصلين ويجعلوا لكل نوع منهم صلاة غير صلاة الآخرين. *** الماسونية س 23 من صاحب الإمضاء بتونس: الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. حضرة الأستاذ رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، أقدم لجنابكم فائق احتراماتي وأحييكم تحية مخلص بار مستنهلاً من مواردكم العذبة غيث التحقيق فيما أرجو أن يخضل به روض تاموري وينعم عندي مرج التحقيق بإسفاركم لي عن مُحَيَّا الطائفة الماسونية، ومهيع سلوكها، والغاية التى ترمي إليها ومركزيتها في الكون ومحور دائرة أعمالها وكيفية ارتباط أعضائها وسلم تدرجهم في السعي، والسبيل الذي يمكن الاطلاع به على كل حقائق هيئتها، وهل في ذلك ضيرعلى الدين المحمدي، أو مساس بالعقائد حتى أكون ممن نهل ورد التحقيق، ولكم جزيل الشكر ووافر الامتنان من المخلوقين، وعظيم الأجر من رب العالمين، حرَّره راجي الإفادة. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الصالح رمضان (ج) ليس عندي من العلم ما أجيبكم به عن كل هذه الأسئلة وإنما أعلم بالإجمال أن الجمعية الماسونية قد أسست لأجل هدم الحكومة الدينية البابوية أولاً وبالذات، ثم هدم كل حكومة دينية وإقامة حكومة لا دينية مقامها، وحيثما تم لهم ذلك فإن الجمعية تكون رابطة أدبية وصلة تعارف وتعاون بين أهلها المؤلفين من أهل الملل المختلفة وأكثرهم لا يعرف منها الآن أكثر من ذلك. والواضعون لأساسها الأول هم اليهود وغرضهم الأساسي منها إعادة ملك سليمان الديني إلى شعبهم في القدس وإعادة هيكله إلى ما وضع له وهو المسجد الأقصى، فأعظم كيد لهم وجد في الأرض أنهم هدموا الحكومات المسيحية الدينية من أوربة غربيها فشرقيها والحكومة الإسلامية التركية والنطرنية الروسية، وبعد هذا كله ظهرت جمعيتهم الصهيونية تستغل خدمتهم للإنكليز في الحرب بالتوسل بها إلى إقامة حكومة دينية يهودية في فلسطين وإذا أردتم الاطلاع الواسع على شئون هذه الجمعية فعليكم بما كتبه فيها أشد خصومها في العالم وهم الجزويت، وليسوا لديكم بقليل. *** قراءة العامي للكتب الدينية (س 24-26) من صاحب الإمضاء ببيروت: حضرة صاحب الفضل والفضيلة العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة (المنار) الغراء، دام محفوظًا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع لسيادتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه. (1) هل يجوز للعامي الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا مطلقًا أن يقرأ كتب تفسير القرآن الكريم والأحاديث القدسية والنبوية وشرحها وتفسيرها والتوحيد والفقه وغير ذلك، وهو يلحن فيها أم لا؟ (2) هل يجوز للعامي أن يفتي غيره في المسائل الدينية الإسلامية التي يعرفها أم لا؟ (3) أرجوكم أن تبينوا لنا أسماء وأصحاب الكتب الدينية الإسلامية الصحيحة المعتمدة في العبادات والمعاملات وغير ذلك، فتفضلوا بالجواب، ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر البعلبكي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت أما الجواب عن السؤال الأول فهو أنه يجوز لمن يجهل النحو والصرف قراءة الكتب الدينية ومطالعتها ولا يضره اللحن فيها، وإنما يشترط عدم اللحن في تلاوة القرآن، ولكن ليس له أن يلقن الناس شيئًا من الأحاديث إلا إذا ضبطها على أحد العلماء. وأما الجواب عن الثاني فهو أنه لا يجوز للعامي أن يفتي غيره بما يفهمه من المسائل الدينية باجتهاد منه، وأما إذا حفظ مسألة من العلماء وكان على ثقة من حفظها وفهمها فله أن يذكرها لغيره، وليس لغيره أن يأخذ بما نقله له ويعتمد عليه في العمل. وأما الجواب عن الثالث فلا سبيل إليه؛ لأن الكتب الدينية وأصحابها كثيرون منهم المشهورون المستغنون عن الذكر كمالك والشافعي والبخاري ومسلم، ولكل أهل مذهب كتب مشهورة يسألون عن المعتمد منها. وقد ذكرنا في مباحث تفسير قوله تعالى من سورة المائدة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) أشهر الكتب التى يُعْتَمَدُ عليها في الأمور الدينية من كتب السنة وشروحها وكتب الأحكام المؤيدة بدلائلها فتطلب من جزء التفسير الثامن ومن كتاب (يسر الإسلام) الذي صدر حديثًا.

تفسير المنار

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ تفسير المنار تقريظه بمناسبة طبع الجزء الأول منه للأستاذ العالم العامل، الأديب الخطيب الفاضل الشيخ محمد بهجة البيطار الدمشقي سليل بيت البيطار الشهير بالعلم، وهو الآن مدير المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت: 53) . طلع علينا الجزء الأول من تفسير عالم الإسلام الشهير، الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشىء المنار المنير، وفي النفس شوق إلى رؤيته يعجز اللسان عن بيانه، وفي عصرنا الحاضر حاجة إلى ظهوره يقصر القلم عن وصفها، يعرف قيمة المنار وتفسير المنار من عرف مطالب هذا الزمن المنوعة، ومشاكل المسلمين الكثيرة، التي أوقعتهم في بحران من الاضطراب العظيم، وسلكت بهم في سبيل النجاة منه طرائق قددًا. نهض السيد الجليل بذلك العبء الثقيل، وأخذ يحل عقد المنازع الدينية الدنيوية المتجددة المعقدة، ويبين لأمته وجه الحق فيها، وطريق الخلاص منها، مستهديًا بهدي السنة والتنزيل، وهما خير هاد ودليل، مسترشدًا بسنن الوجود التى لا تبديل فيها ولا تحويل، وإليك أهم ما انفرد به المنار وتفسيره عن غيره، وجعله وحيدًا في نوعه: (1) تصديه لملاحدة العصر الداعين إلى استباحة الأبضاع، الساعين في تقويض دعائم العمران، وقلب سنن الاجتماع، ونظام الاشتراع، وفي صحفهم المنشرة المشتهرة، فهذا التفسير يكشف عن مخازيهم وإفكهم، ويرد سهامهم الخاسرة في نحورهم. (2) مقاومته لمهاجمة دعاة التثليث في كتبهم التي لا تنضب مادتها، ولا يحصى عددها، وما أشد مزاعمهم في الإسلام ومفترياتهم عليه، وحسبك أنه لا تمر به شبهة منهم إلا ويأتي عليها نقضًا وإبطالاً. (3) فتاويه التى تبحث في أدق المسائل الإسلامية، وتحل أعقد المشاكل الدينية الاجتماعية حلاًّ يفي بحاجة العصر، ويتمشى مع قواعد النصوص الشاملة، والمصلحة العامة الراجحة، وعالم الإسلام -أيده الله تعالى بروح منه- يذكرنا بما يلقى إليه من الأسئلة المشكلة من أطراف المعمور، وبما يجيب به عنها بأسلوبه الحكيم، الصادر عن علمه الراسخ بشيخ الإسلام ومفتي الأنام الإمام ابن تيمية رضي الله عنه في ذلك كله، على أن مشاكل عصرنا أكثر، وطرق حلها أصعب. (4) دعوته إلى التوحيد الخالص، ومذهب السلف الصالح، وتحذيره من شوائب الشرك والبدع والشكوك، والافتتان بدعاء المخلوق، ومقارعته القبوريين الذين يغرون الناس بالتهافت على أضرحة الصالحين، وإنزال حوائجهم وطلباتهم بهم، وتذكيره علماء الأمة ونصحه لهم بأن يرشدوا العامة إلى كل ما هو أهدى سبيلاً، وأقوى دليلاً، وأجمع لمصالحهم في الآخرة والأولى. (5) أنه يثبت أن جميع ما استحدث في هذا العصر من السيارات والطيارات والغواصات والكهرباء وسائر المخترعات التي تحفظ بها مصالح الأمة وتحمي حوزتها وتدفع عوادي الشر عنها، وتجعلها قوية البأس، موفورة الكرامة، هو مقتضى دين الإسلام، ومن تعاليم السنة والقرآن، وأن المسلمين الذين هداهم الله تعالى في كتابه إلى علوم الأكوان، وسخر لهم ما في السموات وما في الأرض تسخير تمكين هم أولى بالمسابقة بل السبق في هذا المضمار، (وها هي ذي الحكومات الإسلامية لا سيما الحكومة السعودية الحجازية النجدية التى تعد أرسخها تدينًا ومحافظة على هدي السلف قد أخذ جلالة ملكها المعظم يستعمل في مملكته من وسائل النقل الحديثة ما قرب البعيد، وأدخل البلاد في طور جديد) ألا وإن عمل خير أمة أخرجت للناس في خير القرون وأفضلها بشهادة الله ورسوله هو حجة عملية مبطلة لمزاعم الفريق الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وصرح غلاتهم بمروقهم من الإسلام فرارًا من ضعف المسلمين واستكانتهم! كأن الإسلام هو الذي أورثهم هذا الحرمان! {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: 105) نعوذ بالله من الخذلان. وهو أيضًا حجة على بعض المستذلين المستضعفين من المسلمين الذين مزقهم الغرب بآلاته الفاتكة المدمرة التي يعادون تعلم صنعتها كل ممزق، ويقولون هي كلها من علوم الإفرنج، وما هي كلها من علوم الإفرنج، ولكنها من علوم المسلمين الأولين الذين عملوا بما هداهم إليه كتابهم، فأخذها الأفرنج عنهم، وزادوا فيها وأضافوا إليها عجائب أخرى، كما عمل سلفنا فيما نقلوه من حضارة من تقدمهم، وكما هو شأن المتأخر مع من تقدمه، فمن حاجَّنا في ذلك حاججناه بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف هذه الأمة. إذًا أليس من الخزي والعار أن يصرح بعض غلاة التفرنج بمفارقة الإسلام افتتانًا بزخارف مدنية قد أوجب الله عليهم الأخذ بمنافعها من قبل، وعدَّ الإسلام بعض أعمالها من الفروض، وبعضها من المندوب إلخ، وعمل بها السلف الصالح؟ كلا إنهم جمعوا بين محاسنها ورذائلها معللين ذلك بأن المدنية الغربية لا تتجزأ! وأنهم من أجل ذلك تركوا دينهم وفضائله! فهل سمعت في الدنيا بعذر أبشع من هذا؟ أوليس من المؤسف المخجل أن يحرم آخرون ممن غزاهم الأجنبي في عقر دارهم على أنفسهم، وعلى أمتهم ما أوجب الله عليهم وعلى أمتهم تعلمه والعمل به صونًا لهم عن الوقوع فيما وقعوا فيه، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ومنهم من ينتظر ظهور المهدي ليقيم الإسلام وينجيهم مما هم فيه، وقد فاتهم أنه إذا ظهر كان جهاده فيمن يعطل أحكام الشريعة. (6) أنه يضيف إلى وجوه إعجاز القرآن، ومعجزات النبي صلى الله عليه وسلم التى ذكرها سلفنا وجوهًا أخرى لم تكن معروفة من قبل، وانكشفت الآن لدى المحققين الباحثين في خواص الكون، وتاريخ البشر وسنة الله في الخلق، وقد حققها القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه قبلهم بثلاثة عشر قرنًا، ككون الرياح تلقح الأشجار والثمار، وكون السموات والأرض كانتا مادة واحدة، وكجعل كل شىء حي من الماء، وجعل النبات مؤلفًا من زوجين اثنين، والريح هي التى تنقل مادة اللقاح من الذكر إلى الأنثى (راجع تفصيلها من ص 210 ج 1) . قال السيد المفسر: وفي هذا المعنى عدة آيات أعمها وأغربها وأعجبها قوله تعالى: {سبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ} (يس: 36) . ومنه (أي مما حققه القرآن من المسائل العلمية) قوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر: 19) إن هذه الآية هي أكبر مثار للعجب بهذا التعبير (موزون) فإن علماء الكون الأخصائيين في علوم الكيمياء والنبات قد أثبتوا أن العناصر التي يتكون منها النبات مؤلفة من مقادير معينة في كل نوع من أنواعه بدقة غريبة لا يمكن ضبطها إلا بأدق الموازين المقدرة من أعشار الغرام والملليغرام، وكذلك نسبة بعضها إلى بعض في كل نبات، أعني أن التعبير بلفظ (كل) المضاف إلى لفظ (شىء) الذي هو أعم الألفاظ العربية الموصوف بالموزون هو تحقيق لمسائل علمية فنية لم يكن شيء منها يخطر ببال بشر قبل هذا العصر، ولا يمكن بيان معناها بالتفصيل إلا بتصنيف مستقل) (ج1 ص211 تفسير) . (7) قال الأستاذ: ومما امتاز به هذا التفسير على جميع كتب التفسير: بيان سنن الله في الكائنات، وسنته في سير الاجتماع البشري، كقوة الأمم وضعفها، وسعادتها وشقائها، وعزها وذلها، وسيادتها لنفسها ولغيرها، وسيادة غيرها عليها واستعبادها إياها، مع تطبيق ذلك على المسلمين في ماضيهم وحاضرهم، المخرج لهم من ضعفهم الحاضر. (8) بيان موافقة تعاليم القرآن وهدايته لمصالح البشر في كل زمان ومكان وأن شقاء البشر الحاضر العام لأمم الحضارة، وما فيها من فوضى الآداب والاجتماع لا يزول إلا باتباع هدايته. أقول: ما أشار إليه الأستاذ من الشقاء الحاضر وفوضى الآداب والاجتماع في أمم الغرب المتمدينة، تقابله الطمأنينة على الأنفس والأعراض والأموال في جزيرة العرب المتدينة، وأين هذا من ذاك؟ أين تأثير قوة الإسلام على الوجدان من تأثير قوة السلاح على الأبدان؟ الإسلام دين عام لجميع الشعوب والأقوام، والقرآن هو الذي هدى من دانوا به من الأمم إلى كل ما تمتعوا به من صنوف النعم، ولقد كثَّر الله به أهله بعد قلة، وأعزهم بعد ذلة، وقوَّاهم بعد ضعف، وأظهر على أيديهم تلك المدنية الزاهرة، التي جددت ما اندرس من المدنيات الغابرة، وأوجدت أصول مخترعات الأمم المعاصرة. (9) بيان أن القرآن الحكيم هو الذي هدى السلف إلى الجمع بين مطالب الروح والجسد، فهم بعد أن سمت عقولهم بالتوحيد، وزكت نفوسهم بضروب الأخلاق والعبادات، عنوا أشد العناية بالعلوم والفنون النافعة التي عدها الإسلام من الفروض كفنون الرياضيات وسنن الكائنات، وإن شئت قلت علم الأرض والسموات، عملا بقوله جل اسمه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقوله عز قائلاً: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (يونس: 101) وقوله سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) فهذه الآيات الكريمة وأمثالها هي التي أرشدت سلفنا الصالح إلى ما في السموات من أسرار ومنافع، وما في الأرض من كنوز وذخائر، فارتقت عقولهم وأفكارهم بالعلوم الإلهية، والفنون الصناعية، ارتقاء سادوا به الأرض، وساسوا به العالم، سياسة هي في نظر المطلعين على تاريخ الأمم القديمة والحديثة أفضل مثال للعدل والرحمة. (10) تطبيق ما في القرآن من المواعظ والعبر على حال أهل هذا العصر، والإتيان بالشواهد والأمثال على ذلك، وبيان الفرق بين ماضي المسلمين وحاضرهم، وحجة القرآن عليهم، ووصف المَخْرَج لهم من جحر الضب الذي سلكوه باتباع سنن من قبلهم من أهل الكتاب وغيرهم. وبعدُ فإن تفسير المنار للقرآن، الذي جرى فيه على طريقة شيخه الأستاذ الإمام غني بشهرته عن الوصف والبيان، فهو كسائر ما يخطه قلم السيد في مجلته وغيرها منذ أكثر من ثلاثين عامًا تحقيقًا وإبداعًا، ألا وإن خصائص هذا التفسير لكثيرة، وقد ذكرنا أهمها، وإذا كان شرف العلم تابعًا لشرف الموضوع وتفسيره العزيز، وحاجة عصرنا إلى مثله، وعدم الاستغناء عنه بغيره، فنسأل الله تعالى أن يبارك للمسلمين في وقته وعمره، وييسر له التفرغ إلى إتمامه برحمته وفضله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بهجة البيطار

الجزء الأول من تفسير القرآن الحكيم

الكاتب: سليمان أباظه الأزهري

_ الجزء الأول من تفسير القرآن الحكيم تقريظه واقتراح اختصاره أو تلخيصه مع تمني إتمامه للكاتب البليغ، والعالم الأديب الأستاذ الشيخ سليمان أباظة الأزهري السلفي المدرس في بيت الله الحرام قال من كتاب: أحمد الله على ظهور هذه النعمة وآمل أن أرى في القريب العاجل تمام هذا التفسير الجليل، على هذا النسق البديع، الذي يشبع عقل الباحث تغذية وريًّا، ويجعله عن غيره غنيًّا، كما آمل أن أرى في الأقرب الأعجل خلاصة لهذا التفسير تكون صالحة لقراءتها درسًا عامًّا تستفيد منه العامة قبل الخاصة، ليسهل على المعلم تأدية مهمته في تعليم ذلك السواد الأعظم المنتسب إلى الإسلام - وما هو منه في شيء - دين الله علمًا صحيحًا سهلاً، خلاصة على ذلك الطراز الجميل البديع الذي كنا معشر تلاميذ السيد نسمعه منه في الدرس الذي تكرم علينا به في داره بدرب الجماميز، ذلك الطراز السهل على السيد فقط، الممتنع على غيره. ذلك الطراز البديع الذي كانت المعاني منه تسابق لفظ السيد إلى أذهاننا، فلم نلبث أن رأينا أنفسنا ورآنا الناس علماء بين عشية وضحاها من الزمان، فكنا نأسف على إخواننا أولئك الذين حرموا أنفسهم من هذا الكنز الثمين، وأضاعوا عمرهم في القال والقيل. ذلك الطراز البديع الذي صدر عن فطرة السيد العالية، واستعداده الشريف فقد كنا نفاجئه مفاجأة، ولا نترك له فرصة يراجع فيها كلام غيره، أعني لا نمكنه مما يسمى (الاستعداد للدرس) أو إعداد الدرس حتى لا يتسرب لتلك الفطرة المحمدية الرشيدية العالية الشريفة شيء يؤثر فيها، فتضيع علينا الفائدة التي نبتغيها منها، والضالة التي ننشدها، وهي الوصول إلى العلوم الصحيحة، والحقائق العالية من مواردها الصافية، بذلك النوع الجديد من المدارسة، أو المحاضرة أو المحادثة. ومن يقدر على تلك الخلاصة غير السيد؟ أليس رب البيت أدرَى بما فيه من جهة؟ ومن جهة أخرى هل يخفى على السيد أن الله تعالى قد حباه دون غيره بنعمة عَزَّ إن لم أقل عدم نظيرها، ولا سيما عند علماء هذا الزمان؟ تلك النعمة هي إيداع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة، مع حكمة التشريع التي تحبب النفس في العمل، وتقشع عنها ثياب العجز والكسل، عدا عن الإبداع في الإتيان بالمعاني العالية، بألفاظ وأساليب ممتعة سهلة. هل يتكرم السيد بهذه الخلاصة لتكون للتفسير بمثابة المجمل، ويكون هو لها بمثابة المفصل؟ هل يتكرم السيد بهذا في القريب العاجل في حجم لا يزيد عن مجلدين، كحجم حزأين من التفسير الكبير؟ حبذا لو عجل السيد بها، فإن (خير البر عاجله) . وحبذا لو كانت هذه الخلاصة مرتبة متمشية مع المعاني لا مع السور، أعني ذلك الترتيب الذي قال لي عنه السيد منذ سنين، وهو أن تجمع الآيات في المعنى الواحد مع ما يناسبها، ومن يستطيع أن يعمل هذا غير السيد؟ أعني: فرز آيات القرآن الحكيم على هذا النظام الجميل؛ لئلا يحصل الخلل في الجمع لو تولاه غيره. إني أرى ذلك سهلاً عليه جدًّا لو مسك المصحف في أوقات رياضته، ولا سيما إذا كانت في الخلوات، حتى إذا تم كرَّ عليه شرحًا وتفسيرًا، أسأل الله أن يمنع السيد من الشواغل الخاصة والعامة ليقوم بهذا العمل الخطير، الذي ليس له نظير، إنه سميع مجيب.

الانتقاد على تفسير المنار

الكاتب: محمد زهران

_ الانتقاد على تفسير المنار بسم الله الرحمن الرحيم سيدي الجليل: السلام عليكم ورحمة الله (وبعد) فقد أدهشني جدًّا وأضاق صدري كثيرًا جملة جاءت بشرح آية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) من تفسيركم للجزء الثالث حاصلها أنه إذا أريد بكلمة حق في الآية ما يشمل الحق العرفي كما هو مقتضى عموم النكرة في سياق النفي كان قيد (بغير حق) مخرجًا لقتل نبي بحق كما لو قتل المصريون موسى لقتله القبطي، فإنه بتقدير أن يكون عرفهم يقضي بقتل القاتل خطأ يكون قتلهم له بحق فلا يعاقبون عليه، وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة اهـ. وهذا مما يقتضي منه العجب لو صدر عن أي مسلم فكيف بصدوره عن مصلح عظيم، وأستاذ محقق كبير مثل السيد، الحق واحد وهو ما طابق الواقع، فالحق العرفي أي ما يعد في عرف بعض الأمم حقًّا إن كان مطابقًا للواقع فهو حق، وإلا فهو باطل، فكيف يجوز قتل نبي لمجرد أن ما تواطأ أهل العرف على اعتباره حقًّا يقضي بقتله؟ هذا مما لا يستجيزه أحد يؤمن بالأنبياء، ثم بعد فرض أن شريعة الذين قتل موسى عليه السلام أحدهم تجيز قتله مع نبوته، كيف يتردد في كونها عادلة أو غير عادلة حتى يصح قولكم: (وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة) . العبارة لا مساغ لها في نظرنا بل هي نص في أن قتل النبي قد يكون بحق وجائزًا، واعتقاد هذا كفر بلا ريب، فإن كان لكم فيها قصد صحيح فتكرموا بشرحه وافيًا في أول عدد يصدر من المنار؛ إزاحة لهذه الغمة من القراء، ولا تؤخروا هذا البيان إلى عدد ثان؛ لأنه أهم من كل مهم، وقد رأيت من القراء من أبرق وأرعد لهذه العبارة الغريبة، ولم أجد ما أهون به عليه أمرها مع شدة حرصي على مقاومة أعداء المنار، وعكوفي على بث الدعوة إليه في كل فرصة، وإني أنتهز هذه الفرصة لتقديم أوفى عبارات الاحترام والإجلال لشخصكم الكريم. (استدراك) : الظاهر أن موسى عليه السلام لم يكن نبيًّا حين قتل القبطي فلو قتل إذًا لم يصدق على قاتله أنه قتل نبيًّا أصلاً فالتمثيل به لمرادكم لا يصح. كتب على عجل شديد وفي حال تكاد لا تسمح خط سطر واحد فمعذرة. ... ... ... ... ... ... ... ... 16 المحرم سنة 1347 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد زهران ... ... ... ... ... ... ... ... بالمحمودية بحيرة (الجواب) : ما قلناه: ليس نصًّا ولا ظاهرًا في أن قتل النبي قد يكون حقًّا، بل هو نص في أنه لا يكون حقًّا، ولو على سبيل العرف والاصطلاح، وإنما أوتيتم من ضعف اللغة العربية، والعبرة في كل قول بمقصده الذي يقرره السياق، فلا يصح أخذ مفرد أو جملة منه، واستنباط معنى منها ينافيه ما سيق الكلام لأجله وإلا لأمكن أن يقال: إن تقييد القرآن ذم اليهود بكون قتلهم الأنبياء بغير حق يدل بمفهومه على أن قتلهم قد يكون بحق في نفس الأمر، ولكن الذي وقع منهم وذموا عليه كان قتلاً بغير حق، وهل يقول هذا أحد يفهم هذه اللغة بناء على أن مقدم القيد كثيرًا ما يكون مقصودًا، وإلا كان القيد لغوًا. وهذا نص عبارتنا: وقوله تعالى: {بِغَيْرِ الحَقِّ} (الأعراف: 33) بيان للواقع بما يقرر بشاعته وانقطاع عرق العذر دونه، وإلا فإن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقًا كما يقول المفسرون، وأقول: إن هذا القيد يقرر لنا أن العبرة في ذم الشىء ومدحه تدور مع الحق وجودًا وعدمًا لا مع الأشخاص والأصناف، وإذا قلنا: إن كلمة (حق) المنفية هنا تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري، وإن لم يكن متعمدًا لقتله، فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتل مثله وقتلوه يكون قتله حقًّا في عرفهم لا يذمون عليه، وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة، واليهود لم يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقةً ولا عرفًا اهـ. هذه الجملة الأخيرة هي النتيجة المقصودة من السياق كله وهو أن مقتضى بلاغة القرآن في التعريف والتنكير أن تنكير كلمة حق هنا تدل على أن أولئك اليهود الذين كانوا يقتلون النبيين لم يكن لهم أدنى شبهة من الحق على قتلهم حتى ما قد يسميه بعض الناس حقًّا في عرف يصطلحون عليه، وإن لم يكن حقًّا في الواقع ونفس الأمر، هذا وقد صرَّحنا قبل ذلك بما قاله المفسرون كافة من أن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقًا. فإذا كان هذا هو المقصود من السياق كله، فكيف فهمتم من تصوير ما يُعَدَّ حقًّا عرفيًّا أنه نص في أن قتل الأنبياء قد يكون حقًّا؟ وهل هذا إلا قلب للموضوع وإبطال للنص الصريح المقصود بالذات من العبارة مع التصريح به قبلها؟ على أن تمثيلنا لمسألة القتل والعقاب عليه بمقتضى شريعة عرفية بقتل (موسى) للمصري لو عاقبوه عليه بالقتل بحسب شريعتهم لا يدل أيضًا على ما فهمتم من تجويز كون قتل الأنبياء يكون بحق، فإن التمثيل ليس فيه ذكر الأنبياء وموسى عليه السلام لم يكن نبيًّا عندما قتل المصري، وهو عَلَم شخص مفهومه جزئي، والنبي اسم جنس ومفهومه كلي، فأي منطق أباح لكم أن تجعلوا القضية الجزئية الشخصية قضية كلية؟ ومن العجيب قولكم في ذيل الانتقاد وقد تذكرتم أن موسى لم يكن نبيًّا: إن التمثيل به لمرادنا لا يصح! إنه ليس لنا مراد من التمثيل إلا تصوير ما يسمى حقًّا عرفيًّا، وأنه لم يكن مما يمكن أن يستند إليه قتلة الأنبياء من اليهود فصح أنه لم يكن لهم أدنى عذر أو شبهة، هذا مرادنا لا مراد لنا غيره، ولكن حكمتم علينا بسوء الفهم لا القصد، إن مرادنا التمثيل لقتل الأنبياء وهو ما ينافيه سابق الكلام ولاحقه. هذا وإن الواقع أن موسى عليه السلام قتل رجلاً مصريًّا بغير حق، ولكن كان ذلك قبل نبوته ورسالته، وقد سمى هو ذلك ذنبًا بقوله في خطاب ربه: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} (الشعراء: 14) واعترف لفرعون بأنه فعل ذلك وهو من الضالين، وأن الله مَنَّ عليه بعد ذلك وجعله من المرسلين، كما ترى في أول سورة الشعراء، وكان أول ما أوحى الله تعالى إليه أن ذكَّره فيما ذكره به من ماضيه أنه قتل نفسًا وأنه تعالى نجَّاه من الغم وفَتَنَه بعد ذلك فُتُونًا، أي محَّصَه وطهَّره ثم جعله رسولاً كما ترى في أوائل سورة طه. والظاهر من خوفه أن يقتلوه أنه كان من شريعتهم قتل القاتل وإن كان قتله بوكز اليد كما فعل عليه السلام، وفي التوراة يقتل المرء بذنوب دون ذلك منها أنَّ مَن سبَّ أباه أو أمه يقتل، فلو ظفرت حكومة فرعون به قبل أن يفر وقتلته ألا يعد قتلها إياه حقًّا في شريعتها؟ وهل تسميته حقًّا في عرفها يدل على أن قتل الأنبياء عليهم السلام يكون حقًّا مطلقًا أو مقيدًا؟ سبحان الله! إن القاتل المقتول في واقعة الحال غير نبي، وهب أنه نبي، ولم يقتل لأجل نبوته، فهل يصح الاستدلال بقتله على أن الشريعة التى حكم بها عليه تبيح قتل الأنبياء - والتعبير بقتل الأنبياء يفيد أن نبوتهم هي السبب المبيح للقتل؛ لأن ترتيب الحكم على المشتق يؤذن بالعلة كما قالوه في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (المائدة: 38) وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} (النور: 2) الآية، وإذا كان الاستدلال على كون الشريعة تبيح ذلك غير صحيح أفلا يكون من حكى الواقعة أحق بأن لا يعد مبيحًا لذلك؟ وجملة القول أننا قد صرحنا في تفسير الآية أن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق كما يقول المفسرون كافة، وكما قلنا نحن أيضا في تفسير آية البقرة {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) وفي غيرها، وأننا قد زدنا على هذا بأن استنبطنا من تنكير (حق) في سياق النفي بأنه ليس لقاتليهم حق ما ولا شبهة حق بأن يكون حقًّا عرفيًّا لا حقيقيًّا مطابقًا للواقع، فكيف تقول بعد هذا: إن ما ذكرناه في تصوير الحق العرفي يدل على أننا نجوز أن يكون قتل الأنبياء حقًّا وأنه نص في ذلك؟ إن من مدهشات العجائب أن يخطر هذا في بال أحد يفهم اللغة العربية، ولو كانت العبارة توهم هذا وهمًا يخطر في البال مع وجود ما ينافيه فيها لما عدمنا، وقد مضى على نشر تفسير الآية في المنار وفي التفسير ربع قرن من ينتقد علينا هذا الإيهام ويوجب علينا رفعه بنص صريح، وفي الناس من ينظرون إلى هفواتنا بالمناظير المكبرة، ولكن وجد في أصدقائنا من فهم ما فهم، وهو من أهل العلم واللغة، فنستغفر الله لنا وله. كتبت هذا وأنا مصاب بالحمى ومنهي عن الكتابة وأسأل الله العافية.

قرب الله تعالى من عباده

الكاتب: مصطفى نور الدين

_ قُرْب الله تعالى من عباده من مصطفى نور الدين، إلى إمام المصلحين، وملجأ المسترشدين، السيد محمد رشيد رضا متعه الله بالصحة والعافية ونفعنا بعلومه آمين. السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فقد قرأت في الجزء الثاني من تفسير المنار لقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) هذه العبارة، وهي في آخر سطر من الصفحة 178: وقال الأستاذ الإمام: يصح أن يكون من قرب الوجود، فإن الذي لا يتحيز ولا يتحدد تكون نسب الأمكنة وما فيها إليه واحدة فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء؛ إذ منه كل شيء إيجادًا وإمدادًا وإليه المصير، وهذا الذي قاله من الحقائق العالية وعليه السادة الصوفية، فقد قال أحد العلماء في قوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85) أي إذا بلغت روحه الحلقوم: إن القرب بالعلم وكان أحد كبار الصوفية حاضرًا فقال: لو كان هذا هو المراد لقال تعالى في تتمة الآية: (ولكن لا تعلمون) ولكنه لم ينف العلم عنهم، وإنما قال: {وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) وليس شأن العلم أن يبصر فينفي عنا إبصاره وإنما ذلك شأن الذات اهـ بالمعنى. لما قرأت هذه العبارة ووجدتها مصرحة بأن الله قريب بذاته من كل شيء من مخلوقاته ومخالفة لما ذهب إليه السلف من أن الله مستو بذاته على عرشه بائن من خلقه مع قربه منهم بعلمه عجبت لإقراركم بل استحسانكم لمضمونها، وإنما عجبت لأني أعلم أنكم من أحرص الناس على اتباع السلف في هذه المسألة وهي كثيرة ومستفيضة شهيرة من الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين ومن بعدهم خصوصًا ما جاء من ذلك في كتب ابن تيمية وابن القيم، وكتاب العلو للذهبي. ومن تأمل الآية التي في سورة الحديد تجلى له بأجلى بيان أن مذهب السلف في هذه المسألة هو الصواب (وههنا ذكر المنتقد الآية وتكلم في تفسيرها وحديث: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) وتفسيره ثم قال: وأما الاستدلال بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) على أنه تعالى قريب بذاته من مخلوقاته فهو استدلال باطل؛ لأنه مبني على معنًى مخالف لما عليه جمهور المفسرين، فإن بعضهم فسَّر القرب بقرب الله من المحتضر بالعلم، وفسَّر تبصرون بمعنى الإبصار بالبصيرة وهذه عبارة الجلال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85) بالعلم {وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) من البصيرة أي لا تعلمون ذلك اهـ. وبعض المفسرين وهم الأكثر فسَّر القرب بقرب الملائكة من المحتضر، وفسَّر تبصرون من الإبصار بالبصيرة، ومن ذلك تعلم أن الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى قريب بذاته من مخلوقاته استدلال فاسد؛ لأنه لم يسلك قائل هذا القول أحد التفسيرين بل لفق بينهما ففسد المعنى، ثم لا غرابة ولا بُعْدَ في هذا التفسير الثاني من حيث إسناد قرب الملائكة إلى الله فقد عهد له نظير في القرآن فقد قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42) مع إسناد التوفي إلى الملائكة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: 61) وفي قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ} (السجدة: 11) وأمثال ذلك في القرآن كثيرة لمن تأمل. والخلاصة أن المقصود من كتابتي بهذا لفضيلتكم هو أني أرجو إفادتي بما يزيل عجبي، ولكم مني الشكر، ومن الله جزيل الأجر. ... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى نور الدين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بدمياط (المنار) أقول: (أولاً) إن قرب الوجود بالمعنى الذي فسره به الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى أقرب إلى مذهب السلف في علوه على خلقه مع مباينته لهم، وهو قوله: إن نسبة الأمكنة وجميع ما فيها إليه واحدة، ففيها رد لقول من يقول: إن الله تعالى في كل مكان من أهل الحلول الذين عني علماء السلف كل العناية بالرد عليهم بقوله: إنه تعالى فوق عباده بائن من خلقه، وأما عبارة ذلك الصوفي فليست كعبارة الأستاذ، فما ذكرناه من التقريب بينهما هنالك احتمال رجَّحه عندنا تحسين الظن بقائله ولا يمنع منه إلا العلم بأنه حلولي، فإن منهم الحلوليين كما أن منهم المحدثين الأثريين كشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي الأنصاري على ما في كتابه منازل السائرين من عبارات منتقدة وكالشيخ عبد القادر الجيلاني رحمهما الله تعالى وهما من مثبتي صفة العلو ومنكري تأويل الصفات، وستأتي تتمة لمعنى قرب الوجود في آخر هذا الرد. (وثانيًا) إن قول المنتقد بذهاب السلف إلى أن الله تعالى (مستو بذاته على عرشه) خطأ وإن نقل ذلك عن بعض الأثريين من أهل القرن الثالث والرابع، وما كل ما قاله عالم معدود من جماعة يُعَدُّ مذهبًا لهم، وإسناد الاستواء إلى الذات لم يرد في كتاب الله ولا في حديث متواتر ولا آحادي صحيح مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نقل عن جماعة الصحابة ولا عن واحد منهم، ولا علماء التابعين على أن العمدة على العقائد نصوص الكتاب العزيز والسنة الصحيحة القطعية الدلالة أو إجماع أهل الصدر الأول، ومن الخطأ الذي فتن به جميع المنتمين إلى المذاهب حتى مذهب السلف الذي ليس مذهب شخص معين أن يأخذ المقلدون له قول كل عالم منسوب إليه ويعدونه من أصول المذهب المسلمة أو أحكامه المتبعة، ويعدون مخالفه مخالفًا للمذهب. نقل الحافظ الذهبي في كتاب العلو عن ابن أبي زيد شيخ المالكية في عصره أنه قال في رسالته المشهورة في مذهب مالك: وإنه تعالى فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه اهـ , وقفَّى الحافظ على هذا بذكر من نقل عنهم مثل هذا القول قبله وبعده باللفظ أو المعنى كقول بعض العلماء: (والله تعالى خالق كل شيء بذاته ومدبر الخلائق بذاته بلا معين ولا مؤازر) مع أن هذا على ما فيه ليس بمعنى ذاك، ثم قال الحافظ متأولاً له ولهم؛ لأنهم من طائفته الأثرية ومنتقدًا ما نصه: وإنما أراد ابن زيد وغيره التفرقة بين كونه تعالى معنا وبين كونه تعالى فوق العرش فهو كما قال: ومعنا بالعلم وإنه على العرش كما أعلمنا حيث يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وقد تلفظ بالكلمة المذكورة (أي فوق عرشه بذاته) جماعة من العلماء كما قدَّمناه، وبلا ريب أن فضول الكلام تركه من حسن الإسلام. إلى أن قال بعد ذكر تاريخ وفاته سنة 386: وقد نقموا عليه قوله بذاته فليته تركها اهـ , وهذا وما قبله من الانتقاد الأدبي الصريح لهذه الكلمة غير المأثورة أي المبتدعة التى جعلها أخونا المنتقد أصلاً من أصول مذهب السلف من الصحابة فمن دونهم. وأزيد على هذا أن قول ابن أبي زيد رحمه الله تعالى: (وإنه في كل مكان بعلمه) منتقد أيضًا، وإن أراد به التعبير عن تأويل بعض أئمة الحديث كأحمد بن حنبل لآيات المعية بحملها كلها على معية العلم، والرد على الحلوليين بما هو أشبه بتأويل قولهم بما يصححه منه بإبطاله -ذلك بأن جملة (وهو في كل مكان) هي عين ما يقولون والضمير فيها لذات الله عز وجل. فقوله بعده (بعلمه) لا ينافي دلالة الجملة على كونه في كل مكان بذاته؛ لأن المتبادر أن الظرف فيها متعلق بمحذوف تقديره متلبسًا أو متصفًا بعلمه- وهذا الوصف الواقع فضلة في الكلام لا ينقض معنى ما هو العمدة فيه ولا يقيده بجعله بمعنى قول آخرين من علماء السلف: وعلمه في كل مكان، فإن صفة الذات كالعلم لا توجد إلا حيث توجد الذات أي لا توجد إلا بوجودها لاستحالة انفصالها عنه، وإنما الذي يصح أن يقال: إنه تعالى فوق عباده مُسْتَوٍ على العرش، ويعلم كل شيء من أمور خلقه كما قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} (الحديد: 4) إلخ. (وثالثًا) قال المنتقد: إن الاستدلال بقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) على قرب الذات باطل (لأنه مبني على معنى مخالف لما عليه جمهور المفسرين) ونحن نقول بصرف النظر عن أصل المسألة: إن هذا تعليل للبطلان لا يقبله أحد من أهل العلم؛ لأنه نص في أن كل ما خالف ما عليه جمهور المفسرين باطل، وهذا باطل بالبداهة ولم يوجد عالم من المفسرين ولا من غيرهم قال: إن قول الجمهور منهم أو من غيرهم قطعي كنصوص الكتاب والسنة فيكون كل ما خالفه باطلاً. ثم بيَّن أن للجمهور قولين أحدهما تفسير (تبصرون) بأنه من البصيرة أي العلم، وذكر عبارة الجلال فيه، وثانيهما فسَّر القرب بقرب الملائكة من المحتضر، وبأن تبصرون من الإبصار بالبصيرة، وعزا هذا القول للأكثر فيكون هو قول الجمهور عنده، ونحن لا نعرف عن مفسري السلف رواية في ذلك، وإنما هو قول مصنفي التفسير، وقد يقال: إن قوله تعالى قبل الآية: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} (آل عمران: 143) دليل على أن الإبصار المنفي هو إدراك البصر لا البصيرة وأن البصيرة ليست مرادفة للعلم، وإنما تدل على العلم المؤيد بالدليل أو اليقين في المعرفة أو ما فيه عظة واعتبار، وتفسير ضمير الذات من الله عز وجل وهو (نحن) بالملائكة تأويل بعيد من اللفظ جدًّا، وهو عين التأويل الذي ينكره السلف على المبتدعة. ولكن المنتقد قرب هذا التأويل بقوله: إنه عهد له نظير في القرآن، وهو قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} (الزمر: 42) مع إسناد التوفي إلى الملائكة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} (الأنعام: 61) وفي قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) قال: وأمثال ذلك في القرآن كثيرة لمن تأمل. وهذا التأويل الذي ذكره لآية توفي الله للأنفس لا يجري على طريقة السلف ولا الخلف فتوفي الله للأنفس غير محال عقلاً ولا شرعًا، فتأوله بجعل لفظ الجلالة فيه بمعنى الملائكة! فالله تعالى هو الفاعل للتوفي، ولكل شىء من تدبير الكون، وقد أسند التوفي إليه في آيات كثيرة لم يقل أحد من السلف ولا من الخلف فيما نعلم: إنه أراد بها إسنادها إلى الملائكة، نعم إنه أسند التوفي أيضًا إلى ملائكته وإلى رسله، أي من الملائكة في آيات أقل من الآيات التى أسنده فيها إلى ذاته خبرًا ودعاء، وأسنده في آية أخرى إلى ملك واحد {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) والجامع بين هذه الآيات كلها أن المتوفي الحقيقي للأنفس والأرواح هو الله تعالى، وأنه وكل بذلك ملكًا له أعوان من الملائكة يتولون تنفيذ أمره تعالى، وذلك الملك هو الرئيس لهم كما ورد في التفسير المأثور، وذكرناه في محله من تفسيرنا. ولو تفكر أخونا قليلاً في هذا المسألة التى توهم أن ما قاله فيها ضروري لا خلاف فيه، وتأمل بقية آية الزمر، ثم تذكر ما في معناها من الآيات لما تعجل بكتابة ما كتبه ليخطئ به غيره في فهم كلمة من آية. قال تعالى: {فَيُمْسِكُ الَتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسْمًّى} (الزمر: 42) فهل يتجرأ على القول بأن الملائكة هي التي تفعل ذلك؟ وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} (الأنعام: 60) فهل يقول بجواز إسناد هذا إلى الملائكة، وإن كان بصفة الحصر، ومع ما عطف عليه من العلم أم يفرق بين ضميري الفعل

الأكثرية والأقلية أو المسلمون والقبط

الكاتب: جميل الرافعي

_ الأكثرية والأقلية أو المسلمون والقبط تعود اليوم هذه المسألة الخطيرة الشأن إلى الظهور مرة أخرى على صفحات الجرائد اليومية وغير اليومية، بعد أن اتفق عقلاء الأمة في إبان الحركة القومية عام 1919على دفنها في روايات النسيان واعتبار الخوض فيها لا يتفق مع مصلحة الوطن في شيء، وناهيك بأن الدولة المحتلة ترى في إثارة هذه المسألة وأمثالها ذرائع تتذرع بها للوصول إلى مآربها الاستعمارية في المسألة المصرية حتى إنها وضعتها في القسم الثاني من التحفظات التى حملها تصريح 28 فبراير المشهور. لكن رغبة العقلاء من أبناء الأمة لا تستطيع أن توقف الطغيان الاجتماعي الذي برزت آثاره ماثلة في كل مرافق الحياة، وليس في مقدور أحد أن يقاوم الطبيعة ولو إلى حين، من أجل ذلك عادت هذه المسألة فأصبحت حديث الناس وموضع شكوى المتذمرين والمستائين. نحن في مقدمة المعجبين بنشاط إخواننا الأقباط وتضامنهم بل تفانيهم في الحرص على مصلحتهم الطائفية التى أصبحت خدمتها مدعاة الفخار لكثير منهم. لكن هذا الإعجاب الذي نضمره لإخواننا القبط لا يصادف على الدوام ارتياح جمهور إخواننا المسلمين الذين يشاهدون أن إخوانهم بفضل وسائل السعي والتكافل قد قبضوا على نواحي الأعمال المهمة في دوائر الحكومة والشركات، وهي تكاد تكون أهم مصادر العيش للمتعلمين والأميين. ماذا نقول للشاب المسلم الذي يحمل أعلى الشهادات إذا قرع باب مجلس النواب مثلا فرفض طلبه وهو يرى أن رؤساء فروع الأعمال سواء كانت كتابية أو فنية أو غير ذلك جميعها في أيدي الأقباط ومعظمهم لا يتمتع بالشهادة التي يتمتع بها هذا المسلم؟ لا جدال في أن هذا الذي رفض طلبه يقول: إن هذا التضامن لم يكن لتحسين أحوال الطائفة القطبية فقط، بل لغمط حقوق المسلمين، وإذا عرفت أن 63 في المائة من عمال الترامواي الوطنيين أقباط، والباقي من المسلمين وبعض الغرباء لقلت مع ذلك العامل الذي زاحمه قبطي بتوصية من فخري بك عبد النور مثلا: إن هذا التضامن متجه كله لغمط حقوق الأكثرية. نعم إن الحياة تزاحم ولا يفوز فيها إلا الجسور المزاحم وإلا حقت عليه سنة تنازع البقاء، ولكن ما العمل إذا كانت الأكثرية في غفلة عن التضامن والأقلية تتضامن للحياة فتنتزع حقوق الأكثرية؟ عند ذلك لا بد من التذمر والشكوى الذين تراهما اليوم قد أوشك أن يرتفع الصوت الصاخب فيها، وتشق الوحدة التي جاهدنا كثيرًا للحصول عليها فتكون النتيجة في مصلحة المحتل. كان إخواننا الترك في عهد الدولة العثمانية المرحومة لا يسمحون لأبناء العرب سواء كانوا سوريين أو عراقيين أو غيرهم أن يطالبوا بأدنى حق من حقوقهم في الدولة بحجة أن هذه المطالبة باسم العرب معناها التفرقة بين الترك والعرب، وفي هذا ما فيه من الدمار لقضية الوطن، فكان الترك يستغلون سكوت العرب، ويعلمون أولادهم وأولاد العنصرين الأرمني واليهودي والأناضوليين أو الروملي على حساب ميزانية المعارف العامة التي يدخل فيها إيراد البلاد العربية ويحرم أبناء هذه البلاد من التعليم، ومن بث الشكوى من ذلك، وإلا نعتوا بأنهم رجعيون. والظاهر أن الحالة في مصر آلت في هذا الأيام إلى ما آلت إليه حالة الترك والعرب قديمًا، فالمسلمون يعلمون أن الغبن يحف بهم من الجهات الست، ولا يستطيعون أن يتكلموا في أمر هذا الإشكال الاجتماعي الخطير الذي تناول العيش مخافة أن يقال: إنهم يعملون على شق عصا الوحدة، ولكن التاريخ العثماني لا يزال ماثلاً أمام الجميع، فإن صبر العرب فرغ في يوم من أيام سنة 1916 وقام العرب في وجه الترك لا يطالبون بحقوقهم في الدولة، بل يطلبون الاستقلال عن العنصر التركي وإجلاءه عن بلادهم؛ لأن ثورة البطن كما يقول الألمان أهم ثورة. وإذا قسنا الأمور بأشباهها جاز لنا أن نقول: إن هذا التذمر الذي منشؤه تضامن الأقلية على هضم حقوق الأكثرية التي استنامت بشكل لم يعهد له نظير في التاريخ الحديث في الوقت الذي تسكت الأقلية كل من يتحدث في هذا الأمر، وتصيح في وجهه إنها هي المظلومة المضطهدة لا بد وأن ينتهي بما لا يتفق مع مصلحة الوطن عمومًا والأقلية خصوصًا، وقد شرع بعض الأفاضل يتكلمون في هذا الموضوع بما توجبه المصلحة الوطنية، ثم انتقل كما قدمنا إلى الصحف فتناولته بعضها بما يجب، وأخيرًا قرأنا في السياسة الأسبوعية منذ أسابيع مقالاً رئيسيًّا لحضرة رئيس تحريرها الدكتور حسين هيكل بك تناول فيه هذا المسألة الخطيرة من نواحيها المتعددة فوصف ألوانًا كثيرة من ألوانها، ولكنه لم يوفق إلى وصف العلاج ولا أشار إلى طريقة المعالجة إلا إشارة سطحية لا تغني فتيلاً. وقد بنى مقاله هذا على أمور كثيرة كان أظهرها نتيجة الامتحان النهائي لمدرسة الطب الملكية في هذا العام، فقد تبين أن عدد الناجحين 83 طالبًا بينهم 30 مسلمًا، والباقي من الأقلية. ولقد كانت هذا النسبة الهائلة كافية لأن تثير في الكاتب مواضع البحث الدقيق فينبه أمته إلى الحالة الخطيرة التى سارت إليها الأكثرية بإهمال المسئولين من قادتها. كذلك فعل الدكتور هيكل بعد أن بيَّن خطورة هذه النسبة في شهادات مدرسة الطب، فذكر أن الأقليات تتضامن في جميع بلاد العالم ببواعث كثيرة أهمها المحافظة على جامعتها كما هي الحالة في يهود الروسيا وبعض الأقليات الأخرى في أوربا وأمريكا وأن هذا التضامن له في التاريخ أسوأ النتائج وأفعل الثورات؛ لأنه ينتهي بالأقلية إلى احتكار الأموال والمراكز الرئيسية في الحكومات وضرب لذلك أمثالاً عديدة، ولا سيما في أوربا وأمريكا، وأن الأكثرية تثور عندما تتنبه في وجه الأقلية , ثم أبان أن الحالة هنا بدأت بالتذمر همسًا وارتفع هذا الهمس قليلاً وربما صار صوتًا صاخبًا، وأن الوطنية تقتضي أن يتنبه الإنسان إلى الخطر قبل وقوعه، وانتهى من مقاله بأن أهاب بالمسلمين أن يحذروا خطر هذا الحالة الهائلة، وأن ينصرفوا بكل قواهم إلى العلم. ولما قرأنا مقال الأستاذ هيكل بك أحببنا أن نقفي عليه ببيان العلاج الناجع لكنا تريثنا قليلاً لنرى آراء الأقلية فيه، فلم يمض على نشر هذا المقال ثلاثة أيام حتى رأينا الأقلية امتعضت منه وشرعت تحاربه ناسبة إلى ذات الكاتب الرغبة في إظهار غيرته على الإسلام؛ ليكون مقبولاً في الانتخابات القادمة عند الأكثرية المسلمة، وذهب آخرون منهم إلى أن الرجل يحاول التفريق بين العنصرين المسلمين والقبط، وتناوله بعضهم بتهم كثيرة لا شأن لنا بها، وإنما الذي يعنينا أننا فهمنا أن الأقلية لا تحب البحث في هذا الموضوع؛ لأن فيه تنبيهًا للأكثرية ليس من مصلحة الأقلية البحث فيه. ثم طلعت علينا جريدة المقطم الغراء بمقال مهم لرجل من رجالات الأقلية قدمت المقطم لنشره مقدمة قالت فيها: إنها ترددت عدة أيام في نشره ثم نشرته. وقد رأيناه لا يخرج عن المقالات التي نشرتها الأقلية بشيء يستحق الذكر اللهم إلا إعادة النغمة القديمة التى عقد المؤتمر القبطي المعهود في أسيوط من أجلها وهي أن الأقلية التى لم تتمتع إلى الآن بوظيفة مدير هي المضطهدة حقًّا، وأن القبط هم أهل البلاد الحقيقيون فلا يقاسون باليهود في أوربا وأمريكا فجمع الأستاذ هيكل هذه الآراء كلها ورد عليها ردًّا وجه أكثره إلى تبرئة نفسه مما نسب إليه من الأغراض، وأنه لا يقصد إلا التنبيه إلى مسألة ليس الاستمرار فيها من مصلحة الوطن، ثم كرَّر ما قاله أولاً من ضرورة أخذ الأكثرية بأسباب العلم وأن لا واسطة تعصم الأكثرية من الخطر إلا العلم وحده. تلك خلاصة ما كتبته السياسة الأسبوعية ومخالفوها في هذا الموضوع الخطير والذي نعجب له أننا لم نقرأ كلمة من كتاب الأكثرية في أمر كهذا يهمها في الصميم من شئونها الحيوية كأن الله تعالى كتب لهذه الأكثرية المسلمة أن تظل في غفلة عن كل أمر يتعلق بجوهر حياتها. لم تتقدم الأقلية في مصر وغير مصر بالتذمر، وإن انقلب همسًا ولا بالهمس وإن تحول إلى صخب، ولا بالانتقاد مهما يكن مرًّا، وما كانت مقالات الكتاب وحدها بعاملة عملاً جديدًا في المسائل الخطيرة، فالأقلية بلغت في مصر ما بلغته بأسباب جليلة الشأن لا يمكن للأكثرية أن تنهض من مستواها الذي وصلت إليه إلا إذا توسلت بما توسلت به الأقلية حذو النعل بالنعل. انظر إلى شابين من عمر واحد وذكاء واحد وثروة واحدة وحي واحد دخلا مدرسة واحدة، تجد أن القبطي منهما يتقدم على المسلم في العمل والجد والمثابرة والصبر وما إلى ذلك من وسائل النجاح، والمسلم يتأخر عنه ثم تكون النتيجة كما رأيت من نجاح 53 قبطيًّا و30 مسلمًا في مدرسة الطب، وعدد الأقباط لا يبلغ المليون والمسلمون 14 مليونا أو يزيدون فما السر في هذا الأمر العجيب مع أن الأقباط ليسوا أسمى ذكاء من المسلمين، بل الثابت أن المسلمين بالنسبة لاختلاطهم بالعناصر الإسلامية التى جددت فيهم الدم المصري أكثر ذكاء، والبرهان على ذلك ظهور كثير من النوابغ بين المسلمين وندرة النبوغ في الأقلية مع المحافظة على النسبة؟ السر في جميع ذلك لم يكن من طينة الشاب المسلم ولا من فطرته السليمة فقد يكون أذكى وأنبل من القبطي، ولكن السر كل السر في أن المسلم ليس وراءه هيئة من الهيئات التى تتولى شئون الجماعات والأفراد ترشده وتوجه قواه إلى الحياة القومية والملية كما هي الحال عند إخواننا الأقباط وغيرهم من الأقليات الشرقية غير المسلمة في مصر. في القطر المصري ألوف من الكنائس القبطية بجيشها الجرار من القساوسة، وإلى جانب هؤلاء الجمعيات الملية الكثيرة وفوقها المجلس الملي في القاهرة يضم بين أعضائه خيرة رجال الأقلية علمًا وهمة وإخلاصًا ويحيط بهؤلاء مئات المجلات الدينية القبطية شهرية أو نصف شهرية. كل هذا الهيئات الوطنية لا وظيفة لها إلا إرشاد العائلات والأفراد القبطية في مصر إلى مصالحها الدينية والدنيوية، فإنك إذا وزعت هذه المجلات القبطية والقساوسة على عدد أفراد الأقلية القبطية تجد أن الواحد منهم يتصل بإرشاد الكنيسة مرة في الأسبوع ويزوره القسيس مرة أخرى، ويقرأ ثمرة أفكار الغيورين من كتاب القبط وواعظيهم مرارًا، وكل هذا مرتبط بالمجلس الملي القبطي وإرشاداته وأعماله المتواصلة لمصلحة الطائفة القبطية دون سواها. ثم لا تظن أن ذلك على أهميته هو الذي خطا بالأقلية القبطية إلى هذه الغاية التى وصلت إليها فأدهشت الجميع، بل إن هناك جيشًا عظيمًا من الجمعيات التبشيرية الأمريكية والإنكليزية واللاتينية للبنين والبنات وهناك جمعيات شبان المسيحيين وجمعيات إخوان الكتاب المقدس وجمعيات كثيرة أجنبية كلها تعمل فوق عمل الجمعيات القبطية بجد ونشاط لترقية حال الأقلية المسيحية، وهي لا تتأخر أن تمد أفراد هذه الأقليات بنفوذها السياسي عند السلطات العليا، فإن جمعيات البروتستانت كانت توظف حتى الخاملين من إخواننا الأقباط في المراكز المهمة بشرط تغيير المذهب من كاثوليك أو أرثوذكس إلى بروتستانت. وهناك عوامل أخرى يضيق نطاق البحث عن استيعابها اجتمعت كلها في مصلحة الناشئة القبطية وغيرها من الأقليات حتى حملت أفراد الأقلية على الشعور القومي وبلذة الاستفادة من هذا التضامن، فلا عجب إذا رأيت بعضهم يسعى أن يعين بالوظيفة قريبه أو صديقه من الأقلية قبل أن تخلو؛ لأ

العقوبة في الإسلام

الكاتب: حامد محمود محيسن

_ العقوبة في الإسلام ليست تقريرًا لنظرية الانتقام [1] المجتمع لا بد لنظامه من تشريع العقوبات للأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء: قد اتفق لي أن لم أقرأ كلمة الأستاذ كامل البهنساوي بجريدة السياسة الغراء تحت عنوان (الإجرام) في عددها الصادر يوم 14 من جمادى الأولى سنة 1346 ولكن لفت نظري بعض الذين يغارون على الإسلام ويعلمون أن مبادئه من أسمى المبادئ لنظام المجتمع. قرأتها فإذا الأستاذ فيها يبين أن نظر المجتمع إلى العقوبة على الإجرام قد أخذ في تاريخ البشر تطورات أربعة، فكان نظر المجتمع في عهد الإنسان الأول إلى المجرم نظر انتقام ثم تطور إلى (نظر قمع) ثم تطور إلى (نظر إصلاح المجرم) ثم تطور إلى (منع المجرم من الإجرام) وهذه النظرية الأخيرة هي أحدث النظريات وأعجبها للكاتب. بدأ الكاتب الكلام في نظرية الانتقام بهذه العبارة (كانت نظرية الانتقام التي أقرتها الديانة الإسلامية والتي أساسها (السن بالسن والعين بالعين) هو صورة واضحة من نظرية الانتقام التي كان يعامل المجرم بناء عليها، والتي أصبحت لا تصلح مطلقًا لهذا الزمن) إن الناظر في هذه العبارة يُخَيَّل إليه أن الكاتب كان قرمًا إلى أن يطعن تعاليم الإسلام السامية إذ لم يذكر في عبارته سوى الديانة الإسلامية مع أنها كغيرها من الديانات في تقرير العقوبات فقد نص القرآن على أن عقوبة السن بالسن والعين بالعين كانت من تعاليم التوراة، وكأنما كان أول ما يهتم له الكاتب أن يبين كون تشريع الإسلام غير صالح لهذا الزمن الذي لطفت فيه العواطف ورقت فيه البشرة فأصبح المجرم بحكم العصر لا يحتمل أن يؤلم ولا يحتمل أن تمس كرامته: ولو أتيح للكاتب وقلمه بين أنامله وقد جلس جلسة المتعقب للشارع الحكيم أن ينظر فيما شرعه الإسلام من عقوبة نظرة الباحث عن الحقيقة لما وقع في ذلك الخطأ، خطأ الحكم بأن ما شرعه الإسلام لتأديب المجرمين قد جارى فيه نظرية الانتقام وأصبح غير صالح لهذا الزمن. وقبل أن أبين للكاتب أن نظرية الإصلاح ونظرية المنع اللتين قد افتتن بهما الكاتب قد وضعهما الإسلام من ثلاثة عشر قرنًا ونصف على أحسن وضع وأكفله لنظام البشر قبل أن يقررها (جورنج) و (المدرسة الفرنسية الحديثة) قبل أن أبين للكاتب هذا فإني مُنَاقِشُهُ في أن تشريع الإسلام في العقوبات قد جاء على (وفق نظرية الانتقام) التي أصبحت غير صالحة لهذا الزمن. إن الكاتب نفسه في الكلام على نظرية الانتقام قد ذكر أنه كان من أنواع العقوبات في طور الانتقام أن يصير الجاني رقيقًا للمجني عليه، وكان منها الغلي في الزيت وقتله جوعًا وحرقه بالنار وقتله وإلقاؤه فيها، وفصل الأعضاء وقطعها، ثم ذكر الكاتب أنه لما تطورت نظرية الانتقام إلى (نظرية القمع) وخفت وحشية الإنسان شيئًا أصبح الموت عقوبة على كل جريمة حتى كانت إنكلترا في القرون الوسطى تعاقب على أكثر الجرائم بالموت، فكانت تعاقب بالموت على السرقة والتزييف، وذكر الكاتب زيادة على ذلك أن ذكاء الإنسان في طور الانتقام كان منصرفًا إلى اختراع وسائل التعذيب التي كانت يطول معها خروج الروح. ذكر الكاتب كل ذلك، ثم هو مع هذا يزعم أن الإسلام جاء مقررًا (نظرية الانتقام) وإن الإسلام لبريء مما يرميه الكاتب وإليه أسوق تشريع الإسلام وما أقره وما لم يقرره حتى يتبين الضلال من الهدى. ما جعل الإسلام الاسترقاق عقوبة على جريمة ولا جعل كذلك الغلي في الزيت عقوبة على جريمة، ولا جعل الإسلام الحرق بالنار أو الإلقاء فيها، أو القتل جوعًا عقوبة على جريمة، بل حظر كل ذلك حظرًا شديدًا، نعم القتل من العقوبات التي شرعها الإسلام، لكن يجب أن يلتفت القارئ إلى أنه لم يكن عقوبة على كل جريمة كما ذكر الكاتب أنه كان كذلك في طور القمع، بل إنما كان عقوبة على جريمتين فقط جريمة القتل وجريمة الزنا من المتزوج. وقد كان يصح أن يغمز الإسلام في تشريعه لعقوبة القتل على جريمة القتل أن لو لم يرسم خطة الإصلاح والمنع المفتون بهما الكاتب، ولكن سأبين لحضرته كيف أحكم الإسلام وضع هاتين الخطتين بحيث لو ترسمهما المجتمع ما كنت تسمع بالإجرام إلا كما تسمع بحوادث الزلزال أو انفجار البراكين، وما شرع الإسلام عقوبة القتل على القتل، وأرسلها إرسالاً كما كان الشأن في طور الانتقام، بل حاطها باعتبارات تبعد بها المراحل عن دائرة الانتقام، وتتنحى بالمجرم عن مخالب ولي الدم حتى لا تتمكن من إيقاع ما يشفي به نفسه من المجرم. فترى الإسلام أولاً: حرم التمثيل بالمجرم وأوجب الإحسان في القتل بأن يسلك أسرع الوسائل إزهاقًا للروح، لا كما كان الشأن في عهد الانتقام الذي (كان يتفنن الذكاء الإنساني في تهيئة وسائل التعذيب والانتقام التي يعذب بها الجسد ويطول معها إخراج الروح) اسمع إن شئت قول الرسول الكريم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة) . وترى الإسلام ثانيًا: حرَّم على ولي الدم وهو يكاد يتميز من الغيظ أن يتولى عقوبة القاتل بنفسه ابتعادًا بالمجرم عما عساه أن يندفع إليه ولي الدم من إسراف في القتل، بل أوجب على ولي الدم أن يرفع الأمر إلى الحاكم حتى يتولى بنفسه إثبات الجريمة وإيقاع عقوبتها فأضعف بذلك سلطان ولي الدم على المجرم، ثم جاء من جهة ثانية وأضعف سلطان الحاكم عليه بما جعله لولي الدم من حق العفو عن المجرم إلى العقوبة المالية (الدية) وأوجب على الحاكم قبول ذلك العفو وإعفاء المجرم من القتل، فهل ينتظر حضرة الكاتب تخفيفًا عن المجرم ولطفًا به وراء ذلك؟ وترى الإسلام ثالثًا: قد ندب الحكام إلى المبالغة في التحقق من ارتكاب الجريمة بحيث تنزاح أمامهم جميع الشُّبَه حتى لو حام حوالي الإجرام أضعف شبهة، وجب أن يدرأ الحد عن المجرم، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات) فهل ترى بعد هذه الاعتبارات أن هذه العقوبة انتقامٌ؟ المجرم قد فعل بالمقتول ما أمكنته منه الفرصة تعذيبًا وتمثيلاً ولكن الشارع قد حاطه بكل ما أمكن من مظاهر الإحسان والتخفيف. وبعد فليدع الكاتب كل هذه الاعتبارات وليُحَكِّم هو عواطفه في شأن النفس التي لم تؤثر فيها وسائل الإصلاح ولم تُعِقْهَا وسائل المنع، بل أقدمت بعد هذه وتلك على إزهاق نفس بشرية عمدًا بغير ذنب ولا جريمة، أفيستحق هذا المجرم في نظر الكاتب أن يعطف عليه ويوصف بأنه بائس ومسكين، وهلا كان من عسى أن يتركه المقتول من أطفال وزوجة وشيوخ من آباء وأمهات أحناهم الدهر وقوستهم الأيام، هلا كان هؤلاء هم البؤساء والمساكين، وهلا استحق ذلك المجرم الذي كسر عصاهم التي كانوا يتكئون عليها وأطفأ مصباحهم الذي كانوا يستضيئون به وسد عليهم سبل الحياة هلا استحق هذا المجرم أن ننزل به عقوبة القتل حتى لا تتكرر منه أمثال تلك الجناية، وماذا عسى أن تمنعه من الإجرام والمفروض أنه لم تُجْدِهِ نظرية الإصلاح ولم تعقه نظرية المنع، أفلا تبقي على المجني عليه وعلى الجاني كذلك بإقامة تمثال العقوبة أمام عينيه، صدق الله العظيم {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: 179) ألا فليقتصد حضرة الكاتب في ترقيق عواطفه فلا تأخذه بمثل هذا المجرم رأفة فليس أوسع رحمة من رب العالمين. وأما الجريمة الثانية التي جعل الإسلام عقوبتها القتل وهي جريمة الزنا من المتزوج فأي جريمة هي وما كنهها؟ هي أن يتعدى الجاني على عفاف المرأة فيمزقه، وعلى عرضه فيخدشه وهو بذلك قد تصدى على كل رجل يمت إلى تلك المرأة بسبب قرابة فنزع عنه ثوب شرفه وتركهم سبة في الوسط الذي هم فيه فما هم برافعين بعد ذلك لهم رأسًا، وفي ذلك قتلهم الأدبي الذي هو أهون منه قتلهم الجسماني، ثم هو قد تعدى كذلك على قريباتها فنزع عنهم أردية الشرف والعفاف فحال بينهم وبين أن يتزوجن؛ إذ الناس يتخذون من تلك الحادثة مقياسًا لعفتهن فيتحرَّجون من زواجهن، وفي ذلك أي ضرر بهن، ذلك هو كنه الجريمة، فهل بعد ذلك يستحق ذلك المجرم أن يعطف عليه ويوصف بأنه البائس المسكين؟ ألم يكن أقرباؤها من الرجال والنساء هم البؤساء والمساكين. على أن الإسلام لم يجعل القتل عقوبة الزاني إلا إذا كان متزوجًا (حكمة بالغة) رأَى الشارع أنه إذا كانت قد توفرت أسباب منعه من ارتكاب تلك الجريمة، ثم هو لم يمتنع عنها فليس للمجتمع راحة وطمأنينة بغير تطهيره منه حتى لا يثلم شرف أسر أخرى، وواضح أن ليس في عقوبة الزاني بالقتل -مظهر للانتقام- إذ الجريمة خدش عرض وتسجيل عار والعقوبة قتل وإزهاق روح. بقى أن الإسلام قد جعل عقوبة المتعدي على جارحة من جوارح الإنسان أن يعاقب بإزالة مثل تلك الجارحة منه، قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة: 45) ، قد يقال: إن مظهر الانتقام واضح في تلك العقوبة؛ إذ جعل مثلا العين بالعين والأنف بالأنف إلخ، ولكن إذا أتممت الآية قراءة وجدتها قد بعدت بتلك العقوبة عن دائرة الانتقام بعدًا شاسعًا؛ إذ ندبت المجني عليه إلى العفو عن أخيه حيث تقول: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} (المائدة: 45) فتراها للمبالغة في ترغيب المجني عليه في العفو عبَّرت عنه بالتصدق ووعدت عليه بالغفران، ولا يفوتك أن الإسلام مع هذا حرَّم على المجني عليه أن يتولى القصاص بنفسه من الجاني فلم يجعل له عليه سلطانًا وأوجب على الحاكم أن يعفيه من القصاص متَى عفى عنه صاحب الحق، فلا هو أسلمه للمجني عليه ولا هو أسلمه للحاكم، فأين بربك في هذا (مظاهر الانتقام) ؟ هذا من جهة نفي كونه (انتقامًا) بقي أن ننظر إلى التشريع في حد ذاته، وهل بغيره يرتدع المجرم أو يصلح المجتمع؟ إن الذي يدرس نزعات النفس البشرية من جهة ويدرس حالة المجتمع من جهة أخرى يرى في هذا التشريع أحكم وسيلة لنظام المجتمع، فإن الغضب والسَّوْرَة غريزة من غرائز النفوس البشرية وما أكثر دواعيه التي تقتضيها طبيعة الحياة البشرية، تلك الحياة التي لا بد فيها من تناقض في الأغراض وتضارب في الشهوات والميول، فلو لم يشعر الجاني حين تثار نفسه بداع من الدواعي أنه نازل به مثل ما ينزله بأخيه، فماذا عساه أن يحول بينه وبين فقء عين أخيه أو قطع أذنه، وإن في كثرة هذا النوع من الإجرام إذا أُهْمِلَ العمل بهذا التشريع لأكبر شاهد على أن هذه المبادئ من أسمى نظم البشر، ولو أننا عملنا بهذا التشريع لقل وقوع مثل هذه الجريمة. وقد كنت شغوفًا أن أبين للكاتب مبلغ أحكام التشريع الجنائي في الإسلام وما له من الأثر الحسن في نظام المجتمع وطمأنينته، وإن موعدنا المقال الآتي فسأتتبع فيه جزئيات العقوبة التي شرعها الإسلام حتي يتبين للناس حقيقة الأمر. والذي أعني به الآن بعد ما بان أن الإسلام لم يقرر (نظرية الانتقام) أن أبين للكاتب كيف أحكم الإسلام وضع (نظرية الإصلاح) و (نظرية المنع) من ألف وثلاثمائة وستة وأربعين عامًا، وأنهما ليستا حديثتين أحدثهما (جورنج) و (المدرسة الفرنسية الحديثة) . ولو أن الكاتب قد نظر في دين الإسلام نظرة العالم الباحث قبل أن يقرأ الكتب الإفرنجية لما ارتطم في ذلك الخطأ المبين. يقول الكاتب في

إحصائية عن الطلاق في أمريكا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إحصائية عن الطلاق في أمريكا إن الولايات المتحدة هي بلاد الإحصائيات، وكل شؤونها يعبر عنه بالملايين وإذا كان الأمريكيون قد أحصوا مظاهر الجو وعدد السيارات التي يملكها الأفراد، وكل ما يختص بالأشغال التجارية والألعاب الرياضية إلخ، فقد حُقَّ لهم أن يحصوا أيضًا أحوال الزواج والطلاق وهي تفوق غيرها شأنًا. ولم تعبأ حكومة الولايات المتحدة بأية نفقة وأي جهد في سبيل الإحصاء، قد أجرت إحصاء خاصًّا بالزواج خمس مرات في المدة الواقعة بين سنة 1876 وسنة 1923 وظهر اهتمام الناس بهذا الإحصاء، ولا سيما أنه صدر بجانب الأرقام الجافة مذكرة تفسيرية شائقة، ويمكن شراء كليهما بمبلغ زهيد قدره عشر سنتات (أي نحو عشرين مليما) فيلقي الأمريكي بذلك نظرة عامة على الحالة الاجتماعية في بلاده، وقد ذكر الإحصاء أسباب الطلاق، ولكنه للأسف لم يبين أسباب الزواج أيضًا، ولو فعل لكان أمرًا شائقًا يدعو إلى دراسة عميقة. وقد عقدت في سنة 1923: 373 , 224 ,1 زواجًا، فإذا اعتبرنا من تخطى الخامسة عشرة من عمره كفئًا للزواج كان المتزوجون في الولايات المتحدة 4.41 في الألف من الأكفاء للزواج. وفي نفس السنة حصل 226.165 طلاقًا، وقد فاق هذا العدد مثله في كافة السنوات السابقة، وكانت نسبة الطلاق في سنة 1870: 81 طلاقًا لكل مائة ألف من السكان المتزوجين، أما في سنة 1923 فقد بلغت هذه النسبة 160 في المائة ألف ومن ال 226. 165 طلاقًا الذي حدث في سنة 1293 - - 582. 111حادثة كان فيها الرجل هو المذنب و53. 27 حادثة كانت المرأة هي المذنبة، فالرجل إذن يسبب الطلاق في 67. 8 في المائة من حوادثه. ولكن أسباب الطلاق هي أهم جزء من إحصاء الحكومة الأمريكية، وقد قسمتها إلى سبعة أنواع، وقد يقسم أيضًا بعضها، هذه الأسباب هي الخيانة الزوجية والقسوة (وتحت هذه ستة عشر نوعًا) والهجران بسوء القصد، والإدمان على السكر (ومنه تعود المخدرات) ، وإهمال القيام بالنفقة البيتية، والنوع الثالث هو اختلاط بعض الأنواع السابقة والسابع يضم جميع الأسباب الأخرى (ومنها الأسباب غير المعروفة) . وكان أكثر حوادث الطلاق مسببة عن القسوة، وقد بلغت حوادثها 58178 في سنة 1923 وكانت أقلها حوادث الطلاق بسبب الإدمان على الخمر ومثلها، وكان عددها 2139. وقد بيَّن الإحصاء أيضًا مدد الزوجيات التي انتهت بالطلاق ويظهر منه أن وقت الخطر الذي يبتدئ فيه هو عقب السنة الثالثة من الزواج، ولكن قد تكثر حوادث الطلاق أيضًا بعد السنة الرابعة أو التاسعة من الحياة الزوجية ثم تقل كثيرًا بعد ذلك وتكون الحياة الزوجية قد تأسست وقويت، ويقل الحصول الطلاق بعد أن تمضي عشرون سنة على الزواج، ولكن لا أمان أيضًا في هذه السن، فإن الإحصاء دل على حوادث طلاق وقعت بعد أن مضى على الزواج إحدى وعشرون سنة أو أكثر. وأكثر حوادث الطلاق وقعت في السنوات العشر التالية للزواج، هي ثلثا مجموع الإحصاء ويبين الإحصاء أن معظم حوادث الطلاق تسببها القسوة في السنوات الثلاث الأولى للزواج، وفي الأحوال التي تكون المرأة هي المذنبة يكون سبب الطلاق في أكثرها هو خيانتها لرابطة الزوجية، وأكثر ما يحصل ذلك منها في السنوات الأولى للزواج، وأما الرجل فيندر أن يخون زوجته كما يظهر من الإحصاء في العهد الأول للحياة الزوجية وإنما تكثر خيانته من السنة الخامسة لعقد الزواج إلى السنة التاسعة عشرة، ولكن القسوة من جانب الزوج تكثر في السنوات الثلاث الأولى ثم تقل بعد ذلك، وأما الهجر والإدمان فعلى العكس. والآن لننظر ماذا نال الأطفال من جراء حوادث الطلاق ومن الزوجيات التي انتهت بالطلاق في سنة 1923 وعددها 164609 كان 92140 دون أطفال أي 56 في المائة وفي 57576 حالة منها كان للزوجين المطلقين أطفال، ولم يدرك الإحصاء حالة ال14893 الباقية، ومما تجدر ملاحظته أن المرأة كانت توافق على الطلاق إذا كانت لها أطفال أكثر مما لو لم يكونوا لها، وفي الـ 57576 من الأحوال التي كان فيها للمطلقات 106034 طفلاً حكم في 43249 حالة منها بأن تحضن الأم أطفالها. ولكن ليست هذه الأرقام والنسب هي كل ما حواه الإحصاء الأمريكي الدقيق بل لقد ذكر أيضًا إحصاءات بالنسبة لكل ولاية أمريكية مما لا يهم القراء.

الشروع في عمارة الحرم القدسي الشريف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشروع في عمارة الحرم القدسي الشريف تسلم المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين زمام إدارة الأوقاف والمحاكم الشرعية الإسلامية عام 1340 هجرية ووضع نصب عينيه منذ ذلك العام أمر الشروع في تعمير بنيان الحرم القدسي الشريف المشتمل على المسجد الأقصى أول القبلتين وثالث الحرمين وقبة الصخرة الشريفة، الدرة اليتيمة بين المباني الشرقية النفيسة والآثار الإسلامية الخالدة، وما يتبعها من الأبنية الأثرية المختلفة التي أحاطها المكان المقدس ببركاته، ومسح عليها الفن من نتائج القرائح المتوقدة ببدائعه؛ وذلك لأن هذا الآثار القيمة قد أحاطها البلى من كل جانب، فتصدع بعض أقسامها، وتآكل بعض آخر من عوالم الجو المستمرة، حتى كاد معظمها يشرف على الاندثار لا سمح الله؛ لأن هذه الأبنية النفيسة لم تتناولها يد الإصلاح الجدي منذ أجيال عديدة، وجُلُّ ما كان يجري فيها من العمارة ينحصر في ترميم سطحي بسيط لا أثر للمتانة ولا للفن فيه. فلما أخذ المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى على عاتقه شرف القيام بهذا المشروع فكَّر في تسليم إدارته الفنية إلى المهندس القدير المرحوم كمال الدين بك وهو أشهر المهندسين المتخصصين في المباني الإسلامية ففاوضه في هذا الأمر كتابة ثم استدعاه من مقره في الآستانة ففحص هذه الأبنية فحصًا فنيًّا دقيقًا وقرَّر أن مشروع التعمير يحتاج إلى ما لا يقل عن (150000) على أن يقوم بالعمل هيئة فنية مؤلفة من عدد من المهندسين برياسته، ثم رجع إلى الآستانة وعاد منها مستصحبًا ثلاثة ممن يعتمد عليهم من المهندسين القديرين، وأضاف إليهم مهندسًا آخر من القدس الشريف وأخذ يضع الخطط الفنية للقيام بهذا العمل الكبير، فلما تم ذلك، عقد المجلس الإسلامي الأعلى، وثلاثة مهندسين من حكومة فلسطين ومهندسي الهيئة الفنية المذكورة فبحثوا هذه الخطط الموضوعة وختموا اجتماعهم باتخاذهم القرار الآتي: بعد الفحص والتدقيق في حالة قبة المسجد الأقصى، والجزء السفلي منه، والمشاريع الثلاثة التي قدمها كمال الدين بك، والتقرير الذي قدمه المندوبان المصريان مصطفى حمدي بك القطان ومحمود أفندي أحمد، وبعد البحث الوافي، تقرر بالإجماع قبول المشروع الثاني، وأساسه تقوية البناء مع المحافظة عليه جهد المستطاع. أما تفاصيل هذا المشروع فهي كما يلي: صلب المجموع، تقوية الأسس، تقويم الأعمدة، تجديد الأوتار الخشبية (الشدادات) حفظ العقود والمقرنصات ورقبة القبة (الكرسي) وبقدر المستطاع حفظ القبة نفسها وبالإجمال كل ترميم أو تجديد يجده كمال بك ضروريًّا ومستطاعًا فيما عدا ما ذكر. (وتزيد الهيئة على ذلك أنه وإن كان المشروع الأول المتعلق بالتجديد، والذي اختاره المعمار كمال الدين بك هو ذا نتيجة أقوى وأجمل إلا أنها تؤثر بالإجماع المشروع الثاني المذكور أعلاه، والموافق لتقرير المندوبين المصريين، لاعتبارات أثرية ودينية واجتماعية) . وبهذه المناسبة ترى الهيئة أنه يستحسن أن يعطى كمال الدين بك الحرية التامة في اختيار الوسائل التي ستُتَّبَعُ، وتقرير الإجراءات التي ستُتَّخَذُ لتنفيذ الأعمال المقرَّرَة في المشروع المذكور أعلاه وإنهائها على أحسن وجه. (وترى الهيئة أن هذا العمل ضروري ودقيق وأنه لا بد من إعطاء كمال الدين بك الذي سينفذه الحرية في أن يختار كل ما يحتاج إليه من العمال الفنيين، وأن يتخذ كل التدابير الاحتياطية الخاصة التي يقتضي اتخاذها في مشروع دقيق كهذا) . (ثم تود الهيئة أن تبدي عظيم ارتياحها لما رأته من الدقة والمهارة اللتين أظهرهما الأستاذ المعمار كمال الدين بك وهيئته الفنية في درس المسألة والمشاريع التي هيأها، وأن تظهر أيضًا ثقتها مجمعة بذلك التحضير الدقيق المحكم، ومنه تبدو بجلاء تام الأهمية الكبيرة التي تشتمل عليها هذه القضية الدقيقة وتفاصيلها وفروعها، وعلى هذا وضعت هيئة المؤتمر هذا القرار النهائي بكل ثقة (في 23 شباط سنة 1924) . *** جمع نفقات العمارة أيقن المجلس الإسلامي الأعلى أنه لا يتأتى القيام بمشروع هذه العمارة إلا إذا قام المسلمون عامة ملوكهم وأمراؤهم وشعوبهم بمساعدته مساعدة جدية لما يتطلبه من النفقات الكبيرة، فقام بإذاعة دعوة عامة وجهها إلى مسلمي العالم كافة يستصرخهم باسم الإسلام والحضارة الإسلامية والفن الإسلامي أن يقبلوا على مؤازرة هذا المشروع، وقد نشرت الدعوة باللغات الإسلامية في أنحاء العالم الإسلامي، ثم أوفد الوفود إلى مصر والحجاز أولاً وثانيًا، والآستانة والهند والعراق، وجمع الأموال من هذه البلاد بمقادير مختلفة، ووردت إليه الإعانات من بلاد أخرى تتضح مبالغها جميعًا من مطالعة البيان المالي الآتي: *** بيان الواردات باعتبار الأقاليم مليم جنيه مصري ... ... الجهة المتبرعة 248 6478 ... من صندوق المجلس الإسلامي بفلسطين والواردات المحلية 375 4231 ... من أهالي فلسطين. 733 38761 ... من الحجاز 608 23788 ... من الهند 322 6206 ... من العراق 520 1362 ... من الكويت 780 2681 ... من البحرين 635 612 ... من المحمرة 700 338 ... من سورية 440 19 ... من تركيا 860 306 ... من مصر 920 48 ... المهاجرين في أمريكا ــــــــ 141 94837 *** طريق الإنفاق اقتضى المشروع أن يكون له في القدس لجنة مركزية تشرف على سيره وتتولى إدارة شئونه المالية إدارة منظمة حسب الأصول الفنية والمالية فعيَّن المجلس الإسلامي لجنة مؤلفة من نخبة من أعيان البلاد الخبيرين الموثوق بهم لهذا الغاية سميت لجنة عمارة الحرم الشريف، وطلب المجلس الإسلامي الأعلى إلى جميع الأقطار الإسلامية التي اشتركت في نفقة العمارة أن ترسل كل منها عضوًا من قِبَلها يمثلها في هذه اللجنة. وقامت هذه اللجنة بواجباتها وأعمالها حق القيام، فوضعت السجلات والدفاتر المنظمة لجميع المعاملات الحسابية وضبطت قيود أعمالها حق القيام، فوضعت السجلات والدفاتر المنظمة لجميع المعاملات الحسابية وضبطت قيود أعمالها ضبطًا محكمًا وراقبت شراء المواد المقتضاة وأشرفت على أهم الأمور الإدارية في هذا المشروع. ويتضح للقارئ من البيان التالي مجمل الواردات والنفقات لغاية 13 ذي الحجة سنة 1346 الموافق غاية مارس سنة 1928 التي كان المجلس الإسلامي الأعلى يرسل بيانات بتفاصيلها إلى كبار المتبرعين والصحف المختلفة في كل شهر: *** الورادات السنوية مليم ... جنيه 43 20386 عن 14 جمادى أول سنة 41 لغاية23 جمادى أول سنة 42 ... ... الموافق سنة 23 396 56604 عن 24 جمادى أول سنة 42 لغاية 5 جمادى ثاني سنة 43 ... ... الموافق سنة 24. 21 11160 عن 6 جمادى ثاني سنة 43 لغاية 16 جمادى ثاني سنة 44 ... ... الموافق سنة 25. 445 3021 عن 17 جمادى ثاني سنة 44 لغاية 26 جمادى الثاني سنة 45 ... ... الموافق سنة 26. 952 3317 عن 27جمادى ثاني سنة 45 لغاية 8 رجب سنة 46 الموافق ... ... سنة 27. 311 357 ... عن 9 رجب 46 لغاية 13 ذي الحجة الموافق سنة 28 ــــــــــ 41 94837 المجموع نفقات عمارة المسجد الأقصى 367 7168 المصروف من صندوق الأوقاف لغاية 19 محرم سنة 342 ... الموافق غاية آب سنة 23 قبل تشكيل لجنة عمارة المسجد الأقصى 724 3242 نفقات عن 20 محرم لغاية 23 جماد أول الموافق عن أيلول لغاية ... كانون أول سنة 1923. 615 17403 نفقات عن 24 جماد أول سنة 1342 لغاية 5 جماد ثاني 1343 ... الموافق سنة 1924. 828 11380 نفقات عن 6 جماد ثاني سنة 1343 لغاية 16 جماد ثاني سنة ... 1344 الموافق سنة 1925. 193 6412 نفقات عن 17 جماد ثاني سنة 1344 لغاية 26 جماد ثاني سنة ... 1345 الموافق سنة 1926. 62 15926 نفقات عن 27 جماد الثانية سنة 1345 لغاية 8 رجب سنة 1346 ... الموافق سنة 1927. 764 6196 نفقات عن 9 رجب سنة 346 لغاية 13 ذي الحجة سنة 346 ... الموافق غاية مارس سنة 1928. ــــــــــــ 443 67730 المجموع *** إتمام عمارة قبة المسجد الأقصى وقد تمت بتوفيقه تعالى عمارة المسجد الأقصى وما يحيط بها من المباني المتداعية على أكمل وجه حتى إن زلازل فلسطين الأخيرة على شدتها لم تُحْدِث في الأمكنة التي عمرت تأثيرًا ما على حين أن جملة من الأبنية الكبرى في القدس تصدعت مما دل دلالة صريحة على أن العمارة الجديدة قد جرت على الأصول الفنية بحيث أصبح البناء يتحمل صدمات العوامل الطبيعية وقد شهد بذلك المهندسون الذين زاروا المكان فشاهدوا متانة عمارته واتفقوا على أنه لو لم يبادر المجلس إلى عمارة قبة المسجد لدمرها الزلزال تدميرًا. *** حفلة افتتاح عمارة المسجد الأقصى ومما نحمد الله تعالى عليه أن يتم هذا المشروع على يد المجلس الإسلامي الأعلى الذي رأى من الحق عليه أن يفتتح هذا القسم من العمارة بحفلة حافلة يدعو إليها عظماء العالم الإسلامي ومن آزره في إتمام هذا المشروع مؤازرة مادية أو أدبية، وقد اختار لذلك يوم مولد سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم من هذا العام الموافق 12 ربيع الأنور سنة 1347. وتعد الهيئة لهذه العمارة تقريرًا فنيًّا وافيًا عن هذا المشروع إجمالاً وتفصيلاً، وستوزعه على المحتفلين، وتنشره بعدئذ في العالم الإسلامي بمختلف اللغات، والله ولي التوفيق. ((يتبع بمقال تالٍ))

اختيار الشيخ مصطفى المراغي شيخا للأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اختيار الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخًا للأزهر والمعاهد الدينية مرت بضعة أشهر على وفاة المرحوم الشيخ أبي الفضل الجيزاوي والحكومة في حيرة في اختيار خلف له وقد جعل القانون أمره إلى الوزارة حتى وفق صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا إلى اختيار هذا الرجل ولعمري إنه لم يكن في البلد من يصلح لهذا المنصب في هذا الوقت غيره حتى احتيج إلى هذا الوقت الطويل لمعرفته - وهو رئيس المحكمة الشرعية العليا أي أكبر رجال القضاء الشرعي ولكن اختياره على أولئك النفر من المرشحين للمنصب على المعهود في التقليد بين كبار الشيوخ هو الذي اقتضى طول الروية والبحث من قبل، وللوزراء أهواء مختلفة ولكل من أولئك المرشحين انتماء إلى وزير كبير أو ضلع مع حزب من الأحزاب السياسية التي يُعَدّ أولئك الوزراء من زعمائها، فكانت آية إخلاص مصطفى النحاس باشا في اختياره للشيخ محمد مصطفى المراغي أنه فضَّله على بعض الشيوخ الموالين للوفد المصري المعدودين من حزب السعديين، وذلك بعد أن أخبره بمزاياه من ثقات الأزهريين المستنيرين من لا يمتري في معرفتهم وحسن نيتهم، وهو يعلم مع هذا أنه أعطَى منصبه الشرعي حقه فلم ينتم إلى حزب من الأحزاب ولم يتزلف إلى وزير من الوزراء كما أنه لا يعادي حزبًا ولا وزيرًا من الوزراء وأنه مرضي لدى جلالة الملك. إن بيان ما أجملته من الحكم بأن هذا المنصب لا يصلح له في هذا الوقت إلا هذا الرجل يتوقف تفصيله على بيان حالة الأزهر من نواحيها المتعددة، وبيان مزايا الشيخ العقلية والإدارية ومعرفته لحالة العصر من نواحيها المختلفة، وما يحتاج إليه الإسلام من التجديد والإصلاح، وفوق هذا كله استقلاله في فهم الدين والعلم فهو في الذروة العليا من نجباء تلاميذ الأستاذ الإمام رحمه الله، فعسى أن يجعله الله هو المتمم لما بدأ به أستاذه وأستاذنا من إصلاح الأزهر. كنت أود أن مكنتني صحتي من التفصيل الذي أشرت إليه ولكنني لا أزال مريضًا، وقد كتبت هذه الكلمة، وأنا مستلق في سريري، وإلى الله المشتكى، وهوالمسئول بتعجيل الشفاء. *** اعتذارنا للقراء بمرضنا ومصائبنا قد علم القراء ما كان من أمر مرضنا، وما كان لنا أن نكتمه عنهم، وقد كانت وطئة الحمى خفت حتى قلما تتجاوز الدرجة 38 فكتبنا تفسير هذا الجزء وباب الفتاوى وباب الانتقاد على التفسير، وعرض لنا بعد ذلك التهاب شديد في اللوزتين فارتفعت الحمى زهاء أسبوع ثم خفت بزواله ثم عادت إلى الارتفاع حتى منعنا الأطباء من الخروج إلى المكتب ومن مقابلة الناس. وكنا جعلنا تاريخ هذا الجزء سلخ المحرم من السنة الجديدة 1347 ولكن كاد شهر صفر أن ينتهي ولم نستطع كتابة شيء آخر مما كان في النفس فأذنا الإدارة بإتمام الجزء ببعض المختارات المفيدة من الصحف والرجوع في هذه الفرصة إلى تقريظ الكتب التي تأخر تقريظها وإصدار الجزء، وسنجعل تاريخ الجزء الذي بعده سلخ ربيع الأول، وما ندري هل يقدرنا الله تعالى على كتابة شيء منه أم لا، والرجاء بفضله عظيم. *** وفاة فاضلة ابتلينا في 30 ذي الحجة سنة 1346 بوفاة شقيقتنا البارة الفاضلة العاقلة السيدة الحاجة حفصة رحمها الله تعالى، ولله ما أخذ ولله ما أعطى وما أبقى، وإنا لله وإنا إليه راجعون. *** كلمة إلى حضرات المشتركين إن دَخْلَنَا في هذه البضعة الأشهر التي تضاعفت فيها نفقاتنا بسبب المرض وغيرها كان أقل مما كان في مثلها من كل عام فنستنجد الوفاء والمروءة من المدينين لنا باشتراك المنار أو أثمان الكتب أن يعجلوا بإرسال جميع المتأخر لنا عندهم، ونحن نعده لهم في هذا الوقت كأنه إعانة منهم، ومن لم يؤثر فيه هذا القول في أداء الحق الذي عليه فهو أعرف بقيمة نفسه وعليه ما يستحق من جزاء الدنيا والآخرة.

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (روح الاشتراكية) تأليف الدكتور غوستاف لوبون وترجمة الأستاذ عادل زعيتر خريج جامعة باريس، عني بنشره إلياس أفندي أنطون إلياس صاحب المطبعة العصرية ثمنه 20 قرشًا مصريًّا. الدكتور غوستاف لوبون عالم أوربا الاجتماعي الشهير وصاحب المؤلفات الاجتماعية الفذة لا يحتاج عند جمهور القراء إلى تعريف، خصوصًا وقد اشتهر هذا العالم الجليل بدرس الشئون الشرقية عامة والعربية خاصة وله عطف على الشعب العربي وعناية كبيرة بمدنيته التي ظهرت آثارها بكتابه الشهير (حضارة العرب) حتى إن جماعة من أدباء مدينة بيروت كانوا أقاموا له حفلة شكر في مدينتهم اعترافًا بفضله وشكرًا لإنصافه لأمتهم العربية كما اشتهر هذا الفيلسوف بالابتعاد عن التعصب والتصريح بالحقائق التي يحاول معظم علماء الغرب ورجاله سترها كتعصب أوربا ولا سيما فرنسا موطنه ضد الحكومات الإسلامية والإسلام. كان آخر ما ألف الدكتور غوستاف هذا الكتاب (روح الاشتراكية) بعد (سر تطور الأمم) ، و (روح الاجتماع) ، و (الآراء والمعتقدات) ، و (الثورة الفرنسية) . فجاء كتابًا قيمًا في أبحاثه جليلاً في مراميه، عز على صديقنا الأستاذ عادل زعيتر أحد أركان النهضة العربية أن تحرم الأمة العربية من ثمراته، فعني بترجمته ترجمة سلسة فجاءت حلة قشيبة من حلل العربية التي تكتسي بها مؤلفات الغرب، فنثني على همة المترجم ونرجو أن يوفق إلى انتخاب أمثال هذه الأسفار القيمة، ونحث القراء على اقتناء هذا الكتاب النفيس. لكن هذا الكتاب كأمثاله في علمه لا يخلو من نظريات مخالفة للأديان، لا يعسر على علماء الدين المحققين تأييد جانب الدين فيها. *** (علم الاجتماع) علم حياة الهيئة الاجتماعية وتطورها تأليف الأستاذ الفاضل نقولا أفندي حداد صاحب مجلة السيدات والرجال بمصر. لزميلنا الأستاذ حداد عناية ثابتة بالعلم والشئون الاجتماعية ورغبة جليلة في التأليف والابتكار، وقد ألف منذ 20عامًا أو أكثر رواية حواء الجديدة وعرضها على كبار الكتاب في مصر وغيرها فحازت استحسان جمهور المفكرين، وبالرغم من اشتغاله بالصيدلة لا يدخر وسعًا في مواصلة الأبحاث العلمية والاجتماعية، وقد أخرج لنا هذا الكتاب (علم الاجتماع) يبحث في كيفية تكون المجتمع وأطواره وفي عقلية الجماعات والرأي العام، وفي العوامل المختلفة التي كونت المجتمع وطوَّرته وفي اعتراك هذه العوامل وتوازنها، بأسلوب سهل وعبارة مستفيضة بالأمثال التي تقرب الموضوع إلى الأذهان، وقد جاء الكتاب في جزأين كل جزء زهاء 350 صحيفة من القطع الكبير وثمنها 50 قرشًا، وقد أخرجته بهذا الثوب الجميل المطبعة العصرية لصاحبها الفاضل إلياس أفندي أنطون إلياس فنثني على همة المؤلف، ونرجو للكتاب كل رواج يستحقه كما نستزيد صديقنا الأستاذَ حدادًا من هذه المؤلفات الحديثة لدى قراء العربية. *** (أمراض الأطفال الكثيرة الانتشار) للدكتور العالم الفاضل الأستاذ عبد العزيز بك نظمي الاختصاصي بأمراض الأطفال خدمة للعلم تُذْكَر فتُشْكَر، فلا يمضي عام أو بعض عام حتى يُتْحِف القراء بمؤلف جديد، وقد كان من أهم ما نفع به جمهور القارئين والقارئات كتابه هذا فقد توسع في موضوع أمراض الأطفال الذي يهم العالم أجمع وخاصة سكان القطر المصري؛ لكثرة وفياته، وجاء ببيان مهم عن طرق الوقاية والمعالجة والإسعافات المفيدة النافعة، طبع على ورق جيد تبلغ صفحاته 333 صفحة وثمنه 25 قرشًا، فنشكر لمؤلفه خدمته هذه للعلم، ونحث القراء على مطالعته والاستفادة منه. *** (تهذيب الكامل) تأليف الأستاذ الفاضل السباعي بيومي يقع في جزأين كل جزء منهما يتجاوز ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط طبع على ورق مصقول ثمنه 40 قرشًا جعل الجزء الأول في المنثور، والثاني في المنظوم. وقد ذكر مؤلفه أن كتاب الكامل للمبرد على شهرته الواسعة، وكونه من أنفع كتب الأدب وأغزرها مادة قد صدر عن مؤلفه خاليًا من فهرس يرشد القارئ إلى مراميه ومختلطًا بعضه ببعض اختلاطًا يبعد الاستفادة منه، وأنه هو قد وفق إلى رده إلى أبواب مرتبة يحتوي كل منها على طائفة متناسبة من أنواع الكلام وضروب القول غير تارك منه شيئًا دون إلمام به، ثم أخرج ما به من تعليقات لأبي الحسن عن الصلب إلى الهامش مع بعض زيادات له، وقد جعل في الجزء الأول المنثور في أربعة أبواب: باب الخطب والوصايات والمواعظ، وباب الكتب والعهود والرسائل وباب الحِكَم والأمثال والجوامع، ثم باب النوادر والأخبار والحوادث، والقسم الثاني المنظوم يشتمل على ستة أبواب وذيل أما كون كتاب الكامل من أركان كتب الأدب فهو مما اتفق عليه المتقدمون الذين كانوا يتدارسونه كما قال ابن خلدون والمتأخرون الذين كلَّت هممهم دونه، وأما الحاجة إلى تهذيبه هذا فقد جعلته قريب المتناول من جميع طلاب الآداب، وكان لا ينظر فيه إلا الأفراد من أساتذتهم فنرجو للكتاب الإقبال والرواج، كما نود أن يوفق مؤلفه إلى ترتيب كتب أخرى من الكتب الثمينة التي خلت من الفهرس مع شدة حاجتها إليه. *** (الفتاوى الطرسوسية أو أنفع الوسائل إلى تحرير المسائل) تأليف العلامة قاضي القضاة نجم الدين إبراهيم بن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الصمد الطرسوسي المتوفى سنة 758 هجرية صحَّحه وراجع نقوله الأستاذان الشيخ مصطفى محمد خفاجي المدرس بقسم التخصص في القضاء الشرعي والشيخ محمود إبراهيم من خريج قسم التخصص المذكور، وقد جمع هذا الكتاب ما لم يشمله قبله كتاب خصوصًا ما يتعلق بالوقف والقضاء حتى كان عمدة لأفاضل العلماء السابقين ومرجعًا ثقة للمتأخرين، وقد عانا المصححان كثيرًا في ضبط الكتاب لاختلاف في النسخ الخطية الموجودة فنثني على همتهما ونرجو أن ينتفع أهل العلم بمزايا هذا السِّفْر الجليل، وقد عني بطبعه في مطبعة الشرق فجاء نظيفًا على ورق مصقول من القطع المتوسط، وعدد صفحاته 352 صفحة. *** (التهذيب في أصول التعريب) تصنيف الدكتور العالم الفاضل الأستاذ أحمد عيسى بك لا يجهل قُرَّاء الصحف والمجلات الأبحاث القيمة التي يعالجها صديقنا الأستاذ الدكتور أحمد عيسى بك والمنقبون لسير العلم يقرأون باهتمام مصنفاته الأدبية وما وفق إلى ترجمته من الكتب المفيدة، وقد بَدَا له أن يضع هذا السفر في أصول التعريب، فذكر فيه خلاصة ما رآه من العقبات في مزاولة الترجمة والتعريب، وأهمها في نظره قلة المصطلحات العربية المقابلة للمصطلحات الأعجمية، والثانية تعريب ما يمكن تعريبه من المصطلحات التي يعسر إيجاد لفظ يقابلها ويحل محلها، ثم عزَّز رأيه: بأن العرب في إبان نهضتهم لما احتاجوا إلى اقتباس شيء من علوم الأمم المتحضرة التي تقدمتهم اضطروا بحكم الضرورة إلى تعريب الكثير من الألفاظ في مختلف العلوم سواء كانت أعلامًا على بلدان أو على أشخاص أو أسماء معانٍ لا مدلول لها في لغتهم، أو أنهم خافوا على تلك الألفاظ من الالتباس إن هم ترجموها ولم يوجدوا اللفظ الأعجمي بجانبها يوضحها، فقضت ضرورة الحال بتعريبها وإدماجها في لغتهم.

مآثر قريش وخصائصها قبل الإسلام وبعده

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مآثر قريش وخصائصها قبل الإسلام وبعده أوردنا في رسالة خلاصة السيرة المحمدية جملة من خصائص قريش التي فضلوا بها القبائل والشعوب، وكانوا أهلاً لظهور الإصلاح الإسلامي فيهم وبعثة خاتم النبيين منهم، ثم رأينا في هذه الأيام جملة في ذلك فيها تفصيل لبعض ما أجملناه هنالك وزيادة عليه في كتاب ثمار القلوب للثعالبي فأحببنا نشره في المنار، ليكون كالتكملة لما أوردناه عند كتابة تلك الرسالة من غير مراجعة كتاب ما، وفيه زيادة على ما هنا، على توخينا الإيجاز هنالك قال الثعالبي رحمه الله: أهل الله كان يقال لقريش في الجاهلية: أهل الله؛ لما تميزوا به عن سائر العرب من المحاسن والمكارم والفضائل والخصائص التي هي أكثر من أن تُحْصَى. (فمنها) مجاورتهم بيت الله تعالى وإيثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله، وصبرهم على لأواء مكة وشدتها وخشونة العيش بها. (ومنها) ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة (الرفادة شيء تترافد به قريش في الجاهلية تخرج فيما بينها مالاً تشتري به للحاج طعامًا وزبيبًا) والسقاية والرياسة واللواء والندوة. (ومنها) كونهم على إرث من دين أبويهم إبراهيم وإسماعيل عليه السلام من قَرْيِ الضيف ورفد الحاج والمعتمرين والقيام بما يصلحهم وتعظيم الحَرَم وصيانته عن البغي فيه والإلحاد وقمع الظالم ومنع المظلوم. (ومنها) كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ويؤتون من كل أَوْب بعيد وفج عميق، فترد عليهم الأخلاق والعقول والآداب والألسنة واللغات والعادات والصور والشمائل، عفوًا بلا كلفة، ولا غرم ولا عزم ولا حيلة، فيشاهدون ما لم تشاهده قبيلة، وليس من شاهد الجميع كمن شاهد البعض، ولا المجرب كالغمر، ولا الأديب كالفضل، فكثرت الخواطر واتسع السماع وانفسحت الصدور، ورأوا الغرائب التي تُشْحَذ، والأعاجيب التي تُحْفَظ، فثبتت الأمور في صدورهم، واختمرت وتزاوجت، فتناتجت وتوالدت، وصادفت قريحة جيدة وطينة كريمة، والقوم في الأصل مرشحون للأمر الجسيم؛ فلذلك صاروا أدهى العرب وأعقل البرية، وأحسن الناس بيانًا، وصار أحدهم يوزن بأمة من الأمم، وكذلك ينبغي أن يكون الإمام، فأما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان يزن جميع الأمم. (ومنها) ثابت جودهم وجزالة عطاياهم واحتمالهم المؤن الغلاظ في أموالهم المكتسبة من التجارة، ومعلوم أن البخل والنظر في الطفيف مقرون بالتجارة التي هي صناعتهم، والتجار هم أصحاب التربيح، والتكسب والتدنيق، وكان في اتصال جودهم العالي على الأجواد من قوم لا كسب لهم من التجارة عجب من العجب، وأعجب من ذلك أنهم من بين جميع العرب دانوا بالتحمس والتشدد في الدين فتركوا الغزو؛ كراهة للسبي واستحلال الأموال، فلما زهدوا في الغصوب لم يبق مكسبة سوى التجارة فضربوا في البلاد إلى قيصر بالروم والنجاشي بالحبشة والمقوقس بمصر وصاروا بأجمعهم تجارًا خلطاء، فكانوا مع طول ترك الغزو إذا غزوا كالأسود على براثنها [1] مع الرأي الأصيل والبصيرة الناقدة فهذا يسير من كثير من خصائصهم في الجاهلية [2] . فلما جاء الله تعالى بالإسلام وبعث منهم خير خلقه وأفضل رسله محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه، تظاهر شرفهم، وتضاعف كرمهم، وصاروا على الحقيقة أهلاً لأن يدعوا أهل الله، فاستمر عليهم وعلى سائر أهل مكة، وعلى أهل القرآن هذا الاسم حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل القرآن هم أهل الله تعالى وخاصته) وقال لعتاب بن أسيد لما بعثه إلى مكة: (هل تدري على من استعملتك؟ استعملتك على أهل الله) وسأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نافع بن عبد الحارث الخزاعي حين قدم عليه من مكة من اسخلفتَ على مكة؟ قال: ابن أبزى. قال: استخلفتَ على أهل الله مولى؟ قال: إنه أَقْرَؤُهم لكتاب الله تعالى، قال: (إن الله تعالى يرفع بالقرآن أقوامًا) . قال بعض السلف: حسبك من قريش أنهم أهل الله وأقرب الناس بيوتًا من بيت الله، وأقربهم قرابة من رسول الله، ولم يسم الله تعالى قبيلة باسمها غير قريش وصارت فيهم ولهم الخصال الأربع التي هي أشرف خصال الإسلام - النبوة، والخلافة والشورى والفتوح - فليس اليوم على ظهر الأرض وممالك العرب والعجم في جميع الأقاليم السبعة ملك في نصاب نبوة، وإمامة في مغرس رسالة إلا من قريش، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأئمة من قريش) وقال عليه السلام: (قَدِّمُوا قريشًا ولا تَتَقَدَّمُوهَا وتعلموا منها ولا تعلموها) وأنشد: إن قريشًا وهي من خير الأمم ... لا يضعون قدمًا على قدم أي يُتَّبَعُونَ ولا يَتَّبِعُونَ، وقال الأعشى وهو يعاتب رجلاً ويخبر أنه مع شرفه لم يبلغ مبلغ قريش: فما أنت من أهل الحجون ولا الصفا ... ولا لك حق الشرب في ماء زمزم وسيمر بك في هذا الكتاب من نكت فضائلهم، وغرر غرائبهم، ما تكثر فائدته وتطيب ثمرته، وإن كان لا مزيد على وصف الجاحظ لهم ومدحه إياهم وتخصيصه بني هاشم منهم فإنه رحمه الله ألقى جمة فصاحته واستنزف بحر بلاغته في فصل له وهو قوله: العرب كالبدن وقريش روحها، وهاشم سرها ولُبُّها، وموضع غاية الدين والدنيا منها، وهاشم ملح الأرض وزينة الدنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكاهل الأعظم ولباب كل جوهر كريم، وسر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم، ومناهل الظامي إلى الحلم، والسيف الحسام في العزم، مع الأناة والحزم، والصفح عن الجرم، والإغضاء عن العثرة، والعفو عند القدرة، وهم الأنف المقدم، والسنام الأكوم، والعزم المشمخر، والصبابة والسر، وكالماء الذي لا ينجسه شيء، وكالشمس لا تخفى بكل مكان، وكالنجم للحيران، والماء البارد للظمآن. ومنهم العمران والأطيبان والشيخان والشهيدان، وأسد الله وذو الجناحين وسيد الوادي وساقي الحجيج، وحليم البطحان، والبحر والحبر، والأنصار أنصارهم، والمهاجر من هاجر إليهم أو معهم، والصديق من صدقهم، والفاروق من فرق بين الحق والباطل منهم، والحواري حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، ولا خير إلا هم أو فيهم أو معهم أو يضاف إليهم، وكيف لا يكونون كذلك وفيهم رسول رب العالمين، وإمام الأولين والآخرين، وسيد المرسلين وخاتم النبيين، الذي لم تتم لنبي نبوة إلا بعد التصديق به، والبشارة بمجيئه، الذي عم برسالته ما بين الخافقين، وأظهره الله على الدين كله ولو كره المشركون، فقال: {نَذِيراً لِّلْبَشَرِ} (المدثر: 36) وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} (الأعراف: 158) وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت إلى الأحمر والأسود وإلى الناس كافة) وقال: (نُصِرْتُ بالرعب من مسيرة شهر، وأعطيت جوامع الكلم، وعُرِضَتْ عليَّ مفاتيح خزائن الأرض) وقال: (أنا أول شافع ومُشَفَّع وأول من تنشق عنه الأرض) . وقد أقسم الله سبحانه وتعالى بحياته في القرآن فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (الحجر: 72) وقال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (القلم: 1) فأكد القسم وفسَّر المعنى ثم قصد نبيه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) ولا عظيم أعظم ممن عظَّمه الله كما أنه لا صغير أصغر ممن صغَّره الله فأيُّ ممدوح أعظم وأفخر وأسنى وأكبر من ممدوح مادحه الله، وناقل مديحه، وراوية كلامه جبريل، والممدوح محمد صلى الله عليه وسلم اهـ.

إصلاح الأزهر الشريف

الكاتب: محمد مصطفى المراغي

_ إصلاح الأزهر الشريف مذكرة الأستاذ الأكبر الشيخ المراغي شيخ الأزهر أوجب الدين الإسلامي على أهله أن تختص طائفة منهم بحمله وتبليغه إلى الناس {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) وأوجب الله على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى السبيل الموصلة إليه {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) وقواعد العلماء كلها متفقة على وجوب السعي إلى نشر الدين وإقناع العباد بصحته، وعلى وجوب حمايته من نزعات الإلحاد وشبه المضلين. وفي الكتاب الكريم آيات كثيرة تحث على النظر في الكون وعلى فهم ما فيه من جمال ودقة صنع، وقد لفت النظر إلى ما في العالم الشمسي من جمال باهر وصنع محكم، ولفت النظر إلى ما في الحيوان من غرائز تدفعها إلى الصنع الدقيق والأعمال التي لها غايات محدودة، وأشار إلى سير الأولين، وحث القرآن على العلم، وفاضل بين العلماء والجهال، وأعمال السلف الصالح، وسير العلماء لا تدع شبهة في أن الدين الإسلامي يطلب من أهله السعي إلى معرفة كل شيء في الحياة. وقد تولى سلف علماء الأمة القيام بهذه المهمة على أحسن وجه وأكمله، فخلفوا تلك الثروة العظيمة من المؤلفات في جميع فروع العلم، ودرسوا أصول المذاهب في العالم ودرسوا الديانات ودرسوا الفلسفة على ما كان معروفًا في زمنهم، وكتبوا المقالات في الرد على جميع الفرق، وكانت للعقل عندهم حرمته، وله حريته التامة في البحث، وكان الاجتهاد غاية يسعى إليها كل مشتغل بالعلم متفرغ له. ولكن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة وظنوا أنه لا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها من مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنهم، ونقموا هم على الناس فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حملة ولا دعاة بالمعنَى الذي يتطلبه الدين. في الدين الإسلامي عبادات وعقائد وأخلاق، وفقه في نظام الأسرة، وفقه في المعاملات مثل البيع والرهن وفقه في الجنايات. وقد عرض الدين الإسلامي لغيره من الأديان وعرض لعقائد لم تكن لأهل الأديان، وأشار إلى بعض الأمور الكونية في النظام الشمسي والمواليد الثلاثة من جماد ونبات وحيوان. وقد هوجم الإسلام أكثر من غيره من الديانات السابقة، هوجم من أتباع الأديان السابقة، وهوجم من ناحية العلم، وهوجم من أهل القانون. لهذا كانت مهمة العلماء شاقة جدًّا تتطلب معلومات كثيرة: تتطلب معرفة المذاهب قديمها وحديثها، ومعرفة ما في الأديان السابقة ومعرفة ما يَجِدُّ في الحياة من معارف وآراء، ومعرفة البحث النظري وطرق الإقناع، وتتطلب فهم الإسلام نفسه من ينابيعه الأولى فهمًا صحيحًا، وتتطلب معرفة اللغة وفقهها وآدابها وتتطلب معرفة التاريخ العام وتاريخ الأديان والمذاهب وتاريخ التشريع وأطوراه، وتتطلب العلم بقواعد الاجتماع. والأمة المصرية أمة دينها الإسلام، فيجب عليها - وهي تجاهر بذلك - أن ترقي تعليمه؛ ليرقى حملته، ويكونوا حفاظًا ومرشدين يدعون الناس إليه. ولا يوجد دواء أنجع من الدين لإصلاح أخلاق الجماهير فإن العامة تتلقى أحكام الدين والأخلاق الدينية بسهولة لا تحتاج إلى أكثر من واعظ هاد حسن الأسلوب جذاب إلى الفضيلة بعمله وبحسن بصره في تصريف القول في مواضعه. ولذلك كان الدعاة إلى الفضيلة قديمًا وحديثًا يلجئون إلى الأديان يتخذونها وسائل للإصلاح بل كل داعاة المذاهب السياسية وحملة السيوف لم يجدوا بُدًّا من الرجوع إلى الأديان وصبغ دعواتهم بها، كل ذلك لأن حياة المجتمعات لا تدين لنوع الإصلاح إلا إذا صبغ بصبغة دينية يكون قوامها الإيمان. والأمة المصرية، بل والأمم الشرقية جمعاء، تدهورت أخلاقها فضعفت لديها ملكات الصدق والوفاء بالوعد والشجاعة والصبر والإقدام والحزم وضبط النفس عن الشهوات، وضعفت الروابط بين الجماعات فلم يعد الفرد يشعر بآلام الآخرين ومصائبهم، وقد أثرت الحياة الفردية في حياة الجماعة أثرها الضار فانحطت منزلة الأمم، ورضيت من المكانة بأصغر المنازل. وقد أرى أن الأمة المصرية، وهي تريد النهوض والمجد وتتطلع إلى حياة سياسية راقية يجب عليها أن تتذكر دينها، وتلتفت إلى حملة ذلك الدين فتصلح شأنهم وترقي تعليمهم، وتضعهم في المكانة اللائقة بالمرشدين، والتي يجب أن يكون عليها حملة الدين. أما إهمال هذه الناحية والسعي إلى ترقية النواحي الأخرى من حياة الأمة، فلا أرى أنه يوصل إلى الغرض المقصود، فالخلق هو العمود الفقري للأمم لا يمكنها أن تنهض بغيره، وأسهل طريق لتكوينه هو طريق الدين إذا أصلح تعليمه وهذِّب دعاته. وقد كان الأزهر مصدر أشعة نور العلوم الدينية والعربية وغيرها إلى البلاد الإسلامية، وقد أصابه ما أصاب غيره في الشرق من خمول وضعة، فيجب على الأمة المصرية وهي تحمل راية الأمم الإسلامية أن تنقي هذا المصباح (الأزهر) من الأكدار، وأن تُوجِد له جهازًا قويًّا يستمد نوره منه على طريقة تتناسب مع ما جَدَّ في العالم من أطوار في العلم وفي التفكير وفي الحوار والتخاطب، وفي طرق الاستدلال والبحث، والدولة تنفق على الأزهر قدرًا عظيمًا من المال لا تستطيع أن تمنعه عنه ولا تستطيع أيضًا أن تلغي الأزهر، وما يتبعه من معاهد لتوجد بدلها معاهد أخرى، فالحاجة إلى إصلاح الأزهر واضحة لا تحتمل نزاعًا وجدالاً. وإني أقرِّر مع الأسف أن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تَعُدْ بفائدة تُذْكَر في إصلاح التعليم، وأقرر أن نتائج الأزهر والمعاهد تُؤْلِم كل غيور على أمته وعلى دينه، وقد صار من الحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة يقصد بها وجه الله تعالى فلا يبالي بما تُحْدِثه من ضجة وصريخ فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بمثل هذه الضجة. يجب أن يدرس القرآن دراسة جيدة، وأن تدرس السنة دراسة جيدة، وأن يفهما على وفق ما تتطلبه اللغة العربية فقهها وآدابها من المعاني، وعلى وفق قواعد العلم الصحيحة، وأن يبتعد في تفسيرهما عن كل ما أظهر العلم بطلانه، وعن كل ما لا يتفق وقواعد اللغة العربية. يجب أن تُهَذَّب العقائد والعبادات وتنقى مما جَدَّ فيها وابْتُدِعَ، وتهذب العادات الإسلامية بحيث تتفق والعقل وقواعد الإسلام الصحيحة. يجب أن يدرس الفقه الإسلامي دراسة حرة خالية من التعصب لمذهب، وأن تدرس قواعده مرتبطة بأصولها من الأدلة، وأن تكون الغاية من هذه الدراسة عدم المساس بالأحكام المنصوص عنها في الكتاب والسنة والأحكام المجمع عليها والنظر في الأحكام الاجتهادية لجعلها ملائمة للعصور والأمكنة والعرف وأمزجة الأمم المختلفة كما كان يفعل السلف من الفقهاء. يجب أن تدرس الأديان ليقابل ما فيها من عقائد وعبادات وأحكام بما هو موجود في الدين الإسلامي ليظهر للناس يسره وقدسه وامتيازه عن غيره في مواطن الاختلاف، ويجب أن يدرس تاريخ الأديان وفرقها وأسباب التفرق، وتاريخ الفِرَق الإسلامية على الخصوص وأسباب حدوثها. يجب أن تدرس أصول المذاهب في العالم قديمها وحديثها، وكل المسائل العلمية في النظام الشمسي، والمواليد الثلاثة مما يتوقف عليه فهم القرآن في الآيات التي أشارت إلى ذلك. يجب أن تدرس اللغة العربية دراسة جيدة كما درسها الأسلاف، وأن يضاف إلى هذه الدراسة دراسة أخرى على النحو الحديث في بحث اللغات وآدابها. يجب أن توجد كتب قيمة في جميع فروع العلوم الدينية واللغوية على طريقة التأليف الحديثة، وأن تكون الدراسة جامعة بين الطرق القديمة (في عصور الإسلام الزاهرة) والطرق الحديثة المعروفة الآن عند علماء التربية، وعلى الجملة يجب أن يحافظ على جوهر الدين، وكل ما هو قطعي فيه محافظة تامة، وأن تهذب الأساليب ويهذب كل ما حدث بالاجتهاد بحيث لا يبقى منه إلا ما هو صحيح من جهة الدليل، وكل ما هو موافق لمصلحة العباد. يجب أن يفعل هذا لإعداد رجال الدين؛ لأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عامة ودينه عام، ويجب أن يطبق بحيث يلائم العصور المختلفة والأمكنة المختلفة، وإن لم يفعل هذا فإنه يكون عُرْضَة للنفور منه والابتعاد عنه كما فعلت بعض الأمم الإسلامية، وكما حصل في الأمة المصرية نفسها؛ إذ تركت الفقه الإسلامي؛ لأنها وجدته بحالته التي أوصله إليها العلماء غير ملائم، ولو أن الأمة المصرية وجدت من الفقهاء من جارى أحوال الزمان وتبدل العرف والعادة وراعى الضرورات والحرج لما تركته إلى غيره؛ لأنه يرتكن إلى الدين الذي هو عزيز عليها. ولست أنسى أن هذه الدراسة التي أسلفت بيانها دراسة شاقة تحتاج إلى مجهود عظيم وتحتاج إلى رجال قد لا تجدهم في طائفة العلماء، وتحتاج إلى مال يكافأ به العاملون، ولكن سمو المطلب يحملنا على تذليل كل عقبة تقف في طريقه وتوجب علينا السخاء والبذل؛ لأننا نريد إصلاح أعز شيء على نفوس الجماهير، ونريد بهذا الإصلاح تقويم هذه الأمة ونهوضها. وليس من السهل أن يُكَلَّف شخص واحد بهذه الدراسة على اختلاف أنواعها، بل من الواجب أن يفكر في طريقة التقسيم وجعل الدراسة أقسامًا وأنواعًا متميزة. وبعد هذا أستطيع أن أضع أسسًا إجمالية للنظام الذي أبغي أن يكون عليه الأزهر والمعاهد الدينية. 1- يجب أن يقسم التعليم الديني إلى قسمين: قسم يحدد عدد تلاميذه وترتب درجات التعليم فيه وتبين لهم حقوقهم والغايات التي تراد منهم والأعمال التي تسند إليهم من أعمال الدولة، وهذا هو القسم الذي سيكون موضع العناية ومكان الرجاء والأمل، وقسم لا يحدد عدده ولا ترتب درجات التعليم فيه، ولا يكون له شيء من الحقوق في أعمال الدولة، وإنما الغاية من وجوده هي سد حاجة من يريد التفقه في دينه ومعرفة اللغة العربية؛ ليخرج من الجهالة إلى نور العلم ويقنع بالعلم نفسه، وتوضع لهذا القسم نظم لا يُقْصَد منها أكثر من مراقبة الأخلاق، ومن تعليم أفراده تعليمًا صحيحًا بعيدًا عن العقائد الفاسدة موصلاً إلى روح الدين موصلاً إلى خلق قويم، والقسم الأول تجعل درجات التعليم فيه ثلاثا فيكون ثلاثة أقسام: 1- القسم الأولي مدته خمس سنوات. 2- القسم الثانوي مدته خمس سنوات. 3- القسم العالي مدته خمس سنوات. والتعليم في القسمين الأولي والثانوي يكون عامًّا على مثال التعليم في المدارس الأميرية، ويُعَلَّم فيهما كل ما يُتَعَلَّم في المدارس الأميرية ما عدا اللغات، وتعلم فيهما علوم الأزهر الأصلية بالقدر المؤهل لدخول الأقسام العالية تعليمًا لا يكون قوامه حفظ الدروس، وإنما يكون قوامه فهم العلم والمران على البحث والتدليل وتربية الملكات، وقد يُلاحظ أن المدة لا تحتمل تعليم علوم الأزهر، وتعليم ما يدرس في المدارس الأميرية، ولكن هذه الملاحظة تزول إذا لُوحِظَ أن الطالب في المعاهد يؤخذ في سن عالية عن سن التلميذ في المدارس الأميرية، ويغلب أن يكون أَلَمَّ بكث

كيف يتكون المرشدون

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

_ كيف يتكون المرشدون [1] للأستاذ العلامة صاحب الإمضاء (4) في مصر ثلاثة آلاف عالم أو يزيدون، وعشرات الألوف من طلبة العلم، قل أن تجد فيهم من يُحسن الإرشاد، ويستطيع أن يأخذ بزمام القلوب فيقودها إلى حيث سعادتها في حياتها العاجلة والحياة القابلة. وما كان ذلك لنقص في عقول أصحابها أو فساد في فِطَرهم ولكن لم يسلك بهم السبيل السوي الذي سلكه رب العالمين، في تكوين سيد المرسلين وخير المرشدين، محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه. وإن يكن استعدادنا دون استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا مانع من أن نلم أو نقارب فإن الله لا يكلفنا ما لا طاقة لنا به {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (الأعراف: 42) . لذلك فكرت طويل التفكير في الطريق الذي نستطيع به تكوين المرشدين الصالحين غير مُبَال برسوم أو تقاليد فهداني طول البحث وصادق البلاء إلى الطريقة الآتية: إذا أردنا تربية مرشد فعلينا أن نُحَفِّظَه القرآن على قارئ تقي حسن السيرة والخلق، وذلك بعد أن يلم بالقراءة والكتابة والعلوم الأولية التي تفتق الأذهان وتنمي العقول، فإذا ما أتم حفظه علمناه القواعد النحوية مع التطبيق الكثير من آي القرآن ثم ألقينا زمامه إلى عاقل أديب دَيِّن يقرأ عليه كثيرًا من كتب الأدب الشعرية والنثرية ويدربه في أثناء ذلك على الكتابة والخطابة، فإذا ما أجاد الكتابة وانطلق لسانه بالخطابة رجعنا به إلى القرآن وقد حفظه وطالبناه بالإكثار من تلاوته مع تفهم معانيه وتدبر آياته دون أن يستعين بكتاب تفسير أو معلم، اللهم إلا عقله الناضج وفطرته السليمة وأدبه الذي تعلمه فإن لم يكن له في كل أولئك الكفاية فوقف في فهم كلمة غريبة أو معنى آية غامضة فلا عليه إن استعان بكتب التفسير أو معلم أمين، ولكن بمقدار ما يعرف المجهول ويستبين المستور، ثم يعود سيرته الأولى في الاستقلال بالفهم، واستنباط المعاني والحكم والأحكام التي تضمنتها الآيات. وإنما اخترنا تلك الطريق من بين سائر الطرق في تعلم القرآن للأسباب الآتية: أولاً: هذه هي الطريقة التي تعلم بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه كتاب الله المبين، فكانوا يعتمدون على عقولهم ولغتهم الفطرية في تفهم الآيات، وكانوا إذا وقفوا في كلمة أو آية سأل غافلهم ذاكرهم، وعالمهم من هو أعلم منه {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 43-44) ولذلك لما وقف عمر بن الخطاب في كلمة الأب في قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَباًّ} (عبس: 31) سأل عنها فأخبر أنها المَرْعَى. ثانيًا: كتب التفسير محشوة بالخرافات الإسرائيلية والأباطيل المذهبية، ثم هي لم تفسر كتاب الله من حيث هو كتاب هداية يقضي بين الناس فيما فيه يختلفون، بل عمدوا إلى النكات البلاغية والمسائل النحوية فأطالوا الكلام فيها مما حال بين القلوب ومعاني القرآن وهدايته، ثم تراهم يفسرون اللفظ أو الجملة بكل محتملاتها، وإن أبى ذلك الأسلوب أو ناقضه آية أخرى، ثم نجدهم يؤولون القرآن حسب مذاهبهم الفقهية أو نِحَلهم العقيدية، فترى (الكشاف) على جلالته في التفسير، وسبقه الجم الغفير، يرجِّح دائمًا آراء المعتزلة، وينهج في التفسير إلى ما يوافقها، ونرى الفخر الرازي يعزز آراء الشافعية (الأشعرية) ويُزَيِّف آراء الرازي من الحنفية، ونرى النسفي متعصبا لمذهبه، يقضي له في كل شِجَار، وإن كان غيره واضح الحجة قائم البرهان ليس عليه غبار، وإذا نظرت في تفسير النيسابوري وجدته سلك مسلك الباطنية في بيان القرآن، وإن هم إلا فرقة أرادت القضاء على الدين من حيث لا يشعر المسلمون فيفسرون كتاب الله بما لا يتفق واللغة ولا ترشد إليه السنة بل بما يناقضه ويأتي على صرح بنائه من القواعد. من أجل ذلك لا نرى للمرشد بل لكل متفهم للقرآن أن يتعرفه من طريق العكوف على كتب التفسير، بل عليه أن يعتمد على نفسه بعد أن يتحصل على ما رسمنا مضيفًا إليه معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسننه العملية معتمدًا على الكتب الصحيحة التي كتبت بعين النقد والبصيرة ككتاب (زاد المعاد من هدي خير العباد) لابن قيم الجوزية، وإن يكن لا بد من كتاب في التفسير فخيرها في نظرنا (جامع البيان في تفسير القرآن) للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310هـ فإنه تفسير سلفي فسَّر به القرآن من حيث هو كتاب هداية، وكتب قبل أن ترفع الفرق الزائغة رءوسها، وقبل أن تتمكن في النفوس بدعة التعصب للمذاهب التي أضرت بالكتاب والسنة ضررًا بليغًا، على أن كتب التفسير على كثرتها أخذت أحسن ما فيها من تفسير ابن جرير وتفسير الكشاف مضيفة إلى ما أخذته غثاء من القول، وتعصبًا للمذاهب، وتقعرًا في الإعراب، وفي استخراج النكت البلاغية فالعناية بالأصل أولى من العناية بهذه الكتب المحرَّفَة في ألفاظها ومعانيها، والتي كتبت بلسان التعصب والصناعة، لا بلسان الحق والهداية [2] . ثالثًا: ما فهمه الإنسان من تلقاء نفسه وكان نتيجة بحثه وكده يتمكن من قلبه، وقلَّما تذهب به يد النسيان، ثم إن الإنسان بذلك يتعود الاستقلال في الفهم، والاعتماد على النفس، والترفع عن حضيض التقليد، وربما عنَّ له من المعاني ما لم يعن للسابقين، وربما كان في عصره حوادث كشفت عن معاني كثير من الآيات، فإذا كان مستقلاًّ في فهمه، مسترشدًا بأحوال عصره في تفهم القرآن، سهل عليه إدراك هذه المعاني الجديدة، على أني لا أعتبر مفسرًا من يحفظ أقوال غيره دون أن تكون له ملكة فهم في القرآن، فإن هذا إن حول عما يحفظه قليلاً لم يستطع متابعة السير معك؛ لأنه ما تعود الاستقلال في البحث. ذلك ما يتعلق بأصل الدين في تكوين المرشدين، ولكن لن يصلوا إلى حبات القلوب بوعظهم إلا إذا عرفوا الدنيا وسير أهلها وأخلاقهم، لذلك كان من الواجب أن يتعرفوا أحوال المسلمين العامة، وصلتهم بغيرهم من الأمم الأخرى، وأن يختلطوا بالناس ليعرفوا عللهم وأمراضهم، حتى إذا ما وصفوا لهم الدواء أتى على الداء فبرأ بإذن الله، وكأيٍّ من واعظ لعدم تبصره بشئون الناس أضل أكثر مما هدى، وهدم فوق ما بنى، ونفَّر بدل أن قرَّب، فأمثال أولئك دعاة الغواية، لا رسل الهداية، أولئك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. وكما يلزم الواعظ الخبرة بأحوال الناس ينبغي أن يقف على طرف من علوم الحياة التي تبصره بالكون ونظامه، والسنن التي قام عليها بناؤه، حتى يكون لهم من ذلك معين على معرفة أسرار الله في صنعه، وحكمته في تدبير خلقه، وبذلك يستطيع فهم آي القرآن الكونية وتقريبها من أفهام العامة، فيبصر ويبصرون، وبآيات الله يوقنون، وعلى الله قصد السبيل. *** صناعة خطب الجمعة وإلقاؤها بينا لك أن خير الخطب ما كان مصدره نفس الخطيب وشعوره وإحساسه لا نفس غيره ممن مضت بهم القرون، وكانوا في عالم غير عالمنا، ولهم أحوال تخالف حالنا، فمن أراد العظة البالغة، والقولة النافذة، فليرم ببصره إلى المنكرات الشائعة، والحوادث الحاضرة، خصوصًا ما كان منها قريب العهد لا تزال ذكراه قائمة في صدور الناس وحديثه دائرًا على ألسنتهم، أو ذائعًا في صحفهم، وأثره مشاهدًا بينهم، ثم يتخير من هذا الحوادث ما يجعله محور خطابته ومدار عظته ثم ينظر ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة في الموضوع الذي تخيره ويجيد فهمها ويفكر في الأضرار المالية والصحية والخلقية والاجتماعية التي قد تنشأ عن هذه الجريمة التي جعلها موضع عظته، ويحصي هذه الأضرار في نفسه أو بقلمه ثم يبدأ في كتابة الخطبة إن أراد كتابتها مُضَمِّنَها آثار تلك الجريمة وما ورد عن الشارع فيها صائغًا ذلك في قالب خطابي جذاب أخاذ يناسب أفهام السامعين ولغة الحاضرين. هذا إذا أراد التنفير من رذيلة أو الإقلاع عن جريمة ذاع بين الناس أمرها أو طفح عليهم شرُّها، فإن أراد الترغيب في فضيلة أو الحث على عمل خيري أو مشروع حيوي فليفكر في مزاياه تفكيرًا واسعًا مراعيًا الصالح العام دون المآرب الخاصة، ويستحضر ما يناسبه من الآيات والأحاديث وفي الكتاب كل شيء وفي السنة البيان والتفصيل، ثم ينحو في الكتابة النحو الذي بينا، وإياه والسجع المتكلف والمحسنات المرذولة التي كثيرًا ما تخفي الأغراض وتعمي المعاني وتأخذ بصاحبها عن سداد القول وقصده. وليكن كلامه جامعًا محكمًا صادرًا عن قلبه مملوءًا بالعبر والعظات وينبغي أن يكون تفكيره في جو هادئ بحيث لا يحول بينه وبين حديث النفس وحكمة العقل ومراقبة الرب أي حائل، كما يُعْنَى بتصفية نفسه وتهذيبها قبل الشروع في العمل، فيقدم بين يديه قراءة ما تيسر من القرآن الذي هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم مع خشوع وخضوع وتدبر للآيات ويقلل من الطعام والشراب حتى لا تذهب بطنته بفطنته، فيريد القول فيستعصي عليه أو بصدور غثاء أو يكون معين كلامه اللسان فلا يتجاوز الآذان. ثم إذا خط الخطبة فإن شاء حفظها وألقاها، وإن شاء ارتجل ما تضمنته، وهو أحب الأمرين إليَّ حتى لا يكون مقيدًا بعبارة، فإذا ما عَنَّ له حادث جديد أثناء الخطابة كان له من الحرية ما يمكنه من الخوض في الحدث الحادث، وكثير من الحفاظ إذا نسوا جملة وقفوا في الخطبة فلا ينبسون بكلمة فيفقدون الهيبة في نفوس العامة، وما ألزمها للواعظ الناصح، فكان من المصلحة ألا يتقيد بعبارة، بل يتخير من العبارات ما يؤدي المعاني التي وصل إليها بحثه. وإن شاء الخطيب ألا يقيد بالكتابة ما جادت به فكرته بل يرسمه في مخليته ويسطره في ذاكرته، ثم إذا حانت الخطبة استملى الذاكرة فأملته ولم تخنه إن شاء ذلك كان خيرًا وأولى؛ لأنه لا يحتاج إلى قلم يخط به، ولا قرطاس يقيد فيه، بل هو غني بنفسه وذاكرته عن الآلات والأدوات، وخير الغنى غنى النفس، ذلك ما يرعاه في صناعة الخطابة. أما الإلقاء فصوت مُسْمِع، وعبارة بَيِّنَة، ومقاطع واضحة، وتمثيل للحوادث، وسير مع الطبيعة، دون تكلف ممقوت وصوت مكذوب، أو تمطيط في الفاصلة أو غُنَّات غير متقبلة. وإياه أن يأخذه الغرور بعلو المكانة وارتفاع الدرجة، أو يغلب عليه الرياء، والتطلع إلى الثناء، فإن ذلك مرض الواعظ القاضي على سلطانها، المانع من تأثيرها، بل عليه أن يراقب الله وحده ويذكر أنه عليم بخَطَرات نفسه وجولات ذهنه ثم مُحَاسِبه على ما تخفي الصدور، وإذا علم أن ثناء الناس لا قيمة له عند الله ما لم يكن بحق - وأنه لا يحول دون ضر أراده الله بمن يقول ولا يفعل، أو ينطق بغير ما يُضْمِر ويظهر غير ما يبطن إذا علم ذلك سهل عليه أن يدع الناس وثناءهم جانبًا ويولي وجهه نحو الذي فطر السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، فإن ذلكم الجدير بالرعاية والأولى بالرقابة، والحقيق بالرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه، لا من لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، وربما كان ثناؤه بلسانه وبين جنبيه عدو لدود وحسود حقود فالواعظُ العاقل مَنْ مقالُ حالِهِ ساعةَ يتصدى للإرشاد {لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} (الإِنسان: 9-10) , {إِنَّا

يفترون على الله كذبا

الكاتب: سيف الرحمن رحمة الله فاروق (اللورد هدلي)

_ يفترون على الله كذبًا مطاعن المبشرين في صاحب الرسالة الإسلامية لصاحب الفخامة سيف الرحمن رحمة الله فاروق (اللورد هدلي) رئيس الجمعية البريطانية الإسلامية [*] نشرت المجلة الإسلامية (إسلامك رفيو) التي يصدرها الخواجة كمال الدين مقالاً مطولاً بقلم اللورد هدلي الذي ذاع في الناس خبر اعتناقه لدين الإسلام منذ عشر سنين، ردًّا على مفتريات المبشرين الذين لم يكتفوا بعقد مؤتمراتهم ضد العالم الإسلامي، بل هم يوجهون المطاعن البذيئة إلى النبي الكريم، فليشهد التاريخ وليسطر في صفحاته هذه الأعمال التي تدل على عقلية سقيمة وتربية لا تليق أن يتصف بها أتباع السيد المسيح عليه السلام، وهذا هو: (كنت أطلع من وقت إلى آخر على كتابات الإرساليات المسيحية التي يطبعونها بشكل كراسات صغيرة، ويدَّعون فيها أنهم يُدْلُون للقراء بمعلومات قيمة عن الدين الإسلامي وواضع أسسه، وإنني لأعترف وأنا عظيم الأسف بأنني أشعر بذلة عظيمة وخجل شديد عندما أجد أن أحد رجال وطني يضطر إلى الأخذ بالرياء والتمويه والتحريف لكي يعزز آراءه نحو الدين، فإن الدين الحق يعلم الناس العدل والآداب وعدم الافتراء والكذب؛ وإنه ليُذهِل أن يرى القارئ إلى أي مدى تسير التعصبات الدينية المسيحية. وانظر إلى وجه الصورة الآخر: ألا تدهشك رؤية مظاهر روح التسامح والحسنى التي يقررها القرآن، وذلك الهدوء الذي يلاقي به المجتمع الإسلامي الحملات القوية العديمة القيمة التي تحمل عليه وعلى ديانته باسم عيسى الكريم أحد أنبيائه؟ إنني لا أجد أي جور أو تحريف في أعمال هذه النبي الكريم، وإنه وإن كانت هناك كلمات شديدة يدفع بها المسلمون عن كرامتهم إلا أنهم لم يلجأوا إلى مثل هذه التهم الملفقة كي يكون منها أهم أسلحتهم التي يهاجمون بها خصومهم. وها أنا ذا ذاكر الآن بعض قطع من كراسات وضعت خصيصًا لتشويه أخلاق المصلح العربي العظيم، وسيرى كل شخص ذي عقل سليم مسيحيًّا كان أم مسلمًا أن طلب الانتقام هو السلاح الوحيد الذي يهاجمون به الإسلام، يريدون بذلك أن يطفئوا تلك الشمس النيرة، وأن يحجبوا أشعتها الوضاءة وليس في تلك الكراسات حجج ولا إشارات إلى الحقائق التاريخية وإنما هي تقارير مثيرة متوالية تدل على عقلية كاتبيها السخيفة وذوقهم السقيم. ويرى القارئ هنا بعض أمثلة مقيئة وإنني أعتذر إليه لذكر هذيان كهذا يَمُجُّهُ الذوقُ السليم ويحمرُّ منه وجه الفضيلة، وعذري في ذلك أنه يجب على كل مسلم أن يعلم مقدار تعصب هذه الشرذمة الضالة، وأن يرى هذه الهجمات المتتالية التي توجه منذ زمن بعيد ضد المسلمين الذين لا تسمح لهم حسناتهم وصبرهم وطول أناتهم وحسن ذوقهم بأن يقابلوهم بمثل هذه السفالة المنكرة المبتذلة التي نهى عنها المسيح الذي يعتقد هؤلاء المتدينون الأسافل أنه ربهم ومولاهم. من ذلك ما نشرته جريدة (نور آفشو) وهي جريدة تبشيرية أسبوعية تطبع في لوديانا قالت: (الوحي الذي نزل على.. . أتي من لدن الشيطان) . (المسلمون في الواقع حُمُر وأعمالهم كأعمال الجحوش) . (المسلمون مربوطون بحبال الشيطان من رقابهم) . (كل نساء بلاد العرب المتزوجات زانيات) . (خلاص المسلمين مبني على ارتكاب الخطايا وجعلت الأعمال الطيبة عندهم كوسيلة للحرمان، أما الخطيئة فقد نظمت كفرض وحيد لحياتهم الطبيعية) . (أسس محمد أمة جعلت ارتكاب الخطايا، وجعلت الأعمال الطيبة [1] يتعمدون الكذب ويسفكون الدماء ويرتكبون السرقة وقطع الطريق ومصيرهم إلى جهنم جميعا) . وكتب الدكتور ت. هويل راعي الكنيسة الإنجليزية بلاهور: (مِن محض رغبته أو غوايته الشيطانية شكر محمد الأصنام وسجد لها) . (إنه ظل خاضعًا للشيطان والسحر) . (وقال مخاطبًا المسلمين بتعيير وتوبيخ؛ ذلك لأن قوادكم مجرمون شريرون وعقولهم ضعيفة) . وكتب القس ج. هراوءوس الأستاذ في اللاهوت (هناك أشياء كثيرة تدل على أن.. . مجرم أثيم) . (الطمع والغضب كانا من الشرور القوية الغريزية في ... ) . (إن.. . مفتقر إلى الإخلاص) . (إن.. . لا يستطيع أن يتخلص من جهنم بأية واسطة وسيلقى في جهنم كباقي المخطئين) . وكتب القس روكلين: (أصحاب محمد يوصفون بأنهم سفاكون دماء وظلمة متوحشون ولصوص غشاشون وفاعلو كل أصناف الآثام) . وكتب القسم السير وليم مبور: (قد سجن.. . في داخل بخار جهنم إلا أن كل ذلك حصل من جراء ارتكابه الجرائم التي ظل يمارسها إلى أن مات) . (القرآن مجموعة من الحكايات اليهودية والمسيحية المسروقة من التوراة وغير الموثوق بها) . قال اللورد بعد نقل ما ذكر: أنا أفهم أن للقلم حرمة وأفهم أنه مرآة حامله، فإذا أثم القلم فيما يسود من بياض القرطاس دل على أن لصاحبه نفسًا لا تسمو كثيرًا عن نفوس المجرمين، وكل ما في الأمر أنه طليق وأنهم سجناء ... فالذي يحاول أن ينال من غيره ببذيء القول لا ينال إلا من نفسه، والذي يريد أن يطعن غيره بفُحْش الكلام لا يطعن إلا صدره. فإذن يفهم من أقوال المبشرين أنهم ضالون مضللون وإذا كان هذا هو الأدب لديهم فماذا تركوا لأوباش الأحواش (المواخير) وأبناء الأزقة؟ إن تعاليم القرآن الكريم، قد نفذت ومُورِسَتْ في حياة محمد صلى الله عليه وسلم الذي أظهر من أشرف الصفات الخلقية ما لا يتسنى لمخلوق آخر إظهارها فكل صفات الصبر والثبات والحلم والصدق كانت ترى في خلال الثلاثة عشرة سنة أثناء جهاده في مكة هذا، ولم تتزعزع ثقته بالله تعالى وأتم كل واجباته بشمم وشهامة. كان صلى الله عليه وسلم مثابرًا في عمله لا يخشى لومة لائم؛ لأنه كان يدرس المسئولية التي ألقاها الله تعالى على كاهله، وقد أثارت تلك الشجاعة التي لا تعرف الجفول - تلك الشجاعة التي كانت حقًّا إحدى مميزاته وأوصافه العظيمة - إعجاب واحترام الكافرين، وأولئك الذين كانوا يحاولون قتله، ومع ذلك فقد انتبهت مشاعرنا وزاد إعجابنا له في حياته الأخيرة أيام انتصاره بالمدينة عندما كانت له القوة والقدرة على الانتقام واستطاعته الأخذ بالثأر ولم يفعل من ذلك شيئًا بل عفا عن كل أعدائه. إن العفو والإحسان والشجاعة والحلم كل ذلك كان يرى منه في خلال تلك المدة، وإن عددًا عديدًا من الكافرين اهتدوا إلى الإسلام عند رؤيتهم ذلك. عفا بلا قيد ولا شرط عن كل هؤلاء الذين اضطهدوه وعذَّبوه. آوى إليه كل الذين كانوا قد نفوه من مكة وأغنى فقراءهم وعفا عن ألد أعدائه عندما كانت حياتهم في قبضة يده وتحت رحمته. تلك الأخلاق اللاهوتية التي أظهرها النبي الكريم أقنعت العرب الكافرين بأن حائزها لا يمكن إلا أن يكون مرسلاً من عند الله وأن يكون رجلاًَ هاديًا إلى الصراط المستقيم، وإن تلك الأخلاق المُضَرِيَّة الشريفة حولت كراهيتهم المتأصلة في نفوسهم إلى محبة وصداقة متينة. فكل هذه المحاولات العقيمة والوسائل الدنيئة التي يقوم بها المبشرون لتحقير شريعة النبي العظيم بالبذاءة آنًا، وبالسفاسف المتضمنة كثيرًا من طمس الحقائق آنًا آخر لا تمسه بأذًى ولا تغير عقيدة تابعيه قيد أصبع. وليعلم هؤلاء الذين اتخذوا مثل هذه الأكاذيب ذريعة وأحبولة ليقتنصوا المسلمين أن الكلام البذيء والكذب كانا أكره شيء في نظر أعظم معلمي الناصرة. لا أظن أبدًا أن المسلمين اجتهدوا في حين من الأحيان أن يحشروا أفكارهم ومعتقداتهم الدينية في حلوق الناس وصدورهم بالقوة والفظاعة والتعذيب، وإذا كان هناك مثل هذه الحالات فحينئذ يمكننا أن نقول: إن مرتكبي هذه الآثام ليسوا بمسلمين مطلقًا؛ لأننا لا نستطيع أن نقر بأن القرآن الشريف يصادق على أفعالهم. إن محمدًا كان قانونيًّا ومحاربًا وعندما امتشق الحسام هو وتابعوه لم يكن ذلك إلا للدفاع عن أنفسهم فقط، ولم يعتدوا قط على أحد، والسيرة النبوية تثبت لنا ذلك. نحن نعتبر أن نبي بلاد العرب الكريم هو ذو أخلاق متينة وشخصية بارزة حقيقية وزنت واختبرت في كل خطوة من خطى حياته، ولم ير فيها أقل نقص أبدًا. وبما أننا باحتياج إلى نموذج كامل يفي بحاجاتنا في معترك هذه الحياة فحياة النبي المقدس تسد تلك الحاجة. إنما حياة محمد صلى الله عليه وسلم كمرآة أمامنا تعكس علينا التعقل والسخاء والشجاعة والإقدام والصبر والحلم، والوداعة والعفو وجميع الأخلاق الجوهرية التي تتكون منها الإنسانية وترى ذلك فيها بألوان وضاءة وجلاء شديد. خذ أي وجه من وجوه الآداب تجده موضحًا في إحدى حوادث حياته وقد وصل محمد إلى أعظم قوة وأتى إليه مُقَاوموه ووجدوا منه رحمة لا تُجَارَى. وكان ذلك سببًا في هدايتهم ونقائهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة. إن الهمة العظيمة التي لا تَعْرِف الكلل أو الوهن التي كان يبذلها النبي الكريم لمنع عبادة الأصنام قد أثارت معارضة مريعة ضده، فلم تكن هناك قبيلة من قبائل العرب بدون معبود صنمي، وقد أشعلت كل قبيلة لظى الحرب كي تؤيد أصنامها وتحميها حصل ذلك كله حينما كان النبي بالمدينة، وفي الواقع فقد قضى هنالك أيامًا أشد من تلك التي قضاها في مكة، ولما كان أعداؤه يشنون الغارة عليه في كل آن، ومن جميع الجهات أخذ في مقاتلتهم أو إرسال رجاله لصدهم عن سبيلهم فكانوا طورًا ينتصرون وتارةً ينهزمون، وكانت كل حادثة تخلق فرصة مناسبة للنبي الكريم؛ ليظهر مكنونات أخلاقه العظيمة التي لو جمعها الإنسان ونسقها لوجد العالم منها لنفسه قوانين وشرائع تتفق مع كل زمان ومكان. لم يشهر محمد صلى الله عليه وسلم السلاح إلا حين الحاجة القصوى لحماية الحياة البشرية، ولربما يدعي بعض المبشرين أن الإسلام استعمل السيف في نشر الدين، ولكن لحسن الحظ عجز ألد أعداء الإسلام القادحين عن أن يأتوا بأقل دليل أو مثل من الأمثلة التي أثرت فيها الحرب على هداية قبيلة واحدة أو شخص واحد. إن هذه الوقائع كانت سببًا لإظهار كرم أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم الذي امتلك كل قلوب مواطنيه، والذي كان أشد تأثيرًا في الهيئة من أي شكل من أشكال الإكراه، وقد أظهرت تلك المعاملة النبيلة السامية التي كان يعامل بها النبي المنهزمين عجائب وغرائب أدهشت العالم أجمع. فهل آن لهؤلاء المبشرين أن يسكتوا بعد أن ظهر الحق وزهق الباطل، وهل آن لهم أن يكفوا عن هذه المفتريات التي تسقط من قيمتهم في المجتمع الإنساني؟ ولا عجب أن كذب المبشرون أو افتروا على الله كذبًا فكم تظاهر اللص بالأمانة، والداعر بالاستقامة، والزنديق بالتدين. ولكن لا عجب فقد غاض من وجههم ماء الحياة، وقد قال النبي العربي: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) . ولو كانوا يستحيون من أنفسهم، أو على الأقل من الناس، لما أقدموا على هذا الادعاء الباطل والافتراء الواضح، ولما باتوا مضرب المثل في الدس والتدجيل، وعلمًا في التفريق والتضليل؟ ولكنك ترى أشد الناس إلحادًا أكثرهم تظاهرًا بالورع، وهم في الحقيقة أمهر في النصب والاحتيال من الضاربين بالرمل واللاعبين (بالوَدَع) . (المنار) بينا مرارًا ما علمناه بالاختبار الطويل من أن طغمة المبشرين بالنصرانية مؤلفة في الأغلب من أفراد من المرتزقين بدينهم الذين لا يؤمنون به ولا بغيره من الأديان لذلك يستحلون افتراء الكذب المحرم في جميع الأديان، وهم في كل قطر يظهرون من كذبهم وبهتانهم وسفاهتهم بقدر ما تسمح به حال حكومتها، وحسب المسلم أن يرى أن هؤلاء الأرذلين هم مثال النصراني

وفاة سيد أمير علي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفاة سيد أمير علي أحد قادة التفكير الإسلامي وحامل دعوة الإسلام في الغرب القاضي أمير علي الهندي عالم من أكبر أعلام الإسلام في الشرق والغرب لا يحتاج فيهما إلى تعريف أو وصف، اختاره الله إلى جواره والإسلام في أشد الحاجة إلى أمثاله العظماء في علمهم وأخلاقهم وخدمتهم إليهم، وقد كنا ننتظر أن نرى ترجمة لحياته الحافلة من علماء الهند، ولكنا لم نظفر إلا بهذه الترجمة التي دبجها يراع الأستاذ محمد عبد الله أفندي عنان المصري ونشرت بجريدة السياسة، وهذه هي: نعت إلينا الأنباء الأخيرة المرحوم (مولانا) سيد أمير علي المشترع والفيلسوف الهندي الأشهر فطويت بوفاته صفحة حافلة من أنفس صفحات التفكير الإسلامي في عصرنا، وفقد الإسلام إمامًا من أحدث أئمته، وأرسخهم قدمًا في دراسته، ومجاهدًا باسلاً قضى زهاء نصف القرن في الذَّوْد عن مبادئه وأحكامه، ولعل مفكرًا مسلمًا لم يعمل في عصرنا لِبَثِّ دعوة الإسلام العلمية والاجتماعية قدر ما عمل أمير علي برائع بيانه وناهض حجته وطريف نقده وتحليله فقد خاطب أمير علي الغرب بلغة غربية وعمد إلى شرح مبادئ الإسلام الروحية والشرعية والاجتماعية بأساليب الغرب العلمية، فكان أول مسلم استطاع أن يخرج للغرب صورة صادقة من هذه المبادئ تضطرم بإيمان مسلم شربت نفسه روح الإسلام الحقة ولا تشوبها مع ذلك ذرة من التشيع أو التحامل، وأن يعرضها في ثوب علمي محدث يتذوقه الذهن الغربي ولا ينكره الذهن الإسلامي، وكان أول مسلم استطاع أن يخرج للغرب أجمل وأدق صورة من المجتمع الإسلامي القديم ومدنيته وتفكيره. ويرجع ذلك بالأخص إلى نشأة أمير علي وتكوينه الفكري، فهو سليل أسرة عربية تنتمي إلى آل البيت هاجرت في أواسط القرن الثامن عشر من فارس إلى الهند واستقرت في موهان من إقليم أود (أيودهيا) في شمال الهند، وفي موهان ولد سيد أمير علي في 6 إبريل سنة 1849 من أب مسلم (هو سعادت علي) وأم إنجليزية (هي إيزابيل أدا) ودرس أولا في كلية هوجلي في كلكوتا ونال أعلى درجات في التاريخ والأدب، ونال شهادة العالمية من كلية عليكرة الإسلامية، ثم ذهب إلى لندن ودرس القانون، ونال إجازته سنة 1873 واشتغل بالمحاماة بادئ بدء، ثم عين أستاذًا للشريعة الإسلامية في كلية الرياسة في كلكوتا، فمديرًا لمدرسة الحقوق بها، فكبيرًا لقضاة كلكوتا، وكان قد ظهر بكفايته وبيانه في كل هذه المناصب فعين في سنة 1890 مستشارًا بمحكمة بنغالة العليا، فكان أول هندي جلس في هذا الكرسي، وفي سنة 1904 اعتزل القضاء، وعاد إلى إنجلترا وأقام في لندن وكان اسمه قد ذاع يومئذ ولفت أنظار ولاة الأمر في الهند وفي إنجلترا بخدماته القضائية، وكفايته الفقهية، ومقدرته النادرة في الكتابة بالإنجليزية، فعين في سنة 1909 مستشارا ملكيًّا في المجلس المخصوص، وانتدب للعمل في لجنته القضائية فكان أيضًا أول هندي ظفر بهذا المنصب السامي. بيد أن التدرج في مناصب الدولة ومراتبها الرفيعة ليس أعظم ما في حياة سيد أمير علي، فإن جانبها الباهر هو الإنتاج الفكري والنشاط السياسي اللذين سلخ أمير علي فيهما زهاء نصف قرن، وقد اختص فتوته وكهولته بالإنتاج الفكري ولم يأخذ قسطه من النفوذ السياسي إلا في شيخوخته بعد أن تبوأ بظفره في عالم التفكير والكتابة مكانًا أسمى، ولم يعن أمير علي بالتفكير والكتابة إلا في ناحية واحدة هي الإسلام مبادئه وأحكامه وتعاليمه وتاريخه: ففي هذا الميدان برز أمير علي وكان الفقيه البارع والفيلسوف المحدث والكاتب المبدع، وكان أول ما أخرج في هذا الباب رسالة نقدية في حياة النبي وتعاليمه [1] كتبها سنة 1872 وهو فتى لا يجاوز الثالثة والعشرين فألفتت إليه الأنظار في الهند، والظاهر أنه آنس منذ البداية في نفسه كفاية خاصة لتحقيق تلك الأمنية التي جاشت بها نفسه، وخصها بتفكيره وبيانه، وهي عرض الإسلام على الغرب في ثوبه الحقيقي والذود عنه مما يُرْمَى به ظلمًا في المجتمعات الغربية، وقد وفق أمير علي في تحقيق هذا الغاية أعظم توفيق وأبدع فيما وفق إليه، فأخرج للغرب بالإنجليزية سلسلة كتبه النفيسة في شرح مبادئ الإسلام وأحكامه ولم يقتصر فضله في ذلك على تدوين الأحكام الشرعية وتنظيمها وشرحها كما فعل في مؤلفه الضخم (الأحوال الشخصية في الأحكام الشرعية) [2] اللذين أَمْلَى وضعهما عليه ما شاهده أثناء حياته القضائية في معاهد بنغالة الفقهية ومحاكمها الشرعية من غموض وتعقد في درس الشرعية الإسلامية وتطبيقها على يد قضاة من الإنجليز قَلَّمَا يدركون روح التشريع الإسلامي. لم يقتصر فضله على ذلك، ولكنه عمد إلى غاية وَعِرَة شاقة هي شرح مبادئ الإسلام الروحية من الوجهة العلمية وتحليلها من الوجهة الاجتماعية والمقارنة بينها وبين مبادئ الأديان الأخرى وإلى حياة النبي العربي وتصوير خلاله ومناقبه وشرح تعاليمه السياسية، فأخرج أقوى كتبه وأعظمها (روح الإسلام أو حياة محمد وتعاليمه) [3] وهو مؤلف ضخم يعرض فيه بالنقد والتحليل لترجمة النبي وأصول الإسلام وفرائضه وفكرته في الألوهية وأحكامه في الأحوال الشخصية والاجتماعية وفكرته في البعث وروحه في القومية والسياسة والعلم والأدب والفرق الإسلامية وفلاسفة الإسلام وفيه يبلغ ذروة الافتنان والإجادة في دقة التصوير، وسلامة التدليل والتعليل، وروعة البيان والعرض، ولا سيما في مقدمته التي هي قطعة من أقوى وأبدع فصول التوحيد والكلام، أما ناحية الإسلام الأخلاقية فقد تناولها أمير علي في كتاب آخر هو: (خلال الإسلام) [4] الذي يعتبر تتمة لكتاب (روح الإسلام) . ولم يقف أمير علي عند هذا العرض الباهر لمبادئ الإسلام وتعاليمه، وهذا الوصل الجريء الراجح بين العلم والدين بل شاء أن يقدم إلى الغرب صورة صادقة من المجتمع الإسلامي ذاته خلال العصور المتعاقبة، وأن يقرن الصور المعنوية التي قدمها من الإسلام وروحه وأصوله بصورة مادية من سير الدول الإسلامية فوضع كتابه (مختصر تاريخ المسلمين) [5] وفيه يتناول تاريخ الدول الإسلامية دولة فدولة، وإذا ذكرنا تشعب الموضوع واتساعه كان وصف المؤلف كتابه (بالمختصر) حقًّا من حيث الإيجاز في سرد الحوادث، ولكن كتاب أمير علي يقدم للقارئ صورة من أبدع الصور التي وضعت في تاريخ الإسلام ويَبُذُّ الكتب الموسوعة بالطرافة والحداثة وحسن الترتيب ودقة التحليل، وفيه يبدو أمير علي المؤرخ المستنير والناقد المتمكن، فيسرد تاريخ الإسلام ودوله في ضوء النظريات الحديثة، سواء من حيث الدولة أو السياسة، ويُعْنَى بالناحية الاجتماعية والفكرية فيقدم عنهما في نهاية كل دولة لمحة قوية ممتعة، وتراه فيما يسرد وينقد يضطرم بروح إسلامي حق لا تشوبه شائبة تعصب أو تحامل يحمد في مواضع الحمد، ويحمل في مواضع الذم، وأسلوبه في كل ذلك عذب قوي، وليس من المبالغة أن نقول: إنه كثيرًا ما يسمو إلى منافسة جيبون وماكولي خصوصًا في وصف الحوادث العظمى كالحروب الصليبية، وغزو التتار لبغداد، وسقوط غرناطة، والخلاصة أن مختصر أمير علي في تاريخ الدول الإسلامية من أنفس ما كتب في هذا الموضوع، وفي اعتقادنا أنه وُفِّق أعظم توفيق في إدراك الغاية التي قصدها بوضعه وهي (التعريف بأحدث الشعوب التي تركت في العالم آثارًا لا تُمْحَى والتي ما زالت أوربا الحديثة تتغذى من تراثه) . هذه هي الخدمات الجليلة التي أداها أمير علي في سبيل نشر الدعوة الإسلامية والذَّوْد عنها بسلاح الحقائق والأدلة والمنطق السليم، وقد سبق أمير علي وعاصره مستشرقون تجردوا لبحث الإسلام وتاريخه وبذلوا في هذا السبيل جهودًا نبيلة مثمرة بلا ريب، ولكن أمير علي يفوقهم جميعًا بكونه قد تحرَّر من أسباب التحامل التي تُرَى ماثلة في كثير من مباحثهم وأدرك روح الإسلام ونفذ إلى أعماق العواطف والخلال الإسلامية فكان بذلك خير أهل للمهمة التي كرس لها تفكيره وبيانه. وكان للسيد أمير علي مقامه في الزعامة السياسية في الهند، وكان يعمل أثناء الأعوام الطويلة التي سلخها في قضاء الهند وإدارتها على تحقيق أمنية عزيزة له هي تقدم مواطنيه مسلمي الهند، سواء من الوجهة المادية أو المعنوية، وقد بذل في ذلك السبيل جهودًا شتى، وكان لهذه الجهود نصيب كبير من الفوز أثناء أن كان عضوًا بمجلس التشريع الأمبراطوري ما بين سنتي 83 و 85 على أنها لم تحمل ثمرتها العامة إلا في عهد اللورد مورلي في سنة 1906 حيث رأت الحكومة البريطانية أن تُدْخِل طائفة كبيرة من الإصلاحات الدستورية والتشريعية في حكومة الهند تحقيقًا لأماني المعتدلين وتهدئة للاضطرابات الوطنية التي وقعت يومئذ. على أن أمير علي كان في جهوده السياسية بالنسبة للإسلام دوليًّا أيضًا، ففي جميع الخطوب التي كانت تدهم الإسلام أو الأمم الإسلامية كان صوت أمير علي يرتفع في بريطانيا وفي أوربا، وكان آخر صيحة أرسلها في هذا السبيل نداءه المشهور الذي وجهه أيام الحرب الريفية إلى فرنسا، وناشدها فيه أن تسالم شعبًا صغيرًا مجاهدًا، فالعالم كله يعرف أنها تستطيع سحقه بأيسر أمر، ولكن التسامح في احترام الأماني القومية لهذا الشعب الصغير الباسل، يسجل لفرنسا في صحف الفروسية والشهامة، فكان هذا النداء قطعة مؤثرة من البيان والحكمة التي عرف بهما أمير علي كل حياته. هذه هي صفحة وجزء من حياة هذا المفكر المسلم الكبير وآثاره الجليلة، ففقده رُزْء للعالم الإسلامي كله، ولكن للعالم الإسلامي أن يتعزى عن خطبه الفادح بما أودعه أمير عَلِيّ صفحات آثاره الخالدة من عميق حكمته وصائب منطقه وسحر بيانه تغمده الله برحمته وأفسح له رحب جنانه.

المرأة المسلمة ونهضتها الحاضرة

الكاتب: أحمد جميل الرافعي

_ المرأة المسلمة ونهضتها الحاضرة لحضرة الفاضل صاحب الإمضاء لا أكذب القارئ أني قليل التفاؤل بهذه النهضة النسائية التي نجم قرنها في خلال المظاهرات السياسية عام 1919 ضعيف الثقة بنتاج هذه الحركة التي لا أجد فيها أثرًا للبركة المزعومة، اللهم إلا إذا بقينا نتمسك بالقشور ونهمل اللباب أو تظل حياتنا مليئة بالأوهام لا تطل عليها الحقائق. لا أتعرض للحجاب؛ إذ لم يبق من حجاب، ولا أبحث في السفور فقد تخطينا السفور من جميع نواحيه، ولكني أريد أن أنفذ إلى صميم النهضة فأحلل ما فيها من خير وشر وغَثّ وسمين. يزعم المتكلمون في شئون النهضة النسائية في مصرنا سواء كانوا من الرجال أو النساء أن المرأة المصرية نهضت، فقد كثر المتعلمات وشرعن يظهرن بمظهر المتمدنات، حتى صارت فيهن العالمة الفاضلة والخطيبة المُفَوَّهَة والكاتبة الجريئة، والمدارس الرسمية وغير الرسمية تُخَرِّج في كل عام خريجات حصلن على نصيب من العلم غير قليل، فهذه النهضة، وإن تكن كالطبل يدوي من بعيد إلا أن لها شأنها في حركة التقدم الإنساني المستمر أليس الرمد خيرًا من العمى؟ هذه كل صفات النهضة النسائية التي صار بعض أعضائها يطالبن بالانتخابات السياسية وبعضهن يحضرن المؤتمرات النسائية العالمية والبعض الآخر يطلبن مساواة المرأة بالرجل مساواة تجعل العاقل يضحك حتى يستلقي على قفاه. وإذا ألقيت نظرة صادقة على جميع هذه المدعيات العريضة تجدها جوفاء أو قل بتواضع: إنها مجموعة قشور خالية من اللباب. إن نهوض المرأة كنهوض الرجل يجب أن يكون مبنيًّا على أساس ثابت وضعت أحجاره المتينة وضعًا محكمًا بمصلحة الوطن الحقيقية وإلا كان هذا النهوض ككل بناء لا أساس له. ولأجل أن نختصر لك الطريق فلا ندعك تتوغل في أعماق البحث نذكر لك أن أساس هذه النهضة النسائية المكذوبة المدارس، وأنت تعلم أن برامج المدارس وخصوصًا للبنات المسلمات ليس فيها من العلم الصحيح علم واحد، فكل العلوم سطحية خصوصًا ما كانت علاقته بالحياة العملية علاقة مباشرة، ولسنا في حاجة إلى أن نضرب لك الأمثال فوزارة المعارف المصرية لا يوجد فيها رجل واحد يدعي بحق أن هذه الوزارة وفقت حتى الساعة إلى برنامج يستطيع منفذوه أن يرفعوا به مستوى الفتاة المسلمة وكل ما وضعوه هو مجموعة برامج تخرج فتيات لا يعرفن العلم ويحتقرن الجهل، يقدرن العمل ولا يعرفن كيف العمل في أبسط وظائف المرأة في الحياة، وأما المظاهر الفارغة وهي عبارة عن بعض الرطانة باللغات الإفرنجية والعزف على آلة البيانو أو معرفة شيء من الجغرافية الناقصة والتاريخ المُشَوَّه والأدب المقلوب، فهذا كله من أسباب خروج الفتيات من حظيرة الجد والعمل إلى فضاء الفوضى والانصراف إلى المظاهر الفارغة التي يستغلها الأوربي بملابسه وأزيائه وأصباغه التي رمانا بها من عهد بعيد، وأغرقنا فيها من عهد قريب. ليس في مصر نهضة نسائية ولا شبه نسائية؛ لأن الفتاة التي تحمل اليوم أعلى الشهادات المصرية لا تعرف شيئًا عن فن تربية الأولاد، وهو أسمى وظائف المرأة قديمًا وحديثًا، وخصوصًا بعد أن نفذ العلم في كل شئون الحياة، فالفتاة التي لا تستطيع إدارة منزلها على قواعد الاقتصاد الصحيح والنظافة الصحيحة الحديثة، والعمل بيدها في مطبخها عملاً أسمى في مجموعه من عمل الطاهي أو الطاهية الأميين لم تستفد من علمها ولم تنهض حقًّا، والفتاة التي لم تتعلم في المدرسة حقيقة دينها والفضائل التي تعصمها من الرذيلة على اختلاف أنواعها لا تستطيع أن تهيئ للأمة أبناء صالحين لأمتهم ودينهم بل لم تنهض، بل لم تشرف بعدُ على قمة النهوض ولا على قاعدته، ثم المرأة التي لا تحسن معاشرة الزوج بل تنفره من الحياة الزوجية، وقد خلقت لتساعده عليها لم تنهض. ثم أختصر لك الطريق فأسألك أيها القارئ الحكيم هل تمشي في شوارعنا شوارع القاهرة؟ أجل إنك تمشي كل يوم تستعرض هذه الجماهير النسائية، ولا سيما اللواتي ينم مظهرهن على أنهن حملن شهادات المدارس، ولا سيما العالية، أتُراك تجد في مظاهرهن شيئًا من مظاهر الحياة الصحيحة اللهم ما خلا الصحة في البعض التي جاءتهن عفوًا وبلا عناء؟ ألم تر التبرج الذي لا تسيغه حتى الهمجية؟ ألا ترى الآداب التي سفلت حتى ذكَّرتنا عهدًا من أسوأ عهود التاريخ؟ ثم ما هذا الإسراف الذي يقصم ظهور الرجال ولا يدل إلا على الجهل حتى في طبيعة الإسراف؟ أتظن يا سيدى القارئ أن كل هذا الإسراف في الملبس والمركب هو من مظاهر الثروة الصحيحة؟ كلا إن أكثر ذلك يستدينه الرجل المغلوب على أمره، وقد يستدينه بالربا الفاحش. فأين النهضة المزعومة إذا كانت المرأة اكتفت منها بالإسراف والتبرج وخلع احترام الرجل وإهمال الدار والانصباب على العرض الزائل والتمسك بالأوهام الكاذبة؟ أما المرأة الأمية التي كنا نعرفها منذ 25عامًا، والتي شكونا إلى الله من جهلها المطبق، فقد كانت تدبر البيت إدارة تلتئم في كثير من الأحوال مع مستوى الأمة، وتربي الأبناء تربية فيها أثر كبير للأخلاق الفاضلة والرجولية الصادقة، والإيمان القوي، وكانت تقتصد كل الاقتصاد فكان معظم مصروفها في بلدها ولا تنفق إلا بحساب. فإذا قسنا نتاج المتعلمات بنتاج الجاهلات فهل نرى أثرًا لغير النهضة المقلوبة؟ أنا لا أنكر أن للرجال المسلمين دخلاً عظيمًا في هذا التأخر المسمى نهضة، ولكني لا أود البحث في الأسباب الآن، وإنما أحاول أن أقرر أن نهضة المرأة مكذوبة وأن الإسراف في تسميتها نهضة فيه من الضرر على المرأة والوطن ما لا يخفى على البصير. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد جميل الرافعي

السبرتزم أو استحضار الروح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السبرتزم أو استحضار الأرواح هل يُثبت العلم وجود الأرواح وإمكان مخاطبتها؟ أحدث الآراء في هذا الشأن أشرنا في الصفحة العلمية الماضية إلى مسألة مخاطبة الأرواح، وأظهرنا العلاقة التي بينها وبين التنويم المغناطيسي، والحقيقة أن اعتقاد وجود الأرواح قديم جدًّا يرجع إلى الزمن الذي نشأت فيه العقائد الدينية، وفي الكتب المنزلة إشارات متعددة إليه، إلا أنه لم يتخذ شكله الحاضر إلا في أواسط القرن الفائت كما سيجيء ذلك. ولا حاجة إلى القول بأن أصحاب مذهب (السبرتزم) يعتقدون أن روح الإنسان تفارق الجسد عند الموت، وتمضي إلى مكان مجهول، ولكنها لا تقطع علاقاتها بهذا العالم، بل تعود إليه من وقت إلى آخر في حالات معينة، وتتجلى لأفراد معينين من الناس يُعرفون (بالوسطاء) وليس من السهل تجليها للوسطاء دون غيرهم ولكن سببه (على ما يدعي أصحاب هذا المذهب) هو استعداد أولئك الوسطاء استعدادًا خاصًّا يمكنهم من الاتصال بالأرواح ويسهل وقوعهم في غيبوبة استهوائية إذا قضت الضرورة بذلك. والقائلون بوجود الأرواح وبإمكان استحضارها ومخاطبتها لا يسلمون من بعض الخلط والوقوع في المتناقضات، فبينما هم يقولون بأن الأرواح غير مادية تراهم يقولون: إنها مؤلفة من شبه مادة هي الأكتوبلازم أو أن مادة الأكتوبلازم تنبعث منها فتتخذ شكل الإنسان الذي كانت تسكن جسده، ومن البديهي أن هذه الدعوى لا تخرج عن حَيِّزِ النظريات التي لا تنطبق على مبدأ علمي. ولسنا نريد الآن أن نفند مذهب (السبرتزم) أو ننفيه، وإنما نحن نعتقد أن جميع ما كتبه أصحاب هذا المذهب والعلماء الذين يؤيدونه لا يكفي لإثبات نظريتهم من وجه علمي، وأن انتصار فريق من مشاهير العلماء (للسبرتزم) لا يعتبر برهانًا على صحته، نعم إن وليم ستيد وهولوكاين والسر أوليفرلودج والدكتور تليارد وغيرهم هم من العلماء الذين يشار إليهم بالبنان، وقد حاولوا إثبات نظرية (السبرتزم) بكل ما فيهم من قوة، ولكن مساعيهم لا تقنع جمهور العلماء، والرأي السائد بين هؤلاء هو أن العلم لم ينجح حتى الآن في إثبات دعوى (السبرتزم) وهذا لا يمنع من تمكنه من إثباتها في المستقبل. ومما يدعو إلى الأسف ظهور الكثيرين من الدجالين والمشعوذين الذين حاولوا إيهام الناس أن في وسعهم استحضار الأرواح ومخاطبتها وكثيرًا ما أقاموا الحفلات الخاصة لذلك فتمادوا في الشعوذة وخداع الناس، وكان لانكشاف خداعهم أسوأ أثر في النفوس من جهة مذهب (السبرتزم) مع أننا لا ننكر أن بين العلماء فريقًا سعى لإثبات هذه المذهب بكل جد وإخلاص. نبذة تاريخية أميركا مهد مذهب السبرتزم قلنا: إن اعتقاد وجود الأرواح قديم جدًّا يرجع إلى الزمن الذي نشأت فيه العقائد الدينية، وقد كان هذا الاعتقاد شائعًا بين أقدم الأمم، ولا سيما بين المصريين الذين كانوا يدفنون موتاهم ويطمرون معهم ما قد تحتاج إليه روح الميت من سلاح وطعام في أثناء تجوالها في عالم الأرواح، وكان القوم يعتقدون أن روح الإنسان تعود إلى هذا العالم من وقت إلى وقت لتتزود بما تحتاج إليها في رحلاتها النائية. وكان الاعتقاد بإمكان الاتصال بالأرواح شائعًا بين اليهود أيضا كما يؤخذ من رواية ساحرة (عين دور) في التوراة وخلاصتها أن الملك (شاول) لجأ إلى تلك الساحرة لتستحضر له روح النبي صموئيل لعلها تشفع به عند الله؛ لينصره على أعدائه فاستحضرت له الساحرة روح صموئيل وأنذرته بسوء مصيره. على أن مذهب (السبرتزم) أو استحضار الأرواح لم يتخذ شكله الحالي إلا في أواسط القرن التاسع عشر، وكان بدء ذلك في أميركا إذ ادَّعت أسرة رجل يدعى فوكس (والأسرة مؤلفة من الرجل وزوجه وابنتيهما) بأن أصواتًا وحركات غريبة كانت تزعجهم في بعض الليالي، ثم ادعت إحدى الابنتين، وهي كاترين فوكس بأنها كانت تسمع في الليل فرقعة معينة من غير أن ترى أثرًا لمنشىء تلك الفرقعة، وفي ذات ليلة خاطبها صوت مجهول، وقال: إنه روح أحد الذين سكنوا ذلك المنزل، وبعد أيام ذهبت كاترين للإقامة مع أختها المتزوجة، وفي أثناء إقامتها هنالك بدئ بوضع (السبرتزم) على أساسه الحديث، ولعل كاترين وأختها هي أول (الوسطاء) الذين ظهروا في الصور الحديثة و (الوسيط) هو الصلة بين العالم الروحي والعالم المادي، ووجوده شرط لازم لمخاطبة الأرواح على ما يقول أصحاب هذا المبدأ؛ لأن للوسطاء كما سبق القول استعدادًا خاصًّا للاتصال بالأرواح نظرًا إلى سهولة وقوعهم في غيبوبة استهوائية. ومنذ اتخذت أيام أسرة فوكس نظرية (السبرتزم) شكلاً خاصًّا من مقتضياته تجلي الروح للوسطاء في أحوال معينة يصحبها دائما أصوات (نقرات) على الأبواب أو الموائد وتحريك موائد مستديرة على وجه معين لا نعلم ما هي الحكمة في اختياره دون غيره كما أننا لا نعلم ما هي الحكمة في أن الأرواح تختار للتخاطب أحرفًا هجائية تركب منها كلمات معينة بدلاً من أن تنطق بما تريده بصراحة وإيجاز. وليس ذلك فقط بل إن (الوسطاء) اصطلحوا على وضع (قاموس) للأصوات والحركات التي يدعون أنها تصدر من الأرواح، فاصطلحوا على تفسير صوت النقرة الواحدة على الباب أو النافذة أو المائدة بمعنى نعم، والنقرتين بمعنى (لا) والثلاث النقرات بمعنى آخر، وهلمَّ جرًّا. انتشار مذهب السبرتزم والأحوال التي ساعدت على نشره وما كاد مذهب السبرتزم يظهر وينتشر في أميركا حتى وصل إلى أوربا أيضا فأخذ (الوسطاء) الأميركيون يقصدون إلى إنجلترا لنشر مذهبهم ولإقامة حفلات استحضار الأرواح، وساعد على إذاعة شهرتهم ونشر تعاليمهم ما في الناس كافة من الميل إلى غوامض الطبيعة وإلى معرفة كل ما وراء العالم المنظور، كما أن المحزونين والمصابين بفقد أحبابهم يحنون أبدًا إلى مخاطبة أرواح أولئك الأحباب والاطمئنان عليهم في عالمهم غير المنظور. ثم إن العقائد الدينية كلها تؤيد وجود الأرواح وتقول: إنها تخلد في عالم غير عالم المادة، وقد ساعدت تلك العقائد على نشر مذهب (السبرتزم) وعليه فليس عجيبًا أن ترى اليوم هذا المذهب منتشرًا في أنحاء كثيرة، وله أنصار كثيرون حتى من أقطاب العلماء مع أن العلم لم يستطع إثبات هذا المذهب بوجه قاطع حتى الآن، ولا نزال نذكر أن إحدى الصحف الإنجليزية عرضت في السنة الماضية جائزة مالية كبيرة لمن يستطيع إثبات (السبرتزم) إثباتًا علميًّا لا شك فيه. وعهدت إلى لجنة من كبار علماء إنجلترا في فحص دعوى كل (وسيط) يتقدم لنيل تلك الجائزة وبعد مباحث شاقة قام بها العلماء وبعد فحص جميع (الوسطاء) الذين تقدموا إليهم حكموا بأن مذهب (السبرتزم) لا يزال بعيدًا عن كل ما يثبته إثباتًا علميًّا قاطعًا، وذلك مع اعترافهم بعجزهم عن تعليل بعض الأمور والمشاهد التي تتم على يد (الوسطاء) والتي يصعب وصفها بأنها من قبيل الخداع، نعم إن هذه الوصف ينطبق على أعمال بعض (الوسطاء) ولكن من الظلم تعميمه على جميعهم. الأرواح والبيوت المسكونة رأي السير أوليفر لودج في تلك البيوت ولا يخفى أن بين الأرواح والبيوت المسكونة علاقة شديدة، وعامة الناس يؤمنون بوجود الأرواح، وترى معظمهم ينفرون من سكنى تلك البيوت نفورًا شديدًا سببه الخوف من الأعمال المزعجة التي تعملها الأرواح في تلك البيوت. ومن الغريب أن فريقًا من العلماء، وعلى رأسهم السير أوليفر لودج من كبار فلاسفة الإنجليز يصدقون وجود البيوت المسكونة، ويعللون ذلك تعليلاً قائمًا في الظاهر على مبدأ علمي إلا أنه نظري ينقصه التطبيق العملي، وخلاصة هذا التعليل هو أن الأرواح وهي غير مادية قد تتغلغل في المادة وتقيم بها مع الاحتفاظ بحريتها في الانفصال عنها متى شاءت، فإذا فرضنا أن إنسانًا مقيمًا بمنزل معين قتل غيلة فقد تتغلغل روحه (على ما يقول السير أوليفرلودج) في المواد المصنوع منها المنزل في الحجر والخشب والحديد إلخ ثم تنفصل عنها في حالات معينة. وقد شرحنا هذه النظرية في صفحة علمية ماضية فلا حاجة للعودة إليها الآن، وإنما نقول: إن إثبات هذه النظرية من وجه علمي ليس من الهنات الهينات. لماذا ينكر الماديون نظرية استحضار الأرواح ومخاطبتها على أن جميع الجهود التي بذلها أنصار مذهب (السبرتزم) لإقناع العلماء بصحة مذهبهم قد ذهبت أدراج الرياح وذلك للأسباب الآتية: (1) أن العلم لم يثبت وجود الروح وجودًا حقيقيًّا حتى الآن ولا خلودها بعد الموت. (2) أن الاختبار أثبت أن كثيرًا من الذين يدعون القدرة على استحضار الأرواح كانوا كاذبين محتالين. (3) أن الحفلات التي يقيمها مستحضرو الأرواح لا تقنع العلماء من وجه علمي لا سيما أن معظمها متماثل متشابه كتحريك الموائد المستديرة والنقر على الأبواب نقرًا اصطلحوا على تفسيره بأحرف هجائية معينة. (4) عدم معرفة الحكمة في أن الأرواح لا تظهر إلا في الحالات التي يختارها مستحضروها من وجود الظلام الحالك والوسيط والموائد المستديرة إلخ. وهناك أسباب أخرى تحول دون تصديق العلماء الماديين لإمكان استحضار الأرواح، وهم يعتقدون أن مستحضريها هما فريقان لا ثالث لهما، فإما أن يكونوا مشعوذين مخادعين أو أن يكونوا سليمي النية مخدوعين فيما يعتقدونه من إمكان حضور الأرواح أو استحضارها، والفريق الأخير هم (الوسطاء) الذين يسهل إيقاعهم في غيبوبة مغنطيسية والإيحاء إليهم - وهم على تلك الحال - بأن يجيبوا عن بعض المسائل التي تجول بأفكار الحاضرين، ومستحضرو الأرواح لا ينكرون أن وسطاءهم يسقطون أحيانًا في غيبوبة استهوائية أي في سبات مغناطيسي، ويدعون بأن ذلك لازم لحضور الأرواح. وقد اعتاد سواد الناس أن يتصوروا الروح شبحًا غريبًا يبدو هنيهة ثم يتوارى عن الأبصار، وعلى هذه الفكرة بنى الشعراء والخياليون القصص الخاصة بالأرواح (راجع رواية شكسبير التي ورد فيها ذكر الأرواح) فاستحضار الروح إلى الذهن بصورة تختلف عن تلك الصورة ليس مما تأنس إليه النفس، نعم إن هذا الاختلاف ليس دليلاً على بطلان مذهب (السبرتزم) ولكن لا تنس أن (الروح) التي يمثلها لنا شكسبير وأمثاله هي أقرب إلى العقل من (الروح) التي يستحضرها أنصار (السبرتزم) بصورة حركات مزعجة ونقرات على الأبواب وعلى الموائد المتحركة. ولسنا ننكر أن كثيرًا من المشاهد التي يعرضها أنصار مذهب (السبرتزم) لاستحضار الأرواح هي في ظاهرها خارقة للطبيعة يصعب تعليلها أو اكتشاف أثر الخداع أو الشعوذة فيها، ومع ذلك فهي غير كافية لإقناع العلماء بصحة مذهب (السبرتزم) . مَثَل من استحضار الأرواح هل يمكن تعليل أو اكتشاف أثر الشعوذة فيها؟ ومما يجدر بالذكر أن الدكتور تليارد هو من أشهر علماء الإنجليز، وهو عضو بالجمعية العلمية الملكية التي يعتبر أعضاؤها صفوة العلماء الإنجليز، وقد نشر هذا العالم مقالته في مجلة (نايتشير) الإنجليزية (انظر العدد الصادر في 18 أغسطس الماضي) وصف فيها حادثًا يعتقد أنه يثبت نظرية استحضار الأرواح إثباتًا قاطعًا، وقد رأينا أن نورد هنا خلاصة مقالته المشار إليها، قال: حاولت في خلال الست السنوات الماضية أن أدرس الظواهر الخارقة المتعلقة بمسألة استحضار الأرواح لأرى هل من الممكن إثباتها علميًّا؛ لأن في إثباتها دليلاً قاطعًا على حقيقة الخلود التي طال عليها الجدل، وكنت في أول الأمر شديد الارتياب في مسألة الخلود أكاد أنكرها

رسالتان طريفتان في توجيه حديثي الذباب

الكاتب: محمد سعيد السيوطي

_ رسالتان طريفتان في توجيه حديثي الذباب وخطفة الجن بمباحث الطب والعلم والحديث بسم الله، الحمد لله وحده، وصلى الله على مَن لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه. عن جدة في 21 المحرم سنة 1347 جناب العلامة المحقق والفهامة المدقق منشئ مجلة المنار السيد محمد رشيد رضا المحترم بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أبدي أنني اطلعت على الجزء الأول للمجلد التاسع والعشرين من مجلة المنار الغراء الصادر سنة 1346 ورأيت الأبحاث المحررة في الصحيفة (48، 49، 50، 51) بخصوص حديث الذباب وحديث جابر وما وقع من الارتياب في صحتهما للظن بأنهما مخالفان لما عليه العلم والفن، ولما كان الواقع والحقيقة بخلاف ما ذُكر جئت بهذه المقالة مثبتًا فيها صحة الحديثين الشريفين المذكورين، ومبينًا أهميتهما من الوجهة العلمية والفنية الصحية وتطبيقاتها العملية توخيًا لإظهار الحقائق، فأرجو درجها في أول جزء يصدر من مجلتكم الغراء، واقبلوا مزيد الاحترام سيدي. ... ... ... ... رئيس الصحة البحرية والكورنتينات الحجازية ... ... ... ... ... ... ... الدكتور محمد سعيد السيوطي الرسالة الأولى بسم الله الرحمن الرحيم (تصحيح حديث الذباب) نص الحديث الشريف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) إن ظاهر معنى هذا الحديث كان معارضًا لما كان عليه الفن إلى بضع سنين ذلك الذي دفع الطبيب المرحوم محمد توفيق صدقي لتضعيفه والوقوع في الخطأ؛ لأن العلوم والفنون الطبية عقلية وتجريبية غير مستندة إلى قواعد ثابتة، بل عُرْضَة للتبدل والتغير في كل آن وزمان، ولذا ندم من حكَّم العقل في الشرع وسلك طريقة المعتزلة في التفسير والتأويل وانحرف عن طريقة السلف الصالح المثلى؛ لأن الشرع فوق العقل. لقد أثبتت التجارب الفنية الحيوية الحديثة في هذا الحديث الشريف معجزة جديدة أماطت اللثام عن أسرار غامضة، ونكات لطيفة وفوائد جمة أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وذلك أنه كشفت منذ بضع سنوات وظيفة الذباب الطبيعية وفوائده العظمى للإنسانية خصوصًا في إطفاء جائحات الهيضة أي (الكولرا) فإنه تبين غب البحث والتنقيب الدقيق في مختبرات الجراثيم (لابوراتوار) أن وبريون الكولرا الداخل في القناة الهضمية في المصابين بالهيضة الذين دخلوا في دور النقه يفرز جسيمات صغيرة من نوع (الآتريم) تسمى (باقتربوفاج) أي مفترسة الجراثيم أو آكلة الباكتريات، فهذه الجسيمات عضويات مستقلة حيوية متصفة بالتكاثر، وبتمثيل المواد الغذائية المختلفة عنها في تركيبها وتحويلها لعناصرها (آدابتاسيون) فهي حائزة ثلاثة أوصاف حيوية التكاثر والتمثيل والاعتياد على الأوساط، وهذا لا يترك شبهة في أنها متصفة بالحياة، وأنها ليست من أنواع المختمرات المنحلة. وهذه المفترسة للجراثيم صغيرة الحجم جدًّا يقدر طولها بـ 20 25 ملي ميقرون تمُر من المراشحات الجراثيمية لشامبرلان وغيره حال كون الباكتريا المعروفة لا تقدر على النفوذ منها، وقد أمكن تلوينها بطريقة ترسيب ذرات الفضة عليها ورؤيتها وتحقق بالتجارب التي أجراها مندوب رياسة الصحة البحرية والكرنتينات المصرية في الهند لإجراء التدقيقات الفنية والتنقيب من أسباب ظهور جائحات الكولرا العديدة في الهند وطرز انطفائها وانتهائها وطريقة التداوي والتحفظ منها ومنع انتشارها واستيلائها، والمندوب المشار إليه من خيرة الأساتذة يدعى دريل قدم تقريره في 12 ديسمبر سنة 1927 ذلك التقرير المسهب الذي أوضح فيه ما وُفِّقَ لكشفه من خصائص وخواص الباقتريوفاج، وذلك نتيجة تتبعات دقيقة مع زملائه الجراثيمين والأطباء في الهند فأماط اللثام عن الحقائق الفنية الخفية، وأثبت أن الباقتريوفاج هو العامل الوحيد في إنماء جائحات الكولرا، وأنه يوجد في براز الناقهين من المرض المذكور، وأن الذباب ينقله من البراز إلى آبار ماء الشرب فيشربه الأهلون، ومن حين ظهور الباقتربوفاج القوي في ذباب البلاد ومائها تنطفي جذوة الكولرا وينقطع دابر الوباء بسرعة، وأنه حصل على الباقتريوفاج القوي من جسم الذباب والحصانة الحقيقية تتسرب إلى الأهلين بسبب دخوله في أمعائهم بشرب الماء أو بتناول الأغذية التي ينقله إليها الذباب. وقد تمكن الأستاذ دريل من استنبات الباقتريوفاج وتنميته وكان يأمر المريض بتناول جرعة ماء من 10 سانتيمترات مكعبة فيها سنتيمتران مكعبان من زراعة الباقتريوفاج القوي وجرعها دفعة واحدة ثم يأمر بتناول جرعة ثانية من 4 سم من زراعة الباقتريوفاج ممزوجة ب 40 س م ماء يتناول منه كل ساعتين ملعقة كبيرة، فلا يلبث أن يشفى في مدة لا تتجاوز يومين، وكان يضع في بئر القرية 40 سنتيمترًا مكعبًا من زراعة الباقتريوفاج القوي فإذا شرب منه أهلها زالت جائحة الكولرا في يومين أو ثلاثة أيام من القرية. ومن جملة تجاربه التي أجراها أنه كان يضع قطرة واحدة من محلول فيها سنتيمتر مكعب من براز نَاقِهٍ من الكولرا يحتوي على الباقتريوفاج بعد ترشيحه في مائة سنتيمتر مكعب من زراعة وبريون الكلولرا القوي فيقتلها ويذيبها تمامًا في برهة قصيرة وتصبح الأنبوبة العكرة التي كان فيها زرع الكولرا شفافة تمامًا، ثم يأخذ من الأنبوبة التي أميتت جراثيمها ما يقدر في المليون واحد من السنتيمترات مكعب فيضعها في أنبوبة ثانية فيها مائة سهم من زرع وربون الكولرا فتذيبها أيضًا في بضع ساعات وتصبح الأنبوبة شفافة، وأثبت أنه لو وضع جزء من بيليون جزء من السنتيمتر المكعب منه على زرع الكولرا الذي مقداره (100) س مكعب فإنه ينمو فيه ويتلفه ويذيبه ويجعله براقًا، وقد أجرى تجاربه العديدة العملية في الهند فأتت باهرة كما أن هذه التجارب ذاتها قد نجحت في البرازيل على باسيل الدينتاريا الحادة، وهي معمول بها إلى اليوم في مداواة الدوسنطاريا الحادة، وكان يشفي المصاب في ظرف 6 ساعات و2 و24ساعة، والأطباء الإيطاليون استعملوه في مداواة حمى التيفوئيد والبارانيفوئيد فحصلوا على نتائج حسنة سنة 1924، وهذا أثبت أن عامل الشفاء الحقيقي العضوي في شفاء الكولرا والدوسنطاريا الحادة الباقتريوفاج، وقد حصل الأستاذ دريل على باقتريوفاج وحيد وكثير المعادل (بولي والان) ضد أنواع جراثيم الأستافيلوكوكس الأبيض والذهبي والليموني فكان الباقتريوفاج عامل الوقاية الحقيقي. وقد ورد في مجلة فارما سوتيكال جورنال التي تصدر بلندن عدد 3359 في 17 مارس سنة 928 نقلاً عن مجلة التجارب الطبية عدد 1037 54 عام 1927 تحت عنوان الباقتريوفاج من ذباب البيوت ما نصه: لقد أطعم الذباب الذي يألف البيوت من زرع الجراثيم المولدة للأمراض كولتور [1] وبعد حين من الزمن اختفى أثر الجراثيم التي في الذباب وماتت كلها؛ وحصل في الذباب مادة قاتلة للجراثيم تسمى باقتريوفاج، والمؤلف يرى أنه إذا هيأ خلاصة من الذباب في محلول ملحي فيسيولوجي فإن الخلاصة المذكورة تحتوي على مادة الباقتريوفاج القوية ضد أربعة أنواع من الجراثيم المولدة للأمر، وأنها أيضًا تحتوي على مادة نافعة أخرى ليست من نوع الباقتريوفاج، ولكنها نافعة للدفاع العضوي ضد أربعة أنواع من الجراثيم المرضية غير المذكورة انتهى. ولعل العالم الطبي كلما زاد التنقيب وامتد البحث عن خواص الذباب يأتينا بمكتشفات جديدة وخصائص عديدة نافعة أيضًا ومما تقدم يتبين بجلاء أن الذباب عامل من العوامل الخادمة لظهور الباقتريوفاج ببلعه الجراثيم وإتلافها وبحصول الباقتريوفاج في جسمه كما أنه عامل بالواسطة ينقلها من براز الناقهين إلى المياه، والأطعمة فتعم الحصانة، ويحصل الشفاء بذلك، وينقطع دابر الجائحات المرضية الوبائية المخيفة والمهددة للنوع البشري بالدمار. إن ذباب البيوت معروف عنه أنه يقع على البراز والمواد القذرة والمحلات الوسخة العفنة، وكل هذه مملوءة بالجراثيم المولدة للأمراض فاختيار الذباب لها يدل على أنه موظف بالانتخاب الطبيعي لأكل هذه الجراثيم التي ينتج عنها حصول الباقتريوفاج في جسمه وموظف لنقل الباقتريوفاج رأسًا، وقد ينقل الجراثيم والباقتريوفاج معًا فبأكله الجراثيم اجتمع فيه الداء وبحصول الباقتريوفاج في جسمه اجتمع فيه الشفاء، وكذلك بنقله الجراثيم والباقتريوفاج المهيأ في براز الناقهين اجتمع في الذباب الداء والشفاء، فهذا معنى ما ورد في عَجُزِ الحديث الشريف (فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء) وأما ما ورد في صدر الحديث الشريف (إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه) فالغمس هو لأجل أن يدخل الباقتريوفاج للشراب وقد بيَّنا أن أثرًا زهيدًا منه يكفي لقتل جميع الجراثيم المماثلة أي التي نشأ عنها الباقتريوفاج والقريبة منها , وحيث ورد في نص الحديث (فليغمسه) أي فليغمس الذبابة كلها أي جسم الذبابة ومنه جناحاها ولم يرد فليغمس جناحيها مما دل على كون الداء والشفاء بالجناحين إنما هو أمر اعتباري ولفظي لا يفيد التخصيص. والأمر بغمس جسمها يؤيد ذلك، وهو لأجل تطهير الشراب من الجراثيم، وذلك بإدخال الباقتريوفاج للشراب من جسم الذبابة فالفن قد أثبت وجود الباقتريوفاج في جسم الذبابة، وهذا يطابق تمام المطابقة للأمر الوراد في الحديث، ولو كان للأجنحة فقط خصوصية الداء والشفاء لكان ورد الأمر بغمسها وحدها، ولهذا لم يبق ثمة ضرورة للتنقيب عن الجناحين، والمعروف أن الجناحين كغيرهما من أعضاء الذبابة يحملان ما يلامسهما من جراثيم أو باقتريوفاج، سواء كانا مجتمعين أو منفردين وعليه فالفن لا ينفي وجود الداء والشفاء فيهما، وبهذا حصلت المطابقة التامة بين الحديث الشريف والفن الراهن وتحققت صحة الحديث ويستنتج مما تقدم: (1) أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم منذ ألف وثلاثمائة سنة ونيف عن الداء محمولاً على الذباب، وكذا عن الشفاء مع أن العين لا ترى شيئًا من ذلك، ولم يكن لعلم الجراثيم أثر ولا للآلات المكبرة وجود هو معجزة كشفت عن سر الداء والشفاء في آن واحد، وأشارت إلى الجراثيم وإلى الباقتريوفاج مع أن فن الجراثيم مضى عليه نصف عصر، ولم يصل إلى معرفة الباقتريوفاج إلا في هذه السنين الأخيرة. (2) اعتماد المداواة بالباقتريوفاج، وقد بيَّنا أن الباقتريوفاج يطفئ جائحات الكولرا بأسرها والناقل له هو الذباب. (3) إثبات منفعة الذباب ووظائفه الطبيعية، ولذا لم يرد إبادة الشراب إذا وقع فيه الذباب أو تعقيمه أو طرح الجزء الذي يقع فيه من الغذاء كما في حديث الفأرة، وسر تخصيص تطهير الغذاء الذي يقع فيه جاء لكونه عاريًا عن هذه الخواص، وكذا الفن فإنه لم يثبت للفأر سوء المضرة إلى يومنا هذا، ولو أن علماء الإفرنج الجراثميين اطلعوا على نص هذا الحديث الشريف لكان تذلل لهم اكتشاف الباقتريوفاج منذ أكثر من ثلاثين سنة كما وقع لمن أمَّ البلاد الشرقية منهم ورأى طريقة المحافظة على الجبن بغمسه في الزيت فأخذ عن الشرقيين هذه الطريقة واستعملها في تنمية وزرع الجراثيم المتعيشة بلا هواء؛ إذ قد جاء هذا الحديث الشريف ببلاغ مهم في علم تدبير الصحة ومداواة الأسقام وكبح جماح الأمراض الوبائية وإطفاء جذوتها ومداواتها والتوقي منها كما أقره أ

الوطن القومي لليهود

الكاتب: عن جريدة الاتحاد

_ الوطن القومي لليهود [*] نشرت جريدة المسلم (أوتلوك) الهندية تحت هذا العنوان كلمة للكاتب الذي يوقع مقالاته باسم ليجانوس هذه ترجمتها: إن المادة الرابعة من عهد فلسطين الذي خوَّل عصبة الأمم حق اغتصاب تلك البلاد من أصحابها العرب الشجعان الأحرار، تذكر كتلة قذرة تسمى الهيئة الصهيونية التي اعترف بها كوكيلة عن (اليهود وبأن لها حق إبداء النصح والاشتراك في إدارة فلسطين في المسائل الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما قد يكون له أثر في تكوين الوطن القومي لليهود، وفي مصالح الجمهور اليهودي الفلسطيني، على أن تكون تلك الكتلة دائمًا تحت إدارة ونفوذ المصالح الحكومية لتساعدها، وتشترك معها في تعمير البلاد والنهوض بها) . والمادة المذكورة تقول بأن الهيئة الصهيونية (ستتخذ الخطوات اللازمة بمشورة الحكومة البريطانية لتحقيق اتحاد جميع اليهود الذين يعتزمون المساهمة في إنشاء الوطن القومي اليهودي) . وقد أشرت في مقال خاص سابق حول هذا الموضوع إلى أن إنشاء (الوطن القومي اليهودي) في فلسطين يُخْفِي بين طياته غرضًا آخر هو أن يخلق في تلك البلاد مقاطعة بريطانية جديدة لتكون بمثابة مركز للجيوش في عربستان، وهذه الحقيقة جاءت ضمن الكتاب الذي وضعه الكولونيل ودج وود الراديكاني عن فلسطين، أما فيما يختص بجمهور اليهود فإنه لا يريد ولم يرد قط استثمار فلسطين؛ لأن الأجيال التي نفي اليهود خلالها من تلك البلاد جعلتهم من أهالي جميع أقطار العالم، وإذا كانوا يشعرون بشيء من الحنو نحو (فلسطين الذهبية) فإنه لا يتجاوز العاطفة الروحية وما تهتاجه من الأغاني التي تثير المثل العليا، ولا يهمهم مطلقًا الوجهة الجغرافية والسياسية في تلك البلاد. إن نظام فلسطين هو حركة سياسية قامت بها الإمبريالية البريطانية بمعاونة أصحاب رءوس الأموال من اليهود لمجرد مصلحتهم الخاصة. *** الاشتراكية في عهدنا الحاضر ووجه أحد المسلمين إلى (ليجانوس) السالف الذكر خطابًا جاء فيه: سيدي ليجانوس: إن الاشتراكية في عهدنا الحاضر قد وعظت الزعماء المسلمين في الوقت الملائم، فهناك ما يحمل على الاعتقاد بجواز إخراج المسلمين من عقائدهم بواسطة التيارات القوية التي تدفعها (الوطنية) إن الغريق يتشبث بعود من القش وثمة شعور مشترك بين جميع الذين يعادون إنجلترا للترحيب بمن يتقدم إليهم بالدواء الشافي، ولكن على المسلمين أن يذكروا بأن غايتهم الأولى هي الإسلام، فلهم إذا خُيِّرُوا بين عقيدتهم وبين وطنهم فيجب عليهم أن يختاروا عقيدتهم الدينية (الإسلام) من غير تردد ولا تريث. إن البلشفية تغمر الهند اليوم بدعاياتها، وكذلك أصحاب رؤوس الأموال من البراهمة من أمثال جواهارلال الذين يجاهرون بعقائدهم الاشتراكية المتطرفة لسبب واحد هو أنهم يظنون أن عليهم أن يرحبوا بعدو العدو، ولكن المسلم الحقيقي لا يستطيع أن يكون جزويتيًّا يجب علينا أن نبحث أولاً عن مصلحة عقيدتنا ثم عن مصلحة وطننا بعد ذلك. ما هو مسلك البلاشفة نحو الأديان؟ إنهم يصرحون علانية بأن العالم لن ينجو من الأوطوقراطية وحكم الفرد حتى يعزل الأوطوقراطي الأعظم (الله جل جلاله) وهم لم يستريحوا إلى مجرد تكوين هذه النظرية، ولكنهم قوَّضوا أركان الكنائس وشنقوا رجال الدين والآن وقد عفوا على النصرانية في بلادهم فإنهم يتعقبون الإسلام، وقد جاء في (البرافدا) وهي الصحيفة الرسمية للسوفيات أن الحكومة قررت تكوين جبهة متحدة مؤلفة من شباب الاشتراكيين المتطرفين من السوفياتيين وجمعيات النساء لمحاربة العقائد الدينية في الجمهورية التركية، وقد نبَّههم إلى أن (العقيدة الإسلامية يجب القضاء عليها؛ لأن السوفييت يعتبرونها الحصن القوي للسلطة الروحية) . وقد شفعت الحكومة السوفيتية هذه النصيحة الحارة بإيراد مثل مما يجب القيام به فقالت: (إن دور العالم الإسلامي التي لا تزال باقية في داغستان وكازاكخان وتركستان والقرم وأزربيجان الواقعة تحت الحكم السوفيتي يجب القضاء عليها قضاء مبرمًا كما يجب الضغط بكل قوة على الصحف الإسلامية، وقد جرى كل هذا في وقت نهضة ملك الأفغان الأخيرة وقيامه برحلته. يجب على المسلمين في هذه البلاد، وفي جميع أقطار العالم أن يواجهوا هذه الجبهة، وما تَعُدُّهُ لتقويض أركان الإسلام بجبهة متحدة، ومن غير مراعاة للاعتبارات الوطنية خشية أن تعمى أبصارهم دون النظر إلى حقيقة هذه الكارثة.

الاحتفال بعمارة المسجد الأقصى، مع حفلة المولد النبوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بعمارة المسجد الأقصى مع حفلة المولد النبوي في 12 ربيع الأول نشرنا في الجزء الرابع الماضي من المنار البيان الذي نشره المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين في شأن هذه العمارة والوعد بالاحتفال بها في ذكرى المولد النبوي الشريف. وقد دُعِيَ إلى حضور هذا الاحتفال جم غفير من وجهاء المسلمين في البلاد المختلفة والأقطار الدانية والنائية مع الدعوة العامة لمن شاء من أهل البلاد، وكان صاحب هذه المجلة ممن دُعِيَ فاعتذر بمرضه آسفًا لما يفوته من حضور جمع إسلامي مختلط كبير قلما يجتمع في غير بيت الله الحرام، حيث لكل أحد شاغل عما سوى أداء المناسك وحقوق المشاعر العظام. وما جاء الموعد إلا وكانت الوفود الإسلامية قد اجتمعت وامتزجت بأهل البلاد فكان بعضهم يموج في بعض في منتهى البهجة والسرور، وقدر عددهم بخمسة وعشرين ألفًا. وقد زينت إدارة المجلس الإسلامي الحرم الثالث الشريف بالأنوار الكهربائية، وكذا مكان المجلس ومدرسة روضة المعارف التابعة له، ووضعت هنالك الألعاب النارية البديعة الأشكال، التي كان يكتب بعضها في لوح الجو آيات القرآن، فكان الجماهير يتمتعون بها جلة ليلة المولد الشريف على المشهور. وفي ضحوة ذلك اليوم كان الاحتفال الحافل المقصود بالدعوة فافتتح بتلاوة آيات من الذكر الحكيم، ثم ألقى صاحب السماحة السيد محمد أمين الحسيني رئيس الاحتفال خطبة الرياسة المتضمنة لتاريخ هذا العمل العظيم، وهذا نص ما يتعلق بالعمارة منه نقلا عن جريدة الجامعة العربية الغراء التي تصدر في القدس الشريف. خطبة رئيس الاحتفال ننشر فيما يلي الخطاب الذي ألقاه سماحة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في المسجد الأقصى يوم الافتتاح بعمارة قبة هذا المسجد على وفود البلاد الإسلامية فبعد أن ألقى سماحته كلمة مفصلة عن المسجد الأقصى من الوجهة التاريخية، أوضح الأعمال التي قام بها المجلس من أجل العمارة، وهذا نص القسم الثاني من الخطاب المتعلق بالعمارة. برنامج المجلس الإسلامي في العمارة والإصلاح بالمسجد الأقصى والحرم الشريف موقع بيت المقدس الجغرافي ومكانته الدينية العظيمة في نظر الملل الثلاث قد جعلا بحيث يتبوأ مركزًا دينيًّا ساميًا بين سائر البلاد المقدسة، ويصبح حافلاً بالآثار الدينية والتاريخية من إسلامية وغير إسلامية مما أدى لأن يكون مطمح أنظار السائحين والزائرين من كل صقع وبلد يؤمونه جماعات وأفرادًا بمقاصد مختلفة. وإن للحرم الشريف بما فيه من أماكن مباركة وآثار نفيسة المكانة الأولى بين جميع معابد هذا البلد المقدس لما عليه تلك المباني والآثار من هندسة بديعة وزخرفة رائعة بلغت أقصى حد الإتقان والبراعة، على أن هذه الآثار والمباني القيمة والقائمة في ساحة الحرم الشريف الواسعة البالغة مساحتها (650 و260) متر مربعًا أي 283 دونمًا قد سبب لها الإهمال (وفي جملتها المسجد الأقصى كما ذكرنا) تصدعًا وتشوهًا أدى إلى خطر داهم في كثير منها مما حمل المجلس الإسلامي بفلسطين على أن يسارع في مشروع عمارتها متخذًا لذلك البرنامج الآتي: أولاً: عمارة المسجد الأقصى عمارة ثابتة متينة. ثانيًا: تجديد نوافذ الجص الملونة في أماكن مختلفة والقاشاني والرخام في القسم الخارجي لمسجد الصخرة المشرفة. ثالثًا: عمارة المآذن الأربعة التي حول الحرم الشريف. رابعًا: إزالة الأبنية التي أُحْدِثَتْ جهلاً، واسْتُكْمِلَتْ من أعلى باب القطانين أجمل باب أثري للحرم الشريف، ومن فوق الأروقة التي تَحُدُّهُ من الشمال والجنوب. خامسًا: فتح أروقة الحرم التي سُدَّت في أزمنة سالفة مختلفة واتُّخِذَتْ غُرفًا. سادسًا: هدم سبعة أروقة منها بسبب تصدعها الخطر وبناؤها من جديد. سابعًا: عمارة المدرسة الإسعودية شمال الحرم الشريف وإصلاح واجهتها المبنية على الطرز العربي الأنيق واستعمالها دار كتب للمسجد الأقصى. ثامنًا: استرجاع جميع المدارس والأماكن التي تحيط بالحرم الشريف والتي استولي عليها، وإعادتها وقفًا على المشروعات الخيرية كما كانت واستعمالها في ذلك. تاسعًا: تنظيم الساحات الخالية في الحرم الشريف على وجه يتناسب مع جمال آثاره وجلال مكانته وإنشاء أحواض للماء موافقة للنظام الصحي يستفاد منها للوضوء بشكل كافل لراحة المصلين. عاشرًا: تأسيس متحف إسلامي يحفظ الآثار الإسلامية من الضياع. حادي عشر: توسيع أبنية مدارس البنات الإسلامية ودار الأيتام وكلية الروضة المجاورات للحرم الشريف وإنشاء قاعة واسعة للمحاضرات. هذا، وقد نفذ قسم غير قليل من هذه المشروعات، وبقي قسم تبذل الجهود لتحقيقه. *** جمع الأموال اللازمة وإيفاد الوفود لما كان هذا البرنامج يقتضي لإنفاذه مبالغ كبيرة، وكانت واردات أوقاف فلسطين لا تتسع لأكثر مما تقوم به من الإنفاق على الشئون التي هي في كفالتها من إدارة المساجد والمدارس والمعاهد الدينية الأخرى، ومن المشروعات التي تقتضيها حاجة المسلمين في مدن فلسطين وقراها، فقد رأى المجلس الإسلامي ضرورة الاستعانة في مشروع عمارة المسجد الأقصى المبارك والحرم الشريف بأهل الخير والإحسان في هذه البلاد، وفي سائر الأقطار الإسلامية الأخرى، فألف لذلك وفودًا من أعضاء المجلس نفسه ومن غيره من وجهاء البلاد وأعيانها إلى الحجاز أولا وثانية، وإلى مصر والهند والعراق وخليج العجم والآستانة. وقد لاقى أكثر هذه الوفود نجاحًا وعطفًا كبيرًا في الأقطار الإسلامية وقد بلغ مجموع الإعانات التي جمعت لهذا السبيل (94. 952) جنيهًا و (141) ملا موزعة وفق الجدول الآتي: مليم ... جنيه 733 38761 من صاحب الجلالة الملك حسين بن علي والحجاز. 322 06206 من صاحب الجلالة الملك فيصل الأول والعراق. 06771 من صاحب السمو نظام حيدر أباد الدكن (الهند) . 340 07811 من حضرة مولانا طاهر سيف الدين (الهند) . 193 0920 من أهل الهند. 780 02681 من أهالي البحرين. 520 01312 من أهالي الكويت. 635 00612 من حضرة الشيخ خزعل خان (شيخ المحمرة) . 700 00338 من أهالي سوريا. 860 00306 من أهالي مصر. 920 00163 من المهاجرين في أميركا. 440 00019 من تركيا. 375 04231 من أهالي فلسطين. 248 16478 من صندوق المجلس في فلسطين والواردات المحلية. الموارد الدائمية على أن المجلس الإسلامي رأى أيضًا ضرورة إيجاد موارد دائمية تتأمن معها الغاية التي يسعى إليها من العمارة والإصلاح والتجديد والتأسيس، ففكر في إنشاء عقارات جديدة يرصد ريعها للحرم الشريف فشرع في بناء فندق كبير على أحدث طرز في أرض الجبالية في شارع مأمن الله يحتوي على ما ينوف عن 136 غرفة عدا قاعات الاستقبال وقاعات المطالعة، وما إلى ذلك من الجهازات الحديثة المستوفية كل الشروط، ويزيد ريعه السنوي عن الستة آلاف جنيه، وأتم إنشاء بضعة مخازن في باب الساهر وسيقوم بإنشاء غيرها. المشورة في تعين خطة العمارة في قبة المسجد الأقصى ومؤتمر المهندسين رأى المجلس الإسلامي قبل أن تشرع الهيئة الفنية بتنفيذ ما وضعته من تصميمات أن يستشير أهل الخبرة من أرباب الفن فرجا من حكومة مصر أن ترسل بعض مهندسيها المعتمد عليهم فتفضلت بإرسال مهندس من قبل وزارة الأوقاف، وآخر من وزارة الأشغال، وطلب من حكومة فلسطين فأرسلت ثلاثة مهندسين فعقد هؤلاء مؤتمرا فنيا مع مهندسي الهيئة الفنية في القدس مؤلفًا من عشرة مهندسين بحثوا فيه جميع الخرائط والخطط المهيأة، فقرروا بالإجماع خطة سارت عليها الهيئة الفنية بمهارة تامة وفقًا لما وضعته من التصميمات وحملت القبة المتصدعة التي تزن ألف طن على حمائل خشبية وجددت الأساس فدعمت العمود والقوس اللذين في الأقصى القديم (تحت هذه البناء) بدعائم من الخرسانة المسلحة. ثم انتقل العمل إلى منطقة القبة في المسجد الأقصى فوضعت أساسًا من الخرسانة المسلحة لتقوم عليها أعمدة ثمانية جديدة اقتطعت من المقالع المحلية وأعدت لتستبدل بالقديمة البالية، وأنشئ تحت الأقواس القديمة أقواس جديدة من الحجارة الضخمة وترك بينهما فراغ لقوس حامل من الخرسانة المسلحة، ثم أسندت أركان القبة إلى ساندات خشبية ضخمة، وشرع برفع القديم البالي فأزيلت قطع الشدادات، فالتيجان فالأعمدة فقواعدها بصورة تدريجية وأقيم مكانها دعائم جديدة أيضًا من الخراسانة المسلحة المتينة، ثم صفحت بالأحجار المزية البلدية بالرخام المنحوت على الطراز الإسلامي العربي، وبهذا تم تقوية منطقة القبة، وأمن عليها الانهيار الفجائي وأصبحت من المتانة بدرجة عظيمة جدًّا. وإذا تم ذلك فقد أمكن القيام بعمارة الأقسام المتصدعة التي تحيط بمنطقة القبة فجددت في الجناح الغربي لها أربعة أعمدة وستة أقواس حجرية، وهدم السقف الذي كان على وشك السقوط وجعل جميعه في تلك الجهة من الخرسانة المسلحة كما هدم القسم الغربي من الحائط الجنوبي وأعيد من جديد بالحجارة تدعمها الخرسانة المسلحة من الخلف، وقد فتحت فيه نوافذ كبيرة أنارت تلك الأقسام، وقد كانت مظلمة، وكذلك عمر السقف الخشبي للجناح الشرقي من القبة، وأزيلت أركان ودعائم كثيرة كانت تتخذ قديمًا ساندة فلم يعد بعد العمارة من حاجة إليها. وقد اهتم بتزيين هذه الأقسام وزخرفتها فكسيت واجهة المحراب وواجهة أقواس القبة الشرقي والقبلي والغربي بأشكال هندسية بديعة من الجص البارز المُذَهَّب ورصع القوس الشمالي بالفسيفساء البديعة على النسق القديم الذي وجدت آثاره تحت القصارة التي كانت تستر واجهة القوس جميعها قبل العمارة، وظهر أن هذه الآثار القليلة الباقية من الفسيفساء هي من عهد الفاطميين سنة 714 هجرية كما صُفِّحَت الشدادات بالنحاس المذهب منقوشًا بنقوش بارزة، وصفحت سقوف الجهة الغربية بالخشب الملون والمُذَهَّب، أما الحائطان القبلي والغربي اللذان عُمِرَا من جديد فقد رُصِّعَا بالفسيفساء الحجرية الملونة على أشكال بديعة. هذا وقد وضع أكثر من ثلاثين نافذة من الجص المحفور المزين بأنواع الزجاج الملون على طراز فني رائع لتوضع في أماكن مختلفة من واجهة المحراب والحائط القبلي وأسطوانة القبة. وتتراوح مساحة كل نافذة من هذه النوافذ ما بين (5 , 1) إلى (5) أمتار مربعة، وقد نقش تاريخ العمارة بالخط الكوفي وآيات من القرآن الكريم بالخط الثلث على أركان القبة من فوق التيجان. العمارة في الصخرة المشرفة اقتصرت العمارة في الصخرة المشرفة حتى الآن على تجديد عشرين نافذة داخلية من نوافد الجس الملونة بالزجاج كانت بحالة غير صالحة بالمرة، وقد تولى صنع هذه النوافذ ونوافذ المسجد معلمان أخصائيان استدعيا من الآستانة، وضم إليهما عدد من أبناء البلاد قُصِدَ تعلُّمُهم هذه الصنعة البديعة المندثرة وإحياؤها في البلاد. وقد وفقوا بذلك كل التوفيق. أما القاشاني والرخام للقسم الخارجي من الصخرة فلم يشرع بتجديده وإصلاحه بسبب ما دعت إليه الضرورة من تقديم الأهم الخطر من المباني والآثار الأخرى في الحرم الشريف، وقد عمرت أيضًا من المآذن المئذنة الفخرية، مئذنة باب السلسلة ومئذنة باب الغوانمة والصلاحية، ورممت بعض المدارس التي حول الحرم واتخذ بعض هذه المباني دارًا للآثار الإسلامية ودارًا للكتب ورمم أيضًا كثير من آبار الحرم الشريف. الزلزال بينما كان المجلس الإسلامي عاملاً على تنفيذ برنامجه بالعمارة والإصلاح والتجديد متبعًا ف

ما يسمى الاختلاف بين الهيئات السورية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما يسمى الاختلاف بين الهيئات السورية (تأخرت لكثرة المواد) كثر خوض الجرائد في سورية ولبنان وفلسطين ومصر فيما سمي الاختلاف بين الهيئات السورية، واهتم به الوطنيون في دمشق أم البلاد السورية حتى رجال الجمعية التأسيسية وغيرها من الجماعات وتحدثوا هناك وهنا بوجوب السعي إلى الصلح وإزالة الاختلاف بجمع الكلمة وتوجيه قوى الهيئات كلها إلى المصلحة الوطنية في هذا الوقت الذي دخلت فيه القضية السورية في طور حل عملي مع الدولة الفرنسية، ولكن لم نر شيئًا عمليًّا في ذلك، بل يظهر أن الوطنيين الذين أظهروا الاهتمام به في سورية لم يقف أكثرهم على حقيقة هذا الاختلاف، ولا يعرفون مثيره الذي لولاه لم يقع؛ لأنه يلبس عليهم بكثرة ما يكتب ويستكتب من الإعلان عن نفسه والوقيعة في غيره، ولو عرفه جمهورهم كما يعرفه أهل البحث والروية منهم لأنحوا اللائمة عليه وحده، فإما أن يكرهوه على إيثار وطنه على نفسه، وإما أن يجمعوا على إسقاطه ونبذه بعد اتفاق أكثرهم على ذلك. ألا وهو ذلك (القناف) النفاج المفتون بلقب الزعامة الذي يرى من شرط خلوصها له وصيرورته زغلول سورية أن لا يبقى أحد من سروات بلاده وأصحاب المزايا العالية والوطنية الصادقة فيهم إلا وهو مثخن بالطعن والجرح في مآثره ومزاياه، ولا سيما أولئك الأفراد الأفذاذ الذين أجمعت عليهم الكلمة كأمير البيان وقائد المجاهدين السياسيين لدى جمعية الأمم وفي سائر المحافل السياسية الأوربية الأمير شكيب أرسلان، وشقيقه رب السيف والقلم وقائد المجاهدين في الثورة الوطنية الأمير عادل أرسلان، ورجالات حزب الاستقلال الذين كونوا المسألة العربية وأوجدوها في البلاد، وكذا الذين ظهرت مناقبهم العليا أخيرًا في الجمعية التأسيسية السورية ولهجت بذكرهم الألسنة، وتبارت في الثناء على وطنيتهم أقلام الصحف المختلفة فهذا (القناف النفاج) هو الذي أقنع الأمير ميشيل لطف الله بمبالغاته الخلابة بأن جميع رجال حزب الاستقلال أعداء له وبأنه هو الذي يستطيع أن يؤلف له عصبية تسقطهم وتحول جميع إعانات المجاهدين إلى جمعية إعانة منكوبي سورية التي هو (أي الأمير) رئيسها، وبذلك يكون جميع رجال الثورة الذين عادوا إلى شرق الأردن وفلسطين ومصر والذين لجئوا إلى الصحراء آلة في يده تضم إلى ما في يده من النفوذ السياسي للجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني فتنحصر القضية السورية في يده من كل وجه من حيث يسقط أعداؤه وفي مقدمتهم (بزعمه) الأمير شكيب المحتكر لأعمال الوفد السوري مع إحسان بك الجابري وهو بزعمه عدو أيضًا - والأمير عادل أرسلان صاحب النفوذ الأعلى مع سلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة - وحينئذ يتحدان معًا على الاتفاق مع فرنسة على حل عقدة القضية السورية كما يريدان. صدق الأمير ميشيل تلك الأخاديع الخلابة فكانت عاقبتها تعذر اتفاق أعضاء اللجنة التنفيذية معه على ما كان شجر من الخلاف بسبب تدخل أخويه في القضية بنفوذه، وبسبب ما نقلت عنه جريدة المعرض البيروتية فقررت اللجنة إلغاء الرياسة الشخصية لها فلم يبق للأمير ميشيل عمل ولا شأن فيها؛ لأنه لم يكن عضوًا منتخبًا، بل جعلته اللجنة رئيسًا محاباة له لسابق خدمته. ثم كان من عاقبتها أيضًا أن اجتمع أعضاء جمعية الإعانة السورية وقرَّروا بالإجماع حل الجمعية وتصفية حساباتها فخاب سعي (القناف النفاج) في أمنيتيه أو في خلابتيه للأمير ميشيل. *** مكتب الاستعلامات السوري مطاعنه ومفاسده كان مكتب الاستعلامات السوري عندما كان تحت مراقبة اللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني يخدم القضية السورية خدمة صادقة كان لها تأثيرها الحسن المشهور في الشرق والغرب، وقد تركه الأمير ميشيل بعد انفصاله من اللجنة بأيدي جماعة من أصحاب الأهواء الذين يخدمون أنفسهم بالطعن في غيرهم فهو يطعن في المجاهدين أبطال الثورة ويسعى للتفريق بينهم، وله غير ذلك من المخازي التي لهجت بها الجرائد في سورية وفلسطين ومصر عازية كل إفساد إلى مكتب رقم 45 شارع عابدين الذي ينفق عليه وعلى من فيه الأمير ميشيل لطف الله حتى صار هذا المكتب مصدر سفه وإفساد ويقول بعض أصدقائه: إنه قلما يعلم بما يصدر منه. نعم إن الأمير ميشيل لا يعلم بكل ما يصدر من مكتبه السياسي (رقم 45 شارع عابدين) من مخازن السفاهة والفساد بالتفصيل؛ لأنه لا يحضر كل مجالس الزعنفة التي فيه ولا يجد وقتًا لقراءة ما يكتبون وما ينشرون، ولكنه يعلمه بالإجمال ويطلع على كثير منه، وهو الذي يدفع أجور الكتابة والنشر ورواتب الكاتبين فهو مسئول عن كل ذلك وعليه تبعته الأدبية والسياسية كما شافهناه بذلك من قبل وضربنا له المثل المشهور: من يربط الكلب العقور ببابه ... فكل أذاة الناس من رابط الكلب *** اعتذار الأمير ميشيل عن طعن مكتبه بنا إننا بعد نشر ردنا على الزعيم محمد علي الهندي في مسألة ملك الحجاز ونجد ومسألة الخلافة رأينا في جريدة السياسة مقالة مَعْزُوَّة إلى اسم مجهول يشتمنا فيها ويقول: إن صاحب المنار رجل مادي لا يكتب شيئًا إلا لاستدرار المال وقد أهان بِرَده جميع الدول الإسلامية لما يأخذه على ذلك من الجنيهات من ابن السعود، وأنه كان قد أخذ من أمراء لطف الله ستمائة جنيه لأجل أن يغش لهم ملك الحجاز بجعل البنك الحجازي رسميًّا إلخ. فلم نعجب لنشر السياسة مثل هذا الطعن وما هو شر منه وأعرق في الإفك والبهتان انتقامًا منا على مقاومة دعوتها الإلحادية اللادينية، ثم علمنا من مُطَّلِع على ما هنالك أن السياسة لم تقبل نشر تلك المقالة القذرة إلا برجاء من حضرة الدكتور عبد الرحمن شهبندر وأن المقالة نشرت بعد ذلك في نشرة مكتب الاستعلامات السورية رقم 45 شارع عابدين. وبعد ذلك بشهر أو أكثر جاءني كتاب من الأمير ميشيل لطف الله يقول فيه: إنه جاءه في البريد نسخة من نشرة مكتب الاستعلامات السوري المشار إليه، وعليها تعليق بالخبر هذا نصه: (أيليق هذا الطعن في حق صاحبك) . ثم قال: إنني ليس من الذين يسهل عليهم انتهاك حرمة الصداقة الشخصية لاختلافات تقع بيني وبين زملائي على نظريات سياسية أو مبادئ عمومية ... إلخ. ثم قال: (قد قرأت ما كتب في تلك النشرة وأسفت كثيرًا لذلك ولمت رجال مكتب الاستعلامات على نشر مثل هذه الأمور التي لا تبررها الغايات الشريفة التي اشتغلنا بها سوية ولا نزال ننشدها، وإن اختلفت نظريات كل منا ما أفضى (كذا) إلى ما حصل من الانشقاق الذي أعتقد أن كل وطني غيور يأسف له. (ولا أخفي عليك أنني كثيرًا ما أوقفت نشر كتابات ومقالات رأيت فيها طعنًا شخصيًّا عليك كان كاتبوها يعتقدون أنها تسرني ولذلك أطلعوني عليها قبل نشرها، فأفهمتهم جليًّا أنني لا أريد أن ينشر شيء فيه طعن شخصي بك، وأن نشر مثل ذلك يكدرني) إلخ، ما كتبه مفتخرًا بمحافظته على المبادئ القويمة. وأقول: إنني أشكر لحضرته هذه المحافظة على الحقوق الأدبية الودية، وقد حافظت له على خير منها منذ شجر الخلاف إلى الآن حتى أثبتت ذلك بعض الجرائد إلى عهد قريب، وكنت قد صرَّحت بمثل هذه المناسبة في المنار أنني لم أر منه ومن أخيه الأمير جورج في معاشرتي لهما بضع سنين إلا الآداب العالية (وقد كتب إليَّ الأمير جورج من أوربة برقية تعزية عن شقيقتي) ولكن هذا العمل الذي يعمل باسمه وماله في مكتبه السياسي قد شوَّه هذه السمعة الأدبية، وقد كتبت إليه مثل هذا الكتاب الخاص ولا لوم الزعنفة الناشرة لما ذكر من الطعن بل يجب عليه منعها من مثل ذلك كما كان يجب عليه تكذيبها فيما يتعلق بالبنك الحجازي لأنه عند الناس مظنة أن يكون مأخوذًا عنه، ولا يخطر في بال قراء النشرة غير ذلك. فلما وصل مرجوع الكتاب إليه أرسل إلى سكرتيره الأدبي وهو صديق إبراهيم بك ديمتري ليشرح لي شعوره وعذره في عدم تكذيب النشرة في مسألة البنك قال: إن الذي نشر في شأنها كذب، ولكن طال عليه العهد حتى نسي قبل علم الأمير به فرأى أن تكذيبه ينبه الأذهان ويعيد الذكرى إلى ما دخل في زاوية النسيان فعدمه أولى، ثم نوَّه بما يسمعه من الأمير من الثناء عليَّ وأنه لا بد من عودة المياه بيننا إلى مجاريها صافية كما كانت بعد أن كدرها هؤلاء المشاغبون. قلت: مهما تكن العلاقة الماضية والحاضرة بيننا وما يرجى في المستقبل فلا عذر للأمير في ترك مكتبه السياسي على هذه الحالة المخزية التي لولاها لم يكن للخلاف ذلك التأثير السيئ في البلاد. ولكن يظهر أن الرجل لا يستطيع إغضاب هذه الزعنفة التي صرح بأنها تنشر من مكتبه ما تعلم بأنه يكدره؛ لأنه لا يجد الآن غيرها، ولا يمكنه أن يدع مكتبه السياسي مقفلاً، ويظهر أن الزعنفة علمت هذا الضعف منه فلم تعد تبالي بما يرضيه وما يسوءه بدليل عودتها إلى أشد الطعن الكاذب فيمن صرَّح لها باستيائه من الطعن فيه. أما ما فيَّ من الطعن في المسألتين فأقول فيه كلمة وجيزة لتعلقه بتاريخ حياتي فإن كان أمثال هؤلاء الطاعنين لا يخاطَبون فإنني أقولها للتاريخ لا لهم. أما قولهم: إنني دافعت عن ابن السعود ابتغاء جوائزه وإدرار أمواله عليَّ فهم معذورون فيه؛ لأنهم ماديون لا دين لهم يخدمونه ولا أمة لهم يدافعون عنها فإن لم يكونوا كلهم كذلك فحسبهم زعيم الإفساد المحرك لهم، وإنني أصرح الآن بأن كل ما كتبته في المسألة العربية مما لابن سعود فيه ذكر فإنني كتبته عن اعتقاد بأنه حق، وأن بيانه واجب عليَّ شرعًا ولم يخطر في بالي عند كتابة شيء منه استمالة ابن السعود ولا الانتفاع منه، ومنه هذا الرد المفحم على أشد أعدائه وخصومه في الهند فإنني والله لم أرج عليه جزاء منه ولا شكورًا لما سبق من أمثاله، وكذلك قد كان، فوالله إنه لم يكتب إليَّ كلمة شكر عليه، وليس ذلك لأنه كنود لا يقدر قدر هذه الخدمة، بل لعلمه بأنني أقوم بها بباعث الاعتقاد الديني والمصلحة الإسلامية العربية، وقد صرَّح لي باعتقاده هذا فيَّ عند اللقاء وكتبه في بعض مكتوباته. أقول هذا غير نَاسٍ لما كتبته من قبل في الرد على الذين أشاعوا هنا وفي أوربة أنني أخذت منه خمسة آلاف وقيل عشرة آلاف جنيه مكافأة على خدمتي له عدة سنين، فقد قلت في معرض الرد على هذه الإشاعات كلمة قصدت بها إيهام الحساد ما يسوءهم فحواها أن الأخذ من إمام المسلمين وملك من ملوكهم مكافأة على خدمة شريفة ليس حرامًا ولا عارًا، وهذا هو الحق ولكن ما سرى منه إلى بعض الأذهان يومئذ من صدق تلك الأخبار غير صحيح. وأما مسألة البنك الحجازي فأقول فيها: (أولا) : إن ما ذكره الطاعن كذب. و (ثانيًا) إنني أنا عضو في مجلس إدارة البنك الحجازي، وأعتقد أن جعل هذا البنك رسميًّا للحجاز خير للحجاز ولمَلِكه ولأهله فإقناعه به إن أمكن نصيحة له، وأعتقد أن أخذ الجعل على السعي لمثل هذا لا يعد عيبًا فيعير به من يُنْسَب إليه، وكل عاقل عرف هذه المسألة يعلم أن إنشاء هذا البنك ليس بمصلحة مالية ظاهرة لمنشئه، وإنما الباعث عليه غرض سياسي له يفضله على المال والكسب. وما الطعن بصاحب المنار في مثل هذا وذاك إلا كالطعن فيه بأنه عاب جميع الدول الإسلامية بقوله: إنها لا تقبل مشروع الزعيم الهندي الخيالي في جعلها تابعة في السياسة العامة لخليفة واحد يعيد لها سيرة خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومثله زعمهم أنه كان يقتات من فتات مائدة الشيخ محم

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (مجلة الرابطة الشرقية) نبَّهتْ حوادث العالم في تاريخه الحاضر كثيرًا من علماء الشرق وقادة الرأي فيه إلى أن الأمم الشرقية أصبحت أحوج ما تكون إلى أن تتصل بينها الروابط وتتمهد لها أسباب التعارف والتقارب. كان الشرق في حاجة إلى ذلك منذ القدم، منذ انقسم العالم إلى أمم شرقية وغربية، منذ كان الشرق شرقًا والغرب غربًا، وكان المتقدمون من دعاة الإصلاح في العالم الشرقي يشعرون مثلنا بهذه الحاجة، ويدعون إلى العمل على شدها، إلا أن هذه الدعوة لم يقدر لها أن تتوطد على نظام ثابت، وقواعد محكمة، لذلك كانت تتقلب على تقلبات الأيام فتظهر حينا وتخفى، وتضعف آونة وتقوى، لكن إحساس الشرقيين بتلك الحاجة قد أصبح اليوم أقوى منه في كل ما سلف من العصور، وأدرك العاملون على نهضة الشرق أنه قد آن لهم أن يقيموا الدعوة إلى الرابطة الشرقية على ما ينبغي لها من أساس متين ونظام محكم. لقد اجتمع في مصر سنة 1341 هجرية (1922م) أفذاذ من رجال الشرق العاملين على إصلاحه، وبعد التشاور فيما بينهم أسسوا جمعية دعوها (جمعية الرابطة الشرقية) يكون غرضها نشر علوم الشرق وآدابه والبحث في شئونه، للعمل على ترقية شعوبه وتكوين صلة تعارف بين أرباب الرأي والقلم منهم على اختلاف أجناسهم لتبادل الآراء والمعلومات في هذا السبيل، ثم لتكون رسول سلام وتعارف بين الأمم الشرقية، التي لها من سوابق تواريخها المجيدة، وحضارتها القديمة، وتقاليدها القويمة، ومدارك أفرادها العالية وموارد ثروتها الثمينة ما تستطيع به أن يخدم بعضها بعضًا، وأن تتضامن في سبيل إسعاد المجتمع الإنساني وتربيته لخير جميع الأجناس والأديان. شعرت جمعية الرابطة الشرقية منذ نشأتها بأنه لا مناص بأن تكون لها مجلة خاصة تخدم أغراضها وتنشر مبادئها وتعينها على الوسائل التي تريد انتهاجها، لكن حالة الجمعية وظروفها في الماضي لم تكن لتسمح لها بالتفكير الجدي في إصدار المجلة على الوجه الذي يليق، ثم أراد الله -وله الحمد- أن تتغلب الجمعية على تلك المصاعب التي كانت تعترضها، فلذلك قررت بجلسة 7 ذي القعدة سنة 1346، 27 إبريل سنة 1928 أن تصدر مجلة تدعَى (الرابطة الشرقية) ووضعت لها نظامًا تسير عليه، واختارت لجنة تقوم بتدبيرها مؤلفة من ثلاثة أعضاء. *** (برنامج المجلة) الغاية التي تعمل المجلة لها هي في الجملة إزالة ما يمكن إزالته من الفوارق غير الطبيعية التي أقيمت سدًّا بين الأمم الشرقية وبعضها، ومحاولة التقريب بين هذه الأمم حتى يتيسر لها أن تتعارف، فإذا ما تعارفت تآلفت، وإذا ما تآلفت تساندت وتعاونت، وإذا ما تساندت وتعاونت استطاعت أن تعيش حرة قوية، وضمنت لحياتها أن تكون سعيدة كاملة ولمدنيتها الناهضة أسباب الرقي والنجاح، فيتساوى عند ذلك الشرق والغرب، ويصبح كلاهما عضدًا للآخر في مجال العمل النافع لخير البشرية كلها. وسوف لا تَأْلُو المجلة جهدًا في التماس تلك الغاية بكل الوسائل التي تناسب ما لذلك المقصد الكريم من نبل وشرف فتحاول أن تتبع بعناية كل مظاهر الحياة الشرقية وعناصر نهضتها، وما يكون ذا أثر قريب أو بعيد في مدنية الشرق، فتتخذ من ذلك كله موضوعات لبحث حر ونزيه يشترك فيه أهل الرأي البصيرون ممن يعنيهم أمر النهضة الشرقية عسى أن يتضح سبيل الخير والشر، ويتميز وجه النافع والضار دون أن تقف المجلة في ذلك موقف المتعصب لأمة ولا طائفة ولا دين ولا مذهب، لكنها تضع المصلحة العامة للشرق كله فوق جميع هذه الاعتبارات، تريد المجلة في جميع الأحوال أن تقف موقف السفير الأمين الذكي يحاول أن يزيل ما قام بين أمم الشرق من حجب وعقبات ليرى بعضها بعضًا ويسمع بعضها بعضًا فتتعارف فتتقارب فتصبح بنعمة الله إخوانًا. *** (موضوع المجلة) تُعْنَى المجلة بكل ما يكون ذا علاقة بنهضة الشرق أو مؤثرًا في مدنيته، وبكل ما يساعد على تمكين العروة بين الشرقيين لا تتقيد بناحية من البحث دون ناحية ولا بموضوع دون موضوع ما دام ذلك داخلاً في حدود أغراضها ومتصلاً بمظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية في الشرق. والمجلة حريصة من أجل ذلك على تَنَكُّب المباحث التي لا يكون فيها ما ينفع مبدأ الرابطة الشرقية ولا يمس الشئون الحية في أمم الشرق، وكذلك تحرص المجلة على مجانبة الأبحاث التي لها علاقة بالمنازعات الدينية، والخلافات المذهبية، فإن التعرض لمثل هذه الأبحاث في الشرق خطر يخشى أن يغتال كل دعوة إلى تقارب الشرقيين وتواصلهم، تلك دعوة يجب أن تأخذ سبيلها بعيدًا عن كل ما يثير حزازات النفوس، ويحرك نزعات العصبية. وتتجنب المجلة الخوض أيضًا فيما قد يعرُّضها لفتن السياسة، فلا تتناول المباحث السياسية إلا من نواحيها العلمية البريئة. الموضوعات التي تُعْنَى بها المجلة بنوع خاص هي: 1- المباحث العلمية. 2- الاجتماع. 3- الاقتصاد. 4- الأدبيات والفنون الجميلة. 5- الأخبار والحوادث مشتملة على ما يكون له اتصال خاص بموضوع المجلة. 6- الإشارة بقدر ما يمكن إلى ما يظهر من الكتب والمباحث التي يكون لها ارتباط بموضوع المجلة مع تلخيص المهم منها ونقده. 7- درس حالة التعليم في الأمم الشرقية المختلفة. 8- جماعة الرابطة الشرقية بنشر قراراتها وأهم أخبارها ومباحثها وتلخيص المحاضرات التي تُلْقَى بها. ويشترط فيما تتناول المجلة من هذه المباحث بوجه أن يكون مفيدًا لأمم الشرق ومتصلاً بحياتها الحاضرة، وألا يكون فيه ما يثير خلافًا دينيًّا أو سياسيًّا. *** (نصراء المجلة) تعتمد المجلة في أداء واجبها وتحقيق أغراضها على المساعدة التي ترجوها من أعضاء الرابطة الشرقية، وكل من يتفضل بمناصرتها والكتابة لها في حدود موضوعاتها من شرقيين ومستشرقين. *** (مراسلو المجلة) تتخذ المجلة تدريجيًّا في كل جهة من أهم الجهات الشرقية وغيرها مراسلين يوافونها بالأنباء ويكتبون في موضوعاتها ويستكتبون من ذوي الرأي والمكانة في بلادهم من يرون في كتاباتهم نفعًا للشرق وللمجلة. *** (اشتراك المجلة) رأت اللجنة مؤقتا أن تظهر المجلة مرة كل شهرين، وأن تكون قيمة الاشتراك السنوي خمسين قرشًا صاغًا في مصر وستين في الخارج تدفع سلفًا، وأن ترسل المجلة مجانًا إلى حضرات أعضاء الرابطة الشرقية. *** (عنوان المجلة) المخاطبات غير المالية تكون باسم (لجنة الرابطة الشرقية) بشارع سامي رقم 28 المالية بمصر. والمعاملات المالية تكون باسم (حضرة صاحب السعادة أحمد شفيق باشا) بالعنوان المتقدم. *** (لجنة المجلة) الرئيس: السيد عبد الحميد البكري، مدير المجلة: أحمد شفيق باشا، المشرف على التحرير: الأستاذ علي عبد الرازق. مصر القاهرة 17 صفر سنة 1347، 5 أغسطس سنة 1928. (المنار) نحمد الله أن آن تنفيذ إصدار هذه المجلة التي قرَّرنا إصدارها من أول العهد بإنشاء المجلة، ولكن نخشى أن يظهر فيها شيء من شذوذ المراقب الذي يسوء جميع المسلمين كدفاعه عن الترك وثنائه على خطة حكومتهم في نبذ الإسلام وراء ظهورهم ومحاولة إزالة كل أثر له في شعبهم، ولكن الرجاء في سماحة الرئيس وسعادة الوكيل أن يحولا دون ذلك، فالمراقب لا بد له من مراقبة. *** (القول الصحيح في ترجمة حياة محمد والمسيح) عني الأستاذ الفاضل عبد العزيز أفندي نصحي أمين مخازن الجمعية الزراعية الملكية بأشمون في وضع هذه الترجمة عناية يستحق من أجلها كل شكر وإعجاب، لطيفة العبارة جميلة الأسلوب، ناقش فيها أصحاب الأناجيل مناقشة متواضعة من أناجيلهم وألزمهم الحجة من أقوالهم، والرسالةُ ملخصٌ صغيرٌ لتاريخ الرسولين الكريمين مبتدأة بتاريخ السيد المسيح، ويتخلل ذلك بعض أعمالهما وأقوالهما عليهما الصلاة والسلام. والرسالة صغيرة الحجم على ورق عادي ثمنها 2 قرشان مصريان غير أجرة البريد وتباع في مكتبة المنار. ((يتبع بمقال تالٍ))

تقرير لجنة إصلاح التعليم في الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقرير لجنة إصلاح التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية الإسلامية في مصر وقراراتها أصدر صاحب الدولة رئيس الوزارة أمرًا بتأليف لجنة للنظر في الإصلاح الذي طلبه للأزهر شيخه صاحب الفضيلة الشيخ محمد مصطفى المراغي فألفت اللجنة من فضيلته وتحت رياسته من وكيل وزارة المعارف (عبد الفتاح بك صبري) ومفتش العلوم الحديثة في الأزهر (محمد خالد حسنين بك) والسكرتير البرلماني لوزير المعارف (الأستاذ الشيخ عبد العزيز البشري) وقد اجتمعت هذه اللجنة بضع مرات ما بين 23 أغسطس و 5 سبتمبر أصدرت في خاتمتها التقرير الآتي المتضمن لخلاصة قراراتها وهذا نصه: التقرير حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء: تفضلتم دولتكم فأصدرتم في 13 أغسطس سنة 1928 قرارًا بتأليف لجنة للنظر في الإصلاحات المقتضى إدخالها على نظام الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية وذلك طوعًا لميول حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك فؤاد الأول حفظه الله فإنه ما برحت المعاهد الدينية موضع عنايته وعطفه الكريم وإذا كانت هذه اللجنة قد أتمت مهمتها على جهتها وفي أيسر وقت مقدر فالفضل في ذلك يرجع أولا إلى ما يشعر به أعضاؤها من رغبة جلالة مولانا الملك وغيرة دولتكم على معاهد الدين ورغبتكم في أن تبلغ في القريب الحد المستطاع من الكمال والعظمة ويرجع ثانيًا إلى ما ملك أعضاءها من الشعور بأن هذه المهمة الجليلة التي ألقيت على عواتقهم ينبغي ألا يضن عليها بجهد؛ لأنها مسألة الدين والعلم معًا، وإنه ليسرنا في هذا المقام أن نبلغ دولتكم أنه لقد كان يقع الخلاف وتضطرب وجهات النظر في مطارحة الآراء إلا أننا كنا ننتهي بحمد الله إلى الإجماع على ما نتخذه من القرارات، ذلك أننا من الساعة الأولى تمثلنا مصلحة العلم ومعاهد الدين وعلونا بها على كل اعتبارات أخرى فكانت وسيلتنا إلى هذه الغاية الإقناع وحده وكان من التوفيق أن كل ما أثبتنا من المبادئ إنما تقرَّر بإجماع الآراء. لم يبق اليوم من شك في أن الجامع الأزهر يحتاج إلى إصلاح كبير، فلقد اعتصم من زمن بعيد بألوان من العلوم وتكلف في أساليب التعليم فنونًا خاصة متجاهلاً في هذا وفي ذاك ما تنتفع به قرائح الباحثين كل يوم، وما يستخرج العلم من مكنوزات الطبيعة، وما يجلي من سنن الله تعالى في هذا العالم وتطاول على ذلك الزمن، وفي كل يوم يزداد الانفراج بين الأزهر وبين العالم حتى أصبح أهله أو كادوا يصبحون غرباء لا يفهمون الناس ولا يفهمهم الناس [1] . ولقد بُذِلَتْ من ثلاثين سنة جهودٌ محمودةٌ في فترات متعددة ترامت كلها إلى إصلاح الأزهر وتقريب ما بين أهله وسائر المتعلمين في الدنيا فلم تلق نجاحًا مذكورًا؛ لأن سواد الأزهريين لم يكن مؤمنًا بالحاجة إلى هذا الإصلاح أو على الأصح لم يكن مؤمنًا بالعالم ولا بما يتحرك فيه من علم وفن إنما العالم كله لا يعدو في لحظه أحكامًا لا يستوي كثير منها لحاجات الزمان إلى ضرب من الفلسفة اللفظية لا غناء له في الدين ولا اتصال له بالأسباب الدائرة بين الناس. واليوم وقد تفجرت هذه الحقيقة القاسية ورأى الأزهريون أنفسهم بعد إذ كثر عديدهم أنهم ينزلون إلى ميدان الحياة بغير سلاح انبعثوا هم أنفسهم يطلبون الإصلاح الذي يجدي عليهم في دينهم ودنياهم جميعًا، وهذا ما يدخل على صدورنا اليقين بأن ما ارتسمناه محقق إن شاء الله في هذا العهد الموصول النهضات. ولقد كانت الغاية التي تمثلناها من أول يوم أن تصبح المعاهد الدينية ينبوعًا غزيرًا من ينابيع الثروة العلمية في البلاد وبحيث يعود إلى الجامع الأزهر مجده القديم من العالم الإسلامي وليكون المنهل الذي يرده طلاب الدين وطلاب العربية من العالمين العربي والإسلامي، ولم يتداخل اللجنة أيُّ شك في أن الأزهر لا يتهيأ له ذلك إلا إذا استخلصت فيه أحكام الدين مما علق بها من الشوائب ويرجع في تقريرها إلى ما كان يجري عليه السلف الصالحون في أنضر عصور الإسلام بحيث توافق أحوال الزمان والمكان كما ينبغي أن يعدل فيه عن الطريقة العتيقة في تدريس علوم اللغة إلى تدوينها على النحو الذي يفسح في الملكات ويطبع الألسن على صحيح البيان وبحيث يجري تدريس عادتها وأسبابها على مناهج التحقيق العلمي الحديث، وبمقتضى النظام الذي اجتمعت له نية اللجنة يتسنى للأزهر أن يتولى تخريج العلماء المتفقهين في دينهم العارفين بأحوال زمانهم الواصلين بين أحكام شريعتهم وما يجلوه العلم الحديث من سنن الكون، ومن هؤلاء يتخذ أساتذة الشريعة في المعاهد الدينية والمعاهد الأخرى التي يدرس فيها الفقه الإسلامي كما يتخذ القضاة للمحاكم الشرعية ويتخذ أيضًا الدعاة المرشدون لأحكام الدين الخالص سواء في القطر المصري أم في الأقطار الإسلامية الأخرى، وكذلك يقوم الأزهر على تخريج أساتيذ اللغة العربية للمعاهد الدينية ولمدارس الحكومة أيضًا. وقد التفتت اللجنة إلى أمر جليل الخطر، ذلك أنه قد تَظْهَر في بعض الأحايين ألوان من المواهب لو أنها تُعُهِّدَتْ وفُسِحَ لها في جوانب الطريق لربت وخرج بها العظماء والفاتحون في أبواب العلم المختلفة وتقييد أصحابها بمهنة أو بمنصب كثيرًا ما يحول بينها وبين كمالها المقسوم، لهذا رأت أنه يحسن أن تسن في المستقبل طريقة لالتماس أصحاب هذه المواهب وتعهدهم بالوسائل المادية والأدبية سواء أكانوا من خريجي الأقسام العالية أم من أقسام التخصص حتى يستطيع كل منهم أن ينقطع للبحث العلمي في الباب الذي هيأته له موهبته. وقد اقتصرت اللجنة على تقرير المبادئ العامة التي قدرت كفايتها لتحقيق هذه المطالب الجليلة وتركت وضع خطط الدراسة ومناهجها للجان فنية تُؤَلَّف لهذا الغرض، ورأت أن تجعل مراحل التعليم في الأزهر أربعًا: ابتدائي، ومدته أربع سنين وثانوي ومدته خمس، وعال ومدته أربع، وتخصص ومدته سنتان، كما رأت توحيدًا للثقافة العامة في البلاد أن يجري الأزهر في قسميه الابتدائي والثانوي في العلوم الحديثة على المنهج المرسوم لتلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية فيما عدا اللغات الأجنبية على أن يفرض النصيب الأوفر في هذين القسمين للمادتين الدينية والعربية، ورأت أن تربط منه التعليم في المعاهد الدينية بالتعليم الإلزامي بحيث لا تقل سن الطالب عن اثنتي عشرة سنة ولا تزيد عن الخامسة عشر، وبذلك يكون الطالب قد أمضى خمس سنوات على الأقل في هذا التعليم فيجب أن يُشْرَط لقبوله أن يؤدي امتحانًا يثبت به أن قد أحرز محصولاً يكافئ المقرَّر في ذلك التعليم لغاية السنة الخامسة فضلاً عن حفظ نصف القرآن الكريم على الأقل وحفظ سائره في السنوات الأربع الأولى. ولقد توجه الرأي في ذلك على عدة اعتبارات أظهرها أن مَنْ دون الثانية عشرة لا يتيسر له في العادة أن يتجرد للطلب في المعاهد مستغنيًا عن كفالة أوليائه، وأن من يتلقى في التعليم الإلزامي أو ما يكافئه خمس سنين ينفسح له الوقت في التعليم الابتدائي والثانوي للبسط في علوم الدين واللغة فوق القدر المرسوم للعلوم الحديثة في التعليم العام (الابتدائي والثانوي) . وطوعًا لسنة التفريع رأت اللجنة أن ينظم التعليم العالي ثلاث شعب. (إحداها) لدراسة الفقه ووسائله [2] من كتاب الله وسنة الرسول ومذاهب السلف الصالحين ومقارنتها بعضًا ببعض توسلاً إلى استخراج الأحكام الشرعية على النحو الذي كان يستخرجها به أولئك السلف الكرام. (والثانية) تصرف أَجَلّ العناية فيها إلى دراسة علوم الكلام والنظر. (والثالثة) لدراسة علوم اللغة العربية وآدابها وتاريخها. ويدخل في ذلك دراسة الكتاب والسنة من الناحية البلاغية حتى إذا استوى لطلاب هذه الأقسام العالية تحصيل المقرر المقسوم لهم وأحرزوا شهاداتهم انطلق من شاء منهم إلى التخصص والغرض منه التأهيل للمهنة بحذق وسائلها والتمرن فيها حيث يجمع بعض طلاب الفقه وطلاب اللغة في قسم واحد هو الذي يعد لمهنة التدريس في كل من هذين الفرعين (والقسم الثاني) لإعداد بعض طلاب الفقه لمهنة القضاء وما إليها (والقسم الثالث) ينتظم طلاب علوم الكلام والنظر [3] لإعدادهم للدعوة والإرشاد. وإذا كان طلاب الأزهر قد أخذوا بنظام جديد يقرب من النظام المزمع سنُّه من سنة 1925 بحيث اكتملت له في التعليم الابتدائي إلى الآن ثلاث سنين على هذا النظام فقد تقرَّر البدء بإنشاء السنة الأولى الثانوية في أكتوبر سنة 1929 ليتسنى تغذية هذا القسم بمن أتموا الدراسة الابتدائية على ذلك النظام، على أنه بعد وضع المنهج اللازم للقسم الابتدائي يجب أن يعمل ترتيب انتقالي لتطبيق هذا المنهج تطبيقًا يجعل كل من أتم الدراسة الابتدائية قد استوفاه كله بقدر الإمكان، كذلك رأت اللجنة أن يبدأ بتنفيذ شروط القبول في السنة الأولى الابتدائية اعتبارًا من سنة 1929. أما القسم العالي في الأزهر فقد اجتمعت النية كما سلف الإشارة على تقسيم الدراسة فيه تقسيمًا يتسق للتخصيص في الأسباب التي يعالجها خريجو هذا المعهد؛ لأن إبهاظ طلاب الأقسام العالية بالقدر الهائل من العلوم لا يستقيم مع قواعد التربية الحديثة لذلك رأت اللجنة أن تعجل بهذا التقسيم حتى تنتظر هذه المرحلة من مراحل التعليم طلابًا يتجرد كل منهم لما يعد له من فنون العلم، ومن حيث إنه قد تبين أن وزارة المعارف تستعين الآن بفنون واسعي الخبرة على وضع نظم وافية لمدارس المعلمين العليا ومنها دار العلوم وربط الصلات بين الدراسات المتجانسة في التعليم العالي فقد رأت أنه يحسن الانتظار في تقسيم الدراسة في القسم العالي حتى يجتمع الرأي في ذلك وبهذا تتهيأ الفرصة لاستفادة الأزهر نفسه بنتائج هذا البحث الذي ربما تأثرت به دار العلوم إلى حد كبير، ومن المفهوم أنه ستكون بين هذه المدرسة وبين قسم اللغة وأسبابها في الأزهر أوثق الصلات في مناهج التعليم، وبعد تقدير الزمن اللازم، لهذا قرَّرت اللجنة أن يبدأ بتقسيم الدراسات في القسم العالي في الأزهر من أكتوبر سنة 1930 بحيث تجري الدراسة في قسم اللغة العربية في الأزهر على نفس المنهج الذي يقرر لدراسة العلوم على أن يضاف إليها من المواد ما لم يكن درسه طلبة القسم الثانوي في الأزهر مما هو مقرَّر على طلبة تجهيزية دار العلوم، وبحيث أن طلبة القسم العالي في الأزهر المحررين للغة وآدابها متى أتموا الدراسة على هذا الوجه كانت لهم نفس امتيازات خريجي دار العلوم. وقد تذاكرت اللجنة في الطريقة العملية التي تضمن كفاية خريجي الأزهر لتدريس اللغة العربية وآدابها سواء في المعاهد الدينية أم في المدارس الأميرية فرأت أن تشترك وزارة المعارف بما لها من قديم الخبرة في أساليب التعليم في وضع خطط الدراسة ومناهجها في القسم الثانوي والقسم العالي المحرر لدراسة اللغة وآدابها وقسم التخصص في هذه الدراسة، وأن تشترك كذلك اشتراكًا فعليًّا في وضع أسئلة الامتحانات وفي مباشرتها تحريريًّا وشفويًّا وعمليًّا، وأن لا تضن الوزارة على المعاهد الدينية بإعارتها العدد الكافي من خيرة الأساتذة والمفتشين بحيث يكونون في أعمالهم تابعين لإدارة المعاهد وإليها مرجعهم وعلى ذلك فكلما تمت سنة على الوجه المطلوب ابتداء من السنة الأولى الثانوية في المعاهد الدينية ألغيت السنة التي توازيها من تجهيزية دار ال

فتح اليهود لباب الفتنة في القدس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتح اليهود لباب الفتنة في القدس التمهيد لانتزاع المسجد الأقصى من المسلمين بالاستيلاء على جداره الغربي وما حوله تمهيد في السياسة البريطانية للدولة الإنكليزية مكايد وحِيَل في انتزاع الممالك من أهلها واستعبادهم وفي ضرب الشعوب بعضها ببعض (كالسيل يقذف جلمودًا بجلمود) في سبيل منافعها قد أتقنتها منذ شرعت في الاستعمار إلى هذه الحرب العامة الأخيرة التي استخدمت فيها لمصلحتها الشعوب الهمجية والمدنية والوسط بينهما حتى إنها جعلت الولايات المتحدة الأميركية آلة في يدها وجعلت رئيسها العظيم ويلسن كأنه والٍ من ولاتها أو راجًا من رجوات إمبراطوريتها الهندية، وقد غرَّها النجاح في هذا الكيد حتى أقدمت في عقب هذه الحرب على أمر عظيم ما أظن أنها درسته من جميع وجوهه كعادتها. ذلك الأمر العظيم هو أنها وضعت نصب عينيها استعباد الأمة العربية وجعل جزيرتها المنيعة التاريخية ومعاهدها الدينية المقدسة تحت سلطانها، وهذه المعاهد هي المساجد الثلاثة: المسجد الحرام بمكة المكرمة والمسجد النبوي المحمدي في المدينة المنورة والمسجد الأقصى في بيت المقدس. وقد أتاحت لها الحرب الاستيلاء العسكري والسياسي على الثالث ثم استخدمت لقتل الأمة العربية وإفنائها في هذا القطر (فلسطين) الشعب اليهودي جريًا على عادتها في قذف الشعوب بعضها ببعض، وبدأت من التمهيد للاستيلاء على الحجاز باستخدام الشريف عبد الله ابن الشريف حسين منفي قبرص اليوم، وملك العرب وخليفة المسلمين بوهمه بالأمس، فكاد لأخيه الشريف علي الذي تَمَلَّك على الحجاز محصورًا في جدة عند خروج والده منه بأن أغراه بالذهب الإنكليزي وبنصر الإنكليز إياه على ابن السعود على أن يصدر إرادته السنية بجعل منطقة العقبة ومعان أهم مواقع الحجاز البحرية الحربية تابعة لشرق الأردن التي جعلها هو داخلة في دائرة الإمبراطورية البريطانية باسم الانتداب، ثم بعقده مع هذه الدولة معاهدة تجعل شرق الأردن وما ألحق به من الحجاز موقعًا حربيًّا للدولة الإنكليزية لها الحق في استخدام أهله وماله في الحرب: حرب من! حرب الأمة العربية طبعًا إذ لا يوجد غيرها، ولما قامت أهالي البلاد تنكر هذه المعاهدة قاومهم الأمير الشريف ابن الشريف ابن الشريف بالقوة والقهر بمساعدة رئيس حكومته حسن خالد بك نجل القطب الشهير الشيخ أبي الهدى أفندي (الصيادي الرفاعي الحسيني بدعواه) . ربما تكون الدولة الإنكليزية قد درست حال الأمة العربية درسًا اعتقدت به أن الاستيلاء عليها ممكن بضرب بعضها ببعض، وذلك بجعل حاكمي العراق وشرق الأردن عدوين لابن السعود حاكم الحجاز ونجد فإن صح هذا - وقد يكون غير صحيح - فما أراها قد درست المسألة اليهودية الصهيونية من كل وجه فإن العرب إذا كانوا لا يزالون جاهلين متفرقين، ولا يزال يوجد الخونة في أكبر بيوتاتهم، فاليهود ليسوا كذلك بل هم أعظم كيدًا ومكرًا من الإنكليز، وإن كانت قد استخدمتهم في الحرب المدنية الكبرى لاستمالة الولايات المتحدة إليها وفي بث روح التمرد في ألمانية للامتناع عن الحرب وطلب الصلح على قواعد ولسن. نعم إنها استخدمتهم واعدة إياهم بجعل فلسطين وطنًا قوميًّا لهم تمهيدًا لامتلاكها وتجديدًا لملك اليهود فيها تحت سيادتها، وهي تعلم أن الغرض الأعظم من هذا الملك إعادة هيكل سليمان لهم لإقامة شعائر دينهم وقرابينهم فيه، وتعلم أن مكان الهيكل في عرفهم هو المسجد الأقصى، وتعلم مكانة المسجد الأقصى عند المسلمين عامة والعرب خاصة وعرب فلسطين بالأخص، ولكن هل تعلم مع هذا أن عند المسلمين من دلائل النبوة وأخبار الرسول صلوات الله عليه وسلامه المتعلقة بهذه المسألة ما هو أصرح مما عند اليهود من مثل ذلك من أنبيائهم؟ ما أظن اللورد بلفور الذي ابتكر عهد الوطن القومي ووعد به الصهيونيين يعلم ما عند المسلمين من الأحاديث النبوية في قتال اليهود ببيت المقدس، وما أظن أنه يؤمن بصحة ما عند اليهود من (النبوات) في ذلك، وما أظن أن وزير المستعمرات البريطانية وسائر أعضاء الوزارة بأعلم من اللورد بلفور في ذلك. فإن كان ظني في غير موضعه فالحكومات الإنكليزية من عهد ابتكار اللورد بلفور لعهده إلى الآن متعمدة حشر ما يمكن من اليهود في فلسطين؛ لأجل إيقاد نار الفتنة بينهم وبين العرب بوازع الدين في الفريقين ومساعدة اليهود على العرب لأجل جعل هذه المنطقة من بلاد العرب يهودية بريطانية فاصلة بين عرب مصر وعرب سورية والعراق، فإن لم يكن فأقل فائدتها من ذلك أن يكون كل من الفريقين المتكافئين فيها معتمدًا على سلطانهم وحاكمهم في حفظ نفسه من الآخر. اليهود الصهيونيون يسوقون سائر اليهود إلى امتلاك البلاد وانتزاع المسجد الأقصى من المسلمين بسائق العقيدة الدينية وقد كان من أنباء هذا الشهر أنهم فتحوا باب الفتنة قبل أن يكون لهم الغلب العددي والحكمي في البلاد. *** مسألة المبكى أو البراق وهو الجدار الغربي من الحرم الأقصى كان يقال: إن اليهود يعتقدون أن كسارة ألواح موسى عليه السلام مدفونة تحت الجدار الغربي من سور الحرم الشريف ببيت المقدس فهم يجتمعون هنالك يبكون ويحيون ذكر مجدهم الديني في هيكلهم، والمسلمون يروون أن البراق الذي ركبه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء قد ربط بهذا الجدار فله مزية عندهم على سائر جدران المسجد ويسمونه (البراق) ، وقد كان من تسامح المسلمين وتساهلهم أن سمحوا لليهود بما ذكر في أيام ضعف اليهود وسلطان المسلمين فطمع هؤلاء بعد الاحتلال البريطاني ومشروع الدولة في تنفيذ عهد بلفور لهم حتى حاولوا في هذا العام الاستيلاء على هذا الجدار وما حوله من بناء على أنه معبد لهم، وصاروا يضعون هنالك الكراسي والمناضد والأضواء في وقت اجتماعهم حتى كان من عدوانهم في عيد الغفران لهم ما يأتي بيانه، وهم يعلمون كما تعلم الحكومة البريطانية في لندن وفلسطين أن هذا من الأوقاف الإسلامية الثابتة بالتواتر، وكان من قواعد ما يسمونه الانتداب في فلسطين أن المعاهد الدينية لجميع الملل تبقى على حالها لا يسمح لأحد بالاعتداء عليها، ولكن عامة اليهود الصهيونيين يعتقدون أنهم ما جلبوا إلى فلسطين إلا لإقامة ملك سليمان فيها وجعلها وطنًا لهم دون غيرهم، فاستعجلوا في هذا العام بالتمهيد لإعادة هيكل سليمان الذي حل محله مسجد الصخرة بامتلاك الجدار الغربي من الحرم وهو أقرب الجدران إلى جامع الصخرة. وإننا نبدأ في بيان عملهم في هذا الشهر وبعض ما أثاره في البلاد ببلاغ حكومة فلسطين الرسمي فيه وهذا نصه: بلاغ حكومة فلسطين في مساء 23 أيلول الجاري أي ليلة عيد الغفران (يوم كيبور) رفع متولي وقف أبي مدين الذي يقع ضمن دائرته الرصيف ومنطقة البراق (المبكى) شكوى إلى جناب حاكم مقاطعة القدس بأن حاجزًا قد أنشئ على الرصيف الملاصق للبراق، وأدخل إليه أشياء أخرى تخالف العادة المتبعة كقناديل كاز وعدد من الحصر وهيكل أكبر من الحجم الاعتيادي، فزار حاكم المقاطعة البراق في أثناء صلاة المساء، وقرَّر عملا بالعادة التي أقرتها الحكومة وجوب رفع الحاجز قبل إجراء الصلاة في اليوم التالي، وأعطى تعليمات بهذا المعنى إلى الشماس القائم بترتيبات الصلاة في البراق محتفظًا بقرراه في مسألة القناديل بإزالته صباح اليوم التالي باكرًا، وقبل تأكيداته بتنفيذ تعليماته، وبلغ في ذات الوقت ضابط البوليس البريطاني القائم بالوظيفة ضرورة رفع الحاجز من مكانه إذا لم يقم بتعهده. فزار ضابط البوليس صباح اليوم التالي البراق، ورأى أن الحاجز لا يزال في مكانه فسأل القائمين بالصلاة أن يرفعوه من ذلك المكان غير أنهم أجابوه بأنهم لا يستطيعون ذلك نظرًا لقداسة ذلك اليوم فرفعه عندئذ رجال البوليس بنفسهم، ولم يكن المصلون عمومًا قد اطلعوا على ما جرى سابقًا، فعندما رأوا البوليس يرفعون الحاجز الذي استعمل لفصل النساء عن الرجال هاجوا وسعى بعضهم لمنع البوليس من رفعه بالقوة، وأخيرًا رفع الحاجز. ويعتبر جلب الحاجز ونصبه على الرصيف تعديًا على الحالة الراهنة مما لا يمكن الحكومة السماح به، غير أن الحكومة تأسف لما حصل من الخوف والانزعاج لجماعة كبيرة من المصلين في يوم مقدس كهذا لليهود، وقد علمت الحكومة أن المراجع اليهودية قد جازت الشماس المسئول عن الحادث بما يستحق على عمله، وقد شددت الحكومة عليهم في ضرورة مراجعة موظفي الحكومة المسئولين عن التدابير المسموح باتخاذها في أثناء الصلاة في البراق في أعياد اليهود الرسمية التي أبديت للمراجع اليهودية عند وقوع مثل هذه الحوادث في البراق في سنتي 1922 و1925 وهذه السنة أيضًا. ولم يكن هنالك وقتئذ ضابط بوليس يهودي؛ لأن جميع البوليس اليهود كان قد أجيز لهم التغيب عن الخدمة يوم عيد الغفران، وستمعن الحكومة النظر في ضرورة وجود ضابط بوليس يهودي في المستقبل بين الذي يرسلون إلى البراق للمحافظة في أعياد اليهود الخطيرة، وفي الختام ترى الحكومة بأن رفع الحاجز كان ضروريًّا غير أنها تأسف لما وقع من جراء رفعه. انتهى. وقد جاء في جريدة الجامعة العربية الغرَّاء التي تصدر في القدس الشريف بعد نشر هذا البلاغ ما نصه: والقارئ لهذا البلاغ يشعر أن الحكومة قد وقفت موقف الضعف محاولة ستر اعتذارها لليهود بأنها تمسكت بوجهة نظرها في ما اتخذته من الإجراءات ضدهم في البراق، وقد كنا نحب أن تظل الحكومة واقفة موقف الحزم، سالكة السبيل الذي يقضي به الحق والعدل والتعامل القديم في مسألة البراق، وأن لا يؤثر عليها هذه المناورات التي يقوم بها اليهود من أجل أمر لا حق لهم فيه على الإطلاق. وقد اتصل بنا من مصدر موثوق أن اليهود قد طلبوا من الحكومة الإذن للقيام بمظاهرة عامة واسعة النطاق يحضرها أفراد عديدون من اليهود من سائر جهات فلسطين، وذلك في يوم الإثنين (اليوم) حيث تذهب جموعهم إلى البراق بالأناشيد بقصد التمويه والتأثير على الحكومة. *** هياج الرأي العام الإسلامي والدعوة إلى عقد اجتماع ولما اتصل بالمسلمين في القدس خبر عزم اليهود على القيام بهذه المظاهرة هاجوا هياجًا عظيمًا وفكروا في ضرورة اتخاذ التدابير اللازمة لرد عادية اليهود فتأسست لجنة من أهل الحمية والغيرة طبعت منشورًا دعت فيه المسلمين إلى حضور اجتماع عام في المسجد الأقصى بعد صلاة العصر (أمس) ، وقد وصلتنا صورة من هذا المنشور فأثبتناها في ما يلي: نداء عام إلى إخواننا المسلمين كافة أيها المسلمون: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: تعلمون أنه قد حدث في هذه الأيام محاولة الاعتداء على مكان البراق المجاور للمسجد الأقصى الذي إليه كان إسراء النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر من هذه المحاولة التي تكررت أمثالها من قبل على غير جدوى، أن القوم الطامعين في الاعتداء على الجانب الغربي من سور المسجد الأقصى مصممون على الأخذ بكل وسيلة للطمع في حقكم وحق جميع المسلمين في هذا البيت العظيم من بيوت الله المقدسة. وإزاء هذه الحالة يتطلب الواجب الديني من كل مسلم أن ينظر بعين الجد واليقظة فيما يَدْهَم المسلمين من خطر عاجل، ولذلك فقد [1] أوجبت خطورة الحالة على المسلمين أن يتشاوروا في هذه الحالة ابتغاء اتخاذ الحيطة لوقاية بيت الله من الاعتداء

دعاية الرفض والخرافات والتفريق بين المسلمين ـ 1

الكاتب: عبد الله محمود شكري

_ دعاية الرفض والخرافات والتفريق بين المسلمين ومُوقِد نارها الشيخ محسن الأمين العاملي خطة المنار في التأليف بين المسلمين يعلم جميع قراء المنار والمطلعين، وكذا الواقفون على النهضة الإصلاحية التي قام بها منشئه على أساس الوحدة الإسلامية منذ ثلاثين سنة أو أكثر أنه كان من سيرته في مجاهدة البدع والخرافات التمثيل لها بما فشا منها بين أهل المذاهب المنسوبة إلى السنة دون ذكر أهل مذاهب الشيعة وغيرهم؛ لئلا يتهمه المتعصبون من هؤلاء بالتعصب، وإن كان يصرح دائمًا ببناء دعايته على أساس نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح وعدم التقيد فيها بمذهب من المذاهب، بل مع تصريحه بما يعتقده من أن التعصب لأي مذهب منها مناف للوحدة الإسلامية ومخالف لنصوص القرآن. وقد اشتهرت قاعدته الذهبية التي دعا إليها علماء المذاهب كلها، وهي نتعاون فيما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما تختلف فيه، وندعو علماء كل طائفة وأهل كل مذهب لمقاومة البدع الفاشية فيهم؛ لتكون دعوتهم أقرب إلى القبول. وقد وافقنا على دعوتنا هذه كثيرون من أهل السنة المستقلين والمقلدين للمذاهب ولكننا لم نر أحدًا من علماء الشيعة نصرنا عليها بالكتابة، وإنما استحسنها بعض المنصفين فيما شافهونا به (كالسيد الشهيرستاني النجفي والسيد عبد الحسين العاملي والمرحوم الشيخ محي الدين عسيران) على أننا لم نسلم من شر متعصبيهم، فقد نشرنا مرة رسالة في أول المجلد 16 من المنار (سنة 1326) لصديقنا العلامة المرحوم الشيخ محمد كامل الرافعي من بغداد كتبها في أثناء سياحته يذكر فيها قيام علماء الشيعة بدعوة الأعراب إلى التشيع، واستعانتهم على ذلك بإحلال متعة النكاح لمشايخ قبائلهم الذين يرغبون في الاستمتاع بكثير من النساء في كل وقت. ولما نشرنا تلك الرسالة في المنار علقنا عليها تعليقًا رجونا أن يحول دون تعصب الشيعة واحتمائهم علينا ورمينا بضد ما نقوم به من التأليف والتوحيد، فقلنا: إن تعليم الإعراب الجاهلين مذهب الشيعة في العبادات والحلال والحرام خير من بقائهم على جهلهم المعهود، وحصرنا توجيه انتقاد الكاتب في وجهته السياسية، وهي ما كان يشوب تلك الدعاية من التنفير من الدولة العثمانية والتحبيب في الدولة الإيرانية إلخ ولم ننشر اسم الكاتب يومئذ لئلا توذيه الحكومة الحميدية لما هو معلوم من حالها. نشرنا هذا في المنار فلم نجد أحدًا منهم هاجه واحتمى عليه إلا هذا المتعصب الجامد على الرفض [1] الشيخ محسن الأمين العاملي على خلاف ما نَقَلَ لنا بعض الناس عنه من إظهار الإنصاف في مجالسه مع علماء السنة من باب التقية، فألف رسالة سماها (الحصون المنيعة، في الرد على ما أورده صاحب المنار في حق الشيعة) لم يكن في تأليفها محسنًا في الرد، ولا أمينًا في النقل، ولكنها فرصة اغتنمها لبث أمرين (أحدهما) فيما ارتأيت في ذلك التاريخ صَدّ نابتة الشيعة في جبل عامل وغيره عن المنار؛ إذ كانت قد أثرت فيهم خطته الإصلاحية ودعوته إلى الاستقلال في فهم الدين من الكتاب والسنة وترك التقليد وعصبية المذاهب فيه، والشيعة أشد الفرق في ذلك حتى الذين يسمونهم المجتهدين منهم، ويفتخرون على أهل السنة بأنهم هم الذين يأخذون بالاجتهاد الذي أقفل بابه أهل السنة، ومن المعلوم ببداهة العقل أن الاجتهاد الحقيقي الذي هو الاستقلال بأخذ الدين من ينابيعه ينافي التمذهب بمذهب معين. (الأمر الثاني) بث مذهب الشيعة بين أهل السنة وترجيحه على مذهب السنة، وجعل مسألة متعة النكاح حجة على هذا الترجيح، فأطال فيها بغير طائل. أرسلت إليَّ هذه الرسالة عقب صدورها فلم أشأ أن أرد على أباطيلها لسببين (أحدهما) مخالفة ذلك لخطتي في التأليف بين فرق المسلمين؛ لأن المجادلات في الانتصار للمذاهب تذكي نار التعصب والشقاق بين أهلها (وثانيهما) أن صاحبها لا يستحق أن يرد على مثله؛ لأنه لا يطلب الحق في المناظرة كما هو شأن المقلدين، ولا سيما المتعصبين الغلاة مثله، فمناظرتهم تضر ضررًا لا يقابله منفعة استبانة الحق لهم فيرجى رجوعهم إليه. وكيف يرد مثلنا من المستقلين ودعاة التأليف على من يستدل على صحة المتعة بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (النساء: 24) فيزعم أن لفظ الأجور لا يصح أن يكون بمعنى المهور؛ لأنه لم يرد في لغة القرآن بهذا المعنى وإنما سماها القرآن الصدقات (بضم الدال) وزعمه هذا يدل على أحد أمرين: إما الجهل بالقرآن ولغته، وإما تعمد تحريفه وقد يجتمعان، فقد قال الله تعالى في سورة الممتحنة في المؤمنات اللواتي يتركن أزواجهن المشركين ويهاجرن إلى المدينة {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الممتحنة: 10) وقال تعالى بعد ذكر حل طعام أهل الكتاب من سورة المائدة: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ} (المائدة: 5) . وإنني لما حررت الدلائل في مسائل متعة النكاح في تفسير سورة النساء من جزء التفسير الخامس وتعرضت لخلاف الشيعة فيها قلت في آخر البحث ما نصه (وهو قد كتب بعد تأليف تلك الرسالة) . (ولا سعة في هذا التفسير لهذه المباحث بل أخشى أن أكون خرجت بهذا البحث عن منهاجي فيه وهو الإعراض عن مسائل الخلاف التي لا علاقة لها بفهم القرآن والاهتداء به، وعن الترجيح بين المذاهب الذي هو مثار تفرق المسلمين وتعاديهم، على أنني أبرأ إلى الله من التعصب والتحيز إلى غير ما يظهر لي أنه الحق والله عليم بذات الصدور - إلى أن قلت: (فإن اطلعنا بعد ذلك على روايات أخرى للشيعة بأسانيدها فربما نكتب في ذلك مقالاً تمحص فيه ما ورد من الطريقين ونحكم فيه بما نعتقد من قواعد التعارض والترجيح وننشر ذلك في المنار) اهـ. وقد أرسل علامة الشام المستقل الشيخ جمال الدين القاسمي (رحمه الله تعالى) رسالة العاملي في أثناء نشرها إلى علامة العراق المستقل السيد محمود شكري الألوسي (رحمه الله تعالى) وسأله عن رأيه فيها فأجابه برسالة تتضمن الرد الشديد عليها وتجهيل مؤلفها، وقد اطلعنا على هذا الرد، ولم نشأ أن ننشره لما تقدم بيانه. ولكن العاملي الرافضي المتعصب عاد في هذه الأيام إلى ما هو شر مما كتبه في تلك الرسالة؛ لأن حرية الطعن والتفريق في ظل الحكومة الفرنسية أوسع مما كان في عهد دستور الدولة العثمانية، فألف كتابًا كبيرًا استغرق خمسمائة صفحة في هذا الموضوع جعل عنوانه الرد على الوهابية، ودس فيه ما يبغي من الدعاية الرافضية، وإثبات الخرافات القبورية، والطعن في صاحب المنار لا فيما نشره مما يخالف مذهبه وتقاليده فقط، بل طعن في شخصه ونقل ما كتبه شاب إيراني فرمسوبي متعصب للدولة الإيرانية ولمذهبها لأنه مذهبها! ! في بعض الجرائد من الطعن الشخصي فيه والافتراء عليه بضد الواقع، ولا سيما في مسألة الشريف حسين وأولاده والاتحاديين فقد زعم أننا كنا نمدح الشريف في وقت عزه وملكه وزهدناه بعد فقده، وهذا كذب وبهتان كما يعلم جميع المطلعين على المنار كزعمه أن فيصلا هو الذي عين صاحب المنار رئيسًا للمؤتمر السوري العام في دمشق وكل الناس يعلمون كالشيخ العاملي أن المؤتمر انتخب صاحب المنار لرياسته انتخابًا، وأنه ما كان لفيصل أن يعينه تعيينًا. طالبني بعض أهل السنة بالرد على هذا الكتاب وقد تصفحت أهم مسائل أبوابه في زهاء ثلاث ساعات فرأيت فيها من الكذب في النقل أو الاقتصار منه على ما يوافق هواه ومن الدعاوي الباطلة والكلم المحرف عن مواضعه وتأويل النصوص القطعية ما يبخل الحريص على وقته أن يقرأه كله فكيف يضيعه في الرد على كل ما فيه من الباطل؟ ولكن في نشر هذا الكتاب ضررًا عظيمًا وإفسادًا كبيرًا لعقائد المسلمين كافة وعقائد أهل السنة خاصة؛ لما فيه من الشبهات الكثيرة الصادرة في صور الأدلة على عبادة موتى الصالحين بالدعاء وغيره وتحريف نصوص القرآن الصريحة في منع ذلك كقوله تعالى: {فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} (الجن: 18) وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} (الأعراف: 194) وقوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (الإسراء: 57) أي أولئك الذين يدعونهم من دون الله توسلاً بهم إليه هم يبتغون الوسيلة والقربى إلى الله {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (الإسراء: 57) أي يبتغي ذلك أقربهم إلى الله كالمسيح عليه السلام والملائكة فكيف من دونهم؟ كما أنه يرد بعض الأحاديث الصحيحة الواردة في ذلك؛ لأنها من رواية أهل السنة، أو يحرفها بالتأويل. وما أضعف المسلمين في دينهم ودنياهم شيء كما أضعفهم وأفسدهم الاتكال على الميتين في قضاء حاجاتهم ومصالحهم ودفع الأذى عنهم، فهذا مما يضر أهل السنة والشيعة، ولا سيما في هذا العصر، وهو يوهم الفريقين أنه من الإسلام وأنه لم يخالف فيه أحد منهم إلا الوهابية، مع أنه لم يقل به أحد من أئمتهم لا أئمة أهل البيت كالصادق والباقر ولا أئمة الأمصار الآخرين كالأربعة رضوان الله عليهم أجمعين، بل النصوص عن أئمة أهل البيت عليهم السلام موافقة للأحاديث الصحيحة من منع هذه البدع الخرافية كما يعلم من المناظرة بين العالمين الشيعي والسلفي المستقل التي نشرناها في المجلد الثامن والعشرين من المنار. ومثال ما يضر أهل السنة وحدهم ما صوَّره الرافضي المتعصب في رسالته وكتابه لهم من أن أصول الدين والفقه عند الشيعة وأهل السنة واحدة، وإنما الفرق الوحيد بينهما مسألة حب آل بيت الرسول عليه وعليهم السلام وموالاتهم والاحتجاج بما رواه أئمتهم عنه وما اجتهدوا فيه وهو ما نبينه فيما يلي مع الإشارة إلى دسيسته فيه. *** الفرق بين السني والشيعي يزعم الشيخ العاملي في الفرق بين السني والشيعي أن أصول أهل السنة والشيعة في العقائد والأحكام واحدة وأن الخلاف بينهما هو كالخلاف بين فقهاء السنة، وإنما يمتاز الشيعة بأنهم هم الذين (يوالون ويتتبعون أهل البيت الطاهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيرًا، الذين دخلوا مدينة العلم النبوي من بابها وتمسكوا بالثقلين كما أمرهم نبيهم) وهو يكرر هذا القول الذي نقلناه من آخر كتابه الجديد وقد قال بعده: (وهم مسلمون يقرون الله بالوحدانية ولنبيه بالرسالة ويلتزمون بجميع ما جاء به من عند ربه مما اتفق عليه جميع المسلمين [2] ويرجعون فيما اختلفوا فيه إلى أقوال الأئمة الذين إن لم يكونوا فوق الأئمة الأربعة وفوق ابن عبد الوهاب في العلم فليسوا دونهم) وقد ذكر في مقدماته فصولاً في أصول الدين التي هي دلائل الأحكام يوهم قارئها من غير علماء السنة أنها اتفاقية، وفيها ما سنشير إليه من الدسائس. وقد سبق له تفصيل للتفرقة بين الطائفتين في رسالته (الحصون المنيعة) ذكر فيها أن المسلمين كانوا في أول الإسلام (فرقة واحدة حتى قتل الخليفة الثالث وبويع الخليفة الرابع فلم يجد أعداؤه وسيلة إلى هدم خلافته والقدح فيه أقوى من نسبة

كيف يتكون المرشدون

الكاتب: محمد عبد العزيز الخولي

_ كيف يتكون المرشدون [1] للأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء (4) نماذج في صناعة الخطب عرفناك أن مادة الخطبة: (1) موضوع مُتَخَيَّر وتفكير فيه يوضح المنافع أو يبين المضار (2) وآيات بينة وأحاديث صادقة تلائم الموضوع، أما تخير الموضوع والتفكير فيه فأساسه حكمة العقل، وسلامة الذوق، وأما الآيات فدونك كتاب الله فيه الغنية إن كنت له قارئًا، ولآياته متدبرًا، وأما الأحاديث فلا يميز صحيحها من عليلها إلا الناقد البصير، ولا يقف على ما ترتبط بموضوعه منها إلا الخبير بها، وقد وَفَّقَ الله صديقنا المفضال الأستاذ الشيخ محمد العدوي المدرس بالقسم العالي بالأزهر فوضع كتابه (مفتاح الخطابة والوعظ) الذي جمع فيه الآيات والأحاديث المقبولة المتعلقة بكل موضوع من موضوعات العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق مما أغنى المرشد عن طويل البحث وسهل له طريق الوعظ، وسنتخذ منه مادة لبعض ما نضعه من النماذج لينسج الخطباء على منواله، إن لم يوفقوا لمثاله. *** النموذج الأول في حس\ن المعاشرة بين الزوجين (الآيات الواردة في الموضوع) : {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) ،] وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً [2 {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231) ,] وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [3 { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228) . *** (الأحاديث الواردة فيه) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وخياركم خياركم لنسائهم) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي) رواه ابن حبان في صحيحه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيرًا فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإذا ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء) رواه البخاري ومسلم. عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت) رواه أبو داود. عن عمرو بن الأحوص الجشمي رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: (ألا واستوصوا بالنساء خيرًا فإنما هن عوان [4] عندكم ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربًا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ألا إن لكم على نسائكم حقًّا ولنسائكم عليكم حقًّا، فحقكم عليهن أن لا يوطئن فراشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن) رواه ابن ماجه والترمذي وقال: حسن صحيح. وروى الحاكم من حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها، ولا تجد امرأة حلاوة الإيمان حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على ظهر قتب [5] ) . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعا الرجل امرأته لفراشه فلم تأته فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح) رواه البخاري ومسلم. وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه) رواه البخاري. *** البحث العلمي في الموضوع يتحقق حسن العشرة بما يأتي: (أ) من جانب الزوج يكون: (1) بالإنفاق على زوجته من غير تقتير ولا إسراف. (2) بالعدل بينها وبين غيرها من الزوجات أو القريبات إن كن. (3) بالابتعاد عن هجرها وإيذائها بلا مبرر، وبترك الغيبة عنها خارج المنزل إلى ساعة متأخرة من الليل. (4) بألا يمسكها تحت يده ضرارًا؛ ليعتدي عليها. (5) بإرشادها إلى طرق الخير وحثها على سلوكها والابتعاد عن مواطن الشر. (6) بألا يمنعها من زيارة أهلها في الأوقات المناسبة. (ب) من جانب الزوجة يكون: (1) بطاعته في كل معروف، ومن ذلك إجابتها له إذا دعاها إلى الفراش. (2) بالنظافة في نفسها وأولادها وخدمها وبيتها. (3) بالمحافظة على نفسها وبناتها وماله وسره. (4) بالإحسان في تدبير المنزل وتربية الأولاد والقيام على أخلاقهم. (5) بعدم إرهاقه في طلبات الملابس وأدوات الزينة. (6) بألا تدخل أحدًا يكرهه منزله بلا إذنه. (7) بألا تخرج من بيته بدون استئذانه. (8) بأن تواسيه بمالها إن انتابته نائبة أو مسته عسرة. (ج) من جانب كل منهما يكون: (1) باستعمال كل منهما الأدب مع صاحبه في المحادثة والمحاورة وتجنب بذيء الكلام وفاحش القول. (2) يسعى كل منهما في دفع ما قد يحل بالآخر من مرض أو بلاء في المال أو الأهل أو تخفيفه. (3) بالصبر على ما قد يكون في خلق الآخر من انحراف مع السعي في مداواته وعدم المسارعة إلى الخصام أو الفراق. (4) عمل كل ما من شأنه أن يجلب سرور الآخر ومودته ما دام ذلك في دائرة المشروع والمعروف، فلا يرى إلا جميلاً، ولا يسمع إلا حسنًا، ولا يشم إلا طيبًا. أما ثمرات حسن العشرة فهي ما يأتي: (1) المحبة بين الزوجين وهي أساس السعادة المنزلية. (2) الصحة في الجسم والراحة في البال والاقتصاد في المال. (3) تخلق الأولاد بالأخلاق الطيبة وتعودهم الأعمال الصالحة. (4) الرغبة في الاتصال بهذه الأسرة بمصاهرتها والمصاهرة إليها. (5) التعاون على شئون الحياة. (6) صلاح الأمة بصلاح الأسرة التي هي وحدتها ومثال مصغر منها. *** الصوغ الخطابي أو الخطبة الحمد لله جعل السعادة المنزلية في القيام بواجب الزوجية، وجعل صلاح الأمة في صلاح الأسرة، فالأمة المكونة من أُسَر صالحة، ذات أخلاق عالية، وعلاقات طيبة، أمة راقية، جديرة بالمكانة السامية، والكلمة النافذة، أشهد أن لا إله إلا الله جعل كلاًّ من الزوجين سكنًا لصاحبه يفضي إليه بسر نفسه، ويلقي إليه زمام أمره ويطمئن إليه في كل شأنه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصَّانا بالنساء خيرًا لضعفهن، وكان أحسننا قيامًا بحقوقهن، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه واقتفى أثره. (أما بعد) فإن خير البيوت ما عُمِرَ بحسن العشرة، والألفة والمحبة والمودة والرحمة، وشرها ما ساءت فيه العلاقات، وتقطعت بين أفراده الصلات، وما حسن العشرة إلا بمراعات كل من الزوجين حق صاحبه، وإخلاصه في القيام بواجبه فيا معشر الأزواج أنفقوا على زوجاتكم مما رزقكم الله وحذار أن تقتروا عليهن أو تسرفوا، فإن ذلك مفسدة للأخلاق، ومجلبة للشقاق {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} (الطلاق: 7) . يا معشر الأزواج: اعدلوا بين الزوجات إن كن متعددات، ولا تفضلوا بعضهن على بعض في المبيت أو النفقة، أو مسكن أو كسوة؛ لئلا تشعلوا بينهن نار العداء، فيفسدن أمر بيوتكم، ويورثن الأحقاد أولادكم، فيكونوا أعداء متباغضين، لا إخوة متحابين متعاضدين. إياكم وهجر الزوجات بلا سبب أو إيذاءهن بلا مبرر، فإن ذلك موحش لقلوبهن، ومنبت للعداوة في نفوسهن: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِياًّ كَبِيراً} (النساء: 34) . إياكم والسهر خارج المنزل إلى ساعة متأخرة من الليل، وربما كان ذلك في فجور وفساد، فإن ذلك ممل لقلوبهن، وأدعى لارتيابهن، ومحرك للفتنة في نفوسهن، وقد يسول لهن الشيطان ما لا تحبون، ولبناتكم ما لا تودون، فاعمروا بيوتكم بحضوركم، وآنسوا أهلكم بحديثكم، واملئوا عيونهن بأعيانكم، إياكم إذا لم يرد الله وفاقًا بينكما، ولم تتلاءم طباعكما، ولم يكن من سبيل لإقامة حدود الله فيكما، إياكم أن تمسكوهن في هذه الحال ضررًا لتعتدوا عليهن، وتسلبوهن حقوقهن، فإن ذلكم ظلم لنفوسكم ومضرة بكم، وقد أذن الله لكم وقتئذ في فراقهن {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} (البقرة: 231) وحذار أن تضيقوا عليهن في حقوقهن المشروعة، فلا تمنعوهن من التصرف في أموالهن، وزيارة أهلهن وأقاربهن، والذهاب إلى بيوت الله لسماع العظة، وإقامة الصلاة، فإنكم إن شددتم في مضايقتهن خشي انفجارهن فلا يأتمرن بأمر، ولا ينتظرن الإذن، ولا يقفن في الخروج عند حد. أرشدوهن إلى كل معروف، فعلموهن الدين، وحفظوهن كتاب الله المبين، واسلكوا بهن طريق الأخلاق الطيبة والأعمال الصالحة، وحذروهن من الشر أن يقترفنه، ومن الإثم أن يخالطنه، ومن دور اللهو والخلاعة أن يذهبن إليها، ويدنسن نفوسهن بما احتوت عليها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) . أما الزوجات فواجب عليهن إطاعة أزواجهن في كل معروف، فلا يعطلن لهم أمرًا، ولا يخالفن لهم نهيًا، فإن دعوهن إلى الفراش فالواجب الطاعة والامتثال؛ لأن المخالفة موحشة للقلوب، موغرة للصدور، موجبة للنفور، وعليهن المحافظة على أموالهم، وبيوتهم وأولادهم، وليصن أعراضهن وأعراض بناتهن {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} (النساء: 34) ولتكن النظافة في مقدمة ما تراعاه المرأة في بيتها، ونفسها وأولادها وخدمها، فإن النظافة من الإيمان، ونِعْمَ هي المسرة للإنسان، ولتكن في بيتها حكيمة، مدبرة غير مقصرة ولا مسرفة، ولتكن أسوة لمن حولها في حسن أخلاقها وجميل أعمالها، والمحافظة على واجبها، وإياها أن تكلف زوجها ما لا يطيقه أو ترهقه في مطعم أو كسوة أو زينة أو بهرجة، فإن ذلك متلفة للأموال مفسدة للأخلاق، وإياها أن تدخل بيته من لا يحبه أو تخرج منه بغير إذنه، أو تمنع عنه ثروتها إن قل ماله أو ساءت حاله، فإن ذلك مما يثير العداوة ويفسد العلاقة. وليحافظ ك

الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم قد تم طبع الجزء التاسع من هذا التفسير السلفي العصري الروحي الاجتماعي المدني السياسي الوحيد في كتب الإسلام، ومما يقال فيه: إنه هو المشتمل على كل ما ذكر الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في مذكرته الإصلاحية من المزايا والمعارف والهداية التي يجب درس التفسير لأجلها وزيادة. وحَسْبُ طلاب تفسير كتاب الله تعالى للفهم والتفقه والتدبر والهداية لما فيه سعادة الدارين للأفراد والأمم أن يعلموا أن هذا التفسير قد حوى خلاصة دروس الأستاذ الإمام الأزهرية في خمسة أجزاء وجرى على منهاجه وزاد عليه ما تعلم قيمته مما يأتي. روى لنا صاحب السماحة السيد محمد توفيق البكري في هذه الأيام بعد عودته معافًى من المستشفى ولله الحمد بمناسبة ذكر التفسير، وما كان من إعجاب الناس بدروس الأستاذ الإمام في الأزهر، وما امتاز به من العلم والعرفان قال: كنت راكبًا مع أستاذنا في ليلة من ليالي رمضان فسألته في أثناء حديث معه فيه: إلى من نرجع في ذلك إذا لم تكن حاضرًا؟ فقال: إلى السيد رشيد رضا صاحب المنار. وهاؤم اقرؤوا بعض شهادات كبار العلماء المستقلين في هذا التفسير. كتب الأستاذ الفاضل الشيخ محمد العدوي مدرس التفسير والحديث في القسم العالي من الأزهر الشريف في تقريظ له ما نصه: (تفسير المنار فيما أعلم هو أمثل تفسير يتناسب مع روح العصر الحاضر، يتجلى فيه لقارئه عظمة التشريع الإسلامي بأسلوب جذاب، يفيض على قارئه هداية، ويبعث فيه روح الحياة العملية، ويعده لأن يكون عالمًا دينيًّا، وباحثًا اجتماعيًّا، وأستاذًا أخلاقيًّا، يريه أسباب تفرق الأمة، ثم يريه كيف يجتمع شملها، ويبين له ما أدخله أعداء الدين عليه من البدع والمحدثات، ثم يرسم له طريق تطهيره منها....) . ثم بيَّن مزايا هذا التفسير في مباحث اللغة والأحكام الشرعية من الأصول والفروع والعقائد وقصص الرسل وفي سنن الاجتماع والأخلاق بما تحتاج إليه الأمة في هذا العصر ولا تجده في غيره. وكتب الأستاذ الفاضل الشيخ علي سرور الزنكلوني مدرس التفسير والحديث في القسم العالي من الأزهر الشريف أيضًا بمناسبة صدور الجزء الأول من هذا التفسير بعد صدور سبعة أجزاء من قبله مخاطبًا لمؤلفه. أما بعد فقد طلع على العالم الإسلامي في هذه الأيام الجزء الأول من تفسير القرآن الحكيم الذي دبَّجه يراعك، وأحكمه تفكيرك ورسوخك في علوم الدين، فقد أودعت فيه من آيات العلم والحكمة ما يشهد لك بالنبوغ والتفوق على رغم حسادك ... ) . ثم جاء بثناء طويل عليه وعلى مجلة المنار وحاجة الناس إليها، وبيان مزايا المرشدين المتأخرين على المتقدمين ما عدا الأنبياء عليهم السلام إثباتًَا لمزاياهما، وعاد بعده إلى الكلام على التفسير فقال: (وقد كان من مزيد توفيق الله لك أن خصصت جزءًا عظيمًا من وقتك لتفسير كتاب الله تعالى على طريقة لم تُسْبَق إليها من كبار رجال التاريخ في عصور الإسلام، فقد وجهت فيه كل عنايتك إلى بيان أغراض الكتاب والكشف عن مراميه، وأجهدت نفسك في لفت العقل إلى روح التشريع الإلهي وإظهار سره في الوجود. ولم يفتك المهم من الأبحاث الاصطلاحية التي ألهت جمهور المفسرين عن غرض الكتاب الأسمى، وصرفتهم عن الغاية التي من أجلها نزل الكتاب الكريم وهى الهداية والسعادة) . ثم ذكر أن واضع هذه الطريقة ومحكم أساسها هو شيخه وشيخنا الإمام رحمه الله تعالى، وأن صاحب المنار هو الذي أحكم البناء إلى التمام، واستطرد إلى ظهور الجزء الأول من التفسير فقال فيه: (وفي الحق أن هذا السفر آية من الآيات، ومعجزة من المعجزات في التفسير إلى اليوم) إلى أن قال: (وفيه من الإبداع ما لا عهد لنا به، ومن الزيادات ما لم يشافهنا به الأستاذ الإمام في درسه) . ثم اقترح على صاحب المنار تأليف (تفسير متوسط ينتفع به العامة والخاصة) وكتب العلامة الشيخ أحمد إبراهيم أستاذ الشريعة الغراء في كلية الحقوق بالجامعة المصرية تقريظًا حافلاً بدأه بوصف مجلة المنار بتناول جميع وجوه الإصلاح الإسلامية مما لم يتيسر في جملته لغير صاحبها، وبكونه يدعو كل من آنس فيه الاستعداد للخير إلى قراءتها، وبنظمه لما كان ينثره شيخه الأستاذ الإمام من اللآلئ في دروس التفسير التي كان يلقيها في الأزهر والزيادة عليها مما فتح الله عليه من نفيس الفرائد قال: (ثم انفردت به بعد أن استأثرت بالشيخ رحمه ربه فكنته فيما استقللت به، إلخ) . ثم ذكر الجزء الأول بمناسبة صدوره فقال فيه: فرأيت نور الهداية الربانية قد فاض عليه وغمره من أوله إلى آخره) . ثم قال في آخر هذا التقريظ: (وإن خير تفسير لكتاب الله تعالى على ما نعلم من حيث هو كتاب هداية وإرشاد لهو تفسير المنار، أقول لك ذلك أيها العالم الموفق غير مداج ولا ممالئ، بل أترجم لك عما تتحدث به نفسي) . (غير أني أقترح عليك وأرجو أن يسمح لك وقتك بما أقترح أن تقتبس من هذا التفسير الممتع تفسيرًا مختصرًا يحتوي زبدته؛ لينتفع به العامة ومن لا يتسع وقته لقراءة التفسير المطول) . (أسأل الله تعالى أن يكون معك ويمدك بروح منه، ويهبك القدرة على إتمام هذا التفسير ومختصره، إلخ) . وكتب العالم العامل الأستاذ محمد بهجة البيطار مدير المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة تقريظًا للتفسير ذكر فيه له عشر مزايا قد انفرد بها ثم قال في آخره: (ألا وإن خصائص هذا التفسير لكثيرة، وقد ذكرنا أهمها وإذا كان شرف العلم تابعًا لشرف الموضوع فتفسير السيد الإمام لكتاب الله تعالى على هذه النحو الذي أشرنا إليه هو أفضل ما ينفق فيه المرء أعوامه وأمواله، وأستاذنا يعلم قيمة وقته الثمين، وتفسيره العزيز، وحاجة عصرنا إلى مثله، وعدم الاستغناء عنه بغيره، فنسأل الله تعالى أن يبارك للمسلمين في وقته وفي عمره، وييسر له التفرغ إلى إتمامه برحمته وفضله) . وكتب العالم الأديب، والكاتب المجيد، الأستاذ الشيخ سليمان أباظة الأزهري المدرس في بيت الله الحرام وهو ممن تلقوا بعض دروس التفسير على المؤلف يقترح في كتاب له المبادرة إلى وضع مختصر لهذا التفسير فقال ما خلاصته: (أحمد الله على ظهور هذه النعمة، وآمل أن أرى في الترتيب العاجل تمام هذا التفسير الجليل، على هذا النسق الجليل، الذي يشبع عقل الباحث تغذية وريًّا ويجعله عن غير غنيًّا، كما آمل أن أرى في الأقرب الأعجل خلاصة لهذا التفسير تكون صالحة لقراءتها ودرسًا عامًّا تستفيد منه العامة قبل الخاصة ليسهل على المعلم تأدية مهمته في تعليم ذلك السواد الأعظم، دين الله سلما صحيحًا سهلاً، خلاصة على ذلك الطراز الجميل البديع الذي كنا معشر تلاميذ السيد نسمعه منه في الدرس، ذلك الطراز السهل على السيد فقط الممتنع على غيره إلخ ما كتبه من الإطراء، ونحن نَعِدُ هؤلاء المقترحين للتفسير المختصر وغيرهم بأننا نبدأ به في الشهر الآتي إن شاء الله تعالى. *** مزايا الجزء التاسع ومما امتاز به الجزء التاسع من المسائل الاستطرادية بحث طويل في أخبار عمر الدنيا وخبط بعض العلماء في تحديده ولا سيما السيوطي عفا الله عنا وعنه، وبحث آخر في أحاديث الفتن وأشراط الساعة كالدجال والمهدي وما فيها من التعارض والإشكالات حتى الصحاح منها، ويدخل هذان البحثان في 37 صفحة وقد ختم بسبع قواعد تفيد في حل مشكلات الأحاديث المتعارضة والمشكلة. (ومنها) مسألة رؤية الرب تعالى في الآخرة وخلاف أهل السنة والمعتزلة والصوفية وغيرهم (كالشيعة) فيها من جهة دلالة النصوص ومن جهة النظريات العقلية، وتحقيق كونها ليست من المسائل القطعية، ويدخل في هذا البحث الكلام على الحُجُب بين العبد والرب ومنها النور وفيها الكلام على النور الحسي والمعنوي والكهرباء وأول ما خلق الله تعالى، ومن أهم فوائده تطبيق مذهب السلف في هذه المسألة على آخر ما وصل إليه بحث علماء الكون في التكوين والمادة والقوى والمخلوق الأول. ويدخل فيه أيضًا بحث الكشف وإدراك النفس للأشياء من غير طريق الحواس والعقل، ومباحث الرؤى والأحلام والرؤية في العمل النومي والتنويم المغناطيسي على طريقة علماء هذا العصر، وكذا بحث الأرواح وتجليها في الصور وتشكل الملائكة والجن في الصور المادية. (ومنها) مسألة كلام الله تعالى وتكليمه لموسى وغيره ويدخل فيه بحث الكلام النفسي والكلام اللفظي وما اخترع البشر من الآلات لنقل الكلام كالتلغراف والتليفون. (ومنها) تحقيق الحق في آيات الصفات الإلهية وأحاديثها وهو مذهب السلف الصالح، وقد أفرغ الفصل الاستطرادي لهذه المسائل الثلاث في 61 صفحة. (ومنها) مسألة بشارات الأنبياء في التوراة والإنجيل والزبور وغيرها بالنبي الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه بحث حقيقة التوراة والإنجيل وهو يدخل في 80 صفحة. (ومنها) بحث معنى اتباع الرسول وموضوعه أي ما يجب اتباعه فيه مما هو دين وتشريع ولوازمه والفرق بينه وبين العادات وأمور الدنيا التي فوضت إلى اجتهاد الناس وكسبهم وبحث تبليغ دعوة الإسلام ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس. (ومنها) بحث توحيد الإسلام في الدين والحكم واللغة وكون اللغة العربية لغة الإسلام ووجوب تعلم جميع المسلمين لها، وما يتعلق بذلك من وجوب إزالة العصبيات الجنسية واللغوية المفرقة بين المسلمين الملقية للعداوة والبغضاء بينهم. (ومنها) وهو من ملحقات ما قبله حظر ترجمة القرآن باللغات المختلفة ليكون قرآنًا لكل شعب إسلامي يتعبد به بلغته فهذا غير جائز؛ لأنه مخالف لنصوص القرآن في كونه عربيًّا أنزل باللسان العربي وكان آية ومعجزة بلغته ومتعبدًا به بلغته إلخ، وكونه ينافي مقصد الإسلام من وحدة المسلمين وجعلهم أمة واحدة متحدة لا يصدع وحدتها خلاف، وفيه بيان غرض إقدام الترك الكماليين على ترجمته، وهو التمهيد لترك الإسلام نفسه وهذا البحث وحده قد استغرق 60 صفحة من التفسير وأعظم مزايا هذا الجزء ما جاء به من خلاصة لسورة الأعراف تدخل في ستة أبواب، ثلاثة منها في أصول العقائد الثلاث الإلهيات والنبوة والبعث وما وراءه، و (4) في أصول التشريع وقواعد الشرع العامة و (5) آيات الله وسننه في الخلق والتكوين وفيه 14 أصلاً، و (6) في سنن الله تعالى في الاجتماع والعمران البشري وشئون الأمم المعبر عنه في عصرنا بعلم الاجتماع وفي 7 أصول. وقد بلغت صفحات هذا الجزء مع الفهرس الأبجدي وجدول أغلاط الطبع 702 فهو في حجم الجزء السابع الذي يباع بثلاثين قرشًا، وقد رأينا أن نوحد ثمن أجزاء التفسير فنجعل ثمن كل جزء منها 25 قرشًا لا فرق بين الكبير كهذين الجزأين والصغير كالجزء الثاني الذي تنقص صفحاته عن 400 والوسط بينهما، وهذا سعر الورق المتوسط ويزاد في سعر الجزء من الورق الجيد خمسة قروش. وأما باعة الكتب وطلبة الأزهر وسائر طلبة المدارس فننقص لهم من ثمن كل جزء من الورقين خمسة قروش، وكذا وزارة المعارف ومن يشتري خمسة أجزاء فأكثر.

خطر هجوم الكماليين على الإسلام

الكاتب: عبد الحميد الرافعي

_ خطر هجوم الكماليين على الإسلام استبدال الأحرف اللاتينية بالحروف العربية وجوب محاربة هذا الخطر على العالم الإسلامي أريد اليوم أن أوجه هذه الكلمة لأول مرة إلى الشباب الإسلامي في كل بقاع الأرض وإلى شباب الأمة العربية خاصة ليتدبروا أمرهم في هذا الهجوم المكشوف الذي يقوم به الكماليون لمحو الإسلام من الدنيا بما يخترعونه من الأساليب الشيطانية في بلادهم، وما يبثونه من الدعاية ضد الدين الإسلامي في الشرق والغرب، وأريد أن يفهم هذا الشباب المسلم أن مقاومة هجوم الكماليين هذا بات فرضًا مقدسًا عليهم ليستطيعوا الاحتفاظ بدينهم هم وذراريهم المستقبلة، فإن أعداء الإسلام في أنقرة لم يجدوا أمامهم عملاً يقومون به في هذه الأيام لإتمام هذا الغرض إلا استئجار الكتاب من أوربيين وشرقيين بأموالهم وأموال المبشرين لنشر الدعاية ضد الإسلام، حتى صار أعداء هذا الدين من سياسي أوربة يستخدمون المحاضرات العلمية لإقناع الطلبة الشرقيين في أوربا باستبدال الأحرف اللاتينية بالعربية كما فعل ذلك الأستاذ لويس ماسينيون مدير معهد الكليج فرانسز في باريس للقضاء على القرآن بالقضاء على الأحرف العربية تأييدًا لدعاية الكماليين المأجورة. وإلى شباب الإسلام والقراء عمومًا نبذة من مقال لأحد الكتاب الأوربيين الذين تستأجرهم أنقرة لنشر دعايتها تبريرًا لخطتها الجديدة في محاربة الإسلام وتأييدًا لمزاعم الكماليين في الدين الإسلامي والعرب. قال الكاتب: م ج السويسري من مقالة نشرها بجريدة جورنال دي جنيف: (إن أهم إصلاح يحاول مصطفى كمال أن يقوم به في بلاده هو قلب أفكار شعبه لينفرهم من الدين الإسلامي، وفي وسعنا أن نقول: إن الإسلام في تركيا يختلف اختلافًا بيِّنًا عما كان عليه قبلا في زمن الخلفاء العثمانيين أو في باقي الأقطار الإسلامية، وإن مصطفى كمال بعمله هذا قد طهَّر عقيدة الأتراك من خرافات هذه الديانة وأساطيرها القديمة، واعتقاداتها العقيمة التي لا تلائم العصر الحديث، ثم ساق الكاتب السويسري الحديث الذي لقنه إياه الكماليون على هذا النمط فقال: (لقد أثبت التاريخ أن الدين الإسلامي لم يحدث فيه العلماء أي إصلاح منذ قام محمد بدعوته أي منذ 13 قرنًا، وبهذا كانت الشقة بعيدة بين المدنية الحديثة وهذا الدين. ولنضرب لذلك مثلاً: إن الشريعة الإسلامية تُحَتِّم على كل مسلم أن يصلي خمس مرات في النهار، وعليه أن يكون متوضئًا في كل مرة، أي عليه أن يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين ويمسح رأسه إلى آخر ما هناك من الصعوبات الجمة كخلع الحذاء وتشمير الثياب، وكم من فقراء سرقت ثيابهم وهم يصلون فطلقوا هذا الدين ثلاثًا، فهل بلغ بنا الخبل إلى أن نخلع أرديتنا ونبلل ثيابنا ونشوه كي (بناطليلنا) خمس مرات في اليوم. (ولأجل أن يبرر الصلاة على طريقة البروتستانت كما أعلنا ذلك في وقته قال: قال أحد الأتراك الأتقياء: أما أنا فقد كنت أكره الدخول إلى المسجد بسبب واحد وهو الرائحة الكريهة التي تنبعث من أقدام المصلين وكنت أضطر أحيانًا لمغادرة المسجد قبل قيام الصلاة خوفًا على نفسي من الاختناق. ثم قال: ويريد المصلحون أن تستبدل السجاجيد بالكراسي ويستعاض عن أصوات الحفظة والمشايخ التي تكون مضحكة في أغلب الأحيان بالأنغام الموسيقية، وعندها تمتلئ المساجد بالمصلين الحاسري الرءوس؛ ولقد حذا الأتراك في طريق عبادتهم حذو الأوربيين؟ وأصبحت الآن أنقرة الكعبة الجديدة للدين الإسلامي الجديد [1] فهل يحذو العرب حذو الترك فيخلصوا من هذه التقاليد التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ هذه كلمة اجتزأناها من مقالة الكاتب السويسري ينشرها في أوربا بأموال الترك وعقليتهم لم يستطع المبشرون قبل الكماليين أن ينشروا مثلها في أوربا مطلقًًَا على شدة حقدهم على الإسلام، والذي نلفت إليه الأنظار أن هذه المقالة ليست من بنات أفكار الكاتب الأوربي المؤجر، بل هي إملاء الكماليين أنفسهم فإن ما يكتبه هؤلاء المأجورون لا يخرج عما يقوله الكماليون في الإسلام سواء في بلادهم أو في خارجها، من الأقطار الشرقية والغربية، حتى إن جريدة مخادنت التي تصدر في مدينة القاهرة تكتب على ملأ من الناس أن مصدر تأخر الترك اللغة العربية أو بالحري الإسلام. وإذا دققت النظر فيما ينشر في أوربا ومصر تجد أن روح الكماليين لا تقف عند القضاء على الإسلام في تركيا، بل هي ترمي إلى محو الإسلام من جميع الأقطار، وقد باتت الخزانة السرية تنفق على هذه الدعاية أموالاً طائلة من أموال المسلمين لقتل الإسلام بجرأة غريبة يردد صداها المبشرون المسيحيون مع السياسيين الأوربيين الذين يرون أن أهم وسيلة لاستعمار البلاد الإسلامية القضاء على الدين الذي يدعو أهله إلى إنشاء الدولة والدفاع عنها بالنفس والنفيس فيجعل من المسلم شخصية كاملة أساسها عزة النفس بالفضائل الإسلامية، والرأي المتفق عليه بين المطلعين على نية الترك هو أن الغاية الأولى من هذه الحركة التي لم يعهدها الإسلام في الحرب الصليبية هي التزلف لأوربا، وهذا كل ما يرمي إليه مصطفى كمال. هذه حالة لم تمر بحياة الإسلام في دور ما من أدوار قوته وانحطاطه، وأعظم ما في الكارثة من سوء سكوت المسلمين عنها، ووجود بضعة أشخاص منهم يؤجرون ضمائرهم لإذاعتها والدفاع عنها، حتى بلغ الانحطاط الأخلاقي والتسفل الأدبي بهؤلاء أنهم يذيعون بين العامة في مصر والإسكندرية أن مصطفى كمال من أعظم المسلمين غيرة على الإسلام وأن أعماله هذه التي ظاهرها عداء شديد للإسلام ليست إلا مظاهر ليخدع بها أوربا حتى إذا تمكن من خديعتها حملها على التخلي له عن بلاد الإسلام التي احتلتها بغفلة الترك في الماضي (كمصر) ومن ثم يعيد لها استقلالها ... فهل سمع العالم بعقلية أخطر من عقلية هؤلاء الدعاة الذين يذيعون في هذا القطر أمثال هذا الهذيان؟ وهل هناك أشد احتقارًا للمصريين من هذا الاحتقار. بعد هذه المقدمة نستميح إخواننا الأتراك الذين لم تؤثر فيهم جناية الكماليين، والذين يألمون كما نألم من وصول الحال إلى ما وصلت إليه في تركيا وسريانها لأفغانستان وإيران واضطراب العالم الإسلامي لها، نستميح هؤلاء الإخوان الكرام أن يعذرونا؛ إذ نحن دافعنا عن القرآن والعربية اللذين يعمل الكماليون بإرشاد البولشفيك على مطاردتهما، والحط من شأنهما، وإذا كانت أوربا وقفت كلها صفًّا واحدًا بما فيها الكنائس المنظمة والشعوب القوية والحكومات المسلحة في وجه البولشفيك دفاعًا عن الدين المسيحي فما أجدرنا أن نتحد نحن - بعد أن ساق الروس الحمرُ التركَ الكماليين أمامهم للقضاء على الإسلام- للوقوف في وجه هذا الخطر. يحب أن نفكر جيدًا في هذا ونقوم بالواجب له حق القيام. هذا وإن دعاية الكماليين الحمراء تقوم على أساسين: الأول أن الدين الإسلامي لا يصلح لحياة الترك الجديدة، وهذه نفس دعاية المبشرين المسيحيين والسياسيين الأوربيين، والثاني أن اللسان العربي بما فيه أحرفه العربية آية انحطاط العنصر التركي والعثرة الحقيقية في سبيل رقي الترك. أما أن الإسلام لا يصلح للحياة الجديدة فنحب أن نسأل مصطفى كمال ما قيمة هذا العنصر التركي في الوجود قبل أن يتشرف بدين الإسلام؟ وهل كانت قيمته الحقيقية أكثر من قبائل متوحشة تؤجر نفسها للقتال أنى كان القتال؟ ثم إلى أين وصل هذا العنصر بفضل هذا الدين العظيم حين استاق أمامه مئات الألوف من الجيوش باسم الإسلام فسيطر على عمران ثلاث قارات من الكرة الأرضية ومد سلطانه إلى شعوب وأمم من أعظم أمم الأرض؟ هل كان ذلك في العهد الذي كان الشعب التركي وملوكه وحكامه مسلمين أم كان وهم طورانيون يعبدون الذئب الأغبر؟ وهل المدنية الإسلامية العربية والعدل العربي اللذان مدَّا رواقهما على الأندلس وعلى قسم عظيم من أوربا حتى ضرب بعصرهما الذهبي الأمثال كانا في بداوة الجاهلية أم نور الإسلام؟ لندع هذا البحث الذي يهزأ المبشرون المسيحيون من أنفسهم عندما يضطرون لاتخاذه واسطة للهجوم على الإسلام قيامًا بواجب المهنة التي يحترفونها، ونتقدم إلى هؤلاء الكماليين نبحث معهم تحت أشعة الشمس المنيرة في مسألة الأحرف العربية التي يزعمون أنها كانت سببًا لتأخر مدنيتهم الموهومة ثم نعطف على حديث لسعادة الجنرال محيي الدين باشا وزير الكماليين بمصر، وما أنكره من عطف المسلمين على الترك وكون هذا العطف المُدَّعَى لم يكن له أثر في الوجود العملي. أما مسألة الأحرف العربية وتأخيرها للسان التركي عن التقدم، فنحن نستطيع أن نصرِّح تصريحًا ربما رآه جمهور الناس غريبًا في بادئ الأمر إلا أنه الحقيقة المجردة. وهو أنه لا يوجد إلى الآن شيء يسمى اللسان التركي ودون في الكتب وقرأه الناس ويستطيع الشعب في تركيا وأوربا في صميم الأناضول والتركستان أن يفهم جملة من جملة فهمًا صحيحًا، اللهم إلا إذا كان هناك بعض علماء الآثار والعاديات يقدرون على حل تلك الرطانة والتكلم بها في أتفه الأمور، وهذا أعظم برهان للتاريخ على أن المدنية التركية لا وجود لها ولو وجدت لكان لها كتب دُوِّنَت فيها أو نقوش أثرية كنقوش المدنية المصرية. إذا فهمت ذلك يجب أن تعلم أن اللسان الموجود الآن الذي يتكلم به الأتراك ويعتبر أجمل الألسن الشرقية إنما هو اللسان العثماني الذي وضعه فريق من علماء العثمانيين من الترك والشركس والألبان والعرب منذ قرن تقريبًا فجاء نصفه عربيًّا والنصف الآخر خليط من الفارسية والتركية وبعض الكلمات الإفرنجية، وقد تعلمنا هذا اللسان عن أساتذته واطلعنا على كثير من مؤلفاته العلمية والأدبية فلم نر عالمًا تجاسر على الزعم بأن هذا اللسان غير اللسان العثماني، بل كان علماء اللغة يقولون في صلب مؤلفاتهم: قاموس اللسان العثماني أدبيات اللسان العثماني نحو اللسان العثماني [2] وإنني لما كنت تلميذًا وجدت في برنامج الدروس اليومية أن الساعة 11-12 مثلاً هي حصة اللسان العثماني، ولم تذكر حصة لشيء يسمى اللسان التركي، ولكن لما أعلن الدستور وصار كتاب الترك ينقلون ما يكتبه الأوربيون بشأنهم صاروا يطلقون كلمة تركيا على البلاد العثمانية؛ لأن الأوربيين يطلقون كلمة تركيا عليها، وكلمة تركيا بدلاً من العثمانية نسبة إلى العثمانيين، وقد احتج فريق من علماء العرب ومبعوثيهم في الآستانة على كتابة تركيا بدلا من الدولة العثمانية، وقالوا للأتراك: إننا شركاء في هذه المملكة بل نحن العنصر الأكبر فيها فإطلاق هذه الكلمة افتئات على الحقيقة يستلزم ضياع شخصية الأمة العربية والعناصر الأخرى كالكرد والشركس والألبان والروم والأرمن وغيرهم. فأجاب الأتراك بأن هذه الكلمة ترجمة عن الإفرنجية وليست مقصودة ثم سكت العرب فتمادى الترك. إذا علمت هذا، وعلمت أن اللسان التركي غير موجود اليوم وأن هذا اللسان الذي يستبدلون أحرفه العربية باللاتينية إنما معينه بل مصدر حياته اللغة العربية وأنه قبل أن يتكون اللسان العثماني الذي يستمد حياته وأدبياته وعلومه من اللسان العربي لم يكن لهذه العلوم والأدبيات التي يتغنى بها الترك وجود، بعد هذا العلم تستطيع أن تحكم على مبلغ مكابرة الكماليين وجرأتهم على الكذب في حق

حقائق في عداوة ملاحدة الترك للإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حقائق في عداوة ملاحدة الترك للإسلام وتعليق على المقالة السابقة 1 - فكرة ترك الإسلام في ملاحدة الترك: سافرت في أواخر رمضان سنة 1327 (أكتوبر سنة 1909) أي في أول سني الدستور العثماني إلى الآستانة للسعي لأمرين: (أحدهما) تأسيس (جمعية للدعوة والإرشاد) تستعين على عملها بإنشاء مدرسة كلية إسلامية وتوثيق الروابط بين الدولة والمسلمين (وثانيهما) السعي للتأليف بين العرب والترك؛ إذ كانت العصبية التركية الجنسية قد نجمت قرونها وبدأت بنطاح العرب وغيرهم من عناصر الدولة قبل أن ترتفع وتعلو، وأقمت في الآستانة سنة كاملة كنت فيها عزيزًا مكرمًا من رجال الدولة وزعماء جمعية الاتحاد والترقي، وتيسر لي بذلك أن أكشف الستار عن إلحاد هؤلاء الزعماء وعزمهم على محو الإسلام من الشعب التركي وتأسيس دولة تركية محضة، وجعل الولايات العربية مستعمرات لهذه الدولة، وتتريك سائر العناصر العثمانية، ومن تقدر على تتريكه من العرب أيضًا. وقد اجتمعت هنالك برئيس الجمعية التي تشتغل بما سموه تطهير اللغة التركية من الألفاظ العربية وأعضائها وناظرتها، فاعتذروا لي عن عملهم بأنه فني محض لا علاقة له بالدين ولا بالسياسة، وإنما الغرض منه تسهيل التعليم على عوام الترك ولا سيما فلاحي الأناضول، وقد أقمت عليهم الحجة كما شرحته في المقالات التي نشرتها في الآستانة نفسها بالعربية والتركية وفي مقالات (رحلة الآستانة) . فمصطفى كمال باشا لم يبتكر شيئًا مما يسمونه التجديد، وإنما سنحت له الفرصة لتنفيذ ما قرَّره من قبله من جماعة (جون ترك) بتأثير ساسة الإفرنج المستعمرين ودسائس الروس الطورانيين، ولعلمي بهذه المقاصد صرَّحت في المنار وفي تفسير القرآن أيضًا بأن الترك الكماليين يقصدون من ترجمة القرآن التمهيد لمحو الإسلام من الشعب التركي، وكان ذلك قبل إعلانهم للحرب على الإسلام. وإنني من ذلك العام بارزت الاتحاديين العداء وأطلقت عليهم لقب (الملاحدة) وأنا في الآستانة، وأطلقت لساني بانتقادهم حتى إن طلعت بك أو باشا قال للدكتور عبد الله بك جودت وقد لامه هذا على عدم تنفيذه لمشروع الجمعية والمدرسة: نحن ما قصرنا مع رشيد أفندي بل كرَّمناه ولكنه يطعن فينا شديدًا وصل إلى حد الرذالة. نعم إنه كرَّمَني بالحفاة القولية والفعلية وبالدعوة غير مرة إلى طعامه وكان يقدمني على مائدته حتى على كبار علماء المشيخة الإسلامية كمستشارها وعلى غيرهم، وعرض عليَّ أن يعطيني في كل عام عشرين ألف جنيه عثماني من الذهب للقيام بشئون المدرسة على أن لا تكون تابعة لجمعية إسلامية.. .) بل مشايعة لجمعية الاتحاد والترقي، فلم أقبل، وقد كتبت كل هذه التفصيلات في عهد دولتهم وصولتهم، ومع هذا يفتري عليَّ المفترون من ملحد ورافضي بأنني لم أتحول عنهم إلا بعد سقوطهم كما زعموا مثل هذا الزعم في خصومتي للشريف حسين وأولاده سواء. *** 2 - خطة الكماليين تنفيذية لا إنشائية: إن دولة الترك الكمالية الجديدة قد وجدت من ملاحدة القواد والضباط وغيرهم أعوانًا كثيرين على تنفيذ كل ما كانوا قرَّروه هم وإخوانهم، وكل ما كانوا يتمنونه بعد أن صار بيدهم قوتا الدولة العسكرية والمالية، ولما يتم لهم ذلك كله فيما ظهر لنا بعد ذلك فله بقية منها تغيير الصلاة باختراع صلاة جديدة هي كصلاة البروتستانت كما قال الكاتب السويسري: ولكنهم يمهدون للشيء ثم ينفذونه على الطريقة التي سماها مصطفى كمال باشا (سياسية المراحل) كما مهَّدوا لإلغاء الخلافة بنصب خليفة روحاني لا عمل له، وكانوا أولاً يحسبون أكبر حساب لاحتماء الشعب التركي الذي يغلب على سواده الأعظم التدين بالإسلام وتألبه عليهم، فلما شرعوا في العمل رأوا أن المعارضة ضعيفة فقد كان أقواها ثورة الأكراد التي تعبت القوى العسكرية في القضاء عليها، وأما ما عداها من الائتمار السري بالاغتيال وهو لم ينقطع فلا ثبات له أمام سلطان الحكومة العسكري القاهر وجواسيسها الكثيرة، فأوجفوا في سيرهم بقطع المراحل بسرعة البخار، وكانت تقدر بسير الرجلين أو سير البغل والحمار، وهذا الذي جرَّأ ملاحدة الأفغان وإيران على اتباع خطوات الشيطان بترك الهداية الدينية إلى الإباحة المادية، على ما بين شعوبهما والشعب التركي وما بين زعمائهما وحكوماتهما من الفروق، فالشعب التركي قد ذللته لقواده وحكومته الخدمة العسكرية العامة، وسلطتها القاهرة، وأضعف شكيمته الفقر ونكبات الحرب المتوالية، التي اشتدت وطأتها في حرب البلقان فالحرب العامة، والملاحدة في قواده وضباطه وأطبائه وحكامه كثيرون بما مارسوا من التعاليم الأوربية وما تمرسوا به من مخالطة ساسة الإفرنج من زهاء قرن، والشعبان الإيراني والأفغاني ليسا كذلك، والملاحدة فيهما قليلون، وسنبين هذا الموضوع بالتفصيل في مقال سنكتبه فيما سعينا له من صد الأفغانيين عما هم عرضة له من الإلحاد. *** 3 - ما يطمع فيه مصطفى كمال بنجاحه: كان مصطفى كمال باشا بنجاحه في تنفيذ مقاصد جماعة (الجون ترك) بأن يكون مؤسس دولة تركية جديدة تنسب إليه فقال الدولة الكمالية، كما كان يقال الدولة العثمانية، ولذلك بذل جهده ونفوذ سلطانه الشخصي في طرد أسرة آل عثمان من بلادهم ومصادرة أملاكهم، ومحو ذكر دولتهم وسلاطينهم إلا بالسوء والطعن، ولعمري إنها لنفس كبيرة، وهمة بعيدة، وإن كنا نحن المسلمين نستنكر هذه الخطة الجديدة وكثير من العقلاء يرون أنها غير سديدة. ثم صار يطمع بأن يكون مؤسس أمة جديدة بتأسيس لغة جديدة ودين جديد للشعب التركي الرومي الموجود في الأناضول وبقية الرومالي وفيما انتزعوه من قطر سورية والعراق العربيين، واللغة والدين أقوى مقومات الشعوب ومميزاتها ولا يبعد عليه بعد ذلك أن يستبدل لقب (كمالي) بلقب (تركي) الذي يحافظ عليه إلى الآن، كما حافظ على اسم الإسلام مدة قليلة من الزمان، وهو لم يبق للترك شيئًا من مقوماتهم ولا من تاريخهم الذي كانوا به أمة مجيدة ذات دولة عزيزة، كما أنه لم يبق من شريعة الإسلام شيئًا، حتى إن داعيتهم الكاتب السويسري يصرح بما لقَّنوه إياه من الطعن بكل ما جاء به نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه حتى الطهارة والصلاة فجعلوهما مما ذموه من خرافات الإسلام المنافية للحضارة العصرية الأوربية! التي يقلدهما ملاحدة الترك ويتكلفون انتحالها لزعمهم أنهم مساوون لشعوب أوربة أو لتوهمهم أن التكحل كالكحل، وأن لا فرق بين الطبيعة والمنتحل، بل افتروا في الطعن على الإسلام ما لا يخفى على عاقل جهلهم وسخفهم فيه، حتى مستأجرهم الكاتب السويسري على ما في كلامه من كذب وتناقض وتشويه للحقيقة. *** 4 - الطهارة والوضوء في الإسلام: يقول هذا الكاتب: إن من سيئات الإسلام وجوب الوضوء للصلوات الخمس الذي هو عبارة عن غسل الوجه واليدين إلى المرفقين ومسح الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين، ثم يقول عن بعض ملاحدة الترك: إنه ترك الصلاة وفرَّ من المسجد هربًا من الرائحة الكريهة التي تنبعث من أرجل المصلين! فيا للفضيحة! كيف يعقل أن تكون رائحة المصلين الذين يغسلون أرجلهم عند إرادة الصلاة كريهة لا تطاق عقب غسلها مع أنهم يكررون هذا الغسل خمس مرات كل يوم كما يقول؟ وقد أجمع الأطباء والعقلاء على مدح هذه المزية من مزايا الإسلام وتفضيله بها على غيره حتى إن بعض أطباء فرنسة الكبار أسلم في هذا العهد بسبب اطلاعه على نصوص الطهارة في القرآن وغيرها، مما يتعلق بحفظ الصحة ووجدانه إياه موافقًا لأحدث ما تقرَّر في طب هذا العصر، وقال: إنه لا يمكن أن يصل رأي رجل أمي ولا متعلم من العرب إلى ذلك في العصر الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويا ليت شعري كيف يصدر من عاقل يحترم نفسه ذم النظافة وجعلها سببًا للقذارة، وعدّها منافية للحضارة؟ إذن تكون الحضارة الأوربية مبنية على تفضيل النجاسة والقذارة، على النظافة والطهارة، ولهذا يفضلها الترك وأنصارهم على المدنية الإسلامية التي تعد الطهارة من أهم فرائضها، ولعل هذا الكاتب من المسيحيين الذين تمر السنين ولا يغتسلون استغناء عن الغسل والطهارة بالمعمودية النصرانية، فقد أخبرني مستر متشل أنسن الذي كان وكيلاً للمالية بمصر أن الإنكليز هم الذين علَّموا أوربة كثرة الاستحمام بعد أن تعلموها هم في الهند وأنه لا يزال في أوربة من تمر عليه السنة أو السنين ولا يستحم فيها. وأما ما نوَّه به السويسري من العسر في الوضوء فنجيب عنه بأن العسر قد يكون في غسل الرجلين لو كان حتمًا في كل وقت على من يلبس الجوارب والخفاف والأحذية الجلدية، وليس الأمر كذلك، فإن من يلبس في رجليه ما يسترهما وهما طاهرتان يجوز له أن يمسح على الساتر لهما بيده المبللة بالماء بدلاً من غسلهما، ومن قواعد الإسلام الأساسية رفع الحرج والعسر من جميع أحكامه كما هو منصوص في القرآن الحكيم، ويجوز لمن يلبس حذاء نظيفًا أن يصلي فيه، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون بنعالهم، ونسكت عن هذيانه في سرقة ثياب المصلين وجعلها كأنها من لوازم الصلاة. *** 5- شبهة ضرر السجود على الأرض: إن أقوى شبهات هؤلاء الملاحدة على صلاة الإسلام هي السجود على الأرض، وهي غير مقصورة عليهم، بل روي أن الاستنكاف من وضع الوجه على الأرض خضوعًا لله تعالى قد كان مانعًا لبعض مشركي العرب المتكبرين من الدخول في الإسلام أو عذرًا اعتذر به، ولكن لا يقع مثله من مؤمن بالله تعالى وبالدين الذي يأمر بالسجود له عز وجل، ولمتفرنجي هذا العصر شبهة على السجود غير استنكاف الكبرياء، وهو أن بعض أرجل المصلين المصابين ببعض الأمراض تؤثر في موضع وقوفهم للصلاة تأثيرًا يضر من يسجد في مواضع وطئها بما قد ينفصل منها من (ميكروبات) المرض. ذَكر لي هذا طبيب عربي فقلت له: إن هذا أمر نادر الوقوع لا يخلو كل مجتمع يكثر فيه الناس من مثله، ولا سيما حيث يزدحمون كمجامع الحفلات المدنية والسياسية ومسارح التمثيل وغيرها، ولا نرى الأطباء ينهون عنها إلا في أوقات بعض الأوبئة، وإن التنطع والإفراط في التوقي من جراثيم الأمراض في كل وقت قد يكون ضرره أكبر من نفعه، وإنكم تقولون يا معشر الأطباء: إن الأجسام تتعرض لميكروبات الأمراض القليلة في الأحوال العادية تكتسب مناعة يقل فيها تأثيرها بعد تعودها حتى إنها قد تكون واقية له من الإصابة بها في الحالة الوبائية كما يستفيد الذي تلقحونه بقليل من مصل الجدري وغيره مناعة يأمن بها أن يصاب بالثقيل منه، وتقولون: إنه لو فرض أن رجلا نشأ في قلة جبل حيث الهواء النقي الخالي من جميع ميكروبات الأمراض وأشعة الشمس الدائمة المانعة من التعفنات والماء الزلال الجاري الذي لا تشوبه شائبة ثم ترك هذا المكان وخالط الناس في المدن التي تكثر فيها الأمراض فإنه يكون أشد استعدادًا للعدوى من جميع من نشأ في تلك المدينة. قامت لي الحجة على هذا الطبيب لبنائها على أصول علمه فاعترف بها، وأقول مع هذه: إنه يمكن أن تجعل صفوف المصلين في المساجد منظمة بحيث يكون موطئ الرجلين في الوقوف غير موضع الوجه للسجود، وقد رأيت بلاط بعض مساجد الهند صفوفًا مقسمة بالرخام الملون في كل صف منها ما يشبه سجادة الصلاة لكل فرد من المصلين. *** 6- الزي الإفرنجي والصلاة: وأما جعله لبس السراويلات الإفرنجية مما يص

المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الجديدة كتب دينية إسلامية (التعريف بالنبي والقرآن الشريف) طبع بمطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة سنة 1345 صفحاته 110 بقطع رسالة التوحيد. كتاب نفيس مختصر مفيد، تأليف صديقنا صاحب الفضيلة الأستاذ السيد محمد علي الببلاوي نقيب السادة الأشراف بالديار المصرية، ومراقب إحياء الآداب العربية بدار الكتب المصرية وموضوعه كما علم من اسمه قسمان في كل منهما مسائل مهمة وضع لكل منهما عنوان لتسهل الفهم والمراجعة. فالقسم الأول وهو في التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم يشتمل على مسائل نسبه وميلاده ووفاة والديه وحضانة جده له وكفالة عمه أبي طالب، وعلى نشأته وتأديب الله له وبغضه للوثنية وأكله من ثمرة عمله وخطبة السيدة خديجة له وتزوجه بها وعلى تعبده بغار حراء وظهور ملك الوحي له فيه وتفصيل خبر الوحي المعروف في البخاري وغيره وتبليغ الرسالة وإيذاء قريش له، ولمن آمن به ثم خبر الهجرة وما تقدمها من انتشار الإسلام في الأنصار رضي الله عنهم ثم تصدي قريش لقتاله فيها، وإذن الله تعالى له بالقتال دفاعًا وتأمينًا لدعوته السلمية المبنية على أساس الدليل والبرهان فقتاله لهم إلى أن نصره الله تعالى عليهم بفتح مكة والقضاء على الوثنية في جزيرة العرب. ويلي هذا طرف من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وسلم فالكلام على عموم رسالته، وحجة القرآن الدائمة عليها، فالكلام على شريعته وما فيها من أصول الإصلاح التي كانت بها آخر الشرائع، فالكلام على معناه، وأنواعه ووجود الملائكة. وأما القسم الثاني وهو التعريف بالقرآن الكريم فيدخل في مسائله التحدي به والعجز عن معارضته وما تضمنه ووصفه ونزوله منجمًا ومدة نزوله وعدد سوره، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه ومعنى نزوله على سبعة أحرف (وتحرير هذه المسألة هو سبب هذا التأليف) فالكلام في كتابته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وترتيبه فالكلام على جمعه وتدوينه وكتابته في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار ومباحث في كتابته وشكله وعناية المسلمين في كل عصر بكتابتهم له على الأحرف السبعة. وختم الكتاب ببيان موجز لما اشتمل عليه القرآن من الأحوال الشخصية والشئون العمرانية كمسائل الزوجية من المساواة بين الزوجين وتعدد الزوجات بشرطه والطلاق للحاجة إليه ونظام التوريث وحقوق الوالدين والوصية باليتامى والاقتصاد والاتحاد والشورى في الأمور وغير ذلك، وهو كما قال قليل من كثير. جمعت كل هذه المباحث النفيسة في 110 صفحات. وفي الكتاب مقتبسات من نور رسالة التوحيد للأستاذ الإمام شيخنا وشيخ المؤلف أثابه الله وأدام النفع بآثاره الصالحة فنحث كل مسلم على مطالعته وقراءته لأهله وأولاده. *** (كتاب الدين الإسلامي) (طبع بمطبعة الرحمانية سنة 1346 صفحاته 98 بقطع رسالة التوحيد) . كتاب جديد، مختصر مفيد، يتعاون على تأليفه وتحريره ثلاثة من خيار أساتذة المدارس الأميرية العليا ونابغي خريجي دار العلوم وهم أصدقاؤنا الأستاذ الشيخ حسن منصور وكيل مدرسة القضاء الشرعي، والشيخ عبد الوهاب خير الدين المدرس بمدرسة القضاء الشرعي والشيخ مصطفى عنان المفتش بوزارة المعارف. وقد نشر الجزء الأول منه في العام الماضي وروعي فيه ما قررته وزارة المعارف في تعليم الدين للسنة الأولى من طلبة المدارس الثانوية وموضوعه العقائد وما يتعلق بها من حكمة التشريع وأصول الآداب للدين الإسلامي، ورأينا أن عمدة الأساتذة المؤلفين لهذا الكتاب في أهم مسائله رسالة التوحيد للأستاذ الإمام أستاذ الجميع رحمه الله. ومن العجيب أن جميع أبحاثه في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفي القرآن الحكيم منقول من كتاب (التعريف بالنبي والقرآن الشريف) للسيد الببلاوي بنصوصه وعناوينه كما رأيت وهو مثله مقسم أحسن تقسيم ومُبَوَّب أجمل تبويب، وإن لم تسم أصول مباحثه بالأبواب، ولم تقرن بأرقام العدد ولا بحروف أبي جاد، وهي: أ- الدين الإسلامي تعريفه وخصائصه الخمس: (1) احترام العقل والحث على علوم الكون. (2) المساواة بين الناس في الأحكام، وما يطلب من طاعة الحكام. (3) تقرير السلام العام ومن مباحثه حال الإسلام مع غير أهله وحرية الزوجة في العقيدة، ويعنون به إباحة تزوج المسلم بالكتابية مع بقائها على دينها تؤدي عباداته كما تعتقد إلخ. (4) الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة. (5) صلاحيته لكل أمة في كل زمان ومكان. ب- أثر الدين في تهذيب النفس بعقائده وعباداته وآدابه ومعاملاته. ج- الرسالة والرسل عليهم السلام. د- المعجزة ومعناها وسبب إظهارها ووجه دلالتها على الرسالة. هـ- الحاجة إلى الرسالة وبيانها من طريقين ملخص مما هو مشروح في رسالة التوحيد. و أقسام المعجزة وأفردت بفصل خاص. ز- رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مبدوء بترجمته في بيان نسبه ومولده وتربيته وتجارته وزواجه وعبادته وبينها بدؤه خبر الوحي ففترته فتبليغ الدعوة فإيذائه صلى الله عليه وسلم لأجلها فتصدي المشركين لحربه فالإذن له بالقتال وغزواته ونصر الله له. طرف من أخلاقه صلى الله عليه وسلم فخبر وفاته وملخص سيرته صلى الله عليه وسلم عموم رسالته وبيان كونه خاتم النبيين ونسخ شريعته لما قبلها، والوحي وأنواعه، ويليه الكلام في القرآن الكريم، وفيه مباحث متعددة - وهي وما قبلها من مباحث نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم مأخوذة من كتاب السيد الببلاوي كما تقدم، ولكنه ختم بطائفة من الآيات وعشرة أحاديث مختارة لأجل حفظهما، والكتاب جدير بالتدريس في المدارس الإسلامية الثانوية كلها. *** (كتاب الإسلام الصحيح) (طبع مطبعة المنار سنة 1345 صفحاته 123 من قطع المنار يباع بمكتبة المنار) تأليف صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ سعيد بن محمد الشريف الزواوي الجزائري الإمام الخطيب بجامع سيدي رمضان بمدينة الجزائر، حمله على تأليفه فيما نرى ما حدث في بلاد الجزائر في هذا العهد من النهضة الإسلامية؛ إذ قام فيها بعض أهل العلم بمقاومة خرافات أهل الطريق ودجلهم والتقاليد المبتدعة وأنشئت لذلك صحف مخصوصة قامت بالواجب قيامًا يفوق ما كنا نظن في هذه البلاد، وقد تناولتها بعض الصحف الخرافية وعارضتها بنشر الثناء على بعض رجال الصوفية ومشايخ الطرق وأصحاب الزوايا المعروفة، وقد وقف صاحب هذا الكتاب موقفًا وسطًا بين المختلفين بنشر كتاب في التعريف بالإسلام أصوله وفروع عبادته وآدابه، مع ميل ظاهر لتأييد ما كان عليه السلف الصالح بعبارات لطيفة فهو من أنصار الإصلاح الإسلامي المعتدلين. وقد بدأ كتابه ببيان العقائد الإسلامية من التوحيد والرسالة وقَفَّى عليه بذكر أصوله وينابيعه ومآخذ أحكامه وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس وقَفَّى عليه بتعريف الإيمان والإسلام، ثم بالكلام على الصلاة والطهارة وما يتعلق بهما وتكلم بمناسبة وجوب ستر العورة في مسألة حجاب النساء التي اضطرب فيها مسلمو الأمصار في هذا العهد كلامًا معتدلاً بين إفراط الحجازيين وتفريط السفوريين، ثم تكلم في سائر أركان الإسلام من الزكاة والصيام والحج، فبيَّن ما رآه ضروريًّا لجماهير المسلمين من ذلك كله في 32 صفحة من الكتاب. ثم انتقل إلى بيان الأحكام الإسلامية العامة التي جهلتها جماهير الأمة من إسلام السلف وإسلام الخلف وكون الإسلام دينًا ذا أحكام وقوانين، وعرف الحكم الشرعي وأحكام التكليف الخمسة من وجوب وندب وتحريم وكراهة وإباحة، وقَفَّى عليه بالحكم العقلي والحكم العادي، وانتقل من ذلك إلى بيان معنى المذهب وعدد المذاهب والبحث في إمكان وحدتها وعدمه والتفضيل بينها والتقليد لها هل يجوز أم لا؟ ثم انتقل من هذا إلى مباحث التصوف والصوفية وكشفهم ومذاهبهم وما لا حجة لهم فيه، كالكشف الذي هو أساس معارفهم وقد اجتمعت الأمة حتى علماء الصوفية منهم على أنه ليس بحجة شرعية، ولا يجوز أن يُبْنَى عليه حكم شرعي، ثم تكلم في الشيعة الظاهرية والباطنية فأصحاب الطرق واختلافهم، والبحث في صحة إسلامهم واستغناء الإسلام والمسلمين عن طرقهم، وفي معنى الولي والولاية، والكرامات، والسحر، والطلسمات والكرامات المزوَّرة، وما يتعلق بالأولياء وقبورهم من البدع والضلالات وديوان الأولياء، وما أحدثه غلاة المتصوفة الممتزجين بالشيعة والروافض من القول بعصمة الأئمة والمهدي المنتظر، وختم ذلك ببيان الفرق الضالة. ثم أتى بفصل لبعض الصالحين في الأخلاق المذمومة والأخلاق المحمودة، وقَفَّى عليه بالكلام في كبائر المعاصي والإسلام الصحيح والفرقة الناجية وفرقة الإسماعيلية الباطنية ودولة الفاطميين والموحدين، وبذلك ختم الكتاب، ولا نقول: إنه وفَّى هذه المباحث حقها من التمحيص والتحقيق في هذه الورقات، وإنما جاء بخلاصة قريبة المأخذ يقل أن يجدها الجمهور مجموعة في كتاب مثله في اختصاره وسهولته. طبع هذا الكتاب بمطبعة المنار صديق المؤلف صديقنا الفاضل وأحد قدماء قراء مجلتنا السلفي الغيور الحاج محمد المانصالي من كبار تجار الجزائر ووجهائها ابتغاء نشر الدين والعلم، وهو يباع في مكتبة المنار بمصر وثمن النسخة منه خمسة قروش أميرية. *** (الإحكام في أصول الأحكام) الإمام أبو محمد علي (ابن حزم) الأندلسي من أجلّ أئمة المسلمين حفاظ السنة وفقهاء الملة، وكتابه الإحكام في أصول الأحكام من أجلّ كتب أصول الفقه، كما أن كتابه (المحلى) من أجلّ كتب الفروع، بل فضَّله سلطان العلماء العز بن عبد السلام على جميعها هو والمغني للعلامة ابن قدامة الحنبلي. ونبشر القراء بأن كتاب الإحكام يطبع الآن بمطبعة السعادة بمصر (على نفقه مكتبة الخانجي) طبعًا جميلاً على ورق جيد، وقد صدر منها جزآن صغيران الأول في سنة 1345 والثاني في سنة 1346 في كل منهما زهاء 150 صفحة فقط، وهذا التقسيم للكتب الكبيرة قد اخترعه فيما نعلم الشيخ منير الدمشقي تاجر الكتب الشهير، وهو مفيد في ترويجها وتسهيل الاشتراك فيها ومسهل لمطالعتها، ولكنه عائق عن المراجعة بها بعد جمعها في المجلدات الكبيرة؛ إذ جعل لأوراق كل جزء منها أرقامًا خاصة به كما فعل أصحاب مكتبة الخانجي في كتاب الأحكام على براعة والدهم الأستاذ محمد أمين الخانجي في فن الطباعة ونشر الكتب. وقد تولَّى تصحيح الكتاب صديقنا الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد محمد شاكر أحد قضاة الشرع المشهورين، فمن أراد اقتناءه والتعجل بالاستفادة مما صدر ومما سيصدر منه قبل تمامه فليراجع (مكتبة الخانجي) للاشتراك فيه وهي مشهورة في شارع عبد العزيز بمصر، وسنبين فضله ومزاياه بعد تمام طبعه إن شاء الله تعالى. *** (كتاب إرشاد الخواص والعوام لفعل الواجب وترك الحرام) (طبع المطبعة الأهلية بالجزائر سنة 1345 صفحاته 111من قطع المنار) كتاب جليل في نصوص الكتاب والسنة الواردة في النهي عن المعاصي والأمر بالطاعات أو الترهيب والترغيب (تأليف العالم الفاضل السيد محمد بن عبد الله ملين) من علماء الجزائر ذكر فيه 31 معصية وزهاء ستين طاعة أو أكثر، وقد سرد كلاًّ من النوعين سردًا حسب ما اتفق فلم يراع فيها ترتيبًا خاصًّا وهو يعزو كل حديث إلى من خرَّجه من جامعي كتب السنة كالشيخين وأصحاب السنن وغيرهم، نفع الله بكتابه وأجزل من ثوابه. *** (بيان مشروعية الحجاب) رسالة مختصرة لصاحب الفضيلة، والمزايا الجميلة، محامي

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار امتناع بعض علماء الصحابة عن التحديث وجعل الحديث من أصول التشريع س27 من حضرة الأمير شكيب أرسلان الشهير بلوزان (بسوسرة أوربة) حضرة الأستاذ الإمام مَفْزَع الإسلام، في المشكلات الجسام، السيد محمد رشيد رضا أدامه الله لهذه الأمة علمًا هاديًا، آمين. إن في الجزء الأول من المجلد التاسع والعشرين من المنار بحثًا من أهم ما جالت فيه أقلام جهابذة الأصوليين هو المتعلق بأحاديث الصحيحين، وما قيل من أغلاطها، ورواية أبي هريرة والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها فقد قرأت هذا البحث مع وفرة شواغلي مرتين أو ثلاثًا، ولا أزال عطشان إلى هذا المنهل العذب ومترقبًا صدور الكتاب الجديد الذي وعدتم بإخراجه تحت اسم (يسر الإسلام وأصول التشريع العام) ، ولقد أخذ بمجامع فؤادي قولكم: (إن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله ولكنه ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ وليس كل مرتاب في شيء من روايته كافرًا) . إني لست بمحدث وليس لي حق أن أبدي وأعيد في الحديث الشريف إلا على سبيل الاستفادة، ولذلك أرجوكم أن تتفضلوا علينا برأيكم في الروايات الآتية وهي: في الجزء الثالث من طبقات ابن سعد الكبرى الصفحة 74 عن عامر عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: ما لي لا أسمعك تُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحَدِّث فلان وفلان قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت، ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب عليَّ فليتبوأ مقعدًا من النار) . فظاهر هنا أن الزبير كان يعتقد أنه مهما كانت حافظة الراوي من القوة فلا يستطيع أن يعيد ما سمعه بدون زيادة أو نقصان، وأنه كان يخشى أن يزيد على رسول الله أو ينقص من كلامه فتحامى الحديث كله تقريبًا. وفي صفحة 102 من الجزء المذكور عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا حتى رجع، ثم عن يحيى بن عباد عن شعبة: دخلوا على سعد بن أبي وقاص فسئل عن شىء فاستعجب فقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدًا فتزيدوا المائة. فهذا صحابي عظيم أيضًا كالزبير وكلاهما من العشرة يعتقد أن الحديث مهما يكن راويه ثقة يتطرق إليه الزيادة والنقصان. وفي الصفحة 110 من الجزء المذكور عن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة ما سمعته فيها يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه حدَّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يَتَحَدَّر عن جبهته ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما دون ذاك. وفي الصفحة 111 من الجزء الثالث من الطبقات أخبرنا المعلى بن أسد قال أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن منصور الغداني عن الشعبي عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائمًا كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة واحدة قال: فنظرت إليه - وهو معتمد على عصى- فنظرت إلى العصى تزعزع، قال: أخبرنا مالك بن إسماعيل قال: أخبرنا إسرائيل , عن أبي حصين , عن عامر عن مسروق عن عبد الله قال: حدَّث يومًا حديثًا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرعد وأرعدت ثيابه ثم قال: أو نحو ذا أو أشبه ذا. ومعلوم أن عبد الله بن مسعود كان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه كان أتبع له من ظله وأولى الناس بالرواية عنه، وهذا مشربه في الحديث، وقد ذكرتم في ذلك البحث نهي الإمام عمر عن التحديث. وجاء في الجزء الخامس من طبقات ابن سعد أيضًا صفحة 140 رواية عن عبد الله بن العلاء: سألت القاسم بن محمد أن يملي عليَّ أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب قال: فمنعني القاسم بن محمد يومئذ أن أكتب حديثًا. وهذا هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المشار إليه بالبنان بين التابعين بالفضل والعلم والورع. فلماذا بعد هذه الدلائل كلها لا يزال علماء الدين يتخذون الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث مراجع في الشرع ويعتقدون أن مجرد توفر الشروط في الصحة كاف لجعل الحديث ثابتًا لا شبهة فيه كأن سامعيه تلقوه رأسًا من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أفلا يرون أن ثلاثة من أجلّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن مسعود بمكانه من الورع والصدق والعلم بالدين لم يكونوا يحدثون تقريبًا ولم يكونوا يركنون إلى أنفسهم أن تبدر من ألسنتهم كلمة في سياق حديثهم عن المصطفى لم يكن صلى الله عليه وسلم قالها. فلماذا لا نقتدي بهم ولا نزال نجعل صحة الحديث بمجرد توفر الشروط قضية مسلمة؟ إن هؤلاء الأئمة الذين هم من أجلّ أصحاب رسول الله وألزمهم له، والذين هم طليعة من نشروا الإسلام وأسسوا بوانيه لم يكن بينهم وبين الرسول واسطة ولقد وتكاءدهم التحديث عنه خوف الزيادة أو النقصان. فكيف يجب أن نثق في صحة الأحاديث الواصلة بالأسانيد العديدة المتسلسلة من عدة قرون ونبني عليها الأحكام، ونقول: هذا حلال وهذا حرام، ومن لم يؤمن بهذا فقد كفر بالإسلام. ... ... ... ... ... ... لوزان 22 ذي العقدة سنة 1346 ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان (جواب المنار) إن المروي عن علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم من اتقاء التحديث، بل من النهي عنه، وعن كتابة الحديث ومن تحريق ما كتب بعضهم منه أو الأمر بتحريقه هو أكثر مما ذكر الأمير السائل في المسألة الأولى، وقد بسطنا ذلك في المجلد التاسع والعاشر والحادي عشر من المنار كما سيأتي، ولو لم يكن في المسألة إلا ما نقله عن طبقات ابن سعد لكان للمعارضين له أن يقولوا: إن هؤلاء الذين نقل عنهم ابن سعد ما نقل قد ثبتت روايتهم لكثير من الأحاديث، فعبد الله بن مسعود له في صحيح البخاري وحده 85 حديثًا على شدة تحرِّي البخاري وصعوبة شرطه في جامعه الصحيح، ولو لم يرو المحدثون عن ابن مسعود إلا هذا العدد لكان غير معارض لتحريه في التحديث وقلة روايته فإنه من قدماء الصحابة وأكثرهم سماعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن له في سائر كتب السير والمسانيد روايات أخرى كثيرة وأما الزبير فلم يرو عنه البخاري في صحيحه إلا سبعة أحاديث، وروى فيه عن سعد بن أبي وقاص عشرين حديثًا، وهذا أدل على ما ذكر من تحاميهم للتحديث، وإنما كان لداعية قوية لا خوفًا من الخطأ فقط بل لأمر أعظم. عرض للبحاثة المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي ما عرض لبعض الباحثين قبله وكذا بعده من أن الإسلام هو القرآن وحده، وأن الأحاديث كانت تشريعًا موقتًا لأهل عصر النبوة بدليل عدم كتابة أهل الصدر الأول من الصحابة لها كالقرآن وعدم تبليغها للناس وأمرهم بالعمل بها بل بدليل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة شيء عنه غير القرآن ونهيه عن كثرة السؤال؛ لئلا تكثر الأحكام فترهق الأمة من أمر دينها عسرًا ونهي بعض علماء الصحابة عن كتابة الحديث أيضًا، وأحب الدكتور أن يعرض هذا الرأي على علماء المسلمين ويطالبهم ببيان الحق فيه فنشرناه له في المجلد التاسع من المنار (ص515) وطالبنا علماء الأزهر وغيرهم بالرد عليه لبيان الحق في المسألة، وإزالة الشبهات التي تعرض لكثير من الناس فيها، فرد عليه الشيخ طه البشري من علماء الأزهر وعالم عربي مقيم في الهند اسمه الشيخ صالح اليافعي ورد هو على ما كتبوه، وقد نشرنا رد العالم الأزهري في ص 699 - 711، 712 من المجلد التاسع أيضًا ثم رد محمد توفيق صدقي عليه في ص 906 منه وَقَفَّيْنَا عليه بحكم المنار بين المتناظرين في (ص 925 - 930) منه حكمنا الخلاف حكمًا أذعن له الدكتور محمد توفيق صدقي وغيره ولم يرد عليه أحد من المتناظرين ولا من غيرهم وسنذكر خلاصته، وأما رد الأستاذ الشيخ صالح اليافعي فقد نشرناه في عدة أجزاء من المجلد العاشر. ثم إن صديقنا المرحوم رفيق بك العظم كتب بحثًا موضوعه (التدوين في الإسلام) وألقاه في نادي المدارس العليا في القاهرة وجمع فيه ما وقف عليه في كتب التاريخ من كتابة الحديث وغيره، فاقترح علينا بعض قراء المنار نشر ذلك البحث والتعليق عليه بما يبدو لنا من استدراك أو انتقاد، كما اقترح علينا كل من الدكتور محمد توفيق صدقي ومناظره الشيخ صالح اليافعي وغيرهم تمحيص كتابة الحديث التي تجاذبها المتناظران في موضوع بحثه. فإجابة للاقتراحات نشرت خطبة رفيق بك في الجزء العاشر من مجلد المنار العاشر، وعلقت عليها أهم ما رأيته منتقدًا فيها، ثم انتقلت إلى مسألة كتابة الحديث فبدأت بنشر ما جمعه الحافظ ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم) من النهي عن الكتابة وكراهيتها ومن الرخصة فيها، وقد جمع من الروايات ما لم يجمع غيره فيها. نشرت البابين اللذين أوردهما بحذف أسانيده نقلاً عن مختصره في أربع ورقات، واستدركت عليه روايات لغيره في النفي والإثبات، ثم عقدت فصلاً للتعادل والترجيح بين الروايات المتعارضة في الأمر بالكتابة والنهي عنها عند تعذر الجمع بينها، وذلك في ورقتين أي أربع صفحات من الجزء العاشر من المجلد العاشر من المنار (راجع كل ذلك في ص 743 - 768 م10) ثم أتممت هذا البحث بفصل آخر موضوعه (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية) مع بيان تأويل العلماء لذلك النهي والحكم فيه نشرته في الجزء التالي أي الحادي عشر (ص 849 - 854 م10) فمن أراد الوقوف على هذا التفصيل كله في المسألة فليراجع صفحات الجزءين التي بينا أرقامها آنفًا، وفيه الجواب المفصل عما سأل عنه الأمير شكيب في الموضوع. ولا بأس بأن نقول فيه كلمة مجملة لمن لا يتيسر له تلك المراجعة: إن دين الإسلام هو القرآن كتاب الله تعالى وما بيَّنه به رسوله صلى الله عليه وسلم من فعل وقول صار سنة متبعة بالعمل أو التبليغ العام في الدعوة إلى الإسلام وبيانه للناس من أصحابه رضي الله عنهم، وأما الأحاديث التي لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغها ولا عني خلفاؤه وعلماء أصحابه بتبليغها للناس على أنها من دينهم ولم تصر سنة متبعة بعمل جمهورهم بها إما لأن الحديث منها كان خاصًّا بمن خوطب به من تشديد أو تخفيف اقتضته حاله أو لأنه لم يقصد به التشريع أو لغير ذلك ثم رواها التابعون عن أفراد منهم روايات آحادية لم تتواتر فهي لا تعد تشريعًا عامًّا لبيان دين الإسلام بحيث يجب على الأمة وأئمتها تبليغه والأخذ به. على أن فيما صح منها لنقاد الرواية وبعض ما صح متنه ولم يصل سنده إلى درجة الصحيح، ولم يسقط إلى حد الموضوع أو الواهي من الهداية والحكم ما لا يسع من بلغه من المسلمين إلا أن يهتدي به. وإنني ألخص بعض المسائل مما كتبته في المجلد العاشر أي منذ اثنتين وعشرين سنة على سبيل النموذج والإيضاح لهذه الخلاصة (ص 66 - 768) . قلت هنالك: إن أصح ما ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيرها عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا (لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه) . وإن أصح ما روي في الإذن به حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعًا (اكتبوا لأبي شاه) وقد بينت أنه لا يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديث

الأسئلة البيروتية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأسئلة البيروتية س (29 -34) من صاحب الإمضاء في بيروت: حضرة الأستاذ الرشيد، والعالم الفريد، السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر دام محفوظًا. تحية وإجلال، وبعد فقد اطلعنا على الجزء الأول والخامس من المجلد الرابع والعشرين من مناركم الأنور فيما يتعلق بالتحلي بلبس الذهب والفضة للرجال، فتعذر عليَّ الحصول على ما يشفي غلتي ويروي ظَمَئِي لخفاء العبارة وعدم التصريح بالحِلِّ أو الحرمة، وقد اطلعنا على الرسالة المسماة الأجوبة الشرعية عن الأسئلة البيروتية، لمؤلفها الفاضل الشيخ عبد الرحمن خلف المدرس بالقسم العالي بالأزهر، وفتوى من حضرة الأستاذ محمد شكري الآلوسي وتجدون طي هذه الرسالة صورة الفتوى المذكورة: (1) لتبينوا رأيكم فيهما، وألتمس من فضيلتكم إجابتنا إجابة صريحة واضحة حسب ما يقتضيه الشرع الإسلامي الحنيف عن سؤالنا الآتي وهو: (2) هل يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة والنحاس والحديد وغير ذلك من أنواع المعادن كالخاتم وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وإسورتها والنظارة (ما يسمونها بالعوينات) وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟ (3) وهل هذا الحديث الآتي صحيح معتمد عام في حرمة التحلي بلبس النحاس والحديد مطلقًا على الرجال ولو في غير الخاتم أم لا، وهو أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من شبه، فقال له عليه السلام: (ما لي أجد منك ريح الأصنام) فطرحه فقال يا رسول من أي شيء أتخذه؟ فقال: (اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالاً) وفي رواية أخرى: ورأى على رجل خاتم صفر فقال: (ما لي أرى منك رائحة الأصنام) أو رأى على آخر خاتم حديد فقال: (ما لي أرى منك حلية أهل النار) . (4) وهل النظارة وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها تعتبر من الأواني أم من الحلي؟ (5) وهل يجوز للرجل المسلم أن يتزيا بلبس البرنيطة والطربوش والبدلة الإفرنجية (السترة والبنطلون) أم لا؟ (6) وهل يجوز التشاؤم من الأعداد والسنين والشهور والأيام والأوقات وغير ذلك أم لا؟ أرجوكم نشر ذلك على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع عامًّا، وتفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. 15 شبعان سنة 1346 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... شريف خطاب معلم بمدرسة البنين الابتدائية الثانية لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت , وقد أرسل إلينا السائل مع هذا رسالة مطبوعة في فتوى الأستاذ الشيخ عبد الرحمن خلف وهي طويلة، وفيها مسائل كثيرة غير ما في هذا السؤال لا يمكن نشرها هنا، وأرسل معه فتوى السيد الآلوسي، وهذه صورتها: فتوى علامة العراق السيد محمود شكري الآلوسي رحمه الله تعالى في مسألة تحلي الرجال بسم الله الرحمن الرحيم سألتم هل يجوز التحلي بلبس الفضة للرجال كساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها ويد العصا والختم والأزرار وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟ وهل قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها لعبًا) في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود صحيح متعمد عليه غير منسوخ أم لا؟ فالجواب: أن مذهب أهل الحديث يُجَوِّز التحلي بلبس الفضة للرجال بجميع ما ذكر في السؤال، والحديث المذكور معتمد عليه غير منسوخ ففي كتاب السيل الجرار، لم يخص الدليل إلا الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة والتحلي بالذهب للرجال فالواجب الاقتصار على هذا النقل، وعدم القول بما لا دليل عليه بل بما هو خلاف الدليل {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياًّ} (مريم: 64) أما حلية الذهب فلا شك في ذلك؛ لورود الأدلة الدالة على تحريم قليلها وكثيرها، وأما حلية الفضة فالمانع يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل الحل وقد دل على هذا الأصل قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقوله سبحانه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف: 32) . مع ما ثبت أن سيفه صلى الله عليه وسلم كانت فيه فضة، ومع قوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالفضة فالعبوا بها كيف شئتم) اهـ المقصود. هذا ما تيسر من الجواب، والله سبحانه العالم بالصواب. وللمتأخرين من مقلدي المذاهب الأربعة كلام غير كلام أهل الحديث الواجب اتباعه فهم كما قال القائل: أهل الحديث عصابة الحق ... فازوا بدعوة سيد الخلق ونختم الكلام بعرض التحية والسلام، 25 ذي الحجة سنة 1341 الفقير إليه تعالى ... ... ... ... ... ... ... ... محمود شكري الآلوسي ثم أرسل إلينا فتويين في المسألة لصاحبي الفضيلة مفتي الشام ومفتي طرابلس مع كتاب يسألنا فيه عن رأينا فيها بتاريخ 8 شوال سنة 1346 ثم أرسل فتوى أخرى في ذلك لفضيلة مفتي بيروت مع كتاب كسابقه وذلك في 29 ذي القعدة سنة 1346، وكان هذا في بدء مرضنا الطويل الذي نهانا الأطباء في أثنائه عن الكتابة وكل ما يكد الذهن، وإننا ننشر نص الفتاوى الثلاث أيضًا بعد نص الاستغناء بحسب ترتيب التاريخ لبيان مذهب الحنفية في مسائلها. *** استفتاء مفتي الشام ومفتي طرابلس في المسألة (1) هل يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة والنحاس والحديد، وغير ذلك من أنواع المعادن كالخاتم وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها والنظارة (ما يسمونها بالعوينات) وغير ذلك من أنواع الحلي أم لا؟ (2) هل النظارة وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها تعتبر من الأواني أم من الحلي فتفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. *** فتوى فضيلة مفتي الشام الحمد لله تعالى، لا يجوز للرجال التحلي بلبس الحرير والذهب والفضة والتختيم بذهب وحديد وصفر ولا يجوز له استعمال ساعة الذهب ولا سلسلتها من الذهب وغير ذلك من أنواع الحلي إلا التختيم بخاتم الفضة فقط، أما النظارة وساعة الجيب وسلسلتها وساعة اليد وأسورتها فليست من الأواني كما هو معلوم، وعلى كل فلا يجوز استعمالها للرجال إذا كانت من الذهب أو الفضة كما ذكرنا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي الشام ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عطا الكسم ... ... ... ... ... ... ... ... ... 23 رمضان 1346 *** فتوى فضيلة مفتي طرابلس الحمد لله تعالى، الجواب: يحرم على الرجال التحلي بهذه المذكورات في السؤال؛ لأنها من المنهي عنها في الأحاديث الشريفة سوى خاتم ومنطقة وحلية سيف من الفضة وجميعها تعتبر من الحلي لا من الأواني، وأما خاتم الحديد والنحاس فمكروه لبسهما كما في الدر المختار وغيره، والله سبحانه وتعالى أعلم. ... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه الفقير إليه عز شأنه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي طرابلس ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عفي عنه *** فتوى فضيلة مفتي بيروت الحمد لله تعالى، لا يجوز للرجال لبس الحرير ولا التحلي أي التزين بذهب وفضة إلا بخاتم ومِنْطَقة وحلية سيف من فضة لا من الذهب؛ لورود آثار اقتضت الرخصة من الفضة بهذه الأشياء خاصة فهي مستثناة مما لا يجوز للرجال، هذا خلاصة ما ذكره علماء المذهب في هذه المسألة كما في المتون وغيرها ومنه يعلم أنه لا يجوز للرجل أن يتزين بخاتم من الذهب ولا بساعة أو بسلسلة ساعة أو نظارة من الذهب أو الفضة وليست هذه الأشياء من الأواني، وفي الكنز وشرحه للعيني: وحرم التختيم بالحجر والحديد والصفر أي النحاس والرصاص والقزدير ونحو ذلك والذهب اهـ، وفي الفتاوى الهندية: ويكره للرجل التختم بما سوى الفضة والتختم بالذهب حرام في الصحيح اهـ، وفي الجوهرة: التختم بالحديد والنحاس والرصاص مكروه للرجال والنساء؛ لأنه زي أهل النار اهـ والله تعالى أعلم. 20 رمضان المبارك سنة 1346. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي بيروت ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الختم *** جواب المنار عن هذه الأسئلة (1، 2) فتاوى المفتين في التحلي وما نختاره منها: (1) أما فتاوى المفتين الثلاثة في الأمصار السورية الثلاثة فهي نصوص مأخوذة من كتب مذهب الحنفية الذي التزموا الفتوى به استصحابًا لما كانت عليه الفتوى الرسمية للمفتين الرسميين في عهد الدولة العثمانية، وإن كنا نعلم أن كلاًّ من مفتي بيروت ومفتي طرابلس يقلدان مذهب الشافعي رضي الله عنه وعن سائر أئمة الدين، وما نرى فيها من خلاف كحكم التختم بالنحاس والحديد هل هو الحرمة أو الكراهة فهو لاختلاف نصوص تلك الكتب، على أن الكراهة إذا أطلقت عندهم تنصرف إلى كراهة التحريم، وفي فتوى مفتي بيروت من الفقه والدقة ما ليس في غيرها. وأما فتوى السيد الآلوسي فهي مقتضى ما عليه علماء الحديث الذين يقولون بما صح في الكتاب والسنة من غير تقليد لأحد المجتهدين، وهي فتوى مجملة يجد السائل تفصيل أدلتها في الفتوى 57 من مجلد المنار الرابع والعشرين، ولكن السائل يقول: إنه لم يفهم المراد من هذه الفتوى؛ لعدم التصريح في كل مسألة بأن هذا حرام أو حلال فههنا أصرح بأنني أعتقد أن الأصل في الزينة الحل بنص قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وأنه لا يجوز لمسلم أن يحرم على أناس شيئًا إلا بنص شرعي قطعي الرواية والدلالة لئلا يدخل فيمن يقولون على الله بغير علم وينصبون أنفسهم للتشريع، وقد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) وقال: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ} (النحل: 116) الآية. وقد فسَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتخاذ اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) بأنهم يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم كما في التفسير المأثور، ولا يتضمن قولي هذا تعريضًا بالمفتين المذكورين هنا وأمثالهم من علماء المذاهب المتبعة؛ لأن القاعدة عندهم أنهم يسألون عن نصوص المذهب فينقلونها للسائل فهم لا يحلون شيئًا ولا يحرمون برأي ولا بدليل مستقل) . فلما بينا في تلك الفتوى ما صح في تحريم استعمال الذهب والفضة وهو الأكل والشرب في آنيتهما، وكذا خاتم الذهب على ما فيه من خلاف بين الصحابة بيناه هنالك، كان ذلك بيانًا لاعتقادنا أن كل ما عداه حلال وهو ما أشار إليه الآلوسي رحمه الله فيما نقله عن كتاب السيل الجرار للإمام الشوكاني، وكان الشوكاني من فقهاء الحديث القائلين بتحريم حلية الذهب دون الفضة وجمهورهم لا يحرمون إلا الأكل والشرب من الذهب كالفضة، ومنهم من يحرم الخاتم منه أيضًا. قال الإمام محمد بن إسماعيل الوزير في كتابه (سبل السلام شرح بلوغ المرام) في الكلام على حديث حذيفة المتفق عليه: (لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) قال ما نصه: الحديث دليل على تحريم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة وصحافهما سواء كان الإناء خالصًا ذهبًا أو مخلوطًا بالفضة؛ إذ هو مما يشمله أنه إناء ذهب وفضة، ثم ذكر الخلاف في سائر الاستعمالات غير الأكل والشرب وتحريم ب

أسئلة من مسقط

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من مسقط الفقه والعلوم العصرية في القرآن والصناعات في المسلمين س (35-37) من صاحب الإمضاء في مسقط: (1) الفقه وما المقصود منه؟ (2) القرآن والعلوم العصرية وما المقصود منه؟ (3) تأخر المسلمين في الصنائع ما السبب فيه؟ 1 - {َلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} (التوبة: 122) القرآن العظيم. 2 - (من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين) الحديث الشريف. 3 - (تفقهوا قبل أن تسودوا) الحديث الشريف. ... ... ... ... ... ... ... عبد الله عبد العزيز البلوشي ... ... ... ... ... ... ... ... ... بمسقط (ج) هكذا وردت هذه الأسئلة موجزة مجملة، فأما الفقه فهو في اصطلاح علماء الشرع: العلم بالأحكام العملية الشرعية المستنبطة من أدلتها التفصيلية، وأما معناه في اللغة واستعمال القرآن والحديث فهو الفهم الدقيق الناشئ عن الفطنة والمثمر للعمل والاعتبار كما حققناه في تفسيرنا، وآخر ما كتبناه فيه تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا} (الأعراف: 179) إلخ آية من سورة الأعراف وتفسيرها في صفحة 418 من جزء التفسير التاسع فيراجع فيه ويدخل في هذا المعنى ما ذكر في السؤال من آية وحديث. وأول الآية التي ذكرها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} (التوبة: 122) أي للقتال بل يجب في الحالة العادية أن ينفر بعضهم بقدر الحاجة، ويكون مع النبي صلى الله عليه وسلم من يتلقى منه العلم، ويتفقهون في الدين وآخرها: {وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (التوبة: 122) ولهذه الآية عند المفسرين وجهان أو أكثر لا محل هنا لبسطها. وأما الحديث الأول فقد رواه أحمد والشيخان وغيرهما، وله تتمة، ومعناه ظاهر، وأما الثاني فقد رواه البيهقي في شعب الإيمان، وذكره البخاري في معلقاته بصيغة الجزم عن عمر رضي الله عنه من كلامه، ومعناه تفقهوا قبل أن تصيروا سادة في قومكم أو بيوتكم فيشغلكم ذلك عن العلم والتفقه. وأما مسألة القرآن والعلوم العصرية أي الكونية، فالظاهر أن السائل يسأل عن المقارنة بينهما؛ لأنه رآها في بعض الصحف، فإن كلا منهما معروف في نفسه، فنجيبه بأن العارفين يقصدون بهذه المقارنة أن القرآن أرشد المؤمنين به إلى هذه العلوم في الآيات الكثيرة التي بين بها آياته تعالى في خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، فإن دلالة الشمس والقمر والكواكب والسحاب والمطر والبحار والأنهار والجبال وأنواع النبات والثمار على قدرته تعالى ومشيئته وحكمته ورحمته ودلالة ما في مجموعها من وحدة النظام على وحدانيته كل ذلك لا يكمل للناظر فيها إلا بقدر علمه بما فيها من الخواص العجيبة والنظام الدقيق، وقد فصَّلنا ذلك في مواضعه من تفسيرنا. وأما مسألة تقصير المسلمين في الصناعات وإتقان غيرهم لها فله أسباب ترجع كلها إلى ضعف الحضارة العربية فذهابها بذهاب ملك العرب بعدوان الترك عليهم وقضائهم على الخلافة العباسية في الشرق، وسلبهم لكل ما كان للعرب فيه من ملك وعدوان الأسبان من الإفرنج على عرب الأندلس والقضاء على ملكهم ودينهم فيها، ولولا هذا وذاك لظلت الحضارة العربية الإسلامية في نماء وارتقاء، ولوصلت إلى ما وصل إليه الإفرنج الذين ورثوا حضارتهم ومتونهم من دون الترك الضعيفي الاستعداد للعلوم والفنون، ومن أسباب هذا الضعف أنه لم يكن لهم لغة تساعدهم على تلقيها، ولم يجعلوا اللغة العربية العلمية الفنية التشريعية لغة رسمية لهم، بل لم يوسعوا لغتهم الضيقة بها وباللغة الفارسية ويجعلوها لغة تامة ذات معاجم ونحو وصرف وبيان إلا منذ مدة قريبة تقل عن قرن كما بينا ذلك في مواضع من المنار مرارًا، ولكن كان لبعض ملوك الأعاجم من المسلمين في حضارة الهند وغيرها، وكان لهم فيها صناعات كثيرة ثم ضعفت فزالت بزوال ملكهم أيضًا، إلا بقايا منها في بعض البلاد كالشام ومصر وهي الآن في طور شرق جديد يجمع فيه بين الصناعات القديمة والصناعات الحديثة الإفرنجية. ومن مصائب المسلمين أنهم ابتلوا بزعامة الجاهلين من أدعياء العلم الذين يزعمون أن العلوم والفنون التي عليها مدار جميع الصناعات المعاشية والحربية محرَّمة في الإسلام مع أنها من فروض الكفايات كما يراه السائل في تفسير {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} (الأنفال: 60) في أول هذا الجزء، وقد طرقنا هذا البحث في المنار مرارًا. *** حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) ورهن الانتفاع س 38 من صاحب الإمضاء بتونس: إلى حضرة الأستاذ الإمام مفتي الإسلام سيدي محمد رشيد رضا مفتي المنار المنير حفظه الله وأدام نفعه آمين. وبعد فالرجاء من حضرتكم الجواب عن الحديثين الآتيين ونصهما: (من تشبه بقوم فهو منهم) و (من تشبه بقوم فليس منا) . 1- فالمرغوب من فضيلتكم أن ترشدونا هل هما صحيحان أم لا؟ وما قيمتهما من الصحة، وفي أي كتاب من الصحاح رُوِيَا؟ ويكون ذلك على صفحات مناركم المنير مع شرحهما شرحًا كافيًا يتفق مع الحال والمراد، والله يجزيكم ويديم النفع بكم والسلام. 2- ما قولكم في رهن الانتفاع، وهل الأئمة كلهم كانوا متفقين عليه أم فيه خلاف؟ وما الفرق بينه وبين ربا الفضل؟ وما الدليل على جوازه؟ أفيدونا بذلك ولكم الأجر والثواب والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخوجة (ج) أما حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) فقد رواه أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمر مرفوعًا والطبراني في الأوسط من حديث حذيفة بن اليمان ووضع له في الجامع الصغير علامة الحسن، وصححه ابن حبان، وهو يشمل التشبه في الحسن والقبح والخير والشر، وأما تشبه المسلمين بالكفار ففيه كثير من الأحاديث الصحيحة صريحة في منعه، وقد شرحنا ذلك في المنار مرارًا، وأما حديث (من تشبه بقوم فليس منا) فلا أذكر أنني رأيته في شيء من كتب السنة لأراجعه ومعناه غير ظاهر، وفوق كل ذي علم عليم. *** حكم رهن الانتفاع قال الإمام الخرقي الحنبلي في متنه المشهور: ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبًا أو محلوبًا فيركب ويحلب بقدر العلف اهـ. قال العلامة ابن قدامة في شرح هذه المسألة من المغني ما نصه في كفاية الكلام في هذه المسألة في حالين (أحدهما) ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال لا نعلم في هذا خلافًا؛ لأن الرهن ملك الراهن فكذلك نماؤه ومنافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه. فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض لم يجز؛ لأنه يحصل قرضًا يجر منفعة، وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض يعني إذا كانت الدار رهنًا في قرض ينتفع بها المرتهن، وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك روي ذلك عن الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق، فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل أَنْ استأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره؛ لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة، وإن حاباه في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض ويجوز في غيره، ومتى استأجرها المرتهن أو استعارها فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهنًا فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله، قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب عن أحمد إذا كان الرهن دارًا فقال المرتهن: اسكنها بكرائها، وهي وثيقة بحقي ينتقل فيصير دينًا ويتحول عن الرهن، وكذلك إن أكراها للراهن، قال أحمد في رواية ابن منصور إذا ارتهن دارًا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهنًا، والأولى أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها؛ لأن القبض مُسْتَدَام ولا تنافيَ بين العقدين وكلام أحمد في رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور؛ لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد بخلاف ما إذا سكنها المرتهن، ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونًا عليه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة، وعنده غير مضمونة. (فصل) فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن، وعن أحمد أنه يجوز في المبيع، قال القاضي: معناه أن يقول: بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرًا فيكون بيعًا وإجارة فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة ثمنه، وقال مالك: لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في الحيوان والثياب وكرهه في القرض، ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرطه في القرض. (فصل) الحال الثاني ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به بعِوَض أو بغير عوض بإذن الراهن الذي قبله، وإن أذن له في الإنفاق والانتفاع بقدره جاز؛ لأنه نوع معاوضة، وأما مع عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين محلوبًا ومركوبًا وغيرهما، فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريًا للعدل في ذلك، نص عليه أحمد في رواية محمد ابن الحكم وأحمد بن القاسم واختاره الخرقي، وهو قول إسحاق، وسواء أنفق مع تعذر النفقة من الراهن؛ لغيبته؛ أو امتناعه من الإنفاق، ومع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه، وعن أحمد رواية أخرى: لا يحتسب له بما أنفق، وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه) ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن اهـ المراد منه وهو كاف في جواب السؤال. *** صلاة المغرب بعد غروب الشمس بنصف ساعة في عدن س 30 من صاحب الإمضاء في (عكابة) بعض قرى اليمن: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. جناب حضرة الأستاذ المحترم صاحب الفضل والفضيلة الإمام العالم العامل مفتي الأنام وخليفة شيخ الإسلام السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغرَّاء حفظه الله سرمدًا، وجعله للأنام منارًا ومرشدًا، ونفعنا بعلومه وجعله للإسلام والمسلمين ذخرًا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد إهدائكم مزيد السلام التام، وأفضل التحية والإكرام، أما بعد فليقين علمي بإخلاصكم في خدمة الإسلام والمسلمين ولحرصي على فتاويكم الشافية الكافية أقدم لفضيلتكم هذا السؤال الآتي وأرجو نشر جوابه على صفحات مناركم المنير، وسأبقى بغاية الانتظار لفتواكم الشافية، زادكم الله علمًا وهدًى. سيدي ما تقول السادة العلماء أئمة الدين، أحيا الله بهم شريعة سيد المرسلين في جماعة من مجاوري بندر (عدن) يصلون العشاء الآخرة بعد مضي نصف ساعة من غروب الشمس ويزعمون أنهم يشاهدون مغيب الشفق الأحمر، وأنه لا يدوم بقاؤه زيادة على هذا القدر، فهل يمكن مغيبه في هذه البلدة بعد هذا القدر، وهل تصح صلاتهم، ويحوز لمن سمع أذانهم أن يصلي العشاء تقليدًا لهم أم لا؟ مع أن أصحاب التقاويم يقطعون بعدم إمكان مغيبه قبل ساعة وثُمُن، أفيدونا بالجواب، ولكم من الله جميل الأ

السنة والشيعة ـ 2

الكاتب: عبد الله محمود شكري

_ السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة كنا نريد أن نكتفي في إبطال دعاية الرافضي الشيخ - أو السيد أو الملا - محسن الأمين العاملي في كتابه الجديد، وصد المسلمين عنها بما نشرناه في الجزء الماضي، ولكننا رأينا أن نجيب دعوة من دعونا إلى التوسع في ذلك بتأييد ما حكمنا به على صاحب هذا الكتاب من الكذب في النقل والطعن في السنة النبوية وغش المسلمين بعَزْوِها إلى الوهابية وابن تيمية وتلاميذه دون سائر المسلمين وبالاكتفاء من النقل من الكتب بما يؤيد مزاعمه وكتمان غيره من كلام من ينقل عنهم وكلام غيرهم في الموضوع، وبغير ذلك مما تدعو إليه الحاجة، ويوجبه درء الفتنة، وإبطال البدعة، فنقول: طعن العاملي في الوهابية وابن تيمية قال الرافضي العاملي في أول صفحة 129من كتابه تحت عنوان (اعتقاد الوهابية ومؤسس دعوتهم وقدوتهم ابن تيمية في الله تعالى وصفاته) ما نصه: (اعلم أن الوهابية ومؤسس دعوتهم محمد بن عبد الوهاب وباذر بذورها أحمد بن تيمية وتلميذه ابن القيم وأتباعهم ادعوا أنهم موحدون، وأنهم باعتقاداتهم التي خالفوا بها جميع المسلمين حموا جناب التوحيد أن يتطرق إليه شيء من الشرك، وادعى الوهابيون أنهم هم الموحدون وغيرهم من جميع المسلمين مشركون كما سيأتي، ولكن الحقيقة أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأتباعهما قد أباحوا حمى التوحيد وهتكوا ستوره وخرقوا حجابه ونسبوا إلى الله تعالى ما لا يليق بقدس جلاله تقدس وتعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا، وأثبتوا لله تعالى الوجه واليدين واليد اليمنى واليد الشمال والأصابع والكف والعينين كلها بمعانيها الحقيقية من دون تأويل، وهو تجسيم صريح) . (وحملوا ألفاظ الصفات على معانيها الحقيقية فأثبتوا لله تعالى المحبة والرحمة والرضا والغضب وغير ذلك بمعانيها الحقيقية من غير تأويل، وأنه تعالى يتكلم بحرف وصوت فجعلوا الله تعالى محلاًّ للحوادث وهو يستلزم الحدوث كما بين في محله من علم الكلام) . (أما ابن تيمية فقال بالجهة والتجسيم والاستواء على العرش حقيقة، والتكلم بحرف وصوت وهو أول من زقا بهذا القول وصنَّف فيه رسائل مستقلة كالعقيدة الحموية والواسطية وغيرها، واقتفاه في ذلك تلميذه ابن القيم وابن عبد الهادي وأتباعهم، ولذلك حكم علماء عصره بضلاله وكفره، وألزموا السلطان بقتله أو حبسه، فأخذ إلى مصر ونُوظِر وحكموا بحبسه فحبس وذهبت نفسه محبوسًا بعدما أظهر التوبة ثم نكث ونحن ننقل ما حكوه عنه في ذلك وما قالوه في حقه لتعلم ما هي قيمة ابن تيمية عند العلماء. (قال أحمد بن حجر الهيتمي الشافعي صاحب الصواعق في كتابه (الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم) في جملة كلامه الآتي في فصل الزيارة: إن ابن تيمية تجاوز إلى الجناب المقدس وخرق سياج عظمته بما أظهره للعامة على المنابر من دعوى الجهة والتجسيم ... إلخ. (وقال ابن حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حكي: إن الناس افترقت في ابن تيمية (فمنهم) من نسبه إلى التجسيم لما ذكره في العقيدة الحموية والواسطية وغيرهما من ذلك بقوله: إن اليد والقدم والساق والوجه حقيقية لله، وأنه مستو على العرش بذاته، فقيل له: يلزم في ذلك التحيز والانقسام؟ فقال: أنا لا أسلم أن التحيز والانقسام من خواص الأجسام فألزم بأنه يقول بالتحيز في ذات الله إلخ) . أقول: حسبي هذه الجملة من تقول الرافضي نموذجًا على كذبه في نقوله ومزاعمه واقتصاره في النقل على ما يوافق هواه، ويؤيد دعايته ودعواه، كما يفعل دعاة النصرانية (المبشرون) فيما ينقلونه من القرآن العظيم وكتب الحديث وغيرها من كتب المسلمين؛ لتشكيكهم في الدين ثم تحويلهم عنه إن لم يكن إلى النصرانية فإلى الإلحاد والزندقة؛ لأنهم يفضلونها على الإسلام الذي جاء بتوحيد الله تعالى وتنزيهه، وبكون المسيح عليه السلام نبيه جعله وأمه آية للناس بحملها به من نفخ روح الله جبريل عليه السلام إلخ - كما فعل أمثالهم أعداء الإسلام من يهود الحجاز عند ما سألهم مشركو مكة عن دينهم ودين محمد أيهما الحق؟ فشهدوا لهم بأن دين الوثنية وعبادة الأصنام هو الحق، وبأن دين محمد وهو التوحيد والبعث والشهادة بالرسالة لموسى عليه السلام وغيره من رسل الله هو الباطل؟ كذا يفضل هذا الرافضي البدعة على السنة وعلى ظاهر القرآن أيضًا. *** بيان تَقَوُّلِ العاملي على ابن تيمية والوهابية زعم الرافضي العاملي المتعصب أن أول من زقا بهذه العقائد أي صاح بها ودعا إليها هو ابن تيمية وتبعه بها تلميذاه ابن القيم وابن عبد الهادي؛ ولذلك حكم علماء عصره بضلاله وكفره وألزموا السلطان بقتله أو حبسه إلخ. أقول (أولاً) : إن الوهابية يدعون بحق أنهم موحدون وحامون لحِمَى التوحيد من تَطَرُّقِ الشرك، وكان يدعي هذه الدعوى بحق من قبلهم شيخ الإسلام، وعلم أهل السنة الأعلام، وهادم أركان بدعة الروافض وغيرهم من المبتدعة أرباب الخرافات والأوهام، وماحق شبهات الفلاسفة وضلالات الكفرة. (ثانيًا) : إن الوهابية لم يدعوا أنهم هو الموحدون وحدهم وأن غيرهم من جميع المسلمين مشركون كما افترى عليهم هذا الرافضي المتعصب وغيره، بل لم يدعوا أنهم فرقة أو أهل مذهب مستقل حتى يصفوا أنفسهم بوصف من دون سائر المسلمين، وإنما يقولون كما يقول غيرهم من العلماء بتوحيد الله الذي دعت إليه جميع رسله: إن المسلمين قد صدق في بعضهم حديث نبيهم الثابت في الصحاح من اتباعهم سَنَن من قبلهم من أهل الكتاب في البدع ومخالفة هداية دينهم كما يصدق في بعض آخر منهم قوله صلى الله عليه وسلم بأنه: (لا تزال طائفة من أمته ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) ، ويقولون: إن الذين اتبعوا سنن من قبلهم هم أهل البدع من الجهمية والروافض وغيرهم، وإن القائمين بأمر الله هم المحافظون على الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على الهدْي الذي كان عليه السلف الصالح من قبل ظهور البدع، ومن قاوم البدع منذ ظهورها من علماء الأمصار، وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين. (ثالثًا) : إن ما ذكره من العقائد التي زعم أن ابن تيمية وابن عبد الوهاب وأمثالهم أباحوا لها حِمَى التوحيد وهتكوا ستوره ... بإثباتهم لله تعالى صفة العلو والاستواء على العرش إلخ، إنما أثبتوا بها -كسائر أهل السنة - ما أثبته الله تعالى في كتابه المعصوم، وفي سنة خاتم أنبيائه المعصوم المبينة له، ذلك الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه خلافًا لغلاة الروافض المارقين عن الإسلام بزعمهم أن كتاب الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، لم يكتبه كما نزل إلا عليٌّ كرَّم الله وجهه وأنه كتمه عن المسلمين إلا أئمة أهل بيته، وأنه انتهى أخيرًا إلى مهدي السرداب، وأنه سيظهر في آخر الزمان وزعم الكثيرين منهم أن القرآن الذي تواتر بين المسلمين من عهد النبي وخلفائه الراشدين إلى اليوم قد حرَّفه الصحابة رضوان الله عليهم وكتموا بعضه، وأن عليًّا وسائر أئمة البيت المعصومين عندهم قد وافقوهم على ذلك ظاهرًا من باب التقية التي لا تنافي العصمة عندهم، بل يباح بها الكذب وكذا الكفر كاستباحة كتمان القرآن، ولكن منهم مَن بيَّن الحقيقة سرًّا لبعض أتباعهم فظلوا يتناقلونها إلى أن أذاعها بعضهم وجمع نصوصها عنهم صاحب كتاب (فصل الخطاب) المطبوع في إيران، بَرَّأَ اللهُ كتابَه وأهل بيت نبيه من هذا الكفر والضلال. وأما كونهم يثبتون تلك النصوص بمعانيها الحقيقية بدون تأويل ولكن مع إثبات التنزيه فهم متبعون في ذلك لسلف الأمة الصالح غير مبتدعين له، وإنما ابتدع التأويل الجهمية والمعتزلة وأتباعهم من الروافض بشبهة تنزيه الله تعالى عن التجسيم والتشبيه، وكان أبو الحسن الأشعري من المعتزلة المتأولين ثم رجع عن أشهر قواعد الاعتزال واتبع فيها أهل السنة، وظل على ما اعتاد من بعض تأويلات الاعتزال حتى صفا له مذهب أهل السنة من الشوائب ورجع إلى مذهب السلف كما صرَّح به في آخر كتابه المسمى بالإبانة، ولكن عدوى التأويل المبتدع سرت إلى كبار النظار من أتباعه فجرى لبعض أساطينهم ما جرى له من رجوعهم إلى مذهب السلف في أواخر أعمارهم، أو قبل ذلك كما جرى للإمام الجويني والإمام الغزالي وغيرهما من المتقدمين ولشيخنا الأستاذ الإمام من المتأخرين. وأما شبهة المبتدعة المتأولين فهي تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه التي يعبرون عنها في تأويل بعض الصفات بالتجسيم والتحيز وغيرهما من لوازم الأجسام فبهذه الشبهة عطَّلوا أكثر صفات الله تعالى حتى صارت عندهم في حكم العدم، والسلف الصالح أعلم منهم بمعاني النصوص، وبما يجب الإيمان به وأشد منهم تنزيهًا للرب تبارك وتعالى، وقد كاد ذلك يخفى على أهل القرون الوسطى لقصر هِمَم علماء السنة السلفيين على علوم القرآن والسنة وإعراضهم عن علم الكلام وعلم الفلسفة المبتدع ونظرياته الجدلية الخلابة، حتى ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية فنظر بعد الإحاطة بعلوم السنة والنقل المروية والمدونة في الكلام والفلسفة والمنطق وأظهر كثيرًا من فساد نظرياتها وأثبت صحة مذهب السلف من طريق النقل وطريق العقل جميعًا. والقاعدة في ذلك أن تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه قد ثبت بدليل العقل والنصوص القطعية من النقل كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وإن السلف يجمعون بين الأمرين: تنزيه الرب سبحانه ووصفه بما وصف به نفسه من الرحمة والمحبة والرضا والغضب وغير ذلك وعدم التحكم في التفرقة بين هذه الصفات وصفات العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام، فيقولون: إن رحمته تعالى رحمة حقيقية ليست كرحمة البشر كما أن علمه ليس كعلم البشر وسمعه ليس كسمع البشر وبصره ليس كبصر البشر إلخ، وكذلك يقول السلف في استوائه تعالى على عرشه: إنه استواء يليق بجلاله وَتَنَزُّهِهِ عن مشابهة خلقه، ليس كاستواء الملوك على عروشها، ولا نتحكم بعقولنا بتأويل ذلك كزعم من قالوا: الاستواء بمعنى الاستيلاء مثلا، وستأتي أقوالهم في ذلك. ذلك بأن مبتدعة التأويل يقيسون الخالق على المخلوق فيزعمون أن المعاني الحقيقية لتلك الصفات الإلهية تستلزم التشبيه الممنوع عقلاً ونقلاً، فوجب إخراج الألفاظ الدالة عليها من مدلولها، وحملها على معانٍ مجازية؛ ليتفق العقل مع النقل، وفاتهم أن تلك المعاني المجازية هي مستعملة في المخلوقات كالمعاني الحقيقية فالذين أَوَّلُوا رحمة الله تعالى بإحسانه إلى خلقه فاتهم أن الإحسان المستعمل في اللغة تعبيرًا عن صفات المخلوقين وأعمالهم مُحَال على الله تعالى أيضًا؛ إذ هو عبارة عن بسط يد بعطاء أو إنقاذ غريق من البحر مثلاً، وهذا لا يكون إلا بحركات الأعضاء فهو يستلزم التشبيه أيضًا. كما يلزم ذلك متكلمي الأشعرية الذين وافقوا المعتزلة والجهمية والرافضة في تأويل ما عدا الصفات الثمانية التي يسمونها صفات المعاني، فإن العلم الذي هو أبعد هذه الصفات عن الحاجة إلى التأويل عندهم هو عبارة في اللغة المستعملة في البشر عن انطباع صور المعلومات في ذهن العالم بها، والله تعالى منزه عن ذلك، وعلمه أزلي ليس صورة ذهنية للمعلومات التي تثبت الحدوث لما عدا ذاته وصفاته الذاتية سبحانه وتعالى منها، وفي صف

إصلاح الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية تمهيد كان الأزهر مستدبرًا لطريق النشوء والارتقاء، يمشي القهقرى أو يسير كل يوم إلى الوراء، وكان ما حاولته الحكومة من تغيير في نظمه وتبديل في إدارته عبثًا، لم يزده إلا ضعفًا وخللاً، فكبراء الشيوخ الجامدين لم تفدهم أطوار الزمان المتبدلة مظهرًا لقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (الرحمن: 29) عبرة ولا موعظة، بل ظلوا شديدي التعصب لتقاليدهم وخرافاتهم المنفرة عن الإسلام نفسه لا عن الأزهر وعلمه فقط، وإنما كان يسرهم من تدخل أولي السلطان في إدارتهم وتصديهم لإصلاحها ما يبذلونه كل مرة من المال الكثير ولا سيما في عهد جلالة الملك فؤاد الذي كان أشد مِنْ كل مَنْ سبقه في هذا العصر إغداقًا للمال على هذا المكان وأهله، انتهى الأمر بيأس الحكومة من إصلاح هذا المعهد أو (المعاهد الدينية) وشعورها أنه كَلٌّ عليها وعلى الأمة، وأن نفقاته السنوية التي زادت على مائتي ألف جنيه في السنة صارت مغرمًا وصارت ثقلاً على خزينتها وخزينة الأوقاف. *** حديث مع سعد باشا في الأزهر والإصلاح الديني كلمت سعد باشا في إصلاح الأزهر في عهد زعامته الأخير - بعد أن دانت له الأمة والحكومة بما كان من سياسة الوفاق والتعاون بين الأحزاب - فقال لي: لا، لا، إذا كان شيخنا (ويعني الأستاذ الإمام) لم يقدر على إصلاح الأزهر، فماذا عسى أن أفعل أنا. فلما رأيته يتكلم بوجدان اليأس والألم لم أَحْتَجَّ عليه كعادتي بأن شيخنا لم يقدر على إصلاح الأزهر؛ لأنه لم يكن بيده من النفوذ الحكومي مثل ما بيدك؟ لا لأن الإصلاح المطلوب كان مجهولاً عنده أو متعذرًا عليه أو مُحَالاً في نفسه، بل كل نفوذ ذي سلطان معارضًا له بقدر ما هو موات لك، وإنما قلت له: حدثني الشيخ رحمه الله أنك كنت وإخوانك تبالغون في لومه على إضاعة أوقاته في محاولة إصلاح الأزهر وتتمنون عليه لو يشتغل بغير ذلك من خدمة الإسلام كتصنيف الكتب النافعة مثلاً، وأنكم كنت تظنون في بعض الأوقات أن الأستاذ رحمه الله قد اقتنع بكلامكم وأنه سيترك من أول غده الاختلاف إلى الأزهر؛ ثم تجدونه في غده أشد نشاطًا وهمة منه في أمسه، وأن هؤلاء الإخوان تحدثوا إليك مرة في التعجب من ذلك، وفي الحيرة في تعليله مع ظهور اقتناع الأستاذ بكلامهم الوجيه المعقول في نفسه فأجبتهم بقولك: وما يدريك لعل الرجل يشعر في وجدانه بأنه مسخر من الله تعالى لهذا العمل الواجب عليه، حتى يكاد يكون فاقدًا للاختيار فيه؟ فهل تذكر هذا يا دولة الباشا؟ قال: نعم وهو ما كنت أعتقده ولا أزال أعتقده إلى الآن. ثم قلت له: إنني سمعتك مرارًا تقول: إنه لا يرجى نهوض المسلمين إلا بالإصلاح الديني وفاقًا لما كان يقوله شيخنا الأستاذ الإمام وأستاذ الجميع حكيمنا السيد جمال الدين وتستدل على ذلك كما كانا يستدلان بأن أوربة لم تتمكن من النهوض المدني العلمي إلا بعد القيام بالإصلاح الديني الذي دعا إليه لوثر وأقرانه؛ إذ ما دام المسلمون يفهمون الإسلام فهمًا خرافيًّا أو يلبسونه كالفرو مقلوبًا كما قال سيدنا علي كرم الله وجهه فلا يُرْجَى أن يصلح لهم شأن في علم ولا عمل. قال: نعم ولا أزال أرى هذا، فالترقي المدني مع المحافظة على الإسلام يتوقف على الإصلاح الديني الذي تترك به الخرافات والأوهام إلخ. قلت: إذًا لا بد أن تعمل في سبيل هذا الإصلاح شيئًا ولديك الأزهر والمنار، فإذا كنت قد يئست من الأزهر، فلماذا لا تساعد المنار وتنشره في مدارس الحكومة قال: الحق معك في المنار، وأنا آذنك أن تكلم الشمسي (أي علي باشا الشمسي وزير المعارف) في هذا عن لساني. قلت: ولِمَ لا تكلمه دولتكم؟ قال: هو بعد ذلك يسألني وأنا أكلمه. بعد هذا ذهبت إلى دار وزارة المعارف لأكلم الوزير فعلمت أنه في شغل مانع من مقابلته في ذلك الوقت فكتبت إليه أنني جئت لأقابله وأنني سأعود، ولكنني لم ألبث أن ندمت على ذلك ورأيته مخالفًا لخلقي وما ربيت عليه من عدم السعي لنفسي، أو لمصلحة عامة أقوم بها وحدي، وكراهة التملق للكبراء، فلم أعد إليه ولا إلى سعد باشا، وتلا ذلك مرض سعد باشا الذي اشتد عليه بعد ذلك فسافر إلى مصطافه ثم عاد وقضى نحبه ولم أزره بعد تلك الجلسة معه في خزانة كتبه من بيت الأمة، وقد كان مرادي من بدء هذا الحديث ذكر يأس سعد باشا من الأزهر كغيره من رجال الحكومة في جميع الوزارات السابقة، ثم رأيت من الفائدة أن أنشر سائر الحديث؛ لأنه مفيد في موضوع الإصلاح الديني المقصود من إصلاح الأزهر، ففعلت. *** تدلي الأزهر وارتقاء المدارس الدنيوية وأعود إلى ذكر تدلي الأزهر من حيث يعلو ويرتقي غيره من المدارس المدنية، بل إلى موته وحياة غيره من المعاهد العلمية الدنيوية، كدار العلوم والجامعة المصرية، وغيرهما من مدارس الأجانب حتى دعاة النصرانية ومدارس الأفراد التجارية، فإنها في نجاح مستمر بإقبال أولاد المسلمين أنفسهم عليها وبذل أموالهم لها لنعلمهم ما يرون أو يرى أولياء أمورهم أنه لا بد لهم منه وإن أفسد عليهم دينهم، فأقول: إن المرحوم علي باشا مبارك الوزير المسلم المصلح لم ينشئ مدرسة دار العلوم إلا ليأسه من قيام الأزهر وحده بتخريج من يصلح لتدريس الفنون والعلوم العربية ومدارس الحكومة على الطريق الفني (البيداجوجي) وكان من أساتيذها في أول عهدها الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى. ثم إن الأستاذ الإمام لم يضع أساس نظام مدرسة القضاء الشرعي لوعد الحكومة إياه بتفويض أمرها إليه إلا بعد اضطراره إلى ترك الأزهر ويأسه منه باضطهاد الأمير ومقاومته وجمود شيوخه وتعصبهم وعجزهم. ثم إن سعد باشا لم يتم النظام للمدرسة ويجعلها تابعة لوزارة المعارف دون الأزهر إلا لاعتقاده واعتقاد الحكومة معه أن جعلها تابعة للأزهر يجعلها عقيمًا لا تنتج إلا خِداجًا. ثم إن الحكومة حاولت سلب الأزهر كل شيء وقرَّر البرلمان جعله تابعًا في إدارته لرئيس الوزارة تحت إشرافه بعد أن رأت أن أمل جلالة الملك فيه في غير محله، ثم مات شيخ الأزهر الشيخ أبو الفضل فأمسكت الحكومة عن تعيين خلف له عدة أشهر لحيرتها فيه وفي شيوخه كما قلنا في الفصل السابق. *** رياسة المراغي للأزهر وتأثيرها ثم كان من قضاء الله وقدره أن وقع الاختيار على نوط هذا المنصب بالشيخ محمد مصطفى المراغي الذي عرفت الحكومة مكانته بسيرته الحسنة في القضاء الشرعي بعد أن ارتقى إلى أعلى درجاته، وهي رياسة المحكمة الشرعية العليا. فماذا كان بعد هذا؟ كان أن زال يأس الحكومة المتولد من طول التجارب في إصلاح هذا المعهد، وزال يأس أهل الذكاء والشعور بالفساد الذي يفتك بالشعب وبالحاجة إلى الصلاح الذي لا يكون إلا بإصلاح من الأزهريين، ومن سائر طبقات الأمة، وتجدد لمسلمي مصر ولحكومتها ولرأس الحكومة والأمة جلالة ملكها رجاء في هذا المكان لم يكن شيئًا مذكورًا. ثم سرى هذا الرجاء إلى سائر الأقطار الإسلامية فرددت أخبار الأزهر، وباتت ترقب ما سيكون من الإصلاح بسرور عظيم. بل شعر الأجانب من أهل البصيرة والتأمل في أمور العالم في أوربة بأن هذه المدرسة الإسلامية الجامعة ستكون مدرسة علم عصري ودين معقول إصلاحي، وأن سيكون لها أثر عظيم في الشعب المصري وحكومته، وفي سائر الشعوب الإسلامية وقد رددت الصحف الأوربية، ولا سيما الإنكليزية منها، هذه الآراء والأنباء ونشرتها في جميع الأنحاء والأرجاء. كل هذا وشيوخ الجمود التقليدي من أهل الأزهر لم يشعروا بأي معنى من معاني الإصلاح الصوري ولا المعنوي الذي شعر به المشرقان والمغربان، وخفق له الخافقان وإنما شعروا باضطراب وزلزال يتهدد تقاليدهم وخرافاتهم التي بها تقبل العامة أناملهم، وترضخ لهم من فضول أرزاقها، فطفقوا يتململون ويتبرمون، ويجهرون بما يهجرون، ويجأرون بما يجرؤون يا مسلمين قد أبيح الاجتهاد، وفتح باب الكتاب والسنة للعباد وهو الذي أغلق بابه بعد أولئك الأئمة الأفراد، فأمسى الأزهر عرضة للفساد. وكتاب الله يصيح بهم، بما يذكرهم سنن الله فيمن قبلهم: {لاَ تَجْأَرُوا اليَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ * قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ * أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 65-69) . ماذا فعل هذا الشيخ الجديد محمد مصطفى المراغي، وماذا قال الشيخ عليش بلسان أمثاله، لقد جئت شيئًا إمرًا، لقد جئت شيئًا نكرًا، إنه لم يخرق سفينة الشريعة الراسية بل أراد تسييرها، فقال:] بسم الله مجراها ومرساها [، وما قتل نفسا زكية بغير نفس بل نفخ في هذه الأمة ما لو سرى فيها لأحياها، كانت نفس الأمة ميتة بالجهل والتقليد والخرافات، فأراد إحياءها بآيات القرآن البينات، وما دعا إليه القرآن من علم كوني وشرعي، ومن عمل ديني ودنيوي، وما بينه به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلف الأمة الصالح، وهو ما لا يرجى بغيره صلاح هذه الأمة كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها) ، وفتح للأزهر أبواب الرزق والجاه الصحيح الذي يمكنهم من النفع بعلمهم، وتعميم هداية دينهم. ولكن ما بال هؤلاء الشيوخ والأمة صلحت أم فسدت؟ علمت أم جهلت؟ حيت أم هلكت، ما داموا يرون في العامة من يقبل اليد ظهرًا أو بطنًا، ويرضخ لها سرًّا وجهرًا، فكيف حال من له منهم في الأزهر أو في القضاء الشرعي راتب ينعم به ويربي به أولاده ويعلمهم في المدارس المدنية التي يصف هو وأمثاله أهلها بالكفر؛ لشعوره بأن الأزهر صار أضيق أبواب الرزق على أكثر الذين يتخرجون فيه. نعم إن شيوخ الأزهر الجامدين المعادين للإصلاح يعلمون أن أهله في كل عام يرذلون ويضيق رزقهم كما يقل احترامهم، ويعدون هذا من استحواذ الكفر والفسوق والعصيان على جماهير الناس من دونهم، ولكنهم لا يفكرون في سبب هذا الكفر والفسوق والعصيان، ولا يخطر في بالهم أنه يجب عليهم مقاومته ونشر العلم الذي يهدي إلى الإيمان والبر والتقوى، ولو فكروا وتأملوا وتدبروا لعرفوا ما عليهم من التبعة، وما لهم من الشركة في كل ما يشكون منه وفي أسبابه، ولعلموا أن الأمة مع حكومتها صارت في غنًى عنهم، وعن أزهرهم؛ لأنه أمسى في نظرها عضوًا أشل، أو عضوًا أثريًّا كما يقال في هذا العصر، وهذا ما كان يعالجه الأستاذ الإمام بحكمته ويحاول تلافيه بكل ما أوتي من علم وعرفان ونفوذ وعزيمة: كان يحاول أن يجعل الأزهر عضوًا عاملاً تشعر الأمة والحكومة بالحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه، بل كان يطمع فيما هو فوق ذلك: كان يطمع أن يجعله عضوًا رئيسيًّا في بنية الأمة الإسلامية لا في بنية الشعب المصري وحده، وإنما تكون به مصر مركز هذا العضو الرئيس وهذا عين ما يقصد إليه تلميذه الشيخ محمد مصطفى المراغي، وقد سنح له من الفُرَص وتهيأ له من الأسباب ما لم يكن شيء منه في عهد أستاذه وأستاذنا الإمام رحمه الله تعالى. توجهت همة الأستاذ الأكبر - وفقه الله تعالى - من أول وهلة إلى الإصلاح بقسميه الديني والدنيوي، ومظهريه الصوري والمعنوي، وغ

الانقلاب المدني الديني في بلاد الأفغان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانقلاب المدني الديني في بلاد الأفغان إننا منذ علمنا بأن أمير الأفغان ثم ملكها أمان الله خان يعتمد على بعض المتفرنجين والملاحدة من ضباط الترك الاتحاديين، ثم الكماليين في تدريب جيش له وتعليمه أوجسنا في أنفسنا خيفة على هذا الشعب أن يفتنه في دينه هؤلاء الملاحدة، وأعظم هذه الخسارة على المسلمين وسائر الشرقيين. وكنت أتمنى لو يتاح لي لقاء بعض كبار الأفغانيين الذين يترددون بين الشرق والغرب في هذا البلد الوسط بين الخافقين لأكلمه فيما يجب على قومه وحكومته، وما ينبغي لهم وما يُخشى عليهم، أقف على رأيه وأطلعه على رأيي في ذلك، وما زلت أرقب الفرص حتى علمت بأن أحد هؤلاء الرجال العاملين وصل إلى مصر منصرفًا من بلاد الترك إلى بلاده وهو سلطان أحمد الذي كان سفيرًا للأفغان في أنقرة فبادرت إلى زيارته في فندق (ناسيونال) وبعد الترحيب به بدأت حديثي معه بذكر السيد جمال الدين الأفغاني وما له من الفضل في إيقاظ الشرق عامة والمسلمين خاصة، وتوجه عقولهم وهممهم إلى ما يجب عليهم من الإصلاح الديني والمدني السياسي في هذا العصر قبل أن تقضي أوربة على ما بقي بأيدهم من سلطان وملك وتَحُول بينهم وبين كل عمل، ثم انتقلت إلى ذكر ما تجدد لنا من الرجاء في نهضة الشعب الأفغاني الذي نخصه بمحبة زائدة لانتماء السيد جمال الدين إليه ونرى أنه أولى بالانتفاع بآرائه، وقاعدتها بناء الإصلاح المدني والسياسي على قواعد الدين الإسلامي الذي هو أقوى مقومات الشعوب بجمعه بين الهداية والفضائل الروحية السليمة من الخرافات المفسدة للبشر، وبين طلب السيادة والملك والعمران من الطرق العلمية والسنن والنواميس الاجتماعية. وبينت له ههنا أن جماهير المسلمين صاروا يجهلون هذه القواعد فمنهم من يتعصب للتقاليد الموروثة من القرون الأخيرة التي ضعُف فيها العلم والدين في الأمم مؤيدًا بنصوص الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح لهما، ومنه كراهتهم للعلوم والفنون والنظم التي سادت بها حضارة العصر واعتزت دوله، ومنهم من توجه إلى طلب هذه الحضارة بتقليد أهلها في عاداتهم وأزيائهم وظواهر نظمهم وبعض قوانينهم، وإن كانت غير ملائمة لهم في مقومات أمتهم ومشخصاتها التي هي مأخذ تلك القوانين ومستمدها، وبذلك وقع التفرق بين شعوب المسلمين، والانقسام والتنازع بين أهل كل شعب وجد فيه هذان الفريقان كالترك والمصريين فأضاع كل منهما ما أضاع من ملكه واستقلاله. كل فريق من الفريقين اللذين يتألف منهما أكثر كل شعب من المسلمين مخطئ في فهم معنى الإسلام الديني والمدني فهؤلاء يتوهمون أنه ينافي العلوم والفنون التي عليها مدار الحضارة والقوة والثروة، فصاروا يطلبون هذا بتركه حتى انتهى ذلك بزعماء الترك الكماليين إلى تركه، والحرمان من زعامة الشعوب الإسلامية المالكة لمعظم رقبة الشرق الأدنى والأوسط ولهم سهم كبير في الشرق الأقصى، وأولئك يتوهمون وهمهم ولكنهم آثروا التقاليد الإسلامية بما أحدثوا فيها من البدع الخرافية على الحضارة العصرية. ولا يمكن الجمع بين الفريقين وتوحيد كل شعب إسلامي إلا بقاعدة السيد جمال الدين الأفغاني في الإصلاح، وهذه القاعدة قد تمكنت من عقلاء المسلمين الجامعين بين الاستقلال العقلي في فهم الإسلام الصحيح الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وبين معرفة حال هذا العصر، وما تتوقف عليه السيادة والعزة للشعوب وحكوماتها فيه، ولكن هؤلاء العارفين بالأمرين متفرقون في كل قطر لما يصيروا حزبًا واحدًا متعاونًا. ومن حسن الحظ أن هذا التفرق والانقسام لم يتمكن من الشعب الأفغاني العزيز فبناء الإصلاح فيه على أساس القواعد الجمالية الأفغانية أسهل من بنائه في قطر إسلامي آخر، وههنا ذكرت لمحدثي أحوج ما يحتاج إليه شعبهم الآن من الإصلاح الدنيوي وهو (1) النظام المالي (2) تنمية موارد الثروة الوطنية من الزراعة والصناعات واستخراج المعادن (3) تنظيم القوى العسكرية. وقلت له: إن اقتباس الفنون التي يتوقف عليها ترقي الزراعة والصناعة والعسكرية واجب شرعًا، وليس فيه شيء يعارض تعاليم الإسلام، فيجب عليكم البدء بذلك، واجتناب الفلسفة والقوانين الأوربية التي تصدم الدين فيعقبها تصادم رجاله ورجال الحكومة وانقسام الأمة وتعاديها. ثم قلت له: ولا يغرنكم تهور الترك الكماليين، وما يظهر لكم، ولكل من لا يرى إلا ظواهر الأمور ومشارفها من نجاحهم في نبذ الإسلام ومعاداته، فإن فرضنا أن ظهارة أمرهم كبطانته وخوافيه كقوادمه، وليس كذلك، فلا يجوز أن ننسى الفروق بين الشعبين الأفغاني والتركي في تاريخهما وحالتهما الحاضرة والفرق بين زعمائهما، وذكرته بشيء من هذه الفروق التي بينتها في مقال الجزء الماضي الخاص بالترك. ثم قلت له: إنكم وإن اجتنبتم ما ذكرت لا بد أن تلقوا معارضة من علماء بلادكم من طريق الدين لما يغلب على أولئك العلماء من الجمود على التقليد لكتب فقه المذهب الحنفي، ولكن هذه المعارضة تكون ضعيفة وإقامة الحجة فيها على العلماء هينة، وترون من هذا العاجز ومن غير من علماء مصر وغيرها من يدلي إلى حكومتكم بهذه الحجة التي لا يمكن لعلمائكم دحضها، فإن لم تقبلوا هذه النصيحة فسترون من الثورات والفتن التي يثيرها الفقهاء في شعبكم الشديد التعصب القوي البأس ما فيه الخطر العظيم. هذا أهم ما ذكرته لسلطان أحمد يتخلله بعض حديثه، وقد أكون نقصته بعض المسائل وزدت بعضها إيضاحًا ولو كتبته عقب لقائه لنصصته على غرّه، وأذكر من قوله أنه اعترف بتعصب أهل بلاده وشدتهم، وبأنه لا يأمن هو على حياته منهم بعد وصوله إليهم إذا صرَّح بما يراه ويعتقد، ومنه أن الإصلاح الفني والمالي والعسكري الذي قلت إنه يكفيهم الآن يستلزم الإصلاح التشريعي. قلت له: إن الشريعة الإسلامية شريعة يسر وسماحة، وهي تتسع لكل إصلاح بشرط أن لا يلتزم مذهب واحد من مذاهب فقهائها، وأنه لا يوجد فيها شيء متفق عليه بين أئمتها يعارض حضارة العصر فيما هو من المنافع والمقاصد الجوهرية إلا الربا الصريح الذي توسع فيه بعض الفقهاء بأقيستهم الزائدة على نصوص الشارع، وإن شعبكم غير مضطر في معاملاته إلى الربا، وأما حكومتكم فاقتراضها بالربا خطر على استقلالها، فالواجب عليها أن تقتصر من العمران على ما تسمح لها به ثروتها وأن يكون بالتدريج. ثم إني رغبت إليه أن يعرض هذه الآراء على أميرهم بعد عودته ذاكرًا له نصيحتنا له بالمحافظة على الإسلام وما فيه من القواعد المعنوية والسياسية ووقاية الشعب من مفاسد الآراء العصرية الاجتماعية كالبلشفية والفوضوية والإباحية، وذكرت له أنني رأيت أثناء سياحتي في الهند سنة 1330 (1912) أن مسلميها يحبون الأفغان ولهم فيهم آمال عظيمة، وكان هذا قبل الاستقلال الصحيح الذي تم بعد الحرب الكبرى، وأن هذه الحب والأمل مما يجعل الدولة البريطانية تحرص على مودة دولتهم، وأن إعراضهم عن الإسلام يضيع عليهم كل هذا وما هو أعظم منه، وقلت: إنني مستعد لبيان كل ما يراه منتقدًا من كلامي فلم ينتقد شيئًا. ثم وعدني سلطان أحمد أن يبلغ رأيي للملك أمان الله خان ولكنني شككت في وعده؛ لأنني رأيته لم يناقشني في شيء إلا ما ذكره مختصرًا من الحاجة إلى التشريع الجديد ثم صار الشك ظنًّا قويًّا لما رأيته اكتفى من رد الزيارة لي بإعطاء بطاقة الزيارة إلى بواب الدار وهو راكب. *** محادثة غلام جيلاني سفير الأفغان في أنقرة غلام جيلاني خان هذا ركن من أركان الاتفاق بين الترك والأفغان باتباع هؤلاء لخطوات أولئك بأن يكونوا تلاميذ لهم وعالة عليهم في تنظيم جندهم وحكومتهم وإنشاء شعبهم إنشاء أوربيًّا جديدًا، وقد تيسر لي الاجتماع به مرارًا في الحجاز؛ إذ جاءها مندوبًا عن حكومته لحضور المؤتمر الإسلامي العام في موسم الحج سنة 1344 وقد جاء هو والمندوب التركي متأخرين عن موعد عقد المؤتمر، وكان المقدر أن يختم المؤتمر قبل يوم عرفة، ولكن كثرة المجادلات التي أثارها مندوبو جمعية الخلافة من مسلمي الهند اقتضى تأخير بعض جلساته الختامية إلى ما بعد انتهاء الحج، وبذلك أدرك مندوبو الترك والأفغان هذه الجلسات. لقيته أول مرة في أصبوحة يوم عرفة؛ إذ اتفق أن بتنا ليلتها في خيام لجنة الأطباء الصحية؛ لأننا وصلنا إلى عرفات ليلاً، ولم نهتد إلى خيام ضيافة الملك التي أعدت لأعضاء المؤتمر، وإنما هدانا إلى خيام اللجنة الصحية مصابيحها العالية القوية النور، بات كل منا في خيمة وفي الصباح أخبروني بأن سفير الأفغان عندهم فذهبت إلى زيارته، وأحضروا لنا الفطور إلى خيمته، وجلسنا جلسة طويلة ذكرت له فيها ما في نفسي من أمر دولتهم على النحو الذي ذكرته لسلطان أحمد بمصر، فوافقني على كل ما قلته وطمأن من قلقي وأمن من فَرَقِي بقوله: إن جلالة ملكهم معتصم بالإسلام حريص على المحافظة عليه إلخ. *** السعي لدى جلالة ملك الأفغان ورجاله بمصر لما زار جلالة أمان الله خان مصر في أول شتاء العام الماضي قابلته مع إخواني أعضاء مجلس الرابطة الشرقية وقدمت له بعض مؤلفاتي ومؤلفات الأستاذ الإمام فقبلها مع الشكر، ثم رغبت إلى زميلي في المؤتمر الإسلامي العام غلام جيلان خان سفيره لدى الجمهورية التركية - وكان في بطانته - أن يأخذ لي موعدًا بمقابلة خاصة لأعرض فيها على جلالته رأيي ورأي حزبنا الجمالي الأفغاني في الإصلاح الذي تحتاج إليه الشعوب الإسلامية في هذا العصر كما حدثته في الحجاز ولأقدم له تفسيري للقرآن الحكيم الذي يتضمن أقوى الحجج لهذا الإصلاح الديني المدني السياسي؛ ليطلع عليه كبار علمائهم عسى أن يخفف من جمودهم فوعدني بذلك مظهرًا للسرور والارتياح فأعطيته أجزاء التفسير مجلدة تجليدًا حسنًا فما زالت عنده وما زال يمطلني في أخذ الإذن بالزيارة إلى يوم موعد سفر الملك، فلما علمت بموعد سفره عجلت بكتابة كتاب إلى جلالته، اختصرت فيه ما كنت أريد بسطه له بالمشافهة، وهذا نصه: *** نص كتابي لملك الأفغان بسم الله الرحمن الرحيم من داعية الإصلاح الإسلامي محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار. إلى صاحب الجلالة أمان الله خان الملك الأول للأفغان، والمجدِّد فيها لمجد الإسلام، وفقه الله تعالى لما يحبه ويرضاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإنني عشقت الشعب الأفغاني منذ نشأتي العلمية بالتبع لعشق المصلح الأكبر حكيم الإسلام وموقظ الشرق السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني - قدس الله روحه - فقد كنت داعية له في حياته وكنت (وقتئذ) تلميذًا، ثم اتصلت بخليفته وأعظم مريديه الأستاذ الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية - قدس الله روحه - وعملت معه بضع سنين، وما زلت قائمًا بعده بالدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي الذي دعيا إليه وجاهدا في سبيله كما تشهد لي بذلك ترجمتي لهما في تاريخ مستقل وتسعة مجلدات من التفسير ألفتها على مشربهما وثمانية وعشرون مجلدًا من المنار. لهذا أعد نفسي من أشد الناس غبطة بقيام جلالتكم بالنهضة الجديدة بالشعب الأفغاني بعد أن تم له استقلاله المطلق في عهدكم السعيد، ثم من أعظم ساكني مصر ابتهاجًا برحلتكم هذه إلى أهم بلاد الشرق والغرب بقصد الاختبار لأحوال الممالك والأمم لتكونوا على بصيرة تامة في إدارة أمر بلادكم وما تحتاج إليه

مبرة الدمرداش باشا الكبرى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مبرة الدمرداش باشا الكبرى في الأسبوع الأخير من شهر صفر ثاني شهور هذا العام نوَّهت الصحف اليومية بما كتبه صاحب السعادة الشيخ عبد الرحيم باشا ابن مصطفى الدمرداش المثري الشهير إلى الحكومة من تبرعه هو وزوجته الكريمة وكريمته قوت القلوب هانم بقطعة من الأرض في حي الدمرداش المشهور بجانب شارع الملكة نازلي من جهة العباسية لأجل أن يُبْنَى فيه مستشفى، وبمبلغ ستين ألف جنيه مصري تستغلها الحكومة لصرف غلتها السنوية على المستشفى على أن تقوم هي بباقي النفقة إذا لم تكف هذه الغلة لها. واشترط في وقف هذا المستشفى أن يكون عامًّا لجميع الأمراض غير المعدية، وأن يقبل فيه جميع المرضى الفقراء مجانًا على اختلاف جنسياتهم وديانتهم، وأن يبنى بفنائه مسجد لأداء فريضة الصلوات ويجعل بجانبه ثلاثة ضرائح لدفن المتبرعين فيها بعد وفاتهم، وأن يقام داخل المستشفى تمثال نصفي لحضرة صاحب السعادة عبد الرحيم باشا الدمرداش وأن يحتفل سنويًّا بذكرى سعادته في اليوم الذي يوافق تاريخ الاحتفال بافتتاح المستشفى. وقد قرَّر مجلس الوزراء في 28 صفر الموافق 14 أغسطس قبول ذلك وشكر سعادته وأسرته على هذه الهبة الجليلة. ثم قامت مصلحة المباني الأميرية بتجهيز مشروع البناء وتم ذلك وشرع فعلاً في التنفيذ وتبلغ مساحة الأرض التي سيقام عليها المستشفى 12. 400 متر مسطح تقريبًا، ويتكون المشروع من مستشفى يسع حوالي 90 سريرًا، وسيحتوي المستشفى على الأقسام الآتية: (1) الإدارة مع سكن للطبيب المقيم ورئيسة للممرضات بالدور الأول. (2) عنبران للمرضى: أحدهما بالدور الأرضي ويخصص للرجال والآخر بالدور الأول، ويخصص للنساء ويشمل الأخير قسمًا للولادة. (3) قسم العمليات يكون فيه غرفة لأشعة إكس. (4) قسم للعيادة الخارجية. (5) قسم للمطابخ. (6) قسم للمغسل. (7) قسم للمشرحة. (8) قسم للعزل. (9) المسجد والمقابر. وسيكون البناء بحجر الدبش المبيض مع أحزمة من الطوب وميول مغطاة بالقراميت تكون كرنيشًا بالوجهات العمومية. الشيخ عبد الرحيم باشا الدمرداش هذا هو شيخ الطريقة الدمرداشية المشهورة، وكان من أصدقاء شيخنا الأستاذ الإمام وأنصاره وقد عرفناه وعرفنا منذ جئنا مصر باتصالنا بالأستاذ الإمام والعمل معه في سبيل الإصلاح، وكان من أول المشتركين في المنار. قد سبق جميع الذين كانوا يقيمون الموالد المعروفة إلى منع الفسق والفجور من احتفالاتها بمنعه ذلك من مولد الدمرداش الكبير المشهور بلقب (المحمدي) ونوَّهنا بعمله هذا في العدد 42 من سنة المنار الأولى الذي صدر في 24 شعبان سنة 1316 (7 يناير 1899) تحت عنوان (وميض لمع في ظلمات بدع) ويجد القارئ ذلك في ص 828، 829 من الطبعة الثانية للمجلد الأول. ومما قلناه في ذلك: وعسى أن يكون الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الرحيم خير قدوة لهم (أي أهل الطريق) في تطهير الطريق من كل البدع، وتحريره على السنة السنية ولو بالتدريج إلخ. ونقول الآن: عسى أن يكون قدوة للأغنياء في المبرات والأعمال النافعة للناس، ونقترح عليه أن يجعل المقابر الثلاث التي ستُبْنَى موافقة لأحكام الشريعة بأن تكون بمعزل عن المسجد وأن لا يجعل لها مصابيح توقد فيها لما ورد في الأحاديث الصحيحة من لعن الذين يبنون المساجد على القبور والذين يوقدون عليها السُّرُج، ونسأله تعالى أن يطيل أعمارهم ويوفقهم لغير ذلك من المبرات، ولا سيما نشر العلم والإصلاح الديني.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار وظيفتا القضاء والإفتاء وحكم من سُئِلَ فلم يُجِبْ بسم الله الرحمن الرحيم س (40 و41) من صاحب الإمضاء في بيروت حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع لسيادتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه: 1 - هل وظيفة القضاء والإفتاء قديمة في الإسلام أم حديثة فإن فريقًا من الناس يقول: إنها قديمة، والفريق الآخر يقول: إنها حديثة فما هو القول الصحيح؟ 2 - ما حكم الله تعالى ورسوله في القاضي والمفتي والعالم إذا سُئِلُوا عن سؤال شرعي ولم يجيبوا عنه مطلقًا سواء كان السؤال تحريريًّا (خطيًّا) أو (شفهيًّا) تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي (ج) القضاء بين الخصوم من ضروريات الاجتماع التي لا تقوم بدونها حكومة، ومِن ثَمَّ صار منصبًا يقلد منذ صار للإسلام حكم، وصار له أتباع يختصمون إلى حكامه، وكان عمال النبي صلى الله عليه وسلم يحكمون بين الناس، وولى صلى الله عليه وسلم معاذًا على اليمن وأذن له بالحكم باجتهاده فيما ليس فيه نص من كتاب الله ولا سنة من رسوله، وولاية القضاء معروفة مشهورة في كتب السنة والفقه فراجع كتاب الأحكام في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة والفقة والتاريخ ومن المشهور في ذلك كتاب عمر رضي الله عنه في القضاء لقاضيه شريح. وأما الإفتاء فقديم أيضًا، وكان علماء الصحابة يفتون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الإفتاء لم يكن في عهد السلف (وظيفة) تُقَلَّد لإفراد معينين كما نَعرف في دول الإسلام الأخيرة، ولا أذكر الآن أيها كان السابق إلى ذلك. وأما حكم الله تعالى في العالِم إذا سأله سائل عن شيء من أمر دينه فهو ما بيَّنه تعالى بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} (آل عمران: 187) فكتمانه العلم بما يجب اعتقاده أو العمل به شرعًا، وبما يحرم فعله شرعًا محرمٌ على العالم بالحكم، ولا سيما إذا سئل عنه ولم يكن ثَمَّ عالم آخر يقوم مقامه، وكان السلف الصالح يكرهون السؤال عما لم يقع ولم يحتج السائل ولا غيره إلى العمل به ولا يرون حرجًا في عدم الجواب عنه، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره السؤال، وينهى عنه، فما القول في السؤال عما لا فائدة فيه أو السؤال عن شئون الدنيا التي لا يتعلق بها حكم شرعي احتيج إليه للعمل به؟ وفروع هذا الباب كثيرة يضيق وقتنا الآن عن التطويل فيها فنكتفي بهذا الإجمال الوجيز. *** بدعة دعاء ليلة نصف شعبان والاحتفال فيها س42 من صاحب الإمضاء في مجدل عسقلان (فلسطين) سيدي الفاضل المحترم علامة العصر السيد محمد رشيد رضا أدامه الله آمين، بعد التحية الوفية، أعرض لقد جرت عادة الناس في هذا البلد بإحياء ليلة النصف من شعبان في كل سنة قبل صلاة العشاء في المسجد وإنهم يدعون الله (عز شأنه) بصيغة دعاء نصف شعبان المعلومة التي من جملتها: (اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًّا أو أو إلخ فامح اللهم بفضلك من أم الكتاب شقاوتي إلخ؛ لأنك قلت وقولك الحق في كتابك المنزل على نبيك المرسل: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: 39) وذلك بعد صلاة ركعتين بنية طول العمر وغيرها، وقراءة سورة يس ويكررون العمل ثلاثًا، فهل ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الخلفاء الراشدين أو هو بدعة؟ وهل في ذلك حرج على الداعي وحرمة؟ وما الذي يجدر بالمسلم لإحياء ليلة النصف من شعبان، وماذا يناسب من صيغ الدعاء في تلك الليلة؟ أفيدونا مأجورين ولحضرتكم من الله جزيل الثواب سيدي. ... ... ... ... ... ... ... ... يوسف محمود الشريف (ج) الاحتفال المعروف بإحياء ليلة نصف شعبان بدعة فصَّلْنا القول فيها وفي دعائها المعروف في الفتوى الرابعة من فتاوى الجزء السادس عشر من مجلد المنار السادس، وفي باب الانتقاد على المنار من آخر الجزء 24 من ذلك المجلد، فراجعهما تجد فيهما كل ما تحتاج إلى معرفته، ومنه أن الله تعالى لم يشرع للمؤمنين في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في سنته عملاً خاصًّا بهذه الليلة، فَيَحْسُن فيها كل ما يحسن في غيرها من عبادة ودعاء بشرط أنه لا يعتقد فاعله ولا يقول بأنه مشروع فيها وحدها؛ لأنه يكون حينئذ شرعًا لم يأذن به الله، بل افتراء على الله. *** بدع خاصة بزيارة سيدنا الحسين رضي الله عنه س (43- 46) ومنه: حضرة السيد الفاضل العلامة محيي السنة صاحب المنار حفظه الله آمين. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وبعد إنني في بلد راجت فيه الخرافات، وكثر فيه المبتدعون حتى أصبح المنكر بينهم معروفًا والمُنْكِر لخرافاتهم ممقوتًا، ولا وازع لهم من عقل ولا زاجر من دين، يتبعون أهواءهم، ويصرون على اتباع المنكر عنادًا وكبرًا، لكن في القوم من إذا أقيم له الدليل على فساد ذلك الابتداع يرجع إلى الصواب ولا يتبع سبيل المضلين، وإنني لا أجد لإرشاد قومي أنجح من إرشاد المنار فأرجو أن تتكرموا بالجواب على ما يأتي من الأسئلة بما أتاكم الله من العلم لأتقدم للقوم بتلك الدرر النفيسة لعلهم يرشدون. *** الأسئلة إن المبتدعة أحدثوا (علمًا) جعلوه لسيدنا الحسين رضي الله عنه، واحتفلوا به في شوارع المدينة، واختلطت النساء بالرجال في الاحتفال بلا تستر رافعات أصواتهن بأنواع الغناء، وصار الناس يتمسحون بالعلم بقصد التبرك والاحترام، وترك الغالب من المحتفين الصلوات الخمس المفروضة لهوًا بهذا العلم، وزار الناس (سيدنا الحسين) في مقامه بجهة عسقلان حافين من حول (العلم) يكبرون، وأهل الطرق (الدراويش) منهم يطبلون، ويضرب بعضهم بعضًا بالسيوف إظهارًا لما لهم (بزعمهم) من الأسرار والكرامات، وزعم بعض المنتسبين (للعلم) أن إحداث هذا العلم للتودد لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل على هذا بآية {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) فهل ذلك من المحدثات المنكرة والبدع المنهي عنها؟ وهل -والحالة هذه- يجب على المسلم درء هذه المفاسد مهما كلَّفه الأمر؟ وماذا يكون جزاء أهل المدينة، ولا سيما العلماء إذا سكتوا على هذا المنكر؟ وماذا يقال في حق مبتدعيه، وفيمن يرى أن التودد لأهل البيت المطهرين يكون بمثل تلك الخزعبلات؟ أفيدونا ولكم الشكر والثواب والله يحفظكم ... ... ... ... ... ... ... ... يوسف محمود الشريف (ج) كل هذه المذكورات من البدع التي لا تَخْفَى على من له أدنى إلمام بدين الإسلام، والسكوت عن الإنكار على مرتكبيها حرام، وقوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} (الشورى: 23) استثناء منقطع، ومعنى الآية قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين المعاندين لك: إنني لا أسألكم على تبليغ دعوتي ربي بتلاوة كتابه أجرًا، ولكنني أسألكم أن تودوني لقرابتي منكم، وما تعظمون من صلة الأرحام، فلا تؤذوني ولا تصدوني عن تبليغ دعوة ربي، وهذا معنى ما فسر الآية به ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنه كما بينته بالتفصيل والروايات من قبل، والروافض يزعمون أن الله تعالى أمر رسوله بهذه الآية أن يطلب من أمته أجرًا على تبليغ الدين خلافًا لما ورد عنه وعن غيره من النبيين في الآيات المتعددة، وسرى هذا المعنى الباطل إلى أذهان كثير من أهل السنة كما بيناه من قبل، وراجع التفاسير المأثورة كتفسير ابن كثير تلق فيها صحة ما قلناه وهو الموافق لعقيدة الإسلام. أما درء مفاسد هذه البدع بالفعل فيجب إذا لم يترتب عليه ما هو أكبر منه إفسادًا، واختلف اجتهاد العلماء في قدر ما يجب احتماله من الأذى في هذه السبيل، والأصل في هذا حديث (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأما حكم السكوت عن إنكار هذه المنكرات كغيرها حيث تقع فهو أن جميع المسلمين العالمين بذلك يأثمون بترك الإنكار، ولكن إذا قام بعضهم بما يجب منه سقط الإثم عن الباقين - وأما ما يقال في مبتدعي ما ذكر إلخ فهو أنهم مبتدعون جاهلون، وشرهم من يتأول لهم ويجعل هذه البدع القبيحة التي شوهت الإسلام في نظر الأجانب والمستقلين من المسلمين الذين يصدقون أنها منه، ولا سيما تأويل من جعل لها أصلاً من كتاب الله بتحريف آية المودة في القربى تبعًا للروافض الذين يلكونها بألسنتهم متبجحين بأنهم هم أهلها الذين يؤدون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أجرته على تبليغ وحي ربه خلافًا لما أمره كما أمر من قبله من رسله بأن يبلغوه لأممهم من عدم سؤالهم عليه أجرًا، ومن حصر سؤال الأجر بكونه من الله وحده كما تراه في سورة يونس وهود والفرقان، وفي خمس آيات من سورة الشعراء وسبأ وص، فإن مثل هؤلاء المتناولين يكذبون على الله تعالى بإدخال البدع في دينه وتحريف كلامه بأهوائهم وبمشاركة أنفسهم له عز وجل في شرع الدين: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وهل أفسد عوام أقوام الأنبياء وأتباعهم إلا أدعياء العلم بالتأويل والتحريف لما جاءوا به؟ *** حكم الزوج الذي يدَّعِي خلع زوجته س 47 من صاحب الإمضاء في بندر النقل (جاوه) تأخر نشرها لمرضنا. الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. حضرة الأستاذ الجليل المحترم صاحب الفضل والفضيلة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، حفظه الله ونفعنا وجميع المسلمين بعلومه. بعد التحية اللائقة بمقامكم الشريف وجزيل السلام ورحمة الله وبركاته. أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجين التكرم منكم بالإجابة عليه سريعًا ولكم منا جزيل الشكر، ومن المولى عظيم الثواب والأجر. وهو: ما حكم من قال: طلقت زوجتي فلانة من عقدي طلقة خلعية بعوض قدره ربع ربية، وأخرج من جيبه قطعة نقود من ذات ربع ربية، ثم ردها في الحال إلى جيبه، وقال: استلمت العوض بحضور قاض وشهود، مع أن العوض خرج من جيبه ورجع إلى جيبه، فهل هذا طلاق خلعي يا حضرة الأستاذ أم غير خلعي. فإذا قلتم بأنه غير خلعي، فما الدليل في ذلك من مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وما حكم من أفتى بأنه خلعي، وسبَّب بفتواه حرمان الزوجة من نصيبها في إرث زوجها. هذا مع إعلامكم أن الفتوى رفعت إلى الحكومة المستعمرة هنا، والحكومة أعادت المسألة إلى المفتي هذا، وهو أحد موظفي القضاء بهذا البلد؛ ليتأملها ثانيًا فأصر على كونها صحيحة، وقد حدثت ضجة بين أهالي الزوجة وورثة الزوج. والمسألة إلى الآن في يد المحكمة لم يُبَتَّ في أمرها: فالرجاء من فضيلتكم الجواب الشافي لا زلتم ملجأ للمسلمين، حرِّر في بندر النقل جاوا في 25 ربيع الأول سنة 1347 (تأخر نشرها لمرضنا) . ... ... ... ... ... ... ... ... عمر بن صالح قوبان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... باوزبر (ج) إن قصد الزوج بما ذكره عنه السائل إنشاء خلع بقوله ذاك فهو جاهل، والخلع لا ينعقد به؛ لأنه لا بد أن يك

السنة والشيعة ـ 3

الكاتب: عبد الله محمود شكري

_ السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة (3) نتيجة ما تقدم في إبطال زعم الرافضي زعم الرافضي العاملي أن ابن تيمية أول من أثبت ما ذكر من صفات الله تعالى بدون تأويل، وتبعه بعض تلاميذه ثم الوهابية، وأنهم خالفوا في ذلك جميع المسلمين، وهذا كذب وافتراء وتضليل لعوام أهل السنة، وتمهيد إلى جذبهم إلى الرفض الذي من أصوله تعطيل صفات الله تعالى بالتأويل وجعله عز وجل كالعدم، تعالى الله عما يقول المبتدعون علوًّا كبيرًا، فما من صفة من تلك الصفات إلا وهي منصوصة في القرآن أو في الأحاديث النبوية الصحيحة، ولعل كل قارئ للقرآن أو سامع له من المسلمين قد قرأ أو سمع قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (ص: 75) وزعم الرافضي أن ابن تيمية يثبت لله تعالى يمينًا وشمالاً، ونصوصه تدل على أنه يتبع نصوص الكتاب والسنة، وإنما ثبت فيهما لفظ اليدين، ولفظ اليمين في قوله تعالى: {وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (الزمر: 67) وثبت في حديث مسلم والنسائي: ( ... وكلتا يديه يمين) والحديث في إثبات الشمال لا يصح كما بيَّنَه الحافظ ابن حجر في الفتح والحافظ البيهقي قبله في كتابه (الأسماء والصفات) وكأن الرافضي لم يره وسمع قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) وما في معناها وقوله تعالى في الملائكة] يخافون رهم من فوقهم [وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وقوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) إلخ، وليعلم القارئ أن ما عزاه هذا الرافضي إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلاميذه الأعلام ثم إلى الوهابية مما ليس في القرآن فهو في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري ومسلم وغيرهما: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) إلخ، وأما الصوت فقد ذكر فيه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلم الله بوحي سمع أهل السموات شيئًا فإذا فُزِّعَ عن قلوبهم وسكن الصوت وعرفوا أنه الحق من ربهم ونادوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق) . قال البخاري: ويذكر عن جابر بن عبد الله عن عبد الله بن أُنَيْس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك أنا الديان) . أما حديث ابن مسعود فقد رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقًَا موقوفًا عليه، ووصله البيهقي في الأسماء والصفات وغيره كما فصَّله الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وأما حديث عبد الله بن أُنَيْس (بالتصغير) فذكر الحافظ في شرحه من فتح الباري مَن أخرجه مسندًا: وروى البخاري بعده بسنده المتصل إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يا آدم فيقول: لبيك وسعديك: فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار) وذكر الحافظ في شرحه له أن (ينادي) وقع مضبوطًا للأكثر بكسر الدال وفي رواية أبي ذر بفتحها، أي والثانية تحتمل من التأويل ما لا تحتمل الأولى. وذكر الحافظ في شرح الحديث الأول تأويل من أوَّله من الأشعرية ثم قال ما نصه (ص383ج13) : (وهذا حاصل كلام من ينفي الصوت من الأئمة، ويلزم منه أن الله تعالى لم يُسْمِع أحدًا من ملائكته ورسله كلامه بل ألهمهم إياه، وحاصل الاحتجاج للنفي الرجوع إلى القياس على أصوات المخلوقين؛ لأنها التي عُهِدَ أنها ذات مخارج ولا يخفى ما فيه؛ إذ الصوت قد يكون من غير مخارج كما أن الرؤية قد تكون من غير اتصال أشعة كما سبق، سلمنا لكن نمنع القياس المذكور وصفات الخالق لا تُقَاس على صفات المخلوق، وإذا ثبت الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة (وكان الحافظ قد بيَّن غير ما في البخاري منها) وجب الإيمان بها؛ ثم إما التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق) اهـ، وظاهر كلامه أنه يختار التفويض اتباعًا للسلف. ثم قال الحافظ في شرح حديث أبي سعيد ما نصه (ص 386 ج 13) : (واختلف أهل الكلام في أن كلام الله تعالى هل هو بحرف وصوت أو لا؟ فقالت المعتزلة: لا يكون الكلام إلا بحرف وصوت والكلام المنسوب إلى الله تعالى قائم بالشجرة، وقالت الأشاعرة: كلام الله ليس بحرف ولا صوت وأثبتت الكلام النفسي، وحقيقته معنًى قائم بنفسه، وإن اختلفت عنه العبارة كالعربية والعجمية، واختلافها لا يدل على اختلاف المُعَبَّر عنه، والكلام النفسي هو ذلك المُعَبَّر عنه، وأثبتت الحنابلة أن الله تعالى متكلم بحرف وصوت: أما الحروف فللتصريح بها في ظاهر القرآن، وأما الصوت فمن منع قال: إن الصوت هو الهواء المنقطع المسموع من الحنجرة، وأجاب من أثبته بأن الصوت الموصوف بذلك هو المعهود من الآدميين كالسمع والبصر، وصفات الرب بخلاف ذلك، فلا يلزم المحذور مع اعتقاد التنزيه وعدم التشبيه، وأن يجوز أن يكون من غير الحنجرة فلا يلزم التشبيه، وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة سألت أبي عن قوم يقولون: لمَّا كلم الله موسى ولم يتكلم بصوت؟ فقال لي أبي: بل تكلم بصوت، هذه الأحاديث تروى كما جاءت وذكر حديث ابن مسعود وغيره) اهـ. فهذه النُّقُول من أحفظ الحفاظ صريحة في أن إثبات هذا الصوت لكلام الله المُنَزَّه عن مشابهة أصوات الخلق هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأتباعه، وأن دعوى الرافضي العاملي أن أول من زقا به هو ابن تيمية وخالفه فيه جميع المسلمين إلا الوهابية كذب وافتراء ولا يزال جمهور أهل الحديث إلى اليوم يتبعون الإمام أحمد في هذا، ولا أقول يقلدونه بل يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من حديثه فيه كغيره، وأي فرق بين إثبات الكلام وإثبات الصوت، وكل منهما ثابت للبشر؟ وكذلك السمع والبصر وسائر الصفات، وهل على المؤمن الذي لا يحكم هواه ولا شبهاته النظرية ولا يقلد رجال مذهبه في عقيدته إلا أن يثبت لله تعالى جميع ما أثبته له كتابه ورسوله من تنزيه وصفات لم يكن من وسيلة لتبليغها للبشر إلا لغاتهم التي وضعوها لصفاتهم مع نفي التشبيه والتمثيل؟ على أننا لسنا هنا بصدد ترجيح مذهب الحنابلة وسائر أئمة السلف بل نحن في صدد تكذيب الرافضي المتعصب في زعمه أن هذا شيء افتجره ابن تيمية (فحكم علماء المسلمين بكفره) وقلده فيه بعض تلاميذه، ثم الوهابية وخالفهم سائر المسلمين. ولا يبعد أن يعني الرافضي بالمسلمين الشيعة وحدهم أو مع من سبقهم في التأويل من مبتدعة الجهمية والمعتزلة الذين صارت الشيعة عيالاً عليهم في مخالفة النصوص بالتأويل كما تقدم عن بعض متعصبيهم في تفسير حديث افتراق هذه الأمة إلى 73 فرقة؛ إذ حاول جعل هذه الفرق كلها من الشيعة؛ ليخرج أهل السنة عن عداد أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وجملة القول أن ما طعن به الرافضي العاملي على ابن تيمية والوهابية من إثبات ما ورد في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى بدون تأويل هو أصل مذهب أهل السنة من الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار كما ثبت في كتب السنة التي صُنِّفَت قبل ابن تيمية وفي عصره وبعده، ومنها كتب خاصة في إثبات علو الله على خلقه، وهذا الرافضي أراد أن يطعن في أهل السنة ويُبْطل عقائدهم، وأن يَرُوج طعنه عند عوام المسلمين فحصر مذهب السنة في الوهابية، وزعم أنه لا سلف لهم فيه إلا ابن تيمية وتلاميذه، وأن علماء المسلمين كفروه لقوله بها، والصحيح أن هؤلاء كانوا أظهر أنصار السنة كل في عصره، وهذا عصر الوهابية منذ ظهروا إلى اليوم. وإننا ننقل هنا صفوة ما أورد الحافظ ابن حجر في شرحه للبخاري الذي هو عمدة المحدثين وجميع أهل السنة من عصره إلى اليوم في مذهب أهل السنة في صفات الله، وهو ما كتبه في شرح قول البخاري (باب وكان عرشه على الماء) إلخ، وذلك قوله بعد ذكر كثير من أقوال السلف وغيرهم وأقوال أهل اللغة في معنى الاستواء على العرش وغيره وهذا نصه: (ص 342 و 343ج 13) (وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفروق بسنده إلى داود بن علي بن خلف قال: كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي يعني محمد بن زياد اللغوي فقال له رجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) فقال: هو على العرش كما أخبر، قال: يا أبا عبد الله إنما معناه استولى فقال اسكت لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مُضَادٌّ. ومن طريق محمد بن أحمد بن النضر الأزدي سمعت ابن الأعرابي يقول أرادني أحمد بن أبي دؤاد أن أجد له في لغة العرب {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) بمعنى استولى فقلت: والله ما أصبت هذا، وقال غيره: لو كان بمعنى استولى لم يختص بالعرش؛ لأنه غالب على جميع المخلوقات، ونقل محيي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع، وقال أبو عبيدة والفراء وغيرهما بنحوه، وأخرج أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر) ومن طريق ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه سُئِلَ كيف استوى على العرش؟ فقال: (الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، وعلى الله الرسالة، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا التسليم) ، وأخرج البيهقي بسند جيد عن الأوزاعي قال: كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله على عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته، وأخرج الثعلبي من وجه آخر عن الأوزاعي أنه سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الأعراف: 54) فقال: هو كما وصف نفسه، وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال: كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرُّحَضَاء ثم رفع رأسه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كما وصف به نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه، ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة لكن قال فيه: والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال كان سفيان الثوري وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة، وشريك وأبو عوانة لا يحددون ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون (كيف) قال أبو داود وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرنا، وأسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير، فمن فسر شيئًا منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفارق الجماعة؛ لأنه وصف الرب بصفة لا شيء، ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيّ ومالكا والثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: (أَمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف) . (وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردُّهَا ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدْرَك بالعقل ولا الرَّوِيَّة والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وأسند البي

عداء رافضة العلويين، للمنار والإرشاديين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عداء رافضة العلويين للمنار والإرشاديين إلى جناب حضرة العلامة مفتي الأنام وحامل لواء الإسلام وناشر منار التوحيد وقامع شوكة البدع السيد الحسيب النسيب محمد رشيد رضا لا زال عونًا للحق. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لا يخفى عليكم أن في جاوة نهضة هي وليدة أفكاركم التي تنشرونها بالتوالي في المنار، فلا غرابة إذا كان مديرو أزمة هذه النهضة يغيرون عليكم كما يغيرون على أنفسهم إزاء كل حسود كَنُود يريد إسقاط مركزكم ونزع ثقة رجالها بكم، فطالما سمعنا ونسمع من أفواه العلويين بجاوة، وهم غلاة الشيعة أن صاحب المنار في النار ولا يعمل إلا لخويصية نفسه. وهؤلاء قد خصصوا فئة منهم لنشر الدعاية ضدكم بين عرب حضرموت والجاويين حتى لو كان أحدنا يمشي في أي حارة كانت حاملاً بيده عددًا من المنار حالاً يبادر سكان تلك الحارة بقولهم (هذا مناري) وينفرون الناس منا فهم ضدنا وضد مناركم، ولهم رؤساء وكبراء ومن جملتهم السيد علي بن عبد الرحمن الحبشي ومحمد بن عبد الرحمن بن شهاب ومحررو حضرموت، ونحن إزاء حركاتهم الضالة هذه وحبًّا في نصر الحق والحقيقة لا نفتأ نلقي محاضرات في محلات متعددة لتفهيم العامة (الذين قد وقعوا في الحفرة التي حفروها) مقاصد الدين حتى خفتت أصواتهم وسكنت حركاتهم، مع عدم التهور في التفهيم، فالمنزلة التي تحصلوا عليها في قلوب الجاويين والحضارمة أصبحت لا شيء بحماقتهم وتهورهم (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) حتى انحلت الرابطة فيما بينهم أنفسهم؛ ولذلك قامت شرذمة من الذين لهم نوع من العقل تسعى في إقامة جمعية باسم (الرابطة العلوية) فكأن القوم أرادوا بها استرجاع ما فاتهم من التبجيل والتكريم وإغراء العوام واستمالتهم بفتح المدارس لهم تعلمهم الصناعات والتجارة وغير ذلك من الأمور الدنيوية، هذا قولهم في الظاهر وإذا بحثنا للحقيقة، وأرجعنا الأسباب إلى المسببات أدركنا أن هؤلاء القوم في حيرة عظمية لاسترجاع عظمتهم، ولا يصدقون بعد اليوم لا سيما بعد ما قال السيد أبو بكر العطاس: إنه يفضل أن يكون الإنجليز حكامًا في الأراضي المقدسة (الحجاز) على ابن السعود فنرجو من فضيلتكم كما عهدنا فيكم أن تشدو أزرنا للدفاع عن الحق الذي هو مبدؤكم منذ عشرات السنين، والسلام عليكم. ... ... ... ... ... ... ... من عبد السميع منصور الجاوي (تعليق المنار) جاءتنا هذه الرسالة منذ سنة فلم نحفل بنشرها؛ لأن شُذَّاذ إخواننا العلويين لا يزالون في حيرة من نزعتهم الرافضية الجديدة، فهم فيها يعمهون، وفي ريب من استعادة جاه سيادتهم المفقودة، فهم في ريبهم يترددون، ولدينا رسائل ومسائل أخرى في شأنهم، ومصنفات مضلة من بعض كتابهم، وأعداد محفوظة من جريدتهم، لم نشأ أن نفتح باب الانتقاد عليها، إلا ما أنكرناه على ما نشر في هذه الجريدة (حضرموت) من السعي لإيقاد نار الحرب بين الإمامين الجليلين إمام السنة الصحيحة عبد العزيز بن سعود ملك الحجاز ونجد، وإمام الشيعة المعتدلة الزيدية يحيى بن حميد الدين صاحب اليمن، فإن هذه السعاية شر ما صدر عن متهوريهم، وأشدها خطرًا على أمتهم العربية وملتهم الإسلامية، التي لم يبق في الأرض حكومة إسلامية تنفذ شريعتها وتقيم حدودها غير حكومات هذين الإمامين الجليلين، فلذلك يعتقد كل مسلم يغار على الإسلام وكل عربي يغار على مجد العرب أن تعاديهما وتقاتلهما أعظم جناية على هذه الأمة وهذه الملة يخشى أن تنتهي باستيلاء الأجانب على مهد الإسلام وعقر دار العرب ... وإن لم يعقل هذا من قال من هؤلاء العلويين الأغرار الذين لا يفقهون حتى قال من قال منهم: إنه يفضل سيادة نصارى الإنكليز على حرم الله وحرم رسوله على حكم ابن السعود المسلم السني السلفي، ولماذا؟ لأن هذا القائل الغر المسكين يتوهم أن عظمة العلويين وإخضاع عوام المسلمين لها من طريق الخرافات لأجل نسبهم وحده يمكن بقاؤهما في ظل السيادة البريطانية التي تحمي في الهند عبادة البقر والقرود وشجر الببل والبيبر وغير ذلك من معبودات الوثنيين، ولكن لا يمكن بقاؤها ولا بقاء هذه الخرافات في ظل حكم ابن السعود ولا حيث ينتشر المنار، بل يعتقد هذا الغر الجاهل وأمثاله من الخرافيين أن انتشار المنار في مسلمي جاوه وخاصة جالية الحضرميين من سكانها هو الذي زلزل تلك الخرافات، وكان سبب تأليف الجمعيات الإرشادية الإصلاحية التي يناضلونها العداء. وتلك الكلمة الملعونة مأثورة عن غير العطاس يرحمه الله بالتوبة والإنابة فقد نقلها لي بعض الناس عن شيخ كبير من أكبر هؤلاء العلويين العارفين بحال العصر، ولكنه لا يعلم أن بقاء عظمة شرفاء النسب واستعلائهم على عوام المسلمين بالخرافات والبدع إذا لم تقض عليهما حكومة ابن السعود بنشر السنة وهدم هياكل البدع فإن الحرية العصرية ستقضي عليهما، ويخشى أن تقضي على الدين الإسلامي نفسه في بلاد العرب كلها، وأن محاولة إسقاط دولة ابن السعود بالخرافات الرافضية وافتراء الكذب حماقة وجنون، فقد أخبرني الثقة الثَّبْت أنه قال أمام هذا الشيخ العلوي الذي هو من أركان دعاة الرفض: إن ما ينقله الغرة عن سيدنا علي رضي الله عنه من أنه كان يقول: أنا باعث الأمم، أنا محيي الرمم ... مما لا يعقل أن يصدر عنه - أو ما هذا معناه، فقال له الشيخ العلوي: بل هو فوق ذلك! ! أي إن هذا قليل عليه، ولازمه أن مقامه مقام الربوبية أو هو هو والعياذ بالله تعالى، وسمعته أنا بمصر يقول: إن حكومة ابن السعود تجلد مَن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم تحت أستار الكعبة؟ فهذا مثل لغلوهم ولبهتانهم على ابن السعود أربوا فيه على روافض الإمامية الذين استحسنوا منع حكومة إيران لرعاياها من أداء فريضة الحج وعَدُّوهُ جائزًا شرعًا بزعمهم أنه لا أمان لهم على حياتهم في الحجاز - وقد تواتر لدى أهل المشرق والمغرب من حجاج جميع الأقطار وغيرهم أن الأمان الوارف الظلال في الحجاز في عصر ابن السعود لم يتمتع الحجاز بخير منه في عصر من العصور بل قلما تمتع بمثله، حتى إن صاحب مجلة العرفان على تعصبه وتتبعه لعثرات ابن السعود ونشرها، وعلى افترائه فيها قد نشر بعض ما سمعه من حجاج شيعة بلاده عن أمن البلاد التام وعن حفاوة ملك الحجاز ونجد بمن زاره منهم، ثم ذكر أن بعض الناس لامه على نشر ذلك وإن كان حقًّا. وقد سبق لي أن نصحت لهؤلاء العلويين وبينت لهم الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تحفظ لهم كرامة عنصرهم بالاستحقاق وهو العلم وخدمة الأمة بالدعوة والقيام بمصالحها العامة كالمدارس والجمعيات العلمية والخيرية مع التخلق بأخلاق سلفهم الصالحين، والتأسي بجدهم خاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين له ولهم إلى يوم الدين، ولا سيما خلق التواضع والإيثار على النفس، واعترف لي خاصتهم بقيمة هذه النصيحة، ولكنهم لم يعملوا بها، لما يعوزهم من السعي الحثيث، والعزم البعيث، والمال الكثير والجهاد الكبير، ولا سيما جهاد النفس، وغير ذلك مما يعسر عليهم الآن وزعماؤهم على ما نعلم ... على أن فيهم من أصحاب الدثور وأرباب الجد والنشاط من يقدرون على تأسيس جمعية تُعْنَى بالقيام بذلك، ولكن زعماءهم رأوا أن هذه شقة بعيدة، تكبدهم مشقة شديدة، وأن الغلو الرفضي في أجدادهم أقرب منالاً كقول بعضهم في أحد أئمة آل البيت: قلامة من ظفر إبهامه ... تعدل من مثل البخاري مائه ولكن العقيدة الإسلامية الصحيحة تنافي هذا الغلو وأهله ومن فهم الإسلام وقول الله تعالى لخاتم أنبيائه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} (الكهف: 110) إلخ، يعتقد أن جميع أظافر الصالحين والأنبياء لا تعدل عند الله تعالى أقل رجل مؤمن لا يشرك به شيئًا، فإن فضائل الأنبياء وغيرهم بأرواحهم وعقولهم وأخلاقهم ومعارفهم الإلهية التي تترتب عليها أعمالهم الصالحة لا أظافرهم، فما دام علماء هؤلاء الحضارمة وسادتهم ينشرون فيهم هذه الدعوة ويحاولون تفضيلهم على الناس بهذا التبجح الباطل المنكر، فلا يزيدهم العالم الإسلامي إلا تحقيرًا وازدراء، بل ذلك مما يأتي بضد ما يريدون منه بحسب سنة الله تعالى في الخلق، المعبر عنها في عصرنا بناموس رد الفعل، كما كان الرفض سبب النصب فهم الذين يُجَرِّئُونَ الناس على نقد أجدادهم أو وضعهم في المواضع التي تليق بعلمهم وعملهم، وبناء التفاضل بينهم وبين غيرهم على قواعد الشرع الإسلامي، وحينئذ يقولون لهذا الرافضي: إن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري يَرْجُح بمائة ألف من العلويين، بل بالملايين من أمثال هؤلاء الجاهلين، بل مِن الغَضِّ من كرامته أن يُوزَن بأمثالهم، وإنما يُوزَن بأكبر أئمتهم فَيَرْجُحُ بالكثيرين منهم.

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار عود على بدء سلام من مصطفى نور الدين إلى كبير المصلحين، وملجأ المسترشدين، حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا متَّعَه الله بالصحة والعافية، وبارك لنا في عمره ونفعنا بعلومه، أما بعد فقد قرأت في المنار الجزء الرابع المجلد التاسع والعشرين ردَّكم على انتقادي ما جاء بتفسير المنار الآية {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة: 186) وإني قد رأيت في هذا الرد ما يستحق النقد، وقد كنت أحجمتُ عن أن أعرض على حضرة السيد ما بدا لي انتقاده امتثالا لإنزالكم لي بأن لا أتجرأ بعد الآن على التخطئة والتصويب والترجيح والتجريح إلخ، ولكنكم تعلمون أن امرأة انتقدت عمر بن الخطاب في تقدير الصداق وفي ذلك دلالة على أن للحقير أن ينتقد الكبير لذلك رجَّحت أن أقدم لكم ما هو مُنْتَقَد في نظري. فمن ذلك قولكم: إن قرب الوجود بالمعنى الذي فسَّره به الأستاذ الإمام أقرب إلى مذهب السلف إلخ، فأقول: إن تفريع الأستاذ الإمام على هذا المعنى بقوله: فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء يُبْعده عن مذهب السلف؛ لأنه لم يرد في كتاب الله ولا في حديث متواتر ولا نقل عن جماعة الصحابة إسناد الاستواء إلى الذات كما قلتم فكذلك لم يرد عما ذكر إسناد القرب إلى الذات، فإن كان إسناد الاستواء إلى الذات مخالفًا لمذهب السلف لهذه العلة فكذلك إسناد القرب إلى الذات يكون مخالفًا لمذهب السلف أيضًا حيث إن العلة فيهما واحدة، على أن إسناد الاستواء إلى الذات تأويل [1] يقربه التنصيص على الاستواء على العرش [2] ، والعلو والفوقية والعروج والصعود والرفع [3] وغير ذلك مما ورد منه الكثير في الكتاب والأحاديث وآثار الصحابة والتابعين، وكل هذا لا يخفى على حضرة السيد الفاضل [4] بخلاف إسناد القرب إلى الذات، ولو على الوجه اللائق بالتنزيه فإنه تأويل يبعده التنصيص المذكور، وفي نظري واعتقادي أن هذا التنصيص هو الذي حمل الكثيرين من أئمة الأحاديث والآثار من أهل القرن الثالث والرابع على التفرقة في تأويل الإسناد فأسندوا الاستواء إلى الذات وأسندوا المعية والقرب إلى العلم، وإني أعذرهم في ذلك لأمرين: (الأول) التنصيص على الاستواء على العرش وما في معناه كما تقدم (الثاني) أن الاستواء لا يصح إسناده إلا إلى الذات، أما المعية والقرب فيصح إسنادهما إلى الذات وإلى غيرها من آثار الصفات كالعلم والسمع والبصر [5] من هذا يتضح أن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام وأيده حضرة السيد - من أن إسناد القرب إلى الذات - مخالف لمذهب الصدر الأول من السلف ومخالف لكثير من أئمة الأحاديث والآثار من القرن الثالث والرابع، أما مخالفته لمذهب الصدر الأول من السلف فإنهم لم يؤولوا في الإسناد بل قالوا: إنه تعالى مستوٍ على عرشه، ولم يقولوا بذاته، وقالوا قريب من خلقه ولم يقولوا بذاته أو علمه، وأما مخالفته للكثير من أئمة الأحاديث والآثار فلأنهم فرَّقوا في تأويل الإسناد فأسندوا الاستواء إلى الذات والمعية والقرب إلى العلم لا إلى الذات كما قال الأستاذ الإمام وهذا الصوفي، فقد اتضح من هذا أن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام وهذا الصوفي من إسناد القرب إلى الذات بعيد من مذهب السلف لا قريب منه فضلاً عن كونه أقرب [6] . ومما هو مُنْتَقَد في نظري قولكم: فإن صفات الذات كالعلم لا توجد إلا حيث توجد الذات أي لا توجد إلا بوجودها لاستحالة انفصالها عنها، فأقول: إن قول القائل: إن الله معنا بعلمه أو في كل مكان بعلمه لا يقصد به نفس الصفة القائمة بالذات، فإن العلم بهذا المعنى لا ينفصل عن الذات، بل جميع الصفات بهذا المعنى كذلك، وإنما المقصود هو أثر الصفة، فمعنى كونه تعالى في كل مكان بعلمه أنه عالم بكل مكان، وهذا كثير في القرآن أي إطلاق الصفة وإرادة أثرها، فمن ذلك قوله تعالى: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} (البقرة: 255) قال الجلال: لا يعلمون شيئًا من معلوماته، ومن ذلك قوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} (النساء: 166) قال الجلال: ملتبسًا بعلمه عالما به ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} (فصلت: 47) فالعلم في هذا الآيات ليس المراد به الصفة القائمة بالذات بل المراد أثرها، وهذا يكاد يكون بديهيًّا [7] . ومن هذا القبيل {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (لقمان: 11) أي مخلوقه وقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} (التوبة: 6) أي القرآن لا الصفة القائمة بالذات كما هو ظاهر. ومما انتقدته على حضرة السيد أنه فهم غير ما أردته من قولي: ثم لا غرابة ولا بُعْدَ في هذا التفسير الثاني من حيث إسناد قرب الملائكة من المحتضر إلى الله إلخ، فقد ترتب على ذلك أنكم نسبتم إليَّ أني قد اعتبرت التوفي المسند إلى الله في الآيات الكثيرة مسندًا إلى الملائكة، والله يعلم أني لم أقصد ذلك [8] وإنما الذي أقصده أني أقول: إن من الأمور التي تسند إلى الله حقيقة قد تُسْنَد إلى الملائكة مجازًا، وبالعكس فمن الأول التوفي فإنه قد أسند إلى الله حقيقة في الآيات التي أكثر من إيرادها حضرة السيد وأسند إلى الملائكة مجازًا. وأما الثاني وهو العكس فهو القرب في آية: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ} (الواقعة: 85) فإن الإسناد فيها على العكس من الإسناد في التوفي أعني أن إسناد القرب إلى ضمير الذات مجاز للعلاقة التي بين الله وملائكته [9] في أمور كثيرة خصوصًا وأن أمورهم غير كسبية، وقد منع من إرادة الحقيقة مانع، وهو أنه من المسلمات أن نفي الشىء فرع عن صحة حصوله، وقد نفى في هذه الآية إبصار حاضري المحتضر لذات الله على تفسير هذا الصوفي، فهل يصح لأحد أن يبصر ذات الله في الدنيا حتى تنفى عن حاضري المحتضر [10] أما إبصار الملائكة فإنه يصح وقوعه بل هو واقع بالفعل للمحتضر، ولكن لا يبصرهم حاضرو المحتضر، ومما راجعته من التفاسير في تفسير الآية تفسير ابن جرير المشهور بأنه تفسير أثري فوجدته يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} (الواقعة: 85) برسلنا، وأما تفسير الزمخشري الذي ذكره حضرة السيد في هذا الرد فهو في نظري خير من غيره؛ لأنه مبرأ من اللوازم التي تلزم على غيره [11] . ومما انتقدته على حضرة السيد حذفه لتفسير آية الحديد وتفسير الحديث من الرد، فكان اللازم أن يذكر ذلك، فإن وجد فيه خطأ أرشدني إليه [12] . ومما انتقدته على حضرة السيد إنذاره لي بأن لا أتجرأ بعد الآن على التخطئة والتصويب إلخ، فكيف يصح هذا، وقد أمر الله تعالى عباده بالنظر وحَثَّ عليه في كثير من كتابه، ومدح أهل النظر بقوله: {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} (الزمر: 17-18) ألا يُعَدُّ مثل هذا الإنذار حَجْرًا على العقول، واحتقارًا لعباد الله؟ {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10) اهـ. (جواب المنار) أقول بعد رد التحية بالسلام على صاحب الرسالة، ورحمة الله وبركاته. (أولاً) : إن حالنا مع أخينا في الله المنتقد الكريم كحالنا مع أخينا المدافع عن كعب الأحبار ووهب بن منبه المنتقد على شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وكلاهما محب للعلم حريص على تمحيص المسائل التي تشتبه عليه، وكلاهما يعتمد في انتقاداته على ما يفهمه من المطالعة في الكتب من غير رجوع إلى ما يتوقف عليه الفهم الصحيح المؤهل لتخطئة العلماء، والترجيح بين أقوالهم من أوضاع اللغة وقواعد النحو والمعاني والبيان وأصول الفقه؛ بل لعدم العلم التفصيلي بها، ولذلك يكثران من النقول التي لا حاجة إليها كلها فيما يحبان استبانته والحكم الصحيح فيه، وقد كان يصعب علينا أن نترك نشر شيء مما يرسلانه إلينا لإخلاصهما في البحث ومحبتهما للعلم؛ لئلا يسيئا الظن بنا ويتوهما أننا لم ننشر ذلك لأننا نستكبر عن الاعتراف بما فيه من الحق، ونفضل عليه الإصرار على الباطل، ولكن جمهور قراء المنار يتبرمون من نشر أمثال هذه الرسائل المطولة ... كما ذكرناه في تعليق لنا على رسالة لذلك الأخ الفاضل مع نشرها برمتها، وقد اضطررنا إلى التصريح بمثل هذا الآن لما يراه القارئ في بقية هذا التعليق. (ثانيًا) : إن أخانا وصديقنا صاحب هذا الجدل الجديد في تأييد كلامه السابق قد اتهمنا في أوله بأننا احتقرناه وحكمنا عليه بأن لا يتجرأ على التخطئة والتصويب والترحيح والتجريح؛ لأنه حقير في نظرنا فلم نره أهلاً لأن ينتقد علينا أي لما ندعيه من العظمة، وذكر أنه كان أحجم عن الرد علينا ثانية، ولكنه استدل باعتراض المرأة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه (للحقير أن ينتقد الكبير) فرجَّح الإقدام على الانتقاد! وفي آخر كلامه عَدَّ هذا مخالفًا لقوله تعالى: {فَبِشِّرْ عِبَادِ} (الزمر: 17) الآية وحجرًا على العقول واحتقارًا لعباد الله وهذه مطاعن شديدة لم يسبقه إلى لَمْزِنَا بها الأعداء فضلاً عن مسترشدي الإخوان. الحق أقول: إن أخانا العزيز المكرم المخطئ في هذا الفهم وآفته فيه عدم بناء فهمه على قواعد اللغة، وإنني على علمي بقصوره في ذلك لأفضله على كثير من كبار علمائها وبلغاء منشئيها، وإنما أفضله بدينه وما أظن من إخلاصه لا بعلم اللغة ولا غيرها، إنني قيدت النصح له بأن لا يتجرأ على ما ذُكِرَ بقولي (بغير تدقيق وتحقيق وطول بحث وكثرة مراجعة) ولم أجعله مطلقًا، وأين انتقاداته واعتراضاته من اعتراض تلك الصحابية العربية على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيما هَمَّ به من منع الناس من التغالي في المهور ذهولاً عن الآية الشريفة التي ذكرته المرأة بها، فهي قد راجعته مستندة إلى آية صريحة لا تحتمل التأويل وهي تفهمها حق الفهم؛ لأنها من أهل اللغة الصرحاء الذين يفهمون ما هو أدق منها، وأحوج إلى المعرفة والفهم، وإنه ليحزنني أن أضطر إلى تذكير أخي السلفي الفاضل بقصوره هذا؛ دفاعًا عن نفسي وعن الحق، فأنا أعد من أعظم النقائص احتقار من دونه من الناس في دينه وأدبه وإخلاصه، فكيف أحتقره، وأنا أغتبط بأُخُوَّتِه، وأتمنى كثرة الإخوان من أمثاله؟ ولعله يرى أن عدم فهمه لكلامي (بزعمي) هو كعدم فهمي لكلامه في انتقاده كما صرَّح به، فيكون قد تساوينا في عدم الفهم، وحينئذ لا أحتاج إلى ما ذكرت من الاعتذار له على ذمه لي وقدحه فيَّ، ولا مطمع في فهم كل منا لكلام الآخر فلا وجه للمناظرة بيننا. (ثالثًا) إن سبب ردي على رسالته الأولى هو أنني رأيتها جدلاً في مسائل الصفات الإلهية بما أطال به من الاستدلال الذي رأيته في غير محله لما ذكرته آنفًا على أن هذا الجدل مذعوم وإن كان مبنيًّا على القواعد اللغوية والعلمية فأردت أن أشير إلى بعض الخطأ فيه لعله يتجنبه بعد - فرأيته قد ازداد تماديًا فيه بهذه الرسالة، وقد كدت أقع فيما وقعت فيه أولاً ذهولاً وغفلة مني، فشرعت في الرد على مباحثه وأدلته الجديدة بالتفصيل، ثم تنبهت فرمجت ما كنت كتبته وألقيته، وهذا

مجلة الرابطة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مجلة الرابطة الشرقية ودعاية التجديد الإلحادية واللادينية ودعاته نشرت جمعية الرابطة الشرقية في 17 صفر في هذا العام (إعلانًا) للمجلة التي قررت إنشاءها نشرناه لها في الجزء الخامس من المنار الذي صدر في سلخ ربيع الأول، وإذا كان آخر كلمة في الإعلان أن لجنة المجلة هي: (الرئيس السيد عبد الحميد البكري مدير المجلة: أحمد شفيق باشا المشرف على التحرير، الأستاذ علي عبد الرازق) قَفَّيْنَا عليه بقولنا: (نحمد الله أن آن إصدار هذه المجلة التي قررنا إصدارها من أول العهد بإنشاء الجمعية (وفي الأصل المجلة وهو غلط بالطبع) ولكن نخشى أن يظهر فيها شيء من شذوذ المراقب الذي يسوء جميع المسلمين كدفاعه عن الترك، وثنائه على خطة حكومتهم في نبذ الإسلام وراء ظهورهم، ومحاولة إزالة كل أثر له في شعبهم، ولكن الرجاء في سماحة الرئيس وسعادة الوكيل أن يحولا دون ذلك فالمراقب لا بد له من مراقبة) اهـ. نشرنا هذا التنبيه والتحذير راجين أن يكون حائلاً دون ما نخشى ونحذر على مجلة جمعيتنا من تأييد الدعاية الإلحادية الجديدة التي قد توجب علينا أن نؤذن مجلة جمعيتنا بالحرب (كما حذرنا الأفغان ووزيره الأكبر من تقليد الترك الكماليين في حكومتهم اللادينية وأنذرنا الوزير سوء عاقبة هذا التقليد في بلادهم لئلا نضطر إلى عدائهم، ونحن نحب أن نكون من أنصارهم، كما يجب علينا لكل شعب إسلامي ولا سيما قوم أستاذنا الأكبر في السياسة الإسلامية والشرقية السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى) ويسوءنا أن وقع ما كنا نتوقع في مجلتنا وفي شعب أستاذنا. صدر العدد الأول من مجلة الرابطة الشرقية، فإذا هي مجلة لا دينية تؤيد ما يسميه ملاحدة هذا العصر بالتجديد اللاديني وتحرير المرأة المسلمة، وتدافع عن الترك والفرس والأفغان فيما يحاولونه من تجديد يهدم الإسلام، على احتراس قليل في التعبير هو أقرب إلى الدفاع عن مصطفى كمال وأمان الله خان منه إلى الهجوم عليهما، وينبئ عن الخشية عليهما من الفشل لا عن تمنيه لهما، وإذا بنا نرى فيه مقالة للدكتور طه حسين الذي اشتهر بالطعن في الإسلام وتكذيب القرآن (العظيم المجيد الكريم الحكيم) وخلاصة لبحثه الجهلي السخيف في ضمير الغائب واستعماله، اسم إشارة في القرآن الكريم، ومقالة أخرى لأستاذه الدكتور منصور فهمي داعية التجديد من ناحية الفلسفة في باب خاص به عنوانه (صفحات شرقية) ومقالة للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق شقيق الأستاذ علي عبد الرازق رئيس تحرير المجلة، فإذا كان هذان الأستاذان يساعدان المجلة في تحريرها؛ لأنهما عضوان في مجلس إدارتها، فما بال الدكتور طه حسين، وما الذي وضع اسمه في العدد الأول في مقالين اثنين على اشتهاره بين مسلمي مصر وغيرها بالطعن في الإسلام؟ بعد صدور هذا العدد بأيام جاءني كتاب من بعض أهل العلم الإسلامي الداعي إلى الإصلاح يقول فيه ما معناه: إن أهل الغيرة الإسلامية المحبين للمنار وصاحبه المحسنين للظن به ينتظرون أن ينشر في الجرائد اليومية أنه خرج من جمعية الرابطة الشرقية وتبرأ منها بعد أن ظهرت خطتها اللادينية في مجلتها، ثم تكلم معي بعض أعضائها في وجوب تلافي هذا الأمر وتداركه. ثم ظهر العدد الثاني من المجلة فإذا هو أصرح من العدد الأول فيما ذكر، وإذا بنا نرى من محرريه الدكتور طه حسين الذي تعبر عنه المجلة بكلمة (صديقنا) وأستاذه وسلامة موسى عدو الأديان كافة والإسلام خاصة، وعدو الآداب والفضائل الروحية، وعدو الرابطة الشرقية من وطنية وجنسية ولغوية، وداعية الكفر والوقاحة والتهتك اللذين يعبر عنهما بالأدب المكشوف، ويرجحه على ضده من الصيانة والحياء الذي يسميه الأدب المستور، والدكتور هيكل بك رئيس تحرير جريدة السياسة داعية الثقافة اللادينية، والأستاذ أحمد أمين أحد أركانها، فمن ذا الذي جعل هذه المجلة ميدانًا لسباق أشهر فرسان الإلحادية وجعلها لسان حالهم ومقالهم؟ وإذا بنا نرى من موضوعات هذا العدد مقالة وجيزة عنوانها (البرنيطة في بلاد الشرق) بدأها الكاتب ولعله المشرف على تحريرها بقوله: (من غريب المصادفات أن يتفق زعماء النهضة في بلاد الإسلام: تركيا وفارس وأفغانستان على إلزام أممهم قهرًا بلبس البرنيطة رغم العقيدة الفاشية في تلك الأمم عن البرنيطة من أنها شعار نصراني خاص لا يرضى به إلا مسلم خارج عن دينه) إلخ. ثم قال في أواخرها: (الحق أننا لا نزال عند رأينا في أمر البرنيطة من أنها أهون شأنًا من أن يختلف فيها اثنان، أو ينتطح فيها عنزان، وخطأ الدعاة إليها والمعارضين لها في تعظيم أمرها) . *** تنويه مجلة الرابطة الشرقية بإلحاد الكماليين وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة أخرى في تعظيم شأن النهضة التركية في المعارف وغيرها، ولا سيما نشر التعليم العام بالحروف اللاتينية الناسخة للحروف العربية، وزعم الكاتب أن هذا الانقلاب العلمي الأخير في تركيا ليس له نظير في تاريخ البشر؛ لأنه جعل المدن والقرى في جميع المملكة مدرسة كبرى (غرف فُصُلوها الأندية والمقاهي والمساجد ... ) ثم نَوَّهَ بعظمة الغازي مصطفى كمال الذي هو الأستاذ الأكبر لهذه المدرسة العامة الشاملة لجميع أفراد الأمة التركية! أيظن الكاتب الذي جُنَّ في الدعاية الكمالية فعظم ما ليس بعظيم، أن الناس كلهم مجانين يأخذون هذا التنويه الجنوني بالتسليم، بعيشك أيها القارئ ألم يكن صاحب المنار فيما توقعه من مصطفى كمال وأمان الله خان ثم من الرابطة الشرقية غيدرًا [1] وداعيًا إلى الرشد لِمَ لَمْ يزدهم دعاؤه إلا فرارًا؟ *** خداع طه حسين للأزهريين بترك الدنيا للملحدين وإذا بنا نرى من موضوعاته مقالة للدكتور طه حسين حاول فيها إقناع الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بأن يجعل التعليم فيه وفي سائر المعاهد الدينية موجهًا إلى الدعوة والإرشاد دون القضاء الشرعي والتعليم في المدارس وغير ذلك من أعمال الحكومة والمصالح الدنيوية اللادينية تبعًا لمذهب التجديد القاضي بفصل أمر الدين عن أمور الدنيا خلافًا للإسلام. ونرى من المناسب أن ننتقل على سبيل الاستطراد من سرد المباحث التي تسمى التجديدية، وكتابها في مجلة الرابطة الشرقية، إلى ذكر شيء جديد في مقال الدكتور طه حسين، وهو أنه يذكر الله تعالى في هذه المقالة ويسمي الإسلام دين الله والقرآن كلام الله، فقد قال في آخر هذه المقالة: (ألا إن سبيل الأزهر إلى الخير واضحة إن أراد أن يسعى إلى الخير حقًّا فليخرج لنا وعاظًا مرشدين خليقين بهذا اللقب، وليخرج لنا دعاة إلى دين الله وذادة عنه وحماة له، وليدع الدنيا وأعراضها للذين تعنيهم أعراض هذه الحياة الدنيا، فقد صدق الله تعالى حين قال:] وَاضْرِبْ لَهُم [2 {مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} (الكهف: 45) فليدع الأزهر هذا الهشيم الذي تذوره الرياح، وليدع الأزهر هذا الزبد الذي يذهب جفاء) . ونقول: الظاهر أن هذا التصريح الجديد في هذه المقالة يقصد به التأثير وإقناع شيخ الأزهر ورجال الإصلاح بهذه النصيحة الخادعة وإيهامهم أنها مقتضى كلام الله تعالى، وشيخ الأزهر وعلماء الأزهر يعلمون أن الإسلام جمع لأهله بين مصالح الدنيا والآخرة، وأن هذا المثل الذي ذكرهم به الدكتور ليس معارضًا لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وأمثال ذلك من الآيات التي ترشد المسلمين إلى جميع الكائنات، والآيات التي وعدهم الله بها بأن يجعلهم خلفاء الأرض ويمكن لهم فيها السلطان والمجد وإنما ذلك مثل لتصغير متاع الحياة الدنيا بالنسبة إلى سعادة الآخرة؛ لئلا يشغلهم الغرض الأدنى عن الغرض الأعلى، وقد أرشدهم إلى الجمع بينهما، وعلمهم أن يدعوه بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 201) ومن المعلوم من تاريخ الإسلام بالضرورة، ومن تعاليمه بالنصوص المتفق عليها بين الأئمة أن خلفاء المسلمين وقضاتهم وحكامهم يجب أن يكونوا من أعلم علمائهم المستقلين، ومن أشدهم إقامة للعدل واعتصامًا بعدالة الدين، وهم يحفظون من كلام سلفهم: الدنيا مزرعة الآخرة، وقد بيَّنا هذا بالتفصيل في مواضع من التفسير والمنار فلا محل لبسطه هنا. وقد غالط الدكتور طه حسين الأزهريين فيما ضربه لهم من الأمثال الدنيوية كهذا المثل الديني؛ إذ ذكر لهم المدارس الدينية لدعاة النصرانية، وهذا حجة عليه فإن هذه المدارس تلقن طلابها جميع علوم الدنيا، ودعاة النصرانية المتخرجون فيها منهم الأطباء وأساتذة العلوم والفنون الرياضية والطبيعة وغيرها، فلماذا يحاول إقناع متخرجي الأزهر وسائر المعاهد الدينية، بترك تعليم المدارس المدنية والقضائية وغير ذلك من مصالح الدنيا لكليات جامعته المصرية المدنية، والرضى بأن تكون سيادة الدنيا ومجدها وقفًا على الملحدين، ولماذا تنشر لهم مجلة الرابطة الشرقية هذا الغش والخداع للمسلمين؟ فيا ليت شعري هل يرى رئيس الجمعية ووكيلها ما يراه زميلهما المشرف على تحرير مجلتها من أن الإسلام دين روحاني محض لا حكومة له ولا شريعة يجب على أهلها التزامها، وهل يريان ما يرى صديقه طه حسين من جعل غاية التعليم الديني الوعظ والدعوة وحصر أعمال الحكومة المصرية الإسلامية في خريجي المدارس اللادينية؟ الذي كنا نعرفه عنهما غير هذا. ويلي مقالَ الدكتور طه حسين مقالٌ لأستاذه الدكتور منصور فهمي تابع لما كتبه في العدد الأول، وغايته التنويه بتعظيم شأن مصطفى كمال فيما تراءى له ولسائر دعاة التجديد اللاديني من نجاحه فيما يسمونه إصلاحًا، وإن لم يصرح باسمه ولا باسم المقتدين به ملك الأفغان وشاه إيران يعبر عنهم (برجال الشرق الحاليين ومصلحيه) . *** دعاية سلامة موسى إلى الإلحاد وهدم الإسلام وإذا بنا نرى من موضوعاته دعاية سلامة موسى المسرف في الإلحاد إلى رأيه في مقالة عنوانها (الشرق والغرب) وهي تتضمن تخطئة جمعية الرابطة الشرقية في سعيها للتعارف والتعاون بين شعوب الشرق من أدناها إلى أقصاها إذ يقول: إننا نحن المصريين والسوريين والعراقيين نَمُتُّ بجملة صلات من النسب إلى أوربا ولا نَمُتُّ بأي صلة إلى اليابان والصين، ونحن من حيث السلالة البشرية ننتمي نحن والإنجليز إلى (أم واحدة) ونحن من حيث الدين يشترك كثير منا وأوربة في المسيحية، والمسلمون هم أقرب الملل في العالم إلى المسيحية) . وغرض سلامة موسى أفندي من هذا البحث في مقالته إقناع قراء مجلة الرابطة الشرقية وتقريب بعض آخر من رأيه المشهور عنه، وهو وجوب إندغامنا في الأمة الإنكليزية، ولو كان هذا المقام مقام المناقشة والمناظرة لأثبت له أن النصرانية الحاضرة نصرانية التثليث هي أقرب إلى البوذية منها إلى الإسلام ولكن دين المسيح دين التوحيد الخالص هو عين دين محمد عليهما الصلاة والسلام الذي جاء في إنجيل يوحنا منه قول عيسى في

المؤتمر الإسلامي العام بالقدس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر الإسلامي العام بالقدس عقد المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف في الشهر الماضي للنظر في مسألة اعتداء اليهود على جدار حرم المسجد الأقصى المعروف بالبراق، وبعد قتل المسألة من كل وجهة وضع قرارات بلغها للصحف ومنها المنار هذا نصها. 25-5-47 و7-11-28 نقدم لحضرتكم صورة عن التقرير الذي قدَّمه المؤتمر الإسلامي العام لفخامة المندوب السامي بفلسطين، وهو يتضمن القسم المختص بحكومة فلسطين من مقررات ذلك المؤتمر المنعقد بالقدس من أجل مطامع اليهود في البراق الإسلامي البحت وما يحيط به من الأوقاف. ونضم إليه المقرَّرات التي لم تُرْفَع إلى الحكومة وهي: (1) تأليف جمعية إسلامية كبيرة تُدْعَى (جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة) ومركزها العام القدس فلسطين، ولها فروع في جميع أنحاء العالم الإسلامي وفي المهاجر التي فيها جاليات إسلامية، وغايتها حراسة الأماكن الإسلامية المقدسة وحمايتها من أي عدوان يقع على أي جزء منها بالطرق المشروعة والاهتمام بشأنها، وأن يوضع لهذه الجمعية قانون وأنظمة خاصة تضمن لها الحياة والنمو. (ب) توكيل الوفد السوري في جنيف باتخاذ التدابير اللازمة لصيانة حقوق المسلمين في الأماكن المقدسة الإسلامية أمام عصبة الأمم والرأي العام الغربي. (ج) نشر نداء إلى الوطنيين في أن يحرصوا على أراضيهم وعدم بيعها لليهود، وأن يؤازروا الشركات المساهمة التي شكلها الوطنيون لشراء الأراضي. (د) نشر بيان مفصل للرأي العام في العالم في الشرق والغرب في قدسية البراق الشريف عند المسلمين وحقهم الثابت فيه وفيما يمكن أن ينجم من توالي اعتداء اليهود عليه من الاضطراب الديني في البلاد المقدسة. (هـ) تأليف لجنة تضم إلى لجنة الدفاع عن البراق الشريف لوضع قانون جمعية الحراسة المذكورة ولتنفيذ مقررات المؤتمر. هذا وقد تألف الوفد المذكور بالقرار السادس وقابل في اليوم الثاني لانعقاد المؤتمر فخامة المندوب السامي وبلغه طلبات المؤتمر فوعد فخامته في أن ينظر في هذه الطلبات وأن يهتم بها الاهتمام الكافي. سكرتير الجمعية ونرسل إليكم أيضًا صورة البرقية التي أرسلها المؤتمر لجمعية الأمم *** فخامة المندوب السامي المعظم دوائر الحكومة - القدس إن المؤتمر الإسلامي العام المنعقد بالقدس بعد ظهر الخميس الواقع في 18 جمادى الأولى سنة 1347 الموافق 1 تشرين سنة 1928، الممثل لمسلمي فلسطين بجميع طبقاتهم وهيئاتهم وجمعياتهم وأنديتهم الإسلامية، المشترك فيه اشتراكًا رسميًّا الوفود الممثلة لمسلمي سوريا ولبنان الكبير وشرق الأردن وللقبائل والعشائر العربية في فلسطين والشرق العربي، والمعزَّز بجمعيات الشبان المسلمين بمصر، والمؤازر بالرأي العام الإسلامي في الداخل والخارج، والذي اجتمع للبحث والمشورة واتخاذ الوسائل والتدابير الضرورية في صد الخطر اليهودي عن مكان البراق النبوي الشريف، وصيانة حقوق المسلمين في أماكنهم الإسلامية المقدسة قد قرَّر بالإجماع المقررات التي توجبها عليه وعلى المسلمين جميعًا خطورة تلك الحالة العاجلة، وإن سكرتيرية هذا المؤتمر تتشرف عملاً بقراره أن ترفع لفخامتكم القسم الذي يختص بالحكومة من هذه المقررات، ونرجو أن تتفضلوا برفعها إلى حكومة لندن وعصبة الأمم، والمقرَّرات هي: أولاً: يعلن المؤتمر بالإجماع أن مكان البراق الشريف الذي هو جزء من المسجد الأقصى المبارك هو مكان إسلامي مقدس بنص القرآن الكريم، وأنه هو وما حوله وما يحيط به من الأوقاف المتراصة من جميع جهاته على مسافة واسعة مِلْك خاص بالمسلمين، وأن كل زعم لليهود فيه باطل لا يستند إلى أي حق، وأنه ليس لهم هناك أكثر من المجيء إلى ذلك المكان والوقوف أمامه وقوفًا عاديًا، مثل غيرهم مجردًا عن العبادة والصلاة ورفع الأصوات وإظهار المقالات كما هو ثابت بالوثائق الرسمية التي بيد السلطات الإسلامية المتعاقبة، والمعروفة حق المعرفة لدى الحكومة المحلية التي اعترفت بذلك اعترافًا صريحًا للسلطات الرسمية الإسلامية، واعترافًا فعليًّا بتصديها بنفسها لمنع ما يحاول اليهود إحداثه في ذلك من حق لهم بوضع أدوات متنوعة، وبرفعها ذلك مباشرة كما حدث في الحادث الأول سنة 1925، وفي الحادث الأخير في شهر أيلول سنة 1928 وعليه فقد قرَّر المؤتمر بالإجماع: (أ) أن يحتج بكل قوة على أي عمل أو محاولة ترمي إلى إحداث أي حق لليهود في مكان البراق الشريف المقدس، ويستنكر هذا كله أشد الاستنكار كما أنه يحتج على كل تساهل أو تغاض أو تأجيل يمكن أن يبدو من الحكومة في هذا السبيل. (ب) أن يطلب من الحكومة منع اليهود حالاً منعًا باتًّا مستمرًّا من وضع أية أداة من أدوات الجلوس والإنارة والعبادة والقراءة وضعًا موقتًا أو دائمًا في ذلك المكان في أية حالة من الأحوال وأي ظرف من الظروف، وأن تمنعهم أيضًا من رفع الأصوات وإظهار المقالات بحيث يكون المنع في كل هذا متكفلاً لأن لا يضطر المسلمون إلي أن يباشروا منعه ورفعه بأنفسهم مهما كلفهم الأمر؛ دفاعًا عن هذا المكان الإسلامي المحض المقدس، وعن حقوقهم الثابتة لهم فيه مدة ثلاثة عشر قرنًا. (ج) أن يلقى تبعة ما قد ينتج من إقدام المسلمين على الدفاع عن البراق الشريف بأنفسهم على الحكومة إذا توانت هي في منع أي اعتداء يصدر من اليهود؛ لأنها متكلفة بحفظ الأمن، ومطالبة بالمحافظة على الأماكن الدينية الإسلامية من كل اعتداء. ثانيًا: يعلن المؤتمر بالإجماع أن محاولة اليهود إحداث الاعتداء على البراق الشريف؛ ليتخذوا من ذلك سببًا في إيجاد مشكلة بينهم وبين المسلمين وليقحموا هذه المشكلة في جملة الخلافات حول الأماكن المقدسة بفلسطين، هي محاولة باطلة مستنكرة مجردة عن كل حق أو سبب إلا سبب الطمع في الاستيلاء على مقدسات المسلمين، فالمؤتمر يقرِّر بالإجماع أن يحتج على هذا أشد الاحتجاج، ويطلب من الحكومة باسم جميع المسلمين أن تحسم هذه المحاولة؛ لأن البراق الشريف - الجدار الغربي للمسجد الأقصى المبارك - هو من الأماكن الإسلامية المقدسة المحضة المكفولة الحصانة بالنص الصريح الواضح الذي جاء في الشق الأخير من المادة الثالثة عشرة من صك الانتداب، ولا ينازع المسلمين فيه منازع شأن جميع الأماكن الإسلامية المقدسة. ثالثًا: قرَّر المؤتمر أن من واجبه الديني إزاء هذه الحالة الخطرة أن يعلن للعالم قاطبة ما يلي: لما كان اليهود يوالون اعتداءهم على البراق الشريف، وكان البراق الشريف قطعة لا تتجزأ من المسجد الأقصى، وكان المسجد الأقصى وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين مسجد العالم الإسلامي كافة، وكان مسلمو فلسطين بالنيابة عن المسلمين سَدَنة هذا المسجد المبارك وحُرَّاس مكان البراق المختص بإسراء نبيهم صلى الله عليه وسلم ولما كان توالي اعتداء اليهود هذا هو بحقيقته الظاهرة والمقصودة تحديًا للمسلمين فيما هو من أعز مقدساتهم الواقعة في أوسط بقاع العالم الإسلامي، وكان ذلك ينتج بطبيعة الحالة الاضطراب الديني الشديد لا في فلسطين خاصة، ولا في الأقطار الإسلامية المجاورة فحسب، بل في العالم الإسلامي كله لما كان ذلك، وكان مسلمو فلسطين مفروضًا عليهم بحكم كونهم سدنة المسجد الأقصى أن يستصرخوا العالم الإسلامي لرفع هذا الجَوْر، وصد هذا الخطر، فإن هذا المؤتمر يقرر إصدار نداء إلى العالم الإسلامي بذلك، وأن يبلغ الحكومة المحلية وحكومة لندن، وعصبة الأمم، والدول الأجنبية بواسطة قناصلها، وأن يعلن الرأي العام في الشرق والغرب أن اعتداء اليهود وتكرره على البراق الشريف الجدار الغربي للمسجد الأقصى وعدم مبادرة الحكومة إلى قمعه بحزم، يؤدي بطبيعة الحال إلى أحداث خطيرة في الأقطار الإسلامية يكون فيها المسلمون مدافعين عن أعظم خطر نزل في القرون العثمانية الأخيرة بما هو من أعز مقدساتهم، وهم يُشْهِدون دول الأرض وشعوبها على هذا الاعتداء الذي سيكون له تبعات كبرى. رابعًا: يقرِّر المؤتمر أن القانون الذي سنَّتْه حكومة فلسطين سنة 1924 باسم قانون نزع الملكية قد تضمن في جملة مواده مواطن كثيرة دعت لتخوف المسلمين - بالنسبة لظروف فلسطين الخاصة- على أوقافهم وأماكنهم الدينية، ولما كانت المواطن الداعية للتخوف من هذا القانون يعلم المسلمون أنها من آثار المساعي اليهودية توطئة للوصول إلى كثير من غاياتهم بالاستيلاء على أوقاف ومبان إسلامية مكفولة الحصانة بموجب نص الشق الثاني من المادة الثالثة عشرة من صك الانتداب ولما كانت الهيئات الإسلامية الرسمية قد احتجَّت للحكومة مرارًا باسم جميع المسلمين على هذا القانون منذ صدوره، طالبة إزالة مواطن التخوف منه، التي أخذت تتحقق بالفعل، ومن ذلك قيام اليهود الآن يطلبون استملاك مكان الوقف الإسلامي المحض الذي فيه البراق الشريف، مستندين على هذا القانون: لما كان ذلك، فالمؤتمر يطلب من الحكومة رفع مواطن التخوف من هذا القانون تأمينًا للمسلمين على أماكنهم الدينية المقدسة وأوقافهم، ويرى أن لا سبيل إلى ذلك إلا برفع ما جاء في ذلك القانون من أسباب هذا التخوف، أو بإعلان رسمي من الحكومة أن هذا القانون لا يشمل الأماكن الدينية الإسلامية، وبأن أوقاف المسلمين لا تنزع ملكيتها لأغراض طائفية أجنبية، ولا تنزع إلا بطريق الاستبدال الشرعي بواسطة المحاكم الشرعية الإسلامية وفقًا للشرع الإسلامي الشريف. خامسًا: لما كان النائب العام في حكومة فلسطين (المستر نورمان بنتويش) زعيمًا صهيونيًّا قُحًّا بآرائه وأعماله ومؤلفاته، وكان مركز النائب العام في حكومة فلسطين عاملاً أكبر في التشريع والتقنين، فإن المسلمين في فلسطين يرون في وجود هذا الرجل في هذا المركز التشريعي النافذ مبعث الخطر على أعظم مصالحهم وهم الأكثرية المطلقة في البلاد، وقد سبق لهم أن احتجوا على وجوده، يشغل في حكومة فلسطين منذ الاحتلال وظيفة عالية، من شأنها أن تمهد كثيرًا للمقاصد اليهودية والصهيونية، فالمؤتمر يطلب باسم المسلمين من الحكومة إقصاء المستر بنتويش عن المركز التشريعي النافذ الذي يشغله في حكومة فلسطين، ويقرر الاحتجاج على بقاء المذكور في مركزه هذا، ويرى من الظلم على المسلمين أن يشغل هذا المركز زعيم صهيوني كالمستر بنتويش الساعي لتحقيق المطامع الصهيونية، الماسة مساسًا ضارًّا بحقوق المسلمين الدينية في أماكنهم المقدسة. سادسًا: يقرر المؤتمر أنه بالنظر إلى تفاقم الحالة واشتداد هياج المسلمين أن يوفد إلى فخامة المندوب السامي وفدًا مستعجلاً يطلب منه باسم المؤتمر أن تصدر الحكومة بأقرب وقت تصريحًا رسميًّا تعلن فيه صيانة البراق الشريف وسائر الأماكن الإسلامية المقدسة من كل اعتداء يسعى اليهود لتحقيقه بأية وسيلة أو إحداث أي شيء جديد فيه؛ إزالة لمخاوف المسلمين وتطمينًا لهم، ويبين الوفد للحكومة خلاصة القسم المتعلق بها من مقررات المؤتمر ريثما تبلغ إليها هذه المقررات خطيًّا بصفة رسمية بوقت قريب. سابعًا: يقرر المؤتمر أن تبلغ رسميًّا حكومة فلسطين هذه المقررات المذكورة، ويطلب منها أن تقدمها إلى حكومة لندن وإلى عصبة الأمم. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... سكرتير المؤتمر ... 24جمادى الأول

وفاة العلامة الجليل الشيخ سليم البخاري

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفاة العلامة الجليل الشيخ سليم البخاري جاء في جريدة (العهد الجديد) البيروتية الغرَّاء لمراسلها في دمشق بتاريخ 25 تشرين أول سنة 1928 ما نصه: طويت صباح أمس صفحة ماجدة وضَّاءة من صفحات العلم والوطنية والإخلاص بوفاة سماحة العلامة الجليل الشيخ سليم أفندي البخاري والد الشهيد البطل المرحوم جلال الدين البخاري وصاحب المعالي الوطني الكريم نصوحي بك البخاري وزير الزراعة والتجارة ووزير المعارف سابقًا، فكان لِمَنْعَاهُ رنَّةُ حزنٍ أليمةٍ في البلاد السورية جمعاء التي بادرت للصلاة على روحه الطاهرة الكريمة صلاة الغائب. والشيخ سليم أفندي البخاري علامة جليل من كبار علماء المسلمين، له ولعه الشديد بجمع آثار السلف الصالح واقتفاء أثر المخطوطات النادرة، والحرص عليها حرص البخيل على درهمه، كما أنه كان مثال النزاهة والعفة وطهارة اليد والذيل وصورة الأخلاق الفاضلة الكريمة، وهو أحد أركان النهضتين الوطنية والعلمية والنافخ في بوق التجديد، والعالم الفذ على استئصال شأفة البدع والخرافات، وقطع السبيل على المرتزقة من رجال المشيخة الأغرار، حتى إنه رحمه الله سن قانونًا خاصًّا للتدريس في المساجد إبَّان وجوده في رئاسة العلماء حظر فيه القيام بالنصح والإرشاد وإلقاء الدروس الدينية في المساجد على غير العلماء المعروفين المشهود لهم برسوخ قدمهم في علوم الدين، ولكن هذا القانون قد درست معالمه وألقي في سلة المهملات بعد أن غادر سماحته منصب رئاسة العلماء مستقيلاً إثر ما جرى من تدخل في شئون الدين يوم أعلنت خلافة جلالة الحسين بن علي ملك الحجاز السابق فآثر رحمه الله اعتزال المنصب على أن يُقِرَّ هذا التدخل ويحول بين المسلمين وبين المبايعة كما أنه رحمه الله بايع وأمضى صك البيعة، وهذا دليل ناهض وحجة دامغة على مقدار صلابة سماحته في مبدئه. وفوق هذا كله فلقد كان رحمه الله لغويًّا كبيرًا وعالمًا جليلاً في الأدب والمنطق والفلسفة الإسلامية، ومن أشد الناقمين على البدع والخرافات والداعي إلى اجتثاثها من أصولها؛ لتتنزه تعاليم الإسلام عما يحسبه الأغرار من الدين وما هو منه في شيء. وكان مجلسه رحمه الله مجلس علم وأدب ويأبى أن يذكر في حضرته اللسان بسوء، وهو من أصحاب المغفور له العلامة الكبير الشيخ طاهر الجزائري. وما ذاع النبأ في المدينة حتى تهافت الكبراء والوجهاء والعلماء والشباب والأساتذة إلى المنزل يواسون معالي نجله الكريم الأستاذ نصوحي بك البخاري وأخوانه، وعندما عرض جثمان الكريم على المغتسل دخل إلى الغرفة التي تجري فيها مراسم الاغتسال سماحة العلامة الجليل المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين أفندي الحسني فودَّعه وداعًا حارًّا استهل الدموع المدرارة وأثار العبرات الحارة. وبعد أن تمت مراسم الاغتسال سارت الجنازة تتقدمها جنود الدرك ورجال الشرطة وجلاوزة البلدية فالعلماء يتقدمهم سماحة المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني فجثمان الراحل الكريم فمعالي نجله نصوحي بك وإخوانه فالكبراء والعظماء من رجال الوطنية والوجاهة والعلم ورئيس الوزراء الشيخ تاج الدين أفندي الحسني ووزير المعارف الأستاذ محمد بك كرد علي ومعتمد الدولة العربية ورجال الصحافة والمحاماة والأطباء والموظفون وطلاب الجامعة السورية والمعاهد العلمية الكبرى وتلاميذ المدارس الأميرية والرسمية حتى بلغوا الجامع الأموي الكبير حيث صلى على الجثمان الكريم سماحة الأستاذ الشيخ بدر الدين وقبل الصلاة عاد رئيس الوزراء ووزير المعارف، ومن ثم سار موكب الجنازة بنظامه إلى مقبرة الدحداح حيث ووري الجثمان الكريم، وقد كانت الجنازة منقطعة النظير تدل على ما للأستاذ الفقيد من منزلة سامية في النفوس، وقد رافق الجنازة على عجزه وكبر سنه سماحة المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين أفندي الحسني حتى المقبرة، رحمه الله رحمة واسعة وألهم الأمة المفجوعة بفقده وذويه الصبر وجزاهم الأجر، وإننا نتقدم لمعالي نجله الأستاذ نصوحي بك ولإخوانه الأكارم وذويه الأفاضل بواجبات التعزية، سقى الله جسده الطاهر وثراه الطيب صيب الرضوان اهـ. (المنار) كان الأستاذ الكبير الشيخ سليم البخاري رحمه الله تعالى من أفراد علماء سورية العاملين المستقلين، وعلمًا من أعلام رجالها المصلحين، الجامعين بين علوم الدين النقية من البدع والخرافات وبين الإلمام بعلوم العصر الكونية والعقلية، وحاجات المسلمين فيه من مدنية وسياسية، سلفي العقيدة مهذب الأخلاق غيورًا على الدين، نصوحًا للمسلمين، واسطة العقد بين المدنيين والدينيين، عرفته في دمشق عند زيارتي لها عقب إعلان الدستور العثماني سنة 1326 (1908) ثم تلاقينا في الآستانة في السنة التالية ثم في دمشق سنة 1338 وكنا متفقين في الرأي في كل ما بحثنا فيه، ومن أهمه موافقة الأستاذ الإمام رحمه الله في آرائه الإصلاحية، والإعجاب بمواهبه العلمية، ولكن بلغنا عنه في العهد الأخير رأي شاذ وافق فيه بعض خصوم الشريعة الغراء والسلطان الإسلامي، ولا ندري سبب ذلك ومنزلته من الصحة، وإننا نقترح على المجمع العلمي بدمشق أن يترجمه في مجلته ترجمة حافلة تليق به.

الحكومات اللادينية للشعوب الإسلامية الأعجمية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحكومات اللادينية للشعوب الإسلامية الأعجمية وعواقبها في الترك والفرس والأفغان قوي حزب الملاحدة في الشعب التركي فسنحت له الفرص بما كان من أطوار الانقلاب بعد حرب الأمم الكبرى فأسس حكومة لا دينية أعلنت الانسلاخ من دين الإسلام وجهرت بمقاومته ومحاولة محوه من بلاد الشعب التركي، وسمعنا منذ بضع سنين ونحن في أوربة أن الزعيم الأكبر لها يمهد السبيل لتنصير هذا الشعب على المذهب البروتستانتي إذا كانت الحكومة الإنكليزية تبذل له ثمن ذلك معاملة الحكومة التركية معاملة الدول الأوربية الكبرى، وحينئذ ينقض عهد الحكومة الروسية الشيوعية وينفض عنه غمراتها، وكان لها ولأفراد من شعبها التأثير الأكبر في هذا الاتحاد. ولما شعر هذا الزعيم ورجاله أنهم خسروا بترك الإسلام زعامة الحكومة التركية للشعوب الإسلامية كلها، وأن دولتهم صارت دون ولاية واحدة من الولايات التي كانت تحت سيادة الدولة العثمانية (التي يحتقرونها اليوم) عددًا وعلمًا وثروة وهي ولاية مصر، أنشئوا يبثون في جميع الشعوب الإسلامية دعوة الإلحاد؛ ليكونوا سادة لها في عهد الكفر كما كانوا سادة في عهد الإسلام، فراجت دعايتهم في ملاحدة الأفغان وإيران، وخابت وفشلت وخسرت في جميع البلاد العربية، حتى مصر التي كثر فيها الملاحدة وانتشرت دعاية الإلحاد، ولا يستبعد العالم بغرور الترك أن يكون الكماليون طامعين في السيادة العسكرية على الأفغان وفارس بعد انسلاخهما من الدين الإسلامي بدعايتهم والاستعانة عليهم بملوكهم وبعض كبرائهم. وقد كان غرور الملك أمان الله خان بدعاية الكماليين غريبًا فلم يؤثر فيه إنذارنا له سوء عاقبة تقليدهم منذ سنة فثار عليه شعبه ثورة لا يعرف قيمة خطرها إلا من عرف شدة شكيمة هذا الشعب العزيز النفس الشديد البأس وقوة العصبية الإسلامية فيه، فالآن قد علم أمان الله خان وزوجه ثريا ووالدها وزيره الأكبر محمود الطرزي خان أننا كنا أعلم منهم بأنفسهم وبحال شعبهم إذ أنذرناهم أن هذه الخطة ستكون خطرًا على حكومتهم، وعلى بيت المالك أيضًا كما تقدم بيانه في الجزء الماضي. وقد نجمت قرون الثورة في الإقليم العربي من مملكة إيران ثم في بعض الأقاليم العجمية، ولكنها دون الثورة الأفغانية في قوة سَوْرَتها واستعدادها لما بين الشعبين من الفوارق على أنها لا تزال في سن الطفولية، وأما الترك فلا يزالون يأتمرون سرًّا باغتيال رئيسهم وتواترت البرقيات في هذا الشهر بنبأ جديد منها والآجال مقدَّرة عند الله تعالى، ومن أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن يرضى ملك الأفغان وشاه إيران بتقليد مصطفى كمال باشا في إكراه شعوبهما على لبس البرنيطة واستبدال الزي الإفرنجي بالزي الوطني القومي المعدود عند الجميع من مشخصات الشعوب الإسلامية وفي تفرنج النساء وتبرجهن على ما فيه من المفاسد الدينية والاجتماعية والاقتصادية. وأعجب من هذا وأغرب أن بعض كُتَّاب الصحف التي تسمى إسلامية تعبر عن هذه المفاسد بكلمة (الإصلاحات) تبعًا لبعض كتاب الإفرنج وتلاميذهم من النصارى والزنادقة، وأعجب من هذا وذاك وأغرب أن بعض المسلمين الأغرار قد أظهروا تمنيهم لنجاح الشاهين بمثل ما يزعمون من نجاح مصطفى كمال باشا، والحق أن هذا حكم مُبْتَسَرٌ، وما هي إلا كما قلنا تجربة هي أقرب إلى الخطر منها إلى الظفر.

المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الجديدة (حوليات مصر السياسية) تقول العرب: الدهر بالناس دواري أي يدور بهم من حال إلى حال، وينتقلون فيه من طَوْر إلى طَوْر، وقد كان لمصر من هذا الانتقال في قرن واحد ما لم يكن مثله لقطر آخر، فقد انتقلت في عهد محمد علي الكبير من حكم استبدادي مُخْتَل مُعْتَل إلى حكم استبدادي عمراني منظم، مداره على قطب الثروة والقوة، ثم انتقلت في عهد حفيده إسماعيل باشا إلى طَوْر التفرنج والتمتع بالثروة والزينة بالإسراف الذي أعقب الفقر والإفلاس فالاحتلال الإنكليزي، ثم انتقلت بالاحتلال إلى حكم أجنبي اقتصادي يراد به سلب استقلال البلاد، وإفساد جميع مقومات الشعب، ثم انتقلت أخيرًا إلى استقلال مقيد بقيود تحول دون حرية الأمة وحكومتها. وقد كان لكل طور من هذه الأطوار تأثير خاص في أخلاق الشعب وعقائده وعاداته يجب على العلماء من المؤرخين وغيرهم تدوين أحداثه وبيان تأثيرها فيه، فإن ما تنشره الجرائد من ذلك غير كافٍ لتعريف الشعب بماضيه وحاضره، وما لهما من التأثير في مستقبله، وإن كانت تقرع منه كل باب، وتخوض كل عباب، فإن أصحابها مختلفو الآراء والأهواء بالتبع لاختلاف الأديان والأحزاب والمَنَازِع والمنافع، وقد عني مؤرخو مصر السابقون بما لم يعن بمثله غيرهم من الذين كتبوا تواريخ سائر الأقطار الغربية والشرقية في القرون الماضية، ولكن مؤرخي هذا العصر قد قصروا في أداء ما يقدرون عليه من ذلك، وهم أقدر من مؤرخي العصور الخالية على التأليف فيه حتى كان تقصيرهم مثار العجب. بيد أنه ظهر في السنين الأخيرة تواريخ مختصرة لبعض شئون مصر (منها) تاريخ السودان وهو جزء صغير لداود بك بركات رئيس تحرير الأهرام، ومنها تاريخ خاص بإسماعيل باشا فيه محاباة ظاهرة لأنه كتب لنيل جائزة من جلالة الملك (ومنها) تاريخ فتح مصر الحديث أو نابليون بونابرت في مصر لأحمد حافظ بك عوض صاحب جريدة كوكب الشرق، وسنفرد له تقريظًا خاصًّا ما أخرناه إلا لأجل العناية به ريثما نتمكن من تصفحه أو مطالعته، ثم ظهر في هاتين السنتين الأخيرتين خمسة أسفار كبار من تاريخ مصر السياسي باسم (حوليات مصر السياسية) من تصنيف صديقنا العالم الفاضل المؤرخ النزيه أحمد شفيق باشا المتخرج في مدرسة العلوم السياسية بباريس الذي كان آخر ما تولاه من أعمال الحكومة رياسة الديوان الخديوي فإدارة الأوقاف العامة قبل أن تسمى وزارة، فوفى بهذا الكتاب مبلغًا كبيرًا من دين مصر على علمائها القادرين على تدوين تاريخها من وجوهه السياسية والاجتماعية والعلمية والأدبية وغيرها، والحوليات جمع حولي نسبة إلى الحول بمعنى العام والمراد بها حوادث السنين. وقد طبع الجزء الأول منه (وهو تمهيد للمقصد منها) بمطبعة مؤلفه بمصر سنة 1345هـ (1926) فبلغت صفحاته 872 من حجم المنار، ولكن الصفحة منها 19 سطرًا، ويليه ملحق في قرار الجمعية التشريعية ببطلان الحماية البريطانية واستقلال مصر والسودان، وهو يحتوي تاريخ مصر السياسي من أول عهد محمد علي باشا إلى انقلاب عام 1914 الذي حدثت فيه حرب المدنية العامة، وأعلنت إنكلترة فيه حمايتها على مصر. ثم طبع الجزء الثاني منه (وهو من التمهيد أيضًا) في سنة 1346، 1927 م فبلغت صفحاته 799 ويليه ملحق في تقرير لجنة ملنر البريطانية المنتدبة لمصر وصفحاته 128 ويحتوي هذا الجزء على حوادث مصر منذ تولى العمل لها الوفد المصري إلى عهد نجاح ثروت باشا مع اللورد ألنبي في إلغاء الحماية على مصر، وإعلان استقلالها المقيد فيما يسمى تصريح 27 فبراير سنة 1922. ثم طبع الجزء الثالث المتمم للتمهيد في سنة 1346، 1928 وصفحاته 735 وهو يدخل في بابين: (الأول) في إعلان تصريح 28 فبراير وما يتعلق به من الأحداث والأخبار والآراء في إنكلترة ومصر والشُّرُوع في تنفيذه، وفيه فصل خاص موضوعه (ثروت باشا والرأي العام) والباب الثاني في حوادث (تحضير الدستور) لمصر، وموضوعه (اللورد ألنبي السودان - والجرائم السياسية واحتجاج الحكومة الإنكليزية عليها - مشكلة تعويض الموظفين الأجانب المُقَالِينَ من الخدمة - القبض على أعضاء الوفد ومحاكمتهم - مصر ومؤتمر لوزان) . ويلي هذه الأجزاء الثلاثة التمهيدية للحوليات المقصد من الحوليات مرتبة على السنين، وقد طبع منها حولية سنة 1924 في جزء بلغت صفحاته الأصلية 604 صفحات، وهي تدخل في ثلاثة أبواب في كل منها بضعة فصول ثم حولية سنة 1925 في جزء بلغت صفحاته الأصلية 1104 وفيه 12 بابًا في كل منها عدة فصول، وهو آخر ما تم طبعه في هذا العام، وستليه حولية سنة 1926 وما بعدها، ونسأل الله أن يطيل عمر صديقنا المؤلف له أعوامًا وأحوالاً كثيرة يدون لها أهم تاريخها. وجملة القول في هذا التاريخ الحافل الري أنه دائرة معارف لتاريخ مصر الحديث يغني مقتنيه عن مجموعات الجرائد المصرية اليومية في هذه السنين؛ لأنه جامع لزبدة ما نشر فيها مُبَوَّبَة مُرَتَّبَة، ونقترح عليه أن يضع لكل جزء منه فهارس للمسائل والأحداث وللأعلام مرتبة على حروف المعجم لأجل تسهيل المراجعة فيه. وثمن الجزء الأول من هذا الكتاب خمسون قرشًا مصريًّا وثمن كل جزء من الأربعة الأخرى ثلاثون قرشًا، ثمن الأسفار الخمسة غير مجلدة 170 قرشًا، وهو غني بنفسه عن الترغيب فيه ويطلب من مؤلفه ومن مكتبة المنار بمصر. *** (دفع شبهة التشبيه والرد على المجسمة) عُني بطبع هذا الكتاب ونشره الشاب الفاضل الناشئ في رياض العلم والكتب الدينية المفيدة حسام أفندي القدسي وبيَّن سبب ذلك في مقدمته للطبع قال فيها: (أما بعد فهذا كتاب لابن الجوزي حجبه عنا هذه البرهة - بل عن كثير من أهل الأخصاء في معرفة المؤلفات العربية - فئة من أشياع الذين رد عليهم المصنف عملت على محو اسمه ورسمه، قد حملني على طبعه انتشار كتب المشبهة مخطوطها ومطبوعها في الناس، واشتغال بعض المؤلفين بالدعوة إلى التشبيه حتى اليوم، والحرص على نشر تصانيف ابن الجوزي النافعة، وكتب الردود المانعة اهـ بنصه ونقول: إننا على وقوفنا على الحركة الدينية ونشر الكتب فيها لم نفهم مراد ناشر الكتاب من قوله هذا، فمَنْ هؤلاء الذين حجبوا عنه هذا الكتاب هذه البرهة؟ وما مراده بها؟ ومتى كان هذا الكتاب مشهورًا قبلها ولم نر له اسمًا في كشف الظنون ولا في سرد مؤلفات ابن الجوزي المشهورة في ترجمة الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ وغيره من مترجميه؟ ثم لا ندري من يعني الناشر بقوله (واشتغال بعض المؤلفين بالدعوة إلى التشبيه) إلخ، ولكننا علمنا مما نشره من الكتب ولم نر فيها من كتب ابن الجوزي (النافعة ولا المانعة) شيئًا من التفاسير ولا الحديث ولا الفقه، بل هو يتلقف من أستاذ له تعليقات على هذه الكتب غرضه منها الرد على أهل الحديث ومذهبهم في الاتباع واقتفاء أثر السلف فيه وتفضيل مذاهب المتكلمين أو مبتدعة المتأولين وأهل الرأي عليها. ومن الغريب أن موضوع هذا الكتاب الرد على علماء مذهب مؤلفه (الحنابلة) ممن يسميهم المجسمة كمتعصبي المتكلمين من الجهمية المعتزلة والشيعة والأشعرية وغيرهم، ونحن لا ننكر أنه كان في الحنابلة وغيرهم غلاة في الأخذ بظواهر النصوص والتعبير عنها باصطلاحات لم تَرِدْ في الكتاب ولا في السنة كما هو شأن الغلاة من أهل كل مَهَبٍّ، ولكن جمهور علماء الحنابلة أشد علماء الإسلام محافظة على النصوص واتباع هدي السلف الصالح. وقد جاء بعد ابن الجوزي منهم من قام خير قيام بترجيح مذهبهم على مذاهب المتكلمين والقياسيين بالحجج النقلية والعقلية جميعًا كالشيخ تقي الدين ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ولذلك يُعْنَى أستاذ الناشر ومعلق حواشي مطبوعاته الشيخ محمد زاهد الكوثري الحنفي بالنيل منهما والطعن عليهما، وقد بلغت صفحات هذا الكتاب 84 صفحة من قطع متوسط يقرب من حجم المنار مع فهارسه وثمن النسخة من الورق الجدي منه أربعة قروش ومن الورق العادي ثلاثة قروش مصرية. *** (شروط الأئمة الخمسة) تأليف الحافظ الحازمي طبع مطبعة الترقي بدمشق سنة 1346 موضوع هذه الرسالة شروط الشيخين البخاري ومسلم في صحيحهما وأصحاب السنن الثلاثة: أبي داود والترمذي والنسائي في سننهم، نشرها القدسي الفاضل مع تعليقاته في حواشيها للأستاذ الشيخ محمد زاهد الكوثري أكثرها مفيد على ما فيها من الغمز الأدبي في جماعة المحدثين وتعظيم شأن جماعة الحنفية في الحديث بما لم يعرف عن أحد من متعصبيهم من قبل فيما نعلم. وقد بلغت صفحات هذه الرسالة زهاء ستين صفحة من قطع دفع شبهة التشبيه، وثمن النسخة منها ثلاثة قروش. *** (جريدة الشورى) في السنة الماضية هنَّأَْنَا جريدة الشورى بدخولها في السنة الرابعة مُوَفَّقَة في خدمتها القومية الوطنية، ولما أتمت هذه السنة ودخلت في السنة الخامسة أقام لها جماعة من حملة الأقلام ومحرري الصحف السياسية والمجلات العلمية حفلة أدبية في الفندق الأهلي (ناشونال) دعوا إليه جمهورًا من العلماء والكتاب ومحرري الجرائد فاجتمعوا على مائدة الشاي والحلوى يتبارون في الخطب المؤثرة وينشدون القصائد البليغة في إطراء جريدة الشورى في خدمتها الصادقة، وما كان لها من التأثير العظيم في أنفس دول الاستعمار القاهرة لأمتهم أمة صاحب الشورى العربية ولوطنه الفلسطيني السوري حتى إن كلا من دولتي إنكلترة وفرنسة قد منعت دخول الشورى إلى كل بلد لهم عليه سلطان، وهذا مما يهنأ به زميلنا الفاضل المخلص محمد علي أفندي الطاهر بما يُحْمَد به ويعلي من قدره ويعد أبلغ تقريظ لصحيفته. كما نهنئه باحتفال إخوانه من الكتاب ببلوغ جريدته السنة الخامسة وهو ما لم يسبق مثله لغيره فيما نعلم، وكما نهنئه باشتراك الأقطار العربية في هذا الاحتفال النادر بجريدته، وجاءت البرقيات والرسائل من أشهر الكتاب وكبار رجالات العرب له وللجنة مهنئين حامدين مثنين، وفي مقدمتهم نصيرها أمير الكُتَّاب والأدباء والسياسيين مُدْرِه العرب الأمير شكيب أرسلان. ولكن علمنا أن أكثر قراء جريدته حتى في وطنه لم يقوموا له بحقها المالي عليهم، وهو أداء الاشتراك السنوي، وكان أقل ما يجب عليهم أن يؤدوا هذا الحق تامًّا في أول كل سنة، وأن يزيد أغنياؤهم عليه استمرار الأداء بعد منع الجريدة من دخول البلاد، وأن يشتركوا بنسخ كثيرة منها يجعلونها هدايا لمن يثقل عليهم الاشتراك في الصحف من فقراء طلاب العلم وغيرهم، بل أقول: إنه كان يجب عليهم وجوبًا قوميًّا وطنيًّا سياسيًّا أن يتبرعوا له بنفقة المجلة أو بشراء مطبعة لها، فإن أكثرهم يعلمون أنه كان يرتزق من التجارة، وقد تركها لهذه الخدمة الوطنية التي لا تسمن ولا تغني من جوع لمن وقف مثل موقفه السياسي وترفَّع عن الطعن أو التملق للأغنياء المجرمين الذين لا يبذلون المال إلا لفداء أعراضهم أو قضاء أغراضهم، فعسى أن يتذكر هذا أهل النجدة والمروءة منهم {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الإيمان بملك الموت دون اسم عزرائيل س51 من صاحب الإمضاء الإمام المرشد في جزيرة (سمبس برنيو - جاوه) بسم الله الرحمن الرحيم حضرة مولاي الأستاذ المصلح العظيم محمد رشيد رضا صاحب المنار، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فقد قرأت في الجزء الأول من مجلد المنار التاسع والعشرين الأسئلة من أحاديث الصحيحين وأجوبة المنار عنها، منها السؤال عن حديث الذباب الذي تكلم عليه الدكتور محمد توفيق صدقي كما نقله السائل وجواب المنار عنه، وبسببه زعم أنه كافر - إذا كان مثل هذا الحديث كفر به من لم يأخذ به كالدكتور صدقي، فماذا يقول الأستاذ الأكبر في قوله: ونحن إذا سمعنا قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) لا يتعين عندنا أن نفهم منها ما يفهمون، فعزرائيل لم يرد ذكر اسمه في القرآن ولا في سنة صحيحة، وإنما هو اسم مشهور عند اليهود كانوا يسمون به بعض الناس، وله عندهم عدة صيغ أخرى ولذلك لا نؤمن بوجوده اهـ نقلا من المنار من المجلد 18. وإني أرى أن عدم إيمان الدكتور بوجود عزرائيل أشد تأثيرًا في سوء الظن باعتقاده وإيمانه خصوصًا عند الناس الذين يقل عندهم علوم الدين من عدم أخذه بحديث الذباب وعدم العمل به، وفي كتاب كلمة التوحيد للأستاذ العلامة الشيخ حسين والي ما نصه: والذي يجب معرفته تفصيلا جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ورضوان ومالك ورقيب وعتيد فيكفر منكر أحدهم دون غيره، هكذا قالوا اهـ. وعليه فمن تمسك بهذا القول فلا يخاف أن يكفِّر محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى لإنكاره وجود عزرائيل الذي اعتقده المسلمون، وإن كان في المسألة خلاف يفهم من صيغة التبري التي أتى بها الأستاذ، أما أنا فإني أعتقد أن الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى من أخلص المسلمين إسلامًا، ومن أقوى المؤمنين إيمانًا؛ لما رأيته من مقالاته الدينية (الإسلامية) التي نشرها في المنار وبعض دروسه الصحية التي ألقاها رحمه الله تعالى في مدرسة دار الدعوة والإرشاد بمصر وكنت يومئذ من تلامذتها، هذا والمرجو من فضل مولاي الأستاذ أن يبين لنا وللناس أجمعين هذه المسألة بيانًا شافيًا كعادته الحسنة ودأبه الجميل، وأسأله تعالى أن يثيبه الثواب الجزيل. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران (ج) الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان فيجب الإيمان بهم إجمالاً، وبمن وردت النصوص بأسمائهم أو صفاتهم تفصيلاً، ومنهم ملك الموت إذا كانت النصوص قطعية الرواية والدلالة، وأما تسمية ملك الموت بعزرائيل وما أوهمه كلام بعضهم من وجوب الإيمان بهذا الاسم له فغير صحيح فإن اسم عزرائيل لم يرد في القرآن كاسم جبريل وميكال وهو ميكائيل ومالك، ولا في الأحاديث الصحيحة المرفوعة كاسم إسرافيل، وأنا الذي أخبرت الدكتور صدقي بهذا إذ سألني عنه، وقد أشار إلى هذا صديقنا الأستاذ الشيخ حسين والي بقوله: هكذا قالوا كما فهم السائل، ولا أذكر أنني رأيت اسم عزرائيل في شيء من دواوين السنة ولا في تفسير غريبها إلا في أثر رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ في كتاب العظمة لا يُحْتَجُّ به ولا يثبت بمثله فرع في أحكام الطهارة والنجاسة، فهل تثبت به عقيدة يكفر منكرها؟ وذكر الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (السجدة: 11) أنه جاء في بعض الآثار أن اسم ملك الموت عزرائيل، فهل يعني هذا الأثر أو غيره؟ الله أعلم، والدكتور صدقي إنما أنكر اسم عزرائيل ولم ينكر ملك الموت، ولكن كان له رأي شاذ في فهم بعض أصناف الملائكة قد أنكرناه عليه عند ذكره في المقالة التي أشار إليها السائل، وأرجو أن يكون قد رجع عنه كما رجع عن كثير من آرائه التي أنكرتها عليه بالحجة والبرهان، ومن كفَّره بإنكاره صحة حديث الذباب للإشكال في معناه فهو جاهل بأصول الإيمان، ويا ليت له مثل علمه وعمله بالإسلام، وهو لم ينفرد بهذا فقد رد كثير من العلماء بعض ما صح سنده لما دون هذا الإشكال في متنه. وجملة القول أنه لا يجب على مسلم أن يؤمن بأن ملك الموت يسمى عزرائيل ولا إثم على مؤمن ينكر هذا الاسم بل الأصل في مثله أن يتوقف فيه إلى أن يثبت بنقل صحيح عن المعصوم وهذا ما لم نقف عليه، ولا أن يؤمن بأن لله ملكين اسم أحدهما رقيب واسم الآخر عتيد، وإنما ورد هذان اللفظان في سورة ق صفتين لا اسمين، والخوف على دين من يوجب على الناس الإيمان بما لم يوجبه الله عليهم بنص قطعي أقوى من الخوف على دين من أنكر ذلك؛ لأنه الموجب بدون علم قد نصب نفسه منصب التشريع وافترى على الله، فكيف إذا كفر من ينكر ما لم يثبت بدليل ظني؟ فما كل ما وجب الإيمان به يكفر منكره بل منه ما يعذر جاهله والمتأول له. *** أهم ما يجب على مسلمي الأعاجم من اللغة العربية س (52 و53) ومنه أيضًا: بسم الله الرحمن الرحيم حضرة مولاي الأستاذ المصلح العظيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء أدام الله النفع بعلومه آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فالمرجو من فضلكم الجواب عن الأسئلة الآتية: قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى في رسالته في أصول الفقه ما نصه: فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده حتى يشهد به أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله ويتلو به كتاب الله تعالى ويتعلق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير وأُمِرَ به من التسبيح والتشهد وغير ذلك، وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته، وأنزل به آخر كتبه كان خيرًا له، كما عليه أن يتعلم الصلاة والذكر فيها ويأتي البيت وما أمر بإتيانه ويتوجه لما وُجِّهَ له ويكون تبعًا فيما افترض عليه وندب إليه لا متبوعًا اهـ ص9. 1- فعلى قوله رحمه الله تعالى ما تقولون في الأعاجم الذين لا يعرفون شيئًا من لسان العرب الذي هو لسان دينهم، والذي نزل به كتاب الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى معنى كلمتي الشهادة لم يعرفوه، ولا تجد في كل بلد من بلاد جاوة من يعرف اللغة العربية إلا قليلاً جدًّا، وإني لا أظن أنه يوجد في الألف أو الألوف واحد يعرفها ولو معرفة قليلة، وإنهم يقرءون القرآن وغيره من الذكر والدعاء بغير فهم، فهل أثموا بترك تعلمها أم لا؟ 2- إذا كان في ترجمة القرآن مفاسد ومضار تقتضي عدم جواز ترجمته كله كما قررتم في المنار والتفسير، فهل يجوز ترجمة بعضه بمثل اللغة الملاوية أم لا؟ فإني رأيت بعض الآيات يمكن ترجمته بالملاوية وتؤدي معناه الأصلي، وأكثرها يتعسر ترجمته بل تتعذر إلا بتكلف، فإن لغتنا لا تؤدي معنى القرآن حرفًا بحرف كلمة بكلمة إلا في النَّزْر اليسير منه، ومع ذلك يستحيل أن تكون الترجمة مؤثرة في القلوب تأثير الأصل، فإن أسلوب اللغة العربية ليس كأسلوب سائر اللغات فكيف أسلوب القرآن العربي المبين الذي هو أعلى الكلام فصاحة وبلاغة، المنزل على أفصح العرب والعجم محمد صلى الله عليه وسلم، وإن لم تجز ترجمة شيء منه فكيف السبيل إلى إفهام الناس الذين لا يعرفون اللغة العربية كلام الله تعالى كالفاتحة، أو إقامة الحجة بآية أو آيات من القرآن على من لم يعرف اللغة العربية على مسألة من المسائل الدينية أو غيرها؟ وهل يبين لهم تفسيره فقط أو يترجم هو وتفسيره؟ هذا وتفضلوا بالجواب ولكم جزيل الشكر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران (ج) قد بيَّنا كل ما يتعلق بهذه المسألة في فتاوى المنار ثم فصَّلناه تفصيلاً في التحقيق الذي نشرناه في الجزء التاسع من التفسير بما يغني عن إعادته هنا، ولكننا نوجز فيما يتعلق بهذا الاستفتاء فنقول: إن مسلمي الأعاجم يأثمون إلا لم يتعلموا من اللغة العربية ما لا بد منه لإقامة دينهم ومن أهمه الفاتحة وأذكار الصلاة، والترجمة الحرفية لا تفي بفهم ذلك ولا يتحقق بها ما فرضه الله تعالى من تدبر القرآن، بل لا بد من تفسير ذلك تفسيرًا يعرف به المراد منه كتفسير ملخص معاني الفاتحة الذي بيَّناه في تفسيرها من جزء التفسير الأول مبينين به ما يطلب من المصلي تدبره عند قراءتها (ص 103ج1) وكذلك يفسر لمتعلم دينه منهم أذكار الصلاة كالتكبير والتسبيح والتشهد والصلاة والدعاء بعده وبعض السور القصيرة التي تقرأ بعد الفاتحة والأدعية المأثورة بعد الصلاة وهي مستحبة لا واجبة، ومن أراد الحج تُفَسَّر له ألفاظ التلبية بعد حفظها، وغير ذلك كما نص عليه الإمام الشافعي رضي الله عنه. وإننا نرى الذين يقتصرون في التفسير على المعاني الحرفية أو الاصطلاحية من الأذكار والآيات من العارفين بالعربية ومن العلماء المؤلفين أيضًا يخطئون في بيان ذلك حتى كثر الخطأ في تفسير كلمة التوحيد التي هي أساس الإسلام وعنوانه ومدخله وفي معنى لفظ التوحيد الشرعي أيضًا، فهذا الشيخ محسن العاملي الشيعي يفسر التوحيد الذي هو الأصل الأول من أصول الإسلام بقوله: هو الاعتراف بوجود الخالق وأنه واحد لا شريك له (كما ترى في كتابه الدر الثمين فيما يجب معرفته على المسلمين) ، وهو تفسير قاصر ناقص لا ينفي جميع أنواع الشرك ولا سيما عبادة غير الله تعالى بالدعاء لجلب النفع ودفع الضر من غير طريق الأسباب العامة، وهو الشرك الأعظم الذي كان فاشيًا في أقوام الرسل من نوح إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم فقد كان أولئك المشركون أو أكثرهم يعترفون بوجود الخالق سبحانه وبأنه واحد لا شريك له في الخلق والتقدير، ولكنهم كانوا يتقربون إليه بدعاء غيره من الملائكة والصالحين، وبما يذكر بالموتى منهم من تماثيلهم وقبورهم، وبغير ذلك مما هو منصوص في القرآن العظيم والآثار والتاريخ، وهذا الرافضي وأمثاله يبيحون عبادة أئمة أهل البيت وغيرهم بالدعاء والتضرع وغيره كما صرَّح به في كتابه كشف الارتياب، ولكنه لا يسمي ذلك عبادة، وقد فصَّلنا هذا من قبل مرارًا فلا نعيده، ولا عجب في جهل مثل هذا الرافضي وأخطائه وهو مقلد لقومه حتى في عقيدته فالإمام الرازي قد أخطأ؛ إذ ظن أن معنى الرب الخالق والإله المعبود واحد كما بيَّناه في التفسير (ص111ج9) فلا بد من تفسير الشهادتين وغيرهما للأعاجم بما يبين المعنى أتم التبيين. *** احتفال المولد بدعة وحكم حضوره والامتناع منه س54 من صاحب الإمضاء في (بتاوي - جاوه) . إلى حضرة صاحب الفضيلة العلامة الإمام ومرجع العلماء الأعلام السيد محمد رشيد رضا حفظه الله آمين. سلامًا واحترامًا، وبعد أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه على صفحات المنار المنير، ولكم الفضل علينا والثواب من الله، وهو: هل يجوز للإنسان حضور حفل مولد النبي صلى الله عليه وسلم؟ وإذا لم يحضر هل يُعَدُّ كفرًا؟ ومن لم يقم أثناء قراءة المولد أي عند سماع قول: (مرحبًا بالنبي إلخ) هل يعد كافرًا أيضًا؟ لأن العلويين في جاوه عندنا يعقدون كل سنة حفلات كثيرة وفي أماكن متعددة، وأوقات مخصوصة، يذبحون لها الذبائح وتشد لها الرحال من أماكن بعيدة، ويلقنون الناس في أثناء الحفلات أن من لم يحضر المولد ومن لم يقم عند سماعه (مرحبًا) إلخ فهو كافر، وإذا سأله سائل هل هذا أمر من الله ورسوله؟ أجابوه بقولهم: أنت كافر، اسكت، لا تنازعنا في هذا؛ لأنا أح

مقدمة رسائل السنة والشيعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة رسائل السنة والشيعة بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) ، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (الروم: 30-32) . بَرَّأَ اللهُ ورسولَه محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا ونهى عباده المؤمنين من هذه الأمة المحمدية وحذَّرهم أن يكونوا من المشركين الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا، ولكن التفرق في الدين إلى الشيع والأحزاب كالتفرق في السياسة سنة من سنن الاجتماع تابعة لدأبهم في الاتباع والابتداع. *** تاريخ التشيع ومذاهب الشيعة كان التشيع للخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه مبدأ تفرق هذه الأمة المحمدية في دينها وفي سياستها، وكان مبتدع أصوله يهودي اسمه عبد الله بن سبأ أظهر الإسلام خداعًا للمسلمين ودعا إلى الغلو في علي كرَّم الله وجه لأجل تفريق هذه الأمة وإفساد دينها ودنياها عليها كما فعل أمثاله في النصرانية قديمًا وحديثًا، وسبب ذلك ما كان من العداوة والقتال بين قومه اليهود وبين النبي صلوات الله وسلامه عليه وكانوا هم المعتدين فيه، وقد انتهى ذلك بنصر الله تعالى لرسوله عليهم وإخراجهم من جواره في مدينته ودار هجرته، ثم أجلى عمر بن الخطاب الخليفة الثاني بعده من بقي منهم في أرض الحجاز. ابتدع هذا اليهودي بدعته، وأعانه عليها آخرون من أهل ملته، أظهروا الإسلام نفاقًا ليقبل المسلمون أقوالهم الخادعة، ومنها وضع الأحاديث وغش رواة التفسير بالخرافات الإسرائيلية وغير ذلك. بيد أن العداوة بين المسلمين واليهود لم تطل عليها الأمد؛ لأن اليهود كانوا مظلومين مُضطهدين في وطنهم القديم في البلاد المقدسة وما جاورها، وفي البلاد التي تفرقوا فيها، فلما فتح المسلمون الأمصار في الشرق والغرب رفعوا عنهم الظلم الذي أرهقهم من نصارى الروم والقوط وعاملوهم بالعدل والرحمة كالمسلمين وغيرهم فكفوا عن الكيد لهم وفضلوا سلطانهم على كل سلطان. ولكن بدعة التشيع كانت قد سرت وانتشرت في المسلمين بالدعاية السرية، وكانت أقوى الأسباب في العداوة السياسية بين كبراء الصحابة رضي الله عنهم بما كان مما يسمى في عرف هذا العصر بسوء التفاهم وحسن النية، ومن راجع أخبار واقعة الجمل في تاريخ ابن الأثير مثلاً يرى مبلغ تأثير إفساد السبئيين لذات البَيْن، وحَيْلُولَتهم بالمكر والفساد دون ما كاد يقع من الصلح [1] . لولا أن خلف زنادقة الفرس هؤلاء السبئيين، في إدارة دعاية التفريق بين المسلمين، بالتشيع والغلو في علي وأولاده وأحفاده الطاهرين رضي الله عنهم لزال خطرها بعد ترك اليهود لزعامتها السرية، ولكن الخليفتين الجليلين أبا بكر وعمر رضي الله عنه حاربا الفرس وتم للثاني فتح جُلّ بلادهم وثَلُّ عرش كسرى والقضاء على ديانتهم المجوسية، فأحفظ ذلك قلوب أمرائهم وزعمائهم من رجال الدين والدنيا، وليس لذي العجز عن الثأر بالقوة الحربية إلا المكايد السرية، فتولى مهرة رجال الفرس أمرها وكانوا أجدر بها وأهلها، فمنهم من تولى السعي لإفساد دين العرب الذي انتصروا بتعاليمه وجمعه لكلمتهم على الفرس وغيرهم، ومنهم من تولى السعي للإفساد السياسي بتحويل الخلافة إلى العلويين، ولما لم يجدوا منهم لزهدهم في الدنيا من يواتيهم على كل عمل ولو غير مشروع في الدين حولوها إلى العباسيين، ثم صاروا يكيدون للعباسيين بما كان أغرب طرقهم فيه ما قام به البرامكة من جعل جميع إدارة ملك الرشيد الواسع وسياستهم في أيديهم، حتى تنبَّه لذلك فبطش بطشته الكبرى بهم، وكانوا قد ملكوا عليه سويداء قلبه، مع قبضهم على أزمة ملكه، وكان أذكى من فطن لدسائس البرامكة وإلحاد الشيعة الباطنية ووقف على كثير من دقائقه العلامة المحقق القاضي أبو بكر بن العربي الأندلسي كما نوَّه به في رحلته وفي كتاب العواصم والقواصم، ويليه حكيم الإسلام ابن خلدون فقد أشار إليه في مقدمة تاريخه. كان من تعليم غلاة الشيعة بدعة عصمة الأئمة الذين استخدموا أسماءهم وشهرتهم لترويج سياستهم، وبدعة تحريف القرآن والنقص منه بفريتهم ثم البدع المتعلقة بالقائم المنتظر محمد المهدي وكونه هو الذي يظهر القرآن التام الصحيح الذي يزعمون أن عليًّا كتبه بيده بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفتحهم أبواب التأويلات لنصوصه بما لا يتفق مع شيء من قواعد اللغة، فكان قدوة سيئة لجميع المبتدعة، دع قول بعضهم بألوهية بعض أئمة أهل البيت الموروثة عند الإسماعيلية وغير الموروثة عند غيرهم من الباطنية، ثم دع كون غايتهم بعد الوصول إلى آخر درجات الدعوة الكفر الصريح كما تراه مبسوطًا في خطط المقريزي وغيره. وأهم ما يجب بيانه في هذه المقدمة أنه كان بين من أطلق عليهم لَقَبُ الشيعة أو وَصْفُ التشيع على اختلاف تعاليمهم وعقائدهم الظاهرة والباطنة أناس من أهل السنة والجماعة وكانوا يرون أن عليًّا رضي الله عنه أحق بالخلافة من غيره، ومنهم من يرى أنه أفضل من سائر الصحابة أو يفضله على من دون الشيخين، ويرون أنه أحق بالخلافة من عثمان لا من أبي بكر وعمر، ولكن لم يقل أحد من هؤلاء ببطلان خلافة الثلاثة، وكان عدد هؤلاء قليلاً من السلف والخلف، ولكن السواد الأعظم من أهل السنة سلفهم وخلفهم يعتقدون أن معاوية كان باغيًا على الإمام الحق أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه، وإن قدر بدهائه وسياسته على تأليف قوة عظيمة له، ولكن الجمهور تأولوا له بأنه كان مجتهدًا أخطأ في اجتهاده. والغرض من ذكر هذا أن اسم الشيعة كان يطلق على بعض أهل السنة والجماعة وعلى كثير من المبتدعة الذين حافظوا على أركان الإسلام الخمسة، وعلى فرق زنادقة الباطنية حتى إن بعض كبراء علماء الإمامية حاول جعل فرقة الشيعة 73 فرقة وفسر بذلك الحديث الذي ورد بافتراق هذه الأمة إليها ليخرج أهل السنة والجماعة التي هي السواد الأعظم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد انقسم الشيعة الذين يحافظون على أركان الإسلام إلى غلاة أطلق عليهم اسم الرافضة، وإلى معتدلين وهو الذي خص أكثرهم باسم الزيدية لاتباعهم للإمام زيد بن علي رضي الله عنه الذي أبى على الغلاة البراءة من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فرفضوه ويوجد معتدلون في غيرهم أيضًا. ومن الغريب أن يشتبه أمر زنادقة الباطنية على كثير من مسلمي الشيعة حتى أهل العلم والذكاء منهم كالشريف الراضي المشهور باعتداله في شيعيته الذي قال: ألبس الذل في ديار الأعادي ... وبمصر الخليفة العلوي من أبوه أبي ومولاه مولاي ... إذا ضامني البعيد القصيّ لف عرقي بعرقه سيد الناس ... جميعًا محمد وعلي إن ذلي بذلك الجو عز ... وأوامي بذلك النقع ريّ فالمراد بالأعادي عنده الخلفاء العباسيون أبناء عمومته وكان الخليفة العباسي يعامله معاملة الأقران حتى إنه كان يفتخر عليه مخاطبًا له بمثل الأبيات التي أنشدها الخليفة القادر بالله في آخر قصيدة يمدحه بها: مهلاً أمير المؤمنين فإننا ... في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت ... أبدًا كلانا في المفاخر معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني ... أنا عاطل منها وأنت مطوّق فلهذا الاختلاط ترى في تراجم المحدثين والعلماء والأدباء والشعراء أسماء رجال كثيرين وصفوا بالتشيع؛ إذ كان هذا الوصف يطلق كثيرًا على من عرفوا بالمبالغة في حب آل البيت النبوي عليهم السلام ومدحهم وذم الظالمين لهم، وإن لم يكن أحد منهم على مذهب أحد من الشيعة المعتدلين كالزيدية ولا روافض الإمامية، فضلاً عن كونهم من زنادقة الباطنية، بل منهم المجتهد المستقل والمنسوب لأحد مذاهب أهل السنة. والشيعة الإمامية منهم معتدلون قريبون من الزيدية، ومنهم غلاة قريبون من الباطنية، وهم الذين لقحوا ببعض تعاليمهم الإلحادية، كالقول بتحريف القرآن وكتمان بعض آياته، وأغربها في زعمهم سورة خاصة بأهل البيت يتناقلونها بينهم حتى كتب إلينا سائح سني مرة أنه سمع بعض خطبائهم في بلد من بلاد إيران يقرؤها يوم الجمعة على المنبر وقد نقلها عنهم بعض دعاة النصرانية (المبشرين) . فهؤلاء الإمامية الاثني عشرية ويلقبون بالجعفرية درجات، وينقسم جمهورهم إلى أصوليين وإخباريين، فالأصوليون هم الذين يعرضون ما يروى من أخبار الأئمة على أصول وضعها المتقدمون فينقلون منها ما وافقها ويردون ما خالفها، والإخباريون هم الذين يتلقون جميع تلك الأخبار بالقبول، وإن خالفت المعقول، وما عند أهل السنة والجماعة من المنقول، وهدمت الفروع مع الأصول، وحدث في المتأخرين منهم مذاهب أخرى كالكشفية، ولهم في الدين فلسفة غريبة، ويرد عليهم الشهاب الآلوسي في تفسيره (روح المعاني) . ولهذا الاستعداد في الإمامية للغلو وقرب الكثيرين منهم من زندقة الباطنية ظهرت منهم وراجت فيهم بدعة البابية ثم البهائية الذين يقولون بألوهية البهاء ونسخه لدين الإسلام وإبطاله لجميع مذاهبه. وقد نقل الإمام (المقبلي) في العلم الشامخ عن بعض العلماء أنه قال: ائتني بزيدي صغير أُخْرِج لك منه رافضيًّا كبيرًا، وائتني برافضي صغير أخرج لك منه زنديقًا كبيرًا، قال: يريد أن مذهب الزيدية يجر إلى الرفض، والرفض يجر إلى الزندقة اهـ , والمقبلي سلم هذا في أفراد من الزيدية رد عليهم لا في جملتهم. *** سعينا للتأليف بين أهل السنة والشيعة كان من قواعد الإصلاح التي وضعها حكيم الإسلام في هذا العصر وموقظ الشرق السيد جمال الدين الأفغاني رحمه الله تعالى وجوب السعي لجميع المسلمين والتأليف بين فِرَقهم التي يجمعها الإيمان بالقرآن المجيد المعصوم ورسالة محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، والاستعانة على ذلك بالسياسة التي كانت السبب الأول لهذا التفرق الذي ألبس بعد ذلك لباس الدين، ولكن كما يلبس الفرو مقلوبًا [2] فكانت سبب ضعف جميع الفرق، ومن أهم أسباب ضعفهم وسلب الأجانب لملكهم. ولا أعرف أحدًا عُني بعد السيد المصلح رحمه الله بهذا السعي كما عُنِيَ به هذا العاجز (منشئ المنار) في أسفاره ومقامه في هذه البلاد الحرة أدام الله عمرانها، وأتم لها استقلالها، وفي المنار كثير من الدلائل والشواهد على هذا، منها تقريظ له من أحد علماء الشيعة الفضلاء في سورية نشر في الجزء الثاني من مجلده السابع الذي صدر في 16المحرم سنة 1322 ص 66 - 68 كتم اسمه في ذلك الوقت لتشديد الدولة في منع المنار من بلادها وعقاب من يوجد عنده، ومما قال في المنار: *** أقوال العلماء الشيعة وساستهم في المنار وصاحبه حسنة هذه الأيام، ونتيجة سعد هذا الدور (منار الإسلام) بل الساطع في كافة الأنام، والماحي بلألائه حنادس الظلام، ولا بدع إذا انبثق من فرع زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم يمسسه نار، وغصن شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء، ومن طابت أرومته، وزكت جرثومته فهو الجدير ب

كتاب العالم الإسلامي في الأملاك الفرنسوية

الكاتب: شكيب أرسلان

_ كتاب العالم الإسلامي في الأملاك الفرنسوية تحت هذا العنوان قد ظهر مؤخرًا كتاب جدير بالمطالعة، حقيق بأن يتنبه له المسلمون المفكرون؛ لا لأنه من الكتب التي تَذُبُّ عن حقائقهم وتناشد الأمم الأوربية إنصافهم؛ بل لأنه بالعكس من ذلك يتضمن من السموم بحق الإسلام والمسلمين ما ندر أن عثرت به في كتاب آخر مع أني طالعت في هذا الباب ما يفوق الإحصاء. يمتاز هذا الكتاب عن غيره بأنه يضع هذه السموم في قالب غير خشن وكثيرًا ما يريد إنصاف الإسلام في توافه الأمور، ويمتدح من أوضاعه ما ليس في الاعتراف به كبير جدًّا، حتى إذا وصل البحث إلى المسائل الأساسية أظهر المؤلف كل ما في قلبه من العدوان وذهب في التحامل أبعد المذاهب، وقد أخطرت ببالي خطته هذه نكتة وقعت عندنا في جبل لبنان وهي: أن بقالاً شكا إلى مدير إحدى النواحي أحد الأهالي الذين يبتاعون من دكانه أنه أصبح مديونًا له بمبلغ غير قليل، وأنه يلويه بدينه، وقد طالبه به مرارًا ولا يزال يماطله، فاستدعى المدير ذلك الرجل المديون وسأله عن سبب ليانه بدين البقال فأنكر هذا وقال له: إني حاضر لمحاسبته وستراني دافعًا له كل ما يثبت له في ذمتي، فأمر المدير البقال أن يأتي بدفتره فجاء ومعه دفتره وبدأوا بالحساب أمام المدير، فكان المديون وهو رجل فقير كلما قرئت عليه نبذة من قبيل: بعشر بارات ملح، وبخمس بارات بهار وبعشرين بارة ينسون، يهتف هذا عندي: أو يقول من عيني هذه وعيني هذه أنا لا أفر من الحق، فإذا وصل البقال إلى النفذات المهمة بثلاثين قرشًا طحين، بعشرين قرشًا صابون، بخمسة عشر قرشًا أرزًا إلخ، صاح اذكر الله يا هذا أنا متى اشتريت منك هذا؟ وأخذ يناكر ويجادل، وقد يقسم أنه لا علم له بهذه النفذات، والحاصل أنه لا يعترف إلا بما ثمنه زهيد لا يستحق أن يتكلف البقال مشقة الشكوى والأخذ والرد من أجله. ومن قرأ هذا الكتاب عرف أنه على هذا النمط لا يعترف بفضل الإسلام إلا فيما لا طائل تحته، وأنه يحاول غمط محاسنه الجوهرية. ومؤلفه ضابط فرنسي اسمه جول سيكار Sicarsd jules مترجم أول في الجيش الإفرنسي، وقد أهداه إلي المسيو ستيغ الذي كان المشرف العام على السلطنة المغربية، واستعفي منذ أيام قلائل، وأصل الكتاب عبارة عن دليل اقترحه قائد الجيش الفرنسوي الذي يحتل بلاد الرين من ألمانية لأجل العمل به في إدارة التوابير الفرنسوية التي فيها جنود مغاربة فأنت ترى أنه كتاب رسمي حكومي معتمد على أقواله وآرائه في معاملة العساكر المسلمين الذين في الجيوش الفرنسوية وليس بكتاب راهب ولا قسيس غير مسئول ولا بتأليف مبشر جَوَّابٍ في الأقطار كلما ذكرت تهوره لقومه أجابوك: هذا مبشر موسوس مهوس في أمور الدين ونحن لا نبالي كلام هؤلاء المبشرين. ولقد كنت اطلعت على هذا الكتاب منذ أشهر ولما لم يكن عندي متسع من الوقت للرد على جميع ما فيه من مواضع الاعتداء على الإسلام اكتفيت بوضع علامات على أهمها، ووعدت نفسي بمراجعة هذا العمل في وقت مناسب، ولا أعني أني أصبحت اليوم ذا ندحة كافية من الوقت لإعطاء هذا الرد حقه، ولكني رأيت أنه لا بد من أن ننبه المسلمين إلى ما في هذا السفر الخبيث من الأباطيل المدسوسة على شكل دس السم في الدسم، وسبق أني نبهت إخواننا المغاربة إلى ذلك في رسالة بعثت بها إلى جريدة (وادي مزاب) الصادرة في الجزائر والتي هي من الجرائد الفاضلة وضربت مثلا على تحامل المسيو سيكار هذا بما نقله إلى كتابه عن مؤلف آخر اسمه (ديولافوي) Dieulafoy في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وهو قوله: (كان يستأكله طمع هائج وشوق لاعج إلى التمتع بجميع الخيرات التي يمكن الحصول عليها بواسطة الحظ والقوة ولقد وضع تحت تصرف شهواته قوة عقلية نادرة المثال وثباتًا لا يتزعزع) . فقلت في الرد عليه: لم نعلم ما الخيرات الدنيوية التي قصدها النبي صلى الله عليه وسلم وجاهد من أجلها، وما تلك الشهوات التي استخدم السلطان في سبيلها. الحق أن الرسول عليه السلام لم يكن عنده طمع هائج إلا في نشر كلمة التوحيد، ولا شوق لاعج إلا إلى استئصال عبادة الأوثان وكسر هاتيك الأصنام في جزيرة العرب وغيرها، ولم يقصد من وراء قوته ملكًا ولا إمارة لنفسه كما يعلم كل أحد، ولا بسطة في المال والعقار؛ لأنه عاش فقيرًا ومات فقيرًا، وطالما وجد مديونًا بشيء ليس بذي بال، مع أنه وجد بين صحابته الموسرون الكبار كعثمان وطلحة والزبير وغيرهم ممن كانوا يفدونه بحياتهم فكيف كانوا لا يفدونه بمالهم لو رضي هو بذلك لنفسه، وإنما كان يستجيدهم البذل في تجهيز بعوث المسلمين والمصالح العامة. وأما إنه تزوج بكثير من النساء مما لا يزال يتقعر به بعض الأوربيين فهذه سنة الأنبياء ولقد تزوج أنبياء بني إسرائيل أكثر منه ولا يزالون أنبياء في نظر هؤلاء المنتقدين المصدقين بالتوراة، وأغرب من هذا أن داود مروية عنه في التوراة حادثة (أوريا) وأنه أحب امرأة وقتل لها بعلها وهو برغم هذا معدود من الأنبياء [1] فنبي الإسلام كان يأمر بالزواج والإكثار منه ويكره التبتل وينهى عن الرهبانية ويقول: (تزاوجوا [2] تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة) أو نحو ذلك. وهذه هي القاعدة العصرية بعينها فاليوم الأوربيون مجمعون على أن أحسن الأمم مستقبلاً أكثرها نسلاً فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتهم في هذا الرأي، ولعمري متى كان الزواج حلالاً بل كان من السنن الإلهية التي لا يعمر الكون إلا بها، فما معنى انتقاده من جهة الكثرة؟ وما معنى الافتخار بالتبتل وقطع النسل الذي كان ينبغي أن يعيش ليسبح بحمد الله ويزيد في عمارة الأرض، ولقد ثبت زائدًا إلى ذلك بتقارير الأطباء من الأوربيين بعد الاطلاع على الحوادث الكثيرة من المستشفيات وغيرها أن التبتل يورث أمراضًا كثيرة وأن المتبتلين المخالفين لمقتضى الطبيعة البشرية يضطرون إلى ممارسة أمور يُسْتَغْنَى عن ذكرها بالإشارة إليها من طرف خفي ... وإنها قد تقع مع أشد الناس تدينًا وترهبًا، وإن من هؤلاء من يريد التخلص من أزمة الاتعاظ هذه فيخصي نفسه، فهل على هذه الحالة يأسف دعاة التبتل ومنتقدو الزواج الذي أحله الله أم على الزنا وغيره من الممارسات الشائنة المضرة بالعقل والبدن التي يدعو إليها الاكتفاء بالمرأة الواحدة التي إذا تجاوزت الستين وأحيانًا الخمسين وأصبحت من الكبر بحيث لا يهفو إليها قلب زوجها تعرض زوجها لكبيرة الفاحشة وللتجاوز على حرم الغير. وانتقدوا الرسول صلى الله عليه وسلم من جهة القتل وسفك الدماء ونسبوا إليه القسوة [3] وأخذ بعض المستشرقين يبحثون عن وقائع الإسلام الأولى وغزوات النبي وأصحابه ليستخرجوا منها أدلة على دعواهم، وجواب هذا كالجواب الأول وهو أن النبي قاتل من أجل إبطال الشرك ورحض العقول من عبادة الأحجار والتماثيل من العجين والسجود للشمس والنار ... إلخ، وهذه هي المعرات التي تهوي بالنوع الإنساني إلى الدرك الأسفل، ولم يكن ليستغني عن إرهاف الحد في سبيل التوحيد ولو كان قادرًا أن يستغني عن شهر السيف لكان أحب شيء إليه، ولو أن الوعظ وحده كان جازيًا ما لجأ صلى الله عليه وسلم إلى السيف، هذا إلى أنهم كانوا قد أهانوه وأخرجوه وحاولوا قتله وقتل دعاية التوحيد معه، وهذا أمر قد سبقه إليه موسى عليه السلام، وأنبياء بني إسرئيل ولم يخرجهم ذلك عن كونهم أنبياء حتى في نظر هؤلاء المنتقدين، وكذلك غنم أموال الأعداء واسترقاق بعضهم بعد الغلبة عليهم كان ذلك من أوضاع تلك القرون وكان القتال بدونه متعذرًا، ولقد جاء في التوراة من هذه الوقائع ما هو أعظم من هذا بكثير، ولعمري لماذا لا ينتقدون أعمال أنبياء بني إسرائيل الجارية بأمر الله تعالى ثم لماذا لا ينتقدون كلثين أحد مؤسسي البروتستانتية الذي ثبت أنه أحرق أناسًا بالنار، ثم لماذا لا يفكرون في الغنائم التي تتقاسمها الدول الأوربية اليوم من أموال العدو وأملاكه، وهي ما يطلقون عليه اسم الغرامة الحربية، وهو لا يفترق في شيء عن تلك الغنائم إلا من جهة القلة والكثرة، فالغنائم التي كان يقسمها الرسول على المجاهدين في سبيل الله كانت بعض أباعر وشياه وأوقار من حنطة أو شعير مما لا يقطع شأفة قوم ولا يقسم ظهر أمة، ومما يعتاض منه ويسهل تجديده، ولكن دعاة المدنية الأدعياء اليوم يضربون الغرامات التي تدكدك الجبال فكيف الرجال ويسترقون الأمم لا الأفراد ويضمون كل ذلك إلى خزائنهم لينالوا به السعة والثروة ورفاهية العيش، والرسول صلى الله عليه وسلم لم ينشد في مغازيه كلها ثروة ولا رفاهية معيشة ولا قصد بفتوحاته عزًّا ولا سلطانًا، وإنما كان عزه وسلطانه تلقين شهادة لا إله إلا الله وأينما عرف بصنم في الجاهلية أمر بكسره. فمن هنا تعرف مقدار تحامل (سيكار) و (دولافوي) وأضرابهما على محمد صلى الله عليه وسلم وما يرمونه به مما البراهين ساطعة كالشمس على بطلانه، ولم يكن الرسول قاسي القلب ولا تشدد إلا عندما كان الإسلام في ضعف وفي مقام المقابلة بالمثل، وأما في الحقيقة فلقد كان رءوفًا رحيمًا، وفينا أمينًا برًّا، وعندما أرسل عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل في سرية أقعده بين يديه وعمَّمه بيده، وقال: (اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله ولا تغلّ ولا تغدر ولا تقتل وليدًا) وعندما سار أسامة لغزو الشام قال له أبو بكر ما يلي: (ولا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأةً ولا تعزقوا نخلاً ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيرًا إلا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرَّغوا أنفسهم إلى الصوامع فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له، وإذا قدم لكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه، يا أسامة اصنع ما أمرك به رسول الله ببلاد قضاعة ولا تترك من أمره شيئًا) . فأبو بكر رضي الله عنه إنما كان يلقن أسامة وصايا رسول الله نفسه وهذه الوصايا هي أعلى جدًّا من وصايا الأمم الأوربية (المتمدينة) التي تجيز قتل الأطفال والنساء والعاجزين بالطيارات، وتصب من السماء عليهم القناطير وألوف القناطير من الديناميت بدون تأمل فيما يهلك بها من المخلوقات، التي يأنف الشهم الكريم أن يقذف عليها بحصاة. وأما عدم قطع النخيل، وما شاكله وهو محرَّر أيضًا في الشريعة الإسلامية مع منع هدم البيوت ومنع قتل الأنعام في بلاد العدو ومنع قتل المُدْبِر فقابِلْه بما عمله الأوربيون في الحرب العامة بعضهم ببعض من حرق وقطع وحطم ونسف عمران وخنق بالغاز وغيره. وأما ترك الرهبان يتعبدون في صوامعهم فقابِلْه بما جرى في الحرب العامة من الاعتداء على الرهبان والراهبات وسل الفاتيكان عن الذي حل بالراهبات ... في بلاد لا نريد أن نسميها وأغرب شيء فيه أنه ثبت كون الفاعلين بالراهبات لم يكونوا من جنود الأعداء بل من جنود تلك البلاد نفسها. وبعد هذا لا يستحي سيكار وديولافوي ولامنس اليسوعي وهو من المؤلفين الذين يستشهد بهم صاحب كتاب (العالم الإسلامي في الأملاك الفرنسوية) وكثير من هذه الطبقة من التشنيع بشريعة الإسلام ومحاولة التجريس بمؤسسيها. وإني مضطر إلى الإمساك بعنان القلم عن الخوض في جميع ما خاضوا فيه من المسائل التي تعرضوا فيها لعقيدة الإسلام ولسيرة رجاله إذ كان الأخذ والرد لا بد من أن يج

تطور الاعتقاد بألوهية المسيح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تطور الاعتقاد بألوهية المسيح قد سبق لنا نشر بعض مباحث بعض رجال الكنيسة الإنكليكانية في هذه العقيدة التقليدية، وجزم بعضهم بأن المسيح عليه السلام ما ادعى الألوهية قط، والآن قد جاءنا من بعض قراء الجرائد الإفرنسية اللغة في هذا الموضوع ما يأتي: إن جريدة (جورنال دوجنيف) التي تصدر في جنيف هي من الجرائد المشهورة بالتعصب للمسيحية البروتستانتية حتى لا تُقَاس بها جريدة أخرى في هذا الباب إلا إذا كانت جريدة (غارت دولوزان) وإنما كانت الأولى أعلى مقامًا بين الجرائد. وكلتا هاتين الجريدتين لا تدع فرصة نتحامل فيها على الإسلام إلا توردتها مع هذا ليتأمل القارئ المقالة التي نشرتها جريدة (جورنال دوجنيف) في تاريخ الأحد 27 يناير سنة 1929 الحاضرة تحت عنوان (ألوهية يسوع المسيح) قالت: (إن مشكلة طبيعة المسيح هي قديمة بمقدار قدم المسيحية، فمنذ القرون الأولى للكنيسة ثارت على هذه المسألة المجادلات الكبرى اللاهوتية (أي الكلامية) واختلفت المجامع وأحدثت أعظم الانشقاقات التي عرفتها الكنيسة في صدر النصرانية. ولا تزال هذه المسألة كما كانت منذ عشرين قرنًا شغلاً شاغلاً لأفكار المتدينين، ولا تزال الكنائس كلها كاثوليكية كانت أم بروتستانتية تدين بألوهية المسيح، وتبني على هذه المقدمة جميع علم اللاهوت المسيحي. على أنه إذا كان المسيح إلهًا تكون إذًا المسيحية عابدة إلهين، ولا تكون حينئذ ديانة توحيد، وهذا هو الاعتراض العظيم الذي يوجهه عليها المسلمون، فالاعتقاد بألوهية المسيح يستلزم نظرية عقلية فيما يتعلق بعلاقات الأب والابن، ونرجع حينئذ إلى المجادلات الأولى، فهل يا ترى تقررت هذه النظرية بشكل جازم إلى الأبد بموجب قرارات المجامع؟ الجواب: نعم هكذا تقول الكنيسة الأرثوذكسية، وهل يحكم بذلك البابا بصورة معصومة من الغلط؟ الجواب: هذا هو قول الكنيسة الرومانية. فما مركز البروتستانتية في هذه المسألة الجلى؟ كم هم البروتستانتيون الذين يعلمون هذا جيدًا؟ لا شك أن هذه المسألة قد تلونت وتحولت، وأنه لا يوجد بروتستانتي معتصم بدينه يقدر أن يعطي على هذه المسألة جوابًا قاطعًا غير قابل للتغيير، فالإيمان يستند إلى التوراة وإلى أعمال الرسل والتاريخ، ومقرَّرات المجامع هي عناصر مهمة يتكون منها الإيمان، ولكن الإيمان هو قبل كل شيء مسألة شخصية، ويجب أن يطبق على احتياج الأشخاص أي على احتياج أهل أوربة. فهذا التأليف بين الضرورات المقارنة للحقائق الأبدية والاحتياجات الروحية المتحولة هو من أشد المسائل إشكالاً في اللاهوت البروتستانتي. فالأستاذ أوغست لومتر LEMAITRE AUGUST الذي سيحاضر مساء الأربعاء 30 يناير بدعوة جمعية أصدقاء الفكرة البروتستانتية فيتكلم عن هذه المعضلة المحزنة هو ضد الإفراط في الفكرة العصرية المحتقرة للسلام، كما أنه ضد الجمود السهل والرجوع إلى الصيغ القديمة، فكيفية البحث في جوهر الإله وكيفية فهم كُنْه المسيح كما هو في التاريخ تتحولان بمرور الأعصار، فمن الجائز أن العلاقة بين المسيح والإله لا يقال عنها كلمة جازمة الآن، ولا في وقت من أوقات التاريخ، ويحسن المصير إلى تعديل دساتير الإيمان عصرًا بعد عصر مع مراعاة التقليد تمامًا لكن مع إرادة تامة بتسهيل المناسبات الحقيقية بين هذا التقليد والعصر الحالي. وإن شخصية الأستاذ لومتر الذي يدرس الديانة في معهد اللاهوت كفيلة لسامعي محاضرته بساعة تتجلى فيها الآراء الدينية الصائبة والأفكار العقلية العالية اهـ. مترجمًا بالحرف. والحقيقة أن هذه الجمل المبهمة التي تحاول بها الجريدة والمحاضر المذكور تسهيل الانتقال من طور إلى طور لا يمكنها أن تغير جوهر الموضوع، فالعصر الحاضر أصبح برقيّ العلم وانتشار المعرفة لا يمتزج بوجه من الوجوه مع القول بألوهية المسيح ... وإن كثيرًا من الأوربيين قد نفضوا أيديهم من الدين المسيحي بتاتًا بسبب هذه العقيدة. فكثير من المسيحيين البروتستانتيين يقصدون إلى دعم المسيحية العصرية بالاعتقادات المعقولة خوفًا على الدين المسيحي من الانهيار التام، وقد بدأوا في إنكلترة حتى بين الأساقفة والقسوس يبحثون في إلغاء القول بألوهية سيدنا عيسى عليه السلام، وطالعنا في مجلاتهم الدينية كلامًا صريحًا في ذلك. وهنا الأستاذ لومتر وجريدة جورنال دوجنيف يريدان أن يقولا: إنه إذا كانت بعض الأعصر الغابرة قد تلقت عقيدة تأليه المسيح بالقبول - لعوامل سياسية، وقد كان تقرير هذه العقيدة في المجامع بأكثرية الآراء على حين أن الأكثرية لا شأن لها في أمور عقلية فلسفية كهذه - فالعصر الحالي لا يقدر أن يقبلها ولذلك كان يجب أن يكون لكل عصر مسيح حَرِيٌّ به لائق بدرجة مداركه. ونحن نقول لهما: لولا الملوك والسياسة كانت الأعصر السالفة أخذت بقول آريوس أيضًا، وآمنت بأن المسيح رسول الله كما يعتقد المسلمون. وستتغلب هذه العقيدة في أوربة وأمريكا بالتدريج وتقبلها الكنائس بصورة رسمية. (المنار) وحينئذ يعلم هؤلاء وغيرهم أن القرآن قد بيَّن على لسان محمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم ما خفي على أهل الكتاب من حقيقة دين المسيح، وأصله الذي هو التوحيد وكونه كان نبيًّا رسولاً، وما غشي هذه العقيدة من تحريف وتبديل، وتأويل وتحويل، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (فصلت: 53) . على أن المستقلين في الفهم والمحققين في العلم من رجال الكنائس كلها يعلمون أن ما جاء بالإسلام من تصحيح العقائد المسيحية في التوحيد ونبوة المسيح عليه السلام هو الحق، وأن عقيدة التثليث والعشاء الرباني لا يقبلهما عقل، ولم يتواتر بهما عنه نقل، ولكنهم يخشون أن يصرِّحوا بذلك فتنفصم عُرَى الكنيسة وتنحل كل جامعة نصرانية، ويصير جميع النصارى أحرارًا في اعتقادهم فيدخل الباحثون منهم في الإسلام أفواجًا، وقد نقلنا أصل هذه المسألة عن لاهوتي كاثوليكي كبير في سورية طردته الكنيسة البابوية من رعيتها لحرية رأيه وعلمه في الدين.

المؤتمر النجدي الشوري العام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر النجدي الشوري العام ومثال ديمقراطية الإسلام (ننقل تفصيل هذا النبأ العظيم عن العدد 208 من جريدة (أم القرى) الغراء ثم نُقَفِّي عليه ببيان ما فيه من الفوائد والعبر) قالت الجريدة: عوامل الاجتماع لقد علم القاصي والداني ما كان من نقض العراق لعهودنا واختراقها لحرمة استقلالنا، وامتهانها لمبادئ الحقوق المتبادلة بين الجوار، ونصبها لحبائل الشر بإقامة حصون بصيه والشبكة والسلمان، وعزمها على إتمام ذلك بسلسلة من حصون تطوق بها نجدًا في أراضٍ هي ملك نجد وأهله من قبل ومن بعد، وإنما ظروف قاهرة مجبرة حكمت بالتنازل عن تلك الأراضي بالكره للعراق على أن تبقى مرتعًا للجميع فاتخذتها حكومة العراق قاعدة لحصون ومعاقل تريد بها في الظاهر حفظ الأمن في دارها وفي الباطن والحقيقة ليس لها منها غرض غير جعلها مركزًا لمهاجمة نجد ومنع أهل نجد من ارتياد مراتعهم ومياههم كما نص على ذلك في بنود عهدية صريحة لا تحتمل تأويلاً ولا تضليلاً. غضب لذلك أهل نجد في العام المنصرم غضبتهم، وظهرت بوادر غيظهم ونقمتهم ببضع غزوات قام بها بعضهم واجتمع منهم لغزو العراق كله دفاعًا عن بلادهم الذين ظنوا أن الاعتداء على الآمنين من أهل نجد في عقر دارهم مما يُسَكِّن جأش الغاضبين من نقض العراق لعهده في بناية تلك الحصون، فكان جوابهم أن غلت مراجل القلوب، وانكشف الغطاء عما في الصدور، من أن هذه النفوس العربية المنحدرة من أصلاب الشم الأشاوس، أباة الضيم من العرب الخالدين بمآثرهم وأخلاقهم لن تقر على ضيم، ولن ترضى بالدَّنِيَّة، وأنه لا سبيل إلى صبرها على انتقاص شيء من كرامتها، أو خفر مثال حبة من خردل من ذمتها، فهبت تلك الهبة التي علم الناس بعض أخبارها، ولم يكن من جلالة الملك في تلك الأيام الرهيبة التي عزم فيها أهل نجد على أن يبيعوا الدماء فيها بثمن بخس ويهدروها بغير حساب إلا أن يشد بيديه على تلك النفوس الجامحة فيكبح جماحها ويرد عصيها ويوقف سيلها بعزمه وحزمه، وقد استعمل في ذلك أسلوب الإقناع فوعد الذين طارت حلومهم أنه سيوصل نجدًا إلى حقها بطريق السلم والسكينة، فأطاع الناس أمره، وأمسكوا على أنفسهم يستنجزونه وعده، وينظرون ما تأتي به المفاوضات. ترك جلالة الملك نجدًا تغلي مراجلها ويمم الحجاز حيث وصل إليه المندوب المفوض البريطاني ومستشاروه من موظفي العراق، وكان حوار وأحاديث انتهت بما علم الناس من إصرار الفريق الثاني المفاوض على استبقاء ما بني من قلاع وحصون وزاد في حراجة الموقف أنه والمفاوضون يتفاوضون كانت سيارات من في العراق تجوس خلال الديار النجدية والطيارت تصب العذاب على الآمنين المطمئنين في (لينا) و (جالها) وما والاها من ديارنا النجدية، وكان من جراء إصرار المسئولين في العراق على ذلك الموقف أن أعلن كل من الفريقين المتفاوضين صاحبه أننا وصلنا للفشل من مفاوضتنا، ولم ننجح وانقطع حبل البحث على (لا شيء) . *** النفس العالية إن القلب العظيم الذي يشعر بمسئولية عظيمة أمام ربه ثم أمام ضميره الحي الذي امتلأ شرفًا وشهامة وشجاعة ونبلاً لا يستصغر الموقف الذي وراء انقطاع المفاوضات على ذلك الشكل وبلاده وشعبه ومحارمه موضوعة على كفه ينظر إليها ليحميها والخطر يداهم هذا الحمى، أيوقد النار ويضرب القلوب بالحديد حتى تنال تلك النفوس إحدى الحسنيين، أم يغمض العين على قذى، وذلك ليس من دأبه ولا شيمته؟ النفوس جامحة، والقلوب طائرة، والأهواء متضاربة، والخصم مُصِرٌّ على نكثه ونقضه، أيطلق للجواد العنان؟ وإذا أطلقه أين يصل بالجواد المدى؟ ومن يردي إذا عدا؟ *** كتاب الدعوة إن قوة الإيمان في النفس العالية الكبيرة لتجسم لصاحبها المخاطر وتكثر لديها المحاذير، أما هذا المواقف وأمام هذه المخاطر العظيمة لم ير جلالة ملك الحجاز ونجد، وملحقاتها عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل إلا أن يرى السير محفوفًا بمخاطر لا يريد تحمل مسئوليتها بنفسه، بل رأى أن يكون واحدًا من أفراد شعبه يتحمل من المسئولية ما يتحمله أدناهم؛ لأن خشيته من ربه وخوفه من عقابه لم تحمله على تحمل ما يبصر من مستقبل الحوادث، لذلك لما وصل إلى نجد بعث لكافة أهل نجد بكتاب (يستقيله ببيعتهم ويدعوهم للاجتماع لانتخاب (ولي الأمر) لهم يسير بهم حسبما يُجْمِعُون عليه أمرهم في الخطة التي يرونها، وإن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل واحد من أولئك الجمع من العرب المسلمين يرى في (ولي الأمر أو الإمام) ما تراه الجماعة) . *** تأثير الكتاب صارت النجائب بصور من الكتاب الرهيب شرقًا ومغربًا وجنوبًا وشمالاً، تخبر البادية والحاضرة، حتى جاب النبأ نجدًا بكامله في أقل من شهر فضجت نجد للهول، ولم يكن ما أصابها من سماع ذلك النبأ من ألم وحزن ليوازيه حزن أو ألم لحادث من حوادث الزمان؛ إذ إنهم يعلمون أن الله بعبد العزيز قد أعطاهم كل ما يتمتعون به من استقلال وبلاد وأمن وراحة، وكانوا قبله شيعًا وقبائل يعدو بعضهم على بعض ويتخطفهم الناس من كل مكان، فمهما فقدوا فهم يرجون من الله أن يرده لهم بفضله ثم بسعي عبد العزيز، ولكنهم إن ترك عبد العزيز أمرهم ضاعت ريحهم وفقدوا كل شيء. سمع الناس النبأ فأصابتهم السكرة منه ثم أخذوا يشدون الرحال للرياض وقلوبهم تطير فزعًا، وقدم أكثرهم النجائب أمامه تنهب الأرض نهبًا؛ لتخبر من في الرياض أن النفوس طارت خوفًا وفرقًا لنبأ الأنباء، وإننا قادمون طائعين راجين مستغفرين، ولو أن المجال يتسع لنشر ما ورد من الكتب من جميع أنحاء نجد لرأى الناس حقيقة الروعة التي أصابت النجديين من ذلك الخبر العظيم. لقد حاسب كل من تلقى الدعوة العامة نفسه وحادثها في سره ماذا لعل الإمام نقد عليَّ شيئًا؟ أو تأثر من عمل حتى عزم على ما عزم عليه، أو لعله متألم من أحد، حيرة ودهشة تدع الحليم حيران وكيف لا يحتار الحليم، ولو سمع أهل نجد هذا النبأ في أحلامهم لنهضوا منه فزعين؟ فكيف بهم وهو يسمعونه مستيقظين. سارت نجد إلى سيدها، وكل واحد من رجالها قد وطَّن العزيمة في قلبه أنه إن كان ما أغضب الإمام عمل من أعمالي فإني أستغفر الله وأتوب إليه وإنني طائع مستسلم، وإن كان ما أغضبه عمل قريب أو بعيد فهذه النفوس والأموال والعيلات كلها تفدي دونه، ذلك هو الشعور العام الذي استولى على جميع من وفد إلى الرياض في هذا الاجتماع العظيم. *** قبيل المؤتمر وصل الناس للرياض وفدًا وفدًا، وكان كل وفد حين يقابل الإمام يقص له ما كان للخبر من وقع أليم لديه، وكانت دموع الكثيرين تسبق ألسنتهم، إذ ما كانوا يظنون أن سيسمعوا تخلي إمامهم عنهم، وكان الإمام يطمئنهم بأنه على كل حال نازل على رأي الجماعة في هذا الأمر، وقد بلغ ببعضهم أن أرسل الكتاب معلنًا السمع والطاعة، ولكنه غلظ الأيمان بأنه لا يحضر مجلسًا يذكر فيه خبر تنازل الإمام عن إمامته، ولم يكن سعي المؤتمرين في مجالسهم الخاصة قبيل المؤتمر ليتناول معالجة شيء أهم من هذا الأمر حتى تمكنوا في النتيجة من حمل جلالة الملك على عدوله عن رأيه في هذه القضية، ثم نظرًا لأن موعد اجتماع المؤتمر كان في منتصف ربيع الثاني وتأجل إلى منتصف جمادى الأولى ربما تصل بقية الوفود فقد كان لدى الوفود التي وصلت الرياض متسع في الوقت لدرس المواضيع التي يمكن أن تكون موضوع المناقشة في المؤتمر، وقد عقد لذلك مجالس متعددة خاصة وتبادل أكثر الزعماء الرأي مع جلالته في كثير من الشئون الداخلية والخارجية حتى أصبح هناك رأي عام متحد في مواضيع البحث ونضوج في الأفكار توفر من أوقات المناقشات داخل المؤتمر، ولم يدخل الناس المؤتمر حتى كادوا يكونون مجتمعين على قرار واحد سواء في الأمراء أو العلماء أو الزعماء أو القادة. وإن العربي الناظر لهذه الاجتماعات والسامع لتلك المحاورات لتأخذه أريحية ويخامره سرور لهذا التبادل الذي يراه في التطور الفكري في قلب هذه الجزيرة العربية؛ إذ يرى أن أولئك البُدَاة الحُفَاة الذين لم يكن الرجل منهم يدرك وينظر لأبعد من الوصول لشهواته البدنية من مأكل ونكاح أخذت تبدو عليه علائم الجد والنشاط للبحث والتفكير بحماسة واهتمام في أمور دينية لها علاقة عظيمة بأمور الاجتماع والعمران والسياسة ويناقش كل موضوع بما فطر عليه من ذكاء وفطنة فتسمع كلامًا جميلاً وقولاً سديدًا. *** لغة المؤتمر ومما هو جدير بالذكر قبل رواية ما كان في المؤتمر أن أذكر شيئًا عن اللغة التي كان يتكلم بها المؤتمرون فهي بالضرورة اللغة العربية، ولكني شهدت كثيرًا من المؤتمرات والمجتمعات في حواضر المدن من مصر وسوريا، وفي تلك المؤتمرات خلاصة المتعلمين في تلك الأمصار، ويمكنني أن أقول: ولست بمسرف ولا جانف أن من كانوا يتكلمون في مؤتمر الرياض كانوا أفصح لسانًا وأقوى بيانًا، وإنك لتسمع للفظ العربي الفصيح رنة في الأذن تسترعي السمع أكثر من ذلك اللفظ الذي كان يتداول في مؤتمرات الأمصار في اللفظ العامي الساقط الذي ينبو عنه سمع الأديب الذي مارست حافظته القول العربي الرصين من أقوال العرب الأولين وكان يعجبني من بعضهم؛ إذ كان يرتجل الأسجاع الرصينة التي لا أثر فيها للتكلف ولا يخامر السامع ريب في أنها مرتجلة، ولم تكن أعدت لتقال، وقد يكون ملقيها ممن لم يحسن القراءة والكتابة، وإن آسف في هذا المؤتمر فلأني لم أوفق لأن أنقل أقوال القائلين بألفاظها، ولكني كنت أقيد المعاني وأعد القراء بأني لم أهمل معنى ذكر في ذلك الاجتماع إلا نقلته لهم. *** نظام المؤتمر لقد كان الوافدون يعدون بالألوف، ولذلك كان من المتعذر أن يدعى الجميع للحضور والاشتراك في الكلام فاختير من بين هذه الجموع العلماء والأمراء والرؤساء والقادة فبلغ عددهم الثمانمائة أو يزيدون، وقد عرضت أسماؤهم بقائمة خاصة على جلالة الملك، فأمر بدعوتهم فردًا فردًا، وأخبروا أن موعد الاجتماع سيكون الساعة الثانية من صباح يوم الإثنين الواقع في 22 جمادى الأولى، وقد أعدت غرف انتظار خاصة يجمع كل فريق من المؤتمرين فيها حتى يتكامل عددهم فخصصت غرفة لانتظار العلماء وغرفة أخرى لانتظار أمراء الحاضرة ورؤسائهم وغرفة لانتظار رؤساء الهجر من القبائل، وعُيِّن لكل غرفة من هذه الغرف خدم ومستقبلون يتلقون الوافدين ويجلسونهم في أماكنهم، وقبيل الوقت المضروب بنصف ساعة تقريبًا شرف جلالة الملك مكان المؤتمر وجلس في مجلسه المُعَدّ له وكان حوله أصحاب السمو الأمراء من رجال العائلة المالكة وجلسوا بين يديه يتحدث إليهم ببعض الشئون، ولما لم يبق للموعد غير دقائق معدودات أمر بصاحب الضيوف إبراهيم بن جميعه، فحضر وسأله هل تكامل جميع المدعوين فأخبر بأسماء بعض من تأخر، فأمر بتأخير الاجتماع بضع دقائق حتى وصل الخبر لجلالته باستكمال عدد المجتمعين، فنادى ببعض رجال حاشيته وعين مواقع كل فريق من المؤتمرين فجعل العلماء في الصف الأول عن يمينه وشماله وكان الشيخ عبد الله بن بليهد والشيخ عمر سليم والشيخ العنقري عن يساره، وتبعهم بقية العلماء عن اليمين والشمال، فلما استقر بعلماء المجلس نودي أهل حواضر المدن فجلسوا بعد العلماء عن اليمين والشمال فملأ الجميع محيط الرواق من جوانبه الأربع ثم نودي برؤساء الهجر من قبائل العرب فدخلوا هجرة هجرة وقبيل

اقتراح على علماء التفسير ومدرسيه في الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اقتراح على علماء التفسير ومدرسيه في الأزهر قد نشرنا في ص (280 - 291) من جزء المنار الرابع انتقادًا على تفسير آية من جزء التفسير الثالث مع الجواب عنه، وقد جاءنا في أثناء تحرير هذا الجزء رد من المنتقد على ذلك الجواب مؤلف من 22 ورقة كبيرة يظهر أنه ألفها انتصارًا لنفسه ونقحها من عهد نشر ذلك الجزء من عدة أشهر، إن وقتنا أثمن وأغلى في اعتقادنا من أن يضاع في نقحها من قراءة الجدل والمراء في العبارات والرد عليها، وصفحات المنار أثمن وأغلى عند قرائه من أن تنشر فيه أمثال هذه المناقشات كما صرَّحنا بهذا مرارًا، كان آخرها في الجزء الثامن، لذلك لم نقرأ هذا الرد الطويل؛ بل نظرنا في أوائل الكلام من بعض أوراقه في أثناء وجودنا في خارج مكتبنا لقضاء بعض الحاج، ورأينا فيما قرأنا منه على قلته ما لا يكفي في الرد عليه وتفنيده إلا عدة كراسات أو جزء كامل من المنار، وذلك يقتضي استمرار الجدل والمراء من صاحبه والانتقال منه من مسألة إلى أخرى انتصارًا للنفس وانتقامًا لها. وإذا كان ذلك كذلك رأينا أن نقترح على علماء التفسير ومدرسيه في الأزهر الشريف الذين يطلعون على المنار وتفسيره أن يراجعوا الانتقاد المذكور والرد عليه في الجزء الرابع ويبينوا حكمهم فيهما، فإن حكموا بأن عبارتنا في تفسير تلك الآية نص قطعي في أن قتل الأنبياء قد يكون بحق، وأنها كفر صريح كما زعم المنتقد فإننا نستغفر الله تعالى ونعترف بأننا أخطأنا في التعبير خطأ لا يعدو ضعف التحرير، وإن كان المُنْتَقِد بل المُشَنِّع إن لم نقل المكفِّر لنا أو الحاكم علينا بأننا لا نميز بين الكفر والإيمان - هو المخطئ إما بجهله بمدلولات الكلام وهو أهون الشَّرَّيْنِ، وإما بسوء قصده في انتقاده - فله الخيار فيما يفعل.

الشيخ عبد العزيز شاويش بك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ عبد العزيز شاويش بك وفاته وشيء من ترجمته إن العالم الإسلامي قد خسر اليوم بفقد الشيخ عبد العزيز شاويش رجلاً من أركان حزب الإصلاح المعتدل الذي هو وسط بين المسلمين الجامدين الخرافيين والمسلمين الجغرافيين الملحدين، لا عزاء عن فقده إلا بما رأينا من إكبار الأمة لفقده. يموت في كل يوم كثير من الأغنياء والوجهاء والحكام وأصحاب الألقاب الرسمية فلا ينشر في الصحف شيء من خبر موتهم وتشييع جنائزهم إلا ما يرسل إليها من أوليائهم وأقاربهم، ومنها من تذكر له عملاً نافعًا، وتعد فقده خسارًا بَيِّنًا، ومنها من تصف الاحتفال بجنازته وكثرة من عز من أقاربه، تزلفًا إليهم، أو لمكانة له أو لهم عند من يكتب ذلك، وقد توفي الشيخ عبد العزيز شاويش في منتصف هذا الشهر فكان لخطبه من الهزة والاضطراب في البلاد، ما لم يعهد له نظير إلا في بعض الأفراد، أبَّنَتْه الجرائد على اختلاف سياستها ومشاربها، وأطراه كثير من الكتاب والأدباء، ورثاه كثير من الشعراء، وبكاه كثير من الأفراد والجماعات، وعطف جلالة الملك على أولاده فتبرع لهم بألف جنيه وراتب شهري، وقررت حكومته التبرع لهم بخمسة آلاف جنيه وتعلميهم في المدارس مجانًا؛ لأنهم لا يستحقون عليها شيئًا من راتب والدهم باسم المعاش ولا غيره لحداثة عهده في خدمتها وقصر مدتها، وقلما رأينا مثل هذه العناية بأولاد أحد من مستخدميها حتى من كانوا من أحزاب وزارتها على ما عهد من أكثر وزرائها من محاباة أنصارهم ورجال أحزابهم، وإنما كان رحمه الله من رجال الحزب الوطني المعارض لكل وزارة والمقرَّر لديه عدم التصدي لخدمة حكومة بلاده ما دام للاحتلال الأجنبي نفوذ فيها. لماذا كان لموت هذا الرجل هذا الإكبار الذي حزن قلوب الشعب، وأطلق ألسنته بالرثاء، وبسط يد حكومته بالعطاء؟ إنما كان كذلك؛ لأن من فقدوه كان كبيرًا في نفسه، وإن لم يكن كبيرًا في وظيفته، عاليًا في همته، وإن لم يكن عاليًا في ثروته، وكان يوجه كل ما أوتي من كبر نفس وعلو همة إلى خدمة الأمة والملة بجرأة جنان، وذلافة لسان، وقوة إيمان، وقلم سيال، وهمة لا تعرف الكلال، وقد أوتي جميع المواهب التي يكبر بهما التأثير في أنفس الأفراد والجماعات من حسن صورة وطلاقة وجه، وفصاحة نطق، وجرس صوت، وحسن أداء، وغزارة مادة، وكان خطيبًا مفوَّهًا، وكاتبًا مدرها، وداعية مؤثرًا. جاور في الأزهر وانتقل منه إلى دار العلوم، ومنها إلى كلية أكسفورد في إنكلترة، ولما عاد منها اتصل بشيخنا الأستاذ الإمام، فتلقح ذهنه بأفكاره، واقتبست بصيرته من أنواره، وكنت أنا الذي قدمته إليه وذكرت له ذكاءه وغيرته وطموحه وهمته، وجمعه بين التعليمين الإسلامي والأوربي ... قال: وماذا حذق من العلم في إنكلترا وبأي شُعَبِهِ كان يُعْنَى؟ قلت: إنه عاد حديثًا، ولما نرو في ذلك عنه حديثًا، قال: سله كم سنة مكث في الأزهر، فإن كان أطال فيه المكث، فقد فَقَدَ الاستعداد للعلم، وما أراه حصَّل شيئًا ذا قيمة، فذكرت هذا للشيخ عبد العزيز (رحمهما الله تعالى) فأغرب واستغرب، وذكر أنه لم يمكث في الأزهر طويلاً. عينته الحكومة مساعدًا للتفتيش في نظارة المعارف، ورقاه سعد زغلول باشا في عهد وزارته للمعارف مرة بعد مرة بما يزيد على ما يبيحه له القانون إلا بقرار من مجلس النظار فاستصدر القرار بعد القرار بذلك، ولكن تلك النفس الطموح الجموح أو الوثابة الثائرة كما يقول كتاب العصر قد استصغرت الترقي الاستثنائي واحتقرت كل ما يُرْجَى من ورائه، وكان مَيَّالاً إلى السياسة فاتفق له أن زار مع زميله وصديقه الشيخ محمد مهدي المشهور مصطفى كامل باشا (رحمهم الله تعالى) في إدارة جريدة اللواء، وشاهد ما كان ثَمَّ من إقبال الوجهاء والكبراء، فلما خرجا قال للشيخ مهدي إننا كالموتى مدفونون في نظارة المعارف، ونحن أقدر على خدمة البلاد بالصحف وغيرها، وكان من تأثير تلك الزيارة في نفسه أن أَعْقَبَهَا زيارات انجلت عن استقالة الشيخ شاويش من وزارة المعارف وانتظامه في سلك محرري جريدة اللواء، وكان فيها أشد حماسة في نقد الحكومة المصرية والاحتلال من سائر المحررين، ومن أشهر ما كتبه فيها مقالات في وزارة المعارف ووزيرها سعد باشا زغلول عنوانها: (ما هكذا يا سعد تُورَدُ الإبل) وهو مثل قبله (أوردها سعد وسعد مشتمل) . ههنا أذكر أنني كنت أمدح الشيخ عبد العزيز لسعد باشا بالغيرة الوطنية والإخلاص ليعنى بجعله من رجاله وأنصاره فقال لي مرة: أين ما كنت تصف وتقول في هذا الرجل؟ قلت: إنني أعتقد مع هذا كله أنه مخلص فيه، وأن الإخلاص اضطره إلى ما يسوءك على إحسانك إليه أو ما هذا معناه - فقال ما خلاصته: أنا لا أنكر أن في وزارتي ما ينتقد حتى عندي، وإنما أبذل جهدي، وليس الأمر كله بيدي، ولو لم يقل في الشيخ شاويش إلا ما يعتقده لما كان لي أن أطعن فيما تصف من إخلاصه (ولكنه كذب عليَّ، والكذب والإخلاص ضدان لا يجتمعان) هذا إجمال ما دفع به وزير المعارف عن نفسه يومئذ. إنني لم أذكر هذه الكلمة لسعد كتلك الكلمة التي نقلتها عن الأستاذ الإمام؛ لأنهما مما يؤثر عن أمثال هذين الرجلين العظيمين فقط؛ بل لأستدل به على أن سعد باشا كان يقدر الرجل قدره بعد ما كان من إساءته إليه ولو حقد عليه لما رضي في العهد الأخير بتوظيفه في وزارة المعارف وأمر الحكومة كلها بيده. صار الشيخ شاويش ركنًا من أركان الحزب الوطني وأشد محرر جرائده اللواء فالمعلم فالشعب حماسة في مشربه، ولكنه لم يقف قلمه على السياسة وحدها فيها، بل أنشأ مجلة باسم (الهداية) غرضها الإصلاح الديني كالمنار، وكان ينشر تفسيرًا عصريًّا للقرآن المجيد، ويطرق سائر أبواب الإصلاح الإسلامي المدني، وكان الفرق بين خطتي المجلتين أن إحداهما كانت أشد التزامًا للنصوص والأخرى أشد عناية بالمصلحة. ثم إنه اتصل من طريق الحزب الوطني بجمعية الاتحاد والترقي التركية وتطوع لخدمة الدولة العثمانية تحت لوائها، وقاوم مشروع الدعوة والإرشاد بإغرائها، كما جاهد في مقاومة الحركة العربية التي حدثت تجاه العصبية الطورانية التركية، وبها صرنا على طرفي نقيض، وشرح هذا لا يليق هنا، ثم التقينا في برلين وتصالحنا بسعي صديق الجميع الأمير شكيب أرسلان، وبعد أن عاد إلى مصر نشرت له في المنار تلك المقالة التي كتبها في مفاسد مقاومة الترك الكماليين للدين؛ لأنه رجع فيها إلى رأينا في ملاحدة الترك وعداوتهم للإسلام، وللعرب وقوم خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام. عاد الأستاذ رحمه الله تعالى إلى مصر بعد غربة طويلة قاسى فيها شدائد عظيمة في أثناء الحرب وبعدها متنقلا بين الآستانة وسورية والمدينة المنورة، واشتغل بالتدريس في المدرسة الإصلاحية التي أسسها الاتحاديون في القدس الشريف وهي مدرسة دينية مدنية، كان لهم فيها أغراض سياسية، ثم عاد إلى الآستانة، وتنقل بعد انكسار الدولة في أوربة إلى أن ألقى عصا التسيار في ألمانية فكان يشتغل فيها بإرشاد المصريين من طلاب المدارس ولا سيما المنتمين إلى الحزب الوطني، ولما ظهر سعد باشا بحركته الجديدة في الوفد المصري كان السواد الأعظم من أولئك الطلبة في ألمانية، وكذا في سائر أوربة مشايعين له وضعف نفوذ الفقيد فيهم وقد كان هذا نافعًا له؛ لأنه صرف كل همته إلى المطالعة والاستزادة من العلم فاستفاد كثيرًا؛ ولما عاد إلى مصر بعد ذلك كله عاد باستعداد عظيم لخدمة الأمة بعلمه الواسع واختياره الدقيق، فتصدى للدخول في مجلس النواب المصري بأن رشَّح نفسه للانتخاب في الإسكندرية بمساعدة الحزب الوطني فلم ينجح لمعارضة مرشح الوفد السعدي له، ثم إن الحكومة عينته بعد ذلك رئيسًا لإدارة التعليم الأوليّ في وزارة المعارف فنهض بها نهضة عظيمة، وكان هو المدير الوحيد الضليع بالجمع بين أحدث خطط التعليم النظامي الأوربي مع مراعاة التربية الدينية والعقائد الإسلامية. ولكن طموحه وعلو همته أبى عليه الاكتفاء بهذه الخدمة الجليلة فكنت تراه يساعد الجمعيات الإسلامية المتعددة كجمعيات المواساة الإسلامية ومكارم الأخلاق والشبان المسلمين وكان قد أصيب منذ سنين بضعف في القلب أقعده عن الوصول إلى كل ما يطمح له ويرمي إليه، ويقال: إنه كان مع هذا كله ينوي إعادة إصدار مجلته غير مُبَال بنصح الأطباء له، فانتهى ذلك بقضاء القلب الروحي على القلب الجسدي، وتوفي في وقت اشتدت حاجة أمته فيه إلى خدمته لها في دينها ودنياها فرحمه الله تعالى وأحسن عزاءها فيه وعزاء أهله وولده وحزبه.

المجالس الملية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المجالس الملية لماذا لا نتمتع في بلادنا بعد انتقال السلطان فيها إلى غيرنا بمثل ما متعنا به غيرنا في عهد سلطاننا؟ سمحت الحكومات الإسلامية في بلادها لغير المسلمين بأن يستقلوا بأمورهم الدينية وما يتعلق بها من مصالحهم الملية، ويتصرفوا فيها بحريتهم فكانت إدارة كنائسهم وبِيَعِهم وأديارهم وما لها من الأوقاف الواسعة في أيديهم، وكان رؤساؤهم الدينيون يتولون إقامة عباداتهم وشعائرهم والحكم بينهم في أمورهم الشخصية من زواج ونفقة زوجية وحضانة وإرث وغير ذلك لا تنازعهم الحكومات الإسلامية في شيء منها، ولكنهم إذا تحاكموا إليها في شيء تحكم بينهم بما تحكم بين المسلمين سواء، والأصل في ذلك قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم عندما أراد اليهود أن يتحاكموا إليه: {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) . ولما انتقل الحكم في بعض البلاد الإسلامية إلى الدول الإفرنجية لم يعاملوا المسلمين فيهم بمثل ما كانوا يعاملون به أقوامهم ولا اليهود والنصارى وغيرهم من أهل هذه البلاد، بل وضعوا عليهم سيطرة بعضها ثقيل وبعضها دونه، فهي تختلف باختلاف أشكال تلك الحكومات وصفة الاستيلاء عليها وبحسب درجة أولئك المسلمين في معرفة حقوقهم ومصالحهم وفي تعاونهم واتحادهم على المطالبة بها والقيام بشئونها، حتى إن بعض تلك الحكومات استولت على أوقاف المسلمين كلها في بعض الأقطار، ولم تُبْقِ لهم تصرفًا في شيء منها لا صورة ولا حقيقة، وهي تمد السبيل إلى مثل ذلك في قطر آخر. فهذه الحكومة البريطانية التي هي أدهى الحكومات الاستعمارية وأدقها حكمة وأشدها حرصًا على حسن الصيت والتبجح بعدم التعصب لم تنصف المسلمين في الهند في أوقافهم ولا أحكامهم الشخصية، ولكنها أنصفتهم في فلسطين وحدها بالسماح لهم بإدارة محاكمهم الشرعية وأوقافهم الخيرية وتعليمهم الديني فناطوا ذلك بمجلسهم الملي الذي أسسوه برضاها وسموه (المجلس الإسلامي الأعلى) فقام به قيامًا لا نعلم له نظيرًا في قطر إسلامي آخر، وكان الفضل الأكبر في هذا لرئيس هذا المجلس الحازم الشجاع السيد محمد أمين الحسيني الذي يجدر بفلسطين أن تفتخر به على جيرانها، وحسبه منقبةً ما قام به من جمع المال العظيم لعمارة المسجد الأقصى، ولدينا من العلم بما تفعل الحماية الفرنسية في المغرب الأقصى من التصرف في أوقاف المسملين ومراقبة أمورهم الشرعية والدينية ما يخشى أن تكون عاقبتهم فيه شرًّا من عاقبة مسلمي الجزائر لا تونس فقط! ! *** المجلس الملي الإسلامي في بيروت وقد فكر مسلمو بيروت عقب الاحتلال الأوربي لسورية بعد الحرب الكبرى في إنشاء مجلس ملي؛ إذ كلف وجهاؤهم المرحوم أحمد مختار بك بيهم وغيره بإقناعي بأن أتولى إدارة شئونهم الدينية كلها إما بتفويضهم ذلك إليَّ شخصيًّا، وإما بالاستعانة بمجلس ملي بعد أن اقترحت عليهم هذا المشروع، وذكرت لهم مجلس القبط الملي بمصر، ولكنني اعتذرت عن قبول ذلك، وكان ذلك في أثناء إلمامي بسورية في أواخر سنة 1918 ومما رغَّبَنِي فيه أحمد مختار مع بعض أصدقائه أن المسلمين يتعهدون لي بأداء زكاة أموالهم لأصرفها في مصالحهم بما أراه. ومن الغريب أن بعض رجال فرنسة المحتلة عرض عليَّ وقتئذ من قبل المندوب السامي الأول (جورج بيكو) أن أنقل مركزي من مصر إلى بيروت؛ لأكون زعيمًا للمسلمين فيها، وأنه - أي المندوب السامي- يعدني بأن حكومته تعترف لي بما يراه المسلمون من إمامة وزعامة لهم وتسهل لي عملي في إصلاح شئونهم الدينية والأدبية. ولم تزل أمنية المجلس الملي تجول في أنفس مسلمي بيروت حتى حققها الله في هذه السنة فوضعوا له نظامًا وانتخبوا له أعضاء من خيرة الشبان المعروفين بالغيرة والنشاط فسررنا بذلك جد السرور ويا حبذا لو كان معهم بعض فضلاء الشيوخ وتمنينا لو يتبعهم فيه مسلمو طرابلس وسائر الأمصار، فيؤسسون فيها مجالس ملية كهذا المجلس؛ ثم يؤلفون في سورية وملحقاتها ولبنان بينها، فيجعلون لها مجلسًا كليًّا جامعًا يسمونه المجلس الإسلامي الأعلى للمصالح الملية ترجع إليه المجالس الموضعية في الشئون العامة المشتركة كالتعليم الديني والإدارة العامة للمحاكم الشرعية وما يخص ذلك من ريع الأوقاف مع مراعاة الأحكام الشرعية فيها، وفي شروط الواقفين التي لا تنافي الشرع. وقد اتفق في هذه الأيام أن بعض رجال حكومة لبنان الكبير اقترح عليها سلب المحاكم الشرعية الحكم في قضايا غير المسلمين فسَنَحَتْ للمسلمين فرصة المطالبة بجعل هذه المحاكم تحت إدارة المسلمين ورفع سلطة وزارة الحقانية اللبنانية عنها وجعلها كمحاكم البطركيات لطوائف النصارى التي تحكم بين أبناء كل طائفة في أمورهم الشخصية، فإن حكومة لبنان غير إسلامية وقد راعت السلطة الفرنسية فيما ألحقته بلبنان من البلاد السورية أن يبقى أكثر أهله من النصارى؛ لتكون لهم السلطة العالية، فليس من العدل والمساواة ولا الإنصاف في شيء أن تكون محاكمهم الملية وأوقافهم غير تابعة لإدارة الحكومة التي تعد مسيحية، وتكون محاكم المسلمين وحدها وأوقافها هي التابعة لهذه الحكومة.

التبرع الملكي في مصر لترميم المسجد الأقصى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التبرع الملكي في مصر لترميم المسجد الأقصى زار مصر في هذا الشهر صاحب السماحة الأستاذ المصلح السيد محمد أمين الحسيني مفتي القدس الشريف ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لفلسطين وتشرَّفَ بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم بقصر عابدين فنال من عطفه الملكي ما ملأ قلبه غبطة وأنطق لسانه بالشكر، وقد عرض على مسمعه ترميم المسجد الأقصى وإصلاحه ورفع إلى جلالته رسوم المسجد وقبة الصخرة وفيها ما تم ترميمه، وما بقي وغير ذلك من الرسوم فتفضل جلالته بخمسة آلاف جنيه مصري للمساعدة على الإكمال، فكان لهذا التبرع الملكي أحسن تأثير في قلوب المسلمين عامة ومسلمي فلسطين خاصة، ونوَّهَت بذلك جميع صحف القطرين ناشرة للبرقيات والرسائل الكثيرة في الثناء على مكارم جلالته والدعاء بطول بقائه مؤيدًا للإسلام عامرًا لمساجده ومعاهده الدينية والخيرية والعلمية. وقد زاد في قيمة هذا النَّوَال من ملك مصر في هذا العصر ما يراه المسلمون من بعض ملوك أعاجم المسلمين ورؤساء حكوماتهم من نبذ هداية الإسلام وشريعته وراء ظهورهم وإباحة الارتداد عنه لشعوبهم، بل إكراههم على ترك مقوماته ومشخصاته بالتدريج حتى لغة القرآن والسنة وحروفها العربية المُذَكِّرَة بها. وقد توجهت همة السيد الحسيني إلى استنداء أكُف أمراء البيت العلوي المالك ونبلائهم وغيرهم من أغنياء هذا القطر الإسلامي الذي هو أرقى الأقطار الإسلامية ثروة وحضارة وكرمًا بالتبرع لإحياء هذا المعهد الإسلامي العربي الذي هو أعظم آثار الحضارة العربية وأفخم المعاهد الإسلامية، والمرجو أن يجودوا بما قدر لإتمام العمارة وهو ثلاثون ألف جنيه، وما ذلك على ثروتهم وكرمهم بكثير، وحينئذ نقول: إنهم ما قصروا في التبرع له أولاً، إلا ليكون لهم فضل الإتمام والإكمال آخرًا.

الإلحاد ودعاته في مجلة الرابطة الشرقية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإلحاد ودعاته في مجلة الرابطة الشرقية والأستاذ أحمد أمين راجعني تلميذ لي في عدِّي الأستاذ أحمد أمين من أركان دعاة الإلحاد الذي سقط من قلمي في انتقادي على مجلة الرابطة قائلاً: إنه لم يعرف عنه هذا وليس في مقاله في تلك المجلة شيء صريح فيه، وذكَّرني بأنه هو المتخرج في مدرسة القضاء الشرعي الذي كان قاضيًا شرعيًّا فاعترفت له آسفًا بأنني أخطأت في عده من أركانهم؛ لأنه اشتبه عليَّ بكاتب آخر كتب مقالات إلحادية كثيرة في جريدة السياسة، ولكنني لا أراني مخطئًا في نظم مقالته التي نشرتها له تلك المجلة في سلك سائر مقالاتها التي تؤيد دعاية ما أَعْنِيه بكلمة الإلحاد، على أنني جعلت عنوانها (الدعوة إلى التفرنج) ورأيت من الواجب عليَّ الآن أن أفسر في المنار ما أعنيه بكلمة الإلحاد التي يشتمل عمومها على تلك المقالة، فقد علمت أن بعض الناس يفهمونها مرادفة لكلمة الكفر والتعطيل، والصواب أنها أعم من ذلك لغة وشرعًا كما بينته بالتفصيل في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف: 180) إذ قلت في أوله ما نصه: وأما الإلحاد فمعناه العام الميل والازْوِرَار عن الوسط حسًّا أو معنًى، والأول هو الأصل فيه كأمثاله وبعد ذكر الألفاظ والجمل المستعملة من هذه المادة قلت: ولما كان (خيار الأمور أوساطها) كان الانحراف عن الوسط مذمومًا، ومنه أخذ التعبير عن الكفر بالتعطيل والشك في الله تعالى بالإلحاد، ويسمى ذووه الملاحدة والملحدين، ثم نقلت ما قاله الراغب في مفردات القرآن تفسيرًا لهذه المادة ومنه: ألحد فلان: مال عن الحق، والإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك بالله، وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عُرَاه ولا يبطله إلخ، ثم بيَّنْتُ أن الإلحاد في أسمائه تعالى سبعة أنواع (راجع ص 440 - 448 ج9 تفسير) . فأنا أعني بالإلحاد في كل ما أرد به على الملاحدة المعنى العام الذي يشمل الكفر المُخْرِج من الملة وغير المُخْرِج منها وما ليس بكفر مما يضعف الإيمان ويوهن روابط الإسلام اللغوية والاجتماعية كالثقافة اللادينية التي كانت تدعو إليها جريدة السياسة وغيرها، وكثير مما يسميه جماعة الكتاب اللادينيين بالتجديد كأزياء الرجال والنساء الإفرنجية التي جعلها مصطفى كمال باشا ومريده أمان الله خان من أركان الإصلاح لما يقصد بها من إنساء المسلمين جميع ماضيهم، ومن أركانها استبدال الحروف اللاتينية بالعربية وغير ذلك من الميل عن الوسط إلى إفراط أو تفريط في الشئون الإسلامية، وليس منها تجديد الصناعات والفنون العسكرية والمالية والتجارية وأمثال ذلك مما يزيد قوة الأمة وثروتها بل هذا واجب شرعًا. ويرى القراء في عناوين مقالنا في الإنكار على مجلة الرابطة ما يدل على هذا التقسيم للآراء الإلحادية ولا سيما التفرقة بين دعاية سلامة موسى إلى هدم الإسلام ودعاية أحمد أمين إلى التفرنج، فثبت من كل ما تقدم أننا لا نعد كل ما ننتقده من التجديد المدني إلحادًا، ولا كل إلحاد وتفرنج كفرًا يخرج به صاحبه من الملة. هذا وإن مقالة المنار في الإنكار على مجلة الرابطة الشرقية قد كان لها وقع عظيم في نفوس المسلمين هنا، وربما كان وقعها أعظم في سائر الأقطار الإسلامية التي لم يوجد فيها من حرية الإلحاد مثل ما هو معهود في مصر. نشرتها جريدة كوكب الشرق اليومية التي يقال: إنها الآن أوسع صحف القطر انتشار، ونشرتها صحيفة الفتح الأسبوعية، وقد جرى حديث بين أحد محرري الكوكب وصاحب السعادة أحمد شفيق باشا في موضوع المقالة كانت فيه أجوبة سعادته للمحرر مُشْعِرَة برضاه عن تلك المقالات التي انتقدناها على المجلة إلا مقالة سلامة أفندي موسى فقد اعتذر عنها بحرية النشر ... فكان ذلك موجبًا لمزيد استياء المسلمين كما بينته مجلة الفتح، وجرى بيننا وبين سعادته وسماحة الرئيس في المسألة ما لا ينبغي لنا أن ننشره؛ لأنه من أمانة المجالس ثم جرى حديث آخر في جلسة مجلس إدارة الرابطة الأخيرة، وقد علم من كل هذه الأحاديث أن هيئة تحرير مجلة الرابطة ستبين رأيها في انتقاد مجلة المنار لها بما يصح أن يبنى عليه رأي مجلس الإدارة فيها وكذا الرأي الإسلامي العام بالأولى، فعسى أن يوفق صاحبا السماحة والسعادة الرئيس والوكيل إلى انتياش المجلة من الورطة التي نشبت فيها بشذوذ الأستاذ رئيس التحرير الذي لم يعرفا كُنْهَه من قبل، وإن ما نعهده فيهما من الحنكة والحلم والروية جدير بأن ينتصر على ما عنده من الشرة والحدة والإصرار، وقد بلغنا أنه يستعد للانتقام منا بنقد التفسير وغير التفسير من الآثار والمطبوعات، وما نقده بالذي يخيفنا ونحن نعرض كل ما نكتبه للنقد وننشر ما يرسل إلينا منه، وإن كان تجهيلاً وتضليلاً، حتى لامنا خيار قراء المنار على إضاعة أوقاتنا وأوقاتهم في ذلك، وإنما نحسب حسابًا لما عسى أن يكون لإطلاق العنان له في مجلة الرابطة من تأثير سَيِّئٍ في جمعية الرابطة وتأثير أسوأ في جميع المسلمين، وإنا للجزء الثالث منها لمنتظرون. ((يتبع بمقال تالٍ))

الهداية الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الهداية الإسلامية مجلة إسلامية علمية أدبية تصدرها جمعية الهداية الإسلامية ويحرِّرها نخبة من أعضائها مديرها رئيس الجمعية (محمد الخضر الحسين) ألا وهو صديقنا الشيخ الأستاذ التونسي الزيتوني الأزهري العالم الفاضل الكاتب الخطيب المتفنن، فنعمت الجمعية ونعم المدير، ورئيس التحرير، والمجلة تصدر في كل شهر، مؤلفة من ست كراسات (48صفحة) مع الوعد بأن ستصدر مرتين في الشهر، وقيمة الاشتراك السنوي فيها ثلاثون قرشًا في القطر المصري، وأربعون قرشًا في سائر الأقطار، ولطلاب العلم عشرون قرشًا، فنحث المسلمين على قراءتها؛ لأنها من المجلات التي نعتقد فيها تحامي خلط الخرافات والبدع بالشرع والتوسل لخدمة الإسلام بما يخالف دين الإسلام كما نرى في كثير من الصحف الإسلامية أو المسلمية.

رسائل إخوان الصفاء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسائل إخوان الصفاء لما تُرْجِمَتْ كتبُ الفلسفة بالعربية، وخاض المسلمون فيها وجدوا فيها ما يخالف التعاليم الإسلامية أو النصوص التي ذكر فيها الخلق والتكوين من الكتاب والأحاديث النبوية فتصدى علماء الكلام للرد على ما رأوه معارضًا؛ إذا لم يمكنهم الجمع بينه وبين النصوص القطعية أو بتأويل ما ليس بقطعي منها. وكان علماء الأثر يردون كل ما رأوه مخالفًا للظواهر، وأما أعداء الإسلام المجاورة فكانوا يردون نصوصه مما يتلقفون من الفلسفة بزعمهم أنها حقائق ثابتة، وقلما يثبت منها شيء ثبوتًا قطعيًّا، وأما أعداؤه من الزنادقة والمنافقين فكانوا يتأولون نصوص الكتاب والسنة بحملها على أقوال الفلاسفة التي يزعمون أنها هي الحقائق العليا التي يرتقي إليها خواص العلماء، وأن ظواهر الشريعة وسائل إقناعية يراد بها تهذيب العامة، وأساطين هذه الضلالة فريقان: ملاحدة الصوفية الأعجمية وزنادقة الباطنية. وكان غرض هؤلاء سياسيًّا غايته عندهم إفساد دين الإسلام على أهله لإزالة سلطان العرب من فارس ثم من سائر البلاد كالإسماعيلية ثم دخلوا في أطوار أخرى. من هذا الفريق فريق الباطنية مؤلفو الكتب المشهورة برسائل إخوان الصفاء وهي مشهورة، وقد طبعت في هذه الأيام بمصر بسعي بعض الملاحدة المعاصرين وهم يروجونها لمثل الغرض الذي ألقيت لأجله، وهو إفساد عقائد المسلمين التي يهاجمونها بالفلسفة العصرية وبغير الفلسفة مما يسمونه علمًا وأدبًا وفنًّا، ويجمع هذه المعاني عندهم كلمة الثقافة. لأجل هذا رأينا من الواجب علينا شرعًا أن نعتني ببيان الحق ونكشف ما يغشيه من الدسائس والتلبيسات، وأول ما نبهنا إلى ذلك رسالة نشرت في المقطم أيضًا، وهذا نص الرسالة والفتوى: حضرات الأفاضل أصحاب المقطم الأغر قرأت ما دبَّجَتْه يراعتكم حول كتاب أعياني فهم مرامي مؤلفه أو مؤلفيه على حد رأي الأستاذ زكي باشا ووقف نظري عند قولكم: (إن حرية الرأي في الزمن الماضي لم تتسع لنشر هذه الموسوعة الفلسفية الهامة) أو ما في معناه فعلمت أن لهذا الكتاب خطره وقيمته، وأنه كتب بأسلوب خاص لا يفطن إلى ما فيه من دقة متعملة وأسلوب مُلْتَوٍ إلا من وُهِبَ اطِّلاعًا واسعًا على مختلف ما أنتجت العقول الجبارة في القديم والحديث، ولا أكتمكم أني قرأ مقدمتيه مرات متكررة لعلي أعثر على مفتاح السر فكان جُلُّ ما ظفرت به أن الدكتور طه حسين يقول: (إن هذه الجماعة (إخوان الصفا) كانت متبرمة بنظام الحكم في بغداد والقاهرة وأنها ما ألفت كتابها إلا لتغرس بذور تربية خاصة لإعداد جيل يغير هذا النظام الممقوت مسترشدة في هذا برأي فلاسفة اليونان في التربية والنظام السياسي) . أما مقدمة العلامة زكي باشا فكلها كَرٌّ وفَرٌّ وبحث وتنقيب حول مؤلف الكتاب أواحدٌ هو أم جماعة؟ وخرج الباشا ظافرًا بأنهم جماعة ولكن واحدًا منهم لم يعرف. لكن الأولى بالعناية من كل هذا هو موضوع الكتاب، وما فيه من بحوث علمية دقيقة وإشكالات عويصة لم يتعرض واحد من الذين كتبا للكتاب تصديرًا لذكر شيء منها، بل هربوا هربًا ليس فيه من اللباقة بقدر هرب المقطم بقوله: (إن حرية الرأي في الزمان الماضي لم تتسع لنشر هذه الموسوعة إلخ) وإذن فقد أصبح من حقي كقارئ من قراء جريدتكم تعود الثقة فيما تكتب والصراحة فيما تبدي من رأي أن أستوضحكم عما يأتي: قال إخوان الصفاء في الجزء الأول: (إن الله خلق النفس والنفس هي التي تدبر العالم، فلعل معنى هذا أن للعالم صانعين؟ ثم قالوا: إن السموات السبع أو الكواكب السبعة هي كرات جوفاء سابحة، كل كوكب منها سماء لما تحته وأرض لما فوقه، وإنها تدور وفق قرانات خاصة ودوراتها مع اختلاف القرانات هو مبعث ما في العالم من خير وشر وشقاء وسعادة وعدل وجور وليس فوق الكواكب السبعة إلا الفلك الأول وهو مبعث الحركة والدوران فهل معنى هذا أن الفلك الأول هو الله؟ أو أي شيء هو إذا لم يكن كوكبًا وإلهًا مع أنه يُكْسِب الكواكبَ الدورانَ والسبوح؟ وأين اللوح وأين العرش وأين الكرسي وأين القلم؟ أيصح لي أن أسميهم ولو من باب حرية الفكر غير مسلمين، وإن حمدوا الله وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم واستشهدوا بالقرآن. أخاف أن أكون قد ثقلت على حضرتكم في توجيه أسئلتي وأخاف أيضًا أن يحول عملكم فيما أخذتم به على أنفسكم من الخدمة العامة دون إجابتي، لكنه لا يخيب لي سؤال ما دمت أعلم أن للأستاذ لطفي جمعة المحامي جولات فسيحة على صفحات جريدتكم وهو ممن اشتهروا بالاطلاع الواسع في الفلسفة القديمة والحديثة، وإن كان عند الأستاذ ما يحول دون إرشادي فلا عدمت من فيلسوف الشرق وحكيم الإسلام الأستاذ طنطاوي جوهري هاديًا ومرشدًا سيما وقد قضى زهاء نصف قرن وهو يوفق بين القرآن والعلوم الطبيعية والرياضية والكيميائية وغيرها من فنون العصر الحديث، هذا وأختم عجالتي هذه بأن أهيب بحارس الشريعة خليفة الأستاذ الإمام مولانا السيد رشيد رضا أن يفتينا فيمن ينكر العرش والكرسي واللوح والقلم، ثم يحمد الله ويصلي على نبيه أهو من أهل القبلة أو من سواهم، وإلا فهل لهذه الأسماء مدلولات غير المدلول العادي، أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحائر القَلِق ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... علي درويش ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بالمدارس الإلزامية جواب الاستفتاء في إسلام مؤلفيها وأمثالهم نشر المقطم منذ شهرين رسالة للأستاذ علي درويش المدرس في بعض المدارس الإلزامية في رسائل إخوان الصفاء المشهورة التي كانت طبعت كلها في الهند وطبع بعضها في مصر، وأعيد طبعها في هذه الأيام فرأيت صاحب الرسالة يستفتيني في خاتمتها (فيمن ينكر العرش واللوح والقلم ثم يحمد الله ويصلي على نبيه أهو من أهل القبلة أو من سواهم؟ وإلا فهل لهذه الأسماء مدلولات غير المدلول العادي؟) أي كما يزعم مؤلف أو مؤلفو تلك الرسائل فأقول: إن هذا الاستفتاء مهم جدًّا؛ لأن المسألة واقعة في عصرنا فإننا نجد في مصرنا، وفي غيرها من الأمصار أناسًا كإخوان الصفاء ينتمون إلى الدين ويجحدون بعض أصوله القطعية ويكذبون كتابه المقدس بضرب من خلابة التأويل الذي تتبرأ منه لغة الكتاب ونصوصه وآياته البينات {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (البقرة: 8-9) . إن الذي حقَّقه شيخ الإسلام أحمد تقي الدين بن تيمية في رسائل إخوان الصفاء هو أنها لبعض الباطنية الذين كانوا يظهرون الإسلام على مذهب الشيعة، ويسرون الكفر به والعداوة له ويحاولون هدمه وصرف أهله عنه بالتشكيك فيه والتأويل لنصوصه لا تأويل صفات الله وأفعاله ونصوص عالم الغيب من العرش والكرسي واللوح فقط. بل كانوا يتأولون نصوص العبادات التي هي أركان الإسلام أيضًا حتى لا يبقى عنده من الإسلام شيء على ما جاء به خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ويستعينون على ذلك بالفلسفة اليونانية، وكان منهم خلفاء الفاطميين بمصر، وكانت لهم دعاية إلى الإلحاد منظمة بيَّنَها المؤرخون وعلماء المقالات في نِحَل المبتدعين. ويجد القارئ لتاريخ المقريزي المشهور خلاصة لها في الجزء الثاني منه في سياق الكلام على أولئك الخلفاء يذكر فيها (وصف الدعوة وترتيبها) وهي تسع درجات أو دعوات مرتبة تبدأ بالسؤال (عن المشكلات وتأويل الآيات ومعاني الأمور الشرعية وشيء من الطبيعيات ومن الأمور الغامضة) يذكر المقريزي أمثلة منها؛ ثم إن الداعي ينقل المدعو من درجة إلى أخرى بعد أن يقتنع بالسابقة حتى إذا ما رسخت في نفسه جميع الدرجات كاشفه بالنتيجة المُرَادة من الدعوة ومنها قول الباطل الخادع: (إن الوحي إنما هو صفاء النفس فيجد النبي في فهمه ما يُلْقَى إليه ويتنزل عليه فيُبْرِزُه إلى الناس ويعبر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبي شريعته بحسب ما يراه من المصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب العمل بها حينئذ إلا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء بخلاف العارف فإنه لا يلزمه العمل بها ويكفيه معرفته، فإنها اليقين الذي يجب المصير إليه، وما عدا المعرفة من سائر المشروعات فإنما هي أثقال وآصار حملها الكفار أهل الجهالة لمعرفة الأغراض والأسباب (ويعني باليقين هذا قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} (الحجر: 99) أي فحينئذ تسقط العبادة) . ومن جملة المعرفة عندهم أن الأنبياء النطفاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة، وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة) إلخ. وذكر قبل ذلك في الدعوة السادسة أن المدعو إذا تمكن في المرتبة الخامسة أخذ الداعي في تفسير معاني شرائع الإسلام من الصلاة والزكاة والحج والطهارة وغير ذلك من الفرائض بأمور مخالفة للظاهر بعد تمهيد قواعد تبين في أزمنة على عجلة تؤدي إلى أن هذه الأشياء وضعت على جهة الرموز لمصلحة العامة وسياستهم حتى يشتغلوا بها على بغي بعضهم على بعض، وتصدهم عن الفساد في الأرض، حكمة من الناصبين للشرائع وقوة في حسن سياستهم لاتباعهم، إتقانًا منهم لما رتَّبوه من النواميس ونحو ذلك حتى يتمكن هذا الاعتقاد في نفس المدعو. فإذا طال الزمان وصار المدعو يعتقد أن أحكام الشريعة كلها وضعت على سبيل الرمز لسياسة العامة، وأن لها معاني أخر غير ما يدل عليه الظاهر، نقله الداعي إلى الكلام في الفلسفة وحضَّه على النظر في كلام أفلاطون وأرسطو وفيثاغورس ومن في معناهم ونهاه عن قبول الأخبار (أي الأحاديث النبوية) والاحتجاج بالسمعيات (أي نصوص القرآن) وزيَّن له الاقتداء بالأدلة العقلية والتعويل عليها، فإذا استقر ذلك عنده واعتقده نقله بعد ذلك إلى الدعوة السابعة ويحتاج ذلك إلى زمان طويل) اهـ المراد منه. إذا علم المستفتي هذا، وعلم أن إخوان الصفاء من هؤلاء الباطنية الملاحدة الذين كانوا يُظْهِرُون الإسلام ويُسِرُّونَ الكفر علم أن حمدهم لله وصلاتهم على نبيه خداع للمسلمين؛ ليقبلوا كلامهم، ولذلك قال بعض الفقهاء: إن من علم حاله منهم لا يعتد بدعواه التوبة والرجوع إلى الإسلام، وإن نطق الشهادتين وصلى وصام وزعم أنه مسلم. وليس كل تأويل من تأويلاتهم للنصوص ارتدادًا عن الإسلام بحيث لو قال به غيرهم يُعَدُّ مرتدًّا بل منه ما هو كفر صريح، ومنه ما هو ابتداع قبيح، ومنه ما هو محتمل للترجيح والتجريح، ولكنه كله صادر عن الإلحاد في الدين والغرض منه إفساد عقائد المسلمين، ولذلك صار لقب الإلحاد والزندقة في القرون الوسطى علمًا عليهم، قال صاحب المصباح المنير: والملحدون في زماننا هذا هم الباطنية الذين يدعون أن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وأنهم يعلمون الباطن فأحالوا بذلك وجه الشريعة؛ لأنهم تأولوا بما يخالف العربية التي نزل بها القرآن اهـ. وهذا حكم ملاحدة زماننا غير المجاهرين بالكفر والتعطيل، والطعن في محكم آيات التنزيل، وقد ثبت عندنا أن لبعضهم جمعية كبعض جمعيات الباطنية تعنى بإفساد العقائد وتنكر ضروريات الشريعة، وتزعم أن الإسلام دين روحاني لا تشريع فيه ي

تفسير المنار (شهادات علماء العصر له)

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفسير المنار شهادات علماء العصر له (تقريظ العلامة الفقيه الأديب، الكاتب الشاعر الخطيب، صديقنا الأستاذ الشيخ إسماعيل الحافظ الشهير من نابغي تلاميذ الأستاذ الإمام ومريديه، وعضو محكمة فلسطين الاستئنافية الشرعية في القدس الشريف) . قال بعد رسوم الخطاب: تشرفت بالتحفة السنية التي تفضلتم بإهدائها إليَّ، وهي الجزء الأول، ثم الجزء التاسع من تفسيركم الكبير المعروف بتفسير المنار وهو الذخيرة الثمينة، والحجة القويمة، والنعمة الورافة، والقدوة المتبعة، التي طالما ارتقبها المخلصون ليفوزوا باقتنائها، ويهتدوا بضيائها، وينعموا بآلائها، ويتقدموا إلى معرفة الحق الصريح، وممارسة العلم الصحيح، تحت لوائها. قرأت الجزء الأول من هذا التفسير وقسمًا غير قليل من الجزء التاسع فعلمت كيف يختص الله من يشاء من علماء هذه الأمة بفضله، فيفضي إليهم بسر شريعته، ويكمل نفوسهم بفقه دينه، ويقيمهم على الطريق السوي، في فهم كتابه، والتحقق بهدي نبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليحملوهما إلى الناس في كل زمان على الوجه الملائم لذلك الزمان، ورأيت بعين الإعجاب كيف أحاط السيد الكريم حفظه الله بمقتضيات الزمان، ونفذ إلى روح العصر، ووقف على ما حدث فيه من مسائل العلم ومشاكل الاجتماع، وما تجدد من مذاهب وآراء، ومزاعم وأهواء، وما نبغ من شبهات وشكوك يثيرها دعاة الإلحاد إرضاء لأهوائهم، ومن أباطيل وأضاليل ينشرها رجال التبشير توصلاً إلى غايتهم، وكيف قدر حالة المسلمين إزاء ذلك كله وحاجتهم الماسة إلى هداية قرآنية تنقذهم من ظلمات هذه المدنية الحاضرة وشرورها، وتأخذ بيدهم إلى الأخذ بمحاسنها والاستضاءة بنورها، فأخرج لهم تفسيره هذا لم ير الناس مثله تفسيرًا تُبَادر القارئ فائدته، وتدنو من المستفيد قطوفه، وتملأ القلوب جلالته، ويأتي على أقصى ما يطلب المتفهم من معاني الآيات، ومن نكات بلاغتها ووجوه إعجازها، وما يقتبسه من نور هدايتها، بأسلوب فذ طريف يلقيها به في نفسه، ويقر ما يلقيه من ذلك بشواهد من نفس القرآن الحكيم، وبطرائف من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وشمائله وجوامع كلمه، بعد التثبت منها وتمحيصها تمحيصًا قلما كتب مثله لأحد من قبله، ويؤيده بأمثلة من كلام البلغاء وجهابذة الفصاحة، ومن عبر التاريخ الصحيح، ومن آثار الصحابة ومن يليهم من علماء الدين، ثم يوضح ذلك بقضايا العلوم والفنون القديمة والحديثة، وبقواعد الاجتماع وبسنن الله في خليقته، فهو لا يترك في معاني الآيات الكريمة سؤالاً إلا بادره بجوابه، ولا خطأ من بعض وجوه الفهم إلا عاجله بصوابه، ولا شبه معارضة بين العقائد الدينية والقواعد العلمية إلا أزالها بفصل خطابه، ولا أصلاً من أصول الاجتماع، ولا سنة من سنن التكوين، ولا حكمة من حكم التشريع، إلا عالجها معالجة الحكيم، حتى راض صعابها، واستخرج لبابها. وجعل ذلك كله خادمًا لبيان الهداية الإلهية، والدلالة الربانية، التي اشتمل عليها القرآن الحكيم، والتي هي الغاية المقصودة للمؤلف أيده الله من تأليف هذا التفسير، فأفاض في بيان تلك الهداية وفي دلالة العقول عليها، وسوق النفوس إليها. وعني ما شاء له إخلاصه بكشف شبه الحائرين من المسلمين في فهم العقيدة، ودلَّهم بيانه العذب على مزايا الشريعة، وسلك في تقرير عقائد الإيمان مذهب السلف الأقوم، ونصره على مذاهب المتكلمين، وقرب فهمه إلى الأذهان بأحدث ما عرف في هذا العصر من النظريات العلمية، في المظاهر الروحية والمدارك النفسية، وفي مادة الكون الأصلية وظواهرها وأطوارها، كما نراه في بحث الرؤية، وفي تحقيق معنى الكلام الإلهي والاستواء ونحوها. ثم انبرى للملحدين فدمغهم بالحجة الساطعة حتى كشف أسرارهم، وأبرز للناس عوارهم وعمد إلى جماعة المبشرين الذين لم يتركوا وسيلة من وسائل التنفير من الدين الإسلامية فَفَلَّ حدهم وهزم جندهم. واهتم الاهتمام كله بتقرير أن الإسلام هو موطن العزة والسلطان، وأنه هو الذي يرفع نفوس الآخذين به إلى أسمى ما ترتفع إليه نفس بشرية، ويوجب عليهم اجتناب سَفْسَاف الأمور والأخذ بمعاليها، ويهيب بهم إلى الرقي المادي والمعنوي في هذه الحياة بالأسباب التي جعله الفاطر الحكيم نتيجة لها ومترتبًا عليها، ويتبع ذلك أن يوجب عليهم تعرف كل ما يتوقف عليه ذلك الرقي من علم وعرفان، وإحسان وإتقان وسيرة وخلق , ولقد أمعن حفظه الله في جميع ذلك استقراء واستقصاء، وأتى على ما يستقصيه إيضاحًا وبيانًا، ودليلاً وبرهانًا، حتى ملأ القلوب حكمة وإيمانًا، وأفاض على سرائر العاملين وجوارحهم إخلاصًا وإحسانًا. ليس للمسلمين سبيل أهدى لهم في حياتهم الأولى والآخرة إلا سبيل القرآن، وليس لهم وسيلة للنجاة مما مُنُوا به إلا الرجوع إلى هداية القرآن، ولا أرى بين تفاسيره ما يُجْلِي هذه الهداية ويُشِفُّ عن أسرارها ويقرُّها في النفوس مثل هذا التفسير، المنقطع النظير، ولا طريقة أقرب إليها وأدل عليها كالطريقة التي جرى عليها المؤلف مقتفيًا آثار شيخنا الأستاذ الإمام طيَّب الله ثراه، فهو قد قدم بتفسيره هذا أعظم خدمة للمسلمين في هذا العصر، فما أجدرهم أن يتلقوه بما يجب له من العناية والاهتمام، وما أحقه بأن تتزين به دور الكتب ومعاهد العلم، وما أخلق أساتذة المدارس العلمية والمعاهد الدينية في البلاد الإسلامية، أن يرجعوا إليه، ويُعَوِّلُوا عليه، جزى الله مؤلفه الكريم خير ما جزى به العاملين المخلصين، وحفظه بوقايته، وأمده بتوفيقه وعنايته؛ ليكمل هذا الكتاب الجليل في عمله الجليل في أثره، ولينشئ أمثاله من الخيرات الحسان، إن شاء الله تعالى. ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل الحافظ *** تقريظُ (الأستاذِ المُعِنِّ المُفِنِّ، الغوَّاصِ على جواهر كل علم وفن، في بحار آيات التنزيل صاحب المصنفات التي سارت بها الركبان أخينا الشيخ طنطاوي جوهري الشهير) . قال بعد رسم الخطاب: اطلعت على الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم المشتهر باسم المنار، فأحببت أن أكتب ما عَنَّ لي فيه فأقول: إن الله عز وجل لما خلق الناس جعلهم مختلفين صورًا وأشكالاً وأحوالاً وألوانًا، فهم وإن اتفقوا في الماهية، واتحدوا في الإنسانية، افترقوا في أميالهم وتباينوا في مشاربهم وطرق أعمالهم وتفكيرهم وسبل تعبيرهم وتأويلهم، وفهم ما يسمعون، وتفسير ما يقرءون، كما افترقت أغصان الأشجار في رياضها، وتباينت في أفانين أزهارها، ويانع ثمارها، وإنما كان ذلك لتَعْظُم العطايا، وتَكْثُر المزايا، وتَسْعَد البرايا، فيأخذ كل امرئ ما يواتيه، ويتعاطى منها ما يشتهيه) . فما مثل العلماء إلا كمثل الدوحات المختلفات أثمارًا، المتفقات غايات، فالروض يتنوع صنوف أزهاره، وافتنان أفنانه، واختلاف أزهاره، مثل مشاهد بما يقتطفه الناس من ثمار العلم والحكمة، وما يجتنون من أزاهير الأدب والفن من مؤلفات للمؤلفين الذين اتفقت غاياتهم وتباينت طرقهم، وما مثل كتاب الله تعالى إلا كمثل روضات غناء، ومثل المفسرين والعلماء بالفنون المختلفات، إلا كمثل علماء بفنون علم النبات وثمراته، قد أتوا من كل حدب ينسلون {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (البقرة: 148) فمنهم من نظر في أشجارها وترتيبها، ومنهم من فكَّر في ثمارها وأزهارها، ومنهم من فكر في أسمائها ومنافعها الدمائية والغذائية، ومنهم من قاده رأيه ودله اختباره على البحث في أمر السماد وإزالة الحشائش لتنمو الشجرات. هكذا تفسير القرآن فمن المفسرين من فكروا في العلوم اللسانية، ومنهم من بحثوا في العلوم العقلية، ومنهم المجدون في العلوم الفقهية أو القصصية أو التاريخية أو الكونية و {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: 53) . فأما أخونا الفاضل الشيخ محمد رشيد رضا فقد أمده الله بالتوفيق في التحقيق، فلا يزال يبحث في المسألة الفقهية أو التاريخية، أو رواية الحديث أو القصة الإسرائيلية، حتى يستخلص الخلاصة الوافية، ويؤيدها بالحُجَج الواقية، فجزاه الله أحسن الجزاء، فما كل من ألف أجاد، ولا كل من قال وفَّى بالمراد، فلا يدع في القول مجالاً يطلب المزيد، لا يرحم مبتدعًا ولا زنديقًا، فهو يصب عليهما سوط غضبه، وعلى المخرفين من المسلمين، إنه لهم عدو مبين، ومن المتفرنجين الضالين منتقم مهين، يصول بسيف الحق والحق أبلج، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وكم له من صولة في ميدان حرب البدع، والحق أن الأمم الإسلامية قد تفرقت شِيَعًا، وذاق بعضها بأس بعض، ولقد أذاقها الله سوء ما جهلت، وجرعها غصص ما كسبت، ولكن من عادة الله تعالى أن يجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق سعة {وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ} (البقرة: 74) وبعد موت الأرض حياتها. وفي الكتاب الكريم: {وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} (الحديد: 16-17) . ولقد جعل الله أيامنا هذه عصر انتقال، وتبدل في الأحوال، فليبدلن الله أحوال المسلمين من ذلة الجهالة إلى عز المعرفة، ومن شقاء الخمول إلى سعادة العمل، ومن حاملي لوائهم صاحب تفسير المنار الذي أذاع في المشرقين ذم الخرافات، ونبذ البدع والضلالات، بقلمه السيال وهماته المتواليات، على قوم مثلهم كمثل كفار مكة إذ قال الله فيهم: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (الأنفال: 35) فهو قائد صفوف الجيوش المعدة لمحاربتهم في بلاد الشرق، ولقد اصطفاه المرحوم الأستاذ الشيخ محمد عبده لهذه المنقبة الشريفة، إذ وجده ابن بجدتها، وأخا محذرتها، وها أنا ذا أضرب للقارئ مثلاً لما في الكتاب. ذلك أنه في تفسير آية {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157) ذكر فصلا في بيان بشارات التوراة والإنجيل وغيرهما، فهذا الفصل ذكر فيه البشارات التي وردت في الكتابين، وأوضح الكلام على لفظ (الفارقليط) وأنها لم تدل ولم تنطبق إلا عليه صلى الله عليه وسلم. فلم يدع شاردة ولا واردة من هذه المباحث في هذا المقام إلا أوردها مع حسن العبارات والتلخيص والإيجاز بحيث: يقرب الأقصى بلفظ موجز ... ويبسط البذل بوعد منجز ويحق الحق ويبطل الباطل، ويذكر السير التاريخية المناسبة لها، مثل ما جاء في صفحة (280) من أن متنس المسيحي الذي ادعى النبوة في القرن الثاني سنة 177 تقريبًا من الميلاد قد كان رجلاً نقيًّا مرتاضًا شديد الارتياض وكان في آسيا الصغرى مستندًا في تلك الدعوة إلى كلمة (الفارقليط) التي وردت عن المسيح عليه السلام ونقل عن صاحب (لب التواريخ) ما نصه: إن اليهود والمسيحيين من المعاصرين لمحمد كانوا منتظرين مجيء نبي فحصل لمحمد من هذا الأمر نفع عظيم؛ لأنه ادعى أنه هو ذاك المنتظر انتهى ملخص كلامه، هذا ما جاء في صفحة (280) من الجزء التاسع المذكور. ثم أورد حكاية النجاشي ملك الحبشة والمقوقس ملك مصر فهذان الملكان النصرانيان أقرا بأن كتابهما ناطق با

حال المسلمين في الشرق والجنوب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حال المسلمين في الشرق والجنوب للسائح العالم المصلح صاحب الإمضاء في لمفوغ بتاريخ 20 جمادى الأولى سنة 1347هـ، حامدًا، شاكرًا، مصليًا، مسلمًا محترم المقام، حكيم الإسلام، الأستاذ المفضال، ربيب الفضل وأبي الكمال، مجدِّد القرن الرابع عشر السيد محمد رشيد رضا أدامه الله ناصرًا للسنة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه، داعيكم كثير الاشتياق إليكم ولا يغيب شخصكم الكريم عنه طرفة عين، وأرجو الله أن يجمعني بكم لأن النفس تواقة لذلك. وصلني كتابكم الكريم، إنه من لطائفكم وإنه لذو نبأ عظيم، ومع الأسف التام أنه وصل مركزي وكنت غائبًا في السياحة، وأتاني على قدر، وفرج ما بي من الهم والكرب، وفرحت به كثيرًا؛ لأني كنت آيبًا من سياحتي في أرض السيام. أخذت منذ دخولي أدعو إلى الدين الصحيح، وترك البدع المضرة بالدين، جهد المستطاع، فعند ذلك قامت قيامة الدجالين، من علماء السوء الوطنيين، يشنون الغارة علينا، وينفرون الناس منا، بأن الراضي وهابي من أنصار المنار، ونحن معهم في حرب وجلاد، والنصر ولله الحمد والمنة حليفنا، والمؤمن سريع الانقياد إلى الحق، وباطلهم لم يثبت أمام قوة الحق وأنصاره، ولا يخفى عليكم أن تغيير العوام ما هم عليه من العقائد الفاسدة والخرافات التي لا أصل لها، والضلال الذي شب عليه صغيرهم، وشاب عليه كبيرهم، وباض وفرَّخ في أدمغتهم، من أصعب الأشياء، وهذه الأمة المسكينة لَمَّا يرزقها الله عاملاًَ ناصحًا أمينا من أبناء جنسها، لأجل ذلك تراها في حضيض الجهالة، ولا تتمسك إلا بالعادات الجاهلية ولو في ذلك هلاكها، ولا رادع لها من النفس، ولا وازع من الدين، ولا مصلح من المرشدين، والسبب الوحيد أن منبع الضلال والخرافات من علماء السوء البطالين. ويمكن أن نستثني عصابة من أنصار الحق، ومحبي المنار الأغر، يستميتون في الدفاع عن الدين، وترك البدع والخرافات وهم مع علماء السوء في كفاح مستمر، يبذلون في نصرة الدين أموالهم وأنفسهم وكل عزيز لديهم، وعلماء السوء السياميون يكفرون هؤلاء المصلحين ويُبَدِّعونهم ويخرجونهم عن دائرة الإسلام، وأخيرًا أفتوا بقتل رئيس هذه العصابة المصلح الوحيد (ببنكوك سيام) الشيخ أحمد وهاب صديقكم ومكاتبكم عن أحوال السيام بما فيه الكفاية. بعد كتابة ما ذكر، وقبل أن أرسله إليكم قصدت بعض الجهات من الهند الشرقية فوجدت الحجاج الجاويين راجعين من أداء فريضة الحج فسألناهم عن الحالة في الحجاز فأجاب بعضهم بأن الأمن عام لم يعهد له مثيل، إلا أن الحكومة الوهابية غليظة شديدة، وإن ضرائبها ومكوسها وما وضعته على الحجاج يزيد على الحصر، ومع ذلك تدعي حماية الدين وترك البدع المضرة، وأخذوا يذكرون سيئات ما لاقوه من أوباش الموظفين، فأخذت أدافع عن القوم وحكومتهم بكل ما عندي من البيان فلم أفلح (ابتداء) مع أكثرهم؛ لتعصبهم وجهلهم المُرَكَّب؛ لأنهم حتى الآن يعتقدون أن مذهب الوهابية خارج عن الأئمة، وأن قصدهم تخريب الدين شيئًا فشيئًا، منه تعلمون أن سمعة الوهابية سيئة في هذه الأصقاع، وأنصارها قليلون، وأعداؤها الدجالون القبوريون الخرافيون كثيرون! خصوصًا السادة العلويين الحضارمة فإنهم حتى الآن يكفرون القوم ويعدون كل مصلح مارقًا وخارجًا عن الدين؛ وهم في هذه الجهات لا يحصون كثرة، والجهلة يتبعونهم في أقوالهم، ويصدقونهم في مفترياتهم وأكاذيبهم {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} (هود: 119) لانتمائهم إلى المرشد الأعظم صلى الله عليه وسلم وهم مع الأسف أبعد عن هديه وشريعته المطهرة، عاكفون على الضلالات، وطلب الحاجات من الأموات، والاعتقاد في القبور وأهلها وتقبيلها، ودعاء ساكنيها فيما لا يدعى فيه إلا الله تعالى، وغير ذلك من التُّرَّهَات التي يبثونها في هؤلاء المساكين، والآن ولله الحمد باطلهم في اضمحلال، وجاههم المزيف إلى الزوال، لأن بعض الوطنين قد تنوروا وأخذوا ينشرون الدين الصحيح بين قومهم {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 81) . قام أكبر شياطين الإنس بأرض البوكس من أعمال سليبس أبو بكر الحبشي واعظًا في المجالس والنوادي بأن الوهابية كفرة يغيرون الدين فالحذر منهم ومن دعاتهم الراضي والـ ... (هناك رجل آخر من دعاة الحق وأكبر معضد لي في نشر التوحيد وهو صديقي الوحيد في هذه الديار ممن بذل نفسه ونفيسه في سبيل إحياء السنن الميتة، ومن أكبر المخلصين لكم أيضًا، وهو أحد أبناء علماء مكة العاملين، وممن يحب إخفاء اسمه) قام الحبشي يحذر الناس منا ويقول: كونوا على بصيرة، واعلموا أن الحج غير مفترض عليكم ما دام الوهابية مقيمين في الحجاز! ! وأخذ هذا الدجال يكتب إلى الحكام في جميع الجهات بذلك، ولكن باطله لم يثبت أمام قوة الحق وأنصاره على قلتهم، والدين الحق الخالي من الشوائب دين الفطرة لا يعدم أنصارًا. ولقد طلبنا مناظرة الدجال الحبشي فأبى وفر هاربا وأقسم بأنه لا يجتمع مع الراضي الوهابي الخارجي. هذه حالة غالب الحضارمة من العلويين ومنه خراب الدين، إذًا فالوهابية على رأي هؤلاء العلويين، ومن على نِحْلَتِهم من علماء السوء الدجالين والجهلاء المقلدين، ليسوا بمسلمين على دين صحيح، لأجله أرجو الرجاء الأكيد أن تنبهوا حكومة الحجاز بذلك لتعقد جمعية خصوصية لتفهيم الحجاج عقائد الوهابية (من الكتاب والسنة) وما يدعون إليه؛ لأنهم بذلك يكونون وسائط بين الوهابية وسائر المسلمين، وهنا تظهر فائدة الحج ويكون التعارف بواسطة خادمي الحجاج، ويجب عليهم أن يطلبوا العلم ويتحلوا بمكارم الأخلاق، وأن يجبروا أبناءهم على الدخول في مدرسة مخصوصة ليتهذبوا ويشبوا على حب الخير والعلم والاعتماد على النفس والقيام بما يجب؛ لأن مصالح الحجاج مشتركة بين الحكومة وخادمي الحجاج، وعليهم أن يجتهدوا فينشروا مبادئ الدين الصحيحة بين الحجاج، ويستمدوا تعاليمهم من جمعية تخصص لذلك، ويسعوا في رفع وإزالة الخلاف وسوء التفاهم الواقع بين الوهابية بقية السلف وبين من لم يرهم من المسلمين فيتعارف البعض بالبعض، وإذا كان من الحجاج علماء فلا بد لخادمي الحجاج أن يجمعوهم بعلماء الحجاز ليحسن التعارف، وبعد ذلك يزول (إن شاء الله) سوء التفاهم من بين المسلمين، ولا شك أن هذا من أعظم الأعمال وأجل المقاصد التي فرض الحج من أجلها، وإن فردًا واحدًا ليصلح مئات إذا رجع إلى بلاده، وبغير ذلك لا ينجح عمل الوهابية المصلحين؛ لأن بذرة الضلال التي زرعها الدحلان قد أثمرت في أفئدة سماسرة الباطل وأرباب الضلال، وهم يتوكئون على كتابه وهو من أكبر الأسلحة لتنفير العوام من الوهابية، لا يخفى عليكم أن المؤلف من علماء مكة بل كان مفتيًا بل كان مفتي الحرمين، نعم أصبح كل ضال مضل إذا أراد هدم الدين ترجم نبذة من ذلك الكتاب ونشره بين قومه لتنفير الناس من كل مصلح يسعى في إزالة البدع (فقد صار لقب وهابي علمًا لكل داعٍ إلى الحق) لأجله يرى محبكم أن من الواجب تنبيه الحكومة الحجازية وجلالة الملك على ذلك، وأن تطلبوا من الحكومة بكل إلحاح - ولكم الحق لأنكم تسعون لصلاح الإسلام والمسلمين وهو غرضكم من إنشاء مجلة المنار- أن ترفض جميع العادات السيئة التي كان يجريها الملك السابق مع الحجازيين الضعفاء؛ لأنه كان يحكم بالجبت والطاغوت والعوائد الجاهلية والقوانين الجائرة، ولأجله غضب عليه البعيد والقريب، وأبغضه العالم الإسلامي بأجمعه وأنشدوا في حينه: أوتيت ملكًا فلم تحسن سياسته ... كذاك من لا يسوس الملك يخلعه ومن غدا لابسًا ثوب النعيم بلا ... شكر عليه فعنه الله ينزعه كان أحب الأعمال إليه ابتزاز أموال الناس وأكلها بالباطل وبالطرق الخسيسة وله أعوان سوء وبطانة شر يساعدونه على ذلك ويسعون في الأرض فسادًا، فأراح الله منهم العباد والبلاد، وأملنا أن الحكومة السعودية السلفية العقيدة والمشرب يجب عليها أن تربأ بنفسها عن تلك المناهج الرديئة، وأن تترك الناس أحرارًا في أعمالهم وتساعدهم على حرية الفكر والضمير والقول (ما لم يكن في ذلك محظورٌ شرعًا) وما داموا مطيعين لها. سببه أني كنت سائحًا في بعض هذه المدن (مواضع القلاقل والفتن) وهناك رأيت الناس في ضجة قائمة قاعدة وتشويش واضطراب وهم وغم يتذمرون من أمر أصدرته الحكومة على مهاجري الجاويين (العمدة على الكتب المرسلة لهم من الحجاز وصحتها) لأن محبكم ما بارحت مركزي منذ تسعة أشهر، وطول هذه المدة في برور هذه الديار- فلمبغ ولمفوغ لم أقرأ جريدة ولم أستلم كتابًا حتى إني محروم من مطالعة المنار لبعد المسافة بين مركزي وهذه الديار (5 أيام برًّا وبحرًا) لهذا لم أعلم صحة هذه الأخبار، ولكني بحول الله وقوته سأعود باتوكاجه في الشهر الآتي. خلاصة هذه الأخبار أن الحكومة منعتهم من قراءة كتبهم الملاوية وحظرت عليهم التدريس في البيوت، وأخذ المهاجرون يراسلون أهليهم بذلك ويبالغون في تشويه الخبر ويقولون: إنهم لا يمكنهم طلب العلم ما دامت هذه القوانين جارية في الحجاز، ثم أراد أولئك الضعفاء الهجرة إلى مصر لطلب العلم فطلب سفيرهم منهم تأمينا قدره 400 ربية جاوية تبقى عنده تحت المحافظة، وأولئك البوساء فقراء لأجله سيضطرون لترك طلب العلم، ويزيد ذلك في تشويه سمعة الحكومة السلفية كما لا يخفى على سيادتكم لأن آباء المهاجرين متأثرون جدًّا، ولما وصلت ديارهم أخبرت بذلك فأخذت أدافع عن القوم الموحدين بكل وسيلة، وقلت لهم بأني سأسعى لإصلاح هذا الشأن بواسطة أكبر مصلح في العالم الإسلامي ومحبوب لدى الحكومة السلفية، ومسموع الكلمة وهو الأستاذ محمد رشيد رضا، لأجله بادرت بتقديم هذا إليكم وما للحكومة وطلب العلم والتداخل في أمرهم. لقد سررنا بإعانة الحكومة لكل طالب بست روبيات وهو كرم يذكر فيشكر، وليتها بعد ذلك تتركهم أحرارًا كما يريدون (اللهم إلا أن ... لأن هذه الحالة وإن كانت لمصلحة المهاجرين أنفسهم التي يجهلونها فمما يجد أنصار الضلال طريقًا في انتقاد أعمال الحكومة وتشويه سمعتها، ولقد سخر الله أقوامًا مصلحين لمساعدة الحكومة السعودية في كل قطر من أقطار المسلمين ولا جامع بينهم وبينها إلا الكتاب العزيز والسنة المطهرة، لأجله كل مصلح مضطر إلى الدفاع عن القوم؛ لأن كل من ينكر البدع ويسعى في إحياء السنن الميتة ينبزه الدجاجلة بالوهابي (كما ذكرت لكم أعلاه وهو في الحقيقة يدافع عن نفسه وبالإضافة عن الوهابية؛ لاعتقاده بأن هؤلاء القوم أشد الناس تمسكًا بما عليه السلف الصالح، وأقدر الناس على إحياء ما اندرس من السنن، هذا وأنتم أعلم بهذه الحقائق، هذا قليل من كثير والعفو مأمول، فإن الفرص لم تسنح بغير هذا. ... ... ... ... ... ... ... ودوموا لأخيكم في الله المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... أبو الطيب الراضي المكي *** جواب جلالة ملك الحجاز عما في هذه الرسالة من الطعن على حكومته نشرنا هذه الرسالة لإعلام قراء المنار بأحوال إخوانهم المسلمين من مصلحين ومفسدين، ومعتصمين ومبتدعين، وصادقين في مسألة الوهابية وكاذبين، وإننا كتبنا قبل نشرها إلى الإمام العادل ملك الحجاز ونجد نقفه على ما يقال في حكومته ونسأله الجواب عنه، وهو في الرياض عاصمة نجد فتفضل علينا بالجواب الآتي: أ

عناية الإنكليز بتنصير مسلمي السودان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عناية الإنكليز بتنصير مسلمي السودان رجال السياسة والجيش يدعون إلى توسيع سلطان الكنيسة نداء حاكم السودان العام: كان السودان الجنوبي منذ خمسين سنة مرتع الأهوال التي تجل عن الوصف فكانت العصائب المسلحة من تجار الرقيق تهاجم الأهالي الآمنين، واقتيدت عشرات الألوف من الرجال والنساء والأولاد بخزائم الأسر، وعشرات مضاعفة من الألوف أعملت فيها السيوف ذبحًا في الغارات الوحشية، وتركت عظامها منتثرة على الأديم لتبقى أثرًا دالاًّ على طريق الرق، وبين المصاعب والمخاطر قام الجنرال تشارلس غوردن وكان قد قطع ما بينه وبين العالم الخارجي ودام ذلك أشهرًا بما قام به، فقاتل تجارة الرقيق، وأنقذ الضحايا من بين أيديهم، وجعل القبائل الجنوبية تشهد فجر الشجاعة والأمل. ثم إن الثورة على الحكومة المصرية، اندلع لهيبها مطبقًا السودان الأوسط والشمالي وأصبح القتل نذيرًا لكل من بقي على الإخلاص أما غوردن، فبعد أن قضى في إنجلترة مدة قصيرة للراحة، أخذ مرة أخرى لينقذ الكتائب المنعزلة ويفك عنها أغلال الحصار، وليمكن غيرها من وسيلة الانسحاب إلى مصر، فبذل مجاهيد في هذا السبيل تُذْكَر فتُشْكَر؛ إذ استطاع كثيرون أن يدركوا النجاة بالانسحاب إلى الشمال، ولكن الذين كانوا لا يزالون في الوراء كان عددهم وافرًا، ومع أنه كان بوسع غوردن - برعاية الأوامر التي بيده - أن يلتحق بالقوم النازحين ويلوذ بمصر ناجيًا، فإنه أبى أن يفارق الذين اتخذوه مأمنًا لهم، فبقي في الخرطوم حتى أحدق بها الثوار بعد ذلك بقليل، وبعد حصار مرهق، دخلوها في 26 يناير 1885 ونهبوها، وخر غوردن قتيلاً بحراب الدراويش، فمات كما عاش في سبيل غاية من معالي الغايات، واسمه لا يزال كأنه الوحي والإلهام لكل فرد من الجنس الناطق بالإنجليزية: إن هذا هو التراث الباقي. لأجل تخليد ذكرى حياته وموته، وتوحيد العمل المتعلق باسمه وإدامته يوجه الآن هذا النداء للاكتتاب بمبلغ (60000 جنيه) فإن السودان بلاد مترامية الأطراف، تكاد تكون رقعتها أكبر من ألمانية وفرنسة وإيطالية مجتمعات، والبريطانيون الآهلون في هذه البلاد، نراهم ضاربين في المطارح العديدة والأماكن السحيقة حيث يصعب أن يكونوا حيث هم، وحاجاتهم الروحية غير مقضية، وقد أسلف إلى الآن أهل التضحية الخاصة، الباذلون بسخاء، كثيرًا من جيد العمل الكافل لتخليد اسم غوردن في هذه الديار، ولكن العمل الذي هو أكبر، لا يزال ينتظر أن يعمل: فالكنائس يجب أن تشاد في بورسودان، وعطبرة، وواد مدني، ولكن المال الذي يكفي ليس ناجزًا، والكتدرائية التي في الخرطوم، وفي كنيسة غوردن التذكارية، لم تزل غير مكملة، ولم تحبس عليها الهبات بعد، والقسس عددهم نزر يسير، في قطر عظيم، وأجرهم أجر قليل، عن عمل كثير، وليس باليد رأس مال يكفي نتاجه الآن حتى لأعطيات هؤلاء القسس فإلى أولئك القوم الذين يذكرون اسم غوردن منذ عهد الطفولة، وإلى غيرهم من الذين يجدون في هذا المثال العظيم الوحي والإلهام، نوجه هذا النداء، إذ - ونحن لا نتناول عون المعين- ليس إلى القيام بعبء هذا التراث الجليل من سبيل.

نداء عظماء رجال الجيش لتخليد ذكرى غوردن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نداء عظماء رجال الجيش لتخليد ذكرى غوردن غايته السامية الكنيسة في السودان إلى محرر التيمس: اطلعنا على نداء موجه من السير جون مافي، الحاكم العام للسودان، بمناسبة ذكرى موت الجنرال غوردن، يدعو إلى الاكتتاب بالمال لوضع أعمال الكنيسة في السودان على أساس صحيح باق، وإننا نحن الذين نلنا الفخار بأن كنا رفقة السلاح في ميادين القتال التي أخذ بعضها برقاب بعض بين سنة 1883 وسنة 1898 من دنقلة إلى فاشودة، ومن سواكن إلى كردفان، وخيضت غمراتها لتحرير السودان من كابوس الدراويش كابوس البغي الرهيب؛ ولتمهيد السبيل إلى إنجاز العمل لخير الإنسانية، العمل الذي كان غوردن رائده وفاتح طريقه، نود أن نعضد ذلك النداء بكل ما في مقدورنا من قوة. ثلاث وأربعون سنة قد انقضت على سقوط غوردن قتيلاً في الخرطوم، وقد مات كما عاش، في سبيل غاية من معالي الغايات، واسمه يبقي الوحي والإلهام لكل فرد من الجنس الناطق بالإنكليزية، فحياته وموته هما حقًّا مخلدان بعمل التمدين العظيم الجاري القيام به الآن في السودان، والتذكارات المادية لحفظ شهرته ليست بالقليلة، ولكن شيئًا أكثر من هذا لا يزال منتظرًا أن يُعمل؛ إذ يظهر للذين يجلون ذكرى غوردن أنه من العجز - مع ما انقضى من الزمن منذ موته، ومع ما هناك من الجهود المتواصلة من أهل التضحية الذين قاموا بما قاموا به من الخدمة في سبيل الكنيسة في السودان - أنه من العجز مع كل هذا أن لا يكون من الممكن استئناف العمل في سبيل الكنيسة في البلاد التي أنفق غوردن من أجلها تضحيته السامية. فالواجب المفروض لا يزال غير ناجز بعد، وقبل أن يذهب أهل هذا الجيل إلى ربهم، وهم الذين لم تبرح مأساة يناير سنة 1815 ذكرى حية في خواطرهم، وقبل أن يتباعد اسم غوردن من الأذهان، ويحوطه شبه النسيان، فيندرج مختفيًا مع ما يختفي من الأشياء السالفة الأوان، ومعارك القتال القديمة الأيام، نحن بعض الذين شهدنا كوائن فتح السودان، مُوَفِّينَ ما كان علينا من قسط في كل دور من الأدوار، وكتب لنا البقاء إلى هذا الزمان، نناشد جميع القوم على السواء، مناشدة الجد والحزم باسم غوردن وغيره من بُسْل الرجال الذين سقطوا في تلك البلدان، أن يلبوا نداء الحاكم العام بما يملكونه من مصدر إعانة لجمع المال الذي به يستعان في تخليد عمل غوردن الدائم البقاء. الإمضاءات بلومر - فليد مارشال، بيتي رجلد ونجت، أرشبولد منطر - جنرال. مكسويل - جنرال. ملن - فيلد مارشال. سميث دوريان - جنرال لسلي رندل. - جنرال. سنو - فريق ثان، جوسلين ودهوس جنرال إدورد غليشن - فريق ثان. فريد ستيفورد - فريق ثان. بيتن - جنرال. ستوكلند - فريق ثان. أسار - جنرال. هويجهام جنرال. *** نداء عظماء رجال الجيش لتخليد ذكرى غوردن مقالة التيمس منذ أربع وأربعين سنة، ختامها يوم السبت الماضي، كانت تجريدة عسكرية بريطانية، بعد أن تناقص عددها حتى التلاشي لكثرة القتال المتواصل ولا سيما بعد معركتين دمويتين جلبتا الويل الأكبر، تشق طريقها، بشق الأنفس، مذعورة، نحو الجنوب في كبد الصحراء، وكان قائد التجريدة قد قتل، وكان خليفته في القيادة وقتئذ قد وقع في الشرك لجنوح الباخرة إلى اليابسة، ولما قيض للقائد والتجريدة في النهاية الاتصال والاجتماع، كان لا يزال بينهما وبين المكان المقصود مسيرة يومين، فوصلوه متأخرين يومين، وكان الخرطوم بيد المهدي ودراويشه، وكانت عشرة أشهر طافحة بضروب اليأس، وبصنوف من الدفاع المقرون باليأس، وبأعمال كانت للدهاء مجلى عجيبًا وللفظاعة مشهدًا غريبًا، بقدر ما كانت كوائن عظيمة ووقائع جليلة، بل كانت العشرة من الأشهر انقطاعًا وانعزالاً، قل من يعرف لهما مثالاً، فكان الأمل يحيا ثم يفنى، ثم بعيد حين تراه يبعث حيًّا، ثم يعود سيرته الأولى متعاقبًا عدمًا ووجودًا، وقس على هذا ما كان من إيمان وعزم، وأخيرًا وافق اختتام العشرة الأشهر، وكان اختتامًا مظفرًا، ولكنه كان هائلاً. في 26 يناير 1885 كان تشارلس غوردن قد جندل بطعنات الكفار، تجار الرقيق، القتلة، الذين صمد لهم حتى النفس الأخير من حياته، وليس بوسع أحد كان حيًّا في إنجلترا يومئذ أن ينسى تلك الفترة: من الملكة إلى أدنى طبقات الشعب، كان كل فرد قد طاف به طائف من الدَّهَش والروعة، فقد كان بالإمكان إنقاذ غوردن، وقد كان يجب إنقاذه بشيء أكثر من التصميم والإقدام هنا بشيء أكثر من نفاذ البصيرة هناك، كان من الممكن إنقاذه ولكنه لم ينقذ، ولما كانت تلك العاصفة من الشعور في إبان عصرها، لم يكن من طبع الإنسان (ولا المرأة) أن يبعث بنظره ناقدًا أول السياسة الرشيدة وطرق الحرب وأساليبها، وموازنًا بين تفاصيل الحقيقة والقصد، وتفاصيل الأوامر المعطاة والأوامر المفروضة، وتفاصيل الطاعة المخلصة والعصيان الموحى به، وتفاصيل الوعود المقطوعة والوعود التي أخذت كأنها قضايا مسلمة، مما يمكن الآن لصاحب النظر العادل، بعد أن مضى ما مضى، أن يستخرج من مجموعه الحقيقة المتعلقة، بتاريخ كارثة غامضة معقدة، دع عنك كيف وصل غوردن إلى الخرطوم بل اعلم أنه هو هناك محصور فيها، ويكفي أن تعلم أن جنديًّا إنجليزيًّا باسلاً مقدامًا أرسلته بلاده لينقذ من أصبحوا أذلاء تحت مواطىء الأقدام، قد ترك ليلاقي في حصاره الموت الزؤام، وإن هذا عبرة كافية لشعب صحيح الشعور، وإننا نعلم الآن الموضع الذي يجب أن توضع فيه الملامة، ونعلم أيضًا مقدار هذه الملامة، ولكن عند النظر خلال الأربع والأربعين سنة الماضية، لا يكون من شيمة العقل الحر أن يأخذ بأفكار الملامة، فالعاصفة قد سكنت واضمحلت ويرى الناس جميعًا شبحًا مضيئًا خارجًا من ذلك المضطرب، وهو على كل حال ليس شبح بطل من أبطال الأساطير، ولكنه لما كان له نور العبقري وإشراقه، فله أيضًا عظمة العبقري وتساميه: التجرد عن الدنيا الإيمان الكامل، والانصراف عن كل شيء، ما خلا إرادة الله، وليس بإمكان البصيرة الإنسانية أن تكشف حُجُب الغيب عما عساه يقع ويحدث، ولكن حقيقة ما وقع وحدث بيِّنَة جلية، فقد اقتضى الأمر ثلاث عشرة سنة عملاً وحربًا، لمحو الضرر السيئ الذي كان من الأشهر العشرة ولكن الثلاث عشرة سنة، أخرجت لإنجلترا رجلاً قائدًا ورجالاً سواه قوادًا بحسب مراتبهم، وصاغت منهم أبطالاً، أبطال يوم كان مأزقه حرجًا. وإذا كان من المُسَلَّم به أن هذا هو الخير الوحيد الذي جاء من جميع ذلك الشر، فمن الواجب أن يرى إلى جانب هذا الخير خير آخر أيضًا، وأن شهادة المستشهد في الخرطوم أكسبت بريطانيا وجميع العالم، بطلاً جديدًا، ومثالاً جديدًا، وأضافت اسمًا جديدًا إلى أسماء الرجال الذين وهم على صورتنا البشرية - وما أبعد الفرق- أصبحوا يضيئون في الخيال ويشرقون، ويتسامون بالروح ويتعالون. أما غوردن فقد بذل نفسه في سبيل تحرير السودان من القهر وأيدي السلب والنهب، بل وفي سبيل ما هو أكثر من هذا، ألا وهو (تنصير السودان) وفي يوم السبت الماضي، وهو يوم الذكرى الأربع والأربعين لموته، وذكرى قريب الثلاثين لتحقيق الغرض الأول من أغراضه، أذاع حاكم السودان العام نداء عامًّا للاكتتاب المالي لاستئناف العمل في سبيل تحقيق الغرض الثاني - وهو الأعز- وعضَّد النداء أعاظم القواد الذين كانوا في الحملة الحربية ولم يزالوا أحياء يرزقون، وهي الحملة التي بإحرازها الحرية للبلاد عَبَّدَتِ الطريق لنشر الدين، ومن المؤكد أن مثل هؤلاء القواد لا يذهب نداؤهم عبثًا. وبعد أن انقضى على موقعة أم درمان سنتان وهي موقعة تحرير السودان أذيع نداء لبناء كتدرائية في الخرطوم، ولكن حرب جنوب إفريقيا صرفت أذهان الناس وأيديهم عن العناية بالمشروع، ومنذ زهاء عشرين سنة افتتح اكتتاب في (منشن هوس) وكان الملك إدورد ومليكنا الحالي في الطليعة، ثم إلى الآن انقضى سبع عشرة سنة على تكريس الكتدرائية في الخرطوم لم تبرح تلك المحطة الخارجية من محطات النصرانية في إفريقيا، وهي مبنية على مرمى حجر من مقتل غوردن، وفي القسم الأوسط من داخلها المصلب كنيسة غوردن التذكارية، لم تبرح تلك المحطة غير ناجزة وغير محبوسة عليها الهبات. وهناك حاجة إلى أن تُشَاد الكنائس في بورسودان على ساحل البحر الأحمر شمال سواكن، وفي عطبرة على النيل جنوبي بررة وفي واد مدني على النيل الأزرق للشمال الشرقي من الخرطوم، في أماكن أخرى حيث الطوارئ البريطانية مُوَزَّعَة جماعات هنا وهناك. وهناك حاجة إلى كنيسة سيَّارة تروح وتغدو في القطار وإلى هذه الكنيسة السيارة الحاجة أمس لما نعطي من الوسيلة لنشر الدين الذي كان عليه غوردن، وفي سبيله مات، وإن الروح التي لا تغلب روح رجل العبقرية في التضحية والغرابة، لم تزل قوة حية في بلاده وإنها الآن لفرصة وواجب في المتناول، أن يشترك في عمله الذي بدأ هو به، وتبذل المعونة لنشر ذكراه وتعميم تلك النفس السامية النادرة المثال، في كل ناحية وصوب اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

تعليق المنار، وتنبيه المسلمين الأغرار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعليق المنار وتنبيه المسلمين الأغرار اعتبروا أيها المسلمون الغافلون الأغرار بتصريح عظماء الإنكليز وحكومة السودان بهذا المشروع تنصير السودان. اقرءوا هذه الوثائق الرسمية الناطقة بلسان دينكم مصرحة بأن الغرض الأخير الأعلى للإنكليز من حملهم صاحب مصر الذي أضاعها على إرسال (غوردون) الإنكليزي القائد القسيس إلى السودان إنما هو انتزاع أهله من حظيرة الإسلام وجعلهم نصارى تستخدم الدولة البريطانية أرواحهم كما تسخر أجسادهم في سبيل ترقية البريطانيين محرري الأمم والشعوب. وأما الغرض الأول من دسِّ هذا الإنكليزي القائد الفاتح المبشر فهو التمهيد لانتزاع أمبراطورية السودان من سلطان الحكومة المصرية الغافلة المغفلة، ونقله إلى حظيرة الإمبراطورية البريطانية المرنة، التي يعمل أبناؤها الأيقاظ لرفع علمها الصليبي فوق رءوس جميع البشر. هذان هما الغرضان الحقيقيان المقصودان بالذات من تحكيم (غوردن) في السودان، ولكن كان له غرضان آخران صوريان بل وسيلتان إنسانيتان له لذينك الغرضين (إحداهما) إنسانية عامة وهي تحرير الرقيق حبًّا في البشر والسود منهم، وإن كان في الإنكليز من الإفرنج من يقولون: إنهم ليسوا من ذرية آدم، ومنهم من يقول: إنهم من أصل غير أصل الإنسان الأبيض - وعلى كل قول من الأقوال يستحق السوداني أن يجعل مسيحيًّا، وإن لم تلحقه معصية آدم الذي ظهر للمسيح - وهو عندهم رب البشر- بناسوت أحد أنبائه، وولد من بطن بعض بناته لأجل تخليص ذريته من تَبِعَة المعصية ومعصية زوجه - وإنما الذي لا يجوز فهو أن يكون مساويًا في النصرانية للإنكليز بحيث يصلي معهم في صف واحد في الكنيسة كما يتساوى المسلمون في المساجد، وكذلك يستحق اسم الحرية الشخصية لأفراده وإن كان معناها استعباد شعبه لبريطانيا العظمى. والوسيلة الثانية لتنصير السودان وأنكلتهم أو سكسنتهم أو كلنزتهم - وأعني الوسيلة الصورية الرسمية - هي خدمة الحكومة المصرية، وهل احتل الإنكليز مصر بعد إخماد تألب أهلها على أميرهم إلا لأجل حفظ سلطانه عليها؟ وهل أنقذوا السودان من الدراويش بجند مصر ومال مصر وأنشئوا فيه السكك الحديدية بهما إلا إخلاصًا في خدمة مصر وأمراء مصر. فإن كانوا رأوا بعد ذلك أن السودانيين أولى بالحب والعشق الإنكليزي والخدمة البريطانية من المصريين وأمرائهم فأنقذوهم منهم فما خرجوا عن شنشنتهم في عشق الشعوب وخدمتها فهم كما قال عاشق الحسان: محا حبها حب الأولى كن قبلها ... وحلت مكانًا لم يكن حل من قبل وكان مبدأ الوظيفة الرسمية التي نِيطَ به في أول الأمر أن إسماعيل باشا الخديو واضع الألغام تحت مصر والسودان قد أصدر أمره في أواخر سنة 1290 يناير سنة 1874 بجعل الكولونيل غوردن حاكمًا على خط الاستواء ومنحه مائة ألف جنيه من الخزينة المصرية نفقة لحملته، وسموه لا يدري أنها لفتح السودان لدولته. لم أكتب هذا التنبيه لأحث حكومة مصر أو شعبها المسلم على السعي لمنع تنصير الإنكليز لمسلمي السودان فإنهم في هذا مضرب المثل العربي (الصيف ضيعت اللبن) ولا لأدعوهم أو أدعو غيرهم إلى الاحتجاج على هذا العلم فإنني لا أرجو أن يرتفع لهم صوت ند في ذلك يُشهر به ويؤثر في أنفس سامعيه على أنه لا يصد الإنكليز عنه بعد أن أظهروه وشرعوا فيه. وإنما كتبته للمقاصد الآتية: (1) توجيه أنظار المسلمين ما عدا العميان المنكوسين ولا سيما العرب الغافلين إلى خطة الإنكليز في استعمار الأقطار واستعباد الشعوب وهدم حكوماتها وديانتها. (2) ما هو أهم من هذا، وهو أنهم لم يستولوا على قُطْر من الأقطار بقوتهم البرية أو البحرية إلا باستخدام الجهلة أو الخونة من ساداتها وكبرائها لذلك، فمن لم يعرف شيئًا من تاريخ استعمار الهند فلينظر في سيرتهم في بلاد العرب وليقس مستقبل فلسطين وشرق الأردن والعراق على ماضي مصر والسودان وحاضرهما. (3) تفطينهم لما هو أخفى عليهم من هذا، وهو أن دعاة تجديد الإلحاد والزندقة بهدمِ عقائد الإسلام وآدابه - أو ثقافته كما يقولون - وتشريعه ولغته حتى حروفها هم أضر على الإسلام والمسلمين من الإنكليز والفرنسيس والهولنديين والإيطاليين، سواء أكانوا في أعاجم الترك والفرس والأفغان، أو في عرب مصر وسورية والعراق. فإذا كان أولئك الرؤساء والأمراء قد باعوا ولا يزالون يبيعون بلادهم للأجانب بتأمير الأجانب إياهم فيها، فهؤلاء الملاحدة دعاة الهدم المسمى بالتجديد - كتسمية الاستعباد بالانتداب وتسمية الشِّرْك الخرافي بالتوسل - يسعون لهدم جميع مقوماتها ومشخصاتها التي كانت بها أمة ولا سيما الدين وهم بذلك يخدمون الأجانب المستعبدين لهم بما يمكن لهم في أرض الشعوب التي يحتلونها بالأسماء الخادعة (كالاحتلال المؤقت والانتداب وغير ذلك) حتى لا يُرْجَى أن تبقى لهم جامعة توحد قواهم وتمكنهم من استعادة استقلالهم عند سنوح الفرص له. وقد حدثني الثقة الذي لا يماري أحد يعرفه في صدقه أن أحد دكاترة الإلحاد بمصر قال له: لولا تعصب المسلمين الديني الذي من تعاليمه أن تكون حكومة المسلمين لأولي الأمر منهم لأمكننا إقناع الشعب المصري بالجنسية الإنكليزية والتبعية لحكومتها العزيزة القوية واسترحنا من هذا الكفاح في سبيل الاستقلال. (4) تذكير المسلمين من جميع الطبقات بأن يعتبروا بعناية الإنكليز بنشر دينهم ومذهبهم، وجعل ذلك غاية الغايات لفتوحهم الذي يسمونه في أول الأمر بأسماء لطيفة لخداع أهلها، فإذا كان الدين من الأمور العتيقة البالية، التي لا يصح أن يبقى لها في القرن العشرين من باقية، فما لأقوى الأمم وأعز الدول يبذلون الجهود، والقناطير المقنطرة من النقود في المحافظة على دين شعوبهم فيها، ثم على نشره مع مراعاة مذاهبهم في الشعوب الأخرى، فإذا تأملوا هذا يدركون مقدار ضرر دعاة الإلحاد منهم فيهم، وكونهم يخدمون بل ينصرون خصومهم عليهم. ومن العبرة في هذا المقام تنافس كل من إيطالية وفرنسة في استمالة البابا رئيس الكنيسة الكاثوليكية إليها، بل يقال: إن اقتراح بعض رجال الإنكليز لتعديل كتاب الصلاة لكنيستهم لا سبب له إلا التقرب من البابا والتمهيد لتوحيد كنائس النصرانية كلها، وهو ما تعقد لأجله المؤتمرات في كل عام في الأقطار المختلفة، ومنها بلدنا هذا في قطرنا هذا. فيا أيها المسلمون: اعلموا أن جميع دعاة التجديد الإلحادي أعداء لكم وأولياء لأعدائكم، وأن كل من يمدح لكم خطة الكماليين ومقلديهم من الإيرانيين والأفغانيين فهو لكم عدو مبين، فلا يغرنكم خداعهم لكم بذكر مخترعات الصناعة من الطيارات وآلات المواصلات والغواصات وغيرها، فهذه الأشياء مما يوجبها الإسلام على المسلمين، وليست من مبتكرات الملاحدة الإباحيين، فهو يحث عليها ويفرضها على الأمة فرضًا، فلا ننكرها على تلك الشعوب بل نحثهم عليها، وإنما ننكر عليهم إفساد العقائد الدينية والفضائل الشرعية، وإباحة الكفر والسُّكْر والزنا والقمار وغيرها من المفاسد المهلكة للأمم القويمة فضلاً عن الضعيفة كهذه الشعوب الشرقية، وإننا نؤيد هذا التنبيه ببعض الأخبار عن عظماء أوربة من رجال العلم والسياسة بالمختارات الآتية من الصحف: *** المسألة الدينية في إنكلترا وغيرها [*] ورد تلغراف من لندن إلى جميع جرائد أوربا مفاده أنه في مجمع الأساقفة الإنكليز الذي انعقد في وستمنستر قرئ الكتاب الآتي الذي وجهه المستر ويليام جونسون هيكس ناظر الداخلية الإنكليزية وهو: (ينبغي لكنيسة بريطانيا العظمى أن تحدد خطتها بجلاء، هل تريد أن تتحد مع رومية اتحادًا تامًّا أو ناقصًا؟ وهل تريد أن تستند على تأويلاتنا للكتب المقدسة وتتحد مع الكنائس البروتستانتية التي في البلاد؟) ثم قال ناظر الداخلية المشار إليه: إنه لا يقدر أن يصدق (أن الكنيسة الإنكليكانية تريد أن تعود إلى ما تحت سلطة الباب كما أن سائر الكنائس البروتستانتية التي تتبع العقائد التي تتبعها الكنيسة البروتستانتية هي معها في هذا الأمر) . ومن هنا يعلم القارئ أن فصل الدين عن السياسة هو فصل إداري لا غير، وأن الحكومات في الممالك الراقية تهتم بالمسائل الدينية وتبحث فيها؛ لأنها تتعلق بوجدان الأمم التي وجدت تلك الحكومات لإدارتها. أو الثرثرة التي معناها تخطئة المسلمين لجعلهم الخليفة رئيسًا دينيًّا كما هو رئيس دنيوي إن هي إلا من جملة الثرثرات التي لا طائل تحتها. فالخليفة عند المسلمين رئيس ديني كما أن ملك إنكلترة رئيس للكنيسة الإنكليكانية. والمسلمون يدعون للخليفة في الجوامع كما يدعو الإنكليز لملك إنكلترة في الكنائس بلا فرق. لا بل عندما تفتح الإنكليز هذه المرة كتاب الصلاة الذي هو دستور الكنيسة الإنكليكانية اختلفوا في أشياء كثيرة ولكنهم اتفقوا على زيادة صيغ الأدعية المتعلقة بحفظ حياة الملك وعائلته وتوفيقهم وتأييدهم. ومنذ أيام قلائل احتفل في قصر دورن من هولاندة بدخول القيصر الألماني السابق ويليام الثاني في سن السبعين، وتواردت عليه التهاني من أحد عشر ألف شخص، واجتمع في القصر أكثر أبناء الأسر النبيلة يتقدمهم ملك الساكس السابق وولي عهد بافاريا، وأقيمت المراسم الدينية بمناسبة هذا العيد في كنائس ألمانيا وتليت الأدعية بحفظ حياة القيصر وعائلته ونعت بلقب (رئيس الكنيسة المسيحية في ألمانيا) وذلك أن إمبراطور ألمانيا وملك بروسيا هو رئيس الكنيسة اللوثيرية في العالم وحاميها كما أن ملك إنكلترة هو رئيس الكنيسة الإنكليكانية وحاميها. ولا يزال اللوثيريون في ألمانيا يعدون الإمبراطور ويلهلم الثاني رئيسًا لكنيستهم ويدعون له. إذًا الدعاء للملوك حماة الأديان ليس خاصًّا بالمسلمين ولا موجبًا للهزؤ بالمسلمين.. بل ليس منحصرًا بالمسلمين والمسيحيين معًا. فقد فات المسلمين والمسيحيين في هذا الأمر اليابانيون الذين ليس اليوم في الشرق ولا في الغرب أمة تسبقهم في ميدان التقدم، ومع هذا فعند تتويج إمبراطورهم منذ نحو شهرين أو ثلاثة كانت الحفلة كلها دينية واستمرت نحو شهر من الزمن، ولبس الإمبراطور حلة الكهنة وأخذ بيده العكاز الذي يتوكأ عليه؛ وذلك لأن الإمبراطور هو الرئيس الفعلي للديانة اليابانية وهو الذي يقال له: ابن الآلهة الشمس، وقد كان من جملة المراسم التي أقيمت في حفلة تتويج ملك اليابان أن الإمبراطور أكل الأرز المقدس مع الآلهة التي يتعبدون لها ... وكان هذا الأرز قد زرع هذه السنة زراعة خاصة توكل عليها عمال من قبل الحكومة تحت ملاحظة الكهنة، فالإمبراطور في الحقيقة هو رئيس الدولة ورئيس الديانة معًا، ولم يضر ذلك شيئًا برُقي اليابان المدهش الذي يبهر الأبصار وليست في الدنيا حكومة لا تعرف الدين إلا الحكومة البولشفيكية، فكان الأولى بهؤلاء الذين لا يزالون يهزءون بصبغة الملوك الدينية أن ينشروا الثقافة البولشفيكية ويحبذوها دون غيرها، هذا إذا أرادوا أن يكون عندهم شيء من المنطق. والحال أنهم لا يكرهون صبغة الملوك الدينية إلا إذا كانت المسألة متعلقة بالإسلام، فلم نفهم لماذا؟ لا تراهم يعترضون على صفة ملك إنكلترة الدينية ولا على صفة آل هونسولرن الدينية ولا على الثقافة الدينية التي أقامتها الحكومة الإيطالية في زمن موسوليني، ولا على إدخال تنصير أهالي الكونغو

تعديل كتاب الصلاة في إنكلترا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعديل كتاب الصلاة في إنكلترا جاء في جريدة الأخبار ما يأتي: جاء في جريدة الطان بعددها المؤرخ في 14 ديسمبر (سنة 1928) أنه انعقد مجلس اللوردة في جلسة تُعَدُّ من أعظم الجلسات شأنًا منذ نهاية الحرب إذ اقترح فيها رئيس أساقفة (كانتربري) التصديق على النص المُعَدَّل لكتاب الصلوات. وقد ذكر في أثناء كتابه أنه لم يقع أدنى تبديل أو تغيير في عقيدة الكنيسة الإنكليزية، وجُلُّ ما هناك أن عبارات دعائية قد أضيفت لأجل الملك ولأجل الأموات , وكذلك بعض أنظمة تتعلق بحفظ الأشياء المقدسة. فاقترح اللورد هانفورد رفض الاقتراح وقال اللورد (دنبيغ) إن أعضاء المجلس الكاثوليكيين لا يشتركون في هذه المناقشة فتأجلت الجلسة إلى الغد اهـ. (الأخبار) سبحان الله ما زالوا يقولون لنا: إن الأمم المتمدنة قد فصلت الدين عن السياسة فصلاً تامًّا، وإن أمور الدين إذا اختلطت بأمور الدنيا أفسدتها، ولذلك جميع الحكومات الراقية في هذا العصر (لا ييق) أي لا دينية، وأن هذا كان سبب رقيها، وقد كانت هذه الدعوى أعظم ما تمسكت به حكومة أنقرة وتابعها عليه أذنابها بمصر فليخبرونا الآن ما مدخل (كتاب الصلوات) بمجلس اللوردة وأي فصل هنا بين السياسة وبين الدين، وليخبرونا هل حكومة إنكلترة خارجة عن كونها (لا ييق) بسبب طرح قضية الصلوات في مجالس الحكومة، وعلى فرض أن الحكومة الإنكليزية غير (لا ييق) وأن حكومة أنقرة هي حكومة (لا ييق) بمعنى الكلمة، فهل صارت حكومة أنقرة أرقى في سلم السياسة والاجتماع من الحكومة البريطانية؟ أخبرونا أيها (اللاييق) أثابكم الله، أو فاخرسوا واخجلوا واعلموا أن بين الدين والسياسة صلات لا تنقطع، وإن كان كل منهما منفصلاً عن الآخر في دائرة اختصاصه، فهناك أمور عامة لا بد للسياسي الحكيم أن يأخذها بنظر الاعتبار، وإن تعظيم شعائر الدين والاهتمام بتثبيت العقيدة لن يضرا شيئًا رقي الأمم وانتظام الحكومات بل يساعدان على سير الانتظام واستمرار الترقي بما يكفلانه من تمكين دعائم الأخلاق وعدم إقلاق ضمائر الأفراد الذين تتركب منهم الأمة، فإذا كانت حكومة أنقرة تريد أن تحارب الدين الإسلامي فلتتخذ لها برهانًا على عملها المنكر غير قضية الاقتداء بالأمم المتمدينة.

مشروع قانون جمعيات المرسلين الدينية في فرنسة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع قانون جمعيات المرسلين الدينية في فرنسة باريس في 19 مارس - يتناقش مجلس النواب في مشروع قانون جمعيات المرسلين الدينية، وقد قال المسيو بول بونكور رئيس لجنة الشئون الخارجية: إن هذه اللجنة حصرت أبحاثها في السياسة الخارجية وهي تحاذر أن تقيم العقبات. ووصف المسيو هيرو المقرر ما قدَّمه المرسلون من الخدمات المنطبقة على الشرائع العلمانية وحق فرنسا الأسمى، وقال الخطيب: إن جميع وزراء الخارجية في فرنسا عضدوا المرسلين في البلدان الأجنبية، وأن الرسالات العلمانية تعمل أعمالاً تستحق الإعجاب ولكنها محدودة وهي تتعاون تعاونًا وديًّا مع الرسالات الدينية. ولا بد من إبداء هذه الملاحظة، وهي أن الرسالات الدينية التي تعلم في مدارسها خمسمائة ألف طالب وطالبة تقبض إعانة من الحكومة قدرها سبعة ملايين فرنك، أما الرسالات العلمانية التي تعلم عشرة آلاف طالب وطالبة في معاهدها، فإن الإعانة التي تقبضها تبلغ 34 مليونا ثم إن إيطاليا والولايات المتحدة تجودان بسخاء على رسالاتهما الدينية. وختم المسيو هيرو كلامه طالبًا الموافقة على المشروع اهـ. (المنار) هذا إحدى البرقيات التي وردت من باريس في هذا الموضوع ثم جاء بعد ذلك أن مجلس النواب الفرنسي وافق على هذا المشروع: فهل يعتبر بهذا ملاحدة الترك والأفغان وإيران ومصر وغيرها من البلاد العربية الذين تَلَقَّى أكثرهم دروس الإلحاد وإباحة الفسق من بعض ساسة فرنسة أو تلاميذهم ومقلديهم؟ كلا إنهم كما قال الشاعر: عُمْي القلوب عموا عن كل فائدة ... لأنهم كفروا بالله تقليدًا.

تحريم موسوليني تهتك النساء وتبرجهن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحريم موسوليني تهتك النساء وتبرجهن أصدر السنيور موسوليني سيد إيطاليا الآن الأوامر والتعليمات الآتية التي يجب على من يرتاد الشواطئ الإيطالية أن يحترمها ويسير بموجبها، وهي: يحرم على النساء أن يغتسلن في البحر في نفس المكان الذي يغتسل فيه الرجال. يحرم على كل من يغتسل في البحر، رجلاً كان أو امرأة أن يرتدي ثوبًا يترك جسمه عاريًا أكثر مما يجب، فلباس الحمام ينبغي أن يغطي الجسم كله ما عدا اليدين والقدمين. يحرم على من يغتسل في البحر، رجلاً كان أو امرأة، أن يضع عليه لباسًا لاصقًا بالجسم. يستولي البوليس على كل لباس لا يكون جامعًا لهذه الشروط ويساق صاحبه إلى نقطة البوليس لكتابة محضر مخالفة. يحرم قطعيًّا على كل من يغتسل في البحر أن يرقص وهو بلباس الحمام. وقد بدأ القوم ينفذون هذه الشروط والتعليمات القاسية. في الوقت الذي يُعْنَى فيه موسوليني كل العناية بتقوية الإنتاج في إيطاليا، وتقليل الوارد تراه يُعْنَى بمسألة الزي النسائي. وقد أنشأ لهذا الغرض لجنة لتعمل على (توحيد زي المرأة) وقبلت ملكة إيطاليا أن ترأس هذه اللجنة، وقد علقت جريدة الماتان على ذلك بقولها: إن توحيد زي المرأة معناه خلق زي إيطالي محض يسمح لغادات رومية وميلان أن يستغنين عن اقتناء الأزياء الباريزية وعن صنع أثوابهن من الأقمشة الأجنبية، وهذا مما يقلل أيضًا مقدار الفاضل في التجارة الإيطالية، ثم إن موسوليني يريد أيضًا أن ينقذ المرأة الإيطالية من ضروب الخلاعة التي تعصف اليوم بأوربا وأمريكا. وعلى ذلك فإن اللجنة الجديدة تنوي أن تقرر نماذج لأثواب واسعة محتشمة تبدأ من العنق وتنتهي حتى العقب. (المنار) من العجيب أن تنشر جرائدنا العربية في مصر وغيرها مثل هذه الأخبار الحسنة عن أعظم رجال أوربة، ثم ترى أكثرها تدعو إلى إطلاق العنان للنساء في الخلاعة والتهتك، وتسمي هذا - وما هو شر منه - النهضة النسائية، وتثني على الحكومة التركية الجديدة في إباحتها الكفر والإلحاد والسكر والزنا والقمار وتسميه إصلاحًا وتجديدًا، وما هو بجديد، بل هو الذي أهلك الشعوب القديمة كلها.

الحروف العربية واللاتينية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحروف العربية واللاتينية إذا مسستم الحروف العربية هددتم وحدة الإسلام ... ... ... ... ... ... ... ... ... عالم إنكليزي كبير زار القاهرة في هذا الشتاء المنصرم السير إدوارد دنيسون روس مدير مدرسة اللغات الشرقية في لندن وهو من أعظم مستشرقي العالم شهرة، وأكبرهم شأنًا وأكثرهم اطلاعًا. له مؤلفات عدة عن آداب الشرق وحضارته. وقد قابله أحد محرري الأهرام في فندق شبرد، ودار بينهما حديث محوره مسألة الحروف اللاتينية والعربية. قال العلامة المستشرق في أوائل حديثه: لقد تقدمت في السن وأخشى أن لا يتيسر لي بعد الآن أن أزور فلسطين وسورية والعراق في طريقي إلى إيران، أريد قبل كل شيء أن أرى حال الإسلام وما حدث له. وسيكون في مقدمة ما أقوم به زيارة الأزهر وفضيلتي شيخ الجامع الأزهر والمفتي. ونظر إلى الأستاذ عزام (وكان حاضرًا) ثم قال ضاحكًا: ولكن يجب أن لا أعامل كَكَافر فإني مؤمن، مؤمن حق الإيمان. ثم جرى الحديث في شتى المسائل وانتقل إلى مسألة الحروف التركية واستبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية فسأله المحرر رأيه في ذلك فقال: لا شك أن مصطفى كمال باشا من أكبر العبقريين في العالم [1] فإنه إذا أراد إدخال إصلاح يجعله قانونًا مفروضًا على الناس، خذ مثلا مسألة الحروف ولو ألفت لجنة لبحثها لقضت سنوات بعد سنوات، دون أن تصل إلى نتيجة........ ... وأما كمال باشا فإنه جلس مع آخر أظنه وزير المعارف الذي توفي ووضع معه الحروف التركية اللاتينية، ثم قال (غدًا تكون هذه حروف البلاد) وفي الغداة فرض الغازي على الناس تعلُّمها. ثم قال: عندي أن هناك غلطتين في تطبيق الحروف اللاتينة على الحروف التركية (أحدهما) في حرف (i) اللاتيني فقد استعمله كمال باشا بالنقطة للقيام مقام حرف قديم وبدون نقطة للقيام مقام حرف قديم آخر، واستعماله بدون نقطة ارتباكًا لاسم إذا كان قبله أو بعده حروف (n) أو (u) أو (m) إلخ، بل هذه الحروف نفسها يشكو الإنجليز من تشابهها، وقد عمد الألمان إلى التخلص من هذا التشابه، فكان الأجدر بمن يصنع حروفًا جديدة أن يتجنب وجوه التعقيد والارتباك. قلنا: وهل يعمد الفارسيون إلى مثل هذا التغيير؟ فقال: لا أدري وسأرى هذا، متى وصلت إلى هناك، ولكني على أي حال بحثت الموضوع بحثًا دقيقًا، وسأضع نفسي تحت تصرف الحكومة الفارسية إذا طلبت رأيي في الأمر [2] . قلنا: وهل تظن أن من المتيسر استبدال الحروف العربية بلاتينية؟ قال: إياكم وهذا الأمر، إني أفهم اقتباس الحروف اللاتينية في بلاد مثل تركيا أو إيران أما في مصر فالحذر من هذا؛ لأن الحروف العربية هي حروف لغة القرآن، وإذا مسستم الحروف العربية مسستم القرآن بل هدمتم صرح وحدة الإسلام. قد يمكن أن تطبق الحروف اللاتينية على اللغة العامية؛ لأنها لا ضابط لها، تكتب كما تسمع، أما العربية فيجب أن لا تمس مطلقًا؛ لأن الإسلام أساسه اللغة العربية فإذا ضاعت ضاع الإسلام. اهـ المراد منه باختصار.

حول قتل الأنبياء بغير حق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حول قتل الأنبياء بغير حق كتب إلينا الأستاذ الفاضل صاحب الإمضاء تحت هذا العنوان حكمه في انتقاد هذه المسألة بما نصه: بينما أنا أقرأ المنار (الجزء التاسع من المجلد التاسع والعشرين) إذ وقع نظري على عنوان (اقتراح على علماء التفسير ومدرسيه بالأزهر) صفحة 711؛ وإذا به يحتوي على تحكيم العلماء المفسرين بالأزهر في جدل نشأ بين صاحب المنار وبين منتقد حول عبارة من عبارات تفسير القرآن (جزء ثالث) لصاحب المنار حيث ادعى المنتقد أن عبارة المفسر عند قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) تفيد نصًّا أن قتل الأنبياء قد يكون بحق وجائزًا، واعتقاد هذا كفر، ورد صاحب المنار بأن هذا غير صحيح. فرأينا وجوب الرجوع إلى عبارة الأصل وعبارة المنتقد لنكون على بينة فبمراجعة العبارتين تبين لنا أن عبارة الأصل جزء ثالث تفسير صفحة 262 هكذا. وقوله: {بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) بيان للواقع بما يقرِّر بشاعته وانقطاع عرق العذر دونه وإلا فإن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقًا كما يقول المفسرون، وأقول: إن هذا القيد يقرِّر لنا أن العبرة في ذم الشيء ومدحه تدور مع الحق وجودًا وعدمًا لا مع الأشخاص والأصناف فإذا قلنا: إن كلمة {حَقٍّ} (آل عمران: 21) المنفية هنا تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري وإن لم يكن متعمدًا لقتله، فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتله وقتلوه يكون قتله حقًّا في عرفهم لا يذمون عليه، وإنما تذم شريعتهم إذا لم تكن عادلة واليهود لم يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقة ولا عرفًا) اهـ. ووجدنا عبارة المنتقد في الجزء الرابع من هذا المجلد (صفحة 280) هكذا: (أدهشني جملة جاءت بشرح آية {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ} (آل عمران: 21) من تفسيركم للجزء الثالث حاصلها أنه إذا أريد بكلمة حق في الآية ما يشمل الحق العرفي كما هو مقتضى عموم النكرة في سياق النفي كان قيد (بغير الحق) مخرجًا لقتل نبي بحق كما لو قتل المصريون موسى لقتله القبطي، فإنه بتقدير أن يكون عرفهم يقضي بقتل القاتل خطأ، يكون قتلهم له بحق فلا يعاقبون عليه وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة اهـ. وهذا مما يقضي منه العجب لو صدر عن أي مسلم فكيف بصدوره عن مصلح عظيم وأستاذ محقق كبير مثل السيد. والحق واحد وهو ما طابق الواقع، فالحق العرفي أي ما يُعَدُّ في عرف الأمم حقًّا إن كان مطابقًا للواقع فهو حق وإلا فباطل، فكيف يجوز قتل نبي لمجرد أن ما تواطأ أهل العرف على اعتباره حقًّا يقضي بقتله، ثم بعد فرض أن شريعة الذين قتل موسى عليه السلام أحدهم تجيز قتله مع نبوته كيف يتردد في كونها عادلة أو غير عادلة حتى يصح قولكم: (وإنما تُذَمُّ إذا كانت غير عادلة) العبارة نص في نظرنا في أن قتل النبي قد يكون بحق وجائزًا، واعتقاد هذا كفر بلا ريب، فإن كان لكم فيها قصد صحيح فتكرموا بشرحه وافيًا اهـ. فبتأمل ما سبق تبين لنا أن كلام المفسر يحتوي على ثلاث نقط: أولاً: قوله: إن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقًا. ثانيًا: قوله كنتيجة للبحث (واليهود لم يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقة ولا عرفًا) . ثالثًا: قوله: (لو كانت كلمة (حق) تشمل الحق العرفي لدخل في مضمونها مثل قتل المصريين لموسى عليه السلام إذا كانت شريعتهم وعرفهم تقتضي بذلك لقتله رجلاً منهم، وإن لم يكن متعمدًا ولا يذمون وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة. فالعبارتان السابقتان تدلان دلالة صريحة على أن قتل الأنبياء لا يكون بحق أبدًا، والعبارة الثالثة إذا تأملناها مقطوعًا النظر فيها عما قبلها وما بعدها وجدناها محتملة لأن يكون التمثيل بقتل المصريين لموسى القاتل منهم تمثيلاًَ لقتل الأنبياء بمقتضى الحق العرفي وذلك بأن يكون الممثل له (حق) ملحوظًا فيها ربطها بقتل النبيين وأن يكون موسى نبيًّا وقتئذ، وأن يكون ذلك تمثيلاً لا تنظيرًا، ومحتملة أيضًا لأن يكون المذكور تمثيلاً بمطلق قتل بحق عرفي لا بقتل نبي. فلو جاءتنا هذه العبارة المحتملة منفردة مقطوعة عن سابقتها ولاحقتها لوجب علينا أن نحملها على ما يتفق وحسن العقيدة حيث قرَّر العلماء أنه إذا قال مسلم كلمة تحتمل الإيمان من وجه وغير الإيمان من تسعة وتسعين وجهًا وجب حملها على وجه الإيمان فرارًا من تكفير مسلم بدون قاطع {وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} (النساء: 94) . أمَا والعبارة تكتنفها عبارتان صريحتان في أن قتل الأنبياء لا يكون بحق فليس لنا أن نهملهما ونهمل مقتضى القاعدة السابقة ونتلمس وجوه الخطأ من وراء ظهر السياق؛ إذ لا حظ لمسلم في تخطئة مسلم. وأما قول المفسر: (وإنما تذم شريعتهم إذا كانت غير عادلة) فلا يصح أن يكون فيه مغمز؛ إذ لا تستطيع هذه العبارة أن تقف في وجه صريح العبارتين السابقتين فضلاً عن أن ما فيها من التقييد يساير كثيرًا من القيود التي لا ينظر إلى مفهوماتها وذلك كثير حتى في القرآن الكريم: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} (المؤمنون: 117) . على أنه ما الذي يهمنا من هذا التقييد إذا كان الكلام كله فيما وقع وانقضى، والمفسر معترف بأن جميع من قتل من الأنبياء قتل بدون أي شائبة من الحق، وليس عندنا في المستقبل أنبياء نخاف من فتح باب العذر في قتلهم. بقي من كلام حضرة المنتقد قوله: إن الحق لا يطلق إلا على ما طابق الواقع، وذلك إنما يصح له إذا أمكننا أن نحجر على الاصطلاح أما إذا سلمنا أن الحق ينقسم إلى عرفي وغيره، وغير العرفي هو الحقيقي، وهو ما طابق الواقع، والعرفي هو ما اصطلح الناس على أنه حق وتعاملوا وتقاضوا على مقتضاه وإن لم يكن في الواقع حقًّا بالمعنى الأول ككثير من القوانين الوضعية إذا سلمنا ذلك - ولا مفر من تسليمه؛ لأنه الواقع المشاهد - فلا يصح للمنتقد هذا الحصر ولا ما بناه عليه. على أنه فُهِمَ من كلام المفسر أن الذي حمله على هذا التقسيم إنما هو قطع ما فيه شائبة العذر لمن قتل نبيًّا أي أن بني إسرائيل قتلوا من قتلوا من الأنبياء ظلمًا وعدوانًا بدون مسوغ شرعي ولا وضعي وليس لديهم شيء مما يتعللون به، ولو لم يكن نافعًا في نفس الأمر، وهذا منتهى الحمق والسفاهة المُرْكِسَة لهم في أعماق الجحيم والعياذ بالله تعالى، والله نسأله الهداية وحسن التوفيق آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الجليل عيسى ... ... ... ... ... ... مدرس تفسير بالقسم العالي بالأزهر (المنار) نكتفي بهذا الحكم بيننا وبين المنتقد، وإن لم يرجع فيه الحكم إلى ما رددنا به عليه وصرَّحنا فيه بأننا ننكر دلالة عبارتنا على ما فهمه كما أننا لم نقصده منها بالضرورة وحكم العقيدة فلو كانت العبارة تدل على ما فهمه لكان خطؤنا فيها لفظيًّا. وكنا فهمنا أن غرضه من الانتقاد أن نبين له قصدنا من ذلك إن كان لنا قصد صحيح، فبيَّنا له أن قصدنا مبالغة الكتاب العزيز في تعظيم شأن الحق ونوط الأحكام به لتقرير المبالغة من تجرد اليهود من أدنى شائبة لحق ما في قتل من قتلوا من الأنبياء، ومثله المبالغة في تعظيم شأن العلم في قوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (لقمان: 15) وفي معناه تعظيم شأن البرهان في الآية التي أوردها الأستاذ الحكم آنفًا، فهل يماري فيه المنتقد كمرائه فيما قبله أم يذعن للحق؟ ومما تحكم به في تفسير عبارتنا زعمه أننا لما قلنا: (إن قتل الأنبياء لا يكون بحق مطلقًا) وصلناه بكلمة (كما يقول المفسرون) وأن هذا يفيد أننا منكرون لقولهم: وهذا تحكم ظاهر البطلان فالعبارة لا تدل عليه لغة ولا عرفًا ولا نحن قصدناها، بل هي تؤكد ذلك النفي المطلق المؤكد وهو من قولنا لا حكاية للفظهم، وكم لنا ولغيرنا من أمثال هذا التأييد، فهو يقلب كلامنا إلى ضد ما يدل عليه. ومثل ذلك إنكاره لاصطلاح الناس وتواطئهم على تفسير الحق بحسب عرف كل منهم فهو مكابرة للواقع كما قال الأستاذ الأزهري (وماذا يقول في هذا التشبيه أيضًا؟ هل هو إنكار منا لصحة قول المفسر الأزهري؟) . وإن لنا مقالاً ممتعًا في الجزء الأول من مجلد المنار التاسع عنوانه (الحق والباطل والقوة) قلنا فيه (ص 53) : (إن الحق والباطل يتنازعان في خمسة أمور كلية وهي: 1- الفلسفة والنظريات العقلية. 2- الوجود والسنن الكونية. 3- السنن الاجتماعية. 4- القوانين والمواضعات العرفية. 5- الدين والشريعة الإلهية. ثم فصلنا كل قسم من هذه الخمسة تفصيلاً، وتدخل مسألة قتل فرعون لموسى عليه السلام لو قدروا عليه في القسم الرابع مما هنا، على أنه لم يكن عند قتله للمصري وإرادتهم قتله نبيًّا. أفليس من دلائل سوء النية في النقد أن يجبرنا المنتقد على حمل كلامنا على عرفه المزعوم، دون عرفنا وعرف سائر الناس المعلوم؟

نبي دعي في دبي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نبي دعي في دبي رسالة لصاحب الإمضاء الفاضل جاءتنا في أواخر السنة الماضية فَنُسِيَتْ في الرسائل المهملة وهي: قدم (دبي) في أوائل شهر ذي القعدة نبي جديد يُدْعَى (السيد جلال) الهندي مرسل إلى هداية العجم الكورخردية خاصة - وإلى بعض أفراد من البستكية. يدعوهم إلى الشرك والخرافات، ويسوقهم إلى (النار) فُرَادى وجماعات (بدجل وتحاريق) ويوهم البسطاء وضعفاء العقول منهم أنها كرامات. مال إليه الكثير، وهرع إلى داره الكبير والصغير. يتقدمون بين يديه بذلك الخشوع التام، ولا كخشوعهم بين يد الملك العلام، وبذلك الانحناء والانكسار، الذي لا يجوز فعله إلا لله، لا لنبي من الأنبياء، ولا لولي من الأولياء، فضلاً عن هذا المشعوذ الشيطاني وإن شئت فقل نبي (النار) وذلك بمناسبة (نار) أجَّجَها لهم ليريهم من آياته العظام، وليبين لهم من خوارقه ومعجزاته، ما يجعلهم يصدقون برسالته! وقال ادخلوا فيها باسم الشيطان، واطلبوا المدد مني في أثناء دخولكم إياها وإذن لا تحرقكم، بل تكون بردًا وسلامًا عليكم! كما كانت بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام. فأطاعوا لأمره، وصدقوا لأول وهلة من قوله، وأخذوا يتهافتون على تلك (النار) المتقدة، ولسان حالهم يردد (مدد بوهاشم مدد) ظانين أنها لا تحرقهم ولا تلذعهم ولا تصليهم من حرها، وكأن أبا هاشم نسي أو تناسى حيث احترقوا جميعًا وتشوهت أعضاؤهم وجسومهم بحروق خطيرة وصاروا عبرة لمن اعتبر، وآية لمن أراد أن يتذكر، وجلبوا على أنفسهم الخزي والعار، والفضيحة والشنار، وسببوا على أنفسهم بهذه الفعلة الشنيعة لفت أنظار الناس إليهم ورمقهم لهم بكل هزء وسخرية، فلا حيا الله (السيد جلال) الذي أحرق هؤلاء المساكين في هذا الفصل فصل الحر. وأخيرًا اتضح لعقلاء أهل (دبي) وشقيق أميرها المحبوب الشيخ حشر بن مكتوم من أعمال هذا المشعوذ الشركية وأفعاله الكفرية فأصدر أمره البات له بمبارحة بلاده وعند أول (باخرة) رست في ميناء (دبي) سافر عليها , ومن حسن حظ الكوخردية والبستكية أن (الباخرة) بقيت في الميناء إلى يومين من ركوبه كانوا يترددون فيهما إليها كل آونة وأخرى زرافات للسلام عليه وموادعته من جهة أخرى! ! وإني لأشكر أهل (دبي) جميعًا وأخص بالذكر منهم الشيخين الهمامين الشيخ مانع بن راشد ولي عهد إمارة دبي، والمحسن الكبير الشيخ محمد بن أحمد بن دلوك على مقاومتهما للبدع والخرافات وتخليصهم لهؤلاء المساكين من هذه الورطة وإنقاذهم لهم من هذه (النار) التي كاد يقع في شركها ويهوي في هويها الكثير من أولئك المغفلين الذين هم أتباع كل ناعق فيا لله العجب. الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يأتوا بشيء من الخوارق النارية وإنما أتوا بمعجزات تبهر العقول وبآيات تحير الألباب وهي من لدن العزيز الحكيم مما تدل على عظمة الله سبحانه وتعالى وإخلاص العبادة له ولا يشرك معه فيهما سواه، فأي إيمان يبقى عند اقتحام هذه (النار) وأي تقوى يتقيها الإنسان بعد عمله الشرك، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) فليتنبه لهذه الممخرقات السحرية المسلمون وليأخذوا حذرهم من كل شيطان مريد. فالواجب على العلماء أن يبذلوا النصيحة للعامة ويأخذوا بأيديهم إلى سبيل الحق والرجوع إلى الدين الصحيح وينقذوهم من مهاوي الضلال ومظان الشرك، وإلا فما فضلهم وهم سُكُوتٌ عن مثل هذه الأعمال الشركية، والخزعبلات الخرافية، كأنهم لا يسمعون، وكأن الأمر لا يعنيهم ولا يهمهم فلا حول ولا قوة إلا بالله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... دبي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مبارك بن سيف الناخي (المنار) ما دام عوام المسلمين الجهلاء يقبلون كلام الدجالين دعاة الخرافات والبدع، وخصوم القرآن والسنن، غرورًا بأنسابهم، وانخداعًا بألقابهم، وجهلاً بشعوذتهم وحِيَلهم التي يسمونها كرامات، فهم لا يزالون عُرْضَة للضلال بمثل هذا الهندي الدجال , فطوبى للوهابيين المحاربين لهذا الضلال المبين. وإن من آثار فساد العقول والدين، وموت العلم والعلماء الراسخين، أن يدعي الولاية أو النبوة مثل هذا الدَّعِي الدجال، ويحاول التلبيس على المغرورين بدعوى الإسلام، بالإتيان بكرامة تدل على صحة ما قال، فيأتي بما يبوء به بالخزي والنكال، وهو أن تحرق النار من ادعى أنها لا تحرقهم كرامة له، فهو لم يأت بشيء يشبه خوارق العادات بشعوذة ولا سحر، فكيف ظلوا متعلقين بأذياله، ضالين بإضلاله؟

جمعية الرابطة الشرقية ومجلتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية الرابطة الشرقية ومجلتها وما كان من الخلاف والصلح بيننا وبين لجنة تحريرها تأسست جمعية الرابطة من أفراد متعارفين يكرم بعضهم بعضًا بل كان بعضهم لبعض صديقًا، ثم صاروا كلهم أو جُلُّهم أصدقاء تجمعهم فكرة واحدة، وإن اختلفوا في غيرها من عقيدة ورأي وخلق , وكنت أعرف كلا من صاحب السماحة عبد الحميد البكري وصاحب السعادة أحمد شفيق باشا ويعرفاني ثم ازددنا بكثرة الاجتماع في هذه الجمعية تعارفًا وتآلفًا وتزاورًا وتآزرًا، فلم نختلف في هذه السنين في رأي ديني ولا علمي ولا اجتماعي ولا سياسي، اللهم إلا في انتقاد (كتاب الإسلام وأصول الحكم) الذي كان سبب انفصام عروة الصداقة بيننا وبين مؤلفه كما هو معروف فقد كان حكمي عليه وعلى صاحبه أشد من حكمهما أو غير حكمهما. وقد اتفق أن بعض إخوان علي أفندي عبد الرازق كثروا في جمعية الرابطة الشرقية، وأن صار هو عضوًا في مجلس إدارتها مع بعضهم ممن سبقه إليها - ثم اتفق أن تمكنت الجمعية في هذا العام من نشر المجلة التي كانت من مقاصدها المذكورة في قانونها، وأن قرر مجلس إدارتها تأليف لجنة لإصدار المجلة من رئيسها ووكيل مجلسها وسمي علي أفندي عبد الرازق مشرفًا على التحرير فيها - وكان من أمري ما كان من الإنكار على المجلة وانتقاد خطتها بالشدة التي أعتقد أنها واجبة عليَّ لديني ولجمعية تعبتُ في تأسيسها وخدمتها بعض سنين. ساء هذا النقد الشديد كلا من صديقي الرئيس والوكيل، ورأيا أنه كان ينبغي لي وأنا عضو في مجلس إدارة الجمعية أن أتكلم معهما أولاً فيما أنكرته فإن لم ينصفاني كان لي حينئذ أن أكتب وأنشر , وأما أنا فلم أكتب ما كتبته إلا لاعتقادي أنه واجب شرعًا ومصلحة كما قلت آنفًا، وإن كلامي معهما آخرًا، لا يكون إلا كما كان أولاً أعني أنه لا يكون إلا مراءًا وجدلاً، وإن كوني عضوًا من مجلس إدارة الجمعية لا يرفع عني واجب الإنكار شرعًا، بل يؤكده توكيدًا. ثم إنني عرضت المسألة على مجلس إدارة الجمعية لتحكيمه في المسألة لكن ظهر لنا في المجلس أن أعضاءه لم يكونوا قد اطلعوا كلهم على ما كتبته في المنار ونقلته جريدة كوكب الشرق مقرة له وناصرة لي فيه، وقال سماحة الرئيس: إنه سينشر في الجزء الثالث من المجلة شيء في الموضوع، فلا يصح نظر المجلس في المسألة إلا بعد صدور هذا الجزء واطلاع الأعضاء عليه وعلى ما سيكون من رأيي في المجلة بعده ويجب أن أبينه للمجلس مكتوبًا. وكنت قد علمت قبل الجلسة أن سماحة الرئيس وسعادة الوكيل لا يوافقاني على إنكار شيء مما أنكرته إلا على مقالة سلامة أفندي موسى وأن الرئيس نفسه قد رد عليها بمقال طويل سينشر في الجزء الثالث، وقد بينت في الجزء التاسع من المنار ما ظهر لي أنني أخطأت فيه في نقدي على المجلة وأنني أنتظر من رَوِيَّة الرئيس والوكيل أن يفصلا في المسألة فصلاً معقولاً يحل الإشكال، بما ينصف المُنْتَقِد ويحفظ كرامة المُنْتَقَد عليهم فماذا كان؟ كان أن ظهر الجزء الثالث مفتتحًا بمقالة لسماحة الرئيس تشعر برضاه عن كل ما أنكرته مما نشر في الجزء الثاني إلا بعض عبارات من مقال سلامة موسى بحث معه فيها بحثًا علميًّا أدبيًّا مع المبالغة في الثناء على علمه وأدبه، والإعجاب والإكبار لآرائه وأفكاره. وهو مع هذا يشتمل على مقالة عنوانها (نحن وصاحب المنار) سداها ولحمتها النبز بالألقاب، كلقب الدعي والكذاب، الذي يكذب على الله والناس، مع تكبير شأن المشرف على تحرير المجلة وإخوانه الذين انتقدنا عليهم. وهو الكاتب لذلك كله ولكن باسم المجلة لا باسمه. فلما رأينا هذا المقال مع مقال الرئيس حمدنا الله تعالى أن نصرنا عليهم بحكمهم على أنفسهم.. وبعد صدور هذا الجزء من المجلة نشر مجلس إدارة الرابطة بلاغًا في الصحف اليومية جاء فيه أن المجلس قد انعقد وكان من أهم ما قرره إقرار خطة مجلة الرابطة إلى هذا اليوم واستنكار خطة صاحب المنار في حملته عليها، ففهم الناس من هذا أن مجلس الإدارة موافق للجنة تحرير المجلة على خطتها المذكورة وفهموا أن ذلك يشمل الجزء الثالث منها. أما أنا فلما رأيت هذا القرار الذي صدر في جلسة لم أحضرها مخالفًا لما اتفقنا عليه في الجلسة التي قبلها فكان باطلا شكلاً وموضوعًا شرعت في كتابة مقال طويل لينشر فصولاً متوالية في جريدة كوكب الشرق التي نشرت مقالتي في الإنكار على مجلة الرابطة دفاعًا عن ديني وعقيدتي وعن عرضي وشرفي. فبعد أن كتبت فصلين من المقال نشر أولهما في الكوكب زارني صديقي صاحب السماحة والفضيلة السيد محمد أمين الحسيني الشهير وكلمني في الصلح، فقلت له: إن الله عز وجل يقول: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء: 128) وإنما يكون خيرًا إذا صلح به الأمر، وزال به الشر، فأشترط فيه أولاً استنكار ما نشر في المجلة من الطعن عليَّ بما رأيت. وثانيًا: أن لا ينشر في المجلة شيء من مسائل الإلحاد في الإسلام بأي معنى من معانيه التي بَيَّنْتُها في المنار. ثم جمعنا السيد عنده فعلمت في هذا الاجتماع أن للسيد البكري عذرًا في بعض ما كان، لا يحسن نشر مطويه الآن، وقد قررنا قواعد الصلح بالاتفاق، ومنها أن أكف عن المضي فيما كنت أنشره في جريدة كوكب الشرق، وكان قد نشر الفصل الأول منه وهُيِّئَ الفصل الثاني في مطبعته للطبع فحاولنا منعه فلم يمكن. ثم اجتمع مجلس الإدارة وبحث في المسألة بحثًا طويلاً كان مما أثر في نفسي منه قول الأستاذ علي عبد الرازق إنه عنى بكلمة (الدَّعي) فيه أنني لست من علماء الأزهر لا في نسبي وإنه مهد لهذا المعنى، وأنا لم أدع يومًا ما أنني أزهري، وإنما الذي أثر في نفسي قوله بعد ذلك: إنني لا أحترم في الدنيا أرستقراطيةً إلا النسب النبوي، ولما كان السيد رشيد من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم فأنا أفضل قطع لساني على الطعن في نسبه وقطع يدي إن كتبته - أو ما هذا مؤداه. ثم أصدر المجلس القرار الآتي في الموضوع ونشره في الجرائد اليومية وهو: قرار مجلس إدارة الرابطة في فض الخلاف في يوم 6 مارس سنة 1929 انعقد مجلس إدارة الجمعية برياسة حضرة صاحب السماحة الرئيس، ونظر فيما لديه من الأعمال، ومن أهمها الاقتراح المقدم من حضرة الأستاذ السيد محمد الغنيمي التفتازاني أحد أعضاء مجلس الإدارة بحسم الخلاف الذي نشأ عن شيء من سوء التفاهم بين فضيلة الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار وأحد أعضاء مجلس الإدارة وبين مجلة الرابطة الشرقية. وحضر الاجتماع سماحة السيد محمد الحسيني أفندي مفتي القدس الشريف ورئيس المجلس الإسلامي، ودار الحديث حول ما تضمنه اقتراح السيد التفتازاني، وقد تجلى بين الجميع روح الصفاء والحرص على خدمة الجمعية، والأسف على ما جر إليه سوء التفاهم من الخلاف مع إظهار الاستياء والاستنكار لما جر إليه سوء التفاهم من تبادل الحملات بين مجلتي: الرابطة والمنار. وتقرر إسدال الستار على ما مضى مع رجاء جميع الكتاب أن يقلعوا عن الخوض في هذا الموضوع. ويكرر مجلس الإدارة أن الرابطة الشرقية ومجلتها بعيدتان عما يمس المسائل الدينية والسياسية عن قرب أو بُعد طبقًا لقانونها. وقرَّر مجلس الإدارة إسداء الشكر لسماحة السيد أمين الحسيني أفندي لما أبداه من الغيرة في سبيل الوفاق. وقد شهد هذا الجلسة فضيلة السيد محمد رشيد رضا بصفته عضوًا في مجلس الإدارة كما شهدها حضرات أعضاء لجنة المجلة اهـ. كنت قبل هذا الصلح كتبت مقالة شرحت فيها المسألة بصورتها الظاهرة وسريرتها الباطنة وجعلتها مقدمة للفصول التي شرعت في نشرها على صحائف جريدة كوكب الشرق وكانت مطبعة المنار جمعت ذلك كله لنشره في المجلة فأمرت بتفريق حروفها كلها واستبدلت بها ما نشر هنا. وكانت جريدة السياسة قد نشرت مقالة تنصر فيها الإلحاد وأهله على هداية الدين ومنارها، وتستعدي فيها الوزارة الحاضرة علينا تأييدًا لها ولمن تنصرهم، وكانت مقالة سخيفة في عدواتها واستعدائها، ومسيئة إلى الوزارة بمطالبتها على حماية سلاطتها بسلطاتها، فرددت عليها بمقالة كسهام القدر أريتها فيها أنني لا أخاف إلا من الله تعالى، ورأيت أن لا أخلدها في المنار، تكريمًا لمن بلغنا أنه ألجمها عن العود إلى مثل ذلك بلجام من نار.

مؤتمر الرياض، وشكل الحكومة السعودية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مؤتمر الرياض وشكل الحكومة السعودية لقد كان في المؤتمر أو مجلس الشورى العام، الذي عقد بالرياض في هذا العام آيات لأولي النهى والأحلام؛ إذ كان مظهرًا للنشأة الأولى لحكومة الإسلام، التي تفضل جميع الحكومات النيابية المعروفة في هذه الأيام، وتشير إلى فوائده العامة بالإجمال: 1- قد أظهر لنا هذا المؤتمر أن حكومة الإمام عبد العزيز آل سعود حكومة إسلامية شورية مقيدة لا شخصية مطلقة، ملكية الصورة جمهورية الروح، استقراطية المظهر، ديمقراطية المخبر، بل هي زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، وهي أشبه بحكومة الخلفاء الراشدين من كل حكومة إسلامية جاءت بعدهم إلا حكومة عمر بن عبد العزيز. 2- أن نجد وملحقاتها هي القطر الوحيد الذي يوجد فيه الجماعة التي تسمى في عرف الشرع بأهل الحل والعقد، الذين تنعقد الإمامة (أي السلطة العامة) بمبايعتهم، وتنفذ أحكام الإمام برضاهم وإقرارهم وينعزل بعزلهم، وهم كبار العلماء وأمراء الأجناد ورؤساء العشائر. 3- إن هؤلاء الزعماء يدينون الله بوجوب طاعة إمامهم عبد العزيز آل سعود وعدم عصيانه في معروف، والشعب تَبَعٌ لهم في ذلك، والإمام يدين الله باستشارتهم في مصالح الأمة العامة، وكل منهما يدين الله بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يتنازعون فيه، والمرجع في كل ما ذكر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) . 4- تجدد لعبد العزيز آل سعود باتساع ملكه عهود مع بعض الدول، وتنازع في بعض المصالح مع بعض البلاد المجاورة لنجد والحجاز، وأقضية وأعمال في الرعايا الذين تخالف أحوالهم أحوال النجديين، وعرضت لبلاده أحوال غريبة عن مداركهم ومألوفاتهم كالمواصلات البخارية والبرقية من تلغراف وتليفون وسيارات وغيرها فلما رآها بعض عوام النجديين في الحجاز الذين لم يكونوا رأوها ولا سمعوا بها ظنوا أنها من السحر وصنع الشياطين. وقد أنكر بعضهم إقرار إمامهم كل ما ذكر، وأنكر بعض قوادهم عليه منعهم عن غزو جيرانه، وبعضهم صبره على أذاهم مع قدرته على الانتقام منهم. فكان من مقتضى ما ذكرنا من شكل حكومته أن كتب ذلك الكتاب العجيب إلى العلماء والقواد والرؤساء باستقالته من حكم البلاد والعهد إليهم باختيار غيره مع تأكيد الوعد بمبايعته لمن يرضونه وطاعته له فكان هذا سببًا لذلك المؤتمر العظيم الذي جددت فيه الأمة مبايعتها له. وسنبين في جزء تال حال الشاذين منهم.

جامع باريس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جامع باريس قضت سياسة فرنسة الاستعمارية أن ينشأ جامع للمسلمين في عاصمتها (باريس) يكون حجة لها على ما تدعي من حب المسلمين وحسن معاملتهم من حيث يكون مثابة لمسلمي مستعمراتها وغيرهم ومجتمعًا عامًّا لهم يمكن عيونها (البوليس السري) من الوقوف على جميع شئونهم وأفكارهم ومقاصدهم، فقامت أولاً بالدعاية (البوربغندة) له والتنويه بشأنه ثم رسمت له رسمًا نشرته في مشارق الأرض ومغاربها، وعُرض علينا في تلك الأثناء أن ننشره في المنار في مقابلة مال ننقده فامتنعنا، ثم عهدت إلى أخلص خدم سياستها وأشهرهم في البلاد العربية الإفريقية وهو الحاج قدور بن غبريط بجمع الأموال له من الأوقاف الإسلامية التي يتولى هو إدارتها أو مراقبتها في تونس والجزائر والمغرب الأقصى ومن مسلمي هذه الممالك الثلاث ففعل فأخذ من تلك الأوقاف ما شاء من مبالغ عظيمة وقرضت الحكومة الفرنسية من الإعانة للجامع على أهل تلك البلاد ما كانوا يئنون من ثقله ويشكون من غرمه. ولم يشبع المشروع كل هذا، بل استجدى القائمون به ملوك المسلمين وكبراءهم في جميع الأقطار، وقد بني المسجد، وبني له مقهى وملهى ومطعم متصلة به فيجتمع هنالك الرجال مع النساء بصفات منكرة يحرمها الشرع الإسلامي كما روى لنا الكثيرون، وقد انتقدها كل من رآها من المسلمين ومن غيرهم، ولا يزال الوزير الفرنسي قدور بن غبريط يسعى لجمع المال له فقد زار في العام الماضي مصر وسورية لهذا الغرض فلم يستفد من مصر ما كان يؤمل؛ لأن أهل مصر يعرفون حقيقة هذا المسجد، ولا يعتقدون أن في بذل المال له قربة ولا يرجون منه مثوبة عند الله تعالى، بل منهم من يعتقد أن البذل له من إضاعة المال التي لا ترضي الله تعالى. ولكن رأينا في بعض الصحف السورية أن رئيس حكومتها الجديد السيد الشيخ تاج الدين الحسني بذل من خزينة البلاد مبلغًا عظيمًا لإعانة هذا المسجد إرضاء لولية نعمته فرنسة لا لله تعالى، فأنكر المسلمون عليه ذلك وعدوه من تزلفه للدولة الفرنسية التي نصَّبته رئيسًا لهذه الحكومة لثقتها بإخلاصه لها، وذكرت الصحف من حاجة البلاد وأهلها المنكوبين إلى مثل هذا المال ما يجب تقديمه على إعانة ذلك المسجد السياسي الغني الجشع النهم الذي لا يشبع، ولا يعلم أحد أين تنفق الأموال العظيمة التي لا تزال تُجمع له. وإننا نقترح على حضرة الرئيس الحاج قدور بن غبريط أن ينشر في الجرائد العربية والمصرية والسورية والإفريقية ما جمع من أموال الأوقاف ومن الضرائب القهرية والإعانات الاختيارية لهذا الجامع بالتفصيل وما أنفق على بنائه ووجه الحاجة إلى استمرار هذه الإعانات الدائمة، فإنني ما رأيت أحدًا واقفًا على أمر هذا الجامع ممن رأوه ولا من غيره إلا وهو منتقد ضربًا من ضروب الانتقاد. ونحن على هذا كله نقول: إن وجوده لا يخلو من فوائد للمسلمين الذين يجتمعون هنالك من زائري تلك العاصمة العظيمة، ومن المقيمين فيها وحسبك من ذلك تعارفهم واستفادة بعضهم من بعض وإقامة شعائر صلاة الجماعة وصلاة العيدين التي يحضرها فيما بلغنا سفراء الدول الإسلامية وكثير من كبراء سياحي المسلمين فيتعارفون ويتآلفون، وإن كانت إقامة الجمعة يشترط فيها عند بعض الأئمة أن تكون في مِصْر من دار الإسلام تقام فيه أحكامه، وينفذ سلطانه. وحسبنا أن تصح عند آخرين منهم.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات أهدتنا دار الكتب المصرية مطبوعاتها الآتية: (كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني) كتاب الأغاني من أمهات كتب الأدب والتاريخ العربية وأشهرها منذ أُلِّفَ إلى هذا اليوم، وقد كان طُبِعَ في المطبعة الأميرية ببولاق التي هي أقدم المطابع العربية في الشرق، وكانت أشهرها بجودة الطبع وتصحيح المطبوعات، ثم آلت هذه الشهرة إلى القسم الأدبي الذي انفصل منها وجعل تابعًا لدار الكتب المصرية العامة باسم (مطبعة دار الكتب المصرية) ولكن تلك الطبعة كانت كثيرة الغلط؛ لفقد الأصول الصحيحة الخطية للكتاب، وقد نفدت نسخها فلا تكاد توجد منها النسخة إلا من تركات الموتى وتباع ببضعة جنيهات. ثم طبعه الحاج محمد الساسي الكتبي التونسي المشهور طبعة دون الطبعة الأميرية الأولى. ومنذ سنتين عنيت بطبعه أخيرًا مطبعة دار الكتب المصرية عناية لم يسبق لها نظير في المطبوعات العربية، وكان هذا باقتراح سليل بيت المجد والشرف الأديب السيد علي راتب نجل المرحوم محمد راتب باشا الشهير - وتبرعه بنفقة الطبع للمطبعة، فقد كتب إلى مدير دار الكتب كتابًا في ذلك افتتحه ببيان شأن اللغة العربية ومكانة كتاب الأغاني منها وتوجه همته لخدمة هذه اللغة والبدء من ذلك بطبع هذا الكتاب ثم قال: (فإن اقتنعتم برأيي الذي أدليت، ونفعه الذي أملت، أمرتم من عندكم من المصححين بمراجعته وتصحيحه وضبطه وتفسير مغلقه كاملاً كما وصفه مصنفه من غير حذف ولا إبدال، وأنا المتكفل بنفقة الطبع , وعسى ألا تضنوا عليَّ بكلمة أعرف بها صيوركم [1] لنتفاوض في الأمر) . شكرتْ له دار الكتب هذه الأَرْيَحِيَّةَ بكتاب بعث به إليه وزير المعارف الذي هو رئيس المجلس الأعلى لدار الكتب ثم شرعت في الطبع مع المعارضة على عدة نسخ خطية وطبعية توجد في دار الكتب، وافتتحت الجزء الأول بمقدمة في (تصدير) الكتاب بلغت 56 صفحة بدأتها بذكر مكانة الكتاب واقتراح السيد علي راتب والشكر له عليه، وتلا ذلك فصول في صناعة الغناء، فترجمة المؤلف، فثناء أهل العلم والأدب عليه، فنقدهم له، فمختصراته، فما أُلِّفَ قبل في موضوعه، فبيان الكلمات الاصطلاحية فيه وتفسيرها، فالنسخ التي عُورِضَ عليها عند التصحيح وهي ثمان، فالكلام على الجزء الحادي والعشرين منه، والخلاف فيه، فطريقة تصحيح الكتاب فأسماء أعضاء اللجنة المؤلفة لتصحيحه. وقد رأيت من التقصير في ترجمة أبي الفرج أنهم اعتمدوا فيها على أقوال بعض الأدباء من معجم ياقوت ولم ينقل فيها عن مؤرخي المحدثين إلا طعن ابن الجوزي فيه، ونقل ابن شاكر ما رواه الذهبي عن ابن تيمية من الطعن في نقله، فأحببت أن أستدرك على ذلك ملخص ترجمته من لسان الميزان للحافظ ابن حجر وأصله الميزان للحافظ الذهبي، وفيه من الثناء على حفظه وفضله ما هو أعلى قيمة من كل ما ذكروه، وهو: (علي بن الحسين أبو الفرج الأصبهاني) الأموي صاحب (كتاب الأغاني) شيعي وهذا نادر في أموي. كان إليه المنتهى في معرفة الأخبار وأيام الناس والشعر والغناء والمحاضرات، يأتي بأعاجيب بحدثنا وأخبرنا وكان طلبه في حدود الثلاثمائة، فكتب ما لا يوصف كثرة حتى لقد اتُّهِمَ، والظاهر أنه صدوق. (وقد قال أبو الفتح ابن أبي الفوارس: خلط قبل موته، قال: ومات سنة ست وخمسين وثلاثمائة في ذي الحجة. قال: ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين) . قلت: أكبر شيخ عنده مطين ومحمد بن جعفر القتات وآخر أصحابه علي بن أحمد الرزاز [2] وتصانيفه كثيرة سائرة. وكان سريع النادرة - إلى أن قال -: (قال الخطيب: حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طباطبا العلوي سمعت أبا محمد الحسن بن الحسين النوبختي يقول: كان أبو الفرج الأصبهاني أكذب الناس [3] كان يشتري شيئًا كثيرًا من الصحف ثم تكون روايتها كلها منها. ثم قال العلوي وكان أبو الحسين البتي يقول: لم يكن أحد أوثق من أبي الفرج الأصبهاني اهـ[4] . (وقد روى الدارقطني في غرائب مالك عدة أحاديث عن أبي الفرج الأصبهاني ولم يتعرض له، وقال أبو علي التنوخي كان يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار المسندات والأنساب ما لم أر قط من يحفظ مثله إلى ما يحفظ من اللغة والمغازي والنحو والسِّيَر، وله تصانيف عديدة اهـ ملخص ما زاده الحافظ على الذهبي. وقد بلغت صفحات الجزء الأول 417 ما عدا مقدمة التصدير وتقدم عدد صفحاتها، والفهارس وهي ثمانية، وصفحاتها وهي تبلغ 118 صفحة فتكون مع صفحات الكتاب 535 وقد تم طبعه في سنة 1345هـ الموافقة لسنة 1927م وثمن النسخة منه 25 قرشًا مصريًّا، ويطلب من دار الكتب ومن مكتبة المنار. وأما الجزء الثاني فقد طبع في سنة 1346 الموافقة (1928م) وبلغت صفحاته الأصلية 428 ومع الفهارس وإصلاح خطأ الطبع 523 وقد زيدت العناية بتصحيحه، وثمنه كثمن الأول. *** (الجزء السادس من نهاية الأرب في فنون الأدب) وموضوعه القسم الخامس من أقسام الكتاب وهو (في الملك وما يشترط فيه، وما يحتاج إليه، وفيه أربعة عشر بابًا) جاء فيه 13 منها أولها في شروط الإمامة الشرعية، وآخرها في نظر الحسبة وأحكامها. وصفحاته 315 وآخر الباب الرابع عشر إلى الجزء السابع وموضوعه الكتابة وما تفرع منها، وثمن الجزء خمسة عشر قرشًا. *** (الجزء الثاني من ديوان مهيار الديلمي) وفيه تتمة قافية الراء وما بعدها إلى آخر قافية الكاف وصفحاته 373 وثمنه 15 قرشًا أيضًا. *** (كتاب الأصنام) كتاب الأصنام لابن الكلبي وهو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 204 وكان من أكبر العلماء في الأنساب والتواريخ ورواة المثالب ولم يوثقوه في رواية الحديث، وكتابه هذا مشهور قد عني الأستاذ أحمد زكي باشا بتنقيحه وتصحيحه وصدّره بترجمة حافلة له بلغت أربعين صفحة. ووضع له حواشي تساوي أصله أو تزيد عليه وملحقًًا بلغ ثلاثين صفحة وفهارس وتكملة، ولعل الكتاب نفسه لا يزيد على تصديره أو حاشيته، فصفحاته مع الحاشية 94 وهذه الطبعة هي الثانية له وثمن النسخة منها ستة قروش، وهذه الكتب كلها تطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (الفهرس العربي لدار الكتب) وأهدتنا الجزء الثاني والثالث من طبعته الجديدة المختصرة، وثمن كل منهما خمسة قروش، وقد نفدت نُسَخ الجزء الأول وهي تعيد طبعه. *** (الأعلام - قاموس تراجم) (طبع المطبعة العربية بمصر. صفحات الجزء الأول والثاني منه 803) رأى صديقنا الأديب شاعر الشام خير الدين أفندي الزركلي ما يراه جمهور أهل العلم والأدب من الناطقين بلسان العرب أن اللغة في حاجة إلى معجم لتراجم أشهر الرجال والنساء من العرب الجاهلين والمخضرمين ومن بعدهم إلى هذا العصر يكون مختصرًا مفيدًا تسهل مراجعته عند الحاجة إليه - وما أشد عروض هذه الحاجة للمطالعين والمؤلفين - فشرع في تأليف هذا المعجم وسماه (الأعلام) وقد تم طبع جزأين منه انتهى الثاني منهما بحرف القاف، وثمن كل واحد منهما خمسة عشر قرشًا صحيحًا، وهو ثمن بخس قلما يباع مؤلف جديد بمثله ويطلب من مكتبة المنار بمصر. *** الصحف الإسلامية العربية إنه ليسرنا أن نرى الصحف الإسلامية العربية في حياة ونماء وازدياد تؤدي واجب النصح للأمة، والخدمة للملة في زمن فسدت فيه أكثر الصحف العربية والشرقية بافتتانها بدعاية التجديد الإلحادي وحرية الإباحة والتفرنج المقطع للروابط الملية والقومية. (الشهاب) صحيفة تصدر في مدينة قسنطينية من قطر الجزائر في المغرب الإسلامي، وهي إصلاحية تحيي مذهب السلف، وتقاوم الخرافات والبدع، يصدرها الأستاذ الفاضل الناصح عبد الحميد بن باديس، وقد أتمت العام الرابع وصدرت في أول الخامس بشكل مجلة شهرية يتألف كل جزء منها من 44 صفحة من قطع المنار وقيمة الاشتراك السنوي فيها نصف جنيه من الذهب، فنتمنى لها طول العمر ودوام النفع، ونتمنى مع ذلك أن يعرف المسلمون لها قيمة خدمتها فيؤدوا لها حقها. *** (الجامعة العربية) جريدة سياسية إصلاحية عامة تصدر بمدينة القدس في كل أسبوع مرتين مؤقتًا، مديرها ورئيس تحريرها الأستاذ منيف الحسيني سليل بيت السادة الحسينية الشهير، وهي تسدي إلى الإسلام والعرب خدمة صحيحة لا تشوبها نزغات شياطين الإلحاد والتفرنج الباطل ولا إباحة الأعراض باسم تحرير النساء والحرية العامة - ولا تدنسها نزعات الاستعمار، ولها في جهاد المطامع الصهيونية والاستعمار البريطاني وتأييد مجلس فلسطين الإسلامي الأعلى، العلم المرفوع والصارم المسلول، والحجة الناهضة. وقيمة الاشتراك السنوي فيها في فلسطين جنيه فلسطيني (إنكليزي) واحد، وفي خارجها جنيه ونصف. *** (المصباح) مجلة إصلاحية شهرية تصدرها جمعية التمدن في سوريا وجاوه ويحررها جماعة من تلاميذ مدرسة الإرشاد وقيمة الاشتراك فيها عن نصف سنة ربيتان في جاوه وثلاث في سائر البلاد، والرجاء فيها أن يوافق مسماها اسمها بكفالة هذه الجمعية المليئة لها.

خاتمة المجلد التاسع والعشرين للمنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد التاسع والعشرين للمنار بسم الله وبحمده نختتم المجلد التاسع والعشرين كما افتتحناه. متبرئين من حولنا وقوتنا إلى حوله وقوته، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد كنا نؤمل أن يتم هذا المجلد قبل تمام الذي قبله بشهرين لانتظام الإدارة، وحسن استعداد المطبعة، ولكن قدر الله تعالى أن يتأخر عنه ثلاثة أشهر كاملة، ذلك بأنه تعالى قد ابتلانا بمرض طالت مدته، وحسنت بفضله ومنته عاقبته، فكان نقمة في الظاهر، ونعمة في الباطن؛ إذ كنت سمنت حتى زمنت، فاحتميت به حتى اعتدلت، وكنت أسرفت في العمل حتى سئمت، فتركته أشهرًا حتى استجممت ونشطت، وابتلانا فوق ذلك بعسرة مالية، أعقبها سعة نسبية، وابتلانا في أثناء ذلك وأطوائه بتضييق أهل دارنا المستأجرة علينا بزيادة الأجرة، بعد أن تقاضونا لأجلها إلى المحكمة وعاملونا شر معاملة؛ إذ جاملناهم أحسن مجاملة، فعاضنا الله تعالى دارًا خيرًا منها مكانًا، وأكرم جيرانًا، وأمتن بناء وجدرانًا، وأرفع سمكًا وسقفًا، وأوسع حجرًا وغرفًا، وأشرع صففًا وطنفًا، وأنقى هواءًا، وأطيب فناءًا، وأجمل رواءًا، وأحسن مرافق، وأنظف طرائق، وجعل جل ثمنها نجومًا سنوية، كالكواكب الدرية، والمرجو من فضله تيسير أدائها عند حلول آنائها، وجَعْل انتهائها، أسهل من ابتدائها. اقتضى السعي لاختيار الدار ولابتياعها ولإنفاذ ذلك زمنًا إذا أضيف إلى عطلة المرض، ثم إلى ضيق أوقات رمضان، عما سوى الصيام والقيام وتلاوة القرآن، ولقاء الإخوان، وقد زاد زائرونا في هذا العام عن المعتاد في أكثر الأعوام، ثم إذا أضيف إلى كل ذلك الشروع في تهيئة الدار، وبناء مكان في باحتها للمطبعة والعمال، ومراقبة نقل الآلات والمطبوعات، والأمتعة، والأدوات والماعون والأثاث، ثم وضع كل شيء في مكانه - يعلم قراء المنار عذرنا في تأخير هذا الجزء منه ويقابلونه من كرمهم بالقبول، وعسى أن يكون عذر المرجئين والمسوفين منهم في أداء المتأخر لنا بعض ما علموا من عذرنا، وأن يبادروا وقد وفيناهم حقهم أن يوفونا حقنا. *** نحن والرافضة وأما ما وجه إلينا من النقد في هذه المدة فقد نشرناه وبيَّنا رأينا فيه واضطررنا إلى تحكيم بعض العلماء فيما اختلف علينا فيه. ومما اضطررنا إليه في هذا المجلد صد حملات بعض الرافضة على السنة وأهلها عامة، وعلى النجديين وعلينا خاصة، بعد أن خاب أملنا في رصيفنا وصديقنا التليد الأستاذ الشيخ عارف الزين الذي لم يكتف بسكوتنا عن إسرافه في نزعته الشيعية، وإكثاره من التعريض بنا ثم التصريح بالطعن علينا في مجلته التاريخية الأدبية، حتى جاهر أخيرًا في إذاعة دعاية غلاة فرقته ونشر كتبهم في مهاجمة السنة ومحاولة إغواء أهلها، ولما نبذنا إليه وإليهم على سواء، وعلم كما علموا أن بني عمهم فيهم رماح، لجأ في الدفاع إلى القذع بالسب والشتم، ثم إلى التهديد بما هو شر وأدهى وأمر، وأقول له ولصاحبي (كشف الارتياب) ، و (الكلمات) ذينك الكتابين المؤلفين لهدم أركان السنة، وهي أشد من السماء خلقًا وأرفع سَمْكًا، وللإدالة منها للبدعة، وهي أظهر بطلانًا ومحكًّا، أقول لهم: إن صاحب المنار لا يخشى منهم ولا من أولي نحلتهم ردًّا؛ لأنه يطلب الحق لذاته لا لمذهب ولا لفرقة ولا لشخص، فإن ظهر له الحق على لسان أي إنسان قبله مسرورًا مرتاحًا، وأما السبابون والبُهْت فإنه يعرض عنهم، ويرى أنهم عون له على أنفسهم. *** انتقاد أو جهالة يوسف نجم ومرآة الغرب ومما انتقد علينا ولم يكتب به إلينا، مقالات لعامي سوري أو لبناني اسمه يوسف نجم نشرها في جريدة مرآة الغرب العربية التي تطبع في مدينة نيويورك قرأنا بعضها وأعرضنا عن بعض؛ لأنها جهل محض، ودعاوي غرور وإفك لا تستحق أن يعنى بالرد عليها، وإنما عجبنا لنشر مرآة الغرب لها؛ لأننا كنا ظننا أنها رجعت عما كانت عليه من الطعن في الإسلام والمسلمين، فإذا هو من المقاصد الدينية التي تخبو أحيانًا ثم تعود إلى تسعرها والتهابها، كما جاء في مقال نشر في جريدة الأخبار المصرية في الرد على نجمها وعليها. وأخيرًا: جاءنا كتاب من تاجر مسلم في هفانا يذكر فيه طعن يوسف أحمد نجم في الإسلام ومذاهبه وعلمائه المتقدمين والمتأخرين ولا سيما المصلحين حتى السيد جمال الدين وكتابه المشهورين في تعظيم شأنه والدفاع عنه كالأمير شكيب أرسلان وصاحب المنار ويقول: إنه داعية للنصارى بلسانه وقلمه كما أنه عدو للإسلام بلسانه وقلمه، ويتحامل عليه بما لم نسمع مثله من النصارى أنفسهم، ثم يستفتينا في يوسف نجم هذا بما سننشره في الجزء الآتي مع الجواب عنه إن شاء الله تعالى. هذا وإننا نرجو أن يوفقنا الله تعالى في عامنا الجديد، لزيادة العناية بالمنار وتنويع فوائده، كما نرجو من محبي الإصلاح أن يعينونا بأفكارهم وأقلامهم على الدفاع عن الحق والدين، ومناضلة الملاحدة والمتفرنجين، والله ولي المتقين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

فاتحة المجلد الثلاثين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الثلاثين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد رسول الله، الذي ختم به النبيين، وأكمل به الدين، وأرسله رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه الهادين المهديين، ومن تبعهم في هديهم إلى يوم الدين. أما بعد، فإن العدد الأول من مجلتنا هذه قد صدر في العشر الأخير من شوال سنة 1315 الموافق لشهر مارس (آذار) سنة 1898 ميلادية، بشكل صحيفة أسبوعية ذات ثماني صفحات كبيرة، وفي السنة الثانية جعلناها مجلة أسبوعية بشكلها الذي هي عليه الآن، وأصدرنا أول جزء من السنة الخامسة في أول المحرم سنة 1320 - 10 أبريل (نيسان) سنة 1902 - واستمر ذلك إلى السنة السابعة عشرة , فقد صدر الجزء الثاني عشر منها بتاريخ ذي الحجة سنة 1332 (نوفمبر سنة 1914) وكانت قد أُضرمت نار الحرب المدنية الكبرى، فاختل في أثنائها نظام صدور المنار في أوائل سنيه وأواخرها، وجعلنا أجزاء السنة عشرة؛ لأن الورق والحبر غلا سعرهما حتى تضاعف أضعافًا، وامتنع وصول الصحف المصرية إلى كثير من الممالك والأقطار، وساءت معاملات الناس، ومن سنة 1333 إلى سنة 1347 لم يصدر من المنار إلا 12 مجلدًا في 15 سنة، فنقص من مجلداته ثلاثة أُدْمِجَتْ أو أُدْغِمَتْ في هذه السنين، ولولا ذلك لوجب أن يكون المجلد الذي نفتتحه اليوم المجلد الثالث والثلاثين. ولكننا إذا اعتبرنا في تاريخه السنين الشمسية يكون هذا المجلد هو الحادي والثلاثين، فالذي نقص من مجلدات المنار عن سنيه القمرية ثلاثة، وعن سنيه الشمسية اثنان فقط، ونحمد الله تعالى أن قَدَّرَنَا على استمرار إصداره في تلك السنين النحسات، فمن المعلوم أن أكثر قرائه المؤدين لحقوقه هم خيار المسلمين المستنيرين، الذين يشعرون بشدة الحاجة إلى إصلاح حال أمتهم بالجمع بين سعادة الدنيا وهداية الدين، وهم قليلون ومتفرقون، والموسرون منهم هم الأقلون، ومن عداهم لا يؤدي الحق إلا ما دمت عليه قائمًا وكان المتقاضي له مُلازمًا {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} (الأعراف: 58) . ونرجو من فضل الله تعالى أن نَثْبُت على هذا التاريخ في إصداره ما دمنا متمتعين بالصحة، بعد أن مَنَّ علينا بدار صالحة للسكنى وللمطبعة، وقد تأخر صدور بعض أجزاء المجلد الماضي لما عرض لنا من المرض في أول عامه والنقلة في آخره. وأما الذي نُذَكِّر به القراء في فاتحة المجلد الثلاثين من الشؤون الإسلامية على عادتنا في هذه الفواتح، فهو أن الحملة على الإسلام قد اشتدت في هذا العهد من خصومه في الداخل والخارج، أعني من قِبَل دول الاستعمار ودعاة النصرانية، وهم طلائعها وحُداتها، ومن أعوانهم وأنصارهم وتلاميذهم في البلاد الإسلامية نفسها، ولست أعني بهؤلاء من يستخدمهم المبشرون من نصارى القبط والسوريين والأرمن وغيرهم، بل أعني من هم أشر منهم وأضر، وأدهى وأمر، من ملاحدة المسلمين، من الترك والإيرانيين والأفغانيين، ودعاتهم وأخدانهم من المصريين، وأشباههم من السوريين والعراقيين، ومن الهنود والأفريقيين، وسائر الشعوب الإسلامية، الذين سممتهم التربية الإفرنجية، وأفسدتهم الآراء المادية، وخنثهم الإسراف في الشهوات البدنية، ونحن نطلق لقب الإلحاد على كل من يسمي خطة هؤلاء الكماليين في نبذ الشريعة الإسلامية برمتها من حكومتهم، والتمهيد لمحو عقائد الإسلام وآدابه وعباداته من نابتة شعبهم، بمنع اللغة العربية من جميع بلادهم، وترجمة القرآن بما لا يؤدي حقائق معانيه من لغتهم، وكتابته كغيره بالحروف اللاتينية، للإجهاز على ألفاظه وأساليبه المعجزة، بل كل من يسمي هذه الخطة إصلاحًا ويحسنها ويدعو إليها، فهو عدو للإسلام وولي لأعدائه، وعداوة الإسلام أعم من الارتداد عنه والكفر به، فإن كان مع هذا زنديقًا يدَّعي الإسلام ويخفي الكفر، فإفساده أعم وأكبر من إفساد الكافر الأصلي والمرتد، لأن الجاهلين بحقائق الإسلام من المسلمين يغترون بكلامه، فيفتنهم عن دينهم أو يشككهم فيه. وإننا نرى ملاحدة بلدنا هذا طبقات بددًا، تسلك طرائق قددًا: (الطبقة الأولى) : المجاهرون بالكفر والصد عن الدين، والطعن في عقائده، وإلقاء الشكوك والشبهات فيها، بما يكتبون في الجرائد والمجلات المختلفة، ومنهم صاحب مجلة ومطبعة في مصر معروف، وفي حلب مجلة حديثة مثلها يظهر أن صاحبها مقلد ينقل أقوال أشهر الكتاب من ملاحدة مصر، وقصائد شيخ ملاحدة العراق وأمثالهم، ويثني عليهم وينوه بآرائهم، ولكنه لا يتجرأ على التصريح بكل ما يصرحون به بإمضائه. ومنهم أحد محرري الجرائد اليومية المأجورين، الذي كتب مقالات في تقبيح النص في الدستور المصري على جعل الدين الرسمي للحكومة المصرية الإسلام، وطلب أن تكون حكومة معطلة (لا دينية) ومقالات في سن قانون مدني للأحوال الشخصية، لا يتقيد فيه بشيء من الأحكام الإسلامية، وقد كان من أركان محرري السياسة، ويقال: إن له صلة وعلاقة ببعض جمعيات اليهود. وأفراد هذه الطبقة لا يدّعون التدين ولا يمتعضون لوصفهم بالتعطيل، بل منهم من يفتخر بذلك. (الطبقة الثانية) : الزنادقة الذين يظهرون الإسلام، ويمتعضون إذا وُصفوا بالزيغ والإلحاد، وهم مع ذلك يطعنون في أصوله، ويجحدون بعض ما هو مجمع عليه ومعلوم بالضرورة منه، ويشككون في بعض آيات القرآن، وهم لأفراد من الطبقة الأولى إخوان وأخدان وأعوان، ويسمون الترك الكماليين ومقلدتهم: مصلحين، ويدافعون عنهم بألسنتهم وأقلامهم، أو أقلام أفراد الطبقة الأولى. ورأي هؤلاء في الدين أنه رابطة اجتماعية سياسية يجب أن يكفي في الاعتراف لأهلها به موافقتهم للجمهور في بعض الشعائر والمشخصات العامة، كالتجمل والزيارات في الأعياد، وإن لم يصل صاحبها صلاة العيد، واحتفال الجنائز ومآتمها، وقراءة القرآن فيها، وإن اشتمل ذلك على أعمال كثيرة يحرِّمها الدين، وكزيارات ليالي رمضان وطواف المسحرين فيها، ولكن الصيام نفسه ليس ركنًا من هذه الشعيرة، ولا شرطًا لها، وكذلك الصلوات الخمس - حتى الجمعة - والزكاة لا يدخلان في هذا الدين الرسمي من باب ولا طاق، فإنهما عندهم من الأمور الشخصية، وتُعَدُّ كاستباحة السُّكر والقمار وغيرهما من المنكرات والفواحش مما تتناوله الحرية الذاتية، كما أن ما تقدم من الطعن في الدين وخلفائه وأئمته مما تتناوله حرية الأفكار، ويباح الخوض فيه للألسنة والأقلام، ونشره في الكتب والرسائل، والمجلات والجرائد. قال بعضهم ما معناه: إذا تكلمتُ بلسان الدين أقول: إن ما في القرآن من كذا وكذا، صحيح مسلَّم، وإذا تكلمت بلسان العلم والعقل أقول: إنه غير صحيح وغير مسلَّم، يعني أن هذا الذي يثبته القرآن صحيح في اعتقاد المسلمين، صحيح ومسلَّم عندهم بمحض التقليد، ولكنه غير صحيح ولا ثابت بدليل عقلي ولا علمي، بل ربما يبطله الدليل. ولولا أن قائل هذا زنديق ذو لسانين يُسِر الكفر بوحي الله، وإن قال أحيانًا: قال الله، قال رسول الله - لما استباح التشكيك فيه بمثل هذا من قوله، بل لكان إثبات كتاب الله تعالى للشيء أقوى برهان عنده على ثبوته في نفسه، وإن لم يثبته أحد من خلقه بنظريات فكره وما وصلت إليه مباحث علمه، فإن علم الله محيط بكل شيء من خلقه، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بإذنه، أي بما وهبهم من أسباب كسبه من الحس والعقل، ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن كل ما ثبت عند البشر من هذين الطريقين الكسبيين لهم، كان مجهولاً قبل ذلك عندهم، وذلك لا يقتضي عدم ثبوته في نفسه ولو لم يثبته الوحي الصحيح، فكيف إذا أثبته. (الطبقة الثالثة) : الغماليج الإِمعون من مرضى القلوب المقلدين، الذين يشايعون المؤمنين إذا كانوا معهم، ويجارون الملحدين إذا وُجدوا بينهم، فلا يُعرف لهم رأي ثابت مستقر ينصرونه ويردون ما خالفه، وأما سيرتهم في العمل فهي تابعة لتربيتهم في بيوتهم، وحال عشرائهم من لداتهم وأترابهم، ورفاقهم في المدارس وجيرانهم، فتراهم يجمعون بين الكفر والإسلام، ومنهم من يصلي الصلوات الخمس لأنه تربى على ذلك، ثم يقر ما هو كفر بإجماع المسلمين، وينصر الملاحدة القائلين به، فإسلامهم تقليدي، وإلحادهم تقليدي، والغالب على أمرهم من يكون أكثر معاشرة وارتباطًا بهم، ومساعدة لهم على أهوائهم ورغائبهم، ومنهم منهوم المال، ومفتون الجاه. وثَم طبقات أخرى مدغم بعضها في بعض، فيعسر الحكم عليها بالقطع، على تفاوت الأفراد فيها في العمل والفكر. وطالما ضربت مثلاً لمسلمي الأمصار المتفرنجة وطبقات الملاحدة: اختلاط الماء الحلو بالماء الملح، في مثل شط العرب من جهة البصرة، وساحلي رشيد ودمياط من مصر، فما كان بين العذب الفرات والملح الأجاج من المائين يتفاوت على نسبة القرب والبعد من كل منهما، وهكذا نرى بعض المسلمين المتفرنجين، منهم ما غلب عليه أجاج الكفر، فصار من أهله مُسرًّا له أو معلنًا، ومنهم المزُّ بين عذوبة الإيمان وملوحة الإلحاد، والمزازة فيه على درجات، بعضها مقطوب لا تكاد تشربه إلا مقطِّبًا، وبعضها مغلوب إذا تجرعته لا تكاد تسيغه إلا متهوعًا. ومما ثبت عندنا بالخبر المستفيض، والخُبْر الطويل العريض، أن من أفراد أولئك الملاحدة دعاة الكفر، وسعاة للصد عن الإسلام، وأن منهم من يأخذ على ذلك جعلاً من جميعات التبشير بالنصرانية، ومنهم من يتقاضى مكافأة من بعض جماعات اليهود البلشفية والصهيونية، ومنهم من يخدم الدول الاستعمارية ويأخذ أجره منها، وأعظم هذه الأجور المناصب والوظائف في البلاد المسيطرة عليها، ومنهم من لذته في ذلك التشبه ببعض فلاسفة الإفرنج وكتَّابهم الأحرار، والحظوة عندهم، والثناء عليهم في كتبهم وصحفهم، وهم لا يثنون إلا على من كانوا عونًا لهم على أقوامهم، ألم تر إلى المستعمرين والمبشرين من السكسون واللاتينيين، كيف نوَّهوا وينوِّهون بعلي عبد الرازق وكتابه المعلوم كما رأيت في البرقيات العامة في إبان ظهوره، وكما ترى في المقال الأول من مقالات هذا الجزء مترجمًا عن كتاب فرنسي جديد، أُلِّف للإغراء بهدم الإسلام وتنصير المسلمين. كان المرحوم الأستاذ الشيخ محمد مهدي وكيل مدرسة القضاء الشرعي أول من أنبأني بأنه وجد في مصر جماعة تتعاون على الصد عن الإسلام، بالطعن في شريعته، وفي حكومته، وفي لغته، وفي أئمته، وفي كل من نوَّه بهم التاريخ من الخلفاء، وكبار العلماء والأدباء، وفي جمهور سلفه في أرقى العصور، ثم ظهرت آثارهم الخفية في بعض الصحف العامة، وفيما نشروا من المصنفات الخاصة، وكان تعاونهم بمقتضى تعارفهم وتوادهم، وانتماء بعضهم إلى حزب سياسي ينصرهم. ألم تر أن الوزارة الائتلافية كادت تسقط ويتمزق نسيج وحدة الأمة بانتصار أعظم أركانها لمؤلف ذلك الكتاب الرجس الذي جهر ملفقه بالطعن في القرآن، ترجيعًا لأصوات بعض أعدائه من المبشرين بالإنجيل. وقد أخبرنا من خبر حالهم، وعاشر رجالهم، بطرق الدعوة التي يفتنون بها الشبان عن دينهم، ولا سيما الأذكياء الفصحاء منهم، وسنبينها في مقال آخر، ومما بلغنا من أمرهم أنه لم يكن لهم نظام للدعاية إلى عهد غير بعيد ثم وضعوه. وقد علم الجمهور أنه كان قد تألف في مصر حزب لحرية الفكر، كان الملاحدة هم المؤ

ماذا يقال عن الإسلام في أوربة ـ 1

الكاتب: شكيب أرسلان

_ ماذا يقال عن الإسلام في أوربة ووجوب إطلاع المسلمين عليه لأمير البيان، ومدرة سلائل عدنان وقحطان الأمير شكيب أرسلان (1) سبق لنا مقالة في المنار عن بعض الكتب التي أُخْرِجَتْ حديثًا في أوربة بشأن الإسلام والمسلمين، ومن جملتها كتاب لرجل يقال له (جول سيكار) من كبار تراجمة الجيش الفرنسي في المستعمرات الفرنسية سماه (العالم الإسلامي في المستملكات الفرنسوية) . وقد رددنا على شيء مما تضمنه هذا الكتاب، ووعدنا بإكمال البحث ونشر ما قاله المؤلف المذكور عن الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، وعن خلفه الأستاذ الحجة صاحب المنار أمتع الله ببقائه. قال في الصفحة 73 تحت عنوان (الطور الديني الجديد) ما يأتي: (إن المسلمين الحاضرين هم من حيث السواد الأعظم على مذهب السنة والجماعة، إلا أن روح الحرية والنزوع إلى المبادئ العصرية قد ظهر في أكثر من نقطة واحدة في العالم الإسلامي. وقد كان مبدأ هذه الحركة في الهند ثم في فارس ومنها سرت إلى مصر وإلى السلطنة (العثمانية) المنحلة. وسواءً أكان هناك أم هنا يجتهد المسلمون الأحرار أن يثبتوا الوئام الواقع بين الإسلام والترقي، وبين العقيدة القرآنية والمقتضيات العصرية، ومن سمع كلامهم خال أنه ليس ثمة إلا سوء فهم أدى إلى التناقض، وأنه من الخطأ البيِّن الاهتمام ببعض جزئيات ليست لها إلا مكانة ثانوية، وأن يظن أن بعض الأصول التي أولدها الاحتياج في وقت معين تعد قواعد سرمدية، وأن يغفل عن سنة التحول التي عليها مدار الاجتماع البشري. وهؤلاء العصريون Modernists الذين يليق بهم اسم (المعتزلة الجدد) ينتقدون انتقادًا لا غبار عليه شدة جمود المقلدين وعماية هؤلاء، ويحاولون تخليص قواعد الإسلام الأساسية وتطبيقها على مقتضيات الحياة والعلم الحديث، وقد امتاز في هذا المشرب رجلان أحدهما (أمير علي) في الهند، والآخر - وهو الأهم - الشيخ محمد عبده الطائر الصيت في جميع شمالي أفريقية مؤلف رسالة التوحيد. فالشيخ محمد عبده (1849-1905) مفتي مصر الأكبر هو أنبغ تلاميذ المحرك الأفغاني جمال الدين (1897-1939) باعث فكرة الجامعة الإسلامية، وله طريقة خاصة به في تحقيق مصدر العقيدة وهي طريقة صارمة في ذاتها كما يقر هو بذلك؛ لأنه لا يسلِّم بصحة شيء من مصادر الدين (إلا ما كان في القرآن مع عدد قليل من الأحاديث المتعلقة بحياة الرسول) وخلاصة مذهبه وجوب التسامح بين جميع مذاهب الإسلام المختلفة. وأما فلسفته الأدبية فمستمدة من المذاهب الحرة لا سيما مذهب الغزالي المتكلم الكبير المتوفى سنة 1277 (مسيحية) الذي له أكثر اليد في التسامح بين مذاهب الإسلام المختلفة، وهذه الفلسفة مشتقة من الاعتزال الذي هو وليد المحاكمة العقلية في علم الكلام الإسلامي، والذي يقول بالاختيار المطلق، لكنه مذهب اضمحل أخيرًا على إثر المصارعة الهائلة التي وقعت بين حزب المفكرين وبين الجماعة المتشددة التي كان لها الغلبة في نهاية الأمر. (والشيخ محمد عبده كان أبصر الخطر الذي أحدق بعقيدة المسلمين من جراء زحف العلوم الغربية (نقل المؤلف هذه العبارة بنصها من الأب لامنيس المستشرق اليسوعي) فنشط إلى إجراء تمييز ينقذ به مذهب السنة والجماعة وشرع بإلقاء دروس في الأزهر استجلبت الأنظار أولاً إلا أنه توقف عنها على إثر مقاومة العلماء الجامدين، فعند ذلك أسس بمساعدة تلميذه المقدم السوري السيد محمد رشيد رضا طريقة إصلاحية لسان حالها مجلة شهرية اسمها (المنار) ومنزع هذه الطريقة في الدين هو تجديد المذهب الوهابي الذي لا يزال رشيد رضا يؤيده بمعارفه بالسنة، وأما في السياسة فهي مبنية على الجامعة الإسلامية والجامعة العربية، وبالحريّ: على عداوة الأجانب، ولك أن تقول: على مقاومة الغرب. وهي تميل إلى فكرة العصريين بتعديل الشريعة الإسلامية على ما يوافق ضرورات الوقت؛ ولكنها تنشد أعتادها في مسلحة الوهابيين، وتستمد من مذهبهم حججها على (المتفرنسين) فمن الوهابيين تأخذ مقاومة الخرافات الحشوية والتدمير على المعتقدين بتأثير الأولياء، وعلى الطرق الصوفية، والمنار تطبع وتعيد طبع تآليف ابن تيمية التي كانت منسية والتي هي أشد الكتب تهييجًا، هذا ورشيد رضا هو سيد، أي من ذرية محمد صلى الله عليه وسلم وهو نفسه يعلن كونه عربيًّا قرشيًّا. والمنار في استمساكه بالجامعة العربية مقيم على إيجاب إعادة الخلافة، كما أنه في مخالفته للمنازع القومية التي تخالف برنامجه الإسلامي العربي يشير بتوحيد مذاهب الفقه الأربعة في مذهب واحد، وضم شتات الفرق الإسلامية إلى جماعة كبرى يمكنها أن تقاوم أوربة، وأن تقاتل ثقافتها المتقدمة. وهو يعترف بانحطاط الإسلام؛ لكنه يزعم معالجة دائه بالرجوع إلى عقيدته الأصلية على أن يفهمها الناس حق الفهم مستمدة من الكتاب والسنة، ويقول: لماذا نلجأ إلى علم الغرب الموجب للشبهات؟ فكل شيء هو في القرآن، والمنار ينشر تفسيرًا لا بأس به، فيقول - مثلاً - عندما يشير كتاب الله إلى الصاعقة: يلزم أن نفهم منها الكهربائية، كذلك المنار يشير بالاهتداء بأشعة (رونتجن) لتقوم مقام (العِدة) وهي مدة الثلاثة الأشهر التي يأمر بها القرآن أن تكون فاصلة بين طلاق المرأة وزواجها من غير زوجها الأول (هذا غير صحيح) ولما كانت العلوم العصرية لا تستغني عن التصوير اللازم في التعليم وفي إدارة الجيش وفي إدارة الأمن العام، فالمنار يستنتج جواز ذلك للمسلمين، وهو يوجب على الطرق الصوفية الاشتغال بالمصالح العامة من مؤاساة وتعليم ... إلخ. وبهذه الأفكار الجريئة الشاذة (تأمل أيها القارئ) تزعم مجلة القاهرة (أي المنار) متابعة طريقة المصلح الذي هو الشيخ محمد عبده، وصرف النظر عن تعصبها الوهابي وشنآنها للأجانب، فهذا هو التجديد بالمقلوب (تأمل أيضًا) . فالإسلام إذًا هو على ملتقى الطرق، ونراه غير شاعر كثيرًا بأنه أصبح مضطرًّا أن يطرح من وسقه لينجو. فأما ما كان من أمر الخلافة فالذي ألحظه أن التضحية بها تمت بدون ضوضاء، ومثل ذلك تم العدول عما كان الهنود المسلمون يطالبون به من الأمور المتعلقة بهذه الفكرة الجبروتية. بقيت الأحوال الشخصية (تعدد الزوجات والميراث والعقود) فهذه هي التي تمنع المسلمين في البلدان غير الإسلامية من الاستفادة من المساواة التامة المفروضة عليهم، فكتاب الشيخ المصري علي عبد الرازق يشير عليهم بأن يتقدموا براحة وجدان إلى قبول تشريع جديد بناء على كون النبي لم يلحظ جميع الأمكنة ولا جميع الأزمنة، وهذا هو رأي كثير من مفكري الإسلام، فهل يتغلب رأي هذه الطبقة المفكرة فيجر معه جماهير الإسلام، أم يبقى دون بلوغ الغاية؟ الجواب أن أوربة تخطئ بعدم مراقبة سير هذه الحركة عن كثب، وقد تجد أوربة في هذا الرأي ما يساعدها على سياسة إسلامية ذات فائدة حقيقية، ولو لم يكن منها سوى الاستغناء عن سن قوانين مأخوذة من شريعة الإسلام لكفى، وهي المسألة التي تورطت فيها فرنسة في أفريقية، ونشبت منها منشب سوء) انتهى ما نقله سيكار عن المستشرق اليسوعي لامنيس. ولنذكر هنا رأي المستشرق الشهير سنوك هور كرونجه الهولندي [1] الذي قال في هذه المسألة قوله الفصل. (إن الشريعة الإسلامية سواء من جهة النص أو من جهة الروح تعتمد على القهر والإكراه في نشر العقيدة (تأمل أيها القارئ) لأن هذا الدين يُعِدُّ كل الناس غير المؤمنين أعداء لله، ويوجد اليوم عصابة صغيرة من المسلمين تحاول تطبيق الإسلام على الأفكار العصرية؛ لكن هؤلاء النفر تمثيلهم للدين الذي ولدوا فيه لا يزيد على تمثيل (المجددين) Modernists للدين الكاثولوليكي، والحقيقة أنه لا يوجد فرق في هذا الموضوع بين فقهاء المذاهب المختلفة) . *** ماهية إصلاحيات الشيخ محمد عبده يقول أحد مادحيه: إن المزية التي اشتهر بها الأستاذ هو الدقة النادرة التي يميز بها بين ما هو في الديانة جوهري وما هو عرضي أو طارئ على الدين، وهو في أشد اقتراحاته جرأة لم يتعرض بشيء للقسم الجوهري من العقيدة، ولا ترك نفسه يهاجم أركان الدين الأساسية نظير كبار مصلحي القرن التاسع عشر كميرزا علي محمد الباب المولود في فارس سنة 1821 مؤسس البابية، وبهاء الله مؤسس البهائية في تركيا الذي صلبته الحكومة الفارسية سنة 1850 (هذا خلط عظيم، فالذي صلبته الحكومية الفارسية هو الباب لا بهاء الله، وهذا قد توفي حتف أنفه في عكا منذ نحو أربعين سنة) أو ميرزا غلام أحمد في الهند. بل الشيخ محمد عبده بقي دائمًا ضمن حظيرة الإسلام بل ضمن مذهب السنة والجماعة [2] ؛ وإنما كان عمله الوعظ والحث على التسامح الديني، والدفاع عن حقوق العقل، وإحياء فضائل الدين، وتطبيق الإسلام على العلم الحديث. ومما لا جدال فيه أن الشيخ محمد عبده قد دافع عن الإسلام دفاعًا شديدًا ذاهبًا إلى حد ترجيحه على النصرانية، فهو ينتقد ما في النصرانية من الحث على الغلو في حب القريب، وإماتة الحواس والزهد في الدنيا، غافلة عن طبيعة الإنسان والغرائز التي هو مفطور عليها. وهو يقول: (إنه لما جاء الإسلام خاطب العقل والإدراك، وأشركهما في العواطف والحواس آخذًا بيد الإنسان إلى سعادة الدنيا والأخرى) . ولكن الشجرة تعرف بثمارها، وهذه الجملة تكفي في هذا المختصر على الأقل لتفنيد انتقادات الشيخ محمد عبده، فهل مآثر الإسلام تتحمل القياس مع مآثر النصرانية، لا شك أن التاريخ الذي لا ضلع له يجاوب جوابًا فصيحًا على هذه المسألة، وإن أراد القراء المسلمون الأدلة والوثائق فما عليهم إلا أن يختاروا، فإن الكتب الحديثة المنوهة بمآثر النصرانية جديرة بالاعتبار. (وذكر المؤلف سيكار في الحاشية اسم كتاب في تاريخ الأديان، وكتاب آخر في بيان فضائل الدين الكاثوليكي؛ ولكن الجواب عن هذه القضية وهي أن الشجرة تعرف بثمارها والتي معناها عزو تقدم أوربة إلى النصرانية، وعزو تأخر المسلمين إلى الإسلام هذا الجواب سهل علينا وسنذكره بعد الانتهاء من ترجمة هذا الفصل، وهما قد رأيا فيه حجج الأستاذ الإمام) . ولم يغب عن الشيخ أن حالة المسلمين الحاضرة هي بعيدة جدًّا عن الصورة التي يعطيها هو عن الإسلام، وفي الفصل الذي عنوانه (إيراد سهل لا يراد) تجد منه أمرّ انتقاد لهذه الحالة إلا أنه يعزو هذا الانحطاط إلى انحراف المسلمين عن جادة دينهم ويقول: إنهم طيلة ما كانوا سائرين بمقتضاه كما يجب كانت جيوشهم لا تعرف إلا الغلبة والظفر، وكان سلطانهم فائقًا في اللمعان كل ما تَقَدَّمه من المدنيات، وكان مفكروهم في مقدمة الحركة الفكرية التي كانت في عصرهم. *** صدى الحركة العصرية في شمالي أفريقية إن الحركة العصرية قد أخذت تنتقص المبادئ الدينية؛ ولكن انتقاصًا محدودًا وبمقدار مختلف بين تونس والجزائر ومراكش، فأفكار الشيخ عبده تغلغلت في عقول المفكرين ووجدت مجالاً واسعًا لدى الشبان على حين نرى أرباب العمائم منكرين لها أشد الإنكار، ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين لا يقدرون أن يجهروا بأفكارهم نظرًا لقلة عددهم ولشدة مقاومة الجامدين لهم (لكن نفوذهم هو الغالب حتى غلب على الأزهر ولله الحمد) . وهؤلاء الجامدون [3] بعداوتهم لكل ما ليس به نص صريح في القرآن ينقمون أشد النقمة على أتباع الطرق الصوفية تقديس الأولياء والطواف حول قبورهم، وكل مقصدهم هو تطهير

السنة والشيعة ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السنة والشيعة أو الوهابية والرافضة (4) نموذج من نقول في الطعن على ابن تيمية أول شيء نقله الرافضي العاملي في طعن العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية كلمة للفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي، وهي دعوى التجسيم. فنقول في الكلام عليها (أولاً) هل يعد الرافضي العاملي كلام ابن حجر هذا في الدين ورجاله حكمًا صحيحًا مع علمه بما قاله في كتابه الصواعق، وفي كتابه مناقب معاوية في بدع الشيعة وتضليلهم ... إلخ، أم يقبل قوله في ابن تيمية وحده دون معاوية ودون الشيعة كلهم كما هي عادة أمثاله من المتعصبين الذين لا يقبلون إلا ما يوافق أهواءهم؟ نحن لا ننكر أن ابن حجر الهيتمي طعن في ابن تيمية، وما هو من طبقته في علم من العلوم: لا علوم الحديث ولا التفسير ولا الأصول والكلام ولا الفقه أيضًا، فابن حجر هذا فقيه شافعي مقلد لمذهب الشافعي غاية شأوه بيان ما قاله مَن قَبله في المذهب، وبيان الراجح من المرجوح والصحيح وغيره، وأما ابن تيمية فمن أكبر حفاظ السنة، ومع كون طبقته في فقه الحنابلة أعلى من طبقة ابن حجر في فقه الشافعية فهو حافظ لفقه الأئمة، ومن أهل الترجيح بينها، بل هو مجتهد مطلق كما اعترف له أهل الإنصاف من علماء عصره ومن بعدهم، وإن أنكر عليه بعضهم بعض المسائل المخالفة لمذاهبهم، وما من إمام مجتهد إلا وقد أنكر عليه المخالفون بعض أقواله وهم خير ممن يقلدونه ويعدونه كالمعصومين في عدم مخالفته في شيء مما ثبت عنه. ومع هذا نعتقد أن ابن حجر الهيتمي هذا لم يطلع على كتبه؛ وإنما قال فيه ما قال اعتمادًا على ما أشاع عنه خصومه من المبتدعة ومتأولة الأشاعرة ومغروري المتصوفة، فمن أعظم سيئاته عند هؤلاء رده على الشيخ محيي الدين بن عربي وبيانه لضلالة وحدة الوجود المشهورة عنه وعن أمثاله. وأما قوله بإظهاره للعامة على المنابر دعوى الجهة والتجسيم فهو مقلد فيه لأولئك الخصوم في تسميتهم إثبات العلو لله تعالى جهة مستلزمة للتحيز والتشبيه - للتنفير والتشهير بشناعة الألفاظ كتسميتهم لإثبات الاستواء على العرش والنزول إلى سماء الدنيا ونحوهما تجسيمًا أي بطريقة اللزوم، فإن كان يلزم من إثبات نصوص الكتاب والسنة ما ذكروا كما زعموا فهل يترك المسلمون نصوص الكتاب والسنة لأجل نظرياتهم في هذه اللوازم؟ ثم هل يقولون بضلال سلف الأمة وحصر الهداية بالمبتدعة المتأولين، مع العلم بأن مذهب السلف ونصيرهم ابن تيمية نفى هذه اللوازم كلها؟ . وهذا عين ما ناظره فيه العلماء الذين شكوا أمره إلى سلطان مصر، قالوا: إنه يذكر للعوام آيات الصفات وأحاديثها من غير تأويل، وطلبوا منه هو عدم التصريح بذلك للعوام فأبى عليهم ذلك؛ لأنه كتمان لما أنزله الله، والله تعالى يقول في كتابه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) وأي طعن في الدين وجناية عليه أعظم من القول بوجوب كتمان صفات الله المنزلة في كتابه بناء على أن المبتدعة ومغروري المتكلمين قالوا بوجوب تأويلها. وقد قال الرافضي العاملي بعد نقل ما ذكر عن ابن حجر الهيتمي: وقال ابن حجر أيضًا في (الدرر الكامنة) على ما حُكي: إن الناس افترقت في ابن تيمية فمنهم من نسبه إلى التجسيم ... إلخ. ونقول في هذه الكلمة: (أولاً) إن ابن حجر صاحب الدرر الكامنة ليس ابن حجر الهيتمي المكي كما يدل عليه قوله: (أيضًا) بل هو الحافظ ابن حجر العسقلاني وكتابه (الدرر الكامنة) تاريخ له في أعيان المائة الثامنة، وهو مشهور وإن جهله الرافضي العاملي المدعي، فما أجهل هذا الرافضي برجال أهل السنة وكتبهم! . (وثانيًا) إن الحافظ ذكر في تاريخه هذا ما تقوَّله الناس على ابن تيمية، وما طعنوا به عليه كما يذكر هو وغيره من المؤرخين مثل ذلك في غيره من الأئمة حتى المعصومين عند الشيعة؛ ولكنه هو يثني عليه أجلَّ الثناء، وقد رأيت كلامه في الانتصار لمذهب الحنابلة، وهو مذهب السلف في الصفات الإلهية، ومنها صفة العلو، وكذا في مسألة الحرف والصوت في شرحه للبخاري الذي نقلناه آنفًا؛ ولكن الرافضي يعمى عن رؤية ذلك، ويوهم قراء كتابه أن الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام وأستاذ أشهر العلماء والحفاظ في عصره يطعن في ابن تيمية ويقول بكفره، لعدم تأويله للآيات والأحاديث الواردة في صفات الرب تعالى، كما أوهم مثل ذلك في الحافظ الذهبي إذ قال بعد ما تقدم نقله عنه في ص 132 من كتابه ما نصه: (ورَدَّ أقاويله وبيَّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلد الأول من الدرر الكامنة، والذهبي في تاريخه وغيرهما من المحققين) . (وثالثًا) ننقل من ترجمة الحافظ ابن حجر لابن تيمية، ومن ترجمة الحافظ الذهبي فيها ما يُعرف به الحق من الباطل في مزاعم هذا الرافضي الكذاب فنقول: ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله سره للحافظ ابن حجر في تاريخه الدرر الكامنة [1] هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني ثم الدمشقي الحنبلي، تقي الدين أبو العباس بن شهاب الدين بن مجد الدين. وُلد سنة إحدى وستين وستمائة وتحول به أبوه من حران سنة سبع وستين وستمائة، فسمع من ابن عبد الدائم والقاسم الأريلي والمسلم بن علان وابن أبي عمر والفخر في آخرين، وقرأ بنفسه ونسخ سنن أبي داود، وحصل الأجزاء، ونظر في الرجال والعلل، وتفقه، وتمهر، وتميز، وتقدم، وصنَّف، ودرس، وأفتى وَفَاقَ الأقران، وصار عجبًا في سرعة الاستحضار وقوة الجنان، والتوسع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السلف والخلف. وأول ما أنكروا عليه من مقالاته في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وستمائة: قام عليه جماعة من الفقهاء بسبب الفتوى الحموية، وبحثوا معه، ومنع من الكلام، ثم حضر القاضي إمام الدين القزويني فانتصر له وقال هو وأخوه جلال الدين: من قال عن الشيخ تقي الدين شيئًا عزّرناه. ثم ذكر ما وقع له من الاضطهاد والحبس والإطلاق بتواريخه مفصلاً، فعلم منه أن سببه سعاية بعض الجامدين على التقاليد الأشعرية والفقهية والمتصوفة إلى السلطان في انتصاره لمذهب السلف، وفي إنكاره على الصوفية ولا سيما ابن عربي، وفي مسألة الطلاق الثلاث حتى اتهموه بطلب الخلافة كما سيأتي ذكره وأن جميع الحنابلة كانوا يضطهدون معه، وكان بعض المنصفين ينتصرون له لما امتازوا به من الاستقلال في العلم، حتى إن الحكومة أكرهت الحنابلة كلهم على الإقرار بأنهم على معتقد الإمام الشافعي، وذكر أن ابن تيمية نفسه كتب بخطه أنه على معتقد الشافعي، وهذا تخلص حسن إن صح فالشافعي كان على مذهب السلف في اعتقاده بلا شك، وذكر أن ممن انتصر لابن تيمية في دمشق قاضي الحنفية شمس الدين الحريري. وأنه توفي معتقلاً في القلعة لعشرين ليلة خلت من رجب سنة 728 ثم قال: قال الصلاح الصفدي: كان كثيرًا ما ينشد: تمرت النفوس بأوصابها ... ولم يدر عواها ما بها وما أنصفت مهجة تشتكي ... أداة إلى غير أحبابها وأنشد له على لسان الفقراء: والله ما فقرنا اختيار ... وإنما فقرنا اضطرار جماعة كلنا كسالى ... وأكلنا ما له عيار يسمع منا إذا اجتمعنا ... حقيقة كلها فشار وسرد أسماء تصانيفه في ثلاثة أوراق كبار وأورد فيه من أمداح أهل عصره كابن الزملكاني قبل أن ينحرف عليه، وكابن الوكيل وغيرهما، قال: ورثاه محمود بن علي الدقوقي ومجير الدين الخياط وصفي الدين عبد المؤمن البغدادي وجمال الدين بن الأثير وتقي الدين محمد بن سليمان الجعبري وعلاء الدين بن غانم وشهاب الدين بن فضل الله العمري وزين الدين بن الوردي وجمع جم، وأورد لنفسه فيه مرثية على قافية الضاد المعجمة. قال الذهبي ما ملخصه: كان يقضي منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه، قال: وما رأيت أسرع منه انتزاعًا للآيات الدالة على المسألة التي يوردها، ولا أشد استحضارًا للمتون وعزوها منه ‍! كأن السنة نصب عينيه وعلى طرف لسانه بعبارة رشيقة لا يسبقه بها غيره وعين مفتوحة، وكان آية من آيات الله في التفسير والتوسع فيه. وأما أصول الديانة ومعرفة أقوال المخالفين فكان لا يشق غباره فيه، هذا مع ما كان عليه من الكرم والشجاعة والفراغ عن ملاذّ النفس؛ ولعل فتاويه في الفنون تبلغ ثلاثمائة مجلد بل أكثر، وكان قوالاً بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم (ثم قال) ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده. وكان أبيض أسود الرأس واللحية قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحًا سريع القراءة، تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم (قال) ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله وكثرة توجهه، وأنا لا اعتقد فيه عصمة، بل أنا مخالف له في مسائل أصلية وفرعية؛ فإنه كان مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين بشرًا من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب وسطة للخصم تزرع له عداوة في النفوس وإلا لو لاطف خصومه لكان لحلمه إجماع، فإن كبارهم خاضعون لعلمه، معترفون بتفوقه، مقرون بندور خطئه وأنه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، ولكن ينقمون عليه أخلاقًا وأفعالاً، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك من قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قال) وكان محافظًا على الصلاة والصوم، معظمًا للشرائع ظاهرًا وباطنًا، لا يؤتى من سوء فهم فإن له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زاخر، ولا كان متلاعبًا بالدين، ولا ينفرد بمسألة من التشهي، ولا يطلق لسانه بما اتفق، بل يحتج بالقرآن والحديث والقياس ويبرهن ويناظر أسوة من تقدمه من الأئمة فله أجر على خطئه، وأجران على إصابته. إلى أن قال: تمرّضَ أيامًا بالقلعة بمرض حاد إلى أن مات ليلة الإثنين، العشرين من ذي القعدة، وصُلي عليه بجامع دمشق، وصار يُضرب بكثرة من حضر جنازته المثل، وأقل ما قيل في عددهم أنهم خمسون ألفًا. قال الشهاب بن فضل الله: لما قدم ابن تيمية على البريد إلى القاهرة في سنة سبعمائة نزل عند عمي شرف الدين وحض أهل المملكة على الجهاد، وأغلظ القول للسلطان والأمراء، ورتبوا له في مدة إقامته في كل يوم دينارًا ومخفقة طعام، فلم يقبل من ذلك شيئًا، وأرسل له السلطان بقجة قماش فَردَّها. (قال) ثم حضر عنده شيخنا أبو حيان فقال: ما رأت عيناي مثل هذا الرجل، ثم مدحه بأبيات ذكر أنه نظمها بديهة وأنشده إياها: لما أتانا تقي الدين لاح لنا ... داع إلى الله فردٌ ما له وزر على محياه من سيما الألى صحبوا ... خير البرية نور دونه القمر حَبرٌ تسربل منه دهره حِبرًا ... بحر تقاذفُ من أمواجه الدرر قام ابن تيمية في نصر شرعتنا ... مقام سيد تميم إذ مضت مضر وأظهر الحق إذ آثاره اندرست ... وأخمد الشر إذ طارت له شرر يا من يحدث عن علم الكتاب أصخ ... هذا الإمام الذي قد كان ينتظر [2] قال: ثم دار بينهما كلام فجرى ذكر سيبويه فأغلظ ابن تيمية القول في سيبوي

العيد الذهبى لشيخ الشعراء ونادرة الأدباء ونابغة الفيحاء عبد الحميد بك الرافعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العيد الذهبي لشيخ الشعراء ونادرة الأدباء ونابغة الفيحاء عبد الحميد بك الرافعي نشرنا في ص 238 م29 الإذاعة التي نشرتها اللجنة التي ألفت في طرابلس الشام للاحتفال بهذا العيد الأدبي الوطني، وكنا ننوي حضوره لما تقضي به علينا الحقوق الشخصية الموروثة، علاوة على الحقوق الوطنية والقومية والأدبية، فشاعرنا الكبير في مقدمة أصدقائنا الأوفياء بالتعارف الروحي الأدبي والمتوارث عن الآباء والأجداد. كان والده الشيخ عبد الغني يكرمني تكريمه لأعز أنجاله وأنجب تلاميذه، ويثني عليَّ في بداية طلبي ثناء كنت أخجل من ذكره، وكانت الزيارات والمودة متصلة من قبل بين الآباء والأجداد، وعهدته مصطافًا بدارنا في القلمون مع أهل بيته بمقام سيد الدار وكبير الأسرة. ثم قد بلغت بيني وبين الشيخ محمد كامل الرافعي الشقيق الأكبر لعبد الحميد بك درجة الكمال كما ذكرت ذلك في ترجمته رحمه الله تعالى، وكان نادرة المثال في هذا العصر في الاشتغال بالعلوم العالية، والتخلق بالأخلاق السامية، حتى أنني لما زرت الوطن في عام الدستور العثماني (سنة 1327 هـ 1909م) لم يكن يسمح لي أن أبيت عند والدتي إلا ليالي قليلة، فكنت في معظم المدة التي أقمتها في طرابلس أبيت عنده في حجرة نومه، وكان جل حظنا من هذا المبيت المذاكرات العلمية فالاجتماعية والسياسية قبل النوم وبعد صلاة الفجر في أول وقتها بالجامع الكبير المجاور لدارهم، دع تلك المسامرات والمساجلات الجميلة، في تلك الليالي الشتائية القصيرة الطويلة، في تلك الدار التي كان عبد الحميد بك نجم سمائها المتألق، وغيث آدابها المتدفق. وكنت لما اقترن عبد الحميد بك نظمت وأنا تلميذ مبتدئ موشحًا كالموشحات الأندلسية في تهنئته أنشدته بنفسي في حفلة الزفاف وهي أول تهنئة نظمتها، وأول قصيدة أنشدتها، في أرقى محفل، وأكرم منزل، أذكر بعض ما أحفظ منها، وتشفع لي البداية في ضعفها: أسقط الطل في نبت الحمى؟ أم لآل فوق بسط السندس؟ أم نجوم تتراءى في السما ... أم ثغور زينت باللعس *** ياعُريبا تخذوا نبت اللمى ... عند فقد الحرث منه بدلا وبقلبي قد تركتم ألمًا ... لم يغادر لنجاتي أملا لي منكم غادة لم يدر ما ... بفؤادي طرفها قد فعلا حيث قالت حين زارت ريثما ... تقف الأنجم بعد الغلس احذر الأنس بغيري إنما ... كنت إنسانًا لفرط الأنس *** إن نجم الكأس فيما قد حوى ... هز منها العطف إذ تغتبق غربت شمس الطلا لما هوى ... فبدا في وجنتيها الشفق وبجفنيها لأرباب الهوى ... إن تأملت عدو أزرق دائمًا يفخر في سفك الدما ... ويباهي بهلاك الأنفس يسلب الروح برفق مثلما ... تسلب الراحة عقل المحتسي ومنه في مدحه: لسن إن نظم الشعر غدًا ... يتراءى فوق طوق البشر تنصت الناس إذا ما أنشدا ... كيف تصغي لاستماع السور كلما كرر يحلو موردًا ... وهو لم يهجر لفرط الخصر ما أبو الطيب إما نظمًا ... وابن هاني شاعر الأندلس ليس يهنئك إذا شعرهما ... وبه لم تلق طيب الأنفس فإذا كانت باكورة شعري في التهاني قد أنشدت في عيد زفافه فأجدر بي أن أكون أول السابقين إلى حضور حفلة عيده الذهبي، وأول الساجعين بمناقبه ومناقب أبيه وأخيه وبيته؛ ولكن أحكام القدر القاهرة غلبتني على أمري، وما زالت غالبة لكل الخلق، فحالت دون ما تصبو إليه نفسي ويوجبه على روحي وعقلي، وما كان إلا خيرًا يعذرني به أخي وصديقي، فقد أنعم الله تعالى علي بشراء دار بل قصر، في حي الإنشاء من مصر، وكان من قضائه وقدره أن أنتقل إليها بالعيال والمطبعة والمكتبة في الشهر الذي أقيمت فيه حفلة العيد الذهبي له، وأن أجدد بجانبها بناء للمطبعة، ولا أزال حتى كتابة هذه السطور في العشر الأخير من ذي الحجة مشغولاً بذلك، وقد اعتذرت للجنة الاحتفال ببرقية تليت عقب افتتاحها هذا نصها: لجنة يوبيل الرافعي (بطرابلس المدينة) : أساهمكم بروحي وجناني، وقلبي ووجداني، ما حال القدر القاهر دون السعي له بجثماني، من الاحتفال بيوبيل شاعرنا الأسمى، وصديقي الأوفى، محيي أدب العرب، ووارث مجد العلم عن خير أب وجد. ... ... ... ... ... ... ... ... ... رشيدرضا خبر الوفد المصري للعيد: هذا وإنني كنت قد اتفقت مع أمير الشعراء أحمد شوقي بك وشاعر القطرين خليل بك المطران ثم مع أحمد شفيق باشا وكيل الرابطة الشرقية على تأليف وفد منا يرغب السفر إلى طرابلس معنا للاشتراك في هذا الاحتفال، وجعله في نظامه الحلقة الثانية من حلقات مؤتمرات الأدب العربي؛ إذ كانت حفلة شوقي هي الأولى منها، وأنا الذي اقترحت بالاتفاق مع هؤلاء تأخير موعد الاحتفال من شهر كانون الثاني (يناير) إلى شهر نيسان، لأن السفر في عنفوان الشتاء مما يشق على كل إنسان، ثم عرض لي من العذر ما أشرت إليه من قبل وعرض مثله لأحمد شفيق باشا، فقد انتهت إجارته للدار التي كان يسكنها وتجتمع فيها الرابطة الشرقية، وتم بناء الدار التي أنشأها في روضته من شبرا على ضفة النيل، واحتاج إلى الانتقال إليها في شهر أبريل، كما أنه استأجر مكانًا للرابطة الشرقية نُقلت إليه فيه، وعرض لخليل بك المطران عذر يتعلق بوظيفته الرسمية، وكنت كلمت أيضًا نصيري العرب والأدب أحمد زكي باشا وحمد الباسل باشا فأظهرا لي الرغبة القلبية في السفر؛ ولكن فاجأني خبر تحديد السابع من الشهر للحفلة في اليوم الثالث منه فتعذر تأليف الوفد في بقية الأسبوع ممن لم تمنعهم الأعذار القاهرة، وكان أحمد زكي باشا قد شرع في الدعوة إلى حفلته الشرقية الغربية التي اشتهر خبرها، وبقي إلى يوم الجمعة وهو اليوم الخامس منه يرجو أن يتمكن من السفر فلم يُتح له، وتأخر أحمد شوقي بك في نظم قصيدته فلم يدرك بها الاحتفال، فنشرت في الجرائد، فهذا عذر مصر وعذر عارفي فضل الرافعي وآل الرافعي من المصريين في تقصيرهم. ثم رأيت من الواجب عليَّ أن أنوه بهذا العيد السعيد في المنار، وأبلغ خبره ما يبلغه من الأقطار، فأذكر فيه شيئًا مما كنت أحب أن أقوله فيه، وأحسن ما أنشد الشعراء في مناقب صاحبه وذويه، ولولا أنني تركت نظم الشعر منذ ثلث قرن بالتقريب فلم أنظم بعد أن هاجرت من طرابلس قصيدة ولا مقطوعة، فلا مطمع لي الآن في وصل ملكته بعد طول هذه القطيعة، وأحمِّلها ما تستطيع حمله من آيات سروري، وكنت وعدت بأن أقول هنالك كلمة في تاريخ الأسرة الرافعية ومكان بيت الشيخ عبد الغني منها، تعريفًا لمن يجهل من وفود عيد هذا الكوكب الدري من كواكبها، بعض ما أعرفه دونهم من غرر مناقبها، والآن فات المقتضي لذلك التفصيل؛ والموانع الشواغل لا تأذن من الإجمال إلا بالقليل. مكانة الرافعية وبيت شاعرنا منها: الأسرة الرافعية أشهر بيوتات العلم في ديار الشام ومصر، فهي إذًا أشهرها في الأمة العربية والأقطار الإسلامية، وكان جُل شهرتها في فقه الحنفية، وقد تولى كثير من رجالها مناصب القضاء والإفتاء في الديار المصرية والممالك العثمانية، واشتهر بعض شيوخها بالإرشاد والصلاح؛ ولكن بيت الشيخ عبد الغني قد اجتمع فيه من المناقب والفضائل ما لم يتفق لأحد منهم، وقلما اتفق مثله لغيره من غيرهم. كان الشيخ عبد الغني آية في الذكاء والزكاء، والهمة والمضاء، طلب العلوم العربية والشرعية ففاق فيهما الأقران، وسلك طريق الصوفية ففات أهل العرفان، وإنما سلكها بالمجاهدة العملية، دون الرسوم والمظاهر الصورية، فكان من أولي الفرقان في درجات العرفان، بعد أن قطع المراحل متنقلاً في المنازل، حتى ذاق طعم الفناء، وبلغ حال الجمع، ثم ارتقى إلى مقام الفرق بحكم الشرع، كما أنه اشتغل من تلقاء نفسه بآداب اللغة كآداب النفس، وراض جواد يراعه في ميداني النثر والنظم، وقد سمعت منه أنه قرأ كتاب أدب الدنيا والدين للماوردي ثلاثين مرة، وقرأ إحياء العلوم للغزالي مرارًا كثيرة، وناهيك ببلاغة عبارتهما، وحسن إنشائهما، فكان كاتبًا يستخرج الدرر من أعماق البحور، كما كان شاعرًا ينظمها كالعقود في نحور الحور، ولا أدري أي دواوين الشعراء كان يحفظ، وإنما أعهد أنه كان حسن الاختيار، لكل ما يراجع من الدواوين والأسفار. وقد ولي منصب القضاء في ولاية صنعاء اليمن وأقام فيها عدة سنين عاشر في أثنائها علماء الزيدية وناظرهم، ورأى ما لم يكن يعرف من المصنفات في خزائن عاصمتهم، فعاد إلى طرابلس الشام بعلم جديد كانت تصبو إليه سلامة فطرته، وينبو عنه أو يحول دونه حال وطنه ودولته، ألا وهو الاستقلال الاجتهادي في العلم وفقه الحديث، وكان الذي هداه إلى هذا كتاب نيل الأوطار للإمام الشوكاني الصنعاني، يظهر أنه جاء به من اليمن وهو مطبوع في مصر، وكان يقرؤه درسًا في بهو داره، فيحضره المنتهون من طلاب العلم من أنجاله وغيرهم، وقد حضرت بعض دروسه بالاتفاق، وكان ذلك قبل شروعي في طلب العلم، ولم أنس جرس صوته ولا إشارة يده عند نطقه بالكلمة التي يكررها الشوكاني في التعبير عن الترجيح بين الأقوال المتعارضة في المسائل، بعد المعادلة بين الدلائل، أعني كلمة (وهو الحق) إذ كان الشيخ يرفع بها صوته ويخفض يده إقرارًا لها واستحسانًا. نعم كان مستعدًا بفطرته الذكية وإخلاصه في طلب العلم للاستقلال في الفهم واتباع الدليل، وزادته قراءة الإحياء فكُتب الشيخ عبد القادر الجيلي استعدادًا له ونفورًا من التقليد، ثم كمَّل له ذلك بقراءة نيل الأوطار في فقه الحديث، فكان في آخر عهده محدثًا فقيه النفس، صوفيًّا مصفى من آفات النفس، ولم يكن في يوم من الأيام صوفي تقاليد وحلقات أذكار، وسماع دفوف أو أوتار، وإنما تصوفه علم وأخلاق. كان من أزهد الناس في الدينا بقلبه، وأصدقهم توكلاً على ربه، على كونه أطيبهم عيشًا في مطعمه ومشربه ولباسه وزينة داره، وكان أشد الناس تواضعًا للفقراء والمساكين، على كبر جاهه ورفعة مقامه عند الحكام المتكبرين، والكبراء المفنقين المتأنقين، فكان يضع يده في يد من يعاشرونه من الفقراء كالشيخ صديق الأفغاني ويماشيه في السوق، ويذاكره في آفات النفس والمعرفة وفلسفة الأخلاق، مذاكرة الأقران للأقران، وقد سبق لي ذكر غير هذا من مناقبه وفضائله في المنار. وقد ورث كل نجل من أنجاله ما شاء الله أن يرث من شمائله وخلاله. واقتبس من أدركه منهم من معارفه وأدبه وحكمته، ماهو مستعد له بعقله وذوقه وغريزته، كما أشرت إلى ذلك في رثائه: فللمعارف والإرشاد كاملهم ... من حالف العلمُ فيه الهدى والعملا وفي البلاغة كم عبد الحميد سما ... وللتحدي بها آي البيان تلا ولم أر مثلاً لامتياز بيت عبد الغني في رافعية سورية إلا امتياز بيت عبد اللطيف في رافعية مصر، فهو قد أنجب عالمين سياسيين حقوقيين كاتبين بليغين مؤلفين، خدما مصر في صحفها ومصنفاتها التاريخية السياسية أجل خدمة، وهما أمين بك صاحب جريدة الأخبار رحمه الله، وعبد الرحمن بك صاحب المصنفات المشهورة حفظه الله، وكل منهما حافظ على شرف أسرته بقوة عقيدته، والمحافظة على عبادته، فتم بهما للأسرة الرافعية خدمة أمتهما العربية، في وطنيهما مصر وسورية، من جميع الطرق الدينية والدنيوية. عبد الحميد الرافعي: امتاز عبد الحميد الرافعي بحب الفصاحة وعشق البلاغة، على ذوق في البيان دقيق، وأسلوب في الشعر رشيق، وسليقة كانت تنبجس من عين غريزته وتستمد من بحر والده، وكانت كتب الأدب وفنونه، والشعر ودواوينه، لا ترتقي في عهد طلبه للع

مسألة قتل اليهود الأنبياء بغير حق وطريقة الأزهريين في المناقشات والفهم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة قتل اليهود الأنبياء بغير حق وطريقة الأزهريين في المناقشات والفهم أخطأنا بتحكيمنا مدرسي التفسير بالأزهر في هذه المسألة إذ فتحنا للأزهريين وأمثالهم باب المناقشة الأزهرية فيها، فقد كتب إلينا اثنان من طلاب قسم التخصص فيه رسالتين في ذلك إحداهما طويلة، والثانية قصيرة، وعاد الأستاذ المنتقد الأول لعبارة تفسيرنا فأرسل إلينا رسالة أخرى في الانتصار لنفسه. قرأت من هذه الرسالة بضعة أسطر، ومن رسالة الطالب الأزهري مثلها الأول أو أكثر، فرأيت أنني أسفِّه نفسي إذا قرأت أمثال هذه الرسائل كلها، وأكون جديرًا بأن يحكم عليَّ بالخرف أو الجنون إذا نشرتها ورددت عليها، فقد كان مذهبي منذ أنشأت المنار إلى اليوم تخطئة الأزهريين والتشنيع عليهم بجعل جل حظهم من طلب العلم المناقشات في عبارات الكتب وإيراد الاعتراضات عليها والأجوبة عن هذه الاعتراضات، وقد قلت مرارًا ولا أزال أقول عن علم وبصيرة: إن هذه الطريقة العوج هي التي أضاعت العلم في الأزهر، ونقلت عن شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى أنه كان يقول: إنهم يتعلمون كتبًا لا علمًا، وقال في درس رسالة التوحيد في الأزهر أنه لا يسمح لأحد أن يشرحها ولا يكتب لها حاشية، ومن فعل ذلك فلا سامحه الله، دع ما يثيره الرد من ضغن وحقد، ولا سيما الرد على المنتقد الأول الذي كبر عليه أن أقول: إنه لم يفهم عبارتي التي أراد إثبات كفري بسوء فهمه لها. وقد لقيت أمس أخانا الأستاذ الفاضل الشيخ علي محفوظ من كبار المدرسين في قسم التخصص من الأزهر، وقد مضت عدة سنين لم ألقه فيها، فتذكرنا أيام تلاقينا في دروس الأستاذ الإمام رحمه الله، وأطراني الأستاذ وهضم نفسه تواضعًا عن رفعة، ثم أثنى على تفسير المنار، وذكر من مزايا مؤلفه لصديق له حيث كنا من دار الكتب المصرية: (1) أنه لم يحاب أحدًا حتى أستاذه فيه فتعقبه في مواضع. (2) أنه شديد الإنكار على التقليد لا يترك سانحة من التأويل تساعده على إبطاله والنعي على أهله إلا اغتنمها. (3) أنه يذكر من معاني الألفاظ ونكت البلاغة فيها ما يساعد على فهم الآيات، ويجعل كل همه بيان المعنى، وما فيه من الهدى الذي هو المراد من كتاب الله بخلاف جماهير المفسرين الذين يشغلون القارئ لتفاسيرهم بالمباحث اللفظية الصارفة عن فهم القرآن وعن هدايته. (4) تحاميه ذكر الإسرائيليات والروايات التي لا تصح فيه. (5) بيانه لما فيه من المسائل والسنن الاجتماعية، وقد انفرد بهذا دون جميع التفاسير، ذكر الأستاذ هذه المعاني كلها بعبارة مجملة مدمجة، والغرض من ذكرها الأمر الثالث ولولاه لم نذكرها على قرب العهد بسماعها، فإذا نحن فتحنا باب الجدل والمراء في عبارة تفسيرنا لآية (قتل الأنبياء بغير حق) نكون قد أضعنا مزية من أهم المزايا الإصلاحية التي يعرفها لنا أهل البصيرة والاستقلال، بيد أنني أذكر في الموضوع بعض المسائل التي يتجلى بها الحق لطالبه مخلصًا فيه فأقول: (1) ليفهم كلمة (الحق) مُعرَّفة ومُنكَّرة من شاء كما يشاء، وليفهم معنى التشبيه في قولنا: (إن قتل الأنبياء لا يكون إلا بغير حق كما يقول المفسرون) . كما يشاء، فنحن نصرِّح بأن مرادنا من العبارة في جملتها أن نكتة البلاغة في تقييد قتل الأنبياء بكونه بغير حق هي تعظيم شأن الحق، وأنها من قبيل قوله تعالى {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ} (المؤمنون: 117) فإنه تعظيم لشأن البرهان وكون المدار عليه في إثبات الدعاوي بصرف النظر عن موضوعها، وقوله تعالى {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا} (لقمان: 15) فإنه تعظيم لشأن العلم كذلك، ومن المعلوم بالعقل والنقل أن دعاء غير الله تعالى لا يكون عن برهان، وأن الشرك به لا يكون مبنيًّا على علم، بل هو محض الجهل، فإذا كانت عبارتنا تؤدي ما أردنا كما نعتقد، فالفضل لله تعالى وإن كانت لا تؤديه فالجهل والتقصير منا، ونستغفر الله تعالى. (2) خطر ببالي عند كتابة هذا التنبيه أن أراجع تفسير الإمام فخر الدين الرازي لآية آل عمران وآية البقرة؛ فإنه يوجد فيه من أمثال هذه الدقائق ما لا يوجد في غيره أحيانًا فراجعته، فإذا هو يحيل في الثانية على الأولى لتقدمها، فأكتب ما أورده فيها من سؤال وجواب في موضوعنا، وهو السؤال الثاني قال رحمه الله تعالى: (السؤال الثاني) لمَ قال (بغير الحق) وقتل الأنبياء لا يكون إلا على هذا الوجه؟ الجواب من وجهين [1] (الأول) أن الإتيان بالباطل قد يكون حقًّا لأن الآتي به اعتقده حقًّا لشبهة وقعت في قلبه، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً، ولا شك أن الثاني أقبح، فقوله {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) أي أنهم قتلوهم من غير أن كان ذلك القتل حقًّا في اعتقادهم وخيالهم، بل كانوا عالمين بقبحه، ومع ذلك فقد فعلوه (وثانيها) أن هذا التكرير لأجل التأكيد كقوله تعالى {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} (المؤمنون: 117) ومستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان (وثالثها) أنه تعالى لو ذمهم على مجرد القتل لقالوا: أليس أن الله يقتلهم؟ ولكنه تعالى قال: القتل الصادر من الله قتل بحق ما، ومن غير الله قتل بغير حق. ذكر في آخر تفسير الآية ما رآه في نكتة تعريف الحق في موضع وتنكيره في آخر ما نصه: (فإن قيل) قال ههنا {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الحَقِّ} (البقرة: 61) ذكر الحق بالألف واللام معرفة، وقال في آية آل عمران {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} (آل عمران: 21) نكرة، وكذلك في هذه السورة {وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} (آل عمران: 112) فما الفرق؟ (الجواب) الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل قال عليه السلام: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معانٍ ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنى بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق) [2] فالحق المذكور بحرف التعريف إشارة إلى هذا، وأما الحق المُنَكَّر فالمراد به تأكيد العموم، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المؤمنون ولا غيره ألبتة. اهـ بحروفه. وما ذكره من تقسيم الحق إلى ما كان حقًّا في شرعنا، وما كان حقًّا في اعتقادهم وخيالهم فهو في معنى تقسيمنا إياه إلى ما كان حقًّا في الواقع، وما كان حقًّا في العرف، وإن لم يكن حقًّا في الواقع، وهو يردُّ زعم من يقول إن الحق لا ينقسم، وما قلناه أوجه، ويبقى أن يقال: إن الحق عند اليهود ما وافق شريعة التوراة لا ما وافق شريعتنا، وهو ما نبينه في الفائدة الثالثة، وهي: (3) بيَّنا في مقالنا الدقيق الذي نشرناه في المجلد التاسع من المنار في تحقيق معاني الحق والباطل والقوة، أن الحق يدخل في معانٍ، منها المعنى الشرعي وهو يختلف باختلاف الشرائع، وإن لم يعقل هذا من لا وقوف لهم على الشرائع، ولا على العلوم والحقائق، وقد كان القتل عقابًا في شريعة التوراة التي كان يدين بها اليهود الذين ذمهم القرآن بقتل الأنبياء بغير حق على ذنوب لا يُقتل فاعلها في شريعتا، ففي الفصل 21 من سفر الخروج ما نصه: (12 من ضرب إنسانًا فمات يُقتل قتلاً 13 ولكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يده فأنا أجعل له مكانًا يهرب إليه 14 وإذا بغى إنسان على صاحبه ليقتله بغدر فمن عند مذبحي تأخذه للموت 15 ومن ضرب أباه أو أمه يُقتل قتلاً 16 ومن سرق إنسانًا وباعه أو وُجد في يده يُقتل قتلاً 17 ومن شتم أباه وأمه يُقتل قتلاً) إلى أن ذكر في عدد 29 إن الثور (إن كان نطاحًا وأُشهد على صاحبه فلم يضبطه فقتل رجلاً أو امرأة، فالثور يُرجم وصاحبه أيضًا يُقتل) ... إلخ فما يقول في هذا من يزعمون أن القتل بحق لا يكون إلا واحدًا في كل زمن وكل أمة وكل شريعة فيجعلونه كالحق في الإيمان بالله وصفاته مثلاً؟ (4) إننا قد صرحنا في تفسير] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [في الآية 112 من سورة آل عمران بمعنى ما قاله الرازي في آية البقرة وذكرناه آنفًا من تحريهم الباطل وتعمدهم إياه مع مخالفتنا إياه في كون الحق المنفي فيها ما وافق شريعتنا واعتمادنا أنه ما وافق شريعتهم لأنهم مؤاخذون بها لا بما جاء بعدها. وهذا نص عبارتنا (ص29ج 4 من التفسير) (أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم، وفي التنصيص على كون ذلك بغير حق مع العلم به تغليظ عليهم، وتشنيع على تحريهم الباطل وكون ذلك عن عمد لا عن خطأ) اهـ. وهو صريح في اعتقادنا في المسألة لا يحتمل المراء.

اعتذار عن قلة مباحث هذا الجزء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اعتذار عن قلة مباحث هذا الجزء قد اضطررنا إلى جمع أكثر مواد هذا الجزء من حرف 24 لأنها جمعت قبل إتمام تنظيم المطبعة في مكانها الجديد، واضطررنا إلى كتابة فصل طويل في الاحتفال بالعيد الذهبي لصديقنا الرافعي ونشره كله في هذا الجزء لأن لجنة الاحتفال ألحت علينا بطلبه لتنشره في كتابها الذي جمعته في شأن هذا الاحتفال، وما قيل وكتب فيه، وجاءت فاتحة المجلد الثلاثين ضعفي المعتاد في أكثر فواتح المجلدات - فلهذا اختصرنا في التفسير، ولم نفتح باب الفتاوى، وأرجأنا مقالات ورسائل أخرى، ومباحث العالم الإسلامي، منها: كلمة في الدستور المصري، وكون البرلمان الذي عُطِّل كان مخالفًا للإسلام ومصلحة المسلمين في شخصه الصوري لا المعنوي وهو ما أشرنا إليه في الفاتحة.

تعزية في مصاب زميل كريم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعزية في مصاب زميل كريم توفي في فترة احتجاب المنار الزميل الكريم ابن الكريم الأستاذ راغب المدهون صاحب جريدة النذير البيروتية الغرَّاء، فكانت وفاته في عنفوان الشباب والقدرة على الجهاد خسارة على صحائف البلاد، لا يجهل كنهها من عرف قلة الأكفاء من المنتحلين لها، فنعزي والده الجليل والأمة بأسرها، ونحمد الله تعالى أن الجريدة لا تزال تصدر، فأطال الله عمرها.

أسئلة من أوربة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من أوروبة (س1 - 5) من صاحب الإمضاء أحد علماء المسلمين في (إيبك - يوغوسلافيا) حضرة العالم الفاضل، شيخ الإسلام، مرشد الأنام، قطب المحققين، غوث المدققين، سيدي الشيخ رشيد رضا أدام الله بقاءه ونفعنا به وبعلومه والمسلمين آمين. (1) كيف كان السلف الصالح يصلون الجمعة؟ يعني كم ركعة من الرواتب للجمعة؟ يصلون قبل فرض الجمعة أربع ركعات، هل هذا من تحية المسجد أو من سنة الجمعة؟ وهل من السنة المؤكدة أن تصلي شيئًا بعد فرضها؟ أنا أريد منكم أن تتفضلوا بالجواب بالقرآن والسنة لا من أقوال أصحاب المذاهب. (2) ما قولكم في رجل لم يكن مستطيعًا للحج فحج بدلاً عن غيره قبل أن يحج عن نفسه؛ لأنه ما كان مكلفًا به عند الحنفية، ثم رجع بعد الحج إلى وطنه، وما أقام في مكة لأداء مناسك الحج في السنة الآتية عن نفسه، فهل يكون مأمورًا ألبتة ومكلفًا به عن نفسه أم لا؟ (3) أربع ركعات قبل العشاء، هل لها حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هذه؟ (4) الاحتقان في رمضان هل يفسد الصوم أم لا؟ (5) ما حكم الجعة في الشرع؟ وهل تُعَدُّ من الخمر أم لا؟ أقدم لفضيلتكم هذه الأسئلة راجيًا الجواب عنها بأسرع ما أمكن، وأسترحم جنابكم العالي قبول تحياتي واحتراماتي الفائقة الخالصة. ... ... يحيى سلامي (أجوبة المنار) (1) هل للجمعة راتبة قبلها وبعدها؟ سبق لنا بحث في هذه المسألة طال عهده، ونقول الآن: إنه لم يرد نص عن الشارع بطلب عدد معين من الركعات قبل الجمعة، والمعروف في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته لصلاتها فيبتدر المنبر فيؤذن بين يديه فيخطب فينزل فيصلي فينصرف إلا أن يتأخر لسبب غير الصلاة؛ ولكن وردت الآثار في التنفل قبلها، فكان السلف من الصحابة ومن بعدهم يبكرون في السعي إلى المسجد قبل الزوال فيصلي كلٌّ ما بدا له لما ورد في السنة من الترغيب في التبكير إلى المسجد وصلاة ما تيسر فيه، وكانوا إذا خرج الإمام إلى المسجد يقطعون الصلاة لما تقدم إلا تحية المسجد لمن دخله، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم أمر بهما من دخل المسجد وهو يخطب. رواه الجماعة كلهم، وقال صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) رواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث جابر (رضي الله عنه) وفي رواية (وقد خرج الإمام) بدل (والإمام يخطب) متفق عليه. وجملة القول: إن صلاة النفل قبل الجمعة مأثور، ومن كرهه من العلماء بعد الزوال فليس له عليه دليل خاص، وكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج عند الزوال فتنقطع الصلاة بخروجه إلا تحية المسجد - ليس نصًّا في اطراد ذلك، ومن قال: إن لها راتبة معينة كراتبة الصبح والظهر بحيث يُستحب قضاؤها إذا فاتت، لا يمكنه أن يأتي بنص يثبته أيضًا؛ وإنما قصاراه قياس الجمعة على الظهر. وأما الصلاة بعدها ففيه حديث أبي هريرة المرفوع (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات) رواه مسلم وأصحاب السنن، وحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته) رواه الجماعة كلهم، وكان ابن عمر يفعل هذا لشدة تتبعه لآثاره صلى الله عليه وسلم إلا إذا كان في المسجد الحرام؛ فإنه كان يصليهما فيه، وعلل بأن سببه رغبته في البقاء في المسجد مثلاً، وورد أنه صلى الله عليه وسلم كان يطيل هاتين الركعتين بعد الجمعة، فالأفضل لمن ينصرف من الجمعة إلى بيته أن يصلي فيه ركعتين، أو أربعًا، وقال بعض الصحابة وفقهاء الأمصار: بل له أن يصلي ما يشاء؛ ولكنه ينوي بالركعتين الاستنان به صلى الله عليه وسلم، وبالأربع امتثال أمره الذي هو هنا للندب، وإن نشط للزيادة كان عاملاً بالترغيبات العامة في صلاة النفل. (2) من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه: في هذه المسألة أقوال أقواها قول الجمهور: من حج عن غيره ولم يكن حج عن نفسه وقعت حجته عن نفسه دون غيره سواء كان قبلها مستطيعًا أم لا، ودليلهم حديث ابن عباس فيمن سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك عن شبرمة. قال (من شبرمة؟) قال: أخ لي - أو: قريب لي - قال: (حججت عن نفسك؟) قال: لا، قال (حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان والبيهقي، والراجح عند أحمد وابن المنذر والطحاوي وقْفه، ولا محل على هذا القول لبقية السؤال، فإن هذا الرجل قد سقطت عنه فريضة الحج، وقال أصحابه: إنه يجب عليه رد ما عساه أخذه من المال أجرة ممن حج عنه. وقال بعض الفقاء من الحنفية وغيرهم: إن حجه عن غيره صحيح فعلى هذا يجب عليه أن يحج عن نفسه إذا استطاع الحج بعد عودته إلى وطنه. (3) راتبة العشاء: روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء قط فدخل علي إلا صلى أربع ركعات أو ست ركعات) ومن حديث ابن عباس في حديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل عند البخاري أنه قال: بت في بيت خالتي ميمونة ... الحديث، وفيه فصلى النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات، وفي المسألة أحاديث أخرى ضعيفة يقويها تأييد الصحيح لها. (4) الحقن في رمضان: الحقن في رمضان إذا كان تحت الجلد في اليد أو الرجل أو غيرهما كما هو المعهود في طب هذا العصر - فلا وجه للقول بإفطار الصائم به. وأما الحقن في البطن وهو المعهود من زمن لا نعرف أوله، فمقتضى قواعد الفقهاء أنه يفطر الصائم، بل غلا بعضهم كالشافعية فقالوا: إن كل ما يُدخله الصائم في جوفه أو غيره بإذنه من منفذ أو غير منفذ كالمسبار - فإنه يفطر به. ومن المعلوم أن الصيام الشرعي عبارة عن الإمساك عن الأكل والشرب والوقاع وفي معناه الاستمناء، وقد يكون امتصاص الدخان في معنى شرب الماء ونحوه لأن الأجسام الدخانية (الغازية) قريبة من الأجسام السائلة؛ ولذلك يسمى امتصاصها بالفم شربًا في العرف العام، وهي تؤثر في الأعصاب كتأثير السائلات المخدرة كالقهوة والشاي والمنبهة كالخمر، وتفيد متعاطيها شيئًا من قوة الغذاء، وحقن السائلات في الأمعاء معروف، وهو يكون تارة لتطهيرها من الفساد، وتارة لإزالة ما يعرض لها من القبض والجفاف، وقد يكون للتغذية والتقوية إذا كان في المعدة مرض يمنع من قبولها الطعام والشراب، فهو يقوم مقامهما في التغذية. وجملة القول: إن الصيام الشرعي معروف، والغرض منه معروف، ومفسداته معروفة، وكل ما يستحدثه الناس مما ينافيه ويكون كالطعام والشراب في إزالة الجوع والظمأ فحكمه حكمهما، وليس منه - فيما أرى - ما يكون من الحقن تحت الجلد لتقوية المريض على مرضه أو ضعفه، إذا لم تكن هذه التقوية كالتغذية والري، فإن كانت مزيلة للجوع والظمأ كالطعام والشراب فللقول بإفسادها للصيام وجه ظاهر، وإن كان الحقن لأجلها، يباح للمريض كما يباح له الأكل والشرب وعليه القضاء، وقد يقال: إنه لما لم يكن هذا الحقن أكلاً ولا شربًا ولا وقاعًا في حقيقته ولا في صورته ولا لذته، فهو لا ينافي حقيقة الصيام، ولا حكمته والغرض من فرضه وهو الإمساك عن هذه الشهوات الغالبة تعبدًا واحتسابًا لوجه الله تعالى وما يترتب عليه من تربية الإرادة واكتساب ملكة التقوى المشار إليها بتعليل فرض الصيام بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183) . (5) الجعة خمر يحرم شربها: الجعة هي الخمر الذي يُتخذ من نقيع الشعير المسماة عن الإفرنج (بالبيرة) والمشهور أنها من الأشربة التي يُسكر كثيرها دون قليلها، والتحقيق أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وإن كان لا يُسمى قبل بلوغه درجة الإسكار خمرًا كنبيذ التمر والزبيب ونحوهما (أي ما ينقع منه بالماء ليحلو) فإنه متى صار يُسكر كثيره دخل في عموم معنى اسم الخمر على التحقيق الذي بيَّناه في تفسير آيات المائدة في تحريم الخمر القطعي، وإن قلنا: إنه لا يدخل في عموم اسمها، كان تحريمه من باب سد الذريعة كتحريم ربا الفضل الذي هو ذريعة لربا النسيئة الذي من شأنه أن يتضاعف، وهو الربا القطعي المحرم بنص القرآن كما بيَّناه في تفسير آية آل عمران فيه. وقد بلغنا أنهم يصنعون في بعض البلاد جعة (بيرة) لأجل إدرار البول، لا تسكر لخلوها من الغول (الكحول) ، فهذه لا وجه للقول بتحريمها، إذ هي كنبيذ التمر والزبيب (أي ما ينقع منهما في الماء) الذي كان يشرب منه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، حتى إذا ما تغير طعمه بطول المكث وخُشي تأثيره وإسكار كثيره تركوه، وهو الذي صار الفساق من الملوك والأمراء والأغنياء يشربونه بعد تغيره ووصوله إلى درجة الإسكار لمن أكثر منه، ووجدوا من شذوذ بعض فقهاء الكوفة ما جرأهم عليه، إذ قالوا: إن ما يُسكر كثيره لا يحرم منه إلا القدر المسكر، وتفلسف بعضهم فقال: إنما المحرم الجرعة أو الحسوة التي يحدث بها السُّكر دون ما قبلها، فاغتر بذلك المتهاونون حتى وقعوا في السكر، إذ لا يمكن لأحد أن يعرف الجرعة التي يحدث بها السُّكر، بل السُّكر لا يحدث بالجرعة الأخيرة وحدها؛ لأنها في ذاتها كالجرعة الأولى؛ وإنما يحدث بالمجموع فهو كله حرام، وقد شرحنا ذلك بالتفصيل في تفسير آيات المائدة فيراجعها من شاء (ص51-55 ج7 تفسير) .

أسئلة في إهداء قراءة القرآن للموتى بالأجرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة في إهداء قراءة القرآن للموتى بالأجرة (س من 6 إلى 10) بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، محمد بن عبد الله (وبعد) فمن محمد أحمد عبد السلام مؤسس الجمعية السلفية المؤلفة لإحياء السنة المحمدية بعزب فابريقة السكر بالحوامدية إلى حضرة صاحب الفضل والفضيلة مفتي الأنام، وشيخ مشايخ الإسلام، وإمام الأئمة الأعلام، محيي السنة وآثار السلف، ومميت البدعة وآراء الخلف، سيدي ووالدي، الشفيق بأبنائه المسلمين، الذي أرجو من ربي، وأتمنى عليه يريني وجهه قبل مماتي، والذي يصير الإسلام بعده يتيم الأبوين، المجتهد الكبير، والعلم الشهير، الذي جعل الله الحق على لسانه (السيد محمد رشيد رضا) . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني سائل فضيلتكم عن الآتي، وأرجو التكرم علي بالإجابة في أول عدد يُنشر من مناركم، وعدم إحالتي على مجموعتكم لأني عارٍ منها؛ ولأني شارع في طبع كتاب اسمه المنحة المحمدية في بيان العتاقة الشرعية من البدعية، وأريد إثبات فتواكم بهذا الكتاب، وصورة المسألة: (1) هل قراءة القرآن وإهداء ثوابها للأموات مشروعة أم لا؟ (2) هل كان النبي صلى الله عليه وسلم عند زيارته للقبور، أو عند موت أحد أصحابه يقرأ له القرآن، أو يعمل له ختمة، أو عتاقة، أو سبحة أم لا؟ بيِّن لنا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم. (3) هل ما أورده عبد الحق الأزدي في كتاب العامة عن أبي بكر أحمد بن محمد المروزي أنه سمع أحمد بن حنبل يقول: (إذا دخلتم المقابر فاقرءوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين، و (قل هو الله أحد) واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر؛ فإنه يصل إليهم) وما رواه النسائي والرافعي في تاريخه وأبو محمد السمرقندي في فضائل سورة الإخلاص من حديث علي رضي الله عنه (من مرَّ على المقابر، وقرأ (قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرة، ثم وهب أجره للأموات أعطي من الأجر عدد الأموات) كما في شرح الإحياء ج 10 ص 371، وما ذكره القرطبي في تذكرته عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أوصى أن يُقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها، وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف عنهم وكان له بعدد من فيها حسنات) وما يروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (أنه أمر أن يقرأ عند قبره سورة البقرة) كما في رسالة جلاء القلوب للبركوي المطبوعة على هامش شرح شرعة الإسلام (ص94) هل يا سيدي كل هذا وما شاكله صحيح أو موضوع لا يعمل به؟ وإذا قلتم بالوضع فمن الذي قال به من علماء المحدثين أو غيرهم، وفي أي الكتب نجد ذلك؟ (4) هل يوجد في الكتاب أو السنة دليل صحيح قطعي ينافي الأحاديث المتقدمة في وصول القراءة للأموات؟ إن قلتم يوجد فاذكروا لنا ما نقتنع به، ويقطع لسان المبتدعة. (5) ما حكم الله فيمن يقرءون القرآن بالأجرة في المآتم، وفي ليالي رمضان، والذين يقرءونه بالقُرص والرغفان والبرتقان والملاليم والنياكل، أدركني يا سيدي بالفتوى لعلي أدرك إثباتها في مؤلفي في موضعها أو ألحقها به قبل إتمام طبعه، جعلك الله ذخرًا للمسلمين، وأراني وجهك قريبًا في خير، والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... 9ذي الحجة 1347 أجوبة المنار: الحمد لله، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أعتذر للقراء عن نشر إطراء هذا السائل ومن قبله لي بما لست أهلاً له ولا لجزء منه، وأرجو أن لا يعودا إلى مثله، ولولا ما بينته في مجلد سابق من أسباب التزام نشر الأسئلة بنصوصها، ومنه الاقتداء بمثله من كتب فتاوى جميع العلماء لما نشرتها، ثم أقول: 6- أما الجواب عن السؤال الأول فهو النفي، وقد فصلت أدلته في آخر تفسير سورة الأنعام (من ص255 - 270 ج 8 تفسير) فيراجع فيه إذ لا يمكن إعادته. 7- وكذلك الجواب عن السؤال الثاني، وهو يدخل في تفصيلنا المشار إليه آنفًا وأزيد عليه أنني لا أعلم أن أحدًا ادّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن على القبور عند زيارتها أو يعمل ختمة أو عتاقة أو سبحة! على كثرة الروايات الموضوعات والواهيات التي يدعيها أصحاب أمثال هذه البدع. وأما ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور ويأمر به، فهو معروف في دواوين السنة، وهو السلام عليهم ودعاء الزائر لهم وله بالعافية وغير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره لشهرته. 8- إن من إضاعة عمر الإنسان أن يبحث عن كل ما يراه في كتب المتأخرين من الأخبار والآثار الشاذة والمنكرة المخالفة للأصول العامة المقررة في القرآن المجيد والسنن الثابتة ليعلم ما عسى أن يكون لها من رواية، وماذا قيل في إسنادها وذلك مثل كتب المروزي والسمرقندي والبركوي المذكورين في السؤال وأضرابهم. فأما حديث علي في قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) فلا نعرفه في سنن النسائي ولم نجده في فضائلها من كتاب فضائل القرآن، ولا كتاب الجنائز من كنز العمال الذي جمع فيه مؤلفه أحاديث الجامع الكبير كلها. والرافعي والسمرقندي يرويان كثيرًا من الأحاديث الواهية والموضوعة وكتاباهما ليسا في أيدينا لننظر أسانيدهما له إن وجد فيها، وكذلك حديث (من دخل المقابر فقرأ سورة يس ... إلخ) لم نجده في فضائلها من كنز العمال، وأما حديث النسائي في قراءتها على المحتضر فقد ذكرناه في بحثنا المشار إليه آنفًا، ولم يذكر العلامة الحافظ ابن القيم هذين الحديثين فيما أورده من الاحتجاج على وصول ثواب القراءة للموتى، وناهيكم بسعة اطلاعه، ولا ذكرهما غيره من العلماء الذين يعتد بنقلهم في استدلالهم على ذلك، ولا وصفهما الزبيدي بصحة ولا حسن كعادته، وأما سائر ما ذكرتم من الآثار فإن ثبت لا يعد حجة، وقد صرح ابن القيم أيضًا بأنه لم يصح شيء عن السلف في القراءة على الموتى، وأجاب عنه باحتمال إخفائهم لهذا العمل حتى لم يعلم به رواة الآثار، وقد بيَّنا ضعفه في بحثنا المذكور، ونقلنا أقوال فقهاء الحنابلة في المسألة، ومن المقرر عند العلماء أنه لا يجوز لأحد الأخذ ولا العمل بحديث لا يعرف صحة سنده وموافقة متنه للقطعيات من الكتاب والسنة، ومن احتج علينا بأمثال هذه الروايات نجيبه بالقاعدة الآتية: 9- القاعدة عند أهل العلم أن يطلب الدليل ممن يدعي إثبات الشيء لا ممن ينفيه فإنهم يكتفون من النافي بالمنع، والذي بيَّناه من قبل وفاقًا لأئمة الفقه أن آية الأنعام التي ذكرنا هذا البحث في سياق تفسيرها وآية سورة النجم {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 38-39) تدلان على عدم وصول ثواب قراءة القرآن إلى من يُهدى ثوابها لهم من الموتى أو الأحياء، وقد بيَّنا هنالك وجه الدلالة بالتفصيل وما يؤديدهما من الآيات الكثيرة في كون جزاء كل أحد بعمله لا بعمل غيره، له ثوابه وعليه عقابه، وكون المدار في ثواب الأعمال على تأثيرها في تزكية النفس، وهذه نصوص قطيعة تؤيدها الأحاديث الصحيحة، فإن فرضنا أن الحديثين اللذين أوردتموهما في السؤال الثالث في فضل سورتي الإخلاص ويس مرويين؛ فإنهما لا يصلحان لمعارضة هذه النصوص وهذه القاعدة المأخوذة من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10) وإن صح سندهما! فكيف وهما لا يُعرفان في شيء من دواوين السنة؟ 10- قراءة القرآن عبادة كالدعاء والتهليل والتسبيح وغيرها من الأذكار، ومن المعلوم من الإسلام للخاص والعام أنه لا يجوز أخذ الإنسان أجرة على العبادة المحضة، ولا أن يؤدي العبادة لأجل غيره، ولا سيما إذا كان على عمل غير مشروع كجعله للموتى، وناهيك بأخذ أجرة خسيسة حقيرة تنافي ما يجب من تعظيم القرآن، وقد منع الحنفية أخذ الأجرة على تعليم القرآن بناء على أنه عبادة أيضًا، وأجازه الجمهور، ومما استدلوا به حديث تزويج النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي وهبت نفسها له لمن لا يجد مالاً يصدقها به بما معه من القرآن على أن يعلمها ذلك، وبحديث إباحة أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة مع حديث (أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله) وكلاهما في صحيح البخاري وغيره، وما ورد في سنن أبي داود من الوعيد على أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا يرتقي إلى الصحة التي يعارض بها هذا وهو غير صريح في المسألة، ولا يبعد أن يُعد من قبيل التعليم الإرشادي للقرآن ما جرت به العادة من اختلاف بعض الحفاظ كل يوم إلى بعض البيوت في رمضان وغيره يقرءون فيها شيئًا من القرآن ليسمعه أهلها، وسماع القرآن مفيد في تقوية الإيمان، ومن السامعين له من يستفيد منه علمًا وأدبًا بقدر استعداده، فإذا قصد القارئ ذلك مع التعبد والاتعاظ بنفسه أرجو أن يباح له أخذ ما يعطى في كل شهر وهو يكون بغير عقد خسيس يخل بقدر حافظ القرآن، ولعل أكثر الأغنياء لا يسمعون القرآن إلا بهذه الوسيلة، وهو هجر له، وناهيك به من مصيبة.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار هل يكفر تارك الصلاة؟ حكم التوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم الوهابية (س11-12) من محمد أفندي جمعة الزيلع التاجر في ميناء طرابلس الشام. مولاي الأستاذ المعظم السيد رشيد أفندي رضا الأفخم. إنني لمست مناركم الأغر فوجدته يضيء، ولم لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء، لقد أضاء مناركم على الشرق والغرب فأصبحتم بنعمة الله حكيمها، لا زلتم مصدرًا للعلم والعرفان، مكللاً بالنصر المؤزر من الرحمن الرحيم. مولاي: سؤالين أعرضهما على سماحتكم أيها البحر الزاخر علمًا، وأسترحم بيانهما على صفحات مجلتكم الغراء لتعم الفائدة، والله ولي التوفيق: (11) إنني كلما أرتل هذه الآية الكريمة، قوله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ} (الروم: 31) وعندما أتلو هذه الأحاديث الشريفة التي منها قوله عليه السلام: (ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك) عن أنس صححه في الجامع الصغير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال حماد بن زيد: ولا أعلمه إلا قد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عرى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسس الإسلام، من ترك واحدة منهن فهو بها كافر حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان) رواه أبو يعلى بإسناد حسن، ورواه سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد عن عمر بن مالك النكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس مرفوعًا وقال فيه: (من ترك منهن واحدة فهو بالله كافر ولا يُقبل منه صرف ولا عدل، وقد حل دمه وماله) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يومًا فقال: (من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف) رواه أحمد بإسناد جيد والطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان في صحيحه. فيرتعش فؤادي عندما أريد تطبيق ما ذكر على حالتنا الحاضرة معشر المسلمين، فأجدنا غافلين عن الإسلام وتعاليمه فحسبنا الله تعالى، وبعد هذا فيعترض البعض على قوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) فأين المؤمنون ياترى؟ فما قول مولانا في صحة ما تقدم؟ فإن كان صحيحًا هل يجوز شرعًا أن نعقد زواج بنتنا على الرجل الذي يترك الصلاة؟ وهل برئت الذمة منه؟ (12) الدعاء إلى الله تعالى بالتوسل: هل فيه شك أو ريب إذ دعوت الله قائلاً: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إنني قد توجهت بك إلى ربك في حاجتي هذه لتُقضى، اللهم فشفِّعه في واقض حاجتي هذه بجاهه عندك؟ وصلى الله على سيدنا محمد وآله. أريد أن أزجر بهذا السؤال بعض الأفَّاكين الذين يقولون عن إخواننا المؤمنين القائمين بالكتاب والسنة كبني نجد الكرام، وإمامهم العظيم خادم العلم الصحيح، ونابذ البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، فكثير من الناس يقولون ما لا يعملون عن هذا الإمام المعظم أدامه الله ذخرًا للإسلام، فيقول البعض: إن الإمام وقومه يمنعون ذكر الرسول وتعظيمه عليه السلام، وهذا ما لا أعتقده؛ فإن أمثال الإمام الكريم القائم بأمر الله وسنة نبيه لا يكون إلا محبًّا للرسول عليه السلام حيث قال تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران: 31) إذًا محبة الله ورسوله هي القيام بما أمر الله ورسوله لا بنشر البدع الى عمت، وأصبحت من الإسلام بنظر الجاهلين حقيقة الدين وتعاليمه، فحسبنا الله. نسأل الله أن يلهمنا الرشد إنه سميع مجيب، وأُقَبِّل أيادي مولاي في البدء والختام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... محمد جمعة الزيلع (11) الكفر بترك الصلاة: يرى السائل في تفسير القرآن الحكيم من هذا الجزء بحثًا مستفيضًا في مسألة الكفر بترك الصلاة والزكاة والصيام، وخلاف العلماء في ذلك، وأن التحقيق في المسألة أن من ترك الصلاة وكذا غيرها من أركان الإسلام جاحدًا أو مستبيحًا لذلك غير مبالٍ بالدين - فهو كافر بإجماع المسلمين، وأن من ترك بعض الصلوات دون بعض يكفر في قول بعض الأئمة دون بعض، ومن لا يكفر بترك الصلاة لا يكفر بترك غيرها؛ لأنها عمود الإسلام وأعظم أركانه، وقد بيَّنا أنه لا يعقل أن يتركها مؤمن صحيح الإيمان مذعن صحيح الإسلام إلا أن يكون جاهلاً مغرورًا بالاعتماد على المغفرة والشفاعة، ومثل هذا لم يكن يُعدَّ عذرًا شرعيًّا أيام كان الإسلام إسلامًا معروفًا، وقد يعد صاحبه في هذا الوقت ممن لم تبلغهم دعوة الإسلام على الوجه الحق التفصيلي لعموم الجهل، والأحاديث التي استدلوا بها على كفر تارك الصلاة كثيرة ذكرنا في هذا البحث أصحها، وما ذكره السائل منها لا يصح كله. فمن علم من رجل أنه لا يصلي ولا يصوم لفساد عقيدته الدينية، وعدم مبالاته بما أوجب الله وما حرَّم، فليس للمسلم أن يزوجه ابنته أو موليته؛ ولكنه إذا علم أنه مؤمن مغرور متكل على المغفرة أو الشفاعة مثلاً فليس له أن يجزم بكفره، بل ينصح له ويعلمه ما يجهله من ضروريات الدين وكونه بدون إقامة أركانه لا وجود له. وطالما أقمنا الدلائل وبيَّنا الآيات في إثبات أن الكثيرين من مسلمي البلاد الإسلامية ليس لديهم من الإسلام الحقيقي إلا الاسم، وأطلقنا عليهم لقب (المسلمين الجغرافيين) . (12) التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم: وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم باللفظ الذي ذكرتم فله أصل في حديث الأعمى الذي طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يرد الله عليه بصره، وأرشده صلى الله عليه وسلم إلى أن الصبر على مصيبته خير له في الآخرة، فأبى إلا أن يدعو له صلى الله عليه وسلم، فدعا له صلى الله عليه وسلم وعلَّمه أن يدعو الله تعالى بهذه الألفاظ، أو ما يقرب منها فدعا ورد الله عليه بصره بدعاء نبيه ودعائه هو بأن يشفِّعه الله تعالى فيه، والحديث في سنن الترمذي والنسائي وغيرهما من حديث عثمان بن حنيف الصحابي رضي الله عنه، وله روايات عند غيرهما، والتحقيق أن هذا توسل بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بشخصه، ولا يتأتى مثله لأحد بعد وفاته فغير مشروع أن يطلب منه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته دعاء، لم يصح عن أحد من الصحابة ذلك، بل صح في حديث توسلهم بالعباس في الاستسقاء ما يدل على امتناع التوسل بمثل ذلك بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه إذ قال عمر: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) والحديث في صحيح البخاري، ولو كان التوسل بشخصه صلى الله عليه وسلم أو بدعائه بعد موته مشروعًا معروفًا عندهم رضي الله عنهم لما عدلوا عن الاستسقاء به صلى الله عليه وسلم إلى الاستسقاء بدعاء العباس رضي الله عنه. ولكن بعض العلماء المتأخرين لم يفطنوا لهذا الفرق بين التوسلين، فاستدلوا بحديث الأعمى على جواز التوسل بشخص النبي صلى الله عليه وسلم، وبطلب دعائه وشفاعته بعد وفاته، فهم معذورون باجتهادهم، وإن كان خطأ، وقد بيَّنا تحقيق هذه المسألة من قبل في المنار، وهي مفصلة بأدلتها ومنها روايات حديث الأعمى ما صح منها وما لم يصح في كتاب (التوسل والوسيلة) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فليراجعها من شاء، وما ذكرتم من التقول والبهتان على الوهابية وملكهم إمام السنة ومحييها فهو من غرائب افتراء أناس يدَّعون الإسلام، وقد عرف كذبهم في العصر الملايين من الناس باختبار الحجاج الصادقين وأخبارهم، وما تنشره الجرائد منها.

حكم من تبرأ منهن النبي صلى الله عليه وسلم كالنائحات، ومدة الحداد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكم من تبرأ منهن النبي صلى الله عليه وسلم كالنائحات، ومدة الحداد (س13-14) من صاحب الإمضاء في مزارع أولاد عليوة (برديس) بسم الله الرحمن الرحيم حضرة المحترم الفاضل الشيخ السيد رشيد رضا: بعد السلام وواجبات الاحترام، نعرف حضرتكم أنه استشكل علينا الأمر فيما يأتي: (1) في صحيح البخاري حديث (ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية، وإني بريء من الصالقة والحالقة والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور) [*] واختلف الناس في ذلك، فمنهم من قال: إن الفاعلة ذلك طالقة من زوجها لا تحل له إلا من بعد أن تُستتاب، وبعد عقد جديد، ومنهم من قال بطريقة التوبة فقط. فنرجو منكم بيان ذلك بيانًا شافيًا في عدد من أعداد مجلتكم الغرّاء قريبًا، ولكم منَّا الشكر. (2) وأيضًا في حديث المحدة المروي في البخاري (لا تحد امرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرًا) [1] . منهم من أجاز الإحداد لسبعة أيام على الأب، ومنهم من منع ذلك، فنرجو من فضيلتكم البيان الشافي في ذلك، وما الحكم في المحدود مع ما ذُكِرَ لأن الناس استغرقت في هذا الأمر استغراقًا كثيرًا حتى قل من ينهى زوجته وأقاربه عن ذلك. فلهذا نرجو من فضيلتكم كل الاهتمام في هذا الأمر؛ ولنرى ما نتبع في ذلك، وسلامنا على جميع من يسأل عنا وعنكم، والسلام على من اتبع الهدى ودين الحق. ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمود أبو ستيت ... ... ... ... ... ... ... السلفي السني جواب المنار: (13) وردت أحاديث كثيرة في الزجر عن المعاصي والرذائل، وفي التقصير في الفضائل بلفظ (ليس منا من فعل كذا) وبلفظ البراءة، منها ما ذُكر في السؤال، ومنها (ليس منا من تشبه بالرجال من النساء، ولا من تشبه بالنساء من الرجال) رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو بسند صحيح، ومنها (ليس منا من غش) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم بهذا اللفظ، ورواه الترمذي بلفظ (من غش فليس منَّا) كلاهما صحيح من حديث أبي هريرة، ومنها (ليس منَّا من لم يتغن بالقرآن) رواه البخاري من حديثه وغيره من غيره، ومنها (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا) رواه أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن عمر والترمذي بلفظ (ويوقر كبيرنا) من حديث أنس وكلاهما صحيح، ومنها (ليس منَّا من دعا إلى عصبية، وليس منَّا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم بسند حسن، ولا يقول أحد يعرف أصول الإسلام وفروعه ويفهم نصوصه: إن هذه الأعمال أو التروك كفر وارتداد عن الإسلام؛ وإنما اتفقوا على أن هذه الصيغة وأمثالها للتغليظ والتشديد في هذه الأمور التي هي من أعمال الجاهلية وشؤونها، فترى شراح البخاري يقولون في (ليس منَّا) أن معناه ليس من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين؛ وإنما المراد به المبالغة في الردع، وقال بعضهم في حديث التبري: إنه وعيد للمتبرَّأ منه بأنه صلى الله عليه وسلم لا يُدْخِلَه في شفاعته، فمن قال: إن المرأة المسلمة ترتد عن الإسلام وتبين من زوجها بالنواح والندب ونحوهما من أعمال الجاهلية المحرمة - فهو جاهل، وإنما ينبغي للمسلم الحريص على دينه وعلى زوجه أن يختبر عقيدتها فيما يُخِلُّ بتوحيد الله تعالى مما نشأ في النساء والرجال من عقائد الوثنية كدعاء غير الله تعالى، والذبح لغير الله تعالى وغير ذلك مما شرحناه في المنار والتفسير مرارًا كثيرة. يجب العمل في الحداد بما صح في الحديث وعدم الالتفات إلى من أجاز مخالفته بهواه {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور: 63) . *** النفس الواحدة التي خلق منها الناس (س14) من صاحب الإمضاء في (زنجبار) في ذيل كتاب خاص. بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) . ما قولكم في معنى النفس الواحدة هل هي نفس آدم؟ وهل حواء من تلك النفس؟ وهل هي من تلك الطينة التي هي نفس آدم؟ أو هي من ضلعه الأيسر على ما يزعمون؟ أفيدوا بالجواب الشافي ولكم مني جزيل الشكر والسلام. ... ... ... محمد عبد الله قرنح (ج) يطلق لفظ النفس في اللغة على روح الإنسان، وعلى ذاته وعلى الدم، قال في المصباح المنير: والنفس أنثى إن أُريد بها الروح، قال تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) وإن أُريد الشخص فمذكر اهـ. ولا تطلق النفس على الطينة مطلقًا، فالفيومي صاحب المصباح فسَّر النفس في الآية بالروح بدليل وصفها بواحدة، ويظهر أنه يريد بها جنس النفس كأنه يقول: إنه خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة، فأصلكم واحد فلا ينبغي لكم أن يتكبر بعضكم على بعض ويفتخر عليه بنسبه، وأما قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (الأعراف: 189) فهو كقوله تعالى: {فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً} (الشورى: 11) أي جعل لكل جنس من الأحياء زوجين لأجل التناسل كما قال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} (الذاريات: 49) والذي عليه جمهور المفسرين أن المراد بالنفس الواحدة هنا آدم عليه السلام، وهو تفسير مراد مبني على الاعتقاد أن أبا البشر هو آدم عليه السلام لا تفسير بمدلول اللغة، ولا بنص مأثور عن الشارع، وما صح في الحديث من كون آدم أبا البشر لم يرد تفسيرًا للآية، وتفسير النفس بآدم في هذه الآية لا يظهر في آية الأعراف {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} (الأعراف: 189) الآية، فإن النص يقتضي أن النفس الأولى هي الأنثى، وأن زوجها الذي خُلق منها هو الذكر بدليل تغشيه إياها وحملها بالولد، دع ما فيها من الحكم بالشرك عليهما وعلى ولدهما، وتجد في هذا الموضوع بحثًا طويلاً في تفسير الآية، وهي أول سورة النساء في الجزء الرابع من تفسيرنا. وأما قوله تعالى {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: 1) فهو على القول بأن النفس الواحدة آدم، لا يدل على أنها خُلقت من ضلعه، ولا من طينته، بل معناه على كل حال أن هذا الزوج من جنس هذه النفس كما قال في سورة الروم {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} (الروم: 21) فليس معناه أن زوج كل واحد من البشر بضعة من جسمه، بل المعنى أنها من جنسه الذي هو علة سكون كل من الزوجين إلى الآخر الذي هو مقدمة الاختلاط الذي يكون سبب النسل بمقتضى سنة الله تعالى في خلقه كما بيَّناه في التفسير، وفيه أن جمهور المفسرين الذين قالوا: إن المراد بالنفس آدم عليه السلام، يقولون: إن المراد (بزوجها) حواء، وأنها خُلقت من ضلعه الأيسر وهو نائم، وأن هذا قول مأخوذ من الفصل الثاني من أسفار التوراة الذي لا يعرف أحد كاتبه على سبيل القطع، وما ورد في حديث الوصية بالنساء من الصحيح من خلقهن من ضلع، فالتحقيق أنه من قبيل قوله تعالى {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (الأنبياء: 37) كما بيَّناه في المنار من قبل، وفي لفظ للحديث من البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما المرأة كالضلع) ... إلخ بالتشبيه، ونحن نقول بأن آدم عليه السلام أبو البشر، وأن حواء عليها السلام أم البشر كما هو المشهور عندنا وعند أهل الكتاب، وإنما نقول: إن الآية ليست نصًّا في هذا المعنى، ولا هو المعنى الظاهر المتبادر منها بحسب مفهوم اللغة، والله أعلم بمراده.

الجمع بين مسألة الذكران والإناث في المدارس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجمع بين مسألة الذكران والإناث في المدارس ومسألة التجديد والتجدد (مجمل محاضرة ألقيناها في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة) إن مسألة جمع البنات مع البنين في مقاعد التعليم الثانوي والعالي من أعظم الأغراض التي يرمي إليها دعاة الثورة الدينية المدنية باسم التجديد المراد به هدم القديم من مقومات الأمة من دين وتشريع وأدب وسياسة، ومشخصاتها من العادات والأزياء وغير ذلك، والتجديد سنة من سنن الاجتماع، كما أن التجديد من مقتضى الفِطر والطباع، ومثلهما مقابلهما من المحافظة على القديم، ولكل منهما موضع فلا تناقض بينهما ولا تضاد إذا وضع كل منهما في موضعه بغير تفريط ولا إفراط. من التجدد في نظام الفطرة أن كل أحد يخالف خَلق والديه وأخلاقهما بعض المخالفة، ولولا ذلك لم يكن ما نرى من التفاوت العظيم بين البشر، ومن حفظ الأصل ما لا يجهل من إرثه لهما وشبهه بهما في بعض صفاتهما الجسدية والنفسية، ولولا ذلك لوقع من التباين بين أفراد الناس ما يكاد يكون به كل منهم نوعا مستقلاًّ بنفسه. ومن حفظ القديم في الأعمال وراء سنة الوراثة ما تقتضيه غريزة التقليد من محاكاة الإنسان لمن يعيش بينهم من أول سن التمييز إلى نهاية أجل الشيخوخة، ثم تقليد الجماهير لمن يرونهم أوسع منهم علمًا، أو أعلى مكانة وقدرًا، ولولا هذا لما تكونت البيوت والفصائل والشعوب والقبائل، بما يربط بعضها ببعض من المشاركات في الأعمال، التي تطبع في الأنفس ملكات الأخلاق والعادات، فتكوِّن رابطة الوحدة، التي تجتمع بها وشائج الكثرة، فتكون بها الفصائل قبيلة والبيوت أمة. ومن التجديد في الأعمال البشرية ما تهدي إليه غريزة الاستقلال - المقابلة لغريزة التقليد - من الميل إلى الاستنباط والاختراع، ولولاه لكانت جماعات البشر كأسراب الطير، ومساكنهم لا ترتقي عن خلايا النحل وقرى النمل. التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني كل منها حاجة من حاج الجماعات البشرية بمقتضى غرائزها واستعداد نوعها، به يرتقون في مدارج العمران، ويصعدون في معارج العلم والعرفان، حتى إن الدين الإلهي الذي يستند إلى وحي الرب الحكيم - بمحض فضله - لبعض من أعدّ أرواحهم القدسية لذلك من أصفياء خلقه، قد سار مع غرائز الجماعات البشرية في ترقيها من طور إلى طور حتى أكمله تعالى لهم بالإسلام عندما وصل مجموعهم إلى سن الرشد والاستقلال. ومع هذا الإكمال يروي لنا المحدثون عن خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، أنه قال: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه والبيهقي في المعرفة وغيرهم من حديث أبي هريرة، وأشار السيوطي في جامعه الصغير إلى صحته، والمراد بتجديد الدين تجديد هدايته، وبيان حقيقته وحقيته، ونفي ما يعرض لأهله من البدع أو الغلو فيه أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح الخلق وسنن الاجتماع والعمران في شريعته، وبهذا المعنى أُعد نفسي داعية تجديد ديني مدني، وعدوًّا مجاهدًا للجمود على التقليد، والإصرار على ما ثبت بطلانه أو ضرره من القديم، فلا يحسبن أحد من شبابنا أنني أحكم في موضوعنا بتأثير الجمود على كل قديم. أول شاهد لي على هذا مقدمة العدد الأول من صحيفتي المنار التي كتبتها في مثل هذا الشهر [*] (شوال) أي سنة 1315 منذ ثلاث وثلاثين سنة، فقد أشرت في أولها إلى الجديد والتجديد المدني بهذه الكلمة: (أيها الشرقي المستغرق في منامه، المبتهج بلذيذ أحلامه، حسبك حسبك، فقد تجاوزت بنومك حد الراحة، وكاد يكون إغماء أو موتًا زؤامًا. تنبَّه من رقادك، وامسح النوم من عينيك، وانظر إلى هذا العالم الجديد، فقد بُدلت الأرض غير الأرض، ودخل بها الإنسان في طور آخر خضع له به العالم الكبير) . ثم أشرت فيها إلى جملة المخترعات الصناعية، وما تجدد في العلوم الطبيعية، وانتقلتُ من ذلك إلى بيان أغراضي من إنشاء الصحيفة، مبتدئًا بقولي (وغرضها الأول الحث على تربية البنات والبنين) هكذا بتقديم ذكر البنات على البنين، فأنا داعية إلى تجديد من أهم قواعده ترقية مدارك النساء بالتربية والتعليم. وفي المنار مقالات كثيرة وفتاوى في ذلك من أشهرها مقالات (الحياة الزوجية) التي أودع بعضها الأستاذ الاجتماعي الاقتصادي محمد طلعت بك حرب الشهير كتابه (تربية المرأة) . فأنتم ترون أنني كنت منذ ثلث قرن داعية تجديد، وذلك قبل شيوع هذا اللفظ في هذه السنين، وقد تفضل علي بلقب (المجدد) بعض الكتاب والمحبين، قبل أن ينتحله ويريد احتكاره بعض المعاصرين؛ ولكني أسير في كل من التجديد والمحافظة على سنن الطبيعة التي أشرت إليها آنفًا، فأقول في الدين بقاعدة الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهي الوقوف في العقائد والعبادات عند نصوص القرآن وبيان السنة النبوية له وسيرة السلف الصالح فيه قبل حدوث الآراء والبدع، ومراعاة مصالح العامة في الأحكام الدنيوية من مدنية وسياسية وغيرها. وأما ما فوَّضه الشارع إلى الناس من أمور دنياهم، ووكله إلى علمهم وتجاربهم في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (إنما أنا بشر مثلكم إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر) رواهما مسلم في صحيحه، أما هذا فأنا أدعو فيه إلى أحدث ما انتهت إليه علوم البشر وفنونها، وإلى ما لا يُعرف له حد من الزيادة عليها بقصد إعزاز الأمة وإعلاء شأن الملة بها، ولا بد فيه من المحافظة على مقومات الأمة ومشخصاتها التي كانت بها أمة في وسائلها ومقاصدها. أومأت إلى هذا التجديد في مصالح الدنيا وهداية الدين، ومقاومة التقليد الديني للكتب والمؤلفين، بقولي في تلك الفاتحة بعد الحث على تربية البنات والبنين: (وإصلاح كتب العلم وطريقة التعليم، والتنشيط على مجاراة الأمم المتمدنة في الأعمال النافعة وطروق أبواب الاقتصاد، وشرح الدخائل التي مازجت عقائد الأمة، والأخلاق الرديئة التي أفسدت الكثير من عوائدها، والتعاليم الخادعة التي لبّستْ الغي بالرشاد، والتأويلات الباطلة التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر توحيدًا، وإنكار الأسباب إيمانًا وترك الأعمال المفيدة توكلاً، ومعرفة الحقائق كفرًا وإلحادًا، وإيذاء المخالف في المذهب دينًا، والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات صلاحًا، واختبال العقل وسفاهة الرأي ولاية وعرفانًا، والذلة والمهانة تواضعًا، والخنوع للذل والاستبسال للضيم رضا وتسليمًا، والتقليد الأعمى لكل متقدم علمًا وإيقانًا) . وعلى هذا الأساس المتين أبني رأيي في موضوع تعليم البنات والبنين، فأقول: تقليدنا للإفرنج وما يجب نظره فيه: إنني أرى أن ما يقال في فائدة الجمع بين الذكران والإناث في مقاعد التعليم في جميع درجاته، أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة، وأنه ناشئ عن تقليد للإفرنج، لا عن خبرة تامة واستقلال في الرأي، ولا موازنة بينه وبين ما يعارضه في الضر والنفع، ولا نظر دقيق في الفروق بيننا وبين أولئك القوم، وإنني خصم للتقليد الديني والدنيوي معًا، وقد كان من أول نظمي للشعر في عهد طلب العلم في طرابلس الشام قصيدة هذا مطلعها: ليس التمدن تقليد الأوربي ... فيما انتحاه من العادات والزّي إن المقلد لا ينفك مرتكسًا ... في الضعف يخبط في ليل دجوجي بل التمدن ملزوم التقدم مد ... عاة الرفاهة منفاة الألاقي [1] روح شريف به تحيا الشعوب بما ... يبث فيها من العلم الحقيقي وحتى ترى كثرة الآحاد راجعة ... لوحدة والفرادى كالأثابي [2] والاختلاف بآراء الرجال لأجـ ... ـل الاتفاق على نيل الأماني نعم إن الباعث الأول على التقليد هو احتقار المقلد لنفسه، وتعظيمه لشأن من يقلده، سواء أكان المقلد فردًا وجماعة كبيرة أو صغيرة وهي الأمة، فمن وطَّن نفسه أو أمته على التقليد فقد حكم عليها بالذل، وأن تكون تابعة لا متبوعة، مستعبدة لا مستقلة، قاصرة لا رشيدة، وقد عقد حكيمنا العربي الاجتماعي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً خاصًّا في بيان (أن المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده) . فيجب علينا أن نتقي هذا الخطر في حكمنا الاستقلالي على ما نُدعى إليه من اتباع غيرنا - مما أشار إليه حكيمنا - وأن نكون على حذر في كل تغيير في مقومات أمتنا ومشخصاتها، وأن نعتبر في ذلك بسير الأمم العزيزة في كل انقلاب حدث فيها، ونوازن بين نفعه وضره، وما ينطبق وما لا ينطبق علينا منه، ولا يجب مثل هذا فيما نحتاج إليه من الفنون الصناعية والزراعية والاقتصادية والعسكرية ونحوها لأن الحاجة إليها في جميع الأمم واحدة مهما تكن أديانها وآدابها ولغاتها وتقاليدها. وأول مَثَل يجب أن نعتبر به الأمة الإنكليزية التي هي أعز أمم الإفرنج وأعظمها حضارة وسلطانًا، فإننا نراها أشد الأمم اعتصامًا بكل ما يتعلق بروابطها الملية والقومية، من دينية ودنيوية، ومن أهم ذلك مسألة التغيير في كتاب الصلاة التي كثر الخوض فيها أخيرًا، ورفض البرلمان قبول اقتراح التغيير فيه مع العلم بأنه من وضع الكنيسة وتقاليدها، وكون تنقيحه بما يحتج به المقترحون من المصلحة الدينية العامة لا يتضمن تغيير شيء من كتب العهدين القديم والجديد التي هي عندهم ينابيع الدين. ودون هذا ما يصر عليه الإنكليز من مقاييسهم وموازينهم لأنه إنكليزي، وعدم قبولهم ما يخالفه من المقاييس والموازين العشرية على أفضليتها وتسهيلها لوسائل التعامل العام بين البشر؛ لأنها من صنع اللاتين، لا من صنع الإنكليز. ولنلق نظرة عجلى على تعليم النساء عندهم نجدهم إلى منتصف القرن التاسع عشر قلما كانوا يَعْدُون في تعليم البنات الابتدائي شغل الإبرة والرقص والعزف بالبيانو، ثم زادوا في مناهج تعليمهن الدين والأخلاق وتدبير المنزل، وفي ذلك العهد أُسست في إنكلترة مدارس البنات الابتدائية، وفي العشر الأواخر منه بُدئ بتأسيس مدرستين كليتين لهن وتلاهما غيرهما، ونجد أن مدرستي كمبردج وأكسفورد الجامعتين كانتا تمتنعان عن إعطاء البنات الدرجة العلمية التي يستحققنها بالامتحان، إلا أن الثانية رجعت عن هذا الحرمان لهن في سنة 1920 أي بعد أن عظم سلطان النساء في أوربة كلها بما أبلين في عهد الحرب الكبرى، وبقيت الثانية مصرة عليه إلى العام الماضي على ما رأيت في بعض المجلات العلمية، ولا أذكر أنني رأيت نصًّا في رجوعها عنه. ومما يجب أن ينظر فيه في مسألتنا نظرة تدقيق واعتبار ما بين نسائنا ونساء الإفرنج من الاختلاف في العلم والعمل والتقاليد، ومع أهمية مشاركة النساء للرجال عندهم في الكسب، وهو يسوغ من مشاركتهن لهم في التربية والتعليم ما لا يسوغه حال نسائنا. حجة القائلين باختلاط الجنسين: إن الذي أعلمه أن أقوى حجج القائلين باختلاط الجنسين في جميع مراحل التعليم وزعمهم أنه خير وسيلة للتربية الصحيحة، أن كلاًّ منهما يختبر الآخر حق الاختبار، فيقف على أخلاقه وآدابه وآرائه ومقاصده من الحياة، فيكون من فوائد ذلك أن تبنى البيوت (العائلات) التي تتكون منها الأمة على أساس ثابت صحيح لا تقوضه أهواء جهل كل منهما بما ذكر، وما ينجم عن هذا الجهل من خلاف وشقاق. والذي أراه أن هذه نظرية خي

تاريخ حروف الكتابة ومكان العربية منها

الكاتب: شكيب أرسلان

_ تاريخ حروف الكتابة ومكان العربية منها (أول من وضع الكتابة في العالم عرب اليمن، وعنهم أخذ الفينيقيون الذين هم من عرب البحرين وما جاورها، وعنهم أخذ اليونان. والحروف اللاتينية لا تصلح للغة العربية، ولا للشعوب العربية والإسلامية أبدًا) . بحث وتحقيق للأمير شكيب أرسلان كان أمير البيان قد كتب مقالاً في تفنيد ما انخدع به بعض كتاب العربية المتفرنجين من استحسان تقليد الترك الكماليين في شر ما جَنَوا به على لغتهم وثقافتهم، ومدارسهم وصحافتهم، إتمامًا لما جنوه على دينهم وآداب ملتهم، وهو كتابة التركية بالحروف اللاتينية، ونشر هذا المقال في جريدة العهد الجديد التي هي من أخلص الجرائد العربية لأمتها ووطنها وأقدرها على خدمتها، ثم استزاده بعض المعجبين بتحقيقه لأمثال هذه المباحث فراجع فيه قبل إتمامه بعض كبار المحققين من علماء أوربة، ذلك وفي مقدمتهم الأستاذ (مورتيز) الألماني المعدود من أشهر علماء هذا الفن في العالم كله، وله فصل طويل في الكتابة العربية نُشر في دائرة المعارف الإسلامية، والأستاذ (هس) السويسري مدرس الألسن الشرقية في جامعة (زوريخ) وهو من أصحاب القدم الراسخة في تاريخ الخطوط عامة والخط العربي خاصة، وقد تلقى عنه أستاذنا الإمام الخط المسند في سويسرة، كتب إليه الأمير في ذلك وتلقى عنه مقدمة لجوابه مع وعد بتتمتها، وكتب أيضًا إلى الأستاذ ليتمان الألماني العلامة الشهير يستوري زنده في الموضوع فلم يجده في برلين لأنه كان بمصر. وكان ذاكره في هذا البحث مرارًا، ثم جاء برلين، وبحث مع الأستاذ مورتيز في المسألة زهاء ساعتين، وشرع بعد ذلك في كتابة خلاصة هذه المباحث، وأرسل ما كتبه إلى جريدة العهد الجديد فنشرته متفرقًا في شهر شوال الماضي. المقالة الأولى قال الأمير بعد مقدمة ذكرنا خلاصتها آنفًا: الأستاذ (موريتز) يرى ما يراه هذا العاجز، وما كان سبق لي ذكره في مقالة بهذه الجريدة، وفي مقالات أخرى من قبل، وفي تصريح صرحت به في أيام الحرب لإحدى الجرائد الألمانية وهو أن الخط العربي الحالي الذي يسميه علماء الخطوط بالخط النسخي هو نوع من الاختزال (الستينوغرافيا) وأن العرب لم ينتقلوا إليه من الخط المسند الحميري الذي كانت حروفه منفصلة إلا حبًّا بالسرعة، ومن بعد أن استبحر العمران، وكثرت العلائق التجارية عند العرب. والأستاذ مورتيز موافق لي على القول بأن طريقة العرب في الخط النسخي هي الطريقة التي يجدر أن يقال لها طريقة عصرية، وأن فيها اختصارًا لائقًا بكتابة الأمم التي ازدحمت أشغالها وتناهت مدنيتها، وأن فيها أيضًا توفيرًا من الوقت ومن القرطاس. ثم إن الأستاذ موريتز يصرح تصريحًا لا مجال معه لأدنى مراجعة بأن الحروف اللاتينية لا تصلح أبدًا للسان العربي، وأن اللسان العربي بالحروف اللاتينية لا يمكن أن يُعرف. ومن بعد أن قررنا هذا نقلاً عن هذا العلامة الشهير المشار إليه بالبنان في الشرقيات لا سيما علم الكتابات السامية - يحسن أن نذكر خلاصة آرائه في تاريخ الخط البشري. فالأستاذ موريتز يذهب إلى ما هو معروف عند جميع العلماء من أن الكتابة وقعت بالتدريج، وأنها كانت في البداية صورًا تامة، فإذا أريد التعبير عن الأكل مثلاً رسم الكاتب صورة رجل يأكل، وإذا أُريد التعبير عن النوم رسم صورة رجل نائم على فراشه، وإذا كانت العبارة عن الضرب رسم رجلاً يضرب رجلاً آخر وهلم جرًّا، وهذا الخط التصويري الذي يسمى بالهيروغليف في مصر وبالمسماري في العراق والذي منه آثار عند قدماء سكان أمريكا قد مست الحاجة إلى اختصاره، وفي الصين لا يزال التصوير غالبًا على الخط. يقول البروفسور موريتز: إن أول واضع للكتابة على شكلها الحالي منتقلاً من الصورة التامة إلى الإشارة الجزئية يجب أن يكون رجلاً عربيًّا من أهل اليمن ويقول إن الأستاذ ليتمان يرى هذا الرأي نفسه. ويضرب مثلاً فيقول: كانوا في عهد الكتابة بالصور إذا أرادوا ذكر العين صوروها كما هي أي هكذا (.) ثم عندما أرادوا الكتابة بالإشارات المختصرة عن الصورة جعلوا حرف العين بصورة العين الباصرة فجلعوا حرف العين هكذا (5 أو ع) ثم إن الباء مختصرة من صورة البيت فالبيت صورته هكذا D، كما لا يخفى لأن الأصل في البناء يكون مكعبًا، فعندما أرادوا الاختصار رسموا البيت هكذا (ب) وتجد أن هذه هي صورة حرف الباء المشتقة من البيت، أما نقط الباء فهو متأخر العهد، والعلماء مجمعون على أن النقط في العربي لم يقع الاصطلاح عليه إلا في القرن الأول للهجرة. ويستدل الأستاذ على أن بداية الخط وقعت عند عرب اليمن بما يأتي: أن المدنية البابلية ترجع إلى ثلاثة آلاف سنة قبل المسيح، وإذا رجعنا إلى حفريات الإنكليز والأمريكيين الحديثة في (أرز) الكلدانية نجد أن مدينة بابل كانت زاخرة مستبحرة العمران قبل المسيح بأربعة آلاف سنة. والقرائن تدل على أن مدنية بابل جاءت إلى بابل من بلاد العرب. ووجدت في بابل أسماء (حمورابي) و (عميصادق) وهي هذه الأسماء نفسها وجدت في اليمن بلفظ (عمي رافع) و (عمي صادق) وإنما تحرف في بابل قليلاً، ومن هذا وغيره استدل علماء الآثار على أن أصل المدنية البابلية هو من اليمن. وأما (الألف باء (Alphabet) فقد وجدت في اليمن، بل في الدنيا كلها قبل المسيح بألفي سنة، وأقدم خط عربي وُجد في اليمن، ويقال له المسند، وقد أخذه الفينيقيون وأدخلوا عليه بعض تغييرات، هذا هو رأي المحققين الذي عوَّلوا عليه أخيرًا بعد أن كان العلماء يظنون أن الفينيقيين هم الذين سبقوا الأمم كلها إلى الكتابة. ولعل الذي حمل علماء أوربة على نسبة إيجاد الكتابة إلى الفينيقيين هو كون اليونان أخذوا الكتابة عن هؤلاء، وكان ناقل الكتابة من الفينيقيين إلى اليونان رجلاً اسمه (قدموس) ومعناه (شرقي) . فاليونان يعلمون أن الكتابة وصلت إليهم من الشرق، وهم نشروها في الغرب، وكان اليونان يكتبون نظير الشرقيين من اليمين إلى الشمال، ولم يكتبوا من الشمال إلى اليمين إلا فيما بعد، ولم يكن عند اليونان بادئ ذي بدء سوى عشرين حرفًا، ثم صاروا يزيدون عليها. وأما الخط الأقدم وهو المسند الذي هو أصل الخطوط كلها فهو ثلاثة أنوع، وكلها كانت حروفها منفصلة كالحروف الإفرنجية الآن، وهذه الأنواع الثلاثة هي الخط اللحياني والثمودي والصفاءلي (نسبة إلى حرَّة الصفاة التي وُجدت فيها كتابات بهذا الخط) . ومن الخطوط العربية الخط السبآءلي، قيل إنه وُجد قبل المسيح بستمائة سنة إلا أن العلامة موريتز يقول إنه وُجد قبل المسيح بألفي سنة. ومن الخط السبآءلي نوع جديد وُجد منه كتابات في الرحبة شرقي جبل الدروز ترجع إلى ما بعد المسيح بثلاثمائه سنة، ووجدت خطوط سبائية بين الكتابات اليونانية التي وُجدت هناك. والخط الثمودي هو قبل السبآءلي، وهو والصفاءلي مختصران من المسند، ومن هذه الخطوط جاء الخط النبطي الذي هو أول خط وُصلت فيه الحروف بعضها ببعض (Corsif) والخط النبطي هذا هو أصل الخط العربي الموصول المسمى بالنسخي، وقد تسنى للعلماء بحسب ما حققوه إلى هذا اليوم تتبع سير الخط العربي منذ أول إيجاده إلى أن تقرر الخط النسخي الحالي، وأن هذه الآراء هي نتيجة ما انكشف إلى الآن وستبقى معولاً عليها إلى أن يجد في الحفريات ما يغايرها أو يعدلها. المقالة الثانية تقدم لنا في (العهد الجديد) ذكر آراء بعض العلماء المستشرقين المتخصصين في أمر الكتابات السامية، ومنهم الاستاذ موريتز الألماني الذي هو مجمع على أن أقدم من كتب على وجه الأرض هو رجل عربي من اليمن، وعلى أمر آخر وهو أن اللغة العربية لا يجوز أن تكتب إلا بالحروف العربية. وإني لناشر غدًا ما دار بيني وبينه من المباحثات الشفوية هذه المرة جوابًا بعث به إلي إلى لوزان منذ نحو شهرين، وسأنشر له خلاصة بحثه عن الكتابة العربية في (الإنسيكلوبيديا الإسلامية) التي بدأت بها لجنة من العلماء قبل الحرب ولما تكمل، أما نص كتابه الأخير فهو هذا (بعد الترجمة) : (ألف شكر لك على كتابك اللطيف، وعلى ما تمنيته لي بمناسبة دخول السنة الجديدة التي ننتظر منها الاستمتاع بصحة جيدة والعون في إيصال أشغالنا إلى غاية حسنة. في الفصل الذي حررته في إنسيكلوبيدية الإسلام على الكتابة العربية قد فاتني بعض تفاصيل لم يتسع لها المقام، فالكتابة النبطية التي تُشتق منها الكتابة العربية (يريد الكتابة الحالية) هي ذات شكلين: (أحدهما) الشكل العادي الأقدم الذي منه كتابات على المباني الباقية من الأعصر الأولى، ومنه الكتابات الرسمية، وحروف هذا الشكل ليست متصلة بعضها ببعض (والثاني) الشكل المتصل وهو الشكل الذي اختير له الاختصار والبساطة لأجل الكتابات اليومية، وقد وصلوا فيه الحروف بقدر الإمكان حبًّا بالسرعة. ولا شك في أن هذه الكتابة الموصولة قد جرى الاصطلاح عليها في المدن التجارية الكبرى مثل بتراء ومكة حيث كانوا يشعرون بالاحتياج الشديد إلى أن يكتبوا سريعًا وكثيرًا، وأنه يوجد كتابات حجرية من القرن الثالث والقرن الرابع قبل المسيح ليست من الكتابات الرسمية، يتجلى لك فيها هذا الشكل الجديد بكل وضوح. وأما من القرن الخامس قبل المسيح فلم تُوجد كتابة من هذا الشكل كما أن كتابة زيد بقرب حلب وكتابة حران هي من الخط العربي الكوفي، وأما أصل تسمية هذا الخط بالكوفي فلا أزال من أمره في ظلمات، ويحتمل أن تكون دولة لخم الصغيرة في الحيرة قد اصطلحت على خط مشتق من الخط السوري، وقد أعطي هذا الخط اسم الخط الكوفي لأن الكوفة هي خلف الحيرة - كما لا يخفى - فكأنهم أرادوا إعطاءه اسمًا يميزه عن الخط السوري إلا أن هذا الافتراض لا يزال محتاجًا إلى أدلة من كتابات على الحجر أو في الورق وهذه لَمَّا توجد. وأما النقط فلم تظهر إلا في النصف الثاني من القرن الأول للهجرة وذلك على كتابات المباني والمسكوكات المضروبة وعلى البردي، وكان الباعث إليها حس الاحتياج إلي الفرق بين بعض أحرف الخط المتصل التي بوصلها بعضها مع بعض تشابهت كثيرًا، ويظهر أن أقدم النقط هي نقطة الباء (ب) ونقطة الذال (ذ) وقد وُجدت مؤخرًا قطعة سكة قديمة من مجموعة البارون أوبنهايم عليها الكتابة الآتية هكذا (ضُرب هذا الدينار سنة سبع ومائتين) انتهى. وإليكم هذا المكتوب الآخر من الأستاذ هس المستشرق الشهير الذي يدرس الألسن الشرقية في جامعة زوريخ، وهو ممن أقاموا مدة مديدة في مصر، وعرفوا بلاد العرب، وكانت له صحبة متينة العرى مع المرحوم الشيخ محمد عبده، وعندما ساح الأستاذ الإمام في أوربة نزل ضيفًا على البروفسور هس في منزله في فريبورغ، ولقد تمكنت الصحبة بيني وبين الأستاذ المشار إليه منذ نحو عشر سنوات، ففي هذه المدة استطلعت رأيه في بعض مسائل تتعلق بالكتابة العربية فصادف كتابي إليه أنه كان ملتاثًا فكتب إلي ما يأتي: (يا أميري العزيز لم أكن قويًّا أصلاً عندما وردني بهذا الصباح كتابك الثاني، وإني مع ذلك أسالك العفو، فمنذ ثمانية أيام أنا عليل بالنزلة الوافدة، وعندما جاءني كتابك الأول لم أظفر بالوقت الكافي لأجاوبك إذ كانت الأسئلة التي ألقيتها علي تقتضي لجوابها لا أقل من نصف نهار، وسأجاوبك عليها قريبًا، وإنما أكتفي الآن بالجواب على نقطتين: الأولى هي أن جميع العلماء يذهبون إلى أن ال

الفريدة العصماء

الكاتب: إسماعيل الحافظ

_ الفريدة العصماء لأشعر العلماء وشيخ الفقهاء والأدباء الأستاذ العلامة الشيخ إسماعيل الحافظ عضو محكمة الاستئناف الشرعية في فلسطين في عيد الرافعي الذهبي إن القريض صغت إليه الهامُ ... وأحاطه الإعجاب والإعظام لم أدر حين بدت طلائع آيه ... فكر يجود بهن أم إلهام سارت مواكب نظمه وكأنها ... جيش من الدر اليتيم لهام يتألق الإبداع فيه وفوقه ... من هدي أعلام الهدى أعلام لا تلمح الأحلام سر بيانه ... حتي تفيء برشدها الأحلام رقت حواشيه فهن مناهل ... ورست قوافيه فهن إكام وافترّ عن حر المعاني مثلما ... تفتر عن أزهارها الأكمام تمليه من (عبد الحميد) قريحة ... عَزَّت مناهجها فليس ترام فياضة بجوامع الكلم التي ... يبقى لهن على الدام دوام دانت أساليب البيان لربها ... وأطاعه الإبداع والإحكام وأقام في الفيحاء صرح بلاغة ... تعشو لضوء مناره الأقوام سامٍ يجدد للعروبة سؤددًا ... يُزهى به جد العروبة (سام) يهدي المشارق ضوؤه بروائع ... شغفت بها الأسماع والأفهام من كل شاردة كأن بديعها ... قطع الرياض يجودهن غمام جوابة الآفاق يُرقب نجمها ... في كل أفق أشرقت ويرام كملت محاسن نظمها وسما بها ... طبع عليه وضاءة ووسام والشعر هندام وطبع مشرق ... والبعض لا طبع ولا هندام لك في مجال الفضل يا ابن زعيمه ... سبق وفي أوج العلى استعصام جددت من عهد القريض محاسنًا ... ذهبت بها الأعصار والأوهام ألقى عليك شعاع فكرك رونقًا ... للسحر في جنباته إلمام وكسوته من صفو طبعك حلة ... أضحى بها في الناس وهو غلام فلبسته ثوبًا قشيبًا مونقًا ... والشعر فوق حماته أهدام وجلوت منه منهلاً مستغذبًا ... يغشاه من فطن العقول زحام شعر عليه من الجديد ملاحة ... ومن البراعة والنبوغ وسام نسقان، منه عبرة وهداية ... مثلى، ومنه صبابة وغرام لولا احتشام فيه صان رواته ... إذ أنشدوه وسامعيه لهاموا هو في النفوس كواكب مشبوبة ... تهدي النفوس وفي الرؤوس مدام غزل كمعتل النسيم وحكمة ... صحت بها لأولي النهى أحكام وقلائد للمدح لو هي قلدت ... للبدر تاه البدر وهو تمام ولكَم له آيات وصف وحيها ... جهر، ولمح بيانها أعلام يجلو الحقيقة ربها وضاحة ... لا الشك يعروها ولا الإبهام فتكاد إذ يصف المعاني أن تُرى ... للعين أو يبدو لهن قوام وتكاد لا تدريه هل هو شاعر ... بلغ المدى في الوصف أم رسّام لا بدع أن سبق الرجال فإنه ... كسَّاب كل فضيلة غنَّام صاغت يد الخلاق جوهر نفسه ... وأجاد صقل طباعه الإسلام فبدا وفيه مناقب علوية ... وله من الخلق العظيم ذمام وغدا وفي برديه نفس برة ... تنبو عن الأسواء حين تسام تخفى لفرط صفائها فإذا انجلت ... للناس فهي محاسن ونظام طبعت على الأدب الرفيع فما لها ... فيما سوى الحسن البديع مرام فالكون شعر عندها، وضروبه ... أحداثه، ولُغى الورى أنغام والأرض نادٍ والزمان قصيدة ... أبياتها الآناء والأيام والنجم نور والظلام خمائل ... والصبح وجه مليحة بسَّام والأفق بهو والبروج هياكل ... هي للشموس منازل وخيام والنور لوح فيه من صور الورى ... نقش، ومن أعدادهم أرقام والضوء ما بين العوالم صبغة ... كُسيت به ألوانها الأجسام والكائنات جواهر منثورة ... نظمت بها الأشكال والأقسام فاعجب لها فطنًا تناهت في العلى ... سبقًا فليس أمامهن أمام واعجب لها نفسًا صفا لألاؤها ... فلها بآثار الفنون هيام لو شاءت الأقلام وصف جمالها ... عيَت بوصف جمالها الأقلام لئن اصطفت منك القوافي مبدعًا ... أحيا رفات الشعر وهي رمام فأبوك بحر العلم جدد نهجه ... وجرى مع الشعراء وهو إمام ونمتك في عليا عدي سادة ... لهمُ بأندية البيان مقام من كل غطريف كأن جنانه ... قبس، ومتن يراعه صمصام (عمر أمير المؤمنين) يقودهم يوم الفخار وشبله العلام شرف أشم لو استقر ضياؤه ... لم يبق لا ظلم ولا إظلام شرف صحِبتَ المجد تحت ظلاله ... وجفوت ما فيه عليك ملام ورغبتَ عن زهو الحياة زهادة ... إذ قل أكفاء وعز كرام فلرب منزل رفعة طالت له الأعنـ ـاق وازدحمت به الأقدام سحبت بساحته الأماني وانجلت ... في أفقه الآمال وهي وسام أعرضتَ عن أفيائه متذممًا ... والمجد يأبى أن ينالك ذام لا خير في نيل الفخار إذا استوى ... يوم المفَاخر منسم وسنام يا شاعر الأوطان ذُد عن حقها ... فلقد يصادَر حقها ويُضام أنت البصير بما يصون كيانها ... ويصد عنها الخطب وهو جسام نافحت عنها والحفائظ تلتظي ... والعدل حور والضياء ظلام وصوارم السفاح تحت شفارها ... حتف لأحرار البلاد زؤام في فتية غرّ سمت بنفوسهم ... همم تخوض الهول وهو ضرام كرهوا الحياة على الهوان فأزمعوا ... والعيش في ظل الهوان حِمام فقضيت حقًّا لا يقوم بمثله - إذ ذاك - إلا الأروع المقدام وسُقيت فيه النفي صابًا علقمًا ... والسجن، وهو على الليوث حرام لك بين (جلق والحجاز) منازل جثم البلاء بها وعنَّ السام وافيتها ثبت الجنان مشيعًا ... بالصبر والصبر الجميل عصام ولو أن جزعت لكنت أخلق جازع ... لكنه لا يجزع الضرغام والمرء لا يُبقي عليه نفسَه ... جبنٌ ولا يودي به الإقدام حتى نزلت (بقركليسة) وانجلى عن وجه تلك المعجزات قتام أطلقت من أبكارهن خرائدًا ... جذب القلوب لحسنهن زمام وبعثت في الأوطان صوتًا مشجيًا ... مصر لقد طربت له والشام فأعد على الأوطان من ألحانه ... تَنْتَبِهْ فقد خملت وطال مقام وأجل مقالك للنضال مناهضًا ... فمن المقال أسنة وسهام وأهب بقومك للمعالي إنهم ... نَهَضَ الورى للمكرمات وناموا عصف الزمان بهم وهم في غفلة ... شغلتهم الأحلام والأوهام وأزالهم عن خِيمهم وقديمهم ... سيل من البِدع الجديد عبُام يتزاحمون على متاع زائل ... (فهمو قعود حوله وقيام) نزعوا إلى الخلف الذميم فأركسوا ... والخلف داء في الشعوب عُقام والخلف إن ينقض قضية معشر ... يومًا فليس لنقضه إبرام ولكم خلت من قوة موفورة ... ذهبت بها الأشياع والأحزام [1] أولى الشعوب بعيشة مرهوبة ... شعب حمته ألفة ووئام وأدل مفعول على حكم الهوى ... بين الرجال تخاذل وخصام فابعث لمن بعثوا الخلاف ملامة ... حرّى تذوب لبرحها الأوغام [2] وأفض عليهم من شعورك إنه ... نعم الشعور محبة وسلام وأدر سلافًا من بيان طالما ... تلفت على نبراته الأخصام واهنأ بعيدك إنه عيد له ... أيدٍ على الأدب الصميم جسام خمسين عامًا جزتها وكأنها ... من حسن ما غذت القرائح عام أهديت للفصحى بهن قلائدًا ... لا عمرو أهداها ولا همام واسلم يتيه بك القريض ويعتلي ... ويحوطك التكريم والإكرام

المراسلة والمناظرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شهادات علماء الغرب المنصفين للإسلام والنبي والمسلمين [1] الشهادة الأولى من كتاب (استعداد الإسلام لقبول الثقافة الروحية) للأستاذ هورتن الألماني المستشرق صحيفة 5- كانت العرب في القرون الوسطى (إلى سنة 1500 تقريبًا) أساتذة أوربا. صحيفة 8- لم ينشأ ظن الأوربيين بأن الدين الإسلامي لا يتمشى مع المدنية إلا من جهلهم بهذا الدين وعدم تعمقهم فيه، بل لتعلقهم بالقشور التي لا يفهمون منها إلا ما يكتبون. صحيفة 9- في الإسلام وحده تجد اتحاد الدين والعلم، فهو الدين الوحيد الذي يوحِّد بينهما، فتجد فيه الدين ماثلاً متمكنًا في دائرة العلم، وترى وجهة الفيلسوف ووجهة الفقيه متعانقتين، فهما واحدة لا اثنتان. صحيفة 9 -10 - كان في القرن العاشر في قرطبة زاهد يسمى (ابن مسرة) وكان هذا الزاهد يشعر هو وتلاميذه أنه من الأسرة الإسلامية. صحيفة 10- ابن رشد الفيلسوف الطائر الصيت في القرون الوسطى كان إيمانه بالله عظيمًا، وكان معتصمًا بالقرآن حتى بكل كلمة في القرآن، ومع ذلك لم يمنعه دينه والقرآن الذي يعتصم به من مطالعة الفلسفة اليونانية والأخذ من آثار أريسطوطاليس والبناء عليها. صحيفة 12- لا تجد في الإسلام سدًّا يمنع نفوذ الثقافة الغربية عنه، بل ترى أن له استعدادًا غير محدود لقبول الثقافة. صحيفة 17- استعداد الإسلام لقبول ثقافة غير إسلامية لا حدود له. الشهادة الثانية من مقدمة ترجمة القرآن للعلامة منني المستشرق صحيفة 9- كان محمد صلى الله عليه وسلم أمينًا وأعدل رجل. صحيفة 31- إن مرشد المسلمين هو القرآن وحده، والقرآن ليس بكتاب ديني فقط، بل كتاب علم وآداب، وتجد فيه بيان الحياة السياسية والاجتماعية، حتى إنه يرشد الإنسان إلى وظائفه اليومية، والأحكام الإسلامية التي لا توجد في القرآن توجد في السنة، والتي لا تكون واضحة لا بالقرآن ولا بالسنة توجد في الفقه الواسع الذي هو علم الحقوق. صحيفة 36- إن العربي الذي أدرك خطايا المسيحية واليهودية، وقام بمهمة لا تخلو من الخطر بين أقوام من المشركين يعبدون الأصنام يدعوهم إلى التوحيد ويغرس في أفكارهم عقيدة أبدية الروح - لا يستحق أن يُعَدَّ بين صفوف رجال التاريخ العظام فقط، بل يستحق أن يدعى نبيًّا [2] . *** شكوى المنار إلى المنار، من أحد علماء مليبار رسالة من زميلنا الأستاذ الفاضل المولى محمد عبد القادر المليباري الهندي. إلى فضيلة السيد الإمام، حجة الإسلام، صاحب مجلة المنار بالقاهرة - أدامه الله للمسلمين ذخرًا، وزاده شرفًا وقدرًا. من أحد مريديه في الغيب، المستفيدين من فيوض قلمه المهتدين بنور مناره محمد عبد القادر. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: مولاي الجليل، أرجوكم أن تتفضلوا ببذل بضع دقائق من دقائقكم الثمينة لسماع شكواي التي طالما كنت أردت أن أرفعها إلى فضيلتكم، ولم أتمكن منه إلا الآن لما كان يتوارد عليَّ من نوائب الدهر. أهم ما أشكوه وأبث حزني منه إلى فضيلتكم هو انقطاع المنار عني منذ ثلاث سنوات، وحزني على هذا عظيم لأني صرت منذ انقطاعه عني كمن يعيش في الظلام، لأن المنار كان لي منارًا بالمعنى الحقيقي. كنت قارئًا للمنار تسع سنوات متوالية لكن لا على سبيل الاشتراك، بل بمحض فضلكم ومنكم، ذلك أنه لما بلغني نبأ المنار حين كنت مباشرًا لعمل جريدتي (المسلم) سنة (1334) بادرت إلى طلبه من إدارته، فلم تجبني، ثم أردفت بطلب آخر مع خمس روبيات، ثم بآخر، هكذا كنت أوالي الطلب بعد الطلب إلى مدة تزيد على ثمانية أشهر، ولم ألق من الإدارة إلا السكوت، وأخيرًا تفضل علي المرحوم السيد صالح مخلص رضا بأجزاء من المنار مع كتاب قال فيه بعد الاعتذار عن تأخر الإجابة (.. . إن شقيقي السيد محمد رشيد عندما قرأ كتابك الأخير المؤرخ 21 ذي الحجة سنة 1331 استاء جدًّا، وأمر بإجابة الطلب، وأن يقدم إليكم المنار لا على جهة الاشتراك، بل مبادلة أو مساعدة لمجلتكم فاقبلوا ذلك كرمًا منكم، واحسبوا ما أرسلتم من ثمن ما تطلبونه في المستقبل من المطبوعات، وهو يهديكم عاطر السلام) . هكذا كنت منتظمًا في سلك قراء المنار، لا أستطيع أن أعبر عما أنا متلبس به من الشكر على هذا الإحسان الجسيم، كما أني لا أستطيع الغفلة عنه ولو لحظة في حياتي. من أجلِّ نعم الله علي أن وفقني لأن أكون من قراء المنار إذ نفخ في روحًا جديدةً جعلتني بصير القلب، وحيّ النفس، أنشأت لنشر مبادئ المنار مجلة باسم (الإسلام) بلغة بلدي (اللغة الملبيارية) فلما رأى الناس ضوء المنار منعكسًا منها استغربوه، وعلت من بينهم جلبة وضوضاء، ونسبوني إلى الزيغ والضلال ونبزوني بلقب الوهابي، ولكن نور الحق لم يعدم قلوبًا تنزل فيها أشعته، فتنبهت أفكار واستيقظت نفوس، وبالجملة فتح المنار في الديار المليبارية التي كانت متصلبة في الجمود باب فكرة (الإصلاح الديني) ولكن الجماهير ممن انتسبوا إلى العلم أخذوا يقاومون هذه الفكرة، ويمنعون الناس عن قراءة مجلتي ويحذرونهم أيضًا من المنار، مع أنهم لم يكونوا حينئذ رأوه حتى ولا غلافه، وذلك لأنهم كانوا قد أساءوا الاعتقاد فيه من قبل بسوء تأثير مؤلفات يوسف النبهاني [3] ، ولهذا لم أنجح في سعيي لأن أجد أحدًا يرغب في الاشتراك فيه، فكنت أعير لبعض أصدقائي الذين آنست فيهم سلامة الفطرة وحسن الاستعداد بعض أجزائه للقراءة، رجاء أن يوفقهم الله للاقتداء بنوره، فلم أخب في رجائي ذلك، فإن الذين لم تفسد فطرتهم في هذه البلاد قد أخذوا يعرفون قدر المنار ولو في الجملة؛ حتى ظهر من بعضهم في الأيام الأخيرة رغبة في الاشتراك فيه فطلبوه بأنفسهم من إدارته كعبد القادر بكننور، ومحمد سيدي، بكرانكنور بكوشي، ومحرر مجلة الإرشاد، ومحرر جريدة يولوكم بكاليكوت؛ ولكن من غرائب الزمن أن صرت بعد ذلك أستعير منهم أجزاءه بعدما كنت أعيرها لهم، ومما يوجب المسرة بالنسبة إلى المنار أن أرى منهم الآن في الإعطاء ما كنت رأيته منهم من قبل في الأخذ من الكراهة؛ ولكن ذلك يؤلمني نظرًا إلى ما صرت إليه من الحالة في أمر المنار. فالمرجو من فضيلنكم أن تتفضلواعلي بأن تأمروا إدارة المنار أن ترسل إلي المنار تباعًا، وإنما انقطع عني من الجزء الثاني من المجلد السابع والعشرين؛ ولكن لا أرى من الصواب أن أسالكم أن ترسلوا إلي جميع ما صدر منه إلى الآن، فسأطلبها مع تقديم الثمن عندما يتيسر لي ذلك؛ وإنما أرجو الآن أن ترسل لي من الجزء الأول من المجلد الجاري (29) . هذا وإني لأستحيي أن أسألكم أن تواصلوا علي ذلك الكرم الذي غمرتموني به تسع سنوات، ولهذا فإني مستعد لأن أدفع إليكم مبلغًا ترضونه لي ثمنًا للمنار، أو كله على ما أنا عليه من ضيق اليد، وعلى كل حال فإني واثق بأني لا أكون محرومًا من قراءة المنار؛ فإن حب المنار قد امتزج بدمي، وصارت قراءته قوت روحي، حتى لا أستطيع فراقه، ولا يطيب لي العيش بدونه، ولولا أنه يأتي لأصدقائي المذكورين وتمكنت من استعارة أجزاء منه منهم أحيانًا لضقت ذرعًا. أود أن أفيدكم - للنشر في المنار- بيانات عما أحدث المنار في المليبار من الشعور بالحاجة إلى الإصلاح الديني، وما يجري فيها من السعي وراء ذلك الإصلاح، ومن المقاومة له ممن يُعرفون بعلماء الدين بادعائهم أنه (الوهابية) وما قد حدث في هذه الأيام من قيام فريق يرأسه شاب عاد من مصر قبل سنة بعد أن أقام بين المتفرنجين فيها مدة بالطعن في الإمام ابن سعود وأنصاره وقومه الذين يُعرفون بالوهابيين انتصارًا للأخوين محمد علي وشوكت علي وسأرسل إلى فضليتكم هذه البيانات بصورة مقالة إن شاء الله اهـ. (المنار) إننا نحيي أخانا وزميلنا بأحسن من تحيته، من السلام ورحمة الله وبركاته ونعمته، وسيُطبع عنوانه المرسل باللغة الإنكليزية ويُرسل إليه المنارهدية دائمة، مع المجلدات الثلاثة التي فقدها تامة، لا نطلب منه جزاء ولا شكرًا عليها إلا نشر دعوة الحق وجهاد الباطل وأهله، والله في عونه ونصره، كما نصرنا على الدجالين ونصر إمام السنة عبد العزيز آل سعود وقومه على الباغين، ومكَّن له في خير الأرض ومهد الإسلام، وأنطق بالثناء عليه جميع الأقوام.

ميزانية الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ميزانية الأزهر وافق مجلس الأزهر الأعلى برئاسة حضرة صاحب الفضلية الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر في اجتماعه بعد ظهر يوم الثلاثاء 29 شوال الموافق 9 إبريل سنة 1929 على مشروع ميزانية الأزهر عن السنة المالية المقبلة. وقد قُدِّرت الإيرادات والمصروفات بنحو 320.000 جنيه، وهي تتضمن المشروعات الجديدة التالية: 1- 7000 جنيه لإرسال بعثة أزهرية مؤلفة من عشرين طالبًا إلى الجامعات الأوربية لتلقي العلوم التي تناسب التعليم في الأزهر والمعاهد الدينية. 2- 6000 جنيه لإنشاء مكتبة لتعريب الكتب التي لها ارتباط بالتعليم بالأزهر والمعاهد الدينية، وإنشاء مجلة دينية تدعو الناس إلى الدين، وتحببه إلى نفوسهم بنشر فضائله وإذاعة محاسنه وتمكين عقائده من القلوب؛ حتى لا تزعزعها الشبهات العصرية ومقاومة دعوة الملحدين ودفع أضاليلهم. 3- زيادة 2500 جنيه على الاعتماد الخاص بمكافأة أعضاء امتحان الشهادات لتكون متفقة مع المكافآت التي تمنح لأمثالهم بوزارة المعارف. 4- 500 جنيه تمنح جوائز لتأليف كتب في العلوم التي تدرس بالأزهر والمعاهد الدينية وتتقرر فائدتها للتعليم بهذه المعاهد. 5- 500 جنيه ثمن أدوات وعقاقير للعيادات الطبية الصغيرة التي ستنشأ بالمعاهد وانتداب الأطباء اللازمين لها. 6- 5500 جنيه لاستئجار أماكن صحية لطلاب القسمين العالي والأولي بالأزهر، وهم الذين يتلقون دروسهم بالمساجد على الطريقة القديمة، ولتجهيز هذه الأماكن بالأدوات الحديثة. 7- رفع مرتبات هيئة كبار العلماء من 36 جنيهًا في الشهر إلى 40 جنيهًا في الشهر. 8- جعل درجات العلماء المدرسين بالمعاهد ثلاث درجات: خامسة وسادسة وسابعة، أسوة بدرجات مدرسي المدارس الأميرية التابعة لوزارة المعارف. 9- ضم مصروفات قسم الوعظ والإرشاد إلى مصروفات قسم التخصص العالي.

الحالة السياسية العامة في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحالة السياسية العامة في مصر بيان حر للعبرة والحقيقة والتاريخ منذ سنة كاملة حدث في مصر انقلاب في شكل الحكومة، إذ اقتضت إرادة جلالة الملك تعطيل مجلسي النواب والشيوخ (البرلمان) إلى مدة ثلاث سنين، ووقف العمل ببعض مواد الدستور التي تقيد الحكومة بالمجلس، وتتعذر مراعاتها بدونه. واقتضى ذلك إقالة أو إسقاط وزارة مصطفى باشا النحاس البرلمانية، وهو رئيس الوفد المصري ذو الأغلبية في البرلمان، ونوط رياسة الوزارة بمحمد محمود باشا سليمان الذي كان وكيل الحزب الحر الدستوري ثم صار رئيسه، وكان ذلك عاقبة اضطراب في أعمال الوزارة البرلمانية بتدخل السلطة البريطانية المحتلة في شؤونها، ووضعها العواثير في طريق كل عمل من أعمالمها، ومحاولة السيطرة على كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية فيها، وتهديد الجرائد الإنكليزية لها من بعد وفاة سعد باشا زغلول ورفض الحكومة الوفدية للمشروع المخزي الذي اتفق عليه عبد الخالق ثروت باشا مع وزارة المحافظين البريطانية، وهو شر من الحماية السابقة بما كان يجعل به سلطان الإنكليز في مصر والسودان شرعيًّا بإقرار برلمان الأمة له. كانت الوزارة البرلمانية من أول عهد دورتها الجديدة بعد تعطيل الدورة السابقة بضغط السلطة المحتلة - وزارة ائتلافية تتمثل فيها قوى الأحزاب المصرية كلها، وكان سعد باشا هو الضليع بجمع كلمتها وحفظ وحدتها في البرلمان والحكومة معًا، بما آتاه الله تعالى من النفوذ الأعلى في البلاد المؤيد بالبصيرة والذكاء والعزم والحزم وقوة العارضة، بعد أن ألانت قناته أحداث الزمان، حتى خضعت له الأقران التي كانت تنافسه في الزعامة، واعترفت له بالتفوق والإمامة. وقد كان من المقرر لدى جميع العارفين بحال مصر من أهلها ومن الأجانب عامة، والإنكليز خاصة أنه لا يوجد في مصر رجل ذو مكانة عالية يمكن أن يملأ الفراغ الذي حدث بموت سعد باشا، وصرَّح بذلك كبار محرري الجرائد الإنكليزية كغيرهم، وظهر مصداقه بعد وفاته بقليل، فكان أول صدع حدث بعده في البرلمان أن الأحزاب المنافسة للوفد صارت تنقم منهم أثرته في مجلس النواب، ثم تصرف أعضائه في الحكومة، ونقم كثير من جماعات الأمة وأهل الرأي من أفرادها أثرة القبط فيهما معًا (أي في المجلس والحكومة) فقد أسرفوا في ذلك حتى كادوا يكونون - أو كانوا - كحزب البرامكة من موالي الفرس في حكومة الرشيد العباسية: أخذوا من الوظائف فيهما أضعاف ما يناسب عددهم القليل وظلوا يطلبون المزيد، وقد عجز خليفة سعد في الوفد عن القيام ببعض ما كان مضطلعًا به سعد من حفظ الوحدة ومنع الشطط؛ لأنه على ما أوتي من علم بالحقوق واعتدال في الأخلاق، وصدق في الوطنية، وما نعتقد فيه مع الجمهور من حسن النية - لم يؤت بعض ما أوتي سعد من قوة الإرادة، وسحر البيان، وقوة السلطان. هذا الضعف هو الذي أطمع السلطة المحتلة في إسقاط الوفد بعد اليأس من تطويعه ونيل أربهم من مصر به، وزاد في طمعهم شقاق الأحزاب له، ولعله لو قلد محمد محمود باشا رئاسة مجلس الوزراء، وقنع مصطفى باشا النحاس برئاسة مجلس النواب لأمكنهما بالتعاون أن يحفظا تلك الوحدة التي كان سعد باشا يحرص على بقائها حتى إنه ليفتديها بكل ما يراه معارضًا لها من آرائه ومقاصده، فإن محمد محمود - فيما نرى - أقوى رجال مصر عزمًا، وأمضاهم إرادة بعد سعد وثروت، ولقوة الإرادة في هذه المواقف ما ليس لغيرها من صفات الرجولية وقوة التأثير وإمضاء الأمور. لا يرجى ثبات أمر من أمور الأمم العامة يتوقف إتمامه على كفاية رجل واحد إلا إذا عاش ذلك الواحد عمرًا طويلاً أمكنه فيه أن يربي جماعة يقرب استعدادهم من استعداده، فيتمّوا ما بدأه بالتعاون والثبات، حتى إن الأمور العامة التي يكون مبدؤها من الاختصاص الرباني لا من الكسب الإنساني (كالدين) تدخل في عموم هذه السنة الإلهية في الاجتماع البشري، فلولا الخلفاء الراشدون وأعوانهم من عظماء الصحابة رضي الله عنهم الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم في مدة عشرين سنة لضاع الإسلام كما ضاعت أديان أخرى من أديان الأنبياء المرسلين الذين لم يستطع أصحابهم ضبط ما جاءوا به من الوحي وحفظه في الصدور والسطور، ونشره في الصحف والدعوة في أنحاء المعمور، كما حفظ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم القرآن في المصاحف الرسمية، وضبط التابعون لهم السنة النبوية، ونشر ذلك في العالم مؤيدًا بقوة البرهان وقوة السلطان، وإقامة الميزان. ولقد كان بدء هذه النهضة المصرية السياسية المدنية والعلمية والعملية دعوة السيد جمال الدين الأفغاني؛ ولكنه نُفي من البلاد قبل أن يُتم تربية حزبه الوطني، ونُفي من بعده زعيم أصحابه الشيخ محمد عبده الذي قال هو يوم نفيه أنه هو الذي يتم عمله في مصر، واستولى على البلاد الأجانب، فلما عاد الشيخ محمد عبده لم يجد أدنى منفذ للعمل السياسي لضعف حزبه، وضعف الأمة أو عدم تمام تكوينها ووحدتها، وقد كان يقول في هذا الأمر (يا ويح الرجل الذي ليس له أمة) وقال لي في الأمر الذي قبله: (والله لو أن في مصر مائة رجل لما أمكن للإنكليز أن يُقيموا فيها) أو لما أمكن أن يعملوا فيها ما أقاموا عملاً، لا أعني أنه لا يوجد فيها من يعلم ما يجب أن يعمل، ولا من يستطيع أن يعمل، فإن فيها كثيرًا من المتعلمين القادرين على الأعمال؛ ولكنهم ضعفاء الإرادة لا عزيمة لهم، وقد أظهرت الأيام من بعده صحة قوليه، ولهذا انصرف بكل جهده إلى الشق الثاني من الإصلاح الذي كان نهض مع السيد جمال الدين به، وهو الإصلاح العلمي الديني، وقال في الشق الآخر، بل كتب ما نصه: (أما أمر الحكومة فقد تركته للقَدَر يُقَدِّره، ولِيد الله بعد ذلك تدبره، لأنني قد عرفت أنه ثمرة تجنيها الأمة من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يعنى به الآن) . صدق الإمام في قوله؛ فإنه مقتبس من قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وقد قدَّر سبحانه للشعب المصري أن يغير ما كان عليه من التفرق والانقسام، والخنوع الذي يشبه التعبد للحكام، وظهر في جمهور دهمائه مبدأ الوحدة التي تسمى بالرأي العام، وإنما كان هذا بتأثير أحداث الزمان، وشطط رجال الاحتلال وإسرافهم في احتقار المصريين، وسوء استعمالهم للسلطة العسكرية العرفية في زمن الحرب، وعدم وقوفهم في إرهاف الحد عند حد، كما شرحناه في مقالنا التاريخي عن القضية المصرية سنة 1921 (ص496-522 ج7 مجلد22) فبذلك الإرهاف تم تكوين الشعور القومي الوطني في الشعب المصري، وظهر ظهورًا جليًّا في ثورة سنة1919، وهو ما كان ينوط به الأستاذ الإمام العمل السياسي المنتج لمصر، ولما كان هذا الطور الجديد لابد له من زعيم سياسي قد أوتي من المواهب ما يمكنه به أن يوجهه إلى السعي لاستقلال البلاد - لم يوجد في مصر من قدر على ذلك إلا بقية أعضاء حزب السيد جمال الدين السياسي وربيب خليفته الأستاذ الإمام وهو سعد زغلول. ولكن سعد كان شيخًا كبيرًا لم يرب أحدًا على الغرار- أو المبدأ - الذي وضعه السيد جمال الدين قبل نيل هذه الزعامة؛ لأن القضاء كان قد شغله عن التربية الأخلاقية والسياسية، ولا بعدها لقصر الوقت وكثرة الشواغل العملية عن هذه التربية، ولكن آراءه ومنازعه الاستقلالية وسيرته في الجهاد دونها قد تمكنت في أنفس كثير من رجال الوفد الذين جاهدوا معه وثبتوا على الجهاد والجلاد فاستطاعت الثلة الإدارية له أن تحافظ على اتحاد الكثرة الساحقة في مجلسي الشيوخ والنواب، وعلى تأييد السواد الأعظم من الأمة له. فلما رأى المندوب السامي البريطاني هذا ناجز الحكومة المصرية العداء في كل من هيئتها التشريعية والتنفيذية، وقعد لها كل مرصد، وشرع يعاقبها على كل قول وفعل، ولا سيما تبرمها باستبداده، وحكومة لوندرة وهي بيد حزب المحافظين تؤيده في كل ما يقرره، وتجيبه إلى كل ما يطلبه، حتى أرسلت بطلبه أسطولاً ضخمًا إلى الإسكندرية لتأييد معارضته في مسألة داخلية صغيرة لا تدخل في معنى التحفظات الأربعة التي قيدوا بها الاستقلال المصري بنص ولا فحوى، ولا يمكن أن يُستدل بها عليها بطريق من طرق الدلالة الثلاث: المطابقة والتضمن والالتزام. فثبت بهذا أن الحكومة البريطانية تريد أن تسخر الحكومة المصرية لمشيئتها بالقوة القاهرة، إن لم تذل وتستخْذِ لإدارة مندوبها السامي وتنفذ أوامره الشفوية والتليفونية بدون أدنى معارضة من البرلمان وغيره، فهو قد عارض البرلمان في وضع بعض القوانين وتقرير بعض الإصلاحات الداخلية، كقانون الجمعيات والإصلاحات العسكرية، وأكره الحكومة على إعادة من شاء من موظفي الإنكليز الذين خرجوا منها بمقتضى قانون التعويضات الذي غُبنت به مصر غبنًا فظيعًا، فعاد من شاء منهم بعدما أخذوه من ألوف الجنيهات تعويضًا عما بقي لهم من سني الخدمة، إلى غير ذلك مما ليس إحصاؤه من موضوع مقالنا هذا، وهو من الجزئيات التي نعنى بمعناها الكلي دون أفرادها. لم يتجرأ اللورد جورج لويد المندوب السامي على هذا الاستبداد كله إلا لما ثبت عنده وعند حكومته من زوال الوحدة المصرية السعدية التي ألجأت دولتهم إلى إلغاء الحماية والاعتراف لمصر بالاستقلال التام، ولو مع تلك التحفظات التي كان ينكرها سعد باشا والرأي العام، ولم يكن لمصر من سبيل إلى وقف هذا التعدي عند حده إلا المحافظة على تلك الوحدة في البرلمان والحكومة، فكان أكبر ما خسرت بموت سعد أنه لم يوجد له خلف يستطيع أن يحل محله في جمع الكلمة كما قلنا، ولم تكن وطنية زعماء الأحزاب قد ارتقت بهم إلى حيث يحلون النظام محل نفوذ ذلك الزعيم الكبير، فيؤيدون خليفته في المصلحة العامة، ويتسامحون فيما ينكرون من أنانية الوفد، ويُحكِّمون فيما يختلفون فيه معه ما يقضي به الشرع والعقل، فاشتعلت نار الخلاف الحزبية في البرلمان، وانصدعت وحدة الحكومة باستقالة بعض الوزراء، واندلعت ألسنة الكتاب والخطباء بالهُجر والبذاء، وشُرِّعت أسنة الأقلام في ميادين الجرائد للطعن الهراء، والإفك والافتراء، فأحبط كبراء الأمة أفضل ما كانوا قد عملوا فكان هباء منثورًا، وهذا هو الذي أطمع المحتلين فيهم، فعادوا إلى شر ما كانوا عليه من العبث بهم، ويتعذر على المؤرخ المنصف حصر التبعة في حزب أو شخص منهم. وفي تلك الأثناء أثيرت شبهات في قضية الأمير سيف الدين، وما كان من دفاع مصطفى النحاس باشا وغيره من كبار رجال الوفد عنه بالوكالة، إذ كانوا من المحامين، وذلك قبل تقلد النحاس منصب رياسة الوزراء، فأسرفت الجرائد المناصبة للوفد في الطعن على رئيسه ورفاقه المحامين برميهم بالطمع واستخدام مناصبهم ونفوذهم في الحكومة والمجلس لتوفير منافعهم وتحقيق مطامعهم. في أثناء هذه الزعازع صدرت إرادة جلالة الملك بما بدأنا بذكره في هذا المقال من إقالة الوزارة المصطفوية البرلمانية، وتعطيل البرلمان، وإسناد منصب الرياسة إلى محمد باشا محمود سليمان، فأراد إشراك بعض رجال الوفد في تأليف وزارته فأبوا كل الإباء، فألَّف الوزارة من رجال حزبه، وأعلن أن عناية وزارته ستتوجه إلى الإصلاحات الإدارية من زراعية وصحية وغيرها، دون الأعمال السياسية التي ا

تطور الإصلاح في الحجاز

الكاتب: إيراني كبير

_ تطور الإصلاح في الحجاز حديث إيراني كبير عن الحجاز جاء في جريدة العهد الجديد البيروتية الغرَّاء تحت هذا العنوان ما نصه: تمهيد: بعد انقلاب الحجاز الخطير الذي أدى إلى سقوط الدولة الهاشمية، وتبوأ صاحب الجلالة الملك ابن سعود عرش الحجاز - كانت حكومة إيران قد قطعت علاقاتها مع ابن سعود تحت تأثير الدعايات المؤلفة التي قام بها فريق من الرجعيين ساءهم ما يشاهدونه في الحجاز من إصلاح وتقدم، فعملوا على تنفير القلوب، وإيغار الصدور بين العرب والفرس. علم أن صاحب الجلالة ملك إيران رضا خان بهلوي أدرك أخيرًا سوء نية المفسدين، وأن ما أشاعوه فأقلقوا باله به لا يستند إلى ركن صحيح، فحسن ظنه بحكومة الحجاز، وسمح لرعاياه بحج بيت الله الحرام في هذا العام، كما أنه أرسل إلى مكة المكرمة ممثلاً سياسيًّا لدولته هو الميرزا حبيب الله خان عين الملك معتمده السابق في بيروت. وكان بين حجاج هذا العام حضرة الميرزا إقبال شاه أزاد خان نائب مقاطعة شيروان في المجلس النيابي الإيراني، وقد وصل أمس إلى الثغر قادمًا من مكة، ونزل في الفندق العربي، فأوفدنا أحد محرري (العهد) لمقابلته واستطلاع ما أحدثته في نفسه زيارة الحجاز، فوافانا بما يلي: كانت الساعة الرابعة بعد ظهر أمس الأول حينما قابلت حضرة النائب إقبال خان، هو في أواسط العقد الرابع من عمره، طويل القامة، معتدل الجسم، أسمر الوجه حليقه، يتكلم التركية والإفرنسية ما عدا لغته فحييته باسم العهد، وسألته أن يتفضل ببيان ما أحدثته في نفسه زيارته للأراضي الإسلامية المقدسة، فقال سعادته: انتدبني مجلس الأمة الإيراني بصفة خاصة لدرس حالة الحجاز، وما قيل عن تلاعب الحكومة بالأماكن المقدسة، فقمت بمهمتي هذه دون أن أشعر الحكومة، وقد دلني البحث الدقيق الذي قمت به بنفسي أن الحكومة السعودية وجلالة الملك شديدا التمسك بالدين الإسلامي ونصوصه لا يدخران وسعًا في سبيل المحافظة على المخلفات الإسلامية [1] ، وأن ما رأيته في الحجاز من وسائل الإصلاح ومن العناية التامة براحة الحجاج والمحافظة على صحتهم وسلامتهم لم أر مثله في البلاد التي سبقنها مراحل في ميدان المدنية. وقد كان بعض المصادر المعادي لابن سعود يحاول إيهام الناس بأن الأمن مختل في الحجاز صرفًا لهم عن الحج، وإذا الأمر خلاف ذلك تمامًا. وإليك حادثة جرت لي تثبت مبلغ استتباب الأمن في الربوع العربية الحجازية، فقد أضعت محفظة بين مكة وعرفة، وبالرغم من أنها تحوي مبلغًا كبيرًا من المال فإن أحد الحجازيين وجدها، وأرسلها إلى الحكومة، وهذه أعادتها إلي دون أن تنقص منها بارة واحدة، وهذا ما لا يمكن أن تشهد مثله في أعظم البلاد رقيًّا. تقرير مندوب النواب الإيراني: - هل أتمكن من معرفة التقرير الذي ستقدمه إلى البرلمان الإيراني؟ - تقريري لا يخرج عن حد إفهام زملائي حقيقة الوهابية، وبيان فساد الشوائع التي كانت مثارًا لشعور الإيرانيين، ويمكنني أن أؤكد لكم بأنني سأكتبه بأمانة وصدق وتجرد. - أليس لكم ما تنتقدونه على الحكومة الحاضرة؟ - بالعكس، إني محبذ كل الإجراءات التي قامت بها حكومة صاحب الجلالة الملك ابن سعود. - وهل يتضمن تقريركم بحث حالة الحجاز من الوجهة السياسية؟ - كلا، وإنما سأقتصر فيه على الوجهة الاقتصادية، فقد تبين لي أن الحكومة الحاضرة تريد أن تقوم ببعض المشاريع الاقتصادية والعمرانية والزراعية، ولكن ينقصها بعض المال للقيام بها، وهي لا تريد أن تستمد حاجتها من رؤوس الأموال الأجنبية؛ لأنها تعتقد أن ذلك يؤدي حتمًا إلى توطيد النفوذ الأجنبي؛ ولهذا فهي تنوي أن تضع يدها بيد أصحاب رؤوس الأموال الإسلامية بشرط أن لا تكون هناك أية صبغة أجنبية فيها، وترى أيضًا أن المساعدة الوحيدة التي يمكن أن تحصل عليها هي من إيران وتركيا [2] . ونحن كنا في حاجة إلى رؤوس الأموال لإصلاح اقتصادياتنا وزراعاتنا في إيران، إلا أن بيننا أغنياء عديدين يستصعبون القيام ببعض هذه الأعمال، وأنا سأعمل على تشجيعهم للإقدام على هذا العمل الذي يفيدنا ويفيد الحجاز معًا، وأما المساعدات الفنية فأعترف أننا لا نستطيع تقديمها، فعلى الحكومة الحجازية أن تستمدها من تركيا [3] . مهمة مندوب الشاه في الحجاز: - وهل تعتقدون أن المفاوضات ستدور بهذا الصدد؟ - لا أعرف ذلك في الوقت الحاضر، ولا سيما وأن علاقتنا السياسية لم تُوطد مع ابن السعود، ومن الواجب وضع الأسس العمومية أولاً للاتفاق السياسي [4] ثم يباشر وضع اتفاقات اقتصادية وتجارية وخلاف ذلك. - وماذا عمل حبيب الله خان حتى الآن في مكة؟ - لقد قابل جلالة ابن سعود وسلَّمه كتاب صاحب الجلالة الشاه الذي يعترف فيه بملكيته على نجد والحجاز، وقد تقبل جلالة الملك كتاب جلالة الشاه وسفيره، وأبرق إليه معربًا عن استعداده للقيام بكل ما يقدر عليه في سبيل توطيد العلاقات الودية بين أمته والأمة الإيرانية، كما شكر له دعوته لسمو نجله الأمير فيصل لزيارة إيران قائلاً بأن نجله سيغتنم أقرب فرصة لزيارتها، وأنا أعتقد أن سمو الأمير سيزور بلادنا في هذا الصيف. الأمير أرسلان: - هل قابلتم جلالة الملك ابن السعود؟ - نعم، اجتمعت بجلالته لأول مرة في المأدبة التي أقامها للأمير شكيب أرسلان، وقد سبق لي التعرف على هذا الأمير في أوربا حيث كان يدافع عن القضية السورية، ثم اجتمعت بجلالة الملك مرارًا على انفراد فلاقيت منه كل إكرام، وقد طلب إلي أن ابلغ الأمة الإيرانية تحيته بواسطة مجلسها النيابي، وسأقوم مسرورًا بهذه المهمة عند عودتي إلى بلادي. الرابطة بين الحجاج: - كيف وجدتم الرابطة الإسلامية في الحجاز؟ - أقول: إن الرابطة الإسلامية مفقودة بين الحجاج الذين يؤمون البلاد المقدسة، وسبب ذلك فقدان التجانس بين طبقات المسلمين، فمثلاً ترى الهنود في مقر منعزل لا يختلطون بغيرهم؛ لأنهم يجهلون لغتهم، وكذلك الإيرانيون والعرب والروس والترك وغيرهم من الأقوام الإسلامية، وأرى أن يتحقق ذلك بأن يلقى محاضرات بكافة اللغات، وأن يصدر بهذه اللغات نشرات في موسم الحج، وبذلك يكون تقرب نوعًا ما بين الجميع، وقد عرضت هذه الفكرة على جلالة الملك وكبار حجاج المسلمين فلاقت كما أعتقد استحسانًا، وأرجو أن تنفذ في العام القادم. والرابطة الإسلامية إذا توحدت يمكنها أن تؤدي نتائج حسنة تهم الجميع. رأي في الخلافة: - ما رأيكم في الخلافة؟ - أقول لكم بصراحة تامة: إن الخلافة بدعة!! وقد جرَّب المسلمون الخلافة فماذا استفادوا منها؟ اللهم إلا أنها آلة يديرها الأجانب في الاتجاه الذي يريدونه، وكفى المسلمين ما لاقوه، فعليهم الآن أن يلتفتوا إلى اللباب لا إلى القشور [5] . انتهى الحديث.

أداء الأمير شكيب لفريضة الحج

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أداء الأمير شكيب لفريضة الحج كان قلب الأمير شكيب يحن إلى أداء فريضة الحج منذ سنين، كما هو شأن كل مسلم، وإن كان أمثال الأمير شكيب في تربيتهم المدنية والسياسية والاجتماعية، صار يقل فيهم من يحج كما يقل من يصلي ويصوم إذا لم تقرن تلك النشأة العصرية بمعارف دينية صحيحة راسخة كالطود لا تؤثر فيها أمواج الشبهات، ولا تنال منها عواصف الشهوات، ولكن شكيبًا تلقى عقيدته من الأستاذ الإمام، وغذاها بالعلم الصحيح والعمل، وقد كان لكبراء الرجال السياسيين من موانع الحج في السنين الخالية ما ليس لغيرهم. عزم شكيب على الحج في موسم السنة الماضية (1347) وكان يحب أن يسافر من أوربة قبل موعد الحج، فيعرِّج على مصر فيقيم فيها مدة مع صديقه الحميم صاحب المنار بداره التي يُعِدُّها بحق داره، وكتب إلي بذلك، وأنه لقي في برلين معالي وزير خارجية مصر الدكتور حافظ بك عفيفي، وكان بينهما صداقة سابقة فكاشفه بعزمه، فتبرع الوزير بوعده بأن يمهد سبيل الإذن الرسمي له بزيارة مصر في طريقه لعلمه بأنه كان ممنوعًا من دخولها بعد الحرب الكبرى، ومن المعلوم بالبداهة أن المرجع الرسمي في هذا الأمر لوزارة الخارجية؛ ولكن الوزير نفسه رأى أن الإذن له يحتاج إلى تمهيد وسعي! ! . ثم أزمع الأمير السفر وخرج من داره في لوزان قاصدًا البحر عن طريق إيطاليا، وطفق يراسل وزير الخارجية، ثم يراسل بعض أصدقائه في مصر، سائلاً هل تأذن له الحكومة المصرية بالإلمام بمصر، ولو بميناءي بورسعيد والسويس لينتقل من الباخرة التي يسافر فيها إلى باخرة من البواخر التي تنقل الحجاج؟ وكانت هذه الرسائل برقية، فعلمنا بعد البحث أنه لا يزال ممنوعًا من ذلك، وبعد بذل السعي من بعض المهتمين بالأمر لدى صاحب الدولة رئيس الوزارة، اقتنع بأن اللائق بحكومة مصر بصفتها الإسلامية الرسمية أن لا تمنع أحدًا من الإلمام ببعض ثغورها بقصد السفر إلى الحج من غير إقامة تزيد على مدة الانتقال من باخرة إلى أخرى، فأصدر أمره بالإذن في آخر وقت أدرك به الأمير آخر باخرة تحمل الحجاج في آخر وقت يمكن إدراك الحج فيه، وقد علمنا أن الأمير بذل في أجور البرقيات أكثر من ثلاثين جنيهًا، وأنه لو كان يعلم هذا لفضَّل أن يسافر في باخرة إيطالية إلى مصوع أو عدن ثم يسافر منها إلى جدة. في أثناء هذه المساعي وتبادل البرقيات شاع بين الناس أن الأمير شكيبًا مسافر إلى الحجاز، وأنه سينزل من الباخرة التي تقله من أوروبا في بورسعيد، وينتقل منها إلى السويس، فعزم كثير من أصدقائه، وممن يحبون الحظوة بمعرفته، لشهرته الشريفة في عالم العلم والأدب والسياسة، والجهاد الإسلامي والوطني - على السفر إلى بورسعيد للقائه فيها، وطفقوا يتحدثون بتأليف الوفود لذلك في مصر وفلسطين وسورية، ونُشر ذلك في الجرائد، ولكن بعضها ذكر خبر منعه من الإلمام بالثغور المصرية، فلم يعلم بموعد وصوله إلى بورسعيد إلا بعض أصدقائه في مصر، فسافر بعضهم إليها في ذلك اليوم، وبعضهم قبله بيوم، وقد نزلت مع بعض السابقين في زورق بخاري، فاستقبلنا باخرته في البحر عقب وقوفها وإذن طبيب المحجر بمخالطة ركابها للناس، وسبقنا ابن عمه الأمير أمين فصعد إلى الباخرة مع الطبيب الرسمي، ولما تلاقينا لم أملك دمع السرور من حيث جرى، ولا تسل هناك عما قد جرى، ووصل في ذلك اليوم إلى بورسعيد الأستاذ المربي المصلح والزعيم الوطني الشهير الشيخ محمد كامل قصاب من حيفا لأجل استقباله، وأخبرنا أن وفد حيفا ووفد القدس قد انفض جمعهما إذ نشرت جريدة الجامعة العربية برقية من مصر بعدم الإذن له وهو إنما جاء للاحتمال، وقد جاءت الأمير برقيات كثيرة، وعاد بعض المستقبلين له إلى القاهرة، وبات بعضهم في بورسعيد بعد إلحاحه على الجميع بالعودة إلى أعمالهم، إلا كاتب هذه السطور، فقد قال له: أنت تبقى معنا من البحر الأبيض إلى البحر الأحمر. وقد سافرنا في اليوم الثاني إلى السويس فوجدنا بعض المستقبلين في الإسماعيلية من طريقنا، وبعضهم في محطة السويس نفسها، وممن جاءها بالسيارات الخاصة أحمد زكي باشا وعبد الحميد بك سعيد، وقد بلغ الأمير في المحطة أمر الحكومة المصرية إياه بالانتقال منها إلى باخرة الحجاج الأخيرة التي تبحر في ذلك اليوم 29 ذي القعدة إلى جدة، وأنها أمرت شركة بواخر البوستة الخديوية التابعة لها بتخصيص مخدع له (قُمْرَة) في الدرجة الأولى منها، وكان يريد السفر في باخرة البريد في 2 ذي الحجة، فركب الأمير ومن كان ثم من المستقبلين المودعين السيارات إلى الباخرة توًّا، وذهبت أنا السوق فأخذت له منه ثياب الإحرام؛ لأنني علمت منه أنه لم يحمل من أوروبا شيئًا من ذلك. الأمير شكيب أكبر رجال السياسة من زعماء الأمة العربية، وأشهر كتابها الذائدين عن حوضها والمنافحين عن حقوقها، والعاملين لمصالحها، فالمجاهدون المخلصون منهم يسرون بلقائه لمجدد مُلك العرب ومجد العرب، وقبلة آمال العرب، الملك عبد العزيز آل سعود، وتناجيهما في المصالح العربية السياسية والمدنية، ويرجون من ذلك خيرًا كثيرًا وللأمير شكيب مكانة إسلامية سامية عند طلاب الإصلاح الديني المدني الذي يقتضيه هذا العصر من عرب المسلمين، وشعوب عجمهم الكثيرة، ولا سيما الترك والهنود لما له من خدمة الدولة العثمانية عندما كانت تمثل الزعامة الإسلامية، ثم ما جاهد به ملاحدة الترك بعد جهرهم بنبذ الإسلام ومعاداتهم بالقول والفعل، ولما له من الدفاع عن الإسلام والمسلمين في مواقع أخرى كثيرة قد كان آخر ما نشر منها مقالة الممتع الذي رآه القراء في جزء المنار الماضي، ومن الدلائل على مكانته الإسلامية إجماع أعضاء المؤتمر الإسلامي العام من جميع الشعوب بمكة المكرمة في موسم سنة 1344 على اختياره لأمانة السر العامة (السكرتارية للمؤتمر الدائم) ولم أكن أنا أشد تقريرًا وعناية بهذا الاختيار من الوفود الهندية، ولا سيما الزعيمين محمد علي وشوكت علي، المناوئين لملك الحجاز ونجد لعدم اتباعه لهواهما، فأهل الرأي من مسلمي الأقطار المختلفة يسرون برحلة الأمير شكيب إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، ولقائه للإمام المجدد للإسلام، في رحاب تلك المشاعر العظام؛ لأن شخوص زعماء المسلمين السياسيين وعلمائهم العصريين إلى الحجاز مفيد بما فيه من القدوة والأسوة الحسنة لأمثالهم المقصرين في أداء هذه الفريضة، ومفيد بما يرجى من ورائه من التعاون على المصالح الإسلامية، ومن هذا الباب أنه لما شاع في السنة الماضية أن الإمام يحيى حميد الدين سيحج في موسمها تناقلت هذا الخبر ألسنة المسلمين وصحفهم وتلقته بالإكبار والإعظام لأمرين (أحدهما) أن ملوك المسلمين قد تركوا أداء هذه الفريضة منذ قرون عديدة (وثانيهما) حرص مسلمي العالم كله على اعتصام إمامي الجزيرة العربية وملكي الإسلام المستقلين بعروة التحالف والاتحاد الوثقى، ورجاؤهم أن يكون تلاقيهما في بيت الله تعالى متممًا لما مهدا له السبيل من ذلك بالوفود والمكاتبات والهدايا، ومن فضل الله على صاحب هذه المجلة أن كان هو الساعي الأول إلى ذلك بالمكاتبات والوفود من قبل الحرب الكبرى ومن بعدها، ويليه فيه صديقه الأمير شكيب. ومن دلائل اهتمام أهل الرأي والخدمة العامة من مسلمي الشعوب المختلفة، وعرب الملل المختلفة، بحج الأمير شكيب ورجائهم الخير فيه للملة وللأمة، أنه ساء دعاة الإلحاد في المسلمين ودعاة الاستعمار في العرب، ولا سيما السوريين من الفريقين، فنشروا في بعض الجرائد مقالات سخيفة طعنوا فيها على الأمير في دينه، وفي سياسته، وفي غرضه من أداء الحج، وكان الذي تولى كبر هذه الأراجيف ذلك القناف النفاج الحسود المدعي للزعامة السورية؛ ولكن بإمضاء ألصق الناس بخدمته، ولم يصده عن ذلك اشتهاره هو بالدعوة إلى الإلحاد، ونبذ الدين، وتهتك النساء وغير ذلك، ومما اتهمه به أنه يسعى بحجه إلى جعل الملك عبد العزيز إياه سفيرًا له في أوروبا! ! وربما كان هذا الملك أشد احتقارًا لهذا التشفي الدنيء فإنه صار من أعرف الناس بفضائل الرجل، ورذائل حاسده، وقد احتفى جلالته بضيافته احتفاء يسعر نار الحسد في كبد الحسود. استقبلت الحكومة السعودية ووجهاء الحجاز الأمير شكيب في جدة، ثم في مكة أحسن استقبال، فقد خف إلى لقائه في الباخرة الحاكم الإداري (القائمقام) وغيره من الموظفين والوجهاء، وفي مقدمتهم عين أعيان الحجاز الشيخ محمد نصيف، ثم قابله جلالة الملك في جدة إذ كان فيها، وبعد أن تمشى مع جلالته سار معه في سيارته الملكية إلى مكة المكرمة فكانت هذه أول فرصة واسعة للمذاكرة في المصالح العامة، وقد كتب إليّ جلالته عن هذا التلاقي ما نصه: (وقد أنسنا بلقاء صديقكم وصديقنا الأمير شكيب أرسلان، وهو كما وصفتم إخلاصًا وعلمًا وأدبًا) ويعني جلالته بهذا الوصف ما كتبته إليه أخيرًا من أنني لم أثن له على أحد وهو فوق ما أثنيت ووصفت من كل جهة إلا الأمير شكيب. وقد علمت علم اليقين أن جلالته رغَّب إليه أن يبقى لديه في الحجاز دائمًا أو ما شاء، وطابت له الإقامة ليقوم بما لا يستطيع غيره أن يقوم به من أعباء الإصلاح في حكومته، فاعتذر أولاً بوجود أهل بيته في أوربة، قال: نحضرهم إلى الطائف، فاعتذر بأنه لابد له من البقاء في أوربة لأجل القضية السورية، وبأنه يخدم القضية العربية هنالك بما شاء جلالته إلا الوظائف الرسمية؛ فإن فكرة المناصب الرسمية قد خرجت من فكره، فهو لا يقبل منصبًا لا في الحجاز ولا في أوروبة كالسفارة في بعض العواصم. بعد هذا زار الملك جدة فذكر في مجلسه الحافل ما نشر في المقطم من اتهام الأمير شكيب بالسعي إلى نيل سفارة في أوربة - وهو ما أشرنا إليه في المقال - فغضب الملك، وقال من هذا - يعني صاحب مقالة المقطم - وإيش يكون؟ ؟ ثم أثنى على الأمير شكيب ثناءً عظيمًا؟ قال في سياقه: والله إن السفارة التي يريدها في أوربة تكون له بشرط أن يرضى. ومن أخبار الأمير في الحجاز التي تسر محبيه الذين لا يحصيهم إلا الله تعالى أن هواء الطائف قد وافق مزاجه، فزال هنالك ما كان أصابه في أوربة من مرض الصدر الذي كان فيما يظهر من أسباب ما أنكرته عليه من استطالته لعمره ونعيه لنفسه، ويسرنا أن ما رأينا عند تلاقينا الأخير في وجهه من الإشراق والبهجة، وفي حديثه من جرس الصوت وقوة اللهجة، وفي مشيته من النشاط وخفة الحركة، وفي أكلته من زقم اللقم، وجودة المضغ في غير نهم - ليبشرنا بأنه مستعد لحياة طيبة طويلة الأجل، إذا لم يجن عليها بالإفراط في الانكباب على العلم والعمل، وفقنا الله وإياه للقصد والاعتدال، والتوفيق لما يحب تعالى ويرضى من الأقوال والأعمال.

أسئلة من الشيخ محمد علي اليماني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من الشيخ محمد علي اليماني في بيروت وكان مجاورًا في الأزهر الشريف مقرونة بأجوبتها (س 16 - 29) بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: وبعد، فإني أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه. (1) هل يجوز للمرأة أن تظهر صوتها ووجهها ويديها وغيرها أمام الرجال الأجانب والأطباء وغيرهم أم لا؟ (الجواب) يجوز للحاجة المشروعة بقدرها كالتطبب والشهادة والعقود التي تصح منها، ويجب كشف الوجه والكفين في الإحرام بالحج أو العمرة، ويحرم عند توقع الفتنة، ويباح فيما وراء ذلك. 2- هل يجوز للمسلمين أن يرسلوا أولادهم إلى المدارس الأجنبية مع وجود مدارس إسلامية نظامية مستعدة لتعليم أبناء الأمة حسب مبادئ الدين الإسلامي الحنيف أم لا؟ (الجواب) لا يجوز إلا لطالب راشد متمكن من عقائد الإسلام وهدايته؛ لأن هذه المدارس الأجنبية تفسد عقائد الأحداث والجاهلين. 3- ما قولكم - دام فضلكم - فيمن يرى عدم لزوم تدريس العقائد والعبادات وغيرها في المدارس الابتدائية وغيرها، ويرى تدريس الحكايات والقصص كقصص الأنبياء وأخلاقهم وغيرها فقط، هل هو مصيب أم لا؟ (الجواب) لا، فإن قصص الأنبياء ولا سيما السيرة المحمدية مفيدة جدًّا ولكنها لا تغني عن معرفة أصل الإسلام وهو عقائده وعباداته وحكمه وآدابه. 4- أي الكتب الدينية الإسلامية أكثر فائدة في التفقه في المسائل الشرعية الدينية كالعقائد والعبادات وغيرها، مع ملاحظة الشكل التام وسهولة اللفظ والمعنى لتلاميذ المدارس الابتدائية وغيرها؟ (الجواب) لا أدري فإن الحكم بهذا التفضيل يتوقف على الاطلاع على ما ذكر وقلما رأيت منها شيئاً وأحسن ما أعرفه منها (خلاصة السيرة المحمدية) إلخ وكتاب (الدين الإسلامي) لطلاب المدارس الثانوية، وقد طبع الجزء الأول منه، وكتاب (التعريف بالنبي والقرآن الشريف) المقتبس أكثره منه. 5- هل يجوز تحكيم العقل في المسائل الشرعية الدينية المنصوص عليها في الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبرين؟ لأن كثيراً من الناس يحاولون تحكيم العقل في المسائل الدينية فيقبلون منها ما يوافق عقولهم وينبذون ما يخالفها، ولو كان في ذلك نص أو إجماع أو قياس، فهل هذا يجوز أم لا؟ (الجواب) لا يجوز تحكيم العقل في النصوص القطعية، وإنما وظيفة العقل فهم العقائد وإقامة دلائلها، والآداب الشرعية ومنافعها، والترجيح بين الأدلة في الأحكام الاجتهادية التي ليس فيها نصوص قطعية عند المستعد لذلك. 6- هل يجوز حمل ساعة الجيب واليد وغيرها لأجل ضبط أوقات الصلاة والاشتغال كالمدارس والتجارة وغيرها أم لا؟ (الجواب) يجوز بلا شبهة والسؤال عنه مستغرب. 7- هل يجوز اعتقاد عمل المندل وضرب الرمل وتعليق التمائم وكشف الضمائر وقراءة الكف وعمل السيمار جميع أنواع السحر من أعمال الطلاسم وغيرها أم لا؟ (الجواب) لا يجوز شيء من ذلك؛ لأنها خرافات ومفاسد. 8- هل يجوز التنويم المغناطيسي وتحضير الأرواح ومخاطبتها شفاهيًّا أو كتابيًّا؟ وهل هذا ثابت أم لا؟ (الجواب) يجوز إذا لم يكن فيه ضرر ولا معصية ولا خداع لأحد كما يفعل كثير من الممارسين لذلك، والتنويم ثابت لا مراء فيه. وأما تحضير الأرواح أو مخاطبتها فله أصل ثابت، وأكثر ما يقال فيه خداع باطل. 9- هل يجوز التقليد والتلفيق من مذاهب الأئمة الأربعة وغيرها في العقائد والمعاملات والعبادات وغيرها كالوضوء والغسل والصلاة وغيرها أم لا؟ (الجواب) إن جمع الأقوال الملفقة من المذاهب المختلفة للعمل بها تقليدًا لأهلها عبث بالدين واتباع للهوى، ولكن الذي يتبع قوة الدليل إذا وافق استدلاله بعض الأئمة في بعض الأقوال، ومن يخالفه منهم في قول آخر ولو في موضوع واحد - لا يعد ملفقًا ولا مقلدًا. 10- ما الأدلة النقلية والعقلية على افتقار الطبيعة الكونية إلى صانع مختار؟ وما الطبيعة؟ لأن كثيراً من المسلمين تجردوا من الدين واعتقدوها. (الجواب) الطبيعة الخلقية وهي مؤلفة من مواد ذات خواص وقوى، وفيها من السنن والنظام الدقيق ما يدل دلالة ظاهرة على أن لها خالقًا قادرًا عليمًا حكيمًا أزلاً، يمكن أن يكون ما ذكر قد وجد بالمصادفة، ولذلك اتفق جميع البشر ومنهم العلماء والحكماء من الشعوب القديمة والحديثة على وجود خالق للخلق، وإنما شك أو شكك في ذلك أفراد من الماديين بضروب من الشبهات والجدل وحسبك من الأدلة قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الأنبياء: 22) فهو أصح النقل وموافق لأصح براهين العقل. 11- ما الروح وما أدلة وجودها النقلية والعقلية؟ (الجواب) الروح من عالم الغيب لا تُعْرَف إلا بآثارها وبأخبار الرسل عنها. وأقوى الأدلة العلمية العصرية عليها أن جسم الإنسان ومنه دماغه يفنى مراراً ثم يتركب من مواد جديدة ومع هذا تظل معلوماته ووجداناته الكثيرة التي أدركها قبل هذا الانحلال والفناء المكرر محفوظة ثابتة في نفسه، فلو كان الإدراك من وظائف الدماغ كما يزعم الماديون لزال بزواله في كل مرة ما كان انطبع فيه. ومستحضرو الأرواح ومدركوها من أفراد البشر قد أدركوا من آثارها ما لا يدركه غيرهم، وقد كثروا في هذا العصر والمصدقون لهم يزدادون في كل يوم بحيث يقل المنكرون إلى أن يضمحلوا. 12- ما الدليل على وجود الجنة والنار والثواب والعقاب والبعث الجسماني نقلاً وعقلاً؟ (الجواب) العقل لا يمكنه أن يستدل على وجود هذه الأشياء وكلها من عالم الغيب إلا من طريق كونها مما يقتضيها عدل الله وحكمه بين عباده وحكمته في خلقهم مستعدين لحياة أبدية. وأما أدلتها النقلية فهي النصوص الكثيرة في كتاب الله تعالى. 13- ما حكم من استخف واستهزأ بالعبادات كالصلاة والمصلين ولو على سبيل المزاح؟ (الجواب) الاستخفاف والاستهزاء بالعبادات القطعية كالصلاة لا يكون له سبب في الغالب إلا عدم الإيمان بها، فحكم فاعله - إن كان مسلمًا في الأصل - حكم المرتدين، ولكن بعض المزاح في ذلك لا يقصد به الاستخفاف والاستهزاء. والعبرة في الحكم المذكور قصد فاعله، وأقل ما يقال في المزاح المشتبه: إنه مكروه أو حرام. 14- المرجو بيان أسماء الكتب التي خصصت في بيان حكمة التشريع الإسلامي مما يناسب عصرنا الحاضر لا سيما في معترك الضلالات والزيوغ، وتفضلوا بالجواب (الجواب) لم أطلع على كتاب يعجبني في ذلك مما يوافق حاجة هذا العصر، ولكن في المنار وتفسيره الشيء الكثير من ذلك، ولعلنا نوفق لجمعه، أو تأليف كتاب مستقل طالما فكرنا فيه.

أسئلة أخرى من صاحب الإمضاء في بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة أخرى من صاحب الإمضاء في بيروت (من س 30 - 34) بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني رافع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليها: 1- هل تحسين الثياب والهندام والتطيب بالروائح الزكية مع التواضع وحسن الخلق ينافي الزهد والتقوى أم لا؟ 2- هل يجوز تعليم النساء دق العود والبيانو وغير ذلك من أنواع آلات الموسيقى أم لا؟ 3- هل يجوز للرجل أن يسمع الغناء وصوت العود والبيانو وغير ذلك من المرأة الأجنبية أم لا؟ 4- هل تقبل توبة التائب إذا تاب من الذنوب الصغيرة والكبيرة كالقتل والزنا واللواط وشرب الخمر والديون والسرقة والخيانة والكذب والغش والظلم وغير ذلك ولا يعذب في القبر ولا في الآخرة أم لا؟ 5- أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا لفظ التوبة، وهل تصح بكل لفظ أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. ... ... ... عبد القادر البعلبكي ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت (ج س الأول وهو 30 من باب الفتوى) تحسين الثياب والهندام والتطيب من أمور العادات المستحبة إذا لم يكن فيه محرَّم كثوب الحرير الخالص، أو مكروه كثوب الشهرة، وهو لا ينافي الزهد؛ لأنه عمل قلبي ولا التقوى لأنه لا معنى لها في هذا الباب إلا اتقاء الحرام. (ج 31) من يعتقد أن العزف بما ذكر من المعازف محرم تقليدًا لمن يقولون بذلك وهم جماهير فقهاء المذاهب المتبعة - يلزمه تحريم تعليمه للمرأة، ومن لا يعتقد تحريمه لعدم صحة الدليل عليه عنده أو لترجيحه رأي من أباحه من فقهاء الحديث والصوفية بشرطه - لا يرى بأسًا بتعليمه لامرأته أو محرمه لأجل ترويح النفس به في بيته مثلاً، وظاهر أنه يحرم تعليمه لامرأة تريد أن تكون مطربة للسكارى والفساق أو يظن ذلك فيها، ومثل ذلك تعليم المرأة الأجنبية المستلزم للخلوة بها أو رؤية ما لا يحل للرجل رؤيته منها، وكل ما هو سبب للافتتان بها. (ج 32) في الجواب عن السؤال الذي قبل هذا ما يعلم منه جوابه، ومنه أن حضور معاهد الغناء والعزف والسكر المشهورة في مثل مصر وبيروت حرام. (ج 33) التوبة واجبة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، ومتى كانت صحيحة نصوحًا كانت مرجوة القبول، ولكن حقوق العباد لا تُغفر بالتوبة وحدها، بل لابد معها أو لصحتها من ردها إلى أصحابها إن كانت أعيانًا أو إرضائهم في مثل الغيبة. فعلم من هذا أن من كان لأحد عليه مال أخذه منه بغير حق كالسرقة والخيانة والغش والدَّين الربوي وغيره؛ فإن توبته لا تصح من هذه الذنوب إلا إذا أرجع هذا المال إلى صاحبه أو لورثته من بعده، فإن تعذر ذلك بانقراضهم أو عدم العلم بهم فليتصدق بذلك المال، وإلا كان غاشًّا نفسه وخادعًا لها بدعوى التوبة، ولا يمكننا في جواب هذا السؤال أن نبين حقيقة التوبة وشروطها بالتفصيل، فعلى الصادق فيها أن يراجع هذه الأحكام في الكتب الخاصة بذلك، ومن أهمها كتاب الزواجر لابن حجر المكي الهيتمي وأول الجزء الرابع من الإحياء للغزالي ومدارج السالكين لابن القيم. (ج 34) التوبة ليست أمرًا لفظيًّا فيصح السؤال الأخير: هل تصح بكل لفظ أم لا؟ وإنما هي أعمال نفسية وبدنية من فعل وترك، والمشهور عند العلماء في تعريفها أنها مركبة من ثلاثة أشياء (1) الندم على ما كان من اقتراف الذنب في الماضي (2) تركه في الحال (3) العزم على عدم العودة إليه في المستقبل، والغزالي يقول: إنها حقيقة مركبة من علم وحال وعمل، أما الأول: فالعلم بما ورد من الوعيد على الذنب وكونه سببًا لسخط الله وعقابه، وأما الثاني فهو الحال الوجدانية التي يوجبها هذا العلم أي الخوف من سخط الله وعقابه، وأما الثالث فهو العمل الذي يوجبه هذا الحال، وهو ترك الذنب أو الذنوب إن كانت متعددة مع العزم على عدم العودة إليه، والاجتهاد في إزالة أثره من النفس بالعمل الصالح المضاد له ... إلخ.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الجمع بين آيات القرآن والأحاديث وأخبار الدول في الكتب (س35) من صاحب الإمضاء في دبي - على خليج فارس. بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة الفاضل العلامة الذابّ عن الدين طعنَ الزنادقة والملحدين، والناقد للمرويات عن سيد المرسلين، السيد محمد رشيد رضا (رضي الله عنه وأرضاه) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد لازال يخطر ببالي وتجول في فكري من جمعكم في المنار الأغر بين الآيات الكريمة والتفسير والأحاديث النبوية، وبين أخبار دول أوربا وحوادث أمريكا، فهل الجمع بين ذلك يؤدي للإهانة بالقرآن (كذا) العظيم وكلام النبي الكريم أم كيف؟ الرجاء كشف ذلك، السائل مسترشد والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المشترك ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بن حسن (ج) هذا السؤال غريب جدًّا، وتوجيهه إلي من هذا السائل الذي وصفني بما وصفني به قبل السؤال أغرب، وأقول في جوابه (أولاً) إن إهانة القرآن والأحاديث النبوية لا تقع من مؤمن بكتاب الله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، وإن وقع منه مع اعتقاده بأنه إهانة حكم بكفره، فكيف يقع ممن نصَّب نفسه للدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والذب عنهما؟ (ثانيًا) إن الجمع بين الآيات والأحاديث وأخبار الأمم مؤمنها وكافرها موجود في القرآن نفسه، وفي كتب الحديث والتفسير والتاريخ التي ألفها كبار علماء الإسلام، ولم ينكر ذلك أحد في يوم من الأيام، بل نجد بعض كبار المفسرين حتى أنصار السنة منهم كالبغوي يذكرون في تفاسيرهم من الخرافات الإسرائيلية الموضوعة والضعيفة ما هو أولى بالإنكار من ذكر أخبار الدول والأمم الصحيحة، وقد كان عملهم هذا ضارًّا، ولكن لا وجه لعده إهانة لكتاب الله (ثالثًا) إن ما نذكره نحن في المنار من أخبار دول أوربة وغيرها نختار منه الصحيح الذي فيه عبرة للمسلمين أو دفاع عنهم وعن بلادهم، أو تأييد للإسلام نفسه أو ذب عنه - كما يرى السائل وغيره في هذا الجزء - وكل ذلك مما نرجو أن يثيبنا الله عليه. *** هل المجذوب ولي أو مجنون (س36) من أحمد محمد ثابت بالبطن تبع أبي عموري إلى حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا: ألتمس من فضيلتكم البيان الشافي في عدد من أعداد مجلتكم الغراء عن أمر لُبِّس علينا: سمعنا كثيرًا من الناس يجزمون بأن المجذوب ولي بغير عمل لأنه جذب من صغره في حب الله، وقد صح حديث (رُفع القلم عن ثلاث: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ) ، وقال تعالى: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} (يونس: 62-63) . فلذا اشتبه علينا لهذه الآية الكريمة، ولهذا الحديث الشريف أمر المجذوب هل هو ولي أم لا؟ مع كونه رُفع عنه التكليف؟ وإنا نرى أن الولاية مقام كبير فلهذا لا نعترض خوفًا من الخوض، وهل عند أرباب الطرق شيء صحيح ورد فيه شيء عن النبي أم لا؟ أفتونا في ذلك مأجورين بارك الله فيكم وعليكم ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد (ج) الولي في عرف الشرع المؤمن المتقي لله تعالى، والآية التي ذكرتموها نص في ذلك، وفي اصطلاح الصوفية تفصيل لهذا الإجمال. في تعريفات السيد الجرجاني: الولي: فعيل بمعنى الفاعل، وهو مَن توالت طاعته من غير أن يتخللها عصيان، أو بمعنى المفعول وهو من يتوالى عليه إحسان الله وإفضاله، والولي هو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن، المواظب على الطاعات، المجتنب عن المعاصي، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات اهـ. وقد عرَّفوا الجذب الخاص عندهم بأنه جذب الله تعالى عبدًا إلى حضرته، وقالوا: المجذوب من ارتضاه الحق تعالى لنفسه، واصطفاه لحضرة أنسه، وطهَّره بما قدسه، فحاز من المنح والمواهب، ما فاز به بجميع المقامات والمراتب، بلا كلفة المكاسب والمتاعب اهـ، يعنون بهذا أن الأحوال والمقامات التي تُنال بسلوك طريق المعرفة بالتدريج والتنقل في المنازل قد تحصل لبعض الناس دفعة واحدة من غير طول مجاهدة للنفس بالرياضة والأوراد، وهذا أمر ممكن وواقع إلا أنه نادر، وإنني أعرف رجلاً كان ملحدًا بشبهات طرأت عليه من اشتغاله بالفلسفة فمرض مرضًا لم يشف منه إلا وقد شفي من داء الإلحاد، فصار صحيح الاعتقاد محافظًا على الصلوات، متورعًا عن الشبهات، أمارًا بالمعروف، نهاء عن المنكر، رحمه الله تعالى، وأكثر من كانوا يعدون من المجاذيب عقلاء علماء حكماء، وإنما كان من غلو بعضهم في الزهد والعبادة والقشف أن عراهم من الشذوذ ومخالفة جماهيرالناس في آدابهم ومجاملاتهم ما يعد وسوسة وخللاً أو جنونًا (والجنون فنون) وكانوا يسمونهم الموسوسين، ويعبرون عنهم بعقلاء المجانين، لما يصدر عنهم من الحكم والمواعظ المعقولة أحيانًا، ومن الشذوذ أحيانًا، وقد يصل بعضهم إلى درجة الجنون المطبق بحيث يؤذي الناس، فعند ذلك يُشد ويلقى في البيمارستان. وقد غلا بعض ناشري الخرافات من المتصوفة كالشيخ الشعراني فصار يطلق اسم المجذوب الإلهي والولي على المعتوهين في أصل خلقتهم، وعلى الدجّالين والأدعياء المتبالهين، واشتهر هذا بين الناس فصار سمت الولي وشعاره عندهم الوساخة والقذارة والهذيان وكشف العورة وفحش القول، كالذين نراهم يطوفون حول الأضرحة المعبودة وهياكل الوثنية المشهورة، وإنما هؤلاء مجاذيب الشيطان، وأولياؤه لا أولياء الرحمن. *** يوسف نجم: علمه وأين تعلم؟ (س37) من تاجر مسلم في هفانا ذكرنا في ص 800 من المجلد التاسع والعشرين أن تاجرًا مسلمًا كتب إلينا كتابًا من هفانا يذكر فيه أن رجلاً اسمه يوسف نجم يكتب مقالات متتابعة في جريدة مرآة الشرق العربية السورية التي تنشر في (نيويورك) يطعن فيها على الإسلام ومذاهبه وأئمته وأشهر رجاله المصلحين في هذا العصر، وقد سألنا هذا الكاتب: هل تعلم يوسف نجم هذا في الجامع الأزهر أو في غيره من المعاهد الإسلامية وما درجة معارفه الدينية ... إلخ، وقد وعدنا في خاتمة ذلك المجلد بأن ننشر سؤاله في باب الفتاوى ونجيب عنه، ولكننا نسينا أن نضع الكتاب في أضبارة كتب الأسئلة؛ لأننا كنا نعده من الرسائل الخاصة، فصار يشق علينا البحث عنه في أنواع الكتب الأخرى من أدبية وسياسية وشخصية وغيرها، ولما كان السؤال والمسئول عنه ليس بذي بال ولا شأن كالأسئلة العلمية والدينية رأينا أن نفي بالوعد بالقدر الذي نرى أنه يفي بالفائدة فنقول: إننا قرأنا من تلك المقالات ما علمنا به أن كاتبها عامي لم يتعلم في المدارس الدينية كالأزهر، ولا في المدارس المدنية، وإنما جل ما حشي به دماغه أمشاج من الصحف المنشرة وبعض القصص والرسائل التي يخلط فيها العلم بالجهل، والحق بالباطل، وقد حفظت قصاصات من مقالاته لا أرى الآن حاجة إلى مراجعتها. والدليل على ذلك كثرة الغلط الفاحش واللحن الفاضح في عبارته والتعارض والخلط في موضوعاته، مثال ذلك أنه يذكر الخلاف بين إمام اليمن والسيد الإدريسي حاكم عسير بما يدل على أنه لا يعرف مذهب كل منهما، ولا مركز ولا وجه الخلاف بينهما وينكر على صاحب المنار أمورًا يعزوها إليه، وفي تفسيره ومجلته ضد ما يعزوه إليه كزعمه أنه يتعصب لمذهب الأشعرية على ما اشتهر به من الدعوة إلى مذهب السلف الذي كان عليه علماء الصحابة والتابعين قبل وجود الأشعري ومذهبه، وعلى ما في تفسيره من الرد على الأشعرية وإمام نظارهم فخر الدين الرازي، ولكن هذا العامي لم يقرأ ما كتبنا ولو قرأه لما فهمه. فيوسف نجم هذا عامي جاهل بالإسلام ومذاهبه وتاريخه، وهو بغيره أجهل وهو يكتب ما تمليه عليه خواطره من غير علم ولا فهم، ويزعم أنه يدعو فيما يكتبه إلى مقاومة التعصب الديني والمذهبي والاتفاق بين أهل الأديان والمذاهب المختلفة، وهي دعاية فلسفية اجتماعية دعا إليها بعض الحكماء وكبار الكتاب على علم وبصيرة يرجى تأثيرها في المستعدين لها، وإنما حظ هذا العامي المسكين منها التقرب إلى المتعصبين من النصارى بالطعن في الإسلام وكبار علماء المسلمين وكتابهم وزعمائهم لمنافع له يرجوها من هؤلاء المتعصبين فيما يظهر. وقد كان كتب إلينا بعض الفضلاء يوجبون أن نرد عليه ولو فيما يفتريه علينا، وما كنا نجيب طلبهم لقلة الاهتمام بمثل طعنه الجهلي، والرد عليه يرفع قيمته إلى جعله مناظرًا يُرد عليه؛ ولكننا لما رأينا هذا التاجر السليم الفطرة يظن أنه على شيء من العلم كتبنا هذا، ولعلنا نجد فرصة أخرى نراجع فيها بعض قصاصات مقالاته من مرآة الغرب، وننشر للقراء نموذجًا منها للعبرة والفكاهة.

هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم

الكاتب: عجاج نويهض

_ هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم؟ محاضرة ألقاها الأستاذ عجاج نويهض في مدرسة النجاح الوطنية بالقدس، ونشرتها جريدة الجامعة العربية فيها وهي جديرة بأن يتدبرها كل مسلم، ولا سيما المغرورين بالصحف المصرية الإلحادية ومقلديها في البلاد العربية، ولذلك نشرناها برمتها مع تصحيح لفظي قليل فيها، قال نفع الله به: جدير بنا، ونحن في دور انقلاب عظيم لم يشهد له فيما مضى من تاريخنا مثيلاً، أن نقف ونتفكر قليلاً على نور العلم الصحيح، هل ما نراه اليوم من تبدل في جميع أوضاعنا الاجتماعية والدينية، هو تبدل جارٍ على سنته الطبيعية، ومشتق من الحاجة الحقيقية في نفوسنا، تحركه عوامل سليمة، وتدفع به نحو غاية معينة، بحيث نستطيع أن نعرف ونحن وسط هذا الانقلاب ما كنا عليه البارحة وما نحن عليه اليوم، وما سنصير إليه في الغد؟ أم أن هذا الانقلاب يرافقه طغيان من على جوانبه، وتتخلله عناصر سقيمة، لا هي وليدة الحاجة بالذات، ولا هي مما ترمي البصائر الصحيحة إليه؟ فإن أممًا كثيرة اجتازت مثل هذا الدور قبلنا، وبلت من أمر الانقلاب أمورًا وافرة حتى استطاعت أن تعلم بالخبرة واليقين ما يتمشى مع مصلحتها ويتلاءم مع غرضها، فحري بنا أن نأخذ العبرة من تاريخ تلك الأمم، وهذا يفرضه علينا العلم على كل حال؛ لأن نهضة تناوحت رياحها في جميع الأجواء، واتسع مجالها حتى شمل جميع مناحي الحياة، تدعونا إلى أن ننظر فيها نظرة سليمة حتى تمكن الدلالة على الخير منها، فيؤخذ ويثابر عليه، وعلى الشر فينهى عنه ويتنكب الناس طريقه. والحالات السياسية التي قامت في فلسطين وسورية والعراق والجزيرة بعد الحرب العامة، لا يجب أن تكون مانعًا يمنع توحيد المصلحة العامة في الأمور الاجتماعية والدينية والثقافية لجميع الأمة العربية على محور واحد؛ لأن القوة التي نراها اليوم تتبدد وتتلاشى في الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية، هي قوة عامة مشتركة بين جميع الأمم الإسلامية، فبفقدانها يفقد المجموع قوته، ثم تفقد الفروع قوتها لانقطاعها عن الأصول، ولانفرادها في العناصر الحيوية التي تستمد من المجموع قوتها وسبب حياتها. وهذا يعرف ويسلم به لأنه هو الأمر الواقع، فكل قوة من قوى الإسلام، إذا عراها الضعف اليوم وتسلط عليها الانحلال، تصبح قوة الإسلام من حيث مجموعها ضعيفة، ثم لابد بعد ذلك من أن ينزل الضعف بالأمة العربية نفسها، فتندم ولات ساعة مندم. ولعله من المفيد أن يشار ولو على وجه الإجمال والتقريب إلى مواطن الانفعال في هذا الانقلاب فنقول فيه: أولاً: الانقلاب في مصر، وما يكون له من الصدى والأثر في نفوس الأقوام العربية شرقي مصر وغربيها في الدرجة الأولى، وفي سائر الأمم الإسلامية القاصية والدانية في الدرجة الثانية، ووسائل الكتابة والنشر والمواصلات، كل ذلك مما يسهل بلوغ ذلك الصدى والأثر إلى أقصى حد، فيظهر في القاهرة رأي شاذ مثلاً يحمل صبغة الخروج على سنة من سنن الإسلام، أو على عقيدة من عقائده، أو على وضع من أوضاعه، أو على ثقافته العامة، أو على تاريخه - فلا يلبث ذلك الرأي أن ينتشر في الآفاق، ويقبل عليه جمهور المقلدة من النشء المتعلم، وينتحله على وجه التباهي به، ثم يأخذ بعرضه على الناس من قبيل حب الظهور، حتى إنكم تجدون فريقًا من المنتمين إلى الدين؛ ولكنهم على جمود مطلق يصطفون مع فريق المقلدين من المتعلمين ويغترفون من ذلك الرأي المطير من القاهرة، بإحدى الجرائد اليومية، أو بمجلة أسبوعية أو شهرية، أو بكتاب يحمل سمة جديدة وكلمة تدل على ما يفيد أنه قد كُتب بروح (العلم) فالمنزلة التي تتبوءها مصر اليوم في هذا الانقلاب بمطابعها وجرائدها ومجلاتها منزلة عظيمة قوية سواء كانت للشر أو للخير [1] . ثانيًا: في كل بقعة إقليمية موضعية، كفلسطين لوحدها، وسورية لوحدها، والعراق لوحده، جو انقلابي مستمدة قوته من الروح الموضعية بطبيعة الحال، ومن التأثير الذي يأتي من مصر، وهذه النزعة الموضعية إذا نظر فيها على حدة في كل بلد من البلاد المذكورة، وجد أنها تمثل حالة في الانقلاب الاجتماعي والديني والثقافي على نسق (ملوك الطوائف) ولأن حركة النشر والطباعة في هذه الأقطار الثلاثة من سورية وفلسطين والعراق، ليست متوفرة كتوفرها في مصر؛ ولأن البيئة الموضعية ليست زاخرة بالعمران الاجتماعي كما في مصر، فلذلك لا ترى عناصر التقليد عاملة بنشاط كما في مصر من الجهة المحسوسة؛ ولكنك تجد في النفوس استعدادًا ليس بالقليل للسير على منهج التقليد، ويتجلى هذا بأحاديث المجالس وتبادل الرأي والمشاورة، والأبحاث التي تسقط عليك مصادفة ومن غير قصد. ثالثًا: هناك جو عام يوحي بالجديد في كل شيء، وهذا الجو ينتشر تارة من أنقرة ومن فيها، وطورًا من كابل، وأخرى من طهران، وأخرى من الينابيع الأجنبية الواردة في أكياس البريد التي تحملها البواخر الأجنبية وتفرغها في المرافئ كل يوم أو كل اسبوع، ومن المدارس الأجنبية المشيدة في نقاط معينة في البلاد. الخوف على الإسلام والرجاء فيه: من الضروري أن يُشار إلى نوع القضية التي يُراد علاجها، وهذه القضية هي أن الإسلام بقواه الاجتماعية والدينية في مأزق حرج، وهناك قوى آخذة بدفعه من على جرف هارٍ إلى الهوة السحيقة، وهناك قوة أصلية أولية آخذة بتمكينه في الأرض من جهة، وبِرَدِّ العادية عنه من جهة أخرى، وهذه العادية كان ينظر إليها حتى زمن قريب أنها آتية من الخارج، ولكن ظهر إلى اليوم أنها نشأت في الداخل أيضًا، وأصبح الجسم عليه أن يقاوم ما به من ميكروب يسري فيه داخلاً، وأن يطرد عنه ما ينزل به من شر خارجي، وإذا أُريد تحديد الزمن الذي عُرف فيه أن للإسلام أعداء منه في الداخل، فيمكن أن يُقال إن فكرة الإسلام ظلت قوة مجموعة تعمل لحفظ ذاتها وتقوية وجودها، إلى أول الحرب العامة، أو بتعبير آخر إلى انهيار السلطنة العثمانية. ففي أقل من عشرين سنة ظهرت أفكار وآراء من المسلمين الخارجين على الإسلام، هي من التطرف وحب الهدم والانتقاض والتخريب، بحيث تمثل من هذه الروح أضعاف ما ظهر من هذا النوع من التطرف في الثورات الأوروبية التي جاوزت الحد تطرفًا وغلوًّا، كالثورة الفرنسية مثلاً، حتى أن البلشفية نفسها أخذت أخيرًا تتلمس طريق الاعتدال شيئًا فشيئًا، فالمسلم الخارج على الإسلام وتاريخه وثقافته ولغته، ترى في نزعته الغلو أكثر مما ترى في عشرة أو عشرين أو مائة من الذين أظهروا الغلو في (دور الرعب) من الثورة الإفرنسية، أو في هذا الدور البلشفي الحاضر. وإذا أُريد حصر القضية في أضيق الحدود، أمكن أن يقال (هل يستمر ضعف الإسلام الحالي أو تنقلب حاله إلى القوة الصحيحة؟) وإذا أريد حصر أسباب التأثير وعناصره في أقل الكلام، أمكن أن يكون ذلك على هذا الوجه: 1- مطبوعات مصر على اختلاف أنواعها ودرجاتها. 2- المطبوعات الأجنبية التي ترد من أوربة بطرق شتى، وهذا النوع من المطبوعات (وإن كان يرد بلغات أجنبية ويطالعه فريق قليل من أبناء هذه البلدان) تأثيره واسع المدى لإقبال النشء على الكتب الأجنبية والنظر فيها والنقل والاقتباس منها، زد على هذا أن هذا الفريق يجري على طريقة التلقيح الفكري أي أنه متى قرأ شيئًا في كتاب أجنبي أو اطلع على رأي غريب، ولا سيما متى كان لتلك المادة علاقة بالشعوب الإسلامية، أو بالإسلام، أو بالتاريخ الإسلامي، وبالانقلاب الحالي - سارع إلى نشرها في الجمهور، تحت ستار العلم والمعرفة. 3- (روتر) و (هافاس) وما أدراك ما روتر وهافاس؟ هما الوسيلتان اللتان تجبران القارئ أن يتلو بلهفة وتعطش نبأ سباق الكلاب في بلاد الإنكليز، ونبأ الفرقة التي فازت في لعبة الغولف، ونبأ خروج القطار عن الخط الحديدي في أقصى شمال أوربة، من حيث تحرمان القارئ أن يطلع على كل شيء فيه إظهار الحقيقة من ظهور حركات صالحة في الإسلام وقيام جماعات أو أفراد أو زعماء بنهضة قومية أو وطنية على وجهها الصحيح، وإذا نخلت جميع الأنباء التي يطيرها روتر وهافاس من الشرق إلى الغرب، وجدت أن الكثرة المطلقة من تلك الأنباء قلبت رأسًا على عقب، أو شُوهت أو صُرفت عن معناها الحقيقي، أو أُلبست لباسًا غير لباسها. 4- المدارس الأجنبية، وخبر هذه المدارس والقائمين بأمورها والعاضدين لها خبر طويل معلوم عند الجميع، وسيأتي شيء من الكلام على هذا. النقد العصري وتأثيره في العالم: ومن الضرورة بمكان من الوجهة العلمية الصرفة أن نُلم بحقيقة كبيرة منتشرة في أرجاء العالم بعد الحرب العامة، وهي أن النقد بجميع ضروبه ومختلف أنواعه، هو على الأكثر نقد هادم ناقض، لا نقد إنشائي بنائي، ويُراد بكلمة (نقد) جميع ما يخرج من الآراء في المطبوعات المتنوعة، وما يجاهر به جماهير الكتاب السياسيين وغير السياسيين، مما يدل على السخط والنقمة والتبرم، ومما يبعث في جو العالم روح الانتقاض وطلب التبديل والتغيير، ومما ينفث في شرايين الفكر الإنساني حب التطور على وجه السرعة والانفلات من الماضي. إن هذا النوع من النقد الهادم الناقض على هذا الوجه، قد تفشى في أكثر مناحي الحياة الاجتماعية والأدبية بعد الحرب فضلاً عن السياسة، حتى إن الأمم التي هي أعرق أمم الأرض في التقاليد الموروثة ورعاية السنن القديمة في أصول حياتها، قد هبت عليها عواصف كثيرة من هذا النوع، واجتاحت من قواها الاجتماعية ما ليس بالقليل. والسبب الأول في حصول هذه الظاهرة الكبيرة من النقد الهادم بعد الحرب العامة، هو أن الحرب الكونية قد أورثت نفسية الأمم شيئًا كثيرًا من الكرب والضعف، وخرجت نفسية الفرد من الحرب وهي على نصيب وافر من التمرد والعصيان على النظم القديمة التي كانت منذ زمن بعيد ولم تزل هي الأصول التي تتغذى منها الأمم في حياتها الاجتماعية، ولم يقصر أمر التأثر بهذه الروح الهادمة على الأمم التي اشتركت في الحرب واكتوت بجمرة مصائبها، بل شملت تلك الروح أغلب العالم على الإطلاق، ولكن على تفاوت بين أمة وأخرى. وليس من الصعب أن يلمس الإنسان روح هذا النقد الهادم في كثير مما تخرجه المطابع في الشرق والغرب، ومما ينشره كثير من المنتظمين في سلك رجال الفكر والرأي في العالم، والأمم من حيث حب تقليد ضعيفها لقويها في مناحي الحياة: تجري على سنة اجتماعية كما وصفها ابن خلدون وأسهب في الكلام عليها. وليس من الصعب أن تدرك السبب الحقيقي فيما ظهر إلى اليوم، وفيما قد يظهر في مصر من آراء التطرف الهادمة، وضروب النقد الناقضة لأصول القديم برمته، والداعية على وجه الغلو الشديد إلى قلب النظام الاجتماعي في مصر والعالم العربي المجاور، على أن الفرق الجوهري بين ما ظهر في جو مصر من هذا النوع من النقد الملبس لباس العلم على غير سداد وحكمة، وبين النقد الذي في أوربة، هو أن النقد المصري يجب أن يعتبر فيه شيئان وهما: (أولاً) أن هذا النقد ولا سيما الذي ظهر ثورة وانتقاضًا على تراث المدنية الإسلامية بوجه الوضوح والصراحة، هو نقد تقليدي في مصر، ونشاط العاملين على هذا النقد هو نشاط تقليدي للنقد الشائع في العالم عامة، فكما ظهر في البلدان التي ليست هي في المرتبة الأولى من المدنية والحضارة جماعات دعت إلى الهدم بدعوى فناء القديم ووجوب مماشاة الجديد، فكذل

ماذا يقال عن الإسلام في أوربة ـ 2

الكاتب: شكيب أرسلان

_ ماذا يقال عن الإسلام في أوربة (2) نشرنا في الجزء الأول تحت هذا العنوان ما ترجمه لنا الأمير شكيب أرسلان من كتاب (العالم الإسلامي في المستملكات الفرنسية) للضابط (جول سيكار) وننشر هنا ترجمة الفصل الثاني منه وموضوعه للتلميذ النجيب صاحب الإمضاء هذا نصها: احتكاك الإسلام بالمسيحية (1) هل تنصير المسلم ممكن؟ وهل هو مرغوب فيه؟ إن البراهين مهما تكن قوية جلية الدلالة على تفوق المسيحية تفوقًا كبيرًا فهي ستلاقي أمامها حتى عند المسلمين الذين لا يستنكفون عن المناظرة (وعددهم قليل جدًّا) هذا الجواب البسيط: (هذا مخالف لما جاء في القرآن، ومن المعلوم أن الكتاب الكريم فوق كل مجادلة لأنه كلام الله ذاته) . ومع ذلك نقول بأن تنصير المسلم باختياره ممكن خلافًا للرأي الغالب، وإن كان أصعب بكثير من تنصير الوثني. وإننا نجد لذلك أمثلة قاطعة في الماضي أثبتها التاريخ، وأنا لا أتردد في قبول النظريات التي بنى عليها رونيه بازان (Bazin) مقدمته القيمة لكتابه (حياة الأب فوكو) : إن الإنسان في جملته وعامة أمره يصعب عليه من طبيعته أن يعيش بدون دين، أولسنا نرى في كثير من الأحيان تلك العقول التي تتبجح بأنها تحررت من الاعتقاد وصارت تراه وهمًا باطلاً تسقط - طال الزمان أو قصر - في الشك المطلق أو تُحبس في نوع من التصوف الضار كالبلشفيكية أو الشيوعية الثورية؟ فإذا افترضنا أن المسلم المترقي وصل يومًا ما إلى هذا الحد وصار لا يستمد من إيمانه ما يرضي عقله وقلبه، فلماذا لا نعتقد أن تفوق المسيحية سيستغويه كما استغوى كثيرًا من الشعوب، وينتهي بالميل إليها من نفسه، فيعتنق باختياره دينًا كثير الفضل ساعد على المدنية إلى درجة عظيمة؟ ومن الوجهة الوطنية المحضة أليس الأحسن ترك المسلم يتجه في هذا الطريق من أن نراه يسقط في أحضان المذاهب السلبية أو الضارة [1] . ولا محيد لنا عن الاعتراف بأن أكثر نصارى اليوم ليسوا نصارى إلا بالاسم، هذا إذا لم يتظاهروا بالردة والكفر، فلهذا هم لا يؤثرون التأثير المطلوب لجلب إخواننا المسلمين إلى المسيحية [2] . قال أحد أعيان وهران السيد محمد بن رحال: (إن الأضرار التي يحدثها عند الأوروبي انحلال العائلة، وانحطاط الأخلاق، وشرب الخمور، ومزاولة الميسر، والانهماك في الملذات، والفوضى، ومحبة المال محبة لا حد لها، والإباحية، إلى أضرار أخرى - تجعلنا نتساءل: أي الفريقين أشد مرضًا؟ أو أيهما المريض؟ ولماذا لا يصير الإسلام ملجأ لأوروبا وطريقًا لنجاتها؟ وهل يمكن للأوروبي أن يتحمل كالمسلم وهو ليس له ذلك السند القوي الذي لا يؤثر فيه شيء ألا وهو (الإيمان) ؟ [3] . هذا وإن العقبة الكئود في سبيل تنصير المسلم هي العداوة والاحتقار الذي يلاقيه المتنصر في وطنه فالمتنصرون المغمورون في أوساطهم يظلون عرضة للتعصب المحيط بهم، وهم بلا شك يكونون مرغمين لسلامة أنفسهم على أن ينزحوا عن بلادهم، هذا إذا لم يصل الضغط عليهم إلى حد إرجاعهم عن اعتقادهم الجديد. على كل حال يجب أن نترك لمبشرينا حرية تامة في أعمالهم، على أنها يجب أن تكون مجردة عن كل ضغط وإرهاق؛ لأن ذلك ينافي روح المسيحية، فإذن يجب ألا يجد المبشرون في أعمالهم سواء الخيرية أو التبشيرية عقبات من حقد بعض موظفي الإدارة الملحدين أو المعادين للكنيسة فقط، الذين يغتنمون مثل هذه الفرصة لإظهار عداوتهم للدين، وكذلك يجب ألا تجد الأعمال التبشيرية قيدًا من حذر بعض الموظفين الجبناء أو القليلي الدراية الذين في خشيتهم انفجار التعصب الإسلامي قد يستنتجون من هذه الحركة الاختيارية الروحية المحضة نتائج غير مرضية لسلطتنا. فالنتيجة التي يمكن أن تحصل هي ضد ما يعتقدون، نعم إن من قلة المعرفة عدم الاعتراف بأن المسلم (إلا ما قل) يجد حتمًا في تعاليم علمائه حاجزًا لا حد له في سبيل التقارب التام بين القلوب. وإذا تنصر الأهلي [4] كان تنصيره سببًا في جعله من أنصارنا نهائيًّا، هذا بقطع النظر عن الواجب الذي يحتمه عليه وجدانه من احترام النظام والسلطة الموجودة كما تقتضيه روح الإنجيل [5] . ولتعضيد هذه النظرية نقتبس من بحث كان نُشر في مجلة أفريقية الإفرنسية (عدد 10 أكتوبر سنة 1926) باسم كافيه (Cavê) قوله: (لابد من بيان أن تنصير أبناء العرب في تونس وكذا في الجزائر ودخولهم في الجيش الفرنسي، واتباع أبنائهم أيضًا هذه الطريقة يفتح طريقًا سهلاً للتفرنج، ولو لم يتجنسوا بالجنسية الفرنسية، فكأننا نخلق نوعًا من المالطيين لا همَّ لهم إلا أن يذوبوا فينا، ويجب أن نعترف بأن الاندماج الديني على الطريقة التي اتبعت فيه ينتج عند الأهالي من كل وجهة نتائج تفوق الاندماج المدني الذي كان أُعلن (أي في مجلس النواب) ولكن لم ينفذ بمرسوم للتجنيس، ومن جهة أخرى نرى أن النزاع الديني يمكن أن يستحيل إلى عداء وسوء تفاهم حتى في أوروبا يضمحل، والنتيجة الأخيرة أن تبديل الاعتقاد يتبعه تبديل العقلية كلها) . وما أصدق هذا القول أيضًا: (لو أن مجهودات رجال مثل الكردينال لفيجري لم تعترض لكنا نجد في شمال أفريقية بضعة ملايين من المدغمين فينا بدلاً مما هو الواقع إلى اليوم من وجود بعض آلاف من الفرنسيين في وسط عشرة ملايين من السكان الأهليين (أي المسلمين) وأخص بهذا الإدغام والاندماج البربر سكان بلاد الأصليين أبناء القديس أغستينوس والقديس بولي من غير أن يشعروا، فكان يمكنهم اليوم أن يتكاتفوا معنا تحت العلم الفرنسوي ضد أعمال التفرقة التي يسعى لها منذ بضع سنين بعض دعاة وطنية مضطربة ذات لهجة معادية للأجنبي) . فحينئذ أصرح بدون تردد أنه يجب على رجالنا السياسيين، وكذا على الرجال المكلفين بحكم الأهالي (أي المسلمين) أن يعضدوا حركة التبشير بطريق مباشر أو غير مباشر على أن تكون مجردة عن كل ضغط، نعم يجب تعضيدها عوضًا عن خنقها، ويجب أن ينظروا في ذلك بعين المصلحة الوطنية وانتشار السلطة الفرنسوية، فهاك نتيجة تستحق البحث بكل إمعان من طرف الذين يقبضون على زمام حكمنا والذين لا غاية لهم إلا عظمة فرنسا. (2) موقفنا في المسألة السياسية الدينية إنني أريد بهذا العنوان بيان الموقف الذي أقترحه في هذا الطريق الوعر بما لدي من التجارب الشخصية، محررًا فكري من كل حكم سابق، ومن كل احترام إنساني، ومن كل ما تملق نحو الأفكار التي كانت معتبرة منذ زمان قليل، ولا يهمني إلا شيء واحد هو المصلحة الفرنسوية: إذا احترمت الدين والعادات والتقاليد، وتسامحت في بعض الأفكار الباطلة عند المسلم، وإذا لم تتكلم عن النبي إلا باحترام تكون قد أحسنت الأدب، وتكون قد أحسنت السياسة. ومن آيات التسامح التي يمكن أن تظهرها لإخواننا المسلمين ما يجب علينا اتقاؤه من جرح عواطفهم، مثال ذلك أنك إذا كنت معهم في شهر رمضان فليس من الذوق أن تدخن وخصوصًا إذا كنت في مكان مغلق؛ لأنه يكفي استنشاق رائحة الدخان لإبطال الصيام [6] ، وكذلك يجب ألا تأكل لحم الخنزير بمحضرهم في أي وقت كان، وهم يعترفون لك بجميلك هذا؛ ولكن لا تبالغ. ليس من الأوفق أن تشجع الإسلام، ولا أن تحاربه، فتشجيعك إياه علامة ضعف يؤسف لها كثيرًا، ومحاربتك له قد توقظ التعصب، وفي هذا المعنى قال كاتب فأجاد في قوله: (إن الإسلام في أصله قوة معاكسة لرغائبنا وأمانينا وميولنا، وتلك القوة يمكن أن تخمد وتسكن، ولكن لا يمكن أن تقهر أبدًا، ومن الواضح أن من مصلحتنا أن نُعْمِل جهدنا في عدم انتشاره عند الشعوب التي تحت سلطتنا، وهذه السياسة التي أبانت التجربة حكمتها لم تكن متبعة دائمًا) . وقال الجنرال بريمون (Bremond) المعروف باختباره للعالم الإسلامي: مما لا شك فيه ولا ريب أن الإسلام لا يمكن أن يكون مواليًا لمن هو غير مسلم، إذن فليس معقولاً أن نجعل أنفسنا في مقام حماته، فإذا احترمناه وإذا أعطيناه جميع الحريات الممكنة كان ذلك من جنس السياسة؛ ولكن من الخطأ الكبير أن ننشر الإسلام بين قبائل البربر، وأن نجبرهم على اللغة العربية والشريعة الإسلامية، وأن تكون معاملتنا للمسلمين أحسن من معاملتنا لغيرهم: إن للعربية مزاياها وجمالها؛ ولكنها كثيرة التعقيد فلا تصلح أن تكون أداة بسيطة واضحة سهلة التعليم للحياة العصرية [7] . إنه لمن خطل الرأي أن تكون نية بعض الكتاب والرجال السياسيين الحسنة قد فاتت خبرتهم، ذلك بأنهم كثيرًا ما يُظهرون أمام المسلمين أنهم يعتقدون تفوق الإسلام، فالمتعصبون من المسلمين أو أولئك الذين لا يزالون يعتقدون علوية دينهم منهم - وأعني الأغلبية الساحقة - يغتنمون ما في مدحنا من مبالغة ويظنونه احترامًا منا للحقيقة دُفعنا إليه بإرادة الله الذي يدفع الإنسان لإظهار خضوعه بارزًا ماثلاً أمام ما يعتقدون هم أنه الدين الحقيقي. إن خيلاء المسلمين الذي لا حد له ينبغي ألا يشجع على أن عقليتهم قابلة للتطور، وإذا كان المسلمون - حتى أحرار الفكر منهم أو من يزعمون ذلك - لا يقبلون أن يمس اعتقادهم المحترم ككل اعتقاد مخلص؛ فإن المسلمين المتنورين [8] يزيد عددهم يومًا فيومًا، والتعصب يضحمل أمام مصلحة حسن فهمها، وبعض الآيات القرآنية التي تعارض روح العصر معارضة عنيفة أو تُعارض العقل فقط [9] تسقط بسهولة وسيزيد سقوطها كما دلت على ذلك السوابق. ويجب أن نعترف بأن روح التسامح مع الديانات المخالفة كثيرًا ما تقع من المسلم أو يتظاهر بها على الأقل. فإذا كان احترام عقلية محكومينا الخاصة هو محور سياستنا، فذلك لا يقتضي المبالغة فيها أكثر مما يجب في الخضوع إلى المبدأ لأننا إذا فعلنا سنؤخر إلى ما لا نهاية كل إصلاح، وكل تقدم في كل مرفق من مرافق الحياة خوفًا من جرح عواطف المسلمين، وذلك لأن عندهم أوهامًا لا تتفق والتقدم. إياك وأن تخوض في أمر الدين مع المسلمين، فالرجل ذو التربية الحسنة سيترك لك الكلام ويتحاشى جرح عاطفتك، وفي كثير من الأحيان يكتفي بابتسامة ويخرج بالحديث عن موضوعه، وأما إذا كان الكلام مع رجل بسيط أو متعصب فستتعرض لجواب قاسٍ منه. إنك إذا تكلمت عن الإسلام لتمدحه أو لتذمه فإنك في الحالة الأولى تستفيد الظنة والشك في إخلاصك، وفي الحالة الثانية تلقي في القلوب حقدًا كبيرًا، وكذلك مدح المادية أو الإلحاد أو ذم الديانة المسيحية ضلال محض، وكثيرًا ما يقف بعض الأشخاص هذا الموقف، فهم يريدون إظهار اختيارهم للإسلام؛ ولكن في الحقيقة هم إنما يستسلمون لدافع فيهم إلى إظهار عدائهم للدين المسيحي أولأي حركة لرجال الكنيسة. المسلم تشمئز نفسه من عدم الدين، وإذا كان من المتنورين؛ فإنه يرى أن محاربة الأوربي لعقيدته وهدمه بهذا العمل للركن الأصيل في مدنيته الخاصة غير معقول. وعند كلام فيو Veuillot عن أولئك السياسيين الذين يجتهدون في إخفاء البقية الباقية لنا من الدين بحجة عدم إيقاظ التعصب الإسلامي قد اتهمهم بأنهم يرتكبون أعظم خطيئة وسوس لهم بها الشيطان، فلا شيء يكرهه التعصب الإسلامي كشعب بلا اعتقاد ولا إله [10] وبهذه المناسبة نقول بأنه لا بأس بتبديد بعض الأوهام وبعض الجهالات المتمكنة من الأهالي (أي المسلمين) فمثلاً نجد كثيرًا منهم لا يزالون يعتقدون أنه ليس من عقائد المسيحية خلود الروح وإثبات الحياة الأخرى، ويتخيلون أيضًا بأن الصور والتماثيل التي تزين الكنائس يعبدها المسيحيون عبادة وثن

أنباء العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء العالم الإسلامي العالم الإسلامي تتنازعه في هذا العصر الأحداث المتعارضة، وتتناوبه فيه الأطوار المختلفة، وما دخل العام الماضي إلا وعوامل الخطر فيه أقوى من عوامل الظفر، ودواعي الغي والفساد أكثر من دواعي الصلاح والرشاد؛ ولكنه كما قال الشاعر: كلما ذاق كأس يأس مرير ... جاء كأس من الرجا معسول فقد حدث قبل انسلاخه ما يقوي أسباب الرجاء، ويبشر بضروب من الفلاح، أعظمها في الإصلاح الديني تولية الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي مشيخة الأزهر ورئاسة المعاهد الدينية، وقانونه الجديد الذي نوهنا به في فاتحة هذا المجلد، وأفضنا في بيان فوائده في أجزاء من المجلد 29. اتفاق إيران مع حكومتي العراق والحجاز ونجد: وأعظمها في الإصلاح السياسي اعتراف حكومة إيران بحكومة جارتها العراق، بعدما كان من خلاف وشقاق، ثم إرسال جلالة الشاه مندوبًا سياسيًّا إلى جلالة ملك الحجاز ونجد لعقد ميثاق المودة والاتفاق بين حكومتيهما، بعدما كان من خصام مذهبي وسياسي بينهما، وقد تم ذلك ولله الحمد، وهذا يدلنا على أن جلالة شاه إيران أبعد رأيًا وأكبر عقلاً من جاره في الأفغان، الملك المهزوم أمان الله خان، وأكبر من هذا دليلاً تمكنه من كبح جماح الذين ثاروا على حكومته من القبائل والعصائب، والذين عارضوها من حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب، ولعمري إن انتصار كل من هؤلاء الجامدين وخصومهم الجاحدين، مما يفضي إلى الاضطراب والفوضى، والخطر على الوحدة السياسية والاستقلال من ناحيتي الدين والدنيا، كما أن اندحار علماء الدين وسقوط مكانتهم الدينية، مدعاة لخطر الإلحاد وانفصام عروة الرابطة الملية، فعسى أن يلتزم كل من الرؤساء السياسيين والعلماء المجتهدين موقف الاعتدال، فهو الذي يقي البلاد خطر الاختلال والانحلال، ولنا فيما بدا من حكمة الشاه أوسع الآمال، إلا تقليده في البرنيطة لمصطفى كمال! على أنه متهم بغيرها من تلك البدع والأعمال، فبلاده تتمخض بالثورة الدينية والسياسية، ويتربص به الدوائر أشياع أسرة الملك القاجارية. بلاد نجد وغلاة البدو: وقد حدث في العام المنسلخ نزغة ثورة بدوية عصبية في نجد، كانت قد طال على تمخض البلاد بها العهد، وكان آخر ما عرفه العالم المدني من طغيان زعمائها غزوهم للكويت وأطراف العراق، بدون إذن ولا رضا من ملك البلاد، لجريانهم على ما اعتاده جفاة الأعراب أمثالهم من الغزو؛ لأنه أقرب السبل عندهم للكسب، وقد يكون أحيانًا للتلذذ بالقتل والسلب. ولكن الإمام عبد العزيز المجدد قد ساسهم سياسة إسلامية حضرية أبطل بها البداوة وتقاليدها، ووضع تحت قدميه ما وضعه النبي صلى الله عليه وسلم تحت قدميه من دماء الجاهلية وثاراتها، وجعل الحكم لشرع الله في كل تنازع وتشاجر، عملاً بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) فحسنت الأحوال، وراجت الأعمال بعد أن عمَّ الأمان، وبطل البغي والعدوان، على غلو في الدين بقي عند كثير من (الإخوان) وكانوا به شبهة أو حجة لمن يطعنون في الوهابية، ويذهبون إلى أنهم فرقة غير الحنابلة السلفية. وقد ظهر من شذوذ هؤلاء الغلاة ما ظهر من القسوة في غزوة الطائف أخذًا بثأر من قتلهم الشريف عبد الله الحجازي منهم في الخرمة لما هجم عليهم في المسجد، فقد جروا في ذلك على عرف البدو في غزوهم لا على عرف الوهابيين الذين يجرون في قتالهم على أحكام الشرع كما شهد لهم بعض أهل البصيرة ممن قاتلهم في الحملة المصرية التي ساقها إليهم محمد علي باشا بأمر الدولة التركية، ونقله لنا المؤرخ الصادق الجبرتي. ولقد ساء عملُهم هذا الإمام عبد العزيز، وإن قابله كعادته بالحلم والمطاولة في تربيتهم بأحكام الشرع؛ ولكنهم زادوا إسرافًا وغلوًّا بتعرضهم لما لا يعنيهم من إدارة الحجاز الداخلية، وتحريمهم لما أحل الله تعالى من المنافع الآلية والصناعية، بل لما يعد بعضه أو كله من فروض الكفاية في هذا العصر، كآلات المواصلات والمخاطبات التي تشتد الحاجة إليها في أوقات الحرب، وغير ذلك مما هو من خصائص ولي الأمر، وهذا التحريم شرع لم يأذن به الله، وكذب وافتراء على الله، فهو كفر وشرك بنص القرآن، أشد مما يرمون به من لا يعرفون من الناس بحق أو بغير حق؛ لأن الشرك بالتشريع ضرره متعد يعم كثيرًا من الناس، والشرك بدعاء غير الله مثلاً ضرره قاصر على فاعله. ثم افتأت بعضهم على الإمام في الإغارات المعروفة على العراق والكويت، فانتهى الحلم الواسع بالإمام عبد العزيز أن جمع في العام الماضي جميع من في بلاد نجد من أهل الحِل والعقد من العلماء والقواد والزعماء وجماهير الوجهاء وألَّف منهم مؤتمر الرياض المشهور، وعرض عليه تنصله من حكم البلاد وأن يختاروا لها غيره.. فكبر ذلك عليهم وجددوا مبايعته، وكاشفوه بما لا يرضيهم من حكومته، وكونه لا يبيح لهم نزع اليد من طاعته، كمسألة الحدود بين نجد والعراق، وما أحدثته حكومة العراق هنالك من المخافر العسكرية الضارة بهم، وهو أهم ما يهمهم، وغير ذلك مما فصَّلناه في المجلد الماضي. ولكن كل ذلك لم يُرجع أولئك الغلاة عن غيهم وجهلهم، ومنهم الفرقة المشهورة بلقب (الغطغط) الذين كانوا يؤذون بعض الحجاج وينبزونهم بلقب المشرك، وروي أنهم كانوا يضربون الذين يشربون الدخان، وهذا افتئات على الإمام ولي الأمر، زائد على المشروع من إنكار المنكر، فلكل مسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بما يعلمه، ولكن العقاب خاص بالسلطان ونوابه بغير خلاف، وبهذا كانوا سبب تجديد الطعن في الوهابية بعد أن ظهر لحجاج العالم فضل الإمام ابن سعود في العدل والأمن العام، وقد دعوا إلى تحكيم علماء الشرع فيما ينكرونه فلم يقبلوا، فاضطر الإمام إلى تأديبهم بالسيف ففعل وكان موفقًا منصورًا. كتب إليَّ أيَّده الله تعالى في 22 شوال من العام الماضي كتابًا خاصًّا فيما وقع له معهم، قال فيه ما خلاصته (إن بعض الإخوان من أهل الغطغط والدويش وقسم من الغلاة يظهر منهم منذ ثلاث سنين تعصبات وأمور مخالفة للشرع، وقد كانوا مغرورين ومعهم بعض المهاجرين من البادية، ويرون أن أمرهم حق لأجل محبتهم للدين، ولكن الحمد لله انكشف الغطاء عن كثير من المسلمين، ورأوا أن الجماعة بين فرقتين: واحدة تعبد على جهل وواحد [1] له بعض المقاصد السيئة مثل طمع وغيره ويجعل الدين له حجة (وذكر هنا جمع الناس في الرياض، وما كان من تأثيره وأنه ظهر لأغلب الناس حال هؤلاء الغلاة وأنهم ليسوا على حق) ثم قال: ثم بعد ذلك أكثرنا عليهم النصائح والدعوة لأجل براءة الذمة عند الله، ثم النصح للرعية ولكن لم يفد ذلك، فاجتمعوا في هذه الأيام وأشاعوا عند أهل نجد أنهم غزاة، وأن قصدهم القصور، وأهل القصور التي في حدود العراق، يريدون بذلك خديعة أهل الحق، وبعد ذلك تبين أمرهم أنه فاسد، وأخذوا بعض الرعايا، ولما تحقق ذلك وثب المسلمون وثبة رجل واحد جزعًا من أمرهم، واجتمعوا لوضع حد حازم لهذه الأمور. فلما تكامل الجمع دعوناهم لتحكيم الشريعة في جميع أمرهم فأبوا، فأرسلنا إليهم الشيخ عبد الله العنقري والشيخ أبو حبيب فدعوهم فلم يقبلوا، فلما رأينا ما بهم من الفساد وعدم الامتثال للشريعة والولاية استعنا بالله عليهم وأمرنا المسلمين بالزحف عليهم، والحمد لله أخذهم الله وقتل منهم جملة، والمسلمون من فضل الله لم يصابوا إلا بخسارة قليلة جدًّا لا تعد بالأصابع، وبعد ذلك رجعوا وطلبوا العفو، وتبين للقوم الذين كانوا معهم أنهم كانوا ضالين الطريق، وجميع من كان معهم وسلموا من القتل عفونا عنهم إلا الدويش وابن حميد ما رضينا إلا بتحكيم الشريعة فيهم؛ لأنهم أساس الفساد وقد قبلوا الأمرين (أحدهما) ترك الناس لهم (والثاني) أنه لا ملجأ لهم، والدويش جريح الله أعلم يموت أو يحيا. والحقيقة أننا ما كنا نحب أن يصير بين المسلمين قتل رجل واحد؛ ولكني امتثالاً لأمر الله في قتال الباغين والسعي وراء راحة المسلمين أُجبرت على ذلك، والعاقبة من فضل الله حميدة للإسلام والمسلمين) اهـ. هذا ما تفضل جلالة ملك الحجاز ونجد بكتابته إلينا باختصار قليل؛ وإنما نشرناه على خلاف عادتنا في المكتوبات الخاصة لما فيه من التصريح الرسمي بأن في الإخوان النجديين غلاة في الدين وقساة تغلب عليهم طباع البداوة وقساوتها، وأن الإمام كان يريد أن يربيهم بالعلم والشرع؛ لأن سبب غلوهم وقساوتهم الجهل إلا بعض رؤسائهم المغروين الذين زيَّن لهم الشيطان استغلالهم بسوء بقصد، وتصريحه بأنهم منذ ثلاث سنين قد ظهر من غلوهم ما لم يكن له مظهر من قبل، يعني أنهم بعد استيلائه على الحجاز وما تجدد لحكومته من العلاقات مع البلاد المجاورة قد حدث من الأسباب ما ظهر به ما كان خفيًّا من استعدادهم وجهلهم. رأينا أن نثبت هذه التصريحات الرسمية ليعلم من لم يكن يعلم أن كل ما كان ينسب من الغلو والقسوة إلى النجديين بعنوان الوهابين لم يكن إلا من فئة قليلة ينكر عليها غلوها إمامهم وملكهم، وينكره علماؤهم وزعماؤهم، بل ينكره كذلك دهماؤهم؛ ولكن براءة الدهماء منه وإنكارهم له وهم السواد الأعظم كان مجهولاً حتى عند الباحثين الذين يعرفون أن الذنب فيما ينتقد عليهم، لا يمس أهل العلم والمعرفة منهم. سمعت السيد محمد بن عقيل بن يحيى المشهور وهو من أشد خصوم الوهابية لما له من نزعة التشيع ودعايته يقول مرارًا أنه سمع أستاذه السيد أبا بكر بن شهاب يقول ما معناه أن من يُحَدِّث أهل العلم والمعرفة من الوهابيين يجزم بأنهم ليسوا فرقة مستقلة دون أهل السنة؛ ولكن عامتهم كغلاة الخوارج بلا فرق. هذا وإن الدويش قد سلم من جرحه وحدث بعد عودة الملك من نجد إلى الحجاز لحضور موسم الحج أحداث جديدة منها انتقاض بعض قبائل العجمان، وقد نكَّل بهم أمير الحسا ابن جلوي الشهير تنكيلاً ما كان ليقع لو كان جلالة الملك في نجد لسعة حلمه وتحاميه سفك الدم، وإرهاف الحد إلى هذا الحد، والمرجو أن ينهي جلالته في رحلة هذا الصيف إلى نجد جميع مشاكلها الداخلية والخارجية والله الموفق [2] . حالة الأفغان، وهزيمة أمان الله خان: ما برحت أنباء القتال بين أمان الله خان والخارجين عليه الذين قرروا ثل عرشه، متناقضة متعارضة تعبث بها أهواء الناقلين لها إلى أن انكشف الغبار عن هذا الملك المغرور، الذي غرَّته الأماني وغرَّه بالله الغَرور، موليًا دبره ساحات النزال، مؤثرًا للهزيمة على القتال فارًّا بزوجه وولده، ومن كل ثم من أسرتها وأسرته، قاصدين الحج إلى أوربة للتمتع بما رأوا فيها من الحرية، متكلين على القبائل المناوئة لحبيب الله بجه سقا (أي رئيس السقائين) الذي انتزع منه ملكه، ولا سيما التي يقودها نادر خان القائد الأفغاني الشهير وأخوه وأعوانهما، راجيًا أن يتم لهم الفلج فيعيدوه إلى عرش بلاده عزيزًا كريمًا، بعد أن خرج منها مذءومًا مدحورًا. ولقد حزن عليه دعاة الإلحاد وأعداء السلام وحجتهم حب الحضارة والتجديد، وإنقاذ الشعب الأفغاني الجاهل من الهمجية القديمة، وهل يمكن ذلك التجديد عند هؤلاء السفهاء، إلا بالبرانيط وسائر أنواع اللباس الإفرنجي، وإلقاء العمائم وحلق اللحى

الرحيق المختوم

الكاتب: عبد الحميد الرافعي

_ الرحيق المختوم وهي خاتمة المهرجان الذهبي للرافعي في شكره للمحتفلين به والذكرى الخالدة لقومه. خذ جبهة البدر عند التم قرطاسًا واجعل سواد عيون العين أنفاسا ومن أشعة نور الشمس خذ قلمًا ... واقتبس لنفسك من حسان أنفاسا وانظم نجوم السما واشمخ بشعرك عن ... جواهر الأرض إن درًّا وإن ماسا عساك تبلغ ما يرضي العلى بثنا ... أكارم بثناهم نرفع الراسا أقطاب مجد أقاموا للعلى فلكًا ... تسبيك أنجمه سرجًا وحراسا وأولت الأدب العالي فضائلهم ... روحًا أعادته نضر الغصن مياسا تواضعوا لك بالتكريم عن كثب ... شأن الكريم بمرجو الندى واسى ومن نأى جاد عن بعد بعاطفة ... تُنسي المُعنَّى من الأيام ما قاسى واشكر (حكومة) لبنان فقد جمعت ... أسدًا حوت شرف الأخلاق أخياسا [*] رئيسها الندب قد أولاك عارفة ... أضحت حيال سناها الشهب أخناسا وألبس الوطن الغالي بغيرته ... عزًّا على الفلك الدوَّار دواسا وأنت إن لم تكن أهلاً لفضلهم ... فالغيث يسقي الربى خُضرًا وأيباسا هم كرَّموا اللغة الفصحى لأنهم ... أبناء بجدتها ذوقًا وإحساسا ومن لنصرك يا أم اللغات سوى ... أبنائك الغر أجوادًا وأحماسا أنت العروس التي تهنأ بعزتها ... منا النفوس وتقضي العمر أعراسا والله أغناك باللفظ الرشيق وبالـ ـمعنى الرقيق فكنت الراح والكاسا وقد أمدك من نور الجلالة ما ... تود منه لغات الكون أقباسا والشعر لولاك لم تعشق لطافته ... ولا غدا في خلال النفس جواسا فرب نظم تفوق الراح رقته ... به سكرنا وعفنا الكأس والطاسا ورب بيت نديّ الروح ذي عظة سلّى الحزين، ومكلوم الجشى آسى ورب قول تخال النور يسطع من ... خلاله كان للألباب مقباسا يُزَهى اليراع إذا ما خط حكمته ... وتستقل له الأفلاك أطراسا سحر البيان تجلى فيه فانقلبت ... بسِرِّه وحشة الأقوام إيناسا حمى القبيلة من خوف ومن حذر ... فليس تحتاج أسيافًا وأتراسا هذا هو الشعر شعر الروح إن صلحت ... أبدت صلاحًا يصد الشر والباسا وإن تسؤ صيّرتْ ماء الصفا لهبًا ... والسلم حربًا ودور العز أرماسا هو القريض على أفق الجمال سما ... وفضله جاوز الجوزاء وأجناسا شادت به العرب الأجواد بيت على ... سامي العلى ورسا في المجد أساسا إذ كان مفخرة الأجيال عندهُم ... وبهجة النفس إصباحًا وإغلاسا فكم معلقة منه لها سجدوا عرفان فضل به عطف النهى ماسا وكم رقائق أجرى العرب سلسلها ... يُنبتن في الجلمد الريحان والآسا كانوا ملوك الفلا يحمى الذمار منهم ... ويرتجى العون فيما سر أو ماسا تسنموا من متون الخيل ضامرة ... عرشًا على كل عرش في الورى داسا وما عليهم وهم أهل الشجاعة إن ... تخيروا من أسود الغاب جلاسا سر الفراسة فيهم زادهم شرفًا ... عنه التوت أعين الحساد أنكاسا وبالفصاحة زان الله ألسنهم ... سادوا بها الخلق أجناسًا فأجناسا والقول كالفعل منهم كان ممتلئًا ... صراحة لم تدع في الصدر وسواسا وعزمهم إن دعا داعي الهياج بهم ... يذلل الأسد مهما كن أشراسا وهم رجال القرى والغوث من قدم ... ولن يزالوا مجاويدًا وأشواسا لهفي على زمن عمت سيادتهم ... به وكانوا لأهل الأرض سواسا ليت الليالي التي مذ ثار ثائرها ... أَردَتْ (كُليبًا) وغالت بعدُ (جساسا) أبقت مشاهير أهل الجود من جعلت ... لها المفاخر أقطاعًا وأحباسا وأخلفت كالموالي من بني مضر ... وآل قحطان أقيالاً وأكياسا ممن أفادوا بني الدنيا هدى وندى ... ومن أقاموا بها للعدل قطاسا توارثوا المجد عن أسلافهم وسروا ... مسراهم فزاكوا زهرًا وأغراسا وصاحبوا العلم نضرًا والتقى أرجًا ... والحلم أزهر والأخلاق أقداسا أولئك القوم لولا ذكرهم أبدًا ... يبني قصور الرجا أصبحن أدراسا يا ابن العروبة جدد مجدها وأقم ... له العماد بعزم يطرد الياسا اسلك إليه سبيل العلم مجتهدًا ... طول الحياة تنل جاهًا وأرغاسا وخل نهج الكسالى إن تكن فطنًا ... فالنصل تكسبه الأصداء أدناسا أهل البطالة أوهى الذل أنفسهم ... ولم يدع في ديار العز أحلاسا والجهل إن ساد في الأقوام بدَّلهم ... من السعود - وقاك الله - أتعاسا ناج الحقيقة واهجر كل مختبل ... يدق للوهم أبواقًا وأجراسا ولا تمد لغير المستطاع يدًا ... فضارب الصلد يوهي الزند والفاسا وإن ضربت بسهم في سبيل عُلى ... فكن معدًّا لها بالحزم أقواسا كم ذلل الحزم صعبًا كان أمنع من ... صيد أقر عليه الليث أضراسا أخو الحصافة يلقى الهول مبتسمًا ... كأنما شد للأفراح أفراسا وعادم الرأي لا ينفك مبتئسًا ... حيران يضرب للأسداس أخماسا واذكر مآثر أسلاف حضارتهم ... كانت لدى ظلمة التاريخ نبراسا في كل علم وفن طال باعهمُ ... حتى جلوا عن طريق النجح أغلاسا وألبسوا الوطن الغالي بسؤددهم ... عزًّا على الفلك الدوَّار دواسا سادوا وشادوا صروح المجد واكتملوا ... عدلاً وفضلاً وكانوا خير من ساسا وأصبحوا قدوة للخلق نافعة ... والناس خيرهم من ينفع الناس فاعمل لإحياء ما شاد الجدود ولا ... تقم على الجهل إما كنت حساسا عسى مع العالم الراقي يكون لنا ... حظ يعيد حواشي العيش أملاسا واصرف جهودك طول العمر منتحيًا مجد العروبة أثرى الحظ أو خاسا ولا تعش يائسًا في الدهر من أمل ... قد يبسم الدهر مهما كان عباسا وليس ينساك من نجاك من زمن ... قسا وشد على الأعناق أمراسا وما رميت ولكن الإله رمى ... وليس يخطئ سهم الله برجاسا ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد الرافعي

مشروع الإتفاق الجديد بين إنكلترة ومصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مشروع الاتفاق الجديد بين إنكلترة ومصر ذهب صاحب الدولة محمد باشا محمود سليمان إلى إنكلترة مصطافًا، ولم يكن يخطر بباله أن الفرصة سانحة لعقد اتفاق جديد بين إنكلترة ومصر؛ ولكن فاجأه فيها أن وزارة العمال الجديدة أكرهت المندوب السامي (لورد لويد) على الاستقالة من منصبه كراهة؛ وإنكارًا لما كان من استبداده بمصر وافتئاته عليها، ثم فاجأه أن فتح له وزير الخارجية البريطانية باب المفاوضة في المسألة المصرية على مصراعيه فولجه ووقع ما توقعناه في مقالنا الماضي، فانتهت هذه المفاوضة بعرض وزير الخارجية الاقتراحات التالية لأجل أن تُعْرَض على الأمة المصرية في برلمان قانوني، فإن قبلها عرضتها الحكومة البريطانية على برلمانها وأوصته بقبولها، وهذا نص ترجمتها على ضعف فيها: اقتراحات وزير خارجية إنكلترة لتسوية العلاقات الإنجليزية المصرية 1- ينتهي احتلال مصر عسكريًّا بجيوش ملك بريطانيا العظمى. 2- تُعقد محالفة بين الدولتين المتعاقدتين توطيدًا لصداقتهما، والتفاهم الودي وحُسن العلاقات بينهما. 3- أن مصر رغبة منها في أن تصبح عضوًا بجمعية الأمم ستقدم طلبًا للانضمام إلى تلك الجمعية طبقًا للشروط التي نص عليها في المادة الأولى من عهد الجمعية، وتتعهد حكومة جلالته البريطانية بتأييد هذا الطلب. 4- إذا قام أي نزاع مع دولة ثالثة نشأت عنه حالة تنذر بخطر قطع العلاقات مع تلك الدولة؛ فإن الفريقين المتعاقدين يعملان معًا بقصد تسوية ذلك النزاع بالوسائل السلمية طبقًا لنصوص عهد جمعية الأمم ونصوص أي تعهد دولي يمكن تطبيقه على تلك الحالة. 5- يتعهد كل من الفريقين المتعاقدين أن لا يقف في البلاد الأجنبية موقفًا لا يتفق مع هذه المحالفة، أو ينشئ صعابًا للفريق الآخر، وعملاً بهذا التعهد لا يقاوم أحدهما سياسة الآخر في البلاد الأجنبية، ولا يعقد مع دولة ثالثة أي اتفاق سياسي قد يكون مجحفًا بمصالح الآخر. 6- تعترف حكومة جلالته البريطانية بأن تبعة المحافظة على أرواح الأجانب في مصر وأملاكهم تقع من الآن فصاعدًا على عاتق الحكومة المصرية، ويتكفل جلالة ملك مصر بتنفيذ تعهداته بهذا الشأن. 7- إذا اشتبك أحد الفريقين المتعاقدين في حرب رغم نص الفقرة 4 الواردة آنفًا؛ فإن الفريق الآخر يبادر لمعونته مع مراعاة نص الفقرة 14 التي ستُذكر فيما بعد وذلك بصفته حليفًا، وبوجه خاص فإنه في حالة وقوع حرب أو خطر وقوع حرب يقدم جلالة ملك مصر إلى جلالته البريطانية في الأراضي المصرية جميع التسهيلات والمساعدات التي في وسعه، ومن ذلك استخدام موانئه ومطاراته ووسائل مواصلاته. 8- نظرًا إلى الرغبة في توحيد نظام التعليم والأساليب في الجيشين المصري والبريطاني يتعهد جلالة ملك مصر بأنه إذا رأى من الضروري الالتجاء إلى مدريين عسكريين أجانب؛ فإنهم يُختارون من الرعايا البريطانيين. 9- تسهيلاً وضمانًا لمحافظة جلالته البريطانية على قناة السويس بصفة كونها طريقًا ضروريًّا للمواصلات بين أجزاء الإمبراطورية المختلفة - يجيز جلالة ملك مصر لجلالته البريطانية أن يبقي على الأراضي المصرية، وفي مواقع يتفق عليها فيما بعد شرقي الدرجة 32 من خطوط الطول: القوات التي يراها جلالته البريطانية لازمة لهذا الغرض، ووجود هذه القوات لا يعتبر احتلالاً بأية حال من الأحوال، ولا يمس حقوق سيادة مصر. 10- نظرًا إلى الصداقة بين الدولتين، وإلى المحالفة المرجو عقدها بهذه الاقتراحات؛ فإن الحكومة المصرية عند احتياجها لخدمات موظفين أجانب تستخدم رعايا بريطانيين كقاعدة عامة. 11- يعترف جلالة ملك بريطانيا العظمى بأن نظام الامتيازات القائم في مصر الآن لا يلائم روح العصر، ولا حالة مصر الحاضرة، وعليه فإن جلالته البريطانية يتعهد ببذل كل ما له من نفوذ لدى الدول ذوات الامتيازات في مصر لنقل اختصاص المحاكم القنصلية الحالي إلى المحاكم المختلطة، وتطبيق التشريع المصري على الأجانب بشروط تضمن مصالحهم المشروعة. 12- نظرًا إلى الصداقة بين الفريقين المتعاقدين، وإلى المحالفة المراد عقدها بموجب الاقتراحات الحاضرة، يمثل جلالة ملك بريطانيا العظمى لدى بلاط جلالة ملك مصر سفير يعتمد بالطرق المرعية، ويحفظ جلالة ملك مصر أسمى مركز سياسي في بلاطه لممثل جلالته البريطانية. ويمثل جلالة ملك مصر سفير لدى بلاط سانت جيمس. 13- مع الاحتفاظ بحرية عقد اتفاقات جديدة في المستقبل تعديلاً لاتفاق سنة 1899 يتفق الفريقان المتعاقدان على أن تكون حالة السودان هي الحالة المترتبة على الاتفاق المذكور، وعلى ذلك يواصل الحاكم العام استعمال السلطة المخولة له بموجب الاتفاق المذكور بالنيابة عن الفريقين المتعاقدين. 14- لا يُقصد بهذه الاقتراحات، ولا يمكن أن ينبني عليها الإخلال بالحقوق والالتزامات المترتبة أو التي يمكن أن تترتب لأحد الطرفين المتعاقدين أو عليه بمقتضى عهد جمعية الأمم أو ميثاق نبذ الحرب الموقع عليه في باريس في 27 أغسطس سنة 1828. 15- يتفق الفريقان المتعاقدان على أن أي خلاف ينشأ بينهما في تطبيق نصوص هذه الاقتراحات أو تفسيرها مما لا يتسنى لهما تسويته بالمفاوضات مباشرة يُعالج بمقتضى نصوص عهد جمعية الأمم. 16- في أي وقت بعد انقضاء خمس وعشرين سنة من نفاذ معاهدة تبنى على الاقتراحات المار ذكرها، يجوز إجراء أي تعديل في شروطها يُرى من الملائم عمله وفقًا للظروف القائمة وقتئذ، وذلك بالاتفاق بين الفريقين المتعاقدين. المذكرات المفسرة لهذه المقترحات الجيش المذكرة البريطانية حضرة صاحب الدولة: في خلال محادثاتنا الأخيرة نشأت بعض مسائل عسكرية، وتم النظر فيها بأتم العناية، وتنقسم هذه المسائل بطبيعتها إلى قسمين: أولهما: ما يتعلق بقوات الجيش المصري التي قد يمكن أن تدعى لمعاونة القوات البريطانية المحالفة معاونة فعلية فيما لو نشأت لسوء الحظ أحوال من التي أُشير إليها في الجملة الأولى من الفقرة السابعة من الاقتراحات. وثانيهما: المسائل الخاصة بالقوات البريطانية التي سيكون مقامها بجوار قنال السويس طبقًا للفقرة (9) لضمان الدفاع عن ذلك الشريان الحيوي من طريق المواصلات البريطانية الإمبراطورية. فأما فيما يتعلق بالقسم الأول فقد اتفقنا على ما يأتي: 1- ينتهي النظام الحالي الذي يقوم بموجبه المفتش العام وأركان حربه بتأدية بعض الوظائف، ويسحب الموظفون البريطانيون من الجيش المصري. 2- على أن الحكومة المصرية ترغب وفقًا للفقرة الثامنة من الاقتراحات في الإنتفاع بمشورة بعثة عسكرية بريطانية، وحكومة جلالة ملك المملكة المتحدة وشمالي أرلندا تتعهد بتقديم بعثة كهذه. وترسل الحكومة المصرية موظفي الجيش المصري لتدريبهم في بريطانيا العظمى فقط، وتتعهد حكومة جلالته من جانبها بقبول جميع الموظفين الذين تريد الحكومة المصرية إرسالهم إلى بريطانيا العظمى لهذا الغرض. 3- لمصلحة التعاون الوثيق المشار إليه آنفًا يجب أن لا يختلف نوع الأسلحة والمهمات في الجيش المصري. وتتعهد حكومة جلالته بالتوسط لتسهيل الحصول على تلك الأسلحة والمهمات من بريطانيا العظمى كلما أرادت الحكومة المصرية ذلك. أما فيما يتعلق بالقوات البريطانية المشار إليها في الفقرة (9) من الاقتراحات: 1- فإن الحكومة المصرية تقدم مجانًا لحكومة جلالته الأراضي والثكنات ... إلخ في الأماكن التي يتفق عليها وتكون معادلة لما تشغله القوات البريطانية في مصر في الوقت الحاضر. وعند إكمال المحال الجديدة تُنقل تلك القوات إليها وتُسلم الأراضي والثكنات إلخ ... بعد إخلائها إلى الحكومة المصرية. ونظرًا إلى العقبات الفنية التي تعترض إجراء النقل تدريجيًّا؛ فإنه ينتظر إكمال المحال الجديدة، ثم يؤخذ في النقل. ونظرًا لطبيعة المنطقة الواقعة شرقي درجة 32 من خطوط الطول، فتُتخذ التدابير لتقديم وسائل الراحة المعقولة بزراعة أشجار وحدائق وهلم جرًّا للجنود، ومدهم أيضًا بمورد للماء العذب يكون كافيًا في الأحوال الطارئة. 2- تستمر الامتيازات التي تتمتع بها الجيوش البريطانية في مصر في المسائل القضائية والمالية، ويجوز تعديل ذلك في المستقبل بالاتفاق بين الحكومتين. 3- تمنع الحكومة المصرية مرور الطيارات فوق الأراضي الواقعة على كلتا ضفتي قناة السويس إلى مدى عشرين كيلو مترًا منها إلا في حالة الاتفاق بين الحكومتين على عكس ذلك. على أن هذا المنع لا يتناول قوات الحكومتين أو الخطوط التي تقوم بتسييرها هيئات بريطانية أو مصرية حقيقية تعمل تحت سلطة الحكومة المصرية. قد اتفقنا أيضًا على أن تقدم الحكومة المصرية جميع التسهيلات اللازمة للطيارات الحربية البريطانية وموظفيها ومهماتها المتجهة إلى المطارات الموضوعة تحت تصرف القوات البريطانية طبقًا للفقرة (9) من الاقتراحات أو القادمة من تلك المطارات. وتقدم حكومة جلالته التسهيلات الملائمة للطيارات الحربية المصرية وموظفيها ومهماتها في الأراضي الواقعة تحت مراقبتها. (هذا نص ترجمة المذكرة البريطانية في المسألة العسكرية، وقد أجاب عليها رئيس الوزارة المصرية بالموافقة التامة، ويليها مذكرات متبادلة في مسائل المستشارين المالي والقضائي، والبوليس الأجنبي، وإلغاء الامتيازات الأجنبية والموظفين الأجانب، كلها في الدرجة الثانية من عظم الشأن) . المذكرات في مسألة السودان مسألة السودان أهم مسائل هذا الاتفاق على الإطلاق لأن مصر لا حياة لها بدون السودان، فهو منها بمنزلة القلب من البدن، والنيل الآتي منه بمنزلة الدم الذي يغذي الجسد ويحفظ حياته، وقد ورد في شأنه ثلاث مذكرات بريطانية أجاب عن كل منها وزير مصر بالموافقة (إحداها) مسألة الديون التي على مصر، وقد اتفق الفريقان (على أن تفحص مسألة الديون التي على السودان في الوقت الحاضر بقصد تسويتها على أساس العدل والإنصاف) (الثانية) مسألة (جعل الاتفاقات الدولية منطبقة على السودان) وقد اتفقا على أن هذه الاتفاقات ستكون (فنية أو إنسانية) وأن الاتفاق عليها سيكون بين مندوبين عن الحكومتين، وفي هذا من الإبهام والغموض ما يخول إنكلترة تفسيره كما تريد (الثالثة) مسألة عود الجنود المصرية إلى السودان، وفي المذكرة البريطانية أنه إذا نُفِّذَتْ المعاهدة بالروح الودية التي تفاوض فيها الفريقان في هذه الاقترحات؛ فإن الحكومة البريطانية (تكون مستعدة لأن تفحص بروح العطف الاقتراح بشأن عودة أورطة مصرية إلى السودان في الوقت الذين تنسحب فيه القوات البريطانية من القاهرة) ! ! وقد أجمع الناس هنا وفي أوربة على أن هذه المقترحات وتفاسيرها أعظم تساهل وسماح صَدَرَ عن حكومة بريطانية مع مصر، وسنتكلم عليه في الجزء الآتي إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

مسألة انشقاق القمر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة انشقاق القمر (س38) من الشيخ عبد الرحمن الجمجمون بكفر مجر وغيره. (مقدمة للسؤال) كتب صاحب السعادة أحمد زكي باشا الشهير مقالاً في بعض الجرائد اليومية أنكر فيه انشقاق القمر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكر ما روي في انشقاقه، وادعى أنه من رواية كعب الأحبار وأمثاله من رواة الإسرائيليات، وأول آية أول سورة القمر بمثل ما أوَّلها به بعض السلف والخلف خلافًا للجمهور من كون الفعل الماضي فيها {وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) بمعنى المستقبل كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} (النحل: 1) إذ اتفقوا على أنه بمعنى (سيأتي) ومثله كثير في التنزيل؛ ولكن كتابة أحمد زكي باشا في المسألة جاءت في سياق بحث تاريخي، ولم تكتب بالأسلوب العلمي الإسلامي عند أهل الحديث والأصول، ولا بما اعتاده هو من تحرير المسائل التاريخية والجغرافية فكان فيها مؤاخذات غير أصل المسألة، فتصدى للرد عليه كثير من علماء الأزهر وغيرهم في صحف مصر وسورية، وكتب إلينا كثيرون يسألوننا الرد عليه في الجرائد اليومية والمنار، ومنهم ومن كتب شيئًا ورغب إلينا في نشره؛ ولكنه ليس من التحقيق الذي يليق نشره في المنار مع السكوت عنه، ولا يحسن نشره للرد عليه، وأول من طلب منا ذلك صديقنا الشيخ عبد الرحمن الجمجموني من كفر مجر، وذكَّرنا بما كنا نشرناه في إثبات المسألة في المجلد السادس من المنار، ولما كان كل ما اطلعنا عليه من الردود على الباشا بمعزل من التحقيق في المسألة كما كان الذي كتبه في إنكارها بمعزل من التحقيق أيضًا - رأينا أن الواجب علينا أن نكتب تفصيلاً لما أجملناه في المجلد السادس فيها ونبينه على سؤال الجمجموني، ونبدأ بعبارتنا هنالك وهذا نصها: ورد ذكر هذه المسألة في الجزء الثاني من المجلد السادس المؤرخ في 16 المحرم سنة 1321 في جواب استفتاء من علي أفندي مهيب الذي كان مفتشًا في إدارة مصلحة التلغراف، وهو الآن سكرتير وزارة المواصلات سأل فيه عما صح من معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم لاختلاف الناس فيه وهذا نص المسألة من تلك الفتوى (ص68م6) . ومن المروي في الصحيحين خبر انشقاق القمر، روياه كغيرهما عن جماعة من الصحابة، ودفع العلماء ما اعترض به من أن ذلك لو وقع لعرفه أهل الآفاق ونقلوه بالتواتر، وإن لم يذكروا سببه، بأنه كان لحظة وقت نوم الناس وغفلتهم، وأن القمر لا يُرى في جميع الأقطار في وقت واحد لاختلاف المطالع، وأن بعض المشركين لما قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة فانتظروا السُّفّار. وانتظروهم جاءوا فأخبروا بأنهم رأوا القمر من ليلتهم قد انشق ثم التأم، وبأنه يجوز أن يكون رآه غيرهم وأخبر به فكذَّبه من أخبرهم، وخشي أن يكذِّبوه فلم يخبر، وليس بضروري أن يراه في تلك اللحظة علماء الفلك على قلتهم في الجهة التي رؤي فيها. (ولكنني لا أذكر أن أحدًا أجاب عن كون هذه المعجزة كانت مقترحة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعط الآيات المقترحة لأنها سبب نزول العذاب بالأمم إذا لم يؤمنوا، وقد روي أن انشقاق القمر كان بطلب كفار قريش؛ ولا أذكر لهم أيضًا جمعًا بين آية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) وآية {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} (الإسراء: 59) ولا بد من تأويل إحداهما، وقد أوَّل بعضهم الأولى فقط، وليس المقام مقام التطويل في هذه المباحث) اهـ. هذا ما كتبناه في تلك الفتوى وموضوعها ما صح سنده من الروايات في معجزاته صلى الله عليه وسلم، وهو خلاصة أصح الروايات في هذه المسألة، وما اعترض عليها، وما أجيب به عن الاعتراضات وما فيها من إشكال لم يجيبوا عنه من غير مراجعة ولا نقل. وإذ قد اقتضت الحال الآن تحرير المسألة رواية ودراية فإننا نبدأ بالرواية فنقول: (أ) الروايات في انشقاق القمر وعللها: زعم بعض العلماء المتقدمين أن الروايات في انشقاق القمر بلغت درجة التواتر! وهو زعم باطل كقول ابن عبد البر الآتي أنه نقله جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وإن تلقاه الكثيرون بالقبول حرصًا على إثبات مضمونه كعادتهم في الفضائل والمناقب ودلائل النبوة، فأما الشيخان فالذي صح عندهما مسندًا على شرطهما إنما هو عن واحد من الصحابة رضي الله عنهم يخبر عن رؤية وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد أخرجاه عنه كأحمد وغيره من طريق سفيان بن عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر ومن طريق الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر، وصح عندهما مرسلاً من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه من طريق قتادة فقط، ومن حديث ابن عباس رضي الله عنه من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة، وإنما كان هذان الحديثان مرسلين لأن الحادثة وقعت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين، ولم يكن ولد عبد الله بن عباس، وأما أنس فكان في المدينة ابن خمس سنين، والخلاف في الاحتجاج بالمرسل معروف، ومن يحتج بمراسيل الصحابة مطلقًا يبني احتجاجه على أنهم يروون عن مثلهم؛ ولكن ثبت أن بعضهم كان يروي عن بعض التابعين حتى كعب الأحبار، وعلى كل حال لا يصح في مراسليهم ما اشترط في التواتر من الرواية المتصلة إلى من شاهد المروي، ورواية الشيخين المتصلة من طريقين فقط. ورواه مسلم من طريق شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر وهي أحد الطريقين عن ابن مسعود، وليس فيها أنه حَدَّثَ عن رؤية وقد تردد الحافظ في هذه الرواية: هل هي إسناد آخر عند مجاهد (أو قول من قال ابن عمر وهمٌ من أبي معمر؟) وقد روى الحافظ أن ابن عمر هاجر وهو ابن عشر سنين، وفي رواية أخرى أنه كان سنة الهجرة ابن ست. ورواه الإمام أحمد وتبعه ابن جرير والبيهقي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه من طريق سليمان بن كثير عن حصين بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه. فأما جبير فقد أسلم بعد عام الحديبية وقبل فتح مكة، وقيل في الفتح، وقد كان مع المشركين في غزوة بدر وأسره المسلمون، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الطور، قال: فكان ذلك أول ما دخل الإيمان في قلبي، وليس في حديثه أنه رأى، ولكن ظاهره أنه كان مسلمًا، ولم يكن مسلمًا، ولو رأى ذلك في حال شركه لعده بعد إسلامه مما أثّر في نفسه. وأما السند إليه فضعيف: فسليمان بن كثير ضعَّفه ابن معين كما ضعَّف ولده محمدًا الذي روى هذا الحديث عنه، وقال ابن حبَّان: كان يخطئ كثيرًا، وأما حصين بن عبد الرحمن فقد كان ثقة إلا أنه تغير في آخر عمره. هذا أقوى ما ورد من الأحاديث في هذه المسألة، وعليها اقتصر الحافظ ابن كثير في تفسيره، ورواه الترمذي في جامعه وغيره، ولها ألفاظ أخرى في التفسير المأثور وكتب الدلائل غربلها الشيخان، واختارا ما أشرنا إليه وسنذكره بنصه، وذكر السيوطي في الدر المنثور سائر مخرِّجيها وألفاظهم وزيادتهم على الصحيحين فيها، وزاد ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدًا السباق. اهـ، وابن جرير لم يذكر أن ذلك كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والراوي عن أبي عبد الرحمن: عطاء بن السائب وعنه شعبة وابن علية، واتفقوا على أن عطاء بن السائب قد اختلط في آخر عمره وتغير فلا تقبل رواية أحد عنه في آخرته؛ ولكن شعبة من قدماء الرواة عنه، وقد روى ابن المنذر أنه - أي حذيفة - قرأ (وقد انشق القمر) والرواية تدل على أن هذا خطأ؛ فإنه قرأ الآية في خطبته كما رواها القراء بالتواتر، ثم قال: ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، وهذا من كلامه على أنه تفسير، على أن أمثال هذه الروايات الآحادية الغريبة لا يثبت بها القرآن، بل لا بد من تواتره. (ب) اختلاف المتون في هذه الأحاديث: (1) في بعض روايات ابن مسعود في الصحيحين أنه قال: انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى. وفي رواية أخرى أنه قال: انشق القمر بمكة. وهو الموافق لرواية أنس، وكذا جبير بن مطعم فإنه قال: ونحن بمكة، وفي رواية ثالثة لم يذكر المكان. قال الداودي: إن بين الحديثين تضادًّا، وأجاب الحافظ ابن حجر بأن التضاد يُدفع بإرادة أنهم كانوا عند انشقاقه بمكة، أي قبل أن يهاجروا إلى المدينة، ومِنى من جملة مكة لأنها تابعة لها، وذكر في رواية ابن مردويه عنه أنه قال: ونحن بمكة قبل أن نصير إلى المدينة؛ ولكن هذا اللفظ لا يقال إلا إذا كان ذلك قبيل الهجرة. وفي الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنه قال رأيت القمر منشقًّا شقتين بمكة قبل أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم: شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء. ثم قال الحافظ: والجمع بين قول ابن مسعود تارة: بمنى، وتارة: بمكة، إما باعتبار التعدد إن ثبت (نقول: وهو ينفيه) وإما بالحمل على أنه كان بمنى، ومن قال: كان بمكة، لا ينافيه؛ لأن من كان بمنى كان بمكة من غير عكس، ويؤيده أن الرواية التي فيها (بمنى) قال فيها: ونحن بمنى، والرواية التي فيها (بمكة) لم يقل فيها (ونحن) وإنما قال: (انشق القمر بمكة) يعني أن الانشقاق كان وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، وبهذا تندفع دعوة الداودي، أن بين الخبرين تضادًّا والله أعلم. اهـ. وقوله رحمه الله: إن ابن مسعود لم يقل في رواية مكة (ونحن بمكة) إنما يصح في رواية الصحيح التي كان يشرحها، وقد ذهل عما ذكره هو قبل ذلك في شرحه من رواية ابن مردويه عنه، وفيها أنه قال (ونحن بمكة) على أن لفظ (نحن) لا ينقض ما ذكره من التأويل، وإنما يبعده أن المتبادر من قوله (قبل أن نصير إلى المدينة) أنه كان بالقرب من الهجرة، والمنقول أنه كان قبلها بخمس سنين كما ذكره الحافظ وغيره. (2) أن البخاري أسند قول ابن مسعود: (انشق القمر بمكة) من رواية إبراهيم عن أبي معمر، ثم قال: وتابعه محمد بن مسلم عن ابن أبي نجيح عن أبي معمر عن عبد الله، وذكر الحافظ في شرحه أن هذه الطريق وصلها عبد الرزاق في مصنفه والبيهقي من طريقه في دلائل النبوة بلفظ: رأيت القمر منشقًّا شقتين، شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء، والسويداء بالمهلة والتصغير ناحية خارج مكة عندها جبال. اهـ. وفي الصحيحين والترمذي وغيرهم عنه: انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين: فرقة فوق الجبل وفرقة دونه، وفي رواية أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه وابن مردويه وأبي نعيم عنه: رأيت القمر على الجبل وقد انشق، فأبصرت الجبل من بين فرجتي القمر. وفي رواية ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل من طريق علقمة عنه: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر حتى صار فرقتين، فتوارت فرقة خلف الجبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (اشهدوا) . وفي حديث ابن عمر عن مسلم والترمذي وغيرهما من طريق مجاهد وقد تقدم: انشق فرقتين: فرقة من وراء الجبل وفرقة دونه. والحافظ شك في صحة هذه الرواية عنه كما تقدم، وفي حديث جبير بن مطعم: حتى صار فرقتين، فرق

الاستفتاء في حقيقة الربا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاستفتاء في حقيقة الربا يعلم قراء المنار أن مسألة الربا أعظم المشكلات الإسلامية المدنية التي شغلت بال الحكام والزعماء والعلماء في هذا العصر، ولدينا أسئلة كثيرة في معاملات المصارف المالية (البنوك) والشركات والعقود التي فيها شيء مما يعده الفقهاء من المعاملات الربوية، وردت في تواريخ مختلفة، وكنا نرجئ الجواب عنها إلى فرصة يتاح لنا فيها حل هذه المشكلة بتفصيل يشمل هذه الفروق أو يبنى عليه بيان حكمها، وقد فتحت لنا هذا الباب حكومة حيدر أباد الدكن الهندية الإسلامية منذ أشهر قليلة إذ نشرت في الأمصار الإسلامية الكبرى رسالة في حقيقة المسألة، وهي فتوى لبعض العلماء هناك في محاولة تحرير الموضوع، طبعتها الحكومة الآصفية ووُزعت بأمر الصدارة المالية والمحكمة الشرعية فيها على العلماء المشهورين في الأقطار الإسلامية طالبة منهم بيان آرائهم فيها بالدليل الشرعي وإرسال الأجوبة بعنوان (معين صدر الصدور - محكمة الصدارة العالية) في تلك العاصمة، وقد أرسلت إلينا ثلاث نسخ من هذا الاستفتاء: واحدة خاصة بنا، والأخريان لصاحبي الفضيلة شيخ الأزهر والشيخ محمد بخيت أرسلناهما إليهما، وها نحن أولاً ننشر نص الاستفتاء بحواشيه، وبعد نشره نبين رأينا فيه، ثم نشرع بعد ذلك في نشر تلك الأسئلة أو ما يغني منها عن غيره ونجيب عنها أجوبة مختصرة يغنينا تحرير حقيقة الربا عن الإطالة فيها، إن شاء الله تعالى. وليعلم القرَّاء أننا ننشر هذه الفتوى الطويلة مع حواشيها بنصها المطبوع، ولا نعنى بتصحيح شيء منها ولا بالتعليل على ما نراه منتقدًا من عباراتها أو معانيها في أثناء نشرها إلا ألفاظًا قليلة للكاتب عذر فيها كرسم الربا برسم المصحف (الربوا) وكذا رسم الصلاة والزكاة بالواو وهي طريقة إخواننا مسلمي الهند. بسم الله الرحمن الرحيم (حامدًا ومصليًا) {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود: 88) وبه نستعين اعلموا أن الله حرَّم الربا في القرآن بقوله جل ثناؤه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) قال ابن كثير في تفسيره: باب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم اهـ. فلو لم يفسره الفقهاء المجتهدون - شكر الله مساعيهم - لما اتضح لنا حقيقته، فعلينا أن ننقل ما روي عن أئمتنا في تفسيره: قالوا: إن الأمة اتفقت على أن المعنى اللغوي ليس مرادًا [1] في الآية؛ لأن الربا في اللغة: الزيادة مطلقًا، وهي أعم من كل زيادة، وظاهر أن كل فرد من أفراد الزيادة ليس بحرام بل بعضها حرام. وبعد اتفاقهم عليه تشعبوا فرقتين، فالأئمة وجمهور العلماء عيَّنوا هذه الأفراد بالسنة، وهو الفضل الذي وردت السنة بكونه ربا فهو حرام عندهم، أعني الفضل في البيع، فالربا عندهم منحصر في البيع لا غير، وذهب البعض إلى أن اللام في (الربا) للعهد، والمراد به ربا الجاهلية، فالمآل على هذا التفسير أن القرآن حرَّم ربا الجاهلية، ولما لم يثبت صورة ربا الجاهلية من حديث مرفوع متصل إلى الآن لم يلتفت الأئمة والجمهور إليه، وقالوا: إن ربا القرآن مجمل والحديث مفسر له، قال القاضي سناء الله في تفسيره المظهري: قال جمهور [2] العلماء: هذا مجمل؛ لأن طلب الزيادة بطريق التجارة غير محرم في الجملة، فالمحرم إنما هو زيادة على صفة مخصوصة لا تدرك إلا من قبل الشارع فهو مجمل، وما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم التحقه بيانًا. قال الجصاص الرازي الحنفي: وهو (أي الربا) يقع على معانٍ لم يكن الاسم موضوعًا لها في اللغة. وبعد سرد الأدلة على إجمال الربا قال: فثبت بذلك أن الربا قد صار اسمًا شرعيًّا؛ لأنه لو كان باقيًا على حكمه في أصل اللغة لما خفي على عمر لأنه كان عالمًا بأسماء اللغة؛ لأنه من أهلها اهـ. ثم قال: وإذا كان ذلك على ما وصفنا صار بمنزلة سائر الأسماء المجملة المفتقرة إلى البيان، وهي الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع لمعانٍ لم يكن الاسم موضوعًا لها في اللغة نحو الصلاة والصوم والزكاة اهـ[3] . وفي جواب استدلال الشافعية عن كون علة الربا مأكولاً قال الجصاص الرازي: فهذا عندنا لا يدل على ما قالوا من وجوه (أحدها) ما قدَّمنا من إجمال لفظ الربا في الشرع وافتقاره إلى البيان، فلا يصح الاحتجاج بعمومه وإنما يحتاج إلى أن يثبت بدلالة أخرى أنه ربا حتى يحرِّمه بالآية. انتهى. وقال صدر الشريعة الحنفي: والمجمل كآية الربا؛ فإن قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) مجمل لأن الربا في اللغة هو الفضل، وليس كل فضل حرامًا بالإجماع، ولم يعلم أن المراد أي فضل، فيكون مجملاً، ثم لمَّا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الربا في الأشياء الستة احتيج بعد ذلك إلى الطلب والتأمل ليعرف علة الربا في غير الأشياء الستة [4] ، وكذا في شرح التحرير لابن الهمام وفي المسلم وفواتح الرحموت ومرقاة الوصول وشرحه مرآة الأصول وغيرها من كتب الأصول. قال العلامة النسفي في كشف الأسرار: وكذلك آية الربا مجملة لاشتباه المراد، وهذا لا يُدرك بمعاني اللغة بحال فهو في اللغة الفضل؛ ولكن الله تعالى ما أراده. وقال العلامة نظام الدين الشاشي: المجمل هو ما احتمل وجوهًا فصار بحال لا يوقف على المراد إلا ببيان من قِبَل المتكلم، ونظيره في الشرعيات قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) قال ابن نجيم في فتح الغفار: وليس المراد أن كل مجمل بعد بيان المجمل يحتاج إلى الطلب والتأمل، فالصلاة بيانها شافٍ فلم تحتج إلى تأمل بعده، وبيان الربا غير شافٍ - صار به المجمل مؤولاً وهو يحتاج إلى الطلب والتأمل كما في الكشف، فالرجوع إلى الاستفسار في كل مجمل، والطلب والتأمل إنما هو في البعض [5] . قال صاحب فصول البدائع في حكم المجمل: هو التوقف إلى الاستفسار مع اعتقاد حقيقة ما هو المراد حالاً ثم الطلب والتأمل إن احتيج إليهما كما في الربا؛ فإن حديث الأشياء الستة الحاصل من الاستفسار معلل بالإجماع [6] . قال عبد العزيز البخاري في شرح الأصول للبزدوي: والحاصل أن المجمل قسمان: ما ليس له ظهور أصلاً كالصلاة والزكاة والربا أو ما له ظهور من وجه كالمشترك [7] . وإذا ثبت من هذه النقول أن الربا الذي وقع في القرآن مجمل، وثبت أيضًا أنه لا يثبت منه حكم بدون تفسير الشارع عليه السلام، فحينئذ علينا أن نحرر التفسير الذي ورد عنه عليه السلام، وهو ما روى عبادة وأبو سعيد وأبو هريرة وعمر وغيرهم في بيع الأشياء الستة بصورة مخصوصة، وقد جعله الفقهاء أيضًا بيانًا للربا كما قال ابن عابدين في نسمات الأسحار: كبيان الربا بالحديث الوارد في الأشياء الستة وفي نور الأنوار: كالربا في قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) فإنه مجمل بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (الحنطة بالحنطة) الحديث، قال ابن أمير الحاج في شرح التحرير لابن الهمام: كبيان الربا بالحديث الوارد في الأشياء الستة في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فمن زاد [8] أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء) وكذلك يلحق في تفسير إجمال الآية حديث أسامة بن زيد (الربا في النسيئة) أخرجه مسلم. ولا يصح تفسيره بالحديث الذي روي عن جابر وعمرو بن الأحوص بلفظ (إن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه رِبانا ربا عباس بن عبد المطلب) لأنه لم يظهر تفسير ربا الجاهلية من حديث مرفوع متصل إلى الآن حتى يكون بيانًا له، وكيف وهو مجمل كربا القرآن؟ فعلى هذا حقيقة الربا: الفضل الذي يكون في البيع، سواء كان فضل عين أو أجل، وإذا بيع شيء من هذه الستة وما في حكمها من جنسه فالفضل والأجل كلاهما ربا، وإذا بيع منها شيء بغير جنسه فالأجل فقط ربا وهو ربا النساء، وكذلك الزيادة على الثمن المؤجل إذا لم يقض الثمن عند حلول الأجل، ربا، وهو ربا النسيئة. ففي الأولى أي إذا وقع بيع جنس بجنس، فلابد لجواز البيع من أمرين: الأول المساواة في الكيل أو الوزن، والثاني قبض البدلين في المجلس. وفي الثانية إذا كان الجنسان من هذه الأشياء الستة وما في حكمها مختلفين، فلا يشترط ههنا إلا القبض في المجلس، ولا يشترط المساواة كيلاً أو وزنًا. (وفي الثالثة) أي إذا كانت الأشياء من غير هذه الستة وما في حكمها لا يجوز الفضل على الثمن المؤجل بعد حلول الأجل إن لم يقض هذا الثمن بمقابلة الأجل. والأصل فيه أن المتبايعين يريدان المساواة في البدلين وعليه مدار عقد البيع، فلهذا وضع لها الشارع عليه السلام أصول وقوانين يُعرف بها المساواة والفضل الذي يحكم عليه الشرع بأنه ربا (الأول) أن للنقد مزية على النسيئة (والثاني) إذا كان البدلان - كيليًّا أو وزنيًّا - فلا بد أن يكونا متساويين في الكيل أو الوزن (والثالث) إذا كان أحد البدلين غير المكيل والموزون فما تراضى عليه العاقدان فهو بدل الآخر ومساوٍ له، ومن هذه الأصول يعلم ما جعل الشارع عليه السلام من الفضل ربا في البيع والشراء. فالفضل والأجل كلاهما ربا في بيع المكيل بالمكيل والموزون بالموزون من جنسه؛ لأنه فضل حقيقة أو حكمًا ولا دخل فيه لتراضي العاقدين والبيعين؛ فإن تراضي البيعين في أمثال هذا البيع بالفضل أو الأجل أو بكليهما لا يصحح هذا البيع، ويكون الفضل والأجل كلاهما ربا لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من زاد) أي أعطى الزيادة (أو استزاد) أي طلب الزيادة (فقد أربى) وفي المدونة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه راطل أبا رافع فوضع الخلخالين في كفة فرجحت الدراهم، فقال أبو رافع: هو لك أنا أحله لك، فقال أبو بكر: إن أحللته لي فإن الله لم يحله لي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (الذهب بالذهب وزنًا بوزن، والورق بالورق وزنًا بوزن، الزائد [9] والمزاد في النار) [10] وعند اختلاف الجنس من هذه الأشياء لم يجعل الشارع المساواة باعتبار التساوي كيلاً ووزنًا حتى لم يحرم في هذه الصورة الفضل كيلاً أو وزنًا؛ لأنه أمر غير معقول، بل جعل المساواة المطلوبة ما تراضى عليها العاقدان والبيعان من كون أحدهما مساويًا للآخر، نعم جعل للنقد مزية على النسيئة فيكون الأجل ربا ولا يعد التراضي فيه شيئًا بل يصير ملغى، وإذا اختلف جنس البدلين من غير هذه الستة بأن يكون المكيل في طرف وغيره في طرف آخر، فالمساواة المطلوبة هي ما تراضى عليها العاقدان، ولم يكن الأجل ربا في هذه الصورة لأنه خلاف القياس، ونحوه ينحصر فيما ورد فيه النص بشرط أن يكون الأجل من أحد المتعاقدين لا من كليهما لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ وإذا عين الأجل بالتراضي، فإذا حل الأجل ولم يقض المديون وطلب النظرة وزاد بها في الثمن فتكون هذه الزيادة ربا أيضًا؛ لأنه فضل على ما تراضى عليه البيعان أولاً وجعلاه مساويًا للآخر، فهذه الزيادة لا محالة تكون بمقابلة الأجل ولا قيمة للأجل مستقلاًّ عند الشارع، فتكون هذه الزيادة فضلاً محضًا وهو عين الربا. الحاصل أن هذه الأحاديث المفسرة لربا القرآن تدل على أن في بيع أحد المتجانسين من الأشياء الستة وما في حكمها الفضل والأج

هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم

الكاتب: عجاج نويهض

_ هل هذه النهضة خاضعة لسلطان العلم؟ محاضرة الأستاذ عجاج نويهض في مدرسة النجاح الوطنية (تابع ما قبله) لأجل الوقوف إجمالاً على شدة الحملة الحالية التي يقوم بها المبشرون على هذه الأمة أذكر لكم هذه الكتب، وأرجوكم أن تنظروا إليها، وهي هذه الرزمة الضخمة التي تباع في مكتبة واحدة من المكتبات، ونظرة عامة على اسم كل كتاب وروحه والغرض منه وعدد الطبعات التي طبعها كافية لكي تجعلنا نتصور وخامة العاقبة. وهذه الكتب هي: 1- العالم الإسلامي اليوم The Moslim World Of To-day وهو كتاب ضخم جمع ثلاثًا وعشرين مقالة مستفيضة لأشهر الكُتاب التبشيريين، وهذه المقالات هي بصدد الانقلاب في العالم الإسلامي، وأن الفرصة سانحة لإخضاع المسلمين وسط هذا الانقلاب إلى السلطة التبشيرية، وقد جمع هذا الكتاب ووضع له مقدمة وخاتمة الدكتور موط رئيس (المجلس التبشيري الدولي) ورئيس المؤتمر التبشيري العالمي الديني الذي عُقد على جبل الزيتون منذ زهاء سنة ونيف، وأمره لم يزل معروفًا، وفي نهاية الكتاب المقررات التي كانت سرية أولاً، وهي مقررات مؤتمر سنة 1925 في القدس التي نُشرت وأُذيعت واطلع عليها الناس، وكان لها في العالم الإسلامي ذلك الصدى البالغ، عدد صفحات هذا الكتاب (420) صفحة، وهذه النسخة التي بيدي من الطبعة الأولى سنة 1925. 2- (العالم الإسلامي في الثورة) The Moslim World In Revolution مؤلف هذا الكتاب هو معاون القس الأكبر للحملة المصرية وقت الحرب، وقد كان مقيمًا بمصر قبل الحرب، وهو يقرأ ويكتب اللغة العربية، ولما كان في الحملة المصرية كان يراقب تأثير الحرب في المسلمين وكيف كانوا يخضعون للسلطة الأجنبية العسكرية المتسلطة عليهم. ولب لباب كتابه في الباب السابع الموسوم بـ (الفرصة الجديدة للكنيسة) وقد طبع هذا الكتاب لتتولى توزيعه (ثماني جمعيات) تبشيرية هي أكبر الجمعيات من نوعها في العالم، وطُبع هذا الكتاب سبع طبعات كما يلي: الطبعة الأولى في مارس 1925 الطبعة الثانية في يونيو 1925 الطبعة الثالثة في يوليو 1925 الطبعة الرابعة في نوفمبر 1925 - الطبعة الخامسة في فبراير 1926 - ? أربع طبعات في سنة الطبعة السادسة في يوليو 1926 - ... واحدة بل في ثمانية أشهر الطبعة السابعة في نوفمبر 1926 - هذا عدا الطبعات التي تلت نوفمبر 1926 إلى هذا التاريخ وعدد صفحاته 160 صفحة. 3- انتشار الإسلام The Expansion Of Islam مؤلف هذا الكتاب هو مؤلف الكتاب السابق (العالم الإسلامي في الثورة) والنسخة التي بيدي هي من أول طبعة لسنة 1928. والغرض من هذا الكتاب لا يختلف في الجوهر عن سابقه، غير أنه يطرق الموضوع من نواحٍ أخرى، ويتوسع في درس عوارض الإسلام الحالية العصرية، ويسوق نتيجتها إلى وجوب الاعتقاد أن الإسلام منحل متلاشٍ، وينطوي هذا الكتاب على ثلاثة عشر فصلاً، أخبث هذه الفصول (الفصل الثاني: الرجل محمد) وعدد صفحاته 304 وفيه مصور جغرافي للعالم الإسلامي. وفي هذا الكتاب مقدمة كتبها المستشرق مرغليوث، صاحب المؤلف المعنون بـ (محمد) الذي ذكر فيه من النيل وسوء القصد ما يعلمه الذين يطالعون لهذا المستشرق كتاباته عن الإسلام، وأما الذين يظنون أن مرغليوث من (أهل الخير) من المستشرقين بدليل ما طبعه من بعض كتب الأدب والتاريخ - فظنهم في غير محله، وفي هذا الكتاب الذي نحن في صدده الآن (انتشار الإسلام) قال مرغليوث مفتتحًا كلام مقدمته: (لما أعلن مؤسس الإسلام أن مهمته ترمي إلى جعل نظامه (ظاهرًا على الدين كله) فهو بلا شك قد عني أن يكون الظهورغلبة ونصرًا سياسيًّا على الأنظمة السياسية الأخرى التي كانت في الوجود في ذلك العصر) ومرغليوث هو كما يعرفه الناس صاحب النظرية أن الشعر الجاهلي موضوع، ويعرف الناس أيضًا ما كان لهذا الرأي في مصر من أثر. 4- الإسلام الفتي في طريق السفر Young Islam On Track هذا الكتاب يبحث في اصطدام الإسلام وحضارته وجهازه الاجتماعي، بالحضارة المسيحية، ويبين كيف تتخلل عناصر الحضارة المسيحية الحضارة الإسلامية وتلاشيها، وهو يتضمن سبعة فصول مشبعة أضرها الفصل المرسوم بـ (ما هي الغاية؟) وفي هذا الفصل يعلق المؤلف (باسيل مثيو) أهمية كبرى على انقلاب الأزهر إلى جامعة إسلامية منظمة راقية، ويخشى من وراء ذلك تجديد قوى الإسلام، كما أنه قد انتقد حالة الأزهر اليوم ووصف طرق التدريس فيه ونال منها كثيرًا، وعدد صفحات الكتاب 208 وفيه مصور جغرافي للعالم الإسلامي، أول طبعة منه كانت 1926 وطبع بعد ذلك طبعتين في سنة 1927 و1928، والنسخة التي بيدي هي من الطبعة الأخيرة لسنة 1928. 5- سيرة الإسلام The Story Of Islam مؤلفه لنت ثيودور السكرتير العام (لجميعة نشر التبشير في السواد من الناس) وكان سابقًا السكرتير التعليمي (للجمعية الكنسية التبشيرية) S. M. C التي لها فرع في القدس، وغير القدس في فلسطين. وهذا الكتاب طُبع للمرة الثالثة سنة 1916 وهذه النسخة التي بيدي هي من طبعة 1916، والغريب في أمر هذا المؤلف أنه مقدم إلى جهة لم تخطر على بال أحد من أهل هذه البلاد، وهذه عبارة التقديم بالحرف: (مقدَّم إلى طلاب المدارس العامة في بلاد الإنكليز، الذين عليهم أن يقوموا إلى الآن بالدور المتعين عليهم القيام به في تبديل مستقبل سيرة الإسلام) . وفي هذا الكتاب 216 صفحة موزعة على 12 فصلاً كلها سم ناقع، ومن بعض عناوين الفصول تعلم روح الكتاب، فهناك الفصل الأول وعنوانه (النشء وكيفية تعليمه) وغاية هذا الفصل مربوطة بما جاء في عبارة التقديم المذكورة، وهناك الفصل الثالث عنوانه (نبي بلاد العرب) والفصل الخامس عنوانه (السيف المسلول) والفصل الحادي عشر عنوانه (الإسلام وكنيسة المسيح) وقد كُتب هذا المؤلَّف على طريقة خاصة قريبة من الطريقة المتبعة في تأليف كتب التدريس للصفوف الابتدائية في المدارس، وفي نهاية كل فصل أسئلة وأجوبة لتمكين الطالب أو القارئ من (الحقائق) الموردة في ذلك الفصل. 6- توبيخ الإسلام The Rebukeof Islam قال صاحبه إنه يعني بتوبيخ الإسلام ما يلي: (أن الإسلام هو أبدًا مذكِّر للمسيحية بأنها عاجزة عن تمثيل الرب، إذ لو لم يكن هذا لكان يجب أن يكون محمد مسيحيًّا، أما الآن فيجب رفع هذا العجز بالمبادرة إلى العمل؛ لأن العالم كله قد أصبح للمسيح) . وصاحب هذا الكتاب ينتمي إلى (الجمعية التبشرية الكنسية) التي تقدم ذكرها ولها فروع في هذه البلاد، ويقول المؤلف إن هذا الكتاب هو الطبعة الخامسة منقحة والنسخة التي بيدي طبعة سنة 1920. وفي آخر الكتاب بيان للبلاد التي تنتشر فيها الجمعية المذكورة وهي كما يذكر البيان على الإجمال: 1- الشرق الأدنى. 2- بلاد فارس 3- بلاد الهند وبلوخستان 4- البلدان الأفريقية حيث يسكن المسلمون والوثنيون معًا كبلاد سيراليون، ونيجيريا، وأوغندة. وعندما جاء ذكر نصيب فلسطين من (خير) هذه الجمعية قال البيان: (فلسطين! إنه وإن كان في فلسطين عدد من الجمعيات العاملة فإن الجمعية التبشيرية الكنسية S. M. C واضعة بالأكثر نصب عينها بذل الجهود للوصول إلى الأهالي المسلمين، وقد كان للجمعية قبل الحرب سبعة مراكز كبيرة، أما الآن فقد استؤنف العمل في غزة، بناء على طلب السلطة العسكرية، وفي القدس، والناصرة، والسلط، ويافا ونابلس، وعدد الموظفين المسلمين يبلغ 42 موظفًا، منهم الأطباء والممرضات) . وعندما جاء ذكر مصر قال البيان: (للجمعية خمسة مراكز في مصر، والأعمال الطبية سائرة في مصر القديمة ومنوف، وأم درمان، ودخل المستشفيات في مصر القديمة سنة 1918 (800) مريض ما عدا عددًا كبيرًا من النساء، وفي السنة التي قبل شملت أعمال الجمعية أكثر من 500 بلدة وقرية في مصر السفلى، و450 بلدة وقرية في مصر العليا، والكثرة المطلقة من هؤلاء المرضى كانوا يبقون في المستشفى يعالجون لا أقل من أسبوعين، وفي القاهرة مدرسة للصبيان فيها 180 طالبًا ومدرسة للبنات يزداد الإقبال عليها وكثرة طالباتها من المسلمات، ويزداد افتتاح مراكز التبشير على التوالي، وفي مصر القديمة صارت السيدات المبشرات من الاستطاعة بحيث يتمكن من القيام بالدروس المسيحية توًّا بلا تهيب حتى بحضور شيوخ المسلمين) . ويقول البيان إن نتيجة التبشير في فارس كانت كما يلي: من سنة 1893 - 1902 تنصر 65 بالغًا، ومن سنة 1903-1913 تنصر 145 بالغًا، والفرص تزداد سنوحًا وصار العمل أجدى نفعًا وأقرب ثمرًا، عدد صفحات هذا الكتاب 248 صفحة. 7- العقلية الإسلامية The Moslim Mentality مؤلفه ليفونيان مدير المدرسة اللاهوتية في أثينا سابقًا، وكان قبل ذلك صاحب عمل في الآستانة، وطُبع هذا الكتاب لأول مرة سنة 1928 وهو ضخم يقع في 248 صفحة، وقال مؤلفه: إن الغرض منه البحث في كيفية تقريب المسيحية إلى ذهنية المسلمين، والمؤلف يعرف التركية، وقد أسرف كثيرًا في الطعن والقذف واعتدى على التاريخ اعتداء فظيعًا بإيراده مسائل وأمورًا ليس لها ظل من الصحة. ويقول المؤلف قبل مقدمة الكتاب، في الصفحة الأولى هذه الملحوظة، وهي: لفت نظر (حين كان هذا الكتاب يُطبع، حصلت أحداث هائلة في دستور الجمهورية التركية، وأهم هذه الأحداث إلغاء المادة التي تقول إن الإسلام دين الجمهورية التركية، وبالتالي تم فصل الدين عن الدولة بعدما كانا نسيجًا واحدًا، لحمة وسدى وكان هذا الالتحام من فجر التاريخ الإسلامي أول مظهر تجلى به شكل الإسلام أنه عقيدة وعمل) .

بيان إلى العالم الإسلامي من جمعية حراسة المسجد الأقصى

الكاتب: عن جمعية حراسة الأماكن الإسلامية المقدسة

_ بيان إلى العالم الإسلامي من جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة بالقدس اليهود يثيرون الفتنة الدموية في فلسطين طمعًا في البراق الشريف والمسجد الأقصى المبارك. إن (جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة) في القدس الشريف قيامًا بواجبها إزاء الفتنة الحالية التي سبَّبها اليهود بتوالي اعتداءاتهم على البراق الشريف - فَجَرُّوا البلاد إلى البلاء الشامل والخسارة العظيمة في النفوس والثمرات - تثابر على خطتها من الأخذ بكل الوسائل المشروعة الجائزة للدفاع عن البراق الشريف والمسجد الأقصى المبارك وسائر الأماكن الإسلامية المقدسة لصد كل طمع عنها يحاوله الطامعون، والجمعية تقوم بهذا من حيث تظل على صلة بالعالم الإسلامي وملوكه وأمرائه وأممه وصحفه وزعمائه وأهل الغيرة والحمية من المسلمين بمواصلة إرسال الأنباء عن الحالة، وعما يجدُّ من الأمور المهمة والحوادث الخطيرة؛ ليقف العالم الإسلامي على ذلك ويعمل وسعه لصيانة مقدسات المسلمين ودرء الأخطار عنها. وهذا موجز ما حصل إلى اليوم في الأسابيع الأخيرة: 1- ضاعف اليهود في فلسطين جهودهم في الأسابيع الستة الأخيرة لامتلاك البراق، ثم ليتدرجوا منه إلى امتلاك المسجد الأقصى بحجة أن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين هو هيكل سليمان، وبحجة أن الوطن القومي اليهودي يظل ناقصًا حتى يملك اليهود مكان الهيكل، وبهذا يصرح كبار زعمائهم. 2- عقد يهود العالم (المؤتمر الصهيوني العالمي السادس عشر) في زوريخ في أواخر شهر تموز (يوليو) وأوائل آب (أغسطس) من هذه السنة، وقد كان من محور المناقشات الحادة والمقررات الإجماعية في هذا المؤتمر استئناف العمل وتحريض يهود العالم على بذل كل ما يستطعيون من قوة لاستعادة الهيكل ولو كلفهم ذلك كل عظيم. 3- أعلن اليهود بلسان مؤتمر زوريخ وبلسان زعمائهم السياسيين والدينيين وصحفهم وجمعياتهم أنهم لا يرضون بما حدده لهم (الكتاب الأبيض) الذي أصدرته منذ نحو عشرة أشهر الحكومة البريطانية من أن يظل القديم على قدمه بحيث لا يجاوز اليهود زيارة الحائط الزيارة المعتادة، والبراق واقع في ملك الوقف الإسلامي البحت، ثم أعلن اليهود سخطهم على (الكتاب الأبيض) وأخذوا يجاهدون بكل قواهم لحمل الحكومة البريطانية للعدول عن العمل بمقتضاه، وهي قد وضعته بعد درسها القضية درسًا مدققًا استغرق عدة أشهر فضلاً عما كان قد سبق لها ملاحظته ومشاهدته من عدوان اليهود على البراق أثناء السنوات الأخيرة. 4- أثناء انعقاد مؤتمر زوريخ وبعده ظهر اليهود في فلسطين بمظهر المتعنت الطامع المحاول الباطل، مما دل دلالة قاطعة وأيدته الوقائع أن هناك خطة مدبرة وصلة وثيقة محكمة بين مقررات مؤتمر زوريخ والحوادث التي اقتحمها اليهود على أثره. 5- في 10 ربيع الأول سنة 1348 - 15 آب (أغسطس) 1929 سمحت الحكومة لليهود بأن يقوموا بمظاهرة، فقاموا بها وكانت مظاهرة ظاهرها زيارة البراق ومرماها محاولة إظهار القوة لامتلاكه فمشوا من الحي اليهودي الذي يبعد من الحرم عدة كيلو مترات إلى البراق الشريف فاحتشدت المئات منهم عنده، ورفعوا العلم الصهيوني، وخطب فيهم خطباؤهم خطبًا هائجة عنيفة شتموا فيها المسلمين كثيرًا، وحرَّضوا جماهيرهم على امتلاك البراق تدريجيًّا لاستعادة الهيكل. 6- وصدرت الصحف اليهودية ومناشير الجمعيات الصهيونية وكلها تحريض ونداء نحو هذه الغاية، وأصدرت حكومة فلسطين بعدئذ بلاغًا رسميًّا بينت فيه أن القصد من مظاهرة اليهود المذكورة لم يكن كله لزيارة (المبكى) أي البراق زيارة دينية مجردة. 7- في 11 ربيع الأول - 16 أغسطس قام المسلمون بمظاهرة كبيرة مقابلة لمظاهرة اليهود في اليوم السابق، فمشوا من المسجد الأقصى إلى البراق الشريف إعلانا لتصميمهم أنهم متمسكون بملكهم، مدافعون عن حقهم، وطيرت البرقيات إلى الحكومة البريطانية، وقدَّمت الاحتجاجات إلى حكومة فلسطين شجبًا لأعمال اليهود ومحاولاتهم المتكررة التي لا تنتهي إلا بسوء العاقبة إذا سُمح لهم بالمثابرة عليها. 8- في 12 ربيع الأول - 17 أغسطس يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم اعتدى اليهود على العرب المسلمين بالقرب من الحي اليهودي، فجرحوا 13 عربيًّا ودافع العرب عن أنفسهم، ثم انقلب اليهود يغدرون بالمارة من العرب في حيهم يترصدونهم للإيقاع بهم ليل نهار. 9- في 16 ربيع الأول - 21 أغسطس كان اليهود ذاهبين بموكب كبير لدفن أحد موتاهم الذي مات في مستشفى الحكومة متأثرًا من جراحه التي أصيب بها في حادثة اعتداء اليهود السابقة، فاجتمعوا مئات عديدة وخطبوا خطبًا مهيجة وشتموا المسلمين، ولما وصلوا بالميت إلى قرب دائرة البريد خارج المدينة القديمة عدلوا عن السير في الطريق العام المعتاد سلوكهم فيها إلى مقبرتهم، وحاولوا أن يحدثوا حدثًا عظيمًا، فأرادوا أن يدخلوا بالميت الأحياء الإسلامية كلها ويأتوا إلى البراق قبل أن يدفنوه تحويلاً لجنازة الدفن إلى مظاهرة لم يسبق لها مثيل نوعًا وشكلاً، فصدَّهم البوليس البريطاني بالقوة، وجرح منهم (23) شخصًا كما أفاد بلاغ الحكومة الرسمي. وكان اليهود بعملهم هذا يرمون إلى الفتنة صراحة، إذ من تقاليدهم التي يراعونها بحسب دينهم مراعاة شديدة أنهم لن يؤخروا دفن ميتهم إلى الصباح إذا كان مات قبل نصف الليل، غير أنهم في هذه الحادثة أبطلوا العمل بتقاليدهم الدينية، فأخَّروا دفن الميت إلى قبيل ظهر اليوم التالي، وكان موته عصر اليوم السابق طلبًا لأسباب الشر والفتنة. 10- فهال أهالي فلسطين المسلمين ما أخذوا يرون في اليهود من التحكك بنار الفتنة، ومن الجرأة الغريبة في محاولتهم اقتحام البراق وامتلاكه والتصرف به تصرف المالك فاحتجت (جمعية حراسة المسجد الأقصى) و (جمعية فرسان البراق) و (جمعيات الشبان المسلمين) في فلسطين والهيئات الدينية على أعمال اليهود ومصارحتهم العرب العدوان مصارحة منافية للحق والقانون، ومعرضة الأمن العام في البلاد إلى خطر كبير. 11- في 18 ربيع الأول - 23 أغسطس خرج المسلمون من صلاة الجمعة من المسجد الأقصى حسب العادة، فلما وصلت زرافاتهم إلى باب الخليل ذاهبين في طريقهم إلى منازلهم وأعمالهم وجدوا اليهود هناك على حالة مريبة جدًّا، وكانت جماهير المسلمين التي خرجت إلى جهة باب العامود قد رأت مثل ذلك من اليهود الساكنين في حي ميشوريم القريب، فسبق أحد اليهود في باب الخليل إلى الاعتداء بإلقاء قنبلة، ثم أطلق اليهود الطلقات النارية على المسلمين فوقع المحذور، وحصل اصطدام قرب باب العامود في الوقت عينه، فاتقدت الفتنة ولم يكن بأيدي المسلمين إلا بعض العصي يحملها الواحد منهم على عادته، فأخذ الرصاص يدوي ولم تكن قوة البوليس كافية فاستعانت بإطلاق النار على المسلمين فقتلت وجرحت منهم، واحتشد اليهود في مبانيهم الكبيرة في حي ميشوريم، وأخذوا يطلقون النار من النوافذ على العرب واستمرت الفتنة على أشدها عدة ساعات، وأقفلت المدينة وتوالى إطلاق الرصاص في أماكن عديدة، وفي العصر حلَّقت الطيارات وجيء بقوات البوليس من الخارج وفي الساعة السادسة أعلنت الحكومة منع التجوال من السادسة ونصف مساء إلى السادسة صباحًا، وانقضى الليل والرصاص لم يهدأ حتى الصباح. ولم تزل الحالة في القدس إلى هذا التاريخ غير اعتيادية رغم تكاثر القوة العسكرية وتحليق الطيارات يوميًّا، فحوادث القتل والاعتداء يوالي مزاولتها اليهود في أطراف الأحياء التي يسكنونها، ولم تنقض ليلة إلى الآن منذ 18 ربيع الأول دون أن يثابر على إطلاق النار الليل كله أو معظمه في ضواحي المدينة. وبلغ عدد شهداء المسلمين في القدس العشرات، ولم يمكن إحصاء الإصابات إحصاء مضبوطًا إلى الآن وبلغ عدد الجرحى في القدس مبلغًا كبيرًا. امتداد الفتنة إلى أنحاء فلسطين في الخليل: وامتدت الفتنة إلى الخليل يوم السبت 29 ربيع الأول 25 أغسطس، فقُتل من المسلمين ثمانية، وجُرح عدد لم نعرف صحته بعد. في يافا: وحصل اصطدام عنيف في يافا يوم الأحد 20 ربيع الأول - 25 أغسطس، فقتل وجرح من المسلمين برصاص الجنود البريطانية عدد لم يُعرف بعد. في حيفا: قام اليهود وباشروا مهاجمة العرب بالسلاح، فدافع العرب عن أنفسهم وعائلاتهم، وفي اليوم التالي وصلت البارجة البحرية (برهم) تحمل الجنود والطيارات والأعتاد الحربية، فكان العرب بقرب الرصيف يشاهدونها، وبينما هم على هذه الحال إذا بجنود الدراعة يطلقون عليهم النار بغتة بلا سبب ولا إنذار فقُتل 27 عربيًّا وجُرح 59. في بيسان وضواحيها: ووقع قتال في بيسان والأماكن المجاورة، ولم تُعرف تفاصيل الحوادث وعدد الإصابات بعد. في صفد: وحصل اصطدام شديد في صفد بين المسلمين واليهود مساء 24 ربيع الأول - 29 أغسطس لم تُعرف تفاصيله بعد. في غزة والرملة: اشتد الاضطراب في غزة وقامت المظاهرات، فنقلت الحكومة اليهود من هناك إلى تل أبيب المستعمرة اليهودية الكبيرة قرب يافا، وهاج مسلمو الرملة واللد والسبع هياجًا كبيرًا. في نابلس: ووقع اصطدام كبير في نابلس بين الأهالي والبوليس فجُرح 9 من المسلمين. في سائر أنحاء البلاد: وعم الاضطراب جميع أنحاء البلاد من بئر السبع جنوبًا إلى الحولة شمالاً. الشهداء والجرحى أخذت حكومة فلسطين تصدر نشرات رسمية منذ نحو أسبوع في بيان الحالة العامة في البلاد، وجاء في النشرة المؤرخة في 29 أغسطس أن عدد الإصابات لغاية الساعة الثامنة من صباح 28 آب حسب أنباء المستشفيات ما يلي: ... ... ... ... ... ... مسلمون مسيحيون يهود المجموع القتلى ... ... ... ... ... ... 63 ... 4 ... 97 164 الجرحى الذين في المستشفيات ... ... 113 ... 9 ... 150 272 الجرحى الذين خارج المستشفيات ... ... لم يرد نبأ عن عددهم بالضبط غير أن شهداء المسلمين وجرحاهم يفوق العدد الذي جاء في النشرة الرسمية المؤرخة في 29 أغسطس؛ لأنه لم يمكن إلى الآن القيام بإحصاء دقيق لإصابات المسلمين، وقد قالت النشرة المذكورة إن هذه الأرقام التي ذكرتها لا تشمل الإصابات التي أوقعتها القوات المسلحة في إخماد الاضطراب والتي لم تصل إلى المستشفيات. 13-ومع أن القوات العسكرية قد ازدادت بوصول النجدات من مصر ونزول قوات عسكرية من البارجتين اللتين رست إحدهما في يافا والأخرى في حيفا، فالحالة العامة في البلاد تسير باضطراب. الفظائع تنزل بالمسلمين ثبت أن كثيرًا من اليهود مسلحون، وأن كثيرًا منهم في القدس كانوا يرتدون الألبسة العسكرية، ويتقلدون البنادق، ويتصيدون العرب في الطرق والأماكن المنعزلة، وقد راع العرب تسلح اليهود وتخطفهم للعرب تحت هذا الزي وبعد الاحتجاج للحكومة عثرت الحكومة على بعض المتسلحين منهم. وتوزع الحكومة القوات العسكرية في البلاد بنشاط كبير، وقد كانت هائلة جدًّا الخطة التي باشرت القوات العسكرية العمل عليها من رمي المسلمين بالنار رميًا بلغ حد الفظائع الرائعة بلا سبب وبلا إنذار، بل بحجة التفتيش دون أن يعثروا على أي شيء مما تفتش القوات عليه، وقد سقط أكثر شهداء المسلمين وجرحاهم برصاص الجيش البريطاني والبوليس البريطاني ففي قرية (صور باهر) الواقعة في الضاحية الجنوبية في القدس ذهبت حملة عسكرية باكرًا صباح 28 أغسطس مجهزة بالرشاشات والد

منشور المندوب السامي في فلسطين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منشور المندوب السامي في فلسطين (حدثت الفتن الأخيرة في فلسطين والمندوب السامي البريطاني مصطافًا في بلاده بالإجازة، وقد تعجل العودة، ولم يلبث بعد وصوله إلى القدس أن نشر في البلاد بلاغًا دل على تحيزه إلى اليهود والصهيونية هذا نصه) . عدت من المملكة المتحدة فوجدت بمزيد الأسى أن البلاد في حالة اضطراب، فأصبحت فريسة لأعمال العنف غير المشروعة. وقد راعني ما علمته من الأعمال الفظيعة التي اقترفتها جماعات من الأشرار، سفاكي الدماء، عديمي الرأفة، وأعمال القتل الوحشية التي ارتكبت في أفراد من الشعب اليهودي خلوًا من وسائل الدفاع بقطع النظر عن عمرهم، وعما إذا كانوا ذكورًا أو إناثًا، والتي صحبتها - كما وقع في الخليل - أعمال همجية لا توصف، وحرق المزارع والمنازل في المدن وفي القرى ونهب وتدمير الأملاك. إن هذه الجرائم قد أنزلت على فاعليها لعنات جميع الشعوب المتمدنة في أنحاء العالم قاطبة. فواجبي الأول أن أعيد النظام إلى نصابه في البلاد، وأن أوقع القصاص الصارم بأولئك الذين سوف يثبت عليهم أنهم ارتكبوا أعمال العنف، وستُتخذ التدابير الضرورية لإنجاز هاتين الغايتين، وبناء عليه أطلب من جميع سكان فلسطين أن يساعدوني على القيام بهذا الواجب، ووفاقًا لتعهد أعطيته للجنة التنفيذية العربية قبل مغادرتي فلسطين، في شهر حزيران المنصرم تباحثت في أثناء وجودي بإنكلترة مع وزير المستعمرات بشأن إجراء تغييرات دستورية في فلسطين، غير أني سأؤجل هذه المباحثات مع حكومة جلالته بسبب الحوادث الأخيرة. ولكي أضع حدًّا للأخبار الملفقة التي ذاعت أخيرًا حول موضع حائط المبكى (البراق) أعلن لعموم الأهالي بأنني عازم - وحكومة جلالته موافقة - على تطبيق المبادئ التي ينطوي عليها الكتاب الأبيض الصادر في 19 تشرين سنة 1928 بعد تقرير الطرق لتطبيقها. صدر هذا اليوم الأول من شهر أيلول سنة 1929 ... ... ... ... ... ... ... المندوب السامي والقائد العام ... ... ... ... ... ... ... ... ج. ر. تشانسلور احتجاج اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني على منشور المندوب السامي على إثر المنشور الذي أصدره فخامة المندوب السامي مساء يوم أول أيلول الجاري أبرقت اللجنة التنفيذية العربية في فلسطين البيان التالي تعريبه إلى فخامته. اطّلع عرب فلسطين بدهشة عظيمة على منشور فخامتكم الصادر في 1 أيلول 1929، ولم يكن أحد منهم يتوقع أن يرى (إغفال) الحقائق التي عرفها القاصي والداني، والتي اعترفت بها الحكومة وهي: 1- أن أكثر اليهود كانوا مسلحين من أنفسهم. 2- أن الحكومة قد سلَّحت عددًا منهم. 3- أنه لا يوجد في قتلى اليهود تمثيل أو تشويه حتى في الخليل كما يؤيد هذا تصريح إدارة الصحة العامة البريطانية في فلسطين. 4- أن بعض قتلى العرب قد مثَّل اليهود بهم. 5- أن جموع اليهود قد قتلت نساء وأطفالاً من العرب على الانفراد. 6- أن اليهود هم الذين بدأوا في قتل النساء والأطفال من العرب. 7- أن الجنود البريطانية النظامية قتلت النساء والأطفال والرجال من العرب في بيوتهم وعلى فرشهم في قرية صور باهر وغيرها. 8- أن اضطرابات فلسطين السابقة والحالية إنما هي ناشئة مباشرة عن السياسة البريطانية الصهيونية التي ترمي إلى إفناء القومية العربية في وطنها الطبيعي لكي تحل محلها قومية يهودية لا وجود لها. كل هذه الحقائق لم يكن أحد من العرب يتوقع إغفالها في منشور صادر على عجل وسابق لأوانه، وتعلمون فخامتكم أن عرب فلسطين قد خسروا كل شيء من جراء هذه السياسة الصهيونية فلا يهمهم أي زيادة في الخسارة، وعليه فإن الجنود البريطانية ستجدهم عُزَّلاً من السلاح عند إنزال أي ضربة بهم، فإن كان لم يزل ثمة عدالة يحق للعرب أن يطلبوا نصيبهم منها، فهم يلحون بطلب إجراء تحقيق نزيه من قبل أشخاص من خارج فلسطين، لا يتأثرون أثناء قيامهم بواجبهم نحو العدالة بالنفوذ الصهيوني. وإن التحقيقين اللذين أُجريا في فلسطين في ظروف مماثلة سابقة من قبل لجان بريطانية قد أظهرا للملأ مطالب العرب الحقة ومقاصدهم القومية النبيلة، كما أظهر مصائبهم السياسية. إن العرب يعتقدون كل الاعتقاد أن تحقيقات نزيهة كتلك ستروي للعالم حكاية حالهم الآن في هذه الاضطرابات الحاضرة رواية أكثر صدقًا مما صورتموه للعالم في منشوركم الصادر قبل إعطاء العرب فرصة لاستماع صوتهم، وعندئذ يرى العالم أن اليهود الذين تجاوزوا التحرش السياسي إلى الديني، والذين أصبح تحرشهم في المدة الأخيرة مما لا يحتمل - كما صرَّحت بهذا الحكومة - والذين كانت أعمالهم الفظيعة في هذه الاضطرابات ينطبق عليها كلام فخامتكم في منشوركم بحق العرب، هم المسئولون أولاً عن الاضطرابات الحالية السياسية التي تؤيد ثانيًا. وإن مثل هذا المنشور كان ينبغي إصداره بعد إجراء التحقيقات التي ينشدها العرب وليس قبل إجرائها، فلذلك نحن نتأكد أنكم لو أعدتم النظر في الحالة الحاضرة لوصلتم إلى حكم عادل. ... ... ... في 28 ربيع الأول سنة 348 الموافق 2 أيلول 929 ... ... ... ... ... رئيس اللجنة التنفيذية العربية ... ... ... ... ... موسى كاظم الحسيني ... ... ... ... ... ... ... الأمناء ... ... ... مغنم إلياس مغنم. عوني عبد الهادي. جمال الحسيني *** احتجاج جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة وجوابها على منشور فخامة المندوب السامي جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة بالقدس تتلقى بمزيد الدهشة والأسف استعجال فخامتكم في إصدار منشور 1 أيلول سنة 1929، الذي يحمل على العرب حملة غير عادلة مغفلاً ما اقترفه اليهود في يافا والقدس وغيرهما، وقام به الجنود البريطانيون في صور باهر وقالونية وحيفا من الفظائع والقتل في الأطفال والنساء والشيوخ من العرب، وهم عُزَّل من السلاح بعضهم عابر سبيل وبعضهم في بيته أو في صلاته، وهي تلفت نظر فخامتكم إلى ما يأتي: 1- إن إصدار الحكم في المنشور بناء على دعاية اليهود فقط، ومن غير أن تسمعوا الطرف الآخر، أو قبل أن يجري التحقيق من قِبَل هيئة عادلة غير متحيزة ولا متأثرة من النفوذ الصهيوني، هو ليس من العدل. 2- إن تغاضيكم في المنشور عما اقترفه اليهود والجنود البريطانيون من الفظائع في هذه الفتنة، وعدم تحميلكم المسئولية عن المسببين والبادئين سيتلقاه العرب خاصة، والعالم الإسلامي عامة بمزيد الدهشة والاستياء. 3- يخشى أن تكون لهجة المنشور قد فهم منها اليهود تحريضهم وإغراءهم لأنهم لم يكادوا يتلقون هذا المنشور حتى قاموا في ذات الساعة بالتعدي على أحمد محمد عوض من لفتا أثناء مروره في الطريق وتهجموا عليه مئات يتناولونه بما في نفوسهم من غل لكمًا وضربًا حتى قضى نحبه في ذات الليلة متأثرًا من تلك الضربات الهمجية. 4- إن التسرع في الحكم القاسي يخشى أن يكون له أثره في الهيئات القضائية والهيئات التحكيمية مما يتنافى مع الرغبة في أن يأخذ العدل مجراه. 5- إن تهمة التمثيل في قتلى اليهود في الخليل ثبت لدى موظفي دائرة الصحة العامة من الإنكليز بطلانها وفسادها، وهي بلا ريب من أنواع دعايات اليهود الباطلة. 6- إن العرب عاشوا هم واليهود الوطنيين في هذه البلاد قرونًا طويلة من غير أن يتعدى بعضهم على بعض، أو يسعى فريق منهم لأن يجعل البلاد المقدسة التي هي مقر الأديان ومهبط الأنبياء ميدانًا لإثارة الفتن وإراقة الدماء، فلا يصح أن يوصم فريق العرب الذي اعتدي عليه جهارًا وتحرش به علنًا كما تعترف الحكومة، فقام يدافع عن نفسه وعن نسائه وأطفاله الذين قُتلوا ومُثِّل بهم وهم عُزَّل من السلاح، فلا يصح أن يوصم هذا الفريق المدافع المعتدى عليه بالهمجية والتوحش وحب سفك الدماء، وهذه القرون الماضية الطويلة شاهدة. فكان من واجب العالم المتمدن الذي صببتم لعناته على غير مستحقيها أن يفتش عن السبب الذي جعل مهبط الأنبياء ومقر الأديان ميدانًا واسعًا للفتن، فيسعى في إزالة هذا السبب باسم المدنية والإنسانية، وبذلك تعود فلسطين إلى ما كانت عليه من الهدوء والسكينة والاطمئنان. 7- نستغرب جدًّا أن يحمل المنشور في أمر التخريب والإحراق على العرب فقط، ويغفل ما قام به اليهود من هذا القبيل وحرقهم ونهبهم بيوتًا كثيرة وتعديهم على مقام الصحابي المشهور (سيدنا عكاشة) وهدم قبره وقبر المجاهدين حوله وإحراقها بعد تمزيق الستائر. 8- إن اليهود الذين أثار حماستهم وهاج هائجهم مقررات المؤتمر الصهيوني الذي عقد مؤخرًا في زوريخ، هم البادئون في الاعتداء والمثيرون لهذه الفتنة بالمظاهرة العنيفة التي قاموا بها في مكان البراق الشريف يوم 14 آب لأسباب لا تنحصر بالصلاة العادية وهم يحملون العلم الصهيوني ويخطبون الخطب كما جاء في بلاغ الحكومة الرسمي، وكانت خطبهم تحمل أنواع السباب والشتائم للمسلمين، ومن جهة أخرى ابتداؤهم في الاعتداء يوم 16 و17 و18 منه على العرب المنفردين في الأحياء اليهودية من رجال ونساء وأطفال، وإن حوادث قتل النساء والأطفال بدأت منهم. 9- إن العرب الذين لم تُبق لهم السياسة الحاضرة ما يأسفون عليه من حق سيتلقون مسلِّمين بصدرهم وهم عُزَّل من السلاح رصاص الجنود البريطانيين فيما إذا رأت الحكومة أن سياسة الوطن القومي تقضي بالبطش بهم، وإزهاق نفوسهم وإزالتهم من الوجود. فالعرب مع احتجاجهم الشديد على هذا المنشور يطلبون أن تقوم هيئة عادلة من الخارج لا يجد النفوذ الصهيوني إلى وجدانها إزاء واجب العدل سبيلاً بتحقيق دقيق في هذا الأمر، وحينئذ سترون فخامتكم أن لعنات العالم المتمدن ستنصب على المسببين وحدهم، كما أنهم يأملون إصدار منشور آخر بعد اطلاعكم على فظائع اليهود في يافا والقدس وغيرهما. ونحن واثقون بأن كل تحقيق عادل يجري بهذا الصدد سيكون حتمًا لصالح العرب، وسيظهر أن المسئول عن هذه الفتنة اثنان لا ثالث لهما: الأول: اليهود الذين تجاوزوا بمطامعهم واعتداءاتهم كل حد حتى المقدسات والحقوق الدينية. الثاني: السياسة غير العادلة وغير الطبيعية التي تعضد اليهود في مطامعهم واعتداءاتهم، والتي قضت بتأخير تنفيذ الكتاب الأبيض الصادر منذ عشرة أشهر. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. ... ... في 29ربيع الأنور سنة 1348 في 3 أيلول سنة 1929 ... ... جمعية حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة (المنار) إذا كنا نعتقد اعتقادًا جازمًا عن بحث وروية أن الإنكليز قلما أقدموا على عمل استعماري على جهل وقصر نظر كإقدامهم على جعل فلسطين وطنًا قوميًّا لليهود، وأنه لم يُعرف في تاريخهم ظلم مشوه مفضوح كظلمهم في فلسطين، وأن هذا العمل الذي قصدوا به إضعاف الأمة العربية وتقطيع أوصالها والحيلولة بين أقطارها المستعدة للوحدة لتسهيل استعبادها هو الذي يرجى أن يأتي بضد كل ما أرادوا من السوء والشر بالعرب، كما نعتقد اعتقادًا دينيًّا واستدلاليًّا أن اليهود لن ينالوا ما يبغون من إعادة ملك إسرائيل في هذه البلاد، ونظن ظنًّا راجحًا قويًّا أن الإنكليز يعتقدون اعتقادنا هذا، وأنهم يخدعون اليهود ليتخذوهم قوة لهم يهددون بهم العرب ويهددونهم بالعرب، وإنما كنا نخشى من دهاء الإنكليز ومكر اليهود أن يسيروا في خطتهم المشتركة بالحكمة والصبر والرفق والمداراة إلى أن يسلبوا من عرب فلسطين جل رقبة الأرض، ويجعلوهم كالأجراء فيها؛ ولكن الله سلَّم ورحم

الآراء في مشروع الاتفاق الجديد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الآراء في مشروع الاتفاق الجديد بين مصر وإنكلترة اتفقت الآراء على أن هذا المشروع الذي جاء به صاحب الدولة محمد محمود سليمان باشا هو أمثل من كل مشروع رضيت به الدولة البريطانية من قبل، واتفقت أيضًا على أنه ليس بالاستقلال التام المطلق الذي ينشده الشعب المصري، وكثر المؤيدون له في الصحف والمجالس من أفراد الشعب على اختلاف مشاربهم ومشاهدهم في السياسة، وقل الناقدون له منهم. وأما الأحزاب فاختلفت أقوالها فيه: قَبِلَه الحزب الحر الدستوري بالطبع، لا لأنه يعده ثمرة لمفاوضة رئيس هذا الحزب للدولة البريطانية فقط، بل لأن سياسة هذا الحزب مبنية على أساس الاتفاق مع هذه الدولة والقناعة منها باستقلال إداري واسع النطاق بقدر الإمكان، وما زال كبار رجاله موضع ثقة رجالها منذ أُسس إلى هذا اليوم. قَبِلَه الحر الدستوري بِعُجَرِهِ وَبُجَرِهِ، ووعد الحزب الوطني ببيان ما ينطوي عليه من المضار والخطر، وقرر حزب الاتحاد أنه صالح لأن يكون قاعدة لوضع معاهدة بين الدولتين، وكثير من الأفراد المنكرين يقول بذلك بشرط أن يبين في المعاهدة ما فيه من إجمال، ويفسر ما أودعه من إبهام، ويقيد بعض ما تضمنه من إطلاق، ووجوب تضمن صيغة المعاهدة لهذه الثلاث هو الذي أعقله وأراه. وأما الوفد أو الحزب السعدي الذي يمثل سواد الشعب الأعظم فأمسك عن بيان رأيه فيه، وقال: إن الحق في الحكم فيه للبرلمان المصري الذي يمثل الشعب التمثيل الصحيح الذي قرره قانونه الأساسي، فهنالك تحت قبة البرلمان نبين رأينا فيه، فتبارت أقلام حزب الوزارة وأقلام أشياعها في الطعن على الوفد وزعمائه، وعاد السباب والقذف بأفحش الشتائم إلى شر مما كان في عهد الشقاق الأول بين السعديين والدستوريين الذي استمر إلى عهد الائتلاف المعلوم. لقد كنت أخشى هذا وأحاذره متوقعًا له إذا وفق محمد محمود باشا بافتراص سياسة وزارة العمال في إنكلترة لإقناعها بإنصاف مصر والاتفاق معها على ما يرضاه الشعب المصري وتحفظ به المصالح البريطانية، فكتبت مقالة (الحالة السياسية العامة في مصر) التي نشرتها في الجزء الثاني الذي صدر بتاريخ غرة صفر (8 يوليو) راجيًا أن تكون بما قررته من الحقائق الناصعة المبرأة من الهوى والتشيع تمهيدًا لائتلاف جديد نهائي يسعى له سعيه بعض الأمراء والكبراء لخير مصر ومصلحة حاضرها ومستقبلها. وقد كان حاضر مصر إلى وقت كتابة تلك المقالة شر حاضر ينذر شر مستقبل: أمة مغلوبة على أمرها بالاستبداد البريطاني الذي سلبها ما اعترف به لها من الاستقلال بقرار الوزارة البريطانية وتصديق البرلمان البريطاني، وحكومة (دكتاتورية) عطلت الحكومة الدستورية وفضت برلمانها، ورضيت أن تكون خاضعة لسيطرة أطغى مستبد بريطاني عرفته مصر، لا يرضى أن يُحل فيها ولا أن يُعقد أمر من الأمور الداخلية المحضة إلا برضاه، دع ما يمس التحفظات من قرب، أو يومئ إليها من بعد، تؤيده دولة معروفة بنقض العهود، وإخلاف الوعود، ونكث الأيمان بالتأويل، الذي تتبرأ منه جميع اللغات والشرائع والقوانين، طردت الموظفين المصريين والجنود المصريين من السودان، وانفردت بإدارته وسياسته وحدها، من بعد أن كان ادعاؤها حق المشاركة لمصر في إدارته ظلمًا واستبدادًا لا مسوغ له، فماذا عسى أن يكون مستقبل بلاد هذا حاضرها؟ كان ذنب محمد محمود عند الوفد وسواد الأمة من ورائه أنه رضي في هذه الحال السوءى التي تنذر المستقبل الأسوأ أن يتولى الوزارة ويقبض على عنق البلاد بيد من حديد، وأن يتحلى بلقب (دكتاتور) وهو يعلم أن القوة السلبية في الأمم الضعيفة تفعل ما لا تفعل القوة المادية التي يفوقها الخصم فيها أضعافًا، ويعلم أن أعظم مظهر لهذه القوة السلبية في مصر ما كان من امتناع رجال الحكومة كبيرهم وصغيرهم من إدارة الأعمال تحت سيطرة الحماية الإنكليزية في إبان الثورة، وبهذا وحده علم الإنكليز يومئذ أنه يتعذر عليهم إدارة أمور البلاد كما كانوا يديرونها في السنين الخالية بأسماء الوزراء الوطنيين الجبناء الذين أطلق الأستاذ الإمام على مجلس نظارهم لقب (جمعية الصم والبكم) وأنه كان يريد بهذه الوزارة القضاء على وحدة الأمة المعتمدة على وفدها في السير إلى الاستقلال المطلق كما قضى على حكومتها، وأن يقوي حزبه المشايع للبريطانيين في ثلاث سنين مقدرة ليكون صاحب الأكثرية في البرلمان الموعود به بعدها فيعمل للإنكليز ما يريدون. وكان عذر محمد محمود عند نفسه كما قال مرارًا وعند المؤمنين بصدق وطنيته أنه لم يكن في ذلك الحين بد من الخروج من تلك الحالة السوءى بحكومة تتزاور عن ذلك الضغط البريطاني المرهق، وتتحامى الوقوف في وجهه في إبان طغيانه؛ لأنه يجرف كل ما يصادفه أمامه لا محالة، وأنه كان يرجو أن يشاركه رجال الوفد في هذه الوزارة التي تألفت للنهوض بأعباء الإصلاح الداخلي بمعزل من ميدان المناطحة مع الإنكليز إلى أن تتحول تلك الحال - ودوامها من المحال - وأنه لم خاب أمله وبرز الوفد لمكافحته اضطر إلى الكفاح كارهًا له، وقد سمعت من بعض هؤلاء المحسنين للظن فيه من يقول في أول العهد بهذا الكفاح أنه لو علم أن سيعجز عما كان يؤمّل ويضطر إلى هذا النضال لما أقدم على تأليف الوزارة. والله أعلم. من أجل ما ذكرت هنا وهناك من الرأي في رجولة محمد محمود باشا ووطنيته، مع العلم بقلة الرجال - كنت أحب أن يقوم بما له من الحظوة عند الإنكليز التي كانت تزداد مظاهرها آنًا بعد آن بآخر تجربة في التوفيق بين مصلحتهم الأساسية في مصر واستقلالها المطلق مع سودانها، مع عقد محالفة مرضية بينهما، وأن يتفق مع الوفد على ذلك سرًّا إن لم يكن جهرًا، وأن يعلِّق بقاءه في الوزارة على هذه المحالفة بأن يستقيل إذا لم يقبلوا، ثم يتفق مع الوفد سواء قبلوا أو لم يقبلوا، وهذا هو الذي أملى علي تلك المقالة التي نشرتها في الجزء الثاني من منار هذا العام، علمًا بأنها لا ترضي جمهور حزب الوزير، ولا جمهور حزب الوفد لكراهة كل من الفريقين لإنصاف الآخر، والاعتراف بأي مزية أو فضيلة له، وإنما ترضي بالطبع محبي الحق والعدل والإنصاف من كل منهما ومن غيرهما، ولا يعنيني بعد تحري مرضاة الله تعالى إلا مرضاة من يحبون ما يحب الله من الحق والعدل، والرجاء في سعيهم للاتفاق والصلح. وقد علمت أن بعض الكتاب من أنصار الوفد انتقد المقالة في بعض صحفهم على أنني كنت فيها أقرب إلى تأييد سياستهم الأساسية في المسألة المصرية، كما أنني كذلك في نفسي على انتقادي لبعض تصرفهم، ثم رأيت هذا المنتقد في النادي السعدي في أثناء إلمامة لي به، فبهتني بأنني صرحت في المقالة بعدم الحاجة إلى مجلس النواب مطلقًا! ! ولم يمنعه إنكاري لذلك وتأييد بعض قراء المنار من أعضاء الوفد الحاضرين لي في الإنكار من الإصرار عليه؛ ولكنني علمت من غير واحد منهم أن النائب الذي طعن على القرآن في مسألة تعدد الزوجات لم يفُه بذلك في المجلس، كما قلت في المقالة؛ وإنما ذكره في مقالة نشرها في جريدة الأهرام، قال بعضهم: ولو قاله في المجلس لأقمنا عليه النكير، فأنا أستغفر الله من هذا الخطأ الذي كان عالقًا بذهني مما قرأت من الرد على ذلك النائب الملحد، ولو ظهر لي خطأ آخر لرجعت إلى الصواب بعد ظهوره بكل ارتياح، ولا أبالي من يرضيهم إلا اتباع أهوائهم، ومتى كان طالب الحق لذاته مقلدًا للأفراد أو متعصبًا للجماعات؟ وإنما أكتب أحيانًا في المسائل السياسية لأجل أن أُسمع من استطعت من الناس صوت الحق فيها لقلة من يقوله، عسى أن أكون من الصدِّيقين والشهداء. أعود بعد هذا إلى مسألة الصلح بين الوفد ومحمد محمود باشا فأقول: أخبرني بعض من قرأ مقالتي في الجزء الثاني أنه قد وجد من سعى لها سعيها وأجلهم عدلي باشا يكن، فما أفاد ذلك السعي نجاحًا. ولما حمل مشروع الاتفاق محمد محمود باشا في لندن أرسل بلاغًا إلى الجرائد قال فيه إنه نال ما نال من النجاح بجهاد الأمة وقوة الأمة لا بحوله وقوته، وإنه يدعو الأمة كلها إلى النظر فيه بعيني المصلحة لمصر لا بالأعين الحزبية، وإنه لوَّح للمخالفين المعارضين له بغصن الزيتون، فإن جنحوا للسلم والاتفاق جنح لها، وإلا فلا لوم لهم إلا على أنفسهم - أو ما هذا معناه - وقام أناس آخرون يسعون للصلح؛ ولكن الجرائد المنتصرة لكل فريق قد أسرفت في الطعن وتوسيع مسافة الخُلف، وظل الوزير نفسه معتصمًا بعصبية حزبه، فصار معنى الاتفاق خضوع الوفد له وقبوله أن تتولى وزارته أمر انتخاب أعضاء البرلمان الجديد الذي له الحكم الفصل في مشروع الاتفاق المعروض من قِبَل الحكومة الإنكليزية ليكون لها باستخدام نفوذ الحكومة وأموالها أعضاء كثيرون من الدستوريين وغيرهم يشدون أزرها، ويمنحونها من الثقة ما يرجى أن تثبت به، وتكون هي التي تعقد المعاهدة مع الدولة البريطانية وتتولى تنفيذها، فيتم بذلك مجدها ومجد أنصارها، ولعلمهم بقوة نفوذ الوفد في الأمة يريدون أن تضع هذه الوزارة قانونًا للانتخاب يكون فيه على درجتين، وتلغي القانون الذي وضعه البرلمان المقرر للانتخاب من قِبَل الأمة مباشرة؛ لأن السواد الأعظم من الأمة لا يثق إلا بالوفد، وتأثير نفوذ الحكومة في الأفراد المعدودين المعروفين أدنى من تأثيره في الدهماء. والوفد يأبى أن تتولى هذه الوزارة (الدكتاتورية) المطلقةُ السلطانِ إعادةَ بناء ما هدمت من حكم الدستور والبرلمان، بعد أن كان منها ما يعدونه عليها من الأعمال، ويُصر على إسقاط هذه الوزارة ونوط أمر الانتخاب بوزارة حيادية تنفذ القانون الذي وضعه مجلس النواب الأخير، ويقول: إن هذا المشروع الذي حمله محمد محمود من لندن لم يكن ثمرة مفاوضته ولا أثر سعيه، فإنه صرَّح بأنه لم يذهب إلى أوربة لأجل المفاوضة في المسألة المصرية، وأنها لم تكن تخطر له ببال، وإنما المشروع ابتداع أتى من وزارة العمال الجديدة التي أخذت على عاتقها حل جميع المشكلات البريطانية الخارجية، أعطي له ليعرضه على الأمة المصرية لأنه صاحب الصفة الرسمية، لا لأن له يدًا فيه، ويقول بعضهم: إن الوزارة البريطانية عرضت عليه ثلاثة صور للاتفاق اختار هذه الصورة منها، ومن المعقول أنه اقترح بعض التعديل والتنقيح فيها فقُبل. وقد اقترح بعض أنصار هذه الوزارة أن تستفتى الأمة في المشروع بجمع جمعية وطنية لهذا الغرض وحده؛ ولكن الحكومة البريطانية لا ترضى بهذا الاستفتاء؛ لأن شرطها أن تُعرض على برلمان مصري قانوني، فيكون له الحكم فيه، والذي استقر عليه حزب الوزارة وأنصارها أخيرًا أن تؤلف وزارة ائتلافية من جميع الأحزاب والمستقلين، ويُبنى الانتخاب على قبول المشروع أو رفضه، ويأبى الوفد هذا ويعده غير قانوني؛ لأنه يقيد حرية الأمة ويفرض عليها أن تقبل المشروع أو ترفضه بنفس الانتخاب لا برأي البرلمان المنتخب. وجملة القول: إن الوفد لم يصرح برأيه في مشروع الاتفاق، وإنه يصر على رأيه الذي بيناه آنفًا، وحزب الوزارة وأنصار مشروع الاتفاق منهم ومن غيرهم يخشون في هذه الحالة أن ينتهي الأمر برفض الاتفاق؛ لأن المنتظَر أن يكون البرلمان الجديد وفديًّا كما سبق، وأن يرد الاتفاق؛ لأن الفضل فيه لمحمد محمود باشا؛ ولأنه دون الاستقلال المطلق الذي أسس الوفد للسعي له، حتى إن رضا

الأزهر الأزهر والدين في هذا العصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأزهر الأزهر والدين في هذا العصر نُشر في المقطم مقال لصاحب السمو الأمير محمد علي عنوانه (الدين في هذا العصر والجامع الأزهر) كان له تأثير حسن في الجمهور الإسلامي بموضوعه ومكانة صاحبه؛ فإن كل مسلم يسره أن يرى من أمرائنا من يعنى بأمر الدين في هذا العصر الذي شغلت الأمراء زينة الحياة الدنيا ولذتها عن الدين، لذلك أكبر المسلمون مقال الأمير محمد علي في الدين والأزهر، وأثنوا بما يليق بمقام سموه، ولم ينتقده في الجرائد إلا قليل منهم ولكن بما يليق بذلك المقام من حسن الأدب. بدأ الأمير مقاله بما رآه في ممالك أوربة (من الجنوب إلى الشمال) من الهمم المبذولة والعزم الصادق في إصلاح ما أفسدته الحرب العالمية من تجارة وصناعة وعلم وعمل ولا سيما الاستعداد للحرب … وانتقل من ذلك إلى ما هو أهم منه وأخفى على جماهير المسلمين في هذه البلاد وغيرها وهو ما رآه في بلاد أوربة من التيار الديني الجديد الذي (يرمي إلى [*] ما كان للدين من شوكة وسلطان، وناهيك بما يبذله رجل الكنيسة وطوائف المبشرين العديدة، ومن تبعهم من أرباب الملل والعلم والقلم لاستعادة نفوذ الدين وسيطرته على ولاة الحكم ومعاهد التعليم، بل على الأسر والناشئة الجديدة) ... إلخ. ثم ذكر سموه أن هذه الحالة النفسية الجديدة التي رآها في بلاد الغرب هذه المرة حملته إلى إنباء إخوانه في الشرق (بما يجري ويدور هنا من فاتحة القرن العشرين ليكونوا على بينة من الأمر فيعتبروا ويتقوا الله في دينهم ولا يصغوا لضلالات فرقة ظهرت بينهم تريد أن تضلهم عن سبيل الله باسم العلم العصري والمدنية العلمية) . وقفّى على هذا بقوله (إن هذا الموقف الجديد الذي أحرزه العامل الديني بين الجماعات الأوروبية، ونموه السريع، بهذا الشكل المريع (؟) في مدة قصيرة من الزمن ساقاني إلى التفكير فيما يجري في هذه الآونة في بلاد الشرق من الاضطراب في الأفكار بشأن هذا العامل، فبينما نرى طائفة ظهرت حديثًا تسعى في محاربة الدين وهدمه نجد المتمسكين بدينهم من عقلاء المسلمين ومتنوريهم جامدين كالأموات لا يتحركون، وأما السواد الأعظم من المسلمين فهم في ظلمات الجهل والخرافات يعمهون، حالة والله تبكي من بقي في قلبه ذرة من الإيمان) ... إلخ. كل هذا حسن، وهو الذي أُعجب به المسلمون وأكبروا صدوره عن أمير من أشهر أمرائهم، ثم استطرد الأمير إلى ذكر الأزهر وتساءل عن علماء الأزهر وطلابه، قائلاً (ألا يجب على الأزهريين أن يكونوا في هذه الظروف العصيبة في مقدمة من يتتبعون الحركة الدينية في العالم) ... إلخ؛ ولكن كانت نتيجة ما ذكره سموه من تفكيره الطويل في حال الجامع الأزهر، وما أوجبه على الحكومة المصرية وعلى كل مسلم (لإنقاذ هذا المعهد الجليل مما أصابه من الأمراض) مباينة لجميع تلك المقدمات من كل وجه. تكلم في تاريخ الجامع الأزهر منذ تأسيسه إلى الآن بما يخالف الواقع إلا قليلاً، وارتأى في إصلاحه آراء يتعسر تحديدها وتمحيصها، ويتعذر تنفيذها؛ ولئن نُفذت على الوجه الذي ذكره لتكونن من أكبر الكوارث على الأزهر وعلى الدين الإسلامي الذي يغار عليه سمو الأمير بحق، ولا يمكن بيان هذا كله بالتفصيل إلا بكتابة رسالة طويلة أو مقالات كثيرة لا حاجة بنا إلى أكثرها الآن، ولا سيما القسم التاريخي منها، كالغرض من بناء الشيعة الباطنية للأزهر وحالهم في دينهم وسياستهم، والعلوم التي كانت تُقرأ فيه في عهدهم، والأطوار التي مرت عليه من بعدهم، وكذلك الذين وقفوا عليه الأوقاف، وهل هم أهل لأن نعمل بما كانوا يفهمون من العلوم وطرق التعليم والانتفاع به في مثل هذا العصر كما اقترح سمو الأمير؟ ثم هل يتفق ذلك وما تمناه وندب إليه من وجوب جعل الأزهريين في مقدمة من يتتبعون الحركة الدينية التي يهتز لها العالم الغربي في هذا العهد؟ قال سمو الأمير في آخر مقاله إنه يعرض رأيه الذي أملاه عليه حبه للإسلام والإخلاص لأزهره الشريف على من يشاركه في هذا الشعور من جمهور المسلمين ليفكروا فيه طويلاً ويدرسوه بما يستحق من العناية واستحلف من يقبله منهم بالله ورسوله [1] أن يتناصروا في سبيل إخراجه إلى حيز الفعل، وقد فكَّر فيه كاتب هذه السطور كما أمر الأمير وهو ممن يبحث في شؤون الأزهر وشؤون الإصلاح الإسلامي منذ ثلث قرن، وله في موضوع إصلاحه وبيان ماضيه وحاضره وفي الرد على الملاحدة مباحث كثيرة منشورة في مجلدات المنار الثلاثين. وأكتفي في هذا المقال الوجيز بتوجيه نظر الأمير وغيره إلى بعض القضايا التي يجب التفكير فيها مع التفكير في مقترحاته لعل سموه يرى فيها ما يتوقف عليه الحكم الصحيح فيها وهي: (1) من المعلوم أن جده الأعلى الذي يتحلى هو باسمه قد أدخل هذه البلاد في طور الحضارة الغربية، من غير اعتداء على مقوماتها الإسلامية العربية، وأن جده الأدنى (إسماعيل) هو الذي أحدث فيها التفرنج بالتشريع المدني والجنائي والتربية والتعليم والحرية الشخصية. وقد وصلت البلاد بهذا التفرنج إلى ما يشكو سمو الأمير وغيره منه من فشو الإلحاد والفسق، فليتأمل في تاريخ الأزهر في كل هذه المدة قبل البدء في دعوة إصلاح الأزهر التي ينكرها وبعده ولينظر ماذا كان من تأثير شيوخ الأزهر وخطبائه في مقاومة ما يخالف الإسلام، ولا سيما الإلحاد الذي فشا في هذا العهد، وفي إيجاد ما يوافق هدايته ويعلي شأنه؟ أظن أنه لا يجد لأحد منهم أثرًا له قيمة أو تأثير في الدفاع عن الإسلام وبيان حقيقته إلا لطلاب الإصلاح للأزهر ودعاته وإمامهم الشيخ محمد رحمه الله تعالى، ولو اطلع سموه إلى الخطب الجُمعية التي كانت تلقي على منبر الأزهر وغيره من المساجد في مصر لرأى أن أكثرها إما منفر عن الإسلام، وإما غير مؤدٍّ لحاجة المسلمين في هذا الزمان، ولو اطلع على الخطب والمواعظ التي يلقيها أعضاء حزب الإصلاح في هذا القرن لأعجب بها وقرت عينه بأهلها. (2) إن أهم مقترحات سموه ترك الحكومة المصرية للأزهر ليكون مستقلاًّ بشأنه، واستقلال المدارس العالية أصل من أصول استقلال العلم ونزاهة أهله عن تأثير السياسة وأهواء أهلها، وأحوج العلم إلى الاستقلال علم الدين؛ ولكن الأزهر طرأ عليه ضعف الدين والعلم واللغة في عهد استقلاله دون الحكومة لا بعد تدخلها في أمر إدارته، وقد كان من أهم قواعد الإصلاح له في رأي الشيخ محمد عبده أن يكون برأي شيوخه واقتناعهم، وأن لا يكون للحكومة نفوذ فيه، وقد نقلت عنه في المنار مرارًا أنه قال إنني ما دمت في هذا المكان لا أدع للحكومة نفوذًا فيه، وكذلك كان فإن نفوذ الوزارة لم يتسرب إليه إلا بعد خروج الشيخ منه، بل كان رحمه الله يعارض نفوذ الأمير الشخصي فيه إذا كان مخالفًا لقانونه كما بيَّنا في ترجمته، وكان هذا من أسباب سخط الأمير عليه وإلجائه إياه أخيرًا إلى الخروج منه، ولم يكن له من شيوخه نصير يحب الاستقلال إلا السيد علي الببلاوي شيخ الأزهر الذي استبدل الأمير به الشيخ عبد الرحمن الشربيني والشيخ عبد الكريم سلمان، وكان غرض الأمير المصري من هذا التبديل إرجاع الأزهر إلى ما كان قبل النظام الحديث: ولكنه لم يرجع ولم ينتظم أمره، بل كانت سياسة الأمير هي السبب في تدخل الحكومة فيه أيضًا، فهل يوجد اليوم في كبار شيوخه من ينهض بهذا الاستقلال له دون نفوذ الحكومة؟ ذلك ما نتركه للبرلمان المصري الآتي وإلى ما سيكون للمصلحة الإسلامية من المنزلة فيه. (3) إن أغرب ما في مقال الأمير تصويبه قول من يقول (إن الحكومة ترى من الضروري تخريج نشء جديد من رجال الدين يكون لهم اطلاع واسع على اللغات، أو على بعض العلوم التي لا وجود لها في الأزهر) وإجابته عنه بقوله: (الأوفق إذًا للحكومة أن تنشئ كلية للعلوم الدينية ملحقة بالجامعة المصرية تؤسسها على ما ترغب من الأسس وتنظمها كيفما تشاء، ولا بأس حينئذ من الاستغناء عن مدرستي القضاء الشرعي ودار العلوم وإدماجهما في هذه الكلية الجديدة) . الغرابة في هذا الرأي الذي لا أظن أنه يوجد واحد في الألف من شيوخ الأزهر وطلابه يوافق سموه عليه هو جعل التعليم الديني لتخريج رجال الدين قسمين (أحدهما) يناط بالجامعة المصرية تبعًا لوزارة المعارف، ويكون من خريجيه رجال القضاء الشرعي ومعلمو المدارس الأميرية، وكل من قد تحتاج الحكومة إليهم من علماء الدين (وثانيهما) الأزهر ويُقصر التعليم فيه على ما كان يُدرَّس فيه من العلوم الشرعية قبل نصف قرن، ويكون الغرض منه التعبد وإرادة وجه الله تعالى، ومن لوازمه إرجاع راتب علماء الأزهر إلى ما كانت عليه وهو قلما يزيد على راتب خادم أو بواب في هذا العهد، ومنع الحكومة عنه هذه المئات من الألوف التي خُصصت لميزانيته! ! وحرمانهم من الوظائف الشرعية كغيرها فيا ليت الأمير يعلم رأي أهل الأزهر في اقتراحه هذا. (4) إن قانون الأستاذ المراغي الحديث للأزهر يجمع بين التعليمين اللذين اقترحهما سمو الأمير، إلا أنه يجعل كلاًّ منهما تابعًا لإدارة واحدة هي إدارة المعاهدة الدينية، ولا شك أن هذا أضمن أو أدنى إلى جعل الأول دينيًّا إسلاميًّا من إدارة الجامعة المصرية له، وهي هي التي أعلن بعض أساتذتها الإلحاد في تعليمها إعلانًا برضاء مديرها ووزير معارفها وغيره من وزرائها وحمايتهم، كما ظهر ذلك للخاص والعامي في قضية الدكتور طه حسين، وندع ما لا يعرفه إلا الخواص من الإلحاد والملحدين، ومن إهمال وزارة المعارف لأمر الدين في مدارسها؛ حتى إنه صار يقل في طلاب مدرسة دار العلوم من يصلي! فما القول في غيرها؟

بقية الكلام في أحاديث انشقاق القمر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بقية الكلام في أحاديث انشقاق القمر تتمة إشكال عدم رؤية أهل الآفاق له وأما قولهم: إنه لم يُنقل إلينا من أهل الأرض أنهم رصدوا القمر في تلك الليلة فلم يروه انشق - ففيه أن رؤية انشقاقه لا تتوقف على رصده لأن من شأنه أن يراه كل ناظر إليه، وأن الذين ينظرون إليه في ليالي تمه كثيرون. وأما قولهم (إن الحجة فيمن أثبت لا فيمن يوجد عنه صريح النفي حتى إن من وُجد منه صريح النفي يقدم عليه من وجد منه صريح الإثبات) ففيه أنه ليس في موضع النزاع؛ لأن الواقع أنه وُجد مثبت فقط؛ ولكنه يدعي شيئًا لو صح لرآه من لا يحصى من أهل الأقطار المختلفة، ولنقل عنهم بالتواتر، وإذا لم يحصل هذا فيكون خبره غير مقبول كما تقدم تقريره من كلام علماء الأصول والمنطق في الخبر الذي يقطع بعدم صحته (دع كونه معارضًا بآيات القرآن المحكمة كما يأتي قريبًا) . وقد بالغ القاضي عياض في الاعتماد على هذا الجواب أو الدفع، فجعل نقل النفي للشيء بالخبر المتواتر المفيد للعلم للقطعي مرجوحًا يرد ما يعارضه من إثباته بخبر الواحد الذي لا يفيد الظن عندهم إلا بشروط منها أن لا يكون مخالفًا لسنة الله في الوجود ونظام العالم، وأن لا يكون مما تتوفر الدواعي على نقله بالتواتر، وأن لا يكون معارضًا بنص قطعي كآيات القرآن الصريحة في عدم إعطاء الله رسوله صلى الله عليه وسلم آية باقتراح الكفار (وسيأتي تقرير هذا في الإشكال الأصولي (و)) . وهذا نص عبارة القاضي: (ولو نُقل إلينا عمن لا يجوز تمالؤهم - لكثرتهم - على الكذب لما كان علينا به حجة) يعني أننا نصدقهم بأنهم رصدوه طول الليل ولم يروه انشق، ولا يكون حجة علينا مع قطعنا بصدقهم، وعلل هذا بقوله (إذ ليس القمر في حد واحد لجميع أهل الأرض، فقد يطلع على قوم قبل أن يطلع على الآخرين، وقد يكون من قوم بضد ما هو من مقابليهم من أقطار الأرض، أو يحول بين قوم وبينه سحاب وجبال، ولهذا نجد الكسوفات في بعض البلاد دون بعض) ... إلخ ما سبقه إليه الخطابي وغيره وتقدم. وفيه أن التعليل الذي ذكره يصح في بعض الأقطار دون جميعها، ولكن لا يجوز عقلاً أن ينشق ولا يرى في شيء منها، وتقدم الجواب عن اختلاف المطالع والخسوف والكسوف. على أن الحافظ المزي نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض المسافرين ذكر أنه رأى في بلاد الهند بناء قديمًا مكتوبًا عليه أنه بني ليلة انشق القمر، وأذكر أنني رأيت في بعض الكتب أو الصحف أن هذا رؤي في بلاد الصين، ولكن مثل هذا الخبر الغريب عن مسافر مجهول لا يعده أحد من أهل العلم حجة في مسألة علمية ولو لم تكن كمسألتنا، لعدم الثقة بعدالته؛ ولأنه يروي ما لو صح لوقف عليه المسلمون الفاتحون للهند، ولجعلوا لذلك البناء شأنًا يُشتهر به ويُزار، ولدُوِّن خبره في كتب التاريخ، ولم يوجد شيء من ذلك، على أنه لو وجد بهذا الإبهام والإجمال لما كان حجة في موضوعنا لجواز أن يكون سببه أسطورة أو إشاعة حدثت عند الذين بنوه وربما كانوا من الوثنيين، وقد نقل الحافظ في سياق هذا المبحث أن العلامة الحليمي المشهور قال - كما نقل عنه البيهقي في البعث والنشور - ما نصه: (أن من الناس من قال: إن المراد بقوله تعالى: {وَانشَقَّ القَمَرُ} (القمر: 1) أي سينشق [قال الحليمي] فإن كان كذلك فقد وقع في عصرنا، فشاهدت الهلال ببخارى في الليلة الثالثة منشقًّا نصفين عرض كل واحد منهما كعرض القمر ليلة أربع أو خمس، ثم اتصلا فصار في شكل أترجة إلى أن غاب، وأخبرني من أثق به أنه شاهد ذلك في ليلة أخرى اهـ. وقد صرَّح الحافظ ابن حجر بتعجبه من إقرار البيهقي لهذا مع حديث ابن مسعود، ونحن نصدِّق ما ذكره الحليمي عن نفسه وعمن يثق به ونجزم أنهما تخيلا فخالا، أو عرض لبصرهما ما صوَّر لهما ذلك، ومن العلل العارضة للبصر أو الدائمة ما يصور لها الواحد اثنين، وهذا معروف مشهور. (هـ) الإشكال الفلكي: استشكل بعض الناس خبر انشقاق القمر بما هو مقرر في أصول علم الفلك (القديم) كذا قال الحافظ (وإنهم احتجوا بأن الآيات العلوية لا يتهيأ فيها الخرق والالتئام) وعزاه إلى الفلاسفة ونقل عن الزَّجَّاج عزوه إلى (المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة) وأجاب عنه بأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء. أقول: وهذا حق لا ينكره مؤمن بالله، ومسألة عدم قبول الأفلاك للخرق والالتئام، من أوهام فلاسفة اليونان، وقد كشفها وأبطلها علم الهيئة الحديثة؛ ولكن لا يشك عاقل من المؤمنين وغيرهم أن خلقه تعالى للسموات وأجرامها في غاية الإبداع والنظام لا تفاوت فيه ولا خلل، وأن سننه تعالى في الخلق لا تتبدل ولا تتحول، فلا يصدق خبر وقوع تغير فيها إلا بخبر قطعي ثابت مثل ثبوتها وثباتها، كآيات الرسل التي أخبر الله تعالى بها، ومن دونها آيات أرضية لا يتضمن وقوعها ما يتضمنه انشقاق القمر ورجوع الشمس بعد غروبها من مخالفة الكون العام، ومعارضة قول الله تعالى: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) ، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته) متفق عليه، وذلك كنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم فمثل هذا يقبل في خبره ما صح وإن لم يتواتر ويصير قطعيًا، ونحن إنما نذكر مثل هذه الدقائق لغرض شرعي صحيح سنذكره بعد. (و) الإشكال الأصولي الأعظم: قد ثبت بآيات القرآن المحكمة الكثيرة القطعية الدلالة أن آية الله تعالى وحجته على صحة نبوة خاتم رسله محمد صلى الله عليه وسلم التي تحدى بها الكفار ولم يحتج عليهم بغيرها، هي كتاب الله المعجز للبشر ولغيرهم من الخلق، وثبت بالحديث الصحيح الصريح أيضًا فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر؛ وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة) رواه الشيخان والنسائي فقوله صلى الله عليه وسلم (وإنما كان) من شرح تفيد الحصر، وقد تأولوه بأنه لما كان القرآن أعظم معجزاته وأدومها كان غيرها منها كأنه غير موجود، ولا حاجة إلى هذا التأويل إذا اشترط في المعجزة التحدي؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يتحدَّ العرب ولا غيرهم إلا بالقرآن، وقد بيَّن العلماء حكمة ذلك بما هو معلوم مشهور بناءً على أنه هو أصل العقيدة القطعي الذي لا نزاع فيه، وثبت بالآيات المحكمة الكثيرة القطعية الدلالة أن الكفار طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بآية من الآيات الكونية التي أوتي مثلها الرسل على الإبهام، وأنهم اقترحوا عليه آيات معينة أيضًا فلم يجابوا إلى طلبهم، وفي بعض هذه الآيات ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب هو وأصحابه أن يؤيده الله بآية مما اقترحوه لعلهم يؤمنون، وأن الله تعالى لم يؤته ذلك بل بيَّن له في بعض تلك الأحوال أن طلبهم الآيات إنما يقصدون به التعجيز، وأنهم لو أعطوها لا يؤمنون، وأن سنته قد مضت بأن ينزل عذاب الاستئصال بكل قوم اقترحوا آية على رسولهم ولم يؤمنوا بإجابتهم إلى ذلك، وأمره في أحوال أخرى بأن يخبرهم بأن الآيات عند الله وبيده وحده، وأنه هو بشر لا يستطيع شيئًا مما لا يستطيعه البشر، إلا أن الله تعالى أوحى إليه ما أمره أن يبلغه الناس من البينات: الهدى والإيمان، وصرَّح في بعضها بأن آيته الكتاب العزيز المشتمل على آيات كثيرة في آية الله الكبرى، وصرَّح في بعض آخر ببعض تلك الآيات فيه. ففي سورة يونس {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغَيْبُ لِلَّهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ المُنتَظِرِينَ} (يونس: 20) وفي سورة الرعد {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7) وفيها {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} (الرعد: 27) . وفي سورة طه {وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} (طه: 133) أي أخبار كتب الأنبياء في القرآن وهي إحدى معجزاته. وفي سورة العنكبوت {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (العنكبوت: 50-51) . وفي سورة الأنعام {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ} (الأنعام: 8) أي لقُضي الأمر بهلاكهم واستئصالهم، ثم لا ينظرون، أي: لا يؤخَّرون ولا يُمهلون بعد نزوله. وقال في سورة الإسراء {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً} (الإسراء: 59) . وقال في سورة الأنعام لرسوله صلى الله عليه وسلم مسليًا إياه عن إعراضهم ومؤيسًا إياه من إعطاء الآية الكونية المقترحة {وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ * إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ * وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأنعام: 35-37) . ثم قال فيها مؤيسًا لأصحابه صلى الله عليه وسلم من إيمانهم إذا أوتوا آية {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} (الأنعام: 109-111) وليراجع من شاء تفسير كل ما ذكرنا من هذه الآيات التي في سورة الأنعام في الجزء السابع وأول الثامن من تفسيرنا هذا وفي غيره. بعد التذكير بهذه الآيات المحكمة القطعية كيف يمكننا أخذ رواية أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيحين بالقبول؟ فنصدق أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آية فأراهم انشقاق القمر، ولم يدَّع غيره من رواة الحديث في الصحيحين هذه الدعوى، مع العلم بأن روايته له مرسلة لأنه أنصاري كان عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ابن عشر سني

ترجمة جديدة للقرآن الكريم

الكاتب: شكيب أرسلان

_ ترجمة جديدة للقرآن الكريم رسالة للأمير شكيب أرسلان من المستشرقين الكبار الذين يليق ذكرهم ويصح الاستشهاد بأقوالهم الأستاذ إدوار مونته Montet Edouard مدرس الألسن الشرقية في جامعة جنيف، وهو مشهور بين الاوربيين من جميع الأجناس، فتجد مؤلفيهم يستشهدون بكلامه في المسائل الشرقية والإسلامية ويقدرون آراءه قدرها. والأستاذ مونته هو من القسم المنصف بين المستشرقين لا يتحامل على الإسلام، ولا يقصد في مباحثه إظهار عورات ومثالب للإسلام كما يفعل غيره، بل يحاكم عقيدة الإسلام وتاريخ الإسلام، وكل شيء عائد للإسلام محاكمة من ينظر إلى الأشياء كما هي لا كما يخيلها الوهم، أو كما يصورها الضلع، مما هو دأب كثير من الأوربيين الذين يخوضون في هذه المباحث وصدورهم ملأى بالضغن وسوء النية، وليس المسيو إدوار مونته مع ذلك بمسلم ليقال إنه في أحكامه وآرائه هذه متأثر بالتربية الدينية الإسلامية، أو إنه اقتنع بالإسلام فاتخذه دينًا، وأصبح لا يجد فيه عيبًا ولا يقبل عليه مطعنًا، لا إن المسيو مونته لم يتخذ الإسلام دينًا، وربما كان غير معتقد بكل ما في النصرانية أيضًا، فهو يقول فيهما آراءه بكل صراحة، ويحسِّن منهما ما يراه بحسب نظره هو حسنًا وينتقد ما يراه خليقًا بالانتقاد، وقد بدرت منه انتقادات ومؤاخذات في كلامه على تاريخ الإسلام تدل على كونه غير دائن بدين محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكنها تدل أيضًا على أنه غير مضمر سوءًا ولا متعمد ثلبًا، ولهذا آثرنا أن ننقل بعض كلامه لأنه لا يمكن أن يؤتى من قبل تعصب للإسلام، ولا أن يقال عنه: إنه مسلم يدافع عن عقيدته. وقد نضطر إلى تصحيح بعض معلومات ناقصة جاءت في كلام الأستاذ المذكور أو إلى بيان رأينا في المسائل التي تختلف وجهتنا عن وجهته فيها. فمن الكتب التي صنفها الأستاذ إدوار مونته كتاب جليل اسمه الإسلام Lislam أخرجه سنة 1923، وطالعناه وأشرنا على مواضع كثيرة منه لنقلها إلى اللسان العربي، وكانت تعوقنا عن ذلك كثرة الأشغال. وكتاب آخر أخرجه في السنة الماضية يحتوي على ترجمة القرآن المجيد بتمامه إلى اللغة الفرنسية طالعنا جانبًا منه، وقابلنا الترجمة بالأصل فوجدنا الترجمة حَرِيَّة بأن توضع في الطبقة الأولى من تراجم القرآن الكثيرة، وقد صدَّر الأستاذ مونته هذه الترجمة القيمة بمقدمة نفيسة سننقل إلى قراء المنار عدة أنموذجات منها، وها أنذا أنشر الترجمة الحرفية لديباجة مقدمته لها كما يلي: (القرآن في الحقيقة هو ذو قيمة خارقة للعادة، فهو بين الكتب الدينية من أعظمها شأنًا، وهو يشتمل على الحياة الروحية لقسم من النوع الإنساني يقدَّر بمائتين وخمسين مليونًا على الأقل، ومن أهم ما في القرآن استقاؤه من المنابع اليهودية والمسيحية: التوراة العبرانية والتقاليد اليهودية من جهة، والإنجيل والتقاليد النصرانية من أخرى [1] . فالعقيدة القرآنية إذًا هي ذات علاقة وثيقة مع العقيدة اليهودية والعقيدة المسيحية، والآثار التاريخية اليهودية المتعلقة بالأنبياء والآباء، وكذلك الآثار النصرانية المتعلقة بالمسيح هي موضوع صفحات عديدة من القرآن، فهذا التشابه في الفكرة الدينية بين الإسلام والنصرانية هو واصل إلى الحد الذي لا يفهم معه الإنسان لماذا وُجد المسيحيون والمسلمون أعداء إلى هذه الدرجة [2] مدة هذه الأعصر الطويلة، وقام بعضهم على بعض بمصارعات هي في الواقع مصارعات إخوان لإخوان؛ لكنها صبغت القرون الغابرة بالدم الغزير. على أنه لا ينبغي أن يفهم من هذا الاتحاد في أصليْ الإسلام والنصرانية أن الإسلام القرآني فاقد للاستقلال، وأنه ليس ذا صفة خاصة أصلية، فالأمر بالعكس والإسلام دين لا يمكن خلطه مع دين آخر من الأديان السامية، فهو دين سامي تحت صورة عربية خاصة تتجلى فيه روح اللغة العربية. ولا ينبغي لقارئ القرآن أن يُعجب من التكرار الذي يجده فيه؛ فإن مثل هذا التكرار معهود في أعظم الكتب الدينية مثل التوراة ومثل كتاب الاقتداء بالمسيح الذي هو الغذاء الروحي للنفوس المسيحية [3] والقارئ يجد في القرآن صفحات في غاية الإبداع سواء من جهة الفكر، أو جهة القالب الذي وُضع فيه الفكر، وكذلك يجد فيه لآلئ فريدة في علم الروح معروضة في آيات هي أعلى ما يمكن من الأسلوب الشعري [4] ، وهو فيه أسلوب قائم بذاته، وفي القرآن منازع دينية ذات سعة مدهشة لا سيما بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه ذلك المصلح العربي، فالإبداع يتلألأ في هاتيك القطع الباهرة تلألؤ الكواكب الكبرى، ولا غرو أن ينظر إليها القارئ كمثال أعلى للأسلوب الشعري الشرقي. ومما يجعل للقرآن هذه الأهمية أنه الكتاب الديني للأمم الإسلامية التي تمثل في شرقي أوربة، وفي العالم الآسيوي وفي ماليزيا وفي أفريقية دورًا ليس مهمًّا وحسب، بل دورًا ذا صلة شديدة بالأمم الغربية المسيحية. وتظهر عظمة هذا الدور بزيادة في المستعمرات الأوربية التي هي في مختلف أقسام العالم الشرقي والأفريقي، وفي البلدان التي تحت الحماية الأوربية والبلدان التي تحت الانتداب المتولد من الحرب الكبرى. فأوربة مكافلة في وجودها اليومي للأمم الإسلامية التي هي تحت حكومتها، أو هي ذات علاقة شديدة معها، ولقد ثبت هذا الأمر ثبوتًا كل أحد يعلم مقداره في الحرب العالمية من 1914 إلى 1918. وأخيرًا نقول: إن الذي يجعل للقرآن هذه الأهمية الخاصة التي نشير إليها هو المستقبل المدَّخَر للشعوب الإسلامية، إذ لا ينكر أن مستقبلاً فخمًا ينتظر هذه الشعوب على مقدار ما يقتبسون من الحضارة الأوربية. فتركيا وسورية وبلاد العرب وفارس وأفغانستان وشعوب شمالي إفريقية، والثمانون مليون مسلم الذين في الهند الإنكليزية، والثلاثون مليون مسلم الذين في الصين، والشعوب الإسلامية التي لا تكاد تحصى في ماليزيا (جاوى، سومطره ... إلخ) هي كلها على مراحل متفاوتة من قبول الحياة الاقتصادية والصناعية والفكرية التي عليها أوربة. وإن هذه النتيجة قد تكون غير منتظرة عند من يجهل هذه الأمم، أو من لم يقدر أن يفهمهما حق الفهم، أو لم يُوفق لفهم عقيدتها التوحيدية التي هي أعلى صورة روحية وُجدت في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الآرية) انتهى. ولا بد لنا أن نعقب على هذه الديباجة ببعض ملاحظات، منها أن المؤلف قال عن عدد المسلمين أنه 250 مليونًا على الأقل، ولقد أصاب جدًّا في قوله (على الأقل) لأن المسلمين على التحقيق يزيدون على 300 مليون نسمة، وربما كانوا 330 مليونًا، وأما قوله (إن للمسلمين مستقبلاً عظيمًا على قدر ما يقتبسون من الحضارة الأوربية) فليس معناه ما تذهب إليه ملاحدة تركيا وما يقلدهم فيه هذا النفر القليل الملحد المتفرنج في مصر والعراق وسورية من أنه يجب عليهم نبذ التعليم الديني الإسلامي، وأن يستبدلوا به تعليمًا لا دينيًّا مارقًا من كل صبغة دينية إسلامية، لا، هذا لم يخطر ببال الأستاذ العلامة مونته، ولا هو من أبحاثه في كثير ولا قليل، ولو كان هذا مقصده لما كان معجبًا إلى ذلك الحد بأكثر مبادئ الإسلام وأصوله، ولما كان ألف فيه هذه التآليف الممتعة، ولما قال (إنه أعلى صورة روحية وجدت في دين بشري سواء عند الأمم السامية أو الأم الآرية) (أي الأوربية) . وإنما كان مقصد الأستاذ مونته العلوم الاقتصادية والصناعات التي تفوقت بها أوربة اليوم، والأساليب الصحيحة التي تسير عليها في حضارتها، وهذه يندب شرعًا الاطلاع عليها والتحقق بها، حتى لا يفوت المسلمين شيء من أسباب القوة والمنعة، وحتى لا يكونوا مقصرين فيها عن شأو أعدائهم أو أندادهم، وهي لعمري مما يقترن بالتعليم الديني الإسلامي، بل مما تزداد الرغبة فيه بقوة هذا التعليم وتأثيره، كما أن الأمم الأوربية واليابانية قد بلغت هذه المبالغ القاصية من هذه العلوم الحديثة والصناعات الناشئة عنها، ولم تزل متمسكة بأديانها وعقائدها، ولم يبرح التعليم الديني عندها سائرًا جنبًا إلى جنب مع التعليم الطبيعي، والروح فيها متآخية مع المادة. ... ... ... ... ... ... لوزان 9 أكتوبر 1929 ... ... شكيب أرسلان

قواعد الصحة في الإسلام منذ 1348 سنة

الكاتب: زكي كرام العربي الدمشقي

_ قواعد الصحة في الإسلام منذ 1348 سنة وقواعد الصحة في أوربا بعد 1348 سنة بقلم الدكتور زكي كرام العربي الدمشقي في برلين وتصحيح المجلة ذهب بعض أدعياء العلم إلى أن العلة الوحيدة التي حرَّم الإسلام من أجلها أكل لحم الخنزير هي عدم وجود مجاهر (آلات مكبرة للأجرام) لفحص جرثومة الخنزير المسماة باللاتينية (تريخينا سبيرالي) (Spirali Trechina) وتسميها العوام على الإطلاق تريخين، معناه بالعربية (الدود الشعري) وقد ادعت تلك الفئة المضللة، التي هي لكل حرام - بل لكل مضر - محلِّلَة أنه لو وُلد عليه الصلاة والسلام في الممالك الباردة لما منع شرب الخمور! وبهذه الأضاليل والترهات يريدون أن يضلوا عباد الله، بتجرئتهم على ما حرَّم الله. وقبل أن نخوض في البحث العلمي نقول: إذا كانت حكمة الإسلام في تحريم لحم الخنزير هي عدم وجود مجهر لفحص اللحم والتريخين من الخنزير، فهذا لعمري من قول الحق [1] الذي يؤيد رسالة هذا النبي العظيم، وبأنه لا ينطق عن الهوى؛ وإنما هو وحي يوحى. إنني ممن يؤيد تلك القواعد والأوامر والنواهي السامية لانطباقها على العلم والمنطق، وعليه أقول مع ذلك: إنه لو كان لدى الرسول صلى الله عليه وسلم مجهر أو لو كان لهذه الدودة القتالة علائم تظهر على الحيوان الموجودة فيه، فيتجنبه الناس لما كان ذلك كافيًا لإباحة أكل لحم الخنزير حتى الخالي من تلك الدودة، فثم أسباب صحية أخرى لتحريمه، فقد أثبت علماء هذا الفن من أطباء العصر أن المنهمكين المواظبين على أكل لحم الخنزير يصابون بتشحم القلب والكبد، وبالتشحم العام أيضًا، ومرض التشحم القلبي والكبدي والتشحم العام ومضراته معلومة لدى الجميع، فنضرب عن بيانه صفحًا ونكتفي بما دلت عليه الإحصاءات الأمريكية والاستقراءات الطبية بألمانيا من توقف حفظ الصحة على الكف عن أكل لحم الخنزير؛ لأن ذلك التشحم هو السبب لموت الكثيرين في عنفوان الحياة، وسن الرجولية الحقيقية من 40-50. وإليك أيها القارئ نسبة الوفيات التي تثبت هذا المُدَّعى: قرر البروفسور غرافه في مستوصفه الخاص، وكذا الإحصاءات الأميركية أننا لو قسمنا الذين في سن الأربعين إلى سمين ونحيف لوجدنا أنه لا يصل إلى سن الستين من السمان أكثر من ستين في المائة، ومن النحفاء أقل من تسعين، وأما الذين في الخمسين فلا يصل من السمان منهم إلى الستين أكثر من 30 في المائة، ويقابل ذلك 50 في المائة من النحفاء، وإذا انتقلنا في هذه النسبة إلى سن الثمانين نرى أنه لا يصل إليها إلا 10 في المائة من السمان، يقابلهم 30 في المائة من النحفاء، فلهذا ينصح الأطباءُ العقلاءَ بالكف عن أكل لحم الخنزير الذي هو أعظم الأسباب لعلة التشحم. الخمور وأما الخمور فقد كنت كتبت منذ بضع سنين شيئًا في مضارها، وبما أني رأيت أن الوقت بحاجة إلى مواصلة البحث والتنقيب فسأنتهز إن شاء الله كل فرصة أغتنمها من وقتي الضيق لبيان مضرات هذه الآفة، وأرى من الضروري الآن أن أكتب كلمة في الموضوع الذي أنا بصدده، فأقول: مضرات الخمر ثبتت للعالم الفني العلمي الذي يتوسل بكل ما لديه لإفهام الشعوب مضراتها ليستريح البشر مما يعانيه من تلك الآفة، إن كثيرًا من التجار الفجار، ومن الجواسيس المناحيس، ومن اللصوص الأفاكين، ومن الجناة المحتالين، لا يفتكون بحياة صيدهم أو عدوهم وهو (الفكر الصحيح) ولا يأخذون منه بحق أو باطل إلا بالخمر، فالحرارة التي يحدثها الكحول المؤثر في الخمر لا تدوم إلا ثواني أو دقائق يعقبها برودة لا يتحملها الجسم، فيتطلب الحرارة مرة أخرى بالشرب، ولا يلبث أن يعقبه رد الفعل، وهكذا تكون الحرارة بين طلوع ونزول إلى أن يغمى على المدمن، ولا يعرف أين هو وما تجني يداه من الآثام، وكثيرًا ما يصفون الكحول للمصابين بالحمى، فيشعر المريض بعد بضع ثواني من تعاطيه بسقوط الحرارة؛ ولكن هذا الشعور ليس ناشئًا عن سقوط درجة الحرارة سقوطًا حقيقيًّا، بل هو شعور كاذب يُحْدِثه الكحول. وأما النشوة التي يتلذذ بها المدمن فسببها طروء خلل على وظائف الخلايا، ونتيجة الاستدامة على تعاطي تلك الآفة هي الجنون أو ما دونه من اختلال العقل، وكثيرًا ما تحدث أمراضًا تحار الأطباء في تشخيصها، ولذا نرى أوربة اليوم تحاول اتخاذ وسائل تدريجية لإنقاذ الشعب من هذه الآفة، كما أن الإسلام حرَّم الخمر تحريمًا تدريجيًّا بقوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (النساء: 43) وقوله فيها وفي القمار: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) ولما اعتاد بعض المسلمين تركها في بعض الأوقات، وبعضهم تركها ألبتة، بعد ذلك نزلت آية التحريم القطعي {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة: 90) وأوربا بدأت اليوم بمنع الخمر منعًا تدريجيًّا (أي بعد أن منعتها الولايات المتحدة الأمريكية منعًا عامًّا قطعيًّا) وبصورة اختيارية مبنية على حفظ الصحة. وإليك أيها القارئ نشرات صحية تصدرها جميعات الألعاب الرياضية بأوربا: جاء في مقدمة نشرة جمعية السباحة المسماة (ويكينجربوته) ما نصه: يجب على الذي يريد أن يشترك في السباق، ويكون من أبطاله أن يعتني قبل كل شيء بصحته، ويكون صحيح الجسم، ولأجل أن يكون صحيح الجسم (والعقل) يجب أن يتبع النصائح الآتية: 1- يجب الانقطاع عن تعاطي جميع المشروبات الكحولية أيًّا كان جنسها (يعني الامتناع عن البيرا أيضًا) . 2- يجب الاهتمام بترك التدخين تمامًا أيًّا كان نوعه، وجميع المواد الناركوتيكية. 3- التباعد عن الزنا بكل ما يدخل في الإمكان (هذا بمعنى قوله تعالى {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى} (الإسراء: 32) الآية) . ويقول في السطر 51 و 52 من تلك النشرة الصحية (أحسن شيء يروي العطش وينفع الجسم هو الماء الزلال الصافي البرَّاق غير المغلي) وفي سطر 62 (يجب على كل منتسب إلى الجمعية أن يكون مثال الأخلاق الحسنة بتحاميه كل شيء فيه ضرر للجسم) . وإنني اطلعت على التقارير التي تنشرها البعثات للبلاد الباردة، وأخصها بعثات القطب الشمالي أن أكثر الذين يموتون من تأثير البرد هم الذين يدمنون الخمر، وأما الذين لا يدمنون الخمر فهم أكثر صحة ومقاومة للبرد. فهل بعد ذلك للملحدين الذين يتوسلون بالحجج الداحضة والأقوال الفارغة لتحليل ما حرَّم الله أن يقولوا: إنه لو بُعث سيد الخلق في البلاد الباردة لما حرَّم الخمر؟ (وإنما الذي حرَّم الخمر هو الله الذي خلق البلاد الباردة والحارة) . أم عندكم أيها الملحدون ما به تحيلون النور ظلامًا والظلام نورًا؟ أم تريدون فوق كل ذلك جعل الفضيلة رذيلة والرذيلة فضيلة؟ إنما التجدد أيها الإخوان بنقل العلوم والفنون التي هي غذاء الأبدان والأرواح لا بتسميم الجسم والعقل والتجريد من الفضائل. (حاشية) سنأتي إن شاء الله قريبًا بنبذة على التريخين. ... الدكتور ... ... ... ... ... ... ... ... زكي كرام (المنار) إن قول هذه الجمعيات: إن أفضل ما يُشرب هو الماء النقي، ذكرني ما لا أنساه من قول المقتطف لمن سأله عما يقال في الجعة (البيرا) من تغذية وتحليل: إن لقمة من الخبز أكثر تغذية من كوب من البيرا، وإن جرعة أو كوبًا من الماء أحسن أو أشد تحليلاً من قدح من البيرا، وأما شربها للذة فذلك شيء آخر. أي فلماذا يكذب عبد الشهوة على نفسه وعلى الناس، كما يفعل الآن دعاة التجديد الإلحادي في الترغيب في لبس البرنيطة، وتهتك النساء، وغير ذلك باختلاق منافع للرذائل أو لمحاربة المشخصات القومية والملية التي يراد بها جعل الأمم الشرقية غذاء سهل الهضم على معدة الدولة المستعمرة.

ثورة فلسطين ـ أسبابها ونتائجها ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ثورة فلسطين - أسبابها ونتائجها حقائق في بيان حال اليهود والإنكليز والعرب والرأي في مستقبل العرب والشرق (1) حقيقة حال اليهود (1) من الحقائق التي أثبتها التاريخ أن الشعب الإسرائيلي أو اليهودي من أشد شعوب الأرض شكيمة، وأقواها عزيمة، وأثبتها وحدة، وأعمها تكافلاً، ومن ثم كان أشدها أثرة وعصبية، وكانت جامعته النَّسبية الملية المزدوجة غير قابلة للذوبان ولا للاندغام في أية جامعة أخرى من الروابط البشرية كالوطنية واللغوية وغيرها، فهم يشاركون كل قوم في أوطانهم ويزاحمونهم على منافعها المادية والمعنوية، ويظلون مع ذلك يهودًا، كما أن جامعتهم لا تقبل شعبًا آخر أن يندغم فيها، ومن المعروف من تاريخهم أنهم لما احتلوا بلاد فلسطين ظلوا يقاتلون أهلها حتى غلبوهم عليها، وصار لهم ملك فيها، ثم كانوا يقاتلون جيرانهم من حولها، ومن قواعد شريعتهم (التوراة) أن يستأصلوا القوم الذين يغلبونهم على أمرهم (حتى لا يستبقوا منهم نسمة ما) ومن أثرتهم أنهم لا يعترفون لغيرهم بمثل الحق الذي انتزعوا به فلسطين من أهلها، بل يدَّعون أنها صارت ملكًا لهم إلى الأبد. (2) من الحقائق التي أثبتها الوحي مع التاريخ أن الله تعالى بعث فيهم أنبياء وربانيين، وأئمة يهدون بالحق وبه يعدلون، وعبادًا صالحين، وأن الله أراهم من آياته وآتاهم من نعمه ما لم يؤت أحدًا من العالمين؛ ولكنهم كانوا يتمردون على موسى كليمه ويؤذونه في حياته، وقتلوا بعض أنبيائهم من بعده، وفسقوا عن أمرهم وأمره، وعثوا في الأرض مفسدين حتى إنهم عبدوا الأوثان مرارًا، وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واستحلوا ظلم غيرهم وأكل أموالهم بالربا وغيره، فسلب الله ملكهم ومزَّقهم في الأرض كل ممزق، وسلط عليهم الأمم تضطهدهم وتستذلهم، قال الله تعالى فيهم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} (آل عمران: 112) فالذلة فقد الملك والسلطان، وحبل الله ما حباهم به شرعه من حقوق العدل بدخولهم في ذمة الإسلام، وحبل الناس ما لقوه من حماية المسلمين من قبل، وما يلقونه من حماية بعض الدول الآن. اليهود والإسلام والمسلمون (3) من الحقائق الثابتة المعروفة في السيرة النبوية والتاريخ الخاص والعام أن النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا هاجر من مكة إلى المدينة أقرَّ من كان في أرضها من قبائل اليهود على دينهم، وآمنهم على أنفسهم وأموالهم، على أن لا يوالوا ولا ينصروا عليه مشركي مكة وغيرهم من قومه، وكتب بينه وبينهم كتابًا في ذلك كانوا به أهل عهد وميثاق؛ ولكنهم كانوا (ينقضون عهدهم في كل مرة) وينصرون المشركين عليه في القتال، والمساعدة بالمال، حتى اضطر إلى قتالهم وإخراجهم من جواره؛ ولكن أصحابه ومن بعدهم من قومه لما فتحوا البلاد وسادوا العباد، أنقذوا اليهود من الاضطهاد وما كانت تسومهم الدول والأمم من الظلم والاستعباد، فلم يذوقوا من طعم العدل في القرون الماضية بعض ما ذاقوا في ظل الحكومات العربية وغيرها من الدول الإسلامية، فقد كانوا مساوين للمسلمين في الحقوق وكانوا يتلقون ما يشاءون من العلوم في المدارس والمساجد ببغداد والأندلس في صفوف المسلمين وحلق دروسهم كأنهم منهم. اليهود وسلطان الكنيسة (4) من الحقائق الثابتة المعروفة في تاريخ القرون الأخيرة أن اليهود الذين تلقوا العلوم في الأندلس، ولا سيما تلاميذ الفيلسوف ابن رشد كانوا من حملتها إلى أوربة ومن أسباب انتشارها فيها، وأنهم استطاعوا بتكافلهم وكيدهم أن يثأروا لأنفسهم ولأساتذتهم العرب من سلطان الكنيسة الكاثوليكية التي اضطهدتهم هم والعرب في الأندلس بالتقتيل والتشريد والإكراه على النصرانية، وذلك بما ألفوه من العصبية للعلوم وحرية الفكر التي ناصبت الكنيسة العداء في أوربة، وأثارت عليها القتال حتى ثلت عرشها وقوضت سلطانها السياسي من العالم. اليهود والماسونية والمال (5) من الحقائق الثابتة الخفية أن الجمعية الماسونية التي ثلت عروش الحكومات الدينية من أمم أوربة والترك والروس هي من كيد اليهود، وهم أصحاب السلطان الأعظم فيها، وإن كان ذلك يخفى على كثير من أهلها أو أكثر المنتمين إليها، ومن غرائب كيد اليهود وقدرتهم التي فاقوا بها جميع شعوب البشر أن الغرض السياسي النهائي لهم من هذه الجمعية هو تأسيس دولة يهودية دينية في مهد الدولة الإسرائيلية التي أسسها داود وأتمها سليمان باني هيكل الدين اليهودي في أورشليم على جبل صهيون، ولهذا سموها جمعية البنائين الأحرار، ويريدون بهم الذين بنوا هيكل سليمان، وأكثر أفراد هذه الجمعية يجهلون السبب الصحيح لهذه التسمية، فهل وجد في العالم أعجب وأغرب من قوم يهدمون ما عند غيرهم من سلطان ديني لأجل بناء مثله لأنفسهم، ويسخِّرون أولئك الأغيار بمكرهم في الأجيال الكثيرة والقرون العديدة لما لا يعلمون ولا يعقلون؟ (6) من الحقائق الاجتماعية التاريخية أن اليهود هم الذين وضعوا النظام المالي الذي هو قطب رحى المدنية الغربية الحاضرة في العالمين القديم والجديد، وأن لهم به النفوذ الأعلى في جميع الدول والأمم (الرأسمالية) كما يقال في عرف هذا العصر، ومن عجائب كيدهم واقتدارهم أن أخفوا أنفسهم بصفتهم المالية أن تظهر في مملكة المال ظهورًا يمكن به لغيرهم أن يسلبوا ثروتهم، أو يغلبوا عليها بعصبية دينية أو وطنية، كما أمكنهم إخفاء شخصيتهم الملية في الجمعية الماسونية السياسية السابقة، وكذا الرمزية اللاحقة. الجزويت والماسونية (7) من الحقائق الثابتة التاريخية أيضًا أنه لم يوجد جماعة من جماعات البشر الدينية والسياسية عرفت كنه كيد اليهود ومكرهم في الأمم ومقاصد الماسونية وأهلها وتصدت لمقاومتهم وإسقاط نفوذهم - إلا جمعية الجزويت الكاثوليكية، وذلك أن الكاثوليك يدينون بوجوب الخضوع الديني والسياسي لأحبار رومية رؤساء الكنيسة المعصومين عندهم، ويعلمون أن اليهود هم الذين ثلوا عرشها بنفوذ الجمعية الماسونية التي انتظم في سلكها الملايين من النصارى ومن غيرهم وأكثرهم لا يشعرون، لذلك بذلوا جهدهم في السعي لكشف الأستار عن أسرارها، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم لصد تيارها، بتتبع عوارها، وتقليم أظفارها، وتحريم الدخول فيها على من يدينون دينهم الكاثوليكي ويقلدونهم في فهمهم وعملهم به، وقد توسلوا إلى معرفة أسرارها بعقيدة الاعتراف الديني الذي استباح به كثير من الكاثوليك الحنث بالأيمان المغلظة، ونقض العهود الموثقة بترجيح العقيدة الدينية، على ما عاهدوا عليه الجمعية، ولا سيما وقت الاحتضار، حيث يغلب خوف النار على ذلك العار. من خفي عليه نفوذ اليهود في أحرار أوربة الغربية والوسطى وملاحدتهم وما كان من حربهم للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، فلا أراه يخفى عليه ما كان من نفوذهم في ملاحدة الروس الذين أضعفوا سلطة الكنيسة الأرثوذكسية بمجلس الدوما، ثم أسقطوها بثل عرش القياصرة - دعاتها وحماتها - وتأسيس حكم البلشفية في تلك الممالك الواسعة، وما كان من نفوذهم في ملاحدة الترك بإسقاط نفوذ الخلافة التركية العثمانية، ثم بهدم الشريعة الإسلامية من المملكة التركية، وجعل حكومتها إلحادية تسعى لمحو الإسلام من الشعب التركي ومن الشعوب الأعجمية الإسلامية التي كانت تابعة لها كالألبان والبوشناق وغيرها كالإيرانيين والأفغانيين. وهم - أعني اليهود - لا يزالون يدينون الله تعالى بتأسيس ملك ديني مدني في فلسطين، يكون ملكهم فيه المسيح الذي ينتظرونه منذ ألوف السنين، كما ينتظر جماعة النصارى والمسلمين المسيح الحق عيسى بن مريم عليه السلام، الذي ورد في الأحاديث أنه سيقتل مسيح اليهود الدجال - أي الذي ينصبونه في فلسطين - فعقائد الملل الثلاث في هذه المسألة متعارضة؛ ولكن المسلمين والنصارى فيها متفقان على تكفير اليهود بجحود المسيح الحق - وهو عيسى بن مريم البتول عليه وعليها السلام - والطعن فيهما، وكل منهم يؤمن به، على الاختلاف المعروف بينهما في صفته، وإنما نقول هذا لبيان الواقع المعروف لا لتحريض الفريقين عليهم، على أنهم استخدموا دول النصارى فظاهرتهم على المسلمين. (8) كان اليهود متكلين على ما في كتب أنبيائهم من الإنباء بمجيء مسيح (مسيا) يعيد مُلك إسرائيل سيرته الأولى ويجمع أشتات أسباطهم ... ويعتقدون أن مجيئه سيكون بقوة إلهية فوق قوى البشر، كما يعتقد أكثر المسلمين في المسيح والمهدي المنتظر، فلهذا لم يكونوا يستعدون لاستعادة الملك بسعي الشعب، فلما طال عليهم الأمد، وكثر فيهم أحرار الفكر الذين لا يؤمنون بهذا الوعد كما انتشر واستقر، أسسو الجمعية الصهيونية للسعي إلى ذلك بقوة الشعب اليهودي المالية والمعنوية، وبجعل الاعتقاد التقليدي حاديًا لهم في هذا السعي وقوة روحية تؤيد سائر القوى الكسبية، وهذا ما نبهنا له المسلمين في أمر المهدي في كتابنا (الحكمة الشرعية) ثم في المنار، وأين المسلمون من علم اليهود وحزمهم وتكافلهم؟ تأسيس الصهيونية ومؤسسها إن المؤسس للصهيونية كاتب من يهود بلاد المجر كان من علماء القانون (اسمه تيودور هرتزل) أنشأ في سنة 1896 صحيفة باسم (دولة يهودية) للدعوة إلى تأسيس هذه الدولة في فلسطين، فتقبلها الكثيرون من اليهود في أقطار العالم بالبهجة والأمل، وارتاب كثيرون منهم في نجاح هذا العمل، وتأسست الجمعية الرسمية لها في العام التالي لإنشاء الصحيفة، وطفقوا يجمعون لها الأموال ويؤسسون الفروع ويعقدون المؤتمرات، حتى إنهم أسسوا لها مصرفًا ماليًّا خاصًّا وصنفوا لها (دائرة معارف) خاصة، وقد قرر المجمع أو المؤتمر الصهيوني الأول ما وضعه (هرزل) من غرضها وغايتها وعبر عنه بأنه إنشاء وطن شرعي للشعب اليهودي في فلسطين تعترف به الدول، فيكونون فيه كالإنكليز في الجزائر البريطانية، والفرنسيين في فرنسة ... إلخ، فيؤسسون الدولة اليهودية (استعدادًا لمجيء مسيا المنتظر، الذي تخضع له شعوب البشر) وقرر الوسائل لذلك، وهي البدء باستعمار فلسطين (1) بامتلاك الأرض وعمارتها بالزراعة والصناعة وسائر الأعمال الاقتصادية والمهن الحرة، و (2) بجمع كلمة الشعوب اليهودية في الشرق والغرب واتحادهم للتعاون على هذا العمل لتلك الغاية، بإنشاء الجمعيات في كل قطر بما لا يخالف قوانين حكومته، و (3) بإحياء الشعور الإسرائيلي الملي وتقوية آماله في مآله، و (4) بالسعي لدى الدول لنيل عطفها على الصهيونية ومساعدتها على تحقيق أمنيتها. وقد افترص الصهيونيون انفجار براكين الحرب العامة في العالم، فكان من دسائسهم فيها ما بيناه من قبل من خدمة الدولة البريطانية وحملها مع حلفائها على مكافأتهم على ذلك بالتأييد الرسمي لمقصدها ففعلت، وهذه ترجمة الوثيقة الرسمية بذلك المعروفة (بوعد بلفور) مثير الفتن، وموقد نار الثورة، وموقظ الأمة العربية والشعوب الإسلامية من رقادها، كما بلّغه لزعيم اليهود المالي الأكبر: عهد بلفور الجائر نظارة الخارجية في 2 تشرين الثاني 1917 عزيزي اللورد روتشيلد: إني بملء المسرة أنقل إليكم بالنيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي المفعم بالشعور مع مطامح اليهود الصهيونية، والذي طُرح على هيئة الوزار

الفتنة في نجد ـ أسبابها ونتائجها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الفتنة في نجد - أسبابها ونتائجها قد صار من المعروف عند جماهير الواقفين على شؤون الأقطار العربية وأهلها أن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود قد عمل في جزيرة العرب عملاً لم يسبق له نظير إلا في صدر الإسلام من تحويل الأعراب من عصبية جاهلية ووثنية وأمية إلى التوحيد والعلم والحضارة بالتدريج، جدد بذلك ما كان قد رث واخلولق من الإصلاح الديني والنهضة العلمية التي قام بها الشيخ محمد عبد الوهاب، وأعاد بناء ما كان قد تهدم من دولة أجداده بعداوة الدولة العثمانية لهم ومجاهدتهم إياهم بالسيف والنار، ثم بالدعاية المنفرة عن إمارتهم بدعوى كونها ناصرة لمذهب مبتدع جديد مخالف للسنة، خوفًا من تجديدها لملك الأمة العربية، وانتزاعها منها ما تدعيه من منصب الخلافة الإسلامية، بل وسع تلك الدولة حتى استقام له الأمر في معظم الجزيرة العربية، فأقام فيها الدين، وأحيا سنة الخلفاء الراشدين، بما نصب من قسطاس العدل المستقيم، ومد من ظل الأمان الوارف الظليل، فأغنى الحاج عن الحرس والبذرقة [1] وهيَّأ لهم وسائل الصحة والراحة. وكان مما حاوله ولما يدرك فيه كل ما أمَّله، إبطال البداوة من نجد وملحقاتها، وإزالة جهالاتها ومنكراتها، فبنى لهم المهاجر، وهيَّأ لهم فيها أسباب الزراعة والعمران، بقدر ما في الإمكان، ولقد كان كل ما في الإمكان قليلاً، لم ينتزع من قلوبهم ما رسخ فيها من جفوة البداوة، ولم يثقف من طباعهم ما ورثته من حمية الجاهلية؛ وإنما صبغها التعليم الناقص بصبغة دينية، فصار ما ألفوه من الغزو لأجل السلب والنهب، واستباحة سفك الدماء لأخذ الثأر، أو شفاء حفائظ الصدر، مشوبًا بقصد نشر التوحيد وإزالة الشرك، ولا يتم هذا إلا بمعرفة ما يتوقف عليه من أحكام الشرع. وهم لم يعرفوا كلهم من تلك الأحكام وجوب طاعة الإمام في المنشط والمكره، وتحريم الأثرة عليها والاستبداد دونه في الجهاد والأمان، وإقامة الحدود وتقرير العقوبات، فظل الراسخون في البداوة الجاهلية، والعصبية العمية، يخضع كلٌّ لرئيس قبيلته، ويقاتل تحت رايته، ويطيع الإمام صاحب البيعة بطاعته، لا بأمر الله واتباع شريعته، وهذا عين العصبية التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من فاعلها بقوله: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، ولم يعلموا أيضًا بحظر الغلو في الدين، ولا أنهم كانوا من الغالين بتكفير من لم يثبت كفره، أو عقاب من لم تشرع عقوبته، ولا أن حق إقامة الحدود وعقوبات التعزير للإمام أو نائبه، وكذلك إزالة المنكر والنهي عنه إذا لم يكن من المجمع عليه، وأما أهل الحضر منهم فيعلمون أكثر هذه الأحكام. وقد علم قراء المنار ما كان من أمر فيصل الدويش وقومه في غزو أطراف العراق والكويت بدون أمر الإمام، ومن إصرارهم على ذلك بعد نهيه اياهم عنه، ومن عقده مؤتمر الشورى العام في الرياض عاصمة نجد في العام الماضي، واقتراحه عليهم أن يبايعوا غيره إذا لم يكونوا راضين بحكمه، وحثهم على انتقاد كل ما يرونه من أعماله مخالفًا لشرع الله أو لمصالحهم، وما كان من مصارحة بعضهم إياه بما أنكروه من أخذه ببعض مستحدثات الصناعة المدنية كالسيارات والتلفون لجهلهم بحقيقتهما، ومن اقتناعهم بعدم حظر ذلك وأمثاله كما أفتى بذلك علماؤهم، ومن إجماعهم على إنكار ما فعلته حكومة العراق من إقامة الحصون في مراعي نجد ودون مياهها، وتفويضهم الأمر إليه في السعي لإزالة هذه الحصون بكل وسيلة ممكنة حتى القتال، وما تلا ذلك من تجديد مبايعته، وإيجاب طاعته، وشذ عن ذلك غلاة المعتدين بإغواء زعيمين من شيوخهم هما فيصل الدويش وسلطان بن بجاد، وأذاعوا أن الإمام عبد العزيز بن سعود أبطل فريضة الجهاد وقتال المشركين فوجب عصيانه، حتى اضطر إلى قتالهم وإخضاعهم في العام الماضي بالقوة؛ ولكن فيصل الدويش هذا فر واختفى حتى ظن أنه قُتل. ولما عاد الإمام إلى الحجاز بعد هدوء الحال في نجد عاد هذا الخارجي المتعصب إلى بث الدعوة لعصيانه، وثبت عند حكومة نجد والعارفين من أهلها أن أعداء ملكهم افترصوا هذه الفتنة فأرسلوا دعاتهم من العراق والكويت إلى نجد يحملون الألوف الكثيرة من الريالات والروبيات لمساعدة العصاة وتعميم الدعاية إلى الخروج عليه، فانتشرت في القبائل والهجر أو المهاجر التي لا تزال تغلب على أهلها أخلاق البداوة وعاداتها، ولكن باسم الدين ودعوى مخالفة الإمام عبد العزيز لأحكامه بموالاة المشركين من أهل العراق والإنكليز حماتهم، ومنع المسلمين من مجاهدتهم (ويعنون بالمسلمين أنفسهم) وكذا إقراره مشركي الحجاز وغيرهم من أهل الأمصار على ما هم عليه، وسماحه لهم بالحج من غير أن يستتيبهم من الشرك، ويلقنهم التوحيد الخالص … وحاولوا نشر هذه الدعاية في بدو الحجاز كما نوَّه بذلك ناشرها في مصر، وبنوا على ذلك الدعوة إلى ترك الحج في هذا العام. وللمسلمين في هذه الفتنة عدة عبر: (1) أن سيئي النية من النجديين في هذه الفتنة هم أفراد من الزعماء كفيصل الدويش، هذا الذي منعه الإمام ابن السعود من استغلال قوته في السلب والنهب، والتلذذ بما ألفوا من الغزو، وقد ذكر الملك في كتاب أرسله إلي في العام الماضي أنهم اثنان فقط (يعنى الدويش وابن بجاد) ولعلهم زادوا في هذا العام فكان منهم بعض شيوخ عتيبة والعجمان وغيرهم ممن أظهروا الخروج على الإمام، وهذا من الأدلة على ما هو مقرر في الشرع وجميع قوانين الأمم من وجوب توحيد السلطة، وحظر وجود زعماء في المملكة، يمكنهم الانفراد بالحرب أو أي عمل من أمور الدولة، بدون أمر الممثل للسلطة العليا من إمام أو ملك أو رئيس. (2) أن العلم الناقص المعبَّر عنه بالجهل المركب قد يجني على الأفراد والأمة ما لا يجني عليها الجهل البسيط؛ فإن عوام القبائل النجدية التي خُدعت بدعاية رؤسائها الطامعين، وأعدائها الدساسين، لا تعلم أن الإسلام الذي تحبه وتتفانى في الدفاع عنه يحرِّم عليها الخروج على الإمام، وتفريق كلمة الأمة وإن لم يفض إلى القتال، فكيف إذا جُعل وسيلة لسفك الدماء، وقتل المسلمين الموحدين بعضهم لبعض؟ كما فعل الدويش وأمثاله في نجد، فالدويش يدَّعي أن الامام ابن سعود أخطأ وعصى الله تعالى في منعهم من قتال أهل العراق والكويت، وأن علماء نجد شايعوه على ضلاله وعصيانه، ولو كان لخواص قومه - ولا أقول لكل قومه - علم بشريعة الإسلام، لعرفوا أنه هو المخطئ لا الإمام، وأنه لا يمكن أن يكون أعلم من علماء نجد الموافقين للإمام بالشريعة، ولعرفوا أن مذهب أهل السنة أنه لا يجوز الخروج على الإمام بمثل هذا الخطأ إن صح أنه خطأ. ولو كان لهم عقل ورأي لعلموا أنه ليس من الدين ولا من العقل ولا من مصلحة أمتهم وبلادهم أن يقتتلوا لخلاف وقع بين إمامهم وشيخ قبيلتهم؛ لأن هذا يفضي إلى ضعف أهل التوحيد كلهم، وتمكين الكفار من إزالة ملكهم أو إضعافه. (3) أنما منع الملك عبد العزيز آل سعود هؤلاء الغزاة من أهل بلاده أن يغزوا العراق والكويت وشرق الأردن حبًّا في السلم وحرصًا على الوحدة العربية والجامعة الاسلامية، فكان جزاؤه من رؤوس هذه البلاد أن يغروا هؤلاء الغزاة أنفسهم بقتاله، ويساعدوهم على إيقاع الاختلال في بلاده، أملاً في ثل عرشه، وعودة الحجاز إلى عشاق المُلك من بيت حسين بن علي بمساعدة الإنكليز الذين ولُّوهم مُلك العراق وشرق الأردن، ويرجون أن يفوا بوعدهم إياهم بسائر البلاد العربية، وقد تناقل المشتغلون بالقضية العربية عن بعض أفراد هذا البيت وأشدهم صراحة في عداوة ابن السعود أنه قال جهرًا عندما تجددت فتنة نجد في الصيف الماضي وقبل علم الجمهور بها: إن عبد العزيز بن سعود لن يعيش أكثر من شهر بعد هذا اليوم، فعُلم من ذلك أنه كان من جملة الدسائس السعي لاغتياله. وتناقلوا أيضًا أن عليًّا ملك جدة الغابر، وعبد الله ملك شرق الأردن الحاضر، لم يزورا والدهما حسينًا ملك العرب أو الحجاز السابق، إلا لإقناعه بالانتقال إلى العراق حيث فيصل ملكها اللاحق، أو معان التي سلخها نجلاه من المملكة الحجازية، ووضعاها تحت تصرف الجلالة البريطانية إلا ليتولى إدارة هذه الفتنة، وأنهما سعيا لدى الإنكليز للإذن بهذه النقلة. وتناقلوا أيضًا أن سفر الأمير عبد الله من شرق الأردن إلى بغداد لعقد المؤتمر السري مع أخويه الملكين علي وفيصل في وقت اشتعال فتنة فلسطين وتهيج عرب شرق الأردن لمساعدة إخوانهم في القدس على اليهود - إنما كان لأجل التدبير الذي يجب التعاون عليه في مسألة نجد، ولا شك عندنا في براءة حكومة العراق وزعماء العراق من هذه الأعمال والدسائس، وفي كراهتهم لها؛ لأنهم من أخلص زعماء العرب لأمتهم، وأكبر رجائها في تأسيس وحدتهم. وقد صرَّح داعية هؤلاء الحجازيين في مصر أمام بعض من كلمه فيما يذيعه من تكبير أمر هذه الفتنة بأنهم متفقون مع فيصل الدويش فيها. وأما شيخ الكويت الغني (المصحَّف) فهو يحمل غلاًّ وإحنة على ملك الحجاز ونجد؛ لأنه أمر بتحويل تجارة نجد عن ثغر الكويت إلى ثغور بلاده في الحسا هربًا من المكس (الجمرك) الذي تأخذه حكومته عليها، وهو حق شرعي قانوني لا يختلف فيه اثنان، وهذا منتهى شوطه في الانتقام، إلا أن يريد الإنكليز تضحيته في هذا الميدان، كما ضحوا بكثير من الملوك والأمراء في الشرق والغرب كانوا أقوى منه وأغنى، وأعلم بالسياسة وأدرى. (4) لم تكتف الدعاية الشريفية الحجازية، بما ذُكر من الأعمال السياسية، لاستعادة ملك الحجاز إلى الإمبراطورية البريطانية، بل نشط عمالها لإعادة الدعوة إلى ترك الحج التي كانوا بدءوا بها في السنة الأولى لاستيلاء ملك نجد على الحجاز، وقد بثوا هذه الدعوة في جميع الأقطار التي لهم أعوان وعمال فيها، ولو وصلت فتنتهم إلى الحجاز، وأمكنهم إثارة بعض بدوها للقتال والاعتداء، لراجت دعوتهم بدعوى الخطر على الحجاج، وأما احتجاجهم السابق عليها بالطعن في مذهب أهل نجد وملكهم فلم يعد له أدنى تأثير عند أحد من المسلمين، بعدما تواتر بنقل مئات الألوف من حجاج جميع الأقطار في هذه السنين أن الحجاز في عصر ابن السعود خير مما كان في عصور الدول السابقة من الأمويين والعباسيين إلى الترك العثمانيين، أمانًا وراحة وصحة وحرية شرعية لجميع المذاهب الإسلامية، بل لا يُسئل هنالك أحد عن مذهبه. الآراء في هذه الفتنة إن الناس قد اضطربوا في أخبار هذه الفتنة لتعارض أخبارها باختلاف مصادرها، فأهل الغيرة على الإسلام، ودعاة الوحدة العربية، ومحبو الرابطة الشرقية، وأعداء السياسة الاستعمارية، وخصوم الدولة البريطانية منهم خاصة - كلهم يتمنون النجاح لابن السعود في القضاء على هذه الفتنة بمنتهى السرعة؛ لأن كل فريق منهم يعلم حق العلم أنه الركن الركين لمصلحتهم وسياستهم، وما قرأت لأحد ولا سمعت من أحد ولا عن أحد منهم غير ذلك، إلا عن شيخ واحد من أكبر سدنة القبور المعبودة أظهر التمني لانتصار الخارجي على إمامه الشرعي، جاهلاً أن ذنب إمامه عنده أنه منعه هو وغلاة أتباعه من قتال القبوريين، وأنه يسمح لهم بالحج والعمرة، وجاهلاً بما يخشاه أولئك المسلمون من عرب وعجم، والعرب من مسلمين ونصا

الاستفتاء في حقيقة الربا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاستفتاء في حقيقة الربا لبعض كبار علماء الهند (تابع ما نُشر في الجزء الرابع) لبعض الأعلام ههنا كلام، فلابد علينا أن نذكره مع ما له وما عليه، وهو أن القرض ليس غير البيع ومباينًا له بل داخل فيه؛ لأن القرض مبادلة انتهاء كما صرَّح به بعض الفقهاء فهو قسم من أقسام البيع لا غير؛ وإنما جوَّز فيه النسأ مع كونه من الأموال الربوية للضرورة ودفع حاجة الفقراء، وهذا لا يخرجه عن البيع. قال القاضي ابن رشد الحفيد المالكي: فإن العقود تنقسم أولاً بقسمين: قسم يكون معاوضة، وقسم يكون بغير معاوضة كالهبات والصدقات، والذي يكون بمعاوضة ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) يختص بقصد المغابنة، وهي البيوع والإجارات والمهور والصلح والمال المضمون بالعقد وغيره (والقسم الثاني) لا يختص بقصد المغابنة؛ وإنما يكون على جهة الرفق وهو القرض [1] (والقسم الثالث) فهو ما يصلح أن يقع على الوجهين جميعًا أعني قصد المغابنة وعلى قصد الرفق كالشركة والإقالة والتولية [2] قال الشاه ولي الله في حجة الله البالغة في ذيل البيوع المنهي عنها: وكذلك الربا وهو القرض [3] على أن يؤدي إليه أكثر وأفضل مما أُخذ سحت [4] باطل؛ فإن عامة [5] المقترضين بهذا النوع هم المفاليس المضطرون، وكثيرًا ما لا يجدون الوفاء عند الأجل، فيصير أضعافًا مضاعفة لا يمكن التخلص منه أبدًا، وهو مظنة لمناقشات عظيمة، وخصومات مستطيرة، وإذا جرى الرسم باستنماء المال بهذا الوجه أفضى إلى ترك الزراعات والصناعات التي هي أصول المكاسب ولا شيء في العقود أشد تدقيقًا واعتناء بالقليل وخصومة من الربا، وهذان الكسبان (أي الميسر والربا) بمنزلة السُّكر مناقضان لأصل ما شرع الله لعباده من المكاسب وفيهما قبح وشناعة، والأمر في مثل ذلك إلى الشارع، إما أن يضرب له حدًّا يرخص فيما دونه ويغلظ النهي عما فوقه، أو يصد عنها رأسًا، وكان الميسر والربا [6] شائعين في العرب، وكان قد حدث بسببهما مناقشات عظيمة لا انتهاء لها ومحاربات، وكان قليلهما يدعو إلى كثيرهما، فلم يكن أصوب ولا أحق من أن يراعى حكم القبح والفساد موفرًا فنهى عنهما بالكلية [واعلم] أن الربا على وجهين: حقيقي [7] ، ومحمول عليه، أما الحقيقي فهو في الديون [8] وقد ذكرنا أن فيه قلبًا لموضوع المعاملات، وأن الناس كانوا منهمكين فيه في الجاهلية أشد انهماك، وكان حدث [9] لأجله محاربات مستطيرة، وكان قليله يدعو إلى كثيره فوجب أن يُسد بابه بالكلية؛ ولذلك نزل في القرآن في شأنه ما نزل (والثاني) ربا الفضل والأصل فيه الحديث المستفيض (الذهب) -الحديث -هو [أي ربا الفضل] مسمى بربا تغليظًا وتشبيهًا [10] له بالربا الحقيقي على حد قوله عليه السلام: (المنجِّم كاهن) وبه يُفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلا في النسيئة) [11] ثم كثر في الشرع استعمال الربا في هذا المعنى حتى صار حقيقة شرعية فيه أيضًا [12] والله أعلم. انتهى [13] . وكذا قال العلامة الإمام ابن الهمام الحنفي بعدما فسر الربا بقوله هو من البيوع [14] المنهي عنها قطعًا قال: بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا} (آل عمران: 130) أي الزائد [15] في القرض [16] والسلف على القدر المدفوع والزائد في بيع الأموال الربوية عند بيع بعضها بجنسه، وسنذكر تفصيلهما، ويقال لنفس الزيادة أعني بالمعنى المصدري، ومنه {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) أي حرَّم أن يزاد في القرض والسلف على القدر المدفوع، وأن يزاد في بيع تلك الأموال بجنسها قدرًا ليس مثله في الآخر [17] وذلك الكلام أتى في كتاب الصرف بحديث عمر (الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء) ثم قال: وقيل: معنى قوله (ربا) أي حرام بإطلاق اسم الملزوم على اللازم، ولا مانع من حمله في حقيقته شرعًا، وأن اسم الربا تضمن الزيادة من الأموال الخاصة في أحد العوضين في قرض أو بيع اهـ الظاهر من مجموع كلامه أن الزيادة في القرض ربا، والربا من البيوع المنهي عنها، فيفهم منه أن القرض من البيوع. وفي الملتقى: الربا هو فضل مال خالٍ عن عوض شرط لأحد العاقدين في معاوضة مال بمال - وذكر العلامة الشيخ زادة في شرح العاقدين: أي البائعين أو المقترضين [18] فعلى هذا يكون الربا في القرض أيضًا فيكون بيعًا، وكذلك الفقهاء بأجمعهم يذكرون الربا في كتاب البيوع والربا في القرض أيضًا، فيكون القرض بيعًا. قال العلامة العيني في شرح البخاري واختلف في عقد الربا هل هو منسوخ لا يجوز بحال، أو هو بيع [19] فاسد إذا أُزيل فساده صح بيعه؟ فجمهور العلماء على أنه بيع منسوخ، وقال أبو حنيفة: هو بيع [20] فاسد إذا أزيل فساده انقلب صحيحًا [21] قال شيخ الإسلام المرغيناني في باب البيوع الفاسدة من فتاوى التجنيس والمزيد: رجل طلب من آخر قرض عشرة دراهم بأكثر: لا يجوز؛ لأن فيه ربا اهـ[22] . يمكن أن يتوهم من هذه العبارات أن القرض فيه الربا، ولا ربا في غير البيع. والجواب عنه أولاً تصريح العلماء والفقهاء بأن القرض غير البيع، قال الشيخ ولي الله عليه رحمة الله في شرح الموطأ بالفارسية: (معنى قرض تمليك شيء) است بآن شرط كه رد كند بدل أو وآن بيع نيست لمكه عقد يست كه ابتداء معنى تبرع دارد واخرا معنى مبادلة [23] قال ابن الهمام إن القرض تبرع لأنه صلة في الابتداء وإعارة حتى يصح القرض بلفظ أعرتك اهـ (فتح القدير) قال الشاه ولي الله رحمة الله عليه: مبنى القرض على التبرع من أول الأمر وفيه معنى الإعارة [24] . قال ملك العلماء في البدائع: لأن القرض للحال تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال؟ فكان تبرعًا فلا يجوز إلا ممن يجوز منه التبرع، وكذا قال في مبحث تأجيل القرض: لأن القرض تبرع، ألا ترى أنه لا يقابله عوض للحال، وأنه لا يملكه من لا يملك التبرع؟ وقال الحداد في شرح القدوري في هذا المبحث: لأنه (القرض) اصطناع معروف، وفي جواز تأجيله جبر على اصطناع المعروف، وقال الحداد في البيوع: والبيع في اللغة: مبادلة مال بمال آخر، وكذا في الشرع؛ لكن زِيد فيه قيد التراضي لما في التغالب من الفساد {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} (البقرة: 205) ويقال: هو في الشرع عبارة عن إيجاب وقبول في مالين ليس فيهما معنى التبرع، وهذا قول العراقيين كالشيخ (أي أبي الحسن القدوري) وأصحابه، وقيل: هو عبارة عن مبادلة مال بمال لا على وجه التبرع، وهو قول الخراسانيين كصاحب الهداية وأصحابه اهـ. فالقرض على رأي الجمهور عقد تبرع كما مر بخلاف البيع؛ فإنه ليس فيه تبرع على كلا الحدين، فغير التبرع لا يكون تبرعًا، بل هما متباينان وأحكامهما مختلفة، فالقرض معروف هو صدقة وتبرع وعبادة، والبيع ليس كذلك، والقرض عارية في الابتداء، والبيع ليس بعارية لا في الابتداء ولا في الانتهاء، فالقرض شبيه بالعارية من حيث الابتداء وشبيه بالبيع من حيث الانتهاء، ووجه الشبه المبادلة؛ لكن تكون في البيع ابتداءً وانتهاءً، وفي القرض حين الأداء وبه لا تخرج عنه كونها تبرعًا، قال السرخسي في شرح السير الكبير [25] هو كلام يحتمل القرض، ويحتمل الصدقة فكل واحد منهما تبرع، والقرض أقل التبرعين؛ لأنه يوجب البدل اهـ. ففيه تصريح أن البدل لم يُخْرِج القرض عن كونه تبرعًا. والحق أن المبادلة في البيع ركن، وفي القرض ليست بركن، نعم تستلزمه، وفرق ما بين الالتزام واللزوم؛ لأن مقصود المشتري هو المبيع، ومقصود البائع هو الثمن، وغرض كل منهما إخراج ما في ملكه وتحصيل عوضه، والأحكام تترتب على الالتزام لا على اللزوم، قال ملك العلماء: إن البيع مبادلة شيء مرغوب فيه بشيء مرغوب فيه [26] ، وقال في (كتاب البيوع) أما ركن البيع فهو مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب، وذلك قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل اهـ. وظاهر أن القرض ليس فيه مبادلة شيء بشيء مرغوب فيه، بل الغرض الأصلي الذي وضع له القرض هو إنجاح حاجة المحتاج إليه، ولذا قال الشيخ ولي الله رحمه الله أن القرض تمليك الشيء ليسترد [27] مثله وهو ليس ببيع، بل هو عقد في أوله تبرع، وفي آخره مبادلة [28] قال ابن عابدين رحمه الله: ههنا أصلان (أحدهما) أن كل ما كان مبادلة مال بمال يفسد بالشرط الفاسد كالبيع وما لا فلا [29] كالقرض [30] وأيضًا قال العلامة المذكور في نشر العرف: في دليل محمد رحمه الله؛ لأن القرض أسرع جوازًا من البيع؛ لأنه مبادلةٌ صورةً، وتبرعٌ حكمًا [31] فهذا تصريح منه أن القرض ولو كان مبادلةً صورةً، لكن ليس له حكم المبادلة شرعًا، قال القاضي سناء الله في تفسيره: لأن الشرع اعتبره عارية كأن المؤدى عين المدفوع. ولعله باعتبار مقاصد العاقدين لأن الاعتبار في العقود للأغراض والمعاني لا للصورة، ومن ذهب إلى أنه مبادلة انتهاء فهو صرَّح أيضًا أنه تبرع في الابتداء، والبيع ما يكون مبادلة في الابتداء كما هو مبادلة في الانتهاء، قال شيخ الإسلام رحمه الله إنه إعارة وصلة في الابتداء حتى يصح بلفظ الإعارة، ولا يملكه من لا يملك التبرع كالوصي والصبي، ومعاوضة في الانتهاء، وكذا قال الحداد في شرح القدوري، والقرض ليس هو بمبادلة في الابتداء اهـ. فعلى هذا لا يكون بيعًا؛ لأن الفقهاء صرَّحوا أن البيع مبادلة ابتداء كما هو مبادلة انتهاء، وإذا فات عن أحد الطرفين كونه مبادلة يفوت كونه بيعًا، قال ملك العلماء في البدائع في دليل قول الإمام: إن ولي الصغيرة لا يملك الهبة بالعوض بدليل أن الملك فيها يقف على القبض، وذلك من أحكام الهبة؛ وإنما تصير معاوضة في الانتهاء، وهو لا يملك الهبة فلم تنعقد هبة فلا يتصور أن تصير معاوضة بخلاف البيع؛ لأنه معاوضة ابتداء وانتهاء وهو يملك المعاوضة [32] . اعلم أن ملك العلماء أخرج الهبة بالعوض عن البيع بدليل أنها ليست بمعاوضة في الابتداء فبعين هذا الدليل يخرج القرض أيضًا من البيع؛ لأنه ليس بمعاوضة في الابتداء بالاتفاق كما مر عن العلامة الشامي أن القرض وإن كانت صورته صورة المبادلة لكن هو في حكم التبرع شرعًا، قال العيني في شرح الهداية: والمعول على النكتة الأولى [33] لا على النكتة الثانية [34] لأن على النكتة الثانية يلزم أن لا يصح القرض أصلاً اهـ. قال صاحب العناية: وهذا يقتضي فساد القرض لكن ندب الشرع إليه وأجمعت الأمة على جوازه فاعتمدنا على الابتداء [35] وقلنا بجوازه بلا لزوم (باب المرابحة والتولية) . والحق في هذا الباب ما نقل القهستاني عن النهاية وغيره لأنه موافق للدراية، وهو أن القرض ليس فيه مبادلة أصلاً لا في الابتداء ولا في الانتهاء بل في كليهما عارية، لفظه: إلا أن التعويل على أنه عارية ابتداء أو انتهاء [36] قال الشلبي إن بدل القرض في الحكم كأنه عين [37] المقبوض إذ لو لم يجعل كذلك كان مبادلة الشيء بجنسه نسيئة وهو حرام، وإذا كان كذلك يكون عارية ابتداء وانتهاء [38] ويحصل من هذه أن الأصل في البيع أن يكون غرض العاقدين التزام المبادلة، ولا يكون القصد والغرض من طرف إلا المبادلة، وأما العقود التي لا يكون غرض المتعاقدين فيها التزام المبادلة بل يلزمها المبادلة، فهي ليست ببيع كما في القرض؛ لأن فيه ليس غرض المقرض ليتبادل دراهمه، بل غرض الطرفين إنجاح الحاجة فقط ولزوم المبادلة من غير قصد والتزام، فلا يصير من هذا اللزوم بيعًا، كذا صرَّح ابن القيم في الأعلام، لفظه: وأما القرض فمن قال إنه خلاف القياس فشبهته أنه

ملاحظات على كتاب المسيو درمانغام المعنون بحياة محمد

الكاتب: اليزيدي

_ ملاحظات على كتاب المسيو درمانغام المُعَنْوَن بحياة محمد الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين مقدمة وتمهيد: حياة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، اشترك في درسها الكُتاب والفلاسفة والمؤرخون ورواة الأخبار منذ ما ينيف على العشرة قرون، وإن منهم إلا من بخسه حقه، وقصر عن وصف نقطة من بحر مزاياه، ومع هذا فلا لوم عليهم ولا عتاب مهما تفاوتت مداركهم، واختلفت أساليبهم، وتباينت مذاهبهم ومللهم؛ لأنه عظيم بل أعظم من أظلته السماء، ولا ترتقبوا مني دليلاً على ما أدعي فإني أقصر باعًا ممن تقدمني لهذا الباب، والقصور لا يمنع من ابتلي به عن إدراك النقص فيما يرى أو يسمع، فها أنت ذا تأخذ على ممثل التصنعَ في القول أو تعيب عليه الخفةَ في الحركات؛ ولكنك لا تستطيع أن تأتي بأحسن من صنعه، وهذا مثل واضح ضربته حتى تعلم أنه ليس من شروط المنتقد أن يكون أعلم ممن تصدي لانتقاده أو - على الأقل - في درجته، فإذا فهمته حق فهمه علمت أنني لا أدعي تفوقًا أو علمًا؛ وإنما ألاحظ أن خزائن الكتب العربية خالية من تأليف يحتوي على درس دقيق لحياة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وليس كل ما كتب إلى الآن في هذا الموضوع إلا بمثابة مواد يجب على طائفة من العلماء أن يحللوها، ثم يرتبوها ويبوبوها بعد أن يضيفوا إليها ما غفل عنه المتقدمون، وعند ذلك يضعون بين يدي الخاص والعام أحسن تعريف بذلك النبي العظيم الذي لم يأت التاريخ بمثله. فهو الرسول الوحيد الذي استطاع أن يأتي أمته في ظرف عشرين سنة بخير دنياها وسعادة أخراها: شرَّع لها العبادات - سنَّ لها قوانين الزواج والطلاق والإرث - شرح لها طرق الكسب والمعاش - أشرع لها منهج المعاملات - علمها سياسة البلاد - قرر لها أنواع الأحكام - بيَّن لها آداب الأكل واللبس والزيارة - زرع في قلوب أهلها الرأفة والشفقة - وحَّد صفوفهم - حرَّم عليهم ما فيه مضرتهم، على حين كان مشتغلاً بحاجات بيته الطاهر، ناشرًا لدعوته الصادقة محاربًا للمشركين الذين كانوا يكيدون له الكيد ليل نهار. أرجو أن يسمع علماء المسلمين ندائي على خمول مصدره، فيصنفوا لنا كتابًا تستنير به بصائر الجاهلين، وترتاح إليه قلوب الحائرين، ويزيد المهتدين إيمانًا مع إيمانهم. بمثل هذا الكتاب ينقطع سيل الحملة التي أرسلتها الكنيسة على الملة الإسلامية بأن قلدت الجيوش من الدجالين أمضى ما لديها من الأسلحة وأوعزت إليهم أن ينالوا من الديانة الإسلامية ما استطاعوا حتى تبطئ في السير أو ترجع القهقرى. أنا مستيقن وأنتم معي - معشر المسلمين - بأنهم لن يصيبوا منها شيئًا؛ لأن الله يأبى إلا أن يُظهرها على الدين كله بالرغم من المعاند والملبس، ومع هذا يجب علينا - وخصوصًا العلماء منا - أن نعارض خطة الكنيسة في هذا الصدد، وأن لا نغفل عن جماعة المفسدين المضلين الذين يريدون أن يزعزعوا بسطاء العقول والجهلة ويزيغوهم عن معتقداتهم ثم يقودوهم إلى النصرانية. فالتدارك التدارك قبل أن يتسرب الخراب إلى الطائفة المحمدية؛ لأن خصومنا لا يذرون طريقًا مستقيمة ولا معوجة إلا سلكوها، ولا تركن إلى ما يدَّعونه من اللادينية والتسامح والإخلاص للعلم وغير ذلك من زخرف القول وخادع الألفاظ، فما فرَّط في دينهم اليوم إلا المسلمون، وما جاوز حدود التسامح إلا هم، فلو أنهم أقاموا شعائره واتبعوا أوامره لما تجاسر أحد أن ينسب إليه الجمود، بل أن يطعن فيه وفي صاحبه عليه الصلاة والسلام، فيدَّعى أن القرآن المرسوم في المصاحف غير القرآن المنزَّل من السماء، وأن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يأخذ عن اليهود والنصارى. نعم ذلك ما جاء في كتاب ظهر منذ عام باللغة الإفرنسية بعنوان (حياة محمد) صلى الله عليه وسلم، وقد سبقني إلى انتقاده صديقي أحمد بلافريج حيث نشر عنه في العدد 146 من مجلة الفتح الغراء كلمة لاحظ فيها على المؤلف - مسيو درمنغام (Dermcnghem. E. M) خطأين عظيمين، ثم بيَّن كلاًّ منهما وناقش مرتكبهما الحساب، وبذلك أدى واجبه نحو الأمة الإسلامية فجزاه ربنا خيرًا. وأنا أريد أن أقتفي أثره وأعرض على قراء المنار الكرام ما بدا لي من الملاحظات عند تلاوة (حياة محمد) صلى الله عليه وسلم. اقتنيت هذا المؤلَّف وأملي أن أجد فيه ما لم أقف عليه في غيره من الكتب لما عُرف به أدباء الغرب اليوم من البحث والتنقيب، فلم يخب ظني إذ عثرت فيه حقيقةً على آراء هي - في نظر المؤلف - أنفس من أن تسكن بطون كتبنا القديمة، وقد أشرت إلى البعض منها آنفًا، وبقي علي أن أنقل إلى القارئ كلام المسيو درمانغام فيها، ثم أعلق عليه ما خطر لي من الأفكار عند تلاوته، وسأقتصر في انتقادي على نقطتين بارزتين في الكتاب، ولو أردت أن أُبيِّن كل ما احتوى عليه من الزلات كبائرها وصغائرها لما اكتفيت بضعف صحائفه وليس ذلك من المتيسر لي. قال في صفحة 135 عند كلامه على كتاب الله العزيز (القرآن أقرب إلى المسيحية من السنة على ما هو عليه الآن، وأما إذا اعتبرنا كيفية تدوينه فيمكننا أن نتساءل هل كان أصله (كذا) يزيد شبهًا بها من الفرقان الموجود الآن؟ وعلى كل حال فالحديث هو الذي حفر هوة بين الديانتين) . ثم خط على صفحة 276 ما معناه (غير صعب على عقولنا وهي أشد معرفة بأفعال الله من معاصري النبي (عليه السلام) ومن علماء المسلمين [1] أن نؤمن بوجود فرق بين كلام الله القديم وبين الفرقان المحفوظ في الصدور المرسوم على الأوراق، وقد يظهر ذلك الفرق بعد الدرس والتفكير وربما برز عند مجرد النظر) . ثم كتب على صفحة 283 (لم يدون القرآن إلا بعد نزوله بمدة، وقد ضعفت عندئذ ذاكرة القوم وكثر بينهم الخلاف فيه، وكان ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين سنة) . وقال في الصفحة التي بعدها (بأية وسيلة يمكننا أن نتوصل إلى معرفة الشروح والتأويلات التي أدرجت في القرآن وما هي نسبتها منه؟ ترى هل هو مجرد عن الحديث النبوي؟) تلك آراء المسيو درمانغام في القرآن الكريم، وإلى هذا الحد وصل سوء ظنه بالصحابة الأجلاء الذين يأبى حتى البليد أن يتهمهم بتحريف أو تزوير في كتاب الله [2] لِما عُرفوا به من الإخلاص لهذا الدين الحنيف والاعتصام بحبله والاعتناء بقانونه ودستوره الذي هو القرآن العزيز، لا شك أنه لا ينكر هذا كما أنه لا ينازع في قوة الحافظة عند العرب لرواية أخبارهم وأشعارهم مع الغريب من ألفاظها والمعقَّد من معانيها، فكيف وما ذكرتَ يجوِّز في حقهم نسيان آيات من كتاب نزل عليهم من عند الله واستولى على حواسهم بفصاحته وسلاسة معانيه وعذوبة ألفاظه وصدق روايته؟ وكيف ننسب إليهم زيادة أو نقصًا فيه، وهم يعلمون أن من بدَّل منه حرفًا يصلى سعيرًا؟ عار على المفكر أن يرميهم بشيء من ذلك لمجرد شكوك ساورت عقله أو شبه ضعيفة تراءت لخياله. على أنهم كانوا رضي الله عنهم يكتبون القرآن عند نزوله، إما من تلقاء أنفسهم وإما بأمر صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، وقد جمعه كثير منهم إلا أن ثلاثة مصاحف هي التي اختصت وقتئذ بالثقة، منها: مصحف سيدنا زيد بن ثابت، وقد كان عرضه على النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر حياته ووافق عليه، وزيد هذا هو الذي كُلِّف من لدن سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه أيام خلافته بكتب المصحف، وبقي ذلك المصحف عند أبي بكر حتى مات رحمه الله، ثم انتقل إلى عمر رضي الله عنه حتى توفي، فبقي عند ابنته أم المؤمنين حفصة إلى أن طلبه منها سيدنا عثمان رضي الله عنه، ثم أمر زمرة من الصحابة الأعلام أن يأخذوا منه عدة نسخ ليفرقها في أنحاء المملكة. وكل ذلك مبسوط في محله؛ وإنما أوردته لأبين للمسيو درمانغام أن القرآن جُمع أول مرة بعد ممات النبي عليه السلام بنحو سنتين، وثانيًا بعده بما دون العشرين، وأما حديث السبعين عامًا فلم يقله إلا هو، وله أن يراجع التاريخ الإسلامي ليتأكد لديه صحة ما ذكرت، وعليه أن يدرس حياة سادتنا أبي بكر وعمر وعثمان رضوان الله عليهم ليعلم أنه يستحيل في حقهم أي تحريف أو تبديل في القرآن، أليس عمر هو الذي كاد يقضي على أعرابي سمعه يتلو آيات بقراءة مخالفة لما أخذه هو عن رسول الله؟ بلى هو ذاك الفاروق الذي لو روى لنا القرآن وحده لما ارتبنا في صحته؛ لأننا لا ننقاد لسلطان الخيال وندع نور الحق جانبًا، ولأننا لا نعقل وجود (فرق بين كلام الله القديم وبين القرآن المحفوظ في الصدور) . ولكنا نعلم أن في نفس المسيو درمانغام حاجات يحول دون الوصول إليها القرآن، وقد حسب أنه ينال مقصوده بالتكلم في الذكر الحكيم والطعن في خاتم المرسلين، وما غايته إلا تقريب الديانة الإسلامية من الملة المسيحية حتى يسهل على أصحاب الأولى أن يمروا إلى الثانية؛ لأنه من المخلصين لها (دينًا أو سياسة) فكأنه يقول: الإسلام فرع من النصرانية، وقد كان القرآن (الأصلي) أقرب إليها من الفرقان الموجود الآن، وإنما بعد عنها بتحريف من الصحابة والفقهاء، فالأوفق والأنسب الرجوع إلى الأصل [3] . وهذه مكيدة من سياسة الكنيسة اليوم في التبشير فقد أمرت خدامها أن لا يصادموا المسلم بادئ بدء بدعوته إلى النصرانية، بل أن يقوضوا دعائم الإسلام واحدة فواحدة، ويشككوا بسطاء العقول من أهله في معتقداتهم حتى إذا ما بقوا حيارى ومرت بهم قافلة أخرى من المبشرين ساقتهم معها إلى الصليب. غير أن المسلمين لا ينخدعون لها ولا يخالجهم ريب في القرآن {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41-42) لأنهم يتلون ويسمعون {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9) فيقولون: صدق الله العظيم. ولو أقامت الكنيسة الإنجيل كما أُنزل من عند الله لكُنا وأهلها أمة واحدة؛ ولكن رجالها بدَّلوا فيه وغيَّروا [4] ثم أبوا أن يرضوا عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى يتَّبع ملتهم، فنهانا الله تعالى أن نؤمن لهم. وأما مسيو درمانغام فنظره أن مسألة الصلب وحدها هي التي أبعدت الإسلام عن النصرانية، وهو لا يستعبد أن تكون تلك المسألة من المحرفات في الكتاب قال في صحيفة) 130 (130) . (إذا اعتبرنا أن القرآن لم يُجمع إلا في عهد عثمان والحجاج (كذا) … وأن الألفاظ لم تكن مشكولة بنقط أو حركات بحيث كان في الإمكان النطق بها بكيفيات مختلفات يبقى لنا أن نتساءل فيما إذا كانت هذه الآية {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ....} (النساء: 157) تكفي لأن تكون سدًّا مانعًا بين ديانتين متحدتين في كل ما سوى هذه المسألة، زد على ذلك أن تلك الآية تناقض ما جاء في سورة آل عمران {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ....} (آل عمران: 55) وفي سورة المائدة {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (المائدة: 117) وفي سورة مريم {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وَلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ....} (مريم: 33) اهـ. نحن لا نرى تناقصًا بين آيات (الوفاة) وبين آية نفي (الصلب) وقد قال بعض المفسرين: إن الله توفى المسيح قبل أن يرفعه، وهو تأويل معقول المعنى؛ لأن سيدنا عيسى عليه السلام كان لابد له من الموت؛ لأنه إنسان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتعب كسائر الناس، والموت لا يقتضي أن يكون بسبب ا

ثورة فلسطين ـ أسبابها ونتائجها ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ثورة فلسطين - أسبابها ونتائجها حقائق في بيان حال اليهود والإنكليز والعرب والرأي في مستقبل العرب والشرق (2) حقيقة حال الإنكليز قد بيَّنا في الفصل الأول من هذا المقال حقيقة حال اليهود: ما يعدُّ لهم وما يعد عليهم، ومنه ما هو خفي عن أكثر الناس. وأما الإنكليز فأمرهم مشهور عند قراء الصحف وغيرهم لكثرة خوضها في سياستهم وأعمالهم، ونقلها مناقشات برلمانهم فيها، ونقل أقوال صحفهم وصحف الأمم الأخرى في نقدها مدحًا وذمًّا، وإنما تخفى على الكثير منهم أخلاقهم وصفاتهم العامة، وما طرأ عليها من تغير، فنذكر ما يعنينا من ذلك. كان القوم مشهورين بالصدق والعدل والحزم والتدبير ومراعاة حرية الناس في أديانهم وآرائهم، وبالوفاء بالوعود والعهود في معاملاتهم الشخصية والدولية، كما اشتهروا بالدسائس والحيل والكيد والمكر، والعجب والكبر، والرياء والإفك [*] ، ولم يكن كل ما يقال في الشهرتين حقًّا ولا كله باطلاً؛ وإنما مرجع أكثر ما يوصفون به من فضيلة إلى أخلاق الأفراد ومزايا الشعب يفيض شعاعه على الحكومة، كما أن مردَّ أكثر ما يوصفون به من رذيلة إلى الحكومة، وقد يثور غباره في وجوه الشعب، وما كانت تمدح به حكومتهم وحدها، فمنه ما هو حق إلا أنه نسبي لا تام في الغالب، ومنه ما هو من تأثير الدعاية (البوربغنده) التي لم يتقنها أحد كإتقانهم، ولا تنفق في سبيلها دولة كإنفاقهم، وأعني بالنسبي أمرين (أحدهما) ما يكون من المقايسة بين الإنكليز وغيرهم من المستعمرين ولا شك أنهم أمثل وأعقل وأنبل (وثانيهما) ما يكون من التوازن بينهم وبين الحكومات الوطنية للبلاد التي يتولون أمرها بالأسماء المختلفة أو المختلَقَة التي يضعونها لها كغيرهم (كالحماية والاحتلال والإجارة والانتداب) وما غُلب أولو سلطان وإمارة على حكمهم وانتُزعت منهم بلادهم، إلا بظلمهم وإسرافهم في أمرهم، فهؤلاء القوم يتحرون أن يكونوا أقل منهم ظلمًا، وأمثل حكمًا، ولو لم يفعلوا إلا النظام في الظلم، والمساواة بين كبير الناس وصغيرهم في الحكم، لكفى ذلك مروِّجًا للدعاية لهم، والتنويه بفضلهم على غيرهم، على أنهم لا يساوون أنفسهم بغيرهم من أهل هذه البلاد، ولا يتنزهون عن محاباة صنائعهم وأعوانهم على تمكين نفوذهم فيها، ولا يتقون ظلم أي زعيم وإذلال أي عزيز يطالب باستقلالها، أو يأنسون منه خطرًا على حكمهم، أو اشمئزازًا من ظلمهم. وللإنكليز مزية أخرى على غيرهم من المستعمرين، ولا سيما اللاتين وهي - كما قال لنا الدكتور يعقوب صروف من دعاتهم وسماسرة سياستهم - أنهم يسمحون لأهل البلاد التي يسوسونها بشيء من ثروتها ومظاهر الحكم والجاه فيها يتمتعون به في ظلهم، من حيث يعترق الآخرون لحمها، وينتقون المخ من عظمها، ويستأثرون بالكبير والصغير من الحكم والنفوذ فيها، وقد قلدتهم دولة أخرى في نصب تماثيل للحكم في بعض مستعمراتها من أهلها؛ لكنها لم تدع لهم أدنى نصيب من مسمى الأسماء التي تفضلت عليهم بها، فكانت أضر على أهل بلادهم منها على أهل البلاد التي لم تنصب فيها شيئًا من هذه التماثيل. وأما فضيلة الإنكليز العليا فهي أنهم أدنى إلى مراعاة سنن الاجتماع، ومسايرة ما يتجدد فيه من الأطوار والأحوال؛ ولكن بعد طول الروية والاختبار، والتنازع بين طرفي التفريط والإفراط، كما يعلم من الفرق البيِّن بين إدارتهم في مصر والسودان، وفي الهند وزنجبار، بسبب اختلاف حال كل من القطرين الزوجين المتقابلين في العلم والجهل، والقرب والبعد من قوة الرأي العام، وكما ظهر أخيرًا من التفاوت في تصرفهم وسياستهم في القطرين العربيين المتجاورين، فلسطين وشرق الأردن من جهة والعراق من جهة أخرى بسبب التفاوت بين حاليهما في القوة والضعف، ففي العراق مئات من الألوف الشاكي السلاح، وألوف كثيرة من الضباط العلماء بفنون القتال، وقد أضرموا نار ثورة قُتل فيها عشرات الألوف من الرجال، وأُنفق فيها الملايين من المال، ومن ورائهم زعماء سياسيون يعرفون كيف يطالبون بالحرية والاستقلال، وقد قربوا منهما، ولن يرضوا بما دونهما. فأما أهل شرق الأردن فقد سيموا من الخسف والاستعباد، ما لا نظير له في بلد من البلاد، إذ باعهم أميرهم لملك الإنكليز بيعًا سياسيًّا بعقد معاهدة لا يطيق ذلها أحد، ولا يقيم على خسفها إلا عير الحي والوتد، فاكتفى أذكاهم فهمًا وأقواهم عزمًا باسترحام الأمير لتعديل بعض مواد العقد، وتخفيف وطأة ما فيه من أحكام الرق، وهم قادرون الآن على تمزيق ذلك الصك، ونبذ ما انتحله عاقده من حق المُلك، وهي قدرة لا تدوم لهم، إذا طال أمد هذا الحكم عليهم. وأما أهل فلسطين، فقد انحصر همهم في مقاومة الوطن القومي للصهيونيين، ومطالبة الإنكليز بنظام حكم نيابي يساوي بينهم وبين غرباء اليهود المعتدين، ونرى الإنكليز لا يسمعون لهم شكوى، ولا ينصفونهم في دعوى، بل يحابون اليهود وينصرونهم عليهم، ويمهدون لهم انتزاع رقبة أرضهم من أيديهم، والاستيلاء على مرافقها ومنافعها، والاستئثار معهم بمصالح حكومتها، وغرضهم الباطن من ذلك تفريق الوحدة العربية في قلب بلادها، وإيجاد أعداء للعرب من غير الإنكليز يشغلونهم بهم عن عداوتهم، ويعلِّقون أمل الفريقين ببقاء حكمهم عليهم. وأما سببه الظاهر فهو أن اليهود أقوى من العرب أهل البلاد مالاً واتحادًا ونفوذًا ماديًّا ومعنويًّا في إنكلترة وسائر أوربة وفي الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها، لا الوفاء بما يسمى (وعد بلفور) والإبرام لعهده، فكم من وعد أخلفوه، وكم من عهد نكثوه؟ كوعودهم لمصر ومعاهدة السودان معها، ولقد وعدوا العرب بما عاهدوا عليه الملك حسينًا من قبل أن يَعِدوا اليهود، وكان وعدهم له باستقلال جميع البلاد العربية بحدودها الطبيعية الشاملة لجزيرة العرب والعراق وفلسطين وسورية ومنها كليكية صريحًا جليًّا مع استثناء لعدن وتحفظ في سواحل سورية الشمالية (لبنان) والبصرة، وأن للعرب لقوة في بلادهم أعظم من قوة اليهود؛ ولكنهم كانوا يجهلون قدرها وإقامة البرهان المقنع للإنكليز عليها، وهي قوة الوحدة فيما لهم من الكثرة، وسنبين قيمتها في الفصل الثالث من هذا المقال. فالإنكليز كغيرهم من أهل أوربة لا يعرفون حقًّا إلا للقوي، ولا يفون بوعد ولا عهد إلا للقوي، ولا يعدلون في حكم إلا مع المتساوين في القوة أو الضعف، فإن تنازع الأقوياء مع الضعفاء كانوا مع الأولين على الآخرين، بل أقول: إنهم لا يحترمون ولا يخافون ولا يرجون إلا القوة، ولا يستحيون من وصف الشرقيين عامة والعرب خاصة بهذه الصفة، ولعمري إنها عامة في البشر؛ ولكنها في الغربيين أقوى وأظهر، وأعم وأشمل، لاستحواذ الأفكار المادية عليهم، وانحلال عرى الملكات الأدبية من قلوبهم، حتى إن أحد كتاب فرنسة طعن في الجيوش المغربية الإسلامية التي استبسلت في الدفاع عن وطنه وقومه بأن الدافع لهم إلى ذلك حب الشهرة بالشجاعة والنجدة، لا الإخلاص لدولته في الطاعة والمحبة، فالأوربيون يحتقرون الشرقيين ويسخرون منهم، كلما رأوا أثرًا من آثار السلطة الأدبية في أعمالهم. ولقد شهد فيلسوف الإنكليز ومفخرهم، بل شيخ فلاسفة أوربة كلها في علوم الأخلاق والاجتماع بأن الأفكار المادية التي ظهرت أولاً في الشعب اللاتيني فأفسدت أخلاقه قد دب دبيبها إلى الشعب الإنكليزي، فطفقت تفتك بأخلاقه، فهي تعدو في سيرها فيه المرطى، وتنهزم من طريقها الفضيلة فترجع القهقرى، حرب ساحقة ليعلم أيها الأقوى ليسود العالم، وقد وقعت هذه الحرب من بعده، وكان فتكها بأخلاق الشعوب وفضائلها، أضعاف فتكها بجحافل جيوشها وفصائلها، وصياصيها ومعاقلها، وأساطيلها الحربية والتجارية، بل سرت عدوى هذا الفساد إلى جميع الأمم في سائر البلاد. كان لكل من إنكلترة وفرنسة اسم سمي ومقام علي في العالم بما نبغ في بلادهما من العلماء والأدباء والشعراء والمخترعين والفنيين، وبما كانتا تبثان من الدعاية لأنفسهما في برقيات شركاتهما وصحفهما وكتبهما، وألسنة من يتربى ويتعلم في مدارسهما، وكذا ألسنة من يستميلون ويصطنعون في البلاد المختلفة وأقلامهم، وقد كان من الإفراط والغلو في هذه الدعاية في مدة الحرب على طولها ما أعقب رد الفعل على مدى أطول وسوء تأثير أعرض وأعمق. كانوا يذيعون في كل يوم أن الدولة الألمانية دولة عسكرية قاسية القلب، فظة الطبع، مسرفة في الطمع والجشع، والضراوة بسفك الدماء، والنهم بسلب الأموال، وأنها لا تبغي من هذه الحرب إلا استعباد البشر، والاستبداد في حكم الأمم. وأما هم فلا يبغون من قتالها إلا الدفاع عن أنفسهم وعن إخوانهم في الإنسانية، ووقايتهم من الخطر الذي يتهدد حريتهم، واستقلال جميع الشعوب كبيرها وصغيرها، قويها وضعيفها؛ لأن الحرية القومية كالحرية الشخصية حق طبيعي عام للبشر، فإن ظفروا كانت العاقبة سعادة جميع البشر، وإن خسروا حاق الشقاء بجميع البشر! ! وقد كان القدح المعلى في تعميم هذه الدعاية للدولة البريطانية، وكان ممن خدع بها دولة الولايات المتحدة، وكان أول مخدوع رئيس حكومتها الدكتور ولسن ذو النزعة الدينية، والعاطفة الإنسانية الأدبية، فانبرى لمساعدتهم؛ وإنما كان النصر الأخير لهم بمساعدته المادية، وبما وضعه للصلح من القواعد (الأربع عشرة) السياسية الأدبية، وكان أول من خُدع بهذه القواعد الاشتراكيون والعمال من الألمان ومنهم بحارة الأسطول، فأكرهوا دولتهم على طلب الصلح، حتى إذا ما قضي الأمر، قلب الحلفاء للرئيس ولسن ودولته ولجميع البشر ظهر المجن، وظهر من طمعهم وقسوتهم وضراوتهم وجشعهم ونهمهم أضعاف ما كان من قبل. أخلفوا الوعود، ونقضوا العهود، وكان جزاء العرب من الانضواء إليهم، والخروج معهم على دولتهم العثمانية طلبًا لاستقلالهم، أن عاملتهم إنكلترة وفرنسة شرًّا مما عاملت به جميع أعدائها من استعباد واستبداد، وسفك دماء وسلب أموال، حتى إنهم كانوا يدمرون القرية الآمنة المطمئنة من البلاد التي كانت تحارب دولتها تحت رايتهم على من فيها من رجال ونساء وأطفال لتهمة واهية لم تقرن ببحث ولا تحقيق، وحتى إنهم سلبوا من مملكة الحجاز سكة الحديد الإسلامية التي جعلها الشريف حسين تحت تصرفهم في الحرب، وكان جيشه يدمر بديناميتهم جسورها ويقلع حديدها في أرض الحجاز نفسها، معتقدًا أنها تبنى بأموال الإنكليز بعد الحرب وتكون له هي والبلاد المنشأة فيها! ! فلا غرو أن يزول كل ما كان لهاتين الدولتين من حرمة ومكانة أدبية في الشرق، وأن يعتقد شعوبه أنهم شر البشر على البشر، وأنه لا حرية ولا حرمة ولا حياة للإنسانية إلا بنقض غزلهم، ونكث فتلهم، بل بتقليص ظلهم الاستعماري من الوجود، وهذا ما أفادت الحرب شعوب الشرق في مقابلة ما خسروا بها. كان سبب نجاح الإنكليز في الاستعمار الذي استولوا به على ما يقرب من ربع البشر أنهم لم يكونوا يدخلون قطرًا إلا بدعوى قصد الخير له ولأهله: تارة لإنقاذ الشعب من ظلم أمرائه وحكامه، وتارة لحفظ عروش أولئك الأمراء من الثورات والفتن والفوضى، كما كان سبب نجاحهم في السياسة أنهم لم يكونوا ينقضون عهدًا أو يتفصون من عقاله إلا بضرب من التأويل يظهرون فيه أنهم على حق، كما قال أعظم ساسة أوربة في القرن التاسع عش

السيد عبد الباسط فتح الله وفاته وملخص ترجمته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد عبد الباسط فتح الله وفاته وملخص ترجمته في غرة جمادى الأولى من هذا العام رزئت مدينة بيروت، بل القطر السوري، بل الأمة العربية والملة الإسلامية بوفاة فرد من أفرادها، وبدل من أبدالها، وشهيد من شهداء الحق، وحجج الله تعالى على الخلق، صديقنا الوفي وأخونا في الله عز وجل، وأحد تلاميذ شيخنا الأستاذ الإمام ومريديه في ديار الشام، وبتربيته وإرشاده كان من أركان الإصلاح في العلم والعمل، والأخلاق والأدب، ومن الكُتاب المجيدين، والخطباء المؤثرين - الأستاذ السيد عبد الباسط فتح الله رحمه الله تعالى وأثابه، وأحسن مرجعه إليه ومآبه، ثم أحسن عزاءنا وعزاء أهله ووطنه عنه، وعظَّم أجرنا جميعًا بمصابنا فيه، توفاه الله تعالى عن ستين سنة هجرية كاملة، إثر مرض طويل أعيا الأطباء، وتعذر الشفاء. وقد كبر مصابه على عارفي فضله، فأبَّنوه عند دفنه، ثم أقاموا له حفلة تأبين في اليوم الأربعين من تاريخ فقده، تبارى فيه خطباء بيروت وشعراؤها في رثائه، وذكر مناقبه نظمًا ونثرًا. وإننا نقتبس ترجمته التاريخية مما ألقاه في تلك الحفلة صديقنا وصديقه الأستاذ الشيخ أحمد عمر المحمصاني الشهير، وهو مأخوذ من ترجمته لنفسه التي نشرتها مجلة المجمع العربي في دمشق ومما عرفه المترجم بنفسه منه وعنه بطول المعاشرة في القرب، وكثرة المكاتبة في البعد، كُنا قد كلفناه كتابة ذلك لأجل نشره في المنار، فكتبه وألقاه في حفلة التأبين ثم أرسله إلينا فلخَّصنا بعضه وتركنا أقله وأثبتنا أكثره بحروفه فمما ذكره المترجم أن كلاًّ من والديه رحمهما الله تعالى (من أسر بيروت القديمة ولنسبهما صلة بأهل البيت النبوي الكريم) ومما بلغنا من صفة والده أنه كان رجلاً صالحًا تقيًّا، وحدَّثنا الفقيد عنه أن الشيخ يوسف النبهاني (الخُرافي الحشوي المعروف) حمله عند سفره إلى الحج بعض كتبه لأجل توزيعها في المدينة المنورة فكان من أمره أنه قبل وصوله إلى المدينة بليلة واحدة - على ما أذكر - رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فأمره ألا يدخل مدينته بتلك الكتب، وفهم منه أنه صلى الله عليه وسلم غير راضٍ عنها، فألقاها أو دفنها في مكان قبل دخولها، ولما عاد من الحج جاء الشيخ النبهاني للسلام عليه في داره وكان عنده كثير من الزائرين، فلما دخل عليه ودنا منه ليعانقه لم يملك لسانه أن قال له: يا شيخ يوسف إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راض عنك، فبُهت النبهاني وأحجم لقوله، واستغرب الحاضرون ذلك ووجموا لسماعه، فذكر لهم رؤياه المذكورة، ثم قال المترجِم: (نشأته) ولد عام 1288 هجرية، وتعلم القراءة والخط وأوليات الحساب في مدرسة المرحوم الشيخ حسن البنا، ثم في سنة 1300 دخل المدرسة السلطانية التي فتحت في بيروت، فتعلم فيها العربية والتركية والإفرنسية وما إليها من الفنون، وكان من أساتذته فيها أستاذنا الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده، وعنه أخذ علوم البيان والمنطق والتوحيد والأحكام العدلية (مجلة الأحكام الشرعية) وكانت له به عناية خاصة، فقرأ له في بيته أثناء العطلة المدرسية وليالي رمضان فصولاً من متن التهذيب في علم الكلام والسيرة النبوية. (ولما اضطرب نظام المدرسة بتدخل السلطة العسكرية في إدارتها برحها الأستاذ الإمام، فتبعه المترجَم ولزم مجلسه حتى أشار عليه بدخول الكلية البطركية لإتمام ما كان حصَّله في المدرسة السلطانية من اللغة الإفرنسية والفنون، فدخلها عام 1888 وحضر فيها دروس أستاذ اللغة العربية الشيخ إبراهيم اليازجي، ودروس غبطة الحبر العلامة البطريرك ديمتريوس القاضي في الآداب الإفرنسية والتاريخ القديم والحكمة الطبيعية، واكتسب من ميل هذا الحبر ورعايته، ما لا يقل عن اهتمام الأستاذ وعنايته، ثم خرج من هذه الكلية وقد نال شهادتها العلمية، مع جائزة الشرف في العلوم العربية) . (وكان يختلف أثناء العطلات المدرسية، وفي أوقات الفراغ بعدها إلى مجالس الأستاذ المحدث الشهير الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت السابق رحمه الله، فسمع منه مع فريق من طلبة العلم جملة صالحة من صحيح البخاري) . وهنا ذكر المترجِم شيئًا من سيرته في حياته العلمية ثم قال: (خدمته للعلم) بيد أن مشاغله الإدارية والتجارية لم تكن تمنعه مما يهوي إليه فؤاده من خدمة العلم ونشره، فقد دعاه الأستاذ الناهض المقدام الشيخ أحمد عباس إلى معاونته على تأسيس مدرسته الشهيرة (بالمدرسة العثمانية) فلبَّى الدعوة، ونشط للخدمة، إذ وجد فيها متسعًا لتحقيق أمانية في الإصلاح، وظل يتبرع بمشاطرة الأستاذ - المشار إليه - تدبير مدرسته وتنظيمها، ويلقي فيها المحاضرات الأدبية، ويعطي الدروس في الجغرافية والطبيعيات والتعريب، إلى أن قضت السياسة التورانية بإقفالها أوائل أيام الحرب. (على أن سعيه نحو غايته من بث العلم لم يكن لينحصر في سبيل تعليم البنين وتربيتهم، بل كان تثقيف البنات والوفاء لهن بحقهن من العلم والتهذيب مناط همه الأكبر، فبالرغم من المصاعب الجمة التي كانت تعترض الساعين في تنوير الأمة (خصوصًا العربية) أيام عبد الحميد قد وُفِّق مع طائفة من المفكرين الناهضين لتأسيس (جمعية ثمرة الإحسان) بُغية تحسين حالة الأنثى المسلمة، وأنشأوا لها مدرسة حَوَت العدد الجم من البنات، ومن تلميذاتها اليوم من تدير إحدى مدارس الحكومة، واشترك كذلك مع فريق من أصحاب الشأن في تأسيس (جمعية مآثر التربية) التي غايتها معاونة الطلبة المعوزين على تحصيل العلم العالي أو الإخصاء في أحد فروعه في كليات بيروت أو جامعات أوربا، ومن أبنائها من هم اليوم في عداد الأطباء، والمحامين وأهل القضاء. وانتُخب لعضوية (جمعية المقاصد الخيرية) وما زال يدأب في خدمة مدارسها وأنظمتها على نحو خدمته للمدرسة العثمانية، ومدرسة ثمرة الإحسان من قبل، كما أنه قام بتدريس الديانة والتهذيب للصفوف المؤلفة من البنات المسلمات في المدرسة السورية الأهلية) . (أثر قلمه) تراه وهو في غضون تلك الأعمال السابقة يغتنم الفرصة، ويفترص المناسبة لبث الأفكار الصحيحة والمبادئ السليمة، ويلفت الأنظار إلى حقائق الأمور وتعرُّف المصلحة العامة والاعتدال في الأخذ بالجديد والمحافظة على القديم، عاملاً بسنة أستاذه الإمام في الدعوة إلى ترك الجمود على التقليد الضار، وخلط الدين في كل شأن من شؤون الدنيا. (تلك المقاصد والموضوعات تراها منبثة في مقالاته وخطبه جارية من بيانه مجرى الدم من جثمانه، فمن غرر مقالاته المشهورة: النهضة الاقتصادية، الألفة، التمدن، الصدق، التعصب، العلم روح المدنية، والمدنية معنى الإنسانية، الميسر وأضراره، ذكرى من سفر في وصف قلعة بعلبك، المداواة الحديثة، تأثير السجايا في الأعمال، لبوس الصيف والنسيج الوطني، الرقيقة إمبراطورة (كتبها عن هنري إمبراطورة الصين) العافية نور على هام الأصحاء لا يدركه إلا الضعفاء، غريبة في عالم الصناعات، العبادة عادة والدين المعاملة، بحث في الصحافة، اللجان الخيرية، في الكستنا أو الشاه بلوط، الإسلام (مقالة رد فيها على مقال للمسيو كولرات نُشرت في جريدة الدبيش كولونيال بعنوان ضد الإسلام) تصويت النساء، في شأن المرأة، في المدافعة الملية، الهرم، وصية منتحر، احتفال الجمعية الكيماوية، الحكم على الكلاب بالإعدام (يداعب فيها البلدية) المحاميات، عبد الله باشا فكري والهيئة الجديدة (قرَّظ بها رسالة عبد الله باشا فكري وزير معارف مصر في المقارنة بين الهيئة الجديدة وتطبيقها على النصوص القرآنية) ذكرى العاقل وتنبيه الغافل (قرَّظ بها رسالة بهذا العنوان للأمير الكبير السيد عبد القادر الجزائري) مجالس الوعظ في رمضان، الظاهر المألوف من المفروش والملبوس، كلمة في بلدية بيروت، وهذه نشرت في جريدة ثمرات الفنون مع كثير من المقالات. وله مقالة عنوانها (التجارة محور السياسة) نُشرت في الثمرات عدد 1284 أتى فيها بالعجب العُجاب في بيان سر الاقتصاد عند الأمم الراقية، وأن التجارة هي حفظ السعادة وقوام العمارة، إلى أن ختمها بقوله: ولو بحثت من الأمور السياسية في أدقها وما قد لا يُشتم منه ريح التجارة لتحققت أن التجارة سره ولبابه، مهما اختلفت مظاهره وتلونت أثوابه، ولأدركت أن التجارة هي غاية السلم، غاية الحرب، محور السياسة، فضلاً عن أنها قطب رحى الحياة المدنية. وله مقالة عنوانها (الإصلاح من طريق العلم والتهذيب) نشرت في العدد الأول من مجلة الكشَّاف، ومما يناسب أن يخص بالذكر في هذا المقام دلالة على شعوره الأدبي ما كتبه بُعيد خروجه من المدرسة في بيان حاجة العربية إلى تأسيس مجمع علمي ينقسم إلى شعب تتفرغ كل منها للعمل في سد جانب من عوز اللغة (الأمر الذي لم يتم لنا إلا بعد ثلاثين سنة) . وإذا تأملت في مقالاته فإنك تجد رجلاً اجتماعيًّا يخوض في مواضيع شتى، وهو هو بقلمه المتين، وعبارته الجيدة، وحجته الناصعة، فبينا تراه يكتب في موضوع أخلاقي يشبعه درسًا، فإذا به في مقال آخر يصف شيئًا فيقربه إليك كأنك تراه ماثلاً أمامك، وتارة تجده في موضوع أدبي أو علمي أو اجتماعي أو زراعي أو تاريخي يوضح لك المحجة، ويقرع الحجة بالحجة. وأما خطبه الممتعة فحدِّث عن البحر ولا حرج، ومن الذي لا يذكر مواقفه في المدرسة العثمانية (الكلية الإسلامية الآن) وأقواله التي تملك الآذان بلا استئذان، مع ثبات جأش، وقوة عارضة، ومتانة في الجمل والكلمات، ورقة في الأسلوب والعبارات، والذين شهدوا خطبه في معنى المسلم وفي الأخوة الدينية، وعن المدرسة الإسلامية في أول نشأتها، وفي الروايات الأدبية وتأثيرها، ومحاضرته عن أبي العلاء المعري وعن التمثيل وفوائده يعرفون المواهب التي وهبه الله إياها، ويدركون عظيم الخطب بفقد الأمة له، وهي في أشد الحاجة إلى العاملين المخلصين المصلحين) . رحم الله منك نفس كريم ... وقليل من النفوس الكرام ثم ذكر مما ترجمه بالعربية عن الفرنسية (كتاب التدريس العلمي ليولبرت أحد نظار المعارف الإفرنسية، وكتاب فلسفة السياسة لغوستاف لوبون، وكتاب الرين ووستفاليا لجول هوره، وترجمة فصل من كتاب سر تقدم الألمان، وهذه الأربعة لم يتمكن من إتمامها، وقد أتم تعريب رسالة (مسألة النساء) لأرنست لوكوفي وجعل لها مقدمة جليلة جدًّا. ومن أهم مميزات الفقيد: الإنصاف في المناظرة والمحاورة، وهذا مما امتاز به وعرفه له مخالطوه ومعاشروه، كما أنه من أكبر الأدلة على المتانة والرسوخ في العلم، ومن أجل المواهب التي يؤتاها النابغون، ولا يوجد بعد العلم حلية لأهل العلم مثل الإنصاف فيه {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت: 35) . ومن أعظم مميزاته اعتناؤه الكلي بالتنظيم في الأعمال التي أدارها وبالأخص فيما يتعلق بالعلم والتعليم، وما دخل في مصلحة إلا وكان له فيها الأثر الخالد. ... وقد ظهرت هذه الميزة في رئاسته لنادي رأس بيروت فقد وضع نظامه وأحكم أساسه، وتولى بنفسه إلقاء المحاضرات الممتعة والمواضيع النافعة مع بعض إخوانه، ولو قُدِّر لهذا النادي البقاء لكان من مفاخر بيروت الجميلة، ومن أهم الأندية في البلاد؛ ولكن مداهمة الحرب العامة ذهبت بكل ما كان يُنتظر من هذا ا

فريضة الحج ودعاية ملاحدة السياسة الشريفية لتركها بفتاوى يفترونها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فريضة الحج ودعاية ملاحدة السياسة الشريفية لتركها بفتاوى يفترونها لما ولَّى الله إمام السُّنة الملك عبد العزيز بن سعود أمر حرمه وحرم رسوله، لم يجد أعداؤه وسيلة للحيلولة بين العالم الإسلامي وبين رؤية عدله وإقامته لشرع الله وإحيائه لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا دعوتهم إلى ترك فريضة الحج وهدم هذا الركن العام من أركان الإسلام انتقامًا منه لهدمه هياكل الوثنية التي بنيت على قبور آل البيت والصالحين برغم السنة النبوية. ومن المعلوم من دين الإسلام بالضرورة أن الله فرض الحج بنص كتابه المحكم على من استطاع إليه سبيلاً، وقال عقب ذلك: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ} (آل عمران: 97) فمن استحل تركه بغير فقْد هذا الشرط (الاستطاعة) فهو كافر خارج من دين الإسلام؛ ولذلك لم تؤثر تلك الدعاية إلا في بعض الجاهلين، والحجاج يزدادون عامًا بعد عام، وينشرون فضل ابن السعود في العالم. وقد علمنا في هذه الأيام أن دعاة بيت المُلك المفقود من الحجاز جددوا هذه الدعاية نفسها، وأرسلوا الكتب من مصر إلى جاوة وسنغافورة وعدن واليمن والهند وسائر الأقطار الإسلامية التي لهم معارف فيها يحثونهم على صد الناس عن الحج، بدعوى أن مُلك ابن سعود في الحجاز وفي نجد أيضًا على وشك السقوط بانتصار بعض الخارجين عليه في نجد بقيادة ابن الدويش، ويستندون في هذه الدعوى على ما ينشرون في جرائد مصر من الأراجيف؛ ولكنهم من جهة أخرى يشيعون أن الدويش هذا متفق مع أولاد الملك حسين والإنكليز على ثل عرش ابن سعود ليعيدوا الحجاز إلى الملك حسين أو نجله علي، فإن كانوا واثقين بهذا وبقرب وقوعه فالمعقول أن يدعوا الناس إلى الإقبال على الحج لا على تركه. وقد ورد عليَّ اليوم كتاب من بعض المسلمين الغيورين على دينهم في عدن، ذكروا فيه أن دعاة هدم ركن الإسلام العام عادوا إلى الدعاية الأولى بتفنن جديد في الكذب، فقد جاءوا فيه بعد رسم المخاطبة: (لا يخفاكم يا سيدي أنه جاء أخيرًا إلى هذه البلدة فرقة من الناس أذلهم الله وأصابهم بداء البغض لجلالة الملك عبد العزيز آل السعود أيَّده الله، ولا عمل لهم إلا التجول في الأسواق وثلب هذا الملك الجليل الوافر العرض، وكنا لا نلتفت إليهم ولا نأبه بما يقولون حتى ابتدءوا ينشرون الفتاوى بأن الحج لا يجب في هذه الأيام بسبب وجود الحكومة النجدية في البلدان المقدسة. وأخيرًا أظهروا للناس أنهم كاتبوكم وأقنعوكم بالأدلة وأجبروكم على الموافقة على فتواهم هذه. أما نحن فإننا أخبر بهم، ونعلم أنه لا يرضى بقولهم إلا مخبل؛ ولكن خشينا على عامتنا أن يسري إليهم هذا الداء، أي داء بغض العرب الناشئ عن بغض مليكها الجليل. فبادرنا بكتابة هذه الأسطر إليكم راجين منكم جوابًا تخدمون به الدين والدولة، ونرجو أن يكون ردكم على صفحات الشورى الغراء؛ لأنها أشهر الجرائد هنا وتطَّلع عليها أكثر أهالي هذه البلدة، وفي الختام اقبلوا فائق الاحترام) اهـ. (الجواب) كنت أود لو أرسل إليَّ هؤلاء الغيورون نسخة من الفتوى التي أشاروا إليها لنرى على أي قاعدة من قواعد الجهل والكفر استحل هؤلاء المساكين، هدم هذا الركن الإسلامي الركين، وأي نص من نصوص الكتاب والسنة أو من اجتهاد الأئمة أوردوا في فتواهم استدلالاً على أن وجود الحكومة السعودية في الحجاز مُسْقِط لفريضة الحج عن المستطيع خلافًا لنص كتاب الله تعالى؟ إذ لا يبعد أن تدل الفتوى على أن فرض استقبال الكعبة المشرفة في الصلاة قد سقط عن المصلين بوجود هذه الحكومة هنالك، وولايتها على بيت الله تعالى! فإن الجهل ليس له حد يقف عنده. يسهل علينا أن نقنع كل مسلم، وإن كان عاميًّا جاهلاً بضلالة هؤلاء الداعين لهم إلى هدم بعض أركان دينهم اتباعًا لأهواء السياسة والملك، إذ لا يجهل أحد منهم أن الحج من أركان الإسلام المفروضة على كل مستطيع له، وكتاب الله وكتب السنة الصحيحة موجودة بين أيديهم فكذبهم عليهما مفضوح، وإذا كان كذبهم علينا ظاهرًا أنكره العقلاء بدلالة عقولهم، وها نحن أولاء نظهره لغيرهم على صفحات هذه الجريدة وغيرها، فكيف بكذبهم على الله ورسوله وأئمة المسلمين؟ وأما الذي يصعب إظهار كذبهم وافترائهم فيه فهو ما يرجفون به في تعظيم أمر ثورة الدويش في نجد على ملكه وإمامه، وبيان أن ما يتوقعونه من الشر ويفرحون به ليس خيرًا لهم، بل هو شر لهم ولغيرهم، ولماذا يصعب إظهار افترائهم فيه؟ لأنهم يدعون أن ما يقوله كل أحد غيرهم كذب، وأن ما يقولونه هم هو الحق والصدق وحده، فليس علينا إلا أن ننتظر قليلاً كما انتظرنا كثيرًا في حادثة حصر الإمام ابن سعود لجدة والمدينة المنورة وما كانوا يذيعونه من أخبار ضعفه وقرب طرده من الحجاز، فظهر كذبهم وإرجافهم للعالمين، والعاقبة للمتقين. (علاوة) هذا ما كتبناه في اليوم الذي وصلت إلينا فيه رسالة عدن ونشرناه في جريدة الشورى إجابة لطلبهم، وقد كتبنا في الجزء الماضي مقالة مستقلة في فتنة نجد: أسبابها ونتيجتها وأهمها الدسائس الشريفية، ومن توفيق الله تعالى لابن السعود حماقة أعدائه وجهل دعاتهم التي تنتهي دائمًا بظهور خذلان الله تعالى لهم {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) .

إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح الأزهر والمعاهد الدينية استبشر طلاب الإصلاح الإسلامي في مصر وجناحيها من الشرق والغرب بما ظهر من الشيخ محمد مصطفى المراغي منذ ولي أمر الأزهر من فكر ثاقب، وعقل راجح، وعلم واسع، وهمة عالية، وشجاعة أدبية ظاهرة، وما أنتجت هذه المزايا من قانون للإصلاح مبيِّن لأقوم مناهجه، وأرفع معارجه، وأبعد مقاصده، وما بذل من جهد، وأنفق من وقت في السعي لإقرار الحكومة إياه، وصدور المرسوم الملكي بتنفيذه، ثم راعهم في آخر يوم أو آخر ساعة من هذه المرحلة أن علموا أن الاستاذ الأكبر قد استقال من منصبه؛ لأن جلالة الملك توقف عن إصدار المرسوم به، فوجمت النفوس، وضاقت الصدور، وأكبر الناس الأستاذ المراغي في استقالته، وعدم مبالاته بجاه المنصب الرفيع وما يتقاضاه من ألوف الجنيهات فيه، أضعاف ما أكبروه فيما أشرنا إليه من مزاياه، إذ به ثبت لهم أن الرجل قد وقف حياته على خدمة دينه وإن بذل في سبيله دنياه، وعلى رفعة شأن ملته وأمته، لا على منفعة نفسه وأهله وولده، وأن نفسه الزكية نسخة من نفس شيخه الأستاذ الإمام، وأنه لابد للمسلمين أن يستفيدوا من مواهبه في يوم من الأيام، وقد نوَّهت بذلك الجرائد وعدُّوا استقالته إحدى الكبَر، والنذر والعِبر. ويظن الكثيرون أن لدسائس خصوم الإصلاح تأثيرًا في الصد عنه اليوم كدأبهم بالأمس؛ ولكننا نعلم أن ذلك القانون الإصلاحي هو رغيبة جلالة الملك فلا قنوط بما عرض دونه ولا يأس، وقد عادت الحياة الدستورية إلى البلاد، ولن ترضى الأمة أن يظل الأزهر على ما انتهى إليه أمره من اضطراب. ولما أصر الأستاذ المراغي على استقالته بعد مراجعة أولي الشأن له في الرجوع عنها صدرت إرادة جلالة الملك بجعل صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ أحمد الظواهري شيخًا للأزهر، ورئيسًا للمعاهد الدينية، وهو من تلاميذ الأستاذ الإمام أيضًا فلا يخفى عليه شيء من حاجة الأزهر إلى الإصلاح؛ ولكنه يؤثر التريث فيما يراه منه، ومداراة المعارضين فيه، ونسأل الله تعالى أن يوفقه ويوفق ولاة الأمور إلى ما فيه الخير للمسلمين، واغتنام الفرص قبل فواتها آمين.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة كتب التاريخ العصرية في مصر وسورية كنا من أول العهد بهجرتنا إلى مصر منذ ثلث قرن نعجب لتقصير المصريين في تأليف كتب لتاريخ هذا القطر وغيره على الطريقة العلمية الحديثة، التي درسوها وعرفوا فلسفتها ومناهجها وأساليبها، ثم زال العجب فرأينا القوم ينسلون للتأليف في أنواع هذا التأريخ من كل حدب، وقد قرَّظنا في العام الماضي كتاب (حوليات مصر السياسية) لصاحب السعادة صديقنا أحمد شفيق باشا، ثم صدر في هذه الأيام (الحولية الثالثة) من هذه الحوليات، وهي تدخل في المجلد السادس من تاريخه الكبير، إذ كانت الأولى والثانية في الجزأين 4و5 وهما لحوادث سنتي 1924 و1925، فالثالثة لحوادث 1926 وثمن هذا الجزء ثلاثون قرشًا يُضاف إليها أجرة التجليد والبريد لمن طلبه من الخارج وهو يباع في مكتبة المنار. (تواريخ سعادة أمين سامي باشا) أمين سامي باشا عالم نحرير، ومؤرخ محقق، ومهذب متدين، ولعله فاق جميع علماء فن التربية والتعليم عندنا في الجمع بين العلم به والعمل، وقد خدم وزارة المعارف عشرات السنين خدمة جليلة من أهمها نظارة مدرسة دار العلوم التي يتخرج فيها معلمو الدين والفنون العربية في جميع المدارس الأميرية، فكانت التربية في عهده خيرًا مما آلت إليه من بعده، على ما كان من مراقبة الإنكليز للمدارس التي كان من مقاصدها الخفية إطفاء نور الإسلام، والوقوف بالعلم عند حدود التقليد ومظاهر النظام؛ ولعله لو ظل ناظرًا لها إلى اليوم لما تفرنج طلابها في الأزياء، ولما نزعوا العمائم وتركوا الصلاة! لا أقول كلهم، بل أكثرهم أو كثير منهم. وقد أخرج للناس في شيخوخته كتابين جليلين لم يسبقه إلى مثلهما سابق، وهيهات أن يدركه في موضوعهما لاحق: (الأول: كتاب التعليم في مصر) وهو كتاب جامع لما يهم العلماء والخواص معرفته من أحوال التعليم في مصر في العصور الأولى بالإجمال، وفي هذا العصر بالتفصيل، وقد وضع فيه لحالة المدارس في أيامنا إحصاء دقيقًا في جداول متنوعة يرى المطلع عليها عدد المشتغلين بالتعليم ونسبتهم إلى الألف على مقدار انتشار التعليم في كل محافظة أو مديرية بالنسبة إلى سكانها، وعلى نسبة المصريين والمصريات الذين في مدارس الأجانب، ونسبة الأجانب الذين في المدارس المصرية، ونسبة المحرومين من التعليم إلى المتعلمين من بالغي سن التعليم الأولي والابتدائي إلى غير ذلك من البيانات المفيدة التي تظهر من الجداول الإحصائية الموضوعة بدقة لا يعادلها إلا الحذق في استخراج النتائج منها، وفيه بيان مناهج التعليم كلها ولوائح الشهادات والدبلومات من وقت تقريرها إلى الآن، ويزدان بعشرات من الصور لولاة الأمور ووزراء المعارف وأعضاء البعثات التي أرسلتها الحكومة إلى أوربة، فهو كتاب لا نظير له، ولا غنى عنه، وهو مطبوع في المطبعة الأميرية على ورق جيد من القطع الكامل، ومجلد بالقماش تجليدًا حسنًا، وثمنه جنيه مصري. (الثاني: كتاب تقويم النيل وعصر محمد علي باشا) وهو جزآن: الأول منه مؤلف من مقدمة في 134 صفحة ما عدا الخرائط تضمنت كل الحقائق المتعلقة بأمر النيل، وفيها رسوم (خرائط) ملونة تمثل حركات الرياح، وضغط الجو، وبحيرة تسانا، ومخارج الأنهر التي تسبب الفيضان، ووقوع الأمطار، ويلي المقدمة المقصد الأول من الكتاب وهو تقاويم النيل من ابتداء السنة الأولى من الهجرة إلى سنة 922هـ 622م، ويليه المقصد الثاني، وهو الفوائد التاريخية الصحيحة وسلسلة تاريخ مصر على التفصيل وتاريخ الخلافة الإسلامية على الوجه العام في ذلك الزمن كله، وصفحاته 251 وهو كسابقه طبعًا وقطعًا وتجليدًا، وثمنه جنيه مصري. (الجزء الثاني منه) وهو يشتمل على ما علم من أمر النيل في كل سنة ابتداء من سنة 923هـ لغاية سنة 1264 هـ (1517 م إلى 1848م) وصحفه حافلة بالفوائد التاريخية المحققة الدقيقة الصحيحة في ذلك الزمن، وبالأخص عصر محمد علي باشا، الذي أُنقذت مصر في عهده من وهدة الانحطاط التركي، وارتقت مرتبة عالية من مراتب الرقي. وهو مزدان بإحدى وخمسين صورة من صور محمد علي باشا، وصور رجال عصره النادرة مع نهاية الإتقان والوضوح، وصحفه 622 صفحة، وطبعه كسابقه من كل وجه، وثمنه 150 قرشًا، وتُطلب هذه الكتب كلها من مكتبة المنار في شارع الإنشاء بمصر.

جوابنا عن أسئلة الربا في الفتوى الهندية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جوابنا عن أسئلة الربا في الفتوى الهندية أشهد أن رسالة الاستفتاء في مسألة الربا رسالة نفيسة، وأن كاتبها المستفتي المفتي قد حقق الموضوع أحسن تحقيق في مذهب الحنفية، فهو حقيق بأن يُعَدُّ بها مجتهدًا في المذهب - لا في الكتاب والسنة - على سعة اطلاعه في التفسير والحديث، وإننا نبين رأينا مجملاً مختصرًا في المسائل الأربع التي لخص بها الرسالة، وأفتى فيها وعرض فتواه على علماء المسلمين في الأمصار مستفتيًا عنها، ثم نعود إلى تحقيق البحث بما أرانا الله تعالى من فقه الإسلام، غير مقيد بمذهب من مذاهب أئمته الأعلام؛ لأن الموضوع من المسائل التي تنازعوا فيها في جملتها والله تعالى يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) وأخونا العلامة الهندي الفقيه الحنفي قد حاول هذا وأراده؛ ولكنه نظر في أدلة الكتاب والسنة بمنظار الفقه الذي انطبع في نفسه، وغلبت عليه ملكته، فأقول متوجهًا إلى الله تعالى داعيًا ضارعًا أن يلهمني الصواب، ويؤتيني الحكمة وفصل الخطاب: الفتوى الأولى (قال) الربا المذكور (يعني في آية البقرة) مجمل عند الأحناف وغيرهم من الأئمة، حتى يصح أن يقال: اتفقت عليه الأمة، وحديث عبادة وغيره تفسير له عند الجمهور. (أقول) قوله: إن الربا المذكور مجمل عند الأحناف، صحيح، وقوله: باتفاق الأمة عليه، غير صحيح، وقوله: إن حديث عبادة وغيره (الحنطة بالحنطة) تفسير له، غير مسلّم، بل المتبادر منه بحسب القواعد أن الألف واللام فيه للعهد، والمعهود من الربا عند المخاطبين به في عصر التنزيل شيئان (الأول) ربا الجاهلية الذي وضعه وأبطله النبي صلى الله عليه وسلم، وجعله تحت قدميه كدماء الجاهلية وثاراتها، وهذا ما سمي في اصطلاح النحاة بالعهد الخارجي (الثاني) قوله تعالى (3: 13) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) فهو قد نزل قبله بلا نزاع لأنهم قالوا: إن آيات أواخر سورة البقرة في الربا وقوله تعالى بعدها {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} (البقرة: 281) الآية آخر ما نزل من القرآن، وإن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ولم يفسرها لنا، ولو كان حديث عبادة وغيره تفسيرًا لها لما قال عمر هذا، وهو من رواة هذا الحديث والعاملين بمضمونه كما هو مقرر في كتب السنة، وإنما يعني رضي الله عنه أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يقل فيها شيئًا زائدًا على ما كانوا يعلمونه من آية سورة آل عمران، ومن ربا الجاهلية وإبطاله صلى الله عليه وسلم له، وهذا الربا هو الربا الذي يصدق عليه تعليل التحريم بقوله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) والقاعدة أن المعرفة إذا أعيدت يكون المراد بالثاني عين الأول. الفتوى الثانية (قال) (الربا هو الفضل الخالي عن العوض في البيع) وذكر أن الفقهاء زادوا فيه قيد (المشروط) وأنه لا حاجة إليه، واستدل عليه بحديث عبادة وبالآية بناء على تفسير الحديث المذكور لها. (أقول) هذا الحد غير مسلَّم؛ لأن ما بني عليه وجُعل دليلاً له غير مسلَّم كما تقدم، وقد ذكر هو في رسالته كغيره حدودًا أخرى أعم منه حتى علماء الحنفية أنفسهم لم يقيدوا فيها الربا بالبيع. الفتوى الثالثة قال: (النفع المشروط في القرض ليس هو ربا منصوصًا لعدم ثبوته من القرآن ومن حديث صحيح) . (أقول) لو كان يريد بكونه غير منصوص نص القرآن لسلَّمنا قوله؛ فإن ربا القرآن خاص بربا النسيئة الذي تكون الزيادة فيه لأجل تأخير الدين، لا في العقد الأول؛ فإن الزيادة فيه عوض مقابل للانتفاع بالمال، لا لأجل الإنساء وتأخير القضاء؛ ولكنه يريد ما هو أعم منه، وقوله (ومن حديث صحيح) يعني به (ولا من حديث صحيح) كما يعلم من القرائن (وهو على سعة فقهه غير دقيق في اللغة العربية كما هو شأن علماء الأعاجم الذين يتعلمون العلوم الشرعية والفنون العربية بترجمة كتبها ولا يدرسونها دراسة مستقلة) وقد بنى هذا على ما جزم به من أن القرض غير الدين، كما أنه لا يدخل في معنى البيع الذي حصر الربا فيه، فهو موافق لاصطلاح الفقه عندهم؛ ولكن القرض في اللغة العربية دين [*] ، والأصل في الربا أن يكون في الديون سواء كان أصلها ثمن مبيع أو عينًا كما سنحققه، وآفة العلم بالكتاب والسنة المانعة من الاستقلال في فهمهما تحكيم الاصطلاحات الفقهية الحادثة وغيرها من الاصطلاحات في لغتهما العربية التي كان يفهمها أهلها منهما، وحديث النهي عن بيع النقدين وأصول الأقوات إلا يدًا بيد مثلاً بمثل ليس تفسيرًا لربا القرآن، ولا حصرًا للربا في البيع؛ وإنما هو لسد الذريعة لارتكاب ربا القرآن، وإلا فهو لذاته ليس فيه من المفسدة ما يقتضي هذا الوعيد الشديد في آيات البقرة. الفتوى الرابعة (قال) النفع المشروط في القرض لما لم يثبت كونه ربا بالقرآن والحديث، استُدل على كونه ربا تارة بالقياس وتارة بحديث (كل قرض جر منفعة فهو ربا) وفي كليهما نظر، أما في الأول فلأنه قياس مع الفارق فلا يصح، وأما في الثاني فلأنه غير صحيح بل هو ضعيف فغير صالح للاحتجاج، ولو سلم صحة القياس ففيه أن الأحكام القياسية تقبل التغيير بتغير الأزمان كما هو ثابت في موضعه، ومن كان له وقوف على حال هذا الزمان وخبرة بأهله فلا محيص له بدون (كذا) أن يفتي بجوازه كما في الاستئجار على تعليم القرآن والأذان والإمامة وغيرها، والاستدلال عليه بالتعامل والتوارث عن السلف، ففيه أن التعامل مبني على القياس لا على غيره من الأدلة، ومن ادعى فعليه البيان والله أعلم بالصواب اهـ. (أقول) الظاهر أن هذه الفتوى هي المقصودة بالذات من وضع هذه الرسالة، وخلاصتها أن النفع المشروط في القرض ليس من الربا المنصوص في القرآن، ولا الثابت بحديث صحيح، ولا بقياس صحيح، وعلى فرض صحة القياس تجوز مخالفته للضرورة أو الحاجة إليه في هذا الزمان، كما هو الشأن في الأحكام القياسية، وقد أورد بعض أقوال الفقهاء على هذا في الحاشية، وهو اجتهاد في مسألة اختلف فيها الفقهاء له وجه فقهي ظاهر، وحسبنا هذا بيانًا لرأينا في الفتوى، وسنبين رأينا في أصل مسألة الربا في مقال خاص كما وعدنا، والله الموفق. (رأينا في رسالة الفتوى من مراجعتها بعد الطبع أغلاطًا بعضها من الأصل ولعل بعضها من الطبع، وسنبين ذلك في جدول مع أغلاط أخرى عثرنا عليها في الأجزاء السابقة) . ((يتبع بمقال تالٍ))

أسئلة مختلفة من بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة مختلفة من بيروت بسم الله الرحمن الرحيم (س 39 - 46) من صاحب الإمضاء في بيروت حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الإمام، مفتي الأنام، ومرجع العلماء الأعلام، شيخ الإسلام، الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغرَّاء حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإنني لما رأيت الأحوال الحاضرة في مصر من التهتكات الموبقة التي تصرع شرف الإنسانية وتهدم دعائم الفضيلة تزداد حينًا بعد حين، وتفشو في تلك البلاد من أدناها إلى أقصاها دفعتني الغيرة الدينية إلى استجواب فضيلتكم عما يأتي: (1) إن تهتك النساء وتلبسهن بجميع أنواع التبرج الشائن من لبس الرقيق الشفاف، والضيق الذي يجسِّم أعضاءهن ويصفها، فضلاً عن القصير الذي تبدو دونه السيقان والسواعد والأعناق وأعالي الصدور مع كمال زينتها وتمام تحليتها - لمن أكبر دواعي الفساد، وأقوى أسباب الفتنة في الدين والأخلاق والحياة، وإنه يتفاحش إلى حد مستفظع، فلمَ تغض الحكومة المصرية الإسلامية الطرف عن ذلك وما معنى كونها إسلامية؟ ألم يكن من واجبها كبح جماح الفتن، وقضم علائق الفحش الذي يؤدي إلى ضعف قوتها ووهن شوكتها بانغماس رعيتها فيه؟ (2) أليس من الواجب على علماء هذا القطر أن يقوموا بصد ذلك التيار الجارف بكل ما استطاعوا من قوة سواء لدى الحكومة أو الشعب الغافل؟ ألم يكن سكوتهم عن ذلك ذنبًا عظيمًا وإثمًا مبينًا؟ (3) ما السبب الداعي لسكوت الحكومة والعلماء عن ذلك مع أنه أكبر ضرر وأعظم خطر على الأمة المصرية وما جاورها من البلاد الإسلامية كالسودان وكذلك الحجاز ونجد وغيرها؟ (4) إن مجلتكم المنار من الأمور المهمة التي تبث في نفوس المسلمين في جميع الأقطار روحًا إسلامية عالية، وتنفي عنها كل جرثومة من الرذائل حتى غدت مطمح أنظار المسلمين جميعًا، ومحط آمالهم في جميع الأصقاع والأنحاء فكان عليها أن لا تألو جهدًا في محاربة كل هذه النقائص والمنكرات بعزيمة لا تعرف الفتور، وهمة لا يعتورها وهن، فما سبب الإحجام عن الاستمرار في ذلك الجهاد الشريف مع أنها عنوان الفضائل الإسلامية؟ (5) إن انتشار الإلحاد بصورة هائلة في جميع العالم الإسلامي ليدعو إلى الدهشة والحيرة فما سبب ذلك؟ على أنه يوجد في تلك البلدان التي وقعت تحت أنياب الإلحاد علماء إسلاميون بكثرة لا تقع تحت حصر، فهل العلماء يقومون بواجبهم الديني في الإغارة على جنود المادة والطبيعة بكل وسيلة تُستطاع تحصينًا للدين وحفظًا له أن يمسه شرر ذلك وخطره منها؟ قد اعتنق الجم الغفير من المسلمين هذه العقيدة الباطلة ونبذوا الدين وراءهم ظهريًّا، أما كان الواجب على العلماء الفطاحل أن يتخذوا جميع الاحتياطات اللازمة في تفنيد آرائهم، وبيان فساد معتقداتهم، حتى يتضح الحق ويزهق الباطل ليكون ذلك حصنًا منيعًا لحفظ الدين في نفوس أبنائه؟ (6) هل يحسن من المسلمين أن يأخذوا أزواجهم إلى البلاد الأوربية للنزهة، فيتزينون بزيهم ويخلع النساء عن أنفسهن ثياب الحشمة التي هي من شعائر الدين والفضيلة، ولا ندري ما يكون سبب ذلك من أضراب المنكر فما حكم هذا؟ (7) فما دواء كل ذلك؟ وما هي الطريقة التي يجب على الحكومة والعلماء عملها لمنع هذه المسائل كلها؟ (8) إن في مصر، بل في جميع البلاد الإسلامية مدارس أجنبية أنشئت للدعاية إلى الإلحاد أو المسيحية ومقاومة الإسلامية، وآثارها الفاسدة ظاهرة للعيان، فما السبب الداعي لانكباب المسلمين عليها ووضع أبنائهم وبناتهم تحت نيرانها وضلالها؟ حتى أنه يبلغ عدد البنات المسلمات في هذه المدارس مبلغًا عظيمًا، رأيت ذلك وأنا في مصر ورأيتهن لابسات القبعة (البرنيطة) سافرات عن وجوهن وغير ذلك، فما الواجب على المسلمين تجاه هذه الحالة؟ (9) هل يجوز للعامي الذي لا يعرف نحوًا ولا صرفًا مطلقًا أن يقرأ الكتب الدينية الإسلامية ككتب الفقه وفتاوى العلماء وغيرها لأجل أن يعمل بها وهو يلحن في القراءة أم لا؟ تفضلوا بالجواب على صفحات مجلة المنار الأغر ليكون النفع عامًّا؛ ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي ... اليماني ... ... الطالب سابقًا بالأزهر الشريف أجوبة المنار، على هذه الأسئلة على ما فيها من التكرار، الموجب للاختصار 39- تهتك النساء وإقرار الحكومة المصرية له تهتك النساء في مصر يفحش ويتفاقم شره، ويستشري ضره عامًا بعد عام حتى صار يخشى منه انفصام عرى الأُسر (العائلات) وانتكاث فتل الأمة، وأما سبب سكوت الحكومة المصرية عليه وإقرارها له فهو يرجع إلى التفرنج وسيطرة الإفرنج على البلاد بامتيازاتهم وبمساعدة أعوانهم المتفرنجين من رجال الحكومة وغيرهم. والإفرنج المستعمرون يعنون بإفساد دين الأمة وأخلاقها لتنحل جميع الروابط التي تكون بها أمة لها كون خاص، ومقومات ومشخصات تحيا بها وتأبى بطبعها أن تكون مستعبدة مستعمرة لغيرها، وكان بدء هذا الفساد الديني الأخلاقي في عهد إسماعيل باشا أي قبل الاحتلال البريطاني، فكان ممهدًا لكل ما فعله رجاله من مقاومة التعليم الديني على ضعفه في مدارس الحكومة، ومن حرية الفسق والفجور، وقد صار الألوف من رجال الحكومة ملاحدة معطلِين أو فاسقين لا يصلون ولا يصومون ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله من السُّكر والزنا والقمار، بل منهم من يهزءون بمن يرونه يصلي ويصوم، ويعدونه متأخرًا أو رجعيًّا! ! وأما تسمية الحكومة إسلامية فمعناها أنها تمثل شعبًا أكثر أفراده مسلمون، فهي تراعي شعائرهم ومواسمهم وتقاليدهم الدينية سواء كانت ثابتة في أصل دينهم أو مبتدعة فيه كالموالد وبناء المساجد والقباب على قبور الصالحين وتشييدها ووضع السرج عليها من أموال الأوقاف، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة لعن من يفعلون هذا، وليس معناه أنها حكومة إسلامية كحكومة الخلفاء السابقين أو الحكومة السعودية في نجد والحجاز والحكومة الإمامية في اليمن - تقيم الشريعة وتلتزمها في سياستها وجميع قوانينها، وتمنع المنكرات الدينية كلها. وجملة القول: إن ما فشا في البلاد من تبرج النساء وتهتكهن ما كان ليفشو إلى هذه الدركة السفلى لولا استحسان الكثيرين من رجال الحكومة، ومن في طبقتهم من الأغنياء المترفين له، ومجاهرتهم في اقترافه. 40- ما يجب على العلماء من مقاومة هذا الإلحاد والفساد إن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وأنكره الإلحاد والفساد - من الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة، وهذه الفريضة هي سياج الدين وحفاظ الفضيلة في الأمة ووقايتها من الرذيلة أن تفشو فيها، بل إنكار المنكر واجب في الإسلام باليد فاللسان فالقلب، وهذا أضعف الإيمان كما ثبت في الحديث الصحيح المشهور، والعلماء أول المطالبين بإقامة هذه الفريضة لعلمهم بوجوبها وشدة خطر تركها وما لها من أحكام؛ ولأن كلامهم أجدر بالقبول والتأثير، وسبب تقصير أكثرهم في إقامتها ضعفهم في الدين والأخلاق، وامتهان الحكام لهم بامتهانهم لأنفسهم، كما قال شاعرهم الحكيم: ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظَّموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنَّسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما وقد كان من سيرتنا في المنار من سنته الأولى (سنة 1315) إلى اليوم مطالبتهم بإقامة هذه الفريضة والإنحاء عليهم باللائمة لتقصيرهم فيها، حتى أنهم كرهونا وقاومونا وصاروا يصدون العامة عن قراءة المنار لأجل ذلك، وكان أول من لامنا واعتذر عن العلماء في سكوتهم عن إنكار المنكرات شيخنا الأستاذ العالم العاقل الشيخ حسين الجسر عفا الله عنه، فقد رد علينا في جريدة طرابلس، واضطررنا إلى الرد عليه في المجلد الثاني من المنار من غير تصريح باسمه، ونحمد الله تعالى أن كثر في هذه السنين العلماء والوعاظ الذين يقاومون الإلحاد والفساد، وينهون عن الفواحش والمنكرات الفاشية والبدع والخرافات المزمنة، ووزارة الأوقاف تساعدهم على ذلك، وهذا من فوائد كون دين الحكومة الرسمي الإسلام، وإن تألفت في مصر جمعيات تعنى بذلك كجمعية مكارم الأخلاق الإسلامية، وجمعية الشبان المسلمين، وجمعية الهداية في القاهرة، وقد سبقتها ولحقتها جمعيات أخرى في البلاد المصرية تدعو إلى هداية السلف الصالح وترك البدع كلها، وإننا ولله الحمد نساعد أكثر هذه الجمعيات ولنا فيها الإخوان والمريدون المخلصون، وأنشئت لبعض هذه الجمعيات ولبعض الأفراد مجلات وجرائد تقوم بهذا الواجب أيضًا. 41- عمل مجلة المنار وما وصفها به السائل من الإحجام إننا قد أنكرنا تبرج النساء وتهتكهن مرارًا كثيرة بأساليب مختلفة في مجلدات المنار المتعددة، ولا نزال نعود إلى الإنكار عند سنوح المناسبة، كما ننكر دائمًا على سائر المعاصي والبدع، ونرد على أهل الإلحاد والشيع، ونفنِّد شبهات المبشرين، وزيغ الماديين، ونبين في مقابلة هذا الكفر والضلالة، ما جاء به الإسلام من الهداية، وكونها هي السبب الوحيد لسعادة الدنيا والآخرة، والجامع الأعظم لكل ما يجب من تخلية وتحلية، هو تفسيرنا للكتاب الحكيم، الذي شهد له العلماء في مصر وغيرها، العارفون بما يحتاج إليه المسلمون وسائر البشر في هذا العصر من الإصلاح بأنه خير تفسير لكتاب الله عز وجل، الذي أكمل الله به الدين، ويليه باب الفتاوى العامة التي نشرح فيها ما يسألنا عنه القراء من جميع الأقطار من حل المشكلات، والترغيب في الواجبات، والترهيب عن المنكرات، ويليه باب المقالات الشارحة لأهم ما يهم المسلمين من أمر دينهم وأمتهم وحكومتهم ... إلخ، وكثيرًا ما لامنا القراء على عدم فتح أبواب في المنار للمباحث الأدبية واللغوية والفنية وغيرها مما يحبه جماهير الناس، فيكون مرِّغبًا في قراءته؛ لأنهم يملون بالطبع من جعل جميع مباحثه في المسائل الإسلامية التي يُقصد منها إحياء هداية الدين والدفاع عنه، فلا نجد فيه سعة لما يقترحونه وإن كان فيه مصلحة لنا. فإذا كان السائل يرى من الواجب أن نكتب في كل جزء منه مقالاً في إنكار تبرج النساء وتهتكهن، وأن ترك هذا إحجام عن الواجب - فنحن لا نوافقه على هذا الرأي ولا نظن أن أحدًا من أهل الرأي يوافقه عليه، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخول الناس بالموعظة خشية السآمة والملل من التكرار. 42- سبب فشو الإلحاد وما يجب على العلماء من مقاومته أما سبب فشو الإلحاد فقد بيَّناه في المنار مرارًا، وهو أمران أهمهما عدم التعليم الإسلامي الصحيح الذي يقتضيه حال هذا العصر، وعدم التربية الملية الوجدانية على هدايته، والثاني فشو الأفكار المادية والشبهات العلمية على الدين في المدارس المصرية من أجنبية وأميرية وتولي المتخرجين فيها لأمور الحكومات وسائر المصالح العامة. وأما ما يجب على العلماء من مقاومة ذلك وصد تياره، فالقول فيه كالقول في مسألة مقاومة البدع والمنكرات، أكثر العلماء الرسميين المقلدين يعجزون عن مقاومة شبهات الإلحاد، إما لأنهم لا يفهمونها ولا يفهمون الدين كما يجب أن يفهمه من يقوم بذلك بالحجة والبرهان، وإما لضعفهم في البيان أو في الغيرة على الدين، على أنه قد وجد فيهم وفي غيرهم أفراد يقومون بهذا الواجب على قوة أو ضعف ولو تم للإستاذ الإمام رحمه الله تعالى ما

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حكم من يتجسس على المسلمين من توبة وإمامة وغيرهما (ص 47 - 53) من صاحب الإمضاء في الجزائر بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. حضرة صاحب الفضيلة العلامة شيخ الإسلام الأستاذ سيدي محمد رشيد رضا حرسه الله تعالى وحفظه لدين الإسلام، آمين. بعد واجب السلام والاحترام، فأرجو من فضيلتكم الجواب عن الأسئلة الآتية: ما حكم الشرع في رجل مسلم كان في أثناء الحرب العظمى متوظفًا عند دولة أوربية مسيحية إمامًا يصلي على قتلى رعاياها من المسلمين، ثم هذه الدولة المسيحية أرسلته جاسوسًا لها في بلاد إسلامية، وقد علمت دولة إسلامية بتجسسه وعزمت على إلقاء القبض عليه وشنقه، ومع الأسف قد علم بذلك وهرب إلى تراب الدولة المسيحية التي يتجسس لها، ثم بعدما قضت هذه الدولة مآربها به أرجعته لوطنه وأعطته في مستعمرتها وظيفة إمام في مسجد إسلامي جزاء لخدمته إياها وهو إلى الآن يصلي خلفه المسلمون ويُدعى مصلحًا! ! ! (1) هل من فعل هذه الجرائم يُقبل إسلامه؟ (2) هل يقتله الشرع الإسلامي؟ (3) هل تجوز الصلاة خلفه؟ (4) هل توبته (وفيها ريب) تقبل بعدما تجسس لدولة مسيحية على إخوانه المسلمين؟ (5) هل صلاته وصومه يكفر عنه هذه السيئات، ويعد مؤمنًا بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؟ (6) هل يجوز للمسلم أن يتجسس على إخوانه المسلمين لينال حطام الدنيا، ثم بعد ذلك يتوب توبة نصوحًا؟ هل تُقبل منه وتُغفر سيئاته؟ (7) هل يجوز للمسلمين أن يسمعوا إرشادات خائنين مثل هذا الجاسوس التائب؟ نرجو من فضيلتكم الجواب الكافي، لقد كثر بوطننا أنواع هذا الخائن لأمتهم ودينهم حتى تكشف خزعبلات هؤلاء الجناة وينقطع تيارهم، فهم أكثر سبب مصائبنا ودمارنا، ولولا هؤلاء الخائنين لما وصلنا إلى ما نحن فيه، وإننا منتظرون الجواب بالمنار الأغر ودمتم للإسلام والمسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر الجزائري (ج) من يرضى لنفسه أن يكون جاسوسًا لأعداء المسلمين في حربهم لهم يبين لهم عورات المسلمين ومواضع ضعفهم وقوتهم وغير ذلك مما يُعَدُّ من أسباب فتكهم بهم وانتصارهم عليهم - لا يُعقل أن يكون مؤمنًا صادقًا؛ لأن هذه ولاية لأعداء المسلمين عليهم في الحرب {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51) فهو في الغالب منهم في دينهم ومذهبهم أو منافق يُعَدُّ منهم في الكفر الجامع بينهم والفاصل بينه وبين الإسلام، كما قال تعالى في منافقي المدينة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ} (الحشر: 11) الآية. وقد استدل عمر بن الخطاب على نفاق حاطب بن أبي بلتعة (رضي الله عنهما) بإرساله كتابًا إلى مشركي مكة يخبرهم فيه بعزم النبي صلى الله عليه وسلم على فتح مكة ليتخذ له يدًا عندهم، مع اعتقاده أن الله تعالى لابد أن ينصر رسوله عليهم علموا أو لم يعلموا، واستأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فلم يأذن له بذلك، لما ثبت عنده صلى الله عليه وسلم من إيمان أهل بدر (وكان حاطب منهم) ومن مغفرة الله لهم، وسأل حاطبًا عن سبب إرسال الكتاب فاعتذر له وقبل عذره، وفي هذه المسألة نزلت صورة الممتحنة، ويؤخذ منها أن بعض القرائن التي تدل على الكفر والنفاق قد تكون دلالتها غير قطعية في الباطن، مهما تكن واضحة في الظاهر؛ لأن صاحبها قد يكون متأولاً، وقد تكون له نية صحيحة في التجسس بأن تكون لدرء الضرر عن المسلمين الذين يتجسس عليهم، فهذا الفعل نفسه معصية لا كفر، ولكن قد يكون سببه الكفر، ولا يجوز لأحد من الناس قتله بسابق عمله؛ وإنما يرجح حسن الظن في الرجل الذي يكون حاله في الاعتصام بدينه قبل ذلك وبعده قويًّا ظاهرًا، وقليل ما هم. حدَّثني المعاون المسلم لوالي (بنارس الهندية) في بنارس وكنت ضيفًا عنده، وهو أفغاني الأصل أن حكومة الهند الإنكليزية جعلته من الرجال الذين يقومون بخدمة الأمير حبيب الله خان أمير الأفغان مدة زيارته لبلاد الهند، وأن غرضها من ذلك أن يكون جاسوسًا عليه. قلت له: وكيف اعتمدت عليك حكومة الهند في هذا وأنت مسلم مستمسك بعروة دينك وأفغاني الأصل، وهي تعلم أن الأفغان من أشد الناس تعصبًا لدينهم ولجنسهم كما علمنا نحن من حكيمهم بل حكيم الإسلام والشرق السيد جمال الدين الحسيني رحمه الله تعالى؟ قال: نعم إن الحكومة كانت تعلم أنني لا يمكن أن أخبرها بشيء يضر الأمير، وتعلم مع هذا أنني لا أكذب، فكل فائدتها أن أقول الحق فيما لا يضر فإنه ينفعها في تمحيص ما يخبرها به سائر الجواسيس الذين كانوا يحفُّون من حول الأمير. وأما توبة الجاسوس من ذنبه، والمنافق من نفاقه، والكافر من كفره فهي صحيحة مقبولة إذا كانت توبة نصوحًا، ويترتب عليها صحة صلاته والصلاة خلفه؛ ولكن لا يجوز لمسلم أن يُقْدِم على مثل هذا التجسس طمعًا في حطام الدنيا واعتمادًا على التوبة بعد ذلك، كما أنه لا يجوز فعل أي ذنب ومعصية اتكالاً على التوبة والمغفرة؛ ولكنه إن فعل وكان صحيح الإيمان على ضعف فيه فلا يبقى أمامه إلا التوبة والإكثار من الأعمال الصالحة رجاء في قوله تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود: 114) وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه: 82) . وأما سماع المسلمين لإرشاده ونصحه بعد علمهم بما سبق من جرمه، فيتوقف على ما يظهر لهم من حاله بعد التوبة، فمن ثبت عنده صدق توبته وحسن حاله بعدم اجتراحه لما يجعله محلاًّ للتهمة فلا بأس بسماعه لنصحه وإرشاده فيما لا محل له فيه للشك والتهمة، ومن كان لا يزال يسيء الظن به فهو بالضرورة يعرض عن سماع نصحه، وينبغي للجمهور أن يظهروا المقت من سابق عمله فيما لا مفسدة فيه ليكون ذلك عبرة لغيره. *** تفسير الشيخ طنطاوي جوهري (س54) من حاضرة تونس لصاحب الإمضاء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، محمد بن عبد الله، وآله ومن والاه. حضرة صاحب الفضيلة العالم الهمام، مرشد الأنام لحقيقة الإسلام، سيدي محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء، حاطه الله بالرعاية وأطال له البقاء، آمين. بعد إهداء طيب سلامي، وأداء لائق احترامي، لسامي مقامكم، وشريف قدركم الأسنى، فأنهي لجنابكم الأعلى، أني طالعت بعض ما كتبه الشيخ سيدي طنطاوي جوهري المحترم على سورة البقرة ووسمه بالتفسير، وبما أن نفسي لم تطمئن لبعض ما قرأته فيه لتطبيقه الآيات على الاختراعات العصرية، والسنن الطبيعية، مما يظهر لمثلي القاصر أن آي الذكر الحكيم، وحديث رسوله الكريم، بعيدة كل البعد عن هذا المسلك الذي سلكه الشيخ المذكور، وبناء على ظني بأنكم اطلعتم على كله أو جله لاهتمامكم المتزايد وغيرتكم على السنة والكتاب الحكيم وتسرون بخدمتها الخدمة المرضية، كما أنكم تفحمون من يتنكب الصراط السوي، تقدمت لفضيلتكم مؤملاً أن تبينوا لنا ولجميع قراء المنار الأغر رأيكم وحكم الله في التفسير المذكور بيانًا شافيًا واضحًا حتى يصح لنا أن نقول بأن كل ما خطه قلم الشيخ طنطاوي الموقر وجزم بأنه مأخوذ من الآيات القرآنية، ومستمد من الأحاديث النبوية، هو في محله موافق لما أراد الله من الآية، مطابق لمغزى حديث رسوله صلى الله عليه وسلم مقبول من لدن العلماء الفضلاء ولا محل لنقده، ولا سبيل لتفنيده، بل عمله هذا مصيب فيه كل الإصابة، الجائز عليه الثواب والإثابة، يوجب من المسلمين له الشكر والثناء الجزيل، ويرغب النشء وغيرهم مطالعته، والتعويل على كتابته، مع إدامة النظر والاعتبار في دقائقه، وختامًا نكرر القول بأننا نترجى الجواب السريع الشافي، والحكم النزيه الوافي، من رأيكم المصيب، وإنصافكم المعهود، ولكم من الله جزيل الشكر والإحسان، والثواب والإعانة من الله الرحمن. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد خوجه (ج) إنني كنت رأيت الجزء الأول من هذا التفسير في دار صديق لي منذ بضع سنين، وقلبت بعض أوراقه في بضع دقائق فرأيته أحق بأن يوصف بما وصف به بعض الفضلاء تفسير الفخر الرازي بقوله: فيه كل شيء إلا التفسير، وقد ظُلم الرازي بهذا القول فإن في تفسيره خلاصة حسنة من أشهر التفاسير التي كانت منتشرة في عصره، مع بعض المباحث والآراء الخاصة به، كما أن فيه استطرادات طويلة من العلوم الطبيعية والعقلية والفلكية والجدليات الكلامية التي بها أعطي لقب (الإمام) لرواج سوقها في عصره. والأستاذ الشيخ طنطاوي مغرم بالعلوم والفنون التي هي قطب رحى الصناعات والثروة والسيادة في هذا العصر، ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلها، وأنهم لن يقووا ويثروا ويستعيدوا استقلالهم المفقود إلا بتعلمها على الوجه العملي بحذقها مع محافظتهم على عقائد دينهم وآدابه وعباراته وتشريعه، ويعتقد حقًا أن الإسلام يرشدهم إلى هذا، بل يوجبه عليهم، فألَّف أولاً كتبًا صغيرة في الحث على هذه العلوم والفنون والتشويق إليها من طريق الدين وتقوية الإسلام بدلائل العلم، ثم توسع في ذلك بوضع هذا التفسير الذي يرجو أن يجذب طلاب فهم القرآن إلى العلم، ومحبي العلم إلى هدي القرآن في الجملة والإقناع بأنه يحث على العلم، لا كما يدعي الجامدون من تحريمه له أو صده عنه؛ ولكن الأمر الأول هو الأهم عنده، فهو لم يعن ببيان معاني الآيات كلها وما فيها من الهدى والأحكام والحِكَم بقدر ما عني به من سرد المسائل العلمية وأسرار الكون وعجائبه (ولهذا قلنا إنه أحق من تفسير الرازي بتلك الكلمة التي قيلت فيه) . ولا يمكن أن يقال إن كل ما أورده فيه يصح أن يسمى تفسيرًا له، ولا أنه مراد الله تعالى من آياته، وما أظن أنه هو يعتقد هذا، إذ يصح أن يقال حينئذ إنه يمكن تفسير كلمة {رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) بألف سفر أو أكثر من الأسفار الكبار تضعه جمعيات كثيرة كل جمعية تعنى بعالم من العالمين، فتدون كل ما يصل إليه علم البشر فيه، ولا يمكن أن يقال إنه لا يمكن انتقاده، بل الانتقاد على ما فيه من التفسير ومن مسائل العلوم ممكن {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76) وقد قلنا إنه لم يعن بقسم التفسير منه كثيرًا ولا سيما التفسير المأثور، وأما هذه العلوم فالبشر يتوسعون فيها عامًا بعد عام، فينقضون اليوم بعض ما أبرموا بالأمس، فليس كل ما دوَّنه أهلها صحيحًا في نفسه، فضلاً عن كونه مرادًا لله من كتابه، وإنما أُنزل الكتاب هدى للناس لا لبيان ما يصلون إليه بكسبهم من العلوم والصناعات؛ ولكنه أرشد إلى النظر والتفكر فيها ليزداد الناظرون المتفكرون إيمانًا بخالقها، وعلمًا بصفاته وحكمه. وأما السؤال عن رضاء الله عنه وإثابته عليه فلا يقدر بشر على الجواب عنه بالتحقيق؛ لأن علمه عند الله تعالى وحده؛ وإنما نقول بحسب قواعد الشرع الإلهي إنه إذا كان قد ألَّفه لوجه الله تعالى وابتغاء مرضاته فإن الله تعالى يثيبه عليه، فما أصاب فيه فله عليه أجران، أجر الإصابة وأجر الاجتها

السيرة النبوية بقلم المسيو مونته المستشرق السويسري

الكاتب: شكيب أرسلان

_ السيرة النبوية بقلم المسيو مونته المستشرق السويسري تقدم لنا في الجزء الماضي من المنار كلام على ترجمة جديدة للقرآن بقلم المسيو مونته مدرس الألسن الشرقية في جامعة جنيف، ونقلنا إلى العربية المقدمة التي صدَّر بها هذه الترجمة. وترانا الآن ناقلين بعض فصول مما حرَّره الأستاذ مونته بعد المقدمة لما فيها من الآراء الجديرة بالمطالعة، ولما فيها من الإنصاف وإن كنا ننبه القراء إلى أن المسيو مونته لم يكن مسلمًا، وأن شهادته بحق الإسلام لا يمكن أن تُحمل على تأثير عقيدة أو تربية إسلامية. تكلم المسيو مونته على العرب قبل الإسلام توطئة لموضوع البعثة المحمدية فقال: جاء الإسلام في الشرق انقلابًا عميقًا إلى أقصى ما يمكن في الأفكار السياسية والدينية والفلسفية والأدبية قد قلب الأدب الذي كان في الشرق رأسًا على كعب، بحيث نجد من الضروري أن نبين ببعض لمحات كيف كانت بلاد العرب مهد الإسلام قبل أن قام محمد بالإصلاح الذي قام به. إن التقاليد العربية قد هضمت كثيرًا من حق الدور العربي الذي سبق الإسلام وحقرت الأجداد الذين كانوا وثنيين، ولم تنظر إلى الأحوال الاجتماعية التي كانت عليها بلاد العرب القديمة، وأطلقت على ذلك الدور لقب (الجاهلية) وليس هذا مطابقًا للواقع [*] . فيكفي أن نذكر تلك (المعلقات) الخالدة طرائف إبداع أولئك الشعراء الوثنيين، وأن نروي أشعار امرئ القيس وطرفة وزهير وعنترة ... إلخ؛ لنحكم بظلم هذه التقاليد، كلا لا يجوز أن نسمي الدور الذي فيه ارتقت الفصاحة العربية هذا الارتقاء كله، وبلغت فيه لغة العرب درجة الكمال (جاهليًّا) . ثم أورد الأستاذ مونته شواهد على عبقرية أولئك الشعراء من كلام عنترة، وأخذ يبين ما فيها من إبداع وانتهى إلى القول (بأن الروايات التقليدية والأشعار الباقية من الدور المتقدم على الإسلام والأغاني الهُذَلية أناشيد شهيرة طبعها مع ترجمتها فلهاوزن الألماني سنة 1881 قد تُظهر عرب الجاهلية بمظهر أمة غير قارئة ولا كاتبة وغير مهذبة، بل أمة من بعض الجهات بربرية، إلا أنها أمة كانت على بعض أخلاق عظيمة هي الأصل في عظمة الأمة العربية في كل عصر) قال: إن العرب قبل الإسلام كانوا بحسب هذه التقاليد ماديين لا يعرفون سوى الحرب والعشق والخمر والميسر، وإنه لم يكن ثمة مبادئ عالية يلوون عليها، وفي ذلك بدون شك مبالغة لأننا في الحقيقة نجد في جانب هذه المعيشة المادية الخشنة عند العرب عاطفة شديدة للحرية تجعل هذا الشعب محبوبًا عندنا، وإن فضائل الأنفة والحمية هي كلها من مزايا العرب، فالعربي يبذل حياته بلا مبالاة دفاعًا عن قضية يراها حقًّا، ويرى على نفسه فرضًا لا محيد عنه أخذ ثارات ذوي قرباه، وإنك تجد حس الشرف والحياء بالغًا عنده الحد الذي ليس وراءه حد، وقد قال أحد شعراء الحماسة: إن الشجرة لا تعيش إلا إذا دامت لها قشرتها، وإن الإنسان لا حياة له إلا إذا بقي فيه الحياء. نعم بجانب هذه الفضائل الباهرة ظلمات شديدة، مثل إباحة تعدد الزوجات بدون تحديد، والإذن للرجل بالطلاق بدون أدنى قيد، والنظر إلى المرأة بنظر احتقار زائد، ووأد البنات، والغزو والسلب وقتل الإنسان للإنسان لأخذ ماله، فأما الديانة فعبادة أوثان فظة وعادات مناسبة لهذه العبادة، وكانوا يعبدون الأشجار والأحجار، وكانت الكعبة هي مركز الوثنية وفيها ثلاثمائة وستون صنمًا من أصنام القبائل المتعددة، وكانت قريش سادة مكة وأسواقها، تحرص على سدانة هذا المعبد لأجل أن تستجلب إليها العرب بواسطته. ثم ذكر مونته الأصنام وعدَّد أسماءها كاللات والعزى ومناة وسواع ويغوث ... إلخ؛ ولكنه قال: إن عبادة هذه الاصنام قبل الإسلام بقليل كان عراها الفتور، وأصبحت من قبيل العادة، وكانت الشكوك تحوم حول مسألة الآخرة؛ وإنما كانوا يزورون القبور ويقولون للميت: لا تبعد! . ثم ذكر أنه مذ القرن السادس للمسيح ظهرت روح دينية كان يقال لأصحابها (الحنفاء) فكانوا يؤمنون بإله يجعلونه فوق كل شيء [1] ، وكانت اليهودية والنصرانية دخلتا إلى جزيرة العرب؛ وإنما كان يمثلهما بعض تجار لا سيما تجار الخمر، وكان منهما بعض نساك متعبدين مبعثرين في الفلوات لكن لم يكن لهم تأثير من جهة مصير الأمة العامة، وبالإجمال كانت حالة العرب الاجتماعية من الجهة الدينية والأدبية من الانحطاط الشديد بحيث كان من الضروري لها (ظهور مصلح كبير) . ثم ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وذكر معنى اسمه المشتق من الحمد، وروى قصة أبرهة وغزو مكة على فيل أبيض، إلى أن قال: إن عبد المطلب كان قد مسه الفقر بسبب ما كان ينفقه على الحجاج في مكة، فلما مات عبد الله والد محمد بعد ولادة ابنه بقليل لم يترك له من الإرث سوى بيت سكن وجارية وخمسة جِمَال، وبحسب عادة القوم أُعطي محمد صلى الله عليه وسلم إلى مرضع بدوية ورُبي في البادية، ولما كان في السادسة من عمره تُوفيت أمه، فكفله جده عبد المطلب، ولما مات عبد المطلب بعد ذلك بسنتين كفله عمه أبو طالب، ورعى محمد الغنم في حداثة سنه، ولما صار في الرابعة والعشرين من عمره اتجر لخديجة أرملة كانت موسرة، فكان يذهب بقوافلها ويأتي فأحسن العمل حتى مالت خديجة إليه وتزوجت به وهي في الأربعين من العمر، وكان هو ابن خمس وعشرين سنة، ومع هذا الفرق في العمر كان الزواج سعيدًا جدًّا حتى أن عائشة التي تزوجها محمد صلى الله عليه وسلم فيما بعد كانت تغار من خديجة بعد موتها لشدة ما كانت تسمعه من تذكر محمد صلى الله عليه وسلم لخديجة، وكان محمد صلى الله عليه وسلم معروفًا بالاستقامة، وكان الجميع يلقبونه بالأمين. (وليس في أيدينا صورة خِلقية حقيقية لمحمد تمثل لنا شكله، بل جميع الصور والتماثيل التي نشرت عنه - الإفرنج المولعون بالصور والتماثيل جعلوا منها أيضًا للنبي صلى الله عليه وسلم - هي من عمل الخيال) . إلى أن قال: (إن الروايات العربية تركت لنا عنه هذه الصورة، وهي أنه كان مهيبًا عظيم الرأس، عريض المنكبين، مستدير الوجه، يُشْعِر وجهه الصدق، أسود العينين، مستطيل الحواجب، أقنى الأنف، كث اللحية، وكان زائد الشعور رقيق الإحساس إلى الدرجة القصوى) . (وقد زعم بعضهم أن شدة إحساس محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت تحصل له منه نوبات شديدة قد تحولت إلى مرض عصبي هو مرض الصرع، وليس في اليد ما يثبت هذا القول الذي منشؤه رواية عربية لم تسمع إلا بعد عصر محمد بمدة طويلة وآراء بعض المؤرخين البيزنطيين المعروفين بالعداوة لشريعته، فلا نجد في هذه الأقاويل شيئًا متينًا نبني عليه) . قال: (وكان محمد صلى الله عليه وسلم معروفًا ببساطة المشرب، محبوب الأخلاق، حلو الحديث، ذا تأثير خاص في حديثه، وكان من أخص مزاياه صحة الحكم وصراحة القول وشدة الاقتناع) . ثم ذكر مونته ما قاله أبو الفدا من شمائله صلى الله عليه وسلم مما لم نجد لازمًا ترجمته لأن أصله عربي جدير بالقارئ أن يراجعه في تاريخ أبي الفدا بنصه الأصلي؛ ولكننا نقول: إن على كل من يعنى بتهذيب النشء وبطبع الشبان على الأخلاق الفاضلة أن يقرأ لهم هذه الشمائل النبوية التي ليس في تحريرها شيء من المبالغة المعهودة في وصف الأنبياء والرسل؛ وإنما هي حكاية أحوال النبي الكريم كما كانت بدون زيادة ولا نقصان، ولعمري لا يقرؤها من كانت له صفحة نفس صافية شفافة ويتأمل فيها إلا استهل الدمع من محاجره. ثم أشار مونته إلى تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وقال إنه اجتمع له إحدى عشرة زوجة، وذلك أن العرب يومئذ كانوا يكثرون جدًّا من الزوجات، قال: (فلا يصح لنا أن نشتد في الحكم من هذه الجهة، ونطبق عليها قاعدة الزوجة الواحدة التي هي عمدة المدنية الحديثة) ثم ذكر الأستاذ مونته أنه مع عاطفة محمد صلى الله عليه وسلم إلى النساء لم يكن يرى فيهن درجة الرجال؛ وإنما وصف منهن بالكمال آسية امرأة فرعون، ومريم أم عيسى وخديجة زوجته الأولى وفاطمة ابنته. قال: (ولم يوح إلى محمد حتى بلغ الأربعين من العمر إلا أنه كان قبل ذلك كثير التأمل في الخلوات، وكانت تعتريه نوبات عصبية [2] يشهد أثناءها مشاهد إلى أن تَمَثَّلَ له المَلَك السماوي، ولا شك أن هذه الحوادث الروحية التي وقعت له إنما جرت من ثورة نفسه القوية في أعماق ضميره على عبادة الأوثان، وعلى حطة الآداب اللتين كان عليهما أهل عصره) . إن المسيو مونته ليس مسلمًا ليعتقد في البعثة ما نعتقده نحن بتمامه؛ لكنه في كلامه هذا يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بشيء زعمه من نفسه بدون أن يعتقده، وهذا خلافًا لكثير من مؤلفي الإفرنجة الذين كانوا يطعنون في محمد صلى الله عليه وسلم ويجعلونه قائلاً ما لا يعتقد، ولقد ضعف هذا الرأي في الأعصر الأخيرة ومال أكثر المؤرخين من عهد كارليل الإنكليزي إلى اليوم إلى الرأي الذي عليه الأستاذ مونته، وهو أن محمدًا كان صادقًا وأنه لم يُحَدِّث بما لم يشهد ولم يسمع، وأننا إذا أمعنا النظر في عبارة مونته نفسها لا نجد فيها شيئًا ينافي نزول الوحي من الله على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في قوله (إنه كانت تَحْدُث له نوبات عصبية تتمثل له في أثنائها الملك) لا يفيد بالضرورة أن النوبات العصبية هي نفسها التي مثَّلت الملك. وكذلك في قوله (إن نفس محمد صلى الله عليه وسلم ثارت في أعماق ضميره على ما كان فيه أبناء عصره من عبادة الأصنام وانحطاط الآداب) لا يوجب أن يكون الوحي هو عبارة عن ثورة نفسية لا غير. بل الحق عز وجل الذي له خرق العوائد في المعجزات له أن يهيئ المعجزة بأسباب طبيعية تمشي على النواميس الكونية إلى أن تتجلى أخيرًا بالأمر الإلهي المباشر [3] ، فالله تعالى الذي أراد أن يهدي البشر، وأن يردعهم عما كانوا منغمسين فيه من إلحاد في الدين وإباحة في العرض، قد أراد أن يؤيد رسالاته السابقة إليهم التي طال عليها الأمد وقست من بعدها قلوبهم، وأن يعززها برسالة جديدة مبنية على العقل الذي ليس وراءه للمرء مذهب، وأن يجعل هذه الرسالة خاتمة الرسالات كما كان العقل هو خاتمة الأدوات التي بها يعرف المخلوق خالقه، فكذلك ابتعث من البشر أشدهم قبولاً للوحي السماوي وأعظمهم ثورة على عبادة الأوثان وأكثرهم استعدادًا (فطريًّا لا كسبيًّا) لإدراك طرف من خزائن الغيب الذي لا يعلمه بأجمعه إلا الله، وما تمثل المَلَك إلا للذي أوجد فيه الله هذا الاستعداد التام، فأنت ترى أن كلام مونته وإن لم يكن مسلمًا لا يناقض عقيدة الإسلام في كيفية الوحي الذي أوحاه الله لرسوله. ثم قال مونته ما ترجمته بالحرف: (فالرسول الإلهي الملك جبريل تجلى على محمد لأول مرة في جبل حراء بقرب مكة وبيده ورقة وقال له مرتين (اقرأ) فأجابه محمد (لست بقارئ) فتلا جبريل الآيات الآتية التي تجدها في السورة السادسة والتسعين {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) السورة [4] ) (ثم غاب الملك بعد أن ألقى هذه الكلمات، فذعر محمد صلى الله عليه وسلم من هذه الرؤيا، ولم يعرف ماذا يقول عنها ولجأ إلى زوجته خديجة التي وجد عندها المعونة الروحية التي كان ينشدها، ولما لم تكرر عليه هذه الرؤيا في المدة التالية لتلك الليلة الخالدة الذكر خشي أن يكون قد مسه الشيطان لأن الاعتقاد بقوة الأرواح الخفية وتأثيرها كان منتشرًا في بلاد ا

مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات (في كلية الحقوق من الجامعة المصرية) وقعت هذه المناظرة بالصفة المبينة في المقالة الأولى من المقالات الآتية، فكان لها تأثير عظيم في جميع الطبقات المصرية في العاصمة وسائر البلاد، وظهر لنا من هذا التأثير بما رأيناه منه وما سمعناه عنه وما قرأناه بشأنه في الصحف: أن ما كان يذيعه دعاة الإلحاد من انتشار إلحادهم في النابتة العصرية المتعلمة حتى كاد يكون عامًّا فيهم - كذب وبهتان، بل السواد الأعظم من شباننا سليم العقيدة يؤمن بالله وبكتابه العزيز المعجز للبشر إلى آخر الدهر، ورسوله محمد خاتم النبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، ويغارون على الإسلام ويؤيدون من يدافع عنه، على ضعف تعليم الدين في المدارس كلها، وإهمال تربيته الصحيحة فيها وفي أكثر البيوت أيضًا، وعلى ما في هذه البلاد ولا سيما عاصمتها من حرية الكفر والفسق. وإننا ننشر هذه المقالات التي كتبناها ونشرناها في جريدة كوكب الشرق الشهيرة إجابة لاقتراح بعض طلاب الجامعة الغيورين، وسننشر بعدها بعض ما نُشر في الجرائد في موضعها وما كان من تأثيرها. المقالة الأولى في صفة المناظرة كان بعض طلبة كلية الحقوق من الجامعة المصرية زاروني في مكتبي وأخبروني أن لجنة الخطابة والمناظرات للجامعة تختارني لمناظرة الأستاذ عبد الوهاب عزام في موضوع (حرية المرأة كالرجل) إذا كنت أقبل أن أكون المعارض له فيه، فقلت: لا مانع لدي من القبول. ثم زارني اثنان آخران بعد المغرب من يوم الثلاثاء (سابع شعبان ويناير معًا) وألقيا إليَّ طائفة من رقاع الدعوة من تلك اللجنة (لحضور مناظرتها الأولى التي تقام في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الأربعاء 8 يناير سنة 1930 بكلية الحقوق بحدائق الأورمان بالجيزة برياسة النائب المحترم محمد توفيق دياب موضوعها (يجب مساوة المرأة بالرجل) [1] . (وسيؤيد الرأي الدكتور محمود عزمي والآنسة هانم محمد الطالبة بكلية العلوم، وسيعارض الرأي حضرة صاحب الفضيلة السيد محمد رشيد رضا ومحمد أفندي شوكت التوني الطالب بكلية الحقوق) هذا نص الدعوة. فلم أجد بدًّا من قبول الدعوة مع العتاب على ترك استشارتي في الأمر قبل يومين أو ثلاثة أيام، لعلمي [2] أنها مناظرة بين الدين والإلحاد. وقد ذهبت قبيل الموعد، ولما دخلنا حجرة المناظرة ألفينا مدارجها مكتظة بطلبة كليات الجامعة وغيرها من المدارس وبعض مجاوري الأزهر الشريف وفي أدناها كثير من كبار الفضلاء والأستاذِين، كان تجاهي منهم صديقنا أحمد شفيق باشا من عشاق العلم والعمل، ثم اشتد الزحام حتى كثر الواقفون في أثناء المدارج وجوانبها وأعلاها وفي طريقها أيضًا وقدَّرهم الرئيس بألف نسمة أو أكثر. وما زال الناس يهرعون حتى غص بهم المكان وصاروا يتدافعون في الأبواب، وكاد يتعذر حفظ النظام؛ ولكن الرئيس الموكول إليه ذلك تمكن بحزمه وفصاحته وصوته الجهوري من تسكين المتحركين، وتسكيت المتكلمين، ثم من كف تصدية المصفقين، وافتتح الكلام ببيان موضوع المناظرة والتعريف بالمتناظرين: الموجب منهم للموضوع، والسالب المعارض له، والمؤيد لكل منهما، وما للسامعين من حق إبداء الرأي بالكلام في كل من جانبي السلب والإيجاب، وبيان الوقت المحدد لكل متكلم، وهو عشرون دقيقة لكل من الأولين، وخمس عشرة دقيقة لكل من الرديفين، وخمس دقائق لمن يريد تأييد أحد الجانبين. ثم طريقة أخذ الأصوات، وهي أن يخرج الذين يرون عدم المساواة من الباب الأيمن، ويخرج الذين يرون وجوب المساواة من الباب الأيسر، فيجد كل منهم صندوقًا خارج الباب يضعون فيهما البطائق المطبوعة التي وُزعت عليهم بعد أن يكتب كل منهم فيها اسم من يؤيده ويرى رأيه، وإمضاءه هو، ثم على لجنة المناظرت أن تحصي بطاقات أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وتعلن النتائج لمن شاء الانتظار، ومن لم يشأ قرأها في الصحف غدًا. ثم أذن للدكتور محمود عزمي بالكلام. خطاب محمود عزمي كان هذا الخطاب مكتوبًا بالأسلوب الخطابي الذي يُقصد به التأثير بخلابة القول وما يزينها من المعاني الشعرية، ولعله ينشره في بعض الجرائد اليومية التي يبث فيها دعايته وآراءه [3] وقد بدأه بقضايا ظن أنها كليات لأشكال منطقية يلزم من تسليمها النتيجة المطلوبة، والحق أنها في عرف المنطق الصحيح إما شخصية وإما جزئية لا يصح تأليف الأشكال المنتجة منها، وأن ما قد يضاف إليها من الكليات لا يمكن أن يكون مسلَّمًا فيحتج بنتيجتها، وقد سماها منطقية وهي تسمية مردودة عند من له إلمام بعلم المنطق، وما في باب الحجة والقياس من الشروط في تأليف الأشكال المنتجة للبرهان. ذلك أنه ذكر أسماء بعض النساء في أوربة وفي الشرق من معاصرات وغابرات (كمدام كوري وملكة هولندة وأميرة لوكسمبرج وخالدة أديب والأميرة نازلي هانم وهدى هانم ومي وسيزا نبراوي وإحسان أحمد وأم المحسنين وأم المصريين من المعاصرات، وكسارة وهاجر ومريم وفاطمة وعائشة وكليوبترة وشجرة الدر وغيرهن من نساء التاريخ) فالقضايا التي تتركب من هذه الأسماء تسمى في المنطق قضايا شخصية لا يصح أن يتألف منها منفردة ولا مجتمعة قياس برهاني على وجوب مساواة النساء للرجال في جميع الحقوق والواجبات، وذكر أيضًا بعض أعمال النساء العامة في أوربة وما كان من جهودهن في إبان الحرب العظمى، وهؤلاء وإن كن كثيرات لا يصح الاحتجاج بهن على المطلوب؛ لأنها جزئيات لم تصل إلى حد الاستقراء التام الذي يفيد البرهان اليقيني، ولا الاستقراء الناقص المنطقي الذي يفيد الظن دون اليقين. فالاستقراء عند المنطقيين: قول مؤلف من قضايا ناطقة بالحكم على الجزئيات لإثبات الحكم الكلي، فإن كان الحكم فيها على جميع الجزئيات سمي استقراء تامًّا، كقولنا: كل جسم متحرك بالقوة أو بالفعل. وإن كان الحكم فيه على أكثر الجزئيات سمي استقراء ناقصًا، ومثَّلوا له بقولهم: كل حيوان يتحرك فكه الأسفل عند المضغ، بناء على أن أكثر ما عُرف من أنواع الحيوان كذلك لا كلها. وقد قال موجب المساواة بعد ذكر ما تقدم: إنه يدل عليها دلالة منطقية، ولهذا ذكرنا الاصطلاح المنطقي في إبطال قوله، وأن المنطق لا يدل على ذلك دلالة يقينية ولا ظنية، وأما أسلوبه الخطابي أو الشعري في منطقه هذا فهو أنه قال: ما كنت أحسب وقد ملأت الدنيا أنباء الفُضليات من النساء اللاتي يضربن الآن بسهم في مختلف نواحي النشاط البشري الراقي وفي الملك الدستوري النابه (؟) وفي إدارة شؤون الدول وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب ولا يزال يطن في آذاننا جميعًا دوي تلك الجهود الهائلة التي قام بها النساء خلال الحرب الكبري وقد استحلن عمالاً خشنين (؟) يبرزن (؟) على الرجال في المعامل والمصانع المدنية منها والعسكرية وفي كذا وكذا - ما كنت أحسب وتعاليم التاريخ العام والخاص منتشرة بينكم فتعرفون منها ما كان على البشرية من فضل لسارة وهاجر وأم هارون ومريم وفاطمة وعائشة ... إلخ - وأنتم تتبعون أثر الأميرة نازلي واجتماعات قصرها في تكييف مَلَكَة التفكير العام عند من تدينون له بالزعامة فيما شهدت منكم من حركة قومية ... إلخ. وما زال يقول (ما كنت أحسب) ويذكر جملاً حالية معروفة حتى جاء بإتمام الجملة فقال: ما كنت أحسب وكل هذه الظروف تكتنفنا أن وجوب تسوية المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات يمكن أن يكون محل مناظرة!! لأنها في رأيه كما نقل عن الأستاذ (لالند) قد (كانت يوم قال بها (المفتون الأول) خيالاً من الخيالات؛ ولأنها أصبحت اليوم بدهية من البدهيات، وحقيقة من الحقائق العلمية التي لا يماري فيها إنسان) . ولعمري إن هذا قول لا يقوله إنسان يفهم معنى البداهة ومعنى الحقيقة العلمية إلا على سبيل الخلابة، إذ ليست المسألة من البديهيات ولا من الحقائق العلمية في عُرف هذا العصر، فالبديهي في عرف أهل المنطق ما لا يتوقف حصوله على نظر ولا كسب كتصور الحرارة والبرودة والتصديق بأن النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، ولو كانت كذلك لما احتيج إلى المناظرة فيها كما قال، ولما كانت نتيجة التصويت فيها تأييد المعارضة ونبذ بدعة المساواة المطلقة بالأكثرية الساحقة الماحقة، بل لما كانت هذه النظرية من البدع العصرية التي نجم قرنها في هذا القرن المضطرب، الذي لم يستقر بعد على حال من القلق. بعد إلقاء الدكتور عزمي لهذه المقدمات العقيمة، التي لا تنتج على تقدير تسليمها، وما هي على علات بعضها بمُسلَّمة - شرع في بيان الحقوق فقال: إن أولها حق الوجود واستنشاق الهواء كالرجل؛ لأنها كائن موجود مثله سواء، وإن النتيجة المنطقية لذلك هي تمزيق الحجاب وهتك الستر والاختلاط مع الرجال في كل مجال، فهو القاعدة الأولى لحق الوجود، وأفاض في مدح هذا الاختلاط وعدَّه من مهذبات الرجل في ملبسه وزينته وكلامه وتفكيره، واستشهد على ذلك برحلته الأخيرة إلى فرنسة فذكر أنه كان يحلق ذقنه كل يوم مرة أو مرتين لأجل الاجتماع بالنساء؟ ! وذكر أيضًا من مزايا هذا الاجتماع بهن التفكير الطاهر البريء! ! (سبحان الله وبحمده) ثم ثنَّى بذكر حق تعلم المرأة لأجل التثقف وتهذيب نفسها وغيرها كالرجل. وانتقل منه إلى حق الحياة في المجتمع، ومنه أن يكون لها حق اختيار الزوج وحق الطلاق، واتقاء ما يهدد حياتها من عواصف تعدد الزوجات. وقفى عليه بحق الاشتراك مع الرجل في تربية الأولاد وتوجيه أنفسهم إلى الأعمال. وعطف على هذا حق الامتلاك بالإرث والكسب، فارتطم ههنا في حمأة مصادمة الشرع، إذ زعم أنه يجب مساواة الأنثى للذكر في الإرث، فكان كعاصفة على البحر، اضطرب جمهور الموجودين لها كاضطراب الموج، واصطخبوا كاصطخابه عندما يتكسر على الصخر، وأرادوا منعه من الكلام، فقام الرئيس ورفع عقيرته بالتضرع إليهم أن يحفظوا النظام، ولما أمكن إتمام القول لجأ إلى التأويل، فزعم أن مسألة الإرث عند كثير من علماء الشرع ليست كمسائل العبادات التي تجب المحافظة عليها والجمود على نصوصها، بل هي من مسائل المعاملات المالية التي يجوز تعديلها وتغييرها بحسب تطور الزمان والمكان (! !) قال: وإذا تعنت معنا أصحاب الجمود على الآراء الدينية فلماذا لا يتعنتون في تعديل قواعد الحدود الشرعية كرجم الزاني والزانية، وقطع يد السارق ورجله من خلاف (أو قال أيدي وأرجل وفيه ما فيه على كل حال) فإن الحدود قد عُطِّلت وهم ساكتون، فليسكتوا إذًا على تغيير أحكام الميراث، والدليل على أن هذه الأحكام لا يمكن الاستمرار عليها أن المسلمين أنفسهم قد شعروا بذلك فرأوا الخروج من هذا الجمود بالوقف الذي هو عبارة عن حيلة يجيزها الإسلام الصحيح للخروج من الشيء إلى ما هو أوسع منه، وقد جزم الحكم بأن أبناءنا سيرون هذا التغيير إن لم نره نحن! ! وختم هذه الحقوق بالحق السياسي، وهو أنه لما كانت المرأة عنده كالرجل من كل وجه وجب أن يكون لها الحق في جميع أعمال الحكومة ووظائفها والانتخاب لمجالسها، وقد حال انتهاء مدة كلامه بيان إفاضته فيها، فسكت مسخوطًا عليه من الكثيرين، وصفق له الأقلون، وقد علمت بعد الخروج أن أكثرهم من غير المسلمين وأقلهم من ملاحدتهم، وقد عبَّر عن ذلك من نقل أخبار المناظرة لجريدة الأهرام (أحمد الصاوي) بغير تدقيق بقوله (إلى هنا هتف الشباب لمحامي الشباب) وما ك

ملك اليهود وهيكلهم ومسيحهم والمسيح الحق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مُلك اليهود وهيكلهم ومسيحهم والمسيح الحق (خلاصة تاريخية دينية في مُلك إسرائيل ومسيحهم، وحكم النصرانية والإسلام فيهم، وما ورد في ذلك من أنباء النبيين، ننشرها إيضاحًا لما كتبناه في مسألة الصهيونية وثورة فلسطين) كان إسرائيل - وهو نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام - يعيش هو وأولاده في براري فلسطين، ولما مكَّن الله تعالى لولده يوسف في أرض مصر جذبهم إليها، فكثروا فيها حتى صاروا شعبًا كبيرًا؛ ولكنهم ظلوا محافظين على نسبهم ومقوماتهم، فسامهم الفراعنة في مصر سوء العذاب، واضطهدوهم أشد الاضطهاد، ولم يقووا على سحقهم، ولا على إدغامهم في قومهم، حتى أرسل الله تعالى فيهم نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فنجّاهم بما أيده به من الآيات من ظلم آل فرعون، ورباهم في التيه أربعين سنة رأوا فيها من آيات الله ما لم يره غيرهم من الشعوب، وقاسى موسى في سياستهم من العناد واللدد، والإدلال والصلف، ما يقضي التاريخ منه العجب، حتى إن التوراة وصفتهم عن وحي الله تعالى بالشعب الصلب الغليظ الرقبة. وكان استذلال الفراعنة لهم قد سلبهم الشجاعة والبأس، فجبنوا عن دخول الأرض المقدسة إذ كان لابد من قتال أهلها الجبارين، فقضى التيه على أولئك الجبناء الأذلاء، ونشأ فيه جيل جديد قوي الأبدان، قوي الجنان والإيمان، فقاتل أهل البلاد المقدسة التي خرج من مصر ليتبوأها، فكتب الله له النصر عليهم فغلبهم على وطنهم ليديل للتوحيد من الشرك، وللعدل من الظلم، وللفضيلة من الرذيلة، وكان له هنالك تاريخ مجيد: أنبياء وملهمون، وقضاة عادلون، وملوك معمرون {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (الأعراف: 159) . ثم دب إليه الفساد فعبد الأوثان، وفسق عن أمر الديّان، وكفر بنعم الرحمن، وقتل الأنبياء، وظلم الأبرياء، فسلط الله عليه الأمم القوية فانتقمت منه أشد الانتقام: ثلت عرشه وخرَّبت عاصمة ملكه (أورشليم) وهدمت بيت الرب المعروف بهيكل سليمان المرة بعد المرة، وسلبت ما كان فيه من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، التي ضاعف قيمتها ما فيها من لطيف الصنعة، والأثارة الدينية والتاريخية للملة والأمة، وسَبَتْ النساء والرجال والأطفال وأجلتهم عن الديار، وكان هذا تربية بالشدة والذلة، بعد أن أبطرتهم تربية النعمة والعزة، ثم رحمهم الله تعالى فعطف قلب مَلِك بابل عليهم فأعادهم إلى وطنهم، وأذن لهم بإعادة هيكلهم، وإقامة ما حفظوا من شريعته وشريعتهم، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الأعراف: 168) حتى إذا ما استمرءوا مرعى النعمة، وأنسوا من أنفسهم القوة عادوا إلى طغيانهم وبغيهم، فعاد نزول العقاب الإلهي عليهم. وما زالوا كذلك حتى أحاط غضب الله تعالى بهم، وقضى القضاء الأخير بزوال ملكهم، وتسجيل الذل الدائم عليهم بجعلهم تابعين لغيرهم، كما أنذرهم أنبياؤهم وقص الله ذلك في آخر كتبه السماوية الإنجيل فالقرآن على لسان آخر رسله عيسى فمحمد عليهما الصلاة والسلام قال الله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الآيات: 4- 8) سورة بني إسرائيل أو الإسراء. أفسدوا أولاً بعبادة الأوثان والظلم فسلط عليهم البابليين الوثنيين فجاسوا خلال مملكتهم وجعلوها تابعة لهم تؤدي إليهم الخراج، وكان ذلك في القرن السابع قبل المسيح، ثم أعاد لهم الكرة وأمدهم بالمال والقوة فأفسدوا المرة الثانية، فأعاد انتقامه منهم، وهو المراد بوعد الآخرة، ثم عطف عليهم بالرحمة، منذرًا لهم بأنهم إن عادوا إلى الفساد عاد إلى النقمة، فعادوا فسلط الله عليهم الرومان الوثنيين المصريين وغير المصريين، فالمسيحيين، فالمسلمين. كانت أولى تلك النكبات الكبرى نكبة بختنصر ملك بابل في سنة 586 قبل الميلاد بعد عصيان اليهود عليه وكانوا خاضعين لملكه، فأثخن في جيشهم فكان يقطع أجساد العسكر إربًا إربًا وسمل عيني ملكهم، وأرسله إلى بابل ودمر المدينة المقدسة (أورشليم) والهيكل وأحرقهما بالنار (وكان في الهيكل تابوت العهد وفيه توراة موسى بخطه وألواح العهد) وقتل جميع أهلها إلا قليلاً منهم أرسلهم إلى بلاده عبيدًا. ولما عاد بعضهم من السبي إلى بلادهم سنة 535 قبل الميلاد بأمر ملك بابل شرعوا في إعادة بناء الهيكل بمساعدة أهل الجوار، فلم يتيسر لهم فتركوه سنة 522، ثم عادوا إليه سنة 519 وأتموه سنة 515 قبل الميلاد، وحسنت حالهم بعد السبي إذ كان خير تربية لهم فمقتوا عبادة الأوثان، ثم أحسن معاملتهم الإسكندر المقدوني، وفي أيامه خلصوا من سلطة الفرس، ثم وقعوا بعده تحت سلطان مصر تارة، وسلطان سورية أخرى، ولم يكن المصريون يعرضون لهم بشيء من أمور دينهم؛ ولكن بطليموس الرابع غضب عليهم فأهانهم، ودخل قدس الأقداس في هيكلهم فنجسه وأهان الدين فيه سنة 217، فدخلوا في حماية ملك سورية باختيارهم فرارًا من ظلمه، وكانوا متقلبي الأحوال مع هؤلاء الحكام المجاورين حتى إذا ما استولى الرومان على هذه البلاد كلها كانت بلاد اليهودية ولاية رومانية، فظلمهم الروم أيضًا ظلمًا شديدًا لا يُطاق. ولما عجزوا عن حمل أعباء الظلم يئسوا من الحياة وخرجوا على الروم مستبسلين طالبين للاستقلال، وذلك في سنة 66 بعد الميلاد فضيَّق الروم عليهم الخناق، وكانت البطشة الكبرى خاتمة هذا القتال إذ استولى (تيطوس) على أورشليم سنة 70 وتبرها تتبيرًا، وتركها أكوامًا من الرماد السود وأحرق الهيكل مع المدينة، ولم يُبق من تلك الأبنية الفخمة شيئًا إلا بعض أبراج السور تركها مراصد للجيش الروماني، وذلك بعد حصار خمسة أشهر يقال إنه هلك في أثنائه ألف ألف نفس ومائة ألف نفس، واسترق الباقي من اليهود، فهاجر كثير منهم إلى إيطالية وجرمانية من أوربة واستوطنوها، وزال استقلال اليهود السياسي من الأرض فلم يقم لهم بعد ذلك ملك مستقل، وقطَّعهم الله في أقطار الأرض كما أوعدهم على ألسنة أنبيائه الذين يؤمنون بهم والذين كفروا بهم، أي من داود إلى عيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. إنما تم عز القوم وبلغوا ذروة المجد في المُلك على عهد داود وسليمان عليها السلام، وكانا نبيين مؤيدين بوحي الله وتوفيقه، وكان داود عليه السلام رجل حرب وهو الذي فتح مدينة الرب (القدس) ووطد دعائم الملك، وبعد استوائه عليها جمع الذهب والفضة والنحاس وغير ذلك من أدوات البناء لأجل بناء بيت للرب تقام فيه شعائر الدين، فأوحى الله تعالى إليه - كما في تاريخهم المقدس - بأن بيت عبادته لا يبنيه رجل سفك دماء عباده؛ وإنما الذي يبني بيته هو ابنه وخليفته سليمان، وكذلك كان، ذلك بأن الله لا يحب الفساد ولا سفك الدماء ولا يأذن بالقتال لرسله وعباده المؤمنين إلا لضرورة الدفاع عن الحق والعدل، والإدالة لهما من البغي والظلم، كما قال في كتابه العزيز: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: 251) وكما قال في تعليل إذنه لنبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: 39-41) . وكان داود وسليمان وغيرهما من الأنبياء يوصون بني إسرائيل بإقامة شريعة موسى ووصاياه، ويقيدون كل وعود الرب لهم بالأرض المقدسة والملك فيها - وهم غرباء عنها - بإقامة هذه الوصايا كلها وينذرونهم فقد كل شيء بإخلالهم بشيء منها وفاقًا واتباعًا لما جاءهم به موسى عليه السلام عن الله تعالى كما ترى في الفصل (27 - 32 من سفر التثنية خاتمة التوراة) ومن تلك النذر بعد النذر واللعنات التي تقشعر منها الجلود قوله بعده (28: 63 وكما فرح الرب ليحسن إليكم ويكثركم كذلك يفرح الرب لكم ليفنيكم ويهلككم فتُستأصلون من الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها 64 ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصاء الأرض إلى أقصائها) وتكررت هذه الوصية والنذر التي علق الرب عليها إطالة أيام شعب إسرائيل في الأرض التي وعدهم إياها أو عدم إطالتها، فهو - تعالى عن الظلم والمحاباة - لم يهبهم إياها لذواتهم ولا لنسبهم، بل لإقامة الحق والعدل فيها فكانت هبة مشروطة بشرط فسلبت بفقده. وفي الفصل التاسع من سفر الملوك الأول أن الرب تراءى لسليمان بعد أن أتم بناء بيت الرب (الهيكل) ووعده بأنه إذا سلك كما سلك أبوه داود بسلامة القلب والاستقامة وعمل بجميع الوصايا وحفظ جميع الفرائض والأحكام؛ فإنه يجعل كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد كما وعد أباه داود، وأنذره انتقامه منهم إذا كانوا ينقلبون هم أو أبناؤهم ولا يحفظون وصاياه وفرائضه، ويذهبون فيعبدون آلهة أخرى قال (7 فإني أقطع إسرائيل عن وجه الأرض التي أعطيتهم إياها، والبيت الذي قدسته لاسمي - أي الهيكل - أنفيه من أمامي، ويكون إسرائيل مثلاً وهزأة في جميع الشعوب 8 وهذا البيت يكون عبرة) ... إلخ، وأعاد هذا بعينه في الفصل السابع من سفر الأيام الثاني، ومثله في أسفار أشهر أنبيائهم، وكذلك كان، ومرت على ذلك القرون بعد القرون، وهم لا يزالون يزعمون أن أرض فلسطين ملك لهم بوعد ربهم، فهم يحفظون وعده وينسون شرطه ولا يحفظون وعيده، وهو الصادق في وعده ووعيده، والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود بل يجوز، فهم لا حق لهم في هذه البلاد لا بنصوص كتبهم ووعد ربهم ولا بعرف سائر الشرائع وقوانين الأمم. ومن أغرب أحوال هذا الشعب أنه استحوذ عليه الغرور والعجب بكتبه وأنبيائه ورسله حتى صار يحتقر جميع البشر، بل حتى صار يرى نفسه فوق الأنبياء والكتب التي لولاها ولولاهم لم يكن شيئًا مذكورًا، فقد خالف عقائد التوراة وأحكامها ووصاياها ونُذُرها وتهديدها، ووصايا سائر أنبيائهم

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (الجزء الثالث من كتاب الأعلام) سبق لنا تقريظ لهذا الكتاب بعد صدور الجزأين الأول والثاني منه، وقد بُدئ هذا الجزء بحرف الكاف، وأتم بحرف الياء، فبلغت صفحات الأجزاء الثلاثة به 1187 صفحة، فحق على جميع كتاب العربية ولا سيما المصنفين والمؤرخين ومحرري الصحف أن يشكروا لمؤلفه أديب الشام وشاعرها الأستاذ (خير الدين الزركلي) الشهير هذه المنة التي لا يستغني عنها أحد منهم، فلعمري إن حاجتهم إلى هذا الكتاب كحاجتهم إلى معجم من معاجم اللغة، وينبغي أن لا يخلو منه مكتب، وأن يكون بين الأيدي بجانب أساس البلاغة والقاموس ونحوه، كذلك خزائن الكتب العامة والخاصة ينبغي أن يكون في كل منها عدة نسخ من هذا الكتاب؛ لأنه كما ادّعى واضعه في فاتحته - وصدق - قد ملأ فراغًا في الخزانة العربية قد تُرك له مدة هذه القرون الطويلة، بجمعه أسماء أشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين من عهد الجاهلية وأول الإسلام إلى هذا العصر ما عدا الأحياء من أهله، وضبط الأسماء والألقاب وحدد سني الوفاة لمن عُرفت سنة وفاته وهم الأكثرون بالتاريخين الهجري والميلادي، وبيَّن أهم المزايا والكتب التي صنَّفها المصنفون منهم مع الرمز إلى ما طُبع منها وما لم يُطبع، وأنه قد لخَّص ترجمة أعظم رجل ذُكر فيه، بل أعظم رجل خلقه الله (محمد رسول الله وخاتم النبيين) في 3 صفحات وبضعة أسطر فقط. وقد وعد بوضع جزء رابع يستدرك به ما فاته في هذه الأجزاء، ولما كان قد دعا قراء الكتاب إلى نقده، فالمرجو من قرائه من أهل العلم وأصحاب الاطلاع على المطبوعات أن يبينوا له ما يعثرون عليه من سهو أو غلط ليدونه في جزء المستدرك ليتم به ضبط الكتاب بالدقة اللائقة به. وأذكر من ذلك أنه غلط في ترجمة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) فذكر أنه وُلد في عين شمس وهو إنما سكنها في بضع السنين الأخيرة من عمره، وذكر من مؤلفاته (تفسير القرآن الحكيم) وقال: إنه لم يتمه، والصواب أنه ليس له إلا تفسير (جزء عم) فقط، وله كتب أخرى لم يذكرها، أشهرها كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) و (رسالة الواردات) ومنها حاشيته على عقائد الجلال الدواني وكلها مطبوعة. وقد راجعت أخيرًا ترجمة الحافظ الذهبي فرأيته يضع عند ذكر كتابه (ميزان الاعتدال) حرف (خ) للإشارة إلى أنه مخطوط لا مطبوع، والصواب أنه قد طُبع في الهند ثم في مصر، ولعل هذا من غلط الطبع ولابد من تصحيحه في المستدرك. *** صحف إسلامية عربية يسرنا أن تكثر الصحف الإسلامية الرشيدة في أوطاننا العربية في هذا العصر الذي طغى فيه طوفان الإلحاد، واستشرى وباء الفساد، وكثرت صحفهما في البلاد، وجهر كُتَّابهما بالدعوة، مساعدة للمبشرين على نكث فتل الأمة، وتقطيع روابط الملة، وإننا نذكر المهم من هذه الصحف: (مجلة الشبان المسلمين) (مجلة إسلامية علمية تهذيبية تصدرها جمعية الشبان المسلمين مرة في الشهر، ويحررها نخبة من أعضائها، رئيس التحرير المسئول: الدكتور يحيى أحمد الدردير) وإنه ليسرنا أن يوفق الله تعالى هذه الجمعية النافعة لإصدار مجلة إسلامية تكون أكبر عون لها على ما تقصد من تأسيسها وهو التهذيب الإسلامي مع العلم العصري والتربية الملية الوطنية، وهذا ضرب من التجديد النافع المطلوب، المقاوم لتجديد الإلحاد والفسق والفجور، الذي تَنَحَّلَه أفراد مكنتهم فوضى الآداب وحرية الفساد من انتحال لقب التجديد لأنفسهم، وهم لا يبغون منه إلا الكسب بإفساد الشعب. وإنه ليسرنا أن يكون صديقنا الدكتور أحمد يحيى الدردير رئيس التحرير لهذه المجلة النافعة، فقد عرفناه من اختلافنا إلى نادي الجمعية لإلقاء بعض المحاضرات، أو رد الشبهات، أو لسماع مثل ذلك، أو لمحض الزيارة والمذاكرة، أنه خير أهل لهذه الخدمة بما له من الاطلاع الواسع على العلوم والفلسفة، ولا سيما علم النفس والتربية، مع البصيرة والوجدان في الدين واليقين فيه، والغيرة عليه، وإنه ليسرنا أيضًا أن تبارى أقلام خيار الكُتَّاب المسلمين في تحرير هذه المجلة، في العلوم والأعمال المختلفة، فهي بذلك قد استكملت الأسباب العلمية الأدبية لها، وقيمة الاشتراك السنوي في مصر 25 قرشًا لعضو الجمعية، و30 قرشًا لغير العضو، وفي غير مصر 30 لعضو الجمعية، و40 لغير العضو، وهو مبلغ قليل فنحث المسلمين كافة وطلاب العلوم وطوالبها خاصة على الإقبال على هذه المجلة والاشتراك فيها وعلى الاشتراك في جمعيتها أيضًا. وبهذه المناسبة يسرنا أن نعلن للعالم الإسلامي أنه صار لدينا بمصر ثلاث مجلات لجمعيات إسلامية، تؤازرها مجلات أخرى في سائر الأقطار، وهي: (مجلة مكارم الأخلاق) وهي أقدمها لأنها تناهز عمر المنار في نشأتها الأولى، وقد جدد شبابها تولي الأستاذ الشيخ محمود محمود من أستاذي مدرسة المعلمين العليا رياسة تحريرها، وناهيك به علمًا وفضلاً وغيرة، فهي الآن خير مما كانت منذ وجدت، و (مجلة الهداية) . ولدينا في خارج مصر (مجلة الإصلاح) الحجازية و (مجلة الكويت) وقد دخلتا مع مجلة الهداية جميعًا في السنة الثانية فنهنئهن بذلك، و (مجلة الشهاب) الجزائرية و (جريدة الإصلاح) الجزائرية. (الجامعة الإسلامية) (صحيفة إسلامية: علم. أخلاق. أدب. تاريخ) تصدر في حلب مرتين في الشهر موقتًا، مديرها ومحررها الأستاذ محمد علي الكحال، قيمة الاشتراك السنوي فيها أربعون قرشًا مصريًّا ولطلاب العلم وطوالبه 32 قرشًا، وإنا لنتمنى لهذه الجريدة النجاح والفلاح. (المستقبل) (صحيفة نقد وأدب وفن ودعاية لصاحبها ورئيس تحريرها الأستاذ إبراهيم صالح شاكر) تصدر مرتين في الشهر في مدينة بغداد، وعسى أن يُقْبِل عليها قراء العربية في جميع البلاد، فإنها تعنى بالدعاية العربية، بلغة فصيحة عربية، يتغلغل الإخلاص للوحدة العربية في أحشائها، ويفيض من جميع جوانبها، وعسى أن تجد من الإقبال ومن الحرية ما يمكِّن صاحبها الغيور من جعلها أسبوعية، ثم من تكبير حجمها مع بقائها أسبوعية، ومن إبقاء اشتراكها على ما هو الآن: عشر روبيات في العراق و15 روبية في سائر الآفاق.

المجمع المصري للثقافة العلمية

الكاتب: فؤاد صروف

_ المجمع المصري للثقافة العلمية بيان عام صحت عزيمة طائفة من المشتغلين بالعلم ونشره في هذا القطر على تأسيس مجمع علمي يدعونه (المجمع المصري للثقافة العلمية) تكون أغراضه: (أولاً) نشر الثقافة باللغة العربية. (ثانيًا) ترقية اللغة العربية بكتابة المباحث العلمية بها ونشرها. (ثالثًا) إنشاء رابطة للمشتغلين بالعلم من أبناء اللغة العربية. والطريقة التي ينوي أن يجري عليها لتحقيق أغراضه هذه هي: (أولاً) عقد مؤتمر سنوي لإلقاء الخطب العلمية وتلخيصها ونشرها ملخصة في الصحف السيارة والمجلات، ثم طبعها كاملة في مجموعة توزع وتباع. (ثانيًا) إلقاء خطب علمية دورية. (ثالثًا) عدم تعرضه للسياسة والدين. أما لغته فاللغة العربية، وأما مركزه فالقاهرة عاصمة المملكة المصرية. وفيما يلي أسماء الفضلاء الذين قبلوا حتى كتابة هذه السطور أن ينتظموا في هيئة مجلسه التأسيسي: الدكتور علي إبراهيم بك - رئيس ... الدكتور محمد رضا مدور المجمع لسنة 1930 ... الدكتور كامل منصور ... ... ... ... الدكتور محمد شاهين باشا ... ... ... الدكتور جرجي صبحي الدكتور فارس نمر ... ... ... ... الدكتور علي حسن ... ... ... ... الدكتور خليل عبد الخالق ... ... ... الدكتور أحمد زكي أبو شادي ... ... ... ... الدكتور عبد العزيز أحمد ... ... ... الدكتور شخاخيري ... ... ... الدكتور علي مصطفى مشرفة ... ... الأستاذ إسماعيل مظهر ... ... ... ... الدكتور حسن بك صادق ... ... ... الأستاذ سلامة موسى ... ... ... ... الدكتور محمد شرف ... ... ... ... الأستاذ فؤاد صروف سكرتير عام دائم ... ... ... ... ... ... الأستاذ كامل كيلاني مساعد سكرتير وقد اجتمع المجلس التأسيسي، وقرر أن يعقد مؤتمره السنوي الأول في الثاني من فبراير الذي يبتدئ في يوم الجمعة 7 فبراير، وينتهي في 14 منه، وسيعلن عن برنامج هذا المؤتمر، وأسماء الخطباء وموضوعات خطبهم ومكان إلقائها في أواسط يناير القادم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... فؤاد صروف ... ... السكرتير العام الدائم (المنار) استغربنا تأليف إدارة المقطم والمقتطف لهذا المجمع من الدكاترة الكرام، وبعض الملاحدة المفسدين للأديان والآداب الذين جهر بعضهم بالدعوة إلى الإلحاد، ولا سيما الطعن في الإسلام، وإلى إفساد الآداب الدينية والمدنية بما يسميه الأدب المكشوف، وأما الأطباء فالخدمة التامة الخاصة بهم موضوعها حفظ أبدان البشر من الأمراض ومعالجة ما يعرف لها منها، ويقل فيهم من يجد وقتًا للعناية بالثقافة التي هي موضوع هذا المجمع إن كان مستعدًّا لها من قبل. وكان يجب أن يكون أكثر أعضاء هذا المجمع من كبار المدرسين في المدارس العالية ومنها الأزهر الشريف، ومن كبار الكتاب المحررين والعلماء المؤلفين للكتب النافعة، وأن يكون فيها من يمثل الجمعيات الأدبية والأخلاقية ومنها جمعيتا الشبان المسلمين والشبان المسيحيين، ولا يعقل أن تبحث اللجنة المؤسسة لهذا المجمع عن عقائد من تعرف فيهم الصفات المؤهلة له، وتشترط فيها شيئًا، ولكن يجب أن لا تقبل من يكون داعية للإلحاد والفوضى الإباحية في الآداب مشهورًا بالطعن في رجال الدين، ولا من يكون معروفًا عنه أنه يبغي بالثقافة العلمية نسخ الثقافة الدينية وإقامتها مقامها، ولا يكفي في تأمين المتدينين على أديانهم أن يشترط في خطب المؤتمر عدم التعرض فيها للسياسة والدين؛ فإن أشد المتعرضين للدين وقاحة وطعنًا يدعي عدم التعرف له. ثم إن المقاصد التي ذكرت في البيان مجملة مبهمة وحاصلة بدون تأليف مجمع خاص لأجلها إلا مسألة المؤتمر، وهي مسألة قد سبقت جمعية الرابطة الشرقية إلى درسه والسعي له فما معنى افتئات هؤلاء عليها فيه؟ ولماذا لم يشتركوا معها في سعيها؛ حتى إذا ما اجتمع المؤتمر اقترح عليه تأسيس المجمع اللغوي الأدبي المطلوب، إن لم تسبق إلى تأسيسه الحكومة المصرية؟ وكذلك الرابطة بين رجال العلم هو من موضوعها.

الاستفتاء في حقيقة الربا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاستفتاء في حقيقة الربا القطعي المحرم لذاته والربا الظني المنهي عنه لسد الذريعة، والبيع والتجارة (4) ليس في الشريعة الإسلامية مسألة مدنية وقع فيها الخلاف والاضطراب منذ العصر الأول، ثم مازالت تزداد إشكالاً وتعقيدًا بكثرة بحث العلماء إلا مسألة الربا، فهي تشبه مسألة القدر في العقائد، فأما ما جاء من النصوص القرآنية في المسألتين فبيّنٌ كالشمس لا مجال للشبهات فيه، وأما السنة العملية القطعية في مسألة الربا فهي تنفيذ لحكم الكتاب الإلهي، وأما الأحاديث النبوية القولية فهي قسمان: (الأول) نص صحيح الرواية قطعي الدلالة في حصر الربا فيما حرمه الله منه في كتابه وهو (ربا النسيئة) الذي لم تكن العرب تفهم منه غيره؛ لأنه هو المعروف عندهم دون غيره وهو حديث أسامة المرفوع المتفق عليه (لا ربا إلا في النسيئة) هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم (إنما الربا في النسيئة) و (الثاني) نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البيوع التي قد تؤدي إليه لسد الذريعة دون ارتكابه (كنهيه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية سدًّا لذريعة الزنا المحرَّم بنص كتاب الله تعالى) وهو حديث عبادة وغيره الذي كرره المفتي الهندي، وهذا هو الذي سموه (ربا الفضل) . ولما حرَّم الله الربا في كتابه وتوعد عليه قرن تحريمه بحِلِّ البيع وحِلِّ التجارة التي هي أعم من البيع، فعُلم من ذلك أن حقيقة الربا المحرم غير حقيقة البيع والتجارة المحللين، وذلك أن البيع والتجارة معاوضات في الأعيان والمنافع بين طرفين يتراضيان باختيارهما على المبادلة فيها - وأما الربا المنصوص في القرآن فليس فيه معاوضة بين متعاقدين في شيئين، بل هو عين يأخذه أحد الطرفين من الآخر بغير مقابل له من عين ولا منفعة، بل لأجل تأخير قضاء دين مستحق عليه إلى أجل جديد لعجزه عن قضائه حالاً. وقد بيَّن بعض العلماء المستقلين في الفهم هذه المعاني كلها؛ ولكن الذين أولعوا بتكثير الأحكام في الحلال والحرام وضعوا لأنفسهم قواعد للاستنباط ومناطات للتشريع أدمجوا بمقتضاها الربا المحرم القطعي بالنص الإلهي - المتوعد عليه فيه بالوعيد الشديد لما فيه من الضرر الفظيع والظلم العظيم - في البيع المنهي عنه لسد الذريعة، إذ لا ضرر فيه يقتضي الوعيد الشديد بحسب أصول الشرع وحكمة الحكيم الرحيم فيه، ومنهم من سوَّى بينهما، ولم يكتفوا بذلك، بل وضعوا بآرائهم أحكامًا جديدة في الربا ليس فيها نص من الشارع قطعي ولا ظني، ولا تتفق مع أصول الدين ولا حكم التشريع، ولا تعليل النص لتحريم الربا بقوله عز وجل: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) كقولهم إن علة الربا هي كون ما يتبايع به الناس مكيلاً أو موزونًا، فكثَّروا بذلك مسائل الربا وخرجوا بها عن محيط المعقول والمنقول معًا، فجعلوها من التعبديات التي لا تثبت إلا بنص صريح قطعي من الشارع وخالفوا بهذا أئمتهم وسلفهم الصالح الذين كانوا يتقون الجرأة على التحليل والتحريم بالاجتهاد والرأي لما ورد فيه من الوعيد الشديد في كتاب الله تعالى. قاعدة السلف في التحريم الديني قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل: 116) وقال عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59) وقال جل جلاله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) وقال تبارك اسمه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) يعني أن شرع الدين هو حق الله تعالى وحده حتى أن جمهور الأئمة المحققين على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرِّم على الأمة شيئًا برأيه، وأن ما ثبت عنه من تحريم شيء غير منصوص في القرآن فهو استنباط من القرآن بما أراه الله تعالى فيه بإذن الله له فيه بمثل قوله: {إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} (النساء: 105) وقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) مثال ذلك تحريمه صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح أخذه صلى الله عليه وسلم من تحريم الجمع بين الأختين لعلمه بأن علتهما وحكمتهما عند الله تعالى واحدة، وتحريمه الشرب والأكل في آنية الذهب والفضة أخذه من قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31) بجعل الإسراف فيما يلابس الأكل والشرب كالإسراف فيهما كما يظهر لنا، وأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن أكل ذوات الناب والمخلب من الوحش والطير المخالف لنصوص القرآن من حصر محرمات الطعام في أربع، فهو للكراهة لا للتحريم كما فصلناه في تفسير {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (الأنعام: 145) الآية فكل ما زاده الفقهاء على ما ذكر بقياس جميع أنواع استعمال الذهب والفضة على الأكل والشرب ينافي هذا الاستنباط على مخالفته للنص، فمن اعتقده فله أن يعمل به في نفسه؛ ولكن ليس له جعله حكمًا عامًّا للأمة، فيكون تشريعًا لم يأذن به الله، وهو مما عدَّه الله تعالى شركًا في آية (الشورى: 21) وفي معناها قوله تعالى في أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) روى أحمد والترمذي وابن جرير في حديث إسلام عدي بن حاتم وكان نصرانيًّا أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقال له: إنهم لم يعبدوهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (بلى إنهم حرَّموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم) وله ألفاظ أخرى، وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني اسرائيل؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف قول الأحبار، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى. وقال الرازي في تفسيره بعد ذكر هذا الحديث والأثر في الآية: قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت عن خلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريًا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا اهـ. وأقول: قد ذكرت في (رسالة اختلاف الأمة وسيرة الأئمة) التي بيَّنت فيها مزايا كتابَي المغني والشرح الكبير في الفقه الإسلامي، ثم جعلتها خاتمة لكتاب (يسر الإسلام وأصول التشريع العام) أن أئمة الأمصار وغيرهم من علماء السلف لم يكونوا يجزمون بتحريم شيء على سبيل القطع وجعله تشريعًا عامًّا إلا إذا ثبت عندهم بنص قطعي الرواية والدلالة، وأوردت الشواهد من سيرتهم في ذلك، ثم إنني وجدت نصًّا لفظيًّا صريحًا في الموضوع أعم مما ذكرت، وهو ما في كتاب الأم للإمام الشافعي رضي الله عنه فإنه قال في مسألة (سبايا الملك) من (كتاب سير الأوزاعي) ما نصه (ص319 ج7) . (قال أبو حنيفة رحمة الله تعالى: إذا كان الإمام قد قال: من أصاب شيئًا فهو له - فأصاب جارية لا يطؤها ما كان في دار الحرب، وقال الأوزاعي: له أن يطأها، وهذا حلال من الله عز وجل بأن - ولعله قال: فإن - المسلمين وطئوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصابوا من السبايا في غزاة بني المصطلق قبل أن يقفلوا، ولا يصح للإمام أن ينفل سرية ما أصابت ولا ينفل سوى ذلك إلا بعد الخمس؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة كان ينفل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث. (قال أبو يوسف: ما أعظم قول الأوزاعي في قوله: (هذا حلال من الله) أدركت مشايخنا من أهل العلم يكرهون في الفتيا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، إلا ما كان في كتاب الله عز وجل بينًا بلا تفسير. حدثنا ابن السائب عن ربيع بن خيثم وكان أفضل التابعين أنه قال: إياكم أن يقول الرجل إن الله أحل هذا أو رضيه، فيقول الله له: لم أحل هذا ولم أرضه، ويقول إن الله حرَّم هذا [1] ، فيقول الله: كذبت لم أحرم هذا ولم أَنْهَ عنه. وحدثنا بعض أصحابنا عن إبراهيم النخعي أنه حدث عن أصحابه أنهم كانوا إذا أفتوا بشيء أو نهوا عنه قالوا: هذا مكروه، وهذا لا بأس به، فأما أن نقول: هذا حلال وهذا حرام، فما أعظم هذا؟) اهـ. هذا ما نقله الشافعي عن أبي يوسف، ثم نقل عنه أن ما قاله الأوزاعي من حِل السبية فهو مكروه، وهو تفسير لقول أبي حنيفة (لا يطؤها ما كانت في دار الحرب) ولم يستحل أحدهما أن يقول: هذا حرام، وقد ردَّ الشافعي هذا القول وصحح قول الأوزاعي؛ ولكنه لم ينكر ما نقله أبو يوسف عن السلف في التحليل والتحريم؛ وإنما صحح قول الأوزاعي بأن دار الحرب لا تحرِّم ما أحلَّ الله من السبي والغنائم في أول سورة الأنفال وفي آية الخمس منها، ثم قال: (فإن الخمس في كل ما أوجف عليه المسلمون من صغيره وكبيره بحكم الله إلا السلب للقاتل في الإقبال الذي جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن قتل اهـ. وتراجع عبارته هنالك، فإنما غرضنا هنا أن الشافعي موافق مقر فيما يظهر لما نقله أبو يوسف من سيرة السلف في اجتناب التحليل والتحريم إلا ما كان في كتاب الله بينًا بنفسه لا يحتاج إلى تفسير، والشافعي ممن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل في الدين شيئًا إلا من كتاب الله تعالى، على أنه لا يضيره أن يخالفه هو أو غيره بالتحريم الديني بالقياس. فالحق أن القياس غير حجة في التعبديات ولا إثبات عبادة ولا تحريم ديني لم يرد به نص صريح من الشارع كما بيَّنا في التفسير وغيره ولا سيما كتاب (يسر الإسلام وأصول الشرائع العام) . وبهذا أخذ علماء الأصول في تعريفهم للفرض أو للإيجاب بأنه خطاب الله المقتضي للفعل اقتضاء جازمًا، وتعريفهم للحرام بأنه خطاب الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا، وقد مثلنا لهذا في تلك الرسالة وغيرها بأن آية البقرة في الخمر والميسر تدل على طلب تركهما دلالة ظنية راجحة؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعلها تشريعًا عامًّا موجبًا لتركهما على الأمة حتى إذا ما أُنزلت آيات سورة المائدة الصريحة في الأمر باجتنابهما تركهما جميع الصحابة رضي الله عنهم، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يعاقب من شرب الخمر، وكذلك خلفاؤه من بعده. (فإن قيل) إن ما ذكرت مخالف لقول جمهور علماء الامة من أن الأدلة القطعية إنما تشترط في العقائد وأصول الدين، وإن الأحكام العملية تثبت بالأدلة الظنية، وإ

نظرية داروين والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نظرية داروين والإسلام جواب إشكال ألقيناه في نادي الخطابة لجمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، وكنت أردت أن أكتب في موضوعه محاضرة طويلة فلما لم أجد فراغًا لذلك، اخترت نشره لأنه مفيد في موضوعه بالإجمال، وهذا نصه: أعطاني أحد الشبان في الليلة التي تكلمت فيها على مسألة القدر في موقفي على هذا المنبر ورقة وضعتها في جيب جبتي، ثم قرأتها بعد عدة أيام، إذ كنت نسيتها فإذا فيها مقدمة فيما يسمى مذهب داروين يتلوها بضعة أسئلة يرى كاتبها أنها من أقوى الحجج والبراهين القطعية الناقضة الهادمة لما عبَّر عنه (بنظرية الخلق الإلهي) والحق المقرر عند علماء الكون المحققين من المتلقين لمذهب داروين بالتسليم وغيرهم، أنه نظرية أو مجموع نظريات قابلة بذاتها للثبوت وللبطلان، أي بصرف النظر عما يعارضها من نصوص الأديان المستندة عند أهلها على أصول قطعية مؤيدة بالبراهين، ومن مذهب الروحانيين الذين لا يقتصرون في تعليل أمور الخلق والتكوين على سننن المادة ونواميسها وحدها. وأما خلق الله لكل شيء فليس مسألة نظرية إلا عند ملاحدة الماديين، وهم شرذمة قليلة من مجموع الشعوب، والسواد الأعظم من علماء الكون والفلاسفة وغيرهم من البارعين في جميع العلوم والفنون، ومن العوام السليمي الفطرة - يوقنون بأن للعالم خالقًا عليمًا حكيمًا، ويقيمون على ذلك الدلائل العقلية والعلمية اليقينية، والمِلِّيُون من أهل العلم والفلسفة يؤيدون بهذه الأدلة نصوص مللهم، وغير المليين منهم وهم قليل فريقان: أحدهما ينكر بعض نصوص الأديان، والآخر لا يثبتها ولا ينفيها، ومن هؤلاء عالم كبير من علماء الإنكليز نقل إلينا المقتطف عنه أنه سئل قبل موته: هل يؤمن بالإله الخالق؟ فقال ما معناه: ليس عندي أدنى شك في وجود إله للطبيعة؛ فإنه لا يمكن لعاقل أن ينظر في هذا الكون العظيم، وما فيه من دقائق النظام وعجائب الإبداع ويعتقد أنه وُجد بالمصادفة، أو أنه يستند إلى مبدأ ضرورة، فالمعقول الذي لا أعقل غيره أن للطبيعة - مادتها وقواها - خالقًا قادرًا ذا علم وحكمة - وربما قال: عاقلاً - وأما إله الكنيسة فليس عندي ما يثبته ولا ما ينفيه اهـ. ولقد سبق هذا العالم الإنكليزي إلى مثل كلمته في إثبات وجود الخالق عالم من كبار علماء الكلام في الإسلام، لا أذكر الآن أهو النسفي صاحب العقائد المشهورة أو غيره؟ قال: اتفق البشر على الإيمان بوجود صانع خالق للعالم ما عدا شرذمة قليلة ذهبت إلى أن وجود العالم أمر اتفاقي، وهو - أي زعمهم هذا - بديهي البطلان. وقد انقسم علماء الغرب في نظرية داروين إلى أنصار يؤيدونها بمقالاتهم ومصنفاتهم بمعنى أنها أقرب ما وصل إليه علم البشر من التعليل المعقول لاختلاف الأنواع ونظام الخلق، لا بمعنى أنها حقائق قطعية كالقواعد الرياضية لا يمكن نقضها، وكم نقض تقدم العلوم نظريات كانت مسلَّمة مثلها لأنها كانت أقرب ما عُرف في موضوعها إلى العقل - وإلى خصوم يردون عليها ويوردون الشكوك والاحتمالات في أصولها وفروعها، وقد كان الرجحان العلمي لأنصارها إلى عهد قريب، إذ دخل العلم المادي في طور جديد، واتسعت دائرة علم النفس، وكثر أنصار الروحيين الذين يثبتون بالاختبار ما أثبتته جميع الأديان من أقدم عصور التاريخ، من أن للبشر أرواحًا مستقلة لها أعظم التأثير في خلقهم وتكوينهم وعلومهم وأعمالهم. إنني بعد قراءة تلك الورقة ذكرت هذه المسألة في أول مرة حضرت هذا النادي، فلخصت المسألة وذكرت بالإجمال الموجز رأي علماء المسلمين فيها، وصرحت بأنني مستعد لإلقاء محاضرة مفصَّلة فيها، فكان أن إدارة جمعية الشبان المسلمين جعلت هذه الليلة موعدًا للمحاضرة بدون استشارتي، وطبعت ذلك وآذنتني به أول من أمس، وأنا في شغل شاغل عن المراجعة والتفكر في الموضوع، وعن كتابة ما ينبغي فيه؛ لأنه ليس من الموضوعات التي يكفي فيها الجواب عن الأسئلة التي كتبها صاحب الورقة، والجواب عنها في غاية السهولة، بل هنالك أصول وفروع تتعلق بها أهم من تلك الأسئلة أرى أن شبابنا في أشد الحاجة إلى تمحيصها، ولما أجد فراغًا في هذين اليومين لكتابة محاضرة حافلة كاملة؛ لذلك رأيت أن أكتفي الليلة بذكر نص الورقة المشار إليها، والأجوبة عن أسئلتها بالإجمال، وما لا يدرك كله لا يترك قله. نص الورقة (لقد غفل المسلمون واستهتروا بدينهم حتى تركوا الملحدين يأخذون منه مآربهم، وينالون منه ويتطاولون عليه بحججهم الناصعة الواضحة القوية يريدون هدم صرحه، أولئك الذين غفل عنهم المسلمون وتركوهم يعملون بنشاط حتى تغلبوا على الإسلام؛ وذلك مما دفعني لأن أقف موقفي هذا راجيًا من حضرة الأستاذ أن يُدلي بواضح حججه وبيانه مجيبًا على ما سأقدمه من الأسئلة، ولا أريد تخلصًا من الإجابة فقد تخلص مني الكثيرون لقلة اطلاعهم) . (هنالك نظرية علمية حديثة ظهرت في القرن الماضي وشاعت الآن في جميع أنحاء العالم لما لها من حجج وأدلة لا يمكن أن يخطئها أحد، تلك هي نظرية التطور التي تقول: إن جميع الأجناس ترجع إلى أصل واحد، قامت هذه النظرية وناقضت نظريتنا وهي نظرية (الخلق الإلهي) (1) هل خلق الله جميع الكائنات في عصر واحد أم استمرت عمليته إلى عصور متفاوتة؟ وهل لا يزال الخلق مستمرًّا؟ (2) ما معنى وجود حفريات جيولوجية مشابهة لحيوانات موجودة الآن مثل (أوفبوس) Evobeppus التي تشبه الحصان، والهومتدرتال التي تشبه الإنسان الحالي؟ وهل هناك صلة ما بين هذا الحصان مثلاً والحيوان الذي يشبهه مثل الصلة بين الحصان والبغل؟ (3) ما معنى وجود أعضاء في جسم الحيوان أو النبات لا وظيفة لها مطلقًا، بل قد تكون هذه الأعضاء مضرة في الإنسان أكثر مما تفيده؟ (4) ما معنى قدرة بعض الناس على حركة آذانهم وعجز الآخرين عن ذلك؟ (5) ما فائدة العضلات الصغيرة التي في نهاية الشعر؟ (6) لماذا يمر الجنين بأطور مختلفة من الحياة: تراه في حداثته جرثومة، ثم يصير مثل الأسماك، ثم مثل الزواحف.. إلى أن يصل إلى شكله النهائي؟ وهل هذا يدل على أن هناك علاقة بين الإنسان وتلك الحياة التي مر بها الجنين؟ وإن صح ذلك كان هذا أقطع دليل على صحة نظرية التطور. اهـ بحروفه. إنني قبل الجواب أنصح لإخواني وأبنائي في السن من السامعين - على حفظي لدرجاتهم في العلم والفضل - أن يكون غرضهم من السماع لما أقوله هو التعاون بيني وبينهم فيما أوتينا من علم وبيان على تحقيق ما بين هذه النظرية، وما بين نصوص ديننا من خلاف ووفاق على قاعدتنا التي نقررها دائمًا، وهي أن من معجزات الإسلام أنه قد جاء به نبي أمي مر على بعثته 13 قرنًا ونصف، ولم تقم حقيقة علمية قطعية تنقض نصًّا من نصوصه القطعية، ولا تنفي أصلاً من أصوله الاعتقادية، وإياكم ثم إياكم أن تعدوا الكلام الذي ألقيه من قبيل المناظرات العلمية أو المذهبية بين خصمين يكون هم كل منهما الظهور على خصمه، وتتبع عثراته ومؤاخذته في تقصيره، وسيعلم من لم يكن يعلم أنه ليس بين نظرية الخلق التدريجي ونصوص الإسلام تعارض حقيقي، كما يوجد بينها وبين نصوص التوراة، وأن اليهود والنصارى الذين يدينون لله تعالى بقداسة التوراة لم يكبروا أمر هذه النظريات ودلائلها كما كبرها حضرة الفاضل الذي كتب هذه الورقة، ولا عدُّوها قطعية ولا أبطلت ثقتهم بالتوراة. ولعله ما كبَّرها هذا التكبير إلا لحفز الهمة للعناية بها وإقامة الحجج البالغة على تأييد الدين الذي هو مناط سعادتنا في الدنيا والآخرة، بعد هذا أقول: (أولاً) إن الملحدين لم ينالوا من المسلمين ما نالوا (بحججهم الناصعة الواضحة القوية) كما قال، بل لأنهم يتلقون الكفر عنهم قبل أن يعرفوا الإسلام معرفة صحيحة، وبدون أن يتربوا عليه تربية عملية تغذي المعرفة الصحيحة، فمنهم من يتعلم ويتربى في مدارس دعاة النصرانية التي أُسست لأجل هدم الإسلام وتحويل أهله عنه إلى النصرانية أو إلى الإلحاد، وقد قال موسيو جول سيكار الفرنسي في كتابه الحديث (العالم الإسلامي في الممتلكات الفرنسية) ما معناه أن المسلم يتعذر أن يتحول عن الإسلام إلى النصرانية، فالطريقة المثلى لتنصير المسلمين إيقاعهم في الإلحاد والتعطيل أولاً؛ حتى إذا ما أصبحوا بغير دين وزال ما للقرآن من السلطان على عقولهم سهل حينئذ تنصيرهم؛ لأن البشر لا يستطيعون أن يعيشوا بغير دين. ومنهم من يتعلم في المدارس المصرية وأمثلها مدارس وزارة المعارف، وليس فيها من التربية الدينية شيء حتى أن الصلاة لا تُقام فيها، وقد قل من يصلي فيها حتى أن الذين يناط بهم تعليم الدين فيها وهم خريجو مدرسة دار العلوم صاروا يتركون الصلاة إلا قليلاً، ولا سيما الذين استبدلوا الزي الإفرنجي بالعمامة والجبة والقباء. (ثانيًا) إن الملاحدة ما تغلبوا على الإسلام كما قال، وإنما تغلبوا على بعض التلاميذ والأحداث من المسلمين الجغرافيين، فانتزعوهم من حظيرة الملية الإسلامية لما لهم في هذا من المقاصد الدينية والسياسية التي يجهلها هؤلاء التلاميذ وآباؤهم الأغبياء. (ثالثًا) إن قوله: إن الحجج والأدلة على نظرية التطور لا يمكن أن يخطِّئها أحد، مخالف للواقع، فقد خطَّأها كثيرون بحق وبغير حق. الأجوبة المجملة عن أسئلته أما السؤال الأول فجوابه أن النصوص تدل على أن الله تعالى خلق الخلق بالتدريج على نظام مقدر في علمه، مثاله أن الله تعالى قال في سورة الانبياء {أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} (الأنبياء: 30) الرؤية هنا علمية معناها أو لم يعلموا، والرتق المادة المتصل بعضها ببعض، وهي التي عبَّر عنها في سورة فصلت بالدخان، وهو اسم للمادة الرقيقة الخفيفة التي دون الماء ومنها بخار الماء ودخان النار وغيره مما يسمى في الاصطلاح العلمي بالسديم والغاز، ومنه قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الدخان: 10-11) . والفتق هو الفصل بين أجزاء المادة، فهذه الآية توافق رأي علماء الكون في هذا العصر كما هو ظاهر، ولم يكن رأيهم هذا مما يخطر في بال أحد من العرب الأميين، ولا من غيرهم في ذلك العصر، وهي جديرة بأن تُعَدَّ من معجزات القرآن العلمية عند الذين استنبطوا هذا الرأي من مباحث علمية دقيقة بعد بطلان نظرية قدماء علماء الهيئة من اليونان وغيرهم. وقد أخبر تعالى في آيات كثيرة بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، وفي بعضها زيادة {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ} (هود: 7) واليوم في اللغة العربية هو الزمن الذي يُعرف أو يُحد بوقوع شيء فيه طال أو قصر، وقد قال الله تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: 47) وقال: {تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج: 4) ومنه أيام العرب المشهورة في وقائعهم وحروبهم كيوم ذي قار ويوم أوارات ... إلخ، فالمراد بأيام خلق السموات والأرض عصور تم في كل عصر منها طور من أطوار خلقها وقد فصلت بعض التفصيل في سورة فصلت، وهذه الآيات تتفق مع مذهب النشوء دون نص التوراة الذي أذكره إن شاء الله

الانتداب في البلدان العربية

الكاتب: غوردون كاننج

_ الانتداب في البلدان العربية بقلم الكابتن غوردون كاننج آراء حرة حكيمة في إمكان الجمع بين مصالح الإنكليز والعرب ترجمت بالعربية، ونشرت في جريدة العهد الجديد البيروتية خادمة القومية العربية منذ أشهر، فاخترنا نقلها إلى المنار مع توجيه أنظار الدولة السعودية العربية إليها، وهذا نصها: كان من أعظم أسباب سقوط الإمبراطوريات القديمة إسراف القوة الرئيسية تدريجًا بالتوسع المطرد في الممتلكات، ونرى في عصرنا هذا أن الإمبراطورية الفرنسوية في خطر الانحلال لهذا السبب نفسه، إن مستشاري الإمبراطوريتين ويلوح أنهم من طراز قديم (سابق لتاريخ البشر) ممن لهم خبرة بفنون الحرب يصرحون أن الضرروة تقتضي بصيانة الممتلكات الموجودة بضم ممتلكات أخرى. معلوم أن زيت البترول بات من أهم مطالب العالم في هذه الأيام، فأصبحت موارده من الضرورات الأولية لكيان الدول العالمية، فالبترول إذا كان من العوامل التي اجتذبت إنكلترا إلى العراق وفلسطين وإيران التي اضطرت بحكم أحوال خصوصية إلى الانسحاب منها، ومتى كانت إنكلترة موطدة في العراق وفلسطين، ففرنسا لا يمكنها أن تتخلى عن بقعة مجاورة ترتكز إليها وتتخذها قاعدة لحماية مصالحها، وهذا ما بعث على عقد اتفاق (سيكس - بيكو) وتنفيذ هذا الاتفاق كان مضرًّا بالاتفاق الذي عُقد بين الملك حسين والحكومة البريطانية مع أنه كان في تاريخ سابق لاتفاق (سيكس- بيكو) ومما يدل على أن إنكلترة قد سلَّمت أنها حنثت (في يمينها ونقضت عهدها) مع الملك حسين أنها أوجدت عرش العراق للملك فيصل بعدما طردته السلطات الفرنسية من سورية. وقد أثر ذلك تأثيرًا سيئًا في سمعة إنكلترا وهيبتها في الشرق الأدنى والشرق الأوسط؛ لأن العناصر العربية أدركت أنها بيعت لمشترٍ أقوى وأقدر، فقد كانت مقتضيات مواصلة الحرب أهم من كل شيء، وفوق كل شيء حتى أن الشرف البريطاني ترك جانبًا وعُد من سقط المتاع، وكانت هذه الاتفاقات الحربية المختلفة هي السبب الأكبر الذي جعل معاهدة فرساي وغيرها من المعاهدات شؤمًا وهولاً وأسبابًا للقلق الحالي. والغاية من مقالتي هذه أن أقترح علاجًا لمسألة بلدان الانتداب في الشرق الأدنى والشرق الأوسط التي عانت هول تلك المعاهدات، وفي أي علاج يتناول مصالح عدة أمم لا يمكن لأية أمة منها أن تكون راضية كل الرضاء، ولا بد من مراعاة مبدأ الأخذ والعطاء من كل جانب. وللبحث في هذه المسألة لا أرى من الضرورة الدخول في تفاصيل إدارة شؤون بلدان الانتداب خلال السنوات الثماني الأخيرة؛ لأن هذه الوجهة من المسألة كانت موضوع البحث في عدة جرائد ومؤلفات، فالغلطات التعسة والأخطاء المحزنة التي ارتكبتها فرنسة وإنكلترة قد اعتُرف بها، وليست المصاعب التي جابهها كلاهما مما يستحق العطف؛ لأنها من المصاعب التي أوجدتها إنكلترا وفرنسا، وقد أصلحت إنكلترة جانبًا عظيمًا من أخطائها ولا سيما علاقاتها مع العراق، وأخذت فرنسا بإرشاد المسيو بونسو تحاول إصلاح عواقب إداراتها الوضعية في سورية. إن الغلطة الرئيسية التي ارتكبها كل من إنكلترة وفرنسة هي عدم العمل بمقتضى البند الثامن والعشرين من عهد جمعية الأمم، وقالت المس هويت في كتابها عن الانتداب ما يلي: (أما إذا كانت هذه الرغائب قد نفذت، فأمر مبهم غامض، وأما إذا كان هنالك لأولئك الناس رغائب جلية فأمر أغمض وأكثر إبهامًا، وبالحقيقة وواقع الأمر أن أهل بلدان الانتداب لم يُستشاروا) والأسلوب الذي اتبع في هذه البلدان في تقسيمها إلى دويلات أوجد على سطح الكرة الأرضية بلقانًا آخر، وهو أسلوب سقيم من الوجهة الاقتصادية نظرًا للتعريفات الجمركية بين تلك الدويلات وعرقلتها لحركة التجارة. وبلدان الانتداب المعروفة بحرف (أ) هي كما يلي: 1- العراق: وضع انتدابه في شهر إبريل سنة 1920، ووافقت عليه جمعية الأمم في سبتمبر سنة 1924، ويبلغ عدد سكانه ثلاثة ملايين نسمة. 2- سوريا: وضع انتدابها في شهر إبريل سنة 1920 ووافقت عليه جمعية الأمم في يوليو سنة 1922، ويبلغ عدد سكانها 000,250,2 من المسلمين، و000,40 من الدروز، و 000,400 من المسيحيين منهم 000,150 ماروني. 3- فلسطين: وضع انتدابها في شهر إبريل سنة 1920، ووافقت عليه جمعية الأمم في شهر يوليو سنة 22، ويبلغ عدد سكانها 000,75 نفس 87 في المئة منهم عرب. 4- شرقي الأردن: ويبلغ عدد سكانه 000,200 نفس. وفي شبه جزيرة العرب بلدان تحت الحماية البريطانية وهي عدن وعمان والكويت، وبلدان مستقلة وهي نجد والحجاز والعسير واليمن وحضرموت، ومجموع عدد سكان هذه البلدان كلها يتراوح بين خمسة عشر مليون نسمة (هي لا تقل عن 25 مليونًا) . أما إذا كان إصلاح الانتداب قد وُضع على قاعدة المثل الأعلى أو ابتُكر كمرادف للضم والتملك فليس من موضوع البحث في مقالتي هذه؛ ولكن الأرجح أن جانبًا عظيمًا من عدد السكان المبين آنفًا متحد في مطالبه ورغبته في التخلص من الوصاية الأجنبية وإن كان مختلف الأجزاء غير متفق على شكل الحكومة التي يجب أن تحل محل حكومة الانتداب أو دولة الحماية. فهل مقتضيات الإمبراطورية البريطانية تتطلب أن تكون إنكلترة في فلسطين والعراق وشرقي الأردن؟ وهل من الضروري أن تكون فرنسة في سوريا؟ إن جواب البلدين [1] هو (نعم) فإذا كانت إحدى الدولتين في سورية لابد أن تكون الأخرى في فلسطين والعكس بالعكس، وتقول إنكلترة: نعم لأدافع عن قناة السويس ضد مهاجميها من الشرق، ولأدافع عن مصالح بريطانيا في بترول الموصل والمحمرة، وتقول فرنسا: نعم لأدافع عن خط أنابيب البترول وسكة الحديد المزمع مدها إلى الموصل وبغداد ومن كل منهما إلى حيفا وهذه الفكرة الثانية لتنمية التجارة ومصالح الصناعات، ويتبعها ويترتب عليها الحماية العسكرية، وهكذا تظل الدول الأوربية الإدارية تثير كتلة متجمعة من الرأي العدائي في تلك البلاد التي قد تصبح بقوة الاتحاد قوة خطرة خطيرة، فالأفضل والحالة هذه الاعتماد على عقل سكان البلاد، وعلى عهد صداقة يقوم على قاعدة التعاون التجاري والكسب المتبادل. السبب الأول يمكن درؤه باتفاق متبادل يعقد بين إنكلترة وفرنسا للانسحاب في وقت واحد من سورية وفلسطين وشرقي الأردن، ولكن فرنسا تقول: محال عليَّ أن لا أحمي الأقلية المسيحية، ونحن نرى اليوم أن هذه الأقلية المسيحية هي أيضًا تطلب جلاء فرنسة عن البلاد. وتقول إنكلترة: إن ذلك مستحيل، لا يمكننا أن ننسحب وندع الإسرائيليين تحت رحمة العرب، والحال أن اليهود والعرب كانوا في عهد تركية عائشين معًا في وفاق تام، وأن تصريح بلفور هو سبب الاضطراب الحالي بين العرب واليهود وتأسيس هذا الوطن القومي لليهود لم يلق تعضيدًا حقيقيًّا من زعماء اليهود، فقد أيدوا الفكرة عن غير طيبة خاطر ماليًّا وأدبيًّا، ولم يوافقوا قط على فكرة مغادرة مَواطن إقامتهم للإقامة بذلك الوطن القومي. وكان معظم المهاجرين من اليهود القاطنين في شرقي أوربا الذين ذاقوا الذل والهوان، وعانوا الشيء الكثير من الاضطهاد والظلم، وقد برهنت الأيام على أن الصهيونية صناعة خائبة عقيمة وجناية سياسية، فالصهيونيون المقيمون الآن بفلسطين قد وُجدوا هناك بمساعي إنكلترة وجهودها، ولا بد من الاعتراف بهم وحمايتهم ومساعدتهم. يعتقد معظم الناس أن العرب يعجزون عن إظهار مقدرتهم بتقديم خطة إنشائية، وأما أنا فأعتقد أنهم قادرون، ليس بناء على تاريخ عنصرهم الماضي فقط، بل لما يحرزه أبناء العرب المهاجرون من النجاح الباهر في المراكز الصناعية والتجارية العصرية في بونيس أيرس ونيويورك وغيرها من أنحاء العالم المتمدن، وليس من الضروري الرجوع بالقارئ إلى الحكومات العربية السديدة الخطوات في العهود الغابرة، وحسبي أن أقول: إنه في القرن الثامن بعد الميلاد في عهد الخلفاء الراشدين [2] ببغداد كان في وسع التاجر المتجول أن يسافر من البصرة إلى دمشق مثقلاً بالسلع والنضار بغير أن يعتدي عليه أحد، وفي عام 980 ميلادية كان المسافر يقطع الشقة بين المهدية [3] والقاهرة بلا خوف ولا وجل من قطاع الطرق، فإذا كان العرب قد استطاعوا في تلك الأيام تأمين الطرق بهذه الكيفية فمن الأكيد المحقق أنهم قادرون على ذلك في هذه الأيام [4] ولا بد لنا من تسليم أنهم يحرزون هذه المقدرة بالإرث، ولكن هل يحرزون الإرادة والعزيمة على إظهار هذه المقدرة؟؟ إن على العرب أن يبرهنوا على ذلك الآن، ولا يكفي أنهم شديدو الرغبة في طرد المعلم من بلادهم فهذا لا يعدو سياسة الهدم؛ ولكن يجب عليهم أن يظهروا مقدرتهم على التعمير والإنشاء. أما فيما يتعلق بالمخاوف التي قد تتطرق إلى قلوب الإنكليز بأن الأقليات المسيحية واليهودية لا تطيق الأغلبية الإسلامية، فلا بد من قول شيء في ذلك: إن الأقليات المسيحية واليهودية كانت تُعامَل على الدوام خير معاملة في البلدان الإسلامية إلى أن تأتي دولة أوربية وتستخدم تلك الأقليات لقلب الحالة كما حدث في مسألة الأرمن والأتراك [5] ، نعم إنه في الأنحاء البعيدة المنعزلة من العالم الإسلامي قد لا يخلو الأمر من تعصب ضد المذاهب الأخرى؛ ولكن هذا كان كذلك بين مختلف الطوائف المسيحية، على أن زعماء العرب في هذا العصر وفي العصور السابقة كانوا دائمًا يعملون على تلافي هذا التنافر وإصلاح ذات البين، فإذا كان التعصب الديني قد أخذ مجراه في زمن من الأزمنة فقد كان المسلمون من غير مذهب الحاكم ينالهم من الاضطهاد ما ينال المسيحيين، ومن الواجب أن تتخذ مبادئ نجران كالمثل الأعلى للزعيم المسلم، وكلمة الإمام علي: (إن دم الذمي كدم المسلم) هي أيضًا خير مثال. واليوم نرى الموارنة في لبنان والمسيحيين العرب في فلسطين ومسلمي الشام وفلسطين والعراق قد أخذوا يُعرضون عن الفوارق في المذاهب والعقائد، ويجنحون إلى المثل الأعلى والمذهب العميم، وهو أننا جميعًا إخوان في الإنسانية، وأول خطوة في هذا السبيل هي السعي إلى توحيد بلاد العرب، وقد أخذ أبناء العرب المثقفون المتنورون في هذه الأيام يتطلعون إلى هذه الغاية، ويبثون الدعوة إليها في عدة أنحاء، وزعماء العرب أدرى مني بالمنهج الذي يجب أن ينهجوه للحصول على الوحدة العربية والتخلص من وصاية الأجنبي والتقدم الحثيث في التعاون مع خير الطبقات الأوربية، وإني أقترح ما يلي على سبيل التجربة: أولاً - المبادرة إلى عقد مؤتمر في القاهرة يُدعى إليه مندوبون من جميع البلدان العربية. ثانيًا - ينتخب هذا المؤتمر مجلسًا دائمًا يكون مقره في القاهرة أو جدة أو الشام (ولما كانت القاهرة مركزًا حسنًا تتوفر فيها أسباب المواصلات مع جميع بقاع الأرض العربية قد تكون لائقة لأن تصبح بمثابة جنيف للغرب) . ثالثًا - على هذا المجلس الدائم أن يظل على اتصال وثيق بالبلدان العربية، وأن يعمل على عقد مؤتمر كل سنة أو سنتين. رابعًا - على هذا المؤتمر السنوي أن يتخذ الإجراءات اللازمة لإيجاد اتحاد عربي، وأن ينتخب زعماءه ويتفق على زعيمه الأكبر. خامسًا - تكون مهمته توحيد الأمة العربية ببث دعوة مبنية على الفطنة والحصافة. سادسًا - يجب وضع خطة للتعليم تمكِّن كل دولة في خلال الخمس عشرة سنة المقبلة من الحصول على سبيل مطرد من الشبان المتدربين على فن الإدارة الحكومية والعلوم والفنون والشؤون الصحية وما إل

مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات (في كلية الحقوق من الجامعة المصرية) - 3 - رأي الآنسة هانم محمد نهضت الآنسة هانم محمد الطالبة في كلية العلوم لتأييد الأستاذ محمود عزمي في وجوب المساواة [*] ، فصفق لها الجمهور تصفيق الترحيب والتكريم، فشرعت في قول كان مكتوبًا واضطرت إلى الخروج عنه أو الزيادة فيه للرد عليَّ، فكانت مظهر الأنوثة المهذبة في خشوع الصوت ولين القول وضعف الحجة، وحكاية الأقوال المشهورة في الموضوع، كقولهم: إن النساء نصف الأمة، فإذا مُنعن من العلم والعمل كالرجال كان هذا المنع قضاء على نصف الأمة بالشلل، وحينئذ يتعذر عليها العمل، وضربت مثلاً قول الغربي للشرقي: (محال يا صاحبي أن تلحقني وأنا أسير إلى المحطة متكئًا على ذراع زوجتي، وأنت تسير حاملاً زوجتك على ظهرك) . واحتجت أيضًا بمساواة نساء الفلاحين لرجالهم في جميع الأعمال الزراعية، ومثل هذا وذاك ليس في شيء من وجوب المساواة التي هي موضوع المناظرة، وإن أُخِذ على ما صوَّرته به، فجُعل من القضايا المسلّمة، فالآنسة كانت بحالها ومقالها وجدالها آية بينة على تفاوت استعدادَيْ الذكر والأنثى وعدم جواز تساويهما في جميع الحقوق والواجبات. وأحسن ما قالته بداهة، وألطفه في الجدال موقعًا، وأدله على ثبات الجأش وتعود محاورة الرجال كلمة لها أزالت بها سوء تأثير كلمة قبلها استنكرها السامعون منها فابتدروها يتنادرون عليها، فصاح بهم رئيس الجلسة صيحة منكرة ورفع عقيرته بعذلهم والتثريب عليهم، وإننا نشير إلى هفوتها ألطف إشارة، ليدرك القارئ حسن موقع تلك العبارة. ذلك أنها أرادت أن تحتج على وجوب المساواة في الحقوق والواجبات بالمساواة في القوة والحواس والملكات، فذكرت المساواة في الأعضاء، بعبارة ساذجة تسيغها غرارة العذراء، دون أبناء البلد من الأدباء، إلا أن تكون بحضرة النساء، وكأن الذين اضطربوا لها، وتهامسوا يتنادرون عليها، قد راعوا عقيدتها ومذهبها في مساواتهم، فجعلوها كواحد منهم؛ ولكن رئيس الجلسة خالفهم في ذلك واشتد في الإنكار عليهم كما تقدم، وهذا دليل على أنه لا يرى وجوب المساواة المطلقة ولا جوازها. وبعد أن سكنت الزعازع، وسكت المنازع، جهرت الفتاة بكلمتها ملقية إياها بهدوء وسكينة وهي (لو كنتم معتادين على الاختلاط لما حدث مثل هذا الضجيج) وإنما يصح هذا القول في الرجال الذين اعتادوا مخالطة النساء وهم يعتقدون أن ما بينهم وبينهن من الفرق - بل الفروق - في المدارك والعواطف وغيرها لا يبيح لهم من الحرية في حضرتهن ما يستبيحونه عادة فيما بينهم، ولعمري إن الرجل الذي يتفق له حضور مجلسهن وهو غير معتاد له لأجدر بالأدب والحياء فيه من غيره؛ وإنما ترجُّل المرأة ومزاحمتها للرجل فيما يعده من خصائص الرجال هو الذي يُذهب كرامتها النسائية من نفسه حتى يظهر ذلك في معاملته لها، وقد حدَّثونا عن ظهور هذه المعاملة لهن في أوربة في هذا العهد الذي قوين فيه على مباراة الرجال في الكسب، وزاحمنهم بالمناكب بما اضطرتهم إليه ضرورات الحرب، وللضرورات أحكام تُقَدَّر بقدرها، ولا يجوز أن تتجاوزها فتُجعل أصلاً دائمًا. كتب بعضهم مقالاً في استقلال المرأة الغربية الاقتصادي الذي انتزعت به حق الاستقلال السياسي، فصارت ترى نفسها مساوية للرجل في كل شيء قال فيه: (يدهش الرجل الشرقي منا إذا زار أوربة، وكان يسمع أن المرأة عندهم محل كل تبجيل واحترام- يدهش إذ يرى في قطار مزدحم امرأة تفتش عن محل خال فلا تراه، والرجال من دونها قعود لا يخلون لها محالهم) أي خلافًا للمعهود معهن من قبل ولا يزال معهودًا عندنا من إيثار الرجل المرأة على نفسه في مكان جلوسه. ثم إن الآنسة طفقت تردُّ عليَّ حتى في إنكار سباحة النساء مع الرجال ورقصهن معهم، وكان خيرًا لها لو لم تفعل، بل كان خيرًا لها وأليق بها أن تقول: إن هذا إسراف من الفريقين في الشر، ونحن إنما نريد المساوة في العلم الصحيح والعمل النافع للأمة، وإن أطلقته وجعلته عامًّا. وأما الطلاق فقد ذكرتْ في الرد عليَّ أن الرجل كثيرًا ما يرسل إلى المرأة كتاب طلاقها وهي لا تدري له سببًا، وأنا لا أنكر وقوع هذا وقبحه؛ ولكني أقول لو أعطيت المرأة حق الطلاق أيضًا، وهي أكثر من الرجل انفعالاً وأسرع هربًا مما يسوء إذا استطاعت إليه سبيلاً - فإن هذا الطلاق القبيح الضار يتضاعف أضعافًا، وهو مخرب البيوت، ومقطع سلك النظام. رد شوكت أفندي التوني ولما انتهى وقت الآنسة هانم محمد نهض الشاب الأديب شوكت أفندي الطالب في كلية الحقوق فاستقبله الشبان بتصدية الفتوة والقوة؛ لأنه من أفصحهم لسانًا، وأقواهم جنانًا، فاستهل رده عليها بأسجاع فصيحة بدأها بذكر ما كان من عادته وآدابه في تكريم النساء ومقابلته لمن تلقاه منهن بالاحترام والود، ونثره بين يديها زهر النرجس وورق الورد (وكأنه ذكر ورقه دون زهره اجتنابًا لشوكه وإن كان هو نفسه شوكة وردية) وأنه لما رآهن قد شببن عن طوقهن، وخرجن من قرارة ضعفهن وضؤولتهن، اضطر أن يصارحهن بحقيقة حالهن. وما كاد ينطق بهذه الألفاظ حتى استشاط الرئيس غضبًا، وألقى عليه من سماء الرياسة شهبًا، وحرَّم عليه أن ينطق بمثل هذه الألفاظ التي تخدش منهن ملمس الكرامة، فاعترض عليه كثير من الشبان، وعدُّوا هذا المنع تحكمًا منافيًا لحرية الكلام! فأجاب بأنه يحترم الحرية كل الاحترام، بشرط أن لا تمس الكرامة، وتعد من الإهانة. ثم عاد الخطيب إلى سياق دفاعه، مصرحًا بطاعته لحضرة الرئيس في أسلوبه مع إصراره هو على رأيه، وطفق يرد على الدكتور عزمي أولاً فبيَّن أن العلماء والأطباء متفقون على أن المرأة أضعف من الرجل جسمًا وعقلاً وأعجز عن إتقان الأعمال ولا سيما الشاقة، وأن النابغات منهن لا يبلغن شأو النابغين من الرجال ولا يقربن منهم، ولما شرع في التفصيل بدأ بذكر من تولين الملك والحكم، فعارضه الرئيس بما بدأ به من وصف مذموم لهن، رأى أنه لا يليق ذكره في ذلك المجلس الذي يحضره جماعة العقائل والأوانس، وهذا مبني على عدم جواز المساواة بين الرجال والنساء، فهو يتضمن ترجيحه لرأينا، وإن استنبط بعض الحاضرين من جملة مسلكه أنه كان علينا لا على الحياد، وقد كلمني بعضهم في ذلك فلم أوافقه عليه، فانا موافق للرئيس شعورًا ووجدانًا على تقييد حرية اللسان في مجالس النساء، بحيث لا يُذكر فيه كل ما يُذكر عادة في مجالس الرجال، وإن كان النساء يقبلن مثله وأكثر منه في مجالسهن الخاصة. وأرى مع هذا الشعور الذي مكَّنته في نفسي التربية والعادات أن النساء اللواتي يدّعين مساواة الرجال ويناظرنهم في ذلك ويزاحمنهم بالمناكب، لا يكرهن أن يقال على مسامعهن كل ما يقال على مسامعهم، وأن من تكره منهن ذلك أو ترى فيه امتهانًا لها لا ينبغي لها أن تكون مترجلة ولا طالبة مساواة، ولا تعذر في مطالبة الرجل بهذا الأدب معها، ولا في لومه على تركه وحسبانه إهانة لها. وجملة القول إن شوكت أفندي ما جاء شيئًا فريًّا في مناظرته، ولا خرج عن حد المعقول في نظريته، ولا تعدى قوانين علمه (الحقوق) في مرافعته، وإنما خالف فيها شعور الذين يبالغون في التفرقة بين الرجال والنساء، ومذهب الذين يحرِّمون تمزيق الحجاب بينهما ولا يبيحون المخالطة المطلقة حتى في الرقص والسباحة والسياحة والخلوة عملاً بحكم الدين فيهن، وصيانة لأمزجتهن الرقيقة وعواطفهن الدقيقة عن مهاب الأهواء التي يخشى عليهن من عواقبها ما هو شر وأدهى وأمر مما يخشى على الرجال، وإنما خالف هذا الشعور وهو من أهله، وخرج عن جادة هذا المذهب وهو مذهبه ليقنع طوالب المساواة المطلقة وأنصارهن، أنها شر لا خير لهن، وأن أنصارهن لا يطيقون احتمال عواقبها فضلاً عنهن، وإلا فلماذا أنكروا على جمهور الشبان انتقاد هفوة الفتاة وهم يعترفون بأنها هفوة، ولم يعذروا الفتى فيما أداه إليه اجتهاده من جفوة؟ وأختم هذا الوصف الإجمالي للمناظرة بانتقاد لجنة المناظرات في الجامعة على تقصير وقت المتناظرين في الموضوعات الكبيرة، ذات القضايا الكثيرة، مع عدم حصر الموضوع وبيانه لكل منهما قبل الدخول فيها، وقد اضطر الرئيس الحافظ للنظام في مناظرتنا إلى منع السامعين من بيان آرائهم في تأييد كل منا لضيق الوقت، وضياع طائفة كبيرة منه في الإخلال بالنظام، وسأتكلم في سائر فصول هذا المقال في تفصيل ما أجملت من المسائل كما وعدت. - 4 - تأثير المناظرة والآراء فيها لخَّصت في مقالاتي الثلاث الأولى ما دار في مجلس المناظرة، ثم عرض لي من الشواغل ما صرفني عن الشروع في التحقيق التفصيلي الذي اقترحه علي بعض طلاب الجامعة النجباء، ولا سيما طلاب كلية الحقوق منهم، وقد زارني في هذه الأيام بعض الأفاضل من أستاذي المدارس الثانوية والعالية وغيرهم شاكرين ومهنئين بالفلج والظفر في نصر الحق على الباطل، والدين على الإلحاد، ومستحسنين لنشر الموضوع في جريدة كوكب الشرق، ومقترحين لنشره في المنار أيضًا، وجاءتني مكتوبات وبرقيات في ذلك في بعضها إطراء لي وإغراق في الطعن والزراية على مناظري، ورأيت من المتكلمين معي في ذلك من يعتقدون أن هذه المناظرة كانت ممالأة مدبرة من دعاة الإلحاد والإباحة على الدين ورجاله، أعدوا لها عدتهم، ولم يخبروني بها قبل موعدها بيوم واحد إلا لأخذي على غرة حتى لا أجد وقتًا للاستعداد، ولا للاستشارة، ولا لدعوة من أعلم أنهم على عقيدتي ورأيي، وهذا خلاف للمعروف والمألوف وللأدب أيضًا، وأنه لولا (طيبة القلب) لما قبلت، وأنه كان ينبغي لي أن أدعو إخواني وتلاميذي لحضور المناظرة لتكثير الأنصار وإن كان الوقت الذي أُعطي لي قصيرًا لا يتسع لرؤية كثير منهم أو مخاطبتهم بالتيلفون - وأن أشترط إخراج الفتاة من المناظرة ... إلخ. قلت لأخلص أصدقائي من هؤلاء الذين كلموني في مكتبي: أما إجابة الدعوة بالقبول فلم يكن منه بدٌّ ولا عنه مندوحة بعد طبع اللجنة لرقاع الدعوة ونشر خبرها في الصحف، لما يتوقع لردها من سوء التأويل، وكثرة القال والقيل. وأما ما ذكرتم من التدبير والسعي من جماعة الملاحدة فمعقول، ومن دلائله ما علمته علم اليقين من توزيع بعض أركانهم لرقاع الدعوة على من يختارون قبل أن أراها وأن أعلم بموضوعها وموعدها، ومن براهينه ما صرَّح به مناظري بعد انتهاء المناظرة لبعض أصحابه من أن فلانًا - من غلاة دعاتهم إلى ترك الشريعة الإسلامية - هو الذي لقّنه ما قاله في مجلس المناظرة من أن بعض علماء الإسلام - ويعني نفسه - يقولون: إن جميع أحكام المعاملات الشرعية يجوز للمسلمين تركها إذا رأوا ذلك من مقتضيات الزمان والمكان، وأما الذي لا بد منه في الإسلام فهو العبادات فقط، ولا يبعد أن يكون من آيات ذلك أنهم لم يرسلوا لي إلا عشر رقاع من رقاع الدعوة، بناء على أن حضور المناظرة مباح لا يتوقف على حملها، وقد أعطيت بعضها لبعض من قبل من أعضاء مجلس إدارة الرابطة الشرقية عندما أُلقيت إليَّ (وعلمت أن بعضهم كان يحمل طائفة منها! !) وبقي سائرها عندي إلى الآن. هذا وإنني بعد أن عدت من نادي الرابطة الشرقية إلى الدار رأيت فيها ورقة من بعض طلبة الأقسام العالية في الأزهر الشريف يطلبون مني أن أضع لهم في مكتبة المنار طائفة كبيرة من تلك الرقاع ليحض

تفسير الشيخ طنطاوي

الكاتب: طنطاوي جوهري

_ تفسير الشيخ طنطاوي حضرة الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا صاحب المنار: قرأت ما كتبتموه تحت عنوان (تفسير الشيخ طنطاوي جوهري) وشكرتكم على حسن ظنكم بما أفضتم من الثناء كقولكم ويعتقد بحق أن المسلمين ما ضعفوا وافتقروا واستعبدهم الأقوياء إلا بجهلهم العلوم ... إلخ) . فهذا بعض ما أشكركم عليه؛ ولكني لا يتسنى لي أن أغض الطرف عما جاء مخالفًا لما ذكرتم كقولكم (إنه لا يعول عليه في حقائق التفسير فإنه إنما يذكر شيئًا مختصرًا منقولاً من بعض التفاسير المتداولة ... إلخ) ما ذكرتم بعدما قلتم (ويعتقد حقًّا أن الإسلام يرشدهم إلى العلوم، بل يوجبها عليهم) وقلتم: (وجملة القول أن هذا الكتاب نافع من الوجهين اللذين أشرنا إليهما في أول هذا الجواب وصاحبه جدير بالشكر عليه والدعاء له) . وإذن أقول: يظهر لي أن الأستاذ إذ جمع بين الثناء والنقد رمى لثلاثة أغراض (الغرض الأول) أنه يهيج بالأول أذكياء الأمة وعقلاءها لقراءته (الثاني) أنه يثير بالنقد حمية الجامدين الذين هو يجاهدهم إذ يطمعون أن يجدوا فيه مواطن ضعف أو نقص فيقرأوه وتكون النتيجة انتشار العلم عند الطائفتين لأن الحقيقة يخدمها الضدان مَن هو لها ومن هو عليها. (والغرض الثالث) أن يحثني أن أكتب في المنار مقاصد الكتاب بدليل أنه صرح فيه بأنه ما قرأ إلا بعض أوراق في بضع دقائق. ولا ريب أن الذي انتشر الآن من تفسير الجواهر خمسة عشر مجلدًا انتهت إلى آخر سورة السجدة، فإذن وجب عليَّ أن أبين ما في الكتاب، فإذا وسع المنار ما أسطره في صحائفه كنت شاكرًا للأستاذ؛ ولذلك أقول: إن صاحب الدار أدرى بما فيها، والضيف الذي لا يمكث فيها إلا بمقدار زمن يشرب فيه الشاي له العذر فيما يصفها به؛ ولذلك أقول: إن طريقتي في التفسير أن أقسم كل سورة أقسامًا كل قسم منها تذكر آياته أولاً مشكلة، ثم أقفي بالتفسير اللفظي ملخصًا مستوفيًا مفصِّلاً جميع الأحكام وهي قليلة في القرآن ومبينًا التفسير المأثور، وقد نبذت خلاف الفرق الضالة والجدل الممقوت، فهذا لا سبيل إليه؛ لأنه ضياع لوقت هذه الأمة، بل أوفق بين الأقوال بقدر طاقتي، ولست أذكر من الإعراب إلا ما تمس الحاجة إليه بأسلوب يوافق ذوق العقلاء المسلمين في زماننا، وعدلت عن الطريقة العتيقة إلى طريقة مدرسية صالحة لفهم المسلمين؛ وإنما نهجت هذا المنهج ليكون الأسلوب سهلاً يسر القارئين، لا معقدًا يقعد بهمم الكثيرين. ثم بعد ذلك التفسير لكل قسم أُبيِّن ما يشير إليه من الحقائق العلمية الصادقة وأُبيِّن كيف يكون تكذيب الخرافات ليرتقي الشعب الإسلامي مراقي الفلاح؛ وإنما اخترت ذلك ليأخذ كل قارئ من التفسير ما شاء، فمن شاء التفسير المتداول فلديه خلاصته منقاة مصفاة، ومن أراد العلم وجماله فإنه يجده في مكان خاص غير ملتبس بالتفسير اللفظي. وأنا أحمد الله عز وجل إذ وفقني أن أُبيِّن للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن العلوم التي غفل عنها المتأخرون، وامتلأت بها الأقطار ونبذها المسلمون وكرهوها - ظنوها ضد الدين، وهذه هي المصيبة الدهياء التي حلت بديار الإسلام كما ذكره الأستاذ ووافقني عليه، أليس هذا بعينه هو فقه التفسير؟ أفلم يقل بهذا المتقدمون مثل الإمام الغزالي ونصه (أن من زعم أنه لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه، وهو مصيب في الإخبار عن نفسه؛ ولكنه مخطئ في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه، بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعًا لأرباب الفهم، قال علي رضي الله عنه: (إلا أن يؤتي الله عبدًا فهمًا في القرآن) فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم؟ وقال أيضًا: إنه صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس رضي الله عنهما (اللهم فقهه في الدين، وعلِّمه التأويل) فإن كان التأويل مسموعًا كالتنزيل ومحفوظًا مثله فما معنى تخصيصه بذلك؟ وقال أيضًا: أعظم علم القرآن تحت أسماء الله عز وجل وصفاته، إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إلا أمورًا لائقة بأفهامهم، ولم يعثروا على أغوارها، وأما أفعاله فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها. إلى أن قال: ولهذا إذا قرأ التالي: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} (الواقعة: 63) {أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ} (الواقعة: 58) {أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} (الواقعة: 68) {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ} (الواقعة: 71) لا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمني فليتأمل في المني، وهو نطفة متشابهة الأجزاء، ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى اللحم والعظم والعروق والكبد والعصب، وكيفية تشكيل أعضائها بالأشكال المختلفة من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها، ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها، ثم إلى ما ظهر منها من الصفات المذمومة من الغضب والشهوة والكبر والتكذيب والمجادلة. إلى أن قال: فليتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى أعجب العجائب، وهو الصفة التي صدرت منها هذه الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى الصنعة فيرى الصانع، إذًا أقول: لقد استُوفيتْ هذه المباحث وأمثالها في التفسير واضحة بالصورة الشمسية ظاهرة للعيان مورثة لليقين. ثم ذم من يقتصر من فهم ملكوت السموات والأرض على أن يعرف لون السماء وضوء الكواكب، فقال: وذلك مما تعرفه البهائم ... (وأقول: حرام علي أن أسمع هذا القول، ولا أرفع هذا العار والجهل عن هذه الامة التي هي خير أمة أخرجت للناس) . ثم قال: ولله تعالى في ملكوت السموات والأنفس والحيوانات عجائب يطلب معرفتها المحبون لله تعالى؛ فإن من أحب عالمًا فإنه لا يزال مشغولاً بطلب تصانيفه اهـ. وقال أيضًا رحمه الله تعالى: إنه لم يقصر بالخلق عن شكر النعمة إلا الجهل والغفلة عن معرفة النعم، ولا يتصور شكر النعم إلا بعد معرفتها، ثم إنهم إذا عرفوا النعمة ظنوا أن الشكر عليها أن يقول بلسانه الحمد لله، الشكر لله ... إلخ) . أنا لا أود أن أطيل النقل فأكابر العلماء المتقدمون في القرون الأولى لما رأوا صغار علماء زمانهم ليس لهم إلا حفظ الروايات والجدل والفتاوى والاقتصار على علم الفقه، وأنهم اتخذوه سُلمًا لتولي القضاء والإفتاء في ذلك الزمن - تبرءوا منهم وأخذوا يقولون للمسلمين: كلا أيها المسلمون، إن هؤلاء يقصدون الدنيا، هم طلاب مال، لا تقفوا عند حدهم. هنالك اجتمع صغار العلماء وكادوا لهم، وسلَّطوا عليهم ضعاف الملوك حسدًا وبغيًا، فأمر الخليفة العباسي في بغداد رجلاً يُسمى (ابن المارستانية) فأحرق كتب الفلك والنبات والحيوان وغيرها في الرحبة ببغداد، فأزال الله مُلك أولئك الجاهلين بدخول التتار لما جهلوا علوم القرآن. ولما حسد علماء المغرب الإمام الغزالي إذ انتشرت كتبه في بلادهم أيام حكم المرابطين - أمر علي بن تاشقين فأحرق تلك الكتب، فمزَّق الله ملكهم وخَلَفَهم الموحدون، فلما أمر الله بغروب شمس الدولة لهؤلاء أيضًا في القرن السادس نفى أميرُ المؤمنين العلامة ابن رشد لأنه قال: أيها المسلمون هذه العلوم يطلبها القرآن وهي تفسير لآياته، فحسده فقهاء زمانه فصار الأمير يقرأ كتبه سرًّا ويأمر جهرًا ألا تُقرأ، فلهذه الأسباب نشر تلاميذ ابن رشد بعد اضطهادهم هذه العلوم في ألمانيا أولاً ثم في سائر أوروبا وصارت بلاد الإسلام قفرًا منها وحوشًا يبابا (اقرأ ما كتبه العلامة سديو الفرنسي والأستاذ سنتلاته التلياني: الأول في كتابه خلاصة تاريخ العرب، والثاني في كتابه تاريخ الفلسفة العربية) . ومن عجب أن دولة العباسيين بالمشرق، ودولتي المرابطين والموحدين بالمغرب كانوا على وتيرة واحدة، فهم جميعًا في أول الدولة أحرص الناس على العلوم فترتقي الدولة، وفي آخرها أزهد الناس فيها فيزول الملك، تشابهت قلوبهم، ومثلهم في ذلك دولة الترك البائدة كما جاء في كتاب كشف الظنون نقلاً عن رسالة الخبايا في الزوايا. يقول طنطاوي الذي احترق فؤاده أسفًا على الأمة المحمدية: لقد قرأت هذا التاريخ في كتب مختلفة، فتقطع قلبي أسى وحسرة، وعرفت أن الناس يسارعون إلى الجهل كابرًا عن كابر، وهم يتلاحقون غافلين، ويظن قوم أن العلم شيء والدين شيء آخر، وهذا جهل فاضح، وهذا هو الذي جعل المسلمين - في مصر وفي غير مصر - أقل الأمم علمًا بهذه العلوم، فالمتعلمون من المسلمين القراءة والكتابة في بلادنا يُعدُّون على الأصابع في كل قرية من القرى، وهذا لأن وعاظنا لم يحثوهم على ذلك كما يحث الواعظون من الأمم الأخرى في سائر الأقطار، ولقد وفقني الله عز وجل وسهَّل لي تعلم هذه العلوم في المدارس أولاً، ثم قرأتها في كتب عربية، وأخرى أجنبية، أفلا يجب عليَّ نشرها؟ ألم يكن ظهور التصوير الشمسي آية كبرى في زماننا؟ حتى تمكنت به من إظهار عجائب تشريح الإنسان وتبيان الأعضاء الباطنة مصورة كالكبد والطحال والبنكرياس، وهكذا عجائب النبات وإلقاحه المصوَّر المفسِّر لآية {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (الذاريات: 49) وآية {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) وبهذه الصور ظهر في تفسير الجواهر معجزات جمة في هذا الزمان مصداقًا لقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} (العنكبوت: 51) أفلا ترى صورًا جميلة من العجائب في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم: 22) بكسر اللام، فإن هذه لم تظهر حق ظهورها للخاصة إلا في هذا الزمان. ومن ذا كان يظن أن جبال الثلج تظهر مرسومة في الجو ومعها الطيارة في زماننا، وترسم في الجواهر تفسيرًا لقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} (النور: 43) وقد كان المفسرون قبلنا يؤولونها، أليست هذه معجزة إسلامية لم تعرف عيانًا إلا الآن في تفسير الجواهر؟ أليس هذا وأمثاله من أسرار القرآن كانت خافية فظهرت؟ فأنا أحمد الله وأقول: وجب عليّ نشرها، وعلى كل من قرأ هذا التفسير. ولما رأى المسلمون في الأقطار صور النبات وأوراقه الموضوعة وضعًا هندسيًّا بدرجات محددة، مرسومًا على هيئة دوائر أفقية تارة، ورأسية تارة أخرى لآية {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} (الحجر: 19) ورأوا الوزن ظاهرًا في الكيمياء العضوية للذرات الداخلة في تركيب النبات في جداول موضحة في (الجواهر) طلبوا المزيد من هذه العجائب، فهل يتسنى لي أن أنام عن نشر هذه العلوم التي أنعم الله عليَّ بها، وجعل أفئدة من المسلمين تهوي إلى تفسير الجواهر، ووفقني أن أكون على منهج السلف الصالح، وأن أكسر هذا الجمود المخيم على العقول وأتباعد عن المناقشات اللفظية والمجادلات المخزية التي انحطت بها المدارك في الأمم الإسلامية، وأن أفسر القرآن باليقين لا بالظن، ولا أضيع على المسلمين أوقاتهم بتضارب الروايات، وأن أرجع بالأمة إلى سبيلها أيام مجدها وأنا واثق بما أقول؟ وإذا لم يكن هذا أسرار القرآن وفقه القرآن فهل يكون فقهه في آيات الفقه المعروف وحدها، وما هي إلا مائة وخمسون آية من نحو ستة الآف؟ كلا والله كلا، الفقه علم واحد، والعلوم تُعَدُّ بالعشرات موزعة على آي القرآن وتركها يجعل جميع المسلمين آثمين. إني إذا ما كتمت هذا العلم خو

عيد الجلوس لملك الحجاز ونجد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عيد الجلوس لملك الحجاز ونجد احتفلت الحكومة الحجازية والشعب الحجازي في شهر شعبان الماضي بذكرى مبايعة الحجاز للملك عبد العزيز آل سعود احتفالاً رسميًّا دعيت إليه كبرى صحف مصر اليومية، فأرسلت كل منها مندوبًا من محرريها إلى الحجاز حضر الاحتفال، وعاد ينظم عقود الثناء على ما رأى وسمع في جدة ومكة من الإصلاح المدني والديني، وعلى شمائل الأمير فيصل نائب ملك الحجاز (والده) وفضائله، وقد كان هذان الثناءان اللذان اتفق فيهما أولئك المندوبون الذين تختلف آراؤهم ومذاهب جرائدهم في كل شيء ذا قيمة عظيمة وتأثير حسن جدًّا في مصر، وفي قراء هذه الجرائد في غير مصر بالطبع بسبب الاتفاق من المختلفين في الرأي والسياسة عليه من ناحية، وعدم شبهة المصانعة والمداهنة من الناحية الأخرى، فكان من الدعاية المفيدة التي جاءت من نفسها. وقد أنكر بعض إخواننا السلفيين من هذه الحكومة الشرعية السنية مجاراة الحكومات الدنيوية في ابتداع الأعياد السياسية لذاتها، ولما يلزمها من المنكرات عادة كإنفاق المال في غير المصارف الشرعية، وتكليف الرعية بعض النفقات والأعمال التي ربما لا يفعلونها مختارين، وقد رأى القراء الاستفتاء الذي نشرناه عن بعضهم في الجزء الماضي، وأن بعضهم أسرف فقال بتحريمه مطلقًا، فأنكرنا هذا الإطلاق الذي يتجرأ على مثله كثير من المتدينين بغير علم وفيه من الخطر على الدين فوق ما يدعون تحريمه (كما يُعلم مما نقلناه عن الإمام أبي يوسف في باب الفتاوى من هذا الجزء) ولا يتضمن إنكارنا هذا أننا لم ننكر ذاك، بل أنكرناه وإن لم نحرمه تحريمًا، وكتبنا إلى بعض رجال الحكومة بذلك وخصصنا إنفاق المال بالذكر، ولو كان لنا رأي فيه لنهينا عنه؛ لأننا نعلم أن جماهير أهل الدين والرأي من المسلمين ومن غيرهم من العقلاء يرون أن التزام هذه الحكومة الإسلامية السذاجة والقصد واجتنابها للفخفخة ومظاهر العظمة الدنيوية، وتقليد المفتونين بها - هو خير لها ولشعبها، وأرجى لما يحب جميع المسلمين من قوتها وعزتها. وأقول على سبيل الاستطراد: إنني أحب لهذه الدولة وإمامها وآله ورجال دولته أن لا يعنوا بسائر الاحتفالات الدنيوية، وما يكون فيها من المدائح الشعرية، فوالله إن عمر بن الخطاب كان أعظم في أنفس العرب والعجم من جميع الأمم من معاوية وغيره من ملوك الأمويين والعباسيين الذين فتنتهم زينة الحياة الدنيا. وإننا نقرأ في أخبار العالم عن العلماء والكُتَّاب الذين لقوا الإمام عبد العزيز آل سعود أنهم قد أكبروا من أخلاقه وشمائله التواضع والسذاجة العربية التي تقرب من البداوة مع عنايته بأسباب الحضارة النافعة للشعب، كالعمران وتسهيل المواصلات ومراعاة الصحة ونشر التعليم، وما نحن في نصيحته بمتهمين.

فتنة نجد ـ عاقبتها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتنة نجد - عاقبتها كتبنا في الجزء الخامس الذي صدر في سلخ جمادى الأولى من هذا العام مقالة عنوانها (الفتنة في نجد - أسبابها ونتائجها) بيَّنا فيها ما ينبغي أن يعتبر به المسلمون منها، وما للناس ولا سيما أصحاب الصحف من الآراء المختلفة فيها، وأن الذين كبروها في نظر غير العارفين بكنه قوة ملك الحجاز ونجدهم (دعاة الهاشميين) كمحرري جريدة القبلة للملك حسين من قِبَل عبد الرؤوف الصبان وطاهر الدباغ، فالأول تولى كبر الإرجاف في مصر، والثاني تولى كبره في سنغافورة وجاوة، وكان لسان حالهم في مصر جريدة الأهرام، وفي جاوة جريدة حضرموت، وكانت الأهرام تنشر مقالات بإمضاء (عربي مطلع) قلما كتب أحد في الاختلاق ومكابرة الحقائق مثلها، وقد انتهت الفتنة وقُبض على فيصل الدويش وجريدة حضرموت تنشر مقالات الدباغ الخبيثة. وفي أثناء هذا النصر المبين نشر مراسل الأهرام (عربي مطلع) أن كل ما ينشر من أخبار انهزام فيصل الدويش، ومن قرب استيلاء ابن السعود عليهم، كذب وإرجاف، وأن الفتنة قد عمت نجد كلها ووصلت إلى الحجاز! ! فيا لله العجب من جرأة هذا الجاهل، ولكن من نشر عجوز الصحف العربية له هذا البهتان المفضوح الذي لا يخفى على محرريها. وكان من أهم مقاصد هؤلاء الناشرين صرف قلوب المسلمين عن أداء فريضة الحج بإيهامهم أن أعراب الحجاز قد شرعوا في التألب على الحكومة السعودية، وإيقاد نار الثورة عليها بالتبع لقبائل نجد، وأنه لا يجيء موسم الحج في آخر سنة 1348 إلا وقد تقلص ظل الحكومة السعودية عن الحجاز ونجد معًا، وربما بقي للحرب والقتال بقية تحول دون أداء الفريضة! ! ثم نشرنا في الجزء السادس الذي نشر في سلخ جمادى الآخرة استفتاء من عدن ذكر مرسلوه أن بعض دعاة الفتنة من أعداء ابن السعود شرعوا في نشر فتاوى زعموا فيها أن الحج لا يجب في هذا العام على المسلمين، أو ما دام علمه - علم التوحيد - منشورًا في الحجاز، وقد فنَّدنا زعمهم وبيَّنا أن من يستحل صد الناس عن أداء فريضة الحج يكون مرتدًّا عن الإسلام. وقد كثر سؤال الناس إيانا في أثناء الفتنة بالمشافهة والمكاتبة عن حقيقة الأمر فيها، وما نرى من عاقبتها؟ ومما كنا نقوله إن الله تعالى يقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) وستعلمون لمن تكون هذه العاقبة؟ ومما كتبناه من الأجوبة في المنار أننا لا نظن كما يظن الكثيرون أن الإنكليز ينقضون عهدهم مع ملك الحجاز ونجد، وكذلك كان ألَّف الملك عبد العزيز جيشًا من حضر نجد يبلغ زهاء أربعين ألفًا، فطاردوا العصاة حتى فروا إلى حدود الكويت والعراق، ثم اضطر فيصل الدويش وابن مشهور من زعماء الدولة، وابن حثلين أكبر زعمائهم إلى تسليم أنفسهم للإنكليز حماة الكويت والعراق، وطلبوا أن يكونوا تحت حمايتهم ومن رعيتهم، وهكذا يكون أهل الدين الخارجين على إمامهم بدعوى منعه إياهم من جهاد الكافرين والمشركين! ! وكان من هنالك من رجال الإنكليز يريدون حمايتهم وجاء في البرقيات العامة أنهم قرروا إرسالهم إلى الهند وجعلهم ضيوفًا سياسيين في جزيرة سيلان؛ ولكن ملك الحجاز ونجد ألح في طلبهم ولم يمكن إقناعه بما دون ذلك، فجاءت الأوامر من حكومة لندرة بإسلامهم له، فحملوا إلى معسكره لدى الحدود في طيارة عسكرية فتسلمهم معتقلين، أذلاء صاغرين مخذولين، وكان ذلك اليوم يومًا مشهودًا أعز الله فيه عبده وهو العزيز المقتدر الذي وعد بنصر من ينصره، وكانت العاقبة للمتقين، كما كنا نقول بهداية الكتاب المبين، وكان تأثير ذلك في معسكره، ثم في سائر نجد وغيرها من بلاد العرب عظيمًا جدًّا.

الاتفاق العربي بين مملكة الحجاز ونجد ومملكة العراق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاتفاق العربي بين مملكة الحجاز ونجد ومملكة العراق قد كان بدء خروج فيصل الدويش على ملكه وإمامه اعتداؤه على نجد بغزو القبائل والسلب والنهب كدأب قبائل الأعراب في كل حياتهم البدوية، وكان كثير من الناس يظنون أن ذلك العدوان بإيعاز خفي من الملك عبد العزيز وإن أنكره وتنصل منه في الظاهر، ثم ظهرت الحقيقة فكانت عاقبة نجاح الملك في تأديب الخارجين وما خسره في ذلك من المال، وما أدت إليه الفتنة من سفك الدماء النجدية من الجانبين - حجة حسية قطعية على حسن نية الملك عبد العزيز ورغبته في الاتفاق وحسن الجوار بين الممالك العربية ولا سيما العراق، وبذل السعي من قبله وقبل الحكومة العراقية، في أثناء وجوده بقرب الحدود لعقد مؤتمر عربي يضع قواعد لهذا الاتفاق، وأوعزت الحكومة البريطانية إلى ممثليها في العراق والخليج الفارسي أن يدخلوا في ذلك، وأن يجتمع ملك الحجاز ونجد وملك العراق ويعقدا رابطة الاتفاق بحضرتهم، بل في بارجة بريطانية حتى لا يفوتهم شيء مما يجري بينهما، بل يكون كل شيء بموافقتها وكذلك كان، فالتقى الملكان العربيان في بارجة إنكليزية في ثغر الكويت فتعانقا وتبادلا عبارات الود والأخوة، واجتمع رجالهما فوضعا بمراجعتها مواد مكتوبة لتكون أساسًا لكتابة معاهدة رسمية بين الحكومتين مبنية على اعتراف كل منها بالأخرى، وتبادل المفوضين الرسميين بينهما، ومنع تعدي قبائل كل منهما على الأخرى، وتبادل تسليم المجرمين، وتنقل العشائر، وحل ما يقع من المشكلات على الحدود بالتحكيم، وأما المشكلة الكبرى ومنشأ كل خلاف وتنازع بينهما وهو ما بنته حكومة العراق من المخافر أو المعاقل العسكرية في المنطقة المختلف عليها بين العراق ونجد، فقد تقرر إرجاؤها ستة أشهر لتأليف لجنة تحكيم من الفريقين يكون حكمها فيه قطعيًّا يقبله كل منهما، إن لم يتفق كل منهما فيه بالمفاوضة، وقد سرَّ جميع زعماء الأمة العربية وأهل الرأي فيها ومحبيها من غيرها هذا الاتفاق، وكانوا يودون أن لا يكون للأجنبي شأن في ذلك؛ ولكن هذا فوق الإمكان.

كلمة شيخ الأزهر السابق في حوادث فلسطين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة شيخ الأزهر السابق في حوادث فلسطين نوّهنا في مقالنا الذي نشرناه في جزء المنار السادس في موضوع ثورة فلسطين أن أعظم رجال الإسلام في الحكم والعلم قد أيدوا مسلمي فلسطين تجاه عدوان اليهود عليهم، ولا سيما ملك الحجاز ونجد وشيخ الأزهر، وإننا نسجل هنا حديثًا للثاني نُشر في المقطم الذي صدر في 15 ربيع الآخر سنة 1348 تحت عنوان (رأي ناضج) في حوادث فلسطين وهذا نصه: كتب أحد مندوبي المقطم في الإسكندرية يقول: رأيت اهتمام الناس في مصر شديدًا بما هو واقع في جارتنا فلسطين من الحوادث الجسام الموجبة للأسف، فخطر لي أن أقصد حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وأكبر رأس بين مسلمي الشرق لأستطلع رأي فضيلته في الحوادث المذكورة. قصدت وزارة الأوقاف ببولكلي حيث يشتغل فضيلة الأستاذ من أوائل هذا الصيف في أعماله الخطيرة، فلما دخلت مكتبه وكان مُكبًّا على ما بين يديه من الأوراق المكدسة، رفع رأسه وقابلني بابتسامته العذبة الخلابة. ولما كنت أعلم أن وقت فضيلته ثمين لا يتسع للتحيات المألوفة، بادرته بإعلان الغرض الذي جئت لأجله، ثم وجهت إلى فضيلته ما عنَّ لي من الأسئلة التي أجابني عليها بصراحة وبلا تردد، وقد دوَّنت ما دار في شكل حديث استأذنت فضيلته في نشره على صفحات المقطم، فتفضل وأذن لي بذلك خدمة للمصلحة العامة، وإظهارًا لرأي يمثل الرأي العام في مصر في هذا الشأن، وهذا نص الحديث: س - ما رأي فضيلتك في حوادث فلسطين؟ ج - إن حوادث فلسطين مأساة تدعو إلى أشد الأسف والحزن. س - هل ترى أن سبب هذه الحوادث يرجع إلى الدين؟ ج - لا أعتقد هذا، فإن المسلمين وَسِعوا مخالفيهم في الدين في جميع العصور الماضية، وعاملوهم بمنتهى الكرم حتى كانت هذه المعاملة من أهم الأسباب الباعثة على انتشار الدين الإسلامي؛ ولكن أرى أن أسبابًا مدنية خُلطت أو سُترت بأسباب دينية، فأثارت كوامن الحقد والخلاف الديني سواء كان حقيقًا أم مصطنعًا يفعل في الجماهير ما لا تفعله الأسباب المدنية وحدها. ويظهر أن العرب والمسلمين في فلسطين يرون نفوذهم يتقلص في بلادهم ويخشون عاقبة خروج البلاد من أيديهم ووقوع الآثار المقدسة والمسجد الأقصى تحت سلطان غيرهم، وهذا في نظرهم موت مادي وأدبي. س - ما هو طريق استئصال هذه الفتن؟ ج - لقد عهد الناس في الدولة البريطانية المحافظة على التقاليد واحترام العقائد والعواطف، والرجاء معقود بأن تعمل بريطانيا العظمى على استئصال أسباب الخلاف ليعيش الناس في سلام، وتهدأ تلك النفوس الثائرة، والمسلمون لا يحتملون أي اعتداء كان على المسجد الأقصى، ومن شأن ذلك أن يستفز عواطفهم في جميع الأقطار الإسلامية. س - قيل إن العلماء يريدون بحث الحالة والاحتجاج على حوادث فلسطين؟ ج - لا شك أن علماء الأزهر يشاركون إخوانهم العرب في مصائبهم وآلامهم ويستنكرون الاعتداء عليهم؛ ولكنهم لا يريدون الإسراع في حكمهم، ويفضلون انتظار نتيجة التحقيق الذي نؤمل أن يتم بطريقة منزهة عن الغرض بعيدة عن التحيز، وأن يؤدي آخر الأمر إلى إصدار حكم في مصلحة العرب والمسلمين.

تهنئة المنار لجريدة الفطرة الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تهنئة المنار لجريدة الفطرة الإسلامية لما وصلت إلينا الأعداد الأولى من جريدة الفطرة - بعد جعلها يومية - بادرنا إلى تهنئتها بكتاب خاص، ولم نحب أن نؤخر التهنئة إلى أن يصدر جزء من المنار يفتح فيه باب التقريظ، فنشرت كتابنا مع مقدمة له تتضمن ذكر التعاون بين الصحيفتين، فرأينا أن ننشر ذلك لهذا الغرض نفسه، وهذا نص ما جاء فيها: كتاب كريم من علامة أكرم ورد علينا الكتاب الكريم، الذي سنتشرف بنشره في هذه الصحيفة، من حضرة العلامة المفضال والفهَّامة الأسنى الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار) الإسلامية وصاحبها، التي نشاركها في بث الدعوة الإسلامية جهارًا، ونزاملها في قطع دابر الزندقة والزنادقة، والإلحاد والملحدين من بني قومنا وسواهم، ويرى حضرة القارئ شدة تيقظ الأستاذ الرشيد الجليل إلى صحيفتنا وشدة طربه بظهورها يوميًّا، وتقديره قدرها من الجهاد في تعزيز المبادئ الإسلامية، والغاية التي فيها مجد هذه الملة الحنيفية، ما لو شاركه فيه بقية العلماء لكان في مصر اليوم صحيفة يومية إسلامية تتفوق على أكبر جريدة في العالم. على أنَّا نحن أعرف الناس بما يقيم حضرة الأستاذ من إقامة الدين الحق والجهاد في تعزيزه، وما يكابده في تلك الشرعة العظمى من الجهاد الدائب والنصب ما هو من شمائل أولي العزم الذين لا تلويهم لاوية عن نصرة هذا الدين الذي كثر محاربوه اليوم حتى ممن يدَّعون الانتساب إليه. على أن ما يلاقيه جناب الأستاذ الأكبر من مثالب عباد الوسطاء والشفهاء وأهل الغلو في الدين، والمبتدعة من نابتة التفرنج، وعشاق التبرج الجاهلي المسمى بالتجدد العصري للخنا والفجور، لا يمكن أن يكافحه ويجالده إلا من كان مثله صابرًا مرابطًا معتمدًا في جهاده على العزيز العليم، وقد اندمجنا في طريقته (طريقة أهل اليقين) ونحن على وثاق في أننا سنكون الغالبين إن شاء الله؛ لأن هذا هو وعد الله، وإن وعد الله حق وهو أصدق القائلين {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ} (المائدة: 56) . ننشر كتاب جناب الأستاذ الذي رفعنا به - بفضله ومحض كرمه - ونحن نحض جميع الغيورين على التضافر في الاشتراك بمجلة (المنار) التي يجاهد فيها الأستاذ ويناضل عن الدين وفضائله، والإسلام ومجده وآدابه في سائر مرافق الحياة الراقية، ونأمل من كل من يستلمها من قبل، أن يكون عند الحد المفروض على كل شهم ذي مروءة، فيبعث لجنابه بالاشتراك فورًا ويسلفه به، وبكل متأخر في الذمة، إيفاء بالحق وقيامًا بالواجب. وهذا هو كتاب فضيلته حقق الله له ولنا كبار الآمال، وأمدَّنا بروح منه، إنه هو الكبير المتعال، قال حضرته لا فض فوه ولا كلَّ في الحق قلمه: مصر في 19 جمادى الأولى سنة 1348 هجري، الموافق 22 تشرين 2 سنة 1929م. حضرة الزميلين الكريمين خادمي الملة الإسلامية والأمة العربية صاحب ورئيس تحرير صحيفة الفطرة الغرَّاء: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أما بعد فإنني أهنئكما بما وفقتما له، وما صادفتماه من الفوز بجعل (الفطرة) جريدة يومية، وأشكر لجاليتنا الكريمة في الأرجنتين مساعدتها الثمينة على ذلك، ولا سيما المتبرعين بالدراهم، وأتمنى (للفطرة) دوام التوفيق والارتقاء، وأحمد الله تعالى أن رأيت إخواننا المسلمين قد تنبهوا لما كانوا غافلين عنه من أسباب ضعفهم في دينهم ودنياهم، وما بين سعادتي الدارين من الارتباط والاشتراك في الإسلام على فشو الإلحاد والفسق في هذا الزمان، ولقد شَرَعتُ في إيقاظ المسلمين ودعوتهم إلى الإصلاح الديني والمدني والسياسي منذ ثلث قرن، فلقيت منهم مقاومة وإيذاء شديدًا، وبقيت إلى السنة الخامسة من إنشاء المنار مدينًا لبعض الأصدقاء بشيء من المال، ولم ألق من أحد من أغنيائهم وكبرائهم مساعدة مالية تذكر، فالحمد لله ثم الحمد لله أن أحياني حتى شاهدت الصحف التي تخدم الإسلام تؤيد وتعضد، وإن كانت (الفطرة) لم تصر جريدة يومية إلا بعد سلخ سبع سنين كاملة في مضيق الأسبوع، فإن هذا ليس بكثير في جالية قليلة لا يبلغ عدد المسلمين فيها عدد مدينة كبيرة من مدن القطر المصري، وقد عجز مسلمو مصر إلى اليوم عن إنشاء جريدة يومية تخدم الإسلام وتناضل دونه، وإن لم تكن دينية محضة كما كانت جريدة المؤيد، والسلام عليكم وعلى من لديكم من الأعوان والإخوان. ... ... ... ... ... ... من الزميل المخلص منشئ المنار ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

تتمة البحث في حقيقة ربا القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة البحث في حقيقة ربا القرآن أقوال أشهر المفسرين في ربا القرآن من المجتهدين والمنتسبين إلى المذاهب المشهورة ما قاله ابن جرير: قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 في تفسيره (جامع البيان) في الكلام على قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا} (البقرة: 275) ... إلخ ما نصه: (يعني بذلك جل ثناؤه الذين يربون، والإرباء: الزيادة على الشيء، يقال منه: أربى فلان على فلان - إذا زاد عليه - يربي إرباء، والزيادة هي الربا، وَرَبَا الشيء: إذا زاد على ما كان عليه فعظم فهو يربو ربوًا؛ وإنما قيل للرابية لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم: رَبَا يربو، ومن ذلك قيل: فلان في رُبَا قومه، يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل الربا: الإنافة والزيادة، ثم يقال: أربى فلان أي أناف صيره زائدًا [1] . (وإنما قيل للمُربي: مربٍ لتضعيفه المال الذي كان على غريمه حالاً أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه، فيزيده إلى أجله الذي كان له قبل حل دينه عليه؛ ولذلك قال جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) وبمثل الذي قلنا قال أهل التأويل) . ثم روى عن مجاهد أنه قال في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدَّين، فيقول: لك كذا وكذا وتؤخر عني، فيؤخر عنه، وعن قتادة قال: إن ربا الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه، وهنا ذكر تفسير الوعيد بتشبيه آكلي الربا بمن يتخبطه الشيطان من المس، ثم قال في تفسير: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) ما نصه: يعني بذلك جل ثناؤه ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس من الجنون، فقال تعالى ذكره هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ووحشة قيامهم من قبورهم وسوء ما حلَّ بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا، وذلك أن الذين يأكلون الربا من أهل الجاهلية كانوا إذا حل مال أحدهم على غريمه، يقول الغريم لغريم الحق زدني في الأجل وأزيدك في مالك، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك: هذا ربا لا يحل، فإذا قيل لهما ذلك قالا: سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال، فكذَّبهم الله في قيلهم فقال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) إلى آخر الآية، ذكرها وقال في تفسيرها ما نصه: يعني جل ثناؤه: وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع، وحرَّم الربا يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادة غريمه في الأجل وتأخير دينه عليه، يقول عز وجل: وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع، والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء ... إلخ. فأنت ترى أنه حصر الربا المراد من الآية في ربا الجاهلية، وبيَّن أن ربا الجاهلية خاص بأخذ الزيادة من المال لأجل تأخير أجل الدين بعد استحقاقه، وهذا يشمل ما كان من الدين قرضًا، وما كان ثمن مبيع على قول قتادة، ومن المفسرين من يقول: إن كل ديونهم في الجاهلية كانت قروضًا، ولم يكونوا يعرفون البيع إلى أجل كما ستراه في النقول الآتية، ولم يفهم المفتي الهندي هذا مع شدة ظهوره لما تمكن في نفسه من تقليد الحنفية وما فهمه منه فجعله أصلاً يُرد إليه غيره، فإن وافقه وإلا رده من أصله وحكم بأنه خطأ. ما قاله الجصاص: قال العلامة أبو بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص الحنفي المتوفى سنة 370 في تفسيره (أحكام القرآن) بعد أن بيَّن في تفسير آيات البقرة لفظ الربا في اللغة، وإطلاق النبي صلى الله عليه وسلم إياه على ربا النسيئة في حديث أسامة بن زيد وجعل عمر منه السلم في السن، وقول جماعة الحنفية إنه مجمل بيَّنته السنة، وبيَّنه صلى الله عليه وسلم نصًّا وتوقيفًا - بعد هذا قال: (والربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قرض الدراهم والدنانير إلى أجل بزيادة على مقدار ما استقرض على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد، وإذا كان متفاضلاً من جنس واحد (؟) هذا كان المتعارف المشهور بينهم؛ ولذلك قال تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ} (الروم: 39) فأخبر أن تلك الزيادة المشروطة إنما كانت ربا في المال العين؛ لأنه لا عوض لها من جهة المقرض، وقال تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) إخبارًا عن الحال التي خرج عليها الكلام من شرط الزيادة أضعافًا مضاعفة، فأبطل الله الربا الذي كانوا يتعاملون به، وأبطل ضروبًا أخرى من البياعات وسمَّاها ربا فانتظم قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) تحريم جميعها لشمول الاسم عليها من طريق الشرع، ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم ودنانير إلى أجل مع شرط الزيادة اهـ. وقد ذكر بعده ما يدخل في عموم اللفظ من المعاني بناء على قول أصحابه بأنه مجمل بيَّنته الأحاديث. ما قاله الكيا الهراسي [*] : قال العلامة الكيا الهراسي من محققي الشافعية في تفسيره لآيات سورة البقرة من كتابه (أحكام القرآن) المحفوظ في المكتبة المصرية العامة ما نصه: الربا في اللغة الزيادة، وربما لا تعرف العرب بيع الدرهم بالدرهم نساء، إلا أن الشرع أثبت زيادات جائزة وحرم أنواعًا من الزيادة، فجوَّز الزيادة من جهة الجودة، ولم يجوِّز (الزيادة) من جهة المدة، وإذا اختلف الجنس يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً نقدًا متماثلاً نسيئة، وكل ذلك لا يقتضيه لفظ الربا؛ ولكن ذلك لا يمنع التعلق بعموم اللفظ، وعموم اللفظ يقتضي تحريم الزيادة مطلقًا إلا ما خصَّه الشرع. قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) يقتضي جواز ما لا زيادة فيه إلا ما خصه الشرع، فنحن نحتاج إلى البيان فيما لم يرد باللفظ، وفي تخصيص بعض ما أريد باللفظ، والله تعالى حرَّم الربا، فمن الربا ما كانوا يعتادونه في الجاهلية من إقراض الدنانير والدراهم بزيادة، والنوع الآخر إسلام الدراهم في الدراهم والدنانير من غير زيادة. (قال) ورأى ابن عباس أن سياق الآية يدل على أن المذكور في كتاب الله ربا النساء لا ربا الفضل فإنه قال {فَلَهُ مَا سَلَفَ} (البقرة: 275) ، {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (البقرة: 278) ، وقال: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (البقرة: 280) وقال تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) ، وقال عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع: (كل ربا موضوع ولكم رؤوس أموالكم.. (وذكر الحديث) . (ثم قال) وإذا كان الربا ينقسم أقسامًا، فالذي في القرآن يدل على تحريم الزيادة من غير نظر في جنس المال؛ لأن ذلك يعد زيادة في الشيء، ولا يقال كل الربا (؟) . ومن أجل ذلك جوَّز بعض العلماء - وهو مالك - الأجل في القرض إلا أنَّا منعنا من ذلك لا من جهة الآية، بل من جهة أخرى، والذي كان في الجاهلية كان القرض زيادة وما كانوا يؤجلون إلا ـة [2] في نفس الشيء. ونُقل عن الشافعي أن لفظ الربا كان غير [3] معلوم أورث إجمالاً في البيع، والصحيح أن الربا غير مجمل ولا البيع كما ذكرنا، فإن ما لا زيادة فيه جار على حكم عموم البيع، نعم خصَّ من الربا زيادة أُبيحت، وخصَّ من البيع بياعات نهي عنها، وعموم اللفظ معتبر فيما سوى المخصص. وردَّ الله تعالى على المشركين في قولهم: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) وذلك أنهم زعموا بأنه لا فرق بين الزيادة المأخوذة على وجه الربا، وبين الأرباح المكتسبة بضروب البياعات من حيث غاب عنهم وجه المصلحة، وتحريم الزيادة على وجه دون وجه، فأبان الله تعالى أنه عز وجل إذا حرَّم الربا وأحل البيع فلابد أن يشتمل المنهي على مفسدة، والمباح على مصلحة وإن غائبًا عن مرأى نظر العباد، فعلى هذا كل ما وجد فيه حد البيع، فيجوز أن يحتج فيه بعموم البيع اهـ. ما قاله الكيا الهراسي في الموضوع، وقد علمت أن الإمام الشافعي رجَّح أن لفظ البيع عام لا مجمل. ما قاله القرطبي: قال العلامة الشيخ عبد الله بن محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى سنة 671، وهو من محققي المالكية في مسائل آيات البقرة من تفسيره المشهور (جامع أحكام القرآن) وهو المتعلق بموضوعنا. (الرابعة عشرة) قوله تعالى: {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) أي إن الزيادة عند حلول الأجل آخرًا كمثل أصل الثمن في أول العقد، وذلك أن العرب كانت لا تعرف ربا إلا ذلك، فكانت إذا حل دَينها قالت للغريم: إما أن تقضي، وإما أن تربي - أي تزيد في الدين - فحرَّم الله سبحانه ذلك ورد عليهم قولهم بقوله الحق: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) وأوضح أن الأجل إذا حل ولم يكن عنده ما يؤدي أُنظر إلى الميسرة، وهذا الربا هو الذي نسخه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يوم عرفة: (ألا إن كل ربا موضوع، وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به. ثم قال (الخامسة عشرة) قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} (البقرة: 275) هذا من عموم القرآن، والألف واللام للجنس لا للعهد إذ لم يتقدم بيع مذكور يرجع إليه كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (وَالعصر: 1- 2) ثم استثنى {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (العصر: 3) وإذ ثبت أن البيع عام فهو مخصوص بما ذكرنا من الربا، وغير ذلك مما نهي عنه، ومنع العقد عليه كالخمر والميتة وحَبَل الحُبلى وغير ذلك مما هو ثابت في السنة وإجماع الأمة المنهي عنه، ونظيره {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} (التوبة: 5) وسائر الظواهر هي التي تقتضي العمومات ويدخلها التخصيص، وهذا مذهب أكثر الفقهاء وقال بعضهم هو من مجمل القرآن الذي فُسر بالمحلل من البيع وبالمحرم من الربا، فلا يمكن أن يستعمل به إحلال البيع وتحريمه، إلا أن يقترن به بيان من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن دل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل، وهذا فرق ما بين العموم والمجمل، فالعموم يدل على إباحة البيوع في الجملة والتفصيل ما لم يخص بدليل، والمجمل لا يدل على إباحتها في التفصيل حتى يقترن به بيان، والأول أصح، والله أعلم. (المسألة الثامنة عشرة) قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) الألف واللام هنا للعهد، وهو ما كانت العرب تفعله كما بيَّناه، ثم تناول ما حرَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى عنه من البيع الذي يدخله الربا وما في معناه من البيوع المنهي عنها اهـ. ما قاله الطبرسي: قال العلامة أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطبرسي المتوفى سنة 561 في تفسيره (مجمع البيان) وهو من محققي الإمامية: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) معناه بسبب قولهم إنما البيع الذي لا ربا فيه مثل البيع الذي فيه الربا، قال ابن عباس: كان الرجل منهم إذا حل دينه على غريمه فطا

تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها

الكاتب: سليمان الندوي

_ تحقيق معنى السنة وبيان الحاجة إليها ترجمة مقال للعلامة السيد سليمان الندوي الهندي (كلمة للمترجم) من المصائب التي ابتلي بها المسلمون في هذا العصر انتشار فرقة دعواها أن قانون الإسلام هو (القرآن وحده) وأن السنة إنما كانت أحكامًا مؤقتة لأهل عصر النبي عليه السلام، والآن أصبحت عديمة الجدوى، فهي تنكر الاحتجاج والعمل بالحديث مهما بلغت درجته من الصحة والشهرة والقبول عند علماء المسلمين، وهذه الطائفة توجد في سائر الممالك الإسلامية؛ ولكنها في الهند أخذت شكلاً منظمًا وسمت نفسها (أهل القرآن) وألفت كتبًا ورسائل كثيرة، ولا زالت تنشر المقالات في المجلات الهندية، وقد رد عليها علماء الهند أحسن رد جزاهم الله خيرًا، ومنهم حضرة الأستاذ السيد سليمان الندوي؛ فإنه كتب مقالة نفيسة في مجلته الشهيرة (معارف) الهندية في الرد على هؤلاء بكلام معقول، فأحببت ترجمتها بتصرف يسير لعل الله ينفع بها من لا يمكنه الاطلاع على أصلها، والله الموفق. ... ... ... ... ... ... ... ... المترجم ... ... ... ... ... ... عبد الوهاب بن عبد الجبار الدهلوي ... ... ... ... ... ... ... ... بمكة المكرمة قال الأستاذ حفظه الله: تمهيد: يسرنا ويسوءنا معًا حال بعض شباننا المتعلمين، يسرنا أنهم وجهوا قسطًا من عنايتهم إلى البحث عن المسائل الدينية ولم يعتبروا ذلك تضييعًا لأوقاتهم، ولم يعدوا الدين شيئًا عبثًا لا يستحق العناية والاهتمام، فمن هذه الجهة يستحقون المدح والشكر، ويسوءنا أنهم ينشرون آراءهم ونتيجة أبحاثهم ويدعون المسلمين إليها قبل التحقيق التام وعرضها على العلماء الأعلام، وهذا يؤدي إلى إضلال كثير من العوام. وإشاعة الحق - وإن كانت واجبة - يجب على من يقوم بها أن يتثبت ويتحقق أولاً كون ذلك الشيء حقًّا، ثم يسعى في نشره وإلا كان إثمه أكبر من نفعه. هؤلاء الشبان يدّعون أنهم قادرون على استنباط كل شيء من القرآن الشريف بدون رجوع إلى بيان صاحب الرسالة الذي أُنزل عليه القرآن، فتراهم يُكثرون من ذكر المسائل العجيبة التي استنبطوها بزعمهم من القرآن، ويردون كل ما ثبت بالسنة ولم يجدوه في القرآن، ومن الغريب أن كثيرًا من الأحكام التي يردونها نجد أصلها موجودًا في القرآن عند إمعان النظر، وأغرب من ذلك تناقضهم واختلافهم في ما يستنبطون من القرآن، فكل واحد منهم مستقل بنفسه مخالف للآخر. كيف نفهم القرآن: قد كتبت مرارًا أن البحث في هذه المسائل الجزئية - التي يستنبطونها والتي يردونها - لا تجدي نفعًا، بل يجب أن نبحث في المسائل العامة، والقواعد الكلية التي تشمل هذه الجزئيات كلها، فأول ما يجب تمحيصه من هذه المسائل هو: كيف نفهم القرآن؟ أو بعبارة أعم من هذه: كيف نفهم مراد القائل من كلامه؟ لا يخفى أن علم أصول الفقه جُل مباحثه تدور حول هذه المسألة، أعني طريقة فهم معنى الكلام والاستنباط منه. مثلاً إذا وردت في القرآن الكريم كلمة لها معاني متعددة عند العرب، أو كلمة لها معنى حقيقي ومعنى مجازي، فكيف نعين المعنى المراد بتلك الكلمة؟ أو ورد لفظ عام، فكيف نعلم أن المقصود منه جميع أفراده أو بعضه؟ أو ورد حكم مطلق، فكيف نعرف هل هو باق على إطلاقه أم استثني منه شيء؟ [1] إلى غير ذلك من المسائل. وهناك أمر آخر، وهو أن المعاني المفهومة من الكلام على أنواع، فمنها ما يُفهم من ألفاظه صراحة، ومنها ما يُفهم منه بطريق الإشارة والكناية، ومنها ما يُفهم من سياق الكلام، فلا يقال لشيء منها: إن هذا الكلام لا يشمله، فكذلك الأمر في القرآن، أعني إذا كان الشيء غير مذكور فيه صراحة؛ ولكنه يُفهم من سياقه أو إشاراته فلا يقال: إنه ليس في القرآن مطلقًا. النبي كان مأمورًا بتبيين القرآن: قال الله تعالى مخاطبًا لنبيه عليه السلام: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) فلأجل هذا كان الصحابة يرجعون إليه في فهم كل ما أُشكل عليهم فهمه أو استنباطه من القرآن، ويستفتونه فيما يقع لهم من الحوادث، فيبين لهم النبي عليه السلام ما أُشكل عليهم ويعلمهم ما خفي عليهم. مثلاً نزلت آيات الصيام ولم يذكر فيها حكم الأكل والشرب بالنسيان في الصوم، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال يا رسول الله أكلت ناسيًا في الصوم، فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن صومه صحيح؛ لأن الخطأ والنسيان معفو عنهما مستنبطًا من قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (الأحزاب: 5) فهل يقال إن هذا الحديث مخالف للقرآن لأنه ليس فيه أن الصوم لا يفسده الأكل بالنسيان، أو يقال إنه لم يكن للنبي عليه السلام أن يستنبط هذا الحكم من الآية الأخرى التي لا تتعلق بالصوم؟ وهنا نريد أن نسأل هؤلاء المنكرين على الحديث: إذا كان يجوز لكم أن تستنبطوا من القرآن كل ما تريدون وتفسرونه كما تفهمون، مع بُعدكم عن العصر والمحيط اللذين نزل فيهما القرآن، ومع كونكم أعجامًا من غير أهل اللسان، أفما كان يحق هذا لمن نزل عليه القرآن، وأُمر بتبيينه وكان أفصح أهل اللسان؟ بلى هو أحق الناس بالبيان والاستنباط من القرآن. تفاوت الأفهام: ثم لا يخفى على أحد أن كل الناس ليسوا سواء في الاستعداد والفهم، وصفاء الذهن، ولهذا السبب يقرأ القرآن الحكيم كل أحد؛ ولكنهم يختلفون في فهم معانيه، فالعالم يفهم منه ما لا يفهم الجاهل، والعلماء أيضًا متفاوتون في الفهم والعلم {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76) وقد أمرنا الله تعالى بالرجوع إلى العلماء في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 43) وبين اختلاف الناس في درجات الفهم بقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 9) . كيف وجدت الأحاديث: إذا سلَّمنا هذين الأمرين - أعني أن النبي عليه السلام كان مأمورًا بتبيين القرآن، وأحق الناس به وبالاستنباط منه، وأن الناس متفاوتون في الاستعداد والفهم - فلنتصور أنه إذا نزل حكم في القرآن في واقعة ما، ثم بعد ذلك حدثت حادثة أخرى مثلها أو تشابهها أو تختلف عنها قليلاً في الظاهر، واشتبه على بعض الصحابة أن ذلك الحكم هل ينطبق على هذه الحادثة الجديدة أم لا؟ فما الطريقة المعقولة لحل هذا الأشكال؟ أليست الطريقة المعقولة أن يرجعوا إلى صاحب الوحي ويسألوه عن ذلك؟ فإذا سألوا النبي عليه السلام، فماذا كان يجب عليه أن يعمله؟ أيسكت عن جوابهم ويتركهم حيارى؟ أم يكتفي بتلاوة الآية التي ما فهموها تمامًا، ولم يظهر لهم وجه انطباقها على الواقعة الجديدة؟ أم يوضح لهم ما أُشكل عليهم بحيث يطمئن إليه الخاطر؟ لا شك أن الصورة الأخيرة هي المتعينة؟ فإذا أجاب على سؤالهم وبيَّن لهم ما اشتبه عليهم، فهل كان يحرم عليهم أن يخبروا غيرهم بتلك القصة، أو إذا وقعت تلك المسألة لغيرهم فهل كان محظورًا عليهم أن يُعلِّموه كما علَّمهم الرسول عليه السلام؟ لا أظن أن عاقلاً يقول بهذا، بل كل عاقل يقول إنه كان الواجب عليهم تعليم الجاهل وهداية الحيران، وكذلك فعلوا! فهذا هو (الحديث) في اصطلاح المسلمين. الرواية أمر ضروري: لا مندوحة لعلم من العلوم ولا لشأن من شؤون الدنيا عن النقل والرواية لأنه لا يمكن لكل إنسان أن يكون حاضرًا في كل الحواداث، فإذًا لا يتصور علم الوقائع للغائبين عنها إلا بطريق الرواية شفاهًا أو تحريرًا، وكذلك المولودون بعد تلك الحوادث لا يمكنهم العلم بها إلا بالرواية عمن قبلهم، هذه تواريخ الأمم الغابرة والحاضرة والمذاهب والأديان ونظريات الحكماء والفلاسفة وتجارب العلماء واختراعاتهم هل وصلت إلينا إلا بطريق النقل والرواية؟ فهل كان الدين الإسلامي بدعًا من الحوادث حتى لا تُنقل أحكامه وأخباره بهذا الطريق؟ أم كان الواجب اتخاذ طريق آخر لنقل أقوال الرسول عليه السلام وأخباره غير الرواية؟ لنفرض أن هؤلاء المنكرين على رواية الحديث أصبحوا زعماء لمن كان على شاكلتهم، فهل هناك طريقة - غير الرواية - لتبليغ استنباطاتهم وتحقيقاتهم لأفراد جماعتهم البعيدين عن حلقات دروسهم أو الذين سيولدون بعدهم، خصوصًا إذا كانوا في بلاد لا توجد فيها المطابع ووسائط الاستخبار الحديثة، مثل البريد والبرق، وتكون صناعة الورق معدومة والأمية منتشرة (كما كان الحال في جزيرة العرب عند ظهور الإسلام) ؟ القرآن أيضًا منقول بالرواية: ثم نسأل هؤلاء: أليس القرآن الكريم أيضًا منقولاً بالرواية؟ نعم إن هناك فرقًا بينه وبين الحديث، وهو أن القرآن منقول بالتواتر والحديث منقول برواية رجال معدودين؛ ولكنهم ليسوا مجاهيل، بل رجال مشهورون، أحوالهم معلومة، وأسانيدهم محفوظة، وهذا الفرق يقتضي التفاوت في درجات اليقين والوثوق، لا في نفس القبول والاعتبار، وهذا الفرق مسلَّم عند كل مسلم، لا يقول أحد منهم بأنهما متساويان من كل جهة. أصول الحديث: ولما كانت الأحاديث أخبارًا وجب أن نستعمل في نقدها وتمييز الصحيح من غيره أصول النقد التي نستعملها في سائر الروايات والأخبار التي تبلغنا، أعني إذا سمعنا خبرًا فماذا نعمل؟ ننظر أولاً في حال الراوي الذي سمعنا منه هذا الخبر، هل هو ممن يُعَوَّل على روايته أم لا؟ ثم ننظر في حال من روى عنه هذا الرجل وهكذا إلى أن تنتهي الوسائط، ثم نتحقق هل الراوي الأعلى كان حاضرًا الواقعة أم لا؟ وهل كان بإمكانه فهمها وحفظها؟ ثم ننظر في الأمر المروي هل يلائم أحوال الرجل الذي نُسب إليه وهل يمكن وقوعه في ذلك العصر والمحيط أم لا؟ فهذه القواعد وأشباهها استعملها المحدثون في نقد الأحاديث وسموها (أصول الحديث) وبذلك ميزوا الأحاديث الصحيحة من غيرها، ولا زال الباب مفتوحًا لمن أراد أن يأتي البيوت من أبوابها. الحديث تاريخ الإسلام: لا يخفى أن القرآن الحكيم إنما نزل لهداية البشر إلى مصالحهم الدينية والدنيوية، ولهذا بيَّن لهم طريق العمل وسبل النجاح، وأعلن أن الأمة التي تعمل بهذا القانون تكون لها الخلافة في الأرض، وتنال من السعادة والسيادة ما لا مزيد عليه، وتكون خير أمة أُخرجت للناس، وكل من لم يعمل بهذا القانون يكون ذليلاً مهانًا في الأرض، وشقيًّا في الدنيا والآخرة. فإذا سَأَلَنا أحد: هل وُجدت أمة في زمن من الأزمان عملت بهذا القانون؟ وهل نالت به ما وعدت؟ ومتى كانت تلك الأمة وكيف كانت طريقة عملها بهذا القانون، وأين التاريخ الصحيح لأعمالها؟ نقول له: نعم وجدت أمة عظيمة عملت بهذا الكتاب الحكيم، واتخذته قانونًا أساسيًّا لها مدة كبيرة فصدقها الله وعده، وأنعم عليها بالخلافة والسيادة في الأرض، وامتد سلطانها إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكانت أمة لا نظير لها في تاريخ العالم، وتاريخ أعمالهم المجيدة وطريقة تنفيذهم لأحكام القرآن، وكيفية عملهم بها، كل ذلك ثابت ومحفوظ بصورة عديمة المثال؛ فإنه لا يوجد تاريخ لأمة من الأمم يبين عملها وتمسكها في كل شؤونها بقانونها مثل تاريخ هذه الأمة، وهذه الأمة هي الرسول عليه السلام وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وهذا التاريخ هو الحديث! فبالحديث يُعلم كيف عمل الرسول

مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات الرد التفصيلي في موضوع المناظرة - 7 - سلطان الدين الأعلى إن الشعور بقوة فوق قوى الطبيعة، وسلطان غيبي أعلى من نواميس الخليقة، وجدان غريزي في أنفس البشر؛ لذلك كانوا ولا يزالون يخضعون خضوع التعبد لكل ما يظهر لهم أنه صادر عن ذلك السلطان الغيبي الأعلى لمخالفته السنن الطبيعية ومجيئه على غير نظام الأسباب والمسببات؛ وإنما يخطئون أحيانًا في التمييز بين الحقيقي والوهمي من خوارق العادات، فالأول كالآيات التي أيَّد الله تعالى بها أنبياءه المرسلين، والثاني كالمصادفات والسحر وشعوذة الدجالين، وأشهر الأمثلة لهما الآيات التي أيَّد الله بها نبيه موسى عليه السلام، والتخيلات الصناعية التي جاء بها سحرة فرعون. ولما كانت تلك الآيات الكونية لا يؤمن بها إلا من شاهدها مدركًا للفرق بينها وبين السحر والشعوذة، ومن ثبت عنده الأمران بالتواتر القطعي، ولما كان اجتماع الأمرين عزيزًا نادرًا بعد طول الزمان، وكان ذلك محتملاً للشك والتأويل والاحتمال، جعل الله تعالى آية خاتم النبيين حسية عقلية، دائمة باقية، وجعل دلالتها على رسالته علمية برهانية، ألا وهي ظهور أعلى العلوم الإلهية، والقواعد الأدبية، وأرقى الأصول التشريعية، من سياسية ومدنية وشخصية، وأنفع الوصايا الصحية، وأصلح السنن الاجتماعية، والإرشاد إلى العلوم الصحيحة، وأبلغ الحكم العقلية، والمواعظ التاريخية، في كتاب معجز للبشر بأسلوبه ونظمه وتأثيره وهدايته وبلاغته، واشتماله على أخبار الغيب الماضية والحاضرة والمستقبلة، وكون هذا كله جاء على لسان نبي أمي لم يقرأ قبل هذا الكتاب سطرًا، ولا نظم شعرًا، ولا ارتجل خطبة، ولا نطق بحكمة. وقد جاءه هذا كله دفعة واحدة بعد بلوغ أشده، واستكماله للأربعين من عمره، ثم كان من تأثيره في قلب نظام الكون كله، واستيلاء قومه الأميين بهديه وتأثيره على أعظم أمم الأرض ودولها علمًا وحضارة وقوة وثروة، حتى صاروا يدخلون في دينه أفواجًا ... إلخ، فأي برهان على الوحي الإلهي والتشريع السماوي أظهر وأبهر وأنور وأقهر للقلوب والعقول من هذا؟ من أعظم ما انفرد به هذا التشريع الإلهي دون سائر الشرائع السماوية والأرضية - إبطال ظلم جميع البشر وتحقيرهم للنساء وهضمهم لحقوقهن فيما سنبين نماذجه العليا في مقالاتنا هذه، ولو لم يكن منه إلا قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة: 228) وإلا قول نبيه صلوات الله وسلامه عليه في تربيتهن وتعليمهن (أيما رجل كانت عنده وليدة فعلَّمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران) رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا دواد من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وإلا قوله صلى الله عليه وسلم في تكريمهن: (ما أكرم النساء إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم) رواه ابن عساكر من حديث علي كرَّم الله وجهه - لو لم يكن إلا هذا وذاك لكفى تفضيلاً للإسلام على جميع الشرائع والقوانين، وإذا لم يكن هذا الإصلاح العظيم وحيًا لذلك النبي الأمي فمن أين جاء؟ ولكن هؤلاء الملاحدة يدعوننا إلى نبذ هذا الإصلاح الذي تخضع له أنفس المؤمنين سرًّا وجهرًا متى علموه وتربوا عليه، وإلى تقليد البلاشفة وأمثالهم من ملاحدة الإفرنج وممن سرت إليهم عدواهم وهم يئنون منها، ويود حزب تجديد الإلحاد والإباحة لو يزجوننا فيها. مع هذا كله نرى السواد الأعظم من شعوب أوربة كلها يخضعون لغير المعقول من الدين مما ليس له نظير في الإسلام كالتثليث وألوهية المسيح واستحالة الخبز والخمر إلى لحمه ودمه حقيقة لا مجازًا، بل يخضع الملايين منهم للخرافات الوهمية باسم الدين كالعين المقدسة التي يزعمون أنها تشفي المرضى في فرنسة. نعم إن هذه العقائد وأمثالها كانت سببًا لكثرة الإلحاد في أوربة، ولرواج الأفكار المادية التي أفسدت الأخلاق، وقوَّضت أركان الفضائل حتى في المتدينين، كما كان سلطان البابوات الشديد الوطأة على العقول والأبدان والحكام سببًا لما نجم في القرون الوسطى من قرون الإلحاد، ولحدوث ما يسمى مذهب الإصلاح، وقد بلغ طغيان الأفكار المادية والإسراف في الشهوات البدنية حدهما الأقصى في أثناء حرب المدنية الأخيرة وبعدها، ثم طفق الناس هناك يتلمسون هداية الدين للخروج من هذه الفوضى التي دمرت تلك القيصرية الروسية الواسعة بالحكم البلشفي أو كادت، فالحكومة البلشفية هي الدولة الوحيدة التي تُكره الشعوب المقهورة بقوتها على ترك أديانهم، وإباحة الفجور لنسائهم ورجالهم، وقطع أسلاك عقود الزوجية، ونثر ما كان يجمعه نظامها من أفراد الأسرة، وجعل القول للمرأة فيمن تلصق به ولدها، فالقانون البلشفي يجبر كل رجل على نفقة من تلصقه به من أولادها [1] فعظمت الخطوب، وتفاقمت الكروب، واستشرى الفساد، وخرب كثير من البلاد، وهلك الملايين من العباد، وحل الرعب في كبريات الدول، أن تسري إلى شعوبها عدوى هذا الخلل، وصارت كل حكومة من حكومات الأرض تضرب الحَجْرَ السياسي لمنع هؤلاء الناس من دخول بلادها، وتخشى من عاقبة تفلت أحدهم أشد مما تخشى من المصاب بأشد الأمراض الوبائية أن يندس فيها، إذ لا عاصم من عدواها إلا الاعتصام بالدين، وقد كادت تنقسم عروته بالفوضى الأدبية، وشعر العلماء والحكماء وكذا الحكام بوجوب تجديد هدايته، وطفقوا يؤلفون الجمعيات ويصنفون الكتب في ذلك، وقد ذهبوا فيه خمسة مذاهب: مذهب العصريين، ومذهب الأصوليين، ومذهب الروحانيين، ومذهب العلم المسيحي، ومذهب الكاثولوكية البابوية. يجد القارئ بيان هذه المذاهب في الجزء الثالث من مجلد المنار الثلاثين (أي مجلد هذا العام الهجري) وإنما نقول بالإجمال: إن العصريين يرجحون استقلال العقل في العقائد ويلتزمون تعاليم الكنيسة في الأمور الأدبية والمواعظ، وقد كثروا بعد الحرب في بلاد الإنكليز، وأما الأصوليون فيرجعون في الدين إلى عقائد أهل القرن السابع عشر وهو التسليم والإذعان لنصوص التوراة بظواهرها حتى التاريخية، ورد كل ما يخالفها من أحكام العقل ومقررات العلم ولا سيما مذهب النشوء والارتقاء، وأكثر أتباع هذا المذهب في الولايات المتحدة، وأما الكتب التي يؤلفونها فمنها ما هو مدح في الإسلام وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو في التنفير عنه خوفًا من انتشاره، ومنها ما هو نفي لألوهية المسيح، وتفصيل هذا كله في المنار. أَفَلَسْنَا نحن المسلمين أحق وأجدر باتباع نصوص ديننا القطعية، وكلها موافقة للعقل والعلم والمصلحة، وباتباع الراجح من نصوصه الظنية الاجتهادية أيضًا، وهي واقية لنا من مفاسد البلشفية، ونزعات المادية، ومفاسد الإباحية، وحافظة لصحتنا الجسدية، وفضائلنا النفسية؟ أوليست مصر أولى البلاد الإسلامية بالاعتصام بهذا الدين القويم من سائر الأقطار الإسلامية؛ لأن لها فيه من الفوائد والمصالح الدينية والأدبية والسياسية والاقتصادية ما ليس لغيرها؟ بلى، إن مصر مرشحة بل مرجحة بعد سقوط الدولة العثمانية لزعامة العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه، وهؤلاء الملاحدة يريدون حرمانها من هذه الزعامة بما يبثون فيها من دعاية الإلحاد الذي يضرها ولا يفيد إلا الأجانب الطامعين فيها. بلى، إن مصر كانت مع وجود الدولة العثمانية زعيمة الأمة العربية في لغتها وعلومها الأدبية والدينية، وهؤلاء الملاحدة يريدون إسقاطها من هذه الزعامة بالطعن في اللغة العربية، والآداب العربية، والثقافة العربية، والمدنية العربية والديانة العربية، ويحاولون أن يبتدعوا لها ثقافة أوربية ومدنية فرعونية، ولو كان للفراعنة لغة حية مدونة لقلدوا الترك بوجوب استبدالها باللغة العربية، وتحريم تعلم اللغة العربية! فانظروا أيها المسلمون الغافلون فيما يريده منكم هؤلاء الملحدون الإباحيون، وما يظاهرهم به إخوانهم المنافقون {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ} (النساء: 89) {أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} (المجادلة: 19) وإن حزب الله هم المفلحون. *** حكم الله في المساواة بين الرجال والنساء - 8 - أبدأ هذا الرد التفصيلي بالكلام العام في موضوع المساواة الذي فسرت به الآية الكريمة التي ذكرتها في المقالة السابقة، وقد كنت نشرته في الجزء العاشر من مجلد المنار الثامن الذي صدر في جمادى الأولى سنة 1323 (يوليو1905) أي قبل أن تُخلق الآنسة هانم محمد، وقبل أن يصير محمود عزمي كاتبًا، وهذا نصه نقلاً عن الجزء الثاني من التفسير مع اختصار قليل، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} (البقرة: 228) . هذه كلمة جليلة جدًّا جمعت على إيجازها ما لا يؤدَّى بالتفصيل إلا في سفر كبير، فهي قاعدة كلية ناطقة بأن المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق إلا أمرًا واحدًا عبر عنه بقوله:] وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [وهذه الدرجة مفسرة بقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء: 34) الآية، وقد أحال في معرفة ما لهن وما عليهن على المعروف بين الناس في معاشراتهم ومعاملاتهم في أهليهم، وما يجري عليه عرف الناس هو تابع لشرائعهم وعقائدهم وآدابهم وعاداتهم، فهذه الجملة تعطي الرجل ميزانًا يزن به معاملته لزوجه في جميع الشؤون والأحوال، فإذا هَمَّ بمطالبتها بأمر من الأمور يتذكر أنه يجب عليه مثله بإزائه، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: (إنني لأتزين لامرأتي كما تتزين لي لهذه الآية) . وليس المراد بالمثل المثل لأعيان الأشياء؛ وإنما أراد أن الحقوق بينهما متبادلة وأنهما أكفاء، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا للرجل عمل يقابله لها، إن لم يكن مثله في شخصه، فهو مثله في جنسه، فهما متماثلان في الحقوق والأعمال، كما أنهما متماثلان في الذات والإحساس والشعور والعقل، أي أن كلاًّ منهما بشر تام له عقل يتفكر في مصالحه، وقلب يحب ما يلائمه ويسر به، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه، فليس من العدل أن يتحكم أحد الصنفين بالآخر ويتخذه عبدًا يستذله ويستخدمه في مصالحه، لا سيما بعد عقد الزوجية والدخول في الحياة المشتركة التي لا تكون سعيدة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر والقيام بحقوقه. قال الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه: هذه الدرجة التي رُفع النساء إليها لم يرفعهن إليها دين سابق، ولا شريعة من الشرائع، بل لم تصل إليها أمة من الأمم قبل الإسلام ولا بعده، وهذه الأمم الأوربية التي كان مِن تَقَدُّمها في الحضارة والمدنية أن بالغت في تكريم النساء واحترامهن وعنيت بتربيتهن وتعليمهن العلوم والفنون - لا تزال دون هذه الدرجة التي رفع الإسلام النساء إليها، ولا تزال قوانين بعضها تمنع المرأة من حق التصرف في مالها بدون إذن زوجها. وغير ذلك من الحقوق التي منحتها إياها الشريعة الإسلامية من نحو ثلاثة عشر قرنًا ونصف، وقد كان النساء في أوربا منذ خمسين سن

مشروع فرنسي عظيم الشأن في الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء العالم الإسلامي مشروع فرنسي عظيم الشأن في الحجاز رأينا في بعض الجرائد الفرنسية أن بعض مسلمي أفريقية الفرنسية طلبوا من الدولة الفرنسية أن تبني للحجاج منهم دارًا فرنسية كبيرة في مكة المكرمة، وأخرى في المدينة المنورة يأوون إليهما، ويجتمعون فيهما مدة وجودهم في البلدين المكرمين لأداء مناسك الحج وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، فتلقت الدولة هذا الطلب بالقبول والارتياح، وكان أول من تبرع له بالمال وزارة الحربية في باريس تبرعت بمائة ألف فرنك. نبأ عجيب غريب، وتبرع أعجب وأغرب، متى كان مسلمو المستعمرات الفرنسية يعتقدون أن فرنسة تحرص على تسهيل أداء فريضة الحج لهم، وتهتم براحتهم ورفاهتهم في سفرهم إلى الحجاز وإقامتهم فيه، وهم يرون بأعينهم ويسمعون بآذانهم ما كانت تضعه من العواثير في سبيل أداء هذه الفريضة، وما فعلته بأوقافهم وبتعليمهم الديني وغيره في الجزائر وما تفعله الآن في المغرب الأقصى؟ وهل يُعقل أن يطلبوا منها أن يكونوا في البلاد المقدسة الحرة مستظلين بعلمها وتحت مراقبة جواسيسها كما يكونون في بلادهم؟ لا يعقل بشر أن يُحبوا هذا ويطلبوه. ثم ما شأن وزارة الحربية الفرنسية من هذا المشروع فتتبرع له؟ أليس لأن المرجع إليها في حفظ العَلَم الفرنسي وكرامته والدفاع عنه إذا أهين حقيقة أو ادعاء عند الحاجة إلى هذا الادعاء، وأنه تمهيد لتدخلها في شؤون الحجاز؟ لا يرتاب عاقل في أن هذا الطلب تدبير سياسي في هذه الدولة نفَّذه لها بعض صنائعها من المغاربة كالسي قدور بن غبرايط. وهي معذورة في السعي إلى سبق دول أوربة كلها إلى تأسيس مكان نفوذ لها في البلاد المقدسة التي لا يبيح الإسلام لأحد من غير المسلمين أن يملك شبرًا من أرضها، أو أن يدخلها زائرًا أو تاجرًا أو عابر سبيل؛ ولكن يُستغرب أن يُطلب مثل هذا من الملك عبد العزيز آل سعود مع العلم بصلابته في دينه وشجاعته وعدم إمكان التسلط على إرادته بشيء من الترهيب أو الترغيب! لهذا نقول: إن الذين دبَّروا لفرنسة هذه المكيدة لم يحسنوا التدبير، ولو أحسنوه لوضعوه في صورة غير مشوهة كهذه الصورة، ولأقنعوها بأن تقدم بين يديه توددًا أمثل من التودد الذي كانوا شرعوا فيه مع الملك حسين لمثل هذا الغرض، وهو ما حملته بعثة الحج المغربية من الهدايا. كان من المعقول أن تمهد فرنسة بالاعتراف لحكومة الحجاز بأن سكة الحديد الحجازية هي وقف إسلامي على مصالح الحرمين لتسهيل الحج، وأن الحق في إدارتها واستغلالها لهذه الحكومة، وأن تقدم لها حاصل ريع ما استولت عليه منها في سورية من عهد إدارتها له إلى اليوم، وأن تعترف لها أيضًا بحق صافي ريع أوقاف الحرمين في تونس والجزائر والمغرب الأقصى، وتُطْلِعَهَا على حساباتها، وتؤدي إليها ما فضل منها ولو بعد ما أنفقته على مسجد باريز. بعد مثل هذا التودد تطلب أو تشترط على حكومة الحجاز أن تبني من ريع هذه الأوقاف معهدًا صحيًّا لحجاج المغاربة في مكة المكرمة، وآخر في المدينة المنورة يكون خاصًّا بهم، لا تباح الإقامة فيه لغيرهم بتقديمه عليهم إذا وُجدوا، وأن يكون الحق في إدارته لمصلحة الأوقاف الحجازية، وحسْب فرنسة من فائدته سهولة مراقبة حجاج المغاربة في الحجاز على من يتولون تدبير أمورهم في السفر إلى الحجاز، واستمالتها للمسلمين بالعناية المعقولة بأمرهم. مثل هذا يُحتمل أن تقبله الحكومة السعودية لما يظهر فيه من أمارات حسن النية، وأمن سوء العاقبة التي عرفت من الأوربيين وسائلها ومقاصدها، ومنها أن التساهل معهم بإباحة الانتفاع بشيء ما من بلاد الشرق يجعلونه حقًّا لهم إلى الأبد، ومن هذا القبيل ما يسمونه بالامتيازات الأجنبية في مصر وسائر البلاد التي كانت تابعة للسلطنة العثمانية بالفعل أو تحت سيادتها، ومنه وجود قناصلهم في جدة، وأعجب منه مسألة زيارة اليهود لجدار المسجد الأقصى المسمى بالبراق، كان تساهلاً من المسلمين ورحمة باليهود الذين لم يرحمهم أهل ملة في الأرض غيرهم، والآن يحاولون أن يجعلوه بنفوذ الدولة الإنكليزية حقًّا لهم، ووسيلة إلى ما هو أعظم منه. تعليم البنات ونفقته على الوالد تناقلت الجرائد في هذه الأيام أن أحد قضاة الشرع في مصر حكم لامرأة على رجل بنفقة ابنته منها إلا أجرة تعليمها في المدرسة، فقد أثبت في الحكم أنها ليست عليه شرعًا! فكان هذا الحكم مدعاة الاستغراب والقيل والقال؛ لأن تعليم البنات صار في هذا العصر من أهم الواجبات عند جميع طبقات الناس، فترى بعضهم يقدح في هذا القاضي، وبعضهم وهم الملاحدة يقدحون في الشرع نفسه، وكل منهما جاهل مسيء، ولا يمكن العلم بخطأ هذا القاضي إلا من نص الحكم الذي كتبه ونطق به فإن من تعليم البنات ما هو واجب مفروض شرعًا، ومنه ما هو فضيلة مندوب شرعًا، ومنه ما هو محرَّم أو مكروه شرعًا، وما يدرينا لعل هذا القاضي علم أن تلك الوالدة تعلِّم بنتها في مدارس الراهبات أو غيرها من مدارس دعاة النصرانية التي يُلَقَّن فيها التلاميذ عقائد دين أهلها، ويُجبرون على حضور عباداته في كنيسة المدرسة، فهل يقول مسلم يؤمن بالله وبما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم: إن التعليم في هذه المدارس شرعي يوجب الشرع نفقته على والد البنت؟ كلا إنه لا يقول هذا إلا ملحد في الإسلام أو جاهل لعقائده وأحكامه كالذين يعلِّمون بناتهم وأبنائهم في هذه المدارس، ولا يبالون ما تجنيه على دينهم. وإذا بحث المسلم العالم بدينه عن كثير من مدارس البنات التي تُسمى إسلامية يجد في تعليمها من المنكرات الشرعية ما لا يسعه القول بإباحته، وقد بلغنا أن خير هذه المدارس في أصل وضعها وهي مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية لا يمرن فيها البنات على صلاة الفريضة، فماذا يقال في غيرها؟ احتج بعض الجرائد على حكم هذا القاضي بحديث (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وزادوا فيه نقلاً عن أمثالهم من الجاهلين بالحديث (ومسلمة) وما هي منه ولكنها مرادة كسائر نصوص الشرع العامة التي يذكر فيها (المسلمون أو المؤمنون) من باب التغليب، فالأصل في جميع أحكام الشرع أن تكون للمؤمنين والمؤمنات إلا ما خص بأحدهما كأحكام الحيض والنفاس الخاصة بالنساء، وأحكام الجهاد الخاصة بالرجال مثلاً، وقد بيَّنا ذلك في مواضع آخرها مقالات (المساواة بين الرجال والنساء) التي تنشر في جريدة كوكب الشرق، وفي المنار.

مسألة مصر والسودان ومشروع المعاهد بين مصر والإنكليز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة مصر والسودان ومشروع المعاهدة بين مصر والإنكليز علم الإنكليز بما علمتهم ثورة مصر سنة 1919 أن قولهم: إننا ندير الأحكام في مصر برجال - أي بآلات - من أهلها، قد بطُل وتعذر بقاؤه، فوطنوا أنفسهم على الاعتراف باستقلال مصر المقيد بما علمنا، والاستقلال بالحكم في مملكة السودان الشاسعة الواسعة، وطرد المصريين منها مع الاستمرار على أخذ المال الكثير من خزينة مصر باسم السودان في كل سنة، فافترصوا الوقت المناسب لتنفيذ ذلك فنفذوه، وأما مصر فسلكوا في معاملتها مسلك المضايقة لحكومتها في كل تصرف، والمعارضة لما يقرره (برلمانها) حتى في الأمور الداخلية حتى رموها بالشلل، وكان ما كان من إفضاء ذلك إلى إلغاء حكومة الدستور وتعطيل البرلمان وتأليف وزارة محمد محمود باشا سليمان زعيم الحزب الدستوري الذي يعتمدون عليه بمصر، وفي إثر ذلك سقطت وزارة المحافظين البريطانية المثيرة لهذه المشاغبات، والمدبرة لهذه المضايقات، والمديرة لهذه المكايدات، وتبعها إلجاء المندوب السامي البريطاني المنفذ ما أشرنا إليه من السياسة السوءى إلى الاستقالة من منصبه، ثم وضع أساس الاتفاق على حل عقد المشكلة المصرية بمعاهدة تُعقد بين الحكومتين كما بيَّنا ذلك كله في أجزاء منار هذا العام (الهجري) الثاني والثالث والرابع. ورأى الإنكليز أن المعاهدة التي عرضوا مسائلها على محمد محمود باشا وتراضوا معه عليها لا تكون شرعية إلا إذا وافق عليها برلمان مصري، ومن ثم سعوا إلى تغيير الوزارة (الدكتاتورية) وإعادة الحكم الدستوري إلى مصر بعد أن آنسوا من رئيس الوفد المصري ميلاً إلى الاتفاق معهم على هذا الأساس في الجملة، وقد كان ذلك أمرًا مفعولاً، فتألفت وزارة مؤقتة برياسة عدلي باشا يكن لإعادة انتخاب النواب المصريين، فكان ذلك وكانت الأكثرية العظمى في مجلس النواب الجديد للوفد المصري وكذلك مجلس الشيوخ، ومن ثم تألفت الوزارة الدستورية الجديدة برياسة مصطفى باشا النحاس رئيس الوفد وتلا ذلك تأليف وفد من وزارته لمفاوضة الحكومة البريطانية في المعاهدة الجديدة على ذلك الأساس بعد الاتفاق على ما يعرضه الوفد من التحوير والتعديل الذي أشرنا إليه في جزء المنار الرابع (ص 315 م 30) بقولنا في المشروع: (ومن الناس من يظن كما نظن أن البرلمان الوفدي لا يرده ردًّا ولكنه يتوخى خدمة البلاد بما يبين به ما فيه من إجمال، ويوضح ما فيه من إبهام، ويقيد ما تخشى مغبته من إطلاق) وقد كتبنا هذا قبل تأليف البرلمان الجديد. ذهب وفد المفاوضة إلى لندن للمفاوضة، فتلقته الحكومة البريطانية بالحفاوة والإكرام والمآدب، وكان من إكرامه مقابلة (الملك صاحب الجلالة البريطانية) له بالمجاملة، ثم دارت المفاوضات بينه وبين حكومة العمال، وتواترت الأنباء البرقية اليومية بأن الفريقين المتفاوضين حريصان على الاتفاق لم يظهر منهما إلا حسن النية التي تبشر بكل خير، حتى إذا ما جاء دور البحث في السودان تصادما فيه تصادمًا كاد يحبط كل ما تقدمه من تساهل، ويعيد مصطفى باشا النحاس بخفي حنين كما عاد سلفه سعد باشا قبله. ظهر للوفد المصري أن الإنكليز يريدون الانفراد بالحكم في السودان، أي جعله بريطانيًّا محضًا لا حظ لمصر من الشركة الفعلية فيه، وأن يكون ذلك بإقرار الوفد، وتصديق البرلمان المصري على الحالة الحاضرة فيه، ويأبون أن يكونوا شركاء لمصر فيه بالمساواة الفعلية، وهو حق مصر وحدها وليس لهم أدنى حق قانوني بهذه الشركة التي عقدوها سنة 1899 مع بطرس باشا غالي الذي كان وزير الخارجية المصرية، إذ لا حق له بعقد هذه الشركة، وكان لورد كرومر أراد يومئذٍ أن يحمل مجلس النظار المصري على عقد تلك الشركة، فكلَّم رئيسه مصطفى فهمي باشا في ذلك فأجابه أن الفرمانات السلطانية بالاستقلال الإداري لمصر لا تبيح للحكومة المصرية ذلك فهو حق السلطان العثماني وحده، فلما لم يمكن جعل عقد الشركة بقرار من مجلس النظار بناء على أنه لا حق له في عقدها رضوا بما دونه، وهو عقدها مع وزير الخارجية. وقد قلنا في آخر الجزء الثالث (ص420 م 30) بعد بيان مشروع الاتفاق الذي حمله محمد محمود باشا ما نصه (مسألة السودان أهم مسائل هذا الاتفاق على الإطلاق؛ لأن مصر لا حياة لها بدون السودان، فهو منها بمنزلة القلب من البدن، والنيل الآتي منه بمنزلة الدم الذي يغذي الجسد ويحفظ حياته) . فأي خزي أخزى من إعطاء مصر السودان العظيم الشأن للإنكليز بصفة رسمية تتفق عليها الحكومة والأمة الممثلة في برلمانها؟ وحرمان نفسها من هذه المملكة العظيمة التي هي أصل وجودها ولا بقاء لها إلا بها؟ نعم إن الإنكليز مستولون على السودان بالقوة التي مكنها فيه إهمال مصر السابق من عهد إرسال إسماعيل باشا إليه (غوردون) الإنكليزي وإعطائه حق التصرف فيه وإعانته على ذلك بالمال؛ ولكن هذا الاستيلاء غصب همجي لا حق قانوني، فإذا لم يقرِّه البرلمان المصري فلمصر الحق في كل وقت بالمطالبة به بلسان القانون الدولي والحق الطبيعي، ثم بالقوة عند سنوح الفرصة، ولا ييأس من فرص الزمان إلا الجبناء الجاهلون، كما أنه {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) . لا يخفى على أحد من رجال الوفد ولا غيرهم أن هذه المعاهدة التي تدور المفاوضة بشأنها مقيدة لاستقلال مصر بقيود ثقيلة فيها خطر كبير، وأن النص فيها على انتهاء الاحتلال لا معنى له في الواقع إلا انتقال الجيوش المحتلة من القاهرة إلى منطقة الإسماعيلية وما وراءها إلى السويس من أهم المواقع العسكرية في البلاد، وأنها تتضمن خطرًا آخر هو شر من التحفظات الأربعة التي قيد به تصريح فبراير سنة 1922 المشهور، وهي القيود العسكرية المعروفة، وما عدا ذلك من المزايا فيها كالدخول في عصبة الأمم وحماية الأجانب وإلغاء المحاكم القنصلية فهو قليل ضئيل حقير، إذا بيع به السودان العظيم الضخم الكبير. لذلك نجزم بأن قطع المفاوضات وفشل مشروع المعاهدة خير وأبقى على مصر، وأضمن لحياتها في المستقبل من إعطاء السودان للإنكليز عطاء رسميًّا. إن طبيعة الاجتماع البشري سائرة سيرًا سريعًا إلى القضاء على استعباد أقوياء الشعوب لضعفائها باسم الاستعمار وغيره من الأسماء الخادعة كالحماية والانتداب، وإذا كانت الهند مصدر ثروة الإنكليز وعظمتهم وهيكل إمبراطوريتهم قد هبت تطلب الاستقلال المطلق، وهي تسير إليه سيرًا طبيعيًّا لا شك في وصولها إلى الغاية منه، فهل يليق بمصر أن تهب السودان لهم هبة رسمية؟ إن هذا لا يعقله أحد أوتي مسكة من العقل والشرف.

مصر والحجاز ومفسدة عالم جريدة الأهرام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصر والحجاز ومفسدة عالم جريدة الأهرام كل مسلم مخلص لدينه في الحجاز ومصر يتمنى الاتفاق والاتحاد والتعاون بين حكومتيهما، وكذلك غير المسلمين من سكان مصر المخلصين لها يتمنّوْن ذلك، وقد أظهرت هذا التمني جميع الجرائد المصرية المعتبرة وأكثرت من التساؤل عن المانع للحكومة المصرية من الاعتراف بحكومة الحجاز السعودية، وقد اعترفت بها الدول الأوربية العظمى والدول الشرقية وهي التركية والإيرانية والأفغانية وآخرها العراقية. بعد هذا كله رأينا مقالاً كليالي الشتاء في ظلمتها وبردها وطولها يُنشر تباعًا في أعداد الشهر الماضي من الأهرام بإمضاء (عالم حاج) يشهد على كاتبه بأنه جاهل لا عالم، ومنافق لا صادق، وأما وصف نفسه (بحاج) في غير زمن الحج فلا معنى له ولا وضعه في الإمضاء مما يجعل شبهاته حججًا، بل مقاله حجة على أنه ما حج إذ سافر إلى الحجاز ولكن حجت العير، وما كل من حج بيت الله مبرور. من أدلة جهله بعقائد الإسلام، وبسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، جعله بدعة (المحمل المصري) من شعائر الإسلام، وإباحته لحرس المحمل ترك لباس الإحرام، وحمل السلاح بمكة وغيرها من الحرم بغير ضرورة، بل مع ما علم من إثارة أمير الحج لتلك الفتنة؛ ولكن مع جهله طبعًا بما رواه مسلم في صحيحه من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح) وما في معناه. وأما الدليل على نفاقه وابتغائه الفتنة بين الحكومتين، فهو تذكيره للحكومة السعودية بما كان من قتال محمد علي باشا لسلفها في الحجاز، ثم في نجد وتهديدها بإعادة هذه الحرب سيرتها الأولى، مع علمه أو جهله بعدم إمكانها، وبأنها إذا أمكنت كانت أعظم الشرور والمفاسد بين المسلمين، وكانت ثمرتها للأجانب غير المسلمين، وأولهم الإنكليز المحتلون لمصر المانعون لها من استقلالها ومن إنشاء قوة تدافع بها عن نفسها، فمَثَل (عالم الأهرام وحاجها) فيما نشرتْه له - وهي أعلم منه بأنه مفسدة - كَمَثَل ذلك المفسد الذي كان يكتب لها المقالات بإمضاء (عربي مطلع) في تأييد خروج فيصل الدويش على إمامه وملكه، والتوسل به إلى الصد عن الحج، ثم تبين كذبه في كل ما كتبه. كنت شرعت في كتابة رد مفصل على مقالة (عالم حاج الأهرام) لتُنشر في بعض الجرائد اليومية لإزالة ما يمكن أن يكون لها من الأثر الإفسادي السيئ في أنفس بعض العوام، ثم كففت عن إتمامه لأنني رأيت أن بسط الحقائق فيه قد يسوء أناسًا لا نحب أن نسوءهم، وأن الإمساك عن نشرها قد يكون أرجى لنجاح السعي في التوفيق والتأليف بين الحكومتين. ولكنني أشير عن بُعد إلى مسألة تكلم فيها بغير علم غير هذا (العالم الحاج) ممن لا نتهمهم بمثل ما نتهمه به من سوء النية، وهي المن على الحجاز وحكومة الحجاز وأهل الحجاز بإحسان حكومة مصر، وتفضلها عليهم قديمًا وحديثًا بالصدقات والمبرات والإحسانات التي منها كسوة الكعبة المعظمة والتكيتان اللتان تطعمان بعض الفقراء في البلدين المكرمين. ربما يجهل بعض هؤلاء ما لا يجهله (عالم الأهرام وحاجه) من أنه ليس لحكومة هذا العصر منة على بيت الله، ولا على حرمه وحرم رسوله ولا على أهلهما فضلاً عن حكومتهما، بل هذه الحكومة المصرية هاضمة لحقوق شرعية موقوفة على ما ذكرنا من الملوك السابقين وغيرهم من أغنياء المسلمين تقربًا إلى الله تعالى - فهي لا تؤدي منها إلا قليلاً من كثير (أو من الجَمَل أُذُنُه كما يقول المثل العامي) . إن هذه الحكومة تتصرف بألوف الجنيهات من ريع أوقاف الحرمين الشريفين فتنفقها في مصر وغير مصر من دون الحجاز، ومن هذا التصرف ما يعده الناس في محله، ولو كان من جيوبهم أو من الأوقاف الخيرية المطلقة التي ليس لها جهة صرف معينة، ومنها ما يعدونه في محله بصرف النظر عن كونه من أوقاف الحرمين، ولا نعرف منها إلا صرف خمسة آلاف جنيه من أوقاف الحرمين للمساعدة على عمارة المسجد الأقصى. إن حكومات مصر الأخيرة قد أضاعت كثيرًا مما وقفه المحسنون من أغنياء مصر وغيرهم على الحرمين الشريفين، وما بقي معروف وضبط حسابه بالنظام العصري لايؤدى كله إلى الحرمين، ولو كان الواقفون له أحياء لما استباحوا لأنفسهم إيذاء جيران الله وجيران رسوله بالمن عليهم به؛ لأنه إنما وقف قربة واحتسابًا لوجه الله تعالى، فكيف يستبيح هذا المن والأذى لله ولرسوله ولجيرانهما من لا حظ لهم من هذا البر إلا كراهته وحض الحكومة على منعه وتهديد أهل الحرمين بذلك؟ من شاء أن يعرف شيئًا عن الكسوة الشريفة وما وقف عليها، وعن بدعة المحمل ومفاسدها فليراجع كتاب (مرآة الحرمين) لأفضل من تولى إمارة الحج من قبل حكومتنا المصرية في عصرنا هذا، وهو اللواء إبراهيم رفعت باشا، ومنه يُعلم أن هذه الأوقاف الواسعة قد ذهب أكثرها ... كان أكبر خطأ جناه عبد الخالق ثروت باشا على مصر منعه إرسال كسوة الكعبة المشرفة إلى مكة المكرمة وحرمان مصر من هذا الشرف العظيم لها ولجلالة ملكها الذي تطرز الكسوة باسمه، وإلجاؤه ملك الحجاز إلى إنشاء دار جديدة لنسج الكسوة فيها، فأحسن إليه من حيث أراد أن يسيء، وأغرب من جنايته هذه اعتذاره عنها في مجلس النواب بأنه خشي أن لا تقبلها الحكومة السعودية، وتعتذر عن ذلك بأن الوهابيين يعدونها بدعة كالمحمل، وأغرب من هذا الاعتذار قبول المجلس له بعد العلم بأن ملك الحجاز صرح رسميًّا بقبول الكسوة إذا أرسلت، ومع علم الكثير من أعضائه بأن كسوة الكعبة قديمة لا يقول الوهابيون ولا غيرهم ببدعيتها، وأن المحمل بدعة سيئة ابتدعتها شجرة الدر لا يختلف عالمان بقبحها، وإن استحسنها عالم الأهرام وحده.

الكتابة بالحروف اللاتينية في جاوة

الكاتب: محمد بسيوني عمران

_ الكتابة بالحروف اللاتينية في جاوة جاءنا من الأستاذ صاحب الإمضاء من جزيرة (سمبس برنيو) في جاوة ما يأتي: إنني لا أعلم ما فائدة استعمال الدولة التركية الكمالية للحروف اللاتينية، أو استبدالها لها بالحروف العربية في كتابة لغتها، ولعلها ترى أن تعلم الكتابة بالحروف اللاتينية أسهل من تعلمها بالحروف العربية، وإننا نكتب لغتنا الملاوية بالحروف العربية واللاتينية معًا؛ ولكن استعمال اللاتينية الآن في جزائر جاوة وسومطرة وبورنيو من المستعمرات الهولاندية أكثر من استعمال الحروف العربية (الملاوية) تبعًا للحكومات الهولاندية والتجار الأجانب؛ ولهذا لا تجد جرائد ومجلات هذه الجزائر الملاوية مكتوبة بالحروف العربية (الملاوية) إلا قليلاً جدًّا بالنسبة إلى الجرائد والمجلات التي تُكتب بالحروف اللاتينية. وأما فوائد استعمال الحروف اللاتينية عندنا، فمنها أن لغتنا الملاوية يعرفها الملايين ممن ليسوا من أهلها كالأوربيين (لا سيما الهولانديين والإنكليز) والصينيين وغيرهم، وأنها يُتَخَاطب بها فيما بيننا وبينهم من أمور الحكومات والتجارات وغيرها، وهم لا يقرءون ولا يكتبون اللغة الملاوية إلا بالحروف اللاتينية، ومنها أننا إذا أردنا أن نُفهمهم حقيقة الدين الإسلامي، وأن نبين لهم آدابه ومحاسنه بالكتابة مثلاً، فلا يفيدهم ذلك إلا باستعمال الحروف اللاتينية فيها؛ ولهذا طبعوا ترجمة تفسير سورة (والعصر) للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده باللغة الملاوية، وترجمة سورة (الفاتحة) من تفسير المنار بالحروف اللاتينية، وأظن أن ذلك بأمر الأستاذ الشيخ أحمد سور كتي زعيم الإرشاديين في جاوة، وهل توجد مثل هذه الفوائد عند الدولة التركية الكمالية باستعمال الحروف اللاتينية في كتابة لغتها؟ ومع ذلك أقول: إن ضرر استعمال الحروف اللاتينية دون العربية (الملاوية) ظاهر بيِّن بسوء تأثير الاستعمار الذي أحاط بالبلاد من كل جانب، فإن من تعلموا في مدارس الدولة الهولاندية قلما يكتبون لغتهم الملاوية بالحروف العربية (الملاوية) وهم أكثر من يقرؤون ويكتبون، بل يكتبون ويقرؤون باللاتينية، وإن كانوا يعرفون الملاوية، ولو تركت الحروف العربية الملاوية بالمرة كتابة وقراءة لكان ضرره أكبر على أهل ملايو؛ فإن جميع الكتب الدينية والآداب المحمدية وغيرها مطبوعة بالحروف العربية (الملاوية) وأن اللغة العربية يتعذر أن تكتب باللاتينية إلا قليلاً، فكيف تكتب إذن آيات القرآن والأحاديث النبوية باللاتينية؟ ثم إن ذلك خسران عظيم على أهل ملايو؛ فإنه يضيع عليهم علم ورثوه من آبائهم الأولين، وهو علم الكتابة بهذه الحروف العربية (الملاوية) الذي هو من أكبر العلوم، وبه يخرج الإنسان من الأمية. هذا وإني أرى أنه ينبغي لنا أهل ملايو أن نعرف ونستعمل الحروف اللاتينية في ضرورياتنا كما نعرف ونستعمل الحروف العربية الأصلية والملاوية؛ ولكن لا يحسن، بل لا يجوز لنا أن نترك الحروف العربية (الملاوية) مستبدلين اللاتينية بها، كما لا يحسن لنا أن نستعمل الملاوية فقط دون اللاتينية؛ فإن ذلك ضروري لبعض أمورنا الدنيوية التي تكون عونًا لأمورنا الدينية، وخير لنا أن نأخذ عن أهل أوربا أو غيرهم ما هو نافع لنا في ديننا ودنيانا، وأن نترك ما هو ضار لنا في ديننا ودنيانا. سمبس 14 رمضان سنة 1348 الموافق 13 فبراير سنة 1930 ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران (المنار) ما كان لكاتب هذه الرسالة، وهو ممن يقرءون المنار منذ سنين كثيرة أن يظن أن الترك الكماليين قد آثروا الحروف اللاتينية على الحروف العربية في كتابة لغتهم لأجل سهولة التعليم بها، فقد بيَّنا في المنار أن سبب هذا الإيثار إبعاد شعبهم عن دين الإسلام، وقطع كل صلة كانت تربطهم به مهما يكن في ذلك من المضار الأخرى كإضاعة ما تعب فيه علماؤهم وأذكياؤهم في ترقية هذه اللغة، وتأليف المصنفات الكثيرة بها في جميع العلوم والفنون العصرية في مدة ثمانين سنة، ودفن الدفاتر والسجلات الكثيرة التي تحفظ تاريخهم السياسي والاجتماعي والحربي، ومحاولة ما لا يستطيعون من خلق شعب جديد ملحد بما يشبه التكوين الذاتي الذي لا ثبوت له في أي نوع من أنواع الحيوان أو الحشرات، ليس له من العلاقة بالماضي إلا لفظ (تورك) والحروف اللاتينية لا تعبر عن لغتهم تعبيرًا صحيحًا، فهي مضيعة لها لا مسهلة لتعلمها، والأمر على خلاف ذلك في لغة الملايو، وإننا نجزم مع هذا بأن أهل هذه اللغة إذا عملوا برأي الكاتب في الجمع بين كتابتها بالحرفين العربي واللاتيني فإنه ينتهي الأمر بإماتة الثاني للأول، ويضيعون دينهم الذي هو خير لهم في الدنيا والآخرة من لغتهم بأي حرف كُتبت، وما ذكره من فائدة نشر الدين وغيره مما يريدون إطلاع حكامهم وغيرهم عليه فهو يحصل بقيام أفراد به في كل مدينة كبيرة، ولا يتوقف على تعليم هذه الحروف لجميع أولادهم، نعم إذا كان يمكنهم أن يجعلوا تعليم اللغة العربية إجباريًّا ويعمموها فإن كتابة الملاوية حينئذٍ بالحروف اللاتينية لا تضرهم، فليتدبروا الأمر قبل أن يغلبوا عليه.

تتمة البحث في حقيقة ربا القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة البحث في حقيقة ربا القرآن نموذج من أقوال الفقهاء المحققين موضوع علم الفقه أحكام الفروع العملية، فمن الفقهاء من يذكرها مقرونة بأدلتها المعتمدة في مذهبه، ومنهم من لا يُعنى بذكر الدليل مطلقًا، ومنهم من يذكر دليل ترجيح بعض أقوال علمائه على بعض؛ ولكنهم يعنون بذكر الأدلة في كتب الخلاف العام أو الخاص ببعض المذاهب دون بعض، ككتب الحنفية التي تعنى بترجيح مذهبهم على مذهب الشافعي وحده لما كان بين علماء المذهبين من التنازع على المناصب في الدولة، وليس من مسائل هذه المذاهب تحقيق مسألة ربا القرآن وَحَدِّه، والتمييز بينه وبين الربا الوارد في الأحاديث أو المستنبط بأقيسة الفقه؛ وإنما يأتي ذلك في كلام بعضهم دون بعض، ولا سيما المحققين منهم فننقل شيئًا مما ذكروه في مسألتنا. ما قاله بعض الحنفية: أما الحنفية فقد نقلنا في فصل كلام المفسرين والمحدثين ما قاله الإمام الجصاص في بيان ربا القرآن من تفسيره - وما قاله الإمام الطحاوي في ذلك، وهما من أئمة فقهائهم أهل الدليل، وأما فقهاؤهم الأقحاح فكلامنا كله في الرد عليهم. ما قاله بعض المالكية: وأما المالكية فقد تكلم بعضهم في المسألة في كتب الفقه فنذكر أهم ما اطلعنا عليه منه: قال الإمام قاضي الجماعة أبو الوليد ابن رشد المتوفى سنة 595 في كتابه (المقدمات الممهدات، لما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات) يعني مدونة الإمام مالك رحمه الله وذلك بعد (فصل ما جاء في تحريم الربا) قال ما نصه: وأصل الربا: الزيادة والإنافة، يقال: ربا الشيء يربو: إذا زاد وعظم، وأربى فلان على فلان - إذا زاد عليه - يربي إرباء، وكان ربا الجاهلية في الديون أن يكون للرجل على الرجل الدين، فإذا حلَّ قال له أتقضي أم تربي؟ فإن قضاه أخذه وإلا زاد في الحق وزاده في الأجل، فأنزل الله في ذلك ما أنزل، فقيل للمربي مربٍ للزيادة التي يستزيدها في دينه لتأخيره إلى أجل، فمن استحل الربا فهو كافر حلال الدم، يُستتاب فإن تاب وإلا قُتل. قال الله عز وجل: {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 275) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} (البقرة: 278) إلى قوله {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (البقرة: 279) ... إلخ. ثم عقد فصلاً للخلاف الأصولي في لفظ الربا في القرآن، هل هو عام أو مجمل، واستدل بحديث عمر في عدم تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له على أنه مجمل. وهذا الاستدلال مردود بالبداهة؛ لأنه لا يجوز أن يترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا المجمل بغير بيان مع الحاجة إليه؛ وإنما اختلف علماء الأصول في تأخير البيان لا في تركه، فإن الله تعالى قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) وقال لرسوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) على أننا إن قلنا بجوازه وتركه للاجتهاد صارت المسألة اجتهادية ولم تكن مما ثبت بالنص، وما اعتمده أخونا المفتي الهندي من كون حديث عبادة في بيع الأصناف الستة بيانًا له فقد بيَّنا بطلانه بالإجمال وما نحن فيه من التفصيل. ثم ذكر هذه المسألة في كتابه (بداية المجتهد) فقال في الباب الثاني من كتاب البيوع (ص106) ما نصه: واتفق العلماء على أن الربا يوجد في شيئين: في البيع، وفيما تقرر في الذمة من بيع أو سلف أو غير ذلك، فأما الربا فيما تقرر في الذمة فهو صنفان: صنف متفق عيه وهو ربا الجاهلية الذي نُهي عنه؛ وذلك أنهم كانوا يسلفون بالزيادة وينظرون (أي يؤخرون) فكانوا يقولون: أنظرني أزدك، وهذا هو الذي عناه عليه الصلاة والسلام بقوله في حجة الوداع: (ألا وإن ربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب) والثاني (ضع وتعجل) وهو مختلف فيه وسنذكره بعد [1] . (قال) وأما الربا في البيع فإن العلماء أجمعوا على أنه صنفان: نسيئة وتفاضل إلا ما روي عن ابن عباس من إنكاره الربا في التفاضل لما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ربا إلا في النسيئة) وإنما صار جمهور الفقهاء إلى أن الربا في هذين النوعين لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم اهـ. فهو قد صرَّح بأن ربا الجاهلية خاص بتأخير ما ثبت في الذمة - مهما يكن سببه - إلى أجل بزيادة في المال، وأنه هو الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لنهي الله تعالى عنه، وأن ربا التفاضل الذي أثبته جمهور الفقهاء إنما ثبت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي لا بنص القرآن. ونقفي على هذا بكلمة أخرى لبعض محققي المالكية، وهو الإمام الحافظ الأصولي الفقيه أبو اسحاق إبراهيم الشاطبي المتوفى سنة 790 صاحب كتاب (الموافقات) في أصول الدين ومقاصده و (كتاب الاعتصام) وهما الكتابان اللذان لم يسبقه بمثلهما سابق، ولم يلحق غباره فيهما لاحق، وقد ساعده على الاستقلال فيه وفي غيره أنه لم يكن ينظر في كلام الفقهاء المعاصرين، بل يعتمد على كتب المتقدمين، وقد ذكر هذه المسألة في الشواهد التي جاء بها في مبحث الأصول الكلية من الموافقات، وهي التي تدور عليها أحكام القرآن في جلب المصالح ودفع المفاسد من الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وكون كل ما في السنة يرجع إلى القرآن وبيان له في الضروريات الخمس الكلية، وهي حفظ الدين والنفس والمال والعقل والعرض، وأورد الأمثلة على ذلك في كل منها فقال في أصل المال ما نصه (ص20 ج 4 طبعة تونس) : (أحدها أن الله عز وجل حرم الربا، وربا الجاهلية الذي نزل فيه {إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} (البقرة: 275) هو فسخ الدين في الدين، يقول الطالب: إما أن تقضي وإما أن تربي، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) فقال عليه السلام: (وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله) وإذا كان كذلك، وكان المنع فيه إنما هو من أجل كونه زيادة على غير عوض، ألحقت السنة به كل ما فيه زيادة بذلك المعنى فقال عليه السلام: (الذهب بالذهب) إلخ. فهو قد أثبت أن الربا المحرَّم بنص القرآن هو ربا الجاهلية فقط، وأن السنة ألحقت به ربا الفضل بالقياس عليه على قاعدته التي قدمها. وأصرح منه ومما قبله قول القرطبي من كبار فقهائهم وقد تقدم. ما قاله بعض الشافعية: قال الإمام الحافظ الفقيه أبو زكريا محيي الدين النووي محرر فقه الشافعية المتوفى سنة 676 في شرح المهذب، وهو أجمع كتب الفقه والخلاف ما نصه (ص 391ج 9) . قال الماوردي: اختلف أصحابنا فيما جاء به القرآن من تحريم الربا على وجهين (أحدهما) أنه مجمل فسَّرته السنة، وكل ما جاءت به السنة من أحكام الربا فهو بيان لمجمل القرآن نقدًا كان أو نسيئة (والثاني) أن التحريم الذي في القرآن إنما تناول ما كان معهودًا للجاهلية من ربا النسأ وطلب الزيادة في المال بزيادة الأجل، وكان أحدهم إذا حل أجل دينه ولم يوفه الغريم أضعف له المال وأضعف الأجل، ثم يفعل كذلك عند الأجل الآخر، وهو معنى قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} (آل عمران: 130) . قال ثم وردت السنة بزيادة الربا في النقد مضافًا إلى ما جاء به القرآن، قال وهذا قول أبي حامد المروذي اهـ، وأقره النووي على هذا النقل. أقول: إن القول الأول احتمال أخذه القائلون به من الشافعية من عبارة الشافعي في الأم في آية {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (البقرة: 275) وقد ذكرنا عبارته في الأم وأن المعتمد عنده رضي الله عنه العموم لا الإجمال في الآية، وقد ذكر الشمس الرملي ذلك في شرح المنهاج، وأن المعتمد عندهم عدم الإجمال وهو الذي حققه الكيا الهراسي من فقهائهم. وقد أطال في أول كتاب البيع من شرح المهذب في كلام الشافعية في الآية من جهة العموم والإجمال، وذكر لهم فيها أربعة أقوال، فيراجعها من شاء. وقال العلامة فقيه الشافعية في عصره أحمد بن حجر المتوفى سنة 973 في الكلام على كبيرة الربا من كتابه (الزواجر عن اقتراف الكبائر) بعد افتتاح الكلام بآيات سورة البقرة، وذكر أنواع الربا عند الفقهاء وهي أربعة ما نصه (ص 124 ج 1 طبعة سنة 1292) وربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرًا معينًا ورأس المال باقٍ بحاله، فإذا حل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاد في الحق والأجل، وتسمية هذا نسيئة مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضًا (أي لغة لأن النسيئة هي المقصودة فيه بالذات، وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع كثيرًا، وكان ابن عباس رضي الله عنه لا يحرِّم إلا ربا النسيئة محتجًّا بأنه هو المتعارف بينهم فينصرف النص إليه؛ لكن صحت الأحاديث بتحريم الأنواع الأربعة السابقة من غير مطعن ولا نزاع لأحد فيها، ومن ثم أجمعوا على خلاف قول ابن عباس على أنه رجع عنه ... إلخ. فهو قد بيَّن أن ربا الجاهلية هو المحرَّم بنص القرآن، وأن ما عداه قد حُرِّم بما ورد من الأحاديث فيه كما تقدم عن غيره. ما قاله بعض علماء الحنابلة: قال العلامة المحقق المفسر المحدِّث الأصولي الفقيه الحنبلي صاحب التصانيف المتفق على جلالتها أبو عبد الله محمد شمس الدين بن قيم الجوزية المتوفى 751 في كتابه أعلام الموقعين عن رب العالمين ما نصه: الربا نوعان: جلي وخفي (فالجلي) حُرِّم لما فيه من الضرر العظيم (والخفي) حُرِّم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصدًا، وتحريم الثاني وسيلة، فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال، وكلما أخَّره زاد في المال حتى تصير المائة عنده آلافًا مؤلفة، وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج، فإذا رأى أن المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره وتعظم مصيبته، ويعلوه الدَّين حتى يستغرق جميع موجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي مع غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرَّم الربا، ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه، وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر. وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه، فقال: هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال، وزاده هذا في الأجل، وقد جعل الله سبحانه الربا ضد الصدقة، فالمرابي ضد المتصدق قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276) وقال: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم: 39) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (

مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة في مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات المحاكم الشرعية الأهلية وعلاقة كل منهما بالدين - 11 - كان الحكم في البلاد الإسلامية كلها بالشريعة الغرَّاء؛ لأنها كاملة كافلة لجميع مصالح البشر على أساس العدل والمساواة بين الناس، لا فرق فيهما بين مؤمن وكافر، وبر وفاجر، ولا بين غني وفقير، أو ملك وسوقة، كما يرى الناس من نصوصها إذ يدخلون المحاكم حتى الأهلية في الألواح المعلقة فوق رؤوس القضاة من نص قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58) وهو معطوف على قوله قبله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) . وفي القرآن الحكيم آيات أخرى في إيجاب العدل والمساواة، كقوله تعالى في أهل الكتاب: {فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} (المائدة: 42) إلى قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (المائدة: 42) وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) فهذه الآية تأمر المؤمنين بالمبالغة في القيام بالقسط، أي العدل في الحكم والشهادة التي يستند إليها الحكم بالمساواة كما تقدم، وفي معناها قوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8) تعبدنا الله بالعدل في الحكم والشهادة حتى بيننا وبين الأعداء والمبغضين بقوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا} (المائدة: 8) أي ولا يحملنكم عداوة قوم وبغضهم على عدم العدل فيهم، فإن العدل حق الله أوجبه لجميع الناس فصار حقًّا لهم بحكمه وإحقاقه تعالى. ولما كان بعض القضايا يتعلق بأحكام الأديان في الحلال والحرام التعبديين بلغ من حرية الإسلام ومراعاته للوجدان أن سمح للداخلين في حكمه من غير أهله أن يتحاكموا إلى علماء دينهم في ذلك، وكل من هذا السماح وذلك العدل بالسواء مما امتاز به الإسلام على جميع الشرائع والأديان، ولما كان المسلمون ينفذونه كما أمر الله تعالى دخل أهل الملل التي فتحوا بلادها في دين الله أفواجًا باختيارهم واقتناعهم، ومن بقي منهم مطمئنًا بدينه كانوا يفضلون أحكام المسلمين على أحكام أهل دينهم في الغالب. ولما صار الملك والحكم في المسلمين إلى الجاهلين بهذه الشريعة العادلة وغير المتربين على التدين باتباع الحق والعدل كالأولين، ولما صار الوقوف على أحكام الشريعة عسرًا وعر المسلك بسوء تأليف الكتب كتعقيد عباراتها وكثرة الخلاف في أحكامها، ولما جمد فقهاؤها على الأقوال التي اختارها للحكم بعض من قبلهم من علماء الترجيح والتصحيح، وحرموا الاستقلال في الفهم والاستنباط في الأقضية التي تتجدد بأطوار الأزمنة والأمكنة، واختلاف العرف والمصالح المرسلة - لما كان ما ذكر كله كما ذكر صار بعض حكام المسلمين يضعون لبلادهم قوانين عرفية للأمور المدنية والسياسة التي لا تمس الوجدان الديني فيما أحل الله وما حرَّمه من أحكام الزوجية والإرث والوقف، بل تركوا ذلك كله للشريعة وقضاتها وخصوا به المحاكم الشرعية دون غيرها. ثم بلغ من ضعف المسلمين وسيطرة الإفرنج على بعض حكوماتهم، ونفوذهم السياسي والأدبي في بلادهم، وتوليهم أمر التعليم والتربية في مدارسهم، وما كان وراء ذلك من زلزلة العقائد، وزعزعة قواعد العبادات والفضائل، أن طمع الطامعون من الأجانب وأعوانهم في إلغاء المحاكم الشرعية، وهدم هذه البقية الماثلة من التشريع الإسلامي، وحدث من الشكوى من اختلال هذه المحاكم ما حمل وزارة الحقانية بمصر على اقتراح وسيلة للإصلاح استنكرتها العقول لغرابتها، وهي أن يُعيَّن مستشاران من محكمة الاستئناف الأهلية عضوين في المحكمة الشرعية العليا، فهاج المسلمون لهذا الحدث هيجة عامة، وحملوا على الحكومة في الجرائد حملة منكرة، واجتمع علماء الأزهر لأول مرة في هذا العصر للإنكار على الحكومة فاضطرت إلى الإحجام عن تنفيذه. يومئذ سألت الأستاذ الإمام رحمه الله عن واضع هذا المشروع وعن سببه، وكنت دُهشت لصدوره عن وزارة الحقانية في عهد ذلك الوزير الفقيه المسلم (إبراهيم باشا المناسترلي) ! فقال الأستاذ: إن الواضع له غير مسلم (وهو بطرس باشا) وإن الغرض منه التمهيد لإلغاء المحاكم الشرعية، وجعل الحكم في الأمور الشخصية من خصائص المحاكم الأهلية؛ لأن طلبة الحقوق يتعلمون الفقه الإسلامي، فهو يريد أن يتعود المسلمون بالتدريج حكم لابسي الطرابيش في القضايا الشرعية حتى لا يبقى لهم في الحكومة المصرية شيء من المشخصات الملية، هذا ما قاله الأستاذ الإمام يومئذ، وعلمت أنه قاوم المشروع سرًّا بالوسائل المؤثرة. ولا يزال خصوم الشرع الإسلامي والكارهون للصبغة الإسلامية في هذه البلاد التي يدين سوادها الأعظم بالإسلام يجددون الحملات الظاهرة والدسائس الباطنة لمحو كل ما هو إسلامي فيها، ولعل غرضهم من هذه المناظرات والمحاضرات الآن التمهيد لمطالبة البرلمان بإلغاء المحاكم الشرعية باسم (توحيد القضاء) فبدا لهم من الشعب الإسلامي عامة وشبانه العصريين خاصة ما رأوا أثره في الحكومة وفي البرلمان أيضًا، وأما نحن علماء الإسلام فنجيبهم عما سألونا عنه وتحدونا به في هذا الموضوع، وظنوا أنهم أقاموا به علينا الحجة - وقد تقدم نصهم فيه - في المقالة التي قبل هذه فنقول: الفروق بين الأحكام الشخصية والمدنية: (أولاً) إن بين حكم المحاكم الأهلية في الدماء والأموال، وبين الأحكام الشخصية في المسائل الزوجية من ثبوت عقد نكاح وطلاق وفسخ وعدة ونفقة وفي المواريث - فرقًا، بل فروقًا يكفي واحد منها لبطلان قياس أحدهما على الآخر (أهمها) أن أكثر أحكام العقوبات والأموال في الإسلام اجتهادية لا نصوص قطعية ثابتة في كتاب الله أو سنة رسوله القطعية الرواية والدلالة التي يجب أن يلتزمها كل مسلم علم بها في نفسه وفي حكمه إن كان حاكمًا كما تقدم شرحه بخلاف حكم الميراث فإنه قطعي بالنص كما تقدم أيضًا، فلا يقاس أحدهما على الآخر. (ثانيًا) إن الحدود القطعية المنصوصة قال بعض الفقهاء: إنها منوطة بالإمام الأعظم (الخليفة) أو نائبه، والحكمة في شدتها الإرهاب المانع من الجرأة على إزهاق الأرواح وانتهاك الأعراض بالفاحشة الكبرى، وابتزاز الأموال والإخلال بالأمن العام وهي تُدرأ بالشبهات، ولو كانت الحكومة المصرية تقيم هذه الحدود كما أمر الله تعالى ورسوله لما نشأ في هذه البلاد ما يشكو منه جميع الناس من اختلال الأمن وكثرة القتل وفشو الفحش وأمراضه، كما هو الشأن في نجد وفي بلاد الحجاز الآن، وكذا غيرهما من بلاد العرب، وإن لم يبلغ شأوهما في عموم الأمن، ولصارت السنون تمر ولا يثبت على أحد إقامة حد. حُكي لنا أن والي عدن الإنكليزي سأل مرة سلطان لحج: هل تقطعون يد السارق حقيقة كما يقال؟ قال: نعم، قال الوالي: أليست هذه قسوة فظيعة؟ قال السلطان: إنها قسوة عادلة ترهب الجناة، فتمر السنون ولا يسرق أحد في بلادنا شيئًا، وأما أنتم فإن سجونكم مكتظة باللصوص والمجرمين. وإني لأعجب من تقليد الناس بعضهم لبعض في استهجان قطع السارق المجرم واختصاصهم إياه بالرحمة والرأفة والرقة واللطافة (والنزاكة والجنتلمانية أيضًا) دون القاتل، مع أن قطع اليد من الكوع إلى الكرسوع أهون عند المجرمين من قطع الرقبة، ومن عساه يخشى الفضيحة الدائمة برؤية يده مقطوعة لبقية من شعور الشرف في نفسه - يكفيه هذا وازعًا يزجره عن الإقدام على السرقة، على أن كثيرًا من هؤلاء المجرمين يقطعون أيدي النساء وأرجلهن لسلب أسورتهن وخلاخيلهن إذا تعذر أو تعسر عليهم نزعها بدون قطع، فما معنى هذه الرأفة والرقة المدنية في مجازاة هؤلاء القساة الوحشيين بوضعهم في سجون هي خير لهم من بيوتهم؟ وقد اشتهر عن بعض المجرمين في مصر أنهم يرتكبون الجرائم أحيانًا لأجل أن يُسجنوا فيتمتعوا بمعيشة السجن، وإن سرق ذو مروءة مرة واستحق الحد فلا يعجزه أن يجد شبهة تدرأه عنه، وللقاضي العادل الرحيم أن يتساهل في قبولها منه، وقد قال بعض الفقهاء: إن السارق إذا ادعى أن المسروق ملك له وقد استرده بالسرقة كانت هذه الدعوى شبهة دارئة لحد القطع، فإن لم يثبت دعواه حكم عليه بالتعزير الذي يراه القاضي لا بقطع اليد. (ثالثًا) إن ما تحكم به المحاكم الأهلية من قتل أو مال مخالفًا لنصوص الشرع القطعية، أو لما يعتقده القاضي من أحكامه الظنية - فإنما إثمه عليه دون أفراد الأمة الذين لا يملكون منعه من هذا الحكم، وليس هذا كأحكام النكاح والطلاق والميراث متعلقًا بوجدان الدين للأفراد الذين يحكم لهم أو عليهم، فإذا أعطت الحكومة للمرأة حق الطلاق تستقل به وطلقت زوجها؛ فإن طلاقها هذا يكون باطلاً في عقيدته وعقيدتها إن كانا مسلمين كما هو المفروض، وعصمة الزوجية بينهما باقية، فلا يباح لها أن تتزوج بغيره، فإن تزوجت كانت زانية، وإن استباحت ذلك كانت مرتدة عن الإسلام، ويقال مثل هذا فيما تعطيها الحكومة من الميراث مخالفًا لحكم الله تعالى، لا يحل لها أخذه والتصرف فيه. لهذا قلنا: إن دعوة المسلمين إلى هذا النوع من المساواة دعوة لهم إلى ترك دينهم؛ لأن من يستجيز ذلك يكون كافرًا مرتدًّا عن الإسلام. (رابعًا) إن الذين يدعون المسلمين إلى هذا يبنون دعوتهم على أنه هو العدل والحق والصواب، وأن حكم الله باطل وظلم وخطأ، ومن اعتقد هذا كان مرتدًّا عن الإسلام أيضًا وإن لم يعمل به {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (النساء: 65) قال هذا في المنافقين الذين يرغبون عما أنزل الله إلى حكم الطاغوت (راجع تفسير الآيات 59 - 65 من سورة النساء) . (خامسًا) إن الحكومة المصرية لما قررت العمل بقوانين فرنسة المقتبس أكثرها من الشريعة الإسلامية ولا سيما مذهب المالكية - لم يكن للأمة المصرية التي يدين سوادها الأعظم بالإسلام قول ولا رأي في شؤون الحكومة، وكان من أسبابه تقصير علماء الأزهر في القيام بما يجب عليهم من إغنائها بأحكام الشريعة الغراء عن سواها، ومن المشهور أن إسماعيل باشا طلب منهم ذلك فلم يستجيبوا له. حدثني علي باشا رفاعة قال: حدثني والدي أن إسماعيل باشا الخديو استحضره وقال له: يا رفاعة بك إنك أزهري تعلمت وتربيت في الأزهر، فأنت أعلم الناس بعلماء الأزهر، وأقدرهم على إقناعهم بما ندبتك له: إن الإفرنج قد صار لهم حقوق ومعاملات كثيرة في هذه البلاد، وت

أحمد تيمور باشا وفاته وملخص ترجمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحمد تيمور باشا وفاته وملخص ترجمته في صبيحة 27 من شهر ذي القعدة الماضي انتهت حياة رجل لا كالرجال، وفرد لا كالأفراد - إلا أن يراد بالأفراد نحو مما يريده الصوفية - ألا وهو صديقنا وأخونا في الله عز وجل الأستاذ العالم المؤرخ الأديب السلفي أحمد تيمور باشا المشهور بأخلاقه العالية وعلمه وأدبه؛ ولكنه على شهرته يكاد يكون مجهولاً عند الأكثرين بخصوصيته، فهو من شهداء الله وحججه على خلقه في دينه وفضائله، ونادرة من نوادر الزمان - هذا الزمان - في مجموعة مزاياه، رحمه الله تعالى وأكرم مثواه، وقد خسرت الأمة العربية بفقده ركنًا من أركان علماء لغتها الخادمين لها بما تقتضيه حال العصر، وخسرت الأمة الإسلامية مسلمًا مخلصًا لدينه وأمته مدافعًا عنهما غيورًا عليهما. ذُكر في بعض الصحف أنه ولد في 22 شعبان 1278، وأنه لما دخل في سن التمييز اختار له والده إسماعيل باشا تيمور رئيس الديوان الخديوي من المعلمين من يلقنه مبادئ القراءة والكتابة في داره، وأنه تلقى التعليم الابتدائي العصري في مدرسة مارسيل الفرنسية، وأن نفسه جنحت بعد ذلك لدراسة الفنون العربية والعلوم الدينية، فأخذ أولاً عن الشيخ رضوان محمد المخللاتي، ثم عن الشيخ حسن الطويل الشهير الذي كان جامعًا بين العلوم الشرعية والعقلية والتصوف، وأنه كان يتردد على الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي الكبير، فيتلقى منه ما شاء من اللغة العربية وآدابها. ثم أقول: إن الفقيد - رحمه الله تعالى - قد اشترك في صحيفة المنار من أول العهد بإنشائها، ثم عرفته معرفة شخصية منذ شهر رمضان سنة 1316، إذ كان يحضر كل يوم درسي الذي كنت ألقيه في المسجد الحسيني في عقائد الدين وأصوله الإصلاحية العالية بأسلوب خطابي اهتزت له مصر، وكاد يحدث فيها ثورة دينية بما شرعت أفنده فيه من البدع والخرافات التي شوهت تعاليم الإسلام الصحيحة؛ حتى كنت كثيرًا من الأيام ألقاه عند خروجي من المسجد، فنمشي في خان الخليلي، ثم في السكة الجديدة نتحدث في موضوع الدرس، وحال المسلمين في هذا العصر، فوجدته موافقًا لي في كل ما كنت أنكره من تغلغل نزغات الشرك في القلوب وانتشار البدع والخرافات في الأعمال، وفيما يجب من الإصلاح الإسلامي، وجدته موحدًا فحلاً، لا مخنثًا بين فحولة التنزيه وأنوثة التشبيه، يتفصى من النصوص بخلابة التأويل. ثم كان يحضر معنا دروس الأستاذ الإمام في الأزهر، وفي أثناء ذلك اقترحت على الأستاذ أن يعقد مجلسًا خاصًّا لبعض إخواننا المستعدين لتلقي حكمة الإسلام العليا من خريجي دار العلوم وأساتذة المدارس الأميرية وغيرهم يتخولنا بها في بعض أوقات الفراغ، فقبل الاقتراح، واخترنا دار أحمد بك تيمور في درب سعادة لهذه الدروس العالية إذ كان هو أحد الراغبين فيها، فاجتمعنا فيها مرارًا، وكنا نذهب في بعض الأيام إلى (عين شمس) فنتلقى الدرس أو المحاضرة في دار الأستاذ الإمام نفسه هنالك، ثم ابتاع فقيدنا اليوم دارًا في عين شمس بقرب دار الإمام فأقام فيها. تسنَّى لي في تلك المدة معاشرة أحمد تيمور وكثرة مجالسته، فرأيت منه شابًّا غنيًّا تُوفيت زوجته عن أولاد صغار فأبى أن يتزوج على كثرة البيوتات التي تتنافس في صهر مثله في كرامة بيته وسعة ثروته وحسن سيرته، وإنما أبى خوفًا من كراهة الزوج الجديدة لأولاده ومضايقتها له في تربيتهم، فاختار العزوبة مع العفة والصيانة التامة لأجلهم، على حين نرى أمثاله من الأغنياء لا تحصنهم الزوج الواحدة ولا الزوجان ولا الثلاث، ولا يبالون في طاعة شهواتهم ما يكون من سوء تأثيرها في الأولاد، وأما الآخرة فلا تكاد تخطر لأكثرهم في بال. وكانت لذته من الدنيا أو في الدنيا جمع الكتب العربية النفيسة، ولا سيما المخطوطات القديمة النادرة، وجرى في هذا على عرق وراثة، وجد في دارهم مكتبة صغيرة، فما زال يزيد عليها حتى أسس خزانة لها احتوت عشرين ألفًا من الأسفار في جميع العلوم والفنون، منها ما لا يوجد أو لا يوجد مثله في غيرها حتى دار الكتب المصرية العامة، ولم يكن حظه منها مجرد الجمع والتلذذ بالاحتواء والملك كما يُعرف عن بعض عشاق الكتب الذين ينظرون إليها نظرهم إلى غيرها من أعلاق العاديات والآثار التاريخية، بل كان يقضي جل أوقاته في المطالعة والمراجعة، وبعضها في كتابة المقالات والرسائل وتصنيف الكتب، وكان يتروى فيما يخطه ويكثر التأمل والمراجعة حتى يكون محررًا منقحًا كما يحب، وأكثر ما يعنى به التاريخ واللغة. وله مصنفات مفيدة منقحة لعل نجليه الكريمين يطبعانها كلها إحياء لذكره الحميد، فلا سبيل لهما إلى بره مثل هذه السبيل، فمما علمنا من أسماء مصنفاته: (1) كتاب معجم اللغة العامية: استقصى فيه ما علمه بالبحث الطويل من الألفاظ العامية، وبيَّن ما له أصل عربي، وما ورد في معنى ما ليس له أصل، وغرضه من هذا دحض شبهة بعض ملاحدة أدعياء التجديد، الذين يدعون إلى جعل اللغة العامية لغة العلم والتعليم، ويدَّعون أنها أصلح وأوفى بحاجة العصر من العربية الصحيحة، وكان يمقت هؤلاء المتفرنجين ويحتقر دعواهم للتجديد. (2) ذيل لهذا المعجم في الأمثال العامية. (3) كتاب معجم الفوائد: وهو كتاب كان يجمع فيه ما يعثر عليه من الفوائد المهمة في الفنون العربية، والتعبيرات البليغة، والمسائل الشرعية، وغيرها مما حققه بعض العلماء ويحتاج إليه أهل العلم، وقلَّما يهتدون إليه بالمراجعة لخفاء مظانه، فكان يرتب ذلك على حروف المعجم لتعبيد طريقها لمن يريدها، ومن المعلوم بالبداهة أن هذا الكتاب لم يتم؛ ولكن الموجود منه لا يتوقف على غيره؛ لأنه فوائد متفرقة، لا أبواب علمية متسقة، فالانتفاع بها ليس مرهونًا باستيفاء مباحثها. (4) ترجمة أبي العلاء المعري: والمرجو أن يكون فيها فصل الخطاب في كل ما اختلف فيه الناس من أمره ولا سيما عقيدته؛ لأن فقيدنا رحمه الله قد اطلع على ما لم يطَّلع عليه غيره من أقوال المعاصرين والغابرين فيه. (5) كتاب وفيات القرنين الثالث عشر والرابع عشر للهجرة: وقد استعان عليه بمكاتبة من عرفهم من أهل العلم في الأقطار المختلفة، ولم يقتصر على ما اطلع عليه في الكتب الكثيرة، وكان هذا التصنيف دينًا على علماء التاريخ العربي قام به من هو أجدر به، والظاهر أنه كان يتوقع فيه المزيد من العلم كمعجم الفوائد، وإنه لذلك لم يبيضهما. (6) مفتاح الخزانة: وهو 13 فهرسًا لخزانة الأدب الكبرى للبغدادي لا تتم الاستفادة من هذا الكتاب النفيس الجامع في آداب اللغة وتاريخها وتراجم رجالها بدونها، لمن يريد مراجعة المسائل والتراجم عند الحاجة إليها. (7) نظرة تاريخية في حدوث المذاهب الأربعة في فقه أهل السنة وانتشارها في الأقطار، وأين يكثر كل مذهب منها. (8) تاريخ اليزيدية، وأجدر به أن يكتب حقيقة تاريخهم. (9) رسالة في العَلَم العثماني - أي علم الدولة العثمانية - بيَّن فيها أصله ومأخذه وتاريخه، وأخذ العَلَم المصري منه وهي مطبوعة. (10) رسالة في قبر الحافظ السيوطي وهي مطبوعة. (11 و 12) رسالتان في تنقيح لسان العرب والقاموس المحيط، وهما مطبوعتان. وله مقالات في بعض المجلات آخرها ما كانت تنشره مجلة الهداية الإسلامية في (الآثار النبوية) والمراد بالآثار هنا ما يسميه بعضهم المحفوظات وبعضهم (المخلفات النبوية) كشعره صلى الله عليه وسلم وبردته، وغير ذلك، وكذا ما يُذكر من الأحجار التي فيها أثر الكف أو القدم، وقد نشر في الهداية بضع مقالات من ذلك يظهر أن لها تتمة، ومع هذا يمكن طبعها مستقلة. وقد جعل خزانة كتبه وقفًا وبنى لها دارًا في ضاحية (الزمالك) من ضواحي القاهرة ووقف عليها أرضًا (أطيانًا) يكفي ريعها لنفقاتها والزيادة فيها؛ ولكن وجودها هنالك يحول دون الانتفاع العام بها. ولم أر له ميلاً في صباه إلى شيء من اللهو المباح، فضلاً عن المحظور أو المكروه، إلا أنه كان يرتاح إلى شيء من سماع الأقوال الشاذة المستغربة من رأي أو خبر، وكان هذا من أسباب ارتياحه إلى مجالسة الأستاذ الشيخ طاهر الجزائري رحمهما الله تعالى، فقد كان لديه من ذلك الجم الكثير، وأما أول أسباب عشرته وحبه له فهو كونه من علماء الدين الميالين إلى الإصلاح العارفين بحال العصر، وما له من الاطلاع الواسع على نفائس الكتب العربية في خزائنها المشهورة في الشرق والغرب مع العلم بقيمتها العلمية والتاريخية، وهو الذي دله على الكثير منها، وكان الشيخ طاهر جمع كثيرًا من هذه الكتب المخطوطة النادرة، وقد اضطر إلى بيع بعضها عند الحاجة إلى الدراهم في مدة إقامته بمصر، فاشترى صاحب الترجمة كثيرًا منها فيما بلغني، ولو كان الشيخ طاهر يقبل من أحد مواساة مالية لكان له من صديقه الوفي المخلص أحمد تيمور ما يكفيه وفوق ما يكفيه مع الإخفاء والكتمان؛ ولكن كان له من عزة النفس بالعلم وشرف البيت، ومن العفة والقناعة بآداب الدين ما يربأ به عن ذلك، رحمه الله تعالى. ومما عرفناه وشاهدناه من ترويح فقيدنا الكريم نفسه بسماع الآراء الشاذة أنه كان يختلف إليه في داره بدرب سعادة شيخ كبير السن سبق له اشتغال بطلب العلم، ثم صار له خواطر في التصوف والمهدي المنتظر، بل كان يعتقد أنه هو، فكان الفقيد يُكْرِمه ويسمع له ما ينطلق به لسانه من الخواطر الغريبة والأفكار الشاذة ويضحك كثيرًا، وربما فتح له هو أو من حضر من أصدقائه أبواب الحديث. ومما سمعناه منه مرارًا في تلك الدار الانتقاد على الأستاذ الإمام بإغراء المجلس أن إسماعيل باشا صبري قال له مرة: إن الشيخ محمد عبده المفتي يضع الشال الكشمير أحيانًا على ذراعه كما يفعل الإفرنج بوضع أرديتهم ومعاطفهم على أذرعتهم، وقال له مرة: إن المفتي يدخن بالسجاير الإفرنجية دون السجاير الإسلامية، فكان يرفع عقيرته في الإنكار والاستعاذة بالله تعالى من هذا الزمان الذي صار فيه مفتي الإسلام يفعل فعل النصارى ويستعمل سجاير النصارى، وتارة يستبعد تصديق ذلك، ويقول لإسماعيل باشا أو لتيمور بك: بالله العظيم يا باشا، بالله العظيم يا بك، مفتي الإسلام يشرب سجاير نصرانية؟ فيقولان: نعم نحن رأيناه بأعيننا، فيقول: أعوذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فسد الزمان ... وكنا كلنا نضحك من هذه السذاجة والغفلة، وتصديق الرجل بأنه يوجد سجاير إسلامية وسجاير نصرانية!! كان الفقيد يرتاح إلى هذا ولكنه كان يُفهم ذلك الشيخ المجذوب بعد ذلك حقيقة المسألة، وأنها ممازحة، وما كان يقبل من أحد دون ذلك طعنًا في الأستاذ الإمام، وقد زعم بعض الذين كانوا يدينون بافتراء الكذب عليه أنه لا يصلي فردَّ عليهم بلطف وهم في داره، وقال ما يعلمه من قوة دين الإمام وعبادته، ولم يلبثوا أن دخل عليهم خادم كان يتردد عليه للخدمة مدة وعلى علي باشا رفاعة أخرى بالتناوب لخدمة خاصة، فلما دخل عليه في غير موعده سأله عما جاء به، فأجاب بما حاصله أنه جاء الباشا ضيف اسمه الشيخ محمد عبده فوكلني بخدمته، فإذا هو يقوم بعد نصف الليل بقليل فيتوضأ ولا يزال يصلي إلى قرب طلوع الفجر ولا ينام إلا قليلاً بعد صلاتها، وأنا مضطر لانتظار خدمته ما دام مستيقظًا فلم أطق صبرًا على ذلك، ففررت من هذا الضيف الثقيل، فقال الفقيد لمن حضر: الحمد لله الذي أظهر لكم الحق بما لا شبهة فيه لأحد، فوالله إنني لم أر ه

تقاريظ للجزء التاسع من التفسير

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ للجزء التاسع من التفسير (تأخر نشرها) (الأول لصاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت) حضرة العلامة الجليل المفضال السيد محمد رشيد رضا المكرَّم زاد الله تعالى فضله. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد فقد وصلتني هديتك أيها الأستاذ الكريم وتلقيتها شاكرًا لك مثنيًا على فضلك، وهي الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار، ولمَّا تصفحت هذا الجزء المبارك وتأملت في مباحثه ومسائله الجليلة، وما حواه من فرائد الفوائد الجزيلة، لم أجد له نظيرًا في سهولته وبلاغته وطلاوته، وإتقان أسلوبه وترتيبه وحسن إرشاده، فهو من أفضل كتب التفسير التي أُلِّفت في هذا العصر لحفظ الدين وتأييده، ولبيان ما ترشدنا إليه الآيات القرآنية من العقائد والعبادات والآداب ومكارم الأخلاق والعمل للدين والدنيا، والتعاون على البر والتقوى، وما فاز السلف الصالح وساد إلا بإقامة الدين، واتباع سبيل المؤمنين، فعلى المسلمين أن يقتفوا أثر هذا السلف إن أرادوا ارتقاء صحيحًا وتقدمًا لا تأخر بعده. وبالجملة فإن تفسير (منارك) يا ذا الفضل فيه للأمة نفع عظيم وإرشاد إلى طريق الإصلاح القويم، فعلى أهل العلم والمعلمين وغيرهم أن يقتنوه ويعتنوا بمطالعته لينتفعوا به وينفعوا، ويصلحوا به ما اختل من أحوال المسلمين بسبب تقليد أكثرهم للأغيار وتهاونهم بالدين، وبالختام أسأله سبحانه وتعالى أن يجزيكم عن المسلمين خير الجزاء، ويوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه بمنه وكرمه. 27 رمضان سنة 1347 ... ... ... ... أخوكم المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى نجا ... ... ... ... ... ... ... ... ... مفتي بيروت (الثاني لصاحب الفضيلة والسيادة الأستاذ الكبير السيد عبد الفتاح الزعبي الجيلاني نقيب السادة الأشراف بطرابلس الشام والخطيب المدرس بجامعها الكبير المنصوري) . بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، من الفقير إليه سبحانه وتعالى عبد الفتاح الزعبي الجيلاني إلى السيد الشريف، والإمام الغطريف، السيد محمد رشيد آل رضا، حفظه الله من سوء القضا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإنه وصلني ما تكرمتم به من الجزء التاسع من تفسيركم المفيد، فإذا هو مُظْهِر لقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) وقد غدوت شاكرًا فضلكم وممنونًا، وقد نذرت لله تعالى متى شفا الباري عيني أقرأه درسًا وندعو لكم وللمسلمين بخير، أدامك الله مرشدًا ومجددًا كما أشار إلى ذلك المرحوم الأستاذ الإمام في آخر أيامه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... نقيب أشراف طرابلس في 8 شعبان سنة 1348 ... السيد عبد الفتاح الزعبي الجيلاني (الثالث لجريدة أم القرى الغرَّاء بمكة المكرمة في 8 شوال سنة 1347) تفسير القرآن الحكيم نجز الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم للعلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، من أول (قال الملأ) في الأعراف إلى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم} (الأنفال: 41) وهو ذلك التفسير الجليل الغني عن التعريف الذي تقصر العبارة عن وصفه، غير أننا نشير إلى بعض ما امتاز به عن سائر التفاسير على كثرتها. فأول ما امتاز به ذلك التفسير أنه راعى الزمان ونبه فيه على ما أغفله المفسرون من تطبيق الآيات القرآنية على الآيات الكونية (ثانيها) اتباع طريقة القرآن في الوعظ والإرشاد؛ فإن الأستاذ بعد أن يفرغ من تفسير المفردات وبيان الأساليب يرشد المسلمين إلى ما في الآيات من العِبر، ويريهم مواضع الضعف، ويقفهم على أسباب المرض ويرشدهم إلى العلاج (ثالثها) الرد على الملحدين والمبتدعين (رابعها) رد الخرافات التي راجت على كثير من المفسرين والحكايات الإسرائيلية ونقد الأحاديث (خامسها) حل مشكلات كثيرة وتحقيق مسائل لم يسبق إليها كبيان الحكومة في الإسلام وكون القرآن صالحًا لكل زمان ومكان (سادسها) التزام طريق السلف في آيات الصفات، وإشباع كل موضوع بما يليق به من البيان، هذا إلى تحقيق في مفردات اللغة وأساليبها وتناسب الآيات والسور، وإجمال ما ورد فيها بعد تفصليها مما لم تكد تجده في تفسير آخر. وبالجملة فهذا التفسير لا يستغني عنه مسلم في هذا العصر، وحسبك بصاحبه صاحب المنار وحيد دهره، ونسيج وحده، الذي ينم تفسيره ومناره عن غزارة علمه وعلو كعبه، ومن قرأ تصانيفه ولا سيما هذا التفسير عرف عجز واصفيه، وكان حسبه تعريفًا ما يراه فيه، وإنا نسأل الله تعالى أن يبارك في عمره حتى يتمه، وينفع الأمة به.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (كتاب الآداب الشرعية والمنح المرعية) طالما كنت أتمنى العثور على كتاب في الآداب الشرعية والأخلاق الدينية، حافل الريّ بالمسائل النفسية واللسانية والاجتماعية والصحية، حاوٍ للصحيح من الأخبار النبوية، والآثار السلفية، خالٍ من البدع والخرافات، وحكاية غرائب الإسرائيليات، ومن المجون والخلاعة، والفحش والرقاعة، ينتفع بقراءته الرجال والنساء، ولا تخجل من الاطلاع عليه ذوات الخفر والحياء، فيكون جامعًا لفوائد العلم الصحيح، والقدوة بأهل الكمال، من أهل العلم والصلاح، ما زلت أتمنى هذا وأرقب العثور عليه حتى ظفرت بهذا الكتاب (الآداب الشرعية والمنح المرعية) تصنيف العلامة الفقيه المحدِّث الواسع الاطلاع الشيخ محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي المتوفى بصالحية دمشق سنة 885، فإذا هو الضالة المنشودة، قد جمع مؤلفه فيه خلاصة مصنفات عديدة، وزاد عليها زيادات مفيدة، إلا أنه أطال في المباحث الطبية وما يتعلق بها، ومنه أمور الوقاع مما كنا نود أن يجعله كتابًا مستقلاًّ. أرسله إليَّ الإمام العادل محيي السنة وناشر علوم الملة، ومقيم شريعة الإسلام بالحكم والعلم والعمل، عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد، ليكون مما أطبعه له من الكتب النافعة التي يوزعها في الحجاز ونجد ابتغاء وجه الله تعالى، ولما كان من المحال أن تصل صدقات الإمام إلى جميع بلاد الإسلام، زدت على ما طبعته لجلالته نسخًا أخرى لمكتبة المنار، تبيعها بثمن معتدل لتعميم نفعه في الأقطار، ويكون له حظ عظيم من الثواب. ويتألف الكتاب من ثلاثة أجزاء تم طبع الجزء الأول منها، وهو يدخل في 511 صفحة أصلية، وجعلنا ثمنه خمسة عشر قرشًا مصريًّا يُضاف إليها أجرة البريد والتجليد لمن أراد.

أهم حوادث الشرق في هذا العام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أهم حوادث الشرق في هذا العام (ثورة الهند) من حسن حظ الهند أنه يوجد فيها عدة زعماء في كل من طوائف الهندوس والمسلمين، وأنه نبغ فيهم زعيم كبير أذعنوا له بالقداسة الدينية والسياسة العصرية، تدين له شعوب الهند كلها بالزعامة العامة، وهذا من النوادر التي حُرم منها الأمم منذ قرون كثيرة، ألا وهو (مهاتما غاندي) الذي يقدسه الوثنيون، ويجله المسلمون؛ لأنه لم يوجد في الوثنيين من ينصفهم ويعترف لهم بحق المساواة في المصالح الوطنية مثله، وقد كان رضي من الدولة البريطانية بأن تمنح الإمبراطورية الهندية نظام الممتلكات المستقلة، وكانت وزارة العمال الحاضرة وعدت بذلك؛ ولكنها لمعارضة سائر الأحزاب لها ولا سيما المحافظين غلاة الاستعمار وعشاق الاستعباد البشري اضطرت إلى المراوغة والتسويف وتعليل البلاد بدرس اللجان لحالها، ووعدها بتأليف مؤتمر في لندن ينظر في شأنها، ولم تعتبر بامتناع بلاد الهند من الاحتفال بولي عهد الإمبراطورية عند زيارته لها، حتى شاهد مدنها العظيمة كالمقابر خالية من الزائرين غيره، وغير من معه من قومه، ولقد أنذرها الزعيم الأكبر غاندي ثورة العصيان المدني عليها، والبدء فيها بعصيان قانون احتكار الملح الذي يألم من حيفه كل فرد من أفراد الأمة، وضرب لهذا العصيان أجلاً، وجعل له موعدًا، فتمارى رجالها في الهند وفي لندن بإنذاره، واستكبروا عن الاستجابة له، لعدهم ذلك مخلاًّ بالعظمة البريطانية، التي لا تقل كثيرًا عن دعوى الربوبية، وخيل لها احتقارها للبشر عجزه عن تنفيذ تلك النذر؛ ولكنه شرع في التنفيذ وشرعت هي في المقاومة، فكان فوزها جزئيًّا موضعيًّا، وفوزه عامًّا كليًّا، فقد امتدت الثورة وانتشرت، واستشرت وتفاقمت، وهي تدنو من العصيان العام، والامتناع من دفع الضرائب الزراعية والعقارية، أعني أنها تدنو من الثورة الدموية العامة بتدريج منتظم ثابت، بدءًا بمقاطعة البضائع الإنكليزية والمواد الكحولية، وسحب الأموال الوطنية من المصارف الإنكليزية، ثم بمقاومة رجال البوليس بالقوة، ثم بتهييج القبائل على الحدود الأفغانية، حتى شعرت كبرياء الحكومة البريطانية بالخطر، ولا تزال في حيرة من تلافي الخطب المنتظر، وسنرى ما يخبئ لها القدر. *** (المفاوضة المصرية البريطانية) نوَّهنا في الجزء الماضي بخبر هذه المفاوضة، وما اعترض في سبيلها من عقبة مسألة السودان، وإصرار الحكومة البريطانية على اعتراف الوفد المصري المفاوض لها بإقرار الحالة الحاضرة فيه، أي امتلاكها للسودان كله امتلاكًا شرعيًّا بإقرار الحكومة المصرية والأمة المصرية، ورضاهما بأن تكون حياة مصر الاقتصادية والزراعية، بل حياته الحقيقية التي يقابلها الموت والخراب في قبضة الحكومة البريطانية القهارة الجبارة … وقد امتنع الوفد المصري من قبول ذلك بالطبع، فانقطعت المفاوضة مع الاتفاق بين الفريقين على بقاء بابها مفتوحًا، وعدّ كل ما تقرر فيها مقبولاً، إلى أن يرجع أحدهما إلى رأي الآخر في مسألة السودان. وكان الجمهور يخشى أن تنقطع المفاوضة على جفاء ومشاكسة، فيعود الإنكليز إلى العبث بالحكومة وإلغاء الدستور ثانية؛ ولكن كان من علم مصطفى باشا النحاس وحلمه، وكياسته وفهمه، ودهاء أعضاء وفده، ما مكَّنهم من تمكين المودة بينهم وبين الحكومة الإنكليزية، بحيث لا يخشى أن تتدخل في أمور هذه الحكومة النيابية، وهي براعة لم تتح لوفد من الوفود السابقة؛ ولذلك أكبرت البلاد أمر وفدها، وازدادت استمساكًا بعروته، وثقة بخدمته، وقد انصرفت همة الحكومة الوفدية الآن إلى النهوض بالمصالح الوطنية الداخلية بلا معارض ولا منازع. *** (الوفد الفلسطيني) سافر الوفد إلى لندن برياسة شيخ الشعب صاحب السعادة السيد موسى كاظم باشا الحسيني، وكان من أركان أعضائه في هذه المرة روح النهضة الفلسطينية صاحب السماحة السيد محمد أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الفلسطيني الأعلى، وكان قد سبق الوفد إلى لندن رائده الشاب الذكي البارع السيد جمال الدين الحسيني، فمهَّد له السبيل بما ألقاه من الخطب في المحافل المختلفة، ومن المقالات في الجرائد الكبرى، ومن الأحاديث مع كبار الرجال في المسألة الفلسطينية، فكان ذلك موضع الإعجاب والتقدير، ولولا أن نفوذ اليهود في بلاد الإنكليز لا يعلوه نفوذ آخر لنجح الوفد في سعيه إلى تأليف حكومة نيابية في البلاد، فإنه مطلب يقتضيه النظام المسمى بالانتداب، ولم يوجد أحد من الإنكليز حتى أعوان اليهود منهم يصف العرب الفلسطينيين بما يصفون به الوطنيين من الهنود والمصريين والعراقيين من التطرف أو عداوة الحكومة البريطانية. وقد ثبت للفلسطينيين الآن بعد خيبة الوفد أنهم كانوا مخطئين في نوط أملهم بالحكومة الإنكليزية وغرورهم بكلام بعض المنصفين من الإنكليز الذين يكرهون اليهود، وأن خصمهم الحقيقي في وطنهم هو الدولة الإنكليزية، وأن اليهود ليسوا إلا جندًا من جنودها تستعين بهم على نزع أرض هذه البلاد منهم حتى لا يكون لهم حق في حكومتها من بعد، وأن من مقاصدها أن تقطع أوصال الأمة العربية فتفصل بين مصر والعراق بشعب أجنبي تخرج به البلاد عن كونها عربية وإسلامية، فالواجب يحتم عليهم أن يوجهوا كل قواهم إلى مقاومة الاستعمار الإنكليزية في بلادهم بالاتحاد مع جيرانها العرب - من أهل شرق الأردن وسورية والعراق وكذا نجد والحجاز - على استقلال هذه البلاد كلها وتأليف الوحدة العربية التي وطَّن الأنفس عليها جميع المفكرين من العرب، وعليهم مع ذلك أن يستعينوا على خطتهم بمسلمي سائر الأقطار كما يفعل اليهود، ولا سيما مسلمي الهند الذين لم يقصِّروا في إظهار العطف عليهم، ومخاطبة الحكومة الإنكليزية في وجوب إجابة مطالبهم؛ لأنه يعز على كل مسلم في الأرض أن يستولي اليهود على بيت المقدس ويجعلوا المسجد الأقصى ثالث الحرمين هيكلاً يهوديًّا، وهم يحفظون ما ورد في أخبار مسيح اليهود الدجال، ومحاربة اليهود للمسلمين تحت رايته، وما وعدهم رسول الله وخاتم النبيين من نصرهم عليهم. *** (مؤتمر شرق الأردن) لا حاجة بنا إلى وصف ما كان من نبأ ذلك المؤتمر الشريف وهو الثالث، ولا إلى نشر مقرراته بالتفصيل، وقد نشرتها جرائد مصر وسورية وفلسطين، وحسبنا منها تقريره تأليف حكومة نيابية مستقلة، وعدم اعترافه بشيء مما قررته حكومته الحاضرة مع الإنكليز وقصاراه جعل البلاد منطقة بريطانية عسكرية محضة!! وإنما نقول: إن عرب شرق الأردن أقدر من غيرهم من أهل فلسطين وسورية على تنفيذ ما يقررونه، وإلزام حكومتهم العمل به إذا جدوا وعرفوا قيمة قوتهم بالوحدة وبالسلاح، وعرفوا ما ينذرهم من الخطر إذا طال العهد على البركان الذي عليه البلاد، فهم لابد أن يجرَّدوا من القوتين في يوم الأيام إذا لم يظفروا في هذه الفرصة بجعل حكومتهم نيابية شعبية، خالية من قوة الاحتلال الأجنبية، بل الخطر على كل بلاد العرب حتى الحجاز كامن في بلادهم، فليستيقظوا من رقادهم. *** (القانون الأساسي لسورية) وضع موسيو بونسو العميد الفرنسي لسورية قانونًا أساسيًّا لسورية سماها به جمهورية نيابية، وحصرها في مضيق عدة حكومات أو دويلات من ملحقاتها مستقلة بالاسم كاستقلالها وهي لبنان الكبير وجبل الدروز والعلويين أو اللاذقية وأنطاكية والصحراء أو البادية … وقيَّدها بكل ما تصرف به سلفه المندوبون السامون من المظالم قبله، وبكل ما تفرضه عليهم فرنسة باسم الانتداب في الحال والاستقبال، وخلاصة هذا القانون الذي يفرضه على سورية أن يبقى الاستبداد الفرنسي فيها كما كان، إلا أن رئيس هذه الحكومة السورية التي لا تتجاوز دمشق وحمص وحماه وحلب يُسمى رئيس جمهورية، ويكون لها مجلس نيابي لا يستقل بشيء من التشريع إلا ما تريده فرنسة في جزيرة العرب والعراق. خمدت نيران الفتن في جزيرة العرب وظفر إماماها يحيى وعبد العزيز بإخضاع العصاة لهما في بلادهما، وانتهى موسم الحج في هذا العام بصحة وأمن وسلام، وقد اعترفت دولة بولونية بمملكة ابن السعود بما نبينه في الجزء الآتي إن شاء الله. ومن أكبر الحوادث فيه اجتماع ملك نجد والحجاز بملك العراق، ووضع أساس للاتفاق بين حكومتيهما وقد كان ذلك في أواخر رمضان، ولما يظهر لذلك أثر فعلي في تنفيذ مواد الاتفاق. *** (مملكة الأفغان) وأكبر الحوادث التي فرح بها المؤمنون، واغتم بها الملحدون، استواء الشاه محمد نادر خان على عرش الأفغان، وإقامته للأحكام والإصلاح على قواعد الإسلام، وجعل التجديد الإلحادي الذي ابتدعه أمان الله خان مما دخل في خبر كان.

خاتمة المجلد الثلاثين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الثلاثين بسم الله وبحمده نختتم المجلد الثلاثين من المنار كما بدأناه، وقد تمكَّنا بحول الله وقوته من إصداره في سنة كاملة، إذ جعلنا شهري الراحة فيها متفرقين لا متصلين كعادتنا، واستدار الزمان فعدنا إلى جعل صدور المجلة في السنين الهجرية القمرية كما كان من قبل، فلا محل لشكوى أحد من قرائه بتأخير صدور بعض أجزائه، وعسى أن لا ينسى المقصرون منهم في أداء حقه ما يجب عليهم منه، وأن يتقوا الله فيه، وأن يفكروا فيما نبذله من حياتنا وصحتنا ومالنا في سبيل هذه الخدمة، وأن لا يرضى المفكر في ذلك أن يكون هو الهاضم لحق العامل، المعرقل للعمل بالباطل، ولا أن يكون غيره من القراء المؤدين لما وجب عليهم خيرًا منه … وقد بدا لنا في أواخر هذه السنة أن نجيب الملحين علينا بوجوب الإسراع في إنجاز تفسير المنار إلى اقتراحهم، فأكثرنا منه في الأجزاء الأخيرة حتى كان أكثر من ستة أعشار هذا الجزء منه، فإن كان قد نُشر نصف الجزء العاشر من التفسير في سنتين ونيف، فالمرجو أن يتم النصف الثاني منه في هذا العام وحده الذي يصدر فيه المجلد 31، وقد سبق لنا الوعد للمقترحين بعزمنا على اختصار التفسير من أول الجزء الحادي عشر، ونرجو حينئذ أن يوفقنا الله تعالى إلى كتابة تفسير جزءين في كل عام. وسيكون أهم مواد المجلد الآتي بعد التفسير إتمام تحرير مسألة الربا التي كانت وما زالت أعقد مسائل الأحكام المدنية في الإسلام، وقد عمَّ الحرج والبلوى بها جميع المسلمين في جميع الأمصار، ولدينا كثير من المسائل المهمة في باب الفتوى أرجأنا الإفتاء فيها على إلحاح مرسليها بها، وسنجيب عنها إن شاء الله تعالى ونقدم أهمها فأهمها. ولدينا بعد إتمام مقالات (المساواة بين النساء والرجال) التي من فروعها مسألة السفور والحجاب - محاضرتنا التي ألقيناها في شهر رمضان في مسألة (التجديد والمجددين) وهي مهمة جدًّا ألقمنا فيها أدعياء التجديد الإلحادي الحجر، وكان لمجددي الإصلاح الإسلامي بها الظفر، وقد حضرها بعض علماء أوربة من المستشرقين فاستحسنوها، وشهدوا لنا بالاعتدال فيها. وسيرى القراء فيه ردًّا على بعض الجامدين على التأويل والتقليد من الشيوخ المعاصرين، إذ تصدى منهم شيخ تركي شايعه آخر مصري لتشويه مذهب السلف والطعن في بعض كبار حفاظ السنة، وفي المهتدين بها في هذا العصر؛ لأن هذا أضر على الإسلام من طعن المبشرين والملحدين فيه. وقد اضطررنا هذا في هذا العام إلى الرد على كتاب آخر جديد من كتب شيعة سورية ولبنان بما حرَّف فيه من آي القرآن، للطعن الفظيع في جميع من رضي الله عنهم من المهاجرين والأنصار، ورميهم بالجبن وخذلان الرسول ونكث ما عاهدوا الله عليه، والغلو في علي كرَّم الله وجهه، بجعل المنة له وحده في حياة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وبقاء الإسلام، إذ أقسم أغلظ الأيمان بأنه لولاه لقُتل النبي صلى الله عليه وسلم في حنين، ولذهب الإسلام وأطفئ نوره بالرغم من وعد الله تعالى بإتمام نوره، وإظهاره على الدين كله، ونصر رسوله ... إلخ. وقد اطلعنا في مجلة العرفان على رد علينا للسيد عبد الحسين صاحب هذا الكتاب وهذه اليمين، أخلف فيه ما كنا نظنه فيه من النزاهة وحسن الآداب في الرد وامتيازه فيه على خصمنا القديم السيد محمد محسن، فإذا هما سيان في المراوغة والمراء والمجادلة في الحق بعدما تبين، وفي القذع والسباب، والنبز بالألقاب، ولو رأينا في ردودهما شيئًا من الاعتراف ولو ببعض الحق، والتزام الصدق، لدخلنا معهما في المناظرة وحكَّمْنَا لجنة من أهل العلم واستقلال الرأي فيها، وإنما نقول مع الأسف والحزن: إنهما ليسا أهلاً لذلك؛ لأن المقلد المتعصب الذي تربى على الجدل والتأويل لا يطلب الحق في شيء من جدله، والله إنه ليعز علينا أن يكونا كذلك، وإن الشاب الشيعي الأستاذ مصطفى جواد أحد محرري مجلة لغة العرب، لأدنى منهما إلى مراعاة قوانين العلم والأدب على تعصبه للمذهب، وقد انتقد الجزء التاسع من التفسير في تلك المجلة بما سنراجعه وننصفه فيه عند سنوح أول فرصة إن شاء الله تعالى، فإننا إنما لمحناه في أثناء مرضنا لمحًا. أنا لا أجادل فيما أنكر السيد محسن على السيد الآلوسي في مسألة فتاوى المهدي المنتظر، ولا في المتعة الدورية التي هي أقبح فضائح البشر؛ ولكنني أتحداه وأتحدى مجلة العرفان بأن ينشرا فيها صورة الكتاب الذي يزعمان أن السيد محمود شكري الآلوسي قرَّظ فيه كتاب السيد محمد بن عقيل (النصائح الكافية) … بعد أخذها عن الأصل (بالزنكوغراف) فإننا نعرف خط السيد محمود، ونعلم أنه كان لا يداهن ولا يتكلم إلا بالحق.

فاتحة المجلد الحادي والثلاثين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الحادي والثلاثين بسم الله الرحمن الرحيم {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (الزمر: 46) . {وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (النمل: 93) {وَهُوَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (القصص: 70) . لبيك اللهم ولك الحمد كما تحب وترضى، وصلواتك الطيبات، وتحياتك المباركات الزاكيات، وصلاة ملائكتك المقربين وعبادك المؤمنين على رسولك محمد خاتم النبيين، الذي أرسلته رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه، أُولي قرابته وقربه، وعلى التابعين لهم في طاعته وحبه، واتباع سُنته في بيان كتاب ربه، على ما نقلوه لنا عنه من قول وعمل، وفضيلة وأدب، وتشريع وحكم. أما بعد: فإنني أُذكِّر قراء المنار في فاتحة مجلده الحادي والثلاثين، بنحوٍ مما كنت أذكرهم به فيما سلف من السنين، من حظ المسلمين من الإسلام وأثر الإسلام في المسلمين، ولا سيما حال ملاحدتهم ومبتدعتهم، وفساقهم وظلمتهم، وجامديهم ومقلدتهم. وقد كان من قدر الله تعالى أن ألممت في فاتحة المجلد الثلاثين بشيء من دعاية التجديد الإلحادية. ومفاسد فوضى النساء الشهوانية، ثم كان أن اصطدمت بالفريقين في أثناء تلك السنة بالمناظرة والمحاضرة، فكانت الحجة والغلب لهداية الإسلام، وظهر ذلك للخاص والعام، وعلمنا به أن ما كانوا يذيعونه عن شباب مصر وسائر نابتة العصر، من انسلاخهم من وجدان الدين، واتباعهم غير سبيل المؤمنين، وانتظامهم جندًا خاضعًا لدعاية الإلحاد، وقيادة الإباحة والفساد - إنما هو زور وبهتان، وإرجاف وإيهام، فقد نصر جمهورُ طلبة الجامعة المصرية داعية الإسلام نصرًا عزيزًا، واقترحوا عليه أن يكتب مقالات في بعض الجرائد اليومية يفصِّل بها ما أجمل في مناظرة الجامعة تفصيلاً، فكتبنا في جريدة (كوكب الشرق) مقالات تجاوزت جمع القلة إلى جمع الكثرة، فكان لها ما كان من حسن التأثير في الأمة، ولم يرتفع للملحدين والإباحيين في الرد عليها صوت، على ما حذقه أكثرهم من خلابة المِراء وسخف القول. وإن لها لبقية، ستكون إن شاء الله تعالى راضية مرضية. بيد أن ريح الطيش طارت بلب داعية قبطي منهم كان أول مَن عاب الإسلام، وقال بتفضيل الذكور على الإناث في الميراث، ودعا المسلمين إلى نبذ الفرائض المقررة في نصوص القرآن، فلم يجد حيلة في مقاومتنا إلا إثارة العصبية الجنسية الفرعونية. ودعوة المصريين كافة إلى ترك قراءة كل ما يكتبه مَن لا يجري في عروقه الدم المصري الفرعوني، ولا سيما مَن كان من أصل سوري، كأنه لغروره بقبطيته يتوهم أن مسلمي مصر كلهم يفضلون نسب فرعون - الذي لعنه الله ولعن آله وقومه في كتبه، وعلى ألسنة رسله - على نسب سيد ولد آدم، وأكمل مصلح ظهر في العالم، وهو محمد رسول الله وخاتم النبيين، الذي تعبَّدهم الله تعالى بالصلاة عليه وعلى آله الطاهرين، كما تعبَّدهم بلعن فرعون وقومه الوثنيين، بقوله تعالى بعد ذكر غرقهم وعاقبة ظلمهم {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ * وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ} (القصص: 41-42) . ولو شئنا لأثرنا عصبية إسلامية على هذه العصبية الفرعونية فاجتاحتها وكان أهلها الخاسرين، ولكننا نكرم أنفسنا عن مثل هذا السلاح، ومن العجيب أن أعداء الدين الذين يزعمون أن التعصب له هو الذي يفرق بين أهل الوطن - يستبيحون التفريق والتعادي والتخاصم بالتعصب للجنس والنسب؛ لأنهم لا يكرهون شرور العصبيات وضررها، وإنما يكرهون مثارها من النفس وسببها، كأنهم يكرهون الغرائز والعقائد الدينية الإسلامية - وهي وجدانية اضطرارية - دون المفاسد التي تتولد من الغلو والإفراط فيها وهي اختيارية. وأما نحن فنكره سوء استعمال الغرائز والأديان، الذي هو كسوء استعمال العقل والجوارح والحواس. ويرى جماهير المسلمين في مصر أن القبط قد أسرفوا في تعصبهم الملي، واستغلال نفوذهم في الوفد المصري، فصبر الأكثرون عليهم صبر الكرام، حرصًا على الوحدة السياسية أن يصدعها الانقسام، وإن تصدى خصوم الوفد منهم لإثارة النعرة الإسلامية عليهم وعلى الوفد بغضًا في الوفد لا تمسكًا بالإسلام، ونحن نربأ بنفسنا أن تعبث بها هذه الأهواء، وإنما هذه كلمة قد حبذها الاستطراد. بيد أن الذي أتأياه في هذه الفاتحة، وأذكِّر بخطره الأذهانَ الغافلة، هو أن أنصار الجمود والبدع المأوفة، وحماة التقاليد المألوفة، ممن سماهم الأستاذ الإمام (حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب) قد أثار بعضهم في هذا العهد عصبية مذهبية هي أضر على المسلمين من أثرة القبط عليهم في مصالح الحكومة، ومن فريقي المبشرين والملاحدة. فإن انتصارنا على هذين الخصمين بالحجة والبرهان يفهمه ويغتبط به جميع طبقات المسلمين من الخواص والعوام. وأما انتصارنا على أولئك بآيات كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح فلا يعقله إلا من أوتي من سلامة الفطرة واستقلال الفكر ما كان به ممن قال الله تعالى فيهم {فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (الزمر: 17-18) ولا يزال أكثر طلاب العلوم الشرعية على الطريقة التقليدية يطلبون معرفة الحق بشهرة قائله، أو سعة جبته وشكل عمامته، أو بلقبه الوهمي، أو بمنصبه الرسمي، وهم ينفرون من الدليل ومن صاحبه، ويسيئون الظن به. وقد كان طلاب الإصلاح الإسلامي يسمعون من هؤلاء الجامدين ومن المبتدعين أذًى كثيرًا ويصبرون عليهم، إذ يرون أن مبلغ أذاهم لا يعدو بطء انتشار الإصلاح فيمن حولهم، ويسُرّ الذين يعرفون تاريخ الأمم والملل أن مقاومة الإصلاح في تاريخ الإسلام أضعف من مثلها في تاريخ النصرانية، ويحمدون الله تعالى أن الجامدين من كبار علماء الدين الرسميين لم يبلغ منهم الجمود أن يتصدى أحد له قيمة منهم للكتابة والنشر في الرد على دعاة الإصلاح المستقلين، ذلك بأنهم يعلمون أنهم يدعون إلى حق وخير وهو الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الدين على منهج السلف الصالح الذين هم خيار هذه الأمة، والأخذ في مصالح الدنيا بما ثبت للبشر نفعه بالتجارِب الفنية والعملية، مع مراعاة القواعد الشرعية، وإنما يمتعضون من هذه الدعوة لأمرين: (أحدهما) خشية إفضاء الاستقلال في فهم الدين إلى الخروج عن المذاهب المتبعة إلى دعوى الاجتهاد المطلق، ولا يتسع هذا التذكير لبيان مثار هذه الخشية من النفس وما لها من الهوى فيها. (وثانيهما) أن هذا تجديد في الإسلام تخرج به الزعامة الدينية من عهدتهم لعدم استعدادهم للنهوض به، وعجزهم عن تولي القيادة في ميدان جهاده، وأذكّّرهم بما بينته مرارًا من التفرقة بين الاجتهاد المطلق بوضع مذهب جديد، والاستقلال في العلم واتباع السلف في هداية الدين. ولكن نجم في هذه السنين الأخيرة رجل من أعداء السنن، كما ينجم قرن المعز، لم يلبث أن تصدى لنطاح صخرة هداية السنة النبوية والسيرة السلفية، دون غيرها من المقاصد الإصلاحية، وهو شيخ تركي لا ندري أكان من أولئك الجامدين الذين فتنوا رجال الدولة العثمانية عن الدين بتعصبهم لتقاليد كتب الحنفية، فصدوا أولئك السياسيين عن أصل الملة الحنيفية، أم هو دسيسة كمالية يبغي بها الكماليون مقاومة حركة الإصلاح الإسلامية، التي تقاوم دعاية التفرنج الكمالية؟ ! بدأ هذا التركي نطاحه للسنة وحُفَّاظها بدسائس ببثها في حواشي المطبوعات من كتبها، التي يتَّجر تلميذ له من الأغرار بطبعها، ثم بث دعايته في الأزهر فاستمال لمشايعته عليها عالم من أشياخه المشهورين، كان في موقف التجاذب والتدافع بين الجامدين والمجددين، حتى كان بعض تلاميذه وأصدقائه يرجون أن يخلف الأستاذ الإمام في ناحية من نواحي خدمته للإسلام، فخابت فيه الآمال.. أو يعود إلى الاعتدال. كان الشيخ التركي أحذق من الشيخ المصري في الصد عن السنة وحفاظها، وعن مذهب السلف وأنصاره. فإنه سلك فيه مسلك الدسائس السياسية، وقدر السير فيها مراحل كالمراحل الكمالية في هدم الشريعة الإسلامية، فبدأ هو بالطعن على بعض حفاظ السنة المشهورين، وتفضيل أهل الرأي على أهل الحديث، وسخَّر الشيخ المصري للجهر بما لم يتجرأ هو على الجهر به من مناجزة المعاصرين، واستدرجه إلى كتابة شيء جهر فيه بالنيل من شيخ الإسلام، وهجر بغميزة الأستاذ الإمام، ونشره له مطبوعًا باسمه، ولعله فعل ذلك بدون إذنه، ليجعله دريئة له في ميدان الجدال، ومِجَنًّا يتقي به في معارك النزال. لا خوف اليوم على مذهب السلف من سيف هذا التركي ولا من مِجَنِّهِ. وقد أعلى الله مناره، وأعز مهاجرته وأنصاره، وأنشأ له دولة، وجعل له صولة، فتعددت جمعياته وصحفه، وكثرت رسائله وكتبه، فتضاءلت أمامه التأويلات الكلامية والتقاليد الخرافية، ولا خوف على طريقة الأستاذ الإمام في الإصلاح، بعد أن اتفقت الكلمة على إمامته، وانكشفت بموته الحجب التي كانت مضروبة أمام جلالته، من استبداد أمير، وحسد شيخ كبير، وتقليد غر جاهل، وحقد غمر متجاهل. وإن ظهر أن لحسد بعض الأشياخ بقية في الزاوية، أخرجها منها ذلك التركي الداهية، وسنفرُغ في هذا المجلد لرد هذا الهجوم ببيان بطلانه وضرره في الإسلام والمسلمين في هذا العصر، الذي يهاجم الإسلام جيشان قويان من جحافل الكفر أقواهما جيش الملاحدة الذين صار لهم دولة، وإن كانت واحدة، وأضعفهما جيش المبشرين وإن كان لهم دول متعددة، فيجب على أهل العلم وحملة الأقلام من المسلمين الاتحاد والتعاون للجهاد في هذه السبيل سبيل الله، بدلاً من إضعاف الإسلام بالتعصبات المذهبية التي كانت أضر عليه في عهد قوته من كل أعدائه من الكفار. فكيف يكون ضررها الآن؟ ! . وقد كان من حكمة الله في تقديره ولطفه في تدبيره أن بلغنا عند كتابة هذه الفاتحة الكلام على تأسيس جمعية العروة الوثقى من تاريخ الأستاذ الإمام الذي ألجأتنا أحداث السياسة إلى تأخير نشره إلى هذا العام. فرأينا أن ننشر لقراء المنار بعض تعاليمها السرية؛ لأنها قد صارت من الحوادث التاريخية، فهي أفضل أطوار الإصلاح الذي نتخوَّلهم به في هذه الفواتح، وخير صدمة لتقحم الجامح، وتهجم الطامح، وهذا نصها: بعض الأصول العملية لأعضاء جمعية العروة الوثقى السياسية العقد الرابع للعروة الوثقى: (1) ينعقد بثلاثة يقسمون اليمين المعهود. (2) مذاكرة المجتمعين عند الالتئام المعتاد تكون في أمور: التذكير بآيات الله - النظر في حالة الإسلام عند بدئه وما كان عليه النبي وخلفاؤه فقط - البحث في السبب الذي امتدت به سطوة الإسلام حتى صال على جميع الأديان وكان يبتلعها في زمن قصير - كيف انقلب الحال وآل إلى ما نراه؟ . (3) يلاحظ كل باحث أن ذاته في موضوع البحث فيطلب العلة من نفسه ق

نتيجة ما تقدم في حقيقة ربا القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نتيجة ما تقدم في حقيقة ربا القرآن أو الربا المحرم القطعي المراد بالوعيد الشديد إن هؤلاء العلماء الأعلام من محققي المفسرين والمحدِّثين والأصوليين والفقهاء قد صرحوا بأن الربا الذي حرمه الله تعالى بنص كتابه العزيز، وتوعد آكليه أشد الوعيد، هو الربا الذي كان فاشيًا في الجاهلية ومعروفًا عند المخاطبين في زمن التنزيل، وهو أخذ مال في مقابلة تأجيل دَيْن مستَحَقّ في الذمة من قبل، وهو المسمى (ربا النسيئة) لأن أخذ الزيادة على رأس المال إنما سببه إنساء أجل الدين المستحق - أي تأخيره - لا في مقابلة منفعة ما لمعطيها. وهو قول الحبر ابن عباس في تفسير آيات سورة البقرة وتدل عليه نصوص الآيات بإباحة ما سلف منه وإيجاب الاكتفاء برأس المال على مَن تاب كما تقدم عنه رضي الله عنه. ويؤيد هذا أمران: (أحدهما) الاستعمال اللغوي، ووجهه: أن هذا اللفظ كان مستعملاً عند عرب الجاهلية من المشركين وأهل الكتاب وغيرهم وذكر في بعض السور المكية، فهو ليس من الألفاظ التي وضعت وضعًا جديدًا في الشريعة فكانت مجملة ثم فسرت بعد ذلك بالأحاديث عند الحاجة إليها في التشريع العملي، بل اللام في (الربا) للعهد كما صرح به بعضهم. (ثانيهما) أن الله توعد على أكل الربا بضروب من الوعيد لم تُعهد في التنزيل ولا في السنة ولا ما يماثلها إلا في الترهيب والزجر عما عظم إثمه وفحش ضرره من الكبائر، ويؤكده الوعيد الوارد في الأحاديث النبوية، وهاك الإشارة إليها بالإيجاز: (1) قوله تعالى {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ} (البقرة: 275) أي من قبورهم يوم البعث والنشور {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: 275) وهو الجنون، وقد ورد أن المرء يبعث على ما مات عليه، فإذا كان هذا حال آكل الربا عند البعث وقبل الحساب، فكيف يكون حاله بعد ذلك في النار؟ وهو: (2) قوله تعالى فيمن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه {فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 81) وقد حملوه على المستحِلِّ له لأن استحلاله كفر. (3) قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (البقرة: 276) أي يمحق بركته. (4) قوله تعالى بعد ذلك {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ} (البقرة: 276) وحرمانه من محبة الله تعالى يستلزم بغضه ومقته عز وجل. (5) تسميته كفَّارًا أي مبالغًا في كفر النعمة بقسوته على العاجز عن القضاء واستغلاله لما يعرض له من الضرورة بدلاً من انتظاره وتأخير دينه إلى الميسرة، أو إسعافه بالصدقة. (6) تسميته أثيمًا، وهي صيغة مبالغة من الإثم وهو كل ما فيه ضرر في النفس أو المال أو غيرهما وأشدها المضار والمفاسد الاجتماعية. (7) إعلامه بحرب من الله ورسوله لأنه عدو لهما، في قوله تعالى بعد الأمر بترك ما بقي للمرابين من الربا بعد التحريم {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (البقرة: 279) . (8) وصفه بالظلم في قوله {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 279) . (9) عَدّ النبي صلى الله عليه وسلم إياه من أهل الموبقات وهي أكبر الكبائر ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (اجتنبوا السبع الموبقات) أي المهلكات قالوا وما هن يا رسول الله؟ قال: (الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) . (10) ورود عدة أحاديث صحيحة في لعنه صلى الله عليه وسلم لآكل الربا وموكله، وفي بعضها زيادة كاتبه وشاهديه. (11) في غير الصحاح أحاديث كثيرة في الوعيد الشديد عليه منها أن درهم ربا أشد من ثلاث وثلاثين زنية في الإسلام وفي بعضها 36 زنية، وفي بعضها بضع وثلاثين زنية وفي بعضها (الربا اثنان وسبعون بابًا أدناها مثل إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عِرض أخيه) رواه الطبراني في الأوسط من طريق عمرو بن راشد وقد وثقه ابن حبان على نكارة حديثه هذا. وجملة القول أن هذا الوعيد الشديد كله لا يمكن أن يكون على ربا الفضل الوارد في حديث عبادة وأبي سعيد وغيرهما لأنه لا ضرر فيه ولذلك اضطر بعض الفقهاء إلى القول بأن تحريمه تعبدي لا يعقل معناه. ومن المعلوم من الدين بالضرورة لصراحة أدلته في الكتاب والسنة أن الإسلام يسر لا عسر فيه ولا حرج، وأنه الحنيفية السمحة، وقال العلماء: إن من علامة الحديث الموضوع أن يكون فيه وعد بثواب عظيم على عمل تافه أو سهل قليل التأثير - أو وعيد شديد على عمل ليس فيه ضرر في الدين ولا في الدنيا أو فيه ضرر قليل. هذا، وإن بيع الأجناس الستة بعضها ببعض مع التفاضل المعتاد بالتراضي أو بيع جنس بآخر مع تأخير القبض ليس فيه من الضرر والفساد ما يستحق فاعله شيئًا من أنواع ذلك الوعيد فلا يفهم له علة إلا سد ذريعة ربا النسيئة الذي نهى الله عنه وتوعد فاعله بما لخصناه آنفًا، فهو كنهيه صلى الله عليه وسلم عن خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، وعن سفرها إلا مع ذي رحم محرم، وعن الانتباذ في الأواني التي يسرع فيها اختمار النقيع المنبوذ فيها من تمر أو زبيب، وعن الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر؛ لأن هذا وذاك مما يسهل وجود الخمر ويجرئ على شربها بتأثير الألفة والقدوة، ومثله أو أشد شرب القليل من الشراب الذي لا يسكر إلا الكثير منه. وأبلغ من هذا في النهي لسد الذريعة نهي الله عز وجل للمؤمنين عن سب آلهة المشركين وأصنامهم مع تعليله الدالّ على ذلك وهو قوله: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) . وأما تسمية ذلك ربا في بعض الروايات فمن باب المجاز المرسل كقوله تعالى حكاية عن أحد صاحبي يوسف في السجن {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} (يوسف: 36) وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على هذا في بعض روايات هذه الأحاديث كحديث ابن عمر عند الإمام أحمد والطبراني (لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين فإني أخاف عليكم الربا) وقد ورد في روايات متعددة إطلاق لفظ الربا أو أشد الربا على استطالة الرجل في عرض أخيه يعني بالغيبة، وإطلاق لفظ الزنا على مقدماته في حديث مرفوع معروف. وروى مالك وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن ابن عمر قال: قال عمر بن الخطاب لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مِثْلاً بِمِثْل ولا تبيعوا الورِق بالذهب أحدهما غائب، والآخر ناجز، وإن استنظرك حتى يلج بيته فلا تنتظره إلا يدًا بيد هات وهاء، إني أخشى عليكم الرماء. والرماء هو الربا. وروى مالك والبيهقي عن نافع قال: كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف ولم يسمع فيه من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. قال: قال عمر: لا تبايعوا الذهب بالذهب ولا الورِق بالورِق إلا مثلًا بِمِثْلٍ سواءً بسواء ولا تشفوا بعضه على بعض؛ إني أخاف عليكم الرماء. ولكن الوعيد الشديد في الربا وما يقتضيه من الورع واتقاء الشبهات أوقع الناس في مشكلات من هذه المسألة منذ ذلك العصر إلى اليوم، فترى أن عمر (رضي الله عنه) على نهيه عن ربا الفضل خوفًا من إفضائه إلى الربا وعلى تصريحه بأن آية البقرة آخر ما نزل يعني من آيات الأحكام وأنه صلى الله عليه وسلم توفي ولم يقل لهم فيها شيئًا غير ما كانوا يعلمونه من ربا الجاهلية، ومن وضعه وإبطاله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقوله فدعوا الربا والريبة - تراه على هذا قد قال فيما رواه عنه ابن أبي شيبة لقد خفت أن نكون قد زدنا في الربا عشرة أضعافه بمخافته، ولقد صدق رضي الله عنه فكل من جاوز حد شيء وقع في ضده. *** فصل مهم في إلحاق الفقهاء ذرائع الربا وشبهاته بالربا القطعي بالنص قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآيات: وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض، والمزابنة وهي اشتراء الرطب في رءوس النخل بالتمر على وجه الأرض، والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض - إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسمًا لمادة الربا لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم، وقد قال الله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف: 76) وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم. وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهدًا تنتهي إليه: الجد، والكلالة، وأبواب من الربا. يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا. والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله لأن ما أفضى إلى الحرام حرام، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. اهـ كلام ابن كثير، وأورد بعده حديث النعمان في الحلال والحرام والشبهات وهو معروف وسيأتي البحث فيه. أقول: إن العماد ابن كثير رحمه الله تعالى قد فطن لما غفل عنه جمهور العلماء أو قصروا في بيانه في هذه المسألة الخطيرة ولكنه لم يسلم من مجاراتهم في بعض ما أخطأوا فيه بل أقرهم عليه واحتج لهم بما لا حجة فيه، ويؤخذ منه ومما قدمناه عليه أمور يجب تدبرها لتحرير هذه المسألة المشكلة فنقول: (1) إذا كان عمر أمير المؤمنين (الذي قال فيه عبد الله بن مسعود من أكبر علماء الصحابة إنه قد مات بموته تسعة أعشار العلم) قد خشي أن يكون مسلمو عصره قد زادوا في الربا عشرة أضعافه من شدة خوفهم من الوقوع في شيء منه، فإن من بعدهم قد زادوا عليهم أضعاف ما وقعوا فيه من باب الاحتياط واتقاء الشبهات، فإنهم عدوا منه ما نُهي عنه من البيوع مهما تكن صفة النهي ومهما يكن سببه، وعدوا منه البيوع الفاسدة عندهم، وإن يكن سبب ما قالوه في فسادها رأي لبعضهم ما أنزل الله به قرآنًا، ولا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيه بيانًا، وصارت هذه الأنواع التي لا تكاد تُحصى مقرونة في أذهان الجميع بذلك الوعيد الشديد في كتاب الله تعالى وفي الأحاديث الصحيحة وكذا الضعيفة والمنكرة والشاذة والموضوعة التي رووها في ذلك، ويقل في المسلمين في هذه الأعصار من يميز بين ما يصح منها وما لا يصح فأوقعوا المسلمين في أشد الحرج المنفي بنص كتاب الله تعالى المحكم في دينه. (2) إن قولهم الذي جعلوه أصلاً تتدلى منه فروع لا تحصى في الربا وهو (إن الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة) غير مسَلَّم فالجهل ليس كالعلم ولا يصح أن يُجعل دليلاً على التحريم الذي تقدم أن السلف الصالحين لم يكونوا يقولون به إلا بنص قطعي الرواية والدلالة؛ بل نقل الإمام أبو يوسف عنهم اشتراط وروده في كتاب الله تعالى بنص جلي لا يحتاج إلى تفسير. وقد علمنا أن الله تعالى لم يحرم في كتابه إلا ربا النسيئة الذي هو أخذ الزيادة في المال لأجل تأخير ما في الذمة منه الذي من شأنه أن يتضاعف ويكون مخربًا للبيوت ومفسدًا للعمران، ومبطلاً لفضائل التراحم والتعاون بين الناس. ومن الغريب أن ينوه العماد رحمه الله تعالى بعلم هؤلاء الذين قال فيهم: إنهم حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا، وغفل عن كو

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار حكم قراءة الجرائد والمجلات (س1) من صاحب الإمضاء في دبي - خليج فارس بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد الأجلّ مفتي الأمة، وبحر العلوم، وعلامة الزمان، وترجمان القرآن، قامع المبتدعين، البحر الزاخر، والصارم الباتر، السيد محمد رشيد رضا رضي الله عنه وأرضاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فالمرجو من فضيلتكم الجواب عن هذا السؤال: وهو أنه قد حصل في بلدتنا خلاف بين طلبة العلم؛ فإن فريقًا منهم يعترض على فريق آخر بسبب انكبابهم على قراءة الجرائد والمجلات الأسبوعية واليومية؛ ويشمل ذلك الجرائد المصورة، فالواجب أن تصرفوا أوقاتكم في مطالعة كتب السنة والتفاسير والفقه؛ لأن بها سعادة الدارين، وهذه الجرائد من لهو الحديث المشار إليه في الآية، والدليل في عدم الفائدة منها أن هذه مصر؛ الجرائد والمجلات بها مذ عهد بعيد ولم تنتفع ولم تتخلص من الرق، وهذه الأمة العربية جند الإمام ابن السعود أيده الله بنهوضهم في هذه المدة القريبة حصل خير كثير والمستقبل يبشر بالخير مع أنهم لم يطالعوا جرائد ولا مجلات. ويقول الفريق الآخر هل الخير إلا في الجرائد وهي تذكي الذهن وتحرك الأفكار وتفيد عن تطور العالم وهي من أنعُم الله الكبار. فالرجاء من فضيلتكم الإيضاح والتخطئة والتصويب لأنه حصلت مشاحنة تكدر الخاطر. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد بن حسن (ج) إن الجرائد والمجلات التي توصف بالدورية مثل الرسائل والكتب في القصص والأدب والتاريخ والعلوم منها الضار والنافع، وفيها الحق والباطل، فلكل من مادحيها وذامِّيها وجه، ويختلف حكم قراءتها باختلاف موضوعاتها واستعداد قارئيها في العلم ورسوخ العقيدة الصحيحة، والآداب الشرعية القويمة، فإن في بعضها ما هو كفر صريح وصد عن الدين بضروب من الشبهة والتأويل، وفي بعضها تزيين للشهوات المحرمة وغير ذلك من المعاصي، كما أن في هذه وغيرها كثيرًا من المسائل العلمية والتاريخية وأخبار السياسة التي تفيد صاحبها عبرة وخبرة وتثقيفًا، وإنني أعلم أن كثيرًا من قرائها قد فسدت عقائدهم وآدابهم، ولا بد أن تكونوا رأيتم في المنار ردودًا على بعضها بالتعيين تارة وبالإبهام تارة، وأن كثيرًا من قرائها لا يحملهم عليها إلا التلذُّذ والتسلِّي بما فيها من الغرائب، دون ما يزعمون من الفوائد، وناهيك بالمصورة التي تعنى بصور النساء العاريات والمتبرجات، وأخبار العاشقين والمعشوقات، والمدار في نفع ذلك وضره منوط بحسن الاختيار وسوء الاختيار. فمن الجرائد المصرية التي يحسن اختيارها في قطر إسلامي كبلادكم جريدة كوكب الشرق اليومية والفتح والشورى والمصلح الأسبوعيات، ومن المجلات المصرية مجلة مكارم الأخلاق والزهراء والهداية ومجلة الشبان المسلمين، ومن الجرائد السورية العهد الجديد والنداء اليوميتان والنذير الأسبوعية من جرائد بيروت وجريدتا الحياة والجامعة العربية من جرائد فلسطين والهداية البغدادية والحلبية، وأم القرى الحجازية. ومن المجلات مجلة الكشاف البيروتية والإصلاح الحجازية ومجلة الكويت. فمَن كان يريد قراءة الصحف من أهل بلادكم الإسلامية العربية لما فيها من الفوائد العلمية والأدبية والسياسية مع الأمن من المفاسد الدينية ونزعات الإلحاد، وإباحة الفسق والفساد، فليختر لنفسه بعض هذه الجرائد والمجلات، ومن رغب عنها إلى الصحف التي ينشرها بعض الملاحدة أو الكفرة لإفساد عقائد المسلمين وأخلاقهم وتفريق كلمتهم ويجذبون الشبان إلى قراءتها بصور النساء العاريات وغير ذلك من مثارات الشهوات - فهم يجنون على أنفسهم وعلى أمتهم وبلادهم من حيث لا يشعرون. *** تفسير آية (ما ننسخ ... ) (س2) من صاحب الإمضاء (الطلفون - الدار البيضاء بالمغرب) صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل رشيد رضا دامت معاليه، تحية وسلامًا لائقين بمقامكم الشريف، هذا فالمنهى لسماحتكم سؤال أرجو الجواب عنه وهو قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ * مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 105-106) . ملخص السؤال المعروض لفضيلتكم هو قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (البقرة: 106) هنا قد ظهر لي أن ما ننسخ من توراة وإنجيل أو نُنسي اليهود في التوراة وننسي النصارى في الإنجيل. لا كما قال بعض المفسرين أن عشرين آية نسخت ويستدلون بالآية، وأستدل على رأيي بأن الآية السابقة قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 105) وأي خير أفضل من القرآن؟ هذا وإني ملتمس من فضيلتكم أن تمنحوني عفوًا والكريم مَن عذر مَن اعتذر، وأقال عثرة من عثر، إن وقع غلط في فهمي للآية، مع أتمّ الرجاء أن تلهمني إلى الصواب، وتبدي نظركم السديد، وأسأله سبحانه أن يسدد أعمالنا ويوفقنا لما يحبه ويرضاه، ودمتم محروسين بعنايته، والسلام ختام. ... ... ... ... ... ... ... ... السيد محمد اليعقوبي (ج) جمهور المفسرين والفقهاء على أن النسخ المراد من هذه الآية هو نسخ آيات الأحكام الشرعية، فعلى هذا القول يظهر لفهمكم في الآية وجه وجيه بقرينة الآية التي قبلها. وللآخذين برأيهم أن يقولوا: إن هذه القرينة لا تقتضي الحصر فالآية تدل على أن ما ينسخه الله تعالى من التوراة والإنجيل وما ينسخه من القرآن أو ينسيه منهما سواء في كونه يأتي بخير منه أو مثله، ولكن هذا لا يدل على أن في القرآن عشرين آية منسوخة وهو العدد الذي اعتمده السيوطي في الإتقان، ولا على ما قال بعضهم من أن المنسوخ بضع آيات فقط، فالعدد لا يدخل في مفهوم الآية من باب ولا من طاق. وفي الآية وجه آخر وهو أن لفظ (آية) فيها معناه، الآية الكونية أي المعجزة التي يؤيد الله بها الرسل عليهم السلام؛ إذ كان الكفار يطالبونه عليه السلام بآية من تلك الآيات ولا سيما آيات موسى (عليه السلام) إذ {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} (القصص: 48) ويؤيده قوله تعالى بعدها: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: 108) وهو الذي اختاره شيخنا وتجدونه مفصلاً في تفسيرها من الجزء الأول من تفسيرنا. *** حبوط أعمال المشركين بالشرك (س3) من صاحب الإمضاء في البترون (لبنان) حضرة الأستاذ الجليل، إمام المسلمين، ومحيي شريعة سيد المرسلين، الشيخ رشيد أفندي رضا المحترم. السلام عليكم وبعد: فقد قرأت في العدد الرابع من المجلد الثلاثين في مجلتكم الغراء ما يأتي: بعد ما ذكر الله في كتابه أن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا هم أعظم درجة وأسمى مقاماً من الذين يسقون الحاج ويخدمون البيت. قلتم في تفسير هذه الآية التي تؤدي هذا المعنى: لا مراء في كون هذين العملين من أعمال البر التي يكون لصاحبها درجة عند الله إذا فعلا ما يرضي الله ولذلك أقرهما الإسلام دون غيرهما من وظائف الجاهلية، ولكن الشرك يحبطهما ويحبط غيرهما من أعمال البر التي كانوا يفعلونها كما تقدم. اهـ. فالعجبُ كيف يُحْبِطُ الشركُ الأعمالَ التي هي بحد ذاتها حسنة خيرية والله لا يضيع للإنسان مثقال ذرة من خير أو شر كما جاء في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ} (الزلزلة: 7-8) وعدل الله أجلُّ من أن يجعل المشرك الذي يفسد في الأرض كالمشرك الذي يعمل الأعمال الخيرية. ومعلومكم أن كلمة (مَن) عامة كما هو معلوم من علم الأصول تعم المؤمن والمشرك. فالرجاء نشر الجواب على صفحات مجلتكم الغراء ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... مدير مدرسة البترون الإسلامية ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فؤاد إشراقية ... ... ... ... ... ... ... ... من طرابلس الشام (ج) أما الدليل على الحبوط فآيات صريحة في القرآن، منها قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} (الزمر: 65) {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 88) {وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (المائدة: 5) {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً} (الكهف: 105) وأما وجهه المعقول فهو أن الشرك بالله والكفر بأصول الدين من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر يفسد الأنفس البشرية ويدنسها دنساً لا تؤثر معه الأعمال البدنية في إزالته وتزكية الأنفس منه بل تكون كقليل من الماء أو نقط من العطر تُلقَى في مجتمع القذر من الكنيف لا يكون لها أدنى تأثير في تطهيره، فضلاً عن تطييبه. وأما قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ... } (الزلزلة: 7) إلخ فيجيب عنه العلماء بأنه عام مخصوص بغير المشركين والكافرين وقالوا: إنهم يُجزَوْن في الدنيا على أعمالهم الحسنة، ولكن موضوع النص أن كل أحد يعرض عليه يوم الجزاء ما عمل من خير فيراه في الحساب الذي يترتب عليه الجزاء فإذا وُزنت أعمال المشرك الحسنة مع شركه وما له من سوء التأثير في تدنيس نفسه بالخرافات والسيئات تطيش كِفَّة تلك الحسنات فيكون معنى حبوط عمله أنه لا يرى له تأثيرًا في النجاة من العذاب ودخول الجنة، فكأنه لا وجود له إلا أن يكون في كون عذابه يكون دون عذاب مَن لم يعمل تلك الأعمال، وبهذا تنتفي المساواة بين المشركين المنافية للعدل، وقد بيَّنا في الكلام على الجزاء أن عذاب الكفار في النار يتفاوت بحسب أعمالهم وما كان لها من التأثير في أنفسهم كغيرهم إلا أنها لا تبلغ درجة أقل المؤمنين عملاً صالحًا، وقد ورد في أصحاب المعاصي من المسلمين أن أصحاب الحقوق عليهم من العباد يأخذون من حسناتهم بقدر حقوقهم عليهم فإذا لم تفِ بها حملوا من أوزارهم بقدر ما بقي منها، وورد في الحديث تسمية هؤلاء بالمفلسين. ولكن مَن مات على الإيمان الصحيح لا بد أن تكون عاقبته الخروج من النار إذا عُذب فيها بمعاصيه ثم يدخل الجنة.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت (س 4 - 6) حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد أفندي رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإني أرفع لفضيلتكم ما يأتي، راجياً التفضل بالإجابة عليه: 1- هل يجوز لجمعية إسلامية أُسست لخدمة الدين وأبناء الأمة الإسلامية كجمعية المقاصد الإسلامية في بيروت وغيرها - أن تُدخل في مدارسها معلمين غير مسلمين لتعليم أولاد الأمة الذين هم مطمح أنظارها في نشر الدين وتقويته مع وجود معلمين مسلمين فيهم الكفاءة التامة لما عساه أن ينشأ عن غير المسلمين أمور تنافي ديننا الإسلامي سواء بالمقال كبثّ بذور الفساد في النفوس، أو بالحال ككونهم بصفات لا تلائم مبادئ الدين مما تنتشر به النفوس الساذجة؛ لأن التلاميذ مرآة معلميهم، وفيهم قابلية انطباع ما يصدر عنهم من صلاح أو فساد، هل ذلك يجوز أم لا؟ 2- ما قول السادة علماء الدين الإسلامي الحنيف فيمن لا يصوم ولا يصلي خوفاً من تجعيد ثيابه كالبنطلون وغيره فهل هو مسلم أم لا؟ وما هي الضرورة التي يباح فيها عدم الصوم والصلاة؟ أرجو من فضيلتكم أن تبينوا لنا جميع أسماء مؤلفاتكم؛ لأننا نريد اقتناءها وأن تتكرموا بالجواب الكافي عن ذلك كله. ولكم من الله تعالى عظيم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد شهاب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت أجوبة المنار (4) حكم جعل غير المسلم معلماً لأولاد المسلمين: يجوز للأفراد وللجمعيات استئجار غير المسلم لتعليم أولاد المسلمين ما يحتاجون إليه من العلوم الدنيوية النافعة؛ كالحساب والاقتصاد مثلاً، إذا كان متقنًا لذلك ولا يُخشى على الأولاد ضرر منه في دينهم ولا في تربيتهم القومية والملية، ولا يجوز مع خشية الضرر مطلقاً مهما يكن نوعه وإذا وجد معلمان سيان في ذلك العلم وفي فن التعليم أحدهما مسلم والآخر غير مسلم فإسلام المسلم كافٍٍ في ترجيحه كما أن المسلم التقي الحسن الآداب يرجح على مَن دونه في التقوى والأدب لا على الفاسق فقط. ورُبَّ كافر أقل ضرراً في التربية من فاسق، فالعبرة بدرء المفسدة أولاً ثم بتحقق المصلحة. *** (5) ترك الصيام والصلاة لغير عذر شرعي: لا يترك الصلاة مسلم صحيح الإيمان خوفاً من تجعيد ثيابه، ولا لما هو فوق ذلك تشعيثاً لهيئته وهندامه، ففاعل ذلك ليس له من الإسلام نصيب إلا لقبه الموروث عن آبائه، وإنما الإسلام الإذعان العملي الذي يقتضيه الإيمان الصحيح بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والمراد أن ترك الصلاة في مثل هذا مسبب عن عدم الإسلام لا سبب له في الغالب كما فصلناه في تفسير قوله تعالى: {.. فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11) فراجعْه. ولا عذر يبيح ترك الصلاة إلا سقوط التكليف مطلقاً كالجنون أو موقتاً بنوم أو إغماء أو نسيان مثلاً. وأما الصيام فيباح تركه في المرض والسفر على أن يقضي ما فاته بعد الشفاء والإقامة ويجوز كذلك للحامل والمرضع أن تفطر في رمضان إذا خافت على نفسها أو ولدها. ومن عجز عن الصيام لهرم أو مرض لا يرجي برؤه أفطر وأطعم مسكيناً عن كل يوم من رمضان كما هو مفصَّل في كتب الفقه، فمن كان غير عالم بذلك فعليه أن يسأل عنه أهل العلم ولا تتسع هذه الفتاوى لتفصيله كل ما سُئلنا عنه. *** (6) مؤلفاتنا المطبوعة: (1) تفسير القرآن الحكيم وقد تم منه تسعة أجزاء. (2) تفسير الفاتحة وقد طُبع معه مقالات في التفسير وغيره للأستاذ الإمام. (3) خلاصة السيرة المحمدية وكليات الإسلام. (4) الوحدة الإسلامية وفيه مقالات المصلح والمقلد. (5) يسر الإسلام والتشريع العام. (6) شبهات النصارى وحجج الإسلام. (7) نظرة في عقيدة الصلب والفداء عند النصارى. (8) الخلافة أو الإمامة الكبرى. وتجدون أسماء هذه الكتب وغيرها مع بيان أثمانها في غلاف المنار أحياناً. *** أسئلة من صاحب الإمضاء في زِنْجِبَار (س7 - 12) لصاحب الإمضاء حضرة العلامة صاحب المنار الأغرّ السيد محمد رشيد رضا: 1- نقدم إلى فضيلتكم السؤال الآتي لتجاوبوا عنه في مجلتكم الشريفة. سيدي مَن هم المحققون من علماء الإسلام، فهل يطلق هذا اللقب على علماء معينين أو لكل فن من فنون علوم الدين ووسائلها محققون؟ فإن كان يطلق على معينين فاسردوا لنا أسماء بعضهم، وإن كان لكل فن محققون فاسردوا لنا أيضًا أسماء بعض من محققي التفسير. ولكم من الله الأجر الجزيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 2- ما قولكم في الترضِّي على الخلفاء الراشدين، وبقية العشرة والدعاء لسلطان البلد في الخطب كخطبة الجمعة أو العيدين أو الخسوفين أو الاستسقاء، وحقيقة أنه جارٍ من عهد سيدنا عمر رضي الله عنه أم لا؟ 3- هل الأذان الثاني يوم الجمعة بين يدي الخطيب تحت المنبر كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ 4- هل ما يفعله المؤذنون على مئذنة المساجد قبل أذان صلاة الصبح ويوم الجمعة من الأذكار والأدعية والصلاة على رسول الله بصوت نُكُر - واجب؟ 5- هل من وقف أو أوصى بأن يصنع يوم موته أو بعده طعام أو إعطاء دراهم معدودة لمن يتلو القرآن العظيم أو يسبح أو يهلل أو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أو يصلي نوافل ويهدي ذلك إلى روح الموصي أو من يريده هل تكون وصيته ووقفه صحيحين أم لا؟ 6- هل كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين التهليل أو أي ذكر مع تشييع الجنائز؟ فإن قلتم: لا، هل يجوز، أم بدعة، أيحسن عملها أم لا؟ سيدي: الرجاء من فضيلتكم فيما تثبتون ابتداعه أسماء المبتدعين وإماتتهم به الدين. ولكم الأجر الجزيل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الله قرنح أجوبة المنار (7) العلماء المحققون: في علماء كل علم وفن محققون كالأئمة الواضعين لها والمجتهدين فيها، ونقلة مقلدون لهم، والمؤلفون يطلقون لقب المحقق على من يعجبهم بحثه واستدلاله، وقد اشتهر بلقب المحقق أفراد من العلماء عند أكثر المؤلفين كالسعد التفتازاني في العلوم النظرية وابن القيم في العلوم الشرعية من الكتاب والسنة والكمال بن الهمام في فقه الحنفية والنووي في فقه الشافعية. وابن هشام في النحو. وأما التفسير فللعلماء فيه مسالك لا نعرف أحداً محققًا فيها كلها ولكن الإمام الطبري أجمعهم للروايات والمعاني الفقهية والتاريخية، والحافظ ابن كثير أمثلهم في تحقيق التفسير المأثور، والزمخشري أدقّهم في تحرِّي المعاني اللغوية للألفاظ متناً ونحواً وبياناً إلا ما يؤيد به مذهب جماعته المعتزلة، ومثله البيضاوي من مفسري الأشعرية في المسائل الكلامية والفقهية والعربية، والخفاجي مُحَشِّيه في العلوم العربية، وأبو السعود في نكت البلاغة. *** (8) الترضِّي عن الصحابة والدعاء للسلاطين: الترضي عن الخلفاء الراشدين وسائر العشرة من الصحابة المبشرين بالجنة (رضي الله عنهم) حسن وقد شرع الله لنا أن ندعو لأنفسنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان وهؤلاء العشرة خيارهم، ولا ينبغي أن يلتزم دائماً لئلا يظن العوام أنه واجب، وإذا كان ملتزماً في بلد وخشي من سوء تأثير تركه في العامة فينبغي للخطيب أن يتقي سوء هذا التأثير بأن يذكر على المنبر أن هذا دعاء مستحب على إطلاقه ولم يطلبه الشرع في الخطبة فهو ليس من أركانها ولا من سننها. وإلا بقي مواظباً عليه. وكذلك الدعاء لولي أمر المسلمين أو لأولياء، أمورهم ويراعَى فيه أن لا يكون متضمناً لمنكر كإقرار الظلم أو الفسق ومدح أهلهما، ولا لألفاظ من الإطراء في المدح والتعظيم الذي لا يليق أن يوجَّه إلا إلى الله تعالى. وأما الدعاء للسلطان المعين باسمه فهو بدعة استحسنها بعض المؤلفين بشرطها. قال الإمام النووي في المجموع - أي شرح المهذب -: وأما الدعاء للسلطان فاتفق أصحابنا على أنه لا يجب ولا يستحب، وظاهر كلام المصنف وغيره أنه بدعة إما مكروه وإما خلاف الأولى. هذا إذا دعا له بعينه، فأما الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك ولجيوش الإسلام - فمستحب بالاتفاق. والمختار أنه لا بأس بالدعاء للسلطان بعينه إذا لم يكن مجازفة في وصفه والله أعلم. اهـ. وقد صرح بعض الفقهاء بأن ما يجب من الإنصات عند إلقاء خطبة الجمعة يستثنى منه الإنصات وقت الدعاء للسلاطين وخاصة الظلمة والفساق منهم. وقد بينا هذا في مواضع لا أذكر منها الآن إلا ما في المجلد التاسع من المنار (سنة 1324) (الموافق 1906) ، ونقلنا هنالك عبارة من شرح الإحياء للزبيدي نعيدها هنا مع ما قبلها مما قاله في الدعاء للخلفاء والصحابة وهو: وينبغي أن تكون الخطبة الثانية هكذا: الحمد لله نحمده ونستعينه.... إلخ؛ لأن هذا هو الثانية التي كان يخطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الخلفاء الراشدين عموماً والعمين والسبطين وأمهما وجدتهما مستحسن، وإن احتاج إلى ذكر الأربعة الخلفاء على الخصوص بأن كان في بلد فيه الرافضة فلا بأس أن يطيل بذكرهم كل واحد باسمه مع الأوصاف اللائقة بهم ثم يعطف عليهم بالباقين من العشرة. ومما يكره للخطيب المجازفة في أوصاف السلاطين بالدعاء لهم، فأما أصل الدعاء للسلطان فقد ذكر صاحب المهذب وغيره أنه مكروه، والاختيار أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه ولا نحو ذلك فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة الأمر والآن صار واجباً؛ لأنه مأمور به من السلطان. هذا ما ذكره عن فقهاء الشافعية وهو معنى ما تقدم عن المجموع إلا قوله الأخير بوجوبه فلم أره في كتبهم ثم أورد جملة مما قاله علماء مذهبه الحنفية فقال: وكرهوا الإطناب في مدح الجائرين من الملوك بأن يصفه عادلاً وهو ظالم أو يصفه بالغازي وهو لم يوجف على العدو بخيل ولا ركاب، ولكن مطلق الدعاء لهم بالصلاح لا بأس به وكذا لا بأس بأن يصفه ببعض الألقاب اللائقة بحاله؛ فإن تعظيم الملوك شعار أهل الإسلام [1] وفيه إرهاب على الأعداء [2] وقد اتفق أن الملك الظاهر بيبرس رحمه الله تعالى لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة أبدع الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان وأطنب فيه فلما فرغ من صلاته أنكر عليه وقال - مع كونه تركيًّا -: ما لهذا الخطيب يقول في خطبته.. السلطان السلطان ليس شرط الخطبة هكذا؟ ! ، وأمر به أن يُضرب بالمقارع فتشفَّع له الحاضرون. هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه، فما خلص إلا بعد الجهد الشديد. واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا لما صلى الجمعة في أحد جوامع مصر وكان مغروراً بدولته مستبدًّا برأيه، وربما نازعته نفسه في خلافه على مولانا السلطان نصره الله تعالى، فأطنب الخطيب في مدحه بعد أن ذكر اسمه بعد اسم السلطان فلما فرغ من صلاته أمر بضرب ذلك الخطيب وإهانته ونفيه عن مصر إلى بعض القرى. فهذا وأمثال ذلك ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله تعالى برضا الناس فإن ذلك موجب لسخط الله تعالى والمقت الأبدي، نسأل الله العفو منه آمين. اهـ. *** (9) أذان الجمعة: إنه لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أذان واحد لصلاة الجمعة وهو الأذان بين يدي الخطيب؛ لأن كل المؤمنين الموجودين في المدينة كانوا يجتمعون في المسجد ويتسابقون إلى التبكير إليه. و

مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات الشبهات على حق المساواة في الميراث - 12 - كتب الدكتور فخري ميخائيل الكاثوليكي في محاضرته كل ما قاله الدكتور عزمي اللاديني في مناظرته، وما أيدته به الآنسة هانم محمد - والظاهر أنها على عقيدته - من الشبهات على وجوب مساواة المرأة للرجل في الميراث، وزاد شبهاتهما إيضاحًا وشرحًا، إذ كان أوسع منهما وقتًا، وانفرد عزمي دونه بزعم واحد، وهو أن نظام الإرث وُضع في الإسلام للاستدراك على ما في أحكام الإرث من جمود تقتضي أطوار الزمان الخروج عنه، فالمسلمون يتركون بعض أحكام الميراث بوقف أموالهم على من يريدون إعطاءهم من مال مورِّثهم فوق ما تعطيهم تلك الآيات. هذا ما فهمته من كلامه في هذا الزعم فأبدأ بالتصريح ببطلانه، ثم أنقل كلام الدكتور فخري بنصه وأفنده بالدليل العقلي فيتم الرد على الجميع. ألا فليعلم مُفْتَحِر هذا الزعم أن الوقف على الذرية بما يخالف الفريضة الشرعية ليس فيه نص من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرتقي في قطعيته إلى أن يكون مخصصًا لكتاب الله تعالى، بل هو من توسُّع بعض الفقهاء المختلف فيه بينهم وحجة من يقول ببطلان هذا الوقف وحظره أقوى من حجة من يقول بجوازه وصحته. ومن القائلين ببطلانه المحققون من الحنابلة، وقد صرحوا ببطلان قاعدة الحنفية: أن شرط الواقف كنص الشارع، وإنما الوقف الصحيح هو ما يُحبس على أعمال البر قربة لله تعالى، وكل شرط خالف كتاب الله تعالى فهو باطل بنص الحديث الصحيح الذي لا خلاف في صحته، وقد بينا هذا في المنار من قبل، ولا محل له في هذا البحث. ثم إن الذين ينتقصون من بعض أحكام الشريعة في الميراث إنما يخالفونها في توريث البنات غالبًا فيحبسون أملاكهم على الذكور وحدهم، فالتطور الذي يحتج به طلاب المساواة بين المرأة والرجل في الإرث يقتضي حرمانها منه ألبتة لا مساواتها للرجل فيه، فإن الذين يقفون أطيانهم ودورهم على أبنائهم يرون أن بناتهم لسن أهلاً لإرث شيء منها؛ لأنهن صرن أو سيصرن أرومات لأسر (عائلات) أخرى غير أسرة أبيهن، ومن ثم كانوا فاسقين عن شرع الله العدل المبني على أساس الحكمة والرحمة. وأما ما كتبه الدكتور فخري في بحث الواجب المالي للأمومة على المرأة المقتضي للمساواة عنده فهذا نصه السقيم بحروفه: (على المرأة واجبات مالية للأمومة؛ لأنها - رغم قيام الرجل بمصروفاتها وأطفالها - مكلفة بحالة عجز زوجها عن القيام بواجباته المادية نحو العائلة بالعناية بأطفالها وبنفسها على الأقل، هذا إذا لم تفكر - بعطفها المعروف عنها كامرأة تحب- في العناية بزوجها في حالة عجزه. فإذا كان لها موارد ثروة خاصة فإنها ستصرف على العائلة، ولذلك طالبنا بتعليم الفتاة حتى العلوم العالية أو الفنية التي تليق بها لترجع إلى هذه المعارف إذا اضطرتها الظروف المعيشية إلى الجهاد للحياة، فتكون أسلحة الجهاد الشريف بين يديها. ومن هذا ترون أن المرأة عليها واجبات مالية للأمومة رغم عناية الزوج بهذه الواجبات. وفي حالة قيام الزوج بكل واجبات العائلة المالية ثروة الزوجة تُختزن للظروف ولتحسين حالة أبنائها وبناتها من بعدها سواء بسواء، كما لو كانت الزوجة غنية وزوجها فقيرًا؛ فإنهما سيصرفان على قدر ثروة الزوج إذا كان أبيًّا وسيخزنان ثروة الزوجة للأولاد. وأما إذا قبل الزوج الصرف من مال زوجته فستكون مورد رزق العائلة. هذا من جهة المرأة وواجبها نحو الأمومة المتزوجة فما بالك في أمومة مترملة أو أمومة مطلقة أو أمومة غير شرعية؟ هي هي كل شيء في القيام بحمل الصرف المالي على هذه الأمومة، ومن هذا ترون - حضراتكم - أن المرأة معرضة في حياتها لحمل عبء الأمومة حملاً تامًّا كالرجل، فلست أدري لماذا يريد الرجل أن يعطيها نصف حقه في الميراث وهي إنسانة مثله لها الحق في التمتع بميراثها كأخيها الرجل وعليها واجبات نحو أمومتها لا تقل عن واجباته نحو زوجته أهمية. وإن كان حق الميراث ناتجًا عن البنوة فهي أكثر منه عطفًا على والديها وهي أكثر منه برًّا بهما في شيخوختهما وفي مرضهما وفي ساعات بؤسهما وشقائهما) . هذا نص ما كتبه الدكتور فخري بعد قدح زناد الفكر، وطول التروي في الأمر، ثم ألقاه في قاعة الخطابة من المدرسة الجامعة الأميركانية التبشيرية، كتبه بعد هذيان كثير في شأن المرأة وظلم الرجل لها وقفَّى عليه بما تقدم تفنيده في المقالة الماضية من التحكك بالشريعة الإسلامية. وهو يفرض - بل يزعم - أن أحكام الشريعة من تحكم الرجال وظلمهم للنساء. وإنني أفند هذه الشبهات الواهية بصريح من القول لا أدعمه بشيء من المسلَّمات الخطابية، ولا أزينه بشيء من التخيلات الشعرية، ولا أشينه بشيء من الإفك والبهتان، ولا من مكابرة الحس والوجدان، كما فعل فخري، وسبقه إلى مثله سلامة موسى وعزمي، وأبني التفنيد على رد كلامه وأقصد به الرد على جميع هؤلاء الدعاة إلى فوضى الإلحاد فأقول: يعترف هؤلاء الذين يوجبون بأهوائهم مساواة المرأة للرجل في الميراث - بأن الرجل هو الذي ينفق على المرأة وعلى أولادها منه، ويعلمون أن هذا واجب لها عليه في الشريعة الإسلامية لها حق المطالبة به، وأن القاضي الشرعي يحكم لها به ويُكرِه الرجل عليه في حال الامتناع، وأن لها أن تقترض عليه، ولا تكلَّف أن تشتري لنفسها رغيفًا ولا ثوبًا، وإن كانت أغنى من (هدى شعراوي) . ولعلهم لا يجهلون أيضًا أنه إذا امتنع أو عجز عن النفقة كان لها حق فسخ عقد الزوجية، وكان على القاضي أن يحكم بذلك إذا طلبته منه وثبت عنده الامتناع ثم هم يعترفون بأنها إذا أنفقت شيئًا في دارها على نفسها أو أولادها فإنما تكون في حكم الشريعة متبرعة متفضلة، وإن قال الدكتور فخري إنها (واجبات مالية للأمومة) فإنه لا يفهم المعاني الصحيحة للألفاظ التي يكتبها وإن كانت أقرب إلى لغته العامية منها إلى العربية الفصيحة، ألا ترى أنه لا يميز بين ما للأمومة وما عليها؟ ثم إنه يصرح بأنه في حال قيام الزوج بكل ما يجب للعائلة من الحقوق المالية (تختزن ثروة الزوجة للظروف ولتحسين حالة أبنائها وبناتها من بعدها) يعني أنها تكون مالاً احتياطيًّا للعائلة يخزن في الصندوق إلى وقت الحاجة إليه ولو بعد الموت! فليخبِِرْنا هؤلاء الجناة على الشريعة الحق العادلة، وعلى أفضل النظم لقوام العائلة، أي عقل وأي قانون مالي في العالم جعل المال الاحتياطي الذي يدخر للحاجة العارضة في المستقبل مساويًا للمال المعد في الميزانية لجميع النفقات الواجبة التي لا يمكن تأخير شيء منها؟ ! نقول هذا وهو برهان لا يمكن رده على بطلان قولهم - على تقدير صحة زعمهم - أن مال الزوجة المكنوز احتياطي مدخر للعائلة. وهو لا يصح على إطلاقه بالاطِّراد كما هو مشاهَد في هذا الزمان، وسيصير شاذًّا إذا تفاقم خطب هذه الفوضى في حرية النسوان، التي يسرف فيها دعاة الخروج على الشريعة والفسوق من هداية الأديان. والحجة عليهم أظهر فيما ظنوا أن الحجة لهم فيه، وهو ما عبر عنه الدكتور فخري بقوله: (فما بالك في أمومة أرملة أو أمومة مطلقة، أو أمومة غير شرعية) وهو يعلم من فساد هذه الأمومات الآن ما لا يعلمه أكثر الناس ونقول قبل البحث فيها: إن المطلقة الرجعية زوجة تجب لها النفقة، فإذا لم يراجعها الزوج قبل انقضاء عدتها بانت منه وصارت كالأرملة، وكثيرًا ما تتزوج المرأة منهن وتنفق جُل ما كانت تدخره في سبيل الزوج الجديد إن لم تنفقه كله، ومنهن من تقف أملاكها عليه وعلى أولاده منها دون أولادها من مطلقها، وقد وقع في هذه الأيام أن امرأة وقفت عقارها على زوجها وعلى أولاده من غيرها! هذا ما يقع كثيرًا ممن عندهن بقية من الدين، وأما اللائي قضت حرية الإباحة على عصمتهن الدينية فهن ينفقن ما ادخرن من الثروة في سبل اتخاذ الأخدان، والتمتع بالفسوق والعصيان، ومن أغرب ما سمعته من أخبارهن في هذا العهد أن الوطنيات منهن يفضلن الأجانب من الأخدان على الوطنيين وينفقن عليهم الألوف الكثيرة من الجنيهات، وأن بعض الوطنيين سأل بعضهن عن سبب هذا الاختيار والتفضيل قائلاً: ألسنا نحن أولى بكن من (الخواجات) ؟ ! فكان الجواب: إنكم أنتم كثيرو الكلام دون الخواجات! وأخبرنا بعض المحامين أن أرملة من هؤلاء الأرامل الغنيات ورثت من زوجها مالاً كثيرًا، ولم يعجبها قصر أبيها الغني بعد أن أقامت فيه مدة قليلة فاستأجرت لنفسها دارًا واسعة زينتها بأحسن الأثاث والرياش والماعون واتخذت فيها الخدم الكثيرين، وكان مما عابته من دار أبيها أن الثلج يأتي إليها متأخرًا! (للمقالات بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الانتقاد على المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الانتقاد على المنار انشقاق القمر - همّ يوسف بامرأة العزيز - التأويل لدفع الشبهات جاءت الرسالة التالية من البصرة بعد طبع جزء ذي الحجة فنشرناها في هذا الجزء، وإن كانت على خلاف شرطنا والشرط العرفي عند أرباب الصحف، وهو أن لا ينشروا شيئًا لمن يكتم اسمه عنهم وهي: بسم الله الرحمن الرحيم سيدي الكريم المصلح الكبير والعالم الشهير السيد محمد رشيد رضا حفظه الله وبارك له في سعيه وسدده في كل ما يأتي وما يذر، آمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد استفدت من الجزء الأخير في المنار الأغر ميلكم إلى عدم انشقاق القمر معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم معللين ذلك بما يأتي، ولرجائي أن أكون معكم من المتعاونين على البر والتقوى سأبدي رأيي راجيًا العفو عما أتقدم به: إن أحاديث الانشقاق أتت في عامة الأمهات لا سيما الصحيحين على ما فيها من حسن وصحيح ومرسل ومسند وأثبته التاريخ العربي والعجمي، وأظهر من ذلك أن الآية في الانشقاق قد كانت تُتلى بمحضر المسلم والكافر، فلم نسمع بمنكر مع أن الضد بالمرصاد، ومضى على ذلك القرون الكثيرة ما بين ناقل لذلك ومُقر عليه. واختلاف الأحاديث فيه مع ورودها على معنى واحد وهو الإثبات - لا يوجب الرد، واتفاق آية (سبحان) مع آية الانشقاق سهل يسير، وهو أن آية سبحان دلت على منع الاقتراح المعين وآية الانشقاق أتت بغير اقتراح أو باقتراح لم يعين، هذا ما دلت عليه الأحاديث المعتمدة. وأما مجيء آية الانشقاق باقتراح معين فلا يصح كما بينتموه، وفرق بين حصول الآية باقتراح معين وحصولها بغير اقتراح أو باقتراح لم يعين: القسم الأول يعقبه الهلاك؛ لأنه جاءهم عين ما طلبوا فلم تبق لهم شبهة، وأما القسمان الأخيران فلهم شبهة تدرأ نزول العذاب بكون الآية لم تقنعهم. وأما تفسيركم الآية بأن الانشقاق كناية عن ظهور الأمر واتضاحه، واستشهادكم عليه من اللغة فلا ريب أن العرب تقول: انشق الصبح؛ بمعنى ظهر وبان، وأما انشق القمر بمعنى: ظهر الحق وبان، فلا نسلم أن العرب تستعمل مثل ذلك ويكاد أن يكون لغزًا لا يتفق مع بيان القرآن. وقد ذكرني ذلك تفسيركم لهمّ يوسف بامرأة العزيز بالضرب، وكلا التفسيرين بالنفس منهما شيء، فقوله تعالى: {.. لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) دليل على أن المتقدم أمر لا يليق بمنصبه الشريف، والهم عارض لا مستقر ولا هو بوسع الإنسان وإذا دفعه بعد رؤية البرهان فهو من الكمال ولا يمس منصب النبوة بسوء. ومما يناسب ذكره قولكم جوابًا لرسالة عالِم القصيم عبد الرحمن السعدي: (قد يكون التأويل هو المنقذ الوحيد في الرد على..) إلخ وهذا لا يتفق مع جهادكم الجهمية وأمثالهم، وليس في القرآن ولا السنة ما ظاهره يحتاج للتأويل على شرط أن يؤخذ الحكم من مجموع السياق لا من مفرداته. وأما قولكم: لا علاقة بين الانشقاق ودعوى النبوة حتى يكون علامة عليها، فله علاقة لاصقة وهي أنه لما أخبر الله باقتراب الساعة التي هي خراب العالم أجمع وكانت قريش تنكر ذلك أراهم الله آية محسوسة وهي شق القمر فِرقتين، فالقادر على تخريب هذا الجرم الكبير - وإعادته كما كان - قادرٌ على إيجاد الساعة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم والآية بعدها تثبته، وأما تصدير الجملة بالشرط فهو يفيد أنهم سيكذبون بكل آية يأتي بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس التكذيب مختصًّا بهذه المعجزة. وإن رغبتم الوقوف على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الانشقاق فهو في نمرة 55 من الجزء الأول من الجواب الصحيح. وبالختام أرجو الله أن يكون معكم وفي عونكم كما أننا نسأله أن يجعلكم مؤثرين للحق، وقد علمت من بعض الإخوان محبتهم لمبادلتكم الأفكار في شيء من البحوث بَيد أنهم يخشون عدم رغبتكم، فهذا رأيي الضعيف، والمرجو أن عفوكم يسع ما تقدمت به حضرتكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صديق نجديّ تعليق المنار رغبتنا في انتقاد النجديين لقد كان أخونا الكاتب في غنًى عن الاعتذار وطلب العفو في أول رسالته وآخرها، فإنما يكون الاعتذار وطلب العفو عما كان ذنبًا وإن في العرف، ونحن نُسَر بالانتقاد، ونعدّه إحسانًا إلينا وإلى قراء مجلتنا؛ لأنه من أسباب تمحيص الحقائق، ولا سيما انتقاد طالب الحق المخلص فيه، بخلاف مريد النيل من المنتقَد عليه، أو مريد إظهار علمه إعجابًا به. وقد سبق لنا أن نشرنا لبعض المنتقدين ما فيه تصريح بتجهيلنا، بل ما يتضمن تكفيرنا لئلا يتوهموا أننا تركنا نشره كراهة لإظهار علمهم أو لأجل إخفاء جهلنا، ومنه ما لامنا كثير من فضلاء القراء على إضاعة وقتنا ووقتهم به. وأزيدهم أنني كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطَّلع علماء نجد على المنار ويكتبون إلينا بما يرونه فيه منتقَدًا لما نرجو أن نستفيد منهم ويستفيدوا منا. أما الأول: فلأنهم لشدة اعتصامهم بالسنة ومقتهم للبدع والمعاصي وقلة وجودها في بلادهم وقلة قراءتهم للكتب التي يكثر فيها تأويل بعض البدع وعدّها مشروعة - يكون لهم دقة نظر في نزعات الشرك الخفية والمشتبهات بين الحلال والحرام والتأويلات المنكرة وسائر ما يخالف طريق السلف مما قد يخفى علينا بعضه أو يفوتنا إنكاره لكثرته وألفته بكثرة أهله وكثرة كتبهم. وأما الثاني: فلأنه يُخشى أن يكون من لوازم التشدد في الدين وقوع بعضهم في الغلو المنهي عنه بِعَدّ بعض المباحات المستحدثة من البدع المنكرة، أو ما ليس من الشرك الجلي منه، أو تحريم ما لم يحرمه الله ورسوله. ويدخل في هذا بعض العلوم والفنون والصناعات الحادثة التي تقوم الدلائل على ندبها أو وجوبها لما فيها من المصالح العامة في قوة الأمة والدولة الحربية والمالية. وقد كنت كتبت إلى إمام نجد منذ بضع عشرة سنة كتابًا ذكرت له فيه أنني أرغب في اطِّلاع علماء نجد على المنار وطالبتهم بأن يكتبوا إليّ بما يرونه فيه منتقَدًا بالأدلة الشرعية لأجل نشره وفتح باب المناظرة بيني وبينهم فيه، وأنني سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء لأجل توزيعها على كبارهم هدية مني، وقد ظللت أرسل هذه النسخ من طريق البحرين عدة سنين ولكن لم يصل إليَّ ما يدل على وصولها، فلا أدري ما فعل الله بها، ولكن علمت أن عمال البريد البريطاني الذي ينقل الرسائل والمطبوعات إلى بلاد العرب من طريق الهند كانوا يمنعون بعض ما لا يحبون وصوله إلى أهله من المطبوعات، حتى إذا كانت الحرب العامة اشتدت المراقبة عندهم وفي جميع مكاتب البريد الدولية، وكثر اختزال كل ما يرونه ضارًّا بسياستهم ولو بالشبهة البعيدة. ولما صار يسهل على النجديين الاطلاع على المنار في الحجاز لم يبلغني عن أحد منهم انتقاد على شيء مما يُنشر فيه ولو في أحاديثهم مع بعض الناس إلا ونشرته وبينت ما عندي فيه، إلا أن يكون شيئًا سخيفًا يُعَدُّ نشره إهانة لقائله ولا يفيد أحدًا. بعد هذا التمهيد المقصود لذاته في باب الانتقاد على المنار أقول: مسألة انشقاق القمر (1) إن شُراح دواوين السنة - ولا سيما فتح الباري شرح صحيح البخاري وبعض المفسرين - قد ذكروا أن بعض الناس أنكروا هذه القصة، وأن بعضهم استشكلوها من عدة وجوه: منها أنها مما تتوفر الدواعي على نقل الأمم لها بالتواتر ولم تنقل كذلك، فمن المستغرب أن يدعي المنتقد إثبات تواريخ الأمم لها وأن جميع الناس تلقوها بالقبول. (2) ذكرنا أن الإشكال الأكبر عليها عندنا هو التعارض بين الحديث والآيات الكثيرة في مسألة التحدي بالقرآن ولا حاجة إلى شرحه هنا، ولم أر أحدًا من العلماء ذكره وأجاب عنه كما ذكروا غيره من الإشكالات وأجابوا عنها، وليس التعارض بين آية الانشقاق وآية الإسراء وحدها، بل هناك آيات متعددة ذكرنا بعضها في بحثنا، فمن كان يرى أن لا تعارض في المسألة كالمنتقِد فلا إشكال عنده فيها، وها نحن أولاء قد ذكرنا دليله على عدم التعارض ونود أن يقبله جميع الناس، ولهذا لا نرد على ما نرى فيه من ضعف؛ فإنه لا غرض لنا من البحث كله إلا أن يكون القرآن في الأفق الأعلى من توجيه أي اعتراض عليه فيتضاءل دون وصوله إليه، إلا أننا نقول: إن صح فرضه أن الآية وقعت بدون اقتراح، يزول هذا الإشكال من أصله. والفرق بيننا وبين مَن يكتبون لتأييد مذهب كلامي أو فقهي: أن هؤلاء على اختلاف صفاتهم لا يقبلون ما يخالف مذاهبهم. وأما نحن فلا نلتزم مذهب إمام معين فنجعله أصلاً ترد إليه نصوص الكتاب والسنة بل كلام الله ثم كلام رسوله عندنا فوق كل مذهب وكل إمام فكل ما وافقهما فهو مقبول عندنا وكل ما خالفهما فهو مردود، فإن تعارضا ولم نهتدِ إلى الجمع بين المتعارضين ببحثنا ولا بإرشاد غيرنا لم يكن لنا مندوحة عن ترجيح كلام الله تعالى وهو القاعدة المتفق عليها عند سلفنا الصالح وأئمة السنة. وأهون من ذلك أن يكون التعارض بين نص كلام الله أو كلام رسوله وبين أقوال مروية عن بعض الصحابة في بيانهم لشيء منهما كحديث انشقاق القمر، فإنه لم يروه أحد مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. (3) قوله: وأما تفسيركم لانشقاق القمر ... إلخ - يدل على أنه تفسير انفردنا به لم يسبقنا إليه أحد، وليس الأمر كذلك وإنما نقلناه عن غيرنا واخترناه على تقدير ما ظهر لنا في الرواية. وعدم تسليمه إياه ليس حجة على الذين قالوا به وهم أعلم منه ومنا بهذه اللغة وناهيك بالراغب - صاحب كتاب مفردات القرآن - الذي لا نعرف أحدًا من علماء اللغة يحدد معاني الكلمات العربية مثله. ولا تتوقف صحته على سبق نطق العرب به فالقرآن حجة على العرب وغيرهم، وكم له من تعبير مبتكَر لم يُعلم نطق العرب به بل يعجزون عنه. وقد نقله شارح القاموس عن الراغب وأقره ولم يقل: إن اللغة العربية تتبرأ منه ولا أنه لا يفهم ويصح أن يعد من الألغاز. ولعله لو لم ينقل عن العرب قولهم: انشق الفجر والبرق - لعدَّه المنتقِد مما لا يُفهم أيضًا. (4) ما ذكره من العلاقة بين دعوى النبوة وانشقاق القمر بصرف النظر عن الحديث فيه وهو إثبات قدرة الله على البعث - غريب جدًّا ولا حاجة بنا إلى المناقشة فيه ولا سيما دلالته وإنما نذكره بأنه يخرج بالحدث عن موضوعه وعن كونه تفسيرًا للآية، وبأن العرب لم تكن تنكر قدرة الله تعالى وما كل ما يقدر تعالى عليه يفعله. (5) ما كتبه لشيخ الإسلام في المسألة قد اطلعنا عليه من قبل وهو مبني على المشهور المسلَّم من أن القمر قد انشق جرمه بالفعل، وأن المنكرين لذلك من المخالفين فيه إنما ينكرونه؛ لأنه معارض عندهم بعقولهم وبقول علماء الهيئة المتقدمين: إن الفلك لا يقبل الخرق والالتئام ويرد عليهم كغيره بقدرة الله على ذلك. وقد بينا أن مسألة الأفلاك واستحالة عروض الخرق والالتئام لها نظرية يونانية سخيفة أجمع علماء الفلك في هذا العصر على بطلانها، ولو فكر شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في مسألة معارضة الآيات لحديث اقتراح كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم آية على صدقه وكون القمر قد انشق إجابة لهم إلى هذا الاقتراح كما جرى عليه هو وغيره أخذًا بحديث أنس المرسل وكون المعارضة من وجهين أحدهما الاكتفاء بالقرآن في إقامة الحجة على رسالته صلى الله عليه وسلم، وثانيهما: كون إعطاء الآية باقتراح الكفار يقتضي وقوع العذاب كالذي وقع على الأولين، وثَمّ وجه ثالث مصرَّح به في بعض الآيات وهو عدم الفائدة في إجابتهم إليها - نعم، لو فكر وأج

أحوال مسلمي روسية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحوال مسلمي روسية جاءنا الخطاب الآتي مطبوعًا فنشرناه مع تصحيح قليل وحذف بعض المكرر منه. إلى العالم الإسلامي.. عالم الإسلام! هل تعرف كيف يعيش إخوانك المسلمون في روسيا؟ هل تتصور كيف يتألمون من الظلم هناك؟ هل تشعر كيف ينال الثلاثين مليون مسلم حربٌ دينية لم يسبق لها مثيل في التاريخ؟ لا، لا تعرف ذلك ولا ترى ولا تشعر بذلك. أنت لا تسمع العويل من هذا الرق. فلو تصورت دماء المسلمين المراقة هناك منذ 12 سنة والدموع السائلة، والزفرات الصاعدة، ما كنت ترضى بها دون أن تقوم ضدها. ولو نظرت إلى الآلام التي يصاب بها المسلمون لأنهم مسلمون ما كنت تحافظ على قلة اهتمامك حتى الآن. عالم الإسلام! انظر إلى الأحوال هناك! يعيش في روسيا في الأصقاع المختلفة مثل قريم والقوقاس والتوركستان والولغا أورال 30 مليون مسلم لم يهاجروا إلى تلك البلاد من بلاد أخرى بل هم أهلها الأصليون. وقد وقعت بلادهم الغنية الجميلة في أيدي الروس المتعصبين الذين لا يعرفون احترام الأديان الأخرى وصاروا رعيّتهم. وبذلك اضطروا إلى مقاومة الظلم الروسي منذ عصور، الذي (كان) يرمي إلى تنصيرهم وجعلهم روسًا بالقوة. وليس من النادر أن ماتوا في الحرب من أجل دينهم المحترم المحبوب موتة فظاعة وشهادة. وهم أبوا إجابة طلب ظالمهم أن يخونوا مدنيتهم التي جاوروها واتصلوا بها عصورًا طويلة ويتخذوا مدنية غريبة. وقد تحملوا لثباتهم تضحيات كبيرة جدًّا. وبالرغم من الظلم قد دافعوا عن عقيدتهم حتى الآن، وإذ لم يستطع الروس تنصيرهم فقد استطاعوا محو أكثر معالم مدنيتهم. والآن (صارت) الأمة الروسية متهافتة على شيوعية متعصبة كما كانت متهافتة على نصرانية متعصبة. وهي تفكر في جعل روسيا الواسعة شيوعية وفي إدخال الثلاثين مليون مسلم في الدين الجديد اللينيني، وتريد قطعهم عن دينهم ذي الألف سنة وعن عاداتهم الإسلامية وهكذا تخرب الجماعات الإسلامية التي تعيش هناك وتهدم المدنية الإسلامية. عالم الإسلام! إن الأصقاع الإسلامية سواء كانت حرة سياسية أو تحت حكم حكومات أوربية لم تَرَ ظلمًا مثل ما في روسيا. اسمعوا ماذا يحدث هناك: في مدن وقرى هؤلاء الثلاثين مليون مسلم أغلقوا المدارس التي يدرس فيها الدين. واليوم لا يوجد ولا مدرسة تعلم الأمة القديمة الإسلامية الإسلام، والتي تخرِّج لهذه الأمة الإمام، والمؤذن، والخطيب والواعظ. هذه المدارس صارت معسكرات (كومونيستية) وليس هناك حرية لإعادة المدارس ثانية. كانت تُطبع من قديم لسد حاجة الثلاثين مليون مسلم في مطابع إسلامية ملايين من نسخ القرآن والكتب الإسلامية. وكان هناك 40-50 مطبعة وآلاف من المكاتب التي لم تنشر هذه الكتب بين المسلمين في روسيا فقط بل كانت ترسلها إلى عالم الإسلام أجمع. الآن لا يوجد شيء من هذا، فحكومة موسكو امتلكت المطابع كافة. فبدلاً من القرآن والكتب الأخرى تطبع الآن المقالات الشيوعية. والمكاتب الإسلامية ومحتوياتها أُخذت من طرف الحكومة البولشفية ونُهبت، ومنذ تحكم البولشفية في بلادنا لم يطبع القرآن ولا كتاب ديني؛ لأن طبع وتوزيع أي كتاب ديني ممنوع، واستجلاب الكتب الدينية من الخارج مستحيل وفاعله يعاقب. عالم المحمديين! أنت حر في احترام دينك أينما تعيش في وطنك أو في أوربا أو في إفريقيَّة لا يمنعك عن ذلك أحد، ويمكن أن تقوم في كل وقت بصلواتك وصيامك. ويمكنك أن تعيد أعيادك في بلدان أوربا الكبرى كبرلين ولندرة وباريس ورومية كما تحب، وإن الأوربي والأميركي يحترم دينك وصلاتك، ولكن الحال في روسيا الكومونيستية الحالية غير ذلك. هناك تعد الصلاة والدعاء والصيام والذهاب إلى الجامع جريمة. والموظف يضيع وظيفته إذا صلى وصام. وإذا ما عقد زوجان شابان زواجهما على يد إمام يُطردان من وظيفتهما، وإذا رؤي عامل في الجامع وجب عليه ترك شغله. وفي أيام العيد الإسلامية تقام مظاهرات بالموسيقى والأبواق أثناء صلاة العيد لجرح عواطف المسلمين، وهؤلاء المظاهرون يدورون صارخين حول الجامع ليشاغبوا على المصلين في صلاتهم وسكوتهم، ويرمون المصلين بالأقذار، ويقذفون الإسلام ونبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بأقبح الكلام، ويغنون أغاني قذرة على قديسي الإسلام، وفي عيد الأضحى يأتي هؤلاء المظاهرون ببعض الخنازير ويدعوها تصيح أثناء الصلاة، ويذبحوها قرب الجامع وهم يسمونها ضحية، وأولاد المسلمين الذين هم تلاميذ يضطرونهم لأكل طعام الضحية من الخنزير، وكل هذه المسائل تحسب من ذنوب الحكومة الشيوعية، وبمساعدة الحكومة يقوم عسكر وموظفون ودرك في مثال هذه الأعياد الإسلامية بهذه الفظائع التي تثقل الضمير الإسلامي. عالم الإسلام! إن المؤمنين الشجعان يذهبون لنجاة أرواحهم كل سنة آلافًا مؤلفة إلى البلاد المقدسة ويحجون إلى الكعبة المقدسة، ويمسون بوجوههم القبر المقدس للنبي عليه الصلاة والسلام، ويطلبون رحمة القديسين [1] وهم يرجعون فرحين مؤمنين إلى أوطانهم. وقد كان مسلمو الروسيا يزورون في السابق أيضًا البلاد المقدسة، وهناك يقابلون المسلمين من أقطار أخرى، ويتزودون بحديثهم تجارب دينية، فكان يذهب لا أقل من عشرة آلاف حاج إلى البلاد المقدسة، أما اليوم فلا يراهم ولا يسمعهم هناك أحد ولم يُرَ منذ اثني عشر عامًا حاج واحد من روسيا؛ لأن السيادة الشيوعية تمنع الحج [2] . عالم الإسلام! في كل مكان - حيث أنت موجود - يمكنك أن تسير على القوانين الإسلامية وتتبعها. وأئمتك ومؤذنوك ومدرسوك وجميع وكلاء الدين الآخرين محترمون وقد كان الأمر في بلادنا أيضًا كذلك. أما الآن فمنذ وقعت بلادنا تحت الحكم البولشفي فإن أئمتنا وخطباءنا ووعاظنا ومؤذنينا ليسوا محترمين. وإنهم خارجون عن كافة الحقوق الإنسانية حسب القوانين الكومونيستية، ولا يمكنهم أن يتقلدوا وظائف دنيوية أم معنوية، ولا يمكنهم أن يَنتخبوا أو يُنتخبوا، ولا أن يشتركوا بالرأي والمشورة عقليًّا. بل تمامًا بلا حقوق. وقد وضع عليهم بصفتهم من طبقة دينية خاصة ضريبة. وهي أن يدفعوا 40-50 في المئة بل 100 في المئة أكثر مما يدفع سائر الناس من الضرائب، وإذا لم يستطيعوا الدفع لفقرهم فإن الحكومة البوليشفية تصادر دورهم وأملاكهم وترسلهم إلى سيبيريا. أيها المسلمون: كان عندنا قريب 25000 جامع وهذه كانت تُبنى منذ ألف سنة من الجماعات الإسلامية وقد اشتريت لها من دراهم المسلمين سجاجيد وما شابهها وأسست خزائن مخصوصة للمحافظة على هذه الجوامع، وهذا كله مالنا وإرثنا من آبائنا، ولكن بعد أن وقعت بلادنا في أيدي الكومنيست أعلنوا أن هذه الجوامع وخزائنها هي أميرية أي ملك الروس المسكاو. وقد نهبت السجاجيد والأشياء الثمينة التي في الجوامع وصودرت السجادة التي وهبها الخليفة السلطان محمد رشاد سنة 1917 لجامع بطرسبورغ (اليوم لينينغراد) ويطلبون للصلاة في الجامع ضريبة خاصة، وهذه الضريبة عالية فوق الطاقة. وإن الجوامع التي لا تدفع جماعاتها ضرائب تغلق أو تجعل أندية عامة أو صالات رقص ولعب أو مدارس غير دينية، أو إلى حانات حمراء. وكثير من الجوامع التاريخية القيمة تخرب وتهدم. وأما في وطننا (إيدل أورال) (ولغا أورال) - وهي مركز الإدارة العليا للمسلمين في روسيا - فإن حرب الأديان في منتهى الشدة. وفي سنة 1929 تأسست في (إيدل أورال، قازان، أستراخان، أوفا، أورينبورغ) بمساعدة الحكومة جمعيات لا دينية من العسكر والموظفين لهدم كافة الجوامع، وهؤلاء يغلقون الجوامع بالقوة، وينهبون من المقابر الإسلامية الأحجار التاريخية والشبابيك من قبور القديسين ويخربونها. وقد أغلق في السنين الأخيرة في باشكيرستان - قسم من (إيدل أورال) - عدد كبير من الجوامع، وأقيل كثير من الروحيين من وظائفهم، تأخذ هذا كله من الجريدة الكومونيستية الرسمية (ينا أول) وأن عدد الذين استقالوا مضطرين 502 من الأئمة و363 مؤذنًا وأغلق 103 من الجوامع. نحن ننظر إلى هذه المظالم في المسلمين في الروسيا ونعطي هذه التفاصيل كمحاربين لاستقلال منطقة (إيدل أورال) ونرجو المساعدة منكم ومن باقي إخواننا في العقيدة. أفِقْ يا عالم الإسلام ولا تدع عقيدتك تدنس بأيدٍ وسخة، ولا تسمح بأن يداس إخوانك بأرجل الظلم، فاستيقظ! اهـ. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ختم الجمعية) (المنار) جاءتنا هذه الرسالة في البريد مطبوعة مختومة بختم المركز العام لجمعية استقلال (إيدل أورال) فنشرناها انتصارًا لإخواننا المسلمين المظلومين في البلاد الروسية الذين انتقلوا من ظلم القياصرة إلى ظلم الشيوعية الذي يفوقه في القسوة والاستعباد أضعافًا مضاعفة، والعجب من غفلة هؤلاء الأشقياء كيف يطمعون في نشر نفوذهم في الأقطار الإسلامية حتى العربية منها مع هذا الاضطهاد الذي يسومون به مسلمي بلادهم سوء العذاب. إن الشعوب الإسلامية قد ضاقت صدورها من عدوان الدول الرأسمالية المستعمرة واستبدادهم ولكنهم لا يرجحون عليها دولة كافرة معطلة تعادي الأديان وتكفر بالرحمن، وتحتقر وجدان الإنسان، ولو لم تقهر الدولة البولشفية الناس وتكرههم على ترك دينهم لكثر أنصارها في كل مكان. إن احتجاج الصحف وحده لا يرد هؤلاء البغاة عن بغيهم، وإننا نذكِّر إخواننا المسلمين الذين يرون بعض دعاة البولشفية في بلادهم بأنه يجب عليهم أن يبينوا لهم سوء تأثير اضطهادهم لأبناء دينهم في بلادهم، ونقترح على كل حكومة إسلامية عندها سفير أو ما دون السفير من المعتمدين السياسيين أن تخاطبه في ذلك وتفعل ما فعلت دول أوربة في الاحتجاج على اضطهاد النصارى، وأولى الحكومات الإسلامية بهذا حكومتا اليمن والحجاز ونجد؛ لأنهما دينيتان يلقب رئيس كل منهما بإمام المسلمين. هذا، وإن في قطر آخر من الأقطار الإسلامية اضطهادًا لشعب إسلامي كبير ومحاولة منظمة لرد أولادهم عن دينهم بتعميم التربية والتعليم الإجباريين، وهذا لا يقل خطره عن اضطهاد دولة الروس البلشفية لمسلمي بلادها، بل ربما كان هذا الخطر الهادئ المنظم أشد وعاقبته أسوأ، والواقع عليهم يرون أنهم لا يستطيعون التظلم والشكوى؛ لأن كل من اعترض منهم يسام سوء العذاب، والحق أنهم يجب عليهم ذلك وأن ما يقع عليهم من العقاب لا يكون أشد مما هم صائرون إليه في الدنيا ثم في الآخرة، ولكن لابد لذلك من نظام، ليكون له قوة الرأي العام.

رسالة مهمة من الصين في حال من فيها من المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ رسالة مهمة من الصين في حال مَن فيها من المسلمين إلى منشئ المنار وناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر مولانا رئيس أهل السنة والجماعة محمد رشيد رضا: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيا مولانا، إني رجل من معلمي العلوم الإسلامية في بلد (القواندن) ، يا سيدي؛ إن دين الإسلام في الصين داخل في الضعف والخمود يومًا فيومًا كأنه على شفا جرف هارٍ، لا حول ولا قوة إلا بالله تعالى. سببه: أن مسلمي الصين أكثرهم قليلو الديانة وجاهلون للعلوم الإسلامية والقرآن والحديث وتاركون للصلاة والفرائض، بل أكثرهم لا يعلمون حقيقة الإيمان وهم مقلدون. وأكثرهم ما كان لهم علم واسع ولا ديانة. يشتغلون بقراءة القرآن عن الغير عن تعليم العلوم الإسلامية ونظر الكتب الدينية وتبليغ الشرع. وإن الفقير (أنا) تحسر على غربة الدين في الصين، ووضع هو وإخوانه مجلة الإسلامية الدينية العلمية المترجمة بالصينية. ويرتجي الآن أن يستعين على هذا الخطاب الخطير من جنابكم، وأنه استمع أن مجلة المنار كأنها شمس، ولم يَرَ وجهها الجميل، وترجى أن يشتري نصيبًا منها كل شهر وترجمه وشاعه (كذا والمراد ترجمة هذا النصيب وإشاعته في الصين) ولكن لم يدرِ محلة مجلتكم الشريفة. فالمرجو من كرمكم أن تخبروني محلة مجلتكم وكيفية الشراء وثمن الجرائد المنارية كم هو لأرسل إلى جنابكم الثمن والسلام. في أوائل شهر المحرم الحرام. الداعي أحقر خادم الطلبة ومبلّغ الدين الإسلامي ومدير المجلة الإسلامية في القواندن. ... ... ... ... ... عثمان بن الحاج نور الحق الصيني الحنفي الجواب (المنار) لبيك لبيك، وسلام عليك وعلى مَن لديك ورحمة الله وبركاته. ومجلة المنار تُرسل إليك هدية مع هدايا أخرى، واعلم أن صاحب المنار ليس رئيسًا لأهل السنة والجماعة بل خادمًا ضعيفًا مخلصًا، بل ليس لأهل السنة والجماعة رئيس عام يعني بشؤون الإسلام، والذنب في ذلك عليهم فإنهم فوضى، ولكن يرجى أن يتجدد لهم في هذا العصر شيء من النظام.

الدين قبل كل شيء

الكاتب: إبراهيم عريقات

_ الدين قبل كل شيء إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا الملك الإسلامي الغيور على دينه فؤاد الأول نصره الله. ثم إلى دولة رئيس الوزراء وأصحاب المعالي الوزراء ثم إلى مجلسي شيوخنا الأجلاء ونوابنا المحترمين نبث آلامًا أحاطت بنا حتى كدنا نموت أسفًا وحزنًا على ما حل بديننا الحنيف في هذا القطر. ذلك القطر العربي الإسلامي العظيم وبه الأزهر الذي هو أكبر جامعة إسلامية ومن مواد الدستور المصري أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام ومع هذا فقد راعنا أن معالم الدين الآن آخذة في الاضمحلال والفناء، والأخلاق انهارت وتدهورت، والرذيلة سادت الفضيلة، وحشرات الإلحاد برزت إلى حيز الوجود ترفع رأسها غير آبهة، وصحفنا اليومية تمحضت للسياسة إلا قليلاً جدًّا وتركت معاول التضليل تهدم في صرح دين الدولة المصرية الرسمي حتى أفسدت أخلاق الشبيبة. وبالجملة فالأمر جد خطير وأملنا وطيد في رجال حكومتنا الذين لا نشك في إخلاصهم للوطن وحبهم لرفعته أن يأخذوا بناصر الدين ويضربوا على أيدي الملحدين والمفسدين، وأن يعطوا لتلك المادة القائلة بأن دين الدولة الرسمي هو الإسلام حقيقتها ومدلولها وإلا كانت اسمية فقط، وتتلخص فيما يلي: (1) أن يدخل التعليم الديني في المدارس الحكومية وغيرها دخولاً يكون معها مادة أصلية أساسية لا إضافية حتى يخرج النشء عارفًا بدينه نافعًا لأمته. (2) أن يقرر بجميع المدارس الإلزامية قسم لحفظ القرآن الكريم جميعه. (3) منع البغاء الرسمي في الدولة المصرية المسلمة. (4) تحريم الخمر الرسمي في الدولة المصرية المسلمة. (5) عقاب تارك الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وبتعميمها في أفراد الأمة المصرية يستتب الأمن، ويقل الأشرار وتتلاشى الجرائم وتستريح الحكومة. (6) عقاب مَن يتجاهر بالفطر في نهار رمضان. (7) مما لا مراء فيه أن الدين الإسلامي ليس كغيره من الأديان بل هو صالح لكل زمان ومكان؛ ولذا ختم الله به الدين وجعله عامًّا للخلق أجمعين، ولا يعجز حكومتنا - الإسلامية رسمًا - أن تكون إسلامية فعلاً بالعمل بقواطع الدين وتخصيص لجنة لذلك من هيئة كبار العلماء والمفكرين. لا زلتم للدين الحنيف ناصرين، وللواء الفضيلة رافعين، آمين. ... ... ... ... ... ... أهالي برنبال مركز فُوَّة مديرية الغربية ... ... ... ... ... ... ... عنهم: إبراهيم عريقات

رسالة من مؤلف كتاب حياة محمد في باريس

الكاتب: إميل درمنغام

_ رسالة من مؤلف كتاب حياة محمد في باريس الحمد لله وحده إلى سيدي مدير مجلة (المنار) الغراء. تحيةً وسلامًا وبعد: فإني قرأت في مجلتكم مقالاً للسيد اليزيدي على كتابي (حياة محمد) ، أنا لا أريد هنا مناقشة مطولة مع صاحب المقال فيكفي القارئ أن يراجع كتابي نفسه فيجد فيه الأجوبة لاعتراضاته التي لم تأتِ بشيء جديد، ولكن يجب عليَّ أن أعلمكم أن فكري قد حُرِّفَ تحريفًا كاملاً؛ فإن صاحب المقال لم يفهم شيئًا مما قلته. الله شاهد على أن ليس لي المقاصد التي أعارنيها، وحقيقة قصدي في نشر (حياة محمد) هو البحث الحق الذي هو من أسماء الله تعالى، وعاملت القرآن مثل معاملتي التوراة والإنجيل، وأظهرت في كل حين ميلي للرسول صلى الله عليه وسلم وعطفي إلى الإسلام دين الغزالي وابن (العربي) وابن الفارض وابن رشد وابن سينا وابن خلدون رضي الله عنهم. ورجال أكابر الدين إنما فهموا مقصدي وفكري لو أنهم قرأوا كتابي (؟) إن الشيخ الأكبر قال - ولله دره -: إذا علم الله الكريم سريرتي ... فلست أبالي من سواه إذا سخط وليت علماء مسلمين قرأوا كتابي ودرسوه بمثل الإنصاف والميل اللذين كتبته بهما، وقد علق عليه بعضهم منهم السيد بلا فريج في (الفتح) ومكاتب (فتى العرب) اللذين إن لم يكونا في الكل من فكري علما صدق ضميري، وإني أطلب من لطافتكم، أيها المدير أن تنشروا في مجلتكم هذه الكلمات لتقويم ما علق على كتابي في مجلتكم. وفي الختام اقبلوا تحياتي واحترامي والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... إميل درمنغام

معاملة البنوك استدراك على ترجمة تيمور

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ معاملة البنوك استدراك على ترجمة تيمور أقامت جمعية الهداية الإسلامية حفلة تأبين للفقيد رحمه الله ومما ذكره بعض المؤبِّنين: أنه كان يعامل بنك الكريدي ليونيه خلافًا لما كنا نسمعه من أنه كان لا يودع نقوده في المصارف المالية حتى لا يعينها على استغلاله بالربا، ولكن يا ليت شعري هل كان يأخذ هو ربحًا على نقوده أم لا؟ المشهور أن كثيرًا من المسلمين يودعون الأموال الكثيرة في المصارف الأوروبية، ولا يقبلون أخذ شيء من الربح عليها فينفعون بها الأجانب، ولا ينتفعون منهم من حيث يأخذ آخرون الربح منهم ولا يعدونه من الربا المحرم، وبعضهم لا يبالي أن يكون منه، واستحسن بعض الباحثين أخذه وإنفاقه في المصالح الخيرية التي ترقي الأمة، فماذا كان يفعل فقيدنا وهو المتفقه في دينه، المعتصم به في عمله؟ لعل نجلَيْ الفقيد أو بعض بطانته يخبرنا بالحقيقة.

نفثة حزن لعام دفن

الكاتب: عبد الله بك الأنصاري

_ نفثة حزن لعالِم دُفن للأستاذ عبد الله بك الأنصاري أستاذ العلوم العربية في المدرسة التوفيقية (كان) : يا دار أحمد تيمور أتيناك ... فأين ربك غوث اللاجئ الشاكي يا دار أحمد دار العلم آهلة ... بالفاضلين وأهل المذهب الذاكي يا مُسدي الفضل والإحسان في ترف المـ لوك عزًّا وفي أخلاق أملاك دين بدون رياء في شعائره ... وفي العلوم خبير جدٌّ درَّاك ما كنت أحسب أن الموت يفجعنا ... فيه سريعًا فيخلو منه مثواك يا روضة العلم تلك الكتب ناطقة ... بما تجمع في حجرات مغناك لم يألُ جهدًا ولم يبخل بدرهمه ... في وفرة العلم أو في رحمة الباكي له فضائل ليس العد يحصرها ... ودون أيسرها قد يعجز الحاكي فحسبه من ثناء الناس ما اجتمعت ... عليه ألسنهم في صدق إدراك واحسرتاه على ذلك العظيم ومن ... سمت به نفسه في غير تحراك نادى الفضائل فانحازت لدعوته ... وحاد عن كل كفار وأفاك كانت مجالسه بالعلم زاهية ... نقية لم يشبها أي إشراك ونفسه نفس حر لا يمازجها ... كبر الغني ولا إعجاب ملاك عليه رحمة ربي في معارجه ... إلى منازل أبرار ونساك وأفرغ الخير والصبر الجميل على ... نجليه في طول عمر طيب زاكي

تهنئة للمنار بالعام الجديد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تهنئة للمنار بالعام الجديد سيدي الكريم وأستاذي العظيم حجة الإسلام السيد الإمام حفظه الله تعالى. أهدي إليكم سلام المخلص لذاتكم، المعجب بفضلكم، الداعي لكم بالثبات في طريقكم، والاستزادة من صالح أعمالكم، أما بعد: فيسرني في هذا العام الهجري الجديد وقد هل هلاله أن أهنئكم وأهنئ نفسي والمسلمين بما متَّعكم الله من صحة وعافية، ووفقكم إليه من جهاد في سبيله، تنيرون السبيل للناس بمناركم، وتدفعون الأباطيل بسديد آرائكم وقوي حججكم. ولقد أصبحت حياتكم مرتبطة بحياة الحق والمسلمين، ومناركم مصدرًا للنور الذي به يهتدون، فإن يكن الناس لا يزالون في غيهم يعمهون، وعن الحق عمين؛ فلأن عملكم لا يزال بعيدًا عن الغاية، وأنه لا بد لكم من متابعة السير سنوات وسنوات حتى يتم لكم النصر إن شاء الله في النهاية، والله نصير العاملين وولي المؤمنين. إن نفسي لتكاد تذوب حسرة من هذه الحال، فلقد انحطت الأخلاق، وقل العمل بالدين في نفوس المسلمين بقدر ما تقدموا في العلوم العصرية، ونبغوا في مظاهر المدنية الغربية، فكثرت الاعتداءات، واغتيلت الحقوق، وضاعت الأمانات، وضعفت شوكة الحكومات، ولا غرو فلا يمكن حكم القلوب بغير سلطان الدين {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (الشعراء: 227) . ففي مجاهل هذه الحال ترفعون صوتكم ولا يلقى من يردد صداه، وبين هذه الظلمات المتكاثفة تنشرون مناركم ولا نور في تجديد الدعوة على وجهها سواه، فاثبتوا - وفقكم الله - فسيُظهر الله دينه ولو تأخر النصر، وسيهزم عدوه مهما عظمت شوكته واستفحل الشر، واعلموا أن هناك نفوسًا تحنُّ إليكم، وقلوبًا تحفّ بكم، ستجتمع حولكم لشد أزركم، متى جدَّ العمل، وقوي الأمل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة: 143) {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} (آل عمران: 126) . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نجيب (المنار) نشكر لأخينا المهنئ حسن ظنه وإخلاصه فيما لا نستحق من إطرائه، وكان في كل سنة يهنئنا فنشكره بكتاب خاص، وقد آن لنا إعلان شكره على صفحات المنار.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار وصف كلامه تعالى بالقديم وبحادث الآحاد قديم النوع وهل هما مبتدعان؟ وما حكم القائل بهما؟ ونذر زيارة قبر الوالد والصالح؟ (س13-15) من إمام الحاج محمد جابر في كمفوغ سوك هاتي (سمبس - برنيو) حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدي ومولاي العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر، رزقه الله عمرًا مديدًا ونفع بعلومه المسلمين جميعًا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أرفع إليكم هذه الأسئلة الآتية راجيًا التفضل بجوابها في صفحات مناركم الغراء وهي: (1) قال في كتاب (تنبيه ذوي الألباب السليمة) من الكتب النجدية صفحة 20: إن لفظ (القديم) إذا وُصف به كلامه سبحانه وتعالى فهو من الألفاظ المبتدعة حيث قال: فقوله * كلامه سبحانه قديم * هو من جنس ما قبله من الألفاظ المبتدعة المخترعة التي لم ينطق بها سلف الأمة وأئمتها. اهـ. مع أن علماء الكلام نطقوا بلفظ القديم فهذه كتبهم بين ظهرانينا مذكورة فيها أقوالهم بأنهم عرفوا ووصفوا كلامه جل وعلا بالقديم، ويعتقدون قدمه. وقال الشيخ حسين والي في كتابه كلمة التوحيد صفحة 57: (ويجل مقام أحمد بن حنبل وأضرابه أن يعتقدوا قدم القرآن المقروء) ولا أسيء الظن بهم أنهم يعتقدون شيئًا ويمنعون أن يقولوا به في مثل هذه القضية. ومعلوم أن القرآن هو كلام الله. قال صاحب الهداية السنية النجدية صفحة 106: (ونعتقد أن القرآن هو كلام الله.. إلخ) وما رأيكم في قول صاحب كتاب التنبيه المذكور؟ هل هو صحيح في عدِّه الواصفين بلفظ القديم من أهل البدع كما يدل عليه مفهوم قوله الآتي، أم لا؟ فإن كان صحيحًا فهل يأثم الواصف به أم لا؟ (2) وقال أيضًا: والذي عليه أهل السنة والجماعة المخالفون لأهل البدع أن كلام الله سبحانه وتعالى حادث الآحاد قديم النوع.. إلخ، فهل قوله (حادث الآحاد وقديم النوع) من الألفاظ المبتدعة أم لا؟ وهل وردت هاتان الكلمتان في السنة أو في كلام سلف الأمة؟ فإن وردتا فيهما فذاك وإلا فهما من الألفاظ المبتدعة أيضًا، وإني لم أقف في كتاب من كتب أهل السنة على نص يوصف فيه كلامه تبارك وتعالى بهما أو ينقل فيه قول من أقوال سلف الأمة يقولون بهما، ولم أسمع أحدًا من المشايخ يصف بهما كلامه تعالى. أليستا من الألفاظ التي توهم التشبيه؟ وإني أرجو أن تحرروا مع الجواب معناهما ومرادهما وبينوا لنا ذلك بيانًا شافيًا؛ فإني لم أزل في وهم وإشكال وأرى أنكم من أقدر الناس في هذا العصر على حل المشكلات. (3) إذا نذر المريض وقال: (إن شفى الله مرضي فعليَّ زيارة قبر فلان أو قبر والدي مثلاً؛ لاعتقاده أن لصاحب القبر كرامة ومزيَّة ولا يعتقد أنه مؤثر في ذلك ومن المعلوم أن زيارة القبور من القربات. فهل يجوز ذلك ويصح نذره، أم لا؟ وإذا قلتم بعدم الجواز فهل الناذر يكون مشركًا بسبب ذلك الاعتقاد أو آثمًا فقط، أم لا؟ أفتونا ولكم من الله الأجر والثواب) . جواب المنار مرتبًا على عدد الفتاوى فيه (13) وصف كلام الله بالقديم ومن قال إنه مبتدع: قول من قال: إن وصف كلام الله تعالى بالقديم من الألفاظ المبتدعة - صحيح، ومثله قول الآخر إن كلام الله تعالى حادث بالآحاد قديم النوع، كلاهما لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في أقوال رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في أقوال الصحابة رضي الله عنهم. ولكن ليس كل من يستعمل لفظًا محدثًا يكون من أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة، فجميع أئمة الأمصار من مدوني علوم الشرع في الأصول والفروع قد استعملوا ألفاظًا اصطلاحية لم تُستعمل في القرآن ولا في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والذين تصدوا من أهل السنة للرد على المبتدعة لم يسلموا من استعمال بعض الألفاظ الاصطلاحية المبتدعة، ومنها قولهم: إن كلامه تعالى قديم بقدم ذاته، وهذا من أسباب وقوع الخلاف بين المسلمين في مسألة كلام الله تعالى وكذا غيرها من صفاته، ولم يسلم من ذلك أئمة الحديث والفقه منهم، وقد اشتهر ما وقع من الخلاف في ذلك بين البخاري والذهلي من أئمتهم. بل أتباع إمام الأئمة أحمد بن حنبل المنسوبين إلى مذهبه في العقائد والفروع قد وقع بينهم الخلاف في هذه المسألة. فلا يصح أن يقال في كل من استعمل لفظًا محدثًا في ذلك ولا كل من خالف أحمد أو جمهور السلف في مسألة من دقائق هذه المسائل - إنه من المبتدعة المخالفين لأهل السنة والجماعة. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في شرح كتاب التوحيد من البخاري وبعض أقوال أهل السنة من المحدثين واتباع المذاهب الأربعة وأقوال المبتدعة في مسألة القرآن في مواضع وقال بعدها كلمة كررها بعد ذكر الخلاف بينهم وهي: والمحفوظ عن جمهور السلف ترك الخوض في ذلك والتعمق فيه والاقتصار على القول بأن القرآن كلام الله وأنه غير مخلوق، ثم السكوت عما وراء ذلك. اهـ. وهذا الذي ينبغي لكل مسلم إلا أن مَن كان في قلبه اضطراب من هذا الخلاف ولم يطمئن بهذا التسليم، فله أن يراجع كلام المحققين الجامعين بين المعقول والمنقول وينظر فيه باستقلال فكر وإخلاص قلب فإنه حينئذ يصل إلى ما يطمئن به قلبه إن شاء الله تعالى. وكنت أخرت الجواب عن هذه الأسئلة راجيًا أن أجد وقتًا واسعًا أكتب فيه خلاصة هذا البحث المضطرب الأمواج، ولما أجد الوقت الذي يتسع له، ولكنني سأشرع إن شاء الله تعالى قريبًا في طبع عدة فتاوى في ذلك لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، وأشهد بالله إنني لم أجد في كتب أحد من علماء هذه الملة من أحاط بما أحاط به من حفظ النصوص وأقوال الناس من المحدثين والمتكلمين والفلاسفة والمبتدعة في هذه المسألة وأمثالها، والوقوف على أدلتهم وتمحيصها وتحرير الحق الذي كان عليه سلف الأمة وإقامة الحجة عليه، فلينتظر ذلك السائل وغيره ممن يهمهم تحقيق هذه المباحث وهي ستطبع في كتاب مستقل وربما ننشر بعضها في المنار. وأما وصف كلام الله تعالى بالقديم فهو صحيح في نفسه وأثبته علماء السنة وفي المراد منه عند السلفيين وعند غيرهم بحث مفصل في مباحث شيخ الإسلام. *** (14) مَن قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قديم النوع إن قول من قال: إن كلامه تعالى حادث الآحاد قول مبتدع مبهَم موهم، وله وجه يظهر أنه هو مراده منه، وهو ما قاله بعضهم في تفسير قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ} (الأنبياء: 2) وقد جعل البخاري هذه الآية ترجمة لأحد أبواب كتاب التوحيد من صحيحه مع آية {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} (الطلاق: 1) وقال عقبها: وإن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) يعني أن كونه محدثًا لا يقتضي كونه مخلوقًا، فهو كقول السلف من أهل الحديث وغيرهم: له يد لا كأيدينا واستواء لا كاستوائنا، وإن كلامه الموحى إلى رسله بصوت لا كصوتنا. ومن القائلين بهذا الإمام أحمد رحمه الله تعالى. وهو يقول كغيره من أئمة السلف: إن القرآن المقروء بالألسنة المكتوب في المصاحف كلام الله غير مخلوق، وهم يصرحون بأن القارئ مخلوق وقراءته وكتابته مخلوقتان، وإنما يتقون في هذا المقام ما يتضمن الإيهام. فما قاله الشيخ حسين والي وغيره من إجلال الإمام أن يقول كذا مبني على الاقتناع بنظرية المتكلمين في المسألة وبكون الإمام أحمد كان من أئمة الهدى والسنة، ومقتضاه عنده أنه لا يخالفها. وليس مبنيًّا على النقل عنه. وكان شيخنا الأستاذ الإمام ذكر مثل هذا في رسالة التوحيد، وعند قراءته لهذا البحث منها في الأزهر صرح بأنه رجع عنه وبأنه سيحذف هذه الجملة في الطبعة الثانية للرسالة وكتب ذلك في حاشية نسخة الدرس، ولذلك حذفناها من كل طبعاتنا لها. وقد استدلت المعتزلة بالآية على خلق القرآن، والتحقيق أن المراد منها محدث إتيانه ونزوله. قال إسحاق بن راهويه من شيوخ البخاري وأقران أحمد وقد سأله عن الآية حرب الكرماني ما نصه: قديم من رب العزة محدث إلى الأرض. اهـ وراجع سائر الأقوال في الآية وفي المسألة من فتح الباري. *** (15) نذر زيارة قبر الوالد والصالح: لا ريب في أن زيارة القبور مستحبة بالنية التي أرشد إليها الحديث الوارد في الإذن بها بعد النهي وهي تذكر الآخرة، وإنما هي مستحبة بهذه النية وإلا فإن الأصل في الإذن بالشيء بعد النهي عنه الإباحة، وما كان من نية صالحة أخرى في الزيارة تزيد هذا الاستحباب تأكيدًا كزيارة قبر أحد الوالدين أو كليهما، فإنها تعد من بقايا برهما وتذكُّرهما، الذي يترتب عليه ما أمرنا الله به من الدعاء لهما، وكذلك زيارة قبر الرجل الصالح إذا كان لذكرى صلاحه ورجاء في قوة الاقتداء به، لا لطلب نفع أو كشف ضر منه، ولم يكن فيها شيء من البدع ولا من إقرارها. ويصح نذر مثل هذه الزيارة المشروعة. ولا وجه للقول بعدم جوازها فضلاً عن القول بإثم فاعله أو رميه بالشرك والعياذ بالله تعالى. فإن الشرك لا يثبت إلا بدليل قطعي لا مجال فيه للتأويل، ولكن بعض الغلاة في مذاهبهم يرتكبون من مخالفة الشرع في الطعن على مخالفيهم ما هو أكبر إثمًا مما ينكرونه عليهم إن كان منكرًا. أعاذنا الله من ذلك. *** الجمع بين الصلاتين في الحضر واشتراط الطهارة في الصلاة وصلاة مكشوف الرأس (س16-18) من صاحب الإمضاء في (ببا - من الوجه القبلي) حضرة صاحب الفضيلة العالم الكبير والأستاذ المحقق السيد محمد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله وبعد: فقد سمعت منذ سنوات عديدة ممن أثق به (توفي رحمه الله) في أحاديثه الخاصة معي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في صلاته بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء جمع تأخير بلا عذر، وأنه لا حرج على المصلي إذا كان بثوبه أو بدنه شيء من النجاسات وأنه لا كراهة في الصلاة ورأس الإنسان عارٍ بل ربما كان ذلك أفضل؛ لأن هذا المظهر أقرب إلى التذلل والخضوع والعبودية. ولأمر خاص بي أريد التثبت من ذلك ولثقتي بفضيلتكم بعثت بهذا إليكم، فأرجو إفتائي على ما تقدم والله تعالى يتولى مثوبتكم بفضله. وتفضلوا بقبول عظيم الاحترام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... سيد أحمد عابدين جواب المنار (16) أما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين في المدينة المنورة، فقد ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه في سنن الشافعي وصحيح مسلم وغيرهما من كتب السنن، وقد تأول ذلك فقهاء المذاهب المعروفة بتكلُّف، وظاهر قول ابن عباس فيه: (لئلا يحرج أمته) يدل على أنه رخصة، وبهذا أخذ بعض فقهاء الحديث وهو ما أعتقده، ولا يخفى أن الرخصة تؤتى عند الحاجة لا دائمًا، ولولا أن سبق لنا بيان هذه المسألة ونص الحديث فيها من قبل لبسطت الكلام فيها وذكرت لفظ الحديث وتأويلات مَن تأوَّله. (17) وأما قول ذلك الثقة عندكم بأنه لا حرج على المصلي إذا كان في ثوبه وبدنه شيء من النجاسات - فهو مخالف لقول أكثر علماء الأمة بأن طهارة الثوب والبدن شرط في صحة الصلاة، وعن مالك أنها واجبة وليست بشرط لصحة الصلاة. فالمسألة اجتهادية والاحتياط تحري الطهارة في الصلاة؛ لأنها إذا كانت واجبة في غيرها فهي فيها أوجب، نعم؛ إن الوجوب لا يقتضي الشرطية، وقد أطال الشوكاني في الرد على من قال بها، ولأن تكون صلاتك صحيحة بالإجماع خير من أن تكون مختلفًا فيها، ولك الأخذ بالقول الآخر عند تعسر الطهارة وفي ترك القضاء إذا علمت بعد الصلاة أنه كان في

نقض أساس مذهب داروين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نقض أساس مذهب داروين هذا المذهب قائم على أساس من النظريات القابلة في نفسها للثبوت وللنقض، ولم تصل في يوم من الأيام إلى درجة الحقائق القطعية عند الآخذين بها؛ تفضيلاً لها على كل ما كتب في موضوعها، إلا بعض المقلدين من ملاحدتنا؛ الذين يجعلون أضعف ما فيها من الاحتمالات في درجة الحسيات أو الضروريات، ويدافعون عنها في جملتها وتفصيلها. والحق فيها أنه إذا كان فيها بعض التعليلات المعقولة المقبولة بادي الرأي فإن فيها تعليلات أخرى لم تتجاوز حيز الوهم، وإذا صح أن نظام الكون قائم بسنن حكيمة مطَّردة؛ سواء عرفت كلها أو لم تعرف كما أثبته الكتاب الكريم فلن يصح أن تكون هذه السنن الحكيمة من بنات الضرورة ولا من بنات المصادفة، بل المعقول أن تكون من تقدير العزيز العليم كما قال الكتاب الحكيم، وإذا صح أن تكون هذه السنن لا تبديل لها في الطبيعة ولا تحويل كما قال تعالى: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) فلن يصح أن يكون الخالق المقدر لها والمدبر لأمرها مقيَّدًا بها، بحيث لا يستطيع إبداع شيء غيرها، فإن هذا النفي لا يقدم على القول به عاقل. وقد حدث في الوجود من الآيات البينات، والمعجزات الخارقة لسنن العادات ما تواتر خبره وصار من القطعيات، فالتكذيب به أو التأويل البعيد عن قياس المنطق له ليوافق تلك النظريات المادية - ليس بأولى في نظر العقل السليم من عدِّه منتظمًا في سلك سنن أخرى مما وراء المادة. ولا يزال العقلاء والحكماء يرون من آيات الله في أنفسهم ما هو إبداع محض لا يتفق مع سنن المادة في شيء، وآخرهم العلامة الشهير آينيشتين الألماني قد ناط بهذا الإبداع كل ما امتاز به من تحقيق علمي وفلسفي. الكلام في فساد مذهب داروين يوجَّه إلى أساسه لا إلى فروعه وجزئياته كطبقات الأرض وتشابه الأنواع وتعليل الأعضاء الأثرية، وأساسه الفاسد هو أن ما عُلم من السنن في نظام الكون هو دليل على أن ما لم يُعلم منها مثله في كونه لابد أن يكون حصوله بالتطور التدريجي. ومقتضاه أنه ما وجد ولن يوجد كائن مبدع مبتدأ، ولا آية خارقة للعادة، وغايته أنه ليس للكون رب قادر مريد يفعل ما يشاء. والدلائل الوجودية والأخبار المتواترة القطعية تنقض هذه القاعدة وتبطل اطِّرادها. كان هذا المذهب هدفًا لسهام النقد في كل عصر، وقد فوق له في هذا العهد سهم جديد أقصده وكاد أن يقضي عليه، وهو ما نترجم لك خبره في المقال التالي. *** احتضار مذهب علمي نشر العلامة ليون دوديه Daudet Leon صاحب صحيفة الاكسيون فرنسيز Francaise L'action بعدد صحيفته المؤرخ 11 يونيو سنة 1930 ما يأتي تحت هذا العنوان: من المفيد جدًّا أن يُعمل على إسقاط أحد تلك المذاهب (المادية) التي انتشرت في القرن الماضي، تلك العقائد التي حملتني على تسميتها (بالسخافة) . لما أذعت سنة 1922 مؤلَّفي المعنون بهذا الاسم (السخافة) قامت ضجة شعواء عند الجامدين على الاعتقاد بالتطور والتحول الذاتي، وتكوين اللغات، والنوبات العصبية (الهستريا) والجمهورية (الديمقراطية) وعلى كثير من ضروب العبث بالقول في علوم الحياة والسياسة. ولا غرو فليس من الهين أن تنتزع من مخيِّلتك تلك الخزعبلات التي صحبتك ثلاثين أو أربعين سنة. أما احتجاجات تلك الضجة التي كنت عولت على عدم إعارتها أي اهتمام فلم تؤثر في نفسي؛ لأني أعلم أن الزمن سينقضي ويظهر أن الحق بجانبي كظهور استعداد الألمان للحرب الأوربية العظمى. وقد كنت بناءً على ذلك كتبت منذ ثماني سنوات في الكتاب الذي سميته (سخائف القرن التاسع عشر) ما يلي: إن المبدأ الأساسي لمذهب التطور والتحول الذاتي هو أن الطبيعة لا طفرة فيها ولا خلل، فلا محل فيها إذًا للمعجزات. فإن المعجزة هي الظاهرة الفجائية غير المنتظرة الخارجة عن القوانين المعروفة. هذا هو الشرط الأساسي في تخيلات (بالتبيوس هيكل) القصصي في روايته التي تبتدئ من تكوين الهلام البحري [1] وتنتهي بتكوين الإنسان بتنويع تدريجي بطيء يحدث داخل الخلايا والأنسجة تحت تأثير مضاعَف لنوع من القوة الرافعة الداخلة (لم يبرهنوا عليها) وتأثير عوامل خارجة عدُّوها حسب أهوائهم. ويلاحظ دائمًا أن في الحياة خواص قابلة للتغير وهي نواة التحول الذاتي وأخرى لا تقبل التغير وهي الثابتة، وهذا ما يدعو إلى الاعتقاد بأننا تحت تأثير أنواع كثيرة من القوى الكامنة التي تارة تعمل فينا في ظروف خاصة، وطورًا لا تعمل في ظروف أخرى، ونحن نجهل السبب في كلتا الحالتين. وأما هذه الذبذبة بين الأصل المولِّد (الخلية) والأنواع المتولدة وكذا الانتقال من بساطة التكوين إلى أوج النهى فسِرّ يرجع إلى نظام أرقى. ثم إن سلسلة الأجناس تتجدد حلقاتها بانعدام بعضها كلما زاد الجنس نموًّا، وإذا سلمنا بصحة هذه النظرية تعين علينا القول بأن عالم الأحياء سائر في طريق التقدم المستمر، وأن بقاء الأجناس الدنيا إنما هو للدلالة على حصول هذه التقلبات المتعاقبة المستمرة مع انعدام بعض الأجناس الوسيطة المؤقتة التي هي في الغالب أعظمها أهمية. ولما كانت هذه السلسلة ينقصها الحلقة التي تصل القرد بالإنسان بحثوا مدة ستين عامًا للعثور على الجنس الوسيط، فأكدوا حينًا ما أنهم وجدوه ثم كذبوا هذا الخبر. على أنهم تنبهوا اليوم إلى أن معضلة أصل الأنواع - وخصوصًا ما يتعلق منها بالجنس البشري - ما زالت معقدة ومضطرِبة كما كانت قبل داروين Darwin ولمارك Lamarek وأن مذهب القائلين بالتشابه الخارجي والتشريحي ليس بجواب عن هذا السؤال يحسن السكوت عليه، فإن مذهب المشابهات التشريحية والفسيولوجية لا يلقي إلا نورًا ضئيلاً على مسألة تخصص الحياة وتشخصها. إن الحياة ما زالت حافظة لقابليتها للانفجار والالتهاب ولما فيها من الخواص الوراثية لتغير الأعضاء تغيرًا فجائيًّا، إننا نجد منها خواص تنتقل وتقبل التغير والتبدل، وخواص أخرى لا تنتقل ولا تقبل تعديلاً، فسينتج مما تقدم أننا في آن واحد خاضعون لتأثير قوى غيبية خفية تفعل فينا فعلها ولا نعرف كنهها، كما أننا من هذه القوى في بعض أحوال خاصة لا ندريها أيضًا، وأن هذا التغير من الشخصي إلى النوعي ومن التخصيص إلى التعميم خاضع هو أيضًا إلى نظام أسمى. وهلم جرًّا. إن مذهب التحول الذاتي الذي سيطر على علم الكائنات الحية مدة ستين عامًا إنما هو مظهر موضعي بل أحقر المظاهر لحل قضية الحياة، بل هو رد على السؤال بسؤال آخر. إني قد أشَّرت بخط تحت الفقرة الخاصة بالقوات الخفية ثم قلت في الكتاب المذكور في محل آخر ما يأتي: (إن المذهب المضاد لمذهب التحول الذاتي لم يأتِ بعد بالعالم الذي يستحقه على أننا في انتظاره بإيمان وثيق) وها هو ذا قد أتى هذا العالم فعلاً فإن المسيو فيالتون Vialleton نشر في سنة 1929 كتاباً بحث فيه عن أصل الأنواع الحية تحت عنوان (أوهام التحوليين) أورد فيه من الدلائل المقنعة ما يقضي على مذهبي داروين ولمارك القضاء المبرم. ولا بد أن يكون عالقاً بأذهان القراء ما كتبنا هنا من التعليق على كتاب المسيو فيالتون العظيم الشأن، غير أن الصحف العلمية والفلسفية لم تعلق أهمية كبيرة على نقض هذا الأستاذ العالم. إلا أن جريدة الطان tenps نشرت في عددها الصادر في 8 يونيه سنة 1930 مقالاً في الموضوع بقلم المسيو لويس لافل Lavelle Lauis جاء فيه ما يأتي: ( ... وردت في كتاب المسيو فيالتون فكرة ثانية يظهر لنا أنها أشد خصوبة، وهي أن في داخل الأشكال الأساسية غير المنفصلة عن المظاهر الأولية للحياة يمكن تصور وجود (جراثيم أو براعيم الانتظار) [2] وهي غير مرئية وتبقى منتظرة لتفرخ في اللحظة الملائمة، أعني اللحظة التي تكون فيها شروط البيئة قاضية بخروجها من القوة والاستعداد إلى الفعل، وإذا ضربنا صفحًا عن التوسع في بحث طبيعة هذه الجراثيم يمكننا اعتبار أنها قوات مستترة لا تفعل فعلها إلا تحت تأثير الظروف المناسبة ولا يظهر فيها مظهر الحياة إلا إذا أخذت أشكالاً قياسية خاصة. فنفهم من ذلك الأسباب التي حدت بالمسيو فيالتون لأن يكون من خصماء معتنقي مذهب التحول الذاتي الذي هو شرح للتطور بأسباب آلية. فالتطور في نظره هو تطور يدبره مدبر، وهو يتعارض مع مذهب (لمارك) القائل بأن الكائن يتكيف بالوسط الذي يعيش فيه وأن هذا التكيف يتأصل فيه بالتدريج حتى يورثه نسله. ويتعارض أيضًا مع مذهب داروين القائل بأن في الكائن المولود تغيرات عرضية بعضها نافع له وكافل له الفوز في معترك الحياة وبعضها مؤذٍ وقاضٍ عليه القضاء المبرم) . اهـ. وهكذا كان إدراك (فهم) القوات الخفية التي أشار إليها المسيو فيالتون يتصل بإدراك (فهم) القوات الخفية المنوه عنها في (سخافات القرن التاسع عشر) . غير أن المسيو فيالتون يرى أن الضغط الخارجي هو الذي يساعد على تجلي هذه القوات في عالم الظهور مع أني في كتابي قد نسبت ذلك إلى عوامل باطنية عرضية. ومهما يكن الأمر فإن التبدل الذي نحن بصدده إنما هو انقلاب أو تحول فجائي وليس تطورًا أو تكيفًا. على أن القوات الخفية موجودة في مظاهر العالم بأجمعها، فإن الراديوم قبل اكتشافه كان قوة مستترة، والموجات الفضائية كانت كذلك قبل اكتشافها، وكذلك ما يحصل في الدم من الاستعدادات البطيئة لمرض السل والسرطان التي أشار إليها في هذه السنوات الأخيرة الطبيبان فانييه وروا Aroy Vanniet هي أيضًا قوات مستترة لأشكال مرضية. والآن قد فتح أمامنا عالم جديد للمعرفة واسع المجال إلا أن النور الساطع فيه مازال ضئيلاً كنور الفجر الذي لا يكفي إلا لتمييز الأشياء بعضها من بعض. اهـ.

مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مساواة المرأة للرجل في الحقوق والواجبات الشبهات على حق المساواة في الميراث - 13 - وجملة القول أن الشرع الإسلامي قد عظم أمر الزوجية والأمومة الشرعية، ففرض على الرجل القيام بجميع ما تحتاجه الزوجة والأم لتتفرغ المرأة للقيام بما تقتضيه هاتان الوظيفتان التي قضت الفطرة بأن تكون الأولى منهن وسيلة والثانية مقصدًا، فإن عجز الرجل عن النفقة أو مات كان على غيره من الأقارب القيام بها وإلا فبيت المال، ولن تقوى المرأة على القيام بما تقتضيه الفطرة ودين الفطرة من الاستعداد للحمل والوضع والرضاعة والحضانة والتربية للأطفال وجعل الدار لهن خير مدرسة ومأوى ومطعم ومصح، إلا إذا كان الرجل يكفيها مؤنة الكسب وتثمير الأموال بنفسها في الزراعة والصناعة والتجارة واستخراج الكنوز والمعادن وغير ذلك مما هو أقدر عليه منها، وكذا مؤنة أمور الدولة العامة والدفاع عن الوطن بالخدمة العسكرية بأنواعها. وكان مقتضى هذا بادي الرأي أن لا ترث المرأة شيئًا من المال والعقار؛ لأن الشرع كفل لها رزقها على كل حال، وهذا ما كان يحتج به العرب في الجاهلية على عدم توريث النساء مع أنهم لم يكفلوا لهن رزقهن كما كفله الإسلام؛ إذ جعله حقًّا على الرجال بوازع الوجدان والإيمان، وكفالة الشريعة والسلطان. ولكن دين العدل والرحمة راعى في أمر النساء سائر الأحوال التي وراء حال الزوجية والأمومة، ففرض لهن من الإرث نصف ما فرض للرجال، ومن أحسن ما يوجه به هذا الفرض أن يقال: إنه من قبيل الاحتياط ومراعاة شواذ الحياة الاجتماعية، ولولا أنه فرض إلهي لكان لقائل أن يقول: إن النصف كثير؛ لأن الأمر يؤول فيه إلى أن يكون مال المرأة أكثر من مال الرجل لأنه لا يُفرض عليها من النفقة حتى على نفسها في عهد الزواج ما يفرض على الرجل، أو يفضي إلى إضعاف الثروة العامة؛ إذ ليس للمرأة من القدرة على إدارة المال وتثميره ولا من التفرغ لاستغلاله من جميع الطرق الاقتصادية مثل ما للرجل. وأما الأمهات الفواجر غير الشرعيات فلا يفرض لهن الشرع الإلهي وجودًا يقتضي حقوقاً مالية أو غير مالية، بل يفرض عليهن عقابًا شديدًا يقتضي إرهابًا يمنع وجودهن إلا على سبيل الندور الذي لا يراعَى في القواعد التشريعية المنزلة ولا الموضوعة، ومن ثم كان دعاة الفوضى النسائية والإباحة الذين رُزئت هذه البلاد يهم يقترحون أصلاً للتشريع ينسخ شرع الله تعالى ويبطله مبنيًّا على إقرار أمومة السِّفاح، فترى الدكتور فخري يقول - بغير خجل ولا حياء من الجهل ومكابرة الحس والعقل -: إن المرأة (هي هي كل شيء في القيام بحمل الصرف المالي على هذه الأمومة) وإنه لا يدري (لماذا يريد الرجل أن يعطيها نصف حقها في الميراث؟ !) نعم إنه لا يدري لأنه لا يريد أن يدري، أو لا يعترف بما يدري، فإنه يخاطب المسلمين بقوله: (هي هي كل شيء..) وهي عندهم ليست بشيء من ذلك، أما الأمومة السفاحية فلا وجود لها في شريعتهم كما قلنا آنفًا. ولا وجود لها في الخارج أيضًا، فإن اللائي يلدن من حمل السفاح يلقين بالطفل المولود في أحد الشوارع ليلاً على حين غفلة من المارين ليحمله رجال الشرطة أو غيرهم إلى معاهد اللقطاء إن لم يخنقه عند الوضع ويدفنه حيث لا يعلم به إلا الله. وأما الأم التي يطلقها زوجها فلها من النفقة مدة العدة ومدة الحضانة ما هو معروف للعامة والخاصة من الناس. ومن المطلقات المعتدات بالقروء مَن تنكر حيضها وتدَّعي امتداد أجل عدتها بحيث تعد بالسنين، ويجبر القضاء بمذهب الحنفية الرجل على النفقة عليها حتى تعترف بمرور الثلاثة القروء عليها وقلما تعترف بذلك في ظل القضاء الحنفي إلا إذا أرادت الزواج! فأما الأم التي يموت زوجها فترث هي وولدها كل ما ترك إن لم يكن له زوج أخرى أو أولاد من غيرها أو أبوان وهو الغالب، وكثيرًا ما يترك الأبوان نصيبهما لولد ولدهما إذا كانا موسرين، وإذا هو لم يترك مالًا يكفي أولاده وجبت نفقتهم على من قدر عليها من أولي القربى أيهم أقرب كما تجب نفقتها هي أيضًا على أولي قرباها بالتفصيل المفصل في كتب الفقه. وما أظن أن جميع دعاة الإباحة الإلحادية يوافقون الدكتور فخري على جعل أمومة العُهر موجبة لمساواة المرأة بالرجل في الميراث لما تقتضيه من انفرادها بالنفقة على نفسها وعلى أولادها غير الشرعيين إذا لم تكن ذات فراش تفتري هذا البهتان على صاحبه، وتلصق هؤلاء الأولاد بنسبه، ولعل أكثرهم يتعجبون مع أهل الدين والصيانة من اقتراح مثله لهذا الرجس من التشريع وهو من أعلم الناس بقبح الفاحشة وأمراضها الخبيثة المعدية؛ لأنه من أطبائها الأخصائيين العاملين المطلعين على ذلك، فكان الواجب عليه أن يقترح ما يقلل هذا الفساد إذا لم يمكن إزالته، لا ما يمكِّن المسافحات (البغايا) ومتخذات الأخدان (المرافقات) من تكوين بيوت جهرية لأولاد الزنا، يعرف كل واحد منهم أمه ولا يعرف له أبًا، إلا أن تتبع الحكومة فيهم ما حكي عن التشريع البلشفي من الأخذ بقول المرأة في إلحاق كل ولد بالرجل الذي تدعي أنها علقت به منه، فتُلزمه الحكومة النفقة عليه [1] وحينئذ يمكن أن يكون لكل أم من هؤلاء الأمهات غير الشرعيات بضعة أولاد لبضعة رجال تتقاضى من كل واحد منهم نفقة رضاعته وحضانته وتربيته! ! إلى أن تتولى الحكومة أمر رزقه إذا صارت بلشفية خالصة؛ لأن التشريع من بعض جوانب الشيء يفضي به إلى سائر الجوانب، ولولا استباحة الزنا وكثرته لما اقترح الدكتور فخري ما اقترحه. بيد أن الفواجر لا يعترفن بمن يضعن من أولاد السفاح في هذه البلاد بل يلقينه ليلاً في بعض الشوارع؛ ليوضع في ملاجئ اللقطاء، ومنهن من تقتل الطفل عند وضعه وتدفنه سرًّا؛ إذا لم تكن ذات فراش تفتريه على بعلها فيه كما قلنا آنفًا، ولا يصدها عن إلقائه أو خنقه أن تكون ذات مال تكفله به، فإنها إنما تفعل ذلك فرارًا من عار الفاحشة، لا لأجل العجز عن النفقة، فمساواتها لأخيها في الإرث لا يهون عليها احتمال العار والاحتقار اللذين يلصقان بها من الأمومة غير الشرعية، فهي لن ترضاها لنفسها إلا أن يهبط تجديد الإلحاد والإباحة بالأمة كلها إلى حضيض المساواة بين حضانة الزوجية وإباحة الفاحشة في عدّ كل منهما حسنًا شريفًا لا عار فيه! فإن هبطت دعاية هذا التجديد بالأمة إلى هذه الدركة السفلى من المساواة بين الفضيلة والرذيلة - لا سمح الله - فإنه لا يبقى بين دعاته وبين المساواة في الإرث وغيره إسلام يُتبع، ولا قرآن يُتعبَّد به، ولا توراة ولا إنجيل أيضًا، وحينئذ يكونون هم أصحاب الرأي النافذ في الحكومة البلشفية التجديدية؛ فإنه ليس في الأرض أجدر منها، وإن لم يتجرؤوا (على ذمهم لكل قديم ومدحهم لكل جديد) على التصريح بها، كما ظنوا أننا لا نتجرأ على التصريح بطلب تنفيذ الشريعة الإسلامية كلها، وها نحن أولاء نصرح به لأنه حق ومصلحة، فنحن الشجعان لأننا نجهر باعتقادنا كله، وهم الجبناء لأنهم لا يجرؤون على التصريح بكل ما يستحسنونه. أقول هذا لأنه من لوازم هذه الدعاية الحمقاء، ولا أجزم بأن أفكارهم القصيرة الخطى الكثيرة الخطأ قد وصلت إليه، أو قصدت إركاس الأمة فيه، وإنما أرجح أنهم يجلبون المال والجاه والزعامة الأدبية لهم ولمن يرتبط بهم بتحويل أفكار النابتة الجديدة من المسلمين وقلوب النساء عن هداية الإسلام وتشريعه، إذ لا يمكن لزعنفة قليلة أن تتبوأ مقام الزعامة والقيادة في أمة كبيرة هم أعداء الأكثرية الساحقة الماحقة منها في كل ما تعتقد حقيته وقداسته من أدب وتشريع، ومنافع هذه الزعنفة من ساسة الأجانب ومبشري دينهم رهينة بتأثير كلامهم في هذين الصنفين من المسلمين- أعني الشبان والنسوان - وجل الظلم والخسران في هذا كله واقع على أكتاف هؤلاء النسوان كما سنبينه في خاتمة هذه المقالات إن شاء الله تعالى. هذا وإن الدكتور فخري ختم احتجاجه على وجوب مساواة المرأة للرجل بأنها إنسانة مثله وأخت له - وأعاد ذكر واجبات الأمومة - ثم قال: وإن كان حق الميراث ناتجًا (كذا) عن النبوة فهي أكثر منه عطفاً على والديها وهي أكثر منه برًّا بهما في شيخوختهما وفي مرضهما وفي ساعات بؤسهما وشقائهما. اهـ. ونقول في تفنيده: إن الإنسانية ليست مناطاً للإرث ولا سببًا لتحديد درجات الوارثين فذِكْرها في هذا البحث لغو. وأما كون الوارثة أختًا للوارث معها وبنتاً لمورثهما فهي إنما تقتضي المساواة بينهما في نفقة الوالدين عليهما وفي عطفهما أو إكرامهما لها، وهذا حق قررته الشريعة الإسلامية فلا يجوز للوالدين تفضيل بعض أولادهما على بعض فيما تتساوى حاجاتهم فيه عرفاً؛ لأنه ظلم وسبب للتحاسد والتعادي بينهم، والواقع بالفعل أنهما ينفقان على البنت أكثر مما ينفقان على الابن في الغالب؛ لأنها تحتاج من الحلي والحُلَل الحريرية وغيرها ما يفوق ثمنه ما ينفق على ملابس أخيها، والذي أعرفه في بيوتنا وتربيتنا الإسلامية أننا نكرم البنات ونخصهن بعطف زائد عل عطفنا على البنين، فلا أذكر أن أحداً من رجالنا ضرب بنتاً ضرب التأديب الذي لا يسلم منه أحد من البنين وقد كنت في بيت أبي أضرب إخوتي الصغار وأوبخهم وأنهرهم بغليظ القول، ولم أضرب أختاً من أخواتي قط، ولا أذكر أنني أغلظت على إحداهن في القول. ولو شئت لذكرت ما هو أبلغ من ذلك في تربيتنا الإسلامية ولله الحمد. ثم إن الوالد يجهز البنت عند تزويجها بأضعاف ما قد يدفعه مهرًا لزوج الابن إذا لم يدفعه هذا من كسبه، وقد اعتاد المسلمون المغالاة في هذا التجهيز حتى صاروا يبذلون فوق ما تسمح لهم به ثروتهم، فيقترضون بالربا ولو فاحشاً أو يبيعون الأرض والعقار بأقل من ثمن المثل لأجله، ولا يستحيي هؤلاء المفتاتون على المسلمين في شريعتهم وبيوتهم من عيبهم بالتقصير مع الإناث وهضم حقوقهن وهم يعلمون كل هذا. وأما الإرث فلا يناط بدرجة القرابة وعاطفتها، بل هو ركن من أركان تكوين الأسرة ومصالح الأمة الاقتصادية، وكل منهما يقتضي أن يكون جل الثروة في أيدي (الجنس القوي النشيط) لأنه أقدر على جميع أنواع التثمير والاستغلال والقيام بشؤون النفقات المنزلية (العائلية) والقومية والدولية، والذي يقعد (بالجنس اللطيف الضعيف) عن مجاراته في الأمرين (الاستغلال والإنفاق) هو وظيفة الأمومة؛ الأمومة التي عكس الدكتور فخري القضية وخالف مقتضى الفطرة فجعلها سببًا للمساواة. وجملة القول أن الإسلام خالف جميع الشعوب وشرائعها بما شرعه من العناية بالنساء، وإعطائهن أكمل حقوق الزوجية التي تقتضيها سنن الفطرة السليمة، ومنحهن في الإرث نصف ثروة الأسرة من جميع وجوه القرابة النسبية والزوجية ولم يضع عليهن من الواجبات المالية نصف ما وضعه على الرجال، فقد ترث المرأة المتزوجة أباها وأمها وبعض إخوتها وأخواتها وعمومتها وهي في حجر زوجها ينفق عليها وعلى أولادها، ولا يكلفها الشرع أن تنفق من ذلك شيئًا على نفسها ولا على أولادها فضلاً عن زوجها، إلا أن تتفضل بالتبرع بذلك فتكون لها المنة. وأما أخوها الذي يشاركها في هذا الإرث كله فيأخذ منه مثلَيْ ما تأخذه فهو مكلف أن ينفق على زوجة أو أكثر وعلى أولاد قد يكونون كثيرين، فأيهما يكون أكثر مالاً، وأحسن حالاً، وأضمن مآلاً؟ إذا تيسر للمرأة استغلال ما ترثه كما يستغله أخوها أو أحسن

الاتفاق بين دولة الحجاز ونجد السعودية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاتفاق بين دولة الحجاز ونجد السعودية ودولتي إيران وبولونية وعدنا في الجزء الأخير من المجلد الثلاثين بنشر اعتراف دولة بولونية بالمملكة السعودية، وسبب ذلك أنه قد زار مصر صاحب الفضيلة مفتي المسلمين في بولونية وزعيمهم الديني الشيخ يعقوب شنكفتش في طريقه إلى الحجاز، فلقي من تكريم فضلاء المسلمين وجمعية شبانهم، ومن جمعية الرابطة الشرقية ما يليق بزعامته وشخصه الكريم، وقد ألقى في نادي الخطابة من دار جمعية الشبان المسلمين محاضرة في بيان حال المسلمين في بولونية وما لهم فيها من حرية الدين المطلقة ومن مساعدة الحكومة البولونية الكاثوليكية لهم ما كان موضع الإعجاب والعجب من كل مَن سمعه؛ لأنه فوق المعهود من الدول الأوربية. وسببه الحقيقي عندنا أن تدين بولونية أمتها وحكومتها بالنصرانية تدين عقيدة وإخلاص، فهو لا ينافي الاتفاق مع المسلمين، وأما تدين دول الاستعمار والدعاية فهو تدين سياسة وتجارة وبذلك كان مثار الشرور. ثم سافر المفتي إلى الحجاز، وحظي مع الوفد البولوني المؤلف برياسة المعتمد السياسي الجديد لدولته لدى ملك المملكة الحجازية النجدية بلقاء ملكها في مدينة جدة، واحتفل فيها بتبادل خطبتي الاتفاق بين الدولتين بما هو صريح في اعتراف حكومة بولونية وشعبها بمزايا الشعب العربي الإسلامي، والرغبة الصادقة في مودته بأسلوب لم يعهد مثله من الدول الأوربية في روحه ومغزاه. وكان جواب الملك السعودي زعيم العرب والإسلام له بمثل هذه الروح الشريفة؛ لهذا أحببنا نشر ذلك في المنار للتنويه به. وقد اتفق أن جريدة أم القرى الحجازية الغَرَّاء نشرت تفصيل الاحتفال بالوفد والمعتمد البولوني عقب تفصيل الاحتفال بالمعتمد الإيراني وكنا نوهنا في المنار بالاتفاق بين الدولتين السعودية والبهلوية الإيرانية في المنار وأظهرنا السرور به ولكننا رأينا في خطبة المعتمد الإيراني وجواب الملك السعودي له ما ضاعف سرورنا بأصل الاتفاق بين هاتين الدولتين الإسلاميتين المستقلتين، وهو التصريح فيهما بالجامع الأقوى والأعلى بينهما وهو الرابطة الإسلامية وتعزيز الإسلام، وقد أكبرنا هذا التصريح الذي يعبق منه شذى الصدق والإخلاص؛ لأنه وقع بعد سعاية خبيثة لإيقاع الشقاق بينهما إحياءً وتجديدًا لشر المصائب والرزايا القديمة التي أضعفت الإسلام والمسلمين وهي العداوة بين أهل السنة والشيعة. وبعد ما وقع من شيعة العراق من إظهار العداوة والبغضاء لأهل السنة النجديين وتكفيرهم، ومن شيعة سورية من نشر أحد شيوخ علمائهم لكتاب خبيث في الطعن في دين الوهابية يتضمن الطعن في السنة وأئمتها وحُفاظها، ومن تأليف عالم آخر منهم لكتاب آخر في دعاية الرفض والطعن في أهل السنة، وتصدي مجلتهم العرفان لنشر هذه الدعاية. فهذا الاتفاق بين الدولة المقيمة للسنة على أصولها الصحيحة والدولة الممثلة لفريق الشيعة الإمامية، وبناؤه على ما صرح به في الخطبتين من جعل الشعور الإسلامي والوحدة الإسلامية أساسًا للمودة، والاتفاق والتعاون - يعد مبدأ إصلاح إسلامي عظيم تعب دعاة الإصلاح في سبيله تعبًا عظيمًا ولم يفوزوا بما كانوا يرجون منه، وناهيك بما قام به حكيمَا نهضتنا الإسلامية منذ نصف قرن من السعي الحميد لذلك. وهما السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري. وإننا نبدأ بنشر خطبتي هذا الاتفاق وننشر عقبه خطبتي الاتفاق الآخر. خطاب الممثل الإيراني (وهو صاحب السعادة حبيب الله خان هويدا) يا صاحب الجلالة: إن مولاي المعظم صاحب الجلالة شاهنشاه إيران - خلد الله ملكه - أولاني أسمى شرف، وأعظم فخر، وأغلى ثقة، بتعييني ممثلاً في بلاط جلالتكم؛ لأقوم بكل قواي على إحكام روابط المحبة والوداد الموجودة لحسن الحظ بين الدولتين الصديقتين الإسلاميتين. إن اطمئناني - يا صاحب الجلالة - على وجود الصداقة الخالصة المتينة بين الحكومتين المعظمتين، واعتمادي وثقتي على العواطف السامية الملوكانية التي شملتموني بها عند مثولي بين يدي جلالتكم في الدفعات الماضية، وشعوري على ما بين الأمتين من روابط الإخاء والولاء يشدد ساعدي في تأدية الواجب، ويقوي عزيمتي على القيام بمهمتي. يا صاحب الجلالة: إن بين الشعبين صلة أكيدة، قوامها الدين المبين، وأواصر إخاء وثيقة، عمادها الاتحاد والغاية في النزعة القومية؛ لأن الأمتين استناروا من نور واحد أشرق من أفق البطحاء واستفاضوا من منبع فيض واحد كان ينبوعها هذه الأراضي المقدسة. فأي ضمان أثبت على دوام المحبة وأحفظ على تبادل الولاء الصادق من الاتفاق في شعائر الدين والتقاليد القومية؟ وإني - يا صاحب الجلالة - أراني في هذه الساعة محاطًا بروح الشرف والفخار بتشرفي بالمثول بين يدي جلالتكم لتقديم أوراق اعتمادي، الكتاب الكريم المرسل من لدن صاحب الجلالة شاهنشاه بهلوي متبوعي المعظم مليك إيران لجلالتكم بتعييني ممثلاً للدولة الإمبراطورية في بلاط جلالتكم مليك الحجاز ونجد وملحقاتها، فأغتنم هذه الفرصة الثمينة - يا صاحب الجلالة المعظم - لأعرب عن المودة الصادقة الأكيدة التي يبديها مليكي المعظم في تمنياته لذاتكم الملوكانية بالفوز والتأييد، ولأسرتكم الملكية الكريمة بالعظمة والإقبال، ولأمتكم المجيدة بالسعادة والرفاء، كما أن حكومة جلالة مولاي المعظم والأمة الفارسية لترجو بأن يكون عهد توليتكم شؤون الدولة وتبوأكم عرش المملكة فاتحة واطرادًا للرقي والتقدم، ويعود على الأمة العربية بالعز والرفاهية، ويزيد الصلات الودية الموجودة بين الشعبين الفارسي والعربي متانةً وإحكامًا، مولاي. *** الجواب الملوكي وقد تلاه أمين السر لصاحب الجلالة السعودية الأستاذ الشيخ يوسف ياسين يا جناب الممثل: إنه لمن دواعي سرورنا العظيم أن نتقبل ممثل صديقنا العزيز جلالة شاهنشاه إيران في بلاطنا ليكون واسطة في تأييد أواصر الصداقة - القائمة ولله الحمد - وتمتين حسن الصلات بين البلدين اللذين يرتبطان بصلات الجوار والحس المشترك في الشعور الإسلامي العام. وإنه ليسر شعب هذه البلاد المقدسة أن يروا هذه الصلات الحسنة مستمرة على الدوام مع سائر الشعوب التي تنتسب للإسلام ليكون هذا عونًا على ارتباط المسلمين جميعًا للتعاضد على العمل الذي كان منشؤه - كما ذكرتم - هذه البلاد المقدسة ليسطع نور الإسلام في سائر الآفاق ويكون من آثار سطوعه تعاضد المسلمين على ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. ولقد كان من دواعي سرورنا أن يقع اختيار جلالة صديقنا العزيز لجنابكم لتمثلوه لدينا لما عرفناه في شخصكم من القديم في السعي والحرص في تأييد أواصر الصداقة بين البلدين. تلك المساعي التي أنتجت - ولله الحمد - هذا العصر السعيد من الوئام والاتحاد بيننا وبين الجارة الصديقة؛ لذلك نتقبل بسرور أوراق اعتمادكم التي حملتموها من لدن جلالته. ونحب أن تكونوا على ثقة - جناب الممثل - من أنكم ستلقون منا ومن رجال حكومتنا كل مساعدة وتأييد لتتمكنوا من القيام بمهمتكم التي أُسندت إليكم خير قيام، وإنا لنتمنى لكم توفيقًا ونجاحًا في جميع ما تسعون إليه من أعمالكم المفيدة. والسلام. *** اعتراف حكومة بولونيا بالحكومة السعودية (منقول من جريدة أم القرى الغراء بحروفه) في الساعة الحادية عشرة من اليوم المذكور تشرف الكونت إدوارد راشينسكي والدكتور يعقوب شنكفتش مفتي مسلمي بولونيا أعضاء الوفد البولوني الذي ذكرنا نبأ وصوله في العدد الماضي بمقابلة صاحب الجلالة الملك المعظم، وقد استقبل الوفد بالمراسم المعتادة ولقي من جلالة الملك كل عطف ورعاية. ثم ألقى الكونت إدوارد راشينسكي أمام جلالة الملك خطابًا نشرنا صورته فيما يلي وعقبه الشيخ يوسف يس فألقى الخطاب الجوابي الملوكي. *** (خطاب الكونت إدوارد) يا صاحب الجلالة: أتشرف بأن أقدم إلى جلالتكم رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية بولونيا الفتية الناهضة وباسم فخامته أعرض على جلالتكم تمنيات صحتكم ودوام ملككم لرفاه الأمم المتحدة تحت لوائكم المنصور. إن مملكة بولونيا تعرف جيدًا الأمة العربية الجسورة وفروسيتها، وتقدرها حق قدرها، وقد اشتهرت في العالم بحبها للحرية حتى بلغت شهرتها إلى بولونيا، فتغنى شعراؤها منذ العصور بفروسية هذه الأمة الكريمة. إن الأمة البولونية تقدر هذه الفروسية وهذا الحب للحرية؛ لأنها هي أيضًا قاتلت متفانية لنيل استقلالها وتحملت آلامًا ومتاعب كثيرة لبلوغ غايتها من الحرية المنشودة، وقد كانت حياتها في خطر ولكن بفضل الله سبحانه وتعالى وكرمه استطاعت أن تحافظ على كِيانها حتى أصبحت مملكة قوية يتمنى العالم كله هدوءها وسكونها للمحافظة بسببها على السلام العام. أقدم هذا التقدير وهذه الممنونية التي تحفظها الأمة البولونية نحو الأمة العربية الكريمة ونحو جلالتكم الذي جمعتم هذه الأمة العربية وكونتم مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها العظيمة على يدكم المنصورة بسعيكم النادر وحكمتكم النافذة، وشجاعتكم الشخصية التي هي أكبر ما تقدرها الأمة البولونية. إن شهرة جلالتكم - كأتقى ملك وأكثرهم دفاعًا عن الدين - تزداد انتشارًا يومًا فيومًا بين إخوانكم المسلمين في بولونيا الذين توطنوا بلاد الشمال البعيدة منذ قرون عديدة، وقوبلوا من الأمة البولونية كإخوة لشهرتهم بالتخلق بالأخلاق الحسنة والفروسية والتفاني في الدفاع عن الوطن مع إخوانهم البولونيين حين هجوم الأعداء على بلادهم، وقد حضر اليوم معي إلى هنا ممثلهم ورئيس ديانتهم المحترم المفتي الأكبر يعقوب شنكفيتش ليرتبط بمنبع ديانتهم ارتباطًا وثيقًا ويهنئ جلالتكم بالصعود على عرش البلاد المقدسة والدفاع عنها. إنني لا أشك من أن وفدنا - الذي أتشرف بأن أكون رئيسه - ليستطيع أن يضع الأساس الأول لارتباط الأمتين الكريمتين (الأمة العربية والأمة البولونية) برباط الصداقة القلبية المتينة لمنفعة هاتين الأمتين اللتين يمكنهما أن تنتفعا من بعضهما انتفاعًا عظيمًا فتظهر هذه المنفعة جليًّا في ميدان الاقتصاد؛ لأن بلادنا محشودة بثروات طبيعية وصناعات تتقدم بسرعة مدهشة فيمكن أن تستفيد هاتان المملكتان البعيدتان من بعضهما فائدة عظيمة بسبب تبادل محصولاتهما الطبيعية والصناعية. بعد أن تشرفت بتقديم إحساسات وتمنيات حضرة فخامة رئيس الجمهورية البولونية الفتية، وحضرة القائد المنصور المارشال جوزيف بيلسودسكي وباسم الحكومة البولونية والأمة البولونية كلها _ ألتمس السماح لي بأن أتشرف بتقديم تمنياتي وإحساساتي الشخصية مع إحساسات وتمنيات زميلي المحترم وأرجو وألتمس من جلالتكم التنازل بقبولها وتعطفوا علينا بمعونتكم في إنهاء مهمتنا التي تشرفنا بتحملها لإنهائها مع معاونة جلالتكم. *** الجواب الملوكي يا جناب المندوب: إننا نتقبل بسرور رسالة حضرة صاحب الفخامة رئيس جمهورية بولونيا الفتية الناهضة ونتقبل بامتنان التمنيات الطيبة التي نقلتموها لنا عن فخامته. كما أننا نفاخر بما ذكرتم مما هو معروف في بلادكم عن مزايا أمتنا العربية التي نراها تشابه في كثير من الحالات الأمة البولونية في مراميها ومزاياها من الشجاعة والإقدام. وإن الأمة العربية لتنظر للبراعة التي ظه

الفتح الأوربي والفتح الإسلامي والاستعمار البريطاني والفرنسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الفتح الأوربي والفتح الإسلامي والاستعمار البريطاني والفرنسي يا حسرةً على المسلمين جهلوا تاريخهم وجهلوا دينهم فجهلوا أنفسهم، فهم يخْرِبون بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم الظالمين المستذلين لهم، شغلهم الفاتحون لبلادهم عن أنفسهم وعن مقومات أمتهم من دين قيم، وتشريع عادل، وتاريخ مجيد، وأدب رائع - بزُخرف من زينة حضارتهم، ودعاوى كاذبة عن عدالتهم وتهاويل مرعبة من مظاهر قوتهم، فرضي كثير منهم بأن يكونوا أعوانًا لهم على استعبادهم واستذلالهم، ثم لم يرضَ الفاتح منهم بسلب المال، وتنكيس رؤوس الرجال، حتى عمد إلى سلبهم ما لهم من الرجاء في سعادة الآخرة بتحويلهم عن الإسلام بعد أن سلبهم سعادة الدنيا. كان المسلمون يفتحون المِصر من الأمصار والقطر من الأقطار فيرضَوْن من أهله بقليل من المال يسمى (الجزية) يجعلون لهم بها حق حمايتهم والدفاع عنهم، مع حريتهم المطلقة في عقائدهم وعباداتهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويسمحون لهم بتلقي العلوم معهم في مساجدهم ومدارسهم كأبنائهم، وبجميع الأعمال التي يقدرون عليها لترقية أنفسهم. ومن اختار منهم الدخول في الإسلام كان أخًا للمسلمين في الأمور الروحية، فوق ما كان له من مساواتهم في الحقوق المدنية، وترفع عنه الجزية التي قلما كانت تزيد على دينار في السنة من البالغ الحر القادر على الأداء. وأما هؤلاء المستعمرون من الإفرنج فهم يسلبون من أهل البلاد التي يستولون عليها أكثر ثمرات كسبهم، ويجعلونهم أذل من عير الحي والوتد في بلادهم، ومَن لم يرضَ مع الذل والعبودية بخيانة أمته ووطنه والخدمة الصادقة لهم - يسومونه سوء العذاب، ولا يساوون أحدًا منهم بأبناء جنسهم، وإن هو دخل في دينهم. وأشدهم إسرافًا في هذه الخطة الدولة الفرنسية، وقد كان رجال سياستها يسخرون من الإنكليز؛ إذ يرونهم يسمحون لبعض الناس في البلاد التي يتغلبون عليها بأن يكونوا أصحاب ثروة واسعة، وأن يعلّموا أولادهم بعض العلوم العالية، ويتركون لهم شيئًا من الوجاهة وحرية الدين التي لا تعارض السلطة، ويكتفون في سبيل تحويلهم عن دينهم ونعرتهم القومية والوطنية بالتعليم والتربية المدرسية ودعاية المبشرين بالنصرانية معتذرين عن دعايتهم بأنه مقتضى الحرية الدينية العامة لا خروج عنها. كان الدكتور غوستاف لوبون فيلسوف فرنسة يفضل في كتبه سيرة إنكلترة في مستعمراتها على سيرة دولته (فرنسة) وكان ساستها يسخرون من فلسفته ومن السياسة الإنكليزية الاستعمارية، ولما قامت مصر والهند بعد الحرب تطلبان الاستقلال، وتبذلان في سبيله الأموال - اقتنعت إنكلترة بأن فرنسة أحذق منها في استعباد البشر؛ إذ لا تدَع لهم سبيلاً إلى الثورة ولا إلى العلم الذي يجمع الكلمة، ولكنها لا تستطيع أن تكون مثلها، فإن حاولت ذلك كان خَسارها أكبر من ربحها! إن جميع الحكومات الأوربية تتعمد إفساد أخلاق أهالي البلاد التي تستولي عليها بأي اسم من أسماء الاستيلاء حتى الحماية والمساعدة والانتداب، وتُلقي بين المختلفين من أهلها في الدين أو المذهب أو الجنس الشقاق والبغضاء. أما إفساد الأخلاق وكذا صحة الأبدان فبإباحة الفواحش والمنكرات كالخمور والمخدِّرات بأنواعها ونشرها باسم الحرية الشخصية وحرية التجارة، وإما إلقاء العداوة والبغضاء والتفريق بين الأهالي فباسم حماية حقوق الأقليات. والغرض الذي يتوخونه من كل ذلك أن لا توجد في البلاد وحدة تجمع كلمة أهلها على المطالبة باستقلالها، ولا فضائل تؤلف بين الأفراد وتنهض بهِممهم إلى القيام بشئون الإصلاح فيها، وإنما يكون همّ كل واحد منهم التمتع بشهواته الحيوانية، وهم كل فريق يجمعه دين أو مذهب أو جنس معاداة من يخالفه فيه من أهل بلاده. وأما المسلمون فكانوا على إطلاقهم الحرية للمخالفين لهم في الدين يمنعونهم من الفواحش والمنكرات التي تفسد أخلاقهم وتجني على صحتهم، كما يمنعون منها المسلمين أنفسهم؛ لأن الله تعالى لما أذن لهم بالقتال دفاعًا عن أنفسهم ودينهم عند تمكنهم منه كان مما أوجبه عليهم إذا صاروا أصحاب السيادة في الأرض أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، فلا تبيح الحكومة الإسلامية الصحيحة لغير المتدينين بدينها من المنكر عندها إلا ما تبيحه لهم ديانتهم كشرب الخمر مثلاً، إذا كان فيما بينهم بصفة لا يضر غيرهم. وقد رأينا بعد الحرب الكبرى من ظلم الدول المستعمِرة للمسلمين وتعديها على دينهم ودنياهم ما تفاقم شره بعد سقوط الدولة العثمانية، وقيام حكومة تركية من أنقاضها، أعلنت الإلحاد ونبذت الشريعة الإسلامية وراء ظهرها، وأبطلت محاكمها ومدارسها وأوقافها، وأكرهت رعيتها على ترك لغتها وهي العربية، وعلى كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية، وترجمت لها القرآن المجيد باللغة التركية ترجمة لا يثق بها مسلم؛ لتكتبه بالحروف اللاتينية، تمهيدًا لمحوه من البلاد التركية. ولم يمكن الشعب التركي الذي يَدين سواده الأعظم بالإسلام وتعد الملاحدة فيه كالنقطة السوداء في الثور الأبيض - أن يصد حكومته العسكرية القاهرة عن هذا الإلحاد لضعفه بالفقر والحروب الطويلة التي أنهكت قُواه، وقد حاول اغتيال رئيس جمهوريته الإلحادية (اللاييك) مرارًا فلم يظفر به، فهو ينتظر الفرج من الله تعالى بانقلاب آخر. فهذا الحدث الفاحش أطمع الدول المستعمرة للبلاد الإسلامية في إخراج المسلمين من دينهم بالقوة القاهرة. وقد كانت دولة فرنسة تمهد السبيل من قبل لإخراج شعب البربر الإسلامي القوي الشكيمة من الإسلام إلى النصرانية أو الإلحاد، ثم تجرأت في هذا العهد على تنفيذ ذلك بالقوة العسكرية في المغرب الأقصى، واستعانت على ذلك بحيلة صورية، أرادت أن تجعل بها هذه الفعلة ذات صبغة رسمية أو شرعية، فطلبت من سلطان المغرب السابق أن يُصدر لها ظهيرًا (مرسومًا سلطانيًّا) يهبها به ما كان له من الرياسة الدينية والحق الشرعي الديني على شعب البربر ويجرد نفسه منه، فيكون لها به حق التصرف المطلق في أمور هذا الشعب الدينية من قضائية وتعليمية؛ ظنًّا منها أن السلطان الذي يملك حق الولاية الدينية على هذا الشعب الإسلامي يملك أن يتركه لسلطة غير إسلامية، ويجعل لها حق التصرف في دين هذا الشعب فترده عن الإسلام بكل الوسائل التي تقدر عليها، فامتنع أن يصدره على شدة التهديد في زمن الحرب الكبرى، وهم يزعمون أنه أصدره، ولكنها لم تنشر نصه ولم تكتفِ به، بل عادت بعد موته إلى ولده الشاب الذي نصبته بعده واستصدرت الظهير في هذا العام بنفوذ رئيس حكومة المخزن (الطيب المقري) ، وشرعت في إخراج البربر بالفعل من دين الإسلام بتعليم أولادهم الديانة النصرانية باللغة الفرنسية ومنعهم من تعلم القرآن واللغة العربية وبوضع قانون جاهلي للأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث وغيره يحل محل الشريعة الإسلامية، في محاكم بربرية تنشأ بدلاً من المحاكم الشرعية. أما الحق الشرعي في هذه الوسيلة فهو أن السلطان لا يملك أن يعطيها هذا الحق، كما أنه لا يملك أن يغير نصًّا من أحكام الشرع، كأحكام الزوجية والطلاق والإرث، وهي منصوصة في القرآن، بل لم يكن للرسول الأعظم حق في مخالفة القرآن في حكم من أحكامه وقد قال الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (يونس: 15) ، فأي مسلم اعتقد أن له الحق في أن يغير حكمًا من أحكام القرآن أو غيرها من أحكام الإسلام المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة يحكم بارتداده عن الإسلام وقتله وعدم دفنه في مقابر المسلمين.. إلخ، وكذا مَن استحل أن يفعل ذلك أو أن يسمح لغيره بفعله فهو كافر مُراق الدم، وإذا كان من يجحد مثل هذه الأحكام جحودًا يُحكم يكفره ويجب قتله أيضًا فكيف بمن ينفذ إبطال هذه الأحكام بالفعل أو يسمح لغيره بتنفيذها وإخراج بعض المسلمين من دينهم؟ ! قال صاحب عقيدة جوهرة التوحيد: وَمَن لمعلوم ضرورة جحد ... من ديننا يقتل كفرًا ليس حد ولما شرعت حكومة المغرب الفرنسية في تحويل البربر عن دينهم بالفعل تجرأ مسلمو المغرب الأقصى على مقاومة السلطة الفرنسية بالفعل، وكان قد استحوذ عليهم الخوف والجبن، وسنبين في الجزء الآتي ما كان من تأثير هذه الفتنة هنالك ثم ما كان وما سيكون من تأثيرها في العالم الإسلامي كله، مع البحث في آراء ساسة فرنسة فيما يجب أن تعامل به المسلمين؛ فإنهم مختلفون في ذلك ولم يبلغنا عن أحد منهم قبل الحرب الكبرى أنه يجب عليها إكراههم على ترك الإسلام بل هذا رأي حديث سنبين أنه رأي أفين، ونرد على ما أقاموا عليه من الدليل، ونبين الرأي المعقول الجامع بين مصلحة فرنسة ومصلحة المسلمين، ومصلحة البشر أجمعين.

المعاهدة الجديدة بين إنكلترة والعراق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المعاهدة الجديدة بين إنكلترة والعراق إن في العراق حزبًا عراقيًّا إنكليزيًّا، وأعني بكونه إنكليزيًّا أن ساسة الإنكليز يثقون بزعمائه ويعدونهم أصدقاء أو غير أعداء لهم. وإن من أركان الحزب العراقي الإنكليزي: نوري باشا السعيد، وجعفر باشا العسكري. ولما تعذر الاتفاق بين الإنكليز في العراق وبين الوزارات كلها، عَهِد جلالة الملك فيصل برياسة الوزارة إلى نوري باشا السعيد فلم يلبث أن اتفق مع الإنكليز على عقد معاهدة سياسية عسكرية يلغي بها ما يسمى الانتداب وتجعل شؤون العراق بين الدولتين بدون وساطة جمعية الأمم، بل تساعد الدولة الإنكليزية العراق بمقتضاها على أن تكون عضوًا في جمعية الأمم كسائر الممالك الداخلة في دائرة الإمبراطورية البريطانية المرنة التي يسعى ساسة لندن لجعْل الشرق كله في جوفها. وقد كانت الدعاية التي تقدمت هذه المعاهدة والتي أعلنت فيها بالإجمال قبل التفصيل، متقنة كل الإتقان، فلم يعلم الناس بما فيها من الخطر على العراق بل على الأمة العربية كلها إلا بعد نشرها برمتها. وقد كنت ممن ظنوا أن أكبر غوائلها بقاء حظائر الطيارات البريطانية فيها. ثم ظهر أنها معاهدة عسكرية تقرر فيها جعل بلاد العراق وكل ما فيها من القوى وطرق المواصلات تحت تصرف الإنكليز العسكري إذا وقع بينهم وبين أحد حرب، كما تقرر فيها مساعدة الإنكليز للعراق بقواها العسكرية حالة وقوع حرب بينها وبين دولة أخرى، بل تقرر فيها أن تكون قوة العراق العسكرية وأسلحتها في تصرف الإنكليز! ومن المعلوم بالبداهة عند جميع المشتغلين بالسياسة أن الدولة البريطانية موجهة براعتها السياسية إلى استعباد الأمة العربية وجعل جميع بلادها العامرة تحت سلطانها، من مصر الرازحة تحت نير احتلالها العسكري إلى العراق فالكويت فعُمان أي إلى آخر حدود جزيرة العرب والتمهيد بذلك إلى جعل الحجاز ونجد تحت سيطرتها، وبهذا تقطع الطريق على الشعوب العربية دون الاتفاق والاتحاد والاستقلال. ومن المعلوم بالاختبار الصحيح وتاريخ الفتح أو الاستعمار الإنكليزي في الهند ثم في مصر والسودان أن الإنكليز يضربون الأمم الجاهلة أو المتخاذلة بعضها ببعض، فيفتحونها بأيدي أهلها وبأموالها، فإن ما ينفقونه من المال في أول الأمر يستوفونه بعد ذلك مع ربح فاحش جدًّا، هكذا فعلوا في الهند وهكذا فعلوا في مصر والسودان، وهكذا يفعلون اليوم في البلاد العربية بِدَارًا أن تجمع كلمتها وتوحد نهضتها وتؤلف الدولة أو الدول المتحدة أو المتحالفة التي يسعى إليها أهل اليقظة والرأي من أبنائها. نصبوا أولاد الشريف حسين ملوكًا وأمراءَ على حدود الحجاز ونجد لعلمهم بما تأرَّث بينهم وبين ابن السعود من سعير العداوة والبغضاء، فهم يخوفون به ملك العراق وأمير شرق الأردن ويستعينون بنفوذهما وبرجال البلاد ومالها على إقامة الحصون والمعاقل تجاه نجد والحجاز، ويخوفون ملك الحجاز ونجد بأنه إذا شذ عن رغبتهم فإنهم يقاتلونه بأيدي أمته العربية وبما وراءها من قوتهم، لعلمهم أن قوة العراق وشرق الأردن دون قوته الآن، على أنهم يُظهرون الصداقة له ولجيرانه معًا كما كانوا يفعلون في الهند سواء، وسنأتي بالشواهد التاريخية على هذا في الجزء التالي إن شاء الله تعالى. عبد العزيز آل سعود رجل مسلم قوي الإيمان، عربي صادق العربية، لا مطمع له في بلاد شرق الأردن ولا العراق، وهو لم يزحف على الحجاز ويستولي عليه إلا مضطرًا إلى ذلك بما أحرجه الملك حسين حتى جعل مقاتلته ضربة لازب يوجبها الشرع الإسلامي ومصلحة نجد والعرب والمسلمين، وهو يرى حمل الحجاز ثقيلاً عليه لما يحتاج إليه من أنواع الإصلاح الكثيرة من دينية ومدنية، وناهيك بتقريب مسافة الخلف بين تربية أهله وشؤونهم الدينية والمعاشية وتربية أهل نجد وشؤونهم، فهو لا مطمع له فيما وراء ذلك ولا ينوي أن يعتدي على أحد من جيرانه في الجنوب ولا في الشمال وكلهم من قومه وأهل ملته. فأي حاجة مع هذا إلى إقامة الحصون والمعاقل على حدوده إذا لم تكن استعدادًا لما ذكرنا من قطع الطريق على الوحدة العربية قبل أن تتمهد سبيلها؟ وأي حاجة بالعراق إلى مجاراة الإنكليز على هذه السياسة بمعاهدة حربية وهم يعلمون أن جيرانها الآخرين من الترك والإيرانيين لا يمكن أن يتصدوا لفتحه لأن لهم في أنفسهم شغلاً عن ذلك، على علمهم بأن الدولة البريطانية لا تنوي ترك العراق لأهله، وأن أعمالها العسكرية ولا سيما المطارات والمعاقل والحصون والسكك الحديدية التي تصل العراق بحيفا قبل انتهاء الخمس السنين التي ضربتها المعاهدة أمدًا لخروج الجيوش الإنكليزية من العراق - وما في النية إحداثه من السكة الحديدية العسكرية التي تصل العراق بالبحر الأحمر - كل ذلك وسائل لرسوخ قدمها في هذه البلاد وتأسيس إمبراطورية بريطانية جديدة فيها في هذا الوقت الذي تتداعى فيه أركان إمبراطورية الهند الكبرى التي لولاها لم تكن إنجلترة من الدول العظمى، وستستقل الهند بيقظة زعمائها وعلمهم وإخلاصهم، بل في الوقت الذي يتحدث فيه بعض ساسة أوربة بقرب أجل هذه الدولة ويتوقع فيه سقوطها في الحرب الآتية التي لا بد منها. إن أعظم ضباط العراق وطنية عربية ومعرفة بقيمة الاستقلال قد أقسموا أغلظ الأيمان لجمعية عربية غايتها استقلال البلاد العربية استقلالاً تامًّا بجميع معانيه الحقوقية والسياسية، وجعل الأمة العربية في مصاف الأمم الحية، فماذا فعلوا بيمينهم هذه؟ ومنهم بعض أعضاء هذه الوزارة التي عقدت هذه المحالفة وهي الآن تبذل نفوذها لتأليف مجلس نيابي يجعل استعباد إنكلترة العسكري للعراق شرعًا بالاعتراف لها بأنه من طرق مواصلاتها الإمبراطورية! وبأن لها الحق في استخدام جميع قواته لمصلحتها العسكرية، وفي جعْل تأليف قواته العسكرية وسلاحه وسائر شؤونه بيد الإنكليز يتصرفون فيها كما تصرفوا في قوات مصر، ولم يكن لهم من الأمة المصرية مثل هذه المعاهدة ولا هذا الاعتراف. إن تأليف مجلس نيابي يبرم هذه المعاهدة على علاتها ليس له معنى إلا بيع العراق للإنكليز بيعًا شرعيًّا لا يمكن الرجوع فيه، وإنما يبقى أمام العراق طريق واحد للحرية والاستقلال وهو الثورة العامة لإخراجهم بالقوة، ولكنها ستقطع هذا الطريق عليهم بأيديهم. وقد شرعت في ذلك ببثّ الأحقاد المذهبية بين أهل السنة والشيعة من حيث يشعرون ومن حيث لا يشعرون، والعصبيات الجنسية بين العرب والكرد والآشوريين، وبإلقاء جراثيم الإلحاد والإباحة وحرية الفسق التي لا يمكن أن تقوم لأمة معها قائمة، وستنزع السلاح من جميع القبائل بقوة الجيش العراقي الذي ستنظمه لخدمتها. وللعراقيين كبير عبرة بسيرتهم في مصر والسودان، ومَن لم تؤدبْه الحوادث أدبتْه الكوارث!

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (نور الإسلام) (مجلة دينية علمية أخلاقية تاريخية حكيمة. تصدرها مشيخة الأزهر الشريف أول كل شهر عربي [1] مدير إدارة المجلة عبد العزيز (بك) محمد من أعضاء مجلس الأزهر الأعلى. رئيس التحرير السيد محمد الخضر حسين من علماء الأزهر. قيمة الاشتراك السنوي داخل القطر المصري 40 قرشًا، لطلبة المعاهد والمدارس 20، خارج القطر المصري 50) . هذا تعريف إدارة المجلة بها، ولقد كان وجود مجلة لمعهد الجامع الأزهر أُمنية قديمة لنا ولكثير من مفكري المسلمين ومحبي الإصلاح ونشر الإسلام والدفاع عنه. وقد بيَّن رئيس التحرير هذا في فاتحة العدد الأول وذكر سبب حصول هذه الأمنية وأصحاب الفضل فيه وبيان الخطة التي رسمتها المجلة لنفسها، وإننا ننشر ذلك لما لنا من العناية الخاصة والاهتمام بأمر هذه المجلة بعد أن سلخنا ثلث قرن في الاشتغال بنشر مجلة المنار والقيام فيها بأهم فروض الكفاية التي اشتدت الحاجة إليها في هذا العصر الذي فشا فيه الإلحاد، ونشر شبهاته والدعوة إليه في جميع البلاد، ونشط دعاة النصرانية في محاولة تنصير المسلمين في جميع الأقطار بمساعدة دولهم وأغنيائهم، وقد دخلنا في سن الشيخوخة ولم نوفَّق لتربية أحد نرجو أن يقوم بعدنا بإصدار المنار، كما أننا لم نجد مجلة إسلامية تقوم بما يقوم به، وهكذا كل عمل يقوم به الأفراد يزول بزوالهم في الغالب؛ لهذا نسر ونهتم بإنشاء المعهد الإسلامي الأكبر لمجلة إسلامية يُرجى دوامها بدوامه إن شاء الله تعالى، ولهذا نطيل في تقريظها ما لم نطله في تقريظ مجلة أخرى وما لم تطله الصحف الأخرى بتقريظها، وهذا نص ما جاء في فاتحتها: (أحسَّ الناس شدة الحاجة إلى هذه الصحيفة ووثقوا بأن سيكون لها في إنارة السبيل والذب عن حوزة الدين موقف خطير، وهذا الإحساس الشريف هو الذي بعث حضرة صاحب العزة عبد العزيز محمد بك مدير هذه المجلة أن اقترح على المجلس الأعلى للمعاهد الدينية في جلسته المنعقدة في 3 جمادى الثانية (؟) سنة 1345 الموافق 8 ديسمبر سنة 1926 أن يدرج في ميزانية المعاهد مبلغًا يقوم بإنشاء مجلة إسلامية، فعهد إليه المجلس بوضع تقرير في مشروع هذه المجلة على أن يعرضه عليه في جلسته المقبلة. وفي يوم 8 محرم (؟) سنة 1346 - الموافق 27 يوليو سنة 1927 عرض حضرته هذا التقرير في المجلس فكان من المجلس أن قرر تأليف لجنة من حضرات أصحاب الفضيلة الأساتذة: المدير العام للمعاهد الدينية المرحوم الشيخ أحمد هارون. وشيخ معهد الإسكندرية لذلك العهد الشيخ محمد عبد اللطيف الفحام وكيل الجامع الأزهر، وشيخ معهد طنطا المرحوم الشيخ عبد الغني محمود، وعهد إليها ببحث ما احتواه التقرير من الاقتراحات، فنظرت اللجنة في التقرير وقدمت نتيجة بحثها إلى المجلس. وحينما أخذ ينظر في ميزانية سنة 1929 أدرج فيها مبلغًا للإنفاق على المجلة. إذ وثق بأنها عمل صالح وفاتحة نهضة مباركة. ولما أسندت مشيخة الأزهر إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، كان من أول ما توجهت إليه عنايته مشروع هذه المجلة، فأخذ يدبره بجد وحكمة، حتى لانت صعابه، وتهيأت بتأييد الله أسبابه. وفضل هذا المشروع الإسلامي الجليل عائد في الحقيقة إلى حضرة صاحب الجلالة مولانا ملك مصر المعظم أحمد فؤاد الأول حرسه الله؛ فإن جلالته سار على سنن أسلافه الأماجد، فأقبل يرفع صروح العلم ويحوط العلماء بالرعاية حتى نال الأزهر الشريف وعلماؤه من هذه الرعاية أوفر نصيب. فإقبال جلالته على هذا المعهد الإسلامي بعناية ضافية قد وطد في نفوس رجال العلم الأمل في أن تكون دعوتهم إلى سبيل الخير ناجحة، وجعل الأزهر بمكان القادر على أن يصرع كل ضلالة وينهض بكل صالحة. خرجت هذه المجلة وهي تحمل سريرة طيبة، لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول؛ إذ لا يعزب عنها ما يحدث عن مثل هذا القصد من الفتن وبواعث التفرقة بين سكان الوطن الواحد وهم في حاجة إلى السكينة والتعاون على المصالح فردية كانت أم اجتماعية. خرجت هذه المجلة بعد أن رسمت لنفسها خطة لا تمس السياسة في شأن، وقصارى مجهودها أن تعمل على نشر آداب الإسلام وإظهار حقائقه نقية من كل لبس، وتكشف عما ألصق بالدين من بدع ومحدثات، وتنبه على ما دس في السنة من أحاديث موضوعة، وتدفع الشبهة التي يحوم بها مرضى القلوب على أصل من أصول الشريعة، وتعنى بعد هذا بسير العظماء من رجال الإسلام، وإن في سيرهم لتذكرة لقوم يفقهون، ويضاف إلى هذا ما تدعو فائدته إلى نشره من المباحث القيِّمة علمية كانت أو أدبية. وسترى هذه المقاصد إن شاء الله مودعة في الأبواب المفصلة على ما يأتي: التفسير. السنة. السيرة النبوية. أصول الدين. دفع الشبه. أصول الفقه. الفتاوى والأحكام. العلوم والآداب. آراء الباحثين. التاريخ. السير والتراجم. أنباء العالم الإسلامي. الطرف والمُلَح. تتناول المجلة من مباحث هذه العلوم والفنون ما يدعو الحال إلى نشره، ولا تحكي رأيًا خارجًا عن نهج الصواب إلا أن تقرنه بما يكشف عن كنهه، وسنتحرى بتوفيق الله تعالى الطريقة التي تتجلى بها سماحة الدين في بهاء طلعتها وصفاء ديباجتها، ونُراعي في تحريرها الأساليب التي تألفها أذواق القراء، ويجتلون فيها صور المعاني ماثلة أمامهم لا لبس فيها ولا التواء. تناقش المجلة الأشخاص أو الجماعات الذين يقولون في الدين غير الحق، مقتدية في مناقشتها بأدب قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) وإذا كان هذا أدبها مع قوم هم عن الحق غافلون فأحرى بها أن تأخذ به في مناقشة آراء العلماء إذا رأت في بعضها انحرافًا عما تقتضيه نصوص الشريعة أو أصولها الثابتة الواضحة. نذكر هذا ليلحظه الذين يرغبون في مراسلة المجلة ببعض منشآتهم الموافقة لمنهجها. ومن أجل أن يكون جهاد هذه المجلة متصلاً بالحركة الفكرية في البلاد الأوروبية أنشئ في إدارة المجلة قسم لترجمة ما يجيء في الصحف الأجنبية من مباحث علمية أو مقالات يُتحدَّث فيها عن الإسلام، غير أننا لا نضع أمام القراء مقالة في الإسلام صدرت من غير منصف إلا أن نصلها بما يستبين بها خطأ كاتبها ناقلاً كان أو مدعيًا. هذا غرض المجلة وهو بلا ريب غرض نبيل، وهذه خطتها وهي كما عرفت خطة من يمشي على سواء السبيل، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل) . اهـ. (المنار) علمنا من هذا البيان المنقول من المجلة أنها مجلة رسمية تابعة لمشيخة الأزهر، فهي المسئولة عنها، ويعد كل ما ينشر فيها من أقلام محرريها ومديرها صادرًا عن المشيخة نفسها، وتعد هي مقرة له ومعترفة به، وكذا ما ينشر فيها من الرسائل المنشأة لغيرهم أو المترجمة إذا سكتت المجلة عليه ولم تتعقبه بنقد ولا تصحيح، وهذه مزية لها تجعل تبعتها على المشيخة عظيمة، وتكون ثقة الناس بصحة ما فيها بقدر ثقتهم بالمشيخة في جملتها، كأنه فتاوى صادرة عنها. وقد كان من موانع إنشاء المشيخة لمجلة إسلامية علمية في السنين الخالية ما كان من البُعد الشاسع بين تعليم الأزهر الديني واللغوي الإنشائي وما تجدد من حاج العصر، فقلما كان يوجد في الأزهر مَن يستطيع أن يكتب في بيان عقائد الدين وآدابه وحكمة تشريعه والدفاع عنه ما تقبله عقول غير طلاب الأزهر وترجى استفادتهم منه، وكان أول من أرشدهم وأرشد غيرهم في هذا القطر إلى الإنشاء العصري في أساليبه وموضوعاته السيد جمال الدين الأفغاني، ولكنهم ناوؤوه وناوؤوا تلاميذه ومريديه، وكانوا يعدون الاعتراف بحاجتهم إلى أي علم من العلوم - غير ما يتداولونه بينهم - أو إلى أي إصلاح لمنهاج التعليم، إقرارًا بنقص الأزهر ونقص أهله، ووضعًا من عظمة قدره وشهرته! لهذا أعد أول مأثرة للمشيخة الحاضرة ولفضيلة رئيسها الشيخ محمد الأحمدي في هذا الطور الجديد أنه ناط الأعمال الرئيسية في المجلة الأزهرية برجال من غير خريجي الأزهر، وهي إدارة المجلة ورياسة تحريرها وكتابة أهم مباحثها وأعلاها وأشدها توقفًا على فنون اللغة وعلوم الشرع وهي مباحث التفسير والحديث؛ فالمدير العام للمجلة والمقترح لها وهو صاحب العزة عبد العزيز بك محمد من خريجي مدرسة الحقوق وقضاة المحاكم الأهلية، وقد جعل عضوًا في مجلس الأزهر الأعلى هو وآخرون من أمثاله من قبل الحكومة بناءً على نظرية حاجة الأزهر إلى رجال من غير أهله لإصلاح شأنه وتنفيذ قانونه، وهو كفء لهذا وذاك، ورئيس التحرير صاحب الفضيلة الشيخ محمد الخضر حسين من علماء تونس وأدبائها وقد أُعطي لقب عالم في الأزهر بامتحان خاص وصفة استثنائية وجعله الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق مدرسًا في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة استثنائية أيضًا، وهو كفؤ لهذا وذاك، ولكنني عجبت له كيف لم يذكر اسم الشيخ محمد مصطفى المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبها لهذه المجلة في فاتحة العدد الأول؛ مع علمه بأنه هو الذي وضع مشروع المجلة في قانون الأزهر الجديد وفي ميزانية هذه السنة وخصص لها هذا المبلغ العظيم (ستة آلاف جنيه) وأنه هو الذي بذل جهده لإقرار الحكومة هذه الميزانية، فله الفضل الأول في تنفيذ هذا المشروع كما أن له الفضل عليه نفسه، وإن لم يكن من أعضاء جمعيته أو حزبه، ويجب أن يكون الدين والتاريخ فوق الأحزاب والجمعيات {وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} (الأعراف: 85) . وأما كاتب التفسير والحديث في المجلة الأستاذ الشيخ حسن منصور فهو من خريجي مدرسة دار العلوم الأميرية؛ ولكنه كان يحضر دروس التفسير معنا على الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى، وهذا مرجح له على غيره ممن لم يحضر تلك الدروس العالية من علماء الأزهر وفيهم من كان يحضرها. ثم إن من المحررين الموظفين للمجلة صاحبي الفضيلة الشيخ يوسف الدجوي والشيخ إبراهيم الجبالي وكلاهما من هيئة كبار علماء الأزهر. إنني أستقبل هذه المجلة بالترحيب والترجيب والتحبيب ولا أرى أن أذكر الآن رأيي في تحريرها ومسلكها في موضوعاتها، وقد كنت كتبته قبل صدورها في تقرير قدمته إلى الأستاذ المراغي بطلبه، وإنما أقترح على المشيخة الجليلة اقتراحين، وأذكرها برأيي في أمرين، أراهما من الواجب عليَّ الآن. (الاقتراح الأول) أن لا يذكر في المجلة حديث نبوي إلا مقرونًا بتخريجه وبيان درجته من الصحة وما يقابلها، وأن يتولى ذلك مَن يعنون بعلم الحديث في الأزهر. وقد رأيت المدير الفاضل يعنى بهذا ولكنه لا يستقصيه، وقد أورد في ترجمته للفصل العاشر من السيرة النبوية التي كتبها بالفرنسية المرحوم (اتيين دنييه) الفرنسي المهتدي وسليمان بن إبراهيم الجزائري - هذه العبارة: (وقد حصل في فرنسة وفي بلاد أخرى من أوربة وإفريقيَّة وآسية دخول أشخاص في الإسلام فرادى وربما كان ذلك مصداقًا لهذا الحديث النبوي الذي معناه) قد يؤيد الله هذا الدين بالغرباء منه " وقد وضع المدير لهذا الحديث حاشية هذا نصها: لا يعرف حديث بهذا المعنى بل الإسلام صلة ولُحمة بين جميع المسلمين مهما اختلفت أجناسهم وتباعدت أوطانهم {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) اهـ. ولكن الحديث مروي في الصحيحين كليهما وفي غير

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من جاوة (س24-26) من صاحب الإمضاء. الحمد لله وحده. إلى مدير مجلة المنار الغراء السيد محمد رشيد رضا أدام الله سلامته. سلامًا واحترامًا. وبعد: فبما سمعنا بفضلكم وغيرتكم على الدين الإسلامي حتى إنكم خصصتم فصلاً من فصول مجلتكم لإقناع المستفهمين - حررت هذه الأسئلة الثلاثة راجيًا من حضرتكم أن تجيبوني عليهن ولكم عني وعن الإسلام أحسن جزاء، ولتمام النفع أختار أن ينشرن على صفحات مجلتكم. وهذه هي: (1) ما حكم عبيد حضرموت هل هم عبيد حقيقيون أي تمشي عليهم أحكام العبيد في الإسلام؟ ، مع العلم أن العبيد في الشريعة هم أسرى الكفار لا غير. والذين نحن بصددهم خلاف ذلك، ولا أخالكم تجهلون الطريقة في استعبادهم. (2) ما حكم الدعاء بعد صلاة التراويح والوتر؟ وهل ورد عنه صلى الله عليه وسلم أو عن أحد صحابته رضوان الله عليه فعل ذلك؟ وما هي سننه صلى الله عليه وسلم فيها (التراويح) ، أجيبوا بإيضاح. (3) ما حكم شرب الدخان (السجارة) في نهار رمضان، هل هو من مفطرات الصائم، وما الدليل الواضح في ذلك؟ ، أجيبونا مأجورين ودمتم في حرز الله والسلام. ... ... ... ... ... ... ... سعيفكم في الإصلاح ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن عبد الله بن نبهان ... ... ... ... ... ... ... ... بانفيل (جاوة) (جواب المنار) (24) حكم عبيد حضرموت: الحق أنني ليس عندي علم خاص بطريقة استعباد الناس في حضرموت، وقد بينت في المنار من قبل أن المعروف من طرق الاسترقاق للسودانيين في إفريقية وللبيض في بلاد القوقاس وغيرها كله غير شرعي؛ فإن الرق الشرعي المعروف لا مجال له في تلك البلاد ولا في حضرموت قطعًا، فليس هناك حرب دينية ولا إمام يسترق السبايا إذا وجد ذلك من المصلحة العامة، وإنما قد يتصوّر على بُعد أن يوجد رقيق موروث بالتوالد؛ فإن كان يوجد عند المستعبِدين لهؤلاء الأحرار - فيما نعتقد - حجة على استرقاقهم لا نعلمها أو رقيق موروث فليبينوا ذلك لنا لرفع التهم الكثيرة عنهم. *** (25) صلاة التراويح والوتر والدعاء بعدهما: المراد بصلاة التراويح صلاة الليل بالجماعة في رمضان خاصة، وصلاة الليل مشروعة في كل الشهور، وهي تتأكد في رمضان كسائر الطاعات فيه لفضله، ولصلاتها بالجماعة أصل في السنة؛ ففي حديث عائشة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الثانية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أصبح قال: (رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفترض عليكم) وذلك في رمضان. اهـ. وفيه رواية أخرى مفصلة عند الإمام أحمد، وحديث بمعناه عن جبير بن مطعم عن أحمد وأصحاب السنن الأربعة. أما عدد الركعات التي كان يصليها النبي صلى الله عليه وسلم في ليالي رمضان فقد روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنه ما كان يزيد في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة. وفي صحيح ابن حبان من حديث جابر رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ثماني ركعات ثم أوتر. فعلم أن تهجده ثمانٍ ووتره ثلاث فتلك إحدى عشرة. وأما اجتماع الناس لهذه الصلاة جماعة في المساجد فقد كان في عهد عمر رضي الله عنه، فإنه دخل المسجد فرأى الناس أوزاعًا متفرقين هذا يصلي وحده وهذا برهط يؤمهم، فكره تفرقهم - وهو مكروه بالإجماع - فقال: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ولما رآهم في ليلة أخرى يصلون جماعة واحدة قال: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون بها. رواه البخاري. ويعني عمر أن صلاة التهجد في آخر الليل التي ينام عنها هؤلاء أفضل من هذه الصلاة التي يصلونها في أوله لأنها هي المراد بالتهجد الموافق للسنة بمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مفروضًا عليه صلى الله عليه وسلم. ومراده بتسميتها بدعة أنها بهذا الشكل والوقت والالتزام لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بها وإن كان صلاها جماعة في بعض الليالي. ولعل عمر رضي الله عنه كان يعلم أنه لو نهاهم عن فعلها بهذه الصفة وأمرهم أن يجعلوا قيامهم بعد النوم لمن ينام، وفي جوف الليل أو آخره لمن لم يَنَمْ وأن يكون في بيوتهم وهو الموافق للسُّنَّة المطّردة من كل وجه - أنهم يتركونها، فإن لم يتركوها كلهم كسلاً تركها بعضهم ونام عنها آخرون، فتعارض عنده هذا الذي قال إنه خير مما جمعهم عليه مع ترك هذه السنة المؤكدة ولو من البعض، أو فعلها في المسجد مع التفرق المذموم في الشرع كما رآهم أول مرة، فاختار ما هو وسط بين المكروه - وهو التفرق - وبين الأفضل. وأما الدعاء بعدها أو بعد غيرها من الصلوات كما يفعل الناس في المساجد بالاجتماع ورفع الأيدي ورفع الإمام أو المؤذن صوته به وتأمين الآخرين فهو بدعة من هذه الوجوه كلها، ولكل أحد أن يدعو الله بما يشاء بعد الصلاة كسائر الأوقات ولكن تخصيص العبادة بالاجتماع والصفة والوقت يجعلها من الشعائر التي تتوقف على إذن الشارع. وليس لأحد أن يبتدع مثل هذا بالقياس على فعل عمر؛ فإن عمر لم يبتدع عبادة جديدة ولا هيئة فيها ولا شعارًا لا أصل له، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس جماعة في بعض ليالي رمضان. ولكن الناس ابتدعوا بعده في هذا القيام، فمنعهم عمر وكان ما حملهم عليه اجتهادًا بترجيح أقوى العملين المتعارضين على الآخر، والاجتماع للدعاء ليس مثله إن صح أن يقاس على الاجتهاد، ثم إن عمر من الخلفاء الراشدين الذين جعل النبي صلى الله عليه وسلم سنتهم كسنته في حديث العِرْباض بن سارية إذ يقول: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم، ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، وهو صريح في أن سنة الخلفاء الراشدين كسنته لا تعد بدعة، وناهيك بما وافق عمر عليه الصحابةُ رضي الله عنهم وأقروه. وقد روى أحمد والترمذي من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوسا فقال: (إني لا أدري ما قَدْر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر - وتمسكوا بعهد عمار، وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه) . ومع هذا نرى الأئمة قد اختلفوا في الأفضل في قيام رمضان فقال مالك وأبو يوسف وبعض الشافعية: الأفضل فعلها فُرادى في البيت. وذهب الجمهور إلى أن الأفضل صلاتها جماعة عملاً باجتهاد عمر الذي أقره عليه الصحابة وجرى عليه العمل سلفًا وخلفًا. ولا يعد عمل المتأخرين بالاجتماع للدعاء بعد صلاة التراويح ولا ما يفعله بعض الجماعات من الأناشيد والأذكار ومدح الخلفاء الراشدين وغيرهم من أهل البيت والصحابة رضي الله عنهم - من ذلك، بل هو من بدع المتأخرين المقلدين، والذي يظهر لي أن هذه البدع مانعة من كون حضورها والموافقة عليها أفضل من صلاتها فرادى في البيت أو جماعة في أي مكان آخر مع التزام السنة. وأن بعض المحافظين على السنة من إخواننا يصلونها جماعة ولا يزيدون على ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة المتقدم ولا يأتون معها ولا بعدها ببدعة قط. وقد ذكر العلامة الشاطبي في (الاعتصام) ما يأتيه الناس من الأذكار والدعاء في أدبار صلاة الجماعات في قسم البدعة التي عبر عنها بالإضافية، وهي ما كان الابتداع في صفتها أو الاجتماع لها ونحو ذلك لا في أصلها. وذكر خلاف علماء بلادهم الأندلس فيها، وما حققه من كونها بدعة دينية غير جائزة شرعًا هو الحق، وشبهة الدين استحسنوها ضعيفة وهي أن أصل الذكر والدعاء مشروع فلا يضر جعله بصفة غير مشروعة كالاجتماع والتوقيت ورفع الصوت. وحسبك من بطلانها الاعتراف بأن صفتها غير مشروعة، وأن العمل بها وإقرارها يجعلها كالشعائر المشروعة، وأن العامة تعتقد به أنها مشروعة حتى أنهم ينكرون على تاركها ولا سيما إذا أنكر مشروعيتها؛ فيكون ذلك اعتقاد شرع لم يأذن به الله، ويعد من الافتراء على الله. *** (26) شرب الدخان في رمضان ما علمت أن أحدًا من فقهاء المسلمين قال: إن شرب هذا الدخان غير مفطر للصائم؛ ولذلك أستغرب هذا السؤال، ولا شك في أن مادة هذا الدخان تدخل في الجوف وأنها تؤثر في شاربه تأثيرًا ينافي الصيام وحكمته، ولذلك اتفق جميع الناس على تسمية التدخين شربًا، فشرب الدخان مبطل للصيام قطعًا.

تفسير القرآن الحكيم

الكاتب: أحمد محمد شاكر

_ بسم الله الرحمن الرحيم تفسير القرآن الحكيم تقريظ العالم العامل والقاضي الفاضل خادم السنة الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر القرآن كتاب الله إلى خلقه، يرسم لهم فيه طريق الهدى والسعادة، أو هو كما وصفه به سبحانه وتعالى {بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِه} (إبراهيم: 52) ونِعم البلاغ. نزل هذا الكتاب المقدس في أمة كانت تتقاذفها الأهواء والعصبية، وتعمها الجهالة العمياء، فما أسرع ما وضعهم على المحجة الواضحة والطريق السوي، فصاروا أمة على قلب رجل واحد، كلمتهم واحدة، وهم يد على مَن سواهم. وبعد أن كانوا مستضعَفين يخافون جيرانهم من الفرس والروم وغيرهم، ولا يحميهم منهم إلا بَيْداؤهم المحرقة - غزوا أعداءهم وفتحوا بلادهم واستنزلوهم عن ملكهم، فصاروا سادة الأرض، كل هذا في بضع عشرات من السنين، وكل هذا بهداية الله لهم أن تَبِعُوا أوامره واستمعوا لكلامه. ثم هذا القرآن أعلى أنواع التشريع في الأرض، وأرقى ضروب الحكمة، فلما اهتدوا به ومرنت نفوسهم وعقولهم على حكمته - كانوا سادة بعقولهم وقلوبهم، قبل أن يكونوا سادة بقوتهم وأَنَفَتهم وجمع كلمتهم. وهو الذي قرر حقوق الإنسان في الأرض، من عدل وحرية ومساواة بين الناس، لا فضل لأحد على أحد إلا باتباعه في خاصة نفسه وفي معاملاته مع غيره وفي كل حالاته. ثم مرت عصور وأزمان، وإذا المسلمون متفرقون، وإذا هم مستعبَدون، وإذا لهم قوانين وتشريع أخذوه عن أعدائهم السابقين، وإذا هم لا يخجلون أن يقلدوا مَن كانوا في الحضيض، إذ هم في الذروة، وإذا هم يهجرون القرآن. ولقد صدق الله سبحانه حين أخبرنا - تحذيرًا لنا من أن نُعرِض عن كتابه بأن الرسول الأعظم سيد الخلق عليه السلام سيشكونا إلى ربه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان: 30) . تالله لو أن المسلمين رجعوا إلى هداية ربهم وعملوا بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إذ أمره ربه بتبيين الكتاب لهم - لما كانوا على ما نرى من ضعف واستكانة وذلة، ولما امتلأت قلوبهم رهبة لأعدائهم، ونفوسهم حاجة إليهم. أخذ الصدر الأول والسلف الصالح رضي الله عنهم يتعلمون القرآن ويعلمونه للناس، ويرجعون إليه فيما يعرض لهم من شؤون وحوادث، لا يرضون حكمًا في دينهم ودنياهم إلا ما دل عليه القرآن أو جاء عن السنة المطهرة المفسِّرة له، نزولاً على حكم الله، فكان علماؤهم جميعًا عن هذا المصدر الواضح النقي يصدرون، وكانوا كلهم بهذا مجتهدين. ثم ضعفت النفوس والهمم، فظن بعضهم - عفا الله عنهم - أنهم يعجزون عن أخذ الأحكام من مصدرها الأول ومن منبعها الصحيح، فصار بعض العلماء يقلد مَن سبقه من أئمة الهدى وأعلام الإسلام، عن غير أمر منهم أو مشورة، بل مع نهيهم - رضي الله عنهم - عن التقليد. فكان هذا بدء الضعف، ثم توالت العصور، فإذا المقلد مقلَّد، وإذا الأمر فوضى، وإذا هم فرق وشيع، وبلغ بهم الأمر إلى التناحر بالسيوف نصرًا لعصبية المذاهب! وأمامك تاريخ المسلمين، فسترى فيه توالي الأرزاء والمحن، فكلما بعدوا عن كتاب ربهم أبعد الله عنهم العز والنصر، وهكذا كان ميزان رقيهم وانحطاطهم. ولما ضعفت السليقة العربية في المتكلمين بهذه اللغة أنشأ علماء الإسلام يفسرون لهم كتاب الله، وكلٌّ على قدر همته، فكثرت أنواع التفاسير للسلف والخلف، متقدمين ومتأخرين، وتراجم العلماء والأئمة بين أيدينا - أو أكثرها، وقد يندر جدًّا أن نجد منهم مَن لم يؤلف كتابًا في التفسير، فلم تُعْنَ أمة بكتابها من الوجهة العلمية بمثل ما عنيت الأمة الإسلامية بالقرآن، ولم تفرط أمة في حفظ ما كُتب شرحًا لكتابها بمثل ما فرطنا. فأين هذه التفاسير الجليلة للأئمة المتقدمين؟ ! ذهب أكثرها حتى لم نجد تفسيرًا لرجل من الأئمة المجتهدين إلا تفسير أبي جعفر الطبري المتوفَّى سنة 310، وما بقي بعده فهو لمؤلفين ممن سموا أنفسهم مقلدين. ولقد كان المتقدمون يعنون في أكثر أمرهم بتفسير القرآن بما ورد من أحاديث مرفوعة، وآثار موقوفة، وباستنباط أحكام الفقه منه، تعليمًا للناس كيف يفهمون وكيف يصلون إلى الاجتهاد. ثم ترك المتأخرون ذلك ولم يكن همهم إلا الإطالة في أبحاث لفظية لا جدوى لها ولا فائدة إلا في النادر والشذوذ. حتى أن كتب التفسير التي بقيت مشتهرة فيهم وكثيرة بين أيديهم لا يطمئن الباحث المحقق إلى فهم معنى آية منها، ولا إلى استنباط حكم، بل ولا إلى الثقة بالنقل، فقد ملأ بعضهم تفسيره بقصص مكذوبة مفتراة وبأحاديث موضوعة، من غير تحرٍّ في الرواية، ولا استعمال لموهبة العقل السليم. وبالله، لقد أدْركنا الأزهرَ - وهو المدرسة الإسلامية الفذة في هذا البلد - يجعل التفسير علمًا لا يُؤْبَه له، وآية ذلك أنهم كانوا يجيزون الطالب بشهادة (العالِمية) وإن كان لا يفقه في التفسير شيئًا - ما عرف كيف ينبغ في المماحكات اللفظية. ولقد قيض الله للإسلام إمامًا من أئمته، وعلمًا من أعلام الهدى، وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، فأرشد الأمة الإسلامية إلى الاستمساك بهدي كتابها، ودلها على الطريق القويم في فهمه وتفسيره، وكان منارًا يُهتدى به في هذه السبيل، وألقى في الأزهر دروسًا عالية في التفسير، وكان - فيما أظن - يرمي بذلك إلى أن يسترشد علماء الأزهر بذلك، فينهجوا نهجه، ويسيروا على رسمه، ولكنهم لم يأبهوا له إلا قليلاً، ولم ينتفع بما سمع منه إلا أفراد أفذاذ، وبقي دهماؤهم على ما كانوا عليه. ونبغ من تلاميذه والمستفيدين منه ابنه وخريجه أستاذنا العلامة الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب (المنار) فلخص للناس دروس الأستاذ الإمام، وزادها وضوحًا وبيانًا، ونشرها في مجلته الزاهرة المنيرة، وجمعها في أجزاء على أجزاء القرآن الكريم، ومضى لطيته بعد انتقال الإمام إلى جوار ربه، فكأنه أُلهم من روحه، لم يكل ولم يضعف، وها هو الآن قد أتم منه أجزاء تسعة، وكثيرًا من العاشر. فكان تفسير أستاذنا الجليل خير تفسير طُبع على الإطلاق، ولا أستثني؛ فإنه هو التفسير الأوحد الذي يبين للناس أوجه الاهتداء بهدي القرآن على النحو الصحيح الواضح - إذ هو كتاب هداية عامة للبشر - لا يترك شيئًا من الدقائق التي تخفى على كثير من العلماء والمفسرين. ثم هو يُظهر الناس على الأحكام التي تؤخذ من الكتاب والسنة، غير مقلد ولا متعصب، بل على سنن العلماء السابقين: كتاب الله وسنة رسوله. ولقد أوتي الأستاذ من الاطلاع على السنة ومعرفة عللها وتمييز الصحيح من الضعيف منها - ما جعله حجة وثقة في هذا المقام، وأرشده إلى فهم القرآن حق فهمه. ثم لا تجد مسألة من المسائل العمرانية أو الآيات الكونية إلا وأبان حكمة الله فيها، وأرشد إلى الموعظة بها. وكبت الملحدين والمعترضين بأسرارها. وأعلن حجة الله على الناس. فهو يسهب في إزالة كل شبهة تعرض للباحث من أبناء هذا العصر، ممن اطلعوا على أقوال الماديين وطعونهم في الأديان السماوية، ويدفع عن الدين ما يعرض لأذهانهم الغافلة عنه، ويُظهرهم على حقائقه الناصعة البيضاء، مع البلاغة العالية، والقوة النادرة. لله دره! وأما الرد على النصارى واليهود فإنه قد بلغ فيه الغاية، وكأنه لم يترك بعده قولاً لقائل، وذلك لسعة اطلاعه على أقوالهم وكتبهم ومفترياتهم. وهذا قيام بواجب قصَّر فيه أكثر المسلمين، في الوقت الذي تقوم فيه أوربة بحرب المسلمين حربًا صليبية - قولاً وعملاً - وتحاول سلخ المسلمين عن دينهم وإن لم يدخلوا في دينها، وها نحن أولاء نرى الجرأة العظمى بمحاولة تنصير أمة إسلامية قديمة متعصبة للإسلام، وهي أمة البربر المجيدة. وإن قيام أستاذنا بالرد عليهم بهذه الهمة من أجلِّ الأعمال عند الله ثم عند المسلمين. ولقد عرض لكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي عرضت في شؤون المسلمين فأفسدت على كثير من شبابهم هداهم ودينهم، فحللها تحليلاً دقيقًا وأظهر الداء ووصف الدواء من القرآن والسنة، وأقام الحجة القاطعة على أن الإسلام دين الفطرة، وأنه دين كل أمة في كل عصر. ونفى عن الإسلام كثيرًا مما ألصقه به الجاهلون أو دسه المنافقون، من خرافات وأكاذيب كانت تصد فئة من أبنائه عن سبيله، وكان أعداؤه يجعلونها مثالب يلعبون بسببها بعقول الناشئة ليضموهم إلى صفوفهم وينزعوهم من أحضان أمتهم. وإنه لكتاب العصر الحاضر، يفيد منه العالم والجاهل، والرجعي والمجدد. بل هو الدفاع الحقيقي عن الدين. وأنا أرى من الواجب على كل مَن عرف حقائق هذا التفسير أن يحض إخوانه من الشبان على مطالعته والاستفادة منه، وبث ما فيه من علم نافع لعل الله أن يجعل منهم نواة صالحة لإعادة مجد الإسلام، وأن ينير به قلوبًا أظلمت من ملئها بالجهالات المتكررة. ولو كانت حكومتنا حكومة إسلامية حقيقة لطلبنا منها أن يُدرس في مدارسها ومعاهدها حق الدرس، ولكنا نعلم أنها لا تلقي للدين بالاً، بل لا تدفع عنه مَن أراد به عدوانًا، والطامة الكبرى أنها تحمي مَن يعتدي عليه بقوانينها الوضيعة. فلم يبق للمسلمين رجاء إلا أن يعملوا أفرادًا وجماعات في سبيل الدفاع عنه، وإظهار محاسنه للناشئة التي تكاد تندُّ عنه، وهم عماد الأمم. ولعلِّي أوفق قريبًا إلى بيان بعض الأبحاث الفذة النفيسة من هذا التفسير مما لم يشفِ فيها الصدرَ أحدٌ من الكاتبين قبله، أو لم يكن في عصورهم ما يثير البحث فيها، وذلك بحول الله وقوته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شاكر ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاضي الشرعي

آفة الشرق أمراؤه المستبدون وزعماؤه المترفون ومرشدوه الجاهلون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آفة الشرق أمراؤه المستبدون وزعماؤه المترفون ومرشدوه الجاهلون! (خاتمة المقصد الثالث من الباب الخامس من تاريخ الأستاذ الإمام) نختم الكلام في خدمة الإمامين الحكيمين للإسلام والشرق فيما فاضت به حكمة الأول على بلاغة الثاني في جريدة العروة الوثقى بهذه الحقيقة التي وضعنا لها هذا العنوان، فلقد كان الناس غافلين عنها فبينَّاها لهم أبلغ البيان، وشر مفاسد هؤلاء الأمراء والزعماء في هذا العصر غرورهم بالأجانب الطامعين في بلادهم، ولو عقلوها لتمكنت حقيقتها من عقولهم، ولو فقهوها لرسخت عبرتها في قلوبهم ولمَا تكررت في مشرق العالم الإسلامي ومغربه تلك الرزايا التي انتزعت ممالكهم من أيديهم، ومن العجائب أنها لا تزال تتجدد، ولا يزال مدَّعو الإيمان يُلدغون من الجُحر الواحد مرارًا كثيرة. وقد قال رسولهم فيما صح عنه: (لا يلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين) رواه البخاري ومسلم. فلا عجب إذًا فيما يصدر عن ملاحدة المسلمين الذين لا حظّ لهم من حكمة الإسلام وهدايته الصادّتين عن هذا الفساد، ورضاهم بأن يكونوا أعوانًا للأجانب على استعمار البلاد، وهذا ما لا نزال نشاهده في كل عام {أَو َلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (التوبة: 126) . طرقت العروة كل باب من أبواب هذا الموضوع ففُتح لها ودخلت منه فلم تدَع في زواياه خبيئة إلا واستخرجِها. أنشأت له مقالات خاصة، وجعلته مضرب الأمثال في المقالات العامة. وقد ورد فيما أثبتنا من الشواهد بعض هذه المُثل والإشارة إلى بعض تلك المقالات، ونأتي في هذه الخاتمة بشواهد ومثل أخرى وهي: المثال الأول استيلاء الإنكليز على ممالك الهند بمساعدة أمرائها (قال من مقالة افتتح بها العدد الثامن من العروة الوثقى موضوعها: طرد الإنكليز للجيش المصري وتأليف جيش صغير تولوا قيادته) : دمر الإنكليز (دخلوا بلا استئذان) على الهنديين في أراضيهم، وانبثوا بينهم، فتمكنوا من تفريق كلمة الأمراء، وإغراء كل نواب أوراجا بالاستقلال، والانفصال عن السلطة التيمورية، فتمزقت المملكة إلى ممالك صغيرة، ثم أغروا كل أمير بآخر يطلب قهره والتغلب على ملكه، فصارت الأراضي الهندية الواسعة ميادين للقتال، واضطر كل نواب أوراجا إلى النقود والجنود ليدافع بها عن حقه، أو يتغلب بها على عدوه، فعند ذلك تقدم الإنكليز بسعة الصدر وانبساط النفس ومدوا أيديهم لمساعدة كل من المتنازعين، وبسطوا لهم إحدى الراحتين ببُدر الذهب، وقبضوا بالأخرى على سيف الغلب. بدأوا قبل كل عمل بتنفير أولئك الملوك الصغار من عساكرهم الأهلية، ورموها بالضعف والجبن والخيانة والاختلال، ثم أخذوا في تعظيم شأن جيوشهم الإنكليزية وقوادها، وما هم عليه من القوة والبسالة والنظام، حتى اقتنع كل نواب أوراجا بأن لا ناصر له على مغالِبه إلا بالجنود الإنكليزية. فأقبل الانكليز على أولئك السذج يضمنون لكلٍّ صيانة ملكه وفوزه بالتغلب على غيره بجنود منتظمة تحت قيادة قواد من الإنكليز، ويكون بعض الجنود من الهنديين، وبعضها من البريطانيين، وما على الحاكم إلا أن يؤدي نفقتها. ثم خلبوا عقول أولئك الأمراء بدهائهم وبهرجة وعودهم ولين مقالهم حتى أرضوهم بأن يكون على القرب من عاصمة كل حاكم فرقة من العساكر لتدفع شر بعضهم عن بعض. وصار الإنكليز بذلك أولياء المتباغضين، وسموا كل فرقة من تلك الجنود باسم يلائم مشرب الحكومة التي أعدوها للحماية عنها، ففرقة سموها (عمرية) وأخرى سموها (جعفرية) وغيرها سموها (كشتية) إرضاءً لأهل السنة والشيعة والوثنيين! ولما فرغت خزائن الحكام وقصرت بهم الثروة عن أداء النفقات العسكرية فتح الإنكليز خزائنهم وتساهلوا مع أولئك الحكام في القرض، وأظهروا غاية السماحة، فبعضهم يقرضون بفائدة قليلة، وبعضهم بدون فائدة، وينتظرون به الميسرة، حتى ظن كل أمير أن الله قد أمده بأعوان من السماء. وبعد مضي زمان كانوا يُومِئون إلى طلب ديونهم بغاية الرفق، ويشيرون إلى المطالبة بنفقات العساكر مع نهاية اللطف، فإذا عجز الأمير عن الأداء قالوا: إنا نعلم أن وفاء الديون والقيام بنفقات الجنود يصعب عليكم، ونحن ننصحكم أن تفوضوا إلينا العمل في قطعة كذا من الأرض نستغلها ونستوفي من ديوننا، وننفق من غلاتها على الجيوش التي أقمناها لكم، ثم الأرض أرضكم، نردها إليكم عند الاستيفاء والاستغناء، وإنما نحن خادمون لكم. فيضعون أيديهم على غضروات الأراضي وفيحائها، وفي أثناء استغلالها يؤسسون بها قلاعًا حصينة، وحصونًا منيعة، كما يفعلون ذلك في ثكن (أي أماكن إقامة العساكر) عساكرهم على أبواب العواصم الهندية [1] . وفي خلال هذا يفتحون للأمراء أبوابًا من الإسراف والتبذير، ويقرضونهم ويقتضون قرضهم بالقيام على أراضٍ أخرى يضمونها إلى الأولى، ثم يحضون نار العداوة بين الحكام لتنشب بينهم حروب فيتدخلون في أمر الصلح، فيجبرون أحد المتحاربين على التنازل للآخر عن جزء من أملاكه ليتنازل لهم الثاني عن قطعة من أراضيه، وهم في جميع أعمالهم موسومون بالخادم الصادق والناصح الأمين، لكل من المتغالبين! وبعد هذا فلهم شؤون لا يهملونها في إيقاع الشقاق بين سائر الأهالي لتضعف قوة الوحدة الداخلية ويخرب بعضهم بيوت بعض، حتى إذا بلغ السير نهايته واضمحلت جميع القوى من الحاكم والمحكوم، وغُلَّت الأيدي فلا يستطيع أحد حراكًا ساقوا الحاكم إلى المجزرة بسيوف تلك العساكر التي كانت حامية واقية لبلاده، وكانت تُشحذ لجزِّ عنقه من سنين طويلة وينفق على صقالها من ماله، ثم خلفوه على ملكه. وكانوا يميلون بقوتهم إلى أحد أعضاء العائلة المالكة ليطلب المُلك، فيخلعون المالك ويولون الطالب، على شريطة أن يقطعهم أرضًا أو يمنحهم امتيازًا، فيحولون المُلك من الأب للابن ومن الأخ لأخيه، ومن العم لابن أخيه، وفي الكل هم الرابحون! هذا سيرهم في الهند وهو على بعد من مراقبة أوربا. ما فاجأوا أحدًا بحرب وما اختطفوا ملكًا بقوة مغالبة، بل ما أعلوا سيادتهم على مملكة صغيرة ولا كبيرة إلا بعدما أيقنوا أن لا قوة لحاكمها ولا أهليها، ولا بما تطرف به أجفانهم. أولئك الإنكليز باقعة العالم وأحبال الحيل، يريدون اليوم طرد العساكر المصرية، وأرض مصر لا تحرسها الملائكة، فلا تستغني عن حامية، فإن تم لهم ما أرادوا زينوا لبعض ذوي السلطة في مصر أن يطلب منهم جندًا إنكليزيًّا يكون خادمًا له وحافظًا لملكه، فإن لم يقبل داروا بحيلتهم تحت أستار التمويه على كل مَن له حق في الولاية على تلك البلاد يعرضونها عليه، حتى يعثروا بمن يقبل نصحهم أو غشهم ذهولاً عن حقيقة القصد، فيقيمونه حاكمًا خلفًا لمن لم تسمح ذمته بالقبول، وتكون رغبة المغرور حجة لهم عند أوربا. هذا سر انقلاب الإنكليز على الجند الوطني وقدحهم في سيرته بعد الثناء على حسن استعداده، وسعيهم إلى طرده بالأدلة الواهية، والعلل الواهنة. *** المثال الثاني استعباد الأجانب للأمم بقوة رؤسائها [*] إن في ذلك لعبرةً لأُولي الأبصار كيف يمكن لقوة أجنبية تصول على أمة من الأمم أن تسود عليها، وتستعبدها وتذللها للعمل في منافعها، مع التخالف في الطباع والعوائد والأفكار ووجود المقاومة الطبيعية، فضلاً عن الإرادية؟ إن الوحشة المتمكنة في نفس كل واحد من الأمة، وظن كل فرد أنه في خطر على روحه وماله إذا غلبه الغالبون - تحمله على المدافعة عن أمته، كما يدافع عن بيته وحريمه، فلا يتسنى للقوة المغيرة أن تذل الأمة إلا بإفنائها عن آخرها، أو إفناء الأغلب حتى لا يبقى إلا العجزة والزمنَى، هذا أمر طبيعي وحكم بديهي متى كانت الغارة على الأمة. نعم، يسهل للقوة الأجنبية أن تتغلب على أمة عظيمة بدون تناحر إن كان لهذه الأمة حاكم أو رئيس روحاني تجتمع عليه قلوبها، وتدين له رقابها لمنزلة له في أفئدة أبنائها، ولمكان آبائه من الكرامة في نفوسهم، فلا تحتاج القوة الغالبة إلا إلى إيقاع الرعب في قلبه، فيجبن ويقبل ما تحكم به، أو نصب حبالة الحيل له فتخدعه بالأماني والآمال فيذعن لما تقضي به، فإذا خضع للقوة الغريبة خضعت الأمة تبعًا له؛ ولهذا ترى طلاب الفتح وبغاة الغلب ينصبُّون قبل سوق الجيوش وقود الجنود على قلوب الأمراء وأرباب السيادة في الأمة التي يريدون التغلب عليها، فيخلعونها بالتهديد والتخويف، أو يملكونها بالخدعة وتزيين الأماني فينالون بُغيتهم ويأخذون أراضي الأمم. وهذا الطريق هو الذي سلكه الإنكليز مع السلطان التيموري في الهند، ولولا ما كان للهنديين من عقدة الارتباط بسلطانهم التيموري وقبض الإنكليز أول الأمر على تلك العقدة لما تيسر للبريطانيين أن يُخضعوا الأمم الهندية في أحقاب طويلة. هذه قبائل الأفغان عندما انحلَّت ثقتها بأميرها وصار الأمر إلى الأمة - قامت كل عشيرة - بل كل فرد - للدفاع عن نفسه بعدما تمكنت عساكر الإنكليز في قلاعهم وحصونهم، واستولت على قاعدة ملكهم، وفتكوا بالعساكر الإنكليزية وهزموا قوتها وأجلوها عن بلادهم، وهي ستون ألفًا من الجيوش المنتظمة مسلحة بالأسلحة الجديدة، واضطر الإنكليز أن يتركوا تلك البلاد لأهلها. لا ريب أنه يسهل على الإنسان أن يأخذ شخصًا واحدًا أو أشخاصًا محصورين بالترغيب والتهديد، ويتيسر له أن يقف على طباعهم، ويدخل عليهم من مواقع أهوائهم، ويأتيهم من أبوب رغائبهم، لكن يتعسر - بل يتعذر - عليه أن يأخذ أمة بتمامها، وعقولها مختلفة عليه، ونفوسها في وحشة منه، اللهم إلا بالإبادة والتدمير. من هذا تجد الملوك العظام لا يرهبون الاشتباك في حرب مع أقتالهم [2] بل ومَن هو أشد منهم قوة، ولكنهم يَفْرَقون [3] بل تذهب أفئدتهم هواءً إذا أحسوا بميل الأمة عنهم، وما هذا إلا لأن قوة المغالبين داخلة تحت الضبط، وأما آحاد الأمم وقواها فلا تضبط ولا تستطاع مقاومتها، إذا تعاصت وشحت بنفسها عن الذل لسواها. إن الأمراء كما يكونون في دور من أدوار الأمة قوى فعالة لنموها وعلوها وعظمها واشتداد عضدها، كذلك يكونون في بعض أطوارها علة فاعلة في سقوطها وهبوطها وانحلالها، وإنا نخاف - ولا حول ولا قوة إلا بالله - أن يكون أمراؤنا والأعلَوْن منا آلة في اضمحلالنا وفنائنا، لما غلب عليهم من الترف والانهماك في اللذائذ والانكباب على الشهوات، مع سقوط الهمة وتغلُّب الجبن والحرص والطمع على طباعهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون. اهـ. *** المثال الثالث رأي (العروة الوثقى) في معاقبة الأمم للأمراء والرؤساء الذين يكونون أعوانًا للأجنبي عليها (قال في آخر مقالة وجيزة موضوعها الأمة وسلطة الحاكم المستبد، وصف فيها حال الأمة مع الحاكم المستبد المصلح الحكيم، وحالها مع المستبد الجاهل الأحمق المتبع للهوى، ما نصه: عند ذلك إن كان في الأمة رمق من الحياة وبقيت فيها بقية منها، وأراد الله بها خيرًا اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها وتعاونوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة واستئصال جذورها، قبل أن تنشر الرياح بذورها وأجزاءها السامة القاتلة بين جميع الأمة فتميتها، وينقطع الأمل من العلاج، وبادروا إلى قطع هذا العضو المجذوم قبل أن يسري فساده إلى جميع البدن فيمزقه، وغرسوا لهم شجرة

نداء إلى ملوك الإسلام وشعوبه جميعا

الكاتب: عبد الحميد سعيد

_ نداء إلى ملوك الإسلام وشعوبه جميعًا [*] وإلى علماء الحرمين الشريفين، ورجال المعاهد الإسلامية من أعلام الأزهر وملحقاته في المملكة الإسلامية، وجامع الزيتونة في تونس، وجامع القرويين في فاس، ومعهد ديوبند في الهند، ومعهد النجف في العراق، وإلى الجمعيات الإسلامية في أنحاء الأرض، ولا سيما جمعيات الهند: جمعيات الخلافة في بومباي، وجمعية العلماء في دهلي، وجمعية أهل الحديث في دهلي. وجمعيات إندونيسيا: اتحاد الإسلام في سومطرا، وشركة إسلام في جاوة، والجمعية المحمدية في جكجاكرتا وإلى المجلس الإسلامي الأعلى في القدس، والمجلس الإسلامي في بيروت، وإلى جمعية ترقِّي الإسلام في الصين، وإلى الصحف الشرقية على اختلاف لغاتها ولهجاتها: إن أمة البربر التي استهدت بالإسلام منذ العصر الأول، والتي طالما اعتمد عليها الإسلام في فتوحه وانتشاره، وطالما استند إليها مستنجدًا أو مدافعًا في خطوبه العظمى. هذه الأمة التي سارت مع طارق إلى أسبانيا، ثم مع عبد الرحمن الغافقي إلى فرنسا، ومع أسد بن الفرات إلى صقلية. هذه الأمة التي كانت منها دولتا المرابطين والموحدين، فكانت لها في تاريخ الإسلام أيام غراء مجيدة. هذه الأمة التي ظهر منها العلماء الأعلام، والقادة العظام، والتي لرجالها في المكتبة الإسلامية المؤلَّفات الخالدة إلى يوم الدين. هذه الأمة التي تبلغ في المغرب الأقصى وحده أكثر من سبعة ملايين نسمة [1] تريد دولة فرنسا الآن إخراجها برمتها من حظيرة الإسلام بنظام غريب تقوم به سلطة عسكرية قاهرة ممتهنة به حرية الوجدان، ومعتدية على قدسية الإيمان، بما لم يعهد له نظير في التاريخ. لقد وردت على مصر كتب من الثقات في المغرب الأقصى تذكر أن فرنسا قد استصدرت ظهيرًا سلطانيًّا تاريخه 17 ذي الحجة سنة 1348 (16 مايو سنة 1930) ونشرته الجريدة الرسمية في المغرب بعددها رقم 919 تنازل فيه سلطان المغرب لها عن الإشراف على الأمور الدينية لأمة البربر، وإن فرنسا قد بدأت بالفعل في تنفيذ ذلك الظهير، فقامت السلطة العسكرية في المغرب الأقصى تحُول بين ثلاثة أرباع السكان وبين القرآن الذي كانت به حياتهم مدة ثلاثة عشر قرنًا، فأبطلوا المدارس القرآنية ووضعوا قلوب أطفال هذه الملايين وعقولهم في أيدي أكثر من ألف مبشر كاثوليكي بين رهبان وراهبات، يديرون مدارس تبشيرية للبنين والبنات. وأقفلوا جميع المحاكم الشرعية التي كانت في تلك الديار، وأجبروا هذه الملايين من المسلمين على أن يتحاكموا في أنكحتهم ومواريثهم وسائر أحوالهم الشخصية إلى قانون جديد سنّوه لهم، أخذوه من عادات البربر التي كانت لهم في جاهليتهم، وهي عادات لا تتفق مع الحضارة ولا تلائم مستوى الإنسانية، وحسبنا مثالاً على انحطاطها وقبحها أنها تعتبر الزوجة متاعًا يعار ويباع، وتورث ولا ترث. وأنها تجيز للرجل أن يتزوج ما شاء كيف شاء ولو أخته فمن عداها في عقد واحد، وأن قانونًا كهذا القانون يسن للمسلمين مخالفًا للإسلام يعد مَن رضي به مرتدًّا عن الإسلام بإجماع علماء المسلمين. إن فرنسا التي تبث الدعاية في أمم الأرض بأنها أمة الحرية قد أجبرت رجال حكومة المغرب المسلمين على أن يتركوا دينهم بتنازلهم عما للسلطان من الحق في إقامة أحكام الشرع الإسلامي بين رعاياه من قبائل البربر وجماهيرهم، والاعتراف لحكومة الحماية الفرنسية بأنها صارت صاحبة التصرف في دينهم وأمورهم التشريعية والتهذيبية، وهو ما لا تملك الحكومة الحق في التنازل عنه. ومنذ استصدر الفرنسيون ظهيرًا (مرسومًا) من سلطان المغرب بهذا التنازل اعتبروا جميع المدارس القرآنية ملغاة، وجميع العبادات الإسلامية معطلة، ووكلوا أمر تعليم أطفال المسلمين إلى الرهبان توطئة لتنصير هذه الأمة عقيدة وعبادة وعملاً، وحالوا بين جميع مناطق البربر وبين علماء المسلمين ورؤسائهم فلا يتصل بها أحد منهم. أيها المسلمون: قد أجمع علماؤكم من جميع المذاهب على أن مَن رضي بارتداد مسلم عن دينه يكون مرتدًّا برضاه عن ذلك، فيجب على جماعات المسلمين وطوائفهم وجمعياتهم وأفرادهم أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على هذا العمل المنكر الفظيع، بكل ما في وسعهم، كُلٌُّ بحسب ما يليق به، فإذا لم ينفع الاحتجاج فكر المسلمون في الوسائل المجدية. وإن في وسعكم - أيها المسلمون - أن تجبروا دولة فرنسا على احترام إسلام هذا الشعب الكبير وتركه يتمتع بحريته الدينية والوجدانية؛ لأن حرية الدين والوجدان حق من حقوق الإنسان يجب على الإنسانية حمايته من عبث العابثين، واعتداء المعتدين. لقد سلكت دولة فرنسا مع إخواننا مسلمي المغرب سبيلاً غير سبيل الرفق والنصح، فجردتهم من وسائل النهوض، وحالت بينهم وبين التعليم الصحيح، وأنفقت أموال أوقافهم الإسلامية ضد ما وقفت له، واختصتهم بشر النصيبين من كل ما تتصل به مصالح الوطنيين والأجانب. وإن في المسلمين من كان يعرف هذا ويتغاضى عنه إلى حين، رجاء أن يجعل الله لأهل المغرب فرجًا من عنده. ولكن امتداد يد السلطة القاهرة في المغرب إلى دين الإسلام، واعتداءاتها على حرية العقيدة والعبادة، قد أوصل هذا العدوان إلى الحد الذي ليس بعده حد، فحق على كل مسلم أن يبادر إلى إنكار هذا المنكر بكل وسيلة يستطيعها. يجب أن تعلم فرنسا أن الإسلام لم يمت، وأن المسلمين قد استيقظوا، وصار بعضهم يشعر بما يصيب البعض الآخر من اضطهاد في دينه ودنياه، وأن بناء مسجد في باريس يؤخذ باسمه ملايين الفرنكات من أوقاف الحرمين الشريفين وملايين أخرى من الإعانات الجبرية من جميع مسلمي إفريقية مع إعانات أخرى من سائر العالم الإسلامي - لا يمكن لفرنسة أن تجعله حجة على حرية الإسلام ومودة المسلمين في مملكتها - التي تسميها أحيانًا إسلامية - مع هذا الجرم الفظيع الذي شرعت فيه أخيرًا وظنت أنها تنزع به بضعة ملايين من حظيرة الإسلام بنظام تنفذه قوة عسكرية قاهرة. إن فرنسة إذا لم ترجع عن هذه الجريمة فإن العالم الإسلامي يعتبر ذلك مجاهرة منها بعداوته، وسيعلن ذلك على منابر المساجد، وعلى صفحات المجلات والجرائد، وفي حلقات الدروس الدينية، وفي نظم الجمعيات الإسلامية. لقد حان حين امتحان أحرار أوربة فيما يدَّعونه من الانتصار لحرية العقيدة والوجدان، حتى لقد رضوا بكثير من المنكرات التي يعترفون أنها منكرات، وذلك حرصًا منهم على بقاء الحرية طليقة من قيودها، وإن أقدس الحريات حرية الوجدان والاعتقاد، وأسوأ ما أصيبت به هذه الحرية في هذا العصر محاولة فرنسة أن تحول المغرب الأقصى عن إسلامه إلى النصرانية أو ما شاءت أن تحوله إليه. لقد سمعنا صوت أوربا - حكوماتها وشعوبها - يرتفع عاليًا باستنكار ما فعلته روسيا البولشفية من إقفالها بعض المعابد، مع أن يد البولشفيك الحديدية امتدت إلى الحجارة والطوب، ولم تمتد إلى النفوس والقلوب [2] ، فالعالم الإسلامي ينتظر من أوربا التي احتجت على عمل السوفييت في الكنائس أن تقول لفرنسا كلمتها الصريحة في عدوانها على دين الإسلام في المغرب الأقصى ومنعها سبعة ملايين من البشر منعًا رسميًا مؤيدًا بالسياسة والجيش من أن يسكنوا إلى دينهم وأن يتصلوا بإخوانهم المسلمين اتصالاً روحيًّا يطمئنون إليه ويرتاحون له. فيا أيها المسلمون إن دينكم مهدد بالزوال من الأرض، فإن فرنسة إذا أمكنها تنفيذ مشروعها هذا في المغرب فستحذو حذوها جميع دول أوربة في المشرق. وقد وجب عليكم في هذه الحال بذل أنفسكم وأموالكم في سبيل الدفاع عن دينكم، فما الذي يمنعكم من الدفاع عنه؟ ! والله يقول: {فَلاَ تَخَافُوَهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) ويقول: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217) ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) ويقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) . ... ... ... ... محمد شاكر ... وكيل مشيخة الأزهر سابقًا ... عبد الحميد سعيد ... ... ... ... محمد رشيد رضا الرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين ... ... ... منشئ مجلة المنار ... خليل الخالدي ... ... ... ... أبو بكر يحيى باشا رئيس الاستئناف الشرعي بفلسطين ... المستشار بمحكمة الاستئناف سابقًا علي جلال الحسيني بك ... ... ... ... علي سرور الزنكلوني المستشار بمحكمة الاستئناف سابقًا ... ... من علماء الأزهر الشريف محمود أبو العيون ... ... ... ... محمود شلتوت من علماء الأزهر الشريف ... ... ... من علماء الأزهر الشريف ميرزا مهدي رفيع مشكي ... ... ... محمد عبد اللطيف دراز من علماء الأزهر الشريف ... ... من علماء الأزهر الشريف محمود الغمراوي ... ... ... ... عبد المجيد الربيعي من علماء الأزهر الشريف ... ... ... ... من العلماء الدكتور يحيى أحمد الدرديري ... ... ... محب الدين الخطيب المراقب العام لجمعية الشبان المسلمين ... ... منشيء مجلة الزهراء والفتح صالح جودت بك المحامي ... ... ... ... طنطاوي جوهري عبد الصمد شرف الدين الهندي الفاروقي ... محمد الههياوي محمود يونس الأندونسي ... ... ... السيد محمد عفيفي المحامي خريج دار العلوم *** (المنار) اجتمع أصحاب هذه التواقيع في نادي جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة وبحثوا في المكتوبات التي وردت من المغرب الأقصى في شأن شعب البربر فيه وأجمعوا على إصدار هذا النداء ووقعوه بأيديهم كما ترى، وقرروا أن تسعى إدارة جمعية الشبان المسلمين لعرضه على بعض علماء المذاهب في الجامع الأزهر ووجهاء المسلمين لإمضائه، وبالقيام بتبليغه لمَن هو موجَّه إليهم في العالم الإسلامي كله - وبتأليف وفد من رئيس الجمعية والسيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي ليذهب إلى الإسكندرية ويرفعه قبل كل شيء إلى صاحب الجلالة ملك مصر ويرجو صاحب الدولة وكيل ديوانه السامي أن يبلغ جلالته آمال واضعي النداء في غيرته الإسلامية - وبالقيام بتبليغه إلى رئيس جمهورية فرنسة وجمعية الأمم وبعض الصحف الأوروبية الشهيرة. وقد شرعت الجمعية في تنفيذ ما عهد إليها؛ لأنها تعده أقدس الواجبات عليها، فذهب الوفد إلى الإسكندرية وانضم إليه فيها فضيلة الأستاذ الشيخ محمد تاج الدين مراقب التعليم في معهد الإسكندرية الديني من قبل جمعية الشبان المسلمين فيها فذهب الثلاثة إلى قصر رأس التين ورفعوا النداء إلى دولة رئيس الديوان الملكي وبلغوه ما كُلفوا أن يبلغوه إياه، وكلموا معالي رئيس الأمناء ورجاله في الموضوع أيضًا، فقابلهم جميع رجال القصر أحسن المقابلة الدالة على العناية بالموضوع. وعرض النداء على صاحب الفضيلة الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر ليمضيه فأبى ولم يصدر نداءً ولا إنكارًا غيره! ، فاستنكر منه هذا كل مَن عرفه من المسلمين أولي الغيرة وخاضت فيه الجرائد وكان أشد ما نُشر فيها إنكارًا وتثريبًا عليه كتاب مفتوح بإمضاء عبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين، ومقالة بإمضاء مسلم نُشرت في جريدة (ا

آراء ساسة فرنسا في سياستها الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آراء ساسة فرنسا في سياستها الإسلامية وإمكان الاتفاق على ما هو خير منها لها وللإنسانية لقد آن للعالم الإسلامي أن يعلم ما تكيده له دول الاستعمار في دينه ودنياه، وأن يبذل ما يستطيع من حول وقوة للدفاع عن نفسه من حيث هو أمة واحدة كما قال الله تعالى، وكل شعب من شعوبه وكل فرد من أفراده كعضو لجسد واحد كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقله تنظيم الدعاية والمقاطعة العامة الاقتصادية، وأكبره الثورة العامة المدنية فالدموية (وقد جمعت بينهما الهند) وآن لهذه الدول أن تعلم أن هذه الشعوب قد تنبهت أو هبَّت من رقادها وشعرت بآلامها، فلم تعد تطيق ما كانت تسام به من إرهاق واستذلال، فضلاً عما تحاوله هذه الدول من الزيادة عليه، وأن تعلم مع هذا أنه يوجد في عقلاء المسلمين من يود الاهتداء بالبحث معها إلى الاتفاق على معاملة مشتركة تكون خيرًا للإنسانية في ترقيها وتوقيها أسباب الحروب الساحقة الماحقة، وحلاًّ للإشكال يكون جامعًا بين الممكن من مصلحة المستعمَرين ومصلحتها. وبهذا القصد نشرنا ما نشرنا في مسألة المغرب الإسلامي وما تفعله فرنسة فيه لتعلم هي وكل من يقرّوه أننا لا نبغي به التشهير بسياستها تشفيًا منها وتحريضًا على عداوتها ومقاطعة المسلمين لها، إلا بعد اليأس من إنصافها، وقد سبق لي السعي لمثل هذا الجمع بين المصلحتين في معاملتها للسوريين في حديث طويل ألقيته إلى مسيو روبير دوكيه في بيروت (إذ قابلني بالنيابة عن الجنرال غورو في أوائل مارس سنة 1920) فقال - بعد المناقشة الطويلة فيه -: إنه رأي يمكن تنفيذه وليس بخيال، ولكن يجب درسه وتمحيصه والاتفاق على طريقة تنفيذه بين الفريقين. ثم حاولت مثل هذا السعي في (جنيف) مع مندوب فرنسة في عصبة الأمم المتحدة موسيو هانوتو الشهير فلم يتح لي ذلك، وقد فصلت هذا وذاك في المنار كما يعلم القراء. ولكن أحرار فرنسة الذين لا يهمهم إلا مصلحتها العامة قلما ينظرون في أمثال هذه الآراء الحرة؛ فإن تقاليد وزارة الخارجية الفرنسية السياسية الدينية (الأكليركية) والعسكرية أرسخ من تقاليد العجائز في تقاليدهن الدينية والمنزلية، وقد خرجت بها عن حد المعقول والمعتاد عند الحكماء والعقلاء الذين يتحرون الاستفادة مما يُنتقد عليهم. فإن هؤلاء السياسيين إذا رأوا انتقادًا موجهًا إلى دولتهم يدفعونه بغير تأمل ويعذرون أنفسهم أو يعتذرون عنها بأنه كلام عدو، وقد يكون كلام صديق أو ناصح لمصلحة له في النصيحة، وقد قال الشاعر العربي الحكيم في ذم الأعداء: عداتي لهم فضل علىّ ومنّة ... فلا أذهبَ الرحمنُ عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا ولكن رجال السياسة الاستعمارية في فرنسة لا يحبون اجتناب زلاتهم، وإن عرفوها من أنفسهم وأصدقائهم، وإنما ينكرون ويتأولون كما فعلوا في مسألة البربر. قد ابتُلي مسلمو الجزائر فتونس فمراكش بالدولة الفرنسية، فكانت سيرتها فيهم أشد استبدادًا واستعبادًا وظلمًا من استعمار إنجلترة وهولندة أضعافًا مضاعفة وقد وجد من عقلاء الشعب الفرنسي ومن عقلاء المسلمين من حاولوا إقناع هذه الدولة بإنصاف هؤلاء المسلمين، ولا يزال يوجد في المسلمين من يحب هذا ويريده إن كانت هذه الدولة تقدر قدره وتريده. ولكن، متى تريد وبين يدي أُولي الأمر في عاصمتها عدة مصنفات جديدة قد عني مصنفوها بإقناعها فيها بأنه لا يمكن خضوع مسلمي إفريقية بالإخلاص لها إلا إذا ارتدوا عن الإسلام وصاروا نصارى أو ملاحدة، وبأن ردهم عنه ممكن. فبعضهم يختار فيه إكراههم على النصرانية بالقوة القاهرة كما فعلت إسبانية في الأندلس، وبعضهم يختار إكراههم على تربية أولادهم وتعليمهم في المدارس التبشيرية والإلحادية ما يحول بينهم وبين الإسلام ولغته. وسياسة كبارهم بالشدة والقهر، وإفساد أمرائهم وزعمائهم بالاصطناع والتمكين من الشهوات المفسدة للأخلاق، والاستعانة بهم على كل ما يريدون من الاستيلاء على ثروة الأمة وتحويلها عن شريعتها وآدابها.. إلخ. إن كتاب (الإسلام في المستملكات الفرنسية) الذي ألفه الضابط موسيو (جول سيكار) أحد الموظفين الفرنسيين في مراكش - يعد معتدلاً بين تلك الكتب التي تغري فرنسة بإخراج مسلمي إفريقية من دينهم، ولما انتقدناه في مجلد العام الماضي تعجب قراء المنار من كنود هذه الدولة التي سفك مغاربة المسلمين دماء مئات الألوف منهم في الدفاع عنها ثم يجدونها تعدهم أعداءً غير مخلصين لها في الباطن، وتحاول إهلاكهم في الآخرة بالكفر والإلحاد، كما أهلكتهم في الدنيا بالفقر والإذلال، فكيف لو قرأ هؤلاء تلك الكتب التي تحضها على حرمانهم من كل علم نافع وإكراههم على ترك دينهم بالقوة كما فعلت إسبانية بسلفهم من مسلمي الأندلس؟ عثرت صحيفة الفتح أخيرًا على نسخة من كتاب (السياسة الصريحة) للضابط الفرنسي الكابتن أدينو وقد ترجم وطبع بالعربية سنة 1347 هـ، فلم تلبث حكومة الاستعمار أن جمعت نسخه ومنعت نشره؛ لأنه صرح فيه بسياستها السرية لاعتقاده أنه أنفع لها من الرياء الذي تحاول إخفاءها به، وهو لا بد أن يشف أو يتمزق فتظهر الحقيقة في وقت غير ملائم. وقد نشرت الفتح الغراء منه جملاً نختار منها الآن ما نصه: (أنترك المغرب على ما هو عليه من طول سباته الذي تتوارد عليه جميع الحوادث السياسية أم لا؟ بلى، ولكن لا نعطيهم من العلم والمعارف إلا ما يكون لهم كافيًا ليرضوا بمقامنا إلى جانبهم إلى الأبد. هذا والأجدر بفرنسا أن تحترم مبادئ قوانينها بالمغرب، وذلك أننا كثيرًا ما نقول إننا ما جئنا المغرب إلا لنمدن أهله ونسعى في ترقيته بدون فتور ولا انقطاع حسب الدرجة التي يكون قابلاً لها وتوافق فكرة المسلمين. وما نسعى فيه من تكثير عدد المسلمين بمعالجة أمراضهم أمر يضيِّق لنا الفضاء الرحب المعد هنا لفرنسة. لا؛ لا نسعى في هذا الأمر أبدًا، وإذا فعلنا وبالغْنا في تعليمهم فإنما نحن جالبون على أنفسنا خطرًا عظيمًا يقف بوجه مهمتنا هنا. الإسلام تهديد لفرنسة وخطر عظيم على نفسها؛ لأنه لو انحاز المسلمون عن جانب فرنسا لكان في ذلك الضرر الكبير على قوتنا. أليس من الواجب علينا إذن أن نقلل من درجة قوتهم وديانتهم الزاهرة التي تود صعودًا وانتشارًا؟ وإنا ليشتد خوفنا من اجتماع طوائفهم المختلفة يومًا ما على كلمة واحدة واتفاقهم عليها. إلى الغافلين الذين لا يحتاطون لهذه الحالة أقدم كلمتي، وهي أن لا يسعوا في تحديد شوكة (إرهاف حربة) يصابون بها يومًا ما، ولا خشية لنا في ذلك لأنني ما عثرت قط في التواريخ على أن فرنسة حاربت إنجلترا لتمنعها من هدم مستعمراتها [1] وإلا فإني أرغب من أولئك العادلين الذين يودون تقديس عادات الأمة وحياتها أن لا يقوموا بمحاربة من لم يرضَ بسلطتنا عليه؛ لأن وجودنا بأرض المغرب هو معلوم لقصد فائدتنا الشخصية من أرضه، وإذا كانت الفائدة هي التي تقود زمام أمة فكل شيء لديها مباح والحرب أكبر دليل عليه. وما هي أيضًا حاجتنا بأرض المغرب إذا كنا نسعى لأمر ليس هو بالهين، في جلب عاقبة ليست بمحمودة النتيجة، أو عملنا لمنافع أمة لا تكون لنا مخلصة الود، أو لمجرد نفع غيرنا من الأمم. وبعبارة أخرى أقول: إنه لا فائدة لنا فيما نتحمله في هذا القطر بإضاعة أموالنا وصرفها. قال لي أحد الضباط في يوم من الأيام: إن تعجب من بقاء بلاد الجزائر تحت سلطتنا فذلك لسبب انقراض جيل من أجيالها [2] وصدقًا قال. وإني لآتي هنا بمقال الأب فوكول تأييدًا للفكر، قال: لا يكون لكم المغرب ملكًا ما دام فيه المسلمون! أقول هذا ويقيني بأنني ولو كنت عالمًا بأن المسلمين سيطلعون على مقالي هذا ما غيرت من لهجته! [3] ماذا يطلب منا المسلمون؟ إنهم لا يطلبون منا إلا أن نخبرهم بكل صدق وحقيقة ليتخذوا احتياطاتهم. وأنا كذلك لا أحب تلك السياسة المموّهة الخادعة الكذابة التي لا تريد أن تُغضب أحدًا من الناس بحديثها العذب اللين اللهجة مع جميع الناس، وعند النتيجة يوم يكشف عن حقيقة سرها لا تحترم أحدًا. خلاف هذه الفكرة أبغي، أود أن نعامل المسلمين بالسياسة الصريحة اللهجة فنصرح لهم: هل بودنا أن ندعهم سائرين على إثرنا عفوًا من أنفسهم؟ أم سنرغمهم عليه قوة منا؟ لا نواري عنهم بأن سياستنا غير مرتبطة في شيء مع حالة الإسلام. لماذا نقاسم المسلمين الجزائريين حقوقنا؟ ونحمي المغاربة حماية، على حين نقف مع الأمة التركية قرنًا تجاه قرن وهم منتمون إلى دين واحد؟ [4] . إذا تولت أمة مقاليد أمة ثانية - ولو ضعيفة - فإنه لابد من وقوع امتزاج واندماج فيما بين الفريقين. وفرنسا هنا بالمغرب لا يمكن أن تندمج في الإسلام كما أن الإسلام لا يقبل منها شيئًا خارجًا عن تقاليده، ولكن غاية الرجاء عندنا أن يكون المسلمون فيما بعد مظللين بجنسيتها كما عليه البروتستانتيون والإسرائيليون اليوم، وبهذا يمكن لهم أن يعيشوا معنا جنبًا لجنب [5] . أنا لا أتصور كيف يمكن لفرنسا مع المغرب أن يعيشا معًا، وكل منهما على ملازمة أحواله وعوائده القديمة الممتازة وأفكاره المتباينة. وقد تدوم هذه الحالة إذا أيدتها القوة، والقوة أمر لابد من اضمحلاله، وستحتاج فرنسة يومًا ما إلى جنود للمدافعة عنها فماذا يكون عملها يومئذ؟ لماذا لا نحتاط لهذه الأسباب منذ اليوم؟ لكن بقي علينا أن نقول: هل في إمكاننا أن نستولي على قلوب المسلمين ونجلبها لجانبنا؟ . اهـ. (المنار) نشكر لهذا الكاتب صدقه وصراحته اللتين يقل مثلهما في قومه، وهو لم يُجِب عن سؤاله الأخير؛ لأن الاستفهام فيه إنكاري لا حقيقي، يريد أنه لا سبيل إلى ذلك. ونحن نقول: إن هذا في الإمكان إذا كانت فرنسة تترك غرور الضباط وإغواء الأب فوكول وأمثاله من الآباء في سياستها الصليبية، كما تركته في إدارتها وسياستها الداخلية، وتتبع سياسة الحق والعدل والإنسانية، أو ما جعلته شعارها رياءً وخداعًا وهو (العدل والمساواة والحرية) ، بأن تترك لهم حريتهم الدينية والأدبية والاجتماعية، وتساعدهم على عمران البلاد بترقية الزراعة والصناعة والتجارة بنظام يكفل لها الربح العظيم والثروة الواسعة، وتعقد معهم محالفة عسكرية توجب عليهم إمدادها بالجند والمال إذا هي اصطلت نار حرب لم تكن فيها معتدية كما يوجبه عهد عصبة الأمم، والمسلمون أشد أهل الملل وفاءً وصدقًا، وإذا كانوا قد استبسلوا في دفاعهم عنها في الحرب الأخيرة على شدة إساءتها إليهم في دينهم ودنياهم فكيف يكون شأنهم معها إذا هي أحسنت إليهم إحسانًا حقيقيًّا لا يرتابون فيه؟ ! وأما الذين يضربون لها المثل بخروج الهنديين والمصريين على إنجلترة مع إحسانها في معاملتهم فهم خادعون؛ فإن إنجلترة لم تكن محسنة لهؤلاء بل مسيئة، وقصارى الأمر أن إساءتها إليهم دون إساءة فرنسة لمسلمي إفريقية، وأما الإحسان الحقيقي فلا يكفره المسلم وهو يؤمن بقول الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} (الرحمن: 60) . ثم نذكِّره بأن أهل أمريكة قد أخرجوا الإنجليز من بلادهم بالقوة الحربية وهم متحدون معهم في اللغة والدين والمذهب وكذا في الجنس الغالب. إن هذا الضابط يهدد مسلمي المغرب بقوة دولته العسكرية القاهرة التي لا يعقل في العالم غيرها، ولكن الأمم إذا عرفت نفسها وشعرت ب

كيف تريد فرنسا القضاء على الإسلام في المغرب الأقصى

الكاتب: الطلبة المغاربة بباريس

_ كيف تريد فرنسا القضاء على الإسلام في المغرب الأقصى؟! (جاءتنا هذه الرسالة الممتعة من جماعة شبان المغرب في باريس وكان قد تم تحرير هذا الجزء من المنار وجمع حروفه فأخرنا طبع آخره وتصديره ونشرناها فيه لجمعها للحقائق في المسألة التي نحن بصددها، ولا سيما بيان هؤلاء الشبان لمطالب مسلمي المغرب من حكومة بلادهم التي لا يرضون بدونها. وهذا نصها) : استغربنا ما كتبته جريدة (الأهرام) في أحد أعدادها من تكذيبها ما تسعى إليه فرنسة من هدم الديانة الإسلامية في المغرب الأقصى. وحجة الأهرام في ذلك أن علماء المغرب الأقصى أكبر علماء الإسلام، ولا ندري أتريد بذلك تهكمًا مقصودًا؟ أم هي تنطق بلسان الحق؟ ثم حجتها الأخرى هي كون فرنسة الدولة اللادينية الوحيدة في أوربة، كأنها تجهل كلمة غامبتا: (إن اللادينية بِضاعة لا تصدر إلى خارج فرنسة) . وكأنه غاب عن الأهرام أن فرنسة سمحت منذ ثلاثة أشهر للمؤتمر الأفخارستي الذي ينظر في مسائل التبشير بأن يعقد في تونس، واشتركت في المؤتمر رسميًّا يمثلها مندوبها السامي في تونس الذي حضر في جلسات ذلك المؤتمر، ومنحت مليونين من أموال المسلمين لأعضائه، وسمحت لأبناء المدارس الفرنسيين في تونس أن يتجولوا في الشوارع مُرْتدين لباس الصليبيين الذين أتوا فيما مضى لفتح تونس مع القديس لويس! ! فهل تستطيع الأهرام أن تصف فرنسة بأنها (لا دينية) ؟ ! [1] . أما قضية المغرب الكبرى التي تقيم اليوم العالم الإسلامي وتقعده - نعني القضية البربرية - فهي ليست بنت اليوم، بل خاض فيها من قبل كثير من الساسة والكتاب الفرنسيين، بل الموظفين في الحكومة المغربية، نخص بالذكر منهم لوجلي في كتابه (فرنسا وتعليم البربر) ومارتجافي في كتابه (مغرب البربر) وسيكار في كتابه (الإسلام في الممتلكات الفرنسية) وأزار في مقالاته العديدة، وسوردون في كتبه عن (عوائد البربر) ولويس برينو في أبحاثه عن (مسألة التعليم في المغرب) ونزيد عليهم عضو الأكاديمية الفرنسية الكبرى لويس برطران في كثير من كتبه وعلى رأسها كتابه (أمام الإسلام) الذي نال فيه من كرامة مصر وسب فيه إخواننا المصريين سبًّا بذيئًا. اتفق رأي هؤلاء كلهم - ووراءهم جيش عظيم من القسيسين والمبشرين - على أن إسلام البربر المغاربة إنما هو إسلام سطحي، وأنه لا سلطة له على أرواحهم، وأنهم أعداء ألداء للعرب والشريعة الإسلامية، وأن ذكريات النصرانية لا تزال حية في نفوسهم، وأنهم لا يزالون يذكرون الحكم الروماني وسيادة القياصرة، وأن عصيان البربر في العصر الأخير لملوك المغرب ليس له من سبب إلا تخوُّفهم من سلطة الشريعة الإسلامية. ولا يخفى ما في هذه النظرية السيئة السريرة من كذب وبهتان وتحامل بعثته أهواء دينية تتعصب للمسيحية تعصبًا شنيعًا. كأن أصحابها يرون أن تاريخ المغرب ينحصر في ولاية السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحفيظ، التي كانت مضطربة أشد الاضطراب [2] . وينسون أو يتناسون أيام المغرب الزاهرة تحت دول البربر، كالمرابطين والموحدين. فهاتان الدولتان العظيمتان لم تكتفيا بتعضيد الإسلام ونشر شريعته في المغرب فقط، بل ذهبتا لنشره وتعضيده في إسبانية والسنغال وإفريقية الشمالية كلها، ويتناسون أيضًا أن الدولة المرينية هي التي شيدت أجمل مدارس العلم وأفخمها في فاس ومكناس ومراكش وغيرها، وكذلك القصور البديعة التي يندهش السياح أمامها اليوم، فلماذا لم تقضِ هذه الدول البربرية - بما كان لها من السلطة والحرية - على الشريعة الإسلامية إذا كان البربر يبغضونها ويخشون سلطتها؟ . بل إن أولئك الفرنسيين المتبعين للهوى المتعبدين للغرض تناسوا ولاية المولى إسماعيل إذ كان المغرب موحدًا توحيدًا تامًّا، وتناسوا ولاية المولى الحسن على قرب عهد الناس بها، ولكن هي الأغراض تعمي وتصم، ولو أردنا أن نقيم الأدلة التاريخية على إسلام البربر وإخلاصهم للشريعة المحمدية لما وسعها المقام في هذا الرد الموجز. وقد اقترح أصحاب هذه النظرية الموظفون في الحكومة المغربية عدة اقتراحات عملية - بناءً على نظريتهم الفاسدة - من شأنها أن تبعد البربر من العرب والإسلام، وتبعثهم على الإخلاص لفرنسة والاندماج فيها وترجعهم إلى المسيحية (دين أجدادهم قبل الإسلام! !) [3] وهنا نلخص مقترحاتهم فيما يلي: (1) يجب على فرنسة أن تبعد العربي عن البربري ما أمكن. (2) يجب أن تُفتح مدارس فرنسية بربرية يحظر فيها تعليم الإسلام والعربية. (3) تُغلق الكتاتيب القرآنية في القبائل البربرية وتُعرقل على رؤساء الطرق الصوفية والوعاظ المسلمين وسائل الوصول إلى هذه القبائل. (4) تشجيع التبشير في القبائل ومنح إعانات مهمة للجمعيات التبشيرية والسعي في تسهيل أعمالها. وآخر ما وصل إليه تفكير هؤلاء المقترحين اقتراح تأسيس محاكم عرفية لا يحكم فيها قضاة الإسلام ولا تطبق فيها الشريعة الإسلامية وإنما تعتمد على عادات تكونت عند البربر مدة ثورتهم على السلطان وخروجهم عن أحكامه، مع قوانين فرنسية أحدثت في المغرب لمصلحة الاستعمار، ولهذا تتكون إدارة تسمى (إدارة العدلية البربرية) تقابل (وزارة الحقانية الإسلامية) وبهذا تستطيع فرنسة أن تبعد الإسلام من قبائل البربر الإبعاد الأخير. ماذا كان موقف الحكومة الفرنسية إزاء هذه المقترحات؟ ! الواقع أنها في أول الأمر لم يكن لها موقف واضح، بل إن المارشال ليوطي - المقيم العام سابقًا - كان يحبذ في كثير من الأحيان تعريب البربر، ثم جاء بعده (ستيغ) فاستغوته النظرية البربرية ففتح مدارس فرنسية بربرية يتعلم فيها البربر كل شيء - كما قال (لوجلي) - إلا اللغة العربية والإسلام، وصارت لغة البربر تُكتب فيها بالحروف اللاتينية بعد ما كانت تكتب بالحروف العربية، ومن المعلوم أن المسيو (ستيغ) بروتستنتي متعصب لمذهبه، فأجاب طلبات المبشرين البروتستانتيين، واضطر أن يعين معهم الجمعيات الكاثوليكية، ودخل بهذا العمل برنامج البربر في طور التنفيذ، وصار المراقبون الفرنسيون في القبائل البربرية يمنعون تأسيس المساجد، ويعينون على إقامة الكنائس في عقر تلك القبائل التي لا يوجد فيها مسيحي واحد، ومنع فعلاً تجول رؤساء الطرق الصوفية في تلك النواحي، وأبعد منها أصحاب الكتاتيب القرآنية، وجُعلت للعرب - سكان المدن وبعض القبائل - جوازات خاصة لا يتمكنون من السفر إلى القبائل البربرية إلا بعد الحصول عليها بعد جهد جهيد ومشقة عظيمة، وظلت حكومة فرنسة جادة في عملها وتنفيذ خطتها ضد الإسلام مجردة من كل عاطفة سامية أو شعور شريف. وكان المغاربة يعلمون نيتها ويلاحظون أعمالها متألمين من ذلك أشد الألم، غير أن عقلاءهم مطمئنون لاعتقادهم أن البربر سيظلون معتصمين بدينهم، وأن علاقاتهم بإخوانهم العرب لا يمكن انفصامها، بل ستجعلهم يستعربون حتمًا؛ لأن البربري لا يرى في العربي عدوًّا مبينًا - كما يدعي الفرنسيون - بل يرى فيه أخًا مخلصًا في الوطنية والدين. يعيش كما يعيش ويفكر كما يفكر. ويُضطهد كما يضطهد. ويشتركان في عداوة عدو واحد. وهؤلاء العقلاء لا يسلِّمون أن فرنسة ستعزل البربر بنوع من العزل بل يرون أن البرابرة لا يمكنهم الإخلاص لفرنسة ما دامت لا بد من أن تفقرهم وتجردهم من كل ما يملكونه من ثروة وأرض ومال، وأن تعاملهم بأشد أنواع القساوة والطغيان. عندما رأت الحكومة الفرنسية أنها أمكنها تنفيذ الفكرة السابقة بدون أن تلقى معارضة قوية من المغاربة ظنت أن الوقت مناسب لتنفيذ آخر اقتراح وصل إليه المشتغلون بالقضية البربرية من الفرنسيين ليكون (مسك الختام) في هذه القضية، فأعلنت باسم السلطان المعظم أمرًا عاليًا (ظهير شريف) يقال إنه وُقع بطرق غير مشروعة، يقضي منطوقًا ومفهومًا بعزل البربر - أكثرية البلاد الساحقة - عن بقية إخوانهم المسلمين، وتجريدهم رسميًّا من شريعة القرآن. وبذلك يهدم في هذه البلاد أعظم شطر من الإسلام وهو الشطر التشريعي الاجتماعي على حين يكفل سعي المبشرين هدم الشطر الآخر (وهو الروحي الاعتقادي) ولا يخفى ما في هذا (الظهير) من العدوان على الشعب المغربي المسلم، والمس بسيادة السلطان التي تحميها العهود الدولية، وعهد الحماية الذي عقده المولى عبد الحفيظ بنفسه، وأصدرت الإقامة العامة (دار المندوب السامي) بهذه المناسبة قرارًا للصحف الاستعمارية في المغرب تهنئ فيه نفسها بهذا النجاح العظيم ووصولها إلى إنقاذ البربر من قانون الإسلام! هياج المغاربة على فرنسة لأجل البربر ومقاومتهم بالقوة شاع هذا الخبر السيئ في طول البلاد وعرضها وعم الاستياء في جميع نواحي المغرب، لا فرق بين المدن والقبائل، أما في المدن فأخذ الناس يتجمهرون في المساجد يتلون صيغة مخصوصة يرددونها جماعات بأصوات مرتفعة: أنهم لا يرضون أبدًا (أن يفرق بينهم وبين إخوانهم البربر) واتخذ الناس من أوقات صلاة الجماعة فرصة للقيام بإعلان الاحتجاج والسخط العظيم ضد مشروع التمسيح (التنصير) الفرنسي الذي يريد أن يكتسح الإسلام من قلوب المغاربة المسلمين [4] فأمر ولاة الأمور الفرنسيون أن تُقفل تلك المساجد التي {أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) وفعلاً أقفلت في مراكش وألقي القبض على ثلاثين شخصًا في مدينة الدار البيضاء وزجوا في السجون، وعزل مؤذن وإمام مسجد في مدينة تطوان لسماحهما للمسلمين بالاجتماع في المسجد وقراءة صيغة الاحتجاج. والحركة في الرباط وفاس وسلا كانت أقوى وأهم، فقد وقع اجتماع كبير احتشد فيه ما ينيف على 7000 شخص وألقيت فيه خطب تبين خطر الموقف الحاضر، ولم يمض وقت يسير حتى زجّ من كان يخطب في السجن مع المجرمين. ووقع في فاس أعظم اجتماع من أجل هذه القضية، انعقد في كلية القرويين (الجامعة الإسلامية الوحيدة في المغرب) وخطب في ذلك الجمع الحاشد خطيب بيّن المصيبة الكبرى ونتائجها الوخيمة على مستقبل الإسلام. وبعد ذلك خرجت تلك الجموع متجمهرة تتضرع إلى الله تعالى وتوجهت إلى المشهد الإدريسي ضريح مولاي إدريس، حيث ألقيت الخطب الحماسية على الشعب وتليت آي الذكر الحكيم، ومن هنالك خرج الجمهور متوجهًا لبيت شيخ الإسلام يطلب رأيه وموقفه في هذه المسألة الكبرى. وكانوا في طريقهم يرفعون أصواتهم هاتفين: (تحيا شريعة الإسلام تحت راية الإمام) وعندما وصلوا إلى دار الشيخ رجعوا متوجهين إلى بيت حاكم المدينة (باشا فاس) وبلغهم وهم في الطريق أن أحد الخطباء ألقي القبض عليه، ولما انتهوا إلى بيت هذا الحاكم ومحكمته أمرهم أن يعينوا من بينهم وفدًا خاصًّا يتقدم إليه، وأمر المتظاهرين أن يتفرقوا فأبوا، فأمر عساكره أن يستعملوا العصي في تفريقهم، وأما الوفد فقد قابله الحاكم بالسب والإهانة، وأمر بجلد أفراده مئات من الأسواط، وكل ذلك بمحضر المندوب الفرنسي في المحكمة وبأمره الخاص، مع أن أعضاء هذا الوفد كلهم من الأشراف والأعيان والتجار والمفكرين. ثم أمر بإلقاء القبض على آخرين حتى بلغ عدد المقبوض عليهم ما فوق الخمسين ودون المائة، ألقوا جميعهم في غيابات السجون، وكان هذا التصرف المرهق من أهم الأسباب لاشتداد الحركة وارتفاع مقياس الحرارة، وصار الناس يعلنون أن السلطان - الذي باسمه صدر هذا الأمر - قد خالف ش

تهنئة للمنار ونقد واقتراح

الكاتب: مصطفى بن شعبان

_ تهنئة للمنار ونقد واقتراح من الأستاذ الفاضل وأحد دعاة الإصلاح بتونس صاحب الإمضاء: حضرة صاحب الفضيلة مولانا الإمام العلامة المصلح الكبير الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي الزاهر، دام فضلكم وأبقاكم الله بدرًا منيرًا، وكوكبًا ساطعًا، ونجمًا للمسلمين، ورجمًا للملحدين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عدد ما يشكركم شاكر، ويذكر فضلكم ذاكر، وبعد: يسرني أن أتقدم لحضرتكم بغرر التهاني بمناسبة دخول المنار المحبوب عامه الجديد، جعله الله سعيدًا عليه وعليكم وعلى الجامعة الإسلامية بالتوفيق والهداية وبلوغ الآمال، ونجاح الأعمال. نراكم - يا سيدي العزيز - تقومون بواجب عظيم في محاربة الملحدين الطائشين، وتقفون لهم في كل سبيل، فشكرًا لكم وألف شكر على هذه العناية والجهاد في سبيل الله، وإن الملحدين لجديرون بأن تصوَّب إليهم الأقلام، وتنزل على رؤوسهم الصواعق. فعندنا جريدة تدعو للإلحاد، وملحدون يقول أحدهم: (إن محمدًا كان رجلاً استعماريًّا!) ويندم آخر على ما فرط منه في صغره من أداء الصلوات وحفظ القرآن. ويقول آخر: إن الدين يلزم أن لا يتعدى المسجد كما فعل م ... لعنه الله. والذي ألفت إليه نظركم السديد هو - وإن عددتموه من باب (الانتقاد على المنار) - الاهتمام بحركات الجامدين وجماعات الطرق الذين اتخذهم الغاصب آلة بيده يديرهم كيف شاء ومتى شاء لتشتيت شمل المسلمين، ونشر دعايات المحتلين، وما خيانتهم للأمير محمد بن عبد الكريم إلا أكبر مثال على ما لهؤلاء من اليد الطولى في التفريق وتأييد الظالمين. نعم - سيدي - أولئك جماعات الطرق الذين ينشرون الجهل، ويبثون فساد الأخلاق، ويعملون مع النصارى ضد المسلمين، وأكاد أستغرب سكوت المنار على المؤتمر الأفخاريستي الذي انعقد بتونس. وكان جديرًا بأمثال المنار أن يؤازر تونس المقهورة ويضم صوته إليها في الاستغاثة من الذين يسعون في تصيير تونس الإسلامية كنيسة مسيحية، ويؤازر أعمالهم الصادرة من أعماق الكنيسة رجال السياسة عندنا ورجال الدين أيضًا، إذ هم قبلوا العضوية وكانوا مع الزمان علينا بدل أن يصيحوا معنا، ولكن ابتلينا بهم ولا رادّ لقضاء الله. ولولا ضيق وقتكم وكثرة أشغالكم وسعيي في عدم تفويت ثمين أوقاتكم عليكم - لحدثتكم كثيرًا عما يختلج بضميري من الحوادث التي تقع عندنا. ورغمًا عن منافاتها للدين الحنيف فإن رجالاً يقرونها بسكوتهم. وكذلك المصائب السياسية التي أمطرنا بها الاستعمار الظالم فإنها لا تُحصى، ويكفي أن تلقي نظرة على أحوالنا فترى ما آل إليه أمرنا و (كبراؤنا) ينظرون ويطربون! وسيأتي يوم ... وأختم كلمتي هذه باقتراح نراه مع بساطته نافعًا إن شاء الله، وهو أن تصدروا صحيفة أسبوعية مثل الفتح فإننا في حاجة إليها. وقد تزداد الحاجة يومًا فيومًا. وعسى أن تعملوا بهذا الاقتراح ومثلكم لا يحتاج إلى تأكيد. سيدي، قد وصلني السلام والثناء من حضرتكم مع الأستاذ طفيش، فشكرًا لكم على عواطفكم وهديتكم المستمرة وأدام فضلكم وكتب لكم الإعانة والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... من ابنكم المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى بن شعبان (المنار) نشكر لأخينا في الله تهنئته وحسن ظنه، ونعجب لحضّه إيانا على بيان مفاسد الجامدين، ومشايخ الطريق الدجالين، ومَن ذا الذي سبقنا في العالم الإسلامي إلى هذا أو لحقنا في ميدانه، ولكن لا يمكن أن نحصي في كل جزء ولا في كل مجلد من المنار كل ما في العالم الإسلامي من فساد وإلحاد، وكل ما يرهقه به أعداؤه من ظلم واضطهاد، ولعله لم يطلع إلا على المجلدات الأخيرة التي أكثرنا فيها الكلام في ملاحدة المسلمين لكثرتهم وإظهار دعايتهم في هذه السنين، وهم أضر علينا من الخرافيين والمبشرين. وأما المؤتمر الأفخارستي فلم يكتب لنا شيء في موضوعه إلا في هذا الشهر، وأما اقتراحه علينا إنشاء جريدة أسبوعية فقد اقترحه علينا غيره من قبله ولكن أوقاتنا لا تتسع له وليس لنا مساعد على أعمالنا الكثيرة. وأكثر محبي الإصلاح من علماء المسلمين وعقلائهم يقترحون علينا ترك كل عمل يعوقنا عن إتمام تفسير كتاب الله تعالى الذي يتضمن كل ما يحتاجون إليه من بيان لحقيقة الدين ودفاع عنه، ولعلنا نفضل هذا الاقتراح على غيره قريبًا، والله الموفق.

الشيخ سليمان بن سحمان وفاته وترجمته من جريدة أم القرى الغراء

الكاتب: عن جريدة أم القرى الغراء

_ الشيخ سليمان بن سحمان وفاته وترجمته من جريدة أم القرى الغراء نَعَتْ إلينا أنباءُ نجد وفاة العالم العلامة المِفضال الشيخ سليمان بن سحمان، وهو من أكابر علماء نجد الأعلام، توفاه الله في هذا الشهر عن عمر ناهز الثمانين عامًا قضاها في الدرس والتأليف. وقد كان لنعيه رنة أسى وحزن في نجد جميعًا ولدى كل مَن عرف فضل الأستاذ وما آتاه الله من علم وفصل في الخطاب. وُلد المرحوم في قرية (السقا) من أعمال أبها في عسير في الثلث الأخير من القرن الثالث عشر الهجري، وإلى ذلك يشير في إحدى قصائده: وأرض بها علي نيطت تمائمي ... تسمى (السقا) دار الهداة أولي الأمر بلاد بني تمام حيث توطنوا ... وآل يزيد من صميم ذوي الفخر وقد نشأ في قريته حتى راهق البلوغ ثم انتقل مع والده إلى بلد الرياض أيام الإمام فيصل بن تركي رحمه الله، وقد كانت حينذاك آهلة بالعلماء الأكابر فأخذ العلم عنهم لا سيما عن الإمامين الجليلين: الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ عبد الرحمن ابن حسن، والشيخ حمد بن عتيق. فبرع في كثير من العلوم وعلى الخصوص في علم التوحيد والفقه واللغة. ثم تولى الكتابة للإمام عبد الله بن فيصل برهة من الزمن، ثم استقال وتفرغ للعلم فدرس على علماء وقته أمثال الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وأخيه الشيخ إبراهيم، وعمهما الشيخ إسحاق بن عبد الرحمن. وكان جميل الخط فاشتغل في نسخ كثير من الكتب الجليلة، وقد كان هذا وابتعاده عن الناس أكبر مساعد له على الدرس والمطالعة. وكانت عنده كناشة كبيرة يجمع فيها ما يجده أثناء النسخ والمطالعة من المسائل الدقيقة والقضايا العويصة وكان يرجع إليها عند الحاجة. وكان ضليعًا في اللغة العربية، واقفًا على أسرارها. وقد كان رحمه الله يميل إلى السكون والابتعاد عن الشهرة، فكان زاهدًا تقيًّا صادعًا بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم. وقد صنف المصنفات العديدة من نثر ونظم، أكثرها في الرد على أهل الزيغ والإلحاد، منها: (1) الأسنة الحداد في الرد على الحدّاد. (2) الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق. ويريد به داعية التعطيل في هذا العصر: جميل صدقي الزهاوي. (3) تنبيه ذوي الألباب السليمة. (4) الهدية السنية. (5) إقامة الحجة والدليل. (6) تبرئة الشيخين. (7) الصواعق المرسلة. (8) إرشاد الطالب. (9) رسالة في الرد على أناس من الإحساء. (10) رسالة في الرد على العلجي. (11) كشف غياهب الظلام. (12) فتاوى. وغيرها من الكتب والردود. وقد جمع ورتب رسائل أستاذه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ فبلغت نحو عشرين كراسة سماها (عيون الرسائل والأجوبة على المسائل) وكان المرحوم شاعرًا بليغًا جمع قسمًا من قصائده وأشعاره في ديوانه المسمى (بعقود الجواهر المنضدة الحسان) وقد طبعت جميع كتبه على نفقة حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود المعظم ووزعت على طلاب العلم مجانًا. هذا ما اتصل بنا من ترجمة المرحوم الأستاذ رحمه الله تعالى. وفي الجملة فقد كان رحمه الله من سيوف الله المسلولة على أهل الزندقة والإلحاد، وصاحب الحجة الدامغة في دفع الشبه والريب التي يذيعها أهل المروق من الدين، والذين كان يغريهم شياطين السياسة من المرتزقة المرذولين. وكان شديد الصراحة فيما يعتقد من الرأي، لم يعرف المحاباة في رأيه مدة حياته وهو في كل مجالسه حفيًّا بالسؤال عن كل ما يطبع من الكتب النافعة كما يحرص على اقتنائها. وقد كفّ بصره في آخر حياته ولكن ذلك لم يمنعه عن المطالعة والتأليف وتفقد الذين يطعنون في الإسلام وفي دين التوحيد الخالص لرد كيدهم إلى نحورهم. وبهذا كان رحمه الله ركنًا من أركان الدعوة إلى الله، والسيف القاطع لمن يريد أن يصد الناس عن سبيل الله. فنسأل الله أن يُنزل عليه غيث رحمته، وأن يوفق للعمل كي ينشأ كثيرون من طلبة العلم على منوال الشيخ المرحوم؛ فلا تفقد نجد بهجة علمها وعلمائها.

الشيخ أبو بكر خوقير ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ أبو بكر خوقير وفاته وملخص ترجمته (1) فاجأتنا أنباء الحجاز في الشهر الماضي بوفاة صديقنا العالم العامل المصلح الشيخ أبو بكر خوقير، تغمده الله تعالى برحمته، فننشر للقراء موجزًا من ترجمته كما علمناه من أصدق إخواننا وإخوانه. فنقول: هو أبو بكر بن محمد عارف بن عبد القادر بن محمد علي خوقير. من بيت علم بمكة، ولد فيها وتفقه أولاً على مذهب الحنفية تبعًا لآبائه، ثم إن أستاذه مفتي مكة الشيخ عبد الرحمن سراج الحنفي أشار عليه وعلى آخرين من طلبة العلم بأن يتفقهوا في المذهب الحنبلي؛ ليكون في علماء الحجاز مَن يتولى منصب الفتوى في هذا المذهب بدلاً من علماء نجد؛ الذين كانوا يتولونه لعدم وجود أحد من علماء الحنابلة في الحجاز، ولم يكن هذا مما ترتاح إليه الحكومة العثمانية ولا أمراء الحجاز، فدرس الفقيه المذهب، وتمكن فيه وفي مذهب السلف في العقائد. وقد عُين مفتيًا للحنابلة في أول إمارة الشريف حسين بن علي، ولم يلبث أن غضب عليه فعزله وعين بدله أحد الشافعية، فكان لا يُفتي للحنابلة إلا بعد مراجعته والأخذ بما يرشده إليه، وجعله الشريف حسين عضوًا في مجلس الشيوخ ثم عزله بعد سنة لاعتراضه على خوض محرر جريدة القبلة في تفسير القرآن بغير علم، وكان الشريف نفسه هو الذي يفسر بعض الآيات برأيه في بعض المقالات التي ينشرها في تلك الجريدة وفي بعض بلاغاته الرسمية أيضًا. وقد امتحن وأُوذي إيذاءً شديدًا جزاءً له على إنكار البدع والخرافات ولا سيما بدع القبوريين والمتصوفين، حُبس أولاً ثمانية عشر شهرًا، ثم حبس ثانيًا نحوًا من سبعين شهرًا في عهد الشريف حسين، وحبس ولده الشيخ عبد القادر في سجن القبو الذي هو شر من سجن الحجاج بن يوسف، وقد سبق وصفه في المنار، فمات فيه صبرًا، وكان له ابن صغير فمات كمدًا وقهرًا، وخرج الشيخ من سجنه لا مال له، وإنما كان يصيبه قليل من أوقاف الحرمين التي تأتي من الآستانة ومصر والشام والعراق. وكان قد اعتاد الاتِّجار بالكتب منذ عزله الشريف عون الرفيق من وظائف الحرم الشريف؛ إذ كان غضب على الشيخ عبد الرحمن سراج مفتي مكة ورئيس العلماء فيها فعزله وعزل جميع رجاله من المفتين والمدرسين. وكان للفقيد منها إفتاء الحنابلة وإمامة الصلاة في مقام الحنابلة كما كان مدرسًا. وكان يدعو للشريف عون بالرحمة لإلجائه إلى تجارة الكتب التي تعينه على العلم، فكان يذهب إلى الهند يحمل إليها من مطبوعات مصر ومكة ويعود منها ببعض مطبوعاتها إلى مكة، وقد جلست إليه في مكتبته في باب السلام غير مرة، وكان مهذبًا رقيق الطبع حسن المعاشرة على شدته في دينه وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، حتى أن مجلسه لا يخلو من دعابة ما في المفاكهة، ونكت أدبية وتاريخية وكان يحب سماع الأصوات الشجية ولا يرى بها بأسًا. (للترجمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من قبودان الصين لأحد العلماء وأصحاب الصحف (27-32) من أحقر الأنام، عثمان بن حسين الصيني إلى الأستاذ العلامة محمد رشيد يا سيدي سلام عليكم ورحمة الله (وبعد) : فقد وصل إلى الفقير الجزء الأول من المنار الشريف وأحاط بما فيه وسُرّ سرورًا شديدًا، جزاكم الله تعالى عنا خير الجزاء. فالمرفوع آنفًا أن علماء الصين تنازعوا في بضع مسائل: (1) أن بعضهم قالوا بأن أرض الصين دار إسلام فإن المسلمين تولدوا في الصين ونشئوا وتمكنوا على التدين والعمل بالشرائع فهي دار إسلام فأحكام دار الإسلام كعدم جواز بيع الخمر ووجوب العشر ونحو ذلك جارية فيها، وبعضهم قالوا بكونها دار حرب فإن المسلمين داخلون تحت الحكام والقضاة للكفار وليس لهم قاضٍ ولا حاكم مستقل. (2) أن مسلمي الصين يَدْعُون الإمام والمؤذن والقراء إلى بيوتهم لقراءة القرآن لأجل موتاهم، وعادتهم إن دعوا مثلاً عشرة قراء إلى بيوتهم فقرأ كلٌّ ثلاثة أجزاء من القرآن معًا أو قرؤوا كل جزء إلى نصفه أو أقل أو أكثر باختيارهم فأطبقوا القرآن فإن الداعي يُخرج لهم أنواع الطعام ويعطي كل واحد منهم أربعة دراهم أو أقل أو أكثر بعد الأكل وهذا ديدنهم. فقال بعض العلماء إن هذا مخالف للكتب الفقهية لا يجوز وغيروا هذه العادة ثم صار أمرهم إلى أنهم إن قرؤوا عن الغير لم يأكلوا ولم يقبلوا الهديات وإن أكلوا من طعام الداعي لم يقرؤوا، لكن نهض بعض أهل العلم والقوم لمعارضتهم وهم الذين قراءة القرآن عند القبر مناط معاشهم ولم يرضوا بتغيير عادة السلف وأخذوا في القيل والقال، فالمرجو من كرمكم - يا سيدي - إعطاء الجواب الحسن القاطع للنزاع بينهم المفيد على مذهبنا الحنفي؛ لأنهم وقعوا في ورطة للتفرق والشقاق بهذا السبب. (3) إن بعض الناس إذا وجع ضرسه أو داد سنه وفسد وضع ضرسًا من الذهب أو غيره في موضعه وإذا فسد بعض ضرس رصعه بالذهب وسده به وأصلحه. هل هذا جائز أم لا؟ هل هو مانع لصحة الغسل أو لا؟ هل وجود الضرورة شرط لجواز الوضع؟ وهل إخراج هذا الضرس الوضعي بعد الموت واجب أم لا؟ (4) إن بعض نساء المسلمين قطعن ذوائبهن؛ لاقتفاء النساء الإفرنج والمشركات ويمضين في الأسواق بغير قناع هل هذا حرام غليظ أم خفيف كيف حكمه على مذهبنا الحنفي؟ (5) بعض مسلمي الهند لم يتمذهبوا بمذهب من مذاهب الأئمة رضي الله عنهم وقالوا إن أهل المذاهب خالف بعضهم بعضًا بل خالف رأي بعض الأئمة الحديث الشريف وهذا يؤدي إلى التشاجر والتقاطع ونحن محمديون نقتدي بالقرآن وبمحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم ونعمل بالقرآن والحديث، لا نقتدي بهذا ولا بذاك هل رأيهم هذا صواب أم لا؟ فالمرجو من كرمكم الفتوى وإعطاء الجواب على التفصيل على مذهبنا الحنفي سراعًا. جزاكم الله تعالى عنا خير الجزاء فإنا كالضفادع في غَيَابة الجُبّ. (6) ثم بقية المرام أنهم تنازعوا في مسألة الهلال، ودخول شهر رمضان وخروجه وقبول أخبار الآفاق بالرؤية وعدمه وتخالفوا، فالإرشاد الإرشاد، فلله دركم والسلام. ... ... ... ... ... ... ... الداعي تلميذكم ... ... ... ... عثمان بن حسين بن نور الحق الحنفي الصيني أجوبة المنار على ترتيب عدد باب الفتاوى (27) دار الإسلام ودار الحرب: إن دار الإسلام هي البلاد التي تنفذ فيها شريعة الإسلام بالسيادة والحكم من قِبَل أولي الأمر من المسلمين. لا كل بلاد يمكن للمسلم فيها أن يصلي ويصوم؛ فإننا إن قلنا بهذا حكمنا بأن جميع ممالك أوربة وأميركة دار إسلام، إذ لا يُمنع أحد فيها من صلاة ولا صيام، وإن المسلمين يصلون الجمعة والعيدين في باريس عاصمة فرنسة ولندن عاصمة الإنكليز فهل هما من دار الإسلام؟ . كلا. ولا كل بلاد فتحها المسلمون وإن زال حكمهم منها دار إسلام، فإننا إن قلنا بهذا نكون قد حكمنا بأن بلاد الأندلس وجنوب فرنسة دار إسلام. وإننا ننقل لهؤلاء المختلفين في هذه المسألة بعض أقوال فقهاء الحنفية الذين ينتمون إلى مذهبهم: قال في الكافي: ودار الإسلام عندهم ما يجري فيه حكم إمام المسلمين من البلاد، ودار الحرب ما يجري فيه أمر رئيس الكفار من البلاد. وفي الزاهدي أن دار الإسلام ما غلب فيه المسلمون وكانوا فيه آمنين، ودار الحرب ما خافوا فيه من الكافرين. ولا خلاف في أنه يصير دار الحرب دار الإسلام بإجراء بعض أحكام الإسلام فيها. وأما صيرورتها دار الحرب نعوذ بالله تعالى فعنده [1] بشروط: (أحدها) إجراء أحكام الكفر اشتهارًا بأن يحكم الحاكم بحكمهم ولا يرجعون إلى قضاة المسلمين، ولا يحكم بحكم من الإسلام كما في الحرة. (وثانيها) الاتصال بدار الحرب بحيث لا تكون بينهما بلدة من بلاد الإسلام يلحقهم المدد منها. (وثالثها) زوال الأمان أي لم يبق مسلم ولا ذِمّيّ آمنًا بأمان الإسلام، ولم يبق الأمان الذي كان للمسلم بإسلامه، وللذمي بعقد الذمة كما كان قبل استيلاء الكفرة، وعندهما [2] لا يشترط إلا الشرط الأول. اهـ. هذا، وإن الصين لم تكن دولة إسلامية تابعة لخليفة من أئمة المسلمين ولا لسلطان من سلاطينهم تنفذ فيها أحكام شريعتهم ويكون مسلمو أهلها آمنين فيها بإسلامهم وغير المسلمين آمنين بعقد الذمة مع أولي الأمر من المسلمين فتكون دار إسلام، فلا أدري من أين جاءت الشبهة لبعض متفقهة إخواننا من مسلميها بأنها دار إسلام؟ ! نعم، إن بعض فقهاء الحنفية تساهلوا في شروط إبقاء حكم دار الإسلام في البلاد التي تنفصل من سلطنة إمام المسلمين بتغلب الكفار أو البغاة عليها فلا يشترطون في صيرورتها دار حرب الشروط الثلاثة التي اشترطها إمام المذهب الأعظم، بل قال بعضهم: إنها تعد دار الإسلام والمسلمين ببقاء بعض أحكام الإسلام فيها ولو حكمًا واحدًا (كما في العمادي وفتاوى عالم كير وفتاوى قاضي خان وغيرها) ولكنهم جعلوا هذا من قبيل الاحتياط كما في جامع الرموز، والذي نفهمه من الاحتياط أنه يجب على أهل هذه البلاد أن يعدوها تابعة لحكومة خليفة الإسلام، ويجتهدوا في إزالة ما عرض لهم فيها من العدوان، كما فعلت بعض البلاد التي استولت عليها جيوش الدول الأوربية وأبطلوا فيها بعض أحكام الإسلام دون بعض. وهذا الاحتياط لا يمنع الإمام في دار الإسلام والعدل من التصدي لإعادتها إلى حكمه ولو بالقتال عند الإمكان، ومن هذا القبيل ما ذكرناه من البحث في دار الإسلام الأصلية مما تغلَّب عليه أهل الحرب من الكفار وقلنا بوجوب سعي المسلمين إلى إعادة حكم الإسلام فيها (راجع ص 576 و580 من مجلد المنار 30) . ولكن هذا الاحتياط لا يأتي في بلاد الصين فهي دار كفر وحرب من الأصل فيباح لأهلها المسلمين في مذهبهم الحنفي أكل أموال غير المسلمين فيها بالعقود المعروفة فيها كالربا وغيره وبكل وسيلة من وسائل التعامل والتراضي أو ما عدا الغدر والخيانة فإن الإسلام لا يبيح هذه الرذيلة. ولا ينبغي لمسلم أن يبيع فيها الخمر لشاربيها بفتح حانة لها؛ لأن هذا إعانة على الفحشاء والمنكر والشرور، ولكن له أن يأخذ ثمن الخمر في دَيْن له، وكذا الخمر نفسها وبيعها لهم لا للمسلمين، ولهذا الباب فروع كثيرة لا محل لذكر شيء منها هنا. ولكنني أزيد على هذا الجواب تنبيه قرائه من علماء مسلمي الصين وعقلائهم ما أعتقده من أنهم لو أقاموا دينهم كما يجب، ونموا ثروتهم بالطرق العصرية المباحة في مذهبهم، ونشروا المعارف الإسلامية والاقتصادية بينهم، وعنوا مع ذلك بنشر دعوة الإسلام في الصين كما يعنى دعاة النصرانية - لغلب الإسلام في الصين جميع الأديان، وصار دولة إسلامية عزيزة السلطان، باذخة البنيان، قوية الأركان. وقد كان كثير من ساسة أوربة وعلمائها في القرن الماضي وأوائل هذا القرن يحسبون لهذا الأمر كل حساب. وقد صرح به بعضهم ونقلنا بعض أقوالهم في مجلدات المنار الأولى وأولها ما نشرناه في المجلد الأول بتاريخ ربيع الآخر سنة 1317 وسنعيد نشره كله أو بعضه في جزء آخر ليعتبر مسلمو الصين بتقصيرهم. *** (28) قراءة القرآن للموتى وأخذ الأجرة عليها قراءة القرآن عبادة كالدعاء والذكر لا يجوز أخذ الأجرة عليها بوجه من الوجوه. وإذا كان فقهاء الحنفية منعوا أخذ الأجرة على تعليم القرآن؛ لأنه عبادة فمنع أخذها على قراءته أولى بالحظر، لأن للأخذ على التعليم وجهًا وقد قال الجمهور بجوازه. وقد بينا هذه المسألة في الفتوى العاشرة من فتاوى مجلد المنار الثلاثين (ص108) . وأما أصل مسألة القراءة على الموتى فقد فصلنا القول فيها في 16 صفحة من جزء التفسير الثامن (صفحة 255-270) وبينا أن التحقيق أن قراءة القرآن للموتى بدعة غير جائزة وذكرنا أدلة مجوزيها مع بيان ضعفها فليراجعها السائل. ولكن هنا مسألة أخرى وهي أن قراءة القرآن في البيوت من الأمور التي تقوي إيمان أهل البيت وتزيد أنس أرواحهم وشرح صدورهم بالإسلام سواء فهموا القرآن أو لم يفهموه، فإن سماعهم له مع اعتقادهم أنه كلام الله تعالى يؤثر في قلوبهم بقدر إيمانهم، وفائدة من يفهم منهم تكون أعظم. وقد جرت عادة الموسرين في بلاد مصر أن يجعلوا في كل بيت من بيوتهم حافظًا من حفاظ القرآن يتلوه في ليالي رمضان من بعد صلاة العشاء والتراويح إلى وقت السحور، ومنهم من يقرأ القرآن في داره كل يوم، ويعطون لهؤلاء القراء شيئًا معينًا في الشهر من باب الهبة والتبرع، لا الأجرة التي تثبت بالتعاقد، وقد فرقت الشريعة بين التعاقد والتبرع الاختياري فثبت في الأحاديث الصحاح استحباب قضاء الدين بزيادة وفضل عن أصله، وأخذ بهذا من لا يبيح التعاقد على هذه الزيادة بل يعدها من الربا، والمتفقه من هؤلاء القراء يستبيح أخذ ما يُعطاه من هذا الباب، وكذلك المعطي له يعد ذلك قربة من باب الصدقة لا الأجرة على التلاوة. وقد ذكرت هذه المسألة في الفتوى العاشرة من المجلد الماضي التي أشرت إليها آنفًا، وقلت فيها: فإذا قصد القارئ ذلك (أي فائدة السامعين للقرآن) مع التعبد والاتعاظ بنفسه أرجو أن يباح له أخذ ما يُعطَى في كل شهر وهو يكون بغير عقد، وهو غير خسيس يخل بقدر حافظ القرآن، ولعل أكثر الأغنياء لا يسمعون القرآن إلا بهذه الوسيلة، وهو هجر للقرآن وناهيك به من مصيبة. فالذي أراه أن يجتمع إخواننا المختلفون في هذه المسألة في بلاد الصين ويتذاكروا فيما كتبناه لعلهم يتفقون على أن يكرموا قراء القرآن بشيء من المال يدفعه لهم الموسرون في كل شهر، ويرغِّبون إليهم أن يختلفوا إلى بيوتهم في أوقات معينة لتلاوة القرآن فيها، وأن يكون من هذه الأوقات ما تحدث فيه المصائب لتعزية أهلها وصرفهم عن البكاء بسماع القرآن على أن لا يعطوهم شيئًا في هذا الوقت بنفسه كالسابق. وأما أكل الطعام في هذه البيوت فيحسن أن يكون في الأوقات التي يأكل فيها غيرهم من الأصدقاء أو الفقراء وأن لا يقرؤوا فيها. *** (29) الأضراس الصناعية وإصلاح الطبيعية بالحشو والذهب: صرح بعض الفقهاء في كتاب الخلاف بجواز ما ذكر في السؤال كله وباتخاذ مَن جدع أنفه أنفًا من ذهب وقد أمر به النبي بعض أصحابه. رواه الترمذي وهو حديث حسن، والسن والضرس أولى بالجواز ولم يذكروا فيها خلافًا، قال النووي في المجموع: وقول المصنف إن اضطر إلى الذهب جاز استعماله فمتفق عليه وقال أصحابنا فيباح له الأنف والسن من الذهب ومن الفضة وكذا شد السن العليلة بذهب وفضة جائز ويباح أيضًا الأنملة منهما.. إلخ ولم يذكر فيه خلافًا

تلبس الجن بالإنس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تلبُّس الجن بالإنس (س33) من صاحب الإمضاء في المحمودية (بحيرة) بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضل والفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) : فإني أرفع لسيادتكم ما يأتي: كيف يتلبس الجن بالإنس؟ وهل يجوز ذلك؟ فأرجو من فضيلتكم الجواب على ذلك مع الدليل، ولحضرتكم الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز الصاوي الخولي (ج) لم نفهم مراد السائل من قوله تلبس الجن بالإنس؟ هل هو دخول روح الجني في جسم الإنسي، أم تمثل الجني بصورة الإنسي؟ ومهما يكن مراده فجوابي أنني لا أدري كيف يكون ذلك؛ لأنه من علاقة شيء من عالم الغيب بشيء من عالم الحس، وأما كوْن ذلك جائزاً عقلاً فلا شك فيه ولا فائدة منه، وإنما العبرة بوقوعه، وللناس فيه خرافات كثيرة مضارها معروفة، وإن لنا مباحث طويلة في أمثال هذه المسائل في الكلام على الجن والشياطين وتمثُّلهم وتمثل الملائكة في الصور المادية وفي الصَّرْع، يحسن من السائل أن يراجعها في أجزاء التفسير السابع والثامن والتاسع فلعلها تكفيه، وهي تطلب من حرفي الجيم والشين من الفهرس أي من لفظي الجن والشياطين. *** حديث مَن قال لا إله إلا الله ومدها (س34) من صاحب الإمضاء ب البلينا في الصعيد حضرة صاحب الفضيلة مفتي الأنام وخليفة الأستاذ الإمام، السيد محمد رشيد رضا متعنا الله بعلومه بعد تقديم أوفر التحية، وغالي التمنيات القلبية نتمنى أن تكون فضيلتكم في أعلى مراتب الصحة قرأت في بعض كتب الحديث حديثاً نصه قال عليه الصلاة والسلام: (مَن قال لا إله إلا الله ومدها هدمت له أربعة آلاف ذنب من الكبائر - قالوا: وإن لم يكن له كبائر؟ قال: هدمت لأهله وجيرانه) ، فلم أعلم مبلغ صحة هذا الحديث ولم يمكني التوفيق بينه وبين قوله تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} (النساء: 123) وقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) وقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: 164) ، فرفعت قولي هذا راجيًا نشر ما ترتاح إليه النفوس وتطمئن إليه الأفئدة بصدد هذا على صفحات مجلتكم (المنار) الغراء في العدد القادم. أدامكم الله لكشف الشبهات، وتقرير البينات، إنه مجيب، والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص لفضيلتكم ... ... ... ... ... ... ... ... توفيق عبد الجليل ... ... ... ... ... ... ناظر مدرسة العرابة المدفونة بالبلينا (ج) الحديث ذكره الحافظ محمد بن طاهر في (تذكرة الموضوعات) وقال: فيه عباد بن كثير الكاهلي متروك الحديث، فهذا سنده لا يعتد به، ومتنه أبطل من سنده لمخالفته لأصول الشريعة وهي من علامة الحديث الموضوع. فلا حاجة إلى إطالة القول فيه. *** حكم نَسْخ كتب الكفر والإضلال بالأجرة (س35) من صاحب الإمضاء في الجزائر بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. حضرة الفاضل العلامة المحقق الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا، حياك الله ومتع الإسلام بحياتك. آمين. بعد واجب السلام والاحترام ألتمس الجواب من فضيلتكم في مجلة المنار على السؤال الآتي: إنه لا يخفى عن جنابكم أمر الأموال التي ينفقها المبشرون في سبيل رواج دينهم وتضليل المسلمين ما استطاعوا إليه سبيلاً، والحمد لله لم ينالوا مرغوبهم في البلاد العربية. وقد رأيت مسلماً صَنعته خطَّاط بالعربية فيخط كتب المبشرين ويؤدون إليه بأجرة يتفق عليها، فهل يجوز له أن يخط كتب المبشرين وهو يعلم بأنهم يريدون بها تضليل المسلمين؟ وهل يحل له قبض هذه الأجرة أم حرام عليه؟ فأفيدونا ولكم الأجر من الملك العلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر الجزائري (ج) إن هذه الكتب التي يؤلفها وينشرها دعاة النصرانية (المبشرون) مشتملة على أقبح الكفر بالله والشرك به والطعن على القرآن المجيد وعلى خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم؛ فمساعدتهم على ذلك بنسخها لهم مشاركة في نشر الكفر وهو كفر ظاهر لا يقترفه مسلم يؤمن بالله ورسالة أفضل رسله وأكملهم، ويعد صاحبها فاسقاً لا كافراً، فإن كان هذا المسلم الجغرافي يجهل هذا فيجب إعلامه به ودعوته إلى التوبة وترك الكسب بما هو كفر وعداوة لله ورسوله، فإن أصر على ذلك بعد العلم وقيام الحجة عليه فيجب أن يُعامَل معاملة المرتدين بما يقدر عليه المسلمون في وطنه منها، فلا يزوجونه امرأة مؤمنة، وإذا مات فلا يصلينَّ عليه أحد ولا يدفننَّه في مقابر المسلمين. وإذا كان في بلده محكمة شرعية فيجب أن ترفع عليه فيها دعوى الردة من قِبَل زوجته إن كان له زوجة مسلمة فتطلب فسخ عقد الزوجية والتفريق بينها وبينه، ولكن يجب أن يُدعَى أولاً إلى التوبة باللطف والسر لئلا يكون عمله عن جهل فتأخذه العزة بالإثم ويلتحق بالكفار.

جمع كلمة المسلمين قاعدة أهل السنة والجماعة

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ جمع كلمة المسلمين قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة واتقاء تكفيرهم للإمام شيخ الإسلام وعلم الأعلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى وتقدس: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ} (آل عمران: 102-106) قال ابن عباس وغيره: تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة {.. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وَجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وَجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران: 106-107) . وفي الترمذي عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج: (إنهم كلاب أهل النار) وقرأ هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وَجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وَجُوهٌ} (آل عمران: 106) قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد خرجها مسلم في صحيحه، وخرج البخاري طائفة منها. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّميَّة) ، وفي رواية: (يقتلون أهل الإسلام ويدَعون أهل الأوثان) . والخوارج هم أول مَن كَفَّر المسلمين بالذنوب. ويكفرون مَن خالفهم في بدعتهم ويستحلون دمه وماله وهذه حال أهل البدع يبتدعون بدعة ويكفرون مَنْ خالفهم في بدعتهم، وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق، ويرحمون الخلق. وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين. أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غالبيتهم بالنار وطلب قتل عبد الله بن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد مَن يُفضِّله على أبي بكر وعمر. ورُوي عنه من وجوه كثيرة أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. ورواه عنه البخاري في صحيحه. *** فصل ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يصلُّون الجُمع والأعياد والجماعات، لا يَدَعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة ولا فجور صُلّي خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف مَن علم باطن أمره، بل ما زال المسلمون من بعد نبيهم يصلون خلف المسلم المستور، ولكن إذا ظهر من المصلي بدعة أو فجور وأمكن الصلاة خلف من يعلم أنه مبتدع أو فاسق مع إمكان الصلاة خلف غيره - فأكثر أهل العلم يصححون صلاة المأموم , هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد. وأما إذا لم يمكن الصلاة إلا خلف المبتدع أو الفاجر كالجمعة التي إمامها مبتدع أو فاجر وليس هناك جمعة أخرى فهذه تصلَّى خلف المبتدع والفاجر عند عامة أهل السنة والجماعة. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة أهل السنة بلا خلاف عندهم. وكان بعض الناس إذا كثرت الأهواء يحب أن لا يصلي إلا خلف من يعرفه على سبيل الاستحباب، كما نُقل ذلك عن أحمد أنه ذكر ذلك لمَن سأله. ولم يقل أحد: إنه لا تصح إلا خلف مَن عرف حاله. ولما قدم أبو عمرو عثمان بن مرزوق إلى ديار مصر وكان ملوكها في ذلك الزمن مظهرين للتشيع، وكانوا باطنية ملاحدة، وكان بسبب ذلك قد كثرت البدع وظهرت بالديار المصرية - أمر أصحابه أن لا يصلوا إلا خلف مَن يعرفونه لأجل ذلك [1] ثم بعد موته فتحها ملوك السنة قبل صلاح الدين وظهرت كلمة السنة المخالفة للرافضة، ثم صار العلم والسنة يكثر بها ويظهر. فالصلاة خلف المستور جائزة باتفاق علماء المسلمين، ومن قال: إن الصلاة محرمة أو باطلة خلف من لا يعرف حاله فقد خالف إجماع أهل السنة والجماعة. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يصلون خلف من يعرفون فجوره، كما صلى عبد الله بن مسعود وغيره من الصحابة خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد كان يشرب الخمر وصلى مرة الصبح أربعًا وجلده عثمان بن عفان على ذلك. وكان عبد الله بن عمر وغيره من الصحابة يصلون خلف الحجاج بن يوسف. وكان الصحابة والتابعون يصلون خلف ابن أبي عبيد وكان متهمًا بالإلحاد وداعيًا إلى الضلال. *** فصل ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} (البقرة: 285) وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء وغفر للمؤمنين خطأهم. والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين. واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم. ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم، لا لأنهم كفار. ولهذا لم يَسْبِ حريمهم ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها مَن هو أعلم منهم؟ ! فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى وأن تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضًا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ. والغالب أنهم جميعًا جهال بحقائق ما يختلفون فيه. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله. قال النبي صلى الله عليه وسلم - لما خطبهم في حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وقال صلى الله عليه وسلم: كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه) وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله) وقال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله: هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: إنه أراد قتل صاحبه) وقال: (لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض) وقال: (إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما) وهذه الأحاديث كلها في الصحاح. وإذا كان المسلم متأولاً في القتال أو التكفير لم يكفر بذلك كما قال عمر بن الخطاب لحاطب [2] بن أبي بَلْتَعَة: (يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟ !) وهذا في الصحيحين. وفيهما أيضًا من حديث الإفك: أن أُسيد بن الحُضير قال لسعد بن عبادة: إنك منافق تجادل عن المنافقين، واختصم الفريقان فأصلح النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. فهؤلاء البدريون فيهم مَن قال لآخر منهم: إنك منافق، ولم يكفر النبي صلى الله عليه وسلم لا هذا ولا هذا، بل شهد للجميع بالجنة. وكذلك ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلاً بعد ما قال لا إله إلا الله وعظم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما أخبره وقال: (يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ ! وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمتُ إلا يومئذ) . ومع هذا لم يوجب عليه قودًا ولا كفارة؛ لأنه كان متأولاً ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذًا. فهكذا السلف قاتل بعضهم بعضًا من أهل الجمل وصِفِّين ونحوهم وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9) فقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل؛ ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضًا موالاة الدين لا يُعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم من بعض، ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض، مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه: (أن لا يهلك أمته بسَنَة عامة فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم فلم يُعْطَ ذلك) وأخبر أن الله لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم يغلبهم كلهم حتى يكون بعضهم يقتل بعضًا وبعضهم يسبي بعضًا. وثبت في الصحيحين لما نزل قوله: {قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُم} (الأنعام: 65) ، قال: (أعوذ بوجهك) {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} (الأنعام: 65) ، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْض} (الأنعام: 65) قال: (هاتان أهون) ! هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة) وقال: (الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) وقال: (الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم والذئب إنما يأخذ القاصية والنائية من الغنم) . فالواجب على المسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجماعة ويوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالًّا أو غاويًا وأمكن أن يهديه ويرشده - فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. وإذا كان قادرًا على أن يولي في إمامة المسلمين ا

السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما بلغنا عن بعض إخواننا من مسلمي بيروت أنهم غير راضين عن رد المنار على الشيعة في هذا العهد الذي اشتدت فيه حاجة المسلمين إلى الاتفاق والاتحاد ولا سيما مسلمي سورية ولبنان والعراق الذين اشتد عليهم ضغط المستعمرين في دينهم ودنياهم. وإنني أقسم بالله وآياته لَشديد الحرص على هذا الاتفاق وقد جاهدت في سبيله أكثر من ثلث قرن، ولا أعرف أحدًا في المسلمين أعتقد أو أظن أنه أشد مني رغبةً وحرصًا على ذلك، وقد ظهر لي باختباري الطويل وبما اطَّلعت عليه من اختيار العقلاء وأهل الرأي أن أكثر علماء الشيعة يأبون هذا الاتفاق أشد الإباء؛ إذ يعتقدون أنه ينافي منافعهم الشخصية من مال وجاه. وأول مَن كلَّمتهم في هذا الموضوع شيخنا الأستاذ الإمام في سنة 1315 هـ وآخرهم الأستاذ الثعالبي السياسي الرحالة الشهير في هذا الشهر مع أستاذ ذكي من شبان الشيعة العراقيين، وفيما بين هذين الزمنين تكلمت مع كثيرين من الفريقين في مصر وسورية والهند والعراق، وأعلاهم مقامًا جلالة الملك فيصل تكلمنا في هذه المسألة في دمشق سنة 1320 ثم في مصر عند إلمامه بها في عودته من أوربة في خريف سنة 1345هـ 1926م. ومما علمته بالخبر والخبر أن الشيعة أشد تعصبًا وشقاقًا لأهل السنة فيما عدا الهند من البلاد الجامعة بين الطائفتين؛ فالفريقان فيها قرنان متكافئان، وقد اجتهدت أنا وإخواني من محبي الإصلاح في الهند بالتأليف وجمع الكلمة وخطبت في مدينة بُمبي خطبة فيَّاضة في ذلك. وبدأت بزيارة رئيس الشيعة الديني في لكنهؤ دون غيره من أمراء الهند وزعمائها؛ فإنهم كانوا هم الذين يبدؤونني بالزيارة، وكنت سبب دخول الكاتب الحماسي الشعبي (الديمقراطي) المؤثر ظفر علي خان صاحب جريدة زميندار الوطنية المؤثرة دار (النواب فتح علي خان) لأول مرة ولم يدخلها قبل ذلك قط ولا دخل دور غيره من سلائل الأمراء من الشيعة ولا غيرهم، وقد رأيت لسعيي تأثيرًا حسنًا في الهند وفي إيران، ولما ألممت ببغداد منصرفي من الهند جاءني وفد من النجف للزيارة والدعوة إلى النجف وأخبرني رئيسه صديقي العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني أنه يوجد هنالك كثيرون من طلبة العلم على رأيي في الإصلاح الإسلامي يتمنون لقائي، وما منعني من زيارة النجف إلا المرض وإنما كان داعية الإصلاح فيهم المُلا كاظم الخُراساني وقد توفي قبل زيارتي للعراق رحمه الله تعالى، ولكن جمهور شيعة العراق شديدو التعصب باعتراف السيد هبة الدين وبعض المنصفين منهم. وكان يوجد في شيعة سورية من يُظهر الميل إلى الاتفاق في عهد الدولة العثمانية أكثر مما يوجد في العراق، وكان للمنار رواج عند بعض العصريين المستنيرين منهم. ولذلك قام أشهر علمائهم يطعن عليَّ ويتهمني بالتعصب والتفريق؛ لأنهم يكرهون الاتفاق لما ذكرته آنفًا. وقد صبرت عدة سنين على طعنه عليَّ قولاً وكتابةً حتى صار السكوت عنه إقرارًا لهم على ما قصدوا له في هذا العهد عهد الاستعمار الفرنسي المسمى بالانتداب من مناهضة النهضة العربية الحاضرة من مدنية ودينية بما هو أكبر خدمة للأجانب السالبين لاستقلال هذه البلاد، سورية والعراق. ذلك أنهم نشطوا في هذا العهد لتأليف الكتب والرسائل في الطعن في السنة السنية والخلفاء الراشدين الذين فتحوا الأمصار، ونشروا الإسلام في الأقطار، وأسسوا ملكه بالعدل والقوة، وتم بهم وعد الله عز وجل: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} (التوبة: 33) والطعن في حياة السنة وأئمتها، وفي الأمة العربية بجملتها، وخصوا بالطعن أول ملك عربي اعترفت له الدول القاهرة للعرب والمسلمين وغيرها بالاستقلال المطلق والمساواة لها في الحقوق الدولية، طعنوا فيه وفي قومه بكتاب ضخم لتنفير المسلمين ولا سيما مسلمي العرب وصدهم عنه وإغرائهم بعداوته والبراءة منه، لا لعلة ولا ذنب إلا اتباع السنة وإقامة أركان دولته على أساسها، مع عدم تعرضه للشيعة بعداوة ولا مقاومة، بدليل اتفاقه مع دولة الشيعة الوحيدة في العالم وهي دولة إيران بما حمدناه لكل منهما، ورجونا أن يكون تمهيدًا للاتفاق التام بين الفريقين بالتبع للاتفاق بين الدولتين. والذي بدأ هذا الشقاق وتولى كِبْره منهم هو صاحب ذلك الكتاب البذيء الجاهلي (السيد محسن الأمين العاملي) الذي لم يكتفِ فيه بإخراج ملك العرب الجديد وقومه النجديين من حظيرة الإسلام، وهو يعلم أنه لا قوة له ولا للعرب بغيرهم في هذا الزمان، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) (رواه أبو يعلى بسند صحيح) ولكن الإسلام عنده هو الرفض الذي هو الغلو في التشيع وعداوة السنة. ولم يكتفِ بذلك حتى زعم أن منشأ ضلال هؤلاء الوهابية وخروجهم عن الإسلام وعليه هو كتب شيخ الإسلام، وعلم الأئمة الأعلام، مؤيد الكتاب والسنة بأقوى البراهين النقلية والعقلية، وناقض أركان الشرك والكفر والبدع بتشييد صرح السنة المحمدية، الشيخ تقي الدين ابن تيمية، الذي نشرنا في هذا الجزء بعض رسائله في جمع كلمة الأمة الإسلامية، والأدلة على أن أهل السنة لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة، ولا يأبون صلاة الجماعة مع المبتدعة منهم. وزعم أيضًا أن صاحب المنار قد انفرد دون المسلمين بموافقة ابن تيمية والوهابية، وزاد على ذلك الطعن في شخصه وسيرته العملية، بما هو محض الزور والبهتان، ليخدع الجاهلين من أهل السنة بما بيناه في الرد عليه. وقام في أثره من علماء شيعة العراق مَنْ ألف كتابًا خاصًا في الرد على كتاب (منهاج السنة) لشيخ الإسلام، وآخرون ألفوا كتبًا ورسائل أخرى في الطعن على السنة وأهلها، دعْ ما قالوه في مؤتمرهم المشهور من تكفير الوهابية والتحريض على قتالهم، على ضعفهم وعجزهم. كذلك قام بعده زعيمهم الثاني في سورية السيد عبد الحسين فألف كتابًا آخر في الطعن على الصحابة من كبار المهاجرين والأنصار وفي الأمة العربية سلفها وخلفها وفي أصحاب دواوين السنة ولا سيما الحافظ البخاري رضي الله عنهم فوجب علينا الرد عليه، ولم نفرغ إلا للقليل منه. فصاحب المنار لم يهاجم الشيعة مهاجمة وإنما رد بعض عداوتهم وبهتانهم لبطلانه ولكون هذا الطعن في الصحابة وأئمة السنة وحفاظها وفي الأمة العربية وملكها في هذا الوقت لا فائدة منه إلا لأعداء المسلمين والعرب السالبين لاستقلالهم، وأكبر قوة للأجانب عليهم تعاديهم وتفرقهم. فلا أدري ماذا يريد الذي استنكر هذا الرد عليهم من استنكاره، وكيف تصور إمكان الاتفاق مع قوم يتبعون أمثال هؤلاء الزعماء، وتنشر دعايتهم هذه مجلة العرفان بالتنويه بكتبهم هذه والعناية بنشرها، عدا ما تبعثه هي من دعاية التشيع التي كنا نعذرها فيها بتنزُّهها عن الطعن الصريح في السنة وأهلها؛ ولذلك كنا نرجو أن تنكر هذه الدعاية وتأبى نشر هذه الكتب الضارة بصرف النظر عن مسألة موضوعها، فقد يقول أو قال صاحب مجلة العرفان: إنه يعتقد حقيقة ما كتبه هذان المؤلفان، وإن كنا نشرنا عنه من قبل ما يدل على عدم اعتقاد ما افتراه الأول على الوهَّابية، ولا نعقل أن يكون معتقدًا ما افتراه الثاني على المهاجرين والأنصار من وصفهم بالجبن، ونكثهم لما بايعهم الله عليه. ومن زعمه الذي أقسم عليه يمينًا مغلظة أنه لولا علي بن أبي طالب لقتل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقم للإسلام قائمة في الأرض، بالرغم من وعد الله تعالى بنصره، وإظهار دينه على الدين كله.. إلخ، فهل يريد المستنكر من إخواننا أن نسكت لهؤلاء على كل هذا الطعن فيكون سكوتنا حجة على أهل السنة كافة، ومعصية يأثمون بها كلهم، ولا يزيد الشيعة إلا يقينًا بضلالهم، وبُعدًا عن الاتفاق معهم؟ ! وقد أخبرني مَن بلَّغني ما تقدم من الاستنكار أن بعض مسلمي بيروت استفتاني في تزوج كل من أهل السنة والشيعة في الآخرين ولم أفتِهِ بشيء. وأقول: إن هذا الاستفتاء لم يصل إليَّ، وإنني كنت استُفتيت في مثله من قبل؛ إذ خطب أحد كبار الإيرانيين بمصر فتاة من بيت بعض كبراء المصريين فأرسل الحريم يستفتوني في ذلك سرًّا فأفتيت بالجواز، واستدللت بأن هذا الخاطب من الشيعة الإمامية وهم مسلمون، لا من البابية ولا البهائية المارقين من الإسلام، وإنما يمتنع تزويج هؤلاء، والتزوج فيهم. وأما رأيي في الاتفاق فهو قاعدة المنار الذهبية التي بيناها مرارًا وهي: (أن نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) ، فأهل السنة متفقون مع الشيعة على أركان الإسلام الخمسة، وعلى تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وعلى محبة آل البيت عليهم السلام وتعظيمهم، وعلى جميع المصالح الوطنية من سياسية واقتصادية، وفي البلاد العربية على إعلاء شأن الأمة العربية ولغتها.. إلخ واستقلال بلادها وعمرانها، فيجب أن يتعاونوا على ذلك كله، وهم يختلفون في مسألة الإمامة (وقد مضى وانقضى الزمن الذي كان فيه هذا الخلاف عمليًّا) وفي المفاضلة بين الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، وفي عصمة الأئمة الاثني عشر، مع مسائل أخرى تتعلق بصفات الله تعالى وفيما دون ذلك من الفروع العملية، فلكلٍّ من الفريقين أن يعتقد ما يطمئن إليه قلبه، ويعمل بما يقوم عنده الدليل على ترجيحه أو يقلد فيه من يثق بهم من العلماء، وأن يبين ذلك قولاً وكتابةً من غير طعن في عقيدة الآخر ولا في الصحابة وأئمة العلماء المجتهدين والمحدثين. كما فعل بعض أدبائهم في قصائد نظمها في مدح الأئمة وشرحها وجعل مقدمتها في بيان العقيدة الإسلامية عندهم، وفيها ما لا يوافقهم عليه أهل السنة، ولا يكفرونهم به. ولم ينكر ذلك عليه أحد منهم. فيجب على محبي الاتفاق أن يقنعوهم بقاعدتنا ويؤلفوا جمعية أو حزبًا من الطائفتين للعمل بمقتضاها، بالرغم من زعم مجلة المشرق اليسوعية أن الاتفاق متعذر، واستدلالها عليه بالمناظرة التي دارت بين المنار والعرفان، وما كان صاحباها إلا أخوان، ولا يتعذر عليهما العودة إلى ما كانا عليه بمقتضى هذه القاعدة. هذا، وإننا لا نعرف أحدًا من علماء أهل السنة المتقدمين ولا المعاصرين يطعن في أحد من أئمة آل البيت عليهم السلام، كما يطعن هؤلاء الروافض في الصحابة الكرام، ولا سيما أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي أئمة حفاظ السنة كالبخاري ومسلم، وكذا الإمام أحمد إمام السنة وشيخ كبار حفاظها وشيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ الذهبي وابن حجر وغيرهم، فإنهم يعدونهم من النواصب لعدم موافقتهم لجهلة الروافض على ما يفترونه من الغلو في مناقب آل البيت، وقد أغناهم الله عن اختلاق المناقب لهم بكثرة مناقبهم الصحيحة الثابتة بالنقل الصحيح. وحفاظ السنة ومدونوها هم المرجع في هذا. وكل مَن خالفهم من المبتدعة فهم جاهلون بنقد الروايات، والروافض منهم أجهلهم بهذا العلم، وأكذبهم في النقل، كما هو مشهور عنهم في التاريخ، وقد ذكره أحد علماء ألمانية المستشرقين في كتاب له، وإنما النواصب أولئك الخوارج الذين يتبرؤون من علي كرم الله وجهه، وكذلك مَن يتولون مَن بغوا عليه ومَن قتلوا سبط الرسول صلى الله عليه وسلم أو يصوبون أعمالهم، لا أئمة السنة الذين محّصوا رواياتها، وبينوا درجاتها. ونذكر على سبيل النموذج لجهلهم بالحديث ما انتقدته مجلة العرفان على مجلة الشبان المسلمين المصر

بيان إلى العالم الإسلامي عن قضية البربر في المغرب الأقصى

الكاتب: عن بعض المغاربة المسلمين

_ بيان إلى العالم الإسلامي عن قضية البربر في المغرب الأقصى (جاءنا بالبريد من بعض مدائن المغرب) أيها المسلمون: نحن إخوانكم المغاربة الذين اعتدي علينا، وسُلبنا - أو كدنا - نُسلب أقدس حق يملكه الإنسان، نحن إخوانكم الذين أراد الفرنسيون أن يقضوا على ديننا ويمزقوا وحدتنا، ويقتلوا لغتنا، لغة الكتاب المنزل من السماء، نحن إخوانكم الذين أيسنا أن نقر الذل فينا، وأبينا أن نضام في أعز شيء علينا، (الدين، والوحدة، واللغة) جاهدنا وضحينا في ذلك جهد المستطاع، فمنا من جُلد، ومنا من سُجن، ومنا من نفي، ومنا آخرون يُضطهَدون ما بين عشية وضحاها، ولو بلغ الأمر بنا إلى حد القتل ما كنا نبخل على ديننا بدمائنا الزكية، نحن الذين كنا ولا نزال من أخلص الناس للعروبة والإسلام، ومن أشد الناس شكيمةً وأقواها تمسكًا بأحكام السنة والكتاب، نحن الذين حلت بنا هذه المصيبة العظمى والرزية الكبرى، نريد أن نبين لكم - أيها المسلمون - الحقائق وندلي لكم بالحجج والبراهين التي لا تُبقي شكًّا لمرتاب، ولا يحتاج معها المتبصرون في فهم قضيتنا هذه إلى شيء آخر، ولئلا تنطلي على بعض الناس خدع السياسة؛ لأنه أبعد عنا دارًا، وأنأى مزارًا: * وما راءٍ كمَن سمعا * نناشدكم الله والروح الإسلامي - يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم - أن تتبصروا في هذه القضية المغربية. ولا تغتروا بما ينشره الفرنسيون من الأضاليل والتمويهات الكاذبة؛ فإن هذه القضية لها ما بعدها، وإذا نجح الفرنسيون في تجربتهم هذه فينا فسيحذو حذوهم جميع دول الاستعمار ويتقلص كل الإسلام من الأرض (لا قدر الله) . واذكروا إذا خرج المغرب من حوزة الإسلام كما خرجت الأندلس وصقلّية ماذا يكون عذرنا أمام الله، وموقفنا إزاء العالم أجمع؟ إن هذه القضية - يا أمة رسول الله - ليست إلا إعادة لتمثيل رواية الأندلس الحزينة في المغرب الأقصى، أو ابتداء حرب صليبية من جديد. يا أمة رسول الله: ها نحن أولاء ندلي لكم بالحجج والبراهين لتعلموا ما يتهدد ديننا من الأخطار، وأنتم اليوم أقوياء إن اتحدتم وتناصرتم، والعاقبة لكم ما جادلتم عن الإسلام وجاهدتم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) . الحال في المغرب قبل الحماية عندما ضعف نفوذ الملوك المتأخرين كان المغرب كله في ثورة [1] عامة، سواء حواضره وبواديه، عربه وبربره، فما سكنت قبيلة أو مدينة إلا وتثور أخرى، وكان أشد القبائل شقًّا للعصا القبائل النائية عن عاصمة الملك، حيث توجد القوات والسلطات، ومن هذه القبائل العرب والبربر، وكانت القبيلة إذا ثارت إما أن يساعدها قائدها وقاضيها على الثورة فتتركهما يحكمان فيها ويكونان معها من الثائرين، وإما أن لا يساعداها فتقتل غير المساعد أو تجليه عن أرضها، وفي هذه الحالة تضطر بحكم الضرورة إلى نصب محكمين من قبلها لفصل المنازعات والمشاكل التي تقع بين الأفراد والجماعات، وكانت تختار لفصل القضايا الجنائية والمنازعات التي تحدث بينها وبين مَن جاورها من القبائل على الحدود وغيرها جماعة من كبرائها، ويجعلون على رأس هذه الجماعة مَن كان أكبرهم سنًّا وأرشدهم رأيًا. وإذا نظرنا إلى أن المغرب أكثره كان قد انهدَّ ركنه الأخلاقي والعلمي - نعلم أن هذه الجماعة التي كانت تحكمها بعض القبائل إنما كانت تحكم بأهوائها غير مقيدة بدين ولا قانون؛ لأنها كانت تجهل ذلك، هذا في القضايا الجنائية كما ذكرنا، وأما القضايا المدنية والأحوال الشخصية فكانت تختار لها عالمًا من العلماء الذين كانت لا تخلو منهم قبيلة، ويكون هذا العالِم بمنزلة القاضي غير أنه ولي من طرف القبيلة، ولا ننكر أنه كان يوجد بإزاء هذا بعض اللصوص المتشردين فيعملون على وفق أهوائهم، معتمدين على بأسهم وقوتهم. أما الملوك فلم يقروا أحدًا من هذه القبائل الثائرة على حالته، بل كان كل ملك يعمل جهده كله ليردهم إلى طاعته، والتحاكم إلى القضاة والقواد الذين يوليهم عليهم هو بصفة رسمية. هذه هي الحالة الحق التي كان عليها المغرب في أعوامه الأخيرة سواء من جانب الملوك أو من جانب القبائل، وقد ظهر من ذلك أن القبائل البربرية لم تنبذ الشرع الإسلامي أو التحاكم إليه يومًا ما، وأن نصبها للجماعة وتحكيمها إنما كان لضرورة الثورة، وأن أحدًا من الملوك لم يقرهم على شيء من ذلك، وإنما كان إذا أعجزه كبح جماحهم وخضد شوكتهم سكت عنهم اضطرارًا وإن هذه الحالة كانت عند العرب والبربر على السواء. الحال بعد الحماية عندما بسط الفرنسيون الحماية على المغرب فكروا في شيء يضمن لهم بقاءهم فيه واستيلاءهم عليه نهائيًّا حتى يصير قطعة من الجمهورية كالجزائر والسنغال، فرأوا أن ذلك يمكنهم بمصادرة ثلاثة أشياء: الأحكام الشرعية، والقرآن واللغة العربية؛ لأنها ثلاثتها كحلقة مفرغة يرتبط طرفاها بعضها ببعض وتجمعها كلمة واحدة (الإسلام) والإسلام هو العقبة الكأداء عندهم في طريق استعباد الشعوب، ووجدوا أن الأمر يواتيهم في البربر أكثر مما يواتيهم في العرب، فرسموا لتنفيذ ذلك فيهم خطة ابتدأوا العمل بها عام 1914م. وصاروا يقطعون مراحلها في طي الخفاء إلى أن ظنوا أن الوقت قد حان للعمل النهائي وأنه لم يبقَ في المغرب مَن يرفع رأسه أو ينبس بكلمة، فاستصدروا ظهير 17 الحجة عام 1348 هـ وفيه القضاء الأخير على الإسلام والمسلمين بالمغرب الأقصى. الوثائق الرسمية في محاولة فرنسة إخراج البربر من الإسلام وها هي أقوال ساستهم الرسمية وغيرها ندلي بها حجة على ما نقول، فمن ذلك: 1- منشور أصدره المرشال ليوتي عندما كان مقيمًا عامًّا بالمغرب إلى رؤساء الاستعلامات، ونقله الكمندان مارتي في كتابه (مغرب الغد) صحيفة 228 هذا تعريبه ملخصًا: (إن رئيس مكتب الاستعلامات (ج) لما تخابر مع ءايت مسروح الذين لا يفهمون إلا البربرية أمر رؤساء هذه الجماعات بتعيين طالب معهم ليحرر لهم رسائلهم الإدارية مع مكتبة باللغة العربية، لقد غلط هذا الضابط غلطًا فاحشًا، ولكن لا يستحق توبيخًا على تفكيره - وإن كان هذا التفكير يشتمل على شيء لا أردأ منه - لأنه لما لم يجد موظفين يحسنون البربرية اقتضى نظره ذلك حتى لا تنقطع الصلة بينه وبين ءايت مسروح. وإني لا أجد أفظع من هذه الكلمات التي أدرجها هذا الضابط في تقريره وهي (إن هؤلاء الطلبة الذين سيكلفون بتحرير الرسائل سيتكفلون بتعليم الصبيان إقامة الصلاة التي أصبحت متروكة عند الرجال منهم بسبب جهلهم) إن في هذه السياسة البربرية لعكسًا. لا حاجة لنا في تعليم العربية إلى المستغنين عنها، والعربية رائد الإسلام، ومصلحتنا تأمرنا بأن نمدن البربر خارج سور الإسلام. ويجب علينا أن نمر من البربرية إلى الفرنسية بدون واسطة. ولابد لنا من فتح مدارس فرنسية بربرية تتعلم فيها الشبيبة البربرية الفرنسية. ويجب علينا أن نأخذ الاحتياط من الذاكرة معهم في شأن الدين؛ لأن الإسلام ما وَضَعَ على البرابر - أعني البرابر الذين ظلوا مستقلين - إلا صبغة سطحية.. اهـ) . 2- ما قاله الكمندان مارتي [2] في كتابه المشار إليه (مغرب الغد) صفحة 241 وهذه ترجمته بالعربية: (.. وهذه المدرسة الفرنسية البربرية هي فرنسية باعتبار ما يقرأ فيها، وبربرية باعتبار تلاميذها، وإذًا فلا حاجة بنا إلى واسطة أجنبي حيث إن التعليم العربي وتدخل الفقهاء وكل المظاهر الإسلامية ستبعد عنها إبعادًا، وإننا سنجذب إلينا بواسطة هذا التعليم الصبيان الشلوح، وبذلك نبعدهم قسرًا عن كل ما يطلق عليه لفظ الإسلام) . 3- ما جاء في خاتمة الكتاب (الشعب [3] المغربي أو العنصر البربري) لفكتور بيكيه، من ص 287-301 وتلخيصه: (لما دخل العرب إفريقية الشمالية عرَّبوا السهول وانتشرت لغتهم فيها وحلت محل البربرية ولم يبقَ من البربر محافظًا على لغته إلا الجبليون، فهل يبقون كذلك؟ ! الجواب نعم؛ لأننا لما حفظنا للقبائليين في الجزائر حالهم اتخذوا اللغة الفرنسية بدلاً من العرب، ولا بد لبربر المغرب أن تتبع تلك الخطة، ومن الواجب علينا إعانتهم على ذلك.. إلى أن قال: وقانونهم الخاص (يزور) لا علاقة له بالقرآن، فيجب أن نثبته ونتممه ونرقيه بكيفية بربرية إن لم تكن فرنسية، ولا نترك القرآن يثبت في أذهانهم ولقد ساعدنا على نشر اللغة العربية من غير قصد حيث استعملنا ضباطًا وموظفين مدنيين عسكريين لا يحسنون العربية، فاحتجنا إلى مَن يعرف العربية، وعليه فلنتجنب الفقهاء الذين تحتاج إليهم الجماعة. والكتاب والمدرسون يجب أن يكونوا برابر؛ لأن من استعملناه من الجزائريين العرب في التدريس نشروا العربية والقرآن، لكنا في عام 1923 جعلنا برنامجًا للتعليم البربري في فكرة إفرنسية وجل المدرسين من القبائليين وهي أحسن وسيلة لمصادرة اللغة العربية) . 4- ما ذكره السوردون [4] في محاضراته (محاولة وضع القانون البربري) التي كان يلقيها في معهد الدروس العليا بالرباط سنة 1928 - المقدمة ص22: (.. سيتم فتح أرض البربر عما قريب، وقد آن الوقت لنفي بوعدنا الذي وعدنا به كل قبيلة.. ص23 ولتتم مهمتنا يلزم السلطان أن يكلف الفرنسيين بإدارة شئون البلاد البربرية؛ لأنه يظهر من الصعب أن نطلب من السلطان الديني الشريف أن يضع للبربر قانونًا ... وقد آن الوقت أيضا لجمع العوائد؛ لا بالعربية بل بالبربرية، فنحن الذين بنينا الدار، ولنا الحق في ترتيبها بالاستعمار..) . وفي الخاتمة (ص209) يتعين علينا معرفة الشرع البربري لا للمحافظة عليه لأنه محكوم عليه بالاندثار أمام شرع أعلى منه.. (وفي ص213) توجد بالمغرب اليوم شريعتان مدونتان، الشرع الإسلامي والشرع الفرنسي، ويلوح أن الأولى لنا هو أن تندمج العوائد البربرية تحت الفرنسي (أولاً) لأن بيننا وبين الشرع الإسلامي هوة (ثانيًا) لأن أسلحتنا هي التي أدخلت الأمن إلى بلاد البربر، وهذا يعطينا الحق لأن نختار الشريعة التي يجب أن تطبق فيهم - ص224.. ولنا الحظ السعيد بوجودنا مع مسلمين لا يطالبوننا بإقامة الشرع فيهم، فلماذا نوجده نحن بيدنا ويكون حائلاً بيننا وبينهم؟ ، طاعة البربر كلفتنا مجهودات كبيرة، والسلطان يعترف لنا بأننا وحدنا فتحناهم. وعليه فيظهر أنه لا يرى بأسًا في أن نتحكم فيهم كيف نشاء - (وفي ص 229) .. إن البربر مسلمون ولكن الإسلام عندهم مجرد اعتقاد، فلماذا لا نفكر في أنه يمكنهم يومًا ما أن يختاروا قوانينها؟ وعلى كل حال يكفي أن تفتح لنا هذه النظرة الهائلة الباب لنبدأ في العمل بلا تأخر) . تنفيذ سياستهم في البربر وقد أتبعوا هذه الأقوال بالأعمال فأنشأوا المدارس الفرنسية البربرية ولا عربية فيها، وجعلوا اللهجة البربرية لغة رسمية تُكتب بها التقارير والأحكام، وأخرجوا الفقهاء، وأقفلوا كتاتيب التعليم، وصادروا الشرع بهذا الظهير الذي سننشر المهم منه في هذا البيان، وصاروا ينشرون المسيحية بمختلف الوسائل وهنا نشير إلى بعض القبائل البربرية التي جاء عهد الحماية وقضاتها فيها حتى ألغى الفرنسيون وظائفهم وجُلّهم لا ي

إصرار فرنسة على إخراج البربر من الإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصرار فرنسة على إخراج البربر من الإسلام نشرت بعض الجرائد المصرية كتابين في شأن قضية البربر أحدهما لسلطان المغرب والآخر لوزير فرنسة فيه يدلان على إصرار فرنسة على خطتها في إخراج شعب البربر من الإسلام وعلى أن كل ما تحاوله الآن هو استخدام ما بقي من احترام السلطان ونفوذه لإلزام المسلمين الرضاء بذلك وإخماد نار الاضطراب الذي وقع وتهوين الخطْب الفظيع الذي أوقدها. وإنَّا ننشر الكتابين ونبين في تعليقنا على كل منهما ما يثبت كل ما يشكو منه المسلمون في المغرب وغيره من هذا العدوان، وينقض ما ادعاه الوزير المفوض بمصر في بيانه الذي نشرناه في الجزء الماضي من أساسه. كتاب السلطان (في إقرار فرنسة على جنايتها ودعوة حكومته ورعيته لقبولها) الحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا إلى خدامنا الباشاوات وكافة الأهالي نخص منهم الشرفاء والعلماء والأعيان وفقكم الله، وسلام عليكم ورحمة الله، وبعد: فغير خفي أن للقبائل البربرية عوائد قديمة يرجعون إليها في حفظ النظام، ويجرونها في ضبط الأحكام، وقد أقرهم عليها الملوك المتقدمون من أسلافنا ومن قبلهم، فتمشوا على مقتضاها منذ مدة مديدة، وسنين عديدة، وكان آخر مَن أقرهم على ذلك مولانا الوالد، قدس الله روحه في أعلى المشاهد، اقتداءً بمن تقدمه من الملوك، وإجابة لآمالهم، ورغبة في إصلاح حالهم، وحيث إن ذلك من جملة الأنظمة المحترمة اقتضى نظرنا الشريف تجديد حكم الظهير المذكور؛ لأن تجديده ضروري لإجراء العمل به بين الجمهور وقد قامت شرذمة من صبيانكم الذين يكادون لم يبلغوا الحُلُم وأشاعوا - ولبئس ما صنعوا - أن البرابرة بموجب الظهير الشريف تنصَّروا، وما دروا عاقبة فعلهم الذميم وما تبصروا، وموهوا بذلك على العامة وصاروا يدعونهم لعقد الاجتماعات بالمساجد عقب الصلوات لذكر اسم الله تعالى اللطيف، فخرجت المسألة من دور التضرع والتعبد، إلى دور التحزب والتمرد، فساء جنابنا الشريف أن تصير مساجد قال الله في حقها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) الآية - محلات اجتماعية سياسية تروج فيها الأغراض والشهوات. ومعلوم لدى الخاص والعام أن مولانا السلف الصالح كان أحرص الناس على إيصال الخير لأمته، فكيف يعقل أن يسعى في تكفير جزء عظيم من قبائل رعيته، ونحن - والحمد لله - سائرون على أثره في ذلك، ساهرون على دفع كل ضرر يلحق برعايانا السعيدة، فليس إبقاء تقرير البرابر على عوائدهم إلا مساعدة من جنابنا الشريف على محض طلبهم، وإجراء لهم على ما كانوا عليه منذ أزمان طويلة، على أننا قررنا أن كل قبيلة بربرية تطلب إجراء الأحكام الشرعية عندها تساعَد على ذلك فورًا، أو يعين لها القاضي من لدن جنابنا الشريف حرصًا على صيانة دينها، وبرهانًا على ما لنا من الذود عن حرمة الإسلام في بلادهم، فآمركم أن تلزموا السكينة والوقار، وأن ترجعوا إلى سلوك الجادة والاعتبار. أصلح الله بمنّه ودائم لطفه أحوالكم، وهداكم لما فيه الخير من حالكم ومآلكم والسلام. في 13 ربيع النبوي الأنور عام 1349. *** الرد على كتاب السلطان وكونه حجة عليه لا له (1) قوله: إن أسلافه من الملوك أقروا عوائد البربر القديمة غير مسلَّم على إطلاقه كما عُلم من البيان السابق، ولئن صح لم يكن حجة شرعية على جواز إقراره هو ما خالف الشرع منها، فإن أسلافه لم يكونوا معصومين، ولا يقول مسلم يعرف دينه: إن إقرارهم أو قولهم أو فعلهم حجة في دين الإسلام بل هو معصية فيما ذكر، واستحلال ما خالف الشرع منها مخالفة قطعية كفر وارتداد عن الإسلام، ومنه يعلم حكم الظهير الذي أصدره أبوه والظهير الذي أصدره هو. (2) قوله في الذين أثاروا هذا المعارضة الإسلامية من الشبان - إنهم شرذمة من الصبيان الذين يكادون لم يبلغوا الحلم - ليس في مصلحة جلالته؛ فإن أكثر الذين يعنيهم أكبر منه سنًّا وعلمًا، وقد رأينا فيهم الكُتاب والبلغاء ونرى كتابه هذا في غاية الركاكة والضعف، فكيف يصح أن يكون هو سلطانًا وشارعًا ينسخ شرع الله وهو شاب مثلهم وأصغر من كثير منهم، ولا يصح أن ينكروا هم ما هو مخالف لدينهم، وخطر على بلادهم؟ وكيف أمكنهم أن يثيروا البلاد كلها لو لم يكن فعلهم دفاعًا عن الإسلام؟! (3) قوله إنه ساءه من اجتماعات الأمة في المساجد لذكر اسم الله اللطيف أن تصير المساجد محلات اجتماعية سياسية وقد قال الله في حقها: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (النور: 36) - يدل على أن الذي كتب له هذا الكتاب لا يعقل معناه ولا أنه مخالف لدين الإسلام وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، (أما الأول) فلأن عملهم موافق للآية الكريمة؛ لأنه ذكر لاسمه (اللطيف) والإنكار عليه هو المخالف لها، (وأما الثاني) فلأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم كان في عصره وعصر خلفائه الراشدين محلاًّ للاجتماعات السياسية والاجتماعية المتعلقة بمصلحة الملة ولم يكن هنالك (مخزن) لذلك ويظهر أن الذي وضع له هذا الكتاب من رجال فرنسة لا من منافقي المخزن عنده؛ لأن الإفرنج ودعاتهم من النصارى هم الذين يفرقون هذه التفرقة بين الدين والسياسة. (4) ما ذكره من حرص سلفه على إيصال الخير لأمته وسيره هو على أثره واستدلاله على ذلك بأنه لا يُعقل أن يسعى لتنصير جزء عظيم من قبائل رعيته يجاب عنه: (أولاً) بأن المسألة ليست بالدعوى والنظريات العقلية وإنما هي نازلة واقعة وقضية عملية مشاهَدة. (وثانيًا) بأن أمره ليس بيده وإنما هو مسخر للقوة الفرنسية التي يستند إليها في منصبه. (5) قوله: إن إقرار البربر على عاداتهم ليس إلا مساعدة من جنابه الشريف على طلبهم - إذا سلمناه كان حجة عليه؛ إذ لا يبيحه له الإسلام كما تقدم، وإنما تحتج به فرنسة على من ينكرون عليها إكراه الناس على ترك دينهم وهو مخالف للتقاليد المدنية، وللقوانين الدولية. وهذا دليل على أنها هي الواضعة له هذا الكتاب. (6) قوله: إننا قررنا أن كل قبيلة بربرية تطلب إجراء الأحكام الشرعية - إلى قوله - حرصًا على صيانة دينها - هو نص رسمي منه على أن النظام الذي جرى عليه العمل في ظهيره وظهير والده هو خروج بالبربر عن حكم الشريعة وعن دينهم وأنه هو لا يأمر برجوعهم إليها إلا إذا طلبوا ذلك. وهذا ينقض أقواله السابقة مع العلم بأن قوله بمساعدة الذين يطلبون ذلك فورًا ليس بيده وقد اشترط فيه صاحب السلطان الفعلي الوزير الفرنسي ما يجعله مُحالاً كما يعلم من كتاب هذا الوزير. وهذا نصه: كتاب الوزير الفرنسي الجديد في معنى كتاب السلطان بلغني أن الظهير الشريف المؤرخ بالسادس عشر من شهر مايو سنة 1930 المتعلق بتنظيم المحاكم البربرية فهم منه ما ليس بمقصود حتى من قِبَل الولاة المحليين. وفي الحقيقة أن ما أصدره جلالة السلطان ليس فيه ما يُحدث شيئًا جديدًا، بل المراد منه هو تنظيم الجماعات البربرية المكلفة بالأحكام، وإعطاؤها صبغة قانونية بحيث تصير أحكامها صالحة لأن تنفذ على البرابرة وغيرهم، وأن الظهير المشار له قد أقر حالة كان يتمشى عليها من قديم الزمان، فلا فائدة حينئذ في استعماله لغاية دون الغاية التي قصدها، وإحداث أمور جديدة يتمسك بها ذوو الشهوات الذين لا يعتمدون على أدنى شيء في أقوالهم. فلا ينبغي - والحالة هذه - السعي في جعل الجماعات البربرية المعبر عنها بنزرف تقف في وجه الشرع، بل الذي يحسن سلوكه هو إجراء الظهير المذكور برفق ولين لتطمين النفوس وتسكين الخواطر. أما الذين كانت لهم الحرية من قديم في رفع دعاويهم لدى الشرع وإن كانوا قاطنين في بلاد البربر فالأولى هو إبقاؤهم على ما كانوا عليه، ولا يمكن الآن إجبارهم على الانقياد إلى المحاكم البربرية، لما ينشأ عن ذلك من حوادث متعددة. وكذلك إذا رغبت بعض الأفخاذ المستعربة في البقاء على إجراء دعاويهم لدى الشرع مثل ما كانت تفعله قبل فلا مانع من إجابة مرغوبها، بل إذا صرحت بعض القبائل أو الأفخاذ ممن كانوا منقادين إلى الجماعات البربرية واتفقوا بأجمعهم على سلوك منهج الشرع فإن جلالة السلطان مستعد لتلبية طلبهم وتعيين قاضٍ لهم. هذا وإن الطلبة والفقهاء الذين كانوا قائمين بمهمتهم بالقبائل البربرية إلى الآن بلا مانع فلا يُمنَعون من الدخول إليها. ومثلهم مشايخ الطرق الذين يتجولون بالقبائل المذكورة لأجل جمع الصدقات حتى تبقى مسألة الترخيص لهم في الدخول منوطة بالإدارة العليا كما كان العمل به جاريًا قبل. وبالجملة فإنه من المصلحة البينة أن يعلم كل واحد بأن الظهير الشريف المؤرخ بالسابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 1348 لم يصدر ليكون آلة جبر، بل ليجري العمل به بلين ورفق. اهـ. *** تفسير كتاب الوزير الفرنسي المقيم بالمغرب وكونه حجة عليهم (1) قال: إن ما أصدره السلطان هو إعطاء تنظيم البربر صيغة قانونية به (تصير أحكامها صالحة لأن تنفذ على البربر) ونقول هذا نص صريح بأن ما ينفذونه الآن بمقتضى الظهير المذكور في البربر يراد جعْله أساسًا لأجل تنفيذه في العرب! وهو تصريح بعزم فرنسة على إلغاء الشريعة الإسلامية من بلاد المغرب كلها (فليتأمل المسلمون) ولكنه أمر المنفذين له الآن بالرفق واللين لتسكين الخواطر الثائرة. (2) قال: إن الذين كانت لهم الحرية من قديم في رفع دعاويهم لدى الشرع وإن كانوا قاطنين في بلاد البربر فالأولى عدم إجبارهم (الآن) على الانقياد إلى المحاكم البربرية لما ينشأ عن ذلك من الحوادث المتعددة. ونقول: هذا نص صريح أن البربر ممنوعون من رفع دعاويهم إلى الشرع، وفي أن غيرهم - وهم العرب - لا يُجبرون الآن على ذلك اتقاءً للحوادث أي الثورة، وتقييد ذلك بقوله (الآن) دليل على أنهم سيجبرونهم على ذلك بعد أن تسكن ثورة الأمة ويزول هذا الهياج بنصائح السلطان ورجاله، ورشوة رئيس الجمهورية لمن رشاه منهم. (3) قال: إذا رغبت بعض القبائل أو الأفخاذ واتفقوا بأجمعهم على سلوك منهج الشرع فإن جلالة السلطان مستعد لتلبية طلبهم وتعيين قاضٍ لهم. ونقول: إن هذا هو القيد الذي قيد به قول السلطان في المسألة السادسة من تعليقنا على كتاب جلالته، وهو أنه لا يقبل طلب أحد من البربر ولا من الأفخاذ المستعربة المشار إليها أن يسلكوا منهج الشريعة إلا إذا أجمعوا على ذلك، ومعلوم أن هذا الشرط لا يمكن تحقيقه في قبائل أكثرهم أميون جاهلون وهو طلبهم جميعهم لما ذكر، وإن حكامهم الفرنسيين يمكنهم أن يمنعوهم منه إذا أرادوه، أو يمنعوا بعضهم على الأقل فلا يتحقق الشرط الذي قيد به الطلب وهو أن يتفقوا عليه ويطلبوه بأجمعهم. وهو دليل رسمي على قطع هذا الطريق عليهم. (4) ما ذكره الوزير في مسألة طلبة العلم والفقهاء الذين كانوا قائمين بمهمتهم في قبائل البربر ومشايخ الطرق الذين يجمعون الصدقات من حيث عدم طروء مانع يمنع من دخولهم إليها، ومن حيث إبقاء مسألة الترخيص لهم في الدخول إلى بلاد تلك القبائل - هو دليل على صحة ما يشكو منه المسلمون من الحيلولة بين قبائل البربر وأهل العلم الديني وطرق الصوفية، وعلى أن كل ما تجدد من المعاملة لتسكين الهياج هو أنه يجوز دخول من لا ترى السلطة الفرنسية هنالك مانعًا من دخولهم برخصة من إدارتها العليا، فالحجر على الدخول باقٍ، والرخصة المنوطة برجال فرن

الاحتفال بذكرى جلوس جلالة الملك محمد نادر خان على عرش الأفغان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاحتفال بذكرى جلوس جلالة الملك محمد نادر خان على عرش الأفغان قد تم حولٌ كامل لاستواء محمد نادر خان على عرش الأفغان فاحتفل في تلك البلاد وفي الوكالات السياسية التابعة لها بذكرى جلوسه الميمون الذي قضى على سياسة الإلحاد والفساد التي جرى عليها سلفه الطالح أمان الله خان. وقد شهدنا حفلة المفوضية الأفغانية في دار السفارة في هذه العاصمة، في 24 من هذا الشهر (16 أكتوبر) وقد أجاب دعوة وزيرها العالم المرشد الشهير (جلالة مآب السيد محمد صادق المجددي) جمهور من العلماء والكبراء الرسميين وغير الرسميين من الوطنيين والأجانب، وبعد أن شربوا الشاي وتناولوا معه أنواع الحلوى نهض صاحب السعادة الوزير الجليل فارتقى سُلَّم الدار ووقف بأعلى السقيفة التي أمامه فاستقبل الجمهور الجالسين في الحديقة وألقى خطابه مفتتحًا إياه بتلاوة آيات من خواتيم سورة آل عمران في مناجاة الله عز وجل {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (آل عمران: 193) الآيات وكان الخطاب بعدها بالفارسية لغة الأفغان الرسمية ولكنه قفَّى عليه بآخر في معناه باللغة العربية التي يجيدها علماء الدين في بلاده وهو من كبارهم، فنوه بمآثر جلالة الملك المعظم والاغتباط بالموالاة الودية بين حكومته وحكومة جلالة الملك المعظم، فصفق له الحاضرون مرارًا. وختم خطابه بتكبير العيد. وبعد انتهاء الحفلة أذَّن المؤذن لصلاة المغرب وفُرشت الطنافس الشيرازية في خص (كشك) خشبي في جهة القبلة وفي جوانبه فنهض المصلون واصطفّوا مؤتمّين بالوزير. وبعد الفراغ من الصلاة ودع الجمهور سعادة الوزير مهنئين له بهذا العيد السياسي السعيد، وقد سر مَن حضر من علماء المسلمين وسائر طبقاتهم وانشرحت صدورهم بهذا الاحتفال؛ لأنه لم يسبق له نظير في بلادهم، فهذه أول مرة شاهدوا فيها وزيرًا معمَّمًا يفتتح خطابًا رسميًّا بكتاب الله ويختمه بذكر الله وتكبيره. فنهنئ سعادته ودولة جلالة ملكهم المسلم المصلح بهذه الذكرى الحميدة. ونسأله تعالى أن يوفقه للمضي في الصراط السوي من إصلاح بلاده وأمته في أمور دينهم ودنياهم بما تقتضيه هداية الإسلام ومصالح المسلمين في هذا العصر.

المعاهدة العراقية بين المنار ونوري باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المعاهدة العراقية بين المنار ونوري باشا نشرنا في الجزء الثاني من المنار مقالاً بَيَّنَّا فيه رأينا في هذه المعاهدة ونشرته جريدة المؤيد الجديد بمصر وجريدة الجامعة العربية في القدس مع اختصار، وإحدى جرائد العراق فغاظ ذلك نوري باشا السعيد رئيس الوزارة العراقية فلقن جريدة العراق لسان حاله مقالاً في الطعن على شخص صاحب المنار والافتراء عليه، لم يكن مثله يليق بمنصب الوزير وأدبه ولا بما كان له من التردد على صاحب المنار والتودد له والممالحة. أما المعاهدة فقد زعم أنه لم ينطق أحد باستنكارها وبيان مضارها إلا الغراب الذي نعب بمصر وغراب آخر رجع صداه في العراق، فإن كان لهذا القول مكان من الصدق فالشرف فيه لصاحب المنار أنه كان الأول المقدم لهذه الحملة الصادقة التي حملها أعظم زعماء العراق على المعاهدة ولكن بعد نفوذ السهم وزعم أنه لم يكن له شأن في المسألة العربية. كأنه يجهل أنه أحد مؤسسي الحركة العربية وخطباء (المنتدى الأدبي) العربي في الآستانة وحزب الاتحاد السوري بمصر ومكانه من حزب الاستقلال العربي وأنه المؤسس الأول لجمعية الجامعة العربية، وكأنه نسي تردده هو وغيره من الضباط عليه عندما يجيئون مصر وعندما يسافرون منها، وقوله له عندما ودعه هو بداره - آخر مرة في أيام الحرب -: يا نوري، إنني حجة الله عليكم قد أخبرتكم أن الإنكليز يستخدمون شرفاء مكة والثورة العربية في القضاء على الأتراك والاستيلاء على العرب، فلا تكونوا آلة في يدهم لاستعباد أمتكم وإضاعة مستقبل بلادكم، بل اتخذوا فرصة احتياج الإنكليز إلى العرب لجمع ما تقدرون عليه من المال والسلاح وادِّخاره، مع السعي لجمع كلمة أمراء العرب وزعمائهم.. إلخ. وزعم أيضًا أن صاحب المنار كان اتحاديًّا مع الاتحاديين، وائتلافيًّا مع الائتلافيين وهاشميًّا مع الهاشميين يتملق للحسين وأولاده ونوري باشا يعلم كغيره أن كل هذا افتراء وبهتان، فصاحب المنار لم ينتظم في حزب من هذه الأحزاب، وأنه كان نصح للشريف حسين من قبل بمثل ما نصح به له ولجعفر باشا من بعد؛ أي بأن يبادر إلى عقد حلف بينه وبين الإمام يحيى والإمام عبد العزيز بن سعود والسيد الإدريسي، فأظهر له القبول فوعده بالمساعدة على هذا الأساس؛ لأنه أساس الجامعة العربية التي أقسم نجله الأمير عبد الله لصاحب المنار اليمين على العمل بقانونها، ولكن الملك حسينًا نكص ونكث فحمل عليه صاحب المنار تلك الحملات المعروفة. وأما جلالة الملك فيصل فلا يجهل نوري باشا موقف صاحب المنار معه في دمشق وتلك الكلمات المشهورة له التي سماها مؤرخ الشام الأستاذ محمد كرد علي (الكلمات التاريخية) كما أنه لا ينسى أنه كان رئيس المؤتمر السوري العام في دمشق الذي جعل فيصلاً ملكًا - وأنه واقف على أخباره هو في الوساطة بين الملك فيصل والجنرال غورو حتى في عهد ذلك الإنذار الشائن المهين. ولا ما قاله له عندما عاد بجلالته ليلاً إلى دمشق بعد احتلال الجنرال غورو إياها. وأنه أنكر أنه هو الذي أشار برجوع الملك إلى الشام، ولطخ بذلك غيره من حاشيته. صاحب المنار يكتب في المسألة العربية للنصيحة والإرشاد وإقامة الحجة على الجناة على أمتهم كما صرح بذلك النوري وجعفر وغيرهما في أيام الحرب العامة وقد صدق رأيه بعدها، وسيظهر للأمة العربية كلها صدقه في معاهدة العراق وإن كان لا يود ذلك.

الشيخ أبو بكر خوقير ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ أبو بكر خوقير تتمة ترجمته وله مصنَّفات نافعة منها: (1) فصل المقال وإرشاد الضال في توسل الجهال، طبع في مطبعة المنار بمصر. و (2) مسامرة الضيف في رحلة الشتاء والصيف، طبع في بيروت. و (3) ما لا بد منه في أمور الدين، طبع في مصر. و (4) حسن الاتصال بفصل المقال في الرد على با بُصيل وكمال. و (5) السجن والمسجونون. (6) ما لا غنى عنه شرح ما لا بد منه. (7) التحقيق في الطريق في نقد الطرق المتصوفة. وهذه المصنفات لم تطبع وهي جديرة بالطبع. وكان يقرأ لطائفة من الطلاب دروسًا في العلوم الدينية والتاريخية وغيرها في بيته بعضها بالنهار وبعضها بالليل، وهو لم يتعرّف إلى الملك عبد العزيز آل سعود إمام السلفيين ولم يطلب منه مساعدة ولا وظيفة على كونه أكبر علماء السلفيين وفقهاء الحنابلة في الحجاز، ولكن دلَّه عليه بعض العارفين بقدره فجعله مدرسًا في الحرم الشريف قبل وفاته بسنة. توفاه الله تعالى في بلدة الطائف مصطاف الحجاز في يوم الجمعة غرة ربيع الأول من هذا العام بمرض الزحار عن عمر ناهز السبعين رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجمعنا به في دار القرار مع المقربين والأبرار. استدراك على ما نشر من الترجمة في الجزء الثالث في عام 1324 و1325 كان الشريف علي باشا أمير مكة وهو الآن مقيم بمصر وفي إمارته كان الشيخ أحمد فتة الشافعي مفتيًا للحنابلة وكان الذي يكتب له الفتوى ويستشار فيها الشيخ أبو بكر خوقير. لما صار الشريف حسين أمير مكة في سنة 1327 عين الشيخ أبا بكر خوقير مفتيًا للحنابلة ثم عزله، وعين الشيخ عبد الله بن حميد النجدي مفتيًا للحنابلة بمكة وحفيد الشيخ محمد بن حميد مفتي الحنابلة بمكة سنة 1290 وهو مؤلف (السحب الوابلة في تراجم الحنابلة) ذيل الطبقات للحافظ ابن رجب. ثم عزل عبد الله بن حميد وعيّن الشيخ عمر باجُنيد الشافعي مفتيًا للحنابلة وهو من علماء مكة القبوريين - والآن دخل الوكر - وهو تلميذ با بصيل تلميذ دحلان. وقد استدركت بهذا على عبارة الترجمة لئلا يقول الناس ليس بين خوقير وبا جنيد اتفاق حتى يكتب له الفتوى.

ليلة النصف من شعبان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ليلة النصف من شعبان (س 36) لدينا أسئلة متعددة عما يشرع في ليلة نصف شعبان وقد سئلنا عنها مرارًا في السنين السابقة وأجبنا بما حاصله: أن ما جرت به العادة فيها من الاحتفال في المساجد بدعة نهى عنه الفقهاء وأنكروا ما يقع فيه من المنكرات حتى إيقاد المصابيح الكثيرة. وقد ورد في قيام ليلة النصف وصلاتها أخبار وآثار موضوعة وحديث ضعيف رواه ابن ماجه من حديث علي (رضي الله عنه) مرفوعًا: (إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها) وزاد فيه عبد الرزَّاق في مصنفه: (فإن الله عز وجل ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء فيقول: ألا مستغفر أغفر له، ألا مسترزق أرزقه، حتى يطلع الفجر) . وأما دعاء شعبان المشهور فأحيل السائلين عنه على ما هو أقرب إليهم مما كتبته من قبل وهو ما كتبه الأستاذ الشيخ علي محفوظ المدرس بقسم التخصص بالأزهر في كتابه (الإبداع في مضارّ الابتداع) قال: (ومن البدع الفاشية هذا الدعاء الذي يجتمعون له ليلة النصف من شعبان في المساجد عقب صلاة المغرب يقرءونه بأصوات مرتفعة بتلقين الإمام، فإنه مشكوك فيه، وكل الأحاديث الواردة في ليلة نصف شعبان دائر أمرها بين الوضع والضعف وعدم الصحة) . ثم ذكر أقوال العلماء في ذلك. وقد قرظ هذا الكتاب بعض كبار علماء الأزهر المعاصرين وقرظناه في هذا الجزء.

أسئلة من جاوه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من جاوه (س 37 - 42) من صاحب الإمضاء في سمبس (برنيو) مولاي الأستاذ المصلح العظيم صاحب المنار الإسلامي. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فإني أرجو أن تتفضلوا بالجواب عن أسئلتي الآتية بأسرع ما أمكن فإنه قد حمي في جهاتنا - الملاوية الآن - وطيس التنازع والتخاصم فيها بين أهل التقليد الجامدين، وبين محبي الإصلاح والمصلحين، وإنني أرى أن عاقبة ذلك غير محمودة فإن ضرره أكبر من نفعه، وهي: 1 - هل يجوز لأحد تلقين الميت بعد الدفن بنحو ما ورد من حديث أبي أمامة أم يحرم عليه؟ وهل هو بدعة ضلالة أم لا؟ وقد قرأت قولكم في (ج 6، م 17 من المنار) ما نصه: وجملة القول أن التلقين لم يثبت بكتاب الله ولا بسنة رسوله ولا قال أحد من المحققين إنه سُنَّة، بل قال بعض الفقهاء باستحبابه للتساهل في العمل بالحديث الضعيف والاستئناس له بما يناسبه، والبرماوي ليس قدوة، وكم في كتب أمثاله وكتب مَن هم أعلم منه من البدع، فلا ينبغي لأحد أن يثق إلا بما يصرح المحققون بثبوت نقله عن النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور السلف دون ما يذكر غفلاً. أفلا يجوز لأحد اتباع بعض هؤلاء الفقهاء الذين قالوا باستحبابه للتساهل في العمل بالحديث الضعيف في ذلك؟ . 2- هل يجوز التلفظ بنية نحو الصلاة تبعًا لما قال الإمام النووي في المنهاج: ويندب النطق قبل التكبير. اهـ، أم لا لعدم وجود ذلك لا في الكتاب ولا في السنة؟ . 3- هل يجوز لأحد أن يصلي صلاة الحاجة عملاً بحديث عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن كانت له إلى الله حاجة أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء ثم ليصلِّ ركعتين وليثن على الله تعالى) . الحديث رواه الترمذي وقال: حديث غريب. اهـ الجزء الأول من المغني للإمام ابن قدامة وميدان هذا التنازع والتخاصم جريدة (سوْدارا) الملاوية التي تصدر في فلفلان. 4- هل المدارس العالية بمصر تضاهي المدارس العالية في أوربا كإنكلترة وفرنسة وألمانية وسويسرة وهولندة في جميع العلوم والفنون واللغات التي تعلم فيها ما عدا اللغة العربية والعلوم الدينية الإسلامية أم لا؟ 5- هل موظفو حكومة مصر الذين ترقوا إلى مناصب الوزارة تعلموا في مدارسها فقط أم تعلموا أيضًا في إحدى مدارس أوربا العالية وتخرجوا بها أم لا؟ 6- هل يصح قول قائل: لا عبرة بعلوم مَن تخرج بأعلى مدارس مصر - أي العلوم الأوربية العصرية ولغاتها - بالنسبة إلى علوم مَن تخرج بإحدى المدارس الأوربية العالية؛ فإن مدارس مصر العالية تنقصها لغات أوربية وغيرها من العلوم التي تعلم في المدارس الأوربية. هذا، وتفضلوا بقبول فائق تحياتي الزاكية وتسليماتي الطيبة. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران مقدمة لجواب المنار في ضرر التفرق والاختلاف في الدين اعلموا أيها الإخوان المختلفون في هذه المسائل، وليعلم كل المختلفين في أمثالها من المسائل الاجتهادية، أي غير المجمع عليها، أن التفرق والاختلاف في الدين من أكبر المفاسد وأضر المآثم، وأن كلًّا مِنْ فِعل هذه الأشياء وتركها أهون من التفرق والتعادي لأجلها، فإن من فعلها ثقة بعلم من قال بها حسن النية، ومن تركها لعدم الثقة بدليلها حسن النية، ولكن من يشاقّ طائفة من إخوانه المسلمين لمثل هذا لا يكون إلا متبعًا للهوى، وإن أصاب فيما احتج وادعى، فإذا ترك كل فريق الشقاق والقدح في المخالف له، واكتفى ببيان ما عنده من الدليل ونشره فلا بد أن ينتهي الأمر بانتصار الدليل الصحيح القوي على ما له شبهة الدليل {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) - {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) - {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) . اتفق العلماء على أن المراد برد المسائل المُتَنَازَع فيها إلى الله الرد إلى كتابه والمراد بالرد إلى الرسول بعد وفاته الرد إلى سنته. وشبهة المقلدين الذين تقوم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله أن المشايخ الذين يقلدونهم أعلم بالكتاب والسنة من مورِد الدليل عليهم منهما، وهذه شبهة واهية؛ لأن الله تعالى يحاسب الناس على العمل بما علموا من كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لا بما قال هؤلاء المشايخ، ولأن مورد الدليل معه من العلماء الآخذين به مَن هم أعلم من أولئك العلماء الذين قلدوهم بدون دليل أو مثلهم، ومعه زيادة الدليل الذي يجب الرد إليه فيما تنازع فيه العلماء. وإنما يعذر مَن يتبع من يثق بعلمه إذا كان اتباعه في شيء لم يعلم حكم الله وحكم رسوله فيه. وهاك أجوبة هذه المسائل، مع الاختصار في الدلائل. (37) تلقين الميت بينا الحق في هذه المسألة بما نشرناه في المجلد السابع عشر ونَقَلَ السائل خلاصته. وقد طبع في هذه السنين الأخيرة تسع مجلدات من كتاب (المجموع شرح المهذب) للإمام النووي محرر فقه الشافعية وهو أدق كتب الخلاف المطولة في بسط الأدلة على المسائل الخلافية، فرأيناه يعزو استحباب تلقين الميت إلى (جماعات) من أصحابهم أي الشافعية ولا يذكر لهم مستندًا إلا حديث أبي أمامة الذي ذكرناه في المجلد السابع، وينقل عن ابن الصلاح أنه قال: (إسناده ليس بالقائم، لكن اعتضد بشواهد وبعمل أهل الشام) ثم يقول - أي النووي -: رواه أبو القاسم الطبراني في معجمه بإسناد ضعيف ثم يقول بعد إيراده: قلت فهذا الحديث وإن كان ضعيفًا فيُستأنس به، وقد اتفق علماء المحدثين وغيرهم على المسامحة في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب. وأقول: إن الحديث الضعيف لا يثبت به حكم شرعي، والمراد بتسامح بعض العلماء في أحاديث الفضائل والترغيب والترهيب ما فيه تقوية لأمر مشروع دون ما كان تشريعًا جديدًا لما لم يشرعه الله ورسوله، فمن الأول الحث على صلة الرحم وكثرة ذكر الله والترهيب من المعاصي، ومن الثاني صلاة الرغائب وليلة نصف شعبان اللتان قال فيهما النووي في المنهاج: (وصلاة رجب وشعبان بدعتان قبيحتان مذمومتان) ذلك بأنهما وردتا في عدد معين وصفة معينة فكانتا تشريعًا جديدًا، وقد شرحنا هذه المسألة مرارًا وذكرنا ما قاله الحافظ ابن حجر عن المحققين في شروط العمل بالحديث الضعيف عندهم، وكم دخل على الأمة من البدع بهذا التساهل. وأما الاعتضاد الذي ذكره ابن الصلاح فقد بيَّن النووي مراده منه وهو حديث: (واسألوا له التثبيت) أي للميت ولكن هذا دعاء يصلح معضدًا للدعاء للميت بغير التثبيت مما هو بمعناه ولكنه لا يصلح معضدًا للتلقين، وذكر أيضًا وصية عمرو بن العاص، ولا حجة في مثلها على هذا ولا غيره. وإذا كان هذا كل ما عندهم في أوسع كتبهم فلا عذر لمن علمه إذا أصر على تقليدهم في التلقين بشبهة أنهم أعلم ممن ينكره، والمنكرون له هم جمهور أئمة الأمة وعلمائها من المجتهدين والمقلدين لسائر المذاهب ومنهم بعض علماء الشافعية كما علم من عبارة النووي إذ لم ينقل اتفاقهم في المسألة، فالتلقين بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة. *** (38) التلفظ بنية العبادة هذه المسألة بيناها في المنار من قبل غير مرة، ونعود الآن فنقول: إن علماء المسلمين أجمعوا على أن النية محلها القلب، ولكن قال بعض المؤلفين المقلدين من الشافعية: إنه يندب أو يستحب التلفظ بها من باب الاحتياط للتذكر، وقولهم ليس بشرع، ولم يذكروا عليه دليلاً من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع أو عمل بعض علماء السلف. وقد غلط بعضهم في فهم عبارة للإمام الشافعي ظن أنها تدل على ذلك فصرحوا بأنه خطأ. وعبارة الشيخ أبي إسحاق في المهذب هكذا: والنية من فروض الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ولأنها قربة محضة فلم تصح من غير نية كالصوم. ومحل النية القلب، فإن نوى بقلبه دون لسانه أجزأه. ومن أصحابنا من قال ينوي بالقلب ويتلفظ باللسان، وليس بشيء؛ لأن النية هي القصد بالقلب اهـ. وقال النووي في شرحها: فإن نوى بقلبه ولم يتلفظ بلسانه أجزأه على المذهب وبه قطع الجمهور، وفيه الوجه الذي ذكره المصنف وذكره غيره، وقال صاحب الحاوي هو قول أبي عبد الله الزبيري إنه لا يجزئه حتى يجمع بين نية القلب وتلفظ اللسان؛ لأن الشافعي رحمه الله قال في الحج: إذا نوى حجًّا أو عمرة أجزأ وإن لم يتلفظ وليس كالصلاة لا تصح إلا بالنطق. قال أصحابنا غلط هذا القائل وليس مراد الشافعي بالنطق في الصلاة هذا بل مراده التكبير. ولو تلفظ بلسانه ولم ينوِ بقلبه لم تنعقد صلاته بالإجماع فيه، كذا نقل أصحابنا الإجماع فيه. ولو نوى بقلبه صلاة الظهر وجرى على لسانه صلاة العصر انعقدت صلاة الظهر اهـ كلام النووي وأنت ترى أنهم لم يسموا النطق باللسان نية ولا جعلوا له حكمًا. وما ذكره الشافعي من التلفظ في مسألة الحج والعمرة ليس مرادًا به إلا التلبية بهما أو بأحدهما عند النية، والتلبية مشروعة فيهما بالنص فليس المراد بها التعبير عن نية القلب. وجملة القول أن تلقين الناس أن التلفظ بالنية مندوب شرعًا - ابتداع وشرع لم يأذن به الله، فالمندوب عند علماء الأصول: خطاب الله المقتضي للفعل اقتضاءً غير جازم. *** (39) صلاة الحاجة حديث ابن أبي أوفى في صلاة الحاجة واهٍ جدًّا رواه الترمذي من طريق فائد بن عبد الرحمن الكوفي أبي الورقاء وقال إنه يضعّف في الحديث، وهذا أهون ما قيل فيه، ومما قاله الإمام أحمد فيه: لو أن رجلاً حلف أن عامة حديثه كذب لم يحنث. وقال الحاكم: روى عن ابن أبي أوفى أحاديث موضوعة. فهذا الحديث لا يعمل به حتى على قول من قال: إن الأحاديث الضعيفة يعمل بها في الفضائل المشروع مثلها. فقد اشترط في ذلك أن لا يشتد ضعف الحديث، فكيف إذا كان من رواية الكذابين والوضّاعين؟ ولكن التوسل بالصلاة لقضاء الحاجة ولغير ذلك مشروع، ويدخل في عموم قوله تعالى:] وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [وإنما الممنوع أن يُسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت عنه ويُعمل به على أنه ثابت. *** (40) مدارس مصر ومدارس أوربة: لو كانت مدارس مصر العالية تضاهي المدارس العالية في أوربة لاستغنى بها أهل مصر وحكومة مصر عن إرسال أولادهم إلى أوربة، ولكن بعض الذين تعلموا في مصر أرقى علمًا من بعض الذين تعلموا في أوربة. *** (41) في أي المدارس تخرَّج وزراء مصر إن بعض الذين ارتقوا إلى منصب الوزارة في مصر قد تعلموا وتخرجوا في مدارس مصر وبعضهم قد تخرَّجوا في مدارس أوربة، ويقال فيهم ما قيل في جواب السؤال السابق. وإن سعد باشا زغلول الذي ارتقى إلى رياسة الوزارة ورياسة مجلس النواب - وكان أكبر زعماء السياسة في مصر حتى دانت له رقاب المتعلمين في أوربة وفي مصر جميعًا - لم يتخرج في مدارس مصر ولا مدارس أوربة، وقد جاور في الأزهر ولكنه لم يأخذ منه شهادة العالِمية، وإنما تخرج بالأستاذ الإمام تعليمًا وتربية، وأكبر ما استفاده منه استقلال العقل، وعلو الهمة، وقوة الإرادة، والعناية بمصلحة الأمة، وقد تعلم اللغة الفرنسية ودرس بها علم الحقوق دراسة مستقلة في الكبر ثم أدى امتحانها في فرنسا

لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ـ 1

الكاتب: شكيب أرسلان

_ لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟! (1) (بسم الله الرحمن الرحيم) {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الأنفال: 53) ، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر: 51) ، {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15) . كتب إليَّ تلميذي المرشد الشيخ محمد بسيوني عمران إمام مهراجا جزيرة سمبس برنيو كتابًا يقترح فيه على أخينا المجاهد أمير البيان أن يكتب للمنار مقالاً بقلمه السَّيَّال في أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وأسباب قوة الإفرنج واليابان وعزتهم بالملك والسيادة والقوة والثروة. وقال - في كتاب آخر - إنه قرأ ما كتبناه في المنار وتفسيره من بيان الأسباب في الأمرين وما كتبه الأستاذ الإمام في مقالات (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) في الموضوع، وإنما غرضه أن يكتب في ذلك أمير البيان بقلمه المؤثر المعبر عن معارفه الواسعة، وآرائه الناضجة لتجديد التأثير في أنفس المسلمين بما يناسب حالهم الآن، لتنبيه غافلهم، وتعليم جاهلهم، وكبت خاملهم، وتنشيط عاملهم. وبنى الاقتراح على الأسئلة الآتية التي صارت مثار شبهة على الدين عند غير علمائه، فهو يعلم مما سمعه من دروسنا في مدرسة الدعوة والإرشاد ومما كتبناه مرارًا في أن كتاب الله تعالى حجة على أدعياء الإسلام والإيمان، وليسوا هم حجة عليه. افترصْت هذا الاقتراح لحمل أخي ووليي الأمير شكيب على كتابة شيء مثل هذا للمنار، وأنا الذي أنصح له دائمًا بتخفيف أحمال الكتابة عن عاتقه لكثرة ما يكتب لصحف الشرق والغرب وللأصدقاء وغيرهم، فأرسلت إليه كتاب الشيخ محمد بسيوني عقب وصوله إليّ، فأرجأ الجواب عنه لكثرة الشواغل إلى أن عاد من رحلته الأخيرة إلى أسبانية وقد أثرت في نفسه مشاهد حضارة قومنا العرب في الأندلس والمغرب الأقصى، وشاهد تأثير محاولة فرنسة تنصير شعب البربر في المغرب تمهيدًا لتنصير عرب إفريقية المرزوئين باستعبادها لهم كما فعلت أسبانية في سلفهم في الأندلس - فكتب الجواب منفعلاً بهذه المؤثرات، فكان آية من آيات بلاغته، وحجة من حجج حكمته، لعلها أنفع ما تفجر من ينبوع غيرته، وانبجس من معين خبرته، فسال من أنبوب براعته، جزاه الله خير ما جزى المجاهدين الصادقين. *** كتاب الشيخ محمد بسيوني عمران حضرة مولاي الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار نفعني الله والمسلمين بوجوده العزيز. آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن مَن قرأ ما كتبه في المنار وفي الجرائد العربية العلامة السياسي الكبير أمير البيان، الأمير شكيب أرسلان، من مقالاته الرنانة المختلفة المواضيع، عرف أنه من أكبر كُتاب المسلمين المدافعين عن الإسلام، وأنه أقوى ضلع للمنار وصاحبه في خدمة الإسلام والمسلمين، وإني أرجو من الله تعالى أن يطيل بقاءهما الشريف في خير وعافية، كما أرجو من مولاي الأستاذ صاحب المنار أن يطلب من هذا الأمير الكاتب الكبير أن يتفضل عليَّ بالجواب على أسئلتي الآتية وهي: (1) ما أسباب ما صار إليه المسلمون (ولا سيما نحن مسلمو جاوة وملايو) من الضعف والانحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معًا، وصرنا أذلاء لا حول لنا ولا قوة، وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) فأين عزة المؤمنين الآن؟ وهل يصح لمؤمن أن يدعي أنه عزيز وإن كان ذليلاً مهانًا ليس عنده شيء من أسباب العزة إلا لأن الله تعالى قال: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) . (2) مالأسباب التي ارتقى بها الأوربيون والأمريكانيون واليابانيون ارتقاءً هائلاً؟ وهل يمكن أن يصير المسلمون أمثالهم في هذا الارتقاء إذا اتبعوهم في أسبابه مع المحافظة على دينهم (الإسلام) أم لا؟ هذا، والمرجو من فضل الأمير أن يبسط الجواب في المنار عن هذه الأسئلة وله وللأستاذ صاحب المنار - من الله - الأجر الجزيل. ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران ... ... ... سنبس - برنيو الغربية في 21 ربيع الآخر سنة 1348 *** جواب الأمير شكيب أرسلان إن الانحطاط والضعف اللذيْن عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق والمغارب لم ينحصر في جاوة وملايو، ولا في مكان آخر، وإنما هو متفاوت في دركاته، فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب الغور، ومنه ما هو عظيم الخطر، ومنه ما هو أقل خطرًا. وبالإجمال حالة المسلمين الحاضرة - ولا سيما في القرن الرابع عشر للهجرة أو العشرين للمسيح - لا تُرضي أشد الناس تحمسًا بالإسلام وفرحًا بحزبه، فضلاً عن غير الأحمسي من أهله. إن حالتهم الحاضرة لا ترضي لا من جهة الدين ولا من جهة الدنيا، ولا من جهة المادة ولا من المعنى. وإنك لتجد المسلمين في البلاد التي يساكنهم فيها غيرهم متأخرين عن هؤلاء الأغيار لا يسامتونهم في شيء إلا ما ندر، ولم أعلم من المسلمين ممن ساكنهم أمم أخرى في هذا العصر ولم يكونوا متأخرين عنهم إلا بعض أقوام منهم، وذلك كمسلمي بوسنة مثلاً فإنهم ليسوا في سوي مادي ولا معنوي أدنى من سوي النصارى الكاثوليكيين، أو النصارى الأرثوذكسيين الذين يحيطون بهم، بل هم أعلى مستوى من الفريقين، وككثير من مسلمي الروسية الذين ليس المسيحيون الذين يجاورونهم أرقى منهم. ولقد كان المسلمون في أذربيجان قبل الحرب أرقى من الطوائف المسيحية التي تساكنهم، ولا خلاف في أن مسلمي الصين إجمالاً على تأخرهم هم أرقى من الصينيين البوذيين، هذا إذا كانت النسبة بين الفريقين باقية كما كانت قبل الحرب العامة، وفيما عدا هذه الأماكن نجد تأخر المسلمين عن مسامتة جيرانهم عامًّا مع تفاوت في دركات التأخر. ويقال: إن العرب في جزيرة سنغافورة هم أعظم ثروة من جميع الأجناس التي تساكنهم حتى من الإنكليز أنفسهم بالنسبة إلى العدد، ولا أعلم مبلغ هذا الخبر من الصحة، ولكنه على فرض صحته ليس بشيء، يقدم أو يؤخر في ميزانية المسلمين العامة. ولا إنكار أن في العالم الإسلامي حركة شديدة، ومخاضًا عظيمًا شاملاً للأمور المادية والمعنوية، ويقظة جديرة بالإعجاب، قد انتبه لها الأوربيون وقدروها قدرها، ومنهم مَنْ هو متوجس خيفة مغبتها، لا يُخفي هذا الخوف من تضاعيف كتاباتهم، إلا أن هذه الحركة إلى الأمام لم تصل بالمسلمين حتى اليوم إلى درجة يساوون بها أمة من الأمم الأوربية أو الأميركية أو اليابان. فبعد أن تقرر هذا وجب أن نبحث في الأسباب التي أوجدت هذا التقهقر في العالم الإسلامي بعد أن كان منذ ألف سنة هو الصدر المقدم، وهو السيد المرهوب المطاع بين الأمم شرقًا وغربًا، فقبل أن نبحث في أسباب الانحطاط يجب أن نبحث في أسباب الارتقاء فنقول: أسباب ارتقاء المسلمين الماضي إن أسباب الارتقاء كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية التي كانت ظهرت جديدًا في الجزيرة العربية فدان بها قبائل العرب، وتحولوا بهدايتها من الفرقة إلى الوحدة، ومن الجاهلية إلى المدنية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحًا جديدة، صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة، ومجد وعرفان وثروة، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم منذ أواخر خلافة عثمان وفي خلافة علي (رضي الله عنه) لكانوا أكملوا فتح العالم ولم يقف في وجههم واقف. على أن تلك الفتوحات التي فتحوها في نصف قرن أو ثلثي قرن برغم الحروب التي تسببت بها مشاقّة معاوية لعلي والحروب التي وقعت بين بني أمية وابن الزبير - قد أدهشت عقول العقلاء والمؤرخين والمفكرين، وحيرت الفاتحين الكبار، وأذهلت نابليون بونابرت أعظمهم، وله تصريح في ذلك. فالقرآن أنشأ إذًا العرب نشأة مستأنفة وأخرجهم من جزيرتهم والسيف في إحدى اليدين والكتاب في الأخرى يفتحون ويسودون ويتمكنون في الأرض. ولا عبرة بما يقال في شأن العرب قبل الإسلام، وما يُروَى من فتوحات لهم، وما ينوه به من أخلاق عظام في الجاهلية، فهذه قد كانت ولا تزال آثارها ظاهرة، ولا يكفي مدنية العرب القديمة وأنها من أقدم مدنيات العالم، ومما يرجح أن الكتابة قد بدأت عندهم، ولكن دائرة تلك المدنية كانت محدودة مقصورة على الجزيرة وما جاورها. وقد أتى على العرب حين الدهر سادهم الغرباء في أرضهم، وأذلهم الأجانب في عقر دارهم، كالفرس في اليمن وعُمَان وفي الحيرة، وكالحبشة في اليمن، وكالروم في أطراف الحجاز ومشارف الشام. والحقيقة أنهم لم يستقلوا استقلالاً حقيقيًّا إلا بالإسلام، ولم تعرفهم الأمم البعيدة وتخنع لهم وتتحدث بصولتهم، ولم يقعدوا من التاريخ المقعد الذي أحلهم في الصف الأول من الأمم الفاتحة إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم. فالسبب الذي به نهضوا وفتحوا، وسادوا وشادوا، وبلغوا هذه المبالغ كلها من المجد والرقي يجب علينا أن نبحث عنه وننشده، ونُحفي المسألة ونمعن في النشدان: هل هو باقٍ في العرب وهم قد تأخروا برغم وجوده وتأخر معهم تلاميذهم الذين هم سائر المسلمين؟ أم قد ارتفع هذا السبب من بينهم، ولم يبق من الإيمان إلا اسمه، ومن الإسلام إلا رسمه، ومع القرآن إلا الترنم به من دون العمل بأوامره ونواهيه، إلى غير ذلك مما كان في صدر الملة؟ فقد المسلمين السبب الذي سار به سلفهم إذا فحصنا عن ذلك وجدنا أن السبب الذي به استقام هذا الأمر قد أصبح مفقودًا بلا نزاع وإن كان بقي منه شيء فكباقي الوشم في ظاهر اليد. فلو كان الله تعالى وعد المؤمنين بالعزة بمجرد الاسم دون الفعل لكان يحق لنا أن نقول: أين عزة المؤمنين؟ من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (المنافقون: 8) ولو كان الله قد قال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) بمعنى أنه ينصرهم بدون أدنى مزيّة فيهم سوى أنهم يعلنون كونهم مسلمين، لكان ثمة محل للتعجب من هذا الخذلان بعد ذلك الوعد الصريح بالنصر. ولكن النصوص التي في القرآن هي غير هذا، فالله غير مخلف وعده والقرآن لم يتغير، وإنما المسلمون هم الذين تغيروا، والله تعالى أنذر بهذا فقال: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) فلما كان المسلمون قد غيروا ما بأنفسهم - كان من العجب أن لا يغير الله ما بهم، وأن لا يبدلهم الذل والضِّعة من ذلك العز وتلك الرفعة، بل كان ذلك منافيًا للعدل الإلهي. والله عز وجل هو العدل المحض. كيف ترى في أمة ينصرها الله بدون عمل ويفيض عليها الخيرات التي كان يفيضها على آبائها، وهي قد قعدت عن جميع العزائم التي قد كان يقوم بها آباؤها؟ ! وذلك يكون مخالفًا للحكمة الإلهية، والله هو العزيز الحكيم. ما قولك في عزة بدون استحقاق، وفي غلة بدون حرث ولا زرع، وفي

للحقيقة والتاريخ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ للحقيقة والتاريخ (1) (جاءتنا المقالة التالية من فضيلة رئيس تحرير مجلة نور الإسلام وجمعية الهداية تحت هذا العنوان فنشرناها على قاعدتنا في نشر ما يُنتقد علينا، ونقفي عليها بالرد الذي تمليه علينا معرفة الحقيقة ويتقاضاه التاريخ والمصلحة) . حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب (مجلة المنار) الغراء، السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد: فقد قرأت ما كتبتموه في مجلتكم الزاهرة تقريظًا ونقدًا لمجلة (نور الإسلام) فأشكركم على النقد بمقدار ما أشكركم على التقريظ وإنا لنعلم أن مجلة كمجلة (نور الإسلام) يرقبها طوائف تختلف مذاهبهم وتتفاوت أنظارهم وتتباعد أغراضهم، ليس في استطاعة القائمين بها أن يخرجوها على ما يوافق رغبة الطوائف بأجمعها؛ حتى لا تلاقي إلا رضا عنها وتقريظًا. فنحن على اعتقاد يشبه اليقين أن المجلة ستواجه ضروبًا من النقد مختلفة، هذا في إشفاق ورفق، وذاك في قسوة وعنف، وربما كان كلٌّ من الفريقين حسن النية سليم القصد، وما علينا إلا أن ننظر إلى وجه النقد فنتقبله إن كان في نظر الدين والعلم وجيهًا، فإن رأينا الصواب في جانبنا قررنا وجهة نظرنا بالتي هي أحسن حرصًا على أن يكون العلم صلة تعارف وائتلاف [1] ، فلا عتب علينا إذا كنا قد قرأنا في تقريظكم كلمات معدودة ألقيتموها بقصد خدمة الحقيقة والتاريخ، فلم تقع الموقع الذي قصدتم إليه، فكانت وجهة نظرنا فيها غير وجهة نظركم، وشعرنا بأن الحقيقة والتاريخ لا يسمحان لنا بالسكوت عنها، وفضيلتكم من أول الداعين إلى إيثارهما على كل ما يقضي الأدب الجميل برعايته. قلتم في التقريظ: (إن الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق قد جعلني مدرسًا في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة استثنائية) والواقع أن مجلس الأزهر الأعلى قد ندبني للتدريس بقسم التخصص قبل ولاية فضيلة الشيخ المراغي مشيخة الأزهر بنحو سنة وكان الذي يرأس المجلس الأعلى وقتئذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية سابقًا وكان لذلك الحين رئيسًا لقسم التخصص أيضًا. قلتم: (قد عجبتم لي حيث لم أذكر الشيخ محمد مصطفى المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبتها في فاتحة العدد الأول من مجلة (نور الإسلام) مع أن له الفضل عليَّ وإن لم أكن من أعضاء جمعيته أو حزبه. إذا لم أذكر اسم فضيلة الأستاذ المراغي فقد ذكرت أن المجلس الأعلى حينما أخذ ينظر في ميزانية سنة 1929 أدرج فيها مبلغًا للمجلة، ومعلوم من ذكر التاريخ أن المجلس الذي قرر هذا المبلغ كان تحت رياسة الأستاذ الشيخ المراغي فللأستاذ المراغي نصيبه من فضل هذا المشروع ولا يلزم المندوب لرياسة تحرير المجلة أن يكون على علم من مقدار هذا النصيب حتى إذا لم يتعرض له في فاتحة المجلة عُدَّ متهاونًا بحق التاريخ أو غير معترف بالفضل. وما بال فضيلتكم تعجبون لعدم ذكر رئيس المجلس الأعلى الذي قرر المبلغ الذي ينفق على المجلة وتعدونه استخفافًا مني بحق التاريخ ونكرانًا لفضل ذلك الرئيس عليَّ، ولم يعجب أحد من مريدي صاحبي الفضيلة المرحوم الأستاذ الشيخ محمد أبي الفضل والأستاذ الجليل الشيخ عبد الرحمن قراعة لعدم ذكر اسمهما في تلك الخلاصة، وقد كان الشيخ أبو الفضل يرأس المجلس الأعلى الذي قبل اقتراح مشروع المجلة سنة 1926 وكان فضيلة الأستاذ عبد الرحمن قراعة يرأس المجلس الذي ألف لجنة لوضع تقرير في هذا الاقتراح سنة 1927 وهذا العمل بالنظر إلى كونه الأساس الذي قام عليه المشروع عمل لا يستهان به. ولا أرى إلا أن مريدي الأستاذين الشيخ أبي الفضل والشيخ قراعة قرؤوا فاتحة المجلة وقد حضرهم أن المندوب لرياسة التحرير إذا نسب العمل إلى المجلس الأعلى مع ذكر تاريخ انعقاده فقد قضى واجب التاريخ عليه - وليس من واجب التاريخ عليه - أن يسمي رئيس المجلس الأعلى أو أعضاءه في خلاصة قصد بها الإشارة إلى تاريخ نشأة المشروع والأطوار التي مر عليها حتى صار عملاً ظاهرًا. وعلى فرض أن أكون قد أجملت القول في مواضع تعلمون منها أكثر مما أعلم كان لفضيلتكم أن تكتبوها للتاريخ في صفاء خاطر متحامين الكلمات التي يسبق إلى أذهان بعض الناس أنها مصنوعة لتثير غبار فتنة، ومثل هذه الفتنة لو أيقظها غيركم لكان واجب الدين وسماحة الأخلاق قبل كل داعية. وأنا لا أستنكف أن يكون للأستاذ المراغي عندي يد، ولكن التدريس الذي تعنونه بقولكم: (كما أن له الفضل عليه نفسه) قد عرف الناس أني نُدبت له من قبل أن يتولى فضيلته منصب المشيخة، على أني أربأ بكم أن تزنوا العلم بهذا الميزان وتجعلوه أنقص قدرًا من متاع هذه الحياة؛ إذ سميتم انتدابي للتدريس فضلاً من النادب عليَّ بدل أن تجعلوه إخلاصًا منه للمعهد الذي تولى أمره ليدير شؤونه بنصح وأمانة. وإذا لم أكن من جمعية الشيخ المراغي فلأني لا أذكر أن أحدًا من الناس عرض عليَّ قانون حزب أو جمعية تُدعى بهذا الاسم فأعرف مبادئها والغاية التي تألفت من أجلها، ولست ممن يحب أن يحشر نفسه في كل جمعية أو حزب وإن لم يعرف مبادئه ويطمئن إلى الغاية التي يرمي إليها. نقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من أنها لا تمس السياسة في شأن وقلتم: إن هذا حرمان لمحرريها من خدمة الإسلام والدفاع عنها بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها. وجواب هذا أن المجلة إذا تجنبت التدخل في النزعات السياسية فإن أقلام محرريها لا تقف دون الكتابة فيما يصيب الشعوب الإسلامية من مكاره، أو فيما تراه مخالفًا للدين ولو كان من أعمال الإدارة الداخلية، غير أنها تكتب في مثل هذا على وجه الوعظ والإرشاد، فلا يخرج عن دائرة مجلة (نور الإسلام) أن تكتب في إنكار بعض تصرفات يعتدى بها على حق ديني لأحد الشعوب الإسلامية، ولا يخرج عن دائرتها أن تطالب بنحو إلغاء البغاء الرسمي أو احترام المحاكم الشرعية فيما إذا خطر لأحد رجال الإدارة أن ينقص مما هو داخل في اختصاصها، أو الاحتفاظ باللغة العربية فيما إذا رأى ذو سلطة اهتضام جانبها، إلى غير هذا من الشؤون التي تحفظ على الأمة دينها ولغتها، ويرغب أولو السياسة الرشيدة أنفسهم أن يعلموا حكم الدين في أمثالها. ونقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من: (أنها لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول) وحملتم هذه العبارة على معنى أنها لا ترد على المخالفين إذا هاجموا الإسلام، وقلتم: إن العلماء لا يستطيعون القتال بالسلاح فهم يستطيعون الجهاد بالقلم واللسان ومجادلتهم بالتي هي أحسن وإن كرهوها. ولو صدر هذا النقد من غير فضيلتكم لقلنا: إنما يريد أن يكثر سواد وجوه النقد، ولكن مكانكم أرفع من أن يقصد إلى هذه الغاية، وذلك لأنا نقول في فاتحة المجلة: (تناقش المجلة الأشخاص أو الجماعات الذين يقولون في الدين غير الحق مقتدية في مناقشتها بأدب قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: 125) . وإذا قالت: إنها لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، أو قالت لا تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول - فإنما تريد الترفُّع عن بذاءة القول والخروج عن دائرة البحث العلمي إلى ما يهيج البغضاء دون أن يكون له في تقرير الحقائق أو إزهاق الباطل - أثر كثير أو قليل. وأظن حضرات قراء مجلة (نور الإسلام) إنما يذهبون في فهم هذه الجمل إلى أننا نظرنا عند صوغها إلى قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: 34) وقد أصبح حكماء الكتاب يصوغون دفاعهم على قدر بيان الحق أو كشف شبه الباطل، ولا يحسون من أقلامهم نزوعًا إلى السوء من القول، ومَن كان في ثروة من الحجج لا يرى نفسه في حاجة إلى أن يستعين في دفاعه أو هجومه بشيء من اللمز والبذاء. هذا: وظننا في الأستاذ أنه ينقد في إخلاص، ويتلقى الجواب في سكينة وإنصاف، وسلام عليك يوم تقرظ ويوم تنقد ويوم تكون للحق وليًّا. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضر حسين *** رد المنار الذي تتجلى به الحقيقة وينصف التاريخ أرسل إلينا الأستاذ رئيس تحرير مجلة الأزهر هذا الرد على ما كتبناه في تقريظها والنصيحة الإسلامية لها، ونشره هو في مجلة جمعيته (الهداية) ولم ينشره فيها، خلافًا للأصول المتبعة وللمعقول، بل عوقبنا على تقريظنا ونصيحتنا بقطع تلك المجلة عن مبادلة أختها المنار، وأخبرنا فضيلته بذلك فلم يتفضل بالأمر بإعادة إرسال المجلة إلينا بالمبادلة كما هي سُنَّة الصحف على اختلاف موضوعاتها ومذاهبها، وتلك جفوة وقطيعة بل عقوبة صحفية تنافي ما ذكره من الشكر للمنار على التقريظ والنقد جميعًا، إلا أن تكون العقوبة من إدارة مجلة نور الإسلام - وكانت - بحيث لا يقبل فيها شفاعة رئيس التحرير، على أن الإدارة لم ترسل المجلة إلينا أولاً إلا بعد أن رأينا تقريظها في جرائد مصر وسورية وتونس، والذي جاءنا منها 3 أجزاء فقط، وكنا نود لو عاتبنا الأستاذ فيما خالف وجهة نظره مشافهة وسمع جوابنا، واختار بعد ذلك أن يكتب وينشر، أو أن يرضى ويصمت، ولكنه قد طرق بالنشر هذا الباب، فوجب أن يسمع منه الجواب. مقدمة وتمهيد للرد إن الحقيقة والتاريخ يقتضيان قول الحق بغير محاباة لأحد ولا هضم لحق أحد، لا لأسباب حزبية، ولا لعلل سياسية، ولا لشؤون شخصية، والصراحة في الحق بغير تأويل، ولا ميل عن سواء السبيل، ومن لم يستطع ذلك فليصمت، ذلك خير وأحسن تأويلاً، وإني ألتزم هذا الشرط فيما أتعقب به رد الأستاذ مع المحافظة على سابق مودته إن شاء، فأقول: إنني قصدت بما كتبت في شأن هذه المجلة التقريظ والتنويه بما أحب أن يكون لها من المكانة في العالم الإسلامي وما يُرجى من نفعها للمسلمين، فقلت في ذلك ما لم يقله أحد من مقرظيها الذين اطلعت على تقاريظهم، ولم أقصد أن أنتقدها كما صرحت بذلك، ولو شئت ذلك لكان مجاله عندي أوسع مما يعتقدون؛ إذ قال: إنهم يعتقدون اعتقادًا يشبه اليقين أن المجلة ستواجه ضروبًا من النقد مختلفة.. إلخ، وإنما وجدت من الواجب عليَّ أن أذكر أصحاب الشأن فيها بأهم ما تجب مراعاته لأجل أن تتبوأ تلك المكانة وتحقق ذلك الرجاء، مما ظهر لي من فاتحتها وما نشر في الجزءين الأولين منها - أنهم لم يراعوه ولا ينتظر أن يراعوه من تلقاء أنفسهم، لم أنتقدهم انتقاد تخطئة وتجهيل، بل ذكرتهم التذكير الذي ينفع المؤمنين، مع اتقاء نقد المقالات الذي لا يُرضي الكاتبين، فاقترحت أمرين: (أحدهما) الدفاع عن الإسلام وعن المسلمين بصدّ كل ما يهاجمان به في هذا العصر بالحجة، والإرشاد إلى العمل الذي يكشف الغمة، ويجمع الكلمة، (والثاني) الدقة في تخريج كل ما يُنشر في المجلة من الأحاديث والآثار؛ إذ اعتاد أكثر علماء الأزهر وأمثالهم نقل الأحاديث في كتبهم وخطبهم من الكتب المتداولة، دون الرجوع في تخريجها إلى دواوين السنة المعتمدة، وبيان ما يصح وما لا يصح منها، حتى اشتهروا بإهمال علم السنة، وقد راوغ رئيس التحرير في الأول ولم يستطع المراوغة في الثاني بل سكت على قاعدتهم التي قررها في مقاله هذا. وأما النقد الذي قصدته بحسن النية، وتوخِّي اللين والمرونة، والمحافظة على سابق المودة - فهو ما أنكرته على فضيلة رئيس التحرير خاصة؛ لأنه جاء على غير ما تقتضيه الحقيقة

زيارة وزير الحقانية لقسم التخصص التابع للأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ زيارة وزير الحقانية لقسم التخصص التابع للأزهر وما أعجب به من حياة العلم فيه (بعد جمع ما تقدم في المطبعة وقبل طبعه كله جاءتنا الرسالة التالية فنشرناها بنصها لما فيها من تأييد رأينا في الرد على الأستاذ الخضر وهي) : زار صاحب المعالي علي ماهر باشا وزير الحقانية قسم تخصص الأزهر يوم الأربعاء 19 رجب الحالي (10 ديسمبر) ومعه سعادة طاهر باشا نور وكيل الحقانية، فمر على كثير من مدرسي القسم ولم يُعجَب بأحد كما أعجب بالشيخ علي الزنكلوني عند ما كان يشرح قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ} (السجدة: 7) إذ شرح كيفية خلق الإنسان من الطين أولاً وآخرًا مارًّا معه في سائر أطواره على أحدث النظريات العلمية التي تشهد لها مجاري استعمال القرآن الحكيم. وكذا أعجبه درس الأستاذ الشيخ محمود شلتوت وكان يقرأ مبحث (الشهادة) في فقه الأحناف، فشرح رأي الفقهاء القائلين بعدم قبول شهادة غير المسلم، ثم فند هذا الرأي وفصل مواطن الشهادة وبيَّن أن منها مواطن يجوز فيها شهادة غير المسلم، ثم فسر آية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} (المائدة: 106) الآية. ووجَّه رأيه بما تعطيه الآية ونظائرها وما يرمي إليها سر تشريع الشهادة، وكون الإسلام دينًا عامًّا لا يخص طائفة دون طائفة ولا زمانًا دون زمان. فسُرَّ الوزير من ذلك جدًّا وأعجبته تلك الحرية التي لم يكن يعهدها في الأزهر ولم يستطع إخفاء سروره من ذلك حتى كاشف به فضيلة شيخ القسم (المفتي) . ومما كان له وقع جميل عند محبي الحياة للأزهر - البِشر الذي ظهر على وجه الوزير عند ما قال له الشيخ الزنكلوني - وهو في الإدارة يشرب القهوة - الجملة الآتية: يا معالي الباشا أنا مسرور منك جدًّا لا لأنك وزير؛ بل لأنك عالم فطن، ومن شأن العالم الذكي أن يحب العلم الصحيح والأفكار الحية، فيجب عليك أن تُكثر من زيارة الأقسام العالية في الأزهر لتنشط الأذكياء أرباب الأفكار السليمة من الأمراض، فيتكون من الأزهر كتلة علمية حية قوية، ويكون جيش جلالة الملك العلمي الديني جيشًا مسلحًا بسلاح العصر الجديد يقوم في وجه أعداء الدين الذين يهاجمونه من كل ناحية، وإلا كان وراء جلالته حثالة من الخلق مبعثرة ميتة، لا تصلح لمقاومة بعوضة! . اهـ (المنار) سبحان الله! إن هذه الرسالة جاءت مؤيدة لما قلناه في ردنا هذا ولا سيما كلمة الأستاذ الزنكلوني للوزير. وأما مسألة شهادة غير المسلم فما ذكره الكاتب فيها مجمل موجز لا يُفهم منه ما فيها من خطأ وصواب. ولا شك أن الجامدين يعدونها مهاجمة لفقهاء المذاهب المتبعة، ونحن قد حققنا هذا الموضوع في تفسير آية الوصية في السفر من سورة المائدة في فصل خاص عقدناه لها (فيراجع في ص 229 - 227 ج 7 تفسير) فإن كان الأستاذ محمد الخضر يعد هذا وذاك من آثار الأمراض العقلية فليرد عليهما في إحدى المجلتين (نور الإسلام والهداية) أو كلتيهما لنبحث معه بعد ذلك فيما كتبه من موافقة شريعة الإسلام لكل زمان ومكان.

مسيح الهند القادياني الدجال ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسيح الهند القادياني الدجال ودعاة مسيحيته في سورية (1) إن هؤلاء المسيحيين الإسلاميين قد جمعوا من الهند أموالاً كثيرة بثُّوا بها دعايتهم في البلاد، وقد طبع دعاتهم في سورية رسائل متعددة في الدعوة إلى نِحْلته فانخدع بها شاب دمشقي عنده هوس في الأفكار الدينية بغير علم بأصول الإسلام الصحيحة ولا فروعه، اسمه (منير الحصني) جاء مصر في العام الماضي فتمنينا لو يلقانا لنتكلم معه فلم يكن ذلك. وأخيرًا جاءنا منه رسالة يرد فيها على بعض ما كنا نشرناه في المنار من تفنيد هذه المسيحية وتكذيب دجالها القادياني في حال حياته، وإننا لكثرة الشواغل لم نفرغ للاطِّلاع على شيء من تلك الرسائل التي طبعوها أخيرًا. وأما هذه الرسالة الخطية فقد كنت أراجع في آخر هذا الشهر (رجب) إِضْبارَة الرسائل المحفوظة للمراجعة فوقعت عيني عليها، وكان تحرير الجزء الخامس من المنار لم يتم فأحببت أن ألخصها وأبين أهم ما فيها من حجج القوم الداحضة. والرد عليها بالبينة الناهضة. يرد هذا الداعية للمسيحية الإسلامية التي يسمونها (الأحمدية) على المنار في ثلاث مسائل: (1) ما أنذر مسيحهم به صاحب المنار فكان إنذاره كاذبًا. (2) نسخ مسيحهم لمشروعية الجهاد. (3) كوْنهم أعداءً للإسلام، كافرين ببعض القطعيات من أصوله، مضللين لأهله. * * * 1 - إنذار القادياني لصاحب المنار ذكر الكاتب في مقدمة رسالته أن مسيحهم بلغني دعوته فأنكرتها عليه (بلا دليل بيِّن ولا حجة دامغة) لجهله ما اتفق عليه علماء الشرع والعقل من أن البينة على المدعي، ثم قال: (وقد جئت بأسطري هذه ردًّا على ما يمس الأحمدية التي هي عندي الإسلام الصحيح من تُهَمك المنشورة عنها في المنار، وأملاً أن تذعن للحق ولو على نفسك، كما أنني أفعل ذلك إذا أظهرت لي بعض الخطأ، والله على ما أقول شهيد) . ثم قال: (ذكرت في مجلتك كما كتبت إلى أحد قرائها في بيروت ما مفاده بأن أحمد المسيح الموعود عليه السلام كان أنبأ في كتابه - الهدى والتبصرة لمن يرى - بوحي من الله عن موتك في حياته ولكن نبوته لم تصدق إذ مات في حياتك وهذا ما أدرجته في منارك بنصه: (وقد رددنا عليه في حياته بما أظهر بهتانه حتى بنفس مماته فإنه كان رد علينا في كتابه الهدى والتبصرة لمن يرى فزعم أنه قد جاءه الوحي بأن صاحب المنار (سيهزم فلا يرى نبأ من الله الذي يعلم السر وأخفى) يعني أن الله تعالى وعده بأن ينتقم له منه، ولكنه مات ولم تقر عينه بموتنا ولا بمصيبة يفسر بها وحيه الشيطاني) . فقبل أن أبين لك خطأك الفادح في فهم هذا النبأ الذي تم صدقه بكل وضوح أقول: إن نفس مماته عليه السلام كان دليلاً على صدقه لا على بهتانه، كما تزعم؛ لأن الله أخبره عن عمره قبل وفاته بثلاثين سنة بقوله: (ثمانين حولاً أو قريبًا من ذلك) وقد توفي عن 75 سنة توالى عليه الوحي في السنوات الأخيرة منها بشأن الوفاة إذ أخبره الله في ديسمبر سنة 1905 بقوله: (قرب أجلك القدر) وقال له في 7 نوفمبر سنة 1907: (موت قريب هي) أي أن الموت قريب. وكذلك أوحى إليه بهذا المعنى مرتين في 7 مارس سنة 1908 و3 نيسان سنة 1908 ونُشرت هذه الأنباء في حينها في الجرائد والمجلات وأن وفاته عليه السلام في مايو سنة 1908 طبق الأنباء المذكورة بدليل ساطع على صدقه. بعد هذا حصر الرد على عبارتي في الشق الأول مما فسرت به إنذار مسيحه وهو موتي، وترك الشق الثاني وهو وقوع مصيبة بي يفسر بها وحيه الشيطاني، وقد أطال في تخطئتي واستطال في التثريب عليَّ والتأنيب لي والتحقير والتهديد بما يدل على هوسه العقلي في هذا الدجل الشيطاني، فأقول: زعم القادياني أن الله أخبره بعمره! أقول في تفنيد هذا الهوس: (أولاً) مَن كان واسع الاطلاع على التواريخ أو الاختبار لأحوال الأمم وأخبار الدجالين فيها يعلم أن الأغرار ينخدعون بأمثال هذه الأخبار التي يسميها الجاهلون كشفًا وكرامات، أو وحيًا ونبوات، وإن كان مثلها معتادًا، والصادق منها كثير الوقوع من غير مَن يعتقدون هذا الاعتقاد فيهم، ولكن أغرار العوام قلما يميزون بين الصادق والكاذب، فهذا الذي ذكره الحصني من وحي مسيحهم القادياني أدل على كذبه منه على صدقه. فهو يقول: إن الله تعالى أخبر مسيحهم عن عمره بقوله: (ثمانين حولاً أو قريبًا من ذلك) أي هذا نص الوحي الذي خاطبه الله به، ووجه الدلالة هذا القول على كذبه في دعوى أنه وحي: تردده في تحديد العمر، فلو كان هذا خبرًا من الله تعالى - وهو علام الغيوب - لكان جزمًا بالتحديد، وتعيينًا لعدد الخمسة والسبعين، وقد يزاد على هذا أن عدد 75 لا يعد قريبًا من عدد الثمانين في مثل هذا المقام؛ لأن الخطأ في العدد التقريبي هو ما كان في كسر السنة لا في عدة سنين. ثم ما فائدة هذا الوحي المتتابع من أواخر سنة 1905 إلى ما يقرب من نصف سنة 1908 وهي بعد استكماله لسن السبعين بتلك العبارات السخيفة؟ وما الدليل على أن تلك الخواطر وحي من الله تعالى بتلك الألفاظ العامية؟ ولماذا جاءه الوحي بتاريخ مسيح اليهود والنصارى، ولم يجئه بتاريخ الهجرة المحمدية أو بتاريخ مسيحيته هو؟ ! ومن المعلوم أن مسألة قرب الأجل مما يكثر خطره في أذهان أكثر الناس في هذه السن ويكثر تعبيرهم عنه، وقد اشتهر عن كثير من الناس ذكر قرب آجالهم في حال الصحة وذكر مواضع موتهم، ووقوع الحوادث على وفق الخواطر في هذه المسألة كثير. (ثانيًا) إن إنذاره لي كان كإنذاره لأناس غيري في إبهامه واحتماله للتأويل وكذلك دأب الدجالين في نُذُرهم وما يدعونه من الإنباء بالغيب، فإن اتفق صدقه هللوا وكبروا، أو طبلوا وزمروا، وزعموا أنه يدل على صدقهم فيما زعموا، وإن لم يتفق صدقه - كما هو - التمسوا له تأويلاً ولو سلبيًّا كما فعل الحصني في رسالته هذه. ادعى أنني جزمت بأن إنذار مسيحه لي نص بأنني أموت قبله وأطال في ذلك بما أشرت إليه آنفًا، وهذا كذب صريح وبهتان جلي عليَّ فإنني إنما فسرته أنا بأنه يعني به انتقام الله تعالى له مني، وأنني لو متُّ قبله لفسر هذا الانتقام بموتي، وكذلك لو أصابتني مصيبة لفسره بها أيضًا. فهذا الحصر الذي حمل عليه الحصني كلامي إما أن يكون عن جهل منه بمدلول الألفاظ العربية وحينئذ لا يكون أهلاً للمناظرة في شيء قط؛ لأنه لا يفهم ما يكتب وما يقال، وإما أن يكون تحريفًا متعمدًا؛ فيكون منافقًا في مسيحيته الأحمدية هذه، ولا يغنيه إزراؤه بنا في رسالته وتحدينا بنقل ألفاظ الوحي المنزلة بأننا نموت قبله وتوبيخنا عليها، ولولا أن نقلها سفه وإضاعة لوقتنا ووقت القراء لنقلناها لإضحاك الناس على كاتبها! ، وإنما نذكر منها ما يتعلق بالاحتجاج. (ثالثًا) قال: إن مسيحه الدجال صرح في جريدته (الحكم) : (أنه ليس بضروري أن يموت أعداء الأنبياء في حياتهم) واستثنى المباهل ثم قال مكررًا للكلام: (وهذا وإن كل مَن دعا عليه المسيح الموعود وأخبره الله عن استجابته ذلك الدعاء بالوحي وكذلك مَن باهله على شرط أن يموت الكاذب في حياة الصادق أهلكه الله في حياته مثل ألكسندر دوتي من أهالي أمريكا [1] وفريق من النصارى في الهند) وذكر أسماءً أخرى. ثم توعدني بآيات القرآن، فيمن يمدهم الله في طغيانهم يعمهون ويملي لهم ليزدادوا إثمًا.. إلخ. وهذا عين ما قلته في ضلالهم وإضلالهم وهو أن من يموت من المكذبين له أو تصيبه مصيبة يقولون: إنه مات معجزة له، وتصديقًا للوحي الذي زعمه، ومن يبقى حيًّا يقولون إنه ما دعا عليه، وإنه ما عاش إلا ليزداد طغيانًا وإثمًا، ونحمد الله أنه تعالى أحيانا حياة طيبة نقيم دينه بالقول والعمل، وندافع عنه بالحجة، لا ندَع ملحدًا ولا داعية كفر وضلالة، ولا أصحاب بدعة ولا أولي منكر إلا ونرد عليهم، ونفسر كتابه العزيز بما فضله العلماء المستقلون على جميع تفاسير الأمة، لا كتحريف القادياني وأتباعه له بما يتبرأ منه الدين واللغة كزعمه أن البشارة به من معاني البسملة. زَعْم الحصني صدق مسيحه فيما أوعدنا به: ثم إنه رد عليَّ بما زعمه أن ما قاله مسيحه فيَّ قد صدق ووقع وهو الهزيمة من مناظرته قال: (وفهمك منه أنه أراد موتك في حياته فإن هذه الجملة لا تدل على ما ذهبت إليه بتاتًا، وليس فيها سوى ذكر الهزيمة، والهزيمة هي الفرار إبقاءً على الحياة، فكيف يسوغ لك أن تفهم منها الموت، نعم إن النبأ واضح على فرارك من الميدان الذي دعاك إلى المبارزة فيه بصورة لا ترى فيه أبدًا، وأن ما دعاك إليه هو كتابة كتاب مثل كتابه الذي تحداك به وجعله معيارًا لصدقه كما قال في ص 20 ما نصه: ووقفت لتأليف ذلك الكتاب، فسأرسله إليه بعد الطبع وتكميل الأبواب، فإن أتى بالجواب الحسن وأحسن الرد عليه فأحرق كتبي وأقبّل قدميه، وأعلق بذيله، وأكيل للناس بكيله، وها أنا أقسم برب البرية، وأؤكد العهد بهذه الآلية) اهـ. (أقول) : (أولاً) بوجه الإجمال إن المسيح الدجال القادياني قد كذب وأخلف وعده بإرسال الكتاب المذكور فليس لي علم بهذا الكتاب، وكذب الحصني في زعمه أنه دعاني للمبارزة في هذا الميدان ففررت منه بصورة لا أرى فيها أبدًا. فأنا ظللت أرد عليه حتى هلك، وإنما ميداني الواسع هو المنار، ولا أزال أجول فيه وأصول، بسيف الله المسلول، وسُنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم على أنني ظهرت ورئيت بفضل الله في ميادين أخرى لسانية لا كتابية كثيرة، منها ميدان بلاده الهندية، فقد زرت الهند ولقيت حفاوة وحفلات عظيمة بيَّنت دجل القادياني وكذبه على الله في بعضها كما سأبينه بعد. (للمسألة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

مسيح الهند القادياني الدجال ودعاة مسيحيته في سورية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (تنبيه) لقد ثقل علينا حمل ما علينا من الحق الأدبي لمن يهدون إلينا مؤلَّفاتهم فنسوف في تقريظها انتظارًا لفرصة نطّلع فيها على ما يمكننا من معرفة مزاياها، وهذه الفرص تفر منا أو تحول بيننا وبينها المسائل الضرورية، وكل ما نكتبه في أبواب المنار لا يتوقف على بذل وقت طويل لإعطائه حقه، فكثيرًا ما نكتب باب الفتوى كله من غير مراجعة شيء من الكتب، بل كتابة التفسير لا يتوقف إتقانها على مراجعة طويلة كباب التقريظ إذا أريد كتابته على علم، لهذا عزمنا على الاختصار في تقريظ لم نقرأه منها، والإعلام بها بالإجمال كما يفعل غيرنا من أصحاب المجلات. *** (تفسير القرآن بكلام الرحمن) تفسير وجيز لأحد علماء الهند المعاصرين المشهورين الأستاذ الشيخ أبو الوفاء ثناء الله الأَمْرِتْسَرِي. وطريقته فيه تُعلم من اسمه، وبيانه أنه يفسر الآية أو الجملة ويستشهد على تفسيرها بآية أو أكثر مما ورد بلفظها ومعناها أو أحدهما بحسب اجتهاده كقوله - في تفسير الفاتحة بعد ذكر البسملة -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ ... } (الفاتحة : 2) أي قولوا أيها العباد نقرأ باسم الله الرحمن الرحيم لقوله تعالى: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق: 1) وقوله تعالى: { ... رَبِّ العَالَمِينَ} (الفاتحة: 2) الذي خلقهم وخلق أسباب رزقهم لقوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ} (فصلت: 9) (وذكر الآية التي بعدها) : {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الفاتحة: 3) هو العطف على العباد بالإيجاد والهداية إلى الإيمان وأسباب السعادة والإسعاد في الآخرة لقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ القُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ} (الرحمن: 1-4) وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب: 43) ، لعلهما مترادفان، فافهمْ..إلخ. وله في هذه الشواهد أفهام دقيقة وأخرى غريبة. وقد طبع الكتاب في المطبع البرقي انتاب في بلدة أمرتسر سنة 1327 طبعًا حسنًا بلغت صفحاته زهاء أربعمائة صفحة وثمن النسخة منه 30 قرشًا، ويطلب من مكتبة المنار بشارع الإنشاء بمصر. *** (كتاب المساكين للرافعي) الأستاذ مصطفى صادق الرافعي صاحب هذا الكتاب أشهر من نار على عَلَم، يراها كل أحد ولا يصل إليها أحد، فهو معروف والمعروف لا يعرَّف، ومجهول لا يوصف، أو نكرة لا تتعرف، أوتي عقله نصيبًا كبيرًا من فلسفة النفس والاجتماع فهو يغوص في أعماقها، وأوتي خياله حظًا عظيمًا من المعاني الشعرية فهو يطير في أجوائها، وأودع ذهنه مادة واسعة من اللغة العربية مفرداتها وأساليبها فهو يُبرز النظريات الفلسفية في صورة من التخيُّلات الشعرية، تتجلى في طُرُز طريفة (مُودَات) من الحلي والحُلل اللغوية، جمع فيها بين الإجادة في المنظوم والمنثور، وقلما تتفق الإجادة فيهما معًا إلا للأقلين كما قال الحكيم ابن خلدون، وبهذه المزايا كان أمة وحده في الكتاب والشعراء والمصنفين، وكان جمهور قراء العربية يشكون شيئًا من الغموض في كلامه، والحاجة إلى التأمل الكثير في بعضه لاستبانة مراده، ولكن لا ينكر أحد من أولي الفهم أن كل قارئ له يرى فيه من فرائد اللغة ودقائق التعبير البليغ عن المعاني ما لم يكن يعلمه، فهو كثير الابتكار والإبداع، بغير مكابرة ولا نزاع، ولو كان جمهور القراء يفهمون لغته حق الفهم لعمّ انتشارها، وأقبل الألوف على قراءتها. له عدة مصنَّفات أجلّها موضوعًا وأوضحها بيانًا (إعجاز القرآن) وقد أعطيناه حقه من التقريظ فنشره معه. وطبع ثلاث مرات، كانت الثالثة منها على نفقة جلالة الملك فؤاد، ويليه (تاريخ آداب العرب تحت راية القرآن) ومنها (حديث القمر) ورسائل الأحزان والسَّحاب الأحمر، وأوراق الورد، وهذه الأربعة كتب فلسفة وشعر، وله شعر كثير، ليس له فيه ضريب ولا نظير. وأما كتاب المساكين الذي جعلناه ذريعة كلها فقد عرفه مصنفه بكلمة بيَّن بها ماأراده منه وكتبها تحت اسمه وهي: (أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس) وقد صدق في قوله وفي مراده، ولقد كنت أعجز كما إخال أن كل أحد غيره يعجز عن تعريفه هذا. ثم وصفه بكلمة أخرى قال إنها من (قلم الغيب) وذكر أنها أُوحيت إليه في النوم، وهي (هذا كتاب المساكين. فمَن لم يكن مسكينًا لا يقرؤه؛ لأنه لا يفهمه، ومَن كان مسكينًا فحسبي به قارئًا، والسلام) . فإن كان صدق في أن هذه الكلمة من قلم الغيب، كما صدق في أن مَن لم يكن مسكينًا لا يفهمه - فأنا أظن أنه لا يوجد مسكين يفهمه؛ بأنني أظن أنني مسكين ولم أفهمه، إلا أن مسكنتي مسكنة أخلاق، لا مسكنة إملاق، ولا أدري أية مسكنة ينتحل منشيء كتاب المساكين، الذي لا يفهمه مَن ليس بمسكين، قرأت صفحات منه ففهمت بعض جمله، وأعجبت ببعض حكمه، واستعذبت بعض استعاراته التمثيلية والتخييلية، ولكني أقر بأنني لا أفهمه كله فهمًا إجماليًا يمكنني تلخيصه به، ولا أفهم فصلاً منه فهمًا تفصيليًا يمكنني من تفسيره لمَن لم يفهمه، ولا تفسير كل جملة من جمله، فالكتاب - في جملته - من قلم الغيب، هبط على عالم الشهادة، وفي الاطلاع على عالم الغيب من اللذة الروحية والإنس ما ليس في الإطلاع على عالم الشهادة، وإن حارت فيه الأفهام، وكان حُلمًا من الأحلام. وقد طبع في مطبعة العصور، وضبط الكثير من كلمه بالشكل وصفحاته 287 وثمن النسخة منه عشرة قروش. *** (الإبداع في مضار الابتداع) كتاب جديد صنَّفه أخونا الأستاذ الشيخ علي محفوظ من تلاميذ الأستاذ الإمام، المدرس بقسم التخصص في الأزهر الشريف (طبق ما قرره المجلس الأعلى من مناهج التعليم في السنة الثالثة لقسم الوعظ والخطابة في الأزهر الشريف) فرغ من تأليفه سنة 1341 وطبع عقب ذلك، ثم أعيد طبعه في آخر سنة 1348، وقد ذكر المصنف في آخر الطبعة الثانية سبب إعادته طبعه فقال: (لما ولي صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي مشيخة الجامع الأزهر الشريف ورياسة مجلسه الأعلى كان من باكورة أعماله الحكيمة أن وجَّه (حفظه الله) عنايته إلى إصلاح نظام قسم الوعظ والخطابة ومناهجه إصلاحًا يكفل للطلاب النبوغ في هذا الفن، ويتناسب مع روح العصر الحاضر، فأدخل تعديلاً رشيدًا في مواد الدراسة، وأضاف إلى مادة البدع والعادات زيادات ذات شأن. وقد عرض على مجلس الأزهر الأعلى مذكرة بشأن هذا الإصلاح فوافق عليه في جلسة يوم الثلاثاء 13 ربيع الأول سنة 1347. وقد طُبع هذا الكتاب المرة الثانية في ذي الحجة من السنة المذكورة وهي تمتاز عن الطبعة الأولى بتنقيحات مفيدة مع تلك الزيادات التي أقرها المجلس الأعلى في الجلسة المذكورة - اقرأ الدليل) . ويعني بالدليل فهرس الكتاب وهو مؤلَّف من مقدمة وبابين وخاتمة. وفي المقدمة مبحثان: الأول إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بغُربة الدين، والثاني الحث على التمسك بالدين وإحياء السنة النبوية. والباب الأول في النظر في البدع من جهة الأصول والقواعد وفيه سبعة فصول وجُله مستمد من كتاب (الاعتصام) للشاطبي، والباب الثاني في النظر في البدع من جهة فروعها وفيه اثنا عشر فصلاً: (1) في بدع المساجد، (2) في بدع القابر والأضرحة وزيارة القبور وما فيها من المفاسد، (3) بدع الجنائز والمآتم، (4) في بدع الموالد، (5) منكرات الأفراح، (6) بدع الأعياد والمواسم، (7) في البدع التي تقع في العبادات، (8) في بدع الطرق (أي طرق المتصوفة) ، (9) في بدع الاعتقادات، (10) في بدع الضيافة والولائم، (11) في بدع المعاشرة والعادات، (12) في خرافات العامة وأوهامهم. وفي كل فصل من هذه الفصول مسائل كثيرة لخص فيها كتاب المدخل لابن الحاج وزاد عليه بعض ما حدث بعده من منكرات العادات، وبدع الضلالات ومسائل متفرقة في كتب كثيرة جمعها في زهاء 300 صفحة بقطع المنار. ولم تكن كتابته لهذه المباحث كتآليف أكثر المتأخرين من علماء الأزهر وأمثالهم التي لا تعدو اختصار أحدهم لكتاب غيره وشرح آخر لبعض المختصرات بما ينقله من المطولات، هو تصنيف جديد حملته عليه حاجة العصر إليه، وكان له فهم ورأي فيما ينقله عن غيره. وجملة القول إن هذا الكتاب من الكتب النافعة الجديرة بالانتشار، ولعل ما يُنتقد من مسائله قليل، فهو خير من كثير من الكتب التي ينقل عنها ويقول قال الإمام فلان والعلامة فلان، وإذا كان لا يسلم من الخطأ في مسائله فهو أولى بألا يسلم من الغلط في طبعه، وإن قال في آخر فهرسه إنه: (قد استغنى عن بيان الخطأ والصواب فيه لسلامته من الخطأ! !) وسنعود إلى بيان الشواهد على هذا إن وجدنا فرصة. وثمن النسخة منه 10 قروش وهو يُطلب من مكتبة المنار. *** مطبوعات دار الكتب المصرية (كتاب الأغاني) أصدرت الجزء الثالث من هذا الكتاب المشهور على نسق ما قبله في الجودة وإتقان الطبع وقد قرظنا الكتاب في الجزء الأخير من المجلد 29 وثمن هذا الجزء كغيره 25 قرشًا. (نهاية الأرب في فنون الأدب) أصدرت الجزء السابع منه وهو في فنون الكتابة ومنها أنواع البديع وصفحاته 312 وثمنه 15 قرشًا. (عيون الأخبار) أصدرت الجزء الرابع منه، وموضوعه (كتاب النساء في أخلاقهن وخلقهن وما يُختار منهن وما يُكره) وهو زهاء ثلاثمائة صفحة. وفيه مقدمة حافلة في ترجمة المؤلف تزيد صفحاتها على الخمسين وفيها كلام على هذا الكتاب وصور شمسية لبعض صحائف الخطية. وثمنه 15 قرشًا. (ديوان مهيار الديلمي) أصدرت الجزء الثالث منه ولم تتم به قافية الميم وثمنه 15 قرشًا، وكل هذه الكتب تُطلب منها ومن مكتبة المنار بمصر. (الجزء الخامس من فهرس الكتب العربية) ويشتمل على فهرس التاريخ وملحق بالكتب العربية الواردة على الدار في سنة 1929م. (جريدة الشورى) أختم هذا الجزء بتهنئة زميلنا الأستاذ محمد علي الطاهر بدخول جريدته الشورى في عامها السابع محمودة الخدمة للأمة العربية عامة وللوطن الفلسطيني خاصة. وقد جاءته التهاني تترى من الأقطار العربية الشرقية والغربية وهو أهل لها، أدام الله النفع بها والترقِّي لها.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من بيروت (أسئلة من بيروت وردت في كتابين منذ سنة ونصف فجمعناهما وتركنا مقدمة الخطاب) (س43-53) من صاحب الإمضاء في بيروت (1) ما قول السادة العلماء الأعلام في رجل معلم بإحدى المدارس الإسلامية أفتى التلاميذ بطهارة الإسبرتو وبجواز المسح على الجورب ولو كان رقيقًا والصلاة بالنعلين (الحذاء) وحسْر الرأس (كشفه) معتمدًا على ما أفتى به بعض العلماء بجواز ذلك، فما كان من رئيس المدارس إلا أنه عاقبه بالعزل من وظيفته مدعيًا بأن المعلم المذكور خالف علماء المسلمين في هذه الفتوى، فهل هذا المعلم أخطأ ويستحق هذا العقاب أم لا؟ (2) هل يجوز للمعلمين والمتعلمين وغيرهم من الرجال والنساء قراءة القرآن الكريم ومس المصحف وكتب الأحاديث وقراءتها وكتب التوحيد والفقه وقراءتها على غير طهر أي بلا وضوء وغسل من الجنابة والحيض وغيره أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. (3) ما قولكم دام فضلكم فيمن يقول إن قراءة القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة للتبرك وللثواب فقط وأما العمل فيجب أن يكون حسب أقوال مذاهب الأئمة الأربعة لا غيرها؛ لأنه لا يوجد أحد مطلقًا في هذا الزمان يقدر على استنباط حكم من الأحكام الشرعية كالعبادات والمعاملات وغيرها من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة لعدم توفر شروط الاجتهاد فيه، فهل هذا القول صحيح معتمد عليه ومَن الذي قال به من العلماء الذين يُعتَدّ بقولهم؟ (4) هل رفع الصوت بالاستغفار عقب صلاة الفرض خلف الإمام الراتب وغيره في المسجد سنة أم بدعة، وما حكم الكلام الدنيوي وغيره في المسجد؟ (5) ما قول فضيلتكم في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ببيتين من الشعر قُبيل صعود الخطيب المِنبر أو عند صعوده؟ (6) هل يجوز قراءة مولد النبي صلى الله عليه وسلم على المآذن أم لا؟ (7) هل وضع العمامة أثناء الصلاة يثاب عليها المصلي أكثر مما لو صلى بدون عمامة وهل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء بهذا الشأن أم لا؟ (8) هل يجوز للرجل أن يحلق شاربيه ولحيته، وهل يعد ذلك فسوقًا وضلالاً ولا تُقبل شهادته ولا إمامته في الصلاة وغيرها أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت أجوبة المنار على ترتيب عدد الفتاوى السابقة المعلم المذكور في السؤال الأول أصاب فيما قاله للتلاميذ، وأخطأ مَن عزله بزعمه أنه خالف العلماء؛ فإنه إن خالف بعضهم فقد وافق آخرين لقوة دليلهم وإنما يؤاخَذ مَن خالف الإجماع الصحيح ولا إجماع فيما ذُكر، ونختصر في بيان ذلك؛ لأنه تكرر في المنار فنقول: (43) طهارة الإسبرتو أو الكحول الإسبرتو طاهر بل مطهِّر يزيل النجاسات والأقذار التي لا يزيلها الماء وحده إلا بمشقة كما هو ثابت بالتجرِبة، ولا يُتوضَّأ به؛ لأن الوضوء قد شُرع بالماء وهو عبادة، وعلى من يدعي نجاسته أن يأتي بالدليل لا على من ينكرها لأنها خلاف الاصل؛ فإن الأصل في الأشياء الطهارة، وقد كنت أفتيت بطهارته في جواب سؤال عن الأعطار الإفرنجية، وبأن الخمر التي يعلل بعضهم نجاسته - بأخذه منها أو بِعَدّه منها - لا يقوم دليل على نجاستها الحسية التي تُزال بالماء، وإنما هي رجس معنوي شرعي كالميسر والأنصاب والأزلام التي قُرنت بها في الحكم، ونشر ذلك في (ص500-503) من مجلد المنار الرابع. وقد رد علينا رجل من وجهاء الشام ففندنا رأيه في مقالة عنوانها (طهارة الكحول، والرد على ذي فضول) نُشرت في (ص821 و866) من المجلد الرابع أيضًا. ثم أراد بعض علماء الأزهر أن يرد على هذه المقالة وكاشفَنا برأيه في مجلس فيه جماعة من كبراء علماء الأزهر منهم مفتي الديار المصرية المرحوم الشيخ أبو بكر الصدفي، فناظرناه في ذلك مناظرة صرفتْه عن الرد الذي كان ينوي كتابته ونشره، وذكرنا خبر هذه المناظرة في المنار. ثم إن بعض علماء الهند من الحنفية أفتى بتحريم استعمال الكحول (إسبيرتو) في الأصباغ والأدهان والعطور معللاً ذلك بكونه خمرًا نجسة، وعرض فتواه على العلماء فقرظها له بعضهم وأرسلها إلينا فنشرناها بنصها ونصوص مَن وافقوه عليها، ورددنا عليها ردًّا طويلاً نشرناه في المنار (راجع 657-679 من المجلد 23) ونشرنا لها ملحقًا طبيًّا صيدليًّا في الجزء الأول من المجلد 24. (44) المسح على الجورب المسح على الجورب جائز، وقد بينا دليله في مواضع من المنار، ولعالم الشام الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى رسالة في ذلك، فيحسن أن تراجعوها. وقد اشترط بعض الشافعية في جواز المسح على الجورب أن يكون صفيقًا لا يشفّ وأن يكون منعلاً كما ذكره الشيخ أبو اسحاق في المهذَّب. ولكن قال النووي في شرحه ما نصه: والصحيح - بل الصواب - ما ذكره القاضي أبو الطيب والقَفَّال وجماعات من المحققين أنه إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان وإلا فلا، وهكذا نقله الفوراني في الإبانة عن الأصحاب أجمعين. ثم قال - في بيان مذاهب العلماء في المسألة -: وحكى أصحابنا عن عمر وعلي (رضي الله عنهما) جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقًا، وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود. وعن أبي حنيفة المنع مطلقًا. وعنه أنه رجع إلى الإباحة. اهـ. المراد منه. فهذا كلام المحققين. فلماذا لا يأخذ ناظر تلك المدرسة إلا بقول المضيقين على الأمة بغير دليل، في هذا العصر الذي نحن أحوج فيه إلى اليُسر ورفع الحرج من الدين كما رفعه الله عنا؟ ! إن كثيرًا من المسلمين لا يجدون شيئًا من الضيق في الصلاة إلا غسل الرجلين في الوضوء وإنني عندما أفتيت أول مرة في المنار بجواز مسح الجورب كالخف أخبرني كثير من الوجهاء المترفين أنهم صاروا يواظبون على الصلاة! (45) الصلاة بالنعلين وحسر الرأس الصلاة بالنعلين جائزة بل كانت هي الأصل الذي عليه العمل الغالب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولعل خلع النعلين لأجل الصلاة لم يصر عادة غالبة ثم عامة إلا بعد أن صاروا يفرشون المساجد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه على التراب وقد يقع المطر في المسجد ويسجد في الماء والطين كما ترى في حديث ليلة القدر في البخاري وغيره والأحاديث في الصلاة بالنعلين معروفة كحديث أنس في الصحيحين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه ويذكر بعضها في التفسيرالمأثور لآية (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) (الأعراف: 31) فراجع الدر المنثور للسيوطي، وفي كتب الفقه أيضًا. وأما حسر الرأس في الصلاة فهو خلاف الأصل ولكنه جائز؛ إذ لا يُشترط في صحة الصلاة من اللباس إلا ما يستر العورة، ويُجتنب الإكثار منه ويحظر إذا كان فيه تشبُّه بغير المسلمين في صلاتهم، كما أنه يجب في حال الإحرام بالحج أو العمرة. (46) قراءة القرآن ومسّ المصحف وكتب الدين للمحدِث والحائض قراءة القرآن لغير المتوضئ جائزة لا خلاف فيها، ومس المصحف له في خلاف؛ فقد منعه الجمهور، والجُنُب أولى بالمنع، وذكر النووي في المجموع أن الحكم بن عتبة وحمادًا - يعني ابن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة - وداود جوّزوا مسه وحمله، وفي رواية عن الأولين جواز مسه بظهر الكف لا بباطنه. وأما قراءة الجنب والحائض للقرآن فجمهور الفقهاء ومنهم الأربعة على تحريمه على تفصيل لبعضهم في القليل منه كبعض آية وفيما لا يقصد منه التلاوة قال النووي في المجموع: وقال داود: يجوز للجنب والحائض قراءة كل القرآن ويُروى هذا عن ابن عباس وابن المسيب، قال القاضي وابن الصباغ وغيرهما واختاره ابن المنذر. وقال مالك: يقرأ الجنب الآيات اليسيرة للتعوذ، وفي الحائض روايتان عنه (إحداهما) تقرأ (والثانية) لا تقرأ. وقال أبو حنيفة: يقرأ الجنب بعض آية ولا يقرأ آية وله رواية كمذهبنا. اهـ. ثم ذكر أدلة المانعين والمجوّزين بالتفصيل ومنه يعلم أنه ليس للمحرمين دليل قوي وقد قال الأذرعي - كما في حاشية المجموع المطبوع (ص159، ج2) - ما نصه: مذهب داود قوي؛ فإنه لم يثبت في المسألة شيء يحتج به لنا كما أوضحه، وقد نقل البيهقي في معرفة السنن والآثار عن الشافعي أنه قال: لا أحب للجنب أن يقرأ القرآن لحديث لا يثبته أهل الحديث. وهذا المذهب هو اختيار ابن المنذر والأصل عدم التحريم. اهـ. وأقول: هذا الذي أعتقده ولكني أعمل بقول الجمهور احتياطًا وأدبًا مع القرآن لا تحرُّجًا وتأثُّمًا، على أنني لا أحمل (الجناية) زمنًا طويلاً لا أستغني فيه عن التلاوة. والتحقيق أن التحريم لا يثبت الا بدليل قطعي، وهذه المسألة لم يثبت فيها (إلا) دليل ظني كما قال الأذرعي وهو من كبار فقهاء الشافعية المشددين في المسألة. ومن أدلة المجوزين الآيات القرآنية في ذكر الله على كل حال، والقرآن كله ذكر الله، وأفضل ما فيه توحيد الله وتسبيحه وتكبيره وحمده، وكل هذه الأذكار جائزة للجنب والحائض بالإجماع، كما أن صلاة الجنب جائزة لفاقد الطهورين. ومن هذا يُعلم أن كون تلاوة الجنب للقرآن ينافي تعظيمه - وهم من الأوهام؛ لأنه لو صح لكان كل ذكر لله من الجنب والحائض منافيًا لتعظيمه. (47) جعل الكتاب والسنة للتبرك دون الهداية مَن يقول إنه لم تبقَ للكتاب والسنة فائدة ولا حاجة للمسلمين إلا التبرك بهما، وإن العمل يجب أن يكون بأقوال علماء مذاهب الأربعة دونهما - فهو من أكبر المجرمين المحادّين لله ولرسوله والصادين عن الإسلام، وما ضاعت هداية الإسلام وتبعها ضياع مُلك المسلمين وعزهم إلا بهذه الضلالة التي ابتدعها بعض المقلدين الجاهلين لدين الله تعالى، والأدلة على هذا كثيرة، بسطناها في مواضع كثيرة من المنار ولا سيما التفسير. فعلماء المذاهب الأربعة المجتهدون وأمثالهم أدلاء للمسلمين على معاني الكتاب والسنة ومعلمون لهما، لا حائلون دونهما، ولا صادّون عن دوام الاهتداء بهما، ولم يقل أحد منهم للأمة إنني بينت لكم كل ما جاءكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى بما يغنيكم عن كتابه وسنة رسوله في بيانه، بل كانوا يقولون لها: هذا ما ظهر لنا فإن رأيتم في الكتاب أو السنة ما يخالفه فخذوا به واضربوا بكلامنا عرض الحائط. وأما ما اشترطه الأصوليون والفقهاء في الاجتهاد فليس مما يتعذّر على مَن يريده من الناس، وهم يشترطونه في المجتهد المطلق المستعد لاستنباط الأحكام في جميع المسائل غير المنصوصة في الشريعة، لا في كل مَن يهتدي بالكتاب والسنة ويعمل بنصوصهما في عقيدته وعبادته وآدابه وأخلاقه مستعينًا على ذلك بأقوال المفسرين وحُفاظ السنة ولم يقل أحد منهم: (إنه لا يوجد أحد مطلقًا في هذا الزمان يقدر على استنباط حكم من الأحكام) إلى آخر ما ذكر في السؤال، بل قالوا إن الاجتهاد يتجزأ، وإننا نرى جميع المتفقِّهة - بكتب هذه المذاهب - يفتون الناس في المسائل الحادثة بعد أزمنة أئمتهم ويسمون فتاويهم شرعية، وترى مثل الإمام الغزالي يصرح في إحياء العلوم بأن أهم أمور الدين لا توجد في كتب الفقهاء وانظر ما كتبناه في تفسير هذا الجزء من المقابلة بين المؤمنين والمنافقين وقد فصلنا هذه المسألة مرارًا وحسبكم منها ما جمعناه في كتاب يسر الإسلام وكتاب الوحدة الإسلامية ومحاورات المصلح والمقلد. (48) الاستغفار عقب الصلاة ورفع الصوت الاستغفار عقب الصلاة مشروع ومأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن

لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ـ 2

الكاتب: شكيب أرسلان

_ لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟ (2) (بقية الكلام في خيانة بعض المسلمين لدينهم وأمتهم) ولعل الأخ الشيخ بسيوني عمران يقول: إن هؤلاء أفراد قلائل فلا يجوز أن نجعل الأمة الاسلامية مسؤولة عن مخازيهم وموبقاتهم. الجواب على ذلك: أن الظلم يخص والبلاء يعم كما لا يخفى، ولكني لا أسلم أن هؤلاء أفراد قلائل، وأن الأمة غير مسؤولة؛ إذ لو كان وراء هؤلاء أمة يخشونها، ما تجاسروا على الاتِّجار بدينها بعد الاتجار بدنياها، بل كانوا لو اقترح عليهم الفرنسيس اقتراحًا مضرًّا بملتهم وأمتهم ولم يقدروا على رده - اعتزلوا مناصبهم، ولزموا بيوتهم، وكان الفرنسيس كلفوا بالعمل غيرهم، فإذا أبى الخلف ما أباه السلف مرة بعد مرة - علم الفرنسيس أن لا فائدة في الإصرار؛ فعدلوا عن دسيستهم البربرية وما أشبهها، ولكنهم مصرون عليها بسبب استظهارهم بأناس ممن يزعمون أنهم (مسلمون) ، فهم يهدمون الإسلام بمعاول في أيدي أبنائه، ويقولون: لسنا من هذا الأمر في قبيل ولا دبير أفلا ترى كيف قالوا عن الظهير البربري: إنه قد أصدره السلطان وحكومة المخزن. أفهذا هو الإسلام الذي يناشد الله الشيخ بسيوني عمران بتأييد أهله؟ ! قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) . ولا شك أن (المسلمين) الذين يبلغون هذه الدركات من الانحطاط وتتركهم الأمة الإسلامية وشأنهم يلعبون بحقوقها يستحقون للإسلام التمحيص الذي هو فيه [1] فإنما سمح الله بأن يستولي الأجانب على ديار المسلمين ويجعلوهم خولاً، ويغتصبوا جميع حقوقهم، تعليمًا لهم وتهذيبًا وتصفيةً وتطهيرًا كما يصفَّى الذهب الإبريز بالنار. قال الله تعالى: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41) . لقد أصبح الفساد إلى حد أن أكبر أعداء المسلمين هم المسلمون! وأن المسلم إذا أراد أن يخدم ملته أو وطنه قد يخشى أن يبوح بالسر من ذلك لأخيه؛ إذ يحتمل أن يذهب هذا إلى الأجانب المحتلين فيقدم لهم بحق أخيه الوشاية التي يرجو بها بعض الزلفى، وقد يكون أمله بها فارغًا. ولله در الملك ابن سعود حيث يقول: ما أخشى على المسلمين إلا من المسلمين، ما أخشى من الأجانب كما أخشى من المسلمين [2] . وهو كلام أصاب كبد الصواب، فإنه ما من فتح فتحه الأجانب من بلاد المسلمين إلا كان نصفه أو قسم منه على أيدي أناس من المسلمين، منهم من تجسس للأجانب على قومه، ومنهم من بث لهم الدعاية بين قومه، ومنهم من سلّ لهم السيف في وجه قومه، وأسال في خدمتهم دم قومه. فأين إسلامهم وإيمانهم من قوله: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) ، وقوله: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) ، وقوله: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الممتحنة: 9) ، وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1) . أفبمثل هذا تكون طاعة الله ورسوله؟ أم بمثله تكون أخوة الإيمان وولايته وولاية أهله؟ ! أو لمثل هؤلاء يعِد الله العز والنصر والتمكين في الأرض، وهم سعاة بين أيدي الأجانب على ملتهم وقومهم، كلما عاتبهم الإنسان على خيانة اعتذروا بعدم إمكان المقاومة، أو باتقاء ظلم الأجنبي أو بارتكاب أخف الضررين؟ وجميع أعذارهم لا تتكئ على شيء من الحق. ولقد كانوا قادرين أن يخدموا ملتهم بسيوفهم فإن لم يستطيعوا فبأقلامهم، فإن لم يستطيعوا فبألسنتهم، فإن لم يستطيعوا فبقلوبهم [3] فأبوا إلا أن يكونوا بطانة للأجانب على قومهم، وأبوا إلا أن يكونوا روادًا لهم، وأبوا إلا أن يكونوا مطايا للأجانب على أوطانهم، وتراهم مع ذلك وافرين ناعمي البال، متمتّعين بالهناء وصفاء العيش، وهم يأكلون مما باعوا من تراث المسلمين، ومما فجروا من دماء المسلمين، وينامون مستريحين. مثل هؤلاء ليس لهم وجدان يعذبهم من الداخل، ولا نجد من المسلمين مَن يجرؤ أن يعذبهم من الخارج. ولم نكن لنطلق الكلام إطلاقًا على العالم الاسلامي في هذا الموضوع؛ فإن الأمة الأفغانية مثلاً لا يمكن أحدًا أن يحطب فيها في حبل الأجانب علنًا ويبقى حيًّا، والنجديون لا يوجد فيهم مَن يجرؤ أن يمالئ الأجانب على قومه، والمصريون قد ارتقت تربيتهم السياسية كثيرًا عن ذي قبل، فأصبحت مجاهرة أحدهم بالميل للأجنبي أو تفضيل حكم الأجنبي خطرًا عليه. فأما في سائر بلاد الإسلام فمن شاء من المسلمين أن يخلع الرسن ويجاهر بالعصوبة لعدو دينه وبلده فلا يخشى شرًّا، ولا يحاذر قلقًا ولا أرقًا! أفلمثل هؤلاء يقول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} (النور: 55) ؟ ! حاش لله أن يكون تعالى عنى بهؤلاء (المسلمين) الذين يخونون ملتهم ويسعون بين يدي أعدائها ويناصبون إخوانهم العداوة ابتغاء مرضاة الأجانب والحصول على دنيا زائلة وحطام فانٍ، كيف وقد قرن الإيمان بلازمه وهو عمل الصالحات؟ ! ، بئسما شَرَوْا به أنفسهم. وكذلك لا يعني الله بهؤلاء المسلمين الذين إن لم يكونوا خامروا على قومهم، وسعوا بين أيدي الأجانب في خراب أمتهم، وأوطئوا مناكبهم لركوب الغريب الطامح - فإنهم اكتفوا من الإسلام بالركوع والسجود والأوراد والأذكار وإطالة السبحة والتلوم في السجدة، وظنوا أن هذا هو الإسلام، ولو كان هذا كافيًا في إسلام المرء وفوزه في الدنيا والأخرى لما كان القرآن ملآن بالتحريض على الجهاد، والإيثار على النفس، والصدق والصبر، ونجدة المؤمن لأخيه، والعدل والإحسان، وجميع مكارم الأخلاق. ولو كان هذا كافيًا لأجل التحقق بالإسلام لما قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ} (التوبة: 24) [4] . أفيقدر أخونا الشيخ بسيوني عمران أو غيره أن يقول: إن المسلمين اليوم - إلا النادر الأندر، والكبريت الأحمر - يفضلون الله ورسوله على آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وأزواجهم وتجارتهم وأموالهم ومساكنهم؟ أو يؤْثِرون حب الله ورسوله - وإنما حب الله ورسوله إقامة الإسلام - على الجزء اليسير من أموال اقترفوها وتجارة يخشون كسادها؟ ! لنعمل هذه التجربة.. فبضدها تتبين الأشياء. لنفرض أن مسألة البربر دخلت في طور النجاح، وانتدب البابا الكاثوليك الذين في العالم لبذل الأموال اللازمة لهذا التحويل الذي تتوخاه فرنسة في البربر من دين الإسلام إلى دين النصرانية، فكم مليونًا تظن من الجنيهات يُدرّ على المبشرين والرهبان والراهبات لبناء الكنائس والمدارس والملاجئ والمستشفيات ومراكز الأسقفيات وما أشبه ذلك - لإتمام هذا العمل الذي تضم به الكثلكة ثمانية ملايين من البرابر إلى الأربعمائة مليون كاثوليكي الذين في العالم؟ لا شك أن الجواب يكون: عدة ملايين تجمع في بضعة أشهر. فإن قيل للبروتستانت: تعالَوْا فقد أذناكم بتنصير البرابرة فابذلوا في هذه السبيل ما أمكنكم، فإنها تُدرّ حينئذ الملايين بقدر ضعفي ما يُدرّ من الكاثوليك وفي مدة أقصر من المدة التي يجتمع فيها المال الذي يجود به الكاثوليك! فلنقل للمسلمين: إن البرابرة صاروا على شفا الخروج من الإسلام، وإن الأس في هذا الصبوء عن دين الاسلام هو الجهل. فعلينا أن نرسل إليهم علماءً ووعاظًا ليتفقهوا في الدين، وأن نبني لهم المساجد والمدارس والكتاتيب والملاجئ إلى غير ذلك من الوسائل التي تمسك بحجزاتهم عن مفارقة الإسلام والمسلمين. فكم تظن المبلغ الذي يجود به المسلمون بعد اللتيا والتي لهذا العمل؟ لا أظن أنهم يجودون بما يتجاوز جزءًا من مائة مما يبذله الكاثوليك أو البروتستانت! فهذه هي حمية المسيحيين على دينهم، وهذه هي حمية المسلمين. ومن الناس من يسأل عن أسباب انحطاط المسلمين وقصورهم عن مباراة سواهم، ولو تأمل في هذه الفروق في النهضة والحمية لوجد عندها الجواب الكافي. ومن أغرب الأمور أن نرى الأوربيين ودعاتهم وتلاميذهم من الشرقيين بعد هذا كله يتهمون المسلمين بالتعصب الديني، وينبزونهم بلقبه، وينتحلون لأنفسهم التساهل في الدين! إن هذا - والله - لعجب عُجاب. وها أنا الآن في كتابتي هذه التي معناها الدفاع لا التجاوز، والأستاذ الأكبر صاحب المنار، وعبد الحميد بك سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين، والأستاذ صاحب مجلة الفتح وغيرنا من الرجال الذين يبغون منع الاعتداء على الإسلام، وينادون المسلمين لينتبهوا للخطر المحدق بهم - متهمون بالتعصب الديني ومنبوزون بهذه الكلمة، لا بين غير المسلمين فقط، بل بين المسلمين الجغرافيين أيضًا - أعني الذين يتباهون بأن سياستهم (لا دينية) وطالما صرحوا بأنهم لا يقيمون للدين وزنًا، وطالما تزلفوا إلى المسيحيين بكونهم هم لا يدافعون عن الدين الإسلامي كما يدافع زيد وعمرو. فالمسلم إذًا لا يخلص من لقب (متعصب) إلا إذا سمع أن الفرنسيس يحاولون تنصير البربر فمر بذلك كأن لم يسمع شيئًا، وإلا إذا سمع أن الهولانديين نصَّروا مائة ألف - وقد زعم أحد نواب البرلمان الهولاندي أنهم فازوا بتنصير مليون مسلم من مسلمي الجاوي - وهز كتفه قائلاً: أنا لا يهمني أكان الجاوي مسلمًا أم مسيحيًّا.. هنالك (المسلم) يصير (راقيًا) ويعد (عصريًّا) ويقال فيه كل خير. وأما الأوربي فله أن يبذل القناطير المقنطرة على بث الدعاية المسيحية بين المسلمين، وله أن يحميها بالمدافع والطيارات والدبابات، وله أن يَحُول بين المسلمين ودينهم بالذات وبالواسطة، وله أن يدس كل دسيسة ممكنة لهدم الإسلام في بلاد الإسلام، وليس عليه حرج في ذلك، ولا يسلبه هذا العمل صفة (راقٍ) و (متمدن) و (عصري) وأغرب من هذا أنه لا يسلبه نعت (مدني) و (لا ديني) و (متساهل) ! وهؤلاء (المسلمون الجغرافيون) برغم هذه الشواهد الباهرة للأعين، وبرغم ما عملته جمهورية فرنسة (اللادينية) في قضية البربر لمآرب دينية كاثولكية، وبرغم حماية هولاندة لمبشري الإنجيل في الجاوي، وبرغم قرار الحكومة البلجيكية رسميًّا إكمال تنصير أهل الكونغو، وبرغم منع الإنكليز في الأوغاندة وفي دار السلام - وكذا السودان - بث الدعاية الإسلامية بين الزنوج، وبرغم أمور كثيرة - لا يسعنا الآن شرحها - لا يزالون يخدعون المسلمين قائلين لهم: إن أوربة

مناظرة في الجامعة المصرية في المدنيتين الفرعونية والعربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مناظرة في الجامعة المصرية في المدنيتين الفرعونية والعربية (وأيتهما تختار مصر هذا العصر؟ !) مقدمة وتمهيد: كنت كتبت في سنة 1329 بضع مقالات عنوانها (المسلمون والقبط) نشرتها في جريدة المؤيد وفي مجلة المنار معًا، كان الداعي إلى كتابتها الخلاف والتنازع الذي أهب وبعثهم على عقد (مؤتمر قبطي) عام لتقرير ما يرونه من حقوقهم في هذه البلاد وحكومتها، وما يدعونه من هضم المسلمين لها، واضطرار المسلمين إلى عقد مؤتمر آخر سموه (المؤتمر المصري) معارضة لذلك المؤتمر وتخطئة له في اسمه وموضوعه، بناءً على رأيهم، وفي وجوب وحدة الشعب المصري، وعدم جواز تفرُّقه وجعْله طوائف دينية. بحثت في تلك المقالات في حال الشعب المصري بحثًا اجتماعيًّا أخلاقيًّا؛ أثبتُّ فيه أن القبط أرقى من المسلمين بدرجات في جامعتهم الدينية، ورابطتهم الملية، وتعاونهم على مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، وأنه - من ثم - كانت ثروتهم النسبية أوفر، وعددهم في مصالح الحكومة أكثر، وكانوا معذورين أو جديرين بارتقاء همتهم إلى تحويل حكومة هذه البلاد عن الصبغة الإسلامية إلى الصبغة القبطية، باسم الجنسية والوطنية، وقلت يومئذ: إنهم قد غلطوا أو أخطئوا في المظهر الذي ظهروا به في مؤتمرهم القبطي ومطالبهم القبطية فيه؛ لأنهم قد يوقظون به في المسلمين (وهم الأكثرية الساحقة التي تمثل السيادة في البلاد) نعرة الجامعة الملية التي ضعفت فيهم حتى تكاد تزول، وحينئذ تتحول ثوائب مدهم إلى جزر، وربحهم في مساعيهم إلى خُسر. وقد اعتبروا بذلك وصاروا يدارون عواطف المسلمين بقدر معلوم، وتحولت دعايتهم عن اسم الجنسية القبطية إلى المدنية الفرعونية، ويؤيدهم في ذلك ساسة الاستعمار ودعاة النصرانية من الإفرنج عامة؛ ولذلك راجت هذه الدعاية لدى ملاحدة المسلمين المتفرنجين، وأفراد غيرهم من السذج الغافلين، فنشروها في الجرائد والمجلات المختلفة، وعقدوا لها مناظرة في كلية الحقوق من الجامعة المصرية من عهد قريب باللغة الإنكليزية موضوعها: أي المدنيتين ينبغي أن تختار مصر: آلمدنية الفرعونية، أم المدنية العربية؟ وكان الفلج فيها على ما قيل لنا للمدنية الفرعونية، فرأت لجنة المناظرات والمحاضرات في تلك المدرسة أن تعقد مناظرة أخرى في هذا الموضوع باللغة العربية، واختارت صاحب مجلة المنار لتأييد الجامعة العربية، ظنًّا منها - على ما نقل إلينا - أنه إذا فشل ودحضت حجته لا يُرجى لأنصار المدنية العربية أن تنهض لهم حجة على لسان غيره. وطفقوا يعرضون تأييد المدنية الفرعونية على أصحاب اللسن والخلابة، فيأبونها حتى أجاب دعوتهم إليها الأستاذ لطفي جمعة المحامي الخطيب الكاتب المشهور. عُقدت المناظرة بعد المغرب من يوم الجمعة 21 رجب الماضي الموافق ليوم 12 من شهر ديسمبر الماضي، وكان الرئيس المنظم للاجتماع الأستاذ وحيد رفعت من أستاذِي الجامعة، وكان المعضِّد للأستاذ لطفي جمعة - محمد أفندي أبو شقة من طلبة الجامعة المصرية، والمعضد لصاحب المنار أحمد أفندي حسين من طلبة الجامعة أيضًا. كانت الكلمة الأولى لمناظرنا الأستاذ لطفي جمعة فبدأ كلامه بتخطئة لجنة المناظرة في قولها: (المدنية الفرعونية) ، وقرر أن هذا التعبير لا يصح؛ لأن كلمة (فرعون) لقب لبعض ملوك مصر الأولين، وقد تولى حكم مصر بعدهم ملوك البطالمة وأمراء العرب، وآخرون لُقِّبوا بالسلاطين، وآخرون لقبوا بالخديويين، ثم عادت حكومة البلاد الآن ملكية، فإذا صح أن تسمى مدنية هذه البلاد فرعونية في عصر جاز أن تسمى في عصور أخرى سلطانية وخديوية وملكية، وهذا ما لا يقول به أحد. ثم قال: إن لهذه البلاد مدنية خاصة يجب أن تسمى (المدنية المصرية) ، ولا يجوز أن تسمى فرعونية ولا عربية لا في الأزمنة الماضية ولا في هذا الزمن، واحتج على ذلك بأن المصري الذي ذهب إلى بلاد العرب كالحجاز أو غيرها من الأقطار، يقال: فلان المصري لا العربي. وذكر أن المدنية المصرية تمتاز على جميع مدنيات الشعوب بمزايا خاصة بالمصريين لا يساويهم فيها أحد. وذكر منها سمرة اللون وخفة الروح وحسن الفكاهة والظرف في النكت المليحة. وأطال في وجوب محافظة المصريين على تسمية مدنيتهم مصرية وعدم نسبتها إلى العربية، وذكر أن تدينهم بالإسلام لا يقتضي أن يكونوا عربًا في مدنيتهم وجنسيتهم، فإن الإسلام دين عام يشمل جميع شعوب البشر، وذكر أنه هو يرى - كمسلم مصري أو مصري مسلم - الأخذ بالمدنية المصرية. وقد أطال في هذا بفصاحته وبداهته، بما لا يستطيع كل أحد أن يطيل به لضيق الموضوع وإعوازه الحقائق التي تمده، وفقده للدلائل التي تثبته. ولما انتهى الوقت الموقوت له في الكلام وما زاده عليه، قمت فشكرت له إنكاره لنسبة المدنية إلى لقب فرعون، وقلت: إنني كنت عازمًا على هذا الإنكار فكفاني مؤنته. وأثنيت على فصاحته واستقلال فكره؛ إذ لم يرضَ لنفسه أن يكابر الحق في المسألة، وذكرت أن جعل سمرة اللون من آيات الجنسية أو المدنية المصرية تُخرجه هو ورئيس اللجنة منها؛ فإنهما أشقران لا أسمران، ثم أفضت في الموضوع. وملخص ما قلته مع اختصار لبعض المسائل وايضاح قليل لبعضٍ مع التزام الموضوع: أن مسألة النسبة إلى مصر نسبة إلى بلد هذا القطر. وكان المعروف عند علمائنا أن العرب الأقدمين كانوا ينسبون الأشخاص إلى أجناسهم النسبية وقبائلهم، فيقولون مثلاً: قرشي أو تميمي ... إلخ، وينسبون الأعاجم إلى شعوبهم: كرومي وهندي وفارسي، والأشياء إلى بلادها كالحبر اليمانية والقباطي المصرية. وكان الأعاجم ينسبون الأشخاص إلى بلادهم فيقولون: مصري وبصري ودمشقي وخراساني مثلاً؛ لأن الأنساب قلما تحفظ في الأمصار. وبعد الحضارة الإسلامية تغلبت النسبة إلى البلاد على النسبة إلى القبائل؛ لأن من شأن الحضارة أن تمزج القبائل الكثيرة والأجناس الكثيرة في مصر واحد، وإنما تحفظ الأنساب في أطوار البداوة. والنسبة إلى مصر الآن عندما نقول: فلان مصري. يراد بها الجنسية السياسية التي تُنال بالإقامة وقبول الحكومة، لا النسبة إلى جيل من سكان هذا القطر كالقبط والعرب، فكل مَن له حق الجنسية المصرية الآن يقال له: مصري (وإن كان غير المسلم والقبطي منهم قد يُنسب أيضًا إلى أهل ملته كاليهودي أو جيله كالرومي) . أما المصريون القدماء فقد اختلف علماء الآثار العادية في أصلهم، فمن علماء الآثار مَن يقول: إن أصلهم من العرب؛ كما بينه الأستاذ جبر ضومط من أساتذة الجامعة الأمريكية ببيروت في محاضرة له ألقاها في تلك المدرسة الشهيرة، نقل فيها عن بعض علماء الأجناس واللغات من الإنجليز وغيرهم قول مَن يقول: إن أصل المصريين من العرب، ونشرناها في المنار. وكذلك الأستاذ نعوم بك شقير بيَّن هذا في كتابه (تاريخ سينا القديم والحديث وجغرافيتها) وبعد ما أورد بعض النقول عن علماء أوروبا قال ما خلاصته: إن أكثر الذين يسكنون الآن مصر وسورية والعراق هم من أصل واحد كما كانوا من قديم الزمان. ويرجع العلم التفصيلي أو الكلام في هذا إلى العالِم المصري الأثري الشهير المرحوم أحمد كمال باشا المصري فهو قد ألف معجمًا كبيرًا للغة الهيروغليفية بيَّن فيه أن كثيرًا من ألفاظها القديمة موافقة للغة العربية (المُضرية) . وقد نشرنا في المجلد الثامن عشر من المنار فصولاً له في الشواهد على ذلك، ويصح أن نقول: إن هذا العالم المصري أوسع علمًا بهذا الأمر من علماء أوربة المشهورين لجمْعه بين اللغتين الهيروغليفية والعربية، وفيما ذكرناه من معجمه: أن أسماء (الحَبّ) الذي نتخذ منه خبزنا في اللغتين واحد مع تحريف لبعض الألفاظ: فمنها كلمة (بُر) وهي لغة الحجاز (وقمحو) وهو تحريف قمح (وحنت) وهو تحريف حِنطة؛ لأن الطاء تاء مفخمة. وقد ترجم نجله الدكتور حسن بك كمال الحجر الوحيد الذي فيه ذكر بني إسرائيل من الآثار المصرية، وبين والده ما فيه من الألفاظ العربية (المضرية) وهي لا تقل عن نصف ألفاظه، وقد نشرناه في المنار أيضًا. ومما نقلناه عن المرحوم أحمد كمال باشا أنه يوجد في الدير البحري بقرب الأقصر أثر قديم من زمن الدولة المصرية الثامنة عشرة فيه كلمة عن أصل المصريين القدماء، ملخصها: أنه كان هناك قوم يسمون الأعناء هم أول مَن بنى المدن في الوجه القبلي. وفيه أنه ذهب بعض هؤلاء الأعناء إلى بلاد العرب، وبعضهم إلى الصومال وإفريقية وبلاد أخرى ولا يُعلم من أين جاؤوا! والأعناء جمع (عنو) وهو لفظ معناه بالعربية والهروغليفية: الأقوام المختلطون من قبائل شتى. وما ذكر من أن بعضهم ذهب إلى بلاد العرب يدل على أن بلاد العرب كان فيها سكان غيرهم، ولكن خبرهم واسمهم المشترك أقدم الآثار التاريخية في علاقة بلاد العرب ببلاد مصر، وامتزاج شعوبها من قبل استيلاء دولة الرعاة (الهيكسوس) العربية عليها عدة قرون، فهذا ملخص ما يتسع له المقام من الإشارة إلى النقول التاريخية في أصل المصريين القدماء. وأما المصريون في هذا العصر فمن المعلوم أنهم أيضًا كأكثر بلاد الحضارة مؤلَّفون من أمم مختلفة من القبط والعرب والترك والشركس والمغاربة واليونان والرومان وغيرهم، حتى إن فيهم أيضًا كثيرًا من الشعوب الإفرنجية الحديثة تجنَّسوا بالجنسية المصرية. *** قوام المدنية ومقوماتها بعد هذا نرجع إلى الكلام في المدنية فنقول: إن المدنية قوامها اللغة والفنون والصناعات والثقافة المعنوية من العقائد والتشريع والآداب. فنحن إذا نظرنا إلى أن المصريين القدماء يمتزجون بالعرب وأن بعض العلماء يقول إنهم كلهم أو أصلهم من العرب، ولم نستطع ترجيح هذا القول على ما قبله فإننا نجزم قطعًا بأن المصريين بعد الفتح الإسلامي قد امتزجوا بالعرب المسلمين وغلبت عليهم الحضارة العربية بجميع مقوماتها ومشخصاتها، فلغتهم كلهم عربية، ودين السواد الأعظم منهم هو الإسلام الذي هو ينبوع ثقافة الآداب والتشريع. وإذا أردنا المقارنة بين المدنية العربية الإسلامية وما يسمى المدنية الفرعونية - والمراد بها القبطية - وأردنا أن نرجح بين المدنيتين فإننا نقول: إن مدنية الفنون والصناعات تختلف باختلافات الأزمنة وحاجات البشر فيها، فالفنون والصناعات التي رقاها الأوربيون من وسائل المعايش والتنقلات كالسكك الحديدية وغيرها لا يصلح للبشر في ارتقائهم المدني في هذا العصر غيرها (على أن المباني العربية أجمل من الإفرنجية والفرعونية، ولا يوجد أمة في هذا العصر تسفه نفسها ببناء أهرام كأهرام الجيزة!) . فيبقى النظر في اللغة والثقافة المعنوية، فأما اللغة فلا يمكن أن يقال: إنا نؤْثِر اللغة الهيروغليفية على العربية؛ لأنها لغة ميتة ذهبت عينها وبقيت آثارها، وليس فيها مزيَّة توجب إحياءها واستبدالها بالعربية لو كان ممكنًا. وأما الدين فدين الفراعنة كان وثنيًّا، ودين السواد الأعظم من المصريين الإسلام وتليه النصرانية فاليهودية، ولا يرضى أحد من المصريين أن يرجع إلى دين الفراعنة الوثنيين فيعبد العجل (أبيس) وغيره من آلهتهم. فأساس العقائد الإسلامية التوحيد، ومن مقتضاه أن لا يخضع البشر ولا يذلوا إلا لله تعالى خالقهم ورازقهم ولا يخافوا سواه. وأما الفرعونية فأساسها عبادة البشر والبقر والثعابين وغيرها! وكفاكم ما قصَّه الله تعالى من قول فرعون م

بقية رد المنار على مقالة رئيس تحرير مجلة نور الإسلام في الدفاع عن نفسه وعنها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بقية رد المنار على مقالة رئيس تحرير مجلة نور الإسلام في الدفاع عن نفسه وعنها (2) خطأ المجلة في اتقاء مس السياسة في شأن ما: جاء في مقدمة المجلة ما نصه: (خرجت هذه المجلة بعد أن رسمت لنفسها خطة لا تمس السياسة في شأن) ، فهذا تصريح بأن الخطة المرسومة لمجلة الأزهر والمعاهد الدينية أن لا يُنشر فيها شيء ما يمس السياسة العامة، ولا السياسة الخاصة بالإسلام ولا بمصر ولا بغيرهما بوجه من الوجوه ولا برأي من الآراء، لا دفاعًا ولا هجومًا؛ لأن كلمة (شأن) نكرة في سياق النفي تفيد العموم الاستغراقي. كبر عليَّ أن تكون هذه المجلة الغنية لهذا المعهد الإسلامي الكبير هي التي تختار لنفسها هذا الحرج الشديد والتضييق على محرريها، فتجعل الحرمان من جميع شؤون السياسة خطة مرسومة لها لا تتعداها، وتجاري ما كاد يكون عرفًا عامًّا لدى الحكام من تحريم الاشتغال بالسياسة على علماء الدين، وإبعادهم عن أهم شؤون المسلمين بسياستهم. فذكَّرتهم برأيي في هذه الخطة بلطف، فأجاب رئيس التحرير عن ذلك بالمغالطة الآتية. قال: (نقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من أنها لا تمس السياسة في شأن، وقلتم إن هذا حرمان لمحرريها من خدمة الإسلام والدفاع عنه بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها) . وجواب هذا أن المجلة إذا تجنبت التدخل في النزعات السياسية فإن أقلام محرريها لا تقف دون الكتابة فيما يصيب الشعوب الإسلامية من مكاره، أو فيما تراه مخالفًا للدين ولو كان من أعمال الإدارة الداخلية، غير أنها تكتب في هذا على وجه الوعظ والإرشاد، فلا يخرج من دائرة مجلة نور الإسلام أن تكتب في إنكار تصرفات يُعتدَى بها على حق ديني لأحد الشعوب الإسلامية. وذكر مما يدخل في دائرتها المطالبة بإلغاء البغاء الرسمي واحترام المحاكم الشرعية والاحتفاظ باللغة العربية! ! ! (راجع ص 373 من الجزء الخامس الماضي) . أقول: خلاصة هذه المغالطة أن المجلة تتجنب التدخل في النزعات السياسية، ولكنها لا تتجنب غير ذلك من الشؤون الإسلامية، كالمكاره التي تصيب المسلمين والبغاء الرسمي والمحاكم الشرعية واللغة العربية. فيا لله العجب! كيف كتب رئيس التحرير هذا وسماه جوابًا عن قولي: إن المجلة ضيقت مجال خدمة الإسلام على محرريها بحرمانهم من الكتابة في السياسة الإسلامية، فإن كان ما ذكر أنه أبيح لهم من السياسة فما معنى ذلك النفي العام؟ وإذا لم يكن منها فما معنى ذكره وتسميته جوابًا عما انتقد على المجلة من هذه الجهة؟ ! دعْ تعبيره في الجواب عن عدم مس أي شأن من شؤون السياسة (باجتناب التدخل في النزعات السياسية) والفرق بينهما بعيد، وهو الذي كتب العبارتين! ! على أن ما ادعى إباحته لأقلام محرري المجلة من بيان ما تراه مخالفًا للدين من أعمال الإدارة الداخلية لا نرى له مصداقًا في المجلة، فللإدارة الداخلية أعمال كثيرة مخالفة للدين غير إباحة البغاء: كإباحة الحانات، وتجارة المسكرات، وأكل الربا، والإسراف الفاحش في أموال الدولة وأموال الأوقاف وصرفها في غير مصارفها الشرعية، وغير ذلك من الظلم الذي تذكره الجرائد من أعمال الإدارة، ولا نرى في المجلة إنكارًا لشيء مما ذُكر على الحكومة على سبيل الوعظ والإرشاد الذي يقتضي بيان سلب ما ذكر للعدالة، وما تشترط فيه العدالة لصحة الولاية، زد على هذا إهمال الدين في مدارس الحكومة وأهم ما يجب عليها إلزام تلاميذها بإقامة الصلاة وسد ذرائع الإلحاد، ويا ليت شعري لماذا يسكت علماء المعاهد الدينية في مجلتهم الرسمية عن إنكار إنشاء مدرسة لتعليم البنات التمثيل المسرحي الذي يشتمل على ما يعلمون من المنكرات، وهو من أقوى الذرائع لفساد الأعراض وارتكاب كثير من الموبقات؟ ! سكوت المجلتين عن المؤتمر الأفخارستي وتنصير البربر ولا أدري ماذا يريد الأستاذ رئيس التحرير من المكاره التي تمس الشعوب الإسلامية، ولا ماذا يعني بالتصرفات التي يعتدى بها على حق ديني لأحدها. وأما جماهير المسلمين فيعلمون أن شر هذه المكاره وتصرفات الاعتداء وأفظعها ما أصاب شعوب المغرب الإسلامية في دينهم ودنياهم، ولا سيما مؤتمر دعاة النصرانية الملقب بالأفخاريستي في تونس، وطن الأستاذ ذي الرياستين والقلم والجوال في المجلتين الإسلاميتين، الذي أُسس لتنصير المسلمين بالدعاية والطعن في الإسلام، وشر منه محاولة تنصير شعب البربر الإسلامي الكبير بالفعل، فإذا كانت رياسة المعاهد الدينية تمنعه من بيان هذه المكاره والنوازل التي أصابت قومه ووطنه في مجلة (نور الإسلام) فما الذي منعه عن بيانها في (مجلة الهداية) وهو يرى جميع المجلات والجرائد والجمعيات الإسلامية تقيم النكير على دولة فرنسة، وتثير عليها العالم الإسلامي، وأحرار العالم المدني، ولم يبقَ الا مجلة نور الإسلام ومجلة الهداية لم ينبض لأصحابهما عرق، ولم يهج لهما شعور ولا حس؟ ! لولا أننا نريد التلطف والإيجاز في هذا الرد على مقالة (للحقيقة والتاريخ) لبسطنا القول في هذا المقام بما يسوء الكاتب وغيره ممن يتكلم بألسنتهم، ويعبر عن جماعتهم، ويتمنون لو لم يكن كتب هذه المقالة، ويعلمون قدر تلطفنا وإخلاصنا في الإشارة إلى كراهتنا لتضييق هذه المجلة على نفسها - إن كانت مختارة كما يقول رئيس التحرير - في رسمها الخطة لنفسها؛ لأننا نتمنى لها كل ما يمكن من الحرية في خدمتها للإسلام والمسلمين وهي تعدُّنا بهذا من المذنبين. قال أحد أعضاء جمعية الهداية أو غيرهم: إننا رأينا في أحد أجزائها ورقة منفصلة فيها ذكر إنكار هذه الجمعية أو كراهتها لمحاولة فرنسة تنصير مسلمي البربر. قلنا: نعم قد كان ذلك، ونحن لما وقع في يدنا ذلك الجزء من المجلة وفتحناه ووقعت تلك الورقة منه على الأرض فرأيناها - عجبنا من وضع ذلك الإنكار الضعيف النحيف السخيف الضئيل النحيل الهزيل في ورقة صغيرة منفصلة، وفكرنا في سببه، فلم نعقل له سببًا إلا أن يكون القصد منه جعْل الورقة في الأجزاء التي توزع في مصر، دون الأجزاء التي تُرسل إلى بلاد تونس والجزائر ومراكش؛ لئلا تغضب الحكومة الفرنسية على رئيس الجمعية التونسي وتمنع المجلة من دخول تلك البلاد، فإن لم يكن هذا هو السبب فلتخبرنا إدارة هذه الجمعية إن لم يخبرنا رئيسها عن السبب الصحيح، ومهما يكن فلن يكون مما يُرضي المسلمين ويعذرونها به، كما أنه لم يرضهم ما نقلته مجلة نور الإسلام عن المقطم في مسألة البربر كما بينا ذلك في الجزء الماضي. مسألة الرد على دعاة النصرانية بما يكرهون من الحق: وكتب الرئيس في مقدمة المجلة أيضًا: (خرجت هذه المجلة وهي تحمل سريرة طيبة لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول) . وقد نقلت عنها هذا القول ووصلته بقولي: أنا لا أرضى لمجلة علمائنا أن تطعن في الأديان بالبذاء والسفاهة، كطعن المبشرين في بعض مجلاتهم وكتبهم على الإسلام، ولكنها لن تستطيع أن تقوم بالواجب من الرد على دعاة النصرانية المهاجمين للإسلام في مصر وغيرها مع تجنب ما يكرهونه من قول. فهذا رأي لي علمته بالاختبار الطويل في عشرات السنين، كالرأي الذي قبله، ليس نقدًا للمجلة ولا تخطئة لها، وكان يجب أن تقابله بالشكر أو بالسكوت، ولكن الأستاذ رئيس التحرير ما عتم أن أجاب عنه بذلك الجواب الطويل كما رأى القراء في (ص374) من أولها إلى آخرها. ومما قاله: إنني حملت العبارة على معنى أن المجلة (لا ترد على المخالفين إذا هاجموا دين الإسلام) . وهذا غير صحيح، فإنني ما حملتها على هذا المعنى، وكلمتي لا تدل عليه، فمن أين جاء به؟ ثم قال: إن المجلة إنما تريد بذلك القول الترفُّع عن بذاء القول والخروج عن دائرة البحث العلمي إلى ما يهيج البغضاء.. إلخ، ثم ذكر عن حكماء الكتاب تحامي السوء من القول وعدم الحاجة إلى اللمز والبذاء! ! فأي حاجة إلى هذا القول بعد تصريحي بأنني لا أرضى لمجلة علمائنا البذاء وبسفه القول؟ ولماذا لم ينشر عبارتي بنصها؟ أليس لإيهام قارئي هدايته الذين يظن أنهم لا يرون المنار - أنني أحث مجلة نور الإسلام على السفاهة والبذاء؟ ! وكيف يكون هو إذًا من حكماء الكُتاب، الذين هم في ثروة من الحجج لا يرون أنفسهم في حاجة إلى الاستعانة في هجومهم أو دفاعهم بشيء من اللمز أو البذاء؟ وقد بلغني بعد نشر جزء المنار الماضي أن الأستاذ الأكبر منعه من نشر رده على المنار في مجلة نور الإسلام؛ لأنه علم من ضعفه ومن سعة المجال لتفنيد المنار له ما لم يعلم، فنشره في مجلة الهداية؛ لأنه لا سيطرة عليه فيها ولا رقيب. الأدب في المناظرة والجدال قوة تزيد صاحبها ظهورًا، وحججه فلجًا ونورًا، وقد تذكرت الآن ما كان من أدب شيخنا الأستاذ الإمام في رده على فرح أفندي أنطون صاحب مجلة الجامعة العثمانية، وما كان من تسرع فرح أفندي وعدم توقفه في رده، حتى إن بعض أهل العلم ذكر للأستاذ أنه لا يستحق هذا التلطف فقال رحمه الله: (لا خسارة في حسن الأدب) . وكان يكتب مقالات (الإسلام والنصرانية) في أثناء سفره لجمع الإعانة لمنكوبي الحريق في (ميت غمر) وتوزيعها عليهم ويرسلها إليَّ فأنشرها في المنار، فكتب إليَّ مرة يسألني: ما رأي أدباء النصارى في المقال؟ ! فكتبت إليه: إنهم معجبون بأدبه ونزاهته، ولكنهم يتألمون من موضوعه، فكتب إليَّ: أنه إنما يسأل عن رأيهم في أدب العبارة، ويخشى أن يكون سبق قلمه إلى كلمة تُنتقد، ثم قال من جهة الموضوع: وإذا كان الباطل لا يتألم من رؤية الحق فمِمَّ يتألم؟ ! فهذا المعنى هو الذي أشرت إليه في قولي: إن المجلة لا تستطيع أن تدافع عن الإسلام بالرد على المبشرين بما لا يكرهون من قول مهما تكن درجة توخيها للنزاهة والأدب فيه. وجملة القول أنني عنيت أشد العناية الممكنة في تقريظ مجلة نور الإسلام، وتلطفت جهد الطاقة في النصح لها بما أراه حافظًا لكرامة أهلها، ومزيد كمال في إتقان خدمتها، (وقد يستفيد الظنة المتنصح) ولم أقصد بشيء منه الانتقاد على سعة مجاله عندي، الا ما هو خاص بفضيلة رئيس التحرير من حيث هضمه لحق الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، وأُشهد الله أنني سُررت بجعْله رئيسًا لتحرير المجلة، فكان حظي وحظه ما رأى القراء من رده وجوابي، ولهم الحكم العدل فيهما إن شاء الله تعالى وهو خير الحاكمين.

مسيح الهند القادياني الدجال ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسيح الهند القادياني الدجال (2) إن جمعية ندوة العلماء قد دعتني في سنة 1330 (1912 م) إلى الهند لأتولى الرياسة والصدارة لمؤتمرها الإسلامي الذي تريد عقده في مدرستها الجديدة التي أنشأتها في مدينة (لكهنؤ) فأجبت الدعوة، وحقق الله تعالى بي رجاء الجمعية في إقبال مسلمي الهند عليها، فلم تر مثال إقبالهم في تلك السنة. وكان من جملة الوفود الذين حضروا من أقطار الهند للسلام عليَّ وفد قاديان من أتباع غلام أحمد منتحل المسيحية في الإسلام، وقد دعوني إلى زيارة بلدهم فلم أجبهم؛ لأنهم يستغلون هذه الزيارة فيوهمون المسلمين أن ضيف الهند الذي احتفلت به وأكرمت مثواه يحترم هذه الطائفة الضالة المضلة، ويحترم دعيَّها المسيح الكذاب، وقد بلغني أن رئيس جمعية الندوة شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني رحمه الله تعالى قد منع الوفد من البحث في بدعتهم معي في دار ضيافة الندوة، فلما أردت السفر وخرجت الجموع إلى محطة السكة الحديدية لتوديعي خرج معهم الوفد القادياني ولم يملك رئيسه نفسه أن جهر بدعاية مسيحيتهم في المحطة - ومَن يدري ماذا كان يقول لو سكت عنه أو تكلمت بما لم يسمعه غير وفدهم ومن يقرب مني وأكثرهم لا يفهمون العربية - فوقفت في نافذة القطار ورددت عليهم بصوت جهوري يسمعه الجم الغفير مفندًا نِحلتهم، دامغًا بدعتهم، وما أذكره من ذلك أن مسيحه يزعم أن الحرب قد بطلت من الأرض بظهوره ونسخت فرضية القتال الذي فرضه الله على المسلمين فلم يبق من حاجة إلى الجهاد، وقد كذبه الله تعالى بعدوان دول إيطالية هنالك على طرابلس الغرب وبرقة وقتالها للمسلمين هنالك بغيًا وعدوانًا، ومن المجمع عليه عند المسلمين أن الكفار إذا اعتدوا على بلاد المسلمين يكون القتال لدفعهم عنها فرضًا عينيًّا على كل مَن قدر عليه. ومسألة الجهاد هذه كمسألة ادعاء النبوة قد خالف فيها المسيحيون القاديانيون إجماع المسلمين فيما هو قطعي معلوم من دين الإسلام بالضرورة، فخرجوا بذلك من الملة الإسلامية، وقد بيَّنا من قبل ضلالهم فيها، وإبطال تأويلهم لها، ولما رددت على مسيحهم في زمنه أجاب عنها في الكتاب الذي ألفه في الرد والانتقام مني، وفي كتب أخرى من كتبه المضحكة المبكية، وقد نقل الحصني الدمشقي بعض كلامه مترجمًا عن كتاب له بغير العربية، وسأبين ذلك في النبذة التالية بما يدل على جهل مسيحهم وجهلهم، ومما قاله داعيتهم في محطة لكهنؤ: إن المسيح عيسى ابن مريم قد توفاه الله، وثبت وجود قبره في كشمير، فوجب أن يكون المسيح الذي ينزل في آخر الزمان غيره. فاكتفيت من الرد عليه في ذلك الوقت القصير بأن قولهم هذا لا يقتضي أن يكون ميرزا غلام أحمد القادياني هو المسيح الموعود به. والمراد من ذكر هذه المسألة أن ما زعمه الحصني من صدق قول مسيحهم عني (سيهزم فلا يرى) كذب فإنني ظهرت عليه في تفنيد دجله في عصره، وظهرت على خلفائه من بعده حتى في بلاده، ولا أزال ظاهرًا مبطلاً لدعوتهم، هادمًا لضلالتهم، ولله الحمد والمنة. ((يتبع بمقال تالٍ))

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار من صاحب الإمضاء في بيروت (س54 - 56) بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله على آلائه. وأصلي وأسلم على خاتم رسله وأنبيائه. حضرة صاحب الفضيلة والفضل الأستاذ الإمام مرشد الأنام السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر حفظه الله تعالى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فأرفع إلى فضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه: (1) هل يجوز للعلماء كالقضاة والمفتين ومدرسي التفسير واللغة العربية ببعض الكليات الإسلامية أن يذهبوا ويجلسوا في محلات اللهو كالمقاهي العمومية، والحفلات وغيرها، وهناك يرون ويسمعون المنكر كصوت البيانو والعود والغناء من النساء الأجنبيات أم لا؟ وهل توجد أقوال عند أحد أئمة المسلمين تبيح لهم ذلك؟ لأن كثيرًا من العوام حينما ننكر عليهم جلوسهم في تلك الأماكن التي يسمعون بها الغناء والضرب على البيانو والعود وغيره من النساء الأجنبيات لا يسمعون لنا قولاً، وحجتهم في ذلك جلوس بعض العلماء في تلك الأماكن! (2) هل يجوز لعن وشتم وسب العلماء الغُيَّر على الدين وأهله، المتمسكين بالكتاب والسنة وأقوال الأئمة، الذين لا يحكمون إلا بما أنزل الله، والذين يهمهم شأن المسلمين وأمرهم. وقد عرف فضلهم كل ذي فضل؟ هل يجوز شتم أمثال هؤلاء العلماء الأفاضل على مسمع من الناس أم لا؟ وهل الواجب على المستمعين الإنكار على السابّ ونهيه وزجره أم لا؟ وهل يأثم هؤلاء المستمعون في سكوتهم وعدم إنكارهم أم لا؟ (3) زعم بعض من يدعي العلم والمعرفة والمدنية (وما أكثرهم في هذه الأيام) (أن الدين الإسلامي لا يتمشى مع المدنية والحضارة) فهل هذا صحيح أم لا؟ وهل تقرون زعمه؟ أم تردونه وتدحضونه؟ نرجوكم الجواب الشافي في ذلك، كما نرجو فضيلتكم أن تقدموا هذا الجواب على غيره؛ لأن هذا المشعوذ أخذ يجمع من حوله أنصارًا ليقوموا بهذه الدعوى الكاذبة الباطلة، وقد شافهنا بعض المطلعين على زعمه فقال: إن هذا وأمثاله لا يردعهم عن غيهم بالبراهين القطعية، والحجج الناصعة القوية، إلا فضيلة العلامة المِفضال الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر؛ ولذلك نحن بادرنا بكتابة ما تقدم لتسرعوا بالجواب. ولكم جزيل الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر البَعْلبكي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت أجوبة المنار معدودة بحسب ترتيب أرقام الفتاوى السابقة (54) جلوس العلماء في مجالس اللهو والفسق إن أقل ما يقال في محافل اللهو العامة المعهودة: إن حضورها مخل بالمروءة والحشمة التي يُطلب من علماء الدين وقضاة الشرع شدة العناية بالمحافظة عليها. وهذا ينافي القول بإباحتها المطلقة حتى على القول بإباحة سماع المعازف كالبيانو والعود، فإن شرط إباحة هذا السماع عند القائل به ألا يكون معه منكر آخر، ولا يكون ذريعة لمنكر آخر أو لقدوة سيئة، ومن المنكرات المألوفة في هذه المحافل وجود النساء الموصوفات في حديث صحيح بوصف (الكاسيات العاريات المائلات المميلات) ، وكذا شرب الخمور أو وجود السُّكَارَى وسماع رفثهم، والاختلاف إليها يستلزم هجر الرجال لبيوتهم في أوقات الفراغ من أعمالهم المعاشية. وهجرهم لها قد يكون مفسدة لمَن فيها من النساء والأولاد. وفي حضور مَن ذُكر من العلماء فيها تجرئة للفساق على ما وراء هذا السماع والمناظر من الفواحش والمنكرات، أو اعتقادهم أن هذه المفاسد مباحة في الشرع، فبهذا وما قبله يكون للعلماء حكم لا يشاركهم فيهم غيرهم مع أن أحكام الشرع عامة. وكان علماء السلف يتركون بعض المندوبات أحيانًا؛ لئلا يفهم العوام من مواظبتهم عليها وجوبها كما ترك ابن عباس (الأضحية) وترك بعضهم المواظبة على قراءة سورة: الم السجدة في فجر يوم الجمعة وهي من السنن المؤكدة. فينبغي أن يكون رجال العلم والتهذيب قدوة صالحة للأمة باجتناب هذه الملاهي في المقاهي، والاستغناء عنها باللهو المباح في بيوتهم الذي يشاركهم فيه نساؤهم وأولادهم. (55) لعن العلماء المعتصمين بالكتاب والسنة وسبهم إن لعن العلماء المتمسكين بالكتاب والسنة وسبهم بهذا الوصف لا يمكن أن يقع من مسلم يؤمن بالله وكتابه ورسوله، فهو يدل على الارتداد عن الإسلام. وقد صرح بعض الفقهاء بأن إهانة علماء الدين بما دون ما ذُكر كفر. وأما شتم أشخاص معينين من هؤلاء العلماء العاملين بالكتاب والسنة ولعنهم بعداوة أو صفة أخرى غير علمهم واعتصامهم بالكتاب والسنة الذي لا يكون المسلم مسلمًا حقًّا بدونه فهو معصية بدليل النص والإجماع. وحسبك قوله صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وقوله من حديث رواه الشيخان أيضًا: (ولعن المؤمن كقتله) . وفي بعض الآثار التصريح بكون ذلك من الكبائر، وقد عده ابن حجر وغيره منها. بل حقق بعض العلماء جواز عدم لعن الكافر المعين والفاسق المعين مع قولهم بجواز لعن جنس الكافرين والفاسقين عامة، وقد قيل للإمام أحمد (رحمه الله) : إن أقوامًا يقولون: إنا نحب يزيد، فقال: وهل يحب يزيد من يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقال له السائل - وهو ولده عبد الله -: أَوَلا تلعنه؟ فقال: متى رأيت أباك يلعن أحدًا؟ (راجع هذا في ص 303 من الجزء الأول من الآداب الشرعية، وأصل المسألة في آفات اللسان من الجزء الثالث من الإحياء والجزء الثاني من الزواجر) وإذا كان الأمر كذلك فلا شك في وجوب الإنكار على هؤلاء السبَّابين اللعانين الفاسقين عن أمر الله الناكبين عن سبيل المؤمنين، وفي إثم من يستمع لهم أو يسمعهم ولا ينكر عليهم. (56) الإسلام والمدنية الصحيحة: الإسلام هو دين الحضارة والمدنية الصحيحة، وقد بينا هذا في المنار مرارًا كثيرة بقلمنا وقلم غيرنا وحسبك فيه كتاب (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) للأستاذ الإمام، ورسالة الأمير شكيب التي ننشرها في هذه الأيام، وقد طبعناها في رسالة مستقلة بعنوان (لماذا تأخر المسلمين وتقدم غيرهم؟) وذكرنا في الجزء الماضي خلاصة مناظرة دارت بيننا وبين أحد المحامين ومصاقع الخطباء المشهورين في كلية الحقوق من الجامعة المصرية موضوعها: المفاضلة بين المدنية العربية الإسلامية والمدنية الفرعونية، كان لنا فيها الفَلْج والظفر برأي السواد الأعظم ممن حضر المناظرة. ولكن هذا السؤال ورد علينا قبل نشر خلاصة المناظرة وقبل المشروع في نشر رسالة أمير البيان، وفيهما الحجة البالغة على ذلك الجاهل المفتري على الإسلام.

أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت متصل بها أجوبتها (س57- 62) بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا، صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإني أرفع ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه: (س 1) هل يجوز للمرأة أن تُظهر صوتها ووجهها ويديها وغيرها أمام الرجال الأجانب والأطباء وغيرهم أم لا؟ (ج 1) أصل الشرع جواز ذلك إذا أريد باليدين الكفين للحاجة إليه في المعيشة والتعامل، وإنما يكره أو يحرم إذا كان بحيث يترتب عليه مفسدة مكروهة أو محرمة، ويباح كشف غير الوجه واليدين من البدن للطبيب بقدر ما يحتاج إليه في معرفة المرض، ولكن مع وجود الزوج أو محرم آخر. (س 2) هل يجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن محارمه من النساء ومعانقتهن وضمهن وتقبيلهن ولمسهن بلا حائل أم لا؟ (ج 2) هذا لا يجوز قطعًا؛ بل الضم والعناق مع الشهوة لا يجوز ولو مع الحائل ولا يفعل هذا إلا أشد الناس فسقًا وفجورًا وفساده أشد مِن فعل مثله مع الأجنبية. وفي الجزء الثاني من كتاب الآداب الشرعية فصل مستقل فيما يباح من المصافحة والمعانقة، ويليه فصل في تقبيل المحارم، وفيه أن الإمام أحمد أباح التقبيل على الجبهة والرأس لمَن قدم من سفر ولم يخف على نفسه قال: (ولكن لا يفعله على الفم أبدًا) . (س 3) هل يجوز للرجال والنساء تحسين الثياب والهندام وغيره ولبس جميع الألوان والأزياء كالبرنيطة والطربوش والمعطف والسترة والبنطلون وغيرها والحرير والساعات والسلاسل والخواتم وغيرها أم لا؟ (ج 3) يجوز تحسين الثياب والهندام والأصل فيها كلها الحِلّ إلا ما نهى عنه الشرع. ومنه لبس الحرير الخالص للرجال فهو حرام للوعيد عليه، ومنه لبس الأحمر الخالص والمعصفر والمزعفر فهو مكروه؛ لأنه كان خاصًّا بالنساء، ولم يرد عليه وعيد كالحرير، وفيه خلاف وتفصيل، ومنه النهي عن لبس الذهب إلا مقطعًا، وعن خاتم الذهب للرجال، ومنه تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال، وتشبه المسلمين بالكفار، فهذا يكره شرعًا إذا كان في غير الأمور الدينية، ويحرم فيها حتى قد يكون ردة عن الإسلام، كما صرح به الفقهاء في مسائل متعددة من شأنها أن لا تصدر عن مسلم، وتفصيلها يطلب من كتب الفقه، وقد سبق لنا بيان هذه المسائل في المنار مرارًا فلا نطيل فيها. (س 4) هل تقبل توبة التائب إذا تاب من جميع الذنوب الصغيرة والكبيرة كالقتل والزنا واللواط وشرب الخمر والديون والسرقة والخيانة والكذب والغش والظلم وغيره ولا يعذب في القبر ولا في الآخرة أم لا؟ (ج 4) الأصل في التوبة الصحيحة الشرعية أن تكون مقبولة، وسببًا للمغفرة، ومن شروطها رد حقوق العباد إليهم أو استحلالهم منها، وقد سبق لنا كلام مفصل في التوبة، وفي التفسير المنشور في هذا الجزء خلاصة في بيان حقيقته والاقتداء بالصحابة فيها، وسيأتي في تفسير الأجزاء الأخرى تتمة لذلك. (س 5) هل يجوز التشاؤم والوهم ... وغيره؛ من الأعداد والسنين والشهور والأيام والأوقات وغيرها، ولبس ثوب أو دخول بيت أو قراءة سورة أو آية أو وِرد أو فائدة أو غيرها بأن فاعل ذلك يصاب بضرر كمرض أو موت أو غيره أم لا؟ (ج 5) التشاؤم منهي عنه؛ لأنه من الأوهام الخرافية التي لا تستند إلى حقيقة، وينبغي لمن عرض له بدون اختياره أن يجاهد نفسه حتى يزول ذلك التأثير. (س 6) أرجو أن تبينوا لنا أسماء الكتب الدينية الإسلامية الصحيحة المعتمدة ؛ السهلة اللفظ والمعنى، التي يجوز العمل بها في العقائد والعبادات والمعاملات وغيرها، تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. (ج 6) من أوضح هذه الكتب: رسالة التوحيد للأستاذ الإمام، وخلاصة السيرة المحمدية لنا، ومجموعة الرسائل والمسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومجموعة الحديث النجدية، وهي لعدةٍ من كبار العلماء كالإمام أحمد والنووي والحافظ المقدسي وابن القيم، وسبل السلام للعلامة محمد بن إسماعيل الأمير، وهو شرح بلوغ المرام للحافظ ابن حجر، والدراري المضيئة على الدرر البهية للقاضي الشوكاني، وزاد المعاد في هدي خير العباد للمحقق ابن القيم، والآداب الشرعية للعلامة ابن مفلح. (حاشية للسائل) أرجوكم ملاحظة ضرر السفور (أي رفع الحجاب) وعدم أمن الفتنة مطلقًا خصوصًا في هذا الزمان الذي عَمَّ وكثر فيه الفساد والفسق والفجور والضلال وعدم الأدب والحياء من الرجال والنساء جميعًا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... عثمان سعد الدين بدران ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت (المنار) إن ما تكون الفتنة فيه معلومة بالقطع لا يُسأل عن حكمه؛ لأنه معلوم بالضرورة وما شدد العلماء في حظر ما هو مباح في الأصل من إظهار الكفين والوجه إلا لسد ذريعة الفتنة في مظنتها فكيف إذا صارت قطعية في بعض البلاد؟ ! وطلاب السفور من الفساق والمتفرنجين يتوسلون به إلى الإباحة المطلقة والعياذ بالله تعالى.

نبوة آدم وعدد النبيين والمرسلين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نبوة آدم وعدد النبيين والمرسلين (س63) من صاحب الإمضاء في سمبس - جاوه: حضرة العلامة الكبير مولاي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار أطال الله تعالى عمره، ونفع بعلومه المسلمين. إنني رأيت في شرح عقيدة السفاريني ما نصه: ففي صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده، فذكر حديثًا طويلاً، وفيه: قلت: يا رسول الله كم الأنبياء ؟ قال: (مائة ألف وعشرون ألفًا) قلت: يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟ قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر جمًّا غفيرًا) قلت: يا رسول الله مَن كان أولهم؟ قال: (آدم عليه السلام) قلت: يا رسول الله أنبيّ مرسل؟ قال: (نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلاً) .. إلخ. وقال فيه قبل هذا: اعلم أن الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله مما اتفقت على وجوبه جميع الأنبياء والمرسلين من لدن صفي الله أبي البشر آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام. اهـ. فهل يصح الاحتجاج بحديث أبي ذر هذا على نبوة آدم عليه السلام أم لا؟ وهل يوجد ما هو أقوى منه دليلاً من الكتاب أو السنة المتواترة على نبوته عليه السلام أم لا؟ وما قولكم في قول الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رسالته: (وأولهم نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم النبيين. والدليل على أن أولهم نوح قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163) وهل هذا القول صحيح أم لا؟ وهل مقتضى قوله هذا أنه أنكر نبوته عليه السلام أم لا؟ وهل يجوز لأحد إنكارها؟ وهل كان نبينًا رسولاً أم نبيًّا فقط؟ وقال الأستاذ الشيخ حسين والي في كتابه (كلمة التوحيد) ما نصه: والسبعة الباقية (من الأنبياء) آدم، إدريس، صالح، شعيب، هود، ذو الكفل، محمد عليهم الصلاة والسلام. فإذا عرض أحدهم على المكلف وجب الاعتراف به، ولا يجب حفظ أسمائهم، فمن أنكر نبوة أحد من المتفق على نبوته أو رسالته - كفر؛ إلا إذا كان عاميًّا، وممن اختلف في نبوته: ذو القرنين والعزير ولقمان. اهـ. وإني لم أَرَ أن الأستاذ في عبارته أدخل آدم فيمن اختلف في نبوته. فتفضلوا بالجواب عن هذه الأسئلة فإنه يكون (إن شاء الله) شفاءً لما في الصدور. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران (ج) يجد السائل تحقيق الحق في أسئلته مفصَّلاً تفصيلاً تامًّا في تفسير الآيات (85- 91) من سورة الأنعام التي ذكر فيها أسماء 18 من الرسل عليهم السلام، إذ عقدنا لها فصلاً استطراديًّا، عنوانه: (تحقيق مسألة الإيمان بالرسل إجمالاً وتفصيلاً وعدد الرسل المذكورين في القرآن) وهو في الجزء السابع من التفسير والجزء التاسع من المجلد العشرين من المنار، وكل منهما يوجد عند السائل، ولعله قرأه ونسيه، ولولا ذلك لم يحتج إلى هذه الأسئلة كلها ولا بعضها، فليراجعها يجد فيها أن حديث أبي ذر في عدد النبيين والمرسلين قد جزم ابن الجوزي بأنه موضوع والسيوطي بأنه ضعيف، فلا يعتد به على كل حال في الاستدلال، ولا سيما في مثل هذه المسألة الاعتقادية، وأن ما قاله الشيخ محمد عبد الوهاب موافق لنص حديث الشفاعة المتفق عليه؛ إذ حكى النبي صلى الله عليه وسلم فيه أن أهل الموقف يقولون لنوح عليه السلام: (يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض) فهو فيه متبع لا مبتدع ومهتدٍ لا ضال. وإن ما قاله كل من السفاريني والشيخ حسين والي هو المشهور في كتب العقائد المتداولة، ويجد هنالك تحقيق الحق في كل ذلك، وأمثل الأدلة على نبوة آدم، وما أجاب به العلماء عن الآية التي استدل بها الشيخ محمد عبد الوهاب وعن حديث الصحيحين وغيرهما في الشفاعة، وما جمعنا بين نص الآية والحديث ما قرره المتكلمون وهو مبني على التفرقة بين عرفهم في معنى الرسول وعرف القرآن.

رسالة في حقيقة الصيام ـ 1

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ رسالة في حقيقة الصيام وما يفطِّر الصائم بالنص والإجماع وما أُلحق به من الرأي والاجتهاد لشيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليمًا. فصل فيما يفطر الصائم وما لا يفطره وهذا نوعان: منه ما يفطر بالنص والإجماع، وهو الأكل والشرب والجماع، قال تعالى: {.. فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187) فأذِن في المعاشرة، فعقل من ذلك أن المراد الصيام من المباشرة والأكل والشرب. ولما قال أولاً: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} (البقرة: 183) - كان معقولاً عندهم أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، ولفظ الصيام كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه، كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن يوم عاشوراء كان يومًا تصومه قريش في الجاهلية) . وقد ثبت من غير واحد أنه قبل أن يُفرض شهر رمضان أمر بصوم يوم عاشوراء، وأرسل مناديًا ينادي بصومه. فعُلم أن مسمى هذا الاسم كان معروفًا عندهم. وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض، لكن تقضي الصيام، وثبت بالسنة أيضًا من حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (وبالغْ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا) فدل على أن إنزال الماء من الأنف يفطر الصائم وهو قول جماهير العلماء. وفي السنن حديثان: (أحدهما) حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقضِ) وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من أهل العلم، بل قالوا هو من قول أبي هريرة. قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل قال: ليس من ذا شيء. قال الخطابي: يريد أن الحديث غير محفوظ. وقال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه فلم يعرفه إلا عن عيسى بن يونس، قال: وما أراه محفوظًا. قال: وروى يحيى بن كثير عن عمر بن الحكم أن أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم. قال الخطابي: وذكر أبو داود أن حفص بن غياث رواه عن هشام كما رواه غير ابن يونس. قال: ولا أعلم خلافًا بين أهل العلم في أن مَن ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه، ولا في أن مَن استقاء عامدًا فعليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة، فقال عامة أهل العلم: ليس عليه غير القضاء. وقال عطاء: عليه القضاء والكفارة. وحكي عن الأوزاعي، وهو قول أبي ثور. (قلت) : وهو مقتضى إحدى الروايتين عن أحمد في إيجابه الكفارة على المحتجم، فإنه إذا أوجبها على المحتجم فعلى المستقيء أولى، لكن ظاهر مذهبه أن الكفارة لا تجب بغير الجماع كقول الشافعي. والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى علته، وهو انفراد عيسى بن يونس، وقد ثبت أنه لم ينفرد به، بل وافقه عليه حفص بن غياث، والحديث الأخير يشهد له، وهو ما رواه أحمد وأهل السنن كالترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، فذكرت ذلك لثوبان، فقال: صدق، أنا صببت له وَضوءًا. لكن لفظ أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ. رواه أحمد عن حسين المعلَّم. قال الأثرم: قلت لأحمد: قد اضطربوا في هذا الحديث، فقال: حسين المعلَّم يجوده. وقال الترمذي: حديث حسين أرجح شيء في هذا الباب. وهذا قد استدل به على وجوب الوضوء من القيء ولا يدل على ذلك، فإنه إذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعي فليس فيه إلا أنه توضأ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل يدل على أن الوضوء من ذلك مشروع. فإذا قيل: إنه مستحب كان فيه عمل بالحديث. وكذلك ما رُوي عن بعض الصحابة من الوضوء من الدم الخارج ليس في شيء منه دليل على الوجوب، بل يدل على الاستحباب. وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوب ذلك، كما قد بسط في موضعه. بل قد روى الدارقطني وغيره عن حميد عن أنس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه. ورواه ابن الجوزي في حجة المخالف ولم يضعِّفه، وعادته الجرح بما يمكن. وأما الحديث الذي يُروى: (ثلاث لا تفطر: القيء، والحجامة، والاحتلام) ، وفي لفظ: (لا يفطر منه لا مَن احتجم ولا مَن احتلم) فهذا إسناده الثابت ما رواه الثوري وغيره عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ... هكذا رواه أبو داود، وهذا الرجل لا يُعرف. وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عبد الرحمن ضعيف عند أهل العلم بالرجال. (قلت) : روايته عن زيد من وجهين مرفوعًا لا تخالف روايته المرسلة بل تقويها، والحديث ثابت عن زيد بن أسلم لكن هذا فيه: (إذا ذرعه القيء) . وأما حديث الحجامة، فإما أن يكون منسوخًا وإما أن يكون ناسخًا لحديث ابن عباس: (أنه احتجم وهو محرم صائم) أيضًا، ولعل فيه القيء إن كان متناولاً للاستقاءة هو أيضًا منسوخ. وهذا يؤيد أن النهي عن الحجامة هو المتأخر، فإنه إذا تعارض نصان ناقل وباقٍ على الاستصحاب، فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ، ونسْخ أحدهما يقوي نسخ قرينه، ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسلاً. وقال يحيى بن معين: حديث زيد بن ليس بشيء، ولو قدر صحته لكان المراد من ذرعه القيء فإنه قرنه بالاحتلام، ومَن احتلم بغير اختياره كالنائم لم يفطر باتفاق الناس. وأما مَن استمنى فأنزل فإنه يفطر، ولفظ الاحتلام إنما يطلق على مَن احتلم في منامه. وقد ظن طائفة أن القياس أن لا يفطر شيء من الخارج، وأن المستقيء إنما أفطر؛ لأنه مظنة رجوع بعض الطعام، وقالوا: إن فطر الحائض على خلاف القياس. فإن قيل: فقد ذكرتم أن مَن أفطر عامدًا بغير عذر كان تفويته لها من الكبائر، وكذلك مَن فوَّت صلاة النهار إلى الليل عامدًا من غير عذر -كان تفويته لها من الكبائر، وأنها ما بقيت تُقبل منه على أظهر قولي العلماء، كمن فوت الجمعة ورمي الجمار وغير ذلك من العبادات المؤقتة، وهذا قد أمره بالقضاء. وقد روي في حديث المجامِع في رمضان أنه أمره بالقضاء. قيل: هذا إنما أمره بالقضاء؛ لأن الإنسان إنما يتقيأ لعذر كالمريض يتداوى بالقيء، أو يتقيأ؛ لأنه أكل ما فيه شبهة كما تقيأ أبو بكر من كسب المتكهِّن [1] . وإذا كان المتقيئ معذورًا كان ما فعله جائزًا، وصار من جملة المرضى الذين يقضون، ولم يكن من أهل الكبائر الذين أفطروا بغير عذر. وأما أمره للمجامع بالقضاء؛ فضعيف. ضعّفه غير واحد من الحفاظ، وقد ثبت هذا الحديث من غير وجه في الصحيحين من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة، ولم يذكر أحد أمره بالقضاء، ولو كان أمره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم، وهو حكم شرعي يجب بيانه، ولما لم يأمره به دل على أن القضاء لم يبقَ مقبولاًَ منه. وهذا يدل على أنه كان متعمّدًا للفطر لم يكن ناسيًا ولا جاهلاً. والمجامِع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره، ويذكر ثلاث روايات عنه: (إحداها) لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والأكثرين. (والثانية) عليه القضاء بلا كفارة، وهو قول مالك. (والثالثة) عليه الأمران، وهو المشهور عن أحمد. والأول أظهر، كما قد بسط في موضعه؛ فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن مَن فعل محظورًا مخطئًا أو ناسيًا لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة مَن لم يفعله، فلا يكون عليه إثم، ومَن لا إثم عليه لم يكن عاصيًا ولا مرتكبًا لما نُهي عنه، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به ولم يفعل ما نهي عنه. ومثل هذا لا يبطل عبادته، إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أُمر به أو فعل ما حُظر عليه. وطرد هذا أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات لا ناسيًا ولا مخطئًا لا الجماع ولا غيره وهو أظهر قولي الشافعي. وأما الكفارة والفدية فتلك وجبت؛ لأنها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله كما لو أتلفه صبي أو مجنون أو نائم ضمنه بذلك، وجزاء الصيد إذا وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب بمنزلة دية المقتول خطأً والكفارة الواجبة بقتله خطأً، بنص القرآن وإجماع المسلمين. وأما سائر المحظورات فليست من هذا الباب، وتقليم الأظفار وقص الشارب والترفُّه المنافي للتَّفَث كالطِّيب واللباس. ولو فدى كانت فديتها من جنس فدية المحظورات ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل. فأظهر الأقوال في الناسي والمخطئ إذا فعل محظورًا أن لا يضمن من ذلك إلا الصيد. وللناس فيه أقوال: (هذا أحدها) وهو قول أهل الظاهر. (والثاني) يضمن الجميع مع النسيان، كقول أبي حنيفة وإحدى الروايات عن أحمد، واختاره القاضي وأصحابه. (والثالث) يفرق بين ما فيه التالف كقتل الصيد والحلق والتقليم وما ليس فيه كالطيب واللباس، وهذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية، واختارها طائفة من أصحابه، وهذا القول أجود من غيره، لكن إزالة الشعر والظفر ملحق باللباس والطيب لا بقتل الصيد، هذا أجود. (والرابع) إن قتل الصيد خطأً لا يضمنه، وهو رواية عن أحمد، فخرّجوا عليه الشعر والظفر بطريق الأولى. وكذلك طرد هذا أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيًا أو مخطئًا فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف، ومنهم من يفطر الناسي والمخطئ كمالك، وقال أبو حنيفة: هذا هو القياس، لكن خالفه لحديث أبي هريرة في الناسي، ومنهم من قال لا يفطر الناسي ويفطر المخطئ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فقالوا: النسيان لا يفطر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه بخلاف الخطأ، فإنه يمكنه أن لا يفطر حتى يتيقن غروب الشمس وأن يمسك إذا شك في طلوع الفجر. وهذا التفريق ضعيف، والأمر بالعكس. فإن السنة للصائم أن يعجل الفطر ويؤخر السحور، ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن يذهب وقت طويل جدًّا يفوت المغرب ويفوت تعجيل الفطور، والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها، فإذا غلب على ظنه غروب الشمس أمر بتأخير المغرب إلى حد اليقين فربما يؤخرها حتى يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس. وقد جاء عن إبراهيم النخعي وغيره من السلف؛ وهو مذهب أبي حنيفة: أنهم كانوا يستحبون في الغيم تأخير المغرب وتعجيل العشاء، وتأخير الظهر وتقديم العصر. وقد نص على ذلك أحمد وغيره، وقد علل ذلك بعض أصحابه بالاحتياط لدخول الوقت، وليس كذلك؛ فإن هذا خلاف الاحتياط في وقت العصر والعشاء، وإنما سنّ ذلك لأن هاتين الصلاتين يُجمع بينهما للعذر، وحال الغيم حال عذر، فأُخِّرت الأولى من صلاتي الجمع وقدمت الثانية لمصلحتين: (إحداهما) التخفيف عن الناس حتى يصلوها مرة واحدة لأجل خوف المطر، كالجمع بينهما مع المطر (والثانية) أن يتيقن دخول وقت المغرب، وكذلك الجمع بين الظهر والعصر على أظهر القولين وهو إحدى الرواي

لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ـ 3

الكاتب: شكيب أرسلان

_ لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم بقلم أمير البيان (3) العبرة للعرب وسائر المسلمين برُقي اليابانيين ولكني أخرج من أوربة إلى اليابان فقط؛ لأن رقي اليابان يضارع الترقي الأوربي، وقد تم لليابانيين كما تم رقي أوربة للأوربيين؛ أي في ضمن دائرة قوميتهم ولسانهم وآدابهم وحريتهم ودينهم وشعائرهم ومشاعرهم وكل شيء لهم. فأنقل إلى القراء العرب فقرة من رسالة طويلة جاءت من مراسل أوربي سائح في اليابان وظهرت في جريدة (جورنال دو جنيف) بتاريخ 20 أكتوبر، فإنه يقول: (إن الياباني يحب الفن قبل كل شيء، وإن رأيته ساعيًا في كسب المال فلأجل أن يلذذ بالمال أهواءه المنصرفة إلى الحُسن والجمال. وقد انتقش في صفحة نفسه الشعور القومي الشديد عدا الميل إلى الجمال؛ لأنه يفتخر بكون اليابان في مدة ستين سنة فقط صارت من طور أمة من القرون الوسطى إقطاعية الحكم إلى أمة عظيمة من أعظم الأمم، ومما لا ريب فيه أن الديانة اليابانية هي ذات دور عظيم في سياسة اليابان (ليتأمل القارئ) وهي في الحقيقة فلسفة مبنية على الاعتراف بكل ما تركه القدماء لسلائلهم، فالياباني العصري قد ائتلف مع جميع احتياجات الحياة العصرية، لكن مع حفظ الميل الدائم إلى الرجوع إلى ماضيه، ومع التمسك الشديد بقوميته، غير مجيب نداء التفرنُج (وفي الأصل التغرب Accidentalisme) الذي لا يريد الياباني أن يأخذ منه إلا ما هو ضروري له لأجل مصارعة سائر الأمم بنجاح، ولاشك أن هذا مثال فريد في تاريخ أمم الشرق الأقصى) . ثم يقول: (كان اليابانيون يكرهون الأسفار إلى البلدان البعيدة، ويحظرون دخول الأجانب في بلاهم، ولكن هذا المنع قد ارتفع بعد النهضة العصرية، وتلافت اليابان ما فات بشكل مدهش. والنتائج هي أمامنا، إلا أن الماضي لا يزال عند اليابانيين مقدسًا معظمًا في جميع طبقاتهم؛ لأنه في هذا الماضي المقدس يجد اليابانيون جميع شعورهم بقيمتهم الحاضرة، فتراهم يكافحون بوسائل المدنية الحديثة التامة التي لا سبيل إلى الحياة بدونها في أيامنا هذه، لكن ينبذون كل (تغرب) بمجرد ما يجدون أنفسهم في غنى عنه، ويعودون مع اللذة إلى شعورهم القومي الخالص الذي به يعتقدون أنهم الأعلون. وهناك هياكل (شنيتو) ومعابد (زن) والهياكل البوذية وهي مكرمة معظمة بأشد ما يمكن من الحماسة الدينية والإيمان الثابت كما كانت منذ قرون. والحق أن هذا الاحترام الشديد الذي يشعر به اليابانيون لقديمهم ولمعبوداتهم هو الذي قام عندهم حصنًا منيعًا دون المبادئ الشعوبية، والأفكار الشيوعية المضرة) . ومنذ بضع سنوات ظهر في فرنسة تأليف جديد عن اليابان للمركيز (لامازليير) Mazeliere La قد أطنبت الجرائد في وصفه، ونشرت عنه جريدة (الديبا) مقالاً رنّانًا، فنحن نوصي القراء الذين يهمهم أن يعرفوا كيفية ارتقاء اليابان - وهو موضوع في غاية الجلالة لما فيه من الاستنتاج لسائر بلاد الشرق - بمطالعة هذا الكتاب الذي لا يمكن أن يُنسب إلى مؤلفه التعصب لليابان، على أنني رأيته في الجملة مطابقًا لتواريخ ألفها علماء يابانيون متخصصون في التاريخ. وهذه التواريخ مترجمة من اليابانية إلى الإفرنسية. ولا بد لي في هذه العجالة من نقل بعض فِقَر من تاريخ لامازليير المذكور، قال في أثناء الكلام على تمدن اليابان العصري وخروج هذه الأمة من عزلتها القديمة ما يلي: (فبدأت اليابان تستعير من أوربة وأمريكا قسمًا من مدنيتهما المادية، ومن نظامهما العسكري، ومن مباحث تعليمهما العام، ومن سياستهما المالية، فكان المجددون يجتهدون في أن يقتبسوا من كل شعب ما يرونه الأحسن عنده، فكان ذلك مشروع تجديد وهدم وإعادة بناء، وظهرت آثار ذلك في جميع مناحي الحياة اليابانية) . ثم تكلم عن الحرب اليابانية الصينية، وانتهى إلى قوله الذي نترجمه ترجمة حرفية: إن ظفر اليابان بالصين لم يُثبت علو الأفكار والمبادئ العلمية التي أخذتها اليابان عن الغرب وكفى، بل أثبت أمرًا آخر وهو أن شعبًا آسيويًّا بمجرد إرادته وعزيمته عرف أن يختار ما رآه الأصلح له من مدنية الغرب (تأمل جيدًا) مع الاحتفاظ باستقلاله وقوميته وعقليته وآدابه وثقافته) اهـ. وقبلاً كنت نشرت في الجرائد - وما نشرته لم يكن إلا نقطة من غدير - خلاصة الحفلات التي أقامها اليابانيون لتتويج عاهلهم منذ سنتين، وكيف استمرت مراسم هذا الاحتفال مدة شهر، وكانت بأجمعها دينية، وكيف أن الميكادو هو كاهن الأمة الأعظم، وكيف أنه من سلالة الإلهة (الشمس) وكيف اغتسل في الحمام المقدس المحفوظ من ألفي سنة، وكيف أكل مع الآلهة (!) الأرز المقدس الذي زرعته الدولة تحت إشراف الكهنة، حتى يكون تام القدسية لا شبهة فيه، وكيف كان ثمة في الحفل ستمائة ألف ياباني وكلهم يهتفون: ليحيى الميكادو عشرة آلاف سنة إلى غير ذلك! لماذا لا نسمي اليابان وأوربة رجعية بتدينهما؟ ! فلماذا - يا ليت شعري - تتقدم اليابان هذا التقدم السريع المدهش وتصير هذه الأمة العصرية يضرب برقيها المثل، وهي تضرب بأعراقها إلى عقائد وعادات ومَنازع مضى عليها ألفا سنة، ويكون إمبراطورها هو كاهنها الأعظم، ولا يقال عنها: (رجعية) و (مرتجعة) و (ارتجاعية) ؟ (فإن كانت اليابان رجعية فمَرْحَى بالرجعية!) . ولماذا كان ملك إنكلترة وإمبراطور الهند السيد على 400 مليون آدمي في الأرض من البيض والسمر والصفر والحمر والسود - هو رئيس الكنيسة الإنكليكانية، ومجالسه النيابية تبحث في جلسات عديدة في قضية الخبز والخمر، هل يستحيلان بمجرد تقديس القسيس إلى جسد المسيح ودمه فعلاً بدون أدنى شك أم ذلك من قبيل الرمز والتمثيل؟ ! ولا يقال عنه: إنه (رجعي) ولا يقال عن دولته العظمى: إنها (متأخرة) أو (متقهقرة) ؟ فإن كانت إنكلترة بعد هذا متقهقرة فيا حبذا (التقهقر) ! ولماذا كانت القارة الأوربية كلها مسيحية مفتخرة بمسيحيتها، تتباهى بذلك في كل فرصة، متحدة في هذا الأمر على ما بينها من عداوات ومنافسات، ولا ننبزها بقولنا: (رجعية) و (ارتجاعية) والحال أن الديانة التي تدين بها أوربة عمرها 19 قرنًا. وهذا عهد يصح أن يقال عنه: قديم (وقديم جدًّا) . وهؤلاء اليهود - مهما ننكر عليهم، فلا نقدر أن ننكر عليهم المقدرة والذكاء والحس العملي والجد الهائل - لا يزالون يفخرون بتوراة وُجدت منذ آلاف السنين، ويشاركهم فيها المسيحيون؟ ! ولماذا نرى أعظم شبان اليهود رقيًّا عصريًّا يجاهدون في إحياء اللغة العبرية التي لا يعرف تاريخها لتوغلها في القدم. ولا يقال عنهم: إنهم (رجعيون) و (متأخرون) و (قهقريون) ؟ ! وقد نشر وايزمان رئيس الجمعية الصهيونية حديثًا في جريدة (الماتن) كان في أهم ما فخر به وأدلى به كمأثرة ينبغي أن تذكرها لهم الإنسانية هو: (أن فلسطين الحديثة تتكلم اليوم بأجمعها بلغة الأنبياء) يريد بفلسطين الحديثة فلسطين اليهودية التي قد نشر الصهيونيون فيها اللغة العبرانية القديمة وأجبروا نشئهم الجديد على أن يتحدثوا بها لتكون اللغة الجامعة لليهود. ومَن الذي فعل هذا؟ الجواب: هم اليهود العصريون الأشد أخذًا بمبادئ العلم الحديث والحضارة العصرية {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) وماذا عساني أحصي من هذه الأماثيل والعبر في رسالة وجيزة كهذه؟ ! كل قوم يعتصمون بدينهم ومقومات ملتهم ومشخصات قومهم الموروثتين ولا ينبزون بهذه الألقاب إلا المسلمين. فإنه إذا دعاهم داعٍ إلى الاستمساك بقرآنهم وعقيدتهم ومقوماتهم ومشخصاتهم وباللسان العربي وآدابه والحياة الشرقية ومناحيها - قامت قيامة الذين في قلوبهم مرض، وصاحوا: لتسقط الرجعية! وقالوا: كيف تريدون الرقي وأنتم متمسكون بأوضاع بالية باقية من القرون الوسطى ونحن في عصر جديد؟ ! جميع هؤلاء الخلائق تعلموا وترقوا وعلوا وطاروا في السماء والمسيحي منهم باقٍ على إنجيله وتقاليده الكنَسية، واليهودي باق على توراته وتلموده، والياباني باق على وثنه وأرزه المقدس، وكل حزب منهم فرح بما لديه. وهذا المسلم المسكين يستحيل أن يترقى إلا إذا رمى قرآنه وعقيدته ومآخذه ومتاركه ومنازعه ومشاربه ولباسه وفراشه وطعامه وشرابه وأدبه وطربه وغير ذلك، وانفصل من كل تاريخه، فإن لم يفعل ذلك فلا حظ له من الرقي! فهذا ما كان من ضرر الجاحد الذي يقصد السوء بالإسلام وبالشرق أجمع ويخدع السذج بأقاويله. غوائل الجامدين في الإسلام والمسلمين: وبقي علينا المسلم الجامد؛ الذي ليس بأخف ضررًا من الجاحد، وإن كان لا يشركه في الخبث وسوء النية، وإنما يعمل ما يعمله عن جهل وتعصب! فالجامد هو الذي مهد لأعداء المدنية الإسلامية الطريق لمحاربة هذه المدنية، محتجين بأن التأخر الذي عليه العالم الإسلامي إنما هو ثمرة تعاليمه، والجامد هو سبب الفقر الذي ابتلي به المسلمون؛ لأنه جعل الإسلام دين آخرة فقط. والحال أن الإسلام هو دين دنيا وآخرة، وأن هذه مَزِيَّة له على سائر الأديان. فلا حصَر كسب الإنسان فيما يعود للحياة التي وراء هذه كما هي ديانات أهل الهند والصين، ولا زهده في مال الدنيا وملكها ومجدها كتعاليم الإنجيل، ولا حصر سعيه في أمور هذه المعيشة الدنيوية كما هي مدنية أوربة الحاضرة. والجامد هو الذي شهر الحرب على العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية وفنونها وصناعاتها بحجة أنها من علوم الكفار. فحرم الإسلام ثمرات هذه العلوم، وأورث أبناءه الفقر الذي هم فيه وقص أجنحتهم. فإن العلوم الطبيعية هي العلوم الباحثة في الأرض، والأرض لا تخرج أفلاذها إلا لمن يبحث فيها [1] فإن كنا طول العمر لا نتكلم إلا فيما هو عائد للآخرة قالت لنا الأرض: اذهبوا توًّا إلى الآخرة فليس لكم نصيب مني. ثم إننا بحصر كل مجهوداتنا في هذه العلوم والمحاضرات الأخروية جعلنا أنفسنا بمركز ضعيف بإزاء سائر الأمم التي توجهت إلى الأرض، وهؤلاء لم يزالوا يعملون في الأرض ونحن ننحط في الأرض، إلى أن صار الأمر كله في يدهم، وصاروا يقدرون أن يأفكونا عن نفس ديننا، فضلاً عن أن يملكوا علينا دنيانا. وليس هذا هو الذي يريده الله بنا وهو الذي قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} (النور: 55) الآية، وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ} (الأعراف: 32) وقال - فيما حكاه وأقره -: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) وعلَّمنا أن ندعوه بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} (البقرة: 201) .. إلخ. والمسلم الجامد لا يدري أنه بهذا المشرب يسعى في بوار ملته وحَطّها عن درجة الأمم الأخرى، ولا يتنبه لشيء من المصائب التي جرها على قومه إهمالهم للعلوم الكونية حتى أصبحوا بهذا الفقر الذي هم فيه، وصاروا عيالاً على أعدائهم الذين لا يرقبون فيهم إلاًّ ولا ذمة، فهو إذا نظر إلى هذه الحالة علَّلها بالقضاء والقدر بادئ الرأي، وهذا شأن جميع الكُسالى في الدنيا يحيلون على الأقدار. هذا الخلق هو الذي حبب الكسل إلى كثير من المسلم

مولانا محمد علي الزعيم الهندي وفاته ودفنه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مولانا محمد علي الزعيم الهندي وفاته ودفنه محمد علي وشقيقه شوكت علي زعيمان من زعماء مسلمي الهند السياسيين، وأولى الشخوص البارزة وأصحاب اللسن والبيان الخطابي والكتابي فيهم، وهما المؤسِّسان لجمعية الخلافة هنالك، وشهرتهما الواسعة تغني عن تعريفهما ووصفهما وقد سافرا مع وفود من أمراء الهند وزعمائها إلى لندن في هذا العام لعقد مؤتمر منهم ومن كبار رجال الحكومة البريطانية للنظر في مشكلة الهند التي تفاقم أمرها، وتعذر على الدهاء الإنكليزي حل عقدها، وعقد هنالك المؤتمر وعبر عنه (بمؤتمر المائدة المستديرة) وكان مما قاله محمد علي لرجال الحكومة البريطانية: إننا خرجنا من من وطننا منبوذين من أمتنا بالالتحاد إليكم، فإذا لم تجيبونا إلى ما يرضيها من الاستقلال فإننا لا نستطيع أن نعود إلى بلادنا، وأنا أوطِّن نفسي على الموت هنا، أو ما هذا معناه. وقد كان من قضاء الله وقدره أن اشتد عليه المرض الذي كان عرض له قبل السفر أو في أثنائه، فتوفِّي هنالك في شهر شعبان الماضي رحمه الله تعالى، وكان معه أهل بيته. فعزم شقيقه (مولانا شوكت علي) على نقله إلى الهند ليُدفن فيها، ولكنه ما لبث أن جاءته برقية من السيد جمال الدين الحسيني مفتي فلسطين ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي فيها يدعوه بها إلى دفن شقيقه في حجرة من الحُجر التابعة للمسجد الأقصى الذي كان يدافع عنه، فتلقى ذلك هو وأسرة أخيه بالقبول والشكر، وكانوا قد حنطوا الجثة ووضعوها في صندوق محكم فسافروا بها، حتى إذا ما بلغت الباخرة بهم ثغر بورسعيد وجدوا وفودًا كثيرة من مصر وفلسطين تنتظرهم، ووجدوا الحكومة المصرية قد أعدت جميع وسائل الراحة والضيافة لهم وللوجهاء الذين جاءوا بورسعيد لاستقبالهم ثم لسفرهم إلى القدس الشريف. وقد تفضل صاحب الجلالة ملك مصر فأصدر أمره بتعزيتهم، وأوفد صاحب الدولة رئيس حكومته مندوبًا من قبله للتعزية، وكذلك صاحب الدولة مصطفى باشا النحاس رئيس الوفد المصري. وكان ممن حضر بورسعيد لاستقبالهم صديقهم رئيس جمعية الشبان المسلمين ومندوب جمعية الرابطة الشرقية وكثير من الوجهاء. تناولوا مع بعض الوجهاء المستقبلين طعام الإفطار على مائدة محافظ الثغر بضيافة الحكومة المصرية وباتوا ليلتهم، وسافروا في اليوم التالي إلى القدس مع كثير من المشيعين، وكانوا يجدون في كل محطة من محطات السكة الحديدية في فلسطين جماهير المسلمين تعزيهم بادية الحزن والكدر، حتى إذا ما بلغوا محطة القدس وجدوا فيها ألوفًا من أهلها وأهل البلاد التابعة لها وفيهم كثير من النصارى ولكن ليس فيهم أحد من اليهود الذين ساءهم دفن هذا الزعيم بجوار المسجد الأقصى الذي كان يدافع عنه وعن حقوق المسلمين في هذه البلاد التي يحاول هؤلاء اليهود انتزاعها منها. ثم حمل نعش الفقيد إلى المسجد الأقصى وكان اليوم يوم الجمعة (4 رمضان المعظم) فصلي عليه صلاة الجنازة بعد صلاة الجمعة، فحضرها ألوف كثيرة، وكان يومًا مشهودًا من أيام التاريخ التي تؤثر وتدون، وأبَّن الفقيد كثير من الخطباء والشعراء وقد اشتركت حكومة فلسطين البريطانية في الاحتفال بجنازة الزعيم بما يليق بها وبمركزه، وكان اقتراح رئيس المجلس الإسلامي الأعلى مستحسنًا ومرضيًّا عند حكومة لندن، وهي التي أمرت حكومة فلسطين بالقيام بما يليق بها. وعسى أن لا يعقب دفن الزعيم الهندي في هذا المكان القدسي شيئًا آخر من بدع القبور المعروفة فيكون إثمه الديني أكبر من نفعه السياسي. وقد أعد صاحب السماحة المفتي ورئيس المجلس الإسلامي موائد الفطر في ذلك اليوم لأسرة الفقيد المرحوم وللمشيعين للجنازة من مصر وكثير من غيرها، وظلت رسائل التعزية البرقية والبريدية تمطر الزعيم شوكت علي عدة أيام، والجرائد المصرية والفلسطينية والسورية تفيض أنهارها بوصف الجنازة وأخبارها، ورسائل التعزية وأشعارها، ثم شاركتها في ذلك جرائد العراق وتونس وغيرها، ويعلم قراء المنار ما كان من الخلاف بيني وبين الزعيمين في مسألة الحجاز، ولكن يعلمون ما كان بيننا من التعارف وما بيني وبين المرحوم - عفا الله عنا وعنه - من عهد الأخوة الخاصة، وعليهم أن يعلموا ذلك من الكتاب الآتي: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رشيد رضا صاحب المنار الإسلام إلى الأخ الكبير، والزعيم الشهير والأستاذ النحرير، مولانا شوكت علي حفظه الله تعالى آمين السلام عليكم ورحمه الله وبركاته. أما بعد: فإنني أعزيكم مع المعزين باسم الجامعة الإسلامية، وأعزيكم مع المعزين باسم الأمة العربية، وأعزيكم مع المعزين باسم الرابطة الشرقية، وأعزيكم تعزية خاصة شخصية عن أخيكم وأخي في العهد الإسلامي الخاص بي وبه، الذي عقدناه في جوف بيت الله الحرام حيث اشتركنا في غسل أرضه وجُدُره بماء زمزم وماء دموعنا، وتطييبها بعطر الورد، هنالك تعاقدنا وتعاهدنا على أخوَّة الإسلام ومودته والقلوب خافقة، والدموع متشابكة. إن أكبر عزاء لكم بعد الإيمان، والتسليم بقضاء الديان، هذه الألوف الكثيرة التي جاءتكم من مختلف البلدان، تشارككم في رُزئكم وتعده مصابًا لها في ملتها وقوميتها، وإن وفاة شقيقكم وجنازته ودفنه بجوار المسجد الأقصى الذي كان يدافع معكم عنه قد كانت خاتمة حسنة في خدمة الإسلام توثقت بها الجامعة الإسلامية العامة، والعربية الهندية الخاصة، تحفظ له الذكر الخالد، والمجد الطريف التالد. فنسأل الله تعالى أن يطيل لها بقاءكم، ويديم توفيقكم، وينفع بكم أهل ملتكم ووطنكم والسلام عليكم من أخيكم الداعي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا شوكت علي في الأمصار العربية: رأى (مولانا شوكت علي) بعد الانتهاء من تقبل رسائل التعازي في القدس الشريف أن يزور قواعد الأمصار العربية التي اشتركت في تشييع جنازة أخيه وتأبينه وتعزيته عنه، فزار عمان فمصر فبيروت فدمشق فبغداد فالبصرة، وسافر منها إلى الهند، وقد تلقاه المسلمون في كل بلد بالحفاوة وحسن الضيافة، ورغبت إليه الجماعات في كل منها بأن يلقي فيها بعض الخطب والنصائح، بما له من الخبرة والتجارب، فتقبَّل طلبها بقبول حسن، وألقى في كل من مصر وبيروت ودمشق وبغداد خطبًا (أو محاضرات) بعضها على الرجال وبعضها على النساء، كان لها أحسن تأثير، وأثنت عليها الجماهير، وتبارت في حديثها الصحف، وقد سرَّنا أنه حث في كل منها على التربية الدينية الإسلامية، والاعتصام بكتاب الله القرآن وسنة الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وقد انفرد بهذه النصائح الثمينة دون أمثاله من رجال السياسة، وايْم اللهِ إن أهل هذه البلاد الإسلامية لأحوج إليها من كل ما يلقيه فيها زعماء السياسة، ومؤسسو الجمعيات والأندية على النساء والرجال. ويلي هذه النصيحة في الفائدة تحذيره النابتة الجديدة من تقليد الإفرنج في أزيائهم وعاداتهم وتقاليدهم، وإقناع الشبان المفتونين بهذه المظاهر بضررها القومي والسياسي. ومما قاله في جمعية الشبان المسلمين في القاهرة أنه هو تربى وتعلم في البلاد الإنكليزية وتخرج في مدرسة أكسفورد الجامعة، وعاد إلى الهند متفرنجًا في زيه وهيئته وأكله وشربه، وأثاث داره، ولقاء زواره، وكان يظن أن هذا يقربه إلى الإنكليز الحاكمين في بلاده زلفى، ويزيده عندهم ودًّا، ولكنه لم يزده إلا امتهانًا منهم وبُعدًا، فاستيقظ من رقدته، وتنبه من غفلته، وعاد إلى شارات قومه وشعائر ملته، فاضطروا إلى احترامه ومراعاة كرامته. ولقد كافأ الزعيم الكريم إخوانه من مسلمي هذه البلاد العربية على تكريمهم له وتعظيمهم إياه وتعزيته في مصابه أفضل المكافأة بهذه النصائح الثمينة التي مهدت تلك الحفاوة والإطراء السبيل لاستماع الجماهير لها والتأمل فيها. ولم يكن هذا الزعيم غافلاً في نصائحه الإسلامية عن مراعاة الحقوق الوطنية والتعاون بين المسلمين وغير المسلمين من المشاركين لهم وفي وطنهم، بل أعطى هذه المسألة المهمة حقها في كل مكان، إلا أنه جزم بأن الاتفاق بين العرب واليهود الصهيونيين في فلسطين هو وراء حدود الإمكان. السيد أمين الحسيني: لا جرم أن الفضل الأول في هذه الحركة الجديدة من أطوار الجامعتين الإسلامية والشرقية للزعيم العربي الإسلامي الحازم السيد محمد أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى لفلسطين. فأتى فيها تدبيره، بأقصى ما قدر لها تفكيره، فعلت بها مكانته في البلاد العربية والهندية وغيرها، على حين لم يظهر في البلاد العربية التي رُزئت بالعدوان الأوروبي المسمى بالانتداب زعيم إسلامي سياسي غيره لا من بيوتات العلم الديني وشرف النسب كبيته، ولا من سائر البيوت العربية، وإنما وجد في سورية والعراق أفراد من وجهاء الوطنيين المدنيين يجاهدون عدوان الاستعمار الأجنبي والأمة تشد أزرهم، ويستعين الأجانب عليهم بصنائعهم من منافقي البلاد يرفعونهم إلى مناصب الحكومة لإخلاصهم لهم. صدر أولئك الأجانب المعتدون على استقلال البلاد العربية أفرادًا منها ليكونوا أعوانًا لهم على رسوخ أقدامهم فيها فتصدروا وخدموا مصدريهم بمناصبهم، وإنما صدر أمينًا جده وجده فكان مجاهدًا للنفوذ الأجنبي الصهيوني ناصرًا للقومية العربية وحقوقها الوطنية، حتى فكر خصومه وخصومها أخيرًا في الالتجاء إلى بعض أصحاب الألقاب الكبيرة من متصدري الأجانب ليشتروا منهم شرق الأردن وما ألحقوا بها من الحجاز بتكبير اللقب وتوسيع دائرة الملك اللفظي. وإن كان صوريًّا وهميًّا، وسترى ما يكون من عاقبة ذلك. وقى الله الإسلام والعرب شره. اقتراح إنشاء مدرسة جامعة إسلامية في القدس: اتفق السيد محمد أمين الحسيني مع الزعيم شوكت علي على السعي في العالم الإسلامي لإنشاء مدرسة عربية إسلامية جامعة في القدس الشريف لتقوية الإسلام والعرب فيها تجاه الخطر الصهيوني والمدارس اليهودية في فلسطين، وهذه فكرة عالية كبيرة يجب التمهيد لها قبل كل شيء بوضع نظام لجمع المال الكثير الذي يتوقف عليه المشروع فيها بحيث يكون مضمونًا لا ريب فيه، وتكون الثقة بالمشروع لا مِرَاء فيها.

مسيح الهند القادياني الدجال ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسيح الهند القادياني الدجال (3) (2) نسخه للجهاد خدمة للإنكليز: لقد كان رد المنار على هذيان القادياني الدجال كشهاب ثاقب أتبعه، فخلب عقله وخبله، وأبكاه وململه، وكان نورًا مضيئًا لعلماء الهند وأصحاب الصحف المنشرة، فبادروا إلى نشره بالنص وبالترجمة، فبعثه ذلك على الرد عليه بكتابه الذي سماه (الهدى والتبصر لمن يرى) فتخبط فيه تخبط المصروع، وتململ تململ الملسوع، وجاء بما لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يظل المتغذي به في جوع ويقوع وهقوع، تارة يمدح وأخرى يذم، وطورًا يفترض ويظن وآنًا يجزم، وإن من المرعى ما يقتل حبطًا أو يلم، فلفق وحيه الشيطاني في الرد عليَّ، وأمواج الشكوك تتقاذفه في سبب ردي عليه، وإني أبدأ الكلام في مسألة الجهاد، بعبارته في سياق هذا التردد والترداد، وهذا نصه: (ثم مع ذلك تناجيني نفسي في بعض الأوقات أن من الممكن أن يكون مدير المنار بريئًا من هذه الإلزامات، ويمكن أنه ما عمد إلى الاحتقار والنطح كالعجماوات، بل أراد أن يعصم كلام الله من صغار المضاهات [*] وإنما الأعمال بالنيات. فإن كان هذا هو الحق فلا شك أنه ادَّخر لنفسه بهذه المقالات كثيرًا من الدرجات؛ فإن حب كلام الله يُدخل في الجنة ويكون عاصمًا كالجنة، وأي ذنب على الذي سبني لحماية الفرقان، لا للاحتقار وكسر الشبان، ونحا به منحى نصرة الدين، لا لظى التحقير والتوهين. وهل هو في ذلك إلا بمنزلة حماة الإسلام، والداعين إلى عزة كلام الله العلام، الذي هو ملك الكلام، والله يعلم السر وما أخفى، ولكل امرئ ما نوى) . اهـ. ثم عقد في الكتاب فصلاً في ذم علماء زمانه؛ لأنهم لم يؤمنوا بأنه المهدي والمسيح المنتظر قال فيه ما نصه: (وقد أمروا أن يتبعوا الحكم الذي هو نازل من السماء، ولا يتصدوا له بالمراء، فما أطاعوا أمر الله الودود، بل إذا ظهر فيهم المسيح الموعود، فكفروا به كأنهم اليهود. وقد نزل ذلك الموعود عند طوفان الصليب، وعند تقليب الإسلام كل التقليب، فهل اتبع العلماء هذا المسيح؟ كلا، بل أكفروه وأظهروا الكفر القبيح، وأصروا على الأباطيل وخدموا القسوس، فأخذهم القسوس وشجوا الرؤوس وأذاقوهم ما يذيقون المحبوس، فرأوا اليوم المنحوس. سيقول السفهاء: إن الدولة البريطانية أعانت القسيسين ونصرتهم بحيل تشابه الجبل الركين، لينصروا المسلمين، فما جريمة العالمين؟ والأمر ليس كذلك، والعلماء ليسوا بمعذورين، فإن الدولة ما نصر القسوس بأموالها، ولا بجنود مقاتلين وما أعطتهم حرية أزيد منكم ليرتاب من كان من المرتابين، بل أشاعت قانونًا سواء بيننا وبينهم، ولها حق عليكم لو كنتم شاكرين. أتريدون أن تسيئوا إلى قوم هم أحسنوا إليكم، والله لا يحب الكافرين الغامطين، ومن إحسانهم أنكم تعيشون بالأمن والأمان، وقد كنتم تخطفون من قبل هذه الدولة في هذه البلدان. وأما اليوم فلا يؤذيكم ذباب ولا بقة ولا أحد من الجيران، وإن ليلكم أقرب إلى الأمن من نهار قوم خلت قبل هذا الزمان، ومن الدولة حفظة عليكم لتعصموا من اللصوص وأهل العدوان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. إنا رأينا من قبلها زمانًا موجعًا من دونه الحطمة، واليوم بجنتها عرضت علينا الجنة نقطف من ثمارها، ونأوي إلى أشجارها، ولذلك قلت غير مرة: إن الجهاد ورفع السيف عليهم ذنب عظيم، وكيف يؤذي المحسن مَن هو كريم، ومَن آذى محسنه فهو لئيم) . ((يتبع بمقال تالٍ))

رسالة في حقيقة الصيام ـ 2

الكاتب: أحمد بن تيمية

_ رسالة في حقيقة الصيام وما يفطِّر الصائم بالنص والإجماع وما أُلحق به من الرأي والاجتهاد (تتمة ما سبق في الجزء السابع) (2) فصل وأما الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة والجائفة، فهذا ما تنازع فيه أهل العلم، فمنهم مَن لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحول، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لا يفطر بالكحول ولا بالتقطير ويفطر بما سوى ذلك. والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك. فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه. فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا - علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك. والحديث المروي في الكحل ضعيف، رواه أبو داود في السنن ولم يروه غيره، ولا هو في مسند أحمد ولا سائر الكتب المعتمدة. قال أبو داود: حدثنا النفيلي ثنا علي بن ثابت حدثني عبد الرحمن بن النعمان ثنا معبد بن هودة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم) قال أبو داود: قال يحيى بن معين: هذا حديث منكر. قال المنذري وعبد الرحمن: قال يحيى بن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم الرازي: وهو صدوق، لكن من الذي يعرف أباه وعدالته وحفظه؟ ! وكذلك حديث معبد قد عورض بحديث ضعيف، وهو ما رواه الترمذي بسنده عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت عيني أفأكتحل وأنا صائم؟ قال (نعم) قال الترمذي: ليس بالقوي، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء. وفيه أبو عاتكة. قال البخاري: منكر الحديث. والذين قالوا: إن هذه الأمور تفطر كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوى ما احتجوا به قوله: (وبالِغْ في الاستنشاق إلا تكون صائمًا) قالوا: فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ يفطر الصائم إذا كان يفعله، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها، سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه، والذين استثنوا التقطير قالوا: التقطير لا ينزل إلى جوفه، وإنما يرشح رشحًا في الداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه. والذين استثنوا الكحل قالوا: العين ليست كالقبل والدبر، ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء. والذين قالوا: الكحل يفطر - قالوا: إنه ينفذ إلى داخله حتى يتنخَّمه الصائم؛ لأن في داخل العين منفذًا إلى داخل الحلق. وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه: (أحدها) القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته، فقد قلنا في الأصول: إن الأحكام الشرعية بيَّنتها النصوص أيضًا، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية، فإذا علمنا بأن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه، علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء فعلمنا أنها ليست مفطرة. (الثاني) أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان، ولا حج بيت غير البيت الحرام، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس، ولم يُجِبْ الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم، وإن كان في مظنة خروج الخارج، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت، وبهذا يعلم أن المني ليس بنجس؛ لأنه لم ينقل من أحد بإسناد يحتج به أنه أمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوى بذلك بل أمر الحائض أن تغسل قميصها من دم الحيض مع قلة الحاجة إلى ذلك، ولم يأمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني. والحديث الذي يرويه بعض الفقهاء: (يغسل الثوب من البول والغائط والمني والمذي والدم) ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها ولا رواه أحد من أهل العلم بالحديث بإسناد يحتج به. وروي عن عمار وعائشة من قولهما. وغسل عائشة للمني من ثوبه وفركها إياه لا يدل على وجوب ذلك، فإن الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق، والوجوب إنما يكون بأمره، لا سيما ولم يأمر هو سائر المسلمين بغسل ثيابه من ذلك، ولا نقول: إنه أمر عائشة بذلك، بل أقرها على ذلك، فدل على جوازه أو حسنه واستحبابه. وأما الوجوب فلا بد له من دليل. وبهذه الطرق يعلم أيضًا أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك، مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيئون ويجرحون في الجهاد. وغير ذلك، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك. وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وغير شهوة ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك، بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه. وأمره بالوضوء بمس الذكر إنما هو باستحباب إما مطلقًا وإما إذا حرك الشهوة. وكذلك من تفكر فتحركت شهوته فانتشر، وكذلك من مس الأمرد أو غيره فانتشر. فالتوضؤ عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب، وهذا مستحب لما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ) وكذلك الشهوة الغالبة هي من الشيطان والنار، والوضوء يطفئها فهو يطفئ حرارة الغضب. والوضوء من هذا مستحب. وكذلك أمره بالوضوء مما مسته النار أمر استحباب؛ لأن ما مسته النار يخالط البدن. فليتوضأ فإن النار تطفئ بالماء. وليس في النصوص ما يدل على أنه منسوخ، بل النصوص تدل على أنه ليس بواجب، واستحباب الوضوء من أعدل الأقوال من قول من يوجبه وقول من يراه منسوخًا. وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره. وكذلك بهذه الطريق يعلم أن بول ما يأكل لحمه وروثه ليس بنجس، فإن هذا مما تعم به البلوى، والقوم كانوا أصحاب إبل وغنم، يقعدون ويصلون في أمكنتها وهي مملوءة من أبعارها، فلو كانت بمنزلة المراحيض كانت تكون حشوشًا. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم باجتنابها، وأن لا يلوثوا أبدانهم وثيابهم بها ولا يصلون فيها. فكيف وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون في مرابض الغنم، وأمر بالصلاة في مرابض الغنم، ونهى عن الصلاة في معاطن الإبل فعلم أن ذلك ليس لنجاسة الأبعار، بل كما أمر بالتوضؤ من لحوم الإبل، وقال في الغنم: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ، وقال: (إن الإبل خُلقت من جن، وإن على ذروة كل بعير شيطانًا) وقال: (الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أهل الغنم) . فلما كانت الإبل فيها من الشيطنة ما لا يحبه الله ورسوله أمر بالتوضؤ من لحمها فإن ذلك يطفئ تلك الشيطنة، ونهى عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مأوى الشياطين، كما نهى عن الصلاة في الحمام؛ لأنها مأوى الشياطين، فإن مأوى الأرواح الخبيثة أحق بأن تُجتنَب الصلاة فيه وفي موضع الأجسام الخبيثة، بل الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة؛ ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها الشياطين، والصلاة فيها أولى بالنهي من الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل، والصلاة على الأرض النجسة، ولم يرد في الحشوش نص خاص؛ لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين أن يحتاج إلى بيان. ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش ولا يصلي فيها، وكانوا ينتابون البَرِّية لقضاء حوائجهم قبل أن تتخذ الكنف في بيوتهم. وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمام أو أعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة في الحشوش أولى وأحرى، مع أنه قد روى الحديث الذي فيه النهي عن الصلاة في المقبرة والمجزرة والمزبلة والحشوش وقارعة الطريق ومعاطن الإبل، وظهر بيت الله الحرام. وأصحاب الحديث متنازعون فيه وأصحاب أحمد فيه على قولين: منهم من يرى هذه من مواضع النهي ومنهم من يقول: لم يصح هذا الحديث، ولم أجد في كلام أحمد في ذلك إذنًا ولا منعًا، مع أنه قد كره الصلاة في مواضع العذاب. نقله عنه ابنه عبد الله للحديث المسند في ذلك عن علي الذي رواه أبو داود، وإنما نص علي الحشوش وأعطان الإبل والحمام، وهذه الثلاثة هي التي ذكرها الخرقي وغيره. والحكم في ذلك عند من يقول به قد يثبته بالقياس على موارد النص وقد يثبته بالحديث، ومن فرق يحتاج إلى الطعن في الحديث وبيان الفارق، وأيضًا المنع قد يكون منع كراهة، وقد يكون منع تحريم. فإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا ولا بد أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب. فلو كان هذا مما يفطر لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم كما بيَّن الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن، والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجسامًا، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز تطييبه وتبخيره وادِّهانه، وكذلك اكتحاله. وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم إما في الجهاد وإما في غيره مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطرًا. (الوجه الثالث) إثبات التقطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحًا، وذلك إما قياس على بابه الجامع، وإما بإلغاء الفارق، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل معدى لها إلى الفرع، وإما أن يعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا القياس هنا منتفٍ. وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطرًا هو ما كان واصلاً إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلاً من منفذ أو واصلاً إلى الجوف، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله، ويقولون: إن الله ورسوله إنما جعل الطعام والشراب مفطرًا لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب، ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير في الإحليل ونحو ذلك. وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل كان قول القائل: إن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطرًا لهذا - قولاً بلا علم، وكان قوله: (إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا) قولاً بأن هذا حلال وهذا حرام، بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز. ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكم فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب

نسخ الشريعة المحمدية لما قبلها وبعثة محمد خاتم النبيين للناس أجمعين

الكاتب: علي سرور الزنكلوني

_ نسخ الشريعة المحمدية لما قبلها وبعثة محمد خاتم النبيين للناس أجمعين [*] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وخاتم النبيين، محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه. أيها السادة إن موضوع الليلة هو بيان نسخ الشريعة المحمدية لما قبلها من الشرائع، وبعبارة أصح: بيان عموم بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى أرسله للناس أجمعين، سواء أصحاب الأديان السماوية وغيرهم. وقبل الكلام على هذا الموضوع لا بد لنا من تمهيد ندخل به إليه، وهو وإن كان تمهيدًا فيما يبدو، إلا أن له اتصالاً قويًّا بهذا الموضوع في الحقيقة، حتى كأنه أحد أجزائه. (التمهيد) من المعلوم عندنا من الدين بالضرورة أن الله تعالى لم يبعث الرسل إلا لإصلاح العالم بمعرفته وعبادته وحده واجتناب عبادة الطاغوت، وإيضاح الطريق إليه؛ لإتمام المجازاة بين العباد يوم الرجوع إليه، كما كانت البداية منه. يوافقنا على هذا أصحاب الأديان الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولقد آزر أصحاب الأديان في ذلك العقل الإنساني المجرد عن أهواء النفس وميلها الشهواني، والعقل في كل عصور التاريخ من اليوم الذي ترعرع فيه وقوي على الكفاح والنضال - لم يختلف مع أصحاب الأديان في أصل الفكرة؛ إذ العقل مهما تعرجت به السبل لا يستطيع أن ينكر حاجة البشر إلى الإصلاح والمصلحين، كما أنه قد وقف خاضعًا مبهوتًا أمام معجزات الأنبياء في عصورهم، وبعد انقراض عصورهم. بل العقل البشري في عصور الفلسفة الأولى وهي منعزلة عن الأديان تمام الانعزال وغير متأثرة بها - قد عرف واجب الوجود، وخطا خطوة واسعة في الشعور باليوم الآخر وهو من الغيب المحض، فرأى أن الحكمة تأبى على مبدع هذا الوجود وقد تفاوت فيه أفراد الإنسان: سعادة وشقاوة، ولذة وألمًا، وظالمية ومظلومية - أن ينتهي العالم بعد ذلك التفاوت البليغ إلى العدم المحض، وقرر أنه لا بد من حياة وراء هذه الحياة تتجلى فيها مظاهر العدل والحكمة بين أفراد الإنسان. أيها السادة إن هذا النوع الإنساني الذي أرسل الله له الرسل مبشرين ومنذرين لا بد له من بداية، ولا بد أن تكون هذه البداية فردًا، وقد أجمع أصحاب الأديان السماوية على أن الفرد الذي تناسل منه هذا النوع الإنساني هو آدم عليه السلام ثم زوجه حواء. ولا يهم بحثنا أن تكون حواء مخلوقة من طينة آدم على قانون تخليقه، أو من جزء من أجزائه بعد انتقاله إلى الطور الإنساني، كما لا يهم العقل أيضًا هذا البحث؛ لأن بداية العالم من الغيب المحض، فلا سبيل إلى الوصول إلى الغيب من طريق المشاهدة والتجارب المادية، ولا من طريق البحث والاستنتاج؛ لأن الغيب المحض لا يكون الاستنتاج فيه أكثر من حدس وتخمين، وإذًا لا يمكن الوصول إلى معرفة الإنسان الأول خلقًا وتعليمًا إلا من طريق الحق، طريق الوحي المنزل على الأنبياء المؤيدين بالمعجزات، ولقد أعلمنا الله تعالى على لسانهم رحمة منه بنا؛ حيث لم يتركنا حيارى فيما يمسنا، ونعجز عن الوصول إليه بعقولنا، أن آدم عليه السلام أبو البشر، وأنه خلقه من طين ومن صلصال من حمأ مسنون. ولا بدع في ذلك فإنسان اليوم يتخلق من الطين بوسائط، وبعض العلق (الدود الصغير) يتخلق منه بلا واسطة. ومن هذا تعلمون قيمة القول بأن القرد هو أصل الإنسان! على أن هذا القول لا يزال في دور البحث العلمي عند أصحابه، وهم أنفسهم يقولون: إن هناك حلقة مفقودة لا يتم لهم هذا البحث إلا إذا عثروا عليها، ونحن نقول لهم: لا نؤمن بما تقولون؛ وإن عثرتم عليها؛ لأن بحثكم على فرض تمامه مبني على القياس والاستنتاج لا على المشاهدة واليقين. وقد قال الله تعالى وقوله الحق الذي يذعن له العقل {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً} (الكهف: 51) فأي عاقل بعد هذا يستبيح لنفسه أن يترك يقينيات الأديان إلى ظنون الباحثين، وإذا أباح العقل للباحث أن يتأثر بنتائج بحثه، وعذره فيه لأنه منتهى علمه؛ لأنه يبحث بعيدًا عن كل دين، فأي عقل يبيح لغير الباحث من أصحاب الأديان أن يقلده فيه ويتغنى بما يخالف جميع الأديان؟ وأي سقوط وراء من يقلد عن جهل من لا ضمان له، ويترك عظمة الأديان، وفيها الضمان كل الضمان بالمعجزات وشهادة التاريخ. أيها السادة إن الدعِي الذي ينتسب لغير أبيه حقير في ذاته، ممقوت عند الناس، وإن انتسب إلى مَن هو أكرم من أبيه، فكيف إذا انتمى إلى من هو دون أبيه بمراحل؟! أيها السادة لست الآن بصدد البحث عن إثبات مبدأ الخليقة، ولاعن إثبات إرسال الرسل لحكمة إرسالهم، وإنما جر إلى ذكر ذلك التمهيد لا غير؛ لأن موضوع الليلة خاص بأصحاب الأديان، وكلهم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليست المسألة أكثر من موضوع يطرح أمام العقل ليبحثه، وينصف من نفسه. وإني لم أعتمد في هذا البحث إلا على أدلة العقل المستندة إلى نظام الوجود الثابت؛ لئلا يقال: (كل فتاة بأبيها معجبة) ومن واجب أصحاب الأديان أن يبحثوا عن الحق حيثما كان، ويطلبوا السعادة أينما وجدت، ولا يليق بهم أن يجعلوا الأديان من أعراض الحياة الدنيا وأسباب تنازع البقاء فيها؛ لأن الأديان ما نزلت إلا للسعادة الشاملة ودوام البقاء في الآخرة. وقد انحرف أصحاب الأديان جميعًا عن هذه الغاية السامية، فتعصب كلٌّ لتراثه الموروث أيًّا كان مركزه من الحق، كي لا يضيع شيء من مظاهر الدنيا وتقاليدها، ولم يقف الأمر عند التنازع في ذات الأديان بل انتقل إلى تنازع أصحاب المذاهب المختلفة من دين واحد لهذه الغاية الكاذبة، مع أن الدين يجب أن يكون كله لله، وأن يبحث فيه دائمًا عن أقوم الطرق الموصلة إلى الله. وقد اخترت هذا الموضوع؛ لأنه يمس حياة العالم الدينية والعقلية ويتصل بسعادتهم الأبدية كل الاتصال. وها أنا ذا الآن بتوفيق الله تعالى داخل على أصل الموضوع: أيها السادة إن الإنسان في طوره الأول بسيط وساذج، وهو في حياته الأولى أشبه بالطفل بعد ولادته، وقد قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} (النحل: 78) وإذا كان الطفل في حياته الأولى لا علم له بشيء أصلاً بشهادة الدين والحس، وقد تولد من إنسان عاقل مرت به أحقاب طوال في الإنسانية المعبدة المهذبة، فكيف يكون حال الإنسان الأول، وقد انفصل عن الطينة الصماء وعن ظلام الوجود (؟) وقد تعلمون أن استعداد المنفصل عن إنسان أقوى من استعداد المنفصل عن جماد أو حيوان. لهذا يجب علينا أن نبحث بحثًا هادئًا في هذا الإنسان الذي وصل أبناؤه إلى ما نرى ونسمع من العلم والعمل والرقي في أساليب الحياة المتشعبة الأصول والفروع فنقول: إذا كان من الجائز عقلاً أن نحيل أمر حياته المادية ونظام معيشته على الغرائز الحيوانية كما هو الشأن في بقية الحيوانات؛ لأن دواعي النفس كلها مركزة في الغريزة الحيوانية ومشتهياتها على ظهر الأرض - فليس من الجائز عقلاً أن نحيل أمر تنظيم جزئه الإنساني على قانون الغرائز الحيوانية؛ لأنها لا تعدو المادة ولا تتجاوز وظائف حياته الحيوانية، والنفس الناطقة، وغريزتها العقلية فوق الحيوانية: هذه سماوية وتلك أرضية، هذه نورية وتلك ظلمانية، وعالم النور غير عالم الظلمة. ومن غير المعقول أن يستمد عنصر السماء من عنصر الأرض، ولو أن في الأرض عالمًا آخر أرقى من الإنسان في بداية نشأته لجاز أن نحيل عليه أمر تنظيم حياته العقلية والأدبية وتلقي مبادئ العلوم المختلفة. وقد علمتم أن الفطرة الحيوانية لا تهدي إلا إلى سبيلها الحيواني، وإلا لارتقى الحيوان الأعجم إلى مستوى الإنسان، بل لو جاز أن يكون قانون الفطرة وحده هو الذي وضع لآدم نظام حياته الأولى وهو الذي أرشده إلى الحق والباطل وإلى الخير والشر لكانت آثار العقل من الطهارة وحب الخير والسلام العام مثلاً متمشية في الرقي جنبًا لجنب مع الرقي المادي، مع أن دليل الحس قائم على الرقي المادي، واضطراب الرقي الروحي الذي لا يتم بدونه كمال الإنسان، بل لا أبالغ إذا قلت: إن الرقي المادي قد طغى على العقل طغيانًا كبيرًا حتى أفقده آثاره الروحية التي تظهر في طهارة النفس، ومتانة الأخلاق. على أنَّا لو تساهلنا وقلنا: إن الإنسان الأول قد هدته فطرته إلى وضع المبادئ الأولى لنظام حياته العقلية لما كان لنا مندوحة عن القول بأن الفطرة يجب أن تسبق بنموذج تقيس عليه، ونِبراس تسير على ضوئه. وليس ثمة مَن يهديها من العوالم، والجاهل لا يستمد علمه من نفسه، فمَن كان يا تُرَى مصدر ذلك المقياس، ومطلع هذا النبراس؟ ! مهما قلَّب العقل طرفه يمنة ويسرة في صفحات الوجود لا يمكنه أن يهتدي إلى المعلم الأول للإنسان الأول من عالم المادة. ولابد أن يرجع أخيرًا إلى ما جاء به الأنبياء ونطق به القرآن الكريم حيث قال: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} (البقرة: 30-33) . ثم إن مبادئ التعليم الأولي للإنسان الأول لا تعدو شعوره بنفسه، وشعوره بخالقه، وشعوره بالمسؤولية أمام خالقه. وهذه الأمور الثلاثة تكاد تكون أساسًا مضطردًا في كل تشريع إلهي، وأن آخر تشريع لم يزد في جوهر هذه الأسس عن أول تشريع؛ ولذلك كانت هذه الأسس عماد التشريع الإلهي وعناصره القوية التي لا يعدو عليها تطاول الأزمان، فأصول الشرائع الإلهية منحصرة في تصحيح الاعتقاد وفي حفظ النظام. ومعرفة أقرب الطرق إلى الله وأوضحها للسير فيه، وهذا هو ما يشير الله إليه بقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (الشورى: 13) . إلا أن هذه الأصول لم يخاطَب بها العقل ولم يكلف بتنفيذها الإنسان في أطواره المختلفة بنسبة واحدة. فالعقل في بداية حياته غير العقل في نضوجه، وغيره فيما بينهما من الأطوار، والحكمة قاضية بأن يكون لكل طور حاجات خاصة به، ولبيانها له أسلوب خاص في الخطاب وطرق الاستدلال للإقناع، كذلك الإنسان في حياته المعاشية الحيوانية ومحيطه المادي له أطوار كثيرة تختلف بحسبها حاجاته وطرق علمه بها، وا

بيان بشأن المجالس الحسبية حادث تنصير البربر يتكرر في مصر

الكاتب: أحد قضاة الشرع

_ بيان بشأن المجالس الحسبية حادث تنصير البربر يتكرر في مصر [*] المجالس الحسبية من المؤسسات الشرعية الإسلامية في هذا القطر، فهي أصلاً من اختصاص القاضي الشرعي وحده، ولظروف لا تريد بالإسلام والمسلمين خيرًا - ضُم إليه فيها عضو إدارة وعضو أعيان، مع بقاء كل مظاهر الاختصاص فيها للقاضي الشرعي، فكانت رسومها ترد إلى المحاكم الشرعية، وكان القاضي الشرعي يحضرها ومعه كاتبه ومضبطته؛ ليضبط كل القرارات التي تصدر متوَّجة باسمه، محالة عليه من رئيس محكمته، فألغيت كل هذه المظاهر الشرعية شيئًا فشيئًا، ولم تفاجَأ بها هذه الأمة الإسلامية حتى لا تحس بما يبيَّت لشريعتها، وقد كان أحمد باشا خشبة رأى ما في هذه المجالس من حال غير قارَّة، ومظاهر غير سارة - فاستشار فيها القضاة جميعًا، فكان أغلب الرأي في غير صالح وجودها على تلك الحال، ووفقًا لغالبية الرأي ألغى الإدارة الحسبية وضمها للإدارة الشرعية، وبذلك نجت ميزانية الدولة من عبء باهظ. وقد اتفق رأي إلغائها مع إسلامية البلد وزعامتها في مظاهر الإسلام، وأن إهانة القاضي الشرعي بجعله مرءوسًا دائمًا في عمل هو من اختصاصه دون سواه شيء يمجه تقليد البلد، وأدبه مع علماء دينها وقضاته، فضلاً عن أنه ليس عدلاً، بل ينطوي على مقدار ظاهر من العصبية ضد قضاة المسلمين، وزيادة على ما تقدم فإن غيرة المسلمين على أحكام دينهم لم يخف عليها أن القاضي الشرعي إنما أحيط بعضوين في هذه الهيئة لا صلة لهما بالشريعة الإسلامية لأجل شل أحكامها في هذه المجالس، وإن ذلك إنما يراد به أن يألف الشعب الزراية بالإسلام وعلمائه وقضاته، ويألف القنوع من الشريعة بعضو مشلول مغلول لا يملك لحكمه تنفيذًا حتى تحين غفلة من الشعب الإسلامي فيبتر هذا العضو نهائيًّا بعد أن تكون هذه المجالس قد امتصت كل اختصاص المحاكم الشرعية، وكل ذلك تمهيد لإلغاء هذه المحاكم نفسها، وهو اليوم الذي يتم فيه انهزام الإسلام في داره على يد أبنائه والعياذ بالله. واتفق رأي إلغاء هذه المجالس أيضًا مع الأمور الآتية: (1) أن أمور الأوصياء والقامة والوكلاء والمحجورين من الأحوال الشخصية، والمحاكم الشرعية على أسوأ تقدير محاكم الأحوال الشخصية للمسلمين في مصر، ولو وجد الإسلام نصيرًا لكانت محاكم المسلمين في كل أمورهم. (2) أن هذا الباب من المعاملات وردت فيه أحكام شرعية يجب اتباعها وتحرم مخالفتها، ولم تكن من مشتملات القانون الأهلي. (3) أنه رغم كثرة الشكوى من مجالسنا واختلالها بسبب تنافر تأليفها وفساده، وتناقضه من علم وجهل، ودين ولا دين، ونظام وفوضى، وقضاء وإدارة، حتى صارت أسوأ حالاً من محاكم الاختلاط التي خنقتها العدالة، ولكن هذه المجالس لا يمد في وجودها إلا أنها قائمة لنقض أحكام الإسلام، ورغم كل ذلك يدعون أنها عنوان الرقي في مصر، وأن البلاد الإسلامية الأخرى التي تتولى أمور المجالس الحسبية فيها المحاكم الشرعية، ولا يوجد بسبب ذلك أي شكوى متأخرة؛ لأنها لم تبتدع مفسدة كالمجالس الحسبية تثل بها في بلادها عرش شرع الإسلام، وينتج من ذلك أن مصر وحدها هي التي تتهم قاضيها الشرعي وتهينه عصبية للقضاء الأهلي، وأنه أحط تربيةً وتحقيقًا من كل القضاة الشرعية في كل باقي بلاد الإسلام. (4) أن المحاكم الشرعية تتولى تطبيق الأحكام الشرعية في بعض المسائل كالأوقاف والمواريث، ثم تتولى المحاكم الأهلية الجانب التنفيذي المدني فيها، فيجب أن تكون المجالس الحسبية كذلك. فهذا ملخص الأستاذ خشبة باشا، ثم قفَّاه الغرابلي باشا، فجعل لهذه المصلحة وكيلاً من القضاة الشرعيين، وهذا معنى كبير، ولكن عهده لم يطُلْ. وأما معالي الوزير الحالي فمع أنه كان يُنتظر منه أكثر من ذلك؛ لأن معاليه يتحرى أكثر رضاء جلالة مولانا الملك - والأمور الشرعية الإسلامية لدى جلالته بالمكان الأول - طرد وكلاء الإدارات الشرعيين، ووسع وجود هذه المجالس اللادينية وبعُد بها عن الشريعة كثيرًا، ورغم ما فيها من مظاهر الإهانة لحرمات البلد: (1) لتسلط الإدارة على القضاء الشرعي فيها؛ لأن المدير ووكيله والمحافظ ووكيله والمأمور يرأسون القاضي الشرعي للغاية التي بيناها. (2) وتحكيم قاضٍ في قاضٍ، وهو عمل لا يسيغه أي ذوق؛ فضلاً عن أنه إفساد ما بين طائفتين من الزملاء، وهذه عيوب قضائية لا يحتملها أي نظام، ورغم كل هذا فإن معاليه لم يعمل لتدارك هذا الفساد بالإصلاح، بل بنى عليه، فأنشأ مجالس حسبية استئنافية تزيد في البلد ثورة الفوضى والفساد وتزيد عبء الميزانية التي على وشك الرزوح والإعياء. ولا ندري إذا ظفرنا بقاض شرعي استوعب التعليم الديني واللاديني والتهذيب الوضعي والفلسفي في حيز معاهد القضاء، ودرس في خمسة عشر عامًا الشريعة التي يحكم بها حتى تفقهت فيها نفسه، ثم تدرب وجرب وغمر هذا الاستعداد الراقي سائر المحاكم الشرعية قضاةً وكُتابًا، ولم يبق في المحاكم بعد هذه الحركات العنيفة من يقال فيه: لو؛ ولا ليت. إذا كان الأمر كذلك فمتى ننصف قاضينا الشرعي بين قضاة العالم؟ ! ومتى يقضي على العصبية ضده لزميله المطربش، فإن هذا غير جميل من ناس تخرجوا من القضاء، والعصبية ضده إنما هي العصبية ضد الإسلام! والخطأ الشائع أن بعض المسلمين يقيسون الإسلام على المسيحية، مع أن هذه ديانة أخروية روحية محضة لم تجئ بحكم واحد، لكن الديانة الإسلامية ديانة ختامية كاملة شاملة، فهي نظام كامل لدولة إسلامية وأمة إسلامية وتاريخ إسلامي. فالمصحف كما يوجد في المسجد يوجد في مقاصير البيوت وزوايا الأكواخ، ويوجد على سُرُر الملك ومِنصات الأحكام ومعترك الأسواق وميادين الحروب ونوادي السياسة. وبالإجمال فحيث تقعد أو تمشي أو تقف أو تنام يطل عليك المصحف بأحكامه وآدابه، فإن عصيته لم تكن به مؤمنًا ولا بارًّا. وأما ما يتشدق به المفتون منا من أن الأحكام الشرعية أمور مدنية لا يضر الدين في شيء أن تتولاها المحاكم الأهلية بقوانينها فليس بعيدًا من الذي يقول: إن الديانة الإسلامية أو سواها من الديانات ليست إلا دعوى إلى خير وفضيلة، فتتساوى فيها جميع الأديان والمذاهب الأخلاقية والمبادئ القائمة عليها جمعيات الخير، فيمكن أن يُستغنَى عن الإسلام مثلاً بالماسونية وكفى الله المؤمنين القتال، وبعد: فإما إسلام صريح أو لا إسلام، فإن الأمم لا تنهض بهذا الارتياب. وما كنا ننتظر أن يشكو لمعالي الوزير ثلاثمائة عالم إسلامي من هذه المجالس باسم الانتصار لأحكام الإسلام وكرامة قضاته ثم لا ينصفون. (المنار) جاءتنا هذه الرسالة في البريد فأهمنا أصل الموضوع فيها جدًّا على إنكارنا على الكاتب بعض التشنيع الشرعي، الذي لا ينبغي لمن يطالب بمثل هذا الحق الشرعي، ونرى أنه يجب على رياسة المعاهد العلمية الدينية في مصر أن تتولى مطالبة الحكومة بجعل هذه المجالس الحسبية شرعية تابعة للمحاكم الشرعية يتولى رياستها قضاة الشرع بما هو مقرر في الشرع، وأن ينكروا عليها أي تشريع يتعلق بحقوق الشرع ومحاكمه بدون موافقة رجال الشرع عليه وإقرارهم له، ويجب على مجلتهم (نور الإسلام) بسْط ذلك. إذا صح ما ذكره صاحب هذه الرسالة من أن ثلاثمائة عالم من علماء الإسلام شكوا إلى وزير الحقانية مسلك وزارته أو عمله في هذه المجالس الحسبية بما يعد اعتداءً على حقوق المحاكم الشرعية، وما يلزمه من الاعتداء على الشريعة نفسها - ولا تخاله صحيحًا - فكيف تسكت رياسة المعاهد الدينية ومجلتها على هذا؟ وأي خدمة للشرع تُرجى منهما إذا أضاع رجالهما هذا الحق، ورضوا بهذا الهضم لحقوق الشرع؟ ما أرى لهما عذرًا إلا عدم العلم بما بينه هذا القاضي الشرعي في رسالته هذه، إذا كانت الحكومة المصرية تحرم على علماء الإسلام التعرض لسياستها الخارجية وإدارتها الداخلية، فهل تستطيع أن تحرم عليهم التصدي لحماية ما بقي من الأحكام الشرعية، وتُكرههم على الرضا بمثل ما بينته هذه الرسالة في شأن المجالس الحسبية؟ ! كلا، إن على فضيلة الأستاذ الأكبر رئيس المعاهد الدينية أن يكتب إلى الحكومة بوجوب جعل المجالس الحسبية شرعية خالصة، فإن لم تستجب له فعليه أن يرفع الأمر إلى جلالة الملك صاحب النفوذ الأعلى، وكلمة من جلالته تعيد الحق إلى أهله، وتحله في محله.

الانتقاد على المنار وتفسيره

الكاتب: أحمد محمد شاكر

_ الانتقاد على المنار وتفسيره مولاي الأستاذ السيد العلامة حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته قرأت في العدد السابع من المجلد 31 من المنار الزاهر في تفسير قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (التوبة: 101) ص 509 ما نصه: (وفي مسند أحمد عن ابن مسعود: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن منكم منافقين فمَن سميته فليقم، ثم قال: قم يا فلان حتى سمى ستّ وثلاثين) وروى غير هذا في معناه. ولما كنت أعمل - كما تعلمون - في وضع فهارس دقيقة مفصلة لمسند الإمام أحمد فقد استغربت أن يكون فيه هذا الحديث، ثم رجعت إلى فهارس المسند التي عملتها، فأيقنت أنه لم يروِهِ أحمد أصلاً من حديث ابن مسعود؛ فإنه لم يروِ من حديثه فيما يتعلق بالمنافقين إلا خمسة أحاديث هي: حديث المواظبة على إجابة النداء بالصلاة وفيه: (ولقد رأيتني وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم نفاقه) رواه مرتين في صفحة 382 و 414 ج1. وحديث: (إن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه) .. إلخ وهو ليس نصًّا في وصف المنافقين. ورواه ثلاث مرات في ص 383، ج1. ولم يروِ من حديث ابن مسعود في خطب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أربعة أحاديث هي أحاديث خطبة الحاجة رواه بأربعة أسانيد في ص392 و393 و432 ج1. وروى في التفسير من حديث ابن مسعود 36 حديثًا ليس منها هذا الحديث على اليقين، ولولا خوف الإطالة لذكرتُها بصحتها. وقد رجعت إلى الدر المنثور للسيوطي فوجدته روى قريبًا من هذا المعنى من حديث ابن عباس ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبي الشيخ وابن مردويه، وهو في تفسير ابن جرير الطبري كما قال السيوطي ولفظه: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا يوم الجمعة فقال: اخرج يا فلان فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرج من المسجد ناسًا منهم ففضحهم..) إلخ ونسبه صاحب كتاب جمع الفوائد للطبراني في الأوسط وقال: (يُضَعَّف) . وحقيقة أن في إسناده عند ابن جرير ضعفًا. وكذلك نقله ابن كثير عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس ولم يذكر مَن أخرجه، وظاهر أنه أخذه من تفسير ابن جرير. وذكر السيوطي في الدر المنثور حديثًا آخر لابن مردويه عن أبي مسعود الأنصاري قال: لقد خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم خطبة ما شهدت مثلها قط، فقال: (أيها الناس إن منكم منافقين فمن سميته فليقم، قم يا فلان، قم يا فلان، حتى قام ستة وثلاثون رجلاً) وذكر باقي الحديث ولم يتكلم على إسناده من الصحة والضعف فلا ندري ما هو. وليس انفراد ابن مردويه بحديث مما يطمئن معه القلب إلى صحته. وأظن أن هذا الأخير هو الأقرب إلى رواية المنار الزاهر ولكنه من حديث أبي مسعود البدري الأنصاري لا من حديث عبد الله بن مسعود، ومن رواية ابن مردويه لا من رواية الإمام أحمد بن حنبل في المسند. هذا ما بدا لي في استخراج هذا الحديث، أرجو من أستاذي الجليل أن يتفضل بنشره في المنار، وأن يمن على تلميذه بذكر مصدر الرواية إن كانت منسوبة للمسند من حديث ابن مسعود حقيقةً استدراكًا لفائدة نفيسة كهذه حتى نقيدها عندنا على نسختنا من مسند أحمد، لا زلتم أهلاً للفضل ومنارًا للعلماء والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شاكر ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاضي الشرعي (المنار) أشكر لأخينا الكريم خادم السنة بحثه العلمي عن الحديث المذكور، وإيذاننا بنتيجته، وأخبره بأنني نقلته من كتاب (فتح البيان في مقاصد القرآن) وإنني اطَّلعت على ما ذكر في معناه في تفسير الطبري والدر المنثور وابن كثير وغيرهما فاقتصرت عليه لاختصاره، بعد أن كنت نقلت غيره، ولم أنشره لأنني أعتقد أنه لا يصح شيء في فضيحة أولئك المنافقين في المسجد بالتصريح بكفرهم بأعيانهم؛ لما صرحت به من تعليل ذلك عقب نقله، ولولا هذا لما ذكرت هذا الحديث أيضًا. وإنني قد استغربت سكوت السيوطي عن هذا الحديث في الدر المنثور، ولكنني أعلم أنه لم يستقصِ كل ما ورد، وقد راجعت جدول الخطأ والصواب من فتح البيان لعلي أرى فيه تصحيحًا لخطأ وقع في عزو الحديث إلى المسند أو إلى ابن مسعود فلم أره فيه، وأنا أعلم أن مؤلفه رحمه الله كان يتحرى في نقل الأحاديث. ويقال: إنه كان يستعين في تأليف تفسيره هذا بلجنة من علماء الحديث وغيرهم، ومن الكتب التي كان يعتمد عليها تفسير الشوكاني، فإن وجد الحديث في هذا التفسير يكون ناقلاً له عنه، وإن لم يوجد فيحتمل أن يكون وجده في نسخة للمسند خطية في خزانة كتبه الحافلة، ويحتمل أن يكون عزوه إلى مسند ابن مسعود عند الإمام أحمد خطأ، ويرجحه عدم نقل السيوطي إياها عنه في الدر المنثور، على أنني قد حذفت هذه الرواية مما طبعته على حدته وكذا من مختصره الذي شرعت فيه بل قلما أذكر فيه شيئًا من الروايات الصحيحة بألفاظها وتخريجها، وأختم هذا التعليق بإعادة ما بدأت به من شكر أخينا الأستاذ. جعله الله تعالى خير عون على العلم وتحرير كتبه.

اقتراح مناظرة في الخلاف بين أهل السنة والشيعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اقتراح مناظرة في الخلاف بين أهل السنة والشيعة (جاءنا الكتاب الآتي من حضرة صاحب الإمضاء، أحد علماء الشيعة الإمامية الأعلام ننشره بنصه وحروفه وننشر بعده جوابنا له وقد سبق هو إلى نشرها في بعض الصحف) بسم الله تعالى بأزكى التحية وأفضل السلام أحيي مقام ذلك الإمام السيد الرشيد آل رضا، ألهمه الله قول السداد، وسلك به سبيل الهدى والرشاد، أما بعد: فإني أحمد إليك الله سبحانه الذي عرَّفنا أولياءه وأهل محبته، وهدانا إلى ما سنَّه من شريعته {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف: 43) وأسأله أن يوفقنا جميعًا لنصرة الحق وإرشاد الضال، وإحياء السنة وإماتة البدعة، فإنه ولي ذلك والقادر عليه. ثم إني رأيتك قد أرهفت يراعتك ونثلت كنانتك منتصبًا في وجه الشيعة زاعمًا أنهم قد نشطوا في هذه الأيام لدعاية الرفض والبدع، والصد عن السنة وأعلامها، فإن يكن ذلك منك حمية للحق وغيرة على الإسلام (والسرائر لا يعلمها غيره سبحانه) فحَقِّقْ دَعْواك - إن رأيت - بأن تفتح لنا بابًا في مجلتك الغراء نذكر فيه المسائل الهامة التي وقع الخلاف فيها بين الطائفتين، ونحقق الحق في ذلك متبعين البرهان، غير متحيزين إلى فئة، ملتزمين آداب المناظرة، وايم الحق، لئن فعلت ذلك إنها لأعظم حماية للدين، وأعْوَد نفعًا على المسلمين، وأكون لك بلسان أهل الحق من الشاكرين، فأرجوك؛ وظني بك ستحقق رجائي، ولك عهد الله سبحانه أن لا أذكر في مناظرتي كلمة أقصد بها جرح عاطفتك، والغض من كرامتك، وأحتمل لك كل قول، وبذلك يظهر فساد ما ليس من الدين مما يعتقد صحته الكثير من الطائفتين، وتنال لقب المصلح، ويكون لمجلتك شأن، وإنني بانتظار الجواب وإلا فسندرج صورته في مجلة العرفان الغراء وغيرها. ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب الكلمات ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحسين نور الدين جواب صاحب المنار بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رشيد رضا إلى الأستاذ الكبير، والعلامة الشهير، السيد عبد الحسين نور الدين، هدانا الله وإياه الصراط المستقيم، آمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فقد أُلقي إليَّ كتاب منك أنكرت فيه عليَّ ما كتبته أخيرًا في دعاية الشيعة، وما هو إلا ردي على كتاب السيد عبد المحسن العاملي فيما طعن به عليَّ أقبح الطعن الديني والشخصي بالتبع لطعنه على الوهابية، وعلى شيخ الإسلام ابن تيمية، بما تضمن الطعن على سلف الأمة الصالح في عقيدتهم، ثم انتقادي ما كتبتَه أنت في الجزء الأول من كلماتك في موضوع غزوة حُنين، وقد عبرت عن ذلك تعبيرًا منتقدًا أغضي عنه، وأخص بجوابي ما دعوتني إليه من فتح باب في المنار للمناظرة (في المسائل الهامة التي وقع فيها الخلاف بين الطائفتين) لتحقيق الحق فيها بالبرهان (غير متحيزين إلى فئة، ملتزمين آداب المناظرة..) إلخ. فأقول: لبيك لبيك، لقد دعوتني إلى ما كنت أتمنى مثله، فإنني ما كتبت ولن أكتب في هذه المسألة ولا في غيرها إلا ما أعتقد حقيته، وأقصد به النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين، وهو ما أرشدنا إليه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقدر ما يصل إليه علمي ورأيي، فإنني لا أنتحل مذهبًا من مذاهب الفرق الإسلامية أتعصب له، ولا أقلد عالمًا من أئمتها أتقيد برأيه واجتهاده، فأخشى أن يظهر بالمناظرة بطلان قوله، بل طالما ذكرت في المنار ما هو منتقد عندي من المذاهب الشهيرة، وليس للمنار أدنى مساعدة مالية ولا معنوية من طائفة من الطوائف، ولا أهل مذهب من المذاهب، ولا من فرد من الأفراد، فأخشى على نفسي أن تتبع الهوى في الانتصار لمذهبهم أو شخوصهم من حيث أدري ولا أدري. فإن كنت تعاهد الله كما أعاهده على ما نقلته عنك آنفًا فهلم. ولا أحفل بما قلت قبله ولا بعده من الأمور التي أملاها عليك سوء الظن بي من ترغيب وترهيب، وشك مريب. ولما كانت مسائل الخلاف كثيرة، وكان الباب الذي نفتحه لها مع بقاء سائر أبواب المنار مفتَّحة - ولا سيما التفسير والفتاوى والشؤون الإسلامية العصرية - لا يتسع لدخول هذه المسائل كلها فيه إلا في سنين كثيرة، وجب أن نقتصر على المسائل المهمة، وأن نلتزم فيها الاختصار غير المخل بالغرض، وأن تكون وجهتنا جمع الكلمة، والتأليف بقدر الطاقة، على المنهج الذي شرحته في الجزء الرابع من (منار) هذه السنة. فعسى أن تكتب إليَّ برأيك في هذا، تمهيدًا للشروع في هذا العمل. وأسأله تعالى أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه من جمع كلمة المسلمين على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونبذ البدع، ثم على مصالحهم الدنيوية العامة، والسلام. ((يتبع بمقال تالٍ))

نظرة تاريخية في الثورة الهندية الكبرى وأسبابها

الكاتب: عثمان

_ نظرة تاريخية في الثورة الهندية الكبرى وأسبابهاوما اقترفه الإنكليز من الفظائع فيها لصاحب الإمضاء كلكته لا يجهل أحد له إلمام بتاريخ الهند الحديث الثورة العامة التي نشبت في البلاد ضد الحكم الإنكليزي سنة 1857م، فكل مَن اطلع على تاريخ الهند تستوقف نظره هذه الثورة وتوغر صدره على الهنود، فيتهمهم بالهمجية والبربرية؛ لأن التاريخ يبين له ما ارتكبه الهنود (الثوار) من الفظائع والمنكرات، ويريه أنهارًا من الدماء الإنكليزية التي أراقها هؤلاء المتوحشون. ولكن هذا التاريخ إنما دوَّنته الأقلام الإنكليزية المتعصبة التي اشتهرت بتشويه الحقائق، إن كان من وراء ذلك كسب للاستعمار. وهو بالحقيقة ليس بتاريخ بل دعاية استعمارية إنكليزية أُريد بها تبرير استيلاء إنكلترا على القطر الهندي العظيم. بيد أن الحق لا يعدم أنصارًا، ولا يمكن إخفاؤه إلى آخر الدهر، فقد وجد أناس منصفون في الإنكليز أنفسهم برزوا للدفاع عن الحق، ولبيان ما ارتكبه إخوانهم من الفظائع خلال الثورة الهندية وقبلها وبعدها، وقد ظهر حديثًا كتاب ألفه مؤرخ هندي دوَّن فيه شهادات هؤلاء المنصفين من الإنكليز، فأحببنا أن نلخص منه فصلاً لقراء المنار الأغر؛ ليكونوا على حذر من كتب التاريخ الإنكليزية المتداولة عن الثورة الهندية [1] فنقول: للثورة الهندية أسباب كثيرة، ولكن هنالك سببين مشهورين، هما أساس لغيرهما: (أولهما) أن الشركة الهندية الشرقية (إيست إنديا كمبن) أخذت تبلع وتضم جميع المقاطعات الهندية واحدة بعد الأخرى إلى ممتلكاتها، فخافت الهند على ضياع حريتها وأخذت تنظر إلى الشركة بنظر الريب والشك (وآخرهما) قهر الجنود الهندية على استعمال الخراطيش المدهونة بشحوم الخِنزير والبقر. وقد كتب عن هذه الخراطيش (أنيس) ، وكان إذ ذاك القائد العام لقوات الشركة ما يأتي: (لقد فتشت تلك الخراطيش التي كانت محل الريب فوجدت أن عذر الجنود في امتناعهم عن استعمالها كان مبنيًّا على الحق، وما كنت أتوقّع أن شحم الخنزير والبقر يوضع في الخراطيش، فأقول - ولا أبالي بلائم -: إن الشركة لم تحترم عواطف الهند الدينية) . إن هذه الخراطيش التي قهر الجنود على استعمالها كانت مدهونة بشحم البقر والخنزير، وكانت توضع في البنادق بعد قطعها بالأسنان؛ لأن بعض الأجزاء منها متين إلى درجة أنه ما كان يمكن استعمالها إلا بعد أن تقطع بالأسنان. ومن المعلوم أن الديانة الوثنية تحترم البقر كل الاحترام، والدين الإسلامي يحرم الخنزير، فحين أكرهت العساكر على استعمالها غضبت غضبًا شديدًا وهاجت وماجت، فعصى 85 جنديًّا منهم في بلدة (ميرت) وأبوا استعمال الخراطيش، فساقتهم السلطة الإنكليزية إلى المحكمة العسكرية، فحكمت على كل واحد منهم بسجن عشر سنوات بدلاً من تسكين هيجانهم ومعاملتهم باللطف والإقناع، ولو اكتفى الإنكليز بذلك لما حسب له حساب، ولكنهم لجُّوا في طغيانهم، وعاملوا هؤلاء الجنود معاملة سافلة جدًّا، وقد صوّر أحد الكُتاب الإنكليز ذلك المنظر البشع قائلاً: (سِيقَ 85 جنديًّا إلى المحكمة العسكرية، تحت مراقبة الآلات النارية، وحكم عليهم بهذا الحكم القاسي، ثم عُريت أبدانهم عن الملابس العسكرية ووضعت في أرجلهم الأغلال والسلاسل من الحديد، فكان منظرًا هائلاً حتى إن رفقاءهم الناظرين إليهم عن بُعد كانوا يتململون ويتأسَّفون على هذه المعاملة الوحشية، وكان بين المحكوم عليهم مَن خدموا الإنكليز خدمات جليلة، وأظهروا شجاعة فائقة في كثير من المعامع [2] . (وقد احتجوا على هذه القسوة، ورجوا من قائدهم أن لا يرميهم بمثل هذا الذل والإهانة، فلم يصغِ إلى تضرعاتهم، ولما لم تنجِّهم ولولتهم وبكاؤهم من العذاب المبين وتحققوا أن (لا حياة لمَن تنادي) توجهوا إلى رفقهائهم الشاخصين إليهم وصاحوا بأعلى صوتهم: (أليست فيكم غيرة وطنية؟ أليس عندكم شيء من عاطفة الأخوة والمروءة؟ نحن إخوانكم نُهان ونذل ونخزى وأنتم شاخصون؟ فنزلت هذه الصرخات المؤلمة على قلوب رفقائهم كالصاعقة، فتأثروا بها أيما تأثر، ورأوا أن يساعدوهم على الفور، ولكن وجود الآلات الجهنمية حال دون إرادتهم، فكظموا غيظهم، إلا أن الفعلة الشنيعة نفَّرت جميع الجنود الهنود من الإنكليز، فثاروا عليهم ثورة عامة بعد أن كانوا يضحون حياتهم في سبيلهم) . وقد صرح (أرورد كينج) الوالي العام للهند يومئذ بما يأتي: (لقد كان هذا الحكم الجاف القاسي بعيدًا عن الإنسانية إلى درجة أنه لا يوجد له نظير في العالمين، فكان وحده سببًا لإيقاد نار الثورة) . وقد صدق الوالي، فإنه في اليوم الثاني من المحاكمة؛ أي في 10 مايو سنة 1857 م ثار الفرسان وفرقتان من المشاة، وتوجهوا إلى السجن، ففتحوا أبوابه عنوة وأطلقوا سراح الجنود المسجونين، ثم طفقوا يحرقون بيوت الإنكليز ويقتلونهم حيثما وجدوهم، وبعد ذلك توجهوا كلهم إلى (دهلي) وفعلوا هنالك ما فعلوه من القتل والنهب. ولا عجب فقد جرت العادة أن الأمة المقهورة إذا اضطرت إلى أخذ الثأر من قاهريها فقدت توازنها العقلي، ولجأت إلى الأعمال الهمجية دون تبصر، ولكن الإنكليز المتحضرين لم يكونوا أقل همجية من هؤلاء الجنود الجهلة [3] ؛ قال فرينك تين في تاريخه ما يأتي: (كانت هذه المحاربة بين أمتين متوحشتين متجاوزتين حدود العدل والإنسانية، وكان همهما الوحيد القتل والنهب والسلب، وقد بلغا في الظلم والعدوان حدودًا متناهية يستحسن أن يسدل الستار عليها) . إن التاريخ الإنكليزي قد وارى سوآت الإنكليز، ولكنه قسا كل القسوة على الهنود، فذكر كل ما فعلوه وما لم يفعلوه، فملأ صحائفه بمئات من القصص المخترَعة لتهييج عواطف الإنكليز وحمْلهم على الانتقام من الهنود المساكين إلى آخر الدهر، وإني أقتبس من الكتاب بعض الحوادث التي أخفاها التاريخ الإنكليزي عمدًا: حادثة بشاور ألقي القبض على 120 من الجنود يوم 15 يونيو سنة 1857 م بمدينة بشاور ولم يكن أحد منهم ارتكب جناية ما ولكنهم اضطروا إلى الالتحاق بالثوار اضطرارًا، فماذا فعل بهم الإنكليز؟ ! تعرف ذلك مما يلي: كتب القائد (نكلسن) إلى (إدوارد) مدير بشاور: (إني أشفع لديك للعفو عن 55 جنديًّا من هؤلاء الجنود؛ لأن ضباطهم أكدوا لي أنهم بريئون من الخيانة. ولم يشتركوا في الثورة اشتراكًا فعليًّا، وأما الباقون من 120 - فاربطهم على أفواه المدافع، اجعلهم رمادًا) فأجاب لارنس: (إنهم لا يستحقون العفو؛ لأنهم وُجدوا في صفوف الأعداء، ومع ذلك لا أريد أن أهلكهم جميعًا، ولكن أريد أن أجازيهم جزاءًا مرًّا حتى يكونوا عبرة للآخرين. أريد أن أقتل ثلثهم، وأنتخب لهذا أشرارهم أو الذين يشكون ضباطهم منهم، فإن لم يكمل العدد من هؤلاء أكمله من الشيوخ، وأما الباقون فأعاقبهم بالسجن لمدد مختلفة أقلها السجن 3 سنوات) . وقد كتب (اللورد رابرت) إلى والدته عن هذه الحادثة - وكان يومئذ ضابطًا في الجيش -: (جئنا من جيلم إلى بشاور ماشين على الأقدام، وصرنا نقتل الثوار ونجردهم من أسلحتهم، وعندما أهلكناهم بالمدافع ارتعب الآخرون من بطشنا، وشدة شكيمتنا، أجَل؛ إن هذه لَقسوةٌ ولكن لا مناص لنا منها، ولقد أردنا أن نقنع بهذه الأعمال القاسية أشرار المسلمين، بأننا بعون الله نبقى على الهند متسلطين [4] . حادثة البنجاب سِيق رجل من الثوار إلى مدفعة كان فيها بارود زيادة عن المعتاد، فأطلق عليه النار فطار جسمه ممزقًا كل ممزَّق. وأشار الجنرال (نكلسن) في كتاب له إلى (إدوارد) قائلاً: يجب علينا أن نسن قانونًا يبيح لنا أن نحرق أو نسلخ جلود الثوار وهم أحياء؛ لأن نار الانتقام التي تتأجج في صدورنا لا تخمد بالشنق وحده، ثم إن الأمم الشرقية اعتادت أن لا تحسب للحكومات حسابًا ولا تخاف جانبها إلا إذا كانت ذات سطوة قاهرة) [5] . وكتب مدير (أَمْرِتْسَر) في ذلك العهد: (كان جميع الضباط في بنجاب يبدءون بالفظائع لإيقاع الرعب في قلوب الأهالي؛ لكيلا يتجرءوا على أخذ الثأر منا) . وذكر (لمامسن) للسر هنري كاتن عن بعض المسجونين المسلمين ما ترجمته: أتاني ذات ليلة عسكريٌّ؛ فقال لي بعد التحية العسكرية: (لعلك تريد أن ترى المسجونين؟) فقمت حالاً إلى السجن، فرأيتهم مربوطين على الأرض يتنفسون آخر أنفاسهم، وكان على أجسامهم آثار الكي بالنُّحاس المحمي على النار، فرقَّ قلبي لحالتهم التعسة، فأخرجت المسدَّس، وصرت أطلق النار عليهم واحدًا بعد آخر؛ لأخلصهم من هذا العذاب الأليم، فلما سمع (كاتن) عن هذه الحادثة المؤلمة سأل (لمامسن عما فعل مع الذين ارتكبوا هذه الأفعال الشنيعة؟ ! فأجاب (لمامسن) أنه لم يعاقبهم بشيء! الهمجية في القتل والنهب لقد كان كل عسكري هندي في ذلك الوقت متهمًا بالاشتراك في الثورة ومسئولاً عن قتل أولاد الإنكليز ونسائهم، سواء كان جانيًا أو غير جانٍ قريبًا أو بعيدًا، حتى إن الإنكليزي الذي كان قتل في دهلي يُسأل عنه مَن كان في بنجاب أو بشاور ويعذَّب أشد العذاب. وقد ذكر اللفتنينت مجدن حادثة تفتت القلوب لفظاعتها، فقال: (وأثبت ذات مرة أن الإنكليز والسيخ كانوا يطعنون عسكريًّا هنديًّا بالحراب إلا أن طعنهم لم يقتله فجمعوا الحطب وأشعلوا النار فيه، فلما اشتد ضرم النار ألقوا الهندي المسكين فيها وظلوا ينظرون إليه بفرح وسرور عظيمين!) . وأيد هذا القول المستر رسل المكاتب الخصوصي لجريدة (لندن تيمس) وزاد عليه: (إنني رأيت عظام الجنود المحروقة في ذلك المكان) . وقد احتج (رسل) هذا على تلك الأفعال الهمجية الخارجة عن الإنسانية، فكتب في مذكراته: (إن الانتقام من الجنود على طريقة همجية، مثلاً وضع المسلمين في جلود الخنازير ثم الخياطة عليهم وإدخال شحم الخنزير في أفواههم قبل قتلهم، وقهر الهندوس على أكل لحم البقر لأعمال شنيعة تشمئز منها الإنسانية كل الاشمئزاز ولا بد أنها تنتج النتائج السيئة عاجلاً أو آجلاً!) [6] ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (عثمان..)

حول النشأة الإسلامية في الهند

الكاتب: أحمد بن عرفان

_ حول النشأة الإسلامية في الهند ترجمة السيد إمام أحمد بن عرفان الشهيد مجدد القرن الثالث عشر رسالة للأستاذ السيد أبي الحسن علي الحَسَنِي ابن العلامة السيد عبد الحي ناظم ندوة العلماء (سابقًا) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فلم تزل سنة الله في عباده ولا تزال {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) أن يبعث فيهم - وقد أخذ الشيطان قيادهم، وذهب بهم النسيان مذهبه حتى {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر: 19) - مذكِّرًا مبشرًا منذرًا. فترى أن الإنسان يذكر شيئًا فكأنه لا ينساه أبدًا، ثم يُضرب عنه صفحًا فكأنه لم يكن قط على ذكر منه {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} (الكهف: 54) {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115) ، {وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} (الفرقان: 18) ، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (الأنعام: 44) ، {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف: 165) ، {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظاًّ مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: 13) ، {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} (الحشر: 19)) . فلا بد من التذكير ولا غنى عنه {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} (يونس: 71) ، {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ} (إبراهيم: 5) ، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} (الغاشية: 1) . وكان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب: 40) به أكمل الله للبشر دينه وأتم عليهم نعمته. مجددو الأمة ومصلحوها بعده قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم مَن خالفهم) رواه الشيخان وغيرهما، وفي السنن: (إن الله يبعث على رأس كل مائة عام مَن يجدد لهذه الأمة أمر دينها) رواه أبو داود وغيره. فلم يزل في هذه الأمة مَنْ جدد لها أمر دينها، أيقظها وقد طال بها الكرى، وبث فيها روح الحياة والعمل. وأرجو أن يكون السيد الإمام أحمد بن عرفان مجدد القرن الماضي، وأنا على ثقة وبصيرة إن شاء الله، فمنه كان عصر النهضة الإسلامية، وإليه يرجع فضل النشأة الحاضرة. حالة الهند العامةفي عهد نشأته انتهت الحرب السياسية التي دارت بين المسلمين واليسوعيين في القرن الثامن، وذهبت على أثرها السياسة الإسلامية؛ إذ ذهبت الحمية الإسلامية، وسكرة العزة الملية، وفقد العالم الإسلامي نشاطه وروحه ولم يبق يومئذ من الإسلام إلا اسمه ومن الدين إلا رسمه. طرأت على الهند حوادث سياسية، فكثر المفسدون وأخذوا يعيثون فيه فسادًا، ويغرسون بذور الفتنة استئثارًا بالإمارة، فلم يكن فيه من يكبح جماحهم ويقطع دابرهم، فحدثت ثورة، وبغوا وطغوا وأكثروا فيه الفساد، وانقطعت وسائل الراحة والطمأنينة. حتى إذا احتلت الهند الإنكليز لعبت يدهم بسياسته، وساروا على قاعدة: (فَرّق تَسُدْ) وأوقدوا نار العداوة بين أمراء الهند وملوكه حتى صار بأسهم بينهم شديدًا، وصار يقتل بعضهم بعضًا، وكانوا مع الحروب الداخلية يحاربون عدوًّا آخر؛ وهو الفرنساويون، فانكسروا وانكسر الفرنساويون وآل الأمر إلى الإنكليز. أما ملوك دهلي [1] فبقوا كأعجاز نخل خاوية، أو خشب مسنَّدة حتى إذا استشهد المغفور له السلطان طيبو الذي حارب الإنكليز، ودفع عن المسلمين سنة تسع وتسعين وسبعمائة وألف (م) ضاقت على المسلمين أرض الهند وكادت تلفظهم. إن مما امتاز به العرب عن غيرهم أنهم إذا دخلوا قرية غيَّروا دينها ومدنيتها واجتماعها ومعاشرتها وآدابها ولسانها من غير جبر ولا استكراه، وانقاد أهلها رضًا وطاعة لهم، وحبًّا وكرامة لطاهر عواطفهم الملية، ولكرمهم وتقواهم وحسن معاملتهم لهم. وأما ملوك الهند وفاتحوه فقد خلوا من تلك العواطف الملية الطاهرة، وإنما ألجأتهم إليه مطامعهم، فزحفوا عليه وفتحوه، وحكموا ما شاء الله أن يحكموا. فداس أكثرهم أحكام الإسلام وشرائع الدين كما يظهر من أعمالهم المنكرة التي يأباها كل ذي ضمير حي فضلاً عن المتدينين. فالتيموريون لما استقرت بهم الحكومة أراد بعضهم أن يستتب أمره فلم يجد بُدًّا من معاضدة الوثنيين له، فألان جانبه لهم حتى ازورَّ جانبه عن المسلمين، ومال إليهم ميلاً شغله عن الدين، بالرغم من المتدينين، فتزوج فيهم، وخَرَّ لأوثانهم، وصار كأنه واحد منهم لا يخيل لأحد أنه مسلم، ثم أمرهم بعبادة شخصه، فخروا له سُجدًا وكفروا له، فهذا كان شأن الحكومة الإسلامية في الهند في ربيع حياتها، أو ريعان شبابها، فما ظنك بها في وهنها وهرمها؟ ! اتخذوا القرآن هزؤًا، بل كان تلقينه والاستمساك به ذنبًا لا يُغفر! ، فلم يكن يوجد للقرآن ترجمة في أي لسان إلا الترجمة الفارسية المنسوبة إلى الشيخ سعدي رحمه الله حتى إن الشيخ العلامة ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي حين ترجمه خشي على نفسه واضطر أن يهاجر من الهند. وأما الحديث فلم يبق منه إلا روايات وأساطير كأساطير ألف ليلة وليلة كانوا يسجدون بين يدي القبور سجودهم بين يدي الله، فكان القبر قبلتهم التي يتوجهون إليها، وملجأهم الذي يلجئون في شدائدهم وحاجاتهم إليه، فكانوا يزينونه ويزخرفونه ويطوفون به، ويعتكفون عليه، وكانت تنعقد عليه الأسواق وتجتمع عنده المواكب، وكل أمير رضي بشيخه رائدًا، وإلى النجاة قائدًا، حتى إذا توفي أحدهم دفنت معه صحيفة عليها اسم شيخه ونسبه ظنًّا أنها تقيه سوء العذاب! ثم المتصوفون - تصوفًا مبتدعًا - فأحلوا ما حرم الله وجعلوا المنكر معروفًا، والباطل حقًّا، واعتدوا وأسرفوا، واتبعوا أهواءهم، فضلوا وأضلوا، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتخذوا دينهم لهوًا ولعبًا، ولذةً وطربًا، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، وكان الإسلام يومئذ كالمسيحية، ما هي إلا أوهام، ومعتقدات وأسماء سموها استغناءًا بها عن الأعمال. (لها بقية)

الشيخ محمد عبد العزيز الخولي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ محمد عبد العزيز الخولي رُزئت مصر، بل نهضة الإصلاح الإسلامي في هذا العصر، باغتضار الشيخ محمد عبد العزيز الخولي في شرخ شبابه وغضاضة إهابه، وغضارة معيشته، وصولة مجاهدته، بعد مرض فجأه على غرة فأقصده، بجهل الطبيب كنهه وعلاجه، لاستكماله ما كتب الله له من العمر، وإذا قُضي الأجل عمي البصر، وضاعت الحيل، وخاب الأمل. مات الشاب الذي فاق الشيوخ حكمةً وعلمًا، وفات الكهول همةً وثباتًا وحِلمًا، وبَذَّ الشباب نجدةً وإقدامًا. مات خطيب مصر المفوَّه، وواعظها الديني المؤثر، المبشر المنذر، الذي تخشع لوعظه القلوب، وتسيل الغروب، وتجيش الصدور، وتستهل الشؤون. مات المصنف المدرس الصحيح العلم، الجيد الفهم، المتحري لهدى القرآن الحكيم، وهدي محمد خاتم النبيين، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم في التزام سنته، والنصح لأمته. نعم، مات أخونا وصديقنا وأحد أركان جماعتنا دعاة الإصلاح على المنهج الذي تقتضيه حال الزمان، من هدم الخرافات والبدع، وإقامة قواعد السنن، والقيام بحقوق الروح والجسد، واستقلال العقل والفكر، والجمع بين الدين والعلم، والعمل النافع في عمران الدنيا والاستعداد للآخرة، فحزنت لموته القلوب، وفاضت الدموع، وإنا على فقده لمحزونون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. كان أول عهدنا بمعرفته سنة 1331؛ إذ اشترك في مجلة المنار وصار يتردد علينا للمذاكرة والبحث، وكان طالبًا في مدرسة القضاء الشرعي، فكانت قراءته للمنار وزياراته لنا في بعض الأحيان مقوية لاستعداده لمعرفة حقيقة الإسلام، والاهتداء بهما للعمل والتعليم على منهج الإصلاح. ولما حان وقت امتحانه النهائي لنيل شهادة المدرسة، وكان لا بد له من كتابة رسالة في أحد المباحث العلمية الدينية للتقديم بين يدي الامتحان اتباعًا للعادة الملتزمة - اختار بحث السنة وعلومها وتاريخها، فكتب رسالته التي سماها (مفتاح السنة - أو تاريخ فنون الحديث) وكان يستشيرنا في تأليفها وفي الكتب التي يستمد منها، وفي الوقوف على أخبار المشتغلين بعلم السنة في الأقطار الإسلامية في عصرنا. ونشرنا له هذه الرسالة في مجلد المنار الثاني والعشرين وطبعناها مستقلة في مطبعة المنار سنة 1329 (1921 م) وقدمها للمدرسة فنالت حسن القبول. وقد نَوَّهَ رحمه الله تعالى في أواخر هذه الرسالة بما كان من تأثير مجلة المنار في نشر السنة والاهتداء بها؛ إذ قال في فصل (حال السنة في عصرنا الحاضر) ما نصه (ص61 من الطبعة الأولى) : (ولما كانت مجلة المنار سلفية المنهج، وكانت عنايتها موجهة إلى محاربة البدع، والرجوع بالدين إلى ما درج عليه الرعيل الأول من السلف، وكان ذلك داعيًا للعناية بالسنة والبحث فيها وفي فنونها، والاستدلال بها في الفتاوى وغيرها - كان لها أثر صالح في نشر السنة وتكثير سواد الطالبين لها في الأقطار الإسلامية المختلفة) اهـ. وبقي لنا عليه دَين أدبي كان يعد بوفائه من غير مطالبة، وهو تقريظ تفسير المنار كما قرظه أخص إخوانه من علماء الأزهر وغيرهم، وكان يسوِّف فيه؛ ليجد فرصة لكتابة شيء لم يسبقه إليه غيره، فرحمه الله وعفا عنه. خلاصة ترجمته قال صديقه ورفيقه في الطلب والتدريس الأستاذ الشيخ مصطفى محمد خفاجي المدرس في تجهيزية دار العلوم في تأبينه إياه في حفلة المدرسة (في 26 ذي الحجة) : (وُلد رحمه الله ببلدة الحامول من أعمال المنوفية سنة 1310 من الهجرة، ولما أتم حفظ القرآن وتجويده التحق بالجامع الأزهر كسائر أهل بلده إذ ذاك (كذا) . ولكنه لم يرُقْه ما كان عليه من الفوضى، فولى وجهه شطر الإسكندرية وانتسب إلى معهدها؛ إذ كان على شيء من حسن النظام والدقة، فقضى به أربع سنين إلا بعض السنة، ثم تاقت نفسه الوثَّابة وآماله البعيدة إلى الالتحاق بمعهد يكون أدق نظامًا وأعلى إحكامًا، فكانت مدرسة القضاء الشرعي طِلبته، ومغناها بُغيته، فألقى عصاه بذُراها، وانتظم في طلبتها وذلك سنة 1329هـ الموافق سنة 1911 ميلادية وما زال بها الطالب المجد والجندي القوي حتى أتم تسع السنين. ثم غادرها إلى حلبة الحياة العملية وقد اتسعت أمامه الأرجاء، وانفتح لمداركه وآماله مغلق الأنحاء، فعُين مدرسًا بالمعهد الذي تخرج فيه سنة 1922. ولما أنشئ به قسم التخصص في الشريعة الإسلامية، كنا ممن اختير ليدرس في هذا القسم، ولما عصفت الأعاصير بذلك المعهد الشامخ نقلنا إلى مدرسة دار العلوم، حتى إذا كان صيف العام الماضي، نقلنا إلى المدرسة التجهيزية حيث نحن الآن، ثم غادرنا إلى الدار الآخرة قبل شهر كامل من اليوم) (أي في 25 ذي القعدة) . ثم ذكر خلاصة ما علمه بالمعاشرة، والمزاملة في المدرسة، من شمائله وآدابه وأخلاقه، وأسلوبه في المدرسة، ومنزعه في الخطابة والوعظ، وصلته للأرحام، ووفائه للخلان، وغيرته على الدين، واهتمامه بأمر السلمين، وذكر أنه لقي في طريقته الوعظية التي جرى عليها في المساجد معارضة من الخرافيين الجامدين، فنصره الله عليهم. وأقول: إن الخطابة الدينية قد ارتقت في هذه السنين بمصر ارتقاءً يبشر بخير عظيم، فنبغ فيها طائفة من علماء الخطباء العارفين بحال الزمان، يُرجى فيهم الخير الكثير في هداية العوام، الذين زادهم جهلاً على جهلهم، وضلالاً على ضلالهم خطباء الفتنة الذين يلقون على منابرهم خطب الدواوين المعروفة، وكان فقيدنا رحمه الله تعالى في الذروة منهم. ومن عرف كنه ما هبطت إليه الخطابة الدينية في المساجد الإسلامية بموت العلم وإفساد الملوك والأمراء الفاسقين للعلماء الرسميين وأنها صارت في هذا العصر مشوهة للإسلام في نظر المتعلمين المصريين، ومعززة للخرافات في أنفس العوام الجاهلين - علم أن مثل فقيدنا اليوم خير لدينه وأهل ملته من ألف عالم من هؤلاء المتأخرين الجامدين، حتى من يعدونهم من كبراء المصنفين، كالشرقاوي والباجوري والإنبابي والسقا وأضرابهم. وكتابه في الوعظ والخطابة، ورسالته في تاريخ الحديث أنفع من كل تلك المصنَّفات ودواوين الخطب التي ليس لأحد منهم تحقيق مسألة دينية نافعة. فرحمه الله رحمة واسعة، آمين.

تأخر صدور المنار وكثرة مواده المتأخرة والمنتظرة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأخر صدور المنار وكثرة مواده المتأخرة والمنتظَرة عرض لنا في أوائل شهر شوال من العوارض المختلفة عامة وخاصة ما أمسك بنا عن كتابة أي شيء للمنار وامتد ذلك إلى ما بعد عيد النحر، ولا حاجة إلى بسط العذر {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب: 38) وقد سبق لنا مثل هذا مما جعل أول سنة المنار يتأخر عن شهر المحرم إلى أن عاد في العام الماضي، ولنا الرجاء في الله عز وجل أن نصدر في عام 1350 اثني عشر جزءًا فتعود سنة المنار في 1351 إلى أول المحرم، ونجعل ما فات من الشهرين في سنة 1349 بدلاً من إجازة السنة الجديدة إن أحيانا الله في عافية وسعة بفضله وكرمه وحده كما عودنا. هذا، وإنه قد كثرت علينا مواد المنار، فعلينا في العام الجديد أن نتم مقالات (المساواة بين النساء والرجال) التي كتبنا منها ثلاث عشرة مقالة. وما هو أهم منها من إتمام بحث الربا وما يترتب عليه من أحكام المعاملات المالية في هذا العصر، وكذا نشر محاضرتنا في موضوع التجديد والمجددين التي ألقيناها في رمضان سنة 1348 في نادي الجمعية الجغرافية الكلية، وكثرت مطالبة الناس لنا بنشرها؛ لأنها كانت الفاصلة في هذه المسألة التي كان كثر الخوض فيها. ولدينا أيضًا موضوع المناظرة في مسائل الخلاف بين أهل السنة والشيعة، وقد أرسل إلينا الأستاذ السيد عبد الحسين شرف الدين مقالته الأولى فيها، ولكنه لم يلتزم فيها ما اشترطناه عليه في جواب اقتراحه المنشورين في هذا الجزء، ولا بد مع هذا من نشرها وبيان ما نراه في تحرير موضوع المناظرة. وكذا مسألة تنكيل إيطالية بإخواننا مسلمي طرابلس وبرقة وهتكها لدينهم وعِرض نسائهم! وقد نجم في أواخر العام المنسلخ قرن فتنة جديدة في الإسلام لا بد من تقديم الكتابة في دفع ضررها على كل ما ذُكر، وهي أن رجلاً جاهلاً مغرورًا تجرأ على وضع حواشي لكتاب الله تعالى وطبعها مع المصحف الشريف وسماها تفسيرًا للقرآن بالقرآن وما هي إلا تحريف قبيح يراد به هدم دين الإسلام، واستبدال دين جديد به. وقد بدأت بتنفنيد بدعته - التي هي ردة صريحة مقرونة بدعاية قبيحة - بنشر مقالات في جريدة الأهرام التي كانت أول مَن فتح باب البحث في هذه الموضوع.

إيطالية شر دول الاستعمار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إيطالية شر دول الاستعمار كانت دول الاستعمار شرًّا على الشعوب التي يستعمرون بلادها وحدهم فصارت شرًّا على جميع البشر، فإن التنازع والتحاسد فيه قد أغرى بينها العداوة والبغضاء أو زاد نارهما ضرامًا، فكان أفزع أثر له في العالم هذه الحرب الأخيرة التي هي مصداق لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25) فقد أصاب سعيرها جميع البشر، ولا تزال عواقبها السوءَى موضع الشكوى في العالم كله من ضيق المعايش والعسر المالي، وهو لم يزد هذه الدولة إلا طمعًا وجشعًا في سلب الأموال، وضراوة بسفك الدماء، والاستعداد للحرب المدمرة للعمران. وكان المعروف أن شر هذه الدول في الاستعمار فرنسة فإن خطتها في مستعمراتها إفساد عقائد أهلها وأخلاقهم وآدابهم وحرمانهم من الثروة ومن جميع العلوم الدينية والدنيوية، ليرضوا بأن يكونوا كالبهائم والدواب في هذه المزارع الفرنسية يحرثون ويزرعون وينقلون ويبنون لتوفير أموال سيدتهم وتمتيع شعبها الفاسق في الشهوات واللذات. ثم إذا احتاجت إلى الحرب والقتال لتذليل أبناء ملتهم أو للدفاع عن نفسها تسوقهم إلى ذلك كما تسوق الخيل والبغال. ما كان يخطر على قلب بشر أن يوجد في البشر شر على البشر من هذه الدولة ولكن كان هذا قبل استيلاء شقيقتها اللاتينية على طرابلس وبرقة وقبل عهد وزيرها الفاشيستي السنيور موسوليني الذي شبَّهه الملك ابن السعود - كما قال لنا - بمِرْجل من الديناميت على أتون من النار، قد قارب الانفجار، فلا يدري أحد إلا الله ما يكون لانفجاره من فظائع الآثار. ظهرت هذه الدولة في هذا العهد بأفظع ما عُرف في التاريخ الكاثوليكي وحروبه الصليبية من مظاهر الحماسة الدينية، وأفظع ما يؤثر فيه من أخبار الأثرة اللاتينية، وشر ما سطر من عار المظاهر النيرونية، فخطتها الآن نحو الإسلام واستئصال العرب من بر طرابلس وبرقة بالتقتيل والتجويع والإجلاء للرجال، والتنصير للأطفال، والمحلل لذلك عندها أن نسل شعبها من سوء حظ البشر كثير لا تسعه بلاده فيجب أن تنتزع من بلاد الناس ما تقدر على انتزاعه وتستأصلهم منها لإسكانه فيها، وأنه لا بد لها من إعادة المستعمرات الرومانية كلها إلى رومية … (وسيرى القارئ بعض فظائعها في هذا الجزء) .

إلحاد في القرآن ودين جديد بين الباطنية والإسلام ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إلحاد في القرآن ودين جديد بين الباطنية والإسلام {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) طبع القرآن المجيد في خاتمة هذا العام، طبعة جديدة مشوهة حواشيها بتحريف سخيف لآياته في العقائد والأحكام، وُصف كذبًا وزورًا بأنه تفسير للقرآن بالقرآن وبهذا الوصف بِيعت نسخ كثيرة منه قبل طبعه باسم الاشتراك، لمَن صدقوا أنه ليس فيه إلا تفسير كل آية بالدلالة على كل ما في معناها أو موضوعها من الآيات. ومن هؤلاء بعض أهل العلم الديني وفي مقدمتهم صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية السبَّاق إلى اقتناء المطبوعات الجديدة المفيدة للمطالعة أو المراجعة. وعرض الاشتراك فيه على آخرين بوصف آخر، فقبلوه به، وهو أنه تفسير عصري سياسي يقيم الحجج من القرآن على بطلان الحكومة الشخصية الملكية وذم استبداد الملوك (!) وإثبات الحكومة الوطنية النيابية (!) ويزيل من طريقها عقبات التشريع المدني الذي وضعه الفقهاء وغيرهم من علماء الدين حتى ما كان منها منصوصًا في القرآن كالحدود الشرعية وتعدد الزوجات والتسري، وكل ما مستنده السنة النبوية. بل يبيح لهم تعمُّد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بآرائهم وما يدعون من المصلحة بأهوائهم. وعرض على بعض الماديين بأنه تفسير مادي يتأول لهم ما ورد في عالم الغيب من الجن والشياطين والملائكة ومعجزات الأنبياء والمرسلين، فيكفيهم من الإسلام أن يتعرفوا بألفاظ القرآن، ويتصرفوا في معانيها بما يشاءون غير مقيدين باللغة العربية في مفرداتها ولا تركيبها ونظم أسلوبها، ولا بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه فيها، ولا مَن دونهم من أئمة الحديث والفقه بالأَوْلى. ويلزم من هذا بالأَوْلى ألا يلتزموا كل ما قبله هذا الملحد من أحكام القرآن غير محرف؛ إذ ما جاز له من الرد والتأويل بالهوى يجوز لغيره على قاعدته في اختلاف معاني القرآن باختلاف الزمان والمكان وهو ما صرح به في ما نشره بالأهرام. ثم تم الطبع وظهر الكتاب، فوقع في يد فضيلة شيخ الأزهر فبادر إلى مخاطبة الحكومة بمصادرته لتضمنه مخالفة ما أجمع عليه المسلمون من دين الله تعالى. فصادرت الحكومة ما كان في مطبعة الحاج مصطفى البابي الحلبي وأولاده منه وما وجد في إدارة البريد أو سكة الحديد مهيئًا لنقله. ثم نشرت جريدة الأهرام حديثًا بعد حديث لفضيلة شيخ الأزهر في شأنه ليتهما لم يُنشرا، فإنهما على كونهما لم يبينا للناس أهم ما يجب بيانه من تحريف تلك الحواشي لكتاب الله، واشتمالها على ما هو ارتداد صريح عن دين الله، لا يحتملان التأويل لغةً ولا شرعًا، قد تضمنا اتهام بعض علماء الأزهر المدرسين في قسم التخصص منه - وهو أعلى أقسامه - بنشر هذا الكتاب، ويلزم منه موافقة صاحبه على ما فيه، والتصريح بأن المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية قد قرر نقل اثنين من هؤلاء المتهمين من قسم التخصص إلى معهد أسيوط من باب الاحتياط قبل التحقيق في أمرهما. فبهذا وذاك فهم عامة الناس وبعض خاصتهم أن هذا التفسير الجديد للقرآن موضوع خلاف بين علماء الأزهر أو بين شيخ الأزهر وبعض مدرسي القسم الأعلى فيه، لا مما يتفق علماء الملة على كونه مخالفًا لإجماع المسلمين، وقد نشرت الجرائد من عهد قريب لبعض العلماء إنكارًا على بعض ما نُشر في مجلة الأزهر والمعاهد الدينية (نور الإسلام) مع الوعد بتتابع النشر، (ونحن قد جاءتنا رسائل متعددة في الرد على هذه المجلة في مسائل تتعلق بالعقائد ومقام الرسول صلى الله عليه وسلم وحديثه) ، فيكون للناس عذر إذا ظنوا أن الخلاف في التفسير الجديد كالخلاف فيما تنشره مجلة المعاهد الدينية مما يعهد مثله دائمًا بين العلماء. ولما نُشر في جريدة الأهرام وغيرها أسماء هذين المدرسين (وهما الشيخ محمد العدوي والشيخ عبد الجليل عيسى) قويت الشبهة في اتهام الأستاذ الأكبر إياهما لعلم المشتغلين بالقضية الوطنية - أو جمهور الناس - أنهما من الميالين إلى الوفد المصري والمتصلين بأكبر زعمائه بصداقة سابقة، وأنهما من جماعة العلماء الذين أنكروا على فضيلة شيخ الأزهر ومَن معه من هيئة كبار العلماء الرسميين - ذلك المنشور المشهور الذي نشروه لتأييد الوزارة الإسماعيلية الحاضرة، ووضعوا بيانًا آخر في موضوع الشقاق في القضية الوطنية، ولم يتمكن الشيخ من منع نشرهم له إلا بجهد وعناء عظيمين. فبهذا وجد واضع الحواشي البدعية الإلحادية طريقًا ممهدًا للرد على شيخ الأزهر بأنه إنما سعى لدى الحكومة التي ينصرها بأن تصادر تفسيره لتأييد سياستها لا للدفاع عن الدين، وطعن على فضيلته بأنه لم يعهد منه النضال عن الإسلام والمسلمين، ويخشى أن يصدقه في هذه الدعوى أكثر المصريين، مستدلين - كما استدل - بسكوت الشيخ عن الإنكار على أعمال الفرنسيس في المغرب الأقصى وإيطالية في طرابلس وبرقة، والحق أن هذا لا يقاس على ذاك وإن كان واجبًا وضروريًّا؛ فإن سكوت الشيخ - وهو رئيس العلماء الدينيين - عن هذا الكتاب يعد إقرارًا له، وإنكاره إياه يقتضي منع نشر الإلحاد والفساد باسم القرآن، وأما الإنكار على عدوان الدولتين على الإسلام والمسلمين فقصاراه أنه يقوي التكافل والتعاون بين المسلمين في الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم، ولكنه لا يمنع ذلك العدوان إلا إذا ترتب عليه عمل كبير، وإنا لنعلم أنه وجد من الناصحين مَن حذر فضيلة الشيخ الاستهداف لهذه التهمة وسوء تأثيرها في سمعته. وشبهة الشيخ على هذين الأستاذين - كما علمناه من حديثنا مع فضيلته - أن الرجل كان مصاحبًا لهما، ونحن نعلم أنه كان ينزل ضيفًا على أحدهما وعلى المرحوم الشيخ محمد عبد العزيز الخولي خير أطباء مصر وأنفع وعاظها، ويلقى عندهما أو معهما سائر إخوانهما من المدرسين الممتازين في الأزهر باستقلال الفكر، والإنصاف والأدب في البحث، والدفاع عن الإسلام بدلائل العلم، ونعلم أيضًا أنهم كانوا يناقشونه مناقشة علمية في فهمه الشاذ الذي نذكره قريبًا كيف تدرج فيه، ولم يكونوا يثنون عليه بمثل ما نقل إلينا من ثناء الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر عليه في محفل من المهنئين له بالرياسة، ولا كانوا يعرفون منه كل هذا الإلحاد الذي قاءه في هذه الحواشي الجديدة. ويا فضيحة الأزهر إن كان هؤلاء يوافقونه فيه، وإني لأشهد أنهما أنكرا أمامي كل ما أنكرته عليها. لهذا كله افترص هذا المبتدع ما نشرته الأهرام من حديثي الشيخ لإعلان تفسيره هذا واتهامه فيه وتهديده له، وصرح - بما نشره في الأهرام وغيرها -بأنه مبطل للحكومة الحاضرة بدلائل القرآن وأنه سيبين هذا للناس. ومن المعروف عنه أنه من غلاة أنصار الوفد، وقد سبق تأييده له من طريق الدين، بما فيه تحريف ظاهر للقرآن المبين، وهو يرجو أن يكافئه الوفد إذا عادت له الكرة المرجوّة إلى الحكم، ولهذا تجرأ على تهديد شيخ الأزهر في رده عليه، وسنبين خطأ ظنه في موافقة الوفد له على إلحاده، وخيبة أمله في ازدلافه إليه بالباطل. صفة الإلحاد الجديد في تفسير القرآن: لهذا الضعف الذي وجدته في مقاومة شيخ الأزهر لهذا الإلحاد، ولما رأيته من الضعف فيما نشر في الجرائد من إنكار هذا الإفساد - وجب عليَّ أن أبادر إلى بيان ما ينبغي أن يعلمه المسلمون في هذه الفتنة الجديدة، بما لا تحوم حوله الشبهة، ولا تدنو من قائله الظنة، وأنشره في الأهرام قبل نشره في المنار، وقبل أن يكثر أنصارها من الجاهلين وأصحاب الأهواء الإلحادية والسياسية. فأقول: (أولاً) إن هذه الحواشي (الهوامش) القليلة المبهمة لا يصح أن تسمى تفسيرًا بوجه من الوجوه وخاصة ما سماه (تفسير القرآن بالقرآن) ؛ فإنه على اعتماده فيه على فهمه الشاذ المخالف للغة والشرع - وهما مادة كل تفسير - يحيل فيه عند أكثر الآيات التي يكتب شيئًا بإزائها على آيات متعددة وعلى سور كثيرة لا يمكن أن تكون بمعنى الآيات أو الآية التي جعلها مفسرة لها، وقصاراه أن يكون في بعضها مسألة منها، وأكثر الآيات لا يفسرها بشيء. وقد فتحت المصحف الآن لأجل كتابة شاهد على ما قلت؛ فجاءت أمامي سورة الجن، فإذا هو قد كتب في حاشيتها ما نصه: (6- 10) : اقرأ الصافات وتدبرها آية آية ثم الأعراف إلى 38 و 39 وما بعدها إلى آخرها ثم سبأ وغافر وإبراهيم والأنعام ويس والشعراء ثم الإسراء والكهف والحجر والرحمن والنمل وفصلت والذاريات وأواخر الأحزاب، ثم هود والسجدة والناس، ثم الفاتحة ثم 146 و165-167 في البقرة. بعد هذا تفهم أنه يطلق الجن والجِنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين، ويعبر عن الإنس بسائر الناس المقلدين، والتابعين المستضعَفين. اهـ. بحروفه. هذه الحاشية تقنع كل مَن له مسكة من العقل - أن كاتبها ليس له مسكة من العقل، ولا شمة من العلم، وأنه لا يفهم ما يكتبه هو، فكيف يفهم كلام الله تعالى؟ ! الذي يتوقف فهمه على إتقان اللغة العربية، وسعة العلم بالعلوم الشرعية، وهو لم يؤتَ منهما شيئًا له قيمة. أمر مَن يبتليه الله تعالى برؤية (هوامشه) أن يقرأ عشرين سورة من السور الطوال والمئين وطوال المفصل ووسطه وقصاره بترتيب معين، عطف بعضه بثم وبعضه بالواو، ثم بقراءة ثلاث آيات من البقرة بعد قراءة الفاتحة وقال: (بعد هذا تفهم أنه (أي الله عز وجل) يطلق الجن والجنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين، ويعبر عن الإنس بسائر الناس المقلدين، والتابعين المستضعفين) . إن في هذه العبارة من ضروب الجهل ما يربأ الإنسان بكرامة نفسه ويضن بقيمة وقته أن يضيع شيئًا منه في شرحها وبيانها؛ إذ لا يوجد عامي ولا خاصي يتوهم أن فيها شبهة على دعواه فنحاول ردها رحمة به، وحسب الأمي أن يفتش في سورة الفاتحة التي يحفظها كل مسلم عن صحة دعواه التي لا نعرف في اللغة اسمًا ولا وصفًا يليق بها. وإنما ذكّرني ذكره الفاتحة فيها ما استنبطه غلام أحمد القادياني مسيح الهند الدجال من الدليل منها على مسيحيته، وما استنبطه منها أتباعه من بقاء النبوة والوحي بعد خاتم النبيين، بل دعوى هذا المفسر الجديد أبعد عن اللغة العربية من دعوى أولئك الأعجمين؛ لأنه أجهل بها منهم. وأقول: (ثانيًا) إن ما ذهب إليه من تحريف آيات الله في الجن كما رأيت آنفًا وفي الملائكة وفيما أيد الله به رسله من الآيات الكونية كعصا موسى وإحياء عيسى للموتى وإبرائه للأكمه والأبرص بإذن الله تعالى وغير ذلك وزعم أن هذا من فهم القرآن الذي تقتضيه علوم هذا الزمان - قد سبقه إليه ملاحدة الباطنية منذ أكثر من ألف سنة، فليس هو مما أفاضته عليه فلسفة هذا العصر وعلومه المادية في شيء، وعهدنا به أنه لا يعرف من هذه الفلسفة ولا من هذه العلوم شيئًا، إلا ما قد يراه في بعض الصحف وقلما يفهمه. وقد كان أولئك الباطنية ممن حذفوا الفلسفة الطبيعية والعقلية والعلوم الرياضية، وأتقنوا علوم اللغة العربية، كما يرى القارئ في كتاب رسائل إخوان الصفا من كتبهم؛ ولذلك انخدع كثير من المتعلمين بدعايتهم التي أرادوا بها تحويل الناس عن دين الإسلام بالانتقال البطيء من درجة في التأويل لنصوص القرآن والحديث إلى درجة، ولم يفاجئوهم بمقصدهم دفعة واحدة. ما أ

الطريقة المثلى لعمران الحجاز الاقتصادي

الكاتب: شكيب أرسلان

_ الطريقة المثلى لعمران الحجاز الاقتصادي من الرحلة الحجازية الموسومة (بالارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) للأمير شكيب أرسلان إن الحجاز فيه بقاع زراعية هي في الدرجة القصوى من الخصب والزكاء ولكن ينبغي لها المال والعلم فلابد من بناء السدود كما كانت من القديم ومن حفر الآبار الارتوازية لاستنباط المياه، ومن الاعتماد في السواني على الآلات الرافعة البخارية (المواتر) وهناك طريقة رأيتها في الصيف الماضي في جزيرة ميورقة وهي الدواليب الهوائية تدور بهبوب الريح فترفع الماء ويتصبب إلى الصهاريج، ولا يتكلف عليها صاحبها زيتًا ولا فحمًا. فإذا وجد الماء وجد من الخصب والخير والمير في الحجاز ما لا يوجد في قطر آخر. وأما المال اللازم للمشروعات الزراعية المذكورة فله طريقان: (إحداهما) أن تُنظَّم الميزانية المالية لحكومة الحجاز تنظيمًا حسنًا ويفرز منها جانب وافٍ لمصلحة الزراعة، فتأخذ هذه كل سنة بمشروع وتقوم بإنشائه من مال الخزانة ثم تستوفي ذلك من الأهالي المنتفعين على أقساط معلومة مؤجلة إلى عدة سنوات بحسب جسامة المشروع. (والثانية) أن تتقدم لهذه الأعمال شركات إسلامية بحتة من حجازيين ونجديين ومصريين وشاميين وهنود وأندونسيين وغيرهم وتعطيها حكومة الحجاز بها امتيازات إلى آجال معينة، وهذه الشركات هي التي تبني السدود وتستوفي على الري شيئًا معلومًا من الزُّرَّاع، أو تحفر الآبار الارتوازية وتأخذ بدل العمل مع الربح الذي يكون وقع عليه الشرط، أو تقدم المواتر لأصحاب السواني وتأخذ ثمنها منجّمًا على عدة سنوات وما أشبه ذلك [1] . ويوجد عدا الزراعة منبع عظيم الرزق في الحجاز بل في كل جزيرة العرب هو المعادن. فإن غنى الجزيرة بالمعادن موصوف معروف عند جميع الأمم من قديم الدهر حتى إن المؤرخين أجمعوا على أن حضارة هذه الجزيرة الباهرة في الحقب القديمة إنما قامت بأمرين: (أحدهما) نقل متاجر الهند والشرق الأقصى إلى الغرب بموقع العرب بين الاثنين. (والثاني) ثروة المعادن التي تكنها أرض الجزيرة. فينبغي الآن وقد مضى وقت الفتوحات وصرنا لا نطمح إلا إلى حفظ الموجود بيدنا، أن نَأْرِز إلى الجزيرة التي هي مهد العرب المنتشرين في أقطار المعمور جميعًا ونجعلها الكهف المانع، والأصل الجامع، ونستخرج كل ما فيها من عيون الحياة الكامنة، حتى تصون نفسها، وتنجد أخواتها التي انبسطت عليهن أيدي الاستيلاء الأجنبي، وأصبحن لا يملكن لأنفسهن أمرًا، فتزحزح عنهن هذا الرق الذي يرسفن في قيوده، وتتم بذلك الجامعة العربية التي هي نكتة المُحَيَّا، ونشيدة آمالنا في هذه الدنيا. ويجب أن لا ننسى أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله. فقد كانت معادن الجزيرة في القديم من أغزر منابع ثروتها وعزها وارتقائها وهي لا تزال هي هي لا ينقصها إلا الإرادة والعمل. لقد يقال: إن استثمار المعادن ليس بأمر سهل وأنه إن أنشبت الشركات الأوربية مخالبها في هذه المعادن جنينا منها السيطرة الأجنبية، والذل، والندامة فالأفضل أن نكون فقراء أحرارًا ولا نكون أغنياء أرقاء. ولن نكون أرقاء وأغنياء أبدًا؛ لأن الثروة لا تجتمع مع فقد الاستقلال. وهاؤم أهل المغرب والجزائر ... وتونس عندهم من معادن الفوسفات وغيرها ما يقوَّم بالمليارات وليس بأيديهم منه شيء حتى كأن ذلك ليس في أرضهم. كل هذا التعليل صحيح لا اعتراض عليه. وأحسن لنا أن نبقى فقراء مستقلين من أن يبتلعنا الاستعمار الأجنبي بواسطة معادن نرجو في استثمارها اليسر، فيئول بنا الأمر إلى الخسر. ولكن هذا التعليل لا يحل المشكل، ولا يجوز لأمة عاقلة رشيدة أبية تبغي الحياة مثلنا أن تعول في قضية ذات بال كهذه على حل سلبي صرف، نظن أننا قد أجبنا به ضمائرنا الناشزة، وسكَّنَّا به خواطرنا الثائرة، على حين أنه الحل الذي يليق بالأمم التي استوى عندها الماء والخشبة والتي لا تريد أن تعمل شيئًا بل تنظر قضاء الاستيلاء الأجنبي أن ينفذ فيها. أقول في تعليل ذلك: (أولاً) إن الذين يقترحون استثمار هذه المعادن الثمينة لا يشيرون بإعطاء أقل شيء منها لشركة أجنبية أو لشركة مؤلَّفة من مسلمين هم تبع لدولة أجنبية غير مسلمة، بل يشيرون بإعطاء الامتيازات لاستثمارها إلى شركات إسلامية مرجعها حكومات إسلامية، ومما لا نزاع فيه أن الشركات التجارية في بلاد الإسلام قليلة وأن رءوس الأموال قليلة أيضًا. فالمسلمون لم يتعودوا أسلوب الشركات في التجارة فضلاً عن أن ثروتهم العامة لا تساعدهم على تأليف هذه الشركات. إلا أن المبالغة في كل شيء مذمومة فلا يجوز أن نظن أن تأليف الشركات عند المسلمين مستحيل ولا أن المال معدوم تمامًا بين أيديهم، فكلا هذين الافتراضين مخالف للمحسوس. وفي بلاد الإسلام شركات اقتصادية كثيرة، ومن المسلمين عدد غفير من ذوي الثروة، وعدد غفير من ذوي المهارة في الأمور الاقتصادية. وإذا جربت حكومتا الحجاز واليمن استثمار المعادن التي في هذين القطرين على أيدي متمولين من المسلمين فلا يبدأ هؤلاء بالربح ولا يتحقق المسلمون أن هذه المشروعات ذات عوائد أكيدة حتى يقبلوا على المساهمة من كل صوب وتجد من رؤوس الأموال عند المسلمين ما لا يخطر لك على بال، وذلك لأن الربح جلاب، وحيث تحقق وجود الفائدة وُجد المال بلا شك. إذن يمكننا أن نستثمر معادن جزيرة العرب برؤوس أموالٍ أصحابها مسلمون بل أصحابها مسلمون لا تلي بلدانهم دول غير مسلمة [2] وليس بضربة لازب أن نستثمر هذه المناجم كلها دفعة واحدة، بل يمكننا أن نستخرج خيراتها تدريجيًّا، ولكن الذي لا يجوز أصلاً هو أن نظمأ والماء فوق ظهورنا وأن نشكو مزيد الفقر والمال تحت أرجلنا. (ثانيًا) إن الظن الذي يظنه بعضنا أن الشروع في استخراج هذه المناجم يفتح أعين الأوربيين على الجزيرة لا سيما إذا رأوا الخيرات تدر منها وأنهم قد يشنون الغارات على البلاد لأجل حيازة هذه المعادن هو ظن لعمري بغير محله. فإن الإفرنج يعرفون مواقع هذه المعادن، ويعلمون ما فيها إن لم يكن تفصيلاً فإجمالاً. وعندهم علم آخر من طبقات الأرض يجعلهم عارفين بما يحتوي من المعدن والفلز كل نوع من هذه الطبقات، فإن كانوا لم يشنوا الغارات إلى اليوم على الجزيرة فليس لجهلهم بما في بطنها من الكنوز والخيرات، بل لأن الأمور مرهونة بأوقاتها، والاستيلاء على جزيرة العرب أو على بعض أقسام من جزيرة العرب ليس بالأمر السهل، بل دونه عقبات من وعورة الجبال، وحرارة الرمال، وشجاعة الرجال، فضلاً عما بين الدول من التنافس الذي يحمل بعضهن على الوقوف بالمرصاد لبعضٍ مما يُخشى منه وقوع الحرب بينهن. وعلى كل حال فالجزيرة إلى الآن سالمة من استيلاء الأجنبي إلا بعض أطراف لا بال لها. فليس من الحكمة ولا من الحزم أن نضيع على أنفسنا ثروة نحن في أشد الاحتياج إليها تحت ملاحظات ليست صحيحة وأسباب غير واردة. ومما يدلنا على كوْن هذه المعادن معروفة عند الإفرنج رسالة بالألمانية أطلعني عليها مؤخرًا مؤلفها المستشرق الألماني الشهير الأستاذ موريتز واسمها (المعادن في العربية القديمة) die bergwerke in alten arabien. جاء فيها ما ملخصه: يظن الناس إجمالاً أن جزيرة العرب هي من أفقر بلاد الدنيا، وحقيقة الحال أنها ليست كذلك بل إذا نظرنا إلى ما كانت عليه في القرون الوسطى نجدها كانت ذات ثروة تُضرب بها الأمثال وكانت تلك الثروة آتية من منبعين (أحدهما) كون الجزيرة طريق التجارة بين الشرق والبحر المتوسط (والثاني) وفرة المعادن التي كانت فيها، وأخصها الذهب، فقد كانت هذه المعادن في أواسط عهد الألف سنة قبل المسيح معروفة عند العبرانيين والفينيقيين والآشوريين. وقد كان سليمان بن داود أرسل بعثة على حسابه إلى البحر الأحمر، وعادت بغنائم تُدهش العقل. وذكر سترابون (جغرافي يوناني مات في زمان طيباريوس قيصر) ... وديودور (مؤرخ يوناني يقال له ديودور الصقلي صاحب تاريخ عظيم، وكان معاصرًا لأغسطس قيصر) أنهرًا في بلاد العرب كان فيها التِّبْر. وقد كانت جزيرة العرب قبل الإسلام وقبل دخولها في الفتوحات النائية ذات ثروة عظيمة بالزراعة والمعادن، وكانت مكة أشبه بمركز حكومة جمهورية ذي مراكز تجارية عظيمة ذات علاقات مع الآفاق، وكان الأخذ والعطاء جاريين بقوة بينها وبين سائر البلدان، وكانت فيها صناعة الحلي بالغة درجة الإتقان، ولا يزال صاغة مكة، وصنعاء اليمن وعُنيزة نجد إلى يومنا هذا مشهورين بإتقان الصنعة. أماكن معدن الذهب في جزيرة العرب: فأما الأقاليم التي فيها معادن الذهب من جزيرة العرب فمنها الأقاليم الغربية والذهب يوجد فيها بإسناد الجبال بين الداخل والساحل أي إسناد الجبال المتدلية إلى التهائم. وكذلك توجد معادن ذهب في أواسط الجزيرة في الأماكن المجهولة الضاربة إلى الجنوب والشرق. وهذه الجوانب الجبلية متكونة من حجر الغرانيت مع كثير من الرخام السماقي، وهذه الحرات التي في الجنوب والتي تمتد إلى مكة وإلى غربيها لا شك أنها تولدت تحت تأثير التحولات الجيولوجية التي أدت إلى هذه القفار المحرقة وهذه اليبوسة في الجزيرة، وإن شكل الغرانيت الصواني هذا يظهر في وسط البلاد وتمتد آثاره إلى جهة الشرق أي في جبال نجد. وأطرافه الجنوبية تظهر في شمالي اليمن إلى أن تحاذي صنعاء من الشمال. وأما الجنوب الغربي من الجزيرة والجنوب كله فتشكلاتهما الجيولوجية مختلفة عن الأولى، والذهب إنما يوجد في الجهات التي فيها الصوان أو الغرانيت وهي ما يأتي: (أولاً) في الشمال الغربي من الجزيرة بأرض مدين القديمة. (ثانيًا) في أرض الحجاز الضاربة إلى الجنوب. (ثالثًا) في الشرق من الجزيرة نحو نجد. (رابعًا) في الجنوب الشرقي إلى جهة اليمامة. (خامسًا) في الجنوب المحض بأرض عسير إلى الشمال من اليمامة. فمدين هي البلاد الواقعة بين البحر الأحمر وقمم الجبال المحاذية للبحر الممتدة من نحو العقبة في الشمال أي وادي الحمض في الجنوب وهي اليوم تابعة للحجاز. وهناك مراكز على ساحل البحر منها (ظبا، والمويلح، والوجه) . فأنت ترى من هذه الرسالة المنشورة سنة 1917 أي منذ أربع عشرة سنة أن الأوربيين يعرفون ما في جزيرة العرب من المعادن إن لم يكن تفصيلاً فإجمالاً وأنه ليس عدم سماعهم بثروتها المعدنية هو الذي ثبَّطهم حتى اليوم عن احتلالها. بل لذلك أسباب سياسية مرجعها حفظ التوازن الدولي، وعسكرية مرجعها صعوبة مِرَاس أهلها. فالأولى بنا أن نغتنم الفرصة ونستغل ما أمكننا من هذه المعادن لتقوى بها جيوشنا، ونصلح إدارتنا، ونبثّ العمارة في بلادنا، وأن لا نأخذ هذه الأمور بالتسويف والمماطلة حتى يصيبنا ما أصاب تركيا في مطاولاتها باستخراج الكنوز التي كانت تحت يدها إلى أن جاء الأجانب واستولوا عليها، فقد كانت قادرة على أن تستفيد من زيت الموصل من عهد طويل، فلم تبت في أمره شيئًا، ولم تزل تماطل إلى أن أضاعت بهذه المماطلة ثروة تقوَّم بالمليارات الكثيرة من الجنيهات لا من الفرنكات، وكان عندها البحر الميت فلم تصنع في استخراج ثروته شيئًا، ولا أبدت ولا أعادت إلى أن جاء الإنكليز بعد الحرب العامة فحللوا مياهه وقوموا ما يمكن أن يُستخرج منه، فقالوا إنه يمكن أن يستخرج منه قيمة خمسة آلاف مليار جنيه، وعشرون ألف مليو

العلويون في أوغندة والمنار

الكاتب: صالح خمور العلوي الحضرمي

_ العلويون في أوغندة والمنار جاءتنا هذه الرسالة مع كتاب خاص من حضرة صاحب الإمضاء: من أوغندة ميالة في ذي القعدة سنة1349 الموافق 25 مارس سنة 1931. مجلة المنار هي المجلة الوحيدة التي انفردت دون سواها من المجلات والجرائد لخدمة دين الإسلام والمسلمين، وصاحبها هو العالم الفذ الذي كرس كل حياته في هاته الوظيفة السامية، وما انفك - أيده الله وأطال بقاءه - منذ أنشأ مجلته (المنار) وهو يكافح المبشرين تارة، والملحدين من المجددين أخرى، وتارة نراه شاهرًا قلمَه في وجوه المبتدعة من غلاة الروافض والخوارج، والمتمشيخين من دجاجلة التصوف الكاذب، وعبَدَة القبور أو معظِّميها. ولا يعرف قدر ما يبذله من الخدمات العمومية إلا مَن وجدت عنده مجموعة صالحة من أجزاء المنار ومصنَّفات صاحبه، وأمكنه مطالعة ذلك بإمعان وتدقيق، وتروٍّ وتحقيق، ومنها يعرف قدر ما له من الفضل في دين الإسلام على المسلمين. امتاز صاحب المنار على أقرانه من العلماء الأعلام بخدمته الجليلة، ومواقفه الشهيرة في كل موطن من مواطن الجهاد، وناهيك بفتاويه القيِّمة، وردوده المؤيَّدة بالحجة والبرهان (بمناره الأغر) ومباحثه الطلية المفيدة وتفسيره المشهور، ولو لم يكن له من المصنفات غيره لكفاه فخرًا في الدنيا والدين، وذخرًا يوم يلقى رب العالمين. مما لا شك فيه أن الأقطار الإسلامية وغيرها لا تخلو من العلماء العظام، والفطاحل الأعلام، وأنه قد يوجد فيهم مَن يداني صاحب المنار أو يوازنه في العلم بيد أننا نجده قد فاق الكل في الناحية العملية، وقد وجدنا فيه كل ما فيهم من العلم والفضل، ولم نجد فيهم بعض ما فيه من تكلُّفه المشاقّ، وحمل ما لا يطاق، ومواصلة الليل بالنهار بحثًا وتحقيقًا وكتابةً ونشرًا وتأليفًا، في كل شأن له تعلق ومساس بالدين. ... ليس على الله بمُسْتَنْكَرٍ ... أن يجمع العالم في واحد حقًّا لقد امتاز عليهم بصفات كثيرة أهمها وأعظمها كما قدمنا آنفًا: غيرته على الدين، ويليها شجاعته الأدبية وعفة نفسه، وتواضعه مع علو قدره، وها نحن نراه اليوم قد سلخ من عمره - أطاله الله - ثلاثة عقود ونصفًا من السنين مكافحًا ومنافحًا - بمناره الأغر - عن دين الإسلام، ولم نره يومًا ما وضع قلمه تحت إرادة حزب معين، أو طائفة مخصوصة، أو حكومة جائرة، وهكذا دأب المخلصين من المجاهدين المؤمنين. وقد غلا وافترى من قال: إنه من حين ظهور الملك ابن السعود على مسرح السياسة ما زال في خدمته لأغراض مادية صرفة، وإنه (أي الملك ابن السعود) بذل له من المال كذا وكذا عوضًا عن خدمته {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (النور: 16) . ... إننا ننزه الاثنين من أن يتواطآ على مثل هاته الفعلة، وحاشاهما من ذلك، وقد أراد المفتري بقوله هذا أن يذم فمدح، وأن يفضح فافتضح، وما على صاحب المنار من غضاضة أو عار إذا أيده الملك ابن السعود، فتأييده إياه هو - والحق يقال - في نظر المنصفين من المسلمين عين الخطة التي رسمها صاحب المنار لنفسه، وهي نصرة دين الإسلام وتأييده، ولا شك أن ابن السعود أعظم أنصار هذا الدين نصره الله وأيده. وقد أيد قبله الملك حسين بن علي حيث كان يؤمل فيه المصلحة العامة للإسلام والمسلمين حتى بان له غلطه فانتقده في ذلك وبذل له النصح. * ولم يتبين الرشد إلا ضحى الغد * وهكذا نراه اليوم قائمًا بجانب الملك ابن السعود فإذا حاد لا سمح الله عن النهج القويم والطريقة المثلى فبلا شك أنه (أي صاحب المنار) لا يذره وشأنه، بل يعرِّفه بخطئه، ويفعل معه مثل ما فعل مع الملك الحسين بن علي [*] . هاته هي عقيدتنا وعقيدة السواد الأعظم من المسلمين في شرق الأرض وغربها (في صاحب المنار) ولا عبرة بمن يشذ من المنافقين والملحدين والدجالين المتاجرين بالدين، والمضللين لطغام المسلمين. وليثق صاحب المنار أننا عرب هذا القطر (أوغندة) وأهاليه من إخوان المؤمنين، وأنصاره المخلصين، الذين يقدرونه قدره، ويوفونه حقه من الإجلال والإكبار والاحترام، ومن المقتفين أثره في العقيدة، وهديه في الدين، بيد أننا معشر العلويين المقيمين بهذا القطر لا نرى بأسًا إذا شكوناه (أي صاحب المنار) إلى نفسه بسبب الرسالة التي بعث بها إليه من جاوة أخونا في الدين عبد الله منصور الجاوي ونشرها في المنار في الجزء الثامن من المجلد السابع والعشرين في صحيفة 604 وجاء فيها ما نراه ماسًّا بكرامتنا وشرفنا وعقيدتنا، والمنار كما يعلم الخاص والعام - قد انتشر في أنحاء المعمورة انتشارًا هائلاً ونال صاحبه ثقة الجمهور لا سيما فيما يتعلق بالدين، فهو فيه إمام الأنام، وخادم المقام، ويقرؤه العالم والجاهل والمطلع على أحوال العلويين وغير المطلع فيتخذ نشر المنار لها (أي الرسالة) كقضية مسلَّمة، وحجة ثابتة لزامًا على العلويين البريئين مما يجري هناك ... (بجاوة) بين بعض إخوانهم العلويين والإرشاديين من سفاسف الأقوال والأفعال. إننا معشر العلويين المقيمين هنا بإفريقية الشرقية - أسوة لسائر إخواننا بكل قطر ومصر - ننكر ونستهجن ككل ذي وجدان حي ما يبلغنا من حين إلى آخر من التشاجر والتناحر والتنابز بالألقاب، والطعن في الأنساب، ومن كل فعل شائن بين الطائفتين بجاوة أو غيرها، كما أننا نبرأ إلى الله ككل ذي عاطفة دينية وغير عربية مما ينشره أصحاب المقاصد والأغراض في جريدة (حضرموت) أو غيرها من الجرائد في حق الملك ابن السعود من الكلام الذي نرى فيه عدوانًا صريحًا أو تلميحًا في حقه. إن كثيرًا من ضعفاء النفوس وأرباب الأغراض السافلة ينشرون ويذيعون أخبارًا عارية عن الصحة يُفهم منها أن العلويين غير راضين عن الملك ابن السعود وسلطانه، وأنهم ناقمون عليه ويناصبونه العداء لأنه على غير مذهبهم، ومشربه على غير مشربهم، إلى غير ذلك من لغو القول وهذره؛ ليدخلوا على أنفسهم الضعيفة شيئًا من السرور وليحطوا - بظنهم - من قَدْر العلويين شيئًا وأنَّى لهم ذلك؟ ! ... أنفق بطانك يا جرير فإنما ... مَنَّتك نفسُك في الخلاء محالاً والعلويون أجل قدرًا من كل ما يتوهم هؤلاء المساعير، وما بينهم وبين الملك ابن السعود غير السلام والوئام والاحترام، التي ظهرت آثارها من جانب الملك ابن السعود في حق مَن وصل إلى مكة من أعيان العلويين وسراتهم، فقد لقوا من جلالته (أيده الله) فوق ما يتوقعونه من الإجلال والإكبار، حتى أنهم رجعوا إلى أوطانهم وألسنتهم رطبة بحمده وشكره والثناء عليه، لما شاهدوه هناك من صنوف الحفاوة بهم وبغيرهم من الناس، والعدل والأمان، ووسائل الراحة لسائر الرعية أفبعد ذلك يأتي {هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} (القلم: 11) ويقول عن العلويين غير ما هم متصفون به؟ ! {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) . إن علماء العلويين وأعيانهم والسواد الأعظم منهم قد رسموا لأنفسهم خطة الحياد من كل أمر من شأنه تكدير العلائق الودية، وتحريك العواطف الدينية بينهم وبين إخوانهم المسلمين، وقد عرفوا مسألة المتنازعين بجاوة، فرأوها مسألة هزلية صرفًا أوجدها أصحاب المقاصد والأغراض والمطامع الأشعبية ليصطادوا في الماء العكر فغشوا سذج العوام الحضارمة فاتبعوهم وهم لا يعلمون عن المسألة فتيلاً ولا نقيرًا. ومَن فهم منهم شيئًا حببوا إليه الظهور الكاذب، والفخر المزيف، فيغتر بهذا ويتوهم أنه قد حاز علوم الأولين والآخرين. ... أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل ربما يعترض معترض ويقول لي: فكيف بك وقد ألزمت نفسك أنت وغيرك من إخوانك في البلدين في هذه المسألة خطة (الحياد) ثم نراك تأتي اليوم وتبعث المسألة من جديد؟ ! فأقول له: إن ظهور هاته المسألة هو من نحو عشرين عامًا تقريبًا ولم أنبس فيها أنا ولا غيري ببنت شفة، حتى ظهرت لنا رسالة أخينا عبد السميع منصور الجاوي ونشر في أعزّ مجلة علينا (المنار) فعظم علينا ذلك وعلمنا أن الحالة غير مرضية، وأنها قد دخلت في طور جديد بدخول بعض إخواننا الجاويين، فجئنا بكلمتنا هاته إلى المنار على سبيل الشكاية منه وإليه، والنصح لإخواننا الكرام الجاويين. إننا ننصح لأخينا في الدين عبد السميع منصور - إن كان هناك شخص يُدعَى بهذا الاسم - خصوصًا ولإخواننا الجاويين عمومًا فنقول له ولهم: ما لكم والدخول في هذه المسألة المشئومة التي تشتت بسببها شمل الحضارمة هناك، وأضحوا شذر مذر، لا يُوقَّر كبير لكبره، ولا يُرحَم صغير لصغره، في زمن ومحل هم أحوج الخلق فيهما إلى التعاون والتعاضد تبعًا لأوامر دينهم القويم، ورسولهم الكريم، ولما تقتضيه الظروف الزمانية، والمنطق الصحيح لو كانوا يعقلون. أيها الإخوان: خلوا الحضارمة وشأنهم ما داموا يمثلون هاته المسألة المحزنة والرواية الهزلية، واسمعوا ما نشره عالمهم الأشهر، وزعيمهم الأكبر، السيد العلامة عبد الرحمن بن عبيد الله بجريدة الشورى الغراء بالعدد المؤرخ 14 شوال من درر النصائح الغالية التي هي أحرى بالاتباع وأولى أن تكتبوها على صفحات قلوبكم بماء الذهب، وتضعوها في أعز ما تضعون فيه نفائس أموالكم كذخيرة لأحفادكم. أيها الإخوان الكرام: إن دخولكم في هذه المسألة يزيدها إعضالاً وتعقيدًا وتتسع دائرة الشقاق بين الفريقين، وتدخل في طور جديد من التكيف والتلون وبه يجد الغاصب القاعد لكم بالمرصاد مدخلاً بين صفوفكم فيثبت تقدمه (بأندونيسية) الفتية التي تتجاوز اليوم عقبات كأداء لاستقلالها المطلوب، بلَّغها الله إياه. أيها الإخوان الكرام: إننا - والله - لا نخاف ضيرًا عليكم ولا على وطنكم المحبَّب إلينا وإليكم، ومازالت المسألة مقتصرة على مَنْ أوجدوها من الحضارمة؛ لأنهم أقلية وصوتها غير مسموع، لكننا نخشى ونخاف دخولكم فيها، فيتفاقم الأمر وتندمون ولات ساعة مندم. يا عبد السميع: هاته نصيحتنا لكم ولقومكم الكرام فإن تلقيتموها بالقبول - ومثلكم مَن يفعل - كنا لكم من الشاكرين الحامدين، وإن أبيتم قبولها (وهو ما لا نرضاه) ولكن قد يستفيد الظنة المتنصح - فنقول لك ولإخوانك: إن عقلاء العلويين وذوي الفضل من السواد الأعظم منهم لا قدرة لهم على النزول إلى الميدان الذي تدعونهم إليه، لعلمهم أن الغالب به أظلم من المغلوب كما جاء في الحديث ولعلمهم أيضًا أن السب والشتم والمهاترة في العرض، والمشاجرة في الأنساب - هي أسلحة لا يحملها إلا كل وغد جبان، قد قصر باعه في العلم؛ فضعف مزاجه في الدين، وخارت عزيمته في العمل، وإنه من سقط المتاع. يا عبد السميع: لو أنه تكلم غيرك من العرب الإرشاديين أو غيرهم بما تكلمت به على العلويين في رسالتك لكان الأمر في غاية السهولة والبساطة، ولكان جوابه من كل علوي فاضل السكوت الدال على الإهمال؛ لأنه قد سمع منهم ما هو أعظم من ذلك. يا عبد السميع: إن العلويين في شرق الأرض وغربها يعيشون مع إخوانهم في الدين والإنسانية على اختلاف مشاربهم في سلام ووئام واحترام، وإخاء إسلامي وإنساني بكل شأن من الشؤون الدينية والدنيوية، وإنهم ما زالوا ولن يزالوا - إن شاء الله - سائرين على الخطة التي رسموها لأنفسهم لخدمة الإسلام والمسلمين، والقيام بالشعائر الدينية بمعاونة أُولِي الفضل منهم والسعة، ونشر الدعوة المحمدية لكل قطر ومصر، و

بيان عن سياسة الإبادة والاستئصال التي اتبعتها إيطاليا في طرابلس الغرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيان عن سياسة الإبادة والاستئصال التي اتبعتها إيطاليا في طرابُلس الغرب (أُلقي في اجتماع عظيم في نادي جمعية الشبان المسلمين ووقع عليه أهل الرأي والمكانة في مصر ليرسل إلى جمعية الأمم ويذاع في العالم الإسلامي) : ولقد شهدت مصر مشهدًا لا تستطيع الإنسانية أن تعرض عنه متجاهلة ما انطوى عليه من الآلام، وذلك أن مئات من بني الإنسان - بين رجال ونساء وأطفال وشيوخ - اضطروا تحت ضغط الجور إلى أن يتركوا أوطانهم تخلُّصًا من الظلم، وأن يهيموا على وجوههم في القفار، ولولا مروءة مأمور الواحات المصري الذي خرج هو ورجاله للبحث عنهم حتى لقيهم وأنقذهم لهلكوا عطشًا وجوعًا. أولئك هم فريق من إخواننا الطرابلسيين الذين خرجوا من قسوة الحكم الإيطالي الذي لا يُطاق. ولم تكد أعيننا تكفكف الدموع على هذا المشهد الذي شهدته على اليابسة حتى حملت إلينا أمواج البحر في السلوم مشهدًا آخر أفظع من هذا وأشنع، فرمى البحر إلى هذا الساحل المصري أربع عشرة جثة من جثث هؤلاء الطرابلسيين مغلولة في سلسلة واحدة. ثم توالت الأخبار بأن زاوية الكفرة المنقطع أهلها للعبادة قد أمطرتها طيارات الإيطاليين بالقنابل وفتكت بأهلها فتكًا ذريعًا، وبعد ذلك هاجمها الجيش وكاد يأتي على البقية الباقية من أهلها، ولم يتعفف عن هتك الأعراض وسلب الأموال وبقر بطون الحوامل، وقد قتل من أهل الكفرة في هذه النازلة كثيرون منهم الشيخ أبو شنة وابن أخيه الشيخ عمر والشيخ حامد الهامة والشيخ عبد السلام أو سريويل والشيخ محمد المنشوف وابن أخيه علي بن حسين والشيخ محمد العربي والشيخ محمد أبو سجادة والشيخ أحمد الفاندي الجلولي والشيخ خليفة الدلاية، ولما ذهب كبار شيوخ زاوية الكفرة إلى القائد الكبير يرجونه وضع حد لهذه الذابح أمر بذبحهم فذبحوا أمامه كما تُذبح الشياه. ومن الفظائع التي ارتكبها الإيطاليون في برقة، ونقلها الرواة الصادقون أنهم وضعوا أحد مشايخ عائلة الفوائد المدعو الشيخ سعد وخمسة عشر شخصًا من العرب في الطيارات وارتفعوا بهم عن سطح الأرض ثم جعلوا يلقونهم واحدًا بعد الآخر ليموتوا موتة لم يسبق لها مثيل. ومن الفظائع التي ارتكبوها في الجبل الأخضر إخراج أهله منه وهم لا يقل عددهم عن ثمانين ألف عربي إلى باديات سِرْت القاحلة، ثم أذاعوا بواسطة قنصلياتهم في بلاد الأرجنتين أن حكومة طرابلس وبرقة تعطي الأراضي الخصبة فيهما لكل إيطالي يريد النقلة إليهما، وبلغت مساحة الأراضي التي أُخذت غصبًا نحو من مائتي ألف هكتار ولا تزال الحكومة الإيطالية تحث الإيطاليين على استعمار هذه الأراضي. وقبل انتزاع أراضي الجبل الأخضر من أهله في هذه السنة انتزعت في سنة 1924 ما مساحته 420 ألف هكتار بدون مقابل، وفي بعض الأحيان كان المقابل عن المائة هكتار ستة آلاف فرنك إيطالي أي خمسين جنيهًا تقريبًا. وقد خرج أهالي الجبل الأخضر عند انجلائهم منه وهم لا يملكون ما يقتاتون به فرتبوا لكل عائلة فرنكين في اليوم وهم الآن يعيشون بهذا المرتب عيشة بؤس تفتت الأكباد، وفي أثناء نقلهم إلى صحراء سِرْت كان كلما عجز واحد منهم عن مواصلة المشي يُرمَى بالرصاص. وفضلاً عن كل ذلك فقد جمع الإيطاليون الأطفال الوطنيين من سن 3 إلى سن 14 وأخذوهم من أهلهم وأرسلوهم إلى إيطاليا بزعم تعليمهم فيها وجمعوا الشبان من سن 15 إلى 40 وألحقوهم بالجيش واستخدموهم في محاربة أهلهم وبلادهم. وبلغ الاستهتار بالشعور الإسلامي مبلغًا عظيمًا من إرساليات التبشير المنبثة الآن بين الأهالي ومن صدور الأوامر المشددة على الخطباء في الجوامع بالدعاء لملك إيطاليا على المنابر. وقد حدث مرارًا أن الحكومة تعلن العفو والأمان، فإذا وقع المعفوّ عنهم في قبضتها غدرت بهم. وممن ذهبوا ضحية هذا الغدر من رؤساء القبائل: خليفة بن عسكر والشيخ عبيدة الصرماني وأحمد الباشا وإبراهيم بن عباد والهادي كعبار وابنه محمد كعبار والشيخ أحمد الحجاوي والشيخ علي الشويخ والشيخ عبد السلام ابن عامر والشيخ محمد التريكي والشيخ شرف الدين العمامي والشيخ أحمد بن حسن ابن المنتصر والشيخ عمر العوراني والشيخ محمد عبد العال، ومن الضحايا الذين لا يعرف لهم ذنب: الشيخ صالح العوامي وهو شيخ يبلغ التسعين عامًا من أهل العلم والصلاح قبضت عليه إيطاليا سنة 1923 وزجَّته في سجن بنغازي إلى أن مات فدفن بمحل مجهول. فأرواح هؤلاء الضحايا تصيح بالإنسانية جميعها وبجمعية الأمم بنوع خاص أن هَلُمِّي إلى إنقاذ البقية الباقية من أبناء الإنسانية المعذبة في هذه الربوع من سياسة الفتك والاستئصال والإبادة التي تتبعها إيطاليا في طرابلس المنكودة. وإن العالم الإسلامي يعتبر ما وقع في طرابُلس الغرب عدوانًا مباشرًا على كل مسلم مهما كان جنسه ووطنه، وسيبقى عار هذه الأعمال لاصقًا بالإنسانية كلها حتى تهب الهيئات الرسمية - وفي مقدمتها عصبة الأمم - لإجراء تحقيق دولي حر دقيق في نفس بلاد برقة وطرابلس عن كل ما جرى فيها وإعلان نتيجته كما تقتضيه العدالة والحق. والموقعون على هذا يطلبون من جمعية الأمم إجراء هذا التحقيق تنزيهًا للإنسانية عن لحوق هذا العار بها إلى الأبد ويرجون بإلحاح أن يكون لهم مندوب يختارونه مع لجنة التحقيق، وهم ينتظرون ما تقرره العصبة في هذا الشأن بفارغ الصبر. التوقيعات محمد أبو الوفا الشرقاوي ... ... خليل الخالدي ... ... ... ... ... رئيس الاستئناف الشرعي بفلسطين محمد رشيد رضا ... ... ... محمد عبد اللطيف دراز ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة المنار الإسلامية ... ... ... من العلماء ... ... ... ... ... وعضو مجلس إدارة جمعية الشبان بالقاهرة محمد عبد الرحمن قُرَّاعة ... ... ... عبد الوهاب النجار من العلماء ومدرس بالأزهر الشريف ... وكيل جمعية الشبان الملسمين بالقاهرة محمد كامل القصاب ... ... ... ... الأمير عمر طوسُن علي سرور الزنكلوني ... ... ... محمد تقي الدين الهلالي المدرس بقسم ... ... ... ... ... الأستاذ الأول التخصص بالأزهر ... ... ... للآداب العربية بندوة العلماء بالهند ... ... ... ... ... علي جلال ... ... ... ... ... فؤاد سليم الحجازي ... ... ... ... ... المستشار بمحكمة الاستئناف سابقًا ... سفير الدولة العثمانية بسويسرا سابقًا عبد الحميد سعيد ... ... ... ... عبد العزيزصدقي الرئيس العام لجمعية الشبان المسلمين ... ... وكيل مديرية سابقًا حسين شيرين ... ... ... ... حافظ موسى الكلحي رئيس جمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية ... عضو مجلس النواب سابقًا ... محمود السيد ... ... ... ... مصطفى الشُّرْبَجِي محامٍ وعضو مجلس النواب سابقًا ... ... محامٍ وعضو مجلس النواب سابقًا الدكتور يحيى أحمد الدرديري ... ... محمود علي فضلي المراقب العام لجمعية الشبان المسلمين ... عضو مجلس إدارة الشبان سابقًا طنطاوي جوهري ... ... ... ... أحمد حافظ عوض مدرس سابقًا ومؤلف ... ... صاحب جريدة كوكب الشرق محب الدين الخطيب ... ... ... محمد أحمد الغمراوي منشئ مجلة الزهراء وصحيفة الفتح ... كاتم سر جمعية الشبان بالقاهرة محمد الناغي ... ... ... ... ... إبراهيم أطفيش الجزائري عضو إدارة الشبان المسلمين ... ... ... صاحب مجلة المنهاج محمد أحمد الحناوي ... ... ... ... الدكتور محمد علي محرر بجريدة الفلاح المصري ... ... من أطباء مديرية الغربية الدكتور نصر فريد ... ... ... الدكتور عبد اللطيف فاضل من أطباء القاهرة ... ... ... ... من أطباء القاهرة الدكتور حسن أبو السعود ... ... ... محمد أحمد الفقي من أطباء القاهرة ... ... ... ... ... من العلماء محمود شلتوت ... ... ... ... عبد ربه مفتاح من علماء الأزهر ... ... ... ... من علماء الإسلام محمد الههياوي ... ... ... ... ... أحمد مختار صحفي ... ... ... ... ... مهندس أحمد عبد الحميد ... ... ... ... ... محمد عثمان مهندس ... ... ... ... ... ... مهندس عبد العزيز عثمان ... محمد عِفَّت ... ... عبد الرازق البيلي مهندس ... ... ... مهندس ... ... مهندس (ويلي هذا مئات من الإمضاءات في مصر وفي أقطار أخرى نشرتْها كلها مجلة الشبان المسلمين في القاهرة) .

الشريف الحسين ملك الحجاز السابق ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشريف الحسين ملك الحجاز السابق وفاته - والعبرة من ترجمته في يوم الخميس الثامن أو التاسع عشر من المحرم توفي الشريف حسين بن علي آخر من تولى إمارة مكة للدولة العثمانية وأول من سُمي ملك الحجاز بعد الانقلاب العام الذي أحدثه حرب المدنية الكبرى. توفي في عَمَّان فنقل منها إلى القدس ودفن في جوار المسجد الأقصى بالقرب من مدفن محمد علي الزعيم الهندي وقد احتفل بدفنه احتفال عظيم اشتركت فيه الحكومة الإنكليزية رسميًّا. فنعزي أنجاله أصحاب الجلالة والسمو. ونسأل الله تعالى له المغفرة والرحمة التي وسعت كل شيء. كان الملك حسين ذا مواهب فطرية ووراثية عظيمة، صار بها من رجال التاريخ العام وتاريخ العرب الخاص. كان شجاعًا حازمًا قوي الإرادة، ماضي العزيمة، كبير الهمة، نزيه النفس، شديد البأس، عفيفًا عن الشهوات، عزوفًا عن الدنايا، محافظًا على الفرائض الدينية، أديب المجلس، حسن الحديث، على عظمة وكبرياء، وشَمَم وإباء، ولكن معارفه الدينية والمدنية ضيقة النطاق، مبنية على تقليد المقلدين من الآباء والعشراء، وخبرته ضعيفة مستمدة من أهل الملق والرياء في مكة، وأُولي التَّقِيَّة والعبودية والحميدية في الآستانة؛ فلهذا لم يكن ينال الزلفى عنده إلا المراءون المخادعون، وكان شديد الاعتداد بنفسه، والإعجاب برأيه، والثقة بعلمه، والظنة والريبة في كل مَن يتصل به، والإصرار على رأيه وإن فُرض أنه ظهر له خطؤه فيه حتى كان بعض خاصته يقول: لولا عناد سيدنا لكان كل ما يُنتقد عليه سواه هينًا، لا يُخشى ضرره، ولم يكن أحد من عماله ولا من أولاده يتجرأ على النطق أمامه بما يخالف رأيه، وهذا خلق يقطع على المتخلق به طرق العلم والاستفادة التي لا يستغني عنها بشر مهما تكن درجة عقله، وسعة علمه ودقة خبرته، وقد قال الله تعالى لرسوله خاتم النبيين وسيد ولد آدم {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) وقال الإمام الشافعي: ... كلما أدبني الد ... هر أراني نقص عقلي ... وإذا ما ازددت علمًا ... زادني علمًا بجهلي وإن في هذين البيتين لَحكمةً لا يسمو إليها إلا أرقى الناس عقلاً وأوسعهم علمًا. وكان رحمه الله تعالى يكره دولة الترك ويتألم من سيادتهم على الحجاز، والظاهر أن بعض رجالهم في الآستانة كانوا يشعرون بذلك منه ويحسبون كل حساب لإمارته على الحجاز في عهد الدستور، وفي هذا دليل على أنه أعز من غيره من شرفاء مكة نفسًا؟ وأعلى همة وأبعد مرمى، وكان نجله الشريف عبد الله أشد منه بغضًا للترك وميلاً للاستعداد للخروج عليهم ونبذ سلطانهم، ولكن نجله الشريف فيصلاً كان إلى الترك أميل، وعلى الاتفاق معهم أحرص، كما أخبرني بذلك في بيروت والشام بعد الحرب. ولما أسسنا جمعية الجامعة العربية كاشفت بخبرها الشريف عبد الله في نزالته لدى الخديو من قصر عابدين وكان عائدًا من الآستانة إلى مكة هو وأخوه الشريف فيصل، ولم أقابل فيصلاً ثَم، وقد نظمت عبد الله في سلك الجمعية وحلفته يمينها الغَموس فحلفه، وأخبرني أنه موفد لإقناع والده بقتال السيد الإدريسي لاستقلاله في العسير دون الدولة انتصارًا لها فقلت له: إياكم تسفكوا دماء العرب بسيوف العرب. فوعدني بأن سيبلغ والده ما أمر به ويجتهد في إقناعه بأن لا يقاتل الإدريسي، وأن يعنى بالاتفاق معه ولو في الباطن تمهيدًا للحلف العربي الذي هو أُسّ الجامعة العربية. ولكن والده قاتل السيد الإدريسي بغضًا فيه وطمعًا في ضم بلاده إلى الحجاز لا حبًّا في الترك وانتصارًا لهم، فقهره الإدريسي ورده خائبًا منكسرًا. ولما اشتعلت نار الحرب الكبرى وانضمت الدولة العثمانية فيها إلى الحلف الألماني كان من سياسة الإنكليز فيها أن يستميلوا الأمة العربية إلى الانضواء إليهم وإلى حلفهم، والخروج على الدولة العثمانية ووعدوهم بأن يكون جزاؤهم على ذلك الاستقلال وتأسيس دولة عربية جديدة تحيي حضارة العرب الزاهية، ولعلِّي قد كنت أول مَن أرادوا أن يستخدموه ببث الدعاية لهم في جزيرة العرب وفي الولايات العربية العثمانية، وكلفوني إرسال مندوبين من قِبَلي إلى أمراء الجزيرة وجمعيات العرب السياسية في الولايات بذلك. ولما كنت أعلم من سياسة الإنكليز أنهم كالسيل - يقذف جلمودًا بجلمود، ويقاتلون الأمم والشعوب بعضها ببعض ثم يستأثرون هم بالغنيمة - اشترطت عليهم أن تقرر دولتهم بالاتفاق مع حلفائهم الاعتراف باستقلال الأمة العربية في جميع بلادها معرفة بحدودها الطبيعية استقلالاً مطلقًا من كل شرط وقيد.. إلخ ولم تنتهِ المراجعات بيني وبين رجلهم هنا في ذلك إلا وقد أيقنت أنهم مخادعون، وأنهم إذا انتصروا جعلوا البلاد العربية غنيمة لهم ولحليفتهم فرنسا، ولهذه المناقشات قصة طويلة وفيها وثائق مكتوبة ليس هذا محل بيانها. كنت قررت أن أرسل أخي المرحوم السيد صالح إلى الحجاز للكلام مع الشريف حسين في هذه المسألة وقرر الإنكليز أن يرسلوه من طريق السودان فحالت العوائق دون إرساله حتى زال من أنفسهم ما كانوا يرجونه مني، ووجدوا واسطة أخرى لمخاطبته وإقناعه بالخروج على الدولة العثمانية، وإعلان الانضمام إليهم وكانت فظائع جمال باشا السفاح التركي في سورية قد أيأست أهلها من إمكان البقاء تحت سيادة الترك وبثوا شكواهم إلى الشريف حسين وأظهروا له ميلهم إلى الخروج على الدولة، فأعلن الثورة العربية ولكنه لم يُطْلِعْ أحدًا من حاشيته ولا من بطانته ولا من أولاده على الأساس الذي بناها عليه بالاتفاق مع الذين أغروه بها من الإنكليز؛ لأنه لا يثق بأحد. لا ينكر عاقل أن الاحتراس والحذر والكتمان من أركان السياسة، كما لا يخفى على عاقل أن من لا يثق بأحد لا يمكنه أن يقوم بعمل عظيم ولا سيما الأعمال السياسية والانقلابات القومية، وتأسيس الدول والممالك وأن شدة الحذر تفضي إلى التردي في شر مما يخافه الحذر من ناحية ضعف الثقة بالعاملين، فإنه يضطر إلى الاعتماد في أعماله على صغار النفوس المتملقين الذين يرضون أن يكونوا كالآلات المعدنية والأدوات الخشبية في يده لأجل منافعهم الشخصية منه أو من الأجانب الذين يدسون له من جواسيسهم من يوافقونه على هواه في كل شيء لينقلوا لهم عنه كل ما يعلمون من أعماله وأحواله. وإن أغرب ما أنكرناه من أموره المتناقضة أنه على عدم ثقته بأحد من أمته ولا من أولاده قد وضع ثقته كلها في الإنكليز المشهورين في العالم كله بالخداع والمكر والعبث بالرجال العظماء وبالدول والأمم - وثق بهم ثقة عمياء صماء بكماء ورهاء بلهاء، معتقدًا أنهم أعلى البشر أو فوق البشر في الصدق والوفاء! ، بل كان يعتقد أنهم سيمنحونه كل ما يؤمّله ويتمناه، لا ما وعدوه به خداعًا وتغريرًا ولا ما اقترحه عليهم مما سماه مقررات النهضة فقط. (للترجمة بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

الزواج بالمسلمة وراثة والكتابية والوثنية تنطق بالشهادتين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الزواج بالمسلمة وراثة والكتابية والوثنية تنطق بالشهادتين (قدمنا هذا السؤال على غيره مع تأخر وروده لأن موضوعه أهم من غيره) (س64) من صاحب الإمضاء في نهر مبالة (أوغندة) إلى صاحب الفضيلة الأستاذ رشيد رضا: ما قولكم في نساء هذا القطر (الأوغندة) وزواج العرب والهنود لهن فإنه قد عمَّ وانتشر، وهل يُعامَلن في زواجهن معاملة الحرائر المحصَنَات المؤمنات، أو معاملة الإماء الكافرات؟ . وتوضيحًا للمسألة أقول لكم: إن الأهالي هنا ينقسمون إلى ثلاث طوائف: (الطائفة الأولى) المسلمون والغالب على نسائهم أنهن لا يعرفن من أمور الدين غير الشهادتين مع جهل معناهما وقد يكون أولياؤهن مثلهن في الجهل أحيانًا. (الثانية) المسيحيون ولا نعلم من أحوالهم غير الذهاب إلى الكنيسة أيام الآحاد. (الثالثة) المشيترية وهم الذين بقوا على عوائد أجدادهم. والزواج في هاته الطوائف منتشر بكثرة. أما المسلمة فيتزوجها بمجرد كونها مسلمة فقط وهي لا تعرف من أمور دينها شيئًا وأما المسيحية فيتزوجونها بحجة أنها كتابية ولا يعرفون عن أهل الكتاب شيئًا. وأما المشيترية فيكلفونها النطق بالشهادتين قبل العقد بحجة الدخول في الإسلام ثم يدخل بها وربما لا تصلي - وهي عنده - يومًا واحدًا. وقد تلد له الأولاد وهي على هذه الحالة! أفتونا ولكم الأجر، وبينوا لنا حالات الزوجات والمتزوجين ولكم من الله الأجر ومن المسلمين هنا مزيد الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ابنكم المطيع المخلص ... ... ... ... ... الشريف صالح خمور العلوي الحضرمي (ج) ذكرتم صفة الزوجات بالإجمال دون صفة الأزواج، فإذا كان هؤلاء الرجال المسلمون لا يعرفون الضروري من دينهم فهم ونساؤهم سواء! وإذا كانوا يعرفون عقيدة الإسلام وأركانه وأحكام الحلال والحرام الاجتماعية فكيف لا يلقنون نساءهم ذلك ويحملونهن عليه بالعمل؟ المرأة الوثنية يحكم بدخولها في الإسلام بالنطق بالشهادتين مع العلم بمعناهما، ويجب عليها عقب ذلك معرفة الضروري من هذا الدين الذي قبلته إجمالاً، وأوله العقيدة فالطهارة والصلاة ثم كل فريضة ووقت وجوبها ولست أعني بالعقيدة أن تلقن السنوسية الصغرى أو معاني الجوهرة، فقد يكفيها أن تعلم أن الله تعالى هو الخالق لجميع الخلق المدبر لأمورهم، وأنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، لا شريك له ولا ولد، فهو المعبود الحق الذي لا يُدعَى غيره لكشف الضر وجلب النفع الذي يعجز عنه العبد بكسبه، وأنه متصف بكل كمال منزه عن كل نقص {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) وأن علمه محيط بكل شيء وقدرته نافذة في كل شيء وأنه فاعل مريد مختار، وهو السميع البصير، العلي الكبير، الحكيم الخبير، الرؤوف الرحيم. وأن تؤمن بملائكته وكتبه وباليوم الآخر، وما فيه من الحساب والجزاء على الأعمال، إما بدخول الجنة وإما بدخول النار، وأن تؤمن برسله وأن خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وأن كتابه القرآن كلام الله المعجز للبشر. وأن كل ما جاء به حق يجب اتباعه، وتعلم العبادات بالعمل. وأن الله حرم الشرك به والكفر وقتل النفس بغير حق والسرقة والزنا وشرب الخمر وكل ما يزيل العقل والكذب والخيانة وسائر الفواحش والمنكرات ويصح العقد عليها قبل هذا العلم التفصيلي؛ فإن الشهادتين مفتاح الإسلام ومدخله ولكن مع توطين النفس على ما يتبعهما من شرائعه فالاقتصار عليهما لا يعد إسلامًا. وكذلك المرأة المولودة من أبوين مسلمين إذا لم تفهم معنى الشهادتين وما يتبعهما من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وأركان الإسلام لا يعتد بإسلامها الاسمي. والذي يظهر لي بالإجمال أن أكثر أهل هذه البلاد يجهلون حقيقة الإسلام؛ فإن دعوته لم تبلغهم كما بلغها رسول الله وأصحابه ومن تبعهم، وأن بعضهم يعرفون ذلك معرفة ما، والإثم الأكبر على هؤلاء العارفين فيجب عليهم تبليغ الدعوة للمسلمين والمسلمات بالوراثة أو بالذات، ثم للوثنيين والوثنيات وأهل الكتاب. وإنني مرسل إليك بعض الكتب والرسائل التي تساعدكم على ذلك فإن قصرتم كان إثم الجميع عليكم. وأما النصرانية فالغالب أنها تعرف الضروري من دينها؛ لأن النصارى في هذا العصر أشد من المسلمين عناية بتعليم نسائهم وأولادهم أمور دينهم وتربيتهم عليه بالعمل والدليل على ذلك أن النساء يحافظن عندكم على صلاة الأحد التي هي أظهر شعائر دينهن في الكنائس، وإن عندكم دعاة منهم إلى دينهم. وحكم مَن لم يعلم ما ذكرنا من ضروريات الإسلام في بلادكم حكم مَن لم تبلغهم دعوة الإسلام على وجهها الصحيح على ما يظهر لي، فإذا هم عرفوا الإسلام بعد هذا التبليغ وبادروا إلى اتباعه فالظاهر أنهم يقرون على نكاحهم السابق والله أعلم.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (65- 70) أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضل والفضيلة العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء دام محفوظًا سلامًا واحترامًا وبعد: فإني أرفع ما يأتي، راجيًا التكرم بالإجابة على صفحات مجلة المنار الأغر ليكون النفع عامًّا: 1- ما رأي فضيلتكم في عقيدة الوهابيين ساكني الحجاز ونجد وغيرهما وهل هي موافقة لعقيدة أهل السنة والجماعة أم لا؟ ! 2- هل أعمال بعض أرباب الطرق كالتصفيق والتمايل وضرب الدفوف وأكل النار والزجاج وضرب الشيش وغير ذلك مما يحدث في مجتمعاتهم التي يسمونها حلقات الذكر شرعية أم بدعة ضلالة يجب الإنكار عليها وإزالتها؟ ! 3- هل يجوز للمرأة أن تخلو مع طبيب الأسنان وغيره إذا كان عدلاً صالحًا لأجل المعالجة، سواء كان ذلك في بيتها أو في محل عيادته من غير أن يكون معها أحد من محارمها كأبيها أو أخيها أو عمها أو خالها أو زوجها أم لا؟ ! 4- هل يجوز تمثيل حياة بعض الصحابة على شكل رواية أدبية خلقية تُظهر محاسن ذلك الصحابي الممثل لأجل الاتعاظ بسيرته ومبادئه العالية مع التحفظ والتحري لضبط سيرته دون إخلال بها من أي وجهة كانت أم لا؟ ! 5- هل يجوز مصاحبة المنافقين والزنادقة والملحدين والطبيعيين مع العلم بنفاقهم وزندقتهم وغير ذلك أم لا؟ ! 6- هل يجوز استخدام المسلم عند المسيحي، وغيره من الذين يشتغلون بالمحرمات كسباق الخيل والمراسح العمومية ونوادي اللهو والخلاعة مع ملاحظة أنه ليس له أي عمل آخر يتعيَّش به مع عائلته سوى ذلك أم لا؟ ! تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الرؤوف مفتي (ج65) عقيدة الوهابية: هي عقيدة أهل السنة والجماعة التي كان عليها سلف الأمة الصالح من الصحابة والتابعين وحُفَّاظ السنة التي كان أكبر المدافعين عنها عند ظهور البدع وتأييد الدولة العباسية لها - إمام أئمة السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى. فإن صح عن أحد منهم خلاف لشيء مما كان عليه أحمد وجمهور السلف فإنما يكون ذلك عن جهل منه بالمسألة التي خالف فيها فلا يتخذ دليلاً على أنه مذهبه ومذهب قومه كما نرى كثيرًا من أتباع سائر المذاهب في الأصول والفروع يخالفون أئمتهم عن جهل في الغالب. (ج66) ما ذكرتم من أعمال بعض أهل الطرق كله من البدع المنكرة يجب إنكارها وكذا إزالتها باليد على من يقدر على ذلك من غير أن يترتب عليه مفسدة أخرى وضرر يفوق ضررها. (ج67) لا يجوز للمرأة أن تخلو برجل غير محرم سواء كان طبيبًا أو غيره، ويمنع تحقق الخلوة وجود غير المحرم لها من الرجال والنساء الذين يمتنع في العرف حصول أي منكر في حضرتهم كما هو مفصَّل في كتب فروع الفقه. (ج 68) لا يوجد دليل شرعي يمنع تمثيل حياة بعض الصحابة أو أعمالهم الشريفة بالصفة المذكورة في السؤال. (ج 69) مصاحبة من ذكر من المنافقين والزنادقة وغيرهم يختلف حكمها باختلاف حال مَن يصاحبهم من المؤمنين وحالهم معه، فقد تكون صحبة ومودة وإقرار لهم على نفاقهم وكفرهم وهذه غير جائزة، وقد يصاحبهم المؤمن العالم لنصحهم وإرشادهم وإنكار ما يظهر من منكراتهم وهذا جائز وقد يكون مندوبًا أو واجبًا إذا رجيت الفائدة أو غلب الظن بحصولها، وقد تكون عارضة في سفر أو اجتماع لا مندوحة عنه ولا ضرر فيه فتكون مباحة. (ج 70) لا يجوز للمسلم اكتساب رزقه من الطرق المحرمة كالحانات ومواخير الفسق وأعمال القِمَار المختلفة، ولا حيث يتعذر عليه القيام بالمفروض عليه في دينه، والضرورات التي تبيح المحظورات لا تكون عادة إلا عارضة فلا نعقل وجود مصر من الأمصار كبيروت لا يجد فيه المسلم وسيلة لرزقه إلا أمثال هذه المعاصي. وإنما يتصور أن يتعود ذلك بعض المسلمين الجاهلين المتهاونين بدينهم، ومثل هؤلاء قد يصعب على أحدهم إذا أراد التوبة أن يجد رزقًا غير الذي ألفه إلا بعد بحث، فأول ما يجب عليه أن يراجع بعض أهل الغيرة من المسلمين لكي يسعوا له ويساعدوه على عمل مباح يعيش به.

أسئلة من صاحب الإمضاء في صولو

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من صاحب الإمضاء في صولو (س71 - 75 من صاحب الإمضاء في صولو) الحمد لله وحده حضرة عزيزي ومولاي صاحب الفضل الأكبر. ومنشئ مجلة المنار الغراء، السيد محمد رشيد رضا، كان الله له معينًا ومرشدًا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فيا صاحب الفضيلة أرجو من جنابكم العالي أن تجيبوا على الأسئلة الآتية بأدلة شرعية لتحوزوا الثواب والأجر من الله. وتفضلوا بقبول أوفر تشكُّراتي الجزيلة: (1) ما قولكم عزيزي في حديث: (مَن تشبه بقوم فهو منهم) هل ذلك حديث صحيح أو موضوع؟ (2) وما معناه إذا كان حديثًا صحيحًا ليس بموضوع؟ (3) وهل المسلمون الذين يستعملون (البنطلون) و (الزنار) أي حبل الرقبة ويعرف عند الفرنساويين (قرافات) يكفرون بموجب نص ذلك الحديث أم لا؟ (4) وما معنى الآية {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (هود: 113) إلخ؟ (5) وما قول جنابكم في شخص مسلم يدين بدين الإسلام كما أنه يزعم أنه من جهابذة المسلمين الكبار وعلامة بمعنى الكلمة أفتى للفيف من المسلمين بقوله: إن الرجل المسلم الذي يرتكب المعاصي المحرمة شرعًا كشرب الخمر والزنا - أفضل عند الله من المسلم الذي يستعمل الزنار أي حبل الرقبة، وبالفرنساوية (قرافات) وما حكم القائل بهذا الكلام والإفتاء الفظيع الشنيع في الشرع؟ ، وهل يحكم عليه العقل بالجنون أو بالإلحاد؟ أفيدونا سيدي على صفحات مجلتكم المنار الغراء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... عيضة بن أحمد البحري الصدفي (ج 71) حديث (من تشبه بقوم فهو منهم) رواه أحمد وأبو داود والطبراني قال في المقاصد الحسنة: وسنده ضعيف وصححه ابن حبان. أقول: ولكن السيوطي أشار في الجامع الصغير إلى حسنه، ففيه ثلاثة أقوال أوسطها أنه حسن بين الصحيح والضعيف وليس بموضوع قطعًا. وابن حبان يتساهل في التصحيح فيتروى فيما ينفرد بتصحيحه كالحاكم. (ج 72) معنى الحديث مَن تكلف أن يكون شبيهًا بقوم في أفعالهم ومراياهم فإنه يعد منهم، فالذي يتكلف البذل تشبها بالأسخياء الأجواد يعد سخيًّا جوادًا وقد يصير منهم بالفعل فإن التكلف ينتهي غالبًا بأن يصير مَلَكَة كما ورد: (العلم بالتعلم والحلم بالتحلم) ومن المعلوم بالبداهة أن الإنسان لا يميل إلى التشبه إلا بمن يراه فوقه وأفضل منه، فكل من يترك شيئًا مما هو عليه وقومه من العادات والتقاليد والآداب والأعمال ومنها الأزياء ويستبدل بها ما عليه غيره وغير قومه في معناها فإنما يفعل ذلك لاحتقار ما تركه وتفضيل ما تكلفه عليه؛ ولذلك كان يكره النبي صلى الله عليه وسلم التشبه بأهل الكتاب في عاداتهم وأعيادهم وغير ذلك وينهى عنه فهو في الديانات محرم وفي العادات مكروه، وكان عمر بن الخطاب أميرالمؤمنين ينهى جيوشه عن التشبه بالأعاجم الذين يفتحون بلادهم ويحتم عليهم المحافظة على مشخصاتهم العربية. وقد فصلنا ذلك مرارًا. معنى آية {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (هود: 113) : (ج73) الركون ميل الثقة والاطمئنان. ومعنى الآية في الجملة (ولا تركنوا) أيها المؤمنون (إلى الذين ظلموا) من المشركين وغيرهم فتوالوهم أو تعتمدوا على صدقهم في ولايتكم أو تقروهم على ظلمهم أو تساعدوهم عليه { ... فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود: 113) التي هي جزاء الظالمين في الآخرة وهي مآلهم ومآل أعوانهم، قد تعاقبون على ذلك في الدنيا والآخرة جميعًا فإن عاقبة الظالمين في الدنيا إذا طال العهد على ظلمهم هو الهلاك كما نطقت بذلك الآيات الكثيرة ودلت عليه عبر التاريخ {وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء} (هود: 113) يتولون أمركم {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} (هود: 113) بالركون إليهم فيفوتكم ما أملتم من الركون إليهم. حكم لبس البنطلون ونحوه: (ج74) المسلمون الذين يلبَسون السراويل الضيقة المعروفة بالبنطلون ويضعون في رقابهم الزيق المذكور في السؤال لا وجه للقول بكفرهم ولا فسقهم بذلك؛ لأن هذا اللباس لا يتضمن تكذيبًا لما جاء به محمد رسول الله وخاتم النبيين من أمر الدين ولا خروجًا عنه، بل هو الآن لا يعد تشبهًا بغير المسلمين؛ لأنه صار من ملابسهم. وتشبه المسلم بغير المسلم في بعض العادات غير الدينية لا يعد كفرًا ولا معصية لله ولرسوله وإنما هو مكروه شرعًا كما هو مكروه سياسةً ووطنيةً. أما شرعًا فلما تقدم، وأما وطنية وسياسة فلما ذكرناه من تضمُّنه لاحتقار عادات أهل ملته ووطنه، وتفضيل غيرهم عليهم. شرع ما لم يأذن به الله: (ج75) إن الذي زعم أن من يرتكب كبائر الإثم والفواحش كشرب الخمر والربا أفضل عند الله من المسلم الذي يضع في عنقه زيق الرقبة المسمى باللغة الفرنسية (بالكرافات) أقل ما يقال فيه إنه جاهل بدين الله يقول على الله ما لا يعلم، وقوله هذا أعظم جرمًا وأكبر من العصاة لا من واضع زيق الرقبة على فرض أنه إثم؛ لأن العلماء قالوا في الآية الجامعة لأصول الكفر والمعاصي {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (الأعراف: 33) قالوا: إن هذه الكليات ذُكرت بطريق الترقي من المحرم إلى ما هو أشد تحريمًا منه، وإن القول على الله بغير علم تشريع ديني وهو حق الله وحده فمن شرع للناس ما لم يأذن به الله فقد جعل نفسه شريكًا لله في التشريع، ومن قبل تشريعه فقد اتخذه شريكًا لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) . وإنما كان هذا أكبر من اتخاذ شريك لله في العبادة كالدعاء والاستغاثة؛ لأن شرك مَن عبد غير الله بدعاء ونحوه قاصر عليه، ومن اتخذ نفسه شارعًا للناس فشركه متعدٍّ إلى من يتبعه في تشريعه. هذا، إذا كان نقلكم عمن ذكرتم صحيحًا. ويحتمل أن يكون الرجل قال هذا في الزنار الذي كان في العصور الأولى شعارًا لأهل الذمة يمتازون من المسلمين وصار لابسه يعد منهم، ولكن هذا قد بطل منذ قرون. وزيق الرقبة في هذا العصر يتخذه ملايين من المسلمين وغيرهم، ولا يصح على أي حال أن يقال: إن مرتكبي كبائر الإثم والفواحش أفضل عند الله ممن يلبَس لبسًا خاصًّا بالنصارى أو غيرهم ولا من النصارى أنفسهم، فإن المقام ليس مقام تفاضل مطلقًا. وقد اعتاد بعض المتنطعين من لابسي لباس العلماء على المجازفة في التحريم والتكفير بغير علم ولا عقل وإنما يغرهم قبول أكثر العامة لأقوالهم، وهذا سلطان كان لهم وقد أشرف على الزوال لإساءتهم التصرف فيه. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

حكم وقوف التعظيم لشعار الأمة أو الدولة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكم وقوف التعظيم لشعار الأمة أو الدولة (س 76) من صاحب الإمضاء في (بتاوي - جاوه) تأخر سهوًا. فضيلة العلامة الحجة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء، أدام الله للإسلام نفعه ومتع به، آمين. بعد إهداء ما يليق بفضيلتكم من مراسم التحية والاحترام وفائق السلام، ترون القصد من هذا المرقوم سؤالاً كنت أود أن أورده على قواعد الأسئلة بإيجاز، ولكن استحسنت أن أصحبه بقليل من الشرح لا لأهميته فحسب بل لإفادتكم أيضًا لكي توردوا السؤال على الوجه الذي يتناسب مع الجواب. كنت قد وجهت هذا السؤال لحضرة العلامة الداعي إلى الله بقوله وفعله السيد علي بن عبد الرحمن الحبشي العلوي الحضرمي القاطن الآن بمدينة بتاوي فصادف حضوري عند وقت رقمه مسطورًا لفضيلتكم. فأشار عليَّ أن أرقم له السؤال في مكتوب ليضمنه المسطور الذي سيرسله للمنار، وأن أنتظر الجواب ريثما يراه على صفحات مجلتكم فيطلعني عليه. وذلك لا لعدم المعرفة منه، لا، حاشا وكلا. ولكن لعدم حبه للتظاهر بالانحياز لحزب من الأحزاب الأندونساوية بجاوه. وقال: إننا عرب مهاجرون يلزم أن نبقى على الحياد تجاه كل حركة أندونسياوية، ولا بد في جوابنا ما لا يُرضي أحد الفريقين. ومن ثم أشار علي برقم السؤال هكذا: وهو أن في الجزائر الأندونساوية قامت ضجة بين عظيمين من الأحزاب الأندونساوية وهما الحزب الوطني والحزب الإسلامي، انتقد هذا الأخير على الأول وقوفهم لدى اجتماعاتهم احترامًا للعلم الذي وضعوه شعارهم القومي، ولوقوفهم أيضًا عند سماعهم للحن النشيد الموضوع لوطنيتهم مع نوع من الانحناء كما هي العادة المتبعة في الشرق والغرب، وكذا عندكم في مصر وغيرها من البلدان الإسلامية يقومون بواجب الاحترام والتعظيم لعلمهم ونشيدهم عند رؤيته وسماعه مع نوع انحناء. فهل عملهم هذا ينافي الدين ويناقض ما أتى به محمد صلى الله عليه وسلم أو هو من قبيل العادة فقط؟ . وكيف حكمه في ديننا الحنيف؟ (مع العلم بأن للإسلام في أدواره أعلامًا) ونريد البيان أيضًا كيف كان احترام الصحابة للعلم المحمدي إذا كان هناك احترام منهم؟ وقد قال الحزب المنتقِد: إنه يمس بأصول الدين الإسلامي وإن الوقوف لقطعة من القِمَاش ضرب من الجنون، فما أحوج البيمارستانات إلى معالجتهم! وإنه مروق من الدين بحجة أنهم ينحنون لغير الله، وبرهان واضح على عدم معرفتهم بالدين وما يدعوهم إليه، وإنه خدش لجبهة الشريعة الغراء، إلى غير ذلك مما جعل حتى غير المسلمين يدلون بدلائهم في المسألة. وقد خبط الحزب المنتقَد عليه في الدفاع وإفهام المنتقدين خبطًا مما جعل من واجب كاتب هذه السطور أن ينبه العلماء ليبينوا المسألة بيانًا يحسن السكوت عليه. فنرجو من غيرتكم على هذا الدين أن تفسحوا في مجلتكم للجواب على صفحاتها بما يشفي العليل، ويبرد الغليل ونرجو أن لا نحال على عدد سابق لصعوبة التفتيش عليه. وإننا للجواب على صفحات المنار - بفارغ الصبر - منتظرون، وفي الختام تفضلوا بالتنازل لقبول أسمى سلامنا وفائق احتراماتنا. ... ... ... ... ... السيد علي بن عبد الله السقاف العلوي ... ... ... مدرس بمدرسة عنوان الفلاح بتاوي ويلتفريدن - جاوه (ج) الدين كله اتباع، وأمور الدنيا فوضها الشارع إلى علم أهلها بها , بناءً عليه نقول: لو كان لتعظيم العلم الذي اتخذ شعارًا قوميًّا بالقيام عند نصبه مثلاً صبغة دينية كأعلام أهل الطريق بأن نصب في المسجد، أو كان نصبه مقترنًا بالأذكار وتلاوة القرآن بحيث يعد كالمشروع دينًا أو قال متخذوه: إنه مطلوب شرعًا - لقلنا: إن عملكم هذا بدعة في الدين، وقولكم هذا افتراء على الله، وإن مجموعهما شرع لم يأذن به الله. أما وهم يعدونه من الحاجات لا العبادات، وينظمونه في سلك السياسات لا الشرعيات - فحكمه حكم سائر ما يستحدث الناس من أمور الدنيا في معايشهم وصحتهم وتنقلاتهم وأسفارهم ونظم التربية والتعليم في مدارسهم، والإدارة والسياسة والحرب، الأصل في هذه العادات الإباحة وقد يعرض لها الحظر أو الوجوب أو الندب لضررها أو نفعها فلا يحكم بتحريم شيء من ذلك ولا كراهيته لذاته شرعًا ما دام لم يخالف نصًّا من كتاب الله تعالى ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو يشتمل على ضرر عام أو خاص تحرمهما الشريعة بدليل قطعي فيكون حرامًا، أو غير قطعي فيكون مكروهًا. كذلك إذا اشتمل فعله على منفعة مشروعة وتركه على مضرة ممنوعة فإن الحكم يكون بضد ما تقدم، بأن يكون فعله واجبًا أو مندوبًا، وتركه محرمًا أو مكروهًا، لما ذُكر لا لذاته، فلا شك في أن جميع مستحدثات أسلحة الحرب الحديثة وعتادها ووسائل النقل فيها واجبة في قتال المسلمين لمن يقاتلونهم بها، ومن عجز عن الحج ماشيًا أو راكبًا على جمل أو دابة وقدر عليه بركوب البواخر المستحدثة وسكك الحديد أو الطيارات وجب عليه الحج على هذه النقالات الحديثة. وأما الانحناء لغير الله فإن فعل بقصد القربة والثواب أو عدّه فاعله مطلوبًا شرعًا فإنه يكون عبادة محرمة وقد يكون استحلاله كفرًا كما يفعل الذين يطوفون بقبور الصالحين ويقبلونها ويلتمسون أركانها من باب التدين وطلب النفع أو رفع الضر من المدفونين فيها، وأما الانحناء الذي لا شبهة للتدين فيه فهو من العادات المباحة. وقد يتجه القول بكراهته إذا كان بشكل الركوع في الصلاة للاشتباه به في الصورة وإن خالفه في النية. وأما قول من قال إن تكريم العلم القومي أو الدولي جنون فهو يتضمن الحكم بأن أكثر البشر مجانين، فإذا حكموا عليه بمثل حكمه عليهم فأي الحكمين يكون أرجح في العالم؟ ! فيا أيها المسلمون، لا تَغْلُوا في دينكم، ولا تلبسوا الحق بالباطل، فدينكم يسر لا حرج فيه، ووسط لا إفراط ولا غلو فيه. ومن أخطأ في اجتهاده ثم ظهر له الحق فليرجع إليه، فإن الرجوع إليه فضيلة، والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة. هذا، وأما الأعلام ورايات الحرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ودول الإسلام فلم يكونوا يقومون لها عند رفعها، ولكنها كانت محترمة لا يحملها إلا الأخيار، فكان علي المرتضَى كرم الله وجهه كثيرًا ما يحمل راية النبي صلى الله عليه وسلم وقد حمل رايته يوم فتح مكة سعد بن عبادة سيد الأنصار، فلما قال: اليوم يوم الدمدمة، اليوم يوم الملحمة، اليوم تُستحَل الكعبة. وشكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الراية منه وأعطاها لولده لئلا يعد أخذها إهانة له وللأنصار رضي الله عنهم.

عقد النكاح وصيغة الطلاق عند أعراب فلسطين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عقد النكاح وصيغة الطلاق عند أعراب فِلَسْطِين (س77 و78) من صاحب الإمضاء. صاحب الفضيلة مولانا الحجة السيد محمد رشيد رضا المحترم السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وبعد: فإني أرجو من فضيلتكم الإجابة على ما يأتي، فالحاجة الشرعية ماسّة إلى ذلك ولكم منا عظيم الشكر ومن الله تعالى جزيل الأجر والثواب: (1) إن طريقة عقد النكاح عند الأعراب في قضاء بئر السبع هي أن يخطب الرجل المرأة التي يريدها إلى أهلها، وبعد الاتفاق على السياق يأخذ ولي أمر المرأة عودًا ويناوله الخاطب قائلاً له: هاك قصلة فلانة (ويسميها) بسنة الله وسنة رسوله، فيأخذ الخاطب العود أو القصلة ويضعه في عقاله أو يحفظه معه، فيصير هذا عقدًا صحيحًا في عادتهم ثم يبني عليها وتقيم معه إقامة الأزواج. فهل هذه الطريقة عقد صحيح لأن الأصل في العقود الصحة ولأن الأعمال بالنيات كما يؤخذ من تحقيق شيخ الإسلام ابن تيمية في الصحة من كتابه القياس في الشرع الإسلامي. أم هو عقد فاسد يجب على القاضي الحكم بين هذين الزوجين بالتفرقة؛ لأنهما لم يأتيا بالألفاظ المذكورة في كتب الفقه لعقد النكاح. (2) إذا أراد رجل من الأعراب المذكورين أن يطلق زوجة قال لها: كفيل فراقك فلان ويسميه، وهذا عندهم طلاق بائن لا يقوله إلا من قصد عدم البقاء مع زوجه؛ ولذلك تتزوج بعد ذلك بمن تشاء فلا يعارضها زوجها الأول. فهل هذا يعد طلاقًا لأن قوله لها: كفيل فراقك فلان كناية بمنزلة حبلك على غاربك.. إلخ أم أن هذا مجرد وعد بالطلاق ولا تعتبر نيته الفراق بهذه الجملة؟ . كتبت هذا والناس عندنا ينتظرون فتواكم الشافية؛ لأن هذه مسائل واقعة بكثرة في هذه النواحي والسلام عليكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حافظ البطة (ج) العبرة في العقود كلها وفي حل عقود الزواج، والطلاق ما يتعارف عليه الناس فيما بينهم، ويعد إيجابًا وقبولاً في عرفهم، لا بألفاظ لا يفهمونها بلغتهم ولا عرفهم، والألفاظ التي اعتمدها الفقهاء في صحة العقود أو وقوع الطلاق ليست تعبدية وإنما وجد الأئمة أهل اللغة يستعملونها فيها فبنوا أحكامهم عليها، وقد قال في القواعد الشرعية التي جعلت مقدمة لمجلة الأحكام العدلية الشرعية: إن العبرة في العقود (بالمقاصد والمعاني، لا بالألفاظ والمباني) وهي قاعدة صحيحة، وقد حقق الموضوع شيخ الإسلام في قواعده وكتاب القياس الذي ذكرتموه يغنيكم عن إطالتي فيه والله أعلم.

مراهنة سباق الخيل والتداوي بما خلط بمحرم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مراهنة سباق الخيل والتداوي بما خلط بمحرم (س79 و80) من حضرة صاحب الإمضاء في بيروت بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) : فإني أرفع إلى سيادتكم ما يأتي: (1) هل يجوز المراهنة على سباق الخيل وغيرها سواء كانت الشركة الضامنة للخيول وغيرها أجنبية أم وطنية. وكيفيتها عندنا أن يشتري المراهن ورقة بنمرة حصان أو حصانين فإذا صادف وصول الحصان أو الحصانين إلى الدرجة الأولى أو الثانية وغيرها حسب الشرط ربح الراهن وإلا فهو الخاسر، فما قولكم في هذا الرهان؟ وهل هو بمثابة القمار المحرم شرعًا أم لا؟ (2) هل يجوز تعاطي الدواء المخلوط بالمحرمات كالخمر والحشيش والكوكايين وغيرها لأجل تسكين الآلام وشفاء الأمراض والأسقام وذلك بأمر الطبيب سواء كان الطبيب مسلمًا أو مسيحيًّا أو غيرهما أم لا؟ تفضلوا بالجواب على صفحات مجلة المنار الأغر ليكون النفع عامًّا ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عباس ... ... ... ... ... ... ... مدير مدرسة رأس بيروت العلوي (ج) أما الجواب عن الأول فهو أن المراهنة المذكورة في السؤال من القمار المحرم لا ريب في ذلك، وإنما المراهنة المشروعة في السباق فهي ما كانت تمرينًا عمليًّا على الجهاد ولها شروط مشروحة في كتب الشرع لا حاجة إلى ذكرها، إذ لا وجود لها فنذكر حكمها. ولو سألتم أي فقيه أو طالب علم عنها لبيَّنها لكم. وأما الدواء المخلوط بشيء من هذه السموم المحرمة فيشترط في جوازه عند الحاجة إليه عدم وجود غيره يغني عنه، وللمريض أن يأخذ في ذلك بقول الطبيب العدل فإن لم توجد العدالة الشرعية فله أن يأخذ بقول من يثق بعلمه وتجاربه من الأطباء، وكذا بتجرِبته هو، واعلم أن أكثر الأدوية مشتملة على شيء من السموم المحرمة لضررها، ولكن وضعها بمقادير معينة مع مواد من غيرها يجعلها نافعة بإذن الله تعالى، وقد فصلنا هذا في المنار من قبل.

مجلة نور الإسلام والأستاذ الدجوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مجلة نور الإسلام والأستاذ الدجوي أتمت هذه المجلة الأزهرية سنتها الأولى ولولا فتاوى الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي ومقالاته فيها لكانت جديرة بالتهنئة؛ ففي مكتوباته ما يدعو إلى العجب من مخالفة إجماع السلف الصالح في الاتباع، وتأييد الخلف الطالح في الابتداع، وإقرار ما أفسد على الخرافيين دينهم وآدابهم وصحتهم من عبادة القبور بالدعاء والاستغاثة والتضرع والنذور لها، والطواف بها كالكعبة، واستلام أركانها وتقبيلها كالحجر الأسود، وتقريب القرابين لها، وتسييب السوائب لأجلها، وشد الرحال إلى موالدها، وتقديم عرائض الشكوى من مصائب الزمان للمدفونين فيها، وتسميته ذلك كله توسلاً، وتوجيهه بالتأويلات التي حذقها الأزهريون في توجيه عبارات الكتب المنتقدة بالاحتمالات الغريبة. وقد كثر انتقاد أهل العلم الصحيح على هذه الفتاوى والمقالات وكان القائمون بأمر الوعظ والإرشاد في مصر أشدهم تبرمًا وسخطًا على هذه المجلة أنها قطعت عليهم طريق الوعظ والإرشاد بكونها مجلة المعاهد الدينية، لا بكون الكاتب في توجيه البدع وعدها من عبادات الإسلام والشيخ يوسف الدجوي أحد كبار العلماء الرسميين، فكل واحد من هؤلاء المرشدين الذين نعنيهم قادر على الرد على هذا الشيخ وتفنيد تأويلاته الباطلة، ولكن الذي يجبنون عنه هو مقاومة رياسة الأزهر والمعاهد الدينية في مجلتها؛ لأنهم موظفون من قِبَلها، ويعتقدون أن إغضابها يقطع عليهم عملهم، فيفوتهم ثوابه ورزقهم، لذلك طالبَنَا غيرهم من أهل هذا القطر ومن غيره بهذا الرد وأوجبوه علينا وأرسل إلينا بعض أهل العلم من الأزهريين غير التابعين لرياسة المعاهد ومن غيرهم رسائل في الرد على الفتاوى والمقالات الدجوية لنشرها في المنار، وهو لا يتسع لها، وكل ما يُنشر فيه خير منها، وما فيها من الدلائل على نصر السنة ودحض البدعة، وحماية جانب التوحيد الأسمى، قد سبق لنا بسطه بأوسع وأقوى مما كتبوه، فقراء المنار يعرفونه ولا يخفى على أحد منهم أن يضل بشبهات الأستاذ الدجوي وتأويلاته الضعيفة النحيفة السخيفة، كالاستدلال على شرعية دعاء غير الله تعالى من أصحاب القبور والاستغاثة بهم في الشدائد والتضرع إليهم بكشف الضر، وجلب النفع، مما عجزوا عنه بأسبابه - بأن لفظ الدعاء والاستغاثة قد ورد في اللغة العربية فيما ليس بعبادة.. إلخ. وبأن الصالحين الذين يدعونهم يجوز أن ينفعوهم؛ لأنهم أحياء في قبورهم، وقد أثبت وجود الأرواح وصلتها بالأحياء كثير من الإفرنج وغيرهم. أمثال هذه الشبهات لا تروج عند أحد من عوام قراء المنار فضلاً عن خواصهم؛ لأنهم يعلمون جميعًا أن الدين اتباع لا ابتداع، لو كان لما يصنعه عُباد القبور ما ذُكر بالإجمال أصل في الإسلام لنقل فعله نقلاً متواترًا عن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبور خلفائه وخواص أصحابه رضي الله عنه ولكن لم ينقل عنهم شيء لا متواترًا ولا آحادًا، لا بسند صحيح، ولا بسند ضعيف، على أن العبادة لا تثبت إلا بالنص، بل نقل عنهم ما يبطل هذه البدع وأمثالها، بل نصوص القرآن القطعية تبطل هذا، وأنَّى لنا أن نوصل هذه المعلومات إلى قراء مجلة نور الإسلام وأكثرهم لا يطلعون على المنار؟ ! كنا نظن - كما يظن كثير من الناس - بالأستاذ الشيخ يوسف الدجوي ظنًّا حسنًا يرفعه عن طبقة الجامدين على التقاليد الذين تؤثر في علمهم البيئة العامية. وأول ما ظهر لنا مخالفًا لحسن ظننا في علمه وفهمه خطاب أرسله إلى عدو السلف والمحدثين الشيخ الكوثري التركي الحشوي، فطبعه تلميذ للكوثري ووزعه في الأمصار، فلما رأيته عزمت على الرد عليه، ودعوة الشيخ الدجوي إلى المناظرة في موضوعه كتابةً، فلم نلبث أن رأينا اسمه في محرري مجلة نور الإسلام ومن رأينا أن لا نتعجل بنقدها، ثم لم نلبث أن رأيناه هو مفتيها، وأن رأينا في فتاويه ما لو خصصنا جميع صحائف المنار للرد عليه لما وفت به، ولو كانت مجلة نور الإسلام تقبل الرد على ما يُنشر فيها كالمنار بما شاءت من الشروط العلمية والأدبية لكفتنا وكفت غيرنا مؤنة هذا الواجب، لتمييز الحق من الباطل، ولكنها لا تفعل. فلم يبق إلا أن تنشر هذه الردود التي كتبها - أو يريد أن يكتبها - الكثيرون في بعض الجرائد الإسلامية اليومية بمصر، وأن ترسل خلاصة منها إلى الجرائد الإسلامية في سائر الأقطار. وقد كان بعض علماء هذه البلاد شرعوا في الرد عليه في جريدة الفلاح المصري فحال إبطال الحكومة لها دون المضي في ذلك، ولكن من هؤلاء مَن حاول الرد عليه في كل ما رآه مخطئًا فيه من نقل ورأي وحكاية قول غير صحيح، وهذا شرحه طويل، فالواجب الرد عليه فيما أخطأ فيه من المسائل الدينية قبل كل شيء. وإن لديَّ من الشواغل الخاصة في هذا الوقت ما يمنعني من التصدي للرد التفصيلي عليه في الجرائد (منها) أنني مشتغل بإتمام طبع الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الذي طال العهد على مطالبة الناس لنا به وهو أكبر مما سبقه وسيصدر في هذا الصيف إن شاء الله تعالى. لو أعطى فضيلة الأستاذ الأكبر - أو مجلس الأزهر الأعلى - هذه المجلة حقها من العناية في نظام التحرير وأبواب المسائل لجعل لباب الفتوى لجنة خاصة أو لناطها بفضيلة مفتي الديار المصرية وهو يختار لها من العلماء من يرى فيهم الكفاية تحت إشرافه؛ فقد علمت أن الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي هذا العصر قد فضل مَن قبله من المفتين بإقامة الدلائل على ما يفتي به في كل موضوع بحسبه، وهو على ما علمت من سيرته في الذروة العليا من علماء الأزهر في سعة الاطلاع على العلوم الشرعية ومتعلقاتها ولا سيما التفسير والحديث اللذين قصر فيهما الأكثرون. ويظهر مما يكتبه الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي في نور الإسلام أنه من أقلهم بضاعة في هذين العلمين، وهما أساس علوم الشرع ولا سيما الحديث - روايته ودرايته - وفي آثار السلف الصالح. ولم يقف هذا الأستاذ عند حد الفتوى في الجناية على هذه المجلة العامة التي كان من الواجب عليها العناية بجمع كلمة المسلمين والتأليف بينهم حتى وجه عنايته للتفريق بين الأزهريين - إن لم أقل المصريين - وبين الوهابيين، بكتابة مقالات خاصة في الطعن على عقائد هؤلاء وتجهيلهم، وقذفهم بتكفير مَن عداهم من المسلمين، والظاهر أنه تلقى ما يسنده إليهم من المتداوَل على ألسنة الناس من تأثير الدعاية العثمانية التركية القديمة التي أذاعها أتباعهم وأنصار سياستهم منذ ظهرت نهضتهم الدينية في بلاد العرب، وخشي الترك أن يؤسسوا دولة عربية قوية تزيل سلطانهم من البلاد العربية، فحاربتهم الدولة لذلك بالسلاح وبالدسائس والدعاية الدينية، واستخدمت في هذا بعض المنافقين والخرافيين من المعممين وغيرهم من الكُتَّاب، فزعموا أن لهم مذهبًا جديدًا في الإسلام من قواعده تكفير كل من يخالفهم، ومن أشهر من ألف في الرد عليهم كبير ملاحدة العراق المجاهر بالإلحاد جميل صدقي أفندي الزهاوي الشاعر المشهور. ولولا هذا السبب السياسي لما كانت الدولة تبالي بعقائدهم وافقت السنة أم خالفتها فإنها كانت تعد النُّصَيْرية والإسماعيلية والدروز من المسلمين في معاملاتها الرسمية كلها! . والحق أن هؤلاء الذين سموهم بالوهابية من أتباع إمام السنة الأكبر أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وإنني اطَّلعت على أكثر كتبهم وفتاويهم فلم أرهم يخالفون مذهبه إلا في شيء واحد وهو أنه إذا صح الحديث -بخلاف الصحيح في المذهب- وأخذ به الأئمة الثلاثة أو اثنان منهم فإنهم يرجحون العمل به على الصحيح في المذهب. وأما التكفير فلا يأخذون فيه إلا بما أجمع عليه المسلمون. بهذا صرح المجدد الشيخ محمد عبد الوهاب وغيره من أولاده وأحفاده رحمهم الله تعالى. وهم يفرقون بين بيان ما هو كفر بالقول والكتابة وبين الحكم به على الشخص المعين ومعاملته معاملة المرتدين بالفعل فقد صرحوا بأن الشخص المعين يمكن أن يكون متأولاً، وأن يكون في ارتكاب بعض المكفرات معذورًا بالجهل، ولم يبلغنا أن حكومتهم قد أقامت حد الردة في الحجاز على أحد ممن ينكرون عليهم بعض أقوالهم ويقولون لهم: إنها شرك بالله تعالى. مع العلم بأنهم يقيمون الحدود الشرعية. وقد أجمع علماء المسلمين على تكفير من يشرك بالله تعالى أحدًا من خلقه ملكًا كان أو نبيًّا أو حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا بتوجيه أي عبادة إليه مما يقصد به القربة وطلب النفع أو دفع الضر من غير طريق الأسباب ولا سيما الدعاء الذي هو مخ العبادة، والتضرع في الشدائد، وتقريب القرابين، فما كان من هذه التعبدات عمليًا فهو لا يحتمل التأويل، وما كان منها قوليًّا فمنه ما يحتمل التأويل، وقد يخطئ بعض علماء الوهابية كغيرهم في بعض المسائل التي تحتمل ذلك والتي لا تحتمله. ولكن لا ينكر أحد عرف حالهم وبلادهم أنهم طهروها مما كان فاشيًا فيها من الشرك بعبادة القبور والشجر والحجر، ومن البدع والخرافات التي أجمع المسلمون على بدعيتها، فضلاً عن المعاصي المعروفة وترك الفرائض. فهي بهذا تفضل هذه البلاد وغيرها من بلاد الإسلام. وإن ما ينكره العالِم المسلم على أهلها مما لا يخلو منه قوم من الأقوام فهو دون ما ينكر على غيرهم. فلماذا يخص الأستاذ الدجوي هؤلاء بالرد عليهم والطعن في دينهم بغير بصيرة في هذا الوقت الذي وقع فيه بين حكومتهم في الحجاز وحكومتنا المصرية من الخلاف والشقاق ما هو معروف يشكو منه جميع المسلمين عندنا وعندهم وفي سائر الأقطار ويتمنون زواله؟ هل يدعي الأستاذ الدجوي أنه يفعل ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو يعلم أن في بلادنا من البدع والمنكرات أضعاف ما في بلادهم، وأن أهلها أحوج من أهل نجد إلى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر؛ لأن المجلة التي يكتب فيها منتشرة هنا غير معروفة في نجد، ولأن كلامه يرجى قبوله عند عوام مصر وما يقرب منها من الأمصار، ولا يرجى أن يكون له من التأثير عند مَن عساه يطلع عليه من الوهابيين إلا شره وأضره؛ لأنه ليس له من الآثار العلمية المؤيدة بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح ما يحملهم على الثقة به والاعتداد بعلمه ودينه إذا هو وصل إليهم، ولم يكن طعنًا فيهم، فكيف وهو طعن يستطيع عوامهم الرد عليه؟ ! وكان اللائق بمكانته من كبار علماء الأزهر وباشتغاله في تحرير مجلة دينية منسوبة إلى هذا المعهد الكبير الصيت جديرة بأن يكون من أكبر مقاصدها التأليف بين المسلمين - وقد قام عنده باعث ما على الرد عليهم دون غيرهم - أن يقرأ عدة من كتبهم المطبوعة المشهورة ويرد على ما يراهم متفقين عليه مما يرى هو أنه خطأ أو على من يراه مخطئًا من علمائهم باسمه ولو فعل هذا لرأى أن هذه التأويلات والاحتمالات التي يحتج بها على هذه البدع التي يسميها التوسل قد قيلت من قبله وفندت تفنيدًا في تلك الكتب. ومن أغرب ما يتأوله لعُباد القبور بناء أقوالهم وأفعالهم على أنهم أشعرية يعتقدون أن لا فعل لغير الله تعالى ولا تأثير في شيء ما، لا كسب البشر الذي هم فيه مجبورون في قوالب مختارين، ولا خواص الأشياء الطبيعية كإحراق النار وإرواء الماء، فلو كان هؤلاء الناس يعتقدون هذا لما شد الرحال نساؤهم مع رجالهم وأطفالهم إلى القبور، وحملوا إليها الهدايا والن

مسيح الهند القادياني الدجال ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسيح الهند القادياني الدجال (4) نقلنا في النبذة الثالثة من هذا الرد بعض نصوص القادياني في مسألة نسخ الجهاد وما فيها من إطراء الإنكليز بالمدح والحكم بوجوب شكرهم على المسلمين، وتحريم جهادهم من كتابه (الهدى والتبصرة لمن يرى) الذي ألفه للرد على صاحب المنار. وقد أيد هذا في مواضع أخرى من كتبه محتجًّا بأن الجهاد انقطع بطبعه بظهور المسيح؛ إذ زالت به غربة الإسلام وضعفه وانتصر أهله على النصارى المعبر عنهم عنده بيأجوج ومأجوج، وحصل كل ما ورد أنه يحصل بظهور المهدي والمسيح من عزة الإسلام، والقضاء على أعدائه الكافرين. ومن ذلك ما فصله في أواخر خطبة له سماها (خطبة إلهامية) وزعم أنها من معجزاته، فإنه بعد أن زعم أن الذلة التي أصابت الملة الإسلامية في عصره ما أصابتها من قبل ولن تصيبها إلى يوم الدين قال: (فعند ذلك تنزل النصرة من السماء، ومعالم العزة من حضرة الكبرياء، من غير سيف ولا سنان ولا محاربين [1] وإليه إشارة في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} (الكهف: 99) وهو مراد من بعث المسيح الموعود يا معشر العاقلين [2] وفي لفظ النزول الذي جاء في الأحاديث إيماء إلى أن الأمر والنصر ينزل كله من السماء في أيام المسيح من غير توسل أيدي الإنسان ومن غير جهاد المجاهدين.. إلخ. اهـ. بحروفه. وكنت أريد أن أبحث في كتبه على نصوص أخرى في هذا الموضوع فراجعت بعض ما عندي منها على كثرة شواغلي في هذه السنة فشغلني عن مسألة الجهاد ما رأيته فيها من الجهالات السخيفة في الاستدلال على كونه هو المهدي المنتظر والمسيح الموعود به، وغرائب تحريفه لآيات القرآن والأحاديث الواردة في هذه المسألة. ومنها ما كنت رأيته ونسيت تفصيله، ومنها ما لم أكن قرأته، فإن ذا المعرفة الفنية والملكة الذوقية في اللغة العربية يمل ويسأم وتفنى نفسه من أسجاعه المتكلَّفة التي حاول بها محاكاة فواصل القرآن، على ما فيها من الأغلاط النحوية والصرفية، دعْ قواعد المعاني والبيان. وهو لعراقته في الجهل باللغة لا يستحيي من الاستدلال على مسيحيته بسورة الفاتحة وبسورة العصر، وبآيات كثيرة من القرآن، ليس فيها أدنى إشارة إلى هذا الشأن، كما رأى القارئ فيما نقلناه آنفًا من خطبته الإلهامية وحواشيها الجهلية! وكذلك يحمل على شخصه جميع الأحاديث الواردة بشأن عيسى عليه السلام ومن أغربها قوله في حاشية ص 91 من التبصرة: (أول بلدة بايعني الناس فيها اسمها لدهيانة، وهي أول أرض قامت الأشرار فيها للإهانة، فلما كانت بيعت (كذا) المخلصين، حربة لقتل الدجال اللعين، بإشاعات الحق المبين. أشير في الحديث أن المسيح يقتل الدجال على باب اللُّدّ بالضربة الواحدة - فاللد ملخص من لفظ لدهيانة - كما لا يخفى على ذوي الفطنة) ! اهـ بحروفه. ومعلوم أن (اللد) اسم مدينة في فلسطين. فزعم هو أن المراد بها بلدة لدهيانة في الهند وأن معنى لفظ الدجال مخالفة أعدائه. وأن الحربة مبايعة المغرورين به له. وكان أتباعه يقبلون مثل هذا منه لجهلهم باللغة العربية وأما الآن فقد صار لهم جمعية غنية يعتصمون بها لمنافعها. وقد ظهر لمتقني هذه اللغة بعده مقدار جهله وسخفه وهوسه العقلي في دعواه فمنهم من ترك ضلالته، ومنهم من اعتدلوا في دعاويهم فيه. وإنما يصر عليها الجاهلون، ويؤْثِر الانتفاع الطامعون الجشعون. ولله في خلقه شؤون.

إلحاد في القرآن ودين جديد بين الباطنية والإسلام ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إلحاد في القرآن ودين جديد بين الباطنية والإسلام (2) المقالة الثالثة ما قدمه من التمهيد لهذا الدين الجديد قد مهد هذا الملحد لبيان الحاجة إلى دينه الجديد بهذه الدعاوي الخمس: (1) قوله: (إن هؤلاء المسلمين بعدوا عن القرآن ولم يعملوا به، ففريق منهم لم يفكر فيه واكتفى منه بالانتساب إليه، والفريق الآخر الذي يظن أنه متمسك به بعد عنه من جهة الخطأ في التعاليم) . اهـ. (2) قوله: (وقد بلغ الدسّ والحشو في التفاسير أنك لا تجد أصلاً من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله) . اهـ. (3) قوله في أصحاب المذاهب إنهم حكموا أصولهم في القرآن: (حتى صار ميدانًا للجدل وأصبح غير صالح للحياة، فهدايته فُقدت بالمجادلات في الألفاظ والمذاهب) ومعانيه ومقاصده ضاعت بالروايات الناسخة، والتفسيرات المتحجِّرة العقيمة. (4) قوله: (وقد تغيرت معاني القرآن أيضًا وتبدلت مقاصده باعتماد المفسرين على كتب اللغة التي تفسر الألفاظ بلازمها، وتقصرها على بعض معانيها، فتكون بذلك بعيدة عن فقه اللغة فيتغير معناها المراد في القرآن) اهـ. (5) زعمه أن القرآن ليس له معانٍ قطعية ثابتة، بل ألفاظ تقبل الآراء والأنظار المختلفة المتعارضة في كل زمن وهذا معنى كونه متشابهًا، وإذًا يجب تفسيره في كل عصر بما يناسبه. وقد ذكرنا قوله هذا في المقال الماضي وسنعيده قريبًا في بيان أصول دينه الجديد. خلاصة هذه الدعاوى الخمس أن جميع المسلمين قد بعدوا عن دين الإسلام، ولا يكاد يوجد أحد منهم عليه، وأن سبب ذلك هو هدم المفسرين لجميع أصول القرآن وتبديلهم لها، وكوْن علماء المذاهب حكموا أصولهم فيه، فزالت هدايته، وضاعت معانيه ومقاصده، وأنه لا يمكن الاعتماد في فهمه على كتب اللغة التي استمد منها المفسرون؛ لأنها فاسدة بعيدة عن فقه اللغة فتتغير بها المعاني المقصودة من القرآن، ولأنه ليس له معانٍ ثابتة يجب التزامها في كل زمان. ونتيجة ذلك كله أنه لما كان لا بد للناس من الدين وأنه (لما كان القرآن آخر الكتب الإلهية كان واجبًا على الناس أن يرجعوا إليه لمعرفة حقيقة الدين) ولما كان لا يمكن أخذ دين القرآن من كتب التفسير ولا من أصول المذاهب وفروعها ولا من كتب اللغة وأنه لا بد أن تكون معاني القرآن في هذا العصر موافقة له دون ما قبله - ولما كان هو الذي بين هذا في تفسيره - تعين أن يكون ما جاءهم به (هذا الملحد) هو دين القرآن الذي لا بد لهم منه، وهذا عين ما كان يقوله دعاة ملاحدة الباطنية من أن مراد الله من القرآن لا يمكن العلم به إلا من إمامهم المعصوم كما هو مبين في كتب المقالات والتاريخ والمناظرات معهم (راجع أخصرها وهو القسطاس المستقيم للغزالي) ، وإننا نشير إلى بطلان مقدماته بالاختصار فنقول: أما الدعوى الأولى فهي صادقة في كثير من المسلمين لا في جميعهم، وقد بينا هذا في مواضع كثيرة من تفسير المنار ومجلة المنار، ونعبر عن هؤلاء المسلمين بالجغرافيين، أي الذين يعدون من المسلمين في إحصاء الحكومات وعلماء الجغرافية للأمم والشعوب مع بيان أديانهم الرسمية. وقد سرقها هذا المدعي الكذاب إلا أنه جعلها عامة، ومقدمة لنتيجة باطلة. بل عللها بما يجعل حكمه عامًّا يشمل مسلمي السلف كلهم. وأما الدعوى الثانية فهي باطلة، ليس فيها للحق شية ولا شائبة، فالروايات الموضوعة قليلة في أكثر التفاسير، ولا يعتمد عليها في هدم شيء من أصول الدين، وأما دينه هو فتهدمه نصوص القرآن القطعية، والسنن القولية والعملية. وأما الدعوى الثالثة فمقدمته تصدق في بعض آراء المقلدين المتعصبين لمذاهبهم من المفسرين، وهي التي نبين القول الراجح منها في تفسيرنا. والأقيسة المؤلفة من مقدمات جزئية، لا تنتج نتيجة كلية، فدعواه أن هداية القرآن فقدت بذلك دعوى باطلة. وأبطل منها زعمه أن معاني القرآن ومقاصده ضاعت بالروايات الناسخة، والتفسيرات المتحجرة العقيمة، أما النسخ الأصولي فالسيوطي حصر آياته في عشرين، وحقق بعض الأصوليين كالشوكاني أنها بضع آيات فقط، دع إنكار بعض المفسرين للنسخ من أصله، وترجيح آخرين لكثير من نقضه لما قيل فيها. ومن العجيب الغريب أن هذا الملحد المغرور يتصدى لنسخ آيات العقائد والأخبار الإلهية التي أجمع العلماء على أنها كلها محكمة لا يعرض له النسخ، وبنسخ أيضًا كثيرًا من الأحكام القطعية بفهمه الباطل. ثم يزعم أن القرآن قد ضاعت معانيه كلها بذهاب المفسرين إلى نسخ بعض الآيات بآيات أخرى خير منها للأمة أو مثلها! وأعجب من هذا وأغرب أنه يزعم أن القرآن يحتمل جميع الآراء والأفهام، وهو ينكر على أعلم الناس به ما فهموه منه! وأما التفسيرات التي سماها المتحجرة تقليدًا لأدعياء التجديد الإلحادي من المتفرنجين فلا يقبل لمثله قول فيها بعد ما علم من جهله وإلحاده وبراءته مما أجمع المسلمون على أنه من محكمات القرآن وأصول الإسلام. وأما الدعوى الرابعة فهي ظاهرة البطلان أيضًا فالمحققون من المفسرين راسخون في فقه اللغة، وكتب اللغة في جملتها قد حققت المعاني الأصلية للألفاظ، ومنها ما فرق بين الحقيقة والمجاز، وعابوا على الفيروزآبادي الخلط بينها، وحشر الألفاظ الاصطلاحية فيها. وناهيك بمفردات القرآن للراغب وأساس البلاغة للزمخشري دلالة على ذلك، وهذا جهل منه لا يحتاج دحضه إلى التطويل. وأما الدعوى الخامسة فنذكر وجه بطلانها في الكلام على الأصل الثاني من أصول دينه الجديد، وإنما نقول هنا: إنها مستمدة من إلحاد الباطنية. قال النسفي في عقائده: النصوص على ظاهرها والعدول عنها إلى معانٍ يدعيها أهل الباطن إلحاد. وقال السعد التفتازاني في شرحه لها: سميت الملاحدة باطنية لادَّعائهم أن النصوص ليست على ظاهرها بل لها معانٍ باطنة لا يعرفها إلا المعلم (يعني الذي يسمونه الإمام المعصوم) . بعد هذا التمهيد نبين أصول دين هذا الملحد الجديد، فنقول: الأصل الأول للدين الجديد تفسير القرآن بالقرآن دون اللغة والسنة هو ما سماه طريقته في تفسير القرآن وهو (كشف معنى الآية وألفاظها بما ورد في موضوعها من الآيات والسور، فيكون من ذلك العلم بكل مواضيع القرآن، ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه بنفسه كما أخبر الله، ولا يحتاج إلى شيء من الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع. أقول: هذا الأصل كله جهل وغش، سببه أن مدعيه فاقد لكل ما اشترطه العلماء من العلوم التي يتوقف عليها فهم القرآن وتفسيره. وبيانه من وجوه: (الوجه الأول) أن مَن لم يكن يفهم القرآن بما أوتي من العلم باللغة الفصحى وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته العملية والقولية لا يمكن أن يفهم كل آية بمراجعة ما يناسبها في لفظها ومعناها، وإنما الذي قررناه في تفسير المنار هو أن الذي يفهم الآيات المتعددة في موضوع واحد يحتاج إلى استحضارها عند إرادته بيان حكم الله تعالى في ذلك الموضوع. (الوجه الثاني) أن هذه الطريقة أكبر شاغل عن تدبر القرآن والاهتداء به، إذ يأمره عند تلاوة الآية الواحدة بمراجعة آيات كثيرة يدَّعي هو أنها بمعناها. ومن المعلوم بالضرورة أنه قد يكون في كل آية منها معانٍ أخرى غير اللفظ أو المعنى المراد من المقابلة وحينئذ يضطرب اختلاط هذه المعاني فلا يسلم للقارئ منها شيء. (الوجه الثالث) قوله إن الله أخبر بهذا هو كذب وافتراء على الله، فإن الله لم يخبر بهذا، ولو أخبر به لبيَّنه بالعمل رسوله الذي أنزل عليه بتلاوة الآية مع كل ما نزل بمعناها، ولنقل ذلك بالتواتر ولكنه لم ينقل قط لا تواترًا ولا آحادًا. (الوجه الرابع) قوله: ولا يحتاج إلى شيء من الخارج.. إلخ باطل فإن ما يحتاج إليه مريد فهم القرآن من الخارج (ولا يصح إسناد الاحتياج إلى القرآن نفسه) غير ما ذكره كثير، وأهمه وأوله وأوْلاه بالتقديم معرفة معاني مفرداته وأساليبه في اللغة والمعاني والبيان ويليه أو يقرن به معرفة حال الأمة العربية قبل نزول القرآن وفي أثناء نزوله ومعرفة سيرة الرسول وسنته. فهذا ما يتوقف عليه فهم عقائد الدين الذي جاء به وعبادته وأصول التشريع فيه وهي المقاصد الأساسية للدين وأما معرفة سنن الله تعالى في الكون والاجتماع فهي مزيد كمال في هذا الدين. ولكن هذا الملحد يريد هدم بعض قواعد هذه العقائد والأصول والأحكام، محتجًّا على هدمها بمخالفتها لسنن الكون ونظام الاجتماع، وهو يجهل هذه السنن كما يجهل تلك القواعد والأحكام. (الوجه الخامس) أن الله قد وكل بيان كتابه إلى رسوله الذي أنزل عليه بمثل قوله {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وقرن طاعته بطاعته أمرًا ونهيًا، ووعدًا ووعيدًا، فزعم هذا الملحد أن المسلم لا يحتاج في فهم القرآن إلى غير القرآن.. إلخ هو كفر بالقرآن وبمن أنزل عليه القرآن، وبناءً على هذا قال صلى الله عليه وسلم للناس: (خذوا عني مناسككم) وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) ولكن هذا الملحد لم يحرم بالحج من الميقات كما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأنه غير متبع للرسول صلى الله عليه وسلم وقد أمر القرآن باتباعه، وناط به حب الله تعالى والفلاح في الآخرة. وجملة القول في هذا الأصل الذي انتحله لتفسيره بالباطل أنه يستغني عنه المفسر إذا أراد جمع الآيات في كل موضوع بكتاب (فتح الرحمن لطالب آيات القرآن) وكتاب (مفتاح كنوز القرآن) وكتاب (نجوم الفرقان) وما في موضوعها، بل أرقامه التي وضعها هو للمراجعة ليست عامة لكل الألفاظ ولا لكل المعاني. وهي قاصرة على ما يفهمه هو، وفهمه سخيف باطل كما علم من الشاهد الذي أوردناه منه في المقال الأول في الإنس والجن. وقد وضع الشيخ ثناء الله الهندي المعاصر تفسيرًا سماه (تفسير القرآن بكلام الرحمن) وتباع الطبعة الثانية منه في مكتبة المنار. وإنا لنذمه إذا قلنا إنه أصح من هذا الملحد فهمًا، وأوسع علمًا. والحافظ ابن كثير يُعنَى في تفسيره بإيراد الآيات الكثيرة في معنى الآية التي يفسرها. ونحن أشد عناية في تفسيرنا بإيراد ما يتوقف عليه تحقيق المعنى اللغوي أو العلمي من هذه الآيات، وما يصح شاهدًا على بعض المعاني المطلوبة يغني عن إطالة القول في بعض آخر. *** الأصل الثاني في الدين الجديد المُحْكَم والمُتشابه من القرآن وهو زعمه أن أصول الدين المحكمات في القرآن هي الثلاثة الآتية وأن القرآن كله متشابه قال: (أي أنه من تعدد المعنى يتشابه ويختلف عن الناظرين ولا يضر الناس اختلافهم في المعاني والأفهام ما داموا يرجعون إلى المحكمات من الأصول والأمهات، أي يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات) . المراد من هذا الأصل أنه ليس في القرآن نصوص قطعية الدلالة في العقائد ولا في التشريع يجب على أهله التزامها علمًا وعملاً، بل يكفي كل أحد أن يؤمن بأن للعالم إلهًا وباليوم الآخر ويعمل الصالحات بحسب رأيه غير مقيد في ذلك بما أجمع المسلمون على نقله من عهد الرسول إلى هذا العهد من قول ولا فعل، وله أن يفهم القرآن كما يشاء؛ لأنه قابل بتشابهه لكل فهم وكل رأي (قال) : (وإن آراء المفسرين فيه تابعة للبيئة والظروف المحيطة بهم، وهذه تتغير وتتجدد، فالجمود على آراء فاتها الزمان مؤخِّر للأمة، وجعل القرآن مقيدًا بهذه الآراء ضار به

التجديد والتجدد والمجددون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التجديد والتجدُّد والمجدِّدون محاضرة ألقاها صاحب هذه المجلة في نادي الجمعية الملكية، باقتراح جمعية الرابطة الشرقية في إحدى ليالي رمضان سنة 1348 وقد حضرها الجم الغفير من العلماء والأدباء وطلبة العلم بالأزهر ونجباء المدارس العالية، وفضليات النساء. وكذا بعض فضلاء المستشرقين من الشعوب الأوربية، وقد سُئلوا بعد الفراغ منها عن رأيهم فيها، فشهدوا لها بالاعتدال. بسم الله الرحمن الرحيم أيها السادة عهدت إليَّ جمعية الرابطة الشرقية بأن ألقي على حضرتكم في هذه الليلة محاضرة في موضوع التجديد والتجدد والمجددين، كما تفضل زميلي في عضوية إدارتها الدكتور منصور فهمي ببيانه لكم باسمها، فأرجو من حضرتكم الإصغاء والإغضاء عن التقصير. وأبدأ بالتمهيد للموضوع بمقدمة في بيان الحاجة إلى شرحه وتمحيصه فأقول: المقدمة التمهيدية في حاجتنا إلى التجديد بأنواعه في هذا العصر المضطرب بأنواع الانقلاب الاعتقادية والفكرية والسياسية والشيوعية والبلشفية في هذا العصر القلق بالفوضى الدينية والأدبية والاجتماعية، في هذا العصر المهدد بالثورة النسائية، ونقض ميثاق الزوجية، وانقطاع سلك الأسرة، ووشائج الرحم والقرابة، في هذا العصر الذي نجمت فيه قرون الزندقة، والإباحية المطلقة، والهجوم على مقومات الأمة من دين ولغة وأدب، ومشخصاتها من عادات وزي وحسب، حتى لا يبقى فيها شيء ثابت يربى عليه النشء وتحترمه النابتة. في هذا العصر الذي أجملت وصفه - وعندكم تفصيله - كثر اللهج بيننا بلفظ الجديد والتجديد والمجددين، ولعمر الحق إننا لفي أشد الحاجة إلى التجديد والمجددين، فإنه لم يبق عندنا شيء يحفظ شخصيتنا القومية، ومقوماتنا الملية، ويرتقي بنا في معارج الحياة الاجتماعية، إلا وقد سحلت مريرته، وانفصمت عروته. أما ما كان عندنا من حسب قديم، ودين قويم، وحضارة زاهية وملك عظيم فقد أخلقناه وأبليناه، بل هجرناه فنسيناه، وأما ما حاولناه من اقتباس طريف، وانتحال حديث، فإنا تشبَّثنا بأهدابه، ولم ننسج شيئًا من أثوابه، فكل ما لدينا من القديم والجديد، فهو من قشور قشور التقليد، كقشرة اللوز والجوز الخارجية الظاهرة، التي تغشى القشرة الخشبية الباطنة، لا غناء به في نفسه، ولا هو حفاظ لشيء من اللباب في داخله. فإن كان أزهرنا ومعاهدنا الدينية في حاجة إلى الإصلاح لتجديد هداية الدين، فمدارسنا الأميرية والأهلية أحوج إلى الإصلاح لتجديد حضارتنا المدنية، وإعادة استقلالنا، وإقامة سائر مصالحنا، فإن ما ظهر من فساد التربية والتعليم فيها شامل للقسمين: الإيجابي والسلبي. وأما ما نشكو من خلل المعاهد الدينية فمعظمه سلبي محض، وسنبين ضرره بعدُ. ولا يزال أهل الرأي والفهم من الأمة يشكون من كل منهما، ويقترحون الإصلاح بعد الإصلاح لهما. نحن نحتاج إلى تجديد استقلالي كتجديد اليابان ترتقي به مصالحنا الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وتنمى به ثروتنا الزراعية والصناعية والتجارية، ونكون به أمة عزيزة ودولة قوية، مع حفظ مقومات أمتنا من دين وثقافة وتشريع ولغة، وحفظ مشخصاتها القومية من زي وعادات حسنة وأدب. لا إلى تجديد تقليدي كتجديد الدولة العثمانية الذي انتهى بتمزيق سلطتها (إمبراطوريتها) الواسعة، ثم بزوالها من الوجود، ومحو رسمها من مصوّر العالم الجغرافي ولا كتجديد الدولة المصرية الذي بدئ به في عهد مؤسسة محمد علي الكبير استقلاليًّا، ثم استحال تقليديًّا، فانتهى بالاحتلال، وفقد الاستقلال، ولو استقام على خطته الأولى لصارت به مصر سلطنة عظيمة مؤلفة من شطر إفريقية الشرقي، وشطر آسية الغربي، ولأعادت مجد الحضارة العربية، ونِيطَتْ بها زعامة الأمة الإسلامية، ولا تزال مستعدة لهذا، وما عليها إلا أن تأخذ له أهبته، وتسعى له سعيه، ثم تطلبه في إبانه، وتأخذه بربَّانه وعلى عرشها اليوم ملك يظهر من الاستعداد لهذا ما يعلمه الجميع. نعم، نحن في حاجة إلى هذا التجديد المجيد، الجامع بين الطريف والتليد، وإلى مجددين في العمران كمحمد علي الكبير، وفي العلم والحكمة كمحمد عبده وجمال الدين، لا إلى تجديد الإلحاد والإباحة، والتهتك والخلاعة، والدعوة إلى الرذيلة باسم الأدب المكشوف، والتنفير من الفضيلة بدعوى الحرية، وتحرير المرأة الشرقية، وتقليد الحضارة الغربية، فإن كل هذه المفاسد قديمة لا جديدة، كما يعلمه المطلعون على تاريخ أثينة ورومية وغيرهما من عواصم الشعوب القديمة، وهي التي أضعفت دولها وذهبت باستقلالها {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء: 16) أي أمرناهم بالطاعة والفضيلة، ففسقوا عن أمرنا إلى المعصية والرذيلة، فآثروا شهواتهم الخاصة، على النهوض بالمصالح العامة، فحق عليهم قولنا {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} (إبراهيم: 13) وقولنا {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} (القصص: 59) وقولنا (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) وقولنا {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) أي ما كان ليهلكهم بظلم منه لهم وهم مصلحون في أعمالهم. أيها السادة: إن إصلاح محمد علي الكبير العمراني لم يزل معروفًا، وإن إصلاح الحكيمين الديني والسياسي الاجتماعي لم يصر مجهولاً، فجلالة الملك الجالس على عرش محمد علي والأمراء والنبلاء من سلالة محمد علي هم أقوى ظهير للأمة وللدولة على إعادة تجديده العمراني العسكري سيرته الأولى، مع المحافظة على مقومات الأمة ومشخصاتها، إذا طلبته الأمة منهما، فإن عمامة محمد علي العجراء، وجُبته القوراء، وأزياء رجال دولته القومية، ورجال بعثاته العلمية، لم تكن عائقة لهم عن النهوض بذلك العمران، والاضطلاع بتجديد العلوم وجلائل الأعمال، ولكن أمان الله خان خسر ملكه، وسفك دماء قومه، بما حاول من تجديده التقليدي ببرنيطته، وتبرج امرأته، وحلق لِحَى رجال دولته! ! وإن لجمال الدين ومحمد عبده سُلالة علمية عقلية إصلاحية جديرة بالقيام بسنتهما، والمضي في إصلاحهما بقدر ما تواتيهم به الأمة في استعدادها. وقد رأت من نبوغ أحدهم في الزعامة السياسية [1] ما لم يكن يخطر لأحد ببال قبل استعدادها للنهوض معه، وعرفانها بقدره. بيد أنه قد تصدى لزعامة التجديد واحتكار لقب المجددين أفراد هدامون غير بنائين، يدعون الأمة إلى ترك هداية الدين، والتجرد من لبوس الفضيلة والتشرف بلبس البرنيطة، وإباحة ملابسة النساء للرجال في الرقص والسباحة، والخلوة والسياحة، ومعاقرة الخمر، وما يتبع ذلك من ضروب الفسق. وينعون على المرأة أن يكون جُل همها من الحياة الاستعداد للقيام بما خلقها الله لأجله حق القيام وميزها به على الرجل، وهو أن تكون زوجًا صالحة محصنة، وأمًّا رؤومًا مربية، ورئيسة منزل مقتصدة منظمة. فيسمون الدار سجنها - وإن كانت كقصور الجِنان - ويسمون الزوج سجانًا لها - وإن كانت في نظره كالحور المقصورات في الخيام - ويغرونها بالخروج عليه والتفلت منه، وأن تُدخل داره وتدخل هي دار مَن أحبت بدون رضاه وإذنه. ويطمعونها في مناصب الحكومة ومقاعد النيابة وعدم المبالاة بما يعارض ذلك من وظائف الحمل والولادة، والرضاعة والحضانة. بل يقول بعضهم: إنها أهل للحرب والقتال، وقيادة الجيوش البرية والبحرية والأساطيل المائية والهوائية، وإن من استبداد الرجال بالنساء وإهانتهم لهن ما عبر عنه بعضهم بقوله: كُتب القتل والقتال علينا ... وعلى الغانيات جر الذيول كذلك يغرون الشبان بالإلحاد، ويزينون لهم اتباع الشهوات، ليتخذوا منهم ومن النساء جندًا يطيع قواده منهم طاعة عمياء، لا يقبل فيها وفيهم - بعد المروق من الدين - وعظ واعظ، ولا يسمع مع فوضى الآداب وطاعة الهوى نصيحة ناصح، وحسبكم من سفه النفس وأفن الرأي، التسليم لهم بأن القديم قبيح يجب تركه واحتقاره لأنه قديم، ويحتقر المحافظ عليه بوصفه بالرجعية ونبز صاحبه بلقب (الرجعي) . نعم، قد حاول انتحال هذا اللقب الشريف (التجديد) في هذا العهد زعنفة من الملاحدة في هذا البلد العظيم، ليس لأحد منهم امتياز فيه بالعلم والحكمة، ولا بالرشد والفضيلة، ولا يكشف حقيقة كانت مجهولة، ولا يسن سنة نافعة للأمة في حفظ حقيقتها، أو تنمية ثروتها، أو إعادة مجدها (أستغفر الله إن إعادة مجد الأمة في فتوحها وحضارتها رجعية عندهم يحتقرون من دعا إليه) . وإنما كل ما أوتوا أو حملوا من البضاعة في هذه السوق ثرثرة في الكلام، وسفسطة في الجدال، وجرأة على تلبيس الحق بالباطل، وسفاهة في الطعن على من يخالف أو يرد عليهم، ولكن بالبهتان الصريح، لا بالبرهان الصحيح فالصدق لا حرمة له عندهم وبإطراء غلاة الترك الذين نبذوا الإسلام وراء ظهورهم، حتى في هدم جميع أركان الحرية: حرية الدين والرأي والخطابة والكتابة والزي والعمل - هذه الحرية التي يقدسها من يدَّعون اتِّباعهم من أهل العلم والحضارة العصرية، ولولا إفراط الحكومة المصرية فيها لما أمكن لهؤلاء الأدعياء أن يجهروا بهذه الدعاية الإلحادية لهدم دينها وآدابها وتقاليدها، وهذا الذي يطرونه من غلو ملاحدة الترك ليس بجديد فيهم، بل نجم في الجيل الماضي منهم وكان من ثمراته في هذا الجيل زوال السلطنة العثمانية، التي كانت أعظم سلطنة في أوربة وآسية وإفريقية، ولم يبق منها إلا إمارة جمهورية صغيرة فقيرة، هي أقل عددًا وثروةً وعلمًا وحضارةً من المملكة المصرية، التي كانت إحدى إمارات هذه السلطنة، وهم يريدون اليوم أن تقتدي بها في إلحادها ونبذ هداية الدين فقط؛ لئلا تحل محلها فيما هي أجدر به من زعامة 400 مليون من المسلمين. ولما خدع أمثالهم من أدعياء التجديد أمان الله خان وحاول تقليد الدولة التركية الحاضرة طفقوا يفرغون عليه الحُلي والحُلل من الثناء، أن أكره قومه على لبس البرنيطة وتبرج النساء، فكانت عاقبة تجديده الإلحادي إيقاد نيران ثورة في بلاد عليه وعلى حكومته، واضطراره إلى الفرار منها وخسارة ملكه، وأما المدارس والنظام العسكري والصناعة وغيرها من التجديد الحقيقي فلم يتوجه إليه في بلادة الأفغان، وقد بدئ به في القرن الماضي على عهد عبد الرحمن خان. وكل ما يحتاج إليه الترك من التجديد الدنيوي الذي يطلبه الملاحدة وغيرهم قد شرعوا فيه في القرن الماضي ولم يكن الإسلام مانعًا لهم من شره الذي يحظره، فضلاً عن خيره الذي يوجبه، ولكنهم لم يسلكوا فيه طريقة الاستقلال التي سلكها اليابان بالمحافظة على مقوماتهم الدينية والقومية بل كانوا مقلدين فاصطدموا بالمقلدين من رجال الدين، وكان الواجب عليهم الجمع بين التجديد الديني والدنيوي كما فعلت أوربة في النهضة الإصلاحية الدينية. وأما مصر فقد سبقت الترك إلى هذا التجديد الدنيوي ولم يعارضها رجال الدين كما أنهم لم يساعدوها؛ لأن التجديد كان من جانب واحد، ولو كان من الجانبين لتم وكمل في زمن قليل، كما سأبينه بعد. وأدعياء التجديد هنا لا ينظرون إلى الواقع وإنما يقلدون ملاحدة أوربة في عداوة رجال الدين تقليدًا، فهذا التقليد الأعمى هو الذي يحملهم على الصد عن الدين بالتشكيك ف

مقدمة الطبع والنشر لرحلة الأمير شكيب الحجازية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة الطبع والنشر لرحلة الأمير شكيب الحجازية بسم الله الرحمن الرحيم {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 27-28) ، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} (الحج: 46) (الآيات من سورة الحج) . يحج بيت الله الحرام، ويزور مسجد رسوله وروضته عليه أفضل الصلاة والسلام - ألوف كثيرة من مسلمي الآفاق، أكثرهم من العوام والفقراء، وبعضهم من العلماء والأدباء والكُتاب والشعراء، ويقل في جملتهم مَن يفقه ما يعمل ومَن يعي ما يسمع، ومن يعقل ما ينظر، ويقل في هؤلاء من يكتب لإخوانه المسلمين ما يفيدهم شيئًا لا يجدونه في كتب الفقه أو التاريخ والرحلات والأدب. بل نرى من حجاج إخواننا المصريين مَن يكتبون في كل عام ما يغضب الله تعالى ويسوء جيرانه في حرمه، وجيران رسوله صلى الله عليه وسلم في روضته، وخدام قاصدي هذين الحرمين من المطوّفين والمزورين، وحكامهما الحافظين لأمن السكان، وآمّين البيت الحرام، وأطباءهما المحافظين على صحة أهلهما، وصحة من يتشرف بأداء المناسك والزيارة فيهما، بل يكتبون ما ينفر المسلمين عن إقامة هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، ويصدهم عن إحياء هذه الجامعة العامة التي امتاز بها على جميع الأديان، فهذا يشكو من شدة الحر، وذاك يتململ من كثرة النفقة، وآخر يتبرم بما يزعم من تقصير المطوفين وطمعهم. وأغرب من كل هذا أن منهم مَن ينتقدون منع البدع والخرافات، والطواف بالقبور والاستغاثة بالأموات، وأن منهم مَن كتب في هذا الشهر مشنِّعًا على حكومة الحجاز التقصير في عمارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وتجديد فرشه، وهو يعلم أن حكومة الحجاز الحاضرة - على فقرها - قد فعلت ما لم تفعله حكومة قبلها: من حفظ الأمن، وتسهيل السبل، وتوفير المياه، والإسعافات الصحية للحاج، فإن هذا قد صار متواترًا، ويعلم أيضًا أن حكومته هو قد منعت ما كانت ترسله إلى الحرمين وأهلهما من الأموال، والحقوق المقررة لهما التي كانت ترسلها في كل عام، وأن هذه الحقوق هي بعض ما وقفه الملوك والأمراء، وأهل البر من الأغنياء ويعلم أن وزارة الأوقاف تجبي من أوقاف الحرمين في كل عام مئات الألوف من الجنيهات، وتصرفها في غير ما وُقفت عليه، ويعلم أيضًا أن الحكومة التركية قد استحالت حكومة لا دينية، وضمت أوقاف الحرمين إلى أملاكها، بل هي تمنع مَن يريد الحج من شعبها، وحجتها الظاهرة على هذا المنع أن الترك أحق بأموالهم أن تبقى في بلادهم من أن تُصرف في بلاد العرب!! وخير من هؤلاء الصادّين عن سبيل الله، والمنفرين عن شعائر الله، والمؤذين لجيران الله - من يؤلفون كتبًا في رحلاتهم الحجازية، ينقلون فيها أحكام المناسك الفقهية، وبعض الأخبار التاريخية والأدبية، ومن كتبوا في رحلاتهم وفي الصحف ما أملاه الحق من وصف أمن الحجاز، وتوفير أسباب الراحة للحاج، والثناء على الحكومة السعودية ورجاء الخير العظيم للإسلام فيها. بيد أنك قلما ترى فيما كتبوا عبرة جديدة، أو شيئًا من الاقتراحات المفيدة، أو ترغيبًا في البذل لعمارة المسجد الحرام، ومسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، أو لتسهيل السبيل على الحجاج والزائرين، وتوفير المياه لهم وللمقيمين، اقتداءً بما كان من فعل السلف الصالحين. دعْ ما هو أعلى من ذلك منزعًا، وأروى مشرعًا، وأبعد في الإصلاح غايةً، وأقوى في درء الخطر عن الإسلام وقاية،فقد علم الواقفون على سياسة الاستعمار الأوربي أن خطره قد أحاط بجزيرة العرب، ونفوذ بعض دوله تغلغل في بعض أنحائها، ثم طفق يوغل في أحشائها، ويلغ في دمائها؛ فإن المستعمرين قد استولوا على سكة الحديد الحجازية، التي كان الغرض الظاهر القريب من إنشائها تسهيل أداء الفريضة، والباطن البعيد حفظ الجزيرة نفسها من الاستعمار الأوربي، ومن قتل الإسلام في عقر داره، وإزاحته عن قراره، تمهيدًا لمحوه من الأرض كلها. كذلك كان شأن المسلمين في حجهم وزيارتهم، وكذلك كان ما دونوا في رحلاتهم ومقالاتهم، إلى أن أذن الله تعالى لعبده المجاهد في سبيله بماله ونفسه، ولسانه وقلمه، وعلمه وعمله - الأمير شكيب أرسلان، الذي بحق لقبته أمته بأمير البيان - أن يستجيب لأذان إبراهيم خليل الرحمن، فيؤدي فريضة الحج، ويمرض مرضًا يضطره بعد أداء المناسك إلى الالتجاء إلى الطائف، والتوغل في جبالها وذُراها، والتنقل في مزارعها وقراها، والهبوط في أخيافها وأوديتها، فينال الشفاء والعافية من مرضه ومن مرض سابق له، بما شم من هواء نقي، وشرب من ماء روي، وجنى من ثمر شهي، ويشاهد ما تم من قابلية للعمران، لا يكاد يفضلها مكان، في عصر عَمَّ الحجاز فيه العدل والأمان، وأن يصف ذلك بقلمه السيَّال، وبيانه السلسال، الذي يجري، فتكبو في غاياته جياد الفرسان، ومَن ذا الذي يطمع في لحاق أمير البيان في مثل هذا الميدان؟ ! ، ميدان التاريخ وعلم الاجتماع والعمران،وما فيه من عِبَر السياسة في هذا الزمان، ولا سيما سياسة الأمة العربية والإسلام. أحمد الله تعالى أن وفق أخي شكيبًا لأداء المناسك، وشهود ما قرنه بها القرآن من المنافع، وإنما هي منافع أمته، لا منافع شخصه وأسرته، وأن يسَّر له السير في تلك الأرض؛ لفقه ما أرشد إليه عقله، وهدى له قلبه، فيعرف بنفسه جبالها ووهادها، وأغوارها وأنجادها، وسهوبها وصفاصفها، ومجاهلها ومعارفها، ثم يبعث ما دُفن في بطون الكتب من تاريخ عمرانها، وكنوز معادنها، مع بيان أماكنها، ووسائل استخراجها من مكامنها، ويجلي للعقول ما فيها من العبر البالغة، ويقرن بها وصف حالتها الحاضرة، ويستنبط منهما ما يجب على الأمة العربية وحكوماتها، والشعوب الإسلامية وزعمائها، من توجيه أصدق ما أُوتوا من إرادة وعزيمة، وأفضل ما أُعطوا من علم وثروة، في سبيل عمران الحجاز، وصيانته من خطر الاستعمار، وأن ذلك لا يتم لهم إلا بعمران جزيرة العرب كلها؛ لأن انتقاصها من أطرافها، يفضي إلى الإحاطة بسائر أكنافها. تلك الغاية البعيدة المرمى هي التي وضع لها الأمير رحلته الحجازية التي سماها (الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف) وقد أقام الدلائل على إمكان ما دعا إليه وسهولته، من قابلية في المكان، ومواتاة من الزمان، وأشار إلى ما يعترض به على ذلك من شبهات داحضة، وكرّ عليها بما ينقضها من حجج ناهضة، بما لم يبق لمعتذر عذرًا مقبولاً، ولمقصر قولاً معقولاً. ثم إنه لم يقف في ارتساماته دون هذا المقصد الأسمى، بل ألمَّ فيها بكل ما يهم المسلم من حال الحجاز وأهله وحكومته، فأفاض القول في تعظيم شأن المياه فيه، وما يُرجى من زيادتها بالوسائل العصرية، ولا سيما الآبار الارتوازية، واستشهد التاريخ على ما كان من عناية السلف الصالح بعمرانه، وحبس الأوقاف الواسعة عليه، وعناية الخلف الطالح بتخريب ما عمروا، وإضاعة أكثر ما وقفوا، وتمهيد حكامهم الفاسقين سبيل ذلك لسالبي ملكهم من المستعمرين. وضرب لذلك الأمثال بتاريخ أكبر المعمّرين من الملوك والأمراء والوزراء، وأسهب في بيان أحوال المطوفين والمَزُورين وقناعتهم، وما يجب من إصلاح حالهم، ونوه فيها بفضل الحكومة السعودية الحاضرة وخدمة ملكها للحجاز، وأعظمها والمقدم منها تعميم الأَمَنة في بدو البلاد وحضرها، قريبها وبعيدها، وما يرجى بحكمته من سائر أركان الإصلاح فيها. وقد مَنَّ عليَّ بأن عهد بنشر هذه الارتسامات إليَّ، بأن أطبعها بمطبعة المنار، وأشرف على تصحيحها بنفسي؛ لتعذر إرسال مثل الطبع إليه في أوربة ليتولى تصحيحها بنفسه، بل منّ علي بالإذن لي بتعليق بعض الحواشي على بعض المواضع التي أرى التعليق عليها مفيدًا لقارئيها؛ ليكون اسمي مقرونًا باسمه في هذا الأثر الخالد له في خدمة العرب والإسلام، كما منّ علي قبله بمثله في رسالته التي جعل عنوانها (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ !) وهي هي الرسالة التي: سارت بها الركبان تطوي نفنفا ... فنفنفا وسبسبًا فسبسبا فاضطربت بها بعض دول الاستعمار وزُلزلت زلزالاً شديدًا، حتى قيل لنا إنها أغرت حكومة سورية بمنع نشرها فيها، وهي أحق بها وأهلها، فانفردت بهذه العداوة للإسلام دون مَن أغروها بها! ولقد كان سماح الأمير حفظه الله لي بهذا وذاك إعلامًا لقارئي الرسالة والرحلة بما بيننا من الأخوة الإسلامية الصادقة، والاتفاق في المقاصد الإصلاحية النافعة للأمة العربية، والشعوب الإسلامية، التي نفخ روحها في كل منا شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده بالتبع لأستاذه موقظ الشرق وحكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني قدس الله روحهما، وأجزل ثوابهما. هذا، وإن الأمير - أمتع الله بعلمه وعمله، ولسانه وقلمه - قد وضع للرحلة حواشي كثيرة، عزوتها إليه في مواضعها، وكان يجب أن أشير إلى ذلك في ديباجتها، ولكنني ما علمت بها إلا عند أول حاشية منها. وقد كان لي وقفة ونظر في اقتراحه على الحكومات المختلفة في الدين والسياسة - أن تشدِّد على حجاج بلادها الفقراء، فيما تفرضه من الشروط للسماح لهم بالسفر إلى الحجاز، لا لأن هذا الاقتراح منكر في نفسه؛ بل لأن الحكومات الاستعمارية التي تكره للمسلمين المرزوئين بسيطرتها عليهم أن يؤدوا هذه الفريضة لم تقصر في إرهاقهم بالشروط المالية والصحية، بل أنا أعلم علم اليقين أن جميع الدول الاستعمارية تمقت قيام المسلمين بهذه الفريضة، وتتعاون على صدهم عنها بما تستطيع من حول وحيلة، ولولا ما لبواخرها وتجارتها من المنافع ومن نقل الحجاج لكان تشديدهم في الصد أكبر، ولكن ما وضعوه من العواثير والعقاب في سبيل الحج باسم المحافظة على الصحة - قد أنالهم بعض مرادهم منه بقلة من يتحمل مشقته من ملوك المسلمين، وأمرائهم المترفين، وأغنيائهم المحسنين، وزعمائهم المفكرين. وقد كانوا حاولوا أن يقرروا في مؤتمر طبي عقد بمصر في أوائل عهد الاحتلال البريطاني أن الحجاز بيئة وبائية بطبعه - يجب جعْله تحت سلطة الحجر الدولي دائمًا لذاته! فجاهد المرحوم سالم باشا سالم كبير أطباء مصر (والطبيب الخاص لسمو الخديو توفيق باشا وأسرته) يومئذ جهادًا كبيرًا دون ذلك، حتى دحض كل شبهة تؤيد هذا الاقتراح، وأثبت بالأدلة الفنية الطبية والتاريخية أن الحجاز ليس بوطن لوباء الهيضة الوبائية (الكولرة) ولا لغيرها من الأوبئة السارية المُعْدية. ولكنني لم أضع لهذه المسألة حاشية، بل أدعها إلى علم الأمير الواسع، ورأيه الناضج؛ لعله يستدرك ما يرى استدراكه ممحّصًا لهذا الرأي [1] . وها أنا ذا أزفّ إلى قراء العربية هذه الرحلة النفسية، والارتسامات اللطيفة، ولا ريب عندي في أنهم يقدرونها قدرها، ويُعنون معي بنشرها، وبث الدعاية إلى العمل بما فيها من النصيحة الثمينة، التي تتوقف عليها حياة هذه الأمة

إشاعة اكتشاف عظيم في وادي يوشفاط ببيت المقدس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إشاعة اكتشاف عظيم في وادي يو شفاط ببيت المقدس (تابوت يسوع بن يوسف) (جاء في جريدة الأهرام الصادرة في 13/4/1931 لمكاتبها في باريس تحت هذا العنوان ما نصه) : اهتزت المقامات المسيحية لنبأ اكتشاف عظيم الأهمية والتأثير، لا من حيث قيمته التاريخية فحسب، بل من حيث علاقته بالدين المسيحي، وهو نبأ اكتشاف ناووس كُتبت عليه باللغة الآرامية من الخارج عبارة (يسوع بن يوسف) وذلك في وادي يوشفاط بجوار القدس. فقد وردت الأنباء بأن الأثري المعروف الدكتور سوكنيك قد عثر على هذا التابوت الحجري في سرداب عليه ركام من الخريات جرّ عليها تقادم ذيول النسيان، وذلك في جانب من ذلك الوادي الذي ستجري فيه دينونة العالم حينما يعتقد بعض المتمسكين بحرفية ما جاء في كتب الدين. ويتساءل الناس الآن، هل ذلك الناووس حوى رفات مؤسس المسيحية وهل العبارة المكتوبة عليه كُتبت بيد المسيح نفسه؛ إذ قد جرت العادة في العهد المسيحي وقبله - كما قد يعلم رجال الآثار - أن يعد الناس توابيتهم الصخرية قبل دنوّ الأجل المحتوم ويسطرون أسماءهم عليها بأيديهم فتُنقش كما هي. ومما هو جدير بالذكر أيضًا أن ذلك الأثري قد عثر في السرداب نفسه على نواويس أخرى قد نقشت على ظاهرها أسماء الكثيرين من تلاميذ المسيح وأتباعه فعلى أحدها اسم مريم وعلى بواقيها أسماء مرثا واليصابات وسمعان ويعقوب ويوحنا ومتى. فإذا ثبت ما يدعيه الدكتور سوكنيك فإنه يؤدي إلى بطلان اعتقادات وتقاليد كثيرة بشأن مدفن السيد المسيح وأتباعه، ويكون الملايين من الذين زاروا القبر المقدس في سالف الزمن قد سجدوا في غير المكان الذي وُضع فيه جسد المسيح بعد أن أُنزل عن الصليب! والمفهوم الآن أن الدكتور سوكنيك مكتشف هذه النواويس كان ولا يزال شديد التحفظ في إبداء رأيه فيها وعلمنا منه بأهميتها الدينية وبما يترتب على ذلك من المسؤولية إذا بدر منه قول عنها قبل التثبت من أمرها. فلما اتصل بصاحب جريدة الجورنال خبر اكتشافه أبرق إلى مراسله في برلين يأمره بمقابلة المكتشف وأخذ ما لديه من المعلومات مهما كلفه ذلك من العناء والمال، فقابله المراسل إذ كان يجمع أمتعته للرجوع إلى فلسطين فأبى الدكتور التلفظ بكلمة واحدة يُفهم منها أنه موقن بأن الناووس الذي قرأ عليه اسم يسوع هو تابوت المسيح الحقيقي. وكل ما قاله هو أنه قد قرأ الاسم المكتوب بالأرامية على الناووس وأنه لا يزيد على ذلك حرفًا إلا بعد أن يصير على بينة من الأمر. ولكنه يقول: إنهم عثروا على أمثال هذه النواويس في سالف الأيام في جوار أورشليم، وبما أنها كانت خالية لم يهتم لها الناس كثيرًا. ولكن الشيء المهم من الوجهة التاريخية والدينية هو الأسماء المنقوشة عليها. وقرأ الدكتور سوكنيك على أحد النواويس هذه العبارة (في هذا الناووس عظام نكانور الإسكندري الذي بنى الباب) فهو في رأي الدكتور الرجل الذي تبرع بباب نكانور في هيكل هيرودس وقد ورد ذكره في أقاصيص التلمود. والناووس المنقوش عليه (يسوع بن يوسف) لا يزال على جدّته. ومن رأيه أيضًا أن الاسم المنقوش عليه قد كُتب بخط يده. أما ما إذا كان يسوع هذا هو المسيح صاحب الديانة المسيحية فالدكتور يأبى الجزم بذلك، فهو يدرك شدة عاصفة الاحتجاج التي تهب عليه من العالم المسيحي ولا سيما إذا فهم من قوله أن هذا الناووس قد كان محتويًا على بقايا السيد المسيح. ووجد الدكتور بإزاء ناووس يسوع ناووس اليصابات أم يوحنا المعمدان ونسيبته مريم، وناووس يعقوب وهو من التلاميذ. أما مريم فلا يعلم هل كانت أم يسوع أم مريم المجدلية وقد تكون أخت مرثا. وهناك ناووس سالومي التي كانت مع الرفاق عند الصليب، أما سمعان فلا يظن أنه سمعان بطرس لأن قبر هذا قد تأكد وجوده في رومية. فهو ربما كان سمعان المذكور في الإصحاح العاشر من إنجيل مَتَّى. أما الاسم (يسوع بن يوسف) المنقوش على الناووس الذي يظن أنه محتوٍ على رفات المسيح - فهو بالأرامية لا العبرانية؛ إذ كانت الأرامية في أيام المسيح لغة أهل فلسطين. كذلك كانت اللغة الإغريقية كثيرة الاستعمال في ذلك العهد؛ ولهذا نقش اسم اليصابات على ناووسها بالإغريقية والأرامية. ويقول الأثريون بوجود مدينة أخرى منسية تحت أورشليم لم تبد آثارها حتى الأعوام الأخيرة، فالذي يزور المدينة المقدسة لا يدري ما استتر تحت سطحها من العمران البائد؛ لأن الأرض التي يمشي عليها في شوارع المدينة الضيقة تعلو عن الشوارع القديمة من 30 إلى 70 قدمًا ففي تلك المدينة البائدة عثر الأثريون على تلك التوابيت الحجرية الموسومة بأسماء معروفة في التوراة واسم يسوع أيضًا. ولا يدهشنا إذا سمعنا في الحين القريب أن الأثريين قد أماطوا لثام الدهور عن آثار أخرى عظيمة الأهمية في أورشليم السفلى ترجع في تاريخها إلى عهد السيد المسيح وإلى ما قبل تبلج فجر المسيحية بقرون عديدة وتكون ذات أهمية تاريخية ليس لرجال العلم فقط بل لرجال الدين أيضًا. ولعل مكاتبكم الأورشليمي يزيدكم إيضاحًا عن الآثار التي وجدت وعما إذا كان ما نقل إلينا عنها حقيقة راهنة أو حديث خرافة فهو أولى من الأجانب بالإشراف عليها والتثبت من أمرها، فإن الكثيرين من رجال الدين هنا قد هزؤوا بالحكاية وظن البعض منهم أنها تنطوي على قصد سيئ، ومن أجل هذا كتب أحدهم مقالة جاء فيها ما يأتي: (إذا سلمنا جدلاً بأن المسيح حديث خرافة، وأن المسيحية بجملتها حكاية صبيانية فما الذي يربحه المشكك وما الذي يخسره الدين. فإن هذه الحكاية أو هذه الخرافة قد كانت أعظم قوة في مدى ألفي سنة أوصلت التمدن إلى الأوج الذي نراه فيه اليوم. إن هذه النظرية قد بدلت الحياة، وتلك الخرافة المبتدعة قد أعطتنا محبة بدل البغضاء، وطهارة بدلاً من الشهوات السافلة، ونقاوة بدلاً من النجاسة، ورجاء بدلاً من اليأس، والإخاء بدل العداء. فإذا كانت هذه الميزات نتيجة تلك الخرافة التي حملت النفوس على توخي أفضل ما في الحياة فلتحيَ الخرافة! إن أكبر العقول في التسعة عشر قرنًا التي انقضت قد اعتقدت بهذه الفكرة، الرجال العظام والنساء العاقلات الطاهرات والأولاد البسطاء قد صدقوا بها وكل الذين تمسكوا بها كحقيقة وعاشوا بما رسمته قد كانوا أفضل مثال لكل ما هو حسن وجميل. فإذا كان كل ذلك حديث خرافة فليكن المسيح خرافة، فإن تعاليمه قد رفعت التمدن إلى أسمى الذرى) . اهـ. والظاهر أن كاتب هذا باريسي أو فرنسي. تعليق المنار على هذه المقالة لئن ثبت وجود رفات المسيح عليه السلام في هذا التابوت ليكون هدمًا لدين النصرانية الحاضر من أساسه فإن الأناجيل الأربعة مصرحة بأنه خرج من قبره في ليلة الأحد وأن مريم المجدلانية ومريم الأخرى وسالومي اللائي تفقَّدنه في صباح ذلك اليوم ولم يجدنه قد وجدن هنالك ملاك الرب فأخبرهن أنه قام من بين الأموات.. إلخ. ولهذا لم يجد الكاتب ما يدافع به عن هذا الدين على فرض ثبوت ذلك إلا قوله إنه دين كان له من الفوائد الأدبية والحضارة العظيمة ما يحملهم على المحافظة عليه وإن كان أصله حديث خرافة. ولا شك أن هذا عين ما تفعله الكنائس التي فاقت بنظامها الديني ومدارسها وجمعياتها أعلى الدول نظامًا ونفوذًا، وإذا أعوزهم الإنكار وعز عليهم التكذيب وأعياهم التأويل، ولن يعجزهم هذا ولا ذاك. ولكن ثبوت ما ذكر لا ينقص شيئًا من نصوص القرآن؛ فإنه يقول بعد الإخبار بمكر اليهود به: {قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} (آل عمران: 55) فظاهره أنهم لن ينالوا ما يريدون بمكرهم به وأن الله تعالى هو الذي يتوفاه فيقبض روحه ويرفعه إليه ويصدق برفع جسده بعد إعادة الحياة إليه وبرفع روحه وحدها كما قال في إدريس عليه السلام {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيًّا} (مريم: 57) ويكون ثبوت وفاته ودفنه في الدنيا قبل رفعه حجة لمَن قال من المفسرين: إن الآية على ظاهرها، دون مَن قال بتأويل الوفاة أو بتقديم الرفع على التوفِّي. وجملة القول أن ثبوت ما ذُكر يكون حجة للقرآن كما هو حجة على الأناجيل، والقرآن لا يمكن أن ينقضه شيء؛ لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأما أقوال الأناجيل في قيامه بجسمه من القبر فهي روايات تاريخية عن النسوة اللائي ذهبن إلى القبر ليس لها أسانيد متواترة فإن خبر الأربعة المؤلفين لهذه الأناجيل لا يثبت به التواتر لو سمعوه من النسوة وهن غير معصومات في خبرهن فكيف وهم لم يصرحوا بالسماع منهن. والعبرة في هذا كله أن مبشري النصرانية يشككون عوام المسلمين في دينهم وفي كلام ربهم المعجز للبشر من وجوه كثيرة منها أنه لا يمكن نقض كلمة منه، وهم يتمسكون بدينهم ويدعون إليه ويدافعون عنه حتى على فرض ثبوت ما ينقضه من أساسه! ! بحجة أنه كان سببًا لهداية كثيرين من البشر وهذا صحيح ويفوقه فيه الدين الإسلامي، وسببًا لوجود الحضارة الحاضرة وهذا باطل وإنما كان الإسلام هو الذي أحيا الحضارة القديمة التي ولدت الحضارة الحاضرة.

الشريف الحسين ملك الحجاز السابق ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشريف حسين ملك الحجاز السابق (2) كتب كثير من أصحاب الجرائد العربية وغيرهم مقالات في تأبين الشريف حسين ونظمت قصائد متعددة في رثائه، وأقيمت حفلات في الأمصار العربية لتأبينه فمنهم من أطرى ومن انتقد ومن حاولوا الجواب عما ينتقد، ويقل فيمن كتب وأبّن من تحرى الحقيقة لذاتها أو من هو واقف عليها، ومن الظاهر البين أن من المؤبِّنين والراثين من كان غرضه الازدلاف إلى أنجاله أصحاب الجلالة والسمو. ومن العجيب أن بعض الأفراد - قيل: والجماعات - قد اقترحوا نصب تمثال له فتهكَّم الكاتب الإسلامي محب الدين أفندي الخطيب بهم؛ إذ اقترح عليهم أن ينصبوا ذلك التمثال تجاه الزاوية التي كان يصلي فيها الجمعة من الحرم المكي الشريف، أي فيكون من مناقبه إعادة التماثيل التي أزالها جده النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم من بيت الله الحرام، والتي قال فيها جده أمير المؤمنين علي عليه السلام لعامله أبي الهياج: أبعثك على ما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالاً إلا طمستَه، ولا قبرًا مشرفًا إلا سوَّيتَه. وقال بعض الذين طرقوا باب المباحث التاريخية في سيرته: إنه قد نهض بدعوته وأشعل نار ثورته توسلاً إلى استقلال أمته، وتأسيس سلطنة (إمبراطورية) لها لا لنفسه، فخدعه الإنكليز ونكثوا عهده كما خدعوا مَن هو أجدر منه بمعرفة كيدهم وخداعهم وهو الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات المتحدة. وإنه لم يجد من ينصح له ويبين له ما يجب من الاحتياط في ذلك، وقال بعضهم إنه إنما أراد إنقاذ الحجاز من غائلة الحرب ومجاعتها ولم يُرد إسقاط الدولة العثمانية التي كانت هي السياج الأخير للحكم الإسلامي. وصرح بعضهم بأن المنقبة الوحيدة له في سياسته سلبية، وهي امتناعه من إمضاء الاتفاق الأخير الذي حمله إليه من لندن وكيله ونائبه في ذلك الدكتور ناجي الأصيل، ومن مواده اعترافه بالانتداب الذي يتضمن إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، وزاد امتناعه قبل ذلك من إلحاق منطقة العقبة ومعان بحكومة نجله الأمير عبد الله في شرق الأردن؛ إذ طلبه منه الإنكليز لعلمه بأنها حينئذ تكون إنكليزية يتصرف الإنكليز بها كما يشاؤون فيكون أول مسلم خان الله ورسوله في أرض الحجاز المحرمة بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته على غير المسلمين، ولكن ما امتنع منه وعُدَّ هو المنقبة الصحيحة له قد فعله أبناؤه في حياته. وزعم بعضهم أنه بامتناعه ما ذكر قد ضحى ملكه وسلطانه على الحجاز أو حرم نفسه من امتداد ملكه إلى آخر حدود جزيرة العرب بمساعدة الإنكليز والصحيح أنه ما كان يتصور زوال ملكه بذلك، ولا الإنكليز يفضلون امتداد ملك ابن سعود إلى البحر الأحمر فيقال: إنهم ساعدوه على ذلك. وإننا لم نجد أحدًا من الكتاب ولا من الخطباء احتج على شيء من أقواله بمستند رسمي مما نشره الملك حسين في جريدته القبلة التي كان كل ما يكتب فيها إما بقلمه وإما بإملائه أو إقراره. وقد نقلت من هذه الوثائق الرسمية في المنار ما هو حجة على أكثر هؤلاء الذين يقولون بغير علم، ومنهم من يقول بلسانه ويكتب بقلمه خلاف ما يعتقد ويعلم باختباره. ذهبت إلى الحجاز في أثناء ثورته في أول مدة الحرب الكبرى، وتكلمت معه في هذه الشؤون سرًّا وجهرًا، وارتجلت في حفلة تهنئته بالعيد الأكبر في مِنى خطبة بينت فيها الأسباب الظاهرة لثورته العربية، وأقصى ما يمكن أن يحتج به لجوازها من حال الدولة العثمانية، وما ينبغي أن يقصد بها وما تنتهي إليه، فوافقني هو على ما قلته، وصرح في ذلك المحفل الحافل بأنه لم يَرَ أحدًا وافق رأيه رأيه من كل وجه بلا تواطؤ ولا سبق حديث إلا هذا الخطيب، وأمر أن أكتب الخطبة لتُنشر في جريدة القبلة فكتبتها فأمر بنشرها والتعليق عليها بما قاله في المحفل. والظاهر أن موافقته كانت في الباطن كالظاهر والراجح عندي أنه اقتنع بما قلته لا أن ذلك كان رأيه من قبل، وكان يعتقد يومئذ أنني مخلص في نصحي له وكذلك كنت وهو دأبي وخلقي، ولكن جواسيس الإنكليز أرجعوه عن ذلك الرأي الذي كان اقتنع به، وقد صرح لي برجوعه عنه مدير مكتبهم العربي في مصر (كورنواليس) مستشار الداخلية لحكومة العراق الآن، وكذلك غيَّر قلبه عليَّ أحد حاشيته من صنائعهم الذي كان يحلف لي قولاً وكتابةً بأن مكانتي من قلبه فوق كل مكانة، بل أحفظ منه كتابًا بخطه أقسم فيه أنه لو اجتمع الخلائق كلهم صفًّا صفًّا.. وقالوا قولاً وقلت غيره (لجعلت مقالهم دبر أذني ووراء ظهري) فكان هو سبب منعه المنار من الحجاز و (من الممالك الهاشمية) كما جاء في بلاغ المنع الرسمي من جريدة القبلة! وكان هذا المنع خيرًا لي كما بينته في المنار. أنا لم أكن أعرف الشريف حسينًا قبل الحرب معرفة شخصية وإنما عرفت في الآستانة نجله الشريف عبد الله معدن الظرف واللطف والتواضع والأدب، وكنا نشتغل في ذلك الوقت بتكوين الجامعة العربية فرأيت منه ميلاً إليها ورغبةً في تأييدها، وتعارفنا وتواعدنا على ذلك وعقدنا رابطة المودة. ثم كان بيني وبينه في مصر ما ذكرته مختصرًا في الجزء الماضي وقد بلغ والده ذلك، ومنه ما ذكرته له في الآستانة من شدة استيائي مما كان يكتبه عبيد الله أفندي عدو العرب المشهور من الطعن في والده فكان هذا هو السبب الأول لثقته بإخلاصي في نصحه. وقد أكده سبب آخر وهو ما بلغه إياه المرحوم محمد شريف الفاروقي معتمده في مصر من الثناء والتعاون معه على كل ما فيه نجاح النهضة العربية، وقد كان هذا الرجل جامعًا بين الذكاء والإخلاص في خدمته، ولولا أنه بلغ الإنكليز رسميًّا بأنه يطلبني لمقابلته في مكة المكرمة لما سمحوا لي بالذهاب ولو بقصد الحج، على أن الجنرال كليتون حاول إقناعي بأن لا أذهب إلى الحجاز ووعدني وعودًا عظيمة إن بقيت في مصر منها إعادة مساعدة وزارة الأوقاف لمدرسة الدعوة والإرشاد! ! لأنه ظن أنني أريد أن أبقى عند الشريف في مكة وكان يعتقد أنني إذا كنت بجانبه لا يستطيعون أن يسيِّروه كما يريدون. وجملة القول أنني جئت مكة مزودًا بثقة لا مجال للظنة فيها، فأجلَّني وأكرم مثواي، وكاشفني بما يبعد أن يكون كاشف به غيري، وهو مَن عرف جميع رجاله وأولاده شدة كتمانه وعدم ثقته بالناس، حتى أنه صرح لي بأنه إنما يخاطب معتمده في مصر بالبرقيات الرمزية (الشفرة) لئلا يعلم موظفو ديوانه بما يخاطبه به لا للتعمية على الإنكليز بمصر فهو لا يرى مانعًا من علمهم بكل ما يخاطبه به. (للترجمة بقية)

خاتمة المجلد الحادي والثلاثين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الحادي والثلاثين قد تم بحمد الله وتوفيقه المجلد الحادي والثلاثون من المنار وكان أهم الأسباب لتأخير هذا الجزء غير ما أشرت إليه في الجزء الثامن أن الحكومة وضعت قانونًا للمطبوعات فرضت فيه على كل صحيفة يومية أن تدفع للحكومة تأمينًا ماليًّا قدره ثلاثمائة جنيه وعلى ما دون اليومية من الصحف الأسبوعية والمجلات أن تدفع مائة وخمسين جنيهًا، وأن إدارة المنار لعاجزة عن دفع هذا المبلغ في هذه العسرة المالية الخانقة التي يئطّ من حمل وزرها الأغنياء أولو الموارد الفياضة التي لا تنضب فماذا تفعل مجلة إسلامية إصلاحية كالمنار قد ازداد مشتركوها مطلاً على مطلهم بحجة العسرة، وقد انقطعت عنها مطبوعات جلالة ملك الحجاز ونجد بعد أن اشتهر بين الناس أنها لا تقبل غيرها لاتصال مددها وخشية تأخيرها، وسوق الكتب في كساد إلا كتب المجون والخلاعة والخرافات ومكتبة المنار خالية منها، وكتب المدارس وأكثرها محتكَرة أو كالمحتكرة. فإذا لم تستثنِ الحكومة المجلات الدينية من هذه الضريبة فإنني أضطر إلى ترك إصدار المنار من أول المجلد الثاني والثلاثين أو تحرك الغيرة والنخوة قراءه فيؤدوا له من حقوقه ما يمكنني من استمرار نشره، ولعل ما وصل إليَّ منهم في هذه السنة لم يفِ بثلث نفقته فما قولهم في سائر نفقاتنا؟ ! فإن كان يرضيهم هذا ويستمرون على مطلهم بل هضمهم لحقه، ويهون عليهم إطفاء نوره بعد إضاءته على العالم الإسلامي مدة ثلث قرن فعليهم وعلى إسلامهم السلام، والحمد لله على كل حال. أيها الإخوة الكرام: إن علينا ديونًا مؤقتة لبعض المصارف والتجار لا يقبل أصحابها تأجيل شيء منها شهرًا واحدًا إلا بربح أو ربا يقابله، ومنهم مَن لا يقبل التأجيل مطلقًا. وإن لنا ديونًا أكثر منها على مشتركي المنار نرضى أن يؤدوها لنا في هذا الوقت بنقص عشرين في المائة وهو أكثر من ضِعفي ما يأخذه دائنونا وإن كان بعض ديوننا متأخرة عن استحقاقها عدة سنين لا سنة واحدة. وإننا نعدّ إجابتهم طلبنا هذا منة لهم كمنة التبرع لهذه الخدمة الشريفة. بشرط أن يكون الأداء في مدة لا تتجاوز أربعة أشهر أو بحيث تصل إلينا قبل انتهاء هذه السنة الميلادية؛ لأن علينا في كل شهر من هذه الشهور قسطًا من هذه الديون المؤقتة. فالبِدَار البدار، يا أولي الوفاء والغيرة والمروءة، حاسبوا أنفسكم وأرسلوا ما توقنون من الحق الثابت عليكم، وإدارة المنار تخبركم بما تشكون فيه، وهذه أهم تجربة لغيرتكم ومروءتكم، التي هي فوق طهارة ذمتكم، والله يتولى حسن مثوبتكم، وصلى الله على محمد خاتم النبيين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

فاتحة المجلد الثاني والثلاثين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الثاني والثلاثين بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى، وأفضل صلاته وأزكى تسليمه على رسوله خاتم النبيين محمد المصطفى، وآله وأصحابه الأصفياء الحُنفاء، وعلى كل مَن اتَّبع هداهم واقتفى. أما بعد: فإنني كاشفت قراء المنار بسبب صدور الجزء الأخير من المجلد الحادي والثلاثين في آخر شهر صفر، واستصرختهم لأداء حقوقه الممطولة منهم، منقوصًا منها خمسها، فنصفها؛ لئلا تضطرني العسرة والغرامة إلى ترك إصدار المنار في هذا العام فلم يرسل أحد منهم درهمًا ولا دينارًا، ولم يرجع إلينا وعدًا ولا اعتذارًا، ولا عجب فإن غيرة جميع العالم الإسلامي على مساعدة الإصلاح الديني لا تزن غيرة يهودي ولا نصراني واحد، وإنني قد حبست نفسي في هذه الثلاثة الأشهر على إتمام تاريخ الأستاذ الإمام، لم أكتب فيها غيره، فأنا أجعل فاتحة تصديره ومقدمته فاتحة للمجلد الثاني والثلاثين، وعسى أن أجد من ثمنه ما أنفق منه على إصدار المنار، وحسب الماطلين الهاضمين لحقه الخزي والعار، وما بعده من عذاب النار! ولا نقبل بعد صدور هذا الجزء حقنا إلا تامًّا، لا نعفو منه شيئًا، ولا نشكو هاضميه إلا إلى الله عز وجل، وكفى بالله وليًّا، وكفى بالله نصيرًا.

تصدير التاريخ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصدير التاريخ ببيان كُنْه التجديد والإصلاح الذي نهض به حكيم الشرق والإسلام وشيخنا الأستاذ الإمام، ووجه الحاجة إليه، ووجوب المحافظة عليه بسم الله الرحمن الرحيم {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 5) ، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (الأعراف: 170) ?، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140) . جرت سنة الله تعالى في أفراد البشر أن يؤتيهم قوى المشاعر الحسية والمدارك العقلية بالتدريج، حتى يبلغ أحدهم أشده، ويستكمل رشده، ويستقل بنفسه بالعلم والعمل والتجارب، وجرت سنته في الشعوب والأمم أن يمنح كلاًّ منهم من هداية الوحي في كل طور من أطوار حياتهم الاجتماعية ما هو مستعد له وصالح لحاله وزمانه، على مثال سنة التدريج في الأفراد. إلى أن استعد النوع البشري في جملته ومجموعه لفهم أعلى هداية إلهية لا يحتاج بعدها إلا لاستعمال عقله في الاهتداء بها، في كل زمان ومكان بحسبهما، فوهبه هداية القرآن وختم النبوة برسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ولما كان من طباع البشر أن يضعف تأثير الوحي في قلوبهم بطول الأمد على عهد النبوة، فيفسقوا عن أمر ربهم، ويتأولوا كتبه بأهوائهم، أنعم عليهم بما يحيي هداية النبوة فيهم، بأن يبعث فيهم بعد عصر النبوة مجددين، وأئمة مصلحين، يرثون الأنبياء بالدعوة إلى إصلاح ما أفسد الظالمون في الأرض، ويكونون حجج الله على الخلق، وقد بشرنا نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المصلحين، بأن الله تعالى يبعث في هذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يجدد لها أمر دينها؛ ليكونوا خلفاءه فيما جدده من دين الله تعالى للأمم كلها {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165) إذا طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وفسقوا عن أمر ربهم. إنما كان المجددون يُبعثون بحسب الحاجة إلى التجديد لما أبلى الناس من لباس الدين، وهدموا من بنيان العدل بين الناس، فكان الإمام عمر بن عبد العزيز مجددًا في القرن الثاني لما أبلى قومه بنو أمية وأخلقوا، وما مزقوا بالشقاق وفرَّقوا، وكان الإمام أحمد بن حنبل مجددًا في القرن الثالث لما أخلق بعض بني العباس من لباس السنة، ورشاد سلف الأمة، باتباع ما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وتحكيم الآراء النظرية في صفات الله وما ورد في عالم الغيب، بالقياس على ما يتعارض في عالم الشهادة، وكان الشيخ أبو الحسن الأشعري مجددًا في القرن الرابع بهذا المعنى، وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي مجددًا في أواخر القرن الخامس وأول السادس لما شبرقت نزغات الفلاسفة وزندقة الباطنية، والإمام أبو محمد علي بن حزم الظاهري في القرن السادس لما سحقت الآراء من فقه النصوص الشرعية، وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم مجددين في آخر القرن السابع وأول الثامن لجميع ما مزَّقت البدع الفلسفية والكلامية والتصوفية والإلحادية، من حلل الكتاب والسُّنة السَّنية، في جميع العلوم والأعمال الدينية، وحسبنا هؤلاء الأمثال في التجديد الديني العام. وظهر مجددون آخرون في كل قرن، كان تجديدهم خاصًّا انحصر في قطر أو شعب، أو موضع كبير أو صغير، كأبي إسحاق الشاطبي صاحب الموافقات والاعتصام في الأندلس، وولي الله الدهلوي والسيد محمد صديق خان في الهند، والمولى محمد بن بير علي البركوي في الترك، والشيخ محمد عبد الوهاب في نجد، والمقبلي والشوكاني وابن الوزير في اليمن. وهنالك مجددون آخرون للجهاد الحربي بالدفاع عن الإسلام، أو تجديد ملكه وفتح البلاد له، وإقامة أركان العمران فيه، وهم كثيرون في الشرق والغرب والوسط، ورجاله معروفون، كبعض خلفاء العباسيين والأمويين، ومنهم من جمع بين أنواع من التجديد كالسلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كسر جيوش الصليبيين من شعوب الإفرنج المتحدة، وأجلاهم عن البلاد الإسلامية المقدسة وغيرها، وأزال دولة ملاحدة العبيديين الباطنية من البلاد المصرية، وكذلك فتح الترك لكثير من ممالك أوربة، عُرف فيها مجد الإسلام. ضعف الإسلام السياسي وملكه: ثم اتسع مُلك الإسلام وزالت وحدة أحكامه بانقسام الخلافة إلى خلافتين، فزوال كل منهما، وكثرت دوله، فتفرقت وحدة أمته السياسية إلى شعوب مختلفة في الأجناس والأوطان، ووحدة ملته الدينية إلى مذاهب مختلفة في الأصول والفروع، فتعادَوْا في الدنيا والدين، وتقاتلوا على عصبيات الملوك والسلاطين، فحق عليهم قول كتاب ربهم: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال: 46) فسلط الله عليهم أعداءهم، فثلوا أكثر عروشهم، وانتزعوا منهم أكثر بلادهم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال: 53) {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) وكان يظهر في هذه الدول المتفرقة مجددون متفرقون في العلم كما تقدم، وفي الإدارة والعمران كمحمد علي باشا بمصر، وفي الحرب كالأمير عبد القادر في الجزائر، ويعقوب بك في تركستان الصينية، وفي السياسة كمصطفى رشيد باشا، وعالي باشا وفؤاد باشا في الترك وخير الدين باشا في تونس، وفي إرشاد العامة والبدو للدين والدنيا كالسيد السنوسي. حال البشر الأخير وما يقتضيه من التجديد: في أثناء هذا الضعف الإسلامي العام، دخلت الشعوب الإفرنجية في طور جديد في الفتح والغلب والسياسة والعمران، قوامه العلوم الكونية والفنون والصناعات والثروة والنظام، وتجدد فيها من آلات الحرب وكراعها، وأسلحة القتال وعتادها، ما يمكِّن الجند القليل من إبادة جند يفوقه أضعافًا مضاعفة في العدد والشدة والشجاعة في زمن قصير. واستُحدِث فيه من النظام ما يسهل به على أفراد ممن حذقوه ومردوا عليه أن يسخِّروا لخدمتهم شعبًا كبيرًا غريبًا عنهم في جنسه ولغته ودينه، كما يسخِّرون الأنعام الداجنة والسائمة، والحمر الموكفة والخيل المسومة، فيُذلون بالجماعات المذللة منه الجماعات المتمردة، ويستنزفون ثروته كلها فيجرفونها إلى بلادهم التي نزحوا منها فاتحين مستعمرين، ويتصرفون في قواه المعنوية وروابطه القومية والدينية، كما يتصرفون في حرثه ونسله، ولحمه ودمه، وأرضه وماله، وهكذا يتصرف العلم بالجهل والنظام بالفوضى. وابتدع فيه من مراكب النقل والتسيار، وآلات رفع الأثقال، وأجهزة تبليغ الأخبار، ما مهَّد السبل لمبتدعيها ومتخذيها من كل ما أشرنا إليه من الأعمال الحربية، والتصرفات السياسية، والوسائل الاقتصادية، وصارت المسافة بين القارة والقارة أقرب من المسافة بين بلد وآخر من مملكة واحدة، وهو ما عُبِّر عنه في الحديث النبوي بتقارب الزمان. اتسعت بذلك مسافة الخُلف بين الشعوب في العلم والعمل ووسائلهما، واشتدت الحاجة إلى تجديد الحياة في المتخلفة منها عن المتقدمة، لا ينهض بمثله أمثال أولئك المجددين القدماء بالوسائل القديمة وحدها، ولا يطمح إليه صوفي يستمد قوته من الأموات ويتكل على الكرامات ويغتر بالمنامات، ولا يطمع في تذليل صعابه واقتحام عقابه غريقٌ في بحار النظريات العقلية، ومغترق الأفكار بنظريات الفلسفة، ولا يطَّلِع ثناياه، ويجتلي خفاياه، منقطع إلى كتب الشرائع، واستنباط أحكام الوقائع، ولا يتسامى إليه من تعلم العلوم والفنون العصرية تعليمًا آليًّا ليكون أحد العمال في دائرة من دوائر الحضارة، أو ديوان من دواوين حكومتها. إن هذا لبدع من الخطوب الكبرى غير العادي، لا ينبعث إلى تلافيه إلا بدع من كبراء الرجال غير عادي، أمم قوية بالعلم الجديد والفن الحديد، والسلاح الشديد، والنظام الدقيق في السياسة والإدارة والمال، والتعاون بتوزيع الأعمال واستخدام قوى الطبيعة، تستلب مُلك أمم جاهلة، متفرقة متخاذلة مختلة النظام، مستعبدة للمستبدين، منقادة للخرافيين، وقد قذف في قلوبهم الرعب؛ فكانوا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأَكَلَة إلى قصعتها [1] ، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير؛ ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) [2] ، فمَن ذا الذي يضطلع بتجديد حياة هؤلاء الموتى، ويحشرهم من قبورهم. ألا إن الرجل الذي ينبعث إلى نفخِ روح الحياة في شعوب هبطت إلى هذه الدركات من الوهن، وبعْثِها إلى مجاهدة أمم عرجت إلى تلك الدرجات من القوة - يجب أن يكون ذا روح علوية، أوتيت حظًّا عظيمًا من وراثة النبوة في كمال الإيمان، وصحة الإلهام، وعلو الهمة، وقوة الإرادة، وصدق العزيمة، وإخلاص النية، وقوة الفراسة، والزهد في الشهوات البدنية، واحتقار الزينة الخادعة، والزهد في الجاه الباطل وعدم الخوف من الموت، وأن يكون ذا وقوف على حالة العصر، وتاريخ الشعوب الديني والسياسي، وسنن الله في الاجتماع، وفصل الخطاب في الإقناع، وفصاحة اللسان وبلاغة التعبير وقوة التأثير، ثم يكون ما يحذقه من سائر العلوم مددًا له في عمله. حكيم الشرق والإسلام: كذلك كان ذلك الروح العلوي النبوي، الذي تمثل للأفغان في ناسوت بشري جلس في دروس العلم، فحذق العلوم والفنون القديمة نقليّها وعقليّها في بضع سنين، وألمَّ بالهند لتلقِّي مبادئ العلوم الأوربية، فوقف على ما شاء منها في زهاء سنتين، ثم حج في سنة 1273، ومكث في سفره زهاء سنة يتقلب في البلاد الإسلامية لاكتناه أخلاقها وعقائدها الدينية، واختبار أحوالها الاجتماعية والسياسية. ثم عاد إلى بلاده فانتظم في سلك حكومتها وهي ممزقة بالفتن الداخلية، وموبوءة بالدسائس البريطانية، فكاد بتدبيره يخلص الأمر فيها لأميرها محمد أعظم خان الذي بوَّأه مكان الوزير الأول عنده، لولا ما عارض ذلك من الدسائس الإنكليزية، التي تمدها القناطير المقنطرة من الجنيهات الإسترلينية، والروبيات الهندية. واضطر بفشل أميره إلى هجر وطن ولادته ونشأته، إلى حيث يمكنه الإصلاح من أوطان أمته، فمرَّ بالهند، فبالغت حكومتها الإنكليزية بالحفاوة في ضيافته، مع إحاطة عمالها وجواسيسها بمجالسه، ومنع علمائها من الاتصال به، ولكنه نفخ فيمن لقيه من كبرائها روح الاستقلال، والجرأة على كسر مقاطر الاستعباد، ثم كان يغذي ذلك الروح بالكتاب وتلقين الأفكار، لِمَن يلقى من رجالها في مصر وأوربة وسائر البلاد، وبمقالات له في الجرائد نشرناها في المنار، وناهيك (بالعروة الوثقى) التي كادت تضرم نيران الثورة فيها، وكان موقنًا باستقلالها من بعده، حتى إنه قال للشيخ عبد الرشيد التتاري: (يا ولد، إنك ستصلي صلاة الجنازة على القيصرية الروسية، وستحضر تشييع جنازة الإمبراطورية ال

خلاصة الخلاصة في وجوب الجمع بين التجديدين الديني والمدني

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خلاصة الخلاصة في وجوب الجمع بين التجديدين الديني والمدني وحزب الإصلاح المعتدل الذي يقوم به وخلاصة ما أريد عرضه على قراء هذا التاريخ في هذا التصدير أن إصلاح الأمة الإسلامية في أي شعب من شعوبها لن يكون إلا بالجمع بين التجديد الديني والدنيوي، هذا ما صرَّح به الحكيمان وجريا عليه بالعمل، وصرَّح لي به سعد باشا زغلول وقد نقلته عنه في المنار، بل هذا ما يعتقده أهل الرأي الناضج من غير المسلمين، وقد صرَّح به الكثيرون منهم قولاً وكتابة، كما يراه القارئ فيما كتبه بعضهم في تأبينهم الأستاذ الإمام وترجمتهم له من الجزء الثالث، وذكرت كلمات منها في الشهادات المعدودة لأشهرهم قبل خاتمة هذا الجزء. فالجهاد الذي يخوض غمراته دعاة الاستقلال السياسي والإصلاح المدني لا يتم لهم النصر فيه، ولا يتسق أمره وتثبت بوانيه، إلا بالتعاون والتظاهر مع دعاة الإصلاح الديني، وقد كثر جنده المستقلون في فهم الإسلام في الأزهر وغيره من القطر المصري، وفي سائر الأقطار الإسلامية، وهم منذ سنين يفكرون في تكوين وحدتهم وتنظيم حزبهم، فإذا وجدوا من زعماء الأحزاب المدنية رغبة في الاتحاد بهم والتعاون معهم، ظهر لهؤلاء من قوتهم في الرأي، وتأثيرهم في الشعب بألسنتهم الخاطبة وأقلامهم الكاتبة، ما لم يكونوا يحتسبون. وأختصر في هذا الموضوع هنا لأنني قد وفَّيته حقه في خاتمة الكتاب بما ليس وراءه مزيد، إلا إذا ظهر الاستعداد له وانتقل إلى حيز التنفيذ. {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (آل عمران: 101) . وكتبه محمد رشيد رضا في سلخ جمادى الأولى سنة 1350. * * * المواد المهمة التي اعتمدنا عليها في كتابة هذا التاريخ 1- ما كان شرع فيه الأستاذ الإمام من ترجمة نفسه بخطه. 2- مذكرة بتاريخ حياته كتبها لي لأجعلها أصلاً لخلاصة لتاريخه طلبت منه. 3- ما كتبه من تاريخ الثورة العرابية ومذكراته الوجيزة فيها. 4- مجموعة خطية له، فيها بعض المستندات في عمله مع السيد جمال الدين في تأسيس جمعية العروة الوثقى السرية ونظامها، وبعض المكاتبات بينه وبين أعضائها. 5- مسودات مقالات ومكتوبات وتقارير كان يعطيني إياها لتبييضها، أو بسطها ونشرها في الجرائد أو إرسالها لبعض الناس، ومنها ما هو خاص بالأزهر. 6- مؤلفاته كلها وما اقتبسته من تفسيره ودروسه في الأزهر. 7- جملة من المكتوبات والرسائل والقصائد التي كانت تُرسل إليه وحفظها عنده. 8- مجموعة فيها حِكم مقتبسة منثورة بخط السيد جمال الدين وخطه ومقالات له. 9- مقالاته الإصلاحية في جريدة الوقائع المصرية. 10- مجموعة العروة الوثقى برمتها بخطي وخط بعض إخواني. 11- قوانين الأزهر ولوائح التعليم فيه ومحفوظات أخرى في شأنه. 12- كتاب أعمال مجلس إدارة الأزهر. 13- تقرير محمد بك أبو شادي في مسألة فتوى طعام أهل الكتاب. 14- إرشاد الأمة الإسلامية إلى أقوال الأئمة في الفتوى الترانسفالية لجماعة من أكابر علماء الأزهر. 15- مجموعة مجلدات المنار وما فيها من المقالات والآراء له وعنه وفي شأنه. 16- عدة أجزاء من مجلة ضياء الخافقين، فيها مقالات للسيد جمال الدين. 17- مجموعات المجلات والجرائد المصرية التي نشرت ترجمة السيد وترجمته. 18- كتاب الدفاع عن العرابيين لمحاميهم مستر برودلي. 19- ما كتبه لي أصدقاؤنا من تلاميذه ومريديه عن سيرته في سورية بعد النفي، ورحلته إلى السودان وفي مدحه والدفاع عنه. 20- مذكراتي الخاصة ومكتوباته لي، وما اقتبسته واستفدته من معاشرته 8 سنين. ((يتبع بمقال تالٍ))

مقدمة كتاب التاريخ

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِين} (الشعراء: 83) ، {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) . فلك الحمد أن جعلت سِير الأولين عبرة للآخرين، ومننت على عبادك بمن بعثته في الأميين، يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، محمد خاتم النبيين، ورحمتك العامة للعالمين، فَصَلِّ وسلم اللهم عليه وعلى آله وصحبه، والمجددين لهديه وإصلاحه من بعده، حتى ترث الأرض ومن عليها، وأنت خير الوارثين. أما بعد، فيقول محمد رشيد رضا صاحب المنار: إن مصر لن تنسى ذكر الحكيمين المجددين، والإمامين المصلحين، السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده المصري، فطلاب الإصلاح الديني والإصلاح المدني والإصلاح السياسي، لا يفتئون يشيدون باسميهما على أعواد المنابر، وفي أعمدة المجلات والجرائد، ولا يزالون يجعلونهما مضرب الأمثال، ويتناقلون ما يُؤثر عنهما من حكم الأقوال، وجلائل الأعمال، بل ذكرهما الحميد معروف في سائر الشرق، غير مجهول في عالم الغرب، وإن لقب (حكيم الشرق) ولقب (الأستاذ الإمام) لاصقان بهما، ومُغنِيان عن تسميتهما. وقد أجمع العارفون والمدونون للتاريخ الحديث على أنهما مصدر هذه النهضة العصرية في مصر والأفغان وإيران والهند، وهم يشعرون بالحاجة إلى وضع تاريخ لهما يدون سيرتهما، ويفصِّل أعمالهما الإصلاحية، ويرون أن ما كتب في الصحف عند وفاة كل منهما، وما ينشر فيها أحيانًا من التنويه بإصلاحهما نَزْرٌ يسير من أعمالهما وآرائهما النافعة. وعجب بعض المفكرين أن رأوا بعض الإفرنج يكتب في تاريخهما ما لم يكتب مثله أولادهما وأحفادهما من دعاة الإصلاح والتجديد. وينحون بأشد اللائمة على المصريين منهم عامة، وعلى صاحب المنار خاصة! إذ كان أخص مريدي الأستاذ الإمام وناشر علمه وحكمته، والمدافع عن إصلاحه في عهده ومن بعده، وقد وعد بكتابة تاريخ له عقب وفاته، فنشر سفرًا جمع فيه أكثر منشآته القلمية، وجزءًا جمع فيه أهم ما قيل وما كتب في تأبينه ورثائه، وسماهما (الجزء الثاني والثالث من تاريخ الأستاذ الإمام) وقد مرَّ ربع قرن ونيف ولم يصدر الجزء الأول الذي هو التاريخ الحقيقي. أشهد أن لوم اللائمين لمصر على هذا التقصير حق، وإنني بما يخصني من التثريب علي لأجله - وهو أكبره - أحق، ورب لائم مليم، ورب ملوم معذور، وها أنذا ألخص عذري بعد أن اعترفت بتقصيري، وبرئت من ذنبي بإنجاز وعدي. توفي الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إثر معارك من جهاده في الإصلاح ما صلي نارها معه غيري، وحملت ما تصديت له من الضرر، غير متململ ولا ضَجِر، وأما ما لذع قلبي من نار فقده فهو الذي لم يكن لي بحمله حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم كنت مهددًا بعده بالنفي من هذه البلاد كما هُددت في آخر عهده، وقد وطَّنت نفسي على النفي وعزمت على السفر إلى الهند، ولم أتحول عن خطتي قيد شعرة. أعلنت عزمي على كتابة تاريخ للأستاذ الإمام فلم ألبث أن بُلِّغت عن الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان أن أصدقاءه قد قرروا تأليف تاريخه بالتعاون بينهم وهم به أولى، فقلت للمُبَلِّغ: إن تأليف تاريخين لهذا الإمام الكبير ليس بكثير ولا كبير فليكتبوا ما عندهم ولأكتب ما عندي. ثم أرسل إليَّ عميد حزبه المدني وأقوى أركانه سعد باشا زغلول، وكان عاد مع شقيقه أحمد فتحي باشا من أوربة، فجئته فبلَّغني أنه هو وإخوانه من مريدي الإمام وأصدقائه يرون أن أتولى كتابة تاريخه، وأن يساعدوني بما لديهم من المواد والمعلومات، ثم يساعدوني على طبعه ونشره بالمال، بشرط أن أطلعهم على عملي وأستشيرهم فيه؛ فإن كثيرًا من سيرته - رحمه الله - كانوا يُعَدَّون متكافلين معه فيه، ويُعَدَّون من بعده مسئولين عنه. فأجبته أنني لست إلا واحدًا منكم، بل أنا أصغركم، ولا أستغني عن مساعدتكم ومشاورتكم، ولا أحب الخروج عما ترونه من مصلحتكم. وفي إثر ذلك اجتمع بدعوة منه: الشيخ عبد الكريم سلمان وحسن باشا عاصم ومحمد بك راسم وقاسم بك أمين والشيخ عبد الرحيم الدمرداش باشا، وقرروا ندب أحدهم - أحمد فتحي باشا زغلول - ليكون نائبًا عنهم في التعاون والتشاور معي في العمل، وبلَّغوا حمودة بك عبده ذلك، وأنه يرضيهم أن يعطيني ما عنده من مواد هذا التاريخ؛ وإنما اختاروه لذلك لأنه أنشطهم وأقدرهم عليه وأكثرهم مودة وزيارة لي، وطلاقة في حرية الكلام معي، وكان هو المتصل من جماعتهم بسمو الخديو، ومحيطًا بسياسته وسياسة الإنكليز في الأمور علمًا، وهما الجانبان اللذان يحسب لرضاهما وسخطهما كل حساب. وكان كل ما قدمه لي من المساعدة نسخ مقالات الأستاذ الإمام الإصلاحية من جريدة الوقائع المصرية الرسمية، إذ كان يقتني مجموعتها، وكان أول ما شاورته فيه مقالات جريدة العروة الوثقى وكانت كلها منسوخة عندي، فأما ما كان منها خاصًّا بالسياسة ومسألة مصر والسودان وتهييج العالم الإسلامي والهند على الدولة الإنكليزية - فقد وافقته على تركه وعدم نشر شيء منه في منشآته؛ لأن الحرية في مصر لا تتسع لنشره، وقد كانت العروة الوثقى ممنوعة من مصر والسودان والهند لأجلها، وقد نشرت أهمها في هذا الجزء، وأعطاني حمودة بك بعض المواد ومن أهمها ما كتبه الأستاذ من تاريخ الثورة العرابية. وأما المقالات الإصلاحية العامة التي بث الحكيمان فيها الدعوة إلى جمع كلمة المسلمين وإصلاح ذات بينهم، والتعاون على إحياء مدنيتهم بما تقتضيه وسائل هذا العصر - فقد اتفقنا على نشر أكثرها، وترك ما تعده إنكلترة تحريضًا عليها منها؛ ولكنه أشار أيضًا بحذف جمل من بعض المقالات ما وافقته عليه إلا كارهًا، وأيقنت أنني لا يمكنني أن أكتب هذا التاريخ تحت مراقبته والتقيد بمشاورته بالحرية التي أريدها، وقد ساعدتني اللجنة بمبلغ من المال أعطيتها في مقابله مئات من النسخ وزَّعها أعضاؤها بالمجان، وبِيعَ بعضها بثمن بخس. فهذا ما حملني على التعجيل بجزء التأبين والرثاء والتعازي، ثم بجزء المنشآت، والتسويف بجزء الترجمة، ثم التطويل في فصول تربية الأستاذ الإمام وتعليمه منه بذكر ذلك الاستطراد الطويل في الكلام على حقيقة التصوف وما يوافق الكتاب والسنة وما يخالفهما منه. واتفقنا على جعل ترجمة المنار للأستاذ الإمام هي الأصل لجزء الترجمة في مواده مع بسطها والتوسع فيها، وقد قرأه هو ورتَّبه وأشار بالحبر الأحمر إلى حذف بعض المسائل منها لمخالفتها لمقتضى الحال أو سياسة الوقت. وفي أثناء ذلك استقال لورد كرومر العميد البريطاني وخلفه السر ألدون غورست صديق سمو الخديو، وكان ذلك في أوائل سنة 1325 قبل أن تتم على وفاة الإمام سنتان، فكبر نفوذ سموه في الحكومة وضاقت بكبره سعة الحرية علينا، وأعيد في عهده العمل بقانون المطبوعات، فاقتنع أحمد فتحي باشا نفسه بأن كتابة تاريخ الأستاذ الإمام كتابة حرة مفيدة صار متعذرًا، فاتفقنا على الوقوف عند ما كان قد تم منه، وهو إلى 232 صفحة، وهو المقدار الذي أطلعت عليه الشيخ عبد الكريم سلمان إذ رأيته شاكًّا في بدئي بطبع الكتاب، فاعترف بأنه لا يمكن نشره. وجملة القول: إن طبع هذا الجزء كان يسوء الخديو عباسًا، وإن لم ينشر فيه ما كان من مقاومته للإمام في إصلاح الأزهر والمحاكم الشرعية والأوقاف حتى المساجد؛ فإن نشر هذا فيه كما يراه القارئ هنا فإنه كان يبذل كل قواه في عقاب مؤلفه، وما كان أحمد فتحي باشا ليرضى بذلك، ولا سعد باشا أيضًا، ومكانهما في حكومة جنابه مكانهما. وما انتهى عهد سموه إلا بسبب الحرب الكبرى التي جعلت الحكومة الإنجليزية مصر في أثنائها خاضعة لأحكامها العسكرية وأعلنت حمايتها عليها، واشتدت مراقبتها العسكرية ومراقبة الحكومة المحلية بأمرها على المطبوعات، واستمرت هذه المراقبة الشديدة إلى ما بعد الحرب بزمن طويل. وإنما سنحت الفرصة الأولى لإصدار الكتاب في العهد الأخير لسعد باشا في زعامة الأمة ورياسة الحكومة واستقرار نفوذه في البلاد أي في سنة 1345 هـ، إذ لم يبق للإنكليز من النفوذ القوي في هذا العهد ما يخشى أن يمكِّنهم من حمل الحكومة على مصادرته، على أن ثورة مصر قد انتهت ولم يعد ما في الكتاب من التحريض السابق يضيق على حريتهم، بيد أنه قد عاقني عن افتراص هذه السانحة بالسرعة عدة عوائق؛ منها أنني كنت انتقلت من الدار التي طبعت فيها القسم الأول من التاريخ إلى دار أخرى، وتعذر وضع كل نوع من المطبوعات الكثيرة وحده، فلم نقدر على العثور على المطبوع من التاريخ إلا بعد الانتقال إلى دار المنار الجديدة ووضع كل كتاب من مطبوعاتنا في محل خاص به، وإنما تم بعد وفاة سعد رحمه الله تعالى، وقد وجدنا بعض المطبوع تالفًا وبعضه قد فُقد، فاضطررنا إلى إعادة طبع أكثرها. وشرعت في إتمام الكتاب في أواخر سنة 1348، وعرض لي موانع عن المضي فيه مدة سنة، وعدت إليه في أواخر سنة 1349، وكنت أقدِّره بثمانين كراسة (ملزمة) أو مائة، ثم كنت كلما شرعت في مقاصد فصل من الفصول أتذكر من مواده ومسائله ما كنت ذاهلاً عنه حتى بلغ ما يراه القارئ، وقد صبرت نفسي وحبستها على كتابة ثلثه الأخير أربعة أشهر من هذا العام (1350) لا أشرك به عملاً آخر حتى تم طبعه في هذه الأيام، وبقي كثير من المواد والمستندات من تاريخه وتاريخ السيد جمال الدين ضاق عنها هذا الجزء فوعدت بإثباتها في جزء الذيل الذي أضعه له إن شاء الله. كيف كُتب هذا التاريخ: كُتب هذا التاريخ في أثناء سنين كثيرة وفترات بعيدة، وأوقات يختلف فيها الفكر والشعور باختلاف الأحوال، والأناة، والاستعجال، ولم تكن مواده مجموعة مرتبة؛ وإنما جريت في ترتيب أكثرها على ما كتبته في المنار عقب وفاة الأستاذ الإمام من ترجمته، ومنها ما ليس له ذكر في تلك الترجمة، ومن ثم يجد القارئ فيه تكرارًا لبعض المسائل عن سهو أو عمد، وربما تختلف فيه العبارة في المسألة الواحدة بعض الاختلاف في اللفظ كاختلاف الورق، ولا سيما المسائل التي اعتمدت في كتابتها على حفظي، وأرجو أن لا يكون فيها شيء من التناقض؛ فإنني بفضل الله تعالى قوي الذاكرة للمعاني. ولولا أن طال هذا الجزء حتى صار يثقل حمله، وعطلت أهم أعمالي لأجل إتمامه، مع سوء الحال، وقلة المال - لوضعت له خلاصة كلية ألخص فيها مقدمات كل مقصد من مقاصد فصوله ونتيجته، وأبيِّن مواضع العبرة فيه على نحو ما ذكرته في أثنائه لبعضها، كأن أعد ما كان عليه الأزهر قبل تصدي الإمام لإصلاحه من الصفات والأحوال واحدة واحدة، وأعد ما كان عليه شيوخه وطلابه من الصفات والعادات والأعمال صفة صفة وعادة عادة وعملاً عملاً، ثم أبيِّن ما كان من تغيير الإصلاح لبعض ما ذكر، وأعد فوائده واحدة بعد واحدة، ومثله أن ألخص آراءه في التربية والتعليم، فأعد المفاسد التي ذكرها في لوائح إصلاح التعليم في الدولة العثمانية وفي مصر، وما ذكره منها في خطبه في احتفالات مدارس الجمعية الخيرية، ثم أعد ما ذكره في تلك المواضع وغيرها من قواعد الإصلاح كلها وهي التي أدعو إليها، ولكنت أفعل هذا في كل فصل بل كل مقصد، وإذًا لكانت الفائدة أتم

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من عالم راخو فتسا برزرين في يوغوسلافية - أوربة (تأخرت سهوًا وقد سبق لنا بيان أكثرها) (س1 - 10) من الفقير العاجز يحيى سلامي ألاييكي إلى السيد الجليل ملجأ الباحثين، وملاذ الناقدين، مفتي الأنام، شيخ مشايخ الإسلام، الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الأغر الأعلى الإسلامي بمصر. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد أتيح لي أن أسأل حضرتكم عن حقيقة المسائل الآتي ذكرها، وأسترشد بدلالتكم وإرشادكم إلى صحيح الجواب الذي هو هدي القرآن والسنة النبوية. 1- ما معنى قول الله عز وجل في حق إدريس عليه السلام: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم: 57) الآية؟ هل إدريس في قيد الحياة أم لا؟ 2- أكان معراج نبينا صلى الله عليه وسلم إلى السموات وإلى ما شاء الله جسمانيًّا أم لا؟ وما معنى {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ} (الإسراء: 60) ؟ 3- هل كان الطوفان على قوم نوح عليه السلام فقط أو لجميع العالم؟ وما معنى قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ} (هود: 44) ؟ 4- ما هي حقيقة طير الأبابيل الواردة في سورة الفيل؟ 5- هل جملة (من زار قبري وجبت له شفاعتي) حديث صحيح أم لا؟ 6- (القناعة كنز لا يفنى) هل هي من الأحاديث الصحيحة الواردة، وما معنى القناعة، أيمكن أن يكون مفهومها الاقتصاد بتعبير هذا العصر؟ 7- أتأكل الأرض أجساد الأنبياء والأولياء وحفاظ القرآن الكريم، أم لا كما هو مشهور عند العامة بعدم أكلها، وقد روى الفقيه أبو الليث السمرقندي في كتابه (تنبيه الغافلين) في باب فضل الجمعة حديثًا مسندًا بهذا الشأن؟ 8- كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة، والخلفاء الراشدون بعده، والأصحاب والتابعون رضوان الله عليهم؟ 9- رجل رضع ثدي امرأته ما حكمه في الشرع هل تحل له أم لا؟ 10- (الجعة) ما حكمها في الشريعة السمحة؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... راخو فتسا ... ... ... ... ... ... ... ... ... (يوغوسلافيا) أجوبة المنار (1) رفع إدريس عليه السلام: قال الحافظ البغوي في تفسير: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِياًّ} (مريم: 57) قيل: هي الجنة، وقيل: هي الرفعة بعلو الرتبة في الدنيا، وقيل: إنه رُفع إلى السماء الرابعة، وروى أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى إدريس في السماء الرابعة ليلة المعراج اهـ. وذكر بعد هذا عن كعب الأحبار قصة إسرائيلية في رفعه وسببه، وهي من قصصه الخرافية، وممن رواها عنه ابن عباس رضي الله عنهما، فلا يعتد بها. قال العماد ابن كثير بعد إيرادها في تفسيره: (هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفي بعضه نكارة، والله أعلم، وعزاه إليه الحافظ ابن حجر في الفتح أيضًا. والقول الأول، وهو تفسير المكان العلي بالجنة، مروي عن الحسن البصري، وهو لا يعارض بحديث المعراج فإن الأنبياء الذين رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج قد ماتوا في أزمنتهم ودفنوا، إلا ما ورد في عيسى عليهم السلام، وقد ورد أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى موسى في تلك الليلة في قبره بالكثيب الأحمر من فلسطين، فهذه أمور روحانية غيبية لا نعلم كنهها، وقد قال الله تعالى في الرسل عليهم السلام: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} (البقرة: 253) والظاهر أن إدريس مات في الدنيا كغيره، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وكون إدريس رفع وهو حي لم يثبت من طريق مرفوعة قوية. (2) المعراج جسماني أم روحاني: الخلاف في هذه المسألة مشهور يذكرونه في القصة التي يقرءونها في الاحتفال الذي يجتمع له الناس في ليلة 27 رجب من كل عام، والروايات فيه متعارضة متناقضة، والجمهور على أنه بالروح والجسد؛ لأن الإنسان روح في جسد، وفي اليقظة لأن جمهور المحدثين حكموا بغلط رواية شريك في كتاب التوحيد من صحيح البخاري في كونه رؤيا منامية، وهي في أمر من أمور عالم الغيب فلا تقاس على عالم الشهادة، والمعقول في فهمها أن تكون الروحانية هي الغالبة على الجسمانية فيها، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالملَك حين يتمثل في صورة جسدية كما تمثل جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم مرارًا، وكما تمثل للسيدة مريم عليها السلام، وكما تمثل غيره من الملائكة لإبراهيم صلى الله عليه وسلم، وبهذا التقريب يزول كل إشكال في فهمها؛ فإن الروح إذا غلب سلطانها على الجسد تلطفه فيخف ويكون كالأثير الذي يفرضه علماء الكون في نفوذه من الكثائف، وتقطع به المسافات الشاسعة بسرعة النور أو أسرع من الأثير، نقول هذا على طريقة التقريب للفهم، وعالم الغيب لا تُعرف أسراره وتتجلى أنواره، إلا لمن زُجّ فيه. وأما قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} (الإسراء: 60) فمعناه: وما جعلنا الرؤيا المنامية التي أريناكها في المنام إلا بلاءً واختبارًا للناس في دينهم، ظهر بها تمرد المشركين الكافرين، وزلزال الضعفاء ويقين المؤمنين، وليس في القرآن بيان لهذه الرؤيا أوضح من قوله تعالى من سورة الفتح: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} (الفتح: 27) الآية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل - ومعه أصحابه - المسجد آمنين فطافوا بالبيت وحلقوا وقصروا، وكانت هذه الرؤيا سبب عمرة الحديبية المشهورة فصدَّهم المشركون عن دخول مكة وعقدوا معهم ذلك الصلح الذي ساء جمهور المسلمين، وكادوا يعصون الرسول صلى الله عليه وسلم إذ أمرهم بالتحلل من عمرتهم بالحلق أو التقصير، لولا أن ثبتهم الله تعالى وأنزل عليهم السكينة، وهذا التفسير للرؤيا رواه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه. ولكن هذه الواقعة كانت سنة ست من الهجرة، والآية في سورة الإسراء وهي مكية، فقيل: إن الله تعالى أراه ذلك وأخبره به في مكة ثم كان تأويله بعد الهجرة، وكثيرًا ما يقولون في مثل هذا: إن الآية مدنية ووضعت في هذه السورة لمناسبتها لها، وهو على الوجهين خلاف الظاهر. وفسرها بعضهم بالرؤيا التي ذُكرت في سورة الأنفال: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} (الأنفال: 43) وما ورد في سياقها في الحديث من أن الله أرى نبيه صلى الله عليه وسلم مصارع رؤسائهم في الكفر، وهذه كانت بعد الهجرة أيضًا ولكن ورد أنه صلى الله عليه وسلم ذكرها في مكة قبل الهجرة فهزئ به كفار قريش، وفي الصحيح أن سعد ابن معاذ أتى مكة عقب الهجرة وقبل وقعة بدر فنزل على صديقه في الجاهلية أمية ابن خلف وكان مما أخبره به قوله: لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنهم قاتلوك - يعني المسلمين - قال: بمكة؟ قال: لا أدري، ففزع أمية لذلك فزعًا شديدًا، وفي رواية أنه قال له: إنه قاتلك - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - وإن أمية قال: فوالله ما يكذب محمد. ولما دعاهم أبو سفيان للخروج إلى بدر امتنع أمية من الخروج خوفًا من القتل لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم لا يكذب وإن أخبر عن المستقبل، فما زال به أبو جهل حتى خرج وقُتل. وفسَّرها الجمهور بما جاء في حديث الإسراء من افتتان بعض الناس به بارتداد بعض ضعفاء الإيمان وخوض المشركين في إخباره صلى الله عليه وسلم بما هو غير معقول خلافًا لعادته، واحتج به من قالوا: إن ذلك كان رؤيا منام. ورواه ابن إسحاق عن معاوية بن أبي سفيان، وهو صريح رواية شريك في البخاري، والجمهور على خلافه، وقد حكموا بغلط شريك لشذوذه عما رواه الكثيرون كما تقدم، وقالوا: إن لفظ الرؤيا قد يُطلق على ما يُرى في اليقظة ليلاً، وقيل: مطلقًا، ولا يعرف له نقل، إلا ما روى البخاري عن عكرمة عن ابن عباس في تفسيرها: أنها رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، واللفظ صريح في أن المراد بها شيء أراه الله تعالى إياه في تلك الليلة لا نفس الإسراء، ولهذا قال الحافظ في شرحها: إنه لم يصرح بالمرئي، وذكر عن سعيد بن منصور عن طريق أبي مالك: هو ما أُري في طريقه إلى بيت المقدس، أي ومنه أنه رأى عيرًا لهم قد ضلت وجمعها فلان، فالإشكال في هذه الرواية محصور في إضافة الرؤيا إلى العين، وهو خلاف استعمال القرآن والأحاديث الكثيرة وما نقل رواة اللغة، والآية صريحة في أن هذه الرؤيا كانت فتنة للناس لا بعض ما شاهده صلى الله عليه وسلم في ليلتها، وهذا المكان لا يتسع لتحرير هذا البحث. وفسَّرها بعضهم بما روي من رؤيته صلى الله عليه وسلم كأن بني أمية يتعاورون على منبره، وقد كان ملك بني أمية مثار أكبر الفتن في الإسلام، وقد عرفت رأي الجمهور. (3) طوفان نوح: ظاهر القرآن أنه كان على قوم نوح فقط لأنه عقاب لهم، وهل كان يوجد على الأرض غيرهم من البشر حتى يكون لهذا السؤال وجه من النظر؟ قد يقال: إنه لم يكن يوجد غيرهم بدليل قوله تعالى: {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّارًا} (نوح: 26) وهذه الدلالة غير قطعية، فإن كل قوم يطلقون لفظ الأرض على أرض وطنهم كقوله تعالى: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} (الإسراء: 76) فالمراد بالأرض هنا أرض مكة، ولهذا أمثال. والتحقيق في المسألة أنه ليس في القرآن نص قطعي على أن الطوفان عمَّ الأرض كلها؛ ولكنه هو الذي جرى عليه المفسرون وغيرهم بناء على أنه ظاهر الآيات في القصة كان عليه جميع أهل الكتاب، ولا يوجد دليل قطعي ينقض هذا الظاهر الظني فنحتاج إلى تأويله، وما يقوله علماء الجيولوجية قد يرد على نصوص التوراة التي تحدد تاريخ نوح والطوفان بحد قريب، إذ يجزمون بأن الأرض كانت فيه على ما هي عليه اليوم بالتقريب، والقرآن لم يحدد تاريخ التكوين والبشر ببضعة آلاف من السنين كسفر التكوين، بل قال الله تعالى فيه: {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} (الكهف: 51) فعلى هذا يحتمل أن يكون الطوفان قد وقع منذ مئات الألوف أو ألوف الألوف من السنين، إذ كانت اليابسة التي نتأت في الكرة المائية صغيرة، والجبال فيها قليلة غير شامخة، فطبيعتها كانت قابلة لمثل هذا الطوفان، وجاء في المواقف عن الإمام الرازي أن هذه الأرض كانت مغمورة بالمياه بدليل ما يُرى في رؤوس الجبال من الأصداف البحرية، وكذا الأسماك المتحجرة، وهذا متفق عليه عند علماء الكون في هذا العصر. والجودي المكان أو الجبل الذي استوت عليه السفينة، وليس في الكتاب ولا في الأحاديث المرفوعة تعيين مكانه؛ لأن العبرة لا تتوقف عليه. وللأستاذ الإمام فتوى في أن عموم الطوفان هو ظاهر النصوص لا مدلولها القطعي، وإننا لا نعدل عن القول بالظاهر إلا إذا قام دليل قطعي على خلافه، ولما يقم هذا الدليل عندنا وهذه الفتوى منشورة في المنار في تاريخ الأستاذ الإمام. (4) حقيقة الطير الأبابيل: ليس عندنا دليل نقلي عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم نعرف به حقيقة تلك الطير؛ ولكن جاء في الأخبار التاريخية التي كانت العرب تتناقلها أن أصحاب الفيل الذين جاءوا لهدم بيت الله تعالى في مكة أصابهم وباء الجدري والحصبة فأهلكهم. فالظاهر أن تلك الطير

إلحاد في القرآن ودين جديد بين الباطنية والإسلام ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إلحاد في القرآن ودين جديد بين الباطنية والإسلام المقالة الرابعة السنن الكونية الاجتماعية ونظام الكون لقد أكثر هذا الملحد من ذكر السنن الإلهية ونظام الكون في هوامشه ومقدمتها، وجعلها هي المستند له في جحود آيات الله تعالى التي أيَّد بها رسله، وتحريف الآيات الواردة فيها وفي أخبار عالم الغيب كما تقدم، وقد وعدنا بإظهار جهله في هذه المسألة فنقول: إننا بفضل الله قد انفردنا دون سائر المفسرين بالكلام على هذه السنن والنظام الإلهي في تفسيرنا ومجلتنا، وهو قد سمع ذلك منا ولكنه لم يفهمه، بل لبسه كالفرو مقلوبًا، ونكس على رأسه فاتخذه منكوسًا، نحن قد أوردناه لتقوية الإيمان، والحجة على إعجاز القرآن، فجعله هو شبهة على الإيمان بالغيب وجحود آيات الأنبياء عليهم السلام، وما أوردناه من تأويل لبعض ما يحتمل التأويل على طريقة المتكلمين، قصدنا به تقريبه من عقول الجامدين على المألوف من النظريات العقلية أو العلمية، لئلا يَرُدُّوا النصوص بها فيرتَدُّوا، وقد صرحنا مرارًا بأن الذي ندين الله به من أخبار عالم الغيب، وما في معناها من آيات الله تعالى في الخلق، هو الإيمان بما صح منها بلا تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وقد جعلها هذا الملحد قانونًا لتحريف ما لا يحتمل التأويل، كما قال الله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} (آل عمران: 7) الآية، فوجب أن نأتي بخلاصة في المسألة مما نشرناه في مواضع متفرقة في المنار وتفسيره، ونقفي عليها بتفنيد ضلالته فيها، فنقول: قد أخبر الله تعالى في مواضع من كتابه بأن له سُنُنًا في عباده والأقوام الذين بعث فيهم رسله، وأن سننه لا تبديل لها ولا تحويل، وأخبر أيضًا بأنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وأن كل شيء عنده بمقدار، وأن خلقه في منتهى الإحكام والنظام. فما بيَّنه الله تعالى من أنواع هذه السنن، كنصره لرسله على الجاحدين المعاندين لهم، ومن إهلاكه للظالمين، ومن تدميره على الفاسقين المفسدين - فهو كما قال تعالى. وكذا ما بيَّنه من نظام الخلق ومقاديره، ككون الشمس والقمر بحسبان، وما جعله لهما في السماء من المنازل والبروج، ومن كونها لا تفاوت فيها من فطور ولا فروج، فهو كما قال عز وجل. وأما ما لم يبيِّنه لنا من ذلك في كتابه بنوعه أو عينه، فالطريق إلى معرفته هو ما أرشَدَنا إليه من النظر في ملكوت السموات والأرض، وما خلق من شيء، والتأمل في آياته في الآفاق وفي أنفسنا، والسير في الأرض لمعرفة آثار من قبلنا وكذا من في عصرنا بالأولى. قد أرشدنا كتاب الله عز وجل إلى كل هذا، وقد أشرنا في مواضع من المنار وتفسيره إلى ما هو ثابت بالحس من أن أعلم الناس بسنن الله وحكمه ونظمه في خلقه هم أكثرهم انتفاعًا بهذا العلم، واهتداء به إلى تسخير هذا الكون. سنن الله مادية وروحية: وبيَّنا أيضًا أن هذه السنن وهذا النظام والتقدير والإحكام والتدبير، عام في كل ما خلقه تعالى من عالمي الغيب والشهادة، أو عالمي الأجساد والأرواح، أو المادة وما وراء المادة، على اختلاف الاصطلاح. وصرَّحنا بأن ما أيَّد به تعالى رسله من المعجزات، وكذا ما دون ذلك من خوارق العادات التي تسمى الكرامات، إذ لم يكن جاريًا على سنن النظام المألوف في القوى الجسدية والنظم المادية، فقد يكون جاريًا على السنن الروحية والمقادير الغيبية، وقد يكون بمحض القدرة الكاملة، فهو مزيد كمال في قدرته وحكمتها لا نقضًا لهما، ولا نقصًا فيهما. فإذا لم يكن من سنته تعالى في حياة الجسد إذا فُقدت بالموت أن تعود إلى الميت؛ فإن هذه السنة السلبية لا تنافي أن يهب الله تعالى بعض خواص الروحانيين من خلقه، كالملائكة أو المسيح الذي خلقه بالنفخ من روحه في أمه أن يمد بهذا الروح القوي ميتًا كألعازر أو البنت اللذين روت الأناجيل خبر إحيائه إياهما، فيسري فيهما من روحه ما يجذب إليهما الروح التي خرجت منهما بقدرة الله تعالى، ومثل ذلك حلول الحياة في عصا موسى في الوقت المعلوم الذي أمره الله فيه بإلقائها عند بعثته، وعند امتحان السحرة له، والله على كل شيء قدير. لا فرق بين ما لا نعلمه من هذه السنن الروحية، وما نعلمه من السنن الجسدية في كون كل منهما فعل مبدع الأرواح، وخالق الأجساد، ولا يعترض بإحداهما على الأخرى عند من يؤمن بأن الخالق واحد هو واضع السنن ومقدرها؛ ولكن هذا الأمر النادر ينكره من لا يؤمن بأن كلاًّ منهما فعل الله القادر على كل شيء. ومن الغريب أن أطباء هذا العصر وأعلم علمائه الماديين يرون من الجائز في العقل الذي يقرب أن يصل إليه العلم، أن تعود الحياة إلى جسد الإنسان أو الحيوان بعد موته بمدة غير طويلة كحياة البنت الميتة التي دخل المسيح عليه السلام بيت أبيها وأمها وسأل عنها فقيل له: إنها نائمة حتى لا ينغصوا عليه ضيافتهم له، فناداها قائلاً: لك أقول يا صبية قومي، فقامت بإذن الله تعالى. وأغرب من هذا أن منهم من يقول بإمكان إيجاد الحياة في بعض الأجسام بطريقة علمية صناعية، ونُقل أخيرًا عن عالم منهم اسمه مورجان أنه قام بتجارب عملية أثبت بها إمكان استيلاد مخلوقات حية على سبيل الشذوذ Emergeney، وملحد دمنهور لا يصدِّق أن المسيح أحيا الناس من موت الجهل والرذيلة؛ ولكن هذا النوع من الإحياء ثابت لجميع العلماء الذين يُعلِّمون الصغار - والجاهلين من الكبار - ما يزيل جهلهم ويحييهم حياة دينية أو أدبية أخلاقية، فهو لا يمكن أن تكون آية لعيسى عليه السلام ينوه بها كتاب الله، ويخبرنا أن الجاحدين لنبوته وصفوها بالسحر. وما عهد من المؤمنين بالله ورسله أحد ينكر هذه الآيات بمثل هذه الشبهة، وإنما عهد ذلك من الكافرين بالله وبرسله، أو من الزنادقة الذين يُظهرون الإيمان ويسرون الكفر لخداع المؤمنين وتشكيكهم في دينهم توسلاً إلى إخراجهم منه كملاحدة الباطنية. السنن من الممكنات بين المحو والإثبات: فإذا كنا نقول بثبوت سنن الله واطرادها لما بيَّنه الله من ذلك، فالواجب في ذلك أن نتبع كتاب الله فيما يبينه من خوارق العادات أيضًا، فلا نكون ممن قال الله تعالى فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85) . وإذا أردنا أن نثبت هذه السنن واطّرادها من طريق العلم ونبني عليه تأويل ما يخالفها كله من نصوص الكتاب والسنة على طريقة المتكلمين المعروفة (وهو ما يمكن أن يستمسك به ملحد دمنهور) فيجب علينا قبل كل شيء أن نبين ما تقوم الأدلة العلمية القطعية على صحته واطراده واستحالة تغيره وتخلفه مطلقًا، وحينئذ لا نكاد نجد شيئًا بهذه الصفات إلا قليلاً من الضروريات (ككون النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان) وليس منها عودة الحياة إلى من مات ولم يطل العهد على موته، كالبنت التي أحياها المسيح عليه السلام، ولا إعادة وظائف التناسل إلى من فقدها من النساء والرجال، كما وقع لزكريا وزوجه عليهما السلام. والقاعدة عند علماء الكون - حتى الماديين منهم - أن كل ما نقول إنه من سنن الكون (أو نواميسه) فإنما هو بحسب ما ظهر لنا ببحثنا وتجاربنا، وأنه يجوز أن يظهر لنا ما يخالفه ويثبت لنا خطأنا فيه، كما حصل مرارًا فيما ظهر للباحثين من خطأ من كان قبلهم من العلماء والفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، ولا أرجع في التمثيل لهذا إلى ما نقض علماء الحضارة الأوربية من قواعد علوم اليونان والعرب وأفلاكهم وفلسفتهم، ولا إلى ما نقض بعضهم من قواعد بعض في القرون الأربعة الماضية، بل أكتفي بأهم ما حدث من ذلك في عصرنا هذا: عثروا على مادة الراديوم الذي لا يجهل اسمه قارئ للجرائد، دع متلقي العلوم في المدارس، فكان بدء عصر جديد في الكيمياء والطبيعة تقوضت فيه سنن ونواميس كانت من المسلَّمات، وثبت خلافها، كإشعاعه الحرارة والنور إشعاعًا دائمًا من غير أن ينقص من وزنه شيء، وكعدم تأثير ما حوله فيه من حرارة وبرودة، وكتحول المادة الغازية التي تنبعث منه إلى عنصر الهيليوم، وبهذا ثبت شيء كان علماء هذا الفن يجهلونه؛ إذ كانوا يقولون إن عناصر المادة البسيطة لا يتحول شيء منها فيستحيل إلى غيره. وقد كانت سنة الجاذبية من المسلَّمات التي لا نزاع فيها حتى قام الأستاذ أينشتين الألماني بتقويض دعائمها بنظرية النسبية، التي فتحت في العلم بابًا جديدًا من أبواب المحو والإثبات في الطبيعيات وفي الرياضيات أيضًا. وتلك نظرية داروين في الانتخاب الطبيعي التي تدعمها سنن كثيرة في الجيولوجية والنبات والحيوان والإنسان قد وقعت في النزع والاحتضار، كما بيَّنا في مقالة خاصة في المنار، أو قُضي عليها بالتبع للقضاء على النظرية الميكانيكية التي بنيت عليها، كما نشر في بعض الصحف في هذه الأيام. أساس الكون ومصدره ومظهره: وما لي لا آتي إلى أساس هذا الكون والسنن التي قام بها تكوينه في الأطوار المختلفة، ألم يكونوا يقولون: إنه مؤلَّف من مادة ذات عناصر بسيطة، وقوة هي منشأ التركيب الذي حدثت به الصور المختلفة في العالم كله. قد هُدم هذا الأساس إن لم يكن بما ثبت من تحول عنصر إلى عنصر، فبما ثبت من تحول القوة إلى مادة، ثم بما ثبت من أن ما نسميه المادة والقوة اصطلاح لا تُعرف له حقيقة، وأن هذا الوجود الذي نعرفه في أرضنا وسمائنا ليس سوى مظهر من مظاهر تموجات الكهرباء، وأن كل ذرة من ذراته تتألف من عدة كهارب سلبية تدور حول كهرب إيجابي - والكهرب هو الوحدة من الكهرباء - وهذه الكهارب لا يمكن أن يقال إنها مادة ولا إنها قوة، وإنما حقيقتها مجهولة. وهذا الذي استقر عليه رأي علماء الكون أخيرًا يؤيد ما أثبتناه في المنار وفي تفسيره من أن أول مظهر من مظاهر التكوين الذي نسميه المخلوق الأول مجهول للبشر، وأن علماء الكون اختلفوا في إمكان علم البشر به، فمنهم من يقول: إنه يمكن الوصول إلى العلم به بطول الترقي في معارج العلم، ومنهم من يقول بعدم إمكان ذلك، ونقل هذا عن الفيلسوف سبنسر قبل القول الأخير بتركب الذرات من الكهارب، ورأينا في هذه الأيام من نقله عن الأستاذ صليفان. بل هو مثبت لأقوى الأدلة العقلية على وجود الله تعالى عندنا، وهو أن جميع مظاهر هذا الكون السماوية والأرضية تطورات تستند إلى حقيقة غيبية لا يعلم أحد كنهها، وقد بيَّنا ذلك مرارًا كثيرة منها مناظرة دارت بيننا وبين العلامتين صاحبي المقتطف. فإذا كانت المادة تصدر عن القوة كما قالوا فما المانع من القول بأن هذه القوة هي قوة الله وقدرته؟ وإذا كان الوجود الممكن كله مظهرًا من مظاهر تموجات الكهرباء المجهولة الكنه، فأي بعد بين قولهم هذا وقول أتباع الوحي: إن الوجود الممكن الظاهر صادر عن الوجود الواجب الغيبي الباطن و {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3) . نكتفي بهذه الكلمة الوجيزة في سنن الوجود الظاهر المدرَك بالحواس، الذي بلغ البشر من العلم بها مستوى لم يُعرف في التاريخ ما يقرب م

التجديد والتجدد والمجددون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التجديد والتجدد والمجددون (تابع لما سبق) القضية الأولى في حقيقة معنى القديم والجديد، والتجدد والتجديد، والتفاضل بين الطريف والتليد الخلق كله جديد وإنما القديم المطلق هو الله عز وجل، والجدة والقدم في المخلوقات نسبيان، فكل قديم منها كان جديدًا، وكل جديدٍ سيصير قديمًا، ومن الأمثال العامية بل العامة: (من ليس له قديم فليس له جديد) ويا له من مثل حكيم يفهم منه العلماء ما لا تصل إليه مدارك الدهماء. والتجدد والتجديد في الكون من السنن الإلهية العامة التي هي مصدر النظام في تكويننا، والتغير والتحول في أطوار وجودنا، وعملها فيها عين عملها في آبائنا وجدودنا {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) فنحن في معمل الكون الأعظم كالماء في معمل الجليد، كل آنٍ في تجدد وتجديد، تارة يكون مائعًا سائلاً، وتارة يكون بخارًا طائرًا، وتارة يكون جليدًا جامدًا، وهكذا عالم المادة كله، تجدد طبيعي فطري، وتجديد صناعي كسبي، تحليل وتركيب، جمع وتفريق، هدم وبناء، نماء وفناء؛ وإنما يجري ذلك كله في مادة موجودة، ذات عناصر معدودة، قديمة في الخلق لا جديدة، ذات قوى محدودة، تُصَرِّفها قدرة غيبية معقولة لا مشهودة، وهي قدرة الخالق الحكيم عز وجل، فالتجدد والتجديد إنما هو في الصور والأعراض، لا في إيجاد الجواهر والمواد. ويؤثر عن نبي الله سليمان عليه السلام أنه قال: (لا جديد تحت الشمس) وهو صحيح ظاهر بهذا المعنى، ويقابله مقابلة التضاد قول بعض حكمائنا: إن العرض لا يبقى زمانين، فعلى هذا يصح أن يقال: لا قديم تحت الشمس، ولا تعارض بين القولين، ولا تناقض بين القضيتين؛ فإن كل ما تحت الشمس قديم باعتبار وجديد باعتبار آخر. وقد كنت قلت في مقدمة محاضرة في الجمع بين الذكران والإناث في مقاعد التعليم ما يصح أن يقال هنا على أنه مقصد لا مقدمة وهو: (التجديد سنة من سنن الاجتماع، كما أن التجدد من مقتضى الفطرة والطباع، ومثلهما مقابلهما من المحافظة على القديم، ولكل منهما موضع، فلا تناقض بينهما ولا تضاد، إذا وُضع كل منهما في موضعه بغير تفريط ولا إفراط) . (من التجدد في نظام الفطرة أن كل أحد يخالف خَلْق والديه وأخلاقهما بعض المخالفة، ولولا ذلك لم يكن ما نرى من التفاوت العظيم بين البشر، ومن حفظ الأصل ما لا يجهل من إرثه لهما وشبهه بهما في بعض صفاتها الجسدية والنفسية، ولولا ذلك لوقع من التباين بين أفراد الناس ما يكاد يكون به كل منهم نوعًا مستقلاًّ بنفسه) . (ومن حفظ القديم في الأعمال وراء سنة الوراثة ما تقتضيه غريزة التقليد من محاكاة الإنسان لمن يعيش بينهم من أول سن التمييز إلى نهاية أجل الشيخوخة، ثم تقليد الجماهير لمن يرونهم أوسع منهم علمًا، أو أعلى مكانة وقدرًا، ولولا هذا لما تكونت البيوت والفصائل، والشعوب والقبائل، بما يربط بعضها ببعض من المشاركات في الأعمال التي تطبع في الأنفس ملكات الأخلاق والعادات، فتكوِّن رابطة الوحدة، التي تجتمع بها وشائج الكثرة، فتكوِّن بها الفصائل قبيلة والبيوت أمة) . (ومن التجديد في الأعمال البشرية ما تَهْدِي إليه غريزة الاستقلال المقابلة لغريزة التقليد، والميل إلى الاستنباط والاختراع، ولولاه لكانت جماعات البشر كأسراب الطير، ومساكنهم لا ترتقي عن خلايا النحل وقرى النمل) . أنواع التجديد والحاجة إليها: التجديد الاجتماعي والسياسي والمدني والديني كل منها حاجة من حاج الجماعات البشرية بمقتضى غرائزها واستعداد نوعها به يرتقون في مدارج العمران ويصعدون في معارج العلم والعرفان، حتى أن الدين الإلهي الذي يستند إلى وحي الرب الحكيم بمحض فضله، لبعض من أعدَّ أرواحهم القدسية لذلك من أصفياء خلقه - قد سار مع غرائز الجماعات البشرية في ترقيها من طور إلى طور حتى أكمله تعالى لهم بالإسلام، عندما وصل مجموعهم إلى سن الرشد والاستقلال. ومع هذا الإكمال يروي لنا المحدثون عن خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، أنه قال: (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في المعرفة وغيرهم من حديث أبي هريرة، وأشار السيوطي في جامعه الصغير إلى صحته، والمراد بتجديد الدين تجديد هدايته، وبيان حقيقته وحقيته، ونفي ما يعرض لأهله من البدع والغلو فيه أو الفتور في إقامته، ومراعاة مصالح الخلق وسنن الاجتماع والعمران في شريعته. اهـ. وموعدنا في الكلام في التجديد الديني والدنيوي القضية الثالثة. هذه حقيقة معنى التجدد والتجديد، وهي تهدينا إلى أن لكل من الجديد والقديم محلاًّ، وأن من الجهل تفضيل أحدهما على الآخر مطلَقًا. المفاضلة بين المتقدم والمتأخر: وأما المتقدم والمتأخر من الناس فقد كانت القاعدة عند أهل العلم والأدب منا تفضيل المتقدم على المتأخر ولكن القاعدة عند أهل النشوء والارتقاء العكس وإنما هذا وذاك بالنسبة إلى جملة أهل العصر، دون الأفراد النابغين الذين قلما تجود بمثلهم الأزمان، ومذهب النشوء الاجتماعي ظاهر في الأمم في أطوار حياتها وقوتها، بل هو ظاهر في الدين الإلهي أيضًا، فقد ارتقت الشرائع الإلهية بحسب استعداد البشر حتى كان آخرها - وهو الإسلام - منتهى الكمال، فجعل الله رسوله الذي جاء به خاتم النبيين، وبعثته عامة باقية إلى يوم الدين، وأنزل عليه قبل وفاته {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . وقد كان بعض الأدباء يفضل المتأخرين في بعض الأشياء، وقد افتتح عنترة معلقته المشهورة بقوله: هل غادر الشعراء من متردم يعني أن الشعراء قبله لم يتركوا لمن بعدهم قولاً يقوله؛ ولكنه هو جاء فيها بمعانٍ لم يسبقه إليها غيره، وقد عارضه ابن أبي حجلة في تفضيل كتابه (ديوان الصبابة) على ما سبقه في معناه بقوله في خطبته: فإن قلت الفضل للمتقدم، وهل غادر الشعراء من متردم؟ أقول: في الخمر معنى ليس في العنب، وأحسن ما في الطاووس الذنب. وكلمة (الفضل للمتقدم) صارت مثلاً في أفواه العلماء والأدباء، ولا أدري أول من قالها هل هو عدي بن الرقاع الشاعر الأموي الذي ضمَّنها في شعره أم غيره؟ وهذا شيخ صناعة الأدب الحريري قد استشهد في تفضيل بديع الزمان على نفسه في مقدمة مقاماته بقول عدي هذا، ثم رأيناه عقد المقامة السادسة منها لتفضيل الطريف على التليد، ونصر العصاميين على العظاميين، وإني أحفظ من عهد طلب العلم عبارته في هذا، ولا يخلو إيرادها من إحماض وفكاهة، قال: (روى الحارث بن همام قال: حضرت ديوان النظر بالمراغة، وقد جرى به ذكر البلاغة، فأجمع من حضر من فرسان اليراعة، وأرباب البراعة، على أنه لم يبق من ينقح الإنشاء، ويتصرف فيه كيف شاء، ولا خلف بعد السلف من يبتدع طريقة غراء، أو يفترع رسالة عذراء، وأن المفلق من كتاب هذا الأوان، المتمكن من أزِمَّة البيان، كالعيال على الأوائل، ولو ملك فصاحة سحبان ووائل، وكان بالمجلس كهل جالس في الحاشية، عند مواقف الحاشية، فكان كلما شط القوم في شوطهم، ونثروا العجوة والنجوة من نوطهم، ينبئ تخازر طرفه، وتشامخ أنفه، أنه مخرنبق لينباع، ومجرمز سيمد الباع، ونابض يبري النبال، ورابض يبغي النضال، فلما نثلت الكنائن، وفاءت السكائن، وركدت الزعازع، وكف المنازع، وسكنت الزماجر، وسكت المزجور والزاجر، أقبل على الجماعة وقال: لقد جئتم شيئًا إدًّا، وجرتم عن القصد جدًّا، وعظمتم العظام الرفات، وافتتم في الميل إلى من فات، وغمصتم جيلكم الذين فيهم لكم اللدات، ومعهم انعقدت المودات، أنسيتم يا جهابذة النقد، وموابذة الحل والعقد، ما أبرزته طوارف القراسح، وبرز فيه الجذع على القارح، من العبارات المهذبة، والاستعارات المستعذبة، والرسائل الموشحة، والأساجيع المستملحة، وهل للقدماء إذا أنعم النظر من حضر غير المعاني المطروقة الموارد، المعقولة الشوارد، المأثورة عنهم لتقادم الموالد، لا لتقدم الصادر على الوارد ... إلخ) . وللشعراء محاورات مشهورة في تفضيل الحبيب الأول أو الحبيب الآخر، ومن المشهور في الأول قول بعضهم: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا وقول آخر: كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدًا لأول منزل نقل فؤادك حيث شئت مع الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول وقول بعضهم في الثاني: محا حبها حب الأُلى كن قبلها ... وحلت مكانًا لم يكن حُل من قبل وقول آخر في الرد على مفضِّل الحبيب الأول؛ ولكن جاء بحجة دينية لا غرامية، وفلسفة دروينية لا عذرية: أكلف بآخر من علقت بحبه ... لا خير في حب الحبيب الأول أنشُكُّ في أن النبي محمدًا ... ساد البرية وهو آخر مرسل؟ والعدل في الحكم أن تقدم الزمان وتأخره لا شأن لهما في المفاضلة بين الأفراد، ففي كل زمان أفذاذ، فالقديم كان جديدًا، والجديد يعود قديمًا، كما حققنا، ولله در القائل في ذلك: قل لمن يرى للأواخر شيئًا ... ويرى للأوائل التقديما إن ذاك القديم كان حديثًا ... وسيبقى هذا الحديث قديمًا وإنما التفاضل بين الأشياء والأشخاص يتعلق بذواتها وصفاتها، ودرجة انتفاع الناس وارتفاقهم بها، فإن كان للمتقدم فضل الابتكار والاختراع، فقد يكون للمتأخر عنه فضل التحسين والإكمال الذي يتم به الانتفاع، وقد اشتهر أن كثيرًا من المخترعات التي سبق بعض اللاتين أو الإنكليز إلى كشفها قد أتمها الألمان فكان نفعهم وانتفاعهم بها أعظم. * * * القضية الثانية (فضل الشيء في مزاياه ودرجة الانتفاع به) جهل هذه الحقائق أو تجاهلها أدعياء التجديد، فطفقوا يدعون إلى ترك القديم لأنه قديم، والأخذ بالجديد لأنه جديد، وربما وصفوا القديم بالبالي لزيادة التقبيح والتنديد، وإن كان على قدمه لا تبلى جدته، ولا تخلق ديباجته، ولا تخبو ناره، ولا تنطفئ أنواره، كدين الله القويم، وكتاب الله الكريم {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} (الأحقاف: 11) . إن تفضيل الجديد لجدته على القديم لقدمه، مكابرة للحس وسفه للنفس ومصادمة للعقل، وهو باطل ببداهة الرأي وإجماع كل قبيل وشعب، فإن من القديم ما يتنافس فيه خواص الناس في أرقى أمم الحضارة، فيباع بالألوف الكثيرة من الجنيهات، إما لقدمه ونفاسته معًا، وإما لقدمه وحده، وإن هذه البلاد لتفاخر جميع بلاد الحضارة بآثارها التليدة، وليس عندها شيء من مبتكرات حضارتها الطريفة، وإنك لترى قصور الملوك والقياصرة وكبار الأمراء والأغنياء مزينة بالصور التي رسمها قدماء المصورين، كما ترى على جدرانها دون أرضها أنفس السجاجيد العجمية والشيلان الهندية القديمة. وإنك لترى دور الآثار العادية تتغالى في شراء هذه الآثار، كما ترى خزائن الكتب العامة الخاصة تتغالى في شراء الكتب القديمة لكبار العلماء المتقدمين، وإن علماء هذا العصر في الغرب يشهدون لكثير من قدماء الحكماء والعلماء والشعراء بالفضل، ويعترفون بأن منهم من لا نظير له في هذا العصر ولا شبيه. وأما الأنبياء، وكبار القديسين والأولياء، فلا يزال السواد الأعظم في بلاد الحضارة العصرية يفضلهم على جميع العلماء

المناظرة بين أهل السنة والشيعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المناظرة بين أهل السنة والشيعة قد اطلع قراء المنار في الجزء الثامن (م 31) على الكتاب الذي نشرناه للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين من أشهر علماء الشيعة الإمامية في هذا العصر الذي يطلب المناظرة، وعلى إجابتنا إياه إلى طلبه وما اشترطناه فيها، وقد جاءنا بعد ذلك الرسالة الآتية منه، فإذا هو لم يلتزم فيها الشروط، فكان لنا أن نطلب منه حذف ما ليس من الموضوع الذي حددناه، وإن كان يمت إليه بنوع من أنواع القرابة أو المناسبة، وإذا به يظن فيَّ الظنون، ويفتح له بابًا من النقد يقبله الكثيرون، وإنني أنشر له هذه الرسالة على كون أكثرها خارجًا من دائرة الموضوع، ومنتقدة من عدة وجوه، وإعلانًا عن كتابه بالإحالة عليه وبيان موضع بيعه ورخص ثمنه؛ ولكنني أعلق عليها تعليقًا وجيزًا أعود فيه إلى تحديد موضوع المناظرة، ولا أقبل بعده كلمة تخرج عن حدودها، وهذا نص رسالته: الرسالة الأولى للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين بسم الله الرحمن الرحيم لقد جرت مناظرة بيننا وبين الأستاذ العلامة الإمام حضرة صاحب مجلة المنار الغراء، ونال كل منا صاحبه بما جرحه، فرأينا أن ذلك يحول دون الغرض الذي يؤمه أهل الدين والعقل من إحقاق الحق وجعله الضالة المنشودة لهم، فكتبت إليه راجيًا منه فتح باب في المجلة تذكر فيه المسائل الهامة بين الطائفتين ورأي كل منهما ودليله. فحقق رجائي وكان عند حسن ظني وأتحفني بكتاب ملأه حنانًا وغيرة على الدين وأهله، ولا عجب إذا جاء الشيء على أصله وخرج الجوهر من معدنه. وأرجو ببركة هذه المجلة ونية صاحبها أن نقف على فوائد جمة ونهتدي إلى كثير مما خفي علينا علمه ومعرفته، فنحن بلسان أهل الحق والفضل نشكره شكرًا جزيلاً. ودع عنك قول بعضهم: دعوا البحث فيما يتعلق بالدين والمذهب وهلم إلى التعاون على توحيد الكلمة وجمع الأمر قبالة المستعمرين. فإن ذلك لغو من القول، وخطل من الرأي، وكأنها مقالة من لا يرى الإسلام دينًا، ولا يرى أن هناك حياة أخرى خالدة غير هذه الحياة؛ وإنما يرى الإسلام رابطة قومية وجامعة سياسية، فهو يدعو إليها ويحض عليها. وهذه الدعوى لا تجدي نفعًا عند من يرى الإسلام دينًا ويتقرب إلى الله سبحانه بنصرته ومعاداة من يمسه بسوء. فالدواء الناجع إذًا لتوحيد كلمة المسلمين وضمهم تحت راية لواء واحد هو سعي عقلاء العلماء - أي علماء الدين - من كلتا الطائفتين إلى محل الخلاف وفحصه وإزالته بالبرهان، وإصغاء كل منهما لحجة الآخر، وتحكيم أهل الفضل والإنصاف، ولا ينبغي وضع هذا العبء على كاهل العلماء فحسب. بل على العقلاء ممن يهمهم أمر المسلمين القيام مع العلماء مراقبين سيرهم في المناظرة؛ فإن الحق لا يخفى على طالبه، وإنني لا أنكر أن يكون في علماء الطائفتين من تهمه نفسه، ولا يميل إلى الاتفاق لما اعتاده من التعصب الأعمى، فعلى العقلاء من كلتا الطائفتين رفض أولئك والتنبه لهم. وليت شعري كيف يمكن الاتفاق بين هاتين الطائفتين قبل دفع سبب الخلاف. إن الشيعة من المسلمين يرون أن من أرسى قواعد الإسلام وأقوى دعائمه موالاة أهل البيت والاهتداء بهديهم والعمل برأيهم وحديثهم، وأن المنحرف عنهم، النابذ لحديثهم، المهتدي بخلاف هديهم غير متبع سبيل المؤمنين، ويرون أن أبناء السنة من المسلمين منحرفون عنهم بنبذهم علمهم وحديثهم وإعراضهم عن مذهبهم فهم على غير سبيل المؤمنين. وإن المسلمين من أهل السنة يرون أن أرسى قواعد الإسلام وأوثق عراه موالاة أصحاب رسول الله جميعهم والعمل بكل ما حدَّثوا به؛ لأنهم حملة الدين وحفظة الوحي ومبلغوه إلى الأمم، فالمنحرف عنهم التارك لحديثهم غير متبع سبيل المؤمنين، ويرون أن الشيعة منحرفون عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لتركهم حديثهم وانقطاعهم إلى أهل البيت، فهُم على غير سبيل المؤمنين. فعلى هذا كيف يشترك المتمسكون بالدين منهما بالعمل بإخلاص ونصح ما لم يقع التفاهم بينهم؟ فلو أن شخصين متعاديين سارا في طريق واحدة لم يُجْدِهما نفعًا إظهارهما المجاملة، وقول كل واحد منهما لصاحبه: دع العداء بيننا جانبًا، وهلم فنلكن يدًا واحدة على من سوانا؛ فإن ذلك غير مستطاع لهما، واعتمادهما في التعاون على ما أظهراه من المجاملة والاتفاق غرور وأمانٍ باطلة، فلو ظفر بهما عدو لهما على هذا الحال، ثم استعان بكل واحد منهما على صاحبه لأعانه. فعلى هذين الرفيقين أن يقتلعا سبب العداء من عروقه، ويعترف كل واحد منهما لصاحبه بما جناه ويعطيه بيده ليأخذ بحقه حتى يرضى، وعندها تذهب الشحناء، ويحل محلها الود والإخاء. أما أنا فهذه يدي رهن بما أقوله معطاة لمن يريدها وما توفيقي إلا بالله. علم علي وعمر رضي الله عنهما بالدين والقضاء ذكرت مجلة الشبان مقالاً، وهو أن عمر كان أعلم الصحابة بالدين وأفقههم فيه [1] ، وردته مجلة العرفان بقولها: إن هذا منافٍ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقضاكم علي) وقوله: (أنا مدينة العلم وعلي بابها) ولقول عمر: (لولا علي لهلك عمر، ولا بقيت القضية ليس لها أبو الحسن) وردَّ الأستاذ العلامة صاحب المنار في الجزء الرابع من المجلد (31 ص295) هذه الأدلة وعنون المسألة بهذا العنوان. وحاصل الرد أن ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من الحديثين غير صالح للاستدلال به لعدم صحة ما روي، وعلى فرض صحته لا دلالة فيه على المطلوب؛ إذ كون علي أقضى لا يمنع أن يكون عمر أعلم؛ لأن القضاء - أعني فصل الخصومة - لا يحتاج إلى كثير علم [2] ؛ وإنما يحتاج إلى ذكاء وفطنة، فبين الأعلم والأقضى عموم وخصوص من وجه، وكذلك جعل علي عليه السلام باب مدينة العلم لا يوجب الحصر؛ لجواز أن يكون للمدينة أبواب كثيرة منها علي عليه السلام، ومنها عمر رضي الله عنه ومنها غيرهما، وكذلك قول عمر إنما جاء على نحو التواضع. ثم أطال البحث في أحوال الرواة لهذين الحديثين وتضعيفهما. أقول: ما أحسن المناظرة إذا كانت بآدابها، وصحت نية أربابها، وكان الحق ضالتهم، والبرهان قائدهم. ولنغضي عما في هذا الجزء من الشتم والتجهيل كما تضمنته رسالة ابن تيمية، ومقالة الأستاذ التي عنوانها (السنة والشيعة وضرورة اتفاقهما) فإنها كتبت قبل الصلح والمسالمة. وقبل الخوض في البحث نقدم بيانًا يعلم منه مناظرنا كيف يسير معنا في المناظرة. رأي الشيعة في الخلافة: إن المسلمين من الشيعة يرون أن الخلافة أصل من أصول الدين كالنبوة، وأن نصب الخليفة واجب على الله عقلاً من باب اللطف كوجوب إرسال الرسول، ويرون أن الخليفة لا بد أن يكون أكمل أهل زمانه في جميع فنون الفضل كالنبي، وإن امتاز النبي صلى الله عليه وسلم عندهم بأمور كثيرة، ويرون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي أمير المؤمنين عليه السلام فهو أفضل أهل زمانه. رأي السنة في الخلافة: إن المسلمين من السنة لا يرون الخليفة بهذه العظمة، فهي عندهم فرع من فروع الدين، فيجب على المسلمين أن يختاروا من بينهم خليفة ولا يشترطون امتيازه عن غيره في الفضل والصلاح، ولعل أكثرهم لا يشترط فيه الصلاح والعدالة. فإذا عرفت ذلك ظهر لك أن الشيعة حين ينكرون أن يكون أحد من الصحابة أفضل من علي عليه السلام أو مساويًا له إنما هو لمنافاته لأصل الدين وقاعدة المذهب عندهم، وقد فرغوا من إثباته بالحجج القاطعة والبراهين العقلية والنقلية، وألَّفوا في ذلك الكتب المطولة، فمن يجهل رأيهم في الخلافة ولم يطالع ما كتبوه في ذلك مع وفوره وقرب مناله، يظن أن ذلك منهم غلو في علي وانحراف عن غيره، وليس كذلك. إن العالِم الشيعي ينظر إلى التفاضل بين علي عليه السلام وعمر رضي الله عنه كأهم مسألة دينية، والعالم السني ينظر إلى التفاضل بينهما كمسألة تاريخية، وحيث كان البحث في التفاضل من الوجهة الدينية يحتاج إلى البحث في أصل الإمامة وهي مسألة ضافية الذيل، فسيحة الأرجاء لا تسعها هذه العجالة - فلنبحث الآن عنها من الوجهة التاريخية، ونعرض ما عندنا في ذلك على أهل الفضل والإنصاف. إنني وأيم الحق لم يكن يختلج في صدري أن أحدًا من أهل الفضل يقدم أحدًا من الصحابة على علي عليه السلام في العلم أو يساويه فيه، وكنت أرى أن هاتين الصفتين - أعني الشجاعة والعلم - قد كملتا فيه وامتاز بهما عند أوليائه وأعدائه، وأن صفة العلم فيه أظهر من صفة الشجاعة لسبقه فيها سبقًا بعيدًا. هذا كتابه قرآن العارفين وفرقان السالكين تتجلى آياته وتتلألأ أسراره، وما أخال حضرة الأستاذ يرتاب فيه كغيره بعدما أورده أستاذه - ذلك الحبر الكبير النمير - العذب من مشاربه، وأوقفه على تلك الإلهيات عن عجائبه. إننا لعمر الحق أبعد المسلمين عن العصبية وأقربهم للاتفاق، وأحبهم للإنصاف، وما الحيلة في ترك ولاء هذا الرجل - أعني أمير المؤمنين عليًّا - وقد تجلى لنا تقدمه في الفضل على كافة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبقه لهم فيه سبقًا بعيدًا، وإننا لنعجب لبعض العلماء من إخواننا السنيين كيف لا ينصفوننا في علي عليه السلام ولا يرون رأينا فيه، وما لنا لا نعجب، وإنما هذا الفضل له أخذناه منهم، ورويناه عنهم. فمن عدم إنصافهم ما ذكره هذا البعض من أن عمر أعلم الصحابة ومنهم علي عليه السلام، وهنا موقف الحيرة، فإن سكتنا كان ذلك إقرارًا منا بالخطأ وفساد المذهب، وإن أوضحنا الحق في المسألة ونصرنا رأينا قامت القيامة علينا ورُمينا بالرفض والغلو والتعصب على أكابر الصحابة. لكننا نؤثر إحقاق الحق ونحتمل في سبيله كل مكروه، ولعلنا لا نعدم من أهل الفضل والإنصاف أنصارًا ومحكِّمين. اعلم أيها الأخ المنصف أن لنا على تفضيل علي على عمر رضي الله عنه وعلى كافة الصحابة رضي الله عنهم براهين قاطعة من طريق العقل ومن طريق الرواية. أما من طريق العقل فيحتاج ذلك إلى معرفة الزمان الذي تلقيا فيه ذانك التلميذان العظيمان - أعني عليًّا عليه السلام وعمر رضي الله عنه - العلم عن معلمهما أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقداره، ومنزلة كل واحد منهما من الفطنة والذكاء، وعندها تصدر الحكم غير مرتاب: زمن إسلام عمر رضي الله عنه: أسلم عمر رضي الله عنه في السنة السادسة من بعثته صلى الله عليه وسلم وعمره ست وعشرون سنة، فعليه يكون قد قطع مرحلة من عمره في غير طلب العلم لا يُستهان بها، فإذا أضفت إليها ثلاث سنوات لم يلق عمر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نادرًا، وذلك عند حصار قريش لبني هاشم وبني عبد المطلب في شعب أبي طالب رضي الله عنه، تراه قد خسر أكثر رأس ماله الذي يتجر به الإنسان في كسب العلوم والمعارف وذلك ظاهر. لأن الزمان الذي يستفيد منه المرء ويتعلم به هو زمان الصبا والشبيبة، وبها تكون القوة الذاكرة والحافظة في منتهى النمو والنشاط والاستعداد لتلقي العلوم والمعارف. وما سمعنا بمن طلب العلم عند بلوغ هذا السن - أعني تسعًا وعشرين سنة - وبرع فيه، وإن كان ثمة أحد فهو من شواذ الطبيعة، ومنكر ذلك مكابر وحائد عن طريق الإنصاف. خصوصًا في الصدر الأول أعني زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فقد كان الاعتماد على الحفظ والذاكرة، ولم تكن يومئذ المعلومات تُدوَّن ليؤمَن تفلتها وضياعها، فكان أعلمهم أكثرهم حفظًا وأقواهم ذاكرة، ولولا حرص التابعين على حفظ الحدي

مصابنا بالوالدة رحمها الله تعالى

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مصابنا بالوالدة رحمها الله تعالى بعد ظهر اليوم السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر، قد احتسبنا عند الله تعالى والدتنا ومربيتنا وجرثومة أسرتنا السيدة البرة الرحيمة التقية النقية الشريفة (فاطمة أم رشيد) الحسنية الأب والأم، في منتصف العشر التاسع من عمرها، ففقدنا بفقدها أمًّا يندر وجود مثلها في الأمهات - والأمهات أفضل ما في هذه الكائنات - حبًّا ورحمة وإخلاصًا ونصحًا وإيثارًا للأولاد على النفس مهما تكن صفاتهم وأحوالهم، إلا من أفسدت البيئة فطرتها، وذهب الجهل ومعاشرة الفاسقين أو الخرافيين بدينها، فلا حب فوق حب الأم إلا حب الله تعالى لعباده المقرَّبين، ولا رحمة تعلو رحمتها إلا رحمته عز وجل للمحسنين، بل رحمتها أكبر شجنة من رحمته الواسعة عز وجل، فقد فقدنا من كانت عندنا ومنا وفينا أفضل المخلوقات، من لا يفضلها شيء، ولا يغني عنها شيء، إلا رحمة الله تعالى وصلواته على الصابرين، وبره وإحسانه للبارين المحسنين، ونرجو أن نكون منهم في برنا لأمنا في حياتها، وصبرنا واحتسابنا لها بعد وفاتها، ونسأله تعالى أن يجزيها عنا أفضل ما جزى أمًّا لعباده رؤمًا لأولادها، رؤوفًا بهم، عطوفًا عليهم، محسنة لتربيتهم، أَمة من إمائه، مؤمنة به، موحدة له، مخلصة في عبادته، وأن يتغمدها برحمته التي يختص بها عباده المقرَّبين، ويرفعها إلى منازل الكرامة في عليين. كانت رحمها الله تعالى صحيحة البنية سليمة من الأمراض، إلا أنه عرض لها ألم الرثية (الروماتزم) في ركبتيها بعد مجيئها إلى مصر منذ بضع عشرة سنة، فعالجها الطبيب التركي الشهير شرف الدين بك - رحمهما الله تعالى - بصبغة اليود دهانًا وشربًا، فزال المرض وحجت في موسم سنة 1334 وأنا في خدمتها فلم يزعجها شيء من ركوب الشقادف والنزول منها، واحتملت ما أرهقنا من نوء البحر في عودتنا من الطور إلى السويس في باخرة صغيرة وبسهولة. وصامت معنا شهر رمضان الماضي بدون تعب ولا ضعف، وكانت تفطر وتتسحر من طعامنا القوي التغذية فلا تشكو منه ثقلاً ولا طسىً ولا سوء هضم، وتصلي معنا في جماعة الأسرة، ثم تغيرت صحتها عقب عيد الفطر، واشتكت واختلف على معالجتها عدة من نطس الأطباء أشهرهم سليمان بك عزمي فخف المرض؛ ولكنها ضعفت بالتدريج واشتد تعبها في آخر ليلة من حياتها الشريفة الراضية المرضية، وقد صلَّتْ الفجر والظهر يوم وفاتها في وقتهما بالإيماء، ولم تقبل أن تؤخر الظهر لتجمعها مع العصر كما أفتيتها في مثل هذه الحال، وفاضت روحها في الساعة الثانية بعد الظهر. وكانت التي تتولى خدمتها الخاصة وتمرضها في كل أيام مرضها كِنَّتها أم أولادنا، حتى أنها كانت تسهر بجانب سريرها ما دامت تعبة محتاجة إلى شيء من الخدمة وتنام بجانبه عند الحاجة. وقد قلت لأم محمد شفيع غير مرة: إن كل خدمة تؤدينها للوالدة فكأنك تؤدينها لشخصي؛ لأنك نائبة فيها عني، فإنني أنا الخليق بأن أقوم بذلك بكل ارتياح مهما يكن نوعه، فلا عذر لك في شيء من التقصير إلا إذا كنت أنا مقصرًا معك في شيء ما - وهي بحمد الله واتباعنا لهداية دينه القويم لا تشكو مني شيئًا ما - ومن فضل الله علينا جميعًا أنني لم أر منها أدنى تقصير فأرشدها إلى تلافيه، وقد قلت لها: إنني لا أشكر لك خدمة الوالدة لجنس الخدمة ونوعها؛ فإن هذا من التكافل المشترك في حياتنا المنزلية، وإنما أشكر لك من أعماق قلبي أنني لم أرك في شيء من هذه الخدمة متبرمة ولا ضجرة. فهذا الارتياح النفسي لهذا العمل الشريف من الفضائل النفسية لا تكاد توجد في الكنائن، بل قلما تتحلى بها ابنة في تمريض أمها في هذا العصر الذي كثر فيه العقوق، وهضم الحقوق، فأقسَمَتْ أنها تشعر في خدمتها بارتياح من تخدم ابنة لها لا أمًّا، ولقد كانت المرحومة خيرًا لها من أمها، وأشد تحريًا لسرورها من بنتها، فلو كانت أمها معنا لما استطاعت أن تؤلف بيننا مثلها، فأنا أسجل هذا في المنار ليكون مثلاً صالحًا وأسوة حسنة للمؤمنين، وحجة على الملاحدة والمارقين والفاسقين، الذين يجهلون أن سعادة الحياة المنزلية (العائلية) من زوجية وأمومة وأبوة وأولاد لا تأوي إلا إلى بيوت المعتصمين بهداية الدين القويم، فإليها تأوي وفيها تثوي وتقيم، ولئن طاف منها طائف ببيت من بيوت الملاحدة والفاسقين أو زارته؛ فإنما تلم به إلمامًا، ولا تلبث أن تهجره عند حدوث الحوادث الشهوانية، وانتياب الكوارث البشرية، فآداب الإسلام أرقى من آداب الإفرنج وأضمن للسعادة، وإن جهل ذلك المتفرنجون. أيقنَّا موت الوالدة التي كنا نتبرك بوجودها، ونهتدي بإرشادها، ونستنزل رحمة الله ومثوبته ببرنا لها ودعائها لنا، ففاضت الأعين دموعًا، ورددت الصدور زفيرًا ونشيجًا، وكررت الألسنة حوقلة واسترجاعًا، واضطربت الأفئدة خفقانًا ووجيبًا، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، ولا نعمل إلا بما شرعه لنا. لم نعلن نعيها في الجرائد ولا رقاع البريد ولا أسلاك التليفون؛ وإنما أعلمنا حفيدها السيد محيي الدين رضا بالخبر لبعد داره عن دار المنار، وجهزناها على ملة الإسلام، وسنة رسول الله عليه أفضل السلام، وصليت عليها في رحبة الدار مع من حضر، وشيعناها إلى مقبرة جديدة في زين العابدين، فوارينا شمسها عندما توارت شمس الدنيا بالحجاب، تغمدها الله بالرحمة والرضوان. لم نعقد لها مأتمًا، ولم نغير شيئًا من عاداتنا حدادًا عليها، وقد وصل الخبر إلى بعض جرائد الصباح التي تُطبع ليلاً فنشرته، ثم نشرته بعض جرائد المساء في اليوم التالي، فأقبل كثير من أصدقائنا المقيمين في القاهرة لتعزيتنا في الدار نهارًا وليلاً، وأرسل كثيرون منهم برقيات التعزية ورسائلها من الإسكندرية وغيرها من مدن القطر المصري ومصطافه، وكان في مقدمة المعزين بأنفسهم وببرقياتهم إخواننا العلماء، وأخص بالذكر منهم أصحاب الفضيلة شيخ الأزهر الحالي الأستاذ الشيخ محمد الأحمدي الظواهري، وشيخه السابق الأستاذ محمد مصطفى المراغي، ومفتي الديار المصرية الأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم، وبعض رؤساء الكليات والمدرسين في الأزهر، وبعض الوزراء وأولهم صاحب الدولة رئيسهم إسماعيل صدقي باشا، والزعماء وكبار رجال الأحزاب وفي طليعتهم صاحب الدولة مصطفى باشا النحاس رئيس الوفد المصري، ومحمد فتح الله باشا أحد كبراء الوفد ووزراء حكومته السابقة، وحسن باشا عبد الرزاق وإخوته من أركان الحزب الدستوري، ثم جاءتنا كتب التعزية من أصدقائنا المحبين المنبثين في الأقطار حتى لندن وباريس وروما وسورية والحجاز، فنشكر لكل مُعزٍّ من قريب وبعيد فضله ولطفه، وندعو الله أن يلطف بنا وبهم، ويقينا وإياهم السوء، ويجعلنا من الصابرين على بلائه، الراضين بقضائه، الشاكرين لنعمائه. كانت الوالدة - أحسن الله تعالى إليها - من أسلم النساء فطرة، وأزكاها نفسًا، وأطيبهن قلبًا، كانت خير الأزواج لزوجها، وخير الأمهات لأولادها، وكان حظي من حبها وعطفها أكبر من حظوظ إخوتي وأخواتي؛ ولكن فيما لم يحرك غيرة أحد منهم ولا سخطه، حتى كان والدي رحمه الله تعالى يلقبني (حبيب أمه) ولا أذكر أنني عصيت لها أمرًا في صغري ولا كبري. أذكر أنني رأيت أترابي من الأطفال مرة قد خرجوا في سماء (مطر) حفاة يمشون في الوحل رافعي أثوابهم إلى ركبهم، فاشتهيت أن أقلدهم وأنا ابن بضع سنين، فجئت الدار فاستأذنتها في أن أخرج حافيًا وألحق بهم، فلم تأذن لي، فوقفت في عتبة الدار حافيًا ومددت إحدى رجلي إلى خارجها وقلت لها أحطها، قالت: لا تحطها، قلت: أحطها، قالت: لا تحطها، فكررت ذلك مرارًا، فلما لم تأذن لي رجعت، وما زلت أذكر هذا لها وتذكره لي فلم أنسه، وما أبرئ نفسي من نسيان غيره. ولا أذكر أنها ضربتني في صغري إلا مرة واحدة، تململت من سخونة ماء الحمام وحاولت التفصي والهرب، فضربتني بالطاس على ظهري، وما زلت أذكِّرها بها مازحًا، وتعتذر لي عنها تلطفًا، ثم كانت أشد عناية من والدي بطلبي للعلم والاهتمام به والارتياح إلى هجرتي إلى مصر، إذ علمت ما لي فيها من النية الصالحة، والرجاء في التكمل بالعلم وخدمة الملة والأمة. وكانت دقيقة الفهم، رقيقة الشعور والوجدان، تخشع لآيات الزجر والوعيد من القرآن خشوع العارفين المتدبرين، وإذا أنشدتها شيئًا من غزل الشعر الغرامي قالت: هذا فتنة، لا ينبغي اشتغال الشبان والشواب به، وقد قرأت لها قصيدة أحمد شوقي في تهنئة السلطان حسين كامل: الملك فيكم آل إسماعيلا فلم أتجاوز حتى قالت لي: هذه مرثية لا تهنئة، فعجبت لهذه الفطنة، وسبقها إياي إلى هذه الفكرة. ثم قرأت لها قصيدته في تهنئة والدة الخديو بعودتها من الآستانة التي مطلعها: اكشفي الستر وحيي بالجبين ... وأرينا فلق الصبح المبين فانتقدت هذا المطلع واستهجنته جدًّا في كلا مصرعيه: فأما الأول فلأن الستر يستعمل غالبًا في إخفاء ما يقبح إظهاره، وكشفه يستعمل في الفضيحة، فيقال: كشف الله ستر فلان، وهتكت فلانة سترها، وأما الثاني فلا يخفى وجهه، ولا يحسن كشفه. وأذكر أنني سمعت وأنا صغير مغنيًا في قريتنا القلمون يقول بيتًا من أغنية عامية مضمونه أنه يدعو الله أن يغيب القمر ليأخذ البوسة (القبلة) ويرى قلعة حلب على أي شيء هي مبنية فحفظتها فقلتها أمامها، وقالت لي: (اسكت) هذا كلام عيب إياك أن تقوله، وإنني وأيم الحق لم أفهم مغزى هذا الإنكار الشديد إلا بعد أن صرت رجلاً كبيرًا. وكانت على نزاهتها وأدبها في القول والفعل ذات دعابة وفكاهة وتنادر في الكلام طبعًا بلا تكلف، وكانت تتوخى أن لا يستثقل أحد منها قولاً ولا خدمة، فقلما تطلب من أولادها أو أحفادها أو كنتها شيئًا بصيغة الأمر، بل تعرض وتكني في الغالب، ولا تكلف أحدًا ما تستطيع هي فعله ولا تشتم خادمًا شتمًا بذيئًا على تقصير، ولكنها قد ترفع صوتها عند الغضب، وقد ورثتُ ذلك منها وهو منتقد وهو طبع كان يكرهه كل منا. وكانت مقتصدة شديدة الحرص على كل ما في الدار، لا يهون عليها أن يضيع شيء منه، على حبها للضيافة واعتيادها إكرام الضيوف منذ صارت ربة بيت، وتحب أن يُبذل كل ما يستطاع من إكرام الضيوف وبر الإخوان، فإذا أشرنا بشيء من الألوان لم تجده لائقًا لقلته اقترحت الزيادة عليه، وما دعوت الأصدقاء إلى الطعام إلا ذكرتني ببعض من لم أذكره لها منهم، حتى كانت تأمرني بدعوة نسيم أفندي صيبعة للإفطار معنا في رمضان مع الصائمين الذين ندعوهم ولا سيما السوريين منهم، فأقول لها مازحًا: هو نصراني لا يصوم. فتقول: لكنه صديقك وابن بلدنا، وذوقه ذوقنا، ولا بد أن يترك الغداء بعد الظهر، أو يخففه ليقبل الأكل معكم بعد المغرب، وأنا لم أذكر لها كلمة نصراني إلا لأجل الصيام، فقد كان من المألوف عندها بدارنا، وإلا فهي معتادة في بلدنا على ضيافة النصارى وغيرهم، بل كان بعض أصدقاء والدي منهم يقيم عندنا أيامًا في رمضان فيفطر ويتسحر معنا. وقد ذكرتني جريدة حضرموت - التي تصدر بسنغافورة -بمكرمة لها كنت ناسيًا لها، وهي أنه لما جاء مصر صديقي الجليل المرحوم السيد محمد بن عقيل قبل الحرب الكبرى ذكرت لها ذلك عندما علمت به ليلاً، فأمرتني أن أذهب من ساعتي تلك إلى الفندق الذي نزل فيه وأجيء به إلى الدار، وقالت: إنه لا يليق بك وهو صديقك القديم، وقد صار

كلمة في مقالات إلحاد في الدين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمة في مقالات إلحاد في الدين قد امتنعت جريدة الأهرام من نشر المقالة الأخيرة من هذه المقالات المنشورة في هذا الجزء؛ ولكنها نشرت للشيخ محمد أبي زيد مقالة استفرغ فيها من قَذَرِه في شتم أستاذه المحسن إليه في العلم والدين والدنيا ما لم يكن يُظن فيه على ما عُلم من فساد دينه وعقله، وكفى بهذا عبرة.

نعي السيد الجليل السيد محمد بن عقيل تغمده الله برحمته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نعي السيد الجليل السيد محمد بن عقيل تغمده الله برحمته الحمد لله الباقي بعد فناء خلقه. حضرة العلامة الجليل الأستاذ العزيز السيد محمد رشيد رضا، حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فننعي إليكم بمزيد الشجن، وعظيم الحزن والدنا الجليل، العلامة فقيد العلم والإسلام، مولانا البركة السيد محمد بن عقيل بن يحيى، توفي رحمه الله في الساعة الثالثة من صباح يوم الثلاثاء الموافق 13 ربيع الأول على أثر حمى لزمته نيفًا و3 أسابيع. وقبل التحاقه بالرفيق الأعلى بيومين أكثر من الصلاة مع ضعفه المتناهي حتى خارت قواه، ولفظ النفس الأخير، ولقد عظم المصاب علينا بموته، وانفطرت لهوله أفئدتنا حزنًا وشجنًا رحمه الله، ولكن ماذا عسى أن نقول إلا ما يرضي الرب سبحانه وتعالى: إنا لله وإنا إليه راجعون. فعظَّم الله أجورنا جميعًا وعزاء الإسلام وأهله، والعلم وطلابه في فقيدنا الجليل، ومما يخفف الشيء الكثير من حزننا مشاطرة الحكومة المتوكلية اليمانية في مصابنا، فقد شيعت الفقيد مئات الجيوش منكسة أسلحتها، كما شيعه رجال الدولة والأهلون عن بكرة أبيهم، فنشكره إليكم جد الشكر، ونسأل الله أن يتغشى راحلنا الكريم بالمغفرة والرضوان، وأن لا يريكم مكروهًا قط، والسلام. الحديدة 14 ربيع الأول سنة 1350. ... الحزين ... ... ... ... ... ... الباكي ... عبد الله بن يحيى ... ... ... ... علي بن محمد بن عقيل (المنار) جاءنا هذا النعي لصديقنا الكريم، وولينا الحميم، في فترة احتجاب المنار، وحبسنا للنفس على إتمام تاريخ الإمام، ولما تم التاريخ واستأنفنا تحرير المنار شرعنا في كتابة ما نرى فيه الفائدة والعبرة من مناقبه وسيرته، وكتابة مثل ذلك من سيرة سيدتنا الوالدة رحمهما الله تعالى، فضاق هذا الجزء - وكان قد طبع أكثره - عن سيرتهما، فقدمنا سيرةَ مَن حَقُّها علينا أعظم، وأخرنا الآخر إلى الجزء التالي، وإنني لأنكر الحكم (بالرفيق الأعلى) له ولكل أحد بعد خاتم النبيين وسيد ولد آدم، وهو إنما كان يدعو الله بها لنفسه عند وفاته صلى الله عليه وسلم، وأسأل الله تعالى لفقيدنا الكريم الرحمة ولآله وأصدقائه حسن العزاء والصبر. ((يتبع بمقال تالٍ))

المنار وتفسيره

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار وتفسيره أعجزتنا العسرة الحاضرة الخانقة عن إصدار المنار في كل شهر من هذه السنة وعن الاستمرار في تأليف التفسير وطبعه، وقد استنجدنا المشتركين فلم ينجدنا إلا أفراد قليلون، دفع بعضهم المتأخر عن عدة سنين تامًّا، وبعضهم النصف اغتنامًا لفرصة الأربعة الأشهر التي وعدنا فيها بقبول النصف، وكل هذه النجدة لم تبلغ ما ننفقه على البريد وحده وقد ضاعفته الحكومة، فمن كان منهم ذا عسرة تعجزه عن الوفاء فإننا ننظره إلى ميسرة كما أمرنا الله، ومن دخل في حديث (مطل الغني ظلم) فنقاضيه إلى عدل العليم بالظالمين. واضطرنا حسبان وزارة المعارف وبعض الحكومات الأوربية الاشتراك في المنار بالسنين الميلادية إلى جعل سنته شمسية موافقة للحساب الميلادي، فجعلنا هذا الجزء وهو الثاني من المجلد (32) لشهر فبراير، وسيكون صدور المنار كذلك مطردًا في كل سنة شمسية عشرة أجزاء، وسنعود إلى نشر التفسير فيها إن شاء الله تعالى.

خاتمة تاريخ الأستاذ الإمام فيما يجب له على الأمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة تاريخ الأستاذ الإمام فيما يجب له على الأمة أنبتت تربة مصر ألوفًا كثيرة من العلماء والصلحاء والأدباء والقضاة والحكام ولكننا لا نعرف في تاريخها ذكرًا لرجل جمع من فضائل العلم والعمل والصلاح والإصلاح مثل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مواهبه الفطرية والكسبية وكمالاته الشخصية، وفي صرف حياته العملية إلى إصلاح بلاده ووطنه، وترقية أمته، وإعلاء شأن ملته، بدون عمل ما لنفسه وأسرته، فهو قد خرج من معاهد العلم إلى ميدان الجهاد في هذه السبيل - سبيل الله تعالى - إلى أن قضى في المعارك نحبه ولقي ربه، شهد له بذلك العلماء الأفذاذ على اختلاف علومهم الدينية والدنيوية والعصرية، واختلاف أوطانهم ومللهم، وترى سيرته الشارحة لهذا مفصلة في هذا الجزء من تاريخه، وترى الشواهد عليها من كلامه ماثلة في الجزء الثاني له، والشهادات له فيها متواترة في الجزء الثالث منه. مثل هذا الرجل العظيم يجب أن يكون مثلاً كاملاً يُقتدى به في علو الهمة، وقوة الإرادة، وفي العلم الصحيح، والعمل الصالح المصلح، وفي الجهاد لإعلاء شأن الأمة في دينها ودنياها، ومدنيتها وحكومتها، فالأمم لا ترقى إلا بأمثال هؤلاء الرجال. مثل هذا الرجل الكبير يجب أن تحيي الأمة ذكره، وتنشر حكمته، وتتخذه حجة لها في رقيها واستحقاقها للوقوف مع الأمم الراقية، التي تُدل وتفاخر بعلمائها النابغين وزعمائها المجاهدين وأئمتها المصلحين، كما قال غير واحد من كبار المفكرين. هذا الإمام المجدد المصلح يجب على هذه الأمة التي نبت من طينتها، ونبغ في بيئتها، فأعلى ذكرها، ورفع قدرها، أن تعلي ذكره، وترفع قدره، وتربي نابتتها على أصول حكمته في التجديد الديني والمدني، والإصلاح الملي والوطني، ويجب على جميع شعوب الملة التي جاهد في سبيل إصلاحها، أن تساعد شعبه على ما يعمل لإحياء ذكره، ودوام الاستفادة من علمه ورأيه. ما كان هذا الشعب الكريم بالذي يرضى لنفسه أن يُوصف بالكنود للنعم، ولا بالجحود لفضل المنعم، ولا كان تلاميذ الأستاذ الإمام ومريدوه بالأبناء العاقين، ولا أصدقاؤه ومحبوه بالغافلين أو الخاملين. فأما الشعب فلا يجاهد بدون قائد، وأما أصفياء الإمام فقد فكروا في القيام بهذا الواجب عقب المصاب، وعقدوا له الاجتماع تلو الاجتماع، وأقروا شيئًا حالت دون تنفيذه الأقدار، وكان خصمهم أمير البلاد ورقيبهم عميد الاحتلال، ولا زعامة يؤيدها الرأي العام. توفي الإمام وكان أكبر كبراء مريديه القادرين على تنظيم هذا العمل غائبين عن مصر أعني سعد باشا زغلول، وأحمد فتحي باشا زغلول، فلما عادا من سفرهما عقدا في دار الأول اجتماعًا حضره من أصدقائه الشيخ عبد الكريم سلمان، والشيخ عبد الرحيم الدمرداش، وحسن باشا عاصم، ومحمد بك راسم، وقاسم بك أمين، ومحمد رشيد رضا - الكاتب لهذا - فقرروا أولاً أن يشتركوا معي في الرأي ويساعدوني على ما أعلنته من عزمي على تأليف تاريخ له وعلى نشره كما يراه القارئ في مقدمة هذا الكتاب، ثم اجتمعوا وتشاوروا فيما يجب أن يُعمل لإحياء ذكره، فأجمعوا الرأي على إنشاء مدرسة كلية تنسب إليه وتكون التربية والتعليم فيها على رأيه، وهو ما كان يسعى له بعد تركه للأزهر، ويكون المنفذ لخطته فيها صاحب المنار. وإذ كانوا يعلمون أن سلطة الاحتلال تحسب لهذا العمل منهم كل حساب، عهدوا إلى أحمد فتحي أن يقابل لورد كرومر ويذكر له هذا القرار، ويسأله عن رأيه فيه، لكيلا يكون على ريبة منه، ويجيئهم بما يسمعه منه في جلسة أخرى عيَّنوا موعدها، فلما وافوها لميقاتها قال لهم: إن اللورد أظهر الاستحسان لهذا الرأي، ولكنه قال: إن من الحكمة أن يبدأ بهذا العمل صغيرًا، ثم يصعد فيه على سلم التدريج، وأن يجري فيه على خطة مدرسة عليكره في الهند التي أسسها المرحوم سيد أحمد خان الشهير، وساعدته عليه الحكومة الإنكليزية، حتى صارت المدرسة كلية، قال: ووعد اللورد بأن يطلب لنا من حكومة الهند نظام هذه المدرسة ومنهاج دروسها، لنأخذ منه ما نراه موافقًا للمدرسة التي نريدها. فهمت اللجنة من فحوى رد اللورد أنه لا يرغب فيما ترغب هي فيه من إنشاء مدرسة كلية راقية على مذهب الأستاذ الإمام، الذي اعترف هو بفضله ونبله، ووطنيته الصادقة، وخدمته للمصلحة العامة، التي قال فيها: (إن الأوربيين ما فضلوا المصريين إلا بكثرة رجالها) وباعتدال حزبه بين الأحزاب الإسلامية، وجمعه بين أسباب الحضارة والمحافظة على أصول الدين الإسلامي، وفهمت منه أيضًا أنه يبغي أن تكون المدرسة العبدية، كما يحب هو وترضى دولته أي كالمدرسة الهندية. استاءت اللجنة من هذا الرد ولم يثنها الاستياء عن عزمها، بل فكرت في جمع المال لإنشاء المدرسة بصفة مصغرة، كما قال اللورد لأنه هو الممكن، وانتظار مواتاة الزمان لتكبيرها، ورأت من الشيخ عبد الرحيم الدمرداش المثري أريحية للبدء في التبرع للمشروع، فقويت العزيمة حتى أن اللجنة عهدت إليَّ بالبحث عن دار صحية لتستأجرها للمدرسة، ففعلت. ولكن حدث أثناء ذلك أن تبرع مصطفى كامل بك الغمراوي بخمسمائة جنيه لمشروع ومدرسة جامعة مصرية، وعهد إلى سعد باشا زغلول بأن يتولى الدعوة إلى التبرع والسعي لتنفيذه هو ومن يختاره من أصدقائه وغيرهم، فقبل وألَّف لجنة لذلك سُمي هو وكيلها، وتركت الرياسة ليختار لها أحد الأمراء. وتلا هذا أن وُلي سعد باشا وزارة المعارف العامة، فاضطر إلى ترك لجنة الجامعة المصرية، واختير صديقه قاسم بك أمين وكيلاً للجنة وإدارتها مكانه، وكان ذلك بعد سنة من التصدي لإنشاء المدرسة باسم الأستاذ الإمام، فلم يبق لهذا المشروع من يشتغل به، وكاد هذا الرجل العظيم يُنسى هو وأستاذه السيد جمال الدين، لولا تنويه المنار به في كل جزء من أجزائه، وتنويهه بالسيد أيضًا في بعض الأجزاء ونشر بعض آثاره المطوية، وطبع الجزء الثاني والثالث من هذا التاريخ، وقضى الله تعالى أن أرجئ إتمام الجزء الأول منه المفصل لترجمته، بما يرى القارئ أسبابه في مقدمته. ولولا أنني من أضعف خلق الله تعالى في السعي لجمع المال، وإن كان المراد به شريفًا ونافعًا، لما تركت السعي لإنشاء المدرسة، وقد كان أقرب الوسائل إليه في السنين الأخيرة توجه قلب محبه الشيخ عبد الرحيم الدمرداش رحمه الله تعالى إلى البذل للمنافع العامة، فلو وجد في هذه الحالة أحد من كبراء حزب الأستاذ الإمام المدني يزين له إنشاء المدرسة التي كان من أعضاء اللجنة التي قررتها، ويرغبه في حبس عقار أو أطيان تفي بنفقتها - لفعل. سكت أصحاب النفوذ والجاه من أصدقاء الأستاذ الإمام عن القيام بالواجب له عليهم؛ ولكن الرجل حي لا يموت، ولا يُنسى فضله في أمة يعلو فيها قدر العلم والحرية، ويزداد فيها السعي للحياة القومية والوطنية. فهذه مدرسة الجامعة المصرية، التي عارض وجودها وجود المدرسة العبدية الإمامية، قد أعادت منذ بضع سنين الاحتفال بذكراه، فقام به فيها لجنة مؤلفة من نابغي علماء الأزهر وبعض الوجهاء ومدرسي الجامعة، فحرك عملهم الجرائد لإعادة التنويه بذكره، وتعطير الآفاق بذكي نشره، وتبرع الشيخ عبد الرحيم باشا الدمرداش في أثناء ذلك بما يؤتي الجامعة غلة سنوية كافية لنفقة إنشاء كرسي لعلم الأخلاق تخليدًا لذكرى الأستاذ الإمام فيها، وتلا ذلك اقتراح كثير من فضلاء الأمة لإحياء ذكره، فأشار بعضهم بترميم داره في عين شمس وجعلها من معاهد العلم والأعمال الخيرية العامة، وبعضهم غير ذلك. ولما أسندت مشيخة الأزهر ورياسة المعاهد الدينية إلى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي وهو من خواص تلاميذ الأستاذ ومريديه في العلم والعقل والأخلاق، ألف في دار الإدارة العامة للمعاهد لجنة خاصة لأجل البحث في أمثل الطرق لإحياء ذكره في الأزهر وغيره، وجعل أعضاءه من تلاميذه الأزهريين وسواهم، ومنهم مؤلف هذا الكتاب، فاجتمعت اللجنة مرارًا، وكان من سوء الحظ - كما يقال - أن استقال هذا الأستاذ من المشيخة ورياسة المعاهد الدينية قبل أن تفرغ من المساعي التمهيدية وتقرر ما يجب تنفيذه وينظم في سلك الأعمال الرسمية. وأخيرًا قرر مجلس مديرية دمنهور إرسال بعثة علمية إلى ألمانية باسم الأستاذ الإمام لأجل الإخصاء في علوم فلسفة الأخلاق والتربية والاجتماع، وجددت إدارة المعاهد الدينية تقرير قراءة رسالة التوحيد درسًا في الأزهر وملحقاته؛ وإنما كان هذا لكثرة فوائدها، لا لإحياء ذكر مؤلفها. لكن هذا شيء قليل على الأمة المصرية، وقد صارت أمة ذات رأي ووحدة، وبذل في سبيل المصلحة العامة، وكان قطب رحى وحدتها، والعامل الأكبر في جمع كلمتها، والزعيم الأكبر لها فيها، هو تلميذه وربيبه الأول سعد باشا زغلول، فمنه تلقى هذه الأفكار، ومن زنده استورى هذه النار، إذ تربى في حجره بالدرس والتفكير والقول والعمل، وكان أوفى مريديه وأصدقائه له في زمن محنته، وأشدهم حنينًا إليه في مدة غيبته، وأشوقهم إلى اتباعه واللحاق به، وقد نشرنا بعض مكتوباته إليه في منفاه ببيروت وفيها التصريح بهذه المعاني، وإننا نثبت هنا صورة شمسية من خطه للكتاب الذي تقدم نشره في صفحة (275) فمن لم يستطع قراءته هنا لتصغير كلمه فليقرأه هنالك، وننشر صورًا لمكتوبات أخرى له بخطها الأصلي في آخر الكتاب. كلمات من مكتوبات سعد باشا لأستاذه الإمام كان الإمام كلَّف سعدًا بعض الأعمال، ومنها إرسال أثاث من بيته بمصر إلى بيروت فقام بذلك خير قيام، فأثنى عليه بكتاب فقال سعد في جوابه: (إني وما أعمل من خير مما صنعت أيدي مكارمكم، فلا أستحق شكرًا ولا حمدًا، بل إن كان هناك ما يدعو إلى المديح فالحمد راجع إليكم، والشكر عائد عليكم، وإني أعد الفخار كل الفخار في خدمة جنابكم العالي، وأجد تنبيهي إلى القيام بأي خدمة نعمة سامية من حضرتكم لا أقدر على الوفاء بواجب شكرها، وعلى هذا فمولاي يرى في إسناد التفضل والتكرم والإحسان إليَّ زيادة تنازل منه لا أرى نفسي جديرة بها، وعهدي بالمولى الجليل أن يتحرى بكراماته موقع الاستحقاق. وأظن أن حضرته يذكر أني في يوم من الأيام التي نزلت بها في بيته ذاكرته في هذا المعنى، ورجوت من مكارمه أن يجعل طلبه أي أمر مني بصيغة الأمر لا بلفظ الرجاء، فإني أرى في الأمر الأول فوائد ترتاح نفسي إليها لا أراها في الثاني) . وكتب إليه الإمام كتابًا يذكر فيه استبشاره بما رآه في جريدة البرهان دالاًّ على فوزه ببعض الأعمال، فأجابه سعد عن هذا بقوله: (إن ظنكم فيما رأيتموه في جريدة البرهان هو الموافق للصواب، ويحق لحضرتكم السرور بما نال ولدكم، فهو المتربي في نعمتكم، المغترف من بحار حكمتكم، المحفوف بعنايتكم، المشمول بعين رعايتكم، البالغ ما بلغ ويبلغ من مراتب الكمال بحسن توجهاتكم، وكريم تعطفاتكم، أدامكم الله لكل خير مبدأ) . فإذا كان الزعيم السياسي الأكبر يُعد نفسه أثرًا من آثاره، وشعلة من ناره، وقبسة من أنواره، وكان يعتقد أن ما بلغه وما يبلغه في المستقبل من المراتب فهو أثر تربيته، وثمر نعمته، ويمضي كتبه إليه بكلمة (ولدكم أو: صنيعكم) وإذا كانت الحكومة المصرية قد قررت زهاء مائة ألف جنيه لبناء قبره! ووضع تمثالين للتذكير بشخصه - أفيكثر منها أو يكبر عليها، أو على الوفد الم

أسئلة من بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من بيروت (س11 - 25) من صاحب الإمضاء في بيروت وكنت كتبت أجوبتها في العام الماضي ولم تنشر. بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد أفندي رضا صاحب مجلة المنار الغراء، حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع لفضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه: 1- هل إذا مات رجل وترك زوجة في الحياة الدنيا وتزوجت هذه الزوجة برجل آخر، فلأي رجل تكون في الآخرة، وهل تكون مخيرة بينهما أم لا؟ وهل ورد في ذلك شيء صحيح معتمد أم لا؟ 2- هل إذا مات رجل أو امرأة ولم يتزوجا في الحياة الدنيا فلهما أن يتزوجا في الآخرة أم لا؟ وبأي ناس يتزوجان؟ 3- هل يجوز أن يجمع الزوج بين الأخت وأختها أو عمتها أو خالتها وغيرهن في الآخرة أم لا؟ 4- هل يجوز للرجال والنساء أن يتزوجوا في الآخرة من محارمهم كالإخوان وأولادهن وغيرهن أم لا؟ 5- هل في الآخرة نسل أم لا؟ 6- هل في الآخرة بلدان كالدنيا أم لا؟ 7- هل في الآخرة طرقات وأسواق وبيع وشراء أم لا؟ 8- هل يجوز للرجال والنساء أن يأكلوا ويشربوا ويلبسوا ما شاءوا من الألوان والأزياء والحرير والحلي والساعات والسلاسل والخواتم أم لا؟ 9- هل ما يقال من أن أقوال وأعمال الأحياء في الحياة الدنيا سواء أكانت خيرًا أم شرًّا تُعرض على الأموات كالأقارب وغيرهم صحيح معتمد أم لا؟ 10- هل الأموات يتزاورون ويتكلمون ويأتنسون بعضهم مع بعض ويعرفون من يزورهم من الأحياء أم لا؟ 11- هل يجب على النساء الحجاب عن الرجال الأجانب في الآخرة أم لا؟ 12- هل يجوز للمرأة إذا دخلت في عدة الطلاق أو الوفاة أن تُظهر صوتها ووجهها ويديها إلى الكوعين (الرسغين) أمام الرجال الأجانب كأولاد عمها وأولاد خالها وأقارب زوجها وغيرهم أم لا؟ 13- هل يجوز لها الخروج من بيتها للاصطياف في الجبل وغيره هربًا من حر الصيف أم لا؟ 14- هل يجوز لها الخروج من بيتها بقصد الفسحة والنزهة وترويح النفس من عناء طول المكث في البيت مقدار بضع ساعات ثم الرجوع إليه أم لا؟ 15- هل يجوز للمرأة المسلمة السنية أن تتزوج برجل شيعي يعتقد اعتقاد الشيعة أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ببيروت (المنار) أكثر هذه الأسئلة فضول وشهوات خواطر علمية لا يتعلق بها عمل، فلا ينبغي لنا أن نطيل القول فيما لنا به علم منها؛ لأن إضاعة الوقت فيه لا توازي صرفه في أكثر أعمالنا؛ فإنها ولله الحمد خير منها، فكيف بما ليس لنا به علم من أمور الآخرة والبرزخ؟ ومع هذا أجيب عنها إكرامًا للسائل - لأنه من المشتركين الأوفياء - بالإجمال: (ج 11) المرأة ذات الزوجين لمن تكون في الآخرة: إن السؤال الأول لم يرد فيه شيء في صحاح السنة؛ ولكن فيه حديث لأم سلمة عند الطبراني، وحديث لأم حبيبة عند الخرائطي في مكارم الأخلاق أن المرأة ذات الزوجين أو الأزواج تكون في الجنة لأحسنهما خلقًا في الدنيا، وفي الأول أنها تُخَيَّر فتختار أحسنهما خلقًا، وفي حديث أبي الدرداء في طبقات ابن سعد مرفوعًا: (المرأة لآخر أزواجها في الدنيا) وحملوا هذا على من مات عنها وهي في عصمته ولم تتزوج بعده، ويؤيده أثر في معناه لأبي بكر رضي الله عنه في هذه الطبقات أيضًا، وحملوا حديث التخيير على من لم تمُتْ على عصمة أحد كالمطلقة. * * * (ج 12 - 14) الزواج والأزواج في الآخرة: وأما الجواب عن الأسئلة الثلاثة التي بعد الأول فيعلم جوابها الإجمالي من أن المفهوم من مجموع النصوص أن نساء الجنة تقسم على الرجال من أول العهد بدخولها كما يشاء الله تعالى، ولم يرد أن هنالك عقود زواج تتجدد، قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} (البقرة: 25) وهذا يعم من كان متزوجًا في الدنيا ومن لم يتزوج، فما من رجل إلا وهو زوج في الآخرة، ولا امرأة إلا وهي زوج أيضًا. * * * (ج 15) هل في الجنة ولادة ونسل: وأما الخامس فهو أنه لم يثبت أن في الجنة حَبَلاً ولا ولادة ولا نسلاً، وفي حديث عند الترمذي (إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الآخرة كان له في ساعة كما يشتهي ولكنه لا يشتهي) . * * * (ج 16) الجنة طبقات ودرجات لا بلاد: وأما عن السادس فهو أن المعروف أن الجنة طبقات بعضها أعلى من بعض؛ لأن أهلها درجات كذلك، وأما انقسامها إلى بلاد فلا أدري ولم أر في ذلك نصًّا. * * * (ج 17) أسواق الجنة: وأما السابع فهو أنه ورد في حديث أنس في صحيح مسلم أن في الجنة سوقًا يأتونها كل يوم جمعة فيزدادون حُسنًا وجمالاً، وليس فيه أن هنالك بيعًا وشراء، فالظاهر أنها مجامع للتلاقي كأسواق العرب الأدبية في عكاظ ومجنة وذي المجاز، على أن هذه كان يكون فيها تجارة ولا حاجة في الجنة إلى التجارة فيما نعلم، والله أعلم. * * * (ج 18) محرمات الطعام والشراب واللباس: وأما الثامن ففيه تفصيل منه ما هو معلوم من الدين بالضرورة كتحريم أكل الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به وصيد البر للمُحْرِم وشرب الخمر، ومنه ما هو مختلف فيه كأكل الخيل والحمر الأهلية وسباع الوحش والطير ... إلخ، وقد فصَّلنا في المجلد الماضي مسائل اللباس من الحرير والذهب والفضة. * * * (ج 19) عرض أعمال الأحياء على الأموات: وأما التاسع فجوابه أن ما ذكر فيه غير صحيح ولا معتمد. * * * (ج 20) تلاقي الأرواح في البرزخ: وأما العاشر فليس فيه أدلة صحيحة صريحة يُحتج بها على تفصيل قطعي في ذلك؛ ولكن فيه أخبارًا وآثارًا عن السلف في تلاقي أرواح الصالحين بعد الموت، واستدل بعضهم عليه بقوله تعالى في الشهداء: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (آل عمران: 170) وتراجع المسألة في ص24 من كتاب الروح للعلامة ابن القيم. * * * (ج 21) لا حجاب في الجنة بين النساء والرجال: وأما الحادي عشر فجوابه أن الجنة ليس فيها تكليف بوجوب ولا تحريم إذ لا معاصي فيها ولا فساد، ولا فتنة يجب سد ذرائعها ومنع أسبابها بالفصل بين النساء والرجال الأجانب. * * * (ج 22) ما يَحْرُم على المرأة في العدة وما لا يَحْرُم: وأما الثاني عشر فجوابه أن المرأة المعتدة يحرم عليها ما يحرم على غيرها مع الرجال الأجانب، وتزيد عليهن الحداد على الزوج بترك الزينة والتطيب والتعرض للخاطبين بما يباح للخَليّة غير المعتدة، وإظهار صوتها بالكلام المعتاد ووجهها وكفيها لا ينافي الحداد فهو غير مُحَرَّم لذاته عليها ولا على غيرها، إلا إذا كان مثارًا للفتنة أو وسيلة لمعصية. * * * (ج 23 و 24) خروج المرأة للتنزه أو الاصطياف: وأما 13 و14 فهو أن ما ذكر فيهما يجوز لها كما يجوز لغيرها من النساء بشرط الأمن على نفسها ومالها. * * * (ج 25) تزوج المرأة السنية بالشيعي: وأما الخامس عشر فجوابه الجواز لذاته، وقد بيَّنا ذلك في المجلد الماضي.

الصلاة إلى القبور وقبة فيها قبور تعتقد وتعظم تدينا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الصلاة إلى القبور وقبة فيها قبور تُعتقد وتُعظَّم تدينًا استفتاء وجوابه من الهند وتأييد المنار له (عدد 26) جاءتنا الفتوى الآتية مع كتاب من حضرة خادم الإسلام بير محمد القريشي في (هالا سنده - الهند) في شهر ربيع الأول يطلب تصحيحنا وموافقتنا للفتوى كتابة وتصحيح مَن عندنا مِن العلماء، فكلَّفْنَا بعض إخواننا من علماء الأزهر عرضها على منكري البدع منهم دون أنصارها ومروجيها، فلم يعد إلينا بشيء، ثم جاءنا منه في رمضان كتاب آخر مع صورة أخرى للفتوى عليها تصحيح كثير من علماء الهند وعمان ويقول فيه ما نصه: (وأرجو من جنابكم التصديق والتصحيح؛ فإني أريد طباعة ذلك الفتوى وإشاعته في الهند، واجتمع عندي مقدار المائتين من تصحيحات العلماء؛ لكن لا بد لنا من تصحيح جنابكم؛ لأن جنابكم ممن فضله الله على جميع علماء مصر، فليس من دأب العلماء السكوت والإعراض عن كلمة الحق وإظهاره لا سيما عند الضرورة، وإن كان لكم مانع مع ورود النصوص المؤكدة؛ فلا بد لجنابكم من إظهاره، فتفضلوا علينا وشرفونا وكرمونا بإرسال الجواب والتصحيح، هذا ما لزم والسلام عليكم وعلى من لديكم) (نص السؤال) : قبة رفيعة فيها قبور متعددة بالشباك، وفي يمينها قبة أخرى للمسجد، وفي يسارها أيضًا قبة على القبور، وأمام تلك القباب ساحة بقدر جريب واحد، أي القباب الثلاث قدام الساحة محاطة بالجدران، جعل المتولي وقت بناء تلك القباب تلك الساحة كلها مسجدًا، وتلك الساحة متصلة بالقباب كالفناء لها، ففي وقت يجتمع الناس الكثيرون للصلاة كالجمعة والعيدين يقوم الإمام متوجهًا إلى القبة الوسطى منحرفًا عن بابها قليلاً إلى اليمين ويصلي بالناس، والحال أن باب القبة الوسطى مفتوح لا يغلقونه، بزعم أن الشباك حائل كافٍ بين المصلين والقبور، والقبور التي في القبتين يعظمها الناس لا سيما الجهال على وجه بلغ مبلغ العبادة، بل القبة يعظمها الجهال تعظيمًا بليغًا حتى أنهم يقبلون بعض زواياها ويوقرونها توقيرًا، بحيث لو يذهب أحد يضرب برجله زاوية من زواياها أو جدارًا من جدارنها يتصورونه منكرًا للصلحاء والأولياء، بل يزعمون أنه مرتكب أشد الكبيرة، فصلاة الإمام والمقتدين في هذا المكان والحال ما ذكرنا هل هي جائزة أم لا؟ نص الجواب وهو الفتوى المطلوب إقرارها إن كان في المقبرة مكان خالٍ عن القبور، وفيه مسجد أو جدار مبني بحيث لا يقع النظر على القبور كالستر على القبور على وجه الكمال موجود - فلا بأس بالصلاة في ذلك المكان، أما إذا كان مشهدًا وكان على القبور قبة بحيث إذا صلى أحد يكون ذلك القبر أو القبة في قبلته - فلا يجوز الصلاة أصلاً؛ لأن في تلك الصورة تكون الصلاة إلى القبر أو القبة تعظيمًا له لا سيما في هذا الزمان؛ فإن اعتقاد الجهلاء بلغ إلى درجة عبادة الأولياء والصلحاء أعاذنا الله من ذلك، وليس الغرض من الشباك حول القبر أو القباب على القبر الستر أو السترة، بل القباب في أنفسها معظَّمة ومكرَّمة عند الناس كالقبور، فلا فرق بين الصلاة إلى القبر والقبة في هذه الصورة، وأما المسجد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام ففيه اتخذوا جدرانًا حول القبر الشريف ليحصل الستر، ثم في وقت توسيع المسجد جعلوا الحجرة الشريفة على هيئة المثلث لئلا يمكن السجود إلى القبر، ثم بعد ذلك اتخذوا حول الحجرة جدرانًا أُخَر ليحصل الستر على أوجه التمام والكمال بحيث لا يبقى مكان للعبادة وشبهتها، والله أعلم بالصواب. * * * هذا نص نقل الفتوى الأخير، وزاد آخر الصورة الأولى ما نصه: ففي صحيح البخاري في باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أني أخشى أن يُتخذ مسجدًا [1] ، قال العيني في شرحه في صفحة 15 ج 3 قوله: لولا ذلك لأبرز، حاصله: لولا خشية الاتخاذ لأبرز قبره، أي: لكشف قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخذ عليه الحائل؛ ولكن خشية الاتخاذ موجودة فامتنع الإبراز؛ لأن (لولا) لامتناع الشيء لوجود غيره، وهذا ما قالته عائشة قبل أن يوسَّع المسجد، ولهذا لما وُسِّع المسجد جُعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة. وأيضًا فيه: ومما يُستفاد منه أن قوله صلى الله عليه وسلم هذا من باب قطع الذريعة؛ لئلا يعبد قبره الجهال كما فعلت اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد صادق مهتمم ... ... ... ... ... ... ... مدرسة الدينية مظهر العلوم (سند) ويلي هذا تأييد طائفة من العلماء للفتوى. * * * تصحيح صاحب المنار وتأييده للفتوى الحمد لله ملهم الصواب. الفتوى صحيحة بدلائل الأحاديث الصحيحة الصريحة في الصحيحين والسنن وغيرها في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن الصلاة إليها، ولعن فاعلي ذلك من أهل الكتاب بقبور أنبيائهم وصالحيهم؛ لتحذيره صلى الله عليه وسلم أمته أن يتبعوا سنتهم فيه، وتسميتهم شرار الخلق عند الله تعالى، كل ذلك لا يدع أدنى شبهة أو عذر للخلاف في المنع منه وعدم جوازه، ولعناية النبي صلى الله عليه وسلم بمنع هذه المعصية في العبادة، جعلها مما أوصى به قبل وفاته، ففي الصحيحين عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك) وروى مسلم عن أبي مرثد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها) . ومن المعلوم أن ما كان يفعله أهل الكتاب من اتخاذهم القبور مساجد والصلاة إليها وتشريفها وكسوتها هو من تعظيم أنبيائهم وصالحيهم غير المشروع في دين الله الذي جاء به رسله؛ لأنه تعظيم عبادة أخذوه عن الوثنيين، ولذلك لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولعن الذين يضعون السرج على القبور، وأمر بتسوية ما يبنى ويشرف منها، مقترنًا بأمره بطمس التماثيل لأنهما من أعمال الشرك، ولا فرق بين تعظيم هذه القبور نفسها وتعظيم الستورالتي توضع عليها والقباب والمقاصير التي تبنى فوقها وحولها، وصورة السؤال الذي أجاب عنه مولانا الشيخ محمد صادق ناظر مدرسة مظهر العلوم الظاهرة في أن المصلين هنالك يتوجهون إلى قباب مفتوحة فيها قبور ظاهرة يعظِّمها الجاهلون تعظيمًا دينيًّا من النوع الذي لعن النبي صلى الله عليه وسلم فاعليه، ونهى عنه لسد ذريعة الاقتداء بأهله والتحذير منه، وقد وقع ما ورد النهي لمنع وقوعه، فصار التوجه إلى تلك القباب وما فيها عبادة فاسدة لا ذريعة لها، فالصلاة إلى هذه الحواجز كالصلاة إلى القبر نفسه، كما قال المفتي، كله عبادة وثنية باطلة يجب منع جهلة المسلمين منها بالفعل والقول، وإعلامهم أنها من بدع أهل الشرك التي فُتن بها أهل الكتاب فهي ليست من شرعهم الذي نسخه شرعنا بل عدوى وثنية. ولكن المسلمين اتبعوا سنن من قبلهم شبرًا بشبر وذراعًا بذارع، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوا قبور الأنبياء والصالحين مساجد وبنوا عليها القباب وأوقدوا عليها السرج وصاروا يصلون إليها ويطوفون بها كالكعبة، ووجد من علماء التقليد فيهم من يبيح لهم هذه البدع، كما أباحها أمثالهم لأهل الكتاب بشبهة التفرقة بين العبادة للقبور والتبرك بها، وهل هذا التبرك غير المشروع إلا عمل يتقرب به إلى الله تعالى بما لم يشرعه؟ وهل للعبادة معنى إلا هذا؟ وهل كانت آلهة قوم نوح إلا رجالاً صالحين عظَّموهم بعد موتهم وصوروهم للتذكير والاقتداء بهم، حتى انتهى بهم ذلك إلى عبادتهم بالدعاء وغيره، كما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، وقد سمعت بعض الرهبان من النصارى يقولون في الصور التي في الكنائس: نحن لا نعبدها وإنما نتخذها للتذكار والتبرك! وهذا جهل بمعنى العبادة، وقع فيه من اتبع سننهم من المسلمين؛ وإنما سكت أكثرعلماء السوء عن هذه البدع؛ لأن الذين فعلوها هم الملوك والأمراء الذين يرائيهم ويتأول لهم علماء الدنيا، وتبعتهم العامة، والعامة قوة تُراءَى كالملوك، وقد عدَّ الفقيه ابن حجر الهيتمي الشافعي هذه الأعمال من الكبائر في زواجره نقلاً واستدلالاً فقال: الكبيرة الثالثة و4 و5 و6 و7 و8 والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا والطواف بها واستلامها والصلاة عليها، واستدل عليها بطائفة من الأحاديث الواردة في النهي عنها والوعيد عليها، وقد تقدم ذكر بعضها، ثم قال ما نصه: (تنبيه) : عَدُّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية وكأنه أخذ ذلك مما ذكرته من هذه الأحاديث، ووجه أخذ اتخاذ القبور مسجدًا منها واضح؛ لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية (يحذر ما صنعوا) أي يحذر أمته بقوله لهم ذلك، من أن يصنعوا كصنع أولئك فيُلعنوا كما لُعنوا، واتخاذ القبر مسجدًا معناه الصلاة عليه أو إليه وحينئذ فقوله: (والصلاة إليها) مكرر، إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط، نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه رواية (إذا كان فيهم الرجل الصالح) . ومن ثم قال أصحابنا تَحْرُم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركًا وإعظامًا فاشترطوا شيئين: أن يكون قبر معظم وأن يُقصد بالصلاة إليه، ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث المذكورة لما علمت، وكأنه قاس على ذلك كل تعظيم للقبر كإيقاد السرج عليه تعظيمًا له وتبركًا به والطواف به كذلك وهو أخذ غير بعيد، سيما وقد صرَّح في الحديث المذكور آنفًا بلعن من اتخذ على القبر سرجًا، فيحمل قول أصحابنا بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيمًا وتبركًا بذي القبر. وأما اتخاذها أوثانًا فجاء النهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري وثنًا يعبد بعدي) أي لا تعظِّموه تعظيم غيركم لأوثانهم بالسجود له أو نحوه، فإن أراد ذلك الإمام بقوله (واتخاذها أوثانًا) هذا المعنى اتجه ما قاله من أن ذلك كبيرة بل كفر بشرطه، وإن أراد أن مطلق التعظيم الذي لم يؤذن فيه كبيرة ففيه بعد، نعم قال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركًا بها عين المحادة لله ورسوله وإبداع دين لم يأذن به الله للنهي عنها ثم إجماعًا؛ فإن أعظم المحرَّمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها، والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور، إذ هي أضر من مسجد الضرار؛ لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه نهى عن ذلك، وأمر صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره. انتهى (صفحة 162 ج أول من كتاب الزواجر طبع المطبعة) .

دعوى بعض مشايخ الطرق التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دعوى بعض مشايخ الطرق التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم (س 27) لصاحب الإمضاء في بيروت: إلى حضرة الأستاذ الفاضل العلامة السيد محمد رشيد رضا المعظم. قرأت في كتاب (أوراد السيد أحمد بن إدريس) رحمه الله عبارة هذا نصها: (إنني اجتمعت بالنبي صلى الله عليه وسلم اجتماعًا صوريًّا ومعه الخضر عليه السلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الخضر أن يلقنني أوراد الطريقة الشاذلية فلقننيها بحضرته! ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا خضر لقنه ما كان جامعًا لسائر الأذكار والصلوات والاستغفار وأفضل ثوابًا وأكثر عددًا. فقال: أي شيء هو يا رسول الله؟ فقال: قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل لمحة ونفس عدد ما وسعه علم الله! ثم قال السيد أحمد ما نصه: قال صلى الله عليه وسلم: يا أحمد، قد أعطيتك مفاتيح السموات والأرض، وهي التهليل المخصوص والصلاة العظيمة والاستغفار الكبير، المرة الواحدة منها بقدر الدنيا والآخرة وما فيهما أضعافًا مضاعفة) اهـ. وعليه أرجو أن تتكرموا بإعلامي هل ممكن الاجتماع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتماعًا صوريًّا؟ وما حكم ما يلقنه بهذه الحالة؟ وتفضل يا سيدي الأستاذ الفاضل بقبول مزيد شكري واحترامي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عزت المرادي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بيروت (ج) صرَّح بعض العلماء المحققين بأن دعوى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في اليقظة والأخذ عنه دعوى باطلة، واستدلوا على ذلك بأن أولى الناس بها - لو كانت مما يقع - ابنته سيدة النساء، وخلفاؤه الراشدون وسائر علماء أصحابه، وقد وقعوا في مشكلات وخلاف أفضى بعضه إلى المغاضبة وبعضه إلى القتال، فلو كان صلى الله عليه وسلم يظهر لأحد ويعلِّمه ويرشده بعد موته لظهر لبنته فاطمة عليها السلام، وأخبرها بصدق خليفته أبي بكر رضي الله عنه فيما روي عنه من أن الأنبياء لا يورثون، وكذا للأقرب والأحب إليه من آله وأصحابه، ثم لمن بعدهم من الأئمة الذين أخذ أكثرُ أمتهِ دِينَهُمْ عنهم، ولم يدَّع أحد منهم ذلك؛ وإنما ادَّعاه بعض غلاة الصوفية بعد خير القرون وغيرهم من العلماء الذين تغلب عليهم تخيلات الصوفية، فمن العلماء من جزم بأن من ذلك ما هو كذب مفترى، وأن الصادق من أهل هذه الدعوى من خيل إليه في حال غيبه، أو ما يسمى بين النوم واليقظة أنه رآه صلى الله عليه وسلم فخال أنه رآه حقيقة، على قول الشاعر: ومثلك من تخيل ثم خالا والدليل على صحة القول بأن ما يدعونه كذب أو تخيل ما يرونه عنه صلى الله عليه وسلم في هذه الرؤية وبعض الرؤى المنامية مما يختلف باختلاف معارفهم وأفكارهم ومشاربهم وعقائدهم، وكون بعضه مخالفًا لنص كتاب الله، وما ثبت من سنته صلى الله عليه وسلم ثبوتًا قطعيًّا، ومنه ما هو كفر صريح بإجماع المسلمين. نعم إن منهم من يجلهم العارف - بما روي من أخبار استقامتهم - أن يدَّعوا هذه الدعوى افتراء وكذبًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن غلبة التخيل على المنهمكين في رياضاتهم وخلواتهم لا عصمة منها لأحد، وكثيرًا ما تفضي إلى الجنون، فإن صح عقلاً أن منهم من يرى أرواح الأنبياء والصالحين فعلاً، فلا يجوز شرعًا أن تتضمن هذه الرؤية تشريعًا ولا تعبدًا جديدًا، ومنهم من كذب أتباعهم عليهم في ذلك وغيره من الدعاوى الباطلة، ومنه ما يسمونه الشطح، وقد جزم بعض المحققين بأن بعضهم كانت تتمثل لهم الشياطين بصور بعض الصالحين وتلقي إليهم بعض ما يسمونه المكاشفات، ومنها ما روي عن إمام الصوفية في عصره الشيخ عبد القادر الجيلاني قدَّس الله سره أنه ظهر له في خلوته نور عظيم ملأ الأفق، وسمع منه هاتفًا يقول له: يا عبد القادر، أنت عبدي وقد أحللت لك المحرمات، قال: فقلت له: اخسأ يا لعين، فتحول النور إلى ظلمة، أو قال: دخانًا، وقال: قد نجوت مني بعلمك، وقد أضللت بها كذا وكذا من العباد، قيل للشيخ: وكيف علمت أنه شيطان؟ قال: من قوله: أحللت لك المحرمات. يعني رحمه الله تعالى أن الشرع هو الفرقان الذي يُعرف به الكشف الحق من الكشف الباطل وأولياء الرحمن من أولياء الشيطان. ومن هذا القبيل دعوى قول النبي صلى الله عليه وسلم للسيد أحمد بن إدريس: أعطيتك مفاتيح السموات والأرض، التي تشبه ما يرويه النصارى من قول المسيح عليه السلام لتلاميذه: ما تحلونه في الأرض يكون محلولاً في السماء، وما تربطونه في الأرض يكون مربوطًا في السماء، وفسره رؤساؤهم بأن لهم ولخلفائهم الحق في مغفرة ذنوب الخاطئين، والله تعالى يقول: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (الزمر: 63) أي: مفاتيحهما وخزائنهما في التصرف والرزق، وقال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) . وقد صرَّح علماء الأصول بأن ما يسمونه الكشف ليس بحجة شرعية، ولا يجوز العمل بما لا يقوم عليه الدليل من الكتاب والسنة منه، وكذا رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في المنام والسماع منه، وعلل ذلك بعضهم بعدم الثقة بصفاء أرواح هؤلاء المكاشفين وضبطهم لما يرونه في كشفهم ورؤياهم ولما يروونه، وأما الدليل الأقوى والأقوم فهو أن قبول هذا يعد من الزيادة في دين الله واستمرار التشريع الذي ادَّعاه بعض الدجالين المضلين، كأتباع الدجال غلام أحمد القادياني الهندي الذين يلقبون أنفسهم بالأحمدية، وقد أكمل الله دينه في حياة خاتم النبيين بنص القرآن الصريح، فلا حاجة إلى شيء غير ما جاء به صلى الله عليه وسلم من كتاب الله وسنته في بيانه، وإن كان حسنًا في نفسه كصيغة الشهادتين التي هي شعار الطريقة الإدريسية، وليتها لم تقترن بدعوى هبوط روح رسول الله الأعظم من الأفق الأعلى لتلقين طريقة الشاذلية، وناهيك بطريقة التجانية وما ينسبونه إلى صاحبها من عظائم الخرافات والبدع، وقد سبق لنا بيان ذلك مرارًا، وأن أهل هذه الطريقة وأمثالهم قد أفسدوا دين المسلمين ودنياهم حتى صار بعض شيوخهم أكبر أعوان المستعمرين في الجزائر والمغرب على استعباد المسلمين. ولا يُغَرَّنَّ أحدٌ ببعض أذكارهم وأورادهم فأكثرها ممزوج بالبدع والضلالة، وحسبك أنهم نسخوا بها التعبد بكتاب الله تعالى وبالأذكار المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المدونة في كتب السنة، ككتاب الأذكار للإمام النووي، والحصن الحصين للمحدث الجزري، ومتى تعبد هؤلاء بهما، ووجدوا في وقتهم فراغًا لما ابتدع بعدهما؟ وأين هذا من نهي الكتاب والسنة عن الغلو في الدين حتى في المشروع منه، وقد فصَّلنا هذه المسألة في تفسير قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ} (التوبة: 31) وأوردنا فيه قول الإمام الرازي فيمن اتبع سنة أهل الكتاب في ذلك من المتفقهة والمتصوفة فراجعه في جزء التفسير العاشر.

هداية القرآن

الكاتب: يحيى أحمد الدرديري

_ هداية القرآن [*] لو أن كل مسلم تدبر آيات الكتاب العزيز واستمسك بهدايتها لما أصاب المسلمين تلك الكوارث المفجعة، والمصائب المدلهمة. لو أن المسلمين اعتصموا بآيتين (الصواب بآية) من القرآن تتلى في كل صلاة وهما {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) بالإخلاص لله دون الإشراك به والاعتماد على غيره، والاستعانة به دون سواه، والسير على حسب سنته وقوانينه العادلة - لما أصابهم الذل والهوان في مشارق الأرض ومغاربها. ذكر الأستاذ العلامة ابن القيم أن سر الخلق والأمر والكتب والشرائع والثواب والعقاب انتهى إلى هاتين الكلمتين {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) وعليهما مدار العبودية والتوحيد، حتى قيل: إن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [وهما الكلمتان المقسومتان بين الرب وبين عبده فنصفها له تعالى وهو ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ [ونصفها لعبده وهو {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) . فسر الأستاذ الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده: (أن للعبادة صورًا كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح والشعور الذي هو منشأ التعظيم والخضوع، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانًا. خذ إليك عبادة الصلاة مثلاً، وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإتيان بها، وإقامة الشيء هي الإتيان به مقومًا كاملاً يصدر عن علته، وتصدر عنه آثاره، وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا به الله تعالى بقوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: 45) وقوله عز وجل: {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ المُصَلِّينَ} (المعارج: 19-22) وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدي إلى غايتها بقوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ المَاعُونَ} (الماعون: 4-7) فسماهم المصلين؛ لأنهم أتوا بصورة الصلاة، ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجُّه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته، والمشعر للقلوب بعظم سلطانه، ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون) . وذكر الأستاذ الإمام أن الرياء ضربان: رياء النفاق، وهو العمل لأجل رؤية الناس، ورياء العادة وهو العمل بحكمها من غير ملاحظة معنى العمل وسره وفائدته، ولا ملاحظة من يعمل له ويتقرب إليه به، وهو ما عليه أكثر الناس؛ فإن صلاة أحدهم في طور الرشد والعقل هي عين ما كان يحاكي به أباه في طور الطفولية عندما يراه يصلي، يستمر على ذلك بحكم العادة من غير فهم ولا عقل، وليس لله شيء في هذه الصلاة. وقد ورد في بعض الأحاديث أن من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدًا، وأنها تُلفُّ كما يُلفُّ الثوب البالي ويضرب بها وجهه، وأما الماعون فهو المعونة والخير الذي تقدم في الآية الأخرى أن من شأن الإنسان أن يكون منوعًا له إلا المصلين. قال الأستاذ الإمام في معنى: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5) أرشدتنا هذه الكلمة الوجيزة إلى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة: (أحدهما) : أن نعمل الأعمال النافعة، ونجتهد في إتقانها ما استطعنا؛ لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه، أو يخشى أن لا ينجح فيه، فيطلب المعونة على إتمامه وكماله، فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه، ومن وقع تحت عبء ثقيل يعجز عن النهوض به وحده يطلب المعونة من غيره على رفعه؛ ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به، وهذا الأمر هو مرقاة السعادة الدنيوية، وركن من أركان السعادة الأخروية. (وثانيهما) : ما أفاده الحصر من وجوب تخصيص الاستعانة بالله تعالى وحده فيما وراء ذلك، وهو روح الدين وكمال التوحيد الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الأغيار، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين والشيوخ الدجالين، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكاذبين من الأحياء والميتين، فيكون المؤمن حرًّا خالصًا وسيدًا كريمًا، ومع الله عبدًا خاضعًا {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 71) . والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله، وتحل محله، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123) إن لفظ الاستعانة يُشْعِر بأن طلب العبد من الرب تعالى العون على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام به، وفي هذا تكريم للإنسان بجعل عمله أصلاً في كل ما يحتاج إليه لإتمام تربية نفسه وتزكيتها، وإرشادٌ له؛ لأن ترك العمل والكسب ليس من سنة الفطرة ولا من هدي الشريعة، فمن تركه كان كسولاً مذمومًا، لا متوكلاً محمودًا، وبتذكيره من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر فيتوهم أنه مستغنٍ بكسبه عن عناية ربه، فيكون من الهالكين في عاقبة أمره [1] . بمثل هذا الأسلوب الحكيم أخرج حضرة الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار تفسير القرآن الحكيم (المشتهر باسم تفسير المنار) وهو كما يقول بحق: (إنه التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، الذي يبين حكم التشريع، وسنن الله في الاجتماع البشري، وكون القرآن هداية عامة للبشر في كل مكان وزمان، وحجة الله وآيته المعجزة للإنس والجان، ويوازن بين هدايته وما كان عليه سلفهم إذ كانوا معتصمين بحبلها بما يثبت أنها هي السبيل لسعادة الدارين، مراعيًا فيها السهولة في التعبير، مجتنبًا مزج الكلام باصطلاحات العلوم والفنون بحيث يفهمه العامة، ولا يستغني عنه الخاصة، وهذه هي الطريقة التي جرى عليها في دروسه في الأزهر حكيم الإسلام الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده. كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب من الكتب في التفسير يشغل قارئه عن المقاصد العالية والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو ونكت المعاني ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين، وتخريصات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض، وبعضه يلفته عنه بكثرة الروايات، وما مُزجت به من خرافات الإسرائيليات، وقد زاد الفخر الرازي صارفًا آخر عن القرآن، هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها، وقلَّده بعض المعاصرين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة التي تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن. أخرج الأستاذ العلامة السيد رشيد رضا عشرة أجزاء من تفسير القرآن تقع في عشرة مجلدات، تبلغ ما يزيد عن خمسة آلاف صحيفة من القطع المتوسط، منها الخمسة الأجزاء الأول فسرها الأستاذ الإمام المرحوم الشيخ محمد عبده تفسيرًا جمع بين دقة المعنى وجزالة اللفظ، ورشاقة الأسلوب [2] ، وللأستاذ الإمام منهج في التعبير يدل على نفاذ البصيرة، وقوة الإدارة، ومتانة الإيمان، حتى ليُخيل لقارئه أنه من رجال الصدر الأول. والشيخ محمد عبده من أفذاذ المصلحين، وكبار المفكرين، لم يُخرجه واسع علمه عن الاقتداء بالرسول العظيم، والاهتداء بسيرة السلف الصالح، ولم يزِلَّ قدمه في مهاوي الإسرائيليات، ولم يدخل في جدال مناقشات الطوائف التي جعلت من الإسلام والمسلمين شيعًا وأحزابًا، فهو إذا أتى على تفسير الجنة والنار مثلاً قال: إنها من عالم الغيب لا يجب أن نتعدى فيها قول الرسول المعصوم عملاً بقوله تعالى [3] : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) وهذا ما يدل على رجاحة العقل وكبح جماح الهوى، وأن يقف في الدائرة التي وضعها الله في كتابه العزيز؛ لأن القرآن قبل كل شيء هو كتاب هداية وإرشاد، قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (ص: 29) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: 82) وقد اقتفى الأستاذ السيد رشيد رضا أثر أستاذه الشيخ محمد عبده في التفسير سواء فيما وضعه من الآراء في الخمسة الأجزاء الأول، أو الباقي من التفسير حتى الجزء العاشر. وإن من يتصفح العشرة الأجزاء من التفسير الذي أخرجه الأستاذ العلامة السيد رشيد رضا يعلم منها سعة اطلاع المؤلف وغزارة معارفه وأمانته في النقل، وشدته على خصومه في الرأي، وإن الزمن الطويل الذي سلخه في إخراج تفسيره هو ما يزيد على العشرين سنة مع مثابرته على إخراج مجلة المنار أكثر من ثلاثين عامًا - تشهد لحضرة العلامة المؤلف بقوة الإرادة التي لم توجد في رجال المعاهد الدينية الإسلامية لا متفرقين ولا مجتمعين، والإسلام يُطعن من كل جانب من أهله ومن غير أهله، ولا يوجد من يدفع عنه بصبر وثبات غير هذا المؤلف الشجاع يناضل أكثر من ثلاثين عامًا ضد البدع والضلالات من الملحدين والمبشرين وغيرهم، ممن جعلوا هدم الإسلام غايتهم، واستعباد المسلمين هدفهم. لقد قرأت العشرة الأجزاء التي أخرجها المؤلف وهي تعتبر دائرة معارف فقهية إسلامية، وإذا كان هناك بعض ملاحظات فهي تأتي من ناحية استطراد المؤلف في بعض الموضوعات التي تخرج التفسير عن غرضه، كالكلام على ترجمة القرآن مثلاً فتقع في 49 صفحة من الجزء التاسع، وبشارة التوراة والإنجيل بنبينا صلى الله عليه وسلم فتقع في 70 صفحة، وترجمة عزير أو عزرا والثالوث عند الكلام على الآية الكريمة {وَقَالَتِ اليَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} (التوبة: 30) ... إلخ في 34 صفحة في الجزء العاشر. إن طبيعة الأستاذ العلامة هي إلى النضال والكفاح أقرب منها إلى المسالمة، فهو إذا ما اعترضه خصومه في الرأي قذفهم بوابل حججه وأسانيده، وأخذ عليهم المسالك، وسد عليهم الطرقات، وقد يُنسيه حب الغلبة والقهر - في سبيل ما يعتقد أنه الحق - الدائرة التي وضع نفسه فيها، وكان يكفي في مثل هذه الموضوعات التي ذكرناها الإيجاز، وخصوصًا فيما يختص بالتوراة والإنجيل وأسانيدها إذ ورد عن المعصوم صلوات الله عليه وسلامه أننا لا نكذِّب ما جاء بها ولا نصدقه - موقف

تفسير المنار تقريظ ونقد

الكاتب: أبو إسحاق إبراهيم أطفيش

_ تفسير المنار تقريظ ونقد للأستاذ الفاضل علامة الإباضية الشيخ أبي إسحاق إبراهيم إطفيش نشره في مجلته المنهاج (ج 1 و 2 م 6) قال: ظهر في السنة الماضية الجزء التاسع من تفسير المنار، وفي هذه السنة ظهر الجزء العاشر منه، وتفسير المنار من أسمى التفاسير وأوفرها ثروة، وأشملها لحقائق من التفسير مفقودة من مناهج المفسرين، وليس السيد مفسر المنار ممن يحشر ما هب ودب ويجمع ما يملأ الأوراق، ويمتد إلى ترهات الإسرائيليات التي شوهت جمال كثير من الكتب، وما ليس له علاقة بالتفسير، إلا حب الاستكثار والولوع بالتخليط، حتى صار الكتاب أشبه ما يكون بقصص الرواة اليوم، وهو ما يجب أن ينزه عنه تفسير كلام الله. ولكنه - والحق يقال - تفسير ممتع بطلاوته، مبدع في أسلوبه، جامع في إلمامه بمقتضيات الآية، مع الإيجاز في مقام الإيجاز، والإطناب في مقام الإطناب، إذا مررت بآية في سنن الكون رأيته يدني إليك من الحقائق ما يسحر، أو بآية في سنن العمران رأيت بين يديك من الدقائق ما يبهر، أو بآية التوحيد رأيت من تحبير وتحرير ما يغنيك عن طائفة من الكتب، مع استقلال في البحث والترجيح، أو بآية في الفقه وأصوله أوقفك على ما يأخذ بتلابيبك، مالكًا لك من جوانبك، أما تحقيقات البلاغة فهي السحر الحلال، لست ترى في أسلوب هذا التفسير المبتكر خروجًا عن منهاج العربية، وعما تقتضيه الآيات الكريمة وتبينه الأحاديث النبوية، أما آيات مخاطبة الأمم ودعايتها إلى الهداية الإسلامية فإصداع وإقناع وإشباع بالحق والحجة، والأدلة التي يسلِّم بها الخصم. ذلك هو تفسير المنار نقدمه إلى قراء المنهاج، ولا يفوتني أن أذكر أنه بقي في ذهني أن قطب الأئمة شيخنا محمد بن يوسف أطفيش رحمه الله ورضي عنه ذكر بإعجاب تفسير المنار وأثنى عليه [1] ، وفي ظني أنه في بعض تآليفه أو سمعته مشافهة، وكفى بثناء هذا الإمام العظيم الذي فسر القرآن ثلاث مرات (داعي العمل ليوم الأمل، هميان الزاد إلى دار المعاد، تيسير التفسير) . على أنني لا أهمل أن آخذ على هذا العلامة الكبير شدة لهجته عند الكلام على صفات الله، والآيات المتشابهات، والحال أنه اختار أن يأخذ بجانب عدم التأويل، والتأويل هو ما يقتضيه كلام الله، وعليه أهل البلاغة والخلف من أصحاب المذاهب الأربعة والمفسر منهم، وكمال التنزيه موجب للتأويل، ولنا كلام في هذا الموضوع وغيره في هذا المكان، فللمصنف اختياره، وله ترجيحه؛ ولكن لا يجوز لأحد من أهل العلم أن يشتد على مخالفه في النظر والمذهب، وهو رأي ومذهب أساطين من أهل العلم من السلف والخلف، ونرجو الله أن يمد في عمر المفسر حتى يتم تفسير القرآن الكريم الذي هو من أنشودة الأمة الإسلامية اليوم ومناها. اهـ. (المنار) نشكر للأستاذ العلامة صاحب المنهاج تقريظه العلمي الاستقلالي، وكذا نقده المذهبي في مسألة التأويل على ما فيه من تعارض وإجمال وإبهام وسببها توخي الاختصار، فهو يقول إن المفسر من (الخلف من أصحاب المذاهب الأربعة) فماذا يريد بهذا القول؟ إن أئمة المذاهب الأربعة يعدون من علماء السلف لا من الخلف، وكان مذهبهم في الصفات إمرار الصفات في صفات الله تعالى كما وردت من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وهذا ما ندين الله تعالى ونقرره في تفسيرنا وغيره علمًا لا تقليدًا لهم، وأما المتأولون من المتكلمين المنتمين إليهم في الفقه كالمعتزلة من الحنفية والأشعرية من المالكية والشافعية - فقد خالفوا أئمتهم في هذه المسألة الاعتقادية، واعتذر بعضهم كالغزالي عن ذلك بأن الضرورة ألجأتهم إلى علم الكلام المبتدع لأجل الرد على الفلاسفة والمبتدعة، وقد رجع بعض فحول هؤلاء المتكلمين عن تأويلاتهم إلى مذهب السلف الصالح في الصفات كما يفضلونهم في سائر الأمور. وأما كون البلاغة وكمال التنزيه يوجبان التأويل، فهو دعوى أو دعويان لا يقوم عليهما دليل، فهؤلاء المتكلمون المتأولون ليسوا أكمل تنزيهًا لله تعالى ولا أقوى فهمًا لبلاغة كتابه من علماء الصحابة والتابعين، بل دونهم فيهما بدون نزاع؛ وإنما كلامهم في التنزيه مبني على نظريات اصطلاحية، ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، وقد أفضت بالجهمية والمعتزلة إلى نفي الصفات التي أثبتها الله تعالى لنفسه وهي عين الكمال، بالتحكم فيها كما يتحكمون في صفات المخلوقات، كما أن فهمهم للبلاغة مقيد بقواعد واصطلاحات الفنون وأصول المذاهب التي يُحكِّمونها في القرآن، والقرآن فوق الفنون والمذاهب وإنما الواجب تحكيمه فيهما، كما بيَّنا ذلك مرارًا في تفسيرنا، والشيعة والإباضية على مذهب المعتزلة في التأويل. وأما شدتنا عليهم في الرد عليهم فهم دون شدة غلاتهم في الرد على أهل الإثبات وسلف الأمة، فهم قد يكفرون مخالفهم في صفة العلو ولو بطريق اللزوم، ونحن نخطئهم ولا نكفرهم، وسنتوخى اللين في ذلك إن شاء الله تعالى.

غاندي يشهد للإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ غاندي يشهد للإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام جاء في مجلة النور (ذى لايت) التي تصدر في لاهور وهي مجلة إسلامية المقال التالي للمهاتما غاندي في الإسلام، وهذه ترجمته، وقد نُشرت في بعض جرائد مصر وسورية: (لم يكن الإسلام في إبان مجده عديم التسامح، فقد أحرز إعجاب العالم كله، ولما كان الغرب غارقًا في الظلمات أشرق نجمه في سماء المشرق، وأضاء عالمًا متألمًا ومنحه التعزية، ليس الإسلام دينًا باطلاً، فليدرسه الهندوس باحترام، يحبوه كما أحبه أنا. انتهيت من درس حياة أصحاب النبي، ولما انتهيت من المجلد الثاني أسفت لعدم وجود ما بعده لأقرأ عن تلك الحياة العظمى، وغدوت مقتنعًا كل الاقتناع أنه ليس السيف هو الذي جعل للإسلام مكانة في معترك الحياة، بل إن بساطة النبي التامة وإنكاره الكلي لذاته - يعني إيثاره على نفسه - الدقيق لعهوده، وإخلاصه الشديد لأصدقائه وأتباعه، وشجاعته وبسالته، وعدم مبالاته بالمخاوف، وثقته الكاملة بالله ورسالته، هذه - لا السيف - هي التي جرفت كل شيء أمام المسلمين الأولين، وتغلبت على كل العقبات. قال بعضهم: إن الأوربيين في أفريقيا الجنوبية يخشون انتشار الإسلام، الإسلام الذي مدَّن أسبانيا، الإسلام الذي حمل النور إلى المغرب وبشر العالم بالأخوة. إن الأوربيين يخشون الإسلام لأن الذين يعتنقونه يحتمل أن يطالبوا البيض بالمساواة، ومن حق هؤلاء أن يخافوا لو كانت الأخوة خطيئة، فإذا كان البيض يخافون من المساواة بالعناصر الأخرى؛ فإن المخاوف من الإسلام تقوم على أساس صحيح، إني رأيت الزلوسي الذي يعتنق المسيحية لا يصعد بطبيعة الحال إلى مستوى المسيحيين، على حين أنه إذا اعتنق الإسلام يشرب من نفس قدح المسلمين، ويأكل من ذات قصعتهم) .

المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس تمهيد تاريخي: إن عدد المسلمين في هذا العصر أربعمائة مليون نفس أو يزيدون، وهم على استحواذ الجهل والفقر والتفرق عليهم لا يزالون يشعرون بأخوة الإسلام ووحدته، وهم يملكون أعظم ثروة من الأرض وأعظم هداية للبشر، لو عرفوا كيف ينتفعون بهما لسادوا العالم كَرَّة أخرى أعظم وأوسع من السيادة الأولى، وأقرب الوسائل إلى نشر هذه المعرفة وتعميمها والسعي للعمل بها: عقد المؤتمرات وتأليف الجمعيات. قد فكر أفراد من كبار أصحاب الرأي من المسلمين منذ أواخر القرن الماضي للهجرة بشدة الحاجة إلى الاجتماع للبحث في أسباب ضعف أمتهم، وما يجب من معالجته وإعادة مجدهم السابق بما تقتضيه حالة هذا العصر من علم وعمل، وإلى تأليف جمعية عظيمة ذات فروع كثيرة للقيام بذلك، وكان أعظم هؤلاء المفكرين قدرًا وأقواهم تأثيرًا موقظ الشرق وحكيم الإسلام السيد جمال الدين الأفغاني، وقد نبهنا أمتنا لهذا الأمر العظيم في المنار مرارًا كثيرة من أول نشأته إلى الآن، من قبل أن نسمي الاجتماع لهذا البحث مؤتمرًا. وكان أول ما بسطنا به هذا الرأي مقال عنوانه (الإصلاح الديني المقترح على مقام الخلافة الإسلامية) نشرناه في العدد الذي صدر في المنار في السنة الأولى بتاريخ 3 شعبان سنة 1316 (فيراجع في ص 764 من الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول) وقد جاء فيه ما نصه: (ويتوقف هذا الإصلاح على تأليف جمعية إسلامية تحت حماية الخليفة يكون لها شُعب في كل قطر إسلامي، وتكون عظمى شُعبها في مكة المكرمة التي يؤمها المسلمون من جميع أقطار الأرض، ويتآخون في مواقفها الطاهرة، ومعاهدها المقدسة، ويكون أهم اجتماعات هذه الشعبة في موسم الحج الشريف، حيث لا بد أن يوجد أعضاء من بقية الشعب التي في سائر الأقطار يأتون الحج فيحملون إلى شعبهم من المجتمع العام مما يستقر عليه الرأي من التعاليم السرية والجهرية، وهذا أحد مرجحات وجود الجمعية الكبرى في مكة المكرمة على وجودها في دار الخلافة، وثَم مرجحات أخرى من أهمها البعد عن دسائس الأجانب ووساوسهم، والأمن من وقوفهم على ما لا ينبغي وقوفهم عليه في جملته أو تفصيله (ومنها) أن لشرف المكان ولحالة قاصديه الدينية أثرًا عظيمًا في الإخلاص والتنزه عن الهوى والغرض، فضلاً عن الغش والخيانة. وينبغي أن يكون للجمعية الكبرى جريدة علمية دينية تطبع في مكة أيضًا، وأية شعبة استطاعت إنشاء جريدة تنشئها) . وقد بيَّنا في تلك المقالة ومقالة أخرى بعدها أهم ما يجب أن تقوم به هذه الجمعية الكبرى من الإصلاح لجمع كلمة المسلمين والقيام بمصالحهم العامة، وتجديد تبادل الرأي في كل عام، وهو ما أعدنا الآن بيانه واقتراح بعضه في مؤتمر بيت المقدس في شهر شعبان الماضي أي بعد 35 سنة كاملة من كتابة هاتين المقالتين. مؤتمر أم القرى الخيالي: ثم جاء مصر الحكيم الاجتماعي المفكر السيد عبد الرحمن الكواكبي فكان من خيار أصدقائنا الذين نحاورهم ونسامرهم في موضوع الإصلاح الإسلامي، وكان قد وضع قبل رحلته هذه كتاب (سجل جمعية أم القرى) الذي هو أوسع شرح لمشروع أعظم مؤتمر إسلامي للإصلاح العام، وكان مختصرًا فزاد فيه شيئًا كثيرًا بعد المذاكرات الطويلة بينه وبيننا نحن وغيرنا من المفكرين والباحثين في الإصلاح الديني والمدني والسياسي، ونقَّح بعضه، وإن لدي نسخته الأصلية المخطوطة الشاهدة على ذلك، ولما طبعه واطلع عليه أحمد مختار باشا الغازي الشهير اتهمني بتأليفه لكثرة ما كان بيني وبينه - أي الغازي - من المذاكرات في موضوعه، وقد ذكرت هذا في ترجمة الكواكبي في عهد الغازي، ولو كان الغازي متقنًا للغة العربية لما اتهمني بذلك؛ فإن عبارة الكتاب ضعيفة وفيها كثير من اللحن والغلط، ولذلك اتفقتُ مع مؤلفه رحمه الله تعالى على تصحيح عبارته وبعض التنقيح فيه ونشره في المنار وإعادة طبعه عنه مع ذكر ما أخالفه فيه في حواشيه وهو قليل، وشرعت في ذلك في المجلد الخامس سنة 1320 وتوفي رحمه الله تعالى قبل إتمام نشره وطبعه، وكان يقول لنا: إن لجمعية أم القرى أصلاً، وإنه هو توسع في السجل ونقحه ست مرات آخرها عند طبعه سنة 1317، ثم أقنعته بإعادة تنقيحه سنة 1320. مؤتمر ندوة العلماء بالهند: وفي سنة 1330 (الموافقة لسنة 1912) دعتني جمعية ندوة العلماء الهندية المشهورة إلى رياسة مؤتمرها الذي عقدته في الهند فأجبت الدعوة، وقد بيَّنت في خطبتي لافتتاح هذا المؤتمر في مدينة لكهنؤ، ثم في خطبتي الارتجالية في المدرسة الكلية (الجامعة) في عليكدة وهي أعظم المدارس الإسلامية المدنية في الهند - ثم في مدرسة ديوبند، وهي أعظم المدارس الدينية فيها - أهم أركان الإصلاح الإسلامي في التعليم والتربية، وألقيت في المحافل والاجتماعات الأدبية والمدارس الإسلامية في الهند خطبًا أخرى في الإصلاح أهمها الخطبة التي ارتجلتها في لاهور في الاجتماع الذي عُقد للصلح بين الصحفيين الكبيرين مولانا محمد إنشاء الله صاحب جريدة وطن رحمه الله، ومولانا ظفر علي خان صاحب جريدة زميندار حفظه الله، وقد أُعجب حاضرو ذلك الاجتماع بما ألهمته فيه من فلسفة الاختلاف والاتفاق بين البشر، حتى اقترح بعضهم أن أجعله موضوع خطبة الصدارة في مؤتمر ندوة العلماء، وكان قبل عقد المؤتمر، ويليها الخطاب الذي ألقيته في بومبي في اجتماع عظيم عُقد للتأليف بين أهل السنة والشيعة، وكنت مهَّدت له تمهيدًا عمليًّا في لكهنؤ بزيارتي لكبير مجتهدي الشيعة فيها وحمله على زيارة ندوة العلماء وحضور حفلتها، ولم يكن زارها من قبل. المؤتمر السوري العام بدمشق: وفي سنة 1338 (1920) انتخبت رئيسًا للمؤتمر السوري العام الذي عُقد في مدينة دمشق وأعلن استقلال سورية الطبيعية، وتولية الشريف فيصل ملكًا عليها، فكان هذا اختبارًا وتمرنًا على إدارة المؤتمرات السياسية ومباحثها. المؤتمر السوري الفلسطيني في جنيف: وفي سنة 1341هـ عقد في مدينة جنيف المؤتمر السوري الفلسطيني وكنت من مؤسسيه والوكيل الأول لرئيسه. فهذه نبذة تاريخية في أول عهدي وأوسطه وآخره في فكرة المؤتمرات وعملها، والبحث في موضوعاتها المختلفة، قبل المؤتمر الذي عُقد في هذه السنة في بيت المقدس. وفي المنار مقالات ومباحث ورسائل كثيرة في هذه المؤتمرات وفي مؤتمرات مسلمي الهند وغيرها. مؤتمر مكة المكرمة السعودي: ولما أراد صاحب الجلالة عبد العزيز آل سعود ملك الحجاز ونجد جمع مؤتمر إسلامي بمكة عقب استيلائه عليها سنة 1344، كلفني إرسال دعوته لهذا المؤتمر إلى بعض رؤساء الحكومات والجمعيات الإسلامية من مصر قبل استيلائه على جدة فلبيت، ثم كلفني بمكة كتابة مشروع النظام الداخلي له والخطاب الذي يفتتحه جلالته به ففعلت، ثم ألفت لجنة للنظر في مشروع النظام مؤلفة من أعضاء يمثلون الحجاز والهند وجاوة وروسية وغيرها من بلاد الإسلام، فكانت تجتمع عندي في دار بناجه الشهيرة حيث أنزلني جلالة الملك ضيفًا، بيد أنني أصبت بالحمى الشديدة قبل إتمام تنقيح مشروع النظام، وقد نفخ في هذا المؤتمر شيء من روح الشقاق من قبل الوفد الهندي بمعارضة محمد علي وشوكت علي لملك الحجاز في شكل حكومته فوقى الله شره. مؤتمر بيت المقدس: قام بالدعوة إلى هذا المؤتمر صاحب السماحة السيد محمد أمين الحسيني المفتي ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين بعد تمهيد غير تام له فلقي معارضة قوية وكيدًا شديدًا. وإنني أبدأ بنشر صورة الدعوة العامة إلى المؤتمر، فالدعوة الخاصة بي لتعضيده والمساعدة عليه، ثم ألخص أخبار ما لقيه من الكيد والمعارضة، فأخبار عقده وأعماله وعملي فيه ورأيي في فائدته، كما ينتظر مني قراء المنار فأقول: نص الدعوة العامة إلى المؤتمر نشرت الدعوة الأولى إلى هذا المؤتمر في 22 ربيع الأول من هذه السنة (1350) وحدد فيها موعد عقده بالتاسع من شهر جمادى الأولى الموافق أول أكتوبر (ت 2) سنة 1931، ثم جاءت مكتوبات كثيرة إلى الداعي طلب مرسلوها تأخير الموعد ليتمكنوا من الحضور فيه من بلادهم البعيدة فنسخت بالدعوة الثانية وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ} (الطلاق: 6) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وصحبه أجمعين. {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فإنني أحمد إليكم الله الذي ألَّف بالإسلام بين قلوبنا فأصبحنا بنعمته إخوانًا، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم الداعي إلى الحق وصراط مستقيم، وعلى آله وأصحابه وتابعيه الذين اهتدوا بهديه، فشقوا بذلك لأنفسهم سبل النجاح والفلاح، وحيوا حياة طيبة {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) . ولما كان المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وكان الحادث إذا نزل بفريق من المسلمين فكأنما نزل بالمسلمين جميعًا - فقد رأى فريق من أهل الرأي النافذ، والغيرة الحافزة من أهل هذه البلاد وغيرها من الأقطار الإسلامية القيام بدعوة واسعة النطاق لعقد مؤتمر إسلامي عام في بيت المقدس الذي تشرف بإسراء الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، يُدعى إليه أعيان الملة الإسلامية وكبراء رجالها من سائر الأقطار الذين عُهدت فيهم الغيرة والحمية والعِلم الصحيح والرأي السديد والبصر النافذ، للبحث في حالة المسلمين الحاضرة، وفي صيانة الأماكن المقدسة الإسلامية من الأيدي الممتدة إليها الطامعة بها، وفي شؤون أخرى تهم المسلمين جميعًا وتعود عليهم بالخير العميم والنفع العظيم، إن شاء الله تعالى. وبالنظر لما نعهده في جنابكم من الغيرة الإسلامية وسداد الرأي والكفاية التامة للاضطلاع بهذا العبء، فإننا نوجه إليكم هذه الدعوة لحضور المؤتمر الإسلامي العام الذي سيعقد - إن شاء الله تعالى - بالقدس الشريف في جوار المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله في ليلة الإسراء المباركة في 27 رجب سنة 1350، وفق 7 كانون الأول (7 ديسمبر سنة 1931) لتتفضلوا بالاشتراك مع الذين يلبون الدعوة من كبراء الرجال في العالم الإسلامي، حيث يستلهمون الإقدام والعمل في سبيل الإسلام من رضوان الله عز وجل، ومن روحانية المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسيكون افتتاح المؤتمر في المسجد الأقصى المبارك. وإن لنا عظيم الأمل في أن ننال من جنابكم جوابًا بالبريد الجوي في أسرع ما يمكن، يتضمن استعدادكم للتفضل بتلبية هذه الدعوة لهذا المؤتمر العظيم، الذي نرجو أن يكون له أثر مبارك، وشأن كبير في تاريخ الجهاد الإسلامي بفضل غيرتكم وقوة إيمانكم، وإننا نسأل المولى عز وجل أن يسدد خطانا، وينير سبلنا في هذه الظلمات الحالكة بنور هدايته ورضوانه، ويوفقنا جميعًا لخدمة الإسلام. قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) . السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... رئيس المجلس الإسلامي الأ

تاريخ الأستاذ الإمام

الكاتب: شكيب أرسلان

_ تاريخ الأستاذ الإمام تقريظه ونقده لأمير البيان، وبديع هذا الزمان الأمير شكيب أرسلان تلقيت الجزء الأول الذي ظهر أخيرًا من تاريخ أستاذنا الإمام الحجة، آية الله الباهرة الشيخ محمد عبده قدَّس الله روحه، تلقيته والأشغال إلى ما فوق رأسي، والأفكار مشتتة، والخواطر مقسمة، والوقت أضيق من حلقة الميم، فلم أتمكن من مطالعته كله، ولا من إحالة قداح النظر في جميع نواحيه، فاكتفيت بقراءة بعض فصوله، وبالتأمل في فهرس موضوعاته، والمكتوب كما يقال يُعرف من عنوانه، فلا شك عندي مما رأيت منه في أن هذا التاريخ هو واسطة عقد التواريخ في هذا العصر. قيل: إن الأستاذ ابن العميد سأل الصاحب بن عباد قائلاً له: كيف رأيت بغداد؟ فأجابه الصاحب: بغداد في البلاد، كالأستاذ في العباد. وأنا أقول: تاريخ الأستاذ الإمام في الكتب كالأستاذ الإمام في الرجال، كيف لا ومحرره حجة الإسلام البالغة في هذا العصر، وإحدى حججه الباقية على الدهر، الذي كان أعظم من أظهر فضل الأستاذ الإمام ونشر تصانيفه، وكان منه بمنزلة أبي يوسف من أبي حنيفة، السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، وخالد الآثار، فسح الله في أجله، وكافأه أحسن ما يكافئ عبدًا على عمله، فمن بعد أن نعرف أن هذا السفر الجليل هو من قلم هذا الحبر الحلاحل، ومن فيض هذا البحر الذي ليس له ساحل، أصبح التفنن في وصفه من قبيل تحصيل الحاصل، والبديهيات التي لا تحتاج إلى الدلائل. دعنا من متانة عبارة هذا الكتاب وعلو إنشائه، وانتشار المنطق السديد على جميع قضاياه وامتزاج الذوق السليم بجميع أنحائه؛ فإن فيه من الفوائد التاريخية ما لا يوجد في كتاب آخر، وما لا يتم التاريخ العام إلا به، بل وما كتب السير والحوادث تبقى في مستقبل الأيام عيالاً عليه. نعم إن ترجمة السيد جمال الدين الأفغاني قد سبق إليها الكثيرون، وذهب كل كاتب فيها مذهبًا، وكان محرر هذه الأسطر ممن طرز بها كتاب (حاضر العالم الإسلامي) وأتى فيها بمعلومات لم تسبق لغيره، إلا أنه لا يوجد كتاب حوى من أخبار جمال الدين رحمه الله ما حواه هذا الكتاب، ولا وفى بما وفى به، بحيث لا تطلب فيه مطلبًا ذا شأن عن حياة حكيم الشرق وموقظه الأعظم - رحمه الله - إلا رأيته بين دفتيه، ففي تاريخ الشيخ محمد عبده أوفى تاريخ لجمال الدين أيضًا. وأما تاريخ الشيخ محمد عبده فمن البديهي أنه سيكون هذا الكتاب هو الأول، والآخر في الإحاطة بهذا الموضوع لأن السيد رشيدًا - وهو الذي أشعة نظره في العلوم، كأشعة رونتجن في الجسوم - قد وقف جانبًا من حياته على تصنيف هذا الكتاب، وكان أعرف الناس بأحوال الإمام وألزمهم له، وأحفظهم لأقواله، وأدراهم بمقاصده، ومن قال إنه خليفته في الأرض، ونسخة عنه طبق الأصل، لا يخطئ، فمن العبث أن ننشد للشيخ محمد عبده تاريخًا من بعد هذا التاريخ. والأستاذ صاحب المنار - كما يعلم كل من عرفه - سالك طريق المحدِّثين في التدقيق والتمحيص، فلا يبلغ أحد من التحري والتثبت ما يبلغه، بما غلب عليه من خُلُق علماء الأثر؛ فلذلك لا يمكن أن ينطوي هذا الكتاب من الأخبار إلا على ما قتله صاحب المنار علمًا، ولم يدع فيه للشك سهمًا، فالذي يطالع ما فيه من الروايات ويكون ممن يعلم مذهب صاحب المنار في التحري، لا يقدح في خاطره عارض من شك في أن الحادث المروي إنما حدث على ذلك الوجه، يُستثنَى من ذلك هنات هينات لا يَعبأ بها. لحظت منها ظنه أن مدير المدرسة السلطانية في بيروت يوم كان الأستاذ الإمام يدرس فيها هو المرحوم الأستاذ الشيخ أحمد عباس، والحال أن المدير الذي كان يومئذ هو المرحوم خلقي أفندي الدمشقي وهو الذي أشار إلى صرفه بغيره السيد عبد الباسط فتح الله رحمه الله في الفصل الممتع الذي كتبه عن مقام شيخنا في بيروت. وما عدا ملاحظة أو اثنتين مما ليس بذي طائل لم أجد فيما طالعته من هذا التاريخ رواية لم أقل فيها: هذه أصح الروايات وسندها أوثق الأسانيد، ولقد يوردها المؤلف بطرق مختلفة ويمحصها من جملة وجوه، ويعرضها على محك القياس، ولا يزال ينخلها إلى أن تبلغ برد اليقين، وأقصى درجات التحقيق المستطاعة للمؤرخين، وإنه ليبلغ به حب التدقيق أنه يروي عن أستاذه ما قد ينتقده، وما يورد فيه أقوالاً أقوى من أقوال الأستاذ الإمام، فالسيد رشيد في جميع كتاباته ليس عنده أحد فوق الغربال كما يقال، وكأنه ينظر أبدًا إلى قول مالك رضي الله عنه: (ليس منكم إلا مَن رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر) يشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم. هذا وإنك لن تجد تاريخ الثورة العرابية في كتاب بالبيان الوافي الواضح المستوفي لشروط النقل والعقل، وتعليل الحوادث بأسبابها، وردَّها إلى أصولها، كما تجده في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام. وفي هذا التاريخ أيضًا تواريخ أخرى لا توجد إلا فيه، ولن تكتب بقسط التحقيق الذي كتبت به، هذا وذلك لمكان صاحب المنار من القرب في الزمان والمكان، إلى الحوادث المؤرخة وإلى الأستاذ الإمام، الذي كان يومئذ قطب الرحى، وهي مثل تاريخ نهضة مصر، وتاريخ الأزهر، وتاريخ نهضة الإسلام الحديثة، ويقظة الشرق الحاضر، وكله مرتبط بعضه ببعض، ومتسلسل تسلسلاً مطردًا بطبيعة الأشياء، وكيفما جُلتَ في نواحيه وجدتَ عاملين كبيرين هما، جمال الدين ومحمد عبده رحمهما الله، وأنا أقول: إن الله عززهما بثالث هو صاحب المنار! حفظه الله. ولا تنس تاريخ سمو الخديو السابق وما فيه من الغرائب والعجائب، وما يتخلل حوادثه من النوادر، التي مع صحتها ونخلها بمنخل التدقيق لم تخسر شيئًا من فكاهتها، فلم يزدها التحري إلا رونقًا. مثال ذك سرور المشار إليه بوفاة الأستاذ الإمام رحمه الله واستياؤه من حزن الأمة عليه، وعدَّه ذلك تقريبًا من ذنوب الأستاذ، ولم يغفل صاحب المنار في جانب هذه الأخبار، التنويه ببعض حسنات وأشباه حسنات أذنت بها الأقدار الإلهية على يد سمو الأمير، فكان مذهبه هنا أيضًا مذهب علماء الحديث، فما تحامل ولا دلَّس، ولا زاد ولا نقص، ولو علم أمراء الإسلام أن جميع مؤرخيهم هم كالسيد رشيد رضا يحصون عليهم ما حسن وما قبح لاعتدلوا، وعلموا أن قبل حساب الآخرة حسابًا في الدنيا؛ ولكن أضر بأمراء الإسلام وبالإسلام تدليس المؤرخين، وتزيين المتزلفين، وأكبر الإثم على أولئك الفقهاء الذين انتظر منهم الشارع أن يقوِّموا الأمراء وينهوهم عن المنكر، وبحثوا في وجوه شهواتهم ما كثف من تراب الزجر، فكانوا المعاوين على أهوائهم، المفتين لهم بما يزيد في إغوائهم. وليس مرادي هنا تخصيص الخديو السابق الذي قد يكون أحسن من غيره؛ وإنما أريد أمراء المسلمين جميعًا إلى من رحم ربك. والله يعلم أني جادلت الخديو السابق في أمر الشيخ محمد عبده ولم أحابه ولم أكتم عنه أنه كان متحاملاً عليه، ودافعت عن الشيخ عبد العزيز جاويش أمام الخديو وهو في قصره برأس التين، وذلك عندما كانوا آتين بالشيخ جاويش من الآستانة إلى الإسكندرية بتهمة المؤامرة على الخديو، ولم أكن لذلك العهد أعرف الشيخ جاويش؛ ولكني كنت أعرف أن هناك نية للانتقام منه رحمه الله، فانتدبت نفسي للدفاع عنه، ثم دافعت عنه مرارًا بعد ذلك أمام الخديو السابق ولم أقبل في حقه كلمة واحدة من سموه. ثم إن في هذا الكتاب من الأخبار السياسية والروايات المأثورة عن أعاظم الرجال ما يجتمع منه مؤلَّف مستقل برأسه، كما أن فيه من الفوائد الشرعية، ومن الحلول الوجيهة للإشكالات الحديثة والمسائل العصرية، ما لا يتأتى في مجموع آخر، وكيف لا يكون ذلك وصاحب المنار هو فارس هذه الحلبة الذي لا يجاريه مجار، وإمام هذا المحراب الذي يصلي وراءه الكبار والصغار. ولم يختلف نظري عن نظره في هذا الكتاب إلا في أمر الأستاذ المرحوم الشيخ عبد الكريم سلمان، فإن السيد رشيدًا - فيما يظهر - لا يراه في الرجال المعدودين، أو كما قال له شيخنا: إنه ناقم منك أنك لا تعتقد بعلمه، هكذا رواها لي السيد رشيد نفسه، وكيف كان الحال فمكان الشيخ عبد الكريم لم يكن في هذا الكتاب بالمكان الذي ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير، ولست أحمل هذا من صاحب المنار على ضغن مع علمي منه ومن الشيخ عبد الكريم نفسه بأن المودة لم تكن بينهما في صفاء البلور؛ ولكني أحمله على ما قاله الأستاذ الإمام من أن السيد رشيدًا لم يكن يعتقد بسعة علم الأستاذ الشيخ عبد الكريم، ولولا هذا لوفر له حقه غير منقوص؛ لأن صاحب المنار - مع ما فيه من الحفيظة - منصف مقسط لا يبخس الناس أشياءهم، وأما أنا فكنت أعتقد بكثير من علم الشيخ عبد الكريم وأدبه وسلاسة طبعه وحسن إنشائه، والأستاذ السيد رشيد يقول: إن الشيخ عبد الكريم كان لا يحب السوريين إجمالاً؛ وإنما كان يستثنيني أنا من بينهم لفكاهتي، وعبارة السيد هي هذه: (ثم سبب آخر هو كراهته للسوريين، ولا أستثني منهم إلا الأمير شكيب أرسلان فإنه حل من نفسه محلاًّ كريمًا عندما زار مصر؛ لفكاهته الأدبية ونوادره اللطيفة، على مكانته من حب الأستاذ الإمام وتكريمه إياه، وللدعابة موقع من نفسه معروف، يعلو بها عنده صاحب المفاكهة وحاضر النادرة ... إلخ) فإذا قرأ الإنسان هذه الفقرة ورأى ما تكرر فيها من وصفي بالفكاهة والمفاكهة وسرعة البادرة عند النادرة، تخيل أني أبو نواس عصري، وأني لم أنل من الشيخ موقعًا كريمًا إلا بمحبة الأستاذ الإمام لي ومحبتي أنا للفكاهة، وحاشا للشيخ عبد الكريم الذي كان للجد عنده نصيب وافر، والذي ما كان يميل أحيانًا للدعابة إلا لتكون له أعون على الصواب إذا أخذ في معالي الأمور، على نمط من قال: إني لأجم نفسي بشيء من الباطل ليكون أعون لي على الحق. أقول: حاشا للشيخ عبد الكريم أن يكون كرم مقامي عنده ناشئًا عن حرارة نكاتي مهما كانت رغبته في هذا الشأن؛ وإنما أقول: إن سر المحبة كامن في أعماق الصدور وأحناء القلوب، وإن الأعمال تزيد منها وتنقص، وقد تذهب بها بتاتًا، كما قد تزيدها أضعافًا، ثم إني أشهد للشيخ عبد الكريم أنه لم يكن على شيء من الشنآن للسيد رشيد، وأنه كان يشهد بفضله، وأنه قال لي مرة: قد أصفيت له المودة بعد وفاة الشيخ. وفي هذا التاريخ فصل من قلمي عن أيام الشيخ في بيروت، وليس ذلك بكل ما كتبته عنه؛ وإنما أخر السيد بقية كلامي إلى الجزء القادم لتعلقها بما ارتسم في خاطري من أيامه بمصر، وقد روى لي السيد في هذا الجزء أشعارًا كنت نسيتها فنشرها لي بعد الخفاء، وأبرزها بعد العفاء، ووعد بنشر الأكثر من مثلها في الجزء القادم، فأنا لا أحصي عليه ثناء من أجل هذا اللطف، وإلحاقه بعض أشعاري بهذا الكتاب عملاً بواو العطف، لا سيما أنه لم يبق عندي ولا نسخة واحدة من ذلك الديوان الذي أسميته (الباكورة) والذي أخرجته إذ كنت لم أتجاوز السابعة عشرة من العمر. وأما عدد صفحات هذا الجزء فتربي على ألف ومائة صفحة يمتلئ دماغ القارئ مما تضمنته من معالي الأمور، وسياسة الجمهور، وتراجم الصدور، ونخب الفوائد التي تمخضت بها العصور، وليس هذا بالجزء الوحيد في موضوع حياة الأستاذ الإمام فقد تقدمه غيره وسيتلوه سواه، وكله بذلك القلم الذي دانت له أقاليم الأقلام، وخضعت ممالك الكلام، أي قلم صاحب المنار الشهير ناشر علم الأستاذ الإمام، ومخلد مآثره على الأيام، فمن يقدر أن ينشر من مآثره ألوف

المناظرة بين أهل السنة والشيعة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المناظرة بين أهل السنة والشيعة تمهيد وتصحيح غلط: نشرنا في الجزء الأول الماضي الرسالة الأولى لمقترح المناظرة الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين العاملي بنصها على ما فيه وإمضائه؛ ولكن سبق القلم في عنوانها فذكرنا أن لقبه شرف الدين، وهذا لقب لعالم آخر من العامليين يوافقه في اسمه، وهو أشهر عندنا وعند غيرنا بالذكر والعلم والرأي، فهو لا يكتب ما كتبه نور الدين، ومثل هذا الغلط في الأسماء من سبق القلم لذكر الرجل الأشهر ما ذكرناه في ذلك من الجزء من تعازي كبراء المصريين وزعمائهم لنا عند وفاة والدتنا رحمها الله تعالى فقد ذكرنا منهم حسن باشا عبد الرازق وإخوته وإنما عنينا نجله محمود باشا وكيل حزب الأحرار الدستوريين، وكان له أخ آخر اسمه حسن باشا كاسم والده قُتل اغتيالاً سياسيًّا رحمهما الله تعالى، وسبب هذا الغلط أن اسم حسن باشا عبد الرازق الكبير منقوش في ذهننا من عهد والدهم الجليل وطول عشرتنا له مع شيخنا الأستاذ الإمام، وذكر اسمه في تاريخه والمنار مرارًا. مطالبة علماء الشيعة برأيهم في دعوى المناظرة: نشرت رسالة مقترح المناظرة بنصها، وقلت فيما علقته عليها: إنه لم يلتزم فيها الشرط الذي اشترطته عليه فيها، وإنني أحب أن أعلم قبل الشروع في المناظرة هل يوافقه كبار علماء الشيعة في سورية والعراق والهند وإيران على قوله: إنه لا يمكن الاتفاق بين أهل السنة والشيعة على شيء من المصالح الإسلامية، إلا بالشرط الذي اشترطه وهو رجوع أحدهما إلى مذهب الآخر للسبب الذي ذكره؟ ثم اقترحت عليه وعلى زميلي الأستاذ الفاضل صاحب مجلة العرفان أن يأخذا لي تصريحًا من علماء الشيعة المشهورين في المسألة (راجع ص 72 ج 1) . مرت على هذا الاقتراح ثلاثة أشهر لم يصدر فيها المنار للأسباب المبينة في أول هذا الجزء، ولم يرد لنا من حضرة مناظرنا ولا من غيره من علماء الشيعة شيء، إلا أن زميلنا الأستاذ صاحب مجلة العرفان ذكر في كتاب تعزيته لنا عن والدتنا إنكارًا على السيد عبد الحسين نور الدين في ذلك، وأنه سينشر هذا الإنكار في مجلته المحجوبة الآن عند عودتها إلى الظهور. ورسالة من سائح فاضل باسم (نظرة ... ) ننشرها في هذا الفصل. ثم إنني لما دعيت إلى المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في القدس وعلمت أن ممن أجابوا الدعوة إلى حضوره الأستاذ العلامة الكبير الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء الشهير أكبر مجتهدي النجف الذي هو أزهر إخواننا الشيعة - سررت جد السرور، ونطت أملي في مسألة الشقاق الجديد، أن يكون تلافيها بتلاقينا في هذا المكان الشريف، وتعاوننا هذا على هذا العمل الشريف، بأن يكون من أهم مقاصدنا فيه السعي للتأليف، وقد سبق لي لقاء هذا الأستاذ بمصر، إذ زارها بعد الحرب الكبرى وتذاكرنا في وجوب الاتفاق، وكان معه في القدس الأستاذ الشيخ عبد الرسول من آله الكرام ونجله الشيخ عبد الحكيم حفظهم الله تعالى، وحفظ بيتهم العلمي موفقًا لخدمة الإسلام. تلاقينا على ما أحب، وأطلعت الشيخ على رسالة السيد عبد الحسين نور الدين وسألته عن رأيه فيها فأنكر عليه أشد الإنكار، فقلت: إن الإنكار بالقول لا يكفي فهل تكتب رأيك في الرد عليه ليُنشر في المنار؟ قال: نعم. وكان من حسن الحظ أن وجد في أعضاء المؤتمر عالمان شهيران من علماء الشيعة السوريين، وهما من أصدقائنا قدماء قراء المنار، أحدهما الشيخ سليمان الضاهر من علماء جبل عامل، والثاني الشيخ أحمد رضا من علماء صيدا، وقد رأيت كلاًّ منهما منكرًا على السيد عبد الحسين نور الدين قوله: إن الشيعة بمقتضى مذهبهم لا يمكن أن يتفقوا مع أهل السنة لاعتقادهم أنهم غير متبعين لسبيل المؤمنين. فأما الأستاذ الأكبر الشيخ محمد حسين فقد كتبت إليه عندما تفضل بتوديعي في القدس ساعة سفري منها كتابًا سألته فيه رأيه في المسألة، فأرسل إلي جوابه بعد عودته إلى النجف، وسأنشره في مقال خاص في موضوع الاتفاق، وأما الأستاذان السوريان فلم يطلبا مني كتابًا ولم يرسلا إلي شيئًا، فأرجو منهما أن يكتبا إلي في الموضوع ما أقنع به قراء المنار بما سأجدد الدعوة إليه من الاتفاق والإيلاف، وأرجو مثل هذا من الأستاذ الشيخ عارف الزين وإذا أمكنه أخذ كتاب أو إمضاء من العلامة المجتهد الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين وغيره فإن الفائدة تكون أتم؛ فإن هذا الأستاذ قد لاقيته مرارًا في بيروت وحدثته في وجوب السعي للاتفاق، فوجدت رأيه موافقًا لرأيي، وقد اتفقنا يومئذ على كلمته في الطائفتين: (فرقتهما السياسة وستجمعهما السياسة) وسبق لي ذكر هذه الكلمة في المنار. وقد علم هؤلاء وسائر قراء المنار أن الذي دعاني - بل دعَّنِي - إلى الرد على الشيعة بل غلاتهم الملقبين بالرافضة، ذلك الكتاب الخبيث الذي لفقه ملفقه في تكفير الوهابية كافة وشيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب المنار خاصة، وما كان من تقريظ مجلة العرفان ونشرها له وعدم سماع كلمة من علماء الشيعة في الإنكار على ملفقه، دع فتنة العراق المشهورة، وذيولها بين الشيعة والنجديين، وكانت بدسائس المستعمرين. ولكن جاءتني رسالة طويلة جدًّا في مناظرة طويلة لعالم سني مع بعض الشيعة في المحمرة لم أنشرها؛ لأنها تزيد الشقاق احتدامًا. * * * كتاب ورسالة من سائح شيعي أديب في الإنكار على السيد عبد الحسين نور الدين سيدي الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا المبجل: بعد التحية: لا شك أن حضرتكم تعرفون ما يوجبه الدين، ويُحتِّمه الوجدان، والحق على كل منا في مثل هذا اليوم العصيب، وقد أثر المقال الذي نشرتموه في مجلتكم الغراء بإمضاء السيد عبد الحسين نور الدين العاملي فيَّ تأثيرًا اضطرني إلى تحرير كلمة حول الموضوع رغم العناء ومشقات السفر، وإني لأنتظر أن يسارع إخواني وأساتذتي إلى نشر حقيقة هذا الرجل وصده فيما بعد عن الخوض في مثل موضوعه ذاك المتطرف، وأملي الوحيد أن تسارعوا في نشر ما تجدونه طيبًا، وأشكركم من صميم قلبي، وأقدر أعمالكم ودعاياتكم الإصلاحية بكل عواطفي، وتقبلوا مزيد تقدير مخلصكم واحترامه. ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص السائح العربي ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الهادي آل الجواهري * * * نظرة حول مناظرة لقد كان من الصعب عليَّ وأنا بين عوامل لا تسمح لي أن أخوض في بحث كهذا لكثرة انشغالي وتشويش بالي من كثرة الأسفار وفراق الأوطان وتعدد المصائب والأحزان. تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد نعم والله، تكاثرت وتعدد المؤثرات المحزنة المشجية، وقد كان الأجدر والأليق بإخواني الذين أعهد فيهم الغيرة والحمية من أبناء العروبة والإسلام، والأساتذة الذين وقفوا أقلامهم لمكافحة الحشرات التي نخرت عظامنا وأنهكت قوانا، ومقاومة تلك الدعايات التي يقوم بها بعض أولئك المأجورين باسم الدين والمذهب، وأن يتصدوا للطم أولئك الأوغاد الذين ينتهزون الفرص لوصمنا بوحدتنا في الصميم وليتصيدوا بالماء العكر، أولئك الذين لم يجدوا لهم موردًا شريفًا في هذا المجتمع يسدون به طمعهم ويملؤون به جيوبهم وعيابهم إلا إثارة العواطف المذهبية والنزعات الطائفية يغرون بها البسطاء الجهلة ممن لم يعرفوا للدين معنى وللشريعة قيمة. من الأسف - وليس يجدي نفعًا - أن نجد بعض أولئك المتزعمين باسم الدين يستغلون - ومن دون غيرهم - التهويش باسم الدين، ويحتكرون سمعته لأغراضهم وأطماعهم، فإذا ما وجدوا مجالاً ليمثلوا دورهم على مرسح المذهبية أخذوا يعرضون (فلم) روايتهم المشؤومة المحزنة على رؤوس بعض السذاج البسطاء والسوقة. باسم الدين تزعم بعضهم ويا حبذا لو قام ببعض ما تقتضيه هذه المهمة (ولو كانت مدعاة) من عظيم الأعمال، فينتهز الفرصة ويبرهن على أهليته وكفاءته لهذا المنصب الجليل المهم فيؤلفوا بين النزعات ويوحدوا القلوب والغايات، ويظهروا مزايا الدين وينشروا محاسنه ليجلبوا إليه الأنظار ويحببوه في عين الأجنبي، لا أن يجعلوه واسطة للتنافر والتعادي ويظهروه بأسوأ مظهر وأخزى منظر، كي ينفر منه البعيد الأجنبي الذي يمسي، وهو لا يعرف منه إلا أنه دين أحزاب وخراب، وتنافر وبغضاء وشقاء، على لسان من يدعون الزعامة الدينية في الجرائد والمجلات؟ أليس كذلك أيها القارئ؟ أليس إن مجلاتنا وصحفنا نراها طافحة بالسباب وشتم بعضنا بعضًا؟ وما كفانا ذلك حتى أخذنا نتحرش ونتجاسر حتى على أولئك المقبورين المدفونين منذ ألف وثلاثمائة سنة، ألسنا وقد خصصنا أوقاتنا وأوقفنا أقلامنا، وبذلنا دراهمنا، وأشغلنا مطابعنا، وأنهكنا أفكارنا وأدمغتنا، وسهرنا الليالي والأيام، لنخلق لنا هذه المشاكل المذهبية ولنجعل لنا عقبة لن تذلل؟ ألسنا ونحن أصبحنا بفضل هذه كلها في مؤخرة العالم والمجتمع وعبيدًا للأجانب يفترس بعضنا الآخر، وكل ذلك في مصلحة الأجنبي الغربي. أليس نظرة واحدة إلى ماضينا المجيد حين كنا تحت راية واحدة، وقد ملكنا زمام أكثر العالم، وركزنا تلك الراية في قلب الغرب - تكفينا وتدلنا على الفرق بين ذلك الزمن والزمن الذي ابتدأت فيه نار الفتن الطائفية والنزعات المذهبية، وما وصلنا إليه اليوم من حالة لا يرجى لها خير؟ أليس السبب في ذاك كله هو التخاذل والتباغض باسم السلف الصالح والإسلام، وحاشا للإسلام أن تكون هذه مبادئه، بل حاشا للسلف الصالح أن يرضى هذه الأساليب والمبتكرات، حاشا ثم حاشا، أوليس دين الإسلام هو دين التآخي والتآلف؟ دين الوحدة والوئام. أباسم عمر وعلي نطعن هذا الدين في الصميم؟ أباسمهما نمزق أوصال هذا الدين ونشتت شمله؟ ونثلم وحدته ونضيمه؟ حاشاهما أن يعذراكم يا قوم، وأن يرضيا هذه الأفعال والأعمال، وباسمهما تتفرقون وتتشتتون؟ فاتقوا الله يا قوم فيهما. هلموا يا قوم وأمعنوا نظركم، وتتبعوا التواريخ؛ فإنكم تجدون السبب كله في هذا التطاحن المذهبي هو تداخل الأجانب في أمورنا الدينية، وتشبثهم باسم الدين في تفريقنا وتباغضنا، والعار كل العار أن نكون وفق مشيئتهم وتحت إرادتهم، وأن نستسلم مذعنين لما يفرضونه علينا من التنابذ والتعادي. والأسف كل الأسف أن تلعب بنا الأهواء والنزعات، وتقودنا فئة ذات أطماع وأغراض باسم الدين والإسلام إلى المهاوي والهلكات، وهم بعيدون كل البعد - لو تحققنا - عن الإسلام ومبادئه، مأجورون بدعايتهم هذه ومستخدَمون بمبادئهم تلك. في هذا اليوم وقد أخذ الكل يشعر بالحاجة إلى التآلف وتوحيد الصفوف أمام الاستعمار وسيله الجارف - في هذا اليوم الذي نئن فيه من انشقاقنا وانخذالنا - في هذا اليوم الذي سهل على العدو أن يمص آخر قطرة من دمائنا وينخر عظامنا، يظهر لنا حضرة السيد عبد الحسين نور الدين العاملي في النبطية بمقاله المشهور في المنار الجزء الأول من المجلد الثاني والثلاثين سنة 1350 مناظرًا فيه حضرة الأستاذ صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا يمثل الشيعة ويعبر عنهم في ذلك المقال المزيف المملوء خطأ وركة، والذي ينكره عليه الشيعة أنفسهم، والذي اعتبره حضرته أساسًا للصلح، وفاتحة لعقد التفاهم والمودة ما بين أهل السنة والشيعة. وقد كنت أنتظر من إخواني الشيعة في العراق وسورية أن يسارعوا في احتجاجهم واستنكارهم على هذا الرجل المدعي، وأن يعجلوا في كم فمه والضرب على يده، كي لا يعود لمثله أبدًا، ولا زلت أنتظر من الش

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار تعليم أولاد المسلمين في المدارس اللادينية الحكومية وغيرها أو مدارس النصرانية (س 28) من حضرة صاحب الإمضاء بتونس: بسم الله الرحمن الرحيم ما رأيكم - دام نفعكم - في من يدخل ابنه الصغير إحدى المكاتب (المدارس) الدولية، وهي خالية من تعليم الدين الإسلامي وتدريس اللغة العربية كما يجب، بل كل تعليمها امتهان لنفس التلميذ حتى ينشأ ذليلاً محتقرًا نفسه وأهله، واعتناء باللغة الفرنساوية اللطيفة، والدافع إلى زج هذه الفلذة الصغيرة هو توقع ما تحقق أن الولد يؤخذ للخدمة الجندية ثلاثة أعوام إذا لم يحرز من تلك المكاتب على شهادة يتخلص بها من الجندية، مع أن طرق الخلاص منها كثيرة واضحة، إلا أن الشهادة المدرسية أضمن للخلاص من حيث المآل وراحة البال. فهل هذا يعد ضرورة حتى يرتكبه الآباء المحافظون على الدين الإسلامي، والقومية العربية، ومما يلاحظ أن بعض البلدان فُقد منها تعليم القرآن المجيد فضلاً عن حفظه الناشئة المولودة بعد الحرب العظمى؟ نرقب جوابكم السامي في هذه المزلقة التي انطبعت في فكر العارف والجاهل إلا من عصمه الله، وقليل ما هم، والفضل الأكبر لدعاية المعلمين العربيين بالمكاتب الذين هم مسوقون بأن يكونوا كشعوذة ودعاية بين أهليهم وذويهم حتى أني رأيت التوظف بها مع القدرة على التعيش من طريق آخر من أكبر الكبائر، فما رأيكم؟ أطال حياتكم والسلام. ... من محرره فقير ربه المخالف لكل أمته في هذه البدعة ... ... ... ... ... (م. خ) (ج) إن تعليم الأولاد ما يجب عليهم من عقائد الإسلام وأحكامه عند ما يبلغون سن التكليف، ومبادئ اللغة العربية التي هي لغة الإسلام - فرض على والديهم وأولياء أمورهم، فإذا كانت المدارس الدولية المذكورة في السؤال لا تمنع والديهم من تعليم ما ذكر من الأمور الدينية ولغتها ومن تربيتهم على هدي الإسلام وأخلاقه ومن أهمها عزة النفس، فلا مانع من إدخالهم فيها، وإن كانت تمنعهم مما ذكر من التعليم والتربية الواجبين فلا يجوز لهم إدخالهم فيها، وما ذكر في السؤال من الباعث على ذلك وهو التفصي من خدمة الجندية لا يصح أن يكون ضرورة ولا عذرًا لهم، بل ينبغي للمسلمين - أو يجب عليهم - العناية بتعليم أولادهم النظام العسكري بقدر الإمكان. هذا، وإن في البلاد الإسلامية مدارس أخرى شرًّا من المدارس المذكورة في السؤال وهي مدارس دعاة النصرانية، وقد ثبت بالاختبار التام في جميع الأقطار الإسلامية أن المدارس التي تنشئها جمعيات الدعاية النصرانية؛ إنما تنشئها لنشر دينها وتربية التلاميذ والتلميذات فيها على عقائده وعباداته وآدابه، وأنها تتوخى مع ذلك إبعاد المسلمين والمسلمات منهم عن دين الإسلام بأساليب شيطانية تختلف باختلاف حال المسلمين في العلم والجهل، وأن المدارس اللادينية التي تنشئها الجمعيات السياسية والإلحادية تتوخى بث الإلحاد، بل الكفر المطلق بالرسل وما جاءوا به من الهدى والرشاد. وقد ثبت بالاختبار أن الإلحاد في الدين قد فشا في المتعلمين في هذه المدارس كلها على درجات تختلف باختلاف أحوالهم، فمنهم المعطلة الذين لا يؤمنون بالله ولا بملائكته وكتبه ورسله، ولا بالبعث والجزاء، ومنهم الذين يؤمنون بالله ولا يؤمنون بالوحي والرسل، ومنهم الشاكون أو اللاأدريون، ومنهم الذين يقولون: (آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) ومنهم الذين يلتزمون الجنسية الدينية السياسية والاجتماعية في الزواج والإرث، والأعياد والمواسم والجنائز ولا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يحجون البيت الحرام ولا يصومون رمضان، ومنهم من يلتزم حرمة شهر رمضان وعاداته وقد يصومون أيامًا منه، ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله من الخمر والميسر والزنا والربا إلا بالقول دون الفعل. ومنهم من يصلي ويصوم أحيانًا أو دائمًا؛ ولكنهم لا يعرفون كل ما يجب أن يعرفه المسلم من عقائد الإسلام وأصول أحكامه وآدابه. ومن آثار ذلك ما نراه من الفوضى في الأمور الإسلامية والجهل ببعض الأمور المعلومة من الإسلام بالضرورة التي أجمع علماء المسلمين سلفًا وخلفًا على كفر جاحدها، وعدم عذر جاهلها والدعوة إلى مخالفتها في المحاضرات والمناظرات والكتابة والخطابة؛ وإنك لترى هذا في الصحف المنتشرة، والرسائل والكتب المنكرة، التي تكتب بأسماء إسلامية في الأحكام الشرعية كحقوق النساء وترجمة القرآن وغير ذلك. ومن آثار ذلك ترجيح المتفرنجين وأولي العصبية الجنسية للغات الأجنبية على لغة الإسلام العربية، بل يجهلون أن الإسلام قد جعل لغة العرب لغة لكل المسلمين لتكون عبادتهم واحدة، وشريعتهم واحدة، وآدابهم واحدة، ويصدق عليهم قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (الأنبياء: 92) من كل وجه. فتعليم أولاد المسلمين في المدارس التبشيرية والمدارس اللادينيية (لاييك) قد جنى عليهم في دينهم ودنياهم وسياستهم وأوطانهم، وسلبهم أكثر ما نالوه بهداية دينهم؛ حتى لم يبق منه إلا القليل وهو على وشك الزوال. إنهم أسلموا أولادهم أفلاذ أكبادهم لأعدائهم لأجل أن يجعلوهم مثلهم فيما كانت به دولهم عزيزة قوية، فقطعوا عليهم الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى ذلك وهم لا يشعرون ولا يعقلون، ثم إنهم بعد ذلك كله يمارون الذين ينبهونهم ويبينون لهم حقيقة حالهم وسوء مآلهم. وأكبر المصائب على المسلمين أنه ليس لهم دولة إسلامية تقيم الإسلام في علومه وسياسته وهدايته وتشريعه وتعليمه وتربيته، فيرجعون إليها فيما يختلفون فيه من أمورهم في بلادها وغير بلادها. وليس لهم جمعيات علمية دينية حكيمة غنية كجمعيات النصارى واليهود تنشئ لهم المدارس والملاجئ والمستشفيات الإسلامية فتغنيهم بها عن الالتجاء إلى أعداء دينهم فيما صاروا يرونه ضروريًّا من التعليم الذي عليه مدار المعاش في هذا العصر. ترك المسلمون هذه الأمور التي هي من فروض الكفايات فكان من سوء تأثير تركها ارتكاب الأفراد لمعصية الله تعالى في تعليم أولادهم في المدارس التي بيَّنا ضررها وفسادها في دينهم ودنياهم. قد يغتر الذين يعرفون الإسلام ويثقون بتربية أولادهم عليه فيظنون أنه يمكنهم حفظ عقائد أولادهم مع تعليمهم في هذه المدارس، وقلما يصدق ظن أحد منهم. وضع أخي السيد صالح رحمه الله بنتًا له في مدرسة البنات الأميركانية بطرابلس الشام، وهي ناشئة في بيت قلما يوجد نظير له في بيوت المسلمين في معرفة الإسلام والاعتصام به، وكان السيد صالح بارعًا في جدال القسوس والمبشرين شديد العارضة قوي الحجة، وكان يكون له الفلج والظفر بهم في كل مناظرة؛ لكنه كاد يعجز عن إقناع بنته ببطلان ما لقنتها المدرسة من الأناشيد في ألوهية المسيح وفدائه للبشر أو انتزاع شعورها الوجداني به، فاضطر إلى إخراجها من المدرسة قبل أن تتم مدتها، ثم كانت على تدينها ومحافظتها على الصلوات والصيام ويقينها بتوحيد الله تعالى وكون المسيح عبده ورسوله، تحن إلى المدرسة وتعتقد أن ناظرتها مس لاكرانج من أفضل البشر، وفي هذا عبرة لمن يعتبر. *** إشكال في تفسير المنار في نقل العرب المناسك وتحريم الأشهر عن إبراهيم (س29 - 32) من صاحب الإمضاء في طرابلس الشام: حضرة الأستاذ الفاضل علامة العصر، وفريد الدهر، الشيخ رشيد أفندي رضا المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد قرأت في العدد الأول من مجلد هذه السنة - يعني السنة الماضية - من مجلتكم الغراء ما يأتي: بعد ما ذكرتم قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} (التوبة: 37) قلتم في تفسير هذه الآية: كانت العرب ورثت من ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه كما تقدم، كما ورثوا مناسك الحج، ولما طال عليهم الأمد غيَّروا وبدَّلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر الحرم ولا سيما شهر المحرم منها؛ فإنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متوالية، فأول ما بدَّلوا في ذلك إحلال الشهر المحرم بالتأويل، وهو أن ينسئوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم الأربعة كما كانت، وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم معًا اهـ. فنرجو من فضيلتكم أن تجيبونا على هذه الأسئلة الآتية على طريق الاستفادة؛ لأن مجلتكم ترغب بنشر المباحث ليزداد النفع وتظهر حقية هذا الدين: أولاً: هل لدينا ما يثبت أن مناسك الحج وتحريم القتال في الأشهر الحرم هو من شريعة سيدنا إبراهيم الخليل؟ أين الكتب الدينية أو السند المتصل الذي يثبت ذلك ويظهره ظهور الشمس في رائعة النهار؟ فتوارث ذلك من أسلافهم إلى أن يصل إلى إبراهيم الخليل لا يكون سندًا يُعتد به في الأمور الدينية؛ لعدم الثقة برجال الجاهلية لكونهم عبدة أوثان؛ ولأن كل ما يفعلونه كانوا ينسبونه إلى إبراهيم الخليل، ولا يبعد أن تكون عبادتهم للأصنام ادعاء منهم أن سيدنا إبراهيم كان يعبدها. ثانيًا: كيف يجعل الله عبادة الوثنيين ومناسكهم عبادة في الإسلام ومناسك له، والإسلام جاء ليجتث جذور الوثنية كما في تحريمه التشفع بالأولياء والصلحاء؛ لأنها تماثل ما يفعله الوثنيون. ثالثًا: إذا كانت العرب ورثت عن إبراهيم الخليل المناسك وتحريم القتال في الأشهر الحرم يلزم أن تكون العرب قبل الإسلام أمة غير جاهلية لأنها صاحبة شريعة، وإن اعتقدنا أنها كانت أمة جاهلية لكونها غيرت وبدلت ما شرع إبراهيم الخليل؛ فتكون الأمة الإسرائيلية أيضًا قبل ظهور السيد المسيح أمة جاهلية؛ لأنه كان لها أحكام فغيَّرتها، وعقائد حقة بدَّلتها. رابعًا: ما معنى كون العرب قبل الإسلام أمة جاهلية؟ هل لكونها لم يرسل لها نبي أو لكونها غيرت شريعة إبراهيم الخليل صلوات الله عليه؟ نرجو الجواب على صفحات مجلتكم الغراء مؤيدًا بالأدلة العقلية والنقلية، فلا عدمت الأمة الإسلامية أمثالكم، ودمتم لها حصنًا حصينًا وسيفًا قاطعًا لأعناق المعتدين، والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فؤاد إشراقية (ج) إن ما تنقله الأمم بالعمل المتواتر لا يحتاج في إثباته إلى أسانيد قولية محفوظة ولا مكتوبة كنقل الكلام، فصفة الصلاة وعددها وعدد الركعات فيها وصفة مناسك الحج المجمع عليها من الطواف والسعي والوقوف، كل ذلك بينه النبي صلى الله عليه وسلم وجرى عليه المسلمون بالعمل إلى يومنا هذا، وبذلك كان قطعيًّا يرتد جاحده عن الإسلام لا برواية المحدثين له بأسانيدهم في كتبهم، وكذلك العرب أخذت عن إبراهيم وإسماعيل مناسك الحج التي أسندها الله تعالى إليهما في كتابه، وكذا تحريم القتال في الأشهر الحرم وعملوا بهما قرنًا بعد قرن، إلا أنهم أحدثوا فيهما بدعًا كالنسيء في الأشهر والعري للطواف ووضع الأصنام في البيت وغيره، وكانت هذه البدع والأحداث معروفة عندهم هي ومن أحدثها إلا قليلاً منها، ونُقل هذا عنهم في كتب الحديث والتاريخ الإسلامي، ولم يكونوا يسندون عبادة الأصنام إلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في سيرة ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار؛ لأنه أول من غير دين إسم

ترجمة القرآن وكون العربية لغة الإسلام ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة القرآن وكون العربية لغة الإسلام مقدمة إجمالية وضعت مسألة ترجمة القرآن موضع المناظرة والجدال في الجرائد السياسية، فكانت كسائر المناظرات في السياسة الحزبية والأهواء الاجتماعية، خاض فيها من له إلمام بأصول الدين الإسلامي وفروعه ومن لا إلمام له بهما ممن اعتادوا تحكيم آرائهم في كل شيء بما تبيحه لهم فوضى العلم والدين والسياسة في مصر، فكان الجمهور حائرًا لا يستقر له فكر، ولا يستبين له حكم. ثم برز إلى الميدان علماء الأزهر فكانوا مختلفين كغيرهم، وقد أكثروا من نقل عبارات الكتب واختلفوا في فهمها والترجيح بين مدلولاتها، فزادوا الجمهور حيرة على حيرة، واضطرابًا على اضطراب؛ لأنه كلام في مقابلة كلام، وخصام حيث لا مسوغ للخصام، ولم يعرج أحد من الكاتبين على ما هو مثار النزاع في المسألة وهو عمل الحكومة التركية اللادينية، ما حقيقته وما سببه؟ وما موقعه من دين الشعب التركي ومذهبه واعتصامه بهما؟ بيد أن بعض من كتب من العلماء ألقى نظرة عجلى على شعوب الإسلام الأعجمية ليعطيها حقها من حكم ترجمة القرآن بحسب حاجتها في هذا الزمان؛ ولكنه لم يبصر بهذه النظرة العجلى ما عليه هذه الشعوب، وألقى نظرة أثبت منها على الشعوب غير الإسلامية، فأدرك ما للإسلام من الفائدة في إطلاعها على ترجمة القرآن بألسنتها؛ ولكنه لم يحرر الموضوع من كل وجهة، فظلت الحقيقة خفية غير ظاهرة. وقد كنت وفيت هذه المباحث حقها في مواضع من المنار ومن الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم، وجمعت أكثرها في رسالة خاصة، ولما ألح علي الكثيرون من العلماء والفضلاء بكتابة شيء جديد يناسب مقتضى الحال ويُرجى أن يُزيل كل إشكال، شرعت في كتابة مقال طويل جمع بعضه في المطبعة، ثم بدا لي بعد دخول كبار العلماء في المعمعة أن أرجئ إتمامه، وأعجل إلى الجمهور ببيان القضايا القطعية في الموضوع وما يجب على المسلمين منه في هذا العصر، وهو ملخص في عشر مسائل، وسأنشر بعدها ذلك المقال الطويل المفصَّل، الذي يحز في المفصل، ويزيح كل مشكل، ويثبت أن اللغة العربية هي لغة دين الإسلام والمسلمين، ورابطة الأخوة العامة ووسيلة السلام للمؤمنين، بما يفند نزعات الشعوبية وعصبية الجنسية ونزعات الملحدين، ويوحد كلمة العلماء المختلفين، بما يخرج من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين، وهذه خلاصته الإجمالية: 1- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن هذا القرآن المحفوظ في قلوب الألوف التي لا تحصى من الحفاظ، المرسوم في ألوف الألوف من المصاحف، هو كلام الله عز وجل المنزَّل على محمد رسول الله وخاتم النبيين، بلسان عربي مبين، مُعجز للخلق أجمعين. 2- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن هذا القرآن العربي هو أساس دين الله الذي أكمل به ما أوحاه إلى رسله من قبله، وأتم به نعمته على العالمين، وأمر رسوله أن يبلغه كما أنزله عليه بنصه العربي المبين، فبلَّغه كما أمره الله، وأمر أصحابه وأتباعه بإذن الله تعالى أن يبلِّغوا عنه ما بلَّغهم عن الله عز وجل إلى جميع البشر، فبلَّغوا وما زالوا يبلِّغون هذا القرآن بنصه العربي المنزَّل، وما بينه من سنة الرسول الذي جاء به صلى الله عليه وسلم وما استنبطه أئمة العلم من عقائده وأحكامه وآدابه. 3- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن الله تعالى قد تعبد بهذا القرآن العربي كل من آمن به وبرسوله محمد خاتم النبيين من أجناس البشر تلاوة وتدبرًا وأذكارًا واعتبارًا، وامتثالاً للأوامر، واجتنابًا للمناهي، وحكمًا بين الناس كما قال: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِياًّ} (الرعد: 37) على ما في ذلك من الفروض والواجبات على الأعيان، ومن الفروض والواجبات على الكفاية التي يكفي قيام البعض بها عن قيام الكل، وما فيه من المندوبات والفضائل والآداب الكمالية، فجميع الشعوب الإسلامية تعبد الله به إلى هذا اليوم، وستعبده به إلى ما شاء الله على تفاوت عظيم فيها بين جماعاتهم وأفرادهم في حظهم من هذه العبادة، وبين خير القرون وما يليها. 4- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أن ما فرضه الله تعالى على أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم من قراءة في الصلاة، فالواجب على كل فرد أن يتلوه بنصه العربي المنزَّل كما أنزل {قُرْآناً عَرَبِياًّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} (الزمر: 28) . ولكن اختلف مدونو الكتب الفقهية بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فيمن عجز من أفراد الأعاجم عن النطق به عربيًّا صحيحًا غير ذي عوج بدون تحريف وتبديل لا يبيحهما له الشرع، فقال بعضهم: إنه في حال العجز تسقط عنه القراءة فيقف ساكتًا مخبتًا خاشعًا لله تعالى، وقال بعضهم: يستبدل بها ذكرًا آخر، وقالت الحنفية: بل يستبدل بها ترجمتها، وجوبًا أو جوازًا (قولان) كما أن العاجز عن القيام في الصلاة يصلي جالسًا، والعاجز عن الجلوس يصلي مضطجعًا، والعاجز عن الركوع والسجود يومئ بهما، ومتى زال العذر في الجميع يرجع المصلي إلى الأصل المفروض بإجماع الأمة. ومن المعروف بالاختبار أن العجز عن النطق بالقرآن العربي نادر قلما يقع إلا لمن أسلم من بعض الأعاجم وهو كبير السن، وقد جرى المسلمون على تعليم أولادهم الفاتحة وبعض السور القصيرة عند تعليمهم أحكام الصلاة وأذكارها في الصغر، فلا يكاد يوجد فيهم من يعجز عن النطق بها، ويضطر أن يستبدل بها ترجمتها فيحتاج إلى هذه الرخصة الحنفية فيها؛ وإنما يحتاج إليها بعض من يدخل في الإسلام كبيرًا إلى أن تنحلَّ عقدة لسانه بالتمرين على اللفظ العربي. 5- أجمعت الأمة الإسلامية عربها وعجمها على أنه لا يُباح للمسلمين ترجمة القرآن بلغة أخرى يتعبد بها في الصلاة والتلاوة والتشريع، ويُطلق عليها اسم كلام الله، وكتاب الله، والقرآن الكريم، والقرآن العظيم، والقرآن المجيد، كما سمى الله كتابه العربي، ويستغنى بها عن كتابه المنزل، الذي أرسل به رسوله، وتعبد به أمته، وصرَّحوا بأنه لا يفعل ذلك إلا مجنون أو زنديق؛ ولذلك نرى جميع الشعوب الإسلامية الأعجمية من الترك والفرس والأفغان والهند والجاوة والصين وغيرهم يعلِّمون أولادهم القرآن ويدرسون في مدارسهم الدينية تفاسيره وكتب الحديث والفقه والأصول والنحو والصرف والبلاغة باللغة العربية؛ ولكن أكثر أهل القرون الأخيرة منهم صاروا يفسرونها لطلاب العلم بلغاتهم خلافًا للمتقدمين فلذلك قل المجتهدون والنابغون فيهم، وكثيرًا ما يُرسلون أولادهم إلى مصر أو الحجاز لأجل إتقان اللغة العربية وعلومها. 6- قد علم من هذه الأصول التي أجمعت عليها الأمة اعتقادًا وعملاً أن إقامة هذا الدين في عباداته وتشريعه وحكومته تتوقف على معرفة اللغة العربية، وأن هذه اللغة قد جعلها شرع الإسلام لغة المسلمين كافة وأوجب عليهم تعلمها، إذ لا يمكن العمل بما ذكر من الإجماع بدونها، وقد صرَّح بهذا الإمام الشافعي في رسالته التي هي أول كتاب صنف في تدوين أصول هذه الشريعة وكذلك الشاطبي في مقاصدها من كتابه الموافقات [1] وبيَّناه في مواضع من المنار والتفسير، وسنزيده بيانًا وإيضاحًا في تفصيل ما في هذا المقال من الإجمال، فلينتظره من يشتبه في شيء منه. 7- قد ترجم القرآن بعض علماء الإفرنج بأشهر لغاتهم العلمية كالفرنسية والإنكليزية والألمانية والطليانية، وترجمه بعض المسلمين بأشهر لغاتهم الشرقية وبالإنكليزية أيضًا، وفي كل ترجمة من هذه التراجم أغلاط كثيرة مخالفة لمدلولات عباراته اللغوية والشرعية، فتح بها باب للطعن فيه والصدّ عن الإسلام، كما أنها فتحت بابًا آخر لمن اطلع عليها من مستقلي الفكر عرفوا بدخولهم فيه شيئًا كثيرًا من عقائد الإسلام الصحيحة، وحكمه العالية، وأحكامه العادلة، ومقاصده الحكيمة في إصلاح البشر، وحكموا على جميع ما نشره الملاحدة الماديون، ورجال الكنيسة المتعصبون، ودعاة النصرانية المرتزقون، من الكتب والرسائل الكثيرة في الطعن على الإسلام، بأن ما دونوه فيها من المطاعن زور وبهتان، فكثر مادحو الإسلام من علمائهم الأحرار، واهتدى كثير منهم به، واستضاءوا بنوره، ولا تكاد تمر سنة إلا وتجد بعض المستقلين في الفهم منهم يدخلون في الإسلام بالاطلاع على بعض هذه الترجمات أو بمعرفته ممن عرفوهم من المسلمين. 8- أن ما ترتب على ما ذكر من الترجمات من صلاح وفساد يُوجب على المسلمين وجوبًا كفائيًّا أن يزيدوا ما كان من صلاح قوة وتأييدًا، وأن يفندوا ما حدث من الفساد تفنيدًا؛ وإنما يكون ذلك بترجمته بتلك اللغات كلها ترجمة معنوية صحيحة، إذ كانت الترجمة الحرفية متعذرة وغير مفيدة، كما نبين ذلك بالأدلة والشواهد التي لا تقبل النقض، ولا تُقابل بالرد، وفاقًا لما قررناه من قبل، وهذه الترجمة التي تُعَدُّ - بما ذكرنا من الحاجة إليها - فرض كفاية على المسلمين، لا تسمى قرآنًا ولا يتعبد بتلاوتها، إنما هي خلاصة تفسيرية له تدخل في باب الدفاع عن دين الإسلام من جهة، وفي باب الدعوة إليه من جهة أخرى، وإن كانت الدعوة العامة لا تتوقف عليها كما سنبينه في تفصيل هذه المسألة المجملة. 9- أن هذه الترجمة لا يرجى أن تكون متقنة ومقبولة عند المسلمين وغيرهم إلا إذا قام بها جماعة من العلماء الراسخين في اللغة العربية، وعلوم الشريعة الإسلامية وتاريخها، ومتقنين للّغات التي يترجمون بها، حتى يكون لها صفة تشبه البلاغات الرسمية الدولية، ولا يتم هذا العمل إلا بإنفاق ألوف كثيرة من الجنبيهات، فلا بد أن تقوم به دولة غنية، أو جمعية قوية، أو يكفله أحد ملوك المسلمين بنفوذه وماله. 10- لا جرم أن الدولة المصرية أقدر الدول الإسلامية الحاضرة على أداء هذا الواجب الذي يعد أعظم خدمة للإسلام لدى الشعوب غير الإسلامية، وأن جلالة ملكها المعظم أجدر ملوك المسلمين به، إذ يمكنه أن يبذل في سبيله عشرات الألوف من الجنيهات من الأوقاف الخيرية العامة والخاصة بالأسرة المالكة، وإن احتاج إلى المزيد فإن في ثروة جلالته ما يغني عن فتح اكتتاب له من الأمراء والنبلاء من أسرته وسائر أغنياء مصر وغيرها إن أراد أن يستقل بشرفه، وإلا وجد كثيرًا من المتنافسين بمشاركته فيه، وقد بذل جلالته ألوفًا من الجنيهات لعالم فرنسي جزاء على كتابة تاريخ حديث لمصر، فلا يكثر على جوده أن يبذل أضعافه في سبيل الله والدفاع عن دين الله، وتعميم هداية كتاب الله؛ فإن هذا أفضل ما يمكن أن يعمله للإسلام. فإذا وفق الله تعالى جلالته لتنفيذ هذا العمل الذي نتقرب إلى الله تعالى، ثم إلى مقامه الإسلامي السامي باقتراحه عليه أولاً، فهو أعلم الناس بطريقة التنفيذ له وتأليف الجمعية التي تقوم بالترجمة من علماء الأزهر وغيرهم من العارفين باللغات الأجنبية الحاذقين لها، ووضع النظام لعملهم. وإن كان لدى جلالته مانع من ذلك - وهو ما لا نظنه - فإن هذه الفريضة لا تسقط عنه وعن سائر المسلمين إلا بقيام آخرين بها، وأيًّا ما قام بها يرتفع الإثم عن الآخرين، وحينئذ يجب أن يفكر أهل الغيرة على الدين في الأمر، ويسعوا لتأليف جميعة قوية غنية تقوم به، كجمعية الرابطة الإسلامية العامة التي فكر فيها الخديو السابق لمصر الأمير عباس حلمي ونشرنا نظامها في المنار، لا الجمعية ال

أنباء العالم الإسلامي

الكاتب: عبد المجيد القرشي

_ أنباء العالم الإسلامي نُشر النداء الآتي في صحيفة (إيمان) التي تصدر في مدينة (لاهور - الهند) بالعربية والأوردية والفارسية والإنكليزية، وجاءنا منها عدة نسخ وزعناها على خواص المسلمين وبعض الصحف، وإننا نرجو من الجرائد والجمعيات الإسلامية وأفراد المؤمنين الصادقين التأمل فيه والعمل به والحث عليه، وهذا نص العربي منه: نداء عام لإحياء ذكرى يوم النبي انتشرت فكرة في البلاد الهندية عام 1928 لإقامة احتفال عام شامل دعي باسم (يوم النبي) وقد أيَّد هذه الفكرة جميع أجلة العلماء، وأكابر هذه البلاد تأييدًا تامًّا، كما أن الصحف الأوردية كانت من أول محبذيه والداعية إليه، والغرض من هذه الفكرة هو أن يجعل هذا اليوم وقفًا في سبيل ذكرى النبي صلى الله عليه وسلم في كل أقطار العالم، وأن ينبذ كل الأقوام في هذا اليوم التعصبات الدينية والاختلافات المذهبية ظهريًّا ويتناسوها، وأن يقفوا صفًّا واحدًا متحدين متضامنين في سبيل الأخوة الإنسانية بداعي المحبة والمساواة، ساعين للاستنارة بنور هديه صلى الله عليه وسلم والاقتداء به. إن كل ما ترمي إليه هذه الفكرة هو توحيد نظريات مسلمي العالم وهمم لجانه في كل الأقطار الإسلامية وجمعهم في مركز واحد، ليقوموا جميعًا بالسعي والجهد لنشر تاريخ الحياة النبوية بين جميع أقوام الأرض مترجمة إلى لغاتهم على أن يكون ذلك ضمن حلقة واسعة النطاق بصورة مستقلة دائمية شاملة منتظمة حتى يتسنى من وراء ذلك (أولاً) ربط النظام التبشيري الديني في جميع البلدان بنظام واحد، وإبراز نظام الاتحاد الإسلامي باللباس العملي (وثانيًا) السعي لإيصال الكتاب الكريم والحياة النبوية إلى كل فرد من أفراد المسكونة، حتى يزول بذلك ما علق في الأذهان وما هو رائج بين العوام من سوء الظن بالإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وليتجه الناس إلى مطالعة القرآن المجيد، وليقفوا على ما فيه من الحق والنور المبين، وليهتدوا بهديه ويتأسوا بأسوة النبي الحسنة. إن خير مناسبة تاريخية توافق الفطرة والطبع هو أن يكون ذاك اليوم اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول الذي بزغت فيه أشعته صلى الله عليه وسلم في عالم الوجود، وإنا لنرجو أن يتخذ هذا اليوم العظيم يوم عيد شامل على أهل المسكونة أجمعين، وأن يوقف لتبليغ الناس للتأسي بالأسوة الحسنة، وأن يكون مركز اتجاه العالم بأنظاره نحو تلك الذات الطاهرة لا غير، أن يرى لواء {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (الشرح: 4) مرفوعًا فوق ربوع الأرض كافة، وأن تظهر عيانًا وبأجلى المظاهر صفته صلى الله عليه وسلم بأنه رحمة للعالمين. برنامج هذا اليوم كما يلي: (1) أن يقوم المسلمون وغير المسلمين في كل بقاع الأرض بإظهار شأنه صلى الله عليه وسلم بإقامة احتفالات عامة ومواكب فخمة، تذكارًا لذلك اليوم. (2) أن ينشر مطبوعًا في اليوم المذكور من كل سنة خطاب أو محاضرة لأي فاضل من الأفاضل، سواء أكان مسلمًا أم غير مسلم، يتضمن السيرة النبوية، على أن يترجم إلى لغات العالم أجمع. (3) أن تلقى هذه النشرة الآنفة الذكر كمحاضرة في الاحتفالات في ذلك اليوم، وأن تترجم وتوزع في كل بلدة مجانًا بكثرة؛ ليقف العالم كله في آن واحد على جانب من سيرة حياته صلى الله عليه وسلم. إن السعي الذي بذل منذ ثلاث سنوات حتى الآن قد أتى بخير ثمر حيث أقيم في مئات من المدن مراكز تبليغية للحياة النبوية، وقد ترجمت السيرة النبوية بفضل جهود هذه المراكز إلى سبع عشرة لغة، كما أنه في كل سنة يُقام ما يزيد على خمسين ألف اجتماع، وتوزع بمختلف اللغات الآلاف، لا بل مئات الألوف من المحاضرات المطبوعة مجانًا على المسلمين وغير المسلمين. إنا لنرجو من إخواننا المسلمين ومن لجانهم الموقرة، ومن صحفهم الغراء أن يسعى كل في بلاده لإنجاح هذا السعي الخيري الإنساني ولرفع مناره، وأن يؤسسوا لجانًا لتعميم نشر السيرة النبوية باذلين ما في وسعهم لتنظيم الاحتفالات المذكورة جادين وراء التبليغ، كما أننا لعلى يقين من هممهم القعساء أن يترجموا - كل إلى لغته القومية - سيرة الحياة النبوية وأن يوزعوها مجانًا. إننا مفتقرون إلى معونة كل فرد من إخواننا المسلمين في كل أقطار الأرض لإنجاح هذا المسعى المقدس الجليل، وإنا لنرجو من أرباب الصحف أن ينشروا نداءنا هذا على صفحات جرائدهم الغراء، وأن يزودونا بما عندهم من الآراء الصائبة، كما أنا لنرجو من كل القراء الكرام لهذا النداء أن يتفضلوا علينا بلائحة تحوي أسماء وعناوين اللجان الإسلامية والصحف الكبيرة ومشاهير العلماء والوجهاء في بلادهم وغير ذلك من المعلومات القيمة، ولهم منا جزيل الشكر، ومن الله عظيم الأجر. إن المحاضرة التي ستلقى في يوم النبي للعام القادم 1351 سينتهي طبعها في شهر رمضان، فمن كان يود ترجمتها إلى لغته وتوزيعها سواء كان في الهند أو في خارجها فعليه أن يطلب إلينا إياها بعنواننا أدناه، على أن تكون المكاتبة بهذه اللغات: العربية والأوردية الفارسية والإنكليزية، فتقدم إليه مجانًا. ... ... ... ... ... ... ... القاضي عبد المجيد القرشي ... ... ... ... ... ... ... ... بتى (لاهور- الهند) (ملحوظة) : لقد طُبع في السنوات الثلاث التي خلت ثلاث محاضرات، وكانت محاضرة عام 1350 محاضرة كتبها الحاج اللورد هيدلي أحد مشاهير الإنكليز الذي اعتنق الإسلام حديثًا، فها أنا نرسل هذه المحاضرات مع بعض التراجم إلى أرباب الصحف الإسلامية راجين منهم إبداء آرائهم بشأنها وشأن ندائنا هذا، وأن يتكرموا علينا بنسخة من الجريدة التي تُطبع فيها ولهم منا الشكر، وكل من يرغب الحصول على هذه المحاضرات التي قد ترجمت إلى اللغات الأوردية، الكرمكية، الإنكليزية، الكجراتية، الهندية، التاملية، لا فرق أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، ترسل إليهم عند الطلب مجانًا اهـ. (المنار) هذا وإنه قد أرسل إلينا عدة نسخ من محاضرة اللورد الحاج هيدلي المذكورة وزعنا أكثرها، وجاءنا من ناموس اللجنة خطاب في الموضوع باللغة الإنكليزية يقترح علينا فيه وضع محاضرة لسنة 1351، وسننشر ترجمته بالعربية في الجزء الآتي. ((يتبع بمقال تالٍ))

المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس (2) ما تجب مراعاته في عقد المؤتمر الثاني: لا يجوز أن تتضمن المؤتمرات الإسلامية العامة التي تُعقد لمعالجة مصالح المسلمين الدينية والمدنية ما ليس موضوعًا لها من تأييد حزب على حزب، ولا شعب إسلامي على حكومته، ولا إقرار استبداد حكومة في شعبها، ولا يجوز أن يسمح لرئيس ولا زعيم أن يكون له هوى شخصي في مؤتمر إسلامي يستعلي به على خصومه في الجاه والعظمة. ولا يجوز أن يكون اختلاف الرأي بين الذين يعقدون المؤتمرات الإسلامية لإحياء هداية الإسلام وإعادة مجده ومصلحة شعوبه - سببًا للتعادي والتخاصم، وقد عرض لمؤتمر القدس الأول شيء من هذه الشوائب. التمهيد لعقد المؤتمر الثاني منوط باللجنة التنفيذية، فالواجب عليها قبل غيرها أن تراعي فيه ما ذكرنا، وإذا رجحت عقده في القدس لعدم المانع فالواجب عليها أن تسعى لعقد الصلح بين الفريقين المتنازعين في فلسطين الذين يلقبون بالمجلسيين والمعارضين، وإلا كان محاولة عقده فيها مثار فتنة قد تكون سببًا لمنع الحكومة الإنكليزية إياه إن لم يكن لديها سبب آخر للمنع. نعم إن جمهور أهل فلسطين وسورية الشمالية ولبنان الذين يعنون بأخبار السياسة المصرية يميلون إلى الوفد المصري ويحبون زعماءه؛ لأنهم يشاركونهم في احتمال الآلام من نفوذ الاستعمار الأجنبي ويعدونهم قدوة لهم في معارضته ومناهضته، وفي مقاومة كل حكومة وطنية تواتيه وترضيه، وليس من شأن المؤتمر أن ينكر عليهم رجاله هذا الميل والشعور؛ لأنه حق طبيعي لهم، ولا أن يجعلوا المؤتمر مظهرًا له فيه؛ لأنه ليس مما يعقد له المؤتمر من المصالح الإسلامية التي يجب استمالة جميع الشعوب الإسلامية وحكوماتها لمساعدتها، واتقاء سخط أحد منهم على شيء منها بقدر الطاقة، وأهمها الشعب المصري المجاهد والحكومة المصرية مهما تكن صفتها في بلدها، وكذا جلالة ملك مصر مهما يكن شكل حكومته وصفتها؛ فإن لعطف جلالته ومساعدته قيمة كبيرة لا يعدلها غيرها. وجملة القول: إنه يجب على اللجنة التنفيذية أن تعنى أشد العناية بجعل التمهيد للمؤتمر الثاني مقنعًا لجميع المسلمين بخلوه من الشوائب التي أشرنا إليها، وتجعل نصب عينيها قاعدة الأستاذ الإمام الحكيمة (ما دخلت السياسة في عمل إلا أفسدته) . جمعية الرابطة الإسلامية ومؤتمرها وناموسها: بعد كتابة ما تقدم تتمة لما نُشر في الجزء الماضي من المنار وضيق الجزء عنه شاع أن صاحب السمو الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر السابق ألَّف في جنيف (سويسرة) جمعية باسم (الرابطة الإسلامية) من موضوعها عقد مؤتمرات إسلامية دورية، ثم علمنا أن سموه جعل السيد ضياء الدين الطباطبائي الإيراني ناموسًا (سكرتيرًا) عامًّا لهذه الرابطة، وكانت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي العام الأول قد اختارت هذا السيد ناموسًا عامًّا لها، فتردد في القبول وسافر إلى أوربة واعدًا بأن يكتب إلى رئيس المؤتمر بما يستقر رأيه عليه من القبول وعدمه، فلما تبين أنه قبل العمل مع سمو الأمير عباس حلمي صار قبوله العمل في لجنة مؤتمر القدس مشكلاً، فإن كتب إلى رئيسه بالقبول وجب على الرئيس أن يستشير أعضاء اللجنة كلهم أينما كانوا في أمره؛ فإن ما بلغنا من أخبار جمعية الرابطة الإسلامية يقتضي أن يعمل هذا الناموس لإدغام اللجنة التنفيذية لمؤتمر القدس في جمعية الرابطة الإسلامية الأوربية وتفويضه أمر المؤتمر الثاني إليها بحجة اتساع دائرة أعمالها ووفور ثروتها وحرية مركزها العام، وهذا يتوقف على قرار رسمي من اللجنة التنفيذية ولا يملك المؤتمر الأول البت فيه، وهو لما يجمع اللجنة التنفيذية ولا ألَّف مكتبها، ولا ريب أنه يتعذر على السيد الطباطبائي أن يقوم بأعباء وظيفته في القدس ووظيفته في جنيف معًا. إن الأمير عباس حلمي هذا من أعظم أمراء المسلمين حنكة واختبارًا وهمة وإقدامًا، واشتهر أن له مع ذلك آمالاً شخصية في المُلك، وقد خاضت صحف الشرق والغرب في هذه الأثناء في أخبار سعيه لعرش سورية، وهذا مما يجعل عمله هذا موجبًا للظنة، وسنعقد لهذه الرابطة مقالاً خاصًّا بها. * * * نظام المؤتمر الأول وافتتاحه ومكان عقده إن المجلس الإسلامي في القدس قد قام مع اللجنة التحضيرية له بوضع النظام التام لعقد المؤتمر وتنفيذه، وأخلى له مدرسة روضة المعارف الإسلامية التابعة للمجلس فكانت كافية لذلك، ووضع فيها من الورق والأقلام والدفاتر والمحابر والكتبة والخدم - ومنهم سقاة الشاي والقهوة اليمانية الإمامية - ما لا حاجة معه إلى مزيد، وكان من التمهيد لراحة أعضاء المؤتمر والاقتصاد في نفقاتهم اتفاق المجلس الإسلامي مع أصحاب الفنادق التي ينزلون فيها على إسقاط قدر غير قليل من النفقة المعتادة عنهم، والاتفاق مع أصحاب سيارات الركاب على نقلهم من الفنادق إلى المؤتمر ومنه إليها أو إلى حيث شاءوا على حساب المجلس، بل احتمل المجلس جميع نفقة الفنادق عن بعضهم، وكان السيد محمد أمين الحسيني يعنى بكل ما يُرضي الأعضاء بقدر اجتهاده. وفد على مدينة القدس كثير من أهل المدن والقرى الفلسطينية لحضور حفلة المؤتمر، واتفق أن كان يوم الأحد 26 رجب الذي يجتمع فيه الأعضاء في مكان المؤتمر لأجل الاحتفال يومًا شديد المطر، ولولا ذلك لكانت الوفود أضعاف ما رأينا. اجتمع الأعضاء في مدرسة الروضة وقبل المغرب توجهوا إلى المسجد الأقصى بين الجماهير من مسلمي القدس ووفودها، فوجدنا المنتظرين في المسجد يُعدون بالألوف. وعندما حضرت صلاة المغرب قدَّم السيد محمد أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى الأستاذ العلامة كبير مجتهدي الشيعة في أعظم معاهدها العلمية (النجف الأشرف) الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء فصلى إمامًا بالناس، فكان لهذا التقديم تأثير عظيم ووقع حسن من أنفس أعضاء المؤتمر وغيرهم من المسلمين الذين يشعرون بشدة الضرورة إلى التأليف بين أهل السنة والشيعة، والقضاء على هذا التفرق والتعادي الذي طال عليه العهد، وكان فساده وضرره على الإسلام وشعوبه ودوله عظيمًا، ولم تكن له أدنى فائدة صحيحة لأحد من الفريقين. وبعد صلاة المغرب قرأ بعض القراء المُجوِّدين آيات من أول سورة الإسراء وتلاهم الشيخ حسن أبو السعود فقرأ رسالة في شمائل سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين وما جاء به من الإصلاح العام للبشر، ألمَّ فيها بمعجزة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلمامًا، وكان يتخلل إلقاءه استراحات ينشد فيها بعض القراء حسني الصوت أناشيد محفوظة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتادوا إنشادها في حفلات الموالد، وفي بعضها منكرات نبهت صاحب السماحة المفتي ورئيس المجلس إلى وجوب الاختصار فيها ثم إعادة النظر فيها بعد المؤتمر. وقد دعيتُ بعد أن أتم الأستاذ قراءة رسالته إلى إلقاء كلمة في معنى الإسراء وفضل المسجد الأقصى واختيار هذه الليلة الشريفة لافتتاح المؤتمر الإسلامي العام فأجبت، وألقيت ما أُلهمته على الكرسي المعد لذلك، وامتد ذلك إلى وقت العشاء، أوجزت الكلام في منقبة الإسراء إلى المسجد الأقصى وتواترها، وتقريب وقوعها إلى العقول بما أجمع عليه العلماء والفلاسفة الروحيون حتى غير المليين منهم على جواز تشكل الأرواح في أجساد لطيفة كالأثير في نفوذها من الكثائف وسرعتها كالكهرباء، وإثبات ألوف منهم وقوع هذا التشكل بالفعل، وذكرت من حكمته وتسمية هذا المكان الشريف بالمسجد الأقصى بعد خراب ما بناه سليمان عليه السلام ومحو أثره هو أن الله تعالى شرَّفه بجعله معبدًا للمسلمين إلى آخر الزمان، وجعله في المرتبة الثالثة بعد المسجد الحرام ومسجد المصطفى عليه الصلاة والسلام، وأوجب على المسلمين صيانته وحفظه إلى آخر الزمان، ولهذا اختير افتتاح هذا المؤتمر الإسلامي العام فيه وإقامته بجواره ... إلخ. وبعد صلاة العشاء بإمامة الأستاذ آل كاشف الغطاء افتتح السيد الحسيني المؤتمر بخطبته التي كان أعدها لذلك، وطُبعت وأُرسلت إلى الجرائد في البلاد المختلفة فنشرتها. وألقى بعده الأستاذ آل كاشف الغطاء محاضرة أو درسًا في تفسير قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} (النور: 35) الآية، ذهب فيه إلى أن المراد بالشجرة المباركة في الآية الكريمة آل بيت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه وعليهم، ثم خطب غيره من أعضاء المؤتمر خطبًا تناسب المقام، وقد نشر كل ذلك في الجرائد وسيدون في الكتاب الذي تقرر تأليفه ونشر اللجنة التنفيذية له في الأقطار، فلا حاجة إلى نشر شيء منه في المنار؛ وإنما ننشر خلاصة في صفة المؤتمر وجلساته ونظامه واقتراحه ولجانه، ونخص بالذكر خطتنا فيه وتقرير لجنة الدعوة والإرشاد من لجان المؤتمر، وخطبتنا التي ألقيناها في آخر يوم منه في أمراض المسلمين الداخلية والخارجية وطرق علاجها فنقول: رجال المؤتمر وجلساته ولجانه: كان في المؤتمر نفر من خواص رجال المسلمين في العلم والرأي وكل ما يحتاج إليه في عقد المؤتمرات الملية العامة، يقابلهم رهط من طبقة العوام، وأكثر أعضائه بين هذين، وبلغ المنتظمون في عضويته زهاء 150 من جميع الأقطار والشعوب الإسلامية العربية والهندية والجاوية والتركية والروسية والأوربية، وأيدته الحكومات العربية اليمانية والحجازية النجدية والعراقية والأردنية وكثير من الأمراء والزعماء والعقلاء من مصر والهند وجزائر أندونسية وغيرها. وكان نظام جلساته حسنًا لم يستطع أعداؤه الطعن فيها، إلا أن أكثر أوقاتها ضاعت بإلقاء الخطب والمناقشات العديدة مع كثرة التكرار في الموضوع الواحد والخطبة الواحدة، حتى إنني كنت شديد الزهد في الكلام فيها إلا لضرورة، وقد أشرت إلى ما انتقدته من الاقتراحات فيه في مقدمة تقرير لجنة الدعوة والإرشاد. وأما لجانه فقد بني تأليفها على أساس فاسد، وهو أنه أبيح لكل عضو أن يدخل في اللجنة التي يختار العمل فيها، فكان العضو الواحد يكتب اسمه في لجنتين أو ثلاث بحسب ما يهوى لا بحسب استعداده للعمل فيها كلها، وأن أجهل الناس من يظن أنه مستعد لكل عمل وبصير بكل علم، وقد دخل زهاء نصف الأعضاء في لجنة تنقيح القانون الأساسي للمؤتمر، فكان أكثر الكلام في جلساتها لغوًا وجدلاً باطلاً كادت تزهق له أرواح واضعي مشروع القانون وأهل العلم بهذه القوانين من الأعضاء، وسأبين ما قاسيناه في لجنة الدعوة والإرشاد. وأما لجانه فكانت ثمانًا 1- للدستور 2- للدعاية والنشر 3- للمالية والتنظيم 4- للثقافة وجامعة المسجد الأقصى 5- لسكة الحديد الحجازية 6- للأماكن المقدسة والبراق الشريف 7- للدعوة والإرشاد 8- للمقترحات. خطتنا وعملنا في المؤتمر ذكرت في الجزء الماضي أن صاحب السماحة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في القدس الذي تولى الدعوة إلى المؤتمر بمساعدة اللجنة التحضيرية له قد اقترح علي باسم اللجنة وضع تقرير في الإصلاح الإسلامي ليكون مادة لمباحث أعضاء المؤتمر، فأبدأ هذا الفصل بنشر كتابه في ذلك، وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب السماحة الأستاذ الأكبر العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم، متَّع الله المسلمين بطول بقاه. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد، فقد تلقيت بيد التعظيم

الرابطة الإسلامية الدولية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرابطة الإسلامية الدولية (جاء في جريدة صوت الشعب الفلسطينية لصاحبها الكاتب الوطني المعروف عيسى أفندي بندك بتاريخ 12 آذار (مارس) تحت هذا العنوان ما نصه) ننشر فيما يلي نظام الرابطة الإسلامية الدولية التي يشغل السيد ضياء الدين طباطبائي وظيفة السكرتير العام لها في جنيف ويشمل سمو الخديوي هذه الرابطة بنفوذه وعطفه: (1) اسمها، مركزها، أغراضها، ووسائل عملها (المادة الأولى) أسست وفقًا للمادة ستين وما يليها من مواد القانون العام المدني السويسري جماعة اسمها (الرابطة الإسلامية الدولية) ومركزها العام مدينة جنيف. (المادة الثاني) ترمي هذه الرابطة على وجه الخصوص إلى ما يأتي: أولاً: العمل على استدامة الوئام بين مختلف عناصر العالم الإسلامي. ثانيًا: إنشاء مركز تعاون فكري بين علماء الإسلام وجامعاته ومعاهده. ثالثًا: السهر على الاحتفاظ بأوضاع الطوائف الإسلامية حيثما توجد. رابعًا: إعانة أعمال البر والمؤسسات الاجتماعية الإسلامية. خامسًا: إطلاع غير المسلمين على الأصول الصحيحة لعلوم الإسلام ومذاهبه ورفع الهجمات غير المبررة التي توجه إليها، والوصول عن هذا الطريق إلى توثيق العلاقات بين الشرق والغرب. (المادة الثالثة) تعمل الرابطة بوسائل إذاعة النشرات، وعقد الاجتماعات، وتقديم الآراء، وإسداء النصائح، وذلك كله في الحدود التي ترسمها القوانين الأهلية في كل دولة. (2) أعضاء الرابطة (المادة الرابعة) يقبل عضوًا في الرابطة كل مسلم كامل الأهلية تزيد سنه عن الواحدة والعشرين من غير تمييز للجنس أو اللغة أو المذهب متى قبل قوانين الرابطة وتعهد باحترام لوائح أنظمتها المختلفة، وبتسديد قيمة اشتراكه في الميعاد. (المادة الخامسة) أعضاء الرابطة على سبعة أنواع: أعضاء شرف، ومحسنون، ومتبرعون، ومؤسسون، وعاديون، وجماعيون، ومنتسبون. (أ) فأعضاء الشرف هم الملوك ورؤساء الدول المسلمون، وكذلك عظماء رجالات الإسلام، الذين يؤدون للرابطة خدمات أدبية أو مادية يقدرها مجلس الرابطة الأعلى. (ب) والأعضاء المحسنون هم الذين يهبون الرابطة هبة أو يوصون لها بوصية تزيد قيمة أيتهما على عشرة آلاف فرنك سويسري. (ج) والأعضاء المتبرعون الذين يساهمون في ميزانية الرابطة بمبلغ سنوي تزيد قيمته على مائة فرنك سويسري. (د) والأعضاء المؤسسون هم الذين اشتركوا في تكوين الرابطة بمدينة جنيف، في اليوم الخامس عشر من شهر نوفمبر لسنة 1931. (هـ) والأعضاء العاديون هم المسلمون الذين يستوفون شرائط المادة الرابعة من هذا القانون الأساسي وتصادق اللجنة التنفيذية على طلبات الانضمام التي يقدمونها إليها. (و) والأعضاء الجماعيون هم الأحلاف التي تؤسس في عواصم بلاد أوربا والعالم الإسلامي مع ما يكون لها من فروع في هذه البلاد المختلفة، وتديرها لجان أهلية تقرر طريقة تأليفها في قوانين الأحلاف التي يجب تصديق المجلس الأعلى عليه قبل نفاذها. وتنظر هذه اللجان الأهلية على وجه الخصوص في أمر قبول الأعضاء المنتسبين، وتسهر على تحصيل الاشتراكات وإرسال عشر قيمتها إلى المجلس الأعلى وتقف هذا المجلس على حالة الطائفة الإسلامية في بلادها، وتنفذ قراراته في حدودها، كما تفصل بصفة ابتدائية في الخلافات التي تنشأ بين الفروع التابعة لها. (ز) والأعضاء المنتسبون هم الذين ينتمون إلى حلف من أحلاف الرابطة ويدفعون له اشتراكًا سنويًّا تُعادل قيمته خمسة فرنكات سويسرية. (المادة السادسة) أعضاء الرابطة العاملون هم المؤسسون والمنتسبون والمتبرعون الذين يطلبون ذلك. (3) نظام الرابطة أنظمة الرابطة هي: (أ) المؤتمر العالمي الإسلامي. (ب) المجلس الأعلى. (ج) اللجنة التنفيذية. المؤتمر العالمي الإسلامي: (المادة السابعة) يؤلف المؤتمر العالمي الإسلامي من الأعضاء المؤسيسن، ومن الأعضاء المتبرعين العاملين، ومن مندوبين عن الأحلاف، يمثل الواحد منهم ألف عضو منتسب، وينعقد المؤتمر بهيئة جمعية عادية مرة في كل ثلاث سنين وبهيئة جمعية عامة فوق العادة كلما وجد المجلس الأعلى ضرورة لذلك. ويرسل المجلس الأعلى الدعوات لعقد الجمعية العامة العادية قبل موعد الانعقاد بستة أشهر على الأقل، ولعقد الجمعية العامة فوق العادة قبل موعد انعقادها بشهر واحد على الأقل. المجلس الأعلى: (المادة الثامنة) يدير الرابطة مجلس أعلى مؤلف من الأعضاء المؤسسين وخمسة أعضاء ينتخبهم المؤتمر العالمي الإسلامي بين المرشحين الذين يقدم كل حلف اثنين منهم، ويكون انتخابهم لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد. (المادة التاسعة) يجب على المرشح لعضوية المجلس الأعلى أن تكون سنه قد جاوزت الأربعين، وأن يكون قد أمضى أكثر من سنتين عضوًا في لجنة أهلية. (المادة العاشرة) يجتمع المجلس الأعلى كل ثلاثة أشهر مرة على الأقل، ولا تكون قراراته صحيحة إلا بحضور خمسة من أعضائه على الأقل. (المادة الحادية عشرة) يدعو المجلس الأعلى إلى اجتماع مندوبين عن الأحلاف بواقع واحد عن كل حلف مرة في كل عام قصد التشاور وتبادل الرأي. (المادة الثانية عشرة) يختص المجلس الأعلى بالفصل بصفة نهائية فيما ينشأ من خلاف بين حلف وحلف آخر، كما يختص بالنظر استئنافيًّا بناء على طلب أحد الأطراف ذات الشأن في الأحكام الصادرة في الخلافات بين الفروع. (المادة الثالثة عشرة) يرفع المجلس الأعلى إلى المؤتمر العالمي المنعقد بهيئة جمعية عامة عادية تقريرًا عامًّا عن سير أعمال الرابطة وإدارة أموالها. اللجنة التنفيذية: (المادة الرابعة عشرة) يختار المجلس الأعلى بين أعضائه رئيس الرابطة ووكيلها وسكرتيرها العام وأمين صندوقها الذين يكونون لجنتها التنفيذية. (المادة الخامسة عشرة) رئيس الرابطة هو في الوقت نفسه رئيس المجلس الأعلى واللجنة التنفيذية والمؤتمر الإسلامي العام. (المادة السادسة عشرة) يجدد المجلس الأعلى اختصاص اللجنة التنفيذية والسكرتير العام وأمين الصندوق في لائحته الداخلية التي تشمل كذلك أحكامًا خاصة بالنشرة الرسمية للرابطة وبمفتشيها الزائرين. (المادة السابعة عشرة) تجتمع اللجنة التنفيذية مرة في كل شهر، ولا تكون قراراتها صحيحة إلا بحضور اثنين على الأقل من أعضائها. (4) أموال الرابطة (المادة الثامنة عشرة) تتكون إيرادات الرابطة التي يعهد بإدارتها إلى المجلس الأعلى من هبات أعضاء الشرف والأعضاء المحسنين ووصاياهم ومن مساهمات الأعضاء المتبرعين، واشتراكات الأعضاء العاديين، وعشر اشتراكات الأعضاء المنتسبين. أما الأحلاف فيستقل كل واحد منها بإدارة إيراداته المكونة فقط من تسعة أعشار اشتراكات الأعضاء المنتمين إليه. وقيمة الاشتراك السنوي للأعضاء العاديين خمسة فرنكات سويسرية تدفع في مركز الرابطة العام اهـ. رأي المنار في هذه الجمعية وفي سمو مؤسسها إن موضوع هذه الجمعية لعظيم جدًّا، وإن هذا الهيكل العظمي لنظامها لكبير جدًّا، وإن حاجة العالم الإسلامي إليها لشديدة جدًّا، وإن همة مؤسسها الأمير الكبير عباس حلمي خديو مصر السابق لكبيرة، وإن إرادته لقوية، وإن ثروته لواسعة؛ وإنما يتوقف نجاح هذا العمل العظيم مع استخدام هذه القوى الثلاث على طائفة من الرجال العظام؛ وإنما أعني العظام بعقولهم وقلوبهم وأخلاقهم وعلومهم وأعمالهم وإخلاصهم وحريتهم واستقلالهم، لا بألقابهم. يوجد في بلاد الإسلام المتفرقة أفراد من هؤلاء الرجال، لا يعوزهم للقيام بمثل هذا المشروع العظيم إلا القوة والمال، وأغنياء المسلمين أولو المال كلهم أو جلهم أغبياء أو بخلاء، وأمراؤهم أولو القوة والنفوذ كلهم أو جلهم مستبدون أو جهلاء، فهم لا يعرفون أقدار عقلاء المصلحين ولا يقدرون على الاتفاق معهم؛ لأنهم يريدون استخدامهم لأشخاصهم لا لأمتهم، ويحاولون تسخيرهم لأهوائهم دون العمل بمقتضى عقيدتهم، والرجل المصلح المخلص لا يتبع في عمله هوى نفسه، فكيف يتبع هوى غيره؟ ولا أعرف أحدًا من أمراء المسلمين قد جرب الناس وخبرهم كالأمير عباس هذا، ذلك بأنه كان في عهد إمارته قليل التحجب والترفع، كثير المقابلة للناس من الطبقات العليا والوسطى، واسع الحرية في محادثتهم، وقد تدلى عن أفق الإمارة والمُلك إلى معاداة رجال من خواص أمته واتخاذهم خصومًا، ثم ارتقى إلى مقامه اللائق به فأدنى الباقين منهم واتخذ منهم أولياء وأنصارًا، وقد رأى كثيرًا من الناس الذين يتبعون هواه، ويبيعون دينهم بدنياه، لا حبًّا فيه بل حبًّا لأنفسهم، وتوسلاً به إلى شهواتهم، ورأى قليلاً من الناس لا يعملون إلا لأمتهم، ولا يؤثرون أحدًا على ملتهم، فلا يلفتهم المال ولا الجاه أقل لفتة عن عقيدتهم، ورأى أن قليل هؤلاء الصادقين، خير من كثير أولئك المنافقين، وأن جميع علماء الأزهر ما كانوا يغنون غناء الشيخ محمد عبده، وأن جميع رجال بطانته وحاشيته لا يبلون بلاء حسن عاصم باشا وحده، فماذا كان مبلغ استفادة سموه من هذه التجارب، هذا ما لا أعلمه. ولكنني كنت ممن عاداهم ثم أدناهم، وقد وعدني بالمساعدة على ما أقوم به من الإصلاح الإسلامي إلى مدى بعيد، وشرع في الوفاء فحالت الحرب العالمية دون استمرار العمل الذي بدأت به بمساعدته - وهو مدرسة الدعوة والإرشاد - وكان من مقاصده فيه الاتفاق مع الدولة العثمانية على مثله وما هو أوسع منه بعد وقوع ما كان يتوقعه من شعور رجالها بخطئهم في عدم تنفيذهم لمشروع الدعوة والإرشاد في الآستانة، ولا أدري ما كان يرمي إليه من وراء ذلك الاتفاق وما ظننت إلا خيرًا. وأقول الآن: لو كان معه في مؤسسي هذه الرابطة الإسلامية رجلان كالشيخ محمد عبده وحسن باشا عاصم، في بصريتهما واستقلال عقولهما وإرادتهما وإخلاصهما لرجوت له الفوز والنجاح فيها، إذا هو أعطاهما حقهما في استقلالهما وحريتهما، وقنعا بالعمل معه لخدمة الإسلام بالذات، وخدمته هو بالتبع لخدمة الإسلام؛ وإنما اقتصرت على ذكر رجلين اثنين في هذا المثل لأنه ذكر في المادة السابعة عشرة من قانون رابطته أن اللجنة التنفيذية لمجلسها الأعلى تنعقد بحضور اثنين من أعضائها، وتكون قراراتها صحيحة، وهذا مما ينتقد من مواد هذا القانون؛ ولكن عبقريي الرجال يغني قليلهم عن كثير غيرهم إن وجدوا، ولا يفري فريهم ألوف الدهماء إن فقدوا. وأريد بهذا المثل أن مثل هذا العمل لا يمكن أن ينهض به إلا كبار رجال الإصلاح العالمين بأمراض العالم الإسلامي العارفين بطرق علاجها، الذين يهمهم أمر أمتهم أكثر مما يهمهم أمر أنفسهم وأهليهم وأولادهم، فإن كان الأعضاء المؤسسون لهذه الرابطة مع سموه في جنيف (سويسرة) من هذه الطبقة؛ فإن ذكر أسمائهم في ذيل قانون الرابطة أعظم تأثيرًا في العالم الإسلامي من جميع مواده الواسعة النطاق، المحيطة بالآفاق، ولكن أنى له برجال من هذه الطبقة؟ أسس سموه هذه الرابطة في 15 نوفمبر سنة 1931 الموافق خامس رجب من هذه السنة في مدينة جنيف، ولا نعلم أنه كان فيها من رجال العالم الإسلامي الذين يصلحون للنهوض بهذا العمل إلا الأمير شكيب أرسلان، الملقب بأمير البيان، والمشهور بجهاده في خدمة الإسلام في كل مكان، وإنا نعلم علم اليقين أنه لم يكن من المؤسسين مع سموه لهذه الرابطة ولا ممن استمد رأيهم فيها، ولقد يعز على من يعرف هذا الرجل أن يثق بمشروع

أذان إبراهيم الخليل بالحج ودعاؤه لأهل الحرم بالرزق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أذان إبراهيم الخليل بالحج ودعاؤه لأهل الحرم بالرزق وما للمسلمين وعليهم من ذلك في هذا العهد قضت حكمة الله تعالى أن يجعل الركن الاجتماعي العام لدينه الإسلام في بقعة من الأرض ليس للناس هوى فيها لذاتها، فهي لا تُقصد لاعتدال هوائها، ولا لعذوبة مائها، ولا لبهجة رياضها وجنى جناتها، حتى يكون الباعث على قصدها لأداء المناسك هو التعبد المحض والإخلاص لله تعالى فيه. وكان من شرع الله في هذه المناسك إهداء الأنعام لبيت الله تعالى، وإيجاب الفدية على من أخل بشيء من واجبات الإحرام عنده، وعلى من تمتع بالعمرة إلى الحج فيه؛ لأجل توسعة الرزق على سكان حرم الله تعالى. قال الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: 26-28) . بل كان من عناية الله بأهل حرمه وجيران بيته أن أنطق خليله إبراهيم بالدعاء لهم أن يجذب إليهم قلوب الناس، وأن يرزقهم من الثمرات، وهي غاية نعمة الرزق والرفاهة، قال تعالى:] وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [قال - أي الله تعالى - {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ المَصِيرُ} (البقرة: 126) فوعد تعالى بأن يرزق من كفر منهم وجحد نعمه بالرزق من الثمرات في الدنيا؛ وإنما يكون جزاؤه على الكفر في الآخرة لا بحرمان الرزق في الدنيا، وقال تعالى فيما قصه علينا من دعائه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: 37) . استجاب الله تعالى دعاء خليله لأهل حرمه في كل زمان، فسخَّر لهم القلوب تهوي إليهم من كل مكان، وتتقرب إليه تعالى بإدرار الرزق عليهم، أجورًا لدورهم، وجزاء على خدمتهم، وصدقة على فقرائهم، وهدايا لأغنيائهم، إذ علموا أن هذه التوسعة عليهم من متممات نسكهم، وموجبات رضوان ربهم، حتى أن الله تعالى سخَّر لهم في عهد الحرب العامة دولتي إنكلترة وفرنسة تحمل الحجاج إليهم من المشرق والمغرب مع الإنفاق على هؤلاء الحجاج، وسخَّر الأولى لحمل الأرزاق لهم من الهند. وقد وفَّق الله تعالى أغنياء هذه الأمة المحمدية فوقفوا على حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى من الأطيان والبساتين والعقار في جميع الأقطار، مما لو حفظ كله أو جله وصرف ريعه في عمران المسجدين وما جعله الشرع حرمًا لكل منهما، وفي التوسعة على سكانهما - لكان الحَرَمان الشريفان أعظم بلاد الله تعالى عمرانًا، ولكان أهلهما أوسع عباد الله تعالى رزقًا وأبسطهم عيشًا، بحيث لا تنال منهم أمثال العسرة العالمية الحاضرة شيئًا. ولكن الفاسقين من الأفراد والظالمين من الحكام قد جعلوا كثيرًا من تلك الأوقاف ملكًا، وطمسوا معالمها طمسًا، على أن ما بقي منها معروفًا إلى الآن كافٍ لعمران الحجاز كله، وترفيه معيشة أهله، بل إن المعروف من أوقاف الحرمين في وزارة الأوقاف المصرية وحدها يفي بذلك، وإننا لا نجد لحكومة مصر عذرًا شرعيًّا في منع الحرمين الشريفين حقهما من أوقافهما والتصرف فيها بغير ما وقفت عليه. هل يصح أن يكون منع ملك الحجاز استمرار بدعة المحمل المنكرة الخرافية سببًا شرعيًّا لحرمان الحرمين وسكانهما من ريع هذه الأوقاف؟ هذا ما لا يقول به مسلم يعرف الإسلام، ولو لم يكن المحمل بدعة مشتملة على كثير من المنكرات الشرعية التي صرَّح الفقهاء بتحريم الاحتفال به، والتفرج بالنظر إليه - فكيف يكون التعبد والتبرك به وجعله من قبيل مناسك الحج؟ هل يصح أن يكون عدم اعتراف الحكومة المصرية بحكومة الحجاز الحاضرة عذرًا شرعيًّا لهذا المنع والحرمان؟ كلا إن هذا ذنب وذلك ذنب؛ ولكن بعض رجال الحكومة المصرية يلبسون الشرع بالسياسة كما اعتذر المرحوم عبد الخالق ثروت باشا عن عدم إرسال كسوة الكعبة المشرفة باحتمال رد الوهابية لها بادعاء أنها بدعة كالمحمل، قال هذا في جواب البرلمان وقبله منه البرلمان مع علمه وعلم أعضاء البرلمان أن الملك ابن السعود قبل الكسوة السابقة ووعد بقبول اللاحقة التي لم تُرسل، ومع علم الجميع بأن المحمل بدعة ابتدعته شجرة الدر، وأن كسوة الكعبة مشروعة مجمع عليها بين المسلمين، وقد صنعها ابن السعود بعد منع مصر لها، فاستأثر بهذا الشرف من دونها. وقد بلغنا عن بعض رجال الحكومة أنهم يعتذرون عن منع مخصصات الحجاز السنوية من مال وغلال وهي دون حق الحجاز أن ناظر أوقاف مصر لا يأمن حكومة الحجاز على وضعها في مواضعها، ويتعذر على وزارة الأوقاف توليها لتوزيعها وإشرافها عليه ومراقبتها له، وهذه التعليلات غير صحيحة، ولو صحت لما صلحت أن تكون سببًا لمنع هذه الحقوق أهلها، فحكومة الحجاز أمينة ويمكنها إثبات توزيع ما يُرسل إليها على مستحقيه، وهي لا تمنع عمال وزارة الأوقاف عن توزيع ما تشاء من المال إذا لم يكن بصفة تتضمن الطعن بأمانتها، ولو فرضنا أن الذين يتولون توزيعها يخونون بأكل شيء منها لما كان هذا مبيحًا لمنعها كلها عن جميع مستحقيها، وقد يكون هؤلاء الخونة المفروض وجودهم منهم. ما لنا وللأعذار السياسية، والسياسة ما زالت تُلبس الحق بالباطل، وتكتم الحق الصريح على علم بأنه الحق، نحن الآن أمام خطب عظيم يجب فيه تحكيم الرحمة التي هي فوق الحقوق الرسمية، والمماراة السياسية. إن جيران الله وجيران رسوله محتاجون، وقد تكون العسرة العامة أشد عليهم من غيرهم، وإن حقوقهم على المسلمين كافة أكبر من حقوق غيرهم من إخوانهم في الدين، فعلى المسلمين في جملتهم أن يتقربوا إلى الله تعالى بتوفير ما امتن به على سكان حرمه من إغداق الرزق عليهم حتى احتج على المشركين منهم بقوله: {أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا} (القصص: 57) . وعلى المسلمين أن يتقربوا إليه عز وجل بأن يكونوا مظهرًا محققًا لدعاء خليله إبراهيم بسعة هذا الرزق عليهم، ولدعاء محمد رسول الله وخاتم النبيين بالدعاء لأهل حرمه أيضًا. والذي أقترحه على خيار المسلمين في هذه العسرة أن يقبل المستطيعون على الحج، ويكون الذين يوفقهم الله تعالى لأدائه أسخياء، يبسطون أيديهم بالعطاء للمطوفين والمزورين والخدم، وبالصدقات على الفقراء؛ فإن ثواب المناسك في هذا العام مضاعف، وثواب جميع النفقات في الحرمين مضاعف، وليذكروا فيه حجة الوداع لمن هداهم الله تعالى إلى هذه السعادة برسالته، وشرَّفهم بجعلهم من أمته، صلى الله عليه وآله وصحابته، وأنه أهدى في حجته هذه إلى بيت الله تعالى مائة بدنة (جمل) نحر بيده الشريفة منها في منى ثلاثًا وستين (وهي عدد سني عمره الشريف) وأمر ربيبه عليًّا كرم الله وجهه فنحر الباقي. وليحذر كل مسلم من فتنة بعض المضلين والملحدين الذين يصدونهم عن التوسع في النفقة في الحرمين الشريفين ويغرونهم بالمشاحة والمماكسة فيها، ويصفون جيران الله ورسوله بالطمع في أموال الحجاج، حتى صار المفتونون بأقوالهم يعدون كل ما يقرِّب إلى الله تعالى من النفقة هنالك مغرمًا من المغارم، وإن كانوا يسرفون في سائر النفقات حتى المكروهة والمحرَّمة منها في بلادهم ولا سيما أماكن اللهو والفسق الخاصة بالأجانب، دع إسراف الفساق في بلاد الإفرنج، وإني لأخشى على صاحب هذا الشعور أن يكون حجه غير مبرور، وسعيه غير مشكور وأن يكون بهذا مأزورًا غير مأجور. بل أحدث أعداء الإسلام من الأجانب ومن ملاحدة أهل دينه دعاية أخرى شرًّا من هذه وهي ترك الحج لما فيه من إضاعة ثروة الوطن في بلاد العرب، وهذا ضرب من الدعاية إلى ترك الإسلام من أهله؛ وإنما المسلم من يفضل النفقة في الحرمين الشريفين على النفقة في وطنه تقربًا إلى الله تعالى، وقد صار أكثر الحجاج من الفقراء الذين يزاحمون أهل الحرمين في رزقهم. أخبرني الشيخ الرحالة عبد الرشيد إبراهيم أنه رأى مرة في البيت الحرام رجلاً من حجاج بلخ فسأله عن فائدة حجه، فأجابه بأن الله تعالى جعل بيته في هذه البقعة الجرداء، وسخَّر لأهله الناس لأجل أن يمونوهم ويدروا عليهم الأرزاق، ففائدتي أنني ممن سخَّرهم الله تعالى لما يحبه من ذلك، فهذا البلخي الأعجمي قد فهم من هذه الحكمة من حكم الحج ما لم تفهمه الألوف الكثيرة من المسلمين. وأختم هذه الذكرى بمخاطبة مولانا صاحب الجلالة ملك مصر بسم الله وبما تقدم من آيات كتابه وسنة خليله إبراهيم، وحبيبه محمد صلوات الله وسلامه عليهما، أن يصدر أمره لوزارة الأوقاف بإرسال جميع مخصصات الحرمين المتأخرة إليهما في هذا العام؛ فإنه يكون بحسن النية أكبر أجرًا من جميع الحجاج فيما ينفقون فيه، وإن لم يبذل من ماله الخاص شيئًا، ويكون له أعلى الذكر وأرفع الشرف والحمد في جميع العالم، وترفع في بيت الله ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر مشاعر الحج أصوات البائسين وغيرهم بالدعاء المرجو الإجابة له ولولي عهده و {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ} (التوبة: 120) .

مجلة الأزهر والأستاذ المراغي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مجلة الأزهر والأستاذ المراغي في أثناء انشغال الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي بوضع قانون الأزهر الجديد كان يذاكر أهل العلم والرأي من أصدقائه في موضوعه ومناهج التعليم في الكليات التي ستنشأ فيه، وقد أفضى الحديث بيني وبينه في ذلك إلى اقتراحه عليَّ أن أكتب له مذكرة في موضوع المجلة التي تقرر في القانون الجديد إنشاء إدارة المعاهد الدينية لها، وفي موضوع درس الفقه في كلية الشريعة بعد حديث طويل دار بيننا في الموضوعات ففعلت، ثم قضى الله تعالى أن يستقيل من منصب المشيخة ورياسة المعاهد، وصدرت المجلة بعد ذلك فقرَّظتُها في المنار، ونصحت لها بما أرجو أن يكون نافعًا مفيدًا؛ ولكن خاب أملي وآمال كل من أعرف من أهل الرأي وطلاب الإصلاح الإسلامي فيها، كما بينت ذلك في الجزء (10 م 31) من المنار، وقد قرأت في جريدة الأهرام في الشهر الماضي أن شيخ الأزهر ألَّف - أو يؤلِّف - لجنة لوضع تقرير فيما تراه من الإصلاح وترقية هذه المجلة (نور الإسلام) فتذكرت ما كنت كتبته للشيخ المراغي وأحببت نشره في المنار لما فيه من التنويه بمقاصد الأستاذ المراغي العالية في الإصلاح والتمهيد، وعسى أن يكون مساعدًا للمجلة على عملها، أو مذكرًا لها بشيء يفوتها، وها هو ذا: مذكرة صاحب المنار للأستاذ الأفضل الشيخ محمد مصطفى المراغي بسم الله الرحمن الرحيم مولانا الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر ورئيس المعاهد الدينية: رغبتَ إليَّ أيدك الله أن أكاشفك برأيي في صفة التدريس في كليات الأزهر المعمور التي ستنشأ - إن شاء الله تعالى - في أول السنة الدراسية من هذا العام ولا سيما دراسة العلوم الجديدة فيها، وأن أذكر لك من أعرف من العلماء الذين يصلحون لتدريس هذه العلوم، ورأيتك غير متقيد بكون هؤلاء العلماء مصريي الجنس، ولا من الحاملين لشهادة مدرسية رسمية، واستحسنت أن أعجل إليك بكتابة ما أراه في صفة تدريس الفقه خاصة، وبكتابة ما أراه في نظام مجلة الأزهر التي تقرر إصدارها منسوبة إليه، والمواد التي تتألف منها أبوابها..... إلخ ما تفضلتم بمشافهتي به. أكبرت هذه المشاورة من فضيلتكم، على ما أعلم وأعهد من عادتكم وشنشنتكم فيها، وإنها لآية بينة على ما آتاكم الله تعالى من نور البصيرة، وسعة العلم، وبعد الرأي، والتأسي برسول الله صلوات الله وسلامه عليه وآله في امتثاله لأمر الله عز وجل في قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) . وإنني أرى أن امتثال أمركم هذا - وكذا كل ما هو بمعناه - واجب علي شرعًا بما أمر الله تعالى من التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق، والأمر بالمعروف، وبما صح من قول رسوله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم من حديث تميم الداري، وفي حديث أبي هريرة المرفوع في حقوق المسلم الست (وإذا استنصحك فانصح له) رواه مسلم أيضًا. مجلة الأزهر أعيد في هذه المذكرة الوجيزة ما قلته في حديثنا من وجوب العناية التامة بالمجلة من أول الأمر، وبذل الجهد في إتقان تحريرها، وحسن الاختيار لموادها؛ فإنها هي المرآة التي تتجلى فيها صورة عهد الإصلاح الجديد، في هذا العهد الإسلامي التليد، لجميع العالم الإنساني، ولاسيما العالم الإسلامي، الذي يجب أن تكون هذه المجلة مدرسة كلية سيارة له، تهديه إلى كل ما يجب عليه في أمري دينه ودنياه، وبها يحكمون للأزهر ومشيخته ورئيسه أو يحكمون عليه وعليهم، وسيكون هذا الحكم قطعيًّا لا يقبل استئنافًا ولا نقضًا، وليس لشيء من دروس كليات الأزهر مثل هذا الشأن لعدم اطلاع العالم عليها؛ ولأن المعهود في مثلها أن يبدأ ناقصًا ويرقى في معارج الكمال بالتدريج، وأما هذه المجلة فيجب أن تكون من أول يوم في أعلى درجات الكمال المستطاع أو يصرف النظر عنها. إن كثيرًا من الكتاب وعلماء اللغة وعلماء الدين والمؤرخين والسياسيين وغيرهم من البارعين في العلوم المختلفة والفنون سينظرون إلى هذه المجلة بعيني النقد القويتي الأشعة، لما لها من الصفة الرسمية، ولما يتوقع أن يكون لها من التأثير في العالم الإسلامي ومنهم المنصف وغير المنصف، فيجب أن يحسب رئيس تحريرها لذلك كل حساب، ويعلم أن حرية القول فيها يجب أن تكون دون حرية صحف الشركات وصحف الأفراد، وأن يعنى باتقاء الاستهداف لسهام الأقلام وأسنَّتها أولاً، وبإعداد المِجانِّ الصادَّة لها ثانيًا، ثم بمداواة كلومها بعد الإصابة ثالثًا، ولا سيما إذا كان الانتقاد موجهًا إليها من بعض الدول الأجنبية أو من بعض صحفها أو رجال سياستها أو علمائها. فأول ما يجب أن يهتم به اختيار لجنة التحرير، وأن توزع مواد أبوابها على الإخصائيين في كل باب، وأن تكون العناية باختيار رئيسها أشد، وأول ما يشترط فيه أن يكون له معرفة واسعة بحال العصر، وبما أشرنا إليه في أول هذه الجُملة من مواضع النقد، فإن لم يتيسر وجود من يثق به في هذا، فينبغي أن يكون للتحرير مراقب أو مستشار، وإن لم يكونا من المحررين الموظفين، وقد يوجد من فيه الكفاية لذلك من أساتذة بعض الكليات. وإذا يسر الله تعالى اختيار ثلاثة رجال لرياسة التحرير ولمراقبته وللإدارة العامة فيهم الغناء والكفاية؛ فإنهم يغنون مولانا الأستاذ الأكبر عن وضع هذا الداعي للتقرير المفصل الذي كاشفني برغبته فيه، ولا أضن بوقتي عليهم إذا أحبوا استشارتي في عملهم، فإن ظل - بعد الاطلاع على هذه المذكرة الوجيزة - على رأيه في وضعي للتقرير، لم يجدني إلا صادعًا بأمره مهما يكن فيه من بذل للوقت قلما أجود بمثله على أعمالي الإدارية. أبواب المجلة أهم أبواب هذه المجلة فيما أرى سبعة: (الباب الأول) باب المقالات الدينية والعلمية والتاريخية والخطابية، ويجب أن يكون الغرض الأول منها بيان حقيقة الإسلام وحقائقه، وإصلاحها لشؤون البشر الشخصية والمنزلية والقومية، والوطنية والسياسية، ورفع مستوى الإنسانية، وتوحيد مقومات الأمم، وبيان حاجة البشر إلى إصلاحه في كل زمان ومكان، ولا سيما هذا الزمان الذي طغت فيه الأفكار المادية والشهوات على الأمم فأفسدت آدابها، وعلى الدول فحصرت كل منها همها في الاستعداد للوثوب على التي تأنس فيها الضعف منها، وحل التنازع في مرافق الحياة محل التعاون عليها. (الباب الثاني) باب الفتاوى العامة الذي يفتح لكل طارق له من مشارق الأرض ومغاربها فيما يتعلق بعقائد الإسلام وآدابه وحكمه وأحكامه وتشريعه وسياسته، فمن سأل عن حكم في مذهب معين أجيب بالمعتمد في ذلك المذهب، ومن أطلق السؤال أجيب بما يقتضيه الاستقلال في الاستدلال (كما يعهد مولانا الأستاذ وغيره في فتاوى المنار) . (الباب الثالث) باب كشف الشبهات، وحل عقد المشكلات، التي تعرض لطلاب العلوم وغيرهم بالاطلاع على كتب العلوم والفلسفة والأديان المختلفة، وما يورده الملاحدة الماديون ودعاة النصرانية وغيرها من الطعن في الإسلام، وما يستشكله قراء كتب التفسير والحديث والفقه منها وغير ذلك، والغرض الأهم من هذا الباب مقاومة تيار الإلحاد الذي انتشر وباؤه في البلاد، فكاد يعمها الفساد. (الباب الرابع) باب البدع والخرافات، وانتقاد المنار من العادات ويجوز التعبير عنه بباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وينبغي لمحرري هذا الباب أن لا يكتفوا بما سبقهم إليه العلماء الذين عنوا بالتصنيف فيه ككتب الملل والنِّحَل، ومثل الاعتصام والمدخل، بل يجب أن يستقرءوا ما ابتُدِعَ بعدهم وما لا يزال يُسْتَحْدَث في كل عصر ولا سيما عصرنا هذا. (الباب الخامس) باب التربية والتعليم، وأعني بالتربية ما يشمل جميع موضوعاتها ومواضعها، فمن الأولى التربية الدينية والجسمية والعقلية والنفسية، ومن أقسام العقلية تربية ملكة الاستقلال في الفهم، وحرية البحث، ومن أقسام النفسية تهذيب الأخلاق بتربية ملكات الفضائل، وتربية الإرادة التي عليها المدار الأعظم في النهوض بالأعمال الجليلة والنجاح فيها، وتربية الخيال بالأساليب المصورة للمعاني الخطابية والشعرية. وأما الثانية (وهي مواضع التربية) فأولها البيوت، وتليها المدارس على اختلاف درجاتها، فالجمعيات على تعدد أنواعها من دينية وخيرية وعلمية وفنية، ومنها ما حدث في هذا العصر من التربية البدنية المعروفة بالكشافة وكذا التربية العسكرية - فينبغي أن يدخل كل هذا وما قبله في مباحث باب التربية من هذه المجلة. (الباب السادس) باب آداب اللغة العربية وتاريخها، ولا حاجة إلى التذكير بشيء من مباحثه إلا اقتباس بعض أساليب اللغات الغربية الراقية المؤثرة. (الباب السابع) باب الاقتباس والانتقاد، وتقريظ الكتب والصحف - نرى كل يوم في الجرائد والمجلات من عربية وغربية وفي الكتب التي تنشر بالطبع مباحث نافعة للقراء مما يؤيد هداية الدين، ومصالح الأمة، فيحسن اقتباس المهم منها في المجلة، فإن من الناس من تؤثر في نفسه هذه المباحث ما لا يؤثر غيرها ولا سيما إذا كانت مسندة إلى كبار العلماء والكتاب من رجال الغرب. ونرى فيها مباحث أخرى باطلة ومضلة فيجب على المجلة انتقاد ما يُخْشَى ضررُهُ منها في الدين والدنيا بعبارات نزيهة حكيمة يهتدي كاتبوها بما أمر به الكتاب الحكيم من الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، فتجُبُّ بذلك ألسنة السفهاء، وتتحامى ما لا يليق بها من الجدل والمراء. اهـ

التجديد والتجدد والمجددون

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التجديد والتجدد والمجددون (تابع لما سبق من محاضرتنا في الجمعية الجغرافية الملكية) القضية الثالثة في بيان الحاجة إلى التجديد الديني والدنيوي لا يسعنا في بيان وجه الحاجة إلى التجديد الديني والدنيوي وحكم الإسلام فيهما وحثه عليهما إلا أن نبدأه بمقدمة وجيزة في جمود العلماء، وما كان له من سوء التأثير في الحكام وطلاب التجديد الدنيوي من سياسي واجتماعي، وقد ذكرت بعض الشواهد على جمود علماء مصر في الكلام على القضية الأولى [1] وإن لي في المنار مقالات كثيرة في هذا الموضوع ومباحث أخرى في تفسير القرآن الحكيم وباب الفتاوى وغيره من أبواب المنار، وإنني أستغني عن ذلك هنا بكلام لغيري، فأنقل لكم جملة من كتاب لبعض نابغي شبان المسلمين في الهند كتبه في السابع من هذا الشهر (رمضان) في السنة الماضية سنة 1348، وهو من الذين طلبوا العلم بمصر، ويقرأ الآن بعض جرائدها ويراسلها، ويتبع كل حركة عامة فيها، وهذا نص ما أريده منه: جمود علماء المسلمين في الهند قال الكاتب الهندي المصلح في زعمائهم المسلمين: نحن معشر الدعاة إلى الإصلاح والانقلاب السياسي قد وقعنا في الأيام الأخيرة في مشكلة عويصة، وهي أننا نجد أمامنا حزبين يتنازعان الزعامة في المسلمين: حزب الماديين وحزب الروحيين أو الدينيين، ونجد الأول يدعو إلى الانقلاب الاجتماعي والسياسي معًا، ونجد الثاني يدعو إلى الخرافات ويعارض كل تغيير في الحالة الحاضرة حتى إنه يخالف الانقلاب السياسي [2] . هذه الحالة في بلادنا: إننا لا نرضى بحال أن نبقى مستعبدين للإنكليز، بل نضحي بأرواحنا في سبيل الانقلاب السياسي، أي قلب الحكومة وطرد أعدائنا من بلادنا، وإننا نعادي ونقاوم كل من يكون عقبة في سبيل هذا الانقلاب السياسي، وكذلك نحن نريد تغيير الهيئة الاجتماعية الحاضرة بعض التغيير، ونريد بث الأخلاق الفاضلة والعقائد السلفية في المسلمين؛ ولكننا نرى الحزب المادي يماشينا إلى حد بعيد، ونرى الحزب الديني يعاركنا في أول خطوة؛ ولذلك ترون أننا قد وقعنا في مشكلة. نحن لا نحب الماديين؛ ولكننا نريد الاستفادة من حركتهم، ونحب الدينيين لأننا منهم؛ ولكننا لا نستطيع تأييدهم لأنهم أعداء لكل ما يرجى منه الخير حتى أنهم أعداء الإسلام الصحيح. إني أتمنى لو ترشدوني إلى الخطة الرشيدة في هذه المسألة. أنا أواظب على قراءة الجرائد المصرية وأعرف أن الماديين في مصر أناس قوالون، لا يعملون ولا يريدون أن يعملوا، ولا يعرفون كيف يعملون؛ وإنما هم يريدون الظهور بالكلام الفارغ وبمخالفة أحكام الشريعة الغراء، ولكن حالة الهند تختلف عن مصر اختلافًا كليًّا (إلى أن قال بعد وصف حالة الهند ووجه الحاجة إلى جعل حركة الانقلاب مادية ما نصه) : فالرجاء أن تبينوا لي أفكاركم العالية وتشرحوا لي ما ينبغي أن يفعله الناس مثلي وهم الذين يريدون الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي معًا [3] هذا ولا تؤاخذوني في بسط أعذاري وأفكاري؛ لأني إن لم أصرح بها لكم فمن الذي ألجأ إليه غيركم في هذه المسائل؟ اهـ المراد منه. جمود علماء المسلمين في الترك وإنني أقفي على هذا الشرح المؤثر لحالة المسلمين في الهند بكلمتين لرجلين من رجال الترك في جمود علمائهم ونفوذهم المانع من الترقي: رجل من أكبر علماء الإسلام المستنيرين، ورجل من أشهر رجال الإلحاد المجاهرين، ثم أذكر كلمة حكيم الشرق فيهم. (الرجل الأول) شيخ الإسلام موسى الكاظم رحمه الله تعالى كان يشرح لي في داره بضواحي الآستانة ما يريد وضعه من الإصلاح لحكومة اليمن، وهو جعل أحكامها كلها شرعية، وإنشاء محكمة تجارية واحدة في الحديدة تختص برؤية القضايا المتعلقة بالأجانب واليهود، فقلت له: إذا كنتم تتركون التزام مذهب الحنفية فأنا أضمن لكم أن أُخرج لكم من الشريعة الإسلامية الواسعة ما تحتاج إليه جميع السلطنة من الأحكام الموافقة لحال هذا الزمان ... إلخ، قال: أنا أعلم أن هذا ممكن ولكن ماذا تفعل بمشايخ (الفتوى خانه) ؟ يعني أن كبار الشيوخ المنوط بهم الإفتاء الرسمي للدولة عنده في باب المشيخة الإسلامية هم الذين يعارضون في ذلك، ومما علمته عنهم وعن شيخ الإسلام المقيد بهم في الفتوى أنهم لا يفتون بأحكام المجلة العدلية وهي كلها شرعية؛ لأن فيها ما يخالف القول المعتمد في مذهب الحنفية الذي عليه الفتوى في كتبها المتداولة. (الثاني) الدكتور عبد الله بك جودت صاحب مجلة اجتهاد التي كان ينشرها في مصر قبل الدستور لأنه كان مضطهدًا لا يمكنه دخول البلاد العثمانية وهو أحد المؤسسين لجمعية الاتحاد والترقي. هذا الرجل المجاهر بالإلحاد كان يساعدني في الآستانة في مشروع الدعوة والإرشاد، وقال لي: إذا نجحتم في هذا العمل وأسستم المدرسة الكلية الإسلامية، فأنا أتبرع بالتدريس فيها وأجعل دروسي الصحية والعلمية على منهجكم في الإصلاح الديني، قلت: كيف وأنت تحارب الدين؟ قال: إنما أحارب دين مشايخ الفاتح والسليمانية؛ لأنه لا يمكننا أن نرتقي مع أتباع أفكار هؤلاء، وأما الدين الإسلامي الذي يفهمه رشيد أفندي رضا والشيخ محمد عبده فهو يساعد على الترقي وتنتفع به الدولة، فأنا أول من يتمنى خدمته تحت رياستكم. (وقد بلغني بعد عودتي من الآستانة إلى مصر أنه قال لطلعت باشا وزير الداخلية وركن جمعيتهم في الحكومة: إنكم أخطأتم أن تركتم رشيد أفندي يسافر ولم تنفذوا تشبثه، أي مشروع الدعوة والإرشاد) . وقد كان لعلماء الآستانة نفوذ عظيم في الأمة والحكومة ليس لعلماء مصر منه أدنى نصيب فيحارَبوا باتهامهم بمقاومة الترقي المدني، وأين هو؟ ومتى قاوموه مقاومة عملية تخشاها الحكومة؟ وإنني لما عرضت مشروع الدعوة والإرشاد على الصدر الأعظم حسين حلمي باشا رحمه الله تعالى قال لي: هذا مشروع عظيم ضروري للدولة؛ ولكن تنفيذه عندنا يتوقف على قبول العلماء له وعلى موافقة جمعية الاتحاد والترقي، وسأكلم شيخ الإسلام ليقنع العلماء، وأكلم صادق بك ليقنع الهيئة المركزية للجمعية، وأجتهد في إقناعهما ببذل نفوذهما في ذلك، وقال لي محمود شوكت باشا رحمه الله تعالى مثل هذا القول في نفوذ علماء الترك ثم قال: إن العلماء في بلادنا (أي العراق) ليس لهم مثل هذا النفوذ ولا أدري كيف حالهم عندكم في مصر؟ كلمة السيد جمال الدين في علماء الترك وأما كلمة السيد جمال الدين التي أعنيها هنا ولها أمثال من كلامه في غيرهم من علماء المسلمين فهي ما قاله في النازلة الآتي بيانها: كان ميكادو اليابان أرسل في عهد وجوده في الآستانة كتابًا إلى السلطان عبد الحميد يخطب فيه مودته ويقول: إن كلاًّ منا ملك شرقي، ومن مصلحتنا ومصلحة شعوبنا أن نتعارف ونتواد، وتكون الصلات بيننا قوية تجاه الدول والشعوب الغربية التي تنظر إلينا بعين واحدة، وإنني أرى شعوب الإفرنج يرسلون إلى بلادنا دعاة إلى دينهم لحرية الدين عندنا، ولا أراكم تفعلون ذلك، فأنا أحب أن ترسلوا إلينا دعاة يدعون إلى دينكم (الإسلام) ويمكن أن يكون هؤلاء صلة معنوية خفية بيننا وبينكم. اهتم السلطان لهذا الكتاب وأمر بتأليف لجنة من أكبر أهل الرأي عنده في قصر يلدز للتشاور فيه، وهم شيخ الإسلام وناظر المعارف، وهما الوزيران المختصان بهذا الموضوع من الجهة الرسمية، والسيد جمال الدين الأفغاني الأخص به من كل جهة، وآخرون، فاجتمعوا لدى السلطان في قصر يلدز ودارت المذاكرة فاستحسن شيخ الإسلام ووزير المعارف تأليف بعثة من علماء مدارس الآستانة لإرسالها إلى اليابان، والسيد جمال الدين ساكت فوجه إليه السلطان النظر وسأله عن رأيه فقال ما حاصله: يا مولاي إن هؤلاء العلماء ينفرون المسلمين أنفسهم من الإسلام فكيف يُناط بهم إقناع أمثال اليابانيين بالدخول فيه؟ إنما الرأي أن يُربى طائفة من الأذكياء ويُعلَّموا تعليمًا خاصًّا يؤهلهم للقيام بهذا الواجب في هذا العصر، ويكتفي جلالة السلطان الآن بإرسال كتاب ودي إلى الميكادو مع هدية لائقة به، ويذكر له في الكتاب أن ما اقترحه قد وقع في أعلى مواقع الاستحسان، وسننظر في تنفيذه بالصفة المرضية، فكان أن عمل السلطان بهذا الرأي؛ ولكن دون تنفيذ اقتراح التعليم الخاص بالدعاة إلى الإسلام. المقصد من موضوع التجديدين: أما بعد، فقد تقدم في التجديد الديني حديث (إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) وهو نص في الموضوع بلفظه وقد بينا معناه في أول المحاضرة، وينحصر المراد بالرجوع بالدين إلى سهولته وهدايته كما كان في الصدر الأول وجمع كلمة المسلمين على ما أجمعوا عليه قبل التفرق والاختلاف، وجعل ما عدا القطعي منه مما يعذر فيه كل فرد باجتهاده، وكل مقلد باتباع المذهب أو العالم الذي وثق بعلمه، من غير تعصب يفرق الأمة الواحدة إلى شيع وفرق يعادي بعضها بعضًا، ولنا في تفصيل هذا الإجمال وبيانه مقالات كثيرة جمعنا أهمها في كتاب خاص باسم (الوحدة الإسلامية) ومن وسائل هذا التجديد إحياء اللغة العربية بالكلام والكتابة والخطابة وتأليف الكتب بالأساليب العصرية السهلة وتعميم التعليم والتربية على القواعد الفنية، ونشر الدعاية الإسلامية في العالم. وإذا كانت الأمة تحتاج إلى التجديد في إقامة أمر دينها وقد أكمله الله تعالى له وحظر عليها الابتداع فيه - فهي أحوج إلى التجديد في أمور الدنيا التي تختلف مصالحها باختلاف الزمان والمكان وعرف الناس، والشرع يراعي ذلك كله كما هو مقرر في كتب الفقه. والتجديد فيها نوعان: نوع يتعلق بالمصالح العامة وما تحتاج إليه من التشريع، وقد حث الشارع على التجديد في هذا النوع بقوله صلى الله عليه وسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء) رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله. وإن من هذه السنن العامة وضع قواعد العلوم والفنون النافعة وإنشاء المدارس والملاجئ والمستشفيات، ويستوي في هذا التجديد الأفراد والجماعات والحكومات، ومنها ما هو خاص بالحكومة كالمصالح العسكرية التي يتوقف عليها حماية البلاد وحفظ الأمة من العدوان. وأما التشريع المتعلق به فهو موكول في الإسلام إلى أولي الأمر، والجماعة المعبر عنها بأصحاب الحل والعقد، فهم يقررونه بالشورى بينهم، والاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي من وحي ربهم، ولا سنة ماضية من سنن نبيهم، بشروطه المعروفة في محلها؛ فإن الاجتهاد مع وجود النص ممنوع في الشرع وفي القوانين الوضعية جميعًا. والنوع الثاني ما هو من أمور المعايش كالزراعة والصناعة والتجارة وأمور العادات التي ليس فيها مفسدة، وقد وكله الشارع إلى تجارب الناس، وفي هذا قال صلى الله عليه وسلم (أنتم أعلم بأمر دنياكم) رواه مسلم من حديث أنس وعائشة رضي الله عنهم وقال في معناه (ما كان من أمر دينكم فإلي، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به) رواه أحمد. وجملة القول أن التجديد المشروع يشمل كل ما تعتز به الأمة والدولة من العلوم والفنون والصناعات والنظم المالية والإدارية والعسكرية والمنشآت البرية والبحرية والجوية، فكل ذلك يُعد في الإسلام من فروض الكفايات التي تأثم الأمة كلها ب

السنة والشيعة ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السنة والشيعة الاتفاق بينهما والوسيلة إليه ورأينا ورأي علامة الشيعة فيه قد علم قراء المنار ما سبق لي من السعي الحثيث منذ ثلث قرن ونيف للاتفاق والوحدة بين المسلمين بالقول والعمل والكتابة والتصنيف، وإنني أُلجئت في هذه الآونة الأخيرة إلى الرد على عالمين من علماء الشيعة لكتابين لهما كانا من أكبر أسباب التفريق والتعادي، وإن أحدهما طعن في كتابه على ديني وعقيدتي وأخلاقي ... إلخ، والثاني طلب مناظرتي مدعيًا استحالة الاتفاق والتعاون بين أهل السنة والشيعة إلا أن ترجع إحدى الفرقتين إلى مذهب الأخرى في مسائل الخلاف الأساسية. ويعلمون أنني لم أقبل الدخول في المناظرة على هذه القاعدة التي وضعها الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين إلا أن يقره عليها جمهور علماء الشيعة، وطالبتهم ببيان رأيهم في زعمه هذا، فلم يرد عليه أحد منهم، وإنني افترصت لقاء مجتهد علمائهم الأشهر في هذا العصر الأستاذ الكبير الشيخ محمد آل كاشف الغطاء في القدس أثناء عقد المؤتمر الإسلامي العام، فأطلعته على ما كتبه الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين وسألته رأيه فيه فأنكره أشد الإنكار، ووعد بإجابتي إلى استنكاره والرد عليه كتابة كما اقترحت، ليعلم ذلك من قرءوا تلك الدعوى في المنار ويقنعوا بأن أكبر علماء الشيعة يخالفونه فيه، واشترط هو أن أسأله ذلك كتابة ففعلت. وذكرت في الجزء الماضي أن الجواب قد جاء من حضرته، وأنني سأنشره في هذا الجزء؛ إذ كان ردي على الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين في الجزء الماضي في موضوع طعنه في علم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد طال حتى انتهى بي إلى آخر الجزء، وكان له بقية استغنيت عنها، وقد قلت: إن هذا الرد ليس ردًّا على الشيعة؛ وإنما هو رد على منكر علم عمر، ولم يكن لي بد منه بعد نشر تلك النظريات الباطلة، والروايات التي لا يعرف ناقلها درجتها من الضعف، وقد حمَّلها ما تتبرأ من حمله من سوء الفهم، وإنني أنشر الآن جواب الأستاذ كاشف الغطاء، وأقفي عليه بما يزيد الحقيقة كشفًا. جواب العلامة آل كاشف الغطاء عقيدة الشيعة في الاتفاق بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد في السموات والأرض لما جمعني المؤتمر الإسلامي العام المنعقد ليلة الإسراء في القدس الشريف بالعلامة الشهير، إمام السنة والحديث، الأستاذ الهمام، صاحب منار الإسلام، السيد محمد رشيد رضا نفع الله المسلمين بمنار علومه - دفع إليَّ كتابًا بخطه يتضمن السؤال عن عقيدة الشيعة في إخوانهم من أهل السنة، وأنه هل صحيح ما ربما يقال من أنه لا يمكن اتفاق الشيعة الإمامية معهم على شيء ولو كان لصالح الفريقين، إلا إذا رجعوا إلى رأي الشيعة فيما يخالفونه فيه؟ إلى أن قال دام تأييده: فأنت أيها الأستاذ أكبر مجتهدي الإمامية فيما قد اشتهر في بلادنا، وعلى قولك نعتمد ... إلخ ما كتب. ونحن نرغب إليه أن ينشر عنا في الجواب على صفحات مناره الأغر ما يلي: إن إجماع الشيعة الإمامية من سلف إلى خلف - ولعله من ضروريات مذهبهم لا يخالف فيه أحد من فضلائهم فضلاً عن علمائهم - أن من دان بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولم ينصب العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم - فهو مسلم وسبيله سبيل المؤمنين، يحرم دمه وماله وعرضه، وتحل مسادرته [*] ، ومصاهرته، ولا تحل غيبته ولا أذيته، وتلزم أخوته ومودته، أخوة جعلها الله في محكم كتابه، وعقدها في أعناق المسلمة من عباده، فأصبحتم بنعمته إخوانًا والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، وقد استفاض في السنة النبوية من طرق الفريقين أن المسلم أخو المسلم شاء أو أبى، والمسلم من المسلم كالعضو من الجسد إلى كثير من أمثال هذا. وما سُعد الإسلام وصعد إلى أعلى ذروات العز والمجد إلا يوم كان محافظًا على تلك الأخوة، وما انحط إلى أسفل دركات السقوط والذلة إلا بعد أن أضاع تلك القوة، ويشهد الله سبحانه أن ما ذكرته من عقيدة الشيعة الإمامية في إخوانهم المسلمين هو الحقيقة الراهنة التي لا محاباة فيها ولا تقية، وإن ظهر من كلام بعض العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان، ومن شاء الزيادة في اليقين فدونه الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين سلام الله عليه وهي زبور آل محمد صلى الله عليه وسلم، فلينظر في دعائه لأهل الثغور الذي يقول في أوله: اللهم صل على محمد وآل محمد، وحَصّن ثغور المسلمين بعزتك، وأيد حماتها بقوتك، وأسبغ عطاياهم من جدتك ... إلخ الدعاء على طوله، وهل يشك أحد أن حماة الثغور في عصر الإمام زين العابدين عليه السلام - أعني عصر بني أمية - كانوا من جمهور المسلمين وأكثرهم بل كلهم من السنة، والصحيفة السجادية تالية القرآن عند الإمامية في الاعتبار وصحة السند. والقصارى أني أعلن عني وعن جميع مجتهدي الشيعة الإمامية في النجف الأشرف وغيرها، أن اتفاق المسلمين واشتراكهم في السعي لصالح الإسلام والمحافظة عليه من كيد الأغيار، لم يزل ولا يزال من أهم أركان الإسلام وأعظم فرائضه وأهم وظائفه، أما النزاعات المذهبية، والنزعات الجدلية فهي عقيمة الفائدة في الدين، عظيمة الضرر على الإسلام والمسلمين، وهي أكبر آلات المستعمرين. فرجائي إلى الأستاذ صاحب المنار أن لا يعود إلى ما فرط منه كثيرًا من التحريش بالشيعة، ونشر الأبحاث والمجادلات مع بعض علماء الإمامية، والطعن المر على مذهبهم الذي لا يثمر سوى تأجيج نار الشحناء والبغضاء بين الأخوين، ولا يعود إلا ببلاء الضعف والتفرقة بين الفريقين، ونحن في أمس الحاجة اليوم إلى جمع الكلمة، وتوحيد إرادة الأمة، وإصلاح ذات البين. والأستاذ الرشيد - أرشد الله أمره - ممن يعد في طليعة المصلحين، وكبار رجال الدين، فبالحري أن يقصر (مناره الإسلامي) على الدعوة إلى الوفاق والوئام، وجمع كلمة الإسلام، ويتجافى في كل مؤلفاته - سيما في تفسيره الخطير- عن كل ما يمس كرامة، أو يثير عصبية أو حمية، أو يهيج عاطفة، وأن يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فإن ذلك أنجع وأنفع، وأعلى درجة عند الله وأرفع، وعلى هذه خطاي وخطتي، وهي ديني وديدني، عليه أحيا وعليه أموت إن شاء الله. وإليه تعالى أرغب وأبتهل في أن يجمع كلمتنا على الحق والهدى حتى نكون يدًا واحدة في نصرة هذا الدين الحنيف، إنه أرحم الراحمين. حرره في زاوية النجف الأشرف المقدسة يوم النصف من شهر رمضان المبارك سنة 1350 ... ... ... ... ... ... محمد الحسين آل كاشف الغطاء (المنار) هذا نص الجواب الموعود من سماحة العلامة الواسع الصدر، الجليل القدر، وهو على حسنه ولطفه دون ما سمعت منه بالمشافهة، ودون ما كنت أتوقع من الصراحة، جاء مجملاً ليس حزًّا في المفاصل، لم يذكر فيه كلمة الخصم الشنعاء؛ وإنما أشار إليها (بربما يقال) وحصر كلامه في رأي الشيعة الإمامية في (إخوانهم المسلمين) وقال إنها مجمع عليها بالشرط الذي ذكره، وإنه إن ظهر من كلام بعض العلماء خلافها فلعله من قصور التعبير وعدم وفاء البيان، فتضمن قوله هذا الاعتذار عن الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين بأنه ليس فيه إلا قصور التعبير عن مذهبهم وعدم وفاء البيان به، وهذا السيد ليس ضعيف البيان بل هو فصيح العبارة قلما يوجد في معاصريه مثله في حسن بيانه وصراحته، وهو يرى أن أكثر الصحابة والسواد الأعظم من المسلمين من بعدهم قد نصبوا العداوة والبغضاء لأهل بيت النبوة سلام الله عليهم، من عهد أبيهم علي كرم الله وجهه إلى الآن، وكذلك الأمة العربية في جملتها كما يُعلم من كلمته الأولى من كلماته الثلاث، وحجته الكبرى على ذلك تقديم غيره عليه بالخلافة ويليها من الحجج مخالفة أهل السنة لما يفهمه هو بوجدانه من الروايات الصحيحة في مناقبه ولما يذكره من الروايات الباطلة فيها، ويطعن في حفاظ السنة حتى البخاري ومسلم لعدم روايتها، فهو يعدهم كلهم من النواصب المتبعين لغير سبيل المؤمنين - فهو يسلم ما قاله العلامة كاشف الغطاء من أن عدم نصب العداء لأهل البيت شرط لصحة الإسلام وولاية أهله - ولا يراه ردًّا عليه أو تخطئة له، وكذلك السيد محسن العاملي لا يعده ردًّا على كتابه الذي يعدني فيه مع الوهابية غير متبعين لسبيل المؤمنين؛ لأننا ننكر الحج إلى المشاهد وعبادة قبور أهل البيت أو عبادتهم بالدعاء والطواف بقبورهم؛ ولكننا نعبد الله تعالى بالصلاة على نبيه وعلى آل بيته في الصلاة وغيرها، ونتقرب إليهم بحبهم وولايتهم، وبالحكم على من ينصب لهم العداوة والبغضاء بأنه عدو الله ورسوله، وبهذا القول يقول جميع أهل السنة من الوهابية وغيرهم، ولا يرون القول بصحة خلافة الراشدين كما وقعت ووجوب حبهم وحب سائر الصحابة منافيًا لذلك، فما قاله الأستاذ في ناحية الشيعة مجمل غير كافٍ ولا شافٍ. بيد أنه عندما توجه إلى ناحية السنة وأهلها تفضل على صاحب المنار بالنصيحة إلى (ما فرط منه كثيرًا من التحريش بالشيعة) ... إلخ إلخ، وهو يعلم أن صاحب المنار كان مبدوءًا لا بادئًا، ومدافعًا لا مهاجمًا، ولم يكن محرشًا ولا متحرشًا. ولم يكن يخفى على ذكاء الأستاذ ما يكون لهذا الجواب عندنا من كلتي ناحيتيه، وما ضمه بين قطريه، وهو ما رأينا من حسن الذوق الاكتفاء بالإشارة إليه، فشفعه بكتاب شخصي، يتضمن الاعتذار عما توقعه من تأثير الجواب السلبي، قال فيه بعد الاعتذار عن تأخيره بما هو مقبول: ما قاله العلامة في كتابه الشخصي: نأمل من ألطافه تعالى أنكم لا تزالون متمتعين بالصحة والعافية، والعز والكرامة، مستمرين على منهاجكم الدائب في خدمة العلم والدين، وكونوا على ثقة من أننا لا نزال ندعو لكم بالتأييد والتسديد، وأن يجعل الحق مناركم عاليًا، ونور معارفكم لظلمات الجهل ماحيًا، ولا تزال ذكرى أخلاقكم الطيبة وعوارفكم الذكية ماثلة في نفوسنا، شاخصة أمامنا. وتجدون مع هذا الكتاب جواب الرقيم الذي تفضلتم به وأرجو أن تجدوه كافيًا شافيًا، وتنشروه على صفحات مناركم الزاهر ليعم النفع به، ويكون إحدى همزات الوصل بين المسلمين وتمزيق ما نسجته عناكب الأوهام على ذلك الصرح المشيد، وهي الغاية التي نتوخاها في جميع جهودنا ومساعينا، ولعلكم أحرص عليها منا، وما التوفيق إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. وقد تجافيت عن ذكر القائل بتلك المقالة الغريبة والتي لا يوافقه عليها أحد نظرًا لبعد الملاحظات التي لا تخفى عليكم (إن تجد عيبًا فسد الخللا) اهـ المراد منه. (المنار) إن عبارة هذا الكتاب، تكشف لنا الغطاء عما خفي في ذلك الجواب، مما تنطوي عليه جوانح كاتبهما من أريحية إسلامية، تأتلف بها معارفه العقلية وعوارفه القلبية، وعما رأى أنه مضطر إليه في مقامه من الرياسة في علماء المذهب من مداراة المدارك المتفاوتة، والوجدانات الموروثة، واكتفائه من صدق لقبه (كاشف الغطاء) أن يبلغ غاياته في الدروس الفقهية، والفنون العقلية واللغوية، ويقف دونها من مهاب الأهواء الطائفية والمذهبية، التي تختلف فيها الأفهام وتتزاحم الأوهام، موقف مراعاة الجامدين ومداراة المتعصبين، اهتداء بما روي في الصحيح عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (حدِّثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يُكذَّب الله ورسوله) وروي عنه أنه كان يقول: (إن هنا لعلمًا جمًّا لا أجد له حملة) وأشار إلى

السيد محمد بن عقيل بن يحيى ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد محمد بن عقيل بن يحيى ذكرنا في آخر الجزء الأول من هذا المجلد (32) خبر وفاة هذا السيد النبيل، وإننا شرعنا في كتابة ما نرى فيه الفائدة والعبرة من سيرته، واضطررنا إلى تقديم سيرة والدتنا بالنشر عليها، وقد سافرنا بعد ذلك إلى القدس لحضور المؤتمر الإسلامي العام، وبعد العودة إلى مصر والشروع في طبع الجزء الثاني أردنا أن ننشر فيه ما كتبنا من سيرته ونزيد عليها فَضَلَّتْ عنَّا فلم نجدها، فلا ندري أسقطت في الورق المهمل الذي يخرجه الخادم من مكتبنا أم ضلت بين أوراق أخرى، وقد نُشرت ترجمته - رحمه الله - في كثير من جرائد الأقطار الإسلامية وعقدت له حفلات تأبين في مصر وجاوة، وإنني أفي بوعدي بنشر شيء من سيرته أستأنف كتابته، فأقول: كان - رحمه الله تعالى - قوي الجسم والعقل ذكي الذهن، زكي النفس، عالي الهمة، واسع الاطلاع على الكتب الإسلامية من شرعية وأدبية وتاريخية، مختبرًا لأهل هذا الزمان، عارفًا بشؤون السياسة الدولية، وأحوال الشعوب الشرقية والغربية، فإن له عدة رحلات من بلاده حضرموت إلى جاوة والحجاز ومصر والهند والصين واليابان وأوربة الشرقية والغربية. وكان قوي الذاكرة، حسن المذاكرة، ذا بديهة حاضرة، وعارضة ماضية، وعبارة سلسة في الكتابة لا ركاكة فيها ولا براعة، ولا أعلم شيئًا عن حظه من الخطابة، وكنت أول عهدي بطلب العلم بطرابلس الشام أقرأ في المؤيد مقالات معزوة إلى الرحالة سيف الدين اليمني ثم علمت أنها له. وأما أخلاقه فصف ما شئت من عزة نفس، وسخاء كف، وشجاعة وإقدام، وعفة وورع، ووفاء ومروءة، واهتمام بالمصالح القومية والملية، ولولا أنه شغل بالتجارة لكان من أكبر زعماء الأمة العربية ودعاة الإصلاح الإسلامي فيها. وكان كثير الزواج يجمع ما طاب له من النساء مثنى وثلاث ورباع، وكثير النسل والإنتاج، أخبرني سنة 1330 أن أولاده وأحفاده يزيدون على خمسين نسمة وهم متفرقون في بلاد مختلفة، وأنه لا يعرفهم كلهم بأشخاصهم، وأنه لا يعلم عدد من مات منهم، ولم يكن هذا بشاغل له عن أعماله التجارية، ولا عن أبحاثه العلمية والسياسية. وقد نشأ على مذهب الشافعية تربية وتعليمًا وعملاً، ولكنه كان مع ذلك مستقل الفكر في المسائل العلمية والدينية، إلا فيما ملك وجدانه من شعور السيادة ولوازم عصبيته. ولما ظهر المنار في أواخر سنة 1315 بدعوته الإصلاحية في الدين والاجتماع واللغة كان من السابقين إلى الاشتراك فيه ثم عني بنشره في سنغافورة وجاوة وسائر الجزائر الإندونسية، واتصلت المودة والمكاتبة بيننا بقوة وحرارة، ثم فترت في السنوات الأخيرة لما سأذكره، وقد أنشأ في جاوة مع بعض الإخوان مطبعة ومجلة إسلامية سماها (الإمام) وكتب إليَّ أن الغرض منها نشر مقاصد المنار الإصلاحية بلغة البلاد الملاوية، وأن جل اعتماده فيها على ما يترجمه عنه. وأول خلاف في الآراء وقع بيننا مسألة لعن معاوية وأن دعاة التشيع من العلويين قد أثاروها في جاوة أو أندوسية كلها واستُفتيتُ فيها، فأفتيت بعدم الجواز وبينت ما في هذا الشقاق من الضرر والتفرق بين المسلمين بدون مصلحة راجحة تقابله، وفيها ألَّف كتابه المشهور (النصائح الكافية) وعذر كل منا أخاه في اجتهاده. ثم تفاقمت دعاية الرفض والغلو في آل البيت وسلائلهم في تلك الجزائر فكان من زعمائها بالتبع لأستاذه السيد ابن شهاب كما بيَّنت ذلك في ترجمة هذا عقب وفاته؛ ولكنه لم يكن داعية لما وراء ذلك من الخرافات كعبادة الموتى من السادة وغيرهم من الصالحين بدعائهم والطواف بقبورهم، ولما كان الغلو والإفراط في طرفي كل أمر يثير الغلو في الطرف الآخر، ظهر في تلك الجزائر خصوم كثيرون للسادة العلويين وتفاقم الخلاف، واستشرى به الشقاق، وهو ما كنا نخشاه ونتوقعه، وظهرت في أثناء ذلك جمعية عربية باسم (جمعية الإرشاد) غرضها إنشاء المدارس ونشر التعليم الديني والمدني الذي تقتضيه حالة العصر من الاستقلال وإحياء هداية الكتاب والسنة ومقاومة الخرافات الفاشية من طرق الابتداع في الدين، وجرَّ ذلك إلى إنكارهم على العلويين ترفعهم بأنسابهم على الناس بما يعد احتقارًا لعلمائهم وأهل الوجاهة منهم، وأفرط بعضهم في ذلك. وقد طلبت مني جمعية الإرشاد مرة أن أختار لها بعض المعلمين لمدارسها من مصر فأجبتها إلى ذلك بما أمرنا الله تعالى به من التعاون على البر والتقوى، وإنما يقومان على أساس العلم. فكتب إليّ السيد محمد بن عقيل - عفا الله عنا وعنه - كتابًا ينكر علي فيه مساعدة هذه الجمعية الضالة المضلة، في زعمه، بل وصفها بما هو أقبح من ذلك، ثم أذاع بعض العلويين أنني أنصر الإرشاديين عليهم، وهم مخطئون، فأنا لا أنصر إلا ما أعتقد أنه الحق ولو كنت أتبع الهوى لكان هواي مع العلويين؛ لأنني منهم وأهل العلم الصحيح منهم يعلمون ذلك. وقد علمت منه أنه ترك مذهب الشافعي لا إلى اتباع الدليل، بل إلى تقليد مذهب العترة أو آل البيت - أي مذهب الزيدية - وأخبرني أنه حاول إقناع الملك حسين بنشر هذا المذهب في الحجاز والحكم به دون مذهب أبي حنيفة الذي أجبرت دولة الترك شرفاء مكة على تقليده، فلم يقبل فغضب عليه، ولعل هذا سبب ما أرسله إليّ من مكة وقتئذ في الطعن على الملك حسين، ووصف ظلمه واستبداده وقسوته في سجنه وغيره مما نشرته وقتئذ، واعتمدت عليه في الخطاب العام الذي وجهته إلى العالم الإسلامي في القيام عليه. ثم سعى لدى شيخ الأزهر في مصر لتقرير تدريس هذا المذهب في الأزهر فلم يقبل، وأنا لم أنكر عليه هذا السعي؛ لأن مذهب الزيدية في الفقه كغيره من المذاهب الأربعة التي تدرس في الأزهر، وقلما يخالف بعضها في حكم إلا ويكون موافقًا للآخر منها؛ وإنما كنت أعارضه قولاً وكتابة هذا الغلو في العلويين الذي تأباه حالة البشر الاجتماعية في هذا العصر الذي فشت فيه فكرة المساواة وما يسمونه (الديمقراطية) وهم مهما يكن من غلوهم في تعظيم آل البيت النبوي، فلن يصل إلى غلو من قبلهم من الشيعة الظاهرية والباطنية، وكله عرضة للضعف فالزوال. وقد عرضت عليه وعلى غيره في تلك الأثناء رأيًا لن يجد العلويون من الحضارمة ولا من غيرهم أمثل منه لإحياء مجد آل البيت النبوي وحمل جميع المسلمين على حفظ كرامتهم وإعلاء شأنهم وتفضيلهم على غيرهم بالطوع والاختيار، وهو ما سأذكره في النبذة التالية إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار القبر روضة أو حفرة، وتناسخ الأرواح (س33 و 34) من صاحب الإمضاء في جهة المحلة مديرية الغربية بمصر. حضرة صاحب الفضيلة والإرشاد الشيخ محمد رشيد رضا، بعد تقديم فروض الاحترام نرجو أن تتكرم بالرد على السؤالين أدناه بمجلتكم المنار الغراء: 1- هل (القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) حديث متواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فهل الحكم في هذه الحالة للروح أو للجسد، مع ملاحظة أنه إن كان للروح فإنها لا تسكن القبور، وإذا كان للجسد فما الحكم لمن يبتلعه الحوت أو اليم أو الوحوش الكاسرة؟ وإذا كان بالسلب فما الفرق بين العاصي والطائع وما الفائدة من سؤال منكر ونكير وهل ننكره؟ 2- هل تتقلص الروح من جسم إلى آخر، أو لكل جسم روح خاصة؟ لا زلت للإسلام المرشد الرشيد الذي يضيء النهج والليل قاتم، وتنازلوا بقبول وافر احتراماتي. ... ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى صالح (ج) أما حديث: (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) فقد رواه الترمذي والطبراني وسنده ضعيف، فلا هو متواتر ولا صحيح؛ ولكن عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة وأنه يكون عقب الدفن، وإضافته إلى القبر مبنية على أن الغالب في الموتى أنهم يدفنون في القبور لا على أنه خاص بمن يدفن، وللأرواح مأوى في البرزخ بحسب درجاتها لا في القبور، والأجسام تفنى وهي باقية، وكل ما ورد في القرآن والأحاديث من أخبار عالم الغيب ومنه كل ما يكون بعد الموت فهو على غير المعروف لنا في عالم الشهادة، وليس لنا أن نبحث عن صفته وكنهه، ونحن نجهل حالة الأرواح بعد انفصالها من هذه الأجسام، وإليها يوجه السؤال في حالي الاتصال والانفصال، ومهما تكن حالتها فالفرق بين المؤمنين والمتقين والكافرين المجرمين مما لا ينكره عاقل، والوارد في سبب سؤال الملكين لمن يموت أنه امتحان له يعرف به بعض مستقبل أمره في الآخرة ومتى صح الخبر عن عالم الغيب فالواجب الإيمان به وإن لم ندرك سره. وأما مسألة تقلص الأرواح وانتقال الروح الواحد من جسد إلى آخر فهو مذهب قديم باطل مشهور بمذهب التناسخ، والثابت عندنا أن لكل إنسان روحًا ينفخها فيه مَلك يُرسله الله عندما يتم خلق جسده. *** أسئلة مختلفة (س35 - 49) من صاحب الإمضاء في منوف (مديرية المنوفية بمصر) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الرب القدير والصلاة والسلام على البشير النذير، وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بهداه فكان من الفائزين. من مصطفى حافظ عيسى إلى صاحب المقام العالي السيد رشيد رضا. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) كيف أقدر لكم مجهوداتكم المدهشة وبلاغتكم النادرة، ومحاوراتكم اللطيفة، وردودكم الملجمة لأفواه الملحدين، الذين حملوا على المسلمين حملة شعواء فكنتم أنتم في مقدمة المجاهدين الذين بددوا ظلماتهم بأنواركم الساطعة، وبراهينكم القاطعة، لقد جعلتم العالم الإسلامي يقوم من مرقده بعد نوم عميق فصفق لكم العالم إجلالاً، لقد أبنتم بمناركم الرشد من الغي، والظلام من النور، والبدعة من السنة، فإلى الأمام، أطال الله عمركم حتى تنتفع بعلومكم الأنام، ومهَّد لكم الطريق حتى تتمكنوا من القضاء المبرم على هؤلاء الأشرار. يا صاحب الفضيلة: لما كان صدركم رحبًا في الإجابة عن الأسئلة التي توجه إليكم وخصوصًا، صارت مجلتكم المنار موضع نظر العالم الإسلامي؛ لذلك أرجو نشر الأسئلة المسطرة في هذا الخطاب حتى تسفروا عن حقائق الشريعة الغراء ولكم من الله الجزاء الأوفى. س1 ما قولكم في صلاة الجمعة في البيت جماعة هل هي صحيحة أم باطلة؟ وهل يشترط في الجمعة المسجد؟ نرجو الإبانة عن ذلك بالدليل من السنة؟ س2 ما حكم الصلاة والسلام بعد الأذان بصوت مرتفع؟ س3 ما هي البدعة وما أقسامها وما المراد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة؟) وما المراد من قول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه؟) وما حكم الصلاة خلف المبتدع؟ س4 ما حكم شرب الدخان هل هو حرام أم لا؟ وما رأي الأطباء فيه هل هو مضر أم لا؟ وما رأيكم في الحديث الذي معناه (صرف المال فيما لا يضر ولا ينفع حرام) نرجو الإفادة بإسهاب على هذا السؤال خاصة. س5 ما حكم أكل الفسيخ والسردين المعروفين بمصر، وهل أكله مضر وما رأي الأطباء في أكله من حيث الضرر وعدمه؟ وهل فيه ميكروب؟ س6 ما حكم بيع الفسيخ والسردين والدخان؟ س7 ما الغرض من الحديث الذي معناه (لعن الله الواصلة والمستوصلة) وهل المراد وصل الشعر بالشعر أو وصل خيوط من القطن تسمى عند العامة (بالضفاير) ؟ س8 هل العمامة الخضراء والحمراء والصفراء ثبت لبسها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وما حكم لبسها إذا لم يرد عن رسول الله أنه لبسها؟ أو كان يريد بها التقرب من الله أو الافتخار أو إظهار النسب؟ س9 ما حكم الذكر في المسجد بصوت مرتفع جماعة أو فرادى؟ وهل هذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ س10 يشرب الناس الشاي في هذه الأيام شربًا كثيرًا حتى صار عادة عند الناس لا يمكن الاستغناء عنه، ولا يمكن القيام بالأعمال المعيشية إلا بعد تناوله ويشرب بالكيفية الآتية: مرًّا جدًّا لا يمكن استساغته إلا مع التضجر من شدة المرارة وقلة السكر، تعاد الكرة ثلاث مرات، في مواعيد مخصوصة، يكون للشاي رئيس مخصوص ينفذ قوانينه، يدار الشاي على الجميع كما تدار الخمر على محتسيها إلى غير ذلك؟ س11 هل ورد عن الرسول أنه قال فيما معناه (كل محروق حرام) وإذا كان قال ذلك فهل البن المستعمل في شرب القهوة محروق فيكون حرامًا؟ وما حكم الشارع فيه إذا أضيف عليه شيء من السكر؟ س12 ما حكم الحجب والتمائم والرقى؟ وهل ورد عن الرسول فعل ذلك أو إقراره؟ س13 ما حكم المحراب المستعمل الآن في المساجد؟ وهل ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما معناه: (لا تزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى) وقال في موضع آخر: (اتقوا هذه المذابح) وهل المذابح هي المحاريب وما المراد من قوله الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} (آل عمران: 37) وقوله: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ} (مريم: 11) وقوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَابِ} (آل عمران: 39) ؟ س14 ما حكم السلام بين المراحيض هل هو جائز أم لا؟ س15 و 16 ما عطر الرجل وما عطر المرأة؟ وإذا قلتم إن عطر الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه فما عطر المرأة؟ وإن قلتم ما خفي ريحه وظهر لونه فما هو إذًا؟ وهل استعمال الطلاء المستعمل لتلوين الوجه من عطر المرأة الذي خفي ريحه وظهر لونه؟ أرجو من فضيلة الأستاذ إجابتي عن هذه الأسئلة الخمسة عشر، إما في المجلة على مرار تباعًا، إما كتابيًّا ثم نشرها في المجلة، ولكم من الله جزيل الثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... مصطفى حافظ عيسى (ج 35) صلاة الجمعة في البيوت: صلاة الجمعة عبادة اجتماعية من شعائر الإسلام العلنية التي يقيمها بالمسلمين إمامهم الأعظم أو نائبه إن وجد، ويخطب فيهم بما تقتضيه الحال من مصالحهم وإرشادهم ويجب على جميع المكلفين في البلد الاجتماع لها في مسجد واحد إن أمكن؛ ولكن لا يشترط أن يكون المسجد موقوفًا، بل مسجدهم حيث يصلون، وأما صلاة الأفراد لها في بيوتهم جماعات صغيرة فهذا شيء لا نعرفه عن سلف المسلمين ولا خلفهم؛ ولكن بعض الظاهرية جوزوا إقامتها في أي مكان لعدم وجود نص في الكتاب والسنة في العدد ولا في صفة المكان، وقد نقلنا هذا عنهم في فتوى سابقة ولم نعلق عليه وقتئذ؛ ولكن يجب أن يعلم أن شعائر الإسلام الظاهرة من مناسك الحج والجمعة والجماعة والعيدين والأذان التي ثبتت بالتواتر العملي المجمع عليه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه - فالواجب فيها الاتباع ولا يجوز فيها تغيير بزيادة ولا نقصان، ولا صفة من الصفات بناء على عدم دليل يمنع ذلك، بل الأدلة الفقهية الظنية لا يُعتد بها في معارضة الشعائر المنقولة بالتواتر، وأما إذا وُجد جماعة في قرية ليس فيها مسجد موقوف تقام فيه الجمعة والجماعة وأقاموها في بيت من بيوتهم؛ فإنهم لا يكونون مخالفين للمأثور، على قول الجمهور بصلاتها في القرى وعدم اشتراط المصر الذي تقام به الأحكام الشرعية، وهذا مذهب الحنفية. * * * (ج 36) زيادة الصلوات والسلام في الأذان: الأذان من شعائر الإسلام المنقولة بالتواتر من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلماته معدودة في كتب السنة وكتب الفقه مجمع عليها بين أئمة المسلمين من أهل السنة والجماعة، والشيعة يقولون فيه (حي على خير العمل) ولهذا أصل في بعض الروايات، وهو أنه وجد في أول الإسلام، ثم ترك ونسخ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما زيادة الصلوات والتسليمات في آخره فهي من بدع المؤذنين المتأخرين وقد توسع فيها بعضهم فصاروا ينادون فيها البدوي وغيره من الأموات الذين يدعوهم هؤلاء المبتدعة من دون الله، فقد دهشت سنة قدومي إلى مصر إذ سمعت أول مؤذن طرق سمعي صوته في أذان الفجر ينادي في آخر الأذان: يا شيخ العرب. وإنما فشت هذه البدعة وأمثالها في أمصار المسلمين بسبب جهل المعممين أدعياء العلم بالسنة، وما ترتب عليه من عدم إنكارهم على منتحلي البدع، وفتح لهم باب الاحتجاج على تأييد البدع قول بعض فقهاء القرون الوسطى بأن البدعة قسمان: حسنة وسيئة، فصاروا يتبعون أهواءهم في الاستحسان وعدمه، وإننا لنعجب أشد العجب إذ نرى بعض كبار علماء الأزهر يفتون الناس ببدعة الزيادة في الأذان ويزعمون أنها حسنة؛ لأنها ذكر مشروع في جنسه وحسن، وقد قلنا ولا نزال نقول في تفنيد جهلهم هذا: إذا جاز للناس في العبادة المأثورة أن يزيدوا فيها غير المأثور في نفسه، وإن كان مأثورًا في نفسه فلهم أن يزيدوا في أول الأذان وفي وسطه كما يزيدون الآن في آخره، وأن يكون من هذه الزيادة تلاوة بعض آيات القرآن فإنه لا أحسن منه، ولهم أيضًا أن يزيدوا في الصلاة ركعات أو سجدات أخرى، وأن يصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التلاوة في كل ركعة. وهل يوجد دليل على امتناع هذا كله غير كونه مخالفًا للمأثور؟ وما الفرق إذًا بين الأذان وغيره؟ أما إنه لو فعل هذا كثير من العوام، لأفتاهم باستحسانه مفتي مجلة نور الإسلام. * * * (ج 37) تعريف البدعة وأقسامها: البدعة في اللغة: الفعلة أو الحالة المبتدعة المستحدثة، فإن كانت في الدين فهي شرع لم يأذن به الله وافتراه على الله، وهي ما لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين في عهده من العبادات، كما قال الإمام مالك: كل ما لم يكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم دينًا فلا يكون بعده دينًا، وأما غير الدينية المحضة فهذه منها حسن وهو النافع الذي لا مفسدة فيه، ومنها سيئ وهو الضار وما يترتب عليه فساد مثلاً، وكل منهما درجات فتعتريها الأحكام الخمسة، ودليله حديث مسلم (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها) إلخ، وقوله (في الإسلام) معناه في عهد الإسلام المقابل لعهد الجاهلية. وتسمية عمر رضي الله عنه جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح بدعة تسمية لغوية؛ فإن صلاة قيام رمضان جماعة مشروع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يواظب عليه لئلا يظن وجو

ذكرى يوم النبي صلى الله عليه وسلم أو المولد النبوي

الكاتب: عبد المجيد القرشي

_ ذكرى يوم النبي صلى الله عليه وسلم أو المولد النبوي نشرنا في الجزء الماضي النداء العام في موضوع هذه الذكرى، ووعدنا بأن ننشر في هذا الجزء ما اقترحه سكرتير لجنة لاهور علينا في الموضوع، وهو تأليف رسالة في حقوق النساء في الإسلام، وحظ الجنس اللطيف من إصلاح محمد عليه الصلاة والسلام، هذه ترجمته: خطاب اللجنة لصاحب المنار واقتراحها عليه أخي العزيز في الإسلام: قد تعلمون بالاستعدادات القائمة الآن في الهند بخصوص الاحتفال السنوي بمولد النبي صلى الله عليه وسلم أعظم من أسدى خيرًا إلى الإنسانية، ولا ريب في أن الأكثرين حتى من طبقة المتعلمين يجهلون تمامًا تفاصيل حياة فخر الكائنات وسيرته، وهو الذي ظل لا يُبارى على مر السنين في كونه منقذًا للإنسانيَّة من أسفل دركات الانحطاط والفساد والإلحاد، ورافعًا لها إلى أعلى ذروات المجد من كافة النواحي الدينية والاجتماعية والأخلاقية، وإن جهل الجماهير لهذه الحقيقة لحقيقة أليمة. وهذه الخطوة في الهند تعطي الفرصة للقيام بدعاية واسعة في كل ركن من أركان الأرض لبيان ما اكتسبه العالم من ذلك الينبوع الدائم الفياض من المزايا التي لا حصر لها، والفوائد المثمرة التي لن تبرح ماثلة ظاهرة. وهذه الدعوة تنشر بوسائل المطبوعات ومن فوق المنابر، ولتحقيق هذه الغاية رؤي من المستحسن أن يقوم المهذبون الذين على سعة من العلم بعقد اجتماعات يُدْعى إليها المسلمون وغير المسلمين في كل أنحاء العالم يوم مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، أي يوم 12 ربيع الأول من كل سنة. كما أن من المناسب أن يكون بجانب تلك الاجتماعات العامة إذاعة نشرات دورية من وضع المسلمين وغير المسلمين في ملخص سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأعماله المجيدة، وتلك الخطوة كانت قاصرة على الهند في بدء سنتها الأولى؛ ولكن السنوات القابلة تبشر بانتشار جهودها في كثير من الممالك الإسلامية الأخرى. ثم إن كل هذه الخطة هي من وضع اللورد الحاج الفاروق هدلي الشريف الإنكليزي المسلم الذائع الصيت، ولقد ترجمت إلى ست عشرة لغة مختلفة، ووُزع منها ستمائة ألف نسخة على القراء من المسلمين وغير المسلمين، كما أنها أذيعت من محطة الإذاعة اللاسلكية بكلكتا إلى كثير من الممالك الأوروبية. ولقد قررت اللجنة أن تتقدم إليكم بطلب كتابة صورة من حياة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم لأجل نشرها وإذاعتها عمومًا في سنة 1932 والموضوع المطلوب لهذه المرة هو: (نبي الإسلام وحقوق الجنس اللطيف) ولسنا في حاجة إلى التذكير بالجهاد المستمر في الممالك الأوربية لمساواة الرجل بالمرأة في الحقوق. وإن الإسلام ليفخر إلى أبعد مدى بأنه كان هو الدين الأول والآخر الذي شد أزر حقوق المرأة، وأخذ بعضدها؛ ولكن في سياج الفضيلة ولا ريب. وهذه المقالة من غير شكٍ سيكون لها قوة التأثير والجاذبية في نساء أمريكا وأوربا، ولقد اختارتكم اللجنة كالمرجع الأعلى لهذا الموضوع. وعلى أية حال نرجو أن تسمحوا للجنة بأن ترغب إليكم بأن تكون الخطابة جذابة ومؤثرة وداعية إلى هذه الحقيقة التي لا ريب فيها، وهي إثبات أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يوجد في تشريعه أعظم الوسائل الممكنة على وجه الأرض للوصول إلى إرضاء الجنس اللطيف بإعطائه جميع حقوقه، وإرواء غلة الظمأ الشديد إلى ذلك في الممالك المتمدينة، هذا وإن اللجنة لا تأبى قبول ما ترون كتابته إليها في أي ناحية أخرى من أوجه حياة النبي صلى الله عليه وسلم قد ترونها أكبر نفعًا وأعظم أهمية في وجهتها الاجتماعية العالمية العامة. ومن الواضح الجلي أن اللجنة في طلبها هذا تعتمد إلهامًا على قوة إيمانكم الشديد المعروف، ومواهبكم وأبحاثكم المستفيضة النادرة في الشمائل النبوية. ومن الموثوق به أن نشاط اللجنة في نشر الدعوة هذه المرة سيكون إن شاء الله أوسع وأكبر مما كان عليه في الثلاث السنين الماضية، وقد شرع الآن في عمل الترتيبات اللازمة فعلاً لترجمة مقالتكم إلى أكثر ما يمكن من اللغات وتوزيعها بأقصى ما يستطاع على ملايين المفكرين في العالم. وتعتقد اللجنة بأن مقالاً في موضوع بمثل تلك الأهمية من حياة نبي الإسلام وبقلم مسلم مهذب كشخصكم الفاضل، سيكشف عن نور جديد وسيكون تأثيره عظيمًا وثابتًا في الطبقات المتعلمة في أنحاء العالم. وبالنسبة إلى جلالة هذا العمل وعظيم أهمية خطواته الأولى تؤمل اللجنة أن تُلبوها إلى طلبها وتوافوها بكتابتكم حوالي آخر نوفمبر سنة 1931، وتنتهز اللجنة هذه الفرصة للإعراب عن خالص تشكراتها لهذا العمل المحبوب الذي ستتقبلونه إن شاء الله بانشراح. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد المجيد قرشي (المنار) جاءتنا هذه الرسالة منذ بضعة أشهر فألقيناها إلى الإدارة لترجمتها والنظر في إجابة مرسلها إلى ما طلب، فلم تترجم لنا إلا بعد انتهاء المدة المقترحة، فكتبنا إلى حضرة مرسلها ناموس اللجنة (السكرتير) نعتذر عن القيام بإجابة الطلب في الموعد وأرسلنا إليه رسالتنا (خلاصة السيرة المحمدية) بالعربية مع ترجمتها بالإنكليزية فتلقاها شاكرًا وكتب إلينا أنها ستطبع بعد شهرين ومدَّ لنا في أجل الرسالة النسائية إلى آخر ذي الحجة، وقد شرعنا فيه بكتابتها، ونسأل الله التوفيق لإتمامها، وإيتاءنا الحكمة وفصل الخطاب فيها. * * * الدعوة إلى الاحتفالات بالسيرة المحمدية يوم المولد النبوي الشريف (أرسلتها إلينا لجنة الهند بالعربية، وطلبت منا توقيعها لأجل نشرها في ذلك اليوم العظيم فوقعناها، والظاهر أنها طلبت ذلك من غيرنا من العلماء والزعماء) بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) . لا يزال منار عظمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وجلاله من حيث العلم والعمل منذ ألف وثلاثمائة سنة قائمًا على صخرتين عظيمتين لا تتزعزعان قط، وقد ثبت أن هذا المنار هو النور والملجأ الوحيد لفلك التهذيب والتمدن الحائرة في بحور الحياة المتلاطمة بالظلمة والطغيان في كل آن وزمان، أعني أن كل ما قاله صلى الله عليه وسلم فهو للجميع، وكل ما فعله فهو للكل. إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُبعث إلا لينظم أبناء المذاهب (الملل) المختلفة والتهذيب المتنافر، في سلك واحد من الأخوة والمساواة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن ليخالف التفرقة المذهبية فحسب، بل كان يأبى وينفر من الخلاف العالمي بين أبناء الإنسانية الواحدة بأية صفة وعلى أية حالة كان، وإن تعليمه صلى الله عليه وسلم لم يكن مما يتعلق بأشخاص أو مواطن أو شعوب خاصة، بل كان تعليمًا عامًّا أبديًّا لكل الخلق في كل البلدان والأقطار على حد سواء، ليحكم علائق ارتباط المحبة الأخوية بين أفراد الإنسانية جمعاء، وإن ذاك الدين الذي دعا النوع الإنساني إليه لم يكن دينًا مخصوصًا بجماعة أو فرقة، بل هو دين الخلق أجمع، وإن قبول هذا الدين يرادف قولنا: إننا قد أصبحنا أحرارًا مطلقين من قيود تلك الحلقات الضيقة التي قامت دعائمها على اللون والجنس واللغة والقومية والوطن وإننا أصبحنا تحت إمرة (ولاية) سلطان واحد وهو الله، وإن الأرض كلَّها وطن لنا، وإن كل ما عليها من العوالم من النوع الإنساني هم أفراد عائلة واحدة. فتعالوا نحتفل بيوم يكون عيدًا للمحبة والاستقلال الحقيقيين، ليكون هذا اليوم ذكرى لنبي الوحدة والمحبة، حيث ننزع من بيننا كل اختلاف ونتناساه، ونقف في صف واحد يدًا واحدة نسعى في خدمة الإنسانية وتآخيها وفلاحها. لا جرم أن اليوم الثاني عشر من ربيع الأول يجب أن يتخذ لهذه الغاية؛ لأنه هو يوم ولادته صلى الله عليه وسلم وتذكاره الذي لا يفنى: إننا ندعو بغاية الإخلاص والاحترام عموم أبناء البشر للاشتراك في عيد الاتحاد هذا، ونرجو منهم أن يقوموا بإقامة حفلات متحدة في سائر أقطار الأرض باسم (الاحتفالات بالسيرة النبوية) احتفالات تليق بحضرة محمد صلى الله عليه وسلم وتتفق في عظمتها مع عمله وعظمته وقدره يتولد منها بين أفراد البشر إحساسات حقيقية للمواساة والمحبة وخدمة الخلق. إننا آخذون بتوزيع بعض النشرات التي تبحث في أهم الأمور من بعض جهات الحياة النبوية التي قد دبجتها أقلام خيرة من العلماء والفضلاء، فالرجاء أن تُقرأ هذه النشرات يوم الاحتفال كمحاضرات، وأن تترجم إلى لغات الأرض الحية، وتذاع وتنشر في كل بقاع الأرض بالمجان. وبالختام فإننا نرجو الله تعالى أن يجعل هذا العيد السعيد مباركًا على جنس الإنسان. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... التوقيع

المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر الإسلامي العام في بيت المقدس (3) نشرنا في الجزء الماضي نص تقرير لجنة الدعوة والإرشاد الذي وافق عليه المؤتمر بالفعل، وذكرنا أن المواد الأربعة التي فيه ملخصة من عدة مقترحات كانت اللجنة وضعتها مبسوطة، فقرر المؤتمر في جلسته العامة أن تُلخص بصورة مواد قانونية تصوغها فيها لجنة فرعية خاصة وكان ذلك، ووعدنا بأن ننشر المقترحات الأصلية لما فيها من الفائدة العلمية والتاريخية، ولما وقع فيها من المناقشة والاعتراض وهذا نصها: مقترحات لجنة الدعوة والإرشاد على المؤتمر الإسلامي 1- تأليف جمعية باسم (جمعية الدعوة والإرشاد الإسلامية) على النهج الذي كانت عليه الجمعية التي أُلِّفت بهذا الاسم في القاهرة يكون لها مدرسة كلية خاصة تكون إحدى كليات الجامعة الإسلامية التي قرر المؤتمر السعي لإنشائها في بيت المقدس لتخريج طائفتين من العلماء (إحداهما) : تخصص لإرشاد المسلمين على اختلاف أجناسهم إلى حقيقة الإسلام بالتعليم النظامي السهل والتربية الدينية العملية الموافقة لحالة العصر، (والثانية) لأجل دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ويُستعان على إنشاء الجمعية والمدرسة بما وُضع للجمعية السابقة ومدرستها من نظام ومناهج وتجربة. 2- أن يعجل المؤتمر بإجابة رغبة كثير من الأعضاء إلى ما طلبوه من اتخاذ وسائل سريعة لمقاومة سوء التأثير والضرر الواقع بالفعل من طعن دعاة النصرانية (المبشرين) على الإسلام، وخاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، بخطبهم وكتبهم ورسائلهم بوسيلة عملية ناجزة، وأن لا ينتظر في ذلك إنشاء المدرسة وتخريج الدعاة والمرشدين فيها للقيام بهذا الواجب. وترى اللجنة أن أقرب الوسائل لذلك نشر بعض الرسائل العلمية - المؤلفة والتي تؤلف - في حقيقة دينهم وتقاليدهم فيه، ومن أهمها رسالة موضوعها (عقيدة الصلب والفداء) قد بيَّن فيها مأخذ هذه العقيدة، وأنها ليست مما جاء به المسيح عليه السلام؛ وإنما الحق في مسألة الصلب ما حققه القرآن، وهو كتاب الله الأخير الذي حفظه الله من التحريف والتبديل، فنقترح أن يطبع المؤتمر منها ألوفًا كثيرة من النسخ باللغة العربية، وتُوزع بالمجان في جميع البلاد العربية التي انتشر فيها أولئك الدعاة. وقد ترجمت هذه الرسالة باللغة الملاوية ترجمها الشيخ محمد بسيوني عمران إمام مهراج سمبس برنيو وهو أحد تلاميذ مدرسة الدعوة والإرشاد السابقة، فنقترح أن يخاطب المؤتمر الجمعيات الإسلامية في البلاد الإندوسية بطبعها وتوزيعها على المدارس والجمعيات والأندية في تلك البلاد، وأن يُنتدب الممثلون لمسلمي الهند في المؤتمر لترجمتها بلغة الأوردو، ونشرها في كل مكان يوجد فيه هؤلاء المبشرون من تلك البلاد، وينبغي أن تُترجم باللغة الفارسية والإنكليزية وغيرهما أيضًا. وقد شكا صاحب مجلة إسلامية في الصين لصاحب مجلة دينية في مصر تصدي المبشرين عندهم لتنصير المسلمين والطعن في الإسلام والرسول عليه وآله أفضل الصلاة والسلام، فأرسل إليه نسخة من هذه الرسالة فطفق يترجمها وينشرها في صحيفته، فكف أولئك المبشرون عن التصدي للمسلمين هنالك. 3- أن يَعْجلَ المؤتمر بتقديم خدمة إلى العالم الإسلامي ترى اللجنة أنها أهم ما يجب البدء به وتعميمه بقدر الطاقة، وهي أن يكلف بعض العلماء بالكتاب والسنة ومسائل الإجماع والمذاهب الإسلامية تأليف رسائل في عقائد الإسلام وآدابه وفضائله وعباداته وتاريخ نشأته، تكون الوسيلة الأولى لإحياء روح الدين ومقاومة الإلحاد والزندقة في عامة المسلمين، وتحقيق الأخوة الإسلامية على أكمل وجه ممكن ويتوخى فيها ما يأتي: (أ) أن يقتصر فيها على المسائل الإجماعية عند جميع أهل المذاهب الإسلامية في الأصول والفروع لتكون مقبولة عند جميع المسلمين، وتمهيدًا لجمع كلمتهم، وكونهم أمة واحدة لا يجوز أن تتفرق باختلاف الاجتهاد الذي يعذر فيه كل مجتهد باجتهاده، وكل عامي باتباع المذهب الذي نشأ عليه. (ب) أن تكون مشتملة على ما لا يسع مسلمًا جهله من أمور دينه وما يعلم الذي فهمه بطلان ما يدعو إليه المبشرون وغيرهم من الدعاة إلى ما لا ينافي الإسلام، وأنه كفر وفسوق عن الإسلام، من غير تصريح بشيء من تلك الأصول والبدع ولا ذكر العقائد المخالفة ولا أسماء أهلها، وأهم هذه المسائل كون محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، المرسل رحمة للعالمين، وأن التشريع السماوي قد تم بشرعه، ومن ادعى الوحي بعده فهو مفتر على الله تعالى مارق من دينه. (ج) أن تكون في منتهى السهولة في العبارة والأسلوب يمكن أن يفهمها العوام بمجرد التلقين والبيان الوجيز، ومن شرط ذلك خلوها من الاصطلاحات الكلامية والفقية والأدلة المنطقية والأصولية. (د) أن يكون ما تدونه في الإيمان بالله تعالى وصفاته وأفعاله موجهًا إلى ما يؤثر في القلوب والأعمال من حبه تعالى ومراقبته، والتذكير بعلمه بما يسره المرء ويخفيه، والرجاء في مثوبته لمن أحسن عملاً، والخوف من عقابه لمن أساء وظلم ... إلخ، ويكون الكلام في رسالة الرسل عليهم السلام مبينًا لعصمتهم وكذب من يفترون عليهم، ويرمونهم بشيء من النقائص، وكونهم كانوا كلهم داعين إلى عبادة الله وتوحيده وإبطال الشرك والوثنية، وإلى العمل الصالح والاستعداد للآخرة. ثم ما امتاز به خاتمهم صلى الله عليه وسلم من المزايا والكمالات في أميته وكتابه واشتمال شريعته على الأصول الكافية لإصلاح البشر إلى آخر الزمان، وما في أفعاله وشمائله من الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة كشجاعته وسخائه ورحمته وإيثاره الناس على نفسه وأهله. (هـ) أن يكون الكلام في آداب الإسلام وفضائله مقرونًا بما لها من التأثير في الأعمال النافعة من شخصية ومنزلية واجتماعية، والكلام فيما ينافيها من الرذائل مبينًا لما لها من سوء التأثير والضرر في الأبدان والأموال والأعراض، كمضار القمار والسكر واستعمال المخدرات التي فشت في هذا الزمان ... إلخ. (و) أن يقتصر في العبادات على الكليات المجمع عليها في الطهارة ومنافعها وصفة الصلاة وحكمتها وهي النهي عن الفحشاء والمنكر، ومناوءة الهلع والجبن والبخل، وتعود النظام، وجمع الكلمة، وكون الزكاة ركنًا من أركان الإصلاح المدني والاجتماعي والسياسي واقيًا للمسلمين من الفقر المدقع ومفاسد البلشفية وعونًا لهم على كل إصلاح، وكون الصيام يُقصد به تقوية الإرادة بتربية النفس على ترك الشهوات البدنية الضرورية المباحة تعبدًا لله تعالى لتكون على ترك الشهوات المحرمة أقدر، وكون الحج عبادة روحية مالية، ورياضة جسدية واجتماعية، ووسيلة لتعارف الشعوب الإسلامية ... إلخ. 4- أن يقرر المؤتمر الاستعانة بأعضائه الحاضرين، ثم بلجانه التي تؤلف له للتنفيذ وللنشر ولجمع الأموال، ثم بجمعيات الشبان المسلمين وغيرها من الجمعيات الإسلامية بعد ترجمتها بلغاتها الراقية لغات الكتابة والتأليف، كما تقدم في نشر رسالة مقاومة التبشير. 5- أن يُعنى المؤتمر بالسعي للصلة بين خطباء البلاد الإسلامية وتعاونهم على إصلاح الخطابة، وجعل موضوعاتها في المساجد في أمور الدين وسائر مصالح المسلمين. 6- أن يقرر المؤتمر التوسل لجعل التعليم في المدارس الإسلامية ولا سيما الحرة التي لا سيطرة عليها للأجانب والرسميات كمدارس المجلس الإسلامي الأعلى في مركزه فلسطين على الوجه الذي يؤهل تلاميذها للدعوة والإرشاد اللذين تقدم بيانهما. 7- أن يتخذ المؤتمر الوسائل التمهيدية لتعميم اللغة العربية في جميع الشعوب الإسلامية لما في مقدمة هذا التقرير من توقف فهم الدين ووحدته عليها، واشتداد الحاجة في هذا العصر إلى هذه الوحدة التي تجمع قوة هذه الأمة المؤلفة من 350 مليونًا، بل 400 مليون لحفظ حقيقتها وإعلاء شأنها ودفع ضروب العدوان عن دينها ودنياها. فاللغة في الأمة الواحدة كالمجموع العصبي في البنية، به يكون شعور جميع الأعضاء بكل ما يطرأ عليها من الإدراكات والمؤثرات المؤلمة والملائمة، وعلى هذا الشعور يتوقف التعاون الإيجابي والسلبي، فلا يتم لنا إحياء هداية الإسلام بأنواعها ولا وحداته المتقدمة ولا فائدة مؤتمراته إلا بإحياء لغته الجامعة. هذا ما رأت لجنتنا عرضه على الهيئة العامة لهذا المؤتمر وهي مستعدة لبيان ما عساه يحتاج إلى الإيضاح منه، والدفاع عما يرد عليه من النقد، والسلام. ... ... المقرر ... ... ... ... رئيس لجنة الدعوة والإرشاد ... إسعاف النشاشيبي ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا * * * الاعتراض على التقرير في المؤتمر دعيت لتلاوة التقرير على منصة المؤتمر في جلسة يوم الأحد قبل الظهر ثالث شعبان سنة 1350 (13 ديسمبر سنة 1931) وتصدى للاعتراض الشيخ سعيد درويش البابي الحلبي أحد أعضاء اللجنة الذي ذكرت خطته وشغبه في الجلسات التي حضرها، فأسكته الرئيس ليتمكن الأعضاء من سماع التقرير وفهمه متصلاً بعضه ببعض، وليكون الاعتراض بعد إتمامه وفهمه أدنى إلى كونه معقولاً ... إلخ. وبعد تلاوته حضرت صلاة الظهر، فأرجئت الجلسة إلى ما بعد الصلاة، ثم افتتحت في أول الساعة الثانية بعدها وفتح باب المناقشة فيه، فقام الشيخ سعيد درويش فقال: إن مسألة الدعوة والإرشاد مهمة جدًّا؛ لأنها تتعلق بالعقيدة، وإن أهم شيء عند المسلم أن يحافظ على عقيدته، وأنه هو كان عضوًا فيها وفي اللجنة المالية؛ ولكنه رأى الشيخ رشيدًا رئيس هذه اللجنة مستبدًّا فيها لا يسمح للأعضاء بإبداء آرائهم، وأنه هو كلما كان يبدي رأيًا نادى عليه الشيخ رشيد بالويل والثبور. ثم قال: إن هذا التقرير الذي قدمه الشيخ رشيد ليس تقريرًا؛ لكنه محاضرة هو الذي وضعها وحده فلم يشترك هو فيها، وإنها صنفت من مادة مطاطة بأسلوبه الوهابي ليؤيد فيها مذهب الوهابية ضد سائر المذاهب الإسلامية، وإنه هو كان اقترح على اللجنة أن تقرر عدم وجود خلاف بين المذاهب فلم يقبل كلامه (قال) وإننا نطلب الحكم على هذا التقرير بالإعدام. وقام السيد محمد الصبان مندوب الجاليات الحجازية التي تسعى لمقاومة ملك الحجاز في خارج الحجاز فثنى على الشيخ سعيد درويش بأن هذا التقرير وهابي وُضع لتأييد مذهب الوهابية، فاضطرب المؤتمر لهذه الجرأة الغريبة، وانبرى أعضاؤه لتفنيد هذه المفسدة المُدَّعاة، مفسدة التفريق بين مذاهب المسلمين وفرقهم. فسبق الأستاذ الشيخ مصطفى الغلاييني رئيس المجلس الإسلامي في بيروت، وألقى خطابًا وجيزًا بصوت جهوري، قال ما خلاصته: إننا جئنا إلى هنا لجمع كلمة المسلمين ونحن فوق المذاهب، وليس في استطاعة أحد أن يمنع اختلاف المذاهب ويجعلها مذهبًا واحدًا، فالمذاهب تبقى على حالها، وليحترم كل منا مذهب الآخر، ويكون مرجعنا إلى كتاب الله فهو جامعتنا الدينية الكبرى، ولا بد أن يأتي يوم تتقارب فيه الأذهان حتى لا يبقى خلاف، وإذا كنا نحن ندعو إلى التقارب بين المسلم والمسيحي، فكيف يمكن أن نفرق بين المسلم والمسلم؟ ثم تكلم مقرر اللجنة الأستاذ إسعاف بك النشاشيبي فقال ما خلاصته: إن لجنتنا قد اجتمعت واختارت السيد رشيد رضا رئيسًا لها (وعلل ذلك بالتنويه بعلمه وخدمته للإسلام في هذا العمل وغيره زهاء أربعين عامًا) وإن المعترض كان يحضر الجلسات أولاً، وقد اقترح على اللجنة أن تقرر أنه لا يوجد خلاف بين المذاهب الإسلام

جمعية المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين أُلِّفت في مكة المكرمة جمعية بهذا الاسم، أرسل إلينا رئيسها الأستاذ الشيخ عبد الله الشيبي النجل الأكبر للشيخ عبد القادر الشيبي حاجب بيت الله الحرام ما يأتي: بسم الله الرحمن الرحيم معدن الفضل، وينبوع الحكمة، فضيلة العالم العلامة، والأستاذ الجليل، السيد رشيد رضا، كلأته العناية. تحية من عند الله مباركة طيبة، وبعد فإن لي الشرف الأعظم الأثيل أن أحيط فضيلتكم علمًا أن الحكومة السنية مدد الله مداها، قد لبت طلب الشعب الحجازي في تأسيس جمعية يوكل إليها أمر المطالبة بأوقاف الحرمين، وإذ قد اعتُرف رسميًّا بهذه الجمعية بعد أن بلغت تصديق نظامها الذي اعتزمت السير بمقتضاه نحو الغاية الجليلة التي أسست من أجلها، أجمع رأي الهيئة الإدارية المدون بمحضرها رقم 4 وتاريخ 16 ذي الحجة 1350 على نشر بلاغ بالكيفية، وزف هذه البشرى إلى فضيلتكم مشفوعة بصورة من البلاغ والنظام المصدق المذكورين طلبًا في نوال عطف ذوي الفضل والهمم، وأرباب المكارم والشيم أمثالكم، وإعلانًا لحاجة الجمعية في مظاهرتكم لها في الخطة التي ارتسمتها، وبعيد الشأو الذي نصبته، لا عدمت الأمة الإسلامية تلك الأنفاس الطاهرة، وذلك القلم السيال بأسمى العواطف الشريفة وأنبلها، والمتحفز بنقي وجدان، وحساس شعور، وحي ضمير حر عرف ما له وما عليه. هذا ولم يفت الجمعية بهذه المناسبة أن تبدي لشخصكم الكريم عظيم شكرها وخالص امتنانها على تلك النفثات العبقرية التي تضوعت من خلال مقال نُشر لكم على صفحات صوت الحجاز في موضوع أوقاف الحرمين الشريفين فجاء بالحقيقة آية استفاضت من علم غزير، ومبدأ جليل، ونظر ثاقب، ورأي صائب، أبدع أساليب الحكمة، وضروب الحجج الناصعة، في تأييد حق أبلج، أبصرتم بوازع ما هو مسلم به لكم من غيرة دينية، وحمية إسلامية، وجوب مناصرته، والأخذ بناصية أهله إلى حيث مبتغاهم في الحصول عليه، جزاكم الله خيرًا، وأكثر للأمة الإسلامية من هذا المثل، أمثال علم وعمل وصدق وإخلاص. وإذ تعظم الجمعية لفضيلتكم أيادي أسديتموها، ومننًا أوليتموها، تؤكد لفضيلتكم بأنها عظيمة الثقة، وطيدة الأمل في أن يكون لها من شخصكم الكريم خير مستمد روحي، وأمثل ينبوع حكمي، تستنزف من متلاحق فيضه إرشادات قيمة، وأفكار نيرة، تُسهِّل لها مهمة ما أخذت على عاتقها تذليله من الصعاب، وكؤود العقبات التي تعترضها في سبيلها تجاه الغاية المرجوة والشأو المبتغى، تولى الله الجميع بعونه، وعين عنايته وتوفيقاته والسلام. ... ... توقيع 20- 12 - 1350 ... رئيس الجمعية * * * بلاغ من جمعية المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين غير خافٍ ما لهذه البلاد المقدسة وأهلها في سائر الأوساط الإسلامية كتونس ومصر وتركيا والعراق والهند وفلسطين وسوريا من أوقاف عظيمة، منها ما هو للحرمين الشريفين وخدمتهما خاصة، ومنها ما هو لعوائل معلومة، وأشخاص معروفين من مجاوريهما، لكل وقف شروط معينة، ولوائح مبينة لنوع الوقف وموقعه وحدوده ومقدار ما يستحقه الحجاز من ريعه السنوي، عكف نظاره على توفية المستحقين حقوقهم من هذه المحصولات طبق شروط الواقفين؛ ولكن أسبابًا وعوامل - ذهب المجموع في تعليلها كل مذهب - حالت هذه السنوات الأخيرة عن انتظام إيصال هذه المبرات الدائمة والحقوق الموروثة إلى أهلها. ولما لم يعد في قوس صبر الأمة منزع، اعتمدت بعد الله على ما بيدها من مستندات قيمة وحجج قويمة تؤيدها في مشروع حق لها موروث، وسارعت إلى تشكيل جمعية تحت عنوان (جمعية المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين) وألقت على كاهلها مهمة البحث بالطرق الممكنة والمشروعة عن أموال الأوقاف العائدة للحرمين الشريفين وأهلهما، وحصر جهودها في المطالبة بريعها السنوي، وإيصال ذلك إلى مستحقيه الأول فالأول، وإذ تعلن الجمعية اعتراف الحكومة السنية بتأسيسها وتصديقها نظامها الذي اعتزمت السير بمقتضاه نحو الغاية التي أسست من أجلها، تظهر حاجتها القصوى إلى استعطاف نظر أرباب الغيرة والحمية عليها من سائر رجالات المسلمين مستحثة - باسم الواجب الديني - هممهم، ومستنهضة عزيمتهم على مؤازرتها ومناصرتها في كل ما من شأنه يسهِّل لها مهمة القيام بهذا العمل الجليل، والمشروع الخطير. ولما كانت المادة التي تحتاج إليها الجمعية لتأمين مصروفاتها في سبيل تحصيل المعلومات وإرسال الهيئات وتعيين المحامين عند الحاجة واللزوم - إنما هي منحصرة في تبرعات المحسنين من رجال البر والإحسان في كل صقع من الأصقاع الإسلامية، وفيما يتكون من بدل اشتراك سنوي زهيد لا يقل عن ريال واحد مفروض على كل عضو من أعضائها؛ فإن الجمعية تدعو كل من يترتب عليه أداء هذا الواجب، وبالأخص عموم أفراد الأمة على اختلاف طبقاتها باعتبارهم أعضاء طبيعيين في هذه الجمعية إلى المبادرة بالقيام بما عليهم من واجبات، أهمها تقديم بدل الاشتراك المنوه عنه، ومظاهرة الجمعية في كل ما منه تشجيع وتعضيد لها على تحقيق غاية جليلة، وأمنية مضمونة الحصول والنفع العميم إن شاء الله. نظام جمعية المطالبة بأوقاف الحرمين الشريفين 1- تأسس في مكة المكرمة والمدينة المنورة جمعية تسمى (جمعية المطالبة بحقوق أوقاف الحرمين الشريفين) . 2- مركز الجمعية في المدينة المنورة يكون مربوطًا بمركز جمعية مكة. 3- غرض الجمعية خيري محض، ولا تتعاطى السياسة مطلقًا. 4- تبحث الجمعية بالطرق الممكنة والمشروعة عن أموال الأوقاف العائدة للحرمين الشريفين وأهلهما في أي جهة كانت. 5- يجري تنظيم كل ما تتحصل عليه الجمعية من نتيجة درسها ضمن لوائح تحتوي على نوع الوقف وجهته وغلته والبلدان التي توجد بها أعيان الأوقاف، والتي تستحصل غلالها منها برسم الخطط القويمة التي يستطاع مع تطبيقها الوصول إلى الشأو المبتغى. 6- تقوم الجمعية بحصر جهودها في المطالبة والملاحقة بأموال الأوقاف وإيصالها إلى مستحقيها بالاشتراك مع مديرية الأوقاف عند التوزيع. 7- تقوم الجمعية بالمطالبة بحقوق الأوقاف وتثبيتها سواء أكان ذلك عن طريق المرافعات بما يلزم من تعيين محامين أو إيفاد مندوبين من قبلها أو مخابرات الجمعيات والهيئات الخيرية في الخارج، أو ما في معنى ذلك. 8- للجمعية حق تشكيل فروع لها داخل المملكة طبق ما تقتضيه المصلحة واللزوم. 9- لعموم الوطنيين حق الانتساب إلى هذه الجمعية والاشتراك فيها بمبلغ لا يقل عن ريال واحد سنويًّا، كما يجوز لهيئة الجمعية قبول من يتراءى لها مصلحة في دخوله ممن يعلن الرغبة في الانضمام إلى الجمعية من سائر المسلمين. 10- تجتمع الجمعية العمومية لأول مرة برئاسة أكبر الأعضاء سنًّا، وبعد ذلك برئاسة رئيس الجمعية، أو من ينوب عنه في كل سنة مرة واحدة بمكة المكرمة والمدينة المنورة في شهر ذي القعدة بدعوة من هيئة الإدارة، أو بطلب عشرة أعضاء من الهيئة العمومية. 11- الهيئة العمومية تنتخب من بين أعضائها هيئة إدارية في رأس كل سنة لتنوب عنها في جميع أعمالها طيلة السنة. 12- تنظر الجمعية العمومية في الأعمال الآتية: أ- الحساب السنوي ب- الأعمال التي قامت بها الهيئة الإدارية، والتي عُهد إليها أمر القيام بها من قِبَل الهيئة العمومية. ج - الاقتراحات المقدمة باسم الجمعية. 13- تكون قرارات الجمعية العمومية صحيحة بالأكثرية الحاضرة على أن لا يقل ذلك عن ثلثي نصابها المؤلفة منه. نفقات الجمعية ومصاريفها 14- الأموال التي تحتاج إليها الجمعية للمصروفات في سبيل تحصيل المعلومات وإرسال الهيئات، وتقديم المحامين تكون من التبرعات التي يتبرع بها المحسنون، ومن مجموع بدل الاشتراك المفروض دفعه سنويًّا ومن قبل أعضاء اللجنة للصندوق طبق المادة (9) من هذا النظام. 15- تُرصد التبرعات والاشتراكات التي تُقدَّم إلى الجمعية في سجل خاص بها. 16- تُصْدِر الجمعية في نهاية كل سنة بيانًا عن عموم الأعمال التي قامت بها خلال تلك السنة وما دخل وأُنفق فيها. 17- تتألف هيئة الإدارة من عشرة أعضاء تنتخبهم الهيئة العمومية، والهيئة المنتخبة تنتخب من بين أعضائها رئيسًا ونائبًا وسكرتيرًا وأمينًا للصندوق. 18- تجتمع الهيئة الإدارية في الأسبوع مرة، ولها أن تقرب أوقات الاجتماع وموالاته يوميًّا عند الحاجة واللزوم. 19- لا تكون قرارات الهيئة الإدارية نافذة المفعول إلا بالأكثرية المطلقة. 20- الهيئة الإدارية تقوم بتنفيذ قرارات الجمعية العمومية وعرض مقرراتها وأعمالها إلى الجمعية العمومية عند اجتماعها. 21- يُعهد بجميع دفاتر الجمعية إلى السكرتير، وذلك فيما عدا دفتر الحساب الخاص بالدخل والنفقات؛ فإنه يكون من نسختين إحداهما في عهدة أمين الصندوق والآخر في عهدة رئيس هيئة الإدارة ونائبه، ويكون موقعًا على صحة حسابها من أكثر الهيئة الإدارية. 22- للجمعية حق مراجعة الدوائر ذات العلاقة فيما تحتاجه من إيضاحات ومطالعات وغير ذلك، وعلى الدوائر المذكورة أن تبذل منتهى الجهد في مساعدة هذه الجمعية وتسهيل أمر مهمتها اهـ. (المنار) إنه ليسرني تأليف هذه الجمعية، وأعدها بكل ما تكلفني إياه من مساعدة أقدر عليها، وأحث كل مسلم مخلص لدينه، ومحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولجيرانهما في حرميهما على مساعدتها، ولعلي أول من فكر في مسألة البحث عن أوقاف الحرمين العامة والخاصة بمصارف معينة، والمطالبة بها لأجل إيصال ريعها إلى مستحقيها، وأول من دعا إلى ذلك السعي بعد استيلاء الملك عبد العزيز السعودي على الحجاز، وقد كلَّمته بهذا عند وضعي للمباحث التي يجب بحث المؤتمر الإسلامي العام فيها، وكنت أرى أنه يجب أن يوضع عامئذ مثل ما وضع في هذا العام من النظام وتأليف اللجان لهذا العمل؛ ولكن المرض الذي كاد يقضي علي، ثم ما كان من شغب وفد جمعية الخلافة في المؤتمر الذي كاد أن يقضى عليه والاشتراك في معالجته قد حالا دون هذا وغيره مما كنت عازمًا على السعي لنهوض المؤتمر به تقريرًا وتنفيذًا. ثم إنني كنت أناقش هنا كثيرًا من رجال الحكومة المصرية وغيرهم في مسألة أوقاف الحرمين، وقد ذكرتها في المنار مرارًا آخرها المقالة التي نُشرت في الجزء الثاني من المنار، وفي جريدة الجهاد المصرية، وجريدة صوت الحجاز المكية الجديدة [1] ؛ ولكن أبت نشرها جريدة أم القرى الرسمية لحكومة الحجاز، وقد أرسلت إليها نسخة منها لنشرها. نعم أُرسلت في بريد معتمد حكومة الحجاز ونجد بمصر إلى وكيل وزارة الخارجية بمكة المكرمة، فكان من الغريب الذي لا يُعقل أن تأبى هذه الجريدة نشر هذه المقالة الحكيمة في الحث على القيام بحقوق الحرمين وسكانهما والدفاع عن حكومتهما، بدلاً من أخبار منشوريا وشنغاي وأمثالها، وكان المنتظر أن تأمر حكومة الحجاز بترجمة هذه المقالة إلى لغات أكثر الحجاج، وتطبع ألوفًا من أصلها العربي وتراجمها وتوزعها على الحجاج، ولعل المانع من ذلك اتقاء سخط حكومة مصر؛ ولكنا عجبنا من قول جلالة الملك في خطبته النفيسة على حجاج هذا العام إنه لم يدافع عنه أحد من المسلمين فيما يوجه إليه من المطاعن، مع علمنا بكثرة المدافعين عنه في كل قطر، فهل يُحجب عن جلالته ما ينشر في صحف الآفاق الإسلامية من ذلك فلا يقرؤه ولا يلخصه له ديوانه حتى هذه المقالة؟

إصلاح عظيم في وزارة المعارف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إصلاح عظيم في وزارة المعارف وإخراج الدكتور طه حسين منها وخروج أحمد بك لطفي السيد من الجامعة المصرية لقد كان أكبر هم الاحتلال الإنكليزي في مصر إفساد ما يتوقف عليه استقلالها في مستقبل أمرها، إذا قضت الأقدار الإلهية خروج جيشهم منها وهو المدارس والجيش، فأما الجيش فلا كلام لنا فيه هنا، وأما المدارس فكان همهم من السيطرة عليها تخريج نشء جديد لا هم له من الحياة إلا التمتع باللذات الجسدية والزينة في اللباس والأثاث والرياش والتنافس في خدمة الحكومة ووظائفها، والتوسل إلى ذلك بالشهادات المدرسية، والتملق للرؤساء المسيطرين من الإنكليز في المرتبة الأولى ومن صنائعهم الوطنيين في المرتبة الثانية. لهذا كان أهم ما عني به المسيطر على وزارة المعارف منهم (ألا وهو القسيس مستر دانلوب) أن يطمس كل أثر كان للدين الإسلامي في المدارس الأميرية، ولا يدع للتربية الإسلامية ولا للتعليم الديني منفذًا يشرف منه على القلوب، أو يشرق على العقول؛ تيسيرًا للإلحاد والإباحة أن ينفثا سمومهما في إفساد الأخلاق، وعبادة الشهوات، وإيثارها على هداية الملة، ومصالح الأمة، وحجابًا دون مقاصد الإسلام العالية في السيادة الملية، وعدم الخضوع لأي سيطرة أجنبية، أن تتمكن في الأذهان، وتغلغل في أعماق الوجدان، وإلهاء للمعلمين والمتعلمين عن ذلك بمظاهر التربية الوطنية الإقليمية، التي تفصل بين مسلمي مصر ومسلمي سائر الأقطار ولا سيما العربية، وهو الأمر العظيم الذي كان استشرف له محمد علي الكبير فحالت الدولة الإنكليزية دونه بحيلة الانتصار للدولة العثمانية التي كانت تراها سائرة إلى الانحلال. نجح مستر دانلوب في سياسته أتم النجاح، وشغل المدارس بألعاب الرياضة الجسدية عن ترويض الأرواح - على سهولة الجمع بينهما - وكان شر العواقب لنجاحه أن طبع وزارة المعارف المصرية بطابع سياسته، ووجهها شطر مقصده، حتى إذا جاء الاستقلال المقيد وصار أمر التعليم في أيدي الوطنيين كان بعض وزراء المعارف من بعده شرًّا على التربية والتعليم مما كان في عهده، بل لم ينهض وزير منهم لإصلاح التربية الدينية ومقاومة نزعات التفرنج وصد تيار الإباحة والإلحاد، الذي يقذف بالأمة في فوضى الأخلاق والفساد. ومن العجيب أن نرى جميع الأذكياء من العلماء والأدباء والكُتَّاب مجمعين على أن أقتل أمراض هذه الأمة فساد الأخلاق، وأنه لا ينفعها بدون تهذيب الأخلاق علم ولا استقلال، ثم لا نجد لهذا الإجماع أدنى تأثير في التربية المدرسية، مع الإجماع على فقد التربية المنزلية. وأعجب من هذا أننا لم نر من حزب من أحزاب البلاد السياسية، ولا من تقاليد الحكومة طريقة متبعة في اختيار وزير المعارف من رجال الإصلاح الملي والأدبي الذين يهمهم حفظ دين الأمة ووقايتها به من الفساد والفوضى؛ وإنما الطريقة المتبعة عند كل حزب تقسيم الوزارات بين رجال الحزب المستمسكين به، لا يصرفهم صارف عن جعل وزير المعارف أحد المعروفين بالإلحاد، كما لا يصدهم صاد عن جعل وزير الحربية أحد الأدباء أو رجال الاقتصاد. ولقد كان من مثار العجب جعل الأستاذ أحمد لطفي السيد المحامي وزيرًا للمعارف، حتى إذا ما تبوأ هذا المنصب مراد بك سيد أحمد القاضي الأهلي زال ذلك العجب، واعتقد كل غيور على الدين أن الحكومة المصرية متعمدة القضاء على هداية الدين في الأمة بتربية بنيها وبناتها على الإلحاد والإباحة المطلقة. لئن كان الدكتور طه حسين من سيئات الأول بتغذيته مبادئ الإلحاد في نفسه، وتجرئته على بثها بقلمه أولاً، وفي دروسه في الجامعة آخرًا؛ فإن الثاني قد ابتدع في وزارة المعارف من فنون التربية على الإباحة، وإلقاء جلابيب الحياء والصيانة، من رقص التهتك والخلاعة، وتصوير الشبان والشواب، مجردين ومجردات من الثياب، ما يتضاءل أمامه ذلك الإفساد القولي الذي يمكن إبطاله بما هو أقوى منه في نوعه. ليس بكثير على مثل مراد بك سيد أحمد أن يفترص ارتقاءه إلى منصب وزارة المعارف، فيبتدع فيها تعليم النابتة المصرية من البنين والبنات التمثيل الإباحي والرقص التوقيعي بأنه من الرياضة الجسدية وتجديد المدنية، ويربيهم على التجرد من الثياب بحجة الترقي في صناعة التصوير، وهو هو الذي كان قاضيًا فرُفعت إليه قضية رجل يطلب فيها عقاب أستاذ في المدارس على التصدي لتخبيب امرأته وإفسادها عليه بمخاطبته إياها في الطريق بعبارات التصبي والاستمالة، كقوله لها إن جمالها قد سلب منه الرقاد، وحكم عليه بطول السهاد، فحكم هذا القاضي الذي ارتقى من كرسي القضاء إلى كرسي الوزارة بأن ما وقع من الأستاذ المعلم المربي مظهر من مظاهر حب الجمال وهو فضيلة من الفضائل؛ وإنما يعاقب القانون على الرذائل، فحكم ببراءة الفاسق المتصدي لإفساد نظام الزوجية، وكفى به إفسادًا للأمة. أجدر برجل هذا رأيه وهذا وجدانه في القضاء أن يعد من أعلى الفضائل التي يخدم بها أمته بتربيتها عليها بالفعل تمتع شبانها وشوابها بكل ما في أبدان الحسان من الجمال الخفي والظاهر، على مذهب الشاعر القائل: حسن الغصون إذا اكتست أوراقها ... ونراك أحسن ما تكون مجردا ولكن الغريب المريب أن يجعل مثل هذا القاضي الجمالي والمجدد الإباحي وزيرًا للمعارف، وأن يبتدع فتنته وتقره هيئة الوزارة عليها، ولا تبالي إنكار أهل الدين ومحبي الصيانة لها، وما منعني أن أرفع صوتي يومئذ بمشايعة المستنكرين، إلا أنني ظننت أن الحكومة المصرية قد أجمعت أمرها على إلقاء هذا الشعب المتدين في فوضى الإباحة المطلقة، وقذفه في تيهور الإلحاد والزندقة، وأنه لم يبق لهذا المزاج الحكومي من علاج، إلا أن يصب الله المنتقم عليها صوت عذاب. بيد أن الحكومة لم تلبث أن أخرجت هذا الرجل من الوزارة، وجعلته سفيرًا لها في أوربة، وناطت وزارة المعارف بمحمد حلمي باشا عيسى فأبطل البدعتين الإباحيتين، فعلمنا أن ابتداعهما إنما كان بسوء رأي الوزير الذي افتجرهما، لا بمقتضى خطة إجماعية من الحكومة قام بتنفيذها. ثم إن هذا الوزير جعل الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب في الجامعة مفتشًا للغة العربية في الوزارة، فأخرجه من الجامعة التي يبث فيها إلحاده، فكان لإخراجه ضجة شديدة ورجة عنيفة في الجامعة، لا لأجل طه حسين نفسه، بل لأجل المحافظة على جعل الجامعة مستقلة كجامعات أوربة لا يملك وزير المعارف نقل عميد منها، ولا أستاذ إلا بقرار من مجلس إدارتها، وقد افترص هذه الضحة والرجة معارضو الحكومة فكبروها تكبيرًا وكبروا طه حسين بالتبع لها، فهب في وجوههم مجلس النواب المؤيد للحكومة، فطلب أحد أعضائه الدكتور عبد الحميد سعيد (رئيس جمعية الشبان المسلمين) استجوابًا من وزير المعارف في مسألة طه حسين واستنكار إبقائه في وزارة المعارف على ما عرف الخاص والعام من سوء سيرته في نفث سموم الإلحاد في الطلبة وإفساد عقائدهم وآدابهم بدروسه وكتبه، وقد ألقى المستجوب على المجلس بيانًا طويلاً لما تضمنته كتب هذا المدرس من نزعات الكفر والإلحاد والإباحة، فوعدت الحكومة المجلس بأنها ستنظر في مسألته وتقررها وما يرضي المجلس والأمة في شأنه. أسهب مجلس النواب والجرائد الموالية للحكومة في الطعن على طه حسين، فأطنبت الجرائد المعارضة لها في إطرائه، وذلك دأب المناظرات السياسية، وكان من تأثير إطراء الجرائد المعارضة وبعض طلبة الجامعة وغيرهم في نفس طه حسين أن شمخ أنفه، واهتز عطفه، فأفلت من لسانه ما أرادت الحكومة تحقيقه فسألته عنه فامتنع من الجواب، وعتا عتوًّا كبيرًا انتهى بعزله من وظيفة التفتيش قبل أن يعمل فيها عملاً، وهذا ما تبغيه المعاهد الدينية والنواب وكل مسلم يعرف إفساد طه حسين في الجامعة. وكان مما دفعته سيول هذه الحوادث أن استقال أستاذه ومربيه أحمد لطفي بك السيد من رياسة الجامعة المصرية، فقبلت الحكومة استقالته، فتم بذلك سرور أهل الدين. لقد أوتي طه حسين من الحظ والتأييد أضعاف ما أوتي من العلم والتأديب، فهو يدعي التجديد ولم يأت بجديد، إلا أن خدم دعاة النصرانية بالصد عن الإسلام وبغيه عوجًا، وقلد بعض فلاسفة الإفرنج في الشك والتشكيك، وهو ضرب من السفسطة قديم، كان الذين ابتلوا به يشكون فيما يرونه بأعينهم ويسمعونه بآذانهم، ويذوقونه بألسنتهم، حتى شكوا في وجود ذواتهم، فما تعوده أحد وانتحله مذهبًا له إلا وأعقبه جهلاً لا مخرج له منه، ومن شك في كلام الله، وفيما تواتر من أخبار الناس، فأنى له أن يوقن بآراء طه حسين، كلا إنما مثله كمثل من يبيع الموجود بالمعدوم، والمتحقق بالموهوم، أو كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} (النور: 39-40) . ولعل سبب تأييد بعض كبار الملاحدة له أنهم رأوه مستولغًا مستهترًا لا يبالي في سبيل الشهرة بالإلحاد والإباحة ذمًّا ولا عارًا، وهم حريصون على نشر هذه الدعوة في الجامعة المصرية ليهدموا بمعاول المتخرجين فيها كل ما بقي للإسلام في مصر من هداية دينية وجنسية عربية، فهم أرادوا جعل الجامعة حربًا على الأزهر وما يتبعه من المعاهد الدينية وعلى دار العلوم أيضًا، وقد صرَّح بعض كتابهم بهذا في مقالات نشرت في بعض الصحف، بل صرحوا بأن ثقافة هذه الجامعة المصرية ستحل محل ثقافة الأزهر الدينية في مصر وفي سائر البلاد العربية، ويسرنا أن بعض الذين جاهروا بهذا العداء للدين وصلينا نار قذفهم للرد عليهم فيه قد ثابوا في هذا العهد أو العام إلى رشدهم، وأنابوا إلى ربهم، ولقد كان أظهر الأسباب لعناية أولئك الملاحدة ببث دعايتهم في الجامعة هو اعتقادهم أن الشعب ما زال يغلب عليه الدين، فهو يحتقر في نفسه أمثالهم من الزنادقة والمعطلين، وقد رأى طه حسين أن في كفالتهم له وتقديمهم إياه ربحًا لا يصل إليه بدون هذه الوسيلة، وأن الذين لا يزالون يغارون على الدين لا ينصرون أنصاره، ولا يضرون أعداءه، إلا أذى من القول، وقد كان من دهائه وعدم مبالاته بالذم أن لا يرد على معترض، ولا يثأر من منتقص، فكان الرد عليه يزيده شهرة، ولولا كثرة الردود عليه لما ذاعت شهرته وانتشرت مصنفاته، فكان هذا من أكبر حظه أيضًا. ولعلمي بهذا لم أعن بالرد عليه والعناية بإظهار جهله، بل لم أنظر إلا في قليل مما كتبه، وكان المرحوم رفيق بك العظم أول من أنبأني بمقالاته في جريدة السياسة التي جعل عنوانها (حديث الأربعاء) وما فيها من الجناية على التاريخ العربي والإصلاح الإسلامي وإغراء النابتة بالفسق والإباحة - لأقرأها وأرد عليها فلم أفعل، ولعله كان رحمه الله أول من رد عليه؛ ولكنني عنيت بإظهار ما كان خفيًّا على الناس من أمر الحزب الذي اتخذه داعية له والجمعية التي تؤيده وتنوه به، وقد سميتها (جمعية الإلحاد وا

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي) مؤلفه الأستاذ الفاضل محمد أحمد الغمراوي خريج مدرسة المعلمين العليا بمصر ثم جامعة لندن في إنكلترة، وله مقدمة حافلة بقلم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان، طُبع في المطبعة السلفية بمصر سنة 1347 هـ 1929م وصفحاته بفهرسه دون مقدمته 325 وثمن النسخة 15 قرشًا. أما كتاب (في الأدب الجاهلي) الذي وُضع هذا الكتاب لنقده بالأسلوب الذي يسمى بالتحليلي، فهو كتاب للدكتور طه حسين الذي كان أستاذ أدب اللغة في كلية الآداب من الجامعة المصرية، وأُخرج منها في هذه الأثناء ثم عُزل من وزارة المعارف، وكان سماه (في الشعر الجاهلي) لخص فيه دروسًا في آداب اللغة العربية ألقاها على تلاميذه في الجامعة، كان أهم مقصد له فيها نفث سموم الإلحاد في أرواحهم بالتشكيك في عقائد الإسلام، بل صرح فيه بتكذيب القرآن العظيم، فضج المسلمون في غير الجامعة ضجيجًا شديدًا بالإنكار عليه، وكتبوا مقالات كثيرة وألفوا كتبًا ورسائل في نقض مطاعنه وغيرها من جهالته، فكان يطير بذلك سرورًا؛ لأنه سبب لطيران شهرته وعلو مكانته عند منافقي المسلمين أعداء الإسلام من الإفرنج وغيرهم، ولا سيما الملاحدة ودعاة النصرانية منهم، وهما الفريقان اللذان قد أيد دعايتهما وكان ما كتبه في الصد عن الإسلام أضر من كل ما كتبوه؛ ولكن آل ذلك إلى مطالبة النيابة العامة مقاضاته إلى محكمة العقوبات وإصدار رئيسها عقب التحقيق قرارًا في شأن كتابه شديد الوطأة عليه، وأبلغ من كل ما كتب من الطعن فيه، إلا أنه لم يثبت عنه أنه سيئ النية في طعنه، بحيث يحكم القانون بعقابه؛ ولكن جاء في صيغة القرار ما يدل على سوء النية، وقد أمرت الحكومة بمصادرة الكتاب وجمع ما بقي من نسخه ومنع نشرها، فنفذ ذلك. ذلك بأن مجلس النواب المصري كان قد ثار عليه يومئذ ثورة شؤمى، وارتأى وجوب عقابه ومنعه من التدريس، وكان رئيسه الزعيم الأكبر سعد باشا زغلول يرى ذلك؛ ولكن تصدى لمظاهرة الدكتور والدفاع عنه زعماء الحزب الدستوري الذي ينتمي إليه، فلما اشتد سعد باشا عليه بلغ من انتصار عدلي باشا له أن بلَّغ سعد باشا أنه يستقيل من الوزارة إذا عوقب طه حسين، وكان عدلي باشا رئيس الوزارة الائتلافية بعد الصلح بينه وبين سعد باشا، فاضطر سعد باشا إلى الإغماض والإغضاء، فكان هذا أغرب ضعف رأيناه من سعد باشا، وأغرب قوة وشدة عزيمة عرفناها من عدلي باشا ... ولماذا؟ لأجل إبقاء طه حسين في الجامعة المصرية ينفث سموم الإلحاد والزندقة فيها. بيد أن الدكتور طه حسين اضطر في أثناء هذه المحنة أن يصرح بقول ينجو به من عقاب الحكم عليه بتعمد الطعن في القرآن ومعاداة الإسلام، فصرح في كتاب كتبه إلى رئيس الجامعة يقول فيه إنه مسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله؛ ولكن مثل هذا الإقرار لا يكفي في إثبات رجوعه عما كان قاله وفعله منافيًا للإسلام؛ فإن أهل الكتاب يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله إجمالاً، وهو لم يأخذ طعنه في القرآن إلا عنهم؛ وإنما كان يجب أن يقر بأنه يؤمن بأن القرآن كلام الله تعالى المنزَّل على محمد رسول الله وخاتم النبيين، وأن كل ما فيه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن ما قاله له منافيًا أو معارضًا لذلك فهو خطأ. ثم إنه قد اضطر بعد هذا إلى أن يحذف أصرح ما قيل إنه تكذيب للقرآن ومناف للإسلام والإيمان من كتاب (في الشعر الجاهلي) ويزيد فيه بعض المباحث ويعيد طبعه مسميًا إياه (في الأدب الجاهلي) وهذا الكتاب الثاني هو الذي ألَّف الأستاذ الغمراوي كتابه في نقده وإثبات ما فيه من الجهل ومنافاة الإسلام والتشكيك فيه؛ ولكن طه حسين لا يبالي نقدًا ولا نقضًا، ولا يرد على ناقد ولا ناقض؛ لأنه إن فعل هذا يظهر جهله للمغرورين بعلمه من تلاميذه وغيرهم، وربما كان أكثرهم لا يقرءون كلام الذين يردون عليه، وما هو بالذي يتحرى الحق وما ينفع الناس فيرجع عما يظهر له خطؤه فيه. أما مقدمة الأمير شكيب أرسلان فلو لم يكتب في النقض الإجمالي لكتابيْ الدكتور طه حسين، أو كتابه ذي الثوبين أو الاسمين لما احتيج إلى غيرهما. وأما كتاب الأستاذ الغمراوي نفسه فهو لم يغادر صغيرة ولا كبيرة فيه إلا أحصاها، وحكم عليها حكمًا تحليليًّا عادلاً، ولعمر الحق إن طه حسين وكتبه الخلابة الإفسادية لا يستحقان كل هذه العناية؛ وإنما عني العلماء والأدباء بالرد عليه لما رأوا من عناية بعض الوزراء والكبراء به وبما يكتبه وبدفاعهم عنه، ولهذا زاد الأمير شكيب أرسلان على الأستاذ الغمراوي إلقاء ذنبه على وزارة المعارف، ووضع ذنبها على برلمان البلاد، وذنب البرلمان على الأمة المصرية. إن دعاية الإلحاد التي ينفث سمومها طه حسين في أرواح طلبة الجامعة، وقد دون أصولها في كتابه هذا مبنية على قاعدة التجديد، تجديد الأدب، وإن مادته فيها كتب دعاة النصرانية وكتب بعض المستشرقين، ولا سيما أعداء الإسلام منهم، كالدكتور مرجليوث الإنكليزي المشهور، وإن أسلوبه فيهما هو ذم كل قديم في الإسلام وكتبه وآدابه وأئمتها والتشكيك في كل حق وحسن منها بعبارات التهكم والاستهزاء، وأما حجته فيها فهي أنها مقتضى النقد التحليلي الذي يزعمون أنه من وضع الإفرنج، وما هو من وضع الإفرنج، بل كان معروفًا عند سلفنا علماء العرب وأدبائهم، فمنه ما تراه في مقدمة حكيمنا ابن خلدون من نقده لكتب التاريخ، ومنه ما كتبه كثير من العلماء والأدباء في نقضهم للشعر ولبعض كتب العلم كنقض شيخ الإسلام ابن تيمية لكتاب أساس التقديس للإمام الرازي ونقض علم المنطق. وإذا قرأت كتاب النقد التحليلي للأستاذ الغمراوي فإنه يثبت لك أن الدكتور طه حسين لا يملك من هذا النقد إلا خلابة اللفظ، فيما سداه الدعوى ولحمته الجهل، وحسبك اعتماده فيه على الشك؛ وإنما الشك دون الظن، والظن دون العلم، وقد بيَّنا هذا في المنار من قبل. وفي كتاب الغمراوي من الحجج القيمة على جهله ما لا يمكن رده، وفيه من الفوائد العلمية والقول الحق في المسائل المبحوث فيها وفيما حولها ما لا يستغني عنه طلاب الأدب، فنحث القراء على مطالعته والاستفادة منه. * * * (كتاب البروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية) (مؤلفه الشيخ عبد الله بن علي النجدي القسيمي من طلاب العلم في الأزهر، وطُبع بمطبعة المنار بمصر سنة 1350، وصفحاته 203، وثمن النسخة منه 5 قروش) أسرف الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي في الطعن على جماعة الوهابية فيما ينشره من المقالات في مجلة الأزهر المسماة بنور الإسلام، كما أسرف في فتاويه التي تنشرها هذه المجلة، فيما ادعاه من شرعية دعاء الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد، وإيهام الجاهلين بأصول التوحيد أن الصالحين منهم يستجيبون لمن يدعوهم ويستغيث بهم فيغيثونه ويقضون حوائجهم، فهو ينصر بهذه الفتاوى من أفسدت عليهم الخرافات الوثنية دينهم ودنياهم، فهم يَتَّكِلون على أصحاب القبور ويطلبون منهم ما لا يطلبه المؤمن الموحد إلا من الله عز وجل، كما بيناه في الجزء العاشر من المجلد 31. وقد كان لعدم اطلاعه على كتب الوهابية في التوحيد وإبطال البدع والخرافات والرد على دعاتها المدافعين عنها يظن أنه لا يوجد فيهم علماء يقدرون على تفنيد شبهاته وإبطال خرافاته، وكيف وهو محلى بلقب (أسد هيئة كبار علماء الأزهر) حتى تصدى أحد طلاب العلم منهم بالأزهر للرد عليه بهذا الكتاب، فظهر لمن اطلع عليه أن مؤلفه الطالب المبتدئ أعلم من الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي بعقائد الإسلام ومذاهب المسلمين وبالتفسير والحديث النبوي وبأقوال أئمة علماء السنة؛ فلذلك كبر عليه وعلى الأستاذ الأكبر أمره، وعاقبوا مؤلفه بحرمانه وحرمان زميله من إخوانه النجديين بما سنذكره. بلغنا أن الأستاذ الدجوي أكبر هذا الكتاب، فأنكر أن يكون هذا الطالب النجدي هو المؤلف له، وقال: لا بد أن يكون مؤلفه صاحب المنار، وهذا غريب من فضيلته؛ فإن لصاحب المنار أسلوبًا في الكتابة غير أسلوب هذا الكتاب، ولونًا غير لونه، وطعمًا غير طعمه، وإن اتفقا في المسألة، فإذا كان الأستاذ الدجوي لا يميز بين الألوان والأساليب الكلامية كالحسية، أفلا يذوق طعمها أيضًا؟ ومتى كان صاحب المنار يعير قلمه لغيره ويكتم علمه ورأيه؟ ولو اطلع على كتب علماء نجد في هذه المسائل لما استكثر على طالب منهم مثل هذا الرد عليه. الكتاب مؤلف من مقدمة وأربعة أبواب، أما المقدمة فقد افتتحت بقصيدة فخرية للمؤلف منتقَدَة في ذوقنا، يليها تفسير كلمة الوسيلة وتقسيم التوسل إلى مشروع وهو أحد عشر نوعًا، وممنوع غير مشروع وهو ما يثبته الشيخ الدجوي وأمثاله. وأما الأبواب فالأول منها في إبطال ما ادعاه الشيخ الدجوي من أدلة القرآن على التوسل الممنوع وهو ست آيات، والثاني في إبطال ما ادعاه من الأدلة الحديثية وهي 14، والثالث في محق أدلته العقلية، والرابع فيما احتج به من أقوال العلماء، وفي كل باب منها مسائل كثيرة أظهر فيها من أغلاط الشيخ الدجوي وجهله بأصول الشرع الاعتقادية والفقهية وقلة اطلاعه على كتب السنة وعدم وقوفه على الصحيح وغيره، ومن ضعفه في الاستدلال، ما لم يكن يخطر لأحد من الأزهريين على بال، ولو أردنا إيراد الشواهد منه على ذلك لطال بنا المقال. ولمَّا اطلع عليه الشيخ ضاق به ذرعًا، ولجأ إلى رئيسه الأستاذ الأكبر؛ لينتقم له من هذا الطالب النجدي المجاور في الأزهر، فيقال: إن الشيخ لجأ أولاً إلى الحكومة كعادته وطلب منها مصادرة الكتاب، فسأله صاحب الدولة رئيسها: هل يوجد في الكتاب طعن في الدين يمنعه القانون ويعاقب عليه؟ قال: لا، وإنما فيه تأييد مذهب الوهابية والانتصار له، قال الوزير: إن له أن يدافع عن مذهبه ويؤيده كما تدافعون عن مذاهبكم وتؤيدونها. فلجأ ثانيًا إلى حمل المؤلف على بيع الكتاب لهم بثمن بخس، ووعده بأن يُعطى شهادة العالمية في أقرب وقت، فلم يقبل لأنه يطلب العلم لأجل الانتفاع والنفع به ابتغاء وجه الله تعالى لا لأجل الشهادة الرسمية. فلما أعيته الحيلة فيه انتهى ثالثًا إلى سلطته الرسمية، وهو لا يسئل فيها عما يفعل، فقطع أولاً ما كان له ولرفيق له من النجديين من رزق قليل، وانتهى آخرًا إلى قطع اسمه من سجل المجاورين وإخراجه من مأواه معهم، فإذا صح هذا كما يظهر فهو حجة ناهضة على عجز مشيخة الأزهر وعجز مجلتها عن طالب علم وهابي مبتدئ، فهل يليق بهم بعد هذا أن يعودوا إلى الطعن في الوهابية في مجلتهم، وقد صارت هذه المجلة حجة عليهم لا لهم. بيد أن الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي مفتي هذه المجلة ومجادلها قد راعه تحدث بعض الأزهريين وغيرهم في مسائل من رد هذا النجدي عليه تعد من أكبرالفضائح الهادمة لصيته السابق، فطفق يرد عليها في المجلة بأسلوبه المعروف وطريقته الجدلية في المغالطة، منها الحديث الموضوع الذي يتخذه هذا الشيخ وأمثاله من القبوريين حجة على ما يسمونه التوسل بذوات الأنبياء والصالحين وسؤال الله تعالى بحقهم عليه وبأشخاصهم، وهو ما رواه الحاكم في مستدركه عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا أنه لما اقترف آدم الخطيئة قال: (يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال الله يا آدم وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك، رفعت رأس

تتمة ترجمة السيد محمد بن عقيل ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تتمة ترجمة السيد محمد بن عقيل (2) كنت أود لو أتيح لي كتابة ترجمة لصديقي السيد محمد بن عقيل رحمه الله في وقت فراغ يسهل علي أن أراجع مكتوباته الكثيرة المحفوظة عندي وما نشرته في المنار من المسائل الإصلاحية التي اختلف فيها رأينا واعتقادنا؛ ولكنني لا أملك من هذا الفراغ كثيرًا ولا قليلاً، لهذا أقتصر على مسألة واحدة هي أمها وأهمها. اقتراحي على العلويين وشيعتهم: أنا أعتقد أن شر ما مُني به الإسلام هو الخلاف والشقاق، وأن أضر أنواعه ما كان بين أهل السنة والشيعة، فلقد كان كل ضر دون ضره، وكل شر أهون من شره، ولا أستثني ردة المرتدين ولا قتال الكافرين، ولا ظلم المستبدين، وأعتقد أيضًا أن الغلو في أئمتنا آل البيت العلوي النبوي عليهم السلام كان أضر عليهم من كل ما أصيبوا به من البلاء والمحن، بل كان هو سبب أكثرها. إنما أستثني عداء بني أمية لهم فهو عداء موروث من عهد الجاهلية أذكى ناره في قلوبهم بعد الإسلام حب الرياسة وعظمة الملك، ولَذَّات الدنيا، واعتقادهم أن أولئك الأئمة أولى وأحق بالإمامة منهم، وأن الأمة لو تُركت وشأنها فإنها تفضلهم عليهم. وأعتقد أن شر ذلك الضرر على أكثر سلائل أولئك الأئمة الهادين المهديين هو ما حدث في أنفسهم من اعتقاد أن شرف النسب أعلى من شرف العلم والعمل لإعزاز الملة، ومصالح الأمة، وأنه يغني عنه فيما تحبه الطباع من كراهة الجاه ونعمة المال، فأعرض الأكثرون منهم عن الجد والاجتهاد في تحصيل العلوم والفنون، والجهاد في سبيل مصالح الأمة العامة، اكتفاء بشرف النسب الذي يجذب الرؤساء والحكام إلى تقبيل أيديهم والأغنياء إلى بذل كثير من المال لهم، فصار جميع الذين فتنوا بهذا المظهر منهم عالة على الناس، ولقد حرَّم الشرع عليهم الصدقات تكريمًا لهم فأحلوها لأنفسهم بهذه الفتنة، وتوهمهم أن تقبيل المتصدقين عليهم لأيديهم ينافي كون تلك الصدقة من أوساخهم التي كرمهم الشرع بمنعهم منها. حدثني صادق باشا أحد شرفاء مكة المشهورين، قال: إنني أردت أن أُعلِّم أولادي في مدارس الدولة في الآستانة فبلغني رئيس كتاب السلطان عبد الحميد أن جلالة السلطان لا يرضيه ذلك لأنه لا يليق بأبناء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزاحموا سائر طبقات الناس في المدارس توسلاً بها إلى الدنيا، وأن أكبر رجال الدنيا ليقبلون أناملهم تبركًا بهم وتقربًا إليهم، فأحضرت لهم معلمًا يلقنهم الدروس في داري فبلغني (الباشكاتب) كراهة السلطان لذلك ومنعني منه، والسبب الباطن لهذا المنع أن السلطان كان يكره أن يوجد في أبناء هذه الأسرة المشهورة في الأشراف علماء يعرفون أصول الشرع وطبائع الأمم وسنن الاجتماع لئلا تسمو هممهم بالعلم إلى قيادة الأمة التي تمكِّنهم من ناصية الملك. فلما رأيت ما يبثه السيد محمد بن عقيل وشيخه السيد أبو بكر بن شهاب - عفا الله عنهما - من تجديد الغلو في إطراء العلويين والاحتجاج لهم في استعلائهم على الناس بأنسابهم، حتى بما يجدد التفريق بين المسلمين وإلقاء العداوة والبغضاء بينهم من الطعن في بعض الصحابة وأئمة السنة - اعتقدت أن هذه الدعاية ستأتي بضد ما يرومه دعاتها منها في هذا العصر الذي تغلغلت في شعوبه وأقوامه كلها نزعة المساواة التي يعبرون عنها في عرف هذا العصر بكلمة (الديمقراطية) وأنه ستهيج عليهم الناس وتحملهم على بغضهم والطعن فيهم وفي أنسابهم - وكان الأمر كذلك كما تقدم - ففكرت في تلافي هذا الشر قبل تفاقمه، وتوجيه عصبية النسب إلى عمل لا يمكن إعلاء شأن أهل البيت النبوي، وحمل المسلمين كافة على الاعتراف بفضلهم وشرفهم في هذا العصر بغيره، فاهتديت لما أذكره هنا بمعنى ما كتبته يومئذ لعدم تمكني من مراجعته، وربما كان هنا أوضح من ذاك: اقترحت عليه السعي لإنشاء مدرسة جامعة خاصة بآل البيت يتخرج فيها الإخصائيون النابغون في جميع العلوم الدينية والدنيوية والفنون التي عليها مدار العمران في هذا العصر، فيكون منهم الذين ينفردون بعلوم القرآن، ويكونون المرجع للأمة في تفسيره وبيان إعجازه وصراط هدايته المستقيم، وما أودع فيه من الحكمة وإصلاح البشر، ودفع الشبهات التي تحوم حوله، وسائر ما يعرض للناس في هذا العصر من ذلك. ويكون منهم حفاظ الحديث وعلماء روايته ودرايته وتحرير كل ما يحتاج الباحثون إلى تحقيقه فيه من جرح وتعديل واستنباط لما قصر فيه المتقدمون من حكمه وأحكامه وسياسته وسائر ما يحتاج إليه أهل هذا العصر من هدايته. ويكون منهم أئمة الفقه وأصول التشريع القادرون على بيان ما في الشريعة السمحة من أصول الإصلاح للبشر الذي تفضل به جميع القوانين الوضعية، وأساتذة علوم اللغة العربية وآدابها الناهضون بترقية التعليم والتصنيف فيها على المناهج التي ارتقت بها لغات الأمم الحية والمتقنون لجميع اللغات الراقية. ويكون منهم الأطباء في كل فرع من فروع الطب والمهندسون البارعون في كل نوع من أنواع الهندسة والفلكيون وعلماء الاقتصاد السياسي والماليون. ونقول باختصار: يجب أن يتخرج منهم في هذه الجامعة كل صنف من العلماء والعاملين الذين تحتاج إليهم الأمة الإسلامية فيما يجب أن تتوجه إليه في نهضتها التي تحيي بها مجد الإسلام وسيادته وإصلاحه للبشر ليتولوا ترقية التربية والتعليم والإرشاد والتهذيب في المدارس وتأليف الجمعيات الدينية، والعلمية والخيرية، والأحزاب الاجتماعية والسياسية والشركات المالية وغير ذلك، وحينئذ تعلم الأمة أن سلائل آل بيت نبيها هم سادتها وأئمتها وسفينة نجاتها مما سقطت فيه من الذل والجهل والتفرق والتمزق. ويتوقف هذا المشروع على وضع نظام لجمع المال الكثير له من جميع أقطار الأرض بطريقة مأمونة موثوق بها، يقتنع كل من وقف عليها بأن ما يدفعه سيصرف في الغرض الذي جبي لأجله، وعند الشروع في جباية المال يعلم المحبون الصادقون لآل البيت، ويعلم المنافقون والمقلدون الذين ينحصر حبهم لهم في مآتم عاشوراء، ونقل رمم الموتى إلى النجف والكاظمية وكربلاء، وما إلى ذلك من البدع التي سيقضي عليها روح هذا الزمان بسرعة عجيبة. قد انتشر اقتراحي هذا واشتهر حتى إن بعض المخلصين من شيعة العراق طبعوه في رسالة صغيرة نشروها في الناس؛ ولكن السيد محمد بن عقيل الذي كان أول من خوطب به وعرف قيمته لم تسم به همته إلى السعي لتنفيذه ولا سعى غيره من العلويين ولا من الشيعة لذلك. بيد أن الملك فيصلاً أنشأ في بغداد مدرسة باسم (جامعة آل البيت) لم يتح لها من رجال العلم وأئمة الإصلاح من يعطيها حقها، فقضي عليها في مهدها. وأختم هذا البحث هنا بكلمة نصح أخص بها إخواني مؤسسي جمعية الرابطة العلوية في جزائر الهند الشرقية وغيرها (والرائد لا يكذب أهله) وإن اتخذني الجاهلون منهم خصمًا لهم، وهي: تساهلوا ما استطعتم في الصلح بينكم وبين الإرشاديين، واعلموا أن التواضع خير لكم من التكبر، وأن تفضيل الناس لكم بشرف النسب لن يكون في هذا الزمان إلا بوسيلتين أقربهما وأسهلهما مكارم الأخلاق وعمل البر، وأبعدهما النبوغ في العلوم والأعمال الإصلاحية العامة التي اقترحتها عليكم من قبل، واعتبروا بالدولة البريطانية (الأرستقراطية) التي صار رئيس وزارتها من حزب العمال، واعلموا أن تكريمكم لنسبكم رهين بحفظكم لحرمته بأدبكم، ولا تنسوا قاعدة الشرع في الغنم والغرم، فمن يؤتى أجره مرتين، يضاعف له العذاب ضعفين، وسأفصِّل هذا في مقال مستقل إن شاء الله. (للترجمة بقية)

الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت في العشر الأخير من رمضان هذا العام قضى نحبه ولقي ربه صديقنا الأستاذ الكبير، العلم الشهير، الشيخ مصطفى نجا مفتي بيروت ورئيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية، فخسرت بوفاته الأمة الإسلامية والبلاد السورية رجلاً من أفضل رجال عصره علمًا وفضلاً وديانة وصيانة ووطنية وإخلاصًا ودفاعًا عن الدين وقدوة صالحة في التقوى والعمل الصالح النافع للأمة والوطن، في مصالح الدين والدنيا، بغيرة وشدة لا هوادة فيها ولا مداراة، وأخذ بالعزائم لا يجنح فيه إلى رخصة إلا ما صرح به الفقهاء، بيد أنه كان على تقليده للفقهاء في العمل والفتوى لم يهبط به الجمود إلى غمط حق أولي الاستقلال في العلم والفهم، الداعين إلى هداية الكتاب والسنة إذا رآهم من المعتصمين بحبل الله والأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا من الجاهلين الأدعياء الذين يتبعون أهواءهم، ويتخذون دعوى اتباع الدليل ذريعة لمخالفة علماء المذاهب وتجرئة العوام على المعاصي. كان من قراء المنار منذ إنشائه الراضين عنه وعن منشئه، بل المحبين المثنين، وقد نشرنا له فيه ما قرظ به تفسيرنا وكتابنا الوجيز (خلاصة السيرة المحمدية) ولم ينكر علينا يومًا شيئًا مما قررناه أو أفتينا به مخالفًا لما يراه تقليدًا لفقهاء مذهب الشافعية الذي يعتمد عليه في عبادته، أو مذهب الحنفية الذي كان يفتي به بحكم وظيفته، وكنت من جهتي أعذره في تشديده التقليدي فيما يقوم الدليل من الكتاب والسنة أو قواعد الأصول على الرخصة أو السعة فيه، وأرى أن من مصلحة الشعب أن يوجد فيه مثله في الورع والتقوى والنفور من اللهو واللعب ولو مباحًا تجاه ما يوجد فيه من الفساق والميالين إلى الإباحة المطلقة ومن القدوة السوأى في بعض الذين يعدون من علماء الدين، وأرى أن الاعتدال في الإرشاد بوضع كل من العزائم والرخص في مواضعها لا يظهر أنه اعتدال بين طرفين إلا إذا وجد من يقفون في كل طرف منهما موقفًا ظاهرًا. أجدر بي أن يحزنني موت صديقي الشيخ مصطفى نجا، وإني لأراني أحق بأن أعزى عنه من أن أعزي، وكنت أرجو أن يكتب إلي بعض آله أو تلاميذه ترجمة له أنشرها مع تأبينه ورثائه فخاب الرجاء إلى الآن، وعسى أن تكون هذه الكلمة باعثة لأحد منهم على كتابة ما يدونه المنار من تاريخه النافع (رحمه الله تعالى) .

عبد الحميد بك الرافعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عبد الحميد بك الرافعي في اليوم السابع عشر من شهرنا هذا اهتزت أسلاك البرق وخفقت بنعي صديقنا الكريم، وولينا الحميم، عبد الحميد بك الرافعي رحمه الله تعالى، وفي مثل هذا الشهر من سنة 1348 احتفل في طرابلس بالعيد الذهبي لهذا النابغة السوري العربي، وقد بيَّنا مناقبه ووصفنا أدبه في المنار يومئذ، فلم يكن بين الاحتفال بعيد مجده، والاحتفال بتجهيزه لعيد لقاء ربه إلا سنتان فقط، فسبحان الذي يحيي ويميت وإليه المصير، ولقد كان عازمًا على زيارة مصر في هذا الربيع، فسررنا جد السرور بخبر عزمه، ومنينا النفس بعودة ما كان لنا في سن الشباب من التمتع بأدبه، ولم نلبث أن حزنا أشد الحزن لما حال دون إنجاز وعده، فنسأل الله تعالى أن يجمعنا به في دار كرامته. ليس المقام الآن مقام التأبين والرثاء، بل مقام الصلاة والدعاء، والعبرة والعظة، والشهادة الحسنة بما نرجو به لفقيدنا الرحمة والمغفرة، فلقد كان أحسن الله مآبه، وأجزل ثوابه، من أحسن الناس أخلاقًا، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن خياركم أحسنكم أخلاقًا) رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا) رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه. وكان رحمه الله من أوصل الناس للرحم وأبرهم بالوالدين والإخوة والأهل، فهو المربي لغير واحد من إخوته، ولا يزال في كنفه كثير من أولادهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الرحم شجنة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته) رواه البخاري من حديث أبي هريرة وعائشة، وقال صلى الله عليه وسلم: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) متفق عليه من حديث أنس ورواه البخاري من حديث أبي هريرة. إن أدب عبد الحميد لا ينسى، وإن شعره الخالد لا يبلى، وإن ذكراه بنجابة نجليه لأدوم وأبقى، فهما المثل الحي لآدابه وفضائله، والعزاء للوطن عن شخصه، وإن سميرًا لشاعر عصري وكاتب مجيد، ووطني صادق، فلا زال هذا البيت الكريم مفخرًا للعرب، في العلم والأدب، والفضل والحسب، آمين.

نهضة جديدة لإحياء لغة الإسلام العربية في البلاد الهندية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نهضة جديدةلإحياء لغة الإسلام العربية في البلاد الهندية لعل صاحب هذه المجلة (المنار) أول من فطن في هذا القرن لما غفل عنه المسلمون منذ بضعة قرون من كون الإسلام قد جعل اللغة العربية لغة لجميع المسلمين بالتبع لدينهم الذي هو كتاب الله المنزَّل بلسان عربي مبين، وسنة رسوله العربي الكريم، وإن هذا أمر مجمع عليه بين المسلمين وجرى الخلفاء الراشدون والأمويون والعباسيون على تنفيذه في جميع الشعوب غير العربية إلى أن قوي الأعاجم وصار لهم دول تتعصب للغاتها وترجحها على لغة دينها بجهل ملوكها وحكامها بحقيقة الإسلام وبنائه على أساس الوحدة الدينية والاجتماعية والسياسية التي تحقق أخوة الإسلام وكون أهله أمة واحدة لا يفرق بينهم جنس ولا وطن ولا لغة. دعونا المسلمين إلى إحياء لغة دينهم منذ عشرات السنين، وكان أكبر أملنا في إجابة هذه الدعوة من قبل الشعوب الأعجمية الشعب الهندي؛ لأن تمسكه بلغته الأوردية ليس مقترنًا بعصبية دولية كعصبية الفرس والترك، بل عصبيته الإسلامية أقوى من كل عصبية؛ وإنما كان جعله التعليم العام بلغته الوطنية وجعله العربية لغة علماء الدين فقط لأسباب عارضة لا محل هنا لبسطها، وطالما كلمت العلماء والزعماء منهم الذين كنت ألقاهم بمصر في وجوب إحياء اللغة العربية في بلادهم، فيعترفون بالوجوب ويعتذرون بالعجز عن أداء هذا الواجب. ولما زرت الهند في سنة 1330 إجابة لدعوة جمعية ندوة العلماء لرياسة مؤتمرها العام كلمت كثيرًا منهم في هذا الواجب، ونوهت به في بعض الخطب العامة التي ألقيتها في معاهد العلم، ولا سيما مدرسة ديوبند العلماء فرأيت منهم قبولاً وارتياحًا. وأبشر العالم الإسلامي اليوم بأنه قد وصل إلينا قبل إتمام تحرير هذا الجزء من المنار - الذي تأخر صدوره عن وقته ليصدر مع الذي بعده - مجلة عربية أنشئت في لكنهؤ مركز ندوة العلماء باسم (الضياء) لأجل هذا الغرض، وجعلت تحت إشراف صديقينا الأستاذين الجليلين السيد سليمان الندوي والعلامة الشيخ تقي الدين الهلالي المغربي؛ فإننا نعجل بنشر فاتحتها للأول في هذا الجزء وهذا نصها: بسم الله الرحمن الرحيم طلوع الضياء (بقلم العلامة الجليل الأستاذ السيد سليمان الندوي رئيس دار المصنفين) باسمك اللهم نفتتح وبك نستعين، فنعم الفاتح أنت ونعم المعين، فاشرح لنا ربنا صدورنا، ويسر لنا أمورنا واهدنا سبيل الرشاد، وألهمنا طريق السداد، واحلل عقدة من لساننا ليفقهوا قولنا، ونصلي ونسلم على النبي العربي الأمين، الذي أُنزل عليه الكتاب بلسان عربي مبين. وبعد، فللإسلام مزايا تفوت الإحصاء دررها، وتستغني عن الأنباء غررها، إحداها أنه دين وحدة الشعوب والأمم، ودين مؤاخاة البشر، والنصيحة لعامة الصالحين، ومن الوسائل التي اتخذها لتحقيق بغيته هذه أن جعل للمؤمنين بقرآنه والخاضعين لسلطانه، على اختلاف ألسنتهم وبلدانهم، وجنسياتهم وألوانهم، لغة خاصة وهي لغة كتابه المنزَّل من السماء يتفاهمون بها معاني القلوب، ويتعارفون بها [1] هواجس الأفكار، ويخطب بعضهم مودة بعض، فهي على تقلب من الأحوال لغة عصبة الأمم الإسلامية منذ قرون وأجيال قد رأى الآن رجال من النصارى الإفرنج في حلمهم أن يدعوا أممهم إلى الوحدة الإنسانية، والمودة البشرية، فأحدثوا لغة واحدة يسهل عليهم أخذها، يتحادثوا (؟) بها الأقوام، وينادوا (؟) بها إلى الالتحام؛ ولكن أولي النهى ممن يرون العواقب رأي العين يفتون أن لا بقاء للغة إلا إذا كانت لها دعائم من الدين والسياسة يتعصب لها ذووها، ويسعى لها بنوها، وإن الإسلام قد قضى وطره منها منذ خُلق، فجعل لأممه المنتشرة في أكنان الأرض مشارقها ومغاربها لغة تعم أطرافها، وتضم أشتاتها، وهي لغة نبيها المصطفى، ودينها المرتضى، وكتابها المنتقى، وهي لغة علومهم، وآدابهم وحضارتهم، ولها أهل يحمون حوضها، ويذبون عن حماها، فهي تبقى معهم مهما بقوا، وترحل معهم أينما رحلوا، وتحل معهم بأي أرض حلوا، وهي تجمع بين دفتيها دفاتر أربعة عشر قرنًا، فيها الدين والشرع، والرواية والأثر، والتاريخ والخبر، والشعر والأدب، والجد واللعب، تلم بين طرفيها شعث ما تركه سلفهم، وكسبه خلفهم، وما جادت به طبائعهم، وفاضت به ينابعهم (؟) وفاهت به مجامعهم، وزرعته أفهامهم، وحصدته أقلامهم، وما أبدعوا من أنواع الطرف، وما أودعوا من أوراق الصحف، فلغتهم هذه كنز خير لهم لا يفنى، وثوب فخر لهم لا يبلى. لا تكاد تجد قرية احتلها المسلمون من بلاد الأرض إلا وفيها رجال ينطقون بالضاد ويتغنون بالقرآن، ويفهمون لغة قريش، ويتدارسون آداب العرب، وإن كانت في لسانهم عقدة، وفي بيانهم عجمة، هذه بلادنا الهند فيها نحو من ثمانين مليونًا من المسلمين، وفيها نحو من مليون ممن يفهم لغة القرآن ويعرفها، وإن لم تكن لهم قدرة على التكلم بها، وتقدر مدارسهم العربية بألف من صغارها وكبارها، وطلبة العربية فيها نحو من مائة ألف أو يزيدون؛ فإن صقعًا واحدًا من أصقاع الهند يعرف ببلاد بنغال يضم بين جناحيه ستين ألفًا من طلبة العلوم العربية وتلامذتها، وتجد في مدينة واحدة وهي دهلي عاصمة الهند نحو مائة مدرسة عربية بين صغيرة وكبيرة أثراها مدرسة جامع فتحبوري، وأعمرها المدرسة الأمينية، وتلقى في مدرسة واحدة وهي المدرسة العالية في ديبوند أكثر من خمسمائة طالب تدر على أكثرهم المدرسة رواتب شهرية تفي بمآكلهم وملابسهم، ودع عنك دار علومنا التي قامت بتأسيسها ندوة العلماء بلكنهؤ فهي أحدثها عمرًا، ولكل منها من المزايا ما لا يخفى على ذي عينين. وعلى ذلك ما يؤلمنا ذكره، ويشوكنا نشره، أن هؤلاء الجم الغفير، والعدد الوفير، أكثرهم بكم عن التكلم (؟) باللغة العربية، ولهم عي عن الكتابة البديعة السلسة المنسجمة فضلاً عن الخطابة فيها مرتجلين، وليست كتابتهم إلا في أمور طفيفة من الفقه، أو أبحاث سمجة في المنطق، تمجها الآذان، ولا تسمن ولا تغني من جوع العلم، وتنبو طباعهم عما تنشره الصحف والمجلات الأردية، فلا يقرءونها، فيستفيدوا، فيُحرمون من حظ وافر من العلم الذي يتزايد أمره كل يوم، وينمو شأنه كل صباح ومساء، وزادك (؟) أسفًا لو رأيت مناهج دروسهم العقيمة، وما فيها من الكتب السقيمة، ذات الأساليب الرميمة. وأول من تنبه لسد هذا الخلل، وملافاة هذا الخطأ، دار العلوم التي أسستها ندوة العلماء بلكنهؤ، فأفرغت جهدها في تعليم اللغة العربية قديمها وحديثها كتابة وخطابة، وزادت في قائمة درسها كتب الأدباء المجيدين، من السلف الكرام المجيدين، الذين كتبهم ينبوع الأدب، ومادة لغة العرب، مثل مصنفات ابن قتيبة الدينوري، وعبد القاهر الجرجاني، وقدامة بن جعفر البغدادي، وأبي الهلال العسكري، وجاحظ البصري، واستبدلت دواوين قدماء الشعراء بما تكلفته خواطر المحدثين المتأخرين بعد القرن الرابع. ثم وضعت بعض كتب ابتدائية لدرس المبتدئين، وألفت معجمًا جديدًا يضمن شرح الكلمات الداخلية والمعربة التي لا غنى عنها في فهم الجرائد والمجلات العربية، وعينت معلمًا خاصًّا لتعليم اللغة الحديثة فيها. وآثرت لتعليم الآداب العربية رجالاً معروفين من العرب أنفسهم لكون اللغة لهم طبعًا وذوقًا، ولنا تكلفًا وتعمقًا، فأسندت أولاً رياسة أساتذة اللغة العربية إلى الأستاذ العلامة الشيخ محمد طيب المكي، ثم إلى الأستاذ الفاضل الكامل الشيخ محمد بن حسين الخزرجي اليماني رحمهما الله تعالى، وأخيرًا يملأ هذا الفراغ فيها صديقنا الأستاذ الكبير الشيخ تقي الدين الهلالي المغربي. وقد كان لمسعاها دويٌّ في سائر أندية المدارس العربية، وأخذت تبذل ما في وسعها من الجهد في مباراتها، والحق أحق أن يقال، إنه بعدما تملك صديقنا العزيز، ورفيقنا في طلب العلم، ورديفنا في تلقي الدروس، وشريكنا في الشيوخ وأولنا في الجمع بين علوم الشرق والغرب الشيخ ضياء الحسن العلوي الندوي زمام مفتش عام تفتيش المدارس العربية ورياسة امتحاناتها في ولايتنا البلاد المتحدة صار لهذه المدارس العربية وامتحاناتها في العلوم الشرقية طور آخر، ودور زاهٍ زاهر؛ فإنه أدخل فيها تعديلات نافعة، واتخذ لإصلاح أمرها تدبيرات ناجعة، فجعلها متسقة النظم، ومتحدة النظام، وانتقى لها مناهج درس، وقوائم كتب، تضمن بالنجاح، وتؤذن بالفلاح، فجعل فيها للأدب العربي محلاً يليق به، وألزم متعلمي المدارس العربية الكتابة وإنشاء المقالات بالعربية. وكذلك فعلت رياسة المدارس العربية في ولاية بنجاب، فجعلت الكتابة والإنشاء بالعربية من مواد امتحاناتها الشرقية التي لا غنى عنها لطالب. وتلتها الجوامع الإنكليزية الرسمية؛ فإنها أدخلت تحسينات نافعة في فرعها العربي بأيدي أساتذة فضلاء دكاترة في العلوم العربية نالوا شهادة الدكتورية من جوامع ألمانيا وإنكلترة، ولهم يد بيضاء في استبدال المناهج الجديدة المفيدة بالمناهج القديمة العقيمة، وقد أسفرت مساعيهم عن نتائج ذات بال، ولجامعتي لاهور ودهاكة خطوة في هذا السبيل بعيدة الشوط، وتبعتهما جوامع اله آباد ولكنؤ وبتنة وكلكتة، واهتمت بها من المعاهد العربية التي للحكومة الكلية الشرقية بلاهور ومدرسة شمس الهدى ببتنة، والمدرسة العالية بكلكتة. وأشد الجوامع الإنكليزية اعتناء باللغة العربية جامعة دهاكه؛ فإنها خصصت لها قائمة درس تدرس فيها اللغة العربية وعلومها مع بعض العلوم الجديدة واللغة الإنكليزية، وتمنح الناجحين فيها شهادة تؤهلهم للدخول في كل ما يمكن الدخول فيه للناجحين في العلوم الإنكليزية المحضة من الوظائف والمناصب، أما جامعتنا الإسلامية بعليكرة فأرادت أن تقتفي أثر جامعة دهاكه في جعل العربية وآدابها فرعًا لها خاصًّا فقررت لجنة لتحقيق أمنيتها، ونيل بغيتها، وعسى أن تأتي بأثر يُذكر، وعمل يُشكر، وأما الجامعة العثمانية بحيدر آباد الدكن فهي أكثر الجوامع إنفاقًا على فرعها العربي وأشدها اهتمامًا بأمره، وإكرامًا للناجحين في علومه وآدابه، وأسخاها منحًا بالمناصب والوظائف لهم. هذا، ولكن هذه الأموال المنفقة، والجهود المفرغة، تكاد أن تذهب سدى، ولا تأتي بجدوى؛ لأن جو الهند غير عربي، يكدر فضاءها زعازع هوجاء من العلوم الإفرنجية، والآداب الإنكليزية، فتحدق بالطلبة الصحف الأردية، والجرائد والمجلات الإنكليزية، وترد عليهم النشرات الأردية والإنكليزية تترى فلا تدع لهم جانبًا فارغًا للعربية، فلا تجد للهند صحيفة عربية يقرءونها ولو مرة في الشهر، ويكتبون فيها ولو مرة في السنة، فيتمرنون في الإنشاء العربي، ويحذقون فيه ويسهل عليهم الكتابة في اللغة العربية، ويستطيعوا إبداء المعاني العلمية غير الخيالية التي يقرءونها في الكتب، فيُخيل إليهم من سحرها أنهم في جيل غير جيلهم، ويقتدروا على إبراز المعاني المستحدثة في طراف حلل تسر الناظرين، وتجري أقلامهم في نقد السياسة والأخلاق ونشر التربية والتعليم، وسرد الأنباء والحوادث، وقرض الشعر ونسج الأدب، ويضربوا بسهم نافذ في معرفة الآداب العربية المستطرفة المستظرفة، ويتمكنوا من الخوض في كل موضوع، والاستغراف (؟) من كل حوض، وتكون لهم صلات متواصلة بالبلاد العربية، فتقوى بها بينهم وسائل ا

نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف ـ 1

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد النبوي الشريف في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام نشرنا في جزء المنار الماضي ما اقترحته علينا لجنة (ذكرى يوم النبي) في لاهور الهند من كتابة رسالة في هذا الموضوع، لأجل ترجمتها بأشهر لغات العالم المدني ونشرها في يوم المولد من سنة 1351، وإننا قد شرعنا في كتابتها في شهر ذي الحجة الذي صدر الجزء الرابع من المنار في آخره. وأقول الآن: إنني لما شرعت في كتابة الرسالة توخيت فيها الاختصار، وفاقًا لاقتراح لجنة لاهور في كتاب خاص، وقد أرسلت ثلاث كراسات (ملازم) منها بالبريد الجوي في رابع المحرم، وكراستين أخرتين في الحادي عشر منه، ونبذة ثالثة في 18 منه، ولما لم يرد إلي جواب من اللجنة ترجح عندي أنها لن تتمكن من ترجمتها ونشرها في يوم مولد هذا العام، وكان عرض لي أن أبسط بعض المسائل ولا سيما مسألة تعدد الزوجات، وحكمة كثرة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر مما تطلبه اللجنة على أن أختصر الرسالة لها إذا أرادت ترجمتها لسنة أخرى. بيد أنني رأيت أن أنشر الرسالة كلها في المنار، ثم أطبعها على حدة وأنشرها في يوم المولد الشريف من هذا العام، مشاركة لإخواننا مسلمي الهند في إحياء هذه الذكرى ببيان ما اشتدت إليه حاجة هذا العصر من بيان الإصلاح الإسلامي العام للبشر، الذي يعلم به أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بُعث رحمة للعالمين، ومكملاً لدين الله على ألسنة النبيين والمرسلين، ومصلحًا لما أفسده البشر من الأديان والشرائع وشؤون الاجتماع البشري كلها، وهذا نص الرسالة: مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد رسول الله وخاتم النبيين الذي أرسله لإصلاح جميع البشر في أمور دينهم ودنياهم، وإزالة التعادي والتناكر بين شعوبهم وقبائلهم بالتعارف والتآلف بينهم، وإثبات المساواة في الحقوق والأحكام بين أجناسهم وأفراد رجالهم ونسائهم على اختلاف عروقهم وألوانهم، وبقاعهم وأقطارهم، ومنع التمايز بين الطبقات والعشائر بالأنساب والتقاليد العرفية أو الوراثية، وتحقيق التوحيد بينهم في جميع المقومات الإنسانية، والأخوة الروحية، والتفاضل بالفضائل النفسية، من علمية وعملية، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13) . أما بعد، فيقول محمد رشيد رضا الحسيني منشئ مجلة المنار الإسلامي ومؤلف التفسير السلفي العصري الأثري السياسي الاجتماعي في مصر - القاهرة: إن الجماعة التي تألفت من إخواننا مسلمي الهند في مدينة لاهور لإذاعة سيرة رسول الإنسانية الأعظم، وهديه وإصلاحه الأقوم، وخصصت لذلك يوم مولده من كل سنة قد اقترحت علي أن أكتب رسالة في أهم ما جاء في كتاب الله تعالى المنزَّل عليه، وفي سنته المبينة له من حقوق النساء، والإصلاح الذي يجب على الجنس اللطيف أن يعرفه في كل شعب ويطالب به الرجال، ليترجم باللغات المشهورة وينشر في الآفاق في يوم ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم من سنة 1351 لهجرته الشريفة. فقبلت الاقتراح، وأجبت الدعوة بالارتياح، شاكرًا لإخواني تفضلهم عليَّ واختصاصهم إياي ببيان هذا الواجب الكفائي، داعيًا أن يلهمني الله تعالى فيه الصواب، ويؤتيني الحكمة وفصل الخطاب، وقد استحسنت أن أبدأ ما أكتب بنداء عام للنساء، ليعرفن حقوقهن ويعرفها الرجال، فأقول: نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة 1351 في حقوق النساء في الإسلام، وحظهن من الإصلاح المحمدي العام {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) . ألا يا معشر النساء وبنات حواء، في الشرق والغرب والجنوب والشمال، هل تدرين كيف كانت عيشة جداتكن قبل بعثة مصلح البشر الأعظم، محمد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم؟ أم تدرين أن البشر لما يفقهوا كنه الأقانيم الثلاثة للحياة الزوجية التي نزل بيانها من لدن رب العالمين، على قلب محمد خاتم النبيين، أعني: السكون النفسي الجنسي الذي يتحد به الزوجان فيكونان حقيقة واحدة كالماء والهواء. والمودة التي تتعدى الزوجين إلى أسرتيهما فيسري بها الحب والتعاون من الأقارب إلى البعداء. والرحمة التي تكمل لهما بالولد المنفصل منهما الممثل لهما فينتشر التراحم بين الأحياء. تعالين أحدثكن عما كانت عليه جداتكن بالإجمال، وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بشيء من التفصيل، لقد كان جميع نساء البشر مرهقات بظلم الرجال في البدو والحضر، لا فرق فيه بين الأميين والمتعلمين، ولا بين الوثنيين والكتابيين. كانت المرأة تُشترى وتباع، كالبهيمة والمتاع، وكانت تكره على الزواج وعلى البغاء، وكانت تورث ولا ترث، وكانت تُملَك ولا تَملِك، وكان أكثر الذين يملكونها يحجرون عليها التصرف فيما تملكه بدون إذن الرجل، وكانوا يرون للزوج الحق في التصرف بمالها من دونها، وقد اختلف الرجال في بعض البلاد في كونها إنسانًا ذا نفس وروح خالدة كالرجل أم لا؟ وفي كونها تلقن الدين وتصح منها العبادة أم لا؟ وفي كونها تدخل الجنة أو الملكوت في الآخرة أم لا؟ فقرر أحد المجامع في رومية أنها حيوان نجس لا روح له ولا خلود؛ ولكن يجب عليها العبادة والخدمة وأن يكم فمها كالبعير والكلب العقور لمنعها من الضحك والكلام؛ لأنها أحبولة الشيطان، وكانت أعظم الشرائع تبيح للوالد بيع ابنته، وكان بعض العرب يرون أن للأب الحق في قتل بنته، بل في وأدها (دفنها حية) أيضًا، وكان منهم من يرى أنه لا قصاص على الرجل في قتل المرأة ولا دية. وكان أهم إنصاف للمرأة منحها إياه الشعب الفرنسي في أوربة بعد ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته أن قرروا بعد خلاف وجدال أن المرأة إنسان إلا أنها خُلقت لخدمة الرجال. ولد محمد صلى الله عليه وسلم في سنة 571 من ميلاد المسيح عليه السلام، وأصدر الفرنسيس هذا القرار النسوي في سنة 586 أي بعد مولده بخمس عشرة سنة، ولم يكن يدري هو ولا غيره بما سيجيء به من الإصلاح البشري العام، والإصلاح النسوي الخاص. فهل أتاكن يا بنات حواء أنباء ما جاء به محمد نبي الرحمة من التعاليم في حقكن؟ هذا ما اقترح علي أن أقصه عليكن وعلى رجال الأمم كلها في هذه الرسالة في هذا اليوم من ذكرى مولد محمد صلى الله عليه وسلم سنة 1351 من هجرته. بعث محمد صلى الله عليه وسلم في أوائل القرن السابع للمسيح عليه السلام مبشرًا ونذيرًا للبشر كافة يدعوهم إلى عبادة الله وحده، وإلى إصلاح أنفسهم التي أفسدتها التقاليد الدينية، والعصبيات القومية والوطنية، وكان للنساء حظ كبير من هذا الإصلاح لم يسبق الإسلام به دين، ولم يبلغ شأوه تشريع، ودونكن التفصيل: 1- المرأة إنسان هي شقيقة الرجل قام محمد صلى الله عليه وسلم يتلو على البشر آيات الله عز وجل في كون النساء والرجال من جنس واحد، لا قوامة للإنسانية إلا بهما وهذه أربع شهادات منها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13) . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً} (النساء: 1) . {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189) . {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} (النحل: 72) . وكان يقول: (إنما النساء شقائق الرجال) [1] . 2- إيمان النساء كالرجال قام محمد صلى الله عليه وسلم يتلو على الناس ما أثبته الله تعالى من إيمان النساء كالرجال، فمن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ} (الممتحنة: 10) الآية. ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} (الأحزاب: 58) . وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحَرِيقِ} (البروج: 10) . وأخبرهم بأن الله تعالى أمره أن يستغفر للمؤمنين والمؤمنات جميعًا بقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (محمد: 19) . ومن المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة أن على النساء ما على الرجال من أركان الإسلام إلا أن الصلاة تسقط عن المرأة في زمن الحيض والنفاس مطلقًا، فتتركها ولا تعيدها لكثرتها، وأما الصيام فيسقط عنها في زمنهما وتقضي ما أفطرته من أيام رمضان لقلتها، وأما حجها فيصح في كل حال؛ ولكنها لا تطوف بالبيت الحرام إلا وهي طاهرة. 3- جزاء المؤمنات في الآخرة كالمؤمنين وقام يتلو على العالم في جزاء المؤمنات كالمؤمنين آيات من الله تعالى منها قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) . وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (غافر: 40) . وقوله تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِياًّ وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً} (النساء: 123- 124) . وقوله تعالى في أولي الألباب الذين يذكرونه كثيرًا ويتفكرون في خلق السموات والأرض ويدعونه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ} (آل عمران: 195) الآية، وفيها وعدهم جميعًا بإدخالهم الجنة وحسن الثواب. وقوله تعالى: {إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَ

نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف ـ 2

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة 1351 في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام (تابع لما نشر في الجزء الماضي) 30- أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين وحكمة تعددهن بعد الهجرة وفوائده (الزوج الأولى خديجة رضي الله عنها) تزوج صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة بالسيدة خديجة بنت خويلد وهي ثيب بنت أربعين سنة، فعاشت معه خمس عشرة سنة قبل البعثة وعشرًا بعدها، وتوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين وكانت عجوزًا بنت 65 سنة وهو في مستوى العمر الطبيعي، فقد قضى زهرة شبابه فلم يتزوج عليها، ولا أحب أحدًا مثل حبه لها، وظل طول عمره يذكرها، ويكرم أصدقاءها ومعارفها، وزارته مرة عجوز في بيت عائشة فأكرم مثواها وبسط لها رداءه فأجلسها عليه، فلما انصرفت سألته عائشة عنها لتعلم سبب إكرامه لها فأخبرها أنها كانت تزور خديجة، وقد صح عن عائشة أنها غارت منها وهي لم ترها حتى تجرأت مرة عليه عند ذكرها، فقالت له: هل كانت إلا عجوزًا أبدلك الله خيرًا منها؟ (تعني نفسها، وكانت تدل بحداثة سنها وجمالها وكونه صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرًا غيرها وبكونها بنت صديقه الأكبر أبي بكر رضي الله عنه وعنها) قالت: فغضب وقال: (لا والله ما أبدلني الله خيرًا منها: آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء) قالت: فقلت في نفسي لا أذكرها بعدها بسيئة أبدًا. رواه ابن عبد البر والدولابي. وروى الشيخان عنها أنها قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها قط؛ ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة - أي صديقاتها من النساء - وربما قلت له: لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة؟ فيقول: (إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد) زاد في رواية: قالت: وتزوجني بعدها بثلاث سنين، وفي صحيح مسلم عنها: كان إذا ذبح الشاة قال: (أرسلوها إلى أصدقاء خديجة) فذكرت له يومًا فقال: (إني لأحب حبيبها) وكانت خديجة أعقل العقائل، وفضلى الفواضل، وكانوا يلقبونها من عهد الجاهلية بالطاهرة، وهي أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد كنت سئلت عن حكمة تعدد أزواجه صلى الله عليه وسلم سنة 1320 فأجبت جوابًا نُشر في المجلد الخامس من المنار، ثم في الجزء الرابع من التفسير (ص 37) ثم طرقت هذا البحث في فتاوى (م 28) من المنار، وأنا أذكر هنا معنى ما هنالك مع فوائد أخرى فأقول: 31- الحكمة العامة لتعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إن الحكمة العامة لهذا التعدد بعد الهجرة، في سن الكهولة، والقيام بأعباء الرسالة، والاشتغال بسياسة البشر، ومصابرة المعادين، ومدافعة المعتدين، دون سن الشباب وراحة البال - هي السياسة الرشيدة، وتربية الأمة وضرب المثل الكامل لها في معاشرة النساء بالمعروف، والعدل بينهن، وتخريج بضع معلمات للنساء، يعلمنهن الأحكام الشرعية الخاصة بهن، مما كان صلى الله عليه وسلم يستحي أن يخاطب به النساء فيما كان يخصهن به أحيانًا من مواعظه، كما كان أكثرهن يستحيين أن يسألنه عن أحكام الزوجية والجنابة والطهارة، وقد كان نساء المهاجرين أشد حياء من نساء الأنصار في هذا، بل كان من نساء الأنصار من يهبنه أن يسألنه عما لا يُستحيا منه. ومن الشواهد عنهن في ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسلها من المحيض فأمرها كيف تغتسل ثم قال: (خذي فرصة من مسك فتطهري بها، قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهري، قالت عائشة: فاجتذبتها إليَّ، فقلت: تتبعي بها أثر الدم) وفي رواية أخرى أنها قال لها: (خذي فرصة ممسكة [1] فتوضأي ثلاثًا) ثم إنه صلى الله عليه وسلم استحيا أو أعرض بوجهه حياء، أي منعه الحياء بأن يصرح لها بوضع القطنة المطيبة بالمسك في المكان الذي كان يخرج منه الدم إتمامًا للطهارة، فأخذتها عائشة وأفهمتها المراد، والحديث في المسند والصحيحين وأكثر السنن. وفي صحيح مسلم أن أسماء، وهي بنت شكل [2] سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن غسل المحيض فقال: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرها [3] فتطهر فتحسن الطهور فتصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى يبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها، قالت أسماء: وكيف أتطهر بها؟ قال: سبحان الله تطهري بها) سبح الله تعجبًا من عدم فهمها المراد بالإيماء والتعريض، وطلبها للتصريح به والتكشيف، ومنعه الحياء منه، حتى كفته زوجته عائشة ذلك، وقد ورد في وصفه صلى الله عليه وسلم: (أنه كان أشد حياء من العذراء في خدرها) (متفق عليه) . وكان المؤمنات يسألنه عن كل ما يعرض لهن على اختلاف درجاتهن في الحياء حتى كان بعضهن يشكون إليه هجر بعولتهن لهن اشتغالاً بالتعبد أو لغير ذلك، وكان لا بد له من تعليمهن وإنصافهن من بعولتهن، وكان أزواجه خير مبلِّغ له عنهن ولهن عنه في حياته، وخير مرجع في الاستفتاء النسوي بعد وفاته، ومن ذا الذي يقول إن زوجًا واحدة كانت تقوم بهذا الواجب وحدها؟ بل كان الرجال يرجعون بعده إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام الدين، ولا سيما الزوجية، فمن كان له قرابة منهن كان يسألها دون غيرها، فكان أكثر الرواة عن عائشة أختها أم كلثوم وأخوها من الرضاعة عوف بن الحارث وابنا أخيها القاسم وعبد الله ابنا محمد بن أبي بكر، وحفصة وأسماء بنتا أخيها عبد الرحمن وعبد الله وعروة ابنا عبد الله بن الزبير من أختها أسماء، وروى عنها غيرهم من أقاربها ومن الصحابة والتابعين وهم كثيرون جدًّا. كذلك كان أكثر الرواة عن حفصة أخوها عبد الله بن عمر وابنه حمزة وزوجه صفية بنت عبيد وأم بشر الأنصارية ... إلخ، وأكثر الرواة عن ميمونة بنت الحارث أبناء أخواتها، ولا سيما أعلمهم وأشهرهم عبد الله بن عباس، وأشهر الرواة عن رملة بنت أبي سفيان ابنتها حبيبة وأخواها معاوية وعنبسة وابنا أخيها وأختها. وهكذا نرى كل واحدة من أمهات المؤمنين قد روى عنها علم الدين كثير من أولي قرباها، ومن النساء والرجال الآخرين حتى أن صفية اليهودية كان لها ابن أخ مسلم روى عنها فيمن روى، فهل كان يمكن أن ينقل ذلك كله زوج واحدة يروي عنها كل مَن روَى عن أمهات المؤمنين؟ ولعل أكثر ما سمعه النساء منهن لم يصل إلى الذين دونوا أحاديثهن. وجملة القول: أن أمهات المؤمنين التسع اللائي توفي عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كن كلهن معلمات ومفتيات لنساء أمته ولرجالها ما لم يعلمه عنه غيرهن من أحكام شرعية وآداب زوجية، وحِكم نبوية، وكن قدوة صالحة في الخير وعمل البر. 32- الأسباب الخاصة لكل زوج منهن بعد خديجة 1- سودة بنت زمعة رضي الله عنها: كانت سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس القرشية أول امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة خديجة، وكان توفي عنها زوجها ابن عمها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، والحكمة في اختيارها أنها من المؤمنات المهاجرات الهاجرات لأهليهن خوف الفتنة والتعذيب لإرجاعها عن الإسلام، ولو عادت إلى أهلها لأكرهوها على الشرك أو عذَّبوها عذابًا نكرًا ليفتنوها عن الإسلام، فاختار صلى الله عليه وسلم كفالتها، وفيه تأليف لبني عبد شمس أعدائه وأعداء بني هاشم، وتشريف لبني النجار أخوال عترته وأكرم أنصاره؛ فإن أمها الشموس بنت قيس بن زيد الأنصارية من بني عدي بن النجار، وكانت أول من ذكر له مع عائشة، فكفلها صلى الله عليه وسلم وقد تزوجها بمكة قبل الهجرة في عامها كما يأتي، فهو لم يجمع بمكة بين زوجين بالفعل. 2- عائشة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنها: روى ابن سعد بسند مرسل رجاله ثقات وابن أبي عاصم من طريق عائشة قالت: (لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله ألا تزوج؟ [4] قال: من؟ قالت: إن شئت بكرًا وإن شئت ثيبًا، قال: فمن البكر، قالت: بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر، قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك، قال: فاذهبي فاذكريهما علي) وفي رواية ابن سعد (قالت: أفلا أخطب عليك، قال: بلى فإنكن معشر النساء أرفق بذلك، قالت عائشة: فجاءت فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أم رومان - تعني أمها - فقالت: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة، قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة، قالت: وددت لو تنتظرين أبا بكر، فجاء أبوبكر فذكرت له ذلك فقال: وهل تصلح له وهي بنت أخيه؟ فرجعت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قولي له أنت أخي في الإسلام وابنتك تحل لي) وفي رواية أن أبا بكر هو الذي قال له هذا القول وأجابه صلى الله عليه وسلم بهذا الجواب، ولم تكن نزلت في ذلك الوقت آية محرمات النكاح ولا آية {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) . وكانت عائشة أذكى أمهات المؤمنين وأحفظهن، بل كانت أعلم من أكثر الرجال، قال الزهري: لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أمهات المؤمنين وعلم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل، بل قال أبو الضحى عن مسروق: رأيت مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأكابر يسألونها عن الفرائض، وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيًا في العامة، وقال هشام بن عروة عن أبيه: ما رأيت أحدًا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة، وقال أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه: ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها علمًا فيه، وقال أبو الزناد: ما رأيت أحدًا أروى لشعر من عروة بن الزبير فقيل له: ما أرواك، فقال: ما روايتي في رواية عائشة؟ ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرًا. وجملة القول أن مصاهرة الرسول صلى الله عليه وسلم لأول أصحابه وأعلاهم قدرًا وإخلاصًا له ونصرًا، على ما كان من مودة بينهما قبل الإسلام، كانت أعظم منة ومكافأة وقرة عين له، وخير وسيلة لنشر سنته وفضائله الزوجية وأحكام شريعته ولا سيما النسوية، ولم يرد في الصحيح عن أحد الرجال أكثر مما روي عنها من الأحاديث إلا أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال من السنة الثانية للهجرة. 3- حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: كانت حفصة زوجًا لحسن بن حذافة وهو ممن شهدوا غزوة بدر، وتوفي بعدها في المدينة، فلما انقضت عدتها عرضها عمر على أبي بكر فسكت، فعرضها على عثمان بن عفان بعد موت زوجه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: ما أريد أن أتزوج اليوم؛ وإنما كان يرجو أن يزوجه النبي صلى الله عليه وسلم بنته أم كلثوم، وقد ساء عمر ما كان من أبي بكر وعثمان وهما الكفؤان الكريمان لبنته، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمان من هي خير من حفصة) فلقي أبو بكر عمر فقال: لا تجد علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لتزوجتها. نعم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة في السنة الثانية من الهجرة، فكان هذا قرة ع

العقيدة السلفية والأستاذ الدجوي

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ العقيدة السلفية والأستاذ الدجوي حديث فاطمة بنت أسد (لم يجد الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي طريقة لخدمة الإسلام والمسلمين في مجلة الأزهر (نور الإسلام) إلا الطعن في العقيدة السلفية وأهل الحديث والطعن على متبعيها عامة وأهل نجد خاصة، وترويج البدع. وقد جاءتنا عدة رسائل في الرد عليه أبينا نشر شيء منها، ولو اخترنا أمثلها حجة وأدبًا لفضلنا منها ما كتبه الأستاذ العالم الشيخ محمد بهجة البيطار الشهير، إذ كنا اطلعنا على أوله فاستحسناه، وقد نشر أربع مقالات منه في مجلة الرابطة الإسلامية الدمشقية، ثم عُطِّلت هذه المجلة فأرسل إلينا الخامسة فرأينا أن ننشرها ضنًّا بها أن تضيع، وهذا نصها والعنوان من الأصل. قال الأستاذ الدجوي: (وقد توسل صلى الله عليه وسلم بالأنبياء السابقين بعد موتهم كما في الحديث الصحيح، ثم أورد حديث فاطمة بنت أسد، والشاهد منه: اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ووسع لها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي؛ فإنك أرحم الراحمين. قال: أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط وابن حبان والحاكم بسند صحيح) . أقول: قوله: في الحديث الصحيح وبسند صحيح، هو حكم غير مسلَّم ولا صحيح؛ فإن في سنده روح بن صلاح المصري، ضعَّفه ابن عدي، والحديث لم يرضه الشيخان، ولذا لم يخرجاه في الصحيحين ولا سائر أصحاب الكتب الستة، ويعلم النقاد البصيرون بعلل الأحاديث أن كل ما لم يخرجه هؤلاء فلعلة قوية، وعلل الحديث يعلمها الراسخون في علم السنة، ولست الآن في صدد التصحيح والتضعيف فأورد ما قاله أئمة هذا الشأن فيه. وعلى فرض صحته لا شاهد فيه، إذ هو توسل بحق النبيين صلوات الله عليهم وحقهم هو ما فضَّلهم الله به على غيرهم من النبوة والرسالة، وما خصهم به من الخصائص والمزايا كاجتبائهم واصطفائهم، وما وعدهم به من النصر والتمكين والعز والتأييد، وقبول شفاعتهم إذا شفعوا بعد الإذن والرضا، فهذا توسل إليه تعالى بأفعاله، وأفعاله سبحانه ليست من مخلوقاته، بل هي من مقتضى أسمائه وصفاته. ومثل حديث فاطمة ما رواه أحمد وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وأسألك بحق ممشاي هذا) الحديث، وفي سنده عطية العوفي وهو ضعيف كما قالوا؛ ولكن معناه صحيح فهو توسل إلى الله بعمل المتوسل من دعائه والمشي إلى الصلاة وبما وعد على ذلك، فحق السائلين عليه الإجابة، وحق الماشين إلى المساجد الإثابة، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر: 60) وقال: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186) وقال: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} (الروم: 47) فالسائلون يسألونه تعالى تحقيق ما وعدهم به، وقد تفضل فجعله حقًّا لهم عليه سبحانه، وتحقيق وعده هو من صفاته تعالى الفعلية، وليس ذلك من محل النزاع في شيء. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حقهم عليه؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذبهم) . وقد قدمنا عن الإمام أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله قولهم: يُكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام؛ لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله تعالى على خلقه. ويوافقهم في هذا جميع المتمسكين بهدي السلف وآثارهم ممن يقول كشيخ الإسلام ابن تيمية (اللهم بجاه فلان عندك أو ببركة فلان أو بحرمة فلان عندك افعل بي كذا وكذا، فهذا يفعله كثير من الناس لكن لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين وسلف الأمة أنهم كان يدعون بمثل هذا الدعاء) وقد يظن بعض من لا نصيب له من التحقيق - وبعض الظن إثم - أن هؤلاء ينكرون حرمة الرسل وجاههم وكرامتهم على ربهم في حياتهم أو بعد وفاتهم، مع أن ثبوت الجاه لهم وارد في القرآن، قال تعالى في حق موسى عليه السلام: {وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب: 69) وقال في حق عيسى عليه السلام: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} (آل عمران: 45) . قال شيخ الإسلام في كتاب التوسل: فإذا كان موسى وعيسى وجيهين عند الله عز وجل فكيف بسيد ولد آدم، صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، وصاحب الكوثر والحوض المورود الذي آنيته عدد نجوم السماء وماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، ومن شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، وهو صاحب الشفاعة يوم القيامة حين يتأخر عنها آدم وأولو العزم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين، ويتقدم هو إليها، وهو صاحب اللواء، آدم ومن دونه تحت لوائه، وهو سيد ولد آدم وأكرمهم على ربه عز وجل وهو إمام الأنبياء إذا اجتمعوا وخطيبهم إذا وفدوا، ذو الجاه العظيم صلى الله عليه وسلم وعلى آله؛ ولكن جاه المخلوق عند الخالق ليس كجاه المخلوق عند المخلوق؛ فإنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَداًّ} (مريم: 93-94) وقال تعالى: {لَن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلَّهِ وَلاَ المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ} (النساء: 172) الآية ، والمخلوق يشفع عند المخلوق بغير إذنه فهو شريك له في حصول المطلوب والله تعالى لا شريك له لما قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ} (سبأ: 22-23) اهـ. فقد علمت من هذا أنه ليس الخلاف في جاه الرسل الثابت لهم عند ربهم والذي لا يزايلهم ولا ينفك عنهم أبدًا، بل هو في مزيد عنده تعالى يرفعهم به أعلى الدرجات، فكيف بسيد ولد آدم وروحي له الفداء صلى الله عليه وسلم؛ وإنما الخلاف في فهم المراد من التوسل بالجاه أو الحرمة أو الحق، وهل جعله الله سببًا شرعيًّا في إجابة الدعوات؛ فإن كان المراد منه معنى يرجع إلى أفعاله تعالى وصفاته كاصطفائهم واجتبائهم وما وعدهم به تعالى من النصر والتمكين ورفع الدرجات في الحياة الدنيا وفي الآخرة فبه نقول ونحن متفقون. بيد أن ههنا مسألة مهمة، وهي أن حقوق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وصلاح الصالحين، ليست من أعمال السائل التي يستحق عليها الجزاء، ولا رابطة بينها وبين إجابة سؤاله، فإذا قال الداعي أسألك بحق فلان الصالح أن تقضي حاجتي، فمعنى ذلك اقض حاجتي لكون فلان صالحًا، فأي مناسبة بين قضاء حاجتك وصلاحه، وإذا قلت بجاه فلان اغفر لي، كان المعنى: أطلب المغفرة لكون فلان ذا جاه، وأي ملازمة بين جاهه ومغفرة ذنبك؟ فصلاحه أو جاهه ليس منفيًّا عنه لا في حياته ولا بعد مماته، ولا هو محل نزاع؛ ولكنه ليس من عملك الذي تستفيد أنت منه، وتستحق الجزاء عليه؛ وإنما العامل هو الذي يجنى ثمرة عمله في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97) فقول الأستاذ الدجوي في خاتمة مقاله الثاني: (على أن التوسل بالأعمال متفق عليه منا ومنهم فلماذا لا نقول: إن من يتوسل بالأنبياء والصالحين هو متوسل بأعمالهم التي يحبها الله تعالى، وقد ورد بها حديث أصحاب الغار فيكون من محل الاتفاق، ولا شك أن المتوسل بالصالحين إنما يتوسل بهم من حيث هم صالحون، فيرجع الأمر إلى الأعمال الصالحة المتفق على جواز التوسل بها، كما قلنا في صدر المقالة) اهـ. أقول: قوله هذا غير مُسلَّم على إطلاقه، بل فيه نظر ظاهر؛ فإن المتفق عليه هو توسل كل عامل بعمله، ويشهد له حديث أصحاب الغار الذي استدل به، فهو حجة عليه لا له؛ لأن كل واحد من أولئك النفر الثلاثة توسل بعمله الصالح الذي أخلص فيه لله تعالى ولم يتوسل بعمل غيره، والأصل في هذا قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} (النجم: 39) فالقول بأن الأعمال الصالحة تنفع العاملين وغير العاملين، ومنفعتها وثمرتها تشمل الصالحين والطالحين، والمؤمنين والفاسقين، مما يجرئ على ترك العمل والزهد فيه، والاكتفاء بالتوسل بدلاً عنه، ويجعل المتقين والفجار سواء في العاقبة والجزاء، الأولون ناجون بعملهم، والآخرون بتوسلهم بعمل غيرهم؛ ولكن الله يقول: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} (ص: 28) ويقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} (الجاثية: 21) . لو كان التوسل بصلاح الصالحين وعمل العاملين يفيد المتوسلين لهان الأمر علينا معشر المسلمين، ولنالنا كل خير من ذلك، إذ يمكننا أن نقول مثلاً اللهم أزل ضعفنا وآمن خوفنا وانصرنا على عدونا بجاه سلفنا الصالح الذين جاهدوا في سبيلك لإعلاء كلمتك، ففتحت لهم فتحًا مبينًا، ونصرتهم نصرًا عزيزًا، ربنا هب لنا الملك والسلطان، والعلم والعرفان، والحضارة والعمران، مثل ما وهبت لهم، نسألك اللهم أن تمنحنا ذلك كله بجهادهم وسعيهم وعلمهم وعملهم، إذ نحن لا جهاد لنا ولا سعي، ولا علم ولا عمل؛ وإنما نحن عالة على غيرنا يا أرحم الراحمين، أفترى أنه تفيدنا هذه التوسلات بجاه أسلافنا وقوتهم وسعة سلطانهم واستبحار عمرانهم، ونحن قد تداعت علينا الأمم فجعلتنا مغنمًا ونهبًا مقسمًا؟ وهكذا شأن التوسل الديني الأخروي، من وفقه الله وألهمه رشده يتقي عقاب الآخرة بما شرعه الله لاتقائه من التوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فرب الدارين واحد وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضًا ولا يبطل بعضها بعضًا، كما حققه الإمام ابن القيم وآثرناه عنه في المقال المتقدم فجدد به عهدًا، ومثله في كتابي (العجب والقرور من إحياء الغزالي) والأصل في ذلك قوله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 53) فهو توسل إلى الله تعالى بالإيمان والاتباع ومثله قوله: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} (آل عمران: 193) فقد رتب الله عليه الاستجابة بقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم} (آل عمران: 195) الآية، وفي معناها آيات أخرى. فانظر رحمك الله إلى هذه الآيات الكريمة، والأدعية الجليلة، كيف أرشدتنا إلى التوسل إلى الله عز وجل بما شرعه من الإخلاص في الدعاء له وحده

الخطر على الإسلام بسيطرة الإنكليز على الحجاز

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخطر على الإسلام بسيطرة الإنكليز على الحجاز {أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} (النجم: 57- 58) والمسلمون لاهون غافلون، وأعداء الإسلام دائبون مسرعون، يسخِّرون خونة المسلمين في فتح دار الإسلام، والقضاء على ملك الإسلام، ويشغلون أذكياءهم بظواهر الأمور عن بواطنها، وبمحقراتها عن عظائمها، فالدولة البريطانية أقوى أعداء الإسلام، تريد تأسيس إمبراطورية عربية بريطانية جديدة تحل محل الإمبراطورية الهندية التي يعلمون قرب أجلها، تمتد من مصر إلى خليج فارس وتشمل جزيرة العرب كلها بشكل معين، وتقسيم مدبر، ينفذ في زمن مقدر، ومن مقاصده الأساسية القضاء على دين الإسلام نفسه من نواحيه السياسية والاجتماعية والعسكرية، بالسيطرة على الحجاز وقطع الطريق على منصب الخلافة الحق، ولو بالتوسل إليه بخلافة باطلة مدينة لها خاضعة لنفوذها. وقد بيَّنا من قبل أن أعظم تمهيد بدأت به هذه الدولة الجشعة للقضاء على استقلال الإسلام والعرب هو استخدام شريفين شهيرين من شرفاء الحجاز لتمليكها أعظم مواقع الحجاز البحرية والبرية (أحدهما) صاحب الجلالة الهاشمية (الملك علي) الذي نصبه الحزب الوطني الحجازي ملكًا على الحجاز عند إزماع والده صاحب الجلالة الهاشمية الملك حسين الرحيل من مكة إلى حيث تشاء الدولة الإنكليزية ليقينه باستيلاء ابن السعود على مكة (وثانيهما) صاحب السمو الهاشمي الأمير عبد الله بن الحسين الذي استقدمه بعض أعضاء حزب الاستقلال العربي من الحجاز إلى شرق الأردن عقب استيلاء الجنرال غورو الفرنسي على دمشق وإخراج جلالة الملك فيصل منها؛ لأجل أن ينظم لهم وسائل الدفاع في منطقة شرق الأردن العربية الحرة لأنها ليست من فلسطين التي قيَّدها الإنكليز بالوطن القومي لليهود، وليست من منطقة النفوذ الفرنسي، فحضر وكان من خدمته للعرب والعربية أن جعل شرق الأردن مقيدة بالانتداب البريطاني وخاضعة لنفوذ الإنكليز العسكري مباشرة، وتشريد الحزب الذي استقدمه. وأما الخدمة التي اشترك فيها هو وأخوه الملك علي في التمهيد لامتلاك الإنكليز للحجاز فهي اتفاقهما على جعل خليج العقبة الحجازي الذي هو من أعظم مواقع البحار الحربية في العالم، والأرض الممتدة منه إلى معان أهم محطات سكة الحديد الحجازية في أرض الحجاز تابعة لإمارة شرق الأردن، وخاضعة للانتداب البريطاني السياسي ونفوذ جلالة ملك الإنكليز العسكري. أصدر الملك علي الهاشمي وهو تحت حصر الجيش السعودي في جدة إرادته الهاشمية باقتطاع منطقة العقبة - معان - من مملكة الحجاز، وإلحاقها بإمارة شرق الأردن التي وضعها أخوه تحت السيطرة البريطانية، فعدها هذا فتحًا مبينًا له وأمر بإطلاق مائة مدفع ومدفع ابتهاجًا بهذا الفتح؛ لأن سيطرة الإنكليز على الحجاز بعضه أو كله أحظى عندهما من سيطرة عبد العزيز بن السعود، وإن كان دين الإسلام لا يبيح لأمثال الخلفاء الراشدين مثل هذا التصرف في أرض الحجاز ولا في غيرها من بلاد المسلمين، بل صرح الإمام الشافعي ولم يخالفه غيره بأنه لا يجوز لإمام المسلمين الأعظم أن يأذن لغير المسلمين بالإقامة في ثغور الحجاز ولا في جزيرة من جزائره، فكيف يبيح الإسلام لمثل علي بن الحسين الذي لم تكن له سلطة شرعية على الحجاز ولا نفوذ فعلي فيما عدا مدينة جدة مثل هذه الهبة؟ ومن عجائب افتتان هذه الشعوب الجاهلة بلقب ملك أن بعض السوريين يتمنون أن يكون الملك علي هذا ملكًا لسورية، وأن بعض كتابها يتشرف بسؤاله عن سياستها وينقل أقواله السخيفة في الجرائد فتتناقلها! ! إن هذه الهبة ليس لها قيمة شرعية ولا قانونية بيد أن قوة الدولة البريطانية - وقى الله الإسلام والعرب شرها، وأدال لمصر والسودان والهند منها - تكتفي بهذه الألفاظ لإنشاب براثنها في مقتل أي أمة ضعيفة إذا لم تجد مستندًا قانونيًّا أقوى منها، وقد حاولت هذا المستند فحِيلَ بينه وبينها. ذلك بأنه لما تم لابن السعود الاستيلاء على الحجاز أرادت الدولة الإنكليزية أن تحمله على إقرار إلحاق العقبة ومعان بشرق الأردن في المعاهدة التي عقدت في بحره لوضع الحدود بين مملكته وإمارة شرق الأردن فأبى إلا أن تكون منطقة العقبة ومعان تابعة للحجاز كما كانت، وقد طالت المشادة والمحادة بين المندوب البريطاني (الجنرال كليتون) وبينه في ذلك وكادت تفشل المعاهدة فاقترح المندوب البريطاني بعد استئذان حكومته تأجيل البت في ذلك إلى مفاوضة أخرى مدة سبع سنين لا يحدث أحد الفريقين في ذلك حدثًا جديدًا، فقبل الاقتراح. لماذا اقترح الإنكليز تأجيل هذه المسألة؟ الجواب عن هذا السؤال يؤخذ من كلمة اشتهرت عنهم وصارت هجيراهم وهي قولهم: (إن الوقت معنا، أو لنا) وذلك أنهم أصحاب رؤية وأناة، لا أصحاب بديهة وبادرة، وأصحاب حزم وثبات، لا أصحاب عجلة، وقد طفقوا يكيدون لابن السعود ويتخذون الوسائل لإخضاعه لهم بما فعلوا على حدود العراق، ثم على حدود شرق الأردن من المعاقل والقوى العسكرية، وبما كان لهم من الدسائس والفتن في الثورة النجدية (ثورة فيصل الدويش) وبدسائسهم الخفية المضعفة لثروة المملكة وملكها وغير ذلك مما ليس لنا أن نخوض فيه الآن، حتى إذا ما اعتقدوا أن العسرة قد اشتد خناقها بضعف موسم الحج في هذا العام، ظنوا أن إحداث فتنة جديدة في الحجاز أو ثورة في أطرافه لا تلبث أن يطير شررها إلى أعرابه فمدنه، وأن يمتد لهيبها إلى نجد، فتقضي على ملك هذا الزعيم العربي المسلم الشديد البأس قبل أن يوفق إلى تنظيم قوته وتوطيد استقلاله. ما كادت ترتفع حرارة الصيف من هذا العام إلا وقد ارتفعت حرارة الفتن والدسائس السياسية السرية، مقترنة بالحركات العسكرية العلنية، فالإنكليز يجمعون قواتهم الإمبراطورية والعربية الهاشمية في إمارة شرق الأردن على حدود الحجاز ونجد، والجيوش الإنكليزية تنقل بالطيارات من مصر إلى شرق الأردن، وبعض بوارج الأسطول البريطاني ترسو في خليج العقبة الحجازي الذي هو أهم وأمنع موقع بحري في بلاد العرب، وكذلك جلالة ملك الحجاز ونجد يجمع قواته أيضًا، ولماذا كل هذا وكل ذلك؟ قيل إن سبب هذا وذاك أن ابن رفادة أحد شيوخ الأعراب (البدو) الحجازيين الذي كان فر من الحجاز بعد استيلاء ابن السعود عليه ولجأ إلى مصر قد جمع شرذمة من البدو وزحف بها من شبه جزيرة سيناء لأجل مهاجمة الحجاز، وإخراج الدولة السعودية منها! ! وقد عنيت الأنباء البرقية من لندن ومن شرق الأردن بالطعن في الحكومة السعودية وإضعاف أمرها وادعاء كراهة أهل الحجاز، وكذا سائر المسلمين لها حتى أهل نجد.... وعظمت في مقابلة ذلك أمر ابن رفادة هذا وشأن قوته التي قيل إنها تبلغ أربعمائة نسمة، فارتقت بها بعض الأنباء إلى أن زادتها ألف رجل، أو أكثر (!!) ثم عظمت أنباء أنصاره وأعوانه الذين يمدونه بالمال والمؤن والذخائر ومنها أن هذا المدد كله من مصر تحمله إليه سفن مخصوصة، وقد صرح بهذا بعض رجال الإنكليز الرسميين، فانصرفت أذهان الناس إلى الدولة المصرية نفسها، إذ لا يوجد في مصر من يمكنه ذلك غيرها، إذا كانت متفقة مع رجال الإنكليز عليها. نعم إن في مصر جمعية حجازية تكره الحكومة السعودية؛ ولكنها جمعية فقيرة، وإن في مصر بعض الشرفاء الذين يودون الإدالة لأسرتهم من الملك عبد العزيز آل سعود؛ ولكنهم عاجزون عن مد هؤلاء الثائرين، فلا مال ولا رجال ولا وسائل لنقل المال والرجال من مصر إلى حدود الحجاز، ولو وجد كل ذلك لديهم لما أقدموا على هذا العمل إلا إذا كانت الدولتان البريطانية والمصرية إحداهما أو كلتاهما تسخرهم لتنفيذ مقاصدها بما يعتقدون به أن هذه الثورة الحقيرة ستكون تمهيدًا لقلب حكومة الحجاز ونزعها من يد ابن السعود. والمنقبون عن خفايا الدسائس في مصر يقولون إن بعض الشرفاء موعود بأن يجعل أميرًا على الحجاز بعد إلحاقه بمصر، وأن يجعل راتبه ثمانين ألف جنيه في السنة، وأن يجعل له حامية مصرية مؤلفة من ستة آلاف من الجيش المنظم. وجملة القول إن الإنكليز ظنوا أن الفرصة الآن سانحة لإيقاد نيران ثورة في الحجاز شر من ثورة نجد السابقة، إما أن تنتهي بإخراج ابن السعود من الحجاز أو باضطراره إلى الاعتراف لهم بإلحاق العقبة ومعان بشرق الأردن؛ لأن الأوان قد آن لإحداث ما يريدون فيها من الأعمال التجارية والعسكرية لقرب وصول أنابيب زيت البترول من العراق إلى البحر المتوسط؛ ولكن ابن السعود قد شعر بالمراد، وجمع من القوات النجدية والحجازية ما يفوق ما جمعه الإنكليز استعدادًا لدرء الفتنة. إن أقوال الجرائد الإنكليزية الكبرى كالتيمس والديلي تلغراف في تكبير حركة ابن رفادة الصغيرة، وفي أراجيفها الكثيرة فيما تحكيه عن أهل الحجاز وعن سائر المسلمين من تمنيهم لزوال سلطة الوهابيين عن الحجاز - يفسرها للمسلمين استعداد الإنكليز العسكري على حدود الحجاز ونجد من العقبة إلى آخر حدود شرق الأردن، وتفسره أقوال الأمير عبد الله الذي وضع هذه البلاد تحت سيطرتها العسكرية من تصريحه بعداوة ابن السعود وسعيه طول حياته لاستعادة ملك الحجاز إلى نفسه، وتفسره أقوال مستر كلوب (أبو حنيك) الإنكليزي وأعماله في تنظيم قوات شرق الأردن العربية والإنكليزية الذي يعيد فيها سيرته الأولى بين نجد والعراق التي أعقبت ثورة الدويش، وهذه الأقوال نشرتها الجرائد كلها فحسبُنا العبرة بها من ذكرها. وحاصل هذه الأقوال والأفعال أن الإنكليز يريدون نقض ما عاهدوا عليه ملك الحجاز ونجد من أنهم لا يحدثون حدثًا في منطقة العقبة ومعان مدة سبع سنين أو يحملوه على مطاردة ابن رفادة فيها إذا لجأ إليها فيتهموه بنقضها ويعلنوا احتلالها للضرورة؛ فإنهم يسخرون العرب للقضاء على ملك العرب، ويسخرون المسلمين لتمكينهم من هدم الإسلام وإذلاله بوضع الحرمين الشريفين تحت نفوذهم وسلطانهم كشرق الأردن ومصر؛ فإن خليج العقبة من الحجاز كزقاق البوسفور من مدينة الآستانة أو أعظم، وإن الطريق منها إلى العراق من جزيرة العرب وسورية والعراق كنياط القلب، وهو الشريان الأعظم في الجسم كما بيَّنا ذلك في المنار مرارًا. كذب الإنجليز في دعواهم أن المسلمين لا يسوءهم إخراج ابن السعود في الحجاز، فها هي ذي جميع الجرائد الإسلامية في مصر وغيرها تعلن سخطها على ابن رفادة الخائن، وتعد كل من يساعده خائنًا لأمته ودينه، وكل مسلمي مصر ساخطون على حكومتهم لعدم اعترافها بحكومة ابن السعود، ولعدم إرسالها إلى الحجاز حقوقه وحقوق أهله في أوقاف الحرمين في العهد السعودي مع اشتداد العسرة في هذا العام، كل هذا وأكثرهم لما يشعروا بمقاصد الإنكليز في العقبة ومعان وشرق الأردن والعراق، وأنهم يريدون تأليف إمبراطورية عربية لا تقوم معها للعرب ولا للإسلام قائمة، ولا تطمع بعدها مصر ولا جزيرة العرب باستقلال ديني ولا دنيوي. فيجب على الصحف الإسلامية في مصر والهند وغيرهما من الأقطار أن ينبهوا العالم الإسلامي لهذا الخطر الإنكليزي على حرم الله وحرم رسوله، وعلى الصحف العربية أن تذكر أمتها بأن كل جهادها في سبيل الاستقلال يكون عبثًا إذا تم للإنكليز ما يريدون من الحجاز، وقد صار من المعلوم بالضرورة أنه لا سبيل لحفظ الحرمين الشريفين من نفوذ الأ

وفيات الأعيان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفيات الأعيان الأمير سيف الإسلام محمد أمير لواء الحديدة وملحقاتها في منتصف شهر ذي الحجة الحرام خاتمة سنة 1350 رزئت المملكة اليمانية والأمة العربية بوفاة هذا الأمير الجليل، والسيد النبيل، النجل الثاني من أنجال جلالة أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين، الإمام يحيى بن حميد الدين. توفي شهيد الشهامة الهاشمية، والنجدة العربية، غريقًا في سبيل إنقاذ غرقى من أتباعه في ساحل الحديدة، فنبضت أسلاك البرق بنعيه لمصر وغيرها من الأقطار، فاضطربت لها القرى والأمصار، وأكبرت الخطب صحف الأخبار على اختلاف سياستها وأحزابها، ونوهت بمناقب الفقيد الشهيد التي كانت خاتمتها هذه النجدة التي بذل روحه الكريمة فيها، وتواترت التعازي البرقية والبريدية على جلالة والده العظيم من جميع الأرجاء، وكان أحسن الله عزاءه وأطال بقاءه يجيب كل معز بما يليق به من الطريق الذي جاءت به تعزيته، وإننا نسجل في المنار ما كان من صفة شهادته، والمهم من ترجمته، ملخصًا من جريدة الإيمان الغراء الشهرية التي تصدر في صنعاء عاصمة اليمن، ثم ننشر تعزيتنا لجلالة والده الإمام ورده الكريم: صفة استشهاده من رسالة مكاتب الجريدة في الحديدة قال: خرج رحمه الله في يوم الخميس الموافق 15 ذي الحجة سنة 1350 في جمع من خاصته إلى مكان من شاطئ البحر الأحمر يبعد عن ميناء الحديدة بنصف ساعة بالسيارة تقريبًا، وكانت الخيام قد نصبت فاستراحوا قليلاً ونزلوا يستحمون في البحر، وكان رحمه الله يجيد السباحة فمكثوا مدة ثم خرجوا بعدها إلى الخيام يتجاذبون أطراف الحديث ويتذاكرون، وجلس سمو الأمير يحدِّث الجميع بتلك البساطة، وذلك التواضع الذي هو خير من عرف به، عن المشاريع التي يعدها لإسعاد اليمن والحديدة خصوصًا، وعن عظيم آماله في أن يرى اليمن وسائر الأقطار العربية تخطو الخطوات الواسعة إلى الأمام في القريب العاجل، وجلسوا طول تلك الليلة وسموه يحادثهم بعذب حديثه إلى ما بعد منتصف الليل حيث قام الجميع إلى النوم، فنام وقام بعد ساعة يحدث الجميع عن رؤياه التي رآها وهي أنه خرج من جميع ماله وتصدق بالباقي على الفقراء وسافر لأداء فريضة الحج وهو باكٍ، فجعل كل يفسر تلك الرؤيا تفسيرًا تطمئن له القلوب، ثم تناولوا طعام الإفطار بعد أداء فريضة الصلاة وجلسوا يتحدثون إلى قريب الظهر، فأظهر سموه رحمه الله الرغبة في الاستحمام ودفع الجميع إلى البحر؛ ولكن سرعان ما اشتدت الريح وقوي المد، وصار كل يجاهد ويغالب الموت الذي كان ينشر رايته المشئومة. وعند ذلك تتجلى شجاعة ذلك الأمير العظيم فيندفع بنفسه يغالب الأمواج الثائرة والأمواج المتلاطمة مسرعًا لينقذ من كان في خطر، أنقذ الأول ورجع للثاني والثالث ثم ما رجع للرابع يريد إنقاذه إلا وتعلق به وفي تلك اللحظة حم القضاء ونفذت إرادة العظيم القادر فهبط إلى قاع البحر وذهب سموه إلى رحمة ربه شهيد المروءة والإنقاذ شهيد الشهامة والشجاعة، وما علمت تلك الأمواج الثائرة التي اختطفته أنها اختطفت آمال أمة جزعت وذهلت لهول المصاب الذي عقد الألسن منها. عصم الله تلك القلوب الدامية بجميل الصبر، أما ذكراه الطيبة الطاهرة فخالدة إلى الأبد. مولده ونشأته: ولد رحمه الله ورضي عنه في رمضان سنة ست عشرة وثلاثمائة وألف بمقام جده مولانا الإمام المنصور بالله رب العالمين أبي يحيى محمد بن حميد الدين رضوان الله عليه، ونشأ في حجر والده إمام الزمن أمير المؤمنين أيده الله وأمد مدته. مغارس طالت في ربى المجد والتقت ... على أنبياء الله والخلفاء وعلى هذا يكون عمره الشريف عند وفاته أربعًا وثلاثين سنة وشهرًا، ونشأ بمحروس قفلة عذر وهنالك كرع من بحر الفضائل، وجثى بين أيدي العلماء الفطاحل، فاشترى نفيس الفوائد بنوم أجفانه، حتى تفرد بعرفانه، وكان المجلى على أقرانه في تحصيل العلوم، والتحلي بمنطوقها والمفهوم، وله مشايخ كثيرون في جميع العلوم والفنون، منهم في مبادئ الطلب: الفقيه لطف بن سعد السميني، والسيد الفاضل محمد بن عبد الله المقدمي الأهنومي، والقاضي يحيى بن محمد الغشم الآنسي، والفقيه المحقق أحمد بن قاسم الشمط الأهنومي. وعند أن قوي ساعده في الإدراك رشف من معين القاضي العلامة عبد الوهاب بن محمد المجاهد الشماحي، والقاضي المحدث إسحاق بن عبد الله المجاهد الصنعاني، والسيد العلامة حسين بن محمد أبو طالب، والمولى العلامة شيخ الإسلام علي بن علي اليماني، والسيد العلامة المحقق عباس بن أحمد بن إبراهيم الحسني وغيرهم كثير. وقد أجازه كثير من أعلام العلماء الذين تشد إليهم الرحال، وتضرب بعلو درجاتهم الأمثال، في المعقول والمنقول، فممن أجازه إجازة عامة والده جلالة مولانا أمير المؤمنين أيده الله ومتع الإسلام والمسلمين بمضاعفة أيامه. وأجازه المولى العلامة الحجة شرف الإسلام القاضي الحسين بن علي العمري حفظه الله، والمولى العلامة سيف الإسلام أحمد بن قاسم الدين، والمولى العلامة رئيس المحكمة الاستئنافية السيد زيد بن علي الديلمي، والسيد العلامة الحافظ أحمد بن عبد الله الكبسي، والمولى شيخ الإسلام علي بن علي اليماني، والأستاذ العلامة خليل أسعد أفندي رئيس محكمة التدقيق الحنفية، والسيد الحافظ أحمد بن محمد الغماري المغربي الحسني، والأستاذ الشهير محمد حبيب الله الشنقيطي المغربي نزيل القاهرة وسواهم كثير وجم غفير اهـ. وللفقيد شعر كثير ذكر منه المترجم هذين البيتين: وما هذه الدنيا سوى كسب مغنم ... لأجر جزيل أو لذكر مجمل فمن جاد منها لم يكن خاسرًا بها ... ولا ناقصًا والفضل للمتقبل (المنار) كان ينبغي لكاتب الترجمة أن يذكر ما تولاه الفقيد من الأعمال وسيرته فيها، وسفره إلى إيطالية وما استفاده منه، وما كان له من الآمال في خدمة أمته ووطنه التي أشرنا إليها في تعزية والده. * * * تعزيتنا لجلالة الإمام الهمام بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة أمير المؤمنين الإمام يحيى حميد الدين سلام الله عليه وعلى آله الطاهرين. أما بعد، فإن مصابكم بنجلكم الكريم الهمام، الأمير محمد سيف الإسلام، هو مصاب لنا وللأمة العربية والملة الإسلامية، هو مصاب لنا لأننا منكم نشعر بشعوركم، ونألم لألمكم، كما نسر بكل نعمة يسبغها الله عليكم، وهو مصاب للأمة العربية؛ لأن نجلكم أمير من أعظم أمرائها، وزعيم من خير زعمائها، كانت ترجو أن يكون من أرسخ دعائم نهضتها، بعلو همته وزكاء قريحته، وحسن تربيته وسعة علمه وخبرته، في شرف أرومته، وكرم منبته، وقد ظهرت لها بوادر أعماله ونجدته، وهو مصاب الملة الإسلامية بما كان سيفًا من سيوفها المسلولة، وربانًا من ربابنة سفينة نجاتها المأمولة، فهذا ما بلغنا من نعوته وشمائله، وما روي لنا عن آرائه وآماله، المستنبطة من أقواله وأعماله. فأجدر بأولي الشعور من شعوب أمته، وبمحبي الاتفاق من أهل المذاهب المختلفة في ملته، أن يعدوا شهادته مصيبة عامة، وكارثة طامة، تملأ القلوب حزنًا وخشوعًا، وتفيض لها العيون دموعًا، وتردد الألسن فيها حوقلة واسترجاعًا. وأما أنت أيها الإمام العظيم، والأب الرءوف الرحيم، فلئن كنت أجدر بحزن القلب وفيض الدمع، بمقتضى سلامة الطبع، وهدي الشرع، فلأنت أحق بالصبر الجميل، وأحرص على صلوات الله ورحمته للصابرين المسترجعين، بما أوتيت من قوة الإيمان، وثبات الجنان، وسعة العرفان، وقيامك في محراب الإمامة في الدين، والأسوة الحسنة في جدك محمد رسول الله وخاتم النبيين، صلوات الله عليه وعلى آله الطاهرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. * * * جواب جلالة الإمام بسم الله الرحمن الرحيم حضرة السيد العلامة والمرشد الفاضل الفهامة، الشريف محمد رشيد آل رضا صاحب المنار، حرس الله مهجته، وأطال في الرشاد مدته، والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته، أيها السيد الفاضل ما أوفى كتابكم الكريم بأداء سنة الدين، وأشفاه بيانًا لحسن العزاء بمن مضى شهيدًا ولحق بسلفه الصالحين، وأراع بالفراق قبل الإمتاع، ولبى نداء ربه ممتطيًا صهوة الإسراع، فلئن كان المصاب بوفاته عظيمًا، والرزء بمفاجأة يومه جسيمًا، قد بلغ الغاية من مرارة النكاية، وإضرام حرارة الأحزان، وإثارة عواصف الأشجان - فما في كتابكم الكريم من تحلية الفقيد رحمه الله بنعوت الممادح، والتوصية بالصبر الجميل في المصاب الفادح والتسلية بذلك الأسلوب المرغوب من القول الشارح، قد بلغ الغاية في الإفادة، وحسن البيان والإجادة، فشكرًا لكم على تلك اليد البيضاء المجلوة في الكتاب، وامتنانًا يزف إليكم مقرونًا بثناء مستطاب، والله سبحانه يجبر المصاب بما نرجوه من وفور الأجر، والإعانة على دوام الاعتصام بالصبر، والتحلي بالرضا والتسليم لحكم الرب الحكيم، وإسبال شابيب الرحمة والرضوان على الفقيد الشهيد، والاستعداد ليوم المعاد، وبلوغ المراد من حسن الختام، والدعاء مستمد وشريف السلام. ... ... ... في 18 المحرم سنة 51

نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف ـ 3

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة 1351 في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام (تابع لما نشر في الجزء الماضي) 42- تحريم النساء على النبي صلى الله عليه وسلم بعدما تقدم قال تعالى بعد هذه الآية من سورة الأحزاب في التوسيع على نبيه صلى الله عليه وسلم في أمر النساء، وما كان لها ولما قبلها من اتعاظ نسائه وتأدبهن ومن اختيارهن البقاء معه صلى الله عليه وسلم مع القشف والزهد، على الحياة الدنيا وزينتها مع فراقه: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً} (الأحزاب: 52) . ذهب جمهور المفسرين إلى أن هذه الآية نزلت في مكافأة أزواج النبي التسع على اختيارهن مرضاة الله ورسوله وثواب الدار الآخرة على نعيم الحياة الدنيا وزينتها، فحرَّم عليه أن يتزوج عليهن أو يستبدل بهن أزواجًا أخرى، وأن قوله تعالى (من بعد) معناه: من بعد هؤلاء التسع اللائي في عصمتك، أو من بعد اختيارهن لك، وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير من كبار مفسري التابعين: أن المعنى: لا يحل لك النساء بعد الذي أبيح لك في الآية السابقة، أي: من التصرف في معاملة أزواجك التسع كما تشاء، ومآله أنه لم يبق لهم من سبيل إلى إزعاجك بما كن يزعجنك به، الذي أدى إلى تهديدهن بالطلاق، والتخيير بين الإمساك والفراق. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} (الأحزاب: 52) ظاهر في حبه صلى الله عليه وسلم للحسن والجمال، وكيف لا وهو الكامل الذوق والخلال، القائل: (إن الله جميل يحب الجمال) [1] ولكنه كان يؤثر المصلحة على التمتع النفسي، ويشرع الله له ما هو أليق بمقامه الإصلاحي، لا ما تدل عليه كلمة عائشة بقرينة غيرتها الزوجية من كل ما تهواه نفسه. واستثنى ههنا ملك اليمين وهو مما يسوءهن لو حصل؛ ولكنه لم يحصل، فهو لم يسترق سبية، ولم يشتر أمة يتسرى بها؛ وإنما كان تسريه المعروف قبل ذلك، والمراد بكل هذا إكمال تربية الأزواج الطاهرات المختارات حتى لا يعدن إلى تلك الصغائرالنسائية المزعجات له صلى الله عليه وسلم؛ وبذلك كمل إيمانهن بكماله. ومن المعلوم بالطبع أن أهم ما يهم المرأة من زوجها هو وظائف الزوجية ووسائل المعيشة، وأن المرأة أعلم الناس بضعف بعلها البشري، وأن صفاته الزوجية قد تحجبها عن خصائصه الروحية والعقلية، وتعد الصغير من ذنبه معها كبيرًا، والقليل من تقصيره كثيرًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض مواعظه للنساء: (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار) فسألنه عن السبب فقال: (إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير) يعني الزوج، أي: ينكرن فضله ومعروفه [2] . فمن ثم قال بعض علماء الإفرنج: إن سبق خديجة إلى الإيمان بمحمد ويقينها فيه من أقوى الدلائل على صدقه، وكذلك كان سائر نسائه صلى الله عليه وسلم في قوة الإيمان به واتباع هديه وإيثار الشرف بزوجيته مع القشف والشظف، على كل ما في الدنيا من زينة وترف. 43- آية الحجاب (لبيان ما يجب على المؤمنين من الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه، وما يحرم عليهم من إيذائه) قد فطر الله محمدًا على مكارم الأخلاق وعقائل الآداب، وكمَّل أخلاقه وآدابه بوحيه إليه هذا القرآن، ينبوع الحكمة وشمس العرفان، ووصفه فيه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4) وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) . وكان على رحمته ولينه ولطفه وحلمه، وقورًا مهيبًا وشجاعًا باسلاً، وجليلاً حلاحلاً، حتى كان بعض من يجيئه معاديًا يريد الفتك به ترتعد فرائصه عند رؤيته فيقول له صلى الله عليه وسلم: (هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد) [3] فكان يهون على الناس مهابته بالمبالغة في التواضع فينهى عن الغلو في تعظيمه وعن الوقوف بين يديه، وكان كما قال هند بن أبي هالة: من نظر إليه بديهة هابه، ومن عاشره معرفة أحبه، وكما قال ابن الفارض: بجلال حجبته بجمال ... هام واستعذب العذاب هناكا ومن شواهد مهابته صلى الله عليه وسلم ما رواه الشيخان عن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن، قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة فائته فاسأله؛ فإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتها إلى غيركم، فقال عبد الله: بل ائته أنت، فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتها حاجتي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُلقيت عليه المهابة فخرج علينا بلال فقلنا له: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن، قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فقال له رسول الله: من هما؟ فقال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الزيانب؟ قال امرأة عبد الله بن مسعود فقال: لها أجر القربة وأجر الصدقة) . وكان قومه العرب أوسع الأقوام حرية وأجرأهم على العظماء لعدم وجود ملوك جبارين فيهم يستذلونهم، ولا رؤساء دينيين يربونهم على الخضوع لهم، فكانت آداب أتباعه معه صلى الله عليه وسلم دينية وازعها نفسي لا قهري ولا عرفي، وتعاليمهم فيها مستمدة من كتاب الله تعالى، ومن سنته صلى الله عليه وسلم والتأسي به، ولهذا كانت في كمالها ونقصها تابعة لقوة الإيمان وسعة العرفان، وكان فيهم الأعراب الجفاة، والمنافقون العتاة، ومرضى القلوب، وكان الجميع يدخلون بيوته ويتحدثون إلى أزواجه في أي وقت من ليل أو نهار. كان هذا الأمر يثقل عليه وعلى علماء الصحابة وفضلائهم وكان عمر بن الخطاب من أشدهم غيرة وجرأة وحزمًا أو أجمعهم لهذه الصفات على أكملها، فكان يطالب النبي صلى الله عليه وسلم بحجبهن عن الرجال، فمن ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال: (قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب) أي: فكان هذا مما وافق رأيه القرآن. وروى الطبراني بسند صحيح عن عائشة قالت: (كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم في قعب [4] فمر عمر فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأكل فأصابت أصبعه أصبعي، فقال: أوه لو أُطاع فيكن ما رأتكن عين) وروى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أنس قال: (لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فإذا القوم جلوس فرجع، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله آية الحجاب) آية الحجاب وسبب نزولها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَئْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} (الأحزاب: 53) . حاصل معنى الآية نهي المؤمنين عن دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم على أزواجه كما كانوا يفعلون لأجل الطعام أو الكلام أو غيرهما من الحاج [5] إلا في حال الإذن لهم ودعوتهم منه، أو من قبله إلى طعام ناضج حاضر غير منتظرين لأناه - أي نضجه - حتى لا يطول مكثهم فيها، قال: ولكن إذا دعيتم إليه والحال ما ذكر فادخلوا، فإذا طعمتم أي أكلتم الطعام فانتشروا، أي اخرجوا وتفرقوا بلا تريث ولا بطء كما يدل عليه العطف بالفاء، ولا تدخلوها مستأنسين لحديث أي طالبين للأنس والتسلية بالكلام مع أهلها ولا بينكم فيها، فمنع دخولهم لأجل الطعام إلا بدعوة إليه بشرطها، ومنع دخولهم لأجل الكلام مطلقًا، وعلل المنع بأن ما كان من دخولهم بيوته ومكثهم فيها كان (يؤذي النبي) أي يؤلمه ولم يقل (يؤذيه) للتذكير بأن إيذاءه بصفة النبوة أعظم من إيذائه بصفته الشخصية، وإنه لفرط حيائه وأدبه كان يخفي عنهم أذاه وألمه منهم، فلا يصرح لهم به ولا يعمل بموجبه فينهاهم عن الدخول والمكث] وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ [أي لا يمتنع أن يظهره بالإخبار به والأمر بالتزامه والنهي عما ينافيه؛ لأنه تعالى لا يعرض له الانفعال البشري الذي يمنع الإنسان عن مواجهة غيره بما يكره. ولما كان هذا المنع لدفع الأذى عن الرسول لا لحرمان المؤمنين من الانتفاع من أزواجه بما اعتادوا أن يطلبوه من بيوته قال:] وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً [ وهو كل ما ينتفع به من ماعون وغيره، ومثله السؤال عن العلم بالأولى] فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ [أي ستر مضروب دونهن بحيث يسمعن ما تطلبون من غير مواجهة ولا استئناس في المخاطبة، وعلله بقوله:] ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [ أي ذلكم السؤال من رواء حجاب، أو الذي ذكر كله من نهي وأمر بشرطهما] أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [من الخواطر الطبيعية، والوساوس الشيطانية، التي يثيرها تلاقي النساء والرجال، واسترسالهما في حديث الاستئناس وشجونه، واختلاف الأفهام والتأويلات فيه. ] وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [وما كان من شأنكم ولا مما يصح أن يقع منكم أيها المؤمنون إيذاء رسول الله بحال من الأحوال؛ لأن تعمد إيذاءه ينافي الإيمان، فوجب أن يُتَّقى وتُسَدُّ ذرائعه] وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [فإن الله تعالى جعلهن أمهات لكم، وجعله أولى بكم من آبائكم بل من أنفسكم، وكل صحيح الإيمان يشعر من نفسه بأن رسول الله أجل في قلبه من أمه وأبيه وأحب إليه من نفسه التي بين جنبيه، ومن لوازم إجلاله وإجلال حلائله وإحلالهن من قلبه محل الكرامة الدينية الروحية، البعيدة عن شعور الشهوة الجنسية، بأشد من صرف إجلال الأم الجسدية للنفس عن اشتهائها، فكيف يسمح له وجدانه الديني أن يحل من إحداهن محل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوليست ذكرى الرسول عند إرادة قربه منها - إن حصل - كافية لإثارة عاطفة الحياء منه والإجلال له الصارفة له عن ملامستها؟ بلى والله، ولكن روي عن بعض المنافقين ومرضى القلوب أنهم تحدثوا بنكاح فلانة وفلانة من أمهات المؤمنين بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ف

الشعر التاريخي

الكاتب: محمد توفيق علي

_ الشعر التاريخي أو صفحة من تاريخ الدعوة إلى الإسلام في حياة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام نظمت بمناسبة احتفال الأمة الإسلامية بمولده الشريف بقلم الشاعر الأديب اليوزباشي محمد توفيق أفندي علي المزارع بالواسطى افتتاح وتمهيد - دعوته القبائل للتوحيد - احتماله أذى المشركين - تكذيب ثقيف لدعوته - رجاء الناظم في شفاعته - إيمان الضعفاء برسالته وتعذيب المشركين لهم - هجرة المؤمنين إلى الحبشة، أي احتماؤهم بمعتدلي النصارى من اضطهاد المشركين - إيمان الخزرج وبيعة العقبة الصغرى - بيعة العقبة الكبرى والهجرة إلى يثرب - مؤاخاة الرسول بين أصحابه وبعثه السرايا - غزوة بدر الكبرى - غزوة أحد واستشهاد أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب - غزوة الخندق ومكيدة نعيم بن مسعود الغطفاني - مثال من معجزات الرسالة - فتح مكة ومثال من تسامح الرسول - غزوة حنين ومثال من شجاعة الرسول وثباته - تغلغل الدعوة في الأرض، ودخول الناس في دين الله أفواجًا. افتتاح وتمهيد طيف سرى فشفى صبًّا من السقم ... سرَّى الهموم وجلى حالك الظلم متمم الخلق من حُسن ومن عجب ... مكمل النور من علم ومن حكم أرنو إليه فتصبيني مناظره ... فأخفض الطرف خوف الفتنة العمم [1] في موقف بجلال الحسن متشح ... بالطهر مؤتزر بالصدق معتصم حتى إذا سكنت نفسي سموت له ... أرعى الجمال وأخشى زلة القدم تبارك الله كم في الحسن من بدع ... وفي الملاحة من سر ومن عظم لا أكذب الوصف، بدر التَّمّ يعشقه ... والشمس رأد [2] الضحى من أطوع الخدم وأين للبدر منه سحر مكتحل ... وأين للشمس منه در مبتسم يا لين راحته لا الزهر ملمسها ... ولا (الدمقس) [3] ولا ما شئت من نعم قبَّلتُها وشذاه الروض ينفحني ... وفوه يُسمعني من أعذب النغم يدلي إليَّ بسر من محبتنا ... قدس الصحيفة في حرز عن التهم يا لائمي أن دمعي في هواه جرى ... أقصِرْ، فدمعي قليل في الهوى ودمي دمعي وشِعري معًا من منبع جريا ... في الحب منسجم في إثر منسجم لولا الجمال ولولا ما يطالعني ... من البدائع لم أعشق ولم أهِم تدعو المحاسن من بادٍ ومستتر ... له المحبين من باكٍ ومبتسم لو جنة الخلد لي من وجهه عُرضت ... لا أشتريها بما في القلب من ضَرم لو أن صبًّا يعير النصح واعية ... لم تلفِني عن نذير الشيب في صمم يا ويح نفسي قد كلفتها شططًا ... شرخ الشباب ولم أخشع لدى الهرم وشاب فودي وظلَّت في طفولتها ... ترعى وترتع في مستوبَل وخِم توبي لربك واخشي هول غضبته ... وعانقي سنة (المختار) واعتصمي وقدمي عملاً تَرضي عواقبه ... وأجملي الصبر في الطاعات واعتزمي هل نال رتبته الهادي وسؤدده ... إلا بإدمانه صبرًا على الألم؟ وبالهواجر يطويها على ظمأ ... وبالدياجر [4] يحييها على ورم دعوته القبائل للتوحيد واحتماله أذى المشركين لم يثنه قومه يشتد غيظهم ... في إثره بالأذى في الحل والحرم أن يلبس الدعوة الشماء رهبتها ... بين القبائل لم يجزع ولم يخِم [5] ما ضاره أن (كندًا) ربَّه كندت ... و (عامرًا) عمرت دهرًا مع النعم وأن (كلبًا) على أربابها كلبت ... و (دوس) كالقوس لما بعد تستقم ما زار (مكة) ذو فضل ولا ... شرف إلا دعاه فلم يهدأ ولم ينم ماذا لقيت - فداك الناس كلهم - من الشياطين يحدوهم (أبوالحكم) [6] من زمعة [7] وأُبي [8] والوليد [9] ومن حر ث [10] ونضر [11] وعاص [12] بارئ النسم ونوفل [13] لم يجيء يومًا بنافلة ... ولا بفرض ولم يركع ولم يصم والأسودين [14] من استسقى فمات ... ومن دعا الرسول عليه بالعمى فعمي تكذيب ثقيف لدعوته وآسفتك ثقيف إذ نُدِبت لها ... تدعو لربك في سهل وفي عَلم أغروا بخير الورى عبدانهم سفهًا ... وجهلَ صبيانهم إغراء منتقم حتى إلى حائط أُلجئت منحرفًا ... عن وجهة السيل، سيل المحنة العرم جلست لله تدعوه وتذكره ... بلؤلؤ من نثار الشهب لا الكلم تشكو لمولاك ضعفًا في قواك وما ... كنت الضعيف إذا لاقاك ألف كمي لكن على الحلم تهدي والسماح وفي ... بحبوحة الرفق كالراعي مع الغنم ما كان يلفتك المولى لتدعوه ... إلا لينثر أغلى الدر خير فم كم في دعائك من ظُرف ومن أدب ... وفي بيانك من نور ومن حكم [15] وفي المخايل من نُبل ومن شرف ... وفي الشمائل من عتق ومن كرم الله والاه بالنعمى وقرَّبه ... وزانه بكمال الخلق والشيم رجاء الناظم لشفاعته صلى الله عليه وسلم وقف عليك رسول الله تشفع لي ... أن كنت جارك فاشفع سيد الأمم وقد عقدت جواري أنني وجل ... أملت جاهك دون العرب والعجم إذ القيامة يوم أنت فارسه ... وأنت في ساحتيه صاحب العلم آليت ألقاك عند الحوض مبتسمًا ... أن كنت جاري وأوفى الناس بالذمم كم في جوارك من أمن ومن سعة ... وفي فؤادك من عطف ومن رحم وفي جنابك من عز ومن شرف ... وفي رحابك من أهل ومن نعم وفي جبينك من شمس ومن قمر ... وفي يمينك من بحر ومن دِيم كم فيك من حسب كم فيك من نسب ... كم فيك من نجدة كم فيك من همم إيمان الضعفاء برسالته صلى الله عليه وسلم وتعذيب المشركين لهم وآمن الضعفاء المتقون به ... من كل مستبصر بالخير متَّسم حمَّال في بغضة الأوثان كل أذى ... ماضٍ على شرعة التوحيد معتزم وعاند الأقوياء الحق وانفجر ... الطغيان يقذف كالبركان بالحمم [16] لله در أبي بكر [17] ونجدته ... إذ الموالي [18] بشَرٍّ غير منحسم يعذَّبون على الإسلام من سَفَهٍ ... ويُفتَنون عن التوحيد من لمم فكان يبتاعهم عطفًا ويعتقهم ... هيهات يقبل فيهم ظلم محتكم والبذل في نصرة الإسلام شيمته ... والصدق والرفق في بدء ومختتم هجرة المؤمنين إلى الحبشة أي احتماؤهم بمعتدلي النصارى من اضطهاد المشركين وهاجر الحنفاء المهتدون إلى مُلك النجاشي فلم يُخفر [19] ولم يضم لله (أصحمة) [20] في الخير من ملك أسدى الهدى نعمة مرعية الحُرم حمى من الجهل والطغيان وافِدَنا وردَّ كيد العدو الناقم الخصم في الركب بنت رسول الله يصحبها عثمان في ثبج الأمواج والأجم هل زار (أثيوبيا) من قبلها مَلَك حالي الذوامل باهَى مضرب الخِيَم لو خِدره طالع الأحباش شارقُه لكان يبيض منهم حالك الأدم ما أجهل الشرك يرمينا بِشِرَّته ... رمي الضعيف ويرمي الله بالرجم لا نسأم البغي والعدوان يتبعنا ... حيث ارتحلنا فما في الله من سأم لعل فتحًا إلى الأوطان يرجعنا ... فإن حالاً على الأيام لم تدم ماذا يحاول عمرو [21] أرسلوه لنا؟ ... يردنا للأذى والبغي والنقم! ! أهدى النجاشي فلم يقبل هديته ... وقال: لا أرتشي في الله من نهم فعد لقومك يا ابن العاص مكتئبًا ... فإن جار النجاشي أي محترم إيمان الخزرج وبيعة العقبة الصغرى وقد أتى الخزرج الداعي فأسمعها ... وحي يكاد يرد الروح في الرمم وكان قبل يهود يذكرون لهم ... إظلال عهد رسولٍ صادق عَلَم [22] فآمنوا وأثنوا يهدون قومهم ... باكين فوق رحال الأينق الرُّسم وأينع الوحي في الأنصار فانبعثت ... وفودهم في طلاب الحق من أمم فتمت البيعة الصغرى لطاعته ... في الخير والشر يغلي غلي محتدم وكان بينهم خلف فألَّفهم ... نور من الله كم أوصى على الرحم وجمَّع الجمع الأنصارُ يرشدهم ... من (مصعب بن عمير) خير ملتزم لله مدرسة في يثرب فتحت ... يديرها فضل ذاك المقرئ الفَهِم كذاك ساس رسول الله أمته ... بالحلم والعلم والقرآن والقلم بيعة العقبة الكبرى والهجرة إلى يثرب وأوفت البيعة الكبرى لنصرته ... في الحرب من ظالم باغ ومنقصم وذاع أمر رسول الله والتأمت ... مجامع الشرك فيه أي ملتأم يعارضون إمام المرسلين وهل ... يعارض الوحي إلا كل منفحم؟ فكان (حاميم) يتلوها فتجرفهم ... كالسيل طبق من مستشرف الأكم وأرسل الله جبريلاً بهجرتنا ليثرب فزهت حسنًا على إرم في كل يوم يوافيها ويقصدها ركبٌ لتوحيد رب العالمين نُمي المؤمنون وَجَلَّتْ تلك مرتبة وقسمة شمخت تيهًا على القسم حتى تكامل وفد الحق واستلمت جماعة الله ركنًا غير منهدم فهاجر المصطفى الهادي وصاحبه [23] وأمر ربك مقدور من القدم فتمت الهجرة العظمى التي حطمت ظهر الضلال وما أبقت على صنم مؤاخاته بين أصحابه وبثه السرايا غزوة بدر الكبرى آخى نبي الهدى بين الصحابة ... في رفق فآضوا لفيفًا غير منقسم وأصبحوا قوة تخشى بوادرها ... لو آذنت جبلاً بالحرب لم يقم مهاجرون وأنصار قد ارتبطوا ... في ربهم برباط غير منفصم بث السرايا [24] على الأعداء ... يرهبهم من كل مستبسل بالنقع ملتئم يا يوم بدر جزاك الله صالحة ... طلعت للات [25] بالويلات والعقم ولاح جبريل في نصر الرسول على ... خيل الملائك قد عضت على اللجم رمى النبي بحصباء فشردهم ... في البيد منهزمًا في إثر منهزم إلا أسارى وصرعى من حُماتهم ملء القليب [26] وتحت النار لا الرجم [27] أبلى علي [28] وأغنى حمزة [29] ... وبدا عشق الشهادة فينا غير منكتم سل عتبة [30] وأبا جهل [31] وفلَّهما ... آللات أمضى ظُبى في كل مختصم؟ أم أجمعت لقتال المصطفى فئة ... أو سار جيش عليه الطير لم تحم نهى عن المثلة [32] الهادي وحذرنا ... ولو أراد بها الفجارَ لم يُلم أوصى بأسرى العدى خيرًا صحابته ... إن القوي كريم العفو ذو الشمم غزوة أحد واستشهاد أسد الله ورسوله حمزة بن عبد المطلب كيف الشهادة لا تحلو وفي أُحد ... وجه الشفيع بأيدي الظالمين دَمِي وظل في الروع يرمي في نحوره مفرِّقًا جمعهم في كل مزدحم فرَّ الأعادي وقد ريعت نساؤهم فهند [33] مذعورة تبدي عن الخدم [34] وخالف ابن جبير [35] في الرماة هدى أمر النبي لهم حين القتال حمي رأوا قطوف العدى في الروع دانية ... فضيع الثغر منهم كل مغتنم فكان أن حُطِموا ختلاً وأن ندموا ... مخالف الرسل لا يخلو من الندم أبو دجانة [36] أعطى السيف قيمته ... ضربًا يجل عن التقدير والقيم أغنى علي وأبلى حمزة ومضت ... لله لبدة ليث الملة القرم أف لحربة وحشي [37] لقد تركت ... في جانب البأس جرحًا غير ملتئم يا (حمزُ) للحرب يذكيها بمنصلت ... في كفه كشهاب الرجم مضطرم لا يهنئ الشرك كأس أنت شاربها ... في الله معسولة تشفي من السقم يا (حمز) قرت قلوب كنت مرجفها ... من طائر حين تلقاه ومخترم ماذا فعلت ببدر إذ تمزقهم؟ ... غادرتهم طعم العقبان والرَّخم وكم فرست من الأبطال في أُحد ... يا ليث دين الهدى في كل مصطدم ما ضر سيف رسول الله ثلمته ... في النوم والعزم عضب غير منثلم أبقى لنا الله فيه نجدة هدمت ... ... ركني أُبي [38] وطودًا شامخ القمم غزوة الخندق ومكيدة نعيم بن مسعود الغطفاني ومثال من معجزات الرسالة ويوم خندق لا فلت عزائمه ... فأصبح الغيل يعيي كل مقتحم حثُّوا المطايا وقادوا الجُرد واحتشدوا ... حول المدينة في بأس وفي بُهم [39] قريش حالفها غطفان شايعها ... يهود من ناقض حلفًا ومرتطم جاءوا ليستأصلوا الهادي ويثربه ... بكل منصلت يهوي على اللمم فيها الرسول وجبريل وربهما ... يميت من شاء أو يحيي من العدم فأرسل الله ريحًا في معسكرهم ... رمت محرضهم بالعي والبكم تذري الوقود وتُكفي من قدورهم ... خوفًا عليهم من الطغيان والبشم وجاءنا مؤمنًا منهم وما علموا ... شهم تفرد بالإخلاص في الخِدَم هذا نعيم بن مسعود قبيلته ... غطفان يُربي على غطفان كلهم يقول هل خدمة أرضي الجهاد بها ... أن كنتُ عند الأعادي غير متهم؟ قال الرسول له ثبط عزائمهم ... إن استطعت وشرِّد خادعًا بهم فمزق الجيش تمزيقًا بحيلته ... كأنما كان جيشًا زار في حُلم [40] وأصبح الجو خلوًا من خيامهم ... إذ قوضت على حساب جد منخرم كانت يهود له ذبحًا رجالهم ... بصارم العدل إلا غير محتلم وقد أُفيئوا على الهادي وعترته ... وصحبه طعمة من أطيب الطعم فتح مكة ومثال من تسامح الرسول صلى الله علي

ترجمة القرآن وكون العربية لغة الإسلام ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة القرآن وكون العربية لغة الإسلام ورابطة الأخوة الإسلامية [*] (2) بيَّنا في المقدمة الإجمالية لهذا البحث عشر مسائل أساسية لا مجال للمراء والجدل فيها، يعلم منها جملة ما أصاب فيه الكاتبون الكثيرون في مسألة الترجمة وما أخطأوا؛ ولكن ذلك الإجمال لا يغني عن البيان والتفصيل الذي تقوم به الحجج على الصواب، وتدحض الشبهات التي لبست على المخطئين الحق بالباطل وهو ما أعقد له الفصول الآتية، مبتدئًا إياها بما أعلم من سبب إثارة هذا البحث وحقيقة الأمر فيه. غرض حكومة الترك الجمهورية اللادينية من ترجمة القرآن وكتابته بالحروف اللاتينية وما قيل في حظ الشعب التركي من هذه البدعة لقد كان عمل الترك الذي أعلنوا تنفيذه في شهر رمضان، هو الذي فتح باب البحث في ترجمة القرآن، وكان أول ما كتب في تخطئتهم بحجج الإسلام، والدفاع عنهم وتصويب عملهم بحجة التجديد وتطور الزمان، الذي خلاصته أن الشعب التركي قد ارتقى في مدارج المدنية الأوربية ارتقاء ما عاد يليق به اتباع الشريعة الإسلامية العربية، ولا الكتابة بحروفها، وأن الغرض الديني من القرآن معانيه لا عبارته وألفاظه، ولا نظمه وإعجازه، وأنه مهما تكن الحال فلا يليق بالشعب التركي الراقي أن يترك لغته لأجل القرآن، ولا أن يحافظ على الكتابة العربية لأجل المحافظة على القرآن المنزل باللسان العربي، ومثل هذه الحجج الداحضة لا يقول بها أحد يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبكتاب الله المنزل عليه؛ وإنما يقول بها من يفضل عليهما سياسة الحكومة التركية الحاضرة التي أحدثت هذا الأمر، ومن عجب أن كان فارس ميدانها كاتب كان قد اشتهر بالدفاع عن الإسلام والتنويه بمزاياه، ثم تذبذب فيه ثم صرح بنصر التجديد الأوربي وتفضيله عليه. فعلت هذه الحكومة فعلتها هذه متبعة ما سماه رئيسها (سياسة المراحل) التي كان أولها إلغاء الخلافة السياسية، فإلغاء الخلافة الروحية التي استبدلوها بها، فحذف مادة (دين الدولة التركية الإسلام) من القانون الأساسي، وإبطال المحاكم الشرعية والمدارس الدينية الإسلامية والأوقاف، فإلغاء اللغة العربية وكتبها الدينية والعلمية، فإلغاء حروفها، ثم وصلوا أخيرًا إلى مرحلة القرآن، وما أدراك ما القرآن، هو كلام الله المنزل المتعبد بلفظه العربي وتلاوته، كالتعبد بعقائده وأحكامه، هو كلام الله الذي يعتقد كل مسلم أن تغيير شيء منه أو تبديله كفر يخلد فاعله في جهنم فماذا يفعلون؟ تبديل الحكومة التركية القرآن لغة وكتابة وأنصارها بمصر إن الحكومة العسكرية التي قهرت الشعب على الخضوع لها في قطع تلك المراحل كلها، وقمع كل مقاومة بدرت منه بحكم الإرهاب والتنكيل - لا تهاب قطع هذه المرحلة وهي العقبة الكئود: أمرت بترجمة حرفية جديدة للقرآن على أن تسمى قرآنًا يتعبد به من يختار أن يبقى مسلمًا من الترك، بشرط أن يكتب بالحروف اللاتينية كغيره من كتب الدولة وشعبها، وبدأت بإعلان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان (27 منه) فلقن قارئ حسن الصوت آيات منه فقرأها في جامع أيا صوفيا المشهور، ووضعت بجانبه آلة الراديو الناقلة للصوت الموزعة له فنقلتها إلى مواضع وبلاد كثيرة. إن هذا لحنث عظيم، وإنه لخطب في الإسلام خطير، وإن كربه على المسلمين لكبير، وقد توقعناه قبل وقوعه ببضع سنين، فصرَّحنا به وبيَّنا مفاسده في المنار وفي تفسيره من خمسة عشر وجهًا، فهو لم يكن عندنا شيئًا جديدًا، وكنا نرجو من هذا الشعب العريق في الإسلام أن يوقظ هذا الاعتداءُ على دينه شعورَه النائم، ويُحيي ما أماته الجهل وإلفة البدع ونزغات الإلحاد المادية من عزة نفسه، ونرى أنه سيصبر إلى أن تتيح له الفرص محو هذه البدع الإلحادية والرجوع بالإسلام إلى أصله، وقد جاءتنا الأنباء من مصادر كثيرة مؤيدة لرأينا هذا. نقلت لنا الصحف خبر تنفيذ هذه البدعة الجديدة فلم نجدد في إنكارها قولاً غير الذي قلناه ونشرناه من قبل؛ ولكن ذكرها أحد إخواننا المسلمين في مقال له بالعرض مستنكرًا لها، ولم يستنكر فيه ما عرفه من التراجم قبلها، فحرك من أنصار هذه الحكومة بمصر ما كان ساكنًا، وهاج من شيعتها ما كان كامنًا، فسددت إلى طعنه أسنة الأقلام مقدسة لهذه الحكومة ومنزهة لها عن الملام، بأنها جاءت بالمعجزات، وفاقت جميع البشر في التجديد الذي تقتضيه حال الزمان والقضاء على ذلك البالي القديم من دين الإسلام؛ وإنما هو دين الله العام الباقي إلى آخر الزمان. ومن التجديد الذي يليق بالقرن العشرين عندهم أن تترك الشريعة الإسلامية، وينقل القرآن من حروف العربية التي وصفها نصيرهم في مصر بالوثنية، وزعم أن الغرض من ترجمته فهم الترك له واهتداؤهم به، واستفادتهم من عقائده وقواعده ومواعظه وأحكامه، وأن من الجهل والعبث تكليفهم التعبد بكلام لا يفهمونه، فمن فضائل حكومة الترك اللادينية الجديدة أنها جددت الإسلام لأهله من شعبها، بما جهله أو ضل عنه جميع المسلمين من قبلها، من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا القرن الرابع عشر للإسلام، والعشرين للمسيح عليه السلام، فهو من معجزاتها ومننها على رعيتها الإسلامية. وربما كان هذا الذي فعلته هذه الحكومة أجدر بوصفه بالمعجزات (بالمعنى اللغوي) من الانتصار على اليونان وإخراجهم من عقر دار الترك؛ فإن هذا على حسنه وحمدنا له في وقته، دون انتصار الحكومة الحميدية بقيادة أدهم باشا على اليونان في بلاد اليونان نفسها، ودون انتصار فرنسة والولايات المتحدة في أمريكا على المتغلبين على بلادهم، ودون انتصار صلاح الدين الأيوبي وغيره على الدول الصليبية كلها، وإخراجها من البلاد المقدسة وغيرها، وما وصف شيء من ذلك بالمعجزات، وأما هذا الانقلاب الديني الجديد فقد عجزت عن مثله كل دولة تولت السياسة والحكم في الشعوب الإسلامية؛ ولكن فعل أكبر منه بطرس الأكبر ثم البلشفك في روسية. دافع المنكر الأول لهذه الفعلة عن نفسه، وكتب المقال في إثر المقال في تأييد رأيه، وانتصر له آخرون، وحمي وطيس الجدال بين الفريقين، وكثر اعتراض كل كاتب على مناظره حتى فيما هو خارج عن موضوع المناظرة من مسائل تاريخية أو كلامية، حتى طرق بعضهم باب البحث في كلام الله تعالى الذي هو صفة ذاتية له، وكُتبه المنزَّلة على رسله بألسنة أقوامهم، وفي هذه المباحث من الفلسفة القديمة والنظريات الغريبة من المتكلمين ما كان من مصائب المسلمين في عصر رواج تلك الفلسفة. ورجع بعض المدافعين عن الحكومة التركية إلى كتب الفقه لعلهم يجدون في آرائها الشاذة ما ينصبونه حجة على جعل القرآن العربي المنزل خاصًّا بالعرب، وجواز إيجاد قرآن تركي للترك، وقرآن فارسي للفرس، وقرآن هندي للهنود، وقرآن صيني للصينيين ... إلخ، فوجدوا فيها رأيًا لأبي حنيفة في جواز الترجمة؛ ولكن نقل فقهاء مذهبه أنه رجع عنه، وأن المعتمد في المذهب رأي أصحابه في حكم من يعجز عن أداء ما فرض الله عليه في الصلاة من قرآن بالنطق به كما أنزله الله عربيًّا غير ذي عوج، وهو أنه يترجم له بلسانه، وهي ضرورة تقدر بقدرها فلا تباح لغير العاجز عن النطق ما دام عاجزًا، وسواء أصح هذا الرأي أم لم يصح فرأي المجتهد ليس حجة في الإسلام على غيره؛ ولكنه هو يعذر به، وكذا من قلده فيه لثقته به، وسواء أصح دليله أم لا فهو لا يتضمن جواز ترجمة القرآن كله بلغة غير لغته يستغنى بها عن المنزل من عند الله تعالى، فهذا مما أجمع المسلمون كلهم على عدم جوازه، وعلى أن من يفعله متعمدًا فهو زنديق مارق من الإسلام. ووجدوا في بعض كتب الحنفية من الاحتجاج لأبي حنيفة في جواز الترجمة أن سلمان الفارسي رضي الله عنه ترجم سورة الفاتحة لمن طلبها من قومه، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم! ولم يرو هذا عنه أحد من حفاظ الحديث في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد المعروفة، والفرس لم ينتشر فيهم الإسلام في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه علة في متن الحديث زائدة على كونه لا يعرف له سند يحتج به، ومن المعهود في بعض كتب الفقه ولا سيما كتب الحنفية ذكر بعض الأحاديث الضعيفة وكذا الموضوعة، ونقل النووي لهذا القول في كتابه المجموع في فقه الخلاف لا يعد دليلاً على أنه روي بسند صحيح ولا سقيم كما توهمه بعضهم، وهو لم يقل هذا والحكم مخالف لمذهبه، على أن النووي ليس من حفاظ الحديث الذين عنوا بروايته وتدوينه؛ وإنما هو فقيه عالم بالحديث يرجع في نقله والحكم عليه إلى مخرجيه من أصحاب دواوين السنة ويقل غلطه فيما يعتمده من تحقيقهم. أقوى الشبهات للقائلين بترجمة القرآن بيد أن الشبهة النظرية التي قَبِلها كثير من الناس الذين ليس لهم هوى في تأييد الحكومة التركية من عصبية جنسية، ولا نعرة إلحادية، هي أن الإسلام دين عام خاطب الله تعالى به جميع البشر المختلفي اللغات، ومن غير المعقول ولا الممكن عندهم أن يكلف الله تعالى كل أمة وكل شعب أعجمي أن يترك لغته ويتعلم العربية لأجل أن يمتثل ما أمره به من الاهتداء بكتابه وتدبره والاتعاظ به وامتثال ما فيه من الأوامر والنواهي؛ وإنما المعقول الممكن (بزعمهم) أن يترجم القرآن لكل قوم بلغتهم لأجل تبليغهم الدعوة إلى الإيمان به أولاً، ثم تعليم من آمن منهم ما أوجبه وما حرمه الله عليهم فيه، وتغذية الإيمان بتدبره والتعبد بتلاوته. ومن لا ينكر منهم أن تكليف الشعوب توحيد لغة دينها ممكن، ولا أنه وقع بالفعل يقول إن شعوب الأعاجم لم يمتثلوه بل حافظوا على لغاتهم، وحرموا من هداية القرآن نفسه اكتفاء بأحكام الإسلام التي دوَّنها لهم علماؤهم بلغاتهم، فالخير لهم أن يترجم لهم القرآن فيستفيدوا من أخباره وحكمه وأحكامه ومواعظه، وإن خلت الترجمة من تأثير بلاغته، وروعة أسلوبه ونظمه، وما تدل عليه عبارته العربية من إعجازه، على أنه لم يعد أحد يفهم هذا منه بزعمهم. هذه هي المسألة الوحيدة التي راجت شبهتها في سوق القائلين بجواز الترجمة أو وجوبها، ولم نر أحدًا اقتنع بما حاول خصومهم دحضها به، وقد التجأ بعضهم إلى علماء الأزهر فنشروا رأيهم؛ ولكن لم يوجد في كلام أحد منهم ما يشفي الغليل، ويقيم الحجة على أن الإسلام جعل العربية لغة المسلمين كافة وأوجبها عليهم. ولقد كثر علي المقترحون بأن أكتب في المسألة ما يُحق الحق ويُبطل الباطل بما يزيح الشبهة ويكشف الغمة، كما تعودوه مني في أمثال هذه المشكلة، فكنت أحيلهم على ما كتبته من قبل في المنار وفي الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم، وقد جمع وطبع في رسالة مستقلة يسهل على غير مقتني مجلدات المنار والتفسير مراجعتها، بيد أنني رأيت بعضهم يقول إنه لا بد من كتابة مقال جديد في المسألة فاستجبت لهم. إنني لا أجادل ولا أماري أحدًا من أولئك الكاتبين، ولا أتوخى الرد على قول من أقوالهم بالمناقشة في لفظه؛ وإنما أتحرى بيان الحق الذي ينطبق على الواقع، فأبدأ بكلمة تختص بحظ الشعب التركي من هذه الترجمة، ثم أبين كيف كان تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن ودعوته إلى الإسلام، وكيف كانت سيرة خلفائه الراشدين ودول الإسلام وأئمته في نشر هذا الدين، وكيف اهتدى به العرب والعجم، وكيف يدعو النصارى إلى دينهم أيضًا، وهل تتوقف دعوة الإسلام على ترجمة القرآن، أو دعوة النصر

أنا والأديب الشنقيطي

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ أنا والأديب الشنقيطي طالعت مقال الأستاذ الأديب (محمد الأمين الشنقيطي) الذي رد به على مقالي المنشور في الجزء الخامس من مجلة (الرابطة الغراء) تحت عنوان (الوهابيون والتوسل) أو (التوسل والأستاذ البيطار) ويلخص هذا الرد بما جاء في طليعته من قوله: (لم يكن قصدي في هذا المقال إلا إثبات ما أنكره الأستاذ من أن رجال مذهبه الوهابي لم يكفروا المشركين) . أقول: أما المشركون فهم بما أشركوا في غنى عن التكفير؛ لأن الشرك كفر وزيادة، بل هو شر أنواع الكفر على الإطلاق قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} (النساء: 48) وقال عز وجل: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31) وقال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف: 4-6) وقال عز من قائل: {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ} (غافر: 12) وقال سبحانه: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (الزمر: 45) . فإن قيل: إن هذه الآيات قد نزلت في المشركين الأولين، أجيب بأن هذا حق؛ ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول علماء الأصول [1] فيتناول عمومها كل من اتصف بوصفهم، وتلبس بشركهم والعياذ بالله تعالى، ومناط الحكم فيها هو دعاء غير الله بما لا يدعى به إلا الله، فهي تعم كل من شمله عمومها، وتناوله حكمها، من المشركين الأولين والآخرين إلى يوم الدين. أما إذا كان الغلط الواقع في كلام الأخ الأمين مطبعيًّا، وكان أصل المراد أن رجال المذهب الوهابي يكفرون المسلمين فهذا غلط عليهم، وحاشا لله أن يكفروا مسلمًا موحدًا، وسيأتي مزيد من بيان لذلك، إن شاء الله. وأما استدلاله بحديث الأعمى الذي هو أقوى ما في هذا الباب، فقد تقدم في كلام الأستاذ الدجوي، وأجبنا عنه بأنه على فرض صحته قد دل أوله وآخره على أنه توسل إلى الله تعالى بصلاته، وبما علَّمه إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء، ثم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، وهو العمدة في ذلك، وقول الأستاذ الشنقيطي في تعليل رجحان التوسل بالذات على الدعاء الصادر منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الضرير جاء طالبًا الدعاء فعدل عن الدعاء وأمره بهذا التوسل - غير مسلم؛ لأنا نقول إن هذا التوسل نفسه من الدعاء، ولا أدري من أين فهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع له، مع أن الله تعالى قبل شفاعة النبي فيه ودعاءه له، فرد عليه بصره، وكان ذلك معجزة للنبي صلوات الله عليه مصدقة لرسالته، مؤيدة لدعوته، كسائر معجزات الرسل، وكانت خاصة بذلك الأعمى الذي دعا له، دون عبد الله بن أم مكتوم مثلاً وقد كان مؤذنه صلى الله عليه وسلم وأشد لصوقًا به من ذلك الأعمى؛ لكنه لم يدع له ولم يسأله هو ذلك بل صبر كما أمر، بل دون سائر عميان الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدع لهم، بل دون سائر العميان في كل زمان ومكان، ولو كان التوسل فيه بالذات الطاهرة، التي لا تنقص حرمتها بعد الانتقال إلى الدار الآخرة، للزم منه أن كل أعمى دعا بهذا الدعاء، وتوسل بسيد الأنبياء يرتد بصيرًا، واللازم باطل فالملزوم مثله كما هو ظاهر، على أن توسل الأعمى واقعة عينية يثبت الحكم في نظائرها وأشباهها في مناط الحكم، وقد علمت أن الأعمى طلب في أول الحديث الدعاء فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ما يدعو به لنفسه أيضًا، وأمره أن يقول في دعائه: (اللهم فشفعه في) فدل ذلك على أن معنى قوله (يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي لتقضي حاجتي، اللهم فشفعه في) أي أتوجه بدعائك وشفاعتك والفرق بين من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وشفع فيه وبين من ليس كذلك كالفرق بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور، والأحياء والأموات، والذين يعلمون والذين لا يعلمون. ثم إنا نأخذ على الأستاذ الشنقيطي قوله عن كاتب هذه السطور (رجال مذهبه الوهابي) وكنت أرجو أن ينزه قلمه عن الغمز والنبز باللقب؛ فإن رجال الوهابية لا مذهب لهم في الفروع إلا اتباع إمام السنة أحمد بن حنبل، ولا في أصول الدين إلا مذهب السلف الصالح، فهل في هذا أو ذاك ما يعاب؟ وهنا أذكر الأديب الشنقيطي بقول القائل: إن كان تابع أحمد متوهبًا ... فأنا المقر بأنني وهابي وبما يعزى إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه إن كان رفضًا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي وقد زعم الشنقيطي أن كتب الشيخين ابن تيمية وابن عبد الوهاب طافحتان بتكفير المتوسلين، وعَجِبَ لي كيف لم أدرسها وأنا بمكة، ثم رجَّح أني جنحت إلى الإنكار بعد الدرس والاطلاع، وود لو ذهبت في دفاعي إلى سبيل غير الإنكار، وأفصح عن ذلك بقوله: (فالإنكار مدته قصيرة، وعلماء الإسلام لا يزالون بخير ينفون عن الدين كل ما أريد أن يلصق به) ثم ضرب لنا مثلاً بقول الشيخ ابن عبد الوهاب: اعلم أن شرك الأولين أخف من شرك أهل زماننا بأمرين (أحدهما) أن الأولين لا يشركون ولا يدعون الملائكة والأولياء والأوثان مع الله إلا في الرخاء، وأما في الشدة فيخلصون لله الدين ... إلخ كلامه. وأقول: قد علمت أيها القارئ الكريم مما تقدم من كلامي وتكرر، ومن قول الشوكاني الذي استشهد به الدجوي (والمتوسل بالعالم مثلاً لم يدع إلا الله ولم يدع غيره دونه، ولا دعا غيره معه) أن الكلام منحصر في التوسل الخلافي المشهور بين العلماء، المحصور في دعاء الله وحده مع التوسل إليه بصالحي عباده؛ ولكن الشنقيطي قد أغفل ذلك كله وتغاضى عنه، وجاءنا بتوسل آخر لا يعرفه إلا الغلاة والجهال، وهو دعاء أهل القبور أنفسهم، والاستنجاد بهم، وطلب الغوث منهم، لإنقاذ الغرقى وشفاء المرضى، ورد الغائبين، وإغاثة الملهوفين، وإعانة المستعينين، وهذا لا يسمى توسلاً بهم، بل هو دعاء لهم وطلب منهم، وهو خارج عن موضوعنا السابق، وليس هو منه في شيء. والعجب كل العجب كيف تغافل الأستاذ الشنقيطي عن كل ما سبق من كلامي وكلام الدجوي والشوكاني وابن القيم وابن تيمية على كثرة تقريره وتكريره، وأغفل ذكره وأتانا بشيء يجري على لسان بعض الجهلة المساكين أو الغلاة المستجدين، ولا يقول به أحد من علماء المسلمين!! أهذا هو الذي أراد بمثله الأستاذ الشنقيطي أن يفحمني ويلزمني الحجة، وهو أنه يوجد في كلام ابن تيمية وابن عبد الوهاب أن المشركين الأولين إذا وقعوا في شدة كخوف الغرق في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وأن بعض أهل زمان الثاني إذا وقعوا في مثل ذلك دعوا من ألفوا دعوتهم من المخلوقين، وهتفوا بأسمائهم مستجيرين مستغيثين؛ لينقذوهم من الضيق أو ينجوهم من الغرق، أهذه هي الشواهد التي يقول إن كتب الشيخين طافحة بها، ثم يرميني بإنكارها أو الغفلة عنها، ويقول إنه مستعد لأن يورد لي الكثير منها، وأنا أقول حسبك هذا الشاهد الواحد وأنشد قول القائل: قليل منك يكفيني ولكن ... قليلك لا يقال له قليل أيها الأستاذ الأمين ألم تقرأ قوله تعالى في وصف أهل الجاهلية: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (العنكبوت: 65) وفي معناه آيات أخرى، وقوله سبحانه فيما قص علينا من أمر فرعون: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ} (يونس: 90) فيكون أهل الجاهلية وفرعون الذي ادعى الربوبية والألوهية أولى بدعاء الله وحده عند الشدائد ممن يتبجحون بالإسلام والتوحيد، وبديهي من عقيدة المسلمين أن جميع المخلوقات لا يملكون لأنفسهم - ولا لغيرهم بالأولى - في الرخاء ولا في الشدة ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا، فكيف تتفق هذه العقيدة المستندة إلى النصوص القطعية المجمع عليها مع دعاء غير الله تعالى في الرخاء وفي الشدة أيضًا. فإن قلت: إن الداعي لم يرد بدعائه إلا الله متوسلاً إليه بمن يدعوه، وإن قلبه منطو على عقيدة صحيحة لو كشف الغطاء لشهدت صحتها، وهلا شققت عن قلبه؟ فالجواب أن ما في القلب لا يعلمه إلا علام الغيوب، وأن الكلام منحصر في دائرة الأقوال والأفعال التي تناقض صحة العقيدة القلبية كل المناقضة، والشارع ناط الأحكام بالظاهر والله يتولى السرائر، ولا يرد حديث (هلا شققت عن قلبه) إلا على من يدعي معرفة الباطن، وأنه مناقض أو موافق للظاهر؛ وإنما البحث فيما يبدو للحس من قول أو عمل مصادم للشرع، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة قتل من أتى بكلمة التوحيد ولم ينقضها بقول ولا عمل، فادعى أسامة رضي الله عنه أنه لم يأت بها عن عقيدة قلبية فأنكر ذلك عليه النبي صلوات الله عليه وقال: (هلا شققت عن قلبه) وأين هذا من ذاك؟ فإن قلت إنا نحمل قوله على المجاز العقلي فالجواب كما قال بعض المحققين من وجوه: (الأول) أن هذه الألفاظ دالة دلالة مطابقة على اعتقاد التأثير من غير الله تعالى. (الثاني) لو سلم هذا الحمل لاستحال الارتداد وانسد باب الردة الذي يعقده الفقهاء في كل مصنف وكتاب من كتب أهل المذاهب الأربعة وغيرها؛ فإن المسلم الموحد متى صدر منه قول أو فعل موجب للكفر يجب حمله على المجاز، والإسلام والتوحيد قرينة ذلك المجاز. (الثالث) أنه يلزم على هذا أن لا يكون المشركون الذين نطق كتاب الله بشركهم مشركين؛ فإنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الخالق الرازق الضار النافع، وأن الخير والشر بيده؛ ولكن كانوا يعبدون الأصنام وغيرها بالدعاء والنذور لتقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم عنده، فالاعتقاد المذكور قرينة على أن المراد بالعبادة ليس معناها الحقيقي، بل المراد هو المعنى المجازي أي كالتكريم مثلاً، فما هو جوابكم فهو جوابنا. قال صديقنا العالم السلفي الشهير الشيخ أبو بكر خوقير المكي رحمه الله في كتابه (فصل المقال) ناعيًا على من يسمي الطلب من غير الله توسلاً: فيا ليت أولئك القوم يقولون بكراهة الطلب من الميت فيما لا يقدر عليه بدلا ًمن تصريحهم أن ذلك توسل وقربة، وليتهم ينصحون العامة بترك التغالي في ذلك، وليتهم يكتبون رسائل في تقبيح ذلك أو ليتهم يسكتون. إلى أن قال: وكأنهم لا يشعرون إلى الآن بما حل بالأمة من جراء ذلك من الانح

جمعية علماء المسلمين في الجزائر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية علماء المسلمين في الجزائر نبغ في بلاد الجزائر في هذا العهد جماعة من العلماء المصلحين يبثون في البلاد الدعوة إلى الحق والخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالدروس والخطابة والكتابة في الصحف حتى إنهم أنشؤوا عدة جرائد ومجلات عطلت حكومة الجزائر بعضها فخلفها غيرها. وأشهر هؤلاء العلماء الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس منشئ مجلة الشهاب الإصلاحية التي خلفت جريدته (المنتقد) والأستاذ الشيخ الطيب العقبي والأستاذ الشيخ سعيد الزهراوي وكلهم ممن جمع بين العلم والعقل والرأي وحسن البيان قولاً وكتابة وخطابة، وقد فكر هؤلاء منذ سنين في تأليف جمعية علمية تكون المرجع المعتمد لمسلمي هذا القطر في جميع أمور دينهم تزول بها هذه الفوضى الدينية العلمية التي تصدى للتعليم والإرشاد والإفتاء في ظلماتها كثير من الجاهلين والدجالين المضلين، وبعد التشاور مع إخوانهم من العلماء ومحبي الإصلاح والإرشاد من وجهاء المسلمين المستنيرين وفقوا لتأليف هذه الجمعية في العام الماضي واختاروا لرياستها الأستاذ العلامة المصلح الشيخ عبد الحميد بن باديس صاحب الشهاب المنير، وَظَاهَرَهُمْ على تأليفها جميع أهل البصيرة والهدى من العلماء والأدباء وأصحاب الصحف الإسلامية. ويسرنا أتم السرور أن حكومة الجزائر قد أباحت لهم تأليف هذه الجمعية لاقتناعها بأنها تنفع المسلمين في أخلاقهم وآدابهم واستقامتهم في معاملاتهم مع جميع الناس من حيث لا تضرها هي في شيء؛ لما ثبت عندها من اجتناب هؤلاء العلماء للخوض في سياستها وإدارتها أو تنفير العامة عنها، وقد أحسنوا كل الإحسان في سيرتهم العملية التي أقنعت الحكومة بهذا؛ فإن السياسة ما دخلت في عمل إلا أفسدته كما قال شيخنا الأستاذ الإمام، وعلى المشتغل بالعلم والإصلاح الديني أن يعطيه كل وقته، وعلى المشتغل بالسياسة أن يعطيها كل عزيمته ولا يلبس لها غير لباسها. وإننا نشكر لحكومة الجزائر هذه الحرية لهذه الجمعية الرشيدة كما ننكر على دولتها ما تفعله خلاف ذلك في المغرب الأقصى لتعلم الدولة الفرنسية أننا لسنا أعداء لها لذاتها؛ وإنما نقول لها أحسنت إذا أحسنت، ونقول لها أسأت إذا أساءت. هذا وإن الأستاذ الكبير رئيس الجمعية قد زار في هذا الصيف أشهر بلاد الجزائر فتلقاه أهلها بالحفاوة التي يستحقها، والتكريم اللائق بمقامه العلمي الإصلاحي وبكرمهم الإسلامي، وقد أسمعهم من دروسه ومواعظه الحكيمة ما أحيا هداية القرآن والسنة فيهم.

المؤتمر الإسلامي العام لجنته التنفيذية ومكتبها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المؤتمر الإسلامي العام لجنته التنفيذية ومكتبها نشرنا في الأجزاء الثاني والثالث والرابع فصولاً في المؤتمر الإسلامي العام وما سبقه وما جرى فيه وسيرتنا فيه مما لم ينشر في الصحف التي اطلعنا عليها كما وقع؛ ولكننا كتبنا كلمة وجيزة في شأن اللجنة التنفيذية ومكتبها لتنشر في السادس فضاق عنها وها هي هذه: أخطأ المؤتمر العام في الطريقة التي اختارها لانتخاب لجنته التنفيذية إذ انتخب 25 عضوًا من أقطار بعيدة عن المركز (القدس) لا يمكن اجتماعهم فيه، منهم الهندي والجاوي في الشرق والمراكشي والأوربي في الغرب، وآخرون مما بينهما، وقد اجتمع هؤلاء الأعضاء كلهم مرة واحدة في مساء اليوم الذي انتخبوا فيه وانتخبوا من أنفسهم ومن غيرهم بضعة أعضاء لإدارة مكتب اللجنة من المقيمين في فلسطين وسورية ومصر تصوروا أنه يمكن اجتماعهم؛ ولكن مضى على ذلك بضعة أشهر - أو نصف سنة - ولم يجتمعوا؛ وإنما كان خير ما وفقت له اللجنة التنفيذية اختيارها للرجل الأحوذي الكبير السيد ضياء الدين الطباطبائي الشهير ناموسًا لها (السكرتير العام) ومقامه في أوربة لم يتيسر له العودة إلى القدس إلا بعد المدة التي ذكرناها، عاد فشمر عن ساعد الجد واكتفى في إدارة أعمال المكتب بمن يوجد في القدس من أعضائه، ونفذ كثيرًا من قرارات المؤتمر، واتخذ الوسائل لتنفيذ غيرها، وأولهما تأليف اللجان للمؤتمر في جميع الأقطار الإسلامية لنشر مقررات المكتب وجمع المال لأعماله وأهمها إنشاء المدرسة الجامعة الإسلامية، وكان أول ما بدأ به من طلب المال أن كتب إلى أعضاء المؤتمر أنفسهم بالتبرع للمكتب بما تجود به أنفسهم ولا أدري ما فعلت العسرة المالية بهذا الطلب، إلا أنني عجزت عن التبرع بأقل ما يسمى تبرعًا، وإن صديقي محمود بك سالم الذي كان تبرع في المؤتمر بمائة جنيه مصري يؤديها في يوم عرفة كان يسألني لمن يؤديها وألح في السؤال من أول ذي الحجة، ماذا يفعل بها ولجنة المؤتمر لم تعين أمينًا للمال؟ فأقول له اصبر، حتى إذا علم مني ومن غيري أن السكرتير العام نظم مكتب للمؤتمر وهو مجد في العمل أرسل المبلغ، وكذلك التاجر المحسن أحمد أفندي حلاوة أرسل مائة جنيه كان تبرع بها، وأخيرًا تبرع له صاحب الدولة مصطفى النحاس باشا بمائتي جنيه مصري وأرسلها، وماذا تغني المائة والمئات والعمل يتوقف على الألوف من الجنيهات، وأكثر الناس معسرون ولكن الأغنياء الواجدين كثيرون، وأكثرهم يبخلون بما يجب عليهم، فأنى يجودون بالتبرعات للمنافع والمصالح العامة وهم لا يعقلون لها معنى، ويعتذرون بالعسرة وإن كانوا لم يذوقوا لها طعمًا؟ والرأي عندي أن لا يشرع المكتب الآن في جمع المال لإنشاء المدرسة الجامعة، بل يجب أولاً أن يعنى بوضع النظام والرسم الهندسي لبنائها، وتقدير النفقات الدقيقة لها، ثم يضع النظام لجمع المال من جميع الأقطار الإسلامية التي يعلم أن لأهلها من الحرية ما يمكِّنهم من البذل لمصلحة الإسلام العامة؛ فإن الترك في الجمهورية اللادينية لا حرية لهم في مثل هذا، ومثلهم بعض المسلمين الذين سلبهم المستعمرون كل أنواع الحريات البشرية. والواجب أن يُراعى في هذا النظام المالي أن يثق كل من يطَّلع عليه أن ما يبذله من المال لهذا العمل يوضع في قرار مكين وحرز أمين فلا ينفق شيء منه إلا فيما وهب لأجله، لا يخشى أن يضيع منه شيء من أيدي الجباة له ولا من أيدي غيرهم، وبعد إتمام النظام وطبعه وتأليف اللجان في الأقطار كلها تستشار هذه اللجان في كل قطر في الوقت المناسب للبدء في العمل. وأرى أنه يجب على مكتب المؤتمر أن يستعين برأي بعض كبار الماليين والإداريين في وضع هذا النظام ولا يستقل هو به؛ وإنما له أن يستقل بما يطلبه من التبرع للأعمال الإدارية العامة كالذي طلبه أولاً. هذا وإنني رأيت لجنة الجامعة التي ألَّفها المكتب قد وافقت السكرتير العام على البدء بثلاثة فروع من كلياتها: وهي الشرعية والصناعية والطبية، وأهملت الدعوة والإرشاد التي هي أهمها، وجل مباحث المؤتمر كانت تدور حولها؛ ولكن المكتب كلفني تأليف لجنة لها، ولم يبين لي صفة هذه اللجنة ولا عملها الآن، فأما نظام الإدارة ومناهج التعليم فقد سبق لنا وضعها وتنفيذها، ولا تحتاج إلا إلى تنقيح قليل، وأما جمع المال فهو الآن متعذر على أنه لا بد أن يسبقه ما اقترحنا من النظام العام له، وانتهاز الفرص في كل قطر بحسبه. هذا وإن ما عرض لنا في هذا الشهر وما قبله من كتابة الرسالة المقترحة في حقوق النساء في الإسلام وطبعها قد اضطرتنا إلى تأخير نشر خطبتنا الجامعة في المؤتمر العام إلى جزء آخر. وقد أرسل إلينا مكتب المؤتمر عدة بلاغات ونداءات للنشر أهمها النداء الآتي الذي صدر في هذا الشهر وهو: نداء إلى مهندسي المسلمين بشأن جامعة المسجد الأقصى بما أن المكتب الدائم للمؤتمر الإسلامي العام الذي تألف بعد انفضاض المؤتمر لتنفيذ مقرراته والنهوض بالواجبات الجليلة التي رسمها في اجتماعاته قد أتم بعون الله وتوفيقه تأليف لجنة من الفضلاء وأهل الراي للشروع في إنشاء جامعة المسجد الأقصى الإسلامية، التي كانت بلا مراء من أعظم وأجل المشروعات التي أقرها المؤتمر، والتي سيكون لها في تجديد نهضة المسلمين المقبلة أبلغ الأثر. ولما كانت جامعة المسجد الأقصى ستتألف في إبان إنشائها من ثلاث شعب: 1- شعبة العلوم الشرعية الإلهية. 2- شعبة الفنون والصناعات. 3- شعبة الطب والصيدلة. ولما كان الركن الأساسي في نجاح هذا المشروع الخطير قائمًا على تعاون المسلمين وتسابقهم في مضمار الخير؛ فإن المكتب الدائمي للمؤتمر الإسلامي العام يدعو كل مهندس مسلم يأنس من نفسه استعدادًا لخدمة هذا المشروع الجليل ابتغاء مرضاة الله أن يتفضل بإخبار المكتب باستعداده للشخوص إلى القدس الشريف لوضع الخرائط والتصميمات وفق القواعد التي يبينها المكتب لمن يعتمده من حضرات المهندسين. ويتعهد مكتب المؤتمر بأن يقدم لكل من حضراتهم نفقات الذهاب والإياب والإقامة بالقدس مدة العمل، أما المشاق التي يتكبدها مثل هؤلاء المجاهدين الفنيين فأجرها عند الله عظيم، وتقديرها عند العالم الإسلامي جليل، وأن كل مهندس تنال خرائطه وتصميماته الرجحان سينقش اسمه الكريم على باب هذا المعهد الإسلامي كشرف مخلد ومأثرة تبقى على ممر الدهور. {وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 272) ، {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} (المزمل: 20) . ... أمين المال ... ... ... ... أمين السر العام محمد علي علوبة باشا ... ... ... ضياء الدين الطباطبائي

لجنة بحث موضوع البغاء الرسمي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لجنة بحث موضوع البغاء الرسمي المُشَكَّلَة بموجب قرار مجلس الوزراء الصادر في 12 أبريل سنة 1932 أرسل إلينا صاحب السعادة محمد شاهين باشا رئيس هذه اللجنة الأسئلة الآتية كما أرسلها إلى كثير من الجماعات وأفراد العلماء الباحثين منذ شهر يونيو، وكنا أخرنا أجوبتنا لأجل أن ندرس الموضوع من جميع أطرافه فتكون مفصلة، ولما رأينا من سبقنا إلى الكتابة في الموضوع قد أطالوا في كل جواب رأينا الاكتفاء بما يوجبه علينا الشرع من بيان حكمه في الموضوع، وهذا نص الأسئلة مع أجوبتنا: أسئلة يُراد الإجابة عليها السؤال الأول هل ترون إلغاء البغاء الرسمي أو إبقاءه، وما هي الأسباب التي تبنون عليها رأيكم؟ جوابه: إنني أرى وجوب إلغاء البغاء الرسمي وغير الرسمي وعقاب الزناة والزواني؛ لأن الزنا فاحشة حرَّمها الله تعالى بنص القرآن وعلى ألسنة جميع الأنبياء، فإباحته واستباحته - أعني استحلاله - ارتداد عن الإسلام، وما حرَّمه الله تعالى إلا لما فيه من المضار والمفاسد البدنية والنفسية والاجتماعية التي تضاعفت في هذا الزمان بفشوه في جميع الطبقات، ومنه بعض الأمراض السرية التي لم تكن كلها معروفة في العصور السابقة، وإن من أكبر العار على الأمة المصرية ولا سيما علمائها، وعلى الحكومة المصرية التي وضعت في دستورها أن دينها الإسلام أن تبيح الزنا في هذا القطر الإسلامي الذي يدين جميع أهله بتحريم الزنا وقبحه، لا يشذ منهم إلا زعانف من الملاحدة الإباحيين هم أكبر خطر على هذه الأمة؛ فإن هذا الإسراف في الفسق يهلك الأمم القوية فكيف يكون فتكه بالأمم الضعيفة التي هي في سن التكوين السياسي والمدني والاقتصادي. ومن العجب أن كثيرا من أهل هذه البلاد وغيرهم يرون أن مصر أولى الأقطار الإسلامية بزعامة العالم الإسلامي، وبأن تكون مقر الخلافة الإسلامية، وأن تكون الحجاز تابعة لها أو تحت سيادتها، وهي تبيح الزنا والسكر والربا والميسر إلا بعض أنواعه. بل يجب على الحكومة المصرية سد ذرائع الزنا من تهتك النساء ورقصهن وتبرجهن في الأسواق والشوارع (كاسيات عاريات مائلات مميلات) كما ورد في الحديث الصحيح في صفات أهل النار ولا سيما استحمامهن على شواطئ البحار مع الرجال، ورقصهن معهم وخلوتهن بهم في هذه الحال، وتلك المحال، بل خروجهن بسترة الحام الرقيقة إلى الشوارع والملاهي والمقاهي، وهذه الإباحة شر من إباحة الزنا في مواخير لا يراها إلا من يدنس نفسه بدخولها، ولا يمكن منع الزنا مع إباحتها. *** السؤال الثاني وجوابه في حالة الإلغاء ما هي الطرق التي تشيرون بها لمعاملة البغايا المرخص لهن الآن؟ (ج) إن الأطباء ورجال الإدارة أوسع رأيًا مني في هذه المسألة؛ وإنما أقول إن كل معاملة يُعاملن بها خير لهن وللناس من إباحة هذه الحرفة الملعونة. *** السؤال الثالث وجوابه ما هي الوسائل التي تقترحونها لمكافحة البغاء السري؟ (ج) لعل أقرب الوسائل إلى ذلك وضع العقوبات الشديدة على الزنا والقيادة وأصحاب المواخير السرية مع مراقبتهم بالدقة التي يُراقب بها شر الجناة والمجرمين ومنع إباحة تهتك النساء جهرًا في شواطئ البحار وأمثالها. *** السؤال الرابع وجوابه ما هي الوسائل التي تقترحونها لتلافي أضرار الأمراض السرية؟ (ج) إن خير وسائلها منع أسبابها، ومصلحة الصحة في غنى عن رأي مثلي في طرق علاجها. *** السؤال الخامس وجوابه إذا كنتم ترون إلغاء البغاء الرسمي فهل يكون ذلك تدريجًا أم دفعة واحدة؟ أي هل يكتفى مبدئيًّا بعدم الترخيص لبغايا جديدات فيندثر البغاء الرسمي تدريجًا؟ أم يحرم على البغايا الموجودات في الوقت الحاضر ممارسة مهنتهن فيقضى على البغاء دفعة واحدة؟ (ج) الواجب القطعي الذي لا تخيير فيه شرعًا ولا مصلحة: إلغاء البغاء دفعة واحدة بقانون صريح يتضمن العقاب الشديد على مخالفته، وتحريمه فعلاً كما حرَّمه الله حكمًا، ورجال القانون أعلم بأقرب الطرق الممكنة لتنفيذه.

أكل لحم الخنزير هل يشمل شحمه وكل ما يؤكل منه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أكل لحم الخنزير هل يشمل شحمه وكل ما يؤكل منه؟ (س50) استفتي في هذه المسألة زميلنا الكريم الأستاذ سيف الدين رحال الشهير محرر جريدة الفطرة الغراء وناموس مؤتمر الجمعيات العربية بالبرازيل، فأجاب عنها بالجواب الآتي المتضمن لحكمة التحريم وأرسله إلينا لننشره في المنار ونعلق عليه رأينا في الفتوى، فلم يسعنا إلا إجابته، وهذا نص ما جاءنا منه مبدوءًا بخطابه للمستفتي دون خطابه لنا الذي تركنا نشره لطوله. بسم الله الرحمن الرحيم حضرة الأخ الصالح السيد أحمد حديد، أدام الله بركته عليه آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد وصلتني فتواكم حال انعقاد (مؤتمر الجمعيات الاستقلالية السورية العربية) للبحث في قضية الاستقلال وما يرتبط بها من القضايا المتعددة وليس في الإمكان إجابتكم بالتفصيل، فأبادر بالإيجاز مرجئًا التطويل لفرصة أخرى: نذكر هنا نص سؤالكم ونجيب عليه حسب معلوماتنا القاصرة، ونعتقد بمن هو أكفى منا في هذا الميدان فلا ضير عليكم أن تلجأوا إلى ساحته؛ فإنكم ولا شك تجدون فيها خيرًا جوابًا وخيرًا سندًا. السؤال تقولون: ما هو المحرم أكله في الخنزير؟ هل هو لحمه فقط أم لحمه وشحمه وكل ما فيه؟ نرجو الإفادة شرعًا ولكم الفضل والثواب. الفتوى حكم كتاب الله في ذلك نجيب على سؤالكم بالإيجاز: إن آيات التحريم في القرآن قد وردت بصيغة التخصيص في أن المحرم من الخنزير لحمه، فقد ورد في سورة المائدة قول الله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (المائدة: 3-5) ... إلخ. وورد في سورة البقرة قوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ المَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 172-173) . وورد في سورة الأنعام قوله جل جلاله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 145) . فالناظر في الآيات المذكورة يجد أن لحم الخنزير مُحرَّم تحريمًا قطعيًّا لورود النص الصريح فيه، سواء ورد لفظ لحم بالمعنى الحقيقي، أو ورد مجازًا مرسلاً مرادًا به كل الخنزير، فإن كان ورود المعنى لأجل الحقيقة الظاهرة فظاهره كون لحم الخنزير حرامًا، وإن أريد المجاز فالمعنى أن الخنزير كله لحمه وشحمه ودهنه وكبده وطحاله محرم، فيكون تحريم الجزء الأكبر مرادًا به الكل، هو تحريم قطعي للكل أيضًا، أي لما بقي من الكل غير اللحم، فمن أصر على أن لفظ اللحم وارد وقاصر على معناه الحقيقي جاز له القول بالتحريم القطعي في اللحم وبالظني في غيره إذا قام عليه دليل من السنة والإجماع أو بقياس أهل الحل والعقد، فإن لم يقم كان التحريم ظنيًّا من باب سد الذريعة، إذ في تحريم الكل سد ذريعة اقتناء الخنزير للانتفاع بما هو غير اللحم مما يميل المترخص إلى تحليله جمودًا عند النص، وفيه قطع دابر ما يؤدي إليه الانتفاع من التفريط في التحريم للمحرم بجر المنفعة لما دونه المظنون في حله، ولا يصح ضرب المثل بضرورة منع زرع العنب والتمر منعًا لاستخراج الخمر منهما؛ فإنه مثل فاسد لوجود الفرق العظيم في الأمرين؛ لأن شحم الخنزير ودهنه وكبده وطحاله موجودة فيه بالذات ملاصقة لما حرَّم الله بالنص بصريح اللفظ والمعنى؛ وإنما الخمر محدثة يأثم عاصرها وبائعها ومشتريها وحاملها والمحمولة إليه لشربها، ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى قد قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} (البقرة: 187) ومعنى ذلك أن للحلال حدودًا ينتهي عندها حيث يبتدئ الحرام، فإذا تطرف المرء فقد ينتهي منها إلى الحرام أو يختلط عليه آخر المحللات بأوائل المحرمات، فيلج أبواب الشبه والالتباس نجانا الله منها؛ فإنها أبواب الريبة والحيرة. وإنك لتجد في آية الأنعام قوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} (الأنعام: 145) والهاء في (إنه) يحتمل أن تعود على لحم الخنزير، كما يحتمل أن تعود على الخنزير نفسه، بل قال النحاة إن الضمير يعود على الأقرب، فالقول بأن تأكيد النعت بالرجس راجع إلى الخنزير ذاته صحيح، وهو تشنيع وصف الله به عبادة الأوثان في نهيه عنها بقوله: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} (الحج: 30) كما وصف به الخمر والميسر: {وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ} (المائدة: 90) في آية أخرى. نعم قد وردت صيغة التحريم في آية البقرة بصيغة الحصر (بإنما) كما وردت في سورة الأنعام حصرًا (بإلا) ولكن الحصر وارد هنا لبيان أن الله جلَّ شأنه لم يحرِّم على المسلمين جميع ما حرَّمه على غيرهم من الأمم الأخرى؛ وإنما حرم عليهم ما ذكره فقط من المحرمات قليلة العدد التي ذكرها وتكرم بحل غيرها مما دعا إلى يأس المخالفين الذين ذكرهم بقوله: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} (المائدة: 3) وقد ذكر في آيات التحريم من قواعد سننه ما فيه يسر للمسلمين، فذكر ثلاث قواعد هي أصل التشريع الصحيح عند العلم والاجتماع: القاعدة الأولى: تحليل الطيبات {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} (المائدة: 4) {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ... } (المائدة: 5) . القاعدة الثانية: إن تحريم الله لما حرم لم يكن لمجرد التحريم، بل لغاية أسمى وهي لتطهير الإنسان من الواجفات الحيوانية كأكل الموتى ولعق الدم المسفوح أو أكل ما هو رجس سواء أكان لقذره أم لما فيه من الجراثيم المؤذية، ولتبرئته من الفسق والشرك الخفي بتجنبه استيعاب ما ذبح للأوثان أو لغير الله مطلقًا مثل ما ذُبح على النصب ... إلخ. القاعدة الثالثة: منع الحرج عن الإنسان واردة اليسر له لا العسر بالترخيص له بالاستعمال عند الضرورة {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (البقرة: 173) {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 145) {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (المائدة: 3) . فإذا تقرر ذلك جاز لنا أن نسأل: هل شحم الخنزير ودهنه وكبده من الطيبات أم لا؟ والجواب على ذلك يمكن معرفته بتقرير أهل العلم العادلين في هذا الصدد وإني ذاكر لك ما يحضرني فيها وأنا في مجال بعيد عن المراجعة والتفصيل. طالعت في دليل (كشرنوفتش) الطبي تحت كلمة (تريكينة) ما معناه (التريكينة) جرثومة خبيثة توجد خاصة وعلى الغالب في لحم الخنزير ولها تأثير سيئ جدًّا في الجهاز الهضمي وعلى المصران، ولا تموت إلا بغليان يبلغ (75) درجة من الحرارة بميزان (فرنهيت) فإذا صادفت إنسانًا لا استعداد له على تحملها فقلما تركته سليمًا، بل قد تقضي عليه في أقل من 24 ساعة. وقد ثبت علميًّا أن شحم الخنزير وكبده خاليان خلوًّا كاملاً من هذه الجرثومة المضرة. وقد كنت طالعت في كتب أخرى عن الجراثيم ما اتفق في التقرير مع المرشد المذكور؛ ولكني قرأت أيضًا في كتب الطب فوجدت بعضها في حال وصفه للجرب والجذام والحكة يقول: (إنها تنتج في بعض الأحيان فيمن يفرط في أكل شحم الخنزير ودهنه أو في ذريتهم) ومن هذه الكتب كتاب: (ادرس نفسك) للأستاذ الكبير الفارس دي توليدو [1] . فأنت تستخلص من ذلك أن شحم الخنزير خالٍ من الجرثومة المضرة إلا أنه يورث على الغالب كثيرًا من الأمراض المؤذية مباشرة لآكله ولورثته من بعده، فهو بذلك لا يدخل بين الطيبات ولا يعطى حكمها، فيكون تحريم أكله - ولو تحريمًا ظنيًّا - جائزًا من باب الحيطة وسد الذريعة، إذا لم يثبت تحريمه القطعي بالنص الصريح. ولقد طالعت فتوى على مذهب الإمام مالك عند حداثتي ولا أدري أين طالعتها بعدم حرمة شحم الخنزير، ولا أدري مقدارها من الصواب، ولا يبعد استفتاء علماء بذلك، ففي إمكانكم استشارتهم أو استشارة كتبهم وربما عدت فكتبت إليكم بتفصيل عند خفة عملي الكثير، والله سبحانه وتعالى أعلم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الخادم الفقير ... ... ... ... ... ... ... ... ... سيف الدين رحال *** تعليق المنار على الفتوى نقول أولاً: إن إطلاق لفظ اللحم في تحريم الأكل يشمل الشحم وكل ما يؤكل منه من كبد ورئة وقلب وطحال وكليتين ومعى وغدد، يشمل هذا بالنص اللغوي الحقيقي كما حققه القاضي أبو بكر بن العربي المالكي، فقد قال في تفسير آية البقرة من كتابه أحكام القرآن ما نصه: اتفقت الأمة على أن الخنزير حرام بجميع أجزائه، والفائدة في ذكر اللحم أنه حيوان يذبح للقصد إلى لحمه، وقد شغفت المبتدعة بأن تقول فما بال شحمه بأي شيء يحرم؟ وهم أعاجم لا يعلمون أنه من قال لحمًا فقد قال شحمًا، ومن قال شحمًا فلم يقل لحمًا، إذ كل لحم شحم، وليس كل شحم لحمًا، من جهة اختصاص اللفظ، وهو لحم من جهة حقيقته اللحمية، كما أن كل حمد شكر وليس كل شكر حمدًا من جهة ذكر النعم، وهو حمد من جهة ذكر فضائل المنعم. ثم اختفلوا في نجاسته فقال جمهور العلماء: إنه نجس، وقال مالك: إنه طاهر ... إلخ اهـ المراد منه. ثانيًا: إن الفقهاء قد أجمعوا على تحريم أكل كل ما يؤكل من الخنزير. أطلق الجمهور حكاية الإجماع واستثنى بعض المفسرين بعض الظاهرية، وهو مبني على أن مدلول لفظ اللحم ما هو معروف عند العوام من جسم الحيوان المتصل بأعضائه المتماسكة بعظامه دون ما في جوفه مما ذكر. ثالثًا: إذا قيل إن إطلاق لفظ اللحم في الآيات مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل أو معظم الشيء على جملته؛ فإنه يصح الاستدلال بالآية على تحريم ما ذكر كله عند غير الحنفية من أصحاب المذاهب الثلاثة، وعلى الكراهة التحريمية عندهم

الوجود والمادة والقوة والخالق عز وجل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوجود والمادة والقوة والخالق عزَّ وجل رأي الأستاذ الإمام في الحدوث والقدم [1] حضرة الأستاذ صاحب الكوكب المنير قرأت فيما نشره الكوكب أمس السبت من ترجمة مذكرات مستر ولفرد بلنت المشهور ما ذكره من حديث الأستاذ الإمام مع الفيلسوف سبنسر في عقيدة المسلمين في الخالق عز وجل، وفي حالة أوربة والشرق، وما ذكره من حديثه هو مع الأستاذ الإمام في علم الله تعالى بالجزئيات، وفي قدم المادة والخالق عز وجل. فأما حديث أستاذنا مع الفيلسوف سبنسر فقد كان بسطه لنا بعد عودته من أوربة، ورأيت كلمة عنه في مذكرة له ونشرتُ هذا وذاك في المنار وفي الجزء الأول من (تاريخ الأستاذ الإمام) فراجعوه في (ص 868) من التاريخ إن شئتم. وأما حديثه مع مستر بلنت في الخالق وعلمه وقدم المادة في أثناء عودتهما من زيارة الفيلسوف فلم يذكر لنا عنه شيئًا؛ ولكننا نجزم بأن ما نقله عنه مستر بلنت من القول بقدم المادة خطأ سببه عدم فهمه لما قاله الأستاذ الإمام لدقته وكونه من اصطلاحات كلامية وفلسفية لم يعرفها عقله ولم يألفها فهمه، وإننا قد تلقينا عنه هذا البحث مطولاً مفصلاً في الكلام على الوجود من درس المنطق حتى قلنا مع أذكى الأساتذة الذين حضروا ذلك الدرس: إننا لم نفهم معنى الوجود إلا في هذا اليوم، وفي الكلام على الوجود الواجب والوجود الممكن من رسالة التوحيد، ثم في مباحث أخرى من دروس التفسير وأهمها الكلام على المادة والقوة الذي أثار إشكالاً في بعض الأذهان اقتضى أن يوضحه الأستاذ كتابة، وقد نشرت رأيه وما كتبه في إيضاحه في الجزء الأول من التفسير. أقام الأستاذ الإمام البراهين العقلية القطعية على حدوث العالم قولاً وكتابة وقِدَم خالقه واجب الوجود وحده، فلا يمكن أن يقول لمستر بلنت ولا لغيره إن المادة لهذا العالم قديمة كقِدَم واجب الوجود، إلا إن كان يقول بوحدة الوجود كالشيخ محيي الدين ابن عربي وأمثاله من فلاسفة الصوفية الغلاة الذين يقولون: إن الوجود الحق واحد في ذاته متعدد في مظاهره وهي أعيان الموجودات في الخارج وشخوصها، وهو قد ذكر للفيلسوف سبنسر مذاهب المسلمين الثلاثة في نسبة الخالق إلى العالم: مذهب السلف الذين يقولون إنه فوق جميع خلقه بائن منهم بلا تمثيل ولا تحديد، ومذهب المتكلمين الذين يقولون إنه لا في داخل العالم ولا في خارجه - فيقولون كالسلف بالبينونة وبنصوص العلو والفوقية مع تأويلها - ومذهب الصوفية الذين يقولون بالوحدة، وهو قد صرَّح في رسالة التوحيد وفي دروس التفسير أنه يقول بقول السلف، ولا يعيب قول الخلف. ولكنه كان في تقرير المسائل الاعتقادية يلتزم اصطلاحات علماء الكلام (إلا في التفسير) وأما في الرد على الشبهات وتقرير الحقائق الإسلامية للفلاسفة والماديين، فكان يحاول تقريب الاصطلاحات العلمية المختلفة بعضها من بعض إذا كانت هي سبب الاختلاف في فهم الحقيقة، ثم يبين أن الحق ما أثبته الإسلام، وقد كان الفيلسوف سبنسر يرى أن إثبات ذات للقوة المدبرة لأمر العالم، وأن لهذه الذات صفات قائمة بها كما يعتقد المسلمون - يقتضي أنهم يقولون بتشخصه تعالى، فأعلمه الأستاذ الإمام بأننا نقول إنه موجود ولا نقول إنه شخص مشخص، بل نقول إنه لا يُدرك كنهه، ففهم الفيلسوف كلامه ودُهش من الإعجاب به كما يقول مستر بلنت؛ ولكن مستر بلنت لم يفهم كلامه كما فهمه الفيلسوف، ولذلك سأله بعد الخروج من عنده عن علمه تعالى بالجزئيات فأثبته له، وسأله عن قدم المادة كقدمه تعالى وادعى أنه أثبتهما معًا، ونحن نجزم بأنه لم يفهم جوابه لضيق الوقت عن إيضاحه فأخطأ في بيانه. والراجح عندي في سبب ما فهمه مستر بلنت من قدم المادة أن الأستاذ الإمام أراد أن يكشف له شبهة الماديين في اعتقادهم قدمها، وهي استحالة وجود شيء من العدم - أو شيء من لا شيء كما يقولون - ثم يبين له حجة المسلمين على حدوثها، فوافقه أولاً على أن العدم لا يكون مصدرًا للوجود، بل بيَّن له كما بيَّن لنا في دروس المنطق بالأزهر أن العدم لا حقيقة له في نفسه؛ وإنما هو أمر اعتباري فرضيّ محض وإنما الشيء الثابت هو الوجود، وإن الوجود المطلق أزلي أبدي لأن مقابله وهو العدم المطلق محال لا يمكن ثبوته ولا تحققه ولا تصوره ولا تخيله؛ وإنما يتصور الذهن العدم الإضافي وهو نفي نسبة موجود إلى موجود كعدم وجود شمسين وقمرين لهذه الأرض، فتوهم الرجل من هذا أن وجود المادة قديم لأن العدم محال. ثم أخذ الأستاذ الإمام يبين له أن الوجود قسمان: وجود واجب لذاته، ووجود ممكن لذاته، ومن الثاني أعيان العالم المادي الذي نعرفه بحواسنا ونقيس ما لم ندركه منها على ما أدركناه، فمنه ما نرى بأعيننا حدوثه بعد إن لم يكن، ومنه ما نعلم حدوثه بالأدلة كهذه النجوم والكواكب اللامعة فوقنا، فلا يوجد عالم من علماء المادة أنفسهم يقول إنها قديمة أزلية، ومعنى كونه كله ممكنًا أن ذاته لا تقتضي الوجود في نظر العقل لثبوت سبق أعيانها بالعدم ولا فرق في نظر العقل بين أعيانها المركبة من عنصرين أو عدة عناصر وبين عناصرها البسيطة، وكل ما لم يكن وجوده من ذاته لذاته لا لعلة خارجة فلا بد له من علة وسبب يهبه الوجود، وهذا السبب لا يمكن أن يكون عدميًّا؛ لأن العدم لا ثبوت له في ذاته فيكون سببًا لوجود غيره، فوجب أن يكون سبب وجود الممكنات كلها هو الوجود الواجب أي الذي له الوجود لذاته لا لعلة أخرى، وهو الذي لا يتصور عدمه، وهو الله عز وجل. هذا هو البرهان العقلي عندنا على حدوث العالم كله، وكأني بالأستاذ الإمام قد ذكره لصديقه مستر بلنت مختصرًا في طريقهما من دار الفيلسوف سبنسر إلى المحطة فلم يفهمه منه ولكن بقي في ذهنه قوله إن العدم لا يكون مُنشِئًا ولا سببًا للوجود، وتوهم أنه يستلزم أن تكون المادة قديمة أزلية كالخالق تعالى وهذا محال. أزيد في بيان الموضوع أن الله تعالى قال في الاحتجاج على المعطلين: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} (الطور: 35) أي لا يمكن أن يكونوا خلقوا من غير شيء (أو من لا شيء كما يقال) لأن العدم لا يكون سببًا ولا مصدرًا للوجود، ولا يمكن أن يكونوا هم الخالقين لأنفسهم ولا لغيرهم، وهذا مما لا ينكرونه، فيتعين أن يكون الخالق لهم هو الله واجب الوجود لذاته، وما يصدق على المخاطبين بهذه الحجة يصدق على غيرهم من الممكنات الوجود عاقلها وغير عاقلها كعناصر المادة بالأولى، وإذا أمكن الجدل والمراء في جزئيات الممكنات فلا يمكن المراء في جملتها، وإنني أذكر هنا عبارة رسالة التوحيد في ذلك لأستاذنا وهو قوله بعد بيان حقيقة الواجب والممكن والمستحيل ما نصه: (جملة الممكنات الموجود ممكنة بداهة، وكل ممكن محتاج إلى سبب يعطيه الوجود، فجملة الممكنات الموجودة محتاجة بتمامها إلى موجد لها، فإما أن يكون عينها وهو محال لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه، وإما أن يكون جزأها وهو محال لاستلزامه أن يكون الشيء سببًا لنفسه ولما سبقه إن لم يكن الأول، ولنفسه فقط إن فرض الأول، وبطلانه ظاهر، فوجب أن يكون السبب وراء جملة الممكنات (أي غيرها) والموجود الذي ليس بممكن هو الواجب، إذ ليس وراء الممكن إلا المستحيل والواجب، والمستحيل لا يوجد، فيبقى الواجب فثبت أن للمكنات الموجودة موجدًا هو واجب الوجود) . ثم أورد البرهان من وجه آخر أخصر وأدق من هذا، وقد علم من هذا وما قبله من مقدماته وما بعدها من الكلام في الوجود الواجب، وما ثبت لواجب الوجود عز وجل وحده من القدم أنه يستحيل أن يقول صاحب هذه البراهين إن المادة قديمة أزلية، وإن المعقول أن يكون السبب في فهم مستر بلنت ما ذكر منه هو ما فصَّلناه، أو يكون الكلام في القدم اللغوي، أو الإضافي، وهو قدم عناصر المادة على مركباتها. ولكاتب هذا المقال طريقة غير طريقة شيخه الأستاذ الإمام الفلسفية في إثبات حدوث المادة في مناظراته للقائلين بقدمها جدلاً أو اعتقادًا بينتها في مواضع من مجلة المنار منها مناظرة بيني وبين صاحبي المقتطف منذ ثلث قرن تقريبًا، ملخصها أن جميع ما نعرفه من هذا العالم العلوي والأرضي حادث بالاتفاق بين العلماء؛ ولكنهم يتخبطون في تصور تكوينه وتصويره بصورة معقولة، ولا يزالون مجمعين على أن منشأ الكون ومصدره الأول مجهول الكنه مع الجزم بأنه موجود ذو قوة أو حكمة يدل عليهما النظام العام في جملته وفي كل نوع من أنواعه، أو جنس من أجناسه، وهو ما نعبر عنه بالسنن أو النواميس، وهذا الموجود المجهول كنهه وحقيقته المعلومة صفاته بما يدل عليها من العالم، هو الذي نسميه نحن بالاصطلاح العلمي واجب الوجود، وبالاصطلاح الديني (الله رب العالمين) . هذا وإنه قد ثبت عند علماء المادة أن عناصرها البسيطة قد يتحول بعضها إلى بعض كتحول غاز الراديوم إلى عنصر الهليوم وفاقًا لنظرية وحدة المادة في الأصل، ونظرية من قال من فلاسفتنا وفلاسفة اليونان إن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد تقريبًا. ثم ثبت أخيرًا أن القوة تتحول إلى مادة أو تصدر عنها مادة، ومن المعلوم أن كنه المادة وكنه القوة مجهولان، وكنه القوة أعرق في الخفاء من كنه المادة، فصح لنا معشر المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء أن نقول لهؤلاء الماديين إن هذه القوة التي صدرت عنها المادة هي قدرة الله تعالى، وهي عندنا مجهولة الكنه، كما أن ذات الخالق تعالى مجهولة الكنه [2] . وقد بيَّنت هذا البحث في مقال طويل عنوانه (السنن الكونية والاجتماعية ونظام الكون) نشرته في الجزء الأول من مجلد المنار، مجلد هذا العام قلت فيه ما نصه: وما لي لا آتي إلى أساس هذا الكون والسنن التي قام بها تكوينه في الأطوار المختلفة، ألم يكونوا يقولون إنه مؤلف من مادة ذات عناصر بسيطة وقوة هي منشأ التركيب الذي حدثت بها الصور المختلفة في العالم كله. قد هُدم هذا الأساس إن لم يكن بما ثبت من تحول عنصر إلى عنصر، فيما ثبت من أن ما نسميه المادة والقوة اصطلاح لا تعرف له حقيقة، وإن هذا الوجود الذي نعرفه في أرضنا وسمائنا ليس سوى مظهر من مظاهر تموجات الكهرباء، وإن كل ذرة من ذراته تتألف من كهارب سلبية تدور حول كهرب إيجابي (والكهرب هو الوحدة من الكهرباء) وهذه الكهارب لا يمكن أن يقال إنها مادة، ولا إنها قوة؛ وإنما حقيقتها مجهولة، إلى أن قلت: فإذا كانت المادة تصدر عن القوة كما قالوا (أولاً) فما المانع من القول بأن هذه القوة هي قوة الله وقدرته؟ وإذا كان الوجود الممكن كله مظهرًا من مظاهر تموجات الكهرباء المجهولة الكنه كما قالوا (أخيرًا) فأي بعد بين قولهم هذا وقول أتباع الوحي: إن الوجود الممكن الظاهر صادر عن الوجود الغيبي الباطن؟ وقول الله تعالى يصف نفسه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الحديد: 3) .

ذكرى صلاح الدين ومعركة حطين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذكرى صلاح الدين ومعركة حطين [1] ] وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ [[*] سلام عليكم أيها المتذكرون المذكِّرون بتاريخ هذا الرجل العظيم، المنقذ لأوطانكم وأمتكم من عدوان المعتدين، المجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الحق والعدل، بصد سيطرة الغرب عن الشرق. لقد أحسنتم صنعًا بإحياء هذه الذكرى، واختياركم لها تاريخ معركة حطين الكبرى، التي كانت هي الفاصلة؛ لأن معارك النصر بعدها كانت متواترة متعاقبة، إلى أن تم طرد تلك الزحوف الباغية، عن هذه البلاد المقدسة، وعن غيرها من البلاد العربية، حتى جزيرة العرب التي شرَّفها الله تعالى على جميع الأرض ببيته الحرام، ومرقد رسوله خاتم النبيين عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد كان بعض زعماء الإفرنج يأتمرون بفتح الحرمين الشريفين، ولا غرو فإن ثالث الحرمين أقرب الأبواب إليهما، وقد عاد الأمر كما بدأ، فهل نجد على نار الأحداث المشاهدة هدى؟ أيها الإخوان المجتمعون لهذه الذكرى المقدسة، في هذه الأرض المقدسة إنكم قد رفعتم عن بلادكم وأمتكم كلها عارًا كبيرًا وتقصيرًا معيبًا بالسكون والسكوت عنها إلى الآن، وهم يرون شعوب الغرب يتنافسون في إحياء ذكرى معارك الحروب التي هي دونها من كل وجه، وأما الرجال العظام فإنهم ينصبون لهم التماثيل، وإن كانوا عندهم دون صلاح الدين عندنا، ويؤلفون في مناقبهم الكتب التي ترفع ذكرهم، وتعظم قدرهم، وترشد الأمة إلى الاقتداء بهم. نصب التماثيل ممنوع في الإسلام لأنه من شعائر الوثنية، وأما تصنيف الكتب وإلقاء الخطب في عبر التاريخ فكل منهما مشروع؛ لأنه من الحكمة والموعظة الحسنة، وقد دوَّن بعض علمائنا تاريخ صلاح الدين، ونوَّهوا بجهاده ومناقبه في كتب أخرى؛ ولكن جمهور الأمة يجهلها ويحتاج إلى التذكير بها، بالأسلوب الذي يبعث العبرة، ويحمل النفوس على حسن الأسوة. فضائل صلاح الدين كثيرة: من قوة إيمان، وعلو أخلاق، وصلاح أعمال وعدل أحكام؛ ولكن منته الكبرى على أمم الشرق كافة، وعلى العالم الإسلامي والعرب خاصة، إنما هي كفايته إياهم طغيان الاستعمار الغربي، والطوفان الأوروبي، الذي فاضت سيوله باسم التعصب الصليبي، في زمن كانت فيه جميع الشعوب الأوربية في ظلمات حالكة من الهمجية والقسوة والخرافات والجهل المطلق، والبعد الشاسع عن هداية الدين المسيحي الصحيح، الذي ارتكبوا جميع الشرور والفظائع باسمه، ووالله إنهم قد كانوا وما زالوا أبعد خلق الله عن دين المسيح وفضائل المسيح ووصايا المسيح عليه الصلاة والسلام، ولولا صلاح الدين لأغرق طوفانهم الشرق كله منذ القرن السادس للهجرة، فأهلكوا الحرث والنسل، وطمسوا نور الحق والعدل وأفسدوا جميع الأرض. لم يكن صلاح الدين رحمة من الله تعالى بالشرق وحده، بل كان رحمة بالغرب وبملوكه وقواده الوحشيين الهمجيين وشعوبه المظلومين أيضًا، فقد أراهم بجهاده فيهم، وبنصر الله له عليهم ما طبعه عليه الإسلام من الحق والعدل، والرحمة والفضل، وعلو الأخلاق والشيم، فإن كانوا قد خسروا بسيفه نتيجة الحرب كلها، فقد ربحوا بمعرفة فضائله وفضائل أمته ما كان خيرًا لهم ولشعوبهم منها. رأوا من صلاح الدين ومن أمة صلاح الدين، ومن جيوش صلاح الدين، وعلموا من أمر رعايا صلاح الدين من اليهود والمسيحيين، خلاف ما كانوا يعلمون من ملوكهم وشعوبهم، ورؤساء دينهم ودنياهم، وما زال علماؤهم ومؤرخوهم يجلونه وينوهون بفضائله، ولم تنس سورية ما كان من عاهل ألمانية الأكبر عند زيارة ضريحه في دمشق من إجلاله له، ووضع ذلك الإكليل على قبره. رأوا أن سلطان المسلمين خادم للأمة، لا يتعدى سلطانه عليها تنفيذ الشريعة، فلا سلطان له على أموال الناس ولا على دمائهم ولا على نسائهم، ولا تحكم له في أنفسهم ولا في شرفهم فضلاً عن عقائدهم وآرائهم، بل هو أرفق بهم من آبائهم وأمهاتهم وأولي أرحامهم [2] . رأوا أن المسلمين أحرار في دينهم وضمائرهم، ليس عليهم سيطرة باباوية ولا كنسية فيها، على خلاف ما كان عليه ملوك أوربة ورؤساء الدين فيها من استبداد في الأحكام، واستعباد للناس، رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم وعلموا باختبارهم أن كل ما هاجتهم به الكنيسة لقتال المسلمين من الخطب والقصائد والأناشيد فهو كذب وبهتان، ورأوا أن النصارى يعيشون مع المسلمين كالإخوان، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، بل لهم أكثر مما عليهم، فلما انقلبوا مغلوبين على أنفسهم في الحرب، رجعوا عليها باللائمة، وشعروا بحاجتهم إلى تقليد المسلمين والاقتداء بهم في عدل حكامهم وحرية شعوبهم، وتقييد تلك السلطة المطلقة والسيطرة المقدسة اللتين استذلتاهم، فكان انكسارهم في معارك النزال هو الحافز لهممهم، والمثير لأفكارهم والمرشد لهم إلى الإصلاح السياسي والديني، وما يتوقف عليه من استقلال العقل، وحرية العلم، فتحولوا عن جهادنا إلى جهاد أنفسهم. جاهدونا عدة أجيال، ثم جاهدوا ملوكهم وكنيستهم عدة أجيال، وطفقوا يترجمون كتب حكمائنا وأطبائنا وفقهائنا وأدبائنا، يثقفون شعوبهم بها، على حين كنا نعود القهقرى بتخريب الأعاجم لبلادنا، ودكهم لمعاقل قوتنا، وتقويضهم لصروح حضارتنا، وإغراقهم لكتب أئمتنا، ثم بقضائهم على سلطان خلافتنا، وإضعاف لغتنا وإماتة علومنا، وإذلال نفوسنا بسلطة عسكرية قاهرة استنزفت ثروة عمراننا، وألحقتنا بمنابت الشيح والقيصوم من جزيرتنا. هذا وإن هؤلاء الأوربيين لم ينسوا عداوتنا معشر العرب، فقد كانت لنا عدة ممالك عربية، في شطر أفريقية الشمالي قضوا على استقلالها كلها بأسماء مختلفة، حتى أنهم كانوا هم الحائلين دون تأسيس السلطنة (الإمبراطورية) العربية التي شرع فيها محمد علي الكبير في مصر وسورية والسودان، وأكرهوه على أن يظل خاضعًا للسياسة العثمانية عدوهم الكبرى في الشرق؛ لعلمهم أنها سائرة إلى الانحلال والاضمحلال، وأن الدولة المصرية الجديدة حية داخلة في سن الشباب، ثم ما زالوا يتربصون الدوائر بالدولة العثمانية إلى أن تم انحلالها في الحرب العامة الأخيرة، فكان حظهم من انحلالها الاستيلاء على ولاياتها العربية، والاعتراف باستقلال ولاياتها التركية وحدها، وإعلان الحماية على مصر العربية، ولما اضطرتهم الثورة المصرية إلى إلغاء هذه الحماية والاعتراف باستقلال مصر قيدَّوا ذلك بقيود تجعل الاستقلال اسمًا لغير مسماه اللغوي والسياسي، وعجَّلوا بالاستئثار بالسودان كله، فطردوا منه موظفي الحكومة وضباط الجيش من المصريين، حتى أن حاكم السودان الإنكليزي لم يسمح لحكومة مصر بتولية ملكها لقاضي السودان الشرعي، على أنهم لولا مساعدة مصر والحجاز العربيتين لهم في الحرب، لكان النصر فيها للألمان والترك، ولزال الاستعمار البريطاني والفرنسي من الأرض. فعلم من ذلك كله أن دول أوربة العسكرية الاستعمارية تعد الأمة العربية أعدى أعدائها في الشرق، وأن وجودها فيه ذنب لا يقاس به ذنب؛ ولذلك جزتها على مساعدتها لها على قتال الترك بما تعلمون وتشاهدون، وتسمعون وتذوقون؛ وإنما تشاهدون ظلمًا لا يصبر عليه إلا عير الحي والوتد، وتسمعون من النُّذر ما يدل على أن المستقبل المعد لكم، شر من الحاضر الذي يعنتكم، وتذوقون من مرارة الفقر والذل ما لا يوصف بالقول؛ فإن الذوق أقوى أنواع الإدراك فلا يحتاج إلى الوصف. وإنكم أنتم يا عرب فلسطين، ويا من شرَّفكم التاريخ بمعركة حطين، قد خصصتم بما لم يصب به أحد من العالمين، من الظلم والذل والعذاب المهين، لا فرق فيه بين المسلمين والمسيحيين، بما تحشره الدولة البريطانية في وطنكم من شذاذ اليهود الصهيونيين، لتطردكم منه وتعيد فيه ملك إسرائيل، تكذيبًا لوعيد الله لهم على لسان المسيح ومحمد عليهما من الله أفضل الصلاة والتسليم. على أن هذه الدولة المشهورة عند أدباء أوربة وساستها بالرياء الفريسي قد صبغت الاستيلاء على القدس بالصبغة المسيحية، ووصفت هذه الحرب بأنها آخر الحروب الصليبية، وأقامت الاحتفالات لفتح أورشليم في الكنائس الإنجليزية، فلينظر مسيحيو أورشليم والناصرة وبيت لحم وسائر البلاد التي تشرفت بولادة المسيح ونشأته وتجواله ومعيشته، وسمع أجدادهم فيها مواعظه العالية، ووصاياه الإصلاحية السامية، ورأوا آياته وعجائبه الدالة على صدقه، وتكذيب أعدائه الذين طعنوا وما زالوا يطعنون في دعوته، ويقذفون أمه العذراء الطاهرة سيدة نساء العالمين، بما برأها الله منه على لسان رسوله محمد خاتم النبيين، وسماه بالبهتان العظيم. لينظر هؤلاء المسيحيون ماذا كان من حظهم من هذا الفتح المسيحي الصليبي، الذي هو أجدر أعمال الإنكليز باسم الرياء الفريسي، وليتذكروا أن صفقتهم كانت تكون أخسر مما هي لولا كنائس أوربة المسيحية وشعوبها المسيحية ودولها المضطرة إلى مراعاة شعورهم، وحسبهم مما هم فيه تفضيل أعداء المسيح الصهيونيين عليهم، وجعل وطنه وطنًا لهم، ليقيموا فيه مسيحهم الذي يجدد لهم ملك داود وسليمان المادي الذي يزعمون أن أنبياءهم بشروهم به، ويكذِّبون ابن مريم الصادق الأمين الذي قال مؤيدًا بروح القدس إنه هو المسيح الحق الذي بشَّر به أولئك النبيون، وإن ملكه سماوي لا أرضي، روحي لا مادي؛ فإنهم كانوا وما زالوا عبيد المادة، فإذا جاءهم ملك مادي لا يزيدهم إلا طغيانًا وغلوًّا في عبادة المال؛ وإنما كانوا وما زالوا في أشد الحاجة إلى تلك التعاليم الإنجيلية الروحية التي تصدهم عن هذه العبادة للمال، والطمع والأثرة على الناس، حتى بغَّضتهم إلى أكثر شعوب البشر، فإن تجدد لهم ملك وهم على ما يعلم جميع الناس فإنهم لا يكونون إلا كما قال الله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} (النساء: 53) حتى لا يستطيع أحد أن يعيش معهم ولو فقيرًا (النقير: النكتة في ظهر نواة التمرة، وهي كناية عن الشيء الحقير) . أيها العرب الكرام، المحتفلون بذكرى السلطان صلاح الدين العربي العدناني كما روى ابن خلكان المؤرخ الشهير، وبذكرى معركة حطين العربية الفلسطينية، يجب أن تبثوا في الأمة العربية كلها أن الخطر عليها من الاستعمار الأوربي في هذا الزمان، بل في هذا العام، أكبر وأخطر مما كان قبل معركة حطين الفاصلة، وأن ما يجب عليها لدفع هذا الخطر بالأموال والأنفس، هو أعظم وأشق مما قام به أجدادهم في حطين، تحت لواء صلاح الدين، ففازوا بالنصر المبين. ربما يتوهم بعضكم أنني أعني بهذه المشقة أن الأمة العربية لا تملك ما يملك المعتدون عليها، والجادون في السعي لاستعبادها، من المدافع والدبابات والطيارات والأساطيل، فتقاتلهم بمثل سلاحهم كما أوجب الشرع عليها، كلا إن هذا أهون الخطرين؛ وإنما الخطر الأكبر الذي يندفع باندفاعه كل ما دونه هو قتال العرب بالعرب، وتخريب بيوتهم بأيديهم، بما يبذله هؤلاء المستعمرون لهم من مال يستأجرونهم به لقتل أنفسهم، وما هو إلا مما يسلبونه من بلادهم في الحال أو المآل، وبما يستخدمون به طلاب الإمارة والوزارة وما دونهما من المناصب لخيانة أمتهم وهدم معاقل استقلالها؛ وإنما هو ألقاب باطلة لا يخرجون بها عن كونهم خدمًا أذلة للمستعمر السالب لسلطانهم الصحيح، ومجدهم التليد، فلع

نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف ـ 4

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة 1351 في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام تابع لما نشر في الجزء الماضي وما قبله الطلاق وما في معناه من فسخ وخلع وإيلاء وظهار ومراعاة حقوق النساء في ذلك 48- مقدمة في أسبابه وحكمه عند أهل الكتاب وإسراف الإفرنج فيه والأسباب المقتضية للفراق إن من مصلحة الزوجين التي تقتضيها الفطرة ويوجبها الشرع ويؤيدها العقل أن يبذل كل منهما جهده لإقامة حقوق الزوجية المشتركة بينهما بالتحاب والتواد والتعاون والتسامح مع الإخلاص في ذلك كله؛ فإن سعادة كل منهما رهينة بسعادة الآخر، وخدمتهما للإنسانية لا تتم إلا به، وما أطلق على كل منهما اسم (زوج) الذي مدلوله (اثنان) إلا لأن إنسانية كل منهما تتم بالآخر فهو به يكون زوجًا ويكون إنسانًا ينتج أناسي مثله، وكل تقصير يعرض لهما في ذلك فوباله عليهما معًا سواء وقع من كل منهما أو من أحدهما، فمن ثم وجب عليهما تلافيه بالحسنى والصبر والمغفرة والعفو، وأقل درجات المعاملة بينهما أن تكون بالتناصف والعدل، فإن عجزوا عن أداء الحقوق وإقامة حدود الله فيها، وعز عليهما الصبر، كان علاجهما الأخير هو الفراق، تفاديًا من الشقاء الدائم بالشقاق. ومن ثم كان مشروعًا في التوراة معللاً ببعض الشرور التي تقتضيه، والذي دُوِّن في الشريعة عند اليهود وجرى عليه العمل أن الطلاق يباح بغير عذر كرغبة الرجل بالتزوج بأجمل من امرأته؛ ولكنه لا يحسن بدون عذر، والأعذار عندهم قسمان: عيوب الخلقة ومنها العمش والحول والبخر والحدب والعرج والعقم وعيوب الأخلاق وذكروا منها الوقاحة والثرثرة والوساخة والشكاسة والعناد، والإسراف والنهمة والبطنة والتأنق في المطاعم والفخفخة، وأي امرأة تخلو من ذلك كله؟ والزنا أقوى الأعذار عندهم فيكفي فيه الإشاعة وإن لم تثبت، إلا أن المسيح عليه السلام لم يقر منها إلا علة الزنا، وأما المرأة فليس لها أن تطلب الطلاق مهما تكن عيوب زوجها ولو ثبت عليه الزنا ثبوتًا. وكان الطلاق معروفًا عند غير أهل الكتاب من الوثنيين ومنهم العرب، وكان يقع على النساء منه ظلم كثير عند الجميع، فجاء الإسلام فيه بالإصلاح الذي لم يسبقه إليه سابق ولم يلحقه لاحق كسائر ما جاء به من الإصلاح. ولكن خصوم الإسلام من الإفرنج ومقلديهم كانوا يعدون الطلاق من أقبح مساوي الشريعة الإسلامية على إصلاحها فيه حتى اضطروا إلى تقريره والإسراف فيه بما لا يبيحه الإسلام وجعله حقًّا مشتركًا بين الرجال والنساء. وأما الإسلام فقد جعل الطلاق من حق الرجل وحده؛ لأنه أحرص على بقاء الزوجية التي أنفق في سبيلها من المال ما يحتاج إلى إنفاق مثله أو أكثر منه إذا طلق وأراد عقد زواج آخر، وعليه أن يعطي المطلقة ما يؤخر عادة من المهر، ومتعة الطلاق، وأن ينفق عليها في مدة العدة وقد تطول على رأي بعض الفقهاء؛ ولأنه بذلك وبمقتضى عقله ومزاجه يكون أصبر على ما يكره من المرأة فلا يسارع إلى الطلاق لكل غضبة يغضبها، أو سيئة منها يشق عليه احتمالها، والمرأة أسرع منه غضبًا وأقل احتمالاً، وليس عليها من تبعات الطلاق ونفقاته مثل ما عليه، فهي أجدر بالمبادرة إلى حل عقدة الزوجية لأدنى الأسباب أو لما لا يعد سببًا صحيحًا إن أعطي لها هذا الحق. والدليل على صحة هذا التعليل الأخير أن الإفرنج لما جعلوا طلب الطلاق حقًّا للرجال والنساء على السواء كثر الطلاق عندهم فصار أضعاف ما عند المسلمين، وقد جاء في الإحصاءات التي نشرتها الصحف في هذا العهد أن نسبة الطلاق إلى عقود الزواج في أمريكا بلغت 20 في المائة كما تقدم في مناسبة أخرى [*] ، ولن تبلغ هذه النسبة في البلاد الإسلامية واحدًا في المائة ولا في الألف أيضًا إلا أن يكون في مصر. ومما قرأناه في الصحف من أخبار طلب نساء الإنكليز للطلاق الذي قبل وحكم به أن إحداهن طلبت الطلاق لأن زوجها كان بغير لحية عندما تزوج بها، ثم أطلق لحيته فسأله القاضي عن السبب، فقال إنه يرى اللحية جمالاً وكمالاً للرجل فلم يقبل عذره وحكم بالطلاق. وأن امرأة أخرى طلبت الطلاق لأن زوجها لا يلتزم تغيير لباسه بحسب التقاليد بأن يلبس للمائدة لبوسها وللسهرة لبوسها، فكان هذا ذنبًا مقبولاً موجبًا لإجابة طلبها. ومن أحكام الطلاق عند اليهود أن من لم يرزق من زوجته بذرية مدة 10 سنين وجب عليه أن يفارقها ويتزوج بغيرها، والإسلام لا يوجب طلاقها عليه إذا لم يهبها الله تعالى ولدًا ولا التزوج عليها؛ ولكن يستحب له أو يندب أن يتزوج طلبًا للنسل، وأن يمسك المرأة المحرومة منه ويعدل بينها وبين المرأة التي يهبه الله منها النسل، إلا أن تطلب هي الطلاق وترى أنه خير لها، فيستحب له إجابة طلبها إذا لم يكن عنده مانع ديني يرجِّح به إمساكها عنده كاعتقاده أن طلاقها يكون مفسدة لها. ومن أحكامه عند اليهود أن الرجل متى نوى طلاق امرأته حُرِّمت عليه معاشرتها بمجرد نيته ووجب عليه تنفيذ عزمه على الطلاق حالاً. 49- عوائق الطلاق في الإسلام ومراعاة حقوق النساء فيه الطلاق مكروه في الإسلام؛ ولذلك وضع أمام الرجل موانع وعوائق تصد عنه: منها: الترغيب في الصبر على ما يكره الرجال من النساء من خُلق وخَلق وعمل، بما للصبر من الفوائد والثواب عند الله تعالى، وبما يرجى أن يكون للمرأة المكروهة من ولد صالح يكون سعادة لأهل بيته ولأمته، قال تعالى: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} (النساء: 19) وفي معناها حديث تقدم في الوصايا بالنساء. ومنها: ما تقدم بيانه من تأديب المرأة الناشز بما يرجى به صلاحها. ومنها: ما تقدم من بعث حكم من أهله وحكم من أهلها يبذلان جهدهما في إصلاح ذات البين. ومنها: ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ذم الطلاق وبغض الله له للترغيب عنه كقوله: (ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق) وقوله: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) رواهما أبو داود من حديث ابن عمر وكقوله: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) رواه أصحاب السنن إلا النسائي وابن حبان والبيهقي من حديث ثوبان وكقوله صلى الله عليه وسلم من حديث آخر: (وإن المختلعات هن المنافقات) . وقد أبطل الله في كتابه كل ما كان عليه العرب من مضارة للنساء في الطلاق، ونذكر بعض الآيات في ذلك من غير تطويل في تفسيرها: فمما أبطل الإسلام به ظلم العرب للنساء في أحكام الطلاق (1) تحديده العدد الذي يملك الرجل الرجعة فيه بمرتين ولم يكن عندهم محدودًا (2) تحريمه أخذ المطلق ما كان أعطاه للمطلقة عند الزواج من مهر أو غيره كله أو بعضه (3) تحريمه إمساك المرأة المطلقة في عدة بعد عدة مضارة لها (4) تحريمه عضل أولياء المرأة لها، أي منعها بعد انقضاء العدة من الزواج مطلقًا أو الرجوع إلى زوجها بعقد جديد إذا تراضيا على ذلك بالمعروف، وقد جعل الله زوجها الأول أحق بردها إذا أراد إصلاح ما كان فسد من أمر معاشرتها بالمعروف. قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة: 229) . وقد كتبنا في تفسير هذه الآية من تفسير المنار (ج 2) ما نصه: كان للعرب في الجاهلية طلاق ومراجعة في العدة، ولم يكن للطلاق حد ولا عدد، فإن كان لمغاضبة عارضة عاد الزوج فراجع واستقامت عشرته، وإن كان لمضارة المرأة راجع قبل انقضاء العدة واستأنف طلاقًا، ثم يعود إلى ذلك المرة بعد المرة، أو يفيء ويسكن غضبه، فكانت المرأة ألعوبة بيد الرجل يضارها بالطلاق ما شاء أن يضارها، فكان ذلك مما أصلحه الإسلام من أمور الاجتماع، وكان سبب نزول الآية ما أخرجه الترمذي والحاكم وغيرهما عن عائشة وأورده السيوطي في أسباب النزول قالت: (كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة وإن طلقها مائة مرة وأكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني ولا آويك أبدًا، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك. فذهبت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فسكت حتى نزل القرآن: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229)) اهـ. ثم قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِنَ الكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 231) . {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 232) . نهى الله تعالى أولياء المرأة أن يعضلوها، أي يمنعوها أن تعود إلى زوجها الأول إذا رضي كل منهما بذلك؛ وإنما يكون هذا بعد انقضاء العدة بعقد جديد ومهر جديد، وقال في الآية التي قبل هاتين الآيتين: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} (البقرة: 228) وهي في ردها إلى عصمته قبل انقضاء العدة، والأفضل للمرأة ألا تعرف إلا زوجًا واحدًا. 50- منع مضارة النساء بالإيلاء والظهار أما مضارة الإيلاء فهو أن يغضب الرجل على امرأته فيحلف ألا يقربها، وهو الإيلاء منها، فالشرع ضرب له أجلاً أربعة أشهر فإن فاء، أي رجع عن يمينه إلى أداء حق الزوجية الذي حلف على تركه غفر له ما كان فعله أو قصده من ضررها، فإن لم يفعل وجب منع الضرر بالطلاق، فبعض الأئمة يقول إن الطلاق يقع بانقضاء الأربعة الأشهر، ويكون بائنًا لا رجعة له فيه، وبعضهم يقول يلزمه القاضي أحد الأمرين: الرجوع عن اليمين أو الطلاق، وأصل ذلك الآيتان من سورة البقرة (226 و227) . وأما الظهار فهو أن يحرم الرجل امرأته بتشبيهها بأمه، وكان أشهر ألفاظهم في الجاهلية به قوله لها، أنت عليَّ كظهر أمي. وقد حرَّمه الإسلام وجعل كفارته أن يعتق عبدًا قبل أن يمس امرأته، فإن لم يجد فعليه صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، وبيان ذلك في أول سورة المجادلة. 51- حق النساء في فسخ عقد الزوجية ومخالعة الرجل إن لحل رابطة الزوجية ثلاثة طرق: فسخ الحاكم للعقد، والخُلع، والطلاق، فأما الفسخ فيكون بأسباب مشتركة بين الرجال والنساء كالع

محمد حافظ بك إبراهيم شاعر مصر الاجتماعي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محمد حافظ بك إبراهيم شاعر مصر الاجتماعي في السابع عشر من شهر ربيع الأول توفي شاعر النيل الاجتماعي الكبير، وأديب مصر الشهير محمد حافظ بك إبراهيم عن سن وافت الستين، فاهتز لموته عالم الأدب العربي واضطرب، كما كان يهتز لشعره من حماس أو شجو أو طرب، ورثاه أشهر شعراء مصر، فشعراء العرب في الشرق والغرب، وأبَّنته الصحف فأطرته أي إطراء، ولا تزال تنشر القصائد في رثائه وإطرائه إلى الآن، وقد توفي بعده أمير من أكبر أمراء بيت الملك في البلاد، فلم يتجاوز ذكر موته مصر، ولم يبلغ تأثير وفاته فيها معشار ما بلغ تأثير موت حافظ من إكبار وحزن وتأبين ورثاء، على تفاوت ما بين مؤبني الرجلين من داعيتي الإخلاص والرياء، وأين بيت حافظ إبراهيم في أهل المسكنة والبؤس، من أعلى قصور الإمارة والملك. والعبرة في هذه أنه آية بينة على ارتقاء الأمة العربية في آدابها النفسية والاجتماعية، يبشرنا بقرب زوال العظمة الوهمية، عظمة الألقاب الموروثة والثروة المادية، وإعقاب العظمة الحقيقية لها، عظمة العلم والأدب وخدمة الأمة. لو لم يمت هذا الأمير الكبير في هذه الأيام لذكرنا في مقام هذه العبرة موت غني من أكبر أغنياء مصر فيها ممن كان يحسدهم حافظ على ثروتهم ويعاتب الأقدار على ما كان يشكو من بؤسه تجاه جدتهم، وهو المرحوم محمد بدراوي باشا عاشور صاحب العقار الكبير، والمزارع الواسعة التي تُقَدَّر بعشرات الألوف من الفدادين، ومئات الألوف من الجنيهات المودعة في المصارف المالية (البنوك) العديدة، مات البدراوي باشا أغنى فلاحي مصر وأحسنهم سيرة، فلم يهتز لموته عالم العلم والأدب، ولا أكبرت نعيه المجلات والصحف، ولا رثاه الشعراء ولا أبنه العلماء والأدباء، فكان هذا دليلاً آخر على أن الشعب المصري قد ارتقى شعوره المعنوي؛ ولكنه دون الدليل الذي قبله، وقد كان هذا الشعب أعرق الشعوب الشرقية في إكبار الأمراء والحكام والخنوع لهم، ثم في تعظيم الأغنياء والازدلاف إليهم؛ ولكن لا يزال المال هو المقصد والغاية لطلاب العلوم والفنون وقلما تتوجه عناية أحد منهم لبلوغ الغاية من الأدب والإمامة فيه لذاتها. كان محمد حافظ يشكو البؤس وينظم نفسه في سمط البائسين، وتلك شنشنة الأدباء والشعراء في كل حين، حتى كان من القضايا المسلَّمة أن حرفة الأدب علة للبؤس والعيشة الضنك، وما هي بعلة طبيعية ولا عقلية، ولكن من أعطى كل عقله وفهمه للأدب أو أي علم من العلوم لا يجد من استعداده النفسي ولا من وقته ما يصرفه في الكسب وتثمير المال الذي هو طريق الثروة الواسعة، والشعراء أحرص من العلماء على نعمة الدنيا وزينتها، وأكثر تمنيًا لها، لتزيين خيالهم لها في أنفسهم، فمهما يصبهم منها - وقلما يكون وافرًا يرضي طمعهم وخيالهم - فإنهم يستصغرونه ويشكون حظهم منه، ألا ترى أن أحدهم قد ذم العيشة الوسطى بين بؤس الفقر وطغيان الغنى وشواغله، وهي أفضل حالة في الرزق يمكن أن تكون للإنسان بقوله: مذبذب الرزق لا فقر ولا جدة ... حظ لعمرك لم يحمق ولم يكس وكان حافظ يتمثل بهذا البيت بعد أن نال راتبًا شهريًّا من الحكومة يكفي لنفقة أسرة تعيش عيشة معتدلة، وهو خفيف الحاذ لا زوج له ولا ولد، ذلك بأنه كان مسرفًا في الترف مفنقًا في التنعم، وقد أوتي من الحظ المعنوي بأدبه وشعره ما لم يؤت أديب في مصر في عصره غير أحمد شوقي بك إذ كان شاعر الأمير فصار يدعى أمير الشعراء، ولعله لو نشأ في حجر الترف ونعمة العيش كشوقي لما كان له من نفسه ما يبعثه إلى النبوغ في الأدب النافع، فأكثر حكماء الأدباء وحكماء العلماء وأصحاب الأفكار الإصلاحية الناضجة كانوا من أهل التقشف والبؤس في بدايتهم، إما اضطرارًا وإما اختيارًا كالذين سلكوا الرياضة الصوفية، ومن أمثال الصوفية: من لم تكن له بداية محرقة، لا تكون له نهاية مشرقة. وقد أشار شيخنا الأستاذ الإمام إلى هذا المعنى في بؤس حافظ فيما قرَّظ له به الجزء الأول من ترجمة كتاب البؤساء فقد قدَّمه إليه حافظ وتوجه باسمه بكتاب خاطبه به فرد عليه بجواب جعلهما حافظ في مقدمة الكتاب، وإنا ننشرهما هنا؛ فإنهما خير ما يُنشر في ترجمة صديقنا الأديب رحمه الله تعالى:

خطاب حافظ للأستاذ الإمام في رفع كتاب البؤساء إليه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب حافظ للأستاذ الإمام في رفع كتاب البؤساء إليه إلى الأستاذ الإمام: إنك موئل البائس ومرجع اليائس، وهذا الكتاب - أيَّدك الله - قد ألمَّ بعيش البائسين، وحياة اليائسين، وضعه صاحبه تذكرة لولاة الأمور، وسمَّاه كتاب (البؤساء) وجعله بيتًا لهذه الكلمة الجامعة، وتلك الحكمة البالغة (الرحمة فوق العدل) وقد عنيت بتعريبه، لما بين عيشي وعيش أولئك البؤساء من صلة النسب، وتصرفت فيه بعض التصرف، واختصرت بعض الاختصار، ورأيت أن أرفعه إلى مقامك الأسنى، ورأيك الأعلى، لأجمع في ذلك بين خلال ثلاث أولها: التيمن باسمك والتشرف بالانتماء إليك، وثانيها: ارتياح النفس وسرور اليراع برفع ذلك الكتاب إلى الرجل الذي يعرف مهر الكلام، ومقدار كدّ الأفهام، وثالثها: امتداد الصلة بين الحكمة الغربية والحكمة الشرقية بإهداء ما وضعه حكيم المغرب إلى حكيم المشرق. فليتقدم سيدي إلى فتاه بقبوله، والله المسئول أن يحفظه للدنيا والدين، وأن يساعدني على إتمام تعريبه للقارئين ... اهـ. قدَّم محمد حافظ هذا الكتاب إلى الأستاذ الإمام ونحن جلوس معه في حديقة داره بعين شمس مساء يوم من الأيام، فأخذه منه بعد أن قرأه علينا وعليه ودخل الدار فمكث فيها قليلاً، ثم عاد إلينا وقال: إنني عصرت دماغي على ما به من جفاف الكلال فخرج منه هذه الكلمات، وأعطى حافظًا ورقة قرأ فيها: تقريظ كتاب البؤساء للأستاذ الإمام لو كان بي أن أشكرك لظنٍّ بنا بالغتَ في تحسينه، أو أحمدك لرأي لك فينا أبدعت في تزيينه، لكان لقلمي مطمع أن يدنو من الوفاء بما يوجبه حقك ويجري في الشكر إلى الغاية مما يطلبه فضلك؛ لكنك لم تقف بعرفك عندنا، بل عممت به من حولنا، وبسطته على القريب والبعيد من أبناء لغتنا. زففت إلى أهل اللغة العربية عذراء من بنات الحكمة الغربية، سحرت قومها، وملكت فيهم يومها، ولا تزال تنبه منهم خامدًا، وتهز فيهم جامدًا، بل لا تنفك تحيي من قلوبهم ما أماتته القسوة، وتقوّم من نفوسهم ما أعوزت فيه الأسوة، حكمة أفاضها الله على رجل منهم، فهدى إلى التقاطها رجلاً منا، فجرَّدها من ثوبها الغريب، وكساها حلة من نسج الأديب، وجلاها للناظر، وحلالها للطالب، بعدما أصلح من خلقها، وزان من معارفها [1] ، حتى ظهرت محببة إلى القلوب، شيقة إلى مؤانسة البصائر، تهش للفهم، وتبش للطف الذوق، وتسابق الفكر إلى مواطن العلم، فلا يكاد يلحظها الوهم إلا وهي في النفس مكان الإلهام. حاول قوم من قبلك أن يبلغوا من ترجمة الأعجم مبلغك، فوقف العجز بأغلبهم عند مبتدأ الطريق، ووصل منهم فريق إلى ما يحب من مقصده؛ ولكنه لم يعن بأن يعيد إلى اللغة العربية ما فقدت من أساليبها، ويرد إليها ما سلبه المعتدون عليها من متانة التأليف، وحسن الصياغة، وارتفاع البيان فيها إلى أعلى مراتبه، أما أنت فقد وفَّيت من ذلك ما لا غاية لمزيد بعده، ولا مطمع لطالب أن يبلغ حده، ولو كنت ممن يقول بالتناسخ لذهبت إلى أن روح ابن المقفع كانت من طيبات الأرواح، فظهرت لك اليوم في صورة أبدع، ومعنى أنفع، ولعلك قد سننت بطريقتك في التعريب سنة يعمل عليها من يحاوله من ظهور كتابك، ويحملها الزمان إلى أبناء ما يستقبل منه، فتكون قد أحسنت إلى الأبناء، كما أجملت الصنع مع الآباء، وحكمت للغة العربية أن لا يدخلها بعد من معجمة سوى ما هو في الأسماء، أسماء الأماكن والأشخاص، لا أسماء المعاني والأجناس، ومثلي من يعرف قدر الإحسان إذا عم، ويعلي مكان المعروف إذا شمل، ويتمثل في رأيه بقول الحكيم العربي: ولو أني حبيت الخلد فردًا ... لما أحببت بالخلد انفرادا فلا هطلت علي ولا بأرضي ... سحائب ليس تنتظم البلادا فما أعجز قلمي عن الشكر لك، وما أحقك بأن ترضى من الوفاء باللفاء [2] . تقول: إن الذي وصل سببك بسبب صاحب الكتاب، ووقف بك على دقائق من معانيه اشتراكك معه في البؤس، ونزولك منزلته من سوء الحال، وربما كان فيما تقول شيء من الحقيقة، فإن كان البؤس قد هبط على صاحبه بتلك الحكمة، ثم كان سببًا في امتيازك من بين المترفين بتلك النعمة، سألت الله أن يزيد وفرك من هذا البؤس حتى يتم الكتاب على نحو ما ابتدأ، وأن يجعلك في بؤسك أغنى من أهل الثراء في نعيمهم، والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده هذا وإن مدح حافظ للأستاذ الإمام واتصاله به هو الذي فجَّر ينابيع الحكمة في شعره، وكان أكبر أسباب شهرته به، بما جعل أكثر شعره في الشؤون الاجتماعية والسياسية والأفكار الأدبية النافعة، كما كان سبب انتفاعه المادي بأدبه وشعره، فالإمام هو الذي وصله بصديقه أحمد حشمت باشا عاشق العربية وآدابها، ووصاه بمساعدته إذ كان مديرًا لأسيوط ثم للدقهلية، وحشمت باشا رحمه الله هو الذي تبرع له بطبع الجزء الأول من ديوانه، والجزء الأول من كتاب البؤساء ووزع له هو وغيره من أصدقاء الإمام ألوفًا من نسخهما، ثم لما صار وزيرًا للمعارف جعل له وظيفة كتابية في دار الكتب المصرية العامة، ومنح بسعيه الرتبة الثانية، فعاش بعد ذلك عيشة راضية، وإن ظل يتمثل بالبيت الذي يصفها بالذبذبة. كان حافظ يتمنى لو يكون غنيًّا بغير أدنى عمل يعمله للغنى، فهو لم يكن يقدر على احتمال أدنى تعب أو مشقة في عمل ما؛ وإنما كانت فلسفته في الحياة أن يكون ناعم البال، طيب الطعام والشراب، دائب الفكاهة والدعابة مع الأصدقاء، ولولا أنه كان يعشق الأدب عشقًا لما قرأ فيه كتابًا، ولما نظم بيتًا ولا نمق خطابًا، وقلما كان أحد من الأغنياء ممتعًا بنعمة العيش مثله، ولو أوتي من الرزق أضعاف ما أوتي لأنفقه كله في سبيل الرفاهة وبلهنية العيش، وكان يحفظ من النكات والملح والنوادر والتنادر ما لا حد له ينتهي إليه، على ما يحفظه من روائع الشعر وبدائع النثر، مما لو جمعه في الدفاتر لكان له منه ثروة واسعة. وقد أوتي من قوة الحفظ وسرعة الاستحضار للمحفوظ وبطء النسيان أو عدمه ما يذكرنا برواة اللغة وحفَّاظ الحديث، فلو أنه عُني بالحفظ والرواية لأعاد لمصر عهد الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني رحمه الله، وكان يحفظ كل ما ينظم وينثر ويترجم ككتاب البؤساء، وما أراه حفظ من كتاب الاقتصاد السياسي الذي ترجمه هو وزميله خليل بك مطران شيئًا إلا أن يكون بعض المفردات أو الجمل التي اهتدى هو إلى تعبير عربي عنها غير معروف، ولو كان له رغبة لذة في حفظه لما شقَّ عليه حفظه على كبره، وإن كان فنًّا لا أدبًا. وكان حافظ قوي الاستقلال العقلي والوجداني، لا يقبل ولا يسلِّم ما لا يعقله ويرتاح له وجدانه، لهذا كان ينكر في نفسه أمورًا كثيرة من عقائد الدين، فكان مما استفاده من معاشرة الأستاذ ولا سيما صحبته في سفره إلى الدقهلية لتوزيع الإعانات على منكوبي حريق ميت غمر أن استل الإمام من قرارة نفسه تلك الشكوك والريب وهو ما حدثنا به بعد عودتهما، قال: ولم يقنع مني بالإيمان إلا وحاول حملي على الصلاة حتى صلاة الفجر في الغلس، فكنا نسهر في دار أحمد حشمت باشا في المنصورة أكثر الليل وننام في حجرتين متجاورتين، فأستيقظ بسماع حركته في آخر الليل وقيامه للتهجد، وبعد طلوع الفجر يطرق علي باب حجرتي ويقول: يا راقد الليل إلى كم تنام؟ قم للصلاة، فقلت له بصفة المازح: يا مولاي إنني لا أستطيع حمل الدين كله علمه وعبادته في سفرة واحدة، كنت ملحدًا فآمنت وصدقت بجميع عقائد الإسلام في هذه المرة، ولك علي في سفرة أخرى أن أحافظ على جميع الصلوات، وقد ذكرت حافظًا في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام 12 مرة أو أكثر. وأما شعره فقد كتب الكاتبون في الصحف شيئًا في وصفه، وما كان يزينه من حسن إنشاده، وحسبي أن أشير إلى ما كنت كتبته في تقريظ ديوانه الأول عند طبعه، وهو أنه أصح منظوم هذا العصر لغة في مفرداته المختارة وجمله الفصيحة وجمعه بين السلاسة والمتانة، فهو يفضل شعر أحمد شوقي بك في هذا دون جمال التخييل وقوة التأثير الذي هو روح الشعر، فبهذا يبز شوقي جميع شعراء العصر، على تفاوت في شعره وتعقيد معنوي في بعض أبياته تحول دون فهمها فهمًا صحيحًا من أول وهلة، فمحمد حافظ إبراهيم من الأدباء الذين يخلد اسمهم التاريخ رحمه الله تعالى وأحسن مثواه.

فتنة الحجاز والقضاء على فئة ابن رفادة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتنة الحجاز والقضاء على فئة ابن رفادة سافر ابن رفادة ومن معه من مصر إلى الحجاز من طريق سينا بجوازات مصرية إلى العقبة، ولقوا في كل مكان غاية المساعدة فدخلوا أرض الحجاز وتبعهم أعوانهم الذين سافروا من شرق الأردن إلى العقبة يحملون بعض الدراهم والأسلحة على مسمع ومرأى ممن ثم من رجال الإنكليز في هذه الأمكنة كلها، مع إغضاء وتصامم بحيث لا تقوم عليهم حجة بأنهم أغروا أو ساعدوا أو وافقوا على شيء، بل كانت الدولة الإنكليزية هي التي بلَّغت الحكومة السعودية أنباءهم، وحملت الأمير عبد الله على عزل محمد أفندي الأسد قائمقام العقبة لإذنه لهم، بل مساعدته لهم على الدخول في أرض الحجاز، ثم طفق رجال الهيئة العسكرية من الإنكليز يحصنون العقبة ويجمعون فيها الأسلحة والذخائر الحربية والمؤنة بحجة مساعدة الحكومة السعودية على الثائرين عليها بمنع وصول المدد والذخيرة إلى فئة ابن رفادة من البر والبحر، ومنع فارتهم من الالتجاء إلى العقبة وشرق الأردن إذا طاردهم الجيش السعودي، وما كان هذا المنع ليحتاج إلى كل هذا التحصين والاستعداد الحربي، على أنه ظل مستمرًّا بعد استئصال هؤلاء الثائرين إلى أن انجلت الجنود السعودية التي رابطت أمام العقبة حامدة شاكرة للقائد الإنكليزي المرابط أمامها في حدودها المقتطعة من الحجاز! ! ! وأما الحكومة السعودية فقد استدرجت ابن رفادة الأعور محضاء الثورة بإرسال رجال من قبائل الحجاز إليه يعدونه بالقيام معه وتعميم الثورة في الحجاز إذا كان لديه المال الكافي لذلك، فأخبرهم بأن المال سيأتي من شرق الأردن، حتى إذا ما اطمأن أحاطت به وبفئته الجنود النجدية فقضت عليهم في معركة واحدة طاحت فيها رءوس ابن رفادة وأولاده ورأس أبي دقيقة أكبر أعوانه، وأُلقيت رأس ابن رفادة إلى الأولاد والرجال يدحرجونها ويدحونها ككرة الصبيان. طيَّر البرق نبأ القضاء على ابن رفادة إلى مصر وأوربة وسائر الأقطار من الطريق الرسمية وطريق الشركات العامة، فكذَّبته جمعية الثورة في عمان وزورت بإمضاء ابن رفادة بلاغًا أرسلته إلى صحف فلسطين ومصر والشام ينبئ بانتصاره وفوزه وامتداد الثورة في البدو والحضر، وأرسلت إليها مقالات أخرى ورسلاً يبثون الدعاية، فكذَّب ذلك كله الأكثرون، وارتاب فيه الأقلون، حتى ظهر الحق واستيقنه الناس أجمعون. استفاد الناس من هذه الفتنة أربع فوائد عظيمة الشأن: الفائدة الأولى: أن سلطان الحكومة السعودية ثابت البواني، راسخ الأركان في بدو الحجاز ونجد معًا كحضرهما؛ فإن شيوخ قبائل الحجاز ورؤساءها استأذنوا جلالة ملكهم في قتال ابن رفادة وهو منهم، ولم يكن أحد يظن هذا لا من الإنكليز ولا من غيرهم، وأما أهل نجد فقد ثارت ثائرتهم كلهم، فأسرع من استنفرهم الملك إلى الحجاز وحدود شرق الأردن والعقبة، وطفق سائر أهل البلاد يستأذنونه في النفير العام والهجوم على شرق الأردن للقضاء على حكومتها وكتب إليه في ذلك علماؤهم وأميرهم سعود ولي عهد الإمام فيهم. الفائدة الثانية: تنبه الأمة العربية في سورية وفلسطين وشرق الأدرن لوجوب الانتصار للدولة العربية المستقلة المعترف باستقلالها المطلق من جميع الدول الكبرى وما يتهددها من الخطر بوجود الإنكليز في خليج العقبة الحجازي وشرق الأردن، وقد أظهرت شعورها هذا في الجرائد وعلى ألسنة الأحزاب والزعماء حتى إن أهل شرق الأردن أظهروا المقت للجمعية المحرِّكة للفتنة عندهم ولأميرهم أيضًا. الفائدة الثالثة: تنبه الشعور الإسلامي العام في الشرق والغرب للخطر على الحجاز باستيلاء الإنكليز على خليج العقبة ومنطقته وسكة الحديد الحجازية، وقد ظهر هذا الشعور كالشمس فيما نشرته جرائد مصر وفلسطين وسورية وتونس والجزائر والهند في المسألة، وعجب الناس لسكوت مشيخة الأزهر عن إظهار صوتها في هذه النازلة الإسلامية التي تنذر المسلمين أكبر خطر على الحرمين الشريفين ولم نبين لهم ما نعلم من سبب هذا. الفائدة الرابعة: وهي نتيجة ما قبلها من الفوائد الثلاث: إحجام الدولة البريطانية عما كانت تريده من افتراص هذه الفتنة لإحداث احتلال عسكري بري بحري في خليج العقبة تسميه مؤقتًا وتعلله بمثل ما عللت به احتلال مصر، واحتلال إسكندر آباد في الهند، وقد رضيت بسبب ما تقدم وخشية تفاقم الخطر أن تبقى منطقة العقبة ومعان تابعة لشرق الأردن في إدارتها إلى أن يبت في أمرها بمفاوضة أخرى مع الحكومة السعودية. ولقد سُرَّ المسلمون كافة والعرب خاصة بتنكيل الحكومة السعودية بهذه الفئة الباغية وشمتوا بمثيريها وهنَّأوا صاحب الجلالة السعودية بهذا الفوز المبين، وما كان فوزه على هذه الفئة القليلة بكبير في نفسه؛ وإنما كانوا يخشون أن تكون سببًا لاشتعال نار الثورة في الحجاز كله، وأكبر ما كانوا يخشونه أن تكون عاقبتها استقرار أقدام الإنكليز في خليج العقبة ومنطقتها إلى معان، وأكبر ما كانوا يرجونه أن يتخذها الملك وسيلة لاستعادة هذه المنطقة إلى الحجاز ومنع الخطر الدائم على الحرمين الشريفين ببقائها تحت سيطرة الإنكليز. ولقد كانت الفرصة سانحة له بارحة للإنكليز والأسباب المرجحة لفوزه كثيرة؛ ولكن رجال حكومته لم يكونوا يعرفونها، وكانت الأراجيف التي أذاعتها المصادر الإنكليزية مما ترجف لها الأفئدة، ولا سيما أرجوفة مساعدة مصر لابن رفادة، فكان يخيل لقراء الجرائد في الحجاز أن حكومتهم مستهدفة لمحاربة بريطانية العظمى ومصر وشرق الأردن في وقت واحد، وكل هذه أوهام، وأضغاث أحلام. من المعلوم باليقين أنه لم يكن يجوز للدولة السعودية أن تبدأ حكومة شرق الأردن الضعيفة بالحرب، فضلاً عن الدولة البريطانية التي هي من أقوى دول الأرض؛ وإنما الذي كان يجب عليها هو أن تنبئ الدولة الإنكليزية بأن شعبها الحجازي والنجدي يطالبونها بما هو حق عليها من استعادة هذه المنطقة الحجازية التي ألحقت بشرق الأردن بغير حق شرعي ولا قانوني، وأنهم مضطربون ثائرون لما جاءهم بطريق العقبة من طلائع ثورة ابن رفادة، وأن العالم الإسلامي كله يطالبها بذلك، فهي لهذه الأسباب مضطرة لاحتلال هذه المنطقة الحجازية مع المحافظة على العلاقة السياسية الودية معها، وتأمين حكومات شرق الأردن وفلسطين ومصر من أدنى اعتداء على حدود بلادها، وتتبع القول الفعل، وقد كتبت مقالاً طويلاً أثبت فيه أن الدولة الإنكليزية ما كان يُعقل أن تحارب حكومة الحجاز؛ ولكنني علمت قبل نشره بجلاء الجيش السعودي عن الحدود وبقاء ما كان على ما كان فأمسكت عن نشرها.

جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية هذه الجمعية أقدم الجمعيات الإسلامية التي أنشئت للوعظ والإرشاد في مصر، فإنني لما هاجرت إلى مصر في منتصف سنة 1315 لم أجد فيها غيرها، واتفق أن كانت هي الجمعية الأولى التي تعودتُ إلقاء الخطابة الارتجالية على منبرها، فوجئت بذلك أول مرة مفاجأة إذ حضرتُ أحد اجتماعاتها متفرجًا، فكان من الخطباء فيه إسماعيل بك عاصم المحامي المشهور رحمه الله تعالى فرآني بين الناس وكان قد عرفني، فلما فرغ من خطبته دعاني مشيدًا بذكري، مطريًا لأدبي، وكان هذا غريبًا منه وهو لا يعلم من أمر استعدادي للخطابة شيئًا؛ ولكنني أعتقد أنه كان مخلصًا في طلبه لا مورطًا، إذ قابلني بالمودة منذ عرفته وثبت عليها طول عمره واشترك في المنار منذ سنته الأولى، وكان ممن يدفعون قيمة الاشتراك في أول السنة، ولما تم للمنار عشرة أعوام أقام له حفلة أدبية كانت هي الأولى من جنسها دعا إليها جميع أصحاب المجلات العربية بمصر ووزير المعارف وبعض رجال العلم والأدب إلى مأدبة حافلة ألقيت فيها الخطب البليغة في الثناء على المنار ومنشئه، فرحمه الله وجزاه أحسن الجزاء. وأقول بعد هذا الاستطراد الذي أراه من حقه علي: إنني أجبت دعوته وصعدت المنبر على غير استعداد ولا سبق حضور موقف من هذه المواقف غير المعتادة في بلدنا طرابلس الشام في العصر الحميدي، وألقيت ما فتح الله به علي في موضوع مناسب للمقام، صفق له الحاضرون مرارًا وهنأوني به، وما أظن أنني أجدت الإلقاء؛ ولكنني أعتقد أنني قلت حقًّا نافعًا بعبارة عربية صحيحة لا خطابية، ثم كان المرحوم الأستاذ الشيخ زكي الدين سند خطيب الجمعية المؤسِّس لها يدعوني إلى الخطابة في كل اجتماع يراني فيه بعد أن يستشيرني فأقبل، ثم أسسنا جمعية شمس الإسلام فكنت خطيبها الأول. ثم إن جمعية مكارم الأخلاق ضعفت بعد وفاة المرحوم الشيخ زكي الدين سند، ثم عُني بإنعاشها ومساعدة مجلتها محمد سعيد باشا الإسكندري في عهد وزارته وخليل باشا حمادة البيروتي الذي تولى أمانة الجمارك في الإسكندرية، فإدارة الأوقاف العامة بمصر، فصار يُطبع من مجلتها ألوف كثيرة من النسخ، ثم عاودها الضعف والذبول، حتى كادت تزول، فتداركها الله باللطف ونهضت نهضة جديدة بهمة أصحاب النجدة والغيرة: رئيسها ووكيلها ومراقبها. اتخذوا لها أولاً مكانًا مشهورًا في القاهرة هو القاعدة الأثرية المشهورة بدار السادات الوفائية المسماة بأم الأفراح، يتبعها حجرة للإدارة وباحة واسعة من وراء الدار، فكانت الخطب والمحاضرات تُلقى في القاعة مدة فصل الشتاء وزمن البرد، ثم تلقى في الباحة سائر أيام السنة، وموعدها بعد صلاة المغرب من يوم الجمعة، وكان أكثر من يحضرها طلبة الجامع الأزهر، وقد دعيت إلى إلقاء محاضرات كثيرة فيها كانت الإدارة تعلن خبرها في الجرائد اليومية فيحضرها خلق كثير من جميع الطبقات، ولا أزال أدعى فأجيب، بعد نقل الجمعية إلى مكانها الجديد. نقلت الجمعية إلى حي شبرا لمقاومة دعاة النصرانية فيه إذ كثرت جمعياتهم وتصديهم فيها لإغواء عوام المسلمين، فاتخذت لها دارًا فسيحة ذات حجرات كثيرة وباحة واسعة، وأنشأت في الدار مدرسة ابتدائية تعلم فيها أطفال المسلمين بأجرة زهيدة مع تربية عملية مفيدة. وقد أنشئ لمجلتها (مكارم الأخلاق الإسلامية) مطبعة خاصة بها، وأنشئ لها مجلة أخرى باسم (المصلح) فالمجلة الأولى في السنة الثامنة من حياتها الجديدة وهي تصدر في منتصف كل شهر عربي في أربع كراسات بقطع المنار، وقيمة الاشتراك فيها 15 قرشًا في السنة لطلاب المعاهد والمدارس، و25 قرشًا لسائر الناس، وأما صحيفة المصلح فتصدر في كل شهر أو شهرين في كراستين أو ثلاث بقطع أكبر وقيمة الاشتراك فيها في القطر المصري خمسة قروش وأجرة البريد، وفي خارج القطر 10 قروش، ويرى القارئ لهما في كل منهما فوائد كثيرة من تفسير السور الصغيرة التي تُقرأ في الصلاة وشرح بعض الأحاديث الصحيحة وبيان السنن النبوية المتروكة لإحيائها، والبدع الفاشية مع النهي والتنفير عنها، والمسائل الفقهية والأدبية والتاريخية والمواعظ وغير ذلك ونرى جل ما في الصحيفتين بقلم وكيل الجمعية الأستاذ العالم الكاتب الخطيب الشيخ محمود محمود الأستاذ في مدارس الحكومة العليا، حمد الله سعيه وأدام توفيقه.

نداء جمعية الهداية الإسلامية في دمشق

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نداء جمعية الهداية الإسلامية في دمشق أرسلت إلينا هذه الجمعية كتابًا ذكرت فيه أنها أرسلت كُتبًا إلى ملوك المسلمين وأمرائهم وصحفهم وأغنيائهم لإعانة الحرمين الشريفين ومعه صورة ما أرسلته إلى ملكنا المعظم وهذا نصه: خطابها إلى جلالة ملك مصر المعظم لصاحب الجلالة الملك فؤاد الأول ملك مصر المعظم أعزَّ الله به الإسلام والمسلمين. لقد استفاض الخبر، وصح النقل باشتداد الضائقة على إخواننا أهل الحرمين الشريفين وتضاعُف العسر عليهم، فقد أخبر المطلعون بأنهم أصبحوا بحالة تدمي القلوب وتفتت الأكباد، وذلك لتقاعس الناس عن أداء فريضة الحج وتلكؤهم عن زيارة تلك الأماكن المقدسة. إن الأزمة في البلاد الحجازية قد اتسع نطاقها، وتفاقم خطبها، فشمل الكبير والصغير، وعمَّ أكثر السكان والمجاورين، في هذين البلدين الشريفين، وهي اليوم آخذة بالازدياد والعياذ بالله تعالى. لم يختلف أحد من الناس في استتباب الأمن في بلاد الحجاز كلها حتى أصغر بقعة فيها، فلو فُرض أن شخصًا نثر هناك آلاف الدنانير الذهبية على رءوس الناس في الطريق العامة لما تجاسر أحد على مس دينار واحد منها، على حين أن هؤلاء الذين نُثر الذهب على رؤوسهم فزهدوا فيه يتسابقون إلى التقاط ما يُلقى في الأرض من قشر البرتقال والبطيخ تقليلاً لِسَوْرَةِ جوعتهم، وشدة ألمهم. إلى هذا الحد وصل أولئك الإخوان المجاورون والقاطنون في تلك البلاد الشريفة، ولا شك أن هذا الحال أدى وسيؤدي إلى موت الكثيرين منهم بلا سابقة جناية ولا تقدم ذنب أو جريمة. إن هؤلاء الضعفاء المساكين الذين أعوزتهم الحاجة، وبلغ بهم الفقر مبلغًا جعلهم يذكرون أيام الحرب العامة بمزيد من المدح والثناء - يموت الكثيرون منهم على قارعة الطريق في أشرف بلاد الله، يموتون وبطونهم جائعة، وأجسامهم عارية، وعيونم شاخصة تتطلع إلى السماء شاكية ما حل بها من قسوة أخيها الإنسان وجوره وعتوه وظلمه. فرحمة بأولئك البؤساء الذين ذهب الفقر بأرواحهم، وأحاطت الحاجة بأولادهم وبناتهم ونسائهم، وقيامًا بالواجب الديني والإنساني، اجتمع أعضاء (جمعية الهداية الإسلامية) بدمشق، وبعد المذاكرة وتتبع الموضوع من عامة أطرافه رأوا أن يستصرخوا غيرتكم وحميتكم باسم كونكم أعظم ملوك الإسلام والمرجع الأعلى لمختلف شؤونه لتعملوا على مساعدة هؤلاء البائسين، وتمدوا يد المعونة إليهم بإرسال ما تَراكَمْ لهم في خزانة الأوقاف من مال الحرمين الشريفين، وبذلك تحيون أنفسًا قضى على حياتها الفقر، وأجسامًا أضر بها الجوع والعري، وذلك كما لا يخفى من أفضل الأعمال، وأشرف الخلال، ففي حديث أنس رضي الله عنه عند الديلمي مرفوعًا: (ما عمل أفضل من إشباع كبد جائعة) ومن حديثه أيضًا عند أبي يعلى يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (من اهتم بجوعة أخيه المسلم فأطعمه حتى يشبع وسقاه حتى يروى غفر الله له) على أن في هذا العمل أيضًا براءة للذمة مما هي مطوقة به من وجوب العمل بنص الواقف الذي هو كنص الشارع، وليت شعري هل يرضى الواقف للحرمين الشريفين بصرف ثمرة أوقافه على غير قطان تلك البلاد الشريفة، وخصوصًا عند حاجتهم، وتحقق ضرورتهم. إن اختزان أموال الحرمين أو صرفها لغير أهلها في أيام اليسر جريمة يجب أن تتنزه عنها الحكومات الإسلامية، فكيف والوقت عسر، والمستحقون لهذه الأموال في أشد درجات الضيق، وأقصى أحوال الجهد والعناء. قال أهل العلم: من منع المال مستحقيه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، وعُدَّ غاصبًا للمال، وظالمًا من جملة الظالمين، ومن صرفه حيث أمر الله عُدَّ من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان خير أمين فيما أسند إليه. ولما كنتم أدام الله عز المسلمين بكم ممن لهم السابقة في خدمة الدين، والاهتمام بأمور المسلمين، تحدبون عليهم حدب الوالد على ولده، والراعي على رعيته خصوصًا أهل الحرمين الشريفين، أتينا بكتابنا هذا مرفوعًا لسدة جلالتكم راجين أن تكونوا لأهل حرم الله تعالى وحرم رسوله المعظم عند حسن ظننا بكم، لا زلتم موئلاً للبائسين، وعضدًا متينًا لعموم المسلمين سيدي.

افتراء مجلة مشيخة الأزهر علينا وهجوها وهجرها فينا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ افتراء مجلة مشيخة الأزهر علينا وهجوها وهُجرها فينا قد رأى قراء المنار ما أفتينا به في الجزء الرابع في بدعة زيادة بعض المؤذنين في آخر الآذان، وهو أنها بدعة في شعار ديني محض تدخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) ولكن مجلة مشيخة الأزهر أفتت بأنها بدعة حسنة، ولما رآه مفتيها بهذه البدعة كفتاويه بما هو أضل منها من البدع انقطع في بيته وعكف مع بعض أعوانه على مجلدات المنار يبحث فيها عن أمور يتخذها مطاعن على صاحب المنار، وجمع ما وجده قابلاً للتحريف والشبهة مما صادفه فيها في مقال طويل بدأ بالاحتجاج لبدعة الأذان بطريقته الأزهرية في المراء وجدل الألفاظ وإيراد الاحتمالات. وقفى على ذلك ببهائت بهت بها صاحب المنار وافترى عليه بأنه كذَّب الله ورسوله وخطَّأهما وخالف الإجماع ورد الأحاديث الصحيحة اتباعًا لهواه، وأنه ليس لكتاب الله وسنة رسوله عليه سلطان، وأنه أنكر وجود الملائكة بتقريره أنهم عبارة عن القوى الطبيعية، وأنكر وجود الجن وزعم أن الجن عبارة عن الميكروبات، وأنه يتأول القرآن بما ينافي اللغة والدين والعقل تقربًا إلى الماديين لا لشبهة علمية، وأنه ليس عنده أدنى استعداد للعلم والفهم، ولا للمنطق والعقل، ولا للأدب والذوق، وأنه من دون ذلك كله أفتى تلاميذ المدارس النصرانية من المسلمين بالصلاة مع النصارى في كنائسهم لأجل تنشئتهم على دين النصرانية عقيدة ووجدانًا، يعني مفتري هذا البهتان أن صاحب المنار لا غرض له من إنشاء مناره ولا من تفسيره لكتاب الله تعالى إلا هدم دين الإسلام وتحويل المسلمين عنه إما إلى النصرانية وإما إلى المادية، وأن ما اشتهر به في العالم الإسلامي، بل في العالم كله حتى مستشرقي الإفرنج ووزارات أوربة الخارجية والاستعمارية المشتركة فيه من أنه داعية الإسلام والمحامي عنه في هذا العصر، والذي استطاع أن ينزهه عن البدع والخرافات ويوفق بينه وبين أعلى ما وصل إليه البشر من الارتقاء في العلم والعمران - فهو اشتهار باطل؛ لأن هذا المحرر في مجلة الأزهر وهو من هيئة كبار علمائه الرسمية قد علم من حقيقة هذا الرجل وفهم من مجلته وتفسيره ما لم يعلمه ولم يفهمه أحد، كلا إنه ظن أنه يقدر على هدم منار الإسلام بمقالة أو مقالات في مجلة مشيخة الأزهر انتقامًا لنفسه ولها، وما هو بهادم إلا لنفسه ولها، فقد كانت بما يسخمها به من تأييد البدع والخرافات، ثم بهذه الشتائم والمفتريات فضيحة للأزهر الذي يريد الاعتزاز باسمه وبمشيخته الرسمية. ظهر مقاله في الجزء الذي صدر في غرة جمادى الأولى، وكان هذا الجزء من المنار قد حُرِّر ليصدر في سلخ ربيع الآخر وطُبع أكثره فأخَّرته ليصدر في سلخ جمادى الأولى، فأرى في أثناء الشهر ما يكون من أمر هذا الحدث الجديد في مشيخة الأزهر. أما كاتب المقال فقد سبق له مثل هذا التصدي للتعدي منذ 16 سنة فلم أكترث له، ولا رأيته أهلاً للرد عليه، فهو غير كفؤ للمبارزة بعلم ولا أدب ولا بصدق في القول ولا أمانة في النقل ولا إخلاص في النية، وأما مشيخة الأزهر فهي كفؤ لمنازلة المنار، بغير هذا الفارس العاجز المغوار، ولا يشعر صاحبه بأقل ضعف عن هذه المنازلة في حدود العلم والدين وآدابه؛ ولكنه في منتهى الضعف والعجز عن كتابة جملة واحدة من أمثال هذا المقال الذي افتتحت الحرب به، وله - إذا ولاها الدبر - أسوة بجده علي أمير المؤمنين حين تولى عن عمرو! على أنه رأى وجوب التروي في النضال العلمي حتى يعلم تعمد المشيخة له. بدأت بكتابة مقال في الدفاع عن حقي وحق القراء الذين اطلعوا على الطعن عليَّ في تلك المجلة ليعلموا ما عندي من الدلائل على تفنيد الافتراء عليَّ، والقول الحق في التهم التي نسبت إلي، وأرسلت المقال إلى رئيس تحرير المجلة، ولزيادة التحري سألت صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية عن هذا الحدث الجديد لثقتي بعلمه وصدقه وإخلاصه على قلة الجامعين لهذه الفضائل الثلاث، سألته بالمسرة (التلفون) هل رأيت الجزء الجديد من مجلة المشيخة؟ قال: لا، قلت: انظره فإن فيه كيت وزيت، ثم علمت أنه قرأ المقال فتفظعه، ففزع به إلى شيخ الأزهر فأفزعه بموافقته إياه على استنكاره، ووجوب تلافيه بالسعي إلى الصلح بين الطاعن والمطعون، والاتفاق بين الغابن والمغبون، فبادر المفتي إلى هذا السعي الحميد الموافق لطبعه وكاشفني بذلك بالمراسلة فالمكالمة بالمسرة فزيارتي للمشافهة بذلك في دار المنار، وأكد لي خبر استياء الأستاذ الأكبر كاستيائه مما حصل ورغبته في الصلح، وإعطائي الحق في الدفاع عن نفسي في مجلة نور الإسلام، على الوجه الذي ارتضيته لنفسي من نفسي وهو اجتناب الطعن الشخصي في كاتب المقال بمثل طعنه علي ولا بما هو دونه، وذلك بأن أذكر التهم التي اتهمني بها وأرد عليها، واقترح أيضًا أن أنقح مقدمة المقالة التي أرسلتها إلى المجلة فوعدته بذلك، وقال: إنه هو والأستاذ الأكبر يكفلان إرضاء الطاعن بالصلح، وحمله على كتابة شيء يرضيني، قلت: إن ذلك خير له ولمشيخة الأزهر ومجلتها، وهو لا يهمني. أرسلت مقالة الرد إلى رئيس تحرير المجلة المذكورة في 14 جمادى الأولى وتلاه السعي إلى الصلح إلى أن دخل الشهر الذي بعده وقد صدرت في غرته المجلة وفيها مقالة أخرى في الطعن على صاحب المنار، وقد كثرت في الشهر مكاتبة الناس إياي بوجوب الرد على هذه المجلة وجاءتني مكتوبات في ذلك من مصر ومن الحجاز بعضها في الرد وبعضها في انتظار الرد مني، وأنشأ بعض العلماء يردون عليها في الجرائد، وأنا لا أزال أنتظر ثمرة سعي الأستاذ المفتي إذ وعدته بالإمساك عن النشر فيها إلى أن تظهر لي النتيجة لهذه المقدمات، وقد تأخر إصدار هذا الجزء إلى أن ظهرت نتيجة الصلح بنقض الخصم له يوم عقده وبقيت نتيجة ما يضمره شيخ الأزهر من خبيء في المسألة فهي خبأة طلعة وقد شرعت في الرد على مجلتها، فلينتظر قراء المنار الجزء الآتي. ولي أن أقول الآن إن هذا الطعَّان الشيخ يوسف الدجوي لجدير بلقب صديقه وإمامه المرحوم الشيخ يوسف النبهاني؛ ولكن النبهاني كان يفوقه في الأدب، وهذا يفوقه في السباب والمراء والجدل، فهو من الذين قال فيهم الأستاذ الإمام: (إنهم يتعلمون كتبًا لا علمًا، وإنه لم يبق عندهم إلا تحاور في الألفاظ أو تناظر في الأساليب في قليل من الكتب اختارها الضعف وفضلها القصور) وهو لم يحذق شيئًا من تلك الكتب التي حذقها كثيرون منهم؛ ولكنه حذق شيئًا آخر ما أسف إليه أحد منهم فيما نعلم وهو ما يجد الناس نموذجه في مقالاته الدالة على أنه ليس له أدنى حظ من العلوم التي يجادلنا في مسائلها وهي التوحيد والتفسير والحديث والبدع والسنن، وكأني بقارئ بهائته يتلو قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ} (الحج: 8) .

كلمتان كتبتهما لشابين من إخواننا المغاربة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كلمتان كتبتهما لشابين من إخواننا المغاربة على رقعتين لهما بطلبهما الكلمة الأولى وهي سياسية: نواحي الحياة كثيرة والمسلمون مهددون من كل ناحية منها، والخطر عليهم في مغرب بلادهم أشد منه في مشرقها؛ فإن مستعبديهم لم يقنعوا بسلب ثروتهم وحريتهم العلمية والمدنية وحقوقهم السياسية، بل شرعوا بتحويلهم عن دينهم بطريقة علمية نظامية، فوجب عليهم بذل النفس والنفيس لتأمين حرية دينهم وإعادة ما سُلب من ملكهم بالوسائل الممكنة، ولا يمكن أن يصيبهم من الضرر في هذا الجهاد أكثر مما هو واقع بهم والمتوقع مع الاستسلام أعظم {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا الكلمة الثانية في اختيار الكتب والصحف: كثرت في هذا العصر الصحف والكتب في الأدب والسياسة وعلم الاجتماع ومرجت فيها الآراء، وتناوحت الأهواء، فهي بين أهلها فوضى، والناس في أمر مريج منها، فعلى العاقل الحريص على عمره أن يتفقه في ترقية مداركه وتزكية نفسه، وإعلاء كلمة ملته وبناء مجد أمته، عليه أن يختار لنفسه من أمثل الصحف والكتب ما يضيء له سبيل العمل، ويبصِّره بمعاثر الزلل، وأن يجتنب ما يجذبه إليه اللهو وتستهويه فيه اللذة؛ وإنما آفة العقل الهوى، والسلام على من اتبع الهدى. وكتب في القاهرة بتاريخ شوال سنة 1350 ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار الطريقة الشاذلية (س51) من صاحب الإمضاء بيافا في رجب سنة 1347 ديسمبر سنة 1928 إلى حضرة السيد الإمام مفتي الإسلام سيدي محمد رشيد رضا مفتي المنار المضيء حفظه الله، إنني مسلم موحد الله - لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وأريد أن أطلع على الحقوق المطلوبة مني للحق عز وجل، وأريد أن أسألكم سؤالاً واحدًا يكون جوابه من لطفكم وعواطفكم لا حرمنا الله من متعتكم الدنيوية، وأريد نشره في مجلتكم (مجلة المنار) التي أتمنى لها خير النجاح وهو كما يأتي، ولكم الأجر والثواب عند الله الواحد القهار. ما هي الطريقة الشاذلية؟ منافعها، مضارها، تأثيرها، مقصودها، خطتها، نشوءها، نموها، وإن كان عندكم شيء زيدوا على ما سألت أنا ولكم الفضل سيدي. ملاحظة: إن الذي أجبرني على أن أسأل حضرتكم هذا السؤال هو شيء واحد، وهو أخي يعرض عليَّ دخول هذه الطريقة ومسلكها، وأيضًا الذي جعلني أن أمتنع عن القبول هو كلام الناس يحكون في حقها ما لا تقبله المسامع، فيا ترى هذا الكلام صحيح أم لا؟ أخبرنا فإن كان لا فتكون أولاً نفعتني وثانيًا نفعت الذي يريد أن يسلك في هذا المسلك، فلهذا سألت هذا السؤال وأملي بأن ينشر على صفحات مناركم مع جوابه ولكم الفضل سيدي ومولانا. ... ... ... ... ... ... ... ... رجب برزق ... ... ... ... ... أحد مستخدمين السيد أحمد محمود الشريف (ج) كان سبب تأخير الجواب عن هذا السؤال أنني كنت أريد أن أكتب خلاصة تاريخية لهذه الطريقة وفروعها، ولا سيما الفرع الذي انتشر واشتهر في فلسطين بدعوى الحلول والجمع بين النساء والرجال في الأذكار والخلوات وغير ذلك من المنكرات التي أشار إليها السائل بقوله: يحكون في حقها ما لا تقبله المسامع، وهذه الخلاصة تتوقف على بحث ومراجعة، ولذلك مرت هذه السنوات ولم أجد لها فراغًا، ونسيت هذا السؤال بل ضل عني بين الأسئلة المهملة لأسباب مختلفة منها سبق الجواب عن مثلها ومنها انتظار الفرص للبحث عن موادها وأدلتها كهذا السؤال، وإن أكثر فتاوى المنار في هذه السنين تُكتب بدون مراجعة شيء من الكتب، وأقلها بعد مراجعة لا تستغرق وقتًا طويلاً، ولما نجد فرصة لكتابة هذه الخلاصة. والذي ننصح به للسائل عن الطريقة الشاذلية أن يتجنبها ويتجنب أمثالها من هذه الطرائق التي بيَّن غرضها أحد كبار رجالها في القرن الماضي وهو السيد محمد الزعبي الجيلاني شيخ الطريقة القادرية في طرابلس الشام وهو والد الأستاذ الكبير السيد عبد الفتاح الزعبي نقيب السادة الأشراف والخطيب المدرس في الجامع الكبير المنصوري من زهاء قرن، فقد أخبرني هذا الأستاذ أن بعض مريدي والده سأله عن سبب اختلاف أصحاب هذه الطرائق في عمائمهم وشاراتهم وأعلامهم وأورادهم وأذكارهم مع دعواهم أن الغرض من سلوك كل طريقة منها معرفة الله تعالى وعبادته الصحيحة، فقال له السيد المنصف رحمه الله تعالى: (تغيير شكل لأجل الأكل) . وأخبرني الأستاذ الشيخ محمد الحسيني أشهر علماء طرابلس لهذا العهد أنه كان مرة في درس الشيخ الخضري الكبير في الجامع الأزهر فمرَّ بالقرب من الجامع موكب لأهل الطريق بدفوفهم وصنوجهم وضجيجهم فسكت الشيخ عن تقرير الدرس إلى أن بعدوا وخف صوتهم وقال لتلاميذه: إن جميع طرق الصوفية دخلتها البدع إلا الطريقة النقشبندية والطريقة الدمرداشية اهـ. ولكنني انتظمت بعد سماع هذا القول في سلك الطريقة النقشبندية فألفيتها لم تخل من البدع، ثم اختبرت الطريقة الدمرداشية فوجدتها كذلك، ولكن بدعهما أهون من بدع غيرهما فليس فيهما معازف ولا ملاه ولا أغاني ولا عبادة قبور، ولا أوراد غير ذكر الله تعالى، وقد تكلمت على بدعة الرابطة عند النقشبندية وبدعة الذكر بالأسماء المفردة عندهم وعند غيرهم من قبل، وأين هي من التيجانية والحلولية والإباحية من الشاذلية الترشيحية وغيرها، فعليك أيها المسلم أن لا تقرب أحدًا منهم، وإن لبعض من تفقه من شيوخهم فائدة في إرشاد العوام إلى الصلاة والصيام وذكر الله، وإن كان بعضه غير مأثور أو مبتدع كالذكر بالأسماء المفردة، وهو هو، وآه آه، فلو اعتصموا بالمأثور لكان خيرًا لهم، وقد فصَّلنا هذه المسائل مرارًا، وعليك بتلاوة القرآن والأذكار والأوراد المأثورة في السنة الصحيحة، وحسبك من مختصراتها كتاب (الكلم الطيب من أذكار النبي صلى الله عليه وسلم) لشيخ الإسلام ابن تيمية، فإن أحببت المزيد فعليك بكتاب الأذكار للإمام النووي أو الحصن الحصين للمحدث الجزري. *** استعمال الماء الممزوج بالسموم وجراثيم الأمراض المعدية (س52 و 53) من صاحب الإمضاء في زنجبار: حضرة العلامة الأستاذ الكامل السيد محمد رشيد رضا متعنا الله بوجوده: (1) ما تقول فيمن بنى مسجدًا وجعل فيه موضعًا لقضاء الحاجة وموضعًا للطهارة بالحيطان، وكان الاسم ينطلق بالمسجد، فهل يجوز ذلك والحال أن الاسم اسم المسجد. (2) وما تقول في ماء بلغ قلتين، وتوضأ صاحب القروح فيه وأهل الأمراض العدوية، وحكم أهل الخبرة بحدوث الأمراض بالمتوضئين، فهل يعمل قولهم بالاجتناب عن هذا الماء الذي بلغ القلتين ولم يحمل خبثًا؟ أفتوني أثابكم الله تعالى. لا زلتم عامرين لما اندرس من المعالم الدينية. ... ... ... ... ... ... ... ... من العبد المسيء ... ... ... ... ... ... ... ... قناوي بن عيسى ... ... ... ... ... ... ... ... بزنجبار (ج) يجب اجتناب استعمال الماء الذي دخلت فيه جراثيم الأمراض الوبائية والأدواء المعدية في الوضوء وغيره كالهيضة الوبائية وقروح الزهري والطاعون والسل لا لنجاسته الفقهية، بل لاتقاء ضرر سمومه المرضية، وأما السؤال الأول فلم نفهمه فإن كان المراد منه أن المستنجين ينجسون جدران المسجد فعملهم غير جائز ولا يعقل أن يعد الواقف جدران المسجد لذلك. *** أسئلة من جاوة في ولادة عيسى عليه السلام (س54 - 56) من الأستاذ المرشد الشيخ محمد بسيوني عمران إمام مهراج (سمبس برنيو) . حضرة صاحب الفضيلة الإمام العلامة الحجة، مولاي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأنور نفعني الله تعالى والمسلمين بعلومه آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني قرأت في بعض المجلات الملاوية مقالة مطولة لبعض الطلبة الملاويين في بيان ولادة عيسى ابن مريم قال فيها إنه لا بد لولادته من أب؛ لأن الله قال في كتابه: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 62) وقال تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (فاطر: 43) ورفض الأقوال المؤيدة بدلائل القرآن أن عيسى ولد بغير أب، وقال غيره من بعض أصحاب المجلة: ليأتنا من يعتقد أن ولادة عيسى بلا أب بآيات القرآن والأحاديث النبوية مع بيان درجتها ومآخذها. هذا، وإني قد قرأت تفسير المنار لسورة آل عمران في بيان ولادته بلا أب ورأيت فيه ما يشفي الغليل من الذين يريدون الحق وإزهاق الباطل وفهم مراد الله من كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ولكن لما صارت هذه المسألة موضع النزاع الآن عندنا بين طلاب الأدلة من الكتاب والسنة جئت باب فتاوى المنار سائلاً عن هذه المسألة ليكون جوابه عنها هو القول الفصل كما سبق له مما به أجاب، أنه الحكمة وفصل الخطاب، وها أنذا أصور الأسئلة كما يأتي: 1- هل ولادة عيسى ابن مريم بلا أب مجمع عليها أم لا؟ وهل يكفر من جحدها أم لا؟ 2- هل آية {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (آل عمران: 47) نص في أن ولادة مريم لولدها عيسى بلا أب أم لا؟ وهل كذلك آية سورة مريم {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِياًّ} (مريم: 20) أم لا؟ 3- هل وردت أحاديث نبوية يصح الاحتجاج بها على هذه المسألة أم لا؟ فإذا وردت فما درجتها من الصحة وفي أي كتاب أو كتب هي؟ هذا، وتفضلوا بالجواب عن هذه الأسئلة في أقرب وقت ممكن، ولكم مني ومن الناس الشكر الجميل، ومن الله الأجر الجزيل. ... ... ... ... سمبس برنيو الغربية 25 صفر سنة 1351 ... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران أجوبة المنار ولادة عيسى ابن مريم عليه السلام من غير أب مجمع عليها ومستند الإجماع نصوص القرآن المجيد يكفر من جحدها على علم، وأما الآيتان اللتان في السؤال الثاني فهما في البشارة به وبأنه يكون بقدرة الله تعالى لا بالسنن العامة في الحمل والوضع، وفي بقية القصة خبر الولادة وجملة الآيات نص قطعي في المسألة، وورد فيها أحاديث مختلفة الدرجات في الصحة وما دونها دلالتها دون دلالة آيات القرآن القطعية الرواية والدلالة، فلا ينبغي لمسلم أن يلتفت إلى ما يهذي به الملاحدة، ولا أتباع مسيح الهند الدجال غلام أحمد القادياني وراجع ما كتبناه في الرد على ملحد دمنهور في شبهة السنن الكونية وهو في الجزء الأول من منار هذه السنة، فقد بيَّنا بها جهل من يماري في هذه الآيات بأنها على خلاف سنن الله تعالى في الخلق، وكذلك الفصل الذي عقدناه في الآيات الكونية من بحث الوحي، وهو في الجزء الثامن الماضي، ففيه القول الفصل في معنى سنن الله وآياته ومنه المسيح وأمه عليهما السلام.

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال الأول: في موضوع التنازع بين المجلتين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار ومجلة مشيخة الأزهر نشرنا في أشهر الصحف اليومية الإسلامية مقالات عنوانها (بيان للأمة في جرائدها) فيما شجر بيننا وبين مجلة مشيخة الأزهر من التنازع في نصرها للبدع الاعتقادية والعملية وتأويلها لما يخالف النصوص والسنن القطعية، وإنكارنا عليها بما يؤيد النصوص والسنن التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة الصالح وطعنها فينا وافترائها علينا لعجزها عن الرد العلمي، وإننا ننشر هذه المقالات - ولما تتم - في المنار لأنها من أهم مسائل تاريخ الإصلاح الذي أنشئ له ونهض به، ولنا أن نختصر وننقح هنا بعض العبارات اجتنابًا للتكرار الذي لا يحسن في المجلات. *** المقال الأول في موضوع التنازع بين المجلتين أو بين الإصلاح والجمود والبدعة والسنة ونشر في الجرائد في 20 جمادى الآخرة الموافق 20 أكتوبر {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً * وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء: 80-81) . وقع تنازع بين مجلة المنار ومجلة الأزهر والمعاهد الدينية الرسمية (نور الإسلام) تعدت هي فيه البحث العلمي إلى الطعن الشخصي، فأحببت أن ينحصر ردي عليها فيها ليعلم قراؤها الحق فيما نشرته من العلم والدين، فأرسلت إليها المقالة الأولى من الرد فلم تنشرها، بل نشرت في الجزء الذي كان ينتظر نشر الرد فيه مقالاً آخر في الطعن علي، وانتقل البحث إلى الصحف اليومية فنشر فيها مقالات لأفراد من العلماء يذكرون فيها مسائل مما اتهمني به الشيخ يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء في الأزهر وأحد محرري مجلته، ويردون عليه فيها، ثم رأيت له مقالات يرد فيها على بعضهم ويطعن عليَّ وعليهم، ثم رأيت في بعضها خبر سعي صاحب الفضيلة العلامة المصلح الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية للصلح وتمامه في داره، ووصل إلي بعد عقد هذا الصلح رسالة مطبوعة باسم أخص تلاميذ الأستاذ الدجوي من علماء الأزهر، وهو قريبه وأمين سره المساعد له على الطعن الذي يكتبه له، نشر فيها بعض ما كتبه الأستاذ الدجوي في الطعن في مجلة الأزهر أخيرًا، وما كان نشره في بعض الجرائد من الطعن قديمًا مع تعليقات وقصائد في إطراء أستاذه، بل إطراء الأستاذ لنفسه بأنه إمام المسلمين وحامي حمى الدين....، وهجوي وتكفيري بما يتعجب كل من رآه لصدوره عن أحد رجال العلم والدين كقوله: أترى أنك البصير بشيء ... أنت فيه كالكلب والخنزير وكفى أن عافاهما الله من رؤ ... ية وجه كوجهك المقذور وهذا الطعن مما يعاقب عليه القضاء قطعًا؛ ولكنه هو نفسه أشد عقابًا لمجترحه في نظر أهل الدين والعلم والأدب، أو كما قال المتنبي: فذاك ذنب عقابه فيه ورأيت الناس يطالبونني قولاً وكتابة بالرد على مطاعن مجلة الأزهر ويتعجبون من سكوتي عنها حتى نشر هذا بعضهم في جريدة السياسة الغراء؛ وإنما كان سكوتي إلى الآن أنني وعدت به فضيلة المفتي إلى أن يبلغ غاية شوطه من السعي للصلح، وقد وفيت له بوعدي، وظهر له صدقي وخداع الدجوي. وبقيت مجلة الأزهر والمشيخة التي تصدرها، فسنرى ويرى الناس ما سيكون من أمرهما بعد ظهور هذه الجرائم من اثنين من علماء المشيخة في مجلة المشيخة وفي رسالة تباع في الأزهر نفسه، فالأستاذ الأكبر شيخ الأزهر هو المسئول عن شرفه وشرف مجلته وعلمائه، ولم نعلم أنه صدر عنهم في زمن من الأزمان مثل هذا ولا ما يقرب منه. وها أنذا أبيِّن للأمة في جرائدها اليومية موضوع الخصام والصلح الذي يسألونني عنه؛ لأنه يتعلق بأمر دينها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما طرأ عليه من البدع والشبهات، وموقفها بين الإصلاح والخرافات، وما يجب عليها من معرفة الفصل فيه بين الحق والباطل، إذ لم تعد المسألة نزاعًا واختلافًا بين مجلتين يحسن ألا تعدو صحائفهما، ولا بين شخصين مختصمين، بل تعدتهما إلى مسألة الإصلاح الإسلامي الذي يتوقف عليه حفظ الإسلام في هذا العصر، ومسألة الجمع بين الإسلام الصحيح وعلوم العصر التي تتوقف عليها عزة الأمم واستقلالها، ومسألة جمود الأزهر الماضي وتجديده الحاضر والمستقبل، والتنازع بين النابتة التي نجحت فيه بإصلاح الأستاذ الإمام، وبقايا أعشاب الجمود الضارة التي تعوق نماءها، واستواءها على سوقها، وإيتاءها أُكُلها بإذن ربها. ضاق الأزهر الحديث ذرعًا بما كان من جموده في القرون الأخيرة، فطفق ينسلخ منه ببطء ثم بسرعة واستعجال يخشى أن يكون معه الزلل، فيتبع مدرسة دار العلوم في نزع آخر مشخصات رجال الدين عنه؛ فإن جذب الاستقلال العصري له صار أقوى من جذب الجمود السابق، وهو في أشد الحاجة إلى موقف الاعتدال في الوسط الذي اختطه له الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى وفيه بعض تلاميذه ومريديه ولكنهم يستترون لإخراج بعضهم منه إخراجًا إداريًّا غريبًا ويحتاجون إلى قوة وزعامة تمكنهم من موقفهم في الوسط، وحمل الميزان القسط، وقد شعر أنصار الجمود بقرب زوال دولتهم وجاههم الأزهري فأجمعوا أمرهم وهم يمكرون ونهضوا بحملة جديدة على الإصلاح سأشرحها بعد بما يدهش عقلاء الأمة ويشغل صحفها وأقتصر في هذه المقالة على مثار الخلاف بين المجلتين فأقول: كانت طريقة الأزهر في التعليم قبل مجيء السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر إلزام الطلبة قبول كل ما في كتب التدريس وما يقوله لهم المدرسون بالتسليم وعدم الاعتراض، عقلوه أم لم يعقلوه، وطريقة الأستاذ الإمام التي استفادها من الأفعاني وجرى عليها بالدعوة وبالعمل في دروسه الدينية والفنية والعقلية أن لا يقبل أحد كلام أحد بالتسليم الأعمى، بل يجب الفهم والاستدلال المؤدي إلى الإقناع والتفرقة بين كلام المعصوم وغير المعصوم. في كتب التعليم في الأزهر وغيرها ما يخالف اليقينيات القطعية حتى الحسية منها، ويرى طلابه وغيرهم في كتب التفسير وشروح الأحاديث مشكلات اضطرب العلماء في حل عقدها، ويرون في بعض أجوبتهم عنها ما لا يقنع من يريد أن يفهم ويعلم، ويرون أن عالمًا واحدًا من المحدثين الفقهاء قد ألَّف أربع مجلدات في الأحاديث المشكلة سمَّاه (مشكل الآثار) وهو الإمام الطحاوي، ويرون مع هذا كله في علمائهم المدرسين من يفتي بكفر من يستشكل حديثًا صححه أحد المحدثين ولا سيما الشيخين رضي الله عنهما، ويلتمس لنفسه مخرجًا من الإشكال، وقلما كان أحد منهم يجترئ على سؤال شيوخه الجامدين عن ذلك لئلا يرموه بالكفر. مثال ذلك أنه يوجد في الصحيحين وغيرهما حديث مرفوع خلاصته أن الشمس تذهب حين تغرب في آخر النهار فتغيب عن الدنيا وتصعد، فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن ربها بالطلوع في اليوم التالي، فيأذن لها فتطلع وأنه سيأتي وقت تستأذن فيه فلا يُؤذن لها، ثم تؤمر بالطلوع من مغربها. استشكل هذا الحديث كبار علماء الإسلام المتقدمين والمتأخرين، ولا سيما الذين عرفوا علم الفلك والمواقيت والجغرافية بأنه مخالف للحس وما تقرر في علم الهيئة الفلكية، وصرح إمام الحرمين الشهير في القرن الخامس بما يصرح به علماء هذا العصر من أن الشمس في كل وقت تغرب عن قوم وتطلع على قوم ... إلخ؛ ولكن لا يزال في علماء الأزهر وغيرهم من يفتي بكفر من لا يؤمن بظاهر الحديث ويسمونه مكذبًا لله ولرسوله! صرَّح بذلك الشيخ يوسف الدجوي في مجلة الأزهر الرسمية، ولما تنكر ذلك عليه مشيخة الأزهر المسئولة عن هذه المجلة، فكيف يستطيع الموقن بأن الشمس لا تغرب عن الأرض طرفة عين أن يكون مسلمًا على رأي هؤلاء العلماء؟ وجميع طلبة الأزهر الذين يدرسون فيه علم الجغرافية يوقنون بأن الشمس لا تغيب عن الأرض طرفة عين، وجميع المتعلمين في المدارس النظامية موقنون بهذا، ومنهم أمراؤنا وحكامنا ومحررو صحفنا أجمعون أكتعون أبصعون. وإنني قد ذكرت في المنار وفي تفسيره علة علمية تنفي صحة سند الحديث على طريقة المحدثين ومخرجًا من دلالة متنه على ما ينافي الحس لم أر أحدًا وُفِّق لهما قبلي، وسأذكرها في الرد العلمي على مجلة المشيخة. كان الأستاذ الإمام مرجعًا لكل من يعرض له إشكال أو شبهة في دينه، ومن خطة المنار التي جرى عليه من أول نشأته التصدي لدحض الشبهات وحل المشكلات الدينية والعقلية والعلمية بالأدلة الجامعة بين المعقول والمنقول. وقد علمنا أن بعض الجامدين كان يطعن علينا بما نكتبه لنحفظ على المشتبهين والمستشكلين إيمانهم بصحة كل ما جاء في كتاب الله وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الدين، وحملني هذا على أن أنشر في أول كل جزء من مجلد من مجلدات المنار إعلانًا أدعو فيه العلماء وغيرهم إلى الكتابة إلي بما يرونه منتقدًا فيه من المسائل الدينية وغيرها، مع الوعد بأن أنشر ما يرسلونه إلي بشرط أن يقتصر فيه على المسائل المنتقدة والدليل على ما يراه الكاتب من الخطأ فيها من غير زيادة ولا استطراد، وأبيِّن رأيي فيه، وما زلت أفي بما وعدت. كبر على الجامدين والخرافيين اشتهار مجلة المنار في العالم الإسلامي وما يرونه فيها من استفتاء مسلمي الشرق والغرب إياها في كل ما يشكل عليهم من أمر دينهم، ولا سيما شبهات الماديين والمبشرين وغيرهم، وكبر عليهم نشرنا لمناقب الأستاذ الإمام وإصلاحه وتجديده للإسلام فيها وفي تفسير المنار وفي التاريخ العظيم الذي دونا فيه مناقبه في ثلاثة مجلدات بلغت صفحات الجزء الأول منها 1134 صفحة ما عدا المقدمة وصاروا لا يدرون كيف يقاومونها. تصدى الأستاذ يوسف الدجوي منذ بضع عشرة سنة (1335) للطعن على الأستاذ الإمام والتحرش بالمنار، فبدأ بنشر مقالات في جريدة الأفكار في الإنكار على ما نشرناه في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} (النساء: 1) من أن النفس الواحدة ليست نصًّا في أبينا آدم عليه السلام، وأنه إن فرض ثبوت قول الذين يقولون إن للبشر عدة أصول أو نظرية دارون في اختلاف الأنواع؛ فإن القرآن يبقى على عصمته لا ينقضه شيء، هذا مجمل ما قرره شيخنا الأستاذ الإمام في الأزهر وقرره قبله أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر في كتابه الرسالة الحميدية التي قرَّظها أكبر علماء سورية وعلماء الترك وغيرهم إذ ترجموها باللغة التركية وكانت سبب حظوة مؤلفها عند السلطان عبد الحميد، ولم ينكر عليه أحد هذا القول في مذهب دارون. ولكن أحد علماء تونس الأذكياء انتقد عبارتنا في تفسير آية سورة النساء وموافقتنا للأستاذ الإمام على ما قاله في المسألة بمقال نشرناه في المنار أجبنا عنه من بضعة عشر وجهًا أقنعت هذا الأستاذ، وأما الشيخ يوسف الدجوي فلم أرد على ما نشره في جريدة الأفكار؛ لأنه كان تحرشًا وطعنًا شخصيًّا بسوء نية غير مبني على دليل علمي، فضلاً عن كونه نشره في جريدة يومية ولو كان بحثًا علميًّا لأرسله إلى المنار كالأستاذ العلامة الشيخ محمد البشير النيفر التونسي. ثم إن الأستاذ الدجوي كتب في سنة 1348 رسالة في الطعن على متبعي السلف من عهد شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الآن غمز فيها الأستاذ الإمام بقوله بعد اعترافه بأنه غني عن الثناء والإطراء: (ولكننا نعجب له وقد تربى تلك التربية العقلية الفلسفية كيف يسير وراء كل ناعق من الأوربيين فيردد صدى صوته بلا نقد ولا تمح

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال الثاني: في السعي للصلح والمرحلة الأولى له في دار المفتي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقال الثاني في السعي للصلح والمرحلة الأولى له في دار المفتي (نُشر في الجرائد في 28 و29 جمادى الآخرة) بيَّنت في المقال الأول ما كان من التنازع بين المنار ومجلة مشيخة الأزهر (نور الإسلام) وأبيِّن في هذا كيف كان الصلح بدءًا وختامًا. قد راع صاحب الفضيلة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، وشق عليه أن يرى في مجلة مشيخة الأزهر مثل تلك المقالة التي نشرتها في الجزء الخامس بعنوان (صاحب المنار والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان) وإمضاء يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر، وهو هو الغيور على شرف علماء الدين وعلى مجلة الأزهر، واستغرب ما فيها من التهم التي رشقت بها مجلة المنار وصاحبها وهو من أعلم العلماء بقيمة المنار وما خدم به الإسلام مدة 35 سنة، ويقتني جميع مجلداته، ويعرف شخص صاحبه معرفة علم وأخلاق، وقد عرف مثار الشبهات لبعض التهم، وما فيها من تحريف الكلم، لعلمه بما كان قرره الأستاذ الإمام أو كتبه فيها كمسألة الملائكة ومسألة سحر اليهودي للمصطفى أعزه الله عز وجل وأجله وصلى عليه وسلم، وبما نشره المنار في بعضها أو فيها كلها. وكان أروع ما راع فضيلته وأغربه وأبعده عن الشبهات أن يرمى صاحب المنار بإفتاء طلاب العلم في المدارس الأجنبية بأن يصلوا مع طلبة النصارى صلاتهم في كنائسهم لأجل أن يكونوا نصارى! ! فلم يملك نفسه أن سألني بالمسرة (التلفون) [1] عنها، وهل يوجد في شيء من مجلدات المنار عبارة يمكن أن تتخذ شبهة عليها؟ فقلت: بل يوجد حجج كثيرة على ضدها آخرها فتوى طويلة في الجزء الثالث من منار هذه السنة. ثم إن الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر أخبر الأستاذ المفتي بأنني أرسلت إلى مجلة (نور الإسلام) مقالة في استنكار جريمتها والرد عليها، وأن مقدمة الرد شديدة اللهجة، خلافًا لما قاله كل من رآها في دار المنار إذ وصفوها بأنه في منتهى اللين واللطف، ونيط السعي له بالمفتي للإجماع على إخلاصه وإنصافه، فأرسل إلي رسولاً يكاشفني به ويعلم ما عندي تجاه هذا البهتان المبين، فسمع الرسول مني ما لم يكن يحتسب من آيات الحلم وسعة الصدر، وهو أنني لا أشترط للصلح إلا أن تنشر لي المجلة كل ما أرد به على التهم التي قذفتني بها ردًّا علميًّا لا طعن فيه ولا سباب، ولا نبز بالألقاب، وأن الغرض منه أن يعلم الذين قرأوا تلك التهم الباطلة ما عندي من الأدلة العلمية على افتراء بعضها وبطلان بعض وتحقيق الحق في مسائلها، وهي مسائل اعتقادية وعملية شرعية يجب لهم على المجلة وعليَّ تمحيص الحق فيها، وأنه ليس لي حظ نفسي في تحقير كاتبها بمثل ما قاله فيَّ، فبلَّغ المفتي شيخَ الأزهر هذا الجواب، فاتفقا على أن هذا حق. ثم دار الحديث بيني وبين المفتي في الموضوع بالمسرة، ثم بالمشافهة في دار المنار إذ تلطف بزيارتي فيها في أول هذا الشهر (جمادى الآخرة - أكتوبر) وكان مما قاله إنه متفق مع الأستاذ الأكبر على أن لي الحق في الدفاع عن نفسي وفي كتابة كل ما أعتقد أنه حق وخدمة للإسلام والمسلمين؛ فإن هذا مما ليس لأحد أن يطالبني بتركه، وأن على مجلة نور الإسلام أن تنشر لي ما أكتبه من الرد العلمي الذي طلبته؛ وإنما المراد من الصلح عدم العود إلى طعن أحد في شخص الآخر بتجهيل ولا غيره، وإنهما يرغبان إليَّ ترك الرد إلى أن نجتمع به ونبرم الصلح، فوعدته بذلك. ثم جاءني في ضحوة اليوم الرابع من الشهر الأستاذ الشيخ محمد حامد الفقي رسول المفتي الأول وقال إن فضيلة الأستاذ المفتي يقرئك السلام ويخبرك بأنه كلم الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي فيما اتفقتما عليه من أمر الصلح وشرطه فرضي به، ووعد بأن يكتب هو في مجلة نور الإسلام عبارة يعترف فيها بخدمة المنار للإسلام ومواقفك المحمودة فيها، وإن الاجتماع لعقد الصلح سيكون بدار فضيلته بعد عيد الجلوس الملكي؛ لأنهم سيسافرون كلهم إلى الإسكندرية لأجله. ثم بلَّغني المفتي في يوم الثلاثاء الحادي عشر من الشهر دعوته إيانا إلى الغداء في داره، لأجل الصلح في يوم الخميس الثالث عشر منه فأجبت، ثم أرسل إليَّ سيارته بعد الظهر من ذلك اليوم فوجدت عنده أصحاب الفضيلة الأساتذة الشيخ فتح الله سليمان نائب المحكمة الشرعية العليا، والشيخ أحمد حسين مفتي وزارة الأوقاف، والشيخ محمد الخضر رئيس تحرير مجلة نور الإسلام، والشيخ طه حبيب المدرس بالأزهر والمحرر في مجلة نور الإسلام، والشيخ محمد حامد الفقي من علماء الأزهر وخطباء المساجد، وكان معي ابن عمي السيد عبد الرحمن عاصم، وبعد وصولنا بقليل جاء الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي فقمت له مع القائمين وصافحته، واعتذر الأستاذ الأكبر عن الحضور بالتياث صحته، ولم نلبث أن قمنا إلى المائدة النفيسة الدالة على سخاء صاحبها وحسن ذوقه. وبعد الطعام خرجنا إلى حجرة القهوة والحديث، فافتتح فضيلة المفتي الكلام بالشكر لنا على قبول دعوته إلى طعامه، وإلى ما هو خير منه وهو الصلح بين المجلتين الإسلاميتين والمحررين لهما، وقال إن مجلة المنار تخدم الإسلام خدمة جليلة منذ خمس وثلاثين سنة ولصاحبها فلان من البلاء والجهاد في هذه السبيل ما عُرف له فضله فيه جميع العالم الإسلامي، وأصبح لمجلته مركز عظيم في نفوس المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ومجلة نور الإسلام قد أنشئت أيضًا لأجل هذه الخدمة للإسلام بعينها وتتولى إصدارها ونشرها أكبر هيئة دينية إسلامية، فالموضوع واحد والقصد واحد، والحاجة إلى التعاون بينهما شديدة، وخصوم الإسلام من الملاحدة ودعاة النصرانية (المبشرين) والفاتنين للعامة بإباحة الفسوق والشهوات كثيرون، فالمصلحة الإسلامية قاضية بتوحيد عملهما، وفضيلة الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي يخدم الإسلام بعلمه وبالتحرير في مجلة نور الإسلام، فأجدر بالشيخين وبالمجلتين أن يتحدا ويكونا إلبًا واحدًا على العدو المشترك، وقد شجر بينهما من الخلاف ما أسف له الجميع، وغرضنا من هذا الاجتماع أن يتصافحا ويتصافيا ويتناسيا الماضي المؤسف، فهذا ما يهمنا ويهم كل مخلص للدين وأهله. هذه خلاصة ما فاه به الأستاذ المفتي، وتلاه الأستاذ الدجوي فقال إنه لا بد من ذكر سبب الخلاف والشقاق وما يبنى عليه الصلح، وهو أن يكف الشيخ رشيد إخوانه أو جماعته الوهابيين عن تكفير المسلمين وحملهم على عقائدهم أو مذهبهم بالقوة واستباحة دمائهم، ويكف أتباعه - أو قال أذنابه - عن الكتابة في الصحف وغيرها، وطفق يفيض في هذا الموضوع فعارضه المفتي قائلاً نحن لا نريد نبش الماضي وبعثه من قبره بل نريد دفنه وتناسيه، ولا شأن لنا الآن بالوهابية ولا بغيرهم؛ لأننا لا نحاول الصلح والاتفاق لمصلحة جماعة دون جماعة ولا هيئة دون هيئة، بل نريد مصلحة المسلمين جميعًا، على أن يخدم كل منكما الإسلام بما يعتقده من غير أن يمس كرامة الآخر. حينئذ قلت: أما وقد قال الأستاذ الدجوي ما سمعتم فلا مندوحة لي عن جوابه لأن الاتفاق والتعاون يتعذر مع سوء ظن كل منا بالآخر. قد سمعتم ما يقول في الوهابية وما يرميهم به وأنه يعدني منهم مع سوء اعتقاده أو ظنه بهم، وقد كتب كثيرًا في الطعن عليهم، وكان يذكرني في أثناء مطاعنه بدون أدنى مناسبة ويلقبني بمفتيهم وبزعيمهم، فلهم في خياله أقبح صورة تتمثل في شخصي. القول الحق في الوهابية وسبب الطعن عليهم: إنني أعلم حق العلم أنه ليس في الدنيا مذهب يصح أن يسمى مذهب الوهابية، وأن أهل نجد الذين يلقبهم غيرهم بالوهابية لايلقبون أنفسهم بهذا اللقب، وهم حنابلة ليس لهم مذهب غير مذهب الإمام أحمد بن حنبل أحد الأئمة الذي يعترف له جميع أهل السنة بالإمامة، بل انتهت إليه إمامة السنة في عصره بغير منازع؛ وإنما ينسبون أنفسهم إلى السلف في العقائد وما كان أحمد إلا إمام السلف في عصره وما زال أهل الحديث كلهم ينتمون إليه، وقد صرَّح الإمام أبو الحسن الأشعري باتباعه له. أما سبب اتهامهم بابتداع مذهب جديد في الإسلام فهو أن الدولة العثمانية قد رأتهم قاموا بنهضة دينية في جزيرة العرب أيدتها إمارة آل سعود، فخافت أن يؤسسوا دولة عربية تنزع منها سيادتها على الأمة العربية فحاربتهم بالسلاح، وبنبزهم بالابتداع في الإسلام، وجعلت قتالهم لها - وهي المعتدية - دليلاً على تكفيرهم المسلمين واستباحة دماء من لا يتبعهم في مذهبهم، وأغرت بعض العلماء الذين يخضعون للسلاطين والحكام ويخدمونهم بكل ما يهوون أن يردوا عليهم، فألَّفوا الرسائل في الطعن عليهم في دينهم، لتنفير عرب الجزيرة وغيرهم وصدهم عنهم، كما أغرت الإمارة المصرية العلوية بقتالهم بعد أن استولوا على الحجاز وعجزت عن إخراجهم منه. وأما صاحب المنار فيعلم السادة الحاضرون وكل من يقرأ المنار أنه لا يقلد في عقيدته أحدًا من الأئمة، فكيف يُعقل أن يقلد الشيخ محمد بن عبد الوهاب على فرض أن له مذهبًا خاصًّا غير مذهب الإمام أحمد وسلف الأمة؟ فمن لا يقلد الإمام الأشعري وقد نشأ على مذهب الأشعرية فأجدر به أن لا يقلد الشيخ محمد ابن عبد الوهاب. الأستاذ الدجوي وجه عنايته في مجلة مشيخة الأزهر وغيرها إلى الطعن في الوهابية وجعلهم شر خلق الله، وإلى تأويل البدع والخرافات الفاشية عند غيرهم ونرى رزاياها ومفاسدها في بلادنا من توجه الألوف، بل الملايين من الجاهلين في قضاء حاجتهم وشفاء مرضاهم والانتقام من أعدائهم إلى أضرحة الميتين حتى من لا يعرف لهم في الإسلام ذكر ولا قدم صدق، وربما كانت أضرحتهم مزورة، فيشدون إليها الرحال ويحملون إليها النذور ويقربون لها القرابين، ويفتيهم بجواز ما يفعلون من استغاثة الموتى ودعائهم ويتأول لهم ذلك بالمجاز العقلي والمجاز اللغوي بقرينة كونهم مسلمين موحدين، وكلنا نعلم أن السواد الأعظم منهم لم يتلق عقيدة الإسلام من عالم ولا من كتاب من كتب الإسلام الصحيحة؛ وإنما يتلقونه عن أمهاتهم وجداتهم وأقرانهم وَلِدَاتِهِمْ. ثم إنه يعلم بما عليه الألوف من أهل البلاد من ترك الصلاة ومنع الزكاة، وكذا الصيام، ومن استباحة السُّكر والزنا والقمار وغيرها من الموبقات، وأعني بهذا عدم الإذعان النفسي العملي للأمر والنهي وهو حقيقة الإسلام، ثم إنه لا يكتب شيئًا في مجلة مشيخة الأزهر في النصح لهؤلاء ولا لأولئك؛ وإنما يوجه همه إلى الوهابية فيطعن عليهم ليردهم عما يتهمهم به من تكفير المسلمين واستباحة دمائهم، وهو يعلم أنه يندر فيهم من يقرأ كلامه، وأن من عسى أن يقرأه منهم لا يعتد بعلمه ولا بإخلاصه، وهم يعلمون من أنفسهم - كما يعلم كل من اختبرهم - أنه لا يكاد يوجد في بلادهم كلها من يترك صلاة الجماعة، ولا من يجهر بفاحشة مبينة، والسرائر علمها عند الله، وعلماء الوهابية لا يكفرون أحدًا من أهل القبلة إلا بما أجمع فقهاء أهل السنة على أنه كفر وردة عن الإسلام، فهم يخالفون مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة، وفي مسألة أخرى لا أعلم لهم غيرهما، وأعني بالمسألة الأخرى أنهم يقدمون العمل بالحديث الصحيح المخالف لرواية المذهب عليها؛ ولكن اتفاق الأئمة الأربعة على ترك العمل بحديث آحادي يعدونه دليلاً على وجود مانع من العمل به، كعلة في سنده أو معارض لمتنه من نسخ أو غيره، وما يذكرونه في كتبهم من أحكام الردة فيقال فيه ما يقال في سائر أحكام الردة عن

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال الثالث: المرحلة الثانية من مراحل الصلح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقال الثالث المرحلة الثانية من مراحل الصلح في إدارة المشيخة والمعاهد الدينية في مساء يوم الأحد السادس عشر من جمادى الآخرة (وأكتوبر) التقيت في احتفال وزير دولة الأفغان المفوض بعيد جلوس ملكهم (صاحب الجلالة محمد نادر خان) بأصحاب الفضيلة شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية ونقيب السادة الأشراف وشربت الشاي معهم على مائدة واحدة، وجرى في حديثنا ذكر الصلح، فقلت: إن الشيخ الدجوي قد نقض الصلح في أثناء عقده بتوزيعه لرسالته البذيئة قال المفتي: ولكنك أنت لا تنقضه، قلت: وهل يكون الصلح من طرف واحد؟ وسألت شيخ الجامع هل اطلعت على الرسالة؟ قال: لا، فأخرجتها من جيبي وقرأت له بعض الأبيات التي تخاطبني بالكلب والخنزير والوجه المقذور، وقلت أهكذا تكون آداب علماء الدين؟ فامتعض وامتقع ووجم، وقال المفتي إن مثل هذه الرسالة لا تؤثر في مقامك من العلم والدين وسعة الصدر، أو كلامًا بمعنى هذا، قلت ولكنها تحط من قدر علماء الدين وشرفهم الذي يجب على الأستاذ الأكبر أن يحافظ عليه، وأما أنا فأتمثل فيها بقول المتنبي: فذاك ذنب عقابه فيه فلا أجازي على هذه السيئات بمثلها، ولا يستطيع عدو أن يبلغ من مجترحها ما بلغته منه، ولكن لا يسعني بعد اليوم السكوت عن رد المطاعن والتهم التي افتريت علي، وقد أكثر الناس من مطالبتي بذلك مشافهة ومكاتبة ونشرًا في الجرائد. قال المفتي: إنني أرسلت إلى الشيخ الدجوي صديقًا له يكلمه في وجوب الإمساك عن نشر الرسالة ووعدته بأن أدفع ثمن نفقة طبعها للطابع ونعود إلى إتمام الصلح، قلت: إن الطابع لها هو ابن الشيخ الدجوي في المطبعة التي أنشأها له والده؛ وإن هؤلاء لا يصدقون، وأنا لا يهمني نشرها ولا جمعها، ولا يهمني نقض الدجوي للصلح ولا وفاؤه به؛ وإنما يهمني شيء واحد وهو أن تنشر لي مجلة مشيخة الأزهر ما أفند به التهم التي نشرتها له، وأنا على شرطي من اجتناب الطعن والهجو الشخصي. وفي اليوم التالي كتبت مقالي الأول وأرسلته إلى الجرائد فنشرته في 20 و21 من الشهر، فلما قرأه شيخ الأزهر اهتم بالأمر، فكلَّم المفتي في وجوب تداركه في إبانه، وأخذه بربانه، قبل أن أبسط المسألة في الجرائد فيتسع الخرق على الراقع، فكلَّمني المفتي بالمسرة وهو معه مبتدئًا بعتابي على النشر في الجرائد، فكان هذا أول تجانف منه وتزاور عن موقف القسط الذي كان يقيم ميزانه، فطفقت أحتج فقاطعني قائلاً إن الأستاذ الأكبر معي يدعوك إلى الاجتماع في إدارة المعاهد الدينية يوم الأربعاء للنظر في المسألة فإذا قبلت فلك هنالك أن تدلي بكل ما عندك وننظر فيه بالإنصاف، قلت: لا بأس وإني لمجيب، قال: وإني أرسل إليك السيارة عند انتهاء الساعة العاشرة، ونرجوك أن تمسك عن النشر حتى نجتمع وننظر في الأمر. اجتمعنا في الساعة العاشرة و30 دقيقة، وكان في المجلس أصحاب الفضيلة شيخ الجامع والمفتي ووكيل الأزهر والمعاهد الأستاذ الشيخ محمد عبد اللطيف الفحام والأستاذ السيد الشنواني وهو نائب عن الأستاذ الدجوي الذي سافر إلى بلده في الريف لحضور مأتم فيه. بدأ الأشياخ الكلام بعتابي على النشر في الجرائد فقلت: هل من العدل والإنصاف أن يُطلب مني السكوت عن الدفاع عن نفسي وبيان حقي في مسألة تداولتها الصحف اليومية، وتناولتها أيدي جميع طبقات الأمة، وكثر تساؤل الناس كيف يسكت صاحب المنار عن الرد على التجني عليه وبهته بأفحش البهائت في دينه وعلمه وأدبه؟ والقاعدة الأصولية أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو قد تجاوز الحاجة معي إلى الضرورة، فإلى متى يُنتظر مني أن أسكت وقد سكتُّ أكثر من شهر ونصف؟ قال المفتي لا نقول إنه لا حق لك في البيان؛ ولكني لم أفهم منك في دار سفارة الأفغان أنك عزمت على الرد في الجرائد، وقد تعرضت في مقالك للكلام في الأزهر، ولا يصح أن نجعل الأزهر مضغة في الأفواه بخوض الجرائد فيه وأنت تحرص على كرامته مثلنا. قلت: نعم، ولكن اللوم كله على مشيخة الأزهر فالطعن علي قد ظهر في مجلتها في أول الشهر الماضي، ثم تكرر في أول هذا الشهر بعد السعي من قبلها في الصلح وكان من أمر نقض الصلح ما علمتم، فأنا أصارحكم هنا بأنني لا أبالي بطعن الشيخ الدجوي ولا بتكفيره لي، ولا بنقضه للصلح، ولا برسالته البذيئة التي ذكرت لكم بدار سفارة الأفغان رأيي فيها، وفيما يجب على مشيخة الأزهر تجاه صدور مثلها عن رجل من كبار علمائها الرسميين، وخاطبت شيخ الأزهر مصرحًا له بما كنت أفعله لحفظ شرف الأزهر لو كنت في منصبه؛ ولكنني لا أنشر هذا ولا ما أقمت عليه الدليل من حرصي على كرامة فضيلته واجتنابي مشايعة الجرائد على خوضها فيه. وقلت: إن السيد عاصمًا قال للذي يبيع الرسالة البذيئة في الأزهر: إنني أطلب مائتي نسخة لإرسالها إلى الخارج فأين أجدها؟ قال: عند فضيلة الأستاذ الدجوي، فخطر في بالي أنه ربما كان يريد نشرها في الخارج لأجل فضيحة الأزهر بها؛ ولكن فاعل هذا الانتقام يدخل في عموم {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} (النور: 19) فلهذا نهيته عنه. ثم قلت: ولكن الذي أباليه وأهتم به محصور في مجلة المشيخة، هذه المجلة التي أقمت الدليل في تقريظي لها على أنني أتمنى لو يكون توفيقها لخدمة الإسلام والمسلمين أكبر وأتم مما وفقت له في المنار؛ لأن خدمة المنار لا يُرجى أن تتجاوز عمري وقد دخلت في سن الشيخوخة ولم يبق من العمر إلا قليل، ومجلة نور الإسلام تابعة لهيئة إسلامية غنية يرجى بقاؤها، وأقسمت على صدقي في شعوري هذا، وكادت تغلبني الدموع على الكلام، فدعا لي الشيخ الأكبر ومن معه بطول العمر ودوام التوفيق. ثم قلت: إنه ليحزنني أن يخيب أملي وأمل كل من أعرف من فضلاء الأزهريين وغيرهم في المجلة، بل زارني من لم أكن أعرف من الخطباء الذين يطوفون في البلاد لبث الوعظ والإرشاد من قبل المشيخة، فسمعتهم يقولون إن هذه المجلة أوقعتنا في مشكلة، فنحن ننهى الناس عن البدع ولا سيما بدع المقابر والموالد، ثم تجيء مجلة المشيخة والمعاهد تدافع عن هذه البدع وتتأول لفاعليها بما يعد أعمالهم هذه مشروعة (وذكرت من أقوال أرقى علماء الأزهر فيها ما لا حاجة إلى إذاعته في الصحف الآن) حتى انتهى أمرها إلى نشر المقالتين الأخيرتين في الطعن علي، ولا شك في أنه طعن بسوء النية لما فيه من الافتراء والبهتان وتحريف الكلم في النقل، ولم يترك كاتبهما شبهة ولا خاطرًا يرى أنه يثبت للناس فيه جهل صاحب المنار إلا وكتبه ونشره، حتى أنه يذكر أصغر الأمور التافهة مع التكفير وكبائر الموبقات كتجهيله لصاحب المنار بالنحو لاستعماله كلمة القبوريين وإظهاره لحجته بإيراد قول ابن مالك: (والواحد ذاكر ناسبًا للجمع) . ولا يجهل مثله أن شرط امتناع النسبة إلى الجمع ألا يكون علمًا أو جرى مجرى العلم كالجزائري والمقابري والأنصاري والكرابيسي والمصاحفي، وذكرت أمثلة أخرى من أنساب العلماء والمحدثين، وقلت إن كلمة القبوريين جعلت علمًا على المفتونين ببدع القبور وقد استعمل العلماء هذا في كثير من الكتب المطبوعة ومن أشهرها كتاب (صيانة الإنسان) الذي رد به أحد علماء السند على الشيخ أحمد دحلان في طعنه على الوهابية ويعاد طبعه الآن. ومن الغريب أنه اتهمني بأنني أحل الربا بإفتائي بجواز الانتفاع بالرهن؛ وإنما كانت فتواي بهذا نقلاً لعبارة كتاب المغني في المسألة، وهو أجلّ كتب الفقه أو من أجلّها ولم أزد عليها إلا قولي: ومنها يعلم الحكم في المسألة، وأرى جميع علماء الأزهر يأكلون الربا، والله تعالى قد توعد آكلي الربا بأشد الوعيد لا من ينقل قول أئمة الفقه في الرهن وغيره. قال المفتي: وهل مال الحكومة كله أو أكثره من الربا؟ قلت: إنني لا أعني مال الحكومة المختلط؛ وإنما أعني أن المخصص لميزانية الأزهر والمعاهد الدينية من ميزانية الحكومة العامة يوضع في البنك الأهلي، ويضاف عليه من الربا مثل ما يضاف على سائر ميزانية الحكومة، ومشيخة الأزهر تسحبه من البنك كسائر مصالح الحكومة، فهل كنت أنا الذي أفتيت مشيخة الأزهر بهذا؟ وجرى كلام آخر في حكم المال المختلط من حرام وحلال لا محل لبسطه هنا، وعلمت منه أن المفتي لا يأخذ من الأزهر راتبًا. ثم قال الأستاذ الأكبر إننا اجتمعنا هنا لنضع حدًّا لهذا النزاع والمطاعن بصلح ثابت نمنع به نشر هذه الردود في الجرائد لأنها تُزري بالعلماء. قلت: إنني أكرر ما قلته مرارًا وهو أن لي الحق أن أنشر في مجلة نور الإسلام وفي الجرائد ردًّا على التهم التي افتريت علي ملتزمًا فيه ما وعدت به من تلقاء نفسي قبل الاجتماع لعقد الصلح وبعده من اجتناب الطعن الشخصي في الشيخ الدجوي، وإذا رضيت المشيخة بعزو تلك التهم إلى المجلة من دون ذكره فإنني أرضى بهذا، وقد غيَّرت مقدمة المقال الذي كنت أرسلته إلى رئيس تحريرها بهذه الصفة وأخرجته من جيبي وقرأت لهم أكثرها، فوافقوني على النشر في مجلة نور الإسلام بعد اطلاعهم على ما أكتبه ورؤيته موافقًا لما اشترطته على نفسي فيه وعدم نشر شيء في الجرائد ولا كتابة ما يُعد طعنًا على الأزهر. قلت: إنه ليس من دأبي الطعن على الأزهر ولا على أحد؛ ولكن الكتابة في إصلاح التعليم والتربية في الأزهر وغيره من أهم مقاصدي التي أنشأت المنار لأجلها وهذا معروف فيه منذ 35 سنة. قال المفتي: هذا صحيح ولا يطالبك أحد بترك الكتابة في الإصلاح؛ ولكن إذا عرض لك أن تكتب في إصلاح التعليم في الأزهر فنقترح عليك أن تعرض رأيك أولاً على الأستاذ الأكبر للتشاور فيه، ثم تكتب ما تتفقان عليه - أو قال ما يقرب من هذا - وكانت هذه هي الكرة الثانية التي تَحَيَّزَ فيها فضيلة المفتي إلى جانب المشيخة بما فيه هضم لحقي في حرية الكتابة، وهي لا تقل عندي عن حرية الرقبة. وقد تذكرت بمناسبتها ما رواه لي المرحوم الأستاذ الشيخ أحمد إدريس عضو المحكمة الشرعية العليا عن الأستاذ الإمام في أنه قيل له في الإسكندرية: نرجوك أن تمنع صاحب المنار من الطعن في السلطان والدولة العلية؛ فإن هذا من السياسة وهي ليست من موضوع مجلته الدينية، فقال لهم الأستاذ الإمام: إنني والله لا أعرف أحدًا من الناس أشد استقلالاً في الرأي من صاحب المنار، وكيف أقول له هذا وهو يعلم كما أعلم أن دين الإسلام دين سياسة لا دين عبادة فقط، وكل ما يمكن أن أقوله له في هذا الموضوع إنني رأيت كثيرًا من محبي المنار يسوءهم الانتقاد فيه على الدولة، وإنني أنا أظن أنه غير مفيد لما يرجوه منه، أو ما هذا معناه. بيد أنني أعتقد أن المفتي حسن النية فيما قال، وأنه يريد به الاتصال بيني وبين شيخ الأزهر للتعاون على خدمة الإسلام، فأجبته بما يفهم منه رد اقتراحه بالفحوى، وهو أن رأيي قد يخالف رأي الأستاذ الأكبر في هذا الإصلاح، وأنني ذكرت لفضيلته منذ أشهر رأيي فيما أنتقده على تعليم الأزهر للعقائد وما يجب من الإصلاح له بدار الدكتور عبد الحميد سعيد بحضور كثير من أهل العلم والرأي فلم يرده ولم يقبله، ولعلك تذكر إذ التقينا في هذا المكان العام الماضي وعاتبني الأستاذ الأكبر على عدم زيارتي له قائلاً إننا إخوان ومقصدنا في خدمة الإسلام واحد وإن كنا نختلف في بعض المسائل وذكرت أنت - الخطاب للمفتي - أن من الضروري أن نجتمع ونتعاون على خدمة ا

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال الرابع: مقدمة تاريخية للرد على مجلة مشيخة الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقال الرابع مقدمة تاريخية للرد على مجلة مشيخة الأزهر في تصدي المنار للإصلاح ومقاومة الشيوخ له إن هذا التنازع والتخاصم بين مجلة المنار ومجلة مشيخة الأزهر تنازع في مسائل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وطريق فهمهما ودفع ما يرد عليهما من الشبهات العصرية وما عارضهما من شوائب البدع، فمن حق الأمة أن تعرفه وأن يكون لها حق الحكم فيه، وأرى من المفيد لها في أسباب صحة الحكم أن أقدم على الرد العلمي على مسائل التهم البهتانية مقدمة تاريخية وجيزة في تصدي المنار لإصلاح التعليم والتربية في الأزهر ومقاومة البدع والخرافات في المسلمين وعداوة بعض الأشياخ له حملني عليها استعداء الشيخ يوسف الدجوي مشيخة الأزهر عليَّ في مقالته التي نشرها في جريدة الجهاد يوم الأحد 23 جمادى الآخرة وإغرائه إياها بما يرجوه من سعيها لإسقاط المنار، وهو شيء سعى له هو وغيره من قبل فخاب سعيهم، وقد دونت هذا بالتفصيل في مجلدات المنار وفي الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام رحمه الله. وأذكر هنا حكاية فكاهية في الموضوع لم تُدوَّن من قبل كان قصها عليَّ أحد علماء الجامع الأحمدي خلاصتها أن أحد وجهاء طنطا الموافقين لمذهب المنار في محاربة البدع زار شيخ الجامع الأحمدي في أيام مولد البدوي منذ سنين خلت وكلمه في المنكرات التي تقع في المسجد الجامع وعند ضريح السيد وما يجب عليه من العمل لإبطالها وإنقاذ المسلمين من فضائحها التي يعيرنا بها الأجانب، فوافقه الأستاذ على ذلك ووعده بالسعي لإبطالها بالتدريج، وبعد أن انصرف زار الشيخ رجل آخر من القبوريين فقال له: يا مولانا الشيخ إن مجلة المنار قد فضحتنا بما تكتبه في منكرات الموالد والتوسل بالأولياء وآل البيت فإلى متى أنتم ساكتون عنها؟ فقال له الشيخ: إننا نفكر في تأليف لجنة من العلماء لبيان أغلاط المنار المخالفة للشرع والرد عليها. ثم بلغنا في سنة 1335 أنه قد ألَّف بعض علماء الأزهر جمعية لمثل هذا الغرض الذي كان وعد به شيخ الجامع الأحمدي الذي يُسمى الآن (معهد طنطا) بعد أن أعلن الحرب على المنار اثنان منهم أحدهما الأستاذ الشيخ يوسف الدجوي والآخر المرحوم الشيخ عبد الباقي سرور، فشرعا في نشر مقالات لهما في جريدة اسمها الأفكار، وكانت معركتهما الأولى مسألة من المسائل التي أثارها الشيخ الدجوي في معركته الحاضرة وأشرت إليها في المقالة الأولى وهي أبوة آدم عليه السلام للبشر وما يعارضها من مذهب دارون وقول الأستاذ الإمام إنه إن فرض ثبوت نظريته في تعليل الأنواع؛ فإنها لا تنقض شيئًا من نصوص القرآن القطعية فيظل القرآن فوق كل شيء. فلما رأيت أن مطاعنهما تدل على أنهم يكتبان ما لا يعتقدان وما لا يفهمان بمحض البغي والعدوان، دعوت البادئ منهما وهو الشيخ عبد الباقي إلى المذاكرة والمناظرة في المسألة بالمشافهة ومعاهدة الله على الأخذ بما يظهر من الحق وإلا رفعت عليه قضية إلى محكمة الجنايات، فأبى المناظرة فرفعت القضية وفي يوم الجلسة حضر المحكمة كثير من علماء الأزهر، وانتهت القضية بالصلح الذي ساء أولئك الشيوخ فقالوا له: والله إن الحكم عليك بأشد العقوبات كان يكون خيرًا لك من هذا الصلح المخزي. ولقد كان عفا الله عنه ذكيًّا قريبًا من مذهب المنار الإصلاحي بمقدار بُعد زميله عنه؛ وإنما دفعه إلى الطعن حب الشهرة، وقد عاد بعد أمة من الزمن لما كان سبق له من مودتي، ولما كتبت مقدمة المغني في أسباب خلاف الأمة في الفقه وبيان المخرج من مضاره وما يجب على جميع المسلمين من أحكام الإسلام، وما لا يجب إلا على من ثبت عنده، قال لي إنه لم يكتب مثلها في الإسلام وهي جديرة بأن يطبع منها مئات الألوف من النسخ ويطَّلع عليها جميع طلاب العلم الإسلامي. وخاف الأستاذ الدجوي أن أرفع عليه قضية تنتهي بحكم مهين، أو صلح مخزي مبين، فتوسل إلى بعض أهل الفضل بالسعي لصلح شريف بالجمع بيننا فاجتمعنا واعتذر الأستاذ عما كان يكتبه بأنه كان عن سوء فهم لا عن سوء قصد، وأن سببه أن الذي قرأ له عبارات المنار عرف بعضها وأعرض عن بعض ... إلخ، فقلنا عفا الله عما سلف. ثم إن الأستاذ الدجوي نقض الصلح الأول كما نقض الصلح الأخير في هذه الأيام، وألَّف جمعية للبحث عن هفوات المنار لأجل الطعن والتشهير، وما هو شر منهما من استعداء مشيخة الأزهر والحكومة على صاحب المنار للانتقام منه، وهذا ما يحاوله اليوم بما له من المكانة في هيئة كبار العلماء، والقلم الطعان في مجلة المشيخة الرسمية، وبما للمشيخة من النفوذ في الحكومة. ولكن المشيخة كانت أعقل منه وأعلم بسوء تأثير كلامه وما فيه من العار عليها وعلى الأزهر إذا أقرته، فقد سعت لانتياشه مما تهوك [1] فيه فعجزت عنه فلم تستطع منعه من استمرار الطعن في أثناء المفاوضة في الصلح ولا بعد عقده، لضعفها عن تنفيذ سلطتها الرسمية عليه، حتى أن رئيسها الأستاذ الأكبر أمر بجمع الرسالة البذيئة ووضعها في إدارة المعاهد وصرَّح بتألمه منها فلم ينفذ أمره - كما تقدم - وهو مرءوس له وموظف عنده، وأجدر بعجز الرئيس عن المرءوس فيما هو صريح حقه عليه في قانون الأزهر أن يكون مثار العجب، فهل سببه قوة الإرادة وضعفها، أم هنالك قوة خفية يعتز المرءوس بها، ومن مظاهر هذا العجز أن يكون الغرض من الصلح إقناعه بالكف عن هذه الكتابة التي لا تسلم المشيخة من عارها، بل لا يُعرف في تاريخ الأزهر وسيرة شيوخه مثلها، وأن يكون هذا الصلح بأخذ وثيقة مني بدفن الماضي قبل أن تظهر براءتي من مطاعنه، وأن ترضى المشيخة بجعل الرد عليها وعلى مجلتها دونه، وأن يظل هو مع هذا كله يستعديها علي، ويوجب عليها الانتقام مني، ويصفها بقوله: (وهي المشرفة على جميع المسائل الدينية وصاحبة السلطان على ذويها بنص القانون) كأن قانون الأزهر وُضع للسيطرة على غير أهله، والانتقام لشيوخه من غيرهم بالباطل [2] فكانت المشيخة بسعيها هذا كمن يحاول إنقاذ الغريق فغرق معه، فهي إنما رغبت إلي بأن أنقذها وأنقذه، وقد علمت الأمة أنني واتيت، ثم عجزت بعجزها فانثنيت، وأمسكت عن بيان الحق شهرًا ونصف شهر. وأما هو فرأيي في عداونه الأخير كرأيي في عدوانه الأول سنة 1335، ولولا أن كان عدوانه هذا في مجلة مشيخة الأزهر الرسمية، وأن كان الساعي للصلح معه الأستاذان الأكبران: شيخ الجامع الأزهر ومفتي الديار المصرية، لاجتنبت ذكر اسمه اليوم كما اجتنبته من قبل حفظًا لكرامة الأزهر وكرامتي كما عللت ذلك في وقته، ورأيي في جمعيته واستعدائه اليوم هو رأيي في مثلهما بالأمس، ومنه أن مثلي لا يرد على مثله؛ لأنني لا أستطيع أن أناظره بمثل هجوه الذي أتنزه عن وصفه، لئلا يقال إنني شاركته في شيء منه ولو بتسميته باسمه؛ ولأنه يفتري التهم، ويحرِّف الكلم، ويقول ما لا يعلم وما يعلم خلافه، وذلك لا يمكن أن يكون خدمة للعلم ولا لبيان الحق، وسيرى القراء الشواهد على هذا فيما ننشره من الرد، ولو أنني أعرف كلمة في اللغة أخف من الافتراء والتحريف تؤدي معناهما لما كتبتهما، وأحمد الله أن رضيت المشيخة بجعل الرد على مجلتها لا عليه؛ لأنه يغنيني عن عزو كلامه إليه. وإنني أنقل للأمة في جرائدها ما كتبته بشأن عدوانه الأول في فاتحة المجلد العشرين من المنار الذي صدر في شوال سنة 1335 بعد بيان مذهب المنار في الإصلاح وهذا نصه: كلمة المنار في المجلد العشرين سنة 1335 تلك دعوة المنار، التي رددت صداها الأقطار، فكانت كالبرق المبشِّر بما يتلوه من المطر، في نظر سليمي العقول صحيحي الفطر، وكالصواعق المحرقة على أهل البدع، ومتعصبي الأحزاب والشيع، وقد آذانا لأجلها الظالمون فصبرنا لله بالله، ولم نكن كمن أوذي في الله فجعل فتنة الناس كعذاب الله، وجهل علينا بعض أحداث السياسة المغرورين، وبعض أدعياء العلم الجامدين فقلنا: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ} (القصص: 55) وكاد لنا أعداء الدعوة كيدًا خفيًّا، أضر بنا ضررًا جليًّا، إذ حجب المنار عن كثير من قرائه الأخيار، وحرمنا بذلك وبغيره كثيرًا من المال، وحسبنا أن حمد الدعوة كل من عرفها من طلاب الإصلاح، وأهل الروية والاستقلال. وأما الأزهريون خاصة، فقد كانوا أزواجًا ثلاثة، فقليل من الشيوخ وكثير من الشبان يرون أن المنار من ضروريات الإسلام في هذا الزمان، وكثير من الشيوخ والشبان يكرهون منه حمد الاستقلال وذم التقليد، ورمي جماهير علماء العصر بالجمود والتقصير، والسواد الأعظم منهم مشغولون بأمور معيشتهم، وبمطالعة دروسهم ومناقشات طلبتهم، عن النظر في مثل المنار لتقريظ أو انتقاد، وعن كل ما يتجدد في الدنيا من إصلاح وإفساد. وقد دخل المنار في السنة العشرين، ولم ينتقده أحد من الأزهريين، إلا أنه قام في هذا العام شاب متخرج في الأزهر فنشر في بعض الجرائد الساقطة مقالات سب فيها صاحب المنار وكفَّره، بانيًا ذلك على زعمه أنه أنكر كون آدم أبًا لجميع البشر، على أن المنار قد صرَّح بإثبات هذه الأبوة تصريحات آخرها ما في الجزء الأول من المجلد التاسع عشر، وزعمه أنه فضل شبلي شميل على الخلفاء الراشدين، ويعلم كذب هذا الزعم مما نشرناه في شميل من ترجمة وتأبين، ومن لا يزعه هدي القرآن عن السب والكذب والبهتان، قد يزعه عقاب السلطان، لهذا رفع أحد كبار المحامين عنا أمر هذا الطعن إلى محكمة الجنايات، بعد أن أنذرنا بذلك كاتب المقالات، ونصحنا له بلسان بعض ذوي رحمه وصحبه بأن يستحلنا تائبًا من ذنبه، فلم يزده ذلك إلا إصرارًا على الذنب وتماديًا في الطعن والسب؛ ولكنه جنح في المحكمة للسلم، وطلب هو وصاحب الجريدة من رئيسها الصلح، على أن يعتذرا عما اتهما به من المطاعن الشخصية، ويعترفا باحترام عقيدة صاحب المنار وآرائه الدينية، وأمضيا عبارة في ذلك أثبتت في محضر القضية، وقد قبلنا ذلك منهما، وكان خيرًا لهما لو فعلاه من تلقاء أنفسهما، على أنهما عادا إلى هذيانهما، ولا قيمة عندي لمثل هذا الكلام؛ فإنه مما يقال لصاحبه سلام؛ وإنما ذكرناه في فاتحة المنار التي نشير فيها عادة إلى ما تجدد في تاريخ الإصلاح تمهيدًا لذكر ما قيل إنه ترتب على تلك القضية، من تأليف جمعية أزهرية لأجل البحث عن أغلاط المنار الدينية والعلمية وبيانها للناس وللحكومة المصرية، ذكرت ذلك الجريدة التي وقفت نفسها على الطعن في صاحب المنار، متوهمة أنه سيترتب عليه إبطال المجلة أو إخراج صاحبها من هذه الديار؛ لأن عند أعضاء هذه الجمعية من حقائق العلوم الأزهرية ما ليس عند صاحب المنار الذي تلقى العلم في البلاد السورية، فنقول للواهمين، ولمن يمدونهم في غيهم من المغرورين: إنا نعلم من كنه علم الأزهر ما لا تعلمون، فاعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) . إننا ندعو إلى الله على بصيرة، ونكتب ما نكتب عن علم وبينة؛ ولكننا كغيرنا عرضة للخطأ والغلط، كما هو شأن غير المعصومين من البشر، فلهذا ندعو قراء المنار في كل عام إلى أن يكتبوا إلينا بما يرونه فيه من الأغلاط والأوهام لننشره

نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف ـ 5

الكاتب: محمد بهجت البيطار

_ نداء للجنس اللطيف يوم ذكرى المولد المحمدي الشريف من سنة 1351 في حقوق النساء في الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام تابع لما نشر في الجزء الماضي وما قبله 58- بر الوالدين وتفضيل الأمهات فيه على الآباء أوصى الله تعالى في مواضع من كتابه بالإحسان بالوالدين وقرنه بالأمر بعبادته والنهي عن الشرك به، وأمر بالشكر لهما متصلاً بالشكر له، وخصَّ الأم بالذكر في بعض هذه الوصايا للتذكير بزيادة حقها على حق الأب، ونذكر ههنا أجمعها. قال تعالى في سورة الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} (الإسراء: 23) . (الأفُّ) كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما، ويقال لكل مستخف به استقذارًا واحتقارًا له كما قال الراغب وكذا لكل ما يتضجر منه، يقال: تأفف به: إذا قال له: أف، ومنه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِن قَبْلِي} (الأحقاف: 17) وخصَّ هذا النهي بحالة كبر الوالدين أو أحدهما؛ لأن الكبر مظنة وقوع ما يتضجر منه أو يستقذر منهما، وهو يدل على تحريم ذلك في غير هذه الحالة بالأولى، والنهر والانتهار: الزجر بغلظة وخشونة، والكريم من الأقوال: آدبها وألطفها، ومن الأعمال أنفعها وأشرفها، ومن الأشخاص أفضلهم وأجلهم. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً} (الإسراء: 24-25) . يعبِّر عن العطف في المعاملة بخفض الجناح، وأصله أن الطائر يخفض جناحه لفرخه يقيه به تارة ويعلمه الطيران أخرى، وخفض الجناح من الذل أبلغ من خفضه لأجل العطف، فهذا من رعاية الكبير للصغير ومنه قوله تعالى لرسوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 215) وذاك من عناية الصغير بالكبير، ولم يؤمر أحد به لغير الوالدين، وفي تشبيه ما أمر الولد أن يطلبه من رحمة ربه لوالديه برحمتهما له عندما ربياه في صغره تعظيم كبير لرحمة الوالدين ليتدبر الأولاد ذلك ويعلموا أن رحمتهم لوالديهم في الكبر والتذلل لهما لا يكفي في أداء حقوقهما؛ وإنما عليهم أن يدعوا الله تعالى أن يكافئهما عنهم برحمته التي وسعت كل شيء ولا يعلوها شيء، ذلك بأن رحمة الوالدين للولد في صغره ولا سيما الأم التي تتولى إزالة أقذاره وغير ذلك إنما تكون مع اللذة والرغبة والسرور، ولن تبلغ رحمة الولد بهما هذا الحد. ولما كان بلوغ هذا الحد من البر والإحسان بالوالدين عزيز المنال ذكَّر الله عباده بأن المدار فيه على حسن النية وصلاح النفس، فإن وقع مع ذلك تقصير ما فإنه لا بد أن يُقرن بالتوبة وحسن الأوبة إلى التشمير بعد التقصير، والله تعالى غفور للأوابين أي الكثيري الرجوع إلى الحق والخير كلما عرض لهم ما يصدهم عن المضي فيه أو الثبات عليه. وقال تعالى في سورة لقمان: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المَصِيرُ} (لقمان: 14) . الوهن: الضعف، أي ذات وهن أوتهن مدة حمله وهنًا على وهن بالوحم والأثقال والوضع، وفصاله أي فطامه في انتهاء عامين يكون كل همها فيهما إرضاعه وتغذيته وتنظيفه، والجملتان معترضتان بين الوصية والموصى به وهو الشكر لله الذي خلقه ولوالديه اللذين عُنيا بتربيته ولا سيما الأم التي كانت أكثر تعبًا وعناية به، فقرن شكرهم بشكر الله تعالى وجعله ثانيه للإيذان بأن فضلهما عليه يلي فضل ربه وقوله بعده: {إِلَيَّ المَصِيرُ} (لقمان: 14) تذكير بأن جزاء الشكر وضده في الآخرة لله وحده. {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (لقمان: 15) . هذه الآية أدل على عظم حق الوالدين على الولد؛ فإن الله يأمره بها أن يصاحب والديه المشركين في الدنيا بالمعروف من البر والإحسان إلا في شركهما وما يلزمه من معاصي الله تعالى، فإن جاهداه على أن يشرك بالله تعالى فلا يطعهما لأن حق الله تعالى عليه أكبر من حقهما وتوحيده، وطاعته هي الوسيلة إلى سعادته ونعيمه الذي لا نهاية له، وقوله:] وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [أي واتبع في الدين سبيل من أناب إليَّ من النبيين والمرسلين، ومن اهتدى بهم من المؤمنين دون تقليد الآباء الكافرين قال:] ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ [أي مرجعك ومرجع والديك] فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [عند حسابكم وأجازي كلاًّ بما يستحق، فعليَّ حساب والديك وجزاؤهم لا عليك، والآية نص في البر والشكر للوالدين الكافرين فيما عدا الكفر ولوازمه فهي أرحم مما ينقله النصارى عن المسيح عليه السلام من التفرقة والعداوة بين الوالدين والأولاد. ففي إنجيل متى: (10: 34 لا تظنوا أني جئت لألقي سلامًا على الأرض ما جئت لألقي سلامًا بل سيفًا 35 فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنة ضد حماتها 36 وأعداء الإنسان أهل بيته) . وأما قول الله تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُواًّ لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ} (التغابن: 14) فقد نزلت في قوم من أهل مكة أسلموا فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، ومع هذا فقد قال الله تعالى فيهم: {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التغابن: 14) . وقال في سورة الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ} (الأحقاف: 15) . ثبتت القراءة بلفظ الإحسان ولفظ الحسن، وبفتح الكره وضمه ومعناهما واحد (كالضعف والضعف) وهو المشقة، وهو أقسام منها ما يكرهه الإنسان ويشق عليه طبعًا وإن أحبه عقلاً أو شرعًا وبالعكس كالدواء والصبر على المكاره، ومنه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} (البقرة: 216) وكره الأم لمشقات الحمل والوحم طبيعية لا عقلية ولا شرعية ولا فطرية، وقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} (الأحقاف: 15) معناه أن مدة تعب الأم في حمله إلى فطامه ثلاثون شهرًا، وهو مبني على أن مدة الرضاعة الغالبة 21 شهرًا وهو ما كان عليه الناس في الغالب لا أنه تشريع، إلا تحديد أكثر الرضاعة بسنتين في آية البقرة؛ فإن الأم لا تكلف أن ترضع طفلها أكثر من ذلك؛ لأنه بعد اكتمال السنتين لا يضره التغذي بغير لبنها مما جرت العادة والتجربة بتغذي الأطفال به، ويوجد في هذا العصر من الألبان الحيوانية المجمدة أو المجففة ومن المستحضرات الأخرى (كالفوسفاتين) ما يوافق كل طفل في كل وقت ولم يكن هذا في زمن التنزيل، على أن لبن الأم أفضل وأنفع بإجماع الأطباء. 59- الأحاديث النبوية في وجوب بر الوالدين وتحريم عقوقهما وتخصيص الأم بترجيح حقها جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك) وفي رواية زيادة (ثم أدناك فأدناك) . وفي حديث المقدام بن معد يكرب عند أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن ماجه وصححه الحاكم قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب) . وفي حديث أبي رمثة عند أحمد وأصحاب السنن الثلاثة والحاكم واللفظ له قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: (أمك وأباك ثم أختك وأخاك، ثم أدناك أدناك) فقدم ذكر الأخت على الأخ أيضًا. وفي حديث عائشة عند أحمد والنسائي والحاكم وصححه قالت: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقًّا على المرأة؟ قال: زوجها، قلت: فعلى الرجل؟ قال: أمه) . وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود والحاكم أن امرأة قالت: (يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت أحق به ما لم تنكحي) . وفي حديث أنس عند القضاعي والخطيب في الجامع: (الجنة تحت أقدام الأمهات) وفي معناه ما رواه الطبراني عن طلحة بن معاوية السلمي قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إني أريد الجهاد في سبيل الله، قال: هل أمك حية، قلت: نعم، قال: الزم رجلها فثم الجنة، وقال لرجل آخر مثله: فالزمها فإن الجنة عند رجلها) ورواية أخرى في الوالدين كليهما وأنه قال له: (فالزمهما فإن الجنة تحت أرجلهما) وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: أنه قال لرجل استأذنه في الجهاد: (أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) . هذه بعض شواهد البر، وأما العقوق فقد عدَّ النبي صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين من أكبر الكبائر وخص الأمهات بالذكر فقال: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ومنعًا وهات ووأد البنات [1] وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال) رواه البخاري من حديث المغيرة، وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر - ثلاثًا - قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئًا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور، فما زال يقولها حتى قلنا: لا يسكت) وفي رواية حتى قلنا: ليته سكت، أي لما رأوا من انزعاجه؛ وإنما كررها لعرضة المتهاونين بالدين للاستخفاف بها، بخلاف ما قبلها والحديث متفق عليه. 60- الأحاديث النبوية في الوصية بالبنات والأخوات عن عائشة قالت: (دخلت عليَّ امرأة ومعها ابنتان لها تسأل فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة واحدة فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها، ثم قامت فخرجت فدخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا فأخبرته، فقال: من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار) رواه البخاري ومسلم والترمذي وفي لفظ: (من ابتلي بشيء من البنات فصبر عليهن كن له حجابًا من النار) الابتلاء: الاختبار بما يظهر به التزام الحق والشرع أو عدمه، وكانت العرب كأكثر الناس ي

عدد المسلمين في أنحاء العالم

الكاتب: زكي علي

_ عدد المسلمين في أنحاء العالم 395 مليونًا و758 ألفًا بقلم الدكتور زكي علي المقيم في بلدة مادن - النمسة لا يلبث الباحث في إحصائيات المسلمين في أنحاء العالم أن يبيِّن اختلافًا كثيرًا وخطأ كبيرًا فيما دوَّن الكُتَّاب والجغرافيون الذين عُنوا بوضع إحصاء شامل لعدد المسلمين على وجه الأرض، وجل هؤلاء الكتاب من الغربيين، وقد وجدنا أثناء قيامنا بمثل هذا البحث تضاربًا عظيمًا في الآراء وخطأ شنيعًا في كثير من الأرقام التي ذكرها المدونون حتى في السنوات الأخيرة أمثال المسيو ماسينون المستشرق الإفرنسي والدكتور زويمر وغيرهما، فمعظم تلك الأرقام دُون الحقيقة بكثير، وإن كنا نقرِّر من باب الإنصاف أن معلوماتنا عن عدد المسلمين في كثير من البقاع التي لا يعرف عنها سوى النذر اليسير مثل أواسط أفريقيا ومجاهلها قد وصلتنا عن طرق المبشرين المسيحيين الكاثوليك أو البروتستانت الذين توغلوا في تلك البقاع بقصد الدعاية للمسيحية فالتقوا بالمسلمين هناك، ثم أذاعوا تعدادهم. ومن أمثلة هذا الخطأ أن بعض المؤلفين لا يزال يذكرون أن عدد المسلمين في مصر تسعة ملايين مع أنه في الواقع أكثر من ثلاثة عشر مليونًا، وأن عدد مسلمي أندونيسيا 25 مليونًا مع أن الإحصاء الهولندي الرسمي لها كان 45 مليونًا عام 1920، ثم أصبح 64 مليونًا في الإحصاء الأخير لعام 1930، ويكفي للدلالة على ازدحام السكان بها أنه يوجد 314 شخصًا لكل كيلو متر مربع، ثم عدد المسلمين في شبه جزيرة العرب التي تشتمل الحجاز ونجد والعسير واليمن وعمان وحضرموت وما جاورها والكويت وجزائر البحرين ويقدِّره بعض الكُتاب بثمانية ملايين وهو في الحقيقة يربو على اثني عشر مليونًا [1] ، كذلك الخطأ الفاحش في تقدير عدد المسلمين في أفريقيا فبينما يذكر مصدر فرنسي أن عددهم 45 مليونًا يذكر مصدر ألماني أنه 75 مليونًا غير أن الحقيقة أن المسلمين في القارة الأفريقية يزيد عددهم عن 85 مليونًا كما سنرى فيما بعد معتمدين على الإحصاءات الرسمية الحديثة وأقوال المكتشفين وعلماء الجغرافيا من الأوربيين أنفسهم. ثم إن ما يقال عن أفريقية يصح أن يقال أيضًا عن تعداد المسلمين في الصين فمن العجب أن يرتكب بعض الكُتَّاب غلطة شنيعة فيذكر عددهم بها عشرين مليونًا، في حين أن بعض المنصفين ممن كتبوا حديثًا يذكر أنهم ستون مليونًا أو يزيدون. ويضيق بنا المقام عندما نسترسل في سرد الأمثلة للاستدلال بها على خطأ كثير إنما نذكر من بين أسباب هذا الخطأ اعتماد بعض الكتاب في إحصائياتهم على مصادر كُتبت منذ عشرات السنين مع أن عدد السكان في ازدياد مطرد، ثم العوامل التي حدت بهم إلى وضع ذلك التعداد وأكثرها عوامل دينية للمقارنة بين الإسلام والمسيحية لأغراض تبشيرية فتمالوا عن ذكر الحق وذكروا أرقامًا هي أقل بكثير من الحقيقة وانتهوا إلى أن عدد المسلمين في العالم يتراوح بين 200 و520 مليونًا فقط، فلذلك لم نجد بدًّا من التحرير الدقيق للتعداد الحقيقي ويجدر بنا في هذا المقام التنويه بمقال مسهب كتبه الأمير شكيب أرسلان في مجلته الفرنسية (لانسيون آراب) محص فيه الحق في هذا الصدد كما صحح كثيرًا من الأغلاط التي وردت في إحصائيات الأوروبيين بالدليل القاطع. وسنذكر فيما يلي تفصيل عدد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مستندين إلى أحدث الإحصائيات المضبوطة في الممالك التي يوجد فيها تعداد رسمي، أما البلاد الإسلامية التي تفتقر إلى إحصاءات رسمية، أو البلاد العربية التي يوجد فيها أقليات إسلامية فقد اعتمدنا على المعلومات الصحيحة التي استقيناها من الهيئات والجمعيات الإسلامية ذوات النفوذ فيها والتي تعتبر أوثق المصادر، وها هو ذا البيان: أفريقيا مصر والسودان 18 مليونًا وخمسمائة ألف نفس. طرابلس: 885 ألفًا. تونس: مليونان. الجزائر: خمسة ملايين. مراكش: ثمانية ملايين. الصحراء الكبرى: ثلاثة ملايين. الحبشة: أربعة ملايين. الصومال وإرتريا: مليونان وخمسمائة ألف نفس. زنجبار: ثلاثمائة ألف. كنيا وأوغندة وتنجانيقا: ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف. موزنبيق: ثلاثمائة وخمسون ألف نفس. مدغشقر: سبعمائة ألف. جزر الاتحاد وسيشل وموريس: 65 ألف نفس. جنوب أفريقيا: أربعمائة ألف نفس. الكنغو البلجيكية: ثلاثمائة ألف نفس. الكمرون وتشاد: مليون وخمسمائة ألف نفس. سوكوتو: 15 مليونًا. ليبر: مليون ومائتا ألف. النيجر: مليونان وخمسمائة ألف. ساحل العاج: مائتان وخمسون ألفًا. ساحل الذهب: تسعون ألفًا. نيجيريا البريطانية: تسعة ملايين وخمسمائة ألف. داهومي: مائة ألف. غينا الفرنسية: مليونان ومائة ألف. فوتاجالون: خمسمائة وخمسون ألفًا. السنغال: مليون نفس. السودان الفرنسي: ثمانمائة ألف. غينا البرتغالية: سبعون ألفًا. غمبيا البريطانية مائة وخمسون ألفًا. سيراليون: ثمانمائة ألف. مجموع هؤلاء 86 مليونًا ومائة وعشرة آلاف من النفوس. آسيا شبه جزيرة العرب: 12 مليونًا. سوريا ولبنان: ثلاثة ملايين. فلسطين وشرق الأردن: مليون. العراق: ثلاثة ملايين وخمسمائة ألف. تركيا (آسيا وأوروبا) : 14 مليونًا. إيران: عشرة ملايين. أفغانستان: تسعة ملايين. الهند: 87 مليونًا. الصين: 75 مليونًا. روسيا (آسيا) : 25 مليونًا. سيام: خمسمائة ألف. أندونيسيا والملايو: 66 مليونًا. ومجموع هؤلاء 306 ملايين نفس. أوروبا روسيا (أوروبا) : ستة ملايين. يوغوسلافيا: مليونان. ألبانيا: تسعمائة ألف. بلغاريا: ستمائة وتسعون ألفًا. رومانيا: ثلاثمائة ألف. فرنسا: مئتا ألف نفس. اليونان: مئة وثمانون ألفًا. إنجلترا: ثلاثون ألفًا. بولنده ولتوانيا: عشرون ألفًا. أسبانيا: عشرون ألفًا. المجر: خمسة آلاف. البلجيك: خمسة آلاف. إيطاليا: أربعة آلاف. ألمانيا والنمسا: ألفان. قبرص: 62 ألفًا. رودس: 12 ألفًا. كريت: 28 ألفًا. مجموع هؤلاء عشرة ملايين وأربعمائة وثمانية وخمسون ألف نفس. أمريكا وأستراليا والفلبين الولايات المتحدة: 12 ألفًا. المكسيك: ألف نفس. البرازيل: 25 ألفًا. الأرجنتين: ثمانية آلاف. غيانة البريطانية: عشرون ألفًا. غيانة الهولندية: 40 ألفًا. غيانا الإفرنسية: عشرون ألفًا. ترينداد: 18 ألفًا. جميكا: ستة آلاف. كوبا: أربعون ألفًا. جزر الفلبين وأستراليا وجزر الأوقيانوس: مليونان. الخلاصة أفريقيا: 86 مليونًا و 110 آلاف. آسيا: 306 ملايين. أوروبا: 10 ملايين و 458 ألفًا. أمريكا: 190 ألفًا. أستراليا والفلبين: مليونان. فالمجموع الحقيقي لعدد المسلمين في العالم كله: 404 ملايين و 758 ألفًا. (المنار) الأقرب إلى الصواب أنهم 420 مليونًا أو يزيدون.

الشيخ محمد توفيق البكري الصديقي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ محمد توفيق البكري الصديقي في شهر ربيع الآخر لاثنتي عشرة ليلة منه توفي عين الأعيان، ونادرة الزمان، المِعنّ المفن، ومُزن الأدب المرجحنّ، الذي كان له في كل جو متنفس، ومن كل نار مقتبس، عميد أرفع بيوتات المجد الديني الدنيوي في مصرعمادًا، وأرسخها في الحسب والنسب أوتادًا، صاحب السماحة الشيخ محمد توفيق البكري الصديقي، بعد مرض عصبي طال عليه الأمد، وحجبه بضع عشرة سنة عن مخادع رجال السياسة ومحافل العلم والأدب، قضى معظمها في مستشفى بيروت المعروف بالعصفورية، وعاد منذ بضع سنين إلى القاهرة، فانقطع في مكتبه للمطالعة والكتابة، زاهدًا في المزاورة والمحاضرة والمناظرة، على أنه وهو لم يُبلَّ من مرضه كل الإبلال، ظل حاضر الذهن، قوي الذاكرة، صائب الرأي، صحيح الحكم، فيما يخوض فيه من مسائل الأدب والعلم؛ وإنما كان يعثر فكره ويأفن رأيه في أمر واحد سياسي هو الذي كان سبب مرضه ذاك، فقاتل الله السياسة وفتنها، فهي التي أضاعت عليه وعلى الأمة الانتفاع باستعداده النادر في مركزه الرفيع. لقد أوتي محمد توفيق من ذكاء الفؤاد ولوذعية الذهن ما يخبو دونه تلذُّع ذُكاء وتلظيها، ومن السبق إلى المعالي ما تكبو في غاياته جياد الهمم سابقها ومصليها، فكان كما قال الشاعر: وقاد ذهن إذا جالت قريحته ... يكاد يخشى عليه من تلهبه أخذ حظًّا من التعليم العصري واللغة الفرنسية في مدرسة الأنجال الخديوية، وأصاب ذروًا من الفنون العربية والشرعية من علم الأزهر، وقبس جذوة من الحكمة بصحبة الأستاذ الإمام وحضور دروسه الخاصة في جامع عابدين، وتلقى غريب اللغة وآدابها عن إمامها في هذا العصر العلامة الشيخ محمد محمود الشنقيطي الكبير، فكتب من إملائه أراجيز العرب وشرح غريبها، ونظم الشعر، وأتقن النثر، وصنَّف الكتب، وكانت داره (سراي الخرنفش) مثابة للوجهاء والكبراء وناديًا للعلماء والأدباء، ونزلاً لإقامة المآدب للفضلاء والغرباء. وكان حظيًّا عند أمير البلاد عباس حلمي باشا، ووجيهًا عند لورد كرومر عميد الاحتلال البريطاني المسيطر على الحكومة المصرية، حتى إنه كان يزوره بداره، وولاه الخديوِ نقابة الأشراف ورياسة مشيخة الطرق الصوفية، وسافر إلى الآستانة، فنال من عطف السلطان عبد الحميد أن وجه إليه رتبة قاضي عسكر الأناضول العلمية العالية، وبعض الأوسمة السامية، فماذا عسى أن يطلب من المجد الطريف على مجده التليد فوق هذا؟ بيد أن هذا كان حملاً ثقيلاً، بل أوزارًا ثقالاً على شاب نحيف الجسم عصبي المزاج مترف المعيشة، حريص على بلوغ الغاية من حظوظ الحياة المادية والمعنوية؛ وإنما جنت عليه السياسة فأفكته عن كل ما كان يرجى منه من خدمة لأدب اللغة التي كان يميل إليها بطبعه، وإصلاح لطرق الصوفية التي كان متمكنًا منها بمنصبه، وقد اجتهدت في ترغيبه فيها منذ عرفته عقب استقراري في مصر سنة 1315 وسألمَّ بهذا فيما أكتبه من ملخص ترجمته. وإنما أقول هنا في خبر وفاته وتشييعه: إن مصر قد قصَّرت تقصيرًا منتقدًا في تشييعه، فكان كتشييع رجل من الطبقة الثانية أو الثالثة من الوجهاء، قصَّرت الحكومة فيه فلم يحضره وزراؤها، وكان في منصب وزير أو أكبر؛ وإنما حضره سعادة محافظ القاهرة، وقصَّر علماء الأزهر فلم يشيعه أستاذهم الأكبر رئيس المعاهد ولا مفتي الديار المصرية ولا هيئة كبار العلماء الرسمية ورؤساء الكليات؛ وإنما شيَّعه منهم بعض أصدقاء بيتهم الأوفياء كالأستاذ العلامة الشيخ حسين والي، وقد كان يحمل من الرتب العلمية وكسى التشريف الرسمية ما لم يصل إليه أحد منهم، إذ كانت رتبته العلمية السلطانية (قاضي عسكر أناضول) تلي رتبة شيخ الإسلام وطبقته، وهي رتبة قاضي عسكررومللي، وقصَّر في تأبينه الخطباء، وفي رثائه الشعراء، وهو في مكانته من حملة الأقلام ومجيدي النظم والنثر؛ ولكن دولة القلم دخلت في هذه السنين الذي احتجب فيها عنهم في طور جديد صار فيه مثله على كونه من الطراز الأول مرغوبًا عنه، كما سأبيِّنه بعد، وأبيِّن أنه ليس بعذر في تقصير طبقات مصر العليا في الحفاوة بتشييعه وتأبينه، ومن لا قديم له يُحفظ، فليس له جديد يفتخر به. فرحم الله الشيخ محمد توفيق البكري وأحسن عزاء خليفته وابن أخيه صاحب الفضيلة الشيخ عبد الحميد البكري وآل البكري وبقية بيوتات المجد عنه.

أحمد شوقي بك أمير الشعراء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحمد شوقي بك أمير الشعراء في صبيحة 14 جمادى الآخرة قضى نحبه أحمد شوقي بك الذي كان يُلقَّب شاعر الأمير فأمير الشعراء، ولعل صديقه الأمير شكيب أرسلان الملقَّب بأمير البيان هو أول من أطلق على شوقي هذا اللقب بقوله في آخر قصيدة له ألقيت في الحفلة التي أقامها أدباء السوريين ووجهاؤهم بمصر لمحمد حافظ إبراهيم يخاطب حافظًا: فأنت أمير النثر غير منازع ... وأنت أمير الشعر من بعد أحمد مات حافظ إبراهيم شاعر النيل الاجتماعي، ورثاه في حفلة الأربعين أحمد شوقي بك فذكر في رثائه أنه كان يتوقع أن يكون مَرْثيه لا راثيه، ولم يلبث أن مات فجأة بعد ذلك بقليل، فقبل أن ترقأ دموع عالم الأدب العربي التي كانت تترقرق حزنًا عليه، وقبل أن يقضي شعراؤه لبانتهم من رثائه، فجأهم فقد شوقي، فكان المصاب بالبدء في سيادة الشعر ثانيًا للمصاب بالثنيان [1] في الزمن؛ ولكنه صار الأول في شدة الحَزن، والمقدم في لوعة الشجن، فأكبر الأدباء به الخطب، وتضاعف الأسف في الشرق والغرب؛ فإن شهرة شوقي أكبر، وعشاق شعره أكثر، ذلك بأنه طرق جميع أبواب الشعر القديمة والحديثة ففتحت له أغلاقها، وكان له السلطان الأعلى على أرواح عشاقها، بما أجاد في كل فن من فنونها، إلا الهجاء والمجون فقد نزَّه شعره ولسانه عنهما. فبتنا نوجس خيفة على دولة الشعراء، وندعو لكبارهم في مصر بطول البقاء، وأن لا يكون هذا موسم الرحيل لشيوخ الأدباء، فقد تناثر من سلكهم ثلاثة متقاربون في العمر، حافظ فالبكري فشوقي، وسبقهم في هذه السنة الشيخ عبد المطلب شاعر البداوة في الحضارة رحمهم الله تعالى، وسنعود إلى الكلام عن شعره في جزء آخر. كان حافظ يظن - بل يقول - منذ ثلث قرن: مكانة شوقي من أمير البلاد كانت ترفع شعره إلى أعلى مما يستحقه؛ ولكن شعر شوقي علا بعد دولة ذلك الأمير بنفسه، فوق ما علا به في عهده، حتى علم أن قربه من الأمير كان سببًا لوقفة في استعداده حالت دون الوثبة التي وثبها بعد إخراج الحرب العالمية إياه من قفص قصر عابدين، حتى أن حافظًا بايعه بإمارة الشعراء في الحفلة العامة التي أقيمت له في دار الأوبرة الملكية. ونقول اليوم: إن الزمان الذي كان يرتفع فيه قدر العالم والأديب والشاعر بانتمائه إلى أمير أو ملك قد مات ودفن، وحيَّ أو بعث الزمان الذي يرتفع فيه قدر الشاعر بشعره، وقرب الزمن الذي تعلو فيه درجة العالم بعلمه، فإن كان المتنبي خلد من ذكر سيف الدولة ما لم يخلده حسامه وسلطانه، وكان ابن دريد قد انتاش ابني ميكال من موت الذكر بعد موت الجسد، فوق انتياشهما إياه من ضعة الفاقة والخمول كما قال في مقصورته الخالدة من أبيات أذكر منها قوله: نفسي الفداء لأميري ومن ... تحت السماء لأميري الفدا هما اللذان أثبتا لي أملاً ... قد وقف الناس به على شفا تلافيا العيش الذي رنقه ... صرف الزمان فاستساغ وصفا وقلداني منة لو قُرنت ... بشكر أهل الأرض عني ما وفى بالشعر من معشارها وكان كالـ ـحسوة في آذيّ بحر قد طما فكذلك شوقي قد يحفظ من ذكر عباس حلمي ويخلد من صيته ما لا تحفظه له إمارته ولا ثروته اللتان تمتع شوقي في ظلهما الوارف حقبة من الزمن، إلا أن يعمل الأمير للأمة بهذه الثروة الواسعة، وما أوتي معها من الذكاء والهمة، عملاً علميًّا إصلاحيًّا كبيرًا، ورب مائة ألف جنيه ينفقها عباس في أثر باق تعجز أن يمدح بها ويخلد ذكره بمثل قول شوقي له من قصيدة في ديوانه الأول: عباس إنك للبلاد وإنه ... لم يبق غيرك من يقول بلادي ولكن للعباس فضلاً على شوقي في شاعريته، يربو ربًا مضاعفًا على فضله عليه في جاهه وثروته، إذ كان هو العون على تعليمه وتربيته، وتثقيف عقله وخياله كما شرحه شوقي في مقدمة الشوقيات، وسأقفي على هذه الكلمة في تأبينه بكلمة أخرى أرجو أن أجد فيها متردمًا يغادره الشعراء والمؤبنون الكثيرون له رحمه الله تعالى وعزى أنجاله وسائر آله، والشعراء من رعيته.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت (س57-60) بسم الله الرحمن الرحيم حمدًا لله العلي العظيم، وصلاة وسلامًا على رسوله الكريم: حضرة العالم العلامة والمدقق الفهامة الأستاذ الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغرَّاء حفظه الله تعالى وأدامه نصرًا للدين وخذلانًا لأعدائه الملحدين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فألتمس من فضيلتكم أن تتكرموا بالجواب على ما يأتي في مجلة المنار الغراء ولكم جزيل الشكر. س1: هل يجوز دفع زكاة المال أو زكاة الفطر لجمعية خيرية إسلامية تنفق ذلك على بناء المستشفيات، وعمارة المساجد وفتح المدارس، وشراء أطعمة وألبسة وكتب وغيرها لأولاد فقراء المسلمين أم لا؟ س2: رجل أوصى قبل وفاته بأن يُصرف على تجهيزه، وختمته، وأسبوعه وأربعينه، أربعين ليرة عثمانية ذهبًا، والعادة عندنا في بيروت أن في اليوم الثالث من الوفاة يسمونه ختمًا، واليوم السابع، والأربعين منها تولم الولائم، ويدعى إليها الفقراء وغيرهم صدقة عن الميت برضا الورثة، فهل تُنفذ وصية هذا الرجل بعد وفاته أم لا؟ وما هي النصوص التي تعتمدون عليها في الجواب؟ س3: إن كثيرًا من شبان هذا العصر الذين تعلموا بمدارس أجنبية، إن أمرتهم بإقامة الشعائر الدينية كالصلاة وغيرها أو نهيتهم عن منكر يفعلونه، ردوا على آمرهم وناهيهم بقولهم: (المدار على القلب، نق قلبك من النيات السيئة تكن مؤمنًا ناجيًا، والله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) فما هو الرد الشافي على أمثال هؤلاء والمقنع لهم المدحض لأقوالهم، وما رأي فضيلتكم فيهم؟ س4: إن مديرًا من مديري المدارس الخيرية الإسلامية في بيروت ألقى خطابًا في مدرسة تبشيرية، دعا الناس إلى إحلال العامية محل الفصحى لغة القرآن الكريم، أو تسكين أواخر الكلمات العربية، لصعوبة تعلم تلك اللغة وإعرابها على زعمه فهل ينم خطابه هذا عن شيء في نفسه يا ترى؟ وما مبلغ دعواه من الصواب؟ وما رأي فضيلتكم في ذلك؟ أفتونا وأفيدونا مأجورين من رب العالمين، ودمتم مقصدًا للقاصدين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ذي القعدة سنة 1348 ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... سعد الدين خضر الأدلبي أجوبة المنار بالاختصار (57) إعطاء الزكاة لجمعية خيرية: إذا علم المزكي أن الجمعية الخيرية الإسلامية الذي يعطيها زكاته تنفقها في مصارفها الشرعية على علم - كان إعطاؤه إياها جائزًا مع إعلامها بأنها زكاة وتوكيل مديرها مثلاً بصرفها في مصرفها الشرعي، وربما كان خيرًا له من تكلف توزيعها على المستحقين بنفسه لصعوبة تمييزه للمستحق من غيره إلا أن يكون في ذوي القربى له من يستحقها، وهو ممن لا تجب عليه نفقتهم فتقديمهم على غيرهم أفضل، وينبغي أن يعلم أن زكاة الفطر قد شرعت لإغناء الفقراء عن السؤال في يوم العيد وهو يوم ضيافة الله عز وجل للمؤمنين فلا يجوز تأخيرها عن يوم العيد لإنفاقها على تلاميذ مدارسهم الفقراء بعده، فإن كان المزكي يعلم أن للجمعية نظامًا لإيصال زكاة الفطر إلى فقراء البلد لينفقوها في يوم العيد فذاك، وإلا فليوزعها بنفسه أو من ينوب عنه ممن يثق بهم من الخدم أو غيرهم. *** (58) تنفيذ وصية الميت: تنفيذ وصية الميت بما خصصه من المال لتجهيزه ودفنه والصدقة المشروعة واجب بإجماع المسلمين؛ وإنما تكون الوصية شرعية إذا كانت لا تتجاوز ثلث ماله ولم تكن في محرَّم (كوصية امرأة مصرية فاسقة في هذا العام أن تُضرب عندها يوم موتها المعازف وأن تسقى المعزيات عنها الخمر) وأولياء الميت المنفذون لوصيته هم الذين يجب عليهم تنفيذ وصيته على الوجه الشرعي الذي أراده بها دون ما خالفه، فإن خفي عليهم أمر التوفيق بين لفظه والعادات المألوفة في بلده فعليهم أن يسألوا الفقهاء عن تفصيل ذلك، والحكم يختلف باختلاف لفظ الوصية وطريقة تنفيذها. *** (59) شبهة الإباحيين في ترك شعائر الدين: إن ما ذكرتم عن هؤلاء الشبان المتفرنجين جهل فاضح خلاصته أن الدين الذي ينجو به الإنسان من عذاب الآخرة ويستحق به نعيمها الخالد عبارة عن أمر سلبي باطني، وهو ألا ينوي السوء والشر، ولم يوجد دين في الأرض يقول بهذا؛ وإنما الدين إيمان وعمل صالح ونية صالحة في العمل بأن يكون لمرضاة الله وما شرع العمل لأجله من تزكية نفس العامل وتحليتها بالفضائل ومنفعة عباده في مثل الزكاة من الأعمال المتعدية الفائدة، فمن استحل ترك الصلاة أو غيرها من أركان الإسلام فهو كافر بإجماع المسلمين، وكذا من استحل شيئًا من المحرمات القطعية كالزنا والسُّكر وأكل أموال الناس بالباطل. قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) ... إلخ الحديث المشهور، وهو في أول صحيح البخاري فمن لا عمل له لا نية له إلا أن ينوي عملاً، ثم يصرفه عنه العجز أو عذر آخر، ومن كان عمله الديني للرياء والسمعة وهوى النفس فهو منافق لا ينفعه عمله؛ وإنما ينفعه إذا كان يعمله اتباعًا مخلصًا لله فيه، ويؤيد هذا المعنى المفصل في تتمة الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) وهو في صحيح مسلم، والمراد أن مدار قبول العبادات كلها على الإخلاص في الأعمال وصدق النية لا على الظواهر العملية التي تقع من المنافق والصادق، والمرائي والمخلص، وهؤلاء المتفرنجون الإباحيون ظواهرهم قبيحة وبواطنهم أقبح، ولا يعتد بإسلامهم إلا بإقامة أركان الإسلام وترك نواهيه، حتى إذا ما زل أحدهم فترك واجبًا أو فعل محرمًا تاب إلى الله تعالى. وأمر السوء والشر الذي حصروا الدين في عدم نيتهما تختلف آراء الناس وأهواؤهم فيه حتى قال بعض المفسدين من كتبة مصر إن العفة ليس لها معنى ثابت فهي تختلف باختلاف الزمان، فظهور المرأة عارية للرجال وسباحتها معهم في البحار ورقصها معهم في الملاهي كانت تعد في الأزمنة الماضية رذيلة منافية للعفة والفضيلة، وهي تعد الآن من فضائل المدنية بزعمهم، بل استحسنوا الجهر بالفواحش التي يخفيها جميع البشر بداعية الفطرة وسموها الأدب المكشوف، وجملة القول إن الإسلام هو العمل الصادر عن الإيمان والإذعان النفسي لما ثبت في الشرع من الأوامر والنواهي، وهو يستلزم الإخلاص وحسن النية. *** (60) من دعا الناس إلى استبدال العامية بالعربية الفصحى ... إلخ: إن كان المدير الذي أشرتم إليه يدعو إلى أن تُجعل العامية لغة القراءة والكتابة أو يترك الإعراب منها، فهو إما جهول لا يعقل مصلحة الأمة العربية في دينها ولا دنياها، وإما سيئ النية يخدم الأجانب في إضعاف هذه الأمة وإفساد أمرها عليها، إلا إن كان يقصد بذلك الكلام المعتاد فله عذر ما، وهذا الذي نظنه وقد يكون الناقل مخطئًا في الفهم. *** معجزات المولد النبوي والشبهة على المعراج (س61) من حضرة صاحبي الإمضاء في يافا (فلسطين) تأخر: صاحب الفضيلة مولانا العلامة الأكبر الشيخ رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فلا يخفى على فضيلتكم تطور الحالة المدنية وانتشار العلوم العصرية من طبيعية وفلسفية في الأصقاع الإسلامية. وبما لفضيلتكم علينا من فضل التربية العقلية والتثقيف العلمي رأينا من الضروري أن نتشرف برفع هذا الاستفهام إليكم؛ وإننا على يقين من أنكم ستلبون طلبنا وتتكرمون بإجابتنا إلى ملتمسنا خدمة للدين وتطبيقًا للعلم على العلوم العصرية في هذين الأمرين المهمين اللذين هما من مباني الدين الحنيف حتى تكون سلاحًا في يدنا لينتفع بكم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها آمين. ينقسم هذا الاستفهام إلى شقين: الأول: عن المولد الشريف ما سبقه من البشائر والعلامات، وما لحقه من المعجزات وتأييد ذلك بالبراهين العقلية والنقلية إجمالية أو تفصيلية. الثاني: عن الإسراء والمعراج، وبنوع خاص نظرية الصعود واختراق السماوات وقابليتها للالتئام وإمكان اختراق الجو مع عدم وجود الهواء في الفضاء أكثر من سبعة أميال وما رآه المصطفى صلى الله عليه وسلم في طريقه. هذان الأمران اللذان ينكرهما الطبيعيون والماديون، وإن سلَّم بعضهم بشيء منها وأنكر بعضها، كما نرجو من فضيلتكم أن تتفضلوا بالإجابة في زمن يسمح لنا بالاستعداد قبل دنو شهر الميلاد، أو أن ترشدونا إلى الكتاب أو الكتب التي يمكننا الانتفاع منها في هذا الشأن والاسترشاد بها والله يحفظكم. محمد فهمي غريب ... ... ... ... ... م. فوزي الإمام الواعظ العام بجامع يافا الكبير ... ... إمام وخطيب جامع يافا الكبير الجواب (61) ما يذكر في قصص المولد النبوي من البشارات والعلامات وما يختص به من المعجزات لا تؤيده براهين عقلية ولا نقلية؛ ولكن هنالك روايات آحادية ليس فيها حديث مرفوع، ومنها الضعيف والموضوع، وأكثرها مراسيل وإسرائيليات منكرة أشهرها في هذه القصص ثلاثة آثار طويلة فيما وقع أثناء حمله وعند ولادته صلى الله عليه وسلم من العجائب، وقد قال السيوطي في الخصائص الكبرى: (إن فيها نكارة شديدة ولم أورد في كتابي هذا أشد نكارة منها، ولم تكن نفسي لتطيب بإزائها لكني تبعت الحافظ أبا نعيم في ذلك) فإن شئتما قصة المولد من ذلك مقتصرة على الصحيح فعليكما برسالتنا (ذكرى المولد النبوي) ففيها غناء، وفي مقدمتها تفصيل لحكم الاحتفال بالمولد وتاريخه، وما فيه من بدع، ولها مختصر يقرأ في الحفلة الرسمية بمصر وفي غيرها. (62) الإسراء ثابت بنص القرآن فهو قطعي والمعراج روي من طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما تدل جملتها على صحة أصله على ما فيها من التعارض والاختلاف في كونه وقع في اليقظة أم في المنام، وهما على كل حال من الأمور الغيبية الخارقة للعادة، ويقربهما من العقل أن روح النبي صلى الله عليه وسلم كان لها السلطان على جسده في تلك الليلة، فلطفت جسده الكثيف فكانت كالجسد الذي كان يتمثل به الروح الأمين في صورة دحية الكلبي فأمكنها أن تعرج معه بمثل قوته التي لا تقل عن قوة الكهرباء، وبهذا التقريب تسقط شبهة حدود الهواء، وأما شبهة اختراق السماوات فيقال فيها إن الوصول إلى السماوات السبع وتجاوزها لا يقتضي اختراقها؛ وإنما كان هذا شبهة لعلماء الهيئة اليونانية الذين كانوا يزعمون أن الأفلاك التي ركبت فيها الدراري والنجوم أجسام صلبة شفافة لا تقبل الخرق والالتئام بطبعها، وظن بعض علماء الشرع أن هذه الأفلاك المزعومة هي السماوات، وقد أبطل علم الهيئة هذا الزعم من أساسه؛ وإنما السماوات المذكورة في حديث المعراج من عالم الغيب تسكنها الملائكة وتعرج إليها أرواح الأنبياء عليهم السلام، وقد سبق لنا تفصيل هذه المسألة في المنار من قبل. وإن هنا قاعدتين لا ينبغي أن تغيبا عن مسلم: (1) أن كل ما ثبت في الكتاب والسنة من خوارق العادات، فالواجب على المسلم قبوله على ظاهره ما لم يقم برهان قطعي حسي أو عقلي على استحالة ظاهره فيؤول (2) أن كل ما أخبر به الوحي عن عالم الغيب لا يقاس على عالم الشهادة ولا يشترط في قبوله موافقة سنن هذا العالم وعاداته، ومعجزة الإسراء والمعراج من الخوارق الروحانية الغيبية، وليست من المحال الذي يقول علماء الكلام إن قدرة الله لا تتعلق به، وقد فصلنا مسألة الخوارق في التفسير مرارًا آخرها تفسير هذا العام، و

نموذج من كتاب الإنجيل والصليب

الكاتب: عالم كبير من قسوس الآشوريين هداه الله للإسلام

_ نموذج من كتاب الإنجيل والصليب لعالم كبير من قسوس الآشوريين هداه الله إلى الإسلام الباب الثاني غرض الإنجيل وموضوعه (الإسلام) و (أحمد) المبشِّر لوقا يبشر (بالإسلام) و (بأحمد) لننظر الآن في التأويل والتفسير الحقيقي للفظ إنجيل الذي يبشر بالسعادة الحقيقية، وماذا يحتمل أن يكون المقصد من كلمة (أمل) أو (ملكوت الله) ؟ فإذا انكشف هذا السر نكون قد فهمنا روح الإنجيل ولبه، أسأل الله تعالى أن يمن على هذا المؤلف الأحقر بأن يجعل له نصيب الفخر بكشف هذه الحقيقة التي تعدل الدنيا وما فيها بأهميتها العظمى وقيمتها التي لا يساويها شيء، مع أنها وياللأسف لم تزل حتى الآن مجهولة لدى كل من المسلمين والمسيحيين وتمحيصها من التحريفات والتأويلات الفاسدة، وإبرازها بتمامها وصفائها بالأدلة القاطعة والبراهين المسكتة بصورة صريحة واضحة بحيث يفهمها كل أحد. وها أنذا أتحدى بإعلان وإظهار هذه الحقيقة جميع العالم وكافة روحانيي النصارى، وأشهر أساتذة الألسنة والعلوم الدينية في دور الفنون الموجودة في العالم المسيحي، تسلية لقلوب المسلمين، وتثبيتًا لإيمان الموحدين، الذين أصيبوا بأنواع المصائب، وأمسوا هدفًا للتحقير والطعن في هذه الأيام الأخيرة، وها أنذا أفتتح كلامي بالحمد والشكر وتحياتي مع روحي وحياتي مشفوعة مع شهادة أن لا إله إلا الله، تلك الكلمة الطيبة كلمة التوحيد والإيمان الصحيح تقربًا إلى الله الواحد الأحد، مكون الكائنات، وواهب العقول والأفهام، المطلع على خفايا السرائر والنيات، جل جلاله، وخدمة لدين حبيبه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم، فإني قد عاهدت الله عز اسمه بأن أقف نفسي على خدمة هذا الدين المبين وخدمة أمته المظلومة، والدعاء لها، والله ولي الإجابة والتوفيق، بعد هذا أقول: جاء في لوقا أنه ظهر في الليلة التي وُلد فيها المسيح عليه السلام للرعاة الذين كانوا في البرية جمهور من الجنود السماوية يترنمون بهذا النشيد: (لوقا: 14) (الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد [1] ) . إن الذي فتح عيني هذا المحرر الفقير، ووهب له مفتاح أبواب خزائن الإنجيل وكان له دليلاً في تتبع الأديان الأخرى، وإنعام النظر في الإنجيل مرة أخرى، هو هذه الآية: آية الآيات الإلهية. إني مطمئن بأن هذه الآية الجليلة ستبعث اليقظة مع الحيرة والدهشة في قلوب كثير من المسيحيين كما وقع ذلك لي؛ لأني واثق بأنه يوجد في هذه الملة اليوم أناس كثيرون بُرآء من التعصب والسفسطة، وأنهم لا يتأخرون عن الإذعان والتصديق للكلام الحق، ولا يترددون في قبول الفكر الصحيح وقتًا ما. كيف ترجموا هذه الآية؟ كلما تقدمت في هذا المؤلف الوجيز تزعجني هاتان الواهمتان، الأولى: هل يوجد من يشعر بأني راغب في اكتساب الشرف والعظمة بنقد المفسرين والمترجمين؟ والثانية: هل أنا مصيب في ترجمتي وعلى حق في تفسيري؟ إن في مكتبة هذا العاجز نسخة من الكتاب المقدس بالعبرانية، ونسخة من ترجمته بالسريانية الجديدة، ونسخة ثالثة بالتركية مع نسخة من الإنجيل والتوراة باليونانية، ولم أجد ما أحتاج إلى مراجعته من المؤلفات في مكتبة بايزيد العامة لإكمال هذا العمل النافع، فأنا مضطر إلى الاكتفاء بما عندي من هذه الكتب على أنه ليس في المطبعة حروف عبرانية ولا يونانية. وها أنذا أشرع في المقصود وقبل أن أدخل في بيان شرح الآية التي نحن في صدد الكلام عنها وأبسط تدقيقاتي فيما سأورده في إثباتها بصورة مفصلة في الفصل العاشر، أراني مضطرًا إلى تقديم بعض المقدمات الإيضاحية بعبارة مختصرة فأقول: إن الرعاة السوريين الذين ذُكروا في الآية لم يكونوا من خريجي أكاديمية أثينة، وقد سمعوا جمهور الجنود السماوية يترنمون بتلك الأنشودة العجيبة، فلا يمكن إذًا أن تكون الأنشودة باليونانية، هذا شيء لا يوجد من يعترض عليه، ومن البديهي أنهم كانوا يرتلون التسبيح باللغة السريانية، ولم يذكر أنشودتهم المهمة هذه متى، ولا المبشرون الآخرون، وأن لوقا كتب موعظته باللغة اليونانية لأنه روماني أو لاتيني على ما هو معلوم من اسمه. كلمتان وردتا في اللغة الأصلية للآية المذكورة ولم يدرك أحد ما تحتويان عليه من المعاني تمامًا، فلم تترجم هاتان الكلمتان كما يجب في الترجمة القديمة من السريانية على وفق ما وقع في التراجم إلى اللغات الأخرى، فبناء عليه يجب البحث عن نشيد الملائكة في اللغة الأصلية؛ لأن لوقا إنما كتب كتابه متخذًا كثيرًا من المؤلفات المتقدمة [2] مادة له، ثم إن تلك المآخذ المتقدمة صارت عُرضة لتنقيح وتصرف مراقب مجمع نيقية [3] الفاقد للرأفة، وبعد كل ما كان فإن ترجمتها باليونانية وقعت على الوجه الآتي كما في ترجمة (بايبل سوسايتي) : (الحمد لله في الأعالي، على الأرض سلامه، في الناس حسن الرضا) . ومن البديهي أن الملائكة لم ينشدوها باللغة اليونانية، وإلا كانوا كمن يكلِّم الرعاة الأكراد في جبل هكاري باللغة اليابانية، فلنبين الآن التفسير الصحيح الحقيقي للكلمتين (إيريني، السلامة) و (أيودكيا، حسن الرضا) فيا للعجب!! لكن انظروا أولاً إلى هذا التفسير الذي فسَّروه هم. أولاً: كلمة (دوكسا) مشابهة لكلمة (الحمد) في العربية والعبرانية والسريانية وهي من الألفاظ المشتركة بين جميع اللغات السامية، و (دوسكا) مشتقة من (دوكو) أو (دوكئو) . وبناء على ذلك تكون التسبيحات بمعنى: حمد وعقيدة وفكرة، والكلمة المستعملة في السريانية بمقابل (دوكسا) هي كلمة (تشبوحتا) وفي اللاتينية Gloria، والفرنسيون والإنجليز والملل العربية تستعمل كلمات تشبهها. كثيرًا ما نصادف في صحائف كتب العهد القديم كلمات بعين الكتابة مشابهة لكلمات (حمد) و (أحمد) و (محمد) فمما يشابه (محمد) ما جاء في (ملوك أول 20: 6 وهوشع 9: 16 ويوئيل 3: 5 ومراثي أرميا 1: 7 و11 ... إلخ) . فالأولى من الكلمتين اللتين هما موضوع بحثنا الآن هي (إيريني) فقد ترجمت بكلمات (سلامة) و (مسالمة) و (سلام) لكني لا أفهم لماذا يترجم مترجمو (بايبل سوسايتي) اللفظ الواحد مرة (سلام) ومرة (سلامة) وأخرى (مسالمة) ؟ إن كلمة (إيريني) بمعنى (سلم) و (سلام) وهي من الألفاظ المشتركة بين جميع اللغات السامية [4] كما أن كلمة (حمد) كذلك موجودة في جميع تلك اللغات، ففي السريانية (شلم) وفي العبرانية (شالوم) التي يستعمل في مقابلتها الغربيون المنسوبون إلى اللغات اللاتينية Peace Pax, Paix, Pace,. من المعلوم أن لفظ (إسلام) يفيد معاني واسعة جدًّا، ويشتمل على ما تشتمل عليه ألفاظ (السلم، السلام) و (الصلح، المسالمة) و (الأمن، الراحة) أي أن من أسلم وجهه لله واجب الوجود يكون مسلمًا، وتزول من قلبه العداوة والخصومة التي يثيرها الكفر بالإيمان الذي يحل في قلب من أسلم مع الإقرار باللسان، فهو للقلب راحة، وفي الآخرة أمان، ومن المسلمين المجاورين اطمئنان على العرض والنفس والمال، وهذا الإسلام يعطي راحة للفكر، واطمئنانًا للقلب، وأمانًا يوم القيامة. إن الكلمتين (إيريني) و (شلم) تفيدان هذا المعنى بعينه، وأما كلمة (إسلام، سلام) فهي مع ما تشتمل عليه من المعاني التي شرحناها آنفا باختصار تتضمن معنى زائدًا وتأويلاً آخر أكثر وأعم وأشمل وأقوى مادة ومعنى؛ ولكن قول الملائكة (على الأرض سلام) لا يصح أن يكون بمعنى الصلح العام والمسالمة؛ لأن جميع الكائنات وعلى الأخص الحية منها ولا سيما النوع البشري الموجود على كرة الأرض دارنا الصغيرة هي بمقتضى السنن الطبيعية والنواميس الاجتماعية خاضعة للوقائع والفجائع الوخيمة كالاختلافات والمحاربات والمنازعات، وذلك لكي يتمتعوا بالحياة والرقي، ويعلو قسطهم من قانون الترقي والتكامل، وهذه النزعة الفطرية الضرورية من غرائز البشر تُحْدِث لهم ضروب الاختلاف والتنازع، وتحملهم على الشقاق والجدال والجلاد. فمن المحال أن يعيش الناس على وجه الأرض بالصلح والمسالمة ولا يتمكن أي دين كان أن يضمن دوام السلم العام بين الأمم والأقوام حتى لو تعلقت إرادة الله عز وجل بذلك لاقتضى أن يبدل سننه الاجتماعية في طباع البشر ونظام معايشهم ويغير النواميس الطبيعية فيهم ويستبدل بها غيرها. إن الحكومات المستريحة الآمنة المسالمة إذا لم تكن على حذر دائم من عدوها تكون مقضيًّا عليها بالتدلي والسقوط، ولا تزال تتقهقر حتى تصير إلى البداوة والانحطاط أو الاضمحلال، وإذا كانت الأمم لا تخشى اعتداء على حياتها أو عرضها أو مالها، والحكومات الحاضرة لا تحسب للدماء ولا للنار حسابًا، فلماذا نراها منهمكة في المسابقة إلى الاختراعات الحربية المرعبة التي نشاهدها؟ خرقوا جبال الألب من أسفلها وهي التي تمردت على ذكاء (بونابرت) و (أنيبال) وهمتهما، وعبَّدوا الطريق فيها حتى صارت تمر منها القطارات بالكهرباء، ويساق فيها الجيوش. ليقم كبار العرب - الذين سافروا من حضرموت إلى الصين وجاوا - من أجداثهم ولينظروا إلى تلك البحار التي مخروا فيها والأمواج التي تسنموا غواربها ماذا يريدون؟ أما البحار فهي هي بعينها، ولكن أي سفن أنشئت، وأي الآلات اخترعت لطي تلك المسافات بالسرعة العجيبة؟ وإلى الرياح العاتية والعواصف القاصفة في جو السماء؟ هي وإن كانت باقية على حالها منذ القدم، ولكن ليبصروا كيف أن الفن أنفذ فيها التلغراف اللاسلكي وسخَّرها كخادم له، ثم لينظروا هذه المناطيد والطيارات، والمدرعات والغواصات والدبابات، من مخترعات العقل والفن، ما أوجدتها إلا الضراوة بالحرب، وعدم الثقة بمعاهدات الصلح، والأمان من الحرب، وإذًا يكون (السلام) الذي هتفت به الملائكة ليس عبارة عن الاستراحة والمسالمة الدنيوية، أو أن يدخل جميع الناس الكنيسة فيصبحون آمنين مرتاحين تحت إدارة الأساقفة والرهبان خدام الأسرار السبعة، بل إن كان في الدنيا شيء قد اكتسب أكبر شهرة في اقتراف المظالم وإيقاد نيران العداوة فلا شك أنها الكنيسة، أقول: لا شك؛ لأن تلك حقيقة تاريخية ثابتة بالفعل، ويقول المسيح نفسه: (ما جئت لألقي سلامًا على الأرض) وأما الذين يصدِّقون بأنه سيتأسس صلح عام، فأولئك هم عبيد الوهم والخيال. الإسلام الإسلام دين أساس إدارته وحكمه العدل المطلق الذي لا هوادة فيه؛ لأن الجرائم والجنايات تعاقب عليها يد العدالة؛ ولكن الأشرار والمنافقين من المسلمين لا يزالون يسعون في الأرض فسادًا، ولم يخل زمن الخلفاء الراشدين - مثال العدل المطلق الكامل - من مثل هذه الاختلافات والشقاق من الحروب. إذن فماذا كانت تقصد الملائكة؟ هل قصدت (سلام عليكم) (شلم لحن) كما يريد أن يحيي بعضنا بعضًا، ويؤدي له رسوم المجاملة؟ الناس يمكنهم أن يستعملوا ما يشاءون من الكلمات الرقيقة لأجل المجاملة؛ ولكن لا حكمة ولا حاجة أبدًا إلى ذلك في التبشير السماوي، ولا سيما إذا كان من قبل جيش من الملائكة يترنمون في جو الأفلاك. (إيريني) أي (الإسلام) هو الدين المبين، وحبل الله المتين، المكمل للإنسان جميع وسائل تَرَقِّيه المادية والمعنوية، والكافل له سعادة الحياة والعيش الرغيد إلى الأبد. مهما أكن حريصًا على التزام الاعتدال، وعلى سوق القلم فيما لا يجرح عواطف المسيحيين، فلا بد أن أكون معذورًا إذا ما تجاوزت أحيانًا هذه الخطة. رحماك ربي، ما

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال الخامس: البهيتة الأولى إنكار الملائكة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار ومجلة مشيخة الأزهر المقال الخامس البُهيتة الأولى: إنكار الملائكة زعمت مجلة مشيخة الأزهر أن صاحب المنار (قرر أن الملائكة عبارة عن القوى الطبيعية) واحتجت عليه (بالحوار بينها وبين الله تعالى) وبقوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} (النساء: 136) . فهل يريد محرر هذه المقالة بما بهتنا به أن يعتقد قراؤها الذين أنشئت لإرشادهم بلسان هذا المعهد الإسلامي العظيم أن صاحب المنار لا يؤمن بالملائكة، وهو الذي أنشأ مجلته منذ خمس وثلاثين سنة لدعاية الإسلام والدفاع عنه وتبرئته من البدع والخرافات التي تصد عقلاء البشر عنه وتفتح لهم أبواب الطعن فيه وهو المفسِّر للقرآن بالجمع بين المعقول والمنقول وتنزيهه عن الخرافات الإسرائيلية وغيرها، وهو المتصدي للإفتاء العام في أصول الدين وفروعه حتى لقَّبه العلامة الشهير الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي بمفتي الآفاق، على رغم أنف كل ذي حسد ونفاق، هل يريد أن يقول في هذا الرجل إنه ينكر أن لله ملائكة منهم الروح الأمين مبلغ وحي الله لرسله، ومنهم حملة العرش، ومنهم ملك الموت وأعوانه، ومنهم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب والمدبرات لأمور الخلق بإذن الله. من كان لا يؤمن بالملائكة فهو لا يؤمن بوحي الله إلى رسله، ولا يكون مسلمًا ولا يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا مليًّا وثنيًّا، فإن كان صاحب المنار من هذا الصنف فلماذا سكت له على كفره هذا علماء الأزهر الأعلام وغيرهم من علماء الإسلام مدة 35 سنة، وهو يطالبهم في كل مجلد من مجلته كما يطالب جميع من يطلع عليها بأن يكتبوا إليه بما يرونه باطلاً أو منتقدًا فيها مع بيان دليله لينشره لهم فيطلع عليه سائر قرائه كيلا يضلوا بما ضل هو به؟ حتى إذا سخط عليه أحد محرري مجلة المشيخة بانتقاده لبعض ما نشره فيها من تأييد البدع والخرافات، بتحريف الآيات وتصحيح الموضوعات - أظهر للناس هذا الطعن انتقامًا لنفسه ولها، لا خدمة للدين، ولا نصيحة للمسلمين، فهل كانوا عاجزين أو جاهلين، أم لا يهمهم أمر الدين؟ هذا ما نقوله من ناحية الالتزام العقلي، ونقفي عليه ببعض الشواهد الناطقة بعقيدة الإيمان بالملائكة واتباعنا عقيدة السلف الصالح فيها، ويجب أن تكون هذه الشواهد بعضها من كلامنا في التفسير وفي مجلة المنار، وبعضها من كلام الأستاذ الإمام في تفسير المنار نفسه وفي تفسيره هو لجزء عم. ذلك بأن شبهة المفتري في هذه المسألة هي عبارة للأستاذ الإمام قالها في درس التفسير بالأزهر ونقلناها عنه في المجلد الخامس من المنار سنة 1320 فاستشكلها بعض من سمعها منه وبلغوه ذلك فوضح مراده في درس آخر، لا يزال في علماء الأزهر الذين حضروه من يذكره، وقد صرح به في مجلس الصلح أحد محرري مجلة المشيخة، ثم كتب بيده إيضاحًا له نشرته في تفسير الجزء الأول معزوًّا إليه رحمه الله مطبوعًا بحرف أكبر من الحرف الذي نطبع به التفسير. فهذه مسألة فرغ منها منذ 31 سنة، ومن مقاصدها إثارتها الطعن في دين الأستاذ الإمام وعلمه من وراء حجاب الطعن في صاحب المنار، مع العلم بأن صاحب المنار إذا كتب فيها فلا بد له أن يعزوها إلى الأستاذ الإمام، فيرميه الطاعن بأنه هو الذي أظهر كفر أستاذه للناس، وكان من حق الوفاء له عليه أن يقبل الطعن على نفسه وحده؛ ولكنه قليل الوفاء، وقد كتب الطاعن مثل هذا في مسألة الطعن علينا بإنكار وقوع السحر على النبي صلى الله عليه وسلم والمنكر له هو الأستاذ الإمام في تفسيره لجزء عم لا في المنار وله سلف فيه من أئمة العلماء، وسيأتي بيان ذلك في محله، وهاك الشواهد: الشاهد الأول إن أول موضع ذكرت فيه الملائكة من تفسير المنار لسورة البقرة هو قولي في الإيمان بالغيب من تفسير الآية الثالثة ما نصه: (الناس قسمان: مادي لا يؤمن إلا بالحسيات، وغير مادي يؤمن بما لا يدركه الحس، أي بما غاب عن المشاعر متى أرشد إليه الدليل أو الوجدان السليم، ولا شك أن الإيمان بالله وملائكته - وهي جنود غائبة لها مزايا وخواص يعلمها الله سبحانه وتعالى - وباليوم الآخر، إيمان بالغيب. اهـ من صفحة 127 من جزء التفسير الأول) . فهل هذا النص على أن الملائكة جنود لله تعالى من عالم الغيب لها مزايا خاصة بها، يتفق هو والقول بأنهم عبارة عن القوى الطبيعية. الشاهد الثاني ذكرت في الكلام على الوحي من سياق إعجاز القرآن من تفسير سورة البقرة أيضًا أن ملك الوحي يتمثل للأنبياء عليهم السلام واستشهدت عليه بآيات، ثم قلت: (وأما تمثل الملك فكانوا يكتفون في إثباته بقولهم إنه ممكن في نفسه، وقد أخبر به الصادق فوجب تصديقه، ونقول اليوم إن العلوم الكونية لم تُبق شيئًا من أخبار الغيب غريبًا إلا وقربته إلى العقل، بل إلى الحس تقريبًا، بل ظهر من الاختراعات المادية المشاهدة في هذا العصر ما كان يُعد عند الجماهير محالاً في نظر العقل - لا غريبًا فقط - فإذا كان الإنسان الكيميائي يحلل الأجسام الكثيفة حتى تصير غازات لا ترى من شدة لطفها، ويكثف العناصر اللطيفة فتكون كالجامدة بطبعها، فكيف يستغرب تكثيف الملك لنفسه، وهو من الأرواح ذات المِرَّة والقوة العظيمة، بأخذه من مواد العالم المنبثة فيه هيكلاً على صورة إنسان مثلاً؟ دع مخترعات الكهرباء العجيبة التي لا يوجد شيء مما أخبر به الرسل من عالم الغيب إلا وفيها نظير له يقربه من الحس لا من العقل وحده، وهل الكهرباء إلا قوة مسخرة للملائكة اهـ. ويليه كلام في أرواح البشر وقول الإمام مالك فيها (راجع ص220 من جزء التفسير الأول أيضًا) فهل معنى هذا أن الملائكة من القوى الطبيعية؟ الشاهد الثالث قلت في الكلام على الملائكة من تفسير آية البر ما نصه: إن الإيمان بالملائكة أصل الإيمان بالوحي؛ لأن ملك الوحي روح عاقل عالم يفيض العلم بإذن الله على روح النبي صلى الله عليه وسلم بما هو موضوع الدين، ولذلك قدَّم ذكر الملائكة على ذكر الكتاب والنبيين، فهم الذين يؤتون النبيين الكتاب {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ} (القدر: 4) {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 193-195) فيلزم من إنكار الملائكة إنكار الوحي والنبوة، إلى أن قلت: والملائكة خلق روحاني عاقل قائم بنفسه، وهم من عالم الغيب فلا نبحث عن حقيقتهم كما تقدم غير مرة اهـ (صفحة 123 و 124 من جزء التفسير الثاني) فهل معنى هذا أن الملائكة قوى طبيعية؟ الشاهد الرابع قلت في تفسير آية النساء {وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (النساء: 136) الآية التي أوردها عليّ ما نصه (فالإيمان بالله هو الركن الأول، والإيمان بجنس الملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل هو الركن الثاني، والإيمان بجنس الكتب التي نزل بها الملائكة على الرسل هو الركن الثالث، والإيمان بجنس الرسل الذين بلغتهم الملائكة تلك الكتب فبلَّغوها للناس هو الركن الرابع ... إلخ (راجع ص 459 ج 5 تفسير) فهل يمكن أن يكون المراد بالملائكة الذين يحملون الوحي إلى الرسل عليهم السلام القوى الطبيعية. الشاهد الخامس كتبت في الصفحة 316 وما بعدها من جزء التفسير السابع في الكلام على اقتراح المشركين إنزال ملك على النبي صلى الله عليه وسلم والرد عليهم في تفسير الآيتين الثامنة والتاسعة من سورة الأنعام بحثًا طويلاً في عدم استعداد البشر لرؤية الملائكة في صورهم الأصلية لقوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} (الأنعام: 9) أذكر من هذا البحث ما نصه: (والمختار عندنا أن البشر في حالتهم العادية غير مستعدين لرؤية الملائكة والجن في حالتهم التي خُلقوا عليها، كما قال تعالى في الشيطان: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) لا لأنهم لا يطيقونها لهولها، بل لأن أبصار البشر لا تدرك كل الموجودات بل تدرك في عالمها هذا بعض الأجسام كالماء، وما هو أكثف منه من الأجرام الملونة دون ما هو ألطف منه كالهواء، وما هو ألطف منه كالعناصر البسيطة التي يتألف منها الماء والهواء، والملائكة والجن من عالم آخر غيبي ألطف مما ذكر، وهذا العالم مما يعده المتكلمون في الفلسفة وراء عالم المادة، وليس عند المتكلمين عالم غير مادي ولذلك يعدون الملائكة والجن من الأجسام اللطيفة، ويقولون إنهم قادرون على التشكل في صور الأجسام الكثيفة، فمثل تشكلهم كمثل تشكل الماء في صورة البخار اللطيف والبخار الكثيف (كالسحاب) وصورة المائع السيَّال وصورة الثلج الجليد؛ ولكن الماء يتشكل بما يطرأ عليه من حر وبرد بغير اختيار منه، وذانك يتشكلان باختيارهما إذ جعل الله لهما سلطانًا على العناصر التي تتركب منها مادة العالم أقوى من سلطان البشر الذين يتصرفون فيها بأيديهم لا بأنفسهم وماهياتهم، فهم لا يقدرون على تحليل أبدانهم وتركيبها مع غيرها من المواد، فإذا تمثل الملك أو الجان في صورة كثيفة كصورة البشر أو غيرهم أمكن للبشر أن يروه؛ ولكنهم لا يرونه على صورته وخلقته الأصلية بحسب العادة وسنة الله في خلق عالمه وعالمهما، فإذا وقع ذلك كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل مرتين كان من خوارق العادات، والخوارق لا تثبت إلا بنص؛ لأنها خلاف الأصل، على أن رؤيته بصورته لا ينافي التشكل، إذ يجوز أن تكون مادة صورته اللطيفة التي لا ترى قد ظهرت بمادة كثيفة، فيكون التشكل في هذه الحالة بمادة جديدة مع حفظ الصورة الأصلية، والتشكيل في غيرها بالمادة والصورة معًا، وعلى أن لأرواح الأنبياء من التناسب مع أرواح الملائكة ما ليس لغيرها، ففي الحال التي تغلب بها روحانيتهم على جثمانيتهم يكونون كالملائكة، فيجوز أن يروهم بأي صورة وشكل تَجَلَّوا لهم فيه) اهـ. الشاهد السادس كتبت في ص 162 وما بعدها من جزء التفسير السابع بحثًا آخر في تشكل الملائكة والجن في الصورة ورؤيتهم في هذه الحالة، وفيه إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لغير جبريل من الملائكة ورؤية بعض الشياطين. الشاهد السابع قلت في تفسير {إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} (الأعراف: 206) وهي آخر آية من سورة الأعراف ما نصه: أي أن ملائكة الله المقربين الذين هم عنده كحملة عرشه والحافّين من حوله ومن شاء تقدس وتعالى بهذه العندية الشريفة التي لا يعلمها سواه وهم أعلى مقامًا من الملائكة الموكلين بالمخلوقات وتدبير نظامها لا يستكبرون عن عبادته ... إلخ، فراجعه في (ص 558 من جزء التفسير التاسع) . ولو شئت أن أذكر جميع الشواهد من تفسير المنار على أن الملائكة خلق روحاني مستقل قائم بنفسه، وأنهم أنواع أولو عبادات مختلفة وأعمال كثيرة لا يحيط بها إلا خالقها، وأن الإيمان بها واجب، وإنكارها كفر لازب لمل القارئ لها. وهذه الشواهد نصوص قاطعة في ذلك بدحض المفتري لهذه البهيتة التي أراد بهتنا بها من إبهام المطلع على كلامه أننا ننكر حقيقة الملائكة ونجعلهم أعراضًا لغيرهم، و

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال السادس: شبهة الطاعن المحرف في مسألة الملائكة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقال السادس شبهة الطاعن المحرِّف في مسألة الملائكة إن تفسيرنا للآيات الواردة في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة قد بلغت 53 صفحة من الجزء الأول من تفسير المنار (صفحة 231 إلى 284) وأكثره لشيخنا الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه، فانتزع طعان مجلة الأزهر منها عبارة واحدة فرعية محكية جعلها أصل الموضوع وعقيدة لصاحب المنار في الملائكة بقول الزور؛ وإنما هي حكاية حكاها الأستاذ الإمام عن بعض الناس ونقلها مؤلف التفسير عنه، فلو كانت كفرًا لكانت من باب حاكي الكفر ليس بكافر فكيف بالحاكي عن الحاكي، وإننا نلخص الموضوع في خمس مسائل بعبارة مختصرة يفهمها كل قارئ. المسألة الأولى إن آيات محاورات الملائكة للرب عز وجل في خلق آدم عليه السلام من المتشابهات الواردة في شأن عالم الغيب، وإن لعلماء المسلمين في مثلها طريقتين: (إحداهما) : طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيَّد العقل فيه النقل ... وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرِّب هذه المعاني من عقولنا ومخيلاتنا. (والثانية) : طريقة الخلف وهي التأويل، يقولون إن قواعد الدين الإسلامي وُضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول، فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يُراد به ظاهره ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل. (قال الأستاذ) : وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله وصفاته وعالم الغيب، وإننا نسير في فهم الآيات على كلتا الطريقتين لأنه لا بد للكلام من فائدة يُحمل عليها؛ لأن الله عزوجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد له معنى. هذه عبارة الأستاذ الإمام التي أوردتها في ص 42 من مجلد المنار الخامس، ثم في ص 252 من جزء التفسير الأول، ثم زدت عليها قولي: (وأقول) أنا مؤلف هذا التفسير: إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى؛ وإنما أذكر من كلام شيخنا وغيره ومن تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري للناس أن ما انتشر في الأمة من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين جعل قبول مذهب السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما يخالفه، أو طول ممارسة الرد عليهم. ثم وضحت هذه المسألة في صفحة 253 برمتها، فبيَّنت فيها للقارئ المؤمن أن الخير له أن يطمئن بمذهب السلف ولا يحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبه إلا بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليه باتفاق أهل السنة سلفهم وخلفهم. *** المسألة الثانية مذهب السلف في الملائكة قال الأستاذ الإمام: أما الملائكة فيقول السلف فيهم أنهم خلق أخبرنا الله تعالى بوجودهم وببعض عملهم، فيجب علينا الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم، فنفوض علمها إلى الله تعالى، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك؛ ولكننا نقول إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطير إذ لو كانت كذلك لرأيناها، وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار؛ فإننا نستدل بذلك على أن في الكون عالمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا، بل يحكم بإمكانه لذاته ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به. اهـ من الصفحة 254ج أول تفسير، فهل يتفق هذا مع زعم مجلة الأزهر أننا نقول إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية؟ ثم تكلم فيمن بحثوا في جوهر الملائكة، وقفى عليه ببيان فوائد الخطاب بينهم وبين الله تعالى وهي أربع تُراجع في ص 254 و255 منه، وقفى على هذا بطريقة الخلف، ومن تكلم منهم في حقيقة الملائكة وكون قصة آدم على طريقتهم (وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية وما لها من المكانة والخصوصية) . *** المسألة الثالثة أنواع الملائكة قال رحمه الله: نطق الوحي ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق العالم أنواعًا مختلفة، وخصَّ كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا يتعداه، فأما ما لا نعرفه إلا من طريق الوحي كالملائكة فقد ورد في الآيات والأحاديث ما يدل على أن وظائفه محدودة، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} (الأنبياء: 20) {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} (الصافات: 165-166) {وَالصَّافَّاتِ صَفاًّ * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} (الصافات: 1-2) ... إلخ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: 1-5) على قول من قال: إن المراد بها الملائكة، إلى غير ذلك مما يدل على أنهم طوائف لكل طائفة وظيفة محدودة، وورد في الأحاديث أن منهم الساجد دائمًا والراكع دائمًا إلى يوم القيامة اهـ (من ص 259 منه) أفلا يُعَد هذا نصًّا صريحًا في افتراء مجلة الأزهر علينا بأننا نقول: إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية. *** المسألة الرابعة في الملائكة والشياطين والخواطر قال الأستاذ الإمام في الملائكة والشياطين ما نقلته عنه في الصفحة 266 وما بعدها من جزء التفسير الأول ملخصًا (والعبارة لي) : تقدم أن الملائكة خلق غيبي لا نعرف حقيقته؛ وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى الذي نقف عنده ولا نزيد عليه، وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل صنف وظيفة وعمل، ونقول الآن إن إلهام الخير والوسوسة بالشر مما جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم، وقد أُسنِدا إلى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهامًا، وخواطر الشر التي تسمى وسوسة - كل منهما محله الروح، فالملائكة والشياطين إذًا أرواح تتصل بأرواح الناس، فلا يصح أن نمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة لنا (لأن هذه [1] لو اتصلت بأرواحنا؛ فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا، ونحن لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة، ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس، فإذًا هي من عالم غير عالم الأبدان قطعًا) والواجب على المسلم في مثل هذه الآية الإيمان بمضمونها مع التفويض أو الحمل على أنها حكاية تمثيل، ثم الاعتبار بها بالنظر في الحِكَم التي سيقت لها القصة. (وأقول) : إن إسناد الوسوسة إلى الشياطين معروف في الكتاب والسنة، وأما إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها السلام، ومن حديث الشيخين في المُحَدَّثين وكون عمر منهم (والمحدثون بفتح الدال وتشديدها الملهمون) ومن حديث الترمذي والنسائي وابن حبان وهو (إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (البقرة: 268) قال الترمذي: حسن غريب لا نعلمه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص، والرواية (إيعاد) في الموضعين كما أن الآية من الثلاثي في الموضعين، فما قالوه في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبي فيما يظهر وإلا فهو غير صحيح، واللمة بالفتح: الإلمام بالشيء والإصابة. *** المسألة الخامسة وهي مثار شبهة مجلة الأزهر جاء في صفحة 267 وما بعدها منه ما نصه: قال الأستاذ: وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فهم معنى الملائكة، وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك - فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة وكذلك يقال في الحيوان والانسان، فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده؛ فإنما قوامه بروح إلهي سُمي في لسان الشرع مَلَكًا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوى الطبيعية إذ كان لا يُعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة، والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها ، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكًا، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموسًا طبيعيًّا؛ لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات [وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودًا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، ولكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس، وكل يقر بوجود شيء غير ما يرى ويحس ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه، وماذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيب عنه لو قال أصدق بغيب أعرف أثره وإن كنت لا أقدِّر قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي، ويحظى بما يحظى به المؤمنين؟] اهـ ما قاله الأستاذ الإمام في المسألة وهو محل التهمة، وهذه العبارة التي بين العلامتين هكذا [] قد كتبها بقلمه كالتي قبلها. *** خلاصة ما تقدم من الرد على هذه البهيتة (1) إن عقيدتنا وعقيدة شيخنا الأستاذ الإمام في الملائكة هي عقيدة سلف الأمة الصالح، وهي أنهم من عالم الغيب الذي نؤمن بكل ما جاء في كتاب الله، وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أخباره، من غير تأويل ولا زيادة ولا نقصان ولا رأي ولا قياس، وقد أكثرنا من الشواهد على هذه العقيدة، وخلاصتها أن الملائكة من عالم الأرواح العاقلة المستقلة، وأنهم أنواع لكل منها وظائف وأعمال خاصة به لا نبحث عن حقيقتها بآرائنا. (2) إن علماء الكلام ومن تبعهم من المفسرين والفقهاء يتأولون أكثر أخبار الغيب من صفات الله وأسمائه ومنها بعض ما ورد في الملائكة. (3) اتفاق علماء السلف والخلف في الأمة على تأويل شيئًا منها تأولاً مبتدعًا لا ينقض شيئًا من أمور الدين القطعية المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة وهو مذعن للأمر والنهي يكون معذورًا في تأوله فلا يحكم بكفره. (4) إننا نقلنا عن أستاذنا في تفسير قصة آدم أن بعض المفسرين من علماء الخلف المتأولين ذهب إلى أن مجموع ما ورد في نوع الملائكة الموكلين بالأعمال (من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك لا في كل أنواع الملائكة فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة) وخلاصة هذا الايماء أن الروح الإلهي الذي قام به نظام هذه الأعمال هو أمر وجودي خفي لا ندرك حقيقته، وأن المعنى الإيمائي - لا المطابقي لمعنى النصوص - يتفق مع قول الذين يثبتون هذا الروح الخفي من المنكرين للوحي وعالم الغيب، ويعبرون عنه بالقوى الطبيعية في الأشياء؛ لأنهم إذا سئلوا عن حقيقة هذه القوى يعترفون بأنهم لا يعرفونها، وبهذا يكون الخلاف في التسمية، فالمؤمنون بالوحي يسمون ما به نظام هذه المخلوقات بالملائكة، ومن ل

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال السابع: البهيتة الثانية إنكار الجن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقال السابع البُهيتة الثانية: إنكار الجن هذه أخت التي قبلها، والكلام فيها متمم لما قبله ومشترك معه في بعض شواهده كما تقدم في خاتمة المقالة السابقة، ولهذا قدمناها على مسألة الشمس. قال في مجلة الأزهر بعد مسألة الملائكة (ومثل ذلك ما قرره في المكروبات عند ذكر الجن في القرآن، وليت شعري هل هذه المكروبات الجنية هي التي كانت تعمل لسليمان ما يشاء من محاريب وتماثيل وقدور راسيات؟ وهل هي التي قال عفريت منها لسليمان عليه السلام] أَنَا آتِيكَ بِهِ [بعرش بلقيس {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (النمل: 39) ؟ وهل هي التي قالت لقومها: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الأحقاف: 30) إلخ. اهـ بنصه وقد أعاد هذه المسألة في غير المجلة. يوهم محرر مجلة مشيخة الأزهر من ابتلاهم الله بقراءتها أن صاحب المنار يقول أن الجن الذين أخبرالله بهم في كتابه عبارة عن هذه المكروبات التي كشف الأطباء أمرها في القرن الماضي، وأنه ما ثم شيء يطلق عليه هذا الاسم واسم العفاريت والشياطين غيرهم. وهذا افتراء وبهتان كالذي قبله سواء. الجن خلق خفي مستتر من عالم الغيب أثبتتهم جميع الأديان وطريقتنا فيهم هي وجوب الإيمان بكل ما أخبر الله تعالى من أمرهم في كتابه وبكل ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم لمن علم به وليس منه شيء قطعي يدخل في العقيدة، ولا نزيد على ما ثبت عندنا من خبر المعصوم شيئًا. وقد ورد ذكر الجن والشياطين وإبليس في مواضع كثيرة من أجزاء تفسيرنا العشرة وفي مواضع كثيرة من مجلة المنار فأثبتنا في كل موضع من التفسير ما أثبته الكتاب العزيز بما يقربه إلى العقل ورددنا على المنكرين والمتأولين لما هو المتبادر من النصوص. ولو أردنا إيراد الشواهد منها كالشواهد في الملائكة لطال الكلام فيما لا فائدة من نشره في الجرائد اليومية وإنما نشير إلى بعض مواضعها لمن يريد مراجعتها، ونكتفي منها بما نثبت به أن محرر مجلة مشيخة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء فيه بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يفهم ما يُقرأ له ولا يعقله مهما تكن درجة وضوحه وتكراره!! وإما أنه يتعمد الكذب والبهتان والخيانة في النقل والعزو انتقامًا لنفسه لا خدمة للعلم والدين. لتعلم الأمة أن العلم الصحيح لا يكون بالألقاب الرسمية، ولا بمجرد الشهادات المدرسية. وقد بينا في المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام ما كان من قيمة شهادات العالمية في الأزهر وما كان من المحاباة والرشوة فيها قبل الإصلاح الذي وضع قواعده ذلك المصلح العظيم، على أن الإصلاح لم يشفِ العلل كلها كما يعلم أهل الأزهر أكثر من غيرهم. ومن شاء الوقوف على هذه الحقائق فليقرأ المقصد الثاني من الفصل السادس من تاريخ الأستاذ الإمام من صفحة 425 484 باكيًا على العلم والدين. بعض الشواهد في مسألة الجن والشياطين (1) جاء في تفسير {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} (البقرة: 34) من جزء التفسير الأول ص 265 ما نصه ملخصًا من درس الأستاذ الإمام: (أي سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة كما يفهم من هذه السورة وأمثالها في القصة إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50) وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلاً جوهريًّا يميز أحدهما عن الآخر، وإنما هو اختلاف أصناف عندما تختلف أوصاف كما ترشد إليه الآيات، فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة، وقد أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَباً} (الصافات: 158) وعلى الشياطين في آخر سورة الناس. (2) زاد الأستاذ الإمام هنا بعد نشر تفسير هذه الآيات في المنار سنة 1320 ما نصه بخطه: (وعلى كل حال فجميع هؤلاء المسميات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها، ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد فيه نص قطعي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. اهـ. فكان رحمه الله يرى أن تعريف الملائكة والجن بالحد المنطقي متعذر لأنهم من عالم الغيب، وقد اشتركوا في اسم الجن المفيد لمعنى الخفاء والستر، والمعقول أن يكون تعريفهم بالرسم وهو الصفات كالطاعة والعصمة للملائكة دون الجن، فهم في الجنس الروحي الخفي كالأنبياء في البشر، والشياطين كأشرار البشر الظالمين المجرمين الفاسقين، وسائر الجن كسائر البشر يتفاوتون في الصلاح والفساد مثلهم، وللراغب الأصفهاني كلام كهذا في مفردات القرآن ذكرته في تفسير سورة الأعراف. (2) ما تقدم نقله عن الأستاذ الإمام في المسألة من بحث الملائكة وتعليقنا عليه وهو مسألة إسناد الوسوسة إلى الشياطين والإلهام إلى الملائكة وما هو ببعيد. (3) ذكرت في صفحة 96 من الجزء الثاني من التفسير أن قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة: 168) لا يقتضي معرفة ذات الشيطان وإنما يعرف بأثرة وهو وحي الشر وخواطر الباطل والسوء في النفس التي يفسرها قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) وفصلنا ذلك تفصيلاً، وكذا تفسير هذه الجملة بعينها من آية 207 من سورة البقرة أيضًا وهو في ص 257 من الجزء وفيه تفصيل آخر. (4) ذكرت في بحث إعاذة مريم وذريتها من الشيطان الرجيم من ص 29 ج3 حديث (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها) وتفسير البيضاوي للمس بالطمع في الإغواء، وقول الأستاذ الإمام أن الحديث من قبيل التمثيل، وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم وما يرد على الموضوع من قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر: 42) ومشاغبة دعاة النصرانية للمسلمين في تفضيل المسيح على نبينا وما يرد عليهم من إنجيل مرقس في تجربة إبليس ليسوع المسيح أربعين يومًا لم يأكل فيها طعامًا مع تحقيق المسألة. وهذا كله ينافي الافتراء علينا بأننا نقول: الجن والشياطين عبارة عن الميكروبات فقط. (5) في الصفحات 425 - 430 من جزء التفسير الخامس تفسير لقوله تعالى {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} (النساء: 117) إلى الآية 119 بينت فيه نصيب الشيطان من الناس وإضلاله لهم واشتغالهم بالأماني وما يأمرهم به في وسوسته، وحال من يتخذه وليًّا من دون الله، وهو في جملته وتفصيله يدحض شبهة مجلة الأزهر وبهتانها. (6) في ص 65 ج66 تفسير لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم} (الأنعام: 128) الآية، وفي أوله: وإنما يسمى كل من الجن والإنس معشرًا لأنهم جماعة من عقلاء الخلق. وفي هذا البحث شبهنا تأثير الشياطين في النفس بتأثير الميكروبات في الجسم بعد ذكر المنكرين لوجود الجن، وهذا نص عبارتنا: فإن كل إنسي يوسوس له شياطين الجن بما يزين له الباطل والشر ويغريه بالفسق والفجور كما تقدم مفصلاً، فإن هذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح البشرية يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة الحيوان الخفية الأجساد الحيوانية فتفسد عليها مزاجها وتوقعها في الأمراض والأدواء، وقد مر على البشر ألوف من السنين وهم يجهلون طرق دخول هذه النسم الحية في أجسادهم وتقوية الاستعداد للأمراض والأدواء فيها، بل إحداث الأمراض الوبائية وغيرها بالفعل، حتى اكتشفها الأطباء في هذا العصر وعرفوا هذه الطرق والمداخل الخفية بما استحدثوا من المناظير التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر مما هو عليه بألوف من الأضعاف ولو قيل لأكبر أطباء قدماء المصريين أو الهنود أو اليونان أو العرب أن في الأرض أنواعًا من النسم الخفية تدخل الأجساد من خرطوم البعوضة أو البرغوث أو القملة ومع الهواء والماء والطعام وتنمي فيها بسرعة عجيبة فتكون ألوف الألوف وبكثرتها تتولد الأمراض والأوبئة القاتلة لقالوا إن هذا القول من تخيلات المجانين، ولكن العجب لمن ينكر مثل هذا في الأرواح بعد اكتشاف ذلك في الأجساد، وأمر الأرواح أخفى، فعدم وقوفهم على ما يلابسها ألوفًا من السنين أولى. وقد روي في الآثار ما يدل على جنة الأجسام ولو صرح به قبل اختراع هذه المناظير التي ترى بها لكان فتنة لكثير من الناس بما يزيدهم استبعادًا لما جاء به الرسل من خبر الجن، ففي الحديث (تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة) والنسمة في اللغة كل ما فيه روح، وفسره ابن الأثير في الحديث بالنَّفَس بالتحريك أي تواتره الذي يسمى الربو والنهيج وتبعه شارح القاموس وغيره، وهو تَجَوُّز لا يؤيد الطب ما يدل عليه من الحصر. وروي عن عمرو بن العاص: اتقوا غبار مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة. وهو بعيد عن تأويلهم وظاهر فيما يقوله الأطباء اليوم وهو مأخوذ من الحديث الذي تأولوه، وعمرو من فصحاء قريش جهابذة هذا اللسان. اهـ. وذكرت في مواضع أخرى من المنار ما ورد من الآثار في أنواع الجن ومنها حديث (خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض وصنف كالريح في الهواء وصنف عليهم الحساب والعقاب) أخرجه ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو الشيخ وابن مردويه. وفي معناه غيره. (7) في (ص328 - 372 جزء 8) بسط قصة آدم مع إبليس. وقد فصلت في هذا البحث ما تقدم في سورة البقرة من كون الجن الروحاني جنسًا يشمل الملائكة. وقلت: إن لفظ الجنة اللغوي يشمل الجن الروحاني والجن المادي التي تسمى المكروبات 342 ثم فصلت هذا في تفسير قوله تعالى من هذا السياق {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) تفصيلاً موضحًا لهذا البحث يراجع في (ص 264 - 371) ومنه يعلم مأخذ شبهة المفتري المحرف للكلم عن مواضعه، ولا نطيل القول في هذا لأنه لا طائل تحته، وحسبنا ما ذكرنا دليلاً على قلة اطلاع المفتري علينا وسوء فهمه وفساد نيته، وما سيأتي في المقال الآتي أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً. ((يتبع بمقال تالٍ))

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال الثامن: البهيتة الثالثة ما سماه تكذيب سجود الشمس

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقال الثامن البُهيتة الثالثة: ما سماه تكذيب سجود الشمس هذه هي البهيتة الكبرى التي افترتها علينا مجلة مشيخة الأزهر وسمتها (عظيمة العظائم) لتذكرنا من حيث لا يدري محررها بقوله تعالى فيما دونها من الخوض في حيث الإفك {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} (النور: 15) وكل جريمة تصغر وتتضاءل دون ما سماه (تكذيب الله ورسوله وتجهيلهما) وقد أكثر من إعادتها وتكرارها في الجرائد حتى كدنا نظن أنه صدق نفسه في اختلاقها أو خدع الناس فصدقوها، والكلام فيها من وجوه: (1) صيغة الفرية ومفهومها. (2) مأخذها من تحريف مقال لنا في نصر السنة ودحض الشبهات عليها قلبه إلى ضده. (3) عبارتنا التي حرفها وزعم أنه نقلها بنصها وفصها. (4) عبارة المفتري المحرف بنصها. (5) رأي الأستاذ الإمام في أمثال هذا العالم. (6) جوابنا عن حديث الشمس. (7) أقوال العلماء المتقدمين في استشكاله والجواب عنه. (1) صيغة الفرية ومفهومها: قال المحرر بعد افترائه علينا الإفتاء بحل صلاة التلاميذ المسلمين مع النصارى بالكنيسة وقد أخرنا الكلام عليه ما نصه باختصار، ولكن بدون تصرف: (بل وصل الأمر من اجتهاد مجتهدنا.... أن اجترأ على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم عن أبي ذر من أن الشمس تسجد تحت العرش وقال: إن الأنبياء لا تعرف هذه العلوم، ولو كان رشيدًا لم يضق صدره بذلك ولوسعه إيمانه بالغيب، فإن لم يسعه إيمانه بالغيب، فكان ينبغي أن يسعه علمه بسعة لغة العرب وكثرة مذاهب البيان فيها، فإن ضاق علمه كما ضاق إيمانه فما كان ينبغي أن تضيق سياسته وهي التي وسعت الشرق والغرب. وبيان ذلك أنه كان يستطيع أن يقرر في الحديث ما قرره العلماء في قوله تعالى حكاية عن الأرض والسماء ( {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت: 11) . ثم قال ما أذكره عملا بقول العلماء: حاكي الكفر ليس بكافر، وإنه لتقشعر منه جلود المؤمنين: (وكان ينبغي إذ لم يتسع صدره ولا إيمانه، ولا علمه لشيء من ذلك أن تتسع سياسته لحسن المخرج منه بأية وسيلة غير تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم ولو أن يرمي البخاري أو غيره من رواة الحديث بالخطأ والكذب ولا يتعرض لرسول الله، فقد كان تكذيبهم أهون من تكذيبه صلى الله عليه وسلم فما أضيق دينه وعلمه وسياسته) اهـ بحروفه وما فيها من أدبه مع الرسول الأعظم الذي يدعي تعظيمه و.. .! وقد شعر خلافًا لطبعه بأن الذين ابتلاهم الله بقراءة مجلة الأزهر لا يصدقون هذه الفرية فزعم أنه ينقل لهم عبارة صاحب المنار بنصها وفصها ولكنه نقل لهم عبارة قصيرة مقتضبة منها كمن ينقل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} (النساء: 43) دون ما بعده من الآية. وستعلمون أيها المسلمون من بياني لما نقله ولأصله ولما قررته في هذه المسألة أي الفريقين أضيق دينًا وعلمًا.. . أصاحب المنار أم هذا العضو في هيئة كبار علماء الأزهر؟ وتعلمون درجة صدق المشيخة في مجلتها ومقدار أمانتها على العلم والدين، وصدقها في إرشاد المسلمين في جرأتها على ما تقدم وعلى قولها في آخر هذه المقالة نعوذ بالله منها ثم من الشيطان الرجيم [1] : (فالشيخ إذا مخطِّئ لله ورسوله، مكذب للقرآن والسنة، وإن شئت فقل مجهل لهما!) نعم شعر بأن الناس يكذبونه ولكن لم يشعر بما يستلزمه هذا الطعن في كلام كتب سنة 1327 في مجلة المنار أي منذ 23 عامًا من الطعن في علماء الأزهر في سكوتهم عن الإنكار عليها وهي تخاطب علماء الإسلام وغيرهم في كل سنة بما يجب عليهم من بيان ما يجدون فيها من خطأ، أفلا يلزم من سكوتهم هذا وقوع الطعن عليهم في دينهم وعلمهم؟ بلى لو كانت المجلة صادقة، أما وهي مفترية فإنما يقع ذلك على من أنكر الحق المعروف ونطق بالباطل والزور ومن أقره وهو قادر على منعه. يفهم كل من قرأ عبارة هذه المجلة أن صاحب المنار رأى في الصحيحين حديثًا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الشمس تسجد تحت العرش فاعتقد صحة سنده أي عدالة رواته وصدقهم وسلامته من كل شذوذ وعلة، وإنما كذب خبر هذا السجود فيه لأنه لم يكن عنده من العلم باللغة ولا من الإيمان بالغيب ولا.. و.. . ما يحمله على تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه حقيقة ولا مجازًا وقد رأيتم أدب هذه المجلة في التعبير عن هذا المعنى المفترى والبهتان الجريء. (2) مأخذ التهمة من مقال في تأييد السنة والدفاع عنها. إنني ذكرت حديث أبي ذر في مسألة الشمس في المجلد الثاني عشر من المنار في سياق الأحاديث المشكلة وطرق الحل لمشكلاتها من مقال طويل في تأييد السنة كان حكمًا فاصلاً في مناظرة تلو مناظرة في أصل الإسلام أو أصوله، وفي النسخ وأحاديث الآحاد هل هي من الدين أم لا؟ دارت هذه المناظرات في أثناء أربع سنين فجعل البهَّات المفتري نصرنا للسنة ودفاعنا عنها تكذيبًا وكفرًا لصاحبها صلى الله عليه وسلم ولكتاب الله الذي نطق بسجود كل شيء لله عزوجل، والعياذ بالله من بهتان من لا يخاف الله. ذلك أن البحاثة الشهير المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي كان كتب مقالاً عنوانه (الإسلام هو القرآن وحده) وقد نشر في المجلد التاسع من المنار تحديًا للعلماء ولا سيما علماء الأزهر أن يردوا عليه فكبر ذلك عليهم، وقال بعضهم لبعض: إن صاحب المنار هو الذي يريد أن يجذبنا إلى المناظرة معه، وأمسكوا عن الرد عليه، حتى جاءني من قال لي: إن فلانًا من العلماء يريد الرد على الدكتور إذا كنت أنت لا ترد عليه، فقلت: وإني لا أرد عليه ولكنني قد أحكم في المناظرة أخيرًا إذا احتيج إلى حكمي. فرد العالم الذي أخبرني عنه على الدكتور بمقالين رد عليهما الدكتور أيضًا ثم حكمت في المسألة حكمًا نشر في الجزء الأخير من المجلد التاسع، فكتب الدكتور اعترافًا برجوعه عما أقنعته بأنه كان مخطئًا فيه. ونشرت خطابه هذا في صفحة 140 من مجلد المنار العاشر ثم كتب مقالاً آخر عنوانه: النسخ في الشرائع الإلهية أنكر فيه وجود النسخ في القرآن مطلقًا وزعم أن السنة القولية (الأحاديث) قد نُسخ بعضها بالقرآن وبعضها بالسنة ولم يبق منها شيء يجب العمل به غير موجود في القرآن. ونشرنا هذا المقال في الجزء التاسع من مجلد المنار العاشر وطالبنا العلماء بالرد عليه بشرط التزام ما يليق بالعلماء من الأدب والنزاهة واحترام المناظر. فلم يتصدَّ أحد من علماء الأزهر للرد عليه ولكن رد عليه العلامة الشيخ صالح اليافعي من علماء الحضارمة المقيمين في حيدر آباد الدكن الهند بست مقالات نشرت في ستة أجزاء من المجلد الثاني عشر من المنار وقد حكمني المتناظران فحكمت بينهما بمقال أيدت به السنة وشرعية العمل بالأحاديث القولية بشرطه. (3) عبارتنا التي حرفها البهَّات المُفتري: بينت في تلك المقالة مسألة (أحاديث الآحاد والدين) ثم مسألة (أحاديث الآحاد تفيد العلم أو الظن) بما لم أعلم أن أحدًا سبقني إلى مثله في نصر السنة في التفرقة بين اليقين اللغوي الشرعي، واليقين المنطقي الأصولي. وانتقلت من هذا إلى بحث ما يوثق به وما لا يوثق به من الروايات، وما انتقده المحدثون من أحاديث الشيخين البخاري ومسلم بجرح كثير من رواتهما وغلط بعض متونهما وذكرت بعض المتون التي حكموا بالغلط فيها، ومنها حديث شريك عند البخاري في المعراج إذ صرح بأنه رؤيا منامية وخالف غيره من رواة البخاري في مسائل أخرى فيه وحديث مسلم (خلق الله التربة يوم السبت) إلخ، وحديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وثلاث سجودات في كل ركعة وغير ذلك ثم قلت ما نصه: وجملة القول في الصحيحين أن أكثر رواياتهما متفق عليها عند علماء الحديث لا مجال للنزاع في متونها ولا في أسانيدها، والقليل منها مختلف فيه وما من إمام من أئمة الفقه إلا وهو مخالف لكثير منها، فإذا جاز رد الرواية التي صح سندها في صلاة الكسوف لمخالفتها لما جرى عليه العمل، وجاز رد رواية خلق الله التربة يوم السبت إلخ لمخالفتها للآيات الناطقة بخلق السموات والأرض في ستة أيام وللروايات الموافقة لذلك - فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تُتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعد ضياع شيء منه (كالروايات في نسخ التلاوة) ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي وأمثاله كثيرون ومثلها الرواية في سحر بعض اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ردها الأستاذ الإمام ولم يعجبه شيء مما قالوه في تأويلها لأن نفس النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأقوى من أن يكون لمن دونه تأثير فيها، ولأنها مؤيدة لقول الكفار {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} (الفرقان: 8) وهو ما كذبهم الله فيه بقوله بعده: {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (الإسراء: 48) . ومثل هذا وذاك ما خالف الواقع المشاهد كرواية السؤال عن الشمس أين تذهب بعد الغروب؟ والجواب بأنها تذهب فتسجد تحت العرش، وتستأذن الله تعالى بالطلوع إلخ. وقد سَأَلَنا عنه بعض أهل العلم من تونس ولما نجب عنه لأننا لم نجد جوابًا مقنعًا للمستقل في الفهم. فالشمس طالعة في كل وقت لا تغيب عن الأرض طرفة عين كما هو معلوم بالمشاهدة علمًا قطعيًّا لا شبهة فيه، فإذا قلنا إنها يصدق عليها مع ذلك أنها ساجدة تحت العرش لأنها خاضعة لمشيئة الله تعالى ولأن كل مخلوق هو تحت عرش الرحمن، إذا قلنا هذا أو أنه تمثيل لخضوعها في طلوعها وغروبها وهو أقرب، فهل ينطبق على السؤال والجواب انطباقًا ظاهرًا لا مراء فيه؟ اللهم لا. (ولكن هذا النوع من الحديث على ندرته في الصحيح قد يُخرَّج بعضه على أنه من باب الرأي في أمور العالم. والأنبياء لا تتوقف صحة دعوتهم ونبوتهم على العلم بأمور المخلوقات على حقيقتها ولم يقل أئمة الدين إنهم معصومون فيها كما يدل عليه الحديث الصحيح في تأبير النخل، ولكن يستثنى الأخبار عن عالم الغيب فهم معصومون فيه) اهـ. هذه هي عبارتنا بنصها وفصها التي استند إليها البهات المحرف في اتهامه إيانا برد حديث عمر في رجم الشيخ والشيخة وأنه كان آية من القرآن ورد حديث سحر اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم وحديث سجود الشمس وتكبيره للأمر بأنها وردت في الصحيحين، ونحن إنما ذكرنا هذه الأحاديث وغيرها كحديث المعراج وحديث صلاة الكسوف وحديث خلق السموات والأرض في سبعة أيام من باب التمثيل للأحاديث المشكلة التي تتعلق بموضوع المناظرة التي حكمنا فيها بما بينا به مزية الصحيحين وأن ما انتقده المحدثون والمتكلمون والفقهاء وردوه من أحاديثهما قليل لا ينافي تفضيلهما على غيرهما، وقد ذكرناها بموضوعها لا بنصوصها بل لم نذكر حديث عمر في الرجم مطلقًا؛ لأن المقام مقام التمثيل لما انتقده بعض المتناظرين بالإجمال، ولم نذكرها لاستئناف انتقاد عليها أو استشكال لها من عند أنفسنا، ولا لأجل الأجوبة عنها فإن هذا قد بيناه في مواضع أخرى من المنار وتفسيره، ولكل مقام مقال، من تفصيل وإجمال، وهذا معهود في جميع الكتب، فكيف ينكر مثله الصحف؟ ولكن باغي العنت بطرق المغالطة في الجدل، يجعل حكاية خصمه لقولٍ مذهبًا له، وسكوته عن بيان شيء في غير موض

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال التاسع: استشكال العلماء لحديث الشمس وأجوبتهم عنه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقال التاسع (7) استشكال العلماء لحديث الشمس وأجوبتهم عنه هذا الحديث رواه الشيخان وبعض أصحاب السنن والمسانيد والتفسير المأثور والبيهقي في الأسماء والصفات بألفاظ متقاربة ولكنها غير متفقة، ورواه غيرهم بزيادات مختلفة بل مختلقة، ولفظ البخاري في باب بدء الخلق بسنده: عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: (أتدري أين تذهب؟) قلت: الله ورسوله أعلم، قال (فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} (يس: 38) ورواه أيضًا في تفسير سورة يس وفي كتاب التوحيد هكذا بالعنعنة وقد استشكله العلماء من الجهتين اللتين تقدم ذكرهما وكان استشكالهم مخالفته لما تقرر في علم الهيئة أقوى وأجوبتهم عنها أضعف. وقد كان جماهير علماء المسلمين حتى غير الناظرين في علم الهيئة الفلكية يعلمون أن نور القمر مستمد من نور الشمس وعلماء المنطق منهم يمثلون بهذا للحدس المنطقي الذي هو أحد اليقينيات الستة، وكانوا يعلمون أيضًا أن سبب خسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس ويمثلون بذلك للقضية الوقتية في المنطق أيضًا، وقال الغزالي: إن من أدلة كروية الأرض ظهور ظلها في القمر عند خسوفه مستديرًا، وإن هذا من القطعيات. فرؤية القمر بعد غروب الشمس دليل حسي على وجود الشمس وراء الأفق التي تتوارى عنه مقابلة للقمر تلقى نورها عليه. ولم يكن علم الهيئة وصل في عهدهم إلى ما وصل إليه الآن ولا علم الجغرافية أيضًا. ولا كان الناس في عصرهم يطوفون حول الأرض بطيارتهم وغيرها فيرون بأعينهم مصداق أدلة ثبات الشمس في فلكها، أفليس من الجناية على الإسلام أن تحكم مجلة الأزهر على من يقول أن مضمون الحديث مخالف للحس بأنه مكذب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ *** ما نقله الحافظ ابن حجر في استشكال العلماء للحديث وأجوبتهم عنه قال الحافظ ابن حجر في شرحه له من فتح الباري: والغرض منه هنا بيان سير الشمس في كل يوم وليلة. وظاهره مغاير لقول أهل الهيئة أن الشمس مرصعة في الفلك، فإنه يقتضي أن الفلك هو الذي يسير، وظاهر الحديث أنها هي التي تسير وتجري، مثله قوله تعالى في الآية الأخرى {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} (يس: 40) أي يدورون. قال ابن العربي: أنكر قوم سجودها، وهو صحيح ممكن. وتأوله قوم على ما هي عليه من التسخير الدائم، ولا مانع أن تخرج عن مجراها فتسجد ثم ترجع. قال الحافظ بعد نقله لهذا: قلت: إن أراد بالخروج الوقوف، فواضح وإلا فلا دليل على الخروج. ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من الملائكة أو تسجد بصورة الحال فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع في ذلك الحين اهـ. فعلم من هذا أن العلماء استشكلوا الحديث وقالوا كما قلنا بأنه مغاير لقول علماء الهيئة القطعي وأنهم استشكلوا أيضًا سجودها وأنكره بعضهم ولم يكفرهم متأولوه. وأجابوا عنها بما رأيت وما سترى مما ننقله إليك، ووازن بعد ذلك بين أجوبتهم وجوابنا. وقال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث من تفسير سورة يس من صحيح البخاري ما نصه: وروى عبد الرزاق من طريق وهب بن جابر عن عبد الله ابن عمرو في هذه الآية قال: مستقرها: أن تطلع فيردها ذنوب بني آدم، فإذا غربت سلَّمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها فتقول: أن السير بعيد، وإني أن لا يؤذن لا أبلغ، فتحبس ما شاء الله ثم يقال: اطلعي من حيث غربت. قال: فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسًا إيمانها. وأما قوله (تحت العرش) فقيل: هو حين محاذاته ولا يخالف هذا قوله: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) فإن المراد بها نهاية مدرك البصر حال الغروب، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد الغروب. وفي الحديث رد على من زعم أن المراد بمستقرها غاية ما تنتهي إليه في الارتفاع وذلك أطول يوم في السنة. وقيل: إلى منتهى أمرها عند انتهاء الدنيا. وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر تحته استقرار لا نحيط به نحن. ويحتمل أن يكون المعنى: أو علم ما سألت عنه من مستقرها تحت العرش في كتاب كتب فيه ابتداء أمور العالم ونهايتها، فينقطع دوران الشمس وتستقر عند ذلك ويبطل فعلها. وليس في سجودها كل ليلة ما يعيق عن دورانها في سيرها. اهـ. ثم قال الحافظ بعد نقل هذه الاحتمالات في تأويل الحديث والآية: قلت: وظاهر الحديث أن المراد بالاستقرار وقوعه في كل يوم وليلة عند سجودها. ومقابل الاستقرار: المسير الدائم المعبر عنه بالجري، والله أعلم. اهـ. أقول: يعني أن هذه التأويلات خلاف المتبادر من لفظ الحديث. وأما حديث عبد الرزاق من طريق وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو بن العاص الذي نقله وسكت عليه فهو أعصى على تأويلنا وتأويلهم وأبعد عنهما بُعد الشمس عن العرش وفي معناه روايات أخرى أغرب منه. ووهب هذا ثقة وثقه ابن معين والعجلي وقال علي بن المديني وابن حبان: وهب بن جابر مجهول سمع من عبد الله بن عمرو ابن العاص قصة يأجوج ومأجوج و (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت) ولم يرو غير هذين، وقال النسائي: مجهول. وكفى بقول علي بن المديني أنه لم يرو غير هذين، حجة على أن رواية حديث الشمس عنه مردودة سواء كان ثقة أم لا! *** جواب الحافظ ابن كثير في تفسيره وأجاب العماد ابن كثير عن سجود الشمس تحت العرش بما حاصله أن العرش قبة ذات قوائم تحمله الملائكة وهو فوق العالم مما يلي رءوس الناس فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى العرش، فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام، وهو وقت نصف الليل صارت أبعد ما تكون من العرش، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث. اهـ. وهذا جواب من يصدق الفلكيين في ثبات الشمس في فلكها ودوران الفلك بها حول الأرض، وقد نقض ارتقاء علم الهيئة بالمناظير المقربة للأبعاد هذا المذهب اليوناني، وأجمع علماء الفلك في هذا العصر على كروية الأرض ودورانها تحت الشمس الثابتة في مركزها. على أن قوله منقوض على ذلك المذهب أيضًا إذ لا خلاف عند أهله في كروية الأرض وسكنى الناس على سطحها من كل جانب فلا يتجه القول بأن العرش فوق رءوس المقيمين في جانب منها دون آخر. *** ما نقله الفقيه ابن حجر الهيتمي في حديث سجود الشمس جاء في الفتاوى الحديثية للشيخ أحمد بن حجر الهيتمي ما نصه: وسئل نفع الله به: إذا غابت الشمس أين تذهب؟ فأجاب بقوله: في حديث البخاري أنها تذهب حتى تسجد تحت العرش. زاد النسائي (ثم تستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تستأذن فلا يؤذن لها وتؤمر بالطلوع من محال غروبها) ولا يخالف هذا قوله تعالى {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: 86) لأن المراد به نهاية إدراك البصر لها حال الغروب، وسجودها تحت العرش إنما هو بعد الغروب. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس أنها بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء بفلكها، وإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا غربت دخلت نهرًا تحت العرش فتُسبِّح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن الخروج، قال: ولم؟ قالت: إني إذا خرجت عُبدتُ من دونك. وقيل: يبتلعها حوت ، وقيل: تغيب في عين حمئة كما في الآية والحمأة بالهمز ذات الطين الأسود، حامية بالياء أي حارة ساخنة، وقيل: تطلع من سماء إلى سماء حتى تسجد تحت العرش وتقول: يا رب إن قومًا يعصونك، فيقول لها: ارجعي من حيث جئت، فتنزل من سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق، وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر. قال إمام الحرمين وغيره: لا خلاف أنها تغرب عند قوم وتطلع عند قوم آخرين، والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين إلا عند خط الاستواء فيستويان أبدًا، وفي بلاد (بُلغار) بموحدة مضمومة ثم معجمة لا تغيب الشمس عندهم إلا مقدار ما بين المغرب والعشاء ثم تطلع) اهـ أقول: الشيخ أحمد بن حجر هذا هو الفقيه الشافعي المتوفى سنة 973 وهو قليل البضاعة في الحديث وفي علوم المعقول ينقل من الكتب عند الحاجة، وما عزاه إلى النسائي من لفظ الحديث ثابت في البخاري، وسائر الروايات التي ذكرها لا تصح. وقد أورد كلام علامة المعقول الأكبر إمام الحرمين ولم يرده لأنه إمام الأشعرية والشافعية الذين يقلدهم ولا استطاع أن يوفق بينه وبين الحديث. *** فائدة لها علاقة بحديث الشمس يقول الفقيه ابن حجر الهيتمي: هذا إذا اختلف العلماء، فالذي يجب اعتماده كلام الفقهاء. ولكن بضاعة أكثر الفقهاء مزجاة في مشكلات الأحاديث ولاسيما غير الفقهية وقد قرأنا في بعض كتبهم تعليلاً لبرودة مياه الآبار في الصيف وحرارتها في الشتاء كما يتوهم من لا يعرف الحقيقة وهو أن الشمس يطول مكثها تحت الأرض في ليالي الشتاء لطولها فيكون دفء مياه الآبار من ذلك، ويقصر مكثها تحت الأرض في ليالي الشتاء لقصرها فتظل مياه الآبار باردة! فكيف يوفق محرر مجلة نور الإسلام بين هذا التعليل الخرافي وبين ما يفهم من ظاهر الحديث من أن الشمس في الليل تكون تحت العرش فوق السموات السبع؟ ؟ كعادته في تصحيح أمثال هذه الجهالات والخرافات؟ *** كلام الآلوسي وجوابه عن الحديث في تفسيره قال الشهاب السيد محمود الآلوسي في تفسير آية سورة يس من تفسيره روح المعاني ما نصه: وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال (يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت: الله تعالى ورسوله أعلم، قال: تذهب لتسجد فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها، فلذلك قوله عز وجل {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا} (يس: 38) وفي رواية (أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا الله تعالى ورسوله أعلم، قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة) الحديث، وفي ذلك عدة روايات وقد روي مختصرًا جدًّا. وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:] والشمس تجري لمستقر لها [قال: (مستقرها تحت العرش) فالمستقر اسم مكان والظاهر أن للشمس فيه قرارًا حقيقة. قال النووي: قال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحدي وعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع. ثم قال النووي: وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها، وذكر ابن حجر الهيتمي في فتاويه الحديثية أن سجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها. وأورد ملخص ما تقدم آنفًا ثم قال: والسجود تحت العرش قد جاء أيضًا من روايات الإمامية ولهم في ذلك أخبار عجيبة، منها أن الشمس عليها سبعون ألف كُلاب، وكل كُلاَّب يجره سبعون ألف ملك من مشرقها إلى مغربها، ثم ينزعون منها النور فتخر ساجدة تحت العرش، ثم يسألون ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا؟ فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عز وجل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها؟ فيأتيهم ال

وفيات الأعيان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشيخ محمد عبد القادر المليباري تُوفي في هذا العام عالمان عاملان مصلحان، أحدهما: الشيخ محمد أمين الشنقيطي في بلدة الزبير التابعة للبصرة، وقد كلَّفْنا أحد أصدقائه كتابة ترجمته، والثاني صديقنا الأستاذ المصلح الشيخ محمد عبد القادر في مليبار وقد كتب لنا ترجمته أحد تلاميذه ومريديه فننشرها باختصار قليل، وهي: في غرة رجب من هذا العام 1351 توفي العالم العلامة محرر المجلة الغراء ديبك (المنير) أستاذ الإصلاح الديني لمسلمي مليبار محمد عبد القادر المولوي ابن العالم المرحوم محمد كنجي رحمهما الله تعالى، ففقد مسلمو مليبار أستاذهم ومحيي أرواحهم بالإصلاح الإسلامي. وكانت أعمال التجهيز لجنازته على غاية من اتباع السنة رغم أهواء الخرافيين لأن أبناء الفقيد وأقرباءه وتلاميذه المصلحين قد بذلوا جهدهم لئلا يمزج الناس تشييع هذا المصلح الأول فيهم بشيء من مبتدعات هذه البلاد من الجهر بالتهليل أو غيره حين تشييع الجنازة حاملين لها أو ماشين معها، ومن جمع الناس وضيافتهم بعد الدفن في ذلك اليوم أو في الثالث أو غيرهما، فبفضل الله وتوفيقه كان تجهيز هذا المصلح الأكبر خاليًا من جميع البدع والمنكرات، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وكان أهل مليبار كافة وأهل بيت الأستاذ الفقيد بل كان هو نفسه أيضًا ممن يحافظون على المحدثات والبدع مقلدين لكتب المتأخرين المؤلفة في الفقه والتصوف وغيرهما من الفنون الإسلامية، ولكن بعد ما شرع الأستاذ يقرأ مجلة المنار الغراء هداه الله بها إلى التفكير في الإصلاح الديني، وصار أول أستاذ إصلاح في هذه البلاد المليبارية، جزاه الله عنا خير الجزاء، ورضي الله عنه وأسكنه في جنة الخلد، ومتعه بالنعيم المقيم، آمين، وهذه خلاصة ترجمته: كان الفقيد من أعضاء قبيلة كريمة معروفة بالمجد والشرف في نواحي تراونكور وفي الخارج أيضًا. ولد من أبوين كريمين سنة 1873م ووالده رحمه الله كان من التجار الكبار والعلماء الكرام أهل الغني والسخاء، وكان قد أحضر من الخارج بعض علماء ذلك الوقت لتعليم الفقيد، فقرأ عليهم وعلى غيرهم كتب النحو والبلاغة والفقه الشافعي والتصوف وحقائقه والمنطق، ثم لم يلبث أن وجه عقله للبحث عن حقائق الدين وأسرار العبادات والأعمال المشروعة. ثم بعد ما توفي والده وحصل على سهمه الخاص به من التراث أجمع أمره وعزم على وقف حياته على خدمة الأمة بماله ونفسه. وكان محبًّا لقراءة الجرائد والمجلات فأسس أولاً جريدته الأولى المشهورة باسم شوديشابهماني (الوطني) ومطبعة مسماة بذلك الاسم أيضًا، وبعد عام عين في رياسة تحريرها أديبًا هندوسيًّا مشهورًا بتحريكه للأفكار السياسية الاستقلالية في أهالي تروانكور، فمن ثَم شرعت الجريدة بقلمه السيال تفضح الحكومة وتنقد أعمال موظفيها ولاسيما وزيرها الأعظم الذي كان شهوانيًّا أكثر من أنه إداري، فاغتاظت الحكومة وصادرت الجريدة والمطبعة، ونفت الناصح الصادق من أرضها ومات في غربته، جزاه الله بصدقه وخير أعماله وأوصافه، فبهذه المصادرة خسر فقيدنا خسرانًا عظيمًا يقدر بخمسة آلاف روبية أو أزيد، وكان فقيدنا عقيب تأسيس الجريدة المذكورة قد أسس لخدمة أمته الإسلامية خاصة مجلته المشهورة باسم المسلم، ولكنه بعد هذه المصادرة التي خسر بها مطبعته قد اضطر لتعطيلها أيضًا، ثم لم يتمكن من متابعة أعماله للأمة والملة التي وقف حياته عليها إلا بعد ثلاث سنوات أو أربع. وفي سنة 1913م استأنف إصدار مجلة المسلم الغراء فوجد أمته الإسلامية على شيء من الاستعداد لقبول الإصلاح والتجديد، فعزم على الصدع بأهم قواعد الإصلاح الديني متوسلاً إليه بإصدار مجلة في لسان قومه بأحرف عربية؛ لأن غالب المسلمين من قومه رجالاً ونساء لا يقرءون لغتهم المليبارية بأحرفها الأصلية وإنما يقرءونها بالأحرف العربية، فأسس تلك المجلة باسم الإسلام ومطبعتها سنة 1917م وأصدر عددها الأول في غرة رجب سنة 1336 هـ منبهًا للمسلمين إلى أحوالهم الحاضرة من حيث دينهم وتعليمهم واجتماعهم واقتصادهم، وصادعًا بالإصلاح الديني المبني على الاعتصام بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالحين. وتلك المجلة (الإسلام) وإن لم يتمكن أن يصدر منها إلا خمسة أعداد فإنها نورت وجه أرض البلاد المليبارية، ووجهت وجوه عقلاء المسلمين المفكرين علماء كانوا أو عوام، شبانًا أو شيوخًا إلى مبادئها الإصلاحية من تعميم التعليمين الديني والعصري بين الذكور والإناث، مع المحافظة على التربية الدينية الصحيحة ونبذ الخرافات والبدع وجميع أنواع الأعمال الشركية، وتجديد توحيد الألوهية والربوبية، والاعتصام بالكتاب والسنة وسيرة السلف الصالحين في جميع نواحي الحياة، وعلاوة على ذلك جعل مجلة (المسلم) جريدة أسبوعية، وولي رياسة تحريرها أحد تلاميذه المصلحين حفظه الله آمين. ثم وجه همته إلى تأسيس الجمعيات بين أهل وطنه وخصوصًا المسلمين، فأسست جمعيات ومجالس في مختلف البلاد المليبارية: تراونكور وكوسن ومليبار، البعض بسعيه والباقي على وفق إرشاداته في الإصلاح الديني، وإن كان بعضها قد غاب من أفق الوجود فالبعض الآخر لا يزال حيًّا ظاهرًا عاملاً بتوفيق الله. وفي النهاية وجه عزمه إلى تأسيس دار النشر الإسلامية وإلى الصحافة، فشرع في إصدار مجلته الأخيرة ديبك (المنير) منها موجهًا عالي همته وأكبر عنايته إلى الرد على الملحدين والماديين الذين ظهرت قرونهم في أهالي هذه البلاد ولاسيما الهندوس والنصارى في هذه الأعوام الأخيرة، وإلى نشر محاسن الإسلام وفضائله وسائر المواضيع النافعة المهمة. فهاتان المؤسستان لا تزالان جاريتين، أدامهما الله تعالى آمين. كان قد شرع في تفسير القرآن الكريم بلغة قومه في مجلتيه الأخيرتين (الإسلام) و (المنير) وكان عضوًا من أعضاء الهيئة المؤلفة لامتحان معلمي العربية في مدارس الحكومة، وله مقالات في مختلف المواضيع الإصلاحية في جرائد شتى مليبارية، وترجم من الفارسية كيمياء السعادة للغزالي رحمه الله، ومن الأوردية رسالة أهل السنة والجماعة، ورسالة السنة والوحي، وكلتاهما للعلامة السيد سليمان الندوي حفظه الله. وترجم أيضًا رسالة السيد جمال الدين الأفغاني في الرد على الدهريين وله أيضًا رسالة (إسلام مت سدهانتهاسنكرهم) (خلاصة مبادئ دين الإسلام) . كان رحمه الله حليمًا، محبًّا للسلم والسكون، شجاعًا لا يخاف في الله لومة لائم، ولكنه على كونه لا يحب الثورة ولا الثوار في شيء، يحب ويكرم مبادئ الجمعية الوطنية الهندية، وكان ذا عزم وثبات لا يتزلزل للأهوال والبلايا مهما تكن عظيمة، وتقيًّا ورعًا لا يوصف، وكان إيمانه وتوحيده وتوكله وتفويضه جميع أموره إلى الله مثار تعجب عند جميع من يعرفون أحواله، وكانت أُخوته شاملة لجميع البشر، وكذلك كان صبره وصفحه وعفوه وتسامحه واحترامه للمخالفين تبعثه على الإحسان إليهم والرحمة بهم وكذا بأعدائه في جميع الأحوال، وكان على حظ عظيم من التواضع: يتواضع ويخفض جناحه لجميع الأصحاب بل لخَدَمِه أيضًا، وفي الجملة كان مثالاً عظيمًا لمكارم الأخلاق. وكان يعرف من اللغات سوى لغته المليبارية وآدابها: العربية والفارسية والأوردية والتاملية معرفة جيدة، والإنكليزية والسانسكريتية معرفة دون ذلك، وكان في العربية وعلومها الأدبية فردًا فذًّا في مليبار بل في جنوب الهند أجمع وفي العلوم الإسلامية وأسرارها ودقائقها من الأفراد النادرين الممتازين بالاستقلال في التفكير والبحث في بلاد الهند جمعاء. وكان بمنزلة الأب العطوف لجميع مسلمي مليبار (كيرله) في جميع سعيهم للتجديد والإصلاح غيَّر حركة الأحمدية، قاديانيين كانوا أو لاهوريين؛ إذ لم يشارك أي فريق منهم فيها، بل كان مخالفًا لها وإن لم يصوب سهامه إليها. وأما مذهبه في التجديد والاصلاح فقد كان فيه سلفيًّا لا يقول بالتقيد بأي مذهب كان غير مذهب أهل السنة والجماعة، داعيًا إلى نبذ جميع العادات والأعمال الشركية والخرافات والبدع الدينية، والاعتصام بالكتاب والسنة، وسيرة السلف الصالحين رضي الله عنهم، ومع كونه مستقلاًّ في البحث والتفكير كان في مبادئ التجديد والإصلاح موافقًا لإرشاد مجلة المنار الغراء، محبًّا لها ولصاحبها السيد محمد رشيد رضا حفظه الله، وكان يحب حكيمي الإسلام والشرق السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري رحمهما الله، وشيخ الاسلام ابن تيمية وتلاميذه، وشيخ الإسلام مرشد أهل نجد محمد بن عبد الوهاب، وللفقيد في الذب عن ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والثناء عليهما رسالة (ضوء الصباح) في اللغة المليبارية، وكان أيضا يحب إمام المملكة العربية السعودية عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل السعود، أصلحه الله وهداه ووفقه لما يحب ويرضى آمين، وقد أعقب رحمه الله ذرية مباركة: بنتًا واحدة وتسعة أبناء، أكبرهم عبد السلام نال شهادة البكالورية من الجامعة الوطنية الملية في دهلي، فنسأله تعالى أن يجعل منهم خير خلف لوالدهم الكريم المجدد الحكيم، ويوفق سائر أهل مليبار للاستقامة على ما هداهم إليه من الصراط المستقيم، وأن يثيبه عنا جنات النعيم. آمين. (المنار) إننا نشارك أنجال هذا الصديق الكريم والمصلح الحكيم ومريديه وسائر أهل وطنه في مصابهم العظيم بفقده، ونعزيهم أصدق التعزية، وندعو لهم بالثبات على ما أرشدهم، ونعدهم بأن نكون لهم كما كنا له فيما يرجعون إلينا، ونسأله تعالى أن يتولى توفيقهم وتوفيقنا. *** الشيخ محمد الكستي والشيخ عبد اللطيف نشابة وقد توفي هذا العام من رجال العلم والأدب في سورية الشيخ محمد الكستي قاضي الشرع الأكبر في بيروت، والشيخ عبد اللطيف نشابة في طرابلس، وكان كل منهما شاعرًا أديبًا، فالأول قد اشتهر بمنصبه فوق شهرته بأدبه وهو نجل المرحوم الشيخ أبو الحسن الكستي شاعر بيروت االمشهور، ولوالده ديوان كبير مطبوع، والثاني نجل أستاذنا الأكبر شيخ الشيوخ محمود نشابة الذي سبق لي التنويه بعلمه وفضله في المنار، وما تلقيته عنه من الحديث والفقه، وكان الشيخ عبد اللطيف ذكيًّا لوذعيًّا، لكن ضرورة المعيشة اضطرته إلى الاشتغال بالتجارة عن العلم، ولو انقطع لملازمة والده والتَّلَقِي عنه لكان تحصيله عظيمًا لذكائه. ولمَّا كنتُ أتردد على دار والده لقراءة الحديث والفقه عليه في الدروس الخاصة بي كان يُرَغِّبُنِي في دعوة الشيخ عبد اللطيف لحضورها معي على سبقه إياي في الطلب بضع سنين. رحمهم الله أجمعين.

خاتمة المجلد الثاني والثلاثين من المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الثاني والثلاثين من المنار نختتم هذا المجلد من المنار بما افتتحناه به من حمد الله عز وجل والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهديه، ثم بتذكير قرائه بحقه عليهم ولا سيما الذين يعتذرون بالعسرة العامة عن الوفاء له بهذا الحق، ويقل فيهم من يعجز عن توفير بضعة قروش في كل شهر من شهور السنة يساعد بها من وقف حياته طول السنة على خدمة دينه وأمته بعلمه وعقله وماله وسعيه، ومن كان منهم في هذه الحالة من العسر والفقر فلا عتب لنا عليه، ولكننا نعلم أن كثيرًا من المشتركين المُطْل ينفقون الألوف في الترف والزينة أو اللهو أو مظاهر الفخفخة الباطلة أو الولائم والمآدب والحفلات، ومن سرواتهم وأغنيائهم من أخَّر دفع قيمة الاشتراك منذ سنين لم يكن لهم عذر فيها بعسرة عالمية ولا شخصية. وكأن الذين يعتذرون أو يعذرون أنفسهم بالعسرة العالمية لا يفكرون في إرهاق هذه العسرة لصاحب المجلة، ولا في أن نفقته عليها أضعاف ما يطلب لها من كل واحد منهم، بل صار لا يكفيها كل ما يجيء من جملة المشتركين. ونسأل الله تعالى وندعوه لهم بدعاء الملائكة (اللهم أعط منفقًا خلفًا، وأعط ممسكًا تلفًا) . هذا ولو أن الحكومة نفذت علينا تلك الغرامة التي ذكرناها في الجزء الأخير من المجلد الحادي والثلاثين لعجزنا عن إصدار هذا المجلد 32، على أننا قد اضطرتنا العسرة ومضاعفة الحكومة لرسم البريد الخارجي إلى منع أكثر أجزائه عن الذين لم يدفعوا قيمة الاشتراك عما قبله في أكثر الأقطار النائية، حتى علمنا أن بعضها لم يصل إلى بعض الأوفياء الذين يؤدون حقه في كل عام لخطأ وقع في الإحصاء بالتمييز بين الموفين والماطلين، فلهؤلاء الحق في طلب ما لم يصل إليهم، وأما غيرهم فلا حق لهم في طلب شيء إلا مع إرسال قيمة الاشتراك إلى آخر هذا العام، وهو حق المجلد الثاني والثلاثين. لم يرد علينا في هذا العام شيء من الانتقاد على المنار، ولكن مشيخة الأزهر الرسمية قد هاجمت المنار فيه بمجلتها الرسمية التي سَمَّتْهَا نور الإسلام لا بنقد علمي يليق بعلماء الدين، بل بالطعن والسب والتجهيل والتضليل، وأفظع لوازم التكفير، ففضحت نفسها وهتكت الأستار عن جهلها بالكتاب والسنة وهدي سلف الأمة في عقائدها وآدابها، وعما هو شر من الجهل المقابل للعلم، وهو الجهل المقابل للعقل والحلم، وبالشتم والسباب، والنبز بالألقاب، وافتراء الكذب والبهتان، كما علم القراء من جزء المنار الماضي التاسع وهذا الجزء، وسيزدادون علمًا بذلك في أجزاء المجلد 33. كان في صدر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر لهذا العهد سخيمة وإحنة من حملات المنار على البدع والخرافات والموالد، التي جُعلت من قبيل شعائر الإسلام يُحتَفَل بها في المساجد، وهو قد تربى في نعمها وثروتها وجاهها، ولم يكن يتجرأ على الرد ولا على النقد لأسباب يتوقف بيانها على سيرته العلمية والشخصية، وهذا مما لا نخوض فيه، ولكنه كان منذ سنين يتمنى لو يوجد في مشايخ الأزهر من يشفي غلته بالطعن في المنار وصاحب المنار، فلم يظفر بما تمناه إلا بعد أن صار شيخًا للأزهر، وصار للمشيخة مجلة، وجعل هو من محرري هذه المجلة من ينصر رأيه في بدع القبور والمشاهد والموالد وغيرها وهو الشيخ يوسف الدجوي، وكان يعلم أن في صدر هذا الشيخ مثل ما في صدره من سخيمة وحقد على صاحب المنار، فأباح له أن ينشر في مجلة الأزهر ما نشره من تأييد البدع والخرافات، وكان من المعلوم من البداهة أن ينتقد ذلك عليها صاحب المنار وقد كان. وكان من جرائه ما كان من عدوان، وافتراء وبهتان، والدليل على ما بسطناه في حديث السعي للصلح ومنه وعد شيخ الأزهر بنشر أجوبتنا عن مطاعن مجلة المشيخة، وإصدار أمره بمنع توزيع رسالة الدجوي البذيئة وعدم تنفيذه إلخ، ولو حاكمنا الطاعن ورئيس تحرير مجلة المشيخة إلى محكمة الجنايات لحكمت عليهما بالعقاب أو اضطرتهما إلى طلب الصلح بناء على ما يعترفان به من الذنب والاعتذار عنه، ولكننا حاكمنا المشيخة ومجلتها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وقواعد العلم الحق في محكمة الأمة وهي الصحافة، فكان الحكم العدل عليها شديدًا، ونصر الله صاحب المنار على شيخ الأزهر وعلى الشيخ الدجوي، وأظهر فضل منار الإسلام الصحيح على مجلة الأزهر ولله الحمد من قبل ومن بعد. ينصر من يشاء وهو القوي العزيز. سيكون أهم مسائل المجلد الثالث والثلاثين إتمام بحث الوحي المحمدي ومقاصد القرآن وكليات فقهه الأعلى على الوجه الذي تبين به أنه لا يمكن إصلاح فساد الأمم والدول في هذا العصر بدون اتباع القرآن، والإيمان بنبوة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا موضوع لم يسبقنا أحد إلى مثله فيما أعلم. وسَنُقَفِّي على هذا بإبطال مسيحية الدجال ميرزا غلام أحمد القادياني وأتباعه المدعين للوحي له ولهم في هذا الزمان، وبيان حقيقة حال الأزهر وما ينبغي له فيه. وسنُتم إن شاء الله تعالى فيه ما كنا بدأنا به من تحرير مسألة الربا وما ألحق به من الأحكام المالية، ومنها معاملات المصارف (البنوك) والشركات المختلفة والأعمال وأنواع التأمين على البضائع والدور والسفن والحياة، ولا يزال أهل العلم يطالبوننا بإتمام هذا التحرير. وكنا نشرنا المسائل الأولى من موضوع محاضرتينا في التجديد والمجددين وفي المساواة بين النساء والرجال، ثم شغلنا عن إتمام الأولى ما بسطناه في تاريخ الإمامين الحكيمين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري من بيان تجديدهما وهو المقصد من موضوع هذه المحاضرة، وشغلنا عن إتمام نشر الثانية أننا بسطنا في رسالتنا (نداء للجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) جل ما أجملناه فيها. وبقي علينا أن نختم المحاضرتين بخلاصة ما في التاريخ والرسالة لأجل إصدار ما طبعناه من كل منهما على حدته، كذلك كنا وعدنا في المجلد الثامن والعشرين أن نبين رأينا في قانون الزواج الذي وضعته الحكومة المصرية لمحاكمها الشرعية، ثم نسيناه فذكرتنا به رسالة أو استفتاء لأحد العلماء في بعض الأقطار الإسلامية بيَّن لنا شدة حاجة بلادهم إلى هذا القانون وأنه ما منعهم من العمل به إلا انتظار ما نقوله فيه لشدة ثقتهم بنا وسنعود إلى قراءة هذا القانون وإبداء رأينا فيه إن شاء الله. وفي الختام ندعو أهل العلم والرأي بما اعتدنا دعوتهم إليه في كل عام من الانتقاد على ما يرونه في المنار مخالفًا للحق أو المصلحة العامة ونعدهم بنشره بشرطه الذي ذكرناه مرارًا. ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضيه من بيان الحق المبين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

فاتحة المجلد الثالث والثلاثين من المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الثالث والثلاثين من المنار بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين * المبعوث لإصلاح البشر أجمعين * الذي امتن عليه ربه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وآله وصحبه ومن اتبعهم في هدي ملته والتزام سنته إلى يوم الدين. {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه: 25-28) . أما بعد، فإنني أذكر من يعقل من المسلمين في فاتحة هذا المجلد من المنار، وهو الثالث والثلاثون الذي يصدر في السنة السادسة والثلاثين الهجرية من تاريخ إنشائه بأهم ما يجب أن يفكروا فيه من حالهم ومآلهم على بصيرة من علم الحياة الذي عرفه شيخنا الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى بقوله: (العلم ما يعرفك من أنت ممن معك) فأقول: إن الإسلام دين إيمان وعبادة، وعلم وحكمة، وسياسة ملك ودولة، وأساس عمران وحضارة، خاطب الله تعالى به جميع البشر يدعوهم به إلى الإصلاح العام بالمساواة بين جميع الأجناس، ونبذ التفرق بينهم بالأنساب والألوان، واللغات والأوطان، بما شرعه في كتابه القرآن، من القواعد والأحكام والآداب. بعث الله به نبيًّا أميًّا في أمة أمية غير مقيَّدة بسلطة روحية ولا سياسية تحول دون فهمه، والنهوض به وتنفيذه، ففعل به هذا النبي وأصحابه في عصر واحد ما لم يفعله نبي من الأنبياء بما أوحي إليه، ولا حكيم من الحكماء بفلسفته، ولا ملك من الملوك بسياسته، ولا أديب من الأدباء برأيه وبلاغته، ولا جملة من ذكرنا من رؤساء البشر وزعمائهم في جميع عصورهم. ظهر في آسية مهد الأديان الكبرى السائدة في جميع العالم، والحكمة العليا والحضارة الأولى اللتين استمد منهما سائر البشر حكمتهم وحضارتهم من قبله، فاستعلى بدينه وحكمه وحكمته وسياسته وحضارته على كل ما كان لدى شعوب البشر من ذلك كله فيهما، وتدفق سيله على أفريقية فغمرها من الرجا الشرقي إلى الرجا الغربي منها، فأحيا الأرض بعد موتها، وفاض شؤبوب منه على أوربة، فأنبت في الأندلس دولة راقية بالعلم والأدب والعمران اقتبست منها سائر شعوبها العلم والحكمة والحضارة، ثم امتد فتحه إلى الجنوب منها بما أنذرها قرب الاستيلاء عليها كلها. ولكن الفاتحين من الصحابة والتابعين كانوا قد اختلطوا بغيرهم ممن كان حظهم من الفتح ترجيح الغنائم والكسب، على الإصلاح والعدل، فنفخوا في الإفرنج روح العصبية الدينية والقومية، حتى انتهى ذلك باتفاق شعوب أوربة كلها على عداوة الإسلام فوجهت جميع قواها إلى محاربة المسلمين بقتالهم لإخراجهم من بلادها التي فتحوها في فرنسة وأسبانية، ثم بمحاربته في غيرها من بلاد الشرق، ثم بما هو أشد من ذلك خطرًا وأعمق أثرًا، وهو بث نفوذهم المعنوي في ملوكهم وحكوماتهم ومدارسهم وكتبهم وصحفهم، حتى صار زعماء المسلمين من حكام وكتاب ومعلمين ومؤلفين يخدمون أوربة ببث نفوذها المعنوي في شعوبهم وإضعاف جميع مقوماتها ومشخصاتها الملية والقومية من حيث لا يشعرون، ولا أستثني منهم الذين يدعون إلى مقاومة نفوذها باستقلال بلادهم وتقليص ظلها عنها إلا قليلاً منهم. هذه قضايا أساسية في تاريخنا الحديث أثبتناها مرارًا كثيرة بأساليب مختلفة يغنينا تفصيلها السابق عن الإطالة بها في هذا التذكير الإجمالي الوجيز الذي نرمي فيه إلى بيان موقف العالم الإسلامي أمام أوربة في طورها الجديد، بعد الحرب الكبرى التي كان الغبن الأكبر فيها على الشعوب الإسلامية العربية التي ساعدت أعداءها من دول أوربة، والربح للشعوب الأعجمية التي عادتها وحاربتها وهم الترك، والتي لزمت الحياد وهم الأفغانيون والإيرانيون، فأمامنا الآن خمس قضايا جديدة: حالة أوربة، ودول الإسلام الأعجمية وشعوبها، وشعوبه الأعجمية الخاضعة لغيرها، والعرب أرومة الإسلام الأولى شعوبها وحكوماتها، ومركز الإسلام الذي يرجى تجديده فيه. 1- حالة أوربة الحاضرة: خرجت أوربة من الحرب العامة منهوكة القوى مثقلة بالديون، منحلة الروابط الدينية والأدبية، مرتكسة في فوضى الإباحة، مهددة بالثورة البلشفية التي أسست لها أقوى دولة خلفت القيصرية الروسية، وهي تبث دعايتها في العالم، وبالخطر الأصفر الياباني، وبيقظة الشعوب الشرقية كلها حيث ينابيع ثروتها، بل مهددة بما هو أشد خطرًا عليها من ذلك كله وهو استعار نيران البغضاء وغليان مراجل العداوة في قلوب دولها وشعوبها بعضهم لبعض بعصبية الجنس والوطن وتباريها في الأثرة المالية، وتنافسها في الاستعداد للحرب المبيدة الآتية، فهي الآن على فقرها وكساد تجارتها وعجز ميزانياتها تنفق جل دخلها على إعداد ما تستطيع من قوة للحرب البرية والبحرية والجوية، واختراع الغازات السامة التي تفني ألوف الألوف من البشر في ساعة أو ساعات قليلة، مصداقًا؛ لقوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} (المائدة: 64) . ويخشى أن تكون الحرب المرتقبة كالريح العقيم التي وصفها الله تعالى بقوله: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} (الذاريات: 42) فيكونون كما قال: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ} (الأحقاف: 24- 25) فلا يطفئها الله تعالى حتى يهلك بها جميع الظالمين. إن شعوب أوربة لفي أشد الخوف والرعب من عاقبة هذا الشقاق والعداء بين دولها أن يُفْضِيَ إلى هذه الحرب وقد كثرت أسبابها، وهي في حَيْرَة من أمرها، ودهاقين سياستها يعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات، ويحررون المعاهدات وينقحون القديم منها لتلافي الخطر، ودرء الخطب المنتظر، ولكنهم فيها مضرب المثل في قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} (النحل: 92) ، وكل فريق منهم يضمر ويُسِرّ للآخر خلاف ما يُعْلِن، ويُظهِر للعالم غير ما يُبْطِن، وهذا عين الدَّخَل الذي يُفسد المعاهدات، ويُلجئهم إلى نقضها نقض الأنكاث، الذي يضطرهم إلى إعادة إبرامها لفسادها، فأنَّى يوفقون إلى الإصلاح وهم المفسدون؟ ألا إنه لا إصلاح بلا إخلاص، ولا إخلاص بلا إيمان، ولا يمكن الجمع بين الإيمان والعلم والعمران، إلا بدين القرآن، وهم عنه معرضون، ولأهله مُحَادون: ] وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ [1 {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} (الأحقاف: 26) . فذرهم في طغيانهم يعمهون، وفي ريبهم يترددون، بل هم أعداء أنفسهم فيما بينهم، لا يكادون يتفقون إلا على الكيد للإسلام والعدوان عليه. وانظر في حاله في أهله، ومكانهم من هدايته، هل هم حجة له على أعدائه وأعدائهم، أم هم فتنة لهم عنه وعون لهم على أنفسهم؟ هل هم دعاة إليه بأخلاقهم وأحكامهم وعلومهم وأعمالهم وقوتهم وعمرانهم، أم هم صادُّون عنه؟ وكيف يكون مستقبلهم معهم إذا وقعت الواقعة؟ (2) دول الإسلام الأعجمية وشعوبها: إن دول بلاد الإسلام كلها ضعيفة تجاه دول أوربة، ولكنَّ في شعوبه شيئًا من اليقظة والتوجيه للاستقلال السياسي ولتقليد الإفرنج في الحضارة المادية والنظام المالي والقوة العسكرية لحفظ هذا الاستقلال، وكل ذلك من الضروريات التي يوجبها الإسلام وطالما دعونا المسلمين إليها، وصرفنا لهم الآيات فيها والحجج عليها، ولكن هذا التقليد فيما ينفع مشوب بما يضر من الإسراف في الشهوات ونزغات الإلحاد وفوضى الآداب وقد فازت الشعوب الأعجمية الثلاثة بهذا الاستقلال، أعني الترك والفرس (الإيرانيين) والأفغان. فأما الترك فقد كونوا من أنقاض الدولة العثمانية التي قوضتها الحرب العظمى دولة جمهورية مستقلة تعنى أشد العناية بالقوة العسكرية وبالعمران المادي، ولكنها إلحادية (لا دينية) تزهق روح الشعب الديني، ولا يحيا شعب بغير دين، وروح الإسلام كامنة في الشعب التركي ستظهر بقوة عظيمة يفجرها الضغط عند انتهاء حده. وأما الأفغان فقد شرعوا في عهد الملك السابق أمان الله خان يقلدون الجمهورية التركية في الإلحاد، وفي تقليد الإفرنج في الحضارة المادية وفوضى الآداب، فكفاهم الله شره، وأدال لهم منه الملك نادر خان الجامع بين قوتي الحضارة والإسلام. وأما الفرس (أو الإيرانيون) فهم وسط في هذه الأمر بين الأفغان والترك، فالشاه الجديد عسكري بالطبع والتربية فهو خير منظم للقوة العسكرية من برية وبحرية وجوية، وموجه كل همته معها إلى التنظيم المالي وتفجير ينابيع الثروة. وجملة القول أن هذه الدول الثلاث قد استفادت من ضعف دول أوربة الذي أشرنا إليه، وتم لها استقلالها بعد الحرب العظمى التي قلبت نظام العالم، وإنها تعنى بالإصلاح العسكري والمالي الذي لا تحيا الدول بدونه عناية شديدة على الطرق الغربية، وإن البلاد التركية وهي أقواهن ليهددها من الخطر المعنوي ووقوعها بين أوربة الرأسمالية والروسية البلشفية ما لا يهدد أختيها، ولو عقل زعماء سياستها وقادة قوتها ما عقله نابليون بونابرت الكبير من قوة الإسلام المعنوية أو ما يعقله منها قيصر الألمان الأخير لأمكنهم في هذه الفترة التي شغلت دول أوربة بأحقادها القومية والدولية ومشاكلها المالية وفوضى شعوبها الأدبية أن يؤسسوا بالاتحاد مع العرب وإيران والأفغان قوة جديدة في الشرق الأدنى تسوده فتكون فيه أعظم من اليابان في الشرق الأقصى، ثم تكون هي المنقذة لأوربة مما ينذرها من خطر الفوضى التي أشرنا إليها، لا للإسلام والشرق فقط [2] . ولو ظهر في الأفغان أو إيران مصلح حكيم آخر كالسيد جمال الدين لأمكنه في هذه الفترة تنفيذ ما توجهت إليه همة السيد جمال الدين المصلح الأول من تأسيس دولة عزيزة للإسلام تحيا بقوتها وعزتها الأمة الإسلامية كلها، وتستقل بها شعوب الشرق الأدنى والأوسط كلها أيضًا، فتتجدد الإنسانية بأصول الإسلام تجديدًا تزول به العصبيات الجنسية والقومية، وامتياز الألوان والطبقات في الإنسانية، ويكون تأويلا لرؤيا بعض الحكماء المتقدمين ومحققًا لأمانيهم في الأخوة الإنسانية عامة، التي أشار إليها السيد قدس الله روحه في آخر رسالته (الرد على الدهريين) . وجملة القول في الدول الإسلامية الأعجمية أن الأفغان أرجاها لتجديد الإسلام إن ظهر من يقوم به في هذه العصر، ولكن علماءهم أشد جمودًا على تقليد فقهاء مذهبهم الحنفي، وإنما الفقه أحكامٌ للعبادات ونُظُمُ الحكومة، فلي

الحج نفقاته وشقته ومشقاته

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحج نفقاته وشُقَّته ومَشَقَّاته وحال المسلمين الأولين والمعاصرين فيها [1] كان الناس من المسلمين يحجون بيت الله عز وجل مشاة احتسابًا لزيادة الأجر لا للعجز عن الراحلة، حتى إن هارون الرشيد أعظم ملوك الأرض في عصره ثروة وترفًا وعظمة حج ماشيًا، ولكن كان يفرش له اللباد مرحلة بعد مرحلة فيطأ عليه. وكان الناس يحجون من أبعد أقطار الأرض عن الحجاز كالمغرب الأقصى والأندلس من جهة الغرب، والهند والصين من جهة الشرق إما برًّا فقط وإما برًّا وبحرًا فيقطع أحدهم المسافة في سنة أو سنتين أو أكثر وينفق الألوف الكثيرة من الدراهم والدنانير مما يعده لهذا النسك من أطيب كسبه، ويعد إنفاقه أفضل ما يدخره لمثوبة ربه، فإذا هو عاد إلى وطنه حيًّا سالمًا أقيمت له الاحتفالات في أهله، ووجهت إليه التهاني من صحبه، ومن الأدباء والشعراء في وطنه إن كان من أهل العلم والأدب أو الوجاهة والثروة. وإننا لا نزال نرى بقية لهذه الاحتفالات والتهاني للحجاج في هذه البلاد القريبة من الحرمين الشريفين في هذه العصر الذي قربت فيه المسافة وسهلت فيه المواصلة، وصار من الممكن للمصري أن يسافر من مصر في أوائل ذي الحجة الحرام إلى مكة المكرمة فيحج ويتم المناسك في منتصفه، ولا يلبث أن يعود إلى وطنه في الأسبوع الثالث منه إذا لم يزر الحرم النبوي الشريف، والقبر المكرم، ولولا الحجر الصحي الاحتياطي لما استغرق سفر الحج شهر ذي الحجة كله ذهابًا وإيابًا بمنتهى الراحة والرفاهة التي كان يعجز عنها الملوك في القرون الماضية. وأما نفقة الحج الرسمية فقد وضعت حكومة الحجاز لها تعريفة في هذا العام علم منها أنه يمكن للرجل أن ينفق على حجه هنالك بضعة جنيهات فقط بدون الزيارة وبضعة عشر جنيهًا مع الزيارة، وقلما تصل نفقة ركاب السيارات في الحج والزيارة التي لا بد منها إلى عشرين جنيهًا، وأحدثت للحجاج المترفين فنادق يجدون فيها أحسن الطعام وأنقى الماء وجميع أسباب الراحة والصحة. ولقد كنت أعددت لحجتي الأولى مع الوالدة رحمها الله تعالى مائة جنيه ذهبية، وإنما لم أنفقها كلها لأنني كنت ضيفًا للملك حسين رحمه الله تعالى مدة وجودي في الحجاز، كما كنت في الحجة الثانية ضيفًا للملك عبد العزيز أطال الله بقاءه موفقًا للإصلاح. ومن أغرب أمر المسلمين في هذه الزمان أننا نسمع من بعض حجاجنا ونقرأ لبعضهم من المقالات في الجرائد من التبرم والشكوى من نفقات الحج ومتاعبه ما يدل أصح الدلالة على ضعف دينهم وعدهم الإنفاق في سبيل الله ونيل القربات عنده من المغارم، وإن كانت واجبة، لا صدقات مندوبة. ويستبيحون لأنفسهم الطعن في الذين يخدمون الحجاج في حِلِّهِم وترحالهم وطعامهم وشرابهم ومنامهم وتعليمهم المناسك وصحبتهم في أثناء أدائها، وفي غير ذلك من الزيارات، والطعن في حكومتهم أيضًا مما يخشى أن يكون آية على أن حجهم غير مبرور ولا مقبول عند الله تعالى. لهذا رأيت أن أنشر لهم في هذه الأيام من أشهر الحج أثارة تاريخية من حج المسلمين في القرون الوسطى التي كان حال أهلها في الدين دون حال من قبلهم في خير القرون، وما كانوا يقاسونه في هذه السبيل سبيل الله من الشدائد والمغارم راضين من الله محتسبين الأجر عنده؛ لتكون عبرة لمن يتذكر ويخشى الله عز وجل، ويشكر نعمه على أهل هذا العصر. *** مشقات الحج ونفقاته في القرن السادس الهجري إن العالم الكاتب الشاعر الأديب أبا الحسين محمد بن أحمد بن جبير الغرناطي الأندلسي قد حج البيت الحرام ثلاث مرات، خرج للأولى من غرناطة لثمان من شهر شوال سنة 578 ثم ركب البحر من سبتة في مركب للروم الجُنْوَيين في 28 منه قاصدًا الإسكندرية، وبعد حجه وإلمامه بالعراق فسورية عاد إلى الأندلس في البحر ولقي فيه أهوالاً عظيمة منها انكسار مركبهم. وما وصل إلى بلده غرناطة إلا لثمان بقين من المحرم سنة 581 وكان في أثناء هذه الرحلة يقيد أهم ما رآه وما سمعه وما ألم به هو من معه فكان ذلك كتابًا حافلاً سمِّيَ (تذكرة بالأخبار، عن اتفاقات الأسفار) واشتهر برحلة ابن جبير. وإنني أنقل منه هنا بعض ما كتبه من خبر إرهاق الحجاج في الإسكندرية ثم في صعيد مصر وبعض ما كتبه عن جدة ثغر الحجاز الأعظم وأهلها وأمير مكة وظلم الحاج وإرهاقهم؛ ليكون عبرة لإخواننا المصريين ولسائر المسلمين، فيشكروا نعم الله تعالى عليهم بما مَنَّ على عباده من تيسير إقامة هذا الركن العظيم من أركان الإسلام في هذا العصر وقلة نفقاته. حال الحجاج في الإسكندرية والصعيد في القرن السادس سنة 578 هـ قال ابن جبير في حوادث شهر ذي الحجة سنة 578: أوله يوم الأحد ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية، فمن أول ما شاهدنا فيها يوم نزولنا أن طلع أمناء إلى المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحدًا واحدًا وكتبت أسماؤهم وصفاتهم وأسماء بلادهم، وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناضٍّ ليؤدي زكاة ذلك كله، دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل، وكان أكثرهم متشخصين لأداء الفريضة لم يصطحبوا سوى زاد لطريقهم، فلزموا أداء زكاة ذلك دون أن يسأل هل حال عليه حول أو لا؟ واستنزل أحمد بن حسن منا ليسأل عن أبناء المغرب، وسلع المركب، فطيف به مرقبًا على السلطان أولاً، ثم على القاضي ثم على أهل الديوان، ثم على جماعة من حاشية السلطان، وفي كل يُسْتَفْهَمُ ثم يُقَيَّدُ قولُه، فخلي سبيله وأمر المسلمين بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم، وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم ويحمل جميع ما أنزلوه إلى الديوان، فاستدعوا واحدًا واحدًا، وأحضر ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص بالزحام، فوقع التفتيش لجميع الأسباب ما دق منها وما جل واختلط بعضها ببعض، أدخلت الأيدي إلى أوساطهم بحثًا عما عسي أن يكون فيها، ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا؟ وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس؛ لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام، ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم، نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك، وهذه لا محالة من الأمور المُلَبَّس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين، ولو علم بذلك على ما يُؤْثَر عنه من العدل وإيثار الرفق لأزال ذلك وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة واسْتؤُدُوا الزكاة على أجمل الوجوه، وما لقينا ببلاد هذا الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة التي هي من تشدد الدواوين. ثم قال في الكلام على قوص وغيرها من الصعيد ما نصه: وببلاد هذا الصعيد المعترضة في الطريق للحجاج والمسافرين كإخميم وقوص ومنية ابن الخصيب من التعرض لمراكب المسافرين وتكشفها والبحث عنها، وإدخال الأيدي إلى أوساط التجار فحصًا عما تأبطوه أو احتضنوه من دراهم أو دنانير ما يقبح سماعه، وتستشنع الأحدوثة عنه، كل ذلك برسم الزكاة دون مراعاة لمحلها أو ما يدرك النصاب منها حسبما ذكرته في ذكر الإسكندرية من هذا المكتوب، وربما ألزموهم الأيمان على ما بأيديهم، وهل عندهم غير ذلك؟ ويحضرون كتاب الله العزيز يقع اليمن عليه، فيقف الحجاج بين أيدي هؤلاء المتناولين لها مواقف خزي ومهانة تذكرهم أيام المكوس. وهذا أمر يقع القطع على أن صلاح الدين لا يعرفه، ولو عرفه لأمر بقطعه كما أمر بقطع ما هو أعظم منه، ولجاهد المتناول له، فإن جهادهم من الواجبات؛ لما يصدر عنهم من التعسف وعسير الإرهاق وسوء المعاملة مع غرباء انقطعوا إلى الله عز وجل وخرجوا مهاجرين إلى حرمه الأمين. ولو شاء الله لكانت عن هذه الخطة مندوحة في اقتضاء الزكاة على أجمل الوجوه من ذوي البضائع والتجارات مع مراعاة رأس كل حول الذي هو محل الزكاة، ويتجنب اعتراض الغرباء المنقطعين ممن تجب الزكاة له لا عليه، وكان يحافظ على جانب هذا السلطان العادل الذي قد شمل البلاد عدله، وسار في الآفاق ذكره، ولا يسعى فيما يسيء الذكر بمن قد حسن الله ذكره، ويقبح المقالة في جانب من أجمل الله المقالة عنه. ومن أشنع ما شاهدناه من ذلك خروج شرذمة من مردة أعوان الزكاة في أيديهم المسال الطوال ذوات الأنصبة فيصعدون إلى المراكب استكشافًا لما فيها فلا يتركون عكمًا ولا غرارة إلا ويتخللونها بتلك المسال الملعونة، مخافة أن يكون في تلك الغرارة أو العكم اللذين لا يحتويان سوى الزاد شيء غُيِّبَ عليه من بضاعة أو مال. وهذا أقبح ما يؤثر في الأحاديث المُلَعَّنَة، وقد نهى الله عن التجسس فكيف عن الكشف لما يرجى بستر الصون دونه من حال لا يريد صاحبها أن يطلع عليها، إما استحقارًا أو استنفاسًا دون بخل بواجب يلزمه، والله الآخذ على أيدي هؤلاء الظلمة بيد هذا السلطان العادل وتوفيقه إن شاء الله) . ثم قال الكلام على جدة وأهلها والحجاج فيها: وأكثر سكان هذه البلدة مع ما يليها من الصحراء أو الجبال أشراف علويون وحسنيون وحسينيون وجعفريون رضي الله عن سلفهم الكريم، وهم من شظف العيش بحال يتصدع له الجماد إشفاقًا، ويستخدمون أنفسهم في كل مهنة من المهن من إكراء جمال إن كانت لهم، أو مبيع لبن أو ماء إلى غير ذلك من تمر يلتقطونه أو حطب يحتطبونه، وربما تناول ذلك نساؤهم الشريفات بأنفسهن، فسبحان المقدِّر لما يشاء، ولا شك أنهم أهل بيت ارتضى الله لهم الآخرة ولم يرتض لهم الدنيا، جعلنا الله ممن يدين بحب أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا. (ثم قال) : وأكثر أهل هذه الجهات الحجازية وسواها فرق وشيع لا دين لهم قد تفرقوا على مذاهب شتى، وهم يعتقدون في الحاج ما لا يعتقد في أهل الذمة قد صيروهم من أعظم غلاتهم التي يستغلونها ينتهبونهم انتهابًا، ويسببون لاستجلاب ما بأيديهم استجلابًا، فالحاج معهم لا يزال في غرامة ومؤنة إلى أن ييسر الله رجوعه إلى وطنه. ولولا ما تلافى الله به المسلمين في هذه الجهات بصلاح الدين لكانوا من الظلم في أمر لا ينادى وليده، ولا يلين شديده، فقد رفع ضرائب المكوس عن الحاج وجعل عوض ذلك مالاً وطعامًا يأمر بتوصيلهما إلى مكثر أمير مكة، فمتى أبطأت عنهم تلك الوظيفة المترتبة لهم عاد هذا الأمير إلى ترويع الحاج وإظهار تثقيفهم بسبب المكوس. واتفق لنا من ذلك أن وصلنا جدة فأمسكنا بها خلال ما خوطب مكثر الأمير المذكور فورد أمره (بأن يضمن الحاج بعضهم بعضًا ويدخلوا إلى حرم الله، فإن ورد المال والطعام اللذان برسمه من قبل صلاح الدين وإلا فهو لا يترك ماله قبل الحاج) هذا لفظه كأن حرم الله ميراث بيده محلل له اكتراؤه من الحاج، فسبحان مغير السنن ومبدلها. والذي جعل له صلاح الدين بدلاً من مكس الحاج ألفا دينار اثنان، وألفا إردب من القمح، وهو نحو الثمانمائة قفيز بالكيل الإشبيلي عندنا، حاشا إقطاعات أقطعها بصعيد مصر، وبجهة اليمن لهم بهذا الرسم المذكور، ولولا مغيب هذا السلطان العادل صلاح الدين بجهة الشام في حروب له هناك مع الإفرنج لما صدر عن هذا الأمير المذكور ما صدر في جهة الحاج، فأحق بلاد الله بأن يطهرها السيف ويغسل أرجاسها وأدناسها بالدماء المسفوكة في سبيل الله هذه البلاد الحجازية؛ لما هم عليه من حل عُرَى الإسلام واستحلال أموال الحاج ودمائهم، فمن يعتقد من فقهاء أهل الأندلس إسقاط هذه الفريضة عنهم فاعتقاده صحيح لهذا السبب، وبما يُصْنَع بالحاج

المنار ومجلة مشيخة الأزهر ـ المقال العاشر من مقالاتنا في الرد على مجلة مشيخة الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المقال العاشر من مقالاتنا في الرد على مجلة مشيخة الأزهر (تابع لما نشر في المجلد الثاني والثلاثين) البُهَيْتَة الرابعة من بهائت مجلة الأزهر: رد أحاديث البخاري في آية رجم الشيخ والشيخة تقدم في الكلام على البُهَيْتَة الثالثة ذكر ما عزاه محرر مجلة مشيخة الأزهر إلينا في هذه المسألة بما علم به أنه افتراء منه يوهم قراءها أنه نقله من المنار بنصه، وإننا نعيده هنا لأجل أن نتكلم في المسألة ببعض التفصيل، وهذا نص عبارته: عبارة الدجوي في نسخ آية الشيخ والشيخة المفتراة على صاحب المنار: قال في مناره الصادر في آخر رمضان سنة 1327 صفحة 697 من مجلد السنة المذكورة ما نعرض عليك محصله لتحكم فيه، وليتضح به الموضوع الذي نحن فيه، فإنه كالمقدمة له: رد الأحاديث التي في البخاري وغيره الناطقة بأن آية: (الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما ألبتة) كانت قرأنًا يُتْلَى، وإن عمر قال ذلك بمجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، وهو معروف لا مِرَاء فيه، ويستند حضرته في ذلك الرد على ما تعرف منه مقدار علم الشيخ وتفكيره. يقول: (إن ذلك لو تَمَّ لكان يتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء منه. ولم يفرق الشيخ بين النسخ الذي يكون من قبل الشارع ولا يعرف إلا من جهته ولا يكون إلا في زمنه بإرشاده وتبيينه، وبين التفريط في القرآن وضياع شيء منه) انتهى قول الدجوي بحروفه. أقول: إن من قرءوا هذه العبارة في مجلة مشيخة الأزهر يظنون أن محرريها إذا جاز أن يخطئوا في فهم بعض ما ينقلون فإنه لا يعقل أن يفتروا (أي يتعمدوا الكذب) فيما ينقلونه عن غيرهم، ولا سيما إذا عينوا المكان الذي نقلوه عنه من كتاب أو مجلة بعدد مجلداته وصفحاته، وإذًا يكون ما نقله هذا المحرر، وهو من هيئة كبار العلماء المدرسين في الأزهر عن ص 697 من مجلد المنار الذي صدر في سنة 1327 هو كما نقله لا ريب فيه. وهو أن صاحب المنار صرح في تلك الصفحة برد ما رواه البخاري في المسألة باللفظ الذي ذكره الناقل، وأنه استدل على رده بما ذكره عنه بقوله: يقول: إن ذلك لو تم لكان كذا وكذا إلخ ما تقدم آنفًا. لا أقول هذا من باب الاستنباط العقلي فقط، بل أخبرني الثقة أنه وقع بالفعل قال قائل: إن الشيخ يوسف الدجوي قد افترى الكذب فيما عزاه إلى السيد رشيد، وزعم أنه نقله من كلامه. فقال له أحد المشايخ - وكانوا بجوار الأزهر -: إنه ليس من المعقول أن يكون مثل الشيخ يوسف الدجوي في مكانه من كبار علماء الأزهر ومدرسيه مفتريًا فيما نقله في مجلة المشيخة وعزاه إلى موضعه من مجلة المنار بالصفحة المعينة من المجلد المعين؟ ولكن غير المعقول عند أكثر الناس ممن يتحرون الصدق، هو واقع بالفعل ممن يتحرى الكذب، فإن الصفحة 697 من مجلد المنار المذكور ليس فيها ما عزاه إليها هذا المدرس في الأزهر والمحرر في مجلة مشيخته من مسألة الشيخ والشيخة، وإنما فيها إشارة إلى ما أنكره الدكتور محمد توفيق صدقي وغيره من نسخ التلاوة لبعض آيات القرآن في مناظرته مع الأستاذ الشيخ صالح اليافعي، ذكرتها في سياق الحكم في تلك المناظرة. ذلك بأنني أشرت إلى بعض ما رده جمهور العلماء من روايات الصحيحين لمخالفته للعمل أو لرواية أخرى أصح منها ثم قلت: فأولى وأظهر أن يجوز رد الروايات التي تتخذ شبهة على القرآن من حيث حفظه وضبطه وعدم ضياع شيء منه، ومثلت لذلك بكلمة وضعتها بين هلالين وهي (كالروايات في نسخ التلاوة) وقلت بعدها: ولا سيما لمن لم يجد لها تخريجًا يدفع الشبهة كالدكتور محمد توفيق صدقي وأمثاله كثيرون اهـ فقولي هذا حكاية لاشتباه ترتب عليه إنكار وقع، لا رد للحديث لاشتباه يتوقع، وهو مطلق في نسخ التلاوة، لا خاص بنسخ آية الرجم باللفظ الذي ذكره ولا بغيره. ومعلوم عند أهل النقل أنه ورد في نسخ التلاوة عدة روايات حتى قيل: إن سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة أو أطول، ومنها هذه الآية، وزعم غلاة الروافض أن مما حذفه الصحابة رضي الله عنهم منها وادعوا أنه نسخت تلاوته آيات كثيرة في ولاية علي أمير المؤمنين عليه السلام إلخ؛ بل أقول: إن حديث عمر الذي رواه البخاري في مسألة رجم الزاني المحصن قد ذكر فيه شيء آخر مما نسخت تلاوته ولكن لم يذكر فيه الشيخ والشيخة إلخ. فأنا لم أزد في التمثيل لنسخ التلاوة الذي كان أهم موضوع المناظرة المذكورة بأكثر من كلمة (كالروايات في نسخ التلاوة) ولم أقل روايات البخاري ولا الصحيحين ولا غيرهما. وهذه الروايات من أعظم الشبهات حتى الرواية التي خصها محرر مجلة مشيخة الأزهر بالذكر، وزعم أنها في البخاري وليست فيه، والشبهات فيها متعدِّدة بعضها في سندها، وبعضها في موضوعها، فمنها اختلاف ألفاظها، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الأذن لعمر بكتابتها، ومنها أن عمر أنكر على أبي بن كعب إرادة كتابتها بإذن النبي صلى الله عليه وسلم - ومنها أن عمر يخاف قول الناس في إظهار شيء يعتقده، ولا سيما كلام الله تعالى؟ وبعضها في حكمها وهو رجم الشيخ والشيخة إذا زنيا مطلقا، وإنما الرجم على المحصن شيخًا أو شابًا. فهذا الإطلاق يخالف ما عليه العمل بالإجماع، وفي حديث عمر في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الزاني غير المحصن الذي زنى بالمحصنة: إنه يحكم بينهما بكتاب الله تعالى، ثم حكم عليه بجلد مائة وتغريب عام وعليها بالرجم، والتغريب ليس في كتاب الله عز وجل، فكل هذا من مشكلات الرواية، وتأول بعضهم الإشكال الأخير بأن المراد به حكمه تعالى فيما أوحاه إلى نبيه غير القرآن، وروي عن ابن عباس أن آية الرجم في القرآن لا يغوص عليها إلا غواص. وإنني أذكر أهم ما قاله الحفاظ في زيادة (الشيخ والشيخة) في حديث عمر. إن البخاري لما روى حديث عمر في الرجم من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري ذكر أن سفيان قال: (كذا حفظت) وذكر الحافظ ابن حجر في شرح هذه الكلمة: أن الإسماعيلي أخرج هذا الحديث من رواية جعفر الفريابي عن علي بن عبد الله شيخ البخاري، وزاد فيه أن عمر قال عند ذكر آية الرجم: (وقد قرأناها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده. فسقط من وراية البخاري هذه الزيادة. (ثم قال الحافظ ما نصه) : ولعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا فقد أخرجه النسائي عن محمد بن منصور عن سفيان كرواية جعفر ثم قال: لا أعلم أحدًا ذكر في هذا الحديث (الشيخ والشيخة) غير سفيان وينبغي أن يكون وَهِمَ في ذلك. (قلت) : وقد أخرج الأئمة هذه الحديث من رواية مالك ويونس ومعمر وصالح بن كيسان وعقيل وغيرهم من الحفاظ عن الزهري فلم يذكروها اهـ. المراد من كلام الحافظ. وأقول: إن قول البخاري: (قال سفيان كذا حفظت) يدل على أن رواية جعفر الفريابي عنه هذه الزيادة (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها ألبتة) غير صحيحة؛ إذ لو كان سمعها من الزهري لما قال: كذا حفظت - ولهذا قال الحافظ لعل البخاري هو الذي حذف ذلك عمدًا. وأما النسائي فإنه لما ذكر رواية جعفر الفريابي عن سفيان أنكر هذه الزيادة التي انفرد بها قال: وينبغي أن يكون وهم في ذلك - فالبخاري ينفيها عن سفيان، والنسائي يخطئه بها، وسفيان من أئمة رواة الحديث والفقه فيه، ولكنه تغير في آخر عمره، وكان يدلس أيضًا. وإنني لأعجب أن أرى محرر مجلة المشيخة من هيئة كبار علماء الأزهر يتصدى للطعن علينا برد شيء من أحاديث البخاري من غير أن يكلف نفسه مراجعة البخاري فيما يعزوه إليه منها، على علمه بضعف إلمامه بالسنة وقلة اطلاعه على ما في الصحيحين منها فضلا عما دونهما، فيا ليت شعري ألا يشعر بضعفه؟ أم يظن أن النقل عن صحيح البخاري كالنقل عن المنار؟ إذا قلنا للناس في الجرائد: إن هذا النقل غير صحيح يقل فيهم من يملك مجلدات المنار القديمة ليراجع الصفحات التي يعزو إليها ما ليس فيها فيعلم كذبه في النقل عنها؟ ولكن صحيح البخاري يوجد في كل مكتبة إسلامية عامة أو خاصة إلا ما ندر فمن شاء، فليراجع الحديث في كتاب الحدود منه، وشرح الحافظ ابن حجر له في الجزء الثاني عشر منه؛ ليعلموا جهل الدجوي وكذبه فيما عزاه إليه. * * * استطراد في فضحية مجلة الأزهر لعلمائه في الجهل بعلوم الحديث ونصيحة المنار لها إنني نصحت لمجلة مشيخة الأزهر في تقريظي لها عقب ظهورها بأن تعنى بما قصر فيه الأزهريون في هذا العصر من علم الحديث؛ إذ رأيت فيها إنكارًا لوجود حديث نبوي بمعنى تأييد الله لهذا الدين بمن ليس من أهله، وذكرت لها حديث الصحيحين وغيرهما في ذلك، واقترحت عليها أن لا تذكر حديثًا إلا مقرونًا بتخريجه ودرجته، وهي على قبولها للنصيحة في الجملة سمحت للشيخ يوسف الدجوي بأن يخبط فيما يكتبه خبط عشواء بل عمياء، فيكذب في النقل حتى العزو إلى صحيح البخاري، ويصحح الموضوعات والواهيات، ولما أنكرت عليه بعض هذا الخبط انتقم مني بما علمه القراء. وكان سبب هذا أن أحد طلاب العلم النجديين آلمه إسراف هذا الشيخ في الطعن على قومه وأهل مذهبه بالباطل في مجلة المشيخة فألف كتابًا في الرد عليه سماه (البروق النجدية، في اكتساح الظلمات الدجوية) وكان مما أنكره عليه أنه أورد في باب تجهيله إياه في علم الحديث أنه استشهد بحديث توسل آدم أو سؤاله ربه بحق محمد صلى الله عليه وسلم أن يغفر له، وزعم أن الحافظ الذهبي أقر الحاكم راويه على تصحيحه، والحال أن الحافظ الذهبي أنكر تصحيحه بل قال: إنه موضوع، ففضحه المجاور النجدي في زعمه هذا، بل هدم بكتابه ما كان له من صيت في الأزهر انتقل إلى غير الأزهر. كبر على الشيخ الدجوي أن يرد عليه ويجهله طالب نجدي (وهابي) وكبر ذلك على الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر أيضًا فقطع رزق الطالب النجدي من الأزهر وأمر بقطع انتسابه فيه، وحاول الدجوي الرد على النجدي من غير ذكر اسمه في مجلة الأزهر حتى في مسألة وضع هذا الحديث، فأخذ يماري فيه بما اعتاده في دروسه، بل ادعى أنه صحيح. وأفضى ذلك إلى سؤال بعض مجاوري الأزهر إياي عن ذلك فبينت له خطأ الدجوي في مرائه هذا من بضعة وجوه بالإجمال ثم فصلتها ونشرتها في الجزء الرابع من مجلد المنار (32) واعتذرت عن ذلك بقولي: (أصر الأستاذ الدجوي على القول بتصحيح هذا الحديث والتفصي من قول الحافظ الذهبي: إنه موضوع بالمغالطة والتأويل، وقد سألني بعض مجاوري الأزهر عن رأيي في رده فقرأته على تحامي قراءة هذا المجلة لئلا أراني مضطرًّا إلى ما لا أحبه من الرد على ما أنكره فيها، فبينت للسائل خطأه فيه إجمالاً وإنني أذكره هنا استطرادًا) . ثم بينت خطأه في عدة صفحات فكان هذا هو الذي هاجه عليَّ هذه الهيجة الشؤمى عليه؛ لأنها أظهرت من حقيقته للناس ما لم يظهره كتاب الطالب النجدي، بل جرأه هذا على الطعن في الحافظ الذهبي وجماعته من أهل الحديث في رسالته البذيئة، ووضعهم مع شيخ الإسلام ابن تيمية، واتهمهم فيها كما اتهمني بعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ جاء في حاشية صفحة 23 منها أنه يعجبه قول بعض الأفاضل: لو كان قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) حديثًا لقال الذهبي وجماعته: إنه موضوع (!) فمن هذا الفاضل الذي يقول في أعلم حفاظ السنة في عصره بنقد الحديث وتمحيص أسانيده هذا القول؟ إلا أنه ينبغي أن يكون الشيخ الدجوي هو القائل لتلميذه ناشر الرسا

نموذج من كتاب الإنجيل والصليب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من كتاب الإنجيل والصليب (تابع لما نشر في الجزء العاشر م 32) الباب الثالث (أيادوكيا) بمعنى (أحمد) الكلمة الأصلية التي ترجمت عنها كلمة (أيادوكيا) نقول: إذا لم يكن الإنجيل الأصلي قد رفع من الميدان منذ زمن لوقا، أو نقول: لكي لا نعرض أنفسنا للتهمة بجرم الافتراء؛ إذ ربما كانت أنشودة الملائكة موجودة بنصها الأصلي؛ ثم أعدمت في عهد تصرفات مجمع نيقية التطهيرية: لماذا لا يوجد النص الأصلي لهذه الآية؟ لماذا يحاولون أن نقتنع ونخضع لدعوى القائل: إن (أيادوكيا) ترجمة مطابقة للكلمة التي كانت في المتن الأصلي، وبصورة موافقة للقاعدة اللسانية الحقيقية؟ فلو قام أحد البَابِيِّينَ فرضًا وترجم هذه الآية بقوله: (الحمد لله في الأعالي وعلى الأرض لوح. وللناس باب! !) فبأي حق وصلاحية يمكن أن يرد ويرفض؟ والمتن الأصلي غير موجود؛ ليكون للكنيسة حق الاعتراض والمؤاخذة! إلا أن البابي مجسم أو أنه يعتقد بإنسان قد تأله، وهو أيضًا يدعي الألوهية، وأنه يعطي ألواحًا وآيات كحضرة (يهوه) معبود اليهود. وها أنذا أسأل: ماذا كان أصل الكلمة المرادفة لكلمة (أيودوكيا) ؟ فعوضًا عن (بروباجندا فيده) التي للكاثوليك، وجمعية ترجمة الكتب المقدسة إلى كل اللغات التي للبروتستانت، أرجو أن يتلطفوا بالإجابة على هذه الأسئلة: - ماذا كان نص العبارة التي كان التهليل والترنيم بها، والمترجمة بكلمة (أيودوكيا) ؟ هيهات، لا شيء، عدم، كله ضاع وانمحى، وإن ما يضحكني بزيادة هو قولهم: (بما أن لوقا ملهم من قِبَل الروح القدس، قد حافظ على الترجمة من غير أن تَبْقَى حاجة إلى المتن) ولكن المترجمين في المخابرات الدولية دائمًا يذهبون بمتن اللغة الأصلية مع الترجمة إلى الرئيس ويعرضونهما عليه معًا، فأين متن اللغة السماوية؟ وسنبرهن في الفصل الثاني بصورة قطعية ومقنعة على أن لوقا لم يكتب موعظته بالوحي والإلهام ولا بإلقاء الروح القدس. فالمتن الأصلي مفقود، والترجمة مشكوك في صحتها! المعنى اللغوي المستعمل لكلمة (أيودوكيا) يجب أن تكون كلمة (أيودوكيا) ترجمة حرفية لكلمة سريانية مثل (إيرايتي) أو لكلمة عبرانية. ولكن كتاب لوقا لم يترجم عن لسان آخر، فإن قال قائل: (كان هناك مأخذ، وإن لوقا كتب كتابه مترجمًا عن ذلك المأخذ) فإن المعنى يزداد غموضًا؛ لأن ذلك المأخذ في اللسان الأصلي مفقود. ولا بد أن يرد على بال كل مسيحي وجود نسخة مكتوبة بالسريانية، وهي: بشيطتا سبرا طابا ولكن تلك أيضًا مترجمة عن اليونانية، فعلينا إذًا أن نفهم معنى (أيودوكيا) من اللغة اليونانية ومن قاموسها فقط، وذلك لا يكفي لحل المسألة، ولا بد أن تكون الملائكة قد استعملت كلمة عبرانية أو بابلية أو كلمة أخرى من إحدى اللغات السامية وإن لوقا ترجمها بـ (أيودوكيا) وههنا السر والظلمة. وفي النسخة المسماة (بشيطتا) التي برزت إلى الوجود بعد مجمع نيقية (أزنيك) مثل (الصبر جميل) بالعربية تمامًا. ولا شك أن الذين ترجموها بعبارة (سورا طاوا) قد كتبوها متخذين بنظر اعتبارهم أن (إنجيل) عبارة عن بشارة أمل. إن المقصود من الاشتغال بالألفاظ ليس إلا التمكن من إظهار حقيقة لم تزل مكتومة أو خافية على كل الموسوية والمسيحية والإسلامية حتى الآن، فأرجو أن يتعقبني القراء بصبرٍ وتأنٍّ. لا يمكن أن تكون (أمل صالح) ترجمة حرفية مطابقة لأصل كلمة (أيودوكيا) بل يجب أن تكون إحدى العبارتين مردودة، ولكن أيتهما؟ الآثوريون النسطوريون يقرءون الآية التي هي موضوع بحثنا عند شروعهم بالصلاة، ولهؤلاء كتاب عبادة يسمى (قود شاد شليحي) وهو أقدم من مجمع نيقيه بكثير. وبما أن ليس بين مندرجات هذا الكتاب المهم الآيات العائدة إلى (قربان القديس) الموجودة في أناجيل مَتَّى ومرقس ولوقا نستدل على أن الكتاب المذكور أقدم من الأناجيل الأربعة، ومهما يكن هذا الكتاب فهو أيضًا قد أصيب بالتغييرات والتحريفات على مرور الزمان لكنه قد تمكن من أن تبقى صحائفه مصونة عن إضافة الآيات المذكورة إليه المسماة (الكلمات الأصلية) وفي هذا الكتاب (سبرا طابا) أي (أمل صالح) أو (بشارة جيدة أو سنة) وذلك عوض عن (أيودوكيا) فلدينا وثيقتان فقط في أصل أنشودة الملائكة وهما كتاب (لوقا) وكتاب (قودشا) . ليت شعري أي واحدة من هاتين الوثيقتين المستقلة إحداهما عن الأخرى هي أكثر اعتبارًا وأحرى بالاعتماد عليها؟ لو كانت الملائكة في الحقيقة قد أنشدت (أمل صالح) لكان الواجب على لوقا أن يكتب عوضًا عن (أيودوكيا) (----) (أيوه لبيس) وعلى الأصح (----) (إيلبيدا آغسى) كما كتب بولس وبما أننا وقعنا بين وثيقتين متضادتين تناقض إحداهما الأخرى، لا يمكننا أن نرجح إحداهما بغير مرجح. لم يكن في الكنائس القديمة كتاب باسم إنجيل باللغة العبرانية، أما الكلمة (أيودوكيا) فهي بالعبرانية (----) راضون وهي تشمل على معان مثل (رضا، لطف، انبساط ميسرة، حظ، رغبة) وهي اسم لفعل (---- رضا) المشابهة لكلمة (رضا) العربية فتكون النتيجة أن (أيودوكيا) المترجمة مرة إلى اليونانية Volantas bona (حسن الرضا) قد تحولت وتأولت بعد ذلك إلى كافة الألسنة بالعبارات التي تفيد المعنى المذكور. أنا أدعي أولا أن تأويل (أيودوكيا) على هذا الطراز لا يؤدي المعنى الحقيقي، وثانيًا أنه من الجهل والمفتريات الكفرية بمكان. أولاً: لا يقال في اليونانية لحسن الرضا (أيودوكيا) بل يقال (---- ثليما) وكان يجب لمن يكتب (----) أو (----) المطابقة تمامًا لحسن الرضا. ففي هذا يكون تفسير أيودوكيا غلطًا وخطأً، ولعل الكنائس ولا سيما الأساتذة الذين يعرفون اليونانية من أهلها وغيرها يعارضوني في ذلك فأقول: إن هذه الكلمة مركبة من كلمتين (أيو) بمعنى (حسن، جيد، صالح، مرحى، حقيقي، حسن ملاحة) وأما كلمة (دوكيا) وحدها فلا أعرف لها استعمالاً في شيء من كتب اللغة، وإنما توجد كلمة (---- أو ---- دوكوثه) وهي بمعنى (الحمد، الاشتهاء، الشوق، الرغبة، بيان الفكر) وها هي ذي الصفات المشتقة من هذا الفعل (دوكسا) وهي حمد، محمود، ممدوح، نفيس، مشتهى، مرغوب، مجيد، والآن لننظر ماذا بين أنبياء بني إسرائيل من الأفكار والمعاني في الألفاظ ---- محمود [*] أنا لا أعلم بوجود رجل تاريخي يحمل اسم أحمد ومحمد قبل ظهور النبي (الأخير الأعظم) صلى الله عليه وسلم، وبناء على ذلك فإن اختصاص حضرة النبي الأكرم بهذا الاسم الجليل (محمد) لا يمكن أن يكون من قبيل المصادفة والاتفاق، ولو قال قائل: إن أبوي النبي سمياه محمدًا قصدًا لأنهما قرآ كتب الإنجيل، ومن هناك علما أنه سيأتي نبي باسم محمد، لكان من المحال أن يصغي لقوله أحد. وهنا أريد أن أفتش في كتب العهد القديم العبرانية المكتوبة قبل ظهور الإسلام بألفين أو ثلاثة آلاف سنة عن المعنى الحقيقي لهذه الألفاظ العربية (حمد، أحمد، محمد) وعما تشتمل عليه كلمة (إسلام) في اللغة الرسمية السماوية من المعاني الواسعة، فإن كلمتي (أحمد، ومحمد) أيضًا تحتويان على ذلك المقدار من المعاني. ---- لا تحمد ---- لا تطمع في بيت جارك (خروج 17: 20) إن ترجمتهم التركية تنهى عن النظر بالشهوة والحسد، وذلك غلط؛ لأن نص الآية ---- لا تشته زوجة جارك. ---- تحت ظله باشتياق جلست (نشيد الإنشاد 2: 3) حمدة (---- الحمد، الاشتهاء، الاشتياق، التعشق، التلذذ، الانشراح) . ---- الله اشتهى هذا الجيل أو الجبل الذي اشتهاه الله (مزامير 16: 68) . ---- أحمد الإعجاب، الاشتهاء، الانبساط، الانشراح، الرضا، حمد، محمد، مليح، جميل المنظر، حميد المنظر (تكوين: 9: 2) . (حمد وشمن) مرغوب، ---- مشتهى، مرضي، مطلوب، مرغوب (أمثال 20: 21) والحال أنهم قد ترجموا الكلمتين (هتاوا، هاوا) من هذا الباب نفسه بكلمة (أيبيشوميا) اليونانية التي هي أيضًا بمعنى الشهوة والاشتهاء. إذن فإن (الإصحاح السبعين) يترجم الكلمتين (حمد) و (أهوى) كلتيهما بالكلمة (أيبيثوميا) ---- (----) وباليونانية (أيبيثوميا) أحمد من الذهب أي أشهى من الذهب. ---- كل (محمدتنا) خربت. وفي اليونانية ---- (أشعيا 11: 64) نحب الدقة في أنهم يترجمون كلمة (محمد يتو) التي في الآية المذكورة أعلاه ب (أندوكساهيمون) . إذن فمحمد ---- بمعنى Fameux Illustre, Glorieux, الفرنسية. أي أن علماء اليهود الذين ترجموا كلمة (محمد) العبرانية مرة بمشتهى ومرة بمرغوب وأخرى براض ومرضي، يعبرون عنها الآن بلفظ (أيندكسوس) فالصفة (أيند وكسوس) المذكورة تحتوي على الصفات الجميلة كالاسم (محمد، أحمد، أمجد، ممدوح، محتشم، ذو الشوكة) ، والبروتستانت ترجموا هذه الصفة الجميلة بجملة (كل نفائسنا صارت خربًا) . إذن فإن الكلمات (----) أو (----) (المحمدة الأحمدية) أو (----) الحمدة التي ذكرها لوقا بمقابلة (أحمد، محمد) كلها الاسم المبارك الذي ترنمت به الملائكة إشارة وإخبارًا بنبي آخر الزمان. إن عبارة (حسن الرضا) لها كل المناسبة إلى (محمد وأحمد) فقط؛ لأنه إذ كان قد وجد في جماعة الأنبياء من ظهرت فيه هذه المعاني: طيب ومقدس حري بتوجه العالمين وجدير بحسن رضائهم وحائز على المحمدة، وكل الصفات الجميلة بحيث يفيدهم ويرضيهم ويسرهم بكل ما يشتاقون إليه، فهو محمد صلى الله عليه وسلم. فإن كان الذين لم يؤمنوا به ولم يطيعوه بحسن رضائهم، فمن ذا الذي يرضون من بعده، وأما الذين يذهبون إلى الفكرة السقيمة، إلى أن المقصود من (حسن الرضا) هو أن واجب الوجود كان سيئ النية، سيئ الرضا، حاملاً للبغض والعداوة والغضب على نوع الإنسان إلى حين ولادة المسيح، وأنه بعد ولادة المسيح غير هذه الصفات إلى ضدها وتصالح مع الناس، فليتفكروا جيدًا أن الجنود السماوية (ملائكة الله) يعلمون أن خالقهم مُنَزَّه وبرئ من سوء النية والجهل وأنهم يسبحونه ويقدسونه إلى أبد الآبدين. إن أملي الوحيد هو الكشف عن حقيقة الموضوع والغرض الذي يجب أن ترمي إليه هذه الكتب (العهد الجديد) أي أني أشعر بأن لا بد في هذه الكتب من حقيقة. وأدرك أن الحقيقة المذكورة سعادة وخير لكافة البشر، وأني قد شرعت في مطالعة الكتب المقدسة باللسان الأصلي التي كتبت بالدقة والإمعان لإظهار هذه الحقيقة بكل وضوح (----) مترجمة عن كلمة (----) راصون العبرانية. ليثق قرائي المحترمون؛ بأن الاختلاف المستحكم بين العيسوية والإسلامية سينحل، ويفصل فيه حالا عند انكشاف المعنى الحقيقي الذي تحتويه هذه الكلمات بعونه تعالى، فمن الضروري أن يتتبعوا المباحث في شأن الكلمات المذكورة بالصبر والدقة. يوجد في اللغتين العبرانية والبابلية القديمة فعل ثلاثي مجرد (---- رصه) (---- رضا) بمعنى (رضي) العربية. وهذا الفعل مستعمل كثيرًا في كتب التوراة وسنحقق هذه الكلمات الأجنبية المهمة في النسخة المسماة (سبتو اغتبتا) وهي الكتب العبرانية المقدسة التي ترجمها سبعون عالمًا يهوديًّا من اللسان الأصلي إلى اليونانية في مدة قرنين أو ثلاثة قبل الميلاد في إسكندرية مصر. ومن المعلوم لدى علماء اللغات أن الأسماء والصفات والأفعال على قسمين، أي أن كل اسم أو صفة إما مذكر وإما مؤنث على الإطلاق، مثلا محمد مذكر ومحمدة مؤنث، وبالعبرانية (----) محمد مذكر (----) مؤنث. وفي الأثورية (----) محمد مذكر، و (----) محمدة مؤنث. وأما اللغات الغربية القديمة، فلا تتبع هذه القاعدة، وهي تطلق على الكلمة التي لا تذكير ولا تأنيث فيها (غير جنسي) وفي اليونانية يستعملون التعبيرات (----) بمقابلة محمد، وللمؤنث (----) أيند وكسي، ولع

الشقاق بين العرب الحضارمة ودعوتهم إلى الصلح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشقاق بين العرب الحضارمة ودعوتهم إلى الصلح للأمة العربية مزايا وفضائل كثيرة، ومنها كغيرها من الأمم عيوب كبيرة، وشر عيوبها وأضرها عليهم: التفرق والشقاق الذي يثيره التحاسد والتنازع في الجاه وحب التعالي، ومنه التنازع في الإمارة والملك. فلولا هذا التنازع الذي شجر بينهم منذ العصر الأول لملكوا الشرق والغرب، ولكان أكثر البشر عربًا مسلمين بتأثير عقائد الإسلام وقواعده الإصلاحية العامة المرشدة إلى رفع الإنسانية إلى الوحدة والأخوة والكمال الممكن في الهدى والعلم والحضارة. وإنهم - وقد ضاعت خلافتهم، وزالت حضارتهم، وثُلَّتْ عروش ممالكهم - لو اتحدوا اليوم وجمعوا شملهم كما فعلت الأمم التي تفرقت شعوبها قبلهم كالجرمان والطليان لأمكنهم أن يجددوا للعالم الإنساني هداية وحضارة ودولة تنقذ شعوب البشر التي تفوقهم علمًا وقوة وسيادة في الأرض مما هي مستهدفة له من خطر وفساد، كما أنقذ سلفهم البشر مما كان قد أفسدهم من مدينة الروم والفرس وغيرهم من الأقوام. لقد كان أفضل مأثرة لعرب حضرموت أن ضرب تجار منهم في الأرض يبتغون التجارة فبلغوا جزائر الهند الشرقية - جاوه وما جاورها - وأهلها وثنيون فنشروا فيها الإسلام بسرعة لم تعهد في التاريخ إلا للعرب أجدادهم، ونالوا الحظوة عند أمرائها وحكامها الذين اهتدوا بهم، وأثروا وتأثلوا وكثروا ولو كانوا على معارف واسعة لعمموا اللغة العربية فيها كما فعل سلفهم في غيرها، ثم كان أقبح مساوئهم تجاه تلك المأثرة الفضلى أن دب إليهم داء الشقاق والبغضاء في الوقت الذي تنبه فيه الشعب الوطني الأصلي للعلم والعمل وجمع الكلمة ومباراة الشعب الهولندي السائد من جانب ومقاومة تيارات الإلحاد والدعايات الكفرية والبدعية من جانب آخر. انشقت عصاهم القوية فكانت شظيتين سميت إحداهما العلوية، والثانية الإرشادية، كل منهما تحاول كسر الأخرى، ويخشى أن تفوز كل منهما بما تحاول فيُقضى على هذه الجالية العربية العريقة المجد، العظيمة القدر في قلوب هذا الشعب، فتصبح حصيدًا كأن لم تغن بالأمس. كل منهما يعيب الآخر بما إذا صح كله كان قبحه وضرره دون محاولة علاجه بما يضاعف الداء، حتى يتعذر الشفاء، وهو الحسد والبغضاء، التي سماها النبي صلى الله عليه وسلم الحالقة: حالقة الدين، وقد انتهت فيهم إلى سفك الدماء، بعد الإسراف في الطعن والسباب، فكيف إذا كان مبالغًا فيه، على عادة الناس في مثله، فإن كانوا قد صاروا همجًا لا زعماء لهم كما قال الشاعر العربي: لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا فلا بد من انتقام العدل الإلهي منهم على سنته تعالى في قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (الأنفال: 25) وليتدبروها وما يليها من قوله عز وجل: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الأنفال: 26) مع تدبر قوله تبارك اسمه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (إبراهيم: 7) . وإن كان لهم زعماء يطاعون فعليهم أن يتداركوا الأمر، ويرأبوا الصدع، وإلا كان عليهم وزرهم وأوزار الذين يتبعونهم في الإثم. إنني لفي أشد الألم والحزن على هذه الجالية الكريمة، وطالما فكرت في السعي إلى إصلاح ذات بينها، فلم أجد له طريقًا لاحبًا يرجى بسلوكه الوصول إلى ما يرضي الفريقين، حتى إذا ما ألم بنا أخونا السيد إبراهيم السقاف من كبار سروات العلويين، وبسط لنا ما كان بلغ به السعي مع صديقه وصديقنا الشيخ أحمد السوركتي الأستاذ الأكبر للإرشاديين، واطلعنا على ما اتفقا عليه من شروط الصلح، وما عرض لها من الفشل بسوء الفهم، تجدد عندي الرجاء في نجاح السعي، فكتبت الخطاب الآتي، ونقلت له صورة منه في اليوم الذي سافر فيه من مصر فأمضيتها له ليحملها إلى الفريقين (فحملها ونشرتها جرائدهما) وبقيت عندي المسودة وهذا نصها: خطاب صاحب المنار لزعماء العلويين والإرشاديين بسم الله الرحمن الرحيم {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) . من محمد رشيد رضا ابن السيد علي آل رضا الحسيني الحسني صاحب مجلة المنار الإسلامي بمصر إلى إخوانه في الإسلام من جماعة العلويين والإرشاديين الحضرميين: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فقد طال العهد على ما شجر بينكم من الخلاف والشقاق، وما نجم عنه من الطعن في الأنساب، والنبز بالألقاب، واللعن والسباب، وقطع الأرحام، المنافية لأخوة الإسلام، وقد آلم ذلك جميع المسلمين، وسر أعداء الإسلام من ملحدين ومليين، وجعلوا هذا حجة لهم على دينكم، وأنتم دعاته وحماته، وأجدادكم مهاجرته وأنصاره، ولعل أخاكم هذا من أشد المسلمين حزنًا وأسفًا على ما حل بكم، وتمنيًا على الله تعالى أن يوفقه لإصلاح ذات بينكم، وطالما فكر في ذلك فلم يهتد إليه سبيلا. ثم إنني رأيت في العام الماضي ما وفقتم له من وضع شروط للصلح معقولة، وسرني ما بشرتنا به الجرائد من اتفاق زعماء الفريقين عليها، ولكن لم ألبث أن قرأت في جرائد مهاجركم أنكم نكصتم على أعقابكم، وحللتم ما عقدتم بأيديكم، فكنتم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. أيها الإخوان المسلمون: إن محمدًا رسول الله وخاتم النبيين، الذي فضلكم الله باتباعه على العالمين، لم يكن شيء بعد الشرك بالله والكفر به أبغض إليه من التفرق والاختلاف بين أمته، وإنه ما أفسد عليه دينها، وأضاع مجد دنياها من بعده، إلا هذا التفرق والاختلاف، وإنه ليحزنني أن أقول: إن التحاسد والتعادي والشقاق بين قومه العرب أشد منه بين غيرهم من الأقوام والأمم، ولولا ذلك لكانوا أعز الأمم وأسعدها وأقواها، ولما هدموا -بتفرقهم واختلافهم- تلك الصروح الشامخة التي بناها سلفهم باتحادهم وائتلافهم. وإننا أيها الإخوان قد دخلنا في طور جديد من الانقلاب البشري يهاجم ديننا فيه جيوش من الملحدين ومن (المبشرين) ومن المبتدعين، ومن المسلمين المفرقين لوحدة الإسلام بالعصبية الجنسية واللغوية والوطنية (أيضًا) فديننا على خطر في كتابه وسنته وهدايته وتشريعه ولغته، وهي قوام وحدة أمته، وأنتم أيها العرب الخُلَّص أحق الناس بتلافي هذا الخطر وحفظ وحدة الأمة على اختلاف أجناسها ولغاتها وأوطانها، وأنى يتسنى لكم هذا وأنتم أشد من جميع الأجناس الإسلامية تفرقًا وتمزقًا، تخربون بيوتكم بأيديكم وأيدي أعدائكم، فأي شعب يرضاكم قادة له وهذه حالكم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (الأنفال: 1) أيها الإخوان المسلمون: إنني نظرت فيما وضع مندوباكم من شروط الصلح، وفيما اقترح بعضكم لها من تفسير يقصد به إغلاق باب الاختلاف في فهمها، وسد ذرائع التأويل السيئ لشيء منها، فنقحت عباراتها، وبينت مجملها، بما أرجو أن يكون مقبولاً عند كل منكم؛ لظهور المصلحة فيه عند أهل العلم والرواية منكم، وكل منكم يعلم فيما أظن أنني حسن النية بريء من المحاباة في ديني، وأزيد على هذا أنه يمكنني أن أؤيدها بتوقيعات أشهر زعماء المسلمين من أهل العلم والرأي في مصر وغيرها، فعسى أن يرتضيها كل منكم، وتقر أعين المسلمين باتفاقكم الدائم إن شاء الله تعالى. شروط الصلح بين جماعتي العلويين والإرشاديين (1) يراعي كل من الفريقين في معاملة الآخر معنى الإخاء الإسلامي الثابت بقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10) والفضائل الدينية المستمدة من قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) ، والمساواة الشرعية التفصيلية في سائر الحقوق الدينية والأدبية والاجتماعية العرفية في حدود الشرع المبنية في مذاهب أهل السنة والجماعة التي ينتمي إليها الفريقان، ويدخل في هذه الحقوق العرفية اختصاص العلويين بلقب (السيد) ككل من ثبت نسبه للسبطين الشريفين بالتواتر أو بغيره مما ثبت به الأنساب في الشرع، ويدخل فيها إفشاء السلام بدءًا وردًّا، وعيادة المرضى وتشييع الجنائز وتهاني الأعياد والقدوم من السفر. (2) يُدفن كل من كان من ماضي العداء والخصومة المؤسف كأن لم يكن فلا يعاد إلى شيء منه، ويعاهد الله كل من الفريقين على اجتناب كل دعاية إلى سوء أو طعن على الآخر في الصحف أو المدارس أو المجالس وغيرها، وكل ما يخالف الشرع من السباب، والتنابز بالألقاب، والطعن في الأنساب، وغير ذلك مما يؤلم النفوس ويجرح القلوب ويجدد الشقاق، لقوله تعالى: {َ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} (الحجرات: 11) وقوله: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (النجم: 32) . (3) يتعاون الفريقان على خدمة الإسلام ولغته ومقاومة أعدائه الطاعنين فيه من دعاة الإلحاد والأديان والنحل المحدثة المخالفة لإجماع المسلمين الذين يعتد أهل السنة بإسلامهم، وعدم موالاة أحد منهم عملاً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (المائدة: 2) . (4) يتعهد كل من الفريقين بكف السفهاء الذين ينتمون إليه عن الطعن المحظور في الآخر، فإن لم يتمكن الزعماء والوجهاء من كف بعض سفهائهم عن ذلك يعلنون الإنكار عليه والبراءة من سفهه بالطريقة التي يقتنع بها الفريق الآخر أن طعنه غير صادر عن إغراء ولا رضا. (5) كل من يطعن على العلويين أو الإرشاديين من غيرهم يتعين على جمعية الرابطة العلوية وجمعية الإرشاد أن تستنكر طعنه بما يدل على عدم الموافقة عليه فضلا عن تهمة الإغراء به، إلا إذا كان انتقادًا علميًّا أو أدبيًّا أو دينيًّا موضوعُهُ الخروج عن أقوال الأئمة الأربعة الذين ينتمي أهل السنة إلى مذاهبهم. وفي هذه الحالة يذكر المخالف بحكم الشرع وأدلته بالحكمة والموعظة الحسنة. (6) يعذر كل من الفريقين الآخر جماعة وأفرادًا فيما يخالفه فيه من الرأي في المسائل الدينية غير الخارجة عن أقوال المذاهب الأربعة؛ لأن الاختلاف في المسائل الاجتهادية طبيعي في البشر والاتفاق عليها كلها متعذر. والمسائل التي عرف رأي الفريقين فيها يجتنب إثارة الجدال غير الودي فيها ما دامت موافقة أحد هذه المذاهب فلا ينكر الآخذ بمذهب الشافعي (مثلا) على الآخذ بمذهب أبي حنيفة أو مالك أو أحمد بن حنبل رضي الله عنهم، ويراعى مع الاتفاق على هذا الأصل قاعدة: (نتعاون على ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما نختلف فيه) فلا نتخذه وهو اجتهادي ظنيّ سببًا للتفرق والشقاق المحرم بالإجماع. (7) تتألف لجنة من العلويين والإرشاديين متساوية الأعضاء لمراقبة تنفيذ مواد الصلح وشروطه، وتدارك ما عساه يبدو من أي الفريقين من مخالفة لها قبل

مجلة المنار سنة 33

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مجلة المنار سنة 33 نشرنا هذا البيان في بعض الصحف في شهر شوال الموافق شهر فبراير (شباط) سيصدر الجزء الأول من مجلد المنار الثالث والثلاثين في أول مارس من سنة 1933 والجزء العاشر في نهاية هذه السنة الميلادية بجعل شهري التعطيل في أولها بدلاً من أثنائها المعتاد أو آخرها. وتعوض المشتركين عن جزئي هذين الشهرين فترسل إلى كل من أدى قيمة الاشتراك تامة كاملة قبل انتهاء السنة ما هو بقدر قيمتهما أو يزيد عليها من الكتب أو الرسائل المفيدة. وسيقرؤون في الأجزاء الأولى من هذه السنة تتمة بحث (إثبات الوحي المحمدي) بالأدلة العلمية العقلية وبيان أنواع مقاصد القرآن وعلومه في إصلاح البشر الديني والاجتماعي والسياسي والمالي والحربي مما لم يسبق له نظير قط في بيان كون الإسلام هو الدين العام الأخير للبشر، وأنه لا منجاة لمدنية الغرب الحاضرة من تعادي الشعوب والملل المنذر لهم بالهلاك بدون هدايته، وهو يتضمن دحض شبهة الماديين القائلين بأن وحي الأنبياء نفسي أي فائض من استعدادهم النفسي لا إلهي من عالم الغيب، وفيه بيان لما أخطأ به موسيو درمنغام في كتابه (حياة محمد) من تصوير هذا الوحي ومقدماته. ويلي هذا البحث في عظمة موضوعه وطرافته بحث إثبات قوله تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصف: 6) والشواهد عليه من كتب العهدين القديم والجديد المؤيدة باللغات الآرامية والسريانية والعبرية واليونانية لقسيس من علماء الآشوريين هداه الله إلى الإسلام في القرن الماضي، وكذا بحث الخطر على الإسلام من الداخل والخارج وأنواعه والمخرج منه الذي شخصناه في خطابنا الأخير في المؤتمر الإسلامي العام في القدس الشريف. إلى غير ذلك من الحقائق والفتاوى في المشكلات التي لا توجد في غير المنار. ونذكر قراء المنار والراغبين في قراءته في عامه الجديد أن خسارتنا المالية في إصداره كانت عظيمة في السنة الماضية لقلة الذين أدوا إلينا حقه بعذر العسرة المالية، عسى أن يتفكروا فيتذكروا أن اشتراك كل واحد منهم في هذه الخدمة للملة والأمة بجنيه واحد في السنة أيسر من بذل القائم بها وحده مئات من الجنيهات مع بذل علمه وعقله وعمره في تحريرها وتصحيحها. شر المشتركين في الصحف من ينوي ألا يؤدي حقها وهو قليل، ويليه المماطل بالوفاء. وفي الحديث النبوي المتفق عليه: (مطل الغني ظلم) والغني: الذي يجد القيمة. وفي حديث صحيح آخر: (لَيُّ الواجد يُحِلُّ عرضه وعقوبته) أي أن مطله يبيح ذمه باللسان والقلم، وعقوبته لدى الحكام في الدنيا قبل عقاب الله تعالى في الآخرة. وليفرض الماطل الظالم أن كل المشتركين مثله؛ إذ لا يرضى أحد لنفسه أن يكون أظلم الناس، فكيف يمكن لصاحب الصحيفة في هذه الحالة أن يصدرها؟ نذكرهم بذلك لقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) وقوله عز وجل: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) وقوله سبحانه: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ} (غافر: 13) .

خطاب آخر لمشتركي المنار من الطبقات الثلاث

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب آخر لمشتركي المنار من الطبقات الثلاث تعلمون أيها الإخوان أننا كنا أشد أصحاب الصحف تساهلاً في اقتضاء قيمة الاشتراك فلا وكلاء للتحصيل يُلِحُّون في الطلب، ولا دعوى ترفع إلى المحاكم على أحد، ولا تشهير بذم مماطل في المجلة ولا في غيرها، ولا منع لإرسال المنار إليه لزوال الثقة بذمته ودينه. ولكن اشتداد العسرة اضطرنا في العام الماضي إلى ما لم يكن من عادتنا فمنعناه عن بعض الماطلين في كثير من الأقطار؛ إذ ضاعفت الحكومة المصرية أجرة البريد الصادر حتى أجرة الصحف، ولنحن في هذه العام أعجز عن الاستمرار على إرساله إلى المُصِرِّينَ على مطلهم، وإن أكثر أهل وطننا على قربهم منا لأشد مطلاً من غيرهم، فكيف يحكمون؟ وكيف نعمل لإمكان الثبات على هذه الخدمة الواجبة؟ إن الرأي المعقول السهل هو أن يرسل المشترك المعسر ما عليه للمنار أقساطًا ولو شهرية، وأن يتفضل علينا المدينون لنا بإخبارهم إيانا كتابة عما عزموا عليه، وإن الكتابة إلينا بالاعتراف بالحق، وبحسن النية في الوفاء الذي يتيسر لهم، لهي آية طهارة الذمة واتصال المودة الأخوية، وحب التعاون المستطاع على خدمة الملة، وسيروننا إن شاء الله تعالى كما يحبون من قبول عذر، وصبر وشكر، وإنظار مُعْسِر يطلب النَّظِرَة، وصلح مقلّ يطلب إسقاط بعض الحق المتأخر، ونقبل منهم شهادتهم لأنفسهم. وليتدبروا قوله تعالى في طبقات أهل دينه ودرجاتهم: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ} (فاطر: 32) . هذه الدرجات الثلاث تظهر في جميع الأعمال: فالظالم لنفسه في المعاملات المالية مع أصحاب الصحف وغيرهم هو الذي يؤخر إيتاء ما عليه إلى ما بعد الاستحقاق، ويمطل في الوفاء كما ثبت في الحديث الصحيح - والمقتصد من يؤدي ما عليه في أثناء السنة. وأما السابق بالخيرات فهو من يعطي قيمة الاشتراك سلفًا، وأسبق منه من يزيد على الواجب نفلاً، ومن هذا القسم الأعلى من قراء المنار من رأى ما كتبناه في شأن المشتركين في الجزء الماضي فأرسل إلينا حوالة بستة جنيهات منها جنيه قيمة اشتراكه في المجلد الثالث والثلاثين سلفًا، وخمسة جنيهات تبرع بها لخمسة من فقراء القراء الذي يجري انتفاعهم ونفعهم بما يقرءون، ولم يسمح لنا بذكر اسمه، وهو ممن يعيشون عيشة الكفاف، وحسبه علم الله عز وجل، وما أعد للسابقين بالخيرات من مضاعفة الثواب. وأما من يستحل أكل الحق الذي عليه كله، فلا يعد من الوارثين لكتاب الله ولا من أهله، برأ الله جميع مشتركي المنار من ذلك بتوفيقه وفضله.

شبهات حول الرسول والقرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شبهات حول الرسول والقرآن سؤال (ما الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بعد الأربعين وما الذي فعله) ولم يكن لشيء من ذلك ما يدل عليه قبل هذه السن [1] من قول ولا فعل ولا علم ولا عمل. الجواب جاء بدين معقول موافق للفطرة عام دائم، وشرع عادل مساوٍ بين الناس، وجمع شمل أمة متفرقة متعادية لم يعرف تاريخها لها وحدة، وكون أمة متحدة مدنية مؤلفة من جميع الشعوب والقبائل، وأسس دولة عزيزة قوية عادلة، وأصلح جميع ما كان قد أفسده البشر من الأديان والآداب والحضارات، بالظلم والعصبيات والخرافات [2] . (الدعوة المحمدية موضوعها وكتابها) (أ) ادَّعَى أن الله تعالى بعثه في قومه الأميين الجاهلين المشركين المفسدين في الأرض؛ ليزكيهم ويُرَبِّيَهُمْ في الكبر ويعلمهم الكتاب والحكمة، فيبلغوا دعوته للأمم فيكونوا من الأئمة المصلحين، ومن خلفاء الأرض الوارثين، وكذلك كان {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا} (النور: 55) . (ب) ادَّعى أن جميع شعوب البشر على اختلاف مللها ونحلها ضالون مضلون، وأن أتباع النبيين منهم قد فسقوا عن هدايتهم، أشركوا بعبادة ربهم، وابتدعوا في الدين ما لم يشرعه الله لهم، وأنهم أضاعوا بعض كتبهم وحرَّفوا بعضها، وأنه جاء من عند الله تعالى لهدايتهم كلهم أجمعين، وأن دينه سيظهر على أديانهم بالحجة والبرهان، والعقل والوجدان، والسيادة والسلطان، وكذلك كان، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) . (ج) جاء بكتاب ادَّعى أنه كلام الله تعالى أوحاه إليه، وأنه ليس له منه إلا تبليغه كما تَلَقَّاه، وقد ظهر أن هذا الكتاب لم يكن بينه وبين كلام محمد قبله ولا بعده شبه في نظمه ولا أسلوبه ولا معانيه ولا بلاغته ولا تأثيره، ولا أخباره وعقائده، ولا تشريعه وأحكامه، ولا معلوماته الكونية والاجتماعية ولا حكمه وآدابه. (د) قد علم من هذا الكتاب ما يضاد كونه من علم محمد وهو أنه هو الذي يربيه ويعلمه كما قال: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} (النساء: 113) ويصحح له خطأ اجتهاده في التبليغ أو التنفيذ تارة باللين واللطف، كقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة: 43) وتارة بالموعظة والشدة كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 74-75) وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 67-68) وقوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} (الأحزاب: 37) قالت عائشة: لو كان للنبي صلى الله عليه وسلم أن يكتم شيئًا من القرآن لكتم هذه الآية. وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ} (عبس: 1-11) وقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 28) الآية، وقوله تعالى في معناها: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ} (الأنعام: 52) نزلت هذه الآيات الأخيرة في إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى العناية بفقراء المؤمنين وعدم المبالاة بأغنياء قريش وكبرائهم الذين كانوا يحتقرونهم، وكان من اجتهاده صلى الله عليه وسلم أن يستميلهم لظنه أنهم إذا آمنوا لا يلبث جمهور العرب أن يقتدي بهم. (هـ) عُلِمَ من هذا القرآن أيضًا أنه كان حين يأتيه الوحي يخاف أن يتفلت منه شيء فلا يحفظه فيعجل بتلاوته ليحفظه فخوطب حين عرض له هذا في أثناء نزول سورة القيامة بقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) فكفل له ربه جمعه له بالحفظ، وأن يقرأه كما ألقي إليه لا يفوته منه شيء، كما ضمن له عدم نسيان شيء منه بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الجَهْرَ وَمَا يَخْفَى *} (الأعلى: 6-8) أي أنا قد عصمناك من نسيان شيء مما نُقْرِئك إياه بتلقين الملك، لكن إن شاء الله أن تنسى شيئًا فإنك إنما تنساه؛ لأنه تعالى هو الذي شاء ذلك لحكمة له فيه، لا لضعفك عن الحفظ وعروض النسيان الذي تخشاه، وقد عصمك الله منه، وهذا الاستثناء المنقطع لا يدل على أنه تعالى شاء أن ينسى شيئًا منه بل هو كقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه: {وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} (الأنعام: 80) وقيل: إن الاستثناء لتوكيد النفي، وقيل: إنه لما أراد نسخه. (و) إنه صلى الله عليه وسلم كان يبلغ ما يُلْقَى إليه من القرآن بنصه وعبارته كما أمر فيه لا بمعناه كوحي الإلهام وما يلقيه الملك في روعه، فيجمع بين الأمر بالقول ومقوله المراد منه مثل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1) ولكنه عندما كان صلى الله عليه وسلم يريد تبليغ المعنى في أثناء كلامه الذي لم يقصد به تلاوة القرآن يذكر مقول القول كالذي تراه في كتابه إلى هرقل قيصر الروم وغيره وهو (ويا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) إلخ، ونص الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا} (آل عمران: 64) إلخ. (ز) ليتأمل القارئ قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: 15-16) . (ح) قد اشتمل هذا الكتاب على تحدي العرب وغيرهم به وصرَّح فيه بأن جميع الخلق عاجزون عن الإتيان بمثله في جملته، وبسورة من مثله، واستدل النبي بذلك على كونه من عند الله تعالى لا من عنده، فظهر عجز العرب ثم عجز غيرهم عن ذلك كما بيناه في الكلام على إعجازه بلغته وأسلوبه ونظمه [3] وأعجازه بتأثيره، وما أحدثه من الثورة العربية والانقلاب العالمي [4] ولم يكن شيء من هذا في استطاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذاتية، ولا من استعداده الذي تدل عليه سيرته في شبابه. (ط) إنه قد نقل عنه صلى الله عليه وسلم بأصح الروايات التي تواتر خبر بعضها أنه كان يبطئ عليه الوحي أحيانًا، فيضيق صدره ويشق عليه حتى قال المشركون مرة: إن ربه (وقالت امرأة منهم: إن شيطانه) ودعه أي تركه وقلاه أي أبغضه، فأنزل الله تعالى عليه: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 3) وحتى كان يرجئ جواب السائلين والمستفتين انتظارًا له، وكان أكبر العبر وأوضح الدلائل على ما نريد هنا من هذه المسألة ما كان في قصة الإفك؛ إذ أذاع زعيم المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول قذف السيدة عائشة أم المؤمنين، وأحظى الأزواج المطهرات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاحشة، وصدق خبره بعض المؤمنين وتحدثوا به، وقد كان كل ما ابتلي به من إفك المنافقين والكافرين دون هذه الحادثة إيلامًا له، حتى استشار من استشار في فراقها على علو مكانة أبيها عنده، وسأل جاريتها بريرة هل رأت منها ما يريبها فحلفت إنها ما رأت ولا علمت قط ما يريبها فيها، وكانت عائشة تبكي ليلاً ونهارًا ما يرقأ لها دمع وهي موقنة أن الله سيبرئها قالت: ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحيًا يُتَْلَى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ كلامًا يُتْلَى. ومكث صلى الله عليه وسلم شهرًا لا يوحى إليه حكمة منه تعالى، ثم نزلت آيات براءتها المعروفة في سورة النور، فلو كان لاستعداده الشخصي صلى الله عليه وسلم تأثير في نزول الوحي عليه، أو لو كان الوحي نابعًا من نفسه من اعتقاد أنه من الله تعالى كما زعم الزاعمون لما أبطأ عليه في هذه الحادثة، بل الكارثة العظمى. (ي) تقدم أصح الأحاديث المرفوعة في نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم ورعبه منه في أول الأمر وأنه كانت تتغير حاله حتى يتفصد عرقًا في اليوم الشديد البرد، وأن وزنه كان يزيد في تلك الحال، وقد بيَّنا أن ذلك من تأثير غلبة الروحانية عليه باتصاله بجبريل الروح الأمين. وكان أصحابه يعرفون حين ينزل عليه الوحي وهو معهم. قال عبادة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه. رواه مسلم. وفي حديث الصحيحين والنسائي أن يعلى بن أمية كان يقول لعمر: ليتني أرى النبي صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي فلما كان بالجعرانة وعليه ثوب قد أُظِلَّ به عليه جاءه الوحي فأشار عمر إلى يعلى أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو صلى الله عليه وسلم مُحْمَر الوجه يغط لذلك ساعة (أي مدة قليلة) ثم سُرِّيَ عنه ا. هـ باختصار. تأول هذا أعداؤه صلى الله عليه وسلم من الإفرنج وتلاميذهم بأنه كان يعرض له نوبات عصبية وتشنجات (هستيرية) وما أبعد الفرق بين حاله تلك، وحالة أولي الأمراض العصبية في المزاج فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً ولعله إلى الدموي العضلي أقرب، وفي أعراضها وآثارها ونتائجها، فذو النوبة العصبية يعرض له في أثرها من الضعف والإع

أصول الدعوة المحمدية ومقاصدها العامة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أصول الدعوة المحمدية ومقاصدها العامة (التي أجملناها من قبل في إحدى عشرة مقدمة نلخصها للتذكير وبيان نتيجتها) (1) إصلاح ما أفسده أهل الكتاب المعروف تاريخهم في الجملة ومن سبقهم من أتباع الأنبياء الأقدمين بالأولى من أركان الإصلاح الديني الإلهي الثلاثة، وهي الإيمان بالله، والإيمان بالبعث والجزاء، والعلم الصالح الذي تتزكى به الأنفس البشرية، فأنَّى لرجل أمي أن يعلم هذه الأصول وما أفسد أتباع الأنبياء منها ويستقل عقله بما أشرنا إليه من إصلاحه المعقول الموافق للفطرة البشرية؟ بل كان يعجز عن ذلك جميع المتكلين والحكماء الراسخين من تلك الأمم. (2) بيان ما كان يجهله البشر من حقيقة النبوة والرسالة ووظائف الرسل عليهم الصلاة والسلام، وفيه بحث مستفيض في حقيقة الآيات الكونية التي أيدهم الله بها وما يشبهها من خارق العادات وضلال الماديين والخرافيين فيها. (3) بيان أن الإسلام دين الفطرة السليمة، والعقل والفكر، والعلم والحكمة والبرهان والحجة، والضمير والوجدان، والحرية والاستقلال، والشواهد على هذه الأصول لترقية نوع الإنسان وبلوغه بها سن الرشد من آيات القرآن، ولا تزال فلسفة جميع البشر القديمة والحديثة قاصرة عن تشريع يحتوي هذه الأصول كلها، وما جاء في القرآن من فروعها أو شروط التحقق بها. (4) الإصلاح الاجتماعي الإنساني والسياسي وتحقيقه بالوحدات الثماني: وحدة الأمة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع بالمساواة في العدل، وحدة الأخوة والمساواة في التعبد، وحدة الجنسية السياسية الدولية، وحدة القضاء، وحدة اللغة، ولم يأت بهذه الوحدات البشرية في ذلك كله ولا في أكثره دين ولا تشريع إلا دين القرآن وهدي محمد عليه الصلاة والسلام. (5) المزايا العشر للتكاليف الشخصية في الإسلام وهي الجمع فيها بين حقوق الروح والجسد وكون الغاية منها سعادة الدنيا والآخرة معًا، وكونها يسرًا لا حرج فيها ولا عسر ولا إرهاق، وكونها قصدًا واعتدالاً في كل أمر، لا غلو بها ولا إسراف، ولا سيما الزينة والطيبات، وكونها معقولة سهلة الفهم، واشتمالها على العزيمة والرخصة، وكونها مراعًى فيها درجات البشر في العقل والفهم وعلو الهمة وضعفها، وبناء المعاملات فيها على الظواهر دون البواطن، وبناء العبادات فيها على الاتِّباع دون الابتداع، حتى لا يكون فيها تحكم للآراء والرياسات. (6) بيان أن حكم الإسلام السياسي الدولي قائم على أساس سلطة الأمة واجتهاد أولي الأمر على أساس درء المفاسد ومراعاة المصالح والشورى، والعدل المطلق والمساواة فيه، وحصر الظلم، ومراعاة الفضائل في الأحكام، ولم يوجد في الدنيا دولة ولا حكومة تساوي الإسلام في ذلك، وفي هذا البحث عدة أصول وقواعد. (7) الإصلاح المالي من جميع النواحي التعبدية والأدبية والخلقية والاجتماعية والدولية بما لو اتبعته الدول والأمم لما وجد في الدنيا فَقْر مُدْقِع، ولا غُرْم مُفْجِع، ولا بَلْشَفِيَّة باغية، ولا رأسمالية طاغية، ولا طمع يهودي، ولا زهد مسيحي، ولا تقشف هندي ولا بغي إفرنجي، ولا تعطيل مصلحة عامة، ولا إرهاق منفعة خاصة، وإذًا لاستغنى البشر به عن الاشتراكية المعتدلة؛ لأنه الاشتراكية المثلى. (8) إصلاح نظام الحرب ودفع مفاسدها وقصرها على ما فيه الخير للبشر، وفيه قواعد مؤيدة بشواهد الآيات البينات المثبتة أن دين الإسلام هو وحده دين السلام، وأن شرور الحروب وطغيانها وتأريثها للعداوات بين البشر لا يمكن درؤها إلا باتباع قواعده في قصر الحرب على الدفاع ومنع الاعتداء، وإيثار السلم على القتال، والصلح على الخصام، ومراعاة الحق والعدل في المعاهدات، وخلوها من الدخَل الذي يفسدها بجعلها حجة لغلب أمة على أمة، وإرهاق دولة لدولة، وقد أوردنا فيه بضع قواعد، مؤيدة بالنصوص والشواهد. (9) إعطاء النساء جميع الحقوق الإنسانية والدينية والمدنية من زوجية ومالية وغيرها وتكريمهن واحترامهن، وهو ما لم يوجد في دين، ولا قانون سابق ولا لاحق. (10) تحرير الرقيق ورفع الظلم والإهانة عنه وتشريع الوسائل لمنع تجديده، وإيجاب الإحسان إليه، إلى أن يتم تحريره وإبطاله. ((يتبع بمقال تالٍ))

تحدي العالم بتعاليم الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحدي العالم بتعاليم الوحي المحمدي تلك عقائد دين محمد، وقواعد تشريعه، وأصول إصلاحه الاجتماعي والسياسي، مسرودة بالإجمال، مُؤَيَّدَة بشواهدها من آيات القرآن، مجردة من حلل المبالغات الخطابية، وعاطلة من حلي الخلابة الشعرية، ونحن المسلمين نتحدى الفلاسفة والمؤرخين من جميع الأمم، ولا سيما أحرار الإفرنج، بأن يأتونا بمثلها أو بما يقرب منها من تاريخ أعظم الأنبياء، وأشهر الحكماء، وأبلغ الأدباء، وأنبغ ساسة الأولين والآخرين، مع صرف النظر عن كونه كان كما شرحنا أميًّا نشأ في الأميين، وجاء بذلك كله بعد استكمال سن الأربعين، وقد بيَّنا الفرق العظيم بينه وبين موسى وعيسى أعظم أنبياء بني إسرائيل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. (التنفيذ العملي) وأما تنفيذه صلى الله عليه وسلم لهذه التعاليم فقد تم في عشر سنين من تاريخ الهجرة الذي كان بدء حياة الحرية، وقد ظل يدعو إلى أصولها المجملة عشر سنين أولا بالسر، ثم بالجهر، مع احتمال الاضطهاد والإيذاء والتعذيب والتهديد بالقتل والنفي، الذي اضطر المؤمنين إلى هجرة بعد هجرة، وبعد الهجرة العامة بالتبع له، كانوا في حالة حرب وقتال مع المشركين كافة، وكذا أهل الكتاب وكان صلى الله عليه وسلم عقد معهم معاهدة بتأمينهم على دينهم وأنفسهم وأموالهم بشرط ألا يظاهروا المشركين عليه، فنقضوا عهده، وظل المسلمون مدة ست سنين مدافعين عن أنفسهم في كل قتال دفاع الضعيف المؤيد من الله للأقوياء المخذولين، وفي أواخر السادسة عقد معاهدة الحديبية مع المشركين على وضع القتال عشر سنين، ثم غدر المشركون ونقضوا العهد، فعادت حالة الحرب، وفتح المسلمون مكة عاصمة قريش الدينية والدنيوية، ومثابة جميع الأمة العربية في سنة ثمان من الهجرة، وحج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع في آخر سنة عشر، وأنزل الله تعالى عليه فيها: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً} (المائدة: 3) . ففي عشر سنين وقع توحيد الأمة العربية التي كانت أعرق أمم الأرض في الشقاق والتفرق والعداء، وإنما كان ذلك بتأثير كتاب الله وتأييده عز وجل لرسوله كما قال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 62-63) وبما أعده تعالى له من مكارم الأخلاق وما وفقه وأرشده إليه من حسن السياسة المبينة في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران: 159) الآية. وذلك أن العرب كانت أعصى خلق الله على الخضوع والطاعة والانقياد لعراقتهم في الحرية، وشدة بأسهم، وعدم وجود الملوك المستبدين القاهرين والرؤساء الروحيين المسيطرين فيهم. فليدلنا علماء التاريخ العام على نبي من الأنبياء، أو حكيم من الحكماء، أو ملك من الملوك الفاتحين والمشترعين، رَبَّى أمة من الأمم في عشر سنين، فجعلهم أهلا لفتح الأمصار، والسيادة على الأمم الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة، وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة التي علَّمَها وهذَّبَها ووحَّدها رجل واحد كالأمة الحضرية وسياستها بالعدل والرحمة، وتحويلها عن أديانها ولغاتها بالإقناع وحسن القدوة، ولا تشترط أن تكون هذه الأمة التي علَّمها وهذبها ووحَّدها رجل واحد كالأمة العربية في أميتها وجاهليتها وتفرقها وتعاديها ومرور القرون عليها وهي تتوارث هذه الصفات، فأين الوحدة الجرمانية والوحدة الطليانية في عصر العلوم والفنون والفلسفة والقوانين ونظم الاجتماع والحرب، من الوحدة العربية المحمدية في عهد الأمية والجاهلية؟ بل أين الوحدة الإسرائيلية في عهد الآيات والعجائب الكونية من الوحدة العربية الخاصة، ثم الوحدة الإسلامية العامة في عهد آيات القرآن وعلومه الإلهية وبيان السنة المحمدية لها؟ ثم نفذ ذلك التشريع الأعلى، والهداية المثلى، خلفاء محمد الراشدون، وكثير من ملوك المسلمين الصالحين، بما شهد لهم به تاريخهم، واعترف لهم به المؤرخون المنصفون من الإفرنج وغيرهم، بأنهم جدَّدوا بهما الحضارة الإنسانية ورقوها، وأحيوا العلوم والفنون الميتة وهذبوها واستثمروها، وكانوا أساتذة جميع من جاء بعدهم فيها. ثم كان من قوة هذا الدين ومتانته أَنْ عَادَتْهُ جميع أمم الإفرنج وحاربته بجميع قواتها الصليبية، الهمجية منها والمدنية، ثم بعلومها وفنونها ونظمها المدهشة، ولا تزال تحاربه وتبذل الملايين لتحويل أهله عنه، بعد زوال قوة دوله، وغلبة الجهل على شعوبه، ولم تستطع أن ترد رجلاً واحدًا عنه قد كان عرفه. أفما آن لها أن تعقل أنها لو اعترفت له بحقه، لأمكنها أن تصلح العالم كله به؟ ؟ ((يتبع بمقال تالٍ))

قيام الحجة البالغة على ثبوت نبوة محمد العامة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النتيجة المقصود بالذات قيام الحجة البالغة على ثبوت نبوة محمد العامة إذا عجز حكماء هذا العصر وعلماء الحياة والاجتماع والأخلاق والمؤرخون من أحرار الإفرنج وغيرهم عن إخبارنا بوجود رجل مثل محمد فيما علم من تاريخه المعروف المشهور جاء بمثل هذا القرآن في خصائصه ولا سيما التعاليم التي لخصنا كلياتها في هذا البحث، وقدر أن ينفذها ويربي بها أمة كالأمة العربية يكون لها بها من الأثر الديني والمدني في العالم مثل أثرها وإنهم لعاجزون عن ذلك قطعًا - أفلا يكون عجزهم هذا برهانًا على أن دين محمد وكتاب محمد وهدي محمد وتربية محمد للأمة العربية من خوارق العادات. وإذا كان هذا حقًّا واقعًا ما له من دافع، فما المانع من عد هذه التعاليم وحيًا من رب العالمين، العليم الحكيم؟ وما معنى كونها وحيًا إلا أنها علم أفاضه الله تعالى على روح محمد وقلبه، بطريقة خفية غير طرق العلم الكسبية المعروفة للبشر عامة، وفوق الإلهامات القليلة التي تؤثر عن بعض الخاصة؟ وما معنى كونها معجزة إلا أنها جاءت على غير المعهود في علم البشر الكسبي، وخلاف المقرر في علم النفس والفلسفة العقلية وسنن الاجتماع، وتواريخ الأمم، وسير الحكماء والعلماء والملوك، وفوق المعروف عن الأنبياء أيضًا، وإن كانت من جنسها، فالأنبياء قد أنبئوا ببعض الغيوب الحاضرة في عصرهم والتي تأتي بعدهم وأنبأ محمد (صلوات الله عليه وعليهم) بمثلها وبغيوب سابقة كانت قبل نبوته بقرون، ولكن لم يجئ أحد منهم بمثل ما تقدم إجماله في المقاصد العشرة العالية من العلم والحكمة والتشريع. قد بيَّنا لكم أيها العقلاء الأحرار بطلان ما اخترعته عقول المنكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلل والآراء لجعل ما جاء به من العلم الإلهي الأعلى، والتشريع المدني الأسمى، والحكمة الأدبية المثلى من استعداده الشخصي، وما اقتبسه من بيئته ومن أسفاره، مع تصغيرهم لهذه المعارف جهلاً أو تجاهلاً، وعلمتم أن بعض ما قالوه افتراء على التاريخ، وأن ما يصح منه عقيم لا ينتج ما ادعوه، وعلمتم أنه في جملته مخالف للعلم والفلسفة وطباع البشر وسنن الاجتماع ووقائع التاريخ. ونحن نتحداكم الآن بالإتيان بعِلَل أخرى لما عرضناه على أنظاركم من وحي الله تعالى وكتابه لمحمد صلى الله عليه وسلم من القطعي من تاريخه علل يقبلها ميزان العقل المسمى بعلم المنطق، وما ثبت عندكم في هذا العهد من علم النفس وعلم الاجتماع وحوادث التاريخ وفلسفته. فإن لم تستطيعوا ولن تستطيعوا أن تأتونا بعلل تقبلها العقول، وتؤيدها النقول، فالواجب عليكم أن تؤمنوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وبكتابه المنزل عليه من عند الله تعالى لإصلاح البشر، وأن تتولوا الدعوة إلى هذا الإيمان، ومعالجة أدواء الاجتماع الحاضرة به، بعد أن عجزت علومكم الواسعة، وفلسفتكم الدقيقة عن وقف سريان عدوى فساد الإباحة وعبادة الشهوات وفوضى الأفكار في الأمم، وعجزت عن منع دول حضارتكم أن تنفق معظم أموالها المنتزعة من شعوبها ومستعمراتها في الاستعداد لحرب البغي والعدوان المدمرة، وتأريث العداوات بين شعوب الأرض كافة، فقد كان غاية شوط هذه العلوم الواسعة عند هذه الدول أعظم نكبة على البشر، وأنتم أيها العلماء لم تقصدوا إلا أن تكون نعمة تتم بها سعادة البشر. ألا أنه قد ثبت بالحس والعيان أن العلم البشري وحده لا يُصْلِح أنفس البشر؛ لأنهم لا يخالفون أهواءهم وشهواتهم الشخصية والقومية باتِّباع آراء أفراد منهم، وإنما يدينون بوازع الفطرة، لما هو فوق معارفهم البشرية وهو ما يأتيهم من ربهم، ولا يوجد في الأرض دين عام كامل صحيح ثابت إلا دين الإسلام، وقد بيَّنا لكم أصول تشريعه الروحي والسياسي والاجتماعي الصالح لكل زمان ومكان، وأنه دين السلام والحق والعدل والمساواة التي تعطي كل شعب وكل فرد حقه، وبها وحدها يمكن البرء من الأدواء المالية والسياسية والحربية والاجتماعية كلها. قد دعا بعض العلماء منكم إلى عقد مؤتمر من كبار علماء الشعوب كلها للبحث في الوسائل التي يمكن أن تقي حضارة العصر من الدمار، ولئن عقد هذا المؤتمر فلن يكون أمثل ولا أرجى من هذه المؤتمرات التي تعقدها الدول في جامعة الأمم وعواصم السياسة وهي لما تزد الأدواء إلا إعضالا، والأخطار إلا تفاقمًا، وإنما الدواء الواقي المضمون بين أيديهم وهم لا يبصرون، وحجته البينة تناديهم ولكنهم لا يسمعون: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ} (الأنفال: 23) . * * * سؤال علماء الإفرنج عن شبهاتهم على الدعوة المحمدية (بعد تبليغهم لحقيقتها، ومكان أخبار القرآن منها) وأما أنتم أيها العلماء المستقلو العقول والأفكار، فالمرجو منكم أن تسمعوا وتبصروا، وأن تعلموا فتعملوا، ولكن دعوة القرآن لم تبلغكم حقيقتها على الوجه الصحيح الذي يحرك إلى النظر؛ لأن الإسلام ليس له زعامة ولا جمعيات تبث دعوته، ولا دولة تقيم أحكامه وتنفذ حضارته، بل صار المسلمون في جملتهم حجة على الإسلام وحجابًا دون حقيقته، وأرجو أن يكون هذا البحث كافيًا في بلوغ الدعوة إليكم بشرطها المناسب لحال هذا العصر، فإن ظهر لكم بها الحق فذلك ما نبغي ونرجو لخير الإنسانية كلها، وإن عرضت لكم شبهة فيها فالمرجو من حبكم للعلم، وحرصكم على استبانة الحق، أن تشرحوها لنا لنعرض عليكم جوابنا عنها، والحقيقة بنت البحث كما تعلمون. ولا أراكم تعدون من الشبهات الصادَّة عنه (بعد أن ثبتت أصوله بما ذكرنا، أن فيه أخبارًا عن عالم الغيب لا دليل عليها عندكم، فإنما مصدر الدين عالم الغيب) ولو كان مما يعلمه البشر بكسبهم لما كانوا في حاجة إلى تلقيه من الوحي، وقد بيَّنا أن تعاليم الإسلام قد أثبتت أنها وحي من عالم الغيب وقامت برهانًا على وجود الله وعلمه وحكمته، فوجب أن تؤخذ أخباره بالتسليم، وحسبكم أنه ليس في القرآن منها ما يقوم البرهان على استحالته. وأما أخبار القرآن عن عالم الغيب والشهادة من تكوين وتاريخ فمن معجزاته الإيجابية أنه جاء فيه كثير من التعبيرات التي كشف العلم والتاريخ في القرون الأخيرة من معانيها ما لم يكن يخطر في بال أحد من أهل العصر الذي نزل فيه كما أنه لم يثبت على توالي القرون بعد نزوله شيء قطعي ينقض شيئًا من أخباره القطعية، على أن أخباره هذه إنما جاءت لأجل الموعظة والعبرة والتهذيب، ويكفي في هذا أن تكون الأخبار على المألوف عند الناس، ولا ينتقد عليها إذا لم تشرح الحقائق الفنية والوقائع؛ لأنها ليست مما يبعث الرسل لبيانه، ولا يمكن الوقوف عليها إلا بالتعمق في العلم أو الاستعانة بالآلات التي لم تكن معروفة عند المخاطبين الأولين بالكتاب، بل لا يصح أن يأتي فيها ما يجزمون بإنكاره بحسب حالتهم العلمية لئلا يكون فتنة لهم، وقد قال نبي الإنسانية العام: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) رواه مسلم في صحيحه. ومن دقائق تعبير القرآن في النوع الأول أن مادة الخلق (دخان) وهو عين ما يسمى السديم، وأن السموات والأرض كانتا رتقًا، أي مادة واحدة متصلة ففتقهما الله وجعل كلا منهما خلقًا مستقلا، وأنه جعل من الماء كل شيء حي، وأنه خلق جميع الأحياء النباتية والحيوانية أزواجًا فجعل في كل منها ذكرًا وأنثى، وأنه جعل كل نبات موزونًا، وأنه أرسل الرياح لواقح وأمثال ذلك كثير. وأعجب منه بيان كثير من سنن الاجتماع البشري التي لم يهتد البشر إليها بالبحث العلمي التدريجي إلا عدة قرون فمن المناسب لهذا وما سبقه من عجائب القرآن أن أختم هذا البحث كله بقوله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 52) * {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} (فصلت: 53-54) (صدق الله العظيم، وبلَّغ رسوله الكريم، والحمد لله رب العالمين) * * * الشبهات على القرآن ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام كنت عازمًا على إتباع هذا البحث ببيان ما لعلماء هذا العصر من الشبهات على القرآن العظيم ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأجوبة عنها، وكتبت من ذلك شبهة موسيو درمنغام صاحب كتاب (حياة محمد) على مسألة الصلب والفداء. ثم بدا لي أن أكتب في هذا رسالة مستقلة ألخص فيها ما سبق لي نشره في مجلة المنار وتفسيرها، ومنه ما طبع مستقلا كرسالة (عقيدة الصلب والفداء) وأزيد عليه ما أقف عليه بعد نشر هذا البحث، والله الموفق وهو المستعان.

خطبة الملك السعودي في حجاج هذا العام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة الملك السعودي في حجاج هذا العام (في 5 ذي الحجة سنة 1351 وحضرها ألف أو يزيدون) الملك عبد العزيز آل سعود خطيب مُفَوَّهٌ، واعظ ديني مُكْثِر، وقد خلت القرون ولم ير المسلمون ملكًا ولا أميرًا خطيبًا واعظًا، وهو في كل موسم من مواسم الحج يدعو كل من يزور جلالته بمكة المكرمة من حجاج الأقطار الممتازين بالعلم والأدب والوجاهة الرسمية وغير الرسمية إلى مأدبة كبيرة في قصره فيلقي عليهم في أثنائها خطابًا حافلاً بالوصايا الدينية والسياسية، ويسمح لمن يشاء منهم بالكلام والخطابة في المصالح الإسلامية العامة، فيكون هذا الاجتماع بما يكون فيه من التعارف بين كبراء المسلمين من أهم فوائد موسم الحج التي كان يتمناها عقلاؤهم منذ بدء اليقظة الحديثة، وكانت متعذرة قبل عهد الدولة العربية السعودية. وقد كانت خطبة هذا الموسم ممتازة بأنه صرح فيها بما يدل على توجه عزمه إلى النهوض بخدمة جديدة للإسلام، وخدمة أخرى مثلها للأمة العربية. لهذا رأيت أن أنشر جُلَّها في المنار؛ لأجل تعميم فائدتها ومطالبة جلالته بتنفيذها (قال الملك بعد مقدمة في فضل الإسلام، وسوء حال المسلمين عامة والعرب خاصة) (فإذا أراد العرب إعادة مجدهم القديم فما عليهم إلا أن يعتصموا بحبل الله، وأن يتمسكوا بما أمر الله به، أما الإدعاء بأن الأغيار هم سبب هذه الفُرْقَة، وهذا التخاذل فما هو بصحيح؛ لأن المسلمين والعرب إذا كانوا في منعة من التعاضُد والتكاتف فليس هناك من قوة في مقدورها مهاجمتهم وإذلالهم. يقول المسلمون والعرب: إن أسباب ضعفنا هو عدم سيرنا في الطريق التي سار عليها الغربيون في تمدينهم وحضارتهم، وأن دساتيرهم أي الغربيين وأنظمتهم هي الكفيلة بتمديننا وتقويتنا، وهذا من أسخف الأقوال التي لا يزال يثيرها بعض الكُتَّاب والخطباء ويلوكونها بألسنتهم، يظن هؤلاء الناس أن حرية الغربيين ودساتيرهم كفيلة بإسعاد الناس أكثر مما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، وهذا خطأ فاضح، فإن الدين الإسلامي قد كفل المساواة بين كافة المسلمين وآخى بينهم أكثر مما جاء في الدساتير الغربية، وأية مساواة أعظم من تلك المساواة التي جاء بها الإسلام فلم يجعل فوارق في الحقوق بين الملك والصعلوك، ولم يفضل أحدهم على الآخر إلا بالتقوى، فالمسلمون لا ينقصهم إلا الرجوع إلى عبادة الله وحده، عبادة خالصة لوجه الله، فإذا عبدنا الله جل وعلا حق عبادته زالت الضغائن من قلوبنا فتوحدت نفوسنا، وسرت روح التآخي والتحابب بيننا. (إن مصائبنا من أنفسنا؛ لأننا نحن أعداء أنفسنا، والأغيار لم يقدروا على إذلالنا إلا بعد أن رأوا منا العداوة لبعضنا، فاللوم واقع - والحالة هذه - علينا لا عليهم، لذلك يجب أن نصلح أنفسنا، وأن نطهرها من الأضغان العالقة بها، وأن نكون مسلمين حقًّا، إذا كنا نريد النهوض والخلاص، وأن نعتصم بحبل الله جميعًا فنترك كل المنهيات والمنكرات، إذا رغبنا في النجاح والفلاح) . (يجب أن يُعْنَى كل واحد منا بأمره أولاً وبأمر إخوانه ثانيًا، وأن يبذل جهده في إصلاح نفسه، وإصلاح إخوانه، وأن نُقَوِّمَ المُعْوَجَّ من أعمالنا وأخلاقنا، وأن يوجه كل منا مجهوداته نحو هذه الخطة المثلى. أما أنا فإني أعمل جهد الطاقة في سبيل إعلاء كلمة الدين وإحلال عقيدة السلف الصالح في نفوس المسلمين والعرب، لذلك: 1- أنا مبشر أدعو لدين الإسلام ولنشره بين الأقوام. 2- أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف هي: التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها فأرجع بشأنها لأقوال الأئمة الأربعة فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين. 3- أنا مسلم وأحب جمع كلمة الإسلام وليس أحب عندي من أن تجتمع كلمة المسلمين ولو على يد عبد حبشي، وإنني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي ضحية في سبيل ذلك. 4- أنا عربي وأحب عز قومي، والتآلف بينهم، وتوحيد كلمتهم، وأبذل في ذلك مجهوداتي، ولا أتأخر عن القيام بكل ما فيه المصلحة للعرب وما يوحد أشتاتهم، ويجمع كلمتهم. 5- أنا مسالم ومدافع، أنا مسالم للناس وأحب النصيحة قبل كل شيء؛ لأن الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأنا مدافع لأنني ما حاولت في وقت من الأوقات أن أعتدي على إخواني وأبناء قومي وكنت في كل وقت أقابل ما يصدر إليَّ منهم من إساءة أو خطيئة بصدر رحب على أمل أن يرجعوا إلى الصواب، ولكنني إذا رأيت تماديًا في الغي والإساءة اضطر حينئذ للدفاع. (إن السلف الصالح هم قدوة المسلمين، وخير قدوة، وما رفعهم إلى ذلك إلا خصلتان: التمسك بكتاب الله وما جاء به رسول الله، والصدق والتضحية في سبيل الله) . 2- الصبر على القضاء والشكر على العطاء. وكلاهما من الله تعالى، ونحن اليوم نحمد الله على أن كل ما نسمعه من المسلمين والعرب يشجع ونرجو أن ينبت نباتًا حسنًا، والإنسان الطيب هو الذي يقتدي بالسلف الصالح في عبادة ربه، وبالصدق والتضحية والصبر والشكر، والمسلمون ينقصهم معرفة الزعماء والأشخاص ونفسياتهم، فإن هنالك أشخاصًا من المسلمين يتظاهرون بالغيرة والتضحية، وهم في حقيقة الأمر على عكس ذلك يتظاهرون بالغيرة ويسعون في الخفاء لتنفيذ مآربهم الشخصية والتجسس على أحوال إخوانهم، وهذا أمر يؤسف له؛ لأن الأضرار التي لحقت المسلمين والعرب جاءت عن هذه الطريقة) . (الإسلام عزيز علينا جميعًا ورهبته في قلوب أعدائه كبيرة، فواجب المسلم اليوم في كل مكان أن يقوم بالدعوة إلى عبادة الله عبادة خالصة، وأن يسعى لإصلاح شؤون المسلمين إصلاحًا حقيقيًّا لا نظريًّا، وأن يكون كل ذلك بالطرق المفيدة المنتجة؛ لأن هنالك طرقًا أخرى تَضُرُّ بالمسلمين والعرب أكثر مما تنفعهم إذا اتَّبَعْنَاهَا، وإنني لعلى يقين بأن فريقًا كبيرًا من الأغيار لا يريدون الضرر بالإسلام والعرب، ولكن ويا للأسف إن فريقًا من المسلمين يشجعون أولئك على إيذاء المسلمين، إذًا فالضرر منا وعلينا، ولا عتاب على الأغيار من ذلك. (لقد تفشى الجهل، وساد التخاذل بين المسلمين، فوصلنا إلى ما وصلنا إليه من الحالة الراهنة التي تعرفونها، ولم يبق من الدين إلا اسمه، وتفرقنا أيدي سبا، وأصبح المسلمون فِرَقًا وشِيَعًا. أما أولئك الذين يُطَبِّلون ويُزَمِّرُونَ لحضارة الغرب ومدنيته ويريدون منا أن ننزل عندها فنتمثلها في بلادنا وبين أقوامنا فإننا نسوق إليهم الحديث بتوجيه أنظارهم إلى هذه الأزمة الخانقة، وإلى هذا التبلبل السياسي، وإلى هذه الفوضى الاجتماعية السائدة في تلك البلاد، فإن نظرة واحدة لمن يتدبر هذه الأوضاع السائدة في هذه الأيام يلمس فساد تلك النظريات المتسلطة على عقول السُّذَّج من المسلمين ومن العرب. أما المسائل الصناعية والزراعية، فإن أوامر الله تعالى ونبيه بالأخذ بها صريحة، وكذلك في أعمال رجال السلف الصالح أكبر دليل على العناية بها، والأخذ بأسبابها ولذلك فالقول بأن الصناعة والزراعة من نتائج الحضارة الغربية وحدها ليس بصحيح، وكذلك الطيارات والدبابات والمدافع، والأعتاد الحربية التي تدافع بها الأمم عن نفسها وتذود بها عن حِيَاضها هي من الأعمال الصناعية أيضًا، ومما أمر الله بها صراحة فقال في كتابه العزيز: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60) ولذلك يمكنني أن أقول بأنه لا يوجد في الدنيا مدنية تسعد البشر وتكفل راحتهم أحسن من مدنية الإسلام، ولا يوجد دستور يكفل حقوق الراعي والرعية وحقوق الناس كافة، ويؤمن المساواة بين الصغير والكبير وبين الملك والصعلوك وينصف المظلوم من الظالم كالقرآن الكريم، وما فيه من الآيات المحكمات، وما جاء عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لذلك نحن ننصح المسلمين كافة، والعرب خاصة، وننصح البشر على الإطلاق للعمل بما جاء في كتاب الله جل علا، وعلى لسان نبيه الكريم فإن السعادة في الدنيا والآخرة لا تكون إلا بذلك: (فريق من المسلمين ينقمون عليَّ لأنني أدعو لعبادة الله عبادة خالصة؛ ولأنهم يريدون أن أرتكب المنهيات فآمر بإقامتها في البلاد، فأنا أبرأ إلى الله من هذه الدعوة الباطلة، وأفخر بأنني سلفي محمدي على ملة إبراهيم الخليل) . (دستوري ونظامي وقانوني وشعاري دين محمد صلى الله عليه وسلم، فأما حياة سعيدة، وإما مِيتَة سعيدة) . (وهنا نفى عن نفسه دعوى الرياسة على علو نسبه العربي الذي لا يعلوه إلا نسب آل الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال: (أنا عربي ومن خيار الأسرة العربية، ولست متطفلاً على الرئاسة والملك، فإن آبائي وأجدادي معروفون منذ القدم بالرئاسة والملك، ولست ممن يتكئون على سواعد الغير في النهوض والقيام، وإنما اتكالي على الله، ثم على سواعدنا يتكئ الآخرون ويستندون) . (أنا لا أفتش، ولا أسعى للرئاسة، ولا أريد علوًّا في الأرض ولا سعادة، وإنما يهمني في الدرجة القصوى جعل كلمة الله هي العليا، ولا يهمني في هذا الشأن ما يعترضني في الطريق من المصاعب والمتاعب) . (لقد حاربتنا جيوش جرارة في أدوار مختلفة منذ أن قمنا بهذه الدعوة المباركة، فكان نصيبها -رغم كثرة عديدها وعددها- الفشل والخسران ولله الحمد. (ماذا يريدون من ابن سعود؟ ماذا عمل ابن سعود؟) (هذه أعمالي واضحة بينة، أزلت كل شبهة، وأقمت كل معروف، ونهيت عن كل منكر، وحجتي في ذلك كتاب الله وسنة رسوله) . (إنني أبرأ إلى الله من كل محرم أن أبيحه، وأبرأ إلى الله من كل منكر أن آمر به، وأنا على استعداد لمحاججة كل من يريد محاججتي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (وهاهنا تنصل من دعوى الخلافة وصرَّح بعدم إمكانها ثم قال: (وإنني أتمنى أن يتم جمع المسلمين وتوحيد كلمتهم، وإنني لعلى استعداد لأن أكون أنا وأسرتي كجندي بسيط أجاهد في هذا الشأن، ولن أدخر جهدًا في سبيل توحيد بلادي، وتوحيد كلمة العرب وتأسيس الوحدة بين العرب، وإذا كنت أنا أسعى في ذلك فلست أريد من وراء ذلك جزاءًا ولا شكورًا، وإنما يهمني وأتمنى من صميم القلب أن يتم لَمُّ شعث المسلمين وأن يسالم بعضهم بعضًا فيكفون الأذى عن أنفسهم. (أنا مسلم عربي، رأست قومي بعد مصاعب طويلة ولا فخر في ذلك؛ الآن ورائي جيوش جرارة لا تقل عن أربعمائة ألف مقاتل، إن بكيت بكوا، وإن فرحت فرحوا، وإن أمرت نزلوا على إرادتي وأمري، وإن نهيت انتهوا. وهؤلاء هم جنود التوحيد إخوان من طاع الله، يقاتلون ويجاهدون في سبيل الله ولا يريدون من وراء ذلك إلا رضاء الباري جل وعلا. وإن هذه القوى هي موقوفة لتأييد الشريعة ونصرة الإسلام في الديار التي ولاني الله أمرها، أعادي من عادى الله ورسوله، وأصالح فيها من لا يعادينا ولا يناوئنا بسوء، وإني وجندي جنود في سبيل جعل كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر. نسأل الله أن يأخذ بيدنا ويوفقنا لما يحبه ويرضاه. اهـ المراد من هذه الخطبة، وسنعلق عليها في الجزء الآتي. ((يتبع بمقال تالٍ))

بدعة الزيادة في الأذان أو عليه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بدعة الزيادة في الأذان أو عليه تاريخها ومبتدعها ومنكروها وادعاء مجلة مشيخة الأزهر شرعيتها (سئلنا عن هذه الزيادة، فأفتينا في مجلة المنار بأنها بدعة منكرة، وسئلت عنها مجلة مشيخة الأزهر فأفتت بأنها بدعة حسنة، ورد علينا مفتيها الشيخ يوسف الدجوي ردًّا ضمَّنَه تلك البهائت السبع المفتريات، التي فضحنا جهله وكذبه فيها بثلاثة عشر مقالاً متتابعات، وهذا مقال خاص برد شبهاته على بدعة الأذان. الأذان شعيرة من شعائر الإسلام التعبدية مروي بالتواتر والعلم من عهد الرسول صلوات الله وسلامه عليه، منقول في جميع كتب السنة وفقه أئمة أهلها , معدود الكلمات , موصوف الأداء , وكل عبادة هذا شأنها في ثبوتها وصفاتها يجب فيها الاتباع بلا زيادة ولا نقصان، ولا يقبل فيها رأي أحد بشبهة قياس أو استحسان، بخلاف العبادات المطلقة من ذكر الله تعالى أو صلاة نافلة غير معينة أو صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فكل امرئ مخير في الإكثار منها ما شاء بشرط أن تكون الصلاة على الصفة المأثورة، وأن لا يلتزم فاعل العبادة المطلقة قيودًا لها من الزمان أو المكان أو الجهر أو الجماعة تخرجها من دائرة إطلاق الشرع لها وتدخلها في أعداد ما سماه الإمام الشاطبي بالبدع الإضافية المخرجة لها عن إطلاقها، ولذلك قال الفقهاء في صلاة ليلة الرغائب من رجب وليلة النصف من شبعان اللتين اعتادهما بعض العباد: (إنهما بدعتان قبيحتان مذمومتان) كما في المنهاج للنووي وغيره. فالعبادات منها ما هو مقيد بعدد أو زمان أو مكان أو وصف فالواجب فيه التزام القيد المأثور عن الشارع، ومنها ما ورد مطلقًا غير مقيد فيلتزم فيه الإطلاق والأذان من النوع الأول، فلا يباح أن يزاد فيه ولا عليه ولا أن ينقص منه. وقد ابتدع فيه الشيعة في مصر وغيرها ما بينه العلامة المقريزي في أوائل الجزء الرابع من خططه المصرية المشهورة بعد بيان أصله ونصوص السنة فيه، وقَفَّى على ذلك بإبطال السلطان صلاح الدين لما ابتدعه الفاطميون فيه وإعادته لما كان عليه من مذهب أهل السنة وما حدث بعد ذلك من الابتداع فيه فقال ما نصه: (وأما مصر فلم يزل الأذان بها على مذهب القوم إلى أن استبد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بسلطنة ديار مصر وأزال الدولة الفاطمية في سنة سبع وستين وخمسمائة، وكان ينتحل مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، وعقيدة الشيخ أبي الحسن الأشعري رحمه الله فأبطل من الأذان قول (حي على خير العمل) وصار يؤذن في سائر إقليم مصر والشام بأذان أهل مكة وفيه تربيع التكبير وترجيع الشهادتين فاستمر الأمر على ذلك إلى أن بنت الأتراك المدارس بديار مصر وانتشر مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه في مصر فصار يؤذن في بعض المدارس التي للحنفية بأذان أهل الكوفة وتقام الصلاة أيضا على رأيهم، وما عدا ذلك فعلى ما قلنا. إلا أنه في ليلة الجمعة إذا فرغ المؤذنون من التأذين سلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شيء أحدثه محتسب القاهرة صلاح الدين عبد الله بن عبد الله البرلسي بعد سنة ستين وسبعمائة، فاستمر إلى أن كان في شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ومتولي الأمر بديار مصر الأمير منطاش القائم بدولة الملك الصالح المنصور أمير حاج المعروف بحاجي بن شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون، فسمع بعض الفقراء الخلاطين سلام المؤذنين على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة جمعة، وقد استحسن ذلك طائفة من إخوانه فقال لهم: أتحبون أن يكون هذا السلام في كل أذان؟ قالوا نعم فبات تلك الليلة وأصبح متواجدًا يزعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه وأنه أمره أن يذهب إلى المحتسب ويبلغه عنه أن يأمر المؤذنين بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أذان، فمضى إلى محتسب القاهرة وهو يومئذ نجم الدين محمد الطنبدي (وكان شيخًا جهولاً، وبلهانًا مهولاً، سَيِّئَ السيرة في الحسبة والقضاء، متهافتًا على الدرهم ولو قاده إلى البلاء، لا يتحشم من أخذ البرطيل والرشوة. ولا يراعي في مؤمن إلاًّ ولا ذمة. قد ضَرِيَ على الآثام، وتجسد من أكل الحرام، يرى أن العلم إرخاء العذبة ولبس الجبة، ويحسب أن رضا الله سبحانه في ضرب العباد بالدرة وولاية الحسبة. لم تحمد الناس قط أياديه، ولا شكرت أبدًا مساعيه، بل جهالته شائعة، وقبائح أفعاله ذائعة، أشخص غير مرة إلى مجلس المظالم، وأوقف مع من أوقف للمحاكمة بين يدي السلطان من أجل عيوب فوادح. حقق فيها شكاته عليه القوادح، وما زال في السيرة مذمومًا، ومن العامة والخاصة ملومًا) وقال له رسول الله يأمرك أن تتقدم لسائر المؤذنين بأن يزيدوا في كل أذان قولهم: (الصلاة والسلام عليك يا رسول الله) كما يفعل في ليالي الجمع، فأعجب الجاهل هذا القول، وجهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بعد وفاته، إلا بما يوافق ما شرعه الله على لسانه في حياته، وقد نهى الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن الزيادة فيما شرعه حيث يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم ومحدثات الأمور) فأمر بذلك في شعبان من السنة المذكورة، وتمت هذه البدعة، واستمرت إلى يومنا هذا في جميع ديار مصر وبلاد الشام، وصارت العامة وأهل الجهالة ترى أن ذلك من جملة الأذان الذي لا يحل تركه، وأدى ذلك إلى أن زاد بعض أهل الإلحاد في الأذان ببعض القرى السلام بعد الأذان على شخص من المعتقدين الذين ماتوا، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون) اهـ ما قاله المقريزي بنصه: هذا أصل هذه البدعة وسببها، وهو افتراء بعض الدجالين الخرافيين من أهل الطريق على رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا أمر بها ذلك المحتسب الظالم الفاجر بتعميمها. وحسبك ما كتبه العلامة المقريزي في إنكارها وتسفيه مبتدعها، ولعله يعني بما زاده عليها بعض أهل الإلحاد في بعض قرى مصر من السلام على بعض المعتقدين الذين ماتوا سلامهم على السيد أحمد البدوي. وقد انتقل هذا من بعض القرى إلى الأمصار حتى القاهرة نفسها، وزيد على السلام عليه نداء السيد ودعاؤه متصلاً بالأذان أيضًا. فقد سمعت مؤذن الفجر في أول دار سكنتها بمصر يصيح بعد الأذان: يا شيخ العرب! مع كلمات لم أتبينها. وما كنت أعلم أن هذا لقب البدوي. إن شر مفاسد البدعة أنها بطول الزمان تُعْطَى حكم السنة المشروعة، فيعد فاعلها متبعًا، ومنكرها مبتدعًا، ويخترع أدعياء العلم العلل والشبهات لشرعيتها. والقاعدة العامة عندهم لإثبات كل بدعة قولهم: (بدعة حسنة) وهو مصادم لنص الحديث الصحيح الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله على المنبر: (وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) رواه مسلم، وهو مُجْمَع على معناه في البدع الدينية، وإنما قال من قال من العلماء: إن البدعة تنقسم إلى حسنة وسيئة في البدعة اللغوية، وهي ما يخترعه الناس ويضعونه من العلوم والفنون والصناعات والأعمال، والأذان من العبادات التي يلتزم فيها الاتباع بإجماع السلف والأئمة المجتهدين. وقد عرَّف العلامة الشاطبي البدعة الدينية في كتابه الاعتصام بأنها (طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه) ثم نقل عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه قال: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3) فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا. اهـ. وقد احتج نصير البدع الشيخ يوسف الدجوي على شرعيتها في مجلة مشيخة الأزهر بما جاء في بعض الأحاديث الواردة في جواب المؤذن وهو (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ) الحديث هكذا ذكر منه ما وافقه وعزاه إلى صحيح مسلم - ونزيد عليه أنه رواه أحمد وأصحاب السنن أيضًا إلا ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو - (ثم قال) : وإن المؤذن ممن سمع الأذان وكل من سمع الأذان طُلِبَ منه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. وأقول: إن هذا قد ذكره الفقهاء المتأخرون، وزاد هو عليهم أنه مخير في هذه الصلاة من وصلها بالأذان مع رفع الصوت وعدمه، وهذه الشبهة مردودة من وجوه: (أولها) أن من المعلوم بالاختبار أن المؤذنين يقلد بعضهم بعضًا في هذه الزيادة ولا يقصدون بها اتباع هذا الحديث ولا غيره مما ورد في إجابة المؤذن ويقل فيهم من يعرفها. وتتمة هذا الحديث: (.... ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة) والمؤذنون لا يسألون له الوسيلة، ولم يذكر الشيخ الدجوي هذه التتمة؛ لأنها تدحض شبهه. (ثانيها) أن المؤذن لو كان يأتي بهذه الصلاة لإجابة نفسه عملاً بالسنة لأتى بكل ما ورد في السنة من الأدعية في هذه الإجابة وأشهرها في هذه الإجابة الدعاء المفسر لطلب الوسيلة في الحديث الذي احتج به، وهو كما في حديث آخر أصح منه (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة) رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن من حديث جابر بن عبد الله. (ثالثها) أن وصلها بالأذن مع رفع الصوت يوهم من لا يعرف السنة فيه أنها منه، أو أنها مشروعة. وقد قال المقريزي: إن العامة وأهل الجهالة يرون أن هذه الزيادة من جملة الأذان الذي لا يحل تركه، وأكثر الناس في هذا العصر يجهلون السنة؛ فلذلك ينكرون على من أذن الأذان الشرعي مقتصرًا عليه، ولم يزد عليه هذه الصلوات والتسليمات، ويطعنون فيه وفيمن ينكر هذه الزيادة أو العلاوة بأنه عدو للرسول صلى الله عليه وسلم فانقلب الشرع، وانعكس الوضع، وصار الذي يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤذن كما كان يؤذن المؤذنون له ولخلفائه الراشدين يُعَدُّ عدوًّا له، والمبتدع في ملته، المخالف لسنته، المتبع لذلك الفقير الخلاط المفتري على النبي صلى الله عليه وسلم وللبرلسي المحتسب الفاسق هو التقي المتبع له صلى الله عليه وسلم وهذا شر غوائل هذه البدع. (رابعها) أن الذي فهمه الصحابة ومنهم مؤذنو المصطفى صلى الله عليه وسلم أن إجابة المؤذن بقولهم مثل ما يقول إلا الحَيْعَلَتَيْنِ فيقول عندهما: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وسؤال الوسيلة له وسائر الأدعية هي من الأذكار التي يقولها كل سامع له منفردًا بخفض الصوت، فلم يرو أحد من المحدثين عن مؤذنيه صلى الله عليه وسلم ولا مؤذني خلفائه الراشدين ولا مؤذني خير القرون ولا عن غيرهم من الصحابة والتابعين أنه رفع صوته بذلك كالأذان فضلا عن وصل المؤذنين له بالأذان ولا ما دون الأذان مما ورد فيه رفع الصوت كإقامة الصلاة وهي الأذان الثاني فعلينا اتباعهم، ورفع الصوت فيه خلاف الأصل فلا يتوقف إنكاره على نهي الشارع عنه، ولو كان مشروعًا لجاز لأهل المسجد عند الأذان والإقامة أن يرفعوا أصواتهم بإجابتها بمثل صوت المؤذن، ومن ذا الذي لا يقول: إن هذا عمل منكر؟ ومن ذا الذي ينكر على المؤذن أن يأتي بالأذكار المأثورة ف

جمال الإسلام المهجور أو المجهول

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جمال الإسلام المهجور أو المجهول (مسامرة فيه) (ذكرني اهتمام الصحف بعزم جلالة الملك المعظم على زيارة كليات الأزهر في هذا الشهر، وانتقادها لإدارة المشيخة الحاضرة لهذه الجامعة، وسيرة رئيسها فيها بمسامرة في هذا الموضوع قامت بها الحجة على هذا الرئيس بأن تعليم التوحيد وغيره في الأزهر والمعاهد التابعة له غير مفيد للخواص ولا للعوام، فرأيت أن أنشرها كما وقعت وها هي ذه) . أدب الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين مأدبة نفيسة لصاحبي السمو شقيق سلطان لحج ونجله؛ إذ كانا من ضيوف مصر في العام الماضي، دعا إليها جماعة من كبار أهل العلم الديني والدنيوي والمكانة، في مقدمتهم أصحاب الفضيلة والسعادة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمد صادق المجددي وزير دولة الأفغان المفوض بمصر والشيخ محمد الخضر وعثمان مرتضى باشا وأحمد زكي باشا والدكتور عبد الرحمن شهبندر وكذا كاتب هذه المسامرة صاحب المنار. ولما كنا على المائدة اعتذر شيخ الأزهر بالحِمْيَة عن مشاركة الجماعة بالطعام المغذي، ولكنه أحب أن يجمع لهم بينه وبين الغذاء العقلي، فطفق يشكو من إعراض المسلمين عن هداية الإسلام افتتانًا بالدنيا وتقاليد الحضارة الإفرنجية، فقال عثمان باشا: إن حب الجمال طبيعي في البشر، وإن الإسلام كله جمال، وإن تهذيب الحضارة والعلوم الراقية تزيد العاقل حبًّا للجمال فهي تقوي الإسلام بما تظهره من جمال المحبوب أو ما هذا خلاصته. قال الشيخ: ولكننا نرى الجمال في عرف أكثر أهل عصرنا هو ما يسمونه (الموضة) في الأزياء والعادات واللهو وسائر نواحي الحياة، أي وإن كان من الفسق والفجور الذي لا يخفى قبحه على عاقل، وتساءل كيف السبيل إلى تلافيه؟ هذه صفوة عبارته. ثم دار الكلام في جمال الإسلام وكماله وما امتاز به على سائر الأديان وما اعترف له بعض حكماء الإفرنج ومؤرخيهم المنصفين، ولا سيما أساسه الأعظم وهو توحيد الله تعالى وكون المرشد الأعظم للناس من لدنه عز وجل هو عبد الله ورسوله لا مخلوق مشارك له (أو وكيل ينوب عنه) سبحانه في تدبير أمور الخلق في الدنيا، وينجيهم في الآخرة بنفوذه وجاهه كديانة النصارى. وذكر الدكتور شهبندر أن بعض علماء أوربة قد صرَّحوا بأن بساطة العقيدة الإسلامية وموافقتها للعقل والفطرة وسهولة فهمها وتعقلها هو السبب في انتشار الإسلام في جميع طبقات البشر بالسرعة المعروفة في التاريخ وانهزام النصرانية لما رأى خذلان النصارى باتخاذ نبيهم إلهًا وربًّا لهم لم يكتفِ بتلقين أتباعه أنه نبي ورسول، بل أمرهم بأن يقولوا: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله. حتى إذا فرغ الجمع من الطعام، وأخذوا مقاعدهم من حجرة القهوة والكلام، تصدى كاتب هذا المقال للموضوع فقال: إن ما قاله الأستاذ شيخ الأزهر من إعراض المسلمين في هذه البلاد وأمثالها عن هداية الإسلام وعن تشريعه أيضًا ولا سيما الذين يتلقون التعليم العصري حقٌّ مشاهَدٌ لا ريب فيه، وإن ما قاله الأستاذان مرتضى باشا وشهبندر حق لا ريب فيه أيضًا، وما كان حديث المائدة ليتسع لبسط القول الفصل الجامع بين القولين، نعم إن كل ما قيل على المائدة صحيح، وإن كان فيه ما يوهم التعارض، ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الموضوع المهم بدون تمحيص وتحقيق، فأرجو السماح لي بذلك. إن الإسلام ظهر على لسان نبي أمي بعث في قوم أميين حملوه إلى أمم كثيرة من أهل الحضارات والعلوم والفنون السابقة فقبلوه كما قبلته قبائل البداوة، وآثروه على أديانهم وشرائعهم ولغاتهم؛ لما تجلى لهم في كتابه وسنة نبيه وسيرة دعاته من الجمال المعنوي في عقائده المعقولة، وشريعته العادلة، وآدابه العالية، الموافقات للفطرة الإنسانية، والجمع بين مصالح الدين والدنيا. فما السبب الذي صرف الكثيرين من المسلمين أنفسهم بعد ذلك عن هدايته وعن تشريعه وعن آدابه وفضائله على جمالها وكمالها، وزين لبعضهم استبدال غيرها بها، وكيف السبيل إلى عطفهم عليها؟ وجذب غيرهم إليها؟ هذا ما تساءل عنه مولانا الأستاذ شيخ الأزهر، ويمكنني الجواب عنه على قاعدة الأستاذ عثمان مرتضى باشا في جماله، وقاعدة الدكتور شهبندر في سهولته وموافقته للفطرة. إن جمال الإسلام ظهر للعالم كله في القرون الأولى بعلم دعاته وناشريه وبيانهم لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبحكم خلفائه وأمرائه بين الناس بعدل شريعته ومساواتها بينهم بالحق، ثم صار هذا الجمال يخفى ويتوارى رويدًا رويدًا بهجر العلماء لتعاليم القرآن وبيان السنة له، واعتمادهم على تقليد العلماء المصنفين، ولا سيما المتكلمين، وبظلم الملوك والأمراء، وتعاون الفريقين على ظلم الناس والاستبداد فيهم، وطغيان الرياسة عليهم، ونكتفي بضرب المثل في العلماء. ضرب الإمام الغزالي مثلاً لما وضعه علماء التقليد من الحجب بين الناس وبين جمال الإسلام ونوره - وهي طبقات العلماء الخمس التي يذكرونها في رسم المفتي - فشبه نور الشريعة من كلام الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشمس أشرقت بها الآفاق، ودخل نورها من كوة في حجرة فوقعت على مرآة في الجدار المقابل لها، فانعكس النور عنها إلى الجدار الذي تجاهها، وانعكس نور هذا الجدار إلى جدار يقابله في حجرة أخرى مظلمة فكان أضعف مما قبله، وتكرر الانعكاس حتى إذا كان الأخير على جدار الحجرة الخامسة كان أهلها في ظلمة لا يدركون فيها إلا أشباحًا وشخوصًا لا يدركون صفاتها ولا معارفها التي تتميز بها. فهذا مثل من يزعم أن نور الله المشرق من سماء كتابه وسنة رسوله لا يدركه كما هو إلا المجتهد المطلق، وأن من دونه المجتهد المنتسب يدرك شيئًا كثيرًا من مرآته لا يستقل باقتباسه من شمسه نفسها، ومن دونه مجتهد المذهب، وتحته المقلد الذي يميز بين صحيح الروايات وسقيمها في المذهب، ووراءه الذي يقدر على ترجيح بعض الروايات والأقوال على بعض. وأما سائر الناس فهم أسرى وعيال على هذه الطبقة السفلى، فالواجب عليهم تقليدها في نقلها، لا في فهمها ورأيها، ويقول بعض محققي المتأخرين من فقهاء الحنفية المؤلفين: وهذه طبقة أمثالنا. فأنى لمن أقام من وراء هذه الحجب كلها أن يدرك نور الإسلام فيرى فيه جماله وكماله وجمال كل شيء به؟ وإذا كان لفقهاء الفتوى في النوازل العلمية وقضايا المحاكم عذر في مراعاة هذه الرسوم لعجزهم عن الدليل، فهل لأحد عذر أن يضربها أمام عقائد الدين، وقد قال السنوسي وغيره: إن التقليد فيها غير جائز، أو يضربها أمام فضائله وآدابه وأحكامه القطعية التي لا مجال للاجتهاد فيها؟ لقد كان علو الإسلام جميع الأديان قائمًا على قاعدة الاستقلال في فهم حقيقته وإدراك جماله، وما ضعف إلا بترك هذه القاعدة. ولكن تعليم المدارس العصرية قائم على هذه القاعدة، ولا يمكن تثبيت المسلمين على دينهم في هذا العصر إلا بجعل تعليمه قائمًا عليها أيضًا؛ لأن من يتعلم كل علم مستقلا في فهمه يأبى أن يقلد في دينه من يعترفون أن بينهم وبين كتاب الله وسنة رسوله أربعة حجب، وهم الحجاب الخامس دونه. ذكر لنا الدكتور شهبندر عن بعض حكماء الإفرنج اعترافهم بامتياز عقيدة التوحيد الإسلامية على عقيدة التثليث النصرانية، وأن التوحيد يمكن أن يفهمه ويقبله كل أحد من عوام الناس وخواصهم وبدوهم وحضرهم بخلاف التثليث، أليس من البلاء أن يكون فساد التعليم الإسلامي قد أفضى بالمسلمين إلى خفاء عقيدة التوحيد بالإعراض في بيانها عن آيات القرآن النيرة الواضحة إلى اصطلاحات علماء الكلام المعقدة؟ مثال ذلك ما يلقنونه لطلبة العلوم الدينية في الأزهر وغيره من المدارس الدينية المقلدة في أول كتاب يقرءونه لهم في العقائد وهو حواشي السنوسية الصغرى (أم البراهين) وهو أن التوحيد الذي هو أُسُّ الإسلام عبارة عن نفي الكموم الخمسة: الكم المتصل، والكم المنفصل في ذات واجب الوجود عز وجل، والكم المتصل، والكم المنفصل في صفاته تعالى، والكم المنفصل في أفعاله؛ إذ ليس فيها كم متصل كما قالوا. إن هذه الكموم الخمسة فلسفة كلامية ما أنزل الله بها في كتابه من سلطان، ولا وردت في شيء من بيان رسوله صلى الله عليه وسلم للكتاب، ولا في آثار أصحابه نقلة سنته، ولا في كتب أئمة السلف الصالح ومنهم الفقهاء الأربعة وإنها لتكاد تضاهي الأقانيم الثلاثة في الخفاء، وإن مَن يفهم معناها الذي فسروها به لا يفهم منها حقيقة التوحيد الذي حكاه الله تعالى عن خاتم النبيين وعمن قبله من إخوانه المرسلين، ولا ما فهمه مشركو العرب من كلمة (لا إله إلا الله) وإنني لما لقنتها في المدرسة في طرابلس الشام حاولت أن أفهمها للعوام، فعجزت بل كدت أن أفسد عليهم عقيدتهم، حتى قال لي بعضهم: إنه لم يستطع أن ينام الليل الذي سمع في أوله الدرس، وخاف أن يموت وهو لا يفهم معنى التوحيد. عندما قلت هذا وضع كفه الأستاذ الأكبر شيخ الأزهر على يدي وكان جالسًا بجانبي وقال: إن هذه الاصطلاحات الكلامية وكتبها قد وضعت لأمثالكم من الخواص لا للعوام. فقلت: اسمعوا أيها السادة ما يقول مولانا الأستاذ، يقول: إن هذه الكتب الكلامية وضعت للخواص لا للعوام، فأين الكتب التي وضعت للعوام وهم أكثر الناس؟ إن علم الكلام علم مبتدع، أنكره عند ظهوره أئمة الإسلام حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هجر حفصًا الفرد؛ لأنه ألف كتابًا فيه، وقد بيَّن الإمام أبو حامد الغزالي ما استقر رأي العلماء فيه فقال ما خلاصتُهُ أنه ليس من علوم الدين وإنما احتيج إليه لأجل حماية العقيدة من شبهات الفلاسفة والمبتدعة، فهو كالبذرقة للحاج يعني الحرس، فاتخاذ البذرقة ليس من أركان الحج ولا واجباته ولا سننه، ولا من شروط الإحرام، وإنما احتيج إليها لوجود اللصوص وقطاع الطريق الذين يعتدون على أموال الحاج وأنفسهم. فإذا كان الأمر كذلك، فعلم الكلام تختلف الحاجة إليه باختلاف شبهات الخصوم، وقد تجدد في عصرنا هذا شبهات على الدين غير شبهات الفلسفة اليونانية التي ألف علماء الكلام الأولون الكتب لدحضها، فيجب على خواص العلماء الذين يتصدون لدفع شبهات هذا العصر أن يعرفوا العلوم التي نجمت منها، ويردوها بالأدلة العلمية الرائجة عند أهلها، لا أن يتعبوا أنفسهم ويضيعوا أزمنتهم في دراسة الفلسفة القديمة في كتب فنية دقيقة كشرح المواقف، وشرح العقائد النفسية وحواشيهما، وقد كفتهم العلوم والفلسفة الجديدة مؤنة التعب فيها بما يشبه التعبد بها، ثم إننا نرى مزاوليها لا يستفيدون منها العلم بحقيقة التوحيد ولا حقيقة الشرك، ولا يعنون بالنهي عما ابتدع الجاهلون من الشرك، بل منهم من يتأول لأهله خرافتهم الشركية. إننا نرى هذه الخرافات الشركية الوثنية فاشية في الناس؛ لأن أكثرهم لا يتلقون عقائد الدين إلا من أمهاتهم وآبائهم ومعاشريهم، حتى لا يكاد يوجد في الألوف الكثيرة منهم أحد من ذكر أو أنثى تلقى عقيدته من كتاب الله وكتب السنة الصحيحة، أو من تآليف العلماء على ما ذكرنا من تعقيدها، فتراهم رجالا ونساء وأطفالا يشدون رحالهم إلى قبور اشتهرت بأسماء بعض الصالحين المعروفين أو المجهولين يحملون إليها القرابين والنذور للتقرب إليها، ويتضرعون بالدعاء لمن دفن فيها بطلب الشفاء لمرضاهم

إلى شبان المسلمين

الكاتب: محمد الهراوي

_ إلى شبان المسلمين قصيدة للأستاذ محمد الهراوي (ألقاها في حفلة لجمعية الشبان المسلمين في دار الأوبرا الملكية بمصر) الشرق والغرب قل للشباب المسلمين تحية ... من مسلم ثبت على إيمانه ويزيده في الله حسن عقيدة ... ما جره الإلحاد من خسرانه الغرب مجلبة الخسار جميعه ... والشرق مفتتن به عن شانه متودد والغرب لم يأبه له ... لا في مودته ولا شنآنه ماذا من الغربي في إحسانه؟ ... والشر غلاب على إحسانه ما زال يرمي الشرق من نيرانه ... حتى تردى في لظى نيرانه في كل يوم معقد للجانه ... والمشكلات تئن تحت لجانه لو أخلص الغربي في نياته ... ما ثارت النيران من بركانه ما باله، والعدل من ألحانه ... تبكي العدالة في صدى ألحانه؟ الطابع القومي لو يحفظ الشرقي طابع قومه لم يطوه الغربي في سلطانه لو كان يزهد في الحياة لعزه ... ما هان بعد العز في أوطانه لو كان متبعا لآي كتابه ... لمضى وهذا الدهر طوع بنانه لكن سبته حضارة غربية ... ألقى إلى مضمارها بعنانه! الذكرى أين الغزاة الفاتحون؟ وأين ما ... فتحت سيوف الله من بلدانه؟ أين السراة الخيرون؟ وأين ما ... شادوا لدين الله من بنيانه؟ أين البيوت العامرات بأهلها ... سل كل بيت دال من سكانه الأزهر والأزهر المعمور أين مكانه؟ ... سل عنه أين؟ وأنت فوق مكانه فرحوا وهم يبنون كلياته ... فليفرحوا بالطوب تحت دهانه من يوم أن نقلوه من جدرانه ... قد طار سر الله عن جدرانه فاسأل عن الأخيار من علمائه ... واسأل عن الأطهار من شبانه المتقين الله حق تقاته؟ ... الحافظين لدينهم وكيانه العالمين بشرعه وكتابه ... العاملين بروحه وبيانه والزي! حتى الزي لم يبقوا له ... ظلا لجبته ولا قفطانه [1] إلى الملك مولاي يا ملك البلاد وذخرها ... وملاذَ هذا الدين عند هوانه مصر بأزهرها القديم كما بدا ... بالطابع الموروث منذ زمانه فأعد إليه عهده واستبقه ... تدفع به الإلحاد في عدوانه الجامعة الشرقية أدعو شباب الشرق من أجناسه ... وعلى اختلاف الشرق في أديانه أدعو لجامعة تضم شتاته ... من صينه الأقصى إلى تطوانه إن لم يكن في الدين جامعة له ... كبرى ففي آلامه ولسانه الدين ما بالنا والغرب غرب دائم ... في ظله يمضي وتحت ضمانه فخذوا سبيل الدين فهو كفيلكم ... ليرد سيل الغرب عن طغيانه والدين للدنيا وللأخرى معًا ... وسعادة الدارين في قرآنه

العلامة المصلح الشيخ محمد أمين الشنقيطي

الكاتب: محمد تقي الدين الهلالي

_ العلامة المصلح الشيخ محمد أمين الشنقيطي [1] في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسًا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) أو كما قال [2] وعن ابن مسعود: (كل يوم ترذلون، لا أقول: عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير ولكن بذهاب علمائهم فيضعف الإسلام) أو كما قال [3] . أنعي إلى الأمة الإسلامية أحد أركان العلم والإسلام وأنا في غاية الحزن والأسى ألا وهو العلامة المتبحر في العلوم المجاهد العالم صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد بن أمين الشنقيطي المغربي القاطن ببلد الزبير من أعمال البصرة. مولده ومنشؤه في قبيلته (إذَ بَلْحسن) أي بني الحسن قبيلة عظيمة من قبائل العرب من أهل شنقيط معرفون بالعلم والشجاعة، وقد نبغ منهم خلق من العلماء والشعراء، رحل الفقيد إلى الشرق وهو شاب بعدما درس العلوم التي تدرس ببلاده ولما وصل إلى مكة وجد بها العلامة الكبير الحافظ الشيخ شعيب الدكالي بارك الله في حياته فألقى بها عصا التسيار، ولازم العلامة المذكور سنين، وكان أستاذه هذا معجبًا به حتى إنه كان يرد إليه المسائل الأدبية فيتكلم فيها أثناء الدرس، ثم زار الشيخ شعيبًا أحد أعيان أهل البصرة ممن كانوا يلقبون بكلمة (الباشا) التركية في عهد الترك، فسأل هذا الوجيه الحافظ الدكالي أن يبعث معه من يرتضيه من العلماء ليؤسس له مدرسة ومسجدًا ويقف عليهما ما يكفي للنفقة عليهما من المال، فندب لهذا الأمر صاحب الترجمة فامتثل أمره وتوجه إلى الزبير، وأقام بها ينشر العلم صابرًا على أذى شياطين المتفقهة ممن يشرقون بنشر العلم النافع المحمدي الصحيح؛ لأنه يبطل نواميسهم ومكرهم الذي نصبوه حبالة لصيد الحطام، وقد أجمعوا أمرهم على إخراجه وشكوه مرارًا، وهو صابر ثابت على خطته في نشر العلم والإعراض عن الجاهلين، وكان رحمه الله آية في الحلم، بعيني رأيت أكبر أعدائه الذي كان سببًا لكل ما أصابه من الأذى التجأ إليه في شدة أصابته فقابله الشيخ الفقيد بما جبل عليه من البشاشة وأخرج أوراقًا مالية فناوله إياها، ثم أمر أحد التجار أن يعطيه عدة أكياس من الرز على حسابه، هذا بعد ما فشل ذلك الشيخ المشاغب في جميع محاولاته. وواقعات حلمه مشهورة، وكان سراجًا منيرًا في الخليج الفارسي وبلاد العراق ونجد. وفي زمن الحرب الطرابلسية شد الرحل من العراق إلى طرابلس للجهاد، وسافر إلى بلاد نجد ليستوطنها فرارًا من الكون تحت تأثير الأوربيين فلم يستقم له ما أراده، فرجع بعد ما أقام بعُنَيْزَة أربع سنين قضاها كلها في نشر العلم والعمل، وترك أهل عنيزة كلهم ألسنًا ناطقة بالثناء عليه، ثم توجه إلى الكويت وما مضت عليه هناك إلا ليلة واحدة حتى نُفِيَ لاتهامه بعداوة الإنكليز، فتوجه إلى الزبير ثانية، وأسس (مدرسة النجاة) هناك وكانت الأمية والجهل مخيمين على بلدة الزبير، فحاربتهما هذه المدرسة بأن ضمت بين جدرانها مئات من أولاد إسماعيل وقحطان، فهذبت من أخلاقهم، وتخرج فيها خلق من الكتاب والأدباء والعلماء، ولا تزال قائمة إلى الآن. ولما ازدهرت هذه المدرسة التهبت قلوب المتفقهة حسدًا، وكبر عليهم مقام الشيخ وتذكيره بآيات الله، فأجمعوا أمرهم ليقضوا عليه ولا ينظروه، فرموه بأنه يعلم تعليمًا وهابيًّا يسمِّم أفكار شبان العراق، زخرفوا هذه الوشاية إلى ولاة الأمر ليقطعوا الإعانة التي كانت تتلقاها المدرسة من وزارة الأوقاف العراقية، ومن وزارة المعارف ومجموعهما اثنا عشر ألف روبية، فكادت المكيدة تنجح ولكن الشيخ بادر بالتوجه إلى بغداد وعرض عليهم منهاج الدروس ولم يكن فيه شيء مما يسميه الجهلة وهابية إلا العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية (ولا يخفى أن الجهلة يعدون ابن تيمية وهابيًّا) فحذفها الشيخ من المناهج وجعل محلها عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني المالكي فبطل كيدهم واستمرت الإعانة جارية. ثم بعد سنة جدَّد أولئك الشياطين الكرة فنجحوا وقطعت إعانة الأوقاف؛ ولأمر آخر نذكره؛ لأن فيه عبرة للمسلمين قطعت إعانة المعارف أيضًا، وذلك أن الشيخ كان عضوًا في إدارة المعارف بالبصرة، وكان قد بقي في المدارس الابتدائية بالعراق درس ديني ودرسان في الأسبوع وهذه الدروس الدينية كلها لا تزيد على بضع كراريس بقطع صغير في العقائد إجمالاً والطهارة والصلاة والصوم والحج، وكانوا يُعَيِّنُونَ لتدريس هذه الدروس عالمًا أو مُلاَّ كما يقولون من المتدينين أو المعممين كما يسميهم المتنورون! ! ! فاجتمع هؤلاء المتنورون بنورة أعداء العروبة والإسلام وقرروا تطهير المدارس من هؤلاء المعممين وأجمعوا على أن يعينوا بدلهم شبانًا من المتنورين، فعقدوا اجتماعًا دَعَوْا فيه الأستاذ الفقيد للحضور وعرضوا عليه هذا المكر الذي بَيَّتُوهُ، وأضافوا إليه من سب المعممين والوقيعة بهم ما شاءت لهم النورة، فامتنع الشيخ من الموافقة امتناعًا كليًّا، وكان رحمه الله على ما فيه من الحلم النادر إذا وصل الأمر إلى هدم الأصول يتصلب فلا تلين قناته لغامز، فجعل بعض المتنورين يجادله فتكلم الشيخ وقال: أنا أعرف الشبان وأعرف المعممين فَهَبُوا أنهم بلغوا في البلادة والجمود كل مبلغ ولكنهم يعملون بما يعلمون، يعلمون التوحيد وصفات الله وهم بها مؤمنون، وأما هؤلاء الشبان فإنا نراهم متى ذكروا العقائد بادروا إلى السخرية التي لقنهم أعداء العرب والإسلام. ثم يعلمون أركان الإسلام وهم يؤدونها، وأما هؤلاء الشبان فلا يتوضئون ولا يصلون ولا يصومون ولا يحجون، فهل تظنون أن الإسلام لعبة يصح بمجرد الدعوى الفارغة! وبعد هذا انصرف من مجلسهم فتسببوا في قطع الألفين اللذين كانت تعطيهما وزارة المعارف وبقيت المدرسة على تبرعات المحسنين وقليل ما هم، فنقصت حتى صارت على الثلث، وكم حاول قوم من الأعيان أن يقنعوا الشيخ بالخضوع إلى سلوك منهاج المعارف والسير تحت مراقبة مفتشها وترد النفقات التي قطعت فأبى وجمع من يظن بهم الإخلاص من المدرسين وخطب فيهم وذكرهم بما يجب عليهم من خدمة الأمة فقنعوا كلهم أن يأخذوا ربع أو ثلث ما كانوا يأخذون من الرواتب ولا ينهزمون. وكان رحمه الله قدوتهم في ذلك فإنه كان يأخذ في زمان ميسرة المدرسة 150 روبية فأنزلها إلى 50 وبقيت المدرسة عامرة إلى الآن، ولكنها لا تستطيع أن تقبل من الطلبة إلا نحو نصف العدد الذي كانت تحويه من قبل. ومناقب هذا الإمام كثيرة يضيق هذا المقام عن عشر معشارها. توفي إلى رحمة الله ضحى يوم الجمعة 14 جمادى الآخرة سنة 1351 على رأس ستين سنة كلها جهاد وصلاح وخير للمسلمين، ولم يتخلف عن جنازته أحد من أهل الفضل من البلدين البصرة والزبير، ولو كانت البلاد محتوية على وسائل النقل لحضر جنازته الجم الغفير من أهل نجد وأهل الخليج الفارسي وأهل العراق، فالله يلهم ذويه الصبر الجميل ويخلفه على المسلمين وإن كان كما قال الشاعر: حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت يمينك يا زمان فكّفِّر ولكن الله يفعل ما يشاء. (المنار) لله در أخينا الأستاذ الهلالي أتى بخير خلاصة لترجمة هذا الإمام المصلح بأدق عبارة وأجمعها للفوائد، وأنزهها في التعبير، ولا سيما موقف الرجل بين فريقي الشيوخ الجامدين، والشبان المتفرنجين، اللذين يكاد يضيع الإسلام بينهما، فالشيوخ على محافظتهم على التقاليد الخرافية المنفرة عن الإسلام ومحاربتهم للإصلاح الديني والدنيوي لا يزالون يقومون بشعائر الإسلام وأركانه علمًا وعملاً، وبهذا فضلهم الشيخ رحمه الله على الشبان الذين ليس لهم من الإسلام إلا الجنسية السياسية، وأسماء الأعلام ولكنهم يعنون بالإصلاح الإداري والسياسي، ونراهم ينتصرون على الشيوخ في الحكومات التي ترى نفسها مضطرة إلى نظام المدنِيَّة العصري، وبهذا حملوا حكومة العراق على إلغاء الإعانتين اللتين كانت تساعد بهما (مدرسة النجاة) من وزارتي المعارف والأوقاف. وهي خير من جميع مدارس العراق، فعسى أن تعيد النظر إلى ذلك وزارة العراق الجديدة التي هي أرجى وزارة ألفت في دولتها الجديدة وتعيد إليها الإعانتين، فلن ينفعها الإصلاح المدني بدون الإصلاح الديني، والله الموفق.

السيد أحمد الشريف السنوسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ السيد أحمد الشريف السنوسي في العشر الأخير من الشهر الماضي (ذي القعدة) نعت أنباء المدينة المنورة إلى العالم الإسلامي السيد الكبير، والعلم الشهير، والمجاهد العظيم، السيد أحمد الشريف السنوسي كبير السادة السنوسية وزعيمهم، وإمامهم ومرشدهم، وقائدهم في معارك القتال، ومعامع الأبطال: قام النعيُّ فأسمعا ... ونَعَى الكريم الأروعا نعم قام نعيه في مدينة الرسول الأعظم، فأسمع كل مؤمن بجده محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فوجلت له قلوب وزرفت عيون، وفاضت شئون، بكته الحجاز واليمن والسودان، وطرابلس وبرقة ومصر والعراق والشام، وسائر بلاد الإسلام، فماذا يقول القائلون، وماذا يكتب الكاتبون، إنا لله وإنا إليه راجعون. إن السيد أحمد الشريف السنوسي من أشهر رجال الإسلام في هذا العصر اشتهر بالصلاح والتقوى، واشتهر بالكرم والمروءة، واشتهر بالزعامة والإمامة، ثم اشتهر بالجهاد بالمال والنفس في الدفاع عن قومه ووطنه، ثم اشتهر بعلو المقام عند الدولة العلية العثمانية؛ إذ كان هو الذي قلد السلطان محمد السادس السيف في حفلة مبايعته خلافًا للتقاليد المتبعة في الدولة، وأنعم عليه برتبة الوزارة الاسمية والنشان المرصع، ثم كان له عند المجاهدين من الترك في الأناضول مقام عال، واشتهر أنهم عرضوا عليه منصب الخلافة الروحية التي قلدوها السلطان عبد المجيد بعد إخراج السلطان محمد السادس من الآستانة فأبى، ثم إنهم قطعوا راتبه بعد تمام الظفر، والشروع في الانقلاب الإلحادي المنتظر، واضطروه إلى الخروج من بلادهم فخرج إلى سورية فلم تأذن له فرنسة بالإقامة فيها، وأحب أن يأوي إلى مصر فعلم أنه لا سبيل له إلى الوصول إليها، فلجأ إلى الحجاز، فتلقاه ملك العربية السعودية بالقبول والإعزاز، وأجرى عليه من الرزق ما يليق به، إلى أن توفاه الله بجوار رسوله صلى الله عليه وسلم في رحابه، ودفن في البقيع مع آل بيته وأصحابه. ولكن كل هذه المظاهر العالية للشهرة ملائمها ومؤلمها قاصرة عن معرفة كنه هذا السيد الأروع والهمام السميدع، وإنما العلم التام بها يتوقف على الوقوف على تاريخ السادة السنوسية التي هي أسرته وعشيرته، والطريقة السنوسية التي أسسها هو وأبوه وجده، وماذا فعلت من إصلاح ديني وعمراني، وما كان لها في أنفس الإفرنج عامة والفرنسيس خاصة من الشأن السياسي، وكيف استطاعت دولة فرنسة فساد بأس جميع طرائق المتصوفة في إفريقية واستمالة شيوخها بالرشوة إلا الطريقة السنوسية. كان الجهل والفساد فاشيين في بلاد برقة وما يليها إلى أحشاء السودان فجاءها السيد محمد علي السنوسي الكبير فنشر فيها العلم والدين والعمران، وأسس الزوايا الكثيرة بنظام عمراني بديع، فكانت مدارس علم، ومساجد عبادة، ومعاقل أمن وحماية، ومنازل ضيافة، ومحطات تجارة، وثكنات مرابطة، عمرت بها البلاد وأمن العباد، وكثر العُبَّاد، وحسب لها الطامعون كل حساب، ولولا السنوسية لما ذاقت إيطالية من جهاد العرب في برقة وطرابلس ما أفقدها مئات الألوف من الأموال. وللسنوسية زوايا كثيرة في الحجاز أيضًا. ولا يجد طالب تاريخ السنوسية طلبته دانية الجني إلا في ذيول كتاب حاضر العالم الإسلامي بقلم أمير البيان، خاتمة مؤرخي الإسلام، الأمير شكيب أرسلان. وإنني أنبه أذهان قراء المنار في تأبين هذا السيد الزعيم المجاهد لما لعلهم لا يجدونه في غير المنار من الصحف، وهو: لقد كان هذا السيد الزعيم الكريم أول مصداق ظاهر للأحاديث الصحيحة الواردة في أُرُوزِ الإسلام إلى الحجاز، واعتصامه فيه من الأعداء، كما تعتصم الوعول في شناخيب الجبال. قال صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة، وقال: (إن الدين ليأرز إلى الحجاز كما تأرز الحية إلى جُحْرها، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأروية من رأس الجبل) إلخ [1] رواه الترمذي من حديث عمرو بن عوف المزني، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر. ولهذا المعنى أوصى النبي مرارًا - آخرها قبيل وفاته - بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب وألا يبقى فيها دينان، وهو من آيات النبوة التي لا يتمارى فيها عاقلان. وفحوى هذه الأحاديث أن دين الإسلام الذي خرج من مهده الحجاز وانبسط في الأرض فاتحًا مُصْلِحًا سوف يُغْلَبُ على أمره ويضطهد أهله بتداعي الأمم عليهم، حتى يضطر إلى الانقباض والأُرُوز إلى وطنه الأصلي الخاص به وهو الحجاز، فيعتصم فيه ويكون له معقلاً وملجأً، وهذا النبأ النبوي الذي يعد من أظهر أنباء الغيب يصدق بدين الإسلام نفسه وبرجاله وأنصاره، والسيد السنوسي من أظهرهم، وقد ضاقت عليه مملكة الجمهورية التركية اللادينية فأخرجته بعد ما كان من مقامه الكريم فيها، ولم يجد له ملجأً في سورية ولا في مصر فضلا عن وطنه ووطن عشيرته وطائفته الخاص، فأرز إلى وطن دينه ومعقله من الحجاز حتى توفي في المدينة المنورة على مُنَوِّرِهَا ومُشَرِّفِهَا وآله أفضل الصلاة والسلام. فيجب على المسلمين كافة أن يعنوا بتقوية هذا المأرز والمركز لدينهم، وحفظه من الأجانب الطامعين، وعدم تمكينهم مما يكيدونه له؛ لوضعه تحت سيطرتهم البرية والبحرية من ناحية العقبة ومعان وشرق الأردن وغيرها، فوفاة السيد السنوسي في المدينة بعد تعذر إقامته في غير الحجاز من بلاد الإسلام أكبر عبرة للمعتبرين، تغمده الله تعالى بواسع رحمته، وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في دار كرامته، ووفق الأمة للانتفاع بسيرته في حياته وموتته. * * * صلاة الغائب (على السيد السنوسي، وفوائدها الدينية والسياسية) بعد صلاة الجمعة الأولى من شهر المحرم فاتحة سنة 1352 تقام صلاة الغائب على الزعيم الإسلامي والمجاهد العظيم والمرشد الشهير السيد أحمد الشريف السنوسي (قدس الله روحه) في جميع المساجد الجامعة في القطر المصري وسائر الأقطار التي بلغتها الدعوة إلى هذه الصلاة من مكتب المؤتمر الإسلامي العام في القدس الشريف. ستكون هذه الصلاة ممتازة بمعنى لم يسبق له نظير في مثيلاتها من صلاة الغائب التي يقيمها المسلمون في بعض الأقطار عندما يموت عظيم من عظماء الإسلام في علمه الواسع وعمله النافع، لا باتصاف السيد السنوسي بشرف النسب والحسب ولا باشتهاره بالصلاح والتقوى ولا بمكانته المعروفة في العلم والعمل والإرشاد والإصلاح، والبر والإحسان، ولا بالجاه العريض الذي ناله بتقليده سيف البيعة للسلطان محمد الخامس وإنعام السلطان عليه بلقب الوزارة والنشان المُرَصَّع، فكان أول عالم مرشد مُعَمَّم تحلَّى بها كما تقدم آنفًا. بل تمتاز هذه الصلاة على هذا الرجل العظيم بعمل له هو الذي تم به كماله، وهو الجهاد بماله ونفسه في سبيل الله دفاعًا عن دينه وقومه ووطنه، وبما آل إليه أمره من جرَّاء هذا الجهاد من هجرته الأولى إلى بلاد الترك، ثم من إخراجه منها وتعذر رجوعه إلى وطنه، وتعذر إقامته في سورية ومصر، وفي كل قطر إسلامي خاضع لنفوذ الدول الاستعمارية الثلاث المحاربة للإسلام المستذلة للمسلمين، وقد قاتلها كلها في سبيل الله، حتى لجأ أخيرًا إلى مهد الإسلام من حرم الله وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، ومات بجوار جده صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، فبهذا كله صار للصلاة عليه معنًى لم يسبق لغيره من عظماء الإسلام، أذكره لأذكر به كل مسلم يصلي عليه صلاة الغائب عقب صلاة الجمعة في ذلك اليوم المشهود. أعني بهذا هو أن يقصد بالصلاة مع ثواب إقامة هذه السنة القاصر على من أقامها إحياء الشعور الإسلامي بوجوب الدفاع عن الإسلام وتأييد المجاهدين في سبيل الله، والتكافل بين المسلمين في وجوه أعدائهم في دينهم وأقوامهم وأوطانهم، السالبين لاستقلال الملايين منهم، حتى صار يتعذر على مثل هذا الرجل العظيم بكل ما للعظمة من المعاني الصورية والمعنوية، الدينية والدنيوية. يجب أن يتذكر الذين يصلون على هذا الزعيم العظيم أن الإسلام مُهَدَّد في أكثر البلاد التي تسمى إسلامية باضطهاد من يخدمونه ويقومون بحقوقه. وإن الذين جرَّأَ أعداءه على هذا العدوان والاضطهاد هو غفلة المسلمين عن أنفسهم، وجهل أكثرهم بما حَلَّ بهم، حتى طمع أعداؤهم بإخراج الملايين عن دينهم نفسه فلم يكتفوا بسلب ملكهم. وأذكر أئمة المساجد وخطباءها بأن يذكروا المصلين على المنابر بعد الفراغ من الخطبة خبر هذه الصلاة ويطالبوهم بالبقاء بعد صلاة الجمعة؛ ليقيموا هذه السنة وينالوا أجر الصلاة على هذا الزعيم المجاهد الكبير، بما يفتح الله تعالى على كل خطيب منهم من عبارات التذكير، ثم يذكرهم المؤذن بعد الفراغ من صلاة الجمعة بذلك لئلا ينصرفوا. وعسى أن يكون لعلماء الأزهر الشريف أكبر مظهر في هذا يؤثر عنهم.

الخوجه كمال الدين الهندي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخوجه كمال الدين الهندي توفي في سلخ شعبان من هذه السنة (1351) أيضًا أكبر الدعاة إلى الإسلام في هذا العصر الخوجه كمال الدين الهندي إمام جماعة المسلمين في مسجد ووكنج في لندن ومحرر مجلة الإسلام التي تصدر باللغة الإنكليزية هنالك، وقد أسلم بدعوته كثير من رجال الإنكليز ونسائهم أجلهم قدرًا، وأرفعهم قدرًا، لورد هدلي الذي سمي بعد اهتدائه (الفاروق) وقد حج مع أستاذه كمال الدين، وخدم الإسلام خدمة جليلة، وللخوجه كمال الدين رحمه الله تعالى مصنفات في الإسلام مفيدة كانت خير مروج لدعوته إليه، وقد اشتهر أنه كان من أتباع مسيح الهند الدجال القادياني المعتدلين، ولكن كذب ذلك بعض العارفين بأحواله، وأخبرني من يقرأ مجلته منذ سنين أنه لم ير فيها ما يدل على ذلك. وهاك خلاصة ترجمته. (ملخص ترجمة الفقيد رحمه الله) حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ صاحب المنار: نبعث إليكم مع هذا ترجمة حياة المرحوم الخوجا كمال الدين لتتفضلوا بنشرها في مجلتكم القيمة، ولكم الشكر. ... ... ... ... ... ... ... ... خوجا عبد الغني ... ... ... ... ... ... سكرتير الجمعية الإسلامية لاهور أسلم المرحوم الخوجا كمال الدين الروح يوم الأربعاء في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1932 م. ولد الفقيد عام 1870 لوالده الخوجا عزيز الدين بمدنية لاهور (البنجاب) فهو حفيد الشاعر المشهور الخوجا عبد الرشيد الذي كان قاضي لاهور أيام حكومة السيخ، وقد اشتهر بيته بالعلم والفضل. بدأ الفقيد دراسته في مدرسة الحكومة، ثم انتقل إلى كلية فورمان بلاهور فنال منها شهادة البكالوريا في الآداب والعلم، ونال الميدالية في الاقتصاد من جامعة البنجاب، وعُيِّنَ أستاذًا في كلية لاهور الإسلامية، ثم ما لبث بأن صار مديرًا لها، وفي عام 1898 نال شهادة الحقوق من درجة البكالوريا، ومارس المحاماة في بشاور ست سنوات، وعاد بعدها في 1903 إلى لاهور حيث أصبح في زمن يسير من كبار المحامين لدى محكمة البنجاب الرئيسية وفي تلك الأثناء طاف بلدان الهند يلقي فيها المحاضرات عن الإسلام وقد اختارته جامعة عليكرة الإسلامية عضوًا في هيئة كبار علمائها وأمينًا في لجنة أمنائها، ثم بارح الهند إلى إنكلترة عام 1912 للدعوة إلى الإسلام وحده مستقلاًّ بنفسه، تاركًا عن طيبة خاطر ما حازه في بلاده من مكانة عالية وشهرة واسعة في المحاماة، كانت تدر عليه أرباحًا طائلة، فلم يتوقع له أحد من أهل وطنه نجاحًا فيما وطَّد العزم عليه، إلا أن الحوادث قد أثبتت بعدئذ أن رحلته هذه كانت فتحًا جديدًا للإسلام في الغرب. أقام الفقيد في ووكنج بإنكلترة وأنشأ فيها بنفقته الخاصة (المجلة الإسلامية) فاتسعت دائرة انتشارها وذاع صيتها مع الأيام ثم أنشأ في لاهور عام 1914 مجلة مماثلة لها باللغة الأوردية باسم (رسالة إشاعتي إسلام) وكان يحرر المجلتين بما عهد فيه من مقدرة وكفاءة نادرة مدة عشرين عامًا كانت وفاته في نهايتها، وفي عام 1913 تولى الإمامة بمسجد (شاه جهان) بووكنج، وبقيت له هذه الإمامة حتى توفي. وقد كتب نحو مائة مؤلف في الإسلام والأديان الأخرى كان لها أثر محمود في المعاهد والبيئات الدينية. لم يكن يقول بشيء من الفوارق بين الفرق الإسلامية بل كانت كلها في نظره سواء، وكان جُلُّ مراده وأهم مقاصده أن يعود الإسلام إلى ما كان عليه في عصر النبوة من البساطة والنقاء، ولعل هذا القصد كان سر نجاحه وإثمار جهاده، فهدى الله تعالى به وحده إلى الإسلام ما ينيف على ألف نسمة من الإنكليز من رجال ونساء، منهم لورد هدلي الشهير. وقد طاف الفقيد أوربة وأفريقية والشرق الأدنى والأقصى داعيًا إلى الإسلام ناشرًا لواء هدايته، وحج البيت الحرام مرتين أولاهما في عام 1915 والثانية مع لورد هدلي عام1923. وكانت في حياته عنوان البساطة والتضحية في سبيل الإسلام وإعلاء شأنه ورفع مناره، وقد انهمك في أواخر حياته بترجمة القرآن وتفسيره بالإنكليزية مع ما كان عليه من ضعف فخشي عليه الأطباء مغبة الانهماك وتحميل نفسه فوق ما تستطيعه، ونصحوا له ترك العلم ريثما يسترد قواه، فلم يأبه لنصحهم وتابع ما شرع فيه، وكان له في الهند أملاك تقدر بنحو لك ونصف (أي مائة وخمسين ألف روبية) . وفي عام 1927 عندما شعر بثقل المرض عليه وقف جميع أملاكه لبعثة وكنج الإسلامية، وأما حقوق مؤلفاته والمجلة الإسلامية فقد جعل الحق فيها للجمعية الإسلامية في لاهور. كان الخوجا كمال الدين ذا شخصية فذة، وكان خطيبًا مُفَوَّهًا يقف في الجماهير ساعات بطلعته المهيبة فلا يشعرون خلالها بملل ولا سآمة. وكانت صفاته الممتازة تحببه إلى جميع عارفيه ورواد مجلسه، ولا نبالغ إذا قلنا: إنه قد انتقل إلى الدار الآخرة تاركًا كل من اتصلوا به أصدقاء ليس بينهم عدو واحد، وقد خدم الإسلام أجلّ خدمة، ولم يكن له نظير في وقتنا هذا. وسيكون من الصعب بل من المستحيل ملء الفراغ الكبير الذي أحدثه فقده، تغمده الله بالرحمة والرضوان اهـ.

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة إننا لكثرة أعمالنا، ومنها انفرادنا بالتحرير والتصحيح للمجلة ولكثير من مطبوعات دار المنار لا نجد فرصة نطلع فيها على ما يهدى إلينا من المطبوعات لنقضي حق أصحابها وحق الأمة علينا بتقريظها ونقدها فكنا نرجئه من سنة إلى أخرى رجاء اقتناص الفرص ولا تزال تفر منا، فنحاول ذكرها على سبيل التعريف الوجيز كما تفعل بعض المجلات فيعز علينا ذلك فيما نراه كبير الفائدة فنقرظ في العام قليلاً منها، وإننا نفتتح هذه السنة بالتنويه بأهمها مبتدئين بكتاب جليل في خاتم النبيين وهو: (محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل) مؤلفه الكاتب الإسلامي الاجتماعي العالم الديني العصري الأستاذ محمد أحمد جاد المولى المفتش بوزارة المعارف، وقد طبع في مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة سنة 1349 على ورق جيد بحروفها الجميلة، وأعيد طبعه في هذه السنة 1351 فيها أيضًا. صفحاته 271 صفحة. تدخل (محتويات الكتاب) بعد المقدمة في عشرة أبواب: (1) عنوانه: إلى محمد صلى الله عليه وسلم ترد الفضائل جميعها. (2) محمد صلى الله عليه وسلم بين الرسل. (3) الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي اقتضت بعثته. (4) مراحل حصول النبوة واستقرارها. (5) الأدلة القاطعة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم. (6) محمد صلى الله عليه وسلم أكبر المصلحين نجاحًا. (7) محمد صلى الله عليه وسلم أوفى الأنبياء دينًا. (8) محمد صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق. (9) محمد صلى الله عليه وسلم أجدر الناس بالإيمان به ومحبته واتباعه وطاعته. (10) موجز السيرة النبوية. وفي كل باب من هذه الأبواب مسائل مهمة مفصلة أحسن التفصيل بأسلوب فصيح لا تجدها مستوفاة في كتب السيرة المطولات، وما يوجد فيها منها يعسر استخراجه على أكثر القراء في هذا الزمان، فهو قد استخرج الزبد من تلك الألبان الروحانية التي لا يتغير طعمها، والعسل المُصَفَّى من تلك الثمار النبوية الشهية البالغة، ببيان تلذ قراءته جميع الناس، وتفيد جميع القارئين، ولكنه قد عَدَّ في الأدلة العقلية على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم ما هو من الفضائل الأدبية والمزايا الاجتماعية؛ لأنها تؤيد الدليل العقلي في جملتها، كما عد ما ذكره من مزايا القرآن في إعجازه معجزة في جملتها لا في كل فرد منها، وقال مثل ذلك الأحاديث النبوية جميعها. وأورد كثيرًا من الأحاديث في أبوابه غير مُخَرَّجَة لنقله إياها من كتب المتأخرين فكانت مختلفة الدرجات، ومنها رفع ما ليس بمرفوع، ولا تخلو ضعافها من الموضوع، ومن ذلك أثر مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سقط منه متعلق الخبر المقصود وهو: (الناس بزمانهم أشبه) هكذا أورده في الشواهد على إيجاز النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مرفوع ولفظ الأثر (أشبه منهم بآبائهم) ومثل هذا الكتاب في نفاسته وعظم فائدته، وجدارته بالتدريس في المدارس الثانوية أو العالية يجب ألا يُذْكَر فيه غير الأحاديث الصحيحة أو الحسنة المَعْزُوَّة إلى مُخَرِّجِيهَا من حُفَّاظ السنة. وقد علمت أنه عازم على ذلك عند إعادة طبع الكتاب مرة ثالثة، كما أنه عازم على إعادة النظر فيما كتبه من سوء حال الأمة العربية وما كان من مساويها قبل البعثة المحمدية، وأن يزيد على ما ينقحه منها ذكر بعض فضائلها التي أشرنا إليها في خلاصة السيرة المحمدية؛ وهي من مراجع هذا الكتاب النفيس كما أن من مراجعه كتاب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام ولعله نسي أن يذكرها معها. ومن حسن ذوق المؤلف وفهمه أنه سمى كتابه (محمد المثل الكامل) ولم يقل (المثل الأعلى) لأن الله عز وجل قال في كتابه العزيز {وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى} (النحل: 60) وهو يفيد الاختصاص، فهل يعتبر بهذا هؤلاء الكتاب المجازفون المقلدون الذين ابتذلوا هذا الوصف الأعلى فصاروا يبذلونه لكل من يمدحونه وإن كان لا يستحق المدح بما دون هذا. وإنني أنصح لوزارة المعارف ولمديري المدارس الأهلية الإسلامية بتدريس هذا الكتاب في مدارسهم، ولسائر المسلمين بمطالعته. وثمن النسخة منه 10 قروش صاغ، وهو يطلب من مكتبة دار المنار بمصر. *** (كتاب الجنايات المتحدة في القانون والشريعة) كتاب حديث في وضعه وموضوعه، ألفه وطبعه منذ سنتين الأستاذ الفاضل (الشيخ رضوان شافعي المتعافي) خريج قسم التخصص في الشريعة الإسلامية ومدرسة دار العلوم العليا (حاول فيه بيان مقدار المماثلة الإسلامية بين قانون العقوبات الأهلية وشروحه وبين الشريعة الإسلامية) ويعني بالشريعة الإسلامية ما تقرر في كتب الفقه المشهورة. والغرض من هذا أنه قلما يوجد في قانون العقوبات حكم لا يوجد له نظير في كتب الفقه مثله أو خير منه فلا عذر إذًا لحكومة إسلامية كحكومة مصر أن تستمد قانونها من كتب الإفرنج دون كتب الفقه الإسلامي، وهي تجد كل ما يُحتاج إليه لحفظ الأمن وتأديب المعتدين في كتب الشرع الديني الذي تنسب إليه دولتها، وتدين الله به أمتها. وهذا غرض صحيح طالما أَثْبَتُّهُ في المنار، وبينتُ فوائده الدينية والاجتماعية والسياسية، واقترحت على العلماء الواقفين على الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية أن يؤلفوا فيه كتابًا أو كتبًا بأسلوب القوانين ويحملوا الأمة على مطالبة حكومتهم بتنفيذه. وقد فتح هذا الكتاب الجديد لهم باب العلم، وأورد لهم النماذج منه، فمهما يكن من آرائهم في مسائله فما أرى أنهم يختلفون في صحة الغرض الذي ذكرناه، وأنه قد آن وضع المشروع التفصيلي الذي اقترحناه من قبل لتنفيذه. هذا وإن أكثر بضاعة المؤلف التي يعرضها في أمثال هذه المسائل يأخذها من كتب الفقه الحنفي، وهي من مباحث الإسلام العامة وحكمته في التشريع لا من المباحث المذهبية، ولذلك نراها قاصرة، ونراه عرضة للعثار إذا عرض لدلائل الكتاب والسنة وما استنبط منها كعثرته فيما انتقده على تفسير المنار في مسألة الربا. ومنه زعمه أن الربا حُرِّمَ في أول الإسلام بمكة بنص قوله تعالى في سورة: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} (الروم: 39) والآية لا تدل على تحريم الربا ولا على فرضية الزكاة دلالة قطعية، لا على قاعدة مذهب الحنفية في الفرضية والتحريم، ولا ظنية أيضًا، ولذلك لم يقل بدلالتها على الأمرين أحد من علماء الصحابة والتابعين ولا أئمة الفقه، وإنما هي من قبيل قوله تعالى في سورة سبأ: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (سبأ: 37) . نقل هذا المؤلف جملة مما كتبناه في التفسير من التفرقة بين الربا المحرم بنص القرآن القطعي، وما ثبت منه بروايات الآحاد الظنية وأقيسة العلماء، وهو يتضمن ما أجمع عليه العلماء من أن الربا حرم بعد الهجرة بآية آل عمران وآيات البقرة ورد علينا بزعمه أنه حرم في مكة بآية سورة الروم، وقرَّر الاستدلال بقوله: (وقد تقرر في علم الأصول أن لفظ (ما) من صيغ العموم ولا شك في أن الربا ذكر في آية الروم بلفظ منكر مبينًا للفظ ما يشمل كل نوع يسمى ربًا) . ثم ذكر أن السنة الصحيحة لم تبين أنواع الربا، ولكن الأئمة استنبطوا من الأحاديث التي صحت عندهم جميع الأنواع، فإذا كان القرآن بيَّنَها كلها فأيُّ حاجة بعدُ لاستنباط الأئمة لها من الأحاديث؟ الحق الواضح أن آية سورة الروم لا تدل على تحريم الربا مطلقًا، فعموم لفظها وعدمه سواء. وقد نقل المفسرون أنها نزلت في الهدايا والعطايا التي يرجو باذلوها أن يعطوا من المقابلة عليها أكثر منها، رووا هذا عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك ولفظ الأخير في تفسير الآية: هو الربا الحلال أن تهدي تريد أكثر منه، وليس له أجر ولا وزر، ونهي عنه النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقال: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} (المدثر: 6) قال في الدر المنثور بعد إيراده: وروى البيهقي في سننه عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه في الآية قال: الرجل يعطي الشيء ليكافئه به ويزاد عليه فلا يربو عند الله، والآخر الذي يعطي الشيء لوجه الله ولا يريد من صاحبه جزاء ولا مكافأة فذلك الذي يضعف عند الله تعالى. اهـ. فعلى الأستاذ الشيخ رضوان أن يدقق في البحث ويطلع على الروايات ومسائل الإجماع ومدارك الخلاف، قبل أن يتصدى للحكم الاستقلالي الاستدلالي في الشرع. *** (الإسلام دين عام خالد) كتاب جديد للكاتب الاجتماعي المشهور الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي مؤلف من مقالات نشرها في جريدة الجهاد السياسية اليومية ثم جمعها في سِفْر بلغت صفحاته 190 صفحة من القطع الصغير، وصفه بقوله عنه (تحليل دقيق لأصول الدين الإسلامي تحت ضوء العلم والفلسفة) وقد جاءنا نسخة منه في البريد والعهد بصحابه أنه غضب علينا لانتقادنا بعض كتبه منذ ربع قرن أو أكثر، فما عاد يهدي إلينا شيئًا من مصنفاته على ما كان بيننا من تعارف وتآلف منذ السنة الأولى من هجرتنا إلى مصر (سنة 1315) بل كتب مقالات شديدة في الطعن علينا: ونحن قد أمسكنا عن الرد على ما نراه أحيانًا من الخطأ في كتبه، وفيما ينشره في الجرائد لئلا يتخذ انتقادنا وسيلة للجدل المذموم أو لما هو شر منه، وإن أدري أهو الذي أهداني هذا الكتاب الجديد لثقته بأنه قد حرَّره واجتنب فيه الآراء الشاذة المنتقدة عند أمثالنا من المشتغلين بالإصلاح الديني والتجديد الإسلامي وهو الأرجح، أم أرسله إلينا غيره ممن يحبون الوقوف على رأينا فيه، وأَيًّا ما كان المُرْسِل والباعث على الإرسال فقد صار من الواجب عليَّ أن أقرظ الكتاب وأبيِّن لقراء المنار خلاصة رأيي فيه وفي صاحبه، على أنني لم أقرأ الكتاب بعدُ، وإنما أبني كلمتي المجملة فيه على ما قرأته منه في جريدة الجهاد، وقد أراجع ذلك فيه للتثبت، وربما كان هذا الإجمال هو الذي يضطرني إلى مطالعته، والتفصيل في نقده عند سنوح الفرصة. إن الأستاذ فريد أفندي وجدي كاتب سيال القلم في المباحث الاجتماعية والمدنية الإسلامية، شديد التأثر والإعجاب بالفلسفة العصرية ومذهب استحضار الأرواح، ولكنه مضطرب متناقض في كل ما كتبه عن الإسلام لقلة علمه بأصوله وفروعه وكتابه وسنته وتشريعه، ومن أظهر هذا العلم الناقض المضطرب أنه يأخذ رواية شاذة ظنية رجع عنها صاحبها في فرع خاص من الفروع العملية الظنية كالرواية عن أبي حنيفة في صحة الصلاة بقراءة ما يجب فيها من القرآن مترجمًا بغير العربية فيجعلها حجة على رفض إجماع الأمة وقاعدة كلية إسلامية يستدل بها على شرعية ما فعلته حكومة الجمهورية التركية من ترجمة القرآن كله بالتركية وإكراه شعبها على التعبد به - وإن اعتقدوا أن ذلك معصية لله أو كفر بدينه - ومِن مَنْعِ الشعب من قراءة القرآن المنزل من عند الله باللغة العربية وعِقَاب من يقرؤه ومن يطبعه، زيادة على استحسانه منها رَفْضَ جميع كتب السنة والشريعة العربية. ومن المقرَّر في علم الأصول أن رأي المجتهد ليس حجة في الشرع، وأن الاجتهاد لا يصادم الإجماع ولا النص، وأن القول الذي يرجع عنه الم

أنباء العالم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أنباء العالم الإسلامي (حال المسلمين أو العرب مع دول الاستعمار) بيَّنا في فاتحة منار هذا العام حال الدول والشعوب الإسلامية في العالم كله، ومنه أن دول الاستعمار المعادية للإسلام قد تقلص ظل نفوذها وبغيها عن مسلمي الأعاجم ووجهت ظلمها وقهرها للأمة العربية في مهدها من جزيرة العرب وما حولها من آسية وفي أفريقية، وهي الشعوب التي بذلت دماءها وأموالها في سبيل هذه الدول في الحرب العالمية الكبرى. فهي تكافئهم على هذا بسلب ما بقي لهم من استقلال وثروة ووحدة في آسية والقضاء على دينهم ولغتهم وثروتهم في أفريقية، لماذا؟ لأنهم جهلاء متفرقون لا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم؟ فإن قوة العرب في جزيرتهم كافية لكف عدوان الإنكليز عن الحجاز وفلسطين وسورية، لو لم تجعل هذه الدولة بأسهم بينهم شديدًا، وتهددهم بتخريب بيوتهم بأيديهم. وأما فرنسة فلا تزال تهدم دينهم في سلطنة المغرب الأقصى وإمارة تونس اللتين علاقتها بهما علاقة حماية مشترط فيها سلامة دينهم وجنسيتهم بأشد مما تفعل في الجزائر التي فتحتها منذ مائة سنة، وقد بلغ من اضطهادها للحرية الدينية فيها أن منعت من عهد قريب علماء المسلمين من الوعظ الديني وقراءة الدرس في التوحيد والفقه من جميع المساجد. وقد كاد ينتهي العام الثالث على إصدارها الظهير البربري المشهور (في 16 مايو) الذي يخولها إخراج شعب البربر من دائرة الشريعة الإسلامية وجعلهم من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، وهي لا تزال مصرة على تنفيذه بكل ما أوتيت من قوة. وهي على هذا تنشئ سكك الحديد لوصل المغرب بمستعمراتها الداخلية في إفريقية لتتمكن من حشد الجيوش منها إلى الساحل المغربي ونقلها إلى أوربة عند اشتعال جحيم الحرب الآتية التي ستكون هي أكبر الأسباب لاشتعالها بسياستها العسكرية المسرفة، ومحاولتها قتل الشعب الألماني صبرًا وقهرًا بحرمانه من الاستعداد للدفاع عن نفسه {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) . * * * (الجنسية الفرنسية في تونس) وضعت الدولة الفرنسية منذ عشر سنين نظامًا لتجنيس مسلمي الإمارة التونسية بجنسيتها لأجل إخراجهم من دينهم ومن جنسيتهم التونسية المعترف بها في عقد حماية فرنسة لها، وقد حدث في الشهر الماضي أن مات أحد هؤلاء المتجنسين فمنع الشعب المسلم أهله من دفنه بين المسلمين في مقابرهم لأنه مرتد، فتصدت السلطة الفرنسية لقمع هذه الحركة وأرادت أن تستعين على هذه الجناية بفتوى بعض العلماء الرسميين بنفوذ الوزير تُوهِمُ العامة أنه يمكن للمتجنس بالجنسية الفرنسية أن يظل مسلمًا بأن يتوب من ذنبه، وحينئذ يصح أن يصلى عليه إذا مات ويدفن في مقابر المسلمين، ولكن من المتفق عليه عند العلماء أن ركن التوبة الأول هو الرجوع عن الذنب الذي صار به كافرًا مرتدًّا، وهو في هذه المسألة التجنس المعلوم، يقال: إن الفتوى الرسمية صدرت، وإن العلماء الأحرار أنكروها، والشعب نبزها ونبزهم، والرسميات لا مزية لها ولا رجحان على غيرها في عقائد الإسلام؛ إذ ليس فيه باباوية ولا عصمة، فالجمع بين الإسلام والجنسية الفرنسية مُحَالٌ، فحيا الله الشعب التونسي، وننصح لعلمائه وحكومته بألا تخذله في دينه، ومن خذله منهم خذله الله وسنعود إلى الموضوع، إن شاء الله تعالى. * * * (فرنسة وسورية الشمالية) لا تزال فرنسة مُصِرَّةً على تقسيم سورية إلى عدة دول وحكومات للإجهاز عليها واستعبادها: دولة مسيحية في لبنان ودولة علوية في اللاذقية ودولة إسلامية أو عربية في الشام ودولة دُرْزِيَّة في جبل الدروز. ولما رأت نفسها مضطرة لدى جمعية الأمم إلى إلغاء الانتداب اقتداء بإنكلترة، خلقت مجلسًا نيابيًّا بقوتها العسكرية ومال الحكومة السورية ومساعدة أنصارها الخونة وألفت حكومة سورية من أعوانها، أرادت أن تضع مع هذه الحكومة ومجلسها معاهدة تحل محل الانتداب وتعني بالدولة السورية المدائن الأربع المحصورة بين الصحراء وسورية الساحلية، فشعر الشعب بإيقاظ زعمائه المخلصين بخطر هذه المعاهدة فهب لمقاومتها فنحثه على الثبات، ونوجه نظر الدولتين العربيتين السعودية والعراقية إلى ما يجب عليهما من العطف عليه، فإنه ذنبه الذي لا يغفر هو العروبة والإسلام، وتعذر جعله فرنسيًّا كاثوليكيًّا كما يرجون من الدُّرُوز والنُّصَيْرِيَّة.

لبنان الكبير وطن مسيحي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ لبنان الكبير وطن مسيحي (هكذا يقول بطرك المَوَارِنة الزعيم الديني السياسي) نشرت جريدة المقطم رسالة لمراسلها اللبناني تاريخها 14 فبراير سنة 1933 فرأينا أن نسجلها في المنار؛ لأنها من أهم وثائق التاريخ لهذا الانقلاب الطارئ على هذا الطارئ، وهذا نصها: (في لبنان اليوم حركة خواطر لأسباب متعددة منها: انقضاء نحو ثمانية أشهر على تعليق دستوره بحجة إصلاحه وتعديله وعدم ظهور شيء حتى الآن من هذا التعديل. ومنها خوف أهل لبنان من العودة إلى الحكم المباشر. ومنها عدم مفاتحة لبنان وأهله بأمر تحديد العلاقات بينهم وبين المنتدبين وإفراغ هذه العلاقة في قالب معاهدة على المثال الذي جرى في بغداد والذي سيجري في دمشق. ومنها المعارضة التي تتململ اليوم في لبنان لزحزحة حكومته الوقتية متوسلة بوسائل لا تنتسب إلى برامج معينة في السياسة الوطنية. هذه الأمور وغيرها مما تسبب عنه قلق في الأفكار في لبنان وحركة في الخواطر دعاني إلى البحث في المراجع العالية من زمنية ودينية يرجع إلى رأيها في حقيقة ما يتوقع أن يتم بهذه الأمور لإطلاع القراء على هذه الحقيقة فقصدت يوم أمس إلى (بكركي) مقر كبير أحبار الطائفة المارونية غبطة البطريرك أنطون عريضة لأخذ رأيه؛ ورأي البطريركية المارونية ما برح عليه المعول في شؤون لبنان السياسية وإليه يستند المنتديون في كل ما يريدون إجراءه. (دخلت على غبطة السيد البطريرك وهو في خلوته وأعلمته بمهمتي فاستقبلني بترحاب فقلت: نحن اليوم يا صاحب الغبطة في دور دقيق جدًّا من حيث مصير البلاد اللبنانية لا سيما أن سورية جارتنا تتحفز إلى الاستقلال الناجز على مثال ما جرى في العراق فهل يمكن أن تتكرموا برأيكم في مصير لبنان، وفي موقفه من هذا التحول في الانتداب في سورية؟ فقال غبطته: نحن طلبنا الانتداب الفرنسوي بمطلق إرادتنا ونحن نريد أن يبقى عندنا الآن، ليس لأننا غير أكفاء للقيام بما هو مطلوب منا كشعب؛ بل لأن للظروف أحكامًا، وأما أهل سورية فلهم رأيهم، وهم أدرى بما يوافقهم، فإذا كانت المعاهدة أوفق لهم فنحن نرى الآن أننا ما زلنا في حاجة إلى هذا الانتداب الذي طلبناه بمحض إرادتنا. فقلت: يتحدثون كثيرًا اليوم بالوحدة السورية ويذكرون أسماء البلدان التي يمكن أن تشترك في هذه الوحدة ويقولون: إنها إذا تمت على أساس اللامركزية لا يضار لبنان بشيء. فهل لغبطتكم رأي في ذلك؟ فقال: إن لبنان كان لبنان، ونريده أن يبقى لبنان، فسورية بحالها ونحن بحالنا. فقلت: ولكنهم يا صاحب الغبطة يتشبثون بإرجاع الأجزاء التي ألحقت بلبنان إلى سورية. وما أتممت عبارتي هذه حتى التفت إلي العميد اللبناني بعينين برق نورهما وقال: ومتى كانت سورية مملكة لها هذه الأجزاء وسلبناها منها، إن هذه الأجزاء هي أصلا للبنان وقد سلبت منه في الأزمان الماضية فإذا استعادها إليه اليوم استعاد ما هو ملكه، واسترد ما هو حق له، وهي بلدان لبنانية الأصل أعيدت إلى لبنان. ألم يكن لبنان ممتدًّا حتى إنطاكية وحتى عكا أو ما وراءها في الأيام السالفة؟ ولهذا فإذا أعيد إلى ما كان عليه فإعادته هذه يجب ألا تعد تطاولاً منه على حق غيره، وهذه الأجزاء التي يتألف منها الوطن اللبناني اليوم إنما كانت مع لبنان المعروف في أيام المتصرفين أجزاء من ولايات أنشأها الترك فحلوا بسلخها عن لبنان الإمارة اللبنانية، واليوم أعيد الحق إلى نصابه ولبنان إلى أصحابه. ونحن نريده لعوامل شتى أن يبقى على ما هو عليه، والظروف تجبرنا على ذلك. (وهنا ذكر المكاتب حديثًا في دستور لبنان والحكم الوقتي فيه قال في آخره) فقلت هنا: إن الإشاعات التي يتناقلها الناس اليوم متناقضة، والآراء فيها مختلفة، فمنهم من يستحسن أن يكون للبنان حاكم من أهله، ومنهم من لا يريد أن يكون للبنان إلا حاكم فرنسوي، وقبل أن أتم كلامي قال البطريرك: لا! لا! إننا لا نريد حاكمًا فرنسويًّا للبنان، بل نريده لبنانيًّا محضًا. فقلت: وماذا ترون في حاكمه الحالي فقال: إننا طلبنا أن يكون الحاكم مارونيًّا، فقلت: لا أعلم إذا كنتم غبطتكم قد اطلعتم على البيان الذي أفضى به المسيو بونسو أمام لجنة الانتدابات في جامعة الأمم، وفيه يذكر لبنان بين البلدان التي قبلت الانتداب في هذه البلاد بطيبة خاطر، وذلك لاختلاف مذاهب سكانه، وكيف سرد للجنة إحصاء لسكان لبنان وقال: إن جميعهم من الأقليات التي لا يمكن لواحدة منها أن تسود الأخرى. فقال غبطته: نعم نحن قبلنا الانتداب بطيبة خاطر، وأما الأقليات والأكثريات وقولهم فيها فلا يعنينا ولبنان وطن مسيحي) (المنار) في هذا الحديث عِبَر كثيرة للمسلمين لا نريد الآن أن نشرحها: (منها) أن الرئيس الديني لمذهب الموارنة الكاثوليكي هو الزعيم السياسي الأكبر لهم، وقد جعلوه بقوة فرنسة زعيمًا ورئيسًا سياسيًّا لجميع اللبنانيين والمسلمون فيهم أكثر من الموارنة. (ومنها) أن هذا الزعيم العام يطلب أن يكون حاكم لبنان مارونيًّا ويقرر أن لبنان هذا وطن مسيحي. وقد كان لهذه الكلمة هزة في نفوس الطوائف الإسلامية وبعض المسيحيين الذين لا يزالون يقولون: إن الأوطان في هذا العصر يجب أن تكون للأقوام لا للأديان، فأراد بعض هؤلاء أن يزيلوا سوء تأثير كلمة البطرك فنقلوا عنه أنه قال: إن كون لبنان وطنًا مسيحيًّا لا يمنع أن يكون فيه غير المسيحيين، وهذا مما يعلم بالبداهة فإن العبرة بالحاكمية والسيادة العليا وفي جميع الأوطان الأوربية وغيرها سكان وطنيون من غير أهل دين الدولة ذات السيادة. يا حسرة على لبنان، كان متمتعًا باستقلال عديم المثال، فسلبته منه (الأم الحنون) وجعلته شر آلة لسلب استقلال سورية كلها، وأبناؤه البررة لها لا يشعرون، فلا قومية ولا وطنية ولا سياسة ولا إدارة، فأين ما كانوا يدعون؟

الاتفاق بين الدولة السعودية وحكومة شرق الأردن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الاتفاق بين الدولة السعودية وحكومة شرق الأردن من أهم أنباء العالم الإسلامي فوز السياسة الإنكليزية بحمل كل من ملك العربية السعودية وأمير شرق الأردن على الاعتراف بحكومة الآخر، والاتفاق بينهما على نحو مما سبق في التأليف بين الأول وملك العراق وحكومتيهما. وإن هذا الاتفاق ليسر كل عربي وكل مسلم، وإن استاؤوا من كونه بسعي الإنكليز لمصلحة الإنكليز بشرط ألا يتضمن نصه الرسمي اعتراف الأول بقاء منطقة العقبة ومعان الحجازية تابعة لإمارة شرق الأردن الإنكليزية، (نعم هي إنكليزية بالفعل سواء سمي استيلاؤها انتدابًا أو ملكًا أو خدمة أو عبودية) فإن كانت نتيجة هذا الاتفاق بقاء السلطة البريطانية في خليج العقبة وتصرفها فيه، وفي منطقته إلى معان، فالربح والفوز لها وحدها، والغبن والخسار على الإسلام والمسلمين ولا سيما عرب الحجاز ونجد، وحكومة الحجاز تكون شريكة لحكومة شرق الأردن الصورية في إثمه الذي كان لاصقا بأميرها وأخيه وحدهما. أقول هذا على فرض تسليم الملك السعودي بذلك وهو ما لا أظنه فيه، بل يغلب على ظني أن تبقى المسألة معلقة ومؤجلة إلى مفاوضة أخرى. والواجب على المسلمين على كل حال أن يهبوا في كل قطر لحمله على مطالبة الإنكليز بالخروج منها وإرجاعها إلى الحجاز، وكذا سكة الحديد الحجازية بما سأعود إلى بسطه بعدُ.

عسرة الحجاز وهضم حقوقه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عسرة الحجاز وهضم حقوقه يقول بعض حجاج هذا العام: إن ألوفًا من أهل الحرمين يموتون جوعًا في هذا العام بشدة العسرة وقلة الحجاج ولا سيما أهل البادية وحكومة مصر تتمتع بمئات الألوف من أوقاف الحرمين، وهي لا ترحمهم ببذل حقوقهم لهم، وأهلها أقرب المسلمين إليهم، وهي أعلمهم بحالهم، بل اشتهر أن هذه الحكومة تستولي على ريع أوقاف الحرمين الأهلية المستحق للحجاز من نظارها وتمنعهم من إرساله إلى مستحقيه، أفلا تخاف وترعى حرمة رسوله صلى الله عليه وسلم في جيرانهما وأهل حرمهما؟ دع حقوق الإسلام الخاصة، والرحمة الإنسانية العامة؟ ولكن لعنة الله على السياسة التي لا تعرف دينًا ولا رحمة ولا إنسانية.

نداء من حزب الاستقلال العربي في فلسطين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نداء من حزب الاستقلال العربي في فلسطين إلى كل عربي كريم، إلى كل هيئة عربية، إلى كل صحيفة عربية في أنحاء الأرض يبعث حزب الاستقلال العربي في فلسطين نداءه هذا، وحالة العرب في فلسطين قد انتهت إلى ما تهلع له القلوب، وتضطرب النفوس، وتهتز المشاعر، إذ أخذ المستقبل المشؤوم يبدو كالحًا مظلمًا، والخطر الملاشي لكيان العرب يتجسم يومًا فيومًا، ويحدق بهم إحداقًا مفزعًا منبعثًا من ناحيتين كبيرتين، هما ناحية بيع الأراضي خاصة، وناحية الحكم الاستعماري المباشر في فلسطين عامة، وكلتا الناحيتين تؤديان إلى تلاشي العرب وانهيار بنيانهم القومي، وانسلاخهم عن أرض آبائهم وأجدادهم بفعل السياسة البريطانية الصهيونية. أما مشكلة الأرض، فقد بلغت حدها الأكبر من الخطر، إذا نشط اليهود في المدة الأخيرة لابتياع الأراضي نشاطًا عظيمًا، وهي الأراضي العربية القليلة التي بقيت بأيدي العرب، والتي إذا تسنى لليهود ابتياعها - وأكثرها واقع في السهول الساحلية ذات القيمة الزراعية الجيدة - أصبح اليهود يملكون معظم الجهات الساحلية الخصبة في البلاد، سلسلة متصلة الحلقات، وظاهر ما في هذا من خطر ينذر البلاد بسوء المصير، يضاف إلى هذا الخطر، خطر آخر مُمَاشٍ له جنبًا إلى جنب، وهو الهجرة الصهيونية وإغراق فلسطين بسيل عرم من المهاجرين اليهود يدخلون البلاد بجوازات سفر وبطرق غير مشروعة، كل هذا نتيجة استقتال اليهود لبناء المملكة اليهودية في فلسطين، على أنقاض الكيان العربي المتداعي إلى السقوط والانهدام. ولقد أصبح أكثر من ستة وثمانين ألف عائلة عربية لا أرض لها ومن دون مأوى ولا كسب، وثبت هذا بشهادة التقارير الرسمية التي وضعها الخبراء الإنكليز الذي كلفوا درس الحالة درسًا دقيقًا، وكانت النتيجة الواقعة حتى اليوم أن انتقلت أجود الأراضي إلى اليهود، وانزوى العرب في المناطق الجبلية القاحلة. ولذلك باتت فلسطين تشهد كل يوم مآسي انهدام مكانها، بذهاب قرية بعد أخرى، والأراضي قطعة بعد قطعة، وتشرد المزارعين وهيامهم على وجوههم إلى حيث الفناء والدمار، هم وعيالهم وأولادهم! يجري هذا كله جريًا مُطَّرِدًا سنة فسنة، والسلطة الإنكليزية في فلسطين مُمْعِنَة في حكم البلاد حكمًا استعماريًّا مباشرًا ثقيل الوطأة، مسلحًا بأقسى ما عرفه البشر من ضروب التقنين والتشريع والأنظمة، مما تدأب السلطات البريطانية في وضعه وتكبيل البلاد به، وتمهيدًا لإنشاء الوطن القومي اليهودي، وقد بلغت الحال خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة من الويل والإرهاق مبلغًا يعز وصفه ويصعب تصويره، فأصبح العرب وليس لهم من أمر بلادهم ووسائل حمايتهم شيء، ولم تلتفت السلطات البريطانية إلى شيء من أنين الشعب العربي وتظلمه وشكاته، طالبًا وضع حد لهذه الغزوة الصهيونية المجتاحة، وسن قانون عاجل يمنع بيع الأرض من العرب إلى اليهود منعًا باتًّا، ويغلق باب الهجرة الصهيونية، وطالبًا أن يتسلم مقاليد حكم نفسه بنفسه، حفظًا لكيانه، وهو العلاج الطبيعي الوحيد الذي بغيره تظل فلسطين تتردى في الهوة السحيقة حيث الفناء المنتظر، فتمثل فاجعة الأندلس ثانية دون أن يغني فيها ندب ولا عويل! ويُسار بالوطن القومي اليهودي في قلب البلاد العربية وعلى كتف الجزء الشمالي من جزيرة العرب، والأقطار العربية المجاورة لم تقم بعمل بعد تشعر منه السياسة البريطانية بتضافر العرب على دفع الكارثة، ودرء هذا الخطر الذي إذا استفحلت غزوته، فسيشمل غير فلسطين لا محالة، كما أخذت الدلائل في شرق الأردن تدل عليه في هذه الفترة الأخيرة. فحزب الاستقلال العربي في فلسطين، وهو يرى كل هذا حاضرًا، ويقيس على الواقع، المصير المتوقع مستقبلاً، يناشد كل عربي كريم وكل هيئة عربية، في أنحاء الأرض، ويناشد أهل البلاد العربية الشقيقة، إلى التضافر والتآزر مع إخوانهم عرب فلسطين في رد هذه النكبة التي كادت تأتي عليهم، وإلى الوقوف في وجه السياسة الإنجليزية موقف المدافع عن حياته وبقائه وكيانه، ابتغاء وضع حد لهذه الحالة المروعة التي كادت تفتك بقطر عربي وتذهب به فريسة المطامع الاستعمارية والصهيونية، بيت المقدس 3 شوال 1351 28، ك 2، 1933.

كتاب اللجنة العليا لصندوق الأمة بفلسطين

الكاتب: موسى كاظم الحسيني

_ كتاب اللجنة العليا لصندوق الأمة بفلسطين حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ الشيخ رشيد أفندي رضا المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد، فبالنظر لما يعهده المسلمون فيكم من الغيرة على تراثهم الديني، والذَّب عن مقدساتهم، والرغبة في المحافظة على كيانهم، يرى فريق منهم كان له شرف الحظوة لسدانة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وما يحيط بها من مقدسات إسلامية، وبقاع جبلت بدماء المجاهدين الذين لاقوا ربهم فيها دفاعًا عن كيانها جيلاً بعد جيل، أن يرفعوا لجنابكم هذه الكلمة الموجزة عما وصلت إليه حالتها من خطر الخروج - لا سمح الله - من أيدي المسلمين إلى أيدي اليهود، إن لم يتداركها المسلمون وعلى الأخص ملوكهم وأمراؤهم وزعماؤهم بعنايتهم ويعملوا متكاتفين لإنقاذها قبل أن يقع المصاب ويحل الندم، ولات ساعة مندم. إن السياسة الصهيونية التي ابتليت بها فلسطين وأهلها ترمي إلى (وضع البلاد في حالات سياسية واقتصادية وإدارية تساعد على إنشاء وطن قومي فيها لليهود) وكانت أهم مساعي اليهود في تنفيذ هذه الفكرة منذ البدء متجهة إلى الاستيلاء على أراضي البلاد المقدسة بأي وسيلة كانت، وإغراقها بالمهاجرين من شذاذ الآفاق من يهود العالم، وإن الاستيلاء على الأراضي هو الذي يخيف المسلمين ويجعل مقامهم فيها بعد الحصول إليه لا سمح الله مستحيلاً؛ لأن من لا أرض له لا وطن له، ولا يمكن لقوم أن يعيشوا في بلاد أراضيها ليست لهم مهما كثر عَدَدُهم وعُدَدهم. ولما كان بيع الأراضي وشراؤها أمرًا اقتصاديًّا تابعًا للقوانين والنواميس والأصول الاقتصادية فقد وجد المسلمون في فلسطين وغير فلسطين، بعد معالجتهم لهذا الموضوع مدة عشر سنوات أن من العبث العمل لحل هذه المعضلة بغير النواميس والأصول. فالمسلم ذو العائلة مضطر عند الحاجة لبيع أرضه لإعالة أطفاله، والمدين منهم يُرْغَمُ على بيع أرضه بواسطة المحاكم، وليس في أسواق الأراضي من يشتري غير اليهود بأسعار بخسة. ولذلك كان من الحكمة والمصلحة لحفظ كيان المسلمين أن تؤلف شركة لإنقاذ أراضي فلسطين لشرائها ممن يضطر إلى بيعها ثم تقسيمها وتأجيرها واستثمارها لمنفعة الشركة، وفي ذلك حفظها من الضياع وإصلاحها واستبقاؤها في يد العرب. هذا هو الحل الوحيد الذي اتفقت عليه الآراء، وهذا ما أقره ممثلو الأمة الإسلامية في مؤتمرهم الإسلامي العام المنعقد في المسجد الأقصى ببيت المقدس في 27 رجب 1350 كانون الأول 1931، لذلك وجدت لجنة صندوق الأمة العليا الممثلة للمؤتمر العربي الفلسطيني الذي يتكلم باسم عرب فلسطين أن تنفذ هذه الفكرة، فشكلت شركة باسم (شركة إنقاذ الأراضي في فلسطين) وجعلتها شركة مساهمة، وتجدون …. طيه نسخة من نظام هذه الشركة القانوني برأسمال قدره عشرة آلاف جنيه تزداد باضطراد إلى أن تبلغ مئات الألوف. واللجنة إنما قامت بعملها هذا، مستندة على ما سوف تلاقيه من ملوك المسلمين وعظمائهم، من الإقبال على ابتياع أسهمها دفاعًا عن كيان هذه البلاد الإسلامية المقدسة واستثمارًا لأموالهم فيكون في اشتراكهم فيها ربح من أموالهم ودفاع مجيد عن ثالث الحرمين وأولى القبلتين. إن أهل هذه البلاد الذين هم سدنة أماكنها المقدسة من عامة المسلمين يعملون لإنقاذها مُضَحِّينَ بأموالهم وأنفسهم فمن العدل أن يقوم المسلمون البعيدون عنها وهم أصحابها، وعليهم إثم التواني في الدفاع عن كيانها أن يمدوا يد المساعدة في مثل هذا الأمر فيكونوا قد استثمروا أموالهم واشتركوا في الجهاد دفاعًا عنها، والله لا يضيع أجر المحسنين. بيت المقدس في 10 شوال سنة 1351 ... رئيس اللجنة العليا لصندوق الأمة ... ... ... ... ... و5 فبراير سنة 1933 ... ... ... ... ... موسى كاظم الحسيني ـــــــــــــــــــ

الوطنية والقومية والعصبية والإسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الوطنية والقومية والعصبية والإسلام (س1-6) من صاحب الإمضاء: صاحب الفضيلة والعالم العلامة الشيخ رشيد رضا أطال الله عمره. تحية وسلامًا. وبعد، فإن في بلادي إندونيسيا الآن حركة استقلالية قوية وكفاحًا مستمرًّا بين الإندونيسيين والمستعمرين، ولسوء الحظ ظهر في وسط هذا الجهاد، وفي خلال هذه المعمعة والنضال فريق من علماء الدين، والحاملين لواء الحق، يحرمون الوطنية، ويحاربون الوطنيين باسم الدين الإسلامي وتعاليمه ويرمونهم بالمروق، ويغرون العداوة بين العامة والزعماء والقادة حتى أصبحوا بين نارين نار المستعمرين، ونار علماء الدين، وهذا بلا شك بلاء عظيم. أعلم تطور الحركة الوطنية في مصر، وأعلم أن رجال الدين فيها كانوا في طليعة المجاهدين، والحاملين لواء الوطنية، وما كانوا يومًا ما من ألد أعدائها، نعم أذكر رجال الأزهر، علماءها وطلابها الذين يقودون المظاهرة تلو المظاهرة، ويسقطون في الميدان والشوارع، فلأجل هذا كله توجهت إلى مقامكم الكريم لاستجلاء هذه الأمور والاستفهام عن الأسئلة الآتية، فإذا تكرمتم بالجواب فقد أسديتم للأمة الإندونيسية نعمًا عظيمة، وبينتم لها طرق الهدى، وسبل الحق، وهذه الأسئلة هي ما يأتي: (1) أصحيح أن هناك أحاديث تحرم الفكرة الوطنية القومية؟ (2) هل قوله: (لا عصبية في الإسلام) وقوله: (ليس منا من دعا بدعاء الجاهلية) حديثان صريحان في تحريم الوطنية؟ (3) هل هناك فاصل بين العصبية والوطنية؟ وهل الوطنية داخلة في معنى العصبية؟ ما هي العصبية عند العرب؟ (4) ما وجهة نظر الإسلام نحو الفكرة الوطنية، وهل هي تعارض الوحدة الإسلامية؟ وما المقصود بالوحدة الإسلامية؟ (5) المعروف أن الشيخ محمد عبده الفيلسوف العظيم أبو الوطنية والوطنيين؛ لأن في بيته في حلوان نشأ سعد واجتمع رجالات مصر، وما رأيكم في هذا باعتباركم ناشر مذهبه وناشر تاريخ حياته! (6) ما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم؟ هذه هي الأسئلة التي أرجو أن تتكرموا بالجواب عنها ويستحسن الجواب على صورة مقالة متسلسلة، ولكم مني بالنيابة عن الأمة الإندونيسية جزيل الشكر والسلام ... ... ... ... ... ... ... ... نصر الدين طه الإندونيسي (جواب المنار) هذه الأسئلة في موضوع مسألة واحدة ذات شعب، وقد قدمناها على غيرها؛ لأنها أهم من كل ما لدينا من الأسئلة، فنجيب عنها جوابًا واحدًا مجملاً مختصرًا؛ لأن ما بعد هذه الورقة من هذا الجزء قد طبع فنقول: إن العصبية عند العرب نسبة إلى العَصَبَة بالتحريك، وهم قوم الرجل الذين يتعصبون له، أي يحمونه ويحامون عنه وينصرونه ظالمًا كان أو مظلومًا، وأصل العصبة أقارب الرجل الذين يرثونه ثم توسعوا فيها، وهي مأخوذة من العصب، وهو شجر اللبلاب الذي يلتوي على الشجر ونحوه. ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أنه يحرم تعصب الظلم للأقارب وللقوم والموطن ويحرم العداوة والشقاق بين المسلمين بتعصب كل فريق لقومه أهل بلده أو إقليمه على إخوانهم في الدين وغيرهم إلا أهل الحرب، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم) رواه الإمام أحمد، ومن المعلوم من الإسلام بالضرورة أيضًا أنه يفرض على أهله عداوة من يعتدي عليهم من الأجانب وقتالهم فقد صرَّح جميع الفقهاء بأن الجهاد يكون فرضًا عَيْنِيًّا إذا اعتدى العدو على المسلمين أو استولى على بعض بلادهم، وهذا دفع للظلم، فمن الجهل الفاضح أن يُحَرَّم عليهم، ويُسْتَدَلَّ على تحريمه بعصبية الجاهلية المنهي عنها في بعض الأحاديث كالذي كان بين الأوس والخزرج من الأنصار رضي الله عنهم، هذا مجمل الجواب عن الأسئلة الثلاثة الأولى. وأما فكرة الوطنية العصرية فهي عبارة عن اتحاد أهل الوطن المختلفي الأديان وتعاونهم على الدفاع عن وطنهم المشترك وحفظ استقلاله، أو إعادته إن فقد، وعلى عمرانه، فهي لا تظهر في جزائر إندونيسية كظهورها في مصر، ونظر الإسلام فيها أنه يوجب على المسلمين الدفاع عمن يدخل في حكمهم من غيرهم ومساواته بهم في الأحكام الشرعية العادلة، فكيف لا يجيز اشتراكهم معهم في الدفاع عن البلاد وحفظ استقلالها والعناية بعمرانها؟ وقد رفع الصحابة رضي الله عنهم الجزية عمن شاركهم من أهل الذمة في الحرب في خلافة عمر رضي الله عنه، كما بيَّنَّاه بالشواهد في الجزء العاشر من تفسير المنار. وأما نوع الوطنية التي يجب أن يتحلى بها الشاب المسلم فهو أن يكون أسوة حسنة لأهل وطنه على اختلاف مللهم ونِحَلِهِم ومشاركًا لهم في كل عمل مشروع لاستقلاله وترقيته بالعلم والفضيلة والقوة والثروة على قاعدة الشرع الإسلامي في تقديم الأقرب فالأقرب في الحقوق والواجبات، وأن لا يغفل في خدمته لوطنه وقومه عن كون الإسلام قد كرَّمَه ورفع قدره بجعله أخًا لمئات الملايين من المسلمين في العالم فهو عضو لجسم أكبر من قومه، ووطنه الشخصي جزء من وطنه الملي وإنه يجب عليه أن يتحرى جعل ترقي الجزء وسيلة لترقي الكل. وأما الوحدة الإسلامية فهي تتحقق ببضع روابط بيَّنَّاها في كتابنا (الوحي المحمدي) وفي تفسيرنا ومنارنا، فراجعوها وراجعوا في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام (ص917) رأيه في الوطنية والدين، وفي الجزء الثاني منه مقالاته في الجنسية وفي التعصب.

مقدمتنا لتصدير كتاب نقض مطاعن في القرآن الكريم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمتنا لتصدير كتاب نقض مطاعن في القرآن الكريم للأستاذ الفاضل الشيخ محمد عرفة وكيل كلية الشريعة بالأزهر والمدرس فيها {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41-42) ، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44) . إن من أكبر مصائب الأمة الإسلامية أن يبلغ بها الهوان في أكبر أمصارها وأشهرها بالعلم، وأرجاها للحياة، أن تعلم أفرادًا من نابتتها من العلم ما ترجو أن يكونوا به جندًا لها ينصرها على من يهاجمها من الأعداء في دينها وشرفها وأدبها، فينقلبوا أنصارًا لأعدائها، ويهاجموها في أمنع معاقلها وحصونها، ويحاولوا هدم ما لم تكن لولاه شيئًا مذكورًا، وإنما به كانت أمة عزيزة شديدة القوى، مرجوة الندى، مرهوبة الشذا، ذات هداية عليا، وتشريع عادل، وحضارة زاهية به دانت لها الأمم الكثيرة، وبه نالت الإمامة والملك، ثم يوجد من حكامها ووزرائها من يكرمهم ويأتمنهم على تربية نشئها، وتعليمه بلغتها، ما هو شر من تعليم المجاهرين بعداوتها، الذين يدعونها إلى الخروج عن دينها، ليتم لهم إخضاعها لسلطان أجنبي، بغير منازع وجداني. كان أجرأ هؤلاء العَقَقَة [1] كاتب بدأ تعليمه في الأزهر في الجامعة المصرية في أول العهد بإنشائها، وصحب في هذا العهد من لقح ذهنه بالإلحاد، ثم أرسلته الجامعة إلى فرنسة ليدرس أدب اللغات فيها، فغذت فرنسة ذلك اللقاح بما ظهر أثره في العمل؛ إذ عاد إليها فجُعِلَ من أساتيذها ثم عميدًا لكلية الآداب فيها، وهو أستاذه الأول في أفكاره، والمُرْكِس له في تياره. حذق في صناعة الكتابة، فكان فيها ذا رشاقة خلابة، ألف كتبًا وأنشأ مقالات دس في بعضها سموم الإلحاد، وفي بعض آخر مخدرات الإباحة والإغراء بالشهوات، فنهد للرد عليه فريق من العلماء والأدباء، حتى ضج في الشكوى منه مجلس النواب في عهد رياسة سعد باشا زغلول فأوشك أن ينتقم منه، ورفع أمره إلى القضاء فكاد يقضي عليه، بَيْدَ أن أنصاره الأقوياء من كبار الوزراء آزروه وظاهروه حتى أنقذوه. ثم قدر الله تعالى أن تخرجه وزارة المعارف من الجامعة في العام الماضي في إثر حملة شديدة جديدة في مجلس النواب، أظهرت للأمة من جنايته على طلبة كلية الآداب فيها ما يرى القراء نقضه في هذا الكتاب. سُرَّ جميع أهل الغيرة على الدين بإخراجه من الجامعة، وإنه ليسرهم أن يسمعوا اليوم من الأزهر الشريف صوتًا جهوريًّا في نقض ما أذاعه مجلس النواب من طعن هذا الكاتب على القرآن العظيم، صوت عالم أزهري، وأديب عصري، وكاتب مجيد غير سياسي، ينقض هذه المطاعن الأخيرة، وأن يصدر نقضه لها عن دار المنار، التي أُسِّسَتْ من أول يوم لخدمة الإسلام، فكلانا بريء من سياسة الأحزاب فلا نحن من أحزاب الحكومة ولا من أحزاب المعارضين لها، ولا من خصومهم ولا من خصومها، وإنما ننصر ديننا، ابتغاء مرضاة ربنا، فيما يجب علينا لأمتنا ودولتنا. ونتمنى لو يصرح هذا الطاعن بأن جميع ما صدر عنه من الطعن على القرآن قولاً في الدرس، وكتابة في الطرح، كان باطلاً، وأنه رجع عنه وتاب منه. وأنه يؤمن بأن القرآن كلام الله كله حق {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} (فصلت: 42) فإن ما نقل عنه من أنه قال: إنه يؤمن بالله ورسله لا يكفي في صحة توبته مما ذكر، على أن هذه المطاعن التي ألقاها في دروسه كانت بعد تلك الكلمة التي كان سببها تحقيق النيابة العامة معه في مطاعن كتابه (في الشعر الجاهلي) . اختار الأستاذ صاحب هذا النقض للمطاعن الأخيرة أن يطبعه في مطبعة دار المنار لأنها أحق به، وأجدر بنشره، بل رغب إليَّ أن أشركه في أجره، بالوقوف على تصحيحه، وبما يَعِنُّ لي من تعليق عليه، وبمقدمة تصدير له، فأقرن كلمه الطيب بكلمي، وأعزز قلمه البليغ بقلمي، وإنها لرُغْبَى محبوبة للمؤمن بالطبع، ومظاهرة على الحق واجبة في الشرع، وتعاون على البر والتقوى، أمرنا الكتاب العزيز بها، وهو قد وفَّى النقض للمطاعن الجديدة حقه، وقَفَّى عليه بما كان من رد له على ما قبلها من خطيئاته، فأدى الواجب في جزئيات المطاعن الخاصة، وزاد عليه، وليس عليَّ إلا أن أقول كلمة وجيزة في النازلة وأهلها من الوجهة العامة. النابتة العصرية من الكُتَّاب: نبغ في الربع الثاني من هذا القرن الهجري نابتة من كُتَّاب الأدب والسياسة والتاريخ، اقتفوا أثر الإفرنج في الأساليب، وما يسمونه النقد التحليلي في الكتابة، ومزج الكلام بالنظريات الحديثة والمسائل العلمية، فكان لما يكتبون رواج ووقع حسن عند جميع المتعلمين على المناهج الحديثة، وأصاب بعضهم به شهرة بما تنشره لهم الجرائد التي يؤيدون سياستها، وما تقرظه من مصنفاتهم، ناعتة إياهم بأجمل النعوت، والألقاب المحببة إلى النفوس، وناهيك بدعوى تجديد حضارة الأمة، وقيادتها إلى حيث تساوي أمم الإفرنج في عظمتها، وتمتعها بزينة الدنيا وطيباتها. وإن لبعض هؤلاء الكُتَّاب مصنفات حرة مستقلة، وهم الذين يخدمون العلم والتاريخ والأدب بباعث حب التحقيق، وإن لبعضٍ آخر أهواء سياسية وإلحادية، لمنافع لهم شخصية، على ما بيَّنَّاه في المنار بالتفصيل، أشرنا إليه آنفًا بالإجمال، وهو موضوع كلامنا هذا، وشره وأضره الطعن على القرآن الحكيم. إذا كان يوجد في الأوربيين من يتمحل الطعن على الإسلام، ولا يتنزه عن التسامي إلى انتقاد القرآن، فلهم على ذلك باعثان: باعث ديني وباعث سياسي. وذلك بأنهم رأوا أن الإسلام قد غلب النصرانية على أمرها في الشرق، وكاد يغلبها في الغرب أيضًا، بعد اعتزاز دولها، واستبحار ثروة كنائسها وإحكام نظمها، فلم يجدوا وسيلة لصد تياره عن بلادهم، وسلبه لملكهم وتعريبه لشعوبهم إلا بمحاربته بالافتراء عليه والطعن فيه، وبقتال أهله بالسلاح، ثم بالسياسة، فأحكموا نظام الحربين بعد التمهيد لهما بتربية الشعوب النصرانية على بُغْض المسلمين، وتلقينهم في البيوت والمدارس أن الإسلام هو العدو الأكبر للمسيحية، وما هو إلا أخو المسيحية وصديقها، والمُدَافع عن حقها، والمتمم لإصلاحها، والمبرئ لنبيها عليه الصلاة والسلام من طعن المفترين وشطط الغالين. ويوجد منهم قوم آخرون لا يدينون بدين، وقد رأوا من معجزات القرآن ومن أنزل عليه القرآن في العلم وهداية البشر وإصلاح شئونهم ما يلجئهم إلى الإيمان والإذعان؛ إذ لم يجدوا لهذه المعجزات تأويلًا ينظمونها به في سمط السنن الكونية، فتكلفوا التأويل لها؛ لإبطال كونها من خوارق العادات والآيات الإلهية، فهذه أسباب طعن الإفرنج ومريديهم وتلاميذهم من النصارى والملاحدة. وأما المسلم فلا يعقل أن يبعثه شيء على الطعن في كتاب الله وفي هدي رسوله، صلوات الله وسلامه عليه وآله، وهو برهان الكفر والردة، وكبرى الجنايات القاتلة لهذه الأمة، فإن خفي عليه برهان شيء من عقائده، أو صحة شيء من آياته، وجب عليه أحد أمرين: إما الجد في طلب العلم بالبحث عما جهل والسؤال عنه، وإما تفويض الأمر في ذلك إلى الله تعالى. بيد أن في المسلمين الجغرافيين زنادقة منافقين، وإن منهم ملاحدة شاكِّينَ، وإن من زنادقتهم غاوين مشككين، يستخدمهم شرار أعداء الإسلام الدينيين والسياسيين، وإن منهم من يزدلف إليهم بالتشبه بهم، وبدعوى (التنور) وحرية الفكر والفلسفة، وإن من النابتة والعامة من ينخدع بشبهات هؤلاء وأولئك، وتغره دعايتهم بما يزينها من خلابة القول، ووهم التجديد العصري، والانسلاخ من تقاليد القديم الذي يصفونه بالخلق البالي، وإن كان كالفلك لا تخلق جدته، وكالشمس والقمر لا تبلى محاسنه، ولا ينطفئ نوره، وهو القرآن الحكيم. وإن لهذا التجديد دعاة من ملاحدتنا يوهمون الدهماء في بلاد الإسلام العربية والأعجمية أن الإفرنج ما صاروا أقوى منا وأرقى ثروة وحضارة، وتمتعًا باللذات والشهوات، إلا بالانسلاخ من الدين، فأول ما يجب علينا أن نفعله إذا أردنا أن نكون مثلهم أن نتجرد أولاً من ديننا، فنكون إباحيين عبادًا لشهواتنا، ثم نطلب علومهم وفنونهم فنكون مثلهم، وهذا غش وخداع بالكذب والبهتان، فهم أشد من شعوب الشرق كلها إحكامًا لربطتهم الدينية وعناية بتعليم الدين ونشره، وبذل الملايين في سبيله [2] . ولكن لهؤلاء الدعاة للإلحاد والإباحة شبهات من فلسفة الإفرنج وأصول النقد عندهم يروجون بخلابتها الطعن على القرآن بما يفترون عليه، فنحن نشير إليها أولا ونُقَفِّي عليها ببطلان بناء نقدهم على قواعدها، فإذا هي وأهلها كمن قال الله تعالى فيهم: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} (النحل: 26) قواعد النقد العصري من أصول النقد العلمي الفلسفي للكلام الذي يسمونه النقد التحليلي أن يعرف أولا تاريخ صاحبه في مزاجه وتربيته الدينية والأدبية، وقومه وعشرائه، ووطنه وحكومته، وأخلاقه ومعيشته، وأهله وولده، وعوارض حياته، وأطوارها الاجتماعية والسياسية والشهواتية وغيرها، فمن المعلوم بالطبع والعقل أن كل ما يعرض لإدراك الإنسان ووجدانه يكون له أثر في كلام صاحبه. فلو كان الإنسان مفطورًا على الصدق وألا يقول إلا ما يعتقد، وألا يكتم شيئًا مما يعتقد، وعلى التوفيق بين اعتقاده وما يعارضه من شعوره ووجدانه، من حب وبغض، وخوف وطمع، لكان طريق النقد التحليلي للكلام مُعَبَّدًا مستقيمًا قَلَّمَا يضل سالكه أو يعثر. ولكن الإنسان خلق قادرًا على الصدق والكذب، وعرف من سيرة أفراده أنهم يتبعون أهواءهم ومنافعهم، في كلامهم فيرجحون بها الكذب على الصدق، أو إخفاء الحق على إظهاره، إما لجلب منفعة أو لدفع مضرة، إلا من كان له عقيدة دينية أو حكمة عالية تعصمه من الكذب الصريح ولو بالتأول، وقليل ما هم. ولذلك قال بعض الأذكياء: إنما وظيفة اللسان في الإنسان إخفاء الحقيقة عن الناس، ولا ريب في أن الشعراء وكُتَّاب السياسة المكتسبين بشعرهم هم أبرع الناس في الكذب والإفك، وإبراز الباطل في صورة الحق، والرذيلة في ثوب الفضيلة، والعكس. فهذه مَدْحَضَةٌ من مداحض النقد التحليلي في الناقدين والمنتقدين، تتيح لصاحب البصيرة أن يظهر خطأ هؤلاء الكتاب عندنا في كثير مما قالوه ويقولونه في تراجم شعراء العربية ونقد رجال السياسة. ومن هذه المداحض بعض ما يضعونه من الأصول والقواعد الواهية لطبائع الأمم وأحوالها الاجتماعية ويرجعون إليها في نقدهم، كالذي كانت الشعوبية تقوله في ذم العرب، ومنه بعض ما قاله الحكيم ابن خلدون بسريان دعايتهم في رأيه على استقلاله فيه، وبنى عليه زعمه أن أكثر حملة العلم في الإسلام من العجم، دع ما تخرص به بعض علماء الإفرنج من المستشرقين وغيرهم في هذا الباب، وهو ما يعتمد عليه مقلدتهم منا في نقدهم التحليلي، تراهم يعرفون بداوة العرب ويجهلون حضارتها القديمة

الإسلام ووثنية الهند وزعماؤها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإسلام ووثنية الهند وزعماؤها مقابلة ومقارنة ومفاضلة في التوحيد والتصوف بمناسبة شهرة غاندي في العالم الفصل الأول (1) الإسلام نشأته الأولى وحاله اليوم: الإسلام دين ودولة، ملة وأمة، ساد العالم بيسر تعاليمه الدينية وسماحتها وقلتها وموافقتها للفطرة، وبعدل دولته العام، ومساواته بين البشر في الأحكام، وجعل السلطان فيه للأمة التي تختار لنفسها الإمام، ويعد إجماعها من أصول الأحكام، فتح بهذه المزايا ثلاثة أرباع العالم القديم في ثلاثة أرباع قرن تقريبًا، واهتدى به عشرات الملايين فيه من جميع الأمم باختيارهم قبل أن يتم القرن الأول. بيد أنه ابْتُلِيَ بعد عصر النور المحمدي وعصر الخلفاء الراشدين المهديين ببدع تغلغلت في تعاليمه وتربيته الدينية بالتدرج فَكَثَّرَتْهَا وعَقَّدَتْهَا حتى جعلتها أضعاف ما جاء الرسول الرءوف الرحيم عن رب العالمين، وجعلتها حَرَجًا لا يطاق احتمالها، وسرت سموم فسادها في دوله فجعلتها استبدادية، وسلبت منها سلطة الأمة على خلفائها وسلاطينها، بتأويلات رجال الدين والشرع وتحريفهم لها؛ لأجل أن يشاركوا الحكام في السيادة عليها واستغلال ثروتها، ولكن انتهى بهم ذلك إلى عصر ما عاد يطيق فيه الحكام أحكامهم فصاروا يبعدونهم من مناصب السياسة، ويحرمونهم من منصات الرياسة، إلا أفرادًا منهم يخضعون العوام لنفوذهم، ثم أدى ذلك إلى ترك بعض أحكام الشرع الإسلامي نفسه، ثم إلى ترك بعضهم له كله أصوله وفروعه. قام في الأمة رجال مصلحون يدعون الأمة إلى الرجوع إلى دينها الذي وصفه الله باليسر وبرَّأه من الحرج، وترك كل ما عرض لأهله من الخرافات والبدع، وإلى استعادة حقها في المراقبة على حكامها، والشورى في أحكامها، فناوأهم زعماء البدع والخرافات من ناحية، وأرباب الاستبداد من ناحية ثانية، وما زالت الحرب بين الفريقين سِجَالاً في جميع الأقطار الإسلامية، لم يستطع قطر منها، ولا شعب أن يبلغ من الإصلاح العام، ما بلغته أوربة واليابان، ولا وثنيو الهند في هذه الأيام، وسبب ذلك أن السواد الأعظم من شعوب الأمة لم يبلغ من الرشد أن يفقه ما دعاه إليه المصلحون فيؤلف لهم عصبية تنصرهم على المبتدعين الخرافيين، وعلى المستبدين المستكبرين، ولذلك كان الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى يقول: يا وَيْح الرجل الذي ليس له أمة. إن شئتم أيها المسلمون أن تفقهوا كلمة هذا الإمام المصلح الكبير فقد ضرب الزمان لكم أكبر مثل لفقهها، ترونه بأعينكم، وتسمعون أخباره كثيرًا في صحفكم، وهو زعيم الهند الكبير المهاتما غاندي. (2) زعيم الهندوس وزعيما الإسلام وأمة كل منهما: أتظنون أيها المسلمون أن غاندي أوسع من السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري علمًا بما تصلح به الأمم وتعتز وتنال حقوقها؟ أتحسبون أنه أشد غيرة على قومه ووطنه منهما على أمتهما وأوطانهما؟ أتحسبون أنه أقوى منهما إيمانًا، أو أقوى حجة وبرهانًا، أو أجرأ جنانًا وأفصح لسانًا؟ أتتخيلون أنه أقوى منهما إرادة، أو أصح عزمًا وأشد حزمًا؟ أم تذهبون إلى أن سبب فوزه في سياسته، سخاؤه ببذل روحه في سبيل أمته (وهو آخر ما أعجب به العالم من أخباره) وأنهما كانا يبخلان بها في سبيل أمتهما؟ كلا إن كل هذه الفروض والظنون والأوهام بعيدة عن ساحة حكيم الشرق والأستاذ الإمام، فطالما عرَّضَا حياتهما للموت والقتل، بل يعتقد أكثر الناس أو جميعهم أن أولهما قد قتل بالسم قتلا، ويظن بعضهم أن الثاني كذلك، ويرى أكثرهم أنه قتل قهرًا. وكان على الرأي الأول مستر ألفرد بلنت صديق الإمام، كما صرَّح به في مذكراته التي نشرت بالعربية في العام الماضي. وأما هذا الوصال في الصيام الذي يصومه غاندي على دينهم في تعذيب الجسد لتربية النفس فقد حرَّمه وأبطل قاعدته الإسلام الذي أعطى الجسد حقه والروح حقها، على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل في الصيام وينهى عنه، ويعلل وصاله بأن الله تعالى يطعمه ويسقيه، أي يعطيه قوة الطاعم الشارب كما قالوا. على أن هذين الإمامين المجددين قد فعلا لأمتهما وأوطانها ما لم يفعل غاندي لأمته ووطنه: هما اللذان نفخا فيها روح الإصلاح الديني والسياسي والأدبي فسرى في جميع شعوبها ولكنه لما يبلغ كماله بعدُ، إنما ظهر غاندي في أمة فيها ألوف من رجال التعليم العالي والتربية الصوفية المبنية على الإيمان بوحدة الوجود، وقوة الإرادة وبذل المال والنفس فيما توجبه العقيدة، مع ثروة واسعة، وجمعيات منظمة، فوجه إرادته إلى إكمال ما بدأ به غيره من السعي للوحدة والاستقلال. وأما أمتهما الإسلامية فكانت عند ظهورهما معتلة منحلة، ليس فيها تربية دينية ولا سياسية، ولا جمعيات إصلاحية، وإنما كان التعليم الديني مناقشات لفظية في عبارات كتب هي أبعد عن العلم الصحيح من كل ما كتب سلفهم في عصر حياة العلم، وكان أهل هذا التعليم العقيم في عزلة عن العالم لا يشعرون بشيء من أطوار الأمم في ترقيها وتدليها، وقوة دولها وضعفها، وما تجدد لها من التربية والتعليم والتشريع المُوجِب للتجديد. وكان تعليمها المدني قاصرًا على فئة قليلة تعلم؛ لتكون آلات وأدوات في معمل الحكومة. يمتاز غاندي ويَفْضُل جميع زعماء قومه بجمعه بين الزعامتين الدينية والسياسية، وفي كهنتهم من الصوفية من هم أعلم منه بالدين وأشد انقطاعًا للتنسك فيه، وفي زعمائهم السياسيين من هم أعلم منه بالقوانين وسنن الاجتماع، ولكن الجمع بين الدين والدنيا إيمانًا وعلمًا وعملاً هو الذي آتاه من القوة والتأثير في جمهور أمته ما لم يؤت أحد من هؤلاء، ولا من أولئك، وبقدر استمساك أمته به واتباعهم له كان تأثير نفوذه في الدولة البريطانية، فهي في كل بلاد تملكها أو تستعمرها تحترم رجال الدين والدنيا وتستميلهم إليها بقدر نفوذهم في شعوبهم، فما القول فيمن يجمع بين النفوذين الروحي والسياسي؟ على أنها لم تر بُدًّا من سجنه، ومنع قومه من لقائه. ولقد كان كل من زعيمي الإسلام الأفغاني والمصري عالمًا دينيًّا، وصوفيًّا روحانيًّا، وعالمًا بكل ما يحتاج إليه الإصلاح العام من علم الدين وفلسفة النفس والأخلاق وسنن الاجتماع وعِبَر التاريخ، وكان كل منهما كاتبًا بليغًا، وخطيبًا مفوَّهًا، ولو وجدا في الأمة الإسلامية ما وجد غاندي من قومه الهندوس لكان ما أحدثاه من الانقلاب تامًّا كاملاً في شعب مستقل أتم الاستقلال، ولكان ذلك يسري إلى سائر الشعوب الإسلامية كما كانا يريدان. (3) اقتباس غاندي الإصلاح الذي دعا إليه الأفغاني: فالعبرة لنا معشر المسلمين في هذا الفوز الكبير لوثني الهند أن نعلم أن الإصلاح الذي تكون به الأمة عزيزة مستقلة لا بد أن يكون دينيًّا دنيويًّا، ونحن أولى بهذا من الهندوس؛ لأنهم إنما أخذوه عنا، ألم تروا أن زعيمهم الأكبر (غاندي) قد صرَّح أخيرًا بأنه يتشبه بنبينا وبعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام، ألم تَرْوِ لنا جرائدنا عنه في العام الماضي أنه نصح في بورسعيد لمن زاره من طلاب العلم بمصر من إخواننا مسلمي الهند أن يتشبهوا بالخلفاء الراشدين في سيرتهم العالية، ولا سيما تقشفهم وعدم مبالاتهم بالشدائد؟ ألم تنقل لنا قبل ذلك جرائد الهند فسورية ومصر ما أثنى به على نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى دين الإسلام القويم وشهد بأنه حق وأمر قومه بأن يدرسوه باحترام ويحبوه، (وقد نشرنا ترجمة قوله في الجزء الثاني من منار السنة الماضية المجلد 32) . ألم تعلموا أن انقسام الهندوس إلى طبقات بعضها مقدس وبعضها رجس وبعضها بين بين، هو من أصول دينهم، وأن الإسلام هو الذي جاء بالأخوة العامة وبالمساواة بين جميع البشر وعدم التفاضل بينهم بالطبقات والأجناس والتقاليد، بل بتقوى الله وهي معرفته والتقرب إليه بتزكية النفس بالعبادات والفضائل، بعد التخلي عن الشرك والرذائل؟ وأن هذا الذي يدعو إليه غاندي الآن هو من إصلاح الإسلام؟ ولقد دعانا المصلحان المجددان الأفغاني والمصري من قبله إلى الجمع بين الإصلاح الديني الروحي والدنيوي المدني والسياسي، دعوانا بأن نكون وسطًا بين الدجالين الخرافيين الدينيين، والمتفرنجين الماديين الإباحيين، وضربا لنا على ذلك الأمثال، وأقاما الحجج والبراهين، بأنه سبيل الفوز والفلاح في الدنيا والدين فحزبهما هو الحزب الوسط الذي اعترف بسداده عقلاء الأوربيين، وبأنه لا يرجى بدونه حياة ولا استقلال المسلمين، كما بينا ذلك مرارًا في المنار، وفيما بسطناه من سيرتهما في الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام، ولا سيما فاتحته وخاتمته. (4) الدين عندنا وعند الهندوس والوثنية: المعروف عند المسلمين بالإجمال في كل العالم أن دين الإسلام دين التوحيد الخالص، وأن دين الهنود من البراهمة والبوذية والسيخ وكذا البرس وغيرهم أديان شرك ووثنية، وأن دين أهل الكتاب دين توحيد طرأ عليه ابتداع الشرك والوثنية. ويقل في المسلمين من وصل علمه في هذه الأديان إلى تفصيل لهذا الإجمال ولا سيما مسلمي العرب والترك والفرس، وقد يوجد من يعلم هذا في علماء الهند الذين اطلعوا على أديان أقوامها وتاريخها ولا سيما مذهبهم في التصوف وتربيتهم عليه. إن التوحيد هو أصل دينهم أو أديانهم أيضًا، وقد طرأت عليه الوثنية طروءًا، ولهم فيها فلسفة تجتمع مع وحدة التجلي والشهود ووحدة الوجود عند صوفيتنا، وقد سرى ضرب من وثنيتهم ووثنية غيرهم من أهل الأديان القديمة التي أصلها التوحيد إلى أكثر النصارى وضرب منها إلى مبتدعي المسلمين الذين نراهم عند الشعور بالحاجة إلى السلطان الإلهي الغيبي الأعلى لجلب نفع أو دفع ضر من غير طريق الأسباب يتوجهون إلى غير الله من الصالحين، فيدعونهم ويستغيثون بهم، إما وحدهم وإما لتوسيطهم عند الله بما يسميه عوامهم سوقًا أو سياقة فيقولون: يا سيدي فلان أنا سايقك على الله أو على النبي ويسميه خواصهم توسلاً. وقلما يوجد بين هذين الفريقين من يتوجه إلى الله وحده مخلصًا له الدين كما أمر الله تعالى في آيات الأمر باتباع الحنيفية ملة إبراهيم وهو التوجه إليه وحده دون سواه، وفي دعاء افتتاح الصلاة المقتبس منها (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين) إلخ. (5) طغمة الدعاة لعبادة القبور باسم التوصل: ويوجد من أصحاب العمائم من يدعو إلى ذلك التوجه المشترك المنافي للحنيفية، ويحتج له بأن الذي يدعو غير الله من أحبابه إنما يقصد بدعائه إياهم واستغاثته بهم تقريبهم إياه إليه عز وجل. قال بعضهم في توجيهه من كتاب ألفه للدعوة إليه: وكل ما في الأمر أنه يرى نفسه مُلَطَّخًا بقاذورات المعاصي أبعدته الغفلات عنه تعالى أيما إبعاد، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه وقضاء حاجاته، وله الحق في هذا الفهم فإن الله تعالى إنما يتقبل من المتقين، وشؤم المعاصي معروف أثره في الحرمان من الخيرات) إلخ ما قال، وقرر أن الدعاء والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم أحياء في قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها، وفي خارجها، وأدخل هذا في باب الكرامات، التي جعلوها عملا كسبيًّا لهم جاهلين لمعنى كونها من خوارق العادات، وواطأه على ضلاله وإضلاله 63 عالمًا أزهريًّا كما ادعى و

تعليق على خطبة ملك المملكة العربية السعودية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تعليق على خطبة ملك المملكة العربية السعودية التي لخصناها في الجزء الماضي إن ما قرره هذا الملك العربي الهمام من أسباب ضعف المسلمين وتفرقهم هو الحق الواقع الذي لا يقبل المراء ولا المكابرة، وإن ما ذكره من نعم الله تعالى عليه بالإمارة والملك وحب قومه وطاعتهم له صحيح يعرفه له ولهم كل من له وقوف على تاريخه فيهم، وكذلك ما قاله من حبه للسلم والوفاق، ومن دلائله اتفاقه مع سيادة إمام اليمن حتى إذا ما وقع الخلاف على جبل عرو حكَّمَه الإمام يحيى فيه فحكم على نفسه، وترك ذلك الجبل الحصين له، وكان هذا الحكم موضع إعجاب الشعوب العربية والأعجمية، واستغراب الدول الغربية. وكذلك قوله: إنه مسلم سلفي يدعو إلى الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون، والأئمة المجتهدون، فهو حق تشهد له به خطبه وسيرته في أحكامه بقدر استعداده واستعداد علماء بلاده، على انتقاد يوجه إلى بعض رجال حكومته، منه ما خوطب به ومنه وما لا يحيط به علمًا، ومنه ما يقول: إنه ضرورات قضى بها ضعف الأمة وضعف استعدادها، وكثيرًا ما أشرنا إلى هذا في المنار، وفصَّلْنَاه لجلالته في المكتوبات الخاصة. وأما الشيء الجديد المهم في الخطبة فهو قوله: (أنا مبشر أدعو لدين الإسلام ولنشره بين الأقوام) فهذا نعده وعدًا منه لا يمكنه إيفاؤه إلا بتأسيس جماعة ومدرسة للدعوة والإرشاد كالذي سبق لنا في مصر، والذي قرر مثله المؤتمر الإسلامي الذي عقد في العام الماضي في بيت المقدس. وكذلك قوله: إنه يبذل كل مجهوداته لتوحيد الأمة العربية وجمع كلمتها، فهو وعد تطالبه به الشعوب العربية عالمة أنه أقوى دولها وحكوماتها، وأن مقامه في قلب جزيرتها من الحجاز ونجد يعطيه من قوة المركز ما يزيد قوة جيشه أضعافًا مضاعفة، وحسبنا من قوة جيشه وتأمين بلاده، وحفظ مركزه من التعدي الخارجي وتمكنه من العمل، وإنما يعوزه العلم والمال وهما مما يأتي به الرجال، إذا صحت النية ووضع النظام لكل عمل من الأعمال، ومتى وثق المسلمون بهذا فإن عربهم وعجمهم يبذلون له ما يستطيعون من المساعدة، وفقه الله تعالى ووفق سائر المسلمين لإحياء مجد الإسلام.

مسألة التجنيس الفرنسي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مسألة التجنيس الفرنسي أتى على دولة فرنسة قرن كامل منذ تم لها الاستيلاء على قطر الجزائر الإسلامي، وهي تدبر المكايد لتحويل أهله عن دينهم، وكان الطريق المعبد لها ولغيرها من دول الإفرنج الدعوة إلى النصرانية التي يسمونها (التبشير) ولهم فيها فنون وشؤون، والتعليم المدرسي، وهو قسمان تبشيري وإلحادي، والتعليم لا يفيد إلا في الأحداث، لذلك ابتدعت فرنسة طريقين آخرين لتحويل المسلمين الكبار الراشدين عن الإسلام، آخرهما انتزاع شعب البربر المسلم من الإسلام بالقوة العسكرية القاهرة، وهو قريب العهد، وأولهما تجنيسهم بجنسيتها الذي يكون لصاحبه جميع ما للفرنسي الأصلي من الحقوق القانونية وعليه ما عليهم. وهو موضوع حديثنا في هذا الفصل، ومقتضى هذا التجنيس أن يمرق المسلم من جنسيته الإسلامية ويؤثر أحكام القانون الفرنسي على أحكام كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في النكاح والطلاق والإرث وغير ذلك، وهو ارتداد عن الإسلام صريح لا يحتمل التأويل، ولذلك لم يكن يقدم عليه إلا من لا حظَّ له من الإسلام إلا التسمية بالأعلام التي لا تزال خاصة بالمسلمين كمحمد ومحمود ومصطفى، وإنما يقدم عليه من غير المارقين المنافقين من لا يعلمون في الغالب أنهم يكونون به كفارًا خالدين في جهنم، فإن سلطان الإسلام على قلوب البشر يمنع أجهلهم بعقائده وأحكامه أن يؤثر عليه غيره، ويرتد عنه ارتدادًا يكون به عدوًّا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويحرم على المسلمين أن يزوجوه مسلمة وأن يدفنوه في مقابرهم، حتى لا تجاور روحه النجسة أرواح موتاهم الطاهرة، فكان الجاهل بهذه الأحكام وبما هو أشد منها في الإسلام يرى بأنه يمكنه أن يتجنس بالجنسية الفرنسية ويظل مسلمًا، وأن هذا ليس إلا ذنبًا يمكن أن يغفره الله له بالكفارات وغيرها؛ لأنه لم يرغب فيه إلا ليدفع عن نفسه ظلم حكومته للمسلمين وإرهاقها لهم في أمور دينهم ودنياهم، ويتمتع بمساواة الفرنسيين في حقوقهم، على أن هذه الحقوق لا تكون تامة له، وإن عادى المسلمين، وعبد المسيح وأمه والقديسين، أو كفر كملاحدتهم بالله وملائكته وكتبه ورسله أجمعين. ثم إن فرنسة أدخلت خديعة التجنيس في المملكة التونسية منذ عشر سنين كما ذكرنا مخالفة في ذلك شروط الحماية المعقودة بينها، وبين حكومة باي تونس ومنها المحافظة على جنسية التونسيين الإسلامية، ولكنها رأت أن الذين يقبلون جنسيتها من أهل تونس أقل ممن يقبلونها من أهل الجزائر؛ لأن التونسيين أعلم بأحكام الإسلام من الجزائريين، ولهم حكومة ملية صورية، فحاولت حمل الناس عليه بقوة السيطرة الرسمية، فخذلت إذ كان فعلها إيقاظًا للشعب كله، فهب يدافع عن دينه، فقاومته حكومة الحماية بقوتها، وقوة الحكومة المحلية التي هي آلة بيدها، فلم تزده القوتان الرسميتان إلا شجاعة وإقدامًا وثباتًا، سنة الله في يقظة الشعوب من رقادها بالاضطهاد والقهر. دفنت السلطة متجنسًا بعد آخر في مقابر المسلمين بالقوة العسكرية، وبنت قبورهم بالأسمنت والحديد كما تبني الحصون الحربية، وجعلت لها حرسًا من الجند شاكي السلاح، فدرى بالكارثة من لم يكن يدري من العوام والخواص، ففهم الشعب المؤلف من ميلوني مسلم أنه يراد إخراجه من دينه بالقوة القاهرة، فهاج هيجة عامة لم يبال فيها ما تكون العاقبة، قيل له: إن الحكومة أصدرت فتوى شرعية من شيخي الإسلام شيخ الجامع الأعظم، وهو المفتي المالكي ومفتي الحنفية فزاده ذلك هياجًا؛ لأن مسألة ارتداد المتجنس بالجنسية الفرنسية صارت عنده من المسائل المعلومة بالضرورة لما سبق لنا ولغيرنا من الإفتاء بذلك من قبل ولإفتاء بعض علمائهم وعلماء الشرق في هذا العهد، والشعوب الإسلامية لا تقيم وزنًا للعلماء الرسميين الذين يرونهم آلات في أيدي الحكومات الإسلامية، ولا سيما الخاضعة لنفوذ أجنبي، وناهيك بالخضوع للنفوذ الفرنسي. كان أعظم مظهر لهيجان الشعب التونسي إضراب طلاب العلم في جامعة الزيتونة الأعظم وأكثر شيوخهم عن الدروس، ومشاركتهم لسائر الأهالي في الإنكار بالمظاهرات وكانت المظاهرات العامة عظيمة، وكانت الخطب والأناشيد التي ألقيت فيها جد مؤثرة، أنذرت الحكومة الزيتونيين وغيرهم بطشتها بهم فتماروا بالنذر، ولم يبالوا العقاب المنتظر، وأنشأت محكمة عرفية لعقابهم بالفعل فما زادتهم إلا إقدامًا وإيمانًا، وإنه ليجب علينا أن نوجه نظر الأمة الإسلامية في هذه المسألة إلى قضيتين: إحداهما دينية تعبدية، والثانية إسلامية سياسية شرعية. مسألة التجنس من الوجهة الدينية التعبدية: فأما الدينية المحض فإنني أرى بعض المسلمين قد شبه عليهم الحكم كون تجنس المسلم بالجنسية الفرنسية ونحوها يُعَدُّ ردة ومروقًا في دين الإسلام ويرجحون أنه معصية من كبائر المعاصي التي يمكن أن يقترفها صحيح الإيمان، كالزنا والسرقة وشرب الخمر وغيرها من الكبائر التي يتحامى أهل السنة تكفير المسلم بها؛ إذ يقولون في كتب العقائد: ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب، وأن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حيث يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وهو متفق على صحته يجب تأويله بنفي الإيمان الكامل أو بغير ذلك. وقد قال لي أحد أصدقائي من فضلاء المسلمين: إذا كان الذي يقبل الجنسية الفرنسية أو غيرها من جنسيات الدول غير الإسلامية يُعَدُّ كافرًا فلا يصح إسلام أحد من الذين يسلمون في أوربة وأمريكة وهم كثيرون ويزدادون في هذه السنين عامًا بعد عام، وإن لي أصدقاء منهم أثق بصحة إسلامهم وكانوا يرجعون إليَّ في كثير من مسائل العبادات والأحكام الإسلامية التي تخفى عليهم إذ كنت بينهم. قلت له: إن الفرق عظيم بين الفرنسي الأصلي المقيم في بلاده تحت سلطان دولته إذا أسلم، وكان قانون دولته يكرهه على أحكام غير أحكام الإسلام، وبين المسلم الأصلي الذي يختار لنفسه ترك أحكام الشرع حتى المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة ويستبدل بها أحكام الجنسية التي يختارها عليها. إن صفة الفرنسي الذي يهتدي إلى الإسلام أنه قد آمن بعقائده وأخذ بعباداته، وفضل شريعته على كل ما يخالفها من شرائع دولته، فيجب عليه العمل بكل ما يقدر عليه منها وما يعجز عنه وأمكنه أن ينفذه بصورة لا تعارضها حكومته فعل، كالوصية بجعل تركته من بعده لوارثيه الشرعيين في حكم الإسلام، وما عجز عنه من كل وجه يكون معذورًا فيه. وأما صفة المسلم الذي يختار الجنسية الفرنسية وأمثالها على الإسلامية فهو أنه قد فضَّل شرع المكذبين لله ولكتابه ولرسوله خاتم النبيين على شرع الله، وآثر الاعتزاز بهم على الاعتزاز بدين الله، وأعان المعتدين على المسلمين في دينهم وشرعهم وملكهم فيما يبغونه منهم، وما يبغون إلا محو الإسلام من الأرض دينًا وتشريعًا وسلطانًا، وجعل الآخذين به عبيدًا أذلاء لهم، وهذا عين وَلاَيَتهم التي نهى الله تعالى عنها وقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: 51) فأنى لمسلم أن يجعله من المسلمين بعد إخراج الله تعالى إياه منهم وجعله من أعدائهم؟ ومن هذا الوجه كتبت عند البحث في هذه المسألة أول مرة أن الذي يقبل هذه الجنسية مختارًا عالمًا بمعناها وأحكامها لا يكون مرتدًّا عن الإسلام بقبولها، بل لا بد أن يكون كافرًا بما جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه من قبلها. فإن المؤمن الموقن لا يمكنه أن يفعل ما ينافي إيمانه عامدًا متعمدًا، وأما المعاصي التي قال علماء السنة: إنها لا تنقض الإيمان فهي ما يفعله المؤمن بجهالة من ثوران شهوة أو غضب عليه تنسيه وعيد الله تعالى على الذنب، أو تضعف عزيمته أن تتغلب على هوى النفس، كما قيل في تأويل حديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) إلخ وتأويل معصية آدم إذ قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه: 115) حتى إذا تذكر الوعيد، دفعه عنه بضرب من التأويل، كالرجاء في المغفرة، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} (النساء: 17-18) فليراجع ما كتبناه في أحكامهما من الجزء الرابع من تفسير المنار من شاء. والآيات التي تدل على كفر هذا المتجنس من كتاب الله تعالى غير آية التولي التي أشرنا إليه آنفا، وما في معناها كثيرة أظهرها في هذا المقام قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ} (النساء: 60) الآيات، فهي صريحة في أن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وهو كل ما يخالف حكم الله من أحكام المخالفين إنما هم منافقون غير مؤمنين بما أنزل الله وإن لم يتحاكموا بالفعل؛ لأن الإرادة وحدها تنافي الإيمان، فكيف إذا نفذها مريدها بالفعل تنفيذًا دائمًا؟ فراجع تفسيرها في الجزء الخامس من تفسير المنار. ومنها قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) فإن هذا المتجنس مشاق للرسول باختياره شرع الأجنبي على شرع الله على لسانه، ومتبع غير سبيل المؤمنين في أزواجهم من زواج وطلاق وما يتعلق بهما، وفي فرائض المواريث وغير ذلك من الأحكام الشخصية والمدنية، بل هو بهذا التجنس راضٍ ببذل ماله ونفسه في قتال المسلمين إذا دعته دولته إلى ذلك وهي تدعوه عند الحاجة قطعًا. ففي المسألة أحكام كثيرة مجمع عليها معلومة من دين الإسلام بالضرورة يستحل المتجنس مخالفتها، واستحلالها كفر بالإجماع، والأصل في الاستحلال عدم المبالاة بأمر الله ونهيه لا النطق باللسان فقط، وقد قال الفقهاء: إن من اعتقد قبح شيء من هذه الأحكام القطعية أو فضَّل غيرها يكون مرتدًّا عن الإسلام، وهذه مسألة في غاية البداهة. مسألة التجنس من الوجهة الشرعية السياسية: وأما القضية السياسية الإسلامية في المسألة، وقد أشرنا إليها في عرض الكلام فنوجز الكلام فيها كالقضية الأولى ومجال التطويل فيها أوسع فنقول: إن الإسلام دين روحاني، ونظام دولي اجتماعي سياسي، وكل جانب من جانبيه هذين معزز للآخر مكمل له، ولذلك كانت غايته سعادة الدارين الدنيا والآخرة فموضوع الجانب الأول تزكية النفس البشرية بالعقائد الصحيحة والعبادات المعقولة، والأخلاق العالية، والأعمال الشريفة النافعة؛ لتكون أهلا لجوار الله تعالى في جنات الآخرة، وموضوع النظام الدولي حماية هذا الدين وكفالته والدفاع عنه وعن

التبشير أو التنصير في مصر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التبشير أو التنصير في مصر ماضيه وحاضره ومساعدة الحكومة له ليس في مصر من الحملة الدولية الصليبية على الإسلام كل ما في المستعمرات الأوربية منها، ليس فيها مسألة كمسألة البربر في المغرب ومسألة العلويين في سورية، ولا كمسألة التجنيس في إفريقية الفرنسية كلها، ولا كمسألة الجلاء والإبادة في طرابلس الغرب وبرقة؛ إذ لا مجال فيها لهذه الحملات وهي ذات حكومة إسلامية مستقلة بنفسها، معترف باستقلالها من جميع الدول، وما كانت سيادة الدولة العثمانية السياسية عليها إلا مزيد حصانة لها ووقاية من هذا النوع من الحرب الصليبية. بيد أن استقلالها وتلك السيادة عليها من قبل لم يكونا واقيين لها ولا للإسلام فيها ولا في تلك الدولة من سائر أنواع الحرب الصليبية، فقد اعتدى على استقلالها الفرنسيس ثم الإنكليز، وقد اعتدى على إسلامها الفريقان وغيرهما بالتعليم الإلحادي وبجميع وسائل التنصير من دعاية لسانية وكتابية وتعليم وتطبيب وإغراء وإغواء بالمال والشهوات وغير ذلك، وقد وجدوا من حكومتها المتفرنجة كل مساعدة مالية وإدارية على جميع ذلك، وكان نجاحهم في التعليم الإلحادي أتم من غيره، فهو الذي جعل نفوذهم السياسي والأدبي والاقتصادي يعلو ولا يعلى، ويحطم كل ما تحته من نفوذ للحكومة المصرية، ومن حرمة للأمة المصرية، واشتد هذا النفوذ من إسماعيل باشا إلى اليوم، فكانت مدارس الأجانب الإلحادية والتنصيرية تُسَاعَد من الحكومة المصرية بالمال وبهبة المباني والأراضي، وبإعفاء ما يرد لها من بلادها من الكتب المراد بها هدم الإسلام ومن الأدوات المدرسية وغيرها من رسوم المكس (الجمرك) وكان الوزراء والكبراء ثم الأوساط فالفقراء - وما زالوا - يعلمون أولادهم ذكرانًَا وإناثًا فيها، ويفضلون تربية القسيسين والرهبان والراهبات والمبشرين والمبشرات على تربية المدارس المصرية الأميرية وغيرها، ولم يكن أحد ممن يقذفون بأولادهم أو ينبذونهم فيها يبالي عاقبة هذا التعليم في جنايته على الدين والدنيا: أما الدنيا فلأن زمامها في أيدي هؤلاء الإفرنج فصارت تطلب بالزلفى عندهم، ولقد قال اللورد سالسبوري: إن مدارس المبشرين أول خطوات الاستعمار فإن أول عملها إحداث الشقاق في الأمة التي تنشر فيها.. وأما الدين فلأنه لم يعد مما يراد في مصر من التربية والتعليم، إذ قررت الحكومة المصرية جعل ما كان واجبًا من تعليمه والعمل به أمرًا اختياريًّا لا شأن له ولا يطالب التلاميذ به، فصار الدين في مدارسها كالشيء اللقا (اللقا بالفتح ما يُلْقى ويطرح لعدم الحاجة إليه) وهي تعلم أن أئمتها من الإفرنج يجعلونهما من الفرائض القطعية التي لا هوادة فيها، ويجبرون عليهما كل من يعلمونه من أبناء دينهم ومن المسلمين. زال ما كان من رسوم ماثلة للدين من مدارس الحكومة على ما كان من قلة غنائه، وتعليم الأزهر وملحقاته للدين أصبح عقيمًا في هذا العصر على أنه محصور بين حيطانه في دروس تلك الكتب التي صار ضرها أكبر من نفعها كما بيَّناه بالبرهان مرارًا، وأقمنا الحجة اللسانية به على شيخ الأزهر لهذا العهد في محفل حافل، والخرافات الدينية فاشية في الأمة من جهة، ونزغات الإلحاد والتفرنج من جهة ثانية، فخلا الجو للمبشرين في التعليم الديني بالأساليب العصرية الموافقة لأذهان التلاميذ، ومبدأ الدين فطري في أنفس البشر، فإن لم يوجد من يلقن النشء دين الفطرة المعقول قبلوا من يلقنهم أي دين كان قبل الرشد واستقلال العقل. ذلك، ولم يوجد في مصر هيئة دينية حكومية ولا ملية تتولى أمر التربية الإسلامية العامة ومراقبة سيرها في الأمة، ولا العناية ببث التعليم الديني السهل والوعظ العام في طبقات الأهالي ولا سيما تعليم البنات، وإرشاد الأمهات، كالهيئات البطركية والحاخامية عند النصارى واليهود، ولم يوجد فيها جمعيات إسلامية تتولى ذلك بنظام عام، إلا ما تجدد في هذه السنين الأخيرة من الجمعيات الوعظية الضيقة النطاق، الضعيفة التأثير. أول من فطن لمقاومة التنصير: كان أول من فطن من المسلمين بأمر تنصيرهم في مصر المصلحان العظيمان السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده في القرن الماضي. وقد كان أول حادثة علمت في عهدهما مثل حوادثهم التي فطن لها الجمهور في هذا العهد، أن طغمة التبشير الأمريكانية نصَّرَتْ فتًى مصريًّا وصارت تعرضه للوعظ العام الذي يحضره كثير من المسلمين في كنيستهم بحي الأزبكية، فكبر ذلك على السيد فعهد إلى جماعة من الإيرانيين بخطفه من الكنيسة ووضعه في مكان خفي ففعلوا وذهب هو وتلميذه الأكبر الى ذلك المكان واستتابا الفتى، وأقنعاه بأن الإسلام هو دين الله. وسعيا لتلافي مثل هذا الأمر لدى الحكومة فلم يسمع لهما أحد، وقد ركبا مرة عربة وذهبا إلى محافظ العاصمة في يوم مطير كثير الوحل للاستعانة به على إنقاذه فلم يحفل بسعيهما، فقال السيد للشيخ: إنه والله ليس في مصر مسلم غيري وغيرك. أول من اقترح مراقبة الحكومة للمدارس الأجنبية فتقرر: قد كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أول من فكر في خطر المدارس الأجنبية على مصر فاقترح على مجلس المعارف الأعلى الذي ألف في مصر بسعيه سنة 1398 هـ (1881 م) أن يقرر جعل جميع مدارس الأجانب في القطر المصري تحت مراقبة الحكومة وتفتيشها وقد كان من معارضة أعضائه من الأجانب لهذا الاقتراح ما كان، وكان من فوزه فيه بالوسائل الذي اتخذها له ما هو من عجائب أعماله في خدمة الأمة (يراجع ذلك في ص 144 من تاريخ الأستاذ الإمام) . وكان يجب على الحكومة المصرية أن تتخذ هذا القرار قانونًا متبعًا دائمًا ولكن البلاد نكبت في ذلك العهد بالاحتلال الإنكليزي في إثر الثورة العرابية ففقدت حكومتها كل سلطان كان لها على التعليم وغير التعليم، وألقيت مقاليد وزارة المعارف المصرية في يد قسيس إنكليزي (مبشر) جعل سكرتيرًا لها فمستشارًا، وكان من أمر التعليم الإسلامي والتربية في مدارسها ما أشرنا إليه آنفًا، وقد اعترفت إنكلترة لمصر بعد الحرب الكبرى بالاستقلال مقيدًا بتحفظات لا تمس التعليم الحكومي ولكن الدين الإسلامي لم يزدد بذلك إلا ضعفًا في مدارس الحكومة والأوقاف العامة والخاصة بالبيت المالك ويعارضه قوة دين النصرانية في جميع المدارس الأجنبية. مساعدة الاحتلال للتنصير واضطهاد المنار: بلغ من مساعدة الاحتلال الإنكليزي لدعاية المبشرين بسيطرتها على الحكومة أن أمر اللورد كتشنر وزير الأوقاف بإلغاء المستشفى الذي بنته الوزارة في مصر القديمة بجوار مستشفى هرمن التبشيري؛ لأنه يصرف كثيرًا من فقراء المسلمين عنه فيحرمون من التبشير بالنصرانية، فوعده الوزير بأن سيبحث له عن مكان بعيد عن مستشفى التبشير يصلح له فينقله إليه، ولكن الله تعالى صرف اللورد المستبد عن هذه البلاد قبل أن ينفذ أمره هذا. وقد أمر اللورد بما هو شر من ذلك استبدادًا وتحكمًا في هذه الحكومة الصورية لمساعدة النصرانية على الإسلام، أمر بتعطيل مجلة المنار؛ لأنها ترد على المبشرين، وبنى ذلك على مقالة نشرت فيه بإمضاء الدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى قالوا: إنها شديدة اللهجة، وقد كتب اللورد على الجزء الذي نشرنا فيه تلك المقالة بخطه ما كتب، وأرسلها إلى النائب العام ليقيم الدعوى على صاحب المنار ويحكم بعقابه وتعطيل مجلته. وكان النائب العام عبد الخالق ثروت باشا والوزارة وزارة محمد سعيد باشا (رحمهما الله تعالى) فكبر عليهما أن يعطلا المجلة الإسلامية الوحيدة التي تنشر وتفاوضا في الأمر فاتفقا على أن يحاولا إقناعي بترك الرد على المبشرين والكلام في النصرانية ليتوسلا بذلك إلى إقناع اللورد بعدم تعطيل المنار، فكلمني ثروت باشا بالمسرة (التلفون) أنه يريد أن يكلمني في أمر مهم في داره إن لم يكن لدي مانع من زيارته فيها في تلك الساعة أو عندي، وكنت في مدرسة الدعوة والإرشاد فأجبته مخبرًا بوجود المانع فجاء بنفسه وأطلعني على الكتابة الإنكليزية التي كتبها اللورد على المنار وأخبرني الخبر وسألني عن رأيي فيه، فقلت له: إنني لن أدع الرد على المبشرين ما داموا يطعنون في الإسلام ويدعون المسلمين إلى دينهم؛ لأن الرد عليهم وتفنيد شبهاتهم فرض من فروض الكفاية لا أرى في البلاد مجلة ولا جريدة تقوم بها، فإن تركتها كنت آثمًا كجميع القادرين عليها. قال: إن دولة رئيس النظار يسوءه تعطيل المنار كما يسوءني وأود أن تساعدنا على اتقاء هذا الشر، وهو يرجوك أن تقابله في داره وتأتي معك بالدكتور محمد توفيق صدقي وتخبره بالوقت الذي تحضران فيه وأنا سأكون عنده لننظر في المسألة ففعلت. جئت الوزير الرئيس بالدكتور في الموعد الذي اتفقنا عليه، وكان قد علم من النائب العام أنني لن أكف عن الرد على المبشرين فأمر بدخولي عليه وحدي أولا وبوضع الدكتور في حجرة الانتظار إلى أن يطلبه؛ لأنه كره أن يسمع ما يدور بيننا من الكلام الحر الصريح، وكان ثروت باشا قد حضر، فبدأ الوزير يذكرني بسيطرة الإنكليز على البلاد وشأن المبشرين عندهم وأنهم ضاقوا ذرعًا بما ينشر في المنار من الطعن في دينهم حتى طلبوا من الحكومة محاكمته لعقابه وتعطيله، وأنه يشق عليه ذلك؛ لعلمه بقيمة خدمة المنار للإسلام، ويرغب إليَّ أن أكف عن ذلك ليتخذه حجة على إقناع اللورد كتشنر بالعدول عن اقتراحه أو أمره الذي علمته. قلت: إن ما أنشره في المنار قسمان: أحدهما تفسير آيات القرآن التي نزلت في شأن النصارى ودينهم فلا بد من بيان معانيها وإقامة ما عندنا من الدلائل الدينية والعقلية والتاريخية على صحتها، وثانيهما مقالات في الرد على المبشرين المعتدين علينا في بلادنا: وهذا فرض من فروض الكفاية إلخ. قال: إنك لا تقتصر على الرد بل تهاجمهم كثيرًا. قلت: ما يوجد في المنار من هجوم فهو في ميدان الدفاع إذ كانوا هم المعتدين في الأصل، وإنما يتحقق معنى هجوم الاعتداء في إعلان الحرب وبدئها لا في كل معركة منها، فإذا كان لهم الحرية في هذا دون المسلمين في حكومتنا فلتحكم عليَّ هذه الحكومة بما تشاء … وتكلمت كلامًا شديدًا في حقوق الإسلام ووجوب الهجرة من مصر إذا فقدت حرية الدين، وأجابني الوزير بصراحة غريبة في استبداد الإنكليز لا حاجة إلى شرحها. ثم قال: إن ما تكتبه أنت بقلمك تتحرى فيه الأدب واتقاء ما يمنعه القانون ويعاقب عليه، ويمكننا أن ندافع عنك بأن مجلتك دينية تقوم بوظيفتها، وليس كذلك تلميذك الدكتور محمد توفيق صدقي فهو شديد اللهجة ويكتب ما يعد طعنًا صريحًا في الديانة المسيحية لا بيانًا لعقائد الإسلام ولا مناظرة للمبشرين، فأرى أن تساعدنا عليه عند الكلام معه وإنذاره. ثم طلب الدكتور فحضر فكلمه الوزير بأن ما يكتبه في الديانة المسيحية ليس من شأنه، وقد يفضي إلى عقابه وعزله من وظيفته في الحكومة، وهو يمضيه باسمه مع ذكر وظيفته، والذي ينبغي له أن يكتبه في المنار وغيره هو الوصايا الصحية والمقالات العلمية والطبية، فإن كان لا بد له من كتابة مثل هذه الردود فيجب عليه اجتناب ما يعد طعنًا لا بحثًا وأن لا يمضيه باسمه الصريح. فوعد الدكتور بذلك. هذا ملخص ما وقع في هذه الحادثة، وقد كتبت عقبها في آخر المجلد السادس عشر من المنار ما نصه: حرية المسلمين الدينية بمصر

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة (بقية ما كتبناه للجزء الماضي من الرد على كتاب فريد أفندي وجدي (الإسلام دين عام خالد) وزعمه فيه أن الإسلام هو أن يعمل كل إنسان بعلمه وعقله وتفكيره بدون تلقين من أحد، وهو ما فسر به دين الفطرة، أي الطبيعة. وهذا الزعم هدم لدين القرآن لا تفسير له، ولا توحيد لجميع الأديان، كما يزعم، ويعلم القارئ ببطلان زعمه بالإيجاز مما يأتي: (1) الإنسان عالم اجتماعي يعيش بالتعاون العلمي والعملي، وتنمى معارفه كلها بتلقي بعض أفراده من بعض حتى إنه يستحيل أن يكون لكل فرد دين هو وليد فكره وعقله وحده لم يتلق منه شيئًا من عشرائه، ومن انفرد بشيء فقلما يوافقه عليه قومه، إذن يستحيل أن يكون ما ذكره هو الدين في كل قوم أو في البشر كلهم، فتعين أنه يريد أن يكون لكل فرد دين يصح أن يسمى الإسلام. (2) إن كانت الطبيعة التي يولد عليها كل طفل من البشر هي دين الله الحق الذي سماه الإسلام، فكل ما يهتدي إليه الإنسان من أول نشأته إلى آخر حياته بعلمه وتفكيره وعقله هو دين الإسلام، ومنه عبادة بعض الحشرات وغيرها من حيوان ونبات وجماد، وهو يقتضي أن قبائل الهمج من معطلة ووثنية كلهم على الإسلام، وأن الذي لا يصح أن يكون من دين الإسلام هو ما جاءهم به النبيون المرسلون؛ لأنه تلقين تلقوه من الوحي ولقنوه للناس، لم يكن مما وصلوا إليه بعلمهم وتفكيرهم. (3) هل فهم أولئك العلماء المنتهون من تراجم القرآن بلغاتهم (وهو يشهد لها بالصحة والدقة في تحديد معانيه) هذا المعنى الذي قرَّره في الآية؟ وهل كان له من الوقع العظيم في عقولهم ما وصفه وصاروا به مسلمين مؤمنين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون القرآن كلام الله تعالى؟ أم هي مترجمة بلغاتهم بغير المعنى الذي فسرها هو به، فيكون إيمانه موقوفًا على اطلاعهم على تفسيره؟ وكيف السبيل إلى اقتناعهم بتفسيره لها في هذه الحال وترجيحه على ما يخالفه من فهم علمائهم وعلماء المسلمين كافة؟ (4) إذا أعجب هؤلاء العلماء المنتهون بهذه الآية من القرآن، وبالآية الجامعة بين تنزيه الخالق عز وجل ووصفه ببعض صفات خلقه وهي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) وأكبروا مخاطبة البشر بهما من زهاء أربعة عشر قرنًا كما قال، واتخذوهما منهاجًا من مناهجهم العلمية الكسبية بعقولهم، يسيرون عليها في تطلابهم للوصول إلى روح الوجود العام، أو وصاله وصال العشاق للمعشوقات، وكان الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي يعدهم بهذا مسلمين دائنين بدين القرآن، وإن لم يتبعوا ما أنزله الله تعالى فيه من عقائد وعبادات وآداب وشرائع، ولم ينتهوا عما نهى عنه من المحرمات والرذائل؛ لأن هذه الأصول والفروع من الدين مما يحتاج إليه من دونهم من الطبقتين الوسطى والدنيا في رأيه، إن فرضنا صحة هذا كله فأي ربح للإسلام القديم وأهله منهم في حفظ دين القرآن وتجديدهم إياه بفلسفته هو، وما هو إلا إسلامه دون إسلام محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه؟ أم يريد أن يكونوا أتباعًا له في هذا، فيسمون محمديين وجديين؟ (5) مَن هؤلاء العلماء المنتهون وكم عددهم؟ أليسوا أفراد الفلاسفة والعلماء الذين انقطع كل منهم لإتقان مسألة أو مسائل من النظريات العقلية والاجتماعية أو العلوم والفنون فلا يكاد يعنى بغيرها؟ إن هؤلاء إذا وافقوا القرآن في بعض آياته فإنما يوافقونه كما يوافق كل منهم غيره فيما يستحسنه من رأيه، لا لاعتقادهم أنه كلام (روح الوجود العام) الذي هو أقرب وسائل الوصول إليه والزلفى عنده، وإنما هو الوسيلة إلى ذلك ببيان الرسول له بأمره، ولن يكونوا مسلمين إلا بهذا الإيمان، وبما يستلزمه من الأعمال، ولن يصلوا إلى أعلى ما يمكن للبشر أن يصلوا إليه في الدنيا من معرفة الله عز وجل والكمال في حبه المؤهل لما هو فوق ذلك في الآخرة إلا بهذا الإيمان والإسلام، دون الإسلام الذين اخترعه محمد فريد أفندي وجدي. (6) إن تسميته ما فعلته الجمهورية التركية من رفض الإسلام كله وإجبار شعبها على اتباع ترجمة القرآن بالتركية وكتابته بالحروف اللاتينية والتعبد بها من اعتقادهم أنه حرام أو كفر، قد يكون عنده من إسلام المنتهين وهو في اعتقاد جميع المسلمين كفر وارتداد عن الإسلام ممن كان مسلمًا، فما باله يخاطب به المسلمين في جريدة سياسية يومية (جريدة الجهاد) مُلَبِّسًا عليهم بأنه مجدِّد للإسلام؟ (7) ليخبرنا الأستاذ فريد أفندي وجدي عمن يعرف في قومه الترك من هؤلاء العلماء المنتهين الهائمين في حب روح الوجود العام المتطلعين لوصاله؟ هل مصطفى باشا كمال وعصمت باشا وأمثالهم من رجال الحرب منهم؟ وما حقيقة العبقرية التي زعم أن الترك فاقوا بها غيرهم من الشعوب فأقر هو بسببها حكومتهم العسكرية على رفضها للشريعة الإسلامية المشتملة على كل ما تحتاج إليه الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا من هداية الدين مما لا يوجد في غيرها، وقد فضلت هذه الحكومة شرائع سويسرة وإيطالية وغيرهما عليها، ولم تستطع أن تسن شريعة تركية لائقة بعبقريتها؟ إن كانت هذه العبقرية هي استبسالهم في ظفرهم على اليونان الضعيفة في عقر دارهم وقلب وطنهم وهو الأناضول فكيف يطمع في إقناع الأمم الفاتحة التي قهرت الترك، ومن هم أقوى من الترك بقبول الإسلام الصحيح أو بإسلامه هو، وكلها متعصبة لأديانها؟ إن من أعجب ما في مصر من الفوضى الدينية والأدبية أن ينشر فيها مثل هذا الإلحاد السخيف، ويوجد في المسلمين مَن يثني عليه، وعلى كاتبه بنصر الإسلام، والانفراد ببيان حقيقته للأنام، وينشر هذا الثناء في الجريدة التي نشرته، ثم لا يجد من شيخ الأزهر، ولا هيئة كبار العلماء فيه، ولا محرري مجلته التي سميت باطلاً (نور الإسلام) من يخطئه ويبين له ولقراء كلامه أنه دعوة إلى إبطال الإسلام. وإنني قد كلمت في هذا رئيس تحرير هذه المجلة؛ إذ لقيته في دار سفارة الدولة الأفغانية - وكان قد نشر مقالاً في الانتقاد على فريد أفندي وجدي فقلت له: إن هذه المقالات في الإسلام تتضمن الرد على مجلتكم، وإن الثناء عليها من فئة لا تخلو من بعض الأزهريين، والسكوت عليها منكم ومن سائر العلماء، يتضمن نقض نقدكم، وترجيح فهمه للإسلام على فهمكم، الذي هو فهم المشيخة الرسمية وأتباعها فسكت، وكلمت أيضًا بعض من لقيت من علماء الأزهر في هذا المعنى. وأما ما يجب عليَّ من ذلك فكنت معتمدًا فيه على بحثي المستفيض في حقيقة الوحي المحمدي وحجة القرآن على جميع البشر الذي نشرت أكثره في تفسير المنار وطبعته في كتاب مستقل، وهو يتضمن هدم كل ما في هذه المقالات من الباطل، ومنه تفسير دين الفطرة، فلما أهدى إليَّ الكتاب صار من الواجب عليَّ شرعًا أن أعجل بهذا النقد له قبل صدور كتاب (الوحي المحمدي) .

حكم الشرع فيمن يساعد اليهود على امتلاك فلسطين ببيع أرضها وغير ذلك

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حكم الشرع فيمن يساعد اليهود على امتلاك فلسطين ببيع أرضها وغير ذلك (س7) من حضرة صاحب الإمضاء إلى صاحب المنار، بعد خطاب طويل: لقد وصلت حالة البلاد الفلسطينية إلى درجة من أسوأ الحالات وأصبح هذا القطر العربي الإسلامي مهددًا بخطر الاضمحلال والزوال بسبب ما تسرب إلى أيدي أعداء البلاد من الأراضي المقدسة التي تعد بحق هي الحصون التي يجب على كل مسلم أن يدافع عنها إلى آخر نسمة من حياته. ولقد أعلن اليهود مرارًا أنهم يريدون الاستيلاء على هذه البلاد المقدسة استيلاء أبديًّا تامًّا، وأن يجعلوها يهودية، كما أن إنكلترا إنكليزية، وقد بدأت نتائج غزوتهم تظهر جلية واضحة، فقد أصبح عدد كبير من المسلمين مشردين بلا مأوى، وهذه مقدمة لتشريد بقية السكان وإجلائهم عن بلادهم، كما أنهم استولوا على مرافق البلاد الاقتصادية ولم يبق للمسلمين غير القليل من أراضيهم التي إن لم يحافظوا عليها أصبحت فلسطين المقدسة يهودية بالفعل بعد زمن قليل. إن أعداء البلاد يريدون فتحها والاستيلاء عليها بالمال، ولو أنهم أرادوا افتتاحها حربًا وقعد أحد أبنائها عن الجهاد أو قام يساعد الخصوم على امتلاكها لقلنا: إنه خارج على دينه وقومه، فما رأيكم فيمن يساعدهم على تمليكهم البلاد وهذا لا يقل خطورة عمن يقعد عن الجهاد أو يساعد الخصم؟ وهل يجوز لمن يؤمن بالله واليوم والآخر، وبكتاب الله وشريعته ورسوله أن يبيع أرضه لليهود بعد أن يعلم أنه إن فعل ذلك مكَّنَهم من مقدسات المسلمين وساعدهم على القضاء على الإسلام، وطرد إخوانه من بلادهم؟ وما حكم أمثال هؤلاء في الإسلام، رئيس اللجنة التنفيذية لمؤتمر الشبان العربي بفلسطين. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد يعقوب الغصين (الجواب) (بسم الله الرحمن الرحيم) رَبِّ آتني حكمًا وفهمًا وعلمني من لدنك علمًا، أما بعد فإن حكم الإسلام في عمل الإنكليز واليهود الصهيونيين في فلسطين حكم قوم من أهل الحرب أغاروا على وطن من دار الإسلام فاستولوا عليه بالقوة واستبدوا بأمر الملك فيه، وشرعوا في انتزاع رقبة أرضه من أهله بتدابير منظمة ليسلبوهم المِلْك (بكسر الميم) كما سلبوهم المُلْك (بضمها) وحكم من يساعدهم على عملهم هذا (امتلاك الأرض) بأي نوع من أنواع المساعدة وأية صورة من صورها الرسمية (كالبيع) وغير الرسمية (كالترغيب) حكم الخائن لأمته وملته، العدو لله ولرسوله وللمؤمنين، الموالي لأعدائهم وخصومهم في ملكهم وملكهم، لا فرق بينه وبين المجاهد معهم للمسلمين بماله ونفسه، فالذي يبيع أرضه لليهود الصهيونيين في فلسطين والذي يسعى في شراء أرض غيره لهم من سمسار وغيره كالذي يساعد أي قوم من الأجانب على قومه فيما يحاولون من فتح بلادهم بالسيف والنار، وامتلاك أوطانهم، بل أقول ولا أخاف في الله لومة لائم، ولا إيذاء ظالم: إن هذا النوع من فتح الأجنبي لدار الإسلام هو شر من كل ما سبقه من أمثاله من الفتوح الحربية السياسية والدينية على اختلاف أسمائها في هذا العصر؛ لأنه سلب لحق أهل الوطن في ملك بلادهم وحكمها، ولحقهم في ملك أرضها لأجل طردهم منها. ومن المعلوم بالبداهة أنه إذا بقي لنا ملك الأرض تيسر لنا إعادة ملك الحكم، وإلا فقدناهما معًا. هذا وإن فقد فلسطين خطر على بلاد أمتنا المجاورة لهذا الوطن منها، فقد صار من المعلوم بالضرورة لأهل فلسطين والمجاورين لهم، ولكل العارفين بما يجري فيها من عزم اليهود على تأسيس الوطن القومي الإسرائيلي واستعادة ملك سليمان بقوة المال الذي هم أقطاب دولته الاقتصادية، وبقوة الدولة البريطانية الحربية أن هذا الخطر سيسري إلى شرق الأردن وسورية والحجاز والعراق، بل هو خطر سينتقل من سيناء إلى مصر. وجملة القول أن الصهيونية البريطانية خطر على الأمة العربية في جميع أوطانها الأسيوية وفي دينها ودنياها، فلا يعقل أن يساعدها عليه عربي غير خائن لقومه ووطنه، ولا مسلم يؤمن بالله تعالى وبكتابه العزيز وبرسوله محمد خاتم النبيين، صلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه، بل يجب على كل مسلم أن يبذل كل ما يستطيع من جهد في مقاومة هذا الفتح، ووجوبه آكد على الأقرب فالأقرب، وأهون أسباب المقاومة وطرقها المقاومة السلبية، وأسهلها الامتناع من بيع أرض الوطن لليهود، فإنه دون كل ما يجب من الجهاد بالمال والنفس الذي يبذلونه هم في سلب بلادنا وملكنا منا. ومن المقرر في الشرع أنهم إن أخذوها وجب على المسلمين في جملتهم بذل أموالهم وأنفسهم في سبيل استعادتها، فهل يعقل أن يبيح لنا هذا الشرع تمهيد السبيل لامتلاكهم إياها بأخذ شيء من المال منهم وهو معلوم باليقين؛ لأجل أن يوجب علينا بذل أضعاف هذا المال مع الأنفس لأجل إعادتها لنا وهو مشكوك فيه؛ لأنه يتوقف على وحدة الأمة العربية وتجديد قوتها بالطرق العصرية، وأنَّى يكون ذلك لها وقلب بلادها وشرايين دم الحياة فيها في قبضة غيرها؟ فالذي يبيع أرضه لليهود في فلسطين أو في شرق الأردن يعد جانيًا على الأمة العربية كلها. لا على فلسطين وحدها. ولا عذر لأحد بالفقر والحاجة إلى المال للنفقة على العيال، فإذا كان الشرع يبيح السؤال المحرم عند الحاجة الشديدة، ويبيح أكل الميتة والدم ولحم الخنزير للاضطرار، وقد يبيح الغصب والسرقة للرغيف الذي يسد الرمق ويقي الجائع من الموت بنية التعويض، فإن هذا الشرع لا يبيح لمسلم بيع بلاده وخيانة وطنه وملته لأجل النفقة على العيال، ولو وصل إلى درجة الاضطرار، إن فرضنا أن الاضطرار إلى القوت الذي يسد الرمق يصل إلى حيث لا يمكن إزالته إلا بالبيع لليهود وسائر أنواع الخيانة، فالاضطرار الذي يبيح أمثال ما ذكرنا من المحظورات أمر يعرض للشخص الذي أشرف على الموت من الجوع وهو يزول برغيف واحد مثلا، وله طرق ووسائل كثيرة. وإنني أعتقد أن الذين باعوا أرضهم لهم لم يكونوا يعلمون أن بيعها خيانة لله ولرسوله ولدينه وللأمة كلها، كخيانة الحرب مع الأعداء لتمليكهم دار الإسلام وإذلال أهلها، وهذا أشد أنواعها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 27- 28) .

أسئلة غيبية ومالية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة غيبية ومالية (س8-11) من صاحب الإمضاء في مركز المنصورة مصر: حضرة صاحب الإرشاد الأستاذ المجاهد في الله شيخ الإسلام السيد محمد رشيد رضا. سلام الله عليكم أهل البيت ورحمته وبركاته. وبعد فإني ألتمس من فضيلتكم الفُتْيَا على ما يأتي بأدلتكم العقلية المنطقية، وبراهينكم النقلية الصحيحة، راجيًا نشرها في المنار؛ ليعم النفع ولكم الشكر منا والثواب من ربنا. (1) هل شُقَّ صدرُ النبي صلى الله عليه وسلم واستخرجت منه علقة سوداء، أو علقتان وما الحكمة في ذلك؟ والقلب الذي هو بيت الحكمة غير محسوس، فهل يريد أهل السير بتلك الروايات التي أخالها ضعيفة تنقية قلبه الجسمي الصنوبري أم قلبه الروحي؟ (2) ما معنى خاتَم النبوة، وهل كان يُرَى وما الحكمة؟ أهو معجزة نقول للناس هذا خاتم الأنبياء بدليل هذا الطابع أم ماذا؟ (3و4) إن فلانا يدخر أمواله في صندوق التوفير ويأخذ نظير ذلك ربحًا ولئن سألته ليقولن لك هذا حِلٌّ، أفتى به الأستاذ الإمام، فما حكم هذا، وحكم المودعين في المصارف والبنوك بربح مقدر معروف؟ (5) يزعم أحد المبشرين أن الجن لم يساعدوا سليمان وأنه لم يعرف منطق الطير، وأن الهدهد لم يكن هو السبب في اتصال ملكة سبأ به، وراجع من الإصحاح الثاني بالإصحاح التاسع من أخبار الأيام الثاني، ولولا أن أحد المسلمين المثقفين بالعلوم الحديثة استحسن رأيه وصوَّبه ما كنت اكترثت بكلام هذا المبشر الضليل، فهل حقًّا لم يرد ذلك في الكتب التي بأيديهم، وهل تؤول تلك الآيات المحكمة عندنا نظرًا لإرضاء عقلية متعلمنا المخصص في التاريخ كما يزعم (أعوذ بالله من هذا التعليم) أفتنا على عجل بربك الذي وقفت نفسك على إظهار دينه الحق وتطهيره من أدناس المبطلين، وسلام عليك وعلى جميع المصلحين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الغفار الجيار ... ... ... ... ... مدرس بمنية محلة دمنة مركز المنصورة (8) شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم: أخرج ابن إسحاق وابن راهويه وأبو يعلى والطبراني والبيهقي وأبو نعيم وابن عساكر من طريق عبد الله بن جعفر بن أبي طالب حديثًا طويلاً عن حليمة بنت الحارث السعدية أم النبي صلى الله عليه وسلم بالرضاعة منه أنه صلى الله عليه وسلم كان بعد شهرين أو ثلاثة من سنته الثالثة خلف بيوتهم مع أخ له من الرضاعة فجاء أخوه يشتد فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بياض فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فنجده قائمًا منتقعًا لونه فاعتنقه أبوه، وقال: أي بني ما شأنك؟ قال جاءني رجلان عليهما ثياب بياض فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئًا فطرحاه ثم رداه كما كان. وفيه أنهما خشيا أن يكون قد أصيب فرداه إلى أمه. إلخ (أقول) من المعلوم أن عبد الله بن جعفر لم يسمع هذا الحديث من حليمة بل قال الذين أخرجوه عنه: إنه قال: حُدِّثْتُ عن حليمة، ولم يذكر مَن حدثه به، وقد أخرجه ابن إسحاق من طريق نوح بن أبي مريم وهو ممن ثبت عنهم الكذب ووضع الحديث، وعبد الله بن جعفر ولد في الحبشة في عهد الهجرة إليها. وأخرج البيهقي وابن عساكر حديثًا آخر عن حليمة فيه هذه المسألة مطولة مخالفة للأولى في سياقها، وفي موضع وقوعها إلخ، وهي التي يذكرونها في بعض قصص المولد. وهو من طريق محمد بن زكريا الفلابي عن يعقوب بن جعفر بن سليمان عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده، وقد قال الدارقطني في محمد بن زكريا الفلابي مخرجه: إنه كان يضع الحديث وصرَّح غيره بكذبه أيضًا. وأخرج مسلم عن شيبان بن فروخ حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمدًا قد قتل فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره اهـ. أقول: هذه الرواية تقوي رواية عبد الله بن جعفر عن حليمة ويحتمل أن يكون أنس سمعها منه فهو لم يقل: إنه سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم ولا من غيره، وحماد بن سلمة تركه البخاري وهو من أثبت من رَوَى عن ثابت البناني، ولكنه تغير بعد كبر سنه وساء حفظه، على أن أنسًا رضي الله عنه كان بعد كبر سنه ينسى بعض ما حدَّث به، ويقال: إن مسلمًا تحرى من رواية حماد عن ثابت ما سمعه منه قبل تغيره. ثم أخرج مسلم عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة أُسْرِيَ بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام وساق الحديث بقصة نحو حديث ثابت البناني وقدم فيه شيئًا وأخر وزاد ونقص اهـ. وهي معارضة بما يأتي، وهو أصح منها. أقول: رواية شريك عن أنس في قصة الإسراء والمعراج طويلة، وفيها أنها كانت قبل البعثة، وهي مخالفة لرواية ثابت البناني من كل وجه، وقد أخرجها البخاري برمتها في التوحيد، وفيها أن القصة ومنها شق الصدر كانت رؤيا منامية. وأقوى الروايات في شق الصدر ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث أنس ابن مالك عن مالك بن صعصعة من حديث الإسراء والمعراج الطويل، وليس لمالك هذا غير هذا الحديث الذي يرويه أنس عنه وفيه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدَّثه عن ليلة أسري به قال: (بينما أنا في الحطيم، وربما قال في الحِجْر - مضطجعا - إذ أتاني آتٍ فَقَدَّ - قال: وسمعته يقول فشقَّ - ما بين هذه وهذه - أي أشار إلى ثغرة نحره وآخر بطنه - فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانًا وحكمة فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد) . هذا لفظ البخاري وزاد مسلم (ثم حشي إيمانًا وحكمة) إلخ، ومن المعلوم بالضرورة أن الإيمان والحكمة ليسا مادة جسمانية فتوضع في القلب الجسماني. وجملة القول: أن الروايات في شق الصدر مختلفة من عدة وجوه، وأقواها أنه كان ليلة الإسراء بعد البعثة، وحملها بعضهم على التعدد، وقد كانت في حالة بين النوم واليقظة، وفي رواية شريك في حالة النوم؛ لأنه يقول في أولها: (بينا أنا نائم) في أخرها (ثم استيقظت) والاختلاف فيها كالاختلاف في سائر أخبار تلك الليلة، سببها أنها أخبار عن أمور غيبية فالإحاطة بها تتعذر أو تتعسر. والظاهر من مجموعها أنها تمثيل لحفظ نفس النبي صلى الله عليه وسلم وقلبه من حظ الشيطان من سائر بني آدم بالوسوسة والإغواء، فالمراد منها أن الله تعالى طهَّر نبيه وصفيه من كل ما لا يليق بمنصبه الأعلى من الشهوات والأهواء التي هي موضوع وسوسة الشيطان، وكثيرًا ما تتمثل المعاني بالصور الحسية في المنام وفي الكشف الروحاني كما ثبت في رؤى النبي صلى الله عليه وسلم الكثيرة، وفي رؤيا يوسف عليه السلام، والرؤى التي أولها لصاحبيه في السجن ثم لملك مصر. وقد استشكل بعض الفقهاء استعمال طست الذهب وأجابوا عنه بأنه كان قبل تحريم استعمال أواني النقدين، وهي غفلة تامة من وجوه من أظهرها أن جبريل عليه السلام مكلف في عالم الغيب وفي تصوير الحقائق للنبي صلى الله عليه وسلم بالصور الحسية، وأن يتبع فروع الشريعة العملية، وقد لمح هذا الحافظ ابن حجر فقال بعد ذكر جوابهم الأول: ويمكن أن يقال: إن تحريم استعماله مخصوص بأحوال الدنيا وما وقع في تلك الليلة كان الغالب أنه من أحوال الغيب فيلحق بأحكام الآخرة، والظاهر ما حققناه؛ إذ لا يعقل سواه، وقد علمت منه أن دعوى رؤية أخي النبي في الرضاع لشق الصدر ورؤية أنس لأثر المخيط فيه لا تصحان، ولو كان في صدره أثر خياطة لرواها أمهات المؤمنين وغيرهن لغرابتها، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أنس ابن عشر سنين وخدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، ومات سنة 93 على الأرجح فكان عمره 103 سنين رضي الله عنه. (9) خاتم النبوة ومعناه: ثبت في أحاديث الصحيحين وغيرهما أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم علامة تسمى خاتم النبوة، وهي غدة بين كتفيه مثل بيضة الحمامة تشبه الخال الكبير، وقد اختلفت الروايات في حجمه ولونه وصفته وكونه بين كتفيه أو مائلا إلى الكتف الأيسر عند غضروفه، وفي بعضها أن حوله ثآليل. والروايات الصحيحة فيه متقاربة، وثم روايات باطلة لا حاجة إلى الإشارة إليها، ردها الحافظ ابن حجر وغيره. والمشهور أن هذا الخاتم كان من العلامات المأثورة عن علماء أهل الكتاب لنبي آخر الزمان كما ورد في رواية إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، وفي بعض روايات بحيرا الراهب، وهذه لا تصح، وفي بعض الروايات أن الملك ختمه بهذا الختم عقب شق صدره فظهر أثره فيه ولم يخلق معه، وقالوا: إن حكمته الإشارة إلى عصمته صلى الله عليه وسلم من وسوسة الشيطان في تفصيل لهم معروف، والله أعلم. (10 و11) صندوق التوفير والبنوك: ذكرنا في المنار مرارًا، وفي تاريخ الأستاذ الإمام أن الحكومة لما أرادت إنشاء صندوق التوفير في مصلحة البريد طلب سمو الخديو جماعة من علماء المذاهب الأربعة في الأزهر لمقابلته في قصر القبة وسألهم عن طريقة شرعية له، فوضعوا له طريقة مبنية على قاعدة شركة المضاربة فاستفتت الحكومة فيها مفتي الديار المصرية وكان الأستاذ الإمام رحمه الله فوافق عليها فاعتمدت الحكومة على ذلك فنفذت المشروع. وأما الذين يودعون أموالهم في المصارف بربح معين فله صور كثيرة، فمنه ما يدخل في شركة من الشركات التجارية أو الصناعية أو التجارية المشهورة في بنك مصر، وما ليس كذلك فما كان منه يستغل كصندوق التوفير فله حكمه، وما كان دينًا للبنك بربح سنوي فهو ربا ظاهر، ونحن قد وضعنا كتابًا خاصًّا في أحكام الربا والشركات المالية العصرية طُبِعَ أكثره وشغلتنا الشواغل ومنها العسرة عن إتمامه، ونرجو أن يتم في هذا العام فيكون كافيًا في هذه المسائل الكثيرة التي نُسْأَل عنها فنرجئ الجواب. (12) تسخير الجن لنبي الله سليمان: هذه مسألة واردة في كتاب الله تعالى ليس لمسلم أن يعتد فيها بكلام نصراني مبشر ولا منفر، ولا باستحسان مسلم مثقف بالعلوم العصرية لقول المبشر، ولعله أبعد منه عن الإسلام، وأما ما يحتج به المبشر والمثقف من عدم ورود ذلك في أخبار الأيام ولا أخبار الملوك من أسفار العهد العتيق، فلا حجة فيه علينا، ودليلنا المنطقي الجدلي على رده أن السكوت عن ذكر الشيء لا يقتضي عدم وقوعه أو نفي وجوده، ودليلنا الشرعي أن كتبهم التشريعية التي صدقها القرآن - وهي التوارة والإنجيل والزبور - لا حجة علينا فيما عندهم منها؛ لأنه قد ثبت بنص القرآن أنها محرفة، وأنها لم توجد كاملة صحيحة كما أنزلت، وإن الله تعالى أنزل القرآن مهيمنًا عليها، فما وافقه منها فهو المقبول، وما خالفه فهو مردود، وما كان بينهما فهو موقوف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ولأن ما قررناه فيه قد أثبتناه بالدلالة التاريخية من كتبهم وكتب التاريخ القديمة والحديثة، وقد فصلنا هذا وذاك في المنار، وفي التفسير أيضًا. فإذا كان هذا حكم الشرع في كتبهم التشريعية المنزلة، فأي قيمة تبقى لكتبهم التاريخية الموضوعة؟ وهل يقول مسلم أو عاقل: إننا نتأول كتاب الله تعالى لأجل أن نوافقها فيما سكتت عنه أو فيما خاضت فيه؟ وأما تأويل أمثال هذه الآي

مقدمة كتاب الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة كتاب الوحي المحمدي بسم الله الرحمن الرحيم {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُو العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسَابِ * فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران: 18-20) ارتقاء البشر المادي وهبوطهم الأدبي وحاجتهم إلى الدين إن من المعلوم اليقيني الثابت بالحواس أن علوم الكون المادية تَثِبُ في هذا العصر وُثُوبًا يشبه الطفور، وتؤتي من الثمار اليانعة بتسخير الطبيعة للإنسان ما صارت به الدنيا كلها كأنها مدينة واحدة، وكأن أقطارها بيوت لهذه المدينة، وكأن شعوبها أسر (عائلات) لأمة واحدة في هذه البيوت (الأقطار) يمكنهم أن يعيشوا فيها إخوانًا متعاونين، سعداء متحابين، لو اهتدوا بالدين. وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن البشر يرجعون القهقرى في الآداب والفضائل على نسبة عكسية مُطَّرِدَة لارتقائهم في العلوم المادية واستمتاعهم بثمراتها، فهم يزدادون إسرافًا في الرذائل، وجرأة على اقتراف الجرائم، وافتنانًا في الشهوات البهيمية، ونقض ميثاق الزوجية، وقطيعة وشائج الأرحام، ونبذ هداية الأديان، حتى كادوا يفضلون الإباحة المطلقة على كل ما يقيد الشهوات من دين وأدب وعرف وعقل، بل رجع بعضهم إلى عيشة العري في أرقى ممالك أوربة علمًا وحضارة، كما يعيش بعض بقايا الهَمَج السُّذَّج في غابات أفريقية وبعض جزائر البحار النائية عن العمران. وإن من المعلوم اليقيني أيضًا أن الدول الكبرى لشعوب هذه الحضارة أشد جناية عليهم وعلى الإنسانية - من جنايتهم على أنفسهم - بإغرائها أضغان التنافس بينهم، وباستعمالها جميع ثمرات العلوم ومنافع الفنون في الاستعداد للحرب العامة التي تدمر صروح العمران التي شيدتها العصور الكثيرة، في أَشْهُرٍ أو أيام معدودة، وتفني الملايين فيها من غير المحاربين كالنساء والأطفال، وبصرفها معظم ثروات شعوبها في هذه السبيل وفي سبيل ظلمها للشعوب الضعيفة التي ابتليت بسلطانها، وسلبها لثروتهم وحريتهم في دينهم ودنياهم، فالعالم البشري كله في شقاء من سياسة هذه الدولة الباغية الخبيثة الطوية، وكل ما عقد من المؤتمرات لدرء أخطارها لم يزد نارها إلا استعارًا، ولو حسنت نياتها وأنفقت هذه الملايين التي تسلبها من مكاسب شعوبها وغيرهم في سبيل الإصلاح الإنساني العام لبلغ البشر بها أعلى درجات الثراء والرخاء. كل ما ذكر معلوم باليقين، فهو حق واقع ما له من دافع، ومن المعلوم من استقراء تاريخ هذه الحضارة المادية أن هذه الشرور كانت لازمة لها، ونمت بنمائها، فكان هذا برهانًا على أن العلوم والفنون البشرية المحض غير كافية لجعل البشر سعداء في حياتهم الدنيا، فضلا عن سعادتهم في الحياة الآخرة، وإنما تتم السعادتان لهم بهداية الدين، فالإنسان مدني بالطبع، أو بالفطرة كما يقول الإسلام. من أجل ذلك فكر بعض عقلاء أوربة وغيرهم في اللجوء إلى هداية الدين، وأنه هو العلاج لأدواء هذه الحضارة المادية والترياق لسمومها، وتمنوا لو يبعث في الغرب أو في الشرق نبي جديد بدين جديد يصلح الله بهدايته فسادها، ويقوِّمُ بها منئادها؛ لأن الأديان المعروفة لهم لا تصلح لهذا العصر، وقد فسد حال جميع أهلها، وكان ما يسمونه دين المحبة مِصْداقًا لآية: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ} (المائدة: 14) . الحجب بين الإفرنج وحقيقة الإسلام: بيد أن هؤلاء لا يعرفون حقيقة دين القرآن، وهو الدين الإلهي العام، والمانع لهم من معرفته ثلاثة حُجُب تحول دون النظر الصحيح فيه، وعدم فهمهم للقرآن كما يجب أن يُفْهَم، فأما الحجب دونه فهذا بيانها بالإيجاز: (الحجاب الأول) الكنيسة أو الكنائس التي عادته منذ بلغتها دعوته، وطفقت تصوره بصور مشوهة باطلة بدعاية عامة فيها من افتراء الكذب وأقوال الزور والبهتان، ما لم يعهد مثله في أهل ملة من البشر في زمن من الأزمان، وألَّفَت في ذلك من الكتب والرسائل والأغاني والأناشيد والقصائد، ما يعرف بطلانه كل مؤرخ مطلع على الحقائق، ثم إنها جعلت تشويهه ووجوب معاداته من أركان التربية والتعليم في جميع المدارس التي يتولى أتباعها تعليم الناس فيها، فما من أحد يتعلم فيها من أتباعها إلا وهو يعتقد أن جميع المسلمين أعداء للمسيح وللمسيحيين كافة فيجب عليه عدواتهم ما استطاع، والحق الواقع أن الإسلام هو صديق المسيحية المتمم لهدايتها، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الفارقليط روح الحق الذي بشَّر به المسيح عليه السلام (الحجاب الثاني) رجال السياسة الأوربية، فإنهم ورثوا عداوة الإسلام من الكنيسة، وتلقوا مفترياتها في الطعن عليه بالقبول، وضاعف هذه العداوة له والضراوة بحربه، طمعهم في استعباد شعوبه واستعمار ممالكهم. وإذا كان رجال الدين قد ملئوا الدنيا كذبًا وافتراء على الإسلام - ومن أسس الدين الصدق وقول الحق والحب والرحمة والعدل والإيثار - فأي شيء يكثر فعله على رجال السياسة، وأساس بنائها الكذب وأقوى أركانها الجور والظلم والعدوان والقسوة والأثرة والخداع، وهو ما نراه بأعيننا ونسمع أخباره بآذاننا كل يوم في المستعمرات الأوربية؟ بل نحن نعلم أن سبب افتراء رجال الدين على الإسلام هو السياسة لا الدين نفسه، وإن قاعدتهم المشهورة (الغاية تبرر الواسطة) سياسية لا إنجيلية، فما كان لدين أن يبيح الجرائم والرذائل باتخاذها وسيلة لمنفعة أهله، وإن دينية. (الحجاب الثالث) سوء حال المسلمين في هذه القرون الأخيرة، فقد فسدت حكوماتهم وشعوبهم، واستحوذ عليهم الجهل بحقيقة دينهم ومصالح دنياهم، حتى صاروا حجة لأعدائهم فيهما على أنه لا خير فيهم ولا في دينهم، وأمكن لهؤلاء الأعداء أن يقنعوا بهذه الحجة الداحضة أكثر من يتخرج في مدارسهم السياسية والتبشيرية من ملتهم، حتى نابتة المسلمين أنفسهم، وهم يختارون من هذه النابتة الأفراد التي تتولى أعمال الحكومة والتعليم في مدارسها في كل قطر خاضع لنفوذ دولهم الفعلي، بأي اسم من أسمائه من فتح وامتلاك وحماية واحتلال وانتداب، أو لنفوذهم السياسي والتعليمي كما فعلوا في بلاد الترك وإيران، لتساعدهم على هدم كل شيء إسلامي فيها من اعتقاد وأدب وتشريع، وقد كان السيد جمال الدين الأفغاني حكيم الإٍسلام موقظ الشرق يرى أن هذا الحجاب أكثف الحُجُب الحائلة بين شعوب أوربة والإسلام، ونقل لي الثقة عنه أنه قال: إذا أردنا أن ندعو أوربة إلى ديننا فيجب علينا أن نقنعهم أولا أننا لسنا مسلمين، فإنهم ينظرون إلينا من خلال القرآن هكذا: - ورفع كفيه وفرَّج بين أصابعهما - فيرون وراءه أقوامًا فشا فيهم الجهل والتخاذل والتواكل فيقولون: لو كان هذا الكتاب حقًّا مصلحًا لما كان أتباعه كما نرى. لا ننكر أن بعض أحرار الإفرنج قد عرفوا من تاريخ الإسلام ما لم يعرفه أكثر المسلمين فأنصفوه فيما كتبوا عنه من تواريخ خاصة، ومن مباحث عامة في العلم والدين، وأن منهم من اهتدى به عن بصيرة وبينة، ولكن ما كتبه هؤلاء كلهم لم يكن مُبَيِّنًا لحقيقته كلها، ولم يطلع عليه إلا القليل من شعوبهم، وكان جُلُّ تأثيره في أنفس من اطلعوا عليه أن بعض الناس أخطئوا في بيان تاريخ المسلمين فانتقد عليهم آخرون، فهي لم تهتك الحجب الثلاثة المضروبة بينهم وبين حقيقة الإسلام. وأما عدم فهمهم للقرآن كما يجب، وأعني به الفهم الذي تعرف به حقيقة إعجازه وتشريعه، وكونه هو دين الله الأخير الكامل الذي لا يحتاج البشر معه إلى كتاب آخر ولا إلى نبي آخر - فله أسباب. الأسباب العائقة عن فهم الأجانب للقرآن: (أولهما) جهل بلاغة اللغة العربية التي بلغ القرآن فيها ذروة الإعجاز في أسلوبه ونظمه وتأثيره في أنفس المؤمنين والكافرين به جميعًا، فأحدث بذلك ما أحدث من الثورة الفكرية والاجتماعية في العرب والانقلاب العام في البشر، كما شرحناه في هذا الكتاب، وقد كان من إكبار الناس لهذه البلاغة أن جعلها علماء المسلمين موضوع تحدي البشر بالقرآن دون غيرها من وجوه إعجازه، وجعلوا عجز العرب الخُلَّص عن معارضته بها، ثم عجز المولَّدين الذين جمعوا بين ملكة العربية العلمية وملكة فلسفتها من فنون النحو والبيان، هو الحجة الكبرى على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد فقد العرب الملكتين منذ قرون كثيرة إلا أفرادًا متفرقين منهم - فما القول في غيرهم؟ فعلماء المسلمين في هذه القرون يحتجون بعجز أولئك ولا يدعون أنهم يدركون سر هذا الإعجاز أو يذوقون طعمه، بل قال بعض علماء النظر المتقدمين منهم: إن الإعجاز واقع غير معقول السبب، فما هو إلا أن الله تعالى صرف الناس عن معارضته بقدرته والصواب أن منهم من حاول المعارضة فعجزوا؛ إذ ظنوا أن إعجازه بفواصل الآيات التي تشبه السجع فقلدوها فافتضحوا، ومن متأخري هؤلاء من ادعى النبوة كمسيح الهند القادياني الدجال، ومن ادعى الألوهية (كالبهاء) وقد أخفى أتباع هذا كتابه الملقب بالأقدس؛ لئلا يفتضحوا به بين الناس. (ثانيها) أن ترجمات القرآن التي يعتمد عليها علماء الإفرنج في فهم القرآن كلها قاصرة عن أداء معانيه التي تؤديها عباراته العليا وأسلوبه المعجز للبشر، وإنما تؤدي بعض ما يفهمه المترجم له منهم، وقلما يكون فهمه تامًّا صحيحًا، ويكثر هذا فيمن لم يكن به مؤمنًا، بل يجتمع لكل منهم القصوران كلاهما: قصور فهمه وقصور لغته، وقد اعترف لي ولغيري بهذا مستر (محمد) مارما ديوك بكتل الذي ترجمه بالإنكليزية وجاء مصر منذ 3 سنوات فعرض على بعض علماء العربية المتقنين للغة الإنكليزية ما رأى أنه عجز عن أداء معناه منه، وصحح بمساعدتهم ما ذاكرهم فيه. واعترف بذلك الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي الذي كلفته وزارتا الخارجية والمعارف الفرنسية لدولته بترجمة 62 سورة من السور الطول والمئين والمفصل التي لا تكرار فيها ففعل. وقد قال في مقدمة ترجمته التي صدرت سنة 1926 ما معناه: (أما أسلوب القرآن فإنه أسلوب الخالق جل وعلا، فإن الأسلوب الذي ينطوي على كُنْه الكائن الذي صدر عنه هذا الأسلوب لا يكون إلا إلهيًّا. والحق الواقع أن أكثر الكُتاب ارتيابًا وشكًّا قد خضعوا لسلطان تأثيره (في الأصل: لتأثير سحره، يعني تأثيره الذي يشبه السحر في كونه لا يعرف له سبب عادي) وإن سلطانه على الثلاثمائة الملايين من المسلمين المنتشرين على سطح المعمور لبالغ الحد الذي جعل أجانب المبشرين يعترفون بالإجماع بعدم إمكان إثبات حادثة واحدة محققة ارتد فيها أحد المسلمين عن دينه إلى الآن. (ذلك أن هذا الأسلوب الذي طرق في أول عهده آذان البدو [1] كان نثرًا جد طريف، يفيض جزالة في اتساق نسق، متجان

فاتحة كتاب المنار والأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة كتاب المنار والأزهر بسم الله الرحمن الرحيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} (النساء: 135) . أحمد الله تعالى أن أنفقت 35 عامًا من عمري هي سن الشباب والكهولة في الإصلاح الإسلامي العام وإصلاح الأزهر خاصة مع التزام الأدب والتواضع مع أهله، واجتناب الدعوى، وإنني أوذيت في هذه السبيل بكل ما أوذي به طلاب الإصلاح من قبلي فصبرت، وكان أغرب ما لقيته من الأذى بعد أن قامت الحجة على صحة كل ما طالبت به الأزهر من الإصلاح، فتقرر فيه رسميًّا (إلا شيئًا واحدًا وهو العناية بعلوم السنة) أن كوفئت من جمود مشيخة الأزهر الظواهرية، وكنودها في مجلتها الخرافية، بما اضطرني إلى مكاشفة الأمة بفضيحة جهلها في المنار وفي الجرائد اليومية، وأن أجمع مقالات ردي عليها في هذا الكتاب، وأن أضع له مقدمة في خلاصة ماضي الأزهر وحاضره ودلائل مستقبله وخاتمة في خلاصة جهادي في سبيل إصلاحه. المقدمة دخل الجامع الأزهر منذ سنتين في عهد جديد لا يعلم عاقبته إلا الله تعالى، فإدارته تبث له دعاية سياسية في الجرائد التي تؤيد السياسة المصرية الحديثة، يُرَادُ بها إقناع العالم الإسلامي بأن الأزهر الحديث أحق من الأزهر القديم في بث علوم الإسلام والزعامة الدينية للمسلمين كافة، وإن لم يصرحوا بتفضيل الجديد على القديم إلا بالثناء على ما استُحْدِثَ فيه، وجعله مناط الآمال، والجدارة بشد الرِّحَال، ويعارض هذه الدعاية شكوى شديدة من سوء إدارة الأزهر الجديدة، وذبذبة التعليم والتربية الخلقية والمادية فيه، وإفساد السياسة له، والخشية على مستقبل الدين بتفرنجه. أما تلك الدعاية فمصدرها سياسي محض، لا يؤيدها أحد من أهل الرأي المعروفين من المسلمين، وأما هذه الشكوى التي تعارضها وتنقضها فأكثرها بأقلام جماعة من علماء الأزهر الأحرار ومن غيرهم من الأدباء والشعراء، وتؤيدها جميع صحف الأحزاب المصرية التي يثق بها السواد الأعظم من الشعب المصري، فهي لا تخلو من السياسة أيضًا، وإنما هي سياسة وطنية تعارض سياسة تأييد الحكومة الحاضرة باسم الأزهر أو من قِبَل شيخ الأزهر. ولهؤلاء العلماء والكتاب وأصحاب الجرائد مطاعن بينة صريحة في فساد إدارة الأزهر لم نر أحدًا من قبل مشيخته فَنَّدَهَا أو كذَّب أخبارها، بل بلغنا من ثقات الأزهريين أن الرأي العام أو الغالب في الأزهر مخالف لسياسة شيخه، ولكنهم يخشون مغبة معارضته، وقد سمعت رجلاً من كبار المسلمين أولي المكانة الدينية والعامة من غير المصرية يقول: إن الأزهر لم يكن في عهد ولا في عصر من العصور أدنى مما هو الآن. مدار الدعاية السياسية الجديدة للأزهر على جعله جامعة عصرية بمقتضى قانونه الجديد ونظامه الجديد، وإنشاء الكليات فيه على نظام المدارس المدنية، وتقرر إرسال بعثة من طلابه إلى أوربة لدراسة بعض علومها ولغاتها، وما حدث بذلك للذين سيتخرجون فيها من الآمال في الرقي العصري - والتفصي من عقال ذلك النظام القديم الذي انتهى بأهله إلى احتقار الأمة للأزهريين، وهضمها لحقوقهم الدينية والأدبية، ونُبُوّ الأنظار عن زيهم، ونفور الطباع من أدبهم، حتى صار بعضهم يفضلون الزي الإفرنجي والطربوش على زيهم المعروف، ويخشى أن يفعلوا كما فعل جميع طلاب دار العلوم، بل ظهرت بوادر هذا من أناس منهم. ومن رأي المعارضين أن هذا الأمل والرجاء الجديد، هو أخوف ما نخافه على هذا المعهد الإسلامي القديم، الذي نفتخر بقدمه، وما كان له من خدمة العلوم الدينية، والفنون العربية منذ القرون الوسطى، وأنهم يخشون على خريجي كلياته أن يضيعوا القديم، ولا يتقنوا الجديد، فيكونوا في تجديدهم كالنساء: أسرف دعاة التجديد بذم ما كان من تشددهن في الحجاب ووصف مساويه من ضعف الصحة والجهل بفن التربية والتدبير المنزلي والاقتصاد، والحرمان من مجامع العلم، والأدب والسياسة، وفي دعوتهن إلى السفور والاختلاط بالرجال في المحافل العلمية والأدبية. فكانت عاقبة تحقير القديم وتزيين الجديد لهن أن زدن على السفور الذي هو كشف الوجه ما نراه من هتك الستور، والخروج إلى الأسواق والمتنزهات كاسيات عاريات، والرقص مع الرجال، والسباحة معهم في البحار والأنهار، فأضعن جميع فضائل الحجاب القديم، واستبدلن بها جميع رذائل التفرنج الجديد، ولم يستفدن شيئًا من المنافع الاجتماعية والاقتصادية، كان يتعذر عليهن استفادته مع المحافظة على الحياء والصيانة الإسلامية. هذا ما يخشاه أكثر المسلمين على الأزهر من نظامه الحديث حتى دعاة التجديد العصري، وقد نشر بعضهم هذا الرأي في الصحف، وعبر عنه الشاعر الأديب محمد أفندي الهراوي في قصيدة أنشدها في الحفلة السنوية لجمعية الشبان المسلمين بقوله فيها مخاطبًا جلالة الملك: والأزهر المعمور أين مكانه؟ ... سل عنه أين؟ وأنت فوق مكانه فرحوا وهم يبنون كلياته ... فليفرحوا بالطوب تحت دهانه من يوم أن نقلوه من جدرانه ... قد طار سر الله عن جدرانه فاسأل عن الأخيار من علمائه ... واسْأَلْ عن الأطهار من شبانه المتقين الله حق تقاته ... الحافظين لدينهم وكيانه العالمين بشرعه وكتابه ... العاملين بروحه وبيانه والزي! حتى الزي لم يبقوا له ... ظلا لجبته ولا قفطانه [1] مولاي يا ملك البلاد. وذخرها ... وملاذ هذا الدين عند هوانه مصر بأزهرها القديم كما بدا ... بالطابع الموروث منذ زمانه فأعد إليه عهده واستبقه ... تدفع به الإلحاد في عدوانه ليس هذا الشاعر ومن على رأيه بمخطئين في خوفهم على الأزهر في هذا الطور من الانقلاب السريع، ولكنهم لم يحيطوا بحال الأزهر علمًا؛ إذ ظنوا أن في شيوخه وطلابه في هذا القرن من يشبهون علماء القرون الخالية في الانقطاع للعلم لوجه الله تعالى، مع الزهد في حطام الدنيا ومناصبها، وعزة النفس، وعلو الأخلاق، الذي كان به علماء الدين موضع ثقة الشعب واحترام الحكام، بحيث يرجى أن تجد الأمة منهم مثل الشيخ عز الدين بن عبد السلام الذي كان يصرح بأن أمراء مصر الترك هم من الرقيق الذين لا تجوز معاملتهم معاملة الأحرار في زواج ولا بيع ولا شراء، فضلا عن عد أحكامهم شرعية تجب طاعتها، فتعطلت بتصريحه مصالحهم، فلما هدده السلطان وأنذره العقاب شرع في الهجرة إلى الشام بأسرته، وهى وطنه الأصلي، وشرع أهل مصر في اتباعه، حتى اضطر السلطان إلى الركوب خلفه بنفسه واسترضائه، ولم يرض ويرجع عن فتواه ببطلان إمارتهم إلا بعقد مجلس من التجار باعهم هو فيه بالمزاد، وأعتقهم الذين اشتروهم في الحال، كما حكاه السبكي في طبقات الشافعية. أو بحيث يوجد فيهم مثل الشيخ القويسني من المتأخرين الذي لم يفرح محمد علي باشا الكبير بموافقته له على عمل من أعماله إلا مرة واحدة فافتخر بذلك، وصرح بأن هذه أول مرة قال له الشيخ القويسني شيخ الأزهر: أحسنت وأصبت، وكيف لا يُسَرُّ محمد علي بذلك وهو مَدِينٌ بإمارته للأزهر وزعماء رجال الدين وهم الذين اختاروه لحكم البلاد ونصبوه واليًا عليها، وألزموا الدولة العثمانية صاحبة السيادة الرسمية إقراره عليها، وفي عهد دولته بدأ ينحط نفوذهم وتزول زعامتهم، حتى وصلت إلى ما يعلمه كل أحد في هذا العهد الذي يُرْشَق فيها شيخ الأزهر في الجرائد يومًا في إثر يوم بأرجال من سهام النقد والتجريح، والتثريب والتفنيد، لا في سوء إدارة الأزهر وكونه صار في عهده بيئة تجسس ومحاباة فقط، بل في التقصير في المصالح الإسلامية العامة وفي مقاومة البدع الخرافية، وفي الدفاع عن العقائد الدينية، وعن شعوب المسلمين الذين تحاول بعض دول الاستعمار ردهم عن دينهم بالتنصير التعليمي والإجباري وإخراجهم من جنسيته وجامعة شريعته وإدخالهم في جنسيتهم وجامعة دولتهم، بل تجرأ دعاة النصرانية (المبشرون) في هاتين السنتين على ما لم يكونوا يتجرءون عليه في مصر من إهانة الإسلام بالقول والفعل، وفتنة تلاميذ مدارسهم ولا سيما البنات عن دينهم، وإدخالهم في النصرانية بضروب من الحِيَل والأذى، حتى هاج ذلك عامة الأمة وخاصتها، ونقمت من مشيخة الأزهر تقصيرها، وإنه ليعز علينا ما وصلت إليه مشيخة الأزهر في هذا العهد من احتقار الأمة لها، وكثر طعنهم في الصحف عليها، وما يقوله الناس في مجالسهم الخاصة، وأنديتهم وسمارهم العامة، لهو شر مما يكتبونه في الصحف؛ لأن الحرية القانونية في الكلام أوسع وأسلم عاقبة من الكتاب، وعقاب القانون على النشر، ويلخص رأي الأكثرين بكلمة وجيزة هي آخر ما سمعته في هذا الموضوع من عالم أديب من أبناء كبار الشيوخ الذين كانوا يحضرون دروس الأستاذ الإمام في الأزهر، قال: إن حال الأزهر الآن شر مما كان في كل زمان، وإن حاله غدا لشر مما هو الآن، ولا يرجى صلاحه ألبتة. وهذا عين رأي المرحوم سعد باشا زغلول كما نقلته عنه في المنار وعقب وفاته. وبلغ من مقت الأمة لشيخ الأزهر الظواهري أن تصدَّى بعضهم لاغتياله، حتى صار في وجل دائم على حياته، إذا خرج لزيارة بعض مشاهد الصالحين للتبرك والتوسل الذي نشأ عليه تربية ووراثة، يعود من غير الطريق الذي ذهب منه. وأما رأيي الخاص في ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله فهو مخالف لكل الآراء التي يتحدث بها الناس من بعض الوجوه إن لم يكن من جميعها، وهاك خلاصته: ماضي الأزهر وأطواره فيه: الأزهر لم يُؤَسَّس على التقوى من أول يوم كما يدعون. وإنما كان كمسجد الضرار، أسسه الباطنية سنة 360 هـ لبثِّ دعوتهم الإلحادية التي بيَّنها العلامة المقريزي في خططه، ومنها يُعْلم صدق قول حجة الإسلام أبي حامد الغزالي فيهم: ظاهرهم الرفض , وباطنهم الكفر المحض. ومن أعلم بكنه حالهم من أبي حامد صاحب الحجج البالغة في مناظرة دعاتهم، والمصنفات القيمة في الرد على نحلتهم (كفضائح الباطنية، والمستظهري، والقسطاس المستقيم) ؟ ويليه تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي الذي وقف على دخائلهم في أثناء رحلته إلى المشرق وناظرهم كما ترى في كتابه العواصم والقواصم، ولا يزال يجهل هذه الحقائق أكثر المسلمين، ويظن بعضهم أن الطعن في الفاطميين كان من دعاية العباسيين، لا فرق بين الطعن في نسبهم والطعن في دينهم. وبعد أن ثُلَّ عرشهم، وقضى على دعوتهم سلطان الإسلام المجاهد صلاح الدين يوسف الأيوبي، سنة 567 دخل الأزهر كغيره من المساجد والمعاهد المصرية في حوزة أهل السنة، ولكن ظل مدة مائة سنة لا تقام فيه الجمعة إذ حصرت إقامتها في مسجد الحاكم لسعته، أعيدت إليه سنة 665 وقد خرب الأزهر كغيره بزلزال سنة 702 ثم جدده بعض أمراء دولة المماليك البحرية وأنشئوا بالقرب منه عدة مدارس، ووقف على طلاب العلم فيه كثير من الأوقاف. وقد تخرج فيه كثير من العلماء الذين كانوا يقومون بمناصب القضاء العام والحسبة والإفتاء والتدريس، ولبعضهم مصنفات مفيدة في علوم اللغة والشرع والتاريخ. وكان ازدهار العلم فيه وفي غيره من مدارس مصر من أوائل القرن الثامن إلى آخر القرن العاشر، وطفق ب

ولاية العهد للدولة العربية السعودية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ولاية العهد للدولة العربية السعودية وكتابان إسلاميان تاريخيان كانت حكومة الحجاز وحكومة نجد وملحقاتها كل منهما مستقلة بنفسها إلا أن ملكهما واحد يلقب بملك الحجاز ونجد وملحقاتها، وكان هذا التفريق خطأ عائقًا دون الوحدة القومية الخاصة التي تربطهما، والتمهيد للوحدة العربية العامة التي يدعو إليها المصلحون، فقرر أولو الأمر توحيد الحكومتين وجعلهما دولة واحدة بالاسم المذكور في العنوان، واحتفل بذلك في مكة المكرمة بحضور جلالة الملك عبد العزيز الفيصل مؤسس هذه الدولة المباركة في منتصف جمادى الأولى سنة 1351 ثم إنه في 16 المحرم من سنتنا هذه 1352 قرر أركان حكومة الحجاز مبايعة سمو الأمير سعود نجل جلالته الأكبر بولاية العهد للمملكة، وفي 20 المحرم بايعه أهل الحل والعقد من الحجازيين والنجديين في مكة المكرمة ومنهم العلماء والشرفاء وأمراء بيت الملك السعودي الذي كانوا فيها. وقبل البيعة بالنيابة عنه سمو أخيه الأمير فيصل نائب الملك لحكومة الحجاز؛ إذ كان سموه في نجد، ثم تقرر إرسال وفد من مكة إلى الرياض عاصمة نجد برياسة الأمير فيصل فبايع سموه مع أهل الحل والعقد من العلماء والأمراء هنالك وقبل المبايعة بمكة أرسل جلالة الملك برقية إلى سمو الأمير سعود ينبئه بالبيعة ويوصيه بالوصايا العالية، فرد الأمير رجعها بما يليق ببره وحسبه وأدبه، ثم أرسل إليه جلالة والده الكتاب التاريخي الآتي وهو المقصود لنا بالذات؛ لأنه نموذج كامل لاتباع هذا الملك لسنة الخلفاء الراشدين والسلف الصالحين في هديه وحكمه ويتضمن معاني وصايا البرقية وزيادة وهو: كتاب جلالة الملك برقيتك وصلت، وقد أحطنا علمًا بما جاء فيها، وهذا أملنا فيك، نرجو أن الله يرزقنا وإياك الهدى والتوفيق. وقد أحببت أن أكرر عليك نصائحي، توجه فيصل وإخوانك إلى الرياض وبرفقتهم وفد من الحجاز. والحقيقة أننا رأينا في الحجاز أمرًا ما كنا نظنه. نحن كنا على يقين من إخلاصهم وولائهم. ولكن الأمر تجاوز الحد وفوق ما كنا نظن، فقد شاهدنا منهم محبة وشفقة على ولايتهم ونصحًا للمسلمين عظيمًا. نرجو أن يوفقنا الله وإياهم للخير. وأما أهل نجد فقد كتبنا لهم كتابًا وعرفناهم أننا أجبنا طلبهم فيما يتعلق بولاية العهد، وأما الأمر الذي أكرره عليك وأوصيك به فهو: (الأمر الأول) تقوى الله والمحافظة على ما يرضيه وتفهم أن الحجة قائمة على البشر بعد ما أرسل الله أفضل رسله وأنزل أفضل كتبه، فلا يوجد بعد كتاب الله وسنة رسوله صلوات الله عليه وسلامه حجة لأحد؛ لأنها المبينة المبشرة بالخير بحذافيره، والمحذرة والمنذرة عن الشر بحذافيره، فلا حجة ولا معذرة بعد ذلك. ثم تفهم أننا نحن آل سعود ما أخذنا هذا الأمر بحولنا ولا بقوتنا إنما مَنَّ الله به علينا بسبب كلمة التوحيد. وتفهم أن كلمة التوحيد معناها الإخلاص لله بالعبادة والانقياد له بالطاعة، أما الإخلاص فهو عبادته وحده والاعتصام به والالتجاء إليه وترك ما سواه، وأما الانقياد فهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه والعمل بالجميع بإخلاص ونية ومتابعة. فبحول الله وقوته ما اعتصم أحد بالله وقام بسنة رسوله إلا وفق وهدي، والكلام بذلك يطول وزبدته ما ذكرنا. (الأمر الثاني) معلومك أننا في آخر زمان، ولقد أصبح الشح مطاعًا والهوى متبعًا وأعجب كل ذي رأي برأيه، فبموجب هذا يخشى من التغيير والتغير. قال الله سبحانه في محكم كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) وزبدة الحياة قائمة على قواعد (الأولى) ما ذكرنا أعلاه (والثانية) مكارم الأخلاق كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: (يا عائشة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة) وقال الشاعر: لو أنني خيرت كل فضيلة ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق كل الأمور تبيد منك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باق وحسن الخلق يشتمل على أمور كثيرة منها: معاملات الخلق بالإنصاف والعدل ومنها: حفظ سمت العرب وأخلاقهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ومنها بذل النفس والمال والنصح في محاله ومواجبه. (الأمر الثالث) الحزم في جميع الأمور: منها ما رواه بعض الأدباء عن انحطاط دولة بني العباس فقال أحدهم للآخر: إنهم قربوا أعداءهم تأليفًا لهم، وأبعدوا أصدقاءهم وثوقًا بهم، وخزنوا المال، وأهملوا الجند، وتركوا حقوق الناس، فلما وقع الأمر، وادلهم الخطب، وثب عليهم عدوهم، وتباعد عنهم صديقهم، وصار الجند في ضعف، ولم ينفع المال لفوات الفرصة. ويجب الحزم في مواقف أهمها تقريب المتقدمين من جميع الأصناف سواء منهم من كان قريبًا أو بعيدًا، وأخذ خواطرهم، وعدم تركهم سدًى وإبعادهم بعلة بسيطة لا تلحق بالدين ولا بالولاية، وأن يتألف من كان من الرعية على قدر عقله، ويجلب خيره ويدفع شره، وأن تكون الحامية موجودة في كل محل ممن يوثق به وثبتت بالتجربة أفعاله، وأن يؤمر الناس جميعهم بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يعاملوا بالعدل، ولا شيء أعدل من شريعة محمد، أما في الأمور التي تحيلها الشريعة إلى الولاية فهذه ينظر فيها حسب المصلحة والأشخاص والأوقات بدون تشنيع أو تنفير، وعدم مداهنة أو إرخاء العنان، والدليل على ذلك قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125) وقوله: {وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران: 159) . ثم بعد ذلك تفهم أن كل شيء له حامية ومرجع، ومرجع المسلمين وحماة دينهم علماؤهم، فالعلماء كالنجوم، زينة للسماء، وقدوة للسائرين، ورجوم للشياطين، وليس العلماء في المقام على السواء، منهم من يؤخذ عمله ورأيه، ومنهم من يؤخذ علمه ولا يناقش في الرأي؛ لأن أخذ الرأي من الكبير الذي يعرف الأمور، وعدم العمل برأيه ليس بطيب، إنما يعمل مثل ما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى) [1] والعمدة على كل حال على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله والسلف الصالح والخلفاء الراشدين، ومن حذا حذوهم من الأمم ورؤساء المسلمين سابقًا ولاحقًا. وعليك بحفظ العهود والمواثيق كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً} (الإسراء: 34) سواء كان العهد مع بار أو فاجر، عملاً بقوله: {فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} (الأنفال: 58) لأن الغدر مذموم في الشرع وعاقبته وخيمة مع أي كان [2] . ثم عليك أيضًا النظر في مصالح المسلمين وولايتهم في الصلح والحرب وفي جميع الحوادث، فما كان من التمادي فيه مصلحة للمسلمين أو كف شر، فهذا واجب العمل به، وما كان منه سعي وراء طمع أو إرهاق للنفوس فيجب التروي فيه كما قال الشاعر: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني وكما قيل: وأحزم الناس من لم يرتكب عملاً ... حتى يفكر ما تجني عواقبه والتبصر والتفكر والتعقل مذكور في كتاب الله وهو المُعَوَّلُ عليه. ثم بعد ذلك عليك النظر في أقوال الناس وأهوائهم وآرائهم والتثبت في ذلك كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6) فالتأني في تبين أمور الناس والتفكر فيه وعدم العجلة به يظهر الحقيقة ويحل المشكل. ثم بعد ذلك عليك النظر في حال النفس، وما تحتوي عليه من عز وشرف ولذات، فهذا أمر شاق وجهاد كبير، ولا علاج له إلا ثلاثة أمور: (الأول) التضرع إلى الله بقول: اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي فبالاستعانة به يُكْفَى ابن آدم شر كل شيء. (الثاني) يعرض الإنسان ما بدا له وما طمح إليه على كتاب الله وسنة رسوله فما وافقهما عمل به وما خالفها تركه والله سبحانه خير عِوَض في كل حال من الأحوال (الثالث) النظر في أفعال الرجال من أهل العلم والعمل والحقيقة؛ لأن في اتباعهم خير قدوة. ثم عليك بعد ذلك النظر في المعاملات الداخلية من أي جهة كانت سواء في الأمور الاقتصادية، أو في حالة الأمراء وأعمالهم مع الولاية والرعية، أو في الوزراء وسيرتهم، أو في حالة الناس فيما بينهم، فإذا دقق الإنسان النظر في هذا مع إخلاص النية وحسن القصد تبين له الأمر، وكان على بصيرة وهداية. ثم بعد ذلك عليك النظر في الأمور الخارجية وأحوال الزمان وتقلباته مع الدول، ومعرفة الحكومات ومواقفها ونواياها (نياتها) وقواعد سياستها التي تسير عليها في علاقاتها الخارجية. والدول كالأفراد تتألف وتتفق طبقًا للأغراض والمصالح، وأساس صلاتها قائم في تبادل المصالح وتقارض المنافع ودفع الأذى وحماية الثغور، فعليك التبصر في سياسة كل دولة ومعرفة أغراضها معرفة حقيقية تمكنك من انتهاج خطة صريحة حيالها، فيما يُولِّيكَهُ الله من بلاد أنت المسئول عن المحافظة على حرماتها ودفع العدوان عنها، وجلب الخيرات واستكثار المصالح والمنافع لها. وعليك الحذر والتأني في تلقي ما يُنْقَل إليك من الأخبار عن نوايا الدول، وخذ ما يلقى إليك بالعقل والروية ولا تَسِرْ فيه بحكم الهوى والأماني، واحذر من كلام يظهر لك في ظاهره النصح، وهو كلام حق يُرَاد به غيره، واتخذ ديدنك النظر فيما كان من أفعال الحكومات ومواقفها تجاهنا، واجعل سياستك قائمة على مصافاتها باطنًا وظاهرًا ومسالمتها سرًّا وعلانية، واعلم أيضًا مقامك ومقام بلادك بين المسلمين وبين أبناء قومك العرب، ولا تنس واجبك تجاه كل مسلم وكل عربي، واعمل في كل ذلك كما قيل: لكل مقام مقال ولكل يوم شأن. الحقيقة أنني قد أطلت عليك الكلام، وهذا شيء لم أرده ولا يمكن أن تعمله بالعجلة. ولكن إذا أحسنت النية من جهة الله وسألته التوفيق، واستخرت وشاورت أهل الخبرة الناصحين، وكل فن عرفته من المختصين به فبحول الله وقوته على طول الزمان تحصل النتيجة. أحببت أن أبين لك ذلك حتى تضعه نصب عينيك وتفكر فيه في فراغك؛ لأن هذا من واجبات الدين وواجبات الولاية، ومن الخواص التي لا يستغني عنها ولاة الأمور. نرجو من الله أن يوفقنا وإياك لما يحبه ويرضاه وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم، يوم الجمعة أول صفر سنة 1352 ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز *** جواب سمو ولي العهد مولاي جلالة الملك المعظم: عرضت على جلالة سيدي ما كان من أمر البيعة، وقد قرئ كتابكم الملوكي الذي حوى تلك النصائح الثمينة لخادمكم. والحقيقة أنه يصعب عليَّ بيان ما كان لها من الوقع العظيم على مملوككم، وعلى جميع المسلمين الحاضرين، فإنها من أثمن النصائح وأجلها قدرًا، وقد قوبلت من الجميع بالدعاء لجلالتكم بطول العمر ودوام التأييد والنصر. ومعلوم سيدي أننا لو فعلنا مهما فعلنا لا نتمكن من الرد على جوابكم، إلا أننا نسأل الله أن يديم بقاءكم ولا يرينا ولا المسلمين فيكم أي مكروه، وأن يلهمنا رشدنا ويعيذنا من شرور أنفسنا. وأرجو من الله، ثم من حضرة سيدي الدعاء لمملوكه بالهدى والتوفيق، وأن الله يرزقنا السعي فيما يرضي وجهه، ويوفقنا لخدمتكم وخدمة عامة المسلمين والله يديم جلالتك ذخرًا وسندًا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الابن سعود

مقاومة المبشرين وتخاذل المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقاومة المبشرين وتخاذل المسلمين تشتد جرأة دعاة التنصير في مصر عامًا بعد عام بما ظهر لهم من ضعف الغيرة الإسلامية وانهماك المسلمين في الشهوات والأهواء حتى كادت الإباحة تعم الطبقات الوسطى تقليدًا للطبقات العليا في التفرنج والفسق، لا في الفضيلة والعلم. وقد تفاقم الأمر في هذا العام، وظهر احتقارهم للأمة والحكومة فعرفه الخاص والعام، وأكثرت الجرائد من نشر حوادثهم المنكرة، ولا سيما إغواء البنات في المدارس، فهب بعض أولي الغيرة للدفاع عن دينهم وشرفهم، ووجهت دعوة خاصة للاجتماع في نادي جمعية الشبان المسلمين للبحث في طرق المقاومة والدفاع، فاستجاب لها جمهور عظيم من الطبقات المثقفة، من المستقلين والمنتمين إلى الأحزاب المختلفة، وعقدوا جلسة اختاروا لرياستها الأستاذ الأكبر الحازم الشيخ محمد مصطفى المراغي، فوضعوا أساسًا لاجتماع آخر ينظر فيه ما وضعوه من المبادئ العامة للعمل لتقرير ما يرونه منها وتأليف جمعية لتنفيذه. وقد اقترحت في هذه الاجتماع الأول خمسة أمور: (1) أن توجه الدعوة إلى العلماء في مصر وغيرها. (2) إلى خطباء المساجد ووعاظها للاشتراك في العمل. (3) أن يكتب إلى بطاركة الطوائف المسيحية كلها خطاب من الجمعية الرسمية بعد تأسيسها يبين لهم فيه أن العمل لمقاومة أعمال دعاة التنصير المعتدين على المسلمين الطاعنين على دينهم وكتابهم ونبيهم، يُتَحَرَّى فيه عدم مقابلتهم بمثل مطاعنهم، ويُتَّقَى فيه كل قول وعمل يُخِلُّ بما بين المسلمين وسائر الطوائف التي تعيش معهم في هذا القطر الآمن الحر بالمودة والتعاون على جميع المصالح والمنافع الوطنية. (4) إلى الحكومة بما يجب عليها. (5) تأليف لجنة للدعاية والنشر تؤلف وتترجم الكتب والرسائل وتنظم الأناشيد والقصائد، وتنشرها في البلاد الإسلامية كلها. كان هذا الاجتماع في 29 صفر الماضي ثم عقد الاجتماع الثاني بعد أسبوع، ولم أحضره لعذر عرض لي، وقد قرروا فيه تأليف جمعية عامة باسم (جمعية الدفاع عن الإسلام) وانتخبوا لها لجنة تنفيذية وانتخبوا للرياسة العامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي، وأن تكتب اللجنة خطابًا يوجه إلى جلالة الملك، وخطابًا آخر إلى الحكومة المصرية، وثالثًا إلى الأمة، ورابعًا إلى وزراء الدول المفوضين لدى الحكومة، ثم شرعت في العمل ووضعت له نظامًا عامًّا ربما ننشره في جزء آخر. وكانت الجرائد قد أكثرت من مطالبة مشيخة الأزهر بالعمل في هذه السبيل، وطفق بعضها يدعم المطالبة بشيء من اللوم والتثريب، فاجتمعت هيئة كبار العلماء برياسة رئيسها الشيخ الأكبر شيخ الجامع الأزهر في اليوم الثالث من شهر ربيع الأول وقررت أمرين: (أحدهما: مطالبة الحكومة بأن تسن تشريعًا حازمًا حاسمًا يجتث بذور هذا الفساد، ويستأصل شأفة هذا المرض الوبيل الفتاك، كي يطمئن المسلمون على الدين الإسلامي والقرآن المجيد، وكي يكون أولادهم وإخوانهم وأقاربهم في مأمن من أن تصل إليهم يد بالاعتداء والإغراء لتحويلهم عن دينهم، وقد عهدت الهيئة إلى رئيسها شيخ الجامع في تنفيذ ذلك. والأمر الثاني: إصدار بيان إلى الأمة الإسلامية نشرت نصه، وخلاصته ذكر مجمل مما نشر في الجرائد من أعمال هؤلاء الدعاة إلى التنصير والنصح للأمة بالحذر وما يجب عليها من إحباط أعمالهم، وحثها على إنشاء مثل ما لهم من المستشفيات والمدارس والملاجئ التي هي وسائل التنصير عندهم. فأما هذا النصح فهو حسن، وهو أسهل ما يكتب وأهون ما يقال، وأما ذلك التشريع الذي قرروا مطالبة الحكومة به فهو غريب غير معقول، ولن يكون له عند الحكومة نصيب من القبول، ولا ندري كيف ينفذه شيخ الأزهر وهو أتبع للحكومة من ظلها، وأغرب ما فيه جعل الغاية منه اطمئنان المسلمين على الدين الإسلامي والقرآن المجيد، فهل ترى هيئة كبار علماء الأزهر أن المسلمين مضطربون خائفون على زوال الإسلام والكفر بالقرآن، مما يبثه دعاة التنصير السفهاء من الزور والبهتان؟ ثم هل تعتقد الهيئة (بارك الله فيها) كما يدعو شيخ الأزهر - أن يزول هذا الاضطراب والزلزال، ويخلفه الأمن والاطمئنان، بتشريع حازم يضعه مجلس الوزراء؟ وكيف يضع ما يعجز عن تنفيذه؟ ندع بسط الكلام في هذه المسألة إلى أن ينفذ شيخ الأزهر قرار هيئة علمائه إن نفذه، وقبل الانتقال إلى غيره نقول: إن جميع مطاعن الكفار في القرآن لا يُخْشَى أن تصرف المسلمين عن هدايته وتحجب عنهم نوره بقدر معشار ما تفعله مجلة مشيخة الأزهر (نور الإسلام) في تحريمها عليهم الاهتداء بهذا النور المبين؛ لزعمها أنه غير جائز إلا للأئمة المجتهدين، فإنها طعنت في الإمام الشوكاني أقبح الطعن؛ لأنه أنكر على المقلدين العمل بكلام علماء مذاهبهم المخالف لكتاب الله تعالى، وحثهم على تقديم كلام ربهم على كلام علماء مذاهبهم، وعدت هذا طعنًا منه في أئمة المذاهب، كأن مفتي هذه المجلة وناشر هذا الضلال فيها وهو من هيئة كبار العلماء التي تريد حماية القرآن من المبشرين يرى أنه لا يوجد في كلام علماء المذاهب ما يخالف القرآن إلا كلام أئمتهم، فامنعي أيتها الهيئة لكبار العلماء أفرادك عن صد المسلمين عن هداية القرآن والاستضاءة بنوره قبل أن تطالبي الحكومة بوضع شريعة تمنع المبشرين من عملهم وما هي بفاعلة. وقع تأليف جمعية الدفاع عن الإسلام (من أحرار العلماء وزعماء الأحزاب، وكبار الكتاب ومديري الجرائد المشهورة) كالصاعقة على رءوس الحكومات التي تنتمي إليها جمعيات التنصير وتتولى حمايتها، وحسبوا ألف حساب لتنبيهها الشعور الإسلامي العام لعداوة من يعادون الإسلام ويحقرونه ويحاولون إطفاء نوره، وأعلنت الجرائد الإنكليزية الكبرى في عاصمتهم هذا الخوف، وظاهرتها الجرائد الألمانية والأميركانية، ودب دبيبها إلى الجرائد اللاتينية، فاستولى الرعب على الحكومة المصرية كدأبها مع الإفرنج عامة، والإنكليز خاصة، فبادرت إلى منع (جماعة الدفاع عن الإسلام) من عقد الاجتماعات العامة لدعوة المسلمين إلى التعاون على هذا الدفاع ببذل المال، وما يجب في ضمن دائرة القانون والاعتدال من الأعمال، ثم منعت سائر الجماعات والخطباء من مثل ذلك، وأمرت مشيخة الأزهر بتأليف لجنة من هيئة كبار العلماء تقوم بما تراه الحكومة من العمل الواجب الذي لا يثير سخط الأجانب، فنفذت مشيخة الأزهر الأمر، ولم يلبث أن انكشف الستر، وذاع السر، بما نشرته جريدة التيمس الإنكليزية الشهيرة، ثم بما فاه به معالي وزير المعارف في خطبته المأثورة، وهكذا شأن المسلمين منذ حل غضب الله عليهم، وبخذل بعض كبرائهم بعضًا في كل مصالحهم، ومن فروع هذا الخذلان طعن بعض جرائد المسلمين على لجنة الدفاع عن الإسلام، واتهامها بضد سعيها أي بمصانعة الإنكليز والتقصير في مقاومة التبشير، وإنما كانت هذه الجرائد هي الخادمة للإنكليز وللمبشرين بهذا الطعن، وإن كانت تعاليم في السياسة.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (نقض مطاعن في القرآن الكريم) كتاب جديد صنَّفه الأستاذ الشيخ محمد عرفة من علماء الأزهر المدرسين ووكيل كلية الشريعة فيه، وكان القصد من تصنيفه الرد على مطاعن في القرآن العظيم عُزِيَ إلى الدكتور طه حسين الكاتب الشهير أنه ألقاها على طلبة كلية الآداب أيام كان مدرسًا فيها، شرع الأستاذ المؤلف في هذا الرد، وجاءني بالقسم الأول منه، ورغب إليَّ أن أطبعه له في مطبعة المنار وأتولى تصحيحه وأعلق عليه من الحواشي ما أراه عند التصحيح، وأن أضع له مقدمة تؤيد موضوعه، فأجبته إلى ذلك. شرعت في الطبع وكتبت المقدمة التي رآها قراء المنار في الجزء الماضي منه وأطلعته عليها فسُرَّ بها، ولما تم طبع النقض ملتزمًا فيه ما ذكره في أوله من الشرط، عَنَّ له الزيادة عليه، ثم استحسن أن يضم إليه ما كان كتبه في الرد على كتاب الدكتور طه (في الأدب الجاهلي) ونشره في الصحف ليحفظ ذلك في كتاب واحد، فكان كتابًا جامعًا في بابه، فصيحًا في عبارته، قويًّا في حجته، حسن الوقع عند قرائه، أحسنت الصحف تقريظه، وأثنى كثير من كبار الكتاب على مؤلفه، وأطنب أمير البيان الأمير شكيب أرسلان في تقريظه في كتاب خاص أرسله إليَّ. وكان من تأثير وقعه أن أنكر الدكتور طه حسين في جريدة كوكب الشرق التي يتولى تحريرها ما عُزِيَ إليه من تلك المطاعن أنه ألقاه في كلية الآداب، فسررنا بهذا الإنكار، وتمنينا لو كان قبل ذلك، ونتمنى بعده لو يكتب مقالا آخر حافلاً في دلالة إعجاز القرآن على أنه وحي من الله عز وجل أنزله على محمد رسوله الله وخاتم النبيين، وأن كل انتقاد وجه إلى سماء عصمته فهو من أباطيل أعدائه من دعاة النصرانية أو الملحدين، ليهدم بذلك ما اشتهر به من الطعن في الدين وغيره وصنفت فيه كتب أخرى، فقد ظهر مما بثه بعض الكُتَّاب في هذه الأمة من فساد العقائد، وإباحة الفواحش والرذائل، وانفصام عُرَى الآداب والفضائل، ما ينذرها بالانقراض والزوال، بما هو مشاهد من إباحة الأعراض المخربة للبيوت المفنية للأموال، وإن الدكتور لأقدر من علماء الأزهر على مقاومة هذا التيار بقلمه السيال، إذا حوله من السحر الحرام إلى السحر الحلال. ومن سخافة مجلة نور الإسلام أن عداوتها العلمية الدينية للمنار لإظهار جهلها والرد على بدعها قد ظهر أثرها في الأمور الإدارية والأخبار التاريخية، والمجاملات الصحفية، فإنها قرظت هذا الكتاب فلم تذكر أنه طبع في مطبعة المنار، وأن صاحب المنار صحَّحه وعلق حواشيه، وكتب له مقدمة نفيسة زادت رده قوة على قوة، بل نقلت منه عبارة من عباراته في الرد قصر فيها المؤلف فوضع لها المصحح حاشية طويلة نفيسة نقلتها نور الإسلام مع أصلها، فدل ذلك على أنها من قلم المؤلف وهو كذب وزور، وكان يجب أن تتنزه عنه مجلة دينية هي لسان مشيخة الأزهر، فإن كانت فعلت ذلك عن غفلة لا عن عمد فالواجب عليها وقد علمت الحق أن تبينه في جزء آخر، فهل هي فاعلة؟ المُطَالب بهذا الواجب مديرها عبد العزيز بك محمد الذي كان صديقنا ومن مشتركي المنار من أول العهد بظهوره، ومن أكثر الناس زيارة لنا. فاستفاد منا ثم جفانا بدون سبب، وذلك أن الأستاذ الإمام كان أمره بترجمة كتاب (إميل القرن التاسع عشر) للمنار خاصة فكان يترجمه ترجمة كثيرة الأغلاط العربية فنصححها بما تعلم به الكتابة وتنقيح الإنشاء في الجملة، ولولا تصحيحنا لما كانت الترجمة تفهم [1] وبعد إتمام نشرنا إياه في المنار طبعناه مرتين بنفقتنا ونفقته وجعلنا حق الطبع محفوظا لنا كلينا، وحقه أن يكون لنا وحدنا. فلما راج الكتاب طلب مني أن أكتب له أنني جعلت له حق إعادة الطبع فامتنعت؛ لأنه باطل لا موجب له، وما زال يلح حتى قلت: أتخاف إن طبعته أن أرفع عليك قضية؟ إنك إن طبعت تفسير المنار لا أقاضيك. فما كان منه إلا أن طبع الكتاب وحده وادعى أن حق الطبع له وحده وحذف من مقدمته ما كان اعترف به من الفضل لي بتصحيحه، وكان حسن ظني في دينه ومودته ألا يفعل، ولكنه فعله مرة بعد مرة، ولم أرفع عليه قضية بهذا الاعتداء فكان جزائي منه الهجر والعداء بعد طول الود والولاء. بلغت صفحات هذا الكتاب 168 صفحة من قطع رسالة التوحيد، وثمن النسخة منه خمسة قروش يضاف إليها أجرة البريد (للخارج 3 قروش) ويطلب من مكتبة المنار بمصر. *** (الوحي المحمدي) (ثبوت النبوة بالقرآن ودعوة شعوب المدنية إلى الإسلام) (دين الأخوة الإنسانية والسلام) جمعنا ما كتبناه في التفسير من مباحث إثبات الوحي المحمدي وإعجاز القرآن وحاجة جميع البشر إلى هدايته في كل زمان ومكان، وكونها هي العلاج الوحيد لمفاسد الإلحاد والإباحة وتعادي الشعوب والدول واستعدادها للحرب العامة المدمرة للعمران، وزدنا عليها، وتحدينا علماء الإفرنج وغيرهم بها، ودعوناهم بما أقمنا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من البراهين العلمية والفلسفية والاجتماعية إلى الاهتداء بالإسلام؛ لإنقاذ حضارة العصر وأهلها به من الخطر المنتظر. جمعنا ذلك في كتاب واحد ووضعنا له مقدمة بَيَّنا فيها شعور علماء الإفرنج إلى هداية الدين والحُجُب الثلاثة التي حالت بينهم وبين فهم القرآن، وكونه كلام الله الذي لا يحتاج البشر معه إلى هداية أخرى، ويراها القراء في هذا الجزء بلغت صفحاته زهاء مائتي صفحة وزعنا منه نسخًا كثيرة على الجمعيات الإسلامية والصحف الشرقية والغربية وعلماء الإفرنج المستشرقين، وقد شهد من اطلع عليه من علماء الدين وعلماء الدنيا بأنه لم يُؤَلف مثله في الإسلام، وأنه يغني عن جميع ما كتب العلماء في عقائد الإسلام في إثبات النبوة وإعجاز القرآن، وأنها كلها لا تغني عنه، فهو الجدير بتدريسه لطلبة المدارس الثانوية والعالية، وأن يعتمد عليه في دعوة أمم المدنية إلى الإسلام وفي صد هجمات الملاحدة والماديين على الدين، وفي إلقاء شبهات دعاة التنصير في أسفل سافلين، وسيترجم ببعض اللغات الشرقية والغربية، ويظهر إن شاء الله تعالى أنه خير مفسر للمثل العظيم في نور الله الذي يوقد من شجرة مباركة، زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار. وقد جعلنا ثمنه رخيصًا جدًّا لا يكفي ما يباع منه نفقة ما يوزع منه مجانًا، فالنسخة من الورق الصقيل الجيد ثمانية قروش مصرية، ومن الورق المتوسط خمسة قروش فقط. وأجرة البريد قرشان. *** (صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان) من المشهور أنه لما ظهر الإصلاح والتجديد الإسلامي في جزيرة العرب بدعوة الشيخ محمد عبد الوهاب الشهير خافت منه الدولة التركية أن يوقظ الأمة العربية من رقادها، ويُخْرجها من ظلمات جهلها وتفرقها الذي عادت به إلى جزيرتها جاهليتها، فتُجدِّد ملكها، وتُحيي الخلافة الإسلامية الميتة، فيتقلص ظل الحكم التركي عن البلاد العربية كلها، فاتفقت مع أشراف الحجاز وحكومة مصر على مقاومة هذه الدعوة بنشر دعاية في جميع البلاد الإسلامية من عربية وغير عربية، تصف به دعوة تجديد الإسلام بأنها ابتداع مذهب جديد مخالف للمذاهب الإسلامية المتبعة عند أهل السنة ولمذاهب الشيعة بالأولى، ولم تكتف بذلك بل حاربت العرب طلاب التجديد ونبزتهم بلقب الوهابيين. وهذا أمر معلوم وقد بيناه مرارًا بمناسبات مختلفة. وبيَّنا أيضًا أن كثيرًا من العلماء المنافقين قد تقربوا إلى حكامهم بتأليف كتب في الرد على هؤلاء المجددين، الذين عرف علماء الإفرنج ومؤرخوهم من حقيقة أمرهم ما لم يعلمه أكثر علماء المسلمين. وأقول الآن: إن الشيخ أحمد زيني دحلان الذي كان مفتي مكة المكرمة وكبير علمائها قد ألف في أواخر القرن الثالث عشر كتابًا أو رسالة في الطعن على هؤلاء الوهابية رآه الحُكَّام أجمعَ ما كُتِبَ في الافتراء عليهم وعلى شيخهم، وفي الاحتجاج على بدع القبوريين المنكرين عليهم فنشروه في الأقطار، ووافق أهواء مبتدعة الزمان، فأخذوا أقواله ونُقُوله بالقبول والتسليم حتى الآن، فكل ما رآه المطلعون على مجلة مشيخة الأزهر (نور الإسلام) من الطعن فيها على الوهابية وانتزاع الشبهات لعابدي القبور على شرعية عبادتها هو بعض من كتاب دحلان هذا. وقد كتب في الرد على دحلان غير واحد من العلماء فكان أقواهم حجة، وأتمهم استقصاء، عالم من أعظم علماء الهند أدرك الشيخ دحلان ولقيه وناظره في مكة المكرمة في فجر هذا القرن (وقد توفي الشيخ دحلان سنة 1304منه) ولما عاد إلى الهند رد على كتابه في سفر كبير سماه (صيانة الإنسان، عن وسوسة الشيخ دحلان) لم يدع له صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وحكم الدلائل الصحيحة فيها. هذا العالم الكبير هو الشيخ محمد بشير السهسواني المفسر المحدث الأصولي الفقيه النظار الذي اعترف له منصفو علماء عصره بأنه بلغ رتبة الاجتهاد، ومن مناقبه أنه ناظر مسيح الهند القادياني الدجال فألقمه الحجر، حتى فر من إتمام المناظرة واعتذر، وقد طبع هذا الكتاب بالهند في عصر مؤلفه وعزي إلى أحد تلاميذه كما يفعل بعض العلماء مثل هذا لحكمةٍ تقتضيه، وقد توفي الشيخ بشير في سنة 1326 فرثاه بعض العلماء بمرثية جاء فيها أن تاريخه عدد كلمة (مغفور) بالجمل. ثم أعيد طبع هذا الكتاب في هذه الأيام على نفقة جماعة من الحجازيين والنجديين في مطبعة المنار طبعًا جميلاً متقنًا وصدر بترجمة للمؤلف منقولة من كتاب (الياقوت والمرجان، في ذكر علماء سهسوان) مترجمة بالعربية عن اللغة الأوردية بقلم أحد علماء الهند، يليها مقال طويل لنا في التعريف بالكتاب وبيان مزاياه، وقد بلغت صفحات الأصل وحده 576 صفحة. ومن أهم مباحثه الحافلة الوافية التي زدناها بيانًا في المقدمة، تحقيق المراد من كلمتي (السنة والجماعة) ومعناهما في الأحاديث النبوية وآثار السلف الواردة في الحث على اتباعهما والترهيب من مفارقتهما، وكذا كلمة (السواد الأعظم) ، والفرق بين المراد من هذه الكلمات في عصر السلف وفي هذا العصر، وتضليل أدعياء العلم المعاصرين ومن على مقربة منهم بإيهامهم الناس في كل قطر أن أكثر الذين يسمون المسلمين في كل عصر يصح فيه أن يطلق عليهم اسم جماعة المسلمين، وأن حكمهم حكم الذين كان يطلق عليهم ذلك في عصر الصحابة والتابعين، الذين كان إجماعهم حجة في الدين حتى عند من ينكر حجية الإجماع الأصولي أو وجوده من غير الصحابة كالإمام أحمد، ويجزم بأن أكثرهم كانوا على الحق والهدى، وأن رأي مخالف الأكثر من أفراد علمائهم محل اجتهاد ونظر، وهذا الإضلال الذي ينشره بعض محرري مجلة مشيخة الأزهر كالشيخ يوسف الدجوي لا يصح إلا قاعدة للذين يقولون: إن دين كل قوم ما هم عليه، أو ما عليه الأكثرون منهم، وإن كان مخالفًا لنصوص كتابهم، وما كان عليه نبيهم وأصحابه، فهذا الكتاب يقيم لك الحُجَج على أن مخالفي الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح إلى اتباع البدع أو المعاصي لا يصح أن يسموا جماعة المسلمين الذين وردت الأحاديث والآثار باتباعهم، خلافًا لمجلة مشيخة الأزهر فإنها تدعي أنهم هم الجماعة في عصرنا، وأن المنكر عليهم وهابي منكر على المسلمين خارج على جماعتهم، وأن احتجاجه على ذلك بآيات القرآن في أصول التوحيد، وبالأحاديث الصحيحة المتفق عليها في لعن الذين يتخذون قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد، والذين يضعون عليها السرج والمصابيح، وقوله صلى الله عليه وسلم

وفيات الأعيان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفيات الأعيان (الشيخ عبد الفتاح الزعبي الجيلاني) توفي في هذا الصيف، ولم أعلم بوفاته في وقتها فكتبت إلى أكبر أنجاله (الشيخ محمد والشيخ علي) تعزية سألتهما في كتابها عن تاريخ الوفاة وسببها، وعن مسائل أخرى أحب ذكرها في ترجمته، فمضى زُهَاء شهرين ولم يرجع إليَّ الجواب. السيد عبد الفتاح هو نقيب السادة الأشراف في طرابلس الشام والخطيب المدرس للجامع الكبير المنصوري فيها، وسيد كبرائها وأعيانها، وشيخ الطريقة القادرية، من أسرة الزعبية التي تقيم في قرية مشحة وحصن الأكراد من ملحقات طرابلس وينتهي نسبهم إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني الحسني أكبر أئمة الصوفية وأقطابهم في عصره. طلب العلم في طرابلس على شيخ الشيوخ العلامة الشيخ محمود نشابة، ولم أسمع منه أنه أدرك جده الشيخ نجيب الزعبي وكان من كبار العلماء، وممن أخذ عنه العلامتان الشيخ عبد الغني الرافعي والشيخ أحمد أفندي سلطان، وكان السيد عبد الفتاح من أذكى الأذكياء، وأفصح الفصحاء، له شعر كثير، وديوان خطب جمعية خرجت له أحاديثه، وكان الحكام يهابونه لجرأته على النقد. كان رحمه الله تعالى من أصدق أصدقائنا وبين بيتهم وبيتنا مصاهرة فقد كانت عمته زوج عم والدي السيد أحمد أبي كمال، خطبها إلى جده الشيخ نجيب أكبر وجهاء طرابلس وأغنيائها فأبى؛ لأنهم لم يكونوا شرفاء النسب، وكان كبار الشرفاء إلى عهده يحافظون على هذا، وأقدر أنه أتم في العقد التاسع من عمره أو كاد وقد تزوج في شيخوخته عذراء وله منها أطفال. وآخر ما كتبه إليَّ تقريظ للجزء العاشر من تفسير المنار، تمنى فيه أن يجد قوة لقراءة هذا التفسير درسًا في الجامع الكبير، رحمه الله رحمة واسعة، وأحسن عزاء أنجاله وسائر أسرته الشريفة. *** (الشيخ محمود خطاب السبكي) بعد صلاة الجمعة 14 من شهرنا هذا (ربيع الأول) فجأت المنية هذا الأستاذ الكبير، والعلم الشهير، وقد كان إمامًا في الهداية إلى العبادة والتقوى والنهي عن البدع والمعاصي يتبعه ألوف كثيرة منتشرون في القطر المصري كله ينسبون إليه، وكان مواظبًا على التدريس وله مصنفات كثيرة مطبوعة آخرها شرح لسنن أبي داود صدر منه خمسة أجزاء، ولم أطلع على شيء منها، فرحمه الله تعالى، وجزاه أفضل الجزاء.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (س13-15) من صاحب الإمضاء في برلين (أوربة) بعد مقدمة طويلة. (1) لِمَ فضَّل الله تعالى اليهود وهم أرذل الأقوام وأشنعهم ومفسدون في الأرض، وكل الفساد الأخلاقي والاقتصادي والسياسي ناشئ منهم فقط كما قال تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 12) وإنهم أشد الناس عداوة للناس ولا سيما للمسلمين. فإذن ما معنى قوله تعالى: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ} (البقرة: 47) (2) لِمَ ورد في كلام الله القديم قصص بعض الرسل كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام مرارًا كثيرة مثلا قصة عيسى عليه السلام أكثر من سبع عشرة مرة وقصة موسى عليه السلام أكثر من سبع وعشرين مرة إلخ. (3) لماذا جمع أبو بكر وعثمان - أيْ الهيئة المخصوصة لجمع القرآن زمن خلافتهما - على غير ترتيب نزوله؟ فإن أمكن اليوم جمعه على ترتيب نزوله؟ فإن أمكن أيصح؟ تلميذكم الداعي المخلص: ... ... ... ... ... ... ... عالم جان إدريس ... ... ... ... ... ... ... ... في برلين (أجوبة المنار) 13- معنى تفضيل بني إسرائيل على العالمين على مفاسدهم: إن تفضيل بعض الشعوب على بعض من الأمور النسبية التي تختلف باختلاف الأجيال والزمان والمكان؛ وباختلاف مراد المفضل من التفضيل، وإذا أطلق التفضيل في كتاب الله يراد به الديني منه، وإلا بينه كقوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} (النحل: 71) وإنني أبين جواب السائل بشيء من التفصيل. يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) ويقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (الحديد: 26) فعلم منه أن التفضيل خاص بالمهتدين بكتب الله تعالى للأنبياء الذين بعثوا فيهم من ذرية إبراهيم بعد نوح عليهما السلام. وقد كان الأنبياء في بني إسرائيل أكثر منهم في غيرهم من الشعوب والمهتدون منهم أكثر من غيرهم لأولئك الأنبياء، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ} (النمل: 15) فهذان نبيان من أعظم أنبيائهم يحمدان الله تعالى أن فضلهما على كثير من عباده المؤمنين لا على جميعهم. وإن من قواعد الشرع الإلهي العام أن الغُرْم على نسبة الغُنْم فمن كان ثوابه على الإيمان والطاعة مضاعفًا كان عقابه على الكفر والمعصية مضاعفًا وقد أنذر الله بني إسرائيل على لسان موسى ومن بعده من أنبيائهم أشد النذر إذا هم نقضوا عهده بالكفر والمعاصي كما تراه في كتبهم المقدسة من العهدين القديم والجديد، وفي القرآن العظيم المهيمن على جميع تلك الكتب، وفيه وصف لشدة كفرهم وبغيهم وقتلهم الأنبياء بغير حق، وما عاقبهم به من اللعن وسلب الملك وضرب الذلة عليهم بفقد الملك، وتسليطه عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، وأنهم لن يعتزوا بأنفسهم، بل بسيادة غيرهم، كما قال تعالى: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ} (آل عمران: 112) فحبل الله شرعه الإسلامي الذي أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم، فرفع ظلم الرومان وغيرهم عنهم، وحبل الناس خضوعهم للدول التي تحميهم، وكل هذا معروف في تاريخ دول الإسلام، وواقع مشاهد في بعض بلاد أوربة الآن، وإن اعتزوا في بعض آخر وأحدثوا ما نعلم من انقلاب. وأما ما يؤيد تفضيلهم على غيرهم من ناحية الخصائص القومية والوراثة والتربية فيؤخذ من التاريخ الديني والمدني، وهو ما أجمله لنا القرآن على سنته في بيان سنن الاجتماع بالإيجاز، إلى ما فصلته أسفار التوراة من معاندة موسى عليه السلام في صحاري سيناء بعد إنقاذ الله تعالى إياهم على يديه من استعباد فرعون وقومه وإذلالهم لهم، وتعبر عنهم أسفار التوراة بالشعب الصلب الرقبة، حتى انقرض في مدة التيه - وهي أربعون سنة - أولئك الأذلاء الجبناء الذي تربَّوْا تحت حجر الوثنية والعبودية، ونشأ فيه جيل جديد تربى في حجر الشريعة المؤسسة على عقيدة التوحيد الخالص وآيات النبوة، وقشف البادية، فسلطهم الله على أولئك الوثنيين المفسدين في بلاد فلسطين ونصرهم عليهم، وأدال لدين الله وشرعه من عبادة الأوثان، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ العَذَابِ المُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المُسْرِفِينَ * وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى العَالَمِينَ * وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُّبِينٌ} (الدخان: 30-33) فالمراد بالعالمين الذين اختارهم عليهم القبط والفلسطينيون الذين نصرهم عليهم، وأنشأ لهم ملكًا عظيمًا من بعد ذلهم. ثم سلبهم الله هذا الملك بما كفروا من نعمه، وأشركوا في عبادته، كما بيَّنَ تعالى هذا في أول السورة التي سميت باسمهم؛ إذ قال: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً} (الإسراء: 4) إلى قوله: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} (الإسراء: 8) وهو بيان لما عوقبوا به من القتل والسبي مرة بعد أخرى، ولسنة الله فيهم بعد ذلك. وقد انقضى كل ما كان لبني إسرائيل من التفضيل الديني على غيرهم إلى الفرع الآخر من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهم العرب ببعثة محمد رسول الله وخاتم النبيين الذي بشرهم الله تعالى به على لسان موسى وعيسى ومن كان بينهما من النبيين كما بيَّناه بالشواهد الكثيرة في مواضع من تفسير المنار أوسعها تفسير آية الأعراف: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157) من الجزء التاسع. وقد بيَّن الله لهم وللناس غرورهم بما كان من تفضيل الله لسلفهم من الأنبياء والذين اهتدوا بهم بأنه ليس اختصاصًا ومحاباة منه لهم لذاتهم أو لنسبهم بينه في آيات منها قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ} (المائدة: 18) الآية ومنها قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (الجمعة: 6-7) ومنها الآيات الكثيرة في لعنهم والغضب عليهم ومقاصدهم وعقابهم. راجع في سورة المائدة (5: 41 -51 و58 -70و76 - 82) وغير ذلك في غيرها. وأما ما يستنكره السائل من أعمالهم الإفسادية في العالم ولا سيما روسية وألمانية، فحكمته أن الله تعالى ينتقم بقوتهم في التدبير المالي والمكر والكيد السري (كالماسونية) من أشد شعوب الأرض ضراوة بالحروب، واستذلال الشعوب، واستخدام دين المسيح لنقيض ما جاء به من الزهد والتواضع والإيثار، فلولا كيد اليهود في ثل عرش ذلك السلطان الديني الدنيوي في أوربة لمحت العصبية الصليبية آية الإسلام من الشرق كما محتها من أكثر أوربة، ولأطفأت نوره، ولما وجدت هذه الحضارة المؤسسة على قواعد العلوم والفنون والحرية التي نفخها روح الإسلام في الأندلس والشرق ثم انتقلت إلى إيطالية وفرنسة فسائر بلاد الغرب. على أن الشعوب الأوربية الحربية بالطبع الموروث قد كفرت بنعم الله تعالى في العلم كما كفرت من قبل بنعمته في هداية الدين، فهي تستخدمها في الاستعداد لدك معالم الحضارة والعمران وإبادة بعض شعوبها لبعض، فاليهود يكيدون لهذه الدول وشعوبها في شرق أوربة وآسية بالبلشفية، وفي غربها بخصيمتها الرأسمالية، والغرض من الكيدين إزالة بغي القوة النصرانية ثم القوة المادية لشعوب أوربة إلا التي تساعدهم على غرضهم الأساسي، وهو تجديد ملك يهودي يكون له النفوذ الأعلى في العالم. فهم الذين ثلوا عرش السلطان البابوي بقوة العلم والمال؛ لأنه كان يضطهدهم في كل مكان، وهم الذين أضعفوا سلطان الحكم القيصري بمجلس الدوما أولا، ثم قوضوه بالحكومة الشيوعية آخرًا؛ لأنه كان يضطهدهم أيضًا وهم الذين ساعدوا جمعية الاتحاد والترقي على تقويض سلطان الخلافة التركية تمهيدًا لتمكينهم من امتلاك فلسطين لا لاضطهاد الترك لهم، فإنهم لم يضطهدوهم وهم الذي قوَّضوا صرح القوة الألمانية في الحرب الأخيرة بما نفثوه من سموم الثورة في أسطولها وفي جيشها وبما جاهدوا بأموالهم وكيدهم في حمل الولايات المتحدة على مساعدة أعدائها الحلفاء عليها، ثم سعوا لنشر الشيوعية فيها حتى لا تقوم لها قائمة مسيحية ولا قومية، وما كان هذا إلا خدمة لإنكلترة وجزاء على عهدها بلسان لورد بلفور على تأسيس وطن قومي وملك يهودي في فلسطين، فكيدهم لألمانية كان ككيدهم الدولة العثمانية، لا ككيدهم لدول اللاتين وللقيصرية الروسية، ومن الناس من يرى أن إضعاف ألمانية وانتصار الحلفاء عليها كان خيرًا للإنسانية وأنا أرى عكسه. فأنت ترى أن هذا الشعب أفضل من جميع شعوب الأرض عزيمة ووحدة وأثرة وذكاء، وإقدامًا وثباتًا، واعتزازًا بنفسه، وأما ضرره لغيره فهو يجري فيه على ما تعلمه من شعوب أوربة لبعض، وشره ما كان من دفع الفاسد بالفاسد ويجري على سنة الاجتماع البشري والطبيعي المسماة برد الفعل، وقاعدة إذا جاوز الشيء حده، جاور ضده أو انقلب إلى ضده، ووفاقًا للحديث المشتهر على ألسنة العامة: (الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه) . رواه الديلمي في مسند الفردوس بلفظ (عدل الله) ولكن بغير سند، وقال الحافظ ابن حجر: إنه لا يعرف له رواية غيره. ولا يمكن أن يغلب على أمره إلا بقوة الحق والعدل والهدى التي كفل الله نصر أهلها على من يقاومها، وهذه القوة لا توجد إلا في دين الإسلام دين القرآن وسنة محمد عليه الصلاة والسلام، التي فتح بها خلفاؤه العالم وطهروا ما ظهروا عليه منه من الوثنية والظلم والمنكرات وعبادة البشر من الكهنة والملوك، وقد بينا هذا بالتفصيل في كتابنا (الوحي المحمدي) الجديد. وقد تنبهت الشعوب اللاتينية والجرمانية للانتقام منهم، ولا يزال الأنكلوسكسون ينتصرون لهم بسبب نفوذهم المالي، ولكن الدولة الإنكليزية هي التي ستقضي عليهم القضاء الأخير، بمساعدتهم على تأسيس الملك اليهودي في فلسطين، بظلم للعرب شديد وبغي فظيع، بالرغم من وعيد الله لهم على لسان رسله، ولا سيما المسيح الحق ومحمد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليهما، وسيكون هذا الجمع بين الظلم والبغي الإنكليزي والطمع اليهودي قاضيًا على نفوذ إنكلترة

فصول من ترجمتي منقول من كتاب المنار والأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فصول من ترجمتي منقول من كتاب المنار والأزهر تَأَلُّهي ونسكي وتصوفي نشأت في حجر العبادة، فألفها وجداني ونشطت فيها أعضائي من الصغر، فَخَفَّتْ عليَّ في الكِبَر، كنت من سن المراهقة أذهب إلى المسجد في السَّحَر، ولا أعود إلى البيت إلا بعد ارتفاع الشمس، حتى كانت والدتي رحمها الله تعالى تقول: إنني منذ كبر رشيد ما رأيته نائمًا، فإنه ينام بعدنا ويقوم قبلنا، وقد اتخذت لنفسي حجرة خاصة من غرفتين في أعلى ركني مسجدنا البحريين للمطالعة والعبادة، وهذه الغرفة كان يخلو فيها جدنا السيد علي الكبير الذي بنى المسجد قدس الله روحه، والغرفة الأخرى كانت لخادمه المسمى بالأعرج، وكان أهل القرية يعتقدون أنه من الجن ويتناقلون في ذلك حكايات غريبة. وكانت هذه الغرفة ملتقى العلماء والأدباء الذين يزوروننا في القلمون يطالعون ويراجعون فيها ويتحاورون، وكان شيخنا الجسر يستقرئني فيها إما بعض فصول الفتوحات المكية، وإما بعض فصول كتاب الفارياق … وكانت تلذ لي صلاة التهجد تحت الأشجار من بساتيننا الخالية، وأفكر في صدق من قال: أهل الليل في ليلهم أنعم من أهل اللهو في لهوهم، وقول آخر: لو يعلم الملوك ما نحن فيه لقاتلونا عليه بالسيوف. نعم إن للبكاء من خشية الله وتدبر كتابه في صلاة الليل حيث يعلم المصلي أنه لا يسمع صوته أحد إلا الله لذة روحية تعلو كل لذات الضحك واللهو على اختلاف أسبابها. وكان كبير أسرتنا الشيخ السيد أحمد أبو الكمال الذي تقدم ذكره يُدَارس أولاد الأسرة القرآن في رمضان لأجل تجويده، فكنا نقرأ معه كل يوم نصف ختمة: خمسة أجزاء من بعد شروق الشمس إلى صلاة الظهر إلى العصر، كل واحد يقرأ ثمن الجزء ويسمع الآخرون، وكان يحضر هذه المدارسة معنا عنده السيدة زلفى ابنة بنته وكانت صبية ولم يكن فينا أحد بالغًا غير ابنه السيد محمد كمال وهو خالها، وكان يقرأ في غير رمضان عشرة أجزاء كل يوم. والسيدة زلفى هذه كانت تكتب إن شاءت وتطالع الكتب وهي أم السيد عبد الرحمن عاصم تلميذي ووكيل المنار، وهو ابن عمي السيد محمد كامل وزوج شقيقتي ويعيشان معي. وأما عمي - والده - فهو على قدم عمه في الانقطاع للعبادة والنسك، ويقوم بوظائف الإمامة والخطابة والتدريس في مسجدنا، وقد عني بكتاب إحياء العلوم كما عنيت به. وكان يعاشرني معاشرة الصديق، ويفيدني في كثير من مسائل العربية والدين، ثم فقته في ذلك حتى كان يحضر درسي؛ لتواضعه وإخلاصه أطال الله بقاءه. وكنت أقرأ ورد السحر في غير رمضان وحدي وفي رمضان مع الجماعة، وكنت إذا بلغت قوله في الجيمية: ودموع العين تسابقني ... من خوفك تجري كاللجج ولم يكن حضرني البكاء أسكت فلا أقرأ البيت حياء من الله تعالى أن أكذب عليه، ولما اشتغلت بالسنة وعلمت أن قراءة هذا الورد وأمثاله من البدع التي جُعِلَتْ من قبيل الشعائر والشرائع التي شرعها الله تعالى على ما فيه من الأمور والأقسام المنتقدة شرعًا تركت قراءته واستبدلت بها قراءة القرآن. وكنت أواظب على قراءة دلائل الخيرات وتلقيت الإجازة بها عن الأستاذ العابد العالم الشيخ أبي المحاسن القاوقجي بسنده إلى مؤلفها، ثم تركتها بعد اشتغالي بكتب السنة كما تركت ورد السَّحَر، واستبدلت بها وردًا آخر في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه شبهة بدعة من توقيت وجهر وصِيَغ منكرة ومضاهاة للشعائر الموهمة للمأثور عن الشارع. وقد حبب إليَّ التصوفَ كتابُ إحياء العلوم لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، فكنت أجاهد نفسي على طريقة الصوفية بترك أطيب الطعام اكتفاء بقليل من الزعتر مع الملح والسماق، وبالنوم على الأرض وغير ذلك، حتى إنه لم يعد يشق عليَّ ترك أطيب الطعام الحاضر عمدًا، ولكنني حاولت أن أتعود احتمال الوسخ في البدن والثياب وهو غير مشروع فلم أستطع، وقد ذكرت هذا وذاك للأستاذ الإمام بمناسبة عرضت فقال لي: وأنا كذلك، وقال مثل هذا في غيره مما اتفق وتشابه من نشأتي ونشأته. وقد طلبت من أعبد عباد شيوخ الطريق في عصرنا الشيخ أبي المحاسن محمد القاوقجي أن يسلكني الطريق على أصولهم في الرياضة والخلوة والترقي في منازل المعرفة، وصرحت له بأنه لا يعجبني أن أسلك طريقة الشاذلية الصورية بقراءة أورادها وحضور اجتماع أذكارها، وكنت حضرت هذا عنده مرارًا وحفظت حزب البر بقراءته معهم، فاعتذر، وقال لي: يا بني إنني لست أهلاً لما تطلب فهذا بساط قد طُوِيَ وانقرض أهله، فرحمه الله رحمة واسعة. ثم أخبرني صديقي الأستاذ العلامة الشيخ محمد الحسيني أنه قد ظفر بصوفي خفي من النقشبندية يرى هو أنه وصل إلى رتبة المرشد الكامل فسلكت هذه الطريقة معه وقطعت مراتب اللطائف كلها، ورأيت في أثناء ذلك كثيرًا من الأمور الروحية الخارقة للعادة كنت أتأول الكثير منها وعجزت عن تأويل بعضها، إلا أنها من خصائص الروح التي تظهرها الرياضة وكثرة الذكر والفكر، ولكن هذه الثمرات الذوقية غير الطبيعية لا تدل على أن جميع وسائلها مشروعة أو تبيح ما كان منها بدعة كما حققت ذلك بعدُ. كان الورد اليومي لي في هذه الطريقة ذكر اسم الجلالة (الله) بالقلب دون اللسان خمسة آلاف مرة مع تغميض العينين وحبس النفس بقدر الطاقة، وملاحظة ربط قلبي بقلب الشيخ، وهذا النوع من الذكر غير مشروع، بل هو مخالف لجميع ما ورد في الذكر المأثور، وهذه الرابطة محل إنكار خاص عند علماء الشرع، وهي مقررة في غير هذه الطريقة، وقد تكون بصفة مخلة بالعقيدة، إذا عبدت عبادة شرعية، فإن مقتضى التوحيد أن يتوجه العبد في كل عبادة إلى الله وحده حنيفًا مسلمًا له الدين، فالتوجه فيها إلى الشيخ قد يكون من الشرك الخفي، وإن لم يقصد به عبادته، وإنما يمكن تفسيرها بأنها ضرب من التربية الروحية الصناعية المجربة في إظهار ما أودعه الله في النفس من الأسرار والسنن الإلهية المخالفة للسنن المودعة في المادة، وبأن الرابطة فيها كالرابطة بين المقتدي وإمام الصلاة لا يقصد بها شيء من إشراكه في عبادة الذكر، ولا تعظيمه بنوع من تعظيم عبادة الرب، ولا تتضمن الاعتقاد بأنه قادر على شيء من النفع أو الضر، من غير طرق الأسباب المشتركة بين الخلق، وإنما هي عندهم وسيلة سببية في ربط الأرواح بعضها ببعض، من المريد إلى الشيخ فمن فوقه من شيوخ السلسلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمن عدها عبادة شرعية فهو مبتدع بلا شك، وهذا التوجيه لها قلما يخطر ببال أحد من سالكيها. وجملة القول: أنني كنت أعتقد أن سلوك طريقة المعرفة وتهذيب النفس والوقوف على أسرارها جائز شرعًا لا حظر فيه، وأنه نافع يُرْجَى به من معرفة الله ما لا يوصل إليه بدونه، ولكنني لم أعتقد قط أن الشيخ الذي أرتبط به فيه قادر على شيء مما تقدم، ولم أكن أستحضره ولا أتصوره في أثناء الذكر وإنما أتصور عند البدء به أنني ربطت قلبي بسلسلة من القلوب المخلصة لله تعالى هو طرفها الأدنى فزدت فيها حلقة جديدة، وأن هذه الرابطة لها تأثير في الإمداد الروحي كما تصل مصباحًا كهربائيًّا بالسلك الممتد إلى مولد التيار الشامل لمصابيح الدار كلها أو البلد كله. ومن الغريب أن الإنسان بعد طول الإكثار من هذا الذكر يصير يسمع للقلب صوتًا، وأغرب منها أن يسمع غيره صوت قلبه. أخبرتني والدتي -تغمدها الله ووالدي برحمته ورضوانه- أنها وضعت أذنها مرة على صدر عمها السيد الشريف الصالح عبد الرزاق حبلص فسمعت منه ترداد اسم الجلالة: الله، الله، الله. وقد أدركت أنا عمها هذا وأنا صغير ولم أكن أعلم من أمر هذه الطريقة شيئًا. وقد لقنني الأستاذ بعد الانتقال من اللطائف كلها أو عند لطيفة السر الذكر بكلمة التوحيد باللسان. (نسيت الآن) . هذا ما أقول في الورد الشخصي والرابطة، وللطريقة النقشبندية ورد آخر مشترك يسمى الختم، وهو عبارة عن اجتماع من كان حاضرًا من أبناء الطريقة على ذكر وقراءة لبعض سور القرآن والتوجه إلى استحضار بعض أرواح سلسلة الطريقة مع تغميض العينين، واستحضار الروح لا يتضمن شيئًا من عبادتها بدعاء ولا تعظيم تعبدي، والاستمداد الروحي ليس عبادة بالفعل ولا بالقصد، إلا أن يكون من جاهل بالشرع شيخه أجهل منها وأضل سبيلا، وإنما هو من قبيل ما يُحْكَى عن الإفرنج من ذلك، وقد سبقهم إليه الصوفية، وسأذكر بعض ما حققته فيه. ولكنه لا يخلو من مثار فتن دينية، وخوف اختلال في القوى العقلية، بما يعرض للجاد المجد فيه من العوارض غير الطبيعية، ولذلك اتفق الصوفية العارفون على أنه لا يجوز سلوك طريقة الرياضة عندهم إلا بإرشاد شيخ عارف. قد سلك الطريف ثم عادا ... ليخبر القوم بما استفادا * * * ما يعرض لسالك الطريق من الأمور الروحية الغريبة أول ما عرض لنا من ذلك أن كانت تتمثل لنا ونحن في الختم مغمضي الأعين صورة من يذكر الشيخ اسمه من رجال السلسلة لعقد الرابطة به وأعلاها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وفوقه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان هذا بعد تكرار، وكنت أعتقد أنه خيال يثيره التخيل، ويدعي الشيخ أن الروح نفسها تحضر الختم وتتجلى للمستعد، وكل شيوخ الطريق يدَّعون هذا ويزعمون أن روح النبي صلى الله عليه وسلم تحضر مجالسهم، فمنهم الكاذبون الدجالون، ومنهم المتخيلون الممثلون، وقد أطلت في تحقيق هذه المسألة في بحثي الفياض في الكرامات، الذي كتبته في كتابي (الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية) الذي ألفته وأنا تلميذ ثم عدت إليه في المجلد الثاني من المنار ثم في المجلد السادس منه، ثم ألممت به في مجلدات أخرى. ثم عرض لي ولغيري في أثناء استحضار هذه الأرواح بالتخيل أن نميز بينها باختلاف صورها ونشم للروح رائحة عطرية مُنْعِشَة لا نظير لها فيما يعرف من الأعطار. فكنت في أول العهد بها أظن أن الشيخ يحفظ في جيبه قارورة أو حُقًّا فيه هذا النوع من العطر فيفتحها في أثناء الختم ولا يراه منا أحد، وهذا من خواطر السوء في الشيخ لا تبيحه آداب الطريقة، بل هو من عوائق السلوك، ولكن الرائحة لم تكن تستمر، ثم صارت تعرض لي في أثناء وردي الخاص، فأظن أنها ذكرى في النفس، تعدى أثرها إلى الأنف بالوهم، وبعد التكرار اعتقدت أن ما يقوله كبار الصوفية من أن للأرواح الشريفة الزكية العالية رائحة طيبة ذكية صحيح، وأن تجلي الأرواح صحيح في الجملة. ومما كنت قرأته في الفتوحات المكية للشيخ محيي الدين بن عربي (وهو من أكابر الصوفية الروحانيين على ما عرض له من الاختلال في معلوماته الدينية والكشفية) أن الشيخ عبد القادر الجيلي كان يعرف مقامات الرجال العارفين بالشم وأنه شم محمد بن قائد فقال له: لا أعرفك، وكان ابن قائد يرى لنفسه مقامًا عاليًا فعرف من إنكار عبد القادر له قصوره، فَعَلَتْ همته حتى صار من الأفراد. ويذكر في رحلة الشيخ عبد الغني النابلسي الصوفي الفقيه المشهور أنه لما جاء طرابلس تَرَجَّلَ قبل أن يبلغ مقبرتها في المكان المعروف بباب الرمل فترجل من معه وسألوه عن السبب فقال: إننا قربنا من مكان فيه بعض قبور الروحانيين. ومما أخبرني به صديقي الأستاذ المصدوق الشيخ محمد كامل الرافعي أن والده الشيخ عبد الغني كان يشم لبدنه ولثيابه رائحة مسكية في أثناء خلوته وانقطاعه فيها لذكر الله تعالى، ومما يتناقله أهل القلمون أنه لما نبش قبر السيد أحمد أخي جد والدي ا

الرؤى الصالحة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرؤى الصالحة وشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لي في الرؤيا ورؤية كل منا في صورة الآخر إن الرؤى الصالحة التي رأيتها والتي رآها الناس لي كثيرة في جميع أطوار عمري، ومنها ما كان يقع في اليقظة كما رأيته في النوم بعينه، وما كان تأويله ظاهرًا لا يحتمل المراء، والعباد وأهل الصلاح يهتمون بأمر هذا الرؤى ولا سيما رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم والمشهورين من الصالحين، ومنهم الذين يتيهون بها غرورًا، وأحسن ما قيل فيها الحكمة المأثورة ولا أذكر قائلها: الرؤيا تَسُرُّ ولا تَغُرُّ، ومن أحسن ما سرني من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم القديمة أن سمعته يقول لي: (اثبت على ما أنت عليه) وقد رأيته في هذا العام وندمت أن لم أكتب هذه الرؤيا ولا أمثالها لأرويها بنصها. وإنني أذكر أحدث ما رآني فيه أو رآه لي بعض الأحياء مع النبي صلى الله عليه وسلم بنصه، فمنه ما رواه لي ابن عمي السيد عبد الرحمن عاصم عن رجل حدثه في طرابلس الشام أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا فشكا له سوء حال أمته وما فشا فيها من البدع والمعاصي وعدم تصدي أحد من العلماء ولا من غيرهم للإنكار على أهلها وإرشادهم قال: حتى إن السيد محمد رشيد رضا مقصر، أو كلمة بهذا المعنى. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن محمد رشيد يفعل في كل وقت ما يرى أنه الواجب) . وروي لي في السنة الماضية (سنة 1350) عن الفاضل الأديب الأستاذ عمر الرافعي أحد أنجال علامة العصر وفقيهه وصوفيه الشيخ عبد الغني الرافعي رحمه الله أنه رآني في الرؤيا بهيئة جميلة نورانية تمثلت له فيها بصورة النبي صلى الله عليه وسلم قال للسيد عاصم: رأيت أن الناس في بلاد الشام في هرج ومرج ينتظرون حضور السيد (إياي يعني) ليخطب فيهم خطبة تكون فيصلاً في موقفهم، ثم حضر السيد فسألته هل كتب الخطبة التي يريد إلقاءها؟ فقال: إنني أخطب ارتجالاً وليس من عادتي كتابة الخطب، قلت: إن هذه خطبة سيترتب عليها عمل عظيم فينبغي كتابتها، وألحفت عليه في الرجاء بأن يملي علينا خطبته لنكتبها فاستجاب لنا، وطفق يملي، وأنا أكتب فإذا تعبت ساعدتني (الخطاب للسيد عاصم) ولما أتم السيد إملاءه أعجبت بالخطبة جد الإعجاب. وطفقت أنظر إليه نظر الإجلال والإكبار، والسيد يزداد في نظري جمالاً ولطافة ونورانية حتى قلت له: أنت السيد رشيد أم النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. ثم نظمها وأرسل إليَّ ما نصه: (عمر الرافعي يقدم لمعاليكم واجب التبريك بشهر رمضان المبارك، ويرجو الله أن يديمكم منار حق وهدًى لهذه الأمة، ويلهمكم الدعاء له في خلوة من خلواتكم مع الله، ثم يقص على سيادتكم رؤياه التي رآها لكم حديثًا وهي كما يأتي: أعلامة الدنيا لك الله مرشدًا ... بعلمك أهل الحق في الغرب والشرق تمثلت لي مولاي (رؤيا) كقادم ... علينا خطيبًا جاء يصدع بالحق وما زلت تصفو في جمالك مشرقًا ... صفاء منار الحق في مفرق الطرق فأدهشني هذا الجمال الذي أرى ... ولم أره والله في سائر الخلق فقلت بنفسي ذا رشيد مصدقا ... أم المصطفى؟ والله أعلم بالحق عن طرابلس الشام ... ... ... ... 25 شعبان سنة 1351 ولقيت في أواخر شهر ذي القعدة من تلك السنة رجلا يريد الحق، ولم أكن أعرفه بالرؤية ولا بالسماع فأخبرني أنه رآني في رؤيا فقصها على العلامة الشريف الأستاذ السيد عبد الرحيم عنبر فقال له: إن هذه رؤيا صادقة ويحتمل أن يكون الذي رأيته هو النبي صلى الله عليه وسلم فإنني أنا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في صورة السيد محمد رشيد رضا إلخ. وبعد أشهر زرت الأستاذ السيد عبد الرحيم عنبر وسألته عن هذه الرؤيا فذكرها وقال لي: إنني كثيرًا ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأيته مرة في صورتك وهي أبهى وأجمل مما أنت عليه ولكنها صورتك. وبعد كتابة ما تقدم بشهر، وقبل طبعه قَصَّ عليَّ الأديب محمود أفندي منصور الإسكندري رؤيا ثم كتبها لي وهي: (رأيت فيما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في صدر مجلس وأنت بجانبه فتحدثت إلى صديق كان بجانبي عن جماله صلى الله عليه وسلم قائلا له: انظر يا أخي هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم، ألا ترى أن أصدق من وصف جماله الخلقي تلك المرأة القائلة: إن جماله لا يطمع الناظر فيه، كما أن جلاله لا يفزع الناظر منه؟ أولا ترى أن النسب له دخل كبير في الشبه، فهذا السيد رشيد أقرب الناس شبهًا به؟ (ثم قال) : ولقد أولت هذه الرؤيا بصدق دعوتكم وقيامكم بالعمل بمقتضى كتاب الله وسنة رسوله، ثم قصصتها على نفر من إخواني فأولوها بتأويلي هذا. اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

المكاشفات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المكاشفات مما أثمرته العبادة والمراقبة قبل سلوك الطريق وبعده المكاشفات بقسميها الصوري والمعنوي أو الظلماني والنوراني كما يقول الصوفية، والمراد بالثاني المعرفة بالحقائق، وقد سبقت الإشارة إليه في الكلام على الاستعداد النفسي وتحصيل العلم، وبالأول الشئون الدنيوية، وكانت كثيرة جدًّا بحيث يتعذر كتمانها كلها، كنت أكتم ما لم يعلمه الناس، وأما ما يقع لي معهم فقد كنت أسمي بعضه مصادفة وبعضه رأيًا أو خاطرًا، وإن كان في موضوع طويل الأمد كثير الحوادث، ومنه ما كنت أرجح أنه كذلك وأؤكده فيقبله بعض الناس دون بعض. من هذا أنني كنت في دار آل الرافعي بطرابلس في أثناء زيارتي للبلاد عقب إعلان الدستور العثماني سنة 1326 في فصل شتاء سنة 1908 فقلت: الله أعلم أنه سينزل من السماء ثلج الآن، فنزل الثلج بعد دقائق قليلة ونزول الثلج في بلادنا الساحلية نادر، وإنما يكثر نزول البرد. فقال ريس صيد بحري من القلمون كان حاضرًا: من أين علمت؟ قلت: إنه ليس بعلم وإنما هو شعور من برد الهواء أو لذعه؟ قال: أيش شُغْلنا نحن؟ يعني أن الملاحين أعلم منا بأحوال الجو والطقس. ثم انقطع الثلج مدة وأراد هذا الرجل وغيره الانصراف فقلت غير مالك للساني: الله أعلم أن الثلج سيعود، فلم يلبث أن عاد، فقال الريس: وهذه؟ قلت: كتلك، فلمعت الدموع في عينيه. والحق أن مثل هذا ليس له قيمة المكاشفات التي سببها توجه الإرادة، ولكن الرجل كان من المتشبعين بحسن الاعتقاد من قبل هجرتي إلى مصر ويحفظ عني أمورًا غريبة عنده، منها أنه استشارني في تربية ابنه وتعليمه فذكرت له ما سيكون من أمره في مستقبله بتفصيلٍ حفظه فوقع كله، وهذا ليس بغريب أن يقع بصحة الرأي، ولو لم يكن سامعه يعتقد صلاح قائله وولايته لما كان يعده كرامة له، وقد كان الشيخ يوسف النبهاني يبحث عن أمثال هذه الأخبار عمن اشتهروا بالصلاح ليدونها فيما يجمع من كرامات أهل عصره، ويَعُدُّنِي أنا والأستاذ الإمام والسيد الأفغاني من أعداء الصالحين؛ لأننا أعداء الخرافات التي هي برهان الولاية في رأيه الأفين، ولا يزال يقع لي مثله كثيرًا في الدار فتقول أم الأولاد: إنك تكاشف علينا، فأبتسم. وأذكر عن ولد هذا الريس (رحمه الله) وهو حي يرزق أنه دخل عليَّ مرة في غرفتي فوقع في قلبي أنه كان يغازل امرأة فذكرت له الأثر المروي عن الخليفة الثالث عثمان بن عفان (رضي الله عنه، وهو أنه دخل عليه رجل فقال له: أيدخل أحدكم عليَّ وأثر الزنا ظاهر على عينيه؟ فقال الرجل: أَوَحْيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا ولكنها فراسة المؤمن) . اهـ ذكرته له بلهجة الإنكار، ففهم واعترف خجلاً. وجاءني السيد علي عبد القادر يريد أن يسأل عن شيء، فقلت له قبل السؤال: إنك تريد أن تعلم ما ورد فيما يُقْرَأُ بعد الفاتحة في راتبة الفجر، وورد أنه كان صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الكافرون والإخلاص، وورد بسورة الانشراح والفيل (ولا يصح) وورد في الركعة الأولى آية {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 136) من سورة البقرة وآية {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (آل عمران: 64) من آل عمران، فقال: من أين علمت؟ وقد يكون لمثل هذا أو بعضه ما يشعر به عند الذي يحاسب نفسه دقيقًا على طريقة الغزالي، وإن منه لوقائع لا يمكن أن تخطر بالبال، ومنه ما هو نتيجة التوجه المعروف عند الصوفية، وهاك حادثة منه: كنت أترك غرفتي في أعلى المسجد مفتوحة وأنام في الدار لعلمي بأنه لا يعقل أن يسرق لي أحد من أهل القلمون شيئًا، وكان في الغرفة صندوق صغير أضع فيه بعض الأوراق وما عندي من السبح وهي كثيرة كانت تُهْدَى إليَّ، وأحيانًا أضع فيه الدراهم، ومع هذا أترك مفتاحه فيه لئلا أحمله فيسقط مني وأحتاج إلى كسر الصندوق. وقد رأيت الصندوق في صبيحة بعض الأيام مبعثر الورق والكيس الذي فيه السبح مسروقًا فطلبت من ساعتي أن تشد لي الفرس فشدت فركبتها وذهبت إلى طرابلس ولم أنزل حيث كنت أربطها عادة عند مدخل المدينة بل قطعت الأسواق راكبًا إلى أن وصلت إلى دكان عند الجسر الشمالي، فنزلت أمامه وقلت لصاحبه: أين السبح التي اشتريتها اليوم؟ فأخرج لي الكيس، فأخذته ودفعت له ما اشتراها به وهو قليل، وكان السارق خادمًا لصديقنا الشيخ عبد الفتاح الزغبي الجيلاني الشهير وكان مصطافًا في القلمون كعادته، والخادم وهو من قرية المينا لا من القلمون ولا من طرابلس، وقد علم بأنني عثرت على سرقته فلم يعد إلى خدمة سيده، ثم إنني عدت إلى عادتي في ترك مفتاح الصندوق فيه ومفتاح الغرفة في بابها ثقة مني بأهل بلدي. * * * الانتقام في الدنيا من كل من آذانا تذكرت بهذه الحادثة أنه كان مشهورًا عند أهل بلدنا فوق احترامهم لشخصي أنه لا يعتدي أحد علينا إلا وينتقم الله منه في الدنيا قبل الآخرة، حدَّثَ بعضهم عن نفسه أنه ذهب يحتطب مرة من شجر الزيتون فانتهى إلى كرم لعم والدي الذي سبق ذكره في هذه الترجمة فصعد شجرة زيتون ليقطع منها (قال) : وقلت في نفسي: يقول الناس: هؤلاء أولاد جد (أي جدهم وليٌّ) لا يعتدي أحد عليهم إلا أصيب (أنا رايح شوف أيش يصير لي) ولم أكد أشرع بقطع فرع من الزيتونة إلا وسقطتُ منها على الأرض سقطة مؤلمة فتبتُ. وهذه مسألة مما يعدها الكثيرون من كرامات المعتقدين، فإن كان ما يذكرون في بلدنا من انتقام الله من كل من آذانا من الحكام وغيرهم حقًّا، فأنا ما أظن أنه استقراء تام، على أنني لم أعلم أن أحدًا آذانا ولم يلق جزاءه في الدنيا، وقد آذانا رجل من أهلنا إيذاء ماليًّا كان جُلُّه خاصًّا بي، ثم كان عاقبته أن اضطر إلى السفر إلى مصر لطلب الرزق، وأن صار يطلب مني الإحسان إليه المرة بعد المرة فأفعل، ولا أزال أعنى بولده وأهله بعد موته، ولله الحمد. وكان آخرُ المعتدين عليَّ بالطعن وقول الزور رجلاً معدودًا من كبار العلماء المشهورين في مصر، فسلط الله عليه من العلماء والكتاب من شهره أنواعًا من التشهير في علمه وأخلاقه وأمانته المالية والعلمية … ومع هذا أصرح بأنني لا أغتر فأقول: إن لي خصوصية عند الله تعالى وإنه انتقام لي خاص، وإنما هو جارٍ بأسبابه الظاهرة، وقد يدخل في معنى ما ذكرته في تفسير قوله تعالى في البغاة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (يونس: 23) الآية، ولكن جمهور الناس يعدون مثله من كرامات الأحياء والميتين، ويذكر الشعراني وأمثاله من ناشري الخرافات في كرامات السيد البدوي وغيره وقوع البلاء والمصائب على المعترضين عليهم أو على موالدهم بحق، فذكرته عبرة لهؤلاء ولغيرهم. * * * استجابة الدعاء أحمد الله تعالى ولا أحصي ثناء عليه أنه استجاب دعائي له بالإيمان والإخلاص والتوجه الصادق في أمور كثيرة جدًّا لا أحصيها، منها ما ظهر لي بالتدقيق في السنن والنواميس التي ترتبط بها الأسباب بالمسببات، أنه من توفيق الأقدار للأقدار، وعلم ما لم أكن أعلم، وتسخير ما لا يصل إليه كسبي من الأشياء والأشخاص، ومنها ما لم تظهر لي فيه الأسباب، حتى صح أن يُعَدَّ من خوارق العادات. ثم أحمده عَوْدًا على بدء، ودوامًا أسأله الثبات عليه إلى آخر العمر، أن ظهر لي فيما لم يستجبه لي بعينه أن استجابه بالمعنى المقصود منه، وفيما لم يستجبه بعينه ولا بالمعنى المقصود منه أن كان الخير لي في عدم استجابته كله، وأذكر منه دعائي وتضرعي إليه عز وجل أن يسخر لي رجال الدولة العثمانية فيما طلبته منهم ومكثت عندهم سنة كاملة أسعى له عندهم، وهو إنشاء جمعية ومدرسة للدعوة والإرشاد، أو للعلم والإرشاد في عهد ظهور العصبية الطورانية ونجوم قرون الإلحاد، فقد تم إنشاء الجمعية رسميًّا وتم صدور الأمر من مجلس الوزراء بتخصيص المال اللازم للمدرسة، ولكن لم يتم تأسيسها بالفعل المقتضي لإقامتي في الآستانة، وكان الخير لي أن عدت إلى مصر فأسست الجمعية والمدرسة فيها، ثم ظهر لي أن عدم السكنى في الآستانة كان خيرًا لي بما كان في أثناء الحرب الكبرى من بغي الترك على العرب وتقتيل زعمائهم وطلاب ارتقائهم، وقد كنت في مقدمتهم، وحكم عليَّ بالقتل (الإعدام) مرتين أو أكثر، نعم إن الأجل محتوم، والعمر محدود معدود، ولكنه مرتبط بالأسباب في نظام القدر المعلوم، على أن المقام في تلك البلاد في زمن تلك الحرب كان محفوفًا بالقهر والفقر والخوف والذل، ولا سيما مثلي من العرب، ودعاة الدين ورجال السياسة، وأين منه المقام في مصر التي كانت جديرة بأن يحسدها الملوك والأمراء في كل قطر، أمان واطمئنان، وسعة في الرزق وجميع مرافق الحياة؟ وأما حالها بعد الحرب، فهو شر عليَّ مما كان في زمن الحرب. ((يتبع بمقال تالٍ))

شفاء المرضى بالرقية ونحوها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شفاء المرضى بالرقية ونحوها أذكر من أمثلة انتفاع المرضى التي لا تُحْصَى حادثة مشهورة في القلمون، وهي أن عمر قدور كسن الصياد رمى شبكته ليلاً في البحر فسمع حيث وقعت صوتًا رُعِبَ منه، فعاد إلى بيته مصروعًا واشتد عليه الصرع، فكان لا يعي، وييبس جسده كأنه لوح من الخشب، ويرى نفرًا من الجن يجتمعون حوله قد ضربه واحد منهم ضربة صرخ منها صرخة مزعجة فطلبوني لأراه وأرقيه، فقلت: بل أدعو له، فعادوا إليه فألح في الطلب، وكان من أغرب ما قاله أنْ أخبرَ بالحال الذي كنت عليها في خلوتي ليلاً، قال: إنه جالس متكئ ورأسه على عصا قصيرة شبه الباكورة (يعني المحجن) وأنه قال للذي ضربني: ضربة بضربة فاتركوه. ثم عادوا إليَّ وألحوا في طلب الذهاب معهم فذهبت فوجدته مستلقيًا جامدًا لا يعي، فوضعت يدي على رأسه وتلوت قوله تعالى بعد البسملة: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} (البقرة: 137) فأفاق في الحال، وقام كأنما نشط من عقال. وقيل لي مرة: إن محمد زيدان مصاب بصداع شديد يصرخ من شدته بأعلى صوته فكتبت له ورقة وضعوها على رأسه فشعر بأن رأسه انشق وخرج منه الوجع في الحال، ثم كانوا يعيرون ذلك الحجاب لكل مصاب ويذكرون أنه يُشْفَى إلى أن خطر في بالهم أن يفتحوه ليروا ما كتب فيه، فرأوا فيه حرفًا واحدًا من حروف المعجم كتب بعدد مخصوص، فاحتقروا ذلك فلم يعد ينفعهم كما قيل لي بعد ذلك بسنين، وكنت أكتب نشرة للحمى فتشفي بإذن الله تعالى. ومن هذا النوع مسألة رقية غريبة فعلتها من تلقاء نفسي، وهي أنني كنت جائيًا من طرابلس إلى القلمون فوجدت بالقرب منها رجلاً من معارفنا من نصارى أنفة (من لبنان) وهو إسكندر الخوري الذي أظن أنه لا يزال حيًّا، أو أخوه مالك الخوري وهو عاصب رأسه من صداع شديد فيه، فسألته فأخبرني فقلت له: ادن مني فدنا فقلت له: إن الإنجيل يروي عن سيدنا المسيح عليه السلام أنه قال: وهذه الآيات تتبع المؤمنين يضعون أيديهم على المرضى فيبرءون، ووضعت يدي على رأسه ورسمت عليه كلمة كنت مُجازًا بها فذهب الوجع في الحال، فتعجب وصار يهز رأسه لأجل أن يحرك الوجع ليعود فلم يعد، وكم فعل هذا غيره استغرابًا من سرعة البرء. ومن التأثير في غير الآدميين أن الوالدة رحمها الله استكتبتني حجابًا طلبه منها بعض نساء الأعراب لوضعه على غنمهم؛ لأن الموت فشا فيها، وبعد سنة أو أكثر جاءني بدوي من مشايخ قبيلة أخرى فشكا إليَّ وقوع الموت في غنمه وطلب مني حجابًا ليضعه على رأس أكبر كبش فيها لمنع الموت، فقلت له: إن الحجاب لا يمنع وقوع الموت في الغنم، ولا بد أن تكون غنمكم قد أكلت زهر الدفلى وورقها أو نباتًا آخر ضارًّا، فاسأل عن طبيب بيطري وأخبره بما تعلم من حال الغنم يرشدك إلى ما ينفع فيها، قال: بل الحجاب هو الذي ينفع. قلت: أنا أعتقد أنه لا ينفع، قال: وكيف نفع غنم بني عليوه؟ ؟ وأنا لم أكن أذكر مسألة هؤلاء ولكن الوالدة ذكرتني بها، فاعتقدت أن ذلك من قبيل المصادفات التي كبرتها الأوهام، ثم تركت هذه الحجب والنشرات للمرضى والمعقودين عن النساء وكذا الرقى إلا نادرًا لحديث في صحيح مسلم (من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه) واجتنبت فتح هذا الباب عليَّ بعد هجرتي لمصر؛ لأن الفتنة فيها بهذه الأمور أكبر إلا لأهل الدار قليلاً. ولما كنت مسافرًا من البصرة إلى بغداد في إحدى بواخر الدجلة سنة 1330 انتقلت من الدرجة الأولى إلى الدرجة الثالثة في مقدمة الباخرة لأرى حركتها، وكان هنالك كثير من الفقراء فوجدت بينهم فتاة مريضة مضطجعة فقيل لي: إنها يتيمة فقيرة، وقد اشتدت عليها الحمى فرثيت لها ورقيتها فقامت في الحال، كأنما نشطت من عقال، وشكت الجوع فأمرت أحد الخدم بأن يأتيها بصحن حساء من مطبخ الباخرة، ويقيد ثمنه في حسابي ففعل، فأكلتْ، واشتد عجب الفقراء الذين كانوا معها من نساء ورجال. ولكن هذه الحمى (وهي الملاريا) كانت أصابتني في البصرة ككل من كان يدخلها، ثم عادت إليَّ في الباخرة ولم أرق نفسي ولم يرقني أحد، ورقية الإنسان لنفسه مشروعة، وأما استرقاؤه فينافي كمال التوكل، وقد حققت الموضوع في المنار. ((يتبع بمقال تالٍ))

تكفير أزهري للمؤمنين بظواهر القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تكفير أزهري للمؤمنين بظواهر القرآن وطعنه في دين الدعاة إلى الاهتداء بالكتاب والسنة من الأئمة كابن حزم وابن تيمية والشوكاني والأستاذ الإمام قد علم الخواص والعوام ما يبثه بعض محرري مجلة الأزهر المسماة باطلاً بنور الإسلام، من الصد عن الاهتداء بالكتاب والسنة والطعن في المهتدين بهما من المتقدمين والمتأخرين، ومن تأييد البدع والدعوة إليها والدفاع عن متبعيها المتقدمين والمتأخرين كالمفتونين بعبادة القبور، من دعاء للموتى واستغاثة بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله، وطواف بقبورهم ونذور لها، ولم يكتف هذا المحرر بالنشر في هذه المجلة حتى بدأ يبث ذلك في جريدة جديدة اسمها الإسلام؛ لأنه بلغه أنها يقرؤها كثير من العوام، الذين لا يزالون يقبلون كل ما ينسب إلى علماء الأزهر، ثم في جريدة المقطم السياسية لعلمه بأنها منتشرة في غير مصر من البلاد العربية، فهو يريد تعميم ضلالته. وآخر ما نشره في هذا الشهر (جمادى الأول - سبتمبر) مقالة في جريدة الإسلام صرَّح فيها بكفر من يؤمن بظاهر آيات الصفات من القرآن، ومقالة في المقطم لا غرض له منها إلا الطعن على صاحب المنار، والأستاذ الإمام، بعد أن طعن في الشهرين اللذين قبله في الإمام ابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي الشوكاني؛ لدعوتهم الأمة إلى اتباع القرآن والسنة دون من يخالفهما كائنًا من كان. أما جريدة الإسلام فقد أرسلت إليها مقالة في تفنيد ما نشرته له في هذه المسألة فلم تنشرها خلافًا لما يجب عليها من تحذير قرائها العوام من الاغترار بقول هذا الحامل للقب الأزهري: إن الإيمان بظاهر القرآن كفر، ونخشى أن يكون رئيس تحرير هذه الجريدة يعتقد ذلك؛ إذ لم يتعقبه ولم ينشر الرد عليه بل طالب مرسله بأن يبين له اسمه ليرى رأيه فيه! ! والمسألة مسألة عقيدة دينية لا شأن للأشخاص فيها، ولكن نشرته جريدة السياسة الغراء، وهذا لا يسقط الإثم عن جريدة الإسلام فيجب عليها أن تبين لقرائها ما يوجبه عليهم دينهم من الإيمان بظاهر القرآن، أو بتحريف الدجوي أو تأويله نشرته له، وإن كان هذا هو الواجب عندها فكيف السبيل إلى تلقينه لكل قارئ للقرآن الكريم، ومقتن للمصحف الشريف؟ وأما جريدة المقطم فإن ما نشره فيها من الطعن في الأستاذ الإمام وإسناده إلى صاحب المنار فهو كذب وتحريف بجهل وسوء نية نبينه ليقيس عليه قارئها غيره مما ينشره هذا الشيخ، ويعلم أن سبب إعراضنا من قبل ومن بعد عن الرد عليه هو ما صرَّحنا به في المنار من عدم ثقتنا بنقله ولا بعلمه ولا بفهمه ولا بحسن نيته. قال في مقالة المقطم الذي صدر في تاريخ 16 جمادى الأولى 6 سبتمبر ما نصه: (ومن الغريب أن صاحب المنار يقول: إن مشيخة الأزهر تمنع الاهتداء بكتاب الله وسنة رسوله) إلى أن قال: (وإني لأعجب له كيف يقول: إن الأستاذ الإمام كان ينقم على الشيخ أحمد الرفاعي وأمثاله عدم الأخذ من القرآن والسنة، فهل يريد أن يقول: إن الأستاذ الشيخ محمد عبده كان مجتهدًا يأخذ من الكتاب والسنة، وهو الذي يرميه في الجزء الأول من المنار سنة 1350 صحيفة (21) بالجهل بالسنة، وأنه كان يجمع الصلوات؟ ومعنى ذلك عند كثير ممن يقرأ عبارته هذه أن الشيخ عبده كان لا يصلي، فهل يتفق هذا والاجتهاد في الدين؟ وهل يرى صاحب المنار أن الجهل بالسنة لا ينافي الاجتهاد؟ ا. هـ بحروفه. هذا نص ما نشر في المقطم بإمضاء (يوسف الدجوي من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف) وإننا نبين ما في هذا القول من الكذب والتحريف والجهل بأصول الدين وفروعه؛ ليعتبر به مَن يظنون أن جميع أعضاء هيئة كبار العلماء بالأزهر ثقات يصدقون فيما ينقلون، وأمناء على العلم والدين فيما يثبتون وينفون. وإنني قبل أن أنقل لهم نص عبارة تلك الصفحة بحروفها أبين لهم أنها جاءت في مقدمة الجزء الأول من (تاريخ الأستاذ الإمام) في سياق الاستدلال على أنني سلكت في هذا التاريخ مسلك المؤرخ العادل فيما للأستاذ رحمه الله تعالى وما عليه، لا مسلك دعاة الأحزاب السياسية والاجتماعية والدينية الذين يقتصرون في الكلام عن زعمائهم وأئمتهم على بيان ما لهم دون ما عليهم، فالعبارة مجملة في المقدمة مبينة بالتفصيل في موضعها من التاريخ، وهذا نص عبارة المقدمة: فإذا رأى القارئ أنني على إعجابي بسعة علومه ورسوخه في معارفه التي كان بها جديرًا بلقب الأستاذ الإمام، الذي قبله وأجازه الرأي العام، أثبت أنه كان مقصرًا في علوم الحديث من حيث الرواية والحفظ والجرح والتعديل كغيره من علماء الأزهر. هذا نص العبارة بحروفها، وهاك بيان ما فيها من افتراء الكذب والجهل. الشواهد على افتراء هذا الطاعن الكذب: (الفرية الأولى) زعم هذا المفتري أنني رميت الأستاذ الإمام بالجهل بالسنة بالإطلاق الذي يدل على أنه غير عالم ولا مطلع على كتب الحديث كالصحيحين وموطأ مالك والسنن الأربعة وشروحها وكتب الجرح والتعديل أيضًا. ومن المعلوم الذي لا مراء فيه أن رواية الحديث وحفظه قد فقدا من الأزهر منذ قرون كما بينته في كتابي (المنار والأزهر) وكذلك العناية بالجرح والتعديل، وهذا لا يقتضي الجهل المطلق بالسنة نفسها في هذه القرون، فإن العلم بها من كتبها المدونة التي شرحها الحفاظ والفقهاء كافٍ فيما اشترطه علماء الأصول للاجتهاد كما سيأتي، وهو الذي كان له بقية في عهد تلقي الشيخ محمد عبده للعلم في أواخر القرن الهجري الماضي، وزالت في هذا القرن باعتقاد مثل الرفاعي وتلاميذه ومتبعيه كالدجوي والظواهري أنه لم يبق للعلماء بها حاجة في معرفة الإسلام والعمل به؛ لأن العمدة في عقائده عندهم كتب المتكلمين، وفي أحكامه كتب المتفقهين المقلدين، وأما حكمه وآدابه وسياسته وحججه على المخالفين فمما لا يخطر ببالهم أنها من هدايته، وأنها تطلب من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وقد أقمنا عليهم الحجة بالمنار وبتفسير المنار، وبكتاب (الوحي المحمدي) المقتبس من نوره، والذي شهد من اطلع عليه من علماء العصر وعقلائه بأن لم يسبق له نظير في إثبات النبوة المحمدية، وحجة الإسلام على أهل العلوم المادية، والحضارة العصرية. وجملة القول أن قولي: إنه مقصر في الرواية والحفظ والجرح والتعديل كغيره لا يقتضي عدم علمهم بهذه الثلاثة مطلقًا، وأن عدم العلم لا يدل على جهلهم بالسنة نفسها، فكيف أباحت له ديانته التعبير بذلك ونقله عني؟ (الفِرْيَتَان الثانية والثالثة) نقله عني أنني قلت: (إنه كان يجمع الصلوات) هكذا بالجمع والإطلاق وهو كذب مفترًى، وهذا نص عبارتي بحروفها: (وإنني على إعجابي بقوة تدينه، وحسن تعبده، ومحافظته على تهجده، صرحت بأنه كان يجمع بين الصلاتين في الحضر أحيانًا ترخصًا اجتهاديًّا خالف فيه المذاهب الأربعة، ولكنه وافق حديثًا صحيحًا أخذ به غيرهم من الأئمة) . فزَعْمه أنني قلت: إنه كان (يجمع الصلوات) بهذا الإطلاق يتضمن فريتين (أولاهما) دلالة اللفظ على أنه كان يجمع الخمس كلها، وأنا لم أقلها، وإنما قلت: (بين الصلاتين) والعامي يعلم الفرق بين الصلاتين والصلوات كلها، وكل متفقه في دينه يعلم أن الجمع بين الصلاتين كالظهر مع العصر والمغرب مع العشاء مشروع دون جمع الصلوات كلها. (الثانية) دلالة الإطلاق على أنه كان يفعل ذلك دائمًا، وأنا لم أطلقه في الصلاتين كما أطلقه هو في الجمع، بل قلت: إن الأستاذ قد يفعله أحيانًا أخذًا بحديث صحيح في الجمع بينهما أعني في الحضر. وأقول هنا: إن هذا الحديث الذي أشرت إليه قد رواه الإمام مالك في الموطأ والإمام الشافعي في سننه، ومسلم في صحيحه، وأصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما حاصله أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعًا ثمانيًا والمغرب والعشاء جميعًا سبعًا من غير خوف ولا سفر ولا مطر (لئلا يحرج أمته) . (الفرية الرابعة) قوله: إن معنى عبارتي عند كثير ممن يقرؤها (أن الشيخ عبده كان لا يصلي) بهذا الإطلاق، وقد رأيتم أن عبارتي صريحة في الإعجاب بقوة تدينه، وحسن تعبده، ومحافظته على تهجده، فهل يكون المتصف بهذه الصفات - ومنها المحافظة على التهجد بالصلوات في جنح الظلام - تاركًا للصلوات الخمس المفروضة على الإطلاق؟ كلا إن المفتري نفسه -على سوء فهمه وسوء نيته- لا يفهم هذا من العبارة، ويعلم أنه لا يوجد عاميٌّ يفهمه منها فضلاً عن خاصيٍّ، ولهذا حرَّفها بما تقدم فكيف أباح علمه ودينه وأمانته ذلك؟ (الفرية الخامسة) زعمه أنني قلت: (إن الأستاذ الإمام كان ينقم على الشيخ أحمد الرفاعي عدم الأخذ من الكتاب والسنة) وأنا لم أقل هذا، وإنما نشرت في السنة الأولى من المنار الذي صدر في شعبان 1316 (محاورة في إصلاح التعليم في الأزهر أنكر فيها الأستاذ الإمام على الشيخ أحمد الرفاعي قوله عن علم الحديث: لا حاجة إليه في هذه العصور ألبتة، وقوله في تعليله إنه: (لا يجوز لمسلم أن يأخذ بالحديث بل الواجب الأخذ بكلام الفقهاء، ومن ترك كلام فقهاء مذهبه للأخذ بحديث مخالف له فهو زنديق) . قلت: (فتعجب الأستاذ وقال: أنا أرى أن الذي يترك كلام صاحب الشريعة المعصوم الذي يعتقد صحته وأنه قاله، ويأخذ بكلام فقيه يجوز عليه ترك الحق عمدًا وخطأ هو الزنديق) . (فقال الشيخ صاحب الكلمة (أي الرفاعي) يجوز أن يكون الحديث الذي يأخذ به ضعيفًا أو موضوعًا) فأجابه الأستاذ (إن كلامنا في حديث يُعْتَقَدُ أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ولا أقدر أن أفهم معنى إسلام رجل ينبذ ما يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله لقول أيِّ إنسان من الأناسي) . فعلم من هذا أنني لم أقل: إن الأستاذ الإمام نقم من الشيخ أحمد الرفاعي عدم الأخذ من الكتاب والسنة أي الذي هو شأن المجتهد، فالأستاذ الإمام كان يعلم أن الرفاعي هذا لم يكن مجتهدًا ولا ممن يبيح الاجتهاد، وسأذكر الفرق بين ما قلته وما افتراه هذا المدعي للعلم عليَّ، ولو كان رواة الكتاب والسنة كلهم مثله لضاع الإسلام كله، ولم يثق أحد منه بشيء، ولكان المسلمون في دينهم كالذين من قبلهم في تحريف بعض كتبهم وإضاعة بعض. هذه خمس شواهد على افتراء هذا العضو من هيئة كبار العلماء وتحريفه للكلم، وتجرده من الأمانة في العلم، والصدق في النقل، ومن فقد الأمانة والصدق، فأي شيء يبقى عنده من فضيلة العلم؟ إلا أن فقدهما ثبوت لثلثي النفاق [*] والثلث الثالث من العلم الفهم، وهاؤم اقرءوا الشواهد من عبارته المتقدمة على مبلغ حظه منه. الشواهد على عدم الفهم أو العلم (الشاهد الأول) فهم عضو هيئة كبار العلماء المذكور أن ما قلته في إنكار الأستاذ الإمام على الشيخ أحمد الرفاعي يدل على أنني أقول: إنه مجتهد يأخذ من الكتاب والسنة، والعبارة لا تدل على ذلك بالمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام، فإن موضوعها أن يعرف مسلم حديثًا صحيحًا ويعتقد أنه صحيح كأن يطلع في كتب الحديث الصحاح عليه، أو يرى في الكتب المعتمدة أنه رواه الشيخان في صحيحهما أو أصحاب السنن وصححوه، ثم يقول له أحد المنتمين إلى فقه المذهب بوجوب مخالفته له وأنه إنما يجب عليه العمل بالمذهب دون الحديث، فهل مقتضى دين الإسلام أن يطيع المسلم هذا الفقيه أو اللابس لباس العلماء الفقهاء. وإن كان يعتقد أنه بطاعته يكون عاصيًا لرسول الله؟ أو أن يطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أمره الله، وكما بلغ ع

ويل للعرب من شر قد اقترب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ويل للعرب من شر قد اقترب (أفلح من كَفَّ يده) (حديث صحيح) نشرت هذه المقالة في بعض الجرائد المصرية عند انتشار البرقيات بقرب الحرب بين المملكتين اليمانية والعربية السعودية استيقظوا أيها النائمون، تنبهوا أيها المغرورون، استذل الإسلام في الأرض وصاح النذير بجزيرة العرب. احتلال عسكري في مصر وسيناء، صهيونية بريطانية في فلسطين، تأسيس قوة بحرية برية في خليج العقبة الحجازي للأسطول الإنكليزي، ومرفأ له وللبواخر في حيفا، حظائر للطيارات الحربية في مصر وشرق الأردن والعراق، حكم عسكري فرنسي في سورية ولبنان، حكم إنكليزي في عرب البحرين والكويت وعمان، حكم إنكليزي في عدن، وحماية على تسع مقاطعات من عرب اليمن، البحر الأحمر العربي الإسلامي صار بحرًا إنكليزيًّا قد تشارك إيطالية إنكلترة فيه بمقامها في مصوع وما تسعى إليه من نفوذ واستعمار في تهامة اليمن كما شاركتها في النفوذ والإشراف على مصر بمقامها في برقة واحتلالها لجغبوب، لم يبق للأمة العربية التي تمتد ممالكها من ساحل المحيط الغربي إلى بحر عمان والمحيط الهندي إلا جزيرة العرب هي البقعة الوحيدة التي ليس فيها ملك ولا حكم لمستعمري الغرب ولا لابس برنيطة يسيطر عليها بالأمر والنهي، وهي مهد الإسلام، ومهبط الوحي، وفيها بيت الله قبلة الصلاة، وشعائر الله، والمشعر الحرام، وعرفات موقف الحجيج العام، بل هي ملجأ الإسلام ومعقله ومأرزه الذي يأرز إليه ويعتصم به عندما تتداعى إليه الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها كما ثبت في الأحاديث الصحاح، ولذلك (وصى النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان) . ها هي ذي جزيرة العرب، يطوقها المستعمرون الفاتحون من البر والبحر والجو، وليس لهم فيها شبر من الأرض، ولا أحد من أبناء جلدتهم، الذين يتدخلون في البلاد لحمايتهم، وفيها زهاء مليون من شجعان العرب المسلمين المسلحين، ولكنهم أعداء أنفسهم، بأسهم بينهم شديد، يخربون بيوتهم بأيديهم، ويكيد لهم أبناء جنسهم ودينهم الذين في خارج بلادهم، ويسعون لإثارة العداوة وتأريث الفتنة وإيقاد نار الحرب بينهم. كان في هذه الجزيرة عند انتهاء الحرب العالمية أربع حكومات مستقلة: اليمن وعسير والحجاز ونجد، وكان دعاة الجامعة العربية يدعون رؤساء هذه الحكومات إلى الاتفاق الحلفي بينهم، فتعذر ذلك عليهم، فسقطت حكومتان وبقي حكومتان، إحداهما في الجنوب والأخرى في الشمال، وكان مما سر رجال الأمة العربية والشعوب الإسلامية كافة أن إمامي هاتين الحكومتين الإمامية والسعودية من أعظم من أنجبت الأمة عقلاً وأخلاقًا وديانة وسياسة وغيرة وحرصًا على صيانة مهد العرب ومشرق نور الإسلام من التفرق والاختلاف الذي يضعف كلا منهما، ويفضي إلى تدخل النفوذ الأجنبي في وطنهما، وهو لهما بالمرصاد. وقعت في مملكة كل منهما فتن داخلية من شأنها أن تغري الطامع في بلاد جاره باغتنام الفرصة، فلم يفقد أحد منهما رشده، ولا تجاوز حده، ثم عرضت لهما تجربة أخرى فاختلفا على موقع جبل عرو المشهور بامتناعه وهو في منطقة عسير السعودية، وقيل: إن جيش سيف الإسلام ولي عهد الإمام قد اقتحم عقابه، وإن الجيش السعودي قد زحف لحفظه واسترداد ما اقتحم منه، وقيل: إن القتال بين الدولتين واقع، ما له من دافع، فما لبثنا أن سمعنا ما لم يسمع بمثله أحد بين خصمين متنازعين ورأينا ما لم تر قبله عين من حكم بين حكومتين، ذلك أن الإمام يحيى كتب إلى الملك عبد العزيز آل سعود كتابة أخوية إسلامية يحكمه في القضية راضيًا بحكمه سواء أكان له أم عليه، فما كان من هذا إلا أن حكم له على نفسه، ونزل له عما يعتقد أنه من حقه، فدهش لهذا التحكيم والحكم الشرق والغرب، وفرح به العرب والعجم من المسلمين، واغتم له دعاة التفريق والتعادى من المفسدين. فما عدا مما بدا؟ ما هذه الصيحة التي أفزعت المجامع؟ ما هذه الصرخة التي مزقت المسامع؟ ما لنا نسمع في هذا الأسبوع أن زحوف الأمير أحمد سيف الإسلام القائد العام لليمن قد استولت عنوة على مقاطعة نجران، واقتحمت حدود العسير بعد خيبة الوفد السعودي الذي يقيم لدى الإمام العظيم منذ شهور للمفاوضة في عقد معاهدة ودية حلفية بين المملكتين تحد الحدود، وتسد ذرائع الخلاف، وتحول دون أسباب الشقاق، بل توحد قوى الدولتين وتضمن تكافلهما وتعاونهما على حفظ مهد الأمة العربية وقلب الإسلام وقبلته، وحرم الله وحرم رسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، وسائر المعتصمين بحبل الله وحبله. قد يدل على كذب الخبر من أصله أو على المبالغة فيه ما اشتهر عن الإمام الهمام من تقوى الله وحفظ حدوده وكراهة سفك الدماء، ومن ترجيح السياسة السلبية على الإيجابية ما لم تلجئ الضرورة إلى الثانية، ومن الأناة وطول التروي في الأمور، ومن الحذر الشديد من فتح أصغر المنافذ للنفوذ الأجنبي في بلاده فهو لم يتورط إلا في الاتفاق المعلوم مع دولة إيطالية، ولكن هذا الاتفاق علمه ما لم يكن يعلم فاشتد حذره وتضاعف، ثم إنه يعلم مع هذا أن الخطر على بلاده أشد من الخطر على المملكة السعودية لمواقع ثغورها على البحر الأحمر، ولأن ينابيع الثروة فيها أغزر، وليس لها من مناعة القداسة الدينية ما لجارتها الحجاز. ولكنه يطمع في ضم عسير إلى اليمن، ويجد من دعاة الفتن خصوم الملك السعودي من يزينون له هذا الطمع، ويسمونه حقًّا من حقوقه؛ لأنها -بزعمهم- مرسومة في مصور تخطيط البلدان من اللوح المحفوظ من توابع المملكة اليمانية الإمامية فلهذا يتريث بل يمتنع عقد المحالفة السياسية العسكرية الجغرافية مع ملك المملكة العربية السعودية على علمه بشدة الحاجة بل الضرورة الداعية إليها. فإذا كان نبأ هذه الصيحة الجديدة صحيحًا وأن اليد العاملة في محاولة الاستيلاء على عسير كلها أو بعضها بعد الاستيلاء على نجران هي يد ولي العهد الشاب العسكري المتوثب. فالمعقول أن يكون قد زين للإمام الحكيم المتقي أن الفرصة الآن سانحة لتحريض قبائل عسير المجاورة لليمن على تجديد الثورة ببذل شيء من المال لهم، وقد ضعفت القوات السعودية من البلاد بعد إخماد نار الثورة والتنكيل بمضرميها، فإذا احتل الجيش المتوكلي ما يريد احتلاله من البلاد يرى الملك عبد العزيز نفسه أمام أمر واقع، فيضطر إلى الاعتراف به وبناء الاتفاق عليه، كما حكم على نفسه بالتخلي عن جبل العرو من قبل. ولما هو عليه من العسرة المالية التي تحول دون تجهيز جيش عرمرم يكافح به الثورة الجديدة وما وراءها من الجيش اليماني، مع شدة حرصه على اتفاق الحكومتين. هذا أقرب ما نعقله لإرضاء الإمام الحكيم العليم بالإقدام على هذا العدوان الشديد الخطر، الذي يستهدف البادئ بالشر فيه لسخط الأمة العربية كلها والعالم الإسلامي كله ولسخط الله تعالى فوق كل شيء. إذا فرضنا أن الإمام يحيى لا يبالي سخط المسلمين البعيدين ولا العرب القريبين، أو لا يصدق أنهم يسخطون للتعادي والتقاتل الذي يضعف هذه البقية من البلاد العربية، فهل يجهل أن الله تعالى يسخطه أن يسفك دماء المسلمين لأجل توسيع مملكته على سعتها، وقابليتها لعمران عظيم يغنيه عن زيادة مساحتها؟ أم هل يجهل سوء عاقبة هذا القتال، وما يستلزمه من ألوف الرجال وبدر الأموال، التي لا يمكن تعويضها إلا في زمن طويل؟ كلا إنه ليعلم حق العلم كل ما ذكر، وإنه ليعلم أن هذا التعادي والاقتتال خطر عليه وعلى أمته ومهد دينه، وأن الملك السعودي ليعلم هذا حق العلم، وإنما قللنا من ذكره في هذا التذكير؛ لأن الذي روي عنه في هذه المسألة هو أفضل وأكمل ما يُطْلَبُ منه، وهو أنه بلَّغ الإمام أنه لا يعتدي، وإنما يدافع إذا اعْتُدِيَ عليه ويقبل التحكيم في الخلاف، والمرجو أن يقدر الإمام هذا الخطاب قدره، وإنا لننتظر ما يجيئنا الغد من الخبر اليقين، فنعطيه حقه من النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وليتذكر الفريقان ما رواه أبو داود والحاكم من قوله صلى الله عليه وسلم (ويل للعرب من شر قد اقترب، أفلح من كف يده) (والسلام على من اتبع الهدى) هذا ما نشر عقب انتشار الخبر في الصحف وذعر الأمة به ثم جاءنا كغيرنا من الإمامين كليهما ما هو صريح في مبالغة الجرائد في التشاؤم وتبرؤهما من إرادة الحرب، وتفاوضهما الودي للاتفاق، لكننا نرى أنه لا سبيل إليه إلا بالمعاهدة واجتناب اعتداء الحدود في عسير ونجران بعد الاتفاق عليها كما هي. ((يتبع بمقال تالٍ))

الملك فيصل الحسيني الهاشمي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الملك فيصل الحسيني الهاشمي في اليوم السابع عشر من شهر جمادى الأولى وهو السابع من أيلول (سبتمبر) فُجِعَتْ المملكة العراقية الطريفة العتيدة، والأمة العربية العريقة التليدة، بوفاة الشريف فيصل ملك سورية الأول المؤسس بالأمس القريب، فملك العراق الأول المؤسس إلى هذا اليوم العصيب، ابن المرحوم الشريف حسين ملك الحجاز الأول المؤسس من قبله، ووالد الملك غازي الأول الوارث من بعده، فاهتزت لموته البلاد العربية وزلزلت الأمة زلزالاً شديدًا، وكان لنعيه رنة عالية في الغرب رجَّع صداها الشرق كله بما لم يتفق مثله لملك من كبار الملوك ولا لعظيم من عظماء الفاتحين. توفي فجأة في مدينة (برن) عاصمة (سويسرة) من أوربة بسكتة عرضت لذلك القلب الخفاق بحب قومه ووطنه، فما سكن بالموت خفقانه، وسكت جيشانه، إلا وخفقت أسلاك البروق الكاتبة والناطقة في الخافقين معلنة نعيه، مكبرة خطبه، معددة مناقبة، مثنية على سياسته، وتلتها صحف العالم تتلو آيات التأبين والرثاء، وتردد شهادات الحمد والثناء، ولا سيما الصحف العربية في مصر والشام والعراق فسائر الآفاق، ولا تزال أنهارها تفيض بذلك إلى الآن. وقد حنط حيث توفي وحمل في تابوت إلى إيطالية فاحتفلت به حكومتها احتفالاً عظيمًا، ثم حمل منها ومن كان معه من الآل والوزراء والبطانة والحاشية على طرَّادة حربية إنكليزية إلى حيفا حيث كانت تنتظر الوفود من فلسطين وشرق الأردن وسورية ولبنان، فكان يومًا يُذَكِّر بيوم الحشر، في ازدحام الأقدام، واشتراك الجميع في الكرب، وإكبار الخَطْب، ووَجِيف القلوب، وفيض الدموع، وهنالك صُلِّيَ على جنازته، ثم حمل على طيارة مع بعض من حضر من أهله وخاصته وتبعها طيارات أخرى تقل سائر من كان معه وبعض المشيعين له إلى بغداد، ولا تسل عما جرى هنالك من استقبال الشعب العراقي لمؤسس ملكه، وواضع بناء مجده، وقد عاد إليه جسدًا محنطًا بغير روح، على مثل الطيارات التي حملته من بينهم في هذا الصيف مرتين غادية رائحة وهو يكاد يكون روحًا بغير جسد، ولو لم يعرف الشعب من جهاده في سبيله إلا عمله في هذا الصيف لكفى. فإن ما فعلته حكومته وشعبه، رجاله ونساؤه حَضَره وبدوه ليجل ويكبر عن الوصف والإحاطة. شهدت بمشهده بغداد ما لم يشهده بلد من البلاد، كانت كلها مأتمًا ممثلا لمناحة شعب كامل، كأنه أم رءوم ثاكل، رنات نواح وعويل، في كل دار وكل سبيل، وحداد عام شامل لشعب كبير، لعله لم يعرف له في الدنيا من نظير. لا في حشر الخلائق له، ولا في الحزن عليه، ولا في تشييعه ودفنه، فإن قارئ وصفه في الصحف ليكاد يستصغر ما رثى به بلغاء الشعراء المتقدمين أعظم عظماء الممدوحين، وكنا نعده من الغلو الخيالي والتصوير الشعري. فارقهم أول مرة بقصد الاستشفاء في سويسرة مما عرى ذلك الجسم الضاوي الهزيل من الضعف وتصلب الشرايين، فكانت طيارته كأنها تحمل روحًا من علو الهمة وحب القومية، أو كأن هذا الروح هو الذي يحملها فحط رحاله في عمان من شرق الأردن فالقدس فمصر، وكان يَلْقَى في كل مكان من حفاوة المستقبلين والمودعين، ما لم يعهد مثله فيما سلف من السنين، إلا عند دخوله الشام فاتحًا، ثم عند تتويجه فيها ملكًا، وصرَّح له كل من استقبله من العرب الفلسطينيين والسوريين أنه مناط آمالهم في الدفاع عنهم، والسعي لكشف ما حل من الظلم والهضم والقهر الاستعماري ببلادهم، فوعدهم خيرًا، بل قدمت إليه عشرات من وثائق التوكيل الرسمي عليها توقيع الجم الغفير من السوريين في ذلك. وما كاد يستريح من وعثاء السفر في سويسرة حتى حدثت في العراق فتنة خروج الأشوريين على حكومته، وإيقاد نيران الثورة عليها بمساعدة السلطة العسكرية الفرنسية في مصر لها، وإظهار الجرائد الإنكليزية في بلاده لمظاهرتهم والدفاع عنهم، والطعن على حكومة العراق وإنذارها سوء العاقبة على ما تصدت له من تأديبهم. فَكَرَّ راجعًا من سويسرة إلى العراق طائرًا بذلك الروح القوي القادر، المتواري في ذلك الشخص الشخت الضامر، الذي يصارع الخطوب، ولا يشكو الأين واللغوب، حتى كأنه لا يشعر بالكلال والإعياء، فتولى تلافي ثورة الأشوريين بتدبيره الحكيم، ورأيه الحازم السديد، وعاد أدراجه على طيارته من بغداد إلى أوربة، فأقنع أولي الأمر في إنكلترة بما لحكومة العراق من الحق في تأديب هؤلاء الثوار، وبما لها هي من المصلحة في تأييدها لها، وفي كف تحامل الجرائد الإنكليزية عليها، وخطلها في تهديد حكومتها، ثم في نصرها عند عرض المسألة على جمعية الأمم. بعد هذا الجهاد العنيف والكفاح في كارثة العراق التي تصدت فرنسة لإثارتها وإثارة تعصب أوربة الديني بها على استقلاله، لإحباط السعي لاتحاد سورية به، تضاءل جسد فيصل وانحطت قواه البدنية عن حمل قواه الروحية والعقلية، فأراد أن يستريح ويستسلم لمعالجة الأطباء، وأراد القدر المحتوم أن يخطئ في استراحته ومعالجته، بقدر ما وفق وأصاب في سياسته، فكان توقله في الحبل للرياضة خطأ مضنيًا، وتداويه بالحقن غير الموافق لمرضه خطأ مرديًا، فقضيا عليه في يوم وليلة قضاء مبرمًا، فسبحان الحي الذي لا يموت {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34) إنا لله وإنا إليه راجعون. هذه خاتمة جهاد فيصل وخاتمة عمره، قد أظهرت للعالم كله ما لم يكن يعلمه إلا الأفراد من علو همته، وتفانيه في توطيد استقلال دولته، وتمهيد السبيل لتوحيد أمته، هذا ما تجلى لقومه ووطنه فيه من عمل، وما تجدد لهم به من أمل، عرفه من كان ينكره، وأكبره من كان يستصغره. وليس من موضوع المنار تلخيص أمثال هذه الأخبار الطولى من الصحف اليومية، فليس المنار بمجلة تاريخ وأخبار، وإنما هي صحيفة ذكرى واعتبار، وعلم وإصلاح ديني واجتماعي، وسيجمع الناس بعض ما نشر في الصحف العربية من تأبين فيصل ورثائه، ووصف مآتمه وعزائه، وتفصيل تاريخه في أسفار لا في سفر واحد. وستقام له حفلات تأبين ورثاء لذكرى يوم الأربعين وغيره في بغداد وعمان والقدس والشام ومصر وغيرهن من الأمصار، على أن السابقين إلى ذلك لم يتركوا لأنفسهم ولا لغيرهم مقالاً جديدًا، فقد غلوا في الشعريات غلوًّا كبيرًا، فماذا عسى أن يقول المقتصد خلقًا ودينًا، وأي تأثير يكون لقوله في أمثال هذه المجامع في هذه الكارثة؟ ألا إنني قد دعيت إلى حضور ما ذكرت من الأمصار وإلى غيرها، أو إرسال شيء يقال فيها، وإني لمعتذر لما عدا حفلة القاهرة منها، ولمعترف بعجزي عن وصف هذه الفجيعة بفيصل بالوصف المحيط بها، ولمرجئ ما أراه من الواجب عليَّ من الاعتبار الإصلاحي بها إلى جزء آخر. بيد أني أشهد في هذا التأبين الوجيز أن الأمة العربية خسرت بفقد الملك فيصل سياسيًّا محنكًا لا يناظره فيها نظير، ولا يقارعه قريع ولا يلز به قرين، بل تباري به دهاة ساسة الأوربيين وقرومهم المقرمين، وفقدت زعيمًا عصريًّا، وملكًا مدنيًّا حازمًا غير مستبد، كبيرًا غير متكبر، متواضعًا عن غير ضعة، حليمًا في غير ضعف، قد مارس الأيام، وعجم عود الزمان. وأختم القول الآن بالواجب أداؤه، الممتنع إرجاؤه، وهو تعزية إخوة الفقيد وأسرته الهاشمية عامة وجلالة نجله الذي خلفه على عرش العراق الملك غازي الأول، خاصة فأسأل الله تعالى أن يحسن عزاءه وسلوته عن والده البر الرحيم، بحسن القيام بما أورثه من الملك والمجد العظيم، وأن يوفقه فيه للنهوض بأعبائه، ويجعله خير أهل لما ترجوه بلاده وأمته من سياسته، بالاعتماد على المجربين من رجال حكومته، بعد تحري مرضاة الله عز وجل وشكره على نعمته، وبناء دعائم الإصلاح على أساس شريعته، فإن الشعب العراقي قد دخل في طور جديد من الحياة الدولية، ولبلاده سلف عظيم من الدولة العباسية، التي كانت مؤسسة لأرقى دولة مدنية في عصرها علمًا وفنًّا، وتشريعًا وقوة وفتحًا، وثروة ونعمة وعمرانًا، والأمة العربية التي بتوحيدها ووحدتها أوجدتها، ثم فقدتها بتفرقها وغفلتها، قد استيقظت بعد رقاد لبثت فيه عدة قرون، ووجهت عنايتها لتجديد المجد الذي ابتدأه سلفها فأخرجوه من ظلمات العدم إلى نور الوجود، ولكنها متفرقة في المذاهب الدينية، مختلفة في الآراء والأفكار العصرية، متفاوتة في أسبابها من التربية والتعليم، مبتلاة بما ينافي تأسيس القوة من الترف وحب الزينة والتمتع بالشهوات، وحولها خصوم لُدّ وأعداء ما من صداقتهم بُدّ، وإن في هذا القرآن والسنة المحمدية التي شرَّف الله بها العرب على جميع الأمم لعلاجًا لكل تلك الأدواء، وإن نجاح العرب في هذه العصر بدون هذا العلاج ضرب من المُحَال.

تقريظ المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات الحديثة (مجمع البيان. في تفسير القرآن) لمؤلفه العلامة الشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي من أكابر علماء (الشيعة) الإمامية في القرن السادس. وهو مطبوع طبعًا حجريًّا في طهران ونسخه نادرة الوجود وغالية الثمن، ولهذا انتدب لإعادة طبعه بالحروف الجميلة زميلنا الأستاذ الفاضل الشيخ عارف الزين، صاحب مجلة العرفان الغراء ومحيي آثار علماء الشيعة في هذا العصر، وهذا التفسير أفضل ما نعرفه منها؛ لاعتداله وحسن ترتيبه وفصاحة عبارته، فهو يتكلم أولا على القراءات حيث تتعدد، وثانيًا على مفردات اللغة وشواهدها، وثالثًا على وجوه الإعراب إذا خفيت، ورابعًا على أسباب النزول إذا رُوِيَتْ، وخامسًا على المعنى من مأثور ومعقول وما فيه من المذاهب إذا اختلفت. وقد تم في رمضان سنة 1350 طبع المجلد الأول منه فكان طبعًا جيدًا لكن على ورق غير جيد، وفيه تفسير جزء من تجزئة الأصل ويشتمل على تفسير سورة الفاتحة والبقرة وآل عمران بعد مقدمات أحدها في ترجمة المؤلف للعلامة السيد محسن الحسيني العاملي والثانية في مباحث التفسير من معناه وفائدته والحاجة إليه وأقسامه وأذواق المفسرين وطبقاتهم للأستاذ العالم الأديب الشيخ أحمد رضا، وقد أشار في آخرها إلى دروس الأستاذ الإمام في الأزهر واقتباسها في المنار، ولكنه لم يذكر أن تفسير المنار مستقل، وأنه قد صدر منه إلى وقت كتابته لها تسعة أجزاء. ويلي هاتين المقدمتين مقدمة المؤلف وهي جامعة لبضع مسائل في القرآن سماها فنونًا. بلغت صفحات هذا المجلد 562 صفحة بدون الفهرس من القطع الكامل وقد جعل الأستاذ القائم بطبعه قيمة الاشتراك في المجلد منه جنيهًا عثمانيًّا ونصف جنيه بنقد الذهب واعدًا بأنه كلما اجتمع لديه منها ما يكفي نفقة جزء منه طبعه، وهو معذور؛ لأنه إن قدر على طبع الجزء منه بماله في هذه العسرة فلا يثق بأن يجتمع له ما أنفقه نقدًا إلا في عدة سنين نسيئة، لا لقلة المال عند المسلمين من شيعة وسنيين، بل لقلة الدين، والانصراف عن فهم كتاب الله إلى الإسراف في الشهوات المضيعة للدنيا، والعصبيات المضيعة للآخرة والدنيا معًا. *** (حاضر العالم الإسلامي) (لمستر لوثروب ستودار - والأمير شكيب أرسلان) (الطبعة الثانية بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه بمصر في أربعة أجزاء) نشرت مكتبة البابي الحلبي الطبعة الثانية من هذا الكتاب في هذا العام (1352) في مجلدين كبيرين في كل منهما 782 صفحة كصفحات المنار بحروف جديدة على ورق جيد. فهو من أحسن الكتب طبعًا، وكانت الطبعة الأولى في جُزْءَيْنِ فقط، فهذه الزيادة جاءت مما أضافه إليها أمير البيان الأمير شكيب أرسلان من الحواشي والتعليقات الجديدة على الأصل، فصارت جديرة بأن تجعل هي الأصل بطولها وتحقيقها وتعدد مباحثها، ويجعل كتاب لوثروب حاشية أو ذيلاً لها، ولعله لا يزيد عن ربعها. الكتاب قد اشتهر عند قراء العربية في المشرق والمغرب شهرة تغني عن التعريف به، وقد قرَّظنا الطبعة الأولى منه عقب صدورها سنة 1343 فهي قد نفدت نسخها الكثيرة في بضع سنين فشرع الأمير بعد ذلك في كتابة الزيادات التي أشعره بالحاجة إليها ما تجدد في العالم الإسلامي وشعوبه من الأحداث المهمة بالحرب العالمية العظمى والمصائب والكوارث والنوازل التي ألمت بالمسلمين وبأكثر البشر بربح إنكلترة وفرنسة وإيطالية للحرب، وتحكمهم الجائر في إرث الأرض، وقد بيَّن أمير البيان الحاجة إلى هذه الزيادة بقلمه البليغ في مقدمة الطبعة الثانية فقال: (ولما كان قد مضى على الطبعة الأولى سبع سنوات تامات، جرى خلالها حوادث ومهمات، ووقائع هامات، وحصل ما يسوء وما يسر، وطرأ ما هو حلو وما هو مر، وبالإجمال تجددت قضايا تهم التاريخ العام، فضلاً عن تاريخ الإسلام، وذلك لأن الحرب العامة كانت أشبه بزلزال جيولوجي عام، كاد أن يأتي الأرض من قواعدها، فكثرت على أثرها الانقلابات والتحولات، وازدادت قابلية الأمم للتأثرات، وتم في هذه السنين السبع بين طبعتي الكتاب الأولى والثانية ما لا يحصل أكثر منه في الحِقَب الطوال، كان لا مندوحة لنا عن مراجعة النظر في الحواشي التي علَّقناها على الكتاب أول مرة؛ لنضم إليها ما جدَّ من الوقائع التي جرت خلال هذه الأعوام الأخيرة، ونردف الأول بالآخر، والأصل بالفرع، وتكون الحواشي التي توخينا تعليقها على موضوع من مباحث العلامة ستودارد قد جاءت بتمام البحث، ووفت بالغرض، ونقعت الغلة، ولم تبق في النفس حاجة، وأتت بصورة الوقائع متسلسلة من الأول إلى هذه الساعة، ثم إنه لم ينحصر الأمر في سرد الوقائع ولا في تقييد ما تجدد في هذه الأعوام الأخيرة من الحوادث، بل تعداه إلى إكمال مباحث كان ضيق الوقت قد قضى باختصارها، ومطالب ألجأ تحرُّج المكان دون استنزافها إلى أصبارها، فأطلقنا هذه المرة فيها للقلم عنانًا، وأرهفنا للتحقيق سنانًا، وأكملنا ما كان قضى ضيق الوقت بإبقائه ناقصًا، أو برده عن محله ناكصًا. (وأما كتابنا هذا في أجزائه الأربعة هذه المرة، فإنه إلى أن يُتَاح للإسلام حظ هذا العمل الكبير، يكون من الكتب التي تفي بجانب من هذا العوز، ويجوز أن يقال: إنه معلمة إسلامية صغيرة، بل هو في المباحث الجغرافية والتاريخية والإحصائية عن أقطار الإسلام النائية وبقاعه المجهولة فَذٌّ في بابه، وكذلك يمتاز هذا الكتاب بالمباحث السياسية التي قيض لمحررها أن يعلمها من عين صافية، وأن يقف على الرواية الوثقى منها بطول خبرته، وقرب سنده، واستمرار مزاولته لهذه الأمور من 47 سنة. وفيه بعدُ تراجمٌ وأخبارٌ، لم يسجلها كتاب ولا جرى بها قلم، فلا يجدها الناشد في غيره، إذ هي نتيجة مشاهدات الكاتب وما رآه بالعين وما سمعه بالأذن وما كان له فيه أخذ ورد. وعلى كل حال ففي هذا الكتاب من الطريف ما لا يسع إنكاره الجاحد، ولا يضيره مراء الحاسد. ولا شك في أن الأمة الإسلامية الناهضة إلى تجديد تاريخها، النازعة إلى النماء بجميع فروعها وشماريخها، ستتفطن إلى كل ما يعوزها من هذه المقاصد الجليلة، ومن جملتها تأليف المعلمة الكبرى التي هي من ضرورات رقيها وأشراط نموها وبالله التوفيق، ومنه نستمد الهداية إلى أقوم طريق، وصلى الله على النبي العربي العريق، وعلى آله وصحبه وسلم. هذا ما كتبه الأمير شكيب في التعريف بالحواشي التي علقها على كتاب (حاضر العالم الإسلامي) وما زاده فيها، ومن أعلم منه بها وهو أبو عذرتها، وغارس فسيلتها، وجاني ثمرتها، وقد يظن من يقرؤها وحدها أنه ربما كان مبالغًا في وصفه لها، وما هو إلا مقصر كل التقصير، وما كان التقصير من شأن قلمه في يوم من أيام عمره، وإنما كان الآن أمرًا لازمًا لتسمية مصنفه الكبير، حواشي معلقة في أذيال كتاب ستودارد الصغير، وإنه لأَجَلّ من أن يكون أصلاً له أو مَتْنًا ويقل ذلك الأصل أن يجعل ذيلاً له أو ذنبًا، ولكنه ظلم نفسه ظلمًا علميًّا أدبيًّا، أعقبه ظلمًا ماليًّا ماديًّا، ومن شاء أن يعلم كُنْهَ هذا الظلم مجملاً، فلينظر في فهرس الكتاب قبل أن يعلمه بقراءته كله مفصلاً. على أن اسم (حاضر العالم الإسلامي) لو وضع لتعليق لمصنف الأمير شكيب هذا وحده، لكان ظلمًا له وهضمًا لحقه، وتصغيرًا لقدره، وإنما الجدير به أن يسمى (غابر العالم الإسلامي وحاضره) أو تالده وطارفه، فإن مقدمته في نشوء الإسلام وارتقائه وانحطاطه، ويليها الكلام في الفتح العربي والبعثة المحمدية وأقوال جمهرة من العلماء والفلاسفة والمؤرخين الأوربيين في النبي صلى الله عليه وسلم ومنه خلاصة كتاب (حياة محمد) لإميل درمنغهم الكاتب الفرنسي الذي اشتهر بهذا الكتاب، ويلي ذلك فصول ضافية في علو الإسلام وعظمته، وسبب هبوط أهله في هذا الزمان، وفي مدنية الإسلام والرد على حسادها المكابرين، وارتقاء اليونان والرومان العلمي المدني قبل النصرانية وانحطاطهم بعد انتحالها، والمدنية العربية وخدمتها للطب ثم الكلام في الفرس والترك والتشيع والتعصب والتسامح والخلافة والملك وهدي الخلفاء الراشدين وسيرة عمر وعدله خاصة، وكل ذلك في لباب الإسلام وماضيه لا في حاضره. أخذت هذه المباحث 258 صفحة من الجزء الأول، ووضع بعدها الفصل الأول من كتاب ستوارد وموضوعه اليقظة الإسلامية وهو في 16 صفحة، ويليه ترجمة القس زويمر الأمريكاني أوقح أعداء الإسلام من دعاة النصرانية وأشدهم إفسادًا، فترجمة الأستاذ الإمام وصاحب المنار من أشهر أنصار الإسلام ودعاته وهي للأمير شكيب، ووضع بعدها الفصل الثاني من كتاب ستودارد وموضوعه الجامعة الإسلامية وصفحاته 41 وسائر الجزء للأمير، وهو في بيان حال الدول المستعمرة والإسلام - وأثر الدولة الروسية في الشرق- والفتوحات الإسلامية في الهند وحال هذا القطر العظيم في هذا العصر- والإسلام في جاوى ومسلمي فيلبين - الجزائر الشرقية الهندية الهولندية - وكلها للأمير، وقس الجزء الثاني على الأول بل لم أر في فهرسه لستوارد شيئًا. وجملة القول أن هذا الكتاب معلمة (دائرة معارف) للإسلام وشعوبه وخواص رجاله لا يستغني مسلم قارئ عن الاطلاع عليه والاستفادة منه، وهو يغني عن مئات من الكتب التي طرقت مباحثه، ولا يغني عنه غيره في أبوابه، إلا أن تُعْنَى دولة أو جمعية إسلامية غنية بوضع دائرة معارف إسلامية يتولى تحرير كل موضوع منها علماء أخصائيون في علومهم وفنونهم، كما تمنى الأمير شكيب ونوَّه في مقدمته وكما يتمنى كل مسلم يعرف حاجة المسلمين إلى معرفة أنفسهم وتاريخ دينهم وحضارتهم، وإن أهم ما فيه بيان الحرب الصليبية التي يجردها الإفرنج لمحو الإسلام واستعباد المسلمين، بما يسمونه الاستعمار، ودعاية التنصير ومطاعن المستشرقين، وسنقتبس بعض الأشعة من شمسه المشرقة، وبعض الجذى من ناره المحرقة، لعل المسلمين يستفيدون منها ما يضيء لهم الطريق، ويحول عنهم نار الحريق. هذا وإن ثمن النسخة من مجلدي الكتاب معًا مائة قرش مصري وما هو بكثير. *** (كتاب الوحي المحمدي) لقد كان لهذا الكتاب من حسن الوقع والتأثير في العالم الإسلامي فوق ما كنا نحسب ونقدر، فلم تمض على صدوره ثلاثة أشهر إلا وصار المطلوب من نسخه أكثر من الموجود منها حتى امتنعنا من بيعه للمكتبات بالجملة فطلبت إحداها خمسمائة نسخة فأعطيناها مائة لكيلا تنفد النسخ كلها قبل أن يتيسر لنا إعادة طبعه وقد قررت وزارة معارف أفغانستان ترجمته بالفارسية ونشره في مدارسها وطلبت عدة نسخ منه بالعربية؛ لتوزيعها على العلماء بالعربية. وقرَّظه صاحب الجلالة المتوكلية الإمام يحيى حميد الدين وطلب نسخًا كثيرة منه لنشرها في اليمن وشرع آخرون بترجمته باللغات التركية والأوردية والإنكليزية، وسننشر بعض ما قرَّظه به كبار العلماء والكُتَّاب في مصر وغيرها. *** (نداء الجنس اللطيف - في حقوق النساء في الإسلام) (لصاحب الفضيلة مفتي طرابلس الشام) لحضرة الأخ الفاضل السيد عاصم آل رضا حفظه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تناولت بيد الشكر والاحترام هديتكم السنية كتاب (حقوق النساء في الإسلام، وحظهن من الإصلاح المحمدي العام) تأليف العلامة الشهير، الأستاذ الكبير، دائرة العلوم المعارف، من تالد وطارف، مفخرة الأمة المحمدية، طراز العصابة الهاشمية، خ

أصل الشيعة وأصولها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أصل الشيعة وأصولها من تأليف علامتهم الكبير ومجتهدهم الشهير الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي، وهي مطبوعة في مطبعة مجلة العرفان بصيدا وقد جعلها الأستاذ صاحب هذه المجلة هدية للذين وَفَّوْهُ اشتراك المجلة وهي تباع لغيرهم بقيمة عشر فرنكات على صغرها، فإن صفحاتها مع مقدمتها 138 صفحة من القطع الصغير، ولكنها وصلت إلينا رسالة من بغداد فيها كتاب اسمه (الشيعة) تأليف (السيد محمد صادق السيد محمد حسين الصدر) . فأما (كتاب الشيعة) فلا نتكلم فيه؛ لأنه صدع جديد لبناء وحدة الإسلام، بالطعن على أهل السنة والجماعة من الصحابة الكرام، وحُفَّاظها ومدونيها من الأئمة الأعلام، كاد يضرم نار الثورة في العراق، فأنا أغضي عن هذا الكتاب المُبَارز للسنة وأهلها بالعداء وإعلان الحرب، وهو فيه كالصعو الذي يهاجم الصقر، وأما الرسالة فهي دعاية فرقة، في دعوى وحدة، لهذا أخصها بكلمات من النقد والعتب، أو التذكير والوعظ، يظهر بها لمؤلفها الأجل أنه جدير فيها بضرب المثل: أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل هي مُصَدَّرَة بمقدمة وجيزة بإمضاء (عبد الرزاق الحسيني) كتبها ببغداد في غرة ذي الحجة سنة 1350 خلاصتها أنه تجول في معظم القصبات والقرى الريفية في العراق، وأنه صادف أن زار في العام الماضي مصر وفلسطين وسورية، واتصل بالطبقة المثقفة في هذه الأقطار العربية كلها، فسمع منها ما كان يسمعه من أهل الدليم في العراق من الطعن الغريب في طائفة الشيعة (قال) : (وخلاصة ما كنت أسمعه أن للشيعي ذَنَبًا لا يختلف عن أذناب البهائم، وأن لهم أرواحًا تتقمص أجساد بعض الحيوانات بعد أن تفارق أجسادهم، وأنهم لا يعرفون الأكل مثلما تعرفه بقية الطوائف) وأنهم وأنهم وأنهم (إلى آخر ما هنالك من عجائب وغرائب) اهـ. بنصه، مع حذف أكثره. ثم ذكر أنه كان ولا يزال يقرأ في كتب من يدعون البحث والتحقيق العلمي من أهل السنة، ما هو أغرب مما سمعه عن الشيعة، وأنه كان يكاتب الإمام العلامة المؤلف بذلك كله فيدله على أكثر مما قرأ ومما سمع، وأنه في أثناء هذه المكاتبة (كان سماحته يبث الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، ويدعو المسلمين إلى سحق التقاطع من أجل الفوارق المذهبية، فكان بحق أول من شق هذا الطريق المؤدي إلى فلاح الإسلام) ! ! ! ثم استدل على هذه الدعوى بما تجشمه سماحته من عناء السفر ووعثائه لحضور المؤتمر الإسلامي العام في القدس وعبر عنها الكاتب الحَسَنِي (بأرض الميعاد) لأجل أن يخطب لدعوة المسلمين إلى هذه الوحدة التي لم يعن بها غيره. هذه المقدمة أول شاهد في هذا الكتاب على دعاوي القوم وغلوهم فيما لهم وما عليهم، وقد أقرها المؤلف عليها، وبنى تأليفه هذا على صحتها وصحة ما هو شر منها، فكانت داعية شقاق، وإن قنعت بقناع صلب الوفاق؛ لأنها تقنع كل من قرأها من الشيعة أن جميع أهل السنة عاميهم وخاصيهم أعداء لهم قد أخرجهم الشنآن من حظيرة العقل والفهم، فلا علاج لهم بما يبذله المؤلف من علاجهم بالعلم، ومحاولة إقناعهم بأن مذهب الشيعة هو الحق بل هو الإسلام دون ما خالفه. إننا لم نسمع في عمرنا الطويل كلمة واحدة مما نقله عن المثقفين في مصر وسورية وفلسطين، لا من المثقفين الذين يجلون عن هذه الجهالات أن تصدقها عقولهم، أو ترويها ألسنتهم، ولا عن العوام الخرافيين منهم، ونحن أعلم بهذه البلاد وأهلها منه، ولم نر في كتب أحد ما هو أغرب منها كما ادعى، وأي شيء أغرب من جعل خلقة الشيعي مخالفة لخلقة سائر البشر، فإن فرض أنه سمع كلمة سخيفة كهذه جديرة بالسخرية من بعض أعراب الدليم الأميين في العراق، أفلم يكن له من عقله ما يزع تعصبه أن يلصقها بالطبقات المثقفة في مصر وفلسطين والشام؟ وإننا قد سمعنا من أخبار الشيعة في العراق وإيران وجبل عامل من الأقوال والأعمال في عشر المحرم وغيره حتى في البيوت ما لم يخطر في بالنا أن نكتبه تمهيدًا للاتفاق؛ إذ من الضروري أنه مثار للشقاق. يلي هذا الشاهد على غلوه في هجو أهل السنة في أرقى البلاد العربية والإسلامية غلوه في إمامه المؤلف بجعله هو العالم المسلم الفذ الذي عني بدعوة أهل السنة إلى الاتحاد ونبذ عصبية المذاهب المفرقة بالسعي العظيم الذي انفرد به، وقاسى الأهوال والشدائد في سبيله، وهو قبوله دعوة المؤتمر الإسلامي العام ومجيئه من أرض العراق إلى أرض جارته فلسطين ليلقي خطبة فيه! ! بخ بخ، أليس لأحد من علماء أهل السنة وفضلائهم شيء من مشاركة علامة الشيعة في هذا الفضل، وقد جاء بعضهم من أقطار أوربة وبعضهم من أقطار الشرق، وكانوا كلهم متفقين على جمع كلمة المسلمين، ونبذ التفريق الذي دعا إليه بعض علماء الشيعة كالسيد عبد الحسين نور الدين، ولم يسمع بمثله في العالمين؟ ولا يزالون يسعون إليه كما فعله صاحب كتاب الشيعة في هذا العام؟ إن أول صوت سمعه العالم الإسلامي كله في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية العامة، والاتفاق بين أهل السنة والشيعة خاصة، هو صوت الحكيمين الإمامين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري، ومقالات العروة الوثقى في ذلك محفوظة أعيد طبعها، وتاريخ (الأستاذ الإمام) مفصل لها وقد نشرنا دعوتهما وأيدناها بمقالاتنا وسعينا العملي منذ 36 سنة، ولكننا نغضي النظر عن ذلك، وننظر إلى عمل المؤتمر الإسلامي وحده. ألم يكن لرئيس المؤتمر الإسلامي الداعي إليه وأعضاء اللجنة التحضيرية التي وضعت نظامه من الفضل ما يفوق فضل علامة الشيعة بإجابة الدعوة؟ ألم يكن للرئيس من فضل السبق إلى التأليف والاتحاد تقديمه إياه على جميع من حضر المؤتمر من علماء السنة وسادتهم بإمامة الصلاة في الاجتماع العام للمؤتمر في ليلة ذكرى الإسراء والمعراج؟ وقد علمت باليقين أن السيد أمينًا الحسيني شاور في هذا التقديم له غير أعضاء اللجنة من كبار علماء السنة، فوافقوه على ذلك؛ لأن الغرض منه التأليف والوحدة لا لسبب آخر، ولم يكن أحد منهم سمع في هذا الغرض من سماحة كاشف الغطاء كلمة، فلأهل السنة السبق إلى هذه الدعوة، ثم في تكريمه وتقديمه لأجل الوحدة. ومما انتقده جمهور أعضاء المؤتمر على الأستاذ الشيخ محمد آل كاشف الغطاء أنه اتخذ هذا التقديم في تلك الليلة الحافلة حقًّا له شرعيًّا، ومنصبًا رسميًّا، فكان يتقدم من تلقاء نفسه الجميع في كل صلاة جماعة يحضرها، ولم يزاحمه أحد من أهل السنة فيها، ولم يتواضع هو مرة فيدعو غيره من العلماء أو السادة الشرفاء إلى مشاركته أو النيابة عنه على فرض أنه هو صاحب الحق، ولكنه يقدم غيره من باب التواضع وحسن الذوق. أو لم تكن هذه المنة للمثقفين من أهل السنة كافية لإبطال تلك التهمة، فتمنع السيد عبد الرزاق الحسني وأستاذه علامة الشيعة ومجتهدهم من تشهير مثقفي أهل السنة كلهم بها وجعلها سبب تأليف هذه الرسالة وإنما هي دعوة لأهل السنة إلى مذهب الشيعة. نعم إنه قد ذكر كل من مؤلفها ومؤلف كتاب (الشيعة) أن الداعي أو الدافع الداعّ لهما إلى ما كتبا هو ما جاء في كتاب (فجر الإسلام) في الطعن على الشيعة لمؤلفه الأستاذ أحمد أمين ومساعده الدكتور طه حسين المصريين، ولم أكن رأيت هذا الطعن ولا طالعت هذا الكتاب، ولكني أعلم كما يعلم العالمان الشيعيان وغيرهما أن مؤلفي كتاب فجر الإسلام وضحى الإسلام ليسا من دعاة مذهب السنة والرد على مخالفيه في ورد ولا صدر، وقد ذكر مؤلفها فيها أن الأستاذ أحمد أمين صاحبه اعتذر عما كتبه في الشيعة بأنه نقله عن بعض كتب التاريخ المشهورة التي اطلع عليها ولم يطلع على ما يخالفها، ثم أشار إلى ما يبرئهما من كل تعصب مذهبي أو غرض ديني، بل إلى ما هو شر من ذلك، وهو ما اشتهر عن أحدهما من الطعن في أصل الدين؛ إذ قال: ونحن لولا محافظتنا على مياه الصفاء أن لا تتعكر، ونيران البغضاء أن تتسعر، وأن تنطبق علينا حكمة القائل: لا تنه عن خلق وتأتي مثله لعرفناه من الذي يريد هدم قواعد الإسلام بمعاول الإلحاد والزندقة، ومن الذي يسعى لتمزيق وحدة المسلمين بعوامل التقطيع والتفرقة اهـ. وجملة القول أنه ما كان ينبغي للعلامة كاشف الغطاء أن يوافق تلميذه السيد الحسني على ما رمى به أهل السنة مثقفيهم وعامتهم من هذا الطعن غير المعقول، وأن يزيد عليه بما يوهم أنه قليل مما يعلمه هو، وأن يجعله هو وما كتب في فجر الإسلام داعيًا أو دافعًا إلى كتابة هذه الرسالة وما فيها مما يسوء أهل السنة من الدعوى العريضة لنفسه وهضم حق غيره من أهل السنة على الإطلاق، ثم أن يجعل ما كتبه في أصل الشيعة وأصولها ردًّا عليه وإقناعًا للفريقين بالاتفاق مع إقرار كل منهما للآخر على مذهبه، فإن الرسالة صريحة في ضد ذلك. وأما ما كتبه في أصل الشيعة وأصولها فإننا نخصه بمقال ننشره بعد. ((يتبع بمقال تالٍ)) ـــــــــــــــــ

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار سماع الغناء من آلتي الحاكي (الفونغراف) والمذياع (الراديو) (س16) من صاحب الإمضاء في مليبار (الهند) تأخر بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. إلى حضرة السيد الجليل المحترم صاحب الفضل والفضيلة محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله ونفعنا وجميع المسلمين بعلومه. بعد التحية اللائقة بمقامكم الشريف وجزيل السلام ورحمة الله وبركاته أرفع لفضيلتكم السؤال الآتي راجيًا التكرم منكم بالإجابة عليه سريعًا، ولكم منا جزيل الشكر، ومن المولى عظيم الثواب والأجر. هو: ما حكم آلتي الغناء المسماتين بفونوغراف وهارمونيا، هل يجوز استعمالهما للمسلمين في الأفراح وغيرها، وهل يجوز الالتذاذ بسماع غنائهما أم لا؟ فالمرجو من فضيلتكم أن تجيبوا جوابًا شافيًا في العدد القريب من مجلتكم المنار الغراء، لا زلتم ملجأ للمسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الكود نجيري (ج) حكم الآلات الناقلة للأصوات أنه يجوز استعمالها والسماع منها لما يُسْمَع من الناس وغيرهم بدونها، بل ربما كان السماع منهما جائزًا لما يُحْظَر سماعه من الألسنة لعارض، كالسماع من المرأة لما يثير الافتتان بها عند من لا يعد السماع منها محظورًا لذاته وهو الصواب، فالمسألة واضحة لا تحتاج إلى الإطالة إلا إذا كان للسائل شبهة فيها، وعليه إذًا أن يبينها في السؤال. فإن كان يرى أن سماع الغناء محظور؛ لأنه مستلذ مطلقًا أو في غير العرس وقدوم المسافر كما يقول به بعض الفقهاء وهو ما تشير إليه عبارته فسماعه من الآلة كسماعه من الناس وقد بيَّنا في المجلد العشرين أن سماع الغناء ليس محرمًا لذاته فراجعوه. * * * حكم سماع القرآن من الآلات الحديثة (س17) من صاحب الإمضاء بأسيوط حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله وبعد، فقد دار الحديث بيني وبين جماعة من إخواني في سماع القرآن الكريم من الحاكي (الفنوغراف) هل يحل أو لا يحل؟ وهل إذا كان جائزًا تترتب عليه آثاره من سجود عند سماع آية سجدة أو لا؟ وهل إذا سمع الإنسان قارئًا يقرأ القرآن في التليفون أو الراديو يكون كذلك أو إن ذلك مشروط بالسماع من إنسان عاقل. وكثر الجدل بيننا في هذا، وأخيرًا قد رأينا أن نتوجه بالسؤال لفضيلتكم علَّكم تتكرمون بإفادتنا، أبقاكم الله ذخرًا للإسلام ومصدر نفع للمسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... محمود حسين مهدلي ... ... ... ... ... ... ... المحامي الشرعي بأسيوط (ج) القرآن هو القرآن وسماعه هو سماعه، لا يختلف حكمه باختلاف وصوله إلى السمع بواسطة آله تنقل الصوت أو بغير واسطة؛ إذ الأداء واحد، والمؤدي واحد، ومثله نقل القرآن بالكتابة لا فرق فيه بين رسمه بالقلم تحركه اليد، ورسمه بالآلة الكاتبة أو آلة التلغراف أو آلة الطبع، ولا بين الحروف الكوفية والنسخ وغيرهما على اختلاف الأشكال فيها، ما دام المقروء واحدًا لا يختلف وهو المقصود منها. إذا علم هذا تبين به أن على سامع القرآن من الآلة أن يستمع له وينصت متأدبًا معتبرًا، وأنه يسن له السجود إذا سمع آية سجدة وكان متوضئًا. وقد كنت سئلت عن السماع من (الفونوغراف) في أثر شيوعه في بلاد الإسلام ونشرت منها سؤالين في المجلد السادس (سنة 1325) وَرَدَا من سنغافورة وأجبت عنهما جوابًا مفصلاً فيه بنيت فيه أن حكم سماع القرآن منه على قصد السامع، وذكرت أن الأستاذ الإمام كان يتأثم منه مطلقًا، وأن بعض أصحاب العمائم أباحه مطلقًا، وأن رأينا ما ذكرنا من قصد السامع هل الاتعاظ والاعتبار والتفقه المأمور بها من يسمع القرآن؟ أم التلهي من بعض الناس؟ وجزمنا بأن هذا هو المحظور؛ لأنه من اتخاذ الدين هزوًا ولعبًا، وذكرنا فيه حكم الأسطوانات هل تسمى قرآنًا، ويكون لها حكم المصحف أم لا. فتراجع في ص 429-442 من المجلد السادس. ثم سُئلنا عنه في سنة 1345 فأجبنا عنه في صفحة واحدة من المجلد 28 (وهي ص 120) أحلنا فيها على الفتوى الأولى. * * * درجة حديث قراءة سورة يس على الميت (س18) من صاحب الإمضاء في الجزائر بما أننا على مذهبكم الحق مذهب السلف الصالح، وكان من مذهب مالك رحمه الله كراهة القراءة على الجنائز وكراهة رفع الصوت خلفها، ولكن أتباع مالك في المغربين تأصلت فيهم عادة قراءة سورة يس ورفع الصوت بلا إله إلا الله خلف الجنازة بالرغم من إجماع مصنفي وشراح فقه مالك على كراهة ذلك، وأنها ليست من فعل السلف كذا قالوا كلهم، ولكن كلهم قالوا: لا بأس بقراءة سورة يس ما لم يقصد بها الاستنان محتجين بهذا الحديث الذي في النسائي ورواه أبو الدرداء وإن الحديث - بزعمهم - مقدم على قول مالك إنه يعني شأن القراءة يس أو غيرها ليست من فعل السلف، وكذا تمسكوا بأخبار واهية من أن عبد الله بن عمر أمر بقراءة سورة البقرة إلى غير ذلك مما تمسكوا به؛ ولأنهم يتقاضون على ذلك الأجرة، وإن الطبقة القراء الصغار عاشوا في هذه البدعة فانتصر لهم الفقهاء والشيوخ الخرافيون كالدجوي إلخ، فالرجاء أن تفيدونا بدرجة الحديث هل يُعْمَل به كما ذكر أو لا؟ ودمتم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الزواوي (ج) حديث (اقرءوا يس عند موتاكم) وفي رواية (على موتاكم) هو لمعقل بن يسار وهو ضعيف بالاتفاق، والمراد فيه من الموتى من حضرهم الموت كما صرَّح به بعض المحدثين والفقهاء في شرحه، وما ذكرتم من مذهب مالك رحمه الله في المسألة هو الحق وما ذكرتم من مخالفته فهو بدعة، والحديث المذكور لا يُحْتَج به، وتجدون تفصيل الكلام في مُخَرِّجِيه ودرجته ومعناه وعمل الناس به مفصَّلاً في الصفحة 265-268 من الجزء الثامن من تفسير المنار (الطبعة الأولى) وهو في أثناء البحث الواسع المفصل في القراءة على الموتى وللموتى من آخر تفسير سورة الأنعام. * * * أسئلة من بيروت (س19-25) من صاحب الإمضاء: بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع إلى فضيلتكم الأسئلة الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها. (1) هل يجوز الاعتقاد والعمل بالأحاديث الموضوعة (المكذوبة) والضعيفة في فضائل الأعمال وغيرها أم لا؟ (2) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان يجوز العمل بهما أم لا؟ وهما (يوم الأربعاء يوم نحس مستمر) وفي رواية أخرى (آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر) ، (يوم السبت يوم مكر وخديعة، والأحد يوم غرس وبناء، والإثنين يوم سفر وطلب رزق، والثلاثاء يوم حديد وبأس، والأربعاء لا أخذ ولا عطاء، والخميس يوم طلب الحوائج، والجمعة يوم خطبة ونكاح) (3، 4) هل يستحسن زيارة المريض يوم الأربعاء والتزوج في شهر جمادى الأولى والثانية أم لا؟ وهل ورد في ذلك كله شيء صحيح يُعْتَمَدُ عليه أم لا؟ (5) هل إذا أذنب الإنسان في الشهور والأيام الفاضلة كشعبان ورمضان ويوم الخميس والجمعة وغيرها يزداد عذابه وعقابه في القبر وفي الآخرة عن باقي الشهور والأيام الأخر أم لا؟ (6) هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء صحيح يُعْتَمَد عليه في أفضلية الأعداد والسنين، والشهور والأيام، والأوقات والمأكولات، والمشروبات والملبوسات وغيرها أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللاذقي (19) العمل بالأحاديث الموضوعة والضعيفة: العمل بالأحاديث الموضوعة غير جائز بالإجماع بل بالبداهة، فإنها ليست بأحاديث وإطلاق لفظ (حديث) على الموضوع مشروط بوصفه بالموضوع أو المصنوع أو المكذوب، فالمراد باللفظ ما قيل إنه حديث وليس بحديث، وأما الحديث الضعيف فقد اختلفت العلماء في جواز العمل به مع عدم الاستدلال به على حكم شرعي فقيل بمنعه مطلقًا، وقيل بجوازه بشروط بيَّناها في المنار مرارًا آخرها الفتوى 20 من المجلد 31 ص 127 فراجعوها. (20) أحاديث يوم الأربعاء وأيام الأسبوع: هذه الأحاديث موضوعة باطلة، وقد بيَّنا ذلك بالتفصيل في المجلد التاسع والعشرين من المنار فتراجع في (ص 524) . (21، 22) عيادة المريض يوم الأربعاء: يوم الأربعاء كغيره من الأيام لا فرق بينها في زيارة الأهل والأصدقاء وغيرهم وعيادة المرضى إلا إن كان الزائر أو العائد يعلم أن بعضهم يتشاءم ببعضها ويكرهه فلا ينبغي له أن يؤذيه فيها. (23) التزوج في شهري جمادى: هذان الشهران كغيرهما من الشهور في التزوج فليس لهما مزية شرعية في استحسانه ولا كراهته فيهما ولا مزيد فضيلة. (24) الذنوب في الأيام والشهور الفاضلة: الأيام والشهور في ذاتها لا تفاضُل بينها، وإنما الفضيلة فيما يُعْمَل فيها ففضيلة رمضان في عبادة الصيام، وفضيلة الأشهر الحرام الثلاثة في أداء مناسك الحج والسفر إليها والرجوع منها، وكان رجب يشاركها فيما سميت لأجله بالحرم وهو تحريم القتال فيها، وفضيلة يوم عرفة وأيام التشريق ويوم الجمعة بما يعمل فيها معروفة. ومن المعلوم بالبداهة أن الأيام التي شرع الله تعالى فيها عبادة خاصة بها يكون فعل المعاصي فيها أقبح منه في غيرها وأدل على ضعف الإيمان وتعظيم شعائره، وأن الجرأة عليها فيها تكون أفعل في إفساد النفس وتدسيتها الذي هو منشأ عقاب الآخرة، كما أن تزكيتها هي منشأ ثوابها كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (الشمس: 9-10) ولكن لا يمكن تعيين زيادة العذاب عليها في البرزخ الذي يعبر عنه بعذاب بالقبر ولا في الآخرة إلا بنص من الشارع. (25) أفضلية بعض الأزمنة والمآكل والملابس على بعض: تقدم آنفًا أن بعض الأيام والشهور أفضل من بعض بما يُشْرَع فيها من عبادة تُقَرِّبُ إلى الله تعالى وتُرْضِيه ويستحق بها العامل مزيد ثوابه إذا كان مخلصًا فيها، وورد في الكتاب والسنة تفضيل بعض الأوقات بجعل ذلك كالدعاء، والاستغفار في الأسحار، وصلاة التهجد وساعة الإجابة في يوم الجمعة وحكمة إبهامها، وأما المآكل والأشربة والملابس فقد يفضل بعضًا بضعًا بمنافعها الصحية ولَذَّاتها لا لِذَاتِهَا، وورد في بعضها أحاديث قليلة بيناها بمناسبات مختلفة، يقل فيها ما هو ديني منها كملابس الإحرام بالحج والعمرة، وإن مثل هذه الأسئلة المجملة المبهمة عن أمور كثيرة من الإرهاق الذي لا سبب له إلا تلذذ السائل لا الحاجة الدينية، فالمرجو أن لا يسأل أحد إلا عن أمر معين يحتاج إلى معرفة حكمه أو حكمته. * * * شرب الدخان في مجلس القرآن (س26) من صاحب الإمضاء من دمنهور: حضرة أستاذي الجليل السيد رشيد رضا صاحب المنار، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فنرجو نشر رأيكم في شرب الدخان في مجالس القرآن على صفحات المنار، ولكم منا الشكر، ومن الله جزيل الثواب. ... ... ... ... ... ... ... محمد عبد الرحمن الحاوي ... ... ... ... ... ... ... ... مدرس بدمنهور شبرا (ج) سبق لنا جواب عن مثل هذا السؤال في المنار خلاصته: أن هذا العمل تابع للاعتقاد الشخصي والعرف، فمن كان يعتقد أن التدخين مباح وعرف قومه وأهل بلده أنه لا ينافي الأدب فلا يُحْظَر عليه، ومن اعتقد أنه حرام أو مكروه ففعلُهُ له في مجلس القرآن يزيده غلظة، وهكذا إذا كان عرف الناس أنه ينافي الأدب فليس له أن يفعله، وإن اعتقد إباحته، والله أعلم.

المستشرقون في موقفهم الخطير إزاء الإسلام

الكاتب: شكيب أرسلان

_ المستشرقون في موقفهم الخطير إزاء الإسلام بقلم أمير البيان الأمير شكيب أرسلان (ونشرت في جريدة الجهاد) هذه مسألة جلى لا يتنبه إليها الشرقيون كما يجب أن يتنبهوا، وكما هو شأنهم في كثير من المسائل، ولكن عليهم من الآن فصاعدًا بعد أن زعموا كونهم تقدموا ورقوا أن يتنبهوا لهذا الموضوع، وذلك أن أوربة عالم كبير قد أخذ بزمام العالم كله في الوقت الحاضر وهو يتلقى معلوماته عن الشرق والشرقيين من طريقين: أحدهما: طريق القناصل والسفراء والمعتمدين الرسميين وهؤلاء يكتبون عن الشرق والشرقيين كل شيء ولا يكتمون حكوماتهم عنهما حديثًا إلا أن حكوماتهم تتصرف بتقاريرهم كما تشاء بحسب أهوائها ومصالحها فهي تكتمها أحيانًا وقد تطمسها طمسًا تامًّا حتى كأنها لم تُكتب ولم تتقدم، وهي تفشيها أحيانًا إذا اقتضت ذلك سياستها، وكثيرًا ما تكتم شيئًا منها وتنشر شيئًا، وبالاختصار جميع تقارير سفراء أوربة وقناصلها في الشرق هي رهن أغراض النظارات الخارجية في أوربة، وإذا قلنا: إنها رهن أغراض نظارات أوربة الخارجية، فمعنى ذلك أنها رهن التغطية والتمويه والتلفيق والتبديل والتعديل والفصل والوصل، وإنه لا شيء هناك يقال له حقيقة بل لا يوجد هناك إلا ما يقال له: (مصلحة) . وأما الطريق الثاني لمعرفة أحوال الشرق والشرقيين فهو طريق الاستشراق، وذلك أنه يوجد في أوربة طبقة من المتعلمين تعنى خاصة بدرس اللغات الشرقية، وكل ما يتعلق بالشرق وأهله، وهم يتنوعون في هذه الدروس فمنهم من يتخصص بعلوم الصين، ومنهم من يتخصص بعلوم اليابان، ومنهم بالمعلومات عن الهند أو عن الجاوى، ومنهم من يجعل همته منصرفة إلى الاستقصاء في أخبار فارس، ومنهم من يوجه نظره إلى تركستان وغير ذلك. وإنَّ جانبًا عظيمًا من الاستشراق وربما يكون هو الأعظم متوجه إلى درس الإسلام والبلاد الإسلامية من مشرقها إلى مغربها. وإن هذه الطبقة التي تعنى بشأن الإسلام والمسلمين هي التي تكيف المعلومات الإسلامية في أوربة بكيفية نظرها وتمثيلها للعالم الإسلامي إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، هذه الطبقة هي الترجمان الذي يلقي إلى ستمائة مليون أوربي وصف أحوال الإسلام والمسلمين، فإن كان هذا الترجمان أمينًا تلقى هؤلاء الستمائة مليون أوربي تلك المعلومات على وجهها، واعتدلوا بحق الإسلام والمسلمين، وإن كان الترجمان خائنًا أو لئيمًا يُحَرِّف الكلم عن مواضعه ويقلب الحقائق عمدًا لمرض في نفسه أو لإحنة في صدره، أمكنه أن يهيج من أحقاد الأوربيين الكامنة على المسلمين، وأن يثير من عداوتهم لهم ما ليس لضرره حد؛ لأن العالم الأوربي إذا فكر قال، وإذا قال فعل، وإذا فعل قام بانقلابات كثيرة، هذا إلى اليوم، ولا نعلم ماذا يكون في الغد؟ فهل هذه الطبقة التي يصح أن يقال: إنها ترجمان العالم الإسلامي لدى العالم الأوربي هي أمينة أم خائنة في الترجمة؟ الجواب عليه هو هذا البحث الذي نريد الآن أن ننبه الأفكار إليه بعد أن نقرر أن هذه الطبقة هي التي تصور أحوال المسلمين للأوربيين بحسب درجتي صدقها وكذبها أو درجتي علمها وجهلها. من هؤلاء المستشرقين فئة ما استشرقوا ولا خَطَوْا خطوة في هذه السبيل إلا لأجل أن يتعقبوا عورات الإسلام ومثالبه، ويخوضوا في أعراض المسلمين، ويبحثوا عن زلاتهم؛ ليجسموها ويُبْرِزُوها لأنظار الأوربيين بالشكل المُسْتَبْشَع الذي تنفر منه طباعهم، وتثور حفائظهم، وذلك حتى يزدادوا بغضًا للإسلام وبعدًا عنه، وهذه الفئة من حيث إن أصل استشراقها هو العمل لخدمة المسيحية وتشويه الإسلام بما أمكن لا تقتصر على تجسيم العورات إذا وقعت عليها، بل يبلغ بها سوء القصد أن تقلب الحقائق قلبًا، وأن ترتكب التزوير عمدًا، وأن تأخذ بالحوادث الجزئية فتعممها فتجعل منها قواعد، وكل شيء تعمله هذه الفئة على قاعدة (أن الغاية تبرر الواسطة) فالإسلام بزعمها هو شر محض، فينبغي تنفير الناس منه بالحق وبالباطل، وهذه الفرقة من المستشرقين كثيرة العدد يطول بنا تعدد أسمائها، ومن جملتها لامانس اليسوعي البلجيكي ومارتين هارتمان الألماني، ومرغليوث الإنكليزي، وفنسنك الذي ذكر عنه الدكتور حسين الهراوي أنه طعن في الرسول عليه السلام، وأنا لم أقرأ طعن هذا، ولكنني قرأت مطاعن الآخرين، وقد نشرت في (حاضر العالم الإسلامي) أسماء مشاهير المستشرقين الممتازين في التحامل على الإسلام، فليراجع ذلك من أراد في ذلك الكتاب. ومن المستشرقين فئة أخرى غرضهم أيضًا أن يخدموا المدنية الأوربية والثقافة المسيحية، وأن يبثوها بما أمكنهم بين المسلمين، ولكنهم لا يستبيحون ما تستبيحه الفئة الأولى من الكذب والبهتان، وقلب الحقائق واللوذ بكل عضيهة للتمثيل بالإسلام وأهله، كلا هؤلاء يلتزمون في مباحثهم الطريقة العلمية التي تقتضي معرفة الحق في أي جانب كان، ولكنهم لا يتحرجون عند أول فرصة تلوح لهم أن يتولجوها ويحملوا على الإسلام باسم العلم بزعمهم، وأن يجسموا الهنات، وأن يعمموا الجزئيات في الأحايين، وأن يتجاهلوا ما عندهم من الطامات الكبرى التي لا تقاس إليها معايب الإسلام في كثير ولا قليل فهذه الفئة يتألف منها أكثر المستشرقين وهم يعدون إجمالاً من ذوي الفضل على العلم، وممن يلزم أن يستفاد منهم، ولكن مع دوام الحذر مما يلقونه أحيانًا من السموم بحق الإسلام مما يكون ضرره أشد من ضرر الفئة الأولى التي بهتانها ظاهر للعيان، يمكن أن توصف هذه الفئة (بالعدو العاقل) ومن هؤلاء الأستاذ ماسينيون الأفرنسي وسنوك هور كرونيه الهولندي وغيرهما. ومن المستشرقين فئة ثالثة قليلة العدد في أوربة إلا أن منها رجالاً محققين، وهؤلاء يتحرون مزيد التحري، وينصفون الإسلام إنصافًا تامًّا لا يشوبه أدنى تحامل، وإن بدر منهم انتقاد للإسلام في شيء فيكون عن اعتقاد أو وجهة نظر نظروها أو خطأ وقعوا فيه لا عن سوء نية، ولا عن تعمد انتقاص، ولا أعلم في هذه الطبقة أشهر من غولد سيهر المجري الذي هو في الحقيقة أفهم الأوربيين لقواعد الإسلام ومنهم في الحياة الأستاذ كامفماير الألماني والأستاذ مونتا السويسري، ومنهم كاراده فو الفرنسي صاحب كتاب مفكري الإسلام، ومنهم الدكتور مايرهوف الألماني، ومنهم غروسه الفرنسي، ومنهم رينه الإفرنسي الذي بلغ به استشراقه من حب الإسلام أن دان بالإسلام وحج البيت الحرام، ومنهم علماء آخرون لست الآن في مقام استقصاء من جهتهم. ولا شك أن الفئة الأخيرة قد خدمت الإسلام خدمات جلى في أوربة وحولت كثيرًا من العقائد الباطلة بحق الإسلام عن مجراها الأول، وخففت كثيرًا من الأحقاد، وصححت جمهرة من الأوهام، ولكنها مع الأسف لم تقدر أن تنسف تلك الجبال المتراكمة من البغض والعدوان والعقائد الفاسدة بحق الإسلام والمسلمين؛ لأن التيار الأصلي الباقي من القرون الوسطى لا يزال شديدًا. كان زميلي إحسان بك الجابري يتحدث منذ يومين إلى مهندس كبير قد يكون أشهر مهندس في سويسرة وهو من كبار المفكرين فقال لزميلي: نشأنا من الصغر في بغض الإسلام وربانا آباؤنا ومعلمونا على مبادئ من العداوة للإسلام نحن الآن نعلم بطلانها، لكننا بحكم الاستمرار لا نقدر أن نتخلص منها) إن غوته الشاعر الألماني الأكبر الذي يقول الألمان: إنه أكبر دماغ ظهر في ألمانية، وكان شبان الألمان ينتحرون من تأثير بعض رواياته الشعرية، نعم غوته هو نفسه قال - وكلامه هذا مُدَوَّنٌ عنه-: إذا كان هذا هو الإسلام أفلسنا كلنا مسلمين؟ هذا الرجل الذي سحر ناشئة الألمان في عصره ولا يزال يسحرها إلى الآن قد عجز عن أن ينسف ما تراكم من الأوهام المتكاثفة بحق الإسلام في ألمانية، هذا والألمان أقل الأمم الأوربية تحاملاً على الإسلام والمسلمين فما ظنك بغيرهم؟ حرَّر الأستاذ الحجة السيد رشيد رضا في المدة الأخيرة كتابا أسماه (الوحي المحمدي) من أنفس ما كتبه المسلمون في هذا العصر وكل عصر، وكأنما كتبه تلقاء الانتقادات الأوربية التي تتوجه على الإسلام، إما عن تحامل وعداوة، وإما عن جهل المستشرقين حقائق كثيرة فاتتهم، أو عن جهل المؤلفين المسلمين أنفسهم بحقائق دينهم وبكيفية الدفاع عنهم إلا من عصم ربك، أو بعدم فهم الكثيرين منهم لأسرار الشرع المحمدي، وقد أهديناه إلى من نحسن الظن فيهم من المستشرقين فلعلهم ينتدبون لترجمته إلى اللغات الأوربية [1] فتتبدد به أوهام، وتنقشع ضلالات، ويتجلى ما في المطاعن على أحكام القرآن من المُحَالات، فالذي يوفق إليه الأستاذ صاحب المنار في هذا الباب لا يوفق إليه غيره. وأما الخلاصة التي أريدها من هذه المقدمات فليست إخراج المستشرق فنسنك من المجمع اللغوي المصري، هذا شيء يعني الحكومة المصرية ورعاياها المصريين وهي أدرى بشغلها، وأنا لست من مصر ولا أقدر أن أطأ بقدمي أرض مصر، ولكن أريد تنبيه اللجنة المنتدبة لترجمة الإنسيكلوبيذية الإسلامية إلى العربية إلى شيء وهو أنه مع كون ترجمة هذه الإنسيكلوبيذية هي في الدرجة القصوى من الإفادة، بل هي ضرورية لناشئة العالم الإسلامي لا تخلو من تحاملات منكرة على الإسلام، ومن غلطات وخبطات علمية في مباحثها التي تولاها بعض الفئة الأولى المتحاملة من المستشرقين، فإن تحرير هذا الكتاب تشطره عدد كبير من المستشرقين، وكل منهم كتب بحسب معرفته، ومنهم من كتب بمقتضى هواه أيضًا، فعلى لجنة الترجمة التي يجب أن يكون فيها الأديب والمؤرخ والجغرافي والفلكي والرياضي والكيماوي والجيولوجي والطبيب والفقيه والفيلسوف والمتكلم؛ لتكون الترجمة صحيحة أن يكون بجانبها لجنة تضع في الحواشي تصحيح ما يجب تصحيحه من الأغلاط، وتستدرك أيضًا على فوات المتن، وإلا فنكون أدخلنا في عقول ناشئتنا الجديدة ضلالات لا تحصى باسم العلم والفن وحرية الفكر والاستنتاج التحليلي وغير ذلك من الألفاظ التي يلوكها بعض الأوربيين في تسمية سمومهم الخبيثة، ودسائسهم المنكرة لحمل المسلمين على اتخاذ ثقافتهم، والتحول عن الإسلام، فنحن من هذا البلاء في المقيم المقعد الذي يكفينا بدون ترجمة أنسيكلوبيذية إسلامية يحرر فيها لامنس وأضرابه، فكيف إذا أصبحنا نأخذ أخبار الإسلام والمسلمين عن هؤلاء ولا ننبه عليها؟ إليك الدليل على تحامل لامنس ومحاولته قلب الحقائق العلمية ما أرسل به إليَّ أحد أصحابي من مصر من مقال في الأهرام ينقل كلام لامنس عن عرب الأندلس وهو بحرفه: (لم يكن بين المسلمين الذين قاموا بفتح الأندلس إلا القليل من العنصر العربي الخالص، فكان منهم قواد العسكر وأصحاب الرتب فيه ليس غير. أما أكثرية الجيش فكانت مؤلفة من البربر والأفريقيين وفضلا عن ذلك فإن عدد العرب الأقحاح كان ينقص باطراد متواصل بسبب الحروب الأهلية. فإذا تقرر هذا رأينا أنفسنا مدفوعين إلى الإقرار مع الأستاذ ريبيره بأن نسبة العنصر العربي في تكوين الشعب الأسباني المسلم قليلة جدًّا، ومن ثم فلا شيء يجيز لنا نعت مسلمي الأندلس بالعرب، إلى غير ذلك من الهذيان الذي هذاه لامنس اليسوعي ومن قبله صاحبه العالم الأسبانيولي. العرب يفتخرون بمدنيتهم الأندلسية، والإسلام يتخذها حجة على أهليته للتمدين والتثقيف والسبق في ميدان الحضارة، وهذا بيت القصيد، فلامنس اليسوعي يريد إنكار هذه ا

أصل الشيعة وأصولها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أصل الشيعة وأصولها قرظنا في الجزء السابق هذه الرسالة التي ألفها علامة الشيعة ومجتهدها الشيخ محمد آل كاشف الغطاء الشهير؛ لدعوة أهل السنة إلى مذهبه ونشرها الأستاذ اللبيب الأريب زميلنا صاحب مجلة العرفان، ورأينا من الواجب علينا أن نكتب مقالاً آخر نبين به بعض ما انتقدناه عليها من جهة الغلو الذي اعتاده علماء الشيعة حتى صارت العادة عندهم عبادة، ومن ناحية ضعفهم في علم الحديث ولا سيما روايته وما يصح منه وما لا يصح بحسب أصول العلم وقد نشير إلى ناحية ثانية هي ناحية التاريخ، ولا نعرض للخوض في مسألة الإمامة ولا مسألة عصمة الاثني عشر التي هي أساس المذهب؛ لأنها مفروغ منها في المؤلفات القديمة وليست عملية في هذا الزمان، وما كان الجدال في أصول المذاهب إلا ضررًا لأهله في دينهم ودنياهم في كل زمان، وشر ضرره تفريق الكلمة وتمزيق نسيج الوحدة؛ لأنه مبني على عصبية المذاهب، ولن تكون إلا تقليدية وما أضيع البرهان عند المقلد، وأبدأ بكلمة في الغلو فأقول: من هذا الغلو إطراء أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه المتضمن لاحتقار الإسلام وما يستلزمه مما لا يحسن التصريح به، بما أنكرناه على السيد عبد الحسين نور الدين العاملي من قبل فلم يمنع ذلك الأستاذ كاشف الغطاء أن يعيده مُقِرًّا له من بعد؛ إذ قال في أول ص 21 بعد ذكر من سمى من الصحابة في الشيعة ما نصه: (ولكن ما أدري أهؤلاء الذين أرادوا هدم الإسلام أم إمام الشيعة علي بن أبي طالب الذي يشهد الثقلان أنه لولا سيفه ومواقفه في بدر وأحد وحنين والأحزاب ونظائرها لما اخضر للإسلام عود وما قام له عمود حتى كان أقل ما قيل في ذلك عنه المعتزلي أحد علماء السنة (! !) : ألا إنما الإسلام لولا سهامه ... كعفطة عنز أو قلامة ظفر هذا ما كتبه مجتهد النجف الأكبر وعلامته الأشهر ثم فسره بمختصر مما فسره به عبد الحسين نور الدين العاملي وضرب له هذا المثل الشعري الإلحادي. الله أكبر ودينه الإسلام أعلى وأظهر وأذكى وأطهر وأعز وأقهر من تشبيه هذا المعتزلي الرافضي - لا السني - له بضرطة أنثى المعز وقلامة الظفر. نعم إن دينًا سماه الله دينه وأتمه وأكمله ووصفه بما وصفه ووعد بإظهاره على الدين كله وإتمام نوره بقدرته وفضله، وبعث به خير خلقه محمدًا رسول الله وخاتم النبيين ورحمته للعالمين، وجعل ملته هي الباقية إلى يوم الدين وأيده بملائكته فوق تأييده بالمؤمنين، وإن دينًا هذا شأنه يجب على كل مؤمن به أن يوقن أنه أجل وأكبر وأعظم وأعلى وأسمى وأرفع وأمنع من أن يتوقف ظهوره ونوره ونصره وبقاؤه على جهاد أي فرد من أفراد المؤمنين، وأن يكون من امتهنه بأنه لولا فلان من أتباعه لكان كضرطة أنثى المعز أو قلامة الظفر التي تلقى وتداس بالنعال جديرًا بأن يكون من أجهل الناس به وأبعدهم عن الإيمان به واتباعه، وإن وصفه مجتهد الشيعة بأنه من المعتزلة علماء السنة، ومتى كان المعتزلة من علماء السنة , فأين علم هذا المجتهد الكبير بالمذهب والتاريخ؟ لو كنا نريد أن نتكلم في أصول المذاهب لبينا للقارئ أي الفريقين تبعت المعتزلة فيما خالفوا فيه السنة من تحكيم عقولهم في تأويل كلام الله وكلام رسوله وغير ذلك. وشر من قول هذا المعتزلي بل الزنديق المحتقر للإسلام قول من جعل ذمه وإهانته له أقل ما يقال فيه , فأي شيء أقل من ضرطة العنز وقلامة الظفر؟ ! أهذا هو مذهب الشيعة الذي يدعي العلامة كاشف الغطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الواضع له فهذا مثل من غلو القوم اللاشعوري. نعم إنه ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي وضع أصل مذهب الشيعة وأن خيار أصحابه تلقوه عنه، ثم كان أئمة الإسلام من مدوني كتب السنة حفاظ الحديث والمفسرين وسائر علماء الملة منهم إلخ. من الغريب أن يحتج على هذا الأصل بروايات يعزوها إلى الكتب المعتمدة عند أهل السنة، وما أدري أعلمه بالروايات المعتمدة عند أهل السنة كعلمه بكون المعتزلة منهم؟ أم هو يتعمد التدليس والإيهام؟ كل ذلك جائز، وهو ما تراه في أول ص 41 وما بعدها جوابًا عن سؤال أورده: قال: (إن أول من وضع بذرة التشيع في حقل الإسلام هو نفس صاحب الشريعة الإسلامية - يعني أن بذرة التشيع وضعت مع بذرة الإسلام جنبًا إلى جنب وسواء بسواء، ولم يزل غارسها يتعاهدها بالسقي والعناية حتى نمت وأزهرت في حياته، ثم أثمرت بعد وفاته. وشاهدي على ذلك نفس أحاديثه الشريفة لا من طريق الشيعة ورواة الإمامية حتى يقال: إنهم ساقطون؛ لأنهم يقولون بالرجعة أو أن راويهم (يجر إلى قرصه) بل من نفس أحاديث علماء السنة وأعلامهم، ومن طرقهم الوثيقة التي لا يظن ذو مسكة فيها الكذب والوضع. وأنا أذكر جملة ما علق بذهني من المراجعات الغابرة، والتي عثرت عليها عفوًا من غير قصد ولا عناية: (فمنها ما رواه السيوطي في كتاب (الدر المنثور، في تفسير كتاب الله بالمأثور) في تفسير قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) قال: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل علي عليه السلام فقال: (والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة) ونزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) وأخرج ابن عدي عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (البينة: 7) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: (أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين) (؟) وأخرج ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (ألم تسمع قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} (البينة: 7) هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جاءت الأمم للحساب تدعون غرًّا محجلين) انتهى حديث السيوطي، وروى بعض هذه الأحاديث ابن حجر في صواعقه عن الدارقطني وحدَّث أيضًا عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا علي أنت وأصحابك في الجنة، أنت وشيعتك في الجنة) . (وفي نهاية ابن الأثير ما نصه في قمح: وفي حديث علي عليه السلام قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ستقدم على الله أنت وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليه عدوك غضابًا مقمحين، ثم جمع يده إلى عنقه يريهم كيف الإقماح) انتهى وببالي أن هذا الحديث أيضًا رواه ابن حجر في صواعقه وجماعة آخرون من طرق أخرى تدل على شهرته عند أرباب الحديث. (والزمخشري في (ربيع الأبرار) يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا علي إذا كان يوم القيامة أخذت بحجزة الله تعالى وأخذت أنت بحجزتي، وأخذ ولدك بحجزتك، وأخذ شيعة ولدك بحجزهم فترى أين يؤمر بنا) . ولو أراد المتتبع كتب الحديث مثل مسند الإمام أحمد بن حنبل وخصائص النسائي وأمثالهما أن يجمع أضعاف هذا القدر لكان سهلاً عليه. وإذا كان نفس صاحب الشريعة الإسلامية يكرر ذكر شيعة علي ويُنَوِّهُ عنهم بأنهم هم الآمنون يوم القيامة وهم الفائزون، والراضون والمرضيون، ولا شك أن كل معتقد بنبوته يصدقه فيما يقول، وأنه لا ينقل عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فإذا لم يصر كل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شيعة لعلي رضي الله عنه فبالطبع والضرورة تلفت تلك الكلمات نظر جماعة منهم أن يكونوا ممن ينطبق عليه ذلك الوصف بحقيقة معناه لا بضرب من التوسع والتأويل. تعليقنا الوجيز على هذه الدعوى وأدلتها: أقول: (أولا) إن هذه الأحاديث التي اعتمد عليها في بيان أصل الشيعة لا تصح رواية لشيء منها ألبتة، ولذلك لم يخرج شيئًا منها مصنفو الصحاح كالإمام مالك والبخاري ومسلم ولا من بعدهما - ولا أحد من أصحاب كتب السنن كالأربعة المشهورة، ولا مما قبلها من المسانيد كمسند الإمام أحمد ومسند إسحاق بن راهويه ومسند ابن أبي شيبة ومسند الطيالسي، على ما في هذه السنن والمسانيد من الأحاديث الضعيفة، بل لم يخرجها الحاكم في مستدركه ولا عبد الرزاق في مسنده ولا مصنفه على ما فيها من الأحاديث الموضوعة وشدة عنايتهما بجمع مناقب علي وآل بيته عليهم السلام، وإنما خرَّجها بعض الذين عنوا بجمع كل ما روي من الشواذ والمناكير والموضوعات أيضًا، ولا سيما رواة التفسير المأثور التي عني السيوطي بجمعها في كتابه الدر المنثور ويكثر إيراد مثلها المصنفون في المناقب والفضائل بغير تمييز، ولا سيما الجاهلين بعلم الرواية ومنهم الواحدي والزمخشري الذين أوردوا في تفاسيرهم الأحاديث الموضوعة في فضائل السور سورة سورة ونقلها عنه البيضاوي. وكلها موضوعة، اعترف واضعوها بوضعها عند سؤالهم عنها كما نقله السيوطي في الإتقان (ص 155 ج 2) وقد اشتهر عن الإمام أحمد أنه قال: ثلاثة ليس لها أصل التفسير والملاحم والمغازي - يعني من الأحاديث المرفوعة - وذلك أن أكثر ما روي فيها مراسيل لا يعلم الساقط من سندها وتكثر فيها الإسرائيليات وأقوال أهل الأهواء. ثانيًا: إن ما نقله السيوطي منها في تفسيره (الدر المنثور) من الروايات عن ابن عساكر وابن عدي وابن مردويه هو حديث واحد في موضوعه، وهو سبب نزول آية البينة، وهو لم يذكره في كتابه (الباب المنقول في أسباب النزول) لأنه من القشور الواهية لا من اللباب، ولهذا لم يروها الإمام الطبري ولم ينقلها الحافظان البغوي وابن كثير وأمثالهما في تفاسيرهم ولا مفسرو المعقول. (ثالثًا) إن ما ينقله السيوطي في هذه الكتب لا يقال: إنه هو الذي رواه كما يقول الاستاذ كاشف الغطاء فيه وفي الزمخشري وابن حجر الهيتمي ويقول مثله غيره من علمائهم في كل ما ينقلونه عن أي كتاب ألفه أحد المنسوبين إلى مذهب السنة ليحتجوا به على أهل السنة كما بيناه في الرد على الأستاذ السيد عبد الحسين نور الدين العاملي فالفرق بين الراوي والناقل معروف عند جميع أهل الحديث وجميع أهل العلم، وأكثر الذين رووا الأحاديث بأسانيدهم لم يلتزموا الصحيح منها بل منهم من تعمد رواية كل ما سمعه حتى الموضوع المفترى اعتمادًا على التفرقة بينهما بمعرفة رجال أسانيدها، ومنهم من اجتنب الموضوع دون الضعيف، وأكثر الغافلين عنهم من غير المحدثين كالرمخشري والرازي لا يميزون بين الصحيح وغيره، وما كل المميزين يلتزمون نقل ما يصح أو يبينون درجته إلا قليلاً، ولا سيما أحاديث المناقب والفضائل حتى مناقب النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته ومناقب آله وأصحابه ومن دونهم فأكثر روايات دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم وحلية الأولياء ضعيفة وفيها موضوعات كثيرة. (رابعًا) أن الشيخ أحمد بن حجر الهيتمي وهو من مثل الفقهاء غير المحدثين نقل في كتابه الصواعق ما رآه من هذه الروايات التي فيها ذكر الشيعة وصرَّح بضعف بعضها وكذب بعض. و (قال) في ص 94: إن المراد بشيعته أهل السنة والجماعة لا مبتدعة الروافض والشيعة فإنهم من أعدائه لا من شيعته وأورد عنه كرم الله وجهه ما استدل به على ذلك، وأعاد هذا في ص 95 ثم قال في 98 بعد الإحالة على ما تقدم فيهم، وفي رواية أحمد في المناقب التي ذكر فيها اللفظ إنما هم شيعة إبليس، ثم قال: فاحذر من غرور الضالين وتمويه الجاحدين الرافضة والشيعة، ثم ذكر حديث الدارقطني عن علي وأم سلمة، وهو حجة له على الشيعة ولذلك يذكر كاشف الغطاء نصه، بل كشف عن بعضه وغطى بعضًا، فنص الأول: (

مباحث الربا والأحكام المالية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مباحث الربا والأحكام المالية (كنا شرعنا في كتاب بحث فياض في تحرير حقيقة الربا وأحكامه وما يتعلق به من الأحكام المالية في العقود والشركات والمصارف وغيرها؛ لكثرة ما يستفتينا الناس فيها من الأقطار المختلفة، بدأناه برسالة الاستفتاء في حقيقة الربا التي نشرتها حكومة حيدر آباد الآصفية الهندية ووزعتها مطبوعة على أشهر علماء الأقطار الإسلامية، وسألتهم عن رأيهم في إفتاء مفتيها في المسائل الأربع التي حصرت الموضوع فيها، وقفينا عليها بتخطئة ما اعتمده محرر هذه الرسالة في حقيقة الربا؛ بناء على مذهب الحنفية وبنى عليه فتواه، وبينا آراء محققي المفسرين من علماء مذاهب السنة في القرآن والشيعة وأقوال المحدثين والفقهاء، وجعلنا نتيجة هذه النقول بيان حقيقة الربا القطعي المنصوص فيه، وهو ربا النسيئة، وعقدنا بعده فصلاً مهمًّا في إلحاق الفقهاء ذرائع الربا وشبهاته بالقطعي والظني المنصوص، وإبطال دليلهم على هذا الإلحاق. وانتهى بنا البحث إلى الوعد بالكلام على الحِيَل في الربا وغيره في أول المجلد 31 (ص37) . وههنا وقفنا، وأرجأنا وسوَّفْنَا في إنجاز وعدنا، إذ كنا عزمنا على تحرير الموضوع بالاستقصاء لأدلته وفروعه بنصوص المختلفين فيه، وهو ما حال دونه كثرة أعمالنا إلى الآن، ورأينا أنها لا تزال تزداد، فرَّجَحْنَا أن نكتفي بخلاصة آراء فقهاء المذاهب ورأينا فيها وهو ما يرى القارئ في الفصل التالي. *** فصل في الحيل في الربا وغيره الحيلة اسم أو هيئة من حال الشيء يحول إذا تغير حاله أو لونه أو صفته أو وضعه أو مكانه، وأصلها حولة كحكمة، فقلبت الواو ياء؛ لكسر ما قبلها. قال في الأساس: حال الرجل يحول حولاً إذا احتال ومنه (لا حول ولا قوة إلا بالله) وحال الشيء واستحال تغيَّرَ، وحال لونه، وحال عن مكانه تحول - إلى أن قال -: وحاوله طلبه بحيلة اهـ. وفي المصباح المنير: والحيلة الحذق في تدبير الأمور، وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود، وأصله الواو، واحتال طلب الحيلة اهـ. وقال الراغب في مفردات القرآن: والحيلة والحويلة: ما يتوصل به إلى حالة ما في خفية، وأكثر استعمالها فيما في تعاطيه خبث، وقد تستعمل فيما فيه حكمة؛ ولهذا قيل في وصف الله عز وجل: {وَهُوَ شَدِيدُ المِحَالِ} (الرعد: 13) - بكسر الميم - أي الوصول في خفية من الناس إلى ما فيه حكمة، وعلى هذا النحو وصف بالمكر والكيد لا على الوجه المذموم، تعالى الله عن القبيح اهـ. وذكر قبل ذلك أن من الأمثال (لو كان ذا حيلة لتحول) . وأقول: إنه قال في المكر والكيد كما قال في الحيلة والمحال أنه يكثر استعماله فيما فيه خبث أو قبح، وسببه كما بيناه في التفسير أن أكثر ما يخفي الناس هو ما يعد عندهم قبيحًا أو ضارًّا ولو بأعدائهم وخصومهم، وما لو ظهر لحبط وفسد عليهم وعجزوا عن إتمامه كما يقع في الحرب وشئون السياسة. ولم يرد لفظ الحيلة في القرآن إلا فيما هو واجب منها، وهو قوله بعد وعيد الذين يتركون الهجرة من دار الكفر والظلم إلى الإسلام والعدل: {إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ} (النساء: 98-99) الآية. وأول من أدخل الحِيَل في الشرع أبو حنيفة وأصحابه، وأول من ألف فيها القاضي أبو يوسف ألف كتابًا مستقلاًّ سمَّاه (كتاب الحيل) وتبعه فقهاء مذهبهم فهم يذكرون في كتب فقههم أبوابًا للحيل التي يصفونها بالشرعية، ووافقهم الشافعية في أصل جواز الحيل، وقال بحظرها فقهاء المالكية والحنابلة. وفي الجامع الصحيح للبخاري كتاب خاص سماه (كتاب الحيل) فتح فيه أبوابًا أورد فيها ما صح على شرطه متعلقًا بالحيل والدلالة على كراهة الشرع لها. أولها (باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيرها) وأورد فيه حديث (إنما الأعمال بالنية) الذي افتتح به صحيحه برواية (بالنيات) أشار بهذه الترجمة إلى أن جميع الأحكام الشرعية من فعل وترك تدخل في عموم هذا الحديث خلافًا لمن خصَّه بالعبادات وما في معناها كالأيمان. وسائر أبوابه في الصلاة والزكاة والنكاح والبيوع والغصب والهبة والشفعة والاحتيال للفرار من الطاعون واحتيال العامل (أي عامل السلطان) ليهدى له. وقد كتب الحافظ ابن حجر على عنوان (كتاب الحيل) في شرحه له (فتح الباري) ما نصه: الحيل: جمع حيلة وهي ما يُتَوَصَّل به إلى مقصود بطريق خفي، وهو عند العلماء على أقسام بحسب الحامل عليها، فإن توصل بها بطريق مباح إلى إبطال حق أو إثبات باطل فهي حرام، أو إلى إثبات حق أو دفع باطل فهي واجبة أو مستحبة، وإن توصل بها بطريق مباح إلى سلامة من وقوع في مكروه فهي مستحبة أو مباحة، أو إلى ترك مندوب فهي مكروهة. ووقع الخلاف بين الأئمة في القسم الأول، هل يصح مطلقًا، وينفذ ظاهرًا وباطنًا أو يبطل مطلقًا أو يصح مع الإثم؟ ولمن أجازها مطلقًا أو أبطلها مطلقًا أدلة كثيرة فمن الأول قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} (ص: 44) وقد عمل به صلى الله عليه وسلم في حق الضعيف الذي زنى وهو من حديث أبي أمامة بن سهل في السنن ومنه قوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2) وفي الحيل مخارج من المضايق، ومنه مشروعية الاستثناء، فإن فيه تخليصًا من الحنث، وكذلك الشروط كلها، فإن فيها سلامة من الوقوع في الحرج، ومنه حديث أبي هريرة وأبي سعيد في قصة بلال: (بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) . (ومن الثاني قصة أصحاب السبت وحديث: (حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها) وحديث النهي عن النجش، وحديث: (لعن المحلل والمحلل له) . والأصل في اختلاف العلماء في ذلك اختلافهم هل المعتبر في صيغ العقود ألفاظها أو معانيها؟ فمن قال بالأول أجاز الحِيَل، ثم اختلفوا فمنهم من جعلها تنفذ ظاهرًا وباطنًا في جميع الصور أو في بعضها، ومنهم من قال تنفذ ظاهرًا لا باطنًا، ومن قال بالثاني أبطلها ولم يجز منها إلا ما وافق فيه اللفظ المعنى الذي تدل عليه القرائن الحالية. وقد اشتهر القول بالحيل عن الحنفية؛ لكون أبي يوسف صنَّف فيها كتابًا لكن المعروف عنه، وعن كثير من أئمتهم تقييد أعمالها بقصد الحق قال صاحب المحيط: (أصل الحيل قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} (ص: 44) الآية وضابطها إن كانت للفرار من الحرام والتباعد من الإثم فحسن، وإن كانت لإبطال حق مسلم فلا، بل هي إثم وعدوان) اهـ. أقول: إن هذا الأصل لا ينفعهم، فإنه تخفيف من الله على نبيه أيوب عليه السلام فهو نص إلهي استثنائي لا يصح أن يقيس عليه من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا، فضلا عمن يقول: ليس شرعًا لنا، وهو الحق بنص القرآن أو هو من قبيل خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم في شرعنا. ومثله احتيال يوسف عليه السلام لأخذ أخيه مع عدم المخالفة لشرع ملك مصر، وهو مما يستدلون به على شرعية الحيل، فإن الله تعالى قال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} (يوسف: 76) فهو إذًا إذن منه تعالى، فلا يقاس عليه ما يفعل مخالفة شرعه، وسيأتي الكلام على ما أشار الحافظ من الأحاديث في أدلة الفريقين. ثم كتب الحافظ في الكلام على حديث النية منه ما نصه متعلقًا بالموضوع: (واستدل به من قال بإبطال الحيل، ومن قال بإعمالها؛ لأن مرجع كل من الفريقين إلى نية العامل. وسيأتي في أثناء الأبواب التي ذكرها المصنف إشارة إلى بيان ذلك، والضابط ما تقدمت الإشارة إليه: إن كان فيه خلاص مظلوم مثلا فهو مطلوب، وإن كان فيه فوات حق فهو مذموم، ونص الشافعي على كراهة تعاطي الحيل في تفويت الحقوق، فقال بعض أصحابه: هي كراهة تنزيه، وقال كثير من محققيهم كالغزالي: هي كراهة تحريم ويأثم بقصده، ويدل عليه قوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى) فمن نوى بعقد البيع الربا، وقع في الربا، ولا يخلصه من الإثم صورة البيع، ومن نوى بعقد النكاح التحليل كان محللاً، ودخل في الوعيد على ذلك باللعن، ولا يخلصه من ذلك صورة النكاح، وكل شيء قصد به تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله كان آثمًا، ولا فرق في حصول الإثم في التحيل على الفعل المحرم بين الفعل الموضوع له، والفعل الموضوع لغيره إذا جعل ذريعة له. (واستدل به على أنه لا تصح العبادة من الكافر ولا المجنون؛ لأنهما ليسا من أهل العبادة، وعلى سقوط القود في شبه العمد؛ لأنه لم يقصد القتل، وعلى عدم مؤاخذة المخطئ والنَّاسِي والمكره في الطلاق والعتاق ونحوهما، وقد تقدم ذلك في أبوابه، واستدل به لمن قال كالمالكية: اليمين على نية المحلوف له ولا تنفعه التورية، وعكسه غيرهم، وقد تقدم بيانه في الأيمان. (واستدلوا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا (اليمين على نية المستحلف) وفي لفظ له (يمينك على ما يصدقك به صاحبك) وحمله الشافعية على ما إذا كان المستحلف الحاكم، واستدل به لمالك على القول بسد الذرائع واعتبار المقاصد بالقرائن كما تقدمت الإشارة إليه. (وضبط بعضهم ذلك بأن الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلم ثلاثة أقسام: (أحدها) أن تظهر المطابقة إما يقينًا وإما ظنًّا غالبًا. (والثاني) أن يظهر أن المتكلم لم يرد معناه إما يقينًا وإما ظنًّا (والثالث) أن يظهر في معناه ويقع التردد في إرادة غيره وعدمها على حد سواء، فإذا ظهر قصد المتكلم لمعنى ما تكلم به أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه على ظاهره، وإذا ظهرت إرادته بخلاف ذلك، فهل يستمر الحكم على الظاهر، ولا عبرة بخلاف ذلك أو يعمل بما ظهر من إرادته؟ (فاستدل للأول بأن البيع لو كان يفسد بأن يقال هذه الصيغة فيها ذريعة إلى الربا، ونية المتعاقدين فيها فاسدة لكان فساد البيع بما يتحقق تحريمه أولى أن يفسد به البيع من هذا الظن، كما لو نوى رجل بشراء سيف أن يقتل به رجلاً مسلمًا بغير حق، فإن العقد صحيح، وإن كانت نيته فاسدة جزمًا، فلم يستلزم تحريم القتل بطلان البيع، وإن كان العقد لا يفسد بمثل هذا فلا يفسد بالظن والتوهم بطريق الأولى) . (واستدل للثاني بأن النية تؤثر في الفعل، فيصير بها تارة حرامًا وتارة حلالاً كما يصير العقد بها تارة صحيحًا وتارة فاسدًا كالذبح مثلاً، فإن الحيوان يحل إذا ذبح لأجل الأكل، ويحرم إذا ذبح لغير الله والصورة واحدة، والرجل يشتري الجارية لوكيله فتحرم عليه، ولنفسه فتحل له، وصورة العقد واحد، والأول قربة صحيحة، والثاني معصية باطلة، وفي الجملة فلا يلزم من صحة العقد في الظاهر رفع الحرج عمن يتعاطى الحيلة الباطلة في الباطن والله أعلم. وقد نقل النسفي الحنفي في الكافي عن محمد بن الحسن قال: ليس من أخلاق المؤمنين الفرار من أحكام الله بالحيل الموصلة إلى إبطال الحق. اهـ. هذا ما كتبه الحافظ في الفتح في حديث النية، ونقلناه كله؛ لما فيه من الفوائد ويقول: إن فقهاء المذاهب كعلماء القوانين الوضعية يستنبطون الأحكام من عبارات نصوص المذهب من غير نظر في النيات الباعثة على الأعمال، ولا في موافقة حكم التشريع وعلله الدينية، وما يرضي الله ويثيب عليه، وما يُسْخِطه ويعاقب عليه، ويسمون هذه الأحكام شرعية فيفهم الناس أنها شرع الله الذي خاطبهم به ويحاسبهم عليه، فما صححوه منها فهو الحلال الذي يرضيه، وما أبطلوه فمخالفت

الملك فيصل العبرة بحياته ووفاته ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الملك فيصل العبرة بحياته ووفاته رحمه الله تعالى ولد فيصل بن حسين في مكة المكرمة وربي في طفولته بالبادية كما كان يربى شرفاؤها وكبراؤها من قبل الإسلام، ويعلم هذا جمهور مسلمي الأرض من سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ثم ربي التربية الثانية في مراهقته وصباه في الآستانة عاصمة آل عثمان، كأمثاله من أولاد كبار شرفاء مكة المرشحين للإمارة، وكان غرض الدولة التركية من ذلك معروفًا لجميع الذين يعرفون سياستها في الشعب العربي ولا سيما شرفاء مكة، ومنها أنها كانت تحول دون تعليم نابتتهم في المدارس المدنية الرسمية وغير الرسمية، وكان آباؤهم يكفونها أمر تعليمهم في المدارس الدينية لعدم شعورهم بالحاجة إليه، بل كانوا يترفعون عنه؛ لأن أرفع أمر النابغ فيه أن يكون قاضيًا أو مفتيًا أو مدرسًا في مسجد، فكان قلما يتعلم أحد منهم إلا ما يتفق له في منزل أبيه، ولن يكون تعليمًا أصوليًّا يتقن به علمًا أو فنًّا يكون به أهلاً للنهوض بعمل عظيم، ومرجعًا أو مرشدًا وإمامًا للعاملين، ولا لما دون ذلك مما يترفعون عنه من قضاء أو إفتاء أو تعليم، ولقد مرت القرون وتعاقبت الأجيال ولم تخرج لنا هذه الأسرة الهاشمية رجلاً عظيمًا في علم نافع ولا عمل رافع، ولا إصلاح ديني ولا اجتماعي ولا سياسي، وما زالت إمارة الحجاز موروثة فيهم من قبل دولة الترك بقرون، وما كانت تزداد البلاد في عهدهم إلا خرابًا، ولا أهلها إلا تبابًا، ولو قام فيها مصلح عظيم منهم لكان تأثيره في إحياء مجد الإسلام بالعرب ومجد العرب بالإسلام ما يفوق تأثير سبعين مصلحًا من غيرهم، لما لهم من المكانة الموروثة في أمتهم، وإن في سيرة فيصل لمثلاً لهم وعبرة لأولي الألباب من أمتهم. لم يكن لفيصل قبل الحرب العامة ميزة في أسرته ولا قومه تلهج بها الألسنة وتجري بذكرها الأقلام، أو تشير بها الأكف أو تشخص إليه الأبصار، إلا ما بلغني من خبر شجاعته وأن أخاه عبد الله فاخر بعض الشجعان وهدَّده مرة فقال: تراني أنا راعي الهدلة [1] تراني أنا أخو فيصل. وكان من تأثير تربية الآستانة في نفسه أن سياسته كانت تركية محضًا فلم يكن يفكر في أن لأمته العربية وجودًا يجب أن يعنى به. ولقد سمعت من لسانه في أول حديث دار بيني وبينه في بيروت (في 14 جمادى الأولى سنة 1338 - 4 فبراير سنة 1920) أنه كان يرى الخير لوالده وأهل بيته بل لأمته في الإخلاص لدولة الترك ودوام الانتفاع أو قال الترقي بهم، وأنه إنما تحول عن هذه السياسة لما جاء الشام قبيل الحرب وبعدها، ورأى قومه كلهم على خلاف رأيه، على حد قول الشاعر وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وإنه يومئذ اتفق مع إخواننا في الشام على العمل للقضية العربية، وانتظم في جمعيتهم السرية. ثم كان من عمله في الثورة العربية التي أعلنها والده ما كان به أظهر رجالها، وحارب الترك مع الإنكليز حربًا كسبته وكسبت العرب ثناء رسميًّا له قيمة سياسية عظيمة. ودخل دمشق عقب انسحاب الترك منها دخول الفاتح الظافر، وسافر بعد ذلك إلى أوربة وشهد مؤتمر الصلح الأكبر، ودخل في إثر ذلك أبواب السياسة، ثم بايعته الأمة السورية وجعلته ملكها، ثم نادت بسقوطه وتحدثت بالهجوم والدمور عليه للفتك به، فوضع الحرس الحجازي المسلح على بابه، إذ أذيع فيها قبوله لإنذار الجنرال غورو المُخْزِي، وزاد السخط عليه بدخول دمشق في الليلة التي دخلها الجيش الفرنسي محتلا لها، مؤملا أن يرضى ببقائه ملكًا فيها، ولكنه أخرجه منها ليلا، ثم كان من أمر توليه ملك العراق ما كان، وما لقي فيه من مقاومة وما طرأ عليه من أطوار، وما زال يرسب ويطفو، ويسف ويسمو، حتى صار سياسي الأمة العربية المحنك، وجذيلها المحكك وتجلى فيه من عبقرية الذكاء والحزم، ونباهة الشأن وإدارة الملك، ما انتهى به أمره إلى ما علمنا من ثقة به موطدة، وآمال بسعيه معلقة، وأحزان عليه صادقة، وألسنة بإطرائه ناطقة، دلت على أن المستقبل الذي أمامه كان عظيمًا، وأنه كان قوميًّا عامًّا، لا وطنيًّا خاصًّا. كان لفيصل كثير من أخلاق الزعامة والرياسة، وشمائل السياسة والكياسة، كالسخاء والنجدة، والحلم الواسع، والصبر على المكاره، وقوة الأمل، والدهاء والمكر، وكان جذابًا خلابًا، عذبًا سائغًا، هينًا لينًا، سهلاً متواضعًا، سريع الغضبة سريع الفيئة، لا ييأس ولا يوئس مخالطه منه، وكل أولئك من أخلاق الزعامة والرياسة، وما كان يخلو من بعض الصفات القاطعات لطريقها، والمانعات لتحقيقها، منها مبالغته في المواتاة لكل معاشريه والاستجابة لمطالبهم المتناقضة، ومساعدتهم على الأعمال المتعارضة، ومنها أنه كان على شدة صراحته يكاد يتعذر على أقرب الناس إليه أن يعرف كُنْه سريرته، ويثق بإصراره على رأيه، وثباته على ما يبديه له منه. هكذا كان عهدي به في دمشق. ولولا ما أوتي من المرونة والحلم، والحرية واللطف، والاعتبار بالحوادث، وممارسة الكوارث، وتربية نفسه بها، والارتياح إلى إعطاء كل ذي حق حقه فيها لكان الخوف عليه أكبر من الرجاء فيه، وبهذا فضل والده وأخاه الذين سبقاه إلى التفكير في القضية العربية، والخروج على الدولة العثمانية من قبل أن يُتَاح لهما القيام بإعلان الثورة، ويفتح لها باب الرجاء في سيادة الأمة. ليس من مذهب المنار تدوين وقائع التاريخ، ولا من مشربه سرد المناقب والمثالب، وإنما صاحبه قرآني يبحث عن العبرة، ويجليها في قالب الحكمة والموعظة الحسنة، وقد علم الذين تتبعوا ما كتبت في المسألة العربية، والواقفون على الكثير من عملي فيها بالمشاركة أو بالمعاشرة، أنني اشتغلت مع هؤلاء الثلاثة فيها اشتغال تجربة لهم؛ لوجودهم في الميدان، لا اشتغال واثق بهم، وإن التجارب أسفرت عن خيبة الأمل في كل منهم، واعتقاد أنهم مستسلمون للسياسة البريطانية، التي أعتقد أنها موجهة إلى القضاء الأبدي على الأمة العربية، وعلى تجديد مجد الإسلام أيضًا. ثم تجدد لي أمل في إمكان الانتفاع بدهاء الملك فيصل وحنكته ومركزه العظيم في إنعاش سورية التي تتردى في مهاوي الهلكة بشدة شنآن فرنسة للإسلام وسياستها المستعجلة المتهورة في ذلك، التي لا تقبل هوادة، ولا يتخلل حملاتها العنيفة فترة ولا هدنة، ولا تخفف شدتها رأفة ولا رحمة. تجدد عندي هذا الأمل في العام الماضي وأظهرته في هذه العام، فعلمت أنه جدير بأن يكون رجاء لا تمنيًا، وأن تكون دائرته أوسع من سورية، وأن مودة فيصل للدولة البريطانية لا تحول دون الانتفاع به فيما ينأى بخطرها الذي يخشاه العرب قليلا، أو لا يزيده دنوًّا؛ إذ بلغني أنه قد اشتد شغفه بفكره الوحدة العربية، وأنه يدرس كل ما يزيده علمًا بالاستعداد لها ما كتب بلغتها وباللغات الغربية، كتاريخ الوحدة الجرمانية والوحدة الطليانية. ثم علمت علمًا صحيحًا أنه موطن نفسه على السعي لسورية وفلسطين معًا، متوسلاً بنفوذه عند الدولة الإنكليزية، وأنه يعتقد أن وجود الملك عبد العزيز بن السعود في الحجاز رحمة للعرب والجزيرة، وأنه لا يوجد في الأمة العربية من يقدر على حفظ الأمن فيها ودرء الفتن وتقدم العمران مثله أو غيره، وأنه يجب الاتفاق والتعاون معه، على أنه كان يرى مع هذا أنه لا يرجى أن يكون لهذا الرجل الفذ الوحيد في مواهبه، من يستطيع من ولده أو غيرهم أن يضطلع بما اضطلع هو به، وقصارى هذه الآراء والأفكار أنه يجب أن يكون هو قطب الرحى للأمة العربية والمؤسس لوحدتها. الأمير عبد الله: ولعل أخاه الأمير عبد الله لو ابتلي بمثل ما مارسه من خطوب، وتدافعه ما أشرنا إليه من طفو ورسوب، لمحصت ما في صدره من الشغف بلقب الملك وعظمته الباطلة، ولو كان هبة تستخدمه بها دولة العدو الغاصبة، وسكنت بعض ما قلبه على ابن السعود من الضغن والحفيظة ولكن كان من سوء حظه وحظ أمته أنه تَأَمَّرَ على بدوٍ جاهلين، وإن كانوا مسلحين، وحَضَرٍ أكثرُهُمْ متملقون مسترزقون: والمجاهدون منهم قليلون مستضعفون، فلم يلق منهم ما لقي فيصل في الشام ثم في العراق من معارضة ومناهضة، ومشادة ومحادة، كانت خيرًا له من المواتاة والموادة، وإنني أبسط ما بلوته بنفسي من خير الأخوين من مبتدئه إلى منتهاه بالإيجاز: عرفت الشريف عبد الله في الآستانة سنة 1328 (الموافقة سنة 1910م) وكان عبيد الله أفندي مبعوث أيدين وصاحب جريدة العرب الخادعة يطعن في والده الشريف حسين أمير مكة المكرمة طعنًا مسمومًا نافذًا، ولم يدافع عنه أحد من أبناء الأمة العربية، وكان هذا قد أطراني في جريدته إطراء ظاهرًا وسماني مجددًا، ثم لما شعر بنجاح مشروع الدعوى والإرشاد الذي دعت إليه الدولة الاتحادية قلب لي ظهر المِجَنّ، واتهمني بالتفريق بين الترك والعرب، فقامت عليه قيامة الجرائد العربية في سورية ومصر والمهاجر السورية، وفي الآستانة نفسها أيضًا، فافترصت هذا وقلت للشريف عبد الله: إنني أريد أن أُسِرَّ إليك حديثًا، فهش لي وأقبل عليَّ، فقلت له: ألا ترى أن هذا التركي المتعصب البذيء يطعن في والدك وهو سيد العرب فلا يلقمه أحد منهم حجرًا، حتى إذا ما قال فيَّ كلمة طعن، مع كلام كثير في الثناء والمدح، فُوِّقَتْ إليه السهام، وسُدِّدَتْ إلى صدره أسنة الأقلام، وأنا دون والدك مقامًا ومنصبًا، فلماذا؟ أليس إخواني العرب يرون أنني أُعْنَى بقومهم، وأبذل بعض الخدمة لهم؟ وأنهم لا يرون لأحد منكم لقومه عملاً، ولا يسمعون منكم في مصلحتهم قولاً؟ قال نعم: إني لأشكر لك مصارحتي بهذه الحرية، وبهذا فتح باب الكلام بينا في المسألة العربية، ودعاني إلى طعامه في دارهم في محلة بيوكدره على البوسفور وامتدت المودة. ولما زار مصر سنة 1330 ونزل ضيفًا على الخديو في قصر عابدين هو وأخوه فيصل زرته وأطلعته على قانون (الجامعة العربية) فابتهج به ورغب الانتظام في سلك الجمعية، فحلفته يمينها الغليظة الغموسي، وأخذت عليه ميثاقها الشديد، وأطلعني على ما بعثته به حكومة الدولة إلى والده، وهو قتال السيد محمد الإدريسي، فكاشفته برأيي في ضرره فوافقني عليه، وعاهدني على بذل جهده، في إقناع والده به. (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

ثورة المرأة الإباحية وخطرها على الأسرة فالأمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ثورة المرأة الإباحية وخطرها على الأسرة فالأمة لقد كان من فوضى الأقلام، وحرية الإباحة والإلحاد، أن تصدى للتحرير في الصحف، وتصنيف الكتب والقصص، أفراد من المتفرنجين الإباحيين، انتحلوا لأنفسهم دعوى التجديد وزعامة الحضارة فوجهوا دعوتهم إلى النساء والشباب، لأنهما أسرع انخداعًا وأسلس قيادًا، وما زالوا يشوهون لهم كل قديم كانوا عليه، ويزينون لهم كل جديد ضار يغرونهم به، ولا سيما حجاب النساء وعفافهن، ولزوم بيوتهن، وطاعة رجالهن، وخدمة أولادهن، (ولكل جديد لذة) حتى هتكن الحجاب، وألقين جلابيب الحياء، ونشز الأزواج على بعولتهن، وتمرد العذارى على آبائهن، وخرجن في الشوارع والأسواق (كاسيات عاريات، مائلات مميلات) كما ورد في الحديث الصحيح وصفًا لنساء سوف يأتين ممن سيدخلن النار، ثم صارت الجمعيات النسوية يجمعن بين النساء والرجال في محافلهن الخاصة بهذه الصفة للرقص المشترك وتعاطي كئوس الخمر. ثم صار هؤلاء وهؤلاء يخرجن من البيوت إلى سواحل البحار بأُزُر الحمام بتبخترن بالشوارع مَرِحات فرحات، مزوزكات مترنحات، حتى إذا التقين بالرجال على الشاطئ خاصرنهم إلى حيث يسبحن معهم فنونًا من سباحة الإباحة، لم يبق معها للدين ولا للشرق ولا للعفاف ولا الصيانة قيمة. ثم كان من عاقبة هذا الاختلاط والامتزاج، أن قل الزواج، وتفاقم فشو الخنا، واستشرى خداع الشبان للعذارى عن عفافهن بعد عِشْرة طويلة أو قصيرة بحيلة اختبار الخطبة، وكثر تقتيل النساء، وتقاتل الرجال لأجل النساء، وتضاعف عدد اللقطاء، اكتظت المحاكم الشرعية بقضايا الطلاق، وطلب فسخ عقد الزواج وطفقت الصحف تنشر من فضائحها ما يُعَلِّمُ الجاهلين والجاهلات طرقها، ويُجَرِّئ الفريقين منهم على طروقها، وانتهى الفساد في البيوت وخارج البيوت إلى دركة كثرت منها شكوى الكتاب حتى المفسدين منهم. وقد نشر في هذه الصيف المتولي أحد كبار الأدباء البارعين (ع. ع) [*] مقالات بليغة في جريدة البلاغ الشهيرة عنوانها العام (مصر الشاعرة) وصف فيها هذا الفساد وخطره على الأسرة فالوطن فالأمة وصفًا فلسفيًّا شعريًّا، كان لها صدًى في جميع الجواء، حمل فيها حملات صادقة على الثائرات على الدين والحياء والأدب والتقاليد، المتمردات على حقوق الزوجية الطاهرة المطهرة، وصفات الأمومة المقدسة، شكت من لذعاتها امرأة شاعرة، فكتبت إليه تبوح بشكواها، وتستعطف قلمه القاسي على بنات جنسها، وتحرضه بحق على الرجال الذين هم المفسدون للنساء، فأجابها بجواب فصيح صريح، يمليه وجدان مسلم شريف، قرأته فأبكاني فأحببت أن أنقله مع الكتاب لقراء المنار وأسجلهما فيه، وها هما ذان: الرجل والمرأة (قال) حمل إليَّ البريد في الأسبوع الماضي هذا الكتاب. سيدي الأستاذ المحترم: إني أقرأ الرسائل القيمة التي تكتبها عن مصر الشاعرة بشوق وإعجاب؛ لأنها تكشف عن صفحة عظيمة لمصر العزيزة، ولا يفوتني أن أنبه إلى قراءتها أبنائي الناشئين وبناتي الناشئات لحسن أسلوبها وعلو مغزاها. ولكن يا سيدي دهشت كل الدهشة حين قرأت مقالك الأخير فوجدتك فيه ثائرًا على المرأة ثورة شديدة عنيفة، وفي هذا الحديث الطويل رأيتك تتكلم عن هذا المخلوق المسكين بروح تَنُمُّ عن المقت والحقد والكراهة، فهل يدرك الأستاذ ما في هذه الكتابة بهذه الروح من الخطر الشديد؟ وفرقٌ يا سيدي بين مَن ينصح ومَن يثور، والمرأة المصرية أولى بالتشجيع وأحق بالإنصاف منكم يا معشر الكتاب، وهي لا تنكر عليكم أن ترشدوها إلى مواطن الضعف ولكن بروح العدل والرفق، وأنا كامرأة مصرية في حاجة إلى من ينصحني، ولست في حاجة إلى من يهينني، ولماذا يا سيدي تخشى على الرجل الوقوع في شَرَك المرأة الخادعة، ولا تخشى على المرأة الوقوع في شَرَك الرجل الخادع؟ إن الرجل يا سيدي هو ربان السفينة فهو مسئول أولاً وأخيرًا عن كل ما يصيبها من عطب وما يصيب ركابها من خطر، فأما أن تكون القيادة له واللوم على غيره فذلك ظلم وإجحاف. وفي الختام أرجو ألا أكون تجاوزت الحد في خطاب الأستاذ الأديب الكبير وتفضلوا بقبول فائق التحيات. ... ... ... ... ... ... ... ... ف. ك والكاتب يشكر للسيدة الفاضلة عنايتها بمصر الشاعرة، ويسره أعظم السرور أن يجد في العنصر النسوي إقبالاً على جانب من جوانب المجد الأدبي للوطن الكريم. أما ثورتي العنيفة يا سيدتي المهذبة فلم أعلنها إلا على المرأة الثائرة العنيفة، والثورة عدل ونصفة، والعنف على العنف رفق ورحمة. إن المرأة المصرية تسير الآن في صورة عصبية حادة، وفي يمينها السلاح القاتل، وفي يسارها النار المحرقة، وتحت قدميها الهاوية السحيقة، وهي حين تسقط يسقط معها الطفل، ويسقط معها الرجل، ويسقط معها الوطن، وهي لا تسقط إلا مرة واحدة، ثم لا تعود إلى النهوض أبد الدهر. نحن لا نتحدث يا سيدتي عن تحديد التبعة بين الرجل والمرأة، فكلاهما له عقل يزجره إذا انحرف، ودين يهديه إذا ضل، وكلاهما على سواء في الجزاء والمكافأة وفي الثناء والمذمة، ولكن الفرق البعيد بينهما في قوة الاحتمال عند الصدع، وفي إمكان النهوض عند العثار، وفيما يلحق المجتمع الإنساني إذا سقط من رض وانكسار. فالرجل قد يكبو ثم ينهض، وقد يميل ثم يعتدل، وقد يأثم ثم يبر، وقد يجمح ثم يتئد، ولكن إلى اليوم لم يخلق الله المرأة التي تسقط السقطة ثم تعود إلى ما كانت عليه من خير وصلاح؛ لأنها تقاوم الإثم بضميرها المرهف، وحيائها القوي، وهو يقاومه بعقله ومنطقه، وإذا انثلم الضمير انكسر، وإذا انهتك الحياء زال، أما العقل والمنطق فقد يخطئان ثم يصيبان، وقد يغيبان ثم يحضران. وهنالك الفرق البعيد في أثر الانحراف، فالرجل ينحرف وفي بيته المرأة الصالحة تصون الأسرة وترعى البنين، والمرأة تنحرف فلا تصلح أن تكون زوجة ولا تصلح أن تكون أمًّا، ولا تصلح أن تكون رباط أسرة، ولا تصلح أن تكون قوام بيت، بل كل أولئك يكون مائلاً متداعيًا مصدوعًا، والأسرة هي العضو في جسم الوطن، فإذا مزق العضو سرى الفساد منه إلى الجسم كله. فنحن إذا صحنا هذه الصيحة الصارخة، وإذا ثُرْنَا هذه الثورة الصاخبة، فلأننا نرى الجذام قد أخذ يدب إلى جوف الوطن، ويسير إلى قلبه، ولا بد من حسم الداء قبل أن يستفحل، ولا بد من وقاية القلب قبل أن ينتهك ويفسد. لا تعجبنك يا سيدتي هذه القيثارة الجوفاء التي يغني عليها شباب الكُتَّاب في هذا البلد نشيد الإعجاب بالمرأة، والإغراء للمرأة، فإن من الطير ما يميل بإذنه إلى الصوت العذب والإيقاع الحسن والنغم الجميل، فلا يزال يدنو منه حتى تأخذه الحبائل، فلا يجد في الأرض مقعدًا ولا في السماء مصعدًا. إن هذا الكاتب الذي تأخذين عليه كتابته الثائرة عن المرأة المصرية قد كتب ثلاثة مجلدات في تاريخ المرأة، وهو فخور بأنه نشر الصفحة المطهرة لأعظم امرأة في الوجود، وهي المرأة المسلمة في عصر عظمة الإسلام، فهو إذن لم يكتب ما كتب عن حقد وموجدة، ولا عن مقت وكراهة، ولكنه كتب عن علم وبصيرة، وعن حزن وإشفاق، وهو لا يزال منذ خمس عشرة سنة يبكي زوجته التي لم تدم له أكثر من عام ونصف عام، ولا يزال يتخذ قبرها روضته، ويتخذ ذكرها سلوته، إلى اليوم وبعد اليوم، فإذا رأيتني قسوت على المرأة فلأنني ضنين بها على الحال التي حالت عليها، وعلى المآل الذي آلت إليه. فقسا ليزدجروا ومن يك راحمًا ... فليقس أحيانا على من يرحم إن المرأة يا سيدتي ثائرة في هذه الأيام على أنوثتها الكاملة، والأنوثة الكاملة هي الفطرة التي فطر الله عليها المرأة وركَّب منها فضائلها ومزاياها التي يسمو إليها الرجل، فهو مبعث الرحمة الشاملة، والوجدان اليقظ، والحياء القاني، والحنان الفياض، وهي السبيل إلى الوفاء للبيت، والولاء للزوج، والفناء في الولد، والإيثار للأسرة، والتضحية في سعادة الجميع، وهي سر القوة المعنوية، والنفوذ الروحي، والسلطان النفسي للمرأة، وهي آية ما يجده الرجل من الراحة والسكون حين يثوي إلى زوجته الصالحة، وهي التي يقول فيها البارئ الحكيم جل ذكره وتعالت آيته: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21) فإذا تأثرت هذه الأنوثة بالنقص والفساد، أو الميل والانحراف، انطفأ نور ضميرها، وذهب خفر حيائها، واتضع سمو روحها، وانفصمت عروة قوتها، وانهتك ستر صيانتها، وأصبحت متعة مبتذلة يشعر من تذوقها أنه محتاج إلى سواها. وفي كثير من المواطن تكون آثار الرجولة الكاملة، فالأمومة في نظر الدين الحنيف، وفي نظر العرف الرشيد أسمى وأفضل من الأبوة، وأسو الجراح، وجبر العظام، وري العطاش، وتأسية المصاب، وإغاثة الملهوف، أبر وأطهر من تفجير الدماء، وتمزيق الأشلاء وإثارة النار الشعواء، والداهية الدهياء، وهي في أنوثتها الكاملة أوثق دينًا، وأنصع يقينًا، وأمتن إيمانًا، وأخلص إحسانًا من الرجل. والإسلام في نشأته الأولى، وفي عظمته الرائعة، وفي قوته الصادعة، وفي مجده الخالد، وفي فتحه العظيم، مدين لتلك القوة المعنوية التي استوحتها المرأة من أنوثتها الكاملة، وإن أول صوت آمن بالنبي وشد عضده، وقوَّى عزمه، وآزره على الخطوب، وأيده في مغالبة الدهر هو صوت امرأة، حتى إذا ماتت تلك المرأة العظيمة بكاها الرسول الكريم بكاءه على حده القاطع وركنه الشديد. فهل بقيت للمرأة تلك النفس الراضية المطمئنة، وتلك الروح الشفافة العالية، وتلك القوة المعنوية القاهرة؟ ! لا يا سيدتي الفاضلة، لم يبق للمرأة من هذه الآيات الثلاث آية واحدة. كانوا يقولون: انتظروا حتى تسفر المرأة فهي محجوبة لا ترى النور ولا تحس الحياة، وهي مكتوفة لا تملك الأمر ولا تقوى على العمل، وهي مستعبدة لا ترفع الرأس ولا تدفع الهوان، فالآن قد سفرت المرأة عن وجهها ويديها، وعن صدرها وذراعيها، وعن حيها ودارها، وعن ليلها ونهارها، وعن رغائبها ومآربها، وأصبحت تملك أمرها كله، وحقها كله، فأين هي الآن من فطرة المرأة وفكرة المرأة؟ أين أثرها الحسن الجميل في البيت والأسرة، وفي الزوج والولد، وفي البر والرحمة، وفي الحنان والإحسان؟ لقد نالت المرأة الحرية، فكانت حريتها حرية النفس والعاطفة، لا حرية العقل ولا حرارة الدم فاندفعت كما ينبثق الماء الكثير من الثقب الصغير، وأخذت تنظر إلى البيت كما ينظر السجين الطليق إلى سجنه القديم، وسارت هي من طريق والرجل من طريق والولد من طريق، وتهادت الفتاة في وضح النهار وفي دلج الليل مع ابن العم وابن الخال على الحقيقة والمجاز، ومع من تدعوه الخطيب أو القريب إلى مسارح السينما وأندية اللهو، وإلى حيث لا يعلم الأب والأم، وإلى حيث لا ينظر الرقيب والحسيب! فهل هذا العبث من الحرية هو ما كان يطلبه أنصار النور وأنصار السفور؟ لقد امتشقت المرأة سلاحًا من الجرأة وعدم المبالاة، وكان هذا الأسلوب السخيف من حرية النفس والعاطفة جلاء لهذا السلاح القاتل المسموم، وسبيلاً إلى هذا البلاء الشامل المحتوم، وكان هذا المزمار المشئوم الذي يحمله شباب الكتاب أو المتشببون منهم وسيلة إلى ارتداد السلاح إلى صدر المرأة الضعيف، وإصاب

فجيعة الإسلام باغتيال الغازي محمد نادر خان مللك الأفغان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فجيعة الإسلام باغتيال الغازي محمد نادر خان مللك الأفغان اتفق أن تأخر صدور هذا الجزء من المنار عن تاريخه المبين في الصفحة الأولى إلى أن فاجأنا قبل طبع هذه الكراسة الأخيرة منه نبأ البرقيات العامة باغتيال شرير أثيم، وشيطان رجيم، للملك المصلح العظيم، السياسي الحكيم، وأبي الشعب البر الرحيم، الغازي محمد نادر خان، ملك الأفغان، فكان لنبأ اغتياله دهشة واضطراب، وحسب له المفكرون كل حساب، وأول ما حسبوه وقدروه أن هذا الأمر الإمر، والحادث المنكر، من كيد أمان الله خان الملك الطريد وحزبه حزب الإلحاد والإفساد، وأنه يخشى أن تتجدد بذلك الفتنة والثورة في تلك البلاد، فإن صح هذا وكان لهذا الحزب بقية نفوذ في أفغانستان، خشينا أن يعقب هذه الجريمة جرائم، وأن تجر هذه الجريرة وراءها عدة جرائر، ويشتد التنازع فيها بين الإيمان والكفر، والعرف والنكر، والفضيلة والرذيلة، والصيانة والإباحة، حماها الله وحفظها من ذلك. جاء النبأ العظيم يوم الخميس 20 رجب فأقبل العلماء والأمراء والوزراء والوجهاء على دار السفارة الأفغانية في العاصمة يعزون وزيرها المفوض الأستاذ محمد صادق المجددي الذي هو خير ممثل لهذا الملك المسلم المجدد لهداية الإسلام وحضارته، ويسألونه عما ورد عليه من الأخبار الرسمية، وظلوا يترددون على دار السفارة ثلاث ليال وثلاثة أيام من بعد صلاة العصر إلى منتصف الليل، ويكرر كل فوج منهم السؤال في كل وقت عن أنباء الفجيعة، وعن حال البلاد بعدها من حيث السكينة والطمأنينة فكانت البرقيات كل يوم باعثة على الاطمئنان، وإجماع الأمة على مبايعة نجل الغازي الشهيد محمد ظاهر خان، وهو شاب يافع يناهز العشرين. وقد بشرنا الوزير المجددي بحسن تربيته الإسلامية العسكرية فنهنئه ونعزيه داعين له بأن يكون خير خلف لوالده في إقامة دين الإسلام، وحضارته الجامعة بين القوة والثروة والفضيلة والعرفان، ونسأله تعالى أن يتغمد سلفه الغازي الشهيد بالرحمة والرضوان. وقد أخرنا بعض ما كان جمع من هذا الجزء لإيداعه هذا النبأ وشعور المسلمين به وفيه، وسنعود إلى الموضوع، وذكر بعض مناقب نادر خان في الجزء التالي، إن شاء الله تعالى. ((يتبع بمقال تالٍ))

دائرة المعارف الإسلامية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دائرة المعارف الإسلامية كان علماؤنا هم الذين سنوا سنة وضع المعاجم التاريخية بأنواعها، وضعوها أولا لرجال الحديث النبوي، ثم لطبقات العلماء من فقهاء وأدباء وأطباء وغيرهم، ولكل من يعنى الناس بتاريخهم من الملوك والوزراء والقواد وغيرهم ثم للأنساب وللبلدان والأمكنة، ثم وضعوا المعاجم للاصطلاحات العلمية وأصغرها كتاب التعريفات للسيد علي الجرجاني وآخر ما وصل إلينا منها (كشاف اصطلاحات الفنون) ثم للكتب المصنفة. ولكن علماء الإفرنج الذين اقتبسوا العلم والحضارة من سلفنا وكتبنا العربية قد كملوا هذا النوع من التأليف فوضعوا المعاجم الجامعة لجميع شعب التاريخ وأنواع العلوم والفنون ويسمونها (أنسكلوبيذية) وسماها علماؤنا (دارة المعارف) ثم ارتأى بعضهم أخيرًا أن تسمى الموسوعات أو المعلمة. ولكل شعب من شعوب العلم والحضارة دائرة معارف جامعة بلغتها غير المعاجم العلمية والفنية الخاصة. وتبلغ الدائرة منها عشرات من الأسفار الكبيرة، ويتولى تأليف كلٍّ أفرادٌ كثيرون من الإخصائيين في العلوم والفنون توزع المسائل على كل منهم فيما يتقنه في وقت واحد. هذا النوع من المعاجم الجامعة ضروري لكل أمة لها لغة راقية مدونة كمعاجم اللغة يتوقف عليها تقدمها العلمي، وقد كان أول من تصدى لسد هذه الخلة في نهضتنا العربية الحديثة المعلم بطرس البستاني الشهير صاحب المعاجم العربية والمصنفات والصحف في بيروت في الثلث الأخير من القرن الميلادي الماضي، وقد حبذ رأيه هذا والي سورية التركي والصدر الأعظم للدولة وشجَّعاه ووعداه بالمساعدة، وسبق إلى هذه المساعدة إسماعيل باشا خديو مصر فاشترك بألف نسخة من كل جزء يصدر من هذه الدائرة وأهدى مؤلفها مكتبة كبيرة من مطبوعات مصر للاستمداد منها، وكانت قيمة الاشتراك ألف جنيه مجيدي، وصرح بأن هذا المعجم ضروري للأمة، ولكن البستاني توفي بعد إصدار عدة مجلدات فتولى العمل بعده نجله سليم البستاني فانتهى عمله بإتمام الجزء التاسع، وبعد وفاته تولى ذلك سليمان البستاني بمساعدة أخويه نسيب ونجيب فأصدر الجزءين العاشر والحادي عشر الذي انتهى بخلاصة تاريخ الدولة العثمانية من حرف العين. وكان المعلم بطرس أصدر الجزء الأول في سنة 1876 م ثم كان صدور الجزء الحادي عشر في سنة 1900 وحال دون المضي في العمل كساد العلم وعدم وجود أمير ولا كبير كإسماعيل باشا يساعد عليه، وهو يحتاج إلى نفقات كثيرة ومساعدين على النسخ والترجمة من اللغات المختلفة. ثم تصدى الكاتب الاجتماعي محمد فريد أفندي وجدي لإصدار معجم عصري جديد يحل محل دائرة آل البستاني فألف كتابًا سماه كنز العلوم واللغة ووصفه بقوله: (دائرة معارف عامة تحتوي على فصيح اللغة العربية وخلاصات العلوم النقلية والعقلية والتاريخية والعمرانية وتراجم المشاهير وفيها من الفوائد الطبية والعلاجية والوسائل الحيوية ما يحتاج الإنسان إليه في سائر أحواله المعيشية) وشرح هذه المقاصد بالتفصيل في صفحة ونصف صفحة من القطع الكبير بالحرف الصغير، وقد بدأ بطبعه في سنة 1323 وأتمه في آخر سنة 1324 فبلغت صفحاته 858 صفحة وأتمه بذيل لما فاته من المواد في 16 صفحة. ولما صدر الكتاب تبين أنه لم يف بشيء مما ذكره في مقدمته وأعلنه في الجرائد والنشرات (الإعلانات) ومن المعلوم بالضرورة أن هذه الصفحات لا تسع أقرب تلك المقاصد وأسهلها تناولاً على المؤلف، وهو فصيح مفردات اللغة العربية فضلا عن خلاصات جميع العلوم النقلية والعقلية إلخ إلخ، والمؤلف لم يدرسها كلها ولا بعضها درسًا يتسنى له به أن يكتب خلاصات لها، فدراسته لم تَعْدُ المدارس الأميرية الثانوية. انتقد الناس هذا الكتاب بما كان من غلو مؤلفه في الإعلان عنه كعادته، وربما كنا من أشدهم انتقادًا فكسبنا به عداوة بعد صداقة، ولكن الكتاب راج بتأثير الإعلان وتقريظ بعض الجرائد التي تراعي في تقريظها إرضاء المؤلفين بدون وقوف على ما كتبوا، وهذا الرواج حمله على تأليف معجم آخر مبسوط سماه (دائرة معارف القرن العشرين) بلغ عشرة أجزاء، وقد وصفه بما وصف به كنز العلوم واللغة وهو كالشرح له، فما كان من هذا الشرح منقولا من الكتب بنصه فله حكم تلك الكتب، وما كان منه منقولاً بالمعنى مع التصرف بزيادة أو نقصان ففيه ما لا يحصى من الخطأ والغلط، حتى روي أن أحمد باشا تيمور المؤرخ الأديب واللغوي المشهور جمع من الأغلاط التاريخية في هذه الدائرة جزءًا كبيرًا، وسئل عنه أحد علماء الأطباء المشهورين فقال: إن ما رآه فيه من المسائل الطبية كثير الغلط، ونقول نحن: إن ما فيه من الغلط والخطأ في العلوم الدينية من نقله وآرائه لعله أكثر من غيره. من ذلك تعريفه للحديث في مادة (حدث) بأنه ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم من (الكلام) . ومنها ما ذكره من سبب تدوينه، ومنها ما ذكره من تشكك الأئمة فيه، ومنها ما ضبطه من عدد ما صح عن بعضهم بسبب تشكيكهم كقوله: إنه لم يصح عن البخاري إلا (2600) فقد صح عنه أضعاف ذلك، وإنما اختلف الحفاظ في عدد أحاديث جامعه الصحيح بسبب ما فيه من التكرار للحديث الواحد مختصرًا ومطولًا وموصولاً وغير موصول في الأبواب المختلفة، وهذا العدد مع زيادة اثنين عليه هو ما حرَّره الحافظ ابن حجر للمتون الموصولة غير المكررة. ومن المعلوم أن له في أسانيد جامعه هذا شرطًا خاصًّا به لم يشترطه في غيره مما يصححه في سائر كتبه، ومنه بعض أحاديثه المعلقة فيه، ولا محل لتفصيل هذا هنا. (ومنها) قوله: إن أول من ألف الحديث الإمام مالك في الموطأ. (ومنها) أنه عندما ذكر (المجموعات الشهيرة بالكتب الستة الصحيحة) أخرج منها جامع الترمذي ووضع فيها سنن الدارقطني، وهذا لم يقله أحد، كما أنه لم يقل أحد: إن هذه الستة كلها صحاح، وإنما التزم الصحيح في المتون المسندة منها البخاري ومسلم فقط. وأصحاب السنن يروون الحسان والمعلولة مع بيان العلل ويكثر في الترمذي الضعاف وهي في ابن ماجه أكثر بل لا تخلو من الموضوع. فهذه بضعة أغلاط في كلمة (الحديث) وهي من أهون أغلاطه في المسائل الإسلامية، فإن الغلط في أصول الاعتقاد وتفسير القرآن. وجملة القول أن هذه الدائرة لا يوثق بها ولا يعتمد عليها، ولكنها راجت عند جمهور الناس على قصورها وقلة مادتها لشدة الحاجة إلى هذه المعاجم حتى إن وزارة المعارف أخذت منها نسخًا لمكتباتها لعدم وجود معاجم علمية تامة باللغة العربية غيرها، وإن كان ينقصها مواد كثيرة ضرورية في كل مقصد وموضوع من موادها، وهذا محل الشاهد، ولا نقصد به هذا الكتاب الذي لم نطلع عليه مجتمعًا إلا من عهد قريب. بعد هذه المقدمة أقول: إن علماء الإفرنج لم يرو غليلهم من العلم كثرة وجود هذه المعاجم عندهم حتى انتدب جماعة من علماء المشرقيات منهم إلى وضع معجم خاص بالشؤون الإسلامية، وهو الذي اشتهر بدائرة المعارف الإسلامية، وقد صدر منه بضعة أجزاء ولم يتم، وقد أوشك أن يتم كما قيل، وإذا كنا في أشد الحاجة إلى معجم علمي عام بلغتنا، فإننا لفي أشد الضرورة إلى مثل هذا المعجم الخاص بملتنا وأمتنا. وإذا كان لعلماء الإفرنج الذين ألفوا لنا هذا المعجم منة علينا؛ لأنهم فعلوا لنا ما لم نفعله لأنفسنا، فإن من أكبر العار علينا أن لا نبادر إلى نقله إلى لغتنا، وإن لمن ينقله إليها لمنة يجب أن نشكرها لهم بالقول والفعل، ونحمد الله أن نهض لأداء هذا الواجب جماعة منا فشرعوا في ترجمته بلغة الإسلام العامة التي يقرؤها المسلمون من جميع الشعوب وهي العربية، وإن قراءته لأنفع لنا من قراءة الأصل بلغاته الثلاث (الإنكليزية والفرنسية والألمانية) للأسباب الآتية: - (1) إن حاجة الإنسان إلى معرفة نفسه في المرتبة الأولى، وحاجته إلى معرفته غيره فيما دونها من المراتب العديدة، لا فرق في هذا بين الأفراد والجماعات والأمم، وهذا أول معجم عام في هذه الموضوع. (2) إن معرفة النفس لا تتم في صحتها أو كمالها، إلا بالوقوف على آراء الأغيار فيها من المستقلين في الرأي والجائرين فيه، ولا سيما الخصوم منهم، ولن نجد هذا كله إلا عند جماعة هؤلاء الإفرنج المستشرقين. (3) إن المواد التي يعتمد عليها المؤلفون لهذا المعجم في أوربة غزيرة، وإن طريقتهم في النقل والتمحيص معبدة عندهم، وإن الشعوب الإفرنجية كلها تعتمد على تحقيقهم وحكمهم لنا وعلينا، وإن أكثر المعجبين بعلوم أقوامهم وحضارتهم منا يقبلون ما يكتبونه عن ديننا وحضارتنا وتاريخنا، بل الأمر أعظم من ذلك، وهو أن ملاحدتنا والمرتابين واللاأدريين من أقوامنا يقبلون كلامهم في الكتاب المعصوم والنبي المعصوم صلى الله عليه وسلم أيضًا. (4) إن هذه الترجمة تنقل كلام هؤلاء المؤلفين نقلاً صحيحًا، وتعلق عليه في الحواشي ما تراه محتاجًا إلى التصحيح والتصويب أو التحقيق، ويستعين المترجمون على هذا بالإخصائيين من علمائنا في كل مادة من المواد تحتاج إلى هذا، فبهذا نكون مشاركين للمؤلفين في تأليفهم هذا، ويكون اسم (دائرة المعارف الإسلامية) موافقًا للمسمى بقدر ما يتفق لها من تحقيق واضعي هذه الحواشي لها. وأما الذين تولوا أمر الترجمة فهم الأساتذة محمد ثابت أفندي (ليسانس وماجستير في الفلسفة، وأحمد الشنتناوي (ليسانس في التاريخ وفي الفلسفة) وإبراهيم خورشيد (ليسانس في التاريخ) وعبد الحميد يونس. وقد عنوا بإصدارها في أجزاء متفرقة كأجزاء المجلات في كل شهرين جزء، وصدر الجزء الأول في شهر جمادى الآخرة الماضي الموافق لشهر أكتوبر، وصفحاته 64 من القطع الكامل منها مقدمة وجيزة في أربع صفحات وفيها حواش بإمضاء الأساتذة إبراهيم مصطفى ومحمد مسعود ويوسف الدجوي، ومحمد فريد وجدي وأحمد زكي باشا. وحاشيتا الأستاذين الدجوي ووجدي في موضوع خاص بالقرآن من كلام الدائرة في إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ففيها أن القرآن سمى أباه آزر مخالفًا لاسمه في التوراة، فأجاب الدجوي عنها بالاحتمالات التي نعهدها ونعرفها ولا يقبلها أحد من متعلمي هذا العصر فضلاً عن الإفرنج، والثانية في زعمها (أن شخصية إبراهيم كما في القرآن مرت بأطوار قبل أن تصبح في نهاية الأمر مؤسسة للكعبة) وأوردت الشواهد من السور المكية فالمدَنِيَّة على هذه الدعوى الخاطئة الكاذبة، فأجاب عنها فريد أفندي وجدي بكلام طويل أكثره يدور حول الموضوع ويحلق فوقه عن قرب أو بعد من حيث بقيت أكثر الشبهات رابضة في مكانها، وسأبين هذا في مقال خاص إن شاء الله تعالى فأنصح لمترجمي الدائرة أن يعرضا كل ما له علاقة بالدين الإسلامي، ولا سيما الكتاب العزيز والسنة السنية على أعلى علماء الأزهر علمًا ورأيًا ومكانة وهما الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق والشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية ليكتبا أو يختارا من يكتب فيه ما يبين الحق ويدفع شبهات القوم بما تقوم به الحجة، ولا يكون موضعًا للنقد، وسببًا للأخذ والرد، فتضعف به الثقة بالدائرة، وأنصح لقراء المسلمين حينئذ من جميع الأقطار أن يشتركوا في هذا المعجم ويقتنوه، وقيمة الاشتراك في ستة أجزاء يتألف منها من 64 صفحة من القطع الكامل 40 قرشًا في القطر المصري و70 في خارجه منها أجرة البريد. ((يتبع بمقال تالٍ))

مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة

الكاتب: عبد الظاهر أبو السمح

_ مدرسة دار الحديث بمكة المكرمة أسست في مكة المكرمة مدرسة لإحياء علم الحديث بهذا الاسم، وقد جاءنا من مديرها بيان لذلك قال فيه بعد مقدمة وجيزة ما نصه: ولما كان المسلمون في أشد الحاجة إلى إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن حياتهم متوقفة على ذلك، وكانت مكة المكرمة مهبط الوحي، ومشرق نور الرسالة، وفيها قبلة المسلمين، فكَّر جماعة من أهل الغيرة في إنشاء مدرسة بها لهذا الغرض، وقد وفقنا الله تعالى -وله الحمد والمنة- لافتتاحها في 12 ربيع الأول سنة 1352 بعد الاستئذان من أولي الأمر، ولم يبق إلا مساعدة المسلمين لها بآرائهم السديدة، وبما تجود به نفوسهم الكريمة من مبرات وخيرات، وبكل ما استطاعوا من معونة عملاً بقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة : 2) ? {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 3) . ولا ريب أن هذا العمل من خير الأعمال وأفضلها، ومن الجهاد في سبيل الله فقد قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (آل عمران: 104) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) رواه البخاري وغير خَافٍ أن مكة المكرمة هي أم القرى وموضع احترام المسلمين جميعًا، ويسرهم أن تكون كما كانت من قبل مورد العلماء، وملتقى الفضلاء. فهذا أوان العمل، ومن وثق بما عند الله ووعده أنفق في سبيله قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (الحديد:11) وقال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39) وقال سبحانه: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل: 96) . علوم المدرسة: أما علوم المدرسة فهي الحديث دراية ورواية، والتفسير وكيفية التفقه فيهما اقتداء بأئمة الهدى، ولا بد من قراءة الكتب الستة التي هي دواوين السنة والتفقه في أسانيدها ومتونها وحفظ جملة صالحة منها مع حسن استحضار كثير من مظان الحديث واللغة العربية ألفاظًا وأسلوبًا وقواعد وآدابًا. التعليم فيها: أما التعليم فيها فمقرر مجانًا وتصرف الكتب والأدوات للطلبة بلا مقابل، وبعض الطلبة تعطى لهم إعانات مالية أيضًا. ومدة الدراسة ثلاث سنين مؤقتًا، وقد تُزَاد إذا دعت المصلحة. طريقة التعليم: أما طريقة التعليم فهي كما يأتي: - (الأول) إلقاء الدروس باللغة العربية الفصحى وتعويد الطلبة الكلام الفصيح. (الثاني) تعليم القواعد بطريقة الاستقراء والاستنتاج والإكثار من التمرينات. (الثالث) إشراك الطلبة في الدرس حتى لا يكون كالخطابة والمحاضرة تلقى عليهم وهم سكوت، ثم ينصرفون. (الرابع) تعويد الطلبة التفكير الصحيح وحرية الرأي وتثقيف عقولهم. وللمدرسة هيئة إدارية متشكلة من أعيان الحجاز وعلمائه الموقعين على هذه النشرة. الأعضاء المستشارون: وكذلك لها أعضاء مستشارون في سائر الممالك الإسلامية من العلماء والأعيان، فالمدرسة ترحب بكل غيور على السنة وتدعوه إلى معاونتها بكل ما أمكن من جاه ومال ورأي وعلم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. طريقة الإعانة المالية: (1) إذا كان المتبرع بمكة المكرمة فنرجوه أن يسلم الإعانة لمدير المدرسة أو لأمين صندوقها ويأخذ سند الاستلام. (2) وأما من كان في الخارج فعليه أن يرسل الأوراق المالية ضمن ظروف مسجلة باسم المدير أو يرسل حوالة على البريد أو أحد البنوك أو أحد التجار المعتبرين باسم المدير، ويوضح اسمه وعنوانه حتى نرسل إليه الوصولات، وكل من لم يصله الوصل في ظرف شهرين، فله أن يراجع المدير بشأن إعانته وليس لدار الحديث وكيل طواف متنقل في البلاد يجمع باسمها الإعانات فنحذر الناس من المحتالين وننصحهم ألا يعطوا أحدًا شيئًا باسم دار الحديث، وليعلموا أن ليس في الحجاز كله دار حديث مصرَّح لها رسميًّا غير التي بمكة. وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وينجحنا في مقصدنا، وهو تخريج طائفة من العلماء المحققين المستقلين في الفكر، والمتبعين للسلف الصالح في فهمهم للدين والعمل به والدعوة إليه، وما ذلك على الله بعزيز (وقد ضافت الصفحة عن ذكر أسماء سائر المؤسسين) . ... ... ... ... ... ... ... ... مدير المدرسة ... ... ... ... ... ... ... عبد الظاهر محمد أبو السمح

استفتاء في مسائل نصرانية في القرآن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استفتاء في مسائل نصرانية في القرآن ­ (س27 - 34) من الأستاذ صاحب الإمضاء بمصر: حضرة الأستاذ الكبير خليفة الأستاذ الإمام ووارثه السيد محمد رشيد رضا أحييك بتحية الإسلام، وبعد فإن لي مناقشات كثيرة مع بعض دعاة النصرانية، وقد دعاني ذلك إلى التسلح بالأدلة والبراهين التي تدحض حججهم، وتزهق باطلهم، وقد عَنَّ لي أن أسأل سماحتكم في بعض أشياء أريد شفاء النفس منها، وهي: (1) ذكر القرآن الكريم الحواريين وأثنى عليهم في غير موضع، والقارئ لكتب النصارى يجد أن هؤلاء الحواريين يدينون بالتثليث وبالصلب، وبكل ما يعتقده المسيحيون على العموم فكيف نوفق بين هذين الأمرين؟ (2) وصف القرآن الكريم أهل الكهف بالتوحيد، والمعروف أن قصتهم وقعت بعد المسيح بنحو 250 سنة، أي في الزمن الذي غيرت فيه المسيحية، وانقلبت رأسًا على عقب، وقد ساق الدميري القصة وذكر في خلالها أنه لما أحياهم الله وخرج أحدهم يلتمس لهم طعامًا، دهش حينما رأى في بيوت المدينة علامة أهل الإيمان، وقد فسرها الأب شيخو بأنها الصليب. فما الرأي في هذا؟ (3) ذكر القرآن في سورة يس قصة أصحاب القرية، وما كان إرسال الرسل إليها، ثم التعزيز بثالث، ويفهم من ذلك أن هؤلاء الرسل من الله طبعًا مع أن المفسرين يقولون: إنهم بعض الحواريين، وذكر بعضهم أسماءهم بالفعل ومنهم بولس الذي تبين مما قرأته من الكتب أنه مخترع الديانة المسيحية، وواضع أسسها الجديدة. (4) لي أصدقاء من المسيحيين المعتدلين يعتقدون في المسيح ما يعتقده المسلمون فيه من أنه رسول فحسب، ولكنهم يؤمنون بالصلب، وحجتهم في ذلك أن اليهود يقولون به، والمسيحيون مطبقون عليه، والتاريخ يؤيده بشهادة من حضروا أو كتبوا. فما رأيك في إيمان هؤلاء خصوصًا وهم يعترفون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبماذا نزيل هذا الوهم من نفوسهم. (5) اليهود يعتقدون بظهور مسيح يحيي مجد إسرائيل، فهل يعتقدون مع هذا أنه ابن الله، وأنه يصلب إلخ، أو أنهم يقولون: إنه رسول كسائر الرسل لا يمتاز عنهم في شيء، وإذا صح هذا فكيف يزعم النصارى أن كتب اليهود وأسفارهم القديمة تبشر بالمسيح على الصورة التي يزعمونها له، والتي انتهت بما انتهت به؟ (6) لليهود توراة وللنصارى كذلك توراة، فهل بينهما اختلاف، وهل اليهود أقرب في ديانتهم من حيث التوحيد إلى المسلمين أم إلى النصارى، وإذا كانوا أقرب إلى المسلمين كما يظهر لي، فلم كانت العداوة بيننا وبينهم أشد مما هي بيننا وبين النصارى كما ذكر القرآن الكريم في سورة المائدة، وكما هو متوارث لدينا؟ (7) هل يوجد من أحبار النصارى غير القديس برنابا من قال بالتوحيد المحض وبرسالة المسيح فقط، وبنفي الصلب، وهل يوجد من بينهم بعد ظهور الإسلام من اعترف برسالة سيدنا محمد، ولو إلى العرب خاصة. (8) أرى تناحرًا كبيرًا بين الإسلام والمسيحية في هذه الأيام، وأرى تيقظًا من المسلمين، ونشاطًا من الدعاة المسيحيين، ولدي كثير من عقلاء الأوربيين غيروا رأيهم في الإسلام، فهل يمكن لنا أن نتفاءل بأن الإسلام يظفر بالمسيحية، ولو بعد حين طويل مع ما نراه من وقوع بلاد المسلمين في براثن الاستعمار المسيحي، أرجو إجابة شافية عن كل ذلك، ولكم الشكر الجزيل. ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص علي الجندي ... ... ... ... ... ... الأستاذ بمدرسة الناصرية الأميرية أجوبة المنار بالإجمال تابعة بالعدد للفتاوى السابقة 27- حواريو المسيح وعقيدتهم: مما قصَّه علينا كتاب الله تعالى من أخبار المسيح عيسى بن مريم عليه السلام أنه كان له حواريون رضوا أن يكونوا أنصارًا له لم يذكر لنا أسماءهم ولا أنسابهم، وفي كتب النصارى أنه كان له تلاميذ اثنا عشر ذكرت أسماؤهم في الرسائل التي يسمونها الأناجيل، وليس فيها أنهم كانوا يدينون بالتثليث ولا أن هذا التثليث المعروف عن النصارى كان معروفًا عندهم، ولكن أشار إليه يوحنا وهو لم يكن منهم. ونعلم من تاريخ الكنيسة ومن التاريخ العام أن هذه العقيدة وثنية قديمة ألصقت بالنصرانية بعد مرور قرون عليهم، ولكن في هذه الأربع قصة صلب المسيح، وأن تلاميذه كانوا معه عندما أخذته الحكومة الرومانية بآراء اليهود لصلبه وأسلمه واحد منهم، وفي القصة ما فيها من الاختلاف بين مدونيها من الأربعة وبين غيرهم ممن كتبوها ورفض مجمع نيقية كتبهم وأناجيلهم عندما أسس هذه النصرانية المعروفة بأمر القيصر قسطنطين الوثني وسياسته ومقتضى إرادته، ومنها إنجيل برنابا الذي ترى فيه قصة الصلب موافقة للقرآن كما ترى التوحيد في أبلغ الآيات البينات، والبشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم في أجلى العبارات، وقد كان برنابا حاضرًا تلك القصة فهو يخبر عن عيان، على أن القصة عند الأربعة لا تدل على هذه العقيدة البولسية الكنسية المضاهئة لعقيدة الهندوس في قصة كرشنا وثالوثهم الهندي القديم وأمثالها من عقائد التثليث المصري والأوربي القديم، فيقال: إن الحورايين كانوا يعتقدونها. 28- توحيد أهل الكهف وشرك قومهم: الواجب علينا في قصص القرآن أن نفقهها ونتدبر حكمة الله تعالى فيها ونعتبر بها كما أنزلها، من غير زيادة عليها أو نقص منها بآرائنا أو بالرواية عن غير المعصوم فيها، وقد فتن أكثر المفسرين للكتاب العزيز بالروايات الإسرائيلية في قصصه وكثيرها كذب مفترى، وما فيها من صحيح فلا حاجة بنا إليه، حتى صرنا نحتاج إلى التوفيق بين نصوص الوحي الحق المعصوم وبينها، وإلى ما هو شر من ذلك. فأول ما أجيب به السائل الفاضل أن يضرب عرض الحائط بكل ما روي في القصة مما لا تدل عليه عبارتها سواء منه ما رواه الدميري والمفسرون، وما قاله (شيخو) الجزوبتي (فالأول) قد يكون ناقلاً كغيره عن الإسرائيليات الموضوعة (والثاني) قد يكون مُحَرِّفًا لقصة مروية أو مصنوعة، وقد عهدنا التحريف وافتراء الكذب من دعاة الكنيسة، ولا سيما هؤلاء الجزويت. أقول: ثانيًا: إن المعلوم من كلام الله الحق المبين، ومن بعض نصوص ما يسميه النصارى بالأناجيل وغيره من كتب العهد الجديد، ومن روايات التاريخ الصحيح، أن المسيح عليه السلام وأتباعه كانوا موحدين لله تعالى مثله على عقيدة التوراة. وقد علم من التاريخ أن الملك قسطنطين مؤسس التثليث في هذه النصرانية قد نَكَّلَ بالموحدين الخُلَّص وشرد بهم من خلفهم، وأن من بعده من خلفائه في كفالة هذا الدين الرسمي كانوا ينتقمون من الموحدين ويعاقبونهم، وإنما كان ذلك في الربع الثاني من القرن الرابع، حتى صاروا يكتمون عقيدتهم، ويوصي بها بعضهم بعضًا ومن يأتي بعدهم، ويبشرونهم بالنبي الأعظم، الذي بشر به موسى وعيسى ابن مريم عليهما السلام كما ورد في قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى أن ظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا يزال فيهم موحدون، بل كثير بعد انتشار الحرية في أوربة إلى هذا اليوم. (وثالثًا) : إن المحققين من مفسرينا لم يثبت عندهم أن أصحاب الكهف كانوا من النصارى، فالحافظ ابن كثير قال في تفسيره: وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى بن مريم فالله أعلم، والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية إلخ. (ورابعًا) إن فرضنا أنهم كانوا على دين المسيح، وأنه ظهر لهم بعد استيقاظهم وخروج أحدهم من الغار علامة الصليب، فإن هذا لا يكون معارضًا للقرآن، فكلام الله هو الحق، ومخالفه هو الباطل، لا فرق فيه بين قديم وجديد فالمتقدمون كانوا يكذبون كالمتأخرين، وقد يكذب غيرهم من بعدهم عليهم وعنهم وإنما جئت بهذه القضايا الكلية ليقاس غيرها. 29- رسل أصحاب القرية: إن أكثر المفسرين نقلوا ما أشرتم من تفسير أصحاب القرية وأنها أنطاكية وأن الرسل الثلاثة الذين جاءوها هم رسل المسيح، ومنبع هذه الروايات كعب الأحبار ووهب بن منبه اللذان بَثَّا في المسلمين أكثر الإسرائيليات الخرافية، وابن عباس رضي الله عنه قد روى عن كعب. وقد فَنَّدَ الحافظ ابن كثير هذه الروايات من ثلاثة وجوه (أحدها) أن ظاهر القصة أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل لا رسل المسيح إلخ. (ثانيهما) أن أهل أنطاكية التي أرسل إليها المسيح رسله قد آمنوا، بل كانت أول مدينة آمنت بالمسيح، ولهذا كانت مركز بطركية إلخ (ثالثها) أن الله تعالى قد أخبر أن أهل هذه القرية قد أهلكهم الله تعالى بصيحة واحدة فإذا هم خامدون، وقد ثبت أن الله تعالى لم يهلك بعد نزول التوراة أمة من الأمم بعذاب الاستئصال إلخ، فراجع القصة في المجلد السابع من هذا التفسير (طبعة المنار) ولا تنس أن بولس كان عدوًّا للمسيح، وإنما أظهر الإيمان لمن يسمونهم الرسل بعد رفعه، وبرنابا هو الذي قدمه لهم. 30 - حكم الذين يؤمنون برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبقصة الصلب: إن من ذكر السائل من أصدقائه الذين يؤمنون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، وبأن المسيح رسول أيضًا لا إله، وهم مع ذلك يصدقون قصة الصلب لا بد أن يكونوا يفهمون أن قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} (النساء: 157) لا يدل على نفي هذه القصة من أصلها، بل يتأولون نفي الصلب بنفي قتله وموته به كما يدعي النصارى لإثبات عقيدة الفداء الوثنية، فعلى هذا يجوز عندهم أن يكون الصلب الصوري وهو التعليق على الخشبة قد حصل، ولكن لم يكن مفضيًا إلى موته عليه السلام، بل أنجاه الله ورفعه إليه، وإنني رأيت بعض المسلمين يعتقد هذا لظنهم أن قصة الصلب متواترة تواترًا حقيقيًّا فهي قطعية يجب تأويل ظاهر الآية للجمع بين القطعيين كما إذا قيل فلان شنق وقتل شنقًا؛ لأنه ثبت قطعًا تعليقه بحبل المشنقة، وكان سقط مع الحبل أو أفلت منه فنجا ولم يقتل كما يقع كثيرًا، ففي مثل هذه الحالة يكون صادقًا من يقول: إنه لم يقتل ولم يشنق، وما قتلوه أو ما شنقوه بل أنجاه الله، وقبول هذا التأويل أهون من تكفير من يتأول ظاهر الآية عن اعتقاد، والمَخْرَج من هذا الوهم أن يعلموا أن قصة صلب المسيح غير قطعية وغير متواترة، وأن المسيحيين اختلفوا فيها من العصر الأول. وقد بيَّنا هذا بالدلائل الواضحة في تفسير الآية، وجمعنا ذلك في رسالة طبعت على حدتها باسم (عقيدة الصلب والفداء) ونشرنا معها بحثًا في تأييد قولنا للدكتور محمد توفيق صدقي رحمه الله تعالى. 31- مسيح اليهود المُنْتَظَر والمسيح الحق: مسألة مسمى التوراة عند الفريقين مسألة طويلة معقدة، وأما مسألة المسيح فاليهود يعتقدون أن مسيحهم المنتظر ملك مؤيد من الله تعالى يعيد لهم ما سُلِبَ منهم من ملك سليمان لا نبي مرسل، والنصارى يعتقدون ما علمت، والبشارات في كتبهم إشارات ورموز يحملها النصارى على الملك الروحي، واليهود على الملك السياسي والمالي! ! وقد فصلنا المسألتين في تفسير المنار فراجعهما فيه مع حقيقة التوراة. 32- عداوة اليهود ومودة النصارى للمسلمين: قد بينت في تفسير آية المائدة في هذا الموضوع أنها نزلت في يهود الحجاز ونصارى الحبشة وموضوعها العداوة والمودة لا العقيدة، فراجعه. وأما قولكم: إن مضمون الآية في الفريقين متوارث بين المسلمين إلى اليوم فهو خلاف الواقع؛ لأن اليهود بعد الفتوحات الإسلامية لم يعادوا المسلمين كما عادوهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يذوقوا طعم الحرية ولم ينجوا من اضطهاد النصارى لهم إلا في ظل الحكومات الإسلامية في فلسطين وسورية ثم في الأندلس ثم في الترك،

المطبوعات المنكرة في الدين ومشيخة الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات المنكرة في الدين ومشيخة الأزهر كثرت في هذا القرن المطبوعات المشتملة على ما يخالف أصول الدين ويصد عن هدايته مما يكتبه الزنادقة والملاحدة بسوء نية، ومما يكتبه الجاهلون المغرورون بمعارفهم الناقصة، كما كثرت في ذلك ما يكتبه الفريقان في المجلات والجرائد اليومية، ومنه ما هو مخالف لأصول الدين وفروعه في قوالب مدح له ودفاع عنه. وكان مشايخ الأزهر في غفلة معرضين عن ذلك كله لا ينكرون منكرًا ولا يؤيدون معروفًا إلا قليلاً منهم في قليل مما يسألون عنه، حتى ظهرت في هذه السنين الثلاث مشيخة الظواهري فكانت بدعًا من كل ما سبقها في أمور كثيرة منتقدة منها طلب مصادرة بعض المطبوعات بحق وبغير حق، ومصادرة كتب تقر ما هو شر منها وأضر وأشد مخالفة للإسلام وجناية عليه، وقد أنكر عليها الكتاب من الأزهريين وغيرهم بعض ذلك كطلبها من الحكومة منع نشر كتاب (تاريخ بغداد) الشهير للإمام الحافظ الخطيب لأن فيه طعنًا على الإمام أبي حنيفة في ترجمته أورده المؤلف بالروايات كما أورد كثيرًا من الثناء عليه. ثم إنني علمت أخيرًا أن شيخ الأزهر طلب مصادرة كتاب فني في حيوية الأرض بناء على اشتماله على كفر صار به مؤلفه مرتدًّا عن الإسلام، ونشر هذا الخبر في جمادى الأولى، ولم أر نص ما قررته مشيخة الأزهر في ذلك، ولا ما نشرته جريدة الأهرام من خبره، ولكنني علمت مضمونه من مقالة نشرها مؤلف هذا الكتاب في جريدة الأهرام، فرأيت أن المسألة تحتاج إلى بيان وتفصيل ينبغي أن يطلع عليه مؤلفه، وكل من قرأ الخبر فأرسلت إلى الأهرام المقالة الآتية في ذلك، فكان لها تأثير حسن عند علماء الأزهر وغيرهم، وأثنى لي عليها من أعرف ومن لا أعرف، وإنني أنشرها هنا لئلا تضيع وهذا نصها: (كتاب حيوية الأرض المُصَادَر، وحقيقة الإسلام) قرأت اليوم (غرة جمادى الآخرة) ما نشر في الأهرام لمؤلف هذا الكتاب ولم أطلع على ما نشر (في 27 جمادى الأولى 17 سبتمبر) من خبر مصادرة الحكومة له بطلب مشيخة الأزهر؛ لاشتماله على كفر صريح خلاصته أن الأرض كائن حي فيه جميع وظائف الأحياء الفنية، وأن له إلهًا مدبرًا في داخله هو كالمخ في تدبير حياة الإنسان، وأن لكل جرم من الأجرام السماوية - من سدم وشموس وكواكب وأقمار - إلهًا مستقلاًّ كإله الأرض، وأن كل جماعة من هذه الأجرام تكون وحدة سديمية لها إله، وأن للسدم كلها إلهًا واحدًا هو إله الكون كله، وهو يقيم الدلائل الفنية على رأيه هذا كما يقول. بل يستدل عليه ببعض الآيات القرآنية بحسب فهمه لها. وذكر في مقاله هذا أنه أرسل إلى فضيلة شيخ الأزهر خطابًا مسجلاً أعلن له فيه استعداده مع السرور لتبادل الرأي معه بشأن الكتاب قائلا له: (وثقوا أنني لن أهرب من الحق إذا بدا لي، ولن أصر على الباطل إذا تبينته) . ثم قال في آخر المقال: (وبعد فإنني لم آسف على مصادرة الكتاب بقدر ما أسفت على وصفي بالكفر في الوقت الذي أقول فيه (أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) ومع ذلك فإنني أَتَأَسَّى بمصائب غيري. وقد صدق من قال: إن من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته، والمصيبة التي أمامي هي مصيبة الأستاذ فريد وجدي فإنه لا لسبب سوى إبداء رأيه في المحكم والمتشابه من القرآن يرميه بالكفر والإلحاد حضرة مصطفى صبري أفندي شيخ الإسلام بتركيا سابقًا. فما عسى يا ترى ما سيقوله عني) ؟ اهـ. أقول: إن مسألة مؤلف كتاب حيوية الأرض (وهو الأستاذ محمد أفندي النويهي المدرس بمدرسة الأمير فاروق الابتدائية في المنيا) يجب النظر فيها من ثلاث جهات: (1) حكم الدين الإسلامي فيها. (2) ما يجب على مشيخة الأزهر فيها وفي أمثالها. (3) الفرق بينها وبين مسألة الأستاذ محمد فريد أفندي وجدي التي لم يفهمها؛ إذ ظن أن شيخ الإسلام كفره بسبب إبداء رأيه في المحكم والمتشابه لا لسبب سواه. (1) أما حكم الدين في مسألته، فإنما يعرف ببيان حقيقتها وهي: رجل مسلم يشهد أن لا إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن القرآن كلام الله، عرضت له شبهة علمية فنية اعتقد بها تعدد الآلهة أو الأرباب في الكون على الوجه الذي تقدم تلخيصه، ويرى أن اعتقاده هذا لا ينافي إسلامه، ولا يكذب نصًّا من كلام الله ولا من كلام رسوله، بل هو يتأول بعض آيات القرآن ويراها دالة عليه، فما حكم الإسلام فيه؟ الجواب: أن القول بتعدد الآلهة والأرباب المدبرة لأمور الأحياء في الكون نقض للتوحيد الثابت بنصوص الكتاب والسنة القطعية عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وأن الشبهة العلمية الفنية التي عرضت لقائله تنافي كونه جاحدًا معاندًا، وكونه مكذبًا بالله ولرسوله بالتعمد، فهو متأول فيما هو كفر قطعي، فلا يحكم عليه بالارتداد عن الإسلام إلا بعد دحض شبهته، وإقامة الحجة عليه بالتوحيد الخالص، وهذا أمر يسير غير عسير، فإذا رجع عنها - وهو المرجو - كان إسلامه صحيحًا، وإن أصر عليها - وهو مستبعد - كان مرتدًّا تجري عليه أحكام المسلمين، وسأبين بطلان شبهته هذه. (2) وأما الواجب على مشيخة الأزهر فهو أن تبادر إلى تفنيد أمثال هذه الشبهات، وإثبات الحق للجاهل المتأول بالبراهين والبينات، فالتأول من موانع تكفير الشخص المعين، ومجاله في زماننا أوسع؛ لأن ما كان معلومًا بالضرورة من قبل لم يعد معلومًا فيه، وقد تأكد هذا الواجب على رئيسها الأستاذ الأكبر في هذه النازلة بعرض الحكومة كتاب (حيوية الأرض) عليه، وزاده تأكيدًا ما كتبه إليه مؤلفه من استعداده ورغبته في البحث معه فيه، ووعده باتباع الحق إذا تبين له ، وإنما تقوم الحجة عليه بتبين الحق له كما قال الله عز وجل: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) وقد علم من مقال الرجل أن شيخ الأزهر لم يبال بكتابه، ولم يطلبه إلى رحابه، ولا ندري ما عذره في نظر المسلمين وما يكون عذره عند ربه، ولا سيما إذا كان حكم عليه بالكفر كما يفهم من مقاله، وما أظن أن يتجرأ على هذا التكفير على إطلاقه، وهو يسكت على ما هو شر منه، على أنه لا يجوز السكوت عنه، فليت إدارة الأهرام تستخرج لنا قرار المشيخة الرسمي فيه بنصه، فإنها أقدر من غيرها على هذا الاستخراج كما علم بالتجارب. (3) وأما الفرق بين هذه المسألة ومسألة الأستاذ فريد أفندي وجدي فهو بعيد مما ذكره مؤلف كتاب (حيوية الأرض) ومما فهمه خطأ من المقالات التي نشرتها جريدة الأهرام في مسألة المحكم والمتشابه من الآيات. كان أول ما تصدى له شيخ الإسلام مصطفى صبري أفندي من الرد على محمد فريد وجدي أفندي هو دفاعه عن حكومة الجمهورية التركية إذْ أعلنت رسميا مروقها من الإسلام واختيارها اللادينية (لا ييك) عليه، وتفضيل القوانين الأوربية على شريعته، وإجبار شعبها على ترك التعبد وتلاوة القرآن باللغة العربية وترجمته باللغة التركية وكتابة ترجمته بالحروف اللاتينية إلخ؛ ليقرءوا هذه الترجمة دون القرآن العربي المنزل من السماء كسائر أذكار الصلاة إلخ، ففريد أفندي وجدي عَدَّ هذا من التجديد العصري الذي اقتضاه ارتقاء الشعب التركي فأصبح لا يليق به التشريع الإسلامي العتيق البالي، وشيخ الإسلام يعتقد كغيره أن هذا في جملته كفر وارتداد عن الإسلام ممن فعله وممن يقره ويستحسنه. وتلا ذلك مباحث نشرها فريد أفندي وجدي في جريدة الجهاد عنوانها (الإسلام دين عام خالد) ثم جمعت في كتاب مستقل، وفيها مع مدح الإسلام ما هو مخالف لعقائده المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة، وكل ما كان كذلك فهو مروق من الإسلام الذي درسه شيخ الإسلام في مدارس الآستانة من تفسير وحديث وتوحيد وفقه وهو عين ما يُدَرَّس في الأزهر، وفي سائر بلاد الإسلام، وقد رد على بعضه، وهو أولى من كتاب حيوية الأوض بالمصادرة؛ لأن ما فيه من مخالفة عقائد الإسلام قد يخفى على الجمهور، وما في كتاب حيوية الأرض من مخالفة أصل التوحيد فهو لا يخفى على أحد من المسلمين. وتلا هذا مقال نشره فريد أفندي في جريدة الجهاد وغيرها عنوانه (الإسلام يدعو إلى الأخوة العالمية العامة، وإلى توحيد الأديان، وتحكيم العقل والعلم في العقائد) وفي آرائه في ذلك ما ينافي الإسلام المعروف في كتاب الله وسنة رسوله، وما أجمع عليه المسلمون من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، وفريد أفندي وجدي قد صرح وما زال يصرح أن الإسلام الذي جرى عليه المسلمون ينقضه العقل وعلم هذا العصر، وأنه لا يمكن قبوله في هذا الزمان إلا بما يفسره هو به، ثم صرح بأنه كشف شيئًا جديدًا في القرآن يمكنه الاستناد عليه في أساس رأيه، وهو تحكيم العقل والعلم في العقائد الإسلامية بلا قيد ولا شرط، وهو الآيات المتشابهات. ومما بناه على هذا الأساس أن الآيات (المعجزات) التي أيد الله تعالى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وعذاب النار الموصوف في القرآن، كل ذلك مخالف للعقل والعلم فلا يمكن الإيمان به (أي على ظاهره) وإن ما فهم هو به المتشابهات والمحكمات يبيح لنا عدم الإيمان بذلك كله، كما تدل عليه آياته فهو من المتشابهات إلخ، والمتشابه لا يمس العقائد القطعية، بل أنكر عليه عدة دعاوى مخالفة لأصول الإسلام وعقائده هو يدعو إليها ويناضل عنها، مع علمه بأنه متبع فيها لغير سبيل المؤمنين، فهذا هو الفرق بينه وبين مؤلف كتاب (حيوية الأرض) الذي خالف عقيدة واحدة بشبهة فنية هو غير جازم بها، ويصرح بأنه مستعد للرجوع عنها إذا تبين له خطؤه فيها، وسأنشر مقالاً في تحقيق الحق في المتشابهات يتبين به خطأ الإمام الرازي فيما نقل عنه فريد أفندي وجدي ولم يفهمه، لا رأيه وحده [1] . ثم أقول لصاحب هذا الكتاب أن شبهته هذه نظرية فنية هي لم تبلغ أن تكون من ناحية الفن نفسه عقيدة قطعية لا يمكن نقضها، وبناء على هذا يصرح بأنه مستعد للمناقشة فيها من ناحية الدين، كما أنه مستعد لذلك من ناحية الفن بالأولى، فهم ظنية راجحة عنده يقابلها من قطعيات الدين ومن ظواهره الراجحة ما يبطلها لهذا يجب عليه ترك ما استنتجه منها، وهو كون المركز الحيوي المُدَبِّر للأرض هو إلهها أو إله أهلها، وحينئذ لا يضره في دينه اعتقاد أصل نظريته هذه. وإنني أذكر له في هذا المقال المختصر عدة مسائل، أرجو أن تكون كافية لإقناعه بحقيقة توحيد الإسلام. (المسألة الأولى) إذا ثبت أن للأرض مركزًا لتدبير كل ما فيها من نظام أو حياة فهذا لا يقتضي أن يكون هذا المركز أو ما فيه من مصدر التدبير إلهًا يعبد؛ إذ لا يمكن أن يكون هو الرب الخالق العليم القدير الفعال لما يريد الذي يُدْعَى لكشف الضر عمن يشاء وهبة النفع لمن يشاء كما أن دماغ الإنسان الذي هو مصدر النظام الحيوي في شعوره ومداركه ليس ربًّا لجسده يستحق العبادة ويُدْعَى لجلب النفع وكشف الضر، وإنما رب الناس ملك الناس إله الناس هو الله الذي أثبت المؤلف أنه رب الكون كله، وهذا هو اعتقاد الإسلام. (المسألة الثانية) أنه قد ورد في نصوص الكتاب العزيز والأحاديث النبوية أن الله تعالى قد وكل بالعالم ملائكة من عنده لتدبير أموره من السماء إلى الأرض وقد اتفق مفسرو السلف على تفسير قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات:5) بهذا النوع من المل

الحاجة إلى هذه الترجمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحاجة إلى هذه الترجمة نشر في الجزء الخامس فصل من ترجمتي عن كتاب المنار والأزهر وهذا الفصل خاتمة تلك الترجمة منه هذه خلاصة ترجمتي في نشأتي وتربيتي وتعليمي وتصوفي التي أعدني الله تعالى بها لإنشاء المنار، وللتصدي للإصلاح الإسلامي العام، حكيت بعض ما تذكرته منها حكاية تاريخية ساذجة، ولم يكن يخطر ببالي أن أكتب شيئًا منها قبل الشروع فيها للسبب العارض الذي ذكرته، ولا أن أطيل فيها عُشْر هذه الإطالة، ثم تذكرت أنها من مادة تاريخ الإصلاح الإسلامي في هذا العصر؛ لأنني بفضل الله قد صرت من رجاله الذين لهم فيه أثر قد يذكره مؤرخوه ويبحثون في أسبابه من جميع نواحيها، فلا يجدون في قرية القلمون حيث ولدت ونشأت ولا في طرابلس حيث تعلمت أحدًا يرويها لهم، فقد كاد ينقرض الجيل الذي يعرفها فيهما، وأعلم الأحياء بها عمي السيد محمد كامل العابد الزاهد القدوة وهو من شهداء الله على خلقه، ولم يكتب من تاريخ بيتنا شيئًا، لا يطوف بنفسه طائف الشعور بالحاجة إلى هذه الكتابة، ولو وجد داعيتها قبل شيخوخته لكان قادرًا عليها، وقد ذكرت فيما سبق أشهر أسماء من بقي من العارفين بها، وممن فاتني ذكره منهم صديقي العلامة الفقيه الشاعر الأديب الشيخ إسماعيل الحافظ، وقد كان صديقي السيد عبد الحميد الزهراوي نادرة الزمان كتب مقالاً في وصف نشأتي ونشره في بعض الصحف لا أدري أيها: الجريدة أم المؤيد أم الحضارة؟ وكان من زهدي المعيب في نفسي أنني لم أحفظ نسخة منها. وأما سيرتي الشخصية والاجتماعية في مصر فيعرفها مجملة أو متفرقة كثير من أصدقائي وتلاميذي، وإن أعلمهم بها وبسيرتي السياسية الإسلامية والعربية والمنزلية ابن عمي السيد عبد الرحمن عاصم لأنه يعيش معي من زهاء ربع قرن، على أنني كنت وما زلت أكتم أثر أعمالي التي يمكن كتمانها، وقد كتبت قليلاً من المذكرات فضاع بعضها، ويمكنني كتابة سفر كبير في أعمال السياسية وحدها محفوظة كلها ما كان منها في الآستانة وما كان في مصر، وفي كل منهما عِبَر للمسلمين في وزرائهم وأمرائهم وغيرهم، وفي مجلدات المنار وتاريخ الأستاذ الإمام مادة غزيرة لهذه الترجمة. وقد طلبت مني إحدى الجمعيات العلمية في شيكاغو ترجمة حياتي غير مرة فلم أكتبها لها زاهدًا في الشهرة، وألف أحد علماء الأمريكان المستشرقين اللاهوتيين [1] كتابًا باللغة الإنكليزية موضوعه (الإسلام وروح العصر بمصر) Islam and Modernism in Egypt جعل فصوله الأولى في ترجمة حكيمينا الإمامين المصلحين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده المصري اقتبس أكثر مادتها من مجموعة مجلدات المنار، يليها فصلان في ترجمة صاحب المنار وفي خطة المنار نفسها ترجم لي بعضها بالعربية فرأيته يتحرى فيه الصدق في التاريخ، وهو قد قدمه إلى مدرسته التي تخرَّج فيها فنال شهادة علم اللاهوت، الذي صار به داعية للنصرانية على مذهبه البروتستنتي، وقلما عرفت أحدًا من هؤلاء المبشرين يتحرى الصدق. *** أهم ما في هذه الترجمة من العِبَر إنني أذكر قارئ هذه الخلاصة من طلاب العلوم الدينية والمَيَّالِينَ إلى الإصلاح الإسلامي بمسائل مجملة منها، عسى أن ينتفع بها المستعد لها، ولهذا أقتصر على الكسبي منها دون الوراثي والوهبي، وإن كان بعض ما يكتسب عادة بإرشاد المربي والمعلم أو بفهم المتعلم قد كان عندي أشبه بالوهبي الإلهامي، إذ لم يعن والدي ولا غيره من أساتذتي بتوجيهي إلى وجهة معينة في العلم ولا في العمل، ولا الاستعداد للمستقبل، وقد تذكرت في هذه الدقيقة كلمة لمستر متشل إنس الذي كان وكيلاً للمالية بمصر، وكان هو الرجل الوحيد الذي عاشرته وكثر اجتماعي به ومذاكرتي له من الإنكليز في مصر، وكان الأستاذ الإمام هو الذي عقد صلة التعارف بيننا لأسباب ظهرت لي بعد، وبينت بعضها في تاريخ الأستاذ الإمام، وكان هذا الرجل من أشد الإنكليز بل الناس استقلالا في فكره، وحرية في رأيه، وهو لا يزال حيًّا في بلاده، وقد قال كلمته هذه بعد طول الخبرة والبحث معي في المسائل السياسية والدينية، ورأى مني ما لم يعهده في مصر من الحرية والاستقلال والشجاعة وعزة النفس، وهي: يظهر أن والدك قد عني عناية خاصة بتربيتك وتعليمك فوق ما هو معهود ومعروف في الشرق … وقد نقلت عنه في المنار أنه صارحني ثلاث مرات بأنه إذا كان الإسلام ما أمثله أنا والشيخ محمد عبده فهو مسلم. والحق أنني لا أعرف شيئًا من عناية والدي الخاصة بي إلا ما ذكرت من كراهته لإقامتي في طرابلس لطلب العلم قبل بلوغي سن الرشد وثقته التامة من ديانتي وأخلاقي، خشية أن تعبث بي معاشرة أهل الهزل والمجون في المدينة (البندر) وليست هذه المنة بقليلة، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة. وهذا ما أريد الاعتبار به مما ذكرته في هذه الترجمة تحدثًا بالنعمة، وتذكيرًا بمواضع العبرة. *** أهم الفوائد والعبر لطلاب العلم الديني من هذه الترجمة 1- طول المكث في المدارس ضار: كتب لي أستاذنا العلامة الشيخ حسين الجسر في شهادة العالمية أو (إجازة التدريس) أنني طلبت العلم عنده مدة ثماني سنين تلقيت فيها المنقول والمعقول إلخ (وكنت في هذه المدة أتلقى عن غيره أيضًا) والعبرة في هذا أن طول مدة التلقي والأخذ عن المعلمين لعلوم وفنون قليلة كالعربية والشرعية تضعف في الطالب ملكة الحكم، والاستقلال في العلم، وتحصر علمه فيما يسمع ويقرأ، حتى لا يكاد يجد غيره فيما يقرر أو يملي أو يصنف أو يفتي، ومن كان هذا كل علمه فلا علم له، وإنما هو ينقل ما عند غيره علمًا كان أو ظنًّا، حقًّا أو باطلاً، خطأً أو صوابًا. وقد قال لي الأستاذ الإمام عندما عرضت عليه أن يكون الشيخ عبد العزيز جاويش من إخواننا خواص مريديه بعد عودته من أوربة: أيّ العلوم حصل في إنكلترة؟ قلت: لما أسأله عن ذلك لقرب العهد بعودته، ولكنه ذكي فصيح ذو همة وغيرة، قال سله عن مدة إقامته في الأزهر قبل دخول مدرسة دار العلوم فإن كانت طويلة تزيد على بضع سنين فاعلم أنه قد فقد قوة الاستعداد للعمل، وأنه لم يحصل شيئًا يعتد به. 2- النية وصحة القصد وتوجه الإرادة: قال نبي الرحمة، ومعلم الكتاب والحكمة: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) وإن لصحة القصد، وتوجه الإرادة إلى الأمر، أعظم التأثير في النجاح والفوز، ولا شيء أنفع لطالب العلوم الدينية من الإخلاص لله تعالى فيها، وقصد تزكية نفسه وتثقيفها بمعرفته الصحيحة وعبادته المشروعة، ثم تعليم الناس وهدايتهم، وأن يكون قدوة لهم في الحق والخير، وتدبر ما علمنا الله تعالى من دعائه بقوله: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: 74) وقوله: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} (الممتحنة: 5) وإن بين هذه الفتنة بتنفير الكفار عن الإسلام، والإمامة للمتقين فيه، لدرجات بعيدة في الإيمان والصلاح، ودركات في الكفر والضلال. لما اشتغلت بطلب العلم في طرابلس وعرفت الأستاذ العلامة الشيخ محمد إبراهيم الحسيني وكان عائدًا من الأزهر وصحبته بالتبع لصحبة صديقنا المرحوم الشيخ محمد كامل الرافعي كما تقدم في الترجمة قال لي مرة: إنني بعد أن أتم مطالعة أعلى كتب الأصول والكلام والبلاغة سأذهب إلى الآستانة وأقرأ درسًا في جامع السلطان أحمد، وذكر ما يتوقع لهذا الدرس من حسن التأثير والشهرة، وما يعقبه من الفوائد، فقلت له ما معناه: إنه لخير لك أن تنوي بقراءة هذه الكتب التقرب إلى الله تعالى والاستعداد لخدمة دينه ونفع عباده، وإن منافع العلم بالجاه والمال قد تأتي تابعة لذلك، ولا يصح أن تكون متبوعة له، ولا مقصودة لذاتها، ثم رجع الأستاذ عن ذلك الرأي بعد أطوار مرت عليه كما تمر على أمثاله من كبار الأذكياء. إن الذين اشتغلوا بعلوم الدين بقصد إصلاح أنفسهم وإصلاح غيرهم في كل جيل كانت الدنيا أشد انقيادًا لهم ممن طلبوها بالدين وعلومه، ولكن أكثر أولئك قد زهدوا فيها، وآثروا ما عند الله تعالى على جاهها ومالها، ولقد قال لي شيخنا الأستاذ الإمام: إنني لولا قصد التوسل بدخول الحكومة المصرية إلى التمكن من إصلاح الأزهر لأبيت قبول أي وظيفة فيها، وقال لي: لو كنت أريد أن أكون غنيًّا لكنت من أكبر الأغنياء. فليعتبر طلاب العلم في الأزهر وغيره ممن يقصدون الجاه أو الثروة بتاريخ الأستاذ الإمام وعاقبة أمره، وما رفع الله من ذكره، وبغيره ممن لا غرض لهم من علم الدين إلا عرض هذا الأدنى؛ ليروا كيف كان قدوة صالحة في حياته وبعد مماته، وإنهم سيرون وسوف يرون من سوء سيرة تجارة الدين أن بعض الفقر خير من الثراء، وأن من الخمول والخفاء، ما هو أشرف من الشهرة والجاه، وأن الغاية للمتقين، والخزي والسوء على المنافقين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (ص: 88) . 3- الاستقلال والتقليد في طلب العلم: أنصح لكل طالب علم أن يتوخى الاستقلال بفهم ما يلقنه من مسائل العلم، ثم الاقتناع بما يفهمه، وأن لا يكتفي بفهم أستاذه للعبارة دون فهمه هو، ولا باقتناع أستاذه بأن ما فهمه هو الحق في نفسه إذا لم يقتنع هو بذلك، فالعلم بعبارة المعلم أو المؤلف غير العلم بمعناها، والعلم بصحة المعنى مرتبة فوق مرتبة فهمه من العبارة، وفوقهما مرتبة العبرة الباعثة على العمل بالعلم والإخلاص فيهما، ولن تكون عالمًا بالشيء نفسه إلا إذا كنت مقتنعًا واثقًا به، ولا يحصل هذا في غير البديهيات إلا بالاستدلال، وقد يقع التقليد بالدليل كما يقع بأصل المطلب فاحذر هذا. واعلم أيها الطالب المعلم أن ما يسمى بالاجتهاد في جميع أبواب الفقه هو مرتبة عالية من مراتب العلم الاستقلالي بالأحكام الشرعية، سواء أريد به الاجتهاد المطلق أو الاجتهاد في مذهب واحد، وما أنصح لك به من الاستقلال في فهم كل ما تتلقنه، والاقتناع بصحته دون ذلك: وهو أدنى مراتب العلم، وهو ما لا تكون ذا علم صحيح في أي علم من العلوم أو فن من الفنون بدونه، وهو ما لا ترتقي عن دركة الجهل المطلق أو الجهل التقليدي مع فقده، فأنت محتاج إلى الاستقلال في كل علم تطلبه وكل مرتبة من مراتبه، فلا تقلد من قالوا: إن بعض العلوم قد أحاط به العلماء الأولون علمًا، فليس على من بعدهم إلا أن يقلدهم في كل ما دونوه فيه بغير بحث ولا محاولة تمحيص ولا تحقيق. إنما الإحاطة بالعلم من صفات الله الخاصة به، وقد أمر الله رسوله خاتم النبيين بطلب المزيد من العلم بقوله: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 114) فكل ما كتبه البشر، وكل ما يكتبونه ما كان ولن يكون إلا ناقصًا قابلاً للكمال، ولا أستثني من ذلك علوم الحديث في الجرح والتعديل ونقد الرجال، وأجهل الجهل بالشيء ما كان قابلا للاحتمال. 4- آية العلم الصحيح النافع: العلم الصحيح ما كان صفة للنفس، والعلم النافع ما كان باعثًا على العمل الصالح، والعمل الصالح ما صلحت به نفس العامل، وكان قدوة حسنة لكل من عرفها، وآية ذلك كله شعورها بجهلها ونقصها، وبحاجتها إلى الاستزادة من العلم والاستفادة من كل شيء، وإلى المزيد من الأدب وتثقيف العقل وتزكية النفس، ولا أحفظ عن أئمتنا في هذا المعنى أبلغ من بيتين للإمام الشافعي (رضي الله عنه هما أدل على علمه وفضله من مجلد يؤلف في مناقبه، وه

ما بين الإمامين في جزيرة العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ما بين الإمامين في جزيرة العرب من فضل الله على الأمة العربية وعلى العالم الإسلامي أن استقر أمر الحكم في جزيرة العرب وتوطد لإمامين عاقلين تقيين، ومليكين مكينين قويين، قادرين على حفظ الأمن، كل منهما في داخل بلاده، وعلى حفظها من العدوان الخارجي عليها باتحادهما وتحالفهما، ومن ثم كان عقلاء المسلمين كافة، وعقلاء العرب خاصة في أشد الحرص على إيجاد هذا الاتحاد والتحالف بينهما، وهذا ما سعى إليه الكثيرون منهم، وكان كاتب هذا (صاحب المنار) بحمد الله وتوفيقه منهم بل أولهم، وقد عارض هذا السعي الحميد سعي ذميم إلى إفساد ذات البين كان أشد نشاطًا، ولكنه لم ينل منهما منالاً، وإنما كان العائق عن عزم الحلف وإبرام الميثاق اختلافًا بينهما في بعض الصفات النفسية والأخلاق، فالإمام يحيى حميد الدين يغلب عليه خلق المحافظة على القديم، وطول التروي في كل جديد، وإن كان جيدًا مفيدًا، فسياسته سلبية في الغالب، ورث هذا الخلق إرثًا، ومرن عليه بما كان من مكافحته كأسلافه للدولة التركية قتالاً دفاعيًّا، وسياسة سلبية لحفظ استقلالهم، وحكم الإمامة في بلادهم. وأما الملك عبد العزيز آل سعود فهو مجدد إيجابي السياسة والإدارة، كما يعلم من تاريخه منذ كان ضيفًا في الكويت لاجئًا إلى شيخها إلى أن استعاد بعزمه وحزمه إمارة آبائه المسلوبة إلى أن صار صاحب سلطنة واسعة يديرها بالتجديد المدني فقد جدد في الحجاز في بعض سنين ما لم تفعله الدولة التركية، ولا بعضه في أربعة قرون. ولهذا كان هو البادئ بدعوة الإمام يحيى إلى الاتحاد والحلف، وكان هذا يرجئ ويسوف، وكل منهما يعتقد أن الخير له ولبلاده ولأمته ولملته في هذا الاتفاق الحلفي، وهو على هذا عامل بمقتضى خلقه وشعوره، المختلفين بين إقدام وإحجام، وإيجاب وسلب، حتى انتهى هذا إلى تعبئة الجيوش وتوقع إيقاد نار الحرب، والعقلاء من جميع الشعوب والملل مجمعون على أن الاتفاق السلمي خير لكل منهما من كل ما يتصور من الربح في نيل مراده، وأن الحلف الثابت المطمئن خير من السلم المضطرب. كثر تخبط الجرائد العربية في أسباب الاختلاف الذي أثار الخوف من الحرب فحمل ذلك كل فريق على نشر بيان في الحقيقة التي يراها في جريدة العاصمة التي هي لسان حاله، فرأيت أن أنشر كلا منهما ليبنى عليه الحكم العادل، ويحفظ للتاريخ، وأبدأ بما نشره في جريدة (الإيمان) اليمانية، فإني أشم من مقالها عرف المعارف الإمامية، وهذا نصها: من العدد 85 الذي صدر في جمادى سنة 1352. ] وَيُلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [[*] لم يكن من دأبنا وقد علم كل من قرائنا ما لجريدتنا من الخطة والطريقة إظهار الولع في تتبع هذيان المفترين، وهوس الكاذبين ومقابلته بالرد على صفحات هذه الجريدة لأنا نعلم أن الحقائق من شأنها التغلب على الباطل، وسرعان ما انكشف كذب الكاذبين فافتضحوا، وخسروا فيما افتروه فما ظفروا ولا ربحوا، قبل أن نعمل قلمًا في رد، أو نتكلف لبيان تضليلهم برسم أو حد، ولو ذهبنا إلى عد ما جرى من هذا القبيل لطال أمد التعداد، واستنفدنا كمية غير يسيرة من الوقت والمداد. وفي هذه البرهة رأينا بعض الجرائد اندفعت لنقل الأخبار القصيرة عن الوضعية في جزيرة العرب، فقلنا هذه شنشنة أخزمية لها حكم ما قبلها من ذهابها في مدارج الرياح، وانكشاف كذبها مقرونًا بالإيضاح. ولكن ما مرت الأسابيع حتى رأينا أحوال أولئك المخبرين والمفترين قد تطورت إلى فصول طوال استغرقت أعمدة من الجرائد، واشتملت على كثير من المكايد والغش والخداع للعرب خصوصًا، وللإسلام وللمسلمين عمومًا، وكل هذا جاء مبنيًّا على ما تخيلته أدمغة أولئك من وجود توتر في العلائق بين جلالة مولانا الإمام وجلالة الملك عبد العزيز بن سعود، وانتسج هذا الوهم بخيوط أن هنالك وفدًا سعوديًّا عاد من اليمن إلى غير ذلك من التخيلات والاستنتاجات الفاسدة التي يكذبها الواقع بأعظم دافع. فلم نجد بدًّا من الدخول في ميادين الرد بقصد بيان الحقيقة وتنوير الأذهان لأنا رأينا صدى تلك النشريات المفتراة أثرت على نفوس ذوي الغيرة حتى كان منهم الناصح، ومنهم المتوجع، ومنهم المستغرب ظنًّا بأن تلك النشريات مع تكررها وطول الأخذ والرد فيها لها نصيب من الصحة، وأقل من هذا كاف في إلجائنا إلى الخروج من الخطة التي ألفناها واعتادها القراء منا. لقد عجب واستغرب جدًّا كل سكان جزيرة العرب سواء كانوا في اليمن أو في الحجاز أو في نجد ما يشيعه خَدَمَة الدرهم والدينار، وما يشوهون به وجه الحقيقة الذي هو أجلى من شمس النهار، وما يخلقونه من زعم توتر العلاقات بين حضرة مولانا الإمام أيده الله وبين حضرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، وأن في أنحاء الجزيرة ما يعد من مقدمات الحرب، والتأهب من الطرفين لاقتحام مجال الطعن والضرب، وتصوير ما انطوت عليه تلك النفوس الشريرة من أن في البين موقف عدوان، أو موقف دفاع ونسبة الرغبة في تحرج الحالة التي توهموها واختلقوها إلى جلالة مولانا الإمام مد الله في عمره، ونسبة حضرة سمو المولى العلامة سيف الإسلام أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله إلى أنه ذو تشوق لإضرام نار الحرب بين الطرفين، كأنه من أعتام الأعلاج، أو من ذوي الزيغ والاعوجاج. كل هذا محض الافتراء، وقد خاب من افترى، فلا توتر علاقات، ولا احتشاد، ولا تأهب ولا غير ذلك مما هذى به المهوسون خدمة لأعداء الإسلام وترويجًا لبضاعة تخذيلهم، فلم يحدث بين حضرة مولانا الإمام وبين حضرة الملك عبد العزيز بن سعود ما يقدح زند العدوان، ولا ما يثير عجاجة تكهن هؤلاء الكهان، ولم يجر سوى ما استمر من الجميل، وحسن الرعاية من الجانبين، والمراجعات الودية بين الطرفين مستمرة، والأحوال كما هي عليه مستقرة. وأنى يكون من مثل جلالة مولانا الإمام أيده الله سعي فيما يخالف صالح المسلمين وهو -والمنة لله- أولى الناس برعاية الإسلام والمسلمين، وإقامة شريعة سيد المرسلين، وهل يقبل ذو العقل السديد والرأي الرشيد أن يكون من جلالة مولانا الإمام في الحال الحاضر ميل إلى إثارة فتنة تخالف صالح الإسلام والمسلمين، وهو الذي لم يزل دوي الصراخ من أفراد شعبه يتردد في كل آن في مقامه الشريف الإمامي بطلب الإنصاف في شهداء تنومة الذين يربو عددهم على ثلاثة آلاف شهيد قتلوا ظلمًا وهم عُزَّل من السلاح، آمِّينَ بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج وركن الإسلام، وفيهم العلماء والفضلاء والأشراف فلم يكن من جلالته غير إرشادهم إلى الصبر والترويح عليهم بالوعود الجميلة؛ لأن المصلحة العامة اقتضت في رأي جلالته أن لا يكون الإلحاح على حضرة الملك عبد العزيز في إنجاز حكمه في شأنهم بعد أن حكَّمَه مولانا الإمام عقيب الواقعة، وأجاب بكل إنصاف، ومرت على ذلك طوال الأعوام والسنين. وهو الذي رأى بعينه كيف تطورت الأحوال في قطعتي عسير وما إليها والمخلاف السليماني، وكيف كان فصلها عن أمها اليمن، وهي منها جغرافية، وسكانها من أهل اليمن نسبًا، ولم يقابل ذلك بغير المراجعة الودية، والصبر الجميل. وهو الذي سعى السعي الكامل للإصلاح في الفتنة التي نشبت بين السيد حسن الإدريسي وبين حضرة الملك عبد العزيز فلم يقل: فرصة سانحة أو جاءت لما عندي مزاجًا، وهو الذي له المواقف الحميدة، في كل حادث وقع بين متجاورين من قبل أن تَعرف جزيرة العرب ما ولد لها من الوضعيات، وما تَكَيَّف لها من التطورات. أفمن كان هذا ماضيه وحاله يصح في مدارك العقول السلمية أن يكون مُريدًا لتأجيج نار الهيجاء يا ذوي الحِجَى، وهل يصح أن ينسب إليه أنه ممن يبذر البوس لتشتعل نيران حرب البسوس؟ كلا ثم ألف كلا، ولكن هنالك أصابع خفية، وأهواء ردية، ونفوس شريرة، أرادت أن تنتزع من العدم اختلافًا، ومن صلاح الأحوال في الجزيرة العربية اختلالاً، ومن تبادل الوداد بين جلالتي الملكين توترًا في العلائق وانقطاعًا، فكان لتلك النفوس الشريرة ما أرادت من الاختلاق فحسب، وأما الحقائق فهي على نقيض ما قالوا على طول الخط، والهوى يعمي ويصم. وأما ما قالوه عن حضرة صاحب السمو الملكي المولى العلامة سيف الإسلام أحمد بن أمير المؤمنين حفظه الله فذلك عين قول الزور، والإفك المعدود في وخيم الفجور، فهو أعظم من تعقد على فضائل سداده الخناصر، وتستمد من إرشاداته حقائق الصلاح السوافر، وإنما هو بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن العلماء العاملين، الجامعين بين الرجاء فيهم للدنيا والدين، وهو أشد الناس رعاية للصداقة بين جلالة والده مولانا أمير المؤمنين وبين حضرة الملك عبد العزيز، فكم قابل وسائل ذوي الفتنة بالرد، ومنع المتحرشين أعظم منع جاوز الحد، وشهادة الواقع لا تحتاج إلى برهان، وهي بمرأى ومسمع من بني الإنسان. وإنا لنعجب أن كل ما نراه من الصيحة في الفلاة برغم أولئك المفترين لما كان في وادي نجران من سعي في إصلاح جماعات تجاوز إضرارهم أسرهم وإخوانهم إلى مجاوريهم، ولم يكن ضررهم بأقل من سفك الدماء، والتعرض للسبيل، ودوام الغزو والغارات، وعدم الانقياد إلى شريعة الإسلام في شيء، ولم يكن المراد منهم سوى ترك تلك العادات القبيحة التي ليس لها في عادات المسلمين من نصيب، والإقبال إلى شريعة الله من بعيد منهم وقريب، وإذا كانوا يرون أن ذلك هو العدوان فمتى كان نجران، وهو من اليمن وإلى اليمن إلى غيره يُنْسَب، وفي غيره يُذْكَر، وإلى هذه الساعة لم ينصب فيه علم لأحد غير ذويه، ولا دان بطاعة لا لحضرة الملك عبد العزيز ولا سواه، ومع ما ذكرناه فإنه دفعًا لتشويش الأفكار، ومنعًا لتحرش الفجار، كان من مولانا الإمام قبل توجه الأجناد إلى تلك البلاد الكتابة لحضرة الملك عبد العزيز عن ذلك الشأن فرجع جواب حضرة الملك عبد العزيز حاويًا لكل إنصاف واعتراف فما هذا التضليل؟ يريدون أن يجعلوا من الحادث الضئيل، ما يروع من التهويل. وأعظم من هذا اندلاع لسان بعض المفترين بأن الوفد السعودي الذي بارحنا قريبًا قوبل بغير التجلة والاحترام وكرم الوفادة، والإعظام في الاستقبال والإقامة وفي العودة، وهذا محض الإفك الصريح، فألسن الوفد هي الحكم والشاهد في هذا الشأن، لا ما يفتريه ذوو الهذيان. ونعود إلى ما بدأنا به فنقول: لم يكن الحادي لنا إلى طروق هذا الموضوع والنزول إلى ميدانه سوى بيان الحقيقة، فليكف المفترون أقوالهم المزورة، وليستحيوا من جميع العالم فقد تعدد افتضاحهم مرة بعد مرة، وليخلعوا عن جسومهم ثياب النفاق وليطهروا قلوبهم من الخبث والشقاق، وليعضوا أناملهم من الندم على ما كان، فهم إلى التوبة أحوج من سواهم، أخذ الله بنواصينا إلى ما فيه رضاه، ونزهنا من العد فيمن خسر دينه ودنياه، والله الهادي. اهـ بنصه. ويليه بيان وجهة الحكومة العربية السعودية نقلاً عن جريدتها (أم القرى) وهذا نصه: بين الرياض وصنعاء (من عدد أم القرى الذي صدر في أول رجب سنة 1352) انتشر في الآفاق خبر ما سمي خلافًا بين الرياض وصنعاء، ولم تشأ أن تتعرض هذه الجريدة لأمر ذلك الخلاف، رجاء أن يحل الأمر بالتي هي أحسن؛ لما نعلمه من محبة جلالة الملك وسيادة الإمام يحيى للاتحاد والاتفاق، ولا نزال نرجو كما يرجو سائر العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن ينتشر

الملك فيصل العبرة بحياته ووفاته ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الملك فيصل العبرة بحياته ومماته (2) بقية الكلام على الأمير عبد الله: لما عزمت الدولة العثمانية على صَلْيِ نار الحرب مع ألمانية حسبت للحجاز وسائر البلاد العربية حسابًا، وأهم ما يهمها من البلاد العربية الحجاز؛ لأنه عنوان منصب الخلافة الذي كانوا يظنون أنهم يهيجون به العالم الإسلامي على الإنكليز وفرنسة فطلبوا من الشريف حسين أن يرسل ولده الشريف عبد الله إلى الآستانة لأجل التحدث معه في أمر مهم، وكان الشريف عبد الله بمكة المكرمة لتعطيل مجلس المبعوثين وهو مبعوث الحجاز فيه عطلة الصيف، فبادر والده إلى إرساله فجاء مصر ونزل ضيفًا على قصر عابدين كعادته، وكانت المودة قد رسخت بيني وبينه فزرته في عابدين ضحوة يوم الجمعة 17 شعبان سنة 1332 الموافق 10 يوليو (تموز) سنة 1914 وكتبت عقب الزيارة في مذكرتي ما نصه: زرت الشريف عبد الله ضحوة اليوم بقصر عابدين وتكلمنا بالحرية التامة في شئون الحجاز الأخيرة، فذكرت له أمورًا ما كان يظن أنني أعرفها كالتحدث في مجلس الوالي وهيب بك باغتيال والده أمير مكة، وكإرسال والده كتابًا إلى الإدريسي وغير ذلك، وقلت له: إنه بلغني عن والده أنه غير راض عن المنار بتأثير وساوس الدجال النبهاني، فكذَّب ذلك بالتأكيد الشديد، وقال: هذا كلام الذين يحبون التفريق بيننا، وإنه رأى والده يقرأ للناس ما كتبه المنار في مسألة بيع الشفاعة [1] (على أن خبر انحرافه بلغني من أحد أصدقاء والده) [2] وكتبت في اليوم التالي (السبت 18 شعبان) دخل الشريف في الجامعة العربية وحلف اليمين الكبرى كتبتها له بورقة وقرأها على سبيل الإنشاء كما قال اهـ. أقول: في تفسير هذه المذكرة بالإجمال: إنني على اشتغالي الأساسي بالإصلاح الإسلامي العام كنت أسعى مع بعض أحرار العثمانيين من الترك وغيرهم لإصلاح الدولة العثمانية، ولما أعلن فيها الدستور تجدد الرجاء لجميع الشعوب العثمانية بحياتها ونهضتها بالدولة وفي الدولة، فكنت أبث في الشعب العربي العثماني أنه يجب أن يوجه استعداده ليكون عضوًا رئيسيًّا كالترك في الدولة ينهض بها وتنهض به، ثم ذهبت إلى الآستانة للسعي لدى الدولة فيما تحيا به وبحياة الإسلام، وتتحد بالعرب أتم الاتحاد، وبعد معالجة العمل سنة كاملة، اقتنعت بأن هذه الدولة غير مستعدة للبقاء، وأن انحلالها بأيدي رجالها من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي ضربة لازب، وأن العرب إذا لم يؤسسوا بأنفسهم لأنفسهم بناء للاستقلال القومي فلا بد من سقوطهم بسقوطها إن لم يسقطوا قبلها بسعيها. وقد علمت من الآستانة أن زعماء الترك من الاتحاديين وغيرهم معتزمون تتريك جميع العناصر الداخلة في محيط الدولة بالقوة القاهرة، وبدءوا بقتال الألبانيين لمنعهم من استعمال لغتهم، ويُثَنُّون بالكرد ويُثَلِّثُون بالأرمن، وكذلك يفعلون بسورية والعراق من الولايات العربية إلا أن يروا الأربح لهم بيع العراق لإنكلترة وسورية لفرنسة، وفلسطين لليهود، كما قرروا بيع طرابلس الغرب وبرقة لِإيطالية، وذلك بالسماح لكل منهم أن يتملكوا ما شاءوا في هذه الولايات بل الممالك، ويقووا نفوذهم فيها إلى أن تسمح الفرصة باحتلالها العسكري بدون مقاومة مخسرة، وأما البلاد المسلحة الحربية بالطبع، وهي جزيرة العرب فقد قرروا جعل اليمن ونجد إمارتين مستقلتين في إدارتهما الداخلية تحت سيادة دولة الخلافة، إلا الحجاز فيظل تحت حكمهم المباشر، وتلغى إمارة الشرفاء منه، ويجعل في الطائف قوة عسكرية عظيمة كافية للسيطرة على الحجاز وغيره من جزيرة العرب لموقعه الحربي في الوسط، وفيه المباني العسكرية الكافية التي أسسها السلطان عبد الحميد لذلك. وقد جعلوا وهيب بك واليًا للحجاز ليمهد السبيل لذلك؛ لأنه من كبار الضباط الشديدي الشنآن -بغض الاحتقار- للعرب وكان صرح في خطاب له في وزارة الحربية بأنه يمكنه اكتساح سورية بستة توابير تركية والقضاء على كل حركة عربية في البلاد، وقد ذكرت هذا في إحدى مقالاتي التي أنشأتها في الآستانة إذ كتبت فيها تحت عنوان الترك والعرب (تركلر، عربلر) ونشرت باللغتين، وقد كنت علمت بنبأ جاءني من الآستانة أن الدولة سترسل وهيب بك واليًا إلى الحجاز فذكرت ذلك للمندوب العثماني (القومسير) سليمان بك بابان وكان يهتم هنا بتحسين سمعة الدولة وتحسين علاقتها بالعرب، وقلت له: أيصح في هذا الوقت أن ترسل الدولة هذا المتهور إلى الحجاز وتجعله واليًا لها؟ فقال: جانم، لا تصدق، هذه من إشاعات أعداء الدولة! ! فتأمل. جمعية الجامعة العربية وقسمها الأول: وأما جمعية الجامعة العربية التي أسسناها بعد عودتي من الآستانة فكان الغرض الأول منها أمرين: (أحدهما) السعي لاتحاد حلفي بين أمراء جزيرة العرب للاتفاق ومنع الشقاق (والثاني) التعاون على عمران البلاد والدفاع عنها، وللتعاون بين الجمعيات العربية في سورية والعراق وغيرهما …. وهذا نص القسم الأول الذين كان قبل الحرب، إذ كانت الجمعية خاصة بالأمراء والزعماء وكلهم من المسلمين، وهذا: أقسم بالله العظيم القهار، المنتقم الجبار، العالم بسري وعلانيتي، القادر على سلبي كل ما أعطاني من المواهب والقوى، وبكتاب الله المجيد أنني أبذل جهدي وما في وسعي لجمع كلمة العرب والتأليف بين أمرائهم وتأسيس ملك جديد لهم، بحسب القواعد التي وضعتها لذلك جمعية الجامعة العربية التي أنتظم في سلكها اليوم، وأنني أسعى لذلك مع أعضاء هذه الجمعية بمنتهى الصدق والإخلاص، وأنني لا أبخل في سبيل ذلك بمالي ولا بنفسي، ولا يلفتني عنه هواي وحظي الشخصي، ولا حظ أحد من أهلي وولدي، وأنني أحافظ على مقاصد الجمعية وأسرارها بأشد ما أحافظ به على ديني وشرفي وعرضي، فلا أفشي لها سرًّا ولا أعارض لها عملاً، ولا أقول قولاً، ولا أعمل عملاً يخالف مقاصدها أو يحدث فيها خللاً، أو يوقع فيها فشلاً، لعلة من العل، ولا لسبب من الأسباب. وإنني أقوم بكل عمل يكلفني إياه مركزها العام من مقاصد هذه الجامعة أو وسائلها بحسب استطاعتي. على عهد الله وميثاقه لأبرنَّ بقسمي هذا بلا تأويل ولا عذر ولا كفارة، وإن حنثت بشيء مما تضمنه أو غدرت أو أفشيت سرًّا، أو قلت أو فعلت ما يضر هذه الجامعة أو أحدًا من العاملين لها، أو يُخِلّ بشيء من أعمالها أو يخالف شيئًا من مقاصدها، فعلي إثم من حقّر اسم الله، ونبذ كتاب الله، وبرئ من الدين والشرف، ومن ذمة العرب، وأستحق انتقام الله ولعنته ولعنة الملائكة والناس أجمعين، وانتقام الجامعة العربية وكل من يغار على ملته وأمته، وكان من الخائنين والملعونين إلى يوم الدين، والله على ما أقول وكيل وشهيد. اهـ. (أقول) هذا القسم هو الذي حلفه الشريف عبد الله ولا تزال صورته الخطية محفوظة عندي، ثم إننا غيرنا هذا القسم بعد الحرب تغييرًا قليلاً وعندي صورة منه عليها إمضاء بعض من انتظموا فيها معي، ثم عدلته بالتشاور مع الأعضاء وطبعته هكذا: قسم الجامعة العربية أقسم بالله القهار أنني أبذل جهدي وما تصل إليه استطاعتي من السعي لجعل بلاد العرب المؤلفة من الجزيرة وفلسطين وسوريا ولبنان وما بين النهرين (دجلة والفرات) والعراق مملكة عربية مستقلة أتم الاستقلال على قاعدة اللامركزية، وعلى أن تكون حكومتها شورية نيابية ينتخب أعضاء مجالسها من أهل الحل والعقد الذين هم خواص الأمة ومحل ثقتها في الشئون العلمية والعملية بمقتضى القوانين التي يقررونها عند العمل وإنني أقاوم بقدر استطاعتي كل ما ينافي هذا الاستقلال، وهذا الشكل من الحكومة أو يضعفه من تدخل الأجانب ونفوذهم، أو استبداد الحكام، وفساد أنصار الاستبداد من الجماعات أو الأفراد، وإنني أكون وليًّا ونصيرًا للساعين والعاملين لهذا المقصد من رجال الجامعة العربية وغيرهم بمنتهى الصدق والإخلاص، لا يثنيني استقلال بعض هذه البلاد عن ذلك السعي التام لاستقلال سائرها، وإنني لا أفشي لفرد من الأفراد ولا لجماعة من الجماعات العاملة لهذه الغاية سرًّا، ولا أعمل عملاً يخل بهذا الغرض والقصد، أو يضر أحدًا من العاملين له أو يعرقل عملاً من أعمالهم له. فإن حنثت في يميني هذه لأي سبب، وبأي تأويل فأنا بريء من الشرف والإنسانية، مستحق للعنة الأبدية، وأن يسجل عليَّ عار الخيانة وذلها في تاريخ أمتي العربية وفي كل تاريخ، والله خير الشاهدين. بعد هذا سافر الشريف إلى الآستانة وعاد منها إلى مصر فبلغها في 22 رمضان الموافق 13 أغسطس وعاد معه أخوه الشريف فيصل فقابلته في قصر عابدين وحده يوم وصوله نهارًا ثم ليلاً وأخبرني بخلاصة رحلته، وأن الدولة راوغت ومطلت في إلغاء ولاية الحجاز وجعلها إمارة فقط كما بلغت والده، وزعمت أنها أرجأت ذلك إلى ما بعد الحرب الكبرى، وعلم أنها عازمة على الانضمام إلى ألمانية في الحرب إلا الصدر الأعظم (الأمير سعيد حليم) وتكلمنا في مسألة الخطر على الدولة من دخول الحرب وما يجب على الحجاز لوقايته من الخطر إذا هي فعلت، وأخبرني أن جميع قبائل العرب قد خضعت لوالده وعاهدته بعد حادثة وهيب بك الوالي ومحاربة الإدريسي حتى قبيلة حرب العظيمة، ولكنه لم يخاطب أحدًا من الأعراب المحافظين على سكة الحديد الحجازية؛ لأنهم ينتفعون من الدولة ولا شأن لهم. وجملة القول أنه ازداد اقتناعًا بوجوب العمل بمقتضى مقاصد الجامعة العربية وبأن والده أخطأ بمحاربة الإدريسي بإغراء الدولة، وكان هو أخبرني من قبل أن الدولة كلفته ذلك، أخبرني قبل وقوع الحرب منصرفه من الآستانة فحذرته من الوقوع في هذه الورطة فوعدني بأن يبلغ والده ذلك ويجتهد في إقناعه وقد فعل كما أخبرني ولكن والده لم يقبل منه، والسبب الصحيح لقتال الإدريسي أن الشريف حسينًا كان يريد الاستيلاء على عسير وضمها إلى الحجاز ويعلم أنه لا يقدر على الإدريسي بقوة الحجاز التي يقدر على القتال بها، فافترص سخط الدولة عليه لإسقاط إمارته بقوتها النظامية مع القوة الحجازية البدوية، وعذر ولده عبد الله وغيره من أولاده استبداده وشدة عناده معهم كغيرهم، فكان هذا أكبر مساويه المحيطة لمحاسنه رحمه الله. رجع عبد الله وفيصل إلى الحجاز والأول مقتنع بخطة جمعية الجامعة العربية ومنها أن يستعد العرب لاستقلالهم واتقاء سقوطهم بسقوط الدولة العثمانية الذي أمسى في نظرها ضربة لازب واتقاء السعي لإسقاطها بثورة لهم عليها، وكنت أقدر له أمدًا لا ينقص عن ثلاثين سنة، وفيصل مقتنع بوجوب بقاء الارتباط بالترك والتابعية للدولة العثمانية كما أخبرني هو نفسه بعد، وهذا هو السبب لعدم جمع عبد الله بيني وبينه في مصر، كما أننا لم نجتمع في الآستانة. عاد الشريفان إلى والدهما في مكة المكرمة وعبد الله أقرب إلى رأي أبيه من فيصل فقد كانا يكرهان الترك وزادتهما سياسة جمعية الاتحاد والترقي كرهًا لهما بسوء سيرة وهيب بك في مكة، وأما الحضر من أهل الحجاز فكانوا على رأي فيصل كما علمت ذلك باختباري الشخصي في أثناء حجي في عهد الثورة، ولأجل ما كان من الخلاف بين الأخوين في الرأي لم يجمعني الشريف عبد الله بأخيه في مصر، ولم يطلعه على نبأ جمعية الجامعة العربية، عادا في آخر رمضان أو في أيام عيد الفطر، وما جاء عيد النحر إلا وقد أعلن فيه سقوط الدولة في نار الحرب، وما جاء عيد النحر التالي سنة 1323 إل

الملك نادر خان رحمه الله

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الملك نادر خان رحمه الله أجلنا الكلام في سيرة هذا الملك العظيم إلى الجزء التالي؛ لأن ما جُمِعَ لهذا الجزء قبله زاد عن صحائفه. ((يتبع بمقال تالٍ))

مزية هذه الطبعة على الأولى ـ كتاب الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مزية هذه الطبعة على الأولى كان أول ما زدته لهذه الطبعة ما تراه بعد هذه الفاتحة، فصل خاص في تعريف الوحي والنبوة والرسالة، وعصمة الأنبياء عند المسلمين، ووجه الحاجة إلى الرسالة وهداية الوحي جعلته في أوله، وهو مكانه اللائق به، وأردت أن أكتب فصولاً أخرى في بسط المسائل المطوية أو المجملة المختصرة في أثنائه، كأنباء الغيب في القرآن، وبعض ما فيه من سنن الاجتماع والعمران، ومن المسائل العلمية التي كانت مجهولة للبشر أو للعرب في ذلك الزمان، ومن مسائل صحة الأبدان، وأن أجعل كل فصل منها في موضعه اللائق به من الكتاب، وأعززها بفصل آخر في شهادات علماء الإفرنج الأحرار للإسلام، وللنبي عليه الصلاة والسلام. ثم بدا لي أن الزيادات الكثيرة في أثنائه تفسد على الذين يترجمونه عملهم، وقد علمت قبل البدء بهذه الطبعة أن الترجمة الأوردية قد تمت أو كادت، فعزمت على أن أجعل هذه الزيادات علاوات ملحقة بالكتاب. وأما الفصل الأول فقد كنت أرسلته إلى بعض المشتغلين بالترجمة، ولكنني نقحته بعد ذلك وزدت فيه، وإعادة ترجمته وحده أمر سهل، وزيادة هذه الفاتحة قبله أسهل. وبدا لي أيضا في أكثر ما أزيده من إيضاح وتفصيل لبعض المسائل، أو تفسير لبعض الغريب والمبهم أن أجعلها - كالإحالات التي في أثنائه أو التي تتجدد - كلها حواشي له لا في صلبه، ليسهل إلحاقها بترجمتها قبل طبعها، وأن أرسل نسخة من هذه الفاتحة والفصل الأول الذي يليها إلى كل من أذنت له بترجمته قبل إتمام طبع الأصل العربي كله، لكي يتسنى لمن أتموا الترجمة أن يطبعوها بُعَيْد طبع أصلها. وما عسى أن يعرض لي في أثناء هذه الطبعة مما لم أذكره في هذه الفاتحة فسأبينه في مقدمة التصدير، إن شاء الله تعالى.

عصمة الأنبياء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عصمة الأنبياء إذا كان إرسال الأنبياء إلى البشر لأجل هدايتهم إلى تزكية أنفسهم بما تصلح به أحوالهم في دنياهم، ويستعدون به لحياة أعلى من هذه الحياة الدنيا في نشأة أخرى، فلا يتم هذا الغرض ولا تتحقق هذه الحكمة إلا إذا كان هؤلاء الأنبياء أهلا لأن يقتدى بهم في أعمالهم وسيرتهم، والتزام الشرائع والآداب التي يبلغونها عن ربهم، ومن ثم قال علماؤنا بوجوب عصمة الأنبياء من المعاصي والرذائل، وبالغ بعضهم فيها حتى قالوا بعصمتهم من الذنوب الصغائر كالكبائر قبل النبوة وبعدها، وخص بعضهم العصمة من الصغائر بما كان باعثه الخسة والدناءة. وأهل الكتاب لا يقولون بهذه العصمة، وكتبهم المقدسة ترمي بعض كبار الأنبياء بكبائر الفواحش المنافية لحسن الأسوة، بل المجرئة على الشرور والمفاسد، والنصارى منهم يجعلون معاصي الأنبياء دليلاً على عقيدتهم وهي أن المسيح هو المعصوم وحده؛ لأنه رب وإله، ولأنه هو المخلص للناس من العقاب على الخطيئة اللازبة اللازمة لكل ذرية آدم بالوراثة له، وأنه لا شفيع ولا مخلص لهم غيره؛ لأن المخطئ لا يخلص المخطئين وهو منهم، وهذه العقيدة وثنية مخالفة لدين الأنبياء وكتبهم وللعقل، ومطابقة للأديان الوثنية الهندية وغيرها. بيد أن كتب العهدين القديم والجديد المقدسة عندهم المحرفة في اعتقادنا لا تشهد لهم برمي جميع أنبيائها بالذنوب فضلا عن المعاصي التي هي أشد من الذنوب، فإن يوحنا المعمدان (هو يحيى بن زكريا عليهما السلام) لم يوصم بخطيئة قط، بل شهدت له أناجيلهم بما يدل على أنه كان أعظم من المسيح في عصمته، ففي إنجيل لوقا (65: 1 أنه يكون عظيمًا أمام الرب، وخمرًا ومسكرًا لا يشرب، ومن بطن أمه يمتلئ بروح القدس) . وفيه (66 كانت يد الرب معه) وقال المسيح فيه: (متى 11: 11 الحق أقول لكم: إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان) ثم قال فيه: (18 جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فيقولون فيه شيطان 19 وجاء ابن الإنسان يأكل ويشرب فيقولون: هو ذا إنسان أكول وشريب خمر محب للعشارين والخطاة) بل شهدت الأناجيل أن المسيح عليه السلام أهان أمه وإخوته ولم يسمح لهم بلقائه، وقد استأذنوا عليه ليكلموه، وعلل ذلك بأنهم مخالفون لمشيئة أبيه كما تراه في آخر الفصل الثاني عشر من إنجيل متى وآخر الثالث من مرقس بالمعنى. وعبارة لوقا (20: 8 فأخبروه قائلين: أمك وإخوتك واقفون خارجًا يريدون أن يروك 21 فأجاب وقال لهم: أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها) نعم إن اخوته لم يكونوا يؤمنون به كما هو مُصَرَّح به في موضع آخر: ولكن هل كانت أمه كذلك؟ وهل يجازيها هذا الجزاء. والله تعالى يوصي بالإحسان بالوالدين حتى المشركين، ويفضل أم السيد المسيح على نساء العالمين. وإهانة الأم ذنب في جميع الشرائع والآداب، كما أن المبالغة في شرب الخمر ذنب حتى في الشرائع التي لم تحرمها مطلقًا، وجاء في هذه الأناجيل أن الشيطان استولى عليه أربعين يومًا يجربه ويدعوه إلى عبادته، كما تراه في أول الفصل الرابع من إنجيل متى. وكذا في غيره من الأناجيل. ونحن نبرئه من كل ذلك. وشهدت الأناجيل أيضًا بأن يوحنا كان يعمد الناس للتوبة ومغفرة الخطايا وأنه عمد المسيح نفسه، وبأن أباه زكريا وأمه اليصابات: وكانا كلاهما بارين أمام الله سالكين في جميع وصايا الرب وأحكامه بلا لوم لوقا (6: 1) وهذه شهادة بالعصمة التامة. وهنالك أنبياء آخرون شهدت لهم نبوات العهد القديم بالبر ولم ينسب إلى أحد منهم أدنى خطيئة، وآدم عندما ارتكب الخطيئة لم يكن نبيًّا مرسلاً إلى أحد ولا كان معه قوم يسيئون الاقتداء به، وكان قد نسي النهي عن الأكل من الشجرة، وإنما كانت مثلا لاستعداد جنس البشر للمعصية كالطاعة، نسيانًا أو عمدًا، ولكون المعصية تعالج بالتوبة فيغفرها الله تعالى، وقد كان ابناه قابيل وهابيل مثلا لكل من الاستعدادين، وشهد الكتاب عندهم لهابيل بأنه كان بارًّا لم يرتكب خطيئة، وهو لم يكن نبيًّا. جاء القرآن وهو المهيمن على جميع الكتب الإلهية بما لخصناه من الحق في مسألة آدم وشهد لمن قص علينا خبرهم من أنبياء الله ورسله أنهم كانوا من الصالحين الذي يُقْتَدَى بهم في البر والتقوى، كقوله في سورتهم: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} (الأنبياء: 73) وقال فيهم بعد ذكر أشهرهم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (الأنعام: 90) . وأما قوله لخاتمهم ومكمل هدايتهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (الفتح: 1-2) إلخ، وقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد: 19) فالذنب فيه جاء بأصل معناه اللغوي المنقول من ذنب الدابة، وهو كل عمل له عاقبة منافية للمصلحة أو لما هو أولى وأنفع، ويدخل فيه الاجتهاد في الرأي المباح شرعًا كإذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه من المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك وعاتبه الله عليه بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الكَاذِبِينَ} (التوبة:43) [*] وإنما العصمة للأنبياء من معصية الله بمخالفة وحيه إليهم؛ إذ لو عصوه لكان أتباعهم مأمورين من الله بالمعصية؛ لأنه أمرهم باتباعهم، وقال في نبينا صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) العقل والعلم البشري لا يغنيان عن هداية الرسل: (فإن قيل) : إن الإيمان بالغيب ووجود الرب غريزي في الفطرة البشرية كما حققتم، أو إلهام من إلهاماتها يلقى في روع أفرادها عند إدراكهم، وإن بعض الحكماء المفكرين قد ارتقوا في معارفهم العقلية إلى حيث أقاموا البراهين على وجود واجب الوجود وعلمه وحكمته، ووجوب تعظيمه وشكره وعبادته، وقد قرَّر بعضهم بقاء النفس بعد الموت وخلودها في نعيم مقيم أو عذاب أليم، ووضعوا للناس أصول الفضائل والتشريع والآداب التي تصلح بها الإنسانية وروابط الاجتماع. (قلت) : نعم لكل ذلك أصل يثبته التاريخ الماضي، ويشهده العصر الحاضر، ولكن بين هداية الأنبياء وحكمة الحكماء وعلومهم فروقًا في مصدر كل منهما، وفي الثقة بصحته، وفي الإذعان لحقيقته، وفي تأثيره في أنفس جميع طبقات المخاطبين. فحكمة الحكماء وعلومهم آراء بشرية ناقصة وظنون، لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول، وهي عرضة للتخطئة والخلاف، ولا يفهمها إلا فئة مخصوصة من الناس، وما كل من يفهمها يقبلها، ولا كل من يقبلها ويعتقد صحتها يرجحها على هواه وشهواته؛ إذ لا سلطان لها على وجدان العالم بها، فلا يكون لها تأثير الإيمان وإسلام الإذعان والتعبد؛ لأن النوع البشري بأبى طبعه وغريزته أن يدين ويخضع خضوع التعبد لمن هو مثله في بشريته، وإن فاقه في علمه وحكمته وإنما يدين لمن يعتقد أن له سلطانًا غيبيًّا عليه بما يملكه من القدرة على النفع والضر بذاته، دون الأسباب الطبيعية المبذولة لجميع الناس بحسب سنن الكون ونظامه. وأضرب لهذا مثلاً أنه كان للفيلسوف الرئيس ابن سينا خادم متعلم معجب بعلومه وفلسفته، وكان يعجب منه كيف يدين بملة محمد صلى الله عليه وسلم ويتبعه وهو في رأيه أعلم منه وأرقى، وكان يكاشفه بذلك فيعرض عنه أو يوبخه، فاتفق أن كانا في مدينة أصفهان في ليلة شديدة البرد كثيرة الثلج، فأيقظ الرئيس خادمه في وقت السحر وطلب منه ماء ليتوضأ به، فاعتذر بشدة البرد وبقاء الليل، ثم أيقظه الرئيس في وقت أذان الصبح وطلب منه الماء فاعتذر بشدة البرد. حتى إذا قال المؤذن: أشهد أن محمدًا رسول الله - قال الرئيس لخادمه اسمع، ماذا يقول المؤذن؟ قال: إنه يقول: أشهد أن محمدًا رسول الله. قال الرئيس: الآن قد آن لي أن أبين لك ضلالك القديم، إنك خادمي لا عمل لك غير خدمتي وإنك أشد الناس إعجابًا بي وإجلالاً وتعظيمًا لي، حتى إنك على هذا كله تخالف أمري في أهون خدمة أطلبها منك في داخل الدار معتذرًا بشدة البرد - وإن هذا المؤذن الفارسي يخرج من بيته قبل الفجر ويصعد هذه المنارة، وهي أشد مكان في البلد بردًا، حتى إذا لاح له الفجر أشاد في آذانه بذكر محمد العربي بعد مرور أربعة قرون ونيف على بعثته إيمانًا وإذعانًا، وتعبدًا واحتسابًا. فتأمل هذا وتدبره في نفسك يظهر لك الفرق بين سلطان النبوة على الناس وسلطان العلم والفلسفة. فمن أعظم مزايا هداية الوحي الدينية على العلمية الكسبية هو أن جميع طبقات المؤمنين بها يذعنون لها بالوازع النفسي التعبدي، فبذلك تكون عامة ثابتة لا مجال للخلاف والتفرق فيها ما دام الفهم لها صحيحًا، والإيمان بها راسخًا، ولذلك نرى الشعوب التي ساء فهمها للدين، وتزلزل إيمانها به أو زال، لا ينفعها من دونه علوم العلماء، ولا حكمة الحكماء، وقد ارتقت العلوم والحكمة في هذا العصر، وعم انتشارهما بما لم يعرف مثله في عصر آخر، وهم لا يذعنون في أنفسهم لإرادة ملك أو أمير، ولا لرأي عالم نحرير، ولا فيلسوف شهير، ولا مشترع خبير، بل صاروا إلى فوضى في الأخلاق والآداب والاجتماع، واستباحة الأموال والأعراض وكذا الدماء، لم يعهد لها في البشر نظير، صارت بها الأمم والدول عرضة لفتنة في الأرض وفساد كبير. أكثر البشر يؤمنون بوجود الله وعلمه وحكمته، والمثقفون بالتعليم العصري يؤمنون بوحدانيته، ولم يبق للشرك به تعالى بقية إلا في جهلة المتبعين لتقاليد الأديان المنسوبة إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما هي من أديانهم في شيء، بل هي هادمة لأساسها الأعظم، وهو التوحيد المطلق، فكان فشو الشرك بعبادة الأولياء والقديسين وما ترتب عليه واقترن به من الخرافات وفساد الأخلاق من أكبر الشبهات على صحة هذه الأديان والمنفرات عن اتباعها، وصار أكثر البشر إما مؤمنين بالأنبياء دائنين بالخرافات، وإما كافرين بهم منكرين أن الدين وحي من الله تعالى، وتعين إرجاع الفريقين إلى هداية الدين الصحيح وما هو إلا دين الإسلام. إن الدين الذي ينتمي إليه أكثر شعوب الحضارة في هذا العصر هو النصرانية، وإنما سبب بقائه فيهم أن دولهم قد جعلته من نظام حياتهم الاجتماعية، فهو لم يبق له سلطان روحي إلا في قلوب العوام الخرافيين، وقد جاءتنا الأنباء قبل طبع هذا الفصل بأن الشعب الألماني وهو أرقى شعوب الأرض علمًا وفنًّا وحضارة قد ثار على هذا الدين ثورة جديدة يريد بها هدم أساسه من كتب العهد القديم، وتنقيح تعاليم العهد الجديد، وجعل ما يبقون منه وطنيًّا ألمانيًّا خاصًّا بالجنس الآري الهندي الفارسي الأصل، والتبرؤ من كل ما هو سامي عنه، وما أنبياؤهم ورسلهم ومسيحهم ومعبودهم إلا من الساميين، بل يريدون تقديس شهداء الحرب وعظماء أسلافهم الألمانيين، وإن هذه إلا وثنية كوثنية اليابانيين تذكي سعير العداوة بينهم وبين سائر الأوربيين. فلا سبيل إلى إنقاذ البشر في هذا العصر إلا إثبات الوحي المحمدي الموحد لإنسانيته

نموذج من زوائد حواشي الطبعة الثانية لكتاب الوحي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نموذج من زوائد حواشي الطبعة الثانية لكتاب الوحي ذكرنا في الكلام على عجائب المسيح عليه السلام (معجزاته) من العهد الجديد أن المنكرين يتأولونها حتى عجيبة إحياء الموتى الثلاثة وأن دونها عجيبة التينة وزدنا في الطبعة الثانية هاتين الحاشيتين: (1) وقد نقل مثلها عن بعض صوفية المسلمين والهندوس، فإن كذبوا النقول القديمة فمنها ما رواه من شاهده من أهل عصرنا كما ترى في الحاشية التالية لهذه وهي: (2) خلاصة عجيبة التينة أنه جاع وهو خارج من بيت عنيا إلى أورشليم مع تلاميذه فرأى شجرة تين مورقة، فجاءها لعله يجد فيها شيئًا يأكله فلم يجد فيها شيئًا؛ لأنه لم يكن وقت التين (فلعنها قائلاً لها: لا يأكل أحد منك ثمرًا بعد إلى الأبد) ولما رجعوا من أورشليم رأوا التينة قد يبست فقال له بطرس: يا سيدي انظر التينة التي لعنتها قد يبست إلخ مرقس 11: 11 - 14 فأجابهم بما خلاصته أن هذا آية الإيمان وأن كل مؤمن يقول لأي شيء (كن) وهو يؤمن أنه يكون، فإنه يكون ولو كان أمرًا للجبل أن يزول من مكانه. وفي هذه العجيبة نظر من ثلاث جهات (الأولى) أن منكر الآيات يقول: إنه يجوز أن تكون التينة يبست بسبب مادي في أثناء وجود المسيح وتلاميذه في أورشليم. (الثانية) أن الروحيين من فلاسفة الهندوس وغيرهم يقولون: إن كل من كان روحانيًّا قوي الإرادة يكون له مثل هذا التأثير فهو من خواص النفس، وهذا بمعنى قول المسيح لهم في تأثير الإيمان، وهو ينافي أن يكون بتأييد من الله خارق للعادات الكسبية الدالة على أن من جرت على يده على الحق. (الثالثة) أن الناس ينقلون مثل هذا في كل زمان، ومن ذلك ما نقلته جريدة المقطم في عددها الذي صدر بتاريخ 4 من رمضان من عامنا هذا الموافق 21 من ديسمبر سنة 1933 مترجمًا عن كتاب لطبيب اسمه ألكسندر كانن في بلدية لندن له منصب معروف في مستشفى الأمراض النفسية أنه ألف كتابًا في الشهر الماضي اسمه (العالم غير المنظور) تكلم فيه عن التنويم المغناطيسي والسحر الأسود وغيرهما من (علوم الغيب) ذكر فيه رحلته إلى الهند والتبت وما رأى فيها من المناظر المدهشة (ومنها شجرة تين تذبل بأمر رجل وجثة فقدت الحياة مدة سبع سنوات تعاد إليها الحياة) ثم نقل عن هذا الكتاب في تفصيل عجيبتَيْ إماتة التينة وإحياء الإنسان الميت نبأ قاض إنكليزي اسمه مكردي أنذره بأنه سيقتل قبل مرور سبع سنين برصاص بندقة تطلق عليه بأمره وكان الأمر كذلك، وأن المؤلف سمع هذا الخبر من (اللاما) أي كاهن التبت الأكبر، ثم قال المقطم ما نصه بعد العنوان: إماتة الصوفي الهندي للتينة كالمسيح (ويتكلم الطبيب في كتابه عن صديقه (البروفسور....) ويقول عنه: إنه يزور سريره كل ليلة وعمره مائة سنة، ولكن منظره منظر رجل ابن أربعين. وقد صحبه مرة إلى شجرة تين فخاطبها صاحبها من بعد قائلا: لقد أحسنت وقاومت عواصف الحياة وسليت نفسي وشفيتها. وقد آن وقت رحيلك عن عالم الغرور والعدم هذا، فموتي الآن ولا تعودي إلى الحياة مرة أخرى. قال الطبيب: فذبلت التينة حالاً وسمح لي بفحصها أنا وغيري لنتأكد موتها. وقص حكاية الرجل الذي أعيدت حياته إليه فقال: إحياء اللاما كاهن التبت للميت (كان اللاما الكبير على عرشه فدخل عليه جوق من الرهبان يحملون المشاعل فجلسوا في حلقة واسعة وهم يتمتمون أغنية. فصلى اللاما وفي تلك الدقيقة دخل ثمانية يحملون تابوتًا من حجر فأنزلوه ورفعوا غطاءه فرأينا شخصًا منظره منظر ميت. فسمح لي بفحصه فلم أشعر بنبضه ولا بخفقان قلبه وكان باردًا كالحجر وعيناه عينا رجل انقضى عليه يوم كامل وهو ميت ووضعت مرآة على فمه وأنفه فلم يظهر عليها أثر تنفسه. ثم لفظ اللاما كلمات فرأينا الميت يفتح عينيه، ثم جلس في تابوته فساعده راهبان على الوقوف والمشي فدنا من اللاما وانحنى وعاد إلى نعشه وهو لا يزحزح بصره عن (أعظم الحكماء) ثم لم تمض دقائق قليلة حتى عاد ولا حياة فيه. فلم أدر أكان ميتًا حقيقة أم في غيبوبة. فقرأ اللاما أفكاري فقال لي: إن الرجل كان ميتًا مدة سبع سنوات أخرى. وإن عمره مئات من السنين وقد يحيا إلى الأبد إذا صح أن نعد هذا حياة) . (يقول محمد رشيد) : وفي هذا الكتاب عجائب أخرى ذكر بعضها في المقطم وأن المجلس البلدي عزله من وظيفته عقابًا له عليه. وأنا قد سمعت في صغري حكاية مشهورة عند أهل بلدنا عن رجل معتقد اسمه الشيخ محمد العصافيري أنه نظر إلى شجرة تين، وقال: مسكينة مسكينة تموت، فلم تلبث أن عراها الذبول حتى يبست. وجملة القول أن حكايات العجائب كثيرة في كل زمان وسيأتي تحقيق القول فيها. ((يتبع بمقال تالٍ))

نصيحة إسلامية خاصة عامة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نصيحة إسلامية خاصة عامة [*] بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رشيد رضا منشئ منار الإسلام، ومفسر القرآن الحكيم بالبيان الذي يفهمه الخواص والعوام، والمعارف التي يحتاج إليها جميع الناس في هذا الزمان، ويظهر به إعجازه العلمي وتقوم به حجته على العالمين، بإثبات نبوة محمد خاتم النبيين، وعموم بعثته وبقائها إلى يوم الدين. إلى إخوانه مسلمي إندونيسية الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد فقد سألني ولدكم النجيب الأستاذ محمد فريد معروف أن أحمله إليكم نصيحة يبلغكم إياها بلسانه وقلمه، وهو عائد إليكم بعد طلبه للعلم في مصر وقد نال شهادتيْ العالمية والتخصص من الجامع الأزهر، واتخذ لنفسه كناشة يحفظ فيها نصائح كثيرة بخطوط من يعرف من المشهورين بالعلم والرأي، وطالب النصيحة لا يرد طلبه؛ لأن مرشد الخلق الأعظم، محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم، قد قال: (الدين النصيحة) والحديث مشهور، رواه مسلم في صحيحه وله تتمة، وإن بذل النصائح سهل، ولعله يحمل إليكم منها جل ما تحتاجون إليه في أمور الدين والدنيا، ولكن النصائح العامة الإجمالية للشعوب قلما تحملهم على العمل، بل قلما تبين لهم طريقه المُعَبَّد، فالوصية بالتقوى أخصر الوصايا وأجمعها للمعاني في مصالح الأفراد والبيوت (العائلات) والأمة والدولة والاجتماع البشري في الدين والدنيا والمال والسياسة والحرب كما يعلم ذلك من استعمالها في القرآن الحكيم، وإننا نسمعها مجملة في جميع خطب الجمعة ونظل على ما نحن عليه كأننا لم نسمعها. إن أخاكم هذا قد تصدى لنصيحة الناس من سن الصبا واستقام عليها من سن الشباب إلى الشيخوخة، ويرجو أن يلقى ربه عليها، وقد ثبت عنده بالتجارب الكثيرة أن النصيحة المؤثرة المفيدة للمستعد لها، وهي ما كانت إرشادًا إلى عمل معين مستطاع، في مصلحة عامة أو خاصة مسلمة لا ريب فيها ولا نزاع، وإنني أذكر لكم من هذا النوع قليلاً يهديكم إلى كثير بعد مقدمة وجيزة فأقول: إنكم تعلمون أن الإسلام الذي مَنَّ الله تعالى علينا به ببعثة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم دين هداية روحية عقلية، ورابطة إنسانية عامة، وحضارة جامعة بين سيادة الدنيا وسعادة الآخرة، وأن سلفنا قد نالوا بها ما كانوا به سادة العالم وأساتذة الأمم، ثم فقدنا جل الميراث الذي تركوه لنا من علم وعمل، وهدى وثروة وملك، بإعراضنا عن النور الذي استضاءوا به، والروح الذي أحياهم الله به، وهو الذي بينه لنا بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} (النساء: 174-175) وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} (الأعراف: 157) . وتعلمون الآن أننا قد ظللنا عدة قرون لا نشعر بما أصابنا، وقد بدأنا نستيقظ فنرى أناسًا يدعوننا إلى ترك الإسلام، دين الله الحق الموافق للعقل والفطرة، إلى دينهم الباطل ببداهة العقل، وآخرين يدعوننا باسم ديننا إلى اتباع نبي غير نبينا، ووحي غير قرآننا، ونرى العاملين منا في خلاف وشقاق، لا عاقبة له إلا الخيبة والخذلان (والعياذ بالله) . فأنا أوصيكم الآن بوضع أساس متين ثابت للإصلاح الإسلامي العام، والتجديد الذي تكونون بالبناء عليه ركنًا من أركان الحياة الإسلامية الصحيحة التي يرجى أن تهتدي بها شعوب الحضارة العصرية كلها كما بينت ذلك بالبراهين الساطعة في الكتاب الجديد الذي أصدرته في يوم ذِكْرَى المولد النبوي الشريف من شهرنا هذا في عامنا هذا باسم: الوحي المحمدي ثبوت النبوة بالقرآن ودعوة شعوب الحضارة إلى الإسلام دين الأخوة الإنسانية والسلام وإني أهدي جمعياتكم الإسلامية وصحفكم نسخًا منه لنرى رأيها في المساعدة على تتميم نشره باللغات المختلفة، أسوة بسائر الجماعات والمؤتمرات الإسلامية. وأما الأساس الذي أقترحه عليكم للإصلاح الإسلامي فإني أذكره هنا بالإيجاز مستعدًّا لبيانه التفصيلي بعد قبوله والشروع فيه وهو: اقتراح صاحب المنار على الجمعيات الإسلامية في إندونيسية وغيرها تأليف جماعة من رؤساء الجمعيات الإسلامية على اختلاف أنواعها والعاملين من أعضائها، ومن علماء الدين العارفين بحال الزمان وأهله ومعارفه في الجملة وغيرهم من الزعماء وعقلاء الأغنياء. باسم جماعة الوحدة الإسلامية عنوانها أركان النجاح لكل مشروع عام: الإخلاص والتقوى والثبات والنظام تنظر هذه الجماعة في جميع المصالح الإسلامية العامة في الأمة وتقرر ما يجب عليها عمله فيها، وتسعى لتنفيذه من طرقه المشروعة، وأول ما يجب عليها البدء به ما يأتي: (الأول) تكوين رأس مال ثابت لهذه المصالح، لا يقوم عمل ويثبت إلا بالمال، وأوسع أبواب هذا المال عند المسلمين الصدقات من زكاة محدودة مفروضة، وصدقات مندوبة، ويجب وضع نظام دقيق لجمعها في هذا الزمان يبنى على قواعد الشرع وأحكامه في النصاب والحول والمقدار والمستحقين للزكاة، والتشاور في سهام الغارمين والمؤلفة قلوبهم وفي سبيل الله وابن السبيل، ويراجع الواضعون لهذا النظام ما كتبناه في تفسير آية الصدقات من الجزء العاشر من تفسير المنار، ويجب أن يكون النظام مبينًا لما تطمئن به قلوب الناس وتثق أتم الثقة بأن الأموال تحفظ وتصرف في مصارفها الشرعية. (الثاني) النظر في توحيد التربية الإسلامية والتعليم الديني والمدني في البلاد من نواحيه كلها - النظام والعلوم والمناهج والكتب والمعلمين. (الثالث) النظر فيما ينشر بين المسلمين من دعوتهم إلى الإلحاد والإباحة، أو تبديل دينهم أو الابتداع فيه، وشره ما يعد كفرًا وارتدادًا عنه بإجماع سلف الأمة وأئمتها وفقهائها كالإيمان بنبي بعد محمد رسول الله وخاتم النبيين، ووحي بعد الوحي الذي أنزل عليه، ويليه كل بدعة مخالفة لإجماع المسلمين وما كانوا عليه في الصدر الأول من أمر الدين لا من أمور الدنيا، فهذه محل اجتهاد يرجع إلى المصلحة والمنفعة وضدهما، والسعي لتنفيذ ما تقرره في ذلك. (الرابع) النظر في وسائل تعميم لغة القرآن (1) لإحياء هدايته التي لا تغني عنها، بل لا تغني غناءها جميع كتب الدين والأدب والحكمة و (2) لأجل التمكن من نشر دعوته والدفاع عنه و (3) لإعادة الوحدة الإسلامية التي يعتصم بها أربعمائة مليون مسلم الآن، وهي قوة يمكن بها توحيد الشرق كله من وجوه كثيرة، وهذه اللغة مفروضة على المسلمين دينًا لما بيناه بالأدلة في المنار وفي تفسيره، وقد جمع بعضه في رسالة خاصة. وأول من صرَّح من أئمة الأمصار بوجوبها هو الإمام الشافعي رضي الله عنه في رسالته المشهورة ولم يخالفه فيها أحد. وقد ألممنا بالمسألة في كتاب الوحي المحمدي، فراجعوا هذا وذاك. (الخامس) أن تتولى هذه الجماعة أمر التواصل والتعاون مع الجماعات الإسلامية الموافقة لها في شيء من أعمالها، والمؤتمرات الإسلامية التي تعقد آنًا بعد آن في الأقطار الإسلامية، ولا سيما مؤتمر القدس الشريف. (السادس) أن تعنى بإصلاح ذات البين في كل ما يقع من الشقاق بين الجماعات الإسلامية أو الزعماء في البلاد مع موادة الجميع. (السابع) أن تعنى بمسألة الدعاية والنشر لما تقرره وتسعى إليه، وإن كاتب هذه النصيحة وإخوانه دعاة التجديد والإصلاح مستعدون لمساعدة هذه الجماعة في كل ما تطلبه منهم {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (وَالعصر: 3) {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... من أخيكم ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا

انقلاب التركستان الشرقي

الكاتب: ثابت بن عبد الله الباقي

_ انقلاب التركستان الشرقي (رسالة للمنار بقلم أحد أركان الثورة المجاهد ابن صديقنا الأستاذ العالم العامل الشيخ ثابت عبد الباقي أيده الله، وأرسل معها كتابًا خاصًّا لنا تأكيدًا لكتاب قبله اقترح علينا فيه وضع قانون أساسي إسلامي لحكومتهم الجديدة وسنفعل إن شاء الله تعالى) . بسم الله الرحمن الرحيم نحمده ونصلي على حبيبه المصطفى، إن الله يحق الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون إلى الأستاذ العالم الجليل والفاضل النبيل رئيس العلماء الشيخ السيد محمد رشيد رضا أمد الله بحياته لنا ولجميع المسلمين آمين. أهدي من جواهر التحيات وزواهر التسليمات، ثم أخبر إلى عتبتكم العلية أن وطننا المحترم قد كان أسيرًا مقيدًا بقيود الذل وأغلال الهوان منذ ثمان وخمسين سنة في سجن ظلمة الكفار الأشرار، وكانت ظلمة الكافرين متصرفين في أهالي التركستان الشرقي كتصرف المولى في مواليه، بل كانوا عندهم أذل من كل ذليل، وأهون من كل مهين، كانوا مبذرين بذور صنوف المظالم، وفنون المفاسد على أهالي التركستان الشرقي حتى لم يبق في أيديهم لأجل ظلم الكفار شيء يملكونه بأنفسهم، كأنه كان كل أهالي التركستان الشرقي عبيدًا لهم، وأموالهم أموالا لهم يتصرفون فيها كيف يشاءون، يغصبون أموالهم تارة، ويأخذون البأج [1] والخراج فوق طاقتهم أخرى، ويضربون أعيان أهاليه فضلا عن الأصاغر إن تأخر مرامهم تأخرًا قليلا، ويشجون رءوسهم بالضرب، ويشهرون الفقراء في الأسواق في القرى والأمصار لأجل التأخير القليل فكيف إذا كان التأخير مديدًا، وحينئذ يأخذ أحدهم الفقراء مغلولين ويحبسهم في السجن. وزادت هذه المظالم في المدة المذكورة خصوصًا في زمن (جينك جانكجونك الذي كان هو والي بلدة (أورومشي) وطغى طغيانًا عظيمًا حتى ظلم أهالي الوطن بما لا يطيقونه أصلاً، فخرج من بين أهالي التركستان الشرقي بعد ما ذاقوا من رءوس البلايا ولم يطيقوا إلى سمومها [2] رئيس الانقلاب البطل المقدام الحاج الغازي محمد نياز من بلدة قمل سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وألف، وجاهد الكفار في سبيل الله بخلوص النية وبذل في سبيله الروح والمال والأقارب، لأجل إنقاذ الوطن العزيز من أيدي الظالمين، وتخليص المسلمين المأمورين، وترويج الملة الإسلامية، وإعلاء كلمة الله العليا حتى أنقذ أهالي بلدة قمل من يد الكفار في مدة سنتين ونصف سنة، وقتل بنصرة الله ألوفًا من ظلمة الكفار وليس له في هذه المدة معين إلا الله، وليس من طرق الفرقة التونكانية [3] أحد فضلا أن يكونوا معينين. فلما فرغ الرئيس الغازي من مقاتلة الكفار الذين كانوا أعداء له ولجميع المسلمين في بلدة قمل وفتحها بنصر الله جاء الخبر من طرف بلدة طرفان في خامس عشر من رمضان سنة إحدى وخمسين وثلثمائة وألف أننا قد أهلكنا كفار طرفان وأخذناها بأيدينا سالمة غانمة فتبارك بعضهم بعضًا، وإلى هذه المدة كانت الفرقة التونكانية نائمين في دورهم، غير خارجين من قصورهم. فلما شاع خبر غلبة الغازي المذكور على الكفار الكثيرة والحال أن ليس في يد عساكره إلا المناجل والمعاول، وسيوف قليلة، وبنادق غير معتبرة خرج منهم البعض ليرى هل الخبر صحيح أو لا؟ فبعد ما عاين حقيقة الحال رجع إلى كبيره وأخبر الخبر فأرسل فريقًا من عساكره فجاءوا وانضموا إلى عساكر الرئيس الغازي المذكور قائلين بأننا نعينكم في فتح البلاد وقتل الكفار، فأجاب الرئيس بقوله: (خير) وكان عددهم ستة وثلاثين. وبعد ما خرجوا اجتمع عساكر الغازي المذكور مع أهالي طرفان وساروا إلى بلدة قراشهر وفتحوها بنصر الله العظيم في السابع والعشرين من رمضان من السنة المذكورة وأخذوا الغنائم. ثم فتحوا بلدة كورلة في اليوم الأول من شوال، ودخلت بلدة بوكور أيضًا تحت تصرف الغازي المذكور وكانت قد فتحت بسعي رجل عظيم من أهلها، وكان هذا الرجل المتدين بعد فتحه البلدة قد جمع جميع الغنائم في مكان وانتظر إلى رئيس يجيء من طرف قراشهر، وكان أمير أهالي قراشهر في تلك الأيام رجلاً من التونكان كان أمَّره الغازي رجاء منه شفقة على أهلها، وبعد أيام جاء الأمير المنتظر من التونكان ورأى الغنائم قد جمعت فأرسلها كلها إلى بيته في قراشهر لشدة حرصه وعدم خوفه من الله ولم يفوض شيئًا منها إلى الغازي المذكور ثم قتل الفاتح المذكور خوفًا من إخباره (أي إيصاله) خبر الغنائم إلى الغازي المذكور، قتله بغير إثم وخان الله ورسوله والمؤمنين. فلما سمع خبر الفتوحات أخذ يتحرك كل الناس المظلومين في كل البلاد والقرى لمقاتلة الكفار وإنقاذ أنفسهم من يد الظلمة، ولكن انتظروا إلى مجيء رئيس يرئسونه ويقاتلون وراءه الكفار. وإلى هذه الأيام كانت الفرقة المذكورة المعدودة من التونكان قد تفرقت إلى جهات شتى مثل بلاد قراشهر وطرفان وكورلة وغيرها وامتنعوا من الوقوف بين يدي الغازي المذكور والخروج بإذنه فخرج بعضهم إلى طرف كشار، والحال أنه لا يرضي الغازي المذكور خروجهم هذا، والغازي وإن لم يرض في الحقيقة لكنه لم يتكلم لهم لأجل أنهم يقاتلون الكفار كيفما كان ويعدمون أعداءه ولم يشعر بما في أنفسهم من الفسق والفساد والبغي على أهل كل بلدة دخلوها. واجتمع من أهالي بلدة كشار إلى التونكانات الجائية رجال كثيرة وفتوحها في الرابع والعشرين من شوال في سنة 1351 واتخذت العساكر التونكانية جميع الغنائم لأنفسهم، وفعلوا ما فعلوا من الفسق والخيانة فيها، وكان سير الغازي المذكور بعد فتح بلدة طرفان عساكر كثيرة إلى بلدة أورومشي وحاصرها محاصرة شديدة، وفي أثناء المحاصرة فروا إلى أورومشي مع آلاف من جنده إلى طرف كوجونك وجلس في مقامه واحد من أمرائه العسكرية، وأعلن الصلح فلم يجب الغازي له، بل شدد المحاصرة. ثم سير بعض عساكره إلى فتح بلاد موري جيطي كوجونك وكانت هذه البلاد الثلاثة تحت تصرف الكفار، وكان أخرج أيضًا رئيس التونكان من عساكره إلى فتح تلك البلاد فاجتمع الفريقان وجاهدوا الكفار أشد مجاهدة حتى فتحوها معًا بعد خوضهم بحار الحرب، فلما جمعت الغنائم أخذت الفرقة التونكانية مجموع ما غنموها من الكفار من الآلات الحربية والبنادق وغيرها من الخزائن وارتحلوا بها في ليلة إلى رئيسهم، ولم يعطوا عساكر الغازي شيئًا من البنادق والغنائم، وخانوا لله ولرسوله وللمؤمنين ولم يقسموه بحكم الكتاب والسنة، فبعد ما فعلوا ما هو خارج من الشريعة قالوا لعساكر الغازي: نحن لا نخرج إلى غزاة أورومشي فالآن لا بد عليكم أن تحاربوا أنتم فقط كفار أورومشي وتفتحوها بأنفسكم بالآلات التي في أيديكم، قالوا هذا الكلام من غير استحياء. هلموا يا إخواني المسلمين، هل هذا شعار الإسلام؟ أهو حكم الشريعة الغراء؟ أم هو طريق الإنسانية؟ أم هو الإنسانية؟ كلا ثم كلا! فلما رأى الغازي ما جرى من خياناتهم في تلك البلاد الثلاثة وسمع ما فعلوه من المظالم والبغي والفساد في البلاد التي فتحوها تيقن أنه لا يمكن الاتفاق معهم وأن الرئيس الغازي وإن صبر على ما فعلوه لكن لا يمكنه اجتماع الكلم؛ لأنهم منافقون خائنون سلكوا طريق الهوى ونبذوا كتاب الله وراءهم ظهريًّا. وإلا فكيف يُجَوِّزُ مسلمٌ موحدٌ معاداةَ المسلمين ومداراة الكفار لا يجوزه قط أصلاً. وأيضًا الفرقة التونكانية كلما دخلوا بحر الحرب انضموا على الفور إلى الخطا، واتخذوهم أبًّا وأمًّا ورموا نحو المسلمين وجرعوا كؤوس المنايا إلى العساكر الإسلامية كما جرعوا في بلدة ياركند من قبل، ويصبون الآن في بلدة كاشغر على أهاليها من صنوف البلايا والمحن ما لم تره العيون ولم تسمعه الآذان، بأنهم يغصبون أموال المسلمين ويقتلونهم ويحرقون بيوتهم ويخربون ديارهم. هذه المفاسد التي ذكرتها هي واحد من ألف من المظالم التي جرت بيد التونكانات من قبل، وفي الجريان الآن {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} (يوسف: 21) وهو على ما نقول وكيل، والسلام. 15 رجب 1352 ... ... ... ... ... ... رئيس المحكمة الاستقلالية ... ... ... ... ... ... ... ... الشيخ ثابت بن عبد الباقي

خسارة الأفغان والإسلام بفقد الملك الهمام محمد نادر خان

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خسارة الأفغان والإسلام بفقد الملك الهمام محمد نادر خان الشعب الأفغاني من أعظم الشعوب الإسلامية استعدادًا لتجديد مجد الإسلام وحضارته في الشرق لما هو ممتاز به من الشجاعة والبسالة والتدين وغريزة الاستقلال ومقت التدخل الأجنبي، وخلو بلاده من الدخلاء الخونة صنائع الإفرنج في الشرق، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون بما ينفثونه فيها من سموم الإلحاد والفسق باسم الحضارة والمدنية، ولكن دب إليهم دبيب هذه السموم من عاصمة الدولة العثمانية أو مدارسها، ومن تقليد بعض شبان الأفغانيين لرجالها، وافتتانهم بالتفرنج الذي أفضى إلى استواء أمان الله خان على عرش ملكها، ووجد من البطانة والوزراء والأعوان ما جرأه على محاولة إفساد أعظم قوة وأشرف غريزة في هذا الشعب العزيز الكريم، ألا وهي قوة التعصب في دينه المبين، هذه القوة التي هو أحوج إليها في عهد الحضارة العصرية التي تمهدت الأسباب لدخولها بجميع مفاسدها فيه، من كفر تعطيل بلشفي من جهة، وإلحاد إباحة من جهة، وما في كل منهما من تهتك النساء، واستباحة الأعراض، والانغماس في الشهوات، والتفاني في حب الزينة والبذخ، والسرف في الترف، وغير ذلك مما يفضي إلى تدخل النفوذ الأجنبي من مالي فسياسي فعسكري، كما وقع في جميع ممالك الشرق الأدنى والأوسط والأقصى، إلا اليابان التي انفردت دون غيرها باتباع الحكمة فيما اقتبسته من أوربة من العلوم والفنون الخاصة بالثروة وينابيعها، والقوة الحربية وآلاتها، مع المحافظة التامة على دينها وآدابها وتشريعها. كان من قدر الله أن أسرف أمان الله خان في التفرنج ومفاسده إسرافًا لا يطيقه مزاج هذا الشعب الديني والقومي، فثار عليه ثورة أخرجته من البلاد مهزومًا مذءومًا مذمومًا مدحورًا، أمام زعيم للثورة من أحقر أهل البلاد وأرذلهم وأسفلهم، ثم كان من لطفه تعالى به أن قيَّض له أفضل رجال بيت الإمارة والملك (محمد نادر خان) فقضى على الثورة ونكَّل بالثائر الحقير الشرير، وطهَّر البلاد، وأمَّن العباد، ونهض بها نهضة الآساد، فأجمع الشعب على مبايعته بالملك فسار بسياسته سيرة عمرية في العدل والفضل والمجد والقوة، والقيام بشئون الدين والدولة، وفي مقدمتها تنظيم القوة العسكرية، ونشر العلوم والمعارف الدينية والمدنية، وتفجير ينابيع الثورة والنهوض بأعمال العمران العامة من تعبيد الطرق وبناء الجسور والمدارس وغير ذلك. لقد قويت آمال عقلاء المسلمين في دولة الأفغان وشعبها وبلادها في عهد الملك نادر خان تغمده الله تعالى برحمته ولا سيما مسلمي الهند وإن كان بعض الملاحدة من كتابها لا يزالون كغيرهم يحنون إلى أمان الله خان وتفرنجه ويفضلونه بزعم أنه كان عدوًّا للإنكليز، وأن نادر خان كان مسالمًا لهم، وهذا الزعم يدل على جهلهم بالسياسة وأنهم لا يزالون فيها كالأطفال أو العوام، فالدولة الأفغانية في طور تأسيس وتكوين فالسياسة المثلى فيها مسالمة جميع الدول، ولا سيما جارتيها القويتين الإنكليز في الهند وروسية. علق قلبي حب الشعب الأفغاني منذ أشرق عليه نور الحكمة والإصلاح من تلك الشمس العلوية المحمدية التي بزغت من بلاده بظهور السيد جمال الدين فيها، ثم علق قلبي حب الملك محمد نادر خان بما وفقه الله تعالى له من تطهير تلك البلاد من فساد أمان الله خان، وغذاه وزيره المفوض بمصر محمد صادق المجددي الذي هو خير مثل له في الجمع بين الدين والعلم والعمل الصالح للدين والدنيا، وإن ما حدث أخيرًا في تركستان الشرقية من تأسيس دولة إسلامية فيها قد أنبت في أرض ذلك الحب الخصبة أملاً قويًّا باتحادها بدولة الأفغان، وقرب تجديد مجد الإسلام في الشرق الأوسط والأقصى وبلغ من قوة أملي بسياسة هذا الملك أن كاشفت وزيره الصادق المفوض هنا بعزمي على كتابة تقرير في إصلاح دولته هنا ليرفعه إلى جلالته وضعت النقط الأساسية له، ولم نلبث أن فجأنا البرق بما فجعنا من نبأ اغتياله ونشرناه في الجزء السادس على أن نعود إلى الكلام في هذه الفجيعة والمسألة الأفغانية. وقد رأيت أن أنشر هنا مقالة لعالم هندي كبير وأستاذ شهير نشرت في جريدة التيمس الإنكليزية، وترجمت بالعربية لجريدة السياسة المصرية وهذه ترجمتها: تراث نادر شاه عن التيمس للسير سيد مسعود نائب عميد جامعة عليكرة الإسلامية بالهند إن المأساة التي وقعت في كابل يوم 8 نوفمبر الماضي (ت 2 سنة 1933) قد لفت البلاد برمتها في ثياب الحداد؛ لأن البلاد لم تفقد بقتل الملك نادر شاه ملكًا صالحًا فحسب، بل فقدت أيضًا أكثر زعمائها استحقاقًا لثقتها، ولقد كانت لي مقابلة مع الملك الراحل في كابل قبيل وفاته ببضعة أيام، فاعتبرته -إذ ذاك- أعظم الحكام المسلمين في العالم الإسلامي اليوم. ولقد تداول على أفغانستان ملوك كثيرون كان بعضهم مرهوبًا، وكان بعضهم مرغوبًا ومحترمًا، ولكنني أرتاب في أن يكون أحدهم اجتمع له حب الكافة واحترامهم كما اجتمعا للملك نادر شاه؛ إذ إنه ظهر على المرسح في وقت كانت تئن فيه البلاد تحت طغيان المغتصب باجي سقا، وكان يتهددها خطر تفكك الوحدة السياسية التي يتوقف عليها وجودها كمملكة مستقلة، فاستطاع أن يضع حدًّا لمنافسات القبائل فيما بينها، وسارع إلى جمع جيش غير منظم ولا تام الأهبة أنزل به المغتصب عن العرش، وهيأ ذمته أن تستعيد كرامتها التي فقدتها لما رأت عرش أفغانستان يجلس عليه جاهل متعصب من أصل وضيع. ولعل المشاق التي احتملها الملك نادر شاه خلال حملته على باجي سقا في وقت كان فيه هو نفسه ضعيفًا واهن القوى، هذه المشاهد قد ملكت ألباب مواطنيه المقاتلين، كذلك رفضه قبول العرش الذي عرض عليه ثلاث مرات جعل القوم يتبينون أنهم اهتدوا أخيرًا إلى رجل كانت رغبته الوحيدة أن يكون نافعًا لبلاده القلقة. وكان الملك نادر شاه خلال الحملة كلما رجاه شيوخ القبائل أو أتباعه الآخرون في أن يعرب عن نفسه صراحة يجيب إجابة لا تتغير، وهو أن واجبهم الضروري أمام الأمة أن يطردوا الغاصب ثم ينظروا في أن يولوا عليهم ملكًا من تختاره الجمعية الوطنية بالإجماع. على أن الهزائم التي أوقعها به جيش باجي سقا ما جعلته يومًا يفقد أمله؛ لأنه كان رجلاً مؤمنًا بالله يعلم أنه يقاتل في سبيل قضية هي حق فهو لهذا سيفوز في النهاية. وفي أثناء السنوات الأربع التي تولى فيها الملك في كابل وفق إلى إعادة السلام والوحدة في إرجاء البلاد. وأذكر أنني حضرت حفلة كبيرة وقف يخطب فيها أحد الزعماء فصرح بأن أفغانستان قد أصبحت الآن بفضل ملكها الكبير القلب بلادًا متحدة فلم يعد فيها خلاف بين الشيوخ والشبان، والذي يدل على مبلغ نجاح نادر شاه في نشر الأمن في ربوع البلاد أن موته لم يحدث اضطرابًا في البلاد خلافًا لما هو معروف من قبل، بل أجمع الكل على اختيار ولده وهو شاب في التاسعة عشرة [1] من عمره خلفًا له فبايعته كل القبائل ذات الخطر. وتعود بي الذاكرة وأنا أكتب هذا إلى صلاة الجمعة التي أديتها مع الملك نادر شاه يوم 27 أكتوبر الماضي في المسجد الجامع بكابل، وإن أنس لا أنسى نظرة الإخلاص والإعجاب في عيون الجمهور وهم يشاهدون ملكهم يسير متمهلاً في صحن المسجد؛ لأنني بصفتي شرقيًّا عرفت هذه النظرة الخاشعة من الإخلاص وشعرت ألا شيء يمكن أن يكون أصدق منها، ولا تزال ترن في أذني صيحات الهتاف بحياة الملك التي ملأت الجو عقب صلاة الجمعة، فلما التفت الملك ليودعني كانت الدموع تترقرق في عينيه. وكان هذا آخر العهد بيننا، فإنه مع الأسف قد عجلت به طلقات ذلك الشاب المفتون الذي لم يلحقه منه أذى. وكان الملك قبل وفاته مشغولاً بأمرين يحصر فيهما اهتمامه وهما: (1) كيف ينظم ديوان التعليم و (2) كيف ينمي الموارد المعدنية لمملكته - فيما يتعلق بمسألة التعليم أعطى للأمة القصر العظيم الذي شيده الملك أمان الله خان في دار الأمان ليكون جامعة حديثة، وقرر الملك نادر شاه أن يبدأ في جامعة كابل بافتتاح الكليات التي تدرس المواضيع العلمية مثل الطب والهندسة والزراعة، وقد نظمت فعلا كلية الطب، وكان رحمه الله لا يميل إلى تشجيع العلوم النظرية مثل الفلسفة؛ لأنه رأى ظروف البلاد تجعل من مثل هذه العلوم ترفًا، كذلك كان في نيته أن يستغل شلالات الماء المهمة في أفغانستان لتوليد الكهرباء التي تستخدم في المصالح الصناعية. وكان الملك ينوي في سبيل ترقية الموارد المعدنية في مملكته أن يأمر بعمل مساحة جيولوجية للبلاد، ثم ينظم شركات تعمل تحت إشراف خبراء يستخدمهم وكان كذلك يفكر في إنشاء طرق معبدة تم منها في حياته فعلا الطريق المؤدي إلى الحدود الروسية، وحينما قتل الملك في كابول كان رئيس وزارته ووزير خارجيته بعيدين عن العاصمة يتعهدان هذا الطريق قبل افتتاحه للمرور وينتظر أن يكون معدًّا في السنة القادمة الطريق الآخر الموصل من كابول إلى بشاوار ومتى تم تنقص المسافة بين المدينتين ثلاثين ميلاً. ومن حسن حظ أفغانستان أن الرجال القابضين على إدارتها الآن وهي في مفترق الطرق هم رجال ذوو مقدرة مخلصون في مقاصدهم يثق فيهم الشعب لحبهم لبلادهم، فالسردار محمد هاشم خان رئيس الوزرة وهو أخو الملك الراحل خبير بالعلاقات مع الدول الأجنبية، وله كل المؤهلات اللازمة لرجل يشغل مثل مركزه الممتاز، وهو بعد ذو شخصية جذابة بارع في اكتساب مودة زائره - كما أن السردار فايز محمد خان وزير الخارجية رجل مطلع على الشؤون الأوربية، عليم باللغات، جم النشاط، وعلمه بشؤون الدول الغربية يسير أبدًا مع الوقت، ومحدثه يستفيد دائمًا من حديثه. وأما شاه محمد خان وهو أخو الملك الراحل ووزير الحربية في الوزارة الحاضرة فإن في فطرته تواضع الأكفاء من رجال الجندية، كما أنه كريم مصقول فيه صراحة. وقد أتاح لي الحظ أن أجتمع بوزير آخر هو نواز الله خان وزير الأشغال العامة وهو رجل ذو نشاط لا يخمد، لعب دورًا هامًّا في حملة نادر شاه على باجي سقا وهذا الوزير ولد في بلاد الهند، وتربى في بلاد البنجاب وهو الإخلاص مجسمًا وقلبه يخفق بحب بلاد أفغانستان التي نشأ فيها آباؤه الأولون. كل هؤلاء الوزراء أعرفهم تمامًا وأشعر لهم ولمثلهم العليا بأسمى الاحترام وهم يعملون باتفاق تام لعلمهم أن السكينة والأمن هما أهم ما تحتاج إليه بلادهم، أما فيما يتعلق بالبلاد الأخرى فلن يكون تغيير في السياسة التي وضعها الملك الراحل. فحكومة الأفغان تود أن تعيش في صفاء ومودة مع كل جيرانها، وكل من يقول بضد هذا لا يقول صدقًا؛ لأن القابضين على السلطة يعلمون أن أهم واجب أمامهم في الوقت الحاضر أن يُرَقُّوا المصادر الصناعية للبلاد، كما أنهم يعلمون أن هذا الواجب إنما يمكن القيام به إذا شمل الهدوء والسلام أنحاء البلاد. فالعمل الذي بدأ به الملك الراحل من إنشاء مستشفى تام المعدات لمعالجة المسلولين بالمجان كان إيذانًا ببداية عصر يعنى فيه حكام أفغانستان بتحسين الحالة الصحية للأمة. ومن المؤسفات أن الملك نادر شاه لم يُتَح له أن يرى بناء مدينة كابل الجديد التي فكر في إنشائها وفق تخطيط يلائم أحدث مبادئ الصحة العامة، على أن الوزراء الحاليين يستمرون على إتمام هذا العمل موالين للابن الشاب كما كانوا موالين لأبيه؛ ذلك أنهم رجال محنكون يعلمون ما

دائرة المعارف الإسلامية ـ ترجمة سيدنا إبراهيم فيها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دائرة المعارف الإسلامية ترجمة سيدنا إبراهيم فيها كنت وعدت بنشر ما في ترجمة سيدنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم من هذه الدائرة، والرد على ما فيه من الخطأ المخالف للقرآن العظيم، وما أخطأ به الأستاذان الدجوي ووجدي في ردهما عليها. ثم رأيت كثيرًا من الكتاب كتبوا في الموضوع ومنهم من رد عليهما في الجرائد والمجلات فاكتفيت بذلك في تنبيه الجماهير، وإن كان ما اطلعت عليه مما نشر لم يُحِطْ بالمسألة من كل ناحية، ومن غريب الجهل أن يعد بعض المسلمين ما في سفر التكوين من أسفار العهد القديم من توراة موسى عليه السلام، ويرى أن أخباره أصول مسلمة يجب تأويل ما يخالفها من آيات القرآن، والحق أن التوراة هي الشريعة التي أوحاها الله تعالى إلى موسى عليه السلام وقد عرض لها التحريف، وإن سفر التكوين ليس منها، ولا يعرف مؤلفه وقد ألف الأستاذ جبر ضومط من أساتذة الجامعة الأميركانية في عصرنا كتابًا رجَّح فيه أن مؤلفه يوسف عليه السلام، وأغرب منه قول بعض المفسرين بإجماع المؤرخين على أن اسم أبي إبراهيم صلى الله عليه وسلم تارح لا آزر، وزعم بعضهم أن آزر عمه. وقد فصَّلنا هذه المسألة في تفسير المنار. ((يتبع بمقال تالٍ))

العبرة بسيرة الملك فيصل ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبرة بسيرة الملك فيصل (3) الفرق العظيم بين الشريف عبد الله والشريف فيصل في القضية العربية يتجلى أكمل التجلي بما كان بين مبدأ كل منهما وما بعده من التباين، فالأول كان السابق إلى التفكر فالكلام فالعمل في القضية وعداوة الترك، والثاني كان يرى أن الخير لوالده ولبيته ولوطنه (الحجاز) بالذات، ولأمته بقاء الارتباط بالترك ودولتهم، ثم كان كل منهما عاملاً في الثورة العربية التي تولى والدهما زعامتها، ولكن عبد الله قاتل العرب بقتال النجديين في طربة فكان عمله هذا أول نكث لعهد الجامعة العربية وحنث بيمينها انتهى بما علمه كل الناس من الشؤم والشر عليه وعلى والده الذي عتله إليه، وفيصلا قاتل الترك أولاً ووادهم آخرًا وأبرم عهد الاتفاق هو والملك ابن السعود واعترف بدولته الحجازية النجدية عملاً بعهد جمعية الفتاة العربية التي كان المراد منها أن تكون أحد أركان الجامعة العربية، وظل مرتبطًا بها وبحزبها إلى آخر أيام حياته حيث كانت هي المنفردة بالعمل في منطقتها، على مشاقة ومشادة تعددت بينه وبينهم في دمشق بعد توليتهم إياه ملكًا عليها. ومن مظاهر الفرق بينهما أن هؤلاء العاملين هم الذين سعوا لاستقدام الشريف عبد الله إلى بقعة شرق الأردن بعد احتلال الجنرال غورو بجيشه الفرنسي لدمشق وخروج فيصل منها؛ لأن هذه البقعة ظلت مستقلة غير تابعة لفلسطين ولا لسورية، وأرادوا أن يجعلوها مراكز للعمل، ولم يلبث أن ناوأهم وجعلها بسعيه تابعة للانتداب الإنكليزي في فلسطين، وجعل نفوذ الإنكليز وحقوق ملكهم فيها أقوى مما هي في كل الممتلكات والمستعمرات البريطانية، وكذا الجزائر الإنكليزية نفسها، وألحق بها بمساعدة أخيه الشريف علي الذي سمي ملكًا للحجاز وهو محصور في جدة، منطقة العقبة ومعان الحجازية التي هي أمنع المواقع البحرية البرية في بلاد العرب كلها. وأما فيصل فجعل ملكًا على العراق في ظل الانتداب البريطاني، وقد فتح الإنكليز العراق بالسيف والنار، فآل الأمر بسعيه وحسن سياسته إلى استقلاله التام، فما أعظم الفرق بين الشقيقين في النسب، المشاقين في الرأي والعقل والخلق والعمل. لقائي الأول لفيصل: أتيح لي في أوائل سنة 1338 هـ الموافق لخريف سنة 1919 م أن أغادر مصر وهي في عنفوان ثورتها الوطنية إلى سورية وهي مضطربة فيما ابتليت به من احتلال فرنسة لسواحلها وإنكلترة لداخلها، ووجود حكومة عربية عسكرية في دمشق وما ألحق بها، مرتبطة بالاحتلال الإنكليزي فيها، وما أعطيت جواز السفر لهذه الزيارة إلا بعد سعي طويل لدى السلطة العسكرية البريطانية هنا وأخذ العهود والمواثيق الخطية عليَّ بأمور منها ألا أخطب خطبًا ولا أعقد اجتماعات سياسة فيها. وبينما كنت في بيروت جاءت الأخبار من أوربة بأن الأمير فيصلا سيجيء من أوربة قريبًا فعقد وجهاء بيروت الاجتماع بعد الاجتماع للاتفاق على ما يعملون لاستقباله والحفاوة به وكنت أُدْعَى إلى كل ذلك وأحضره. وقد اضطررت في أثناء ذلك إلى السفر إلى طرابلس لعمل خاص بوقف مسجدنا ومالي فيه من الحق المالي فسافرت قبل الظهر من يوم السبت 19 من ربيع الآخر الموافق 10 من يناير سنة 1920 وأنبأتنا البرقيات الخاصة يوم الثلاثاء 13 من ينار بأن الأمير يصل إلى بيروت صباح غد، فعدت إلى بيروت مساء ذلك اليوم والمطر الشديد متصل مع جماعة من الوجهاء في مقدمتهم أوجه الزعماء، سليل الإفتاء، سماحة عبد الحميد أفندي كرامي مفتي طرابلس الشام، الذي أخرجته السلطة الفرنسية بعد ذلك من منصبه عقابًا له على وطنيته، والتاجر الوطني الغيور عارف أفندي النعماني، وقد ارتطمت بنا سيارته في الوحل مرارًا، أذكر هذا ولا أنساه على كثرة ما أنسى الأمور العادية، وإن كانت شاقة أو سارة ولا أكتب ما أذكره منها، وقد قطعنا المسافة في ست ساعات وكانت تقطع في ثلاث؛ لأن مطاط عجلاتها تقطع وأصلح أربع مرات. وصل الأمير فيصل إلى بيروت في ضحوة يوم الأربعاء على بارجة فرنسية يصحبه ضابط فرنسي يلازمه، واستقبله على رصيف مرفأ بيروت رئيس أركان الحرب للجنرال غورو المندوب السامي لفرنسة مع ضباطه وفصيلة من العسكر الفرنسي والجزائري، وقابلته وفود الوطنيين يتقدمهم أعضاء لجنة الاحتفال البيروتية، وقابلته أنا مع وفد طرابلس في دار الاعتماد العربية وكان يشغلها من قبل حكومة سورية العربية الضابط الشهير يوسف بك العظمة الذي استحكمت المودة بيني وبينه مدة مكثي في بيروت. وعدت إلى دار الاعتماد في اليوم التالي (الخميس) لأجل أن أقابل الأمير مقابلة خاصة فعلمت أنه ذهب إلى زيارة الجنرال غورو، فقلت ليوسف بك العظمة رحمه الله: إنني لست من الرجال الذين يرغبون في التشريفات والظهور وإنما أنا رجل بحث وعلم وعمل فأرجو أن تأخذ لي موعدًا من الأمير بلقاء خاص، فعهد إليَّ بأن أعود الساعة الحادية عشرة فعدت وعاد فقابل بعض الوفود المنتظرة ثم خلوت به فأثنى أجمل الثناء، وأظهر الارتياح التام لهذا اللقاء الذي قال: إنه كان يتمناه، وكاشفني بما جاء لأجله وبأنه سيعود إلى أوربة عاجلاً بالتفويض الذي يحمله من البلاد ودعاني إلى الغداء معه فتغديت وتغدى معنا الضابطان الفرنسيان (كوس وتولا) اللذان لم يفارقاه مدة إقامته في الشام أميرًا فملكًا مبايعًا إلى أن فارقها بعد احتلال غورو لدمشق. ودارت بيني وبينه محاورة طويلة فيما جاء من أوربة لأجله، ثم ذهب إلى دمشق على أن يعود إلى بيروت بعد أسبوع كما قدر. ثم عاد إلى بيروت في 13 من جمادى الأولى - 3 من فبراير (شباط) فزرته في اليوم التالي وخلوت به ساعة كاملة قبل الظهر، وكان المرحوم يوسف بك العظمة بلغه عني ما ذكرته من قبل، وهو أنني لم أجئ لما يجيء له غيري من المظاهر وما يسمونه مقابلات التشريف بل للبحث في المصلحة العربية. وكان أول ما بدأته به أنني أريد معرفة خطته في العمل لهذه الأمة، فإذا اتفقنا في الرأي عاونته واشتغلت معه على قدر ضعفي، وإلا كنت مضطرًا إلى مقاومته، وإن لم أكن أميرًا فإنني ناهضت السياسة الحميدية ولم أكن أميرًا، ثم ناهضت السياسة الاتحادية التركية وهي أدهى وأمر، وأشد وأضر، ولم أكن أميرًا، فشكر لي هذه الصراحة ودعاني إلى الذهاب معه إلى دمشق، فاعتذرت بأن لي عملاً خاصًّا في بيروت وطرابلس لا بد لي من إتمامه. ووعدته بأن ألحق به بعده، فألح عليَّ بأن أذهب معه بحجة أن خدمة الوطن مقدمة على كل شيء، فقلت لا تنافي ولا تعارض بين الأمرين، وإنني سألحق بك بعد يوم أو يومين: قال أتعدني بذلك؟ قلت: نعم. ثم دار الحديث بيننا بالحرية التامة، وكان ذا شغب فدعاني إلى العشاء معه في ذلك اليوم لأجل أن نخلو ونتم الحديث في الليل، فأجبت، وخلوت به إلى الساعة 10 والدقيقة 10 مساء، وكان مما قاله أن أخاه عبد الله لم يخبره بما دار بينه وبيني في قصر عابدين بمصر لأنه كان يعلم أن سياسته تركية بمعنى أنه كان يرى أن الأولى للعرب دوام الاتفاق مع الترك والارتباط بهم، ولكنه تحول عن هذه السياسة لما جاء الشام قبل الحرب وبعدها ورأى قومه كلهم على خلاف هذا الرأي على حد قول الشاعر: وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد ثم قال: إن عبد الله كان يريد تنفيذ مسألة اتفاق أمراء الجزيرة الذي اقترحته عليه (أي بمقتضى قاعدة جمعية الجماعة العربية) حتى مع ابن السعود عدوهم ولكنه هو كان معارضًا له في ذلك؛ لاعتقاده أن ابن السعود يريد الاستيلاء على الحجاز، لا يصده عن ذلك عهد ولا اتفاق، وذكر ملخص عداوة ابن السعود لشرفاء مكة: فقلت له: لو أطلعكم الشريف عبد الله على تفصيل اقتراحي لاكتفى معارضتكم، فإنه لا يكل تنفيذ الاتفاق الحلفي إلى وفاء كل أمير واختياره بل يجعله عاجزًا عن الغدر. ثم بينت له موضوع الحلف وملخص نظامه، وضرورة عقده، وضرر عداوة شرفاء الحجاز لابن السعود؛ لأن عرب الحجاز أضعف العرب وأشدهم احتياجًا إلى الاتفاق الذي غايته جعل أمراء الحجاز رأس العرب؛ لأن مجلس الحلف العام لا يكون إلا في مكة، وسيكون أميرها هو الرئيس له بالطبع. فقال حينئذ: إنه مستعد لإقناع والده بذلك وضامن له، إذا وجد من ينفذه ويضمن إرضاء ابن سعود بالحدود العادلة التي تحددها لجنة على الحياد. وذكر أن الإنكليز يهددونهم بابن سعود، وههنا تكلمنا في علاقتهم بالإنكليز الآن وفي زمن الحرب فإذا هو لا يزال يرجو وفاءهم بما عاهدوه عليه (هكذا كتبت في مذكرتي عقب الجلسة أي عاهدوه هو) وخروجهم من فلسطين والعراق لتأسيس دول عربية متحدة ورضاهم بالمنافع الاقتصادية التي لا تنافي الاستقلال على أن كلامه متناقض فإنه اعترف قبل ذلك بأنه كان مغشوشًا بالإنكليز، وأن والده هو الذي غشه، وأنه قد عرف بعد الاختبار كيد الإنكليز للعرب وللإسلام - أو قال عدوانهم - وأن والده أيضًا قد رجع عن رأيه في إخلاصهم. وسأذكر في النبذة التالية ما دار بيننا في دمشق) . ((يتبع بمقال تالٍ))

كلمتان في الشيخ محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا

الكاتب: شكيب أرسلان

_ كلمتان في الشيخ محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا لأمير البيان الأمير شكيب أرسلان (في الجزء الأول من كتاب حاضر العالم الإسلامي) الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده أستاذنا فريد عصره، ووحيد مصره، حجة الإسلام الشيخ محمد عبده، أكرم الله مثواه، تعرف إليه كاتب هذه الحواشي في عهد الطلب، أيام كان هو منفيًّا في بيروت على إثر الحادثة العرابية وذلك سنة 1886، ولازمته وأخذت عنه واستفدت منه بقدر ما وسع فتور خاطري، واستفضت من بحر حكمته ما أمكن أن يناله قصور عارضي، ووجدت فيه الضالة التي كنت أنشدها، والبغية التي كنت أبحث عنها ولا أجدها، ورأيت في فهمه العقيدة الإسلامية الشكل الوحيد الذي يرجى أن ينهض بالإسلام بعد أن آل إلى هذه الحال، وأن يقيل عثاره بعد أن ظن ضعفاء العقول أن عثرته لا تقال. وما زلت بعد أن عاد إلى وطنه مصر إلى أن أدركته الوفاة رحمه الله أجاذبه حبل المكاتبة، وأقف على رأيه في أكثر الأمور جزئيها وكليها، وأستطلع منه طلع الأحوال، وهو يبث ما لا يبثه إلى غيري من سوانج فكره، وذوات صدره، وبينما كان بعض حساده يتهمونه بمماشاة الدولة المحتلة ومواثقة اللورد كرومر كان يكتب إليَّ قائلاً: (الأحوال هي مما يتعاظم له الألم، ويعجز عن وصفه القلم) فكنت أعلم أنه ما أراد إلا تخفيف الداء، وتقريب أجل البلاء، وتمهيد طريق الجلاء، وما زال شأنه يعلو، وحقيقته تظهر وجوهره ينجلي بالحك، وعقيدة فضله تتمحص من الشك، إلى أن اتفق الناس على كونه أحد أفذاذ الشرق الذين قلما جاد بهم الدهر، وواسطة عقد المصلحين المجددين في هذا العصر، وظهر أن طريقته الإسلامية العصرية ستزداد مع توالي الأيام انتشارًا، وتكون هي طريقة المستقبل ومعول الآتي. ولقد كان جامعًا بين العلم والعمل، فلا تجد ما يساوي فضله وبلاغته وثقوب أفكاره، وقوة ملكته في الفلسفة، سوى علو مباديه، وبعد همته، وغزارة مروءته، وطهارة أخلاقه، وهيهات أن يأتي الزمان بمثله. ومن حسناته الكبرى، وأياديه التي ملأ بها طباق العالم الإسلامي برًّا، أخذه بيد الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا في نشر مجلة (المنار) التي هي لسان حال ذلك المصلح العظيم وترجمان أفكاره. فهي - والحق يقال - أحسن مجلة ظهرت في باب الإصلاح الديني وتطهير الإسلام من شوائب البدع، وأعادته سيرته الأولى في عهد السلف. وتأليفه مع المدنية الحاضرة. كما أن الأستاذ السيد رشيدًا المشار إليه هو الأولى بأن يخلف الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مشروعه. الأستاذ الأكبر السيد محمد رشيد رضا ويطول العهد بعدُ بالأستاذ الأكبر السيد رشيد فسح الله في أجله حتى يقوم في العالم الإسلامي من يسد مسده، في الإحاطة والرجاحة، وسعة الفكر، وسعة الرواية معًا، والجمع بين المعقول والمنقول، والفتيا الصحيحة الطالعة كفلق الصبح في النوازل العصرية، والتطبيق بين الشرع والأوضاع المحدثة، مما لا شك أن الأستاذ الأكبر فيه نسيج وحده، انتهت إليه الرئاسة، لا يدانيه فيه مدان، مع الرسوخ العظيم في اللغة والطبع الريان من العربية، والقلم السيال بالفوائد في مثل نسق الفرائد، والخبرة بطبائع العمران، وأحوال المجتمع الإنساني، ومناهج المدنية وأساليبها، وأنواع الثقافات وضروبها، إلى المنطق السديد الذي لم يقارع به خصمًا مهما علا كعبه إلا أفحمه وألزمه، ولا نازل قرنًا كان يستطيل على الأقران إلا رماه بسكاته وألجمه. وأجدر بمجموعة (المنار) أن تكون (المعلمة الإسلامية الكبرى) التي لا يستغني مسلم في هذا العصر عن اقتنائها، كما أن التفسير الذي وفقه الله به لكشف أسرار كتابه العزيز هو من آياته الباهرة التي خلدت اسمه في هذه الأمة، وقرنته بكبار الأئمة، وله من المواقف الشريفة في النضال الديني عن الإسلام، والمراماة عن عقيدته الصافية، ومن الكتب الجدلية في رد شبهات أعدائه من أبناء الملل الأخرى، ومن الملاحدة والمعطلة، ما لا يقدر أحد في عصرنا هذا أن يدرك فيه شأوه، ولا يستطيع جهبذ من جهابذة الإسلام أن يبلغ فيه مُدَّه ولا نصيفه، إنه الرجل الذي لو دعا كل مسلم بإطالة حياته حبًّا بخدمة الإسلام والمسلمين لكان بذلك جديرًا. وليس في كلامنا هذا شيء من الإطراء ولا ثمة ما يدعونا إليه، وإنما أمرنا بأن لا نبخس الناس أشياءهم، وهو أمر إلهي صريح، كما أننا لسنا ممن يرى المعاصرة حجابًا عن تقدير الفضائل قدرها، بل نرى أن المنصف يجب أن يزن أقدار الناس في الحياة وبعد الممات بميزان واحد، وإن كان من ضرائب البشرية أن تقسو على الأحياء، وأن تحنو على الأموات، وأن لا تعطي الإنسان حقه غير منقوص إلا إذا فات. ولقد حرر السيد رشيد تاريخ أستاذنا الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله في مجلدين كبيرين يزيدان على ألفي صفحة وسيعززهما بمجلد ثالث [1] فيكون من الفضول أن نقول: إنه لا تاريخ للشيخ محمد عبده غير هذا التاريخ وهو الذي فيه ترجمة حاله بتفاصيلها، وحياته من المهد إلى اللحد، مع ذكر منازعه بدقائقها، وعقائده بحقائقها، ومنشآته بنصوصها، وأخبار الحوادث التي خاضها، والمسائل التي راضها. وقد دخل في هذا الكتاب تاريخ السيد جمال الدين الأفغاني، وسير أعلام آخرين، وتلخيص الحوادث العرابية في مصر وروايات كثيرة عن الخديو السابق، ووثائق تاريخية لا توجد في كتاب آخر، ومباحث عقلية وشرعية وسياسية وأدبية ولغوية لا يعثر القارئ على مثلها في غير هذا الكتاب. وللفقير إليه تعالى راقم هذه الأسطر في الجزء الأول من هذا السفر الجليل فصل عن حياة الأستاذ الإمام أيام كان في بيروت وكنا متصلين به وهو نحو من 14 صفحة، ولهذا الفصل تتمة وعد الأستاذ الرشيد بنشرها في الجزء الذي لم يظهر بعد. ولما كان الأستاذ السيد رشيد من كبار المحدثين، وله في هذا الفن من الطول ما ليس خافيًا عن أحد، فقد امتزج خلق التمحيص بدمه ولحمه، وأصبح لا ينشرح صدره إلى الخبر إلا إذا وثق بأسانيده، وآمن بأمانة رجاله، وقد يسوق الرواية من جملة طرق إلى أن يثلج بها الصدر، ويطمئن لها الفكر، وهذه طريقة السلف عندنا لا يروون شيئًا لا من الأحاديث النبوية وأخبار الصحابة فحسب، بل لا يروون شيئًا من الأشعار والآداب، وسير البشر والحكايات، إلا عَنْعَنُوه مسلسلاً، وربما أشاروا إلى درجة رجاله، فَقَوُّوا ولَيَّنُوا كما لا يخفى على مَن طالع كتبهم، وكانت له ألفة بطريقتهم. وهذه الطريقة هي اليوم طريقة الأوربيين أيضًا لا يروون خبرًا ولا ينقلون جملة ولا أثرًا إلا وضعوا في الحاشية مأخذها والكتاب الذي أخذوها عنه مع ذكر الصفحة، ومع ذكر طبعة الكتاب وتعيين المطبعة أحيانًا، وكل ذلك توثيقًا للنقل، ونصحًا بالتبليغ، وتمهيدًا للحكم الصحيح، الذي لا يتهيأ للقارئ إلا بعد مقدمات صحيحة، وبينات رجيحة. ومن نفائس تآليفه السِّفْر الذي أخرجه مؤخرًا تحت عنوان (نداء إلى الجنس اللطيف) فيه بيان حقوق النساء في الإسلام وتحقيق مسائل اجتماعية تدور أكثر من كل المسائل في هذا العصر مثل تعدد الزوجات والتسري والحجاب والسفور والطلاق وما يتعلق بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام والحكم، وتكريم النساء، وبر الوالدين وتربية البنات، وغير ذلك قد جاء الأستاذ في هذا الكتاب بالآيات البينات على حكمة الشرع الإسلامي وغفلة المعترضين عليه جهلاً أو تجاهلاً، ولا يسعني إلا توصية الخلق بمطالعة هذا الكتاب؛ إذ ذاك أحسن ما يمكن وصفه به (إن الجواد عينه فراره) ولكني أورد شذرة واحدة من هذا الكتاب من قبيل التمثيل ليقيس القارئ عليه. اهـ نقل الأمير عبارة عن الكلام في التسري وحكم الاسترقاق، وقد سبق لقراء المنار الاطلاع على الموضوع كله في كتاب الوحي المحمدي بما هو أوسع مما في نداء الجنس اللطيف.

هذا رجل إلهي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ هذا رجل إلهي هذه الكلمة قالها شاب وثني هندي في صديقنا العلامة ثناء الله صاحب المصنفات والمناظرات للوثنيين والنصارى والمبتدعين، وأشهرها مناظراته لغلام أحمد القادياني ومباهلتهما التي تبين أن القادياني دجال كذاب، وقد نشرت إحدى الجرائد الهندية الإسلامية فيه الحكاية التالية، وجعلت الكلمة عنوانًا لها، وهذه ترجمتها: مولانا الشيخ ثناء الله من علماء الحديث والكلام والفقه في (أمرتسر) بالهند له مجلة ومؤلفات في الدفاع عن الإسلام وهو مع هذا مناظر كبير، فصيح اللسان، قوي الحجة، بليغ العبارة، يدعى لمناظرة الطاعنين على الإسلام من الهند وخصوصًا جماعات (إرياسماج) وكذلك له مواقف محمودة مع مضللي النصارى وكذا الأحمدية القاديانية جماعة مرزا أحمد القادياني، وقد تباهل هو مع القادياني نفسه على أن الكذاب منهما في دعوته يموت قبل الآخر، فمات القادياني في الكنيف شر ميتة، ولا زال ثناء الله حيًّا قائمًا على المبطلين يناظرهم ويكسر شوكتهم. دعي مرة لمناظرة مع الهندوك وركب القطار وركب معه شاب هندوكي فتعارفا تعارف مسافرين فقط، وكان الشيخ ثناء الله يلهج لسانه بذكر الله عند كل مناسبة فإذا شرب بدأ باسم الله، وإذا انتهى من شرابه حمد الله، وإذا عطس حمد الله، وإذا شمته المشمت أجابه: يهديكم الله ويصلح بالكم، وإذا سلم عليه أجابه: وعليكم السلام ورحمة الله إلخ وكان الشاب الهندوكي يصغي إليه ويسأله عن ترجمة كل ما سمع منه فيترجمه له إلى أن نزلا في المحطة فكانت السيارة تنتظر الشيخ ثناء الله ولم يكن في انتظار الهندوكي أحد، فدعاه الشيخ، وأركبه سيارته معه، ولما استقلها قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} (الزخرف: 13-14) فسأله الشاب عنها فترجمها له، فتأثر بها حتى تغلغلت في سويداء نفسه. انعقد مجلس المناظرة - ولمجالس المناظرة في الهند شأن يعرفه من حضرها من عدل محكمين، ومدير لحفظ النظام، ووجيه سخي يقوم بنفقات الحاضرين جميعًا من طعام وشراب، وحاجة الراحة نومًا وقيلولة وما يلزم ذلك شتاء وصيفًا وربيعًا كل من حضر من مناظر ومستمع ومدعو وغير مدعو. ولما انعقد مجلس المناظرة وتقدم الشيخ ثناء الله إلى منصة الخطابة، ظهر إلى مقابلته لمناظرته الشاب الهندي الذي رافقه بالأمس وسمع من ذكره الله ما أدهشه، أقبل الشاب الهندوكي إلى الشيخ المسلم مصافحًا، وأعلن على رءوس الأشهاد من مسلمين وهندوكيين ومسيحيين وناظمين ورجال الإدارة وحفظ النظام، هذه الحقيقة التي عرفها بنفسه بقوله: (هذا رجل إلهي يذكر الله كثيرًا ومناظرته جرم في اعتقادي، إنما يناظره رجل مثله، وأنا أناظر رجلا من طبقتي، إني أذكر الله ولكني لا ألحق شأو هذا الرجل فارفضت الجلسة والناس يلهجون بفضل الله على الشيخ وإنصاف ذلك الشاب ولا غرو فقد قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: 11) (وقال) : {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} (العنكبوت: 45) .

آيات الله في الآفاق أو طريق القرآن في العقائد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ آيات الله في الآفاق أو طريق القرآن في العقائد مطبوع أصح طبع، على أجود ورق، في مطبعة المنار بمصر سنة 1352 هـ صفحاته 262 كتاب إصلاحي جديد جليل، مؤلفه الأستاذ الفاضل، العالم العامل، الشيخ محمد أحمد العدوي، صاحب (كتاب مفتاح الخطابة والوعظ) ورسائل أخرى في هداية الكتاب والسنة، أحد علماء الأزهر الذين شرفهم الله باضطهاد العلماء الجامدين الخرافيين لهم وبمنعهم من التدريس في الأزهر لإيثارهم هدى الله على ما يخالفه من تقاليد المتفقهين، ونظريات المتكلمين، وخرافات القبوريين. جمع في هذا الكتاب المتين من آيات كتاب الله تعالى في عقائد الدين في أبوابها من الإلهيات والنبوة والرسالة والبعث والجزاء، وقد فسر هذه الآيات تفسيرًا وجيزًا بقدر الضرورة في الغالب، ومن غير الغالب إسهابه في حكم الله في أنواع خلقه، وجعل ثمن النسخة منه عشرة قروش فقط على كون جميع الآيات فيه قد طبعت مشكولة، وهو يطلب من مكتبة المنار بمصر.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار استفتاء في عمل يانصيب لإحياء مسلمي جاوه بالمدارس (س35) من الفاضل الغيور صاحب الإمضاء في سربايا (جاوه) (بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن هداه. حضرة الأستاذ الكبير العلامة المدقق مفتي الآفاق وناصر السنة، السيد محمد رشيد رضا المحترم، دام ذخرًا للمسلمين، ونورًا للمدلجين، وملجأ للسائلين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإن خمسين مليونًا من إخواننا المسلمين في جاوة وجزائر المضيق سائرون في ظلمات الجهل لا مدرسة واحدة لهم راقية ولا معلمين عندهم أكفاء، ولا دروس منتجة كما علمتم ذلك وأكثر منه مما حملت إليكم من هنا الصحف والأخبار، وكم فاه الخطباء وكتبت الجرائد في حثهم على فتح المدارس وتعميم دور العلم وتنظيم سير التعليم؟ ولكن ذهبت تلك الصيحات كصرخات في واد، والمستعمرون اغتنموا هذه الفرصة ففرقوا بينهم، ونصروا كثيرًا منهم، وسهَّلوا إدخال أولادهم في مدارسهم المنظمة الجذابة! فماذا ننتظر؟ إن المدارس طبعًا لا تقوم إلا بالمال والمال عندنا بأيدي جهال لا يعرفون قدر العلم ولا يريدون أن يعرفوا، ينفقون المبالغ الكبيرة في أمور خسيسة أو ضارة ولا يريدون أن ينفقوا في مدارسهم التي بها حياة أولادهم وأمتهم شيئًا. فبقيت مدارسنا عشرات السنين كما هي في تأخرها وفوضويتها واختلالها وخلوها من الوسائل التي تنهض بها، وهي على قلة عددها مختلفة المشارب متباينة الأنظمة، ضئيلة الجدوى لا تسمن ولا تغني من جوع؛ لأنها لا تتجاوز حدود الابتدائية، وأكثرها لا تتعدى درجة الأولية. هذا والأمم الأجنبية المجاورة لنا كالإفرنج والصين، بل الجاويين الذين كانوا يتعلمون في مدارس الحكومة لهم ما يسد حاجتهم من المدارس فترقت عقلياتهم، وتهذبت أخلاقهم، واستطاعوا أن يفكروا في شئونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والصحية وغيرها، وأنشؤوا جمعيات راقية، وأصدروا صحفًا متنوعة كثيرة، وفتحوا دكاكين تجارية كبيرة، وأقاموا شركات مختلفة نافعة، وعلى الأقل يستطيعون أن يتوظفوا. وأما المسلم وبالخصوص العربي هنا، فأبواب الأعمال أمامه مسدودة حتى الوظائف، فلا حيلة له إلا أن يشتغل سائقًا أو تاجرًا بسيطًا يشاكس صاحبه، فليس لدى المسلمين ولا سيما العرب في هذه البلاد جمعيات نافعة، ولا مدارس منتجة، ولا صحف منظمة، ولا تجارات كبيرة، ولا شركات مطلقًا ولا قدر ولا حرمة في القلوب، وأما أخلاقهم فلا حاجة إلى أن أذكر لكم أنها سافلة جدًّا بفضل الجهل أيضًا!! هكذا سيدي بلغت الحالة بإخوانكم المسلمين بجاوة! ! وما أوصلهم إلى ذلك كله إلا الجهل، ونحن كما قلنا لكم آيسون من مساعدة أغنيائنا؛ لأنهم مع الأسف جهال لا يعرفون قدر العلم ولا يدركون آثاره ونتائجه، والمرء عدو ما جهل فلا نترقب أقل التفات أو مساعدة منهم ولا من إخواننا مسلمي مصر أو الشام أو الهند أو غيرها؛ لأن كلا منهم مشغول بما يخص بلاده، ولا ريب أنهم سمعوا ويسمعون أن في جاوة والجزائر حولها هذا المبلغ الهائل من المسلمين تحت خطر الجهل والنصرانية، ومع هذا لم تتحرك جمعية من الأقطار الإسلامية ولا معهد من المعاهد الدينية ولا إنسان واحد لإنقاذهم من هذا الشر المحدق. فإذا كان الأمر كذلك فهل يجوز لنا في نظر الشريعة السمحة أن نعمل يانصيب أو نشتريه لتشييد المدارس وجلب المعلمين، ولكم جزيل الثواب والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مستفهم (جواب المنار) إن شعبا هبط هذا الدرك الأسفل من الجهل وفساد العقائد والأخلاق لا يمكن أن ينقذه ويرفعه ما تصوره المستفهم المستخفي من جمع مال بقمار اليانصيب لتنشأ به مدارس عامة للتعليم بدرجاته الثلاث: من ذا الذي يجمع هذا المال؟ ومن ذا الذي يتولى تلك الأعمال؟ ومن ذا الذي يضع النظام والمناهج للمدارس التي يحيا بها الشعب بعد موت، ويعز بعد ذل، ويغنى بعد فقر؟ إن إصلاحًا كهذا لا ينهض به إلا رجال من كبار العقول والهمم والعزائم وأولي العلم والغيرة والإخلاص، فهل وجد هؤلاء الرجال في جاوه؟ وتمهدت لهم الوسائل للتعليم المنقذ من الثقة بهم، والمعلمين الكفاة لديهم، ومن محاولة جمع المال من الطرق المشروعة كالصدقات والتبرعات والوقف الخيري، فلم تف بالحاجة ولم يبق في وجوههم إلا وسيلة (اليانصيب) ؟ على وعورة طريقه وتوقف شراء أوراقه على ثقة المشترين بالبائعين بالرجاء في نجاحهم؟ ما أظن أن شيئًا من هذا واقع. إن جمعية الشبان المسلمين في مصر طبعت ألوفًا من أوراق اليانصيب لجمع مال تنشئ به دارًا لها، ووجدت من الحكومة المصرية ميلاً لمساعدتها بإعطائها أرضًا في مكان من أحسن أحياء القاهرة عمرانًا وبالسماح لها بتوزيع أوراقها في المدارس ومعاهد الحكومة وأرسلت من أوراقها هذه عددًا كثيرًا إلى الأرياف وإلى الهند أيضًا، وبعد التجربة الطويلة اضطرت إلى الإعلان في الصحف بأنه لم يجتمع عندها المال الكافي لربح (النمرة) الأولى وأنها مستعدة لإعادة كل ما جمعته من المال للذين يعيدون إليها الأوراق التي اشتروها. إن شعبًا كبيرًا لا يمكن أن ينهض ويجدد حياته بجمع المال بهذه الطريقة العوجاء، والسير عليها بالأرجل العرجاء، مع ضعف الأسباب لنجاح مثله فيها، وإنما هذه طريقة دولية قلما تثمر ثمرًا كافيًا إلا بكفالة دولية أو ما يقرب منها من الجمعيات الغنية القوية، وهي محرمة في شريعة الإسلام، ولن تنهض هذه الأمة بارتكاب ما حرم الله عليها، والحالة التي وصفتموها ليست من الضرورات التي تبيح المحظورات وهي كما وصفنا. وأحيلكم على ما أوصيت به بعض الشبان الإندونيسيين بوصية حفظها في كناشة، ونشرتها في الجزء الثامن من المنار، ولعلكم قرأتم خبر مشروع القرش الذي نجح في مصر في العام الماضي، وتفكروا في القيام بمثله عندكم، وأدام الله توفيقكم. *** أسئلة من بيروت (س36: 38) لصاحب الإمضاء (بسم الله الرحمن الرحيم) حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإني أرفع إلى فضيلتكم ما يأتي راجيًا التكرم بالإجابة عليه على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع به عامًّا ولكم الشكر. (1) هل يجوز قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة مضبوطة، وتعليمه لتلاميذ وتلميذات المدارس أو غيرهم بغير أحكام التجويد مطلقًا أم لا؟ (2) ما السبب في عدم احترام الدين الإسلامي ودروسه وأحكامه وضعفه في نفوس تلاميذ وتلميذات المدارس الإسلامية سواء أكانت أميرية أو أهلية؟ وهل يجب على رؤساء المدارس أن يهتموا بهذا الأمر أم لا؟ (3) هل هذا الحديث الآتي صحيح معتمد غير منسوخ يجوز العمل به أم لا وما معناه؟ وهو (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين) تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ إبراهيم اللادقي (الأجوبة) 36- تجويد القرآن بالفعل دون تعلم الفن: الواجب في قراءة القرآن أن يقرأ قراءة صحيحة بإخراج الحروف من مخارجها، وأن يرتل بتحسين الصوت في الأداء المتبع بغير تكلف، ويكفي في تعلم ذلك تلقيه بالفعل، ولا يشترط فيه تعلم فن التجويد المعروف، فهو لم يكن معروفًا في خير القرون. 37- احترام الدين وما يجب في تعليمه وأدبه: السبب فيما ذكرتم من عدم احترام الدين ودروسه إهمال التربية الإسلامية الصحيحة، وكون التلاميذ ذكرانًا وإناثًا لا يرون في بيوتهم ومدارسهم قدوة صالحة في ذلك، ولا شك في وجوب العناية بذلك على رؤساء المدارس الإسلامية ومديريها ومعلميها؛ لأن أكثر آباء التلاميذ وأمهاتهم على جهل لا يشعرون معه بهذا الواجب. 38- حديث (من يرد الله به خيرًا) إلخ: هذا حديث صحيح متفق عليه في الصحيحين ومسند أحمد باللفظ الذي ذكرتموه من حديث معاوية وروي عن غيره. ومعناه ظاهر، فالتفقه في الدين فهمُ نصوصه ومقاصده على الوجه الذي يهدي إلى العمل به كما بيناه مرارًا. *** أهل الفترة وما ورد في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم (س39-41) من صاحب الإمضاء المبهم في أسيوط: حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. (أما بعد) فلمناسبة تقرير أحد العلماء بمدينة أسيوط أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم ليسا ناجيين بل ماتا على غير ملة، رأيت أن أتوجه بالسؤال لفضيلتكم لإفادتي في مجلتكم عما يأتي: (1) هل يعد والدا الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الفترة؟ ومن هم أهل الفترة؟ وما حكمهم؟ وهل هناك ما يسمى فترة؟ (2) ما قول فضيلتكم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في كتاب الإيمان أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن والده فقال له: (إن أبي وأباك في النار) وكذلك الحديث الذي في مسلم أيضًا في باب الجنائز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له، واستأذنه في أن يستغفر لها فلم يأذن له. (3) هل هناك أخبار صحيحة في إحياء والديه صلى الله عليه وسلم وإسلامهما، وهل هناك خبر يوازي في الصحة حديثي مسلم المذكورين آنفًا يدل على غير ما جاء فيهما. نرجو الإفادة ولفضيلتكم جزيل الشكر ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... مستفهم بأسيوط 39-41 أهل الفترة وأبوا النبي صلى الله عليه وسلم: (ج) الفترة هي المدة بين رسول وآخر، وأصلها قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} (المائدة: 19) الآية من سورة المائدة، وإن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم كانا من أهل الفترة قطعًا، وحكمهم أن من لم تبلغه منهم دعوة رسول سابق لا يكونون مسئولين عند الله تعالى عما لم يخاطبوا به من أمر الدين المنزل، ويؤخذ من النصوص العامة أنهم لا يكونون في الآخرة سواء، لا فرق بين موحد ومشرك، وخَيِّر وشرير، بل تختلف أحوالهم بحسب صلاح أنفسهم وفسادها بهداية الفطرة والعقل، وفي هذا جمع بين أقوال العلماء المختلفة فيهم بحسب فهمنا، وأما من وردت فيهم نصوص عن الله ورسوله فهي الحق، ومنه حديثا مسلم، ولكن لا ينبغي لمسلم أن يتشدق بمعناهما بما ينافي الأدب مع الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أن يذكره إلا في مقام التعليم أو الفتوى بقدر الضرورة. ولم يصح حديث في إحياء الأبوين الشريفين وإسلامهما، وأقوى ما يرجى من أسباب نجاتهما في الآخرة ما ورد من امتحان الله تعالى في الآخرة من لم تبلغهم الدعوة ويعاملهم بحسب ذلك الامتحان فمن أطاع نجا ومن عصى هلك، بأن يكونا من المطيعين لله فيما يمتحنهما به ويدخلهما الجنة، وهذا لا يعد معارضًا لحديثي مسلم المشار إليهما في الاستفتاء؛ لأن الحديثين في حكمهما بحسب ما ماتا عليه، ونجاتهما بالامتحان إنما تكون في موقف الحساب يوم القيامة، ويقوي هذا الرجاء فوق ما نقل عنهما من كونهما كانا من أسلم الناس فطرة وخيرهم فضيلة، إكرام الله تعالى لنبيه الأعظم صلى الله عليه وسلم بإلهامهما الطاعة في ذلك الامتحان، وقد فصلنا هذه المسألة من كل وجه في تفسير قصة إبراهيم مع أبيه آزر من سورة الأنعام (ص537 ج 7 من تفسير المنار) . *** الاحتفال بليلة المعرا

النزاع الديني في ألمانيا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ النزاع الديني في ألمانيا بعض رجال الكنيسة يتحدون النازي [*] (الريخ الثالث لا يحتاج إلى المسيحية) للأستاذ برجمان (المسيحية نتيجة حضارة عليلة) لمؤلف نازي تأتينا الأنباء البرقية في الفينة بعد الفينة بلمحات من النزاع القائم في ألمانيا بين رجال الكنيسة البروتستانتية والنظام النازي. فما هو مثار الخلاف؟ وما هي التعاليم النازية التي يعترض عليها رجال الكنيسة؟ وهل يكون هؤلاء المتحدون للنظام النازي في دائرة الدين نواة للمقاومين في نواحي الحياة الأخرى؟ في أواسط نوفمبر الماضي أذاع نحو (من) ثلاثة آلاف من القساوسة الألمان وكان يوم الاحتفال بانقضاء 450 سنة على ميلاد مارتن لوثيروس بيانًا قالوا فيه: (نحن وعاظ الإنجيل لا ينبغي (لنا) أن نستنزل على رءوسنا توبيخ النبي أشعيا حيث يقول: (كلهم كلاب خرس لا يستطيعون النباح، مضطجعون نائمون، ويحبون أوسن) وبعد ذلك أصدروا بيانًا آخر قالوا فيه: (إن كنيستنا تواجه يوم الدينونة. والتهجم على الصليب ما يزال في بداءته، إن وثنية جرمانية جديدة قد بزغت في أمتنا وقد غزت الكنيسة نفسها) . وقد جاء هذان البيانان احتجاجًا على اتجاهات الحركة الموسومة بالحركة الألمانية المسيحية في الكنيسة الإنجيلية الألمانية، أما السبب المباشر لإذاعتهما، فكان اجتماع جمهور غفير ممن يسمون أنفسهم بالمسيحيين الألمان، حضره طائفة من رؤوس الكنيسة وطالب فيه الدكتور ريتهولد كروس أحد متطرفي الحركة، بإلغاء الصليب كشارة دينية، وحذف العهد القديم من التوراة من برامج التعليم في المدارس، وجعل مقاومة اليهود خطة ثابتة للكنيسة البروتستانتية. وزعماء الفريقين مصرون على السير بالنزاع إلى نهايته. في ألمانيا نحو 22 ألفًا من قساوسة الكنيسة البروتستانتية. ومن المتعذر أن تعرف كم قسيسًا منهم تابع للحركة المسيحية الألمانية؛ لأن هذه الحركة ليست عقيدة أو نظامًا معينًا يُعرف المؤمن به بالانضمام إليه، وإنما هي فلسفة أو وجهة نظر إلى الحياة، ففي الانتخابات الكنسية التي تمت في منتصف السنة الماضية، فاز المسيحيون الألمان بنحو (من) ثلثي الأصوات ولكن خصومهم يدعون أنهم (أي المسيحيين الألمان) أرهبوا خصومهم وقت الاقتراع. ومع أن المسيحيين الألمان، يختلفون من حيث تطرفهم في الدعاية إلى إلغاء الصليب وحذف العهد القديم من برامج الدراسة، إلا أنهم جميعًا نازيون، وغرضهم استعمال الكنيسة أداة لنهضة قومية؛ ذلك أن الكنيسة الإنجيلية الألمانية المؤلفة من الكنائس الثمان والعشرين في مختلف الولايات الألمانية لها نحو (من) أربعين مليونًا من الأعضاء. وفي ألمانيا كذلك نحو من عشرين مليونا من الكاثوليك و800 ألف من أتباع المذاهب الأخرى، عدا نحو نصف مليون يهودي (564 ألفًا عن التدقيق سنة 1930) وكل هؤلاء يتتبعون النزاع الديني القائم بعناية عظيمة. خذ مثلا على ذلك ما قالته صحيفة جرمانيا الكاثوليكية: إذا كان التبشير بالمسيح في ألمانيا قد أصبح في خطر فالمسيحيون الكاثوليك يصيبهم شيء من هذا الاضطهاد) يعتقد المسيحيون الألمان: أن مبدأ الزعامة يجب أن يمتد إلى كل نواحي الحياة القومية، وأن رؤساء الكنيسة يجب أن يخضعوا لزعامة وسيطرة الزعيم أو المنقذ أودلف هتلر، والمتطرفون في هذه الحركة يقولون: إن (الدولة المندمجة) لا يمكن أن تتم إلا إذا اندمج الألمان البروتستانت والألمان الكاثوليك في (الكنيسة المسيحية الألمانية) التي زعيمها المستشار هتلر. أما هتلر فكاثوليكي ولا يخفى أن إشاعة راجت من بضعة أشهر أنه ينوي أن يعتنق المذهب البروتستانتي القومي، أي أن ينضم إلى الكنيسة البروتستانتية القومية، ولكن هذه الإشاعة كذبت. و (المسيحيون الألمان يعتقدون كذلك أن السلالة Race يجب أن تكون أساسًا للكنيسة كما هي أساس للدولة. وهذا أساس (الوثنية الجديدة) التي يشير إليها القساوسة في بيانهم ويحتجون عليها، فالمثل العليا التي يرمي إليها هتلر، لا يمكن تحقيقها إلا بواسطة شعب آري [1] كذلك يقول الزعماء المتطرفون في (الحركة المسيحية الألمانية) لذلك يقترحون أن ينشئوا كورًا خاصة باليهود الذين يعتنقون المذهب المسيحي، وكورًا أخرى منفصلة عنها للمسيحيين، وقد قال أحدهم: ولما كانت المسيحية لا تستطيع أن تحول الرجل إلى امرأة كذلك لا تستطيع أن تحول اليهودي إلى ألماني. والمتطرفون في هذه الحركة يريدون ديانة أبطال، إنهم يريدون نوعًا جديدًا من فلسفة الاستشهاد، تعبد فيها ألمانيا أبطالها، الممثلين في مليونين من أبنائها سقطوا في ميادين الحرب الكبرى. خذ مثلاً على ذلك الأستاذ أرنست برجمان، وهو من الزعماء النظريين لهذه الحركة الجديدة، خطب في جمهور من الطبقة المثقفة في جامعة برلين فقال: ليس للمسيحية مكان في الريخ الثالث، ومن شاء أن يوفق بين المسيحية والاشتراكية القومية (حركة النازي) فليس مسيحيًّا حقيقيًّا ولا قوميًّا صحيحًا (نقلاً عن نيويورك تيمس 26 نوفمبر سنة 1933) . أما الدكتور ألفرد روزنبرج، أحد مستشاري هتلر المقربين، فيدعو إلى نوع من التقوى أو الورع الذي يدفع أصحابه إلى مقاومة ومكافحة الماركسية (الشيوعية) واليهودية والدعوة إلى الإسلام، يقول: (الجرمانية هبة من الله وأنت تطيع أوامره بالذهاب إلى الحرب) وقوله: (إن سلالة الأسياد هي سلالة من المحاربين (الصليبيين CRUSADEIS) الشقر وقد وصفت المسيحية في أحد الكتب الجديدة التي نالت رواجًا عظيمًا، بأنها نتيجة حضارة معتلة أنشأها سكان حوض البحر المتوسط المنهوكي القوى) نشأت المقاومة لهذه التعاليم من الداء، واتجهت في الغالب إلى مقاومة ما يحاوله (المسيحيون الألمان) من السيطرة على حياة ألمانيا الروحية، ولكن النازيين كانوا قد جردوا الولايات الألمانية من حقوقها المستقلة، لكي ينشئوا منها الدولة المندمجة أي الريخ الثالث الموحد. وكذلك نشأ القول بأنه لا معنى للاحتفاظ بكنيسة مستقلة لكل ولاية من الولايات السابقة، فاعترضت مسألة تنظيم الكنيسة الألمانية الموحدة، ومن يكون رأسها الأعلى؟ وجاءت المعركة الأولى في إبريل من السنة الماضية، فربحها القساوسة غير النازيين؛ لأن المسيحيين الألمان (لم يكونوا قد نظموا صفوفهم بعد، أو لعلهم كانوا أقلية حينئذ، ولكن لما كان لا بد من إنشاء كنيسة قومية انتخب القساوسة المعتدلون في 27 مايو الدكتور فريديمان فون بوديشونغ أول أسقف للريخ. واحتدمت المعركة بعد الانتخاب؛ ذلك أن حكومة هتلر رفضت أن تعترف بانتخاب الأسقف وهو غير نازي، ونظم رجال (الحركة المسيحية الألمانية) صفوفهم بزعامة الدكتور ملر MUELLER الذي اشتهر بتنظيمه (ردهة الشهرة) لرجال البحرية الألمانية في مدينة (ولميز هافن) وكان في خلال الحرب قسيسًا لأورطة (تلور) من البحارة، ومن أقوى الدعاة لحرب الغواصات، وعدوا لدودًا للاشتراكية واليهود، وبعد الحرب عُيِّنَ قسيسًا لأحد فرق الجيش في بروسيا الشرقية. وكذلك اضطر (فون بود لشونغ) أن ينسحب فتفوق (المسيحيون الألمان) على خصومهم، وامتدت المعركة إلى الشوارع حيث سرح مؤيدو الأسقف المنسحب يوزعون النشرات يدعون فيها الجمهور إلى أن يعصوا أوامر (المسيحيين الألمان) فرد عليهم خصومهم بأنهم حملوا الحكومة على أن تعلن أنها سوف تحاكم المنشقين وكذلك تعرفت (مضارب التركيز) التي جمع فيها خصوم النازي إلى لباس القساوسة بين رجالها، وفي أول يوليو بعث الرئيس هندبرج برسالة إلى الهر هتلر يطلب إليه أن يعدل بين الجميع. ولما اجتمع السنيودس (المجمع الكنسي) الأعلى في سبتمبر انتخب الدكتور ملر أسقفًا للريخ، ومن ثم مضى هو وأتباعه في تحقيق التوحيد أو التعاون بين الدولة والكنيسة، وفي المجمع الكنسي المذكور وافق المسيحيون الألمان على (البند الآري) الذي أشرنا إليه سابقًا، وفرضوا على القساوسة أن يكونوا آريين وقرروا أن يحذفوا كلمة (آمين) و (هللويا) من الطقوس الكنسية، ولعل ذلك لأن أصلهما عبري، وقررت كنائس بروسيا الشرقية أن تدخل الموسيقى العسكرية في الحفلات الدينية في ولاية برنسويك، وأشير على طلاب العلوم الدينية والقساوسة بالانضمام إلى فرق الهجوم النازية، وأصبح مرأى العلم النازي حاملاً شارة الصليب [2] منظرًا مألوفًا على الكنائس. ولكن المعارضة لم تلن، كما تقدم في بدء المقال، فاعترض أولا أسقفا بافاريا وفرتمبرج ثم مجلسا إدارة كليتي الفقه في جامعتي ماربرج وكيل، ثم جاء بيان الثلاثة آلاف أسقف، فوقف إزاء ذلك أسقف الرين، فعل (البند الآري) ولكن الزعامة ما تزال في أيدي ملر وأتباعه، والنزاع ما يزال قائمًا.

تقاريظ كتاب الوحي المحمدي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ كتاب الوحي المحمدي قد حبَّذ الفضلاء هذا الكتاب أحسن التحبيذ، وقرَّظوه بالممتاز من التقريظ، وشكروا لنا ودعوا، فمن الشكر لله تعالى وللمحسنين من الناس، والتعاون على إذاعة دعوة الإسلام، أن ننشر أهم ما حفظناه مما كتب إلينا، ومما نشر في الصحف التي اطلعنا عليها. ونبدأ بكتابين كريمين، لملكي الإسلام الكبيرين، الإمامين الجليلين: إمام العترة الزيدية يحيى بن حميد الدين ملك اليمن الميمون، وإمام أهل السنة والجماعة عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل ملك المملكة العربية السعودية، وخادم الحرمين الشريفين، أدام الله توفيقهما، وأعز العرب والإسلام باتفاقهما وتعاونهما، وإننا ننشرهما بحسب تاريخ ورودهما. كتاب الإمام يحيى (بسم الله الرحمن الرحيم) الختم (أمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين، الإمام يحيى حميد الدين) إلى السيد العلامة محمد رشيد رضا صاحب المنار حفظه الله. لقد ظفرت العيون بما تشتهيه، وحظيت من الأماني بما تبتغيه، بعد إرسال رائدِ لحظها، وتمتعها بالوموق على تلك الرياض الأنيقة، وينابيع التحقيق الغزيرة، التي أودعتموها ذلك المجموع النفيس المطبوع المسمى (بالوحي المحمدي) فإنه - والحق يقال - وحيد في بابه موضوعًا وتنسيقًا، واستدلالاً وسياقًا، يهدي إلى القلوب ما يرفع عنها الرين والكروب، ويتحف المُطَالع بما تستلذه المسامع، ويستطيبه القارئ والسامع، وتثلج له الصدور، وتنبعث من حقائقه أشعة النور، فجزاك الله خيرًا على هذه الخدمة الدينية التي نراها من العلم الصالح، والمتجر الرابح، والقصد الناجح، وإنا لتعميم الانتفاع به نطلب منكم أن ترسلوا إلينا من نسخه المصححة أخيرًا مائة نسخة على حسابنا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... في 21 جمادى الآخرة سنة 1352 كتاب جلالة الملك عبد العزيز (بسم الله الرحمن الرحيم) من عبد العزيز عبد الرحمن الفيصل إلى حضرة الأخ المكرم السيد محمد رشيد رضا حفظه الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فقد تلقينا كتابكم الكريم، المؤرخ في 23 رمضان سنة 1352 وأحطنا علمًا بما ذكرتم بارك الله فيكم. لقد اطلعنا على كتابكم (الوحي المحمدي) فَسَرَّنَا اهتمامكم بإخراجه للناس، وقيامكم بما فرض الله من الدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة في زمن تكاثرت فيه الشبهات ممن ران الشيطان على قلوبهم فصدهم عن سبيل الله حتى ضلوا وأضلوا. فكان كتابكم من أبلغ القول في إظهار حجة الله القائمة على عباده، يدعو من كان له قلب إلى دين الحق، ويبين للجاحد الملحد بطلان حجته، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا. وأخذ بيدكم في تأييد الدعوة الإسلامية، ونشر عقائد السلف الصالح، ووفقنا وإياكم لما فيه نصر لدينه، وإعلاء لكلمته، إنه على كل شيء قدير. والسلام. في 4 من ذي القعدة سنة 1352 ... ... ... ... ... (الختم) *** كلمة من كتاب لإمام طائفة الإباضية الهمام كنا أهدينا نسخة من كتاب الوحي المحمدي إلى هذا الإمام الجليل مع كتاب خاص فجاءنا كتاب منه (من نزوى - عمان) بعد جمع ما تقدم وما بعده قبل طبعه قال في أوله بعد البسملة: من إمام المسلمين محمد بن عبد الله الخليلي إلى حضرة العلامة المحقق أخينا السيد محمد رشيد رضا المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد فإن رأيتم في إبطائنا في الرد على كتابكم الكريم المرسل معه مؤلفكم فذاك لا عن إهمال وعدم تقدير، وإن لكم ولأمثالكم من إخواننا علماء الدين الحنيف منزلة كبرى في القلب لا يحلها سواهم … (ثم قال بعد بيان العذر) (أما مؤلفكم العظيم فهو في غنى عن التقريظ والمدح، وإعجابنا به لا يحد، ولا شك أنه الحجة الدامغة والقول المتين لمن لا يدين بهذا الدين القويم، وفقكم الله لخدمة الإسلام والمسلمين، وبارك الله فيما تنوون وتقصدون، وسلام الله عليكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (الإمضاء) كتاب صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر بالأمس ورئيس المحكمة الشرعية من قبل ورئيس جامعة الدفاع عن الإسلام اليوم صديقي السيد الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا: أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم (الوحي المحمدي) أن أقول: إنكم وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصته من ينابيعه الصافية عرضًا قلَّ أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة، وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون، فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون، ولكم مني تحية الإخاء والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... محمد مصطفى المراغي تقريظ الأستاذ الفاضل صاحب المصنفات المفيدة الشيخ محمد أحمد العدوي من نابغي علماء الأزهر كتاب جديد أخرجه الأستاذ الكبير صاحب المنار، وآية كبرى من آيات الله في التأليف، وحسنة من حسنات صاحب المنار (وحسناته كثيرة) تقرأ هذا السفر فترى فيه حججًا دامغة، وإحاطة بمقاصد الإسلام، ودفعًا لشُبَهٍ يوردها أعداء الحق، ولقد يخيل إليك أثناء دراستك للكتاب أن صاحبه لمس أمراض النفوس فوضع لها علاجها، كما تراه قد أقام الحجة من العقل والنقل على الملحدين من رجال العلم ولا سيما الماديين منهم، وإنه لكتاب تحتاجه جميع الطبقات، وحاجة الذين يهمهم نشر الدين والدعوة إليه أشد، أفاض في مباحث الوحي، وأقام الأدلة على أن ذلك الوحي لم يكن نابعًا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم كما زعم المسيو درمنغام في كتابه (حياة محمد) وغيره، وإنما هو نازل من السماء. ليس بالعجيب أن نرى لصاحب المنار هذه المعجزة العلمية فإن البحوث الدينية والتحقيقات العلمية قد امتزجت بلحمه ودمه، حتى أصبحت الكتابة فيها هينة عليه لينة له، ويأخذ منك العجب منتهاه حيث تجلس إليه فيحادثك وتحادثه وقلمه يسيل بتحرير مسائل في الدين أقل ما يحتاج الكاتب إليه فيها أن ينقطع عن العالم ليجمع شتات فكره رجاء أن يلم بأطراف مسألة منها. وهذه آثاره في تفسير كتاب الله تعالى ناطقة بنبوغه وتفوقه، وأنه بَزَّ علماء التفسير جميعهم في إبراز القرآن الكريم للناس معجزة دائمة، وهداية عامة شاملة، وسعادة لهم في دينهم ودنياهم، تقرأ طائفة من التفسير فتحس في خلال القراءة أن من ورائك سوطًا من أسواط الحق يسوقك إلى الفضيلة ويردعك عن الرذيلة وأن صلتك بكتاب الله تعالى وتعلقك في هدايته وفقه معانيه هي أغلى شيء في هذه الحياة، وأعظم رزق ساقه الله إليك، كما تحس في ذلك التفسير أنك في دائرة من دوائر المعارف الإلهية الكبرى. وجدير بأستاذ له هذا الأثر أن يطلع على الناس بأمثال الوحي المحمدي مما يغذي أرواحهم، وينمي معارفهم، دع ما وراء ذلك كله من قوة في البيان، ورواء في الأسلوب، وتنسيق لطرق الاستدلال، ودقة في المأخذ؛ كل ذلك تجده في مؤلفات صاحب المنار، وتراه أوضح وأجلى في (كتاب الوحي المحمدي) وما سبقه من كتاب (نداء للجنس اللطيف وحقوق المرأة في الإسلام) . وكل ما نتمناه أن يُلْهَم الناس رشدهم، ويعرفوا للعاملين قدرهم، فيكافئوهم على هذه المجهودات بمطالعة كتبهم، وأن ينسأ الله في أجل صاحب المنار حتى يتم تفسيره الذي خدم فيه أحد عشر جزءًا من أجزاء القرآن الكريم، وأن يمده بروح منه ويبعد عنه مشاغل الحياة حتى يعيش موفور الصحة هادئ البال. وأن يستجيب فيه دعاء الأستاذ الإمام وهو يقول في آخر حياته: فيا رب إن قدرت رُجْعَى قريبة ... إلى عالم الأرواح وانفض خاتم فبارك على الإسلام وارزقه مرشدًا ... رشيدًا يضيء النهج والليل قاتم ويخرج وحي الله للناس عاريًا ... من الرأي والتأويل يَهْدِي ويلهم ... ... ... ... ... ... محمد أحمد العدوي من العلماء كلمة من كتاب للأستاذ الكريم صاحب الإمضاء لئن اجتمع علماؤنا الرسميون على أن يأتوا بمثل هذا الكتاب لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. أطال الله حياتك يا مرشد الحيران، ويا خليفة حكيم الإسلام. حتى تصير الأمة الإسلامية (رشيدية) اسمًا ولحمًا ودمًا إن شاء الله، رغم أنف الحاسدين أمثال صاحب سجود الشمس تحت العرش، وأعوذ بك ربي أن أكون من الجاهلين. يا صاحب الفضيلة: قرأت كتابكم (الوحي المحمدي) إلى آخره فإذا به فيض من نور الله، وقبس من ضيائه، يجب على كل مسلم متدين أن يقرأه؛ إذ إنه خير كتاب من نوعه ألف في هذا الموضوع، بل يجب على كل مسلم غيور أن يعمل على ذيوعه وانتشاره بين طبقات الأمة حتى يعم نفعه، وهذا ما عاهدت الله عليه خدمة للدين وابتغاء وجهه الكريم. ... ... ... ... ... ... ... ... (أحمد أحمد القصير) ... ... ... ... ... في كَفْر المندرة طائفة مما كتبه إلينا علماء ديار الشام الأعلام أيد الله بهم الإسلام -1- للأستاذ العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار [1] إذا أردت أن تعرف قيمة تفسير المنار للقرآن الحكيم، وأن تتحقق أنه أفضل تفسير للمسلمين في هذا العصر يقوم به أقدرهم عليه، وأولاهم به، وأنه لا يسد مسده تفسير آخر؛ لأنه يستمد من قوى هذا العصر وحقائقه، ويدفع ما تجدد من الشبهات والشكوك، ويقيم الأدلة القاطعة، ويورد الشواهد الحسية والتاريخية على أن الحكومة الإسلامية هي أفضل حكومة في العالم كله. إذا شاقك ذلك وأردت أن تعرفه يقينًا، فاقرأ كتاب (الوحي المحمدي) للسيد الإمام علامة العصر الأستاذ السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار ومؤلف تفسيره، فهو نموذج من ذلك التفسير العجيب الذي صدر منه عشرة مجلدات ضخمة إلى الآن، فسَّر بها ثلث القرآن الحكيم، وكتاب (الوحي المحمدي) منها هو تفسير لقوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس: 2) في أول يونس من الجزء الحادي عشر [2] . ولعمر الحق إنه أتى في هذا الكتاب بالعجب العجاب، فقد أثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالبراهين العقلية والعلمية القاهرة، وأورد الشواهد التاريخية الحسية الكثيرة ورد جميع ضلالات بني آدم عنها، لا سيما شبهات فلاسفة الإفرنج، ومطاعن الملحدين وخرافات المشعوذين. وقد كان بعض فلاسفة الغرب كتوماس ورينيه ودرمنغام وأمثالهم كتبوا في السيرة النبوية شيئًا حسنًا، وبسطوا لأممهم حقائق منها، لولاهم لطمسها الجهل والتعصب غير أن هؤلاء قد عرضت لهم شبهات وأوهام، فحسبوا الوحي الإلهي النبوي عمومًا والمحمدي منه خصوصًا، ضربًا من الاستعداد النفسي، والفيض الذاتي، أي أنه نابع من قلب الرسول صلى الله عليه وسلم غير نازل من عند الله. وقد بسط السيد الإمام شبهتهم هذه، وأبرزها بأوسع معانيها، وصورها بأجلى صورها، ثم كر عليها بالنقض والإبطال، وبين فسادها واستحالتها من عشرة وجوه لا تحتمل الرد ولا المراء. ثم عقد فصولاً في إعجاز القرآن بأسلوبه وبلاغته. وقوة تأثيره وهدايته. بما لم يؤثر مثله أي كتاب آخر. ثم أفرد مقاصد القرآن الدينية والمدنية لرفع مستوى الإنسانية. فشرح أصول السعادة الخالدة. ومطالب الحياة الراقية. ودل على مقاصد الإسلام العالية التي لا يطمح العقل البشري ولا الارتقاء المدني إلى أسمى منها أبدًا. ولقد شرح السيد الإمام معجزات الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام شرحًا بليغًا يوقف من تدبيره على سر اصطفائهم واجتبائهم، وكونهم صفوة البشر وأكملهم وأفضلهم وأولاهم بحمل أمانة التشريع، والقيام بع

العبرة بسيرة الملك فيصل ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبرة بسيرة الملك فيصل (4) أحاديثنا في دمشق: ذكرت أنني وعدت الأمير فيصلا في بيروت أن ألحق به إلى الشام بعد سفره بيوم أو يومين، وقد وفيت بوعدي وتركت عملي في بيروت وطرابلس الخاص بمسألة حقي في الوقف السلطاني الذي آل إليَّ ببراءة سلطانية وكان رجال السلطة الفرنسية مساعدين لي على أخذه فلما مكثت في الشام مع عدوهم فيصل انقلبوا عليَّ. سافرت من بيروت يوم الأحد 18 جمادى الأولى سنة 1328 - 8 فبراير (شباط) سنة 1920 تحرك بنا القطار من محطتها (س7 ق 20) صباحًا ووصل إلى الشام (س4 ق 20) مساء فأدركت صلاتي الظهر والعصر مجموعتين وزارني في الليل صديقي الأستاذ الشيخ كامل قصاب وخالد أفندي الحكيم وقالا: إن الجمعية الوطنية تقوم نهار غد بمظاهرة كبيرة في المزة (من ضواحي المدينة) يحضرها الأمير وإنهما سيذهبان بي إلى المزة قبل الظهر ونبقى فيها إلى المساء، والشيخ كامل هو الرئيس المحرك للجمعية وكانت صلته وصلة صديقيه خالد أفندي الحكيم والدكتور عبد الرحمن الشهبندر بالأمير غير ودية، أذكر هذا لأن له شأنًا بسيرة الأمير، فالملك فيصل رحمه الله تعالى من أولها إلى آخرها، ومنه سعيي للتقريب بينهما. وقد بدت الصلة بيني وبينه من ضحوة اليوم الأول (الإثنين) لوجودي في الشام إلى ما قبل نصف الليلة التي خرج منها بعد الاحتلال الفرنسي، فأنا أعتمد فيما أثبته في هذه الفصول على مذكراتي التي كنت أكتبها بعد الجلسات معه: يوم الإثنين 19 جمادى الأولى 9 فبراير (شباط) : زرته ضحوة هذا اليوم وتكلمنا خلوة في المسائل الثلاث: السورية والعربية والإسلامية كلامًا إجماليًّا هو مرتاح لذلك، وقال إن الأخيرة (أي الإسلامية) لم يسبق له تفكر فيها، وأما الثانية فكان يريد أن يسعى لجمع كلمة زعماء العرب واتفاقهم ما عدا ابن سعود لأنه عدوهم، وإذا كنت أرى أن اتفاقه معهم ممكن فهو يرى رأيي في الاتفاق كما تكلمنا في بيروت (قال) ولكنني متحير في اختيار الرجل الذي يمكن جمع كلمة العرب على تمثيله للوحدة العربية. هذا ما كتبته وأزيد عليه أنني قلت له: إن الأمة غير مستعدة للخضوع لزعيم واحد يجمع كلمتها، وإنني فكرت في هذه المسألة عدة سنين فانتهى بي التفكير إلى وضع نظام الجامعة العربية التي عرف خبرها مما فصلته له في بيروت أي نظام الحلف بين أمراء الجزيرة وتأييد الجمعيات السياسية في سورية والعراق لذلك، فإن من أصول هذا الحلف أن يكون له مجلس حلفي يجتمع مرة في كل سنة للنظر في المصالح المشتركة، وأن يكون هو الذي يقرر كل ما يعززه ويختلف ذلك باختلاف الزمان والأحوال، والمعقول أن يكون المكان الذي يختار لهذا المجلس في الغالب هو الحجاز فهو يمهد السبيل لاتفاقهم على جعل الشريف أمير مكة المكرمة هو الرئيس الموقت فالدائم له، وإننا على هذا لم نبلغ والده خبره ولا دعوناه إليه إلا بعد أن بلغناه لجميع أمراء الجزيرة وقبولهم إياه قبولاً مبدئيًّا مقيدًا لا مطلقًا، ثم بلغته لأخيه الشريف عبد الله فبلغه والده كما تقدم , وقد أظهر لي في مكة قبوله وتأجيل تنفيذه إلى أن يظهر على الترك ويخرجهم من الحجاز، ولكنه صرح لبعض من يأمن لهم بأنه يوجد اليوم شيء اسمه إمام اليمن وشيء اسمه ابن سعود، ولا يوجد غدًا شيء من هذه الأسماء، بل تكون البلاد العربية كلها مملكة واحدة خاضعة لملك واحد، وقد أفشى لي قوله هذا من سمعه منه؛ لأنه كان ممن قبلته في الجمعية، وخلاصة ما قلته له أن جمع الكلمة قد يرجى بنظام يُتَّبَع، لا برئيس يُطَاع. وبعد فراق الأمير ذهبت إلى المزة مع بعض أعضاء الجمعية الوطنية وكانت الريح شديدة العصف والبرد قارسًا والجو تتكاثف فيه السحب، ولم يلبث الجو أن بدأ ينثر درر الثلج أو يبث قطنه المنفوش فكان هذا سببًا لإحجام الألوف من الأهالي عن الذهاب إلى المزة لحضور المظاهرة، على أنه قد وافاها كثيرون ولا سيما رجال الحكومة والأغنياء أصحاب المركبات المختلفة، وكانت الخيام مصفوفة في ذلك الميدان الفسيح كالمعسكرات وكلها مفروشة بالطنافس العجمية، فأوى إليها الناس. وأما الغرض من هذه المظاهرة فهو أن يرى الأمير فيصل أن الأمة كلها متفقة على طلب الاستقلال المطلق من كل قيد لا ترضى بما دونه بديلاً، وكان الشيخ كامل وأركان الجمعية علموا أن الأمير جاء من أوربة متفقًا مع فرنسة على نوع من الوصاية، وقد كنت كتبت إليه من بيروت ما فهمته من حديث فيصل في هذه المسألة وأنه يعتقد أنه يقدر أن يأخذ من زعماء البلاد تفويضًا إلخ. وبعد أن تمَّ الاجتماع حضر الأمير فيصل ومعه أخوه الأمير زيد ورجال حكومته والأمير نوري شعلان شيخ عرب الرولة وكان يكثر التردد عليه، والأمير محمود الفاغور، وألقى الأستاذ الشيخ كامل خطبته الحماسية الضافية الذيول، المتدفقة السيول، فأجابه الأمير عنها بأنه يؤيد الأمة في طلب الاستقلال المطلق، وأنه لا ينال إلا بجيش قوي منظم، وهذا يتضمن الرد الخفي على الخطبة من غير أن يؤخذ على الأمير شيء تفهم منه الأمة أنه يريد أو يرضى دون ما تريده أو ترضاه. ثم وضعت موائد الطعام فأكل الأمير والمدعوون ولم تقبل نفسي أن آكل شيئًا بل خفت ضرر البرد فعدت إلى البلد (دمشق) مع علي رضا باشا الركابي الحاكم العام في سيارته. (يوم الثلاثاء 20 جمادى الأولى 10 فبراير) : كان الأمير فيصل دعاني أمس الاثنين إلى الغداء معه اليوم لأجل أن نتكلم بعد الغداء في سياستنا التي افتتحنا الحديث فيها، ثم عرض له بعد الغداء شغل فأخر الحديث إلى الليل فسهرت معه وتكلمنا أولا بحضور أخيه الأمير زيد وقد بسطت لهما ما دار بيني وبين والدهما في مكة وأهمه إقناعه بترك مسألة الخلافة (كما نشرتها المنار من قبل ولا حاجة إليها هنا) ثم تكلمنا في أمور أهمها ثلاث (إحداهما) اقتراحي عليه أن يسعى لجلب عزيز علي بك المصري من أسبانية فوافقني على ذلك (والثانية) اختيار من نرسله إلى ابن السعود بعد أن اتفقنا على أن يكتب إليه كل منا كتابًا (والثالثة) مسألة ارتيابه في بعض زعماء الحركة العربية وارتيابهم فيه وما في ذلك من الضرر. وكنت عرفت هذا من قبل عودته من أوربة وتلاقينا في بيروت، وازددت به علمًا في دمشق، ولما رأيت ما أوتيه من اللين والمرونة والاقتناع بالمعقول واغتباطه بأن أعمل معه بالتعاون حاولت أن أوفق بينه وبينهم كما مهدت لهذا في بيروت. فصرحت له في هذه الجلسة بأن الشيخ كاملا والدكتور شهبندر وخالدًا أفندي الحكيم من المخلصين في الخدمة الوطنية ويجب أن يكونوا موضع ثقته، ولم أكتم عنه ما يُنْتَقَدُ على الثلاثة (هذا ما كتبته عقب الجلسة ولكني نسيت الآن ما قلته له في هذا) . ومما قاله هو لي: إنه يود أن أبقى في الشام للعمل معه، وأن أكون الحجر الأساسي في المسألتين الإسلامية والعربية لا العربية فحسب، وذلك أنني أقنعته بأن هاتين المسألتين متلازمتان فلا يمكن تأسيس الوحدة العربية وإعادة مجد العرب وحضارتهم إلا بالإسلام، ولا يمكن إعادة هداية الإسلام وإصلاحه للبشر إلا باللغة العربية والأمة العربية. وكلمني في نقل إدارة المنار والأسرة من مصر إلى الشام. فقلت له: إن هذا ليس من المصلحة الآن وهو يقتضي نفقة كبيرة وإضاعة مركز عظيم ثابت إلى مركز مضطرب حاضره، مجهول مستقبله، ولكنني أترك الإدارة والدار والأعمال الخاصة والآل في مصر وأبقى الآن في دمشق إلى أن يتم ما اعتزمناه ثم نرى ما تقتضيه المصلحة بعد. وأعني بما اعتزمناه جمع المؤتمر العام وإعلان الاستقلال التام، وكنت أول من اقترح هذا على خواص إخواننا من حزب الاستقلال. (يوم الأربعاء 21 جمادى الأولى 11 فبراير) تفارقنا أمس على أن نعود قبل ظهر اليوم (الأربعاء) للمضي في الحديث الذي ابتدأناه، وقد عدت في ضحوة النهار، وزاره وأنا معه كاتب أميركاني يراسل بعض الجرائد وسأله عدة أسئلة أحسن الجواب عنها. ثم شرعنا في الحوار وكان الأمير زيد حاضرًا فسألني عن رأيي في المذاهب الإسلامية فبينت له معنى كلمة المذهب وحكم التقليد والاجتهاد، وما يدخل فيه وما لا يجوز فيه، سألني هل يمكن إزالة الخلاف الديني وتوحيد المذاهب؟ قلت: إن الخلاف طبيعي لا يمكن إزالته وإنما الواجب إزالة ضرره ولا سيما التعادي في التفرق الذي ذمه القرآن ونهى عنه وتوعد عليه، وذكرت له الآيات فيه، وبينت له طريقة تلافيه، وسهولته إذا وجدت حكومة رشيدة تنفذ رأي المصلحين فيه. ((يتبع بمقال تالٍ))

بيان من المعرض العربي العام في القدس إلى الأمة العربية الكريمة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ بيان من المعرض العربي العام في القدس إلى الأمة العربية الكريمة كان المعرض العربي الأول الذي أقيم في بيت المقدس خلال شهر (تموز) الماضي حجر الأساس للنهضة الاقتصادية العربية الحديثة ووسيلةً للتعارف وتوثيقًا لمعاملات المحلات التجارية بين الأقطار العربية الناهضة، وقد افتتح المعرض في جو من الشك بنجاحه وكانت الظروف التي سبقت افتتاحه والمدة التي تم الاستعداد فيها لهذا الافتتاح باعثًا على الشك في النتائج المرجوة منه، غير أن الأمة العربية الكريمة خرجت ظافرة من هذه التجربة الاقتصادية وظهرت بوادر النجاح منذ الساعات الأولى للافتتاح، ولم تمض أيام حتى برز المعرض حقيقة ناطقة بكفاءة البلدان العربية وتبريزها في ميادين الفنون والصناعات، وقيض الله لهذه الأمة أن ترى راياتها خافقة على شرفاته تثير في النفوس الأبية أسمى العواطف التي تثيرها المظاهر القومية وتعلن للملأ أن هنا وطنًا عربيًّا خالدًا وأن هنا أمة عربية ناهضة ستملك على الدهر أمره وتعود سيرتها الأولى. وقد ترك هذا المعرض أبلغ أثر في حياة البلاد الاقتصادية العامة وخلَّف نتائج كثيرة منها: (1) تعميم استعمال المصنوعات والمنتوجات الوطنية. (2) تنمية الأموال العربية فقد ربح المعرض 53 في المئة بنسبة رأسماله المدفوع. (3) إنهاض المشاريع الوطنية ومؤازرة الأعمال الخيرية إذ قد وزع المعرض من أرباحه 5، 28 في المئة على المساهمين 25 في المئة على اللجان والنوادي الوطنية، وهذا بلا شك ربح كبير بالنسبة لرأس المال ومدة العمل. (4) تنشيط العامل العربي بتقوية المصانع العربية. (5) توثيق الروابط الاقتصادية بين الأقطار العربية. (6) إفهام الشعب أن كيانه السياسي مرتبط بكيانه الاقتصادي. على أثر نجاحه وتحقق مقاصد الهيئة القائمة به نشأت فكرة تأسيس معرض عربي دائم لعرض المصنوعات والمنتوجات العربية وتغذية الأسواق التجارية بها، والعمل لتشجيع أصحاب الأموال للإكثار من المصانع والمعامل المفتقرة البلاد إليها وفسح المجال أمام العامل العربي وتمهيد السبل لنجاحه في مختلف ميادين العمل، وها هي الفكرة تبرز الآن من مكمنها فتنبعث شركة عربية جديدة غاياتها: إيجاد معارض تجارية وصناعية وزراعية دورية ودائمية وأسواق تجارية دائمية في فلسطين وسائر الأقطار العربية، وشراء الأراضي والعقارات اللازمة لذلك واستئجارها وتأجيرها، والقيام بجميع أعمال المعارض والأسواق التجارية على اختلاف أنواعها، وتأسيس جريدة أو مجلة باسم المعرض وشراء المطابع والآلات والأدوات المقتضاة لها واستغلالها. هذه صورة عامة لنتائج المعرض الأول ولمشروع المعرض الدائمي وغاياته نعرضها على أنظار الأمة العربية الناهضة واثقين أن كل عربي يغار على أمته وبلاده غيرة صحيحة ويود أن يكون عاملاً من عوامل الخير لهذا الوطن لما يحسن من عمل في زمن لا مأمل لنا فيه إلا بالأعمال المجدية والمثابرة عليها وإجادتها يناصر هذا المشروع بالاكتتاب والتأييد ونشر الدعوة له وحض الوطنيين على الإقبال عليه حتى يأتي موفقًا كما جاء المعرض العربي الأول. حقق الله الآمال ... ... المديرالعام ... ... ... ... ... رئيس مجلس الإدارة نبيه العظمة ... ... ... أحمد حلمي عبد الباقي قيمة الأسهم تدفع أو ترسل للبنك العربي وفرعيه بيافا وحيفا وفرع البنك الزراعي في طول كرم. مدة الاكتتاب تنتهي 31 كانون ثاني (يناير) سنة 1934. يفتتح المعرض في 6 نيسان (أبريل) سنة 1934 في القدس.

المنشور القانوني الصادر من شركة المعرض العربي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنشور القانوني الصادر من شركة المعرض العربي (المحدودة) 1- محتويات عقد التأسيس (1) اسم الشركة: شركة المعرض العربي المحدودة. (2) غايات الشركة: إيجاد معارض تجارية وصناعية وزراعية دورية أو دائمية وأسواق تجارية دائمية في فلسطين وسائر الأقطار العربية وشراء الأراضي والعقارات اللازمة لذلك واستئجارها وتأجيرها، والقيام بجميع أعمال المعارض والأسواق التجارية على اختلاف أنواعها وتأسيس جريدة أو مجلة باسم المعرض وشراء المطابع والآلات والأدوات المقتضاة لها واستغلالها. (3) مسئولية الأعضاء: محدودة. (4) رأس مال الشركة: ثلاثة آلاف جنيه فلسطيني مقسمة إلى ثلاث آلاف سهم قيمة كل سهم جنيه فلسطيني واحد. نحن المدونة أسماؤنا وعناويننا أدناه، نرغب في تأليف شركة طبقًا لعقد التأسيس هذا، ويتعهد كل منا بأن يأخذ عدد الأسهم في رأس مال الشركة كما هو مبين تجاه اسمه. أسماء وصفات وعناوين الموقعين: ... ... ... ... عدد الأسهم أحمد حلمي باشا عبد الباقي. رئيس مجلس إدارة البنك العربي - القدس ... 100 نبيه بك العظمة ... ... ... ... ... ... ... القدس ... 30 عبد الحميد أفندي شومان مدير البنك العربي ... ... القدس ... 100 الشيخ عبد الباري أفندي بركات. تاجر ... ... ... القدس ... 30 فؤاد أفندي سابا. فاحص حسابات ... ... ... ... القدس ... 30 جميل أفندي وهبه. مدير شركة صناعية ... ... ... القدس ... 10 عبد الله أفندي جوده مدير شركة تجارية ... ... ... القدس ... 30 علاقة الأسهم بأموال وأرباح الشركة إن جميع الأسهم عادية لها نفس الحقوق في أموال وأرباح الشركة. 2- مؤهلات ومرتبات عضوية مجلس الإدارة يشترط في عضو مجلس الإدارة أن يكون مخصصًا لضمان إدارته ثلاثين سهمًا من أسهم الشركة على أن تبقى هذه الأسهم غير قابلة للنقل ومودعة في خزانة الشركة مدة عضويته وإلى انتهاء وكالته وإخلاء طرفه بالتصديق على الحساب الختامي. (المادة 19 من نظام الشركة) توزع الأرباح الصافية بعد تنزيل جميع النفقات والاستهلاكات كما يأتي: (1) عشرة في المائة للرأسمالي الاحتياطي. (2) عشرة في المائة يوزعها مجلس الإدارة على الجمعيات والنوادي. (3) عشرة في المائة لهيئة مجلس الإدارة، ثلاثون في المائة منها تخصص لرئيس المجلس وسبعون لباقي الأعضاء على التساوي. (4) سبعون في المائة للمساهمين كل بنسبة أسهمه (المادة 52 من نظام الشركة) . 3- أعضاء مجلس الإدارة يقوم بإدارة الشركة مجلس مُؤَلَّف من ثلاثة أعضاء على الأقل وسبعة أعضاء على الأكثر تنتخبهم الجمعية العمومية بالاقتراع وقد عين المؤسسون أول مجلس إدارة من السادة الآتية أسماؤهم: أحمد حلمي باشا عبد الباقي ... رئيس مجلس إدارة البنك العربي القدس نبيه بك العظمة ... ... ... مدير المعرض القدس الشيخ عبد الباري أفندي بركات تاجر القدس عبد الحميد أفندي شومان ... مدير البنك العربي القدس. جميل أفندي وهبة ... ... ... تاجر وصاحب مصنع القدس. لمدة أربع سنوات اعتبارًا من تاريخ المباشرة بالعمل. 4- الحد الأدنى للاكتتابات تعتبر الشركة مؤسسة عندما يكتتب بربع رأس المال على الأقل (المادة 7 من نظام الشركة) . 5- كيفية تسديد الأسهم رأسمال هذه الشركة ثلاثة آلاف جنيه فلسطيني مقسمة إلى ثلاثة آلاف سهم قيمة كل سهم جنيه فلسطيني واحد يدفع منه النصف عند الاكتتاب والنصف الآخر عند طلب مجلس الإدارة بشرط أن يعلن مجلس الإدارة طلبه في جريدتين عربيتين في فلسطين على الأقل، وأن يعطي مهلة لا تقل عن خمسة عشر يومًا لدفع القيمة (المادة 5 من نظام الشركة) 6- عمولة الاكتتابات لا تدفع الشركة أية عمولة عن الاكتتابات. 7- المصاريف التأسيسية تقدر النفقات التأسيسية التي هي عبارة عن رسوم تسجيل للحكومة وثمن طوابع ولوحات وأختام ودفاتر وقرطاسية وخلافه نحو خمسين جنيهًا، مع العلم بأن المؤسسين لن يتقاضوا أجورًا مقابل أتعابهم في تأسيس الشركة. 8- فاحصو حسابات الشركة السادة سابا وشركاهم. محاسبون. وفاحصو حسابات القدس. 9 - حق التصويت لا يقبل في الجمعية العمومية إلا المساهمون الذين يملكون خمسة أسهم على الأقل، ولكل مساهم تتوفر فيه الشروط اللازمة لحضور الجمعية العمومية أن ينيب عنه عند الضرورة مساهمًا آخر يكون عضوًا من أعضاء الجمعية (المادة 38 من نظام الشركة) لكل عضو من أعضاء الجمعية ولكل واحد من موكليهم صوت واحد عن كل خمسة أسهم. أما الكسور فلا يعول عليها (المادة 39 من نظام الشركة) . القدس في 15 رمضان سنة 1352 ... 1 كانون الثاني سنة 1934. ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس مجلس الإدارة ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد حلمي عبد الباقي ملاحظة: مدة الاكتتاب تبتدئ من تاريخ هذا المنشور، وتنتهي 31 كانون الثاني سنة 1934. والاكتتابات تدفع أو ترسل إلى البنك العربي بالقدس أو فرعيه بيافا وحيفا، يفتح المعرض أبوابه في 22 ذي الحجة سنة 1352 موافق 6 نيسان سنة 1934.

إعذار تلو إنذار لهاضمي حقوق المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعذار تلو إنذار لهاضمي حقوق المنار من كان عاجزًا عن أداء ما عليه من حق المنار عجزًا لا يرجى زواله فليعتذر إلينا نجعله في حلٍّ منه، ومن أنظرنا إلى ميسرة ننظره، ومن صالحنا على بعضه دون بعض نقبل منه، ومن طلب تقسيطه عليه أجبناه، ومن لم يجبنا إلى شيء من ذلك شكوناه إلى الله عز وجل وسألناه وحده أن ينتقم منه في دنياه قبل آخرته {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 4) إن قراء المنار لأحق المسلمين بالوفاء وأداء الحقوق ولا سيما حق من وقف حياته ويبذل نفسه وماله في خدمة دينهم بما لم يقم بمثله غيره كقيامه، بل هم أولى المسلمين بأن يبذلوا في تأييد هذه الخدمة فوق ما هو حق عليهم، وإنهم ليعلمون ما ينفقون في سبيل شهواتهم، وإنهم ليعلمون ما يتبرع به أصحاب الأديان الباطلة من الملايين في دعوتهم إلى دينهم، والطعن في دينهم أفضل الأديان، وفي كتابهم أصح الكتب المنزلة وأهداها، وفي سيدهم بل سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين ورحمته للعالمين صلى الله عليه وسلم، أفليس من العجيب أن يهضم أحد منهم حقه، وتلجئه ضرورة العسرة أن يذكرهم بربهم وكتابهم ووجدانهم فلم يستجب له إلا أقلهم؟ فمنهم من استبرأه فأبرأه ومنهم من شكا العسرة فأنظره ومنهم من حط عنه بعض ما عليه وقضى بقيته، فأي عذر للآخرين، إلا إملاء الله للظالمين.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار سؤال أو أسئلة عن خلافة آدم ونبوته ومعصيته (52-56) من صاحب الإمضاء: حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الحجة السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء بمصر. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته من أخ أو ابن يعتقد فيكم الصراحة في القول والإخلاص في العمل، والصدع بالحقيقة متى استبانت، لذا يحفزني إلى الكتابة إليكم اليوم سؤال طالما جشأت به نفسي وجاشت، عَلَّنِي أجد لديكم ما يشفي اضطرابها (وبعد) فإني أفهم من الآيات التسع الواردة في خلافة آدم بسورة البقرة من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: 30) إلى قوله: {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة: 38) أن خلافة آدم كانت في أرضنا التي نعيش عليها (كوكب الأرض) وأنها كانت ملكًا عظيمًا قائمًا بسياسة الناس إذ ذاك وتدبير شؤونهم على وفق قانون سماوي مقدس، وأن إسكانه الجنة عقب تعيينه خليفة دليل على أن المراد منها دار الخلافة ومظهرها، وأن إخراجه من الجنة دليل على سقوط خلافته) . كل هذا تؤديه الآيات المشار إليها، وكله ظاهر ومفهوم منها، وهو ما أعتقده الآن وأجزم بصحته، وعندي عليه من الأدلة الصادقة ما هو مقنع، ولكن الذي أشك فيه، وأرجوكم توضيحه وكشف غموضه هو ما يأتي: - 1- أكانت خلافة آدم كخلافة أبي بكر الصديق وزملائه، أي ليست متضمنة لنبوته ورسالته؟ وإذًا لم يكن عصيانه بالأمر القادح في الأنبياء إذ لم يكن منهم؟ ولا يرده ظاهر قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: 31) لأنه من قبيل {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) ولا ظاهر قوله: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 5) و {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} (البقرة: 35) إذ هو من باب: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} (الأعراف: 26) ونحوه. 2- أم كانت خلافته كخلافة نبي الله داود وإخوانه، أي تنطوي على نبوته ورسالته؟ وإذًا كيف الجمع بين معصيته وتأسي المحكومين بجميع أقواله وأفعاله؟ والتأسي بالأنبياء أمر لازم بالشرع، الذي لم يندب الناس لعصيان الخالق {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) ؟ وكيف تؤولون سقوط خلافته جزاء لمعصيته لو كان في الخلافة معنى نبوته ورسالته؟ 3- وهل من نصر الله لرسله الذي أكده في قرآنه إذ قال بسورة الصافات: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ} (الصافات: 173) أي للشيطان وحزبه، وقوله في سورة المؤمن: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا} (غافر: 51) أي على المخالفين لهم: إسقاط آدم من سلك المرسلين لو كانت خلافته رسالة للخلق أم هو خذلانه؟ وباطل أن يكون آدم من أنبيائه ورسله الأكرمين. 4- ولم قال الله تعالى من سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} (الشورى: 13) ؟ ومن سورة النساء {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} (النساء: 163) فسكت عن آدم ولم يذكره قبل نوح ومحمد ومن بينهما لو كان من سلكهما، مع أنه جدهما. 5- ولم بدأ الله بقوم نوح ثم الأحزاب من بعدهم في كل مقام ذكَّر فيه أهل القرآن بالأمم قبلهم كقوله في سورة المؤمن: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} (غافر: 30-31) ولم يبدأ بآدم لو كان ذا أمة وكان نبيًّا مرسلاً؟ هذا ما عَنَّ لي عرضه على سمعكم، وأملي كبير في أن تكتبوا عنه مطولا على صفات مجلتكم انتصارًا للحق، فهو بالاتباع أحق، ... ... وكتبه ... ... ... ... ... ... ... ... محمد مقبول حلاوة ... ... ... ... ... ... المدرس بمدرسة كفر ربيع الابتدائية (52و53) معنى خلافة آدم ونوعها: الخليفة من يخلف من قبله في أمر كان عليه، جمعه خلفاء وخلائف ومنه قوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} (النمل: 62) وقوله في آخر سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ} (الأنعام: 165) ومثلها آيات. وخلافة آدم فيها وجهان: أحدهما أنه هو وذريته يخلفون أمة من الخلق كانت قبلهم. والثاني أنه خليفة لله تعالى في أرضه يظهر هو وذريته حكمه وأحكامه وسننه في خلقه بجعلهم مستعدين لمعرفة كل نوع من أنواع المعلومات، وهذا خاص بهم في جملتهم لا يشاركهم فيه جنس آخر من العوالم الظاهرة ولا المغيبة. وما قصه الكتاب علينا من قصة آدم وتوبته أحد هذه المظاهر والاستعداد للأمور المتعارضة. فخلافة آدم لم تكن كخلافة أبي بكر رضي الله عنه لمحمد صلى الله عليه وسلم في إقامة شرعه، ولا كخلافة داود عليه السلام للحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه. (54-56) معصية آدم ورسالته: إن جميع الأسئلة مبنية على أن آدم كان نبيًّا رسولاً إلى قوم بشرع ينفذه فيهم، وأن معصيته تنافي رسالته على ما هو مقرَّر في كتب العقائد من عصمة الرسل عليهم السلام، والواقع أنه لم يكن مع آدم في جنته قوم، ولم يكن له شرع، وإنما امتحنه الله وهو وزوجه بالنهي عن الأكل من شجرة معينة؛ لإظهار استعدادهما البشري لكل من المعصية والطاعة كما قلنا آنفًا. ولم يكن آدم في ذلك الطور مرسلاً إلى أحد فيكون قدوة سيئة له في المظهر الأول. وإنما أرسل الله الرسل إلى الأمم بعد طور الحضارة وفساد الفطرة وظهور الشرك فيها، وأولهم نوح عليه السلام. وقد فصَّلنا كل ما يتعلق بقصته في مواضع أبسطها ما في سورة البقرة من ص 258-280 ج أول تفسير وص 338-357 ج 8، وحققنا مسألة معصيته في ص 513 وعدم رسالته في ص 602 كلاهما في ج 7 طبعة ثانية منه. فنحن لا نزيد شيئًا من تلك التفصيلات هنا، وإنما على السائل الفاضل أن يراجعها في مواضعها التي بيناها، فإن رأى بعد ذلك حاجة إلى استفتاء آخر في موضوعها فليتفضل به. قارون وما قاله المفسرون فيه (س 57) من سعادة صاحب الإمضاء في فم الخليج بمصر حضرة صاحب الفضيلة العالم الجليل الأستاذ الشيخ السيد رشيد رضا حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد فقد ورد في التفاسير عن قارون أنه كان تابعًا لموسى عليه السلام وكان يحفظ التوراة، وكان من السبعين الذين اختارهم للميقات وغير ذلك مما جاء عنه كما هو معلوم لحضرتكم، ولكن أظن أن التعبير بأن قارون كان من قوم موسى ليست له الدلالة الكافية على إيمانه نظير قوله تعالى في سورة الممتحنة: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} (الممتحنة: 4) الآية وقد جاء في سورة المؤمن: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} (غافر: 23- 24) وقال الله تعالى في سورة العنكبوت بعد أن ذكر عادًا وثمود وقارون وفرعون وهامان {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا} (العنكبوت: 40) . قال بعض المفسرين: قُدِّمَ قارون على فرعون وذُكِرَت عقوبته قبل عقوبة فرعون لسبق حادثته، وإذا صح هذا فكيف جاوز البحر مع موسى وحضر الميقات وحفظ التوراة وآمن بموسى. أرجو التكرم بإفادتنا عما ترونه في ذلك؛ خدمة للعلم نفع الله بكم الإسلام والمسلمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... السيد شكري باشا (ج) إن قصة قارون مثل ضربه الله للباغين الطاغين بغناهم ودثورهم وموضوعه من أخبار الغيب الماضية، والذي نراه أن ما ذكره المفسرون عنه كله من الإسرائيليات التي لا يُعْتَدُّ بشيء منها، فلا ينبغي أن نزيد في قصته على ما جاء في التنزيل شيئًا. ومنه أنه كان كافرًا باغيًا ضالاًّ فانتقم الله منه، وجعله عبرة لغيره. * * * الطلاق الثلاث باللفظ الواحد (58) من مستفت في فلسطين وأجيب عنها بكتاب خاص في العام الماضي. ما قول فضيلتكم في رجل قال لامرأته إثر مشاجرة وهو يعي ما يقول: (أنت طالق ثلاثًا) هل يقع عليه بذلك ثلاث طلقات أم يقع عليه طلقة واحدة؟ أفيدونا ولكم الثواب من الله تعالى. (ج) إن هذه المسألة من المسائل الاجتهادية التي وقع فيها الخلاف بين السلف والخلف، فظاهر قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} (البقرة: 229) أن حل عقدة الزوجية الذي يملكه الرجل ويملك الرجعة بعده مرتان، أي مرة بعد مرة، وبيَّن حكم الثالثة بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (البقرة: 229) فالمرة من الشيء هي الفعلة الواحدة فوصفها بالكثرة لغو باطل لغة وشرعًا وعرفًا، فإن التعدد من الفعل أو القول تكراره مرة بعد أخرى. وفي صحيح مسلم وغيره أن الطلاق الثلاث باللفظ الواحد كواقعة السؤال كان يُعَدُّ طلقة واحدة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر ثم أمضاه عمر على الناس، والظاهر أن إمضاءه عقوبة لهم ليكفوا عنه لمخالفته للمشروع، والله أعلم. وأخذ جمهور العلماء بهذا وبقي فيهم من يفتي بالأول وهو الأصل، وقد اعتمدته الحكومة المصرية في محاكمها الشرعية في هذا العصر، وهو الذي أعتقده وبسطت أدلته في تفسير الآية من جزء التفسير الثاني، وفي مواضع من مجلة المنار. فمن وقع له ذلك، وكان من أهل النظر والفهم فعليه أن ينظر في أدلة المسألة التي بسطناها نحن وغيرنا ويعمل بما يراه الأرجح من جهة الديانة، ومن لم يكن من أهل النظر استفتى من يثق بعلمه ودينه وعمل بفتواه. وأما من جهة القضاء إذا اختلف مع مطلقته في ذلك فالواجب اتباع ما يقضي به قاضي بلده فإن حكم الحاكم الشرعي يرفع الخلاف في المسائل الاجتهادية دون القطعية. * * * (95) الصفات المستحيلة على الخالق تعالى: حضرة صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا منشىء مجلة المنار بالقاهرة. مقدمه لفضيلتكم عبد الله أوانج القطاني الطالب برواق الجاوه بالأزهر الشريف، وبعد فإنني تلقيت خطابًا من جدي وهو من العلماء المدرسين في بلدنا (فطاني بسيام) وأمرني فيه أن أرفع السؤال الآتي إلى علماء مصر لأنه حصل نزاع فيه بين العلماء الموجودين هناك لعلهم يجدون من الجواب مخلصًا وقاطعًا لذلكم النزاع، أرفع إلى فضيلتكم ملتمسًا أن تفتوا في هذه المسألة إليَّ مباشرة برواق الجاوه بالأزهر لأرسل ذلكم الفتوى إلى هناك. (استحالة المستحيلات) هل هي من الصفات الواجبة لله تعالى من الصفات السلبية أو لا؟ هذا هو السؤال فالرجاء من فضيلتكم أن تفتوا بأدلة صريحة مقنعة ولفضيلتكم جزيل الشكر، وتفضلوا بقبول فائق التحيات ووافر الاحترام. ... ... ... ... ... ... ... المقدم: عبد الله أوانج الفطاني (ج) قوله: (استحالة المستحيلات) ليس صفة لله تعالى ولا لغيره، وليس كلامًا له معنى يسأل عنه، لكن المفهوم بالقرينة أنه أراد به ما اصطلح عليه بعض المتكلمين من تقسيم الصفات إلى وجودية وسلبية، وواجبة ومستحيلة، فصفات الكمال هي الواجبة لله تعالى كالقدم والبقاء والعلم والقدرة، وصفات النقص هي المستحيلة كالحدوث والفناء والجهل وال

ويل للعرب من شر قد اقترب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ويل للعرب من شر قد اقترب (أفلح من كف يده) (حديث نبوي صحيح) يالله العجب، ماذا أصاب العرب؟ ما لهم يخربون بيوتهم بأيديهم؛ ليمكنوا أعداءهم من نواصيهم؟ هل عمرت بلادهم وكملت قواهم، ولم يبق شيء ينقصهم من عظمة الملك وعزة السلطان، إلا فتح البلاد، واستعمار الأقطار، وعجزوا عن أعدائهم الطامعين، فعاهدوهم ووادوهم ليفرغوا لقتال إخوانهم المؤمنين؟ كان شر مساوي العرب وأضرها التفرق والتعادي حتى هداهم الله إلى الإسلام فطهرهم من هذا الخزي والجهل الذي جعلهم منبوذين في جزيرتهم كوحوشها وضواريها، وامتن عليهم بقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} (آل عمران: 103) وامتن على رسوله الذي شرَّفهم به بقوله: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 62-63) وإنما ألف بينهم بهداية هذا الدين لا بالمعجزات وخوارق العادات، وكان من أثر هذا التأليف واجتماع الكلمة أن فتحوا نصف العالم في مدة نصف قرن، وصاروا أئمة العالم في الهدى والعدل والعلم. ثم عادوا إلى التفرق والتعادي بترك هداية هذا الدين الذي أزالهما وأدال منهما الولاء والأخوة، وبالتفرق فيه نفسه بما أحال الدواء داء، والقوة ضعفًا، فكانوا فرقًا وشيعًا ومذاهب دينية وسياسية، وهم يتلون كتاب الله ويدعون الإيمان به، وينبذ كل فريق منهم الآخر بأنه هو المخالف للكتاب النابذ له وراء ظهره، ويتلون فيه قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وقوله لهم: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 105) وقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) . فهل يدعي المتفرقون المشاقون أنهم ممتثلون أمر الله تعالى في هذه الآيات المحكمات التي هي بمقتضى دينهم ومذاهبهم فوق سائر كتبهم وأئمتهم وعلمائهم؟ كانوا إلى ما بعد حدوث التفرق السياسي والديني يسودون العالم من شاطئ المحيط الغربي في أوربة إلى حدود الصين في الشرق الأقصى، ثم نفثت سموم الشعوبية في العالم الإسلامي فأفسدت وحدة الخلافة، وحل محلها حكم ملوك العصبيات المتغلبين من عرب وعجم، وحدث في أثناء ذلك أن سلط الله عليهم هجوم التتار المفسدين من جهة الشرق، ثم هجوم الإفرنج المتعصبين من الغرب، وما زال الجلاد بين هؤلاء وبين العالم الإسلامي حتى دالت الدولة للإفرنج في أكثر الأرض، وبقي لمسلمي الأعاجم منهم ثلاث دول صغيرة قد بينا حالها في فاتحة المجلد الثالث والثلاثين من المنار، وأما العرب فلم يبق لهم إلا هاتان الدولتان الضعيفتان في اليمن والحجاز ونجد، وقد أحاط بهم الإفرنج من البر والبحر. فهل كان يدور في خَلَد أحد يؤمن بكتاب الله تعالى وبمحمد رسول الله أن يكونوا كاليهود الذين قال الله تعالى فيهم في عهد البعثة المحمدية: {بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) في الوقت الذي يؤسس فيه اليهود بإنفاقهم وحزمهم ملكًا جديدًا بنزع قطر عظيم من الأقطار العربية من أهلها العرب يجلونهم عنه كما أجلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم خليفته الثاني رضي الله عنه أجدادهم من الحجاز ثم من خيبر وسائر جزيرة العرب، وأن يخيب السعي لعقد محالفة بينهما من حيث يفوز الإنكليز بعقد معاهدة مع (أحدهما) يقرهم بها على تسع مقاطعات من عقر مملكة اليمن تكاد تبلغ الثلث العامر في أطرافها، ومن حيث يفترصون وقوع هذه الفتن الشاغلة لملك العربية السعودية ومواتاة الأمير عبد الله وموالاته لهم لتحصين خليج العقبة، وتمكين قدم اليهود في فلسطين وشرق الأردن بما ألصق بها من الحجاز؛ لِيَنْقُضُوا وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا يبقى في جزيرة العرب دينان) . سبحان الله: اليهود يؤسسون لهم ملكًا في قلب بلاد العرب، وصاحبا جزيرة العرب يمهدان لهم السبيل باشتغال كل منهما بقتال أخيه؟ في عهد الإمامين الجليلين العاقلين التقيين الغيورين على الإسلام العارفين بحال الزمان؟ لو كان الزمان مواتيًا، والعدو لاهيًا، وحاول أحد عاهلي الجزيرة أن ينتزع من الآخر بعض ما في يده من عسير أو نجران، أو القضاء عليه للانفراد بالملك في هذه الجبال والأودية لهان الخطب، ولتمنى رجال السياسة العربية الجامعة أن يقضي الأقوى أو الأصلح على الآخر ويريح الأمة من هذا الشقاق إن كان ممكنًا، ولكن كل عارف بحال هذه البلاد وأهلها وقواتها يعلم أن هذا الأمر غير مستطاع الآن، ولا مصلحة فيه لهذا ولا لذاك، فإن الأجانب الطامعين واقفون لهما بالمرصاد، بيد أن هذا العلم إجمالي لم يترتب عليه ما يجب من صيانة البلاد. إن كاتب هذه السطور ربما كان من أعلم الناس بحالة العرب عامة، وحالة الإمامين العظيمين خاصة، وهو أصدق ناصح لكل منهما، يسعى للتأليف بينهما منذ ثنتين وعشرين سنة، وتواتر السعي والمكاتبة لكل منهما منذ اشتد الخلاف، وقد كتبت إلى كل منهما أخيرًا أن جزيرة العرب إرث محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، ومعقل دينه ومأرزه، لا ليحيى حميد الدين ولا لعبد العزيز آل سعود، وإنما هما الأمينان على هذا الميراث، فيجب عليهما التعاون على حفظه والدفاع عنه. ويؤسفني أن أرى الذين تصدوا لمثل هذا السعي في مصر، قلما يعلمون شيئًا من حقيقته، وكنه الأخطار التي تخشى من عاقبته، وقد دب إليهم دبيب الشقاق والتنازع فيما يفاخر بعضهم بعضًا بالسبق إليه، وحق الأولية أو الأولوية فيه، ولسان الحال يصيح بهم أصلحوا ذات بينكم، قبل أن تحاولوا الإصلاح بين من هم أقرب إلى الصلاح والإصلاح منكم، وهما الإمامان العظيمان يحيَى وعبد العزيز، فإن الرجاء في أن يفيئا إلى أمر الله لم ينقطع منهما، وإن وقعت الحرب بفساد الحزب الحجازي الخبيث بينهما، وإيهامه قائد جيش اليمن بأن جميع قبائل عسير والحجاز وغيرهما ستثور على الملك السعودي في الشمال والشرق في إثر مناجزته له في الجنوب، وتوجيه قواه إليه، ونحن نقرأ في جرائدنا مقالاتهم الناطقة بذلك من مصادرها في اليمن وعدن ومن مصر أيضًا. ومنهم من يدافع عما نال الأجانب من الغنيمة في اليمن، وقد شغلوا الجمهور الإسلامي عما يعملون في العقبة، وجيوش اليمن ممتدة على طول خطوط الحدود كلها، وقد واجهتها الجيوش السعودية فيها أو كادت. لقد أبصر العُمي، وسمع الصم، ونطق البكم، ولم يبق خفيًّا على أحد يعقل ما يكيد أعداء الإسلام الطامعون لمهد الإسلام، وقبلة الإسلام، ومعقل الإسلام ومأرز الإسلام، وروضة نبي الإسلام، سيد البشر، ومصلح البشر، محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. وَهَبَ الشريف علي ملك الحجاز (بالأمس) وأمير شرق الأردن (اليوم) أعظم ثغور الحجاز ومعاقلها وحصونها البحرية البرية لأخيه الشريف عبد الله، ألا وهو خليج العقبة، وما يتصل به من سكة حديد الحجاز المتصلة بالمدينة المنورة، فجعلاه تابعًا لإمارة شرق الأردن الواقعة تحت سيطرة الإنكليز؛ ليتمكنوا به من السيطرة على جزيرة العرب في قلبها، كما أحاطوا بها من أطرافها، وليكون البحر الأحمر العربي الإسلامي بحيرة إنكليزية لا يمكن لدولة بحرية ولا برية أن تنازع الإنكليز سلطانهم عليه، ولا على ما يحيط به من مصر والسودان من ناحية، ومن فلسطين والحجاز واليمن والعراق من سائر النواحي، إذ كانوا معتصمين في هذا المعقل المنيع (خليج العقبة) الذي سيتصل بشط العرب وخليج فارس فيكون أقرب الطرق الحربية التجارية إلى الهند، ولا تنس اتصاله بثغر حيفا على البحر الأبيض المتوسط، بل الأمر أعظم من ذلك. إن خليج العقبة لأمنع معقل بحري في العالم كله، وإنه لهو الذي يمكن الإنكليز من السيطرة على جزيرة العرب المقدسة وعلى بقية بلاد الأمة العربية من العراق وسورية الجنوبية، والبقاء في مصر والسودان المحتلة بالجنود الإنكليزية والطيارات البريطانية، واشتهر أن الإنكليز قد شرعوا في نزع أرضه من أصحاب الأيدي عليها لامتلاك رقبة الأرض كلها من المسلمين لتكون خالصة لهم مِلكًا (بالكسر) ومُلكًا (بالضم) . علم الإنكليز دهاة البشر أن هذه الهبة من علي بن حسين ملك الحجاز بالأمس والطامع في عرش سورية في الغد - لأخيه عبد الله بن حسين أمير شرق الأردن اليوم والطامع في لقب ملك فلسطين في غد - هبة غير صحيحة في الشرع الإسلامي ولا في القانون الدولي، وأن لملك الحجاز الحق كله في مطالبتهم هم بردها إليه، فراودوا الملك عبد العزيز ابن السعود عنها، وطلبوا منه إقرارها من أول العهد باستيلائه على الحجاز إلى اليوم فأبى، أظهروا له الود فما انخدع وما ونى، وكادوا له الكيد بعد الكيد فما عثر جواده ولا كبا. ثارت في وجهه فتنة الدويش في نجد بإغراء حدود العرق، فظهر عليها بعد إهراق دماء غزيرة كانت من أعظم قواته في نجد فاضطروا إلى موادته في خاتمتها. ثم ثارت في وجهة فتنة ابن رفادة في الحجاز بتحريش الدسائس من ناحتي شرق الأردن ومصر، فلما رأوا ما قابلها به من حزم وعزم، وأنه بطش بها بسرعة فقضى على الفتنة القضاء المبرم، اضطروا إلى إظهار الوداد له، ورضوا بعجزه عن الزحف على العقبة، وإبقاء مسألتها معلقة. وقد ثارت في وجهه اليوم الفتنة السوءى، الطامة الكبرى، وهي استجماع قوى جزيرة العرب الجنوبية كلها في اليمن، وتوجيهها إلى قتاله في عسير فالحجاز ونجد، وتوجيه قواه كلها إلى مكافحتها ومقاتلتها، ودبت عقارب الدسائس لإثارة الفتن في الحجاز والعراق مرة أخرى، حتى إذا اشتجر في الجنوب الأقران والأقتال، واستحر بين القوتين الكبريين القتال، تم للإنكليز اقتحام العقبة في الشمال، ويقال: إن فتنة ابن رفادة عادت سيرتها الأولى، وإن رسولاً تسلل من شرق الأردن إلى زعيم أو زعيمين من قبائل الحجاز سراء ولا تزال الأراجيف تترى. إن أفضل ما يعمل الآن هو السعي لإصلاح ذات البين، وعقد المحالفة بين الإمامين، على الأساس الذي اتفقا عليه وعقدا مؤتمر أبها لأجله، وقد سبق إلى ذلك بالقول والفعل وفد المؤتمر الإسلامي العام، فخاطب السيد أمين الحسيني كلا من الإمامين في عيد الأضحى، وجاءتني منه برقية بالخير كلفني فيها الإبراق إليهما بتأييد وساطة المؤتمر الإسلامي، ووصلت إليَّ هذه البرقية يوم الخميس 29 مارس ونشر خبرها في جريدة الجهاد الغراء، ثم نشرت الجرائد برقيات أخرى من سماحته إلى بعض الأمراء والكبراء في مصر وغيرها، (وقد ألف الوفد بالفعل فسافر بعد كتابة ما تقدم للمنار وقبل نشره) وأيده بالبرقيات أشهر أمراء مصر وزعما

تحرير محل التنازع بين الإمامين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحرير محل التنازع بين الإمامين ومصلحة المسلمين عامة والعرب خاصة في عاقبته مرت بضعة أشهر على اشتداد النزاع بين الإمامين وخوض الجرائد فيه، ثم انقضى الشهر الذي سُلَّ فيه الحسام واشتعلت نار القتال بين الطائفتين فراعت الأمة العربية والشعوب الإسلامية، وكانت أخبار هذه الحرب غير المتوقعة عند الجماهير من أكبر ما شغل الناس، وكثر الذين خاطبوا الإمامين بالبرق والبريد داعين إليهما أن يحقنا الدماء ويجنحا للسلم ويقبلا تحكيم الشرع وخواص المسلمين في النزاع، فكان منهم محبو الصلح ومحبو الشهرة، ولكنني لم أر لأحد ممن نشروا آراءهم في الصحف المنشرة قولاً في بيان محل التنازع الواقع كما هو، ولا في مصلحة المسلمين عامة والعرب خاصة ولا كُنْهِ مطامع الأجانب فيه، ولا في عاقبته على كل تقدير ينتظر، فأكثر الذين كتبوا في الجرائد وخطبوا في المجامع حتى الذين تصدوا للسعي إلى الصلح لم نسمع منهم ولا عنهم ما يدل على أنهم على علم مما ذكرنا، بل قال رئيس جمعية في محفل جامع: إننا لا نريد أن نعرف المحق من المبطل ولا المتعدي والمعتدى عليه، وإنما نريد السعي إلى الصلح، أي بغير علم! ! لمحل التنازع وجهة حقيقة واقعة، ووجهة نظرية طامعة، ووجهة مصلحة إسلامية عامة، ووجهة مصلحة عربية خاصة، فأما الحقيقة الواقعة فهي أن ملك العربية السعودية قد سبق إلى وضع اليد على عسير بقسميها، ولم يكن لإمام اليمن يد قبله عليها، ولكنه كان يطمع فيها، وإن الإمام سبق إلى وضع يده على نجران بقوة السيف وكانت مستقلة بنفسها، كما سبق الملك إلى عسير بالاتفاق مع حكامها والملك لا يطمع في نجران، ولكنها متصلة بحدوده، ولها سابق عهد وولاء له، ولبعض قبائل (يام) من أهلها علاقة تَابِعِيهِ به وتدفع الزكاة له، وهو يرى أنه يجب أن تبقى على ما كانت عليه من استقلالها لتكون فاصلا بين المملكتين حتى لا تكون مثارًا للاعتداء. وسبب هذا الحذر من الاتصال أن الملك يطلب منذ بضع سنين عَقَدَ معاهدة سلمية بينه وبين إمام اليمن والإمام يأبى هذا، وقد كان هجوم جنده على نجران واحتلالها عقب رجوع الوفد السعودي الذي مكث في عاصمته صنعاء عدة أشهر يبغي عقد المعاهدة وعاد أدراجه خائبًا، فعدها الملك تمهيدًا للاعتداء على ما وراءها من بلاده. وكان قد سبق جند الإمام فاحتل جبل العرو من أمنع جبال عسير فجهز الملك جيشًا لاستعادته وكادت تقع الحرب ولكن الإمام يحيى حكَّم الإمام عبد العزيز في الأمر رضًا بحكمه، فحكم له على نفسه، وترك له هذا الجبل المنيع، فهو يقول الآن: إنه لا يأمن سير الإمام معه على هذه الخطة، ويقول أيضًا: إنه قد حرَّض آل الإدريسي على ثورتهم الأخيرة التي سفكت فيها دماء غزيرة، وأنفقت ألوف كثيرة، وهو الآن يحرضهم على القتال، ويمدهم بالذخائر وبالمال، وإن قيل: إن المال الذي يمد هذه الفتنة هو من أفراد الحزب الوطني الحجازي المقيم في اليمن وهو الذي كان يمد الثورة التي قبلها. ومن الحقيقة الواقعة التي لا مراء فيها أن المفاوضات الكتابية بين الإمامين بالبرق والبريد انتهت إلى الاتفاق بينهما على بقاء عسير على ما هي عليه بيد الدولة السعودية وعلى تسليم الإمام من عنده من آل الإدريسي إلى الملك، وعلى حل مشكلة نجران بالمفاوضة في مؤتمر أبها وكان المرجو أن يتساهل الملك فيها لو أن وفد الإمام لم يطلب إعادة النظر في مسألتي عسير وآل الإدريسي بعد الاتفاق عليهما، فهذا الطلب هو الذي أوجب قطع الوفد السعودي للمفاوضة وصيرورة الدولتين في حالة حرب. هذه خلاصة الأمر الواقع الذي عرفه كل أحد. وأما مسألة المصلحة العامة للعرب وللمسلمين في هذه المشكلة فالرأي الصحيح فيها من جميع نواحيها، يتوقف على العلم بظواهرها وخوافيها، وقوادم أجنحتها وخوافيها. وأما شرفاء الحجاز فقد ظهر في أحدهم الاستعداد للملك فأوتيه وهو الملك فيصل رحمه الله تعالى، وقوى المتنازعين فيها، والخطر الأجنبي عليها، فأما الخطر البريطاني فقد بيَّناه في المقالة التي قبل هذه، وأما الطلياني فلم يظهر لنا منه شيء في هذه الفتنة. وأما المتنازعان الظاهران فهما الإمامان الحاكمان، ومن دونهما بقية آل الإدريسي وهم يجهزون على أنفسهم بجهلهم، ولم يظهر بعد السيد محمد الكبير أدنى استعداد للإمارة في أحد منهم، وقد عرف جميع المشتغلين بالسياسة ما فعل علي وعبد الله في اقتطاع منطقة العقبة ومعان من الحجاز ووضعها في قبضة الإنكليز، وعرفوا ما كان من عرض الملك عَلِيٍّ الحجازَ كله على الإنكليز باسم الحماية كما دونه الريحاني في كتابه، وعرفوا كيف وضع عبد لله إمارة شرق الأردن تحت السيادة الإنكليزية باسم الانتداب ورضي منهم بلقب الأمير، وراتب حقير، ويعرفون كيف يستخدمونه الآن وسيعلمون ما هو شر منه، كما يعلمون أن هذين الشريفين اللذين يعتقدان أنهما خلقا ليتحلى كل منهما بلقب ملك من دولة أجنبية عدو للعرب وللإسلام ليس لهما عصبية قومية ولا ثروة ولا نفوذ شخصي في الحجاز ولا في غيره، وأنهما يطلبان ملك الحجاز وغيره من الأجانب فكيف يكون أمر الحجاز إذا ولي أحدهما أو غيرهما من أسرتهما أمره، إن خرج منه ابن السعود بما يكيدون له؟ لا جرم أنه يكون مجالا للثورات والفتن، وتبطل فريضة الحج والعياذ بالله تعالى فالحق أنه لم يبق في جزيرة العرب إلا قوتا الإمامة الزيدية، والمملكة السعودية فأيهما أرجى لمصلحة الشعوب الإسلامية، والأمة العربية؟ إن الجواب الصحيح عن هذا السؤال يتوقف على العلم بحقيقة قوة إمام اليمن في بلاده وبصفة إدارته، وإخضاعه لزعمائها وعشائرها، ومعاملة قومه الزيدية للشافعية في تهامتها وبقدر استعداده لحفظ الحجاز وتأمينه للمسلمين، إن قدر على إخراج ابن السعود منه وحل محله دون الحجازيين، أنا لا أصف لهم ما أعلم من ذلك. وإن كثيرًا منهم ليعلمون ما أعلم وأكثر مما أعلم، وإني قد عنيت بخدمة ملك الإمام يحيى وإمارته بما يعلمه هو وقليل من الناس، وإنني لا أقول في هذا الموضوع شيئًا الآن، وإنما أدع القول للزمان، وربما قال كلمته الفاصلة قريبًا في قوته الحربية، وطال بعد المدى في انتظار قوته الإدارية، ولا يعلم إلا الله ما يحدث فيما بين الكلمتين مما أشار إليه الحديث (ويل للعرب من شر قد اقترب) كذلك لا أقول شيئًا في استعداد ابن السعود لأمن الحجاز وعمرانه فوق ما عرفه العالم كله بالتواتر عن مشاهدة مئات الألوف من حجاج الأقطار كلها، فما هو معلوم من تأمين الدولة السعودية للحجاز باليقين تعجز اليمن عن مثله باليقين عند العارفين، وإن شك فيه غيرهم، واليقين مقدم على الشك والظن. وأما مصلحة الأمة العربية في جزيرتهم فالقضية القطعية فيها الآن أن يحفظ كل من الإمامين قوته لنفسه في بلاده لإبقاء ما كان على ما كان، وعقد محالفة بينهما على السلم والأمان، والتعاون على البر والتقوى دون الإثم والعدوان. ((يتبع بمقال تالٍ))

تصدير كتاب الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصدير كتاب الوحي المحمدي الطبعة الثانية بسم الله الرحمن الرحيم نحمد الله جل ثناؤه أن جعل قبول هذا الكتاب وتأثيره فوق ما كنا نقدر ونحتسب، على ما نظن من دقة اختبارنا للعالم الإسلامي، فإنه لم يكن إلا خلاصة عامة من تفسير المنار للقرآن الحكيم، وأكثر المسلمين قد هجروا القرآن هجرًا غير جميل؛ إذ باتوا يجهلون أن فيه كل ما يحتاجون إليه من حياة روحية وأدبية، وقوة سياسية وحربية، وثروة وحضارة ونَعمة معيشة، بله ما يلزم ذلك من الفوائد السلبية كدفع طغيان الأجانب عليهم، وصد عدوانهم عن بلادهم وإنقاذهم من استذلالهم لشعوبهم. في القرآن كل ما ذكرت وما هو أكثر منه وأكبر، ولا يطلبونه منه، ومنهم من يطلبه من غيره - حتى الحياة الروحية يعتقدون أنه هو ينبوعها الأعظم، ويوجد فيهم من يطلبها من غيره (كالأوراد والأحزاب) بناء على أنها مستمدة منه ويقل فيهم من يزيد عليها تلاوة ألفاظه، وإنما يتلوها تاليها منهم ومن غيرهم؛ لأن لقارئها على كل حرف منه عشر حسنات , لا للتدبر والادكار الذي أنزل لأجله القرآن {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (ص: 29) {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا القَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ * أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُوَلَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} (المؤمنون: 68-69) {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} (محمد: 24-25) . إن أكثر المسلمين يجهلون أن للقرآن تأثيرًا صالحًا ما في حياتهم المعاشية والمدنية والسياسية وهي أكبر همومهم ولا مرشد لهم فيها، ويجهلون البرهان العقلي المقترن بالشعور الوجداني، على أنه وحي الله لنبيه ورسوله، وأن في اتباعه سعادتهم في دينهم ودنياهم، ولا يجدون أحدًا من الذين يتولون تربيتهم وتعليمهم في بيوتهم ولا في مدارسهم يقنعهم به، ويربي فيهم ملكة الوازع النفسي لاتباعه، لا يعرفون كتابًا من كتب عقائدهم أو تفاسيره يهديهم إلى هذا، والمجهول المطلق لا تتوجه إليه النفس، فلا عجب إذا هجروا القرآن وأعرضوا عن تدبره. إن تفسير المنار قد أُلِّفَ لاستدراك هذا التقصير في كتب التفسير، ولكنه لا يدرس في المدارس، ولا يعتمد عليه في التربية، ولا يخطر في بال من لم يقرأه أنه يجد فيه بيان كل ما تحتاج إليه الأمة لتجديد حياتها ومجدها، ولا لدفع الغوائل عنها، ويوشك أن يكون أكثر من اطلعوا عليه لا ينوون بقراءته ما ألف لأجله من الإصلاح والهدى، وتجديد ثورته الأولى، (وإنما لكل امرئ ما نوى) . كل ما يحتاج إليه المسلمون من إصلاح وتجديد حضارة وملك متوقف فيهم على هداية القرآن وتنفيذ النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم له، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه الله، وكيف السبيل إلى إقناعهم بذلك ونحن ندعوهم إلى هذا منذ ثلث قرن، وقل منهم من سمع فاستجاب واستغفر ربه وخر راكعًا وأناب، حتى أهابت بهم صيحة هذا الكتاب باسم الوحي المحمدي، وإعجاز القرآن للبشر بما تقتضيه حضارة هذا العصر وعلومه ومشكلاته السياسة والقومية: وتحدي علماء الإفرنج بعلومه وإصلاحه، ودعوتهم إلى الإسلام به؛ لإنقاذ العالم المدني من أخطاره وانتياشهم من تياره، فكانت أول صيحة صخت الأسماع، فأصغت الآذان، وأشخصت الأبصار، وأهطعت الأعناق، بالقرآن للقرآن، فبادر أهل الغيرة إلى ترجمته بما اختلف من اللغات، وبث دعوته في الأقطار، فأسر ما سرني من تأثيره إنما هو توجيه القلوب إلى هداية القرآن، وروح القرآن، وإن اشترك فيه العربي والعجمي، والسني والشيعي والإباضي، ولا غرو فالقرآن فوق المذاهب والأجناس والأوطان، ومن آياته المحكمات: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ} (آل عمران: 105) ومن خطابه للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) . وإنما مزية هذا الكتاب أنه بيَّن إعجاز القرآن للبشر بالدلائل العلمية العصرية التي يفهمها كل قارئ، وأبرز لهم خلاصة إصلاحه للبشر مفصلة في عشرة مقاصد مؤيدة بالشواهد، وذكَّرهم بما كان من إحداثه أعظم ثورة عالمية وانقلاب ديني مدني في الأرض، وعرض على أبصارهم ما لا مراء فيه من فساد حال شعوب الحضارة الغربية، وعجز علومهم وفنونهم عن تلافي شرها، وتدارك خطرها بعبارة مختصرة، تعلوها عناوين كبيرة أو صغيرة، تشير إلى ما تحتها من كنوز، وما وراءها من ركاز إسلامي مركوز، فلا تتعب القارئ الكسول، ولا تنفر السامع الملول. من الدلائل على تقبل جميع المسلمين له بقبول حسن ما أثبتناه في التقاريظ الملحقة بهذه الطبعة من كتب أئمة الفرق الثلاث الكبرى التي تضم الملايين من أهل القبلة، وما يرجى من مساعدتهم لنا على تعميم نشره، فأما إمام أهل السنة فإنه أبدى لنا عزمه على ذلك وكانت نسخ الطبعة الأولى قد نفذت، وأما إمام العترة والشيعة الزيدية فإنه عندما رآه كتب إلينا يستأذننا بطبعه في اليمن لتعميم نشره فيه فكتبنا إليه بأننا سنعيد طبعه منقحًا مزيدًا فيه، فكتب ثانيًا ما يراه القراء في أول التقاريظ. وقد كان بادر إلى المساعدة على نشره من أول وهلة صاحب السعادة السريّ عزيز عزت باشا المصري فتبرع بثلاثين جنيهًا وزعنا بها نسخًا كثيرة في أوربة وغيرها، وتبرع صاحب السعادة محمد صادق المجددي وزير الأفغان المفوض في مصر بمائة نسخة منه للمؤتمر الإسلامي في القدس ليوزعها رئيسه على فروعه في الأقطار وتبرع آخرون بعشرات من النسخ على من يظنون انتفاعهم بالكتاب. دع من انتدبوا للترغيب فيه، وبيعه لمن يشتريه، احتسابًا لوجه الله عز وجل. وأما التقاريظ فقد نشرنا طائفة مما حفظناه منها لبيان آراء المسلمين في الكتاب من الطبقات المختلفة، وأحسنهم رأيًا مَن بيَّن أنه فيض من عين معين القرآن، اشتدت حاجة الناس إليه في هذا الزمان، وأنه خير ما يدعى به إلى الإسلام، وما يدحض شبهات المعطلين الماديين، والملاحدة المتفرنجين، وما يفند تضليل دعاة التنصير، ويفضح ما يلبسون من شفوف الرياء والتزوير، وما يلبِّسون على غيرهم من إفك وتغرير. فقد أقيمت عليهم الحجة في هذا الكتاب بأنه لا يمكن إثبات أصل دينهم، ولا معجزات نبيهم (لا ربهم) إلا بثبوت هذا القرآن، وأنه وحي من الرحمن. وأما الذين استأذنونا بترجمته باللغات المختلفة فقد أذنا لهم كلهم لأول وهلة، ولم نلبث أن علمنا أن أحد مترجميه باللغة الأوردية (الهندية) قد أتم عمله، وهو تلميذنا الشيخ عبد الرزاق المليح آبادي مؤسس جريدة (هند الجديد) في كلكتة، وهو ينتظر صدور الطبعة الثانية ليدخل في ترجمته ما يجده من تنقيح وزيادة، وإن مترجمًا آخر بها ينشر ترجمته في بعض الصحف تعجيلاً للفائدة. وكذلك يترجمه آخران باللغة الصينية (أحدهما) الشيخ بدر الدين الصيني المدرس في دار العلوم الندوية في لكهنؤ (الهند) وصاحب المقالات المشهورة في الصحف العربية. (وثانيهما) صاحب مجلة ضياء الهلال , وهو يدرس تفسير المنار في بلده (قبودان) وقد كتب إلينا يسألنا عن كلم في الكتابين، وسنرسل إلى كل منهما هذه الطبعة الجديدة ليعتمدا عليها. وقد استأنيت من يريد ترجمته بالفارسية لأجل وزارة المعارف الأفغانية ولا أدري ما فعل من أذنت له بالترجمة التركية، ولا مدير المجلة الإسلامية في لندن (رفيوا سلاميك) وقد أذنت له بترجمته باللغة الإنكليزية ونشره بها، بيد أني سأرسل إليهم هذه الطبعة الثانية وأدع لهم الخيار في إيثارها على الأولى أو الاكتفاء بها. كنت قبل العلم بخبر هؤلاء المترجمين عازمًا على تغيير وتبديل في تنقيح مسائل الكتاب وترتيبه وفصوله والزيادة فيه، ثم خشيت أن يشق عليهم تغيير الترجمة بالتبع للتغيير في الأصل، أو الاضطرار إلى استئناف العمل، ولهذا وعدت بما وعدت به في بيان امتيازات هذه الطبعة من فاتحتها (ص21) ولكن رأيتني مضطرًّا إلى إخلاف هذا الموعد من ناحية الزيادة على الأصل في صلب الكتاب في كثير من المسائل المجملة والموجزة بتفصيلها وإيضاحها. وأما الزيادات الكبيرة التي وعدت بجعلها علاوات ملحقة بالكتاب فظللت ثابتًا على وعدي بها، ولما طال الكتاب بما زدته في هذه الطبعة حتى كاد يربو على ثلث الأصل، اخترت أن أجعل الملحقات في جزء مستقل، وقد ختمت الكتاب بدونها، فهو قائم بنفسه مستغن في إثبات الوحي المحمدي وإثبات النبوة به، والتحدي بما جاء فيه وبناء الدعوة إلى الإسلام عليه، وإنما تكون تلك الملحقات تعزيزًا له، وهذا بيان لما أشرت ووعدت به منها، ومع زيادة يجوز أن يتبعها غيرها. علاوات كتاب الوحي: (1) أنباء الغيب في القرآن، وعلى لسان النبي عليه الصلاة والسلام، مما ظهر صدقه في عصره صلى الله عليه وسلم ومن بعده، ولا يزال يظهر منها ما يدل على صدقه، حتى يأتي أمر الله عز وجل. (2) سنن الله في الخلق ونظام القضاء والقدر، وقد أتينا في هذه الطبعة بالأصل فيها. (3) سنن الله تعالى في نظام الاجتماع، وقد ألممنا بها بعض الإلمام. (4) المسائل العلمية والفلكية التي كانت مجهولة في عصر التنزيل وعرفت بعده بقرون، وقد نَوهنا بها مرارًا أوضحها ما في خاتمة الكتاب. (5) الأمور الصحية التي كانت مجهولة في جملتها أو تفصيلها وكشفها الطب. (6) أسرار العبادات وحكم التشريع التي لا يعرف قدرها إلا بالنبوغ في علوم كثيرة منها علم النفس وعلم الحياة وعلم الأخلاق وعلم الطب وعلم الاجتماع. (7) خلاصة مجملة من سيرته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه وآدابه وشمائله، الدالة على نبوته. (8) خلاصة من سيرة الخلفاء الراشدين، وأمراء الصحابة وقوادهم الفاتحين، وهدي السلف الصالحين، المجلية لإصلاح الدين وتفضيله على غيره. (9) الدلائل الثمانية التي حذقتها من خاتمة الطبعة الأولى المؤكدة لكون القرآن من عند الله تعالى مع زيادة عليها. (10) الكلام في هذيان من عارض القرآن من المتأخرين الذين ادعوا النبوة والألوهية كالباب والبهاء الإيرانيين وميرزا غلام أحمد القادياني الهندي وإيراد الشواهد من وحيهم الشيطاني الذي يضحك الثكلى. (11) شواهد من كلام كبار علماء الإفرنج وكتابهم في مزايا الإسلام التي فضل بها جميع الأديان بنبيه المرسل وكتابه المنزل. (12) الشبهات الكبرى للماديين ولخصوم الإسلام من المليين ودحضها بالبراهين لولا أن أكثر الناس يفهمون من التفصيل بالإسهاب، ما لا يفهمون من الإجمال في الإيجاز، لاكتفوا منا في إثبات الوحي المحمدي بما ذكرناه من المطالب الأربع الأولى؛ إذ الغرض من ذكرها الدلالة على أنها مما يعلو علم محمد صلى الله عليه وسلم الكسبي، واستعداده العقلي، ويستحيل أن تكون من وحي إلهامه النفسي، ولكنهم طالبونا بها، وصرَّح بعضهم بأننا أغفلناها. ولولا أن هذا الكتاب وضع في قالب الاختصار لفصَّلنا فيه هذه المطالب، ونظمناه في سلك ما سميناه المقاصد، ولمددنا تلك المقاصد مدًّا، وكثَّرناها ع

مريم أم عيسي عليه السلام أخوتها لهارون بنوتها لعمران

الكاتب: عبد المتعال الصعيدي

_ مريم أم عِيسَى عليه السلام أخوتها لهارون بُنُوتها لعمران [*] (1) {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (آل عمران: 33-36) . (2) {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِياًّ * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ} (مريم: 27-28) . (3) {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ} (التحريم: 12) . يسوقنا إلى الكتابة في هذه الآيات تطاول بعض المسيحيين على القرآن الكريم فيها؛ إذ يقولون: إن مريم لم تكن بنت عمران، ولم يكن هارون ابنه ولا أخو موسى أخاها، فقد كان من بين موسى وبين عيسى ابنها ألف وخمسمائة سنة فلا يصح أن يكون أبوه عمران أباها، ولا أن يكون أخوه هارون أخاها، ونحن نتلطف في إيراد اعتراضهم هذا على هذه الآيات الكريمة، وندع ما يصحبه منهم من تهكم واستهزاء، وتبجح وافتراء، وهم يقولون: إن مريم كانت بنت هالي أو عالي وهي من نسل داود ومن سبط يهوذا، وموسى وهارون من سبط لاوي فنسبها بعيد عن نسبهما ونسب أبيهما ولا تجتمع معهم إلا في إسرائيل الذي تجتمع فيه كل أسباطهم. وإنه ليقنعنا معشر المسلمين أن نقول: إن عمران والد مريم غير عمران والد موسى وهارون وقد أخبر بذلك القرآن المُنَزَّل من عند الله فيجب علينا تصديقه، ولكن هل يقنع هذا أولئك المعترضين الذي يصعب عليهم أن يتركوا بمثل هذا ما ألفوه من أن والد مريم كان يسمى هالي ولم يكن يسمى عمران وهو عندهم أقرب إلى أن يجعلوه حجة على القرآن، وطعنًا من الطعون التي يوجهونها إلى الإسلام. وقد يمكننا أن نشككهم في أن والد مريم كان يسمى هالي أو عالي بما ورد في إنجيل يعقوب من أن مريم كانت بنت يهوياقيم، وإن كان إنجيل يعقوب من الأناجيل غير المُعَوَّل عليها عندهم، ولكن ماذا يفيدنا هذا في إقناعهم بأن والد مريم كان يسمي عمران لا هالي ولا يهوياقيم. ويجب إلى هذا أن نذكر أن أقرب الأقوال في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ} (آل عمران: 33) هو أن آل عمران فيه يراد بهم موسى وهارون وعمران أبوهما، وقال الله تعالى عقب ذلك في والدة مريم: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} (آل عمران: 35) والقاعدة أن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى، فالظاهر أن عمران هنا رجل والدة مريم هو عمران هناك والد موسى وهارون، وقد قال الله تعالى في سورة مريم يخاطبها {يَا أُخْتَ هَارُونَ} (مريم: 28) وأقرب الأقوال فيه أنه هارون أخو موسى فليكن عمران المنسوب إليه مريم ووالدتها أبا موسى وهارون أيضًا، وهنا تتجلى معجزة من معجزات القرآن الكريم ويصير بنا البحث إلى دقائق التاريخ الإسرائيلي فيهتدى في ذلك إلى دقائق منه ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليصل إليها في أميته لولا أن أخبره الله تعالى بها فيما أنزله عليه من كتابه ومحكم آياته. ذكر بعض المفسرين أن والدة مريم كانت تسمى حنا بنت فاقوذا وهي أخت إيشاع (أليصابات) زوج زكريا عليه السلام وقد جاء في إنجيل لوقا (ص 1-5) إن امرأة زكريا أليصابات كانت من بنات هارون، وقد جاء في هذا الإنجيل أيضًا ما يؤكد تلك القرابة بين أليصابات ومريم ووالدتها ص 36-1 فتكون حنا والدة مريم من بنات هارون أيضًا، وتكون مريم من بناته أيضًا من جهة أمها إذا كان أبوها من نسل داود ومن سبط يهوذا على ما يقوله المسيحيون ويوافقهم عليه كثير من المفسرين وتكون إيشاع (أليصابات) على هذا خالة مريم وقيل: إنها كانت أختها والذي أرجحه أنها كانت تَمُتُّ إليها بقرابة من جهة أمها، ولم تكن أختها [1] لأن أليصابات كانت من سبط لاوي ومريم كانت من سبط يهوذا وقد تكون أمها مع ذلك أخت ألصيابات وقد تكون من بنات عمها ويرجع هذا إلى أن إنجيل لوقا لم يعين هذه القرابة ولا ضير علينا في أن نرجع إليه في ذلك وأشباهه. وكانت حنة قد أمسك عنها الولد حتى أيست وكبرت فدعت الله أن يهب لها ولدًا ونذرت أن تتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه فحلمت بمريم ومات أبوها قبل أن تضعها فلما وضعتها لفتها في خرقة وحملتها إلى بيت المقدس ووضعتها عند أحباره من أبناء هارون عليه السلام، وكانت كهانة بني إسرائيل لهم متوارثة فيهم فكانوا يلون من بيت المقدس ما تلي الحجبة من الكعبة، فتنافس الأحبار في هذه النذيرة الصغيرة أيهم يكفلها وقد فاز بها منهم زكريا عليه السلام زوج قريبتها أليصابات، وكان زكريا مثل أولئك الأحبار من أبناء هارون وهم من سبط لاوي ولم يكن من نسل داود كما يزعم بعض المفسرين بعد أن ذكر أن أحبار بني إسرائيل كانوا من أبناء هارون، وهذا الاضطراب منشؤه عدم الإلمام الكافي بدقائق تاريخ بني إسرائيل، وذلك مما يجب توفره في مفسري القرآن الكريم فضم زكريا مريم إليه ورباها في بيته الهاروني واهتم بأمرها اهتمامًا بالغًا حتى يقال: إنه بنى لها بيتًا واسترضع لها مراضع غير أمها وكانت شيخة كبيرة لا يغذيها لبنها التغذية التي تصل بها إلى حد الكمال في جسمها وغيره، ولا غرو أن يهتم بها زكريا هذا الاهتمام فإنه كان قد كبر وشاخ ولم يرزق بولد، لأن امرأته كانت عاقرًا لا تلد مثل قريبتها حنا والدة مريم، فتبنى زكريا هذه اليتيمة الصغيرة واهتم هذا الاهتمام بها حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بَنَى لها محرابًا في المسجد وجعل بابه في وسطه فلا يرقى إليه إلا بسلم ولا يصعد إليها غيره، وكان كل يوم هو الذي يقدم لها طعامها وشرابها. فإذا أردنا أن نستخلص شيئًا من تاريخ مريم إلى أن بلغت هذا السن من شبابها أمكننا أن نستخلص منه هذه الأشياء: - (1) أن مريم ولدت نذيرة الرب وابنة البيت المقدس، وانقطعت في ذلك نسبتها إلى أبيها وأمها ولا يزال الناس ينذرون أولادهم إلى بعض من يعتقدون فيهم فينسبونهم إليهم ويجعلونهم أبناءهم وتسمعهم يقولون عن أحدهم: إنه ابن السيد وهو ليس ابنه، وعن الآخر: إنه ابن الرفاعي وهو ليس ابنه، وهكذا. (2) أنها تربت في بيت من بيوت هارون وهم من سبط لاوي فاتصلت نسبتها بهذا البيت وانقطعت نسبتها إلى سبط يهوذا قوم أبيها الذي مات قبل أن تولد، ويظهر أن أمها ماتت وهي في سن الرضاع فشبت لا تعرف لها أبًا غير زكريا ولا أما غير زوجه أليصابات. (3) أنها عاشت بين الأحبار أبناء هارون كأنها واحدة منها تشاركهم في وظيفتهم الدينية وتقضي وقتها في عبادة ربها ولا ينظر قومها إليها إلا أنها راهبة من راهبات بيتهم يقيسون بذلك أعمالها ويزنون به ما تفعله منها ويخاطبونها كما يخاطبون واحدًا من أولئك الأحبار، فإذا قالوا له: يا أخا هارون؛ لأنه واحد من أبنائه قالوا لها: يا أخت هارون؛ لأنها أصبحت واحدة منهم، وهذا كما يقال في العرب للتميمي مثلا: يا أخ تميم وللتميمية يا أخت تميم، فإذا جاور شخص تميما وطال عيشه بينهم قيل له أيضًا يا أخا تميم بحكم الجوار وقيل لزوجه أو غيرها من نسائه يا أخت تميم مثله، وكان اليهود يوزعون أنفسهم على أسباطهم كما كان العرب يوزعون أنفسهم على قبائلهم [2] وتتشابه في ذلك عيشة هذين الشعبين اللذين يَمُتَّان إلى أصل واحد، ويتفرعان من أرومة واحدة. فكان لهذه العوامل الثلاثة ذلك الأثر في انقطاع نسبة مريم إلى بيت أبيها من سبط يهوذا إذا صح أنه كان من ذلك السبط، وفي اتصال نسبتها ببيت هارون من سبط لاوي إذ تربت في بيت أحد أحباره، ثم وفت نذر أمها فترهبت في البيت الذي نذرتها له، وكان بيت هارون هو الذي يقوم بشأنه وينسب كل شي فيه له وكان ذلك حقهم الذي أعطتهم التوراة إياه من عهد أبيهم هارون إلى ذلك العهد كما ورد ذلك في الإصحاح العاشر من سفر التثنية (هناك مات هارون وهناك دفن فكهن العازر ابنه عوضًا عنه) . فلما حملت مريم بابنها وأتت به قومها تحمله بعد وضعها له خاطبوها هذا الخطاب الذي تخاطب به كل مترهبة مثلها {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِياًّ} (مريم: 28) وقد آثروا خطابها بذلك على غيره ولم يقولوا لها: يا مريم أو نحو ذلك؛ ليشيروا بذلك إلى أن ما أتت به إلا يليق بمترهبة مثلها قضت حياتها بين الأحبار حتى صارت كواحد منهم وعدت أختًا لهم، فقولهم يا أخت هارون في قوة قولهم يا أخت الأحبار سواء بسواء. فالمراد بهارون في الآية هارون أخو موسى قطعًا، وقد قال كعب الأحبار لعائشة رضي الله عنها: إن هارون فيها ليس أخا موسى فقالت له: كذبت، فقال لها: يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة فسكتت والحق مع عائشة رضي الله عنها. وهذا خطاب تسوغه العربية وإن كان بين مريم وهارون أكثر من ستمائة سنة، وأين من هذا القول المبني على دقائق التاريخ الإسرائيلي ما يقوله الذي يذهب إلى أن هارون في الآية غير هارون أخي موسى من أن أهل الصلاح فيهم كانوا يسمون هارون، وأن هارون هذا كان رجلاً صالحًا في عهدها، قيل: إنه يوم مات تبع جنازته أربعون ألفًا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون سوى سائر الناس، فمن يصدقنا في هذا الغلو؟ ومن هو هارون هذا الذي لا يعدو أمره إلا أن يكون هيان بن بيان، ولو تبع جنازته ثمانون ألفا يسمون هارون لا أربعون، وقيل: إنه كان أخًا لمريم من أبيها وهو قول مثل سابقه من تلك الإسرائيليات التي اخترعت لتفسير بعض آيات القرآن الكريم ولم يخف أمرها على كثير من محققي المفسرين ولكنه كان لها أثرها في صرف المفسرين عن الرجوع إلى غيرها مما صح من أخبار بني إسرائيل والانتفاع به بدلها في علم التفسير. وإني الآن في حالة من هذا الرأي الذي أذهب إليه في تفسير تلك الآيات بعد الرجوع إلى تاريخ هذه النذيرة لا أشك معها في أن شعب بني إسرائيل كان لا يخاطبها إلا هذا الخطاب المحبوب (أخت هارون) فأصبح هو الغالب عليها وأصبحت لا تُعْرَف إلا به، ونسي الناس نسبها الجسدي إلى أبيها وآثروا عليه هذا النسب الروحي إلى هارون أب الأحبار الذين ربوها هذه التربية الروحية التي صرفت قلوب الشعب إليها وجعلتهم يلهجون بذكرها، وما أخالهم كانوا يعنون بأبيها في قولهم: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ} (مريم: 28) إلا زكريا عليه السلام فهو الذي تولى تربيتها وكان الأب الروحي لها. وإني لا أشك أيضًا في أنهم كما كانوا ينادونها هذا النداء المحبوب (أخت هارون) كانوا ينادونها نداء آخر محبوبًا (ابنة عمران) عمران أبي موسى وها

تقاريظ كتاب الوحي المحمدي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقاريظ كتاب الوحي المحمدي (تابع لما نشر في العدد الماضي) (2) - 5 - للعلامة الأستاذ الشيخ سعدي يس الدمشقي تكرم علامة دمشق الشام الشيخ محمد بهجة البيطار فأهداني كتاب (الوحي المحمدي) كما هو شأنه مع أصحابه ومعارفه في كل كتاب نفيس يصدر، وذلك خُلُق طبعه الله عليه. وما أن اطلعت على هذا الكتاب العظيم العديم المثال حتى علمت علم اليقين أن كتاب الوحي المحمدي هو خير كتاب أخرج للناس في هذا العصر، بل لم يؤلف قبله في بابه نظيره، ولقد ارتفع عن كل مؤلف كما ارتفع مؤلفه عالم الإسلام الإمام الهمام السيد الشيخ محمد رشيد رضا عن كل عالم ومؤلف في هذا العصر. ولقد سما به وايم الله لمكان لا تطيف به السباع ولا تنحط عليه العقبان. تأملت شُبَهَ درمنغام التي بسطها المؤلف الإمام قبل الرد عليها فإذا هي جبال تتصاغر أمامها دوامغ الحجج، وبحار زاخرة تكاد تغرق الحق في اللجج، وتمتلئ منها قلوب المؤمنين رعبًا، وما إن كرَّ عليها ذلك الغضنفر الضرغام، بسيف الحق الصمام، حتى ذلت بعد جبروتها، وصغرت بعد كبريائها، كما ذل وصغر الثعلب بين يدي القسورة الأغلب، وإذا بها ريش وهباء، أمام زعزع نكباء {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (الأنبياء: 18) . وكتاب الوحي المحمدي ليس رد مفتريات وإبطال أخطاء فحسب، بل هو كتاب جمع فأوعى، فيه إثبات أن القرآن وحي الله الذي أوحى به لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي الأمي الهاشمي، وأنه آية الله الكبرى التي أيد بها دينه ونبيه، وأنه معجزة باقية ما بقي النيران، وتعاقب الملوان، وأنه أتى بجميع ما يحتاجه البشر لمعادهم ومعاشهم. وفيه إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بوجه خاص ونبوة جميع الأنبياء بوجه عام، أثبت ذلك بأدلة أنصع وأمتع وأرفع من أدلة كتب دلائل النبوة، إثباتًا اعتمد على الأدلة العلمية العقلية التي يذعن لها المخالف المنصف والخصم المعاند. وفيه أصول العقائد الإسلامية بل فيه ملخص الشريعة الإسلامية: أحكامها وحكمها. وإنك لتجد أن السيد الإمام، أمتع الله بطول حياته المسلمين ونصر به الإسلام، تجد أنه قد قسم الإصلاح الإلهي للبشر في القرآن إلى عشرة مقاصد، لا أحسب أن مخالفًا منصفًا يقرؤها متدبرًا لها ويبقى عنده أدنى ريب أو أقل شبهة في أن القرآن أعظم كتاب منزل، على أشرف نبي مرسل، دعم المؤلف الإمام هذه المقاصد بشواهد حية، وآيات ناطقة، وحجج ليست براهين ساطعة ولكنها شموس طالعة، ولئن سمي كتاب فتح البارئ قاموس السنة فكتاب الوحي المحمدي ترجمان القرآن. وليس هذا بكثير على سليل بيت النبوة ومن يمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنسب النبوة. ولقد خطر لي وأنا أقرأ كتابه كلمة ذلك الأعرابي الذي سأل أبا جعفر محمد بن علي ابن سيدنا الحسين إذ سأله فقال: هل رأيت الله حين عبدته يا أبا جعفر؟ فقال: لم أكن لأعبد من لم أره. قال فكيف رأيته؟ قال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان لا يدرك بالحواس ولا يشبه بالناس معروف بالآيات، منعوت بالعلامات، لا يجور في القضيات، ذلك الله الذي لا إله إلا هو. فقال الأعرابي: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124) ألا وإن هذا وذاك من ينبوع واحد، وإن أقول إلا ما قاله ذلك الأعرابي. بيروت ... ... ... ... ... ... ... سعدي يس الدمشقي *** - 6 - للأديب الفاضل الشيخ محمد نعيم البيطار ما هذه الأشعة التي انبعثت من غار حراء فأشرقت بنورها الجزيرة العربية ثم ما لبثت أن ملأت الدنيا بهجة وضياء؟ من ذلك الرجل الذي ظهر للوجود فأنقذ العالم مما كانوا فيه من البؤس والشقاء وقادهم جميعًا إلى طريق السعادة والهناء. ما هذه الدعوة التي لم يمض على ظهورها ربع قرن حتى احتلت قلوب العالم فكانوا لا يخالفون مبادئها قيد شبر. ترددت هذه الأسئلة في خواطر المطلعين على أحوال الأمم والمنقبين عن تواريخ الشعوب لما شاهدوا من آثار تلك المدنية الباهرة التي ما زالت آثارها موضع الإعجاب رغم مضي مئات السنين على أصحابها. فشرع كل منهم يضعها بقالب موافق لما يريد، ويملي على قلمه ما يوحيه إليه فكره من آرائه التي اكتسبها من البحث والتنقيب، فكان بينهم المخطئ والمصيب، غير أن المخطئ يحتاج إلى تنبيه؛ لأن خطأه إذا شاع بين العوام، كان مدعاة لدفن الحقائق والتمسك بالأوهام. لذلك الأمر الخطير قام صاحب كتاب الوحي المحمدي السيد الإمام، علامة الإسلام، الأستاذ محمد رشيد رضا منشئ المنار الأغر. فأبان أغلاطهم التي تطرأ على كل من لم يكن ضليعًا بالأمر الذين يقدم عليه. فكان من أكبر أغلاطهم أن حسبوا الوحي الإلهي إلهامًا فطريًّا من نفس الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، بمساعدة البيئة والذكاء والانفراد، إلى غير ذلك من الأسباب التي أيدوها بآرائهم الفاسدة فأغوت كثيرًا من المتعلمين الذين لم يطلعوا على حقائق السيرة النبوية فذكر السيد الإمام مصدر تلك الشبهات ودحضها بالحجة والبرهان، وأقام الشواهد الكثيرة على أن الوحي الكافل لإصلاح جميع البشر لا يمكن إلا أن يكون وحيًا إلهيًّا. وقد أفاض في ذكر إعجاز القرآن في بلاغته وبيانه وتأثير هدايته ومقاصده العليا من تنظيم شئون الحياة الاجتماعية، تنظيمًا يتفق وحاجة بني الإنسان، على اختلاف الأزمان والبلدان. ثم احتج بجميع ما ذكر على أن الدين الذي يكفل ذلك كله هو أحق أن يتبع فدعا جميع شعوب الأرض إلى التمسك بهدايته والعمل بتعاليمه الربانية، ليعرفوا كيف يستفيدون من حضارتهم التي أصبحت مهددة بخطر الزوال، فكان كتابه كتابًا قيمًا، جدير بكل طالب علم أن يطلع عليه ويجعله من مقتنياته النفيسة التي يرجع إليها وينقل عنها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد نعيم البيطار *** -7- لحضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد رشيد ميقاتي مفتي طرابلس الشام أخي العزيز السيد عاصم آل رضا حفظك الله سلامًا واحترامًا (وبعد) قرأت (كتاب الوحي المحمدي) الذي أهديتنيه فلا تسل يا أخي عما حصل لي من المسرة، في الحظوى بما هو لعيون المؤمنين قرة، ووقفت موقف الحائر، فيما أقول عن هذا السيف الباهر، المزري بالدرر والجواهر، والسهل الممتنع، الجامع المانع، في بيان حقيقة دين الإسلام، لكافة الأنام، فلم يسعني إلا أن أجهر بكلمة الله أكبر، فتح ونصر، وشعرت كأن مناديًا ينادي من علوة يا أمة محمد، أمة الإجابة والدعوة، ويا طلاب الحقيقة والخلاص والإخلاص في هذا العالم، هاكم كتابًا اقرءوه، فتعلموا منه بالوجدان والضمير الحي، حقيقة الدين الإسلامي بأنه دين الحضارة والعقل، والترقي والعدل، والتسامح والفضل، والعز والمجد، والسيادة لكل فرد، والكفالة لكل خير في معاشكم، والسعادة في معادكم، وإنكم إن علمتم به وعملتم فزتم بسعادة الدارين، وإن لم تعملوا، وعلمتم ظاهرًا من الحياة الدنيا فزتم بها وحدها، وإن لم تعلموا ولم تعملوا خسرتم الدنيا والآخرة كحال بعضكم، وذلك هو الخسران المبين، وتعلموا حقيقة الوحي المحمدي أنه من الله رب العالمين، نزل به روح القدس جبريل الأمين، على قلب النبي الأمي محمد ختام المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. فمن هذا السرور، ومن هذا الشعور، تراني يا أخي داعيًا إلى الله أن يكافئ مؤلف هذا الكتاب الجليل، العلامة النبيل، الفهامة لدين الإسلام، ابن عمك الرشيد الإمام، بخير ما كوفئ محسن بإحسانه من الخير والإنعام آمين، راجيًا إبلاغ أزكى سلامي وفائق احترامي لحضرة المشار إليه، أدام الله فضله عليه، والسلام عليكم , ورحمة الله تهدى إليكم 10 رمضان سنة 1352 ... ... ... ... ... مفتي طرابلس ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد ميقاتي *** طائفة من التقاريظ التي رأيناها في المجلات والجرائد تقريظ الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي (محرر مجلة الضياء الهندية في لكنهؤ، ونشر فيها) هدية ثمينة وتحفة نفيسة وثمرة علمية يانعة، أنتجها قلم إمام هذا العصر وحكيمه الأكبر، مولانا السيد محمد رشيد رضا. لا زال بحر بره زاخرًا يقذف بالدرر، ووابل علومه يحيي القلوب الميتة، وظله الوارف حماية للإسلام والمسلمين. هذا الدرة اليتيمة فكرة خطرت لحضرة السيد حين اشتغاله بتفسير كتاب الله القرآن، واستخراج نفائس كنوزه، وأين منها الياقوت والمرجان، وهي بلا شك من التحديث الرباني، والإلهام الرحماني، قدمها حضرته للعالم الإنساني، في شهر ربيع الأول الذي كان فيه مولد المنقذ الأكبر للنوع الإنساني محمد صلوات الله عليه. فكانت خدمة جليلة وتكريمًا لذلك الجناب المقدس، ولعمري إن بمثل هذا العمل المبرور يكون التكريم والتعزيز، وهو الآية المحكمة على المحبة العلمية الإيمانية، لا التمسح على الأحجار أو تعليق الخرق المزوقة، وإيقاد الأنوار الكهربائية الملونة، والفقراء ذات اليمين وذات الشمال يتضورون جوعًا ويموتون بأمراضهم ولا معالج لهم ولا آس، وراية الإسلام منكوسة، وأحواله معكوسة، وشرع النبي الأكرم منبوذ ظهريًّا، وسنته الشريفة متخذة سخريًّا، ولا غرو {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ * وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلاَ الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ} (فاطر: 19-22) . افتتح الإمام الكتاب بمقدمة بيَّن فيها بحكمة عالية واضحة نيرة على ذلك ارتقاء البشر في الأمور المادية في خدمة هذا الغلاف الجسمي وبلوغهم في ذلك الغاية التي انعكست وصارت شرًّا على الأجساد التي اخترعت لتنعمها وتسعدها، وبيَّن انحطاطهم الروحي، وإفلاسهم الأدبي وما سبب لهم من الشقاء والعذاب الجسمي الذي منه يحذرون ويفرون، وبرهن على أن السعادة البدنية يستحيل الوصول إليها بدون الكمال الروحي، والرقي النفسي ببراهين لا تبقي للشك مجالاً، وراش سهام التأنيب للدول الآخذة بأزمة الأمم في هذا الزمان، وحمل عليها تبعة الخزي والشقاوة الذين تجلبهما على العالم بتكالبها على المادة، وتنافسها في التطاول وحب العلو والفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل في حروبها المتنوعة من سياسية واقتصادية وأدبية وغيرها. ثم ذكر اعتراف حكماء الغرب بهذا الفساد وتمنيهم أن يبعث نبي يحدث انقلابًا روحيًّا ينقذ الإنسانية من نصبها وشرورها، وإطباقهم على أن أديانهم لا تنجع في علاج هذا الداء، بل ربما كانت إحدى عوامله، فأراد هذا الإمام الحجة أن يريهم أن الذي يطلبون بين أيديهم، وأن الدواء الناجع على طرف الثمام، ويرفع عنهم حجب الجهل والتعصب التي حرمتهم من اقتباس أنوار الدين الأصلي الخالد، دين الفطرة، ويضع أيديهم على محاسنه وفضائله ليتفقهوا فيه باتخاذهم (الوحي المحمدي) دليلاً وهاديًا، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. ولا جرم أن السيد - أيده الله- جمع ما كتبه الحكماء والأطباء النطاسيون لأمراض النفوس في هذا العصر وفيما قبله وزاد عليه بأوجز عبارة وأوضحها، وفتح بابًا جديدًا للدخول إلى خزانة كنوز القرآن استعصى فتحه على من حاوله قبله من المصلحين بالنسبة إلى طب أدواء عصرنا هذا، وأتى في هذا السفر الصغير الحجم بالأدلة القاطعة عقلاً ونق

العبرة بسيرة الملك فيصل ـ 5

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبرة بسيرة الملك فيصل (5) يوم الجمعة 23 جمادى الأولى 13 فبراير خلوت البارحة بالأمير فيصل ساعتين فصَّلنا فيهما الكلام في المسائل الثلاث، السورية والعربية والإسلامية، فسمع مني في حقائق سياسة أوربة وخفايا مسائل الأحزاب في الشام ومنها حزب جمعيته ما لم يكن يظن أنني أعرفه كما صرح لي بذلك، وبأنه يعترف بأنه ليس كثيرًا على شهرتي … وذكرت له في هذا السياق خلاصة تقريري الذي أرسلته إلى وزير إنكلترة الأكبر لويد جورج في رمضان العام الماضي (1337) وما حدثت به موسيو مرسيه مدير السياسة الفرنسية في بيروت بمعناه قبل مجيئي إلى الشام (وموضوعهما سياسة الدولتين وعلاقتهما بالعرب وبالإسلام) فتعجب وقال: إنه خاطب الإنكليز بهذا المعنى كأننا كتبنا عن تشاور واتفاق. ثم فصل لي رأيه في المشتغلين بالسياسة العربية وخلاصته أن الشيوخ والأكابر المحافظين لا يعتد بهم في شيء، وأن أكثر الشبان مغرورون ومفترقون في الرأي، فمنهم من يرى وجوب الاتفاق مع الإنكليز على فرنسة أو ضدها وإن سمحنا لهم بما في أيديهم من العراق وفلسطين، ومنهم من يرى العكس وهم أقل، ومنهم من يرى أن نحارب الدولتين معا، وقال: إنه متحير بينهم، ولم يبد رأيه بالتفصيل لأحد منهم، وأقنعته بأن يبديه لي ففعل … ورأيت أهمه أنه صار على رأيي فيما رجع فيه عن رأيه اهـ وقد (اتفقت معه قبل الانصراف على الاجتماع به مع أصحابنا الثلاثة غدًا) هذا ما كتبته يومئذ ولم أره بعد ذلك إلا عند كتابته لأجل نشره في هذه الأيام، وعبارتي الأخيرة مبهمة، ومما رجع فيه إلى رأيي الاتفاق مع ابن السعود، واستمالة أصحابنا الثلاثة، وأما السياسة الخارجية فقد كان من رأيي الذي كاشفته به أنه لا يجوز أن يعطي لأحد من الأجانب حقًّا في البلاد العربية باسم الأمة، ولا أن يُوئِسَ واحدة من الدولتين في إمكان الاتفاق معها على ما يحفظ مصالحها ومنافعها الاقتصادية والأدبية إذا اعترفت لنا بحقنا في الاستقلال الحقيقي إلخ، وأما التفكر في محاربة الدولتين فهو من الجهالة التي يعذر صاحبها إن لم نقل: إنه من الجنون، وأما ما يجب أن يفعل في البلاد فهو إعلان استقلال سورية جهرًا، وإحداث إدارة جديدة للدفاع الوطني بتنظيم العشائر والقبائل كلها، وسيأتي ذكره في هذه الفصول. يوم السبت 24 منه 13 فبراير لقيت الأمير فيصل البارحة بعد المغرب (من يوم الجمعة) حسب الوعد وتعشيت معه وبعد العشاء جاء أصحابنا الشيخ كامل قصاب وخالد أفندي الحكيم والدكتور شهبندر حسب الطلب، وسهرنا معه إلى انتهاء قرب الساعة الحادية عشرة، ودار الحديث في المسألة العربية فذكر لهم موقفه الرسمي بين أبيه والأقطار العربية التي وكلته، وسألهم رأيهم فيما يجب أن يفعل فحيرهم ولم يستطيعوا أن يجيبوه جوابًا مقنعًا ولم يتفقوا على شيء، وحلفوا له على الكتمان وانصرفنا. ولقيته ضحوة هذا اليوم فأطلعني على الكتاب المطول الذي كتبه لأبيه (الملك حسين) عن الحالة السياسية الأخيرة وعلى خواطره الملحقة بالكتاب المؤيدة لرأيه السياسي الأخير. وأهم ما ذكَّر به والده فيه أنه بنى ثورته على الثقة التامة بالإنكليز والاندفاع في تيارهم وأنه وصاه عند سفره إلى أوربة بأن لا يخالف رأي مندوبيهم ومعتمديهم في شيء وأنه لم يطلعه على ما بينه وبينهم من العهود الرسمية. وأهم ما ذكره له من الأخبار فيه ما كان من معاملة الإنكليز له في أوربة وما أجابوه به في لندرة عندما كلمهم في مسألة ابن سعود، وهو أنه حليفهم مثل والده (أي خلافًا لأمل والده فيهم) وذكر له سياسته الجديدة في سورية. وقد ثبت لي من هذه الكتابة أنه كان يعتقد بالتبع لوالده أن إنكلترة تساعدهم على تأسيس دولة عربية تضم إليها سورية وفلسطين والعراق وأن ثقته بهذا كانت تابعة لثقة والده إذ كان يخبره مشافهة أن بينه وبين الإنكليز عهودًا مكتوبة في ذلك لم يطلعه عليها (ثم تبين له أن ليس هنالك إلا رسائل خادعة كما شرحنا ذلك في المنار) وقد صرح لي من قبل أنه علم بالاختبار أنهم مخادعون وبما هو شر من هذا. …… ومما ذكره لي في أخبار هذه الأخبار والخواطر أن الإنكليز استاءوا منه (أي من فيصل) عندما ظهر لهم أن أكثر أهل سورية طلبوا عند الاستفتاء المشهور مساعدة الولايات المتحدة وصرحوا بأنه كان يجب أن يكون أكثر الأصوات لهم وعاتبوه على ذلك. وأقول الآن: إننا نعلم أنه لم يقصر في مساعدتهم فقد كان اتفق مع الحزب على طلب الولايات المتحدة قبل أن يكلمه الإنكليز في المسألة فلما كلموه جمع من كان في دمشق من الأعضاء أولي التأثير ليلاً وبلغهم أنه قد تغير رأيه الأول فجأة. وقد كتبت في مذكرتي بعدما تقدم: (ولقد عجبت أشد العجب من كتابته إلى أبيه أنه ينتظر كتابًا منه ويبشره بأن إمام اليمن أجابه بأنه يرضى ويقبل أن يكون تابعًا لعرشه، فيا لله من هذا الجهل والغرور الذي لم أكن أظن أن الولد على ذكائه واختباره يشارك والده فيه) اهـ. *** استطراد في إمامة الزيدية ومذهبهم وأزيد هنا الآن أن الملكين رحمهما الله تعالى لم يكونا يعلمان أصول عقيدة الزيدية وتاريخهم، ولا أن يحيى حميد الدين يعتقد هو وقومه أنه هو الإمام الأعظم للأمة الإسلامية وأمير المؤمنين الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه والخضوع لحكمه، وأنه يجب عليه عند الإمكان قتال الخارجين والعاصين له … على هذه القاعدة كان يقاتل الدولة العثمانية على قوتها وادعائها لمنصب الخلافة، نعم إنه كان يقابلها دفاعًا، ولكنه لو استطاع أن يهاجمها وينتزع منها جميع سلطنتها لفعل وكان مصيبًا. ولما هاجم النجديون الحجاز وخرج الملك حسين منه وبايع الحزب الوطني فيه ولده عليًّا وسموه ملكًا كاتب علي الإمام يحيى وعرض عليه أن ينقذ الحجاز ويضمه إلى مملكته اليمانية على أن يكون هو وأهل بيته أمراء للحجاز من قِبَله تابعين له، فامتنع الإمام من قبول هذا الاقتراح؛ لأنه قدر بل علم أنه لا يستطيع تجهيز جيش قوي يمكنه الوصول إلى الحجاز والتغلب على النجديين، وإدارة البلاد وحكمها بقوته وبمقتضى مذهبه، وبلاد عسير تحول بين بلاده وبلاد الحجاز وهي معادية له وموالية لسلطان نجد وهو ما زال يستدل بهذا على موادته ومحاسنته للملك عبد العزيز آل سعود كما نوَّه بذلك في مكتوباته إلينا وإلى غيرنا. على أنه بلغنا أنه لما قرأ نبأ سقوط ملك علي بن الحسين واستيلاء عبد العزيز بن فيصل السعودي على المدينة المنورة وجدة صلحًا فر الدمع من عينيه كلتيهما كأنه سهم خرج منهما، وما هذا إلا أثر وجدان شريف، وما ذاك إلا نتيجة رأي حصيف، فعسى أن يرجح عنده الرأي الحصيف في هذه الأيام على الوجدان فهو لسان كفتي الميزان، والمصلحة الإسلامية تقتضي ترجيح العقل على الشعور، وإلى الله تصير الأمور. (تنبيه) إنني لم أكتب في مذكرتي شيئًا في بقية أيام الأسبوع إلى يوم الجمعة 30 جمادى الأولى ولا أذكر الآن ما شغلني عن ذلك على أنني كتبت أنني قابلت الأمير في الصباح من يومي الخميس والجمعة وأنني كلمته في صباح الجمعة في مسألة الجزئيات (وأعني بها وجوب ترك الاشتغال بالأمور الجزئية الصغيرة) يوم الجمعة 30 جمادى الأولى 20 فبراير ألقيت اليوم بعد الظهر خطابًا أو محاضرة في مدرسة الحقوق في الموازنة بين (المدنية العربية الإسلامية والمدنية الأوربية) وكان قد دعاني إلى ذلك ناظر هذه المدرسة منذ أيام فعارضه الدكتور أمين معلوف محتجًّا بأن المدرسة تابعة لحكومة غير دينية، فلا يجوز أن تُلْقَى فيها محاضرة في المدنية الإسلامية، فلم يلتفت الناظر إلى معارضته، فكلمني الدكتور محاولاً إقناعي بوجوب تركها فأقمت عليه الحجة، ومما أذكر من ردي عليه على تقدير التسليم له بأن حكومة الشام غير دينية : أنه لا يوجد في الدنيا مدرسة علمية حقوقية تأبى أن يلقى فيها محاضرة علمية تاريخية في المدنية والتشريع الديني أو غيره، فكيف تأباه مدرسة أكثر طلابها ورجال حكومتها يدينون بهذا التشريع الإسلامي؟ وقد حضر الأمير هذه المحاضرة وكتبت أن الدكتور أحمد قدري أخبرني بمناسبة الكلام بإعجاب الأمير بالمحاضرة وغيرها من المذكرات أنه يقول عني: (رجل ناضج) . وذكرت أيضًا أنني حضرت في مساء هذا اليوم (الجمعة) جلسة حزب الاستقلال العربي، وبحثنا في تقرير أحد الإخوان وفي مسألة المؤتمر والوفد. فأما مسألة المؤتمر فهي ما تقرر من جمع أعضاء المؤتمر السوري العام لتقرير استقلال البلاد السورية ونصب الأمير فيصل ملكًا عليها، وأما الوفد فهو ما يبغيه الأمير من اختيار وفد يسافر معه إلى أوربة للبحث والمفاوضة مع دولتي فرنسة وإنكلترة في علاقة البلاد بهما. يوم السبت غرة جمادى الآخرة 21 فبراير كلفني الأمير اليوم أن أكتب له بيانًا في صفة أو كيفية إبراز المسألة الوطنية الحاضرة (كذا) والأصول التي تبنى عليها. وذكر لي سبب اختيار الرجلين اللذين سيرسلهما بعد غد إلى مصر ومهمتهما فيها ثم إلى مكة يحملان كتبه إلى والده، ومنها أن يكون (أحدهما) فؤاد الخطيب بعيدًا عن الشام عند إعلان الاستقلال. … (أقول الآن: أعني بهذه النقط بأن الشيخ فؤاد أفندي الخطيب كان يطمع أن يكون ذا منصب كبير في حكومة الشام الجديدة بما يحمل من الوصية من الملك حسين، والأميرُ فيصل لا يرغب في هذا، وهو يعلم أن حزب الاستقلال العربي لا يرغب فيه ولا يقره) وقد أعدت على الأمير النصيحة السابقة بوجوب ترك الاشتغال بالجزئيات والوظائف فأظهر لي الاقتناع. قال: ولكن تنفيذها يتوقف على وضع نظام له ووجود رجال من أولي الكفاية والثقة ينفذونه، فكان هذا الاعتذار كاعتذار والده من قبله حين نصحت له بمثل هذا في مكة المكرمة. رأست في المساء جلسة الإخوان (أي أعضاء حزب الاستقلال العربي) فوافقنا على إرسال فؤاد الخطيب إلى مكة؛ لأنه لا يتوقع منه هنالك زيادة ضرر عما قد يعمله هنا (ومما حسبوه أن يفشي للإنكليز في مصر بعض أسرارهم، وأن يصور للملك حسين ما سيقومون به من الاستقلال بصورة تسوؤه أو لا ترضيه) . يوم الأحد 2 جمادى الآخرة (22 فبراير) أطلعني الأمير على الكتاب الذي كتبه إلى اللورد اللنبي ليحمله الوفد المسافر إلى مصر فمكة، فوجدته موافقًا للغرض والأسلوب الذي اقترحته وقد رأيت اليوم أن أكلم فؤاد الخطيب وأنصح له بعد أن صددت عنه وتركت مكالمته حتى رد السلام عليه إن سلم على جماعة أنا فيهم عدة سنين. سألته أولا على مسمع من صفوت بك العوا: أتحب أن أنصح لك؟ فدهش واصفر لونه وأظهر السرور والاهتمام، فخلوت به في حجرة من دار الإمارة باقتراحه وأغلق الباب علينا. بدأته بالتذكير بشيء من سيئاته، وقلت له: إنه لا يوجد فرد من الأفراد الذين يشتغلون بالسياسة العربية ولا حزب من الأحزاب راض عنك ولا محسن للظن بك قال: أنا أعلم ذلك، قلت: وإنهم قادرون على إيذائك بكل نوع من الإيذاء (أي السياسي) قال: أنا أعلم ذلك. قلت: يجب إذًا أن تعمل عملا تكفر به عما مضى من السيئات. قال مثل ماذا؟ فذكرت له بعض الأمور التي يسندونها إليه وأهمها توسطه للإنكليز لدى الملك حسين وإقناعه إياه بما اقترحه السر مارك سايكس من إرضائه لموسيو جورج بيكو والموافقة على معاهدة سنة 1916. حاول الإنكار فقلت له: لا تنكر فالسر مارك سايكس نفسه أخبر أصحاب المقطم وغيرهم بذلك، وعرف هذا وسمعه منهم رفيق بك العظم وآخرون كثيرون،

خاتمة المجلد الثالث والثلاثون من المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خاتمة المجلد الثالث والثلاثين من المنار بحمد الله أختتم هذا المجلد كما افتتحته به، وله الحمد في كل أمر وعلى كل حال، من خواتيم السنين والأحوال، وفواتحها وفواتح الأعمال، فما من عمل ولا زمن إلا وله فيه نعمة ظاهرة أو باطنة، ورحمة بارزة أو كامنة، ومن فضله ورحمته، وأعظم نعمه ومننه أن أقدرنا في هذا المجلد على إتمام ما وعدنا به في خاتمة ما قبله من مباحث (الوحي المحمدي) فكان كتابًا مستقلاًّ، نفدت طبعته في أثناء سنته الأولى، وجدد فيها مرة ثانية كما تراه في هذا الجزء مفصلاً تفصيلاً. وأما وعدي بإنجاز مباحث الربا فيه وقد طال عليها الأمد، فقد شرعت فيها بالتحقيق لمسألة الحيل، واتفق أن حاورنا في تحرير ربا النسيئة القطعي بعض كبار الفقهاء فطال الحوار والجدل، فأرجأت كتابة بحث التطبيق العملي منه إلى أن نتفق على القواعد التي وضعتها له، وعسى أن يكون هذا قريبًا فنتم هذه الفصول في المجلد الرابع والثلاثين، ونصدرها في كتاب مستقل تَقَرُّ به أعين الناظرين وكذلك مناظرة حقوق النساء ومناظرة التجديد والمجددين، وكتاب (المنار والأزهر) كلها أرجو إصدارها في هذا العام بتوفيق الله تعالى وفضله. وقد علم قراء الطبعة الثانية من كتاب الوحي المحمدي أنني وعدت في تصديرها بكتابة علاوات لها تبلغ اثنتي عشرة أو أكثر، تصدر في جزء آخر، وسيكون فيه تفنيد مدعي الوحي من الدجالين المتأخرين كما وعدنا أن يتم في العام الجديد أيضًا. وأما هاضمو حقوق المنار فحسبي ما وجهت إليهم من إنذار وإعذار، وتفويض أمر المستحلين إلى عدل المنتقم الجبار، ولقد تبين لنا أن بعض الماطلين غير مستحلين، فإن منهم من قضى فوفَّى، ومن قضى البعض وعفونا له عما بقي، ومن أحللناه من كل ما عليه، لاعتذار صحيح قبلناه منه، ومنهم من طلب النظرة إلى الميسرة فأنظرناه، وما ياسرنا أحد فأعسرناه، ولا استماحنا معذِّر فرددناه، ومن بخل علينا بعد ذلك بالمال وبالقال، بعد طول هذا المطال، فلا يسر الله عسرته، ولا أبرأ ذمته، ولا أقال عثرته، وإنا لنستحي أن نشهرهم لقراء المنار الأخيار بأسمائهم فنعدهم ممن كانوا منهم، ونذكر القراء على عادتنا بالنصح لنا كما ننصح لهم، وبتذكيرنا بما يرونه منتقدًا؛ لنتعاون على إحقاق الحق، ومن تأخر نشر ما ينتقده فليصبر، فإن طال الأمد فليذكر، والحمد لله أولاً وآخرًا.

إعذار تلو إنذار لهاضمي حقوق المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ إعذار تلو إنذار لهاضمي حقوق المنار من كان عاجزًا عن أداء ما عليه من حق المنار عجزًا لا يرجى زواله فليعتذر إلينا نجعله في حلٍّ منه، ومن أنظرنا إلى ميسرة ننظره، ومن صالحنا على بعضه دون بعض نقبل منه، ومن طلب تقسيطه عليه أجبناه، ومن لم يجبنا إلى شيء من ذلك شكوناه إلى الله {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} (آل عمران: 4) إن قراء المنار لأحق المسلمين بالوفاء وأداء الحقوق ولا سيما حق من وقف حياته ويبذل نفسه وماله في خدمة دينهم بما لم يقم بمثله غيره كقيامه، بل هم أولى المسلمين بأن يبذلوا في تأييد هذه الخدمة فوق ما هو حق عليهم، وإنهم ليعلمون ما ينفقون في سبيل شهواتهم، وإنهم ليعلمون ما يتبرع به أصحاب الأديان الباطلة من الملايين في دعوتهم إلى دينهم، والطعن في دينهم أفضل الأديان، وفي كتابهم أصح الكتب المنزلة وأهداها، وفي سيدهم بل سيد ولد آدم محمد رسول الله وخاتم النبيين ورحمته للعالمين صلى الله عليه وسلم، أفليس من العجيب أن يهضم أحد منهم حقه، وتلجئه ضرورة العسرة أن يذكرهم بربهم وكتابهم ووجدانهم فلم يستجب له إلا أقلهم؟ فمنهم من استبرأه فأبرأه ومنهم من شكا العسرة فأنظره، ومنهم من حط عنه بعض ما عليه وقضى بقيته، فأي عذر للآخرين.

فاتحة المجلد الرابع والثلاثين من المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الرابع والثلاثين من المنار بسم الله الرحمن الرحيم {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} (الأعلى: 1-3) أحمده وأصلي وأسلم على محمد رسوله المصطفى، وخاتم أنبيائه المجتبى، وعلى آله الطيبين، وخلفائه الراشدين، وسائر أصحابه الهادين المهديين، وأوليائه الأئمة الوارثين، الذين استخلفهم في الأرض لإقامة أمر الدنيا والدين، ومن اتبعهم إلى يوم الدين {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام: 165) . أما بعد فإنني أُذَكِّر قراء المنار في فاتحة مجلده الرابع والثلاثين بفاتحة المجلد الذي قبله إذ عرضت عليهم فيها حال شعوب الإسلام كلها بعد حرب الأمم الكبرى، ليجعلوا نُصْب أعينهم ما وقع على بعضها من الغبن والخسار، وما أصاب بعضها من الربح والانتعاش، وما هي عرضة له من الأمرين تجاه دول الاستعمار، إذا وقعت الواقعة، وجاءت الطامة الكبرى بالحرب الثانية المتوقعة، وما يجب عليهم في دينهم ودنياهم، وما لكل منهما من الصلة والتأثير في الآخر؛ فإن أكثر المسلمين عن هذا غافلون {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) ، {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55) . لقد عرفوا من تلك الفاتحة أن وطأة دولتي الاستعمار الكبيرتين على الشعوب العربية التي نصرتهما في الحرب، وجاهدت معهما بأموالها وأنفسها، كانت أشد وطأة منها على الشعوب الأعجمية التي قاتلتهما والتي سالمتهما، وكذلك تكون في الحرب الآتية المتوقعة؛ لأن هذه الدول مادية، قد فقدت جميع الفضائل الإنسانية. وقد انقضى العام وحال الشعوب الإفريقية معهما على شر ما كانت عليه من مصر إلى مراكش، ولهي في آسية أشر، وأدهى وأمر. إن إنكلترة لا تزال ممعنة في إرهاق عرب فلسطين، وانتزاع وطنهم منهم وإعطائه لليهود الصهيونيين، لتجدد لهؤلاء ملكًا في قلب البلاد العربية، حاجزًا بين مصر وبين الحجاز وفلسطين، وإن فرنسة لا تزال جادة في جعل عرب سورية مللاً متعادية في الدين، وشعوبًا متفرقة في الدنيا، ومصرة على إبقاء الأكثرين من مسلميهم محصورين في سجون المدائن الأربع داخل البلاد لا منفذ لهم إلى البحر، ولا متسع أمامهم في طلب الرزق، ولا حرية لهم في عمل ولا علم ولا حكم. ولم تكن إنكلترة في وقت، ولا في مكان شرًّا من فرنسة وأظلم مما هي الآن في فلسطين، فقد لانت فرنسة في إرهاقها للمغرب الأقصى بعض اللين، إلا قتالها لقبائل السوس التي لم تخضع لها باسم حماية المخزن، ولا تزال (إنكلترة) بارزة أمام الأمة العربية بروز الفاتح الظافر، المستعمر القاهر، تنازعها حقها القومي والديني في جزيرتها المقدسة، بأساليب دسائسها وكيدها المعروفة، فهي قد ربحت في العام المنقضي أن خدعت الإمام يحيى حميد الدين حتى غلبته على طبعه في شدة الحذر من الأجانب، وفي صلابته في السياسة السلبية، فأمضى لها معاهدة أقرها فيها على حمايتها للمقاطعات اليمانية التسع، إلى مدة جيل اجتماعي كامل هو أربعون سنة كاملة كمدة تيه بني إسرائيل يمكنها أن تنشئ جيلاً جديدًا في هذه المقاطعة بجميع وسائل التمكين، يكون بينه وبين سائر إخوانه في المقاطعة اليمانية الأمامية بُعد الشرق والمغرب: عقيدة ورأيًا وذوقًا ... إلخ. هذا ما فعلته في الجنوب، وإنها لتفعل في الشمال ما هو أشد خطرًا على الأمة العربية في دينها ودنياها: إنها لتمكن لنفسها النفوذ في منطقة شرق الأردن بحيلة الانتداب، وفي العقبة الحجازية التي سُلبت من الحجاز بعد عقد صك الانتداب، وهي حبل الوريد للجزيرة العربية، ومجرى دمها، ودهليز حياتها الحربية والسياسية والمدنية، لكيلا تتجدد لهذه الأمة حياة مستقلة؛ فتعجز الدولة البريطانية عن خنقها متى شاءت. وقد تواترت الروايات من فلسطين وشرق الأردن أنها افترضت الشقاق بين ملك السعودية العربية، وإمام اليمن فعادت إلى ما كانت بدأت به في أثناء فتنة ابن رفادة من تحصين خليج العقبة المنيع وامتلاك رقبة أرضه؛ لأن صاحب الحجاز أيضًا لا يستطيع أن يعارضها في ذلك (وقد بينا هذا في الجزء الماضي من المنار) . إن إنكلترة لا تجهل أن عجز صاحب الحجاز عن معارضتها اليوم أو غدًا لا يُسقط حق الحجاز، وحق الأمة الإسلامية، وحق الدين الإسلامي نفسه في هذا الحصن الحصين من سياج الحرمين الشريفين، بل لو فرضنا أن ملك العربية أجاز - لا سمح الله - هبة علي بن حسين هذا المُوَقِّع لأخيه عبد الله بن حسين إجازة رسمية لما كانت إجازته لهذه الهبة إلا مثل بدء إنشائها أو أضعف منها، فالإنكليز يعلمون أنها هبة باطلة في الشرع الإسلامي، وفي أصول القوانين الدولية، فهي لا تفيدهم إلا فرصة عجز الحجاز المؤقت عن منع ما يعملون فيه، وأنه متى سنحت الفرصة لأية حكومة حجازية إلى استعادته فلا يمكنها أن تضيعها، ولا سيما إذا قام الشعب العربي بتأييد العالم الإسلامي لمطالبتها به، وإن ذلك لقريب واقع، ما له من دافع. هذه الجرأة من الدولة البريطانية على عداوة العرب والإسلام، ستكون من أكبر أسباب زوال سلطانها من الشرق الأدنى والشرق الأوسط أيضًا، وإن خليج العقبة لهو أكبر هذه الأسباب، كما بيناه في الجزء الماضي وغيره، وماذا تفعل الأمة العربية والشعوب في طغيان هذه الدولة القوية؟ الأمة العربية في طور يقظة وسعي حثيث للوحدة والاستقلال، والشعوب الإسلامية كلها على استعداد نفسي وعملي لتأييدها، وناهيك بمحافظتها على مهد دينها، وتنفيذ وصية نبيها مصلح البشر الأعظم صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، وهذا التفرق بين البلاد العربية والشعوب الإسلامية لا يدوم، وبشائر الفوز والفلاح تبتسم له بجميع الثغور في جميع النواحي، فعلى الأمة الإنكليزية إن كان فيها بقية من تلك العقول الناضجة والأخلاق الحكيمة الماضية، لم تسلبها منها الأفكار المادية كما قال حكيمها الأكبر (هربرت سبنسر) أن تفكر في هذا الخطر عليها قبل وقوعه وتَعَذُّر تداركه. ماذا تجدد في العام الماضي من وسائل النجاح للعرب وللإسلام، ويجب عليهم أن يوجهوا إليه أفكارهم وأفعالهم في هذا العام؟ أما في جزيرة العرب فقد تبين أن التنازع بين إمامي الجنوب والشمال الذي خشينا أن يكون هادمًا أو مضعفًا لما كان فيها من بقايا القوة القديمة، قد أثبت لنا دلالته على قوة عصرية جديدة، وأن القتال الذي نشب بين جيوشهما سيكون فصدًا يخرج به ما في عروق الأمة من الدم الفاسد الذي ولدته الجهالة والتقاليد المذهبية والموضعية، التي فرقت الأمة وجعلت أقوامها شيعًا متعادية، فمن الجهل أن نحزن لخروج هذا الدم وإن كرهنا سببه، وأن نبرم الصلح قبل خروجه فيكون صلحًا على دخن، لا يعقبه إلا عدوان شر منه، ربما يتجدد في وقت يكون فيه الطامعون في الأمة العربية أقدر على الاستفادة منه مما هم الآن، فلقد كان أخوف ما خفنا من العاقبة أن يتذرع به الأجانب لإضعافنا والدخول فيما بيننا، فظهر أن هذا الوقت غير مواتٍ لهم ولله الحمد، وأمنا هذا الخطر الآن فيجب أن نقطع عليه الطريق فيما بعده. وظهر لنا من خلال هذه الفتنة أن القوة العربية السعودية حية صحيحة المزاج، سليمة من الأمراض والآفات، وأنها على درجة من النظام العسكري والمدني فوق ما كان يتصوره الأقارب والأجانب، وإن كانت لا تزال دون الواجب، كما ظهر من قبل ذلك قدرة إمامها ومجددها على حفظ الأمن في الحجاز كنجد على أكمل وجه، وعلى إيجاد أسباب الحضارة العصرية وأنواع المواصلات والصحة بأعظم ما تخوله إياه الموارد المالية والرجال العاملين، فثبت بهذا وذاك أن الأمة العربية مستعدة أتم الاستعداد لتجديد دولة إسلامية مدنية في مهد الإسلام ومنبت أرومة العرب، فهل طلاب الوحدة العربية والتجديد الإسلامي الذي يعيد الحياة الإسلامية المادية والمعنوية سيرتها الأولى من حيث أشرق نورها، وأتم الله ظهورها، أن يؤيدوا هذا التجديد ويمدوه ويعلموا أنه مصداق قول رسول الله خاتم النبيين، الذي فضلهم الله باتباعه ما صدقوا فيه على جميع العالمين، (إن الإسلام ليأرز إلى جزيرة العرب، وليعقلن الدين من الحجاز معقل الأرويَّة من رأس الجبل) . وأما القوة اليمانية العربية فإنها على قدم تأسيسها، وكثرة عَددَها وعُددها وسعة ثروة إمامها وقائدها، وكثرة ما نوه به العرب والإفرنج من وصفها، قد ظهر أنها ملتاثة بعلل من التربية الإدارية والسياسية في بلادها، واختلاف التقاليد المذهبية بين شيعة الزيدية الحاكمة، والسنة الشافعية المحكومة فيها، وتجلت للأمة العربية الحقيقة التي يجب أن تعرفها من هذا القسم المهم من قومها ووطنها؛ لتكون على بصيرة من علاجه، وإعداده للاتحاد بغيره، بدلاً من وقوعه موقف العداء له وتربص الدوائر به، كما عُني الدعاة المفسدون بتصويره، بل لم يستح بعضهم أن ينشر في الصحف بعد هزيمة جيشه أن يذيع أن الإمام ينظم جيشًا لجبًا يقوده بنفسه لفتح نجد واحتلال الرياض، كما أذاعوا في أول الفتنة أن سيفتح الحجاز! ! ولعلنا ننشئ مقالاً خاصًا نبين فيه حقيقة حال الزيدية، وما ينبغي أن يكونوا عليه لإصلاح شأنهم، وتأمينهم والأمن منهم، مع النظر في شروط إمامتهم، وحكم قتال البغاة عندهم، وكنا منذ سنين قد كتبنا تقريرًا أرسلناه إلى مولانا الإمام الهمام مع وفد خاص فيما يجب عليه من الإصلاح والإدارة، فشكر ذلك لنا، ولم ينفذ منه شيئًا. هذا وإن من بشائر الاستعداد للوحدة العربية القريبة أن لاح لنا من جانب حكومة العراق بارقة أخرى صغيرة في صورتها كبيرة في معناها، هي قصة تمثيلية في بث الدعوة إلى الوحدة العربية، أطلق عليها اسم (مثلنا الأعلى) كانت وضعت في آخر مدة المرحوم الملك فيصل وحضر تمثيلها أول مرة معجبًا به، ثم طبعت منذ شهر أو شهرين في مطبعة الحكومة العراقية بإيعاز وزارة معارفها، وتوجت بإهدائها إلى (روح فيصل بن الحسين) ونشرت في هذا الشهر (المحرم سنة 1353 هـ 1934 م) فكانت بهذا وذاك دعاية رسمية أو شبه رسمية للوحدة العربية، عرفنا بها ما كنا نجهل من رأي هذه الحكومة في الوحدة من بعد فيصل رحمه الله تعالى. فهذه خلاصة ما تجدد في سبيل الوحدة العربية وحياتها الجديدة في العام الماضي نستقبله في هذا العام راجين مستبشرين. وقد حدث فيه من الأحداث المؤسفة أن كلاًّ من دولتي العراق والأفغان قد خسرت ملكها المحبوب المحنك، بيد أنه حل محل كل منه نجله الشاب المثقف، فسارت الدولتان معهما سيرتها الأولى مع والديهما بحنكة رجالهما واستقرار النظام فيهما. ومن الأنباء السارة أن حكومة الجمهورية اللادينية التركية قد رجعها الاختبار عن بعض الأعمال التي خالفت بها شريعة الإسلام وهدايته، وأن رئيسها مصطفى كمال حضر صلاة العيد مع رجال دولته الرسميين في المسجد، وإنها لفاتحة خير تدل على ما يرجوه كثير من عقلاء الترك وغيرهم من رجوع هذه الحكومة إلى كل ما هو قطعي من هداية الإسلام. وحدث في أحد الشعوب الإسلامية التي كانت مستعبدة للأجنبي أ

كتمان القرآن عن أهل الكتاب وسورة يوسف عن النساء

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتمان القرآن عن أهل الكتاب وسورة يوسف عن النساء (س1 - 3) من صاحب جريدة الوطنية بمصر نُشر في العدد 427 منها وتاريخه 28 ذي الحجة سنة 1352 هـ، و12 أبريل سنة 1934 م ووجه إلى علماء الإسلام كافة، وقد أرسله صاحبه مع كتاب بخطه يخصني به بالسؤال، وقد ذكر في مقدمته أن أستاذًا من الشيوخ المعلمين في المدارس الأميرية، وخطباء بعض الجمعيات الإسلامية، قال له (وقد سأله عما بلغه من إنكاره لقراءة القرآن لتبليغه بالمذياع - أي: آلة الراديو - ما يأتي بنص الجريدة وهو: (إن في القرآن آيات ضد أهل الكتاب كان لها وقت نزولها ما يبررها، أما وقد أصبحوا بعد ذلك ذوي ذمتنا فلا يجوز أن يسمعوا تلك الآيات) . ثم تجاوز هذا وقال: إنني أمقت قراءة سورة يوسف في البيوت حتى لا تسمع النساء حديث يوسف مع زليخة فيفهمنها بما يثير الريبة في عفاف النبي الكريم سيدنا يوسف (وزاد على هذا قوله) إنني لا أسمح أن يُقرأ القرآن في حفل عام من رجل لا يفهم معانيه ... إلخ. (فأنكرت عليه رأيه في هذا كله؛ ولكني جئت أستفتي علماء الدين في رأيه هذا فماذا يقولون؟) اهـ. بحروفه بدون مقدمته، وذيله الذي رد به صاحب الجريدة على الأستاذ. (جواب المنار) إن هذا الذي عُزي إلى هذا الأستاذ رأي باطل، لا يوافقه عليه مسلم عالم ولا جاهل، بل هو بدع من الرأي الأفين، لم يبلغنا عن أحد من الأولين ولا من الآخرين، وما علل به إنكار إسماع أهل الكتاب للآيات التي سماها ضدهم، وإسماع النساء سورة يوسف باطل مثله، وكل تعليل يراد به الاحتجاج على كتمان شيء من القرآن فهو باطل، فالقرآن كلام الله الحق، وحجته الكبرى على جميع الخلق، وكل ما فيه هداية صالحة لكل زمان وكل مكان، وتبليغه واجب، وكتمانه فسق، واستحلاله كفر {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التُّوَّابُ الرَّحِيم} (البقرة: 159-160) فعسى أن يكون ما عُزي إلى الأستاذ الفاضل قد نقل على غير وجهه الذي ذكره السائل في جريدته، وبيَّنه في كتابه، وعسى أن يتوب ويصلح ويبيِّن إن كان قد نقل بنصه أو بمعناه، وقد كتمنا اسمه تكريمًا له، وانتظارًا لما نرجو من تأويل أو تفصيل له فيه مخرج؛ ولكن في الكلام ثلاث شبهات تعلق بأذهان القراء، فيجب أن نكشف عنها الحجاب على كل حال؛ لأنها طُبعت وانتشرت بين الناس: (1) منع قراءة القرآن في المحافل بشرطه: أما منع من لا يفهم معانيه من قراءته في المحافل فهو باطل محرم، وهو يقتضي منع أكثر المسلمين الحفاظ له وغيرهم من تلاوته فيها، وتخصيص تجويزها بالعلماء الذين يفهمون معانيه وقليل ما هم، ولا ندري ما الفرق بين المحافل وغيرها إذا كانت علة المنع عدم الفهم للمعاني، فإن كانت العلة إسماعه للجمهور كتعليل منعه لقراءته في المذياع فما الفرق بين من يفهم المعاني، ومن لا يفهمها؟ (2) ما نزل في شأن أهل الكتاب: وأما ما نزل في شأن أهل الكتاب فكله حق وعدل محكم يجب إظهاره في كل وقت، حتى ما نزل في الأعداء المحاربين منهم، دع ما هو خاص بالذميين والمعاهدين، وقد قال تعالى فيهم: {لَيْسُوا سَوَاءً} (آل عمران: 113) وأثنى على بعضهم بالحق وذم أكثرهم بحق، ولا يزال فيهم من هم أشد عداوة للمسلمين من سلفهم في عصر التنزيل وما يليه، وكان أهل الذمة في الصدر الأول أشد محافظة على شروطها من أهل زماننا، وقد قال تعالى فينا وفيهم: {هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} (آل عمران: 119) ... إلخ بل قال في المشركين الذين كانوا أشد عداوة للإسلام من أهل الكتاب، ولا سيما النصارى الذي كان فيهم من هم أقرب مودة للذين آمنوا {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ} (الممتحنة: 8) ... إلخ، فما الذي يريد هذا الأستاذ كتمانه من القرآن أن يسمعه أو يقرأه أهل الكتاب وغيرهم؟ وهو يعلم ما يقولون ويكتبون من الطعن بالكذب والبهتان على الله ورسوله وكتابه ودينه، وما يكيدون لرد أطفال المسلمين عنه إلى دينهم، وإن من يسميهم الذميين كالمعاهدين في هذا، ولا يراعي شروط الذمة والعهد أحد منهم، فهل يجد في سفهاء قومه من لا يفضل أعلم قسوسهم وكتابهم في التنزه عن مثل هذا، أم يريد أن يقول: إنه يشرع لنا نسخ بعض القرآن حتى في التلاوة لإرضائهم وهو يعلم ما قال الله تعالى في الغاية التي لا يرضيهم دونها شيء؟ والله أعلم منه بهم والقرآن لا يُنسخ بالرأي، ولا يصح إطلاق القول بكتمانه لمصلحة راجحة فكيف يكتم بمثل هذا الوهم؟ على أن هذا الكتمان متعذر في هذا الزمان، ولله الحمد. (3) سورة يوسف وسماع النساء لها: وأما سورة يوسف عليه السلام، فهي منقبة عظيمة له، وآيات بينة في إثبات عصمته، وأفضل مثل عملي يقتدى به في العفة والصيانة يجب أن يهذب به النساء والرجال، فكل منهما يعلم بشعوره الطبيعي قوة سلطان الشهوة الجنسية على نفسه، ويسمع ويقرأ من أخبار الناس ولا سيما أهل هذا العصر في مثل هذا المصر ما في طغيانها على غيره، من الفضائح والخيانات والجنايات وتخريب للبيوت، وإضاعة المال والعيال والدماء والشرف، أفلا يكون أفضل مثل للعفة والصيانة، وأحسن أسوة في الإيمان والأمانة، أن يتلى على النساء المؤمنات والرجال المؤمنين، وعلى غيرهم من الملحدين، قصة شاب كان أجمل الرجال صورة، وأكملهم بنية، يخلو بامرأة ذات منصب وسلطان، هي سيدة له وهو عبد لها، فيحملها الافتتان بجماله وكماله على أن تذل له نفسها، وتخون بعلها، وتدوس شرفها، وتراوده عن نفسه، والمعهود في أدنى النساء وأسفلهن تربية ومنزلة أن يكن مطلوبات لا طالبات، فيسمعها من حكمته، ويريها من كماله وعصمته، ما هو أفضل قدوة في الإيمان بالله والاعتصام به، وفي حفظ أمانة السيد الذي أحسن مثواه وائتمنه على عرضه وشرفه، فيقول لها: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (يوسف: 23) فتشعر بالذل والمهانة، والتفريط بالشرف والصيانة، وتحقير مقام السيادة والكرامة، فتهم بضربه أو قتله، ويهم هو بالدفاع عن نفسه، ويكاد يبطش بها لولا أن رأى برهان ربه، وعصمه من فحشاء الشهوة الطبيعية المضعفة للإرادة، ومن سوء ثورة القوة الغضبية التي تذهل صاحبها عن عاقبة الجناية، ففر منها وهو الشجاع فرار الجبان، فكان كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) وهو المتبادر من التعبير اللغوي في هم الشخص، وبيَّناه بالشواهد في الرد على من أنكره، وقلنا: إنه المعهود بين البشر في مثل هذه المخالفة المذلة ولما نقرؤه في القصص والصحف في هذا العصر، والمناسب لقوله تعالى بعده: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ} (يوسف: 24) . وإنني ما اخترت هذا المعنى لتبرئته عليه السلام مما ينافي العصمة؛ فإن الهم من حديث النفس الذي لا يؤاخذ الله الناس به، وإن الهم بإيقاع السوء كالهم بالمواقعة كلاهما هم بمعصية، إلا أنه في الأول دفاع عن النفس، وقد عصمه الله منه، وإن عصيان النفس فيما اشتدت الداعية الجنسية له أدل على العصمة، وأحق بحسن الأسوة. ولما انهتك - والعياذ بالله - الستر، وعرف ذلك الإصر، خاض نساء المدينة في أمرها، ولجوا في عذلها، لعلها تفضي إليهن بعذرها، فتريهن طلعة هذا المملوك الذي استعبد مالكه، وسلب منه عقله وكرامته وشرفه، ولم يجزه على هذا كله بنظرة عطف، ولا بلمسة كف {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ} (يوسف: 31-32) فلما هددته بالسجن، وهو يعلم أن بيدها الأمر والنهي {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجَاهِلِينَ} (يوسف: 33) أي: أكن من سفهاء الأحلام، الذين يتبعون شهواتهم الحيوانية كالأنعام، ولا يستطاع الهرب من كيد النساء وهو عظيم، ولا ما يغري به وهو دونه من كيد الشيطان الرجيم، إلا بالاستعاذة بالله السميع العليم، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف: 200) وكل من استعاذ به تعالى مؤمنًا مخلصًا أعاذه، فكيف إذا كان من رسله لهداية عباده، {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ} (يوسف: 34) ... إلخ. وهكذا امتحن الله يوسف، وفتنه بجماله فتونًا، فلبث في السجن سبع سنين وخرج منها كما يخرج الذهب من بوتقة الصائغ إبريزًا خالصًا، وجزاه الله في الدنيا قبل الآخرة على صبره: {وَقَالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ} (يوسف: 50-51) . طلبه ملك مصر ليستعين بعلمه ورأيه على الخروج من المخمصة التي أنذرته إياها رؤياه، وكان يظن أنه مسجون بجريمة؛ ولكنه احتاج إليه، فاشترط لإجابته أن يسأل النسوة اللائي تواطأن مع مولاته على الكيد له ليعيش في وسطهن عيشة اللهو والخلاعة: هل آنسن منه صبوة إليهن، فجرأتهن على ما كان من مراودتهن؟ فاستعذن بالله أن يلمزنه أو يغمزنه دفاعًا عن أنفسهن، وشهدن بأنهن ما علمن عليه من سوء، أي: أدنى شيء وأقل نقص يسوءه، ولم يبق إلا شهادة مولاته امرأة العزيز، فبم شهدت؟ {قَالَتِ امْرَأَةُ العَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} (يوسف: 51) أي: قالت: (الآن حصحص الحق) أي: ظهر أجرد أمرد، لا تستره شبهة ولا تهمة كما يحص ويسقط الشعر أو ريش الطائر، وثبت واستقر من قولهم: حصحص البعير؛ إذا ألقى مبازكه للإناخة، فالكلمة بمعنييها أبلغ ما يعبر به عن المعنى المراد في هذا المقام، وإنما كانت هذه الحصحصة بما ظهر من وقائع القصة الثانية، وهي فرار يوسف منها (أولاً) ، ومن كيد جماعة النسوة (ثانيًا) ، ومن إيثاره عيشة السجن البائسة في خشونتها

جزيرة العرب والوحدة العربية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جزيرة العرب والوحدة العربية وسعينا لعقد الاتفاق بين الإمامين، وفقهما الله تعالى قد اضطررنا في السنة الماضية أن نصرح ببعض ما كنا نخفيه تارة، ونشير إليه تارة، أو نجمجم به آونة بعد آونة، من أنباء سعينا إلى وحدة الأمة العربية وجعل جزيرتها مركز القوة وأساس الدولة، وما يليها من الأرض المقدسة والمباركة موطن الحضارة ومورد الثروة، وهو ما بدأت بوضع النظام له، وتأسيس جمعية (الجامعة العربية) التي كانت خاصة بالأمراء والزعماء، وكنت المتولي لجميع الأعمال فيها، ومكاتبة أمراء الجزيرة وزعماء الأمصار في سورية والعراق بإمضاء (الناموس) ، ويرى المطلعون على مذكرات جمال باشا سفاح الترك كتابًا منها وجده في أوراق أحد شهداء الظلم بسيفه محمد المحمصاني (رحمه الله تعالى) . وأما إمام اليمن وملك العربية السعودية فهما أعلم الناس بهذه الجمعية وناموسها منذ 23 سنة كاملة، وقد نشرنا يمينها في ترجمة الملك فيصل - رحمه الله - في المجلد 33 من المنار. كان أساس النظام الأول لهذه الجامعة عقد معاهدة حلفية بين أمراء الجزيرة كما بيناه في العام الماضي، وقد انحصر هذا الحلف بعد استيلاء ابن السعود على الحجاز في جلالته وجلالة إمام اليمن المستقلين، وأخرنا ضم سلطنة مسقط، وعمان إليهما، لما كان بين سلطانها وبين إمام الإباضية هنالك من الخلاف، الذي سعيت إلى تلافيه، واستقلال البلاد بما عرضته على السلطان فيصل بن تركي رحمه الله في مسقط عند زيارتي له فيها أثناء منصرفي من الهند سنة 1330 هـ (الموافق سنة 1912 م) فتعذر عليه تنفيذه، ثم وقع بعد ذلك بسنة واحدة من الحرب الأهلية ما توقعته بالفكر والفراسة، وأنذرت ذلك السلطان وقوعه، كما يعلم ذلك شقيقه السيد نادر وبطانته في ذلك الوقت. وكان الملك فيصل الهاشمي رحمه الله آخر من بلغته إياه وأقنعته بتوقفه على الاتفاق مع ابن السعود صاحب نجد، فوافقني على ذلك كما تقدم في ترجمته، وستأتي تتمتها. ولقد كان الإمام يحيى أول من كاتبته وعرضت عليه مشروع الجامعة العربية وكان ذلك قبل تأسيس جمعيتها التي أشرت إليها بالفعل، ثم تكررت الكتابة إليه بعدها، ومن بعده كتبت إلى السيد محمد الإدريسي في عسير وإلى الأمير فالسلطان عبد العزيز السعودي إمام نجد بالأمس، وملك العربية اليوم، وقد كان الإمام يحيى أول من أجابني مستحسنًا ما اقترحت معتذرًا عن تنفيذه بالشكوى من السيد الادريسي الذي عبر عنه بالجار بالجنب، ولمزه بالغدر ونقض العهد، ورفض دعوة الود، وبأنه (حالف أعداء الله الطاليان) - بهذا اللفظ - ولكنه هو عاد بعده فحالفهم محالفة رسمية مكتوبة، والإدريسي لم يفعل هذا، فأدع الكلام في التاريخ الماضي في مسألة الجزيرة والوحدة العربية بالحلف وغيره، وأقول كلمة في سعيي للاتفاق بين إماميها المستقلين بعد استيلاء ابن السعود على الحجاز. سعينا الجديد للاتفاق بين الإمامين: لما تم للإمام عبد العزيز الاستيلاء على الحجاز أظهر رغبته في عقد مؤتمر إسلامي في مكة المكرمة في أثناء موسم الحج، وأرسل إليّ مكتوباته إلى ملوك المسلمين وأمرائهم وكبار زعمائهم في الدعوة، لأرسلها من مصر، وكان منهم إمام اليمن بالطبع، ففعلت إلا جلالة ملك مصر فأرسلها هو إليه مباشرة، وظهرت في إثر ذلك بوادر الجفاء بينه وبين دولة مصر، فبادرت إلى السفر إلى مكة في شوال لأجل السعي لدى الملك عبد العزيز في تلافي هذا الجفاء، وتمهيد سبيل المودة والإخاء، لما لي من لسان الصدق والإخلاص الإسلامي في اعتقاد جلالته، وكان من ذلك ما كان، وبسطته بوقته في المنار كما وقع، لا كما يحرفه الآن بعض الكتاب. ولما انتهى المؤتمر الإسلامي بعد أداء المناسك كلها رغب إليّ الملك أن أرجئ سفري إلى مصر مدة للمحادثة معه فيما أراه من وسائل الإصلاح، فأجبت بل امتثلت، وكان أهم ما اقترحته مرارًا، وأوسعته إلحاحًا وإلحافًا وجوب عقد المعاهدة الحلفية بينه، وبين الإمام يحيى، وهو ما كان تكرر مني اقتراحه عليهما، فكان يظهر لي قبول الاستحسان بشيء من الفتور وقلة الاهتمام، أتأوله بضيق الوقت وسعة النطاق في موضوعات الكلام، حتى إذا ما سنحت فرصة سمر لنا على سطح قصره - حيث كنا نسهر - عدت إلى إلحاحي لقرب موعد سفري؛ فأجابني بما هو ملخص ما تقدم من الكلام متفرقًا. وقال: إنني والله وبالله وتالله لا أنوي التعدي على بلاد الإمام يحيى، وإنني أرغب أصدق الرغبة في مودته ومحالفته، وإذا قَبِل اليوم أن نعقد محالفة هجومية دفاعية بيننا فلا أُرجئ عقدها إلى غد. وأذن لي أن أبلغ وكيله في المؤتمر السيد محمد عبد القادر هذا عنه، وقال إنه مستعد للتصريح له إذا اقتضت الحال. ثم قال ما فحواه: وأما إذا كنت تخاف أن يعتدي الإمام يحيى علينا فكن مطمئنًا بأن وبال ذلك يكون عليه، فنحن بفضل الله وعنايته أقوى منه. بل قال إنه يستطيع أن يطارده في بلاده من جهتين أو ثلاث، وإنه إن شاء وجد من أهل البلاد التابعة له من يخرجون معه عليه؛ لأن أكثرهم ساخطون لا راضون منه. وإنني قد بلغت الشق الأول من هذا الحديث لوكيل الإمام السيد محمد عبد القادر الذي كان عامله على الحُديدة، وكتبت إلى الإمام به كتابًا أعطيته لوكيله هذا بيده. ثم تركت ذلك إلى الإمامين حتى إذا ما خاب الوفد الأخير الذي أرسله الملك إلى صنعاء في العام الماضي، وتجدد الشقاق، ورأيت من خلل الرماد وميض نار ما خشيت أن يكون له ضرام، عدت إلى السعي للاتفاق من أوله، بما يعلم تفصيله من المكتوبات الآتية (ومنها تعلم قيمة ما يدعيه محبو الشهرة من السبق إليه بإرسال البرقيات، ومحاولة تأليف الوفد بعد فوات الوقت) . أقتصر من هذه المكتوبات على أكثر ما دار بيني وبين جلالة الإمام يحيى الذي كنت أشك في إقناعه؛ لما أعلم من طباعه وسياسته السلبية، ومن كون الخطر عليه من الحرب أقوى؛ ولأن المكاتبة بيني وبين الملك عبد العزيز فيها من الحرية والصراحة التامة في جميع المسائل ما لا يجوز نشره، إلا أن يكون بإذنه بعد العلم بالمصلحة فيه؛ ولأنني أعتقد أن إقناعه سهل إذا قنع الآخر بالوفاق، لتصريحه لي بعد إعلامي بتجهيز الجيوش وزحفها في شهر رمضان؛ بأنه لا يبغي بذلك إلا إقناع يحيى بقوته، وإنها الوسيلة الأخيرة لإقناعه بعقد المحالفة إذا كان مثله يكره الحرب كما يظن به، حتى إذا ما يئس من إجابته، وأعلن له الحرب بقطع مفاوضة أبها، علمت أن قد بطل قول الألسنة والأقلام، وأعطى القول الفصل للحسام، فلن يقبل الملك لأحد قولاً إلا من بعد حكمه، هذا هو الرأي كما بيَّناه في الجزء الماضي، وسيعلم الإمام وأنصاره بما يضر ولا ينفع من الكلام، من نصح له عن إخلاص وعلم، ومن غشه بالدهان وقول الإثم. *** المكتوبات بين صاحب المنار وجلالة الإمام يحيى في التنازع الأخير بينه وبين جلالة الملك عبد العزيز آل سعود المكتوب الأول في 24 ربيع الأول سنة 1352 (بسم الله الرحمن الرحيم) من محمد رشيد آل رضا إلى حضرة صاحب الجلالة الإمام الهمام، سليل الأئمة الأعلام، عليهم السلام. السلام ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، أما بعد فقد أزعجنا وأمضنا نبأ مرضكم، وما كدنا نبتهج بنبأ نقاهتكم، إلا وتلاه النبأ الصادع بوقوع الشقاق بين حكومتكم والحكومة السعودية، المنذر بقرب وقوع الحرب، وبخيبة الأمل الذي كان ينتظره كان عربي مخلص لأمته وكل مسلم لملته، وحريص على سلامة مهد دينه، من عقد الحلف بينكم وبين الدولة العربية السعودية بمساعي الوفد السعودي الذي كان في رحابكم منذ أشهر؛ إذ تجاوبت الأنباء بأن الوفد كان في صنعاء كالمحجور عليه، وأنكم أذنتم له بالرجوع أدراجه بعد إلحاح ملكه بالطلب؛ فانقلب خائبًا مخذولاً، إلى ما أنتم أعلم به، ولا يعنينا تفصيل جزئياته، ولا تحقيق مقدماته، وإنما تعنينا النتيجة، وهي تسوء كل عربي وكل مسلم، إلا الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولو علمتم بسوء تأثيرها في مصر، وسورية، وفلسطين لهالكم، ولتجافى بجنبكم عن مضجعكم، ولعلمتم أنه لولا عذر الناس لسيادتكم بمرضكم لخسرتم بهذه الحادثة ما لكم في القلوب من السيرة الحميدة في العقل والرأي والتقوى، والحرص على حفظ سلطان الإسلام وحكمه، واستقلال الجزيرة العربية، وسد ذرائع تسرب النفوذ الأجنبي إليها، وخطره على بلادكم أشد، ولا شك أن حرم الله تعالى ورسوله عليكم أعز، ولكن الأمل فيكم لم ينقطع، ولن ينقطع إن شاء الله تعالى، وقد تضاعف الإعجاب بأخيكم الملك السعودي: دينه وعقله وحكمته؛ إذ علموا بما أبرق إليكم في الخطب المدلهم. أيها الإمام الحكيم، التقي الحليم: لقد علم الرأي العام الإسلامي، ولا سيما العربي، أنه لو فُجعت الأمة بكم في هذا المرض، لقضى ولي عهدكم الشاب على جزيرة العرب، فهو - أي: الرأي العام - يرجو أن تبادروا قبل كل عمل إلى الاتفاق مع أخيكم الملك الحكيم، على التحالف والتعاون على حفظ هذه الجزيرة المقدسة من دسائس الأجانب والمفسدين، وعلى عمران المملكتين اللتين وكل الله أمرهما إليكما، وتعزيز قوتهما في حياتكما الشريفة العزيزة قبل أن يؤول أمرها إلى أنجالكما، الذين لا تضمن أمتكما وملتكما أن يكون لهما من الحكمة والخبرة والروية مثل ما آتاكما الله تعالى، إلا أن يتربوا في كنفكما، وظل ما تضعان من النظام، وما تنفذانه منه لإعزاز الإسلام بعز العرب في جزيرتهم ومنبت أرومتهم ومهد دينهم و (إذا ذلت العرب ذل الإسلام) كما قال الصادق المصدوق عليه وعلى آله السلام، ولا ذل للعرب إلا إذا ذلوا في جزيرتهم، وحصن دينهم، ومأرزه الوحيد في هذا العهد - عهد تداعي الأمم عليهم - كما نطقت به الأحاديث النبوية الصحيحة الصريحة وسيادتكم أعلم بها. أيها الإمام العليم، الحكيم الحليم مهما يكن عليه أمر الحدود بين اليمن السعيدة والمملكة السعودية من حق سياسي أو جغرافي، فلا قيمة له تجاه الاتفاق والتحالف بين المملكتين، فكل منهما واسع الأطراف، قابل لأضعاف ما هو عليه من العمران، فلا يعذر أحد منكما بتعريضه للخراب؛ لأجل توسيع حدوده بحق أو باطل، وأما إذا اتفقتما وتحالفتما تحالفًا صريحًا، وعاهدتم الله تعالى والأمة على الإخلاص في الولاء والتعاون، فإن كلاًّ منكما يأمن على حدوده، ويخلو له الجو لعمران بلاده، وجعل استعداده الحربي موجهًا إلى أعداء الله وأعداء قومه، وذلك ربح لا يعلوه ربح، وهو ما يطالبكم به الدين وأهله أجمعون. أيها الإمام: إن جزيرة العرب هي تراث محمد رسول الله، وخاتم النبيين، للإسلام والمسلمين، لا لعبد العزيز الفيصل السعودي ولا ليحيى حميد الدين، فاختلافكما وتعاديكما يضيع الإسلام، ولئن ضاع في جزيرة العرب فلن تقوم له قائمة في غيرها، فجميع المسلمين تحت سلطان الأجانب، إلا قليلاً من الأعاجم، أنتم تعلمون حالهم، وما ينتظر من مآلهم، فيجب أن تتذكرا هذه التبعة، وتتقيا الله، وتحرصا على حسن الخاتمة والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ المنار ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد رشيد رضا (حاشية) قد كتبت إلى الإمام عبد العزيز ملك العربية السعودية بهذا المعنى أيضًا. * * * جواب الإمام يحيى عن المكتوب الأول (ختم إمارة المؤمنين) (بسم الله الرحمن الرحيم) السيد العلامة الأستاذ محمد رشيد رضا حفظه الله، وأدام عليه نعمه، والسلام عليكم و

تقريظ الأستاذ الشيخ عبد الحميد السائح النابلسي

الكاتب: عبد الحميد السائح النابلسي

_ تقريظ الأستاذ الشيخ عبد الحميد السائح النابلسي [*] منذ مدة وأنا أفكر في كتاب يصلح أن يكون هاديًا وبشيرًا للأمم غير الإسلامية بأسلوب مألوف لديهم، وعلى نمط يكون في متناول جمهرتهم، حتى يُنَادى في الأوساط الأوربية والأميركية بالدعوة إلى دين الإسلام بالحجة والبرهان وامتلاء النفس قناعة وطمأنينة، ومع هذا يتيسر لنشئنا المثقف ونابتتنا الزاهية، أن تتصفحه وتطالعه، ويزيل ما يترددها من شبهات، ويزيح ما يعتورها من اعتراضات، فلم أعثر على ذلك الكتاب إلى أن اهتديت إلى كتاب (الوحي المحمدي) للعلامة المحقق السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، ذي الآراء الإسلامية الناضجة، والأبحاث الدينية الموفقة، فوجدت فيه الضالة وتحققت فيه الرغبة. إني قانع كل القناعة أن القرآن كفيل بحاجة مطالعه، قمين بأن يملأ نفس قارئه إيمانًا وحكمة وعلمًا وأدبًا وسياسة وخبرة، ولكن هذا يتوقف على أن يكون القارئ خبيرًا باللغة العربية، ملمًّا بعلومها، متضلعًا من بلاغتها وفصاحتها، ولا ريب أن هذا غير متيسر لكثير من أبناء العربية وعلماء المسلمين، فكيف بغير العرب وغير المسلمين؟ خصوصًا وأن المسلمين أعرضوا عن الاستفادة من هذا الكتاب المقدس الاستفادة اللائقة به، وأصبحوا لا يعتنون إلا بمظاهر ختمه فقط ومراسمه الشكلية. من أجل هذا كانت حاجة المسلمين إلى كتاب يبشر بدينهم - على الوجه الذي بينا - ماسة وشديدة. وليس من شك في أن هذا العمل يتطلب تفكيرًا عميقًا، وخبرة واسعة، ووقتًا غير قصير، حتى يخرج إلى الملأ مستكمل النواقص وافيًا بالحاجة، وإن الأستاذ السيد محمد رشيد هو أجدر من يقوم بهذا العمل، وأحق من يتحمل هذا العبء، وإن مبادرته إلى إخراج هذا المؤلف مسارعة إلى أداء فرض محتم عليه، وقيام بواجب لا مناص منه، لكفاءته النادرة، وشهرته في العالم الإسلامي بشهرة فائقة، والاعتماد على آرائه، والاستفادة من نتائج قريحته، والوثوق من خبرته وسعة اطلاعه. بدأ المؤلف كتابه في البحث بموضوع الوحي، والاستفاضة فيه، ومناقشة القائلين بإثباته من أهل الأديان السماوية، وبحث آراء نفاته من الماديين، وأفاض في نفيها، وإقامة الحجة على إبطالها، ثم قفى على ما ذكر بمقاصد القرآن، في ترقية نوع الإنسان، شارحًا أركان الدين، وأنواع الإصلاح التي يحتاج إليها الإنسان في حياته، وتخلل ذلك بحث مسألة المعجزات، وخوارق العادات التي هي مدار اشتباه الكثير من المثقفين والمتعلمين، وقد صور الدين بصورته الحقيقية، فأطلع القارئ على كثير من قواعد الدين الإصلاحية الاجتماعية والمالية والسياسية، مستندًا في ذلك كله على آي القرآن ونصوص الإسلام، ثم ختم المؤلف كتابه في بحث تحرير الرقاب ومنعه، وأزاح ما يخفى على كثير من المتعلمين من الشبهات في هذا الموضع وغيره. وبالجملة فإن الكتاب بالنسبة لأبحاثه الاجتماعية والمالية والسياسية لا ريب أنه وافٍ بالمقصود من هذه النواحي على شكل يسر كل مسلم، ويحفز كل غيور على دينه أن يُقْبِل على مطالعته وتصفحه. وليس من شبهة في أن المقصود الأول من هذا الكتاب جعله في متناول العلماء غير الإسلاميين، وخصوصًا غير العرب كما ذكر المؤلف نفسه (النتيجة المقصودة بالذات دعوة شعوب المدنية: أوربة، وأمريكة، واليابان، بلسان علمائها إلى الإسلام، لإصلاح فساد البشر المادي وتمتيعه بالسلام، والإخاء الإنساني العام) ولا يتيسر هذا إلا إذا ترجم للغات الأجنبية من قبل متضلعين بتلكم اللغات عارفين بأسرارها، فينبغي - والحالة هذه - على الهيئات الإسلامية أن تقوم بهذا الواجب، ونرجو أن يسارع مكتب المؤتمر الإسلامي العام بالقدس وغيره من الهيئات الإسلامية إلى هذا؛ فإنه عمل منتج، ويُرْجَى أن يكون له أثر خطير في العالم، وإن هذا العصر عصر طغت فيه المادية، واعتز المبشرون فيه بتشكيلاتهم وأموالهم، فعلى الأقل يجب على علماء المسلمين وهيئاتهم أن يقوموا بنشر مبادئهم الدينية الحقة، وإذاعتها في الملأ؛ لتكون سلاحًا يوجه إلى كل من أراد هذا الدين بسوء وقصد تشويه تعاليمه ومبادئه. وإن هذا الكتاب رغمًا عما يؤخذ عليه يفيد مطالعه فائدة جليلة جدًّا، ويعود على قارئيه بنتائج لا يتيسر الوقوف عليها من غيره، ويعطي صورة عظيمة القدر لتعاليم الإسلام خالية من تلك الأغشية التي وضعها عليها بعض العلماء، ويوصل إلى معرفة حقائق إسلامية بشكل ينثلج له الصدر، وعلى وجه تطمئن له النفس، وإني أدعو بني قومي وإخواني إلى المسارعة لمطالعته واقتنائه، والاستفادة من أبحاثه ومحتوياته. وإن ما يؤخذ على الأستاذ المؤلف قد شعر هو به فيما قال: على أنني لم أكتب هذا البحث أول وهلة لهذا الغرض (وضع مصنف في إثبات الوحي المحمدي) وإنما بدأت منه بفصل استطرادي لتفسير آية: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} (يونس: 2) ... إلخ، ثم قال: ولو إنني قصدت هذا منذ بدأت بالكتابة لوضعت له ترتيبًا آخر يغنيني عن بعض ما فيه من الاستطراد والتكرار، ... إلخ، فأكثر ما يؤخذ عليه يرجع إلى استطراد في البحث يكاد أن يكون مملاًّ وخصوصًا في فصل إقامة الحجة على مثبتي الوحي ونفاته [1] . وقد أبدى معذرته في قوله: ولكني كتبته في أوقات متفرقة، وحالات بؤس وعسرة، لا أراجع عند موضوع منه ما قبله ... إلخ، وبيان المأخذ وذكر المعذرة لا يعني التقليل من أهمية هذا الكتاب وشخصية مؤلفه، بل على العكس يجعلنا نرجوه أن يوالي تصنيفاته في تلكم المواضيع باذلاً الجهد في مجانبة ما لاحظه على نفسه، جزاه الله عن الأمة الإسلامية خير الجزاء، وضاعف له الأجر على مجهوداته التي لا تنكر والله ولي التوفيق. نابلس ... ... ... ... ... ... عبد الحميد السائح ((يتبع بمقال تالٍ))

تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان

الكاتب: شكيب أرسلان

_ تقريظ أمير البيان شكيب أرسلان إن المسلمين على بينة من أمرهم، لا يحتاجون إلى دعاية، ولا إلى التماس الأدلة حتى يعتقدوا بوجود واجب الوجود الذي لا يمكن العقل البشري أن يتصور هذا الكون بدونه، وكذلك لا يفتقرون إلى الأدلة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن تلقوا خلفًا عن سلف النور الذي أُنزل عليه، والذي ما زال ينيرهم من العهد المصطفوي إلى الآن، فكتاب الوحي المحمدي للأستاذ العلامة حجة الإسلام في هذا العصر السيد محمد رشيد رضا لم يُكتب في الحقيقة للمسلمين؛ لأنه كتاب يقيم الأدلة على صحة أمر يحيا المسلمون ويموتون عليه، ويرون جميع براهينه من قبيل البديهيات التي لا تحتاج عندهم إلى برهان كما يحتاج النهار إلى دليل، وإنما وضع الأستاذ هذا الكتاب للأوروبيين الذين يريدون أن يعلموا ما عند الإسلام من الأدلة على صحة الوحي المحمدي، والذين منهم من إذا أنار لهم الدليل لم يكابروا فيه تعصبًا وعدوانًا وصدودًا عن رؤيته، وقد كتبه أيضًا لكل من نشأ نشأة أوربية؛ أي: خالية من التربية الإسلامية التي يكون الناشئ قد ارتضع فيها مبادئ الإسلام مع لبن أمه، فيقال: إنها رسخت فيه من الصغر. ولما كان جميع من يقرءون العلوم العصرية اليوم ويتعلمون بحسب برامج الحكومات الإسلامية الحاضرة، هم في الحقيقة أشبه بناشئة الأوربيين ولو كانوا مسلمين نسبًا، كان هذا الكتاب موجهًا أيضًا إليهم؛ لأنهم في حكم الأوربيين من جهة فقد التربية الإسلامية، أو على ما يقرب من ذلك. فلهذا كنا ندعو لقراءة هذا المؤلف ليس الأوربيين فحسب بل ناشئة المسلمين أيضًا، ولا سيما الناشئة التي أبت الحكومات الإسلامية إلا أن تطبعها بالطابع الأوربي؛ لأننا في هذا العصر مغلوبون وأوربة هي الغالبة، والمغلوب مولع بتقليد الغالب حتى في الخطأ كما قال ابن خلدون. فالأستاذ الحجة يسر للمرتابين الأسباب التي تحمل المسلم على أن لا يرتاب بصحة الوحي النازل على محمد عليه السلام يقول: إن محمدًا كان أميًّا، لم يقرأ سفرًا، ولم يكتب سطرًا، وهذا القرآن العظيم بفصاحته وبلاغته وإشارته إلى جميع مناحي الاجتماع بأرشق إشارة، وأوجز عبارة، لو لم يكن من عند الله لا يعقل أن يقوم به رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يحصل علمًا من قبل، بل قضى طفولته في البادية عند بني سعد بن بكر يرعى الغنم مع إخوته في الرضاع، ثم إنه نشأ يتيمًا، وكان مع يتمه المثل الأعلى في حسن التربية، واستقامة الأخلاق حتى لُقِّبَ بالأمين، ولم يكن أحد يماري في استقامته، وكانوا لنزاهته يختارونه ليقوم بما يختلفون فيه فيما بينهم، فيستحيل أن يكون رجلاً موصوفًا بالصدق والأمانة إلى هذا الحد من أول نشأته إلى أن يبلغ سن الأربعين، ثم يتحول دفعة واحدة فيصير كاذبًا مفتريًا، ويضع من عنده أشياء يدعو الناس إليها، ويقول: إنه سمع صوتًا، ولو لم يسمع صوتًا، وشاهد ملكًا، ولو لم يشاهد ملكًا، إن هذا من الأمور المستحيلة عرفًا، ثم إنه لم يكن طالبًا شيئًا من وراء ما قام به من الدعوة لنقول: إنه كذب على الناس؛ لينال حظًا من حظوظ هذه الدنيا، فكل أحد يعلم أنه لم يكن ينشد ملكًا، ولا مالاً، ولا ثروة، ولا جاهًا. فلأي شيء يقوم بدعاية غير صحيحة، ويضع أشياء من عند نفسه، ويتحمل عليها الهزؤ والسخرية، ثم البغضاء والشنآن، ثم الاضطهاد والانتقام، ويتعرض لخطر القتل، وهو لا يريد رياسة ولا نعمة دنيوية من جميع هذه النعم، بل كل ما يريده أن يترك قومه عبادة هذه الأصنام التي ما أنزل الله بها من سلطان، والرجوع إلى عبادة الواحد الأحد مبدع هذا الكون لا إله إلا هو. قد كان محمد عليه السلام مؤثرًا العزلة، لا يخالط أبناء عصره في مجامعهم، ولا يشاركهم في عباداتهم الوثنية، ونشأ من صغره لا يعبد إلا الله تعالى، وكان من مزاياه أنه لا يقول الشعر، ولا يخطب في الأندية، ولا يتصدى لشيء من مظاهر الرياسة ولا الشهرة، فكيف يمكن أن ينقلب دفعة واحدة؛ فيخالط الناس يدعوهم إلى التوحيد وإلى مكارم الأخلاق، ويقوم فيهم بشيرًا ونذيرًا، ويتجشم من العذاب ما يتجشم، ويتعرض لآلام أمر من العلقم، لو لم يكن هناك باعث فوق العادة حافز له على الخروج من عزلته التي بلغ الأربعين وهو عاكف عليها. يقول السيد رشيد: إنه من المقرر عند علماء النفس، وعلماء الاجتماع أن من بلغ سن الخامسة والثلاثين، ولم ينبغ في علم أو عمل عالمي عظيم لا يمكنه بعد ذلك أن يقوم بشيء منها أُنُفا (بضمتين) أي: جديدًا ليسبق إليه فضلاً عن الجمع بينهما، والحال أن محمدًا ظهر بهذا الأمر العظيم، وبهذا البيان الإلهي الذي لم يعهد العرب مثله وذلك بعد الأربعين، فلم يكن قبل هذا التاريخ استعد له بشيء، ولا وجد ما يدل عليه من قول ولا فعل ولا علم ولا عمل. قلت: وقد يقول بعض الناس أن محمدًا كان يظن في نفسه أنه يوحى إليه فهو لم يتعمد الكذب تعمدًا، وإنما بلغ به التأمل أنه كان يسمع تلك الأصوات، ويرى تلك الخيالات، فيظن ما سمعه وحيًا، وما رآه ملكًا، والجواب على ذلك أن هذا الوحي كان قولاً ثقيلاً خارقًا للعادة، وكان يؤخذ به أخذًا شديدًا حتى كان يخاف على نفسه، وطالما خاف [1] أن يكون به جنون، وهذا من جملة الأدلة على صدقه وكونه لم يتعمد النبوة تعمدًا، ولا استشرف لها بشيء من الأشياء، وأنه قد فاجأه الوحي مفاجأة لم يتقدمه عنده سوى الرؤيا الصادقة، وأنه جاء وحيًا فيه من العلوم العالية كما يقول السيد رشيد، والأعمال العظيمة ما كان قلبًا للأحوال والأوضاع الدينية والمدنية والاجتماعية، بل انقلابًا لا يماثله انقلاب معروف في التاريخ. ثم إن هذا الكلام الذي نفث في روع محمد [2] ليس من نسق كلامه الذي يعرفه الناس له، فقد تكلم محمد عليه السلام قبل البعثة، وتكلم بعد البعثة، ولا شك أنه كان من أفصح البشر وأبلغهم، وقد نطق بجوامع من الكلم تحار لها العقول؛ ولكنه لا يزال بين كلامه الخاص وبين القرآن الموحَى إليه بون بعيد، فلا كلامه الخاص ولا كلام أحد من الأنبياء يسامت درجة القرآن في كثير ولا قليل، وكل من تأمل في القرآن العظيم، وكان بصيرًا بالبلاغة، وقابله بكلام البشر يدرك هذا الفرق الكبير. لا جرم أن القرآن يعلو في بلاغته وفصاحته وأسلوبه، وشدة تأثيره علوًّا كبيرًا عن جميع كلام العالمين، وكيف يكون ذلك إن لم يكن القرآن وحيًا إلهيًّا؟ فقول بعض الناس: إن محمدًا عليه السلام كانت تعروه نوبة عصبية فيظن نفسه يوحى إليه. ليس مما يعلل هذا العلو الذي يعلوه القرآن الذي أوحي إليه على الكلام الذي كان يقوله من نفسه بدون أن يوحى إليه، فإن النوبة العصبية التي يزعمونها ليس من شأنها أن تأتي بهذا الإعجاز كله، وأن تجعل هذا الفرق البعيد في كلام إنسان واحد. ثم إننا لا نفهم لماذا يأبون أن يعتقدوا بكون تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا عند نزول الوحي عليه هي من شدة وطأة الوحي، وكونه قولاً ثقيلاً؟ ولماذا يأبون إلا أن يسموا هذه الحالة التي كانت تعروه نوبة عصبية ناشئة عن مرض من أمراض الجسم، ولو لم يقم على وجود هذا المرض دليل؟ فأي استحالة في كون بارئ الوجود يوحي إلى أحد عباده الذين اصطفى قولاً يحدث نزوله عليه نوبة عصبية يضطرب لها، ويتفصد جسده عرقًا كما كان يعتري محمدًا عليه السلام، وأيضًا فالنوبة العصبية الناشئة عن علة بدنية تقتضي أن يكون صاحبها مصابًا بداء الصرع، أو بمرض عصبي آخر تحدث منه هذه النوبات، والحال أن النبي عليه السلام كان سليم الجسم، ولم يكن مريضًا، ولم يقل أحد من أهل عصره لا من أعدائه، ولا من أصحابه: إنه كان يصيبه شيء من أعراض مرض آخر مزمن، والذين ذهبوا إلى ذلك لم يستندوا على أدنى دليل، وإنما هي افتراضات مبنية على غير أساس، وتخرصات بغير الواقع، وبمجرد التخيل كما هو شأن كثير من الأوربيين، أو هي فرار من التسليم أن تلك الحالة التي كانت تعرو محمدًا عند نزول الوحي عليه هي حالة خاصة بنزول الوحي، لم تكن لتحدث لولا ذلك، ولكن محاولة هذا الفرار لا تغني هؤلاء الفارين من الحقيقة شيئًا؛ إذ قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مزاجه عقلاً وبدنًا بغاية الاعتدال حتى إن المستشرق الإفرنسي ماسينيون نفسه برغم صبغته الكاثوليكية الشديدة يعترف بأن مزاج محمد كان موزونًا لا شائبة فيه، إذًا فافتراض النوبة العصبية بغير تأثير الوحي لم يبق له مجال إلا التعنت. وقد أشار السيد رشيد إلى هذا الموضوع فقال: إن أعداء الرسول من الإفرنج وتلاميذهم تأولوا هذه الحالة التي كانت تحدث له بأنه كان يعرض له نوبات عصبية، وتشنجات هيستيرية، وما أبعد الفرق بين حالته تلك، وحالة أولي الأمراض العصبية في المزاج، فقد كان مزاجه صلى الله عليه وسلم معتدلاً، ولعله إلى الدموي العضلي أقرب، فذو النوبة العصبية يعرض له في أثرها من الضعف والإعياء البدني والعقلي ما يرثي له العدو الشامت، وأما صاحب تلك الحالة الروحانية العليا فكان يتلو عقب فصمها، وتسريها عنه آيات أو سورة كاملة من القرآن الذي بيَّنا في هذا البحث بعض وجوه إعجازه اللفظي والمعنوي ... إلخ. قد اهتممنا بهذه النقطة دون سواها من هذا المعترك؛ لأنه لا يكاد يوجد أحد اليوم في أوربة من العلماء المحققين إلا وهو معترف بأن محمدًا لم يتعمد ادِّعاء النبوة تعمدًا لينال بها رياسة أو مجدًا أو مالاً أو حظًّا من حظوظ الدنيا، وإنه إنما أراد صلاح عقائد بني عصره من نقلهم عن عبادة الوثن إلى عبادة الحق، فهذا أمر قد اتفقوا عليه تقريبًا؛ ولكنه لا يزال يصعب عليهم التسليم أنه كان نبيًّا يوحى إليه، ولما كانوا لا يقدرون أن ينكروا الحالة التي كانت تصيبه قبل أن ينطق بالقرآن، وأنها حالة لم يكن يتعمدها، ولم يكن يمكنه لو أراد أن يتعمدها ويتظاهر بها - لجأ بعضهم لتعليل هذه الحالة إلى قضية النوبة العصبية، وذهب آخرون أنه من قبيل الوله بالله تعالى الذي يُخْرِج الإنسان عن الطور المعتاد، وعلى كل حال قد اجتاز الأوربيون المرحلة الأولى من مراحل الاعتقاد بصحة دعوة محمد، فقد لبثوا طوال القرون الوسطى يزعمون بتأثير كلام رهبانهم أن محمدًا كان كاذبًا، فرجعوا الآن عن هذا القول إلى القول بأنه كان صادقًا معتقدًا ما يقوله حقًّا، وإن هذا القرآن كان ينزل عليه، وكان يعتقد هو أنه من عند الله، وكان يرى المَلَك ماثلاً أمامه، ولكن هذا كان نتيجة المرض بقول بعضهم، أو التخيل بقول الآخرين، فادِّعاء الكذب على محمد قد سقط اليوم في أكثر بلاد النصرانية، وقد اجتيزت المرحلة الأولى فبقيت المرحلة الثانية، وهي تصديق كون محمد عليه السلام إنما كانت تحدث له الحالة غير المعتادة لسبب وحي كان يأتيه من قبل الله تعالى، لا بمجرد التخيل ولا من قبل المرض، وليس بعجيب أن يتأول أهل عصر مادي كهذا العصر يصعب عليهم الاعتقاد بالغيب، وتعليل الأمور بغير ما يقع تحت الحس؛ ولكنهم لو تأملوا لوجدوا أنفسهم عاجزين عجزًا تامًّا بإزاء الأسرار الكونية لا يحلون منها مشكلاً، إلا وصلوا إلى سد واقف في وجههم لا يقدرون أن يجتازوه إلا بعد التسليم أن هناك قوة خارقة للعادة، وأن القول بوجوده أقرب إلى العقل وإلى العلم من هذه التحملات الواهية التي يحاولون بها تعليل الحوادث كلها بالأسباب المادية، ويلجئهم الأمر في أكثر الأحيان

كتاب الوحي المحمدي نقد وتحليل ـ نظرة عصرية في إعجاز القرآن

الكاتب: حسين الهراوي

_ كتاب الوحي المحمدي نقد وتحليل نظرة عصرية في إعجاز القرآن [*] سوء أعمال المبشرين - أخلاق سيدنا محمد العالية - العناية بالوحي المحمدي عندما يُخرج أحد المؤلفين كتابًا يتصدى له النقاد، فيشيرون إلى مباحثه بين تقريظ وانتقاد، وأخذ ورد، ويكشفون عن محاسن الكتاب، وعن المآخذ التي يرونها فيه. وهذه الطريقة قديمة، وأصبحت إذا قرأت نقدًا لكتاب لا تتوقع إلا أحد أمرين: إما إعلانًا أدبيًّا عن الكتاب، وإما تنفيرًا منه، وفي كلتا الحالتين يكون القارئ مظلومًا. وقلما أعرض لموضوع كتاب بالنقد أو التقريظ، فليس من شأني أن أجامل المؤلفين، أو أخدع القارئين، وإنما يدفعني إلى الكتابة عن كتاب ما ذلك الأثر الذي يحدثه في نفسي ذلك المؤلف، وتلك العاطفة التي تتجاذبني من أثر هذه القراءة. ولعل أصوب طريق للنقد في نظري، أن تجعل من الكتاب الذي تتعرض له موضوعًا لتبدي رأيك، وما يعن لك من الأفكار بصدد هذا الكتاب. ولعلي لا أجامل إذا قلت: إن كتاب الوحي المحمدي الذي ألفه الأستاذ السيد محمد رشيد رضا أثار فِيَّ دافعًا للتعليق عليه ونقده، وأن أجعل ذلك الموضوع مجالاً للمناظرة في موضوع هام له أثره في العالم الإسلامي، إن لم يكن في العالم أجمع. فالكتاب كله أدلة لإثبات صحة الوحي المحمدي، وبحث علمي في المعجزات والدعوة إلى الإسلام. أما إن الوحي المحمدي في حاجة إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته فهذه مسألة فيها نظر؛ لأن الإسلام جلي ظاهر لا يحتاج إلى أدلة منطقية أو علمية لإثباته، ولكن المسألة ليست مسألة إثبات، بل هي مسألة ردود على فتنة أشعل لظاها جماعة من المستشرقين والمبشرين، فأخذ الأستاذ السيد رشيد يرد الدليل بالدليل والحجة بالحجة، ومازال بدرمنغام حتى سد عليه الطرق، وكبله حتى تلاشت تلك العواصف التي أثارها هذا المستشرق، وجعلتنا نرى أغراض جماعة من الأوربيين واضحة من طعنهم في الإسلام ونبي المسلمين، وعلم الله أن لم تكن بالأستاذ حاجة إلى المناقشة أو ترديد الأدلة لو أن هؤلاء الناس كانوا خالين من الغرض في مباحثهم. ولعل هذا ما جعل الأستاذ رضا يقارن بين معجزة القرآن الدائمة والمعجزات التي سبقت الإسلام بأسلوب منطقي وعلمي. غير أننا نلاحظ أن الأستاذ السيد رشيد أغفل ذكر بعض مسائل هي في نظرنا آية الإعجاز في القرآن، فأسلوب القرآن البياني، وإعجازه الأدبي والمنطقي كل هذه الأنواع من الإعجاز مسلم بها من المسلمين والمنصفين من غير المسلمين، إلا أن في القرآن أنواعًا من الإعجاز العلمي استلفتت نظرنا بصفة خاصة خصوصًا أن القرآن أشار إلى الموضوعات العلمية وأحالها على الراسخين في العلم وقال: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ} (فصلت: 53) فأشار إلى العلم وأنه سيكشف عن كثير من إعجاز القرآن [1] . فالذي يقرأ مثلاً الآية {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَن لَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} (القيامة: 3-4) لا يرى فيها شيئًا من الإعجاز العلمي، إلا أن الله سبحانه وتعالى سيجمع العظام، ويعيد البنان وهي نهاية الأصابع. ولكن بعد أكثر من ألف وثلاثمائة يثبت العالم أن أصابع الإنسان هي التي تحدد شخصيته، وتكون بصمات الأصابع هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الشخصية وأنه تقام لها الإدارات الخاصة، وتعتمدها المحاكم، كل هذا يجعلك تدهش لسر إعجاز هذه الآية بأن آيات الله قد أظهرها في أنفسنا، ويكون تفسير الآية أنه سيجمع عظام الإنسان، ويعيده بشخصيته كما لو فعل ذلك قلم تحقيق الشخصية. هذا النوع من الإعجاز العلمي ما زال بكرًا في القرآن، وما زال محتاجًا إلى الدراسة والتفسير؛ والسبب في ذلك بُعد الطبقة المتعلمة تعليمًا فنيًّا عن النظر ودراسة القرآن من هذه الوجهة [2] . وإذا ما استطردنا إلى أنواع الإعجاز الفني في القرآن، فلا يصير ذلك كتاب الأستاذ رشيد؛ لأنه كتاب في الحقيقة للرد على أولئك الناس الذين يتشدقون بالفهم والعلم للطعن في الإسلام؛ ولذلك تمر سريعًا على تلك المقارنات التي عقدها الأستاذ رشيد للمقارنة بين الأديان. أعجبتني تلك الفصول الفياضة الممتعة عن حرية الفكر في الإسلام، وذم التقليد، والحض على التفسير الحر في دائرة العقل، تلك الفصول التي دمجها الأستاذ في كتابه مستشهدًا بالقرآن والحديث. والحق أن هناك فرقًا شاسعًا بين الإسلام والمسلمين، ولقد أتى على المسلمين حين من الدهر تسلطت عليهم الأعاصير السياسية، فقام جماعة باسم الدين يبتدعون المذاهب لأغراض سياسية، ويستغلون الشعور الديني لمآرب دنيوية، ولا زلنا نسمع عن بعض زعماء يستغلون الدين لأنفسهم، ويفرضون على أتباعهم زنات من الذهب كل عام؛ ولذلك كان موقف الأستاذ رشيد في كتابه عن هذه النقطة موقفًا مشرفًا، فقد كشف عن الوجه الصواب وما أحوج المسلمين إلى أمثال هذا الموضوع ليفتح أعينهم للحقائق حتى يروا الحق كما هو، لا كما صوره الواهمون المغرضون، وما أحوج الناس إلى ترجمة هذه الفصول لنشرها على العالم، فالناس في البلاد الأجنبية معذورون لعدم معرفتهم حقيقة الإسلام، وقد ذكر الأٍستاذ رشيد أسباب الحجب بين الفرنج وحقيقة الإسلام، وعدَّدها واحدًا واحدًا، ولكنه لم يذكر المستشرقين في فصل خاص، ولم يذكر أسباب طعنهم في الإسلام، ولم يفرد في كتابه فصلاً يأتي فيه على ذكرهم وأثرهم في مطاردة الإسلام في بلاده، وإن كان لمَّح إلى ذلك تلميحًا في رده على درمنغام [3] . ونحن لا زلنا نقول: إن للمستشرقين كبير الأثر في إظهار الإسلام على غير حقيقته، وإنهم يطعنون في سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من غير حق، ومهما تكن الأسباب الداعية لذلك فنحن أحوج ما نكون للرد عليهم وإظهار أغلاطهم وتسفيه أحلامهم. أما ما كتبه الأستاذ عن الكرامات، ودعوى جماعة من المشعوذين الدينيين باسم الولاية والكرامة إلى غير ذلك من المسائل التي ما زالت تشغل أذهان السذج من الناس - فما ذكره في ذلك يُعَدُّ آية من آيات الإيمان الصادق، والإسلام الصميم الذي لا يُستغل لمآرب دنيوية، وعندي أن المسلمين قد آن لهم أن تفتح أعينهم لتلك المسألة الجوهرية، وإنه لعار أن تظل تلك العقائد الخرافية ممسكة بالرقاب إلى الأمة في عهد النور والعرفان. والحق أن في العالم أشياء كثيرة غامضة، ولا زالت مسألة الأعمال الخارقة للعادة موضوع بحث، وإن كان العلم لم يحدد مركزها تمامًا، ولكن على أي حال لا صلة بين هذه الأعمال وبين الدين؛ لأننا نسمع الكثير منها في مذاهب الأديان المختلفة حتى في الديانات الوثنية التي لا يقبلها عقل مثقف الآن، وحتى في الأديان التي لا زالت تعبد الأصنام، وتقدس الإنسان. على أن السيد رشيد تصدى إلى مسألة (جان دارك) وكتب عنها بما وسعه علمه الواسع؛ ولكنني أظن أنني اطلعت على مقالة لكاتب فرنسي عن كتاب يعزو سر نجاح جان دارك إلى أنها كانت من العائلة المالكة الفرنسية، وأن شاراتها كانت تمتاز بالشعار الملكي. والحق أن كتاب الأستاذ رشيد يعد نوعًا جديدًا في التفكير الإسلامي الحديث، وأنه نواة صالحة للنسج على منواله بتوسع. وإنني كنت نهجت في عدة مقالات في التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد أن نطبق علم النفس والغرائز على أخلاق وعادات وآداب سيد المرسلين، واستنتجت من ذلك أنه كان آخر حلقة في سلسلة الغرائز العالية من أجداده، ولعل الأستاذ السيد رشيد إذا توسع في هذا الموضوع وأدمجه يكون قد أدى خدمة جليلة بإذاعة هذه المباحث التي عدها كل من اطلع عليها بحثًا مبتكرًا في هذا النوع من التفكير الإسلامي. وأخيرًا أهنئ الأستاذ على إخراج هذا الكتاب، وأغتبط إذ نفدت طبعته الأولى ولا زال الأستاذ يوالي الطبعة الثانية، وإنني أشد اغتباطًا إذا علم أن هذا الكتاب جارٍ ترجمته لعدة لغات شرقية وغربية، كل هذا في أقل من بضع شهور على ظهور الكتاب، وهذا كله شهادة ناطقة لما لاقاه هذا المؤَلَّف الثمين من التقدير بين المسلمين. اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

العبرة بسيرة الملك فيصل ـ 6

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبرة بسيرة الملك فيصل رحمه الله تعالى (6) (إعلان استقلال سورية) كان جل اشتغالنا في دمشق وأهمه في الأسبوع الأول من جمادى الآخرة، أو الأسبوع الأخير من فبراير (شباط) سنة 1920 محصورًا في الاستعداد لإعلان استقلال سورية المتحدة، فلم يدر بيني وبين فيصل أحاديث خاصة في غير هذا، فأكتبها بعد إرسال وفده إلى مصر فالحجاز. ولقد كنت على ما أعلم أول من اقترح على الإخوان في دمشق، ثم على المرحوم يوسف بك العظمة في بيروت أن تعلن سورية استقلالها التام المطلق، وتجعل دول الحلفاء معها أمام أمر واقع - كما يقال - ولما عاد الأمير فيصل من أوربة ليقيم أسبوعًا واحدًا يأخذ فيه تفويض البلاد إياه أو توكيلها له في المسألة السورية، وأبى عليه الزعماء وجمهور الإخوان هذا التوكيل رأوا أن خير ما يشغله أو يصرفه عن العودة إلى أوربة للاتفاق مع فرنسة وإنكلترة على شكل الانتداب الذي رضيه أن يقنعوه بإعلان الاستقلال، ونصبه ملكًا على البلاد، فاقتنع ظانًّا أن ما يرون أنه هو الصارف له عن ذلك هو أقوى ما يمكنه منه، وهو يرى أنه لا مندوحة عنه. وكان أول عمل لحزب الاستقلال بالاتفاق مع الأمير دعوة أعضاء المؤتمر العام إلى دمشق، ثم وضع الأساس الذي يبنى عليه الاستقلال، فعقدوا لهذا جلسات في دار علي رضا باشا الركابي، ودار رفيق بك التميمي وغيرها كنت أحضرها إلى أن قرروا بموافقة الأمير أن أذهب إلى بيروت لإقناع زعمائها، والمجيء بهم إلى دمشق؛ لأنهم كانوا قد امتنعوا عن إجابة الدعوة، فسافرت إلى بيروت في أول مارس، ولم أتمكن من جمع كلمتهم المتفرقة إلا في مدة أسبوع كامل، كانت آخر ليلة منه آخر جلسة لنا معهم في دار الاعتماد التي يشغلها باسم حكومة الشام يوسف بك العظمة، وقد كتبت عنها في مذكرتي ما يلي: يوم الأحد 7 مارس (16 جمادى الآخرة) اجتمع مندوبو بيروت البارحة بدار الاعتماد، وتذاكروا في مسألة السفر فاختلفوا، وكان رأي الأكثرين عدم السفر حتى يجيء من الشام نبأ رسمي بتحديد جلسة المؤتمر المنتظرة، ورأي أبي علي سلام السفر، فوافقته، وأصررنا فاقتنعوا وسافرنا صباح اليوم. وصلنا إلى الشام الساعة 4 و35 ق مساء، فوجدنا المؤتمر مجتمعًا، فصليت الظهر والعصر جمع تأخير، وحضرت الجلسة فوجدت البحث دائرًا على خطاب المؤتمر إلى الأمير فيصل، فطلبت أن يقرأ علينا كتابه إلى المؤتمر - وكان قد قرئ - فأعيدت قراءته، واقترحت شيئًا من التعديل والإصلاح في جواب المؤتمر له فقبل. ثم قرئ في الجلسة قرار المؤتمر (ونوقش فيه) وعُهِدَ إليّ أخيرًا تصحيح عبارته. اهـ ما كتبته بعد الجلسة من تلك الليلة لأجل الذكرى، وهذا القرار حُرر في أثناء غيبتي في بيروت بعد تلك الجلسات التي عُقِدَت للبحث في موضوعه، وأشرت إليها آنفًا. وقد اقترح بعض أعضاء المؤتمر من غير المسلمين في هذه الجلسة أن يُنَص في قرار المؤتمر على أن حكومة سورية المتحدة لا دينية (لاييك) ووافقه بعض المسلمين الجغرافيين، وعارضه آخرون مقترحين أن يُنص فيه على أنها حكومة إسلامية عربية، أو دينها الرسمي الإسلام، واحتدم الجدال، فلم أر مخرجًا من هذه الفتنة إلا اقتراح السكوت عن هذه المسألة، ومما قلته: إن إعلان كونها لا دينية يفهم منه جميع المسلمين أنها حكومة كفر وتعطيل، لا تتقيد بحلال ولا حرام، ومن لوازم ذلك أنها غير شرعية، فلا تجب طاعتها، ولا إقرارها، بل يجب إسقاطها عن الإمكان، فالأَوْلَى السكوت عن ذلك، فوافق الأكثرون على هذا الرأي والاكتفاء باشتراط أن يكون دين ملكها الرسمي هو الإسلام فتقرر ذلك. وإنني بهذه المناسبة أذكر ما كتبته في مذكرتي عن الجلسات الأخيرة التي حضرتها قبل سفري إلى بيروت، لما فيها من تفصيل هذه المسألة، والعبرة بل العبر الكثيرة فيما يسمونه الحالة الروحية في ذلك المؤتمر، بل في سورية كلها، وهذا نصها: (يوم السبت 8 جمادى الآخرة 28 فبراير) دعاني الإخوان إلى جلسة بدار رفيق التميمي للمذاكرة فيما يبنى عليه إعلان الاستقلال فقرأ عزت أفندي دروزة كاتب المؤتمر شيئًا كتبه في معنى ما كنا بيناه في جلسة عند توفيق بك الناطور؛ ولكنه ترك فيها أهم ما اقترحته عليهم في تلك الجلسة، وهو بناء التقرير على قاعدة كون الاستقلال السياسي حقًّا طبيعيًّا للشعوب، كما أن الحرية الشخصية حق طبيعي للأفراد، وقاعدة قيام العرب من السوريين وغيرهم بثورة على حكومتهم التركية ونجاحهم فيها، وذكر النص المؤيد لذلك من القانون الدولي، وقاعدة اعتراف مؤتمر الصلح العام لبلادنا بالاستقلال، وإيداعه في المادة 22 من عهد عصبة الأمم ... إلخ، نعم إنه ذكر فيما كتبه اسم الثورة، ولكن بغير هذه الصورة والقوة، فقال رفيق التميمي: إن هذه الصورة حسنة؛ ولكنها تشبه المقالة. (قلت: المراد الموضوع لا الأسلوب) وسألت عوني بك عبد الهادي عما كلفته إياه وأمره الأمير به بناء على اقتراحي من استخراج الشهادات الرسمية (من قبل الدولة البريطانية) للجيش العربي، فإذا هو لم يأت إلا بعبارة اللورد كرزون منها. يوم الأحد 9 جمادى الآخرة 29 فبراير (شباط) اجتمعنا البارحة بالإخوان في دار الركابي باشا، وتناقشنا في عدة مسائل مما يتعلق بقرار إعلان الاستقلال، وتأليف حكومة جديدة ملكها فيصل، ودينها الإسلام، منها مسألة العلم السوري، ومن يعلن الاستقلال؟ الأمير أم المؤتمر؟ وغير ذلك مما سبق البحث في جلستين سابقتين، وكان ترجح أن يكون لسورية علم مستقل غير علم الحجاز المرفوع الآن في الشام وملحقاتها، وتقرر هذا ولكن لم يتقرر شكل العلم، ثم إن بعضهم قال في هذه الجلسة: إن الأمير فيصلاً لم يقل ذلك بحال، وقال: إنه يسوء والده الملك جدًّا؛ ولكنه يقبل أن يوضع في العلم الحجازي علامة إجبارية كصورة نجم في المثلث الأحمر، أو في غيره، واختلف الرأي في تبديله، أو إبقائه مع علامة فيه. فتقرر الثاني بأغلبية ضعيفة هي واحد أو اثنين. اهـ. (يوم الإثنين أول مارس قبل سفري إلى بيروت) اجتمعنا بالإخوان ليلة الإثنين البارحة بدار الركابي (باشا) للمذاكرة في المسائل التي تتعلق بالاستقلال أيضًا، وكان أهم ما ألقي فيها من البحث: هل يكون للحكومة (شيخ إسلام) أو وزير للأمور الشرعية أم لا؟ وعلى الأول؛ هل يكون من أعضاء مجلس الوكلاء أو الوزراء أم لا؟ فقال بعضهم بالسلب (أي: لا حاجة إلى وزير ديني أو إسلامي) ! وبعضهم بالحاجة إلى رئيس ترجع إليه أمور المحاكم الشرعية والأوقاف، ثم طلبوا مني بيان رأيي في الموضوع، فتكلمت من وجوه: (1) مكان العرب من الإسلام، وإمامة المسلمين الذين يقتبسون دينهم ويعبدون ربهم بلغتنا، ويحجون إلى بلادنا ناسكين وزائرين. (2) كون هذا الأمر قوة أدبية وسياسية واقتصادية لنا لا يمكننا الاستفادة منه إلا إذا كان لحكومتنا صفة إسلامية. (3) ما استفاده الترك من انتحالهم لمنصب الخلافة، وجعل دين حكومتهم الإسلام من عطف مئات الملايين من مسلمي الأقطار عليهم، وانتصارهم لهم إلى الآن، وكون هذا من أسباب بقاء ملكهم على اختلاله إلى اليوم [*] . (4) كون العرب في الجزيرة لا يمكن جمع كلمتهم، وتكوين وحدتهم إلا بدعوة دينية - كما حققه ابن خلدون من قبل - ولا يمكن لسورية أن تبقى مملكة مستقلة، إلا باتحادها مع غيرها من البلاد العربية المتصلة بها. (5) كون السواد الأعظم من العرب مسلمين يغارون على الإسلام اعتقادًا وإيمانًا، فإذا جعلنا حكومة سورية مجردة من الصفة الإسلامية يوشك أن يقلبوها بدعوة دينية في أول فرصة. (6) ما تقرر في علم أصول القوانين من كون القانون لا يكون صالحًا للأمة، إلا إذا كان مراعى فيه عقائدها وعاداتها وتاريخها، وعلى هذا يجب أن تكون الشريعة هي المستمد الأعظم للقوانين التي تحتاج إليها على فرض عدم تدين حكومتنا بالإسلام، وعدها أئمة الفقه كعلماء القوانين، فإذن لا بد لنا من وزير شرعي، ومن رجال آخرين من علماء الشرع لهذه الحكومة. (7) كون شريعتنا صالحة لهذه الزمان كغيره، وليس فيها ما ينافي المدنية إذا لم تتقيد بمذهب الحنفية أو غيره، وذكرت أمثلة في ذلك وقواعد شرعية، فاعتمدوا رأيي وقرروه. اهـ. هذا ما كتبته من خلاصة تلك الجلسة الطويلة في ذلك الوقت القصير، وقت السفر، ولكن ما تقرر بعد سفري لم يُبن عليه، ولم يمنع أن يقترح بعضهم أن يكتب في نص قرار الاستقلال جعل الحكومة السورية لا دينية. وقد ظهر بعد ذلك من العبر في المؤتمر نفسه ما قد نبينه عند سنوح الفرصة له، وأغربه ما نجم من رؤوس الإلحاد والإباحة في أثناء المناقشة في القانون الأساسي للدولة السورية. هذا وإن ما كان من الجلسات الخاصة بيني وبين الملك فيصل بعد إعلان الاستقلال قد انحصر في صباح يومي الجمعة والأحد؛ إذ لا تُعْقَد فيهما جلسات المؤتمر، وقد نفذ ما كنا قررناه من إرسال وفد إلى ابن السعود بكتاب منه، وكتاب مني، ثم تجددت أمور اختلف فيها رأيي مع رأيه، وسألخص ما أراه مفيدًا من ذلك. ((يتبع بمقال تالٍ))

حركة النازي اللادينية وشجاعة الفاتيكان وصراحته

الكاتب: عن جريدة المقطم

_ حركة النازي اللادينية وشجاعة الفاتيكان وصراحته منقولة عن المقطم الذي صدر بتاريخ 21 ذي القعدة سنة 1352 - 7 مارس 1934 لما شجر الخلاف في الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا، وكثر التحدث عندهم بالكنيسة الألمانية الرسمية، أو النازية، وبالطائفة التي تُسمي نفسها بالألمانيين المسيحيين، لم يدر الناس في الشرق كثيرًا ولا قليلاً عن هذا الخلاف في الكنيسة البروتستانتية الألمانية، وظنوه خلافًا وطنيًّا عارضًا لا يلبث أن يسوى بينهم، وأنه لا يمس جوهر المسيحية بشيء. ولكننا ما لبثنا أن سمعنا باشتداد الخلاف، وبأنه خلاف على جوهر حتى ذهبت الأكثرية المعارضة إلى مدى القول أن النازي يريدون أن يمزجوا جوهر المسيحية بشوائب الوثنية. ولم نفهم المراد بالوثنية حتى أفهمنا إياه النازي أنفسهم؛ إذ وكلوا إلى اثنين من أساطين كُتابهم - فيما يظهر - فكتبوا كتابين في جوهر هذا التغيير الذي يُقَرِّب المسيحية من الوثنية، وأحد هذين الكاتبين اسمه روزنبرج، واسم كتابه (خرافة القرن العشرين) ونحن لم نر الكتاب، ولكن نقلت إلينا الأنباء نبذًا منه، وقيل لنا: إن النازي سيتخذون هذين الكتابين قانونًا لإيمانهم الجديد، ينشرونه فيما بينهم ويُحَفِّظونه أولادهم في المدارس، ويعلقون آياته على أبواب عملهم، وفي منازلهم، ويعصبون بها رؤوسهم لو كانوا يلبسون عصابات. وفي تلك النبذ التي قرأناها ما فهمنا منه أن النازي ينكرون المسيح قاعدة المسيحية، ويحسبونه معلمًا دينيًّا إن كان إنجيله ملائمًا لعصره، فهو لا يلائم هذا العصر؛ ذلك لأنه بَشَّر في ذلك الزمان بالسلام، والسلام لا يلائم فطرة الخلق، وقد جرب كل التجارب في مدة ألفي السنة التي مرت، فما احتمل تلك التجارب؛ لأن الناس المسالمين الودعاء لا يرضى الواحد منهم إذا لُطم على خده أن يحول الآخر لضاربه، وإذا سئل ثوبه أن يعطي رداءه فوقه، وإذا سُخِّرَ ميلاً أن يمشي مع مُسَخِّرِه ميلين. لا يرضى الرجل الوديع المسالم ذلك، فما بالك بالألماني الشديد المراس في معاملة الغريب السلس القياد في أيدي حكامه مهما يكن مبلغ استبدادهم به، وبنظام الحكم والدستور والبرلمان في بلاده. ألا ترى أن الألماني لا يغفر لأجنبي أقل هفوة يهفوها، ويعدها إيذاء لشعوره القومي، وهو قد اغتفر للنازي حل البرلمان، وإلغاء الدستور، وإنشاء دكتاتورية مطلقة، وليس الفرنسوي ولا الإنكليزي مثل ذلك؛ إذ لا يتصور أحد من الذين يعرفون أخلاقهما وتربتيهما الدستورية أنهما يرضيان بانقلاب دستوري مثل الذي رضيه الألماني. إن الذين قالوا: إن النازي يريدون مزج المسيحية بالوثنية. قالوا شيئًا كثيرًا؛ فإن إنكار قاعدة المسيحية يعيد القوم إلى العصور السابقة لانتحالهم المسيحية، وقد كانوا فيها يعبدون - مثلما كان العرب يعبدون في عصور الجاهلية - اللات والعزى ومناة الأولى، فلينعموا بأصنامهم وأوثانهم. وهذا الحنين إلى عهود الوثنية يبعد النازي عن أديان التوحيد الثلاثة، وهو شذوذ لهم يختلف عن شذوذ إمبراطور ألمانيا السابق، فقد كان يعتقد أن الشعب الألماني شعب الله الخاص، وأنه هو ملك هذا الشعب المختار بحق إلهي، ولعل هذه الفكرة ورثها النازي عنه، وهي التي تجعلهم ينقمون من اليهود ما ينقمون. وكاتب هذه السطور ليس كاثوليكيًّا؛ ولكنه يرى من العدل والإنصاف ألا يترك هذه العجالة من غير أن ينوه بفضل الفاتيكان ويده على المسيحية في رد هذا الكيد لها، فقد أبدى في هذا الحادث ما اشتهر عنه من الغيرة والسهر على الوزنات الخمس التي عهد إليه فيها، فكان بينه وبين النازي مفاوضات على عقد (كونكرداتو) يتقرر به موقف الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، فلما درى بحركة النازي هذه، والتي هي في جوهرها لا دينية قطع المفاوضة، ولم يمنعه من ذلك كون رئيس الوزراء ووكيلها كاثوليكيين؛ لأنه إن كان لا حياء في الدين، فهنا موضع إبداء الشجاعة والجرأة، وعدم الحياء في المجاهرة بالضمير، وإن كانت المجادلة والمداورة والمناورة تصلح أساسًا للسياسة؛ فإنها لا تصلح أساسًا للديانة، وكل من يبني عليها فهو (يشبه برجل جاهل بنى بيته على الرمل، فنزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبت الرياح، وصدمت ذلك البيت؛ فسقط وكان سقوطه عظيمًا) وعندنا أن هذه الحركة النازية شقيقة البلشفية من الوجهة الدينية، وأنه إن كانت ألمانيا قد سلمت من البلشفية السياسية، لم تَسْلَم من البلشفية الدينية، والفرق بين البلاشفة والنازي، أن الأولين صريحون في مروقهم من الدين، وأن الثانين يعملون من وراء ستار. ومما يدل على أن النازي يريدون أن ينفوا عن الأذهان فكرة الله والألوهية قولهم في القسم الذي أقسموه لزعيمهم منذ أيام: (أقسم لأدولف هتلر وللحق الأبدي) فما هو هذا الحق الأبدي؟ وجاء في التلغرافات التي نشرت في الأسبوع الماضي أن قداسة البابا خطب في جمع من كبار رجال الدين أمس بمناسبة العزم على تطويب ثلاثة من القديسين فحمل على (العقائد الوثنية) الحديثة في ألمانيا، وقال: (إن حياة أولئك القديسين كانت مثالاً باهرًا من المحبة المسيحية، وإنذارًا من مثل الحركة التي تريد العالم على العود إلى الوثنية، والشعب الألماني النبيل هو الآن في مأزق من تاريخه، والآراء والأعمال السائدة بينه ليست مسيحية ولا إنسانية، فإن الزهو القومي لا ينتج إلا زهوًا بالحياة، وهو بعيد عن روح المسيحية والإنسانية معًا) . ... ... ... ... ... ... ... ... (ن. ش)

المعارك الدينية في ألمانيا بين طوائف البروتستانت

الكاتب: عن مجلة الطان الفرنسية

_ المعارك الدينية في ألمانيا بين طوائف البروتستانت ترجمة كوكب الشرق عن الطان الفرنسية في 12 إبريل سنة 1934 لا تزال المعارك الدينية تزداد خطورة بين الطوائف التابعة للكنيسة الإنجيلية في ألمانية. وقد اجتمع السينودس الإنجيلي الحر، وهو مؤلف من رجال الدين، ومن التابعين قبلاً لثلاثين سنودس من ثلاثة وثلاثين سنودسيًّا، أعني من المصلحين واللوثريين وأعضاء الكنيسة المتحدة، وهم من اللوثريين والمصلحين الذين انضموا معًا في عهد حكم فردريك الأول، ووافق السنودس المشار إليه على إصدار منشور جاء فيه ما يلي: إن الأسباب التي أحدثت الاضطراب الشديد في الكنيسة الإنجيلية الألمانية ترجع إلى الحملات التي أثيرت ضد معتقدات هذه الكنيسة، ويقع القائمون بالأمر فيها في أغلاط تنافي ما جاء في الإنجيل المقدس. ولم تعد لمجالس القساوسة ورجال الدين والسنودس الوطني سلطة روحية منذ انتخابها في صيف 1933، والروح التي تسيطر على هذه الهيئات الدينية وإرادتها هي روح التدمير والهدم، حتى إن الأوامر التي صدرت في 4 يناير و 26 يناير و3 فبراير سنة 1934 هي أوامر لا تتفق والعدالة ودستور رجال الدين. ونحن نهيب إذًا بإخواننا وزملائنا من القساوسة ألا ينفذوا هذه الأوامر، ولا يعملوا بها؛ لأنها ضد تعاليم الإنجيل المقدس، ونهيب بأبنائنا التابعين لنا وبقساوستهم الذين عُزلوا من مناصبهم ظلمًا وعدوانًا ألا يأبهوا لهذه الأوامر، وأن يحتفظوا بقساوستهم؛ لأن عصيان حكومة دينية تحكم بما يخالف كلام الله سبحانه وتعالى يعد طاعة له جل جلاله. وإذا علمنا أن الطاعة من القواعد الأساسية التي تتمسك بها الكنيسة البروسية أدركنا أن هذه العبارات التي جاءت في المنشور هي عبارات تدل على الثورة والعصيان والتمرد، ويُحْتَمَل أن الذين كتبوها يعتقدون بأنهم لا يشتغلون بالأمور السياسية، ولا دخل لهم فيها، ولكن من المحال أن الحكومة الحالية في ألمانيا لا تتهمهم بالوقوع في الخطأ، وتقف مكتوفة اليدين فلا تعمل بشدة ضد هذا القرار. وقد وافق السنودس الحر على هذا المنشور، وكان مؤلفًا من 320 قسيسًا من المصلحين ينتمون إلى 127 أبروشية، ووافق اتحاد كنائس المصلحين في ألمانيا بإجماع الآراء على هذا المنشور في 5 يناير سنة 1934، وصرح الاتحاد في الوقت ذاته بأن الذين ينضمون إلى جماعة المسيحيين الألمانيين يعدون خارجين على اتحاد كنائس المصلحين وغير تابعين له. وفي 21 فبراير أنشأت الحكومة مكتبًا لرجال الدين للنظر في الشئون الخارجية، وعينت الأسقف تيودور هيكل لإدارته، ومن أعمال هذا المكتب توثيق العلاقات مع البروتستانت في البلاد الأجنبية، ومع الكنائس التي تصادقهم، وكذلك توثيق العلاقات بين كنيسة بلاد الريخ، ودعاة الحركة المسكونية. ومما لا ريب فيه أن جميع هاته القرارات كانت سببًا للنزاع الذي قَسَم الكنيسة الإنجيلية في ألمانيا على نفسها، وجعلها شطرين. ولم تمض ستة أيام على إصدار ذلك المنشور الذي أشرنا إليه حتى فاه الأسقف هيكل بتصريح قال فيه: (إن منشور السنودس الحر عمل رجعي لا يتفق مع مبادئ حكومة الرخ الثالثة، بل ينافي النظام ويتحدى سلطة الكنيسة الألمانية، وإن المسيحيين الألمانيين لم ينفصلوا عن اتحاد الكنائس في ألمانيا، إلا لموقفه ضد المذهب الوطني الاشتراكي لا لاختلاف في العقائد، ولا يغرب عن الأذهان أن القساوسة ورجال الدين قد أكدوا ولاءهم وإخلاصهم للحكومة الحالية، وأنهم لا دخل لهم في الشئون السياسية، فكان منشورهم هذا الذي أصدروه موضع دهشة في الدوائر الدينية) . وفي أول مارس الماضي عين أسقف حكومة الرخ رجال دين لم يشتركوا في المعارك الدينية الأخيرة، وفي 2 مارس تجددت الوسائل التي تقرر اتخاذها ضد عمل البروتستانت، وإغرائهم الشبيبة الألمانية، فازدادت الحالة خطورة. فانضمت إدارة كنيسة بروسيا وهي التي تعد أكبر إدارة كنسية في ألمانيا؛ إذ يتبعها 18 مليونًا من الأنفس إلى كنيسة الرخ، وفي 25 يناير استدعى المستشار هتلر، يعاونه الهر جويرنج، والهر فريك وزير الداخلية مندوبي الكنائس، وبعد اجتماع المستشار بهم صدر تصريح بعد يومين جاء فيه أن جميع زعماء الكنيسة قد تضمنوا وانضموا إلى الأسقف ملر ووعدوه بتأييد سلطته. وفي 2 فبراير صرحت لجنة اتحاد المصلحين بأن التصريح الذي نشره رؤساء الكنيسة بتضامنهم وانضمامهم إلى الأسقف ملر، ووعدهم بتأييد سلطته يناقض ذلك التصريح الذي أذاعوه من قبل، وأرسلت اللجنة إلى زعماء الكنيسة رسالة في 31 يناير قالت فيها: (لقد اشتد تأثرنا، وحارت عقولنا في ذلك التصريح الذي أقدمتم على إذاعته ولا يسعنا غير القول إنه يناقض أقوال الإنجيل المقدس، ولا يتفق مع تعاليم الكنيسة) . وبعد شهور قدم أسقف هامبورج استقالته من منصبه، واقتفى أثره جميع رجال الدين في كنيسة هامبورج، وفازت حكومة الرخ ببغيتها وأصدر الأسقف ملر أوامر بتعيين قساوسة آخرين، وعزل الذين لم يريدوا الخضوع له دون محاكمة أو سؤال، وألغى استقلال كنيسة بروسيا وجعلها تابعة لكنيسة الرخ، وعدل دستور الكنائس المتحدة , وأبطل حق السنودس العام في التشريع، وسن القوانين لمجامع السنودس الفرعية في الأقاليم، وقد أصبحت حكومة الرخ قابضة على ناصية الحالة الآن، أما المستقل ففي يد الله وحده) اهـ (المنار) نشرنا هذه المقالة وما قبلها لأجل الرجوع إليها من أطوار هذا الانقلاب الديني في هذا الشعب الجرماني، الذي هو أرقى شعوب أوربة، بل العالم البشري كله في جميع العلوم الكونية وفنون الحضارة، فحكومته تحاول التفلت والتفصي من هذه الديانة الملفقة المخالفة حقائق العلوم، وبدائه العقول على إحكام عقلها، وشدة قيودها، ونظم كنائسها، وسعة ثروتها، وعصبية أساقفتها وقسوسها، ونفوذهم المعنوي في الشعب، ولكن نفوذ حكومته النازية الجديدة أقوى وأعظم، وقد سبقه مصطفى كمال فأطلق حكومته التركية دون الشعب من قيود الإسلام في مرحلتين أو ثلاث، ولم يلق معارضة شديدة، والترك أعرق في التدين من الألمان؛ ولكنه ليس لهم نظام ديني إلا عند الخرافيين من رجال طرق المولوية وأمثالهم، وسبقهما الشيوعيون فهدموا جميع الأديان من روسية كلها حكومتها وشعوبها.

نتيجة حرب الجزيرة وما تجب مراعاته في الصلح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ نتيجة حرب الجزيرة وما تجب مراعاته في الصلح لقد تجلت نتيجة الحرب بسرعة لم يكن أحد ينتظرها، على اختلاف الآراء فيها فقد انهزمت الجيوش اليمانية أمام الجيش النجدي السعودي في كل من الميدانين الذي يقوده فيهما نجلا الملك: الأمير سعود ولي العهد في جهة نجران التي احتلها كلها، والأمير فيصل في تهامة فاحتل الحُدَيْدَة وما حولها، ودان له بقية أهلها، وأمسى الأميران يهددان عاصمة اليمن (صنعاء) من طرفيها. ثبت عندنا في هذه الحرب أمور متعارضة، أظهرها أن ضلع الرأي العام الإسلامي العام مع الملك السعودي، وأنه لم تبث له دعاية رسمية، ولا غير رسمية لا بتكبير قوته، ولا بإطراء فوزه، ولا بالدفاع عنه؛ ولكن أحد محرري الصحف زعم أن حكومته هي التي أتقنت هذه الدعاية بجميع وسائلها دون خصمه، وما زال يكرر هذا حتى صدقه غيره وهو لم يصدق نفسه، وصار من القضايا المسلمات. وأما الإمام يحيى فقد بثت له دعاية واسعة بدون سعيه، منها أن قوته الحربية أعظم عددًا وعدة، وبأسًا ونظامًا، وقوادًا ومالاً، وأن قبائل الحجاز وقبائل شمر في نجد والعراق وقبائل شرق الأردن ستثور على خصمه الملك ابن سعود بله قبائل عسير الثائرة بالفعل، حتى إذا ما دارت المعارك، وانهزم الجيش اليماني في كل ميدان صاروا يكذبون أنباءها، ويعدونها من الدعاية التي صارت مسلمة عندهم وعند غيرهم، وما زالوا بالإمام على جلالة قدره حتى أنزلوه إلى ميدان تكذيب الحسيات المجمع عليها، وأخيرًا فسروها بما فسرها هو به، وهو حب السلم وكراهة الحرب، فإذا سلمنا هذا وجب أن يبنى عليه الصلح الدائم، فتجعل قوة الدفاع عن الجزيرة إلى المملكة السعودية القوية الحربية، فهل يقبل الاعتراف بهذه النتيجة لتلك المقدمات المنطقية؟ حقًّا إن الإمام يحيى قد جنح للسلم، وإنه قد آن له أن يقبل ما طالما دعي إليه من إبرام العهد، وإن أدنى الدرجات لذلك ألا يعقد الصلح على دخن، ولا تتخذ المعاهدة دخلاً بين الفريقين، فتكون هدنة يستعد بها كل منهما لإعادة الكرة والأخذ بالثأر، في وقت ربما تكون الحرب وبالاً عليهما وعلى الأمة كلها، بل يجب استئصال جذور العداوة من أعماقها، ويجب أن يتدبر وفد الصلح الآيات الآتية، ويقيموا بناء الصلح وحصن المعاهدة على أساسها. وهي قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (النحل: 91-94) بل أصرح بأن شر ما تنتهي به هذه الحرب أن يكون كل من الفريقين كفؤًا للآخر، قادرًا على استئنافها عند سنوح الفرصة، ففي هذه الحالة تجعل الدسائس الأجنبية كلاًّ منهما خصمًا للآخر تهدده بإمداده وتأليبه بالمساعدة عليه عند الحاجة، وإن من شرار المسلمين لَمَنْ هم شر من الأجانب، وقد كان كل البلاء في هذه الفتنة منهم، فكل من أظهر الميل والانتصار للإمام يحيى فيها سرًّا أو جهرًا كان شرًّا له من كل من ظن أنهم عدو له، ولم يكن أحد منهم مخلصًا له، وإنما كانوا يتبعون أهواءهم. وأما الدرجة العليا للملة الإسلامية والأمة العربية، فهي أن تكون لجزيرة العرب حكومة واحدة، بل للأمة العربية كلها إذا أمكن، فهذه سياسة الشرع ومقتضى العقل وتجارب الأمم، فإن لم يمكن خضوعها أو إخضاعها لحكومة واحدة من غير فتنة ترجح فيها المفسدة على المصلحة، فالواجب أن يكون التعدد في الصورة والشكل مع الوحدة في السياسة والقصد، كالمعروف في الوحدات الغربية كلها، وسويسرة والولايات المتحدة في شمال أمريكة. وأما اختلاف الحكومات في تكافؤ القوى، ومحاولة منع العدوان بينها بالتوازن، فهو مثار كل شقاق وشقاء كما نراه في دول أوربة، فعسى أن يوفق وفد الصلح بين الإمامين لسد ذرائع الفساد، وإحكام بناء الصلاح والاتحاد، هداهم الله سبيل الرشاد.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار أسئلة في طبع مصحف شريف بالرسم العرفي والترقيم الحديث (س4) من صاحب الإمضاء في الزقازيق حضرة صاحب الفضيلة صاحب مجلة المنار الغراء، الأمل إفادتنا عن رأيكم فيما يأتي: هل هناك مانع شرعًا من طبع المصحف الشريف بالكيفية الآتية: (1) أن يكون بالهجاء الحديث المتبع بالأزهر الشريف، وفروعه، وجميع معاهد العلم بالديار المصرية، وبغيرها من البلاد العربية، وغير العربية. (2) أن توضع علامات الترقيم الحديثة بين الكلمات، بدلاً من وضعها فوق الكتابة بحروف وكلمات غير مفهومة لكثير من البعيدين عن تعليم الأزهر وملحقاته، وكثير ما هم. (3) أن يوجد بهامش هذا المصحف تفسير عصري مختصر مفيد بمعرفة لجنة من كبار العلماء، وكل هذا يراد به فائدة من يطلع على هذا المصحف من عامة الناس وخاصتهم، ومنعهم من الخطأ في التلاوة بسبب تعقيد الكتابة طبقًا لقواعد مضى عليها كثير القرون، وأصبحت غير معمول بها في جميع الأحوال ولصون الناس عامة من الفهم الخطأ لما يتلونه من آيات الذكر الحكيم، وذلك تنفيذًا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} (القمر: 17) . هذا ولا يخفى على فضيلتكم أن هذا القرآن إنما هو رسالة الله إلى الناس كافة. ونرجو نشر الرد بمجلتكم الغراء والإفادة، ولكم الشكر من المخلص. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود عفيفي ... ... ... ... ... ... ... ... ... المحامي بالزقازيق (ج) من المسائل المتفق عليها بين العلماء أو الإجماعية أن خط المصحف الشريف (أي: رسمه) سماعي توقيفي يجب فيه اتباع الكِتبة الأولى (بالكسر: أي هيئة الكتابة) التي أجمع عليها الصحابة رضي الله عنهم، ونشروها بالمصاحف الرسمية التي يعبر عن أصلها (بالمصحف الإمام) ولهذا الاتباع فوائد ودلائل مبسوطة في محلها، أولها: أن كتاب الله عندنا منقول بالتواتر بلفظه وقراءاته ولهجاته ورسم خطه، وإنه بهذا كله حُفِظَ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان حتى إن حروفه قد عدت بهذا الرسم، ودوّن عددها في الكتب، ومن فروع ذلك أن لأكثر ما خالف به رسمه الرسم العرفي أسبابًا تتعلق بقراءته، ويدخل في هذا ترك نقطه، وشرح ذلك كله يطول. وكان المسلمون يعتمدون في تعلم القرآن وتلاوته على التلقين والرواية والحفظ من الألواح التي يكتبونها، ثم يمحونها بعد حفظ ما فيها ليكتبوا غيره فيها، ثم رأوا أن التلاوة في المصاحف غير المنقوطة يكثر فيها الخطأ لغير الحافظ؛ فاستحدثوا النقط لمنع ذلك، ثم استحدثوا الشكل لضبط الإعراب وصحة النقط، ثم وضعوا علامات الوقف للحاجة إليها، وكون معرفة ما يحسن الوقف عليه منوطًا بالفهم، وما كل قارئ يفهم، وجعلوا لهذه العلامات أشكالاً بحسب درجاتها، ثم وضعوا لضبط التلاوة وتجويدها فنًّا، وللوقف والابتداء فنًّا، أفردوا كلاًّ منهما بالتدوين، وجروا عليهما في التلقين، وفي كتابة المصاحف، فالغرض من كل هذه المستحدثات ضبط تلاوة القرآن، واتقاء الخطأ فيها. ولكن لا يزال فيه كلم كثير يخطئ في النطق به من لم يلقنه بالحفظ من زيادة حروف ونقص أخرى، وقد صرنا في زمان يقل فيه من القارئين من يتلقى التجويد وعلامات الوقف على حفاظ المقرئين، فكثر الخطأ في القراءة، وفي الوقف والابتداء، واشتهر في الخط وصناعة الطبع ترقيم جديد فيه علامات للوقف وللاستفهام والتعجب ألفها الناس بدون حاجة إلى التلقين، فاستغني بها عن علامات الوقف الكثيرة في المصاحف من الحروف المفردة والمركبة التي صارت منتقدة لعدم فهم الجمهور لها، ولاستغناء الحفاظ عنها؛ ولأن منها كلمات قد يظن الجاهلون بالقرآن أنها منه ككلمتي صلي وقلي، فإنني أستنكر وضعها في المصاحف أشد الاستنكار. ويرى السائل وغيره أنني جريت في تفسيري للقرآن الحكيم المعروف بتفسير المنار على التزام رسم المصحف الإمام في الآيات المضبوطة بالشكل التام مع علامات الترقيم العصرية، ثم رسم الآيات في أثناء تفسيرها بالرسم العرفي الذي يعرفه جميع المتعلمين مع الترقيم فيها وفي تفسيرها، وأخالف الطريقة المتبعة في وزارة المعارف والأزهر في الياء المتطرفة، فألتزم نقط ما ينطق بها ياء دون ما كانت ألفًا منقلبة عنها لكثرة ما يقع من الاشتباه فيهما كالفعل الماضي من الرواية في بنائه للمعلوم والمجهول. فعُلم بهذا أنني لا أرى مانعًا شرعًا يمنع مما سأل عنه السائل، بل أرى أنه واجب؛ ولهذا جريت عليه بالفعل منذ أكثر من ثلث قرن، فإن الخط والطبع صناعتان يقصد بهما أداء الكلام أداءً صحيحًا، وتصحيح أداء القرآن واجب شرعًا، وتحريفه بالنطق محرم شرعًا، وقد جرى جميع علماء المسلمين في تفاسيرهم على كتابة القرآن بالرسم العرفي، وهم آمنون على حفظ رسمه الأصلي الذي كتبه به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الخلفاء الراشدين لكثرة المصاحف فيه، بل خالفوا رسم المصحف الإمام في كثير من الكلمات التي يشتبه في قراءتها الجمهور منذ قرون لم أقف على تاريخها، وهذا ليس بحجة؛ وإنما الحجة وجوب صيانة القرآن من الخطأ في قراءته، وهي مقدمة على حفظ رسم السلف لو تعذر الجمع بينهما، ولا تعذر. وأما تيسير فهمه على الناس كافة بتفسير سهل العبارة، مناسب لحاجة العصر فهو واجب لا معارض له، وقد طبع بعض الناس تفسير البيضاوي على حواشي المصحف، وهو تفسير دقيق وجيز وُضِع لتذكير العلماء بخلاصة ما في أشهر التفاسير، وبعضهم طبع الجلالين وهو مختصر مخلٍ قلما يستفيد منه الدهماء، وقد تحريت السهولة واجتناب الاصطلاحات الفنية والعلمية في تفسير المنار، ولكنه مطول، وقد كثر اقتراح الناس عليَّ أن أختصره أو أكتب تفسيرًا مختصرًا، فشرعت وعلى الله توكلت. *** أسئلة في أهل السنة (س5-8) من صاحب الإمضاء من علماء الشيعة في جبل عامل (سورية) حضرة الأستاذ العلامة الجليل السيد رشيد رضا وفقه الله لما يرضيه آمين. سلام عليك ورحمة الله وبركاته، إنني أرجو من واسع فضلك، وزخار علمك أن تذكر لنا في مجلتك الغراء رأيك في الجواب عن هذه المسائل مع ذكر الدليل. 1- ما تعريف الحديث الصحيح الذي تثبت به الحجة، وينقطع العذر عند علماء السنة؟ 2- ما تعريف الصحابي؟ 3- هل الصحابة كلهم عدول أم لا؟ 4- ما العدالة عند علماء السنة؟ وبالختام أسأل الله سبحانه لك حسن الختام، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب الكلمات ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحسين نور الدين (جواب المنار) (5) الحديث الصحيح: الحديث الصحيح عندهم ما كان متصل الإسناد من أوله إلى آخره بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة. (6) العدالة في الرواية والشهادة: العدالة مَلَكَة تحمل صاحبها على التقوى بأداء الواجبات، واجتناب كبائر المعاصي، وصغائر الخسة، وزاد بعضهم الرذائل المخلة بالمروءة. (7) الصحابي في عرف المحدثين: الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، واشترط بعضهم طول الاجتماع به، والرواية عنه، وبعضهم أحدهما، وقال بعضهم: هم كغيرهم من الناس. (8) عدالة الصحابة عندهم: أكثر أهل السنة على أن الصحابة كلهم عدول في الرواية، وقال بعضهم: إنما كانت العدالة عامة قبل حدوث الفتن من قتل عثمان رضي الله عنه وما بعده، واستثنى بعضهم من قاتل عليًّا كرم الله وجهه. والذي أراه أن القول بعدالة جميع الصحابة على اصطلاح من لا يشترط في الصحبة طول العشرة، وتلقي العلم والتربية النبوية إفراط يقابله في الطرف المقابل له تفريط الشيعة في تعديل نفر قليل منهم ولا سيما السائل، وطعنه على السواد الأعظم من جماعة نزل فيهم قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران: 110) الآية، وقوله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (التوبة: 100) وغير ذلك من الآيات، وورد من الأحاديث النبوية في تعديلهم والثناء عليهم، والنهي عن سبهم، وحظر بعضهم ما لا محل لذكر شيء منه في هذا الجواب الوجيز ثم كان من سيرتهم المتواترة في نشر الإسلام في العالم، وإصلاح البشر به ما هو أكبر حجة علمية تاريخية على تفضيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على جميع أصحاب الأنبياء والمرسلين، وتفضيل أمته على جميع الأمم، وهذا لا يمنع ارتكاب أفراد منهم لبعض الكبائر أو الإصرار على بعض الصغائر، الذي يسلب صاحبه وصف العدالة، ولا يقول منصف أن مثل بشر بن أرطاة الذي رأى النبي طفلاً عدل أو مجتهد متأول فيما فعله من استباحة دماء من كانوا خيرًا منه، وهذا لا يبيح هتك حرمة أولئك الأخيار في جملتهم، كما فعل الأستاذ السائل في كتابه الكلمات الذي يُعَرِّف به نفسه حتى في إمضائه، والظاهر أنه يريد فتح باب هذه الفتنة بهذه الأسئلة الآن، كما طرقه منذ سنتين باقتراح المناظرة التي لم ينسها قراء المنار، وأنه بناها على زعمه أن كلاًّ من أهل السنة والشيعة يعتقد في الآخر أنه غير متبع سبيل المؤمنين! ! فأقسم عليك يا عبد الحسين بالله عز وجل، وبحق رسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم وآله عليهم السلام عليك من الاتباع والأسوة الحسنة، أن تكف عن إثارة الشقاق بين عباد الله من هذه الأمة، فكفاها ما هي مبتلاة به من مهاجمة المستعمرين والملحدين لها في دينها ودنياها، وأسال الله تعالى لي ولك التوفيق لجمع الكلمة على ما أجمع عليه سلفها في خير عصورها، وجعل مسائل الخلاف مما يعذر فيه العلماء بعضهم بعضًا بالاجتهاد، وأن يجعل خير أعمالنا كلها خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائه، وما كان ينبغي لك أن تدعو لي وحدي بحسن الخاتمة، كأنك مستغنٍ عن الدعاء بها لنفسك، والسلام على من اتبع الهدى. *** أسئلة عن بدع طالما كُرِّرت بسم الله الرحمن الرحيم (س 9 - 13) من محمد محمد فاضل إلى السيد محمد رشيد رضا، حفظه الله للإسلام والمسلمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (أما بعد) فنعرض على فضيلتكم ما يأتي لتفتونا فيه بالحق الذي تودون أن يدين الله به المسلمون. (1) ما حكم صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة إذا تعددت المساجد؟ وهل هي واجبة أو سنة أو مستحبة؟ وهل قولهم (الجمعة لمن سبق) حديث صحيح يجب على المسلمين العمل به؟ (2) ما حكم صلاة ركعتين بنية سنة الجمعة القبلية؟ وهل فعلها النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر بها؟ وهل يقال في فعل لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به أنه سنة؟ وعلام يعتمد من يقول ذلك؟ (3) ما حكم الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان جهرًا بالكيفية المعروفة؟ وهل هي سنة أم بدعة؟ ومن أول مَنْ أحدثها من المسلمين؟ (4) ما حكم الذكر برفع الصوت في تشييع الجنازة؟ وهل هو سنة أم بدعة؟ (5) ما حكم قراءة سورة الكهف برفع الصوت في المساجد يوم الجمعة بالكيفية المعروفة؟ وأملنا في فضيلة السيد أن يبين لنا الحق في هذه المسائل بما آتاه الله من العلم النافع، والاطلاع الواسع، هدى الله بكم المسلمين للحق آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد محمد فاضل (المنار) سبق لنا بيان هذه المسائل مرارًا تارة بالتطويل، وتارة بالاختصار، والسائل يعلم هذا، وإنما أعاد السؤال؛ لأنه يريد إقناع بعض المخالفين في هذه الأيام، فنعيد الجواب عن كل منها. (9) صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة: الذ

الحرب في جزيرة العرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحرب في جزيرة العرب إطفاء نارها، وفوائدها وغايتها {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216) . ظهرت أمارات الحرب بين الدولتين الإسلاميتين العربيتين، فساور العالم الإسلامي الروع مما يخشاه من سوء عاقبتها، وكتبنا في ذلك مقالنا الأول الذي عنوانه الحديث النبوي (ويل للعرب، من شر قد اقترب، أفلح مَن كف يده) ونشرناه في بعض الصحف اليومية بغير إمضائنا، ثم في المنار، واتصلت المكاتبة في موضوع شر الحرب المقترب بين الكاتب والإمامين فكان جواب كل منهما أنه لا يريد الحرب، ولن يكون هو المضرم لنارها باختياره، وكان كل منهما يكتب واثقًا من نفسه بما يقول عنها راجيًا أن يكون أخوه مثله، بيد أنه كان من المشكوك فيه أن يكون أمر الإمام يحيى بيده، كما أن أمر الإمام عبد العزيز بيده؛ إذ كان يُقال ويُكتب ويُنشر أن قوة اليمن الحربية بيد ولي عهد الإمام وقائدها العام، الأمير أحمد سيف الإسلام، وأنه مخالف لوالده في الرأي، وأنه حربي بالطبع، وأنه كان هو المعتدي على جبل العرو من قبل وعلى نجران من بعد، وأنه هو المحرض لآل الإدريسي على الانتقاض على الملك عبد العزيز في الثورتين السابقة واللاحقة، وأنه هو المؤوي للمفسدين من أعضاء الحزب الحجازي، ومحل الرجاء للمفسدين في القطر المصري، وأنه هو المتصل بالدساسين من أصحاب الطمع الأجنبي، ولولا ذلك لم يُسَيِّر صاحب المملكة العربية السعودية الجيش في إثر الجيش إلى حدود المملكة الشرقية والغربية. أما والجيوش قد حُشرت، والمفاوضات البرقية بين الإمامين قد عُطلت، والنُذر قد تواترت، والقسي قد أوترت، وأعصاب الأوتار (الثارات) قد وترت، فالحرب قد وقعت، وكان وقوعها أمرًا طبيعيًّا لا مفر منه. وكان سببه الباطن دم فاسد في بنية الأمة العربية هو علة مرضها، والمانع من اتفاقها واتحادها، ولا شقاء لها إلا بخروجه منها، وإنما كان يُخشى أن يخرج معه دم حياتها، باعتداء الأجانب على استقلالها، ونقص أرضها من أطرافها. كنت أخشى من شر اشتعال الحرب خطرًا واحدًا، هو التدخل الأوربي باحتلال جيش إيطالية لثغور تهامة اليمن، وإحداث إنكلترة لحدث شر منه لحفظ الموازنة، وهو الاستيلاء النهائي باسم شرق الأردن على خليج العقبة، فلما أعلن كل من الدولتين الحياد اعتقدت أن ما كنا نكرهه من هذا القتال، هو مصداق لقول الله تعالى الذي جعلته عنوانًا لهذا المقال، وأنه لا خير في منعه إلا بعد خروج الدم الفاسد الذي هاج فأحدثه، وإمكان جعل جزيرة العرب في حالة استقرار ثابتة، كما أشرت إلى هذا في مقالاتي السابقة. الإمامان مسلمان تقيان شديدا الحذر من الطمع الأجنبي؛ ولكن بين شعبيهما خلافًا في المذاهب: هؤلاء سنية سلفية، وهؤلاء شيعة زيدية اعتزالية، بل يقال إن أكثرهم جارودية غالية، لا كما نعرف في الكتب عن الزيدية المعتدلة، وبين حكومتيهما خلافًا في السياسة والحدود الدولية في العسير، ونجران. هؤلاء يقولون: إن كلاًّ منهما يمانية لحمًا ودمًا، ويؤيدهم الإمام نفسه، وما كان يماطل ويماحل في عقد المحالفة إلا لأجله، وهؤلاء يقولون: إنها سعودية في الحق الواقع والتاريخ الحديث، وزد على ذلك أن الإمام يحيى يقول ويكتب وينشر أن كل بيت في اليمن يحمل ثأرًا دمويًّا على الدولة السعودية يطالبه بالإذن له بأخذه بالقوة الحربية، وقد بدأ اليمانيون بالاعتداء المرة بعد المرة، وكل من الفريقين يعتقد أنه أقوى من الآخر، وقد أعقب ذلك كله أن زحفت الزحوف، وتقابلت الصفوف، وبدأت المعارك بالفعل، والمفسدون ينفثون فيها؛ فيزيدونها ضرامًا، أفيعقل كفها بدعوة محبي الصلح، وأن يكون عقده على دخل ودغل، وعلم بما هنالك من غل وسخيمة، خيرًا للعرب، ولجزيرتهم، ولجامعتهم الإسلامية والعربية؟ لا لا. كلا، إن صلحًا كهذا إن أمكن، ووقع كان هدنة مؤقتة يخشى أن ينقض في وقت يكون فيه خطر الحرب أكبر، وأن تكون معاهدته مما نهى الله عنه بقوله: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً} (النحل: 92) الآية كما بيناه في الجزء الماضي. فالواجب إذًا أن تكون هذه الحرب شفاء من مرض الأمة بالفعل، أو بالإعداد والتهيئة على الأقل، وأن ينبني الصلح على أساس قوي، ولن يكون إلا بعد ظهور تفوق قوة على أخرى، وأن يكون الأقوى حكيمًا حليمًا لا يبغي عظمة ولا إرهاقًا للآخر، وهذا عين ما وقع، وقد عرض ملك العربية السعودية إلى إمام اليمن شروطه التي لا يغمد السيف بدونها فقبلها، وأرسل مندوبه إلى الحجاز لوضع المعاهدة المطلوبة؛ فوُضعت في هذا الشهر، وعسى أن تكون كافلة لما أشرنا إليه مما يغسل أدران الماضي، ويضع الأساس للوفاق والإخاء الدائم في المستقبل. ذكرنا في الجزء الماضي ما يراه ويصرح به بعض أولي الرأي من توحيد الحكم والدولة في الجزيرة، وقلنا: إنه منتهى الكمال الشرعي والسياسي إن أمكن. وكان يجب توخيه إذا أراد الفريقان السير بالحرب إلى آخر طاقتها كالحرب الأوربية الكبرى، وهو ما كان يُظن بالملك عبد العزيز السعودي بالقياس على حروبه السابقة، وصرح به أحد الكتاب العارفين بشؤون البلاد وزعمائها في جريدة يومية مشهورة؛ ولكنني قلت لهذا الكاتب ولغيره مشافهة في مكتبي إن الذي أعلمه من اختباري الشخصي لعبد العزيز أعزه الله أنه لا يريد الاستيلاء على اليمن، ولا إزالة حكم إمامها، ولو كان يريد ذلك لكان كما قيل لا يصده عنه صد، ولا يقف دونه عند حد، وقد فتح له بابه، وتمهدت له أسبابه بالوصول إليه (كما فعل في الحجاز) أو بالعجز النهائي عنه. أما كونه قد تمهد له سبيل هذا، ويسرت له أسبابه، فهو ما عرفه الشرق والغرب. وأما كونه لا يريده، وإن اعتقد أنه قادر عليه، فله سبب معقول هو عين السبب الذي صرفه عن محاولة الاستيلاء على قطر آخر مهد له طريقه من قبل، وهو أن أعباء ملكه تثقل عليه، فتنوء به أن يحملها، ويقوم بما يجب لها من حفظ الأمن وتعميم العدل، وإقامة العمران ونشر العلم، وما يقتضيه ذلك من كثرة الرجال والمال، وهو يصرح بهذا على مسامع الناس. ومن المعلوم أنه أقام الركن الأول من هذه الأركان في جميع مملكته على أكمل وجه، وهو حفظ الأمن الذي يتوقف عليه غيره، وأن الرجال الذين يعتمد عليهم فيه هم أهل نجد وحدهم، وليس فيهم من أهل الكفاية العلمية والمرانة العملية من يقوم بسائر مصالح الدولة، فقلة الرجال هي العائقة عما يعوز البلاد من ضروب الإصلاح، وحسب أهل نجد الآن حفظ الأمن، وإطفاء الفتن في داخلها، وحمايتها من الاعتداء على حدودها، وأهل نجد لا يَفْضُلون غيرهم من عرب الحجاز، وعسير، والشام إلا بعقيدتهم السلفية، واعتصامهم بما يعلمون من أحكام الإسلام الشرعية إيمانًا وإذعانًا، وطاعة لربهم، ثم لإمامهم سرًّا وجهرًا، فشجاعتهم وثباتهم مستمدان من عقيدة التوحيد الخالص من شوائب النفاق والوثنية والمنافع الشخصية. ومن أركان سياسة هذا الإمام فيهم المحافظة على عقيدتهم وأخلاقهم وآدابهم في محيط بيئتهم، وليس من المصلحة تفريقهم في مملكة واسعة الأطراف، مختلفة المذاهب والآداب والآراء، وهم في حاجة إلى تعليم جديد يرشحهم لما اشتدت حاجة بلادهم إليه في هذا العصر من تنظيم القوى الحربية الفنية التي لا ينفع في رد العدوان الخارجي عن البلاد غيرها، ومن تنظيم القضاء والإدارة، وتفجير ينابيع الثروة، مع هذه المحافظة على عقائدهم وأخلاقهم التي يفسد بدونها كل شيء. قد استولى الجيش النجدي على تهامة اليمن بدون عناء كبير؛ لأن أهلها ساخطون على حكومة الزيدية، فكانوا إلبًا واحدًا معه عليها، ويمكنه أن يحفظها بقوتهم ومالهم من اعتداء جيش الإمام عليها، وأن يهاجم صنعاء بها؛ ولكن ذلك يعقب ازدياد التعصب المذهبي بين السنة والزيدية، والمصلحة الإسلامية العربية تقتضي إزالته، أو تخفيفه تمهيدًا لإزالته، وتحقيق الوحدة الإسلامية العربية في موضعه، فمراعاة هذا في الصلح أدنى إليها من طلبها بالغلب والقهر، وهذا هو الذي يريده الملك عبد العزيز الفيصل ويحاول إقناع الإمام يحيى به، فإذا كان قد اقتنع به كما يظهر لنا، وزالت ضغائن الخلاف التي صرحنا بها آنفًا، فستبنى قواعد الصلح على أساسه، ويكون وسيلة إلى ما كنا نسعى إليه ونمهد له منذ ثلث قرن ونيف، وقد أشرت إلى قوة الرجاء فيه، والله هو المسؤول وحده في إتمامه. ((يتبع بمقال تالٍ))

ذكرى المولد النبوي ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ذكرى المولد النبوي أحمد الله أن وفق المسلمين منذ سنين معدودة لإحياء ذكرى منة الله تعالى على البشر ببعثة محمد رسول الله وخاتم النبيين، وإرساله رحمة للعالمين، ونشر بعض المطوي في الصحف، والمحفوظ في ألواح القلوب من مناقبه الكثيرة، وسنته المنيرة، وآياته البينات، من مرويات ومرئيات، في مثل يوم مولده على المشهور في التاريخ، والتذكير بها في الجرائد والمجلات، والتنويه بها في الخطب التي تلقى في المساجد والمحاضرات التي يحتفل لها في الجمعيات، والرسائل المترجمة بأشهر اللغات، بعد أن كان مبدأ هذا التاريخ المجيد - الذي غير نظام الاجتماع البشري فدخل به العالم في طور جديد - لا يكاد يُذكر إلا في قصص مؤلفة من الروايات المعروفة والمنكرة، والحكايات المكررة في عجائب الحمل به، وصفة ولادته، وعجائب طفولته وشبيبته، وصفات خلقه ومعيشته، وما فيها من إرهاصات نبوته، مما يقل فيه الحديث الصحيح المرفوع، ويكثر فيه المنكر والموضوع، ولا يخلو من مثار الشبهات، ولا يسلم من توليد الاعتراضات، بل يكثر في بعضها الأخيلة الشعرية، والأناشيد الغرامية، التي تشغل سامعها بتصور الجمال الخَلْقي الجسدي، عن تمثل الجمال الخُلُقي الروحاني، والجلال الملكي في الكمال الإنساني، والمثل الأعلى للتجلي الإلهي، والمظهر الأكمل لكلام الله ووحيه، والوسيلة العظمى بين الرب تعالى وخلقه. طالما أنكرت في مجلة المنار احتفال المولد الرسمي الذي تتولى تنظيمه في القاهرة مشيخة الطرق الصوفية كل عام، ووصفت ما يجرى فيه من المعاصي والبدع، ولشد ما انتقدت قصة المولد التي تقرأ في محفله على مسمع من ولي أمر البلاد ووزرائه وخواص دولته من رجال الدين والدنيا، وسفراء الدول الأجنبية فيها، وقد أفاد الإنكار والانتقاد فمنع من الاحتفال بعض المنكرات والبدع، وفي سنة 1334 أُلغيت قراءة قصة المولد المنكرة، واستبدل بها قصة كتبتها لأجلها، إذ وعدني رئيس الاحتفال (السيد البكري) أن يجعلها هي الرسمية، فتحل محلها فوفى، فكان لها ما كان من حسن القبول والتأثير اللائق بالموضوع والزمان والمكان والسلطان. اختصرت هذه القصة من رسالة في أنفع ما يقال في هذه الذكرى من السيرة المحمدية، مبتدئًا فيها بأصح ما روي في قومه صلى الله عليه وسلم ونسبه وحكمة ظهوره في العرب، وما اصفطاهم الله به على الأمم، ما اصطفى به قبيلته وعشيرته وأهل بيته عليهم، وهو خلاصة من تاريخهم والتاريخ العام - وأعقبتها ما صح من نسبه، ومن خبر زواجه، والحمل به، وولادته، ورضاعته، وحضانته وكفالته، ومعيشته وكسبه، ثم ارتقيت من ذلك إلى خبر بعثته وجملة سيرته قبلها، وتبليغ الدعوة وخلاصتها، وفيها ما امتاز به دينه على جميع الأديان، ثم إلى الكلام في آية الله الكبرى على نبوته وهي القرآن الحكيم، وما اختص به من الإعجاز في لغته وعلومه وتأثيره في العالم، وقفيت عليه ببيان مناهضة قومه ووطنه للدعوة، وإلجائه إلى الهجرة، وذكر خلاصة من أخلاقه وسيرته بعد الهجرة مع المؤمنين، وحاله مع أهل الكتاب والمشركين، وجعلت خاتمتها في إكمال الدين، وأثر نبوته صلى الله عليه وسلم في العالمين، وما أسسه من تشريع وأمة ودولة، وما بشر به أمته من فتح قريب، وملك كبير، وما تركه فيها لحفظ دينها ودنياها من كتاب الله، وهو الروح المحيي للأمم، والنور الأعظم المضيء للعالم، وسنته في بيان هدايته وتنفيذ شريعته، وعترته آل بيته، الذين هم الذكرى لشخصه الكريم، وهديه القويم. انتشرت رسالة ذكرى المولد النبوي ومختصرها في العالم الإسلامي انتشارًا بطيئًا، فكان تأثيرها في إصلاح العادات السابقة ضعيفًا، حتى نهض إخواننا مسلمو الهند منذ خمس سنين بجعل ذكرى المولد النبوي موسمًا إنسانيًّا عامًّا، يعنون فيه بتعريف جميع الأمم بما كان لذلك المولود العظيم من التأثير بتغيير التاريخ البشري كله، وتبرع الحاج فاروق (لورد هدلي) بمبلغ من المال لنشر بعض رسائل في المناقب والمآثر المحمدية النافعة لجميع الناس باللغات الكبرى للأمم؛ فنُشرت مئات الألوف من أول رسالة بعدة لغات في أول مرة. وقد اقترحت عليّ اللجنة العامة أن أكتب لها رسالة في ذلك لنشرها في مولد سنة 1350؛ فأرسلت إليها (خلاصة السيرة المحمدية) ؛ فترجمتها، ونشرت مئات الألوف من نسخها بعشر لغات هي أشهر اللغات الشرقية والغربية، منها لغتها العربية الأصلية، وكانت اقترحت عليّ كتابة رسالة أخرى في حقوق النساء في الإصلاح المحمدي؛ لتنشر في ذلك العام؛ فكتبت الرسالة، بل الكتاب الذي سميته (نداء للجنس اللطيف، في يوم المولد النبوي الشريف، أو حقوق النساء في الإسلام، وحظهن من الإصلاح المحمدي العام) وأذنت للجنة باختصاره - إن شاءت - ونشرته في يوم محمد صلى الله عليه وسلم، أي 12 من ربيع الأول سنة 1315 فكان له تأثير كبير في العالم الإسلامي، وقرَّظه كثير من العلماء والأدباء وأصحاب الصحف بما شهدوا له به أنه لم يُؤلَّف مثله في موضوعه. ثم إنني نشرت في مثل هذا اليوم العظيم من العام الماضي (1352) كتاب (الوحي المحمدي: ثبوت النبوة بالقرآن، ودعوة شعوب المدنية إلى الإسلام، دين الأخوة الإنسانية والسلام) الذي لم يحظ مصنف في حقيقة الإسلام ببعض ما حظي به من حسن التأثير، وحسن التقريظ والترجمة باللغات المختلفة، وسرعة انتشاره وإعادة طبعه مزيدًا فيه، وصدروه قبل انتهاء سنته الأولى. ولا يزال إخواننا من مسلمي الهند وغيرها، وأصحاب المجلات والجرائد في مصر، والعراق، وفلسطين يقترحون علينا في كل عام أن نكتب لهم رسائل خاصة لتُنشر في يوم ذكرى المولد النبوي الشريف، وإنما يطلبون شيئًا جديدًا لم يُنشر بعد، وأنى لي أن أستجيب لكل طالب، فإذا كانت المناقب المحمدية لا تنفد دررها، ولا تبخل على الغائص عليها بفرائدها، فأنى يتاح لمثلي على ضيق وقته، وضعفه وكثرة أعماله، أن يكرر الغوص عليها في وقت واحد لأجل طلاب كثيرين (من الرأسماليين لا الاشتراكيين) وإذ كان هذا غير مستطاع، ولا مرجح لتفضيل بعضهم على بعض، وكان رد الجميع يسوء الجميع، فما عليّ إلا أن أرجح جمهور قراء صحفهم عليهم، فأرسل ما أكتبه إلى كل منهم، وهذا مقام تقديم المصلحة العامة على الخاصة، وقد بعث محمد صلى الله عليه وسلم للناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وهذا ما كتبته لذكرى يوم محمد سنة 1353. * * * يوم محمد صلى الله عليه وسلم أو ذكرى مولده سنة 1353 ماذا فعل محمد؟ ماذا فعل محمد؟ كلمة قالها شاب حجازي في مكة المكرمة لأستاذ مصري مشهور، فلم يره أهلاً للرد عليه، ولا للصفع بنعل الإحرام الخاصة بتربة تلك الأرض المقدسة، ولا بالحذاء المعد لدوس الأرض المدنسة، فظل مغمولاً لا يعرفه أحد بوصفه، كما لا يعرفه أحد بشخصه، وما يدريك لعله يقول كلمة مثلها أمام بعض النجديين الذين لم تألف أسماعهم ما ألفه سمع الأستاذ المصري من الجهر بالكفر والتعطيل؛ فتكون عاقبته شهرة، وعقوبة شرًّا من عاقبة الذي كسر قطعة من الحجر الأسود فيما كان من تشهيره وعقابه؛ لأنه شر منه. وأما أنا فرأيته أهلاً لأن أذكره في فاتحة هذه الذكرى لمحمد، وما فعل محمد في يوم محمد صلى الله عليه وسلم لعلل ثلاث، (إحداها) ما كان لرواية هذه الكلمة الجاهلة الغبية عن شاب مكي من لذعة الألم، وعميق الأسى في قلبي، لما لمكة عندي من الحسب والكرامة، ولما أحبه لأهلها من العلم بعظمة الإسلام، وإفاضتهم ذلك على حجاج بيت الله الحرام، فعسى أن يعتبر ويزدجر ويتوب، ولا نسمع مثل هذا من أحد يقيم في البلد الأمين. (الثانية) تنبيه أذهان قارئيها بدهشة هذا القول وغرابته إلى ما في البشر من التفاوت البعيد في الجهل والغباوة، والعلم والفطنة، وأعتقد أنه لم يكن أحد منهم يظن ولا يتوهم أنه يوجد في البشر نصراني ولا يهودي ولا وثني ولا معطل مادي يسفه نفسه، ويطوع له تعصبه أن يقول: ماذا فعل محمد؟ و (الثالثة) وهي العليا المقصودة بذاتها الجواب عن هذا السؤال ببعض ما فعل محمد، وما عُللت به أعمال محمد، أو فُسرت به معجزاتها من أجانب يعلم أجهلهم وأضلهم من أعمال محمد العظيمة التي لم يعمل مثلها أحد من عظماء خلق الله ما لا يعلم بعضه هذا الشاب الذي يُنسب إلى أمة محمد، ويعيش في بلد محمد، ويرى بعينيه عشرات الألوف ومئات الألوف يفدون في كل عام على بلد محمد، من جميع أمم الأرض في جميع أقطارها، شعثًا غبرًا، ناسكين، طائفين ساعين، راكعين ساجدين يتقربون إلى الله تعالى باتباع ملة محمد، ويسمعهم بأذنيه يهتفون بالصلاة والسلام على محمد، والدعاء لمحمد بالوسيلة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود الذي يغبطه به، ويحمده عليه الأولون والآخرون، ومنهم النبيون والمرسلون، صلى الله عليه وآله، كلما ذكرته، وكلما ذكره الذاكرون. أيها الحجازي الجهول! لا أعجب لك إن كنت لا تؤمن بنبوة محمد ورسالته، وأنت في هذا الدرك الأسفل من الجهل بما جاء به، ولا أعجب لك إن كنت تجهل تاريخ محمد الذي غيَّر تاريخ العالم الإنساني بما نقله من ضعة وفساد، إلى رفعة وصلاح في أموره الدينية والمدنية والاجتماعية، وإنما أعجب لك أنك ترى نفسك أهلاً لمخاطبة أستاذ مصري متعلم، بل مؤلف ومعلم، بتلك الكلمة الجاهلة الغبية التي كان خيرًا لك من النطق بها أن تخطفك الطير، أو تهوي بك الريح في مكان سحيق، وتيهور عميق. أيها الحيران المسكين، الذي استهوته شياطين الملحدين، إن كان محمد لم يعمل شيئًا تذكره، وتفخر به بأنك من قومه ووطنه، فأخبرنا أي عظماء البشر الذين يفخر بهم أقوامهم عمل عُشر ما عمله محمد لقومه، وما عمله بنفسه وبقومه للبشر كافة؟ هل يُذكر عمل بسمارك الذي تفتخر به ألمانية في السعي للوحدة الجرمانية، وكافور وغاريبالدي اللذين تباهي بهما إيطالية للوحدة الطليانية، ما يقرب من عمل محمد صلى الله عليه وسلم للوحدة العربية؟ مع التفاوت البعيد بين الأمم الثلاث في الاستعداد لها وعدمه، مما كانت عليه كل منهن من جاهلية أو علم وفن ونظام. ارفع رأسك إلى من فوق هؤلاء، ارفعه إلى الأنبياء المرسلين، فإنك لا تجد أحدًا منهم عمل لقومه أكبر مما عمله موسى عليه السلام لبني إسرائيل في دينهم ودنياهم، ويعلم جميع مؤرخي الأمم أن ما عمله محمد صلى الله عليه وسلم أعظم في كل منها، أما الدين فأمره ظاهر، ولعلك لا تعنيه من العمل الذي تسأل عنه، وأما الدنيا فقد مهد السبيل لقومه أن يملكوا فلسطين من بعده؛ ولكن قوم محمد صلى الله عليه وسلم ملكوا فلسطين وما حولها من مشارق الأرض ومغاربها، وإذا كنت فاقدًا للشعور بعظمة الجامعة الدينية التي يكرمك لأجلها الملايين من الأمم، فإنني أضرب لك مثلاً من كرامة الجامعة القومية. نظم أديب سوري نصراني النشأة قصيدة مدح بها محمدًا صلى الله عليه وسلم بمناسبة ذكرى مولده، وأنشدها أصدقاءه من أمثاله، فعذله بعضهم فأجابهم قائلاً: إن جميع الشعوب الراقية تفتخر بالنابغين والعظماء من طبقات أقوامهم، وإن الأنبياء في عرف جميع الأمم أعلى طبقات البشر في أممهم، وإني وإياكم من العرب نفتخر بالمتنبي والبحتري والمعري من شعرائنا، أفلسنا أجدر بأن نفتخر بنبينا، وهو أعظم قدرًا ومقامًا وعملاً من ش

تقريظ كتاب الوحي المحمدي وانتقاده

الكاتب: عبد الله بن علي بن يابس

_ تقريظ كتاب الوحي المحمدي وانتقاده (لمّا صدر كتاب الوحي المحمدي أهديته إلى كثير من العلماء والأدباء وغيرهم، وسألت من ألقى منهم هنا أن ينتقدوه، ومنهم أكبر علماء مصر الأستاذ الشيخ محمد مصطفى المراغي، والأستاذ الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، وكتبت إلى بعض من في الأقطار البعيدة بذلك، ومنهم إمام اليمن وإمام عمان فلم ينتقد أحد منهم شيئًا من مسائله، ولكن جاءنا الكتاب الآتي من الأستاذ صاحب الإمضاء وهو من علماء نجد ومقيم في القاهرة قبيل الفراغ من طبعة الكتاب الثانية؛ فسررنا به، وإننا ننشره ونقفي عليه ببيان رأينا فيه، وهذا نصه: (بسم الله الرحمن الرحيم) إلى حضرة الأخ المحترم والعلامة الفاضل محمد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني قرأت كتاب الوحي الذي ألفتموه فألفيته أولاً في بابه، بديعًا في خطابه، أبان بأن الدين ضرورة لازمة، وحجة قائمة، أقام الحجة على صحة الإسلام، عند مثبت النبوة ومصدق الرسالة. بأوضح برهان وأجلى تبيان، وأظهر زيف الاعتراضات الصليبية، والتشكيكات. الإلحادية، والمغالطات الإيهامية، التي أرصدها دعاة الفتنة، وأعدها رؤوس الضلالة حرابًا للدين، وغوثًا للشياطين، وإنه لكتاب جلي من دقائق الحكم، وأسرار التشريع ما سطر التنزيل بيانه، وأجمل تبيانه، ومع ذلك فهو سهل المتناول، قريب إلى الفهم، يشوق قراءه إلى تفهم كتاب الله، ويوقف المنصفين على الإيمان بالله. وبما أن مسائل العلم معترك العلماء، ومجال الأذكياء، وساحة الميدان، وحلبة الرهان، والجواد قد يكبو، والسيف قد ينبو، والخطأ لم يعصم منه إلا الشارع، الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى؛ فإن لي في كتابكم ملاحظات سأبديها، ومواضع سأتكلم فيها، لمعرفتي أنكم ممن ينشد الحق ويتحراه، ويُغَلِّب مرضاة خالقه على اتباع هواه، والشاهد لي على ذلك أنكم الذين تنازلتم لمنازلة الانتقاد، وتواضعتم لهذا المراد، وتلك خلة العلماء السابقين، وطريقة القادة المهديين. (1) قلتم في صفحة 163: قد شرع الله لإبطال الرق طريقين: عدم تجديد الاسترقاق في المستقبل. وإني أرى أن هذا القول مُعَارَض بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فإن فيه كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي هو نتيجة الاسترقاق، والكتاب كتاب لكل زمان ومكان، فلا يصح أن يبني شرائعه على شيء قد أبطل أساسه، وحرم تجديد أصله، وقد ندب الكتاب إلى العتق في مواضع كثيرة، وجعل العتق الذي لا يوجد إلا بالرق عملاً من أعمال الخير التي توصل إلى الجنة، فهل تقولون: إن تلك الآيات المذكورة في الكتاب إنما محل العمل بها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أما بعده فلا يصح؛ لأن تجديد الرق قد مُنع؟ فإن قلتم بهذا فما رأيكم في الدليل الثاني، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم استرق بالفعل، وجوَّز بالقول والتقرير، وما أرى أنكم تنكرون هذا؛ لأن كل من يعرف النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته يعلم علمًا يقينًا لا شك فيه أنه لم يغز طوائف العرب إلا واسترق من استولى عليهم من نسائهم وأولادهم. وأما الإجماع فإن الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان ما استولوا على شيء من نساء الكفار وأولادهم إلا استرقوه، حتى إنه ليوجد عند بعضهم المئون، بل آلاف من الرقيق، وكان عثمان بن عفان والعباس من أكثرهم رقيقًا، ولعمر رقيق، ولأبي بكر رقيق، وهذا ما لا ينكره أحد، وإذا كان القتال ماضيًا إلى قيام الساعة والكفار موجودين في كل زمن، فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا عليه بطريق الحرب. (2) قلتم في صفحة 149 على قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} (البقرة: 190) : إن حروب النبي للكفار كانت كلها دفاعًا، ومعنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز إلا إذا قاتلونا، والكلام عليه من وجوه: (أولاً) : إنا لا نُسَلِّم أن قتال المسلمين في سبيل الله للكفار الذين لم يقاتلوهم اعتداءً؛ إذ الاعتداء تجاوز بغير حق، وقتال المسلمين للكفار إنما هو بحق وهو إدخال الإصلاح عليهم، وحملهم على الطريق القويم، وإنقاذهم من نار الجحيم. (ثانيًا) : غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا، والكف عمن لم يقاتل مفهومًا، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء إذا لم يخالف؛ فكيف إذا عارض منطوقًا صريحًا؟ (ثالثًا) : إن الآية {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة: 193) ، وآية {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ} (التوبة: 5) ، والآية {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 29) وما يشابههن، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) وما في معناه من الأحاديث الكثيرة، كل ذلك عام شامل لمن قاتل ومن لم يقاتل. (رابعًا) إن آية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (البقرة: 190) ، {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} (المائدة: 35) ومعنى كلمة القتال في سبيل الله لا يفهم من ذلك الدفاع عن النفس فحسب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فبين أن المراد من القتال في سبيل الله القتال لعلو الإسلام ورضوخ الكفر له. (خامسًا) إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يمنعه من الإغارة على قوم إلا سماع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار. (سادسًا) إنه قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين وغيرهم أنه لم يثبت أن كل من قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم من أئمة المسلمين، قاتلوا قبل أن يقاتلوا، وأن مقام المسلمين معهم مقام دفاع عن النفس، وإن كان ذلك حصل من بعضهم في بعض الأحيان فلا يسلم حصوله في الكل. (سابعًا) إن سنته في بعثه للسرايا والجيوش أن يقول لهم: اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال. وهو معلوم من حديث بريدة الطويل عند مسلم، وأما آية الإكراه في الدين فلا تمنع من قتالهم حتى يكون الدين عاليًا عليهم، وآية الجزية مبينة للإكراه، وأما تعليل الإذن بالقتال بظلم الكفار إياهم، فغايته أنه ذكر علة ولم ينف سواها، وأما {َ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} (ق: 45) وما في معناها، فتلك آيات مكيات أتت بعدهن المدنيات. (3) قلتم في صفحة 162: على أن الشريعة تعطي المرأة حق اشتراط جعل عصمتها بيدها؛ فتطلق نفسها إذا شاءت. قول الشريعة هي الكتاب والسنة والإجماع، فإن رأيتم هذا القول فيها فهاتوا دليله مأجورين، والمنار معروف أنه يدلل على ما يذهب إليه، والذي أعرفه أنه رأي لأبي حنيفة، وأنا لا أعتقد أنكم تقلدونه، وأبو حنيفة الذي رأى هذا الرأي هو الذي رأى لو أن رجلاً في المشرق تزوج بامرأة في المغرب؛ فولدت أن الولد يلحق به، وإن لم يثبت عنده اجتماعهما. فهل تقولون: إن الشرع ألحق الولد به. وأنتم وفقنا الله وإياكم ذكرتم هذا القول في الوحي المحمدي، فلا يفهم إلا أنكم وجدتم ذلك في القرآن أو الحديث، فإن لم يكن إلا في رأي أبي حنيفة، فهو شرط ليس في كتاب الله، ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، وهو قول ليس عليه أمر الشارع، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد، مع أنه رأي يجعل للمرأة الناقصة عقلاً ودينًا ولاية على أمر الرجل (ولن يُفْلِح قوم ولَّوا أمرهم امرأة) فيكف تُوَلَّى تفكيك روابط الأسر وتفريق الجماعات، وهي التي تغضب للكلمة، وتطيش للصدة، وتتميز للإعراضة. (4) قلتم في صفحة 187: فكلام الله عندنا شأن من شؤونه، وصفة من صفات كماله كعلمه، إلا أن وظيفة العلم انكشاف المعلومات له بدون سبق خفاء ووظيفة الكلام كشفه ما شاء من المعلومات لمن شاء بما شاء. هذا التعريف لا يُعْرَف لأحد من علماء السنة ورواة الآثار كمالك، والسفيانين، وأحمد، وإسحاق، ويحيى بن معين، والبخاري ولا كالزهري، وأيوب، وابن سيرين ولا عن أحد من الصحابة، فإن كان معروفًا لديكم فأزيلوا عنا اللبس، وما رأيكم لو كشف الله لعبد بإزالة الحجب، فهل يقال: إنه كلمه؛ فإن تعريفكم صادق على هذا؟ وهلا يجوز عندكم أن الله ينادي بصوت يسمعه من بعد، كما يسمعه من قرب؟ وهل تعريفكم هذا لكلام الله الذي هو القرآن فحسب، أو لما هو أعم؟ وهل أنتم تعتقدون أن القرآن كلام الله أم هو عبارة عنه؟ (5) وقلتم في صفحة 8: وحررت هذه المقدمة في ليلة المولد؟ فهل عندكم خبر صحيح يعين ليلة المولد، مع أن المحققين من العلماء قرروا أنها لا تُعْرَف، وفيها أقوال متعارضة متضاربة ليس بعضها أولى بالبطلان من بعض، ولا أظن أنكم تتابعون الناس على ما درجوا عليه من الباطل، على أني اختصرت خوف الإطالة والملل، وتركت مواضع بغير تعليق لباعث العجل، والله يوفقنا جميعًا إلى سبيل الرشاد. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن علي بن يابس ((يتبع بمقال تالٍ))

انتقاد مسألة الرق والجواب عنها ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ انتقاد مسألة الرق والجواب عنها (1) انتقد الأستاذ هذه المسألة من سبعة وجوه نتكلم على عباراتها بالإيجاز، ثم نرد على تلك الوجوه بالترتيب فنقول: إن إطلاق إبطال الرق في عبارة الطبعة الأولى قد استثني منه بعد سطرين قولنا: (إلا استرقاق الأسرى والسبايا) ... إلخ. ونُقِّحت في الطبعة الثانية بقولنا في الصفحة 271: قد شرع الله تعالى لإبطال الرق طريقتين: تحديد تجديد الاسترقاق في المستقبل أو تقييده ... إلخ. وقد قال المنتقد: قوله: (إنه مُعَارَض بالكتاب والسنة والإجماع) . استدل على الأول بأن في الكتاب كفارة القتل والظهار والأيمان بالعتق الذي هو نتيجة الاسترقاق (ولا يصح أن يبني شرائعه على شيء قد أبطل أساسه، وحرم تجديد أصله) ، وبأنه ندب إلى العتق وهو لا يوجد إلا بوجود الرق وجوابه من وجوه ... إلخ. (أولها) أننا لم نقل: إن الله تعالى أبطل أساس الرق، وحرم تجديد أصله، بل بينا أنه قيد تجديده بالحرب الشرعية المعروفة، وهذا القيد لا يمنع وجود الرقيق منعًا باتًّا، بل يجوز أن يوجد بوجود قيده وشرطه. (ثانيها) أنه يجوز بالإرث والتناسل؛ فإن ولد الرقيق مثله. (ثالثها) إن ثبت أن تجديد الرقيق محرم شرعًا تحريمًا مطلقًا، أو مقيدًا فليس للمنتقد أن يعارضه بقاعدته التي اخترعها، وهي أن الله تعالى لا يصح أن يبني شرائعه على كذا، وإن لم يثبت فلا حاجة إلى هذه القاعدة لإبطاله. (رابعها) أن كلمة: إن الله لا يصح أن يفعل أو أن يُشَرِّع كذا. لكلمة جريئة جدًّا أستغفر الله من حكايتها مهما تكن صفة قائلها ونيته، وأدع للأستاذ المنتقد بعد هذه الذكرى رأيه فيها. (خامسها) أن هذه الكلمة لا تنطبق على مسألتنا؛ فإن الله تعالى لم يبن شرع العتق لعباده على أساس الاسترقاق لأجل أن يوجدوا الرقيق ثم يعتقوه، فيكون كل من الاسترقاق والعتق قربة مطلوبة؛ وإنما بنى طلب العتق على وجود الرقيق بالفعل، وشرعية عتقه تدل على قبحه؛ لأن العتق إبطال للرق ولا يتقرب إلى الله تعالى بإبطال الخير وإزالته، فهي كشرعية التوبة من الذنب لقبحه، ولا يقال: إن تحريم المعاصي ممنوع؛ لأنها الأساس لوجوب التوبة، وهي أشد وجوبًا من العتق الواجب فضلاً عن المندوب. (سادسها) إن قوله: فهل تقولون إن العمل بتلك الآيات إنما محله العمل بها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا تصح بعده - سؤال لا محل له، وغفلة ما كان يظن بمثله الوقوع فيها. (سابعها) المعلوم بالإجماع أن العتق مشروع ومثاب عليه في كل زمان ومكان يوجد فيه الرقيق إلى يوم القيامة، وسببه أن الرق قبيح يتقرب إلى الله تعالى بتحريره إلى أن يُزَال الرقيق، فإن زال من مكان لم يجب على أهله إيجاده، لأجل عتقه، ولا يجب لذاته، ولكنه قد يشرع بوجود سببه الشرعي وهو ما بيناه، ولو صحت دعواه لكان تحرير المسلمين جميع ما يملكون من الرقيق محظورًا لاقتضائه عدم تجديدهم للعتق بعده، فهو بهذا الاقتضاء بمعنى عدم تجديدهم للاسترقاق. (استدلاله على معارضته بالسنة والإجماع) واستدل على الثاني، وهو معارضة ما قلناه بالسنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد استرق بالفعل، وجوَّز الاسترقاق بالقول والتقرير، وعلى الثالث وهو معارضته بالإجماع بأن الصحابة والتابعين وتابعيهم قد استرقوا بالفعل أيضًا، وهذا على ما فيه لا يرد على ما قلته، فإنني قد صرحت فيه بأن لإمام المسلمين في كل حرب شرعية أن يسترق الأسرى والسبايا إذا كانت المصلحة في الاسترقاق، وأما زعمه أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ومن بعدهم لم يستولوا على أحد من نساء العرب وأولادهم إلا استرقوهم، وإن هذا معلوم من سيرته وغزواته صلى الله عليه وسلم باليقين - فهذا غير صحيح على إطلاقه ومراده، ولو صح لم يكن ناقضًا لما قلناه، والتحقيق أن عرف العرب في الحرب أن يكون الأسرى والسبايا مِلْكًا للغالب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخذه ذريعة للعتق وجذب الناس إلى الإسلام برحمته لا لبقاء الرق، كما فعل بتزوجه جويرية بنت الحارث سيد قومه فأعتق أصحابه جميع أسرى بني المصطلق وسباياهم وهم على كفرهم، فكان هذا سببًا لإسلامهم، وكما أعتق جميع قريش رجالهم ونساءهم يوم فتح مكة بقوله: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ، وكما أعتقوا بعد ذلك سبايا هوازن. فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد استرقوا جميع نساء العرب وأولادهم الذين استولوا عليهم تقربًا إلى الله بالسبي كما يوهم كلامه، فأين كان أولئك السبايا والعبيد؟ إننا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتق ما ملك من الرقيق، ولا نعرف من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان عنده أحد من سبايا العرب، ولكن روي عنه أنه كان عنده من سبايا يهود قريظة ريحانة بنت شمعون وأنها امتنعت أولاً عن الإسلام، ثم أسلمت وأنه خيرها صلى الله عليه وسلم بين عتقها والتزوج بها كصفية أم المؤمنين، واختلفت الروايات عنها، والراجح فيما أذكر أنها اختارت بقاءها على الرق. وروي أن زينب أم المؤمنين أهدت إليه جارية، ولا أدري هل كانت موروثة من رق الجاهلية، أم هي من سبايا الإسلام، ولا من أي جنس كانت. ثم ختم المنتقد كلامه في هذه المسالة بقوله (فسنة الإسلام جواز الاسترقاق لمن استولوا عليه بطريق الحرب) وأنا لم أنف جوازه؛ وإنما قيدت فعله أو تركه بالمصلحة، وقوله هذا يجيز تركه مطلقًا، وهو يعارض قاعدته الغريبة، واستطالته العجيبة. وأما ما قررته من نوط الاسترقاق بالمصلحة التي ينفذها إمام المسلمين فهو مروي عن الإمام أحمد ومنصوص في كتب فقه الحنابلة وهو مذهب المعترض، ففي كتاب الفروع: ويختار الإمام الأصلح لنا - لزومًا كما في ولي اليتيم، وفي الروضة ندبًا - في أسرى مقاتلة أحرار بين قتل ورق ومن وفداء نص عليه. اهـ (ص 569 جزء 3) . وقال في بحث وجوب الجهاد إذا وقع النفير العام ولو بدون إمام ما نصه: وسأله (يعني الإمام أحمد) أبو داود عن بلاد غلب عليها رجل فغزا معه قوم: يغزو معهم؟ قال: نعم. قال: يشتري من سبيه؟ قال: دعنا من هذه المسألة؟ الغزو ليس مثل شراء السبي، الغزو فيه دفع عن المسلمين، لا يترك ذلك لشيء. اهـ) ص 576 منه، ومثله في (مسائل الإمام أحمد) وقال في المسألة: فيتوجه أن يقال في سببه كمن غزا بلا إذن. اهـ، والمراد أن الإمام أحمد امتنع من الفتوى بشراء سبي السلطان المتغلب؛ ولكن المعترض يبيح السبي لكل مسلم حتى قُطَّاع الطرق النخاسين كما سمعنا منه، ولعله رجع عنه عند كتابة هذا البحث. (البقية للجزء الآتي)

تفنيد اعتراض كاتب جزويتي على كتاب الوحي المحمدي ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفنيد اعتراض كاتب جزويتي على كتاب الوحي المحمدي (نشره في مجلة المشرق الكاثوليكية في بيروت فألخص مسائله فيما يأتي وأرد عليها) (1) تعريفه الموهم بالمؤلف صاحب المنار: افتتح الكاتب كلامه بأنه (لا حاجة إلى تعريف القراء بالسيد محمد رضا [1] منشئ مجلة المنار الإسلامية ومحررها المجاهد) ولكنه عرفه أو وصفه بقوله (والشيخ محمد عَلَم من أعلام الأدب الديني الإسلامي المحافظ في مصر، وصديق ابن سعود الوهابي، وأحد دعاة المسلمين إلى التمسك بالقديم، ونبذ ما يستحدثه المحدثون، مخالفًا لتقاليد السلف) . فهذا التعريف بمن هو غني بشهرته عنه باعترافه يفهم منه قراء المشرق خلاف الحقيقة يفهمون من كلمة (المحافظ) ، وكلمة (نبذ ما يستحدثه المحدثون) ... إلخ ما يشمل الأمور الدينية والعلمية والفنية والصناعات، وإنما أنا محافظ على القرآن والسنة النبوية وإجماع السلف وسيرتهم الصالحة في هداية الدين فقط، وداعٍ للمسلمين إلى الأخذ بكل نافع من مستحدثات العلم والفنون والنظم المدنية والعسكرية التي لا تخالف تلك الأصول، ولا الهداية الدينية التي أكمل الله بها الدين، وأتم نعمته على العالمين، وإن خالفت بعض تقاليد المتقدمين، التي مناطها اجتهاد المجتهدين، ولينظر ماذا يعني بصداقة ابن سعود الوهابي في التعريف بعالم مؤلف؟ (2) وصفه للكتاب كما رآه: قال: (إنه ليس كتاب الوحي المحمدي ما يزيدهم معرفة بالمشاكل الجوهرية التي يدور الجدال حولها بين المسيحيين والمسلمين) وإنه (ليس مستنفد المواد متناسب الأجزاء، متسلسل القضايا، فيغور فيه فكر المفكرين، بل هو مجموعة عجالات ظهرت أولاً في المنار، ثم برزت بكتاب مستقل، على أن سهولة مطالعتها لما فيها من العناوين والفهارس، ووقع المواضيع التي عالجها ردًّا على مسائل تجددت، ومسها الدين المسيحي تحول دون الإغضاء عنها، من غير إعادة النظر فيها) . اهـ. (أقول) إن كتاب الوحي المحمدي لم يوضع للجدال بين المسلمين والنصارى؛ فتجعل مواده مناسبة لما بينهما من الخلاف، متسلسل القضايا فيها، وإنما ذكر فيه بعض هذه المسائل بالقصد الثانوي، والمناسبات الاستطرادية، ولو وُضع للرد على النصارى كالكتب التي ذكر بعضها لرآه في نسقه وترتيبه وتسلسله ونظامه بحيث يغور فيه فكره، فيقع في غور أو تيهور لا يجد له منه مخرجًا إلى بقاع يرى فيه النور إلا أن يهتدي به إلى الإسلام، وإنما وُضع الكتاب لإثبات الوحي المحمدي بالقرآن فشهد له نقاد الكتاب بأنه خير ما كتب فيه حجة ونظامًا، بل اضطر هو على نظره إليه بعين السخط من وراء زجاجة يسوعية سوداء أن يصفه أخيرًا بما وصفه من السهولة وحسن التقسيم، والرد على المسائل التي تجددت في هذا العصر، وهو الذي حمله على الرد عليه. * * * (3) فساد الأخلاق والآداب الروحية على نسبة ارتقاء العلوم والأفكار المادية: خالفنا الكاتب الكاثوليكي الجزويتي في هذه الحقيقة التي بيناها في مقدمة كتاب الوحي، فذهب إلى أن كفة ميزان الفضائل والآداب والخير في هذا العصر أرجح مما كانت عليه في جميع العصور السابقة في الشرق والغرب، بفضل التمدن الأوربي! ! ! يا سبحان الله! أكاتب ينتمي إلى الديانة المسيحية يقول هذا؟ نعم وإنه قد كتبه ونشره في مجلة المشرق اليسوعية، وما كان هذا ليخطر في قلب بشر. إن هذه الحقيقة التي بينتها بالإجمال ليست رأيًا افتحرته افتحارًا من تلقاء نفسي، وإنما سبقني إليه حكماء أوربة وكُتَّاب الغرب والشرق فنقلته مقتنعًا به. وقول المنتقد: إنني أحكم به حكمًا عامًّا على جميع الشعوب. هو صحيح في الجملة لا التفصيل، فأنا أحكم به على شعوب الإفرنج أولاً وبالذات، وعلى المفتونين بمدنيتهم المادية الإباحية من سائر شعوب العالم، وإني لأنعي على الإفرنج انسلاخهم من بقايا ما حفظه نظام التربية فيهم من الفضائل المسيحية، لا جهلهم بالفضائل الإسلامية فقط. وإن أول حكم سجلته على أوربة في هذا الموضوع، هو ما رواه لنا شيخنا الأستاذ الإمام عن شيخ فلاسفتها هربرت سبنسر الإنكليزي من حكمه على قومه، وعلى أوربة كلها، ومثله من ينظر إلى لُبَاب الحقائق الواقعة، ويتخذ منها القياس المنطقي على نتائجها المستقبلة. وإنني أنقل من الصفحة 868 من تاريخ الأستاذ الإمام نص ما رواه لنا من حديثه مع الفيلسوف في مصطافه في (برايتون) من جنوب إنكلترة في 10 أغسطس سنة 1903، أي: منذ ثلث قرن مشيرًا إلى الفيلسوف بحرف (ف) وإلى الأستاذ الإمام بحرف (م) وهو: (ف) هل زرت إنكلترة قبل هذه المرة؟ (م) نعم زرتها منذ عشرين سنة. (ف) كيف وجدت الفرق بين الإنكليز اليوم والإنكليز منذ عشرين سنة؟ (م) إنني زرت هذه البلاد في المرة الأولى لغرض سياسي خاص، وهو البحث مع رجال السياسة في مسألة مصر والسودان عقب الاحتلال البريطاني، وأقمت أيامًا قليلة لم يتعد عملي فيها ما جئت لأجله، وقد ألممت بها الآن منذ أيام، فلم أدرس حالة الناس، إنما يجب أن آخذ عنكم ذلك. (ف) إن الإنكليز يرجعون القهقرى، فهم الآن دون ما كانوا عليه منذ عشرين سنة. (م) فيم هذه القهقرى؟ وما سببها؟ (ف) يرجعون القهقرى في الأخلاق والفضيلة، وسببه تقدم الأفكار المادية التي أفسدت أخلاق اللاتين من قبلنا، ثم سرت إلينا عدواها، فهي تفسد أخلاق قومنا، وهكذا سائر شعوب أوربة. (م) الرجاء في حكمة أمثالكم من الحكماء، واجتهادهم أن ينصروا الحق والفضيلة على الأفكار المادية. (ف) إنه لا أمل لي في ذلك؛ لأن هذا التيار المادي لا بد أن يأخذ مده غاية حده في أوربة، إن الحق عند أهل أوربة الآن للقوة. (م) هكذا يعتقد الشرقيون، ومظاهر القوة هي التي حملت الشرقيين على تقليد الأوربيين فيما لا يفيد من غير تدقيق في معرفة منابعها. (ف) مُحِيَ الحق من عقول أهل أوربة بالمرة، وسترى الأمم يختبط بعضها ببعض (ولعله ذكر الحرب) ليتبين أيها الأقوى ليسود العالم، أو فيكون سلطان العالم. اهـ. وقد كتب الأستاذ في مذكرته تعليقًا على هذا الحديث، ونشرناه في ص 751 من مجلد المنار 18، ثم في ص 869 من تاريخه وهو: (ماذا حركت مني كلمة الفيلسوف (الحق للقوة) ... إلخ؟ جاءت منه مصحوبة بشعاع الدليل، فأثارت حرارة، وهاجت فكرًا، ولو جاءت من ثرثار غيره كانت تأتي مقتولة ببرد التقليد، فكانت (تكون) جيفة تعافها النفس فلا تحرك إلا اشمئزازًا وغثيانًا هؤلاء الفلاسفة والعلماء الذين اكتشفوا كثيرًا مما يفيد في راحة الإنسان وتوفير راحته، وتعزيز نعمته أعجزهم أن يكتشفوا طبيعة الإنسان ويعرضوها على الإنسان حتى يعرفها فيعود إليها، هؤلاء الذين صقلوا المعادن حتى كان من الحديد (المظلم) اللامعُ المضيءُ، أفلا يتيسر لهم أن يجلوا ذلك الصدأ الذي غشي الفطرة الإنسانية، ويصقلوا تلك النفوس حتى يعود لها لمعانها الروحاني؟ حار الفيلسوف في حال أوربة وأظهر عجزه مع قوة العلم فأين الدواء؟ الرجوع إلى الدين ... إلخ، الدين هو الذي كشف الطبيعة الإنسانية وعرفها إلى أربابها في كل زمان لكنهم يعودون فيجهلونها) . اهـ. ولقد رأى أهل البصيرة بعد الحرب الأوربية الكبرى ما رآه شيخ الفلاسفة قبلها، كما سمعنا بآذاننا فيها، ثم ما صرنا نقرؤه عنها، إلى أن بلغ في هاتين السنتين درجة الخطر عليها من استعداد جميع دولها للحرب الآتية الحالقة الساحقة الماحقة، ومن انغماس شعوبها في حمأة الإباحة، وانحلال عرى الزوجية المقدسة فيها، ولا أقول وعبادة المال، فإن الجزويت أشد إسرافًا وغلوًّا في عبادة المال من اليهود وغيرهم من الرأسماليين، وعندي قانونهم السرى في ذلك، فهو مما يخالفون فيه وصايا الإنجيل بقاعدتهم (الغاية تبرر الواسطة) ، وأما إباحة أعراض النساء بالسفاح واتخاذ الأخدان وما سمي الرقيق الأبيض، وإباحة هذه الضراوة بالحرب بهذه الدركة من الغلو المنذر للشعوب بالهلاك الذريع الذي تنقله البرقيات عن أوربة كل يوم، فما كنت أظن أنه ما يدخل في عموم تلك القاعدة عندهم. أين الدين في أوربة، وهذه أكبر دولة فيها (الروسية) تبذل كل قواها في محوه من بلادها الواسعة، بل من جميع الأرض، ودعايتها قد تغلغلت في سائر شعوبها الغربية، ولولا النظام العسكري الخاضع لحكوماتها المالية خضوع العبيد، بل المستعمل بأيديها كاستعمال آلات الحديد، لقضي عليها كلها، وها هي ذي فرنسة تتفق معها لأجل التعاون على الحرب القاضية التي تستعد لها؟ أين الدين في أوربة، وهذه الدولة الجرمانية التي تلي الروسية في كبرها وعظمتها، وتفوقها في علومها وفنونها، تبتدع في مسيحيتها على علاتها فيها ما تراه الكنيسة الكاثوليكية وثنية محضة، وهي لا تزال في أول حجلها في مرقصها هذا؟ بل أين النصرانية في أوربة، وقد صرح بعض أساقفة إنكلترة بأن المسيح ليس أبًا ولا إلهًا، واستفتى الشعب في اعتقاده بعصمة الكتب المقدسة، فأفتى الألوف بعدم عصمتها، كما نشرنا ذلك في المنار. ظن الكاتب أنني أشكو من ضعف الدين الإسلامي فأجعل الشكوى عامة! كلا، إن الدين الإسلامي يجدد هدايته وعلمه ونوره في كل قطر من أقطار الأرض، وإنما يعارضه فساد أوربة الإباحي المادي، وظلمها الاستعماري، ولكنهما سيزيدانه حياة وقوة، ونورًا وظهورًا، كما يزيدان الإباحيين الظالمين خزيًا وضعفًا. حتى إذا ما بلغ فسادها غايته في شعوبها علمت هذه الشعوب أنه لا منقذ لها غير الاهتداء به؛ لأنه هو الدين الوحيد الوسط بين أطراف الغلو من إفراط وتفريط في العقل والوجدان ومصالح الروح والجسد، وأنه الحلال لمشاكل الاجتماع المالية والحربية والنسائية الموصل لسعادة الدنيا والآخرة، كما بيناه في (كتاب الوحي المحمدي) (للرد بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

العبرة بسيرة الملك فيصل ـ 7

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبرة بسيرة الملك فيصل رحمه الله تعالى (7) (المؤتمر والملك والحكومة) إن الرأي الذي كان مستقرًّا في ذهن الملك فيصل أن ينفض المؤتمر السوري بعد إعلانه للاستقلال، وأن تؤلف لجنة تضع مشروع القانون الأساسي، وقانون انتخاب المجلس النيابي، وبعد إتمامهما تشرع البلاد في انتخاب النواب؛ ولكن إخواننا أعضاء حزب الاستقلال العاملين لم يوافقوه على هذا الرأي، بل أجمعوا على بقاء المؤتمر وقيامه بعمله إلى أن يتمه، وينتخب المجلس النيابي ويجتمع، وما كان فيصل ليخالفهم فيما يتفقون عليه، بل كان يواتي أفراد الأذكياء منهم الذين يكثرون لقاءه في أمور يتعارضون فيها كالعصابات. فكان من ذلك وقوع ما ساء صديقته إنكلترة في فلسطين فوق ما يسوء فرنسة في سورية ولبنان، وعلى كونه متفقًا مع حكومة فرنسة على قواعد علاقته معها في سورية، وما عاد من باريس إلى سورية إلا ليحمل منها التفويض الذي يخوله حق إمضائها كما تقدم، وقد قبل إعلان الاستقلال والمبايعة معتقدًا أنه يكون أقدر على الاتفاق معها - وهو ملك - فكان مصرًّا على رأيه في العودة إلى فرنسة بعد إرضاء أهل الرأي بذلك، وكان رأيي ورأي الشيخ كامل قصاب تقييده في ذلك بما لا يرضيه، وسأعود إلى الكلام في هذه المسألة. تقرر بقاء المؤتمر، وأن يتولى وضع القانون الأساسي للدولة السورية، وكان أول اختلاف في الرأي حدث بيني وبين الملك فيصل وحكومته أن المؤتمر قرر أن تقدم له الوزارة بيانًا بالسياسة التي تجري عليها، وتطلب منه اعتمادها، فعرض رئيسها علي رضا باشا الركابي الأمر على جلالته فغضب، وقال: إنه ليس للمؤتمر حق في هذا الطلب، وإنه لا يأذن للحكومة أن تكون تحت سيطرة مؤتمر أكثر أعضائه شبان أغرار لا رأي لهم ولا شأن. ورأيت أن المؤتمر مُصِرّ على تنفيذه قراره، وأن الملك مُصِرّ على رفضه، وأن هذا أول شقاق في حكومتنا الجديدة يجب تلافيه، لما يُخشى من قبح أحدوثته، وسوء عاقبته، فزرت جلالته زيارة خاصة لأجل إقناعه بذلك، فكان أول ما حدثني به: ما رأيك فيما قرره المؤتمر في مسألة الوزارة؟ قلت: فوجئنا بهذا الاقتراح في الجلسة مفاجأة فكرهته؛ لأن مثله يجب التمهيد له بالبحث وإجالة قداح الرأي فيه فإنه ذو وجهين: إما جعل الوزارة مستبدة، لا يحاسبها على عملها محاسب في حكومة جديدة ليس لها تقاليد راسخة، وإما سيطرة مجلس كمؤتمرنا أكثر أعضائه من الشبان الأغرار الذين تغلب عليهم الحماسة وحكم الشعور، وكنت أميل إلى تأجيل الاقتراح لأجل تمحيص حزبنا له، فلم أوفق لذلك؛ لأن الأكثرين قبلوه بمنتهى الارتياح، وحسبوه من الضروريات، وامتنعت من التصويت له بدون بحث سابق حتى إن بعضهم أمسكوا بيدي عند أخذ الرأي لأجل رفعها فأبيت. قال: وما رأيك فيه الآن؟ قلت: رأيي إنه لا يمكن الرجوع عنه بعد وقوعه فلا بد من تنفيذه. قال: أنا لا أقبل أن أعطي هذه السلطة لهذا المؤتمر، إنه ليس بمجلس نيابي قلت: بل هو أكبر من مجلس نيابي (وفي هذه الأثناء كان قد حضر إحسان بك الجابري رئيس الأمناء له فقال وهو واقف: إن هذا المؤتمر يا مولاي جمعية تأسيسية) . قال الملك: إنه لا شأن له، وأنا الذي أوجدته. قلت حينئذ: بل هو الذي أوجدك، إنك كنت قبله قائد جيش الشرق التابع للورد اللنبي القائد العام للجيش الإنكليزي، فجعلك هذا المؤتمر ملكًا لسورية، وإننا لا ننكر أن لك فضلاً عظيمًا بمساعدة حزب الاستقلال العربي على جمع المؤتمر؛ ولكن المؤتمر قد اجتمع، وأثبت أنه ممثل للشعب السوري وموضع ثقته، وأيده زعماء البلاد من علماء الدين والرؤساء الروحيين والزعماء والوجهاء، ونيط به إعلان استقلال سورية الطبيعية التام المطلق، وجعلها حكومة ملكية نيابية، وشرع في وضع قانون أساسي لها بموجبه يكون لها مجلس نيابي منتخب. فهو الآن مجلس تأسيسي تشريعي يجب أن يكون له الإشراف على هذه الحكومة إلى أن يتم عمله، ويكون للبلاد مجلس نيابي يحل محله، فهل يصح أن يغمط حقه، وأن يقع الشقاق بينه وبين الحكومة من أول وهلة، فنكون مضغة في الأفواه، وحجة للأجانب على أنفسنا بأننا لا نصلح للاستقلال؟ هذا ما لا ترضاه يا مولاي. بعد هذا قنع جلالته، وأذن لرئيس الوزارة علي رضا باشا الركابي بكتابة البيان المطلوب، وإلقائه في المؤتمر ففعل. (تنظيم قوى العشائر والقبائل السورية) ذكرت في النبذة السادسة من هذه الترجمة أنني اقترحت على الإخوان وجوب إعلان استقلال سورية؛ ليكون الحلفاء أو الإنكليز والفرنسيس فيها أمام ما يسمونه (بالأمر الواقع) في وقت كانوا لا يزالون فيه مختلفين في تقسيم البلاد العربية وتحديد نصيب كل منهم فيها. وكنت أعتقد أنه إذا لم يكن للبلاد قوة دفاع تعتمد عليها في حفظ الاستقلال؛ فإنه لا يكون لهذا الأمر الواقع قيمة عندهم، ولا يحسبون لأهلها أدنى حساب في أمرهم، وأن من المتعذر أن تؤسس البلاد قوة عسكرية يؤبه لها في الدفاع عنها، وإنما غاية الممكن من هذه الناحية أن تكون لها قوة تكفي لحفظ الأمن الداخلي، وتنفيذ النظام فيها، وتكميل مظهر الدولة، وأبهة الملك في نظر دهماء الأمة. وأما الدفاع الممكن للاعتداء الخارجي الذي يعتد به، فهو ما يسمى الوطني أو الأهلي، وهو يتوقف على تنظيم جميع قوى القبائل والعشائر المنتشرة فيها من الصحراء إلى ساحل البحر. فأما قبائل أعراب البادية من هؤلاء فكلهم مسلحون؛ ولكن بأسهم بينهم شديد فهم لا يفتؤون يتقاتلون لأدنى الأسباب، وليس لهم مرجع وحدة، ولا وازع قوة في وردهم وصدرهم، وكان من الممكن أن يفيؤوا إلى وازع الحكومة السورية المستقلة ويدينوا لملكها، وقد رأينا شيوخهم قبل الاستقلال وبعده يكثرون الاختلاف إلى باب الأمير، فالملك فيصل، ولا سيما الشيخ نوري الشعلان وهو شيخ قبائل الرولة أقوى قبائل صحراء الشام وأعزهم نفرًا. وأما العشائر المقيمون في داخل البلاد وأكثرهم متحضرة فلا تجمعهم عقيدة ولا نسب، ولا رابطة تربية ولا مصلحة، ولكنهم أدنى إلى النظام وطاعة الحكومة الوطنية من أعراب البادية، ومنهم الدروز والنصيرية من باطنية الشيعة، والدنادشة والجراكسة من مذاهب السنة، ويمكن توجيههم كلهم إلى دفع العدوان الأجنبي عن وطنهم المشترك، ويكون سائر الأهالي عونًا ومددًا لهم. اقترحت على جلالة الملك فيصل وضع نظام لقوة كل قبيلة، وكل عشيرة في موضعها يقرر فيه ما يحتاج كل منها من السلاح والذخيرة والنفقة لتشكيل العصابات عند الحاجة إلى الدفاع، وجعلها تابعة لهيئة من الضباط السوريين أركان الحرب، وتخصيص مبلغ من المال لذلك، وما كان هذا المبلغ ليزيد في أول الأمر عما كان يبذله في سبيل العصابات السرية التي كان ضرها أكبر من نفعها، فاستحسن المشروع كما كان يستحسن غيره مما يعرض عليه؛ ولكنه لم يعطه حقه من الإكبار والاهتمام، والسبب الخفي لهذا أنه كان يعتقد أن مستقبل سورية رهين بالاتفاق مع فرنسة على الوجه الذي تقرر بينه وبين وزيرها كلمنصو، وأحالني فيه على رئيس الوزارة صديقي علي رضا باشا الركابي، فكان رجائي في إكباره له أكبر من رجائي في الملك الذي كنت راضيًا منه بقبوله، فأظهر الوزير لي من الاستحسان ما كنت أحب؛ ولكنه كان يُسَوِّف في تنفيذه بكثرة الشواغل بتأسيس الحكومة والخلاف بينها وبين المؤتمر حتى انتهى ذلك. كنت أكلم كلاًّ من جلالة الملك ودولة الوزير في ذلك منفردًا فيعد، حتى إذا التقيت بهما مجتمعين رجوت الملك أن يصدر أمره الرسمي للوزير بتنفيذه فأمر، فسألت الوزير بعد أيام عما فعل، فقال إنه قرر تخصيص مبلغ شهري قدره خمسة وعشرون جنيهًا ليكون راتبًا لمدير المكتب الذي ينظر في تنفيذ المشروع. فساءنى هذا الجواب، وقلت له: إن الأمر أكبر من هذا المكتب، ومديره وراتب مديره، وإنه يجب أولاً أن تؤلف له لجنة من أعلى الضباط الوطنيين معرفة وهمة لينظروا في المشروع مع بعض أهل الرأي، ويجب عليهم أن يدرسوا كل ما كتب في اللغة التركية واللغات الأجنبية في نظام العصابات البلقانية وعشائر الأفغان التي نظمها الأمير عبد الرحمن خان وغيرها، ليضعوا نظامهم في ضوء ساطع، ويقدروا له الميزانية الموقتة للتنظيم، والمال الاحتياطي الذي يتوقف عليه العمل إذا هوجمت البلاد، واقتضت الحال إضرام نار الدفاع في جميع الأغوار والأنجاد، ولا أعتقد أن المشروع سيُنَفَّذ إلا إذا أُلِّفَتْ هذه اللجنة وحضرت جلساتها بنفسي، فوعد بالنظر في ذلك؛ ولكنه لم ينظر، فعلمت أنه يرضيني بالكلام، ويجعل راتب الإدارة الجديدة معاشًا لأحد صنائعه، فزال ما كان عندي من الأمل فيه، وهو كل ما كنت أرجوه منه. والظاهر أنه لم يكن يعتقد بضرورته أو بفائدته؛ ولكن الثورة السورية التي حدثت بعد قد أثبتت لنا أن هذا المشروع لو تم لنلنا به ما نريد. (إسقاط وزارة علي رضا باشا الركابي) ثم كان من سيرة الركابي باشا أن سخط الملك فيصل عليه من ناحية، وسخط عليه أكثر رجال حزب الاستقلال العربي من ناحية أخرى، وعزم الملك على إسقاط وزارته، وقد كتبت في مذكرتي يوم الأحد 6 شعبان 25 أبريل (نيسان) ما نصه: اشتد سخط الملك فيصل من هذا الوزير لسوء تصرفه، ولما أحدثه من الشقاق في حزب الاستقلال العربي وجمعيته، وعزم على إسقاط وزارته لإخراجه وبعض وزرائها الضعاف الرأي والعزيمة، فأمر بتأليف لجنة سرية للنظر في تأليف وزارة جديدة، والركابي لا يزال يجلني ويبالغ في احترامي، وأسوأ ما ساءني منه مراوغته في مشروعي الأهم، وهو تأليف إدارة للعشائر والقبائل، وليس لي غرض شخصي أرجوه منه. اهـ. وكتبت في يوم الإثنين 7 شعبان 26 أبريل في هذا الموضوع: سمرنا البارحة عند إحسان بك الجابري مع الملك فيصل سمرًا مفيدًا لا ينسى، السمار: القَيْلُ (أعني الملك) ، وساطع (بك الحصري) ، وهاشم (بك الأتاسي) ، وعزت (دروزة) ، وعثمان (سلطان) ، وسعد الله (الجابري) ، وصاحب الدار (إحسان بك) ، وقد تحقق زوال ثقة الملك بوزارة الركابي. اهـ. وأقول الآن: كان موضوع ذلك السمر بيان حال وزارة الركابي، وما يشكى منها، وما يجب من استبدال غيرها بها، وما تجب مراعاته في ذلك، وإذ كانت الجلسة سرية لم أكتب شيئًا عما دار فيها ولا فيما بعدها لئلا تسقط مذكرتي مني أو تُسْرَق كما سُرِقَ دفتر مذاكرات الملك؛ فيطلع أحد عليها؛ وإنما كنت أذكر أسماء السامرين، وأعبر عن الملك بالقَيْل (بفتح فسكون) . وقد سمرنا الليلة التي بعدها في دار ساطع بك الحصري، وكان في السمار زيادة عمن ذكرت من حاضري ما قبلها، عبد الرحمن بك اليوسف، ويوسف بك العظمة، ويحيى بك حياتي الضابط المشهور، ولم يحضرها جلالة الملك، وقد اقترحت في جلسة بعدها عند إحسان بك أن يدخل في الوزارة الجديدة، الدكتور عبد الرحمن شهبندر، واستحسنت أن يكون يوسف بك رئيسًا لها، إذا كنا نريد أن تكون وزارة دفاع قوية، وكان قد رشح بالاتفاق، فقال الملك إنه يحب يوسف بك ويثق به؛ ولكنه لا يرى أن يكون رئيسًا للوزارة في سنه هذه، فيكفي أن يكون وزيرًا للحربية. (تشكيل هاشم بك للوزارة وانتخابي لرياسة المؤتمر) ولم يبد الملك لنا رأيه في الرئيس، حتى إذا ما انتهينا من رأينا في الأعضاء فاجأنا بإصدار أمره الرسمي لصديقنا هاشم بك الأتاسي بتشكيل الوزارة ففعل، واعتقدنا أن المرجح له عنده رويته وأناته تجاه حماسة العظمة وشهبندر، وما يرجو من مو

التنازع والتخاصم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التنازع والتخاصم بين علماء الدين المجددين والجامدين الرسميين الأستاذ الشيخ ناجي أديب، عالم كاتب أديب خطيب، نشأ في مدينة اللاذقية من سورية، وتخرج في الجامع الأزهر، وتأدب فيه بأدب الأستاذ الإمام المصلح الأكبر، وغُذِّي بأفكاره، واقتبس من أنواره، ثم كان أستاذًا في بعض مدارس التجهيز ومعهد الحقوق في دمشق، ولما عُقد المؤتمر السوري العام الذي أعلن استقلال سورية (سنة 1339 و1920) كان عضوًا منتخبًا فيه عن بلده، وهو لا يزال يدعو إلى الإصلاح الديني والاجتماعي بلسانه وقلمه. وقد كتب في رمضان (سنة 1351) مقالات عظيمة نشرها في جريدة (ألف باء) الدمشقية المشهورة، فاقترح عليه بعض الذين انتفعوا بها أن يطبعها في كتاب مستقل لتعميم نفعها، فاستجاب لهم، وزاد على تلك المقالات فصولاً من كتاب له مخطوط سماه (التهذيب الإسلامي) نال قصب السبق في مباراة كتب أخرى في موضوعه في المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس، ثم صدر الكتاب الجديد في جمادى الأولى سنة 1352 باسم (حديث رمضان، دين وأدب، وأخلاق ونقد، وأصول واجتماع) . تقبله الناس بقبول حسن، فرفع ذكره، وطاب نشره، فهاج ذلك حسد علماء بلده الرسميين؛ فتصدوا لمعارضته والصد عنه بالطعن بأصلات ألسنتهم، وأسنة أقلامهم، لابسين لقتاله لبوس ألقابهم الرسمية: مدرس جامع كذا، مدرس جامع كذا، فقد جاءتنا نشرة مطبوعة أحصوا فيها ما أنكروه عليه، وأجازه لهم وأقره لهم مثنيًا عليهم (مفتي اللاذقية: مصطفى أديب محمودي) . كان الكتاب قد أهدي إليّ فلم أفرغ للنظر فيه لكثرة الشواغل العائقة عن مطالعة كتب الهدايا الكثيرة، وقد عرفت صاحبه في الجامع الأزهر، ثم في دمشق، وأنه من خيار علماء سورية المجددين في هذا العصر، فلما رأيت ما نبزوه واتهموه به علمت أنه من باب التنازع بين المجددين والجامدين، وعهدي بمن هم أشهر منهم بالعلم من أمثالهم في مصر أنهم لا يوثق بعلمهم، ولا بصدقهم في روايتهم ونقلهم؛ وإنما يعتزون بتصديق العوام لهم، وثقتهم بهم، ويغترون بمحافظتهم على أزيائهم القديمة التي تجذب هؤلاء العوام إلى تقبيل أيديهم. وإنني وايم الله ليحزنني أن يجنوا على أنفسهم بما يضع كرامتهم، وهم لا يشعرون بما هم صائرون إليه، وأتمنى لو يتفقون والمجددين، ويتناصحون فيما بينهم، ويردون ما يختلفون فيه إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عملاً بقوله عز وجل: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) . وإنني على علمي بما ذكرت لم أستبح لنفسي أن أكتب هذا إلا وكتاب حديث رمضان أمامي، ونشرة إنكارهم في يدي، أراجع ما اتهموه به مستبعدًا صدوره عنه، عالمًا أنه غير معصوم من مثله، فإذا بي أرى في إنكارهم كذبًا مفترى، وتحريفًا معيبًا، وحقًّا جَمَّل باطلاً، وكلامًا محتملاً فُسِّر بالرأي والهوى، وسأفصل ما أجملت في جزء آخر، إن شاء الله تعالى.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار من صاحب الإمضاء في بيروت (س11 - 13) أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت (قال بعد الدبياجة) : (1و 2) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز العمل بهما أم لا؟ وما معناهما؟ وهما: (1) (من غشنا فليس منا) وفي رواية أخرى (من غش فليس منا) . (2) (دعاء المرء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب) وهل هذا الحديث الأخير يؤخذ منه وصول إهداء ثواب قراءة القرآن الكريم إلى الأموات باعتبار أن قراءة القرآن الكريم عبادة ودعاء أم لا؟ (3) هل يجوز للرجال والنساء أن يذهبوا إلى المسارح العمومية، أو غيرها لأجل أن يسمعوا ويروا الصور المتحركة (السينما) الناطقة، أو غيرها، وهي لا تخلو من الصور العارية والغناء والرقص والتقبيل والضم وغيره أم لا؟ ... ... ... ... ... ... ... عدنان البربير ... ... ... ... ... ... ناظر مدرسة عثمان ذي النورين ... ... ... ... لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت (جواب المنار) (11) حديث (من غشنا فليس منا) و (من غش فليس منا) صحيح رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعًا، وفيه زيادة، وله ألفاظ أخرى عنده وعند غيره، ومعناه ظاهر، والغش بأنواعه المادية والمعنوية من المحرمات التي لا تقبل النسخ. (12) حديث (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة) صحيح رواه أحمد، ومسلم، وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنهم، وله تتمة (عند رأسه مَلَك موكل به كلما دعا لأخيه بخير، قال الملك: آمين، ولك بمثل ذلك) وهذا خبر عن أمر غيبي، والأخبار لا تنسخ، وهو لا يدل على أن إهداء ثواب قراءة القرآن إلى الأموات أو غيرهم مشروعة، ولا أنها تصل إليهم، وإنما ثواب القراءة للقارئ إذا كان مخلصًا، وكذا الدعاء، ولكن الدعاء للغير مشروع ونافع، وإن كان ثوابه للداعي كما بيَّناه من قبل في التفسير، وفي الفتاوى. (13) لا يجوز للمؤمن أن يتعمد مشاهدة المنكرات الشرعية ولا سماعها في المسارح ولا في غيرها، ورؤية الصور العارية غير محرمة لذاتها كرؤية الناس العراة؛ ولكن تصوير الشخوص والأعمال التي تمثل المعاصي، وتجرئ عليها منكر، ورؤيتها منكرة كرؤية العورات، والخلوة بالأجنبيات من باب سد ذرائع الفساد.

معاهدة الطائف بين المملكة العربية السعودية والمملكة اليمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ معاهدة الطائف بين المملكة العربية السعودية والمملكة اليمانية [*] (بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نحن عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية: بما أنه قد عُقِدَتْ بيننا وبين حضرة صاحب الجلالة الملك الإمام يحيى بن محمد حميد الدين ملك المملكة اليمانية معاهدة صداقة إسلامية، وأخوة عربية لإنهاء حالة الحرب الواقعة لسوء الحظ بيننا وبين جلالته، ولتأسيس علاقات الصداقة الإسلامية بين بلادنا، ووقعها مندوب مفوض من قبلنا ومندوب مفوض من قبل جلالته، وكلاهما حائزان للصلاحية التامة المتقابلة، وذلك في مدينة جدة في اليوم السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخمسين بعد الثلاثمائة والألف، وهي مدرجة مع عهد التحكيم والكتب الملحقة بها فيما يلي: - معاهدة صداقة إسلامية وأخوة عربية بين المملكة العربية السعودية وبين المملكة اليمانية حضرة صاحب الجلالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية من جهة. وحضرة صاحب الجلالة الإمام يحيى بن حميد الدين ملك اليمن من جهة أخرى. رغبة منهما في إنهاء حالة الحرب التي كانت قائمة لسوء الحظ فيما بينهما وبين حكومتيهما وشعبيهما، ورغبة في جمع كلمة الأمة الإسلامية العربية، ورفع شأنها، وحفظ كرامتها واستقلالها. ونظرًا لضرورة تأسيس علاقات عهدية ثابتة بينهما وبين حكومتيهما وبلاديهما على أساس المنافع المشتركة والمصالح المتبادلة. وحبًّا في تثبيت الحدود بين بلاديهما، وإنشاء علاقات حسن الجوار وروابط الصداقة الإسلامية فيما بينهما، وتقوية دعائم السلم والسكينة بين بلاديهما وشعبيهما. ورغبة في أن يكونا عضدًا واحدًا أمام الملمات المفاجئة، وبنيانًا متراصًّا للمحافظة على سلامة الجزيرة العربية قررا عقد معاهدة صداقة إسلامية، وأخوة عربية فيما بينهما، وانتدبا لذلك الغرض مندوبين مفوضين عنهما وهما: عن حضرة صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد بن عبد العزيز نجل جلالته، ونائب رئيس مجلس الوكلاء. وعن حضرة صاحب الجلالة ملك اليمن حضرة صاحب السيادة السيد عبد الله ابن أحمد الوزير. وقد منح جلالة الملكين لمندوبيهما الآنفي الذكر الصلاحية التامة والتفويض المطلق، وبعد أن اطلع المندوبان المذكوران على أوراق التفويض التي بيد كل منهما؛ فوجداها موافقة للأصول قررا باسم ملكيهما الاتفاق على المواد الآتية: (المادة الأولى) تنتهي حالة الحرب القائمة بين المملكة العربية السعودية ومملكة اليمن بمجرد التوقيع على هذه المعاهدة، وتنشأ فورًا بين جلالة الملكين وبلاديهما وشعبيهما حالة سلم دائم، وصداقة وطيدة، وأخوة إسلامية عربية دائمة، لا يمكن الإخلال بها جميعها أو بعضها، ويتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بأن يحلا بروح الود والصداقة جميع المنازعات والاختلافات التي قد تقع بينهما، وبأن يسود علاقتهما روح الإخاء الإسلامي العربي في سائر المواقف والحالات، ويشهدان الله على حسن نواياهما، ورغبتهما الصادقة في الوفاق والاتفاق سرًّا وعلنًا، ويرجوان منه سبحانه وتعالى أن يوفقهما وخلفاءهما، وورثاءهما وحكومتيهما إلى السير على هذه الخطة القويمة، التي فيها رضاء الخالق، وعز قومهما ودينهما. (المادة الثانية) يعترف كل من الفريقين الساميين المتعاقدين للآخر باستقلال كل من المملكتين استقلالاً تامًّا مطلقًا، وبملكيته عليها، فيعترف حضرة صاحب الجلالة الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ملك المملكة العربية السعودية لحضرة صاحب الجلالة الإمام يحيى، ولخلفائه الشرعيين باستقلال مملكة اليمن استقلالاً تامًّا مطلقًا وبالملكية على مملكة اليمن، ويعترف حضرة صاحب الجلالة الإمام يحيى بن محمد حميد الدين ملك اليمن لحضرة صاحب الجلالة الإمام عبد العزيز، ولخلفائه الشرعيين باستقلال المملكة العربية السعودية استقلالاً تامًّا مطلقًا وبالملكية على المملكة العربية السعودية، ويسقط كل منهما أي حق يدعيه في قسم أو أقسام من بلاد الآخر خارج الحدود القطعية المبينة في صلب هذه المعاهدة. إن جلالة الإمام الملك عبد العزيز يتنازل بهذه المعاهدة عن أي حق يدعيه من حماية أو احتلال أو غيرهما في البلاد التي هي بموجب هذه المعاهدة تابعة لليمن من البلاد التي كانت بيد الأدارسة وغيرها، كما أن جلالة الإمام الملك يحيى يتنازل بهذه المعاهدة عن أي حق يدعيه باسم الوحدة اليمانية أو غيرها في البلاد التي هي بموجب هذه المعاهدة تابعة للمملكة العربية السعودية من البلاد التي كانت بيد الأدارسة أو آل عائض أو في نجران وبلاد يام. (المادة الثالثة) يتفق الفريقان الساميان المتعاقدان على الطريقة التي تكون بها الصلات والمراجعات، بما فيه حفظ مصالح الطرفين، وبما لا ضرر فيه على أيهما على أن لا يكون ما يمنحه أحد الفريقين الساميين المتعاقدين للآخر أقل مما يمنحه لفريق ثالث، ولا يوجب هذا على الفريقين أن يمنح الآخر أكثر مما يقابله بمثله. (المادة الرابعة) خط الحدود الذي يفصل بين بلاد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين موضح بالتفصيل الكافي فيما يلي، ويعتبر هذا الخط حدًّا فاصلاً قطعيًّا بين البلاد التي تخضع لكل منهما: يبدأ خط الحدود بين المملكتين اعتبارًا من النقطة الفاصلة بين ميدي والموسم على ساحل البحر الأحمر إلى جبال تهامة في الجهة الشرقية، ثم يرجع شمالاً إلى أن ينتهي إلى الحدود الغربية الشمالية التي بين بني جماعة، ومن يقابلهم من جهة الغرب والشمال، ثم ينحرف إلى جهة الشرق إلى أن ينتهي إلى ما بين حدود نقعة ووعار التابعتين لقبيلة وائلة وبين حدود يام، ثم ينحرف إلى أن يبلغ مضيق مروان وعقبة رفادة، ثم ينحرف إلى جهة الشرق حتى ينتهي من جهة الشرق إلى أطراف الحدود بين من عدايام من همدان بن زيد وائلي وغيره وبين يام: فكل ما عن يمين الخط المذكور الصاعد من النقطة المذكورة التي على ساحل البحر إلى منتهى الحدود في جميع جهات الجبال المذكورة فهو من المملكة اليمانية، وكل ما هو عن يسار الخط المذكور فهو من المملكة العربية السعودية، فما هو في جهة اليمين المذكورة هي ميدي وحرض وبعض قبيلة الحرث والمير وجبال الظاهر وشذا والضيعة وبعض العبادل وجميع بلاد وجبال رازح ومنبه مع عرو آل أمشيخ وجميع بلاد وجبال بني جماعة وسحار الشام يباد وما يليها ومحل مريصغة من سحار الشام وعموم سحار ونقعة ووعار وعموم وائلة وكذا الفرع مع عقبة نهوقة وعموم من عدايام ووادعة ظهران من همدان بن زيد، هؤلاء المذكورون وبلادهم بحدودها المعلومة وكل ما هو بين الجهات المذكورة وما يليها مما لم يذكر اسمه مما كان مرتبطًا ارتباطًا فعليًّا أو تحت ثبوت يد المملكة اليمانية قبل سنة 1352، كل ذلك هو في جهة اليمين فهو من المملكة اليمانية، وما هو في جهة اليسار المذكورة وهو الموسم ووعلان وأكثر الحرث والخوبة والجابري وأكثر العبادل وجميع فيفا وبني مالك وبني حريص وآل تليد وقحطان وظهران وادعة وجميع وادعة ظهران مع مضيق مروان رفادة وما خلفهما من جهة الشرق والشمال من يام ونجران والحضن وزور وادعة وسائر من هو في نجران من وائلة وكل ما هو تحت عقبة نهوقة إلى أطراف نجران ويام من جهة الشرق هؤلاء المذكورون وبلادهم بحدودها المعلومة، وكل ما هو بين الجهات المذكورة، وما يليها مما لم يذكر اسمه مما كان مرتبطًا ارتباطًا فعليًّا، أو تحت ثبوت يد المملكة العربية السعودية قبل سنة 1352 كل ذلك هو في جهة يسار الخط المذكور، فهو من المملكة العربية السعودية، وما ذكر من يام ونجران والحضن وزور وادعة وسائر من هو في نجران من وائلة، فهو بناء على ما كان من تحكيم جلالة الإمام يحيى لجلالة الملك عبد العزيز في يام، والحكم من جلالة الملك عبد العزيز بأن جميعها تتبع المملكة العربية السعودية، وحيث إن الحضن وزور وادعة ومن هو من وائلة في نجران من وائلة، ولم يكن دخولهم في المملكة العربية السعودية إلا لما ذكر فذلك لا يمنعهم ولا يمنع إخوانهم وائلة من التمتع بالصلات والمواصلات والتعاون المعتاد والمتعارف به، ثم يمتد هذا الخط من نهاية الحدود المذكورة آنفًا بين أطراف قبائل المملكة العربية السعودية، وأطراف من عدايام من همدان بن زيد وسائر قبائل اليمن، فللمملكة اليمانية كل الأطراف والبلاد اليمانية إلى منتهى حدود اليمن من جميع الجهات، وللملكة العربية السعودية كل الأطراف والبلاد إلى منتهى حدودها من جميع الجهات، وكل ما ذكر في هذه المادة من نقط شمال وجنوب وشرق وغرب فهو باعتبار كثرة اتجاه ميل خط الحدود في اتجاه الجهات المذكورة، وكثيرًا ما يميل لتداخل ما إلى كل من المملكتين، أما تعيين وتثبيت الخط المذكور، وتمييز القبائل، وتحديد ديارها على أكمل الوجوه، فيكون إجراؤه بواسطة هيئة مؤلفة من عدد متساوٍ من الفريقين بصورة ودية أخوية بدون حيف بحسب العرف والعادة الثابتة عند القبائل. (المادة الخامسة) نظرًا لرغبة كل من الفريقين الساميين المتعاقدين في دوام السلم والطمأنينة والسكون، وعدم إيجاد أي شيء يشوش الأفكار بين المملكتين؛ فإنهما يتعهدان تعهدًا متقابلاً بعدم إحداث أي بناء محصن في مسافة خمسة كيلو مترات في كل جانب من جانبي الحدود في كل المواقع والجهات على طول الحدود. (المادة السادسة) يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بسحب جنده فورًا عن البلاد التي أصبحت بموجب هذه المعاهدة تابعة للفريق الآخر، مع صون الأهلين والجند عن كل ضرر. (المادة السابعة) يتعهد الفريقان الساميان المتعاقدان بأن يمنع كل منهما أهالي مملكته عن كل ضرر وعدوان على أهالي المملكة الأخرى في كل جهة وطريق، وبأن يمنع الغزو بين أهل البوادي من الطرفين، وبرد كل ما ثبت أخذه بالتحقيق الشرعي من بعد إبرام هذه المعاهدة، وضمان ما تلف وبما يلزم بالشرع فيما وقع من جناية قتل أو جرح وبالعقوبة الحاسمة على من ثبت منهم العدوان، ويظل العمل بهذه المادة ساريًا إلى أن يوضع بين الفريقين اتفاق آخر لكيفية التحقيق وتقدير الضرر والخسائر. (المادة الثامنة) يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين تعهدًا متقابلاً بأن يمتنعا عن الرجوع للقوة لحل المشكلات بينهما، وبأن يعملا جهدهما لحل ما يمكن أن ينشأ بينهما من الاختلاف، سواء كان سببه ومنشؤه هذه المعاهدة، أو تفسير كل أو بعض موادها، أم كان ناشئًا عن أي سبب آخر بالمراجعات الودية، وفي حالة عدم إمكان التوفيق بهذه الطريقة يتعهد كل منهما بأن يلجأ إلى التحكيم الذي توضح شروطه وكيفية طلبه وحصوله في ملحق مرفق بهذه المعاهدة، ولهذا الملحق نفس القوة والنفوذ اللذين لهذه المعاهدة، ويحسب جزءًا منها، وبعضًا متممًا للكل فيها. (المادة التاسعة) يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن يمنع بكل ما لديه من الوسائل المادية والمعنوية استعمال بلاده قاعدة ومركزًا لأي عمل عدواني أو شروع فيه أو استعداد له ضد بلاد الفريق الآخر، كما أنه يتعهد باتخاذ التدابير الآتية بمجرد وصول طلب خطي من حكومة الفريق الآخر

الإصلاح والتجديد الإسلامي في المعاهدة الإسلامية العربية بين الدولتين السعودية واليمانية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الإصلاح والتجديد الإسلامي في المعاهدة الإسلامية العربية بين الدولتين السعودية واليمانية وإقرار الإفرنج بفضل العرب عليهم ] الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [[*] لقد كنا في خوف ووجل في بداية هذه الحرب أن تفتح بابًا للتدخل الأجنبي في جزيرة العرب فمنّ الله علينا ووقانا هذا الشر، ولقد كنا في خوف ووجل من نهايتها أن تضرم سعير الأضغان المذهبية، وتؤرث أحقاد الآثار العربية، فيتغلغل الفساد، ويتسلسل البغي والعدوان، فمنّ الله علينا وبدلنا بالخوف أمنًا، وأعاضنا من الحرب سلمًا، ومن العداوة ودًّا، ومن الاختلاف ائتلافًا، ومن التقاطع والتدابر، أفضل وسائل التواصل والتناصر، والتعاون على البر والتقوى، فقد عقد الإمامان المؤمنان المسلمان العربيان العاقلان الحكيمان معاهدة أخوة إسلامية وصداقة عربية، ترضي الله عز وجل من فوق عرشه، وتسر روح رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى من جوار ربه، وتغتبط بها أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وتفاخر بها دولتا قومه العرب الدول الغربية وأمم الحضارة كلها، فيما تزعم من تفوقها في آداب دينها وحكمتها، وعلومها وسياستها. نعم إن قوم محمد، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتفاخر بهذه المعاهدة السعودية اليمانية دول الأرض وأممها، فتفخرهن وتفضلهن وتبزهن وتعلوهن علوًّا كبيرًا، فقد أراهن إماما المسلمين من أخوة الإسلام وآدابه وأخلاقه وفضائله وفواضله ما أنطق أفصح صحفهن المتكلمة بألسنة أرقى شعوبهن، وقائدًا عسكريًّا من أكبر قوادهن، بهذا الفضل الكبير لهداية الإسلام في أشد شعوبه اعتصامًا بحبله، وأقوم دوله بإقامة شرعه، وأصدق ملوكه في تنفيذ حكمه، من قوم نبيه ورسوله، في مهد ظهوره، ومشرق نوره، على الدول المسيحية، وشعوب المدنية، على بعد التفاوت بين الفريقين (فريق المسلم العربي، وفريق المدني الغربي، وكذا الشرقي كاليابان والصين) في الوسائل المادية وفنون الحضارة، وسعة الثروة، وحقائق العلوم، ودقائق الفلسفة. (رأي جريدة التيمس، بل الأمة الإنكليزية في المعاهدة) عقدت جريدة التيمس فصلاً افتتاحيًّا بمناسبة عقد الصلح في بلاد العرب قالت فيه: إن على إمام اليمن أن يشرح لأفراد أسرته الذين أكثروا من انتقاده، ولرعاياه الذين تملكهم السخط والغضب الأسباب التي دعت إلى انكساره، على أن الإمام كان سعيد الحظ من وجهة واحدة هي أن خصمه عقد معه صلحًا ينطوي على السخاء والكرم، فلم يضم إلى ملكه بلادًا تستطيع اليمن أن تدعي فيها حقًّا صحيحًا، ولم يفرض عليه تعويضًا حربيًّا كما يفعل الغالب مع عدوه المغلوب، وإنما قيده كما قيد نفسه بعهود تتضمن صداقة الجوار. (إن في معاهدة الصلح لَمثلاً، بل عدة أمثال، تشهد بالتعقل والاعتدال، أما ما تضمنته من رابطة الإخاء المشتركة بين جميع العرب، وهي الرابطة التي ستكون من الآن فصاعدًا هي العامل الوحيد في ضبط العلاقات بين المملكتين، فعلى أعظم جانب من الأهمية وخطر الشأن، فالوهابيون يُعدَّون دائمًا من الطوائف المتعصبة، كما أن المعروف عن الزيود أنهم ليسوا أكثر منهم تسامحًا، ولكن هذه الاختلافات الدينية لم تمنع الغالب والمغلوب من توقيع معاهدة صداقة إسلامية ترمي إلى تعزيز روابط الاتحاد، وإعلاء هيبة الأمة العربية المستقلة وصيانة كرامتها واستقلالها، والواقع أن مواد المعاهدة تدل بصفة قاطعة على أن هذه الكلمات لها أهمية أخرى تفوق أهميتها الرسمية. بيد أن هذا التقدم في سبيل الوحدة العربية لا يمكن أن تهمله الدول الأوربية ولا سيما بريطانية التي عقدت أخيرًا معاهدتها مع إمام اليمن) . وقد نُشِرَت معاهدة الصلح في مكة، والقاهرة، ودمشق، وصنعاء في وقت واحد ولهذا الأمر مغزى يستحق اهتمام المتطرفين من الصهيونيين الذين لا يستطيعون أو لا يريدون أن يدركوا أن فلسطين لا تزال بلادًا عربية تحيط بها أرض عربية. وأما روح المعاهدة فيجدر برجال السياسة من المسيحيين أن يقارنوا بينها وبين معاهدات الصلح الأوربية الأخيرة) . اهـ. ما لخصته البرقيات من مقالة التيمس. (كلمة لجنرال إنكليزي في عظمة الاتفاق الإسلامي العربي) ونشرت الجرائد المصرية خلاصة خطاب (للجنرال هاملتون) الإنكليزي ألقاه في مأدبة أدبت له في سيلان (الهند) تكلم فيه عن الحرب في جزيرة العرب، وما أُطْفِئَت به نارُها قبل أن يشتد أوارها بالصلح الشريف، وأثنى به أحسن الثناء على الملكين في تسامحهما وسرعة تصافيهما، وكون الغالب لم يجهز على المغلوب، بل لم يحاول إرهاقه ولا إضعافه ولا النيل من كرامته وشرف مكانته بأدنى انتقام يورثه وقومه حقدًا، أو يحملهم ضغنًا، بل أمضيا كلاهما اتفاقًا عسكريًّا عادلاً نشراه على العالم الإسلامي في صورة معاهدة وصداقة إسلامية عربية شريفة بين أخوين متساويين في جميع الحقوق، وثقت الروابط الودية القوية بين المملكتين ليقفا معًا متعاونين تجاه كل عدوان خارجي يهدد جزيرة العرب. وشبه هذا الاتفاق الذي احتقر فيه الانتقام الشرس السيئ العاقبة بما فعل ولنجتون الإنكليزي مع فرنسة في خاتمة حروب نابليون (نقول: ولكن بعد ما كان من أشد الانتقام) وبما فعل كتشنر في الاتفاق مع البوير (نقول: ولكن بعد ما كان من التنكيل والتدمير) ثم قال الجنرال ما ترجمته: (إنني أقول هذا أيها السادة: لأنني أرى الدول المسيحية في احتراب دائم، ونضال هائل، تجرد به حسامًا ثقيلاً رهيبًا، ثم تعلقه بعد فتكه الذريع فوق رأس أوربة بخيط واهٍ (كخيط العنكبوت) هذه حال الدول المسيحية الآن، وهي من سوء الخطر بالقدر الذي تبصرون) . هاتان شهادتان من شهادات كثيرة من مصدرين من أعلى مصادر إنكلترة السياسية والعسكرية التي لم تكن تعترف للإسلام ولا للعرب وللشرق بفضل كبير، مثل هذا لولا الدهشة والروعة التي فجأتهما، وإرادة التنبيه لما تعقبه هذه المعاهدة من حياة إسلامية عربية جديدة يجب أن يحسب لها أوربة كلها وإنكلترة وصهيونيتها كل حساب. فالحق الذي عرفته أوربة وعرفه العالم كله أن هذين الملكين العربيين، والإمامين المسلمين، قد ضربا للعالم ما يُعبَّر عنه في لغة هذا العصر بالمثل الأعلى للأخلاق الإسلامية، ولن تستطيع دول أوربة أن تقتدي بهما فيها، فالمسلمون بهداية الإسلام أرقى الأمم أخلاقًا وعدلاً وإنصافًا، وإنما تنقصهم الفنون التي تنهض بعمران بلادهم، وتجديد قوتهم في ظل هذين الإمامين العظيمين، وبهذا يعترف العالم كله بفضل الإسلام وتوقف الكمال المدني على هدايته كما بيناه في كتاب الوحي المحمدي. وخلاصته أن جميع ما بلغته تلك الشعوب من العلم والفلسفة والعقل والحكمة وفنون الحضارة، وغرائب الصناعة لا يغنيها عن هداية الإسلام فيما هو أعلى منه من تزكية النفس البشرية، وتطهيرها من أرجاس الرذائل الشيطانية، كعبادة الهوى والمال والشهوات والطمع والحسد والمكر والكذب والخداع، والظلم والبغي والعدوان وتحليتها بأضدادها من الفضائل السامية بالإيمان بالقرآن، واتباع ملة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد وقع بين دولتين نصرانيتين أمريكيتين مدنيتين (هما بوليفيا) وبارغواي على بقعة من الأرض لا تساوي واديًا من أودية جبال عسير الخصبة، ولا جبلاً من جباله المنيعة، فاستحرَّ القتال بينهما منذ سنتين، وعجزت جميع الدول والأمم المشاركة لهما في الدين وغيره من الإصلاح بينهما، ووقعت قبل ذلك أرقى دول أوربة في الحرب الكبرى، وجذبوا إليها دولة أمريكة العظمى، وكثيرًا من الدول الصغرى، فكان من سفك الدماء، وتقويض دعائم العمران، بمنتهى ما وصل إليه العلم والفنون المادية من وسائل التخريب والتدمير، ما لم يعهد له التاريخ نظيرًا ولا خطر على قلب بشر أن يحدث مثله، حتى إذا عجز أحد الفريقين المتقاتلين عن استمرار الحرب، وجنح إلى ما دعا إليه أقربهم إلى الإنسانية وفضيلة الدين المسيحي من السلم، وهو الدكتور (ولسن) مصدقًا ما وضعه من شرائط الصلح، وألقى هذا الفريق سلاحه، قلب له هذا الفريق المنتصر ظهر المجن، وأكرهوه على إمضاء شر معاهدة وضعها الغالب لإرهاق المغلوب وإذلاله، كانت سببًا لما تشكو شعوب أوربة كلها من سوء عاقبته، وهي ما نهى عنه الله تعالى بقوله: {وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} (النحل: 94) ... إلخ (الإصلاح الديني والسياسي في المعاهدة) لقد جاء الإسلام بكل ما يحتاج إليه البشر من الإصلاح الديني والدنيوي، ولولا ما نُفث فيه من سموم الشقاق السياسي الذي فرق الكلمة، وشق العصا، لساد العالم كله، مغربه وشماله بعد شرقه وجنوبه، وقد وُضِعَ في هذه المعاهدة كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، لو رصعتا باللؤلؤ والمرجان في لوح من خالص العقيان، لما وفى بقيمتهما، وما يجب من حق قدرهما، هما: الأخوة الإسلامية والصداقة العربية، فإن وضعهما في معاهدة سياسية رسمية وقعها الملكان العربيان، والإمامان الدينيان للفرقتين العظيمتين أهل السنة والجماعة من جهة، والشيعة المعتدلة من الجهة الثانية لهو أكبر رجاءً وخير أملاً من كل ما كتب حكماء المسلمين المصلحين في الدعوة إلى جمع كلمة المسلمين والتأليف بينهم، وإعادة مجد الإسلام وهدايته من المقالات والرسائل المتفرقة في الرسائل الخاصة والصحف العامة منذ خمسين سنة، وأجمعها ما بثثناه في مجلدات المنار من أولها إلى هذا، وهو الرابع والثلاثون منها، وقد نشرت في سبع وثلاثين سنة. وإنه لهو أكبر رجاءً وخير أملاً (أيضًا) من كل ما كتب المشتغلون بالسياسة العربية، والمؤلفون لجمعياتها السياسية من الدعوة إلى وحدة هذه الأمة، وإحياء حضارتها، وتجديد مجدها، وإعادة استقلالها، ومن أحكمها جمعية الجامعة العربية التي كان صاحب المنار يراسل باسمها، ثم باسمه هذين الإمامين وغيرهما بالدعوة إلى الحلف والاتفاق منذ سنة 1330 إلى هذه السنة التي وصل فيها الخوف من الخيبة إلى أقصى حده، ولم يلبث أن زال وحل محله الرجاء بفضل الله وحمده، وإنما كان ما فعله الإمامان أكبر من كل ما ذكر؛ لأنه تنفيذ عملي له. إن جريدة التيمس قد صرحت بذكر ما كان يعد أكبر مانع من هذا الاتفاق من حيث غفل عنه، أو جهله أكثر محرري الجرائد العربية، وهو التعصب الديني المذهبي الذي اشتهر به أهل نجد وسكان جبال اليمن؛ فإن الأخصائيين من كتاب الإنكليز في الأمور الإسلامية يعلمون من التعصب بين السنيين والشيعة في العراق والهند ما لا يعلمه أحد في مصر التي لا يخطر لأهلها التعصب الديني ببال. وأما صاحب المنار فقد درس هذا من جميع أنحائه، وأحاط في مطاويه وأحنائه، وطالما دعا إلى تقويم أوده، وسعى لعلاج أدوائه، وكان من تمهيده الخفي لهذا الاتفاق الإسلامي الجلي ما تراه في الرسالة الثالثة من رسائل كتاب (الهدية السنية، والتحفة الوهابية النجدية) من رأي علماء الوهابية الأعلام في الزيدية والشيعة، وما علقته عليه وهو ما قاله العلامة الشيخ عبد الله ابن الإمام المجدد الشيخ محمد عبد الوهاب في مكة المكرمة مبينًا لأهلها خطتهم ورأيهم في المذاهب وهو: (ونحن أيضًا في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكر على من قلد أحد الأئمة الأربعة دو

كلمة خالصة لوجه الله

الكاتب: محمود أبو رية

_ كلمة خالصة لوجه الله نشرها في المقطم الأستاذ العالم الإصلاحي المستقل، والكاتب العصري المستدل السيد الشيخ محمود أبو رية كنت أتمنى من زمان بعيد أن أظفر بتفسير المنار، ظلت هذه الأمنية تعتلج في نفسي حتى قيض الله لي في هذه الأيام أن أحصل على أجزائه التي صدرت منه، وما إن قرأت بعض هذه الأجزاء حتى ألفيتني تلقاء شيء لا عهد لي به من قبل في كل ما قرأته من التفاسير، واستبان لي أن هذا التفسير نسيج وحده فريد في موضوعه. لقد قرأت كثيرًا من التفاسير التي وُضعت لكتاب الله، ووقفت على طريقة كل مفسر ممن قرأت، وعلى أنهم رضي الله عنهم قد أتوا بما استطاعوا أن يأتوا به مما تَأَتَّوْا إليه بعلومهم وأزمانهم وأمكنتهم؛ فإنهم لم يصلوا في كثير مما فسروا إلى حقيقة دين الله، وإظهار أحكامه وشرائعه كما أوصى الله بها، وإنك لتراهم في سيرهم، كأنهم مقيدون بسلاسل من أقوال غيرهم، فلا يفسرون كتاب الله بما ينبعث من نوره، وما يُستنبط من آياته، وبما تبينه سنة الله في عباده؛ ولكنهم يشحنون تفاسيرهم بقبائل مختلفة من آراء من سبقهم من غير أن يمحصوا هذه الآراء ليعرفوا صحيحها من باطلها، أو يحملوا أنفسهم على نصب البحث ليزنوا مقدار من قالها، وظل كتاب الله - كما قال حكيم الإسلام السيد جمال الدين - بكرًا لم يُفسَّر. أما تفسير المنار الذي أخرجه في هذا العصر حجة الإسلام الإمام الثقة الحافظ السيد محمد رشيد رضا ليكون هداية المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها فإنه يمتاز عن كل التفاسير التي سبقته بمزايا جليلة لو ذهبنا لنستقصيها لطال بنا سبيل القول، ولاحتاج ذلك إلى مقالات مستفاضة، ذلك بأن هذه المزايا متعددة المناحي، كثيرة النواحي، وبحسبنا اليوم أن نقول في صراحة وإخلاص بغير أن يتوهم أحد أن نجنح إلى المغالاة: إن هذا التفسير خير ما وضع لبيان مقاصد كتاب الله، وشرح أحكام دينه في عقائده وعباداته وفضائله وآدابه وحلاله وحرامه كما أراد الله أن تكون، لا كما أراد الناس بآرائهم وأهوائهم، وإنه فيض إلهي أفاضه الله على قلب وارث النبوة السيد محمد رشيد، فخرَّج آيات تكشف عن نور القرآن الكريم؛ ليبدو في هذا العصر كما بدا في زمن البعثة النبوية والصدر الأول زاهرًا باهرًا. وإني يخيل لي وأنا أتلو هذا التفسير الجامع كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يملي على مفسرنا الإمام معاني آيات الكتاب العزيز، ويبين للمسلمين أصول العقائد الإسلامية والمقاصد الدينية، كما أراد أن يبلغها عن ربه بريئة من شوائب الشرك، وغواشي الوثنية. ومما راعني في هذا التفسير ما آنسته متجليًا في كل مسألة من العلم الغَزِيرِ بالمعقول والمنقول، والإحاطة الشاملة بالسنة المحمدية، والتمييز بين صحيحها وضعيفها، وما ثبت منها وما لم يثبت، وسعة الإدراك للعلوم الشرعية، والاطلاع على العلوم الاجتماعية والنفسية، ومناقشة الرواة والعلماء ورجال الجرح والتعديل في بعض رواياتهم وآرائهم وأحكامهم، حتى يتبين الصالح منها والصحيح، دع ما أوتيه إمامنا من بلاغة العبارة، ودقة الذوق البياني الذي ينفذ إلى أسرار الإعجاز؛ فيجليها في أحسن معرض. أما المسائل العويصة، والأمور المستغلقة التي اختلف فيها المفسرون، فلم يكشفوا عن وجه الصواب منها، ولم يهتدوا إلى مقطع الحق فيها، فإنك تجد مفسرنا الإمام بعد أن يسوق كل ما قيل فيها من أقوال من سبقوه يتولاهم بالعلم والحكمة، ويريغها [1] بنور البصيرة، وثاقب الذهن، ولا يزال بها حتى يخرجها نيرة كفلق الصبح. ويأبى عليه إنصافه وعلمه إلا أن يتقبل من آراء غيره ما يجد فيه الصواب، ولا يدع من أصاب في رأيه من غير أن يزجي له الثناء والحمد. وأما الآراء الفاسدة والتأويلات الباطلة فلا يني في دفعها والقضاء عليها، وله حملات شديدة على الخرافيين، وعُبَّاد القبور فيضربهم بالحجج البالغة، ويخزهم بسنان الحق وخزات موجعة، وذلك لكي يطهر العقيدة الإسلامية الصحيحة مما أصابها من نزغات الشرك، وينفي عنها هذا الخبث الذي نالها من المتنطعين الذين يحسبهم الناس من رجال الدين، وما هم منه في شيء. وتراه لقوة حجته، ومتانة أدلته، ومبالغته في التحقيق والتمحيص لا يدع لأحد مهما رسخت قدمه في العلم أن يتصفح [2] عليه، أو ينقض مما قاله كلمة، أو رأيًا. لقد كنا نرجو أن ينهض علماء عصرنا إلى كتاب الله العزيز؛ فيدرسوه ويتدبروا آياته؛ لكي يثبتوا لأهل هذا العصر أن كتابهم صالح لكل زمان ومكان، هادٍ لكل رقي وعمران، على أن يكون عملهم هذا بعيدًا عن (مباحث الإعراب وقواعد النحو، ونكات المعاني ومصطلحات البيان، وجدل المتكلمين، وتخريجات الأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق والمذاهب، وكثرة الروايات، مجانبًا ما سرى إلى أكثر التفاسير من زنادقة اليهود والفرس، ومسلمة أهل الكتاب) . كما نرجو منهم ذلك؛ ولكننا رأيناهم قد أخلدوا إلى مهاد الدعة، واكتفوا بأن يقلدوا في دينهم مَن سبقهم من شيوخهم، أما هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليكون هدى للناس ورحمة، فلا بأس من أن يحبس للتبرك به، وأن يتلى في الطرق وعلى الموتى وفي الراديو، ثم لا ضير من أن نعيش مع الناس بأجسامنا في هذا العصر، وندع عقولنا تحيا مع أهل القرون المظلمة. وكان في النفس حسرة، وفي القلب لوعة من هذه الحال التي وصل إليها المسلمون في هذا العصر المتحرك العامل؛ ولكن الله سبحانه الذي وعد بحفظ (الذكر) الذي أنزله - وحفظه بالعمل به، ولا يأتي العمل به إلا بتبيينه، ولا يبينه إلا وارث للنبوة - قيض له في هذا العصر الإمام الكبير الحافظ السيد محمد رشيد رضا، ذلك الذي ورث علم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، فأنشأ يفسره على طريقته القويمة التي لا يفسر الكتاب العزيز بغيرها، والتي ما جاء الدين الإسلامي إلا بها، ولا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا عليها، تلك هي فهم الكتاب العزيز من حيث هو (دين يرشد الناس إلى ما فيه سعادتهم في حياتهم الدنيا والآخرة) . وإذا كانت الأصول الدينية قد جاء بها الكتاب وبينتها السنة الصحيحة؛ فإن تفسير المنار الذي هو منار التفاسير قد أوفى على الغاية من بيان ذلك، ولا غرو فهو التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، الذي بين حكمة التشريع، وسنن الله في الاجتماع البشري، وكون القرآن هداية عامة للبشر في كل زمان ومكان، وحجة الله وآيته المعجزة) . فتفسير هذه صفته وذلك أمره، يجب على كل مسلم يريد أن يعرف دين الله، دين السلف الصالح، دين الفرقة الناجية أن يعكف عليه ويتدبره؛ ليصبح من الناجين. هذه كلمة خالصة أملاها عليّ وجداني، وأنا أستمتع بكنوز هذا التفسير، أرسلها صادقة إلى جميع إخواني المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وآمل منهم أن يضرعوا إلى الله معي أن يطيل في حياة هذا الإمام حتى يتم رسالته بإتمام تفسير كتاب الله، وأن يزيده من فضله، ويبقيه ذخرًا للإسلام والمسلمين ... ... ... ... ... ... ... ... ... (محمود أبو رية) (المنار) نشكر للأستاذ كاتب هذا التقريظ إخلاصه في ثنائه وإطرائه، وحسن بيانه لما اعتقده وفاض من وجدانه، فقد صدر المقطم الذي نشر له في مساء الحادي عشر من ربيع الأول، فقرأه في الليل جماعة من العلماء والأدباء الأزهريين وغيرهم كانوا يسمرون عندنا بدار المنار في ليلة ذكرى المولد النبوي الشريف؛ فاتفقوا على أنه كلام عالم معتقد مخلص كتبه لوجه الله تعالى كما قال، فأما ما قاله في غرضي وقصدي من هذا التفسير وطريقتي فيه فهو كما قال، ولله الفضل والشكر، وأما ما أطراني به من سعة العلم والحفظ فهو مبالغة منحني بها ما هو أكثر مما عندي؛ فإن حفظي قليل ولا أقبل من كلام العلماء إلا ما أعتقد، وإنما بضاعتي التي أرجو نفعها للناس وقبولها عند الله عز وجل فهي الإخلاص في تحري الحق الذي أنزل الله به وله القرآن، وبيانه بما يفهمه أصناف القراء، ويرجى أنه يؤثر في قلوبهم بقدر استعدادهم وحسن الإمكان وحال الزمان، ولا أزال طالبًا للعلم، آسفًا لضيق الوقت عن تحصيل كل ما أحب من الاستزادة منه.

كشف بقية شبهات العالم النجدي في كلمات من كتاب الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كشف بقية شبهات العَالِم النجدي في كلمات من كتاب الوحي المحمدي (2) انتقاده قولنا: إن حرب النبي صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا والجواب عنه قال: إن (معنى ذلك أن حرب الكفار وقتال المسلمين إياهم لا يجوز، إلا إذا قاتلونا، والكلام عليه من وجوه) وذكر سبعة وجوه. أقول: إن هذا المعنى الذي فسر به المسألة غير صحيح، لا يدل عليه قولنا باللفظ ولا بالفحوى، بل فيه ما يبطله، فقولنا: إن قتال النبي صلى الله عليه وسلم للكفار كان دفاعًا وكانوا هم المعتدين فيه، قضية شخصية في واقعة حال فعلية، لا تدل على القضية السالبة الكلية التي استنبطها منها، وكان له أن يأخذها من النهي في الآية فحسب؛ ولكنه جمع بين الأمرين، وإنني أقول كلمة وجيزة في كل وجه من الوجوه السبعة التي سردها أبطله بها، ثم أقول كلمة في أصل المسألة: (الوجه الأول) : قوله: (إن قتال المسلمين للكفار الذين لم يقاتلوهم لا يكون اعتداء؛ لأنه لا يكون إلا بحق) لما علله به. ولو صح لا يكون ناقضًا أو معارضًا لكون حرب النبي صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا؛ لأن الكفار كانوا هم المعتدين البادئين بها كلها كما هو ثابت بالواقع ولقوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13) ولكنه غير صحيح؛ فإن المسلمين غير معصومين في جميع حروبهم من اتباع الهوى، ولا يكون مقاتلاً في سبيل الله إلا من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، واتبع أحكامه تعالى فيها، ومنها أن لا يكون ناقضًا لعهد مع الكفار كما هو معلوم بالإجماع. وتفسيره الاعتداء بما فسره به مخالف لما جرى عليه المفسرون، فقد فسروا النهي عن الاعتداء بعدم بدئهم بالقتال، اقتصر عليه بعضهم كالجلال وزاد عليه بعضهم كالبيضاوي احتمال كونه نهيًا عن قتال المعاهدين، وهو بمعناه أي نهي عن بدئهم بالقتال، لا بمعنى ما فسره به المعترض من زعمه أن قتال المسلمين لا يكون اعتداء؛ لأنه يقصد به إنقاذهم من نار الجحيم، والمعاهدون منهم. وهذا التعليل يشبه ما تأول به السير (إدوارد غراي) الوزير البريطاني ما كانت قررته دولته وأحلافها في أول الحرب العالمية من وجوب حرية جميع الشعوب، ومنع ضم الدول الغالبة لشيء منها إلى أملاكها، فلما كان الفوز لهؤلاء الحلفاء، قال الوزير البريطاني: إنما يمتنع ضم الشعوب الضعيفة إلى الدولة الظافرة، إذا كان يقصد به الظلم والكبرياء، وأما إذا كان يقصد به فائدتها والإحسان إليها بالعدل والحضارة فهو جائز، وربما قال: إنه واجب. يريد أن دولته تستولي على البلاد لخير أهلها، لا لمنفعة نفسها. (الوجه الثاني) : قوله: (غاية ما تدل عليه هذه الآية الأمر بقتال من قاتلنا منطوقًا، والكف عمن لم يقاتل مفهومًا، والمفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء ... إلخ) ، وهو ممنوع، بل باطل، والحق أن الآية تدل على قتال من قاتلنا، وعدم قتال من لا يقاتلنا بالمنطوق في كل منهما من أول وهلة، فقوله: غاية ما تدل عليه كذا خطأ، وتعبيره بالكف في الثاني خطأ ثانٍ؛ فإن الكف إنما يعبر به عما كان بعد الشروع في الشيء، وقوله بأن الدلالة على الكف بمفهوم المخالفة خطأ ثالث، وقوله بأن هذا المفهوم معارض للمنطوق الصريح خطأ رابع، وقوله المفهوم ليس بحجة عند أكثر العلماء، إذا لم يُخَالَف غير صحيح على إطلاقه؛ وإنما فيه تفصيل لا محل لذكره هنا. (الوجه الثالث) : قوله: إن آية كذا وكذا، وحديث كذا وما في معناه: (كل ذلك عام شامل لمن قاتل، ومن لم يقاتل) غير صحيح على إطلاقه، ولو صح لما كان واردًا علينا، أما الأول فلأنه لو كان صحيحًا على إطلاقه لكان شاملاً لقتال المعاهدين، وهو باطل بالإجماع، وأما الثاني فلأن عموم ما ذكر لا يدل على أن شيئًا من حرب النبي صلى الله عليه وسلم كان ابتداءً، لا دفاعًا. ونزيد ذلك تفصيلاً بأدنى ما يحتمله بحث كهذا البحث هنا، فنقول: إن قوله تعالى: {وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} (البقرة: 193) نزل بعد قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} (البقرة: 190) ... إلخ، فهو لبيان غاية القتال لا لبدئه، ومعناه: وقاتلوهم إلى أن يزول هذا النوع من اعتدائهم الموجب الأول لقتالهم وهو فتنة الناس عن دينهم بصدهم عن الإسلام، وإيذاء من يدخل فيه بضروب الإيذاء، وقد بينا هذا في تفسير الآية من سورة البقرة، ثم في تفسير أختها من سورة الأنفال (ص 556 ج 9 تفسير) وأما قوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} (التوبة: 29) فهو آية الجزية التي نزلت في بيان انتهاء قتال الموصوفين فيها من أهل الكتاب بإعطاء الجزية لا في بدء القتال وعمومه؛ فإن القتال كان مشروعًا قبل نزولها، وقد بينا ذلك بالتفصيل في تفسيرها من الجزء العاشر (ص280) وكذلك حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) فهو في بيان انتهاء قتال المشركين إذا نطقوا بهذه الكلمة التي هي عنوان ترك الشرك، وقبول الإسلام، لا في بيان شرعية قتال كل أحد حتى يقولها؛ فإن اليهود كانوا يقولونها. على أننا إن فهمنا كل ما ذكر كما فهمه لا نراه ناقضًا لقولنا: إن حرب النبي صلى الله عليه وسلم كانت دفاعًا، فهذا بيان للواقع، وذاك بحث في أصل التشريع ولا تنافي بينهما، هذا لون، وهذا لون، كما يقول ابن القيم في تعبيره عن الفروق. (الوجه الرابع) : قوله: إن وصف القتال والجهاد المشروع في الكتاب والحديث بأنه ما كان في سبيل الله، لا يفهم منه الدفاع فحسب، وهذا لا محل له في بحثنا؛ وإنما هو تلذذ أو إدلال بتكثير الوجوه، ذلك بأن موضوعه القصد والنية، وحاصله أن القتال والجهاد لا يكون قربة إلا بالنية المذكورة في الحديث، وأن ما كان بنية إظهار الشجاعة والحمية ومراءاة الناس فليس منه في شيء، فهو في وجوب الإخلاص في الجهاد ككل عبادة لله تعالى، لا في عموم قتال الناس، وقد ورد في حديث الثلاثة الذين يكونون أول من تسعر بهم النار يوم القيامة: الشهيد، والمتصدق والقارئ، ما هو نص في قولنا، وهو في صحيح مسلم؛ ولكن هذه الأحاديث حجة على المعترض في قوله الأسبق: إن قتال المسلمين لغيرهم لا يمكن، أن يكون اعتداء؛ لأنه كله لأجل هدايتهم وإنقاذهم من النار. (الوجه الخامس) : لا يستحق أن يُبْحَث فيه بعد العلم بما تقدم وبما يأتي. (الوجه السادس) : ونصه دعوى باطلة بالبداهة، وهي أن قد عُلم بالاضطرار عند المسلمين وغيرهم (أنه لم يثبت أن كل من قاتلهم النبي والخلفاء الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين قاتلوا قبل أن يقاتلوا، وأن مقام المسلمين معهم كان مقام دفاع عن النفس) وهذا خطأ من وجوه كالتعبير بالعلم الاضطراري في موضوع سلبي، وجعله عامًّا للمسلمين وغيرهم، فمتى كانت هذه القضية السليبة من القضايا الاضطرارية عند المسلين وغيرهم؟ إن هذا إلا غفلة عن معنى الاضطرار. ندع الخطأ في التعبير، ونحصر الكلام في الموضوع فنقول: إنه قد أدخل فيه ما ليس منه، وهو حرب الخلفاء الثلاثة وغيرهم، وإنه لم يفهم مرادنا من حرب الدفاع، فظن أنها عبارة عن كون الكفار هم الذين يبتدئون القتال في كل معركة، وهذا مخالف للواقع في كل زمان ومكان من القرون الماضية إلى زماننا هذا، ورأيت كثيرًا من الناس حتى المشتغلين بعلم الفقه وقراءة السير غافلين عن الحقيقة في هذا الموضوع. إنما المعتدي المبتدئ بالقتال هو الفريق الذي أوجد حالة الحرب بالفعل أو بالقول، وإن لم يكن هو البادئ، بعد وجودها في كل هجوم، والمدافع هو المقابل له في الاعتداء والقتال، ولا يخلو من ابتداء بعض المعارك والإغارات ففرنسة وأحلافها يقولون: إن ألمانية كانت هي البادئة المعتدية في الحرب الدولية الأخيرة، وإنهم كانوا هم المدافعين، ولم يقولوا هم ولا غيرهم إنها كانت هي البادئة في كل معركة وكل تعدٍ. ومن المعلوم بنصوص القرآن القطعية وبالإجماع أن المشركين كانوا هم المعتدين على المؤمنين بالقتل وغيره مما تقتضيه حالة الحرب التي أوجدوها، وأن هذه الحالة قد استمرت إلى أواخر سنة ست من الهجرة؛ إذ عقدت معاهدة صلح الحديبية، وتساهل النبي صلى الله عليه وسلم فيها معهم حرصًا على إبطال الحرب وتقرير حرية الدين، ومنع فتنة المشركين للمؤمنين، ثم إن المشركين نقضوا هذه المعاهدة، فعادت حالة الحرب بطبيعتها؛ إذ لا تُبْطَل إلا بمعاهدة ملتزمة، فكان هذا سبب فتح النبي صلى الله عليه وسلم لمكة وما وليها من حرب الطائف وحنين، فلا فرق بين هذه الحرب التي بدأ بها النبي والمؤمنون بالزحف، وبين غزوة بدر وأحد والأحزاب التي بدأ بها المشركون. وأول الشواهد على هذا من نصوص القرآن قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (الحج: 39) إلى قوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} (الحج: 40) ... إلخ، وأوسطها قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ} (الممتحنة: 8) إلى آخر الآيتين. وآخرها قوله عز وجل: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13) . أفتغفلون أيها الفقهاء والمؤرخون عن القرآن، وعن حقيقة الواقع بالفعل، وتأتون بقضايا مخترعة تدعون أنها معلومة بالاضطرار عند المسلمين، وعند جميع الناس؟ (الوجه السابع) : ما ذكره في سنته صلى الله عليه وسلم في السرايا والجيوش، ولم تبق حاجة إلى الكلام في أنه ليس من محل النزاع، فإنه كان يبعثهم لقتال أولئك المعتدين المشركين ويعلمهم أحكام القتال وآدابه من النهي عن الغلول والغدر والتمثيل وقتل الأولاد، والأمر بدعوتهم أولاً إلى الإسلام، وما يتبعه من الهجرة فإلى الجزية، وكذلك ما ذكره بعد هذا من الإشارة إلى الآيات ليس من موضوع النزاع، وفيه أخطاء لا حاجة إلى بسطها والرد عليها. وجملة القول: إن كل ما أورده في الرد على قولنا لا يَرَد علينا منه شيء، فجميع قتال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين وأهل الكتاب كان دفاعًا لا ابتداءً حتى غزوة تبوك، وأما حكم الجهاد في نفسه، ومتى يكون واجبًا عينيًّا، ومتى يكون واجبًا كفائيًّا، فقد بينته في تفسير سورة التوبة بالتفصيل، وبينت علله وأسبابه، وأهمها بعد كف اعتداء المعتدين، ومنع الفتنة والاضطهاد في الدين، وجعله حرًّا خالصًا لله رب العالمين، حماية الدعوة إلى الإسلام. ومن كان عارفًا بتاريخ الأمم والأقوام يعلم أن العرف العام بينها كان كعرف العرب، وهو أن كل قومين ليس بينهما عهد فهما في حال حرب؛ وإنما تقع الحرب بالفعل عند توفر أسبابها، ولا يزال كذلك إلى يومنا هذا؛ فإن دول الإفرنج يستبيحون الاعتداء على كل شعب أو حكومة ليس بينهم وبينها عهد، ويفعلونه عند الحاجة إلى أن يمنعهم منه العجز أو التنازع فيما بينهم. * * * (3) انتقاده إعفاء المرأة حق اشتراط عصمتها والجواب عنه إنني أشرت في عبارة الطبعة الثانية من كتاب الوحي إلى دليل من قال بهذه المسألة، وهذه عبارتي فيها (من ص 268) : بل تجيز؛ أي: الشريعة للمرأة أن تشترط في عقد نكاحها جعل عصمتها بيدها لتطلق نفسها إذا شاءت بناءً على ما ذهب إليه بعض أئمة الفقه من صح

تفنيد اعتراض كاتب جزويتي في مجلة المشرق على كتاب الوحي المحمدي ـ 2

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفنيد اعتراض كاتب جزويتي في مجلة المشرق على كتاب الوحي المحمدي (تابع ما قبله) (2) - 4 - صد الكنيسة أو الكنائس عن الإسلام ألمَّ الكاتب بما بيناه في مقدمة الكتاب من الحجب الثلاثة التي حجبت حقيقة الإسلام عن أوربة إلمامًا وجيزًا، وأجاب عن صد الكنيسة عنه وبغيه عوجًا بأنه يترفع عن إعادته، وأن آداب المناظرة تحول بينه وبين (الرمي بقذائف الكلام) . ونرد عليه بأننا نحن لم نقذف الكنيسة أو الكنائس في ذلك بتهمة من عند أنفسنا، ولا نقلنا شيئًا من أقوالها وأعمالها عن أحد من علمائنا، وإنما أشرنا إشارة وجيزة إلى بعض ما دونه بعض علماء الإفرنج في ذلك، ولا سيما أحرار الفرنسيس، وأهل النصفة النسبية منهم كالكونت دي كاستري صاحب كتاب (الإسلام: خواطر وسوانح) وغيره من الكتب الكثيرة التي توجد كلها أو جلها في خزانة كتب الكلية اليسوعية، فمن الميسور لحضرة الكاتب الأديب أن يظل معتصمًا بما ادعاه من الترفع وآداب المناظرة، ويكتفي من الدفاع عن الكنيسة بأن يقول: إن كل ما أسنده إليها أولئك الكتاب الفرنسيون الكاثوليكيو النشأة والتربية، وآخرهم موسيو درمنغام الفرنسي الكاثوليكي صاحب كتاب (حياة محمد) أكاذيب مفتراة على أولئك الذين أسندوه إليهم من رجال الكنيسة وغيرهم. ثم نقل كلمتي (الحق أن الإسلام هو صديق المسيحية المتمم لهدايتها ….) ووصفها بالبساطة الصبيانية، ولو قلت: إن الإسلام صديق الكنيسة لكنت حقيقًا بهذه البساطة؛ ولكن المسيحية في عقيدتي التي هي عقيدة الإسلام الثابتة بالبرهان هي غير الكنيسة المسيحية هداية توحيد وفضائل متممة لهداية التوراة الإسرائيلية وفاقًا لما ينقلونه عن المسيح عليه السلام أنه قال: ما جئت لأنقض الناموس؛ وإنما جئت لأتمم. والكنيسة نقضت الناموس من أول أساس له وهو التوحيد المجرد، وإبطال اتخاذ التماثيل والصور إلى سائر ما فيها من العبادات والطقوس والتشريع المدني. والإسلام هداية متممة للمسيحية؛ لأنه لم يوجد بعد المسيح عليه السلام من يصدق عليه قوله: (يعلمك كل شيء) أي: مما لا يستطيع أن يقوله لهم غير نبيه وهو الفارقليط روح الحق كما بيناه في كتاب الوحي وغيره. ومما نقصده بقولنا: إن الإسلام متمم ومكمل للمسيحية - الحق التقريب والتأليف بين الطوائف في بلادنا، وهو خلاف سياسة الكنيسة، بل طالما تمنينا لو نتعاون مع رجال الكنيسة على محاربة كفر التعطيل المادي أيضًا، ووجد من أصدقائنا من عرض هذا الرأي على الفاتيكان، وبلغنا أنه قُبِل وسيظهر له أثره، ولكن خاب الأمل. - 5 - عدوان السياسة الاستعمارية على الإسلام قال الكاتب: إنني نسبت إلى رجال السياسة الأوربية (صفات مستقبحة) ، وسألني ماذا أقول (لمن يصف رجالات الفتوح الإسلامية العظام كخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص وغيرهم) وصفي لرجال الاستعمار المحدثين؟ وأجيبه عن هذا السؤال: إنه لا يستطيع مؤرخ صادق منصف أن يقول الحق في رجالات الإسلام إلا ويكون أكبر حجة لنا، فإن قال الباطل وافترى فإننا نرد عليه بأقوال كتاب أحرار الإفرنج من المؤرخين المنصفين كغوستاف لوبون الفرنسي في كتابه (حضارة العرب) وغيره وحسبنا قوله (ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب) ، وكذا الأستاذ سيديو الفرنسي في كتابه خلاصة تاريخ العرب. ومثلهما الأستاذ المؤرخ الكبير جيون الإنكليزي فإنه أطنب في فضائل العرب في فتوحهم وحضارتهم وإحيائهم للعلوم، والدكتور ألفرد. ج. بتلر الإنكليزي صاحب كتاب (فتح العرب لمصر) ؛ فإنه على تحمسه في نصرانيته وشدة امتعاضه من حكاية انتصار الإسلام على النصرانية، وفتح العرب به لبلادها قد شهد بأن سبب هذا النجاح والفلاح للعرب هو إقامة العدل واتباع الحق، وشهد لعمرو بن العاص بالقدح المعلى في هذا حتى فضله في بعض المواضع على مثال العدل المطلق في التاريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أن عمرًا لم يكن في الذروة العليا من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، بل كان من محبي الدنيا والملك فيهم. وههنا نقول: إن ما كان من بعض فاتحي العرب من بعض الهفوات التي لا يسلم منها البشر لم تكن بتعاليم الإسلام، ولا من خطة الخلفاء؛ وإنما كانت هفوات شخصية، وأما خطة المستعمرين فهي سلب أموال البلاد، واستذلال العباد، وإفساد الأخلاق، ومنع الحرية الدينية والاجتماعية والكتابة والخطابة، وإطلاق حرية الفسق والفجور وحدها، وما عسى أن يوجد في بعض رجالهم في المستعمرات من شجنة رحمة أو مسكة عفة؛ فإنما هو شخصي، ولا يجهل الكاتب ولا غيره ما يجري في إفريقية الشمالية في هذه الأيام. -6- تأويله لعبارة تاريخية في هضم أوربة للنساء ذكر الكاتب الحجاب الثالث على الإسلام في مقدمة الوحي، وهو فساد الحكومات والشعوب الإسلامية، واستحواذ الجهل عليها، وأنكر علينا قولنا: إن سبب ذلك جهل هداية القرآن. وأشار إلى ما شرحناه في الكتاب من مقاصد القرآن العشر في الإصلاح لأركان الدين الثلاث التي حرفها أهل الكتاب، وبيان حقيقة النبوة التي جهلوها، وسائر أنواع الإصلاح السياسي والدولي والمالي والحربي والنسائي، والفرق بين عجائب المسيح ومحمد عليهما السلام، وقال: (إن البعض من أقواله لا يثبت لنقد) ولكنه اقتصر على نقد كلمة واحدة عرضية نقلناها من كتابنا (نداء للجنس اللطيف) وهي أن مجمعًا مسيحيًّا وضع موضع الشك: هل للنساء نفوس بشرية أم لا؟ ورد عليه بأن هذا الشك إنما هو مشكل لغوي حاصله أن كلمة إنسان باللاتينية (Homo) تطلق على الرجل والمرأة معًا أم لا؟ إنني أشكر له قوله: إن بعض كلامي لا يثبت على النقد، فهو حق مجمل بين أباطيل مفصلة، لا ينكره إلا من يدعي لنفسه العصمة؛ لأن بعض الشيء يصدق بواحد منه، وأي إنسان لا يمكن انتقاد بعض كلامه ولو مسألة واحدة؟ ثم أحمد الله أنه نظر في أصول كلامي في النساء الذي فضلت به تعاليم الإسلام على جميع ما نقل عن الأنبياء والحكماء والساسة والأدباء في إنصاف النساء، وإعطائهن حقوقهن الدينية والزوجية والاجتماعية والسياسية والمالية ... إلخ، فلم يجد فيه إلا كلمة واحدة مما نقلناه من الشواهد التاريخية، وهو هضم المجمع لحقوق النساء، وإلا ما سماه متناقضًا في مسألة أخرى وهو: -7- زعمه أن ما وصفت به الإسلام من الحرية والإخاء متناقض قال: إنه لا حاجة به إلى تبيان ما في مقاصد الشيخ رضا من التناقض في قوله: إن الإسلام هو دين الحرية والتآخي، وأنه يضمن للناس أجمعين حقوقهم، وقوله بعد ذلك: إن الإصلاح الاجتماعي والسياسي لا يتم إلا بوحدة الأمة والجنس والدين والتشريع، والأخوة الروحية، والمساواة في التبعة، والجنسية السياسية، والقضاء واللغة (قال) (أي بأن يصبح العالم كله مسلمًا عربيًّا، فتصور) ! أقول: من قرأ هذا البحث الطويل الذي أشار إليه المنتقد في كتاب (الوحي المحمدي) وكان يعرف علم المنطق، وما اشترط فيه لصحة التناقض بين القضيتين من تحقق الوحدات الثمان، لم ير فيه ما رآه كاتب المشرق، الذي يجهل أو يتجاهل المنطق، وأكتفي في رد قوله بمثل الإشارة الوجيزة التي اكتفى هو بها، بدون أن أنقل شيئًا من نصوص الكتاب غير ما قاله هو فأقول: قلت: إن الإسلام دين الحرية بمعنى أنه منع الإكراه على الدين بنص كتابه العزيز، حتى إن فقهاءنا صرحوا بأن إسلام المكره لا يصح، ولا يعتد به، ولا تزال بعض دول النصرانية تُكْرِه الناس على دينها، وتغتصب أموال أوقاف المسلمين فتنفقها في سبيل تنصيرهم، وأهل شمال أفريقية قد ملؤوا الدنيا صياحًا من هذا الإكراه - في هذه السنين - المستمر إلى هذا اليوم. وقلت: إن الإسلام دين التآخي بمعنى أنه يرشد الناس إليه، لا أنه يُكْرِهُهم عليه، فإذا كان لا يُكْرِه الناس على الأصل، فلا يعقل أن يُكْرِهَهم على الفرع. وقد ثبت في القرآن ما يسمى بالأخوة القومية في تسميته الأنبياء عليهم السلام إخوة لأقوامهم المشركين، كما ثبت فيه ما هو أرقى منها، وهو الأخوة الدينية، وهذا شيء طبيعي؛ فإن الاتحاد في الاعتقاد الذي تناط به سعادة الدارين أقوى من كل اتحاد، فأخوته أكمل من كل أخوة. وقلت: إنه الإسلام يعطي كل ذي حق حقه، وأعني به الحق الذي قرره وأثبته له في محيطه الخاص به، لا ما يدعي كل أحد من الحق لنفسه، فهو في القضاء والشهادة يساوي بين الخاضعين لشريعته في أحكامها، لا يميز بين مؤمن وكافر، ولا بر وفاجر، ولا قوي وضعيف، ولا ملك وسوقة، ولا غني وفقير، ولا قريب وبعيد، ولا محب وبغيض، وفيه من وراء ذلك حقوق لأولي القربى والأرحام، وحقوق للأصدقاء والجيران، وحقوق لأخوة الإسلام، وحقوق للإنسانية العامة، ولا تعارض فيه ولا تناقض بين هذه الأنواع. مثال ذلك أن الصدقة بالعامة في الإسلام مشروعة لكل هذه الأنواع، فتجب على المسلم لغير المسلم المضطر غير الحربي، وتُسْتَحب للمحتاج غير المضطر أيضًا، وللمسلم منها نوع خاص وهو الذي عينه القرآن للأصناف الثمانية من نصاب الزكاة، وللأقربين نوع خاص كالنفقة الواجبة للمحتاجين من أصول الإنسان وفروعه، ولغيرهم كالإخوة والأخوات عند السعة، وتقديمهم على الغرباء، فهل يعد هذا من التناقض؟ ؟ وأما معنى قولنا: إن الإصلاح الإنساني الكامل لا يتم إلا بالوحدات الكثيرة، فهذه قضية معقولة في نفسها، سواء قررها الإسلام أم لم يقررها،، حتى لو لم يكن في العالم أمة عربية ولا شريعة إسلامية؛ ولكن الثابت في الواقع أن هذا الكمال الإنساني لم يبين إلا في الإسلام، وصحة الإسلام لا تتوقف على اتفاق البشر عليه، فالبشر لا يتفقون على شيء، والكمال هو الغاية في الدعوة فلا تناقض! ! (للرد بقية موضوعها طعنه في إعجاز القرآن) ((يتبع بمقال تالٍ))

جوامع كلم في شؤون الدول والأمم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جوامع كلم في شؤون الدول والأمم أعقد مشكلات هذا العصر مشكلة وطن اليهود القومي في فلسطين، وسياسة الإنكليز في إيجاد شعب قوي غني في قلب البلاد العربية مُعَادٍ للشعب العربي؛ فتُخْضِع كلاًّ منهما بالآخر؛ ولكنها عاجزة عن حفظ الموازنة بينهما، فاليهود أقوى منها اليوم، وسيكون العرب أقوى منهم غدًا بكثرتهم، وعصبيتهم، والجمع بين الضب والنون محال.

وفد الصلح والسلام

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ وفد الصلح والسلام إننا وقد وَفَّيْنَا حادث الحرب والسلم في جزيرة العرب حقه، وبيَّنا ما لنا فيه من موعظة وعبرة، وشكرنا لكل من الإمامين عبد العزيز ويحيى فضله، فلا يفوتنا أن نختم حديثه بشكر وفد السلام، وجهاده في سبيل الله بخدمة العرب والإسلام، فهو الذي انْتُدِب لهذه الخدمة بالفعل من غير دعوى ولا إعلان في الصحف، ولا تبجح بنشر المقالات وإلقاء الخطب، ولا دعوة إلى جمع المال كما فعل الذين يقولون ما لا يفعلون، ويُسِرُّون غير ما يعلنون، بل قال وفعل، وجاهد بماله ونفسه ولم يطلب مساعدة أحد. أول من دعا إلى هذا زعيم فلسطين الأكبر ومفتيها ورئيس مجلسها الإسلامي الأعلى، ومؤسس المؤتمر الإسلامي العام فيها: السيد محمد أمين الحسيني، دعا نفرًا من أشهر رجالات الأقطار العربية الإسلامية ذات الجوار والصلة بجزيرة العرب: سورية، والعراق، ومصر، فاستجاب له من سورية زعيمها السياسي الأكبر هاشم بك الأتاسي رئيس الكتلة الوطنية الممثلة لسورية كلها، واعتذر زعيم العراق الأكبر ياسين باشا الهاشمي بمرض عرض له. واستجاب له من مصر محمد علي باشا علوبة من وزرائها ونوابها السابقين، ووكيل المؤتمر الإسلامي العام، وهو الذي سبق جميع الزعماء المصريين إلى العناية بأمر المؤتمر الإسلامي، وسافر مع رئيسه إلى الأقطار الإسلامية لجمع الإعانات له، وعني بخدمة المسألة العربية العامة عناية خاصة. واستجاب له من أوربة أكبر كتاب الأمة العربية، وأمير البيان فيها، الداعي إلى وحدتها، المحامي عن حقيقتها، المدافع عن ملتها، ورئيس الوفد السوري الفلسطيني في جنيف مثابة سياسة الأمم كلها، الأمير شكيب أرسلان، ووافى إخوانه الثلاثة طائرًا من أوربة إلى مصر، على ما في طيرانه من زيادة النفقة في هذه العسرة المرهقة، وعلى ما قاساه من عنت الحكومة المصرية وإرهاقها إياه العسر السياسي، الذي هو أشد على الأحرار من العسر المالي، في مروره بأرضها من الإسكندرية إلى السويس، وقد رأيت هذا العنت بعيني، وذقت مرارته بنفسي، إذ سافرت من القاهرة إلى بنها للقائه والذهاب معه إلى السويس، فلم يأذن لنا الجلاوزة المسيطرون عليه من قبل حكومتنا المصرية - وهم من الإنكليز - بسلام ولا كلام، ثم كان المصريون منهم أشد من هؤلاء الإنكليز وطأة في القطار بعد القطار، ثم في السويس، ولم نر أحدًا فهم لهذا العنت معنى. ركبت أنا ومحمد علي باشا علوبة في قطار بورسعيد والسويس الذي يخرج من محطة مصر في نهاية الساعة السادسة مساء، وهو يلتقي في محطة بنها بالقطار الجائي من الإسكندرية إلى مصر، وهنالك نزل الأمير شكيب من قطار الإسكندرية وركب هو والجلاوزة المحافظون عليه في قطارنا، وأدخلوه في المخدع المجاور لنا، وأردت أن أسلم عليه وهو يعلم أنه ممنوع من السلام علي وعلى غيري فحالوا بيننا. ولما نزلنا في الإسماعيلية، ونزل فيها السيد أمين الحسيني وهاشم بك الأتاسي القادمين من فلسطين، وانتقلنا جميعًا إلى القطار الذي يحملنا إلى السويس فرَّق جلاوزة الأمن المصريون بين الأمير شكيب والجائين من فلسطين والجائين من مصر جميعًا، فلم يسمحوا لأحد منهم في المحطة ولا في القطار أن يكلم الفريق الآخر، ولا أن يسلم عليه، فكان هذا الحجر أبعد عن العقل والفهم والشرع والعرف والقوانين من كل ما سبقه، إلا ما يكون من الحجر الصحي في أوقات الأوبئة، والعسكري في وقت الحرب؛ وإنما يكون الأول لوقاية الأصحاء من المصابين بالوباء، والثاني لحماية الوطن وأهله من فتك الأعداء، وكلنا أصحاء أصدقاء ولله الحمد، جنسنا واحد، وديننا واحد وحكومتنا المصرية، موادة لحكومتي فلسطين وسورية، والدولتين المسيطرتين عليهما، ولأجلهما تحجر على الأمير شكيب وتُعَنِّته، ولا نعرف لنا وللآخرين ذنبًا. بيد أننا لما وصلنا إلى السويس نزلنا كلنا في فندق واحد، فارتفع الحَجْر عن كل منا إلا الأمير شكيب؛ فإن الحكومة أمرت بنقله إلى فندق آخر، حالت فيه بينه وبين كل أحد منا ومن غيرنا، إلا السيد محمد أمين الحسيني فقد أذنوا له أن يكلمه في مسألة السفر بأول باخرة أو بطيارة، ولما اجتمعا اتفقا على الإلحاح علي بالسفر مع الوفد، فأدليت بما لدي من الموانع المالية وغيرها فقبلوا عذري، وكاشفتهم بما عندي من رأي ورواية في موضوع الحرب والصلح، وحملتهم كتبًا إلى جلالة ملك العرب السعودي وبعض رجال بطانته أظهرت فيه ما بيني وبينهم من التكافل والثقة بهم، وعذري في التخلف عنهم، وكان في 27 ذي الحجة سنة 1352. سافروا باسم الله إلى الحجاز فكان لهم عند جلالة الملك ما يليق بمكانتهم الشخصية والقومية، وبسفارة وفدهم الإسلامية العربية، من حسن الضيافة وكرم الوفادة، وقلما اجتمع في مجلسه وفد كوفدهم في سعة معارفهم، ودقة خبرتهم، وصفاء نيتهم، واتفاق رأيهم، وحسن بيانهم، فبسطوا له خلاصة ما يعلمونه من آراء العالم الإسلامي والشعور العربية في بلادهم وغيرها في مسألة الجزيرة العربية المقدسة، وما يخشونه من المطامع الأجنبية، وما وقفوا عليه في بيئاتهم الأربع من دسائسها ومطامعها، وطالت المحاورات والمسامرات بينه وبينهم فيها، فَسُرَّ بما وقف عليه من معارفهم، وحسن بيانهم وشدة غيرتهم، وأعجبوا بما وقفوا عليه من استقلال عقله، وبعد رأيه، وحسن نيته، وكمال صراحته، وحزمه وشجاعته، وعدم مبالاته بدسائس المفسدين، وسعاية المفسدين المحالين. وكان من توفيق الله أن نجحت المفاوضات البرقية بين جلالته وجلالة الإمام يحيى حميد الدين بما يوافق رأيهم، فقبل الثاني ما اقترحه الأول لإعلان الهدنة ووقف رحى الحرب، ووضع معاهدة الصلح، وتلاه إرسال مندوبه الزعيم الكبير، والسياسي النحرير، الأستاذ العلامة السيد عبد الله بن الوزير، مفوضًا من مقام الإمامة المتوكلية بذلك، فوجد الوفد الإسلامي من معارف سيادته، ودقة سياسته، وصفاء طويته، وصدق صراحته، ما كان موضع العجب والإعجاب، والثقة بما يرجون ويرجو العالم الإسلامي والعربي من الاتفاق والاتحاد. ولما وُضعت المعاهدة الإسلامية العربية العظيمة الشأن بالاتفاق السري العلني من الجانبين، التي كانت موضع إعجاب أهل الخافقين، وحضر أعضاء الوفد توقيعها في الحجاز، ودعوا جلالة الملك الإمام عبد العزيز، وسافروا مع مندوب جلالة الملك الإمام يحيى حميد الدين إلى صنعاء اليمن ليشهدوا توقيعها في صنعاء ثم يحضروا مبادئ تنفيذها، وقد اعتذر محمد علي علوبة باشا العضو المصري عن السفر مع إخوانه إلى اليمن لكثرة ما ينتظره من الشواغل في مصر، وقد تم الصلح ولله الحمد، وحَمَّلَهم كتابًا إلى جلالة الإمام يعتذر به عما كان يرجوه من الشرف بالمثول في حضرته. سافر الوفد من جدة إلى الحُدَيْدَة فاستقبلهما فيها صاحب السمو الملكي الأمير فيصل السعودي بالحفاوة والتكريم، وكان أبهج ما سرهم فيها ما رأوه من حسن التلاقي بين سموه وسيادة عبد الله بن الوزير، فقد كان كتلاقي أخوين شقيقين طال عليهما البعاد، فطفقا يُطْفِئان لوعته بالتقبيل والعناق، ثم ما رأوه من جيوش كل من الإمامين على الحدود من منطقة تهامة المحتلة من قبل الدولة السعودية، ومنطقة الجبال التي ترابط بها الجيوش المتوكلية، وكيف كان تلاقي جماعتهما تلاقي الإخوان، ثم ما هو أعلى من ذلك وهو لقاء جلالة الإمام الهمام، وحفاوته بضيوفه الكرام، وما سمعوه بآذانهم من ثنائه على أخيه الإمام الملك عبد العزيز كما كان هذا يثني عليه، ويشهد كل منهم للآخر بحسن النية، ثم ما شاهدوه في الحُدَيْدَة من تنفيذ المعاهدة بجلاء الجيوش السعودية عنها، وتبادل تسليم الرايات وتسلمها فيها بما عليه اتفقا من التكريم العظيم العسكري والود الأخوي. ثم سافروا من الحُدَيْدَة إلى مصوع وسافر منها إلى السويس السيد أمين الحسيني، وهاشم بك الأتاسي فوصلا إليها في السابع من هذا الشهر الميمون (ربيع الأول) واستقبلناهما فيها مع جماهير المستقبلين مهنئين داعين، وتخلف الأمير شكيب ليسافر منها إلى أوربة. كنا قد وقفنا على أطوار الحرب والصلح من أنبائها الرسمية وغير الرسمية، العامة منها والخاصة بنا، وبقي علينا أن نعلم من الوفد ما كان للصلح والمعاهدة من التأثير النفسي في قلوب الفريقين، مما لا يُعْلَم إلا من رؤية الوجوه المستبشرة أو الباسرة، ومن سماع جرس الأصوات في الحديث والتفرقة بين نغماتها السارة والقارة والحارة، ولا يعلم هذا وذاك إلا ممن رأى بعينيه، وسمع بأذنيه، وشعر بقلبه، وأخبرنا بما روينا عنه. هذا وإنه قد بلغنا قبل إصدار هذا الجزء أن جلالة الملك عبد العزيز، وجلالة الإمام يحيى قد أبرقا إلى جلالة ملك الإنكليز يرجوانه بأن يوصي حكومته بالإذن للأمير شكيب بدخول فلسطين للقاء والدته الجليلة فيها؛ إذ طالت غيبته عنها، فتقبل شفاعتهما فيه، وأبرق إليه المندوب السامي من فلسطين بالإذن له بذلك فنهنئه ونهنئ السيدة الفاضلة بهذا اللقاء الميمون، فبارك الله لهما وعليهما. ((يتبع بمقال تالٍ))

المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الحديثة (المسوَّى من أحاديث الموطَّأ) (طُبع الجزء الأول منه بالمطبعة السلفية بمكة سنة 1351 على نفقة ناشريه الشيخ عبد الوهاب الدهلوي، والشيخ محمد صالح نصيف الحجازي، ونُشِرَ في سنة 1352) . هذا الكتاب من مصنفات الشيخ أحمد ولي الله الدهلوي الهندي وطنًا، العمري الفاروقي نسبًا، مجدد القرن الثاني عشر للهجرة في الهند بدعوته وإرشاده وتربيته وتدريسه ومصنفاته، وبمن ترك من العلماء الأعلام من أبنائه وتلاميذه ومريديه، فقد كان جامعًا بين العلوم النقلية والعقلية والفلسفة والتصوف كما يُعْلَم من كتابه المشهور (حجة الله البالغة) الذي وضعه لبيان مقاصد الشريعة، وحكمها وأسرارها، وإن أشهر علماء الهند من بعده إلى يومنا هذا يتصلون بسلسلته، ويجرون على طريقته رحمه الله. سمعت هذا منهم في مدرسة ديوبند. والمشهور أن كتابه (المسوَّى) هذا شرح لموطأ الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فهو بهذا يوصف ويعرف، وليس الأمر كذلك، فهو ليس بشرح للموطأ، واسمه لا يدل على أنه شرح له، وإنما هو نوع جديد من أنواع الإصلاح والتجديد لم ينسج بعده أحد على غراره، ولا قفَّى تلاميذه بمثله على آثاره، بل لم يفهموا مراده منه لإجماله واختصاره، وقد وصفه هو بقوله في مقدمته: (وقد شرح الله صدري - والحمد لله - أن أرتب أحاديثه ترتيبًا يسهل تناوله، وأترجم على كل حديث بما استنبط منه جماهير العلماء، وأضم إلى ذلك من القرآن العظيم ما لا بد للفقيه من حفظه، ومن تفسيره ما لا بد له من معرفته، وأذكر في كل باب مذهب الشافعية والحنفية؛ إذ هم الفئتان العظيمتان اليوم، وهم أكثر الأمة، وهم المصنفون في أكثر الفنون الدينية وهم القادة الأئمة) . ثم قال: وفهمي الحق أن في ذلك فتحًا لأبواب الخير، وجمعًا لشمل الأمة المرحومة، وهزًّا لطبائع جامدة طالما ركدت، وإرشادًا إلى طرق من العلم طالما تُرِكَتْ. وأرجو من فضل الله ورحمته أن يكون هذا الكتاب جامعًا لخمسة أنواع [1] من الأحكام هي العمدة لمن أراد أن ينتهج مناهج الكرام: ما أُخِذَ من نصوص الكتاب، وما أثبتته الأحاديث المستفيضة أو القوية المروية في الأصول في كل باب، وما اتفق عليه جمهور الصحابة والتابعين، وما استنبطه مالك وتابعه جماعات من الفقهاء والمحدثين. اهـ. (أقول) فكتاب (المسوَّى) ترتيب جديد لكتاب الموطأ بتصرف زيادة ونقصان مع تعليق وجيز على مسائله، وذكر مذهب الشافعية فيها منقولاً بالاختصار من شرح الجلال المحلي على منهاج النووي، ومذهب الحنفية منقولاً عن الفتاوى العالمكيرية بالاختصار أيضًا، وهو يعزو إليهما في الغالب، وقد يذكر المذهبين بغير عزو، وقد يعزو إلى غيرهما، وأما آيات القرآن التي زادها في بعض الأبواب فمنها ما يفسرها تفسيرًا وجيزًا ولو ببيان معنى مفرداتها، ومنها ما يسكت عنها، وهو يذكر أولاً رواية مالك للحديث أو الأثر، ويقفي عليه بقوله (قلت كذا) يشير به إلى الوفاق والخلاف وما عسى أن يكون فيه من معارضة أو تعقب بحديث آخر، ويقول في الاتفاق: وعليه أهل العلم، وأما الاختلاف فهو ما يحكيه عن الحنفية والشافعية. وليس فيما رأيته منه شرح لعبارات الروايات، ولا بحث في أسانيدها ولا في متونها غير ما ذكرت، فالمسوَّى لا يصح أن يسمى شرحًا، وأما الشرح الحقيقي للموطأ، فهو ما كتبه المصنف باللغة الفارسية، وقد طُبع في الهند، وقد أحسن متولي طبع (المسوَّى) بترجمة مقدمته بالعربية، ونشرها هنا قبل الشروع في طبع المسوَّى، وقد عُلِمَ منها أن مراده رحمه الله تعالى بذلك الشرح هداية السبيل للخروج من ظلمات التقليد والاختلاف في الدين إلى نور الاستقلال والفهم الاجتهادي المطلق الذي أجمعت الأمة على وجوبه في كل عصر؛ لتقوم به حجة الله على أهله بما يقتضيه ما يتجدد لهم من العلم والشبهات والقضاء، وليس في كتاب المسوَّى شيء من الإعداد لسلوك هذا السبيل، وإنما هو لطبقة دون هذه الطبقة في علم الدين هي طبقة العامة، وتلك طبقة الخاصة. فإذا أردنا أن تكون عامة المسلمين اليوم على منهاج عامة السلف الصالحين في الاستنارة بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه جمهور الصحابة والتابعين فحسبهم أن يقرأ لهم هذا الكتاب، الذي هو الأساس الأول لكتب الصحاح والسنن والينبوع الأول لكتب الفقه، لا يكادون يحتاجون إلى غيره، فعسى أن يكون طبعه سببًا لما نعتقد أنه أُلِّف لأجله. وهذه التعليقات للإمام الدهلوي عليه تُعَلِّمهُم بالجملة ما اتفق عليه جمهور أهل الصدر الأول مما لا يسعهم مخالفتهم فيه، وما اختلف أشهر المجتهدين فيه، ولهم السعة في تقليد أيهم شاؤوا من غير حجر ولا جرح، ولا التزام ولا تعصب، ولا خلاف ولا شقاق في الدين، كالذي لا نزال نراه بين المسلمين بجهلهم وتعصبهم لأهوائهم، وأشده في بلاد الهند، فقد حدث منذ أشهر شقاق بين أهل مسجد في (بمباي) بتعيين إمام حنبلي له، ولولا تدخل شرطة الحكومة الإنكليزية وشحنتها بين الفريقين المتعصبين له، والمتعصبين عليه لوقع في المسجد الجامع من سفك لدماء المسلمين، ما لا يجوز أن يقع بين أهل القبلة المصلين، ووقع مثل ذلك في بنارس زارها سائح مسلم؛ فأنزله إمام مسجد للحنفية فيه، فبلغ الأهالي أن هذا السائح مالكي المذهب؛ فهجموا عليه لقتله فسافر منها ليلاً هاربًا بدمه المالكي من استباحة أخيه الحنفي له، والله تعالى يقول في المشركين: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (التوبة: 11) . إن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وأئمة المذاهب كلهم رضي الله عنهم بُرَآء من هؤلاء المسلمين الجاهلين، فكلهم متفقون على عدم تكفير أحد من أهل القبلة، وعلى جواز الصلاة مع الفاسق والمبتدع غير الكافر، وإن إمحاء هذه المذاهب التي يدعونها خير لهم من بقائها مع هذا الشقاق، ولو كانوا يلقنون في مدارسهم ومساجدهم مثل كتاب المسوى، لعلموا أنه لا ينفرد مذهب من مذاهبهم برأي اجتهادي هو واجب على أحد من المسلمين؛ فإن جميع الآراء تسقط حيث يوجد نص للشارع في المسألة، وتتساوى بالنسبة إلى العامي العاجز عن الترجيح بينها، فهل يجوز أن يتعادوا ويتقاتلوا لأجلها؟ والتعادي والتقاتل في هذا محرم بالإجماع؟ وكذا ما دون ذلك من السباب والهجر: ماذا التقاطع في الإسلام بينكم ... وأنتم يا عباد الله إخوان

أحمد زكي باشا شيخ العروبة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أحمد زكي باشا شيخ العروبة رحمه الله تعالى في يوم الجمعة لثلاث خلون من هذا الشهر (ربيع الأول) لبى دعوة ربه صديقنا (أحمد زكي باشا) الكاتب المؤرخ المصنف الخطيب الأديب الطائر الصيت، في إثر (ضربة هواء) كما يقول العوام أحدثت التهابًا شديدًا في رئته أعيا علاجه أصدقاءه من نطس الأطباء، لم تمهله إلا أسبوعًا أو بعض أسبوع، اختطفته المنية من حجر أمه مصر وهو ابنها البار، ومن ميدان أمته العربية وهو فارسها المغوار، وشيخ العروبة الذي فاق في شيخوخته وناصع شيبته جميع الشبان قوة وفتوة، ونضارة وبهجة، وهمة وسعيًا وحركة، وأملاً في طول الحياة، فلو كانت الأعمار بقوة البنية وشدة العضل ومرونة العصب ويسر المعيشة وقلة الهموم وكثرة السرور، لكان أحمد زكي باشا جديرًا بأن يبقى بعد المعمر التركي زارو أغا الذي توفي بعده في هذا الشهر عن 135 سنة، حتى يبلغ سنه أو يزيد عليها، وما أراه زاد على نصفها إلا قليلاً، ولعله لم يفته من أسبابها إلا عيشة القصد والاعتدال، فقد كان في بلهنية من الترف دان له بها الأهيفان، وسبحان مقدر الآجال. نَعَتْهُ الصحف التي كان يشغل أكثر المشهور منها بمقالاته ومناظراته التاريخية والجغرافية والأدبية، فراع نعيه الفجائي العلماء العصريين من الشرقيين والغربيين واختلفوا أفرادًا وجماعات على منزله (دار العروبة) في جيزة الفسطاط للتعزية عنه، كما كانوا يختلفون إليها آنًا بعد آن لحضور المآدب والاحتفالات التي يدعوهم إليها لتكريم من يفد على القاهرة من العلماء والأدباء والزعماء الشرقيين والغربيين. وشُيعت جنازته منها، يحف بها الجم الغفير منهم، وقد أممت المصلين عليها في أحد مساجد الجيزة فكان هذا آخر العهد بمودتنا الطويلة التي لم تشبها شائبة جفوة، ولا فترة اختلاف ولا فرقة، ثم حُمِلَتْ إلى القبر المعد لها تحت منارة مسجده الفني الصغير الذي بناؤه كان شغله الشاغل في سنيه الأخيرة، وأَبَّنَهُ هنالك المؤبنون، وانصرفوا بعد دفنه فيه مسترجعين مسترحمين. ومما انفرد به أنه كان كلف الفقيد رحمه الله الشيخ عبد الله الشيبي بمكة المكرمة أن يأتيه بكناسة غار حراء سرًّا ففعل، فجاء بها ووضعها في القبر الذي أعده لنفسه ولزوجه في هذا المسجد، وهو بدعة تدل على إيمان كإيمان العجائز، وتعارض ما كان من فلتات اللسان في دعابته تسيء ظن بعض سامعيها في عقيدته، ويروي بعضهم عنه ما يدل على تأوله فيه، والدعابة في الحوار كالنكتة في الشعر، لا تترك، لا تصدر عن إيمان، ولا عن كفر. رأيت أحمد زكي بك أول مرة في مكتب إبراهيم باشا نجيب وكيل الداخلية رحمه الله، وكان ذلك في سنة 1316 ثم قوي التعارف بيننا، وكنا نجتمع في أكثر ليالي رمضان مع طائفة من الأدباء والمحبين للمباحث الدينية، والتوفيق بينها وبين المعقولات والمعارف العصرية، منهم أحمد زكي بك مدير الأموال المقررة، وعبد الله بك فائق (باشا بعد) ، ومحمود بك أنيس رحمهم الله وآخرون لم يبق أحد منهم حيًّا إلا حمزة بك فهمي، وكان من رجال القصر الخديوي، وكانت تلك المباحث جل ما يدور في سمرنا، وأكثر ما تبدأ به مشكلات تلقى على صاحب المنار يُطلب منه حلها. من أجل هذا استفتاني فقيدنا اليوم في عشرة أسئلة ألقاها عليه بعض علماء الحقوق والشرائع في باريس في صيف 1904 ليترجمها لهم بلغتهم الفرنسية (ليعلموا أن في السويداء رجالاً , وأن الشرق لا يزال عامرًا بأصحاب العقول الكبار) ، وموضوع هذه المسائل الاجتهاد، ومعنى إقفال بابه عند العامة وعند أهل التحقيق، ومعنى القانون بوجه التدقيق العلمي، والفرق بينه وبين الشرع وسلطة الحاكم وحدودها ... إلخ. وقد نشرت كتابه ومسائله مع أجوبتها في المجلد السابع من المنار في جمادى الأولى سنة 1322 ويوليو سنة 1904، واستمرت المودة بيننا؛ ولكنه لم ينشر شيئًا من مباحثه في المنار، وكان يعلل ذلك أو يعتذر عنه باستغناء المنار عنها. كان المرحوم أحمد زكي منذ نشأته الأولى من عشاق العلم، وهذا العشق هو الذي كان يحمله على إنفاق كل ما زاد عن حاجته من المال في اقتناء الكتب النفيسة ولا سيما الخطية النادرة، وقد جمع خزانة منها ذات قيمة كبيرة وقفها على طلاب العلوم وأمرها مشهور. وعني في السنين الأخيرة من عمره بالسياسة العربية، ولقب نفسه بشيخ العروبة فاشتهر به، بعد أن كنت أسميه في السنين الأولى: حلقة الاتصال بين الشرق والغرب، وهو فلسطيني الأصل، وأول من جاء مصر جده الأدنى كما صرح بذلك لبعض الأدباء السوريين، ويقل من يعلم هذا، فنسأل الله تعالى أن يتغمدنا وإياه برحمته، ويعفو عنا وعنه.

تحسين الأغاني والأناشيد العربية لترقية الشعور القومي والخلقي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تحسين الأغاني والأناشيد العربية لترقية الشعور القومي والخلقي دعت جمعية الشبان المسلمين من اختارت من (الشعراء والمطربين والملحنين) في مصر، وطائفة أخرى من أهل العلم والأدب إلى حفلة شاي نصبت موائدها لهم في مساء الجمعة 12 صفر (25 مايو) فلبى أكثرهم الدعوة، وبعد شرب الشاي، وتناول ما يتصل فيه من الحلوى والفاكهة وقف صاحب السعادة عثمان باشا مرتضى فرحب بالحاضرين، وشرح لهم ما تقترحه عليهم الجمعية من تعاون الشعراء والمطربين (المغنين) والملحنين على خدمة الوطن المصري والأدب العربي بما سمته (تحسين الأغاني والأناشيد) ... إلخ (ووضع الخطة العملية لتنفيذ هذه الفكرة في أقرب وقت) كما رأوا في رقاع الدعوة، فشكروا للجمعية هذا المشروع، وتلقوه بالقبول، وتبارى خطباؤهم في بيان فوائده في ترقي الأقوام، وضربوا لذلك الأمثال، فذكروا الإفرنج والعرب في جاهليتها وإسلامها وحضارتها الزاهرة، وخطتها في هذه القرون الأخيرة التي هبطت فيها الآداب والأخلاق إلى الدرك الأسفل، وانحصرت فيها الأغاني القومية المصرية في الخلاعة والمجون، ولا سيما أغاني النساء فكانت من مفسدات الأخلاق والآداب. وأبى أحد الخطباء إلا أن يعرض في شواهده لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فذكر في فضل الأناشيد وشرعيتها احتفال الأنصار بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم يوم الهجرة بقولهم: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع ... إلخ وقوله صلى الله عليه وسلم وهو الذي حماه الله من الشعر حين جرحت إصبعه أو دميت من حجر في إحدى الغزوات: هل أنت إلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت فهذا البيت من الرجز أبلغ ما يقال في موضوعه وأعمقه تأثيرًا، وهو يصلح أن يبنى عليه نشيد في التحريض على الجهاد، واستصغار الآلام في سبيل عظائم الأعمال. قال كلامًا في هذا المعني، ثم صعد مرتقيًا إلى ما هو فوق هذا، فذكر أن القرآن نظم ذو فواصل كقوافي الشعر، قابل للتلحين والتغني لم يكن له ذلك التأثير العظيم في قلوب العرب والانقلاب العظيم فيهم إلا بتلاوته بالتلحين الخاص به. نقلت هذا الكلام بفحواه لا بلفظه، فأما البيت فقد نقل ابن هشام أنه للوليد بن المغيرة، وصحح الحافظ ابن الجوزي أنه لعبد الله بن رواحة، وقد تمثل به صلى الله عليه وسلم قولاً لا إنشادًا فسكن تاء قافيته، وأما القرآن فقد كان كلام الخطيب أدنى إلى تشبيهه بالشعر مما صورته به آنفًا، والواجب في التفرقة بينهما أن يكون أبعد شأوًا، وأسمى مرتقى مما قلت، وقد بينت معنى قابلية القرآن للترتيل الغنائي في كتاب الوحي المحمدي بما لو رآه الخطيب الأديب لبين هذا المعنى مُنَزِّهًا للقرآن، بما هو أدق مما نقلته عنه هنا، وكان خطر في بالي في الجلسة أن أتعقبه فأمسكت لئلا أنطلق في الكلام بما يفسره هو بلازمه غير البيِّن، فيظن أنني أريد لمزه، والنيل منه. هذا وإنني أسررت إلى الأستاذ يحيى الدرديري أن يقترح على الشعراء أن يبدؤوا بوضع أغاني وأناشيد لحفلات الأعراس وغيرها يضمنونها تعظيم أمر العفة، وعزة النفس، والشرف، وكرامة الأمة، ويلقونها إلى الملحنين فيلقنونها إلى المغنين، فينسخون بها تلك الأغاني (والطقاطيق) المجونية، فقال: الأولى أن تقترح أنت هذا. فاعتذرت، فألقاها إلى رئيس الجلسة وانصرفت، وقد سبق لي مثل هذا الاقتراح على عبده أفندي الحمولي أشهر مطربي عصره في مصر منذ 35 سنة.

اتهام ابن تيمية بأنه قال إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ اتهام ابن تيمية بأنه قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي ... إلخ (س14) من صاحب الإمضاء في قنا مع كتاب خاص لوكيل المنار هذا نصه: سيدي المحترم سلام عليك وتحية طيبة بمقدار ما للمنار من الفضل على المسلمين قاطبة وبعد، فأرجو أن تطالع ما أرفقته بهذا - وتوافقني على تقديمه ورفعه إلى حضرة المصلح العظيم العالم العامل صاحب الفضيلة السيد رشيد رضا حفظه الله - حتى ينظر فيه، ويرى ما يراه، وهو الموفق للصواب دائمًا. وإذا حَسُن لدى فضيلته أن يذكر كلامًا فاصلاً في هذا الموضوع - في المنار الأغر - كانت الفائدة عامة للناس أجمعين، ومن بينهم من وزع عليهم المهذب في المدارس. وأسأل الله أن يطيل عمر السيد؛ ليزداد المسلمون من الارتشاف من بحر علمه إيمانًا ومعرفة، والسلام عليك ورحمة الله من المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد القادر حلمي في صحيفة 76 من مهذب رحلة ابن بطوطة - الجزء الأول - الذي طبعته وزارة المعارف المصرية، ووزعته على تلاميذ المدارس الثانوية ما نصه: وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلم في الفنون إلا أن في عقله شيئًا ... إلخ. وفي الصحيفة 77 فحضرته يوم الجمعة، وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم، فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر، فعارض فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ... إلخ. فهل صح في تاريخ ابن تيمية أن يقول هذا؟ وهل هناك شك في أن قائل هذا ينسب لله الجسمية، وأنه بذلك انسلخ من الإيمان والإسلام؟ (جواب المنار) (14) اتهام ابن تيمية بتشبيه نزول الله بنزوله في المنبر: هذه التهمة باطلة قطعًا كما يعلم من كتب شيخ الإسلام وفتاويه الكثيرة في مسألة الصفات وحديث النزول؛ ولكن يظهر أن لها شبهة أثارتها، فقد رأيت في بعض الكتب (كتاب الرد الوافر) أو غيره أنه كان يتكلم في حديث النزول وهو يخطب على المنبر ويقرر مذهب السلف في إثبات كل ما وصف الله نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم (بغير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل) فقال ما معناه: إننا نؤمن بنزوله بالمعنى الذي أراده اللائق به بلا تشبيه (لا كنزولي هذا) فزعم بعض الناس أنه قال: (كنزولي هذا) ؛ لأنه لم يسمع كلمة (لا) وربما كان منهم ابن بطوطة، ثم أذاع هذا خصومه المخالفون للسلف، ولو صح زعمهم لقامت عليه قيامة أهل المسجد وأنزلوه عن المنبر مهينًا مذمومًا بكل لسان، إلا أن يقال: إنهم كانوا موافقين له على رأيه إلا واحدًا منهم هو ابن الزهراء الذي ذكره ابن بطوطة، وكم في رحلة ابن بطوطة من الأكاذيب والخرافات، ويحتمل أن يكون قال الكلمة في تفسير المعنى اللغوي، وسننقل عنه تحقيقه لعدم اقتضائه التشبيه. ولابن تيمية كتاب مستقل في حديث النزول، هو جواب سؤال رُفِعَ إليه فأطال في الجواب عنه؛ لأن المسألة فرع من عقيدة إثبات الصفات التي أجمع عليها سلف الأمة بالقاعدة التي ذكرناها آنفًا، وأما نفيها فقد ابتدعته الجهمية والمعتزلة وغيرهم من المبتدعة، واختلف نظار المتكلمين في تأويل بعضها دون بعض، وهذا الكتاب مطبوع في الهند وإنني أنقل منه بعض عباراته بحروفها مبتدئًا بنص السؤال وهو: نص الاستفتاء في حديث النزول (ما يقول سيدنا وشيخنا شيخ الإسلام، وقدوة الأنام، أيده الله ورضي عنه، في رجلين تنازعا في حديث النزول: أحدهما مثبت والآخر نافٍ، فقال المثبت: ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. فقال النافي: كيف؟ فقال المثبت: ينزل بلا كيف. فقال النافي: يخلو منه العرش أم لا يخلو؟ فقال المثبت: هذا قول مبتدع، ورأي مخترع. فقال النافي: ليس هذا جوابي، بل هو حيدة عن الجواب. فقال له المثبت: هذا جوابك، فقال النافي: إنما ينزل أمره ورحمته - فقال المثبت: أمره ورحمته ينزلان كل ساعة، والنزول قد وقَّت له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث الليل، فقال النافي: الليل لا يستوي وقته في البلاد فقد يكون الليل في بعض البلاد خمس عشرة ساعة ونهارها تسع ساعات، ويكون في بعض البلاد ست عشرة ساعة والنهار ثماني ساعات وبالعكس، فوقع الاختلاف في طول الليل وقصره بحسب الأقاليم والبلاد، وقد يستوي الليل والنهار في بعض البلاد، وقد يطول الليل في بعض البلاد حتى يستوعب أكثر الأربع وعشرين ساعة ويبقى النهار عندهم وقتًا يسيرًا، فيلزم على هذا أن يكون ثلث الليل دائمًا ويكون الرب دائمًا نازلاً إلى السماء، والمسؤول إزالة الشبه والإشكال، وبيان الهدى من الضلال؟ جواب شيخ الإسلام أو جزء منه (فأجاب رضي الله عنه فقال: الحمد لله رب العالمين، أما القائل الأول الذي ذكر نص النبي صلى الله عليه وسلم فقد أصاب فيما قال، فإن هذا القول الذي قال قد استفاضت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفق سلف الأمة وأئمتها وأهل العلم بالسنة والحديث على تصديق ذلك وتلقيه بالقبول، ومن قال ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فقوله حق وصدق، وإن كان لا يعرف حقيقة ما اشتمل عليه من المعاني، كمن قرأ القرآن ولم يفهم ما فيه من المعاني، فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وأمثاله علانية، وبَلَّغَه الأمة تبليغًا عامًّا لم يخص به أحدًا دون أحد، ولا كتمه عن أحد، وكان الصحابة والتابعون تذكره وتأثره وتبلغه وترويه في المجالس الخاصة والعامة، واشتملت عليه كتب الإسلام التي تقرأ في المجالس الخاصة والعامة كصحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك ومسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي والنسائي وأمثال ذلك من كتب المسلمين. لكن من فهم من هذا الحديث وأمثاله ما يجب تنزيه الله عنه كتمثله بصفات المخلوقين، ووصفه بالنقص المنافي لكماله الذي يستحقه فقد أخطأ في ذلك، وإن أظهر ذلك منع منه، وإن زعم أن الحديث يدل على ذلك ويقتضيه فقد أخطأ في ذلك، فإن وصفه سبحانه وتعالى في هذا الحديث بالنزول هو كوصفه بسائر الصفات كوصفه بالاستواء إلى السماء وهي دخان، ووصفه بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، ووصفه بالإتيان والمجيء هي مثل قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} (البقرة: 210) ، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} (الأنعام: 158) ، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ} (الفجر: 22) وكذلك قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} (الفرقان: 59) ، وقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} (الذاريات: 47) ، وقوله: {اللًّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ} (الروم: 40) ، وقوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} (السجدة: 5) وأمثال ذلك من الأفعال التي وصف الله تعالى بها نفسه التي تسميها النحاة أفعالاً متعدية، وهي غالب ما ذكر في القرآن، أو يسمونها لازمة لكونها لا تنصب المفعول به، بل لا تتعدى إليه إلا بحرف الجر كالاستواء إلى السماء وعلى العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، ونحو ذلك فإن الله وصف نفسه بهذه الأفعال. ووصف نفسه بالأقوال اللازمة والمتعدية في مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} (البقرة: 30) ، وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} (النساء: 164) ، وقوله تعالى: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} (الأعراف: 22) ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ} (القصص: 65) ، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: 4) ، وقوله تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} (النساء: 87) ، وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: 23) ، وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} (الأعراف: 137) وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} (الأنعام: 115) ، وقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (آل عمران: 152) . وكذلك وصفه نفسه بالعلم والقوة والرحمة ونحو ذلك كما في قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} (البقرة: 255) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ} (الذاريات: 58) ، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} (غافر: 7) ، وقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (الأعراف: 156) ونحو ذلك مما وصف به نفسه في كتابه وما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم. فإن القول في جميع ذلك من جنس واحد، ومذهب سلف الأمة وأئمتها أنهم يصفونه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النفي والإثبات، والله سبحانه وتعالى قد نفى عن نفسه مماثلة المخلوقين فقال الله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 1-4) فبين أنه لم يكن أحد كفوًا له، وقال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} (مريم: 65) فأنكر أن يكون له سمي، وقال تعالى: {فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً} (البقرة: 22) ، وقال تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} (النحل: 74) ، وقال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) ففيما أخبر به عن نفسه من تنزيهه عن الكُفْوِ والسَمِيِّ والمثل والنِّدِّ وضرب الأمثال له - بيان أن لا مثل له في صفاته ولا أفعاله؛ فإن التماثل في الصفات والأفعال يتضمن التماثل في الذات؛ فإن الذاتين المختلفتين تمتنع تماثل صفاتهما وأفعالهما؛ إذ تماثل الصفات والأفعال يستلزم تماثل الذوات؛ فإن الصفة تابعة للموصوف بها، والفعل أيضًا تابع لفاعله، بل هو مما يوصف به الفاعل، فإذا كانت الصفتان متماثلتين كان الموصوفان متماثلين، حتى إنه يكون بين الصفات من التشابه والاختلاف بحسب ما بين الموصوفين كالإنسانين لمَّا كانا من نوع واحد؛ فتختلف مقاديرهما وصفاتهما بحسب اختلاف ذاتيهما ويتشابه ذلك بحسب تشابه ذلك) (فالقول في صفاته كالقول في ذاته، والله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، لكن يُفْهَم من ذلك أن نسبة هذه الصفة إلى موصوفها كنسبة هذه الصفة إلى موصوفها، فعلم الله وكلامه ونزوله واستواؤه هو كما يناسب ذاته ويليق بها، كما أن صفة العبد هي كما يناسب ذاته وتليق بها، ونسبة صفاته إلى ذاته كنسبة صفات العبد إلى ذاته، ولهذا قال بعضهم: إذا قال لك السائل: كيف ينزل؟ أو كيف استوى؟ أو كيف يعلم؟ أو كيف يتكلم؟ ويقدر ويخلق؟ فقل له: كيف هو في نفسه؟ فإذا قال: أنا لا أعلم كيفية ذاته. فقل له: وأنا لا أعلم كيفية صفاته؛ فإن العلم بكيفية الصفة يتبع العلم بكيفية الموصوف. فهذا إذا استعملت هذه ا

تفسير المنار لعلامة الدهر ومصلح العصر

الكاتب: مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

_ تفسير المنار لعلامة الدهر ومصلح العصر بقلم الأستاذ الكاتب المستقل، والباحث المستدل الشيخ مصطفى أحمد الرفاعي اللبان يرحم الله مفسري القرآن السابقين من أئمة المسلمين، فقد بذلوا ما استطاعوه من قوة لتبيان معاني كلام الله للناس، ووقفوا أنفسهم وحبسوها على إظهار ما فيه من لغة وبيان، وفصاحة وبلاغة، وأدب واجتماع، وتاريخ وحكمة وسياسة فجزاهم الله عنا خير الجزاء، ووفاهم الله أجرهم موفورًا، وجعل عملهم الخالص مشهورًا مذكورًا. ولكن القرآن هو كتاب الزمان كله، ودستور الحياة إلى يوم القيامة، تنجلى معانيه بتقدم العلم وبلوغه أشده، وتظهر أسراره بالاختراعات والاستكشافات، وسلامة الفطر والعقول من الترهات والخرافات، وتشرق حقائقه بزوال العوائق المغشية الأبصار والبصائر، والتفاسير السابقة فيها أخبار من التاريخ؛ ولكنها غير ممحصة؛ لانعدام وسائل التحقيق والتمحيص، وفيها طرف من العلوم المختلفة؛ ولكنها محشوة بالغلط والشطط؛ لتعسر طرائق التصحيح والتدقيق، وفيها ذكر للتوراة والإنجيل؛ ولكنه مبني على فهم غير واقع [1] وعلى ظَنٍّ تبين الآن أنه غير نافع، وفيها فقه ولكنه مذهبي، وتوحيد ولكنه كلامي، واستطراد فلسفي، واستقراء غير جلي. وبهذا صار القرآن في حاجة إلى أن يُفَسَّر من جديد، وصارت التفاسير الأولى معرضة للنقد السديد، فألف الآلوسي تفسيره؛ ولكنه جعله جامعًا لأقوال من سبق مع تعليقات يسيرة، وتحقيقات غير وفيرة، وألقى الأستاذ طنطاوي جوهري دلوه في الدِلاء، ولكنه صير تفسيره نباتيًّا طبيعيًا وجاء فيه برسوم [*] على الكونيات وأحوال النجوم والنيرات والصخور والجلاميد والمعادن المدفونات، وجلاه برسوم وصور لا تتسق مع جلال الذكر الحكيم ومكانة القرآن الكريم، ومع ذلك فهو مستحق للشكران، قمين بأن ينشر ذكره في كل مكان؛ إذ حاول جهده أن يبرهن على عناية القرآن بالعلوم الطبيعية والكيميائية والزراعية والصناعية وما إليها، ووُفق في كثير مما أراد جزاه الله خيرًا. وقد انتظرنا أن يوفق الله رجلاً إلى تفسير القرآن الكريم بشرط المحافظة على جلاله وكماله والسمو به عما لا يليق بمكانته العليا، وإحاطته بسياج من الحرص والأمانة يمنع الخطأ والإسرائيليات والأخبار الداحضة أن تتسرب إليه، ويحميه من التعصب المذهبي، والتكلف الكلامي، وتحميل الآيات الكريمة ما لا يوافقها من المعاني الرأيية، والتوضيحات النفسية. وقد أراد الله أن يظهر هذا التفسير على يد السيد الكريم، والمجاهد العظيم، والمصلح الشهير، والمسلم الكبير، أستاذنا السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار الأغر، وخليفة الأستاذ الإمام الأبر، وقد صدر من هذا التفسير أحد عشر جزءًا ضخامًا، تقر بها عين كل مسلم، وينشرح لها صدر كل مؤمن، جاءت عند ما أملنا، وفوق ما قصدنا، وأبانت عن أن الإسلام هو الدين الخالد، والواجب أن يعنو له البشر طائعين، فرحين مستبشرين؛ إذ هو الذي يحل مشاكل العصر، ويُزيل ما تعانيه الإنسانية المعذبة من الضيق والعسر، ويعالج الأدواء التي تشكو منها الأمم، ويعيد للمسلمين ما فقدوه من العزة والسلطان وعلو الهمم. وقد قرأنا هذه الأجزاء الأحد عشر كالكواكب، فشكرنا الله كثيرًا وانزاحت عن نفوسنا غمم كنا نشعر بثقلها، وقلنا: قد آن للمسلمين أن يُسَرُّوا ويفرحوا، فقد أنعم الله عليهم بتفسير طالما كانوا يتمنونه، وكثيرًا ما رأوه حلمًا بعيد المنال؛ ولكنه الآن تحقق على أحسن مثال. جمع هذا التفسير القيم محاسن التفاسير السالفة، ونجا من مزالقها، وخلص من مشاكيها، وضم بين دفتيه أحسن التحقيقات، وأتم البيانات، وأوضح لمن له عينان أن القرآن هو كتاب الله الخالد الذي لا غنى للأمم عنه، ولا حياة لها بدونه، ولا مفر لها من اتباعه، والاستفادة من هدايته، مذعنة مؤمنة، أو مسوقة بحاجتها التي تلح عليها، فلا تجد لها ملجأ إلا إياه، ولا معاذًا سواه. يقرأ المسلم هذا التفسير فيشرق في نفسه نور المعرفة، وتضيء روحه بشمس التثبت واليقين، ويعود شخصًا مليئًا بالأمل الواسع، مغمورًا بالفرح الجامع، شاكرًا لربه أن جعله مسلمًا مؤمنًا من خير أمة أخرجت للناس، ويقرؤه غيره من ذوي البصيرة والمعرفة؛ فيثلج صدره، وترتاح نفسه، ويحس بالرغبة في الاستزادة منه، معجبًا بالقرآن، وما فيه من علو وعظمة وجلال، ومبادئ تسعد بها جميع الأجيال. وقد سلط هذا التفسير على جميع الشبهات نورًا كشَّافًا قويًّا ساطعًا؛ فأزالها وأحالها هباءً منثورًا، وحل بمهارة ولباقة وقوة وغيرة وشجاعة وصراحة جميع المعضلات الدينية والاجتماعية والسياسية، وكان الحل مُشْبِعًا مُرْوِيًا، مزيلاً كل شك وريبة ووهم وظن، ولا يدع لأحد مسلكًا يسلك منه طريق هذه المعضلات مرة أخرى، وهذه ميزة جلية لا ترفع رأسها موفورًا إلا في هذا التفسير الجليل. وإلى القراء ثبتًا موجزًا يدعم ما قلناه. (1) بيَّن إعجاز القرآن بيانًا شافيًا، وأظهر أسراره القدسية، وأزال الخلافات المذهبية، وجلى الحكمة في الحروف التي تبدأ بها السور الكريمة، وصعد بالقارئ إلى سماء العرفان الصحيح، والفهم الرائق، ووضع فهرسًا واسعًا لوجوه إعجازه، فإذا هي لا تكاد تُحْصَر إذا وعينا مفرداتها وتفاصيلها، وألمس كل فرد هذه الوجوه بما يجعله واثقًا منها، مؤمنًا بها إيمانًا موطدًا، لا تعلق به شية [2] من الضعف أو الوهن أو الريبة، , وأثبت أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولو تظاهر عليه جميع الملاحدة والمعطلين والمشركين والكافرين؛ لأنه بطبيعته الذاتية يغلب كل متظاهر، ويهزم كل مكابر، وأورد لذلك شهادات كثيرة للفلاسفة والعلماء والباحثين والمفكرين. (2) ساق الدلائل العظيمة على خلود هذا القرآن وبقائه إلى يوم القيامة واستقراره وثباته كلما تقدمت العلوم، وارتقت الفنون، وسارت الأمم في سبيل المدنية الفاضلة، والحضارة الصحيحة، وأرى كل ذي بصيرة نافذة كيف أن الأمم الغربية لا ينقذها من ويلاتها ومشاكلها المعقدة إلا كلام الله المحفوظ من التحريف والتبديل والتغيير والنسيان، الذي يوافق الزمان والمكان، ويجد فيه طالب الحق ما يشبع نهمته، ويزجي طلبته، وذكر نماذج شتى من القرآن لمسائل لم يعرفها العالم إلا في السنوات العشر الأخيرة، وقال: إن ثمت مسائل كثيرة في القرآن يكشفها الزمان تدريجًا للدلالة على أنه كتاب الله حقًّا. (3) شرح مبدأ الخلق والتكوين، وذكر أحوال الأمم وطبقاتها ودرجاتها وعملها في هذه الحياة الدنيا، وساق أخبارها من أوثق مصادرها، وقفى على ذلك في مواضعه بالبعث والنشور والحساب والعقاب والثواب وأحوال يوم الدين، وكان في هذه الأمور محققًا دقيقًا يصل بالقارئ إلى أسمى غاية يطمع في الوصول إليها أرقى عقل وأعظم فكر، بحيث يخرج منها فاهمًا جيدًا سر الخلق وحكمته، وتدرج الأمم في مدارج الرقي حتى استكملت استعداها العقلي وقت نزول القرآن، وبعثة سيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم، وعارفًا المعرفة كلها معنى البعث، وكيف يكون بالجسد والروح معًا، وما الثواب وما العقاب، وما الجنة وما النار؟ ولماذا لا تكون النجاة إلا بالإسلام الحنيف، الذي جاء به الرسول الشريف؟ (4) تكلم عن الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وذكر قصصهم وتعقب ما في كتب العهد العتيق المسماة بالتوراة من خروج عن الجادة في سرد هذه القصص، وصحح الخطأ المنتشر فيها، وفي كتب التفاسير التي نقلت عنها أو اعتمدت عليها من غير ما تمحيص ولا تدقيق، وصورهم عليهم السلام بالصورة اللائقة بهم وبعملهم لهداية الأمم والشعوب، ونفى عنهم ما نسب إليهم كذبًا وغلطًا وجهلاً، ونقاهم مما علق بسيرهم الشريفة الطاهرة بسبب العناد والمكابرة والمغالطة والعماية، وبرهن على أن النبي أو الرسول يجب أن يكون مثال الكمال الإنساني، والقدوة الصالحة في الأقوال والأفعال والأعمال والأسوة الحسنة في الخير وعمل البر. (5) دافع عن الإسلام وتعاليمه دفاعًا مجيدًا منصورًا، وأزجى الأسباب التي تضمن خلوده وبقاءه، ودفع في صدور اليهود والنصارى والملاحدة بما جعلهم ينكمشون ويتركون سلاحهم المفلول، ويعترفون بضعف حجتهم وبوار بضاعتهم وكساد سوقهم، ويقولون بملء أفواههم: اعترفنا بعجزنا وقصورنا وانهزامنا. وأعطى المسلمين الحجج الدامغة التي يستطيعون بها الدفاع عن ذمارهم، والذود عن دينهم، والنصر على مناوئيهم، وحقق بما لا مزيد عليه أن الإسلام لا مطعن فيه لطاعن، ولا مغمز لغامز؛ وأن بيته من طود أثبت، وبيوت غيره من زجاج أضعف؛ وأنه لا يليق لصاحب البيت الزجاجي أن يقذف البيت الحجري بالحجارة، وقد أثنى الكثيرون من غير المسلمين على مسلكه الراجح، وأدبه الواضح. (6) شفى الغليل بمباحثه القيمة في الناسخ والمنسوخ، ورسم صورة رائعة لهذه المشكلة الدقيقة التي اختلف فيها المفسرون، وتعددت أقوالهم، وتباينت آراؤهم، وعرَّج على عقيدة النصارى في النسخ، فشرحها تشريحًا وافيًا جامعًا، وكشف عن خطئهم الدامس فيها، ووضع أصابع الباحث على عوارها وزيغها، فأثلج بذلك قلوب المؤمنين، وأدخل في صدورهم برد اليقين، ومن اطلع على مسألة النسخ درى مدى التوفيق العجيب في هذا التفسير البديع الذي صار حجة هذا العصر، وترجمان القرآن ولا فخر. (7) فصل الوحي الإلهي بما يقنع كل منكر، ويسلم له كل معاند، ويعنو لحججه جميع الورى، ولما وصل إلى الوحي المحمدي كان التفصيل أوسع، والشرح أمتع، والدلائل أنصع؛ إذ أثبت ببراهين لا تُدْفَع أن الوحي المحمدي ثابت بالقرآن ثبوتًا لا تعلق به شية من الريب عند أي إنسان، وجلى النبوة المحمدية بأوضح بيان، وبين أنها أصل إثبات النبوات السابقة، فهي دليلها ومُصَدِّقتها والمزكية لها. (8) كشف فضل الإسلام على جميع الأنام، ونثر الدلائل الكثر من تاريخ الأمم الشرقية والغربية، على ما استفادته من تعاليم الإسلام الخالد في الدين والأدب والاجتماع والتشريع، وشهد به رجالها وفضلاؤها وعلماؤها وفلاسفتها ومفكروها، وعبَّد السبل؛ ليفهم القارئ أن العالم كله سائر إلى الإسلام؛ إذ الإسلام هو الوسيلة الكبرى لسعادة البشر، والطريقة المثلى لإزالة الخطر. (9) قارن بين ما في القرآن من التشريع والحكمة والآداب والمبادئ العليا، وبين ما تتمدح به الأمم الحاضرة من قوانينها وحكمتها ومبادئها وآدابها، وخرج من هذه المقارنة بما يُفْرِح المؤمنين، ويرفع رؤوس الموحدين، ويجعل القدح المعلي للإسلام، الذي جاء به خير الأنام صلى الله عليه وسلم. (10) قضى على العنت الذي كان يعانيه القارئ من قراءة التفاسير السابقة، وجعل له مصباحًا كشافًا وضاءً ينير له السبيل، وصوًى ومنارًا كمنار الطريق، فخدم بذلك المفسرين أنفسهم، وقدم للناس حديقة غناء فيها ما تشتهيه نفوسهم الزاكية، وقلوبهم الواعية. هذا نموذج يسير مما حواه هذا التفسير الشهير الكبير، فواجب على كل مسلم يحسن القراءة والكتابة في أنحاء الأرض أن يقتنيه كنزًا ثمينًا، وذخرًا عظيمًا، ودائرة معارف إسلامية نادرة المثال، وليس لأحد يقصر في الحصول عليه عذر، والسلام على من اتبع الهدى. ... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد الرفاعي اللبان (المنار) نشكر لأخينا المقرظ إطراءه

مقدمة كتاب مفتاح كنوز السنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة كتاب مفتاح كنوز السنة بسم الله الرحمن الرحيم {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (الجمعة: 1-2) نحمده عز وجل ونصلي ونسلم على رسوله محمد خاتم النبيين، الذي بعثه الله وهو أمي في سن الكهولة مربيًّا ومعلمًا لقومه العرب الأميين، ما جعلهم به قارئين كاتبين، صالحين مصلحين، فكانوا أئمة حكماء حاكمين وعلماء معلمين لأهل الكتاب ورثة الأنبياء، ولغيرهم من ورثة الفلاسفة والحكماء، وجعلهم به ملوكًا عادلين، وآتاهم بكتابه وتعليم رسوله وتزكيته ما لم يؤت أحدًا من العالمين، فما زال هذا الكتاب الإلهي، وما بينه من سنة هذا النبي الأمي يتدارسهما البشر في مشارق الأرض ومغاربها من شاطئ المحيط الغربي إلى أحشاء الصين، ثم انتقل تدارسهما من الجنوب إلى الشمال، فعني بهما طائفة من الأوربيين، الذين عُرِفُوا بلقب المستشرقين، وقد مهدوا السبيل لهما، بما وضعوه من المفاتح لألفاظهما، والفهارس المنوعة لكتب التفسير والحديث وغيرها من الكتب العربية لتسهيل مراجعتها، حتى صار علماء المسلمين من العرب والأعاجم مضطرين لأخذها عنهم، واقتفاء أثرهم فيها. وهذا كتاب (مفتاح كنوز السنة) الذي نعرضه اليوم للعالم الإسلامي بلغة الإسلام، أحد نفائس هذه الكتب التي وضعها أحد هؤلاء الأعلام؛ وإنما وضعه لهم بإحدى لغاتهم، وإن عالمنا الإسلامي، لهو أحوج إليها من العالم الأوربي، فعسى أن ينتفع به جميع شعوبه وتنهض بهم الحمية الدينية إلى خدمة السنة بما هو خير منه في الضبط والجمع، وتعميم النفع. أما بعد، فإن خير ما أُعَرِّف به هذا الكتاب لقراء العربية، أن أبين لهم وجه الحاجة إليه، وطريق الانتفاع به، وعدم استغناء أعلم علماء الحديث عنه، بل هم أشد حاجة إليه من غيرهم، ويتلوهم من دونهم من العلماء، فمن دونهم من دهماء القراء الذين يقتنون شيئًا من كتب الحديث المشهورة وغيرها مما يراه القراء في طرته، وإنني أستمد هذا البيان من تجربتي واختباري في السنين الطوال، لا أقوله بادي الرأي، ولا أصطاده من سوانح الاستحسان. إنني وُفقت لطلب العلم من طريق الدليل، ثم وُفقت لنشره بالدليل، ووُفقت للمناظرة وللإفتاء بالدليل، واشتغلت بعلم الحديث أول العهد بالطلب وارتقيت فيه بالتدريج، وتمرنت على مراجعة كتبه وكتب الجرح والتعديل؛ لتخريج الأحاديث ونقدها، وسرعة الوصول إليها من أقرب طرقها، واشتهرت عند من يعرفني من أهل العلم والذكاء، كان الأستاذ اللوذعي الشيخ محمد توفيق البكري يظن أن عندي فهارس لأوائل الأحاديث كلها، ومعجمًا لمفرداتها كهذا الكتاب يبين عند كل كلمة مواضع كل حديث وردت فيه من كتبها، ثم علم أنه ما ثم إلا مفتاح الصحيحين المطبوع المشهور، وهو خاص بأوائل أحاديث الصحيحين القولية والمسندة وبيان مواضعها من المتن وشروح الحافظ العسقلاني والقسطلاني والعيني لصحيح البخاري (في طبعاتها الأولى) وشرح النووي لصحيح مسلم المطبوع على هامش شرح القسطلاني للبخاري. ولو وجد بين يدي مثل هذا المفتاح لسائر كتب الحديث لوفر عليّ أكثر من نصف عمري الذي أنفقته في المراجعة؛ ولكنه لم يكن ليغنيني عن هذا الكتاب (مفتاح كنوز السنة) فإن ذاك إنما يهديك إلى مواضع الأحاديث القولية التي تعرف أوائلها، وهذا يهديك إلى جميع السنن القولية والعملية وما في معناها كالشمائل والتقريرات والمناقب والمغازي وغيرها، فلو كان بيدي هو أو مثله من أول عهدي بالاشتغال بكتب السنة لوفر عليّ ثلاثة أرباع عمري الذي صرفته فيها؛ ولمكنني من الاستجابة لمن اقترحوا عليّ أن أضع كتابًا جامعًا للمعتمد منها، وكتابًا آخر للمُشْكِل منها في نظر علوم هذا العصر وفلسفته، والجواب المقنع عنه. إن حاجتنا إلى هذا الكتاب وما في معناه في هذا العصر لا يدل على تقصير علماء السنة السابقين، أو تفريطهم في شيء من خدمتها؛ فإنهم - أحسن الله إليهم ونَضَّرَ وجوههم - قد قاموا بكل ما يجب ويندب ويستحب من رواية الحديث وحفظه وتدوينه في المسانيد والجوامع والسنن الجامعة والخاصة بالعقائد والأحكام، وإفراد الصحاح منها وإتمامها بالمستخرجات والمستدركات عليها، ووضعوا المعاجم لمفرداتها ولأوائلها لتسهيل المراجعة، دع ما سبقوا إليه جميع الأمم من وضع التواريخ لرواتها، ثم لغيرهم من العلماء، ومن ترتيب بعضها على حروف المعجم وبعضها على الطبقات، ومن نصب ميزان الجرح والتعديل المستقيم لهم لتمحيص المقبول والمردود من مروياتهم، ومن وضع كتب الأطراف المبينة لروايات كل صحابي في كل موضوع، وترتيبها على الحروف، وغير ذلك من الكماليات التي لا محل لذكرها هنا، فقد تركوا لنا ثروة واسعة في ضبط سنن نبينا صلى الله عليه وسلم وهديه وشمائله وسيرته لم يوفق لمثلها، ولا لما يقرب منها أحد من أتباع الأنبياء والمرسلين، ولا غيرهم من الحكماء والمشترعين، يسرت لمن بعدهم سبيل التفقه فيها والاستنباط منها في كل زمان بما يحتاج إليه أهله، ويكون به المتأخر مكملاً لما سبقه إليه من قبله، ويكون الارتقاء في العلم متسلسلاً مطردًا، سواء منه علم الدراية والرواية الذي جعلوه علمًا مستقلاًّ مدونًا وعلوم العقائد والفقه والأدب والتصوف وغيرها. كان أئمة الفقه في أمهات الأمصار قبل جمع الأحاديث والآثار في الأسفار يأخذ كل منهم بما وصل إليه من علم الصحابة والتابعين بالسنة ومذاهبهم في العمل. فاشتهر في الكوفة مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأصحابه وقضايا علي أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وشريح قاضي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وفتاوى إبراهيم النخعي وأقرانه من التابعين، فكانت عمدة أبي حنيفة في اجتهاده بالتخريج عليها قلما كان يخالفها، ولقلة المرفوع فيها كان يأخذ بالمرسل والمنقطع، وكثر في فروعه القياس والرأي وعرف به، واشتهرت براعة صاحبه أبي يوسف في القضاء لتولية هارون الرشيد إياه رياسته في مملكته، ثم اشتغل صاحبه محمد بن الحسن بالحديث، وأخذ الموطأ عن الإمام مالك ودون الكتب التي هي عمدة المذهب. واشتهر في المدينة علم عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وزبد بن ثابت وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وأصحابهم من كبار التابعين رواتهم وفقهائهم، فكانت عمدة مالك بن أنس في اجتهاده، وكان لثقته بهؤلاء الأعلام يأخذ المراسيل عنهم، وبعمل أهل المدينة بشرطه على كثرة المرفوع عنده. ثم ظهر محمد بن إدريس الشافعي وقد تأسس هذان المذهبان على ما أشرنا إليه فرحل في طلب الحديث من مكة إلى المدينة، وسمع الموطأ وغيره من مالك، ثم إلى بغداد فلقي محمد بن الحسن وناظره ونظر في كتب أبي حنيفة ومذهبه، ولقي أحمد بن حنبل وطبقته من المحدثين، وألف هنالك كتبه التي تسمى بالمذهب القديم، ثم هاجر إلى مصر وسمع من رجالها وألف فيها مذهبه الجديد، وكان أكبر الفرق بينه وبين من قبله أن بنى مذهبه على الجمع بين روايات الأمصار المختلفة، ووضع أصول الفقه للجري عليها في الاستنباط، وخالف أبا حنيفة وأصحابه ومالكًا في مسائل، من أهمها: ما اشترطه في الاحتجاج بالمرسل والمنقطع، وغير ذلك كما بينه في كتاب الأم. ووجه أحمد بن حنبل جل عنايته إلى الإحاطة بالروايات بقدر الاستطاعة، وبالجرح والتعديل للرجال فكان أعلمهم بها، وأقلهم عناية بالفقه استغناءً بالحديث والآثار، ومسنده أصل الأصول لأكثر كتب السنة، فهو أعظم المسانيد وأوسعها، ثم وضع تلاميذه وغيرهم كتب الصحاح والسنن وغيرها كما بيناه آنفًا. وقد جرى على مذاهب هؤلاء الأربعة أكثر فقهاء أهل السنة في الشرق والغرب، وصارت كتب السنة المدونة وشروحها المصنفة مرجع علمائهم كلهم، فملؤوا بها طباق الأرض علمًا من كل ما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم. فبتلك الكتب التي أتقن أفراد الأخصائيين لكل نوع منها في الرواية والدراية صار طريق علوم السنة بأنواعها معبدًا ممهدًا، وهذه العلوم تتسع دائرتها في كل عصر بقدر ما يتجدد للبشر فيه من الأقضية والمصالح السياسية، والحكمة العقلية والأدبية، والأصول التشريعية، والنظريات العلمية التجريبية، والمخترعات الفنية والصناعية، ومن فوق هذا كله إقامة الحجة على نبوة خاتم النبيين، ودفع الشبهات عما يرد عليها وعلى أحاديثه من إشكال علمي أو عقلي؛ وإنما يكون ذلك بتمحيص الروايات ونصب ميزان الترجيح بين المتعارض منها. والأجانب يعنون بنقد هذه المتعارضات ما لا يعنون بتلك العلوم والحكم التي تعد من المعجزات، لتفجر ينابيعها من فيض نبي أمي نشأ بين الأميين، وفي هذه الكتب ما لا يصح سنده وما يُشْكِل متنه، بمخالفة الظني للقطعي من نص أو حس، وما فيه علل خفية كعنعنة المدلسين في الصحاح، ومخالفة الثقات في غيرها، ولا بد للعالم المسلم من العلم بذلك، ولا يتيسر ذلك كله إلا بجمع ما تفرق في كتبها في كل موضوع. بيد أن الحياة الدينية العلمية التي بعثت الأولين على تصنيف تلك الأسفار العظيمة، قد عرض لها أمراض روحية وسياسية كثيرة، انتهت بالمسلمين إلى هجرها هجرًا غير جميل، حتى صار أكثر علمائهم وخطبائهم وأدبائهم يجهلون علم الحديث، فلا يميزون بين ما صح منه وما لم يصح، بل ينقلون المنكرات والموضوعات منه، ويحتجون بها حتى في أصول العقائد وأحكام العبادات والقضاء؛ لأنهم على جهلهم لها، وعدم تمييزهم بينها، ينقلونها من كتب الأدب والتصوف والمواعظ والتواريخ والقصص، وكذا أكثر كتب التفسير والفقه فأمسينا في فقر مدقع من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وأخباره، وفي خزائن كتبنا من كنوزها العظيمة ما لو استخرجناه وانتفعنا به لكنا أغنى الأغنياء، ولملأنا الدنيا بما فيها من العلم والحكمة بما من الله به على أهل عصرنا من نعمة المطابع، وتعميم المواصلات وسرعتها بين الأقطار الشواسع، حتى صار جمع تلك الثروة الواسعة من كتب الحديث وشروحها سهلاً على كل من يريده، ولكن بعد أن قل من يريده حتى إن من المقلدين الجامدين من لا يرى لهذه الكتب فائدة إلا التبرك بها، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره وذكرها! ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر وإنني لما هاجرت إلى مصر سنة 1315 رأيت خطباء مساجدها الأزهر وغيره يذكرون الأحاديث في خطبهم غير مخرجة، ومنها الضعيف والمنكر والموضوع، ومثلهم في هذا الوعاظ والمدرسون، ومصنفو الكتب، فكنت أنكر ذلك عليهم كما بدأت بإنكار مثله على أهل بلدي طرابلس قبلهم، واخترت لأشهر خطبائهم من الأحاديث الصحاح والحسان المعزوة إلى مُخَرِّجِيهَا ما ختم بها خطب ديوانه. ولما أنشأت المنار في أواخر تلك السنة التزمت فيه تخريج ما أنقله فيه من الأحاديث، فكان لذلك بعض التأثير في بعض طلاب العلم في الأزهر، ثم في مدرس

جوامع كلم في شؤون الدول والأمم

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ جوامع كلم في شؤون الدول والأمم شعور المسلمين بهدمهم لقوة الإسلام وإعداد زعمائهم للاعتصام كان لكل فريق من واضعي أسس التفرق بين المسلمين بعصبيات المذاهب، فالجنس (الشعوبية) فاللغات، فالأوطان، فالطرائق منافع خاصة بكل منهم، ثم غلب الإسلام، فانحصرت هذه المنافع بزعمائهم في جامعة الإسلام، المانعة من التفرق والانقسام، إلا غلاة الشيعة فقد مرقت الباطنية منها، ثم استغل الإفرنج المستعمرون هذه الفرق كلها، واستخدموها في إذلال كل منها، بهدم الجامعة الإسلامية من أساسها، وقد شعر أكثر هؤلاء الزعماء في المشرق وأقلهم في المغرب بذلك، فيجب إشعار الباقين به وإعداد الجميع للدعوة التي ستنشر في العام الآتي مبينة لهم كيف ينتفعون بقوتهم الجامعة، مع حفظ منافعهم الخاصة، من جميع النواحي الدينية والدنيوية.

التعريف بكتاب مسائل الإمام أحمد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التعريف بكتاب مسائل الإمام أحمد بسم الله الرحمن الرحيم اللهم لك الحمد والشكر، ثم لمحمد رسولك خاتم النبيين الذي بلغنا عنك، فَصَلّ اللهم عليه وعلى آله وصحابته المبلغين عنه ما آتيته من كتابك وحكمتك، وعلى أتباعهم الحافظين عنهم ما بَلَّغُوا من بيانه وسننه، وجميع الناشرين للعلم والعاملين به، وسلم تسليمًا. أما بعد، فهذه أثارة من علم حافظ الملة، وإمام الأئمة، أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، كانت من مخبآت الخزائن، فاستخرجها منها بعض الأعوان على الخير؛ لنشرها على الأمة بنعمة الطبع. كان أكبر هَمِّ الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وجل عنايته مصروفًا إلى رواية الحديث ونقد رجاله تلقينًا وتصنيفًا، وإلى حفظ السنة النبوية المتبعة المأثورة بالعلم والعمل، على الهدي الذي كان عليه الصحابة والتابعون وصلحاء السلف، وما كان يريد أن يكون ذا مذهب في الفقه يُدَّون ويُتَّبع رأيه فيه؛ لأنه ما كان يبيح لأحد أن يقلده ولا أن يقلد غيره في فهمه ورأيه؛ وإنما كان يدعو الناس إلى الاتباع، وينهاهم عن الابتداع، حتى إنه كان يتحامى القياس ويرغب عنه، وقد روي عنه أنه قال: سألت الشافعي عن هذا القياس فقال: هو كلحم الميتة يباح للضرورة - أو قال كلمة بمعنى يباح والشك من الكاتب - ولذلك كتب الحديث والآثار والسنة وصفة الصلاة والرد على المبتدعة، ولم يصنف شيئًا في الفقه، ومن ثم قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتاب الأحكام أنه لم يذكر فيه خلاف الإمام أحمد؛ لأنه كان محدثًا لا فقيهًا. والحق أن الإمام أحمد كان محدثًا فقيهًا يرجع إليه العلماء فيما يشكل عليهم من مسائل الفقه، كما يرجعون إليه فيما يشكل عليهم من روايات الأحاديث ورواتها، ليعلموا ما يصلح وما لا يصلح للعمل به منها، وكان يجيب السائلين؛ ولكنه ما كان يحب أن يُنقل عنه ولا عن غيره شيء في الفقه إلا الحديث والسنن، وتفنيد المحدثات والبدع. قال صاحبه أبو الحسن أحمد بن الحسن الترمذي - وهو من شيوخ البخاري - عنه، أي: عن أحمد: سألت أبا عبد الله فقلت له: أكتب كتب الشافعي؟ فقال: ما أقل ما يحتاج صاحب الحديث إليه. وقال صاحبه عبد الملك بن عبد الحميد الميموني الرقي أبو الحسن: سألت أبا عبد الله عن مسائل فكتبتها فقال: إيش تكتب يا أبا الحسن؟ فلولا الحياء منك ما تركتك تكتبها، وإنه عليَّ لشديد، والحديث أحب إليَّ منها. قلت: إنما تطيب نفسي في الحمل عنك، إنك تعلم أنه منذ مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لزم أصحابه قوم، ثم لم يزل يكون للرجل أصحاب يلزمون ويكتبون. قال: من كتب؟ قلت: قال أبو هريرة: وكان عبد الله بن عمرو يكتب ولم أكتب فحفظ وضيعت. فقال لي: فهذا الحديث؟ فقلت له: فما المسائل إلا حديث، ومن الحديث تشتق. قال لي: أعلم أن الحديث نفسه لم يكتبه القوم. قال: لا. لمن يكتبون؟ قال: لا إنما كانوا يحفظون ويكتبون السنن إلا الواحد بعد الواحد الشيء اليسير منه، فأما هذه المسائل تدون وتكتب في الدفاتر فلست أعرف فيها شيئًا، وإنما هو رأي لعله قد يدعه غدًا ينتقل عنه إلى غيره. ثم قال لي: انظر إلى سفيان ومالك حين أخرجا ووضعا الكتب والمسائل كم فيها من الخطأ؟ وإنما هو رأي يرى اليوم شيئًا وينتقل عنه، والرأي قد يخطئ. فإذا صار إلى هذا الموضع دار هذا الكلام بيني وبينه غير مرة. اهـ. أقول: ذكر هذا عنه القاضي أبو الحسن محمد بن القاضي أبي يعلى الكبير في مختصر (طبقات الحنابلة) وقال قبله في ترجمة الميموني هذا: وعنده عن أبي عبد الله مسائل في ستة عشر جزءًا، وجزأين كبيرين بخط جليل مائة ورقة - إن شاء الله تعالى - أو نحو ذلك، لم يسمعه منه أحد غيري فيما علمت من مسائل لم يشركه فيها أحد، كبار جياد، تجوز الحد في عظمها وقدرها وجلالتها. اهـ. بحروفه ص 156 من الطبقات. وهكذا كان يسأل الإمام أصحابه وغيرهم عما يعرض لهم من المسائل؛ لأن إمامة العلم ورياسته قد انتهت إليه في بغداد عاصمة الخلافة وكعبة العلم، فأما أهل الرواية كالميموني فكانوا يروون عنه هذه المسائل، ومنهم صاحبه أبو داود في المسائل المجموعة في هذا الكتاب، وأما سائر الناس فكانوا يعملون بما يقوله ويفتي به، وإفتاء العامي فيما يعرض له واجب على أولي العلم؛ ولكن أحمد كان ينهى أن يتخذ فهمه دينًا يقلد فيه، وكذا سائر الأئمة كما صرح به الإمام المزني عن الشافعي في أول مختصره، وأنه كتبه لأجل النظر فيه، أي مساعدة على فتح باب الفهم، وأن الشافعي نهى عن تقليده فيه؛ وإنما يعمل الناظر في العلم بما يقوم الدليل عنده على صحته، وقد بكى مالك في مرض موته؛ إذ بلغه أن الناس يعملون بقوله لذاته، مع أنه قد يرجع هو عنه. ولما دَوَّن أتباعه الفقه على مذهبه جمعوا ما وصل إليهم من المسائل المجموعة، والروايات المتفرقة، ووضعوها في أبوابها، ومن أجل هذا تجد الروايات والأقوال عنه كثيرة مختلفة، وقد وضعوا للاختلاف فيها وترجيح بعضها على بعض قواعد، ولو كان هو المدون للفقه لما احتاجوا إلى ذلك؛ لأنه كان يكون عند الكتابة يدون ما يرى أنه الحكم، أو يذكر في المسألة وجهين على الأكثر، ووضعوا اصطلاحًا لألفاظه المختلفة في التعبير عما يراه، وعما لا يراه في المسألة كقوله: لا ينبغي، لا يعجبني، لا يصلح، أستقبحه، هو قبيح، أكرهه، لا أحبه، هذا أقبح أو أشد. وفي مقابله: أحب كذا، يعجبني، هو أعجب إلي، هذا حسن أو أحسن، وقد بين هذا وذاك العلامة ابن مفلح في فاتحة كتابه (الفروع) وإنما كان يقول هذا حتى لا يكون جازمًا بأنه هو حكم الله تعالى، وما كان يخطر ببال أحدهم أن الناس سيتركون ما صح في السنة والحديث تقديمًا لأقوالهم عليها، هذا ما كانوا يخافون من كتابة الفقه، وليس فيما عداه إلا النفع للأمة والإعانة على العلم، وفتح أبواب الفهم، فجزاهم الله خير الجزاء. لا أعلم أن شيئًا من المسائل التي نقلها عن الإمام راوٍ واحد رويت عمن سأله عنها، ودونت في زمن راويها إلا هذه المسائل التي رواها عنه أشهر أصحابه أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني صاحب السنن المشهورة، فإن النسخة المحفوظة في المكتبة الظاهرية بدمشق قد سمعت وكتبت في سنة 266 للهجرة، وكانت وفاته سنة 275 فهي قد كتبت في عصره، ومن العجب أن علماء المذهب لم يعتنوا بها بعد ذلك بما ينبغي لمثلها من الرواية والشرح حتى إن صاحب مختصر الطبقات لم يذكرها في ترجمته، ولم نجد لها ذكرًا في كتاب (كشف الظنون) ولا في فهرس المكتبة المصرية الكبرى، وإن ما فيها من الفقه لهو من أصح ما يعزى إلى أحمد أو أصحه؛ لأنه كتب بلفظه في عصره، ولا يستغنى عنه بغيره. لهذا نعد من حسنات هذا العصر، عصر تجديد العلم ونشر كتب السلف بالطبع أن وفق الله تعالى الشيخ إبراهيم بن حمد الصنيع السلفي النجدي أحد كرام تجار جدة لطبع هذا الكتاب بعد العثور على نسخة المدينة المنورة واستنساخها، وأن أشار عليه بعض أهل المعرفة والرأي أن يكلف الأستاذ الأمين المدقق عالم الشام الشيخ محمد بهجة البيطار معارضتها على نسخة المكتبة الظاهرية وتصحيحها بالمقابلة عليها، وقد تبرع الأستاذ بهذا العمل الشاق وجرى فيه على الطريق الوعر بأن أحصى كل ما رأى من الاختلاف بين النسختين، وأثبت في حواشي النسخة المدنية التي جُعِلَت هي الأصل للطبع ما يخالفها في النسخة الظاهرية من تحريف وتصحيف وزيادة ونقصان وهو كثير جدًّا، وترى بيان هذا بقلمه في آخر الكتاب. وكان من سوء الحظ أن نسخة المدينة كثيرة الغلط حتى إن منه ما هو تحريف أو تصحيف ظاهر لا يحتمل الصواب، وأن النسخة الظاهرية تخالفها في أكثره إلى الصحيح كما صرحت به في بعض تعليقاتي عليه، ومثل هذا الاختلاف لا يصح أن يُجْعَل اختلاف رواية ولا اختلاف فهم، وقد كتب الأستاذ رأيه في بعض الخطأ اللفظي والمعنوي في الكتاب، ومنه اختلاف قولي الإمام في المسألة الواحدة، ونصح لمريد طبع الكتاب أن يطبعه في مطبعة دار المنار بمصر، وأن تكلفني ما لا يكلَّف مثله صاحب مطبعة من النظر في المشكلات المعنوية والمسائل الخفية، وضبط الروايات وأسماء الرجال المشتبهة والتي لا تعرف لما وقع فيها من التحريف، وكتب في ذلك جدولاً فيه عشرات من هذه المسائل، وقد أرسل إليّ هذا الجدول بعد الاتفاق مع مدير المطبعة على شروط الطبع، ومنها أن يكون تصحيح المطبعة على الأصل المرسل تحت إشرافي ومراجعتي. وقد قمت ولله الحمد بأكثر مما كلفته من تصحيح المسائل المشكلة والخفية وأسماء الرجال التي أحصاها الأستاذ ابن البيطار، ومنها ما كتبت له حواشي وضعت اسمي في آخرها أو أولها، وربما تُرك ذكر الاسم أو سقط من بعضها، ومنها ما لم أضع له حاشية لئلا تكثر الحواشي بغير فائدة، ولم يكن من الممكن بيان جميع المسائل الخفية في الأصل وهي صحيحة مع كثرتها إلا بشرح مطول لها يكون أضعاف الأصل في حجمه؛ فإن هذه المسائل لم يُقْصَد بشيء منها أن تكون بيانًا تامًّا لمسألة فقهية أو اعتقادية أو حديث أو تاريخ راوٍ لأجل تلقينها لطلاب العلم أو المستفتين؛ وإنما هي إشارات وجيزة من حافظ عليم إلى مشكلات عنده لإمام أعلم منه، فيكفيه أن يشير إليها بلفظ مفرد أو جملة وجيزة تامة أو غير تامة، ويقنعه من الجواب عليها مثل ذلك، فمن لم يكن على علم بموضوع المسألة من هذا النوع فلعله لا يفهم السؤال والجواب، وناهيك بالسؤال عن حديث بذكر كلمة منه ولو في بعض رواياته، أو بذكر أحد رواته باسمه أو لقبه أو كنيته، على ما في هذه الأعلام من الاشتراك والاشتباه، ثم ناهيك بالجواب عنه بكلمة مبهمة أو باسم آخر، وغير ذلك مما كان معروفًا عند السائل والمسؤول، وأشباه هذا مما تكرر في هذه المسائل، ولو ضربت له الأمثال هنا لأطلت في غير طائل. عرفت كثيرًا من التحريف والتصحيف لأسماء رجال الحديث في إحدى النسختين أو كلتيهما بشهرتهم، وكثرة مرور أسمائهم على ضعف حفظي وذكري للأعلام كالأرقام، وشككت في بعضها فراجعت عما أحاله عليَّ الأستاذ ابن البيطار من المشكوك فيه فصححته، بل قمت بأكثر مما عُهِدَ إلي من التصحيح بقدر الإمكان، كما قام هو بأكثرها مما عُهِدَ إليه أيضًا، فنسأل الله أن يثيبنا على هذه الخدمة. ولو نقلت نسخة المكتبة الظاهرية بالتصوير الشمسي، أو كتبت عنها نسخة وصححت عليها، وكلفنا الطبع عنها مع معارضتها على النسخة المدنية لَمَا تعبنا عُشْر هذا التعب في تصحيحها، ولما زادت حواشيها على عُشْر هذه الحواشي، ولجاء المطبوع أصح وأظهر في القراءة وأقرب إلى الفهم، لعدم الحاجة إلى الحواشي عند القراءة إلا قليلاً، ومن ذا الذي كان يعلم هذا الفرق كله بين النسختين؛ فيخبر مريد طبع الكتاب به، ويقترح عليه العمل به. أما أنا فلم أقرأ شيئًا من النسخة المخطوطة التي أرسلت إلى مطبعة المنار؛ لأنني لم أكلف قراءة الأصل، ولم أشعر بالحاجة إليه بعد العلم بتصحيح الثقة الأمين الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار له بالصفة التي يعرفها القراء مما وصفه لهم؛ وإنما كنت أنظر فيما جمع منه في المطبعة للإشراف على تصحيح مصححها، وللنظر فيما عهده إلي من (مشكلاتها الفقهية والحديثية وأسماء الرواة) ولم أفطن لفضل النسخة الظاهرية على المدنية إلا بعد طبع كراسات منه، وأظن أن ما وقع لي من هذا مثل الذي وقع للأستاذ ابن البيطار في معارضة النسختين، وما ك

عهد التحكيم بين المملكة العربية السعودية وبين مملكة اليمن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ عهد التحكيم بين المملكة العربية السعودية وبين مملكة اليمن بسم الله الرحمن الرحيم بما أن حضرة صاحبي الجلالة الإمامين الملك عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية والملك يحيى ملك اليمن قد اتفقا بموجب المادة الثامنة من معاهدة الصلح والصداقة وحسن التفاهم المسماة بمعاهدة الطائف، والموقع عليها في السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخسمين بعد الثلاثمائة والألف على أن يحيلا إلى التحكيم أي نزاع أو اختلاف ينشأ عن العلاقات بينهما وبين حكومتيهما وبلاديهما متى عجزت سائر المراجعات الودية عن حله؛ فإن الفريقين الساميين المتعاقدين يتعهدان بإجراء التحكيم على الصورة المبينة في المواد الآتية: - (المادة الأولى) يتعهد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين بأن يقبل بإحالة القضية المتنازع فيها على التحكيم خلال شهر واحد من تاريخ استلام طلب إجراء التحكيم من الفريق الآخر إليه. (المادة الثانية) يجري التحكيم من قبل هيئة مؤلفة من عدد متساوٍ من المحكمين ينتخب كل فريق نصفهم، ومن حَكَم وازع يُنتخَب باتفاق الفريقين الساميين المتعاقدين، وإن لم يتفقا على ذلك يرشح كل منهما شخصًا، فإن قبل أحد الفريقين بالمرشح الذي يقدمه الفريق الآخر؛ فيصبح وازعًا، وإن لم يمكن الاتفاق على ذلك تجرى القرعة على أيهما يكون وازعًا، مع العلم بأن القرعة لا تجري إلا على الأشخاص المقبولين من الطرفين، فمن وقعت القرعة عليه أصبح رئيسًا لهيئة التحكيم، ووازعًا للفصل في القضية، وإن لم يحصل الاتفاق على الأشخاص المقبولين من الطرفين تجرى المراجعات فيما بعد إلى أن يحصل الاتفاق على ذلك. (المادة الثالثة) يجب أن يتم اختيار هيئة التحكيم ورئيسها خلال شهر واحد من بعد انقضاء الشهر المعين لإجابة الفريق المطلوب منه الموافقة على التحكيم لقبوله لطلب الفريق الآخر، وتجتمع هيئة المحكمين في المكان الذي يتم الاتفاق عليه في مدة لا تزيد عن شهر واحد بعد انقضاء الشهرين المعينين في أول المادة، وعلى هيئة المحكمين أن تعطي حكمها خلال مدة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تزيد عن شهر واحد من بعد انقضاء المدة التي عينت للاجتماع كما هو مبين أعلاه، ويعطى حكم هيئة التحكيم بالأكثرية، ويكون الحكم ملزمًا للفريقين، ويصبح تنفيذه واجبًا بمجرد صدوره وتبليغه، ولكل من الفريقين الساميين المتعاقدين أن يعين الشخص أو الأشخاص الذين يريدهم للدفاع عن وجهة نظره أمام هيئة التحكيم، وتقديم البيانات والحجج اللازمة لذلك. (المادة الرابعة) أجور محكمي كل فريق عليه، وأجور رئيس هيئة التحكيم مناصفة بينهما، وكذلك الحكم في نفقات المحاكمة الأخرى. (المادة الخامسة) يعتبر هذا العهد جزءًا متممًا لمعاهدة الطائف الموقع عليها في هذا اليوم السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخمسين بعد الثلاثمائة والألف، ويظل ساري المفعول مدة سريان المعاهدة المذكورة، وقد حُرِّر هذا من نسختين باللغة العربية يكون بيد كل من الفريقين الساميين المتعاقدين نسخة. وقرارًا بذلك جرى توقيعه في اليوم السادس من شهر صفر سنة ثلاث وخمسين بعد الثلاثمائة والألف. ... ... ... ... ... (التوقيع) خالد بن عبد العزيز السعود ... ... ... ... ... (التوقيع) عبد الله بن أحمد الوزير * * * بسم الله الرحمن الرحيم ... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353 من خالد بن عبد العزيز إلى حضرة الأخ صاحب السيادة السيد عبد الله الوزير المندوب المفوض من قبل جلالة الإمام يحيى حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فإنه بمناسبة توقيع معاهدة الطائف بيننا وبينكم نيابة عن جلالتي ملكي المملكة العربية السعودية والمملكة اليمانية أحب أن أثبت لكم في كتابي هذا أنه لا يمكن اعتبار تلك المعاهدة، وقبول إنفاذ مقتضاها إلا في إثبات ما يأتي: 1- أن يجري تسليم الأدارسة، وإخلاء جبالنا في تهامة، وإطلاق رهائن أهلها حالاً. 2- أن يظل مضمون هذه المعاهدة مكتومًا، ولا ينشره أحد الفريقين، ولا سيما ما يتعلق منها بمسألة الحدود لما يحدث ذلك من التشويش في تهامة خاصة، وإن انسحاب جند جلالة الملك عبد العزيز يكون بكامل الصيانة والشرف من ابتداء انسحابه إلى آخره وكل حادث عدواني عليه في خلال تلك المدة يكون مضمونًا من قِبَل جلالة الإمام يحيى، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. ... ... ... ... ... ... (التوقيع) ... ... ... ... ... ... خالد بن عبد العزيز السعود * * * بسم الله الرحمن الرحيم ... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353 من عبد الله الوزير إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد المفوض من قبل جلالة الملك عبد العزيز حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تلقيت كتاب سموكم تاريخ 6 صفر 1353، وقد أحطت علمًا بما اشترطتموه سموكم لإنفاذ معاهدة الطائف التي عقدت بين الفريقين من تسليم الأدارسة، وإخلاء الجبال التي كانت محتلة من قبل جنود جلالة الإمام يحيى من بلاد جلالة الملك عبد العزيز، وإطلاق رهائن أهلها، وأن تظل هذه المعاهدة مكتوبة، وعلى الأخص مسألة الحدود إلى أن يتم ترتيب الاتفاق الذي اتفقنا عليه لإنفاذه، وإن انسحاب جند جلالة الملك عبد العزيز يكون بكامل الصيانة والشرف من ابتداء انسحابه إلى آخره وإن كل حادث عدواني عليه في خلال تلك المدة يكون مضمونًا من قبل جلالة الإمام يحيى، لقد أحطت علمًا بذلك، ويسرني أن أعلن سموكم بقبولنا وموافقتنا لاشتراطكم، وأنه سيكون مرعيًّا من جهتنا، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع) عبد الله بن أحمد الوزير * * * بسم الله الرحمن الرحيم ... ... ... ... ... ... ... تحريرًا في 6 صفر 1353 من عبد الله الوزير إلى حضرة صاحب السمو الملكي الأمير خالد المفوض من قبل جلالة الملك عبد العزيز حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فأتشرف بأن أثبت هنا إلحاقًا بمعاهدة الطائف الموقع عليها من قبل سموكم نيابة عن جلالة الملك عبد العزيز، والموقعة من قبلي نيابة عن جلالة الملك الإمام يحيى، وأتعهد باسم جلالة الإمام يحيى بما هو آتٍ: 1- تسليم الأدارسة لجلالة الملك عبد العزيز، وقد عملت الترتيبات اللازمة لتسليم السيد الحسن والسيد عبد العزيز بن محمد الإدريسي، وسيسلمون حالاً لرجال سمو الأمير فيصل في تهامة، أما السيد عبد الوهاب الإدريسي فنظرًا لأنه لا يزال إلى الآن في بلاد العبادل فقد اُتخذت الوسائل والوسائط لاستدعائه من تلك الأنحاء لتسلميه، فإن لم يطع الأمر فأتعهد باسم جلالة الإمام يحيى بشأنه بما يأتي: أ - أن تمتنع حكومة الإمام يحيى عن كل مساعدة مادية أو معنوية له، وأن تمنع عنه من بلادها أي معاضدة أو معاونة. ب - إذا أرادت حكومة جلالة الملك عبد العزيز القبض عليه في الأراضي التي هو فيها؛ فإن حكومة الإمام يحيى ستعمل من جهتها سائر أنواع التضييقات العسكرية التي تستطيعها لمنع فراره إلى أراضيها، وتتعهد أن تلقي القبض عليه، وعلى كل شخص اشترك معه في حركته من أي جهة وقبيل من قبائل المملكة العربية السعودية، وأن تسلمهم لحكومة جلالة الملك عبد العزيز بغير شرط ولا قيد إذا دخلوا إلى جهات المملكة اليمانية، وأن تمنع فراره أو فرار أي شخص من الذين اشتركوا معه في عمله إلى الخارج إذا دخلوا إلى أراضي المملكة اليمانية. 2- أما من كان له تعلق بالأدارسة وحركتهم من الأشراف أو غيرهم، فإذا أرادوا اللحاق بالإدريسي فلهم الأمان من قبل حكومة جلالة الملك عبد العزيز والصيانة والاحترام والإكرام اللائق بحقهم، وإذا لم يشاؤوا ذلك فإنهم يخرجون من بلاد جلالة الإمام يحيى، ولا يسمح لهم بالبقاء فيها، وإذا عادوا إليها مرة أخرى فَيُطْرَدُون حالاً - ويُنْذَرُون بأنهم إذا عادوا يسلمون إلى حكومة جلالة الملك عبد العزيز، فإن عادوا بعد طردهم، فأتعهد باسم جلالة الإمام يحيى بتسليمهم إلى حكومة جلالة الملك عبد العزيز بغير قيد، ولا شرط. فأرجو أن تعتبروا هذا سموكم عهدًا وثيقًا له منزلة المعاهدة المعقودة بيننا وبين سموكم بهذا اليوم، وعلى هذا عهد الله وميثاقه، وأرجو أن يكون هذا طبقًا للاتفاق الشفوي الذي اتفقنا عليه في هذا الشأن، وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع) ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن أحمد الوزير * * * بسم الله الرحمن الرحيم ... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353 من خالد بن عبد العزيز إلى حضرة صاحب السيادة الأخ السيد عبد الله الوزير المندوب المفوض من قبل جلالة الملك الإمام يحيى حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله، وبعد فأتشرف بأن أعلمكم باستلامي كتاب سيادتكم بتاريخ اليوم بشأن ما تعهدتم به باسم جلالة الإمام يحيى بشأن الأدارسة وأتباعهم، وأنا على ثقة بأن ما تعهدتم به سيكون تنفيذه بمقتضى الأمانة والوفاء المأمول في جلالة الإمام يحيى، ونتمنى أن يكون تنفيذ ذلك بأسرع مدة ممكنة. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع) ... ... ... ... ... ... ... خالد بن عبد العزيز السعود * * * بسم الله الرحمن الرحيم ... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353 من خالد بن عبد العزيز إلى حضرة المكرم السيد عبد الله الوزير حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فبمناسبة توقيع معاهدة الطائف بين مملكتنا ومملكة اليمن أثبت هنا ما اتفقنا عليه بشأن تنقلات المتنقلين من رعايا المملكة العربية السعودية، ورعايا المملكة اليمانية في البلدين، أن التنقل في الوقت الحاضر يظل على ما كان عليه في السابق إلى أن يوضع بين البلدين اتفاق خاص بشأن الطريقة التي ترى الحكومتان، متفقًا اتخاذها من أجل تنظيم الانتقال سواء للحج أو التجارة وغيرها من الأغراض والمنافع، فأرجو أن أنال جوابكم بالموافقة على ما اتفقنا عليه بهذا الشأن. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. ... ... ... ... ... (التوقيع) خالد بن عبد العزيز السعود * * * بسم الله الرحمن الرحيم ... ... ... ... ... ... ... ... حُرر في 6 صفر 1353 من عبد الله الوزير إلى صاحب السمو الملكي الأمير خالد المفوض من قبل جلالة الملك عبد العزيز حفظه الله تعالى. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد تلقيت كتاب سموكم تاريخ 6 صفر بشأن تنقلات رعايا الفريقين بين البلدين، وإنني على اتفاق مع سموكم في أن يكون الانتقال في الوقت الحاضر طبقًا للطريقة التي كان السير عليها من قبل إلى أن يوضع اتفاق خاص بشأن تنظيم الانتقال في المستقبل، وإن ذلك سيكون مرعيًّا من جانب حكومتنا كما هو مرعي من جانب حكومتكم. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... (التوقيع) ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله بن أحمد الوزير * * * فبعد أن اطلعنا على هذه المعاهدة السالفة الذكر، وعلى عهد التحكيم والكتب التي ألحقت بها، وأمعنا النظر فيها صدقناها وقبلناها وأقررناها جملة في مجموعها ومفردة في كل مادة وفقرة منها، كما أننا نصدقها ونبرمها، ونتعهد ونعد وعدًا ملوكيًّا صادقًا بأننا سنقوم - بحول الله - بما ورد فيها، ونلاحظه بكمال الأمانة والإخلاص، وبأننا لن نسمح بمشيئة الله بالإخلال بها بأي وجه كان طالما نحن قادرون على ذلك، وزيادة في تثبيت صحة كل ما ذكر فيها أمرنا بوضع خاتمنا على هذه الوثيقة، ووقعناها بيدنا، والله خير الشاهدين حرر بقصرنا في الطائف في الخامس والعشرين من ش

تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي ـ 3

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي (تابع لما قبله) معجزة القرآن أنقل هنا ما نشرته مجلة المشرق من الطعن في معجزة القرآن بحروفه، ثم أفنده بالبرهان، وهذا لا يفعله أحد من رجال النصرانية لا الكاثوليك، ولا غيرهم لعلمهم بأنهم إذا نقلوا كلامنا إلى أتباعهم لا يقدرون على الرد عليه بما يقنع أتباعهم فضلاً عن غيرهم. قال في ص 957، 958 من سنة 1933 لمجلة المشرق ما نصه بغلطه اللفظي والمعنوي. (من المعلوم أن المسلمين يستشهدون بكتابهم على صدق نبوة محمد فهو عندهم آية الآيات، والأعجوبة الصريحة، والدليل القائم بذاته على مدى الأيام داعيًا إلى الهدى من غير شاهد يشهد بصحة نسبته إلى أصله، كأن به توقيع الله بالذات، ويدعمون قولهم بما ينسبونه إلى مفاعيل القرآن من الحوادث العظمى التي قلبت فئة عظيمة من البشر ظهرًا لبطن، وبالاختصار فالقرآن عندهم كما يقول السيد محمد رشيد رضا هو معجز للخلق بلفظه، ونظمه وأسلوبه، وعلومه وهدايته، وبذلك هو (آية لا كالآيات، ونور لا كالأنوار) (ص 59) . ولكن ما هي قيمة تلك المعجزة وما هي حقيقة مفاعيلها؟ قال الأب دي لانفرسان محرر مجلة (في أرض الإسلام) الإفرنسية: (ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن الأدبية، كما وأنه ليس من يشك في قيمة التوراة اللغوية في الترجمة الإنكليزية أو في الترجمة الألمانية لمؤلفها لوتر على أن تلك القيمة البشرية محضة، وقد يتاح لكل إنسان مثقف أن يتحققها تحققًا متفاوتًا مع تفاوت تضلعه من اللغة، ومن آداب البلاد التي وضع فيه الكتاب؛ ولكن تلك القيمة الأدبية ليست مما يزيد أو ينقص في قيمة المتن الدينية (إننا لا ننكر على القرآن القيمة الدينية، ونحن على بينة من مفعوله في إثارة عواطف السجود والصلاة والتسليم لإرادة الله، وهناك جمهور المتصوفين الصادقين من استقوا من مناهل القرآن على مدى الزمان مناهل المودة الصادقة لله عز وجل. (ولكن محور كلامنا لا يدور على تأثير القرآن في النفوس، بل على السؤال هل القرآن بذاته دليل؟ هل هو بذاته آية الآيات ومعجزة المعجزات كما يسميه السيد محمد رضا (ص 59) وقبله الكثيرون من كبار أئمة المسلمين؟ هل القرآن هو كلام الوحي، لا بمعنى الوحي الشعري أو الفني المعروف عند أهل الفن والأدب بالوحي النفسي (كما ذكره المؤلف ص 29) ولكن بالمعنى الكامل المألوف عند رجال الدين أعني به كلام الله الحي؟ (بعيد عنا القول أن كتابًا موحى به من الله وحيًا بينًا لا يمكن أن ينم عن أصله الإلهي من غير أدلة خارجه عنه، وإنه من المستحيل أن يشهد الكتاب بذاته لصاحبه فتثبت فيه علامة الله وتوقيعه؛ ولكن الصعوبة كل الصعوبة هي في أن تتحقق تلك العلامة من غير ما أن نخشى الضلال، ولا نخاف أن نكون غلطنا في تحقيقنا، وما المشكل إلا مشكل الدليل الباطني، وهو شهير عند أهل التفسير؛ فإن قيمة الدليل الباطني على صحة الوحي لم تقع قط في الجدال؛ ولكن الجدال إنما هو في تطبيق العلامة والدليل الباطني تطبيقًا لا يترك مجالاً للريب؛ ولذلك فقد أجمع المفسرون على القول: إن الدليل الخارجي هو أشد تأثيرًا من الباطني؛ لأنه أبعد منه عن خطر الغلط، وآمن على سلامة التأكيد) (ففي الأمر الواقع ليس للدليل الباطني قيمة إلا القيمة السلبية، أي: أنه ينفي كون مؤلف من المؤلفات يمكن أن يكون قد خرج من عقل بشرى) اهـ بحروفه. (المنار) : في هذه العبارة شبهات نشير إلى دحضها بالإجمال. *** الشهبة الأولى في الموازنة بين القرآن والتوراة والإنجيل في البلاغة نقل عن أحد آبائهم أنه (ليس في يومنا من يخالف في قيمة القرآن اللغوية) ؛ ولكنه زعم أنه يشاركه في ذلك ترجمتا التوراة الإنكليزية والألمانية. والجواب عنها من وجهين: (أحدهما) أن القرآن معجز للبشر بعبارته اللغوية، عجز عن الإتيان بسورة من مثله فحول بلغاء العرب الذين اشتهروا بالفصاحة والبلاغة، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يعد من طبقتهم فيها، وقد تحداهم الله بأن يأتوا بسورة مثله مصرحًا بأنهم لن يفعلوا، وكانوا أحرص الناس على تكذيبه، فلو قدروا لفعلوا، واستمر هذا الإعجاز إلى يومنا هذا، ولم يقل أحد من الإنكليز، ولا من الألمان: إن ترجمة التوراة معجزة للبشر لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها فظهر الفرق كفلق الصبح أو أشد نورًا. (الوجه الثاني) لماذا لا يوازنون بين القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والتوارة التي جاء بها موسى عليه السلام من عند الله، وهي أصل دينهم فأين هي؟ وأين الإنجيل الذي جاء به عيسى المسيح عليه السلام، ويذكرون في كتب العهد الجديد أنه أمر تلاميذه أن يكرزوا به في الخليقة كلها؟ ولماذا لا يوازنون بين قيمته الأدبية وقيمة القرآن؟ حسب القرآن أنه هو الذي جاء به محمد رسول الله وخاتم النبيين، فيعرف به أصل دينه معرفة قطعية؛ ولكن ما جاء به أخواه موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام غير موجود بنصه الحرفي، وهذه الترجمات الموجودة لا يمكن إثبات أخذها عن أصلها لفقده من العالم، وهي مختلفة متعارضة متناقضة، فكيف يؤثق بأنها مطابقة لأصلها لو كان موجودًا؟ * * * الشبهة الثانية في دلالة هداية القرآن الدينية على كونه من الله اعترف أيضًا بأنهم لا ينكرون هداية القرآن الدينية من التسليم لإرادة الله تعالى والعبادة الصادقة له؛ ولكنهم ينكرون أن يكون تأثيره هذا دليلاً على أنه من عند الله تعالى، وآية على صحة محمد صلى الله عليه وسلم، والجواب عنها من ثلاثة أوجه: وجهين عقليين، والثالث نقلي مسيحي (الأول) إننا لم نحصر البرهان على كون القرآن وحيًا من الله تعالى في تأثير هدايته للبشر، ولا في إعجاز لغته بل أوردنا في كتاب الوحي المحمدي، ثم في غيره من تفسيرنا براهين أخرى عقلية وعلمية على ذلك حسبه منها اتفاق علماء الإفرنج في هذا العصر على أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يأتي بكتاب في الذروة العليا من البلاغة والفصاحة اللغوية بعد دخوله في سن الأربعين إذا لم يكن قد مارس هذا النوع من الكلام، أو تمرن في سن الصبا والشباب، وأنه ليس في استطاعة أحد من البشر أن يأتي بكتاب ممتاز في العلوم الدينية أو الأدبية أو التشريع المدني والسياسي بعد بلوغ سن الأربعين إذا كان لم يمارس هذه العلوم بالتلقي والبحث والعمل قبل ذلك، وقد ثبت بالتواتر أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نشأ أميًّا بين قوم أميين لم يزاول شيئًا من هذا ولا مما قبله، وقد احتج عليهم بهذا كما أمره الله بقوله: {قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (يونس: 16) وإذا كان هذا الكتاب الذي يعترف اليوم أعدى أعدائه، وأشد خصومه جدلاً ومراءً بقيمته اللغوية والأدبية والدينية وتأثيره الحسن في العالم محالاً أن يكون من تأليف محمد بهذا البرهان العلمي، فهل يمكن أن يكون إلا بوحي من الله تعالى له؟ وهل يوجد في كتب الوحي التي يؤمنون بها ما يساويه في هذه الحجة؟ (الوجه الثاني) إن ما كان للقرآن من التأثير في هداية الملايين من البشر إلى معرفة الله تعالى، وعبادته الصادقة، وترك ما كانوا عليه من عبادة الأصنام والأوثان والأشجار والكواكب والحيوان والإنسان (وابن الإنسان) من أكبر البراهين على أنه من وحي الله وكلامه، وهل بعث الله تعالى رسله وأنزل كتبه إلا لأجل هذا؟ وهل وجد كتاب من كتبه كان له أكبر من هذا التأثير أو مثله في هذه الهدية؟ قد بسطنا الجواب السلبي عن هذا الاستفهام في كتاب الوحي المحمدي. إذا كان الماديون المعطلون أو المنكرون للوحي والنبوة من أساسها ينكرون هذه الدلالة على الوحي؛ لأنها فرع الإيمان بالأصل وهو وجود الله تعالى ورسالة الرسل، فكيف ينكرها من يدعون الإيمان بهما؟ هذا ما تعجب منه موسيو مونتيه أستاذ اللغات الشرقية في جامعة جنيف إذ قال: إنه لا يعقل أن يوجد أحد يؤمن بنبوة أنبياء بني إسرائيل ولا يؤمن بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وبيانه كما بسطناه في كتاب خلاصة السيرة المحمدية وكتاب الوحي أنه إذا جاءنا رجل بكتاب في الطب والعلاج، ورأينا جميع المرضى الذين عملوا به برئوا من أمراضهم، ألا يكون هذا أقوى دليل على صدقه وصحة ما فيه من العلم؟ بلى وإن هذا الكتاب لا يحتاج إلى من يشهد له بأنه كتاب طب مفيد؛ لأن الشهادة الفعلية القطعية أصدق من الشهادات القولية وحدها، ويمكن أن يعرفها كل أحد؛ ولهذا كان السبب الأكبر لإسلام أكثر الأعاجم في الصدر الأول ما شاهدوه بأعينهم وعرفوه باختبارهم من سوء حالة العرب المشركين الجاهلين قبله، وانقلابهم بهدايته وسنة النبي الأمي الذي جاء به أئمة يهدون بالحق، وبه يعدلون؛ فتحول كثير من اليهود والروم وأكثر النصارى من السوريين والكلدان والآشوريين والأرمن والقبط والبربر عن نصرانتيهم إلى الإسلام، وكذا المجوس والهنود الذين كانوا قرناء الروم في حضارتهم وفلسفتهم. أما العرب فكان سبب إيمانهم إعجازه اللغوي والعلمي وتأثيره وسلطان آياته على العقول والقلوب، والاقتناع بأنها حق وخير لهم، مع حالة من جاءهم به؛ إذ كان إلى سن الأربعين غير معروف ببلاغة ولا علم، وغير ممتاز على أهل وطنه وبيئته إلا بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق. إن معترض مجلة المشرق يسمي هذا وذاك من الأدلة الباطنية التي ليس لها إلا القيمة السلبية، أي: أنه ينفي كون هذا الكتاب قد خرج من عقل بشري، وقد غفل عن كون المؤمن بالله وبوحيه يضطر أن يؤمن بما كان كذلك أنه من الله تعالى؛ إذ لا موجود يقدر عليه غيره فقامت عليه الحجة. (للرد بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))

العبرة بسيرة الملك فيصل ـ 8

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبرة بسيرة الملك فيصل رحمه الله تعالى (8) يوم الجمعة 25 شعبان 14 مايو سنة 1920 قابلت ضحوة هذا اليوم الملك فيصلاً بداره، فأخبرني أن والده وافق على ما اقترحناه من تنفيذ مشروع (الوحدة العربية) والاتفاق مع ابن سعود مع المحافظة على شرفه وفوضه بذلك (قال) فيمكننا الآن إرسال وفد علني إلى ابن سعود، وقد عقد والدي اتفاقًا مع إمام اليمن. ثم قال: إنه جاءه من مصر أن الإدريسي (أي السيد محمدًا الكبير) أرسل إليّ كتابًا مع رجل اسمه السيد محمد السقاف، وسيصل إلى هنا حاملاً له في هذين اليومين (قال) وإنه يمكن عقد اجتماع في هذا العام في طابة. وأخبرته بمسألة استقدام ضيفنا وصاحبه (ضيفنا لقب أطلقناه بمصر على صاحب حجازي لنا يشتغل بالسياسة، وكنت استأذنت الملك بطلبه إلى الشام فأذن) . ثم تكلمنا في مسألة العشائر، وهي تكاد تتم إن شاء الله تعالى اهـ. هذا ما كتبته في مذكرتي في ذلك اليوم بعد فراق الملك فيصل، وأعني بكلمتي الأخيرة أنني لم أترك مسألة السعي لتنظيم عشائر سورية وقبائلها بعد سقوط وزارة الركابي باشا؛ لأنني رأيت الملك فيصلاً لا يزال يُظْهِر لي عنايته بها، ووعد يومئذ بتنفيذها. وأقول الآن: إن كل ما ذكرت هنا من الأخبار لم يصح منه شيء، وأما الآراء فكان الملك فيصل ثابتًا على وجوب سعينا إلى (الوحدة العربية) والتوسل بما يعتقد من اتصال المودة بيني وبين ابن السعود على إدخاله فيها، وأنها لا تتم بدونه، وكان موافقًا لي على أن والده هو العقبة الأولى في هذه السبيل، فإذا ذُلِّلَت واقتحمت كان عقبة ابن سعود أهون منها. *** مكاتبة أمراء العرب في مؤتمر الوحدة العربية يوم الأحد 5 رمضان 23 مايو أرسلت قبل نصف الليلة البارحة إلى الملك فيصل الكتاب الذي طلبه مني لإرساله إلى ابن سعود، وقابلته ضحوة اليوم بداره الخاصة، وتكلمنا في المسألة العربية، وإمكان جمع مؤتمر من زعماء العرب في المدينة المنورة أو أي مكان يختارونه، وقال: إن والده يوافق على ذلك. وتكلمنا في مسألة سورية أيضًا، ومسألة سفره إلى أوربة، وعدم ارتياح الناس إلى هذا السفر وسببه، ومما قلته له (وهو فصل الخطاب) : إن المسألة يمكن اختصارها بكلمة واحدة، وهي هل يكون حكم البلاد لنا ونحن نستخدم من الأوربيين من نرى المصلحة في استخدامه؟ أم يكون لهم ويستخدمون منا آلات لإدارته؟ اهـ. وأقول الآن: قد بينت فيما تقدم أن الرجل لم يتغير رأيه بعد إعلان الاستقلال عما كان قبله من وجوب اتفاقه مع فرنسة على طريقة الحكم في سورية، وأن الوسيلة لذلك أن تفوض إليه البلاد عقد هذا الاتفاق، وقد كان يطلب هذا التفويض من الزعماء، وكان من أركانهم الأستاذ الشيخ محمد كامل قصَّاب رئيس الجمعية الوطنية، وهو معارض شديد، وكان الدكتور شهبندر من أقوى أنصاره، ثم اطمأن الملك لموافقته له بعد أن صار وزيرًا، وقد صار في البلاد مؤتمر عام له شأن، وكان يذاكرني في هذه المسألة منذ اجتمعنا في بيروت عند عودته من أوربة كما تقدم بعدِّه إياي من أصحاب الرأي (الناضج كما كان يقول) ومن أصحاب المكانة في حزب الاستقلال العربي، وقد صار لي صفة أخرى وهي رياسة المؤتمر الرسمي، ولم يتغير رأيي في المسألة، كما أنه لم يتغير رأيه، والواقع الآن في سورية يؤكد رأيي، وسأعود إلى هذه المسألة. يوم الجمعة 10 رمضان 28 مايو قابلت الملك فيصلاً بداره صباح اليوم، وكنت أرسلت إليه البارحة صورة كتابي الأول إلى ابن سعود ليرسله مع الثاني الذي أعطيته إياه في 5 رمضان (كذا في الأصل الذي في المذكرة) فأخبرني أنه أمر إحسان بك أن يكلفني صورة كتاب له (أي لابن سعود من قِبَلِه هو) وكتاب آخر يُرسل إلى سائر أمراء العرب في الكويت والمحمرة وغيرهما، وأنه كان يكتب كلمات مختصرة في ذلك وتعب فلم يتمها، والمراد منها بيان فكرته الأساسية التي أبني عليها. ثم لقيت إحسان بك وأخذت منه الورقة (التي كتبها الملك) ، وكتبت الصورتين ليلاً، وأعطيته إياهما، وحفظت ورقة الملك عندي وهي في لفظها ومعناها.... يوم الأحد 12 رمضان 30 مايو أفطرت اليوم والوزراء وأعضاء المؤتمر مع الملك فيصل، فأُجلست في المائدة عن يمينه، والشريف جميل عن يساره، ورئيس الوزراء أمامه، وسائر الوزراء عن اليمين واليسار في صدر المكان، وجُعل لأعضاء المؤتمر مائدتان طويلتان على الجانبين، وقد أسرّ إليّ الملك في أثناء الطعام بأن الوفد سافر بالكتب، وهو مؤلف من العصيمي وآخرين أحدهما سلميان الدخيل. اهـ. ثم كتبت بعد ما تقدم في يوم آخر قريب (ثم تبين لي أن هذا غير صحيح) . *** قضية وطنية لها علاقة بترجمة الملك يوم الأحد 26 رمضان 13 يونيو ظهر الخلاف في النصف الثاني من هذا الشهر بين أعضاء حزب الاستقلال وجمعيته، وقد اجتمع في دار الدكتور أحمد قدري زهاء أربعين عضوًا من أعضاء الجمعية، ودارت المذاكرة تحت رياستي في إصلاحها، فاتفق الجميع على وجوب إلغاء امتياز الأعضاء المؤسسين، وعلى طلب جميع من في العاصمة منهم ومن غيرهم لتقرير هذا في انتخاب مجلس إدارة (أو تأسيس) من الهيئة العامة عدده ثلاثون أو أكثر، وهو يُنتخب من أفراد لجنة مركزية أو تنفيذية من سبعة أعضاء، وسيكون هذا الاجتماع في الليلة القابلة. *** الخلاف في حزب الاستقلال العربي وجمعيته يوم الإثنين 27 رمضان 14 يونيو اجتمع البارحة الإخوان في دار الدكتور قدري اجتماعهم الثاني تحت رياستي، وبعد طول المذاكرة استقر الرأي على كتابة بلاغ يمضيه جميع من حضر وغيرهم ممن على رأيهم، يقدم إلى اللجنة المركزية، يطالبونها فيه بدعوة جميع الأعضاء في 7 شوال للمذاكرة في الإصلاح المطلوب الذي اقترح من قبل، وينذرونها أنها إذا لم تفعل فإن الموقعين يفعلون ذلك بحق الأكثرية، وقد فعلوا، وكُتبت نسختان من القرار؛ ليقدم أحدهما، ويحفظ الآخر. يوم الثلاثاء 28 رمضان 15 يونية قرر أعضاء المؤتمر اليوم بأن تعطل الجلسات من نهار غد لأجل عيد الفطر إلى نهاية الأسبوع الذي بعده، وتعود يوم السبت 26 حزيران (يونيو) ، وبعد الجلسة العامة جمعت ديوان الرياسة للنظر في أعماله المتأخرة لعدم اجتماعه من مدة طويلة كنت أدعو الأعضاء فلا تحصل الأكثرية. وعند العصر تقريبًا قابلت الملك بداره بمناسبة عزمه على السفر قبل المغرب إلى حلب، فتكلمنا في مسألة سفره، فأخبرني بأنه يريد إرسال قوة عسكرية إلى حدود سورية الشمالية بمناسبة الهدنة بين الترك والفرنسيس في كليكية وبأن في هذا شيئًا من الخلاف بينه وبين الوزراء. (الوفد الوطني لأوربة والملك فيصل) ثم تكلمنا في مسألة الوفد (الذي يسافر إلى أوربة) فقال بمناسبة وجوب إرسال وفد وطني غير وفد الحكومة (وهو ما اقترحه بعض الإخوان والزعماء) : إن هذا مما يجب على الأحزاب والجمعيات؛ ولكن كل شيء يُطلب منه، ولا سيما المال وهو لا يستطيع ذلك، وقد ضيق عليه في ميزانية البلاط! ! (قال) كل شيء يُطلب من فيصل، في الأمة رجال كثير غير فيصل، ليست عبارة عن رجل واحد. قلت: نعم لها رجال كثيرون؛ ولكن ليس لها إلا رأس واحد. قال: صحيح، أنا أساعد من يذهب من قبل الوطن؛ ولكن ليس عليَّ النفقة كلها. ولم أكن أسمع منه مثل هذه الشكوى، بل كان يُظْهِر لي أنه يأخذ على عاتقه مساعدة العمل للوحدة العربية، وللجامعة الإسلامية أيضًا! ! وأحمد الله أنني أبعد الناس عن مساعدته في شيء ما، حتى إنه عرض عليّ تقديم شيء من فرش الدار، بل قال: إن فرش الدار كله عليه، فاحتلت في دفع ذلك عني. اهـ. هذا ما كتبته بعد فراقه ووداعه في ذلك اليوم، وأفسره هنا بأنني كنت أشعر منه بأنه يريد إكرامي بمساعدة مالية، ويرى مني أمارات الإباء إذ عرّض بذلك، ولما استقرت قدمي في الشام للعمل في المؤتمر، قال لي مرارًا: إنه لا يليق بمقامك البقاء في الفندق، فيجب أن تأخذ دارًا تقيم فيها، عليك الدار، وعلينا فرشها فاستأجرت دارًا واسعة، واستحضرت فرشها التام من طرابلس، فلم يدر بذلك إلا والدار مفروشة. يوم الخميس 30 رمضان 17 يونيو كلمني الدكتور عبد الرحمن شهبندر في وزارة الخارجية بشأن الوفد الذي يذهب إلى أوربة، وقال: إنه يجب أن نتفق على تحديد المطالب التي يلتزمها، وبعد بحث وجيز اتفقنا على الاجتماع ليلة السبت في دار جميل بك مردم مستشار الخارجية، ويطلب الشيخ كامل قصاب للحضور معنا. وأكد لي الوزير ما كنت سمعته عن الأمير زيد من عدم قبوله رياسة هذا الوفد، قلت للوزير: لماذا؟ قال: لأنه لا يريد حمل هذه المسؤولية، ووزير الخارجية يريد أخذ تفويض من زعماء ورؤوساء الأحزاب، ولا يتكلم باسم الحكومة فقط. اهـ. ((يتبع بمقال تالٍ))

من صاحب الإمضاء في بيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ من صاحب الإمضاء في بيروت (س14 - 21) من صاحب الإمضاء في بيروت (بسم الله الرحمن الرحيم) حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى وأدامه، آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فإني أرفع إلى فضيلتكم الأسئلة الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها على صفحات مجلة المنار الغراء ليكون النفع بها عامًّا ولكم الشكر: (1) هل المطالبون بإنكار المنكر هم العلماء فقط دون غيرهم، أم جميع الناس؟ (2) ما تعريف الكفر والإلحاد، وما حكمهما في الشرع الشريف؟ (3) هل يجوز ترجمة القرآن الكريم نفسه والأحاديث النبوية نفسها إلى اللغات الأجنبية كالإفرنسية والإنكليزية واللاتينية والتركية أو غيرها أم لا؟ (4) هل يجوز كتابة القرآن الكريم على قواعد الإملاء الحديث أم لا؟ (5) ما قولكم فيمن يقول: لا أعتقد ولا أعمل إلا بالقرآن الكريم فقط، ولا أعتقد ولا أعمل بالأحاديث النبوية ولو كانت صحيحة معتمدة أو غيرها، فهل هذا يعد مسلمًا مؤمنًا أم لا؟ (6) ما قولكم فيمن يعتقد ويقول: إن القرآن الكريم هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من كلام الله تعالى فهل هذا يعد مسلمًا ومؤمنًا أم لا؟ (7) هل صح ما يقول بعضهم: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر أو أربعة عشر حديثًا فقط أم لا؟ (8) هل جميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مروية عنه باللفظ والمعنى تمامًا أم بالمعنى فقط؟ (9) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز اعتقادهما والعمل بهما أم لا؟ وما معناهما؟ وهما (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) ، (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) ، وفي رواية أخرى (لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف) تفضلوا بالجواب، ولكم الأجر والثواب. ... ... ... ... السائل: عبد الحفيظ إبراهيم اللادقي، بيروت (أجوبة المنار) (14) المُطَالَب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأمور العارضة المعينة من فروض الكفاية، وقد يتعين وينحصر في فرد إن لم يوجد غيره حيث يجب ويشترط فيه العلم بما يأمر به أو ينهى عنه، بل كل عمل شرعي يشترط فيه العلم به لا العلم بجملة علوم اللغة والشرع التي يعطى متعلمها شهادة رسمية بأنه عالم، فالفرائض العينية والمعاصي القطعية المعلومة من الدين بالضرورة من شأنها أن يعرفها كل مسلم، وهي أهم ما يجب الأمر بالمفروض منه كأركان الإسلام الخمسة والنهي عن المنكر منه كالزنا والسُّكر والسرقة والخيانة والكذب والنميمة، وأما المسائل غير المعلومة للعوام والخواص من المسلمين؛ فإنما يُطَالِب بها العالم بحكمها، وإذا قام بها جمهور العوام والخواص من المسلمين، كان ذلك أعظم مؤدب لتاركي الفرائض ومرتكبي المعاصي، وقد بيَّنا في تفسير قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ} (آل عمران: 104) أن في جملة قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ} (آل عمران: 104) وجهين (أحدهما) أنه يجب أن تتألف منكم جماعة تتعاون على القيام بهذه الواجبات، وهذه الجماعة يجب عليها أن تدرس ما يتوقف عليه الأمر والنهي بجميع فروعه (وثانيهما) أن معناها ولتكونوا أمة تدعو إلى الخير ... إلخ وكل من الوجهين صحيح، والثاني عام للأفراد كل أحد فيما يعرفه ويقدر عليه (ويراجع التفصيل في الجزء الرابع، من تفسير المنار) . (15) تعريف الكفر والإلحاد الظاهر أن مراد السائل بالكفر والإلحاد ما يقابل الإيمان والإسلام، وإلا فإنهما قد يطلقان على بعض ما لا يُخْرِج صاحبه من الملة، فالمعنى العام الجامع لكل ما ينافي ملة الإسلام هو تكذيب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، أو تكذيب شيء مما علم المكذب أنه جاء من أمر الدين، وهو قسمان: الأول المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة ككون القرآن كلام الله تعالى، وتوحيد الله وتنزيهه عن النقص والولد والشريك في تدبير الكون أو العبادة كالدعاء والذبح والنذر له ... إلخ، وكون محمد رسول الله وخاتم النبيين، وما أشرنا إليه في جواب السؤال السابق من الفرائض والمحرمات القطعية، فهذا لا يعذر أحد بجهله إلا من كان حديث العهد بالإسلام لم يمض عليه زمن كافٍ لتعلم هذه الضروريات منه، ومن كان في حكمه كرجل أسلم في مكان أو بلد ليس فيه من المسلمين من يعلمه ذلك كله وطال عليه الزمن وهو لا يعلم أن عليه واجبات أخرى ولا أنه يجب عليه الهجرة مثلاً. والقسم الثاني ما كان غير مجمع عليه، أو مجمعًا عليه غير معلوم من الدين بالضرورة كبعض محرمات النكاح وأحكام المواريث مثلاً مما لا يعرفه إلا العلماء فهذا يعذر من جهله، فإن علم شيئًا منه أنه من دين الله قطعًا صار حكمه حكم القسم الأول بالنسبة إليه. وحكم الكافر بهذا المعنى الذي فصلناه أنه لا يعامل معاملة المسلمين فيما هو خاص بهم، وهو قسمان: (1) كافر أصلي من كتابي ووثني، وكل منهما إما ذمي وإما معاهد وإما حربي ولكل منهما أحكام. (2) كافر مرتد وله أحكام أشد إذا استتيب ولم يتب، منها أن امرأته إذا كان متزوجًا تَبِين منه ويحرم عليها أن تعامله معاملة الأزواج بمجرد ارتداده بأن تفارقه وتخرج من داره، ومنها أنه لا يرث المسلمين ولا يرثونه، ومنها أنه إذا مات أو قُتِل لا يُغَسَّل ولا يُصَلَّى عليه ولا يُدْفَن في مقابر المسلمين، وقد حدثت في العام الماضي ثورة إسلامية في القطر التونسي لمنع المتجنسين بالجنسية الفرنسية من دفن موتاهم بين المسلمين في مقابرهم؛ لأنهم مرتدون عن الإسلام بما تقتضيه الجنسية الفرنسية من التزاوج والتوارث بأحكام القانون الفرنسي المخالف لنصوص القرآن والسنة مما هو مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فأرادت الحكومة الفرنسية الحامية إجبار المسلمين على دفنهم في مقابرهم، وظاهرها بعض المنافقين على هذا فخاب سعيها، وعجزت قوتها عن ذلك، وانتهى الأمر بإنشاء مقبرة خاصة بهؤلاء المرتدين المصرين على كفرهم، بل لم ينته من كل وجه، ففرنسة تريد إكراه المسلمين على مرادها، وقد حدث في هذا الشهر ثورة في تونس من عاقبيل إرهاق فرنسة لزعماء المسلمين وخواصهم. (16) ترجمة القرآن والأحاديث النبوية باللغات الأجنبية: قد كتبت في الجزء التاسع من تفسير المنار (ص 331 - 363) بحثًا طويلاً في استحالة ترجمة القرآن ترجمة صحيحه تؤدي معانيه أداءً تامًّا كما تفهم من لغته العربية وعقائده الإسلامية، وفي تحريم ترجمته ترجمة تعطي حكم الأصل العربي المنزل من وجوب اعتقاد أنه كلام الله تعالى، وأنه يُتَعَبَّد بتلاوته في الصلاة وغيرها كما فعلت الحكومة التركية الكمالية، وقد طبعنا هذا البحث في رسالة مستقلة، ثم كتبنا مقالاً آخر في الرد على من زعم جواز ذلك من المتهوكين انتصارًا للحكومة التركية. وأما ترجمة القرآن ترجمة معنوية تفسيرية على غير الصفة المذكورة آنفًا فله من المجوزات ما قد يصل إلى حكم الوجوب الكفائي، وأظهرها تصحيح الترجمات الكثيرة له في اللغات المشهورة المُحَرِّفَة لمعانيه، المشوهة لمحاسنه، التي جُعِلَتْ وسائل للطعن عليه وبغيه عوجًا، وهو الدين القويم والصراط المستقيم، ومن هذه الترجمات ما تعمد فاعلوها بعض هذا التحريف والتشويه، ومنها ما وقع بجهلهم وعجزهم، وقد بينت في مقدمة كتاب الوحي المحمدي أن أشهر مترجميه من الفرنسيس والإنكليز المعاصرين اعترفوا بأنه معجز ببلاغته، وأن إعجازه يدخل فيه استحالة ترجمته كأصله. وأما الأحاديث فلا أعلم أن أحدًا قال بتحريم ترجمتها، وجميع مسلمي الأعاجم يترجمونها. (17) كتابة القرآن بالرسم العرفي: المعروف المشهور أن علماء الملة متفقون على وجوب كتابة المصاحف بالرسم الذي كتبها به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجمعوا عليها، وقد مست الضرورة لطبع مصحف مفسر بالرسم العرفي ليقرأه الجماهير قراءة صحيحة غير محرفة ويفهموه؛ إذ عُلِمَ بالتجربة أن أكثر الناس يخطئوا في القراءة في هذه المصاحف إلا من تلقاها من القراء وقليل ما هم، وسئلنا عن ذلك فأجبنا عنه بما رأيتموه في الجزء الثاني من منار هذه السنة من الجواز وتعليله. (18) حكم من يقول: إنه لا يعتقد ولا يعمل إلا بالقرآن دون الأحاديث: إن الإيمان بالقرآن، والعمل بما أمر الله تعالى وما نهى عنه فيه يستلزم الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عنده تعالى، ووجوب طاعته بمثل قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (النساء: 59) وهذا الأمر مكرر في عدة سور وفي معناه آيات أخرى كقوله تعالى: {مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (النساء: 80) ومن المعلوم بنصوص القرآن، وبإجماع الأمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لكلام الله والمنفذ له كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (النحل: 44) . فمن يقول: إنه لا يعتقد أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي بين بها القرآن وبلغ بها الدين واجبة الاتباع، وإنه يستحل معصيته صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أنه أمر به أو نهى عنه من أمور الدين، وإن أجمع المسلمون على تلقيه عنه بالتواتر كعدد ركعات الصلوات وركوعها وسجودها، وغير ذلك مما أشرنا إليه آنفًا في الفتوى (15) وإنما يعتقد ويعمل بما يدله عليه ظاهر القرآن فقط - من قال هذا لا يُعتد بإيمانه ولا بإسلامه؛ فإنه مشاق للرسول غير متبع لسبيل المؤمنين، بل متناقض يريد بهذا القول جحود الإسلام وتركه من أساسه، فالله تعالى يقول: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) . ولكن إن أراد أنه غير مكلف أن يعرف هذه الأحاديث المدونة ويعمل بها كلها، أو بما صححه المحدثون منها؛ فإن قوله حينئذ يكون موهمًا لا نصًّا في استباحة عصيان الرسول فيما علم أنه جاء به من أمر الدين، فلا يحكم عليه بالكفر والخروج من الملة حتى يبحث معه في مراده من كلامه؛ فإن أئمة المسلمين لم يقل أحد منهم بوجوب العلم بما في كتاب من كتب الحديث، وكان موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى أولها تدوينًا واستأذنه الخليفة العباسي في نشره في الأمة وأمر الناس بالعمل به، فلم يأذن له كما بيَّنا ذلك مرارًا. وجملة القول أن المعتمد في التكفير القطعي ما أجملناه في الفتوى (15) ومما لا شك فيه أن من يعتقد أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من دين الله واستحل من هذا عصيانه فيه بدون تأويل يكون كافرًا. (19) حكم من يعتقد أن القرآن الكريم كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا كلام الله: من يعتقد هذا يكون كافرًا بإجماع المسلمين؛ لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة والإجماع، ولا فرق بين من يطلق القول بهذا، ومن يزعم أن معاني القرآن وحي من الله أنزلت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما عبارته وألفاظه فهي من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أجمع المسلمون على أن القرآن أُنْزِل عليه صلى

مباحث الربا والأحكام المالية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مباحث الربا والأحكام المالية (تابع لما في الجزء السادس م 33 ص 449) ولفظ الحديث عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟) قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين من الجمع والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا) [1] وليس في هذا حيلة؛ وإنما هو نهي عن شراء التمر بالتمر متفاضلاً، وأمر ببيع كل نوع منه، وابتياعه بالدراهم وهذا الأمر عام مطلق في جميع البيوع، وهو أن يكون لكل شيء من الأشياء المختلفة ثمن تقدر به، وتقصد به الثمنية المعينة ليكون ميزانًا لتقدير سائر الأشياء به، ومعرفة نسب بعضها إلى بعض، فشراء التمر الرديء الكيل بخمسة دراهم، والجيد من نوع كذا بعشرة دراهم، يجعل لكل من النوعين ثمنًا معينًا تعرف به نسبة أحدهما إلى الآخر، فليس في هذه الصفة مخالفة للشارع في صفة العقد ولا حكمته في تحريم الربا، ولا في أكل أموال الناس بالباطل، وقد يكون له صورة تشبه الحيلة، وهو أن يكون أحد رجلين عنده تمر جيد، وآخر عنده رديء وكل منهما محتاج إلى ما عند الآخر لولا منع المبادلة لتبادلا بهما؛ فيشتري كل منهما ما عند الآخر بالثمن. هذا وإن العلامة المحقق ابن القيم قد أحصى كل ما استدل به القائلون بجواز الحيل من الآيات والأحاديث والقياس ومسألة العقود والشروط فيها، ومسألة المخارج من الحرج وما زيد عليها، ورد عليهم ردًّا قويًّا سديدًا شديدًا مفصلاً تفصيلاً، وأورد من فروع مفاسدها ما هو كفر ورِدَّة عن الإسلام [2] ، وما هو من كبائر الفسوق والعصيان، فأغناني ذلك عن الإطالة في هذه المسالة بعد أن كنت عازمًا عليه. وحسبي أنني بينت تحقيق الأصل الذي يرجع إليه كل شيء في هذا الباب وهو وجوب المحافظة على حكمة الشارع في تحريم الربا كغيره، وعلى نصوص الشارع فيه مع التفرقة بين القطعي منها وغير القطعي، كما بينت أن قواعد الفقهاء وتعريفاتهم وضوابطهم ومدارك الأحكام في مذاهبهم ليست تشريعًا دينيًّا يجب على الأمة أخذه بالتسليم والعمل به؛ وإنما هو مسائل اجتهادية وضوابط فنية يصدق عليها كلها كلمة الإمام مالك بن أنس: كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر. ويشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وسأزيد هذه المسألة بيانًا أيضًا في فصل آخر. * * * حكمة النهي عن ربا الفضل بقي عليَّ هنا بيان مسألة مهمة، وهي أن قاعدة اليسر ورفع الحرج من أحكام الإسلام مسألة قطعية ثابتة بنص القرآن وصريح السنة وإجماع الأمة، وأن مسألة ربا الفضل في بعض فروعها من العسر والحرج والخروج عن المعقول في حكمة التشريع ما يشق معه المحافظة على نصوصها وحكمتها معًا؛ لأن حكمتها غير ظاهرة. ولذلك قال بعض كبار العلماء: إنها تعبدية، والتعبد في هذه المعاملات المالية غير معقول أيضًا؛ إذ لا يظهر فيه معنى من معاني التعبد التي تزيد المؤمن إيمانًا بالله تعالى ومعرفة بجلاله وكماله ورحمته وعدله وحكمته؛ ولذلك يرى كثير من المؤمنين المتقين أنفسهم مضطرين إلى التماس المخرج من بعض أحكامه بالحيلة، ويفرقون بين المخارج الباطلة التي يحتال بها مرضى القلوب وضعفاء الإيمان على ربا النسيئة القطعي الدال على القسوة واستباحة أكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك من المعاصي والمخارج الصحيحة المشار إليها بقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2) وإنني أعتمد في هذه المسألة على ما حققه العلامة ابن القيم في حكمة تحريم ربا الفضل؛ إذ لم أر أحدًا وفق لما وفق له من ذلك، وقد كنت نقلت في الصفحة 73 و74 ما قاله هذا المحقق من الفرق بين ربا النسيئة، وربا الفضل في كتابه (أعلام الموقعين) وحكمة تحريم كل منهما بالإجمال، فأما حكمة تحريم ربا النسيئة وهو ما فيه من الضرر العظيم فلا شبهة فيه، وأما حكمة تحريم ربا الفضل فقد نقلت عنه أنه قال: إنها كونه ذريعة لربا النسيئة. ولم أذكر بيانه التفصيلي له، وهذا موضعه فأنقله عنه بنصه وأعيد خمسة أسطر مما نقلته هنالك في آخر ص74 وهو: (قال) الشارع نص على تحريم ربا الفضل في ستة أعيان، وهي الذهب والفضة والبُر والشعير والتمر والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها، فطائفة قصرت التحريم عليها، وأقدم من يروى هذا عنه قتادة وهو مذهب أهل الظاهر، واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس، قال: لأن علل القياسيين في مسألة الربا علل ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس. (وطائفة) حرمته في كل مكيل وموزون بجنسه، وهذا مذهب عمار وأحمد في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة. (وطائفة) خصته بالطعام [3] وإن لم يكن مكيلاً ولا موزونًا وهو قول الشافعي ورواية عن الإمام أحمد - (وطائفة) خصته بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزونًا، وهو قول سعيد بن المسيب، ورواية عن أحمد وقول للشافعي. وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه [4] ، وهو قول مالك وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه. وأما الدراهم والدنانير (فقالت طائفة) العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة (وطائفة) قالت: العلة فيهما الثمنية. وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى (وهذا هو الصحيح بل الصواب) فإنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما، فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا؛ فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل [5] على بطلانها، وأيضًا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية؛ فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض إذا كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به بالمبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض؛ فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف، ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم، ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم به الأشياء، ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير مثل أن يعطي صحاحًا ويأخذ مكسرة، أو خفافًا ويأخذ ثقالا أكثر منها لصارت متجرًا، أو جر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات. (فصل) وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقوات العالم وما يصلحها فمن رعاية مصالح العباد أن مُنِعُوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل سواء اتحد الجنس أو اختلف، ومُنِعُوا من بيع بعضها ببعض حالاً متفاضلاً، وإن اختلفت صفاتها، وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها. وسر ذلك والله أعلم أنه لو جوَّز بيع بعضها ببعض نسأ لم يفعل ذلك أحد إلا ربح، وحينئذ تسمح نفسه ببيعها حالة لطمعه في الربح فيعز الطعام على المحتاج ويشتد ضرره، وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، ولا سيما أهل العمود والبوادي؛ وإنما يتناقلون الطعام بالطعام، فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النسأ فيهم كما منعهم من ربا النسأ في الأثمان؛ إذ لو جوَّز لهم النسأ فيها لدخلها (إما أن تقضي وإما أن تربي) [6] فيصير الصاع الواحد لو أخذ قفزانًا كثيرة ففطموا عن النسأ، ثم فطموا عن بيعها متفاضلاً يدًا بيد؛ إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نسأ وهو عين المفسدة، وهذا بخلاف الجنسين المتباينين؛ فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما مختلفة، ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرار بهم ولا يفعلونه، وفي تجويز النسأ بينها ذريعة إلى (إما أن تقضي وإما أن تربي) فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدًا بيد كيف شاؤوا؛ فحصلت لهم مصلحة المبادلة واندفعت عنهم مفسدة (إما أن تقضي وإما أن تربي) وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نسأ؛ فإن الحاجة داعية إلى ذلك فلو مُنِعُوا منه لأضر بهم، ولامتنع السلم الذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيرهم والشريعة لا تأتي بهذا، وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نسأ، وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا، فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة، ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبًا إلى مفسدة راجحة. (يوضح ذلك) أن من عنده صنف من هذه الأصناف، وهو محتاج إلى الصنف الآخر؛ فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بع الجمع بالدراهم ثم اشتر بالدراهم جنيبًا) أو تبيعه بذلك الصنف نفسه بما يساوي، وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالاً بخلاف ما إذا أمكن من النسأ؛ فإنه حينئذ يبيعه بفضل ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل؛ لأن صاحب ذلك الصنف يربي عليه كما أربى هو على غيره؛ فينشأ من النسأ تضرر بكل واحد منهما، والنسأ ههنا في صنفين، وفي النوع الأول في صنف واحد، وكلاهما منشأ الضرر والفساد، وإذا تأملت ما حرم فيه النسأ رأيته إما صنفًا واحدًا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب كالدراهم والدنانير والبُر والشعير والتمر والزبيب، فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النسأ كالبُر والثياب والحديد والزيت. (يوضح ذلك) أنه لو مكن من بيع مد حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته، فمُنِعُوا من ذلك حتى مُنِعُوا من التفرق قبل القبض؛ إتمامًا لهذه الحكمة ورعاية لهذه المصلحة؛ فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول والعادة جارية بصبر أحدهما على الآخر، وكما يفعل أرباب الحيل يطلقون العقد، وقد تواطؤوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد النكاح وقد اتفقوا على التحليل، ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن، فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالاً، وأخروا الطلب لأجل الربح؛ فيقعوا في نفس المحذور. (وسر المسألة) أنهم مُنِعُوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يُفْسِد عليهم مقصود الأثمان، ومُنِعُوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأن التبر ليس فيه صنعة يقصد لأجلها، فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع أن لا يفاضل بينهما، ولهذا قال: (تبرها وعينها سواء) فظهرت حكمة تحريم ربا النسأ في الجنس والجنسين، وربا الفضل في الجنس الواحد، وأن تحريم هذا تحريم المقاصد، وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع، ول

كتاب الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب الوحي المحمدي دعوتي إلى انتقاده، وذات بيني وبين صديقي الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس تعودت من سن الشباب وعهد طلب العلم أن أسأل خاصة أصدقائي عما ينتقدون مني؛ لأستعين به على تربية نفسي وأن أنتقدهم كذلك بحرية وإخلاص، ثم جريت على هذه العادة في مجلة المنار، فأنا أقترح على قرائها في كل عام أن يكتبوا إليّ ما ينتقدون فيها، وأذكر في أثناء العام، أو في آخره ما يرد إليّ من ذلك وأبين رأيي فيه. ولما جمعت بحثي المطول في (الوحي المحمدي) في كتاب مستقل، وختمته بدعوة شعوب الحضارة العصرية إلى الإسلام، سألت خواص العلماء من أصدقائي وأذكياء تلاميذي عن رأيهم فيه، وما ينتقدونه منه؛ لاعتقادي أنه لا بد أن يعاد طبعه فأكون على بصيرة فيما ينبغي له من تنقيح أو إيضاح أو زيادة أو نقصان، وأول من سألتهم ذلك بالمكاتبة جلالة أمير المؤمنين الإمام يحيى حميد الدين صاحب اليمن فقرَّظه بما نشرته في أول التقاريظ ولم ينتقد شيئًا منه، وأول من سألتهم ذلك بالمشافهة أكبر علماء مصر العلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر والمعاهد الدينية بالأمس، ثم العلامة الأستاذ الفاضل الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية، فأما الأول فلم ينتقد شيئًا من مسائله، بل سألته: أترى بحث الآيات وخوارق العادات طويلاً يحسن اختصاره؟ قال: كله ضروري لا يُحْذَف منه شيء. وبيَّن رأيه في جملته بكتابه الوجيز البليغ الذي كتبه إليّ عقب مطالعة الكتاب، ونشرته فيما اخترته من التقاريظ للطبعة الثانية، وأما الثاني فكان بيني وبينه محاورة طويلة في مسألة وجوب تعلم اللغة العربية على جميع المسلمين ووجوب تدبر القرآن؛ فإنه أنكر إطلاقي الكلام في هذا الموضوع بما يُفْهَم منه جعله ذلك واجبًا عينيًّا، ووافقه فيه صديقنا العلامة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني، وقد اقتنعا بعد طول البحث بأن أقل الواجب وجوبًا عينيًّا على أفراد الأعاجم هو ما يتلى في الصلاة، وأن ما فوق ذلك من العلم بالقرآن ولغته، فهو من فروض الكفاية التي يجب على أولي الأمر نشرها والسعي لتعميمها، وكذا من قدر عليه من الأفراد والجمعيات. وكان صديقي العلامة الأستاذ الشيخ عبد الله بن علي بن اليابس ممن أهديتهم الكتاب وسألتهم إبداء رأيهم لي فيه بعد مطالعته، وكنت أحرص على الوقوف على رأيه؛ لأنه تلقى العلم أولاً في نجد وحذق طريقتهم السلفية المأثورة عن مشايخهم في اتباع الآثار، ثم عرف طريقة علماء مصر في التدريس والبحث والاستدلال، وألف أسلوب المنار ونهجه في تأييد السلف تجاه الماديين، ودعاة النصرانية والمتكلمين والمبتدعين، فصار أعرف بالحاجة إلى هذا من علماء بلاده المقيمين فيها، وأرى من المفيد له أن يتمرن على الانتقاد، ويتعود سماع الرد الحر عليه مع حسن النية من الجانبين، وقد قصدت هذا، فقرأ الكتاب بقصد البحث فيه عما يسهل انتقاده، ثم جاءني وذكر لي ما أحصاه منه، فأجبته عنه أجوبة مختصرة لم يقتنع بها، قلت له مرغبًا في الكتابة: لعلك لو كتبت هذه المسائل، وعُنيت بإقامة الدليل عليها يتجلى لك الصواب، والتمييز بين الغث والسمين؛ لأن الاستدلال بالكتابة يخرج الكاتب من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، فكتب فأطال كأنه يناظر خصمًا ليقنعه أو يفند مذهبه. جاءني بما كتب فلم أملك من الفراغ ما أقرؤه، وأبين له رأيي فيه، وهو كل ما كنت أريده، ورأيته يبغي نشره، فألقيته إلى المطبعة، ولم أقرأه، فجمع لينشر في باب الانتقاد على المنار المفتوح على الدوام، وفهمت من رغبته في نشره أنه واسع الحرية لا يسوءه أن يرد عليه ويدان كما يدين، وأنا أظن أنني من أوسع أهل هذا العصر صدرًا لمثل هذا؛ لأنني ألفته من أول النشأة ورسخ معي في مصر، وأهلها أوسع أهل الشرق حرية. ثم إنني قرأت ما كتبه مجموعًا بحروف المطبعة عندما جاء وقت نشره بحسب الترتيب الذي جريت عليه، ورأيت أنني مضطر للرد على كل ما قاله من المسائل وأدلتها، فندمت أن وعدت بنشره، كارهًا أن يظهر في المنار هذا الخلاف بيني وبين صديق كريم، وأخ وديد من قوم أحبهم ويحبونني، وقد علمت منه أنه مثلي يكره أن نظهر بمظهر الخلاف، وكان مقتضاه أن يختصر في بيان المسائل التي انتقدها، وفي مطالبتي بالدليل عليها، وإذًا لذكرتها مع دليلي عليها بالإيجاز كما فعلت في كل انتقاد؛ ولكنه أطال وأكثر السؤال، فصار تطويل الرد حتمًا لا مناص منه فكان. وقد ساءني أن رأيت الرد ساءه، ونزغ الشيطان بيني وبينه، وكان ذنبي أن دعوته إلى النقد ونشرته له، وكان ذنبه أن أسرف فيه فخرج به عن المطلوب وهو التنبيه لما يحتاج إلى تصحيح أو تنقيح، إلى التفنيد ومناظرة الخصوم، ونحمد الله أن كنا ببركة الإخلاص وحسن النية فيما أخطأنا فيه ممن قال الله تعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف: 201) . زارني فبثني الشكوى من ثقل وطأة الرد، وحمله إياه على تزوير مقال طويل في الرد عليه، فتفكيره بأن هذا لا يليق بمثلنا في صداقتنا وحسن نيتنا، فترجيحه لاطلاعي على رأيه الأخير فيه، وتفويضه إلى أمر تلافيه، فشكرت له ذلك وقبلته فأقول: إن بعض انتقاد الأستاذ كان من سوء الفهم لا سوء القصد، أو عن اختلاف في الاجتهاد والرأي، وبعضه كان من ناحية البيان والتعبير عنه، وكل منا في هذا سواء. فأما اعتراضه على مسألة الرق والسبي فقد أورده على عبارة الطبعة الأولى من كتاب الوحي وكانت مختصرة مجملة قابلة للاعتراض؛ لأنها غير مؤدية للمراد وكان ينبغي أن يطلع على عبارة الطبعة الثانية إذ كانت صدرت قبل أن يكتب؛ ولكنه قال: إنه لم يكن قد اطلع عليها. وهو صادق. وكذلك مسألة كلام الله قد بسطتها في الطبعة الثانية بسطًا لا شبهة عليه عنده كما قال، على أنني كنت بسطتها في مواضع من التفسير بما هو أوسع مما في الطبعة الثانية أيضًا؛ ولكنه لم يره أو لم يتذكره. وأما مسألة القتال وآية الأمر به مع النهي عن الاعتداء، وكون غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كلها كانت دفاعًا، فقد كان أكبر أسباب الخلاف بيننا في أصلها دون بعض فروعها اختلاف فهم المراد من الدفاع والاعتداء، وما كانت عليه الحال في عهد ظهور الإسلام، وفي هذا العصر أيضًا؛ فإنني رأيت الكثيرين من العلماء - دع العامة - يفهمون أن الاعتداء أو الابتداء بالحرب يعتبر بالهجوم في كل واقعة أو معركة أو أخذ غنيمة، ومن ثم يعدون بعض الغزوات والسرايا في صدر الإسلام دفاعًا، وبعضها اعتداءً أو هجومًا، وهذا خطأ مخالف لعرف العرب وسائر الأمم وللواقع، والحق أن المعتدية من الأمتين أو الدولتين هي المبتدئة بالعدوان المنشئة لحالة الحرب، والمدافعة هي المقابلة لها، وإن كانت في أثناء حالة الحرب تغنم وتهاجم ما استطاعت، ومن المعلوم بالقطع أن قريشًا وسائر قبائل العرب قد عادوا النبي صلى الله عليه وسلم واعتدوا عليه وعلى من آمن معه منذ أعلن دعوتهم إلى الإسلام، ومن المعلوم أيضًا أن حالة الحرب بين فريقين لا تزول إلا بمعاهدة، وما عقدت المعاهدة بين المؤمنين والمشركين إلا في الحديبية أو آخر سنة ست للهجرة، ولم يلبث المشركون أن نقضوها فعادت حالة الحرب فأباحت للنبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة سنة ثمان، وما تلاها من غزوة حنين والطائف، ونزل في ذلك ما نزل من الآيات في أول سورة التوبة التي منها ما يسمونه آية السيف، ومن حججها قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (التوبة: 13) ولم يحط الأستاذ الشيخ عبد الله اليابس فهمًا بمرادي هذا إلا بالمشافهة الأخيرة، فزال الخلاف في الأصل، ولم يبق حاجة إلى البحث في فروعه والتعبير عنه. وأما آية {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا} (البقرة: 190) فقد بينا في تفسيرها من جزء التفسير الثاني أنها وما بعدها نزلت في القتال في الشهر الحرام، وسببها معروف فصلناه هنالك. وأما مسألة اشتراط المرأة في عقد نكاحها حق عصمتها؛ أي: تطليق نفسها فهو لا يزال يرى أنه لا يصح، وهو يخالفنا ويخالف من سبقنا إلى تقرير أن الأصل في العقود والشروط الصحة فيما لم يخالف حكم الله؛ عملاً بإطلاق قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) وأقواهم حجة وبيانًا فيه شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ويقول: إنه خلاف في الاجتهاد: له اجتهاده وإن لنا اجتهادهم واجتهادنا. وأما مطالبته إيانا بحديث، أو بخبر صحيح على تعيين يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: إنه يعني به الخبر التاريخي، لا الخبر المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعلم بمراده سواء وافق ما فهمناه من عبارته أو خالفه. وجملة القول أننا قد تعارفنا بعد تناكر عارض ضعيف لم يلبث أن زال ولله الحمد، ولولا حرصي على دوام صداقته ومودته وإعلام من قرأ نقده، وردي عليه أنه لم يحدث بيننا أقل هجر ولا تقاطع، لما كتبت هذا. ((يتبع بمقال تالٍ))

تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي ـ 4

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تفنيد كاتب مجلة المشرق اليسوعية في الاعتراض على كتاب الوحي المحمدي (تابع لما قبله في ج 4) (الوجه الثالث النقلي المسيحي) أن الإنجيليين نقلوا عن المسيح عليه السلام أنه أنبأ بظهور أنبياء كذبة من بعده، ووضع قاعدة كلية للتمييز بين الصادقين والكذبة، وهي قوله: من ثمارهم تعرفونهم. فليخبرنا كاتب مجلة المشرق وآباؤها عن نبي له من ثمار الخير والبر التي اعترفوا بها عرضًا، وهو قليل من كثير، ونقطة من بحر كبير من ثمار محمد صلى الله عليه وسلم التي اهتدى بها الملايين من البشر. ويؤيد هذه القاعدة كثير من الدلائل الخارجية على نبوته صلى الله عليه وسلم، منها شهادات كتب العهدين العتيق والجديد له بما فصلناه في تفسير المنار، وبسطه غيرنا بتفصيل أوسع كالشيخ رحمة الله الهندي في كتابه إظهار الحق، ومنها شهادة من آمن به من علماء اليهود والنصارى، وغير ذلك مما لا محل لإيراد الشواهد عليه هنا. بعد هذا نقول لهم: إنه ليس لكم أدلة خارجية على كون هذه الرسائل التي تسمونها اليوم بالأناجيل كتبت بوحي ولا إلهام؛ وإنما رأينا في كتبكم أنكم تستدلون على صدقها بدليل داخلي لا يدل عليه، وهو أنها لو لم تكن صادقة لكان كاتبوها من الكذبة الأشرار؛ وهذا لا يعقل، وخصومكم لا يسلمون هذا لكم؛ إذ يمكن أن يقال أيضًا: إنه يجوز أن يكونوا غير متعمدين للكذب ولا متحرين للصدق، ويجوز أن يكون قد دس حزب قسطنطين وغيره شيئًا في كتبهم؛ إذ ليس عندكم نقل متواتر بالأسانيد المتصلة إليهم كما سيأتي، على أنه لو صح هذا الدليل لكنا أولى به منكم، وإن كنا لا نحتاج إليه مثلكم؛ لأن عندنا ما هو أصح منه وأقوى. *** الشبهة الثالثة في الشهادة الخارجية على وحي القرآن نحن لم نقتصر في كتاب الوحي المحمدي على الأدلة الباطنية والشهادات الداخلية على كون القرآن كلام الله تعالى كما زعم معترض مجلة المشرق، بل أوردنا كثيرًا من الشهادات الخارجية، والأدلة العقلية والعلمية في الطبعة الأولى، ولما رأيت مثل هذه الشبهات الكاثوليكية الجزوتية زدتها بيانًا في الطبعة الثانية أكثرها في فاتحتها، وفي الفصل الأول الذي زدته فيها، ومنها أنني أوردت على النصارى ما نقلوه عن المسيح عليه السلام من الشهادة لنفسه، وشهادة غيره له، فقد نقل عنه يوحنا أنه قال: (5: 31 إن كنت أشهد لنفسي فليست شهادتي حقًّا 32 الذي يشهد لي هو آخر وأنا أعلم أن شهادته التي يشهدها لي هي حق 33 أنتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق) ثم روى عنه (8: 13 فقال له الفريسيون: أنت تشهد لنفسك شهادتك ليست حقًّا 14 فأجاب يسوع وقال لهم: (وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق) نقلت هذا في سياق شهادة الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} (النساء: 166) . ومن شهادة الله تعالى له ما أيده من المعجزات، وأظهرها بعد القرآن وما فيه، منها أنباؤه عن المستقبل الذي يسمونه بالنبوات، كاستيلاء أتباعه على ملك كسرى وقيصر وهم في أشد أوقات الفقر والضعف كوقت غزوة الخندق؛ إذ تألبت عليهم قبائل المشركين مع اليهود، وهجموا عليهم في مدينتهم يريدون استئصالها فأيد الله المؤمنين بريح وجنود من الملائكة لم يروها، وقذف في قلوبهم الرعب، وردهم بغيظهم لم ينالوا خيرًا {وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ} (الأحزاب: 25) كما هو مفصل في أول سورة الأحزاب. *** مطاعن النصارى على القرآن قال كاتب مجلة المشرق بعد إيراد تلك الشبهات النحيفة السخيفة: (هذا وإذا كان الكلام على كتاب فيه ما فيه من العيوب رغم ما يحويه من محاسن الجمال وأساليب البيان، فلا بد من القول: إن ذلك الكتاب لا يمكن أن يُنْسَب إلى الله) وأيد هذه الدعوى بما نقله عن أشهر كتاب عندهم في الطعن على القرآن، ولخص ذلك بما نذكره ونفنده ونبين بطلانه هنا بالإيجاز، وقد سبق الرد عليه بالتفصيل في كتابنا (شبهات النصارى وحجج الإسلام) وسنعيده في الجزء الثاني من كتاب الوحي المحمدي كما وعدنا في تصدير الطبعة الثانية للجزء الأول فنقول: رد زعمهم ضياع شيء من القرآن (الطعن الأول) زعم ذلك الطاعن أن القرآن قد ضاع منه شيء، فلم يُكْتَب كله، وأن الذي ضاع؛ منه ما نسيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه ما نسيه الصحابة رضوان الله عليهم، ومنه ما لم يُحْفَظ، قال: (وكثير من آياته لم يكن لها قيد إلا في ذاكرة الصحابة؛ فضاع منها الكثير) وجوابنا عن هذا أنه دعوى مفتراة ليس عليها أدنى دليل، فمن المعلوم بالتواتر أن كل ما كان ينزل من القرآن كان يكتب ويحفظه الكثيرون من الصحابة، يعبدون الله تعالى به في الصلاة وغيرها، وكانت ملكة الحفظ في العرب أقوى منها في غيرهم لاعتمادهم عليها في حفظ أشعارهم وأنسابهم ووقائعهم. من العجيب أن يفتري النصارى على القرآن هذه الفرية، وهو الكتاب الذي حفظه الألوف من العرب في عصر نزوله وكتبوه متفرقًا، ثم مجموعًا، وما زال يحفظه مئات الألوف في كل عصر، وهم أهل دين لم يكتبوا من إنجيل مسيحهم شيئًا من لفظه بلغته، وهذه الرسائل الأربع التي يسمونها في الزمن الأخير بالأناجيل لم تكن معروفة لمن يسمونهم رسله في العصر الأول؛ إذ لم يذكرها أحد منهم في رسائلهم، وهذا رابعهم يوحنا يقول في آخر إنجيله: (21: 24 هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا وكتب هذا ونعلم أن شهادته حق 25 وأشياء أخرى كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين! ! !) فلماذا لم يكتب هو ولا أحد من تلاميذه وأتباعه عُشْر معشارها؟ كذلك ليس عندهم أصل مكتوب من سائر كتب العهدين في زمن أصحابها بلغاتهم، ولا يدعون هم ولا اليهود أنهم حفظوا كتابًا منها بنصه وحروفه التي جاء بها موسى ولا غيره من أنبيائهم كما فعل المسلمون. رد زعمهم وجود المناقضات فيه (الطعن الثاني) ما سماه المناقضات وضعف البيان في المتشابهات المحتاجة إلى التأويل، وفي الناسخ والمنسوخ، فأما الأول فشبهته في اختلاف المفسرين في المتشابه وتأويله كما فصلته في تفسير سورة آل عمران، ثم في سورة يونس أخيرًا، ولا تناقض فيه ولا ضعف بيان؛ ولكن الأذهان تتفاوت بطبعها في فهم بعض المسائل بطبيعة موضوعها، ولا سيما الوحي وكلام الأنبياء في عالم الغيب. وقد حققنا أن الراسخين في العلم يعرفون معاني المتشابهات، وأما تأويلها الذي لا يعلمه إلا الله، فهو حقيقة صفات الله تعالى، وما تؤول إليه أخبار الوعد والوعيد في الآخرة؛ لأنها من عالم الغيب، ويرى القراء في الجزء الماضي (ج 4) كلمة لشيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة. على أن أكثر كلام المسيح عليه السلام كان رموزًا لا يفهم تلاميذه المراد منها، وهم أولى الناس بفهمها حتى المسائل التي تدعي هذه الرسائل الأربع أنها أساس العقيدة كهدم الهيكل وإقامته في ثلاثة أيام، ومنه ما حكاه يوحنا في آخر رسالته من أقواله عليه السلام لسمعان بطرس في محبته له ومستقبله، وقوله للتلميذ الذي كان يحبه: (21: 22 إذا كنت أشاء أنه يبقى حتى أجيء، فماذا لك؟ (قال يوحنا) 23 فذاع هذا القول بين الإخوة: إن ذلك التلميذ لا يموت، ولكن لم يقل يسوع: إنه لا يموت ... إلخ) ، فالتلاميذ كلهم لم يفهموا هذه الكلمة بشهادة يوحنا الذي شهد لنفسه أن شهادته حق، ومن يوحنا هذا؟ وهو غير معروف بالتحقيق، والأرجح أنه من تلاميذ بولص (راجع دائرة المعارف الفرنسية) فإن عادت المشرق إلى مثل هذا البهتان أتيناها بالشواهد الكثيرة على تصريحهم بغموض كلام المسيح عليه السلام، وعدم فهمهم له، فكيف يعيبون غيرهم بالكحل في أعينهم، ولا يرون الجذع في أعينهم؟ وأما الناسخ والمنسوخ فقد بينا في تفسير الآية الوحيدة الصريحة فيه، وهي قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (البقرة: 106) أن المراد بالآيات فيها ما يؤيد الله به رسله بدليل قوله تعالى بعدها: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ} (البقرة: 108) وبيانه أنه تعالى أيد موسى ببعض الآيات الكونية ونسخها بتأييد عيسى بمثلها في الأدلة على صدقه، ثم نسخ هذه وأيد محمدًا بما هو خير منها، والمقصد من إرسالهم واحد عليهم الصلاة والسلام، وأما نسخ الأحكام، فأنكر بعض علمائنا وجوده في القرآن، وقال بعضهم: فيه عشرون آية، وبعضهم: بضع آيات، وكل ما عدوه منها فهو فصيح بليغ، وفائدة الناسخ فيه ظاهرة، كنسخ الإرث بالإسلام والهجرة عند قلة المسلمين بإرث القرابة الزوجية بعد كثرتهم، ونسخ القبلة إلى بيت المقدس لبيت الله الحرام، على أن قبلة بيت المقدس لم تكن بنص في القرآن. مخالفة القرآن لكتب العهد العتيق هو الحق: (الطعن الثالث) مخالفة القرآن لكتب العهد القديم في بعض المسائل التاريخية؛ وجوابنا عن هذا أن تواريخ العهد القديم لا يقوم دليل على صدقها كما بيناه بالتفصيل في تفسير المنار، وأما القرآن فقد قامت البراهين الكثيرة على أنه كلام الله تعالى، فما بينهما من خلاف فقول القرآن فيه هو الفصل، وحكمه فهو الحكم بالحق والعدل، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} (المائدة: 48) وقال: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (النحل: 63- 64) . قصة يوسف في القرآن والعهد العتيق: (الطعن الرابع) زعمه أن يوسف بن يعقوب تبين قصته في القرآن أنه قد تراخى للشهوة من ذاته، وقصته في التوراة تبين براءته، يعني أن هذا الفرق يدل على أن التوراة وحي من الله دون القرآن، والجواب عن هذا أن القرآن أثبت لنا أن يوسف عليه السلام قد ابتلاه الله تعالى بتجارب محصه بها تمحيصًا، فكان من عباده المخلصين (منها) مراودة امرأة عزيز مصر له في سن شبابه، فاستعصم ولم يقع في الفتنة، وآثر عليها السجن، وأما قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} (يوسف: 24) ففيه وجهان: أحدهما، وهو المتبادر من اللغة أن كلاًّ منهما هم بمواثبة الآخر والبطش به كما شرحناه في الجزء الأول من المنار أخيرًا، والثاني أنهما هما بالفاحشة، ولكن رؤيته برهان ربه صرف عنه السوء والفحشاء، وهذه منقبة عظيمة له، وهي أدل على اعتصامه وعدم تراخيه للشهوة مع قوة الداعية الطبيعية لها. ولكن ما بال الطاعن يستدل بهذه الفضيلة السلبية للتوراة، وينسى ما قذفت به لوطًا عليه السلام من الزنا ببناته، وداود عليه السلام من أقبح الزنا العمد بامرأة أوريا الحثي، ثم تعريضه للقتل، مع نزاهة القرآن عن مثل هذا وما يقرب منه؟ دع ما يرمون به سليمان عليه السلام من الشرك والوثنية لأجل النساء. (الطعن الرابع) زعمه أن القرآن ذكر إسكندر ذي القرنين بما لا يوافق أخبار التاريخ المحققة، وجوابه أن ذا القرنين المذكور في القر

الرد على من أفتى بكتمان بعض القرآن ثم حرف بعضه استدلالا على فتواه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرد على من أفتى بكتمان بعض القرآن ثم حرَّف بعضه استدلالاً على فتواه نشرنا في الجزء الأول من منار هذا العام استفتاء في قول من زعم أن في القرآن الحكيم آيات لا يجوز إذاعتها، ولا إسماعها لأهل الكتاب من ذوي ذمتنا، وأخرى لا يجوز إسماعها للنساء هي قصة يوسف، بل قال سورته (عليه السلام) . ذكر المستفتي اسم الذي زعم ما نقله عنه في السؤال، ولم نذكره نحن في الجواب تكريمًا له، وأملاً منا بأن يبين هو الحقيقة بما يبرئ به نفسه مما اتهمه به السائل أو يتأوله، وصرحنا بشكنا في عزو هذا المنكر العظيم إليه كما قاله السائل، ولم نصرح باسم الصحيفة وهو (الوطنية) التي نشر فيه السائل هذه التهمة مبالغة في كتمانها، فلما اطلع على المنار بادر إلى الدفاع عن نفسه بما أثبت التهمة وجنى على القرآن جناية جديدة، فجاز لنا أن نصرح باسمه تبعًا له، ووجب أن نرد عليه، ولو كان خطؤه في غير كتمان القرآن والاستدلال عليه بتحريف بعض آياته عن موضعها وتصوير المسألة بغير صورتها لما كان من شأننا أن نرد عليه، ولكن هذا الرد دفاع آخر عن حق القرآن. يؤسفنا أن صاحب الزعمين هو الأستاذ الشيخ محمود محمود وكيل جمعية مكارم الأخلاق، فقد نشر في الجزء التاسع من مجلة الجمعية الذي صدر في شهر ربيع الآخر تفسير آيات له من سورة الأنعام منها قوله عز وجل: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108) فأدخل في عموم النهي عن سب آلهة المشركين سب أهل الكتاب، بل قال: آلهة النصارى ... إلخ ما ستراه، ونقل عمن عبر عنه بقوله (عمدة العلماء في الأندلس) قوله: (فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الله أو الإسلام أو الرسول فلا يحل لمسلم ذم دينه، ولا صنمه، ولا صليبه، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك) اهـ. ثم قال: (هذا هو مفهوم القرآن الكريم، والقرآن أعز علينا وأحب إلى قلوبنا من صاحب المنار الذي حملته خصومته مع بعض الأساتذة أن يفتي في الجزء الأول من عام 1353 بما يخالف ذلك، ولعله قد نسي ما قاله في مناره في تفسير هذه الآية، والكمال المطلق لله وحده، والعصمة خاصة بالأنبياء وما سمي الإنسان إلا لنسيه) (أظن أن الشيخ قد كبر، فخانته ذاكرته، فقد نشر منذ أعوام أن العلماء استنبطوا من هذه الآية أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها، وأن إطلاق لفظ الكفر على من يحرم إيذاؤه من أهل الأديان محرم شرعًا إذا تأذى به، ولا سيما في الخطاب، ونقل عن الغنية ومعين الحكام أنه لو قال للذمي: يا كافر. يأثم إن شق عليه. (وقد أغرب الشيخ في فتواه القائمة على مسألة مكذوبة، وطالب من المفتي أن يتوب، وما سمعنا أن من أفتى فأخطأ - على سبيل الفرض - يطالب بالتوبة. (بعد هذا أستطيع أن أقول وأظنك معي في الفهم: أن سب آلهة المسيحيين وقديسيهم في هذا العصر الذي ضعف فيه المسلمون وتفرقوا وذلوا، وقوي الكافرون واتحدوا وعزوا، ولا سيما بالمذياع (الراديو) يدخل في مفهوم هذه الآية، ولو لم يكن فيه إلا تفريق الأمة وإفساد باطنها كما فسد ظاهرها، لكان كافيًا في استحباب منعه، حتى يعود للإسلام عزه ومجده، وتكون كلمته هي العليا في الخافقين، كما كانت في أيام سيد الكونيين والثقلين، ويظهره الله على الدين كله مرة أخرى، وعسى أن يكون قريبًا إن شاء الله) اهـ. (المنار) إن الخطأ في تفسير الأستاذ الشيخ محمود محمود لهذه الآية كثير من ناحية تفسير الآية، ومن ناحية الرد به على الفتوى التي أشار إليها، ومن ناحية ما تضمنه من وصف المسلمين في هذا العصر بأسوأ الأوصاف وأخسها، ووصف النصارى بأحسنها وأشرفها، ومن ناحية إثبات الآلهة للمسيحيين، وغير ذلك من النواحي، وما كان لنا أن نتصدى لبيان تلك الأنواع من الخطأ فيها وفي غيرها، ولا أن نناظره في شيء منها ولا من غيرها، إلا مسألة بعد المسافة بين آية سورة الأنعام في النهي عن سب المسلمين لمعبودات المشركين، وبين الفتوى التي أفتاها هو في كتمان بعض القرآن الذي يسوء أهل ذمتنا منهم بزعمه، وأهل ذمتنا لا يكونون أعز منا، ولا نكون أذلاء لهم وهم تابعون لنا، ومسألة إفتاء المنار بأن كتمان القرآن لا يجوز، وأن الله قد لعن فاعله إلا أن يتوب. فإذا كان القرآن أعز عليه، وأحب إلى قلبه من صاحب المنار كما ادعى، فصاحب المنار أحق أن يكون القرآن أحب إليه منه؛ فإنه أفتى بكتمان بعض آيات القرآن؛ لئلا يسخط النصارى، وبكتمان بعضها عن النساء بزعمه أنها مفسدة لهن وصاحب المنار أفتى ببطلان فتواه في المسألتين تعظيمًا للقرآن ودفاعًا عنه، وتنزيهًا له عما ظنه فيه، وجزمًا بأن كل ما أُنزل فيه نافع لا ضرر فيه يبيح كتمانه برأي مثله، ولا برأي أعلم أهل الأرض، فأي المفتيين أحق بعزة القرآن وحب القرآن؟ الذي يزعم أن فيه سبًّا وشتمًا وإفسادًا للنساء يقتضي كتمانهما، أم الذي ينزهه عن هذا وهذا، وعن كل ما لا يليق بكلام الله عز وجل، ويثبت أن كل ما فيه صلاح وإصلاح يجب إظهاره والدعوة إليه، وتفنيد كل من يصد عنه؟ فإن كان ظن أن صاحب المنار كبر فخانته ذاكرته، فأنساه كبر السن ما نشره منذ أعوام موافقًا لرأيه هو، فأفتى أخيرًا بما يخالفه (لخصومته مع بعض الأساتذة) فأحرى به هو أن يكون صغر سنه هو، أو شرخ شبابه قد حال بينه وبين فهم ما كتبه صاحب المنار أولاً وآخرًا؛ فإنه لا خلاف ولا تعارض بين فتوييه، ولم يقع بينه وبين أحد من الأساتذة خصومة حملته على ذلك، وإنما يعني ببعض الأساتذة نفسه، ولم يكن بيننا وبينه خصومة، بل كان آخر عهدنا بمودته المتصلة أن يبرنا بر الولد لوالده، ونوده ود الأخ لأخيه، فكان بتواضعه يبالغ في المودة جهرًا، ونعتدل فيها سرًّا وجهرًا، فالواجب عليه إذن أن يترك اتباع ظنه في صاحب المنار {ِ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12) ويأخذ باليقين في شأن نفسه، ونحن لا نزال على فتوانا بعدم جواز سب النصارى ولا غيرهم، وإن كان فيهم من يسبوننا ويطعنون في ديننا وكتاب ربنا ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا لما زعمه باطلاً، بل لأن المسلم ليس بسبَّاب ولا لعَّان. تحرير الموضوع أن الفتوى التي أفتاها صاحب المنار الشيخ الكبير، ورد عليها الشيخ محمود الشاب الطرير، وكيل جمعية مكارم الأخلاق ومفسر مجلتها ومفتيها النحرير، بما فسر به آية الأنعام برأيه وبنقله، لا يدخل في موضوعها ما ادَّعاه من سب المسلمين الأذلاء بزعمه لآلهة النصارى الأعزاء وصليبهم وقديسيهم بوهمه، وإنما موضوعها أنه لا يجوز كتمان شيء من آيات القرآن العظيم الحكيم في هذا العصر بدعوى أنه كان لهذه الآيات ما يبررها في عصر نزولها دون هذا العصر، هذا ما علل به فتواه أولاً بحسب ما نقله السائل عنه؛ وإنه لحوب كبير وإثم عظيم، وقد زاده في الدفاع عنه في مجلة الجمعية إثمًا وجرمًا بما زعمه أن تلك الآيات الكريمة متضمنة لسب آلهة القوم وصليبهم وقديسيهم، والقرآن أجل وأعظم وأنزه من ذلك، وقد قال في أهل الكتاب: {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} (العنكبوت: 46) ولم يذكر صليبهم بسب ولا غيره، وكل ما قرره فيهم أحكام حق وعدل وإصلاح ونزاهة، فهل هذه محبته للقرآن؟ وهل يقره عليه أعضاء جمعيته أو أعضاء مجلس إدارتها كما يقرونه على جميع تصرفاته في الجمعية ومدرستها، وتعليم صبيانها وبناتها؟ نحب أن نعلم هذا. ومن فروع رده الغريب علينا قوله: إن أغرب شيء في فتوانا مطالبته بالتوبة وإنه ما سمع أن من أفتى فأخطأ يُطَالَب بالتوبة. يعني بمطالبتنا إياه بالتوبة إيرادنا لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَذيِنَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} (البقرة: 159-160) الآية، فهو يرد على تذكيرنا إياه بالآية الكريمة بأنه ما سمع أن من أفتى فأخطأ يطالب بالتوبة، ولا يدري أن سماعه غير حجة فضلاً عن عدم سماعه، فليخبرنا ممن سمع أن من يفتي بما يخالف كتاب الله وإجماع المسلمين لا يُطَالَب بالتوبة ولا يجوز تذكيره بحكم الله في فتواه إذا كان في قوله تعالى إرشاد له إلى التوبة؟ ومن قيَّد هذا التذكير بكتاب الله بهذا الشرط؟ وما حجته على ذلك؟ إنني أعود فأطالبه بأن يتوب إلى الله من فتواه الأولى بخلاف كتاب الله، ومن استدلاله عليها بما بينت بطلانه؛ فإن الأمر بالتوبة مشروع فيما دون ذلك على الهفوات {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 31) فإن لم يقبل هذه النصيحة فليقتصر على ما هو أليق بها مما نشره في أواخر هذا الجزء من المجلة من سب الشيخ رشيد رضا وشتمه والطعن فيه، وفي أستاذه الإمام إن شاء، وإن كان يحظر سب الكفار، وله الأمان بأن لا نرد عليه بكلمة واحدة ما لم يكن فيما ينشره عبث بالقرآن أو بالسنة، كعبث ذلك الشيخ الذي أفتى بأن كل من يؤمن بظاهر القرآن من صفات الله كما كان يؤمن السلف الصالح فهو كافر، وبغير هذا من البدع ومخالفة السنة، وكان الأستاذ الشيخ محمود من أنصارنا عليه، وعاد الآن لتأييده ونصره، ونسأل الله تعالى أن يتوب علينا وعليهما من كل ذنب، ويهبنا كمال الإخلاص والتقوى، والسلام على من اتبع الهدى.

دائرة المعارف الإسلامية ومفاسدها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ دائرة المعارف الإسلامية ومفاسدها اسم خادع، كسور له باب ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قِبَلِه العذاب، هو معجم لَفَّقَهُ طائفة من علماء الإفرنج المستشرقين لخدمة ملتهم ودولهم المستعمرة لبلاد المسلمين يهدم معاقل الإسلام وحصونه، بعد أن عجز عن ذلك دعاة دينهم بالطعن الصريح على كتاب الله العزيز ورسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وبعد أن عجز عن ذلك الذين حرَّفوا القرآن منهم بترجماته الباطلة، والذين شوهوا تاريخ الإسلام بمفترياتهم، ذلك بأن هؤلاء الملفقين لهذا المعجم الذي سموه دائرة المعارف الإسلامية لم يتركوا شيئًا من عقائد الإسلام، ولا من فضائله، ولا من تشريعه، ولا من مناقب رجاله إلا وصوروه لقراء معجمهم بما يخالف صورته الصحيحة من بعض الوجوه، إما بصورة مشوهة، وإما بصورة عادية لا مزية لها، وطالما قلت: إن الإفرنج قد أتقنوا كثيرًا من العلوم والفنون والصناعات؛ ولكن إتقانهم للكذب والإفك، أي: صرف الناس عما يريدون حجبه عنهم من الحقائق قد فاق إتقانهم لغيره مما أتقنوه من علم وعمل. وفي هذه الدائرة عيوب علمية وتاريخية أخرى أهمها كما بدا لنا من نظرة قصيرة فيها أنها لم تُكْتَب لتحقيق المسائل التاريخية والعلمية لذاتها، بل لأجل بيان آرائهم وأهوائهم والإعلام بما سبق لهم ولعلمائهم فيها من بحث وطعن في كتبهم ورسائلهم المتفرقة. ولقد كنا سررنا إذ علمنا أن جماعة من شباننا شرعوا في ترجمة هذا المعجم بلغة الإسلام العربية، ووضع حواشي لتصحيح ما فيه من الأغلاط التاريخية والعلمية والدينية، وبيان الحق فيما دسوه فيه من عقائدهم وآرائهم الباطلة في المسائل الدينية، ونوط هذا وذاك بالعلماء الإخصائيين في كل منهما، وقد صدر الجزآن الأول والثاني من الأجزاء الصغيرة التي قسموا لها الكتاب مذيلين ببعض الحواشي من هذه التصحيحات والانتقادات، وهي غير كافية في موضوعها، ثم أعرض المترجمون عن ذلك وطفقوا ينشرون الأجزاء غفلاً من التعليق على موادها المشوِّهة للإسلام وتاريخه، بعد أن ظننا أنهم سيزيدونه استقصاءً وتحقيقًا، فخابت الآمال فيهم، وانقلب عملهم النافع ضارًّا، وما كان يرجى من إصلاحهم فسادًا وإفسادًا. فعلى الذين اشتركوا في أجزاء هذه الدائرة من المسلمين انخداعًا بما أعلنوه عنها أن يطالبوهم بالوفاء بما وعدوا به من التعليق على كل مادة، أو مسألة مخالفة لدين الإسلام وتاريخه وسيرة عظماء رجاله، فإن عادوا إلى ذلك استمروا على اشتراكهم فيها، وإن لم يعودوا له بالوجه المرضي وجب عليهم شرعًا أن يقطعوا الاشتراك، وحُرِّم على سائر المسلمين أن يشتروا شيئًا من هذه الأجزاء لئلا يكونوا من الذين يبذلون أموالهم للصد عن دينهم ونصر أعدائه عليه، إلا من يرد على هذه الأباطيل بما يُحَذِّر المسلمين منها. أقول ولا أخشى لائمًا ولا مخالفًا: إن نشر هذا المعجم باللغة العربية كما كتبه واضعوه بدون تعليق على ما فيه من الأغلاط والمطاعن ومخالفه الحقائق هو أضر من شر كتب دعاة النصرانية (المبشرين) وصحفهم؛ لأن هذه قلما ينخدع أحد من عوام المسلمين بما فيها من الباطل، وأما هذا المعجم المسمى بدائرة المعارف الإسلامية المعزو أكثر ما نقل فيه إلى كتب المسلمين؛ فإنه يخدع أكثر القارئين له ممن يُعَدُّون من خواص المتعلمين؛ لأنه يقل فيهم من يفرق بين الحق والباطل مما فيه، ويقل فيهم من يعلم أن مؤلفي هذه الدائرة ممن يتربصون بهم الدوائر {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} (التوبة: 98) فعسى أن يتدارك المترجمون لها ذلك بمثل هذا التذكير القلمي الذي لم نكتبه إلا بعد أن كلفنا بعض إخواننا المعاشرين لهم أن ينذرهم إياه بلسانه ولساننا، ولعلنا نجد فرصة ننشر فيها بعض الشواهد على ما قلنا.

المطبوعات الحديثة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المطبوعات الحديثة (مائة حديث وحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) (تأليف محمود بك خاطر، طبع في مطبعة مصر بغاية الإتقان سنة 1352) . محمود بك خاطر من خيار أدباء مصر نفسًا ولغةً وتصنيفًا له كتاب (مهذب مختار الصحاح) مطبوع، وكتاب (مختار القاموس) تحت الطبع. وقد عُني أخيرًا بجمع مائة حديث وحديث من دواوين السنة، وعزا كل واحد منها إلى أحد مخرِّجيه من أصحابها، وشرحها شرحًا لطيفًا وجيزًا، وطبعها في مطبعة مصر - وهو مديرها - طبعًا جميلاً، ونشرها بين الناس، فكان وقعها حسنًا نافعًا؛ لأنها من الحكمة المحمدية التي تكثر الحاجة إليها في هذا العصر كما قال في بيان غرضه منها: (راعيت في اختيارها تعرضها للمسائل الحيوية، والشؤون الاجتماعية، مما يهذب الناشئين، ويثقف النابهين، وينبه الغافلين) ولا غرو فمحمود حسن الاختيار حسن الذوق، محسن متقن لكل ما يعمل بقدر طاقته، وقد تجلى في هذا الكتاب جمال دينه مع جمال عقله وأدبه وذوقه وإتقان فن الطباعة الذي تولى فيه إدارة مطبعة من أغنى مطابع مصر أو الشرق، وهي مطبعة بنك مصر. تفضل صديقي محمود بك خاطر بإهداء الكتاب إليّ في أول عهده بإخراجه من المطبعة، وقد سرني أن أبطأت في تقريظه حتى أخذ حظه الكبير من تقريظ الجرائد بأقلام محرريها وغيرهم من الأدباء، ولم أر في أسماء مقرظيه أحدًا من المشتغلين بعلم الحديث يكفيني الإشارة إلى بعض ما ينتقد على الكتاب مما لا يعلمه إلا أهل الحديث. أهم ذلك أن المؤلف صرف وقتًا طويلاً في جمع هذه الأحاديث من دواوين السنة التي ذكرها، وفي مراجعة شروح بعضها، وكان يغنيه عن ذلك كله أو جله وعما كتبه في أول الكتاب (ص8) وفي آخره (ص 71-74) من ذكر أسماء هذه الكتب، وأرقام الصحائف التي نقل الأحاديث منها - كان يغنيه عن ذلك كله أو جله شرح الجامع الصغير، بما يكون تخريجه للأحاديث أتم، والثقة بها أكمل، مع موافقتها لاصطلاح أهل الحديث. أكثر هذه الأحاديث مدونة في الجامع الصغير، وربما توجد كلها في النسخة التي أضيف إليها ذيله [*] ومؤلفه الجلال السيوطي يعزو كل حديث إلى مخرِّجيه من أصحاب الكتب الستة وغيرهم، ووضع علامات للصحاح والحسان والضعاف منها في الغالب، وما فاته من هذا لا يفوت شراحه، فما فائدة تعب المؤلف في قراءة جامع الترمذي كله، واختيار بضعة عشر حديثًا منه يعزوها إليه وحده، وأهل الحديث يعلمون أن فيه بعض الأحاديث الضعيفة والمنكرة والشاذة، فعزو الحديث إليه وحده لا يفيد أنه صحيح ولا حسن، وكذلك سائر الكتب التي نقل عنها ما عدا الصحيحين، وبعض ما عزاه إلى واحد من هؤلاء قد يكون مرويًّا في أحد الصحيحين أو كليهما، وقد يكون متفقًا عليه أو مما رواه الجماعة كلهم، ومن المنتقَد عند أهل الحديث أن ينقل أحد حديثًا ويعزوه إلى أحد مخرِّجيه إلا أن يكون أصحهم رواية كالشيخين في صحيحيهما، فإن كان فيهما، فيعزى إليهما معًا إن كان لفظها واحدًا، وإلا اقتصر على البخاري؛ لأنه أصحهما، أو على صاحب اللفظ الذي يختاره مصرحًا به. والأستاذ محمود بك يعزو الحديث المتفق عليه إلى واحد ممن لا يتحرون الصحاح وحدها كالأحاديث الثالث والرابع والسادس والسابع والثامن والتاسع، بل الحديث السادس رواه الجماعة كلهم، وقد عزاه إلى البخاري وحده، وعزا الرابع إلى أحمد وحده، وقد رواه معه البخاري ومسلم كلاهما متفق عليه، وعزا التاسع إلى أبي داود وحده، وهو متفق عليه رواه أحمد والبخاري ومسلم أيضًا، ومثل هذا كثير في الكتاب. ومما ينتقَد عليه أنه قال في فاتحة (ص9) : وقد أوردت كل حديث منها بإسناده إلى من حدَّث به، وهو لم يذكر إسناد شيء منها بالمعنى المعروف عند المحدِّثين، وهو السند أي: طريق الحديث من رواية الأول كالبخاري مثلاً إلى الصحابي الذي رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولكنه يعني بالإسناد معناه اللغوي وهو العزو إلى أصحاب الكتب، فيحسن أن يتذكر هذا وذاك إذا وفقه الله تعالى لخدمة الأمة بكتاب آخر من مختاراته النافعة، وأن يذكر الكتب الستة ومؤلفيها بترتيب تواريخهم، لا بترتيب حروف المعجم، وأن لا يذكر مسند أحمد في الكتب الستة، والأشهر أن السادس منها سنن ابن ماجه، ومنهم من يعد منها الموطَّأ أو سنن الدارمي دون ابن ماجه. ومن الغريب أن يخطئ المؤلف في تعريفه وبيانه لكتب الحديث التي نقل عنها ومؤلفيها (ص10) في اسم صاحب الصحيح الثاني، فيقول: (صحيح أبي الحسن مسلم بن مسلم والصواب أنه أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم، وقل من يذكر اسم جده) ، ومثله خطؤه في ضبط الترمذي، فقد ضبطه في هذا البيان، وفي عزو الحديث الأول إليه مشكولاً بضم التاء، وهي مسكورة بالاتفاق. وافتتح المؤلف الكتاب بمقدمة وجيزة في نسب النبي صلى الله عليه وسلم وصورته وسيرته جمعت في ورقتين صغيرتين ما لا يستغني مسلم عن معرفته، والظاهر أنه اعتمد فيها على ما كان علق بحفظه، فلم تأت بما يعهد في لغته من الدقة، مثال ذلك أنه قال بعد بضعة أسطر من الصفحة الأولى: وعندما بلغ أشده تولى رعي الغنم بالبادية مع إخوته في الرضاع، وهو صلى الله عليه وسلم قد رعاها قبل ذلك، ولم يمكث في البادية إلى أن بلغ أشده. وفي الصفحة التي تليها (وجمع رسول الله عشيرته وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب) ... إلخ، والصواب وبنو المطلب كما هو ظاهر، ولعل الأستاذ ينقح هذه السيرة الشريفة اللطيفة، ويراعي ما قلنا في الطبعة الثانية لهذا الكتاب، إذ يرجى أن يطبع مرارًا. صفحات الكتاب من مقدمته إلى نهاية فهرسه 78 صفحة، وثمنه خمسة قروش صحيحة، ويطلب من مكتبة مصر، فنحث جميع القراء على مطالعته. *** (كتاب الإسلام كتاب ديني، أخلاقي، أدبي، اجتماعي) مؤلفه الأستاذ أسعد لطفي أفندي حسن طبع طبعًا جيدًا متقنًا في مطبعة فاروق بمصر سنة 1350، صفحاته 368 من قطع المنار، ثمن النسخة منه عشرون قرشًا. رفعه المؤلف (إلى الله جل وعلا) بمناجاة ودعاء، ثم افتتحه بمقدمة في الشكوى من فشو الفواحش والمنكرات، والإعراض عن هداية الدين وعلمه لعدم دراسته في المدارس، ووجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي أقدم عليه بهذا الكتاب، وإن لم يكن من علماء الدين كما قال، وتلا هذا تمهيد وجيز في مولد النبي الأعظم وبعثته ورسالته، فدخول على الموضوع بالتعريف بالإسلام والإيمان بالإجمال، فتفصيل لما يجب الإيمان من صفات الله، والإيمان بملائكته، وكتبه ورسله بإيراد طوائف من آيات القرآن المجيد مشكولة غير مفسرة في كل موضوع منها، وفي قصص الرسل عليهم السلام من غير تفسير حتى إنه ذكر في رسالة يوسف عليه السلام السورة المسماة باسمه كلها؛ ولكنه تكلم فيما يجب لخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم على إعجاز القرآن وأخلاقه وحكمه النبوية، ثم تكلم في الزواج والميراث وحقوق النساء، وموضوع الحجاب والسفور الذي عظمت فتنته في هذه السنين بمصر وغيرها. ثم انتقل إلى العبادات فبدأ بالصلاة والطهارة، فذكر الضروري من أحكامهما موافقًا مذهب الشافعي رحمه الله تعالى في المسائل الخلافية، ثم تكلم على الزكاة والصيام والحج، فذكر الضروري من أحكامها مع الإلمام بحكمها، ولكن عبارته في بعض هذه الأحكام لم تكن دقيقة كعبارات الفقهاء، فهي لا تخلو من أغلاط معنوية، ثم ختم الكتاب في النهي عن البدع الفاشية في هذا الزمان، فرسالة أبي الربيع محمد بن الليث التي كتبها من قِبَل هارون الرشيد إلى قسطنطين ملك الروم يدعوه بها إلى الإسلام. وجملة القول: إن الكتاب مفيد، وهو خير من جميع الكتب الكلامية التي تقرأ في المعاهد الدينية، وعسى أن يُعْنَى بتصحيحه بالدقة التامة في الطبعة الثانية، ويعلق على آيات القرآن التي فيه تفسيرًا مختصرًا يُفْهَم به معناها في الجملة. *** (كتاب الآيات المحمدية) (تأليف محمد عبد الوهاب عضو جماعة الوعظ والدعوة الإسلامية، وجمعيات مكارم الأخلاق والهداية الإسلامية والمحافظة على القرآن الحكيم، الطبعة الأولى، بالمطبعة المتوسطة بمصر سنة 1353) صنف المصنفون كتبًا كثيرة في موضوع هذا الكتاب من الآيات الشاملة للمعجزات والإرهاصات وغيرها، منها ما جمعه المحدثون من الروايات في ذلك من صحيح وضعيف ومنكر وموضوع اعتمادًا على تمييز العلماء بينها من أسانيدها، ومن أشهرها دلائل النبوة للحافظ أبي نعيم وللحافظ البيهقي، ومن أجمعها كتاب الخصائص الكبرى للسيوطي، ومنها كتب لمن بعدهم من الذين يجمعون كل ما يرونه في الكتب من مختصر ومطول. وقد اختار الأستاذ الفاضل محمد أفندي عبد الوهاب من موظفي وزارة الحربية طائفة من هذه الآيات نقلها كما قال من الصحيحين، وتيسير الوصول، والسيرة الحلبية، وسيرة ابن هشام، وزاد المعاد، والجواب الصحيح ونور اليقين؛ ولكنه ينقل عن غيرها بتعيين لما ينقل عنه كدلائل النبوة، وبدون تعيين، ويذكر بعض الآيات بدون عزو إلى كتاب. وكان قد اقتصر في المقدمة على ذكر النقل من الصحيحين والسيرتين، ثم زاد عليهما في خاتمته ما ذكرنا من الكتب، وقد علمت أنه زاد على كل ما ذكره فيها. واعتذر في كلمته الختامية عن نقل ما لم يصح عن المحدثين من تلك المعجزات بأن في الصحاح ما يزيل استبعاد وقوعها؛ ولكن ينبغي أن يكون المانع من نقل ما لا يصح أنه لا يصح، لا أنه مستبعد، فإذا نقل وجب أن يبين درجته عند إيراده، واستغنى المؤلف عن هذا باعتذاره عنه، وهو أقل ما يجب. وقد جعل المؤلف ربح هذا الكتاب، وهو ما يزيد من ثمنه على نفقة طبعته إعانة لفقراء الحجاز فكل من يشتري منه شيئًا يكون شريكًا له في هذه الصدقة، فنحث قراء المنار على ذلك، وصفحات الكتاب 158، وهو يُطلب من مؤلفه في منزله عدد 13 حارة عنبر شارع حيصان الموصلي بالدرب الأحمر بمصر.

العبرة بسيرة الملك فيصل ـ 9

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبرة بسيرة الملك فيصل رحمه الله تعالى (9) مسألة أجنبية عن الترجمة ولكنها من صميم القضية السورية والأمة العربية يوم الجمعة أول شوال 18 يونيو كنا قررنا أن يجتمع ديوان رياسة المؤتمر - بعد تعطيل الجلسات لأجل العيد - أمس فجاء الشيخ عبد القادر الخطيب مبكرًا، فتكلمت معه في الخلل والاضطراب الذي حصل أخيرًا في المؤتمر، فشوَّه سمعته الحسنة، وفي وجوب التعاون على تلافيه، ولما جاء عزت أفندي دروزه (السكرتير) وصلاح الدين أفندي (من الأعضاء) قال الخطيب - في وجوهما -: إن أعضاء إدارة المؤتمر مقصرون في حقوق الرئيس؛ إذ تركوه ولم يساعدوه على حفظ النظام حسب القانون. فاعتذر عزت أفندي دروزه - عن نفسه - بأنه ترك القعود حول الرئيس لأجل البحث في مواد القانون، فَذَكَّرَهم الخطيب بما كان من معاونتهم للرئيس السابق هاشم بك الأتاسي اهـ. ولما اجتمع ديوان الرياسة أول مرة بعد العيد، وكان ذلك في 6 شوال (23 يونيو) صرح صلاح الدين أفندي بأن أعضاء الإدارة قصَّروا في معاضدة الرئيس عمدًا؛ لأنه من العلماء! وقد كتبت كلمة صلاح الدين أفندي الحرة في أعلى صفحة مذكرتي من ذلك اليوم، وذكرتها هنا لمناسبتها لما قبلها. وأقول الآن: إن عزت أفندي دروزه من أركان حزبنا، وكان يلازم كرسي رئيس المؤتمر، ويقوم معه بأهم أعمال حفظ النظام وغيرها؛ ولكنه صار يتركني وينزل من مكانه في منصة الرياسة بالقرب مني ويجلس مع الأعضاء، وأما الشيخ عبد القادر الخطيب فكان معارضًا لحزبنا من جهة، وكان بيني وبينه غاية التباين في الأفكار والإصلاح الديني؛ وإنما أظهر نصري في هذه المسألة أو إنكارها علنًا؛ لأنه كان يعتقد أن الأفندية من حزبنا قد عز عليهم أن يكون رئيس المؤتمر عالمًا دينيًّا معممًا، وأحبوا أو أرادوا أن يظهر عجزه عن القيام بجميع حقوق الرياسة، فليعتبر المسلم بهذا، ففيه عبر كثيرة، ولا أزيد عليه في هذا الاستطراد شيئًا! ! ! ! *** أحاديث عيد الفطر في دمشق (يوم السبت 2 شوال سنة 1338، الموافق 19 يونيه (حزيران) سنة 1920) اجتمعنا في الليلة البارحة في دار جميل مردم بك - على موعد سابق - أنا وصاحب الدار وناظر الخارجية (الدكتور عبد الرحمن شهبندر) وناظر الحربية (يوسف بك العظمة) والشيخ كامل قصاب (رئيس اللجنة الوطنية) وخالد أفندي الحكيم، وقد تأخرت عن الموعد لكثرة زائري العيد حتى بعد العشاء، وموضوع الاجتماع المفاوضة في الوفد الذي يُرْسَل إلى أوربة لأجل القضية السورية. سأل وزير الخارجية عن القاعدة التي يبني عليها الوفد مطالبه؟ قلت: لا قاعدة عندنا إلا قرار المؤتمر السوري. قال الوزير: تعني الاستقلال التام الناجز، ووحدة سورية بدخول فلسطين ولبنان فيها على أن يكون للبنان الخيار في شكل إدارته بدون تدخل أجنبي؟ قلت: نعم , ووافقني الأستاذ الشيخ كامل قال الوزير: إن معنى هذا رفض قرار مؤتمر (سان ريمو) . قال الأستاذ الشيخ كامل: فليكن. قال: إذًا لا حاجة إلى السفر. وبعد بحث (دار بين الحاضرين كلهم) قال وزير الحربية: إنه بلغه عن ثقة أن مؤتمر سان ريمو لم يقرر في شأننا شيئًا قطعيًّا. قال وزير الخارجية: أنا لا أعتد بهذه الإشاعات، عندنا شيء قطعي هو بلاغ اللورد اللنبي عن حكومته أن المؤتمر قرر الاعتراف باستقلال سورية والعراق على قاعدة الانتداب، وأن فرنسة انتدبت لسورية، وإنكلترة للعراق وفلسطين، فإما أن نرفض هذا القرار ولا حاجة حينئذ للوفد، وإما أن نعترف به، ونبحث معهم في معنى الانتداب، ونطالب ألا يمس سلطاننا العربي. قلت: بل يحتج الوفد على القرار بمخالفته للمادة 22 من معاهدة فرسايل ويبني مطالبه على هذه المادة. وفصلت ذلك، ثم انصرفنا على عزم العودة إلى البحث في جلسة أخرى (انظر مذكرة بعد غد) يوم الإثنين 4 شوال 21 يونيو: اجتمعت البارحة برئيس الوزارة (هاشم بك الأتاسي) وصباح اليوم بالملك فيصل، وهو الاجتماع الأول بعد عودته من حلب، وتكلمنا في مسألة الوهابية. *** حديث مع سمو الأمير زيد في مسألتين (1) ضعف الحكومة السورية وتدخل الملك فيصل: لما زارني الأمير زيد زيارة العيد تكلم معي في مسألة إدارة الحكومة السورية، فذكرت له بعض ما يجب لتلافي ضعفها، فدعاني إلى الغداء معه أمس - وكان الحديث قبله ثاني يوم العيد - لنتوسع في الكلام على انفراد فأجبت، وكان مما اعترف به فساد كثير من رجال البلاط (حاشية الملك) وقال: إنه يجب تنظيفه من مثل الشيخ (ف. خ) واعتذر عن تدخل الملك في الأعمال لضعف الحكومة وعجزها. قلت: إن الواجب عليه إصلاحها لا التصرف الشخصي الذي يزيدها خللاً [1] (2) مسألة العداء بين الهاشميين وابن سعود: وأخبرني (الأمير) بعودة الرسول ( ... شلاش) الذي ذهب بكتابي وكتاب الملك إلى ابن سعود، وقال: إن ابن الرشيد يود الاتفاق مع شرفاء مكة، وإن ابن سعود مراوغ - أو ما هذا معناه أو مؤداه. ثم إن رئيس الأمناء (إحسان بك الجابري) أطلعني في المساء - أي: مساء أمس (3 شوال) على كتاب ابن سعود للملك فيصل، وهو ودي، وعلى ملحق سياسي له بغير إمضاء ولا ختم - كعادته - ينحي فيه باللائمة على الملك حسين، ويقول: إنه لا يود الاتفاق. ولكن الملك فيصلاً يتوقع زحف الوهابية على الحجاز، وطلب من الوزارة جيشًا سوريًّا لحماية المدينة المنورة منهم، وإلا ترك المُلك وذهب لقتالهم مع أبيه. *** الوحدة العربية إيضاح لمسألتها بيني وبين الملك فيصل إنني على قلة عنايتي بكتابة المذاكرات قد كتبت منها ما أهم ما دار بيني وبين الملك فيصل لأجل الرجوع إليه إذا استمر التعاون بيننا على العمل للقضيتين: قضية الوحدة العربية، وقضية الجامعة الإسلامية اللتين لا تقوم إحداها إلا بالأخرى، ولم أقصد بكتابتها أن تكون مادة لكتابة تاريخ لهما؛ لأن وقتي لا يتسع لذلك مع ما أقصده من الإصلاح الإسلامي العام. ومما أزيده من الإيضاح على ما كتبت في هذه المذكرة أن الملك فيصلاً فتح جواب ابن سعود الذي أرسله إليّ مع الرسول (شلاش) الذي حمل الكتابين إليه مع إبقاء ظرفه سليمًا، وأرسله إليّ ملصقًا؛ ولكن ضعف صمغ الظرف عند فتحه بعرضه على بخار الماء، فعلمت أنه فُتِحَ قبل إرساله إليّ ولكنني تجاهلت ذلك، وهو جواب عن كتابي الأول الذي كتبته في 27 جمادى الآخرة سنة 1338، وأرسل في أوائل رجب لا الكتاب الثاني الذي كتبته في اليوم الثالث من رمضان، وأخبرني الملك على مائدة الإفطار مساء 12 منه أنه أرسله مع الوفد الذي كان قرر إرساله إلى الأمير ابن سعود، وذكرته في مذكرة ذلك اليوم، وأنه تبين لي بعد أنه لم يرسله، وما أدري متى أرسله بعد ذلك. وكان الكتاب الأول مطولاً ذكَّرته فيه بما كنت كتبته إليه عن مشروعي للوحدة العربية، وأرسلته مفصلاً إلى إمام اليمن ومجملاً إلى سموه وإلى السيد محمد الإدريسي الكبير، وبما حال من التواصل بيننا في أثناء الحرب العامة؛ إذ أرسلت إليه رسولاً ليعرض له رأيي فيها، وفي القضية العربية الكبرى. ثم قلت فيه: (وأكتفي الآن بجنوحكم للسلم مع الحجاز، وقبولكم دعوة الوحدة العربية على القاعدة التي بيناها في هذا الكتاب، ومتى جاءني خطكم مصرحًا بهذا، وجاء خط ملك الحجاز لولده الأمير فيصل بمثله نشرع في وضع قواعد الاتفاق العربي العام ... ) إلخ. وذكرت له فيه أنني مرسل إياه مع الأستاذ الشيخ محمد بهجة البيطار (وهو خير ثقة من أهل العلم والصلاح هنا، فثقوا به فيما يبلغكم عني ويبلغني عنكم، وإن كان غير متمرس بالسياسة على أنني لقنته ما لا بد له من العلم به من الأحوال الحاضرة) . وقد سافر رسولي الأستاذ البيطار مع رسول الملك رمضان شلاش؛ ولكنه عرض له عند حدود الحجاز ما أعجزه عن مواصلة السفر إلى نجد فأعطى كتابي لرفيقه , وأرسلته الحكومة إلى المدينة المنورة، ومنها عاد إلى دمشق. وقد كان جواب الأمير ابن سعود لي ثناء علي، وإطراء فوق المعهود من أسلوب ابن سعود في كتبه ورسائله لحكمة ظاهرة، وفيه استحسان للدعوة إلى الاتفاق والاتحاد بالإجمال، وأنه يحتاج إلى الدرس، وأنه سيخبرني بما يتراءى له من التفصيل، وهو مختوم بخاتمه المعروف، وفيه ملحق وجيز بخطه دون ختمه قال فيه: (أيها الأستاذ الأكرم، جميع ما ذكرتم في كتابكم حق ومعقول، ولكن ليس بخافٍ على سيادتكم أن الأقوال واحدة والأفعال مختلفة، كل تابع هواه) ، ثم ذكر أن رسولي لو وصل إليه لعرَّفه كل ما في ضميره، وأنه يستحسن أن أرسل إليه رسولاً عاقلاً دينًا بصفة تاجر من طريق بمبي (الهند) ليعرِّفه جميع ما في الخاطر، وقد أعطيته للملك فيصل مع ملحقه لاعتقادي أنه قرأهما قبلي، ولولا هذا لكان مقتضى الأمانة والمصلحة أن أكتم الملحق عنه مع بقاء السعي والتوسل للثقة بينهما، ومما يدل على أنه كان قرأه أنه لم يطل النظر فيه، بل أعاده إلي بدون تريث ولا بطء. وقد اشتد سخطه بعد عودة الرسول من نجد على ابن سعود، وخوفه من زحفه على الحجاز، وانقطع بحثنا في مسألة الوحدة العربية أيامًا. وأما كتابي الثاني في أوائل رمضان لسموه فهو مبني على قبول الملك حسين للاتفاق معه الذي عرضه عليه ولده الملك فيصل بالاتفاق معي، وقد كتبته بعد وصول جوابه عن الأول كما عُلِمَ مما تقدم. وأما طلب الملك فيصل من الوزارة أن تجهز جيشًا سوريًّا لقتال ابن سعود كما يوجب عليه والده، فقد أجابته الوزارة عنه جوابًا سلبيًّا، وأن كل ما تسمح به هو أن يتطوع من شاء من السوريين لهذه المساعدة بشرط أن تكون نفقتهم على حكومة الحجاز، وأن تكون حكومة سورية على الحياد؛ ولكن أخطأ الظن، ولم يزحف ابن سعود بالجيش الوهابي على الحجاز في ذلك العهد، وعدنا إلى سعينا للوحدة العربية إلى أن أنذره الجنرال غورو الزحف على سورية، وأذكر هنا آخر كلمة لي في مذكراتي بدمشق في هذه المسألة بعد تمهيد وجيز وهو: كان اقترح عليّ الملك فيصل أن أكتب له القواعد أو الأسس التي ارتأيت أن تُبْنَى عليها دعوة أمراء جزيرة العرب للمحالفة لأجل المناقشة فيها قبل تبييضها وكتابة الدعوة، فكتبتها، ولما عرضت فكرة الخوف من زحف الوهابية على الحجاز امتنعت من إطلاعه عليها، حتى إذا انجلى ذلك العارض عرضتها عليه، فقال: دعها لي حتى أتأمل فيها. وبعد أن تأمل فيها مرارًا قال لي: إنني موافق عليها كلها، لم أستطع زيادة كلمة فيها، ولا نقص كلمة منها. وهاك الكلمة الوجيزة التي كتبتها في مذكرتي عنها: يوم الأحد 17 شوال، 4 يوليو (تموز) : أطلعت الملك فيصل على البرنامج الذي رأيت جعله أساسًا لدعوة أمراء جزيرة العرب للاتفاق والحلاف فأعجبه جدًّا، بل أُعْجب به جدًّا، وقال: أنا أوافق عليه أنا وإخوتي علي وعبد الله وزيد وكل ذي كلمة وفهم في مكة، ولا يمكن أن يغلب سيدنا - يعني والده - علينا كلنا ويرفضه، بل نتعهد بقبوله إياه. وتواعدنا على المذاكرة التفصيلية فيه غدًا، ووعدني بأن لا يُطْلِع عليه أحدًا قط، ولا إحسان الجابري اهـ. ولكنني في ضحوة اليوم التالي (الإثنين) حلَّفت إحسان بك يمين جمعية الجامعة العربية، وكتبت فيه أنه سألني بعد القسم، هل يحنث باليمين من يوافق على احتلال الأجانب بعض البلاد لإنقاذ البعض الآخر؟ قلت: نعم. (وثم صارت ثقتي بإحسان بك أقوى من ثقتي بجلالته في مسألة الوحدة العربية؛ لأنها عند إحسان مطلقة، وعند فيصل مقيدة بمصلحته ومصلحة والده) *** عودة إلى مسألة الوفد السوري يوم الثلاثاء 5 شوال 22 يونيو: اتفقت أمس م

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار المرأة البرزة وخطابتها على الرجال مكشوفة الوجه (س 23) من حضرة صاحب الإمضاء في (مجالغكا - جاوة) بسم الله الرحمن الرحيم إلى حضرة مولاي قدوة العلماء الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار - نفعني الله والمسلمين بوجوده العزيز - آمين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فما دام قولكم في النساء المتبرزات كالخطبة أمام الرجال مكشوفة الوجه، فإن جوزتم، فما مراد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} (الأحزاب: 28) الآية، وقوله تعالى:] وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [ إلى {تُفْلِحُونَ} (النور: 31) أفتونا يا سيدي بيانًا شافيًا فلكم الشكر منا، ومن الله الأجر والثواب. والسلام. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحليم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس هيئة المركزية لشركة العلماء ... ... ... (23) المرأة البرزة تخطب الرجال سافرة: (ج) قوله في السؤال المتبرزات غلط أو محرف أصله البرزات، فالتبرز الخروج إلى البراز (بالفتح) وهو الفضاء الواسع، وغلب استعماله في قضاء الحاجة، والبرزة (كضخمة) معناها المرأة البارزة المحاسن، وغلب استعماله عند العرب والمولدين بما نقله أصحاب المعاجم عن رواة اللغة كقول صاحب لسان العرب: قال ابن الأعرابي: قال الزبيري: البرزة من النساء التي ليست بالمتزايلة التي تزايلك بوجهها تستره عنك وتنكب إلى الأرض، والمخرمقة التي لا تتكلم إن كُلِّمت، وقيل: امرأة برزة متجالة تبرز للقوم يجلسون إليها ويتحدثون عنها، وفي حديث أم معبد: وكانت امرأة برزة تختبئ بفناء قبتها، أبو عبيد: البرزة من النساء الجليلة التي تظهر للناس ويجلس إليها القوم، وامرأة برزة موثوق برأيها وعفافها، ويقال: امرأة برزة إذا كانت كهلة لا تحتجب احتجاب الشواب، وهي مع ذلك عفيفة عاقلة تجلس إلى الناس وتحدثهم، من البروز وهو الظهور والخروج اهـ. وأم معبد التي ذكرها هي الخزاعية الصحابية التي مر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وصاحبه الصدِّيق رضي الله عنه في حديث الهجرة في طريقهما من مكة إلى المدينة ومعهما خادمهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهما عبد الله بن أريقط - وكان مشركًا ثم أسلم - فسألوها عن لحم وتمر ليشتروا منها، فاعتذرت بالقحط وتمنت لو كان عندها قراء تضيفهما به، وكان بجانب خيمتها شاة عجفاء لا تستطيع الخروج إلى المرعى، فاستأذنها النبي صلى الله عليه وسلم بحلبها فقالت له: احلبها إن وجدت فيها حلبًا، فمسح ضرعها، ودعا الله تعالى، وحلبها فدرت فسقى أم معبد، ثم من معه، ثم شرب على سنته إذ قال: (ساقي القوم آخرهم شربًا) [1] ثم حلب وأبقى عندها اللبن لتسقي منه أبا معبد عند عودته، وقصتها معروفة في كتب الحديث والسير، واسمها (عاتكة بنت خالد الخزاعي) قيل: كانت مسلمة قبل مرور النبي صلى الله عليه وسلم بها، وقيل: أسلمت بعد ذلك، وعاشت إلى عام الرمادة في خلافة عمر رضي الله عنه. فإن كان مراد السائل من النساء البرزات، فلا حرج في خطبتهن سافرات فقد كان كثير من نساء الصحابة ومن بعدهم برزات يحضرن صلاة الجماعة ومجالس العلم، ويخطبن الرجال، ويروين الحديث، وإن كان مراده بروز النساء للرجال كيفما كانت حالتهن وصفاتهن ومخالطتهن لهم، فالحكم يختلف باختلاف ذلك كما هو معروف، وإننا لنرى من بعض نساء مصر في بروزهن ما يتبرأ منه الإسلام، وكل دين وأدب وشرف. لم يرد في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نص في تحريم ما ذكرنا، ولا في سيرة نساء السلف الصالح شيء من منع المرأة أن تقف مكشوفة الوجه تخطب على الرجال فيما هو حق ومصلحة، وقد بيَّنا في كتابنا (نداء الجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) تحت عنوان (آداب المرأة وفضائلها) جملة ما ورد في ستر النساء وملابسهن ومخالطتهن للرجال ومسألة حجب نساء الأمصار، وفسرنا فيه الآيتين الكريمتين اللتين ذُكِرَتا في السؤال وغيرهما بما يعلم منه جوابه مفصلاً، فليراجعها الرئيس الفاضل في المسائل 54 - 57 من صفحة 106 إلى 113 منه إن لم يكن قرأها بعد إرسال سؤاله إلينا، فإن بقي له بعد ذلك في الموضوع ما يبغي بيانه، فليتفضل بالسؤال عنه. * * * أسئلة عن أحكام القصاص في القتل والصيال والقمار (س24 - 27) من صاحب الإمضاء من صولو بجاوة. الحمد لله وحده. إلى حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية، وخادم الإسلام، عزيزي الأستاذ السيد محمد رشيد رضا محرر مجلة المنار الغراء بمصر القاهرة، دام إجلاله. بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد، فأرجو من فضيلتكم أن تفتونا على صفحات مجلتكم المنار الغراء عن ما يلي لتكتسب الثواب في الدنيا والآخرة، وتهدوننا إلى سواء الصراط، آجركم الله وجازاكم بالخير الجزيل في الأولى والآخرة آمين. (1) كيفية حكم القصاص في الشريعة المحمدية السمحة، ولا سيما في القتل الشائع ما بين المسلمين البيِّن؟ ! (2) ما حكم الشريعة المحمدية في شخص يدين بدين الإسلام تَعَرَّض مسلمًا آخر ماشيًا في سبيله، وسفك دمه بغير حق؟ (3) هل تحكم الشريعة المحمدية بالإعدام على المعتدي السافك لدم أخيه المسلم أم لا؟ (4) من دافع عن ماله وروحه، وحان القضاء والقدر وسفك دم المسلم المعتدي عليه هل تحكم الشريعة المحمدية عليه بالإعدام أم تبرئه لأنه غير قاصد الشر، بل قَصَدَهُ المجرمُ بالشر؟ وكيفية إجراء الحكم الشرعي على المجرم، هل يجازيه ربه في الآخرة بخير أم بشر؟ (5) ما قولكم في اليانصيب (اللتري) الشائع في جميع العالم: هل هو حرام أم مكروه أم جائز؛ فإننا نرى كثيرًا من إخواننا المسلمين يشترون تذكرة اليانصيب بثمن 11 ربية تقريبًا آملين أن يحصلوا مائة وخمسين ألف ربية، فمنهم من يحصل ذلك المبلغ، ومنهم من يتأسف على مبلغه الذي يهديه لمصلحة اليانصيب بلا فائدة تعود عليه، أفيدونا مأجورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... السائل ... ... ... ... ... ... ... أفندي البحري ... ... ... ... ... ... ... بصولو جاوة (ج) أقول قبل الجواب: إن السائل أعطاني لقبين أولهما غير صحيح؛ وإنما هو لقب ثابت لموظف رسمي من قبل الحكومة المصرية، وصاحبه في هذا العهد الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد سليم فهو مفتي الديار المصرية، ولعل السائل يظن أن كل من يفتي في مصر يصح أن يوصف بهذا اللقب. ثم إن الأسئلة الثلاثة الأولى يصح أن تجعل سؤالين مقترنين، وهو حكم قصاص القتل وتنفيذه فنلخصها كما فهمناه من عبارته، وإن لم نعرف سبب السؤال ونجيب عنه. *** (24 و25) حكم قتل المسلم لأخيه عمدًا وكيفية تنفيذ القصاص: أما حكم قتل العمد بغير حق، فهو القود بأن يقتل القاتل قصاصًا إلا أن يعفو عنه أولياء الدم أو بعضهم؛ وإنما يقتل بحكم ولي الأمر، وكيفية القتل التي كانت معهودة في عصر التشريع الديني هي قطع الرأس بالسيف، ومن مباحث الاجتهاد فيها هل هي واجبة دينًا يمتنع أن يستبدل بها ما يكون أسهل منها وأقل تعذيبًا وإيلامًا للمقتول كالشنق والقتل بالكهرباء؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة) الحديث، فالقتلة والذبحة في الحديث بكسر أولهما اسم لكيفية القتل أو الذبح، وهو يدل على وجوب ترجيح أحسن الكيفيات، والحديث رواه مسلم وأصحاب السنن عن شداد بن أوس. (26) حكم الصِّيال إذا قتل الصائل: إن دفاع المرء عن نفسه وماله وزوجه وأولاده إذا اعتدى عليه معتدٍ مشروعٌ، ويسمى هذا الاعتداء الصيال، وأحكامه مبسوطة في كتب الفقه، والأصل فيه أن يدافع الصائل بالأخف فالأخف، فلا ينتقل من وسيلة لدفعه إلى وسيلة أشد منها إلا إذا كانت غير كافية، فإن أفضى بهذه الصفة إلى قتله كان دمه مهدرًا لا قصاص فيه ولا دية ولا كفارة كما نص عليه في مذهب الشافعية الذي عليه أهل جاوة، والأصل فيه حديث النسائي عن مخارق قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يأتيني فيأخذ مالي، قال: (ذَكِّره بالله) قال: فإن لم يذكر؟ قال: (فاستعن عليه من حولك من المسلمين) قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟ قال: (فاستعن عليه بالسلطان) قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: (قاتل دون مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك) . وروى أصحاب السنن الثلاثة من حديث سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) والمراد بدون ما ذكر الدفاع عنه. وفي صحيح مسلم أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ ، قال: (فلا تعطه مالك) ، قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: (قاتله) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (فأنت شهيد) ، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: (هو في النار) . (27) حكم اليانصيب: اليانصيب نوع من أنواع الميسر بيناه في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: 219) الآية في الطبعة الثانية من الجزء الثاني من تفسير المنار (ص 329 و 330 منه) بعد بيان ميسر العرب، وقلنا: إنه لا يظهر فيه كل ما وُصِفَ به ميسر العرب مع الخمر في آيات سورة المائدة وهذا نصه: (اليانصيب) هو عبارة عن مال كثير تجمعه بعض الحكومات أو الجمعيات أو الشركات من ألوف من الناس كمائة ألف دينار (جنيه) مثلاً، تجعل جزءًا كبيرًا كعشرة آلاف منه لعدد قليل من دافعي المال كمائة مثلاً، يُقَسَّم بينهم بطريقة الميسر وتأخذ هي الباقي، ذلك بأن تطبع أوراقًا صغيرة كأنواط المصارف المالية (بنك نوت) تسمى أوراق (اليانصيب) تجعل ثمن كل واحدة منها دينارًا واحدًا مثلاً يطبع عليها، وتجعل العشرة الآلاف التي تعطى ربحًا لمشتريي هذه الأوراق مائة سهم أو نصيب تُعْرَف بالأرقام العددية، وتسمى النمر (جمع نمرة) ويطبع على الورقة المشتراة عددها، وما تربحه كل واحدة من العشر الأوائل منها، وتجعل باقيها للتسعين الباقية من المائة بالتساوي بترتيب كترتيب أزلام الميسر يسمونه السحب، ذلك بأنهم يتخذون قطعًا صغيرة من المعدن يُنْقَش في كل واحدة منها عدد من أرقام الحساب يسمونه نمرة من واحد إلى مائة ألف، إذا كان المبيع من الأوراق مائة ألف، ويضعونها في وعاء من المعدن كري الشكل كخريطة الأزلام (القداح) التي بيناها آنفًا، فيها ثقبة كلما أديرت مرة خرج منها نمرة من تلك النمر، فإذا كان يوم السحب أديرت بعدد الأرقام الرابحة فما خرج منها أولاً سمي النمرة الأولى مهما يكن عددها هي التي يعطى حاملها النصيب الأكبر من الربح كالقدح المعلى عند العرب، وما خرج منها ثانيًا سمي النمرة الثانية، ويعطى حاملها النصيب الذي يلي الأول، حتى إذا ما انتهى عدد النمر الرابحة وقف السحب عنده، وكان الباقي خاسرًا. وأما كون هذا النوع لا يظهر فيه ما في سائر الأنواع من ضرر العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلأن دافعي المال فيه لا يجتمعون عند السحب، وقد يكونون في بلاد أو أقطار بعيدة عن موضعه، ولا يعملون له عملاً آخر، فيشغلهم عن الصلاة، أو ذكر الله تعالى كقمار الموائد المشهورة، ولا يعرف الخاسر منهم فردًا أو أفراد أكلوا ماله؛ فيبغضهم ويعاديهم كميسر العرب وقمار ا

تصدير طبع كتاب المنار والأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تصدير طبع كتاب المنار والأزهر {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: 28) ، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (المجادلة: 11) ، {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) ، {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية: 29) . صدق الله العظيم ما للأزهر وما عليه من الحق: الحق أقول: إنه لا يوجد في العالم الإسلامي بيئة (أو ما يعبر عنه في العرف المدني بالشخصية المعنوية) أجدر من هذا الأزهر بالكرامة في نفسه، وبالتكريم من الأمة وحكومتها؛ ولكنه ظُلِمَ وهُضِمَ حقه، بل حقوقه منذ تفرنجت حكومته، ولم تعد تشعر بالحاجة إلى علم الدين وأهله، فازدرتهم وحرمتهم من مناصب الدولة، وقد قبل علماؤهم هذا وذاك بلا دفاع أو بلا شعور، فصار من التقاليد المتبعة والعرف العام الذي يراعى في القوانين ويشبه الشرع الإلهي المُنَزَّل، وما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم، فظلمتهم حكومتهم، وخذلتهم أمتهم؛ حتى قيض الله تعالى لهم عالمًا أفغانيًّا، سيدًا حسينيًّا، فأيقظهم من سباتهم، ونبههم من غفلتهم عن أنفسهم، وذكَّرهم بحقوقهم في الدولة وبحقوق الأمة عليهم، وأهاب بهم ليأطروا الظالم على الحق أطرًا، ويقسروه على العدل قسرًا، كما هداهم نبيهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، وإلا أهلكهم الله تعالى بخضوعهم للظلم، وتنكيس رؤوسهم للذل، وليستعدوا لذلك بإحياء العلم الذي تحيا به الأمم، وتقوم به الدول. ثم خلفه من مريديه عالم من بني جلدتهم، ونبتة باسقة من تربة أزهرهم، جهر بدعوته هذه معه وبعده، إذ قال في بيانه لها في سياق ما دعا إليه من الإصلاح العلمي والعملي: (جهرنا بهذا والظلم في عنفوانه، والاستبداد قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس كلهم عبيد له أي عبيد،) فماذا جرى؟ نفى الظلم الداعي الأول من القطر، ونفى الثاني أولاً من القاهرة إلى بلده محلة نصر، ثم إلى خارج وطنه: ثم كان ماذا؟ أو ماذا كان؟ عاد إلى مصر عزيزًا كريمًا، وجدد الدعوة إلى إصلاح الأزهر، وإصلاح مصر والأمة الإسلامية به، فسالمه الظلم آنًا، ثم ناوأه آونة، واستعان على صده عن الأزهر ببعض أهل الأزهر، وقد كان من أعوان الظلم عليه وعلى الإصلاح بعد أن كان معه الشيخ محمد الأحمدي الظواهري شيخ الأزهر اليوم الذي عمل في إفساد إصلاحه، وإذلال الأزهر، وظلم أهله ما لم يعمله أحد منهم، ولا من غيرهم. الأساس الإداري لإصلاح الإمام للأزهر الاستقلال: أتكلم في هذا التصدير عن إصلاح الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده قدَّس الله وجهه من وجهة إعلائه لشأن الأزهر واستقلال أهله به، وكف يد كل من الحكومة والأمير عن الاستبداد فيه، وهي الوجهة التي عُني الشيخ الظواهري بإفسادها، وظهر لكل أهل الأزهر ولغيرهم سعيه وسعايته لهدم الأساس الذي وضعه الإمام لها، وقد تكلمت في صلب الكتاب عن كيده للإصلاح العلمي الديني بالإفساد البدعي الخرافي. كان الأساس الذي وضعه الإمام محمد عبده لإدارة الأزهر أن يكون علماؤه مستقلين فيه بنظام وقانون لا سلطان للحكومة ولا للأمير على العبث به، كما بينت ذلك بالتفصيل في المنار، ثم في الجزء الأول من تاريخه (أي تاريخ الأستاذ الإمام) . وذكرت من جملة الشواهد على ذلك من وقائعه أن سمو الأمير أرسل إلى شيخ الأزهر رجلاً من أكبر رجالات مصر المكرمين (هو الشيخ محمد توفيق البكري) يبلغه فيه أمر سموه بتوجيه كسوة تشريف من الدرجة الأولى لغير المستحق لها من العلماء، فلما عرض توجيه الكسوة المنحلة في مجلس إدارة الأزهر لم يتسن لشيخ الأزهر أن يوجهها إلى غير مستحقها والشيخ محمد عبده في الجلسة، بل وجهت إلى مستحقها بمقتضى القانون. حتى إذا ما اجتمع كبار العلماء في حضرة الأمير في أول مقابلة له في قصر عابدين، صب سموه سوط التثريب على شيخ الأزهر قائلاً له: ألم أكن أمرت بكذا؟ فحصر لسان فضيلة الشيخ عن الجواب، وفرك إحدى كفيه بالأخرى، فبادر الشيخ محمد عبده إلى إنقاذه قائلاً: إن الذي قرره مجلس الإدارة في الكسوة المذكورة هو التنفيذ لأمر أفندينا؛ لأنه مقتضى القانون الموقع بإمضاء سموه، والمجلس لا يعرف له آمرًا غيره، ولا يمكنه العمل بالأوامر الشفوية المخالفة له، فإذا شاء أفندينا أن توجه (كساوى التشريف) إلى من يشاء من العلماء فليلغ القانون بدكريتو (مرسوم) يقول فيه: إن كساوى التشريف توجه بإرادة سنية منا! ! فلما سمع الأمير هذا تبيغ دمًا، وتفصد عرقًا، وانتصب واقفًا لينصرف العلماء فانصرفوا. هدم الظواهري لاستقلال الأزهر بنفوذ مستخدمي البلاط: وأما الشيخ الظواهري فهو يخالف قانون الأزهر وما هو فوقه من هداية كتاب الله وسنة رسوله بكلمة من القصر غير صادرة له عن لسان جلالة الملك المطاع، بل من تلفون الإبراشي باشا أو من دونه من حاشية البلاط، لا لحفظ استقلال الأزهر وكرامة أهله، بل للتمتع بمنافع السلطان الاستبدادي فيه؛ فالشيخ لذته في التمتع بلذة الرياسة في ظل استبداد السياسة، حتى روي أنه يبذل أكثر راتبه لشريكه في تبادل المنفعة [1] ، ولذة هذا الشريك في جمع المال لنفسه، وجل منافع الشيخ المادية ما يناله ولده وأهل بيته وبعض أعوانه من الوظائف بجاهه، هذا ما يقوله ويكتبه المنقبون في سيرته، ومثل هذا قد فعل غيره؛ ولكن الذي لم يفعله أحد من مشايخ الأزهر هو هذا الإسفاف والتدلي في إهانة علم الدين وأهله بجعل رئيسهم يذل ويخزى بخنوعه لموظف إداري أو كتابي ليس له عليه أدنى سيطرة ولا سلطان، وكل ما يخشاه ويرجوه من وجوده في القصر الملكي أن يكتم عن جلالة الملك ظلمه واستذلاله للعلماء، أو يتأوله بأن فيه خدمة دينية لجلالته، أي أنه يرجو منهم أن يغشوا ولي الأمر به، وتسمية هذا خدمة للدين أو اتباعًا لما أوجبه الله تعالى من طاعة أولي الأمر، من تلبيس إبليس ولبس الدين مقلوبًا كالفرو، كما قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه. وقد بينت في خاتمة هذا الكتاب أقوال أشهر المفسرين في الظلم والركون إلى الظالمين، وإلى من تدنس بشيء من الظلم وإن قل وكونه سببًا لدخول النار معهم، وما يجب من طاعة الأمراء والسلاطين بالمعروف، ومن نهيهم عن المنكر، ومن كون السلطة العليا عليهم للأمة ينفذها أهل الحل والعقد من زعمائها. وقد قال حجة الإسلام الغزالي في (كتاب الحلال والحرام) من الإحياء: (الباب السادس فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة ويحرم، وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم) (اعلم أن لك مع الأمراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال: الحالة الأولى وهي شرها أن تدخل عليهم، والثانية وهي دونها أن يدخلوا عليك، والثالثة وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك) . ثم شرح كل حالة من هذه الثلاث وهو يخاطب بهذا كل مسلم، فما قولك بعلماء الدين المتصدرين للإمامة والقدوة فيه؟ ثم ما قولك فيهم إذا كانت حالتهم معهم دون الحالة التي قال أنها شر الأحوال بأن يكون العالم الكبير أمام أحدهم كالأجير الصغير، بل رئيس العلماء الأكبر كالمرؤوس الحقير، إن الإمام الغزالي لم يكن على سعة عقله واختباره لأهل زمانه يتصور أن يضع أحد من العلماء نفسه في هذا الدرك الأسفل وهو الذي كتب ما كتب في علماء السوء وازدلافهم للسلاطين، وتذكيرهم بعزة علماء الدين، ووعظهم للخلفاء العباسيين، وهو الذي زاره الخليفة في بيته واقترح عليه أن يؤلف كتابًا في إبطال شبهات الباطنية، وتفنيد دعوتهم المفسدة للدين والدولة، فمن كان هذا شأنه في مقام العلم الكريم، لا يخطر في باله أن يكون رئيس العلماء الأكبر في مصر إسلامي كما نرى في مصرنا هذا. كان عندنا في الأزهر ذلك الإمام الكامل الذي كان يهابه أميره، بله بطانته وأعوانه، وكانت مزاياه ترى من الهند في الشرق، وتونس والجزائر في الغرب، وأوربة في الشمال، من حيث لا يراه الأزهر الذي يجاهد فيه لرفع ذكره، وإعلاء قدره، فاضطره الاستبداد إلى الخروج منه والاستقالة من خدمته، ليوجه جهاده إلى ميدان آخر، فلم يشعر الأزهر يومئذ بهذه الصدمة التي قرع بها، وقد شعر بقارعتها وشكا منها الشرق والغرب كما شرحنا ذلك في المنار ثم في (تاريخ الأستاذ الإمام) . يومئذ خدعوا الأزهر بأنهم يريدون إرجاعه إلى ما وجد لأجله بزعمهم، وهو (العبادة وعلوم الدين لا غير، ومنع كل ما سواها من علوم العصر، وقصر كل ما يسمونه الإصلاح على صحة الطلبة وغذائهم، وخدعوا الرجل الطيب علامة مصره الشيخ عبد الرحمن الشربيني (رحمه الله) بهذا فاتخذوه آلة لتنفيذه، وقبول مشيخة الأزهر لأجله، بعد التمهيد له بخطاب مفتوح رفعه الشيخ محمد الأحمدي الظواهري إلى سمو الخديو قال فيه: وأرجو ويرجو المسلمون من سموكم أن تشملوا هذه المدارس (يعني الأزهر والمعاهد الدينية) بعنايتكم، وأن تقطعوا منها جراثيم الفساد والانحطاط) . ثم أرسلوا صاحب الجوانب المصرية الأديب السوري المعروف إلى الأستاذ الشيخ الشربيني لأخذ حديث منه ينشر فيها، فتنقله جريدة المؤيد فيخفى على الناس أنه مكر مدبر كما ظنوا، فكان أول ما سأل الشيخ عنه: (ماذا يرى مولانا فيما قام يلتمسه اليوم الشيخ الظواهري من الجناب الخديو؟) أجاب الأستاذ: الظواهري إنما ينطق بلسان كل محب لخير الأزهر عالم بالغرض الذي أسس له والخدمة التي أداها للدين. ثم بين في جواب سؤال آخر أن هذه الخدمة عبادة الله، وطلب شرعه كما تركه لنا الأئمة الأربعة رضي الله عنهم لا غير (وما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم الأعصر فلا علاقة للأزهر به، ولا يرجى له) ... إلخ ما فصلناه في تاريخ الأستاذ الإمام، فكيف قبل الظواهري في رياسته للأزهر اليوم ما طالب الخديو بقطع جراثيمه بالأمس، بل جعل لعلوم العصر ومدرسيها السلطان الأعلى على الأزهر وعلماء الدين فيه؟ ماذا فعل العلامة الشربيني الذي لم يدر ما أريد به، كما أنه لم يكن يدري لماذا أنشئ الأزهر ولا ما فعله الأزهر؟ ثم ماذا فعل من بعده من مشايخ الأزهر منذ تركه الأستاذ الإمام سنة 1323هـ و (1905م) إلى هذه السنة 1353؟ لم يفعل أحد منهم شيئًا، وإنما تركوا أمرهم للخديو، ثم تركه الخديو للحكومة فسنت له قانونًا بعد قانون، ولم يكن لأحد منهم رأي في عبث الحكومة بالأزهر، ولا تأثير علمي ولا ديني فيما تقلب فيه الأزهر من التنقل في الأطوار، ولا فهمها أحد منهم إلى أن ولي رياسته الشيخ محمد مصطفى المراغي فكان هو الرجل الذي عرف ما تجدد في الأزهر من أطوار، وما يضطرب فيه من موج ويصطخب من تيار، فوضع له القانون الذي يمكن أن يجري فيه فلك الإصلاح آمنًا من الأخطار، فنُوزِعَ في بعض مواده التي يتعذر بدونها حمل تبعة العمل واستقلال فيه فاستقال منه، فظهر من مزاياه وخلائقه العليا بهذه الاستقالة ما لم يكن يعرف كنهه أعرف الناس بإدارته وسيرته في مدته القصيرة في رياسة الأزهر، ولا فيما قبلها من رياسة المحكمة الشرعية، ولا فيما قبلها من رياسة ا

مباحث الربا والأحكام المالية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مباحث الربا والأحكام المالية (تابع لما قبله) الأصول والقواعد العامة للحلال والحرام في المعاملات المالية مقدمة في تلخيص إجمالي لما تقدم: قد بيَّنا حقيقة الربا المحرم بنص القرآن القطعي، وهو ربا النسيئة أي ما يأخذه الدائن من المديون المعسر عند استحقاق الدين المؤجل عليه وعجزه عن قضائه لأجل تأخيره إلى أجل آخر، وهو زيادة لا مقابل لها، فهي ظلم قد يتضاعف إذا عجز المديون عن القضاء كلما حل أجل جديد، فيكون أفحش أنواع الظلم والقسوة، وبيَّنا حقيقة ما سمي ربا الفضل، وهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع أحد النقدين أو أصول الأقوات التي عليها مدار معيشة الأمة بمثله من جنسه مع زيادة أو تأخير، وبيَّنا أن حكمة النهي عنه سد ذريعة الربا القطعي المحرم بنص كتاب الله تعالى، وبيَّنا أن الفقهاء توسعوا باجتهادهم في أحكام المعاملات المالية حتى أدخلوا في معنى الربا كثيرًا من صور البيوع والقروض والشركات التي لا تدخل في ربا القرآن الأصلي (النسيئة) ولا في ربا الحديث الاحتياطي من باب ولا منفذ، إلا بالتأويلات المستنبطة من التعاريف والأقيسة والضوابط المذهبية والاجتهادية، وأن جمهور المسلمين يظنون أن كل ما حظره الاجتهاد المذهبي وعدَّه من الربا فهو محرم، كالذي حرَّمه الله بالنص القطعي وتوعد عليه بأعظم الوعيد لشدة ضرره، وظلم الأخ لأخيه فيه، والذي نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم احتياطًا لسد ذريعة الظلم الذي حرَّمه الله تعالى على عباده كما حرَّمه على نفسه. ومن أجل هذا الفهم الباطل ضاعت عليهم سبل المعاملات، ووقعوا في مآزق العسر والحرج الممنوع من شريعة الحنيفية السمحة بنص كتابها العزيز، واضطروا إلى طرق أبواب الحيل لاستحلال ما حرَّمه الله لا ما حرَّمه هؤلاء الفقهاء برأيهم فقط، ولم يضع لهم هؤلاء الفقهاء حدودًا وضوابط للاضطرار أو الحاجة إلى المحظور في قاعدتهم: الضرورات تبيح المحظورات، وفي قولهم: إن المحرَّم لذاته يباح للمضطر إليه، وإن المحرَّم لسد الذريعة يباح للحاجة إليه ورجحانها على المفسدة. إن هؤلاء المقلدين حرَّموا على أنفسهم وعلى عباد الله ما لم يحرِّمه عليهم ربهم، فمنهم من حرَّم على نفسه منافع أحلها الله له، ومنهم من أقدم على ارتكاب ما يعتقد أن الله تعالى حرَّمه عليه إما بحيلة يعلم أنها لا تخفى على الله ولا ترضيه، وإما بغير حيلة، ودخل أدعياء الفقه منهم في عموم من قال الله تعالى فيهم: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ} (الشورى: 21) ومن قال فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} (التوبة: 31) ، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم هم الذين كانوا يحلون لهم ويحرمون عليهم فيتبعونهم. وآل أمر أكثر المسلمين إلى أن تغلب الإفرنج على أكثر بلادهم بالفتح السياسي أو الحرب، أو بالنفوذ الاقتصادي والإداري، وصارت جميع أحكامها المالية بالقوانين التي تبيح ما حرَّموا من الربا وغيره من ضروب الكسب، فصاروا يؤكلونهم الربا ولا يأكلون منهم، ويكسبونهم أموالهم ولا يكسبون منهم، حتى إن المسلم الغني يودع ماله في مصارفهم (بنوكهم) بدون فائدة له فيستغلونها لأنفسهم، والمسلم المحتاج يستدين منهم بالربا، فازدادوا بهذا عسرًا وفقرًا، وفرت ثروة بلادهم من أيديهم إلى أيدي مستعبديهم، وصار أكثرهم أجراء بل عبيدًا للإفرنج فيها، وتبع ضياع الثروة والنفوذ ضياع العلم الديني والدنيوي، وبدأ يتبع ذلك ضياع الدين التقليدي، ولا يمكن أن يجدوا مخرجًا من هذه المآزق إلا بمسابقة الإفرنج إلى الثورة وتنظيمها وبذلها في المنافع والمصالح الملية، فمنهم من يلتمس هذا بترك الإسلام نفسه سرًّا أو جهرًا، ومنهم من يوطن نفسه على ذلك طوعًا أو كرهًا، وأكثرهم كالناقة العشواء، تخبط في الظلماء، أو كالذي يتخبطه الشيطان من المس. هذه المسألة من أظهر المسائل التي يعبرون عنها بقولهم (عمت بها البلوى) وعموم البلوى في الأمر والعامة مما يبيح المحظور للأمة، كما أن الضرورة الشخصية تبيح المحظور للأفراد، وبناء عليها قال الإمام الغزالي في كتاب الحلال والحرام من الإحياء: إن المال إذا حُرِّم كله حل كله فيستأنف فيه التعامل بالأحكام الشرعية على أنه حلال. إن جمهور المسلمين لفي حرج شديد في هذه المعاملات المالية العصرية، وكلهم يتمنون لو يجدون لهم مخرجًا منه مع المحافظة على دينهم، وأنى يجدونه وهم يطلبونه من أدعياء الفقه الديني الذين وصفهم شيخنا الأستاذ الإمام بحملة العمائم، وسكنة الأثواب العباعب، وهم حماة التقاليد الفقهية التي أدخلتهم في جحر الضب اتباعًا لسنن من قبلهم من أهل الكتاب، لكن بعد أن خرج هؤلاء منه، وهم الذين قال فيهم قبيل وفاته: ولكنه دين أردت صلاحه ... أحاذر أن تقضي عليه العمائم ذلك بأنهم هم أئمة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) (رواه البخاري ومسلم) وبأنهم أجهل ممن قال فيهم أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه: (لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبًا) ، وإذ كانوا هم حماة التقاليد التي حصرت الأمة في جحر الضب (أي الضيق) فوظيفتهم أن يقذفوا كل مصلح يحاول إخراجها منه إلى فضاء الحنيفية السمحة بأنه خارج من الدين أو عليه بمخالفته لأئمة المذاهب الواجب اتباع واحد منهم على كل واحد من المسلمين بنص عقيدة جوهرة التوحيد للقاني: ومالك وسائر الأئمة ... كذا أبو القاسم هداة الأمة فواجب تقليد حبر منهم ... كذا حكى القوم بلفظ يفهم ويعنون بوجوب تقليد حبر من هؤلاء الأئمة الفقهاء - وأبو القاسم: الجنيد من أئمة الصوفية - تقليد ما في هذه الكتب الكثيرة المؤلفة فيما يسمونه مذاهبهم وفي طرائق الصوفية، ولا عذر عندهم لمن يخالفهم فيها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا إلى أدلة هؤلاء الأئمة ونصوص كتبهم المروية عنهم أيضًا، فالأخذ عن الأئمة والعمل بنصوصهم ممنوع عندهم أيضًا، وكذا اتباع الطبقة العليا من أصحابهم كأبي يوسف ومحمد بن الحسن صاحبي أبي حنيفة، وكذا من يليهم من طبقات مجتهدي المذهب وأصحاب التخريج والترجيح بين الأقوال المختلفة والتصحيح فيه مباشرة؛ وإنما الواجب شرعًا في رأيهم العمل بما يعتمده متأخرو المؤلفين من أقوال من قبلهم من المصححين، كما قال علامتهم ابن عابدين في (رسم المفتي) وهم الذين سماهم أسرى النقل المحض من كتب مخصوصة للمقلدين. وإنني بعد أن حاربت هذه التقاليد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع اتباع هدي الأئمة من السلف الصالح كالذين ذكرهم اللقاني لا تقليدهم، أقدم بيان ما أرى فيه المخرج للأمة من الجحر الضيق المظلم، إلى الفضاء المشرق بنور الله تعالى مبتدئًا بالأصول الآتية: الأول أصل الأصول في منافع الكون الدنيوية: الإباحة بمقتضى فطرة الله ودينه المكمل لها الأصل في جميع منافع الكون الإباحة للخلق بدليل هداية الفطرة ودينها، وقد بيَّن ذلك الكتاب العزيز بمثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: 29) ، وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ} (الملك: 15) ، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ} (الجاثية: 13) فهم يعرفون منافعها بالتجارب ويترقون فيها بالتعاون حتى تكون معارفهم علومًا مدونة، وفنونًا متوارثة، وهداية الحواس والعقل كافية في ذلك بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وما في معناه رواه مسلم. ثم إن الله شرع الدين لعباده ليعلمهم ما لا تستقل عقولهم بمعرفته بالدلائل والتجارب وهو معرفته تعالى الصحيحة وعبادته التي ترضيه، وما يهذب أخلاقهم ويزكي أنفسهم من الفضائل، ليعيشوا بالتعاون والتحاب والعدل والإحسان، ويجتنبوا الرذائل الضارة بأفرادهم وجماعاتهم الكبيرة والصغيرة كالظلم والعدوان، وبمجموع هذين الأمرين يكونون أهلاً لاجتناء ثمرة الدين في حياتهم الدنيا بقدر استعدادهم المشوب بالشوائب الكثيرة، وأهلاً للسعادة الكاملة في الآخرة. والدليل على ذلك أن الله تعالى قص علينا في كتابه دعوة أشهر رسله لأقوامهم فلم نجد فيها ما يدل على أن مما بعثوا له تعليم أقوامهم الزراعة والتجارة والصناعة؛ وإنما وجدناها متفقة على عبادة الله وحده، والنهي عن الشرك والظلم والفساد في الأرض، وعلى الامتنان على الناس بنعم الأرض واستعمارهم فيها، وكون الدين يزيدهم فيها قوة ونعمًا، ووجدنا في قصة شعيب أنه نهى قومه عن نقص المكيال والميزان، وعن بخس الناس أشياءهم، والفساد في الأرض؛ لأن هذه الرذائل قد فشت فيهم. ووجدنا في أخبار بني إسرائيل أن الله تعالى حرم على اليهود طيبات كانت أحلت لهم بسبب ظلمهم؛ تربية لهم، وأن نبيه عيسى عليه السلام أحل لهم - بإذن الله - بعض ما حُرِّم عليهم، ثم جاء محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم فوضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم كلها، فعلمنا أن ذلك كان تحريمًا عارضًا في شعب واحد معروف إلى أجل معلوم، وأن شريعة خاتم النبيين السمحة هي الدائمة. (الأصل الثاني) ما أكمله الله من الدين فلا يقبل زيادة فيه أكمل الله تعالى ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم دينه لجميع الشعوب والقبائل في جميع أقطار الأرض إلى آخر الزمان، فحدد لهم في كتابه وما بيَّنه من سنة رسوله خاتم النبيين جميعَ ما يحتاجون إليه من أصول التشريع الديني العام الدائم، وفوض إليهم ما وراء تلك الحدود، ووعدهم باستخلافهم في الأرض وتمكين دينهم وسيادتهم وقوتهم فيها، وإظهار دينهم على الدين كله، وختم بذلك النبوة والتشريع الديني، فليس لأحد بعد كتاب الله القرآن وبيان السنة المحمدية له أن يفرض على البشر عقيدة، ولا عبادة، ولا تحريمًا دينيًّا لشيء من الأشياء، ولا لعمل من الأعمال، فالدين قد كمل فلا يقبل زيادة ورد من الأوراد ولا العبادات ولا تحريم شيء، وأسعد أتباعه من يقتدي فيه برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده. (الأصل الثالث) ما فوضه الله إلى عباده من أحكام الدنيا وأما مصالح الدنيا ومعاملاتها المدنية والاقتصادية والسياسية، فقد ترك الشرع ما لم يبينه منها إلى اجتهاد هذه الأمة الكبيرة؛ لأنها لا يمكن حصرها، وهي تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فما أدى إليه اجتهاد أحد من الأفراد عمل به ولا يكون دينًا لغيره، وما أدى إليه اجتهاد أولي الأمر من المصالح العامة من سياسة وقضاء عملوا به على أنه ضبط للمعاملات للفصل في الخصومات، وإقامة العدل؛ ولكن ليس لأحد منهم أن يجعل شيئًا منه دينًا يكلف الناس أن يدينوا الله تعالى به، فكل ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دينًا لا يكون بعده دينًا كما قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وقد كان مما يوصي به النبي صلى الله عليه وسلم أمراء الجيش أو السرايا قوله: (إذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم

شهر رمضان موسم العبادة الروحية البدنية الاجتماعية

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شهر رمضان موسم العبادة الروحية البدنية الاجتماعية كتبنا في السنين الخالية، ونشرنا في مجلدات المنار الخالدة، مقالات كثيرة في أحكام الصيام وحكمه وفوائده الصحية المتفق عليها عند الأطباء، والاجتماعية التي تتفق فيها العادات في مواعيد الطعام والدعوات عليها بين الأقران، والصدقات على الفقراء، والاجتماع على بعض العبادات الخاصة بهذا الشهر كصلاة التراويح ومجالس الوعظ وتلاوة القرآن، ولكل من هذه العبادات والعادات الإسلامية تأثير في النفس وشعور روحي خاص يزيد المؤمنين إيمانًا بربهم، ومودة بينهم، وقوة في رابطتهم، والذين لا يصومون محرومون من حلاوة هذا الشعور الشريف، وإن شاركوا المؤمنين في بعض ظواهره. وشر هؤلاء المفطرين من لا يشعر بألم حرمانه من هذه الحلاوة الروحية والعاطفة الملية، كأنهم من الحيوانات أو الحشرات ذات الحياة الفردية، فإني أظن أن ما يعيش عيشة الاجتماع منها كالنمل والنحل تشعر أفراده بلذة خاصة في تعاونها الاجتماعي فوق اللذة بتوفية أبدانها ما فيه قوام حياتها الشخصية والنوعية، وأعتقد أن جميع البهائم خير لأنفسها من فساق البشر المجرمين، وأن الصيام خير مانع للفسق وجناية الإنسان على نفسه وعلى غيره، لا في أثناء صيامه فقط بل في كل آن إذا كان صيامه عبادة لا عادة، والفرق بين الصيامين أن من يترك الشهوات البدنية في النهار مجاراة لأهل ملته في أيام معدودات، هي أيام شهر رمضان لا يعدو عمله أن يكون تغيير عادة من العادات بتحويل ما كان يفعله في النهار إلى الليل، وهو لا يخلو من الفوائد البدنية والاجتماعية، وإنما صيام العبادة بالنية والاحتساب؛ أي: رجاء ثواب الله ومرضاته، وآيته؛ أي: علامته الظاهرة زيادة الطاعة ولا سيما الصلاة واجتناب الآثام كصيانة اللسان من فحش القول والغيبة والنميمة والكذب، ولا شيء أدل على صيام العادة كترك الصلاة، وكذا تأخيرها عن وقتها، كالذين يسهرون ثلثي الليل في اللغو المنهي عنه ليؤدوا سنة السحور في الثلث الأخير ثلث التهجد والاستغفار في الأسحار، فيتسحرون وينامون، وأكبر ما يخسرونه جماعة صلاة الفجر التي يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ويشهدون لصاحبها عند الله تعالى كما ورد في تفسير {إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} (الإسراء: 78) . وقد ورد في الحديث عند الإمام أحمد وغيره (الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة) أي كالغنيمة التي ينالها الجيش من الأعداء بدون حرب ولا قتال، من حيث إنه لا يجوع الصائم فيه ولا يعطش في الغالب؛ لقصر النهار وعدم الحر، ويفسره حديث (الشتاء ربيع المؤمن) رواه أحمد وأبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم بسند حسن ورواه البيهقي بزيادة (قَصُرَ نهاره فصام، وطال ليله فقام) أي قام فيه لتهجده بغير مشقة كصيامه، وهو بهذه الزيادة ضعيف السند، قوي المتن؛ لأنه مفسر للمراد منه فكل منهما يقوي الآخر. وإن أهم ما أبغي في هذه الذكرى أن من يستحل الإفطار في نهار رمضان كله بغير عذر شرعي من مرض أو سفر يكون كافرًا مرتدًّا عن الإسلام، فيبطل عقد زواجه إن كان متزوجًا، ويحرم على زوجه أن تعامله معاملة زوجية، وإذا مات في هذه الحالة أي قبل أن يموت لا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهو كذلك لا يرث ولا يورث، وحكم هذه الردة مجمع عليه لا خلاف فيه بين المذاهب الإسلامية، ولكن من الناس من لا يعرف معنى الاستحلال المخرج لصاحبه من دين الإسلام في هذه المسألة وغيرها كاستحلال ترك الصلاة والزكاة وفعل الزنا والسرقة والسكر وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة، فيظن أن معناه أن يعتقد أن ذلك حلال وهو غلط؛ فإن اعتقاد حله ينافي كونه معلومًا من الدين بالضرورة؛ وإنما استحلال ذلك عدم الإذعان لحكم الشرع فيه، وعده بالعمل كالمباحات من الشرب والأكل في نهار رمضان أو في لياليه، أو عد شرب الخمر كشرب الماء والاستمتاع بالأجنبية كالاستمتاع بالزوجة، لا شعور معه بحرمة الأوامر والنواهي الإلهية ولا موجب للتوبة والاستغفار. فمن أجل هذا لا يعقل أن يقع من مؤمن بالله ورسله وشرعه بخلاف من يشتد عليه الجوع أم العطش، فتغلبه شهوته على الأكل والشرب وهو يشعر بذنبه واستغفار ربه فهذا عاص لا كافر؛ لأنه غير مستحل، وقلما يقع لمسلم في صيام مثل هذه الأيام من فصل الشتاء الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الغنيمة الباردة.

الرزيئة القومية الوطنية بالشيخ محمد الجسر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الرزيئة القومية الوطنية بالشيخ محمد الجسر قبيل فجر يوم الأحد ثالث شهر شعبان (11 نوفمبر - تشرين الثاني) من هذا العام (1353 هـ - 1934م) رزئت الأمة العربية والوطن السوري اللبناني بوفاة رجل لا كالرجال، وفرد لا كالأفراد، بل علم لا تطاوله الأعلام: رزئنا بأخينا الشيخ محمد الجسر أبرع نابغة سياسي وطني، ابن أستاذنا ومربينا الشيخ حسين الجسر أنفع عالم ديني عصري، ابن الشيخ محمد الجسر أورع صالح صوفي، ثالث ثلاثة أنبتتهم لهذه الأمة رياض مدينتنا طرابلس الشام، فكان رزؤه مصابًا كبيرًا عامًّا لجميع أهل هذا الوطن على اختلاف أديانهم ومذاهبهم السياسية المتباينة التي لم تجمعها على غيره جامعة؛ وإنما كان إجماع طوائفهم على إكبار المصاب به فرعًا لإجماعها على الإعجاب بعلمه بزمنه، وأدبه في معاشرته، وعدله في حكمه، وبراعته في سياسته، مزايا لم تتفق في هذا الوطن لغيره، بل أقول: إن إجماع طوائف هذا الوطن على الاعتراف بها لرجل من أهلها معجزة من معجزات النبوغ العقلي، والتوفيق العملي. فحق لطرابلس أن تفخر به على الأمصار، وحق لهذا البيت الإسلامي أن يباهي به البيوتات من جميع الأديان، وحق لهذا الوطن أن يفيض حزنًا ويذوب أسفًا على هذا النابغة الذي فقده في أشد أوقات الحاجة إليه، وقد كملت حُنكته، وتمت خبرته، وعمت الثقة به في بلاد تأبى عليها ذلك تربيتها الدينية وتقاليدها الطائفية، وتعاليمها المدرسية التي لا نظير لها في وطن من أوطان أمة من أمم الأرض. وأغرب مدارك هذا الإعجاز في ثقة نصارى لبنان بالشيخ محمد الجسر العالم المسلم المعمم ابن الشيخ حسين الجسر الذي انتهت إليه رياسة علماء الإسلام، حفيد الشيخ محمد الجسر أشهر صلحاء صوفية المسلمين بالولاية والكرامات، أن ينال هذه الثقة في عهد سيطرة الدولة الفرنسية على لبنان واعتزاز نصارى لبنان بها، وهي التي تعد شنئان الإسلام ومجاهدة أهله من أسس تقاليدها السياسية والصليبية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتحول. كان الشيخ محمد الجسر أحد الأفراد الذين شذوا دون طائفتهم بإظهار الميل إلى الاحتلال الفرنسي فسخطت عليه وكان مسلمو بلده (طرابلس) أشدهم سخطًا لخيبة رجائهم فيه أن يكون أول حامل للواء الوطنية فيهم؛ لأنه أجدرهم بمعرفة خطر هذه السيطرة عليهم في دينهم ودنياهم، ولم يكن يختلج في خاطر أحد منهم أن يكون أقدر رجل فيهم، بل في بلادهم كلها على خدمة هذا الوطن الذي دهي بأقتل الدواهي القاصمة، والفواقر المفقرة، فيكون البدر الطالع في غاسق الظلم إذا وقب، والطبيب الآسي لشر سحرة السياسة النفاثات في العقد. كان أول منصب ظهر فيه للطوائف كلها فضله منصب القضاء الأهلي برياسة محكمة الجنايات للجمهورية، فشهد له جميع المتقاضين وجميع العارفين بضعف القضاء في البلاد بأنه أعطى العدل والمساواة جميع حقوقها، حتى حكي عن بعض من كانوا أظهروا له العداء من إحدى الطوائف النصرانية أنهم وقعوا بين يديه في قضية يخفى مسلك الحق والعدل فيها، ويتسنى للقاضي الجائر أن يتصرف كيف شاء في الحكم لمن يميل له أو عليه من خصومها، وظنوا أنه آن له أن ينتقم منهم، ولم يلبثوا أن رأوا من عدله وإنصافه المالك عليه زمام أمره ما بدل خوفهم أمنًا، وبغضهم له حبًّا. ليس كثيرًا على شيخ مسلم سليل بيت الفقه والتصوف، وقد تولى رياسة محكمة الجنايات واؤتمن على الدماء، أن يكون عدلاً في القضاء، فهذا فرض يوجبه عليه دينه عقيدة وعلمًا وتربية، فنص القرآن يوجب المساواة في العدل بين جميع الناس كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وقويهم وضعيفهم، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، وإنما بزغ نبوغ ابن الجسر كالشمس في توليه رياسة مجلس النواب اللبناني ست سنين، كان يديره فيها كما يدير خاتمه في خنصره، فلا يتعاصى شيء على إرادته، فأعجب بسياسته وكياسته الوطنيون والأجانب على سواء. حتى إذا ما انتهت المدة القانونية لرئيس الجمهورية اللبنانية، وأريد انتخاب الرئيس الذي يخلفه علم موسيو بونسو مندوب فرنسة السامي ورجاله كغيرهم أن السواد الأعظم من جميع الطوائف منتخبون للشيخ محمد الجسر لا محالة، حتى نواب الموارنة الذين يعدون لبنان بتأييد فرنسة لهم وطنًا نصرانيًّا مورانيًّا كما صرح بذلك بطركهم فكبر على غبطته أن يكون الشيخ رئيس جمهوريته، ورأى أن المندوب السامي الفرنسي قد أظهر ارتياحه لانتخابه، ورضاه برياسته، فلجأت إلى حكومة باريس العليا حتى أصدرت أمرها إلى مندوبها بوجوب منع هذه الكارثة، فماذا يفعل وقد تجلى له أنه عاجز عن منع انتخابه، وأن جلاء فرنسة عن لبنان وسورية أيسر خطبًا من جعل رئيس جمهورية لبنان شيخًا مسلمًا معممًا؟ لم ير حيلة للتفصي من هذه المعضلة إلا إقناع الشيخ بترك ترشيح نفسه لها، فبذل المستطاع من دهائه وأمانيه له، فأبت قناة الشيخ أن تلين لغمزته، وحية دهائه أن تستجيب لرقيته، فلما أيقن أن الانتخاب مفض إلى جلوسه بعمامته البيضاء على كرسي رياسة الجمهورية لم يجد مناصًا من هذه النتيجة إلا إصدار أمره الدكتاتوري بإلغاء دستور لبنان من أساسه. أكتب هذا مؤبنًا، لا مؤرخًا له مدونًا لسيرته، فإنني أرجئها إلى الجزء التالي وأقتصر هنا على بيان أكبر ما أحاط بإعجابي من مزايا نبوغه الذي انفرد به، فكان جديرًا بحزني وحزن وطنه وأمته عليه، وشعورهم بعظم الخطب بفقده بعد اكتمال حنكته واستعداده لما يرجى من الرجال العظام الأفذاذ، الذين لا يظفر تاريخ الأمم بأمثالهم إلا في بعض الأجيال، عسى أن يكون في هذا التنويه عبرة للمنافقين الذين يظنون أن العظمة في نيل المناصب والرواتب، ولو بخيانة الأمة والوطن والإخلاص في العبودية للأجانب، وأنى للمنافقين في صغار أنفسهم أن يعقلوا معنى العظمة الصحيحة، أو ما دونها من مراتب الفضيلة؟ لا شيء يعزينا عن فقيدنا العزيز إلا ما روي لنا من تحقق ما كنا نتمناه من كتابة مذاكرات حرة دَوَّنَ فيها ما علمه وخبره في أثناء معالجته للأمور العامة ومعاشرته للعاملين من الوطنيين والأجانب، فهذه المذاكرات كنز نفيس هي خير عوض تفيد الأمة أنفع ما كانت ترجو أن تتلقاه منه؛ ولكن الذي لا عوض عنه هو ما كانت ترجوه من عمله عندما تتاح الفرصة للعمل، بعد التمهيد له بالثقة وجمع الكلمة الذي لا ينهض بدونه وطن، فالمرجو من نجله الكبير وصنوه الكريم أن يعجلا بنشر كل ما يمكن نشره منها، ونسأل الله تعالى أن يحسن عزاءهما، ويطيل بقاءهما، وينفع الأمة بهما، وأن يديم ذكر هذا البيت فخرًا وذخرًا لهذا الوطن المسكين، ويفرغ عليهما وعليه الصبر في هذا المصاب، والله مع الصابرين. ((يتبع بمقال تالٍ))

غاية مصطفى كمال من مراحله

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ غاية مصطفى كمال من مراحله لما علمت أن مصطفى كمال باشا صرح بأن له غاية يجري إليها في مراحل مقدرة، ورأيته قطع ثلاث مراحل منها، أيقنت بالحدس المنطقي أن غايته أن يؤسس بالجمهورية التركية اللادينية دولة جديدة وقد فعل، وأمة جديدة تسمى تركية إلى أن يتم تكوينها، ثم تسمى باسمه فهو يقبل دخول كل عنصر فيها إذا قبل مقوماتها ومشخصاتها التي يقترحها وينفذها بالقوة ولغة جديدة غير اللغة التركية المعروفة في تركستان وفي الأناضول؛ ولكنها مركبة منهما ومن اللغات اللاتينية، ولا سيما الفرنسية، وتكتب بحروفها حتى إذا نشأ عليها وحدها جيل جديد بعد الجيل الأول المخضرم نسبت إليه، وتنقطع الصلة بين هذه اللغة وجميع لغات الشرق الإسلامية، ولا سيما العربية التي سبقه ملاحدة الاتحاديين إلى مناوأتها، وأقدم هو وحده على الإجهاز عليها وقطع دابرها من الشعب التركي في مراحل خاصة بها، وهو يعتقد أنه لا يتم له الإجهاز على الدين الإسلامي ومحو جميع آثاره من هذا الشعب إلا بذلك، ويظن أنه متفق مع زعماء البلاشفة على الانتهاء إلى الإلحاد والتعطيل بيد أنه يلوح لي أنه إن طال عمره وبلغ آخر هذه المرحلة؛ فإنه يضع لهذا الشعب الذي سينسب إليه دينًا جديدًا مستمدًّا من الديانة الطبيعية التي وضعها لأوربة بعض فلاسفتها، فاستحسنها جميع شعوبها وعدوها موافقة للعقل والحضارة والسياسة؛ ولكن لم يتدين بها أحد؛ لأن مصدر الدين الموافق للفطرة لا بد أن يكون سلطانه غيبيًّا فوق سلطان العقل البشري؛ لأنه هو ملجؤها في كل ما تعجز عنه عقول البشر في الدنيا، وهو وجهتها الروحانية إلى ما تجنح له وترتقي إليه من عالم الغيب. يظن المعطلة الماديون أن الأنبياء المرسلين هم الذين وضعوا الأديان التي دعوا إليها، فيزين لبعضهم غرور القوة إمكان محوها، ولبعض آخر أن يخضعوا أقوامهم الضعفاء إخضاعًا تعبديًّا كما يخضعونهم إخضاعًا سياسيًّا واجتماعيًّا، ولا تزال أكثر شعوب البشر ضعيفة قابلة لتجارب عجيبة كتجارب البولشفيك في الروس، ومصطفى كمال في الترك، ولكل بداية غاية، وكل شيء بلغ الحد انتهى.

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (كتاب السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات) تأليف الداعي إلى السنة، والصاد عن البدعة، الشيخ محمد عبد السلام خضر الشقيري الحوامدي مؤسس الجمعية السلفية بالحوامدية (جيزة) قال في طرته: (قد ذكرنا فيه 700 حديث ما بين صحيح وحسن وقليل من الضعيف المقبول الوارد في الترغيب والترهيب، و690 بدعة أو أكثر في الصلوات والأذكار والصيام الحج وغير ذلك، و130 من الأحاديث الموضوعة والخرافات الفاشية بين المسلمين) . كثرت الجمعيات الدينية في هذه البلاد، وإن لبعضها مجلات، وأكثرها تعقد الاجتماعات لإلقاء الخطب والمحاضرات، وإن من مؤسسي بعضها لعلماء رسميين من خريجي الأزهر وغيره من المعاهد الدينية، وآخرين من خريجي مدرسة دار العلوم وغيرها من المدارس الأميرية، وأما الجمعية السلفية الحوامدية فهي تمتاز باشتغال رئيسها بكتب الحديث والدعوة إلى الاهتداء بها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأدلة كتب السنة، فأعضاؤها يتناهون عن جميع البدع والمنكرات في الدين، وينكرون على كل من يزعم أن البدعة الدينية تنقسم إلى حسنة وسيئة، ولا يقبلون قول أحد من الأحياء ولا الميتين في تحسين بدعة ولا تأويل سنة مما اهتدى به السلف الصالح، وهم لم يتخذوا جماعتهم عصبية ولا كتب مؤسسها مذهبًا يتعصبون له كالسبكية، بل يقبلون نصيحة كل من ينصح لهم بعلم ويقبلونها. وقد جربت مرشدهم وداعيتهم بالنصيحة فألفيته يقبلها مغتبطًا مسرورًا داعيًا لي، ولما رأيته في أول رسالة له ينقل الأحاديث النبوية من غير عزوها إلى مخرجيها، وبيان ما قالوه في تصحيحها أو تضعيفها كما يفعل أكثر المؤلفين المعاصرين ومحرري المجلات حتى مجلة الأزهر منها، وأنكرت عليه ونصحت له بالمراجعة وتخريج الأحاديث، فقبل النصيحة ونوه بها في هذا الكتاب. ومن فوائد هذا الكتاب بيان البدع والخرافات الفاشية في هذه البلاد، وإنكاره على العلماء الرسميين إقرار العامة عليها، وتأويل بعضهم لها بما يضلهم ويخدعهم بأنها مشروعة، وصفحاته 320، وثمن النسخة منه 7 قروش، ما عدا أجرة البريد. *** (الثورة العربية الكبرى) للأستاذ أمين سعيد المحرر في جريدة المقطم عنايةٌ بدرس أطوار الشعوب الشرقية عامة، والأمة العربية خاصة، فهو يجمع ما يُنْشَر في الصحف والمصنفات الجديدة من أخبارها وأحداثها، ويفصلها فصولاً، ويجعل لها أبوابًا وفهارس لتسهيل الرجوع إليها، وقد ألف عدة كتب أبسطها وأمتعها كتاب (الثورة العربية الكبرى) عرَّف موضوعه بقوله: (تاريخ مفصل جامع للقضية العربية في ربع قرن) الذي أصدرته هذا العام مطبعة (عيسى البابي الحلبي وشركائه بمصر) في ثلاثة أجزاء أو مجلدات موضوع الأول (النضال بين العرب والترك) وهو الحلقة الأولى من هذا التاريخ وفي مقدمته الكلام على الدولة العثمانية وتاريخها القديم والحديث مع العرب والجمعيات العربية التي أفضت إلى الثورة، وموضوع الثاني (النضال بين العرب والفرنسويين والإنكليز) وهو يشتمل على الحلقة الثانية منه وهو تاريخ الحكومة الفيصلية من قيامها حتى سقوطها مع تاريخ القضية العراقية من ابتداء الحرب العظمى حتى إنشاء الدولة الجديدة في بغداد سنة 1921، وموضوع الثالث (إمارة شرق الأردن وقضية فلسطين وسقوط الدولة الهاشمية وثورة الشام) وهو أكبر الأجزاء تبلغ صفحاته 652، فهو يزيد على حجم اللذين قبله، وصفحات أولهما 130، وثانيهما 336. لقد كان هذا الكتاب حاجة في نفس الأمة العربية مهدها لها كاتب من أبنائها، فجمع لها ما لم يجمعه غيره من مواد تاريخها الحديث، فاستحق شكرها بالقول والعمل، فشكر القول الثناء عليه، والتنويه به باللسان والقلم، ومنه نقده ببيان ما قد فات المؤلف من الوثائق، وما نقصه من الحقائق، وتمحيص ما لم يمحصه من المسائل، وشكر العمل قراءة الكتاب ونشره الذي يساعد المؤلف على المزيد من إتقانه وتكميله في طبعة أخرى، وتصنيف غيره من الكتب النافعة، وأرجو أن يكون لي عودة إليه بعد أن يتاح لي مطالعة الكثير منه، وإن فيما نشرته في مجلدات المنار من قبل، وما لا أزال أنشره من سيرة الملك فيصل رحمه الله تعالى لحقائق عظيمة الشأن بعيدة الغور في تاريخ أمتنا الحديث والوحدة العربية التي كنت في طليعة من كتب فيها ومن دعا إليها، ولله الحمد.

مأساة أميرة شرقية ـ 1

الكاتب: محمد تقي الدين الهلالي

_ مأساة أميرة شرقية نقد وتحليل بقلم الأستاذ العلامة المصلح الشيخ محمد تقي الدين الهلالي (1) بسم الله الرحمن الرحيم نشرت مجلة (Bombay India of Weekly Illustrated The المصور الأسبوعي للهند بمباي في 27 أغسطس 933) ضمن سلسلة مقالات في تاريخ الشرق للكاتب الإنكليزي (كراهام لويس) مقالاً تحت عنوان (مأساة أميرة عربية) ارتكب فيه أخطاء عظيمة، وها أنا ذا مترجم مقاله، فراد عليه بما يجلي الشبهة، ويوضح الحقيقة بعد مقدمة وجيزة في بيان سبب كثرة الأخطاء والأغلاط الجهلية، والخطيئات العمدية، التي تكثر جدًّا في كل ما يكتبه الإفرنج عن الإسلام والمسلمين، والشرق والشرقيين. مقدمة في أخطاء المستشرقين وخطاياهم أيجوز أن نتلقى بالقبول كل ما يكتبون عن الشرق؟ لهؤلاء العلماء الأوربيين الذين يَتَسَمَّون بالمستشرقين أخطاء، ولهم خطيئات أيضًا، أما أخطاؤهم فمنشؤها القصور؛ لأن أكثرهم إذا لم يكن كلهم يتعلمون الآداب والعلوم الشرقية بأنفسهم بمطالعة الكتب، ويستعينون بتراجم أمثالهم ممن سبقهم، فَيُلِمُّون باللغات والعلوم إلمامًا ضعيفًا لا يمكن صاحبه أن يجلس على منصة الحكم ويقضي بالقسطاس المستقيم، والكتب وحدها لا تهدي ضالاًّ، ولا تعلم جاهلاً، وما أحسن ما قاله أبو حيان النحوي وإن كان قد أخطأ في إيراده بالتعريض بالإمام ابن مالك. يظن الغُمر أن الكتب تهدي ... أخا فهم لإدراك العلوم ومن يُدري الجهول بأن فيها ... غوامض حيرت عقل الفهيم إذا رمت العلوم بغير شيخ ... ضللت عن الصراط المستقيم وتلتبس الأمور عليك حتى ... تكون أضل من تُوما الحكيم [1] وقد قيل: لا تأخذ العلم عن صُحُفي، ولا القرآن عن مصحفي [2] ، فأكثر المستشرقين صحفيون في العلوم الشرقية، ولنضرب لذلك مثلاًً (جورج سايل) أول من ترجم القرآن إلى الإنكليزية، وهو أحد الثلاثة الذين شهد لهم العلامة أحمد بن فارس الشدياق رحمه الله بالمعرفة الحقيقية للغة العربية، وحكم على سائر المدعين لمعرفتها على عهده في البلاد البريطانية أنهم لا يعلمون، ولذلك قرأت شيئًا من ترجمته، فوجدت في الجزء الأول من القرآن أربعين غلطة، وكتبت في ذلك مقالات نشرتها في مجلة الضياء الهندية في السنة الماضية (1352) . ومثال آخر رسائل أبي العلاء المعري ترجمها إلى الإنكليزية عالم إنكليزي نسيت اسمه، وطُبعت في أوربة، طالعتها فوجدتها مشحونة بالأغلاط. ومثال ثالث ترجمة محمد مار مادويك العالم الأديب الشهير صاحب مجلة (إسلاميك كلتشر) أي الثقافة الإسلامية، وله تصانيف جياد قرأت شيئًا من ترجمته للقرآن فوجدت فيها أغلاطًا واضحة جدًّا، وكتبت إليه بشيء منها فاعترف وأجابني شاكرًا وطالبًا المزيد، إلا في غلطة منها؛ فإنه أبى أن يعترف وعمي عليه فهم الصواب فيها، وهي في قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ المُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} (البقرة: 12) ومثيلتها قوله بعد ذلك: {أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} (البقرة: 13) ترجمها بما معناه أليسوا سفهاء ... إلخ، ووضع علامة الاستفهام في آخر الجملة، وكذلك صنع بالتي بعدها، فلم يميز بين (ألا) المركبة التي هي همزة الاستفهام ولا النافية كقوله تعالى: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ} (الملك: 14) ؟ وقول الشاعر: ألا اصطبار لمن ولت شبيبته ... وآذنت بمشيب بعده هرم وبين (ألا) الاستفتاحية البسيطة كما في الآية، وفي قول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجل البيت، فكتبت إليه جوابًا وضحت له المسألة، فرجع إلى الاعتراف وقال: إنني متعجب جدًّا من عدم انتباه الأستاذ الغمراوي لهذه الأغلاط، وأنا قد اعتمدت عليه في تصحيح الكتاب، وأقمت سنتين في مصر بقصد تنقيحه. ولو كان الزمان مواتيًا والفرصة سانحة لصححت ترجمته من أولها إلى آخرها؛ لأنها أول ترجمة قام بها إنكليزي مسلم وآخرها أيضًا، وإن لم تسلم من الأغلاط المعنوية أيضًا؛ ولكنها على كل حال أفضل من تراجم النصارى. وأما الخطيئات فيرتكبها ثلاثة أضرب من المستشرقين: (الضرب الأول) هم القسيسون المتعصبون كجورج سايل المتقدم ذكره ومرجليوث وزويمر ومن على شاكلتهم، والحامل لهم على ارتكابها شدة بغضهم للإسلام وللشرق كله من أجل الإسلام. (الضرب الثاني) السياسيون المستعمرون وغرضهم معروف. (الثالث) الأدباء الذين لا يترفعون عن الكذب وزخرف القول ليكتسبوا بذلك المال الوافر، والشهرة الواسعة، وإعجاب القراء الأوربيين الجاهلين، الذين يصدقون كل ما يقرؤون عن الشرق والشرقيين. ولعل (مستر لويس كراهام) محرر المقالات الشرقية الأدبية التاريخية في مجلة (المصور الأسبوعي) التي تُنشر باللغة الإنكليزية في مدينة (بمباي - الهند) من هذا الضرب الأخير؛ فإنه كتب مقالاً في المجلة المذكورة بتاريخ … تحت عنوان (مأساة أميرة شرقية) وملأه بالأكاذيب والأخطاء والخطايا، وستقف على ذلك فترى كيف يعبث كُتاب أوربة بالحقائق، ويتحدثون عن التاريخ العربي بما يشبه قصص ألف ليلة وليلة، لا فيما ينشر في بلادهم فقط، بل فيما ينشر في الشرق الإنكليزي وأكثر المستعمرات وشبه المستعمرات أيضًا، ونحن عن ذلك غافلون أو متغافلون. قبل الشروع في نخل مقال كراهام، ووضعه على محك النقد يجب عليّ أن أعترف بأن هنا لك قسمًا رابعًا من المستشرقين هم بريئون من تعمد الخطيئات ومبرؤون عنها، وكانوا قبل هذا الزمان قليلاً جدًّا، فمنهم توماس كارليل وجيبون وكوثى، وأما في هذا العصر فهم بحمد الله كثير لا يحصون؛ ولكن الخاطئين أكثر منهم بكثير، بل لا مناسبة بينهم، فيجب علينا أن نفتح عيوننا، وننظر ماذا يقال عن أدبنا وتاريخنا في الصحف والمخيلات (السينمات) ودور التمثيل وسائر الأندية، ونغبر في وجوه المبطلين اهـ. قال لويس كراهام: الجمال في النساء يجلب لمن تحلت به كفلين متساويين من سعادة وشقاء، وصحف التاريخ طافحة بالحوادث التي أتاح الحسن فيها للمرأة الثراء والغنى، والمكانة، والنعيم والعذاب. يظهر أن كل صورة ظهرت ملأى بالنور والغبطة تكون خاتمتها أبدًا ظلمة وانحطاطًا من شامخ إلى هوة سحيقة. ليلى بنت الجودي الغساني رئيس القضاة وُهِب لها جمال زاهر يحرق قلوب الرجال، ويبعث أهواءهم، لقد اشتهرت شهرة واسعة بالجمال الفاتن منذ صباها، ولم تلبث أن تزوجت بمالك بن نويرة، وكان مالك صديقًا حميمًا للبطل الإسلامي العظيم (خالد بن الوليد) ولأسباب خارجة عن هذه القصة أتى مالك عملاً جعل خالدًا لا يثق به، وساءت العلاقات بينهما جدًّا، حتى انتهى ذلك إلى أن صار كل منهما رئيسًا لفرقة معادية للأخرى، وكلتا الفرقتين تبذل أقصى جهدها للفتك بالأخرى بحجة شرعية في معتقدها الخاص، ولم تدم هذه الواقعة طويلاً حتى وقع البائس مالك بن نويرة هو وحليلته ليلى أسيرين في يد خالد. والآن قد ألممنا بشيء من وصف ليلى نقول: إنها وهبت قلبها لزوجها، وعزمت على أن تبذل كل مرتخص وغالٍ في الدفاع عنه لتربح حياته، وكانت النساء إذ ذاك محتجبات، وكان كشف وجوههن يعد خزيًا وعارًا، ومع ذلك تزينت ليلى بحليها، وأرادت أن تجعل حسنها شفيعًا في زوجها، فعزمت على أن تقصد خالدًا تطلب منه الرحمة، وتظهر أمامه سافرة، وتضم إلى حسنها شفيعًا آخر وهو أعذب ما تقدر عليه من الكلام لعله يهب لها حياة مالك. كانت تلك الليلة ليلة لهو وطرب وسرور، وانبساط وشرب خمور، في معسكر خالد، والجنود مغتبطون قاعدون حول النار يصطلون، ويعددون أعمال ذلك اليوم (الوقعة) وبينما هم كذلك إذا بشبح متزمل بعباءة كثيفة يجتازهم حتى يقف أمام فسطاط خالد، فما هي إلا همسة يهمسها الشبح للحارس حتى يلج الفسطاط، ويرى خالد مضطجعًا على سريره ليستريح، وكانت ستائر الخيمة من الجوخ العالي الذي أُخِذَ من الغنائم، وذلك السرير بعينه جاء من قافلة فارسية، وكان الفسطاط مضاء بنور ضئيل، ورائحة العود تعبق فيه وتزيده روعة وجلالاً، وما وقع بصر خالد على الشبح حتى نزع العباءة الضخمة التي كانت تحيط به، وظهرت ليلى أمام خالد، ولم تلبث إلا لحظة حتى جثت على ركبتيها، وتفجر من بين شفتيها الجميلتين جدول منحدر من الكلام، وكأن قلبها في مخالب طائر، وأسعدتها عيناها ففاضت بالدموع، فرأت ابتسامة على شفتي خالد، واهًا! لقد نجحت! لقد أذاب جمالها قلب القائد الحربي الحديدي، سُرت ليلى بذلك. بغتة يكسر صوت خالد ذلك السكون، وكان صوته غليظًا خشنًا من الغضب، ما كادت ليلى تسمع رنين لفظه حتى جحظت عيناها من الرعب، ولما رأت الرجل الذي دعاه خالد فزعت منه، وأرادت أن تجفل؛ ولكن دمها صار جمدًا حين سمعت نص الحكم الذي فاه به القائد، اضرب عنق مالك في الحين، وادع لي إمامًا يعقد لي على ليلى الآن. أما الرعب والفزع الذي وقع لهذه المرأة السالبة للعقول فلا يمكن وصفه، فتصور القارئ له خير من أن أصفه له، فكرت ليلى لحظة وهي في غاية الاضطراب، فتحققت أن جمالها هو الذي خذلها وأسلمها، لقد أنتج عملها ضد المقصود، فبدلاً من أن توقظ رحمة خالد أيقظت هواه، لم يضع شيء من الوقت ففي الحال أُبْلِغ البائس مالك الحكم، وما شعرت ليلى وهي لا تزال جاثية ذاهلة أمام سرير خالد إلا وصوت مالك يرشق قلبها المثقل بالآلام ضغثًا على إبالة (هذا هو سر القضية، ما قتلني إلا أنت) ، وهكذا صارت ليلى زوجًا لخالد لاعنة جمالها الذي كان نكبة عليها. حقًّا لقد كان جمال هذه المرأة مدهشًا، وناهيك أنه في وقعة عقرباء جالت جنود خالد جولة (انهزمت انهزامة قليلة) فهجم العدو على فسطاط خالد، وكان سيدهم (مجاعة) قد أسرته خيل خالد من قبل، فوجدوه مطروحًا هناك موثقًا، فأراد هؤلاء البدو المتوحشون أن يقتلوا ليلى؛ لكن جمالها الفتَّان كان قد سرى في قلب (مجاعة) وعمل عمله، فدفعهم عنها وأجارها منهم، وأرادوا أن يفكوا أسره، فأبى وفضَّل أن يبقى أسيرًا عند ليلى ليمتع بصره بالنظر إليها حينًا. واشتهر جمال ليلى وطار صيتها في الآفاق حتى صار الناس يتغنون به في المدينة، فهاج هوى عبد الرحمن بن أبي بكر فأخذ يشبب بها، ويتغنى بحبه لها، وما زال هائمًا بها حتى أسعده الحظ بتزوجها فرفعها إلى أعلى مكانة من الإجلال حتى هجر لأجلها نساءه وخليلاته (سراريه) . لكن ذلك الإجلال والعشق كان فارغًا؛ لأنه إنما كان يحب الجمال الجسمي، ضاربًا عرض الحائط بجمالها النفسي، كان زواجه غمًّا عليها وحزنًا، لم تزل الأميرة البائسة تذكر مالكًا وأيامه السعيدة، ولما وجدت نفسها في مستوى الحيوان الأعجم إن هي إلا متعة وملهاة، انقبضت نفسها، واستولى عليها الهم، وغلب عليها الصمت، فنحل جسمها، وذبل جمالها، فذبل معه حب عبد الرحمن لها. وفي خاتمة الأمر رجعت إلى بيت أبيها لتقضي بقية أيامها في تفكير هادئ، وهكذا كانت عاقبة هذه المرأة العجيبة - كانت حياتها كما ترى حياة شاقة أدت لأجلها ثمنًا غاليًا حتى على حسنها وجمالها. * * * في الفسطاط صور الكاتبُ داخلَ فسطاط خالد صورة تضاهي غرفة أحد ملوك الهند في العصر الحاضر، فهذه النارجيلة الطويلة قائمة منتصبة، وهذه باطية بلورية مملوءة خمرًا تحفها الكاسات النفسية، وهذه المباخر يتصعد في جو الحجرة دخانها ويعبق طيبها، وهذه المصابيح الجميلة معلقة يتوقد نورها، وهذا خالد بن الوليد الذي اخترعته مخيلة كر

التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، تلوكهما الألسنة والأقلام ويجولان في جميع الأذهان، ويتحدث بهما الرجال والنساء والولدان، وقد أجمع الناس في هذا الزمان على أنهما مصدر السعادة للبيوت (العائلات) والشعوب أفرادهما وجملتهما، ولو سألت كل فرد من أفراد هؤلاء الناس عن هذا الإجماع لأجاب أنه حق لا ريب فيه، وأنه من القضايا الضرورية التي لا يتوقف الحكم فيها على برهان ولا دليل. ثم إنك لو سألت كل واحد من هؤلاء عن تفسير هاتين الكلمتين وتفسير كلمة السعادة، وعن الرابط بينها وبينهما الذي كانا بها علة أو سببًا، وكانت هي معلومة ومسببًا أو سألته عما هو معروف الآن لكل مطلع على أحوال البيوت (العائلات) في بلده وأحوال الشعوب التي تشرحها جرائدها، وتنشرها في العالم، وعن تطبيق تلك القاعدة الاجتماعية عليها في جملتها أو في تفصيل ما تشكو منه وتصفه من أنواع الشقاء في مصالحها الأدبية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بل لو سألته عن أفظع وقائع المظالم والجنايات والخيانات فيها، هل وقع بفعل الناس من الأميين ومن على مقربة منهم ممن لم يتح لهم إلا التعليم الابتدائي أو الثانوي لأجابك كل واحد عن السؤال الأخير بأن كل ما ذكرت من أنواع الجرائم الكبرى لم يقترفه إلا النابغون في التعليم العالي وما يليه، يجيبك بهذا؛ لأنه هو القطعي المعلوم بالمشاهدة المنقول بالتواتر؛ ولكنه يعجز عن الجواب عما قبله من فائدة التربية والتعليم، ومن معنى السعادة، ومن الوسط الرابط بينهما؛ لأن هذه كلها قضايا نظرية كان يقلد غيره فيها، ويُعِدّ المسلَّمات من الضروريات. معنى كل من هاتين الكلمتين يختلف باختلاف متعلقه والغرض منه، وكونه على منهاج يؤدي إلى الغرض، أو يقرطس في الهدف التربية تنشئة قوى الإنسان الجسدية والعقلية والروحية بما تربو به وتَنْمِي وتترعرع حتى تبلغ كمالها الشخصي في محيط الملة والأمة، فمن أعمالها ما هو مفيد لكل أفراد الناس؛ لأنه لا يختلف باختلاف الأقوام في مقوماتها الملية، ومشخصاتها الوطنية، كتربية الأبدان المبني على قواعد الصحة في الغذاء والنظافة والرياضة، ومنها ما يختلف اختلافًا واسع المسافة بعيد الشقة، فما يعده بعض زعماء الأقوام والأمم مصلحة يعده غيرهم من أكبر المفاسد، وتفصيل ذلك يطول وليس من موضوعنا الآن. والتعليم تلقين العلم الذي يساعد التربية على تكميل الإنسان، وهو كالتربية منه ما لا بد منه لجميع الناس في كل زمان ومكان، ومنه ما تختلف الحاجة إليه باختلاف الأطوار والأحوال، وحاجة الأقوام والأوطان، والأصل فيه أن يعلم النشء ما يرشده إلى العمل الذي لا بد له منه في حياته الشخصية والمنزلية والوطنية ... إلخ. التعليم إفادة العلم، والعلم بيان للعمل صفته وإتقانه، وأما الباعث للعامل على العمل بعلمه فهو ثمرة تربية النفس على ما يوجهها إلى طلب منافعها ومصالحها الحسية والمعنوية، أو المادية والأدبية - كما يقول كتاب عصرنا - أو إلى ما في الخير لها في المعاش وفي المعاد كما يقول علماء الدين، فمنفعة التعلم رهينة بحسن التربية، وهذه المباحث كلها طويلة الذيول، متدفقة السيول؛ وإنما أشرت تمهيدًا للسائلة عن التربية الإسلامية والتعليم الإسلامي ما هما، وأين يوجدان في هذا القطر؟ أيوجدان في بيوت المسلمين كافة، أو بيوت بعض الطبقات منهم؟ أيوجدان في مدارس وزارة المعارف، أو مدارس الأوقاف الملكية، أو مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، أو المدارس الحرة؟ أيوجدان في مدارس المعاهد الدينية الأزهر وملحقاته؟ الذي أعلمه أنا لا يوجد في بيوت المسلمين، ولا في المدارس الرسمية، ولا غير الرسمية، ولا في المعاهد الدينية تربية إسلامية مدونة أو متبعة بالعمل في تنشئة أطفالهم في بالبيوت، ثم تلاميذهم في المدارس والمعاهد على أخلاق الإسلام وآدابه وعباداته كالصدق، والحرية، والحياء، والأمانة، وعزة النفس، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والتعاون، والاقتصاد، والتراحم، واجتناب البذاء والفحش في القول ... إلخ حتى يترعرع ويشب معتقدًا أن المسلم بإسلامه أعز الناس نفسًا، وأجدرهم بالكرامة واتباع الحق، واحتقار الباطل، وحب الخير للناس كافة، وأنه يجب بذلك أن يكون قدوة لهم في كل فضيلة وعادة وعمل، ولا يليق به أن يكون تابعًا ومقلدًا لقوم آخرين فيما يعد تفضيلاً لهم على قومه، مع اعترافه لكل ذي حق بحقه، وكل ذي فضل بفضله، وبراءته من كل ما فشا في قومه من البدع والخرافات والعادات الضارة والسعي لإزالتها عندما يكون أهلاً لذلك؛ ولكن يوجد في بعض البيوت بقايا متبعة ذلك. وأما تربية المدارس فروحها تفرنج يقتل الإسلام قتلاً بتفضيل كل ما هو إفرنجي على كل ما يخالفه من عقائد الإسلام وشعائره وعباداته وأخلاقه وآدابه ومشخصاته، وحسبك أن الصلاة التي هي عمود الإسلام وعنوانه، ومغذية الإيمان، غير واجبة على أساتذة هذه المدارس، ولا على تلاميذها، فلا يطالب بها أحد، كما أنها غير محرمة عليهم فلا يمنع من أرادها في غير وقت الدرس، وقد أجمع المسلمون سلفهم وخلفهم على أن من استحل ترك الصلاة يكون مرتدًّا عن الإسلام لا يشارك المسلمين في شيء من أحكامهم من إرث وزواج، ولا يدفن في مقابرهم، وإن كان متزوجًا انفسخ عقد زواجه، بل يجب على الحكومة استتابته، فإن لم يتب قتل كفرًا، وأما من ترك الصلاة وهو مؤمن غير مستحل فأهون ما قاله الفقهاء أن يحبس حتى يتوب، كذلك الصيام اختياري في مدارس الحكومة المصرية، وهو من أركان الإسلام من استحل تركه كَفَرَ. هذه المدارس قد وضع الإنكليز نظمها، وعينوا لها وجهتها، وغايتها كما شاؤوا، ومن مقاصدهم فيها ألا يكون لم يتعلم فيها أدنى شعور بأن لقومه ملة إسلامية لها من المزايا في دينها وتشريعها وحضارتها وتاريخها ما تعلو به على جميع الملل، بل ما لا تشاركها فيه ملة أخرى، وقد اتفق أن جيء لمدرسة البنات السنية على عهد القس الشهير المستر دنلوب المسيطر على وزارة المعارف بناظرة إنكليزية ممن تربين تربية حرة عالية، فلما كتبت تقريرها المعتاد في آخر السنة المدرسية اقترحت على وزارة المعارف إلزام جميع من يتعلم فيها من البنات أن يتعلمن عقائد الدين الإسلامي وأحكامه ويؤدين عبادته من صلاة وصيام وعللت ذلك بأن عاقبة هؤلاء البنات أن يكن أمهات مربيات لنشء الأمة، ولا يصلح للتربية إلا الأم المتدينة الصالحة لأن تكون قدوة، ولذلك أجمعت الأمم كلها على تربية البنات تربية دينية علمية عملية (قالت) ولما كان في هذه البلاد ثلاثة أديان كلها تأمر بعبادة الله، وبالتحلي بالفضائل واجتناب الرذائل، وهي الإسلام والنصرانية واليهودية، ولما كان اختلاف التعليم الديني مضرًّا بالتربية، ومخلاً بوحدة الأمة، وكان الإسلام هو دين الأكثرية الغالبة وجب جعله هو الدين الذي يُبنى على أساسه نظام التعليم والتربية في هذه المدرسة، فأنا أقترح جعله رسميًّا إلزاميًّا فيها. أترى أيها القارئ ما فعلت وزارة المعارف بهذا التقرير؟ لعلك تعلم أن القسيس دنلوب كان هو الوزارة، وكان الوزير ومن دونه مستخدمين له، أو آلات بيده، وقد عزل جنابه هذه الناظرة عزلاً، وحفظ تقريرها أو مزقه تمزيقًا. جميع المدارس التي تسمى إسلامية في مصر تسير وراء وزارة المعارف في تربيتها وتعليمها سير القذة بالقذة، وحذو النعل بالنعل، حتى مدارس الأوقاف الملكية، وكذا مدارس الجمعية الخيرية الإسلامية التي كان غرضها الوحيد على عهد رئيسها الأستاذ الإمام ومديرها حسن باشا عاصم (تغمدهما الله برحمته) تربية أولاد الفقراء من المسلمين تربية إسلامية خالصة، وتعليمهم ما لا بد منه لكل مسلم من عقائد دينه وأحكامه وآدابه مع مبادئ لغته وسائر ما يلقن في المدارس الابتدائية من حساب وغيره، وغاية ذلك كله أن يكون أولاد الطبقات الفقيرة من المسلمين كما يجب أن يكون المسلم في أدبه وصدقه وكرامته وأمانته وموضع الثقة في عمله أيًّا كان. أتدري أيها القارئ المسلم ما أصاب هذه المدارس من الانتكاس والارتكاس بعد ذينك الرجلين المصلحين اللذين لم تُنْبِتْ طينة مصر مثلهما منذ قرون؟ حسبك أن تعلم أن الجمعية أنشأت مدرسة للبنات لتمرينهن على الرقص دون تمرينهن على الصلاة؟ وأما الثمرة العامة لتربية البنات وتعليمهن؛ فإنك ترى النساء بعينك في الأسواق والشوارع والمحافل والمجامع، والملاعب والمراقص، والمراسح، وفي الحمامات البحرية والجمعيات النسائية، فقد بلغن من الخلاعة والرقاعة، بل الإباحة دركًا، صار يستقذره الكُتاب الإباحيون الذين دعوا إليه من قبل. ألفت كتابًا (في حقوق النساء في الإسلام) أبنت فيه أن الإسلام كرمهن وأعطاهن من الحقوق الدينية والمدنية والسياسية ما لم يسبق إلى مثله، أو ما يقرب منه دين من الأديان، ولم يبلغ شأوه فيه قانون ولا نظام، وسميته (نداء للجنس اللطيف ... إلخ) فقرَّظته الصحف، وصرحت بأنه لم يكتب مثله في موضوعه، فلم يبلغني أن جمعية نسائية، ولا امرأة مسلمة طلبت الاطلاع على هذا الكتاب، بل أهديته إلى كاتبة أديبة مسلمة ينشر لها المقطم رسالات كثيرة في الآداب والعادات وغيرها، فقرَّظته تقريظًا حسنًا، ورغبت المعلمات في قراءته بقولها: إن مؤلفه يبذله لكل من تطلبه منهن بدون ثمن، فلم يطلبه منهن أحد، فأين الإسلام وأين التربية الإسلامية في مصر؟ وإذا كان هذا شأن من يتعلمن ويتربين في المدارس التي تسمى إسلامية، فما رأيك فيمن يتعلمن في مدارس جمعيات التنصير وراهبات الكاثوليك؟ إن هؤلاء يحتقرن الإسلام وكل من ينتمي إليه ويحتقرن لغته أيضًا، روت طالبة سورية في مدرسة أمريكانية أن زميلتين لها من بنات باشاوات مصر قالتا لها، وقد كلمتهن باللغة العربية: كيف ترضين أن تتكلمي بهذه اللغة القذرة؟ فلعنة الله عليهما وعلى والديهما ووالدتيهما في الدنيا والآخرة. اهـ المقالة. (المنار) كنت كتبت هذه المقالة لمجلة التعليم الإلزامي استجابة لطلبها، وأردت أن أتم موضوعها بمقالة ثانية، فحال دونها زحام شواغل دار المنار، وقيل (شغل الحلي أهله أن يعار) والصحف قلما ينقل بعضها مقالات بعض؛ ولكن قد يسرق بعضها من بعض، وقد يكلف بعض محرريها أن يكتبوا لغيرهم صحفهم حتى يتفق أن يطلب منا مقالات وفتاوى لتنشر في صحف مصرية وغير مصرية في وقت واحد! ! !

المولد النبوي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المولد النبوي (احتفل في هذا العام به في بمباي (الهند) احتفالاً وصفه مراسل البلاغ بما يأتي) لم تشهد بمباي منذ سنوات احتفالاً شعبيًّا رائعًا كالاحتفال الكبير الذي أقامه مسلمو بمباي هذا العام، ففي اليوم الثاني عشر من ميلاد أشرف الكائنات، وفخر الموجودات المثل الأعلى، وحجة الله العظمى، محمد بن عبد الله صلوات الله تعالى عليه وسلم، في نحو الساعة الثانية والنصف بعد الظهر عقد المسلمون في بمباي أعظم جلسة برياسة مولانا (هيزهولينس تقدس ما آت يير سيد مطاع الدين متاميان جشتي صاحب) حضرها ما يزيد عن عشرين ألف نسمة، يتقدمهم من أعيان المسلمين وكبرائهم عظمة السلطان صالح بن غلاب القعيطي وخان بهادر شيخ علي باعكظة وقنصلا إيران والأفغان، والدكتور خالد شلدريك، والمستر محمود دير الإنجليزي محرر التيمس في بمباي (الذي أسلم مع زوجته وولديه منذ سنة في بمباي، وكان محررًا في الإجبشيان دايلي ميل قبل سنوات) وزعيمة الهند مسز سروجيني نايدو ومولانا أبو السعود محمد سعد الله المكي وفضيلة الشيخ أحمد يوسف ورهط كبير من أعيان الفرس والهندوس وفضلى السيدات وكرائم العقيلات. وقد افتتح الجلسة مولانا أبو السعود سعد الله بعشر من القرآن الكريم، ثم قرئ المولد النبوي الشريف، ثم انتخبت هيئة الجلسة سمو السلطان صالح القعيطي لافتتاح الحفلة، فاستهل الموقف بخطبة جليلة استعرض فيها حياة الرسول الأطهر صلى الله عليه وسلم، وأثر المدنية العربية في الشعوب الإسلامية وانتقالها إلى أوربا وأمريكا، وأفاض في ذلك طويلاً ببلاغة وطلاقة تنمان عن علم غزير وسعة اطلاع. ثم وقف السردار سليمان قاسم ميتا وخان بهادر شيخ علي باعكظة وسيد أحمد صديق كهتري صاحب، ومولانا خجندي صاحب، وأيدوا بالإجماع إسناد تلاوة السيرة النبوية إلى مولانا (هيزهولينس) رئيس الجلسة، وقد وافق الحاضرون على ذلك، فشرع حضرته في تلاوة السيرة النبوية الشريفة باللغة الإنجليزية، وأخذ في شرحها شرحًا وافيًا. ثم وقف الدكتور خالد شلدريك بعد أن قدمه أحد أعضاء الجلسة باسم المرشح الوحيد لعرش تركستان الصينية، فاستهل الموقف بخطبة حماسية طويلة بالإنجليزية أتى فيها بالسبب الذي دعاه لاعتناق الإسلام، وكيف فتش طويلاً، وبحث كثيرًا في كل ما كتب السلف والخلف عن الأديان، وأنه لم يقبل الدين الإسلامي إلا عن علم ومعرفة، وأنه خير الأديان وأقومها، إذ جاء في مصلحة المجتمع البشري ورفاهيته، وأن الدين الإسلامي اجتذبه بسحره ومغنطيسه فاحتضنه بين يديه، وهو ابن التاميز، وليس هذا بعجيب. ثم انتقل إلى حالة المسلمين في الصين وعن رحلته فيها وقال: إن عددهم أكثر من خمسين مليونًا، وإن مسلمي الهند يبلغ عددهم أكثر من سبعين مليونًا، وإن عدد المسلمين في أفريقيا يزداد يومًا فيومًا، وإن برناردشو أنذر أوربا وأمريكا بأن الإسلام سيكتسحهما في الوقت القريب العاجل. ثم انتقل إلى حالته الخصوصية، وكيف اضطهد من البوليس، وروقب في الصين وغيرها لقيامه بالدعاية الإسلامية والتبشير في كل محل حل فيه، ووصف حالة المسلمين وما هم عليه اليوم من تشتت واضمحلال، وقال: إن خير طريق لتقدم المسلمين وإسعادهم هو الرجوع إلى القرآن بالعمل بما فيه، ونبذ التحزب والشقاق بالاتحاد، وإن الكتلة المجموعة لا تقدر على قصمها اليد الواحدة. ثم وقف أحد الأعضاء وأعلن الحاضرين مشاركة (أعليحضرت آصفجاه الملك سمو نظام حيدر أباد مير عثمان عليخان، خلد الله ملكه) للمحتفلين في شعورهم بنظم قصيدة عصماء في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، تلاها العضو بصوت رخيم خاشع ملكت على الحاضرين مشاعرهم وعواطفهم، واستعادوها مرارًا وتكرارًا، والقصيدة بالفارسية ومطلعها كما يأتي: شه ملك رسالت صاحب تاج وسر رآمد وزير وراز دارو نائب رب قدير آمد ثم وقف عضو آخر وأعلن المجتمعين بمشاركة حضرة صاحب الدولة يمين السلطنة صدر مهام الدولة سير كيشن برشا رئيس وزراء مملكة (حيدر أباد دكن) بقصيدة غراء من نظمه في مدح أفضل الموجودات وأشرف الكائنات سيد العرب والعجم صلى الله عليه وسلم باللغة الأوردية تلاها (سيد قمرصاحب) بصوت عذب رخيم، واستعادها الحاضرون أيضًا مرارًا وتكرارًا، والظاهرة الوحيدة التي يسجلها التاريخ هنا لصاحب الدولة يمين السلطنة أنه هندوسي لم يمت إلى الإسلام بصلة، إلا أن حبه للرسول صلى الله عليه وسلم جعله ينظم الكثير من قصائده ويجعلها وقفًا عليه صلى الله عليه وسلم. ثم وقف مولانا (خجندي صاحب) وقدم مسز سروجيني نايدو الهندوسية للحاضرين، وخيرهم في أن يلتمسوا منها الخطابة بالأوردية أو الإنجليزية فدوى المكان بالتصفيق وطلبوا منها الأوردية، وتحمسوا لها كثيرًا، ثم وقفت زعيمة الهند وتكلمت بالأوردية بفصاحة وطلاقة، والتمست أيضًا هي من الحاضرين أن يسمحوا لها بالتكلم بالإنجليزية وقالت: إن ضيوفنا الأعزاء الذين تشرفوا باعتناق الدين الإسلامي الحنيف ينبغي لنا أن نراعي شعورهم وإحساسهم (تشير بذلك إلى المستر محمود دير المسلم الإنجليزي محرر التيمس وزوجته والدكتور خالد شلدريك) وأن نتكلم باللغة التي يفهمونها لكي لا يعدوا أنفسهم غرباء عنا، ثم انطلقت كالأسد الشرود فصالت وجالت بالإنجليزية الفصحى، فتكلمت عن محاسن الدين الإسلامي طويلاً وعن عبقرية محمد (صلوات الله تعالى عليه) الفذة، وعن حياته وسيرته وأعماله، وكيف تغلغل الإسلام في العالم شرقًا وغربًا، وما كان عليه المسلمون من السلف من العز والسؤدد والشأن والسلطان , وكيف أن الهندوس مع وفرة عددهم، وكثرة عِدَدِهم، يرتعبون كل الرعب ويحسبون للمسلمين ألف حساب، وأن محمدًا الذي جاء لتحرير العالم من ربقة الذل والعبودية، وأن الإسلام لا يحتاج لامرأة مثلها أو غيرها من كبار الكتاب والفلاسفة أن يشرحوا محاسنه، ولا أن يُظْهِرُوا فضيلته. ثم انتقلت فجأة إلى الكلام عن حالة المسلمين اليوم وشقائهم، وتفرقهم وانحطاط قواهم وضعفهم، وعن الجهل والاضمحلال، وعن الذل والعبودية اللذين يرتع فيهما أكثر المسلمين اليوم، وأنحت باللائمة عليهم جميعهم لتقدم غيرهم من الأمم، واحتلال أماكنهم والتربع على عرش سؤددهم ومجدهم. وقالت: إن الإسلام يحتضر فكما أن الحسين (رضي الله عنه) ذُبِحَ في كربلاء، فاليوم يُذْبَح الإسلام في عقر داره، وإن كل بقعة من بلاد المسمين هي كرب وبلاء، ونبهت المسلمين إلى تدارك حالهم، وجمع كلمتهم، ولم شعثهم، وتوحيد صفوفهم، وتنظيم أمورهم، وربط أولهم بآخرهم، وآخرهم بأولهم، وتدارك الأمر قبل فوات الوقت، ثم قالت: إننا وإياكم نعبد إلهًا واحدًا، وما قال الله: أنا رب المسلمين، وإنما قال تعالى جل شأنه: أنا رب العالمين، واستغرقت خطبتها نحو ساعة كاملة. ووقف المستر محمود دير الإنجليزي المسلم وتلا تقريرًا كبيرًا مؤثرًا عن حياته الأولى، وشغفه وبحثه في الأديان، وتطوع الكثيرين من أفاضل المصريين وعلمائهم في تسهيل مهمته وإرشاده، وتنوير ذهنه مدة وجوده في مصر موظفًا في تحرير الإجبشيان دايلي ميل، ومدح المصريين كثيرًا، وأثنى عليهم، وقال: إننا نغبط أنفسنا معشر المسلمين اليوم بوجود أمة فاضلة عربية مجيدة لها تاريخ حميد كالأمة المصرية، وإن العالم ليدين لهذه الأمة الناهضة الفتية بقسط وافر من حيويته ونهضته الآن، وإن مصر سحرته بجمالها، ورجالها أسروه بفضلهم وعلمهم وعبقريتهم، وإنه لن ينسى أصدقاءه المصريين ما دام فيه عرق ينبض. ثم خطب بالإنجليزية (ديوان بهادر كريشنا صاحب) أحد كبار الهندوس وأدبائهم مادحًا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وخطب بالأوردية نواب زاده سيد مرتضى خان صاحب رئيس المؤتمر الشيعي، وبالكجراتية أيضًا مولانا نوربهاي صاحب. وانفضت الجلسة في الساعة السادسة والنصف تمامًا، وقد جُهِزِّت القاعة بالراديو، ورُبِطَت بثلاثة أحياء عظيمة إسلامية في بمباي ليتسنى لأكبر عدد ممكن من المسلمين سماع كل ما يجري من الحفلة حرفيًّا، ومثلت الحفلة اثنتان وأربعون هيئة إسلامية. وفي المساء عقد المسلمون جلسة كبرى برئاسة مولانا شوكت علي ومولانا عرفان صاحب وغيرهما من أهل بومباي في ميدان (جوته قبرستان) حضرها نحو 30 ألف من المسلمين، وتليت القصة النبوية الشريفة، وانفضت الجلسة في نحو منتصف الليل.

ترجمة الشيخ محمد الجسر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ترجمة الشيخ محمد الجسر (هذه خلاصة تاريخية لترجمته مستمدة من آله، رحمه الله وأحسن عزاءهم عنه) (1) تولى والده تربيته، فصُنِعَ على عينيه، وألبسه الزي العلمي الديني وهو في الثانية عشرة من عمره، وعلمه عقائد الدين وأحكامه بنفسه، وخَرَّجه في المدارس الرسمية التركية، وجعل له معلمًا خاصًّا يعلمه اللغة الإفرنسية لعدم العناية بتعليم الإفرنسية في مدارس الحكومة العثمانية، وهو المعلم عثمان أفندي الأرنؤوط الشهير بتعليم الإفرنسية في طرابلس. (2) في العشرين من عمره عُيِّن مديرًا لمدرسة اللاذقية الإعدادية الرسمية، فمكث فيها زهاء سنة، ثم نُقِلَ على سبيل الترقية مديرًا للمدرسة الإعدادية الرسمية في طرابلس، وظل في هذا المنصب إلى سنة 1329 هجرية. (3) في هذه السنة وقع الانقلاب الدستوري في الدولة العثمانية، وتولت جمعية الاتحاد والترقي زمام الأمر فيها، وكان والده العلامة معدودًا من رجال السلطان عبد الحميد فكانوا ينظرون إليه نظر الريبة، وإن لم يتدخل في سياستهم، وربما أظهر نجله الشيخ محمد السخط عليهم فاستقال من مديرية المدرسة، وأراد والده رحمه الله بأن يسلك سبيلاً حرًّا في العمل ويترك الوظائف فأطاعه، وأخذ يشتغل بالتجارة فبورك له في عمله، وجنى منه ربحًا غير قليل، وما كان يظن بمثل الشيخ في علو جاهه ومقامه العلمي أن يرضى لولده أن يكون تاجرًا صغيرًا؛ ولكن سعة عقله وعلمه بحال زمنه كانا فوق أفق أقرانه من كبار العلماء وعامة الوجهاء. (4) وكان والده رحمه الله قد ترك إليه من قبل ذلك بسنتين تحرير جريدة طرابلس، فكان الشيخ محمد يشتغل بالتجارة وبتحرير هذه الجريدة في آن واحد، وكان يكفيه أن يستغني بالتحرير عن التجارة، وكان غيره يعجز عن الجمع بينهما. (5) وفي سنة 1912 ميلادية رشح نفسه للنيابة عن لواء طرابلس في مجلس المبعوثان، وكانت حكومة الاتحاديين قد رشحت لها رجلاً تركيًّا مقيمًا في طرابلس؛ ولكن الطرابلسيين اجتمعوا إلبًا واحدًا على انتخاب الشيخ محمد، فرأت الحكومة أنها مضطرة إلى موافقتهم فتنازلت عن مرشحها الخاص له، ففاز بالنيابة فوزًا شعبيًّا باهرًا وكان يومه مشهودًا، ولا تزال مهرجاناته حديث الناس حتى اليوم، وقد استفاد من ممارسته لأعمال المجلس في سنة واحدة علمًا واختبارًا واعتبارًا في السياسة والنظام، ما كان ليستفيده في خارجه إلا في عدة أعوام. (6) بعد أن أغلق الاتحاديون المجلس النيابي سنة 1913 عاد إلى طرابلس ورشح نفسه لانتخابات المجالس العمومية للولايات ففاز فيها، وذهب لبيروت فنال حظوة كبيرة عند الوالي باكير سامي بك الشهير، ثم عند الوالي عزمي بك لما رأياه فيه من الفضل والعلم والذكاء العجيب والدهاء الغريب، وما لبث أن عرف الناس في بيروت وجميع أنحاء الولاية أن الشيخ محمد الجسر هو الرجل الذي يلي الوالي في النفوذ وإدارة دفة الحكومة طول مدة الحرب، فأتاح له هذا المقام الرفيع أن يسدي الإحسان إلى كثير من الناس من طرق ووسائل شتى، فأجمعت القلوب على حبه ولا سيما النصارى الذين كانوا يرون من آثار شفقته ما لم يكونوا يحتسبون. (7) لما وضعت الحرب أوزارها واحتل الحلفاء البلاد، وجدوا الشيخ محمدًا في رئاسة المجلس العمومي التي شغلها طول مدة الحرب فأقروه فيها، ثم اختلف مع الحاكم الفرنسي فاستقال حالاً، وكان يعرف سبيل الحياة الحرة الذي يغنيه عن الحكومة كما علمه أبوه، فعاد فورًا إلى الاشتغال بالتجارة في بيروت. (8) لكن الإفرنسيين لم يتركوه فما لبث أن بُلِّغ قرارًا من الحاكم الإفرنسي العام بتعيينه لرئاسة محكمة الجنايات العليا في بيروت، فوجم لذلك لأنه لم يسبق له اشتغال بأمور القضاء لا قاضيًا ولا محاميًا، ولكنه قبل المنصب الرفيع وأخذ يجهد نفسه بدرس القوانين الجنائية حتى برع فيها، وتمكن بفرط ذكائه من الاضطلاع بأعباء هذا المنصب على أكمل وجه، فأدهش رجال القضاء وجماعة المحاميين. (9) مكث في هذه الوظيفة من سنة 919 إلى سنة 921، وفي هذه السنة عهد إليه بمنصب رئيس النيابة العمومية في محكمة التمييز، فمكث فيها شهرين تقريبًا، ثم عُهِدَ إليه بمنصب (وزارة الداخلية) في الحكومة اللبنانية، وبعد سنتين عُهِدَ إليه (بوزارة المعارف) وظل فيها إلى سنة 1926. (10) في هذه السنة أُعلنت الجمهورية اللبنانية، فعُيِّن الشيخ محمد عضوًا في مجلس الشيوخ اللبناني، وانْتُخِب رئيسًا له، ولما أدغم مجلس الشيوخ في مجلس النواب انْتُخِب رئيسًا له، وظل في هذه الرئاسة يُنْتَخَب في كل عام بلا انقطاع ولا مزاحمة من أحد إلى تاريخ 9 مايو سنة 931 إذ عطل الدستور، وحل المندوب السامي للمجلس النيابي. وقد كان سبب حل المجلس على ما هو مشهور موقف الشيخ محمد نفسه من قضية رئاسة الجمهورية؛ فإنه رحمه الله رشح نفسه لرئاسة الجمهورية وأيده في ترشيحه أكثر النواب؛ ولكن بطريرك الموارنة ملأ سماء فرنسا صراخًا وعويلاً لكي لا يكون على رأس لبنان حاكم مسلم، وصور ذلك لوزارة الخارجية الفرنسية بصورة خرق للنواميس والتقاليد المعروفة عنها مع النصارى عامة والمارونية خاصة، ولم ينفع معه إقناع المفوض السامي المسيو بونسو أنه لم يكن يرى بأسًا بنجاح المسلم بنيل هذا المنصب، فظل البطريرك مصرًّا على رأيه، يطالب فرنسة بتعصب صليبي صريح أن توسد رئاسة الجمهورية اللبنانية لشخص مسيحي؛ لأنه مسيحي حتى اضطرت وزارة الخارجية إلى تنفيذ إرادته، وأمرت المفوض السامي ببذل كل نفوذه لتحقيقه، فحاول حمل الشيخ على الانسحاب، فأبى وأصر على ترشيح نفسه حتى النهاية، وبعد مراجعات كثيرة أمرت وزارة الخارجية مفوضها السامي بحل المجلس، وتعليق الدستور عند عدم النجاح في انتخاب المرشح المسيحي ففعل. (11) عزم الشيخ محمد عقب هذه التجربة عزمًا قاطعًا على ترك الحياة السياسية؛ لأنه إذا اشتغل بشيء وجه له كل قواه، فانقطع للاشتغال بالعلم والمطالعة والتأليف، فوضع مصنفات أهمها سيرة حياة والده مفصلة كان من مادتها ما كتبته له بطلبه، ثم وعدني بعرضها علي قبل نشرها، ودوَّن مذكراته السياسية وما كان إعراضه عن مناصب الحكومة بصارف للوجوه عنه، بل ظل محترمًا مبجلاً محبوبًا من الجميع حتى الإفرنسيين أنفسهم، وبقي كذلك لا يفكر بالحياة السياسية، ولا تبدر منه أقل بادرة تدل على التقرب من رجال السياسة وطنيين وأجانب إلى أن وافاه الأجل المحتوم في التاريخ الذي بيناه في الجزء الماضي، فكانت نهايته في كل أمر خيرًا من بدايته، وإنما الأعمال بالخواتيم، غفر الله لنا وله، وأدخلنا برحمته في عباده الصالحين.

كلمات في الوحي المحمدي

الكاتب: عبد الحميد الإمام

_ كلمات في الوحي المحمدي أنشر هنا بعض ما جاء من المكتوبات الخاصة لبعض قراء كتاب (الوحي المحمدي) من طبقات أهل العلم والرأي في الأقطار المختلفة فيما كان له من التأثير في أنفسهم. كلمة عَجْلَى لرب السيف والقلم العالم العلم سليمان باشا الباروني حضرة العلامة الجليل، المتفاني في إعلاء كلمة الله وإحياء سنة رسول الله، فخر محققي العصر، الأستاذ السيد رشيد رضا دام موفقًا. السلام عليكم من أخ لك في الله، مولع بتتبع أخبارك، ومطالعة آثارك، معجب بجهادك، فيدفع شبه الملحدين، وتأييد حجج المؤمنين، هذا وقد تلقيت بيد الاحترام هديتك الثمينة (مؤلفك الوحي المحمدي) فتتبعت - بشغف زائد - أبوابه، وتفصحته على سبيل الإجمال - الآن - فكان في نظري سيفًا بَتَّارًا لرقاب أعداء الدين، وحجة بالغة للمؤمنين، فلله جهادك العظيم، ولله قلمك الفياض. أمدك الله بروح من عنايته، ووفق رجال الإسلام إلى اقتنائه والعمل بما فيه، وسأكتب إليك غير هذا بعد أن أتفرغ لمطالعته مع تأمل إن شاء الله، ودُم معززًا تُرسًا للإسلام. ... ... ... ... ... ... بغداد في 24 صفر سنة 1353 ... ... ... من أخيك المخلص سليمان الباورني *** الكتيب الوجيز، المغني عن الوسيط والبسيط للأستاذ المستقل عبد الرحمن بك فهمي أمين السر لتأسيس الوفد المصري من مصطافه في النمسة سيدي الأستاذ الجليل، السلام عليك ورحمة الله وبركاته (وبعد) فقد فرغت من تلاوة مؤلفك الفذ (الوحي المحمدي) ولا أقول فيه أكثر من أنني لم أعثر مدة حياتي على كتاب انشرح له صدري، واطمأن له قلبي، وارتاحت له كل مشاعري بعد كتاب الله غير (الوحي المحمدي) فجزاكم الله خير الجزاء عن الإسلام والمسلمين، وإن هذا المؤلف الجليل القدر لجدير أن يقتنيه كل مسلم ويتلوه مثنى وثلاث ورباع، وهكذا حتى يستوعب كل ما فيه من درر وآيات بينات، يرد بها بقدر استطاعته أقوال الملحدين من أمته، ويدفع به سيل المهاجمين من غيرهم. متعك الله بالصحة العافية لتبقى ذخرًا للإسلام والمسلمين، والسلام عليك وعلى من تحب وتختار. ... ... ... ... ... ... ... ... فينا في 5 يوليو سنة 34 ... ... ... ... ... ... ... المخلص عبد الرحمن فهمي *** كلمة سعادة عالم التاريخ ومربي العلماء والأستاذين أمين باشا سامي الشهير حضرة صاحب الفضل والفضيلة العالم العلامة الأستاذ الشيخ رشيد منشئ المنار، ومصدر العلم والمفيض على العالم أسطع الأنوار. اليوم بحمد الله أتممت مطالعة كتابك الجليل (الوحي المحمدي) فحيا الله منك براعتك وإخلاصك، فقد صورت فيه عواطفك الشريفة، فأبدعت تصويرها حتى زهاها الحسن، فأهنئك بهذه المكانة السامية من الأدب والتوفيق إلى أقوم المراتب العالية في تفسير آي الله الكريم، وأشكر لك شكر المخلص الحميم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي أمين سامي محطة رشدي باشا برمل الإسكندرية في 6 أغسطس سنة 1934 *** تقريظ علامة الأكراد الشيخ عمر القره داغي (المدرس بكردستان العراق في بلدة سليمانية) (بسم الله الرحمن الرحيم) الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المؤيد رسالته ببراهين هادية لأولي الألباب، وعلى آله وصحبه وتابعيهم إلى يوم الحساب. (وبعد) فقد وقفت على كتاب الوحي المحمدي للعلامة الشهير، والفهامة النحرير، السيد محمد رشيد رضا أطال الله عمره، فوجدته حاويًا لحقائق قامعة لغياهب شبه المتمردين والمبتدعين، وفوائد ترشد المتحيرين، وفلكًا مشحونًا بدرر فرائد الشواهد النقلية الباهرة، وفلكًَا مرصعًا بكل كوكب دري توقد بالنكت والدلائل العقلية القاهرة، وقد أتقن فيه براهين إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بها واستقصاها فلم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولخص فيه نكتًا قرآنية بحيث لم ينسج أحد على منوالها، ولم تسمح قريحة بمثالها، ويذعن بها العالمون، ولا يجحد بها إلا القوم الظالمون، فشكرت الله تعالى على تزيين عصرنا بوجود هذا الحبر الذي هو علامة الزمان، ولا يختلف في كمال فضله اثنان، لا زال مستخرجًا من بحر علومه أمثال هذه الجواهر، ومتلألأ من سماء فضائله هذه النجوم الزواهر، أدام الله نفعه للمسلمين، ووفقه على نشر هذه الآثار المؤيدة للدين، والدافعة لظلمة أوهام المبطلين بجاه سيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. ... ... ... ... ... ... ... ... ابن القره داغي عمر *** تقريظ الأستاذ الفاضل الشيخ عبد الحميد الإمام بقرية ته نكي سدر التابعة للسليمانية بعد تقديم مقامات الاحترام، وتبليغ قصارى مدارج بالسلام، إلى محضركم الملفوف بالعلم المذاب، والكمال المستطاب: إن سعيك في سبيل توطيد أركان الدين المبين لمشكور، وعملكم لتوثيق عرى المودة بين طوائف المسلمين لمأجور، وجهادكم للذب والدفاع عن حوزة الإسلام لمبرور، ولا يخفى لدى ذوي البصائر ما لأناملكم الشريفة من اليد الطولى على آحاد المؤمنين، ولخريطة خيالكم الوقادة من الرئاسة العظمى على الناس أجمعين. فلله الحمد والمنة والشكر والنعمة والثناء، حيث لا يترك أمر هذه الأمة اليتيمة شتى، ولا يجعل شأنها بينها متفرقة فوضى، بل يبعث في كل عصر من يجمع لها شملها، ويلم شعثها، من ينكر ما لكم على العالم الإسلامي من النعمة العظمى، والفضيلة الكبرى، مع أن ما تقدمونه من الجهد والسهر خلال الليالي والأيام، وما تتجرعونه في الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وهي الحنيفية البيضاء، والبشرية السمحة الأحمدية الغراء، من المرارات التي لا يفي بها التقرير، ولا يبلغها التحرير؛ لأن الوجدانيات لا تنال بالتعبير فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين آمين. وإن مما هز العالم وفي الآفاق لمع، وسر آدم وبينه أجمع، إلا من في قلوبهم أكنة، وعلى أبصارهم غشاوة، وأسدلوا على مخيلتهم الجهالة والغباوة، تصنيف لطيف نبع من مناهل أنامل حضرتكم الأستاذ، وتفجر من ينبوع جمجمة ذلك الفاضل الملاذ، فانتشر في الآفاق صيته وصداه، واشتهرت لدى الفضلاء والعقلاء لطافة مبتغاه، ولا غرو لأن موضوعه موضوع طالما طاف حوله الفحول، وتزاحموا عليه بالمعقول والمنقول، الحق يقال ما أتوا بالمصفى المغربل ولا بالمنقى المنخول، وهو إثبات الوحي المحمدي، المتوقف على إثبات الوحي المطلق توقف الكل على الجزء المادي، المستدعي لإثبات عالم الغيب الذي هو ركن بل أساس للديانات كلها، برد كيد الماديين على نحورهم بالأدلة والبراهين الواضحة والسلطان والحجج اللائحة. نعم إن الأمور مرهونة بأوقاتها، وإن زماننا هذا لأحوج الأزمان إلى هذا الكنز الثمين، ألا يرى أن الحق منكوب بدعايات الزنادقة المارقين بدوام الخافقين في المشرقين، ولعمري إن من غاص بالفكر في مستجادات ذلك العباب، وسرح النظر في مكنونات ذلك الكتاب، يستبين أن الديانة الإسلامية في الكفة الراجحة وأن نبيه عليه السلام جاء بالحجة الواضحة، وإنه لنبي عظيم مؤيد من الله القادر، لم ير له مثلاً، إنسان عين الإنسان، ولن يراه أبدًا، فإني أرجو من حضرتكم أن تسمحوا من ذلك الكتاب بنسخة أو نسختين كيلا لا تحرم بلادنا عن شذاه ورياه، يربحكم الله في الدارين به وبأمثاله التي هي من ثمار حياتكم النافعة، وهذا الحقير لا يتعاطى ما يعود عليكم بالغبن والخسران، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد الإمام ((يتبع بمقال تالٍ))

الحج في طوره المدني المترف

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الحج في طوره المدني المترف كان كثير من المسلمين يحجون إلى بيت بالله الحرام رجالاً، أي مشاة على أقدامهم حتى إن هارون الرشيد حج ماشيًا، وأكثرهم يحجون ركبانًا على الإبل، وبعضهم على الخيل والبغال والحمير، وكان بعض أهل الأقطار البعيدة على الحجاز في الشرق والغرب الذين وراء البحار أو في جزائرها يركبون السفن الشراعية، فيقاسون في مصارعتها للأمواج وعواصف الرياح أهوالاً، يرون فيها من الموت صنوفًا وألوانًا، وكانوا ينفقون في سفر الحج أموالاً عظيمة، وربما استغرق سفر الحج سنة أو أكثر، وكان مريد الحج يوطن نفسه على الموت، فيكتب وصيته ويودع أهله لبعد الشقة وشدة المشقة ولفقد الأمن على الأنفس والأموال، وكانوا يعدون ما ينفقونه في سفر الحج أفضل نفقاتهم، ويعدون أفضلها في تطهير أنفسهم وتزكيتها ما ينفقونه في نفس الحرمين الشريفين من الصدقات والقربات على أهلهما، مهما يكن من عنائهم فيهما. ولما أنشئت البواخر الكبار المواخر في جميع البحار قرَّبت المسافات، وقللت النفقات؛ ولكن أصحابها من شعوب الفرنجة المستعمرين للأقطار الإسلامية تواطئوا على معاملة الحجاج فيها أسوأ من جميع أصناف المسافرين؛ ليصرفوا أكثر أغنياء المسلمين المترفين عن الحج، وزادوهم رهقًا بما وضعوا من النظم الشديدة للحجر الصحي عليهم، وواتتهم الحكومة المصرية على ذلك، فكانت معاملات رجالها للحجاج في موانيها ومحاجرها أقسى من كل ما يقاسونه في غيرها شدة وإهانة ونفقة، ولا تزال تعد أرض الحجاز بيئة وبائية بسوء خضوعها للسيطرة الأوربية، وقد مرت عشرات من السنين لم يقع فيها وباء في الحجاز، ومن المعلوم بالقطع أنه ما وقع وباء فيه من قبل إلا منتقلاً إليه من غيره من الأقطار ولا سيما الهند، ولا تزال الحكومة المصرية تفرض على من يسافر إلى الحجاز لأداء فريضته، ومن يعود منه معاملة شاذة مرهقة لا تعامل بمثلها من يسافر من الهند أو يجيء منها، على أن وطأتها خففت في السنين الأخيرة، وقد دخل موسم هذا العام في طور جديد من الراحة والسهولة والاقتصاد والانتظام بما أعدته له شركة بواخر مصر في باخرتيها زمزم والكوثر، وسنبين ذلك في مقال آخر مع ما يجب على الحجاج في دينهم شكرًا على هذه النعم عليهم.

أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت في الجن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من صاحب الإمضاء في بيروت في الجن (من 23 - 26) حضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الجليل السيد محمد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فكلما حزبنا أمر من أمور ديننا الحنيف لم نر سواك ملجأ نلجأ إليه، وكلما نزلت بنا نازلة تلفتنا فهدانا (منارك) إليك، وكشف لنا عن موضعك، وقال بلسان الحال هذا هو إمام العصر، وارث علم الإمام، ورافع لواء السنة، وهادم بناء البدعة، فلا نجد عندئذ بدًّا من التوجه إليك في مهماتنا الدينية، أبقاك الله للإسلام ذخرًا ولسانًا، وحفظ عليك نعمة الألمعية ونعمة العافية. مولاي الأستاذ: جرى الحديث بيني وبين أحد إخواني العلماء في جمع من أهل المعرفة فيما يدعيه بعض الدجاجلة من القدرة على استخدام الأرواح، وتسخير الجن في قضاء الحاجات، وشفاء الأمراض، وقطع المسافات البعيدة في المدة الوجيزة، وغير ذلك، فأنكرت عليه قدرة الإنسان على شيء من ذلك، كما أنكرت أن يكون لهذه الأرواح سلطان على البشر إلا ما توسوس به إليه، فاستظهر علي بالآية الكريمة {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: 275) وحاول أن يتخذ منها دليلاً على تسلط الشيطان على الإنسان - فاحتكمت وإياه إلى الجزء الثالث من تفسير المنار، وبمراجعته وجدناكم قد اختصرتم القول في هذا الموضوع اختصارًا لا يشفي غلة المتطلع، فآثرت أن أتوجه بالسؤال لفضيلتكم علكم تبسطون القول في (مناركم) الأغر في موضوعنا هذا بما يشفي ويكفي، مع التفضل بالإجابة على ما يأتي. (س23) هل الآية قاطعة في وجود هذا النوع من التسلط كما يقتضيه ظاهر التشبيه، وهل هناك دليل قاطع سواها؟ (س 24) هل جاء في السنة الصحيحة ما يدل على شيء من ذلك؟ وهل يصح الاستلال بحديث (إن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم) على فرض صحته أم يحمل ذلك على المجاز والمراد الوسوسة؟ (س25) هل من الممكن أن يخالط الشيطان الإنسان أو يمسه؟ وهل صحيح ما يحكى من تزوج الآدميين بزوجات من نساء الجن؟ (س26) هل يظهر الجن لبني آدم أم أن مادة الاجتنان تحكم بعدم ظهوره للعيان، أفيدونا من واسع علمكم بما يثلج صدورنا، وتطمئن إليه نفوسنا، ولفضيلتكم الأجر العظيم، والشكر الجزيل. ... ... ... ... ... ... ... ... م. ح. المحامي الشرعي * * * تسخير الناس للجن وسلطان الجن على الناس (جواب المنار) إن كنت قد اختصرت في الكلام على الجن والشياطين في تفسير آية آكلي الربا من الجزء الثالث، فقد أطلت في ذلك في تفسير آيات من سورة الأنعام والأعراف وغيرها، وفي مواضع من المنار، ولذلك أوجز هنا في الجواب فأقول: لو كان الجن مسلطون على الإنس بما يشاؤون من نفع وضر، وكان دجاجلة يسخرونهم في هذا كما يشاؤون لتحكم هؤلاء الدجالون في أموال الناس وأنفسهم، ولتنافس الملوك والأغنياء في اصطناعهم؛ ولكنا نراهم أحقر الناس وأفقرهم إلا من استطاع بدهائه أن يخدع بعض الأغبياء الجاهلين والنساء فيسلب أموالهم بالحيل، كما ظهر في مصر في هذين العامين، وفي غيرهما عندما رفعت القضايا على بعض من اشتهروا باستخدام ملوك الجن، على أن كثيرًا من الناس حتى المتعلمين والأذكياء يخدعون بحوادث يخفى عليهم الدجل فيها، وإن لقوى نفس الإنسان تأثيرًا في كثير من الأمور بما يخالف المألوف المعروف، وهي شاذة لا تتخذ سننًا عامة. (23) تخبط الشيطان من المس: إن آية تشبيه قيام آكلي الربا بقيام الذي يتخبطه الشيطان من المس، لا تفيد دلالة قطعية على تسلط الجن والشياطين على الناس بما شاؤوا من نفع وضر، فإن كان التشبيه مبنيًّا على ما كان معهودًا عن العرب وغيرهم، ولا سيما النصارى من اعتقادهم أن بعض الجنون يكون بملابسة الشيطان للمجنون من غير أن يكون إقرارًا لهم عليه كما قال البيضاوي وغيره من المفسرين فالأمر ظاهر، وإن كان يتضمن إقرارهم عليه كما يقول آخرون، فهذه الملابسة غيبية لا تُعْرَف حقيقتها ولا سببها، ولا تدل الآية دلالة قطعية على أنها تكون بسلطة للشيطان عامة، أو خاصة هو مختار فيها، وربما كان الأقرب إلى العقل فيها أن الإنسان إذا عرض له ضعف في أعصابه واختل إدراكه ومزاجه، تحدث لنفسه مناسبة قوية بروح الشيطان الذي وظيفته الوسوسة، فيقوى تأثيره فيها بهذا النوع من الجنون، كما تقوى المناسبة بين جسد الإنسان وبعض ميكروبات الأمراض باختلال مزاج الجسم، فتلابسه بما لا تستطيعه في حالة قوة الجسم وسلامته، ولهذا جُرِّبَ شفاء هذا النوع من الجنون بالعلاج الروحاني الذي هو عبارة على توجه روح بشرية قوية طاهرة إلى روح المجنون، بما يقويها ويطرد روح الشيطان منها، ومن وسائل هذا العلاج الدعاء والرقية، وهو المروي عن المسيح عليه السلام، وعمن دونه من الروحانيين، ووقع لنا شيء منه ذكرناه في مثل هذا البحث من المنار وتفسيره. (24) حديث (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق) متفق عليه: هذا الحديث لا يدل على أن الشياطين مسلطون على الناس بما يشاؤون من ضر ونفع، غير ما هو ثابت في القرآن من الوسوسة لهم؛ وإنما هو تشبيه لتغلغل وسوستهم في النفس، وعدم شعور الناس بها إلا من راقب خواطره وأفكاره وحاسب نفسه على مثاراتها فهو كقول الشاعر: * جرى حبها مجرى دمي في مفاصلي * (25و 26) إمكان مخالطة الشيطان للإنسان وظهوره له: الإمكان العقلي لا نزاع فيه، وما كل ممكن يقع، وأما الشرع فلا يكلفنا تصديق ما يحكيه الناس من ذلك، وظاهر قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) أن الإنسان غير مستعد لرؤية الجن والشياطين كما خلقهم الله؛ ولكنهم قد يتشكلون بصور مادية لطيفة أو كثيفة ترى بالعينين، فراجع تفسير هذه الآية (في 359- 372) من جزء التفسير الثامن، ففيه مباحث كثيرة في الموضوع.

محاضرتي في جمعية الشبان المسلمين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ محاضرتي في جمعية الشبان المسلمين أيها الإخوان: كنت عازمًا على أن أسمع في اجتماع هذا العام ولا أتكلم، حتى إذا ما فرغ الخطيب الأول صديقي الأستاذ المؤرخ الشيخ عبد الوهاب النجار من خطبته، بدا لي أن أتعقبه أو أقفي عليه متطوعًا بكلمة تكون مقابلة لكلامه من ناحية غير الناحية التي سلكها وهي لا مندوحة عنها فأقول: مضت سنة الأمم أن يسلك مرشدوها في الكوارث التي تنزل بها طريقتين (إحداهما) تهوين الخطب، وتصغير الكارثة، وتقوية الرجاء بزوالها وانكشافها عن قريب؛ إشفاقًا عليها من اليأس، وقد سلك هذه الطريقة الأستاذ فصوَّر كارثة اليهودية الصهيونية بسحابة صيف تنذر فلسطين بطوفان عظيم، ثم لا تلبث أن تنقشع وتزول؛ ولكنه توقع أن يكون خذلان اليهود فيها، والقضاء على ملك إسرائيل الذي يحاولون تأسيسه في مهد ملك داود وسليمان بظهور مسيحهم الدجال الذي حذر منه الأنبياء عليهم السلام، وآخرها خاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر أمته أن تستعيذ بالله من فتنته في الدعاء المأثور بعد التشهد الأخير من الصلاة. فإن كان المصاب بعدوان اليهود على فلسطين لا ينكشف إلا بظهور مسيحهم الدجال فياللهول، وياللرزية، إنه لبلاء لا ينكشف إلا في آخر عمر الدنيا، ولا تلبث بعده أن تقوم الساعة. وقد أشار الأستاذ الخطيب إلى ما ورد في الأحاديث النبوية الصحيحة من القتال بين اليهود والمسلمين، والبشارة بأن المسلمين يظهرون عليهم فيه، وذهب علماؤنا إلى أن هذا سوف يقع في عهد المسيح الدجال. وأما الطريقة التي أريد سلوكها في بيان ما يجب على الأمة العربية والشعوب الإسلامية، من العبرة بالنكبة اليهودية الصهيونية، فهي طريقة الأسباب الدنيوية، والسنن الاجتماعية، التي يسير عليها أهل البصيرة والعلم قبل وقوع ما أنبأ به الأنبياء عليهم السلام من مقدمات خراب العالم وقيام الساعة، ومنها ظهور المسيح الدجال الذي رجحت في تفسير المنار أن اليهود سيهيئون أسبابه ومعجزاته بالعلوم الكونية. وإنني - مع هذا - أعتقد أن العدوان الصهيوني الحالّ بمساعدة الإنكليز على فلسطين لا ينتهي إلا بقتال بينهم وبين العرب، لا أقول هذا تحريضًا لكم أيها الحاضرون عليه، فإنني لا أظن أن أحدًا منكم أهلاً ولا مستعدًّا له؛ وإنما هذه عاقبة طبيعية لما هو واقع هنالك، فقد ثبت في الأخبار المتواترة أن اليهود في فلسطين يقتنون السلاح ويستزيدون منه بالتهريب من أوربة، وقد عثرت الحكومة على باخرة تحمل شيئًا ليس بالقليل منه لليهود من أيام قليلة، وأن أمة غنية تريد إخراج قوم من ديارهم لجعلها ملكًا لها لا بد لها من الاستعداد للقتال، فاليهود يجلبون السلاح العصري من أوربة، والدولة الإنكليزية قد نزعت سلاح عرب فلسطين من أيديهم، وهي تريد نزع سلاح إخوانهم في شرقي الأردن عند سنوح الفرصة بمساعدة خونة العرب وسواعدهم، ومتى تم هذا يسمح لليهود بنزع أرض شرقي الأردن، كما ينزعون أرض فلسطين، هذا رأي لي قديم في عاقبة الحكومة المؤقتة في شرقي الأردن طالما صرحت به لمن لقيت من أهل البلاد، وقل من كان يعقله؛ ولكنهم سيرونه بأعينهم. هذه مقدمة سنحت قبل الكلمة المقصودة من وقفتي هذه، وهاؤم اسمعوها بالاختصار: إن خطر ما يسمونه (المسألة اليهودية الصهيونية) كبير هائل جدًّا، هو أكبر من كل ما قيل وما كتب في تكبيره وتهويله، ولو ظل اليهود على اعتقادهم القديم وانتظار المسيح الذي بُشِّروا به، وفسروه بملك دنيوي يعيد لهم ما فقدوا من ملك سليمان عليه السلام بتأييد الله تعالى له بالآيات والمعجزات، لما كان خطب الصهيونية هو الخطر الذي أعنيه، بل لما وجدت هذه الصهيونية التي نخشاها وننذر الأمة خطرها. تلك عقيدة دينية مرت القرون، ولم يستعد اليهود لظهورها وإظهارها بقوة اجتماع ولا سلاح ولا مال، ولا عمل من الأعمال، بل كانت مانعة لهم من الاستعداد لإعادة ملكهم من طريق الأسباب؛ لاعتقادهم أنه سيكون بآيات إلهية هي فوق الأسباب، فمثلهم فيه كمثل جماهير المسلمين - ولاسيما الشيعة - في عقيدة المهدي المنتظر بظهوره بعد أن تملأ الأرض ظلمًا وجورًا، فيملؤها عدلاً. كانت هذه العقيدة من أسباب خنوع المسلمين وسكونهم وسكوتهم على ما أصابهم من جور الظالمين المخربين منهم، ثم من سلب الإفرنج لأكثر ملكهم: كلما ظهر فيهم عاقل يدعوهم إلى الدفاع عن أنفسهم يصدونه بقولهم: إن الأرض ملئت جورًا وظلمًا، وقد قرب زمن ظهور المهدي، ولن ينقذها غيره، ولم يخطر في بال أحد من زعمائهم أن يدعوهم إلى الاستعداد لظهوره ليكونوا معه كما كان المهاجرون والأنصار مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ لاعتقادهم أن ظهوره وعمله وسيكون بالكرامات وخوارق العادات؛ ولذلك خُدِعَ ألوف منهم بظهور الدجالين المدعين لهذه المهدوية، ولما هو فوقها ومتمم لها من ظهور المسيح، كما فعل الباب والبهاء وغلام أحمد القادياني، فكانت عقيدة المهدي المنتظر، والمسيح المنتظر مثار فتن وحروب مبيرة، سُفِكَتْ فيها دماء غزيرة. رأى بعض اليهود - الذين درسوا العلوم الكونية والاجتماعية والتاريخ في أروبة - أن قومهم يعللون أنفسهم بأمنية ظهور مسيح يجدد لهم ملكهم، وأن القرون تتلو القرون على هذا الاعتقاد، وهم لا يزدادون إلا تفرقًا وذلاً بفقد الملك، ورأوا من عبر التاريخ أن أفرادًا من أصحاب الهمة والعزيمة قد أسسوا ممالك قوية، فتوجهت عزائمهم إلى تأسيس ملك لقومهم بالأسباب الاجتماعية دون الاعتماد على الأوهام الاعتقادية النافية لسنن الاجتماع، فأسسوا هذه الدعوة الصهيونية على قواعد العلم والمال، وتوحيد قوة الأمة وجمع كلمتها. وضعوا لعملهم رأس مال كبير فكان بنكًا للصهيونية، وضعوا له دائرة معارف يهودية صهيونية، ووضعوا نظامًا اجتماعيًّا لجمع كلمة الأمة يعقدون له المؤتمرات تلو المؤتمرات، في أمصار أوربة وأمريكة، ولقد كان اليهود - المتكلون على ظهور (مسيا) مؤيدًا بالعجائب والخوارق السماوية - ينفرون من هذا النظام ويعدونه كفرًا وإلحادًا، أو هرطقة وزندقة؛ ولكن الحقائق العلمية والمساعي العملية، ما زالت تدحض الآراء الوهمية، حتى صار يهود العالم كلهم أنصارًا للجمعية الصهيونية، حتى إن فقراء يهود اليمن والمغرب الجاهلين يهاجرون إلى فلسطين؛ ليشهدوا تأسيس ملك إسرائيل. ما ينبغي لنا ولا لعاقل أن يستصغر عمل هؤلاء القوم، أو يستكبر نهوضهم به مهما يكن كبيرًا في نفسه، فاليهود شعب قوي العزيمة، شديد الشكيمة، عظيم الكيد والحيلة، قد أحدثوا أعظم انقلاب في الدول والأمم، وكان آخر ما أحدثوا انقلاب دولة الخلافة التركية الحميدية، ودولة القيصرية الروسية، ثم كانوا هم السبب في انكسار الدولة الألمانية القاهرة في حرب المدنية العامة، وإن دولة بريطانية العظمى لترى نفسها مسخرة لهم في مساعدتهم على تأسيس ما سمته (الوطن القومي في فلسطين) بمقتضى وعدها لهم بما يسمى (عهد بلفور) وهو الذي اجتمعنا للاحتجاج عليه اليوم كما نفعل في كل عام، وقد سبقونا هم للاحتفال بهذه الذكرى في مصر وفي كل قطر، وشتان بين اجتماعنا واجتماعهم، نحن نجتمع للندب والاحتجاج بالكلام، وهم يجتمعون للتهاني والتعاون بالأموال والأعمال. فالذي أبغيه بكلمتي هو أن نعتبر بأعمالهم ونقتدي بهم فيها، بل نقتدي بما أمرنا به كتاب ربنا من المحافظة على ملتنا وأمتنا بالجهاد في سبيله بأموالنا وأنفسنا. إن عدد اليهود في العام كله بضعة عشر مليونًا على أكثر تقدير - 15 أو 17 مليونًا - وإن عدد المسلمين ليبلغ أربعمائة مليون، وإن عدد العرب الذين يريدون نزع فلسطين من أيديهم لا يقل عن مائة مليون، وإن اليهود خصوم للمسلمين والنصارى منهم على سواء، إنهم خصوم لهم في وطنهم المشترك ومعاهدهم المقدسة فيه، بل خصوم لهم في دينهم أي في دين الإسلام ودين النصرانية - كيف هذا؟ إن عقيدة اليهود في إعادة ملك إسرائيل بالمسيح المنتظر تكذيب لدين الإسلام وتكذيب أصرح للمسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام؛ فإنه هو المسيح الذي بشرهم به أنبياؤهم فكذبوه، وهو الذي أنذرهم خراب هيكلهم السليماني حتى لا يبقى فيه حجر على حجر، وهم يريدون إعادته إتمامًا لتكذيبه، ومن عجائب همتهم وكيدهم أنهم يسخرون الدول المسيحية كلها لمساعدتهم الأدبية، وسخروا بريطانية المسيحية لتأسيس هذا الملك لهم بقوتها السياسة والعسكرية، ومخالفة تقاليدها النصرانية والأدبية، فانظروا إلى مبلغ كيدهم وقوتهم. وماذا عسى أن يفعل العرب في إيقاف الدول البريطانية عند هذا الحد الذي بلغته من تسخيرهم لها وليس عندهم إلا الكلام؟ إن في بلاد الإنكليز خصومًا لليهود كخصومهم في سائر بلاد أوربة؛ ولكنهم أعظم نفوذًا في هذه الدولة من خصومهم من أهلها، فماذا عسى أن يبلغ تأثيرنا فيها؟ إن نفوذهم قائم على أساس المال والصحف السياسية؛ لأنهم يملكون القسم العظيم من سهام شركاتها. وإن للعرب لقوة أعظم من قوتهم بكثرة عددهم، وسعة بلادهم ونفوذهم المعنوي الديني في الهند وغيرها من الإمبراطورية البريطانية؛ ولكنهم يجهلون وسائل الانتفاع بهذا النفوذ في جمع المال، وفي تهديد الدولة الإنكليزية وإلجائها إلى ترجيح مصلحتهم على مصلحة اليهود الصهيونيين. وقد قلت لكم في هذا المكان من قبل: إن الانتفاع بهذه القوة العربية، من إسلامية ومسيحية، وبالقوة الإسلامية التي تؤيدها، يتوقف على نظام لا يجوز شرحه في هذه المحافل، وإني أعيد هذه النصيحة وأكرر التذكير بها عملاً بقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى} (الأعلى: 9-10) انتهت المحاضرة.

فتوى واقتراح على قارئي هذا الإنذار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتوى واقتراح على قارئي هذا الإنذار إن من يبيع شيئًا من أرض فلسطين وما حولها لليهود أو للإنكليز فهو كمن يبيعهم المسجد الأقصى، وكمن يبيع الوطن كله؛ لأن ما يشترونه وسيلة إلى جعل الحجاز على خطر، فرقبة الأرض في هذه البلاد هي كرقبة الإنسان من جسده، وهي بهذا تعد شرعًا من المنافع الإسلامية العامة، لا من الأملاك الشخصية الخاصة، وتمليك الحربي لدار الإسلام باطل، وخيانة لله ولرسوله ولأمانة الإسلام، لا أذكر هنا كل ما يستحقه مرتكب هذه الخيانة، وإنما أقترح على كل من يؤمن بالله، وبكتابه، وبرسوله خاتم النبيين أن يبث هذا الحكم الشرعي في البلاد مع الدعوة إلى مقاطعة هؤلاء الخونة الذين يصرون على خيانتهم، في كل شيء من المعاشرة والمعاملة والزواج والكلام حتى رد السلام. ورد في صحيح مسلم أن الله تعالى وعد رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته (أن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها) ... إلخ ما معناه حتى يكونوا هم الذين يفعلون بأنفسهم ذلك، وقد بينت في شرحه من جزء التفسير السابع (ص 495 و 496 طبعة ثانية) أنه ما زال مُلْك الإسلام عن قطر إلا بخيانة من المسلمين فتوبوا إلى الله أيها الخائنون. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} (الأنفال: 27- 28) .

قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث

الكاتب: جمال الدين القاسمي

_ قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث تأليف الشيخ محمد جمال الدين القاسمي الدمشقي المتوفى سنة 1332م - 1914 م نُعي إلينا القاسمي في شهر رجب من سنة 1332، فكتبت له ترجمة نشرتها في هذا الشهر والذي بعده من مجلد المنار السابع عشر، وصفته في أولها بقولي (ص 558 منه) (هو علامة الشام، ونادرة الأيام، والمجدد لعلوم الإسلام، محيي السنة بالعلم والعمل والتعليم، والتهذيب والتأليف، وأحد حلقات الاتصال بين هدي السلف، والارتقاء المدني الذي يقتضيه الزمن، الفقيه الأصولي، المفسر المحدث، الأديب المتفنن، التقي الأواب، الحليم الأواه، العفيف النزيه، صاحب التصانيف الممتعة، والأبحاث المقنعة، صديقنا الصفي، وخلنا الوفي، وأخونا الروحي، قدس الله روحه، ونور ضريحه، وأحسن عزاءنا عنه) ثم ذكرت تصانيفه ورسائله (في ص 628 منه) مرتبة على الحروف، فبلغت 79، ومنها هذا الكتاب (قواعد التحديث) الذي عُني بطبعه نجله الكريم السيد ظافر القاسمي، فتم في هذا الشهر (شوال سنة 1353) وكان يرسل إلي ما يتم طبعه منه متفرقًا لأنظر فيه، وأكتب للقراء تعريفًا به، على علم تفصيلي بمباحثه وأسلوبه، وتقسيمه وترتيبه، فأقول: ليتني كنت أملك من وقتي الحاشك بالضروريات، الحاشد بالواجبات، فرصة واسعة، أو نهزًا متفرقة في شهر أو شهرين أقرأ فيه هذا السفر النفيس كله، فأتذكر به من هذا العلم ما لعلي نسيت، وأتعلم مما جمعه المؤلف فيه ما جهلت، فهو الحقيق بأن يُقرَأ ما كتب، ويُحصَى ما جمع، لتحريه النفع، وحسن اختياره في الجمع، وسلامة ذوقه في التعبير والتقسيم والترتيب والوضع، وقد بلغ في مصنفه هذا سدرة المنتهى من هذا العلم الاصطلاحي المحض، الذي يوعى بكد الحافظة، ويستنبط بقوة الذاكرة، فلا يستلذه الفكر الغواص على حقائق المعقولات، ولا الخيال الجوال في جواء الشعريات، ولا الروح المرفرف في رياض الأدب أو المحلق في سماء الإلهيات؛ إذ جعله كأنه مجموعة علوم وفنون وأدب وتاريخ وتهذيب وتصوف، مصطفاة كلها من علم حديث المصطفى صلوات الله عليه وعلى آله، ومن كتب طبقات العلماء المهتدين به، كأنه قرص من أقراص أبكار النحل جنته من طرائف الأزهار العطرية، ومجّت فيه عسلها المشتار من طوائف الثمار الشهية، فلعل الظمآن لهذا العلم لا يجد فيه كتابًا تطيب له مطالعته كله، فينهله ويعله ولا يمله، كأنه أقصوصة حب أو ديوان شعر، اللهم إلا هذا الكتاب. أقول هذا بعد أن طفت بجميع أبوابه، وكثير من مباحثه وفصوله، طوافًا سريعًا كأشواط الرمل في طواف النسك، ثم قرأت فيه بعض ما اختلف العلماء في تحقيقه، وبعض ما لم يسبق لي الاطلاع عليه من مختارات نقوله، فصح لي أن أصفه وصفًا صحيحًا مجملاً يهدي إلى تفصيل. صفة الكتاب وما فيه: فأما تقسميه وترتيب أبوابه وفصوله ومباحثه ووضع عناوينها، فهو غاية في الحسن، وتسهيل المطالعة والمراجعة بكثرتها، وجعلها عامة شاملة لوسائلها كمقاصدها، وفروعها كأصولها، وزادها حسنًا مراعاته في الطبع، بجعلها على أحدث وضع: من ترك بياض واسع بين سوادها، شامل للمعدود بالأرقام من مباحثها، مع إفراط فيه بترك بعض الصفحات بعد ختام للفصل أو البحث خالية كلها؛ ولكن إذا اشتد البياض صار برصًا. ومن آيات إخلاص المؤلف وحسن اختيار الناشر أن طبعه في هذا العهد الذي توجهت فيه همم الكثيرين من أهل الدين وطلاب العلم إلى الاشتغال بما كان متروكًا من علم الحديث، والاهتداء بالسنن الصحيحة في هذه الأقطار العربية، واجتناب الروايات الموضوعة والمنكرة والواهية، واشتدت حاجتهم إلى معرفة الشذوذ والعلل والتعارض والترجيح فيها، وبيان ذلك في كتاب سهل العبارة، جامع لأهم ما يحتاجون إليه من المصطلحات في الرواية والدراية، ووصف دواوين السنة من المسانيد والصحاح والسنن، وكل ما يرشد إلى الاحتجاج والعمل، وأحسن أقوال الحفاظ ورجال الجرح والتعديل وعلماء أصول الفقه في ذلك، وإنهم ليجدون كل هذه المطالب في هذا الكتاب دانية القطوف، مع زيادة يندر فيها المكر ويكثر المعروف. وأما طريقة المؤلف في تدوينه فهو أنه طالع كثيرًا من مصنفات المُحَدِّثين والأصوليين والفقهاء، والصوفية والمتكلمين والأدباء من المتقدمين والمتأخرين، وكتب مذكرات فيما اختار منها في هذا الفن، وما يتصل به من العلم، ثم جمعها ورتبها كما وصفناها، وقد وفى بعض المسائل حقها، ببيان كل ما تمس إليه حاجة طلابها، وأوجز في بعضها واختصر، إما ليمحصه في فرصة أخرى، وإما ليفوض أمره إلى أهل البحث والنظر، ولا غضاضة عليه في هذا، فإمام المحدثين محمد بن إسماعيل البخاري قد سبقه في بعض أبواب جامعه الصحيح إلى مثله. وقد فتح فيه بعد الخطبة المقدسة تسعة أبواب لمباحث الحديث من فضله وعلومه ومصطلحاته ورواته وكتبه ومصنفيها ودرجاته وما يحتج به، وما لا يحتج به، وحكم العلم به، وغير ذلك من المسائل في نوعي الرواية والدارية، فاستغرق ذلك 254 صفحة، وفتح الباب العاشر لفقه الحديث ومكانه من أصول الدين والمذاهب فيه، وما روي وأُلِّف في الاهتداء والعمل به، فبلغت صفحاته بهذه المباحث 383 يليها الخاتمة، وهي في فوائد متفرقة يضطر إليها الأثري. الكتب التي استمد منها هذا الكتاب: وأما المصنفات التي استمد منها مباحث الكتاب ومسائله فأكثرها لأشهر علماء الإسلام، من الأئمة المستقلين أو المنتسبين إلى المذاهب المتبعة في الأمصار المعتمدة عند أهلها، وأقلها للمشهورين عند عوام القراء ومقلدة العمائم بالعلم والعرفان، أو بالولاية والكشف والإلهام، لهذا تجد فيه كل فئة من القراء ما تنتقد عليه نقله، من حيث تجد فيه كل فئة ما تعتمد ممن تقبل علمه ورأيه. وأما المؤلف فغرضه من هذا وذاك أن تنتفع بكتابه كل فئة من هذه الفئات، فأهل البصيرة والاستدلال يزدادون علمًا ونورًا بما اختاره لهم من كتب الأئمة وعلماء الاستقلال، ولا يضرهم ما لا يوثق به من أقوال المقلدين ومدعي الكشف والإلهام؛ ولكن الذين يقدسون هؤلاء يجدون من أقوالهم ونقولهم وكشفهم أنهم يتفقون مع الآخرين على أن أصل هذا الدين الإسلام الأساسي المقدس المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هو كتاب الله وكلامه (القرآن العظيم) ويليه ما بيَّنه للناس بأمره من سنة رسوله خاتم النبيين، التي تواترت أو اشتهرت عنه بعمل الصحابة والتابعيين وأئمة الأمصار، ويليها ما صح عند هؤلاء الأئمة من حديثه صلى الله عليه وسلم المروي بنقل الثقات، وما دون هذا من الأخبار والآثار التي اختلف الحفاظ في أسانيدها، أو استشكل فقهاؤهم متونها، فهو محل اجتهاد. ويجد قارئ هذا الكتاب من أقوال أصناف العلماء فيه ما لعله لا يجده مجموعًا في غيره، وإنني أورد نموذجًا من مباحثه وطريقته في نقوله. المذاهب في الضعيف والمرسل والموقوف: من أهم هذه المباحث أقوال المحدثين في معنى الحديث الضعيف الذي وقع الاختلاف في العمل به، فاستحبه بعضهم في فضائل الأعمال، والأخذ به في المناقب، ومن فروع هذا الاختلاف أن الضعيف في جامع الترمذي دون الضعيف في مسند أحمد، فيقبل من ضعاف المسند ما لا يقبل من ضعاف الترمذي؛ لأنها تساوي الحسان فيه. ومنها الاحتجاج بالحديث المرسل واختلاف المذاهب فيه، واستنثاء الجمهور مراسيل الصحابة، وحجتهم وحجة مخالفيهم، والأقوال في الموقوف على الصحابي الذي له حكم المرفوع، والذي يعد رأيًا له، والأقوال في عدالة جميع الصحابة في الرواية عند جمهور أهل السنة وحجة مخالفيهم فيها، وغير ذلك من المسائل التي لا يستغني عن معرفتها الذين هداهم الله في هذا العهد إلى الاهتداء بهدي محمد صلى الله عليه وسلم على صراط الله الذي استقام عليه السلف الصالح وهي كثيرة. وقد بين المؤلف رحمه الله تعالى رأيه وفهمه في بعضها دون بعض، وما كان لمن يعنى بكثرة النقل، وعرض وجوه الاختلاف في العلم أن يمحص المسائل كلها فيه، ويكون له حكم الترجيح بينها، على أن رأي كل مؤلف في مسائل الخلاف ينتظم في سلك سائر الآراء، والواجب على المطلع عليه من أهل العلم أن ينظر في دليله كدلائل غيره، ويعتمد ما يظهر له رجحانه كما فعل المؤلف في بحث الجلال الدواني في الحديث الضعيف وأبدى رأيه في الاختلاف فيه إذ قال: (35) بحث الدواني في الضعيف: (قال المحقق الجلال الدواني في رسالته أنموذج العلوم: اتفقوا على أن الحديث الضعيف لا تثبت به الأحكام الشرعية، ثم ذكروا أنه يجوز بل يستحب العمل بالأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال، وممن صرح به النووي في كتبه، لا سيما كتاب الأذكار، وفيه إشكال؛ لأن جواز العمل واستحبابه كلاهما من الأحكام الشرعية الخمسة، فإذا استحب العمل بمقتضى الحديث الضعيف كان ثبوته بالحديث الضعيف، وذلك ينافي ما تقرر من عدم ثبوت الأحكام بالأحاديث الضعيفة) . ثم نقل عن الدواني أن بعضهم حاول التفصي من هذا الإشكال، وتصحيح كلام النووي بما أورده وناقش فيه، ثم نقل عن الشهاب الخفاجي مناقشته للدواني في المسألة من شرحه للشفاء، ورد عليه ردًّا شديدًا فوق المعهود من لين الأستاذ القاسمي بأن حكم على كل مناقشات الخفاجي بأنها عادة استحكمت في مصنفاته لا يحظى واقف عليها بطائل، وأنه سود وجه القرطاس هنا، وأن كلام الجلال لا غبار عليه، وأن مؤاخذته بمطلق الفضائل افتراء أو مشاغبة، وختم الرد بقوله: (فتأمل لعلك تجد القوس في يد الجلال، كما رآها الجمال) . اهـ. وأقول: نعم إنها قد تحلت وتجلت بحلة الجلال والجمال، ولو أن الثاني حوَّل نظره عن كتب هذه الطبقة الوسطى من العلماء المستدلين كالدواني والنووي والمناقشة العلمية فيها، إلى كتب المناقب والفضائل لجامعي كل ما روي من المحدثين، وكتب الأوراد والتصوف التي لفقها مَنْ دونهم من المؤلفين، لوجد فيها من الغلو في الإطراء المنهي عنه والتشريع الذي لم يأذن به الله، ومن الاحتجاج بأقوال الصوفية ومقلدة الفقهاء وعباداتهم المبتدعة، ما فيه جناية على عقائد الإسلام القطعية، ومخالفة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة، ولوجدهم يحتجون عليها بقول من قالوا: إنه يجوز الأخذ والعمل بالأحاديث الضعيفة، وهم لا يميزون بين الضعاف التي ألحقوها بالحسن، والمنكرة الواهية التي لم يقل بالأخذ بها أحد، والتي نقل لنا القاسمي عن الإمام مسلم في مقدمة صحيحه وعن غيره من الإنكار عليها ما نقل، ولعقد لهذا البحث فصلاً خاصًّا به. الموضوعات والأحاديث غير المُخَرَّجَة: عقد المؤلف المقصد 48 من الباب الرابع للكلام على الحديث الموضوع بعد أن تكلم على الحديث الضعيف بما نقلنا لبعضه عنه آنفًا، وأورد في هذا المقصد 14 مسألة، الخامسة منها فتوى الشيخ أحمد بن حجر الفقيه الشافعي في خطيب لا يبين مخرِّجي الأحاديث نقلها من كتابه (الفتاوى الحديثية) ملخصة، فلم يذكر فيها اعتماده على ما نقله عن الحافظ ابن حجر في منع ولي الأمر لهذا الخطيب من الخطبة إذا لم يكن مُحَدِّثًا يروي الحديث بنفسه، فعلم بهذا أن ما اشترطه على نفسه من التزام نقل الأقوال بحروفها أغلب لا مطرد، ثم قال: (36) ما جاء في نهج البلاغة من وجوه اختلاف الخبر وأحاديث البدع: (سئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عما في أيدي الناس من أحاديث البدع واختلاف الخبر، فقال: (إن في أيدي الناس حق

كتاب الإمام ورأيه في تفسير المنار

الكاتب: يحيى بن محمد حميد الدين

_ كتاب الإمام ورأيه في تفسير المنار وفي مؤلفات صاحبه عامة وكتاب المنار والأزهر خاصة بسم الله الرحمن الرحيم (من أمير المؤمنين، المتوكل على الله رب العالمين، يحيى بن محمد حميد الدين) حضرة العلامة الهمام، والأستاذ الفاضل عز الإسلام، السيد محمد رشيد رضا الحسيني، مد الله عمره في طاعته، وأدام حميد سعيه وإفادته، وشريف السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تناولنا كتابكم المؤرخ 11 رمضان الكريم، وقد وصل ما أرسلتموه من أجزاء تفسيركم الكبير، وذلك أحد عشر جزءًا وشكرنا اهتمامكم بإرسالها، وهو تفسير حري بكل اعتبار وتقدير، وما نظرنا مؤلفاتكم إلا بعين الإكبار والاستحسان، لما تحويه من جليل المقاصد، وجزيل الفوائد، وتشبعها بروح الإنصاف، وصبها في قالب ذلك النفس النفيس المعبر عن المقصود بغير تكلف، والقيام من نصرة الإسلام بما يشفي العليل بلا تكلف ولا تعسف، ووصل أيضًا (المنار والأزهر) وساءنا بلوغ الأمر إلى تلك العبارات في وقت يجب أن نكون فيه جنبًا إلى جنب لنصرة الإسلام، فتداركوا الأمر بكل ممكن من الحكمة عافاكم الله تعالى. وإنا نحثكم على إكمال التفسير المبارك، فإكماله ينبغي أن يكون من أجل ما يتوجه إليه اهتمامكم وعنايتكم، والمثوبة على ذلك من الله جزيلة، ومنفعة المسلمين به جليلة، ونسأل الله تيسير ما أشرتم إليه من أسباب الكمال في إدارة البريد وسواها، وقد أمرنا الولد عبد الله الوزير - عافاه الله - بإيصال مائة جنيه بواسطة بعض المصارف بعد الوقوف على إمكان وصولها بهذه الطريقة، ولعل هذه السطور لا تصل إليكم إلا بعد وصولها. وتفضلوا بإرسال أحسن المصنفات في الرد على شبه النصارى الحديثة التي ينسبونها إلى الإسلام، والدعاء مستمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... وحرر في 2 شوال سنة 1353 جواب المنار العام بعد جواب صاحبه الخاص هذا نص كتاب جلالة الإمام، أيد الله بعلمه وحكمه العرب والإسلام، فأما مجموعة تفسير المنار فقد أُرسلت إلى مقامه العالي بأمره، وكان قد وصل إليه بعضها متفرقًا، وسنقر عين مقام الإمامة بزيادة العناية بإكمال التفسير المطول، وبما شرعنا فيه من كتابة التفسير المختصر المفيد. وأما كتاب (المنار والأزهر) فقد أرسلناه معها؛ لأنه صدر في وقت شحنها وما ساء مولانا الإمام من بلوغ الأمر في مسألة شيخ الأزهر إلى الحد الذي أشار إليه، جدير بأن يسوء كل مسلم فكيف بمثله في مقام إمامة العلم والحكم والغيرة على الإسلام ومصالحه، وقد بذل هذا العبد الضعيف كل وسعه في تدارك الخطب قبل تفاقمه، وعجز مثله عن درء مفاسده، بتكرار النصيحة للأستاذ الأكبر الشيخ محمد الظواهري، امتثالاً للأمر النبوي المطاع (الدين النصيحة ... ) إلخ، وبمواتاة العلامة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية في سعيه الحميد إلى الصلح، فحال اختلاف الظواهر والبواطن من الشيخ دون نجاح السعي. ثم أرجأت إصدار (كتاب المنار والأزهر) أكثر من سنة ونصف لعله يتذكر أو يخشى، ويكفينا أمره بما هو أليق بمنصبه وأولى، فكان ما جناه عليه اجتهاده أن أسخط جماعة الأزهر والمعاهد الدينية كافة من سيرته، وصار علماؤهم وطلابهم كلهم إلبًا عليه، يشكون منه ويهتفون بإسقاطه في أزهرهم ومعاهدهم، يطعنون عليه في الجرائد والمساجد والشوارع، وتظاهرهم عليه سائر طبقات الأمة خاصيها وعاميها حتى أعيان الحكومة تدارك أمره معهم، وكان المخرج له من ذلك استقالته من رياسته عليهم؛ ولكنه ما زال يرجح جميع ضروب الإهانة، على ما هو دونها من ذل الاستقالة، ولو كان أمرعزله منوطًا بالحكومة وحدها لعزلته، وأراحت نفسها والأمة منه، فرئيسها ووزير الأوقاف فيها أعلم الناس بمساويه، ولا سيما الرسمي منها، وقد أظهر التحقيق عليه بعض ما يجهله الجمهور منها، وقد كانت نازلته من النوازل المحلية، فصارت من الفتن العامة الإسلامية، فنسأل الله عز وجل أن يقي العلماء وسائر المسلمين شرها، ويجزي من تولى كبرها بقدرته القاهرة، وحكمته البالغة في الظالمين، ورحمته الخاصة بالمتقين المحسنين، آمين.

أسئلة من بيروت بعد مقدمة في الإصلاح

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من بيروت بعد مقدمة في الإصلاح بسم الله بالرحمن الرحيم صاحب الفضل والفضيلة المرشد العظيم الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله تعالى، وبعد فقد هدانا الله لاقتناء تفسيركم الجليل، ومناركم الأغر على رغم من يخوفنا من التقرب إليكم أو مطالعة كتبكم أعداء الدين، علماء السوء بدون أن يستطيعوا أن يبرهنوا بدليل معقول على مبدئهم السيء. نعم أصبحنا ولله الحمد نطالع كتبكم التي ينطق لسان حالها بما أمر الله به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (يوسف: 108) فنجد فيها كنزًا لا يفنى فنزداد بها حبًّا، وندعو من نحبه لاقتنائها. قد عودتمونا أن لا نسير في الظلمات أو مكبين على وجوهنا، وأن ننبذ التقليد ونجيل النظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه دعوة سامية تهواها الفطرة، ويقدسها العقل، فأصبحنا ولله الحمد بترك التقليد أحرارًا غير عبيد للعبيد؛ إنما قد اعترانا بعض الصعوبات لتطبيق فكرتكم السامية تطبيقًا كاملاً شأن كل حديث، فالتجأنا إليكم لتهدونا إلى أقوم السبيل، وما كنا بشاغلي فضيلتكم بالإجابة على سؤالنا لو وجدنا في كتب التفسير أو في أجزاء المنار الأخيرة بغيتنا بكاملها. فهذه أسئلة كلها بقصد التعلم والاستفادة، فتكرموا بالإجابة عليها في مناركم الأغر؛ لتكون الفائدة أعم، إذ نرى أن من الصعب أخذ الأحكام من الكتاب والسنة لمن لا يتمكن من الانقطاع للتفقه، خصوصًا وقد اختلف في كثير منها كبار العلماء والأئمة المجتهدون رضي الله عنهم رغم انقطاعهم للعلم، ولم يكن اختلافهم في الفروع المستنبطة من أحاديث غير متواترة فحسب، بل في الأركان وأعمال أجريت من قِبَل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ألوف المرات، فكيف بنا اليوم ونحن مضطرون للسعي لمعيشة عيالنا، وتضحية أعظم أوقاتنا بذلك نظرًا للضائقة المعلومة، أليس من الضروري أن نحيط بعلم الحديث بكامله؟ نعم إن آيات الأحكام في القرآن الكريم لا تتجاوز المائة وخمسين كما يقال؛ ولكنها غير مفصلة ولا يمكن الاكتفاء بها دون السنة والحديث يا سيدي العلامة؟ أما إذا أردنا أن نتبع ما قاله الإمام الشوكاني رحمه الله من سؤال العامي للعالم عن المسألة ودليلها، فيصبح المتعلم عاميًّا لعدم استطاعته تخصيص عمره لاستنباط ذلك من القرآن والسنة، ومن جهة ثانية قلما نجد عالمًا يهدينا إلى الدليل ولو طلبنا إليه ذلك، وأكثر ما هنالك يقول كما في الكتاب الفلاني أو حاشيته، فاهدونا هدانا الله وإياكم إلى طريقة نسير بها على نور ونطمئن بها في ديننا. وكذلك نرجو من حضرة الأستاذ أن يجيبنا على ما يلي: 1- ما هو خير كتاب يجمع آيات الأحكام وأحاديث الأحكام. 2- هل يوجد دليل شرعي للمقلد ينجيه يوم الحساب باتباعه من قلده اتباعًا أعمى؟ وما أقوى دليل للمقلدين غير {وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} (النساء: 59) لأنه لا حجة لهم بها؟ فإذا كان الجواب سلبيًّا فكيف سكت عن هذا علماء كثيرون ممن ينتمي للمذاهب، والذين ألفوا كتبًا عظيمة حصروها في مذهبهم فقط؟ 3- رجل عنده دراهم لا يشتغل بها، ويحب أن يفيد الفقير البائس خصوصًا في مثل هذا الوقت الضيق بأكثر من حصة الزكاة دون أن ينقص ماله ويعرض نفسه للحاجة، فهل إذا وضع تلك الدراهم في مصرف وأخذ عنها ربا وأعطاه لهذا الفقير يثاب على ذلك؟ أو أن هذا الأمر الذي لا ينبذه العقل يتبع قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، ويعد من المفاسد! 4- ذكرتم في تفسيركم الجليل أن إبليس من الملائكة، ولا يخفى أن الله تعالى سمى الملائكة رسلاً، والرسل معصومون من الخطأ، فكيف نوفق بين تسميته مَلَكًا وعصمة الملائكة؟ وختامًا نسأل الله تعالى أن يقويكم لإتمام التفسير ولو بصورة موجزة، وكذلك كتاب أحكام الربا الذي تفضلتم ووعدتم فيه، ويديم نفعكم للمسلمين، ويمد لنا في عمركم ودمتم خير مرشد. ... ... ... ... ... ... ... ... تلميذكم عزت المرادي جواب المسائل البيروتية 27 - 30 وكلمة في مقدمتها (1) قولك في الذين يخوفونك من كتبنا، ولا سيما تفسيرنا أذكرك في دفعه بأنه لا يوجد فيهم أحد يصح أن يسمى عالمًا من علماء التقليد فضلاً عن علماء الاستقلال، وإن كان دون إمامة الاجتهاد، وإنما هم أحد فريقين معمم جامد حاسد، أو عامي مقلد لحاسد، ممن لا يميز بين الحق والباطل، ويقل في كل منهما من اطلع على المنار أو تفسيره، أو علم بما لهما من المكانة عند أكبر علماء الأقطار الإسلامية وأولها مصر فأكبر علمائها على الإطلاق يفضلون تفسير المنار على تفاسير المتقدمين والمتأخرين في الهداية، وحاجة العصر إليه وغير ذلك كالعلامة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر الأشهر، والعلامة الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية وغيرهما، ولا نعلم أنه يوجد عالم رسمي في مصر يصد عن سبيل الله التي يبينها المنار وتفسيره إلا شيخ السوء الذي خذله الله خذلانًا لم يسبق له في العالم الإسلامي نظير، حتى أجمع أهل العلم وطلابه على إهانته وإسقاطه في الأزهر وسائر معاهد العلم، وعدم الثقة بعلمه ولا بدينه ووافقهم جمهور الأمة، ولم يتبعه في ضلاله وإضلاله إلا شيخ واحد أعمى البصيرة والبصر، وحسبكم (كتاب المنار والأزهر) مبينًا لهذه الحقائق، وحسبكم من وصف هذا الأعمى افتراؤه الكذب الصريح على من يحسده ويذمه، وتفضيله كتب مقلدة المقلدين من الدرجة الخامسة على نصوص من الكتاب والسنة، وعلى كتب قدماء الأئمة، ولا سيما حفاظ الحديث منهم، ونصره للبدع على السنة، وأفظع من كل ذلك تكفيره لمن يؤمن بظاهر نصوص القرآن في صفات الله تعالى، كالسلف الصالح بدون تأويلات بعض خلف المتكلمين لها، ونحمد الله تعالى أن كفانا شر هؤلاء الحاسدين الجامدين، وجعل لنا حظًّا من الوراثة المحمدية في قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ} (الحجر: 95) ، وكان آخر نصر لنا عليهم ظهور كتابنا (الوحي المحمدي) وما كان له من التأثير والتفضيل في العالم الإسلامي حتى أنه طُبع في العام الماضي الذي ظهر فيه مرتين، وهو يُطْبَع الآن الطبعة الثالثة قبل انتهاء السنة الثانية. (2) إن ما ندعوكم إليه من هداية الكتاب والسنة واجتناب التقليد المذموم بالنصوص لا يستلزم الاطلاع على جميع كتب الأحاديث ولا على أكثرها، ولا القدرة على استنباط الأحكام منها ومن القرآن، ولا على ترجيح بعض أقوال المجتهدين على بعض، فأهم أحكام الدين الواجبة على كل مسلم هي المجمع عليها التي لا اجتهاد لأحد فيها، وهي قسمان أعلاهما المعلوم من الدين بالضرورة الذي يعد جاحده كافرًا كفر خروج من الملة، ولا يعذر المسلم بجهله إلا إذا كان حديث عهد بالإسلام، أو نشأ في شاهق جبل لم يعاشر المسلمين كما قال علماء العقائد والفقه جميعًا، والقسم الآخر يعذر بجهله العوام، وقد فصلنا ذلك مرارًا في المنار وفي تفسيره. وما زاد على الأحكام المجمع عليها وهو الأحكام الخلافية الاجتهادية، فأمرها أهون؛ لأن جهلها لا ينافي الإسلام، والعلم بالمنصوص منها أسهل، وأخذه من كتب أهل الحديث أقرب من أخذه من كتب فقهاء التقليد، وسنذكر لكم أهم كتبها. وأهم من هذه الأحكام الفقهية الاجتهادية هداية الكتاب والسنة في العلم بالله وتوحيده وأصول الإيمان وشعبه وثمراتها من التقوى والتوكل والجهاد بالمال والنفس في سبيل الله وإعلاء كلمته، وإعزاز دينه، ولا تجد في كتب الفقه من هذا شيئًا، وكتب التصوف ممزوجة بالبدع والخرافات إلا قليلاً منها، فهذا أهم ما ندعوكم إليه، وكل سورة من سور القرآن حتى القصيرة تعطي متدبرها من هذه الهداية ما لا تغني غناءه الكتب الطويلة من دونها كما رأيتم في تفسيرنا للفاتحة وخواتيم سور القرآن، ويمتاز تفسير المنار على جميع التفاسير بأنه مؤلف لأجل هذه الهداية من أقرب طرقها إلى الفطرة والعقل وصحيح النقل، وقد شرعنا (في التفسير المختصر المفيد) الذي يسهل على كل قارئ فهم القرآن والاهتداء به، فنسأل الله تعالى توفيقنا لإتمامه، ونرجو من جميع إخواننا الدعاء لنا بذلك، وكتاب واحد من كتب الصحيح أو السنن يكفي في هذه الهداية، وخيرها صحيح مسلم؛ لأنه أسهل عن صحيح البخاري وأحسن جمعًا وإفادة، وإن كان للبخاري مزايا أخرى. (3) إن ما ذكرتموه عن القاضي الشوكاني من سؤال العامي للعالم عن المسألة التي يجهلها، وعن دليلها قد قاله غيره من دعاة الاتباع، النهاة عن الابتداع، وهو يقابل ما يقوله المقلدون من وجوب سؤال علماء المذهب الذي ينتمي إليه والأخذ بما يقولونه له بغير دليل؛ فإنه بزعمهم ليس أهلاً لفهم الدليل، وهو زعم باطل بالبداهة؛ فإن العامي يكتفي من الدليل بالإجمالي، حتى قول العالم: إن في مسألته حديثًا صحيحًا صريحًا، أو ليس فيها نص، فيعمل فيها بأصل البراءة، وبحديث (وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها) وقد فصلنا هذه المسائل من قبل في مواضع من المنار، وفي تفسير قوله تعالى: {لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (المائدة: 101) من سورة المائدة وقد جمعنا ما كتبناه فيها مع غيره في كتاب (يسر الإسلام) ومنه يُعْلَم خلاف ما استشكله السائل هنا؛ ولكن المشكل الذي يعسر حله قلة علماء الكتاب والسنة، واعتماد أكثر مدعي العلم على كتب المتأخرين، وأكثر ما فيها آراء لمؤلفيها لا يعرف منها ما له أصل، وما ليس له أصل من الكتاب والسنة، فلا يشعر قارئها بأن له صلة بربه ولا يميز بينه وبين ما زيد عليها من الخرافات والجهالات والبدع. وأكبر شبهاتهم على إيثار هذه الكتب أن فهم الدين منها أسهل من فهمه من الكتاب والسنة، وهي شبهة باطلة؛ فإن بيان الله أفصح وأجلى من كل بيان، ويليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كلَّفه بيانه دون غيره. (4) أن أولي الأمر الذين أمر الله بطاعتهم بعد طاعته وطاعة رسوله؛ إنما يطاعون في الحكم بما شرعه من الأحكام، وجعل لهم حق الاجتهاد فيما لا نص فيها من القضايا والمصالح، ولم يجعل لأحد حقًّا في تشريع العقائد ولا العبادات ولا التحريم الديني، وهذه الكتب ممزوجة بما لا حق لأصحابها فيه من التشريع، ومن شرع في الدين فقد جعل نفسه شريكًا لله كما قال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) . أجوبة الأسئلة (27) خير الكتب في أحكام القرآن وأحاديث الأحكام: لا يعلم خير الكتب في هذا ولا غيره إلا من أحاط بها علمًا وفهمًا، وحسب السائل أن يعرف الموجود المطبوع منها، وأشهر تفاسير أحكام القرآن المطبوعة تفسير أبي بكر أحمد بن علي الجصاص من كبار الحنفية والقاضي أبي بكر بن العربي من كبار المالكية، وأشهر كتب أحاديث الأحكام (منتقى الأخبار) وشرحه (نيل الأوطار) للقاضي الشوكاني من علماء الحديث، وهو مطبوع ومعروف للسائل، وكتاب (نيل المرام) للحافظ أحمد بن حجر العسقلاني، وهو أخصر من (منتقى الأخبار) وليس فيه من الضعاف مثل ما في المنتقى، وله شروح أشهرها (سبل السلام) للعلامة المجتهد محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني وهو مطبوع أيضًا، وخير منهما كتاب ال

خطبة الإمام الملك ابن السعود الموسمية في وفود الحاج سنة 1353

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطبة الإمام الملك ابن السعود الموسمية في وفود الحاج سنة 1353 (مقدمة) جرت عادة الإمام عبد العزيز الفيصل بن السعود منذ ولاه الله أمر الحجاز وأمنه أن يأدب لخواص وفود الحاج من جميع شعوب المسلمين مأدبة عظيمة، تكون خير وسيلة لجمعهم في مكان واحد وتعارفهم وتآلفهم - ومن ذا الذي يستطيع جمعهم هذا غير ولي أمر البلاد؟ - وأن يلقي عليهم في هذا الجمع الحافل خطابًا جامعًا يُذَكِّرهم بما مَنَّ الله به عليهم من إكمال دينه لهم، وإتمام نعمته عليهم الذي أعلنه لهم في حجة الوداع رسوله محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه رحمة لجميع العالمين، ويلم في هذا الخطاب بحالهم العامة، وما يجب عليهم من شكر هذه النعمة، بإحياء ما أماتته البدع من هذه الهداية، ويذكر لهم خطته هو في الدعوة إلى التوحيد والوحدة الإسلامية، وجمع كلمة المسلمين، ويسمح لكل من شاء منهم أن يتكلم ويبدي رأيه في قوله وعمله، وغير ذلك مما يرى في المصلحة العامة، وإن هذه لسنة من أفضل السنن التي جرى عليها الخلفاء الراشدون، واهتدى بها السلف الصالحون، ثم أماتها الملوك المستبدون حتى جهلها الخلف الطالحون. وقد أقام جلالته مأدبة هذا الموسم في يوم الإثنين سادس ذي الحجة الحرام (سنة 1353) وبلغ عدد من لبوا دعوته إليها خمسمائة ونيف من خواص مشارق البلاد ومغاربها، نقلوا كلهم إلى القصر الملكي بالسيارات الخاصة، وكانت الموائد التي نصبت لهم ثلاثًا، رأس جلالته أحدها، وسمو ولي عهده الأمير سعود الثانية، وسمو نجله ونائبه في الحجاز الأمير فيصل الثالثة، وبعد فراغهم منها صعدوا إلى الطبقة العليا من القصر حيث ألقى عليهم جلالته خطابه الحكيم، وتلاه من تلاه من الخطباء، مشيدين بالحمد لله ثم الثناء عليه، وإقرار ما فيه من دعوة الحق إلى الإصلاح، فنحن ننقل ذلك عن جريدة أم القرى الغراء: * * * نص خطبة الإمام الملك قال جلالته بعد أن حمد الله وشكره على نعمائه: إننا في غنى عن التنويه بعظمة هذا اليوم؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل اجتماع المسلمين فيه لأداء فريضة الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام من جهة، وللتعارف والتآلف من جهة ثانية، وقد هدانا الله جل شأنه إلى الصراط السوي في معاش الدنيا و (حياة) الآخرة، فقال في كتابه العزيز: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: 103) ، فالاعتصام بحبل الله واجب على كل فرد من أفراد المسلمين؛ لأن العز كله والخير كله بذلك، فإذا نحن حدنا عن هذا السبيل خسرنا الدنيا والآخرة. والحقيقة أن حبل الله عز وجل هو كلمة لا إله إلا الله، إذ لا معبود سواه فهو الأول والآخر، وعبادته باتباع ملة إبراهيم قال تعالى في كتابه العزيز: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} (النساء: 125) [1] فمن واجب كل إنسان أن يعمل بما أمر الله به، وأن يطيع مولاه صاحب النعمة عليه، ولا يكون ذلك إلا بالعمل بما في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد أرسل الله الرسل لهداية الأمم والشعوب، وإنقاذهم من الضلالة، وكانت هداية نبينا عليه الصلاة والسلام أن أرسله الله جل شأنه في أحسن القرون، وأن بعثه إلى جميع الأمم، وقد أزال الله ببعث النبي الكريم الشبهة والضلال، فكانت بركة الله، ثم بركة رسوله علينا عظيمة لا تعد ولا تحصى. وقد أمرنا الله تعالى على لسان نبيه بأمور عظيمة الشأن، لو عملنا بها لكان حالنا اليوم غير ما نرى، لقد جعل أركان الدين الحنيف خمسة، وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، فالله سبحانه وتعالى يأمر بالعمل بها مع الإخلاص النقي، والنية الحسنة، فإذا صدعنا بأوامره جل شأنه غفر ذنوبنا وأولانا نعماءه. فإذا فهمنا ذلك وعلمنا أن الخير بحذافيره بما أمرنا الله وجبت علينا طاعته، وطاعته - كما قلت - هي الاعتصام بحبل الله، وذلك باجتماع المسلمين وتعاضدهم وتكاتفهم بأن يكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضًا؛ ولكننا أضعنا أوقاتنا في شقشقة اللسان بدون فائدة، لقد تراشقنا بالكلام فتنابذنا، فكانت هذه الفرقة، وهذا الهوان، ولو تركنا هذه الأمور التي لا طائل تحتها لكانت رحمة ربي علينا عظيمة. يجب أن نعبد الله ونطيعه كي يوفقنا، فعلى كل إنسان أن يحاسب نفسه، فيجتنب المعاصي والمنكرات، ويتبع أوامر الله عز وجل. هنالك أحزاب تتطاحن، على أي شيء؟ لا أدري؟ لقد أدخل الشيطان وساوسه في عقولنا، فتركنا حبل الله المتين، فتفرقنا أيدي سبًّا. أما نحن فتعرفون يا إخواني سيرتنا، ليس لنا من المقاصد والغايات إلا أن تكون كلمة الله هي العليا، نحن سرنا في الجادة ولم يكن عندنا مال ولا رجال، نحن أهل بادية، وإن ما ترونه اليوم لم يكن إلا من بركة الله تعالى، نحن نعاهد الله سبحانه وتعالى على السير في هذا الطريق مهما وجدنا فيه من العقبات، نعاهد الله ونقسم أمامكم على ذلك، وإننا لن نتنكب عن الطريق السوي مهما تحملنا من المتاعب والمشاق. إن الذي يجمع شملنا ويوحد بيننا هو أمر صغير في ذاته؛ ولكنه كبير وعظيم، هو الالتفاف حول كلمة التوحيد، والعمل بما أمر الله به ورسوله. إن أحب الأمور إلينا أن يجمع الله كلمة المسلمين، فيؤلف بين قلوبهم، ثم بعد ذلك أن يجمع كلمة العرب فيوحد غاياتهم ومقاصدهم؛ ليسيروا في طريق واحد يوردهم موارد الخير، وإذا نحن أردنا ذلك فلسنا نروم إتمامه في ساعة واحدة؛ لأن ذلك يكون مطلبًا مستحيلاً، كما أننا لا نرمي من وراء ذلك إلى التحكم بالناس؛ وإنما غايتنا أنه إذا لم يكن لنا من وراء هذا التضامن خير، فلا يكون لنا من ورائه شر على الأقل. كلكم يذكر حوادث العام الماضي، وهذا السيد عبد الله بن الوزير وهذا السيد الحسن الإدريسي، الجالسان الآن بجانبي، ما كنا نظن أن يكون بيننا وبينهم عداوة وبغضاء؛ ولكن الأشرار فرقوا بيننا، والله عز وجل قد جعل بعد هذا التباغض ألفة بيننا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) لقد خشى المسلمون من عاقبة هذا التنابذ الذي حصل بيننا؛ ولكنه أفضى إلى خير جم طرب له المسلمون، جاء ابن الوزير إلى هنا، وحدثني في هذا المكان الجالس فيه الآن بشأن الخلاف، فقلت له ماذا تبغون؟ إذا أنتم قتلتموني من يخسر؟ أنا وحدي، وإذا أنا قتلتكم من يخسر؟ أنتم وحدكم، لا، لا الخسارة علينا وعليكم على حد سواء، ولما عرفت أننا وإياهم متفقون على أن نتائج هذه الفرقة الخسران، وأن هذا الخسران واقع علينا جميعًا، أمرت بالقرطاس والقلم وجلست أنا وإياه وحدنا، ووضعنا مواد المعاهدة التي اطلعتم عليها، والتي قابلها المسلمون بالارتياح، فإلى مثل هذا التضامن أدعو المسلمين إليه والعمل به. أكثر الناس يقولون إن الأغيار هم الذين ضربونا بالصميم، ففرقوا بيننا هذا كلام، ماذا عمل الأغيار؟ الحق أن الضرر والخسران لم يأت إلا من أنفسنا، فنحن المسؤولون عن ذلك، نحن نسعى للتفرقة، ونحن نعمل للبغضاء، أذكر لكم مثلاً بسيطًا يعرفه كل واحد منكم: أن صحفنا وجرائدنا إذا تكلمت عن مسلم أو عربي تكلمت عنه بشدة وقسوة، وبلاذع القول؛ ولكنها إذا تكلمت عن غربي تكلمت بآداب واحترام فلماذا؟ يا إخوان وجب علينا أن نحترم أنفسنا ونتكاتف ونتعاضد، فإذا نحن سرنا على هذه الطريق وفقنا الله سبحانه وتعالى، واحترمنا العدو قبل الصديق يجب أن نداوي أنفسنا بطاعة الله سبحانه وتعالى، فطاعته مصدر كل عز وخير لنا. هذا ما عَنَّ لي ذكره، والله أسأل أن يوفقنا وإياكم لصالح الأعمال اهـ. (المنار) هذه الخطبة تدعو إلى توحيد الملة في العقيدة والاتباع، واجتناب الابتداع، وتوحيد الأمة بجمع كلمة شعوبها وقبائلها، واجتناب الشقاق والتفرق بينها، وضرب له خير مثل باتفاقه مع اليمانيين، الذي حمده وسر به جميع المسلمين، وأعجب به غير المسلمين من الغربيين والشرقيين، كما ابتهجت الأمة العربية بما صرح به في هذا الموسم لكشافة العراق وغيرهم من بذل جهده لجمع كلمة الأمة العربية وسنبينه بعد. * * * خطبة الأستاذ التفتازاني ثم قام الأستاذ الفاضل السيد محمد الغنيمي التفتازاني فألقى خطبة رنانة كان لها تأثير عظيم وهذا نصها. يا رجل العرب: لقد شاء الله ولا راد لمشيئته أن تكون رجل الساعة، وأن نصبح نحن الذين كنا بالأمس من ألد أعدائك وخصومك في مقدمة من يناصرونك عن حب وإجلال وإكبار. ولم يكن ذلك غلوًّا، أو وليد شهوة مستعرة، أو إربة عاجلة؛ ولكن مجلسك الذي تجلسه الآن تستطيع أن تُقَدِّر من مظهره مبلغ فضل الله عليك. أليس من أكبر دلائل فضل الله عليك أن يكون آل الإدريسي عن يمينك، ووزراء اليمن عن شمالك، والتفتازاني خطيب محفلك الآن، وقد كان هؤلاء جميعًا بالأمس سيوفًا عليك. شهد الله أنك أرضيت الله، وأعليت كلمة الله، وأحييت ما اندرس من شرعة الله، وأمنت السبيل إلى بيت الله، فلم يكن بد من أن يجزيك الله سبحانه وتعالى أحسن الجزاء، جزاء هذه المنن الخوالد. يا رجل العرب: منذ أربعة عشر قرنًا بعث الله من بين هذه الجبال الجرد، والهضبات المتواضعة رجلاً يحمل المشعل الأول، يخرج الناس على ضوئه من الظلمات إلى النور، وينزع من أعناقهم أطواق الرق التي أصارت منهم طبقات غير متلاصقة هي أشبه بالسوائم، حتى إذا ما أنقذ البشرية ضوء ذلك المشعل، كانت إثر ذلك النكبة الشاملة، إذا تعامى المسلمون عن ذلك النور فغشيتهم ظلمته فأنستهم الله فأنساهم أنفسهم، فهم الآن كمريض كله قروح، وكل قرحة داء مختلف، وكلما داويت جرحًا سال جرح. والآن وقد أراد الله أن يدوي صوت أخاذ لينفذ إلى أعماق القلوب من بدوي صقله الطبع المحض، وهذبته الغريزة البريئة، فهو في بلد محمد ليستعيد مجد دين محمد. وما كان موقفك الأخير من اليمن إلا موقف الأخوة الإسلامية والنبل العربي المحض، وقد قضيت على دس الدساسين وكيد المغرضين، واتبعت سياسة الباب المفتوح، فلا أغلق الله لك بابًا. يا جلالة الملك: إن الحجاز معبد يفد إليه المسلمون طواعية لذلك التحنان الذي يحسونه بين جوانحهم، وكان لزامًا أن يجدوا فيه أنسهم وراحتهم، وإنك ولله الحمد لتسمع من كل وافد مبلغ ما يحسه من غبطة واعتزاز إزاء هذا الأمن الشامل من مشارق الشام إلى أقاصي اليمن، ومن البحر الأحمر إلى الخليج الفارسي، فقد شهدت بعيني رأسي كيف تستطيع الفتاة العذراء أن تجتاز درب المدينة آمنة على ما تحمل من مال، بينما كانت تلك الدروب بالأمس مباءة إجرام ومصدر إذلال. يا رجل العرب: إن للمسلمين أمانة على كاهلك، لئن آدت بها الجبال، فلن يئود بها هذا الكاهل الذي استطاع أن يحمل التبعة جميعًا، هي أن تصافيهم، وأن تواصل الجهد في تأمين سبيلهم إلى حج بيت الله، وزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن العرب في أنحاء العالم ليحسون الاعتزاز بكل ما يرونه من مواقفك المجيدة في سبيل نصرتهم، والدفاع عن قضيتهم، فأنت منهم وإليهم. إن الإسلام هو جنسية شاملة لا يعرف شعوبية ولا إقليمية يستلزم بنيه أن يؤدوا حقوقه على أن يقوموا بواجباته أيضًا، وإنك لحامل العلم اليوم في سبيل نصرة العرب والإسلام حفظك الله، وآزرك بروح من عنده، ووفقك ورجال دولتك الذين عرفناهم، فعرفنا جنودًا يطيعون قائدهم عن حب و

الخطب الأكبر بانتهاك حرمات الله

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الخطب الأكبر بانتهاك حرمات الله في يوم الحج الأكبر بعد تلك الخطب الجامعة في محفل الحاج الأكبر في يوم العيد الأكبر الذي سماه الله يوم الحج الأكبر، في الشهر الحرام، في البلد الحرام في البيت الحرام، بين الركن والمقام، عند طواف ركن الإسلام، يظهر ثلاثة رجال بلباس الإحرام، من حجر إسماعيل عليه السلام، ويهجمون بخناجرهم اليمانية ليغمدوها في صدر رجل الإسلام، مقيم شعائر الإسلام، حافظ مشاعره العظام، كافل الأمن فيها لأهل الإيمان، من عدوان أمثالهم الخارجين عن شرع الله، أي رجل أرادوا أن يغتالوا قاتلهم الله؟ الإمام عبد العزيز الذي أعزه الله، وأعز به الإسلام، ابن عبد الرحمن الفيصل الذي رحم الله به جزيرة العرب وجعله فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، وبين السنة والبدعة، ابن السعود الذي أسعد الله به العرب وأعزهم، وأذل من يحاول إذلالهم، تصدى لهذه الجناية هؤلاء الثلاثة من المنتهكين لحرمات الله، المستحلين لأقدس ما حرمه الله، النابذين لكتاب الله، المستبيحين لأشرف ما حظره الله، المؤثرين لطاعة شيطانهم من الإنس والجن على طاعة الله، في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلاَ الهَدْيَ وَلاَ القَلائِدَ وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} (المائدة: 2) وناقضي عهده وسنته فيقوله ممتنًّا على خلقه {وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125) لا مغتالاً ومقتلاً، وناكثي وعده، واستجابة الدعاء لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في سورته وسورة البقرة بأن يجعل هذا البلد آمنًا، ومتعمدي عصيان رسوله خاتم النبيين؛ إذ قال في مثل هذا اليوم في منى من حجة الوداع مبلغًا لأمته، خطيبًا على ناقته (أي يوم هذا؟) قال الراوي: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: (أليس يوم النحر؟) قلنا: بلى، قال: (أي شهر هذا؟) فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، فقال: أليس بذي الحجة؟ قلنا: بلى، قال (فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد منكم الغائب؛ فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه) الحديث متفق عليه، رواه بهذا اللفظ البخاري في كتاب العلم. والأحاديث في حرمة مكة وأنه لا يجوز أن يقتل في أرض الحرم كله صيد، ولا ينفر حتى من ظل يستظل به، ولا يقطع شجره كله مشهور عند المسلمين، ومشهور أن المشركين كانوا في جاهليتهم يحترمون البيت الحرام والشهر الحرام، وأن الرجل كان يرى قاتل والده في الحرم، فلا يعرض له بأذى ما دام فيه، على ما تواتر عنهم من تقديس أخذ الثأر، والاستهانة بسفك الدماء. كان أولئك الثلاثة شرًّا من عبدة الأصنام فيما حاولوا من اغتيال إمام المسلمين، وحامي بيت ربهم، وسكانه والوافدين إليه من حجاجه وغيرهم، في أقدس مكان منه، في أقدس زمان منه، عند أداء أقدس نسك فيه، وهو طواف الإفاضة، فأي عدو لله ولرسوله ولدينه ولحرماته هم؟ هذا أمر إمر، وجرم نكر، هذه جناية لا أفظع ولا أكبر منها في الإسلام؛ إذ لا يمكن وقوع مثلها في غير هذا الزمان وهذا المكان وهذا العمل، وهذا الرجل، ألا وهو الإمام عبد العزيز ملك المملكة العربية الذي فعل في تأمين الحرمين الشريفين ما عجزت عن مثله دول الإسلام من بعد الخفاء الراشدين إلى عهده، حماه الله وأيده ونصره وخذل كل عدو لله وأذلهم. هذا شأن الجناية في نظر الدين، وحكم كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وأما شأنها في نظر السياسة العامة: إسلامية ودولية؛ فقد كان فيها من الخطر لو ظفر هؤلاء الأشرار الفجار الذين هموا بما لم ينالوا كما فعل أئمتهم من المنافقين في غزوة تبوك من الهم بتشريد راحلة النبي صلى الله عليه وسلم به لقتله صلوات الله وسلامه عليه، مما لا يسهل على أحد أن يحيط به، وأقربه من الفكر - كما قال وكتب كثير من الحجاج - أن يختل الأمن العام في ذلك اليوم العظيم، ويقع من المذابح في الحجاج ما تسفك فيها دماء الألوف منهم، وقد يقضي ذلك إلى اختلال الأمن في الحجاز، وتدخل دول أوربة فيه لحفظ رعاياهم. تبًّا لمغري هؤلاء الأغرار الفجار ومشتريهم لإحداث هذه الفتنة التي هي أعظم خطر على الإسلام والمسلمين في حرم الله ومشاعره وإقامة ركنه، فلعلهم لو نالوا ما أقدموا عليه لكان وراء ذلك من الخطر على استقلال الحجاز ووضعه تحت مراقبة دول الاستعمار ما لا يعقله هؤلاء الأشرار، ولا يبالي به فيما يظهر شيطانهم الجهول الختَّار، إذ لا يعقل أن يقدم هؤلاء العوام الأغمار على تعريض أنفسهم للهلاك في الدنيا والآخرة من تلقاء أنفسهم، وهاك ما صدر من بلاغ رسمي عنهم. * * * البلاغات الرسمية (رقم 24) نبدأ بحمد الله الذي أخزى أعداءه في كل موقف، وأفسد كل تدبير لهم، وآخر ذلك أنه عندما كان جلالة الملك المعظم يطوف طواف الإفاضة الساعة الواحدة عربية من صباح يوم الجمعة العاشر لشهر ذي الحجة، وبينما هو في الشوط الرابع عند الحجر الأسعد تقدم منه شخص معه خنجر، وهَمَّ بطعن جلالته، وكذلك كان اثنان آخران من الخلف يحملان الخناجر، فالتقط سمو الأمير سعود الرجل الأمامي ليرمي به بعيدًا، فعجل أحد رجال حرس جلالته الرجل برميه بالبندقية فقتلته، وهم أحد النفرين اللذين كانا في الوراء بطعن سمو الأمير سعود؛ ولكنه أصيب برصاصة من الحرس فقتلته، كذلك قُتِلَ الشخص الثالث، وثبت أن هوية الفاعلين من زيود اليمن، والتحقيق جارٍ لمعرفة أسباب الحادث، والدافعين له، ونحمد الله على أن جعل كيد أهل الكيد في نحورهم، وجلالة الملك وسمو ولي عهده أتما الطواف كأن الحادث لم يقع وهما - من فضل الله - بكل خير وعافية، ويستقبلان وفود المهنئين بالعيد السعيد كجاري العادة. ... ... ... ... ... ... ... 10 ذي الحجة سنة 1353 * * * (رقم 25) في الساعة الواحدة عربية من صباح يوم الجمعة الواقع في العاشر من ذي الحجة شرع حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم، وحضرة صاحب السمو الملكي ولي العهد، ورجال حاشيتهما وحرسهما الخاص، وثلة من الشرطة بقيادة مفوض شرطة الحرم في طواف الإفاضة، وكان الحرس والشرطة تواكب جلالة الملك وسمو ولي العهد من الأمام واليمين والخلف، وكان البيت على اليسار، ولا يفصل بينه وبين جلالته وسموه أحد من الحاشية والحرس، وبعد انتهاء الشوط الرابع التزم جلالة الملك الحجر الأسود، وتقدم في سيره إلى أن حاذى باب الكعبة، وإذا برجل يخرج من فجوة حجر إسماعيل الشامية منتضيًا خنجره، وهو يصيح بصوت مرتفع، وبكلام غير مفهوم تمامًا، فقابل لدى خروجه أفراد الشرطة الذين يسيرون في مقدمة الموكب الملكي، فمسك به أحدهم قاصدًا رده؛ ولكن المجرم عاجله بطعنة من خنجره، فوقع الشرطي الشجاع أحمد بن موسى العسيري على الأرض ودمه يقطر، فأمسك بالمجرم شرطي آخر مجدوع بن شبياب؛ ولكنه أصيب بطعنة من خنجر المجرم فمال إلى جانب رفيقه، وفي هذه اللحظة شوهد رفيق للمجرم الأول يتقدم من خلف الموكب والظاهر أنه خرج من الفجوة الأخرى لحجر إسماعيل، وجاء من جهة الركن اليماني إلى قرب الحجر الأسود، فاستعد رجال الحرس الملكي ببنادقهم إلا أن جلالة الملك أصدر أمره المطاع في تلك الساعة الرهيبة الحرجة بأن لا يستعمل الحرس البنادق والرصاص إلا حين الضرورة القصوى، فلما ثبت أن المجرم قد طعن شرطيين باسلين، وأن المجرم الثاني على وشك أن يصل إلى سمو ولي العهد تقدم عبد الله البرقاوي أحد الحارسين الشخصيين لجلالة الملك من المجرم الأول، وأطلق عليه بندقيته قبل أن يتمكن من ارتكاب جنايات أخرى، فخر صريعًا عند مدخل حجر إسماعيل، وأما المجرم الثاني؛ فإنه تقدم مشهرًا خنجره أيضًا، وكاد أن يطعن سمو ولي العهد طعنة نجلاء إلا أن خير الله الحارس الشخصي لسموه عاجله برمية من بندقيته فأردته قتيلاً في الوقت الذي لامس خنجره أسفل الكتف اليسرى لسمو الأمير سعود، فلم تحدث الطعنة سوى خدش بسيط ولله الحمد والمنة، وحينما رأى المجرم الثالث ما حل برفيقيه، وكان قد خرج على ما يظهر من حجر إسماعيل مع المجرم الثاني، واتجه من جهة الركن اليماني إلى جهة الحجر الأسود أطلق رجليه للريح قاصدًا النجاة بنفسه، فصرعه رصاص بنادق الشرطة والحرس الملكي، فسقط على الأرض وهو ينازع وظل على قيد الحياة ما يقرب من ساعة تمكن المحققون في أثنائها من معرفة اسمه وهو علي. ولم يمكن أن يعرف عن الجناة ساعة الحادثة شيء يدل على هويتهم، إلا أن ملابسهم وخناجرهم تدل على أنهم من الزيود اليمانيين، وتتراوح أعمارهم بين الخامسة والثلاثين والأربعين. وفي هذه الأثناء أخطر مدير الشرطة العام مهدي بك بالأمر في منى، فحضر على رأس قوة كافية من الشرطة، وشرع في إجراء التحريات والتحقيقات لمعرفة شخصية الجناة والتحقيق عن الأسباب الدافعة لهم على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء وسط بيت الله الحرام، وبقرب الكعبة الشريفة وفي ذلك اليوم المبارك. وقد حصل هياج شديد بين حجاج بيت الله الحرام، واشتدت نقمة الجند والشعب حينما عرف أن الجناة من أهل اليمن، وكاد أن يحصل ما لا تحمد عقباه لولا أن تدارك جلالة الملك الأمر بحكمته، وأصدر أمره الكريم المشدد إلى قواد جنده الموجودين في مكة، وإلى مدير الشرطة العام بالاهتمام بصيانة أرواح الحجاج اليمانيين من الاعتداء، واتخاذ كافة التدابير التي تقضي على كل من تحدثه نفسه بتخديش حرمة الحرم، وإقلاق حجاج بيته الحرام، وكان لهذه التدابير العاجلة أحسن الأثر في منع وقوع أي حادث من حوادث الاعتداء، فقضى الناس مناسكهم وأتموا حجهم بكل راحة وطمأنينة، ولله الحمد والمنة. وقد بث مدير الشرطة العام عيونه وأرصاده بين حجاج اليمن الذين ثبت أن الجناة منهم، فتوصل قبل كل شيء إلى معرفة أن ثلاثة من الزيود كانوا يقيمون بخلاف سائر رفاقهم الزيود مع الشوافع من الحجاج اليمانيين عند امرأة في جبل أبي قبيس، فلفت ذلك الأمر نظره، فحقق عنهم فوجد أنهم متغيبون عن منزلهم، ولم يعودوا إليه منذ يوم الوقفة، وأرسل على الفور قوة إلى المكان، وفتش الغرفة التي كانوا فيها، فعثر على ملابسهم وفيها جوازات باسم ثلاثة أشخاص هم: (1) النقيب علي بن خزام الحاضري مستخدم في الجيش اليماني المتوكلي، ونمرة جوازه (98) تاريخ 1 شوال 1353، وهو صادر من مأمور الجوازات بصنعاء ومصدق عليه من عامل صنعاء. (2) صالح بن علي الحاضري شقيق الأول جوازه رقم (34) بتاريخ شوال 1353، وحرفة المذكور مزارع، الجواز صادر من مأمور الجوازات، ومصدق عليه من عامل صنعاء. (3) مسعد بن علي سعد من حجر برقم 63 تاريخ 5 ذي القعدة 1353، والجواز صادر من أمير الحج اليماني السيد محمد غمضان، وصاحبه عسكري في الجيش اليماني المتوكلي، ولذا عرضت جثث القتلى على المرأة التي كانوا في دارها عرفت أحدهم صالحًا، وميزت ملابس الاثنين الآخرين نظرًا لتغير منظر الوجه في الاثنين المذكورين، وذكرت أن أخت مطوف الشوافع أسكنتهم عندها، ولدى التحقيق مع هذه صادقت على أقوال الأولى، وقد أجرى مدير الشرطة العام التحقيق من جهة أخرى مع شيخ اليمانيين بجدة، فاعترف بأنه أعطى ورقة التصريح

محاريب المساجد ومذابح الكنائس

الكاتب: عمر الجندي

_ محاريب المساجد ومذابح الكنائس اعلم أن المحراب يطلق في اللغة على معانٍ: الغرفة، وصدر البيت وأكرم مواضعه، ومقام الإمام من المسجد، والموضع ينفرد به الملك فيتباعد عن الناس، والأجمة وعنق الدابة (قاموس) ، والمذبح عند أهل الكتاب هو المحراب بالمعنى الأول، وهو مقصورة داخل حجرة إمام المعبد، تسمى تلك الحجرة الهيكل يُصْعَد إليها بسلم ذي درجات قليلة لا يدخلها إلا الكهنة، ومن يأذنون لهم من المذنبين الذين يطلبون المغفرة، وهذه المقصورة عبارة عن أربعة أعمدة لا يزيد ارتفاعها عن متر إلا قليلاً، وفوقها سقف تحته خلاء توضع فيه القرابين ودم المسيح في زعمهم، وبعض ماء المعمودية للصلاة عليها يوم العيد، ثم يخرجها الكاهن ويوزعها على من في المعبد تبركًا، وعليها ستارة فهي كالمقصورة التي توضع على قبور بعض أموات المسلمين بدون فرق، غير أن المذابح أقل منها طولاً، وأصغر منها حجمًا، وأما محراب مساجد المسلمين فهو علامة بمثل حص في وسط حائط المسجد غير مجوفة: أو تجويف في وسطه يبلغ ارتفاعه أزيد من مترين ليكون دليلاً على جهة القبلة لمن لم يعرفها كالبوصلة (بيت الإبرة) التي اتخذت لذلك، وليكون مبينًا لمقام الإمام من صف المأمومين؛ لأن السنة أن يقوم الإمام أمام وسط الصف، فهي مخالفة لمذابح أهل الكتاب شكلاً ووضعًا وصورة وغرضًا، كما يعلم من بيان كلٍّ، ومن رؤية المحاريب في المساجد والمذابح في الكنائس، فإني رأيت ثلاثة مذابح في الكنيسة المرقسية بالإسكندرية على الشكل والوضع اللذين بينتهما أولاً، وعرفت الغرض منها بواسطة أحد كهنة الكنيسة القس (فِلِبِّس) والمنهي عنه بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، المروي عن سالم بن أبي الجعد (اتقوا هذا المذابح) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى الجهني: (لا تزال هذه الأمة - أو أمتي - بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى) هو المذبح أي المحراب بالمعنى المخصوص، وهو المقصورة المخصوصة؛ لأنه الخاص بكنائسهم كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (إنما كانت للكنائس فلا تتشبهوا بها) لا مطلق محراب؛ لأن الغرض إبعاد المسلم عن التشبه بهم فيما هو من اختصاصهم دينيًّا أو دنيويًّا، ولذا أتى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما باسم إشارة المحسوس و (ال) العهدية، وأتى في حديث موسى الجهني بأداة التشبيه، وعبر فيهما بالمذابح ولم يعبر بالمحاريب. لا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ترك وضع هذه العلامة في المساجد مع قيام المقتضي، فتركها سنة وفعلها بدعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غرز خشبة في مسجد قوم أسامة الجهني بعد أن خطه لهم لتكون دليلاً على القبلة كما روى الطبراني في الأوسط عن جابر بن أسامة الجهني رضي الله عنهما فإنه قال في حديثه: (فأتيت وقد خط أي النبي صلى الله عليه وسلم لهم مسجدًا، وغرز في قبلته خشبة فأقامها قبلة) اهـ من المنهل المورود عن السيوطي في رسالة في هذا الموضوع، فدل ذلك على مشروعية وضع علامة للقبلة لإرشاد الضال، فهي من قبيل التعاون على البر ولا خصوصية للخشبة إلا بدليل. وعسى أن يكون هذا مستند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في وضع محراب، وعلامة ثابتة للقبلة في وسط حائط مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على شكل يخالف مذابح أهل الكتاب، وإن لم نقف على صورته مجوفًا أو غير مجوف والمشهور أنه لم يكن لمسجده صلى الله عليه وسلم محراب في زمنه. ولكن روى البيهقي في السنن الكبرى عن وائل بن حجر قال: (حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهض إلى المسجد فدخل المحراب ثم رفع يديه إلى التكبير ثم وضع يمينه على يساره على صدره) ، وهو يدل على أنه كان لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه محراب يدخله غير أنه كان مخالفًا لمذابح أهل الكتاب بدليل النهي عنها، ولا معنى لتأويل المحراب في حديث البيهقي بصدر المسجد وأشرف مكان فيه؛ لأن المناسب لصدر المسجد الوقوف فيه لا الدخول الذي هو نقيض الخروج، فلم يُحْدِث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه حدثًا في الإسلام، لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن السلف الصالح، ويبعد كل البعد أن يجهل عمر بن عبد العزيز وسلف الأمة مذابح أهل الكتاب وكنائسهم في الشام فلا ينبغي إذًا أن يجعل محراب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مثلها مع ورود النهي عن التشبه بهم، خصوصًا في شعائرهم الدينية، ثم يقره المسلمون على ذلك مع شدة حرصهم على اتباع السنة والإنكار على من خالفها، نسأل الله أن يوفقنا إلى اتباع السنة ويهدينا سواء السبيل. ... ... ... ... ... ... ... عمر الجندي بمعهد الإسكندرية

العبرة بسيرة الملك فيصل ـ 10

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ العبرة بسيرة الملك فيصل رحمه الله تعالى (10) كان آخر ما كتبته عن عملي مع الملك فيصل الخاص بالوحدة العربية أنني أطلعته على البرنامج الذي وضعته لها فقبله كله، وجزم بقبول إخوته الثلاثة له، وأن يكونوا إلبًا واحدًا على والدهم ليقبله، وأننا اتفقنا على عقد جلسات خاصة بيني وبينه للمباحثة في وسيلة تنفيذه، وأن نكتم ذلك عن كل أحد (قال جلالته) حتى إحسان بك الجابري أي رئيس أمنائه، على أن إحسان بك حلف لي يمين جمعية الجامعة العربية في اليوم التالي لهذا الاتفاق (أي 8 شوال سنة 1338 الموافق 6 يوليو (تموز) سنة 1920) فصار عندي أمينًا على كل عمل يعمل للأمة العربية؛ ولكن هذا لا يبيح لي أن أفشي له ما هو خاص بالملك فيصل إلا بإذنه. وأقول هنا: إن فيصلاً كان مخلصًا معي في السعي للوحدة العربية؛ لأنه أعقل من والده وإخوته الذين اختبرهم ابن السعود ويئس من إخلاصهم ومن صدقهم كما كتب لي في الملحق الذي كتبه بخطه ووضعه في كتابه، واطلع عليه فيصل كما تقدم، ففهم منه أنه لا يصدقه هو أيضًا، فعذره ولم يرجع عن رأيه في السعي معي للاتفاق معه قبل كل أحد. ثم عرض في هذا الشهر (يوليو) ما شغلنا عن عقد هذه الجلسات وهو تصدي فرنسة للعدوان على استقلال البلاد، وسلوك الملك فيصل ووزرائه مسلكًا غير مرضي للمؤتمر العام، ولا لحزب الاستقلال الذي هو حزبه المعلن للاستقلال، ولنصبه ملكًا للبلاد، وكان الشعب كله مع مؤتمره ومع الحزب والجمعية الوطنية، ولهذا تحول عن الملك فيصل حتى يصح أن يقال إنه لم يبق معه إلا أفراد من الموظفين الرسميين عنده، ومن المهتمين بالاتصال به لأجل المنافع الشخصية. وقد بينت من قبل أنه لم يكن لي حظ من المكث في الشام وراء سعيي للاتفاق معه على الوحدة العربية إلا إقناعه وإقناع حكومته بمشروع تنظيم قوى العشائر السورية والقبائل العربية السورية للدفاع الوطني، وإن هذا لم يتم لي. وقد كتبت في صفحة المفكرة الإجمالية لشهر يونيو (حزيران) أربع مسائل: (الأولى) منها هذا نصها: لم أر في بالشام عملاً إصلاحيًّا قط لا في الحكومة، ولا في الأهالي، فالحكومة ضعيفة يغلب على أفرادها ما طبعتهم عليه الإدارة التركية من المداراة والجري على ما تعودوا، والخضوع للملك، وإن كان كفيصل سهل القياد، ولو كان الوزراء على شيء من الابتكار وحب الإصلاح لعملوا عملاً عظيمًا، واستعانوا عليه بفيصل. والمسألة الثانية في وصف إرادة فيصل وإدارته، وحاله في حلمه وغضبه، وسيرته مع الأمة والحكومة والحزب والجمعية ومعيشته الخاصة ونفقاته بين نفوذ إحسان بك الجابري، وصفوت باشا العوا، وليس شرحها من مشرب المنار. والمسألة الثالثة في وزارة هاشم بك الأتاسي الذي وصفته بالطيب القلب الحيي، وذكرت مكانته عند الملك فيصل، وخصصت بالذكر من أعضاء وزارته الدكتور شهبندر ويوسف العظمة العضوين الجديدين الذين كنا اقترحنا إدخالهما في هذه الوزارة في جلساتنا الخاصة مع الملك فيصل لما نرجو فيهما من قوة الشباب التي يعتدل بها ضعف الشيوخ، وجملة ما قلته فيها: إن الآمال قد خابت فيها. والمسألة الرابعة في الأستاذ الشيخ كامل قصاب رئيس الجمعية الوطنية الذي كان في الشام أنشط عامل مستقل برأيه واثق بنفوذه، غير مبالٍ بمن يخالفه؛ ولكنه أشد من فيصل في هذا؟ ومما كتبته من المذكرات الخاصة باختلال بطانة الملك فيصل وظهارته في يوم السبت 10 يوليو ما نصه: سرقة دفتر يومية خزينة البلاط: علمت أن أمين صندوق البلاط الملكي (محمود الحلبي) سرق دفتر يومية البلاط، وأن فيه قيودًا لما كان يبذله لإعانة العصابات وأمثال ذلك من النفقات الجنونية، وأن صفوة باشا العوا ناظر الخزينة الخاصة أراد أن يحقق، وبدأ باستنطاق من هنالك ليلة الجمعة السابقة التي سرق فيها الدفتر (أي 2يوليو) ، فحال إحسان بك الجابري رئيس الأمناء دون استمرار التحقيق، وفر الجاني ولم يبحث عنه أحد، ولا يختلف اثنان في أنه أعطى الدفتر للفرنسيين. وقد سرق مثل هذا الدفتر قبل الآن عندما كان صفوة باشا في مكة المكرمة كما أخبرني هو نفسه. اهـ. هذا ما كتبته بنصه في 23 شوال 10 يوليو (1920) والذي أتذكره أن الدفتر سرق من جيب الملك فيصل، ولقد كان هذا الدفتر أكبر حجج الجنرال غورو في إنذاره الطاغي المرهق الذي أنذر به الملك فيصلاً زحفه على الشام، وكنت أسمع أخبار بذل فيصل المال للعصابات التي تخرج على السلطة الفرنسية وتقاتلها في حدود لبنان وكذا على الإنكليز في حدود فلسطين، وأسمع أن بعض شبابنا من أعضاء الجمعية والحزب كانوا من سماسرة هذه الأعمال الصبيانية، فلا أكلمه ولا أكلم أحدًا منهم في شيء من ذلك لاعتقادي أنه من العبث. ولهذا لم يكن عندي رجاء في شيء من أمر هذه الدولة إلا ما حاولته مع فيصل من السعي للوحدة العربية من أمراء الجزيرة وزعمائها، وإقناع والده بذلك قبل كل شيء؛ لأنه يتوقف عليه كل شيء، وإلا مشرع توحيد العشائر والقبائل الذي يئست منه قبل اليأس من هذا؟ ولو نفذوه لما كان استيلاء الجنرال غورو على دمشق بما علم الناس من السهولة، بل لأمكن للبلاد أن تقاوم زمنًا طويلاً، كما علم بعد ذلك من الثورة التي خسر الفرنسيس فيها ألوفًا كثيرة من القتلى، وملايين كثيرة من الفرنكات، ولكان يرجى أن تدخل بالمطاولة في طور جديد ينتهي بخير مما انتهت به ثورة العراق. على أن فيصلاً قد استفاد من أغلاطه الكثيرة في سورية فوائد عظيمة أفادته في سياسة العراق فوائد جزيلة، وبلغني أنه كان يعترف بهذا، وسيعلم المطلع على ما نجمله من خاتمته المؤسفة في دمشق شيئًا من مرونته العجيبة وصبره، وعجز اليأس أن يطرق باب قلبه.

تأبين أحمد زكي باشا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأبين أحمد زكي باشا أُلِّفَتْ في القاهرة لجنة من رجال الأدب لتأبين أحمد زكي باشا المشهور في الأقطار (بلقب شيخ العروبة) ، وكان الاحتفال بعد تمام الاستعداد له بدار (الأوبرة الملكية) في مساء 13 شوال الماضي الموافق 18 يناير (ك2) سنة 1935 م تحت رعاية وزير المعارف أحمد نجيب بك الهلالي أُلقيت فيها بضع خطب وبضع قصائد لأدباء العربية في مصر وغيرها من الأمصار , وكان موضوع كلمتي (أحمد زكي باشا والدين) وهذا نصها بالتقريب. بسم الله الرحمن الرحيم أيها السادة والسيدات لا تنتظروا أن تسمعوا مني تأبينًا بليغًا للمرحوم أحمد زكي باشا كالذي تسمعون من إخواني الخطباء أعضاء لجنة التأبين، فليس هذا من دأبي، وموضوع كلمتي لا يدخل في باب المناقب ولا يتسع لها، ولا تباح فيه المبالغات الشعرية؛ فإنه خاص بما كان بينه وبين ربه عز وجل. جعل إخواني أعضاء اللجنة مناقب الفقيد العلمية والعملية موضوعات معدودة واقتسموها بين الخطباء منهم، ورغبوا إليّ أن أختار لنفسي موضوعًا أقول فيه كلمة أقضي بها حق مودته عليّ، وبعد اعتذار لم يقبلوه مني اخترت أن أجعل عنوان كلمتي (أحمد زكي باشا والدين) ولعلهم لم يذكروا هذا في مناقبه؛ لأنهم يريدون بتأبينه أن يعرضوا على الناس ما كان له من صلة بهم وخدمة لهم. ولكن رأيي واعتقادي أنه يجب الإلمام فيه بجميع جوانب تاريخه، وأنه لو أمكن أن يستشار الآن فيما يُذْكَر به لكان ذكر صلته بربه آثر عنده وأحب إليه، وأن الذين يحبون معرفة سيرة رجل مثله يودون أن يعرفوا هذا الجانب منها وهو أعلاها، وربما يظن كثير منهم أن الرجل المدني العصري مثله يكون غير متدين. وأظن أنني أعلم أصدقاء أحمد زكي بما كان من مكانة الدين من نفسه؛ فإن أول عهدي بمعرفته أن التقينا في سنة 1916 هـ 1899 م عند المرحوم إبراهيم باشا نجيب وكيل الداخلية، وقد أخبره الباشا الذي عقد عروة التعارف بيننا وهو الرجل العظيم الشيخ محمد عبده إذ طلب منه أن يرشده إلى عالم يعرف الدين معرفة صحيحة معقولة ليكلفه تلقينه لنجليه (مصطفى وإسماعيل) فكان هذا التعريف سببًا لتوادنا، ورغبته في قراءة المنار، ودامت الموادة بيننا لم يعرض لها انفصام (وكان من قضاء الله تعالى وقدره أن كان المتكلم هو الإمام للذين صلَّوا على الفقيد صلاة الجنازة، ولم يذكر هذا في الكلمة، بل سبق ذكرها فيما كتبت عن وفاته) . فأنا ألقي على حضرتكم كلمة وجيزة فيما خبرت من تدينه، بعد مقدمة مختصرة في بيان أن للدين أعظم تأثير في أعمال الناس الخاصة والوطنية وأنواعها، حتى العسكرية والسياسية منها، وأعظم تأثيره هو الإخلاص والصدق والأمانة؛ فإن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر والجزاء فيه قلما يعمل إلا لمنافعه الشخصية من المال والجاه. أما هذه المقدمة فهي شهادة على معنى قولي هذا، شهد بها رجل من أعظم رجال أوربة الذين قاموا بأعظم الأعمال السياسية الدولية لأمتهم ووطنهم وهو البرنس بسمارك مؤسس الوحدة الألمانية نقلها لنا عنه أعظم رجال أمتنا في مصر وهو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، رجل الإصلاح الديني والوطني الأكبر، الذي ربى كثيرًا من رجال الدين والوطنية، ومنهم الزعيم الوطني العظيم سعد باشا زغلول، والعلماء الذين لا يُرجى إصلاح الأزهر إلا بهم، ترجمها الإمام من (كتاب وقائع بسمرك التي نشرها بعد وفاته أمين سره موسيو بوش) ونُشِرَتْ ترجمتها في (رمضان سنة 1316 هـ يناير سنة 1899) من السنة الأولى للمنار. اتفق على هذه الشهادة أعظم رجال الشرق والغرب، ولخصت منها اليوم على اختصارها ما يكفي لإثبات ما أريد عرضه هنا للغرض الذي ترجمها الإمام ونشرناها لأجله، إذا قال بعد ذكر إطلاعه على كلام بسمارك: (فاستحسنت ترجمته ليطلع عليه من لم يعن بقراءة هذا الكتاب من شبابنا الذين يرون أن النسبة إلى دينهم سبة، والظهور بالمحافظة عليه معرة، وليعلموا أن الإيمان بالله وبوحي إلهي إلى أنبيائه ليس نقصًا في الفكر، ولا ضلة عن صحيح العلم، ولا عيبًا في الرياسة ولا ضعفًا في السياسة. كان هذا الكلام من البرنس بسمارك على مائدة الطعام عنده، وكان سببه سقوط شيء من مرق الطعام على غطائها، فقال البرنس كلامًا خلاصته أن قلب الجندي يشرب الإيمان، فيغوص فيه كما غاص هذا المرق في نسيج هذا الغطاء، فيكون هو الذي يحمله على بذل روحه في الدفاع عن وطنه. فقال أحد جلسائه: أتظن سعادتكم أن الجندي يخطر بباله هذا في ميدان القتال؟ قال: لو كان يخطر بباله لما كان هو ذلك الوجدان الفطري) ... إلخ. ثم قال بسمارك في سياق حديثه ما نص ترجمته بالعربية مختصرًا: (إنني لا أفهم كيف يعيش قوم، وكيف يمكن لهم أن يقوموا بتأدية ما عليهم من الواجبات، أو كيف يحملون غيرهم على أداء ما يجب عليه إن لم يكن لهم إيمان بدين جاء به وحي سماوي، واعتقاد بإله يحب الخير، وحاكم ينتهي إليه الفصل في الأعمال في حياة بعد هذه الحياة) ثم قال: (لو نقضت عقيدتي بديني لم أخدم بعد ذلك سلطاني ساعة من زمان، إذا لم أضع ثقتي في الله، لم أضعها في سيد من أهل الأرض قاطبة) (لو لم يكن لي إيمان بالعناية الإلهية التي قضت بأن يكون لهذه الأمة الألمانية شأن كبير، وأثر في الخير عظيم، لطرحت لساعتي ما حملته من أثقال وظائف الحكومة) . ماذا أقول؟ بل لولا ذلك الإيمان لما قبلت شيئًا من هذه الوظائف؛ لأن الرتب والألقاب لا بهاء لهما في نظري، ولولا يقيني بحياة بعد الموت ما كنت من حزب الملكية، لو لم يكن هذا اليقين لكنت جمهوريًّا بالفطرة، يتبين ذلك من الغارات التي أشنها على هنات (خصال الشر) رجال الحاشية من مدة تزيد عن عشر سنين، من هذا يظهر أن إيماني قد بلغ من القوة أعلاها حتى حملني بقوته على أن أكون ملكيًّا، اسلبوني هذا الإيمان تسلبوني محبتي لوطني، اهـ المراد منه. وقد استدل على كلامه بثروته الموروثة، ومجده المورث، ومحبته للحياة الخلوية الزراعية، حتى قال: إن الأسرة المالكة في بلاده ليست أنبل من أسرته. بعد هذا التمهيد أذكر لكم ثلاث شهادات وجيزة على تدين فقيدنا في أول عهدي به ووسطه وآخره (الأولى) أننا كنا في أول عهدنا نتلاقى كثيرًا في ليالي رمضان مع جماعة من الأصدقاء كلهم يصومون ويصلون، وكان أكثر سمرنا فيها البحث في المسائل الدينية؛ إذ كانوا يسألون من تعجبهم أجوبته عن المشكلات التي تثيرها المعارف العصرية على الدين، فكانت هذه المباحث وقراءة المنار هما الباعثان للفقيد رحمه الله تعالى على المراجعة الخاصة بيننا في المسائل الدينية عند الحاجة، ومنها أنه دارت بينه وبين علماء الشرائع والقوانين الفرنسيس بباريس في صيف سنة 1904 محاورة في عشر مسائل سألوه عن رأيه فيها، منها بحث الاجتهاد في الفقه، ومعنى إقفال بابه عند العامة وعند أهل التحقيق، ومعنى القانون والفرق بينه وبين الشريعة، فاستمهلهم ريثما يكتب إلى بعض أولي الاختصاص في مصر، ويدلي إليهم بجوابهم عنها، وأرسلها إلى صاحب المنار فأجبته عنها وأرسلتها إليه فترجمها لهم، ثم أخبرني بأنها كانت كافية ومقنعة، وهي منشورة في المجلد السابع للمنار سنة 1323 تحت عنوان (الأسئلة الباريسية) والغرض من هذا أنه كان يهتم بالدفاع عن الإسلام وبإقامة حجته، فهذا بعض عهدي به في وسط عشرتنا شهدت به. وأما آخر ما أشهد به كغيري فهو ما سبقني إلى التنويه به في قصيدته الأستاذ خليل بك مطران، وهو أنه عُني في آخر عمره ببناء هذا المسجد المحكم على أحدث قواعد الفنون لِيُذْكَر بعد موته إلى ما شاء الله من عمر الدنيا. فإن قيل: إن في هذا ما فيه من حب الشهرة؛ فإنني أكاشف هذا الجمع بسر أفضى به إليّ قلما يعرفه أحد، وهو أنه قد فعل في هذا القبر - بباعث الشعور الديني الكامن في أعماق النفس؛ حتى أشربته في أخفى مكان من سويداء القلب - ما لعله لم يخطر في بال أحد من الغلاة في التبرك بآثار الأنبياء والصالحين، وأقول: إنه ليس بمشروع في هذا الشرع المبين. ذلك أنه عندما كان في مكة المكرمة كلف المرحوم الشيخ عبد القادر الشيبي أمين مفتاح بيت الله الحرام أن يرسل إلى غار حراء من يكنسه ويجمع كناسته ويحفظها في وعاء ففعل، فأخذها وبذل له من الجعل أو الإكرام ما بذل، ثم جاء بهذه الكناسة ووضعها في القبر الذي أعده لدفنه تبركًا بها، للقدوم على الله في الدار الآخرة معفرًا بغبار الغار الذي كان يتحنث فيه ونزل عليه الوحي أول مرة وهو فيه رسوله محمد خاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم إلى يوم الدين. آمين

ثورة الأزهر ومنتهى علاجها

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ ثورة الأزهر ومنتهى علاجها ظهر لكل ذي بصر وبصيرة أن المجلس الأعلى للأزهر والمعاهد الدينية لما يفقه أن هذه الألوف الكثيرة من طلبة العلوم الدينية في حالة ثورة فكرية وجدانية أثارها شيخه الظواهري بسوء سيرته، ومظاهر سريرته، فمنه بدأت الفتنة وإليه تعود، ولا علاج لها إلا إخراجه من المشيخة، والمجلس الأعلى - لقبًا لا حكمة ورأيًا - لم يحاول علاجها إلا بإخضاعهم له تعبيدًا وقهرًا، مع العلم بدرجة احتقارهم له اعتقادًا ووجدانًا، وإصرارهم على مقته ولعنه سرًّا وإعلانًا، وندائهم بإسقاطه جهرًا في الأزهر وملحقاته كلها، وفي كل مسجد ومعهد وموقف ومقعد وسوق وشارع، وبأنهم مثلوا له جنازة تبرأ اليهود والنصارى والمسلمون من تشييعها ودفنها في مقابرهم، ويعلمون أن جمهور العلماء والمدرسين في الأزهر ومعاهده موافقون للطلبة في رأيهم وشعورهم. قرر المجلس ما قرر من الطرد لبعضهم، وتبليغ الحكومة ما يتبع ذلك من وجوب تجنيدهم فلم يخضعوا، وهدد من لم يحضر الدرس في موعد عينه فلم يحضروا؛ ولكنه اخترع شبهة قبلها كثير من الناس على علاتها، وهي أنهم يتحدون أولياء الأمور، ويملون عليهم إرادتهم مطالبين لهم بعزل رئيسهم، ولا يعقل أن تقبل حكومة أو رياسة أن تكون مأمورة ورعيتها الآمرة، فنصح لهم بعض الزعماء الذين يحترم رأيهم، وتقبل نصيحتهم أن يعودوا إلى دروسهم ويفسحوا للحكومة الرشيدة المجال لحل الإشكال ففعلوا، وعادوا وقلوبهم لم تخرج من صدورهم، واعتقادهم وشعورهم ووجدانهم لا تزال صاحبة السلطان على ألسنتهم وحركاتهم وسكناتهم، فرأى الشيخ أنهم لم يحضروا الدروس خضوعًا لرياسته، ولا توبة عن إهانته، فأمر مجلسه الأعلى بإصدار قرار بتعطيل الدروس في الأزهر والمعاهد كلها، وإلغاء هذه السنة من حسابه، فائتمر، وليكن الدين وعلومه وعشرة آلاف طالب من طلابه ومئات الألوف من الجنيهات تنفقها الحكومة والأوقاف عليهم، فداء للشيخ الظواهري بغيض الأمة والملة ولا حرج؛ ولكن الظواهري سيخرج من الأزهر مذمومًا مدحورًا، ولا يجد له من مجلسه ولا من غيره وليًّا ولا نصيرًا؛ وإنما مطالبة الطلبة بعزله أخرته إلى أجل كما نصحنا لهم في تصدير كتابنا (المنار والأزهر) .

كريم أميركاني ينشر الوحي المحمدي في الشرق وكريم مصري نشره في الغرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كُريم أميركاني ينشر الوحي المحمدي في الشرق وكريم مصري نشره في الغرب لما زار مصر مستر كراين الأميركاني صديق العرب والإسلام الشهير آخر مرة في الربيع الماضي كنت قد أصدرت الطبعة الثانية من كتاب الوحي المحمدي، فأخبرته بموضوعه، وبأنني قد أهديته إلى كل من عرفت عناوينهم من علماء أوربة المستشرقين، وأحب أن أهديه إلى علماء أمريكة منهم، وأرغب إليه أن يتفضل عليّ بعناوين من يعرف منهم ومن غيرهم، ولما سافر من القاهرة إلى الإسكندرية بعد أن تغدينا مع بعض أصدقائه على مائدته في فندق (الكونتينتال) كعادته في كل زيارة، عهدت عند توديعه إلى صديقه ومساعده على مشروعاته النافعة الأديب المعروف (جورج أنطونيوس) أن يذكره بمسألة هذه العناوين بعد استراحته في الإسكندرية، ثم لما طال الأمد على سفره من الإسكندرية إلى أوربة فأمريكة أرسلت طائفة من نسخ كتاب الوحي إلى مكتبه المعروف في نيويورك مع خطاب له أرجوه فيه أن يتولى هو إيصال هذه النسخ إلى المستشرقين الذين يرغبون في قراءة أمثال هذه الكتب الإسلامية في بلاده، ومر فصل الصيف والخريف ولم يبلغني عنها شيء، وما كان من اللائق أن أسأله عنها بالكتاب، وقد كان أخبرنا هنا أنه يريد أن ينقطع عن كل عمل حتى يدون مذكراته في بلده. بيد أنني نسيت وهو لم ينس، فقد جاء في أوائل شهر (شوال الماضي الموافق يناير سنة 1935) كتاب من الأستاذ جورج أنطونيوس من القدس يبلغني فيه أنه لم يقصر في تنفيذ ما كنت عهدته إليه في أمر هذا الكتاب، وفيه تحويل بمبلغ مائتي دولار من جناب مستر كراين يقول: إنه يرغب أن تكون ثمنًا لنسخ من كتاب الوحي المحمدي تُرْسَل إلى المعاهد العلمية في الشرق؛ لأجل تعميم هداية الدين الحنيف بهذا الأسلوب العصري الطريف، فشكرت لكل من المحسن بماله، والمحسن بمقاله ووساطته فضله، وسيكون لجميع المعاهد العلمية والأندية الأدبية حظ من هذه النسخ في الأقطار العربية والهندية والملاوية وسائر الأعجمية حتى الصين فوق ما سبق لي إهداؤه من الكتاب مما لا أحصيه، فليعتبر بهذا مشتركو المنار الماطلون وغيرهم من المسلمين.

مقدمة التفسير المختصر المفيد

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ مقدمة التفسير المختصر المفيد بسم الله الرحمن الرحيم أحمدك اللهم بما حمدت به نفسك، وباسمك أشرع في الثلث الأول من هذا التفسير المختصر لكتابك العزيز، الذي كثر علي الإلحاح بطلبه من المؤمنين الراضين عن (تفسير المنار) المطول، المفضلين له على غيره، بتحريه بيان ما أنزلته لأجله من الهدى والإصلاح للبشر في أمري الدين والدنيا، وموافقته لحاجة هذا العصر في معارفه، وإقامة حجة الإسلام والدفاع عنه، بالجمع بين صحيح المأثور والمعقول، أحبوا أن أكتب لهم على نهجه تفسيرًا وجيزًا يسهل على كل ذي حظ من اللغة العربية أن يتدبره ويهتدي به، وعلى كل عالم أن يقرأه كله لطلاب العلم في زمن قصير، فإياك أستعين على إتمامه بما تحب وترضى من بينات الهدى والفرقان، وإياك أسأل أن تؤتيني به وفيه الحكمة وفصل الخطاب، وأن تعلمني من لدنك علمًا، وتهب لي فهمًا وحكمًا، حتى يكون القرآن حجة لي لا حجة عليّ، واهد اللهم به كل من قرأه بنية صحيحة، واحفظنا جميعًا من زيغ من يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وإبتغاء تأويله. وإني أنصح لقارئه أن ينوي بالنظر فيه الاستعانة به على تدبر القرآن والتفقه فيه والاتعاظ به لإصلاح نفسه، والاستعداد لإصلاح غيره، بالدعوة إلى الحق وفعل الخير وإقامة العدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى بين الخلق، وجمع كلمة المسلمين، دون المراء والجدل في الدين ونصر المختلفين فيه. وسيجدني إن شاء الله أتحرى أن أصور له المعاني الصحيحة التي تدني إليه هذه المقاصد مجتنبًا ما يشغله عنها من مباحث اللغة كاشتقاق الألفاظ وذكر الحقيقة والمجاز، ووجوه الإعراب، واصطلاحات الفنون، وأصول الكلام والفقه، إلا ما كان إشارة يسهل فهمها على جمهور القراء، ككلمة تعليل وتمثيل، وإجمال وتفصيل، ومجمل ومبين، ومطلق ومقيد، وشرط وجواب، واستئناف لبيان، وحديث مرفوع مثلاً، فإن وجدت خفاء أو إشكالاً في بعض العبارات أو المسائل وأردت كشف الغطاء عنها، أو الوقوف على ما فيها من الأحكام والحكم بالتفصيل، فراجع لفظها أو معناها في تفسير المنار المطول مستعينًا بفهارسه، وبعدد الآيات والسور، وأرجو أن يكون ما هنا أقرب إلى الصواب مما قد يخالفه هنالك، وأذكر القراءات المتواترة بدون عزو إلى رواتها للاختصار، مع بيان معانيها وحكمتها بالإيجاز إلا ما يتوقف على التلقي بأداء حفاظ القراء، كالإمالة وتسهيل الهمزة مثلاً، وقد قدرته بثلاثة أجزاء كل ثلث من القرآن في جزء، وكنت بدأت بالثلث الثاني من قبل، وأسأل الله أن يعينني على إتمامه كما يحب ويرضى في زمن قصير، وهو على كل شيء قدير. وكتبه محمد رشيد منشئ المنار بمصر في ذي القعدة سنة 1353.

الكلمة الأخيرة لمشتركي المنار المطل

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الكلمة الأخيرة لمشتركي المنار المطل أحمد الله أنني وقفت حياتي على خدمة الإسلام بالدعوة إليه، والدفاع عنه، وبيان حقيقته من كتاب الله بأهدى تفسير له وأصحه وأوضحه، وبإحياء سُنة رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وإماتة ما خالفها من البدع، وبالفتاوى المؤيدة بالدلائل في كل ما يشكل على المسلمين من أمر دينهم، وما يتعلق به من أحكام دنياهم، وبالرد على خصوم الإسلام من الماديين والملحدين ودعاة النصرانية، وببيان مقاصد أعدائهم من المستعمرين وتنبيههم لما يجب من مقاومتها، وقد شرحت هذه المقاصد في 34 مجلدًا من المنار، و12 جزءًا من تفسير القرآن الحكيم، وكتبًا أخرى آخرها (الوحي المحمدي) وليس لي على هذه الأعمال مساعد، بل أكلف فوقها أعمالاً كثيرة منها الأجوبة على مشكلات كثيرة ترد علي من جميع الأقطار، وغير ذلك ككتابة مقالات للجرائد والمجلات وإلقاء محاضرات ومناظرات في الأندية والجمعيات، وكتابة فتاوى لبعضهم، وإرسالها إليهم في البريد، بله المسألة العربية وأعمالها. وإنني لشواغلي هذه قصرت منذ ربع قرن أو أكثر في أعمالي الإدارية والمالية؛ حتى كثرت الديون لي وعليَّ، فطالبت المشتركين في المنار بما يسهل عليهم من أداء أو تقسيط أو صلح على بعض المطلوب مع من يعسر عليهم أداء جميعه، أو طلب إسقاطه كله ممن يعجز عن بعضه، وكررت هذا في السنتين الماضيتين فلم يستجب لي إلا أقلهم. وإذا كان هذا جزاء صاحب المنار من أكثر قرائه على خدمة الإسلام، وهم أجدر المسلمين بتقديرها والمساعدة عليها بقيمة الاشتراك القليلة أو بعضها، فأي عنوان يكونون لأمتهم؟ وكان خطر ببالي أن أطلب منهم إجازة سنة لأصدر للأمة السفر الأول من (التفسير المختصر المفيد) الذي يرون مقدمته هنا، وأجعل ثمنه للأوفياء منهم نصف ثمنه من غيرهم، فلما قاربت السنة عزَّ علي ذلك، فعزمت على الثبات والجمع بين إصدار التفسيرين المطول والمختصر والمنار، راجيًا منهم قضاء حقه بقدر الاستطاعة فقط. إنني سأنشر أسماء أكثرهم دينًا للمنار في ملحق للتذكير به؛ لأنه يثقل علي الكتابة لكل واحد منهم، وأنصفهم فيما يجيبون به، ومن أصر على المنع والسكوت فإنني أقطع عنهم المنار، والله يتولى جزاءهم في الدنيا والآخرة، وهو حسبي ونعم الوكيل.

أسئلة من صاحب الإمضاء ببيروت

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ أسئلة من صاحب الإمضاء ببيروت بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضل والفضيلة سيدنا ومولانا العالم العلامة الأستاذ الجليل السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الغراء حفظه الله تعالى، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) فإني أرفع إلى فضيلتكم الأسئلة الآتية راجيًا التكرم بالإجابة عليها ولكم عظيم الشكر: (1) هل يجوز تحكيم العقل في المسائل الشرعية الدينية المنصوص عليها في الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبرَيْنِ؟ فإن كثيرًا من الناس يحاولون تحكيم العقل في المسائل الشرعية الدينية، فيقبلون منها ما يوافق عقولهم ويتركون ما يخالفها، وإن كان في ذلك نص أو إجماع أو قياس، فهل يجوز أم لا؟ (2) هل يجوز التقليد والتلفيق من مذاهب الأئمة الأربعة ولو لغير ضرورة قبل العمل أو بعده في المعاملات والعبادات كالوضوء والغسل والتيمم والصلاة كمن توضأ وضوءًا واجبًا، أو اغتسل غسلاً واجبًا من ماء قليل مستعمل في رفع حدث مقلدًا لمذهب الإمام مالك، وترك الدلك مقلدًا لمذهب الإمام الشافعي، وترك النية مقلدًا لمذهب الإمام أبي حنيفة، يكون وضوءه أو غسله صحيحًا أم لا؟ (3) هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز العمل بهما أم لا؟ وهما (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (من قلد عالمًا لقي الله سالمًا) . (4) هل كتاب (لوائح الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية لشرح الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية) تأليف الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الأثري الحنبلي وكتاب (المُحلى) تأليف الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم صحيحان معتمدان يجوز الاعتقاد والعمل بجميع ما أتى فيهما أم لا؟ (5) هل ما ورد بخصوص ظهور المهدي المنتظر والدجال والدابة ونزول سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام وحكمه بالشريعة الإسلامية صحيح يجوز اعتقاده أم لا؟ (6) هل إعمال الحقنة في أحد السبيلين، أو في الشرايين، أو تحت الجلد، أو التطعيم ضد مرض الجدري، أو غيره أو استعمال المضمضة، أو الداء للثة، أو الأضراس، أو الأسنان لأجل تصليحها، أو منع وتسكين الآلام والأوجاع عنها، وتغير طعم الفم، وبلع الريق مفطرة للصائم أم لا؟ (7) هل يجوز للإنسان أن يرتهن دارًا أو دكانًا بقيمة معلومة على أجل معلوم بشرط أن ينتفع المرتهن بالدار أو الدكان من سكنى أو إيجار أو غيره سواء كان للإيجار من الراهن أم غيره أم لا؟ (8) هل يجوز بيع الوفاء أم لا؟ وما كيفيته تفصيلاً؟ تفضلوا بالجواب ولكم الأجر والثواب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ اللاذقي (أجوبة المنار) (31) تحكيم العقل في الدين: ما شرع الله الدين للناس إلا لأنهم لا يستغنون عن هدايته بعقولهم، ومن كان يؤمن بدين منزل من عند الله لا يمكن أن يقبل ما يوافق عقله منه، ويرد ما لا يوافقه من المسائل التي يعتقد أن الله فرضها عليه من الأعمال، أو حرمها عليه من التروك، فمن فعل ذلك كان غير متبع لدين يؤمن به قطعًا؛ وإنما متبعًا لهواه بغير هدى من الله، فوظيفة العقل أن يعلم ويفهم ليعمل، لا أن يتحكم في دينه ولا في قانون حكومته الذي هو وضع بشر مثله. ثم إن عقول الناس تختلف اختلافًا كثيرًا فيما يوافق أصحابها، وما لا يوافقهم، وذلك يقتضي أن يكون لكل فرد ممن يُحَكِّمُون عقولهم في الدين دين خاص به، وللمجموع أديان كثيرة بقدر عددهم إن صح أن يسمى اتباعهم لها دينًا، وهو لا يصح، فتحكيم العقل في كل مسألة من مسائل الدين مخالف لحكم العقل الصحيح؛ وإنما المعقول أن يطلب العاقل الدليل على أصل الدين، فمتى ثبت عنده وجب عليه أن يتبع كل ما علم أنه منه، فنحن قد أقمنا البرهان العقلي على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته، فمن آمن به وجب أن يتبعه في كل ما جاء به من أمر الدين، ومنه ما هو قطعي مجمع عليه بين المسلمين لا مجال للعقل في البحث عنه ولا عن أدلته، ومنه ما ليس كذلك، فاختلفوا في إثباته ونفيه بالتبع للاختلاف في أدلته، وفي وجه دلالته عليه كما بيناه مرارًا تارة بالتفصيل، وتارة بالإجمال وآخرها ما في فتاوى الجزء الماضي من المنار، ومن ذلك الاختلاف في القياس هل هو دليل شرعي أم لا، وفي حقيقته، وفي صفة دلالته وموضوعه وغير ذلك، فلكل مسلم أن يبحث بعقله عن ذلك من طريقه، فيقبل ما صح منه بالدليل لا بالهوى، ولا يجب على أحد أن يقبل كل ما يقوله له بعض مدعي العلم الديني، وإن رآه غير معقول بدون دليل شرعي، وليس من الدليل ذكر الحكم في كتاب من كتب المذاهب كما بيناه في الفتوى المشار إليها أخيرًا (راجع ص688) . (32) التلفيق في تقليد المذاهب: الأصل فيمن قلد مذهبًا أن يعرف أحكامه في المسائل، ويعمل بها لثقته بأدلتها إجمالاً وتفصيلاً أو وراثة، ومن كان له نظر في الأدلة، فله أن يعمل بما اعتقد صحته في بعضها مخالفًا لغيره، وإن أدى ذلك إلى التلفيق بين الأقوال، وعدم موافقة صلاته لمذهب واحد من المذاهب الأربعة كاختلافها في الماء المستعمل والقليل والكثير وأحكامها، وفي وجوب قراءة المأموم للفاتحة مثلاً؛ لأنه إنما يعمل بما يعتقد صحة دليله في الشرع في كل فرع، لا بقول فلان وفلان لذاته؛ ولكن يشترط ألا يخالف الإجماع في ذلك، وأما من عرف أقوال هذه المذاهب المختلفة دون أدلتها فاختار لنفسه من كل منها ما وافق هواه لسهولته مثلاً، فهو متلاعب بدينه، متعبد بغير علم ولا تقليد لإمام وثق بعلمه ودينه. (33) حديث (أصحابي كالنجوم) أخرجه البيهقي عن ابن عباس، وهو غير صحيح. (34) جملة (من قلد عالمًا لقي الله سالمًا) ليست بحديث نبوي. (35) كتاب لوائح الأنوار الإلهية للسفاريني من أجمع الكتب للعقائد الإسلامية وما روي من الأحاديث والآثار وأقوال السلف فيها، ولا يخلو من أقوال ضعيفة وآراء مختلف فيها، والعقائد يجب إثباتها بالأدلة القطعية، ودونها ما ورد في أخبار آحاد ظنية صحيحة السند، تسلم إذا لم يعارضها قطعي، وأما الروايات الضعيفة فلا يجوز إسنادها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا الاحتجاج بها ولا العمل بها في المسائل العملية فضلاً عن العقائد الدينية. (36) كتاب المُحلى في الفقه للإمام ابن حزم من أجلّ كتب فقه الحديث على مذهب الظاهرية الذين لا يقولون بالقياس، ولمؤلفه أفهام وآراء اجتهادية خالف فيها غيره من الفقهاء يخطئ فيها ويصيب كغيره من العلماء، فمن اقتنع فيها برأيه وفهمه كان كمن اقتنع برأي غيره من أئمة الفقه؛ فإنه إمام مجتهد كغيره، فالعبرة بالدليل والعلماء نقلة ومرشدون. (37) المهدي المنتظر: راجع الأحاديث المتعارضة والاختلاف فيه وفيها فقد بسطناه في الكلام على قيام الساعة وأشراطها من أواخر تفسير سورة الأعراف (ص451 - 502 من جزء التفسير التاسع) . (38) أحاديث الدجال، راجعها في ص 489 من الجزء المذكور أيضًا. (39) أحاديث نزول المسيح واعتقادها، راجع المسألة في ص753 من مجلد المنار الثامن والعشرين. (40) الحقن وما يفطر الصائم: أعمال الحقن بأنواعها والمضمضة بالماء والدواء لا تفطر الصائم، وبلع الريق بالأولى؛ وإنما يفطره بلع شيء غير الريق من مائع أو جامد؛ لأنه يعد من الطعام والشراب اللذين لا يتحقق الصيام إلا بالإمساك عنهما مع نية التعبد، وراجع تفصيل أحكام الصيام ومفطراته في تفسير آياته من جزء التفسير الثاني ولا سيما الفصول الملحقة به في الطبعة الثانية. (41) حكم الانتفاع بالرهن: ارتهان الدار والعقار بالصفة المذكورة غير جائز؛ لأنه من أكل أموال الناس بالباطل، وإنما ورد في رهن المحلوب والمركوب أنه ينتفع بهما في مقابل نفقتهما (42) بيع الوفاء: بيع الوفاء كنت أعهد له صورة في بلادنا يقول الفقهاء بصحتها، فراجعوا المسألة في كتاب مجلة الأحكام العدلية لسهولته، وليس من شأن المنار تفصيل المعاملات المدنية الاجتهادية. * * * حكم الصلاة والصيام في القطبين وكون طلب العلم في سبيل الله (س43 و 44) من صاحب الإمضاء في إنكلترة ما قولكم دام فضلكم فيما هو آتٍ: (1) تعلمون أن الإنسان كلما ذهب نحو القطب اختلفت ساعات الليل والنهار، فهي عند خط الاستواء 12 ساعة ليلاً، و12 ساعة نهارًا، وعند القطب ستة أشهر ليل باستمرار، وستة أشهر نهار باستمرار وتختلف فيما بين ذلك درجات. فما حكم الشرع في مسلم يسكن في أقصى شمال الكرة، أو أقصى جنوبها، ويريد إقامة أحكام الشرع من صلاة وصيام؟ (2) ورد في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه (من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع) رواه الترمذي، فهل الخروج في طلب العلم، كالخروج للمقاتلة في سبيل الله في الثواب فقط، أو في سقوط أحكام الشرع الشريف عن الشخص المكلف من صلاة وصيام؟ ... ... ... ... ... ... ... ... دكتور محمود زين الدين ... ... ... ... ... ... ... ... ... طالب بإنكترا (43) حكم مواقيت الصلاة والصيام في القطبين وما يقرب منهما: قد بيَّنا هذه المسألة في المنار، وفي التفسير، ومنها في تفسير الآية {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185) الواردة في صيام شهر رمضان (ص 162 من جزء التفسير الثاني من الطبعة الثانية) وهذا نصه: قال الأستاذ الإمام: وإنما عبر بهذه العبارة ولم يقل: (فصوموه) لمثل الحكمة التي لم يحدد القرآن مواقيت الصلاة لأجلها، وذلك أن القرآن خطاب الله العام لجميع البشر، وهو يعلم أن من المواقع ما لا شهور فيها ولا أيام معتدلة، بل السنة كلها قد تكون فيها يومًا وليلة تقريبًا كالجهات القطبية، فالمدة التي يكون فيها القطب الشمالي في ليل وهي نصف السنة يكون القطب الجنوبي في نهار وبالعكس، ويقصر الليل والنهار ويطولان على نسبة القرب والبعد عن القطبين ويستويان في خط الاستواء وهو وسط الأرض. أرأيت هل يكلف الله تعالى من يقيم في جهة القطبين وما يقرب منهما أن يصلي في يومه (وهو سنة أو مقدار عدة أشهر) خمس صلوات إحداها حين يطلع الفجر، والثانية بعد زوال الشمس ... إلخ، ويكلفه أن يصوم شهر رمضان بالتعيين ولا رمضان له، ولا شهور؟ كلا إن من الآيات الكبرى على كون هذا القرآن من عند الله المحيط علمه بكل شيء، لا من تأليف البشر ما نراه فيه من الاكتفاء بالخطاب العام الذي لا يتقيد بزمان من جاء به ولا مكانه، ولو كان من عند النبي صلى الله عليه وسلم لكان كل ما فيه مناسبًا لحال زمانه وبلاده، وما يليها من البلاد التي يعرفها، ولم تكن العرب تعرف أن في الأرض بلادًا مقدارها كعدة أنهر أو أشهر من أنهرنا وأشهرنا ولياليها كذلك. فمنزل القرآن وهو علام الغيوب، وخالق الأرض والأفلاك خاطب الناس كافة بما يمكن أن يمتثلوه، فأطلق الأمر بالصلاة والرسول بيَّن أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي هي القسم الأعظم من الأرض، حتى إذا وصل الإسلام إلى أهل البلاد التي أشرنا إليها يمكنهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم والقياس على ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الله المطلق، وكذلك الصيام ما أوجب رمضان إلا على من شهد الشهر وحضره، والذين ليس لهم شهر مثله يسهل عليهم أن يقدروا له قدره، وقد ذكر الفقهاء مسألة التقدير بعد ما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها ويقصر نهارها، والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها، واختلفوا في التقدير على أي البلاد يكون؟ فقيل على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع كمكة والمدينة، وقيل على أقرب بلاد معتدلة إليهم وكل منهما جائز

الأزهر الأزهر الانقلاب الأكبر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الأزهر الأزهر الانقلاب الأكبر أحمد الله عز وجل أن حقَّ رجائي وصدق مقالي الذي بسطته في تصدير كتاب (المنار والأزهر) إذ بينت أن الشيخ الظواهري قد بلغ من إفساده الغاية، وأنه لا يوجد في العلماء من هو أهل لرياسته وإصلاح هذا الفساد غير واحد يعرفه أهل الأزهر كلهم ويعرفه غيرهم، ووصفته بصفاته التي لا يجرؤ أحد أن يدعيها لغيره، بعد أن صرحت بهتاف مجاوري الأزهر في ثورتهم باسمه ولقبه. ثم نصحت لهم قائلاً: إخواني: إنكم ستنالون ما ترضون: من تولي من تمقتون عنكم، وتولية من تحبون عليكم، لا بقوة مظاهرتكم لزيد وتظاهركم على عمرو؛ بل لأنه الحق والخير والمصلحة؛ ولأن الأمة الإسلامية كلها معكم فيه؛ ولأنكم في عهد وزارة تقدر هذه القوى الأربع قدرها، وجديرة بأن ترضي الله بإرضائها ... إلخ ما قلنا وما هو ببعيد. نشرت هذا التصدير في الجزء السادس من منار هذا المجلد (34) الذي صدر في آخر شهر شعبان (سنة 1353) وحدث بعد ذلك من الأحداث ما جعل بعض الناس يظنون أن قدم الشيخ الظواهري في الأزهر أرسخ من قدم محمد توفيق باشا نسيم في الوزارة، وأن مجلس الأزهر الأعلى في تأييد شيخه الظواهري وإخضاع العلماء والطلاب له أذلة مرغمين، أو يحرمهم من كل ما لهم من حقوق العلم والدين، فقلت في آخر الجزء الذي قبل هذا وهو التاسع الذي صدر في سلخ ذي الحجة (إن الشيخ الظواهري سيخرج من الأزهر مذؤومًا مدحورًا، ولا يجد له من مجلسه الأعلى، ولا من غيره وليًّا ولا نصيرًا) وكذلك كان فقد قضى الله أن لا يمر هذا الشهر (المحرم سنة 1354) حتى يخرج الظواهري منه مذؤومًا مدحورًا، ويتولى رياسته الأستاذ الأكبر المصلح الشيخ محمد مصطفى المراغي مؤيدًا منصورًا. لا غرو فما نحن ممن يرمي الأقوال على عواهنها، ويتبع فيها هوى النفس، وإنما نتكلم عن سنن الله عز وجل في الاجتماع، وما هذه الكلمة في بابها ولا هذه اليتيمة بالفذة بين أترابها، فقد كتبت في الجزء الرابع من المجلد 29 (الذي صدر في سلخ المحرم سنة 1347) عن توليته للمشيخة بعد الثناء على دولة مصطفى باشا النحاس باختياره لها: (إن بيان ما أجملته من الحكم بأن هذا المنصب لا يصلح في هذا الوقت إلا هذا الرجل، يتوقف تفصيله على بيان حالة الأزهر من نواحيها المتعددة، وبيان مزايا الشيخ العقلية والإدارية، ومعرفته بحالة العصر من نواحيها المختلفة، وما يحتاج إليه الإسلام من التجديد والإصلاح، وفوق هذا كله استقلاله في فهم الدين والعلم، فهو في الذروة العليا من نجباء تلاميذ الأستاذ الإمام رحمه الله، فعسى أن يجعله الله هو المتمم لما بدأ به أستاذه وأستاذنا من إصلاح الأزهر) . ونشرت في الجزء الخامس الذي صدر في سلخ ربيع الأول من تلك السنة مذكرة الأستاذ في إصلاح الأزهر التي قدمها للحكومة، وقرر فيها بما أوتي من الشجاعة (أن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أمته وعلى دينه، وقد صار من الحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر أن يغير التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة إلى هذا جريئة يُقْصَد بها وجه الله تعالى، فلا يبالي ما تحدثه من ضجة وصريخ فقد قرنت كل الإصلاحات العظيمة في العالم بصريخ) . وكتبت في الجزء السابع الذي صدر في سلخ جمادى الأولى منها مقالاً في (إصلاح الأزهر وما يتبعه من المعاهد) بينت فيها وجوه حاجته إلى الإصلاح، وتأثير رياسة المراغي في ذلك؛ حتى تعلقت به آمال الشعوب الإسلامية، وشخصت له أبصار الشعوب الأوربية. ثم نوهت في فاتحة المجلد الثلاثين الذي صدر في المحرم سنة 1348 ببشائر الإصلاح، والرد على الشامتين من دعاة النصرانية الذين صرحوا في بعض صحفهم وكتبهم بأن أفكار الشيخ محمد عبده التي تغلغلت في عقول المفكرين، وكان لها المجال الواسع لدى الشبان المسلمين، تلقى أشد الإنكار من أرباب العمائم الجامدين، قالوا: (ولهذا تجد مريدي الشيخ عبده متضائلين، لا يقدرون أن يجهروا بأفكارهم لقلة عددهم، ولشدة مقاومة الجامدين لهم) . ثم قلت: (وإننا نبشر هؤلاء الشامتين، الذين يتربصون ريب المنون بالإسلام والمسلمين، بأن طلائع النصر قد رفعت أعلامها على رؤوس المصلحين، وانتهت رياسة علماء الدين إلى أحد تلاميذ الأستاذ الإمام، ونوابغ مريديه الأعلام، وهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، وقد لقي من جلالة ملك مصر وحكومته من المساعدة بقدر ما كان يلقى الشيخ محمد عبده نفسه من المناهضة والمعارضة ... إلخ، ومنه أن رسالة التوحيد صارت تُقْرَأ في القسم العالي من الطلبة النظاميين، وتفسير المنار هو المرجع لمدرسي التفسير فيه) على أن تلك السنة (1348) لم تنتصف إلا وقد انتصفت منا فتن الدهر باستقالة الشيخ المراغي من هذه الرياسة، فكتبت في الجزء السادس الذي صدر في سلخ جمادى الآخرة منها بصفحة واحدة ذكرت فيها ما راع العالم الإسلامي من نبأ استقالته، وما أكبروه من خلقه العالي بها، وصرحت بأنه (لابد للمسلمين أن يستفيدوا من مواهبه في يوم من الأيام) . نعم، وها هو ذا قد طلع صباحه وذر قرن شمسه، وحق إلهام المنار، وصدق قوله. حكمة الفصل بين الرياستين: كل ما قرره الأستاذ المصلح في مذكرته للحكومة من سوء حالة الأزهر والمعاهد الدينية، وشدة حاجتها إلى الإصلاح، بل حاجة الدين الإسلامي إليه كان قليلاً بالنسبة إلى ما أدخله عليه الشيخ الظواهري بعد ذلك من الفساد والإفساد في التعليم والإدارة، والنفاق والشقاق في العقائد والأخلاق، حتى قال أحد كبار العلماء الواقفين على الدخائل إنه لا يمضي على هذه الحال خمس عشرة سنة، ويبقى في الأزهر ومعاهده أحد يعرف حقيقة الإسلام، وكان كلما اشتد الفساد اشتدت دعاية شيخ الأزهر في إطراء الأزهر، وتعليم الأزهر، وإصلاح الأزهر! ! لو أن الشيخ الظواهري عرف قدر نفسه، وطور وقته فاستقال من رياسة الأزهر والمعاهد عقب استقالة الوزارة الممقوتة رغم أنفها، حتى لا يضطر إلى الاستقالة رغم أنفه لخفي على كثير من أهل الأزهر وغيرهم كثير من مساويه، ومن ريائه، ومن دعايته الباطلة التي كان يضل بها الناس عن إفساده، ولما علم الناس بأخلاقه ودخائله وما علموه بإصراره على غيه من إقدامه على إذلال أهل الأزهر كافة من الشيوخ المدرسين، ومن الشبان المجاورين له أو حرمانهم من العلم والدين والرزق إذا لم يقبلوا الذل بالخضوع والخنوع لمن يعتقدون فساده وإفساده لهم ولمعاهدهم، ولقد كان ظهور هذه الغاية السوءى لهم خيرًا من بقائها خفية عليهم. ولو أن الشيخ الظواهري استقال من أول الأمر، لكان من الممكن أن يخلفه من لا يقدر على إدارة الأزهر وإصلاح ما فسد فيه من الشيوخ المشهورين، فإما أن تتجدد الثورة لمقاومته، فَيُصَدِّق جماهير الناس قوله وقول أعوانه في أهل الأزهر إنهم ثوار متمردون، وإما أن يخضعوا فيستمر الاستبداد، وما ولده من الإفساد وكل منهما شر منافٍ للمصلحة. فإصرار الظواهري على غيه وبغيه كان شرًّا له وخيرًا للأزهر ومعاهده وللإسلام والمسلمين، وكان خير ما فيه انتهى إليه من اقتناع جلالة الملك كالحكومة والأمة بأنه لا يوجد في العلماء أحد يصلح لهذه الرياسة إلا الشيخ محمد مصطفى المراغي، وأن من الضروري أن يعهد بها إليه، ويعطى حق الاستقلال فيها، كما اشترطه في مشيخته الأولى التي استقال منها مختارًا عندما نوزع في استقلاله. إن خير ما استفاد الأزهر من سوء سيرة الظواهري أنه تألم منها، وشعر بسوء عاقبتها فثار في وجهها وهب لمقاومتها، وخير من هذا أنه عرف الرجل الوحيد الذي يرجى أن ينقذه منها، وصرح بطلبه وجعله الركن الركين لثورته، فلم تكن كثورة الطفل الذي يشكو ألم المرض ويأبى الدواء، بل عرف المرض وعرف الطبيب النطاسي الذي يجب تفويض أمر العلاج إليه، وحاول الهدم لأجل البناء، وجمع كما يقول علماؤه بين التخلية والتحلية، فهذه فائدة ثورة الأزهر التي رجوت خيرها، وكنت أرد على كل من يستنكرها وينكر على أهلها صورتها وشكلها ويخشى سوء عاقبتها، وإن كانوا موقنين أنهم على حق فيها. ذلك بأن الأزهر كان كالمصاب بداء السل أو مرض السكتة، يبرح به الداء ويهوي به إلى الفناء وهو لا يشعر، وكان هوى السلطان يعبث به، فيميل معه كيف شاء، ولقد جاء المصلح الحكيم الأول (الأستاذ الإمام) فكان الشيوخ يواتونه ما كان السلطان راضيًا عنه، فلما رأوه معه بين بين صاروا يدارونه في الإدارة لقوة حجته، ولا ينفذون له ما يقتنعون به، حتى إذا أظهر الأمير له العداء تظاهروا كلهم عليه، وأجمعوا على أن الأزهر معهد ديني محض لا يجوز الاشتغال فيه بغير العبادة وعلومها، لا علاقة له بأهل الدنيا ولا بعلومها، حتى رضوا أن يكون للقضاء الشرعي مدرسة مستقلة يدير أمر التربية والتعليم فيها ناظر مدني لا ديني، ثم جاء طور آخر فوض أمره إلى الحكومة، ووضع له قانونًا جديدًا أخضع له جميع الشيوخ على علاته. جمود الأزهر بالأمس وثورته اليوم: كان الأزهر يتقلب في هذه الأطوار ويعبث به الأمير وحده، ثم تعبث به حكومته بأمره، وشيوخه كما قلنا ليس لأحد منهم في ذلك رأي، والطلاب لا يشعرون بما يُراد بهم من خير أو شر، وعلم أو جهل، فاستقال المصلح الحكيم الأستاذ الإمام من إدارته، فاهتز مسلمو الهند لاستقالته، وأنحوا بالتثريب والتأنيب على الأمير وحكومته، وعلى علماء الأزهر وعلى الأمة المصرية، ولم يرتفع للأزهر صوت ولو ثار أهله عُشر ثورتهم هذه، وأرادوا بها بقاء الإمام وعدم قبول استقالته لَتم لهم ما أرادوا، فقد كانت الحرية يومئذ أتم منها اليوم. فالفضل الأكبر في إيقاظ الأزهر من نومه، وفي ثورته الحية الشريفة لسوء إدارة الشيخ الظواهري وعناده، وإصراره على ما كان من استبداده، ومطاردته للعلماء والمجاورين في الجامع الأزهر نفسه، حتى جعل الجند والشرطة يدخلونه بنعالهم، ويخرجون طلابه من المسجد ومن حجراتهم مقهورين حاسري الرؤوس حفاة الأقدام، يعتلونهم إلى السجون كقطاع الطرق والمجرمين عتلاً، ويسومونهم خسفًا وذلاً {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (البقرة: 114) . لا أبغي الآن أن أعيد ذكر تلك المساوي لبيان ما كان من مفاسدها، وإنما أريد أن أحمد الله على حسن عاقبتها بخذلان فاعلها، وإبطال كيده للإسلام ومعاهده، وأن أُذَكِّرَ أهل الأزهر بما يجب عليهم من حمد الله وشكره أن بدلهم بذلك الشر خيرًا، وبذلك الإفساد إصلاحًا؛ فإنه إذا أراد بقوم خيرًا جعل لهم النقم عبرة وتمحيصًا، ومن النعم تربية وتأديبًا، ووسد أمورهم إلى أهلها، ويسر لهم القيام بحقها. نصيحتي الثانية للأزهر: وإني لأقول لهم كلمة نصح ثانية لعلهم لا يسمعونها من غيري في طور هذه النعمة، كالكلمة التي قلتها في حال اشتداد الثورة، وإني لأشد يقينًا بصحة هذه مني بتلك، وقد نطق الزمان بصدقها، أقول: إنكم نلتم خير ما طلبتم بثورتكم في خير الأحوال من نفي وإثبات، وسلب وإيجاب، وهو ما أيدتكم به الأمة ورضيته لكم وأجابت الحكومة وجلالة الملك إليه، وهو أهون الأمرين اللذين يتوقف عليهما إصلاح الأزهر، وبقي أشقهما وأعسرهما

تأثير تولية المراغي لرياسة الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تأثير تولية المراغي لرياسة الأزهر لقد كان سرور الناس بهذه التولية عظيمًا في مصر وسيظهر أنه يكون عامًّا في جميع الأقطار الإسلامية، ورأينا تهاني الناس لهذا الإمام المصلح أضعاف المعهود في تهاني أصحاب المناصب، ولولا أن أكثر علماء الأزهر أظهروا سخطهم على الظواهري من قبل لما أقمت وزنًا إلا لتهاني من نعرف رأيه وخلقه منهم، فالشيخ الظواهري نفسه قد هنأ المراغي أيضًا، ولكننا رأينا جميع طبقات الشعب من الأمراء والوزراء والوجهاء والأدباء وغيرهم مجمعين على هذا، وإنا لنرى الوفود تغدو وتروح إلى داره في حلوان وإلى إدارة الأزهر والمعاهد الدينية في القاهرة مثنى وثلاث ورباع وجماعات في كل يوم ولا ندري متى ينتهي هذا الزحام، وإنني أنقل عن الجرائد اليومية خبر وفود علماء المعاهد وكلمة الأستاذ الأكبر لهم على سبيل النموذج، وهو ما نشر الأهرام في سياق التهاني والمقابلات التي تحت عنوان (وفود العلماء) في 3 مايو سنة 1935. كانت إدارة المعاهد الدينية في أثناء هذه المقابلات قد اكتظت بوفود العلماء الحاشدة من مدرسي معاهد الإسكندرية، وطنطا، ودمياط، ودسوق، والزقازيق، وأسيوط ومن العلماء المندوبين للتدريس في مختلف المعاهد الدينية، ومن الطلاب والعلماء المفصولين الذين تقررت إعادتهم إلى دروسهم ووظائفهم في جلسة المجلس الأعلى التي عقدت أول أمس، وما إن لمحوا فضيلته قادمًا حتى احتاطوا بالسيارة من كل ناحية، وأخذت أصواتهم ترتفع بقولهم: فليحيا الإمام الأكبر، فليحيا المصلح الإسلامي، فليحيا والد الأزهريين البار، وقد أرادوا أن يحملوا فضيلته على أعناقهم؛ ولكنه أبى، وكان يلح في الإباء كلما ألحوا في الطلب ثم قال لهم: أرجو أن تهدؤوا قليلاً حتى أتمكن من أن أصعد على قدمي، وقد أجابوا فضيلته إلى ما طلب، وأخذوا يشقون له طريقًا حتى تمكن من الصعود إلى مكتبه. ثم تقدم بين يدي فضيلته خطباء هذه الوفود وشعراؤها، وأخذوا يلقون كلماتهم وقصائدهم، وقد ذكروا مواقف معينة لفضيلته في إصلاح الأسر ورعايتها بمختلف القوانين والتشاريع وتنظيم الإجراءات القضائية الخاصة بالمحاكم الشرعية وغير هذا من ضروب الإصلاح والتجديد، وهنا وقف فضيلة الأستاذ الأكبر وقال: كلمة الأستاذ الأكبر أشكركم شكرًا جزيلاً على هذه العواطف الكريمة التي تجلت في أقوال خطبائكم وقصائد شعرائكم، وأرجو أن تنوبوا عني في تبليغ هذا الشكر إلى جميع إخوانكم، وإلى جميع الطلبة في معاهدكم، كما أرجو أن نستقبل جميعًا: علماء وطلابًا بدء دراستنا، وقد زال ما كان في قلوبنا. كان ضغن وكانت عداوة بين العلماء والطلبة، وبين الطلاب والطلاب، ولكني أعتقد أن ذلك لم يكن إلا في مقام اختلاف الرأي وتباين المذهب في صدد حادث طارئ، ولكل وجهته ولكل رأيه ومذهبه، وأنا شخصيًّا ممن يقدسون حرية الرأي، ويحترمون رأي الخصوم كاحترامهم لرأي الأصدقاء، وأرجو أن تكون حرية الرأي صفة من صفات العلماء، وقد عهدتم في سيرة السابقين والسلف من العلماء أنهم كانوا يحترمون آراء مخالفيهم، وما كان أحد منهم يخالف أو يخاصم إلا وهو بعيد كل البعد عن الهوى والغرض، وعلى أساس حرية الرأي يبنى الدين وتبنى الأخلاق ويبنى العلم، ويكون البناء خير ما نشتهي ونود إذا كانت المخالفة في الرأي خالية من الهوى والغرض. لقد كانت فتنة وجدت أول الأمر شرارة نارها في طريق الاتفاق والمصادفة، ثم أراد بعض الناس أن يجعل العلماء وطلاب العلم حطب هذه الفتنة الشعواء، ولكن الله سبحانه وتعالى وقى المسلمين شرها، وخرجتم من هذه الفتنة لا أقول خرجتم من غير أن يظهر للناس بعض عيوبكم، فقد ظهرت عيوب في بعض الطلاب، وظهرت عيوب في بعض العلماء؛ لأن هؤلاء وهؤلاء قد قرنوا المطالبة بالإصلاح بشيء من العنف، وشيء من الخروج عن الخلق الكريم: الخلق الكريم الفاضل الذي يجب أن يكون حلية طالب العلم الديني، وحلية العالم الديني. ويمكنني في هذا المقام أن أصرح لكم ولجميع المسلمين في مختلف الأقطار بأني أفضل وأوثر بأن تُخْرِج المعاهد الدينية رجلاً ذا خلق وفيه جهالة على أن تخرج إمامًا من الأئمة، وفيلسوفًا جم البحث حاشد الذهن لا خلق له، وليس من الخير للدين ولا لأهل الدين ولا للمسلمين والإسلام أن يوجد علماء أشرار لا خلق لهم؛ لأن مهمتكم التي وُجدتم لها، ووُجدت لها المعاهد هي إيجاد رجال يقومون بحراسة الدين ويرضون الله بعملهم، يتجافون عن الدنيا ويعزفون عن أعراضها إذا وجدوا في طريقها الذلة والمهانة والمسكنة وإهدار الخُلق، والله سبحانه وتعالى لا يرضى عن طائفة من الطوائف وُجدت لإعزاز دينه ثم استخدمت مواهبها لإذلال أهل هذا الدين الحنيف. لكم في سيرة السلف من علماء المسلمين، وفي آبائكم في الأزهر الشريف قدوة خير، كانوا يرضون بالكفاف من العيش، مقبلين على العلم إقبال المخلص لله ولرسول الله، ولست الآن من الواعظين الزاهدين الذين يرغبون في أن يباعدوكم عن الحياة، وإذا لبست هذا الثوب فقد تكذبني الظواهر، فأنتم ترونني أستمتع بالحياة جهد ما أستطيع؛ ولكني أدلكم على طريق المتاع: الزهد في الحياة طريق المتاع فيها. وجهوا أنفسكم واجتهدوا أن تخلقوا في أبنائكم هذا الروح، روح الإقبال على العلم لله وللرسول، روح إرضاء العلم للعلم على أن تجعلوه مقصدًا لا وسيلة. العلم شريف لا يرضى المذلة والمهانة، فإذا أكرمتم أنفسكم رضي الله عنكم ورضيت الناس، ومتى رضي الله عنكم ورضيت الناس وجدتم من الدنيا إقبالاً، وسعت إليكم دون أن تسعوا إليها. وكنت أحب أن أجعل هذا الحديث معكم طويلاً؛ ولكن وقتي ضيق، وعملي كثير، فأكتفي وأقف عند هذا القدر، وأرجو في الختام أن تكونوا رسل خير للأمة الإسلامية، وأن يوفقنا الله جميعًا ويرشدنا للبر والخير والسلام اهـ.

خليج العقبة الحجازي وطمع الإنكليز فيه

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خليج العقبة الحجازي وطمع الإنكليز فيه خليج العقبة أعظم ثغر لدار الإسلام الأولى في جزيرة العرب التي بناها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، وأوصاهم في مرض موته بأن لا يبقى فيها دينان، ومهد السبيل لفتح سياجها الشمالي بإسرائه إلى المسجد الأقصى وغزوته لتبوك، وأتم عمله خليفتاه أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما بفتح بيت المقدس، والشام، فهذا الثغر الحجازي هو الحَلْْْق الذي يدخل منه إلى جوف هذه الدار، والخط الممتد منه إلى معان، وتبوك فالشام، فالعراق هو حبل الوريد لحياة هذه الدار، ولم يكتف الإنكليز بالسيطرة على فلسطين وشرقي الأردن باسم الانتداب حتى أرادوا التوسل بذلك إلى السيطرة الحربية والتجارية على هذا الثغر وهذا الخط؛ لتكون حياة الحجاز ونجد في قبضتهم مع القسم الشمالي من دار الإسلام حتى لا يبقى للإسلام دار مستقلة، واستعمالهم لعلي وعبد الله ابني الملك حسين لهذه السيطرة ومنازعة الملك عبد العزيز بن السعود لهم فيها معروفة، وتأجيل الفصل في هذا النزاع إلى مفاوضة ثانية بعد مفاوضة بحره معروف؛ ولكن الإنكليز يمهدون السبيل لهذا الغرض القديم مرة بعد أخرى، وقد أحدثوا في هذا الربيع حدثًا مخيفًا بزيارة رئيس أركان الحرب العامة للعقبة وحدود شرق الأردن أوجب على الجرائد تجديد البحث، فنشر المقطم في 28 مارس سنة 1935 برقية في الموضوع علق عليها محرر المباحث العربية فيه المقال الآتي في اليوم التالي: العقبة بين مصر والحجاز وإنكلترا لخَّص مُكَاتِب المقطم اللندني في برقياته أمس رسالة جريدة المورننج بوست لمكاتبها من عَمَّان جاء فيها (أن منطقة العقبة وقد كانت تابعة لمصر من مدة طويلة ستكون موضوعًا لمباحثات دولية، وأن السر أرشيلد منتغمري مسنبرد رئيس هيئة أركان الحرب العامة يتعهد مواقع الدفاع في شرق الأردن على الحدود، ويطلب الملك ابن سعود أن تكون العقبة له) . والواقع أن زيارة رئيس هيئة أركان الحرب لفلسطين وشرق الأردن في مثل هذه الآونة من الحوادث التي استوقفت الأنظار، فقد استدل منها الناس على عناية البريطانيين بمستقبل تلك البلاد ورغبتهم في تحصينها والدفاع عنها إذا لزم الأمر. ولكن هنالك ملاحظة تتعلق بالدفاع عن تلك البلاد نريد أن نلفت النظر إليها ونطرحها للبحث لمعالجتها من الوجهة الحقوقية والدولية، وخلاصتها أن فلسطين وشرقي الأردن ليست من ممتلكات التاج البريطاني فتحشد فيها الحكومة البريطانية القوات، وتجعلها دار حرب وكفاح في حالة حدوث حرب بينها وبين دولة أجنبية، وإنما هي وديعة أودعتها جامعة الأمم لبريطانيا لكي تعدها للاستقلال وحكم نفسها بنفسها، على أن تجلو عنها وتعيد إليها حريتها واستقلالها يوم تبلغ أشدها، وتصبح قادرة على حكم نفسها، وذلك بقرار تصدره جامعة الأمم نفسها كما جرى مع العراق فقد تحررت من الانتداب بموجب قرار أصدرته الجامعة في سنة 1932. وفضلاً عن ذلك فإن صك الانتداب البريطاني لفلسطين وشرق الأردن الذي أقرته جامعة الأمم في سنة 1922 لا ينيل بريطانيا هذا الحق، ولا يعترف بجعل البلاد جزءًا من أجزاء ممتلكاتها، فقد جاء في المادة 17 من هذا الصك ما نصه: (يجوز لحكومة فلسطين أن تنظم - على قاعدة اختيارية - القوات اللازمة للمحافظة على السلم والنظام وللدفاع عن البلاد بشرط أن تكون تحت إشراف الدولة المنتدبة، ولا يجوز لحكومة فلسطين استخدام هذه القوات لأغراض غير ما تقدم إلا بموافقة الدولة المنتدبة، وفي ماعدا هذا لا يجوز لإدارة فلسطين أن تجمع قوات عسكرية أو بحرية أو جوية أو تبقيها عندها. (وليس في هذه المادة ما يمنع إدارة فلسطين من الاشتراك في نفقات القوات التي تكون في فلسطين، ويحق للدولة المنتدبة في كل وقت أن تستخدم طرق فلسطين وسككها الحديدية وموانيها لحركات القوات المسلحة، ونقل الوقود والمهمات) . هذا ما ورد في صك الانتداب خاصًّا بالعلاقات العسكرية بين الدولة المنتدبة والبلاد المشمولة بالانتداب، والمقصود بها هنا (فلسطين وشرق الأردن) وهي لا تجيز لهذه الدولة أن تجعلها قاعدة من قواعدها الدفاعية، ولا أن تزجها في حرب إذا خاضتها، وإن لم يك هنالك ما ينذر بقرب إعلان هذه الحرب؛ لأنها بلاد مستقلة ذات سيادة؛ ولأنها ليست سوى وديعة مؤقتة بيد بريطانيا، ولا يجوز للمودَع (بالفتح) أن يتصرف بالودائع ويغيرها أو يبدل شكلها إلا لضرورة. ومع كل ما يكتب ويقال فإننا نعتقد أنه ليس هنالك ما يبعث على التشاؤم، وإنما أردنا التذكير من وجهة عامة، ولفت نظر ذوي الشأن إلى أن البلاد التي ينتدب لها لا تعد جزءًا من ممتلكات الدولة المنتدبة ليجوز لها أن تتصرف بأمورها؛ وإنما هي وديعة مؤقتة أودعت تحت يدها لِأَجَلٍ تسميه جامعة الأمم وتحدده. (مصر والعقبة) ولقد كانت العقبة - وهي لا تبعد عن حدود مصر الشرقية في الوقت الحاضر سوى بضعة كيلو مترات، والواقف في آخر هذه الحدود يشاهدها بالعين المجردة - جزءًا من أجزاء مصر حتى عهد الخديو إسماعيل فتنازل عنها لتركيا، ولما حددت الحدود نهائيًّا بين مصر وتركيا في سنة 1906 أدخلت نهائيًّا ضمن الحدود العثمانية، وألحقت بلواء الكرك (شرق الأردن اليوم) وصارت جزءًا من أجزائه. (الحجاز والعقبة) ولما نشبت الثورة العربية في أثناء الحرب العظمى احتل العرب هذا الثغر في سنة 1917، واتخذوه قاعدة لأعمالهم العسكرية في جنوب سورية، فأُلحق من ذلك العهد بحكومة مكة، وظل جزءًا من أجزائها حتى يوم 18 مارس سنة 1924، فأعلن الملك حسين تنازله مؤقتًا عن إدارة معان والعقبة لإمارة شرق الأردن، وفي يوم 18 يوليو سنة 1925 أعلن الأمير عبد الله ضم معان والعقبة نهائيًّا إلى إمارته، وذلك بناء على اتفاق عقده مع أخيه الملك علي، وذلك في الوقت الذين كان فيه ابن سعود يهاجم الحجاز ويحاصر جدة. (ابن سعود والعقبة) وأبى ابن سعود أن يعترف بما تم بين الملك علي والأمير عبد الله بعد استيلائه على الحجاز، وأعلن أنه لا يقر ما وقع، بل يعده من قبيل التواطؤ، وأنه لا يزال يعتبر معان والعقبة من أقطار الحجاز، وأن ما جرى بين الأخوين لا يقيده ولا يسري عليه. وأثيرت هذه المسألة في المفاوضات التي دارت في جدة بين الحكومة السعودية والحكومة البريطانية، فتقرر الاحتفاظ بالحالة الراهنة فيها إلى أن تحين الظروف المناسبة لتسوية مسألتها تسوية نهائية مع الوعد من جانب الحكومة السعودية بأن لا تتدخل في إدارتها. هذا ما تم الاتفاق عليه في شهر مايو 1926 في جدة بين السر جلبرت كليتن باسم بريطانيا، والأمير فيصل السعود باسم الحكومة العربية السعودية، وقد تعهدت فيه هذه الحكومة بأن تحترم الحالة القائمة في هذه المقاطعة إلى أن تحين الظروف المناسبة، فهل حانت هذه الظروف الآن؟ وهل لذهاب رئيس هيئة أركان الحرب الآن إلى فلسطين وشرق الأردن - ويقولون إنه جاء ليحقق عن هذه المسألة - صلة بحلول هذه الظروف؟ إننا نشك في صحة هذه الرواية، وندعو إلى مقابلتها بالاحتياط، فلم يرد في المصادر الأخرى ما يدل على أن الحكومة السعودية أثارت هذه القضية، أو أنها تنوي إثارتها على الأقل، كما أنه ليس هنالك ما يدل على أن بريطانيا تعيدها بسهولة إلى الحكومة السعودية لاعتبارات معروفة بداهة، وإنما هي أقوال تقال، وإشاعات تشاع، ويراد بها ذر الرماد بالعيون، وسنرى ما يكون. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أمين سعيد (المنار) الحق أن ثغر العقبة ثغر عربي حجازي في موقعه الجغرافي، فسكان ضفتيه ما زالوا من صميم عرب الحجاز، وتصرف الدولة العثمانية في إدارة هذه البلاد كان من حقوق سيادتها على الحجاز وسورية الجنوبية (فلسطين) والشمالية ومصر، ولما شعرت بطمع إنكلترة فيه ألحقته بالحجاز نهائيًّا، كما بينت ذلك في الجزء الثاني والثالث من مجلد المنار التاسع سنة 1325 وهو: مسألة العقبة (منقولة من ص 157 ج 2 م 9 منار الذي صدر في صفر سنة 1325) كان أهل الرأي في الدولة وأصحاب النفوذ في المابين يرون منذ شرع في سكة الحجاز الحديدية أن من الضروري إحداث ناشط لها ينتهي بفرضة العقبة في البحر الأحمر، وقال بعضهم: إذا عجزنا عن إيصال السكة إلى الحرمين، فإن ربحنا من السكة لا يكون قليلاً إذا استعضنا عن ذلك بإيصالها إلى العقبة، وقد اجتهد الصدر الأعظم ومختار باشا الغازي، وعزت باشا العابد، وصادق باشا العظم اجتهادًا عظيمًا في إقناع السلطان بوجوب إنشاء هذا الناشط منذ سنين، فكان يأبى ذلك ويحتج بأن هذا يكون وسيلة لتداخل الإنكليز في بلاد العرب، فلما أعياه أمر ثورة اليمن اقتنع بأن إخضاع تلك الولاية وتمكين السلطة فيها من بعض فوائد ناشد العقبة من سكة الحديد فأمر به وأرسلت الجنود العثمانية إلى العقبة لتمهيد العمل، فلما رأت إنكلترة ذلك خافت من الدولة على مصر أضعاف ما كان يخاف منها السلطان على بلاد العرب، واعتقدت أنه ما دفع السلطان على هذا العمل إلا ألمانيا الدائبة في مناهضة إنكلترة، وأنه لا يبعد أن يتفق السلطان مع عاهل الألمان على الزحف على مصر بعد وصول الناشط إلى العقبة، فأرادت بناء معاقل عسكرية هناك باسم مصر، فكانت الدولة بالمرصاد، فمنعت الجنود المصرية من البناء بالتهديد، فأنشأت إنكلترة تعارض الدولة بأن جنودها احتلت نقطة مما كانت سمحت به لمصر من أرض سيناء واشتدت في ذلك بلسانها وبلسان الحكومة الخديوية التي تنطق بوحيها على أن إنكلترة قد غيرت حدود مصر في شبه جزيرة سيناء في الخرائط الجغرافية التي جددتها المدارس المصرية منذ بضع سنين. مسألة العقبة منقولة من ص 231 ج 3 م 9 منار الذي صدر في ربيع الأول سنة1325 بيَّنا في الجزء الماضي أن حقيقة المسألة عسكرية لا إدارية تتعلق بالحدود، فهي أول وليد ولدته لنا سكة حديد الحجاز، فالدول العلية ترى أن إنكلترا تخاف عاقبة هذه السكة على مصر، فهي تريد اتقاء الخطر بإقامة المعاقل الحربية في شبه جزيرة سيناء؛ لأن محاربتها في مصر إذا دخلت فيها غير معقول وهي تخاف من إنكلترة على سورية والحجاز إذا هي جعلتها بقعة عسكرية باسم مصر؛ ولذلك كان السلطان غير راضٍ بإنشاء ناشط من السكة إلى العقبة، ولما اضطر إلى ذلك باستفحال الثورة في اليمن رأى أن إنكلترة أنفذت الجنود المصرية إلى العقبة للبناء، كما قيل، ورأت الجنود المصرية ومن يقودها من الإنكليز أن العساكر العثمانية بالمرصاد، فظهر الأمر وبدأ الخلاف بالشكل الذي عرفه الناس وهو أن الترك قد اعتدوا الحدود المصرية، ولعل الذي نبه الترك إلى أخذ الحذر من الإنكليز هو تعيين خمسة آلاف جنيه مصري في ميزانية مالية مصر باسم شبه جزيرة سيناء. فَهَمُّ الإنكليز من جعل العقبة تابعة لولاية الحجاز أن الدولة العثمانية تريد بذلك أن تمنعها منهم بسياج ديني، وهو إثارة سخط المسلمين في مستعمراتهم وغيرها عليهم إذا مدوا أيديهم إليها، وما كانت الدولة لتحسن استخدام هذه القوى المعنوية ولو كانت تريد ذلك لما حال دونه جعل العقبة تابعة لسورية؛ لأنها على كل حال من جزيرة العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى فيها دينان وأن يخرج منها يهود يثرب ونصارى نجران، وقد قاوم الإنكليز ما توهموه من الدولة بإياهم من جنسه فأنشأوا يوهمون شعبهم وسائر الشعوب الأوربية بأن السلطان يريد تهييج ا

الشقاق بين العرب المسلمين شر ما آل إليه في فلسطين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الشقاق بين العرب المسلمين شر ما آل إليه في فلسطين العرب أقدم الأمم لغة وحضارة وعمرانًا فلهم العرق الواشج في حضارة قدماء المصريين والكلدانيين والفينيقيين، ووثبتهم الإسلامية قضت على ملك الفرس وإمبراطورية الروم في الشرق في ثلث قرن، ثم امتد سلطانها قبل انقضاء القرن من المحيط الغربي إلى الصين، وطفق يناوش شعوب أوربة في الشمال، ثم لم يكن سبب تمزيق هذا الملك العظيم إلا الشقاق والتنازع على الرياسة من أكبر مجتمعاته، وهو الخلافة فالملك إلى أصغرها وهي المناصب الدولية والعلمية والدينية فرياسة القبيلة والقرية، فرياسة العشيرة والأسرة، وقد آل بهم هذا الشقاق إلى زوال سلطانهم عن الشعوب الأعجمية وضعف لغتهم فيها والجامعة الإسلامية التي تربطهم بها، ثم إلى زوال استقلالهم في شعوبهم المحافظة على جامعتها العربية الممتدة من سلطنة مراكش في المغرب إلى سلطنة مسقط، وعمان في المشرق، وقعت كل هذه الكوارث كلها والعرب كلهم غافلون عن أسبابها وعللها، ومقدماتها ونتائجها، وكلها ترجع إلى الشقاق والتنازع في الرياسة. وقد بدءوا يستيقظون رويدًا رويدًا لما حل بهم فرأوا بعين بصيرتهم، ثم بأبصارهم أن أكبر الكوارث الطارئة وأشدها خطرًا كارثة تواطؤ أكبر دول الأرض قوة وسلطانًا، وهي الدولة البريطانية وأقوى شعوب الأرض عصبية وثروة وكيدًا ومكرًا وهو الشعب اليهودي - وتوجيه قواهما إلى انتزاع وطن عربي كامل من أهله وطردهم منه وإعطائه لليهود ليؤسسوا فيه ملكًا جديدًا بالرغم من ملتي عيسى، ومحمد عليهما الصلاة والسلام يكون فاصلاً بين الشطر الأفريقي والشطر الأسيوي من الأمة العربية قبل أن ينجح دعاة وحدتها العامة في سعيهم، فيحول دون اتحاد مصر أو اتصالها بفلسطين وما وراءها - إلى غير ذلك من المقاصد التي لا محل لشرحها وأهمها مسألة الحجاز وجزيرة العرب. الواجب على الشعوب العربية كلها تجاه هذا الخطر الذي يهددها في فلسطين أن تهب كلها لدرئه ودفعه، بل يجب على الشعوب الإسلامية غير العربية أن تساعدها على ذلك أيضًا لمكانة المسجد الأقصى الذي لُقب بحق (أولى القبلتين وثالث الحرمين) فيه، ولما في وجود دولة يهودية تكفلها الدولة البريطانية من الخطر على الحجاز ونجد أو وقوة المملكة العربية السعودية الحامية للحجاز، وحافظة الأمن فيه، وكان المعقول أن تسمع الدعوة إلى هذا من فلسطين. ونحمد الله أن وُجد في فلسطين عقل مفكر، ورأي مدبر سعى له سعيه، ولم يقدر عليه غيره، ألا وهو السيد محمد أمين الحسيني المفتي الأكبر للبلاد، ورئيس المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى فيها، سعى إلى تأسيس مؤتمر إسلامي عام يُعقد في المسجد الأقصى في ليلة ذكرى الإسراء والمعراج ففاز، وجعل المسألة الفلسطينية ركنًا من أركان المسألة العربية الإسلامية العامة، فصار زعيمًا إسلاميًّا عامًّا بعد ما كان زعيمًا فلسطينيًّا خاصًّا. اضطرب لدعوة هذا المؤتمر دول الاستعمار وخاطبوا زعيمتهم إنكلترة بوجوب منعه، أو تضييق الحرية على أعضائه، واضطربت له دولة الترك اللادينية لما قيل من أنه سيقرر إحياء منصب الخلافة الإسلامية التي ألغت صورتها الرسمية، وكل ما له صلة شرعية بها من بلادها، وتكره أن يتجدد لها ذكر في أي قطر من العالم الإسلامي، واضطربت له الحكومة المصرية السابقة لما لا يعقل له سبب إلا مثل الوهم الشيطاني، فكانت فئتها فيه هي التي تولت الكيد له، والسعي لخيبة مؤسسه والداعي إليه الزعيم الحسيني بإغراء بعض أعضائها بما ظهر أثره منذ الليلة الأولى لعقده، ثم في الجلسة التي اختاره فيه المؤتمر رئيسًا له، ثم في جلسات أخرى، ثم اختلافهم إلى زعيم الحزب الفلسطيني المناوئ لرئيسه السيد الحسيني، وهو راغب بك النشاشيبي الذي كان رئيس بلدية القدس للتشاور والسعي لتخذيله، ولقد كنت في مقدمة أنصاره لأجل المصلحة على أنه كان مقصر معي هنالك وأنا أستاذه. كان من أعضاء هذا المؤتمر، وكنت أشعر بالدسائس التي كانت تدبر للكيد وتدار من حوله فأتجاهلها، ودعيت إلى حفلة الشاي التي أدبها النشاشيبى لأعضاء المؤتمر فلم أستجب لها؛ ولكنني كلمت بعض عقلاء فلسطين وأحرارها في السعي للصلح بين النشاشيبي والحسيني، فقيل لي: إنه لا سبيل إليه الآن أو مطلقًا، فأمسكت عن الكلام فيه، ثم كلمني بعض المخلصين في مصر بالسعي لذلك، فلم أجد له مجالاً ولا منفذًا، وإن أكره شيء إليّ في العالم النفاق والشقاق للتنازع على الرياسة وحب الأهواء. آل أمر هذا التنازع بين النشاشبية والحسينية - وهو قديم - أن سقط راغب بك في انتخاب رياسة بلدية القدس، وفاز عليه الدكتور حسين بك الخالدي من الأسرة الخالدية بمساعدة الحسينية، فاتفقت هاتان الأسرتان الشريفتان وكانتا متنازعتين، فسر محبو الاتفاق وجمع الكلمة، وانحصرت معارضة الإصلاح في أسرة النشاشيبي والمنكرين على السيد أمين الحسيني والمجلس الإسلامي الأعلى للاختلاف في الرأي أو لأغراض شخصية، وحزب الحسيني أقوى من كل هؤلاء في فلسطين نفسها، ويؤيده أهل الرأي والمكانة في سائر البلاد العربية، وفي الشعوب الإسلامية غير العربية، ولا يعرف النشاشيبي ولا حزبه أحد في هذه البلاد والشعوب إلا أفراد في مصر ممن كانوا شايعوه على إسقاط السيد الحسيني من رياسة المؤتمر الإسلامي لغرض عارض، وكلهم يوافقونه على مقاومة اليهود وعلى جمع كلمة المسلمين على هذا العمل وغيره، وإذًا لا يجد المعارضون له الآن في مصر ولا غيرها وليًا ولا نصيرًا. على أن هذه العاقبة السوءى لم تفل من حد حزبهم، بل زادته مضاء وتهورًا حتى كان من عقابيل هذه الحمى كتاب نُشر في جريدة الجامعة الإسلامية الفلسطينية طُبعت صورته بالزنك، وقيل إنه من خط الأمير شكيب أرسلان بإمضائه إلى السيد أمين الحسيني يدعوه به إلى نشر الدعاية في البلاد لدولة إيطالية، وقد رأينا كل من اطلع على هذا الكتاب في هذه الجريدة ممن يعرفون خط الأمير شكيب، وممن يعرفون إنشاءه وممن يعرفون مذهبه ومشربه السياسي في خدمة الأمة العربية، والملة الإسلامية من سن الصبا إلى سن الشيخوخة، أنه مزوَّر عليه، والظاهر أن المزورين له ظنوا أن القارئين له يصدقون فحواه المراد منه بشبهة ما كتبه الأمير من تنفيس السنيور موسوليني بسعيه عن مسلمي طرابلس وبرقة برد المبعدين منهم عن دورهم إليها، وفتح أبواب الرزق لهم بعد أن دب الفناء إليهم، ومن منع دعاة الكنيسة من الطعن في دينهم ومحاولة تنصيرهم، وغير ذلك مما قد اشتهر ولم يقدر على تكذيبه أحد، إلا أن بعض الناس كرهوا هذا التصريح من الأمير المجاهد في سبيل العرب بعدما كان من شدة جهاده لإيطالية تنكيلها بهؤلاء من قبل، فقال بعضهم: إنه، أي: التصريح يجوز أن يكتبه غيره ولا يجوز أن يكتبه هو، وإن كان يعلم أنه حق وطعن آخرون به عليه عن رأي أو وجدان، أو هوى وشنآن. ونحن لا ندخل في هذا ولا نجادل فيه بما نعلم - ومنه وتودد إيطالية للدولة العربية السعودية، مع بقاء التودد إلى دولة الإمام اليمانية - لأنه ليس من موضوعنا لا مجاراة لمن يرون أنه لا يجوز الاعتراف للمستعمر بحسنة، ولا بالرجوع عن سيئة؛ وإنما نقول عن هذا الكتاب المتفق على أنه مزور قد أريد به هدم زعامة السيد أمين الحسيني بالذات، وهدم زعامة الأمير شكيب بالعرض أو الوسيلة، وكل منهما حصن حصين للعرب وللإسلام، أحكمت بناءه سنن الله في الاجتماع بما أوتي كل منهما من استعداد عقلي وخلقي، وعمل سياسي أو قلمي، ومواتاة لحوادث الزمان، وما أتيح له من ثقة الناس به، فبات خصوم البلاد العربية والملة الإسلامية من اليهود ودول الاستعمار يحسبون لهما كل حساب، فهدم كل منهما جناية على الأمة والملة والأوطان العربية، وخدمة للصهيونية والدول الاستعمارية، لا يفكر أحد أن يدعي أن محاولي هدمها يستطيعون إيجاد أحد يغني غناءهما، ويبلي بلاءهما، أو يوجدوا في فلسطين زعيمًا يحل مكان أمين الحسيني في عقله وتدبيره وتأثيره في مجاهدة الصهيونية، دع مكانته في الشعوب الإسلامية، ولا كاتبًا بليغًا سياسيًّا مؤرخًا يقوم مقام الأمير شكيب في بلاغة قلمه، وقوة حجته، وثقة الأمة العربية والشعوب الإسلامية برأيه وإخلاصه، ولا أبرأهما في هذا من الخطأ في بعض الرأي أو القول، وسبحان المنزه عن كل عيب. وإنما الأمر الثابت بادي الرأي أن هذا الطعن فيهما بالباطل، ومحاولة التشكيك في إخلاصهما هو خدمة لليهود وللإنكليز، وعون لهما على طرد العرب من هذا الوطن العربي، وما فيه من الخطر على الشعوب العربية كلها، وعلى مصلحة الدين الإسلامي، وهو أخس مظاهر الشقاق الذي افتتحنا هذا المقال بالتذكير بمضاره، وأنا أعتقد أن الظفر المعنوي فيه سيكون - بل هو كائن - للزعيمين المجاهدين ليس للحزب المالي المناوئ لهما منه شيء، وحسبك من زيادة الشقاق تعديه من الأفراد إلى الجرائد العربية التي يجب اتفاقها في هذا العهد على مصلحة البلاد، وقد بلغني أن خصومها قد افترصوه وشرعوا في تأليف حزب جديد لهدم دعامة الحسيني وأنصاره، إذ علموا أن حزب النشاشيبي سيقتل نفسه بمناوئته، ولا بد لحزب الحسيني من حزب آخر يجهز عليه أو يحاول إسقاطه. فأنا بما فطرت وربيت عليه من مقت الشقاق، ومن كراهة العصبية للأفراد والأحزاب، ومن التدين بالدعوة إلى الإصلاح، أدعو عقلاء الفلسطينيين إلى جمع الكلمة وإصلاح ذات البين، معتقدًا أن أشرف ما يفعله حزب النشاشيبي ورئيسه راغب بك والأستاذ الفاروقي صاحب جريدة الجامعة الإسلامية أن يبدؤوا باستنكار الكتاب المزور والبراءة منه واستهجان مضمونه، وأن يكف الفريقان عن الطعن في أنفسهما هجومًا ودفاعًا، وما طعن الإنسان بأخيه إلا طعن بنفسه، كما قيل في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (النساء: 29) وقد بلغني ممن لا أتهمه أن الأستاذ الفاروقي ما نشر الكتاب المزور إلا بعد أن شهدت له لجنة اعتمد عليها بأنه صحيح، ولو صحت شهادتها لما كان له أن ينشره، وهو صار مفرق للكلمة، وقد بالغ الأمير شكيب في تفنيده دفاعًا عن نفسه بالحق؛ ولكنني كرهت من هذه المبالغة أنها كانت ضرامًا في نار الشقاق وتخريب العرب بيوتهم بأيديهم كما وصف الله اليهود في عصر التنزيل بقوله: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) ، وقوله بعده: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) بل صرنا اليوم وقد اجتمعت كلمتهم علينا شرًّا مما كانوا يومئذ، فعلى الفريقين أن يكفوا عن هذه المطاعن، وأن يفوضوا لأهل الرأي المخلصين وضع أساس للصلح المعقول الذي يحفظ كرامة كل منهم على قاعدة قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ} (المائدة: 2) وليسابق كل إلى الجاه والمجد فيما لا يضر الأمة كما شاء، وإلا كان الجميع على الناعي المزور، وكاتب هذا أول من يستجيب لذلك ويسعى إليه سعيه مع الساعين {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَ

كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم ـ 1

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم الحكم بين المختلفين فيه (1) ألَّف بعض كتاب الأوربيين مصنفات في تاريخ سيدنا محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، أو ترجمة حياته، عُرف غير واحد منها باسم (حياة محمد) كان آخرها فيما علمنا للكاتب الفرنسي البليغ موسيو درمنغام، ويقال: إنه أقربهم إلى صحة الرواية؛ لأنه اعتمد على المصادر الإسلامية وأوسعها عنده سيرة ابن هشام، وأجدرهم بحسن النية فيما أخطأ فيه؛ فإنه حاول الجمع بين اعتقاده واعتقاد المسلمين، والتقريب بينهما بقدر ما تعطيه بلاغته الفرنسية في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وتصوير فضائله. أعجب بهذا الكتاب الدكتور حسين بك هيكل الكاتب المصري الشهير، ولسان حزب الأحرار الدستوريين في جريدتهم (السياسة) فطفق يترجمه وينشره في صحيفة السياسة الأسبوعية الخاصة بالعلم والأدب والفنون متصرفًا في الترجمة تصرف (عرض ونقد) فكان لما ينشره أحسن تأثير في قلوب قرائها من المسلمين، سرهم منه أن رأوا هذا الكاتب العصري صار من أنصار الدين ينشر لهم أمثل ما كتب الإفرنج في النبي صلى الله عليه وسلم وما هو خير منه، بعد أن كان لجريدة السياسية من المقالات ما أوقع بينها وبين المنار ما لم ينسه قراؤهما، ثم اتفقنا ولله الحمد، وكانت أشد الصحف تعاونًا معنا على إصلاح الأزهر. ثم اتفق في أثناء عرض الدكتور هيكل لهذا الكتاب (حياة محمد) أنني كنت أكتب بحث (الوحي المحمدي) في تفسيري لسورة يونس عليه السلام، وكان غرضي الأول منه دحض شبهات القائلين من الإفرنج وغيرهم بالوحي النفسي، يعنون أنه نابع من نفس النبي وصادر عن استعداد عقله الذي يعبرون عنه في هذا العهد بالعقل الباطن، ونعني نحن به الروح الغيبي المعبر عنه بقول تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) ولكن هؤلاء الماديين لا يؤمنون بعالم الغيب، ولا بأن للإنسان روحًا مستقلاً نُفخ فيه من ذلك العالم، فهم يسندون كل ما ثبت عندهم من مدارك الإنسان غير الحسية ولا العقلية المنطقية إلى اسم جديد سموه العقل الباطن، ومنه ما ثبت من إخبار المنومين بالتأثير المغناطيسي بالغيب، وما يسمونه قراءة الأفكار ومراسلة الأفكار، وقد رأيت أن ما نقله هيكل عن درمنغام من الكلام على بدء الوحي المحمدي ومقدماته قد جمع فيه جميع الشبهات التي يمكن الاحتجاج بها على أن هذا الوحي نفسي، وقد لخصته في عشر، رددت عليها أقوى رد، ثم أثبت أن وحي القرآن من عالم الغيب، بما بسطته من كليات مقاصد القرآن العشر، واستحالة كونها من عقل محمد واستعداده، واستحالة أن يكون ما دونها من العلم والفهم والعمل مما وقع أو يقع مثله لأحد من البشر في سن الكهولة. لم أقرأ كل ما نشره هيكل من هذا الكتاب، ولكن علمت أنه يضع كتابًا مستقلاً في ذلك فتح بابًا للاشتراك فيه، ثم صدر هذا الكتاب مطبوعًا أحسن طبع، ونُشرت له دعاية واسعة في الصحف، فكان له تأثير حسن، وتفضل عليَّ المؤلف بنسخة منه جاءت في وقت حاشد بالشواغل الكثيرة: منها إتمام المجلد 34 من المنار، والجزء الثاني عشر من التفسير، وما يقتضيانه من خاتمة وفهارس وتصدير، ومنها الشروع في الطبعة الثالثة لكتاب (الوحي المحمدي) ، والشروع في (التفسير المختصر المفيد) اختصارًا وطبعًا، وقد اشتد الإلحاح بطلبه، لهذا أرجأت ما يوجبه عليَّ سروري به من مطالعته وتقريظه إلى فراغ أرى أن انتظاره لا يعدو شهرين، بيد أنني تصفحت مقدمته وبحث مقدمة بدء الوحي منه، فعجبت لمؤلفه كيف أقر درمنغام مؤلف الأصل على مزاعمه فيها بعد تفنيدي لها في كتاب الوحي المحمدي، وقد اطلع عليه وذكره في الكتب التي استمد من مباحثها في مصنفه، فإن أدري أغفل عن تفنيدي لشبهاتها العشر وإثبات الوحي الإلهي بكليات مقاصد القرآن العشر أم ماذا؟ فهذه المسألة أنكر المنكرات في أصل الكتاب، ولم يفطن لها الجمهور فيه، ولا في فرعه، ولا لفروعها المنكرة وهي كثيرة، وقد أنكروا ما هو دونها. ثم رأيت من علماء الأزهر وغيرهم من يسألني عن رأيي في هذا الكتاب، ومنهم من يطالبني بالرد على ما أنكروا عليه منه، ورأيت بعضهم رد عليه في بعض الصحف فلم أقرأه، ثم جاءتني رسالة بعد رسالة يوجب عليَّ مرسلها الرد عليه (وإنقاذ الدين مما يثيره من الشك فيه، الفاتن للشباب العصري بتنميقه) ويرى كغيره أني أولى الناس به وأقدرهم عليه، وهو في حسن ظنه هذا يشير إلى سوء ظن باحتمال أن أحابي المؤلف بالسكوت عن الإنكار عليه، فصار السكوت بعد السؤال من كتمان العلم الذي أوجب الله بيانه، وحظر كتمانه ولعن أصحابه. فأنا أنشر ألطف الرسالتين نقدًا، وأحسنهما أدبًا، وأذكر من الثانية المنكرات التي أشار إليها بأرقام صفحاتها، وما عدا هذا من طعن في الكاتب والمقرظين لكتابه فلا يجب نشره، وربما يكره وقد يحرم، ولا يتوقف عليه إنكار المنكر ولا إحقاق الحق، وأجيب بما أعتقد أنه الحق الواجب بالإيجاز، ولعلي أعود إلى تقريظ الكتاب ونقده في جملته، من مسائله وأسلوبه ولغته؛ لأنه جدير بذلك بشهرة مؤلفه وتأثيره، عسى أن يكون النقد العادل عونًا على تنقيحه، فيكون النفع به منقحًا في طبعة أخرى أتم وأعم. *** الرسالة الأولى للأستاذ العالم الباحث صاحب الإمضاء (بسم الله الرحمن الرحيم) حضرة صاحب الفضيلة العالم الشهير السيد (محمد رشيد رضا) منشئ المنار الأغر السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد فإن كتاب الدكتور هيكل (حياة محمد) صلى الله عليه وسلم حين كان يُنشر على صفحات جريدة السياسة الأسبوعية، كان الذين يتحرجون عن وصمة سوء الظن بلا موجب يحسنون الظن بصاحبه، ويقولون لعله أخذت بيده العناية الإلهية فوضعته في صفوف الذابين عن الحقائق الدينية، الناشرين لمحاسن الشريعة المحمدية، فأنشأ يبرز للناس مخدرات عرائس السيرة في ثوب قشيب يلائم ذوق العصر، ويتناسب والثقافة الحاضرة حيث لم يتح لهم إذ ذاك أن يقفوا على جله فضلاً عن كله، فلما ظهر في عالم المطبوعات ما عتموا أن تهافتوا على اقتنائه بناء على ذلك الظن، ثم طفقوا يقرءونه بفضل عناية وكمال تدبر، فما لبثوا أن بدا لهم منه ما لم يكونوا يحتسبون من تشويه للحقائق القطعية، وتمويه على الضعفاء بالإغراق في إلباس الباطل ثوب الحق، وصوغ الخيالات في ثوب الحقائق، وإقرار ما ليس بثابت عند أئمة الدين، وإنكار ما هو معلوم للخاصة والعامة من المسلمين، وحسبنا الآن توجيه ثاقب نظركم إلى أمر واحد هو أساس لجميع أخطائه أو جلها، ألا وهو إنكاره جميع المعجزات المحمدية سوى القرآن، ولو أنه اقتصر على مجرد هذا الإنكار لتأولنا لحضرته وقلنا لعله أراد أن القرآن العظيم هو المعجزة العظمى التي تتضاءل في جنبها سائر المعجزات؛ ولكنه قد علل الإنكار المذكور بأن تلك المعجزات بأسرها مخالفة لسنن الله عز شأنه، وأن تجويز شيء منها مناف لما نطق به القرآن من أن تلك السنن لا تتبدل، وزعم أن أحاديث المعجزات كلها موضوعة إما لمحاولة أن يجعل له صلى الله عليه وسلم من الآيات مثل ما لموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وإما لتشكيك من يؤمنون بقوله تعالى: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب:62) فهذا نص لا يحتمل تأويلاً في أنه لا يدين بشيء من المعجزات الكونية؛ فإنه قرر أن وقوع شيء منها تبديل للسنن الإلهية، وأنه محال، ويا ليت شعري ماذا يصنع بالآي القرآنية المتضمنة لمعجزات الأنبياء من نحو انقلاب العصا حية، وفلق البحر لموسى، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى عليهما الصلاة والسلام. لهذا نلجأ إلى عظيم غيرتكم، وعَلِيِّ همتكم، أن تغيثوا الدين بمثل ما عودتموه من استئصال شأفة الإلحاد ببواهر البراهين الساطعة، وصوادم الحجج القاطعة، على وجه يروق للكافة، ويخلب ألباب الخاصة والعامة. وإلى الحق تعالى نضرع أن يؤيدكم وكل من يقوم لله في نصرة الحق بروح منه، إنه تعالى نصير المجاهدين المخلصين، والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد محمد زهران ... ... ... ... ... ... ... ... منشئ مجلة الإسعاد سابقًا هذا نص الرسالة الأولى، وأما المنكرات المعينة في الثانية فهذا نصها: (1) قصة أبرهة والكعبة في الصفحة 64. (2) أسطورة شق الصدر - هكذا عنوانه - ص 72. (3) بدء الوحي 95. (4) ما نسبه إلى السيدة خديجة. (5) ما قال في الإسراء ص 153 وما بعدها. (6) ما عقَّب به معجزة الغار. (7) تلبيسه في قصة سراقة 179 وما بعدها. (8) دعواه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر المنكر 433. (9) عزوه إلى عائشة ما لا يليق. جواب المنار مقدمة وتمهيد: إن العدل وإيثار الحق على الخلق يوجب عليَّ قبل النظر في هذه المسائل لأعلم ما فيها من حق وباطل، أن أقول إنني حسن الظن في خطة الدكتور محمد حسين هيكل الدينية الجديدة، وأعتقد أنه يريد بها خدمة الإسلام ومناهضة الإلحاد والإباحة، على أنني كنت بينت فيما نشرته من الرد على المتهمين به في المنار وفي جريدة كوكب الشرق أنني أعني بالإلحاد معناه المستعمل في القرآن، وهو الزيغ الذي قد يكون بما دون الكفر المخرج لصاحبه من الملة، وأرى أن هذا الكتاب يجذب كثيرًا من الزائغين إلى الإيمان بنبوة محمد خاتم النبيين: الذي أكمل الله ببعثته وبكتابه المنزل عليه الدين، من المفتونين بالأفكار المادية وتقليد أهلها، وأن من هؤلاء من يعرف له ما أنكره عليه غيرهم، وأن أكبر خطأ رأيته فيه تبعًا لأصله الفرنسي من شبهات الوحي النفسي يخفى على أكثر قرائه، أو على من لم تتمكن هذه الشبهات من نفسه قبل قراءته، فإن موسيو درمنغام نفسه ينقل رواية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لملك الوحي والتلقي عنه، والدكتور هيكل زاد هذه المسألة بسطًا، وإن أخطأ كل منهما فيما ذكرا من مقدماتها باجتهادهما، وما اعتمد عليه من رواياتها الباطلة لقلة اطلاعهما، أو عدم اضطلاعهما بالتمييز بين الراجح والمرجوح منها، وأنى لهما أن يعلما أن ابن هشام وأستاذه ابن إسحاق أخذا بالرواية المرسلة في حديث بدء الوحي، وأنه كان رؤيا منامية، فخالفا رواية الصحيحين المسندة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حاول بعض الحفاظ أن يجمع بين الروايتين فأخطأ؟ وأما ما ادَّعاه الناقد من إنكار المؤلف لجميع معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وتشكيكه في القرآن، وما دون ذلك من المنكرات، فسننظر فيها بعيني الحق والعدل، ولا أشك في اختلاف وجهة نظر الأستاذ الناقد وأمثاله من واسعي الاطلاع على كتب المناقب والسير وهو أن الأصل عندهم أخذ كل ما فيها أو جله بالتسليم، وعدم تمييز أكثرهم بين ما هو صحيح منها وما هو موضوع أو منكر - ووجهة نظر الدكتور هيكل وأمثاله في قاعدة الأصل في الأشياء الشك، فالتحليل والنقد، وعدم وقوفهم على قواعد علماء الأصول والمحدثين في ذلك الذي يعبرون عنه بالتعادل والترجيح، والواجب على مثلي أن يكون وسطًا بين الفريقين، وهو موقف دقيق؛ فإن من كل منهما مَنْ يعد بعض ما يؤيد به الدين عند الآخر نافيًا له أو مشككًا فيه؛ وإنما المهم الأعظم التمييز في البحث بين ما هو قطعي في الدين يعد جحوده خروجًا من ملة الإسلام وما ليس كذلك، وبين ما يعد سنة، وما يعد ابتداعًا، وما دون ذلك مما لا يجب علم

استدراك على تفسير ج 9 و10 في القراءات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ استدراك على تفسير ج 9 و 10 في القراءات ذكرنا في تفسير {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ} (يوسف: 4) تصرف العرب في هذا النداء، وفاتنا ذكر القراءات فيه، وقد فتح التاء ابن عامر في جميع القرآن بناء على أن أصلها يا أبتا فحُذفت الألف، وكسرها الآخرون بناء على أنها عوض من ياء المتكلم وتناسبها الكسرة، وقلبها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب هاء في حال الوقف، و {غَيَابَةِ الجُبِّ} (يوسف: 10) قرأها نافع في الموضعين (غيابات) بالجمع، وحذف بعضهم همزة (الذئب) في حال الوقف، و {هَيْتَ لَكَ} (يوسف: 23) قرأها ابن كثير بالضم كحيث ونافع وابن عامر بكسر الهاء كَغَيْظِ وهي لغة، والباقون بفتحهما معًا، وغرضنا من ذكر القراءات اللغوية أن تُعرف فلا تُنكر إذا سُمع من القراء غير المشهور عندهم، ومن المعنوية بيان معانيها وحكمتها. ووقع في تفسير هذين الجزئين ما اقتضى بعد طبعه تصحيحًا أو تنقيحًا عند طبعه على حدته. *** (الشيخ عبد المحسن الكاظمي) الشاعر العراقي الشهير تُوفي قبيل انتهاء هذا الشهر (المحرم) وسننشر له ترجمة في الجزء الآتي، رحمه الله تعالى.

منار المجلد الخامس والثلاثين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ منار المجلد الخامس والثلاثين تجديد جهاده ونظامه، والتعاون عليه بيننا وبين كرام قرائه وخلاصة تاريخه المؤثرة ما قصَّر منشئ المنار في شيء مما وقف عليه حياته من خدمة الملة والأمة، وأشار إلى مقاصدها الجامعة في فاتحة العدد الأول، بل شمر واستبق، فكان له من التأثير عند خواص العقلاء العارفين بما أصاب المسلمين من الوهن والضعف والتفرق، وبما يحتاجون من الإصلاح الذي تتوقف عليه حياتهم أو نجاتهم من الذل والاستعباد ما لم يسبق له نظير إلا في صيحة (العروة الوثقى) التي تجلت فيها روح موقظ الشرق وحكيم الإسلام (السيد جمال الدين الأفغاني) ببلاغة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده المصري) وكان كل ما صدر منها 18 عددًا، هزت القلوب، وأيقظت العقول، وكان الغرض من إنشائها إثارة العالم الإسلامي، وجمع كلمته لدفع عبودية الاستعمار الأوربي، وتجديد دولة إسلامية عزيزة تتولى في ظل حريتها ما يجب من الإصلاح الديني والدنيوي، وكان رأي السيد جمال الدين أن الثورة أقرب الوسائل لتجديد الملة بالعلم الصحيح، والعمل المفيد في ظل الاستقلال والقوة. وأما غرض المنار فهو إعداد الأمة لهذا التجديد، وأول وسائله بيان أمراض الأمة وأسبابها ووصف علاجها، وتأليف الجماعات للتعاون على المعالجة المطلوبة، وكان الأستاذ الإمام أول من ناط أمله به في الإصلاح المطلوب كله، وكان يصرح به في مجالسه لمن يراهم أهلاً لفهمه، أو استعدادًا لطلبه، وهو الذي أغناه عن كتابة وصيته للأمة؛ إذ الوصية لا تكون إلا كلامًا مجملاً لما أنشئ المنار لبيانه مفصلاً، والناس لا يفهمون من الكلام إلا بقدر ما استعدوا لفقهه والاعتبار به، ولا يكون ذلك إلا بالتدريج كما أشار إليه في آخر عبارة له من كتاب كتبه لنا في سنة 1320هـ 1902 م، وقد نشرناها بخطه منقولاً بالعكس الشمسي منقوشًا بالزنك في ص 1023 من تاريخ الأستاذ الإمام وهي: كلمة الأستاذ الإمام في المنار والاشتراك فيه من آخر السطر الأول (الناس في عماية عن النافع، وانكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم يسرعوا بالاشتراك في المنار؛ فإن الرغبة في المنار تقوى بقوة الميل إلى تغيير الحاضر، بما هو أصلح للآجل، وأعون على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال ذلك الميل في الأغنياء قليلاً، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلاً؛ ولكن ذلك لا يضعف الأمل في نجاح العمل، والسلام، في 11 سبتمبر سنة 1902) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد عبده مضى المنار لطيته، وما زال بتوفيق الله وحوله وقوته يرتقي في كل معراج من معارج عمله، دون كسبه ونظام معيشته، فمنشؤه قد نشأ وشب وشاب على الزهد في الدنيا وجدانًا وعملاً، لا رأيًا وعقلاً، فهو يرى أن الزهد لا يجوز أن يتجاوز شعور القلب إلى التقصير في الكسب، لكن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) متفق عليه، وروي بزيادة - اعملوا في أوله - وبهذا الزهد يسر الله له أن ينصرف بكل قواه إلى الإصلاح والتجديد الإسلامي علمًا وبحثًا، ودعوة وحجة، ودفاعًا وإقناعًا، حتى صار موضع ثقة خواص المسلمين غير الخرافيين في العالم الإسلامي كله في إصلاحهم كما قال الأستاذ المراغي شيخ الإسلام الأكبر، وخليفة الأستاذ الإمام على إصلاح الأزهر لمولوي مشير قدوائي من كبراء مسلمي الهند، وقد سأله أن يروي عنه لمسلمي الهند كلمة فيما يجب عليهم من الإصلاح فقال ما خلاصته: إن المسلمين لا يرجى لهم صلاح إلا بالقرآن على الوجه الذي يفسره به المنار، اهـ فإن كان سبقه إلى مثل هذه الكلمة أحد فضلاء الهند منذ ثلث قرن (وهو مولوي محمد إنشاء الله) فالأستاذ الأكبر يقول في إصلاح جميع البشر بدعوة الإسلام التي بثها المنار كلمة أكبر من كلمته للفاضل الهندي، وهي ما كتبه بعد مطالعة (كتاب الوحي المحمدي) في كتاب لمؤلفه وهي: (أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتباكم (الوحي المحمدي) أن أقول: إنكم وُفِّقْتُمْ لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصته من ينابيعه الصافية عرضًا قل أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة، وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون، فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يُجازى به المجاهدون) ... إلخ لقد أكبر آخرون من أئمة الأمة في الحكم وفي بالعلم، وخواصها في الرأي والفهم (كتاب الوحي المحمدي) حتى قال بعضهم: إن هذا الكتاب إلهام إلهي، لا علم كسبي لمؤلفه، جديد من علوم القرآن جاء مصداقًا لحديث (لا تنتهي عجائبه) وإنه معجزة جديدة للنبي صلى الله عليه وسلم نفثها في روعه، أو نفخها في روحه جده صلى الله عليه وسلم، وقالوا أقوالاً أخرى كثيرة كبيرة؛ ولكنها تصغر تجاه كلمة الشيخ الأكبر الوجيزة (عرضتم خلاصته من ينابيعه الصافية) ... إلخ، فلو أن غيره ألقى كلمة (خلاصته) لقيل لعله لم يحط بمعناها علمًا. تلك فائدة زهد منشئ المنار في دنياه له وللناس وهي علمية خالصة، وأما مضرة هذا الزهد له فهي مالية خاصة به، ذلك أنها أوصدت أمامه باب طلب الرزق، وفتحت عليه باب الدَّيْن، حتى كادت تقضي على المنار الذي كان مفتاح كل خير، فإنى لم أستطع أن أعنى بنظام إدارته وضبط حسابها ولا مراقبته بنفسي؛ وإنما تركتها من أول يوم لمن لم أحاسبهم عليها، فتعاقب عليها أفراد كان أضرهم بي أقربهم مني، وأشدهم حبًّا لي ومشاركة لي في السراء والضراء؛ ولكنهم أجهل مني بالدنيا وأعجز عن كل عمل لها، فأنا تركت مطالبة قراء المنار بما له عليهم من حق للنفقة عليه لأجل أن أوفيهم حقهم وحق الأمة كاملاً بقدر استطاعتي، وهؤلاء تركوا مطالبتهم بهذا الحق بغير بدل من علم أو عمل، فكانوا يقبلون من أهل الوفاء منهم ما يؤدونه من تلقاء أنفسهم، ولا يطالبون غيرهم من المشتركين ولا يذكرونهم، ولا يدعون أحدًا إلى الاشتراك، بل لا يرسلون المنار إلى كل من طلبه، ويقل في الناس من يؤيد حقًّا لا يطالب به إلحاحًا وإلحافًا، ولا سيما ناسنا المحروم أكثرهم من التربية الدينية العالية، ومن النظام المالي والتعاون على الأعمال العامة، والاهتمام بالإصلاح الملي، وقد سبق لنا في بعض المجلدات بيان درجات المسلمين في الوفاء، وتفاضل شعوبهم، وتفاوت أصنافهم، وطبقات كل شعب فيه، وكان أفضلهم عرب الجزيرة ومسلمو روسية من التتار وغيرهم، ومسلمو السودان، ويليهم مسلمو جاوة وما حولها من العرب والوطنيين، وقد حالت الحرب العامة بيننا وبين مسلمي روسية، ثم أجهزت البولشفية عليهم في دينهم ودنياهم، وصار ديننا على مسلمي جاوة، بل أندونسية كلهم أكثر من غيرهم، ولم نقطع المنار عن الماطلين منهم، بل أفسدت الحرب سائر الشعوب في كل شيء، كل على قدر استعداده وحاله، حتى كادوا يكونون ماديين إباحيين، أو حيوانات شهوانيين، أو وحوشًا مفترسين، وسنحت الفرصة لإصلاح هذا الفساد العام بالإسلام، وهو ما تصدينا له بكتاب (الوحي المحمدي) وأردنا تجديد جهاد المنار لأجله وشرعنا في تجديد جماعة له، ولكن هل يجدد قراؤه مساعدته عليه؟ الجناية المالية على المنار: الحق أقول: إن أشد الناس جناية على مالية المنار هو منشئه المنفرد بتحريره وتصليحه، ويليه من تولوا إدارته من أهله، ويليهم غيرهم ممن تولوا عملاً فيها من كتبة ومحصلين، وكانوا في أول أمرهم غير مخربين ولا معمرين، وكانت إساءة المسيء منهم خفيفة الضرر، ثم كان بدء الإهمال والاختلال منذ رحلتي إلى الهند، فالعراق، فسورية (سنة 1330هـ 1912م) فاستغرقت هذه الرحلة بضعة أشهر أخرج أخي في أثنائها كاتب الإدارة منها، ولم يستبدل به غيره ولا قام بعمله، وكذلك فعل من تولى الإدارة بعده من أهلي، ولم ينفعهم نصحي، أو لم يطيعوا أمري؛ ولكنهم وعدوا وأخلفوا، وهموا وسوفوا فأسرفوا، وما كنت أعلم قدر جنايتهم تفصيلاً، ولا عجز دخل المنار عن نفقته إلا قليلاً، إذ كانوا يأخذونه من دخل المطبعة والمكتبة، حتى إذا ما اشتدت العسرة، وانحصر عمل المطبعة فيما نطبعه لأنفسنا، وعجزت المكتبة عن نفقتها ونفقتنا، وكثر الدَّيْن علينا اضطررت إلى البحث عن مشتركي المنار فوجدت - وقد ذهبت كوارث الحرب بخيرهم وفاء - أن عدم مطالبة الإدارة للباقين بقيمة الاشتراك، قد اتخذه أكثرهم عذرًا لعدم الوفاء، بل ربما حسب بعضهم أنه يُرْسَل إليهم بالمجان، فاستنجدتهم فلم أجد منجدًا، بل استغثتهم فلم أجد غواثًا إلا عند قليل منهم، حتى رأيتني مضطرًا إلى وقف إصدار المنار في سنته القابلة سنة 1354، ولو على سبيل التجربة، عسى أن أجد له من يقوم بنفقته من الأوفياء منهم، وكيف أجد بتركه ما لم أجده به؟ رجحت هذا الرأي من أول سنة 1353 حتى إذا قاربت الانتهاء عظم علي الأمر، وقد رباني الدين على الثبات واتقاء إبطال عمل أشرع فيه، فرأيت أخيرًا أن أكاشف القراء بحقيقة الأمر؛ فإن أكثرهم لا يعرفه، وقد يعذر نفسه بتقصيرنا ولا يعذرنا، أو يظن كل مقصر منهم أن تقصيره لا يضر المنار لكثرة من يؤدي له حقه، أو يزيدون عليها من أهل الغيرة على الإسلام، وقد علمت أن تأخير صدور بعض أجزائه عن موعدها أو ضياع بعضها على أفراد منهم قد جعلوها سببًا لمنع إرسال الاشتراك عدد سنين، وهو منع لحقنا الكثير الثابت بدون عذر للمانع بحجة منعنا لحقه القليل الذي لم يثبت له وقد يكون بعذر صحيح لنا؛ فإن حق الاشتراك يثبت في كل سنة بدخولها، وقد يكون لعدم سقوط بعض الأجزاء أسباب غير تقصير الإدارة الذي قد يكون لعذر أيضًا، ولم يطلب أحد من المشتركين جزءًا إلا أرسلناه إليه، وقد جرت العادة أن الذي يقضي ما عليه هو الذي يقتضي ما له؛ وإنما يسكت عن المطالبة بما له من يفر من مطالبته بما عليه، والحق حق، عند من يؤمن بالحق. *** الدعوة إلى الصلح والإصلاح وتجديد خدمة الإسلام إنني وقد بينت ما لي وما عليّ، أدعو قراء المنار إلى الصلح عما مضى بمنتهى ما يرضيهم من السماح والفضل، وتجديد عهد التعاون على خدمة الملة والأمة بالوقوف على سواء العدل، بأن يلتزم كل منهم تجديد الاشتراك فيه كتابة يلتزم فيها دفع القيمة في أول السنة كما تفعل الأمم التي سادت بهذا النظام علينا، أو في أثنائها، وإن كان درجة دون ما قبلها. وأما العهد الماضي فلكل منهم أن يطالبنا بما لم يصل إليه من الأجزاء فنرسله إليه كاملاً، وله في المتأخر عليه من قيمة الاشتراك أن يحاسب نفسه عليه بينه وبين الله تعالى، ثم يؤدي ما يعتقد أنه حق عليه، وإن نقص عما عندنا في دفاترنا، وأن يكون الأداء بحسب استطاعته ناجزًا أو مقسَّطًا بالأسابيع أو الشهور أو السنين، وله أن يصالحنا عليه إن كان معسرًا بإنظاره إلى الميسرة، بأن يلتزم ما يتيسر له نقدًا أو نسيئة مؤجلة، ونبرئ ذمته من الباقي إن طلب الإبراء، ومن كان عاجزًا عن أدائه كله أو بعضه الآن، أو عجز بعد الالتزام، وطالبنا بالعفو عنه، أو الحط عنه أجبناه، مصدقين له فيما يشهد عليه الله الرقيب على كل شيء، والأصل عندنا في قراء المنار حسن الظن، والتماس العذر. وقد أخرنا هذا الجزء استعدادًا لهذه التسوية، وأحصينا ديوننا على الماطلين لأجل نشرها فيه فكانت مخجلة؛ فإن على كثير منهم عشر سنين، أو عشرين سنة أو أكثر، فتركنا نشرها، واخترنا ما بَيَّنَّا، وإنا مرسلون فيه وثائق طلب الاشتراك مطبوعة لكل منهم لأجل إمضائها وإع

فاتحة المجلد الخامس والثلاثين

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فاتحة المجلد الخامس والثلاثين بسم الله الرحمن الرحيم {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة: 105) . {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: 87) . {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} (الحجر: 56) . نرجو أن ندخل بهذه السَّنة في عهد جديد لدعوة القرآن نفتتح بها المجلد 35 من المنار المجلد 13 من تفسير القرآن الحكيم والطبعة الثالثة من كتاب الوحي المحمدي، بعد أن بينَّا للمسلمين في السنين الخالية جميع الأسباب والعلل التي فقدوا بها هداية دينهم ومجد ملكهم وحضارته بالإعراض عن تدبر القرآن وجميع ما يجب عليهم من علم وعمل لاستعادة ذلك بالقرآن، وإقامة الحجج والآيات على ذلك من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه وتنفيذه؛ وسنة خلفائه الراشدين في فتوحه، وتأسيس دولته، وإقامة أحكامه بين الشعوب المتباينة الأجناس واللغات، والملل المختلفة الأصول والمذاهب والحضارات. وإننا نذكِّر القراء بخلاصة من ذلك: أمة موسى وأمة محمد والتوراة والقرآن: في مدة أربعين سنة انقرض جيل من بني إسرائيل في التيه، ونشأ جيل آخر: انقرض الجيل الذي تعبَّده فرعون واستذله، فقال زعماؤه لموسى لما دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة، التي كتبها لهم، ووعدهم بالغلبة على أهلها إذا دخلوها: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (المائدة: 24) ، ونشأ جيل جديد أخذ التوراة بقوة، ودخلوا البلاد، ففتحها الله كما وعدهم. وفي عشرين سنة أسس محمد رسول الله وخاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - بدعوته دينًا كاملاً وأمة متحدة ودولة قوية عادلة، فقد ربَّى الجيل الأول من قومه بالقرآن من أول يوم، فأخرجهم بدعوته من الظلمات إلى النور في عشر سنين، وفتح بهم جزيرة العرب في عشر سنين، وفتح خلفاؤه من بعده ملك كسرى وقيصر في عشرين سنة، ولم ينقضِ القرن الأول من هجرته إلا وقد تمَّ لأمته نشر ملكهم ودينهم من آخر حدود أوربة في الغرب إلى جدار الصين في الشرق، وأدى لهم " فغفور " الصين الجزية. بماذا فعل المسلمون هذه المعجزات في الفتح الديني الاجتماعي السياسي؟ ما فعلوها إلا بأخذهم القرآن بقوة، كما أخذ بنو إسرائيل التوراة بقوة، وكان تأثير كل من الكتابين بقدْره: التوراة هداية لشعب صغير، وُعِد بوطن صغير إلى أجل معلوم ففتحوه، وتمكنوا فيه إلى أجل معلوم، ثم عاقبهم الله بظلمهم وإفسادهم في الأرض فسلط عليهم من شاء من عباده إلى أجل آخر، ثم سلب ملكهم ببغيهم. والقرآن هداية عامة لجميع الشعوب والقبائل، وُعد أهله بخلافة الأرض كلها: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْض} (الأنعام: 165) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (النور: 55) ووفَّى لهم بما وعدهم في أكثر الأرض التي عرفوها ما أقاموا القرآن بإقامة الحق والعدل في الناس والشكر لله، ثم سلب منهم أكبر ما أعطاهم بكفر هذه النعمة والفسوق عن هذه الهداية. ومن العجب أن يفعل اليهود اليوم ما لا يفعل العرب لاستعادة مجدهم. ولكن أمة محمد ليسوا شعبًا صغيرًا كقوم موسى - عليهما الصلاة والسلام - بل أمة دعوته جميع البشر، وأمة الإجابة له هم المهتدون بالقرآن وسنته في إقامته، وما وعدهم به هو الأرض كلها لا أرض فلسطين، ودينهم عام باقٍ إلى يوم القيامة، لا خاص مؤقت محدود. فتح العرب العالم بالقرآن: إن المسلمين كفروا هذه النعمة قبل أن يتم لهم فتح أكثر الغرب كما فتحوا أكثر الشرق، بأن استبدلوا بهداية القرآن بدعًا سَرَت إليهم نظرياتها الباطلة من الأديان والفلسفة والأدب التي كان عليها الشعوب التي فتحوا بلادها بقوة القرآن لا بقوة السيف والسَّنان، فقوة العرب الحربية كانت دون قوة الرومان، ودون قوة الفرس، اللتين كانتا أقوى دول الأرض، وكان يدين لهما كثير من العرب المجاورين لبلادهما، وكانت أضعف من البربر في شمال إفريقية ومن القوط (والإسبانيول) في غرب أوربة ومن الغال في جنوب فرنسة من الغرب، ومن الهنود في الشرق، وناهيك ببعد المسافات بين جزيرة العرب وبين هذه الأقطار، وما يزعمه بعض الإفرنج ومقلديهم من أن سبب فوز العرب بذلك الفتح السريع الواسع هو ما كان طرأ على تلك الدول والأمم من الفساد والضعف، فهو تعصب ظاهر؛ فمهما تكن عليه تلك الأمم من ضعف وفساد فالعرب كانوا أفسد وأضعف من كل واحدة منها قبل الإسلام، وبه سادتها كلها؛ وما هو إلا نور القرآن. عصر الصحابة ومنتهى علمهم: إن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - هم الذين أسسوا هذا الملك الإسلامي العظيم العادل الرحيم، فيما يسمى العالم القديم، وكان أكثرهم أميين، لم يكن عندهم كتاب يهتدون به في فتوحهم وحكمهم إلا هذا القرآن وحده. وما كانوا يعتمدون في فهمه إلا على مَلكَة لغته وما بيَّنه لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من هداية القول والفعل، وهو سنته وهديه؛ تلاهم التابعون الذين حفظوا عنهم القرآن والسنن والآثار؛ فكانوا في الدرجة الثانية لدرجتهم إيمانًا وعلمًا بالإسلام، وعملاً وتخلقًا به، وجهادًا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وفتحًا للأمصار، وحكمًا بين الناس بالحق والعدل؛ وقلَّ فيهم الأميون، وكثر المتعلمون، ولكن لم يكن في أيديهم كتاب غير القرآن، يهتدون به في تزكية أنفسهم وإصلاحها، ويهدون به غيرهم من الشعوب التي كانت تدخل في دين الله أفواجًا. ويجدون الإسلام خيرًا مما كانوا عليه هدى وصلاحًا، وعلمًا وعدلاً، وأدبًا وفضلاً. عصر التابعين في هديهم وحكمهم وفتحهم: وبدأ التابعون بكتابة السنن والآثار حفظًا لها من الضياع، بيد أنهم لم يتخذوا منها كتابًا مدونًا مع القرآن يدينون الله بالعمل به في عبادتهم الشخصية وفي قضاء حكومتهم وسياستها، بل ظلوا يهتدون بالقرآن وبما كان عليه الصحابة من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهديه، وبسيرة خلفائه الراشدين في الفتح والسياسة والقضاء، ومن ذلك الاجتهاد فيما ليس فيه نص قطعي من القرآن أو سُنَّة عملية لا تختلف فيها الأفهام والآراء: اجتهاد الأفراد لأنفسهم في الأحكام الشخصية الخاصة، واجتهاد أولي الأمر من الأئمة والقضاة وقواد الجيوش في الأحكام العامة، مع مراعاة الشورى فيها؛ فكانوا على منهاج الصحابة في ذلك كله، وناهيك بكتب عمر وعلي إلى عمالهما: ككتاب عمر إلى شريح في القضاء، وكتاب عليّ إلى الأشتر النخعي في السياسة العامة. عصر العلم وما يجب من النظام الواقي من الشقاق فيه: ثم جاء عصر التدوين والتصنيف للحديث والسير الآثار والفقه، تلا ذلك تدوين اللغة وفنونها ووقائع التاريخ، وترجمة علوم الأوائل بأنواعها: كالرياضيات والتاريخ الطبيعي، والطب، والفلك، والفلسفة بأقسامها، والتصوف بنوعيه الخلقي والفلسفي، ودرسوا هذه العلوم واجتهدوا فيها، ونقدوا ونقحوا، وأتموا ما كان ناقصًا، وزادوا على من كان قبلهم؛ عملاً بإرشاد القرآن إلى النظر في آيات السموات والأرض وما بينهما وما خلق الله من شيء وسنن الله في الأمم. كان من سنة العمران وطبيعة الاجتماع في ذلك أن تصير علوم الدين والدنيا كلها فنونًا صناعية، وأن يختص بكل جنس منها طوائف من الناس للتوسع والنبوغ فيها، وأن يكون لكل منها تأثير في أنفس النابغين فيه، قد يعارض غيرهم باختلاف الفهم والقصد من العلم وموضوعه وفائدته. وكان يجب في هذه الحال أن يكون للتعليم نظام جامع يوجه كل علم إلى الغاية منه؛ دينيه كانت، أو عقلية، أو علمية، كما أرشد إليه القرآن الحكيم، وأن يظل القرآن والأسوة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه وتربية الأمة، كما كان في عهده وعهد خلفائه الأربعة هديًا إلهيًّا علميًّا لا نزاع فيه وينزه عن أن يكون صناعة بشرية، وفنًّا جدليًّا يضرب بعضه ببعض لتأبيد المذاهب والشيع الدينية والسياسية، وأن تكون حرية الدين على أكملها فيما هو من كسب البشر ونتائج أفكارهم وأفهامهم؛ فالإسلام أباح لأهله الحرية في هذا دون ما هو فوقه وفوق كل شيء بشري، وهو كلام الله اليقيني القطعي الرواية أو الدلالة من الدين الذي شرعه الله لهم، وأما ما كان ظنيَّ الرواية أو الدلالة منه فقد أباح لهم الاجتهاد فيه بشرط ألا يكون اختلاف الفهم والرأي سببًا لتفرق الأمة والشقاق بين أهلها، ولو فعلوا ذلك لاتقوا الشقاق والتفرق بما حدث من البدع في الدين، ولكنهم لم يفعلوا فَضَلُّوا وابتدعوا، فتفرقوا واختلفوا، وفسقوا وضعفوا. كان هذا التأليف بين العلوم والفنون والدين أول واجب على الإمام الأعظم خليفة المسلمين، ولكن خلفاء العباسيين أطلقوا العنان أولاً فلم يقوموا بالواجب، ثم نصروا بعض المتفرقين في الدين على بعض بما أضعف سلطان الدين في الهداية، وفوائد العلوم والفنون في الحضارة، وأنَّى للمعتصم العامي، وكذا المأمون العالم المتفنن أن يفهم حكمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عقاب صبيغ المجادل المشكك في القرآن، ونفيه من المدينة إلى البصرة، وأمر الناس بهجره حتى تاب، تلك جناية فوضى العلم في العرب، وجنايتها على هداية القرآن بالابتداع والتفرق والاختلاف. حضارة العرب وتأثير الإسلام فيها: وقد كانت للمسلمين من جملة ذلك كله حضارة عربية زاهية زاهرة، جمعوا فيها بين زينة الدنيا ونعمتها والاستعداد لسعادة الآخرة، ألطف مثل لها ما حُكِي عن امرأة كانت ترفل في حليها وحللها، مخضبة الكفين، مطرفة البنان، وهى تسبح الله تعالى وتذكره، فرآها رجل ناسك فقال لها: ما هذا مع هذا؟ ‍‍‍! ‍‍‍‍‍ فقالت: ولله مني جانب لا أضيعه ... وللهو مني والخلاعة جانب وكانت قيانهم ووصائفهم تحفظ القرآن، وتروي الحديث بالأسانيد، وتنظم الشعر وتلحنه، وما كان من إسراف بعضهم وفسوقهم تجد تجاهه غلو آخرين في دينهم، وانقطاعهم إلى العبادة وجهاد النفس بحرمانها من الطيبات المباحة. كان أهل بغداد في عهد حضارة العباسيين يتنزهون في زوارق دجلة أصيل كل يوم، كما يتنزهون في هذه الأيام، فاتفق أن اقترب قاربان منها في أحدهما مغنٍّ يعزف على عوده، وفي الآخر قارئ يرتل سورة التكوير، فأنصت المغني واستمع للقرآن يتدبره، حتى إذا بلغ القارئ قوله تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} (التكوير: 10) ضرب بعوده جانب الزورق فكسره ورماه في دجلة خاشعًا متصدعًا من خشية الله، فكان ترتيل القرآن أفعل في نفسه من توقيع الألحان، ومثل هذا لا يقع الآن، والقوم هم القوم، ولكنهم ضعفوا في لغتهم، فلم يبقَ للقرآن سلطان على قلوبهم، وغلوا في الدين والحضارة معًا؛ فحرَّم السماعَ بعضُهم، واتخذه آخرون عبادة. لو جرى المسلمون في حضارتهم وعلومها وفنونها على صراط ال

حرمان البنات من الإرث وتعارض القرآن والإجماع

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ حرمان البنات من الإرث وتعارض القرآن والإجماع (س1) لصاحب الإمضاء في مصر القاهرة: حضرة صاحب السيادة: مولانا الأستاذ الأكبر السيد محمد رشيد رضا، صاحب المنار الأغر - نفعنا الله بعلمه وفضله. عرض بعض فقهاء المسلمين في مصر إلى مسألتين: الأولى احتيال الآباء على حرمان بناتهم من أموالهم بطريق النزول عنها إلى أولادهم الذكور ببيع ما يملكونه لهم، حتى إذا ماتوا لا تجد البنات ما ترثه من أموال آبائهن. فقال بعض الفقهاء بجواز هذا، ونشرت قوله كذلك في " الوطنية "، وقال آخر بالتحريم، ونشرت قوله كذلك في الوطنية؛ فأصبح المسلمون في حيرة من أمرهم بين هذين القولين المتناقضين، وقد لجأت إلى فضيلة مفتى الديار المصرية ليكون حَكَمًا بينهما، فأحالني على سيادتكم، وأجَّل فتواه إلى ما بعد اطلاعه على فتواكم. تعارض القرآن والإجماع المسألة الثانية: إذا تعارض القرآن والإجماع في أمر؛ فبأيهما نأخذ؟ قال بعض العلماء: نأخذ بالقرآن، وقال أحد كبار الفقهاء: نأخذ بالإجماع. واستشهد الفقيه المشار إليه على صحة رأيه بقوله: إن القرآن فرض نصيبًا من الصدقة للمؤلفة قلوبهم، وجاء الإجماع فقرر إلغاء هذا النصيب؛ لأن الإسلام أصبح قويًّا ومنتشرًا، وليس بحاجة إلى تأليف القلوب؛ فماذا ترون سيادتكم في هاتين المسألتين، فإن العالم الإسلامي ومفتي الديار في انتظار فتوى سيادتكم في كلتيهما؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... أيوب صبري ... ... ... ... ... ... ... ... صاحب جريدة الوطنية (1) الاحتيال لحرمان البنات من الميراث: الاحتيال لحرمان البنات من الميراث ببيع المورث بعض عقاره أو كله للذكور من الوارثين بيعًا صحيحًا في الظاهر، أو هبته لهم في غير مرض الموت أو بغير ذلك من الوسائل - هو كالاحتيال لمنع الزكاة أو أكل الربا المحرم قطعًا - حرام لا شك فيه، وقد حررنا هذه المسألة في الكلام على الحيلة لأكل الربا، وأشد الفقهاء جمودًا على ظواهر الأحكام يصرحون بحرمة هذا إذا قصد به تعطيل حكمة الشارع؛ وإنما يكابر من يكابر في حكم ظاهر العمل بصرف النظر عن النية فيه. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعدل والمساواة بين الأولاد في عطايا الدنيا، فضلاً عن الميراث المقرر في كتاب الله تعالى، ففي حديث الصحيحين وغيرهما أن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ - رَضِي اللَّه عَنْهمَا - قال عَلَى الْمِنْبَرِ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ (يعني أمه) : لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ لا، قَالَ: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ) ، قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. وفي رواية لمسلم زيادة: (لا تشهدني على جَوْر) وفي أخرى: (فلا تشهدني فإني لا أشهد على جور) وفي أخرى (اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر) والنِّحَل: جمع نِحْلة بالكسر، وهي العطية التي لا مقابل لها. والظاهر أن هذه التسوية واجبة، وإن قال بعض الفقهاء إنها مندوبة، واختلف في صفتها فقيل: لا فرق فيها بين الذكر والأنثى، وقيل هي كالميراث، ويتجه التفصيل فيما كان من طعام أو زينة، وما يعطى من الدراهم في الأعياد فالظاهر فيه المساواة لاستواء الحاجة؛ ولأن التفضيل يسوء البنات، وما يُقتنى ويدخر أو يستغل لكثرته فالظاهر فيه أنه يراعَى فيه نصيب كلٍّ في الميراث؛ لأنه أقرب إليه، وعلى الأول يحمل حديث ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعًا: (سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحدًا لفضلت النساء) رواه سعيد بن منصور، والبيهقي من طريقه وإسناده حسن، كما قال الحافظ ابن حجر. * * * (2) التعارض بين القرآن والإجماع: إني لأستنكر هذا التعبير، وأقول: إن القرآن أعظم وأجل من أن يعارضه دليل، وكل ما خالفه فهو خطأ مردود، ومن سوء الأدب أن يقال إنه معارِض له، وأسوأ من ذلك أن يقال إنه يرجح عليه. وما ذكر في السؤال من سقوط سهم المؤلفة قلوبهم من مستحقي الزكاة لا يصح بل هو باقٍ، ولو صح لما كان حكمه معارضًا للقرآن وراجحًا عليه، بل يقال فيه إن حكمه قد تعذر تنفيذه بفقد المستحق له، كما يقال في غيره من غير حاجة إلى ادعاء الإجماع: كالغارمين وابن السبيل، إذا فقدوا من بعض البلاد، ومثل ذلك كفارة العتق في البلاد التي فقد منها الرقيق. قد بينت في تفسير آية الصدقات أن المؤلفة قلوبهم عند الفقهاء قسمان: (1) كفار، وهم ضربان. (2) مسلمون، وهم أربعة: وأنه حدث في عصرنا أقسام أخرى أولى بالتأليف (فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جمع المسلمين، وفي ردهم عن دينهم، يخصصون من أموال دولهم سهمًا للمؤلفة قلوبهم من المسلمين؛ فمنهم من يؤلفونه لأجل تكفيره وإخراجه من حظيرة الإسلام، ومنهم من يؤلفونه لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها! ! أفليس المسلمون أولى منهم بهذا؟ !) (ص495، ج10 تفسير المنار) . وقلت: إنه روي عن أبي حنيفة أنه قد انقطع سهم قسم من الكفار بإعزاز الله للإسلام، كالذين أعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غنائم هوازن، ثم منعهم عمر، وقلت: إن هذا اجتهاد من عمر - رضي الله عنه - أي: فهو يختلف باختلاف الزمن، وقد استمر في زمن عثمان وعلي رضي الله عنهما. (وأما من ادعى أنه منسوخ بالإجماع لما تقدم من عمل الخلفاء والسكوت عليه من سائر الصحابة فدعواه ممنوعة: لا الإجماع ثابت بما ذكر، ولا كونه حجة على نسخ الكتاب والسنة صحيحًا، وإن اختلف فيه الأصوليون بما لا محل لذكره هنا) . وجملة القول: إن سهم المؤلفة قلوبهم ضروري في هذا الزمان بأشد مما كان في أو ل الإسلام؛ لضعف المسلمين ودولهم، وضراوة الأجانب بهدم دينهم وملكهم، وأنه لا إجماع على ما ذكر في السؤال، وأن الإجماع الأصولي يختلف في إمكانه وفي وقوعه وفي العلم بوقوعه إن وقع، وفي كونه حجة.

كتاب الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب الوحي المحمدي (تصدير الطبعة الثالثة) بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد والشكر، إياه نعبد وإياه نستعين أما بعد: فقد أصدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في موعد ذكرى مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ربيع الأول سنة 1352؛ تيمنًا بظهور نوره المُشرق، الذي أضاء الكون كله، وإنما أضاءه بزوغ شمس هذا الوحي الإلهي، ونزوله عليه؛ فما أتى على صدوره بضعة أشهر إلا وكانت نسخه قد نفدت، فأعدت طبعه في تلك السنة منقحًا مزيدًا فيه قدر الثلث ونيفًا، ولولا خوف الملل على القارئين لزدته ضعفًا أو أضعافًا؛ ولذلك وعدت بأن أجعل له ثانيًا، وأصدرت الطبعة الثانية في يوم عرفة الذي أنزل الله عليه في حجة الوداع: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينا} (المائدة: 3) تفاؤلاً بتجديد هذا الكتاب لدعوته صلى الله عليه وسلم. فما جاء يوم عرفة الثاني (سنة 1353) إلا وكانت نسخ الطبعة الثانية قد نفدت. وشرعت في الطبعة الثالثة، وتعمدت تأخير إتمامها كالتي قبلها؛ لنشرها في موعد الأولى من هذه السنة (1354) . وفي غضون السنة الماضية تمت ترجمة الكتاب باللغة الأوردية، ونشرت في الهند، وهي مترجمة من الطبعة العربية الأولى. وتمت ترجمته باللغة الصينية فيها أيضًا مرتين، ويتولى طبع الأولى في قبودان مترجمها الأستاذ صاحب مجلة ضياء الهلال، وحمل الثانية مترجَمَةً الأستاذ بدر الدين الصيني من الهند إلى مصر، وعرضها عليَّ. وكان يريد إرسالها إلى بلد آخر في الصين لطبعها فأشرت عليه بأن يزيد فيها كل ما زدته في الطبعة الثانية؛ لأنها أجمع وأنفع، ولعلها لا تطبع إلا وقد نفدت نسخ الترجمة الأولى، ولعله يعيد تنقيحها بمعارضتها على هذه الطبعة الثالثة فإنها أصح وأكمل. ولم يبلغني أن أحدًا غير هؤلاء قد أتم ترجمته بلغة أخرى. وزدت في هذه الطبعة قليلاً من الفوائد، وإيضاحًا لبعض المسائل، وجعلت أكثرها في الحواشي، كما ترى في الحاشية الثانية من ص157، والأولى من ص 158، والحاشية (2) من ص 181، وما جعلته في الصلب أشرت إليه غالبًا كشرعية عتق الرقيق من غير المؤمنين، وليس فيها شيء من المقاصد الأصلية المقصودة بذاتها. علمنا إذن أنه أتى على ظهور الكتاب سنتان كاملتان، فأما انتشاره بالعربية فهو فوق المعتاد في الكتب الدينية، وقد قررت وزارة المعارف العمومية في هذه السنة صرفه لطلبة دار العلوم العليا، وهو يدرس في بعض المدارس الإسلامية في دمشق وبيروت. ويرجى نشره في السنة المدرسية الجديدة أيضًا بين طلاب الأزهر والمعاهد الدينية بمصر، وقد تولى رياستها شيخ الإسلام وخليفة الأستاذ الإمام (الشيخ محمد مصطفى المراغي) الذي كان أول من قدر الكتاب قدره، وقرأ نصفه في جلسة واحدة، وأتمه في جلسة أخرى، ثم كتب في وصفه تلك الكلمة البليغة التي يراها قراؤه في صدر التقاريظ، وقد تنبأ أو بشَّر بأنه سيطبع في كل عام. ترجمة الكتاب باللغات الإفرنجية: ولكن قَصَّر المسلمون فيما يجب عليهم من ترجمته بسائر لغاتهم وبلغات شعوب الحضارة التي دعوناها به إلى الإسلام، وهي الإنكليزية والفرنسية والألمانية وهو واجب كفائي صرح بتمنيه كثير من أهل العلم والغيرة، وصرح بوجوبه بعض مقرظي الكتاب؛ فمنهم من تعسف وطالبني بهذه الترجمة أو بالسعي لها، ومنهم من أنصف وطالب به الأمة الإسلامية أو جمعياتها. أما الأمة فلا تنهض بالأعمال العامة إلا بزعمائها أو جمعياتها، وأما هذه الجمعيات عندنا فلا تزال في سن الطفولة، ولا يرجى من أمثالها عمل عظيم كهذا، فهي أفقر وأضعف همة من جمعيات المرتدين عن الإسلام جملته وتفصيله كالبهائية، والملاحدة المدعين للنبوة والمسيحية فيه، كالقاديانية، دع جمعيات النصارى التعليمية والتنصيرية التي تملك مئات الملايين من الجنيهات، وقد بثوا تعاليمهم في جميع أقطار الأرض، وهم يطمعون في تنصير المسلمين، على حين تتسلل شعوبهم من النصرانية سراعًا بسلطان ونظام كالشعب الجرماني، أو لواذًا بدون سلطان دولي ولا نظام كسائر الشعوب، وهي تمهد السبيل لنسخ الإسلام لها، وحلوله محلها. ولقد كان أرجى الجمعيات الإسلامية لهذا العمل في مصر، جمعية الدفاع عن الإسلام، التي هدمت باسم أقوى معول من معاول الإسلام قبل أن يتم بناؤها؛ وإنما كان هذا الرجاء فيها منوطًا برئيسها الشيخ محمد مصطفى المراغي، وما كان السعي لهدمها إلا سعيًا لهدم اسمه، وحرمان المسلمين من استعداده، ولكن الله نصره، وخذل من ناهضه، وجعل معول الهدم الذي كان بأيديهم سيفًا لنصر الإسلام بيده، فإذا بعصا موسى تلقف ما يأفك سحرة فرعون {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (الأعراف: 118) ، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40) . فإن كان أهلاً للرجاء بأن يسعى لترجمة كتاب الوحي المحمدي ببعض لغات العلم الغريبة تمهيدًا لتبليغ الدعوة الإسلامية للناطقين بها - وتلك القوة الرسمية تكيد له - فأجدر به أن يكون أقدر على تحقيق ذلك بالفعل، وتلك القوة الرسمية وما وراءها من القوة الحقيقية طوع يده، ولن تكون ترجمة هذا الكتاب في موضع الثقة بها عند جميع الشعوب كما إذا كانت من قِبَل شيخ الإسلام وتحت إشرافه، وكان نشره وبث الدعوة به بإرشاده أو إجازته، مع العلم بأن مؤلفه قلم من أقلامه، وعلم من أعلامه، وأحمد الله - عز وجل - أن جدد لي وللأمة بعودته إلى مشيخة الأزهر ذلك الأمل بالزعامة الإسلامية العاملة التي فقدناها بوفاة الأستاذ الإمام منذ ثلاثين سنة. إن الأمة لم تفقد بوفاة ذلك الإمام شيئًا من علم الإسلام، وإنما فقدت زعيم الإصلاح العارف بحاجة زمانه، الذي نال الزعامة بسمو عقله، واستقلال رأيه وفهمه، وعلو همته وشجاعته، وإنصافه بإعطاء كل ذي حق حقه من العلم الصحيح والإخلاص فيه، وما كان يعوزه للنهوض بالإصلاح العام إلا الاستقلال بالزعامة التي تمكّنه من العمل؛ ولهذا كنا نسعى، ولكل قدر أجل، ولكل أجل كتاب. إذن لقد كان من حكمة الله أن (كتاب الوحي المحمدي) لم يترجمه بلغات الإفرنج مَنْ ليسوا أهلًا لترجمته، حتى لا أضطر إلى تخطئتهم، فيكون ذلك محبطًا لعملهم، أو مضعفًا للثقة بترجماتهم؛ وادخرها العليم الحكيم لمن هو أحق بها وأهلها. بلوغ الدعوة لأحرار الإفرنج، والمستشرقون منهم: لن يكون بلوغ الدعوة صحيحًا مرجوًّا إلا بوصولها إلى الأحرار، مستقلي الفكر من هذه الشعوب بلغاتهم، وأكثر أفراد المستشرقين الذين تعلموا العربية ليسوا من هؤلاء الأحرار المستقلين المنصفين؛ فإنهم ما درسوا العربية، ولا مارسوا كتب الإسلام ليعرفوا حقيقته ويعرفوا غيرهم بها، بل ليبحثوا عن عورات يتلمسونها فيها لينفروا أقوامهم عنه بتصويرها لهم بالصور المشوهة التي ينكرونها، كما نرى فيما اطلعنا عليه من كتبهم وفي معجمهم العلمي الذي سموه بدائرة المعارف الإسلامية، ومن خيبة الآمال بعلمهم ومصنفاتهم أن وجدت كتاب (مفتاح كنوز السُّنة) على غير ما كنت ظننت، وخلاف ما قلت في التعريف به، فإنني لم أستفد منه أدنى فائدة. وأما المستقلون منهم - وهم الأقلون - فقد غلبتهم الأفكار المادية على عقولهم، فقضاياها عندهم مسلمات كأنها لا مجال للبحث فيها، وقد قربنا مسافة الخلف بيننا وبينهم بما أقمناه في هذا الكتاب من البينات العلمية القطعية، على أن القرآن لا يمكن أن يكون من كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا من مدارك عقله الظاهر، ولا ما يسمونه العقل الباطن؛ فإذا فرضوا أن للإنسان عقلاً باطنًا لا تعرف حقيقته يدرك به من علم الغيب والشهادة ما هو خفي وخارق للعادة في السنن المعروفة لكسب العلم من الحواس والفكر، وعللوا به ما يسمونه قراءة الفكرة ومراسلة الأفكار، وإدراك المنوم بالاستهواء المغناطيسي - وقد بينا لهم أنه لا يكفي لتعليل الوحي المحمدي - فأي بُعد بين هذا العقل الخفي المفروض في باطن الإنسان وبين وجود عقل خفي مثله في خارجه (وهو ما نسميه الملك كما نسمي الأول الروح) يكون الوحي الحقيقي باتصال أحدهما بالآخر كاتصال الكهربائية الإيجابية بالسلبية، وتولد النور من اتصالهما، فإن ما زعموه من انقداح وحي القرآن من عقل محمد الباطن وحده محال كما قررنا، وهذا أقرب التعليلين، والفرق بينهما قريب جدًّا؛ فما ثَمَّ إلا اختلاف الأسماء. وفوق هذا وذاك قيام البراهين الكثيرة على وجود الله الخالق لكل شيء، الذي دون الإيمان به لا يمكن القطع بشيء من مسائل الكون وسننه، فإنهم كلما أثبتوا شيئًا عادوا فنفوه، وكلما أبرموا أمرًا نقضوه. لقد قرب ظهور الحق لأحرار هذه الشعوب، وسنراهم بعد ترجمة هذا الكتاب يدخلون - إن شاء الله - في دين الله أفواجًا، وقد بطلت ثقتهم بكل ما عداه من الأديان. لعل كتاب الوحي المحمدي قد وصل إلى جميع هؤلاء المستشرقين الذين يعرفون العربية، فإنني أهديته إلى من عرفت عناوينهم، وأرسله غيري إلى أناس منهم، ومن عاداتهم أن يبحثوا عن كل كتاب جديد له شأن، وقد شكر لي بعضهم هذه الهدية بكلمة لم يزد عليها (كصاحب مفتاح كنوز السنة، الدكتور فنسنك) وانفرد العلامة الدكتور موريتس الألماني منهم بإبداء رأي فيه، فأنشر هنا نص كتاب الشكر الذي تفضل به، وهو: برلين 8 سبتمبر سنة 1933 جناب الشيخ العلامة السيد محمد رشيد رضا المحترم. بعد التحية والاحترام: فتفضلتم بإرسال إليَّ نسخة كتابكم الجديد (الوحي المحمدي) فالرجاء قبول جزيل الشكر على هذه الهدية النادرة القيمة، وبالخصوص على ما أظهرتم بها من عدم نسيان شخصي، ولا حاجة للتأكيد لكم أني اطلعت عليه بغاية الاهتمام، ولا ريب عندي أنه يجد كمثله في عالم العلماء. وفي أثناء هذا الاطلاع قد عثرت على جملة مسائل ونقط تستحق ملاحظات، لكن نظرًا لحجم هذا الجواب الذي لا يتسع أن أدخل في جميعها، أقتصر بواحدة منها، أي في معنى كلمة نبيء الأصلي (ص21) عند العبرانيين القدماء، فكان (نبيأ) في أوائل عصرهم المتكلم بصوت عالٍ، ثم الناطق في أمور أمته القضائية والسياسية، أي مثل ناصح ومستشار لإرشادها، لكن شيئًا فشيئًا تتبعًا لتقدم الدين الإسرائيلي تغير موقعه وصفته فصار واعظًا وناصحًا في الأمور الدينية؛ لأنه كان معتقدًا أن هذه الوظيفة صارت له، بناء على أمر من الله بذلك، وأنه المتكلم باسم الله، والدليل على ذلك أنه يستعمل في أول كلامه - أي نبوته - هذه الكلمات: هكذا قال ياهُو (وهو اسم إله بني إسرائيل وغيرهم من الأمم الشرقية المنتشرة بين الحجاز وبين سوريا الشمالية) ... إلخ. وفي الختام أكرر لكم الشكر الواجب مع تمنياتي الصميمة. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص ... ... ... ... ... ... ... ... ... دكتور موريتس يقول هنا العلامة الكبير: إن هذه الهدية نادرة القيمة، وأنه اطلع على الكتاب بغاية الاهتمام، وأنه لا يرتاب في أنه يجد في عالم العلماء ما ينبغي لكتاب مثله، فهؤلاء العلماء قد بلغتهم دعوته، وفهموا ما تحديتهم به من الآية الكبرى على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وما نزل عليه من وحي القرآن، ولم يقدر أحد منهم أن ينقضها، أو يأتي بتعليل لهذه المعجزة الدالة على إتيان محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذا القرآن في أسلوبه ومعانيه، وما فيها من العلوم ال

خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ خطاب الشيخ الأكبر في الجامع الأزهر نَوَّهْنَا في الجزء الماضي بحفاوة الأزهر بعودة الشيخ المراغي إلى رياسة مشيخة الأزهر والمعاهد الدينية ومشاركة جميع طبقات الأمة لهم فيها، وقد وعدهم بأن يرد لهم الزيارة في الجامع الأزهر نفسه ويلقي عليهم خطابًا عامًّا، ووفّى بوعده فكان يومًا مشهودًا ألقيت فيه الخطب والقصائد في تهنئة الأزهر وأهله بإمامهم المصلح الأكبر، ثم ألقى عليهم الأستاذ الخطاب الآتي الجامع لمقاصد الإصلاح والتجديد وكانت آلة مضخمة الصوت توصل كلامه إلى أقصى أولئك الألوف المجموعة كأدناهم، وهذا نص الخطاب، والعناوين في أثنائه من وضع المنار: بسم الله الرحمن الرحيم له الحمد على نعمه، والصلاة والسلام على أشرف خلقه.. وبعد: فقد رأيت واجبًا عليّ أن أزور الأزهر قبل بدء الدراسة لأحيي علماء الأزهر والمعاهد، وطلبة العلم في الأزهر والمعاهد في دارهم كما حيوني في داري، والأزهر دار خاصة لكل من ينتسب إلى العلم، ودار عامة للمسلمين، وقصدت أيضًا إسداء النصيحة إلى إخواني العلماء وأبنائي الطلبة بنسيان ما قد يكون باقيًا في نفوسهم من ضغائن وإحن سببتها الحوادث الأخيرة التي تعرفونها؛ لنستقبل الحياة العلمية في صفاء، ونقبل على العلم بقلوب مخلصة لله ورسوله، نقية من دنس الغل والحقد، عامرة بالإيمان. والأزهر مكان يستحق الإجلال؛ فقد كان - ولا يزال - مصباحًا تستضيء به جميع الأمم الإسلامية، ومنبعًا صافيًا لعلوم الدين، ومستودع فنون العربية وأسرارها وبعض العلوم العقلية. وقد اضطلع بحمل عبء المعارف الإسلامية وغيرها، وخاصة بعد سقوط بغداد وضياع ذخائرها العلمية، وصار المثابة الأخيرة، والكعبة التي يؤمها طلاب العلم من جميع الأقطار، وما من بلد في مصر، بل وما من بلد في أي قطر من الأقطار الإسلامية إلا وهو مدين للأزهر بما يعرفه أهله من الدين الإسلامي، وبما بقي عندهم من علوم العربية. حمل الأزهر هذا العبء وأدى الأمانة كاملة، وله الفضل على المعاهد العلمية القائمة بجواره في مصر؛ فهو أستاذها، وهو شيخ هذه المعاهد جميعها. نعم: قد استقلت عنه بعض المعاهد أخيرًا، ولكنه لا يزال له نصيب عظيم من التثقيف في المعارف الإسلامية وفنون العربية في أكثر هذه المعاهد؛ فلَكُمْ أن تفخروا بتاريخ طويل كله مجد وعظمة لهذا المعهد الذي تنتسبون إليه: تاريخ ظهر فيه من الأئمة والعلماء والمؤلفين من خريجي الأزهر من لا يحصيهم العد، وقد كانوا سبّاقين للخيرات، وكّلوا أمرهم إلى الله - جل شأنه - فحفظهم ورعاهم، وشرح صدورهم، وأنار عقولهم؛ فترسموا آثار الرسول الأكرم - صلوات الله عليه - وتخلقوا بأخلاقه، واعتصموا بهديه، وانتفع الناس بعلمهم وتأدبوا، وحلت آثارهم في البلاد جميعها كما يحل ضوء الشمس ونور القمر. أولئك آباؤنا وأجدادنا في سلسلة النسب العلمي، رضي الله عنهم ونفعنا بهم. يجب أن نذكر هذا المجد ونفاخر به، ونحرص على الانتساب إليه كما يحرص الأشراف على أنسابهم، وأن نحافظ على هذا المجد ونضيف إليه مجدًا طارفًا، اقتداء بأولئك الآباء والأجداد. قد يسأل بعض الناس ما فائدة الأزهر؟ أو ما هي رسالة الأزهر كما يقال اليوم؟ فأقول لهؤلاء: رسالة الأزهر هي حمل رسالة الإسلام، ومتى عرفت رسالة الإسلام عرفت رسالة الأزهر. موضوع الإسلام واتفاقه مع علوم العصر والحاجة إليها: الإسلام دين جاء لتهذيب البشر، ورفع مستوى الإنسانية، والسمو بالنفوس إلي أرفع درجات العز والكرامة، قد طوح بالوسطاء بين الناس وربهم، ووصل بين العبد وربه، ولم يجعل لأحد فضل على أحد إلا بالتقوى، وقدس العلم والعلماء، وقرر في غير لبس ما يليق بذات الخالق من الصفات. وما قرره في ذلك هو منتهى ما سمت إليه الحكمة، ووصل إليه العقل، وأتى بتعاليم كلها ترجع إلى تهذيب النفس، وتلطيف الوجدان، وأبان أصول الأخلاق، وشرع حل التمتع بالطيبات، ولم يحرم إلا الخبائث، ووضع حدودًا تحدُّ من طغيان النفوس ونزوات الشهوات، ورسم أصول النظم الاجتماعية وأصول القوانين، قواعد كلها لخير البشر وسعادة المجتمع الإنساني. هذه صورة مصغرة جدًّا للدين الإسلامي، ورسالة الأزهر هي بيان الدين الإسلامي، وشرح قواعده وأسراره، ومتى أدى هذه الرسالة على وجهها فقد أدى نصيبًا عظيمًا من السعادة والخير للجمعية الإنسانية. في القرآن الكريم حثٌّ شديدٌ على العلم، وعلى معرفة الله، وعلى تدبر ما في الكون؛ وليس هناك علم يخرج موضوعه عن الخالق والمخلوق، فالدين الإسلامي يحث على تعلم جميع المعارف الحقَّة، وليس في المعارف الحقَّة الصحيحة المستقرة شيء يمكن أن يناقض أصول الدين ويهدمها. نعم: قد توجد معارف تناقض بعض ما وضعه العلماء في شرح القرآن والحديث والفقه وغيرها، ولكنا لا نهتم لهذا؛ فليَسِر العلم في طريقه، ولنصحح معارف الماضين، لكن على شريطة أن يكون ما يخالف معارفنا من العلم البرهاني المستقر. ولست أقصد بحديثي هذا أن يكون الأزهر مدرسة طب أو هندسة، أو كلية للكيمياء أو ما يشبه هذا، ولكني أعني أن هناك علومًا ومعارف لها صلة بالدين وثيقة تعين على فهمه، وتبرهن على صحته، ويدفع بها عنه الشبهات، هذه العلوم يجب أن يتعلمها العالم الديني، أو يتعلم منها القدر الضروري لِمَا يوجِّه إليه. هذا وقد تغيرت في العالم طرق عرض السلع التجارية، وأصبح الإعلان عنها ضروريًّا لنشرها وترغيب الناس فيها، ولديكم الحوانيت القديمة ومخازن التجارة الحديثة: وازنوا بينها تدركوا ما في طريقة العرض الحديثة من جمال يجذب النفوس إليها، وما في طريقة العرض القديمة من تشويه ينفر الناس عنها، وقد توجد في الحوانيت القديمة سلع أحسن صنفًا، وأغلى قيمة، وأمتن مادة، ومع ذلك هي في كساد. تغيير طريقة التعليم والتصنيف: وكما تغيرت طريقة عرض السلع تغيرت طريقة عرض العلم، وأحدث العلماء طرائق تبعث الرغبة الملحة في العلم، وتنفي الملل والسأم. حدثت هذه الطرق في إلقاء الدروس والمحاضرات، وحدثت في تأليف الكتب أيضًا، وهذا المثل ينطبق علينا: ففي جميع الكتب التي تدرس في الأزهر، وفي جميع العلوم التي تدرس في الأزهر أعلاق نفيسة لا تحتاج إلا إلى تغيير طريقة العرض في الدرس والتأليف، وفي الفقه الإسلامي نظريات تعد الآن أحدث النظريات عند رجال القانون، وفي الفقه الإسلامي آراء يمكن أن يسير عليها الناس الآن من غير حرج، وتحقق العدالة في أكمل صورها؛ ولكن هذه النظريات البالغة منتهى الجمال والحكمة يحجبها عن الناس أسلوب التأليف القديم. على الأزهر أن يسهل فهم علومه على الناس، وأن ييسر لهم هذه المعارف، وأن يعرضها عرضًا حديثًا جذَّابًا مشوقًا. تطهير الإسلام من البدع: ومسألة أخرى يجب أن يعنى الأزهر بها: تلك هي تطهير الدين الإسلامي من البدع وما أضيف إليه بسبب الجهل بأسراره ومقاصده. هناك آراء منثورة في كتب المذاهب وفي غير كتب المذاهب يحسن سترها، ضنًّا بكرامة الفقه والدين. ومن الواجب أن يعترف بأن المذاهب الإسلامية جملة تغني عن الاجتهاد في المسائل التي عرضت من قبل متى تخير العلماء منها. وأذكر قصة طريفة تجدونها في كتاب (الولاة والقضاة) للكندي: (كان في مصر قاضٍ شافعي المذهب في عصر الإمام الطحاوي، وكان يتخير لأحكامه ما يرى أنه محقق للعدل من آراء الأئمة ولا يتقيد بمذهب، وكان مرضي الأحكام، لم يستطع أحد أن يطعن عليه في دينه وخلقه، سأل ذلك القاضي الإمام الطحاوي عن رأيه في واقعة من الواقعات، فقال الطحاوي: أتسألني عن رأيي أو عن رأي أبي حنيفة؟ فقال القاضي: ولم هذا السؤال؟ قال الطحاوي: ظننتك تحسبني مقلدًا، فقال القاضي: ما يقلد إلا عصبي أو غبي؟ فتَخيُّر الأحكام نوع من الاجتهاد، ولكنه الاجتهاد الذي لم يغلق الناس أبوابه. إصلاح التعليم في الأزهر واجب اجتماعي لإصلاح الأمم الإسلامية في مختلف أقطارها وأجناسها، وعلى كل مسلم أن يساهم فيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. بل أقول: إن هذا الإصلاح ضروري للأمم غير الإسلامية كلها بما يؤديه من الخدمة للحضارة الإنسانية العصرية التي تنقذها مما هي عرضة من خطر الإباحة المادية والإلحاد، اللذين يبثهما في الأمم دعاة البلشفية والتعطيل الجاحدين لوجود الخالق والبعث والجزاء على الخير والشر؛ فهذا الخطر لا علاج له إلا هداية الدين [1] . وأنا أرجو الله سبحانه أن يوفق العلماء وطلاب العلم إلى الإخلاص في النهوض بالأزهر، فإن الإخلاص في ذلك إخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين، وللدين الحق، الذي وعد الله أن يظهره على الدين كله، وجعله هداية عامة لجميع البشر. احترام حرية الرأي: ونصيحة أقدمها للعلماء وطلاب العلم في الأزهر راجيًا تدبرها، وهي احترام حرية الرأي، والتحرج من الاتهام بالزندقة والكفر. ولا أطالب بشيء يعد بدعة، ولا أحدث في الدين حدثًا بهذه النصيحة؛ فهي موافقة للقواعد التي وضعها سلف الأمة - رضي الله عنهم - وترونها مبسوطة واضحة في كتب الأصول وفي جميع كتب الإمام الغزالي. وحاصلها - على ما أذكر - أن المسائل الفقهية يكفر منكر الضروري منها [2] كالصلاة، والزكاة، وحرمة الزنا وشرب الخمر وقتل النفس والربا. أما إنكار أن الإجماع حجة، وخبر الواحد حجة، والقياس حجة، فلا يوجب الكفر، وما عدا ذلك من المسائل الفقهية لا إثم في إنكاره مطلقًا، على شرط أن يكون الإنكار غير مصادم لنص أو إجماع. على هذا أجمع الصحابة - رضي الله عنهم - وأجمع عليه الأئمة، ولم يعرف أن بعضهم أثم بعضًا. وإجمال القول أنه ما دام المسلم في دائرة القرآن لا يكذب شيئًا منه، ولا يكذب ما صح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بطرق قاطعة، فهو مسلم لا يحل لأحد أن يتهمه بالكفر. عرضت لهذه النصيحة؛ لأنها تسهل على أهل الأزهر معاشرة الناس، والعمل بها يمكِّن من نشر الدعوة ومن الجدل بطرقه المقبولة، والعلم على خلافها منفر يحدث الشقاق ويورث العداوة. أسأل الله أن يهبنا رشدًا، وأن يملأ قلوبنا خشية وهيبة من جلاله، ويملأها عطفًا وشفقة ورحمة لعباده. وإذا كانت مهمة الأزهر حمل رسالة الإسلام للعالم، فمن أول واجب على أهله أن يعدوا أنفسهم لتعلم اللغات: لغات الأمم الإسلامية، والله لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه ليبين لهم. فليحقق الأزهر القدوة، وليرسل إلى الناس رسلاً يفقهونهم في دينهم بلسانهم، وسأُعنَى بهذه المسألة، كما أُعنَى بتثقيف إخواننا الذين أسماهم القانون (أغرابًا) فإن لهم من الحقوق والحرية في هذا الوطن ما لكل فرد من أهل البلاد، وأرجو أن يفكروا طويلاً فيما يفرضه عليهم دينهم من الهداية والإرشاد وإسعاد المجتمع. وخليق بنا أن نذكر ما لحضرة صاحب الجلالة ملك مصر المعظم من منن وأيادٍ بيضاء على المعاهد الدينية، وأن نسأل الله - جلَّت قدرته - أن يسبغ عليه نعمة العافية، ويديم على هذه المعاهد خيره وبره، وأن يحفظ حضرة صاحب السمو الملكي أمير الصعيد، ولي عهده المحبوب، والسلام عليكم ورحمة الله.

الهمزية في مدح خير البرية

الكاتب: محمد توفيق علي

_ الهمزية في مدح خير البرية والدفاع عن الدين، والرد على المبشرين (نظمت بمناسبة احتفال الأمة الإسلامية بالمولد الشريف لعام 1354) بقلم (الأديب الشاعر) اليوزباشى محمد توفيق علي النور المحمدي - الشريعة السمحة - تحريم الخمر - نجاسة الكلب والخنزير - حكمة الطلاق - حكمة تعدد الزوجات - تبشير الإنجيل والتوراة بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم - المبشرون بعيسى صلى الله عليه وسلم - نقائض معقدة - مقارنة بين معجزات المسيح ومعجزات غيره من الأنبياء والرسل - وجوب توحيد الخالق جلَّ وعلا - التجاء الناظم إليه تعالى. * * * النور المحمدي ذلك النور ساطعًا والضياء ... وصفه عنه يقصر البلغاء نور من سبح الحصى في يديه ... وجرى منهما وفاض الماء أكمل الخلق صورة يبدع اللـ ... ـه تعالى من نوره ما يشاء مرسل جاوز السموات سبعًا ... وإليه تناهت العلياء وارتقى حيث لا ملائكة اللـ ... ـه تعالى ارتقت ولا الأنبياء صاعدًا في معارج القرب يحدو ... هـ السنا ضافيًا ويغشى البهاء ذو محيا يصبو له البدر عشقًا ... وله تنتمي ضياءً ذكاء رحمة كله وعلم وحلم ... ووقار ونجدة وسخاء مثل من أنجبت (كريمة وهب) ... لم تلد عاقر ولا عذراء * * * الشريعة السمحة ذو أتى بالنعيم ذكرًا حكيمًا ... فإذا الأرض جنة والسماء وحيه للعقول رَوح وريحا ... ن وفيه من كل داء شفاء آية منه تعجز الإنس والجـ ... ـن ولو أن كلهم فصحاء لم يكذب موسى وعيسى، وبغيًا ... كذبته الشرور والأهواء كيف تأتي على الشرائع آيا ... ت وِضاءٌ وسمحة غرَّاء وكتاب مفصل عربي ... ليس يرضى بذلك البخلاء كلما يرتقي الزمان يرى الخيـ ... ـر أفاضته ملة سَحَّاء سكبت صفوة الشرائع في كأ ... س بها ترتوي العقول الظماء * * * الخمر وأشهد اليوم ضجة تنكر الخمـ ... ـر وكأس عنها سلا الندماء بؤرة الشر والجرائر والآثام ... أفتى بذلك الحكماء رب بيت أقامت الخمر فيه ... أجفلت عن رواقه السراء فالعقول اشتكت إلى الله منها ... والكلى والكبود والأحشاء حرمتها دهرًا حكومة أمريـ ... ـكا ونادى برجسها الفضلاء ثم عادت تلغي أوامرها بعـ ... ـد اهتداء وضلت الآراء وسيأتي يوم قريب تزول الـ ... ـخمر فيه وتصرع الفحشاء ويرى الناس أن شرع أبي القا ... سِمِ خير ونعمة وهناء * * * الكلاب والخنازير أثبت الطب فضل شرعك والمجـ ... ـهر والباحثون والعلماء فلعاب الكلاب سم زعاف ... ولحام الخنزير داء عياء [1] * * * الطلاق واشتراع الله الطلاق أصبح في الـ ... ـدنيا مباحًا يقرّه الفقهاء عانقته كرهًا محاكم أوربا ... ونادى بنفعه الأذكياء كيف عيش الزوجين خانهما الـ ... ـحب ولج الأذى وحال الصفاء أعدوَّان يقرنان بحبل؟ ... حالة لا يطيقها السجناء * * * تعدد الزوجات (جنسهن اللطيف) يزداد عدًّا ... ذلكم ما يقوله الإحصاء [2] فغدا اليوم الاجتماع مريضًا ... واعتناق الزوجات فيه الدواء ليس في غيرة النساء من المحـ ... ـظور ما تستثيره البأساء كيف تقوى فُضلى على عنت الدهـ ... ـر وما قد يجره الإغواء فتراهن من ثلاث ومثنى ... ورباع شعارهن الإخاء فمن العدل بينهن وفاق ... والمساواة ألفة وهناء وهو فرض على المعدِّد لا يقـ ... ـوى على حمل ثقله الضعفاء إن في رفق شرع أحمد بالأنـ ... ـثى لفضلاً يجلّه الشرفاء وقديمًا حمى الضعاف ونجّا ... هن مما يخفنه الأقوياء * * * تبشير الإنجيل والتوراة بنبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) عظُمت تلكمو الأناجيل والتو ... راة لولا تقوُّلٌ واجتراء أيّ عهد، لكنهم ضيعوه ... إنما يحفظ العهودَ الوفاء بدلوا الوحي والرسالة إطفاء ... لنور ما إن له إطفاء شهد الصادق المسيح عليهم ... في الأناجيل أنهم أشقياء في ثياب الحملان منهم ذئاب ... خاطفات فما همو أنبياء فاحذروهم وإن أتوا بالأعاجيب ... فليسوا مني وهم أدعياء لست أرضى من قال يا رب منهم ... لي ولكن يرضيني الحنفاء ذلكم ما رواه إنجيل (متّى) ... فليراجع نصوصه القراء [3] * * * المبشرون بعيسى عجبًا للمبشرين بعيسى ... أمةً دينها الهدى والصفاء بعد ما بشر المسيح بهاديها ... كما بشرت به الأنبياء فهو (نور الحق) الذي لفت النا ... س إليه المسيح وهو (العزاء) وليراجع من شاء إنجيل (يوحنا) ... ففيه للباحثين الرضاء [4] وهو ذاك النبي يسأل في الإنـ ... ـجيل عنه يحيى فأين الخفاء [5] فلقد بشرت ببعثته التو ... راة لولا جحودهم والمراء فهو ذو من (جبال فاران) مبعو ... ث ومن تلكم الجبال (حراء) [6] أينع الوحي وازدهى في ذراه ... وتغنى فأطرب الإنشاء وتجلى على البسيطة نور ... وكسا الكون رونق ورواء حِكَمٌ حين أُنزلت ختم الوحـ ... ـي وتمت على الورى النعماء وطوت معجزاتِ كل رسول ... ولها الخلد وحدها والبقاء * * * نقائض معقدة يا لها من نقائض تحرج الفهـ ... ـم عليها لَبسٌ وفيها التواء واعتقاد مُعقد ذَنَب الضَّبِّ ... لديه محجة واستواء يُصلَب الرب في خطيئة عبد ... كيف يرضى بذلك العقلاء لِمَ لَمْ يغفر الخطيئة غفرا ... نًا له فيه عزة وإباء إن يكن ربَّكم فمن كان يدعو ... ربه وهو خاشع بكّاء أإله في وجهه يبصق الأشرار ... هزؤًا ويزدرَى ويُساء لِمَ لَمْ يُقطِّع اليهود أبوه ... كيف تنسى حنوَّها الآباء وبِكَمْ باع ذا الجلال يهوذا ... واشترى منه ربَّه الأعداء (أثلاثون فضة) ثمن الله ... تخطاه بيعهم والشراء بل أحبوك مسرفين وغالَوْا ... في ولاءٍ هُداك منه براء *** مقارنة بين معجزات المسيح وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أم لأن المسيح قد أنجبته ... ذات طهر صِدِّيقة عذراء مثله آدم: فهل كان ربًّا ... آدم؟ أو إلهة حواء؟ أم لأن المسيح أحيا فتاة ... إذ دعا اللهَ فاستُجيب الدعاء " حزقيال " النبي أنشر جيشًا ... عاث في البلى وجال الفناء [7] أم مشى فوق لجة يتهادى ... فارعوى خاشعًا وقرَّ الماء فالعصا قد علمتم انفلق البحر ... لموسى بها وحل القضاء [8] وله البينات والجبل المنتوق ... والمن واليد البيضاء ولخير الورى المكمل صلى ... الله ... والمتقون والأصفياء معجزات ما أن يلم بها الحصـ ـر ولايستطيعها استقصاء نصرته الرياح والرعب في (الخنـ ... ـدق) حتى تشتت الحلفاء [9] وتراءى جبريل يسطع في (بد ... ر) تليه كتيبة شهباء وله الجذع حنَّ والقمر انشـ ... ـق وظهر البراق والإسراء ومشت أيكة إليه دعاها ... تسحب الجذع غضة خضراء ولكَم سحّ -إذ دعا ربه- الغيث ... ولانت لوطئه صفواء [10] ما له إن مشى على الأرض ظل ... ساطع النور ما له أفياء [11] وظللته -بل منه ظللت- الشمس ... لزامًا غمامة وطْفاء [12] كم دعا الله والغذاء قليل ... فنما واستفاض ذاك الغذاء * * * وجوب توحيد الخالق جل وعلا آن للأرض أن تقدس ربًّا ... واحد الذات ما له أجزاء آدم عنده ونوح وموسى ... والمسيح الذي نجلّ سواء وغنيٌّ عن العباد جميعًا ... ما له زوجة ولا أبناء وله الخلق أجمعون عبيد ... وله المجد كله والبهاء ورءوس الطغاة موطئ نعليـ ... ـه [13] وتلك الجلالة القعساء ملأ الكائنات حسنًا ولكن ... لا ترى الشمسَ مقلةٌ عمياء فهو نور سطا على كل نور ... خفيت في ظهوره الأشياء تتلاشى الشموس فيه وتخبو ... وتغيب البروج والأضواء أيها المشرك المعدِّد وحِّد ... إن قول المعددين هُراء لو مع الله في السموات والأ ... رض شريك لقامت الشحناء بل هو الله واحد ما له في الـ ... ـمُلك ثانٍ ولا له أكفاء أيها الجاحد المعطل صدِّق ... لا يكن من هداتك الأغبياء وانظر الأرض والسماء وفكِّر ... هل بلا صانع يقوم البناء؟ إنما الأرض ذرة في رحيب الـ ... ـمُلك فالملك شاسع والفضاء فاعبد الله -لست شيئًا- ولا تكـ ... ـفُر وتذهب بلبِّك الخيلاء أنت رد على جحودك قاض ... فصلته العروق والأعضاء * * * التجاء الناظم إليه تعالى ما الذي تبلغ النوائب مني ... يا مليكى ولي إليك التجاء أنت درعي وأنت سيفي ورمحي ... ونبالي وعسكري واللواء لا أبالي وذو الجلال نصيري ... أن خصمي الملوك والوزراء لست بالأقوياء أحفل لكن ... إن شكاني لعدلك الضعفاء لك يا رب بطشة إن تعاقب ... عندها الأرض والسماء هباء إن تكن غاضبًا عليّ تعاليـ ... ـت فلا ناصر ولا شفعاء عملي سيئ وظلمي لنفسي ... ولغيري تضج منه السماء أستحق الصليّ في النار لكن ... لي في عفوك الكريم رجاء ليس مثلي لجنة الخلد أهلاً ... كيف ترنو لمذنب حوراء ذلك الفضل في غنى عن طلوحي ... إنما يستحقه الصلحاء رُب نُعمى على جحود تولَّت ... ما لنُعمى على جحود بقاء كيف آسى على سرور تولى ... ويَسارٍ أودت به ضراء إن من كنتَ كنزه وغناه ... يستوي الضيق عنده والرخاء ليست الكيمياء منا بعيدًا ... إنما حمد ربنا الكيمياء لست أخشى ضلالة ولقلبي ... بسنا وجهك الكريم اهتداء فاهدنا للفلاح والخير والتقـ ... ـوى فمنك الهدى ومنك الحِباء واحمنا في بلادنا من أوربا ... سيلها جارف ونحن الغثاء (انتهى)

كتاب الوحي المحمدي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ كتاب الوحي المحمدي لداعية الإصلاح العالم المستقل، والمناظر المستدل الأستاذ الشيخ مصطفى أحمد الرفاعي اللبان بأسيوط وهو مما جاءنا بعد الطبعة الثانية (قال) : نظر أبو العلاء المعري إلى نفسه فرآها وقد صفت ونجت من مزالق معظم النفوس، وأدرك عقله نقيًّا من الخرافات والأوهام التي أضلت العقول، وألفى روحه غنية بالفلسفة الصحيحة، التي ترى في المادة ستارًا كثيفًا يسدل على الحقائق، ووجد شعريته فياضة بأرقِّ المعاني، في أدق الألفاظ والمباني، فهتف من أعماق قلبه منشدًا: وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل ونحن بدورنا ننظر إلى نفس السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار فنراها وقد أشربت حبَّ الدين الإسلامي الحنيف والدفاع عنه إشرابًا، ونرى عقله وقد أدرك أسرار الإسلام إدراكًا، ونلفي روحه صافية تقية نقية قد أنجبت أسمى الآثار إنجابًا، ونسبَحُ في مؤلفاته فنعلمه الطود الأشم والفارس المجلَّى، والمحقق النادر المثال، والكاتب المبخوت، الذي لا يُشَق له غبار، ثم نقع في سياحتنا على كتابه (الوحي المحمدي) فنقف طويلاً، ونهتف مثل ما هتف المعري منشدين مخاطبين السيد الرشيد المرشد: وأنت وإن كنت الأخير زمانه ... أتيت بما لم تستطعه الأوائل ولقد كنا نؤمن بأن الله تعالى أوحى إلى عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم- ما أوحى، مستدلين بنصوص القرآن الكريم وببعض البراهين العقلية التي تخير (؟) الوحي إلى النفوس الصافية الراقية، ولكنا ما كنا قادرين أن نقنع بهذا ذوي العقول العصرية، وأولي البحوث الدقيقة القوية؛ فإذا دار النقاش بيننا وبين فريق من هؤلاء لم يعجبهم كثيرًا مما ندلي به وألقوا في سبيلنا عقابًا، وافتجروا [1] حفرًا، وأقاموا متاريس، وغرسوا أشواكًا؛ فتنتهي المناظرة ولا اقتناع ولا رضاء وينشر عنا العجز عن بيان وجه الحق في هذه المسألة مع أهميتها ونفاستها ونفعها العظيم إذا أحسن تبيانها، وأتقن توجيهها وعرضها على طالبيها، فكان كتاب (الوحي المحمدي) للسيد الشريف والمصلح الكبير، أستاذنا محمد رشيد رضا، صاحب المنار - وافيًا بالمطلب على أتم وجوهه، كافيًا في الإقناع لأكبر متشبث متعنت، حجة صادقة لا تُدفع على صحة الوحي الرباني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد العالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين. يرى قارئ " الوحي المحمدي " مقدمة وجيزة بديعة تجمل الكتاب وتبرز مغزاه في صورة مستملحة جزلة طيبة، يعلم منها ما يحجب الإفرنج عن الإسلام: من الكنائس المعادية، والسياسية الخادعة، وحال المسلمين الواهية، وما يعوق الأجانب عن فهم القرآن: من جهل بلاغته، وقصور ترجمات القرآن عن إدراك غايته، وعدم وجود دولة إسلامية تدافع عن هدايته، ويفهم منها القصد من الكتاب على أتم وجه من وجوه الصواب. ويجول القارئ بعد ذلك في جنة الكتاب الغنَّاء فيعرف معنى النبوة والوحي والرسالة وحاجة الناس إليها، ويدرك عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومقدار ما جنت عليها كتب السابقين بما يجرئ على الشرور والمفاسد، ويتيقن وجوب إيمان الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتباعه هو الدواء الناجع لأدواء الهيئة الاجتماعية. ويتنقل القارئ من شجرة النبوة الوارفة الظلال إلى أن نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي الممتازة، فنبوة الأنبياء الإسرائيليين كانت - على قولهم - أشبه بصناعة تتلقى في مدارس خاصة، ونبوة موسى الكليم - عليه السلام - قد ينكرها الملاحدة؛ لأنه تربى في بيت فرعون وهو بيت علم وتشريع، فلا عجب إذا جاء بشريعة كالتوراة. ونبوة المسيح - عليه السلام - يعقب عليها الملاحدة أيضًا فينقصون قدرها ويغضون من قيمتها، ويقولون إنه لم يأت بشيء جديد. أما نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلا يمكن الطعن عليها بمثل هذا؛ لأن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ولا يتصل ببيئة علم أو شريعة، فمجيئه بهذا الدين دليل صدقه وحقيقة رسالته، والحقيقة أن نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثبتة لغيرها من النبوات لا تصح إلا من طريقها ومشكاة نورها. ويمتلئ القارئ بعد هذا علمًا وتحقيقًا حين يقرأ الفصول البليغة عن الأدلة العقلية والكونية على صدق الوحي المحمدي الإلهي فيطمئن قلبه وتستريح نفسه، وينشرح صدره، ويشكر لله توفيق السيد رشيد حتى ألف هذا الكتاب الذي أنار طريق الوحي بآلاف المصابيح الكهربائية الساطعة القوية، ثم يرتوي القارئ من نهر فياض، عذب صافٍ، يجري منه التحقيق ذهبيًّا عسجديًّا، فيعرف مقاصد القرآن الكريم وهدايته للبشر وإظهار الحق في الإيمان بالله تعالى وفي عقيدة البعث والجزاء، ويلمس الإصلاح القرآني العظيم للنفس والروح والجسد والأفراد والجماعات، والنهضة التي أزجاها في الدولة السياسة والاجتماع والاقتصاد والآداب وحياة الأسرة. فإذا انتهى من الكتاب خرج منه بكنز ثمين من العلم الصحيح النقي، وانتقل إلى جو من السعادة فسيح بما وصل إليه من هدوء في نفسه واطمئنان في قلبه، واقتناع في عقله لا يملك نفسه أن يصيح: حياك الله أيها السيد الرشيد، لقد سدت بإصلاحك، ورشدت بمباحثك القيمة الدالة على إشراق نور الحق في قلبك، فهنيئًا لك عملك، ومشكور لك سعيك. ولقد استوعبت كتاب الوحي المحمدي وهنئت باغترافه وارتشافه عدة مرات فرأيته رحيقًا من العلم، مختومًا ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وأنا أشهد صادقًا أن السيد أدى بكتابه إلى العالم الإسلامي أجلَّ الخدمات، وعبَّد للباحثين من الغربيين والعصريين منهج البحث الهادي الرزين، القوي المبين، وأسقط حجج الذين كانوا يحتجون بأنهم غير واجدين من يقدم لهم المطالب سائغة ميسورة. وسيكون له - إن شاء الله - أثر جليل في توجيه المباحث الدينية وجهة طيبة في صالح الإسلام ومستقبله العتيد بإذن الله. ولقد ظهر إخلاص السيد في كتابه فطبع مرتين في أشهر، وأقبل عليه الشرق والغرب، وتُرجم إلى عدة لغات. أدام الله نفعه، ونشر شذاه وعرفه، وأطال عمر السيد ليتحف العالم الإسلامي بدرره الغالية وتحقيقاته السامية، إنه أكرم مسئول وعلى كل شيء قدير. ... ... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد الرفاعي اللبان (المؤلف) : فات المقرظ الكلام في دعوة علماء شعوب الحضارة إلى الإسلام وتحديهم بمعجزات القرآن. * * * الوحي المحمدي بقلم الأستاذ العلامة المتكلم الفقيه الكاتب النظار إبراهيم الطفيش الميزابي الجزائري أجل كتاب في علوم القرآن، وأفخم سفر في جلال القرآن، ومعجزة من معجزات القرآن - كتاب (الوحي المحمدي) . طالع أيها المعتز بالقرآن، ويا طالب منهاج الهداية المحمدية هذا السفر الجليل ترَ أبدع مؤلَّف وأسنى ما جاء به القرآن من هداية البشر أجمعين. إن (الوحي المحمدي) علم وفق الله إليه مؤلفه العلامة الجليل السيد رشيد رضا، علم مستخرج من كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. لقد كُتب في علوم القرآن كتب كثيرة، ولكنها لم تبلغ أن تأتي بما جاء في الوحي المحمدي حتى أصبح هذا الكتاب آية في الإبداع، وغاية في كشف معاني الكتاب المنزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم. فيه الحجة على البشر أجمعين. إن القرآن يدعوهم إلى الانضواء تحت لوائه، ضامنًا لهم كمال السعادة والشمول بالنعم الرحمانية وجلال العزة، إن هم أخذوا بما جاء به من عند الله الرحمن الرحيم. كشف هذا الكتاب مناهج السعادة للأمم، وسبل الهداية الشاملة لطبقات البشر وأجناسه، حتى أصبح عَلَمًا برأسه، يجب أن يعتنى بتدريسه بين الفنون العالية لتخريج رجال عالميين في الهداية إلى شريعة الله التي أكملها وأتم بها نعمته على خلقه. لقد أخرج المصنف هذا الكتاب للأمم، وهو أحسن ما أخرج للناس من جهود العلماء، فلا ريب أن العلماء في جميع الأمم ستتلقاه بالقبول، وسيترجم إلى جميع اللغات؛ لأنه هو الكتاب الذي تنشده اليوم العقول السليمة في كل الشعوب، وسيهتدي بهداه من أراد الله له السعادة من بين أولئك العقلاء الذين يسعون وراء الحق لأنه الحق، ويدركون أن القرآن كتاب من عند الله هدى وبشرى لأولي الألباب، لا سعادة للبشر إلا به، ولا سلام إلا باتباع هديه. ولعلي أكون قد أديت واجبًا إذا لاحظت للمؤلف الجليل أن يعيد النظر في مسألة الرقيق، فإن الإسلام جعلها حكمًا مستمرًّا ما فيه من حكمة اجتماعية، ولم يوجد وضعًا لإبطال الرقيق بالتدريج السريع، ولكن الرقيق يبطل بطبيعته إذا دخل كافة الشعوب في الهداية الربانية، فوجدوه وعبدوه واتبعوا النور الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله. * * * أول كتاب من حضرة صاحب السعادة هارون سليم باشا أبو سحلي (مدير المنوفية في ذلك المعهد) سيدي الأستاذ الأجلّ السيد محمد رشيد رضا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد وصلني كتاب الوحي المحمدي الطبعة الثانية يوم سفري في رحلة بحرية إلى مرسيليا، وكانت فرصة لمطالعته كله، وقد خرجت منه بأنه خير ما أخرج للناس في موضوعه، وقد أعطيت التعليمات لمجلس المديرية لطلب 66 نسخة ليكون في كل مدرسة أولية وابتدائية نسخة، ولما كان واجب كل مسلم نشر هذا الكتاب بأوسع ما يمكن أرجو أن ترسلوا باسمي 300 ثلثمائة نسخة على محطة شبين الكوم لتوزيعها، وثمنها 30 جنيهًا حسب البيان الوارد في كتابكم، نرسلها عند إتمام التوزيع، وأختم كتابي هذا بتوجيه واجب الشكر لكم تلقاء هذا المجهود العظيم المضني، وإني في انتظار الجزء الثاني، ولكم وافر التحية من المخلص. ... ... ... ... ... ... ... ... هارون سليم ... ... ... ... ... ... ... في 31 أغسطس سنة 1934 م (المؤلف) : إن هارون باشا هذا من خير رجال حكومتنا عناية بالدين علمًا وعملاً، بل لا نعرف له في رجال الإدارة مثلاً، وقد طلب منا بعد ما تقدم مائتي نسخة، ثم أرسل ثمنها، ولما كان المعهود من أمثاله رجال الإدارة أن يوزعوا على وجهاء مديرياتهم كثيرًا من الكتب غير النافعة محاباة لأصحابها فيقبلها الوجهاء إرضاء للمدير على كراهة موضوعها وغلاء أثمانها، وكان يعلم أن مثلي ينكر ذلك عليهم - كتب إليّ أنه لم يتبع سننهم، وإنما بين للوجهاء موضوع الكتاب في إقامة حجة الدين وبيان حقيقته، وأنه يعتقد أن قراءته واجبة عليهم وعلى أولادهم، ولا سيما تلاميذ المدارس، ويخيرهم، وأني إذا شئت كتب إليّ أسماء من اشتروه لأسألهم، فكتبت إليه: لا إنكار على من يدعو إلى الله فيما يتخذ من حض الناس على معرفة عقيدتهم وأصول دينهم، فإنه يصدق على هؤلاء ما صح في حديث من (يقادون إلى لجنة بالسلاسل) ، ثم اتفق أن رأيت نقيب الأشراف للمنوفية بمصر فأخبرني مسلك المدير في الترغيب في الكتاب، وكيف تلقوه بالقبول شاكرين. *** تقريظ جريدة حضارة السودان أهدتنا إدارة مجلة المنار الغراء كتاب (الوحي المحمدي) الذي ألفه العلامة المحقق مصباح الإسلام السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الغراء. وقد جاءت مباحث هذا الكتاب كسائر مباحث مؤلفه الثمينة؛ سواء في تفسيره القرآن الكريم، أو في مباحث مجلة (المنار) نورًا وهدى للناس في تبيان حقائق الدين الإسلامي؛ فهو بلا ريب فتح جديد في الدعوة إلى هذا الدين الحنيف القويم، وقد تمكن مؤلفه، وهو ذلك العبقري الديني الذي سيط دين الإسلام بلحمه ودمه، من أ

كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم ـ 2

الكاتب: محمد زهران

_ كتاب حياة محمد صلى الله عليه وسلم الحكم بين المختلفين فيه (2) المنكرات التسعة التي خصها بالذكر الأستاذ الشيخ محمد زهران أبدأ بكلام وجيز على هذه المنكرات، فأبين أنه ليس فيها شيء مما عبر عنه الأستاذ الشيخ محمد زهران بصوادم الحجج القاطعة، التي لجأ إليَّ لاستئصال شأفتها ببواهر البراهين الساطعة، ثم أعود إلى مسألة أحاديث المعجزات وهي أهم وأكبر فأقول: (1) قصة أبرهة والكعبة في الصفحة 64: لم أر في هذه الصفحة شيئًا يصح أن يقال: إنه من الإلحاد، ولا من صوادم البراهين القاطعة، ولا مما هو من مخالفة أصول الإسلام ولا فروعه. وخلاصة ما فيها أن أبرهة أجمع أمره على هدم البيت الحرام، وأن عبد المطلب ومن معه دعوا واستنصروا آلهتهم وانصرفوا، وخلت مكة منهم، وكان وباء الجدري قد تفشَّى في جيش أبرهة، وفتك بهم فتكا ذريعًا لم يُعهد من قبل قط، وأصابت العدوى أبرهة ملكهم فأمر قومه بالعودة إلى اليمن، وبلغ هو صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض حتى لحق بمن مات من جيشه. قال: (وبذلك أرَّخ أهل مكة بعام الفيل هذا وقدسه القرآن بذكره) وذكر السورة بنصها ولم يقل في تفسيرها شيئًا، فمهما يقل فيه فهو لا يرد عليه. (2) أسطورة شق الصدر: هكذا عنوانه ص 72: أخطأ الدكتور محمد حسين هيكل أن نقل خبر هذه المسألة عن مؤلف أصل كتابه بالفرنسية، وسيرة ابن هشام، واعتمد على نقدهما له، واستشكال وقوع ذلك في بني سعد؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم في السنة الثالثة، وكان المخبر لحليمة الخبر أخوه ابنها الرضيع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في سِنِّه. وقد أخرج هذا الحديث عنها ابن إسحاق وغيره من طريق عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهو لم يسمع من حليمة، وإنما قال الذين أخرجوه عنه أنه قال: حُدثت عن حليمة، ولم يذكر من حدثه. وقد أخرجه ابن إسحاق من طريق نوح بن أبي مريم وهو ممن ثبت عنهم الكذب ووضع الحديث. وعبد الله بن جعفر ولد في الحبشة في عهد الهجرة إليها. وأخرج البيهقي وابن عساكر حديثًا آخر عن حليمة فيه هذه المسألة مطولة مخالفة للرواية الأولى في سياقها وفي موضع وقوعها، وهي التي يذكرونها في بعض قصص المولد. وهو من طريق محمد بن زكريا الغلابي وقد قال الدارقطني مخرجه عنه أنه كان يضع الحديث، وصرح غيره بكذبه أيضًا. فمن اطلع على هذه الروايات في تعارضها فله العذر في الطعن عليها مع استشكال متنها وكونه غير معقول. ولكن مسلمًا أخرج عن أنس ما يقوي معنى رواية عبد الله بن جعفر من طريق شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة عن ثابت البناني عنه، وشيبان كان يَهِمُ، أي يخطئ، وحماد هذا من أثبت من روى عن ثابت، ولكنّ ثابتًا تركه البخاري وقد تغير بعد كبر سنه وساء حفظه، ويقال إن مسلمًا تحرى من رواية حماد عن ثابت ما سمعه منه قبل تغيره. على أن أنسًا نفسه كان بعد كبر سنه ينسى بعض ما حدث به، وهو لم يرفع حديثه هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج أيضًا عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه - وهو نائم بالمسجد الحرام - وساق الحديث بقصته نحو حديث ثابت البناني، وقدم فيه وأخر، وزاد ونقص، ورواية شريك أخرجها البخاري في كتاب التوحيد برمتها، وفيها أن قصة الإسراء والمعراج في جملتها - ومنها شق الصدر - كانت رؤيا منامية. وقد غلطوا شريكًا فيها من جهات خالف فيها من هو أوثق منه. وأقوى الروايات في شق الصدر حديث الإسراء والمعراج الطويل الذي أخرجه الشيخان عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة - وليس لمالك غيره - وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث عن ليلة أسري به قال: (بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضطجعًا إذ أتاني آتٍ فقدَّ - قال: وسمعته يقول فشق - ما بين هذه وهذه - أي وأشار إلى ثغرة نحره وآخر بطنه - فاستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب مملؤءة إيمانًا وحكمة فغسل قلبي، ثم حشي ثم أعيد …إلخ) . وفي رواية شريك بن أبي نمر أنه جاءه ثلاثة نفر وهو نائم، وهم الذين تعاونوا على عملية شق الصدر، وأشرنا إليها آنفًا. فأنى للدكتور هيكل أن يحيط بهذه الروايات وأسانيدها واختلاف متونها الدال على روايتها بالمعنى في موضوع من الخوارق، ويحكم فيها بين ما حكاه عن المستشرقين وغيرهم حكمًا معقولا؟ ولقد كنت سئلت عنها فلخصت الروايات بأوسع مما هنا، واستظهرت من مجموعها أنه تمثيل لتطهير قلب النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ نفسه من كل ما لا يليق به من وسوسة الشيطان والشهوات والأهواء، كما تمثل له كثير من المعاني والحقائق في تلك الليلة وفي رؤاه الصادقة بصورة مناسبة لمعانيها، ولعالم المثال في الكشف الروحاني شأن عظيم عند أهله. ومن المعلوم بالضرورة أن الإيمان والحكمة اللذين حشيا في قلبه - صلى الله عليه وسلم - ليسا من المواد الجسمانية التي توضع في الطست ثم تحشى في القلب. ومن شاء التفصيل في المسألة فليراجع الفتوى 12، من المجلد 19، ص 529 - 537، ودونها في 8، ج 4، م 33. وجملة القول أن الدكتور محمد حسين هيكل لم يطلع على حديث يعتقد صحته ويعبر عنه بأنه أسطورة، فإن كان مقصرًا في هذا الاطلاع فليس بمليم بأكثر مما يُلام أكثر علماء هذا العصر، ومما تلام عليه مجلة الأزهر (نور الإسلام) بما تذكره كثيرًا من الأحاديث الضعيفة، وكذا الموضوعة أحيانًا. فلا يصح أن يجعل طعنًا في دينه. (3) مسألة بدء الوحي ص 95: لا أدري ما الذي أنكره الأستاذ زهران من كلام الدكتور هيكل في هذه المسألة، وأما أنا فإنني أنكرت عليه متابعته فيها (لإميل درمنغام) مؤلف الأصل بما يستدل به الماديون على دعوى الوحي النفسي الذي بسطته، ورددت عليه في كتاب الوحي المحمدي بالتفصيل، كما أشرت إليه في مقدمة المقالة الأولى وسأعود إليه، فإنني رأيت المنكرين على كتاب هيكل والمعجبين به سواء في عدم فهم هذه المسألة المهمة وهي أساس الدين؛ ولهذا أقول إنه يجوز أن يكون مثلهم؛ لم يفطن لكون تلك المسائل العشر شبهات يستدل بها الماديون على أن ذلك الوحي ذكاء نفسي وعمل كسبي استعد له محمد صلى الله عليه وسلم بما زعموه من الروايات الباطلة والآراء المخترعة، التي فندناها في كتاب الوحي المحمدي تفنيدًا. وأنكرت عليهما مع العلم بعذرهما الاعتماد على رواية سيرة ابن هشام في مسألة بدء الوحي، وما صورا به جزئياتها من التخيل الشعري الذي تعارض بعضه الروايات، ولا شك في حسن نية هيكل فيها ومراعاته للأدب الواجب، فإن كان الأستاذ زهران ينكر شيئًا كتبه بعينه فعليه أن يكتبه لنا، لا أن يكلفنا قراءة الكتاب كله والرد على كل ما أنكره هو منه لظنه أن رأينا فيه كرأيه، ولكننا أقدر على الرد عليه بما (يروق الكافة، ويخلب ألباب الخاصة والعامة) كما قال، ورب شيء أنكره أنا من هذه السير لا ينكره الأستاذ زهران، وقد ينكر إنكاري إن لم يقف على دليلي مفصلاً. إنني يا أخي أُنكر كل ما رواه ابن إسحق، وما تبعه به ابن هشام مخالفًا لرواية الصحيحين في بدء الوحي، حتى رواية عبيد بن عمير التي قال شيخنا الأكبر في الحديث (الحافظ ابن حجر) إنه يمكن الجمع بينها وبين حديث البخاري في أول صحيحه. وما أظن أنك أنت ولا أمثالك من المبالغين في الإنكار على كتاب (حياة محمد) تنكرون مثلي رواية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ملك الوحي في المنام، وتلقيه منه أول سورة العلق مكتوبة في صحيفة أقرأه إياها، وهي مرسلة لا ندري لعل الساقط من سندها أحد زنادقة اليهود، وأُنكر كذلك جميع الروايات التي في كتب السير ودلائل النبوة في أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى ويسمع من الإرهاصات ما اعتقد به أنه سيكون نبي هذه الأمة فتعلق به رجاؤه، وأنا أعهد أن أمثالكم يطعن على من ينكرها أشد الطعن إلا من طريق علمي: كجرح الرواية أو معارضة المتون بمخالفة القرآن مطلقًا والضعاف منها للصحاح، كما فعلت في كتاب الوحي المحمدي مما تلقاه كل قارئيه بالقبول. (4) ما نسبه إلى السيدة خديجة ص 100: يعني الأستاذ زهران بهذه المسألة قول الدكتور هيكل: إن خديجة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم عندما فتر الوحي: (ما أرى ربك إلا قد قلاك) أي أبغضك. وقد تابع بهذا درمنغام، وهما لم يخترعاه اختراعًا. وكان من شأن المنكِر عليهما أن يعلم أن ابن جرير رواه مرسلاً عن طريقين قيل إن رواتهما ثقات، ولكنهما معارَضان بما رواه الشيخان عن جندب قال: اشتكي النبي فلم يقم ليلة أو ليلتين، فأتته امرأة فقالت له: يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك؛ فأنزل الله: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (الضحى: 1 - 3) اهـ. وأقول إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب عدوته صلى الله عليه وسلم، وما قيل في الجمع بينها من أن خديجة قالت له ذلك توجعًا وأم جميل قالته شماته فهو مردود، وكان يجب على هيكل ألا يأخذ كلام درمنغام قضية مسلمة، ولو بحث وراجع لعرف الصحيح، وعلم أن هذه الفترة القصيرة في الوحي ليست هي التي استوحش لها النبي صلى الله عليه وسلم وكبر عليه الأمر، بل تلك الفترة هي التي كانت بين بدء الوحي في حراء وبين الأمر بالتبليغ، وهي ثلاث سنين، كما بينته في كتاب الوحي المحمدي وكان ينبغي للدكتور هيكل أن يتأمله ويعتمد عليه فهو لباب التحقيق. بل هذه الفترة مشهورة في كتب الحديث وكتب السير لا ينبغي لمن يجهلها أن يكتب مصنفًا في حياته صلى الله عليه وسلم، يدعي أنه يتحرى فيه الحقائق؛ فماذا فعل بالكتب التي طالعها لأجله؟ (5) ما قاله في الإسراء والمعراج ص 153: أجمل الأستاذ زهران إنكاره على ما كتبه الدكتور في هذه المسألة، وكلفني أن أبين ما أُنكره منها وأُثبت ما أعرفه، وهو إرهاق يتقاضاني أن أصنف كتابًا أو رسالة طويلة فيها، وقد سبق لي أن ارتجلت محاضرة فيها استغرقت ساعتين ونيفًا في جمعية مكارم الأخلاق؛ إذ كانت في قاعة دار السادات. الدكتور يثبت الإسراء والمعراج، وينقل فيهما ما هو مشهور بين الناس من الاختلاف بين العلماء؛ هل كان في النوم أو اليقظة؟ وبالروح والجسد، أم بالروح فقط؟ وينفرد بتعليل القصة بأنها من مشاهد وحدة الوجود الخيالية، ويصف هذه الوحدة بغير ما يصفها به أهلها من الصوفية الغلاة الذين يُعرفون بصوفية الحقائق؛ لأنه موضوع ليس من علمه، كما أن التمييز بين صحاح الروايات وضعافها ومنكراتها واختلاف متونها وتعارضها في المعراج ليس من شأنه بالأولى، وقد أشرت إلى بعضها آنفًا في الكلام على حديث شق الصدر، والجمع بينها متعذر حتى قيل بتعددها وهو لا يعقل. ومما أخطأ فيه - كما نرى - ما نقله عن (موسيو أميل درمنغام) في وصف المعراج وقد خلط فيه بين الروايات المضطربة، فلم يميز بين صحيحها ومنكرها. ووصفها وصفًا شعريًّا خلب الدكتور ببلاغته الفرنسية، فعرج هو من أفقه إلى أفق أبعد منه في التخيل الشعري وهو أفق وحدة الوجود، التي يعجز صوفية الهند ومقلدتهم من الإفرنج أن يبلغوا فيها شأوَ محيي الدين بن عربي في نثره وعمر بن الفارض في شعره، وقد قال الدكتور فيها بما لم يعقله من الجمع بين الأزل والأبد. مسألة وحدة الوجود عقيدة هندية قديمة لا تتفق هي وعقيدة الإسلام في كون الخالق تعالى فوق جميع خلقه بائنًا منهم، وخلاصتها أن وجوده تعالى وتقدس عين وجودها، وهي مظاهر له كمظاهر الماء م

شاعر العرب الشيخ عبد المحسن الكاظمي

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ شاعر العرب الشيخ عبد المحسن الكاظمي فاجأنا في ضحوة يوم شديد الحر من هذا الشهر المحرم (سنة 1354 - مارس سنة 1935) نبأ وفاة شاعر العرب المطبوع وعلم الفصاحة المرفوع الشيخ عبد المحسن الكاظمي بعد مقاساة أمراض طال أمدها عدة سنين، صبر عليها صبر الكرام، ويحزنني أنه لم يتح لي تشييع جنازته، وقد قمت بكل ما استطعت من حقوق مودته (المادية والأدبية) في أكثر من ثلث قرن، حتى إنني عرضت نفسي لمرض طويل كاد يكون مزمنًا بزيارتي له ليلاً وأنا مصاب بنزلة صدرية شديدة، وكان يزورني في وسط العهد بيننا في يوم الجمعة من كل أسبوع، وقد يزيد عليها لأسباب عارضة، وإنني أنشر هنا ما كتبته في شأنه بعد تعارفنا بمصر بأيام قليلة، وهو ما تراه في ص 328 من مجلد المنار الثالث، بتاريخ ربيع الأول سنة 1318، يوليو سنة 1900 بعنوان: (القديم في الحديث، والأول في الآخر) وهذا نصه: (ذهبت بلاغة الشعر العربي بذهاب دول العرب حتى صار القرن يمضي كله ولا يظهر فيه شاعر عربي الأسلوب بليغ الكلام، وحتى صرنا نعد وجود مثل سعادة محمود سامي باشا البارودي من قبيل ما يسميه الحكماء بالرجعة، كأن السليقة العربية رجعت إليه بالوراثة لأحد أجداده الأولين من غير عناء في كسب ملكتها، والظاهر أن بلاد العراق لا تزال أقرب إلى السليقة العربية من أهل هذه البلاد، وأن النابغين فيها أكثر منهم في غيرها. ولقد وافى هذه البلاد من أشهر رجل فاضل جدير بلقب (الأديب) وقلَّ الجدير به في العصر، ألا وهو الشيخ أبو المكارم عبد المحسن الكاظمي (نسبة إلى الكاظمية بلدة في ضواحي بغداد) لقيناه فلقينا الأدب الصحيح والأخلاق الحسنة من الشاعر المفلق، العذب المنطق، الذي ناهز المقدمين، وخاطر المقرمين، ومن السجايا الفاضلة الظاهرة فيه الإباء وعزة النفس، حتى إنك لا تشعر في أول عهدك به بما عنده من لطف المعاشرة ورقة الطبع ولين العريكة. قال صاحب السعادة إسماعيل باشا صبري وكيل الحقانية وأحد أركان الأدب في مصر: (إنني عندما لقيته أول مرة ظننت أنه لا تطيب معاشرته، فلما خبرته علمت أنه لا تطيب مفارقته) ا. هـ. وما أجدره بقول شاعرنا أحمد بن مفلح المشهور بابن منير الطرابلسي: إباء فارس في لين الشام مع الظر ... ف العراقي واللفظ الحجازي أما شعره فعلى الطريقة العراقية العذبة القديمة، طريقة الشريف الرضي ومهيار الديلمي، وأما إنشاده فهو يناسب شعره في التأثير الذي هو المقصود الأهم من بلاغة القول) ا. هـ. ونشرت بعد هذا قسمًا من قصيدته العينية، وهي أول ما سمعناه من إنشاد شعره، ونشرت القسم الآخر منها في جزء آخر، ولعمري إن إنشاده للشعر لأبلغ من نظمه له في إثارة الشعور، بما شاء من شجو وشجن، وحنين إلى سكن ووطن، وشوق إلى لقاء حبيب، وحزن على فراق عشيق أو صديق، وإن أنسَ فلن أنسى إنشاده إيانا قول الشاعر: وارحمتا للغريب في البلد النازح ... ماذا بنفسه صنعا فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده وما انتفعا فلئن قال ابن المنير في يائيته: وما المدامة بالألباب ألعب من ... فصاحة البدو في ألفاظ تركي فإن لنا أن نقول: ما لعب المدامة بالعقول، ولا عزف الفارابي بالقانون، بما أضحك الثغور وأثار الشجون، وأجرى الشئون وران على العيون، ولا نعي جميل لبثينة أمام دارها، ولا كلمتها للناعي سافرة نابذة لوقارها - بأعظم سلطانًا على القلوب من إنشاد الكاظمي لهذين البيتين بصوته الرخيم ولهجته العراقية، وتقطيعه للبيت بغير أوزانه الشعرية، كوقوفه على كلمة الغريب، والنازح، والعيش، فإني لأتذكر الآن خفقات قلبي لسماعهما، فأجد الذكرى تعيدها سيرتها الأولى، ولقد كانت كلمة بثينة أشجى كلمة سمعتها من كلام البشر، ولا بأس بذكرها هنا. لَمَّا شعر جميل العذري بدنو أجله في مصر عهد إلى رجل أن ينعاه إلى بثينة في حي أهلها، وأعطاه حلته آية لها، فوقف فأنشد هنالك: صرخ النعيّ وما كنى بجميل ... وثوى بمصر ثواء غير قفول فخرجت حاسرة وقالت: يا هذا إن كنت كاذبًا فقد فضحتني، وإن كنت صادقًا فقد قتلتني! ! فأخرج لها حلته فأنشدت: وإن سلوي عن جميل لساعة ... من الدهر لا حانت ولا حين حينها سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها هكذا كان الكاظمي يخلب ألبابنا بإنشاده العراقي الشيعي، وكل أدباء العراق يخلبون الألباب بضروب الإنشاد، وإن كان لأشجى من سمعنا منهم، ولقد أحببناه لإنشاده ولشعره معًا، ثم اتصل بشيخنا الأستاذ الإمام وخصه بمدائحه المؤثرة، وكان بالمدائح ضنين، فعشقناه لتنويهه بالإصلاح وإمامه، وقد ذكرته في تاريخ الأستاذ الإمام منوهًا بما كان من عطف الإمام عليه ومواساته له، ومما لم أذكره أنه كان له منه راتب شهري قدره عشرة جنيهات ما عدا الهدايا، وكان أنكر ما عددته عليه من كنوده عدم رثائه له، وكان يعتذر لنا بوجده وكمده، ثم علمنا أنه إنما كان يخشى غضب الخديوي عليه إذا هو رثاه، إذ سعى له صاحب المؤيد عند سموه براتب من الأوقاف. إنني كنت صدقت الكاظمي زعمه أن شدة الحزن والأسى على الإمام أخرست لسانه، وحيرت وجدانه، وأطاشت جنانه، فأمسى عاجزًا عن رثائه لا يستطيع منه شيئًا. وظللت سنين مصدقا له، وأرى من حق الوفاء لأستاذنا عليّ بره والوفاء له، على أنه حدثني فيما كان يقصه عليَّ من سيرته الشخصية أن الخطوب ليس لها على نفسه سلطان، وأن الحزن ليس له في شجون قلبه ولا في شؤون عينيه مكان، وأنه كاد هجومها عليه يغلبه على جَلَده، مرة أو مرتين، ففطن لذلك فكان لإرادته الغلب والرجحان، فكان عصي الدمع شيمته الصبر، ليس للحزن عليه نهي ولا أمر. ولقد كان يقول لي إنه لم يجد بعد الأستاذ الإمام من أخلص له الوفاء مثلي، ويظهر لي أنه على رأيي ومذهبي فيما أدعو إليه، وأحيا لأجله من الإصلاح الإسلامي والوحدة العربية، وكان ينشدني بعض قصائده في مدح من يرجو برهم ويقف لي عندما تتضمنه من الإشارة إلى ما أحب من المصلحة العامة، في تضاعيف ما أكره من المدائح الشخصية، بله ما نظمه في المسألة العربية ورجالها، ومنه ما يخصني بزعمه دون غيري، ولم أكن لأحفل بالتصريح بشيء يخصني؛ فكيف أحفل بالتلويح والتعريض الذي لا يكاد يفهم المراد منه أحد؟ ولكن خطر ببالي كثيرًا ما لم أذكره له ولا أشرت إليه من تقصيره في رثاء شقيقي اللوذعي الأحوذي السيد حسين الشاعر الأديب الخطيب، وقد كان عشقه للكاظمي غرامًا، ووده له لزامًا، وكان وكيلي في إدارة المنار مدة غيبتي في الآستانة عامًا كاملاً لم يكد يفارقه فيه يومًا، ثم عاد إلى سورية فقتل بيد مجرم أثيم، فكان من إكبار خطبه عندي أن قلت في تأبينه إنه ليعز علي أن أرثيه، وكنت أرجو أن يرثيني، وأكبر المصاب فيه أهل الفضل والأدب في جميع البلاد العربية، وعقدوا له في بيروت حفلة رثاء وتأبين تبارى فيها أدباء الطوائف الدينية بما كان أقوى مظهر لرابطة الأدب الجامعة، فكانت حفلة نادرة في ذلك الوقت، ولكن كان صديقي وصديقه أبخل بشعره عليه منه بدمعه، وهو الغني المليء بالشعر، الفقير الشحيح بالدمع، وإنما يجود بالشعر حيث يرجى به النوال الجزل. لقي الملك فيصلاً في مصر فرأى من لطفه وتواضعه وتكريمه له ما أحدث له أملاً بأن يحيا بجوده حياة جديدة من الإتراف والسعة، أقلها أن يكون له راتب شهري كبير وهو في مصر، أو ينقل إلى منصب كبير في بغداد، فمدحه كما مدح أخاه الأمير عبد الله وبيتهم الشريف بقصائد غر، كان ينشدها كلها أو بعضها قبل إرسالها، ويحاول إرضائي وأنا المنكر لسياستهم البريطانية بما فيها من التنويه بالإصلاح والوحدة العربية، حتى إذا ما خاب أمله فيهم، وغلبهم ابن السعود على الحجاز، وحدث له من الرجاء في جوده وسخائه ما يئس من مثله منهم، طفق يمدح هذا وآله؛ ويعرض، بل يصرح، بهجو أولئك، ومن ذلك قصيدة في الفرق بين الفيصلين فيصل بن عبد العزيز وفيصل بن الحسين، وكان يدعي أنه لم يكن له من باعث على هذا وذاك إلا ما يهمنا جميعًا من مصلحة العرب والإسلام. كذلك كان يستشيرني في القصائد التي كان ينظمها في القضية العربية، التي يقيمها حزب الاتحاد السوري، فاللجنة التنفيذية للمؤتمر السوري الفلسطيني؛ ويكل إليَّ السعي لما يرجوه من الجائزة عليها من الوجيه ميشيل بك لطف الله، وهي من غر قصائده. وكثيرًا ما كان يزيد في هذه القصائد التي نظمها ولم يكتبها، وكثيرًا ما كان يرتجل غيرها، فقد ثبت عندنا أنه أوتي من ملكة الارتجال ما يساهم به فحول العرب من الجاهليين والمخضرمين والمولدين، وهو يعد من فصحائهم لا من بلغائهم، فشعره فحل في لغته وأسلوبه، دون فلسفته وتأثيره الروحي. وما كان لي أن أطمع بإرجاعه عما يبغيه من الكسب بشعره، وهو بضاعته الرائجة، فكنت أحمد من قصائده ما فيها من الآراء العامة، وأقتصد في الإنكار على المبالغة الشعرية في المدح فيوافقني على ما أقول، ولا أدري ما يكتبه بعد ذلك ويرسله، وما يثبته في ديوانه الذي يدخره لمستقبله وورثته؛ فقد كان يحفظ كل ما ينظمه، وينشدني وينشد غيري من حفظه، وقد ينقح ما ينتقده عليه السامع في المجلس، ويزيد فيه ما شاء وينقص منه؛ وكان يرجو أن يبذل له أحد الملوك أو الأمراء أو الكبراء ما يكفي لوفاء ما يذكر من دَينه وطبع ديوانه، فإن لم يتح له ما يرجو، وَكَل أمر طبعه من بعده إلى أبر الأوفياء له، الذي اختار أن يجعله وصيًّا على كريمته الرباب، وإياي كان يعني. هذه خلاصة ما يقال في شعره وأدبه ومودته وكسبه، ولقد علمت أنه كان له كسب نسائي خفي من كتابة التمائم للحب والبغض، وكان أمين سره في هذا العمل صديقه المرحوم توفيق أفندي الرافعي، وأول من أفشاه لنا امرأته الأولى التي عشق أختها وتزوجها، حملت إلى أهل بيتنا بعض هذه التمائم فأبيت أن أنظر فيها، وحدثتْهن عن إسرافه في النفقة، وما كان يوهمني (قبل بنته الرباب) من أن له عيالاً ينفق عليهم، وقد سمعت منه ورأيت ما يعد من عجائب إسرافه، فلقد كان يشتري ثمر المنجا الجيدة بالعشرات أو مائة بعد مائة وهي أغلى الثمار ثمنًا، وكان دائمًا يشكو الحاجة أو الضرورة، ويطرق أبواب الكبراء الواسعة والضيقة، وقد لجأ أخيرًا إلى المرحوم سعد باشا زغلول ومدحه بالقصائد الفياضة التي ذكر فيها الأستاذ الإمام أول مرة بعد وفاته، ثم لجأ إلى زعيم الوفد من بعده، وظهر في هذه الأثناء بشعر بنته الرباب، وقد شبت على استبدال البرنيطة بالحجاب. وجملة القول فيه أنه كان شاعر العرب المرتجل المفلق، كما كان قال قبل اختيار هذا اللقب لنفسه. لتُخلِ القوافي ميادينها ... فقد عصف الشاعر المفلق وكانت حياته الشخصية في داره ومع أصدقائه وزواره مفاكهات أدبية أكثرها في شعره وأغراضه منه، ثم لم يكن يتحدث في السنين الأخيرة إلا عن مصائبه وأمراضه وخُلته، حتى صار مملولاً بالطبع. نذكر هذا للعبرة والموعظة، ونسأل الله تعالى لنا وله العفو والمغفرة والرحمة الواسعة. ويسرنا جد السرور عناية الحكومة العراقية بإكمال تربية كريمته، وعناية أدبائها وأدباء فلسطين وسورية بتأبينه، وهمَّ بعض أصحابنا بإقامة حفلة تأبين حافلة، ثم أرجؤوها إلى انتهاء هجير الصيف، وما كان لمصر أن تهضم حق أدبه وما كان ظهوره واشتهاره إلا فيها.

تفاقم شر الطلاق في أميركا

الكاتب: مراسل الأهرام في أمريكا

_ تفاقم شر الطلاق في أميركا لمراسل الأهرام في أمريكا أشرت في إحدى رسائلي الماضية إلى القاضي بن لندسي في مدينة لوس أنجلوس بولاية كليفورنيا الملقب بقاضي الطلاق لتساهله في تسهيل سبله على الطالبين، ولكثرة عدد الذين أعتقهم من ربقة الزواج كما يعتق السجناء حال انتهاء المدة المحكوم عليهم بها، وقد أعلن هذا القاضي اليوم اعتقادًا جديدًا أبداه بشكل نبوءة مفادها إمحاق عهد الزواج بهذه البلاد في وقت غير بعيد؛ إذ قال: (إن الزواج في هذه البلاد صائر إلى حالة توجب الأسف وتحمل على الاحتساب، فإن لم نفتح عيوننا للحقائق، ونصرح بها غير متهيبين، ونعمل على تغيير ما نفهمه من علائق الجنسين، تصبح الإباحة في الحب والفوضى في الزواج والتطرف في حسبان الطلاق من ضروريات المعيشة الهنيئة شيئًا سهلاً وواجبًا، وإن كان مخالفًا لما قررته الأديان وأوجبته قوانين الهيئة الاجتماعية) . (فالزواج عندنا قد أصبح ألعوبة أو مهزلة بحيث لا يختلف عن شركة تجارية يعقدها شخصان، ويبقيان فيها متعاونين ما بقيت رابحة، وما اتفق ذوقاهما وينفصلان عندما يشعران بالخسارة أو بالنفور المتبادل. ولا ريب في أن البواعث الطارئة على تمدننا في هذا الزمان تعمل على تقويض أركان التوازن الديني وتشويه آداب المجتمع، وتمهد السبل للطبيعة البشرية الميالة إلى الشر في طغيانها فتتمادى فيه بلا وازع من الدين ولا رادع من القانون. والقاضي الذي تبدو له هذه المساوئ في القضايا المختلفة لا يرى سوى علاج واحد ناجع وهو أن تستعين الهيئة الاجتماعية بالدين والعلم والتهذيب على استئصال ما طرأ في هذا العصر من التطورات الغريبة العاملة على خراب الحياة الزوجية وفساد أخلاق الناشئة) . (وقد يحسبني بعضهم من المفكرين المتفوقين في هذا الباب بالنظر إلى كثرة عدد الذين أفلتوا من قيود الزواج في محكمتي، فأنا على الرغم مما يقال من تساهلي في حل ما عقده الشرع، من أشد الناس تمسكًا بزي الزواج القديم القائل ببقاء الاثنين جسدًا واحدًا إلى أن يفرقهما الموت، ولا يحل هذا الشكل إلا العمل بهذه القاعدة، وأعتقد أن أجدادنا كانوا أسعد حالاً وأهنا عيشًا من الوجهة الزوجية مما نحن عليه الآن) . (ومهما كان اعتقادنا بنظرياتهم فإن تلك النظريات قد انطوت ومعها الحياة الزوجية القديمة المبنية عليها، أو أنها تنطوي الآن بسرعة، وحل محلها جنوح [1] لا يعترف بقيود، خالٍ من كل مسئولية ومن الحب الحقيقي في تعاقد الجنسين بحيث أصبح الناس يعتقدون أن الزواج قضية مؤقتة يحافظون عليها ما وفرت لهم الغبطة، وضروب الشهوات والمسرات، فإذا عدمت هذه الميزات ذهبوا إلى المحامي) . ويظن هذا القاضي أن الحالة الاقتصادية في الحياة العصرية التي تزاحم فيها المرأة الرجل في الأعمال على اختلافها، والتي جعلت الزواج صعبًا أو مستحيلاً على الشبان من سن 20 إلى 30 لقلة دخلهم - هي التي سببت هذا التشويش والفوضى في الطلاق أيضًا؛ لأن الزوجة التي تفرك [2] ، أو يحاول زوجها التخلص منها، قلما تعارض لانفتاح أبواب العمل أمامها بخلاف ما كانت الحال عليه في الماضي. وتنبأ القاضي لندسي من سبع سنوات عن أن عدد المطلقين في السنوات العشر التالية سيضارع عدد الذين يتزوجون، وقد مضى من تلك الأعوام سبعة وبقي ثلاثة، ومع ذلك فقد تم ما خمنه قبل انتهائها حسبما يقول. اهـ. (المنار) إن سوء عاقبة هذا الفساد أكبر مما يحسب هذا القاضي ويقدر، وإن له أسبابًا وعللاً كثيرة، وإن علة العلل كلها انحلال العقيدة الدينية وما تعقبه مع الحرية الواسعة من إباحة الشهوات، وقد كان الدين عندهم نظامًا اجتماعيًّا أدبيًّا، تكفله التربية والتعليم، وتحميه القوانين، فضعفت الكفالة والحماية بحرية التعليم العالي للنساء والرجال معًا، فصار من المتعذر أن يدين هؤلاء بالنصرانية المبنية على التسليم بما يقال لهم من غير برهان معقول مقنع، وهذا الدين لا يجدونه إلا بالإسلام؛ فهو العلاج الوحيد لجميع مفاسد الحضارة الغربية، كما فصلناه في كتاب الوحي المحمدي.

العقبة من الحجاز في عهد الدولة العثمانية

الكاتب: شكيب أرسلان

_ العقبة من الحجاز في عهد الدولة العثمانية حضرة الأستاذ العلامة حجة الإسلام بهذا العصر، وقائد كتيبة المحققين الذي كُتب له النصر، السيد رشيد رضا، أطال الله بقاءه ونفع به: قرأت في الجزء المؤرخ في 30 المحرم 1354 من المنار فصلاً وافيًا عن العقبة، وفيه كلام نقلتموه عن أمين أفندي سعيد معناه أن العقبة أدخلت سنة 1906 ضمن الحدود العثمانية وألحقت بلواء الكرك (شرقي الأردن اليوم) وصارت جزءًا من أجزائه. والذي أعرفه أنا أن العقبة لم تلحق في وقت من الأوقات بلواء الكرك، وهذا هو أصل المعترك، فإن الإنجليز يريدون أن يجعلوا العقبة من البلاد التي كانت الدولة العثمانية ألحقتها بلواء الكرك حتى يقولوا: إنهم لم يغيروا شيئًا من الوضع القديم، بل أبقوا العقبة تابعة للخطة التي كانت تابعة لها من قبل. والحقيقة أنه لما تشكل لواء الكرك ألحقوا به قصبة معان وتوزيعها ما عدا العقبة، وكان ذلك من الدولة قصدًا وعمدًا، حتى لا تجعل العقبة تخرج من أرض الحجاز نظرًا لاستثناء الحجاز من أمور كثيرة، كان متفقًا عليها بين الدولة والدول الأجنبية، ومن جملتها عدم جواز تملك الأجانب. وقد كنت مرة في دمشق في أيام ولاية ناظم باشا وعلمت من المرحوم محمد فوزي باشا المعظم وكان هو عمدة مجلس الإدارة أن ولاية سورية راجعت الباب العالي في أن العقبة باتصالها بأرض معان وبكونها ميناء لمعان وبلاد الشراة يجب إلحاقها بمتصرفية الكرك تسهيلاً للأشغال. فأجاب الباب العالي ولاية سورية قائلاً: (إن هذه الملاحظة لا تخفى علينا، ولكن هناك ملاحظات سياسية أهم منها، وهي: أنه إذا ألحقت العقبة بلواء الكرك صارت من ولاية سورية ودخلت تحت المعاهدات التي بين الدولة والدول الأجنبية، فصار يجوز للأجانب أن يتملكوا فيها بخلاف ما إذا كانت تابعة للحجاز، فليس للأجانب حق أن يتملكوا شيئًا في الحجاز، وهو أمر متفق عليه بين الدولة والدول، فبقيت العقبة إذن تابعة للحجاز، ولم تتبع الكرك كما طلبت ولاية سورية، فقصدت أن أصحح هذه الرواية التي نقلتموها عن أمين أفندي سعيد والتي لو صحت لما كان محل للتعجب من سعي الإنكليز بإلحاق العقبة بشرقي الأردن لأنهم يكونون حينئذ بنوا على أساس قديم. والحال أن هذا الأساس لم يوجد، وأن العقبة كانت ولم تخرج من الحجاز لا أولًا ولا أخيرًا ووضعها الحاضر لا يستند على شيء قانوني. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... شكيب أرسلان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... جنيف (المنار) هذا ما يقال من جهة ما يسمى التشكيلات الإدارية في الدولة. وأما من الجهة الشرعية الإسلامية فالعقبة وما حولها من الحجاز. وبصفة أوسع نقول: من جزيرة العرب التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بألا يبقى فيها دينان كما بيناه مرارًا، فاحتيال إنكلترة للاستيلاء عليها أفظع اعتداء على دين الإسلام.

وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية

الكاتب: أحد محرري المقطم

_ وزير مسيحي يصف الشريعة الإسلامية خطب الأستاذ فارس بك الخوري الوزير السوري الأسبق ومن كبار مسيحيي سوريا في إحدى الحفلات التي أقيمت بدمشق لإحياء ذكرى المولد النبوي، ومما قاله: (إن محمدًا أعظم عظماء العالم، ولم يَجُدْ الدهرُ بعدُ بمثله، والدين الذي جاء به أوفى الأديان وأتمها وأكملها، وإن محمدًا أودع شريعته المطهرة أربعة آلاف مسألة علمية واجتماعية وتشريعية، ولم يستطع علماء القانون المنصفون إلا الاعتراف بفضل الذي دعا الناس إليها باسم الله، وبأنها متفقة مع العلم، مطابقة لأرقى النظم والحقائق العلمية) . (إن محمدًا الذي تحتفلون به وتكرمون ذكراه أعظم عظماء الأرض سابقهم ولاحقهم، فلقد استطاع توحيد العرب بعد شتاتهم، وأنشأ منهم أمة موحدة فتحت العالم المعروف يومئذ، وجاء لها بأعظم ديانة عينت للناس حقوقهم وواجباتهم وأصول تعاملهم على أسس تُعَدُّ من أرقى دساتير العالم وأكلمها) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (المقطم)

مأساة أميرة شرقية ـ 2

الكاتب: محمد تقي الدين الهلالي

_ مأساة أميرة شرقية بقلم الأستاذ العلامة الشيخ محمد تقي الدين الهلالي نزيل البصرة (2) ونحن مع احترامنا للنبي المكرم عيسى نقول: قد أجاد الأستاذ في تنظيره وتمثيله، ألا يعلم لويس أن شرب الدخان في النارجيلة أو غيرها إنما حدث بعد اكتشاف كولومبوس أمريكا، ولم ينتشر إلا في الأزمنة الأخيرة، بل في هذا الزمان نفسه لو دخلت مجلس أمير من بني تميم أهل اليمامة لم تر فيها نارجيلة فضلاً عن الخمر؛ فهل بلغ به هوان نفسه عليه أن يزعم أن مجالس أمراء أبي بكر وعمر كانت محتوية على الخمر؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فأي رجل من زنوج إفريقية، بل قبائل إسكيمو يلقي نظرة إجمالية على التاريخ ويتوهم وجود الخمر في مجالس أمراء الخلفاء ولم تمضِ على انتقال النبي إلى الرفيق الأعلى إلا أيام قلائل ولم يروِ لنا التاريخ شرب الخمر في مجالس الأمراء إلا بعد ذلك بأزمان طويلة؟ وليس مقصودي أن أبرئ خالدًا من الوجهة الدينية، أو أدعي له العصمة الواجبة للأنبياء؛ لأن الكاتب لم يتصدَّ لهذا الأمر إلا من الوجهة التاريخية والأدبية؛ ولذلك أحصر ردي عليه فيهما؛ فهل يستطيع أن ينقل لنا كلمة واحدة من التواريخ المعتبرة يثبت بها ما افتلعه؟ هيهات ذلك. لقد كنا نظن أن مجلاتنا الأدبية لمَّا تصل بعد إلى المستوى الأعلى من التحقيق في التاريخ والأدب، وأن كتابنا لا تزال بضائعهم مزجاة في ذلك، ولكننا بعد ما رأينا هذا المقال اغتبطنا أيما اغتباط بمجلاتنا وكتابنا. وكنا نظن أن كاتبًا شهيرًا قد تصدى لكتابة سلسلة مقالات في التاريخ والشرقيين في أشهر المجلات الإنكليزية في الهند وعرضها على علماء الشرق والغرب يربأ بنفسه أن يرتكب الخلط والخبط والكذب البحت، ولكن أبى الله إلا أن يفضح هذا الأديب الكبير ليعلم مطايا الإفرنج ومقلدوهم أن أدباءهم ليسوا معصومين كما يزعمون من الوهم والغلط والجهل والكذب، بل ربما فاقوا غيرهم في ذلك، وسترى في الرد على مقاله ما يجلو كل شك ويلاشي كل ريب. ومن العجيب أن الأديب " كرهام " جعل من خالد خالدَيْنِ، ولرجل واحد صورتين، فالصورة الأولى التي تقدم الكلام عليها تخالف تمامًا صورة خالد التي نشر تحتها ترجمة خالد بن الوليد وأعماله وسيرته في المجلة نفسها، في جزء 8 أكتوبر 1933 فخالد الأول مستطيل الوجه مائل إلى الاستدارة، ذو لحية مقصوصة قصًّا غير بليغ؛ وأما الثاني فإن وجهه صغير مخروطي، وملامحه مخالفة أشد المخالفة لملامح الأول، ذو لحية فرنسية مخروطية منهوكة بلا عارضين، فهكذا يكون التخبط، وإلا فلا. * * * الرد على مقاله ومناقشته الحساب (1) زعم الكاتب الكاذب أن ليلى بنت الجودي الغسانية كانت زوجًا لمالك بن نويرة ثم تزوجها خالد بن الوليد ثم تعشقها وغنى بحبها عبد الرحمن - يعني ابن أبي بكر الصديق - ومازال ملحًّا في طلبها إلى أن ظفر بها أخيرًا، ففتن بها حتى أعرض عن نسائه وسراريه وجعلها سيدة البيت، ثم لم يلبث أن هجرها وفارقها فرجعت إلى بيت والدها بدمشق، وقضت بقية حياتها فيه، هذا ملخص قصة ليلى بزعمه. أقول: وهذا كذب محض، وجهل فاضح؛ فإن ليلى بنت الجودي لم يتزوج بها مالك بن نويرة، وكيف يتزوج بها وهو من أهل اليمامة في قلب جزيرة العرب وكان وثنيًّا مشركًا، وليلى بنت الجودي نصرانية، وأبوها أحد رؤساء النصرانية في دمشق. وامرأة مالك بن نويرة التي تزوجها خالد بعد قتل زوجها اسمها أم تميم بنت المنهال، لم يتعشقها عبد الرحمن، ولم يتغن بحبها ولا تزوجها. وقد التبس الأمر على هذا الكاتب المسكين لفقره في الأدب الشرقي، فمزج امرأتين وعجنهما وجعلهما شيئًا واحدًا لحول في عين بصيرته، وسيجيء الكلام على ليلى بنت الجودى في آخر الرد، إن شاء الله. (2) زعم أن ليلى زوجة مالك بن نويرة وقعت مع زوجها في أسر خالد، وهو كذب أيضًا؛ إذ لم يذكر أحد من المؤرخين (فيما نعلم) أن خيل خالد أخذت مع مالك زوجته، والحقيقة - كما في الطبري والكامل وابن خلدون وغيرها - أن خالد ابن الوليد نزل بالبطاح، وبث سراياه، فجاءته الخيل بجماعة من بني يربوع، منهم مالك بن نويرة، فسأل خالد الذين جاءوا بهم: أهم مسلمون فيبقيهم أم مرتدون فيقتلهم؟ فاختلفوا فشهد أبو قتادة ونفر أنهم مسلمون، وأنهم أذَّنوا وصلوا معهم وشهد آخرون أنهم غير مسلمين فأمر بهم خالد فقتلوا، ولم يذكر أحد أنه كانت معهم امرأة، مع أن الرواة ذكروا كل شيء، حتى إنهم لم يغفلوا عن ذكر أن ذلك كان ليلاً، وأن البرد كان شديدًا. (3) زعم أن امرأة مالك كانت قد وهبت قلبها لزوجها، وأزمعت أن تبذل كل مرتخص وغالٍ في فدية زوجها، فتزينت بحليها وحللها وذهبت إلى خالد لتشفع لزوجها؛ فلما رآها عشقها، وأصدر أمره بقتل زوجها، ودعوة إمام لعقد النكاح، وخلق لها عباءة كثيفة، وزعم أن النساء يومئذ كن محتجبات وكان كشف وجوههن عارًا، وهذا كله كذب وجهل، فإن الحجاب لم يكن له وجود في ذلك الزمان حتى في نساء المسلمين؛ فكيف بنساء المرتدين؟ وإنما حدث الحجاب بعد ذلك بزمن طويل. (انظر كتابنا: الإسفار في مسألة الحجاب والسفور) ولم يكن عقد النكاح يتوقف على إمام المسجد في بلاد العرب في ذلك الزمان ولا في هذا أيضًا، وإنما هي عادة من عادات المسلمين في الهند وفي كثير من البلاد الإسلامية، وليس ذلك بمشروع في الإسلام، ويكفي لعقد النكاح أن يشهد شاهدا عدل من المسلمين، ولكن أهل البلاد المتحضرة يحضرون القاضي أو نائبه عادة، وأما خالد فلم يكن له إمام، بل هو القائد والإمام كما هي العادة في ذلك الزمان أن يكون الأمير هو الإمام، ولم يدخل خالد بامرأته في تلك الليلة، بل تركها حتى تنقضي عدتها كما في ابن جرير: مجلد 64، ص 192. (4) لو فرضنا أن أم تميم ذهبت إلى خالد لتشفع في زوجها لما أمكن أن يتصور متصور - حتى في هذا الزمن - أن امرأة شريفة زوج أمير تنزين بما عندها من حلي وحلل وتذهب في الليل البهيم، فتدخل على رجل أجنبي يملك ناصيتها، وتخلو به في خيمته، لأمور: (أ) أن التجمل والتحلي إنما يكون وقت الفرح لا وقت الحزن، ولا سيما في ذلك الوقت العصيب حين أحب الأحباب إليها تحت خطر الموت، ينتظر كلمة تخرج من بين شفتي القائد تحييه أو تقتله، فتزينها في ذلك الوقت مما لا يعقله أحد يعرف عادات العرب وأحوالهم؛ لأنها لو فعلت ذلك لقضت على نفسها وعلى خالد؛ إذ الخلوة بالأجنبية - ولا سيما في الليل - فسق موجب للعزل والتعزير، ولا يمكن لامرأة عرفت بذلك أن تكون زوجة لسيد من سادات العرب، بل ولا من أوساطهم ولا لرجل عرف بذلك أن يكون أميرًا لأبي بكر. (ب) أن (الديمقراطية) عند العرب كانت في عنفوان شبابها، ولم يكن الجنود يخضعون ولا يطيعون الأمير إذا رأوا منه منكرًا، والدليل موجود في نفس القصة وهو شيئان: (الأول) : أن بعض الجند - وهم الأنصار - اختلفوا مع قائدهم خالد في التوجه إلى البطاح [1] ، فقال لهم خالد: لا أكره أحدًا منكم، أما أنا فذاهب؛ فتخلفوا عنه وذهب، ثم بعد ذلك ندموا ولحقوا به. (الثاني) : أن أبا قتادة أعلن إنكاره على خالد في قتل مالك وأصحابه، حتى ذهب مغاضبًا له إلى المدينة، واشتكى لأبي بكر الصديق الخليفة ما رأى من خالد، واستعان بعمر واجتهدا أن يحملا أبا بكر على عزل خالد فلم يفعل. (ج) لو أن أبا قتادة ومن وافقه من الناقمين على خالد، وفيهم عمر بن الخطاب الذي كان كالوزير لأبي بكر، وكان إذ ذاك مجتهدًا في حمل أبي بكر على عزل خالد، وبقيت في قلبه حزازة على خالد حتى إنه حين تولى الخلافة عجل بعزله، فلو أن قتادة رأى خالدًا قد خلا بامرأة مالك ليلاً قبل عقد النكاح، بل في حياة زوجها، لأخبر بذلك عمر، وكانت حجته قائمة على فسق خالد، ثم لشنع عمر بذلك على خالد، وألزم أبا بكر عزله، فلا يجد منه بدًّا. (4) ربما تكون العادة عند الأوروبيين - قوم الكاتب - أن المرأة إذا أرادت أن تشفع عند أمير تجملت وتزينت وتغنجت وتدللت لتسبي قلب ذلك الأمير، فيقضي حاجتها، وأما العرب فإن العادة عندهم على خلاف ذلك، فإن المرأة إذا ذهبت إلى رجل أجنبي ولم يكن أميرًا تذهب إليه حزينة متبذلة باكية حيية خاشعة، وأما المرأة التي تتزين وتتبرج وتذهب للأجانب فهي في نظر العرب بغيّ فاجرة، لا تتمكن من الدخول على الأشراف. (5) زعم " كارهام لويس " أن تلك الليلة كانت ليلة هياط ومياط، وأكل وشرب، وسكْر ورقص، وخلاعة وبطر؛ احتفالاً بالنصر والظفر، وقد زل حماره في الطين في هذا أيضًا، ولو أشرف إشرافة على التاريخ الإسلامي أو ألمَّ إلمامة به، ولا سيما في أوله لعلم أنه كاذب، ولخجل من نفسه (كما يقول الإنكليز) قبل خجله من الناس. لو كانت الجنود المحمدية يا مستر كراهام تحتفل عند الانتصار بالأكل والزمر والخمر والعهر، ما أكلت جنود أسلافكم وسادتكم الذين استعبدوكم قرونًا - أعني الروم الجبابرة - في ربع قرن أو أقل على قلة عددهم وعُددهم. إني أرثي لجهلك يا مستر كراهام، وأتمنى أن تعلم - ولو قليلاً - سيرة محمد وأصحابه الأبرار الأطهار. أفتظن أن أصحاب محمد كأصحاب نابليون وكجنودكم في الوقت الحاضر: كلما انتصروا فزعوا إلى اللهو والفواحش كالدواب؟ إن أصحاب محمد كانوا يحيون لياليهم في معسكرهم بالصلاة وتلاوة القرآن اقتداء بنبيهم، اقرأ يا كراهام في سورة السجدة من القرآن: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (السجدة: 16) ثم اقرأ في سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وَجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (الفتح: 29) ثم اقرأ في سورة الذاريات: {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 17 - 19) وكذلك كان هدي نبيهم وإمامهم كما وصفه الشاعر بقوله: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الفجر ساطع أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

تقريظ المطبوعات

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ تقريظ المطبوعات (تأخر عدة أشهر) (كتاب المُحلى للإمام أبي محمد علي بن حزم) من حسنات المطابع في هذا العصر أن يسرت لكل مشتغل بفقه الحديث أن يقتني كتاب المحلى مطبوعًا أحسن طبع على أجود ورق في أحد عشر جزءًا، بعد أن كان من كنوز أغنى الخزائن، وأندر الذخائر، وحسبك من فضله ونفعه شهادة سلطان العلماء الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه هو والمغني لابن قدامة أحسن ما كتب المسلمون في الفقه؛ فهي تغني عن وصفه وبيان إمامة مؤلفه وفضله، وثمن النسخة منه 150 قرشًا، وهو يطلب من طابعه الأستاذ الشيخ محمد منير الدمشقي ومن مكتبة المنار. * * * (كتاب الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني وكتاب بلوغ الأماني، من أسرار الفتح الرباني) الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - إمام أئمة السنة حفظًا ورواية ودراية وفقهًا، وجرحًا وتعديلاً، ومسنده أوسع الأصول في الحديث وأعمها فائدة، والمسانيد موضوعة لحفاظ الحديث، يشق على غيرهم الاستفادة منها، فإن كان تلاميذه منهم لم يحتاجوا إلى ترتيب أحاديثه على أبواب كتب السنن كما فعل الحافظ أبو داود السجستاني من أعلامهم، فالفقهاء من أتباعه كانوا أحوج الناس إلى ذلك، ونحن لا ندري هل وجد فيهم من قام بهذه الخدمة أم لا، وإنما ندري أنه ليس في الأيدي شيء من ذلك، وكأن الله تعالى ادخرها لأحد إخواننا أصدقاء المنار وهو الأستاذ الفاضل خادم السنة السنية الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، ولعمري أنه قد قاسى من العناء في هذا الترتيب ما لم يكن يُظن أن أحدًا يطيقه في هذا العصر، وسلك فيه سبيلاً لم يُسبق إلى مثله: جعل الكتاب كله اثني عشر جزءًا، وكل جزء منه أربعين ملزمة (كراسة) من ملازم الطبع بالقطع الكامل، وعد أحاديث كل كتاب بالأرقام، واقتصر في السند على اسم الصحابي، وطبعها بحرف كبير مضبوط بالشكل الكامل؛ فهذا كتاب الفتح الرباني. وأما كتاب بلوغ الأماني فهو شرح وجيز له في أدنى الصفحات بحرف أصغر من حرف المتن. يبدأ فيه بذكر السند، فتفسير غريب الحديث، فالضروري من معناه، فتخريجه فنحث المهتدين بالسنة على المبادرة إلى اقتنائه.

سبب تأخر هذا الجزء من المنار وسيكون ما بعده أكبر وأحسن

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سبب تأخر هذا الجزء من المنار وسيكون ما بعده أكبر وأحسن أخرنا هذا الجزء، وهو الأول من هذا العام؛ انتظارًا لأجوبة المشتركين الذين خيرناهم في الجزء الماضي بين أكرم الخصال وأشرف الخلال، ولم أرضَ لأحد منهم إلا ما يرضاه الله - عز وجل - للذين أورثهم الكتاب من عباده المصطفين لدينه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّه} (فاطر: 32) ويؤسفنا أن كثيرًا منهم رضي لنفسه ما لا يرضاه الله لأحد من أهل دينه وارثي كتابه، حتى أدنى الطبقات وهم الظالمون لأنفسهم، رضوا بأن يأكلوا حقه بالباطل سحتًا، واختاروه على أكله حلالاً عن سماح ورضا، وعفوا عما مضى؛ كما علم كل من قرأ الجزء الماضي، ومنهم من وفّى واعتذر فقبلنا عذره، ومنهم من وعد وطلب النظرة إلى الميسرة فأنظرناه، ومنهم من طلب العفو والسماح فسامحناه، ولكن أكثر مشتركي هذا القطر لم يردوا لنا جوابًا، فهؤلاء لا نرسل إليهم هذا الجزء، وإن جاز أن يكون بعضهم لم يقرأ خطاب التخيير بعد، وأما أهل الأقطار البعيدة، ولا سيما جزائر الهند الشرقية، فموعد رجع الخطاب منهم قد صار قريبًا. وعَدت بتجديد حياة المنار صورة ومعنى، فأما الورق فكما يرى القراء جودة وحسنًا، وأما الحروف فلما يتم كل ما أوصينا عليه منها، وأما الصحائف فقد زدنا في هذا الجزء كراسة، ونرجو أن نزيد فيما بعده أيضًا حتى يعود مجلده كما كان - إذ كانت سنته اثني عشر شهرًا أو أكثر - إن وفَّى لنا المشتركون في تجديد النظام، وصاروا يؤدون قيمة الاشتراك في أوائل العام، ونفتح لهم فيه الأبواب الأدبية والعلمية التي عزمنا عليها. ونحمد الله أن الذين يعرفون قدر المنار لا يعدلون به غيره من المجلات الدينية التي قلما يجدون فيها شيئًا إلا منقولاً من الكتب المطبوعة الرخيصة، يمكن أن يستغنوا به عنها، وما يجدونه فيه من حقائق التفسير وحل المشكلات بالفتاوى وغيرها لا يجدونه في غيره ألبتة، وإنما يجدون شيئًا تطمئن به القلوب، وتنشرح له الصدور، كما تراه في تفسير أمر يعقوب - عليه السلام - أبناءه بالدخول من أبواب متفرقة، والحاجة التي كانت في نفس يعقوب فقضاها بهذه الوصية، فاقرأ جميع التفاسير من أقدمها إلى أحدثها، ثم ارجع إلى تفسير المنار، وكذلك سائر ما تقدم وما تأخر من هذه السورة وغيرها، واسأل عقلك، واستفت قلبك في ذلك كله.

سؤالان عن الربا في دار الحرب وعن كون الإسلام دين سياسة أم لا

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ سؤالان عن الربا في دار الحرب وعن كون الإسلام دين سياسة أم لا (س 3 و4) من صاحب الإمضاء في بنجر نقارا (جاوه) : بسم الله الرحمن الرحيم حضرة الأستاذ القدير السيد محمد رشيد رضا المحترم، أطال الله عمره: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإن لمناركم الأغر مكانة في قلب كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وبما كان للإسلام من مجد لعبت به الأهواء، لا زال مناركم يرسل أشعته إلى أقصى بلاد الشرق والغرب؛ ليستضيء بنوره من أضله الله وأعماه عن الحق. وبعد فأقدم لفضيلتكم سؤالين أيها البحر الزاخر علمًا مسترحم الجواب عليهما على صفحات مجلتكم الغراء لتعم الفائدة، والله ولي التوفيق. (1) إن الربا انتشر في أرض جاوا في هذه الأيام انتشارًا لا عهد لنا به، حتى إن بعض الأساتذة الذين كانوا في مقدمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقاومين للربا - خرجوا من المدارس وأصبحوا اليوم في مقدمة المرابين، فإذا سألناهم عن الدافع إلى هذا أجابونا بلسان واحد بأن صاحب المنار أفتى بجواز الربا على الإفرنج، وإذا رأينا أحدًا يرابي على الوطنيين أجابنا بأن موظفي الحكومة لا دينيين، وأننا في دار حرب. وقد أفتى صاحب المنار بجواز الربا في دار الحرب؛ فهل لما أشيع عن مناركم من صحة؟ إذا قلتم نعم، فستقفل الحوانيت، ويقف دولاب تجارة العرب بجاوا، ويتوجهون إلى الربا اعتمادًا على فتواكم؛ فما رأي فضيلتكم؟ أرجو الجواب في أول عدد من مناركم ليحق الحق ويزهق الباطل (إن الباطل كان زهوقًا) . (2) هل الدين الإسلامي دين سياسة أم لا؟ لأن في أرض جاوا حزبين كبيرين متشاجرين أحدهما حزب المحمديين، والآخر شركة إسلام إندونسيا، وهذان الحزبان مع اتفاقهما في المبادئ السلفية ما زالا مختلفين في هذا الأمر. فالمحمديون يقولون بأن الدين الإسلامي ليس دين سياسة، ولا يمنعنا عن الاشتراك مع الحكومة والتوظيف بدوائرها السياسية وغيرها، وحجتهم قوله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} (الممتحنة: 8) إلى آخر الآية، ومدارسهم مرتبطة بوزارة المعارف. أما حزب شركة إسلام فإنهم يقولون إن الدين الإسلامي دين سياسة، ولا يسمح لنا بالتوظف في دائرة الحكومة والارتباط بدوائرها السياسية وغيرها، وحجتهم قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} (المجادلة: 22) إلى الآخر الآية. ويحتجون على حجج المحمديين بأن الله نهانا عن الذين قاتلونا في الدين، والقتال يكون بالسيف أو بالضغط والإرهاق والاضطهاد ومنع نشر الإسلام وفضائله لهذا أرجو أن تشرحوا لنا الحق في هذا الأمر لعل الله يهدي الفريقين والذي مال عن الطريق السوي، فيتفق الفريقان على نشر الإسلام ومبادئ السلف الصالح بدلاً عن النزاع الذي لا نتيجة من ورائه إلا الاضمحلال. أرجو نشر الجواب في أول عدد من مناركم والسلام عليكم. ... ... ... ... ... ... ... من تلميذكم المخلص ... ... ... ... ... ... أبو بكر بن سعيد باسلامة جواب المنار (1) أخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب: إن ما تعنونه من إفتائي بحل أخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب ليس كما ذكرتم أو نقلتم، وإنما هو جواب عن سؤال ورد على المنار من مدير جريدة الوفاق (هستنبرغ جاوه) ونشر في (ج 8 مجلد 27) ، الذي صدر في ربيع الآخر سنة 1346 (في فتوى بعض العلماء بحل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوها مما كان برضاهم وعقودهم، فهو حِلّ لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح) . هذا موضوع الاستفتاء، والمستفتي فيه منكر له أشد الإنكار كما هو مبين بنص كلامه في السؤال؛ إذ جعل هذه الفتوى خطرًا على التوحيد ومقتضية لتحليل جميع المحرمات. وقد بينا في جوابه أصل الشريعة في إباحة أموال الحرب بإجماع المسلمين وما قيد العلماء به عمومه. ولم يخالفنا أحد في ذلك فراجعوا فتوانا في (ص 575 من مجلد المنار 27) ، فإن بقي في أنفسكم شبهة فيه فبينوه لنا. وقد كتبنا في آخره (إن تلك الفتوى لا خطر فيها على التوحيد ولا تقتضي تحليل شيء من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها) ا. هـ. وجملة القول: أنني ما أفتيت في شيء انفردت به في هذا الموضوع، وإن الذين ذكرتم أنهم يستحلون أخذ الربا من المسلمين بدعوى أنهم (لا دينيين) أي كفار تعطيل وإباحة - لا يمكنهم أن يدَّعوا أن صاحب المنار أفتى بتكفيرهم ولا بأخذ الربا منهم، ولا بجعله حرفة للمسلمين، وإنما يتبعون أهواءهم، على أننا سنصدر إن شاء الله تعالى في هذا العام كتابنا في مباحث الربا والمعاملات المالية العصرية، التي نشرناها في مجلدات المنار بعد تلك الفتوى، فانتظروا فالمسألة ليس من البداهة بحيث يحررها المرابون والتجار، وخطر الاستدانة من الإفرنج بالربا أضعف مما تتصورون من عكسه، بل هو الذي جعل المسلمين أفقر الشعوب. * * * (2) الدين الإسلامي دين سياسة أم لا؟ إن قول حزب المحمديين إن الإسلام ليس دين سياسة خطأ، وإن استنباطهم من هذا القول أن الإسلام لا يمنعهم من الاشتراك مع الحكومة في وظائفها وأعمالها غريب، فهو مبني على أصل فاسد، ولو لم يكن الإٍسلام دين سياسة لكان منعه من الاشتراك مع غير المسلمين في أعمال حكومة غير إسلامية أشد وأقوى. وأما احتجاجهم بآيات سورة الممتحنة {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ} (الممتحنة: 8) إلخ، فهو في غير محله، فإن موضوعها أن الإسلام لا ينهى أهله في داره عن البر والعدل في معاملة الكفار غير المحاربين لهم في دينهم ووطنهم، وإنما ينهاهم عن تولي المحاربين المنازعين لهم في دينهم ووطنهم، والمراد بتوليهم مساعدتهم على أعمالهم الحربية وكل ما فيه جعل السلطان والقوة لهم على المسلمين. فإذا كان جعل مدارسهم تابعة لمدارس الحكومة غير الإسلامية يضر الذين يتعلمون فيها بإفساد عقائدهم وأخلاقهم ودينهم أو يؤيد سلطانهم عليهم - تكون تابعيتها لها مما نهى الله عنه من توليهم؛ سواء سمي الإسلام سياسيًّا أم لا، فإن الحكم منوط بنص القرآن لا بتسمية الدين سياسة أو عدمه، وإذا كان ذلك نافعًا للمسلمين بحفظ حقوقهم ويمنع أو يخفف الأذى الذي يقع عليهم، فإنه لا يكون محرمًا، وقد يكون بمقتضى السياسة الإسلامية مستحبًّا أو واجبًا، فهؤلاء أحوج إلى إثبات كون الإسلام دينًا سياسيًّا فيما يعملونه ويطلبونه. وأما قول (حزب شركة إسلام) إن دين الإسلام دين سياسي، فهو لا يبيح لهم التوظف في مصالح حكومة بلادهم غير الإسلامية فأصله هو الصحيح، وما بني عليه من الحُكم ففيه نظر ظاهر، فإن سياسة الملة والأمة ليست منصوصة في الكتاب والسنة بعبارات جلية يفهمها كل أحد أو يقدر كل أحد على استنباطها من النص، وإنما أساسها المصلحة العامة وهي تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال، وأقوم وسائلها التشاور بين أهل الحل والعقد من عقلاء علماء الأمة بمصالحها لا علماء الاصطلاحات الفقهية وحدها؛ ألم تر كيف كان سياسي الخلفاء الراشدين بل إمام سياسة الإسلام الأعظم عمر بن الخطاب يختار أمراءه من دهاة الأذكياء، لا من عباد الفقهاء. وأظهر قواعد أئمة الفقه فيها قاعدة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - المأخوذة من سياسة السنة وسيرة الخلفاء الراشدين، وهي أن أحكام العبادات تُبنى على العمل بظواهر نصوص الكتاب والسنة، وأحكام السياسة والمعاملات الدنيوية تبنى على جلب المصالح ودرء المفاسد دون ظواهر النصوص، فإن تعارضا يؤول النص لمراعاة المصلحة. وعندنا من مجربات الشعوب الإسلامية في ذلك ما وقع لمسلمي الهند مع الدولة الإنكليزية، فقد كان المسلمون هم حكام الهند، فسلبت هذه الدولة منهم الحكم بجهلهم، فظنوا أن دينهم يوجب عليهم عدوانها عداوة سلبية بأن يجتنبوا مشاركتها في شيء من أعمال الحكومة الإدارية والقضائية وأن يجتنبوا تعلم لغتها وعلومها فكانت عاقبة ذلك أن أضاعوا ثروتهم وقوتهم فصاروا أفقر من الوثنيين والبرس (أي الفرس) وأضعف؛ فهل هذا مقتضى السياسة الإسلامية التي تحفظ بها مصالح الإسلام والمسلمين؟ كلا إن المسألة أكبر مما فهمه هؤلاء وأولئك فيجب درسها وتمحيصها على الجامعين بين معرفة نصوص الشرع وحكمه ومعرفة شؤون العصر على الأساس الذي وضعناه لهم.

الربا والزكاة والضرائب ودار الحرب

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ الربا والزكاة والضرائب ودار الحرب (س 5 - 7) من صاحب الإمضاء في بيروت لصاحب الفضيلة الأستاذ العلامة السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة (المنار) المعظم. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد: فأرجوكم أن تتفضلوا بنشر أسئلتي المحررة أدناه مع الإجابة عليها في (المنار) وتكرموا بقبول خالص الشكر ومزيد الاحترام. (1) هل يجوز شرعًا وضع مال في أحد المصاريف الأجنبية، وأخذ ربا عنه، ودفعه (أي الربا) إلى الحكومة عن الضرائب المتنوعة التي تفرضها وتجبر الناس على دفعها؟ (2) هل يجوز دفع الضرائب - كأعشار الزروع وغيرها - إلى الحكومة من أموال الزكاة؟ (3) متى يُدعى الأجنبي وأمته (أمة محاربة) بعرف الشرع؟ وما هي (بلاد الحرب) ؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عزت المرادي (المنار) هذه المسائل من متممات المسألة الأولى من مسائل استفتاء جاوه الذي قبله، ونجيب عنها بالإيجاز: (5) أخذ الربح من المصارف الأجنبية: إن الربا المحرم قطعًا لا يحل إلا لضرورة يضطر صاحبها إليه اضطرارًا كالاضطرار إلى أكل الميتة ولحم الخنزير؛ فهل الربح المسئول عنه كله من الربا القطعي؟ وهل دفع الضرائب الإجبارية من الضرورات الاضطرارية التي تبيحه؟ المشهور أن الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال هو حصص من الربح العام الذي تستغله منها، وهو أنواع أقلها ما هو من الربا الذي عرفه الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف، وقد سئل عن الربا الذي لا شك فيه فقال: هو أنه كان يكون للرجل على الرجل دين مؤجل فإذا جاء الأجل ولم يكن عنده ما يقضي به زاده في المال وزاده صاحب المال في الأجل، وهذا بعض ربح المصارف المالية وليس منه ما تأخذه ولا ما تعطيه لأصحاب سهامها ولا للمودعين لأموالهم فيها. وأما كونه بعض مالها المحرم في الإسلام، فمثله كثير من أموال الناس، والعبرة في مثله بصفة أخذه لا بأصله، ولا سيما في هذا العصر الذي قلما يوجد فيه كسب يُلتزم فيه الشرع في بلاد الإسلام؛ فما القول في بلاد الإفرنج ومستعمراتهم؟ فمن اعتقد مع هذا كله أنه من الربا المحرم، لا يجوز له أخذه لأجل أن يدفعه في الضرائب المحرمة - من باب دفع الفاسد بالفاسد - لأنه ليس ثمة ضرورة تبيح له ذلك. ومن اعتقد أنه غير ربا شرعي قطعي لم يحرم عليه، فإن التحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازمًا، واشترط الحنفية وجمهور السلف أن يكون بنص قطعي، بل قال أبو يوسف: إنه لا يقال في شيء إنه حرام إلا إذا كان بيِّنًا في كتاب الله بغير تفسير. ومن كان عنده شبهة فيه دون التحريم كان دفعه في ضرائب الظلم الإجبارية أولى من دفع الأموال التي لا شبهة فيها. وقد بينَّا حكم الشبهات من قبل في مباحث الربا والمعاملات المالية التي تصدر في كتاب مستقل. * * * (6) دفع الضرائب من أموال الزكاة: أموال الزكاة المستحقة على صاحبها لا يجوز دفعها إلا للأصناف التي بينها الله تعالى في آيتها المعروفة] إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [.. إلخ (التوبة: 60) ، وزكاة الزرع كالأعشار إذا أخذتها الحكومة تسقط عن صاحب الزرع المستحقة عليه، ولكن لا يسقط عنه زكاة النقدين بدفعها إلى الحكومة أداء لضرائب الظلم. وفي هذا الباب مشكلات تختلف باختلاف الحكومات: إسلامية، وغير إسلامية. * * * (7) الأمة المحاربة التي تسمي بلادها دار الحرب: دار الحرب مقابلة لدار الإسلام التي تكون فيها الحكومة الإسلامية التي تقيم أحكام الإسلام، فكل أمة أجنبية لا تعقد حكومتها مع الحكومة الإسلامية معاهدة على السلام والأمان وعدم الاعتداء تكون أمة محاربة، وتكون دارها دار حرب؛ لأن الحرب فيها عرضة للوقوع في كل وقت؛ إذ لا عهد يمنعها، وللفقهاء تعريف لهما لوحظ فيهما جريان الأحكام من الجانبين. عقد العلامة ابن مفلح الفقيه الحنبلي فصلاً وجيزًا لهذه المسألة في كتابه (الآداب الشرعية) قال فيه ما نصه (ج 1، ص 231) : (فكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فدار الإسلام، وإن غلب عليها أحكام الكفار فدار الكفر ولا دار لغيرهما) . وقال الشيخ تقي الدين، وسئل عن ماردين: هل هي دار حرب أو دار إسلام؟ - قال: (هي مركبة فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار الإسلام التي يجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويعامل الخارج عن شريعة الإٍسلام بما يستحقه، والأول هو الذي ذكره القاضي والأصحاب والله أعلم) . اهـ. وقال في كشاف اصطلاحات الفنون: ودار الإسلام عندهم ما يجري فيه حكم إمام المسلمين من البلاد، ودار الحرب عندهم ما يجري فيه أمر رئيس الكفار (كلمة الكفار تشمل - في الاصطلاح الشرعي - غير المسلمين من كتابيين ووثنيين ومعطلة) من البلاد كما في الكافي، وفي الزاهدي أن دار الإسلام ما غلب فيه المسلمون وكانوا فيه آمنين، ودار الحرب ما خافوا فيه من الكافرين. ولا خلاف في أنه يصير دار الحرب دار إسلام بإجراء بعض أحكام الإسلام فيها. وأما صيرورتها دار الحرب - نعوذ بالله - فعنده بشروط: (أحدها) : إجراء أحكام الكفر اشتهارًا بأن يحكم الحاكم، ولا يرجعون إلى قضاة المسلمين، ولا يحكم بحكم من أحكام الإسلام، كما يأتي في الحرة. (وثانيها) : الاتصال بدار الحرب بحيث لا تكون بينهما بلدة من بلاد الإسلام يلحقهم المدد منها. (وثالثها) : زوال الأمان الأول، أي لم يبق مسلم ولا ذمي آمنًا إلا بأمن الكفار (أي غير المسلمين) ولم يبق الأمان الذي كان للمسلم بإسلامه وللذمي بعقد الذمة قبل استيلاء الكفرة. وعندهما لا يشترط إلا الشرط الأول. وهو يعني بقوله (فعنده) الإمام أبا حنيفة، وبقوله: (وعندهما) أبا يوسف ومحمد بن الحسن رحمهم الله. ولفقهاء المذاهب أقوال أخرى في دار الإسلام ودار الحرب وأحكامها، والأصل فيها أن دار الإسلام ما كان أهلها من المسلمين وغيرهم آمنين بسلطان الإسلام وحكمه العدل، وجارية فيهم أحكامه؛ ودار الحرب ما كان أمانها وأحكامها بسلطان غير المسلمين وغير أحكام الإسلام؛ سواء كانت بينهم حرب أم لا؛ فيدخل في دار الحرب ما كان حكامها من المعاهدين المسلمين، ولهذه المسألة فروع مشكلة في هذا، فإنَّ بعض البلاد التي تسمى حكوماتها إسلامية لا تجرى فيها الأحكام الإٍسلامية من حيث هي إسلامية، بل لها تشريع وضعي مخالف للشرع الإٍسلامي يسمى باسم البلد أو القطر، ويسمى رئيس حكوماتها شارعًا، وتنفيذ الأحكام باسمه؛ بمعني أنه هو الشارع والمنفذ لها بسلطانه واسمه، لا بحكم الله واسمه، ولا نخوض في بسط هذه المسائل.

فتاوى المنار

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ فتاوى المنار (س8 -10) من صاحب الإمضاء بدمشق الشام: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7) . حضرة الأستاذ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن الأمر قد أشكل علينا في بعض المسائل، ولم نعثر على شيء منها، ونريد منكم أن تبينوا أحكامها بالتفصيل التام، ولم نر أحدًا نعتمد - بعد الله تعالى - إلا جنابكم، وهاهي الأسئلة: 1 - ما حكم استعمال الذهب في الكتب الإسلامية وغيرها (أي تذهيب الكتاب في الكعب) ؟ 2 - ما حكم طبع الكتب للأديان الباطلة وتجليدها؟ 3 - هل يجوز حفر الصليب على النحاس أو على الزنك، وطبعها بالذهب على ظهر الكتاب؟ أفتونا، وانشروها في صفحات مناركم الغراء، ولكم الأجر والثواب على الله تعالى، ودمتم للمسلمين ذخرًا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي ... ... ... ... ... ... ... ... محمد منصور نجاتي (8) تذهيب جلد الكتب: تزيين الكتب المجلدة بطبع أسمائها وأرقام عددها، وغير ذلك من الزينة بالمادة الذهبية المعروفة عند المجلدين - مباح لا يدخل فيما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأكل والشرب في أواني الذهب والفضة، ولا ما زيد على ذلك خاصًّا بالذهب كما بيناه من قبل مرارًا في باب الفتاوى فلا نعيده. * * * (9) طبع كتب الأديان الباطلة وتجديد كتبها: نشر الأديان الباطلة والمساعدة عليه إقرار لها والمساعدة على الدعوة إليها أو معرفتها والاطمئنان بها فهو حرام، على الأقل في حال إنكارها والبراءة منها. وأما الرضا بها واستحلال نشرها والمساعدة عليه فهو كفر. * * * (10) حفر الصليب على النحاس أو الزنك وطبعه: الصليب شعار لدين غير الإسلام، فلا ينبغي لمسلم أن يساعد أهله على إظهاره، ولا أن يعارضهم فيه في دار الإسلام؛ ولكن أهله قد يتخذونه علامة لبعض مصنوعاتهم وتجاراتهم فلا يكون فيه إقرار لشيء من عقائد أهله ولا من عباداتهم، ففي هذه الحالة لا يعد من يحفره في المعدن لإعلان تجاري مثلاً موافقًا لشيء من دين أهله، ولا جانيًا على دينه هو.

حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي

الكاتب: محمد مصطفى المراغي

_ حفلة الأزهر بشيخه الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي عزم جماعة من طبقات الأمة العالية والوسطى إقامة حفلة تكريم عامة لشيخ الإسلام المراغي ابتهاجًا بعودته إلى مشيخة الأزهر ورياسة المعاهد الدينية بعد فترة خمس سنين كادت تقضي على ما كان فيه من دين قويم وخلق كريم وعلم نافع، وتجعله بيئة دسائس ورياء وفتن وأهواء وخرافات ونزغات مادية، فكانت كسني يوسف السبع الشداد، وكان هذا العام بعودة المراغي كذلك العام الذي أغاث الله به الناس، ذلك العام كان غوثًا من القحط والجدب الذي كاد يقضي على الحياة البدنية، وجاه هذا العام غوثًا من الجهل وفساد الأخلاق الذي كاد يقضي على الحياة الدينية العلمية. ولقد سعى الأستاذ لصرف الناس عن إقامة هذه الحفلة، زهدًا منه في هذا الظهور والشهرة، بيد أن الأزهر - علماءه وطلابه - لم يتسن لأستاذهم ورئيسهم صرفهم عن الانفراد بإقامة حفلة باسمهم خاصة بهم، ورياسته عليهم إسلامية من أقوى دعائمها اتباع الإجماع، وكانوا على التكريم مجمعين، والعلم بإجماعهم كان نطقيًّا لا سكوتيًّا؛ لأنهم محصورون، فجمعوا النفقة المقدرة للاحتفال من أنفسهم بنظام اختياري عادل، واختاروا للاحتفال أفسح مكان في مصر، وهو معرض الجمعية الزراعية الذي تعرض فيه نتائج زراعة القطن وصناعاته، فراعوا النظير بعرض نتائج العقول والفنون فيه، ودعوا إلى حضوره ألوفًا من رجال الطبقات العليا والوسطى، وفي مقدمتهم أمراء البيت المالك والوزراء العاملون والقاعدون، وكبار رجال القصر والدواوين، وممثلو الدول الإسلامية السياسيين، ووضعوا من موائد الشاي وما يتبعه عادة من أنواع الحلوى والفطائر ما يسع المئين أو الألوف: منها ما وضع للمتعارفين من جمع القلة، ومنها ما وضع للمتجالسين من جمع الكثرة، ووضع للمحتفل به ولأعضاء لجنة الاحتفال مائدة في صدر المكان مزينة بالرياحين والأزهار بجانب منبر الخطابة، وبجانبه الآخر موائد الأمراء والوزراء، وأمام موقف الخطابة آلة المذياع الكهربائي (الراديو) ووضع في جو المكان أصوار أو أبواق متفرقة من مضخمات الصوت لتسمع كل من فيه ما يُلقى على المنبر كأنه بجانبه. وكان وراء هذا المجلس الفسيح الخاص بالمدعوين مجلس آخر للألوف المؤلفة من مجاوري الأزهر وهم مع علمائهم أصحاب الدعوة، وقد جلسوا بترتيب ونظام تام كنظام الجيش الألماني. ولما كمل الجمع أقبل الشيخ الأكبر فانتصب القاعدون وقوفًا إجلالاً له وتكريمًا، وهتفت جيوش المجاورين دعاء وترحيبًا، ثم أديرت كؤوس الشاي على جميع الموائد في وقت واحد، وتلاها الطواف بأكواب شراب الليمون والبرتقال المثلوج، بنظام دقيق سريع، ولما فرغ الجموع مما لذ لهم وطاب أكلاً وشُربًا افتتحت الحفلة بتلاوة أشهر القراء لآيات من الذكر الحكيم، ثم نهض رئيس لجنة الاحتفال صاحب الفضيلة الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد اللبان فألقى خطبة الافتتاح، وتلاه الخطباء والشعراء من علماء الأزهر ونابغي طلابه، وكان أولهم أشهر علماء الأزهر في الخطابة الارتجالية والكتابة العصرية: صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني، فبدأ خطبته بما يعهد به من مراعاة مقتضى الحال، بصوته الجهوري المعتاد، وما لبث أن هاجته ذكرى ما سامته المشيخة الساقطة من هضم، وما أرهقته من عسر وظلم، وما انقلب إليه بانقلابها من عزة وكرامة في وقفته هذه على أعين عظماء الأمة، ومرأى ومسمع من رجال الدولة، فإذا به وقد غلبه على رأيه ورويته غاشية من مراقبة الله - عز وجل - شغلته عن المضي في خطبته بمداراة خشوعه، وكفكفة دموعه، فمكث هنيهة يستنجد قلبه، ويستلهم ربه، فألهمه حسن المخلص بتوجيه التهنئة على هذه النعمة إلى الأمة؛ لأن ظفر الأزهر ظفر لها، وأن يكل أمر تكريم المراغي إلى الله الذي رفع ذكره، وأعلى قدره، ووضعه في الموضع اللائق به، ومكنه من الإصلاح الذي خُلق له، وختم الخطبة بالدعاء لجلالة الملك وولي عهده. لا يتسع المنار لما تحيط به الصحف اليومية من وصف هذه الحفلة بالتفصيل، ونشر ما ألقاه أعلام الأزهر فيها من الخطب والقصائد؛ وإنما الواجب عليه أن يبدأ بنشر خطبة المحتفل به، فهي أفصحها لفظًا، وأبلغها معنى، وأصحها بيانًا لما ينويه من الإصلاح، على منهج المصلح الأول الأستاذ الإمام - قدس الله روحه - وجعله خير خلف له، فيما نوَّه به من رفع ذكره، وتخليد حمده وشكره. * * * خطبة الأستاذ الأكبر في حفلة تكريمه حضرات السادة الأعزاء: أحمد الله - جل شأنه - على ما أولانيه من الكرامة بهذه المنزلة في نفوسكم، وأشكر لحضرات الداعين المحتفلين بِرَّهم وكرمهم، وعاطفة الحب الفياض البادية في قولهم وفعلهم، في شعرهم ونثرهم، ولحضرات المدعوين تشريفهم واحتمالهم مشقة الحضور الذي أعربوا به عن جميل عطفهم وحبهم. ويسهل عليَّ قبول هذه المنن كلها واحتمالها إذا أذنتم لي في صرف هذه الحفاوة البالغة عن شخصي الضعيف، واعتبارها كلها موجهة إلى الأزهر الشريف، الذي تُجلُّونه جميعًا وتعتبرونه بحق شيخ المعاهد الإسلامية في مصر وغيرها من البلاد. ولئن دل هذا الاجتماع بالقصد الأول على غرض التكريم فقد دل بالإشارة والتبع على معانٍ أسمى من غرض التكريم. دل على أن الأزهر خرج عن عزلته التي طال أمدها، ونهض يشارك الأمة في الحياة العامة وملابساتها، وعزم على الاتصال بها ليفيد ويستفيد، وهذه ظاهرة من ظواهر تغيير الاتجاه الفكري الذي نشأ عن تغير طرائق التعليم فيه، وعن شعوره بأن في الحياة معارف غير معارفه القديمة يجب أن تدرس وتعرف، وطرائق في التعليم يجب أن نحتذي ونهتدي بها. ومنذ أربعين سنة اشتد الجدل حول جواز تعليم الحساب والهندسة والتاريخ في الأزهر وحول فائدة تعليمها لعلماء الدين، ومنذ أربعين سنة قرأ لنا أحد شيوخنا كتاب الهداية في الفلسفة في داره على شرط أن نكتم الأمر لئلا يتهمه الناس ويتهمونا بالزيغ والزندقة، والآن تدرس في كلية أصول الدين الفلسفة القديمة والحديثة، وتدرس الملل والنحل، وتقارن الديانات وتعلم لغات أجنبية شرقية وغربية. ومن الحق أيها السادة علينا ألا ننسى في هذه المناسبة - والحديث حديث الأزهر والأزهريين - ذلك الكواكب الذي انبثق منه النور، الذي نهتدي به في حياة الأزهر العامة، ويهتدي به علماء الأقطار الإسلامية في فهم روح الإسلام وتعاليمه، ذلك الرجل الذي نشر الحياة العلمية والنشاط الفكري، ووضع المنهج الواضح لتفسير القرآن الكريم، وعبَّد الطريق لتذوق سر العربية وجمالها، وصاح بالناس يذكرهم بأن العظمة والمجد لا يبنيان إلا على العلم والتقوى ومكارم الأخلاق، ذلك الرجل الذي لم تعرفه مصر إلا بعد أن فقدته، ولم تقدره قدره إلا بعد أن أمعن في التاريخ، ذلك هو الأستاذ الإمام محمد عبده - قدس الله روحه وطيب ثراه - وقد مر على وفاته ثلاثون حولاً كاملة، ومن الوفاء بعد مضي هذه السنين ونحن نتحدث عن الأزهر أن نجعل لذكراه المكان الأول في هذا الحفل، فهو مشرق النور، وباعث الحياة، وعين الماء الصافية التي نلجأ إليها إذا اشتد الظمأ، والدوحة المباركة التي نأوي إلى ظلها إذا قوي لفح الهجير. الأزهر كما تعلمون أيها السادة هو البيئة التي يدرس فيها الدين الإسلامي الذي أوجد أممًا من العدم، وخلق تحت لوائه مدنية فاضلة، وكان له هذا الأثر الضخم في الأرض، فهو يوحي بطبعه إلى شيوخه وأبنائه واجبات إنسانية، ويشعرهم بفروض صورية ومعنوية، يعدون مقصرين آثمين أمام الله وأمام الناس إذا هم تهاونوا في أدائها، وأنهم لا يستطيعون أداء الواجب لربهم ودينهم ولمعهدهم وأنفسهم إلا إذا فهموا هذا الدين حق فهمه، وأجادوا معرفة لغته، وفهموا روح الاجتماع، واستعانوا بمعارف الماضين ومعارف المحدثين فيما تمس الحاجة إليه مما هو متصل بالدين، أصوله وفروعه، وعرفوا بعض اللغات التي تمكنهم من الاتصال بآراء العلماء والاستزادة من العلم، وتمكنهم من نشر الثقافة الإسلامية في البلاد التي لا تعرف اللغة العربية، هذا كله يحتاج إلى جهود تتوافر عليه، وإلى التساند التام بين العلماء والطلبة والقوامين على التعليم، ويحتاج إلى العزم والتصميم على طي مراحل السير في هدوء ونظام وجِدٍّ، وصدق نية، وكمال توجه إلى الله، وحب للعلم لا يزيد عليه إلا حب الله وحب رسوله. وللمسلمين في الأزهر آمال من الحق أن يتنبه أهله لها: أولاً - تعليم الأمم الإسلامية المتأخرة في المعارف وهدايتها إلى أصول الدين، وإلى فهم الكتاب والسنة، ومعرفة الفقه الإسلامي وتاريخ الإسلام ورجاله، وقد كثر تطلع هذه الأمم إلى الأزهر في هذه الأيام وزاد قاصدوه منها أفرادًا وجماعات، واشتد طلبها لعلماء الأزهر يرحلون إليها لأداء أمانة الدين وهي بيانه ونشره. ثانيًا - إثارة كنوز العلم التي خلفها علماء الإسلام في العلوم الدينية والعربية والعقلية، وهي مجموعة مرتبط بعضها ببعض، وتاريخها متصل الحلقات، وقد حاول العلماء كشفها فنقبوا عنها وبذلوا جهودًا مضنية، وعرضوا نتائج بعضها صحيح وكثير منها غير صادق، وعذرهم أنهم لم يدرسوا هذه المجموعة دراسة واحدة، على أن بعضها متصل بالآخر كما هو الحال في دراسة الأزهر، فإذا وفق الله أهل الأزهر إلى التعمق في دراسة هذه المجموعة دراسة قديمة حديثة، ودراسة المعارف المرتبطة بها، وأتقنوا طرق العرض الحديثة - أمكنهم أن يعرضوا هذه الآثار عرضًا صحيحًا صادقًا بلغة يفهمها أهل العصر الحديث؛ وإذ ذاك يكونون أداة اتصال جيدة بين الحاضر والماضي، ويطلعون العالم على ما يبهر الأنظار من آثار الأقدمين، وأعتقد أن التعليم الأزهري على النحو الذي أشرت إليه هو الذي يرجى لتحقيق الأمل، وأنه مدخر لأبنائه إن شاء الله. ثالثًا - عرض الإسلام على الأمم غير المسلمة عرضًا صحيحًا في ثوب نقي خالٍ من الغواشي المشوِّهة لجماله، وخالٍ مما أدخل عليه وزيد فيه، ومن الفروض المتكلفة التي يأباها الذوق ويمجها طبع اللغة العربية. رابعًا - العمل على إزالة الفروق المذهبية أو تضييق شقة الخلاف بينها، فإن الأمة في محنة من هذا التفرق ومن العصبية لهذه الفرقة، ومعروف لدى العلماء أن الرجوع إلى أسباب الخلاف ودراستها دراسة بعيدة عن التعصب المذهبي يهدي إلى الحق في أكثر الأوقات، وإن بعض هذه المذاهب والآراء قد أحدثتها السياسة في القرون الماضية لمناصرتها، ونشطت أهلها وخلقت فيهم تعصبًا يساير التعصب السياسي، ثم انقرضت تلك المذاهب السياسة وبقيت تلك الآراء الدينية لا ترتكز إلا على ما يصوغه الخيال وما افتراه أهلها، وهذه المذاهب فرقت الأمة التي وحدها القرآن، وجعلتها شيعًا في الأصول والفروع، ونتج عن ذلك التفرق حقد وبغضاء يلبسان ثوب الدين، ونتج عنه سخف مثل ما يقال في فروع الفقه الصحيح أن ولد الشافعي غير كفء لبنت الحنفي، ومثل ما يُرى في المساجد من تعدد صلاة الجماعة، وما يسمع اليوم من الخلاف العنيف في التوسل والوسيلة، وعذبات العمائم، وطول اللحى حتى إن بعض الطوائف لا تستحيي اليوم من ترك مساجد جمهرة المسلمين، وتسعى لإنشاء مساجد خاصة. من الخير والحق أن نتدارك هذا، وأن يُعنَى العلماء بدراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة دراسة عبرة وتقدير، لما فيها

إلى فضيلة الأستاذ الأكبر بمناسبة خطابه في حفلة التكريم

الكاتب: أحمد محمد شهاب

_ إلى فضيلة الأستاذ الأكبر بمناسبة خطابه في حفلة التكريم بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر. لله أنت فيما ملكت من القلوب، وما مُنحت من التوفيق، وما أُلقي إليك من مقاليد الأمم الإسلامية وتربية ناشئتهم وكهولهم وشيوخهم، فالله حسبك، ونعم المعين. يعلم فضيلة أستاذنا الأكبر أن قلوبنا بحبه خافقة، وعيوننا إليه شاخصة، أكفنا بالضراعة إلى الله بتأييده منبسطة نطلب إليه تعالى دوام توفيقكم، وإطالة عهدكم، والبركة في عمركم، حتى تجددوا للأمة الإٍسلامية شبابها، وتعيدوا إليها مجدها، لكي تتبوأ في مشرق الكرامة مكانها، وتلقي إليها الدنيا بزمامها فتعيدها سيرتها الأولى، فقديمًا أشرق نور الإسلام وارتفع به صوت الداعي، والأمم من ظلمات الجهل في تداع، طمست البدعُ المعالم، وتنافست الأمم في المظالم، فهامت في أودية الضلال {وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (الرعد: 33) . والآن وقد دار الفلك دورته، لقد أرسلك الله في الناس داعيا إلى الصراط المستقيم، هاديًا من طَغَتْ عليهم أوشابُ المدنية الحديثة إلى تفهم روح الدين الصحيح تحقيقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما معناه (إن الله ليبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) وإن الأمة لتصيخ لقولكم وتتهافت على إرشادكم فما من خطة تختطونها، أو حكمة ترسلونها، إلا هبطت علينا هبوط الماء على الظمآن، والأمن والسكينة على الخائف اللهفان. سيدي الأستاذ الأكبر: إن أحب الأمور إلى قلوبنا العمل على وحدة الدين والقضاء على تلك الفروق الخيالية، والعصبيات المذهبية، فتلك من وساوس الشيطان للإنسان، حتى انتهى الأمر بنا إلى ما أشرتم إليه فضيلتكم في خطابكم البليغ في حفلة التكريم (من أن ولد الشافعي كفء) لبنت الحنفي، وما نرى من تعدد صلاة الجماعة في المسجد الواحد، وما نسمع من الخلاف في التوسل والوسيلة، وعذبات وطول اللحى، حتى أن بعض الطوائف لا تستحي اليوم من ترك مساجد جمهرة المسلمين وتسعى لإنشاء مساجد خاصة) . نعم لا يستحيون لأنه (لا حياء في الدين) إننا وأيم الله يا سيدي الأستاذ نرى هذا بقلوبنا ونحسه بعيوننا ويحز في نفوسنا، وما شيء أحب إلينا من جمع كلمة المسلمين والقضاء على أسباب التفرقة بينهم، وليس وراء قوله تعالى مزدجر {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) . هذا بيت الداء، وأنتم أخبر بالدواء، ها هي (ذي) الأمة ألقت إليكم قيادها وها أنتم (أولاء) وضعتم يدكم المباركة على سكان السفينة لتقودوها إلى شاطئ السلامة إنه لا شيء أغلى وأعز من الدين (دينك دينك إنما هو لحمك ودمك) ألا وإن الدين قد ذهب، ألا وإنه لم يبق منه إلا الصلاة كما أخبر الصادق المصدوق (آخر ما يبقى من دينكم الصلاة فمن ضيعها فقد كفر) ألا وإننا قد أضعنا الصلاة، ومن أداها فقشر ظاهر لا لب فيه، ألا وإن البدع تفسد العلم كما يفسد الخل العسل، هذه البدع عمت المساجد وتخللت الصلاة، وإنني لا إخال فضيلتكم إلا ذاكرين ما حدث من ابن عمر رضي الله عنه، ففي المأثور عنه أنه كان سائرًا بالكوفة فمر على مسجد وسمع المؤذن ينادي بالصلاة فدخل وأخذ يركع تحية المسجد، فلما فرغ المؤذن من الأذان، ورأى الناس خارج المسجد وقف ببابه وقال: حضرت الصلاة يرحمكم الله، فسلم ابن عمر رضي الله عنه وخف وأخذ حذاءه وانصرف من المسجد تاركًا الجماعة، قائلاً: والله لا أصلي في مسجد فيه بدعة، رحم الله ابن عمر ماذا كان يبدي ويعيد لو بعث اليوم ورأى صلاتنا؟ سيدي الأجلّ: ليت الأمر وقف عند ابتداع البدع في المساجد والصلاة وما يسبقها ويلحقها ولم يمس جوهر الصلاة، ولم يهدم أركانها هدمًا، ويطمس معالمها طمسًا: تقصير مخلّ، نقر كنقر الغراب، يسرقون من صلاتهم فهم أسوأ الناس سرقة، هذه منكرات يجب على من رآها أن يزيلها فإن لم يستطع فليزُل عنها. هذا ما حمل بعض المتمسكين بدينهم على الفرار بصلاتهم إلى مسجد من أرض الله يقيمون فيه الصلاة: الصلاة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وكقوله للرجل الذي صلى بين يديه مرات: (ارجع فصلِّ فإنك لم تُصلِّ) فقال الرجل في الثالثة: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها فعلمني فعلمه. فالمسيء صلاته شر من تارك الصلاة، إذ تارك الصلاة معترف بتقصيره عالم أنه ظالم لنفسه فترجى له التوبة والإنابة ويحظى بالمغفرة {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} (النساء: 110) أما المسيء صلاته والمدخل فيها البدع فإنه يعتقد عن جهل أنه يتقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال وأحبها إليه، غافلًا عن إساءته فيها وضلال سعيه، فأنى ترجى توبته من عمل هو في نظره خير الأعمال؟ فيبقي كذلك حتى يلقى الله تعالى وقد خسر عمله {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الكهف: 103 - 104) فإن لم يشملهم النص فلا يعدوهم الوعيد. إن الصلاة لو أُديت على وجهها المشروع كان لها السلطان الأكبر على النفوس ورقتها وهذبتها ووقتها شر الهلع والجزع، وأعدتها للقيام بجلائل الأعمال والتحلي بجميل الخصال، والمثابرة في سبيل الحقوق المشروعة على النضال، وجعلت كل مصلٍّ ينصف أخاه من نفسه، ويعمل لغده ويحاسب نفسه على أمسه. بهذا تقل الجرائم ويغلق باب السجن ويستريح القاضي، ويكون الدين بحق مستودع القوة التي ترهب الأشرار وتصد غارة الأشقياء، وتجعل الناس يحافظون على حقوق بعضهم البعض، ولا يحتاج الأمر إلى قانون المراقَبين والمشبوهين، إذ الكل يشعر بمراقبة العلي الكبير، فيحافظون على أموالهم، وأرواحهم وأعراضهم، وينقرض الفساد، وتسود الطمأنينة البلاد] إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَر? [ (العنكبوت: 45) . والمأمول من فضيلتكم أن تبينوا كتابة وبواسطة الوعاظ والمرشدين حقيقة الصلاة وما يجب أن تكون عليه الجماعات في المساجد وأئمتها ورؤساؤها وما يجب عليهم من رعايتها وتطهيرها من مفاسد البدع، ومن الأدعية المبتدعة، واللغو والتشويش على المصلين فيها. إنك يا سيدي إن عملت ذلك - وأنت خير من يعمل - قدِمت إلى الله يوم الدين بخير زاد {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} (الانفطار: 17 - 19) . فالأمر الآن بين يديك ولا سلطان في الدين لأحد عليك، وما المرء بمستطيع في كل حال أن يقوم بجلائل الأعمال: فأئمة المساجد ورؤساؤها رعاتها (وكلكم راعٍ وكل راعٍ مسئول عن رعيته) {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162 - 163) . ... ... ... ... ... ... ... ... أحمد محمد شهاب ... ... ... ... ... ... رئيس نقطة صفط الخمار ببوليس المنيا

تفسير المنار الجزء الثاني عشر

الكاتب: عبد السميع البطل

_ تفسير المنار الجزء الثاني عشر للسيد الإمام محمد رشيد رضا (رضي الله عنه) يحزنني أن أقرظ هذا الجزء ونحن في مأتم السيد رشيد رضا، ولا نزال مأخوذين بدهشة الخبر، وكأننا في حلم مفزع لا أمام حقيقة صادعة، ولا أمام جرائد تفيض جداولها بالنعي والتأبين، ولا بين معزين من مختلف الطبقات يذرفون الدمع الهتون، ويتوجعون لمصيبة المسلمين بفقد الراحل الكريم، ويتحدثون عن الفراغ الذي تركه، وأنهم لا يجدون من يملؤه، فقد كان السيد الإمام - رحمه الله - ملء السمع والبصر، وكان الحجة الثبت، والمفزع الذي تطمئن إليه النفوس الشاردة من وساوسها، وتهدأ به القلوب الواجفة مما يحيك فيها؛ فتجد برد اليقين، وتشعر ببشاشة الإيمان. يجزنني أن أقدم للأمة الإٍسلامية هذا الجزء من التفسير وأنا في هذه الحالة النفسية التي لم أرها من قبل، على كثرة النوازل والفواجع، ولكن كل المصائب تهون وتتضاءل أمام مصيبتنا في الراحل العزيز، أحسن الله نزله، وحشره مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وبعد: فتفسير المنار أشهر من الشمس، وأبين من فلق الصبح، يعلن عن نفسه بنفسه، وقد قرَّظه العلماء والفضلاء في الشرق والغرب، وأثنوا عليه بما هو أهله، واتخذوه مرجعًا لهم، بل استغنوا به عن كل التفاسير التي تُقتنى، وهو الآن عمدة المحققين من علماء الأزهر وغيرهم. ولست الآن بصدد الكلام على مزاياه ومجموعة ما انفرد به عن كل كتب (التفسير) فذلك له مقام آخر، غير أن الذي أريد أن أعجل للقراء به ونحن في هذه المحنة القاسية - أن أذكر لهم بعض ما امتاز به الجزء الثاني عشر، وهو آخر الأجزاء التي أنجز طبعها السيد المبرور، أحسن الله جزاءه، ورفع في الجنة درجته؛ فقد امتاز هذا الجزء على صغر حجمه بالنسبة لسوابقه بتحقيقات انفرد بها، كالكلام على حكمة التحدي بالسورة الواحدة وبالعشر، وهنا يفيض السيد إفاضة يتجلى فيها روح الإلهام الصحيح، والنظر الصادق، فترى من التحقيقات في الموضوع ما لا ترى في كتاب آخر، فإذا أنت انتقلت إلى آية الطوفان: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (هود: 44) أطلعك على ما في الآية من بلاغة روحية تهتز لها النفس، وتلمس بصدق جانب الإعجاز في الآية الكريمة، ويبطل عجبك من تأثير القرآن في نفوس العرب، ذلك التأثير العجيب الذي بدَّلهم في سرعة لم يعهد لها نظير، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، ورفعهم من الحضيض الأوهد إلى الذروة؛ فكانوا مشاعيل الهداية، ومعلمي الأمم، وقادة الشعوب بالحق والعدل والعلم، نعم يبطل عجبك فالقوم كانوا مرهفي الحس، سليمي الذوق، وكانت اللغة لغتهم، وهم أعلم بمرامي الكلام ووقعه وتأثيره، فلا عجب أن كانت هذه البلاغة العالية الأخاذة تأخذ بمجامع قلوبهم، وتأطرهم على الإيمان أطرًا، فاستمع إليه - أثابه الله - يقول: (ما أفظع هذا المنظر! ما أشد هوله! ما أعظم روعته! ماء ينهمر من آفاق السماء انهمارًا، وأرض تتفجر عيونا خوارة فتفيض مدرارًا، ماء ثجاج، يصير بحرًا ذا أمواج، خفيت من تحته الأرض بجبالها، وخفيت من فوقه السماء بشمسها وكواكبها، وكانت عليه هذه السفينة كما كان عرش الله على الماء في بدء التكوين، كأن ملك الله الأرضي قد انحصر فيها، فتخيل أنك ناظر إليها كما صورها لك التنزيل، تتفكر فيما يئول إليه أمر هذا الخطب الجليل، واستمع لما بينه به الذكر الحكيم، أوجز عبارة وأبلغها تأثيرًا، جعلت أعظم ما في العالم كأن لم يكن شيئًا مذكورًا) إلى أن يقول: (قرر علماء البلاغة الفنية أن هذه الآية أبلغ آية في الكتاب العزيز أحاطت بالبلاغة من جميع جوانبها وأرجائها اللفظية والمعنوية التي وضعت لفلسفتها الفنون الثلاثة: المعاني والبيان والبديع) . وإن مثل هذا التفاضل بين الآيات الذي يقتضيه الحال والمقام لا ينافي بلوغ كل آية في موضعها وموضوعها درجة الإعجاز، ولا يعد من التفاوت المعهود في كلام أشهر البلغاء: كأبي تمام، والمتنبي، وكذا غيرهما من شعراء الجاهلية، ومن بعدهم في الدرجات الثلاث العليا والسفلى وما بينهما، فآياته كلها في الدرجة العليا المعجزة للبشر، وإن كان لبعضها مزية على بعض، كما تراه في تكرار القصة الواحدة من هذه القصص، وقد بسطناه في تفسير آية التحدي بعشر سور مثله مفتريات من هذه السورة. مثال ذلك ما نراه من بلاغة هذه الآية في باب العبرة المقصودة بالذات من سياق هذه القصص كلها، وهو فوق ما ذكروه من نكت الفنون فيها، وبيانه أن الله قد أنذر الظالمين وأوعدهم الهلاك في آيات كثيرة - ومنهم مكذبو الرسل عليهم السلام - كلها معجزة في بلاغتها، ولكنك ترى في هذه الآية من تأثير تقبيح الظلم والوعيد عليه نوعًا لا تجده في غيرها؛ لأن حادثة الطوفان أكبر ما حدث في الأرض من مظاهر سخط الله تعالى على الظالمين، وقد علم من أول القصة أنها عقاب للظالمين بيد أن إعادته في هذه الآية عقب تصوير حادثة الطوفان بارزة في أشد مظاهر هولها، وإشعار القلوب عظمة الجبار العزيز الحكيم في الفصل فيها بما تتلاقى فيه نهايتها ببدايتها والتعبير عن هذه النهاية بالدعاء على الظالمين بالبعد والطرد الذي يحتمل عدة معانٍ مذمومة شرها الطرد من رحمة الله تعالى، يمثل لك هؤلاء الظالمين من قوم نوح بصورة تمثال من الخزي واللعن والرجس لا ترى مثله في أمثالهم من أقوام الأنبياء على ما تراه في التعبير عنها بالعبارات الرائعة في البلاغة وعلم الأسلوب، وإحداثها الرعب في القلوب … إلخ. ثم عقد فصلاً، بل فصولاً في نهاية القصة كان أحدها للكلام على ما في الآية من بلاغة اصطلاحية، وإن من يقرأ العبارتين يتجلى له الفرق بين البلاغيتين؛ هنا يشعر بأسلوب يهز أريحيته، ويملك عليه وجدانه، ويأخذ النفس من أقطارها، وهناك تشغله العبارة والاصطلاحات الفنية عن المقصود من الآية وهو التأثير والعبرة؛ وبذا تعرف مبلغ أثر القرآن في نفوس العرب. وعلى الجملة لقد كتب السيد عدة كراسات في قصة نوح تصلح أن تكون رسالة وحدها، ولا سيما الفصل الذي عقده لبيان غضب الله على عباده وعقابهم ببعض ظلمهم وفسوقهم في الدنيا، دع ما ختم به سورة هود من عقد خلاصة وافية لها، وهي سُنَّة انفرد بها المرحوم السيد وحده دون باقي المفسرين؛ فقد جرت عادته أن يعقد خلاصة لكل سورة، يبين فيها مجمل ما اشتملت عليه من الأحكام والحِكم والسنن الإلهية في الأفراد والأمم بأسلوب لا يتيسر لغيره. ومن مزايا هذا التفسير تحقيق الحق في مسألة الهمِّ في سورة يوسف في قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّه} (يوسف: 24) وهنا ترى في كتب التفسير خلطًا وخبطًا وحشوًا من الإسرائيليات تنافي الذوق والعقل والشرع واللغة، وترى السيد يجرد قلمه لدحض كل هذه الأقوال، ويبين الحق فيها بيانًا شافيًا تطمئن إليه النفس، كما جلى القصة للناس جلاء ظهرت فيه وجوه العبرة منها، ونقاها من كل ما دسته الإسرائيليات فيها؛ ولذلك اقترح عليه الكثيرون من الأفاضل طبع سورة يوسف على حدة، وقد فعل - رحمه الله - وسيراها الناس قريبًا، إن شاء الله. ولولا خوف الإطالة لنقلت إلى القراء نموذجًا من تحقيقاته في سورة يوسف؛ ليروا كيف يدرك المتأخر ما لا يدرك المتقدم، ولا سيما في كتاب الله الذي لا يتناهى إعجازه. رحم الله السيد، وأحسن عزاء الأمة العربية والعالم الإسلامي فيه. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل

نعي فقيد الإسلام والمسلمين

الكاتب: عبد الله أمين

_ نعي فقيد الإسلام والمسلمين السيد الإمام محمد رشيد رضا - منشئ المنار (رضي الله عنه) ننعي إلى الإسلام والمسلمين، إمام أئمة المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين غير منازَع، وأحذق الأئمة المحققين السابقين منهم واللاحقين غير مدافَع، زعيم أهل السنة العاملين، وأنفذهم بصيرة، وأرسخهم عقيدة، وألد خصوم البدعة وأبطشهم بها يدًا وأثبتهم على قتالها قدمًا، علم الهداية الخفاق، وصوتها الرنان في الآفاق، المتفاني في تحرير الشعوب الإسلامية لا من البدع والخرافات والأوهام والضلالات حسب، بل منها ومن أغلال الاستعباد وقيود الاستبداد، وأخلص المخلصين للإسلام والمسلمين، وعمدة الداعين إلى هدي الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وسلم - السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه وأرضاه، وجعل جنة النعيم مستقرة ومثواه، آمين. اختاره الحي الباقي لجواره حوالي منتصف الساعة الثانية من مساء الخميس، الثالث والعشرين من جمادي الأولى، سنة 1354 هـ، الموافق الثاني والعشرين من أغسطس، سنة 1935، ونعاه من عرف وفاته من أهله وأصدقائه إلى من لم يعرفها منهم في القاهرة والأقاليم المصرية والأقطار الأخرى، ونعوه إلى الصحف، ونعاه محط الإذاعة اللاسلكية بالقاهرة في منتصف الساعة الثامنة مساء إلى من يبلغه صوته من سكان المعمور، وصدرت الصحف هنا وهناك ناعية باكية مؤبنة مؤرخة، وارتجت أنحاء القاهرة بهذا النعي وأُقضت المضاجع فيها، وانساب المعزون إلى دار المنار عدد 14 بشارع الإنشا جنوبي وزارة المعارف مساء الخميس يوم الوفاة وصبيحة الجمعة التالية له، حتى غصت بهم ساحة الدار والطريق الفسيحة أمامها. وفي تمام الساعة العاشرة حمل النعش أبناء الفقيد في الهداية والعلم وساروا به، وخلفه المشيعون، وفيهم أقطاب العلم والأدب في البلاد حتى مسجد السيدة الشامية بشارع نوبار حيث صلى عليه المصلون جمًّا غفيرًا، ثم حمل على سيارة واستقلت جمهرة من المشيعين سيارات إلى مدفن أستاذه الإمام الشيخ محمد عبده في مقابر المجاورين حيث دفن بجواره، وأبَّنه على قبره ثلاثة من الحاضرين وهمّ آخرون بالتأبين؛ ولكن رؤي أن الزمان والمكان لا يتسعان له فطلب الكف عنه إلى وقت آخر، واستمر الناس يفدون على داره أيامًا للتعزية. وقد روعي في كل مراحل هذا الخطب العظيم من ساعة الوفاة إلى نهاية التعزية السنة الشريفة النبوية. وقد نعي الفقيد بعض الأقطار الإسلامية على المآذن، وصلى عليه كثير منها صلاة الغائب، ولا سيما في المساجد الثلاثة: مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس. ولد السيد الإمام رضي الله عنه في جمادى الأولى سنة 1282 هـ، الموافق 1 أكتوبر سنة 1865 م في قرية تسمى القلمون على شاطئ البحر الأبيض المتوسط من جبل لبنان تبعد عن مدينة طرابلس الشام زهاء ثلاثة أميال، حين كان جميع أهل هذه القرية من السادة الأشراف المتواتري النسب، وقد اشتهروا إلى شرف النسب بشرف الحسب وحسن السيرة، ويمتاز بيته الكريم فيهم بأنه بيت علم وإرشاد وتقى ورياسة، وبأنه معقِد رجاء ذوي الحاجات، ومحط رحال العلماء والأدباء والحكام والعظماء، ولذلك نشأ السيد الإمام رضي الله عنه عالي النفس، كبير الهمة، محبًّا للعلم والتقوى والصلاح، ضاربًا في هذا وذاك بسهام صائبات. تعلم في كتّاب القرية قراءة القرآن الكريم والخط وقواعد الحساب الأربع، ثم أدخل المدرسة الرشيدية بمدينتهم طرابلس الشام، وكان التدريس فيها باللغة التركية، فأقام فيها سنة، ثم انصرف عنها ودخل المدرسة الوطنية الإٍسلامية التي كان يديرها أحد الساعين لتأسيسها أستاذه العلامة الشيخ حسين الجسر الأزهري، رحمه الله، ولما لم تقبل الحكومة العثمانية أن تعدها من المدارس الدينية التي يعفى طلابها من الخدمة العسكرية، ألغيت وتفرق طلابها، فذهب بعضهم إلى مدارس بيروت المختلفة، وانقطع بعضهم لطلب العلم في المدارس الدينية في طرابلس والفقيد منهم، فخف في طلب العلوم الدينية والعربية والعقلية ووضع وتلقى على أقطابها وهم مشايخه حسين الجسر ومحمود نشابة وعبد الغني الرافعي هناك، ولازم أستاذه الشيخ حسين الجسر دهراً طويلاً حتى أتم دراسته وبرع في العلم والشعر والكتابة، وكان في إبان طلبه العلم منصرفًا إلى عبادة ربه، داعيًا إلى الإصلاح حتى علا في بلاده ذكره، وضاقت به حريتها المخنوقة وميدان العلم والإصلاح فيها، فهمّ بالاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني حكيم الشرق الأول ولم يوفق، فقدم مصر، وفي اليوم التالي لقدومه اتصل بالأستاذ الشيخ محمد عبده حكيم الشرق الثاني وبقي ملازمًا له يأخذ عنه ما كان عنده وعند أستاذه من العلم والحكمة ووجوه الإصلاح الديني والاجتماعي والسياسي , وأصدر أول عدد من مجلة المنار في العشر الأخير من شوال لسنة 1315 هـ، مارس سنة 1897 م، وأخذ ينشر فيه ما عنده وعند أستاذيه من علم وحكمة وهدى وإصلاح، ويشد بذلك وبالكتابة في الصحف اليومية أزر أستاذه الإمام في دعوته حتى اختاره الله لجواره وبقي هو وحده في الميدان بعد ذلك دهراً طويلا وفيًّا لأستاذه ولدعوته حتى اختاره الله هو الآخر لجواره رضي الله عنهم وأرضاهم بعد أن صدر من مجلدات المنار أربعاً وثلاثين مجلدة وجزءًا من الخامسة والثلاثين، وعدة كتب من إنشائه، وعدة كتب من إنشاء غيره من المصلحين. توفي السيد الإمام - أسبغ الله عليه شآبيب الرحمة والرضوان - عن نحو اثنتين وسبعين سنة هجرية، أو نحو سبعين سنة ميلادية قضاها إلا قليلًا منها - وهي سنوات الطفولة- في دراسة العلم ونشره بالكلام وبالكتابة، لا سيما العلم بالكتاب والسنة وهدايتهما وأحكامهما وأسرارهما، وفي رياضة النفس على العمل بهما، وعلى التحلي بالخلق الكريم الذي كان عليه جده الأعظم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الدعوة إلى سبيل الله وإلى الإصلاح، وفي محاربة أعداء الدين، وردِّ الشبهات عنه، حتى بلغ في كل هؤلاء الذروة والغارب، وأصبح منقطع النظير لا يشق له في ميدان من ميادينها غبار، ولا يدرك له فيها شأو. وإن أعجب لشيء فعجبي العظيم لآماله الكبار في إعزاز الإسلام والمسلمين، التي لم يخمد لها لهب ولم يهمد لها جمر، والتي شغلته العمر كله، وأنهكت قواه، وأقامت العالم الإسلامي وأقعدته. وكان أكبر همه - رضي الله عنه - مصروفًا إلى رد المسلمين إلى أصل دينهم وهو الكتاب والسنة، وإلى تحريرهم من رق البدع والخرافات، وحمايتهم من عقارب الفتن والشبهات، وسلّ من أجل ذلك حساميه: لسانه وقلمه وكلاهما أحدّ من الآخر، وما زال يرمي البدع والخرافات والمشكلات والشبهات حتى أصاب منها الكُلى والمفاصل، وكاد يجهز عليها لانحراف المسلمين بها عن الدين؛ ولأن هذا الانحراف أصل بلائهم وذلتهم واستعبادهم. وما كان رضي الله عنه يقنع بهذا - وفي هذا وحده الكفاية - بل كان يسعى ويجاهد ويشارك في تحرير الشعوب الإسلامية من الاستبداد قولاً وكتابة وعملاً. ومن أجل هذا وذاك هجر وطنه الشام إلى مصر وسافر إلى الأقطار الإسلامية الشاسعة: الهند والعراق وتركية أوربا وبلاد العرب، بل وعلى أوربا نفسها لدعوة علماء الإسلام وملوكه وأمرائه وزعمائه لما يعتقد أنه الحق، ولمشاركته من كان على شاكلته منهم في السعي والجهاد لإحياء الإسلام والمسلمين. ومن أجل هذا وذاك كان رضي الله عنه مغتبطًا كل الاغتباط بالمملكة العربية السعودية؛ لأنها متوجهة حكومة وشعبًا للعمل بالكتاب والسنة في الشؤون الدينية والدنيوية معاً، منصرفة كل الانصراف عن المنكرات والبدع والخرافات وهو ما يريد أن يوجه العالم الإٍسلامي كله إليه ويصرفه عنه؛ ولأنها تقيم الدليل الحسيّ العملي في هذا العصر المادي الطاغي على إمكان حياة الأمم حكومات وشعوبًا بالكتاب والسنة حياة منزلية اجتماعية سياسية سعيدة، وبذلك يثبت ما يدعو إليه من أن القرآن الكريم وما يوافق روحه من السنة الصحيحة أصل لسعادة البشر في الدنيا كما أنه أصل لسعادتهم في الآخرة، وكان لا يدخر جهدًا ولا وقتًا في تأييد هذه المملكة السعودية السعيدة ومحاربة خصومها بلسانه وقلمه وبمساعيه الحميدة. ومن أجل هذا وذاك كان يحب آل سعود أعزهم الله وأيدهم بروح من عنده حبًّا جمًّا، ويقعد للفرص التي يتمكن فيها من الاتصال بهم والإفضاء إليهم بكل ما عنده من وجوه الإصلاح كل مرصد ويفترصها ولا يدع واحدة منها تفوته. ومن أجل هذا وذاك كان حريصاً كل الحرص على أن يحتفي بتكريم سمو الأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية حين مروره بالديار المصرية عائدًا من أوروبا إلى وطنه العزيز، ويمضي معه أكثر أوقاته ويختلي به ليفضي إليه بما يجيش في صدره من وجوه الإصلاح. وكان الفقيد - تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسكنه فسيح جناته - مصابًا في آخر أيام حياته بعلة تعرف في الطب الحديث (بضغط الدم) وكان يعلم علم اليقين أن خير وقاية تُتقى بها أخطار هذه العلة اجتناب الأعمال العقلية والجسدية، وكان مهدداً بفتكها به، وقد جاءه نذيرها وكشّر له عن نابه وألقي عليه إنذاراً مفزعاً وهو نوبة قاسية من نوباتها، وحذره الطبيب شرها. وأشهد أني سألته في الأسابيع الأخيرة من حياته غير مرة عن صحته سؤال محبٍّ مشفق يعرف هو مقاصده وأنه لا يخشي شيئاً خشية فقده، فكنت أفهم منه أنه يجد في جسمه كله فتورًا وضعفًا، وكان ذلك يقع من نفسي أسوأ وقع. وما كان يخفى على السيد الإمام رضي الله عنه - وهو حكيم من أرجح الحكماء عقلا وأبعدهم نظرًا - أنه يستهدف بالمتاعب العقلية والجسدية للخطر الأكبر وهو الموت الفجائي المقض لمضاجع الأحياء، ولكن إيمانه الصادق الراسخ بالله سبحانه وتعالى - وما أصدق إيمانه وأرسخه - القائل وقوله الحق {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَراًّ وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (يونس: 49) وتعطشه الشديد الدائم إلى بذر بذور الإصلاح وتعهدها دائمًا بمدارسة أهل الإصلاح، وولوعه الشديد بتأييد آل سعود، كل هذا دفعه إلى بذل جهوده العقلية والجسدية بسخاء في الحفاوة بالأمير سعود، وفي مدارسته إياه شؤون الإصلاح حين مروره بالديار المصرية عائدًا إلى وطنه العزيز، ولم يستطع سمو الأمير - أعزه الله وأيد ملك والده بنصره المبين - ولا بعض من معه أن يحملوا السيد الإمام رضي الله عنه على القصد في الجهود التي بذلها على النحو الآتي: استقبل سمو الأمير على رصيف الميناء في الإسكندرية في منتصف الساعة الخامسة من مساء الاثنين، الثاني عشر من أغسطس سنة 1935، ساعة قدومه مصر من أوروبا، ثم بات في الإسكندرية ورافق سمو الأمير منها إلى بنها يوم الثلاثاء 13 منه وحضر فيها الحفلة التي أقامها لسمو الأمير الكاتب البليغ والخطيب المصقع الأستاذ الجليل محمد توفيق دياب صاحب الجهاد، ثم عاد إلى القاهرة واستقبله في محطها في أواخر الساعة الحادية عشرة من مساء الاثنين التاسع عشر من أغسطس وكان المحط ساعتئذ غاصًّا بالمستقبلين حتى لم يبق فيه موضع لقدم، وانغمس السيد الإمام في هذه الجموع المحتشدة مكرهًا وقد قال من رآه إنه تعب كثيراً، وما كادت عين سمو الأمير - حفظه الله - تقع عليه ح

كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف

الكاتب: علوبة باشا

_ كلمة الأستاذ علوبة باشا وزير المعارف في مهرجان الإصلاح الاجتماعي أقامت (رابطة الإصلاح الاجتماعي) مساء يوم الجمعة 8 من ذي القعدة مهرجانها في دار جمعية الشبان المسلمين برئاسة سعادة وزير المعارف الأستاذ محمد علي علوبة باشا، وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم تقدم فضيلة الشيخ محمد عبد اللطيف دراز فشكر بالنيابة عن جميعة الشبان المسلمين لرابطة الإصلاح الاجتماعي عملها، وانتهز فرصة وجود سعادة الأستاذ علي علوبة باشا وزير المعارف فشكر له حرصه على ترقية الشباب؛ لأنهم عُمُد الإصلاح، وقال: (إن أُسّ الإصلاح هو الخلق والدين، ولا يصلح الشباب إلا بالخلق والدين) وطلب من الوزير الجليل أن يجعل نظم التعليم مؤسسة على الدين والخلق، ولا يتم إصلاح إلا إذا تقرر الدين مادة أساسية في جميع مراحل التعليم، وتمنى للوزارة النهوض على أساس الخلق والدين. فوقف سعادة الأستاذ محمد علي علوبة باشا وألقى الكلمة التالية: إخواني، سادتي: لم أجد فرقًا بين اليوم والأمس، ولا أعرف لي وصفًا إلا أني (محمد علي) من قبل ومن بعد، أضيف إليّ اليوم تكليف في عنقي أرجو الله أن يوفقني للنهوض به، ولقد دلتني التجارب وتاريخ قبل الإسلام وبعده على أنه لم ترق أمة بلا دين، ولا فائدة من وطنية بلا دين، ولا دين بلا وطنية. سادتي: صدق الشاعر الجاهلي الحكيم في قصيدته الخالدة، إذ يقول: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جُهّالهم سادوا والبيتُ لا يبنى إلا على عمدٍ ... ولا عماد إذا لم ترس أوتادُ ما أصدق هذا القول على الأمم والجماعات، وما أصدقه على الأفراد أيضًا، نعم على الأفراد. ولا عجب في ذلك، فكما أن الأمم لا سبيل إلى نجاحها واستقرار أمورها إذا اختلط فيها الحابل بالنابل، وتنوسيت كفاية المستنيرين، وكرامة الأكرمين، فكذلك الأفراد، لا سبيل إلى إسعادهم إذا سادت فيهم أحط غرائزهم فخذلت أسمى مواهبهم: العقل سيد الملكات، والخلق الفاضل سبيل السعادة، فهما وحدهما الجديران بأن يسودا ويُهيمنا على الإنسان، كما يجب أن يهيمن أشراف القوم ومفكروهم على عامتهم وسوادهم. ولا سبيل إلى استقرار الأمور في نصابها إذا اختلط الأمر وتُرك الحبل على الغارب، واستسلم كل إنسان لأهوائه ونزعاته، وتركها تستبد بخلقه وتطغى على عقله، فإن مآل ذلك الخسران المحقق والبوار الذي لا شك فيه. أيها السادة: لعلكم تذكرون حكمة الرسول عليه صلوات الله وسلامة حين عاد من غزوة بدر الكبرى فقال لصحابته قولته المأثورة: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر) يعني من جهاد الغزو إلى جهاد النفس ومغالبة أهوائها، وكبح جماحها الثائر. وإنما أذكركم بهذا لأبين لكم الحافز القوي الذي يحفزنا إلى تقديم هذا الواجب- واجب الإصلاح وتقوم الأخلاق - على كل واجب آخر. وما ذلك المهرجان الذي أقمناه بالأمس في مؤتمر الشباب الأخلاقي لنصرة الخلق الفاضل القويم، ولا هذا المهرجان الحاشد الذي نقيمه اليوم للأخذ بناصر الإصلاح والمصلحين، إلا مثلين من أمثلتنا التي أخذنا بها نفوسنا لنفع أمتنا وتسديد خطواتها في طريق السعادة الحقيقية والخير العميم. أيها السادة: إن الإصلاح الاجتماعي غايتنا التي طوينا فيها أمانينا، وعلقنا عليها كل ما نسعى إلى تحقيقه في إسعاد الأمة وإبلاغها أعلى درجات العزة والرفعة، وإن الدعاية للأخلاق الفاضلة لهي أهدى سبيل يصل بنا إلى تلك الغاية المنشودة التي تعلقت بها آمالنا ووقفت عليها جهودنا. على أن الطرق المؤدية إلى ذلك المقصد الشريف، وتلك الغاية الموجودة لتختلف وإن كانت لا تتناقض، والوسائل التي يتوسل بها المصلحون والدعاة إلى الأخلاق لتتعدد وإن كانت تجتمع آخر الأمر وتأتلف تحت راية واحدة. فما أجدر الدعاة إلى الأخلاق والمصلحين أن يجتمعوا في أول الطريق صفًّا إلى صف ما داموا يعلمون علم اليقين أنهم متلاقون ومجتمعون آخر الأمر في الغاية والهدف. لقد نشطت في هذه الأيام جماعات من الشباب الناهض، يروجون لأغراض إصلاحية شريفة بوسائل شريفة، وأخذت تعقد اجتماعاتها في مختلف الأندية، وتلقي خطبها في شتى المنابر، وتنشر آراءها على صفحات الصحف، وقد التفت الجمهور حولها، وأنصت لقولها. فأوشكت هذه الجماعات المتباينة أن تتبوأ مقاعدها اللائقة بشرف أغراضها، ونبل مقاصدها، ولقد ظللت أتتبع أخبار تلك الجماعات بعين الرضا، مُكِنًّا لها في أعماق قلبي أكبر الترحيب، غير ضانٍّ عليها بكل ما أملك من جهد؛ رغبة في تشجيعها وتقويتها، مرددًا قول شاعر إنكليزي ساغه الأديب كامل كيلاني في شعر عربي: قطرات المياه منها محيط ... وصِغار الحصى تُكوِّن أرضا ودقيقاتنا تؤلف جيلاً ... بعد جيلٍ في إثره يتقضى وقليل الجنان والحب مما ... يجعل الأرض جنة الخُلد خفضا ثم جعلت أنعم النظر، وأطيل التأمل في هذه الجماعات المتشعبة، التي اختلفت أسماؤها وأنصارها، واتفقت أغراضها ووسائلها؛ فوجدت أن لا مندوحة من تضافر هذه القوة المشتتة، وتجمع تلك الروابط المتعددة؛ لتنضوي جميعها تحت لواء واحد، فيتكون منها اتحاد قوي يوحد طريقها ويلائم بين خطاها، ويرسم لها أعلام الطريق وسواه، فتمضي على اسم الله راشدة موفقة إلى الخير. ولست أبغي بذلك أن تتفرق هذه الجماعات ثم تندمج في هيئة واحدة باسم واحد، فإن هذا الاندماج يحد من نشاطها الفردي، ويفتر من عزيمتها؛ ولكني أريد أن يكون الاتحاد لها بمثابة الأب أو القائد الأعلى، وتبقى هي على حالها؛ فلكل جماعة نظامها، ولها استقلالها ونشاطها. وإن ذلك ليذكي في هذه الجمعيات روح التقدم والنجاح بفض ما ينشأ بينها من التنافس والتسابق، وهما دائماً أكبر دواعي النشاط والإقدام، وأقوى مشجع على الاضطلاع بأنبل الفروض، وأعظم الواجبات. ذلك - أيها السادة - رأيي، وتلك هي أمنيتي، ولست أرى هذا اليوم السعيد الذي تتحقق فيه هذه الأمنية ببعيد، وما ذلك على إخلاص الشباب بعزيز. أيها السادة: إن جميع الأمم التي تقدمت في طريق الحضارة والحربية أشواطًا بعيدة لم تصل إلى ما وصلت إليه من الرفعة، ولم تبلغ ما بلغته من المجد إلا بفضل نجاحها الاجتماعي الذي تأسس على قوى متينة من الأخلاق، وارموا بأنظاركم نحو أية أمة من كبريات الأمم تروا أن التفاضل بينها وبين غيرها في القوة والمنعة يمشي جنبًا إلى جنب مع التفاضل في الرقي الاجتماعي، فإذا كانت أمنيتنا أن ننهض بهذه الأمة نهوضًا حقًّا، فلنا بالأمم أسوة حسنة، وما علينا إلا أن نسعى لإصلاح كياننا الاجتماعي إصلاحًا تقر به عين الخلق القويم. أيها السادة: إن وجوه الإصلاح الاجتماعي شتى، وليس من همي أن أفصل القول فيها تفصيلاً بعد أن أجملته، فقد قام بذلك حضرات الأماثل الأعلام، الذين أخذوا على عاتقهم - متفضلين - أن يحاضروكم الليلة في كثير من نواحي الإصلاح الاجتماعي، وستكون هذه البحوث القيمة مع غيرها محل تمحيص وفحص لتكون نواة للنهضة التي نسعى لتحقيقها وما وسعنا الجهد. وقد عنيت في خطابي هذا أن أوجه أنظاركم إلى وجوب تنظيم جمعيات الإصلاح التي نشطت في هذه الأيام، ووجوب اشتراك كبار القوم في العناية بها وتشجيعها، والأخذ بناصرها؛ حتى تؤتي أكلها، وترجع على الأمة بأبرك الثمرات. ويسرني ألا أختم كلمتي قبل أن أشكر لحضراتكم تفضلكم بإجابة دعوتنا لكم لحضور هذا المهرجان، وأن أشكر حضرة الشاب النشيط سيد أفندي مصطفي سكرتير رابطة الإصلاح الاجتماعي؛ فلقد كان له أكبر الأثر في تهيئة هذا المهرجان، والله أسأل أن يهبنا الرشاد في القول والعمل، والسلام عليكم ورحمة الله.

كلمة لا بد منها

الكاتب: محيي الدين رضا

_ كلمة لا بد منها بسم الله الرحمن الرحيم رأيت أنه لابد من إصدار (المنار) ذلك الأثر الخالد الذي دوى صوته أربعين عامًا في العالم مجاهداً في نشر الإصلاح، ومحاربة البدع والخرافات. فتوكلت على الله وطلبت تجديد الرخصة باسم أكبر نجلي الفقيد السيد (محمد شفيع رضا) حرسه الله، وبما أن سنه وعمره المدرسي لا يسمحان له بأن يكون رئيسًا للتحرير مسئولاً، تقدمت أنا لهذا. وإني أعاهد الله - سبحانه وتعالى - أن أبذل ما أستطيع من مالي ووقتي في هذا العمل الجليل، وأدعو محبي فقيدنا العزيز من إخوانه وتلاميذه ومريديه إلى شد أزري وإرشادي ومعاضدتي كلٌ بما يدخل في طاقته، والله ولي التوفيق. ويرى القراء أن فقيدنا رضي الله عنه قد كتب أهم أبواب هذا العدد: التفسير والفتاوى، فهما آخر ما خطّه قلمه، وسيرون في الأعداد القادمة كثيرًا من مذكراته وآثاره. وإني لأشكر سعادة رجل مصر والإسلام محمد طلعت حرب باشا فإنه - حفظه الله - قدم للمجلة مساعدة يُشكر عليها. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين رضا

الوهابيون والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

الكاتب: محيي الدين رضا

_ الوهابيون والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم همس في أذني بعض الحجاج المصريين ونحن في الباخرة (كوثر) في العام الماضي أثناء تأديتي فريضة الحج، أن الوهابيين يمنعون الناس من الصلاة على النبي، وإذا صلى أحد عليه أمامهم أنزلوا به عقابًا شديدًا. فقلت له: هذا وهم يود إذاعته بعض رجال السوء من القالين للوهابيين، فقال: بل هو عين الحقيقة، وسترى الأمر بنفسك. ولما قابلت جلالة الملك عبد العزيز آل سعود في يوم 12 مارس الماضي لأول مرة وكان أحد العلماء يتلو على مسامعه تفسير القرآن، فلما انتهى المفسر من التلاوة أخذ جلالته في سرد طائفة من فضائل الدين الإسلامي الحنيف، وكان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتبع اسمه بالصلاة عليه ولا يغفل عن الصلاة عليه مرة مطلقًا. وقابلت بعد ذلك حضرة العالم النجدي المشهور الشيخ عبد الله بن بليهد فقدم إليَّ رسالة اسمها (جامع المسالك في أحكام المناسك) وضعها في مناسك الحج توزعها الحكومة مجانًا، كما توزع رسالة أخرى وضعها الشيخ سليمان ابن الشيخ عبد الله ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأشرف الشيخ ابن بليهد على طبعها فتصفحت الرسالة الأولى فلحظت أن الشيخ ابن بليهد يلتزم ذكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل مرة يرد اسمه فيها، فقلت له: إن بعضهم يتهم الوهابيين بإهمال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أراكم التزمتم إيراد الصلاة عليه في كل مرة يرد اسمه الشريف فيها، بينما نرى غيركم لا يلتزم ذلك، وبعضهم يضع حرف (ص) أو حروف (صلعم) ، فقال: إن وضع هذه الحروف قبيح، والواجب أن يتبع اسم النبي بالصلاة عليه كما التزم ذلك العلماء الموثوق بهم، وأورد أسماء طائفة من العلماء المتقدمين وما قالوه في هذا الباب مما لا يحضرني الآن؛ لأنني أكتب هذه الكلمة بعد مضي نحو ثلاثة أشهر على المقابلة. ولما قابلت جلالة الملك في قصره بمكة في يوم 19 مارس الماضي مع وفد الصحافة وتحدثنا مع جلالته وكنت أطرح الأسئلة عليه. قلت لجلالته: إنني ألحظ أنكم تصلون على النبي في كل مرة يرد ذكره فيها ومع ذلك نرى بعضهم يتهم الوهابيين بعدم الصلاة على النبي، فقال جلالته: هذا أمر غريب جدًّا، كيف لا نصلي عليه؟ ومن الذي نحبه بعد الله أكثر من نبينا صلى الله عليه وسلم، فوالله إنه أحب إلينا من كل شيء، وإنا نغار عليه وندافع عن دينه كما نغار على حريمنا وأكثر، بل إننا نحب خلفاءه الراشدين، ونحب كل خادم للإسلام ولا سيما الأئمة الأربعة، ونحن طلاب حق نتبعه أينما وجدناه ونأخذ الصحيح في أي مذهب كان أو على يد أي عالم أتي به لا نفرق بين أحد، وها نحن نحب تفسير ابن كثير ونعنى به كثيراً وصاحبه شافعي، وإذا نحن جنحنا إلى مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه فلأنه يعنى بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من غيره من الأئمة كما هو معلوم. فهل بعد ذلك يقال عنا أننا لا نصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي جاء بالدين الحق الذي ندين الله به؟ وتوسع جلالته في ذلك كثيرًا، وكانت أمارات التأثر بادية على محياه بجلاء تام. وفي المدينة المنورة قابلت حضرة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم أمير المدينة، ولاحظت أنه يلتزم الصلاة على النبي أيضًا فنوهت باتهام بعضهم للوهابيين بترك الصلاة عليه، فانطلق يسفِّه مزاعم أولئك ويفصِّل القول بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومما قاله: إننا معشر الوهابيين نعتبر الصلاة والسلام عليه في الصلاة ركنًا من أركان الصلاة لا تتم إلا به، بينما بعض المذاهب لا يعتبرها ركنًا، وهذه حجة دامغة للمزاعم الباطلة. فهذه أقوال ثلاثة من أقطاب الوهابية، بل هي أقوال جلالة الملك العظيم محيي المملكة وحامي الجزيرة العربية كلها تقريباً، وأكبر علماء مملكته، وحاكم أشرف إمارة من إماراته، أجمعت قولاً وكتابة على أن ما رُميت به الوهابية محض افتراء، وإفك وبهتان.

حفلة تأبين فقيد الإسلام المرحوم السيد محمد رشيد رضا

الكاتب: محمد شفيع بن محمد رشيد رضا

_ حفلة تأبين فقيد الإسلام المرحوم السيد محمد رشيد رضا في يوم الخميس 10 محرم سنة 1355 قالت جريدة (الجهاد) الغراء في عددها الصادر بتاريخ 11 المحرم: أقيمت بعد ظهر أمس بدار جمعية الشبان المسلمين حفلة تأبين المرحوم فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا برياسة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر. وحضر الحفلة جمهور غفير من رجال العلم والفضل والأدب، واعتذر صاحب السمو الأمير عمر طوسون لتغيبه، وصاحب المعالي وزير المعارف لارتباطه بموعد آخر، وصاحب السعادة محافظ العاصمة وغيرهم. وتلقت اللجنة برقيات وخطابات كثيرة من الأقطار العربية. وافتتح الحفل بآي الذكر الحكيم، ووقف فضيلة الأستاذ الأكبر، وألقى كلمة الافتتاح، وتعاقب بعده الخطباء على الترتيب الآتي: الأستاذ حبيب جاماتي: حياة السيد محمد رشيد رضا. فضيلة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني: السيد رشيد المفسر (ألقاها فضيلة الشيخ محمود شلتوت) . الأستاذ محمد لطفي جمعة: السيد رشيد رضا واتصاله بالمستشرقين. الأستاذ الحاج محمد الهراوي: قصيدة. فضيلة الشيخ محمد العدوي: السيد رشيد رضا والإصلاح الديني. الأستاذ عبد السميع البطل: السيد رشيد رضا ومدرسة دار الدعوة والإرشاد. الدكتور عبد الرحمن شهبندر: الرابطة الشرقية. الأستاذ عبد الله عفيفي: قصيدة. كلمة الأسرة: ألقاها نجل الفقيد.

خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر

الكاتب: محمد مصطفى المراغي

_ خطبة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تبارك وتعالى: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (البقرة: 269) . وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن الحكمة هي الفقه في القرآن. وروى ابن جرير عن ابن عباس أنها معرفة القرآن: ناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه - وهي تفصيل للرواية الأولى عنه. وروي عن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل، وعن غيره أنها معرفة ما في القرآن من عجائب وأسرار. ونحن نضم هذه الروايات بعضها إلى بعض فنقول: إن الحكمة هي الفقه في القرآن، وذلك لا يكون إلا بمعرفة ناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وحلاله وحرامه، وما اشتمل عليه من عجائب وأسرار، وعبر وعظات، ونظم صالحة للاجتماع، ومعانٍ سامية للأخلاق، وهذا محتاج إلى وسائل، أولها العقل الراجح، والبصيرة النافذة، ودقة الملاحظة، وسعة الاطلاع على سنة الرسول صلوات الله عليه، وأقضية الصحابة رضوان الله عليهم، وآراء السلف الصالح، ومذاهب الأئمة، ومعرفة أحوال المجتمع الإنساني، وأسرار تطوره، وخصائص البيئات المختلفة، وروح العصور السابقة، ونتيجة ذلك كله هي الإصابة في القول والعمل أو خلق يوجه الإرادة إلى أعمال الخير طبقًا للعلم الصحيح، فيصدر العمل نافعًا موصلاً إلى سعادة الدنيا والآخرة. وقد كان فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا محيطًا بعلوم القرآن، وقد رزقه الله عقلاً راجحًا في فهمه ومعرفة أسراره وحِكمه، واسع الاطلاع على السنة وأقضية الصحابة وآراء العلماء، عارفًا بأحوال المجتمع، والأدوار التي مر بها التاريخ الإسلامي. وكان شديد الإحاطة بما في العصر الذي يعيش فيه، خبيرًا بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية، ملمًّا بما في العالم من بحوث جديدة، وبما يحدث من المعارك بين العلماء وأهل الأديان؛ فهو ممن أوتي الحكمة، ورزق الخير الكثير. وقد كان - بلا شبهة - أكبر المدافعين عن قواعد الإسلام وأشدهم غيرة عليها، فني في خدمة دينه، وجاهد في الله حق جهاده، وأوذي في سبيل مبادئه، وصبر وصابر إلى أن توفي رحمة الله عليه. كان خصوم السيد رشيد ثلاث فرق: فريق الملحدين الذين لا يؤمنون بدين، وفريق أهل الكتاب من غير المسلمين، وفريق من المسلمين الذين جمدوا على أقوال الناس وابتعدوا عن معرفة السنن وعن هدي القرآن، وقد جاهد هذه الفرق جميعها، ولقي من الفريق الثالث أشد العنت وأشد المقاومة؛ لأن بيده سلاحًا من أشد الأسلحة خطرًا أمام العامة هو سلاح اتهام السيد رشيد بالكفر والزندقة في الإسلام، والدليل بيد هذا الفريق قائم، وهو عدم موافقة السيد رشيد لمن يعتقدهم العامة ويقدسونهم، وكيف يكون السيد رشيد على الحق مع أن فلانًا وفلانًا لا يقولون قوله ولا يعملون عمله؟ وإقناع هؤلاء يحتاج إلى زمن طويل أطول من عمر السيد رشيد، لكن الحق الذي يؤيد السيد رشيد أقوى من هؤلاء جميعهم. لذلك ظفر السيد رشيد، وكثر أنصاره ومريدوه، بعد أن كان قليل الأنصار، قليل المريدين، ووجد في الأوساط العلمية من اتخذ مبدأه وقفى على طريقه، ووجد في العامة من تفتحت أعينهم للنور، وزالت عن قلوبهم غشاوات الجهل والباطل. ولم يكن للسيد رشيد مبدأ جديد في الإسلام حتى يصح أن يقال إن له مذهبًا ينسب إليه، بل كان مبدؤه مبدأ جميع علماء السلف: التحاكم إلى الله ورسوله عملاً بقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) ، وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف أيضًا: تخير الأحكام المناسبة للزمن والنافعة للأمم في مواضع الاجتهاد، وكان مبدؤه مبدأ علماء السلف في كل ما يتعلق بذات الإله سبحانه وصفاته، وكل ما يتعلق باليوم الآخر، فهو رجل سني سلفي، يكره التقليد، وينادي بالاجتهاد، ويراه فرضًا على نفسه وعلى كل من قدر عليه. من الحق أن نعد السيد رشيدًا من المجددين، وأن نعده من المجاهدين في إحياء السنة؛ ومن الحق أن نعتبر بما كان للسيد رشيد من أناة وصبر في البحث والقراءة والتأليف، والفتوى والمناظرة، ومن الحق أن نذكر أن هذه الأعمال الصالحة قام بها احتسابًا، وأداها في سبيل الله. فرحمة الله على السيد رشيد، وجزاه الله عن الإسلام أحسن ما يجازي به رجلًا وهب حياته للعلم وللدين. * * * تعزية ملك العربية السعودية وولي عهده الرياض في 25 جمادى الأول سنة 1354 حكومة الحجاز المنار: محمد شفيع رضا - القاهرة أسأله تعالى أن يحسن عزاءنا وعزاءكم بفقيد الإسلام والمسلمين، وأن يعوضه عنا بجناته ورضوانه، وأن يعوضنا في الله من يقوم مقامه في خدمة هذا الدين والدعوة إلى الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد العزيز * * * جدة في 25 جمادى الأولى سنة 1354 المنار: محمد شفيع رضا - القاهرة إن مصابنا ومصاب الإسلام بفقد والدكم السيد رشيد عظيم جدًّا، أسأله تعالى أن يتغمده برحمته، وأن يعوضنا عنه خيرًا بفقده. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سعود

قصيدة الأستاذ الهراوي

الكاتب: محمد الهراوي

_ قصيدة الأستاذ الهراوي أي صرح هوى وحصن حصين ... ولواء طوته أيدي المنون وكتاب في الرشد يهدي إلى الر ... شد وسيف مهند مسنون مات رب المنار والأمر لله ... وما مات غير داع أمين عاش لله مخلصًا في جهاد ... نصف قرن مبارك في القرون ومضى باليراع يدعو إلى الحق ... وبالقلب واللسان المبين لا يطيق السكون في حرج الديـ ... ـن ويمضي يرح أهل السكون لم يدع راحة له أي حين ... وهو في حاجة لها كل حين طاح بالقلب حين أودى به الجهد ... وجهد الغيور نار أتون فقد العلم منه أي كتاب ... فقد الدين فيه أي معين شعر الناس باحتياج إليه ... بعد أن لم يروا له من قرين * * * عز عن صاحب المنار حمى الشام ... وعز الأحساب في (قلمون) بلدة في ذرى طرابلس قرت ... من طرابلس غرة في الجبين بلدة أنجبت إلى الشرق قومًا ... هم نجوم الهدى وأسد العرين غاب عنها منارها فتوارت ... من جوى الحزن بالسحاب الجون بعثتني جماعة الفضل في مصر ... رسول القريض في التأبين بعثتني لأندب العلم والدِّين ... وأبكيهما بدمع سخين بعثتني وساقَها حسن ظن ... في ضعيف ينوء تحت الظنون ولعمري لو لم تكن بعثتني ... لرأتني بالدمع غير ضنين فلقد كان بي حفيًّا وكانت ... بيننا عروة الوداد المتين [1] عقدت بيننا المودة قربى ... زاد توثيقها توالى السنين شيبتني مواقف الحزن تترى ... ورثاء الخدين إثر الخدين ووقوفي على الربوع الخوالي ... وبكائي المكان بعد المكين والتياعي على أيامي تخلت ... عن حماها يد الكفيل المعين ويتامى تذوق في العيش بؤسًا ... بعد خفض من الزمان ولين برح الحزن والجوى بفؤادي ... قرَّح الدمع والبكا من جفوني مَن مجيري مِن بعدها ومقيلي ... من وقوفي بطرْف باكٍ حزين * * * يا غريب الديار لم تفقد الأهل ... فما مصر غير أم حنون جئتها عالمًا وطالب علم ... فتلقتك في الحشى والعيون يا ربيب الإمام في مجلس العلم ... وفي موطن الهدى واليقين كنتَ أوفَى بنيه حفظًا لذكرا ... هـ وأبقى على الوفاء المصون لم تفارقه في الحياة وميتًا ... لم تفارقه في الثرى المسكون فسلام عليك حيًَّا وميتًا ... وسلام على الإمام الدفين الحاج محمد الهراوي

خطبة الأستاذ الشيخ علي سرور الزنكلوني

الكاتب: علي سرور الزنكلوني

_ خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني أيها السادة: كان لصاحب المنار منذ عرفته مصر وجود قوي، وشخصية بارزة، امتد صوتها إلى الأقطار العربية والأقطار الشرقية، بل كان لهذا الصوت أثر في بعض الأمم التي ليست شرقية ولا إسلامية؛ لأن الأبحاث التي تعرض لها صاحب المنار، وإن اتصلت بالشرق وبالإسلام اتصالاً قويًّا، فإنها متصلة بالغرب أيضًا؛ لأن عيون الغرب لا تنام عن المسلمين ولا عن الشرقيين. اشتغل صاحب المنار طوال حياته بقضية الإسلام وقضية العرب، وبما يتصل بالإسلام من أمر الخلافة، وبما يتصل بالعرب من هجمات الاستعمار، ولم تحرم مصر من زعامة السياسة في ظروفها المختلفة فكان بهذا كله لمصر، وللشرق وللإسلام والمسلمين. أيها السادة: ليس في وسعي أن أوفي صاحب المنار حقه في مثل هذا الموقف، ولكني أردت أن أساهم مع المساهمين؛ وفاء لحق الصداقة وتقديرًا لتلك الشخصية النادرة. عرفت المغفور له صاحب المنار منذ ابتدأ الأستاذ الإمام - رضوان الله عليه- دروسه في الأزهر، ولم يكن صاحب المنار في ذلك العهد يدهشنا وجوده العلمي؛ لأن طلاب الشيخ جميعًا كانوا يغترفون من بحر واحد، وإن تفاوتت مراتب جهودهم واستعدادهم. ولم يكن لصاحب المنار ميزة في ذلك الوقت سوى أنه كان يكتب ما يلقيه أستاذنا علينا، وقد كان مثل هذا العمل في نظر الأزهريين عملاً عاديًّا لا أثر لموهبة خاصة، ولا لنبوغ ممتاز. تآخينا وتآخى معنا السيد رشيد بحكم صلة الدرس العامة، وبقدرها، وكان هذا لا يمنع بعضنا من توجيه النفس إلى السيد رشيد، توجيهًا خاصًّا كلما ظهر السيد رشيد بموهبة ممتازة، قد يطول الحديث عنها؛ حتى هوجم الأستاذ الإمام في آرائه الدينية والإصلاحية مهاجمة عنيفة، من كل القوى التي توافرت لها عوامل الكيد والاستبداد، وإذا بالسيد رشيد يبرز في وجوده القوي لمناصرة خصوم الشيخ بقلمه ولسانه، وينشر في مجلة المنار آراء أستاذه واتجاهاته. وما كان يتلقاه من دروس شيخه، وكان يعلق عليهم بعبارات من عنده تدل على كمال الفهم واستقلال الفكر، وكذلك كان أمر السيد رشيد في كل ما كان يكتب من مقالات وما يدون من أبحاث؛ لأن أسلوب الأستاذ الإمام خلق ممتازًا، وسيبقي ممتازًا. مات الأستاذ الإمام، وللسيد رشيد في نفوس إخوان الشيخ وأبنائه منزلة سامية، ومع سمو هذه المنزلة لم يخطر ببال أحد أن السيد رشيدًا سيرث الشيخ فيما كان يدعو إليه، وأنه سيرتفع صوته في بلاد الإسلام الغائبة، ولكن أبى الله سبحانه إلا أن يسير السيد رشيد بخطى واسعة إلى الأمام، وقدر الله لصوته وهو على منبر مناره أن يدوي في بلاد الإسلام والشرق، ولم يعتر جهاده في سبيل العلم والدين بعد وفاة شيخه مع كثرة المخاطر شيء من الوهن والفتور. ولا جرم أن هذه الميزة هبة إلهية، لا تمنح إلا للقليل من أفذاذ الرجال؛ لأن حياة الأستاذ الإمام كانت قوية في مصر وفي غير مصر. لهذا كان بقاء صاحب المنار ثلاثين عامًا بعد وفاة شيخه في وجوده القوي يصد عادية جيوش الباطل التي لم تفتر ولم تنم، دليلاً ملموسًا على أنه من الأفذاذ الذين بخل التاريخ بالكثير من أمثالهم، ولعل أكبر شاهد على ذلك أن مهمة السيد رشيد العلمية لم يستطع إلى الآن أن يقوم بها فرد أو جماعة على كثرة العلماء والكاتبين. أيها السادة: إن لصاحب المنار - رحمة الله عليه - من حياته العلمية آثارًا كثيرة وجوانب قوية، لا أستطيع أن أوفيها حقها. وقد أردت أن تكون كلمتي فيه الآن مقصورة على علمه بالقرآن وبأسرار القرآن؛ لأن صلتي به لم تتأكد إلا من درس التفسير على الأستاذ الإمام، ولأن آثاره في تفسير القرآن هي أقوى الآثار وأظهرها في الإقناع والإلزام، ولأن مفسر القرآن إذا أخلص وصدق استحق الثناء الخالد؛ لأنه بصدقه وإخلاصه يشرف عقله على الوجود، وعلى ما وراء الوجود، وقد تحقق ذلك للسيد رشيد، رحمة الله عليه. فالقرآن كتاب الوجود، وكتاب ما وراء الوجود، وكل من جهله واتجه إلى غيره مهما كان قويًّا في نظر نفسه، وفي نظر أمثاله، فحياته غير صادقة، وسعادته لا ضمان لها، ولا استقرار، بل المسلمون إذا أخلصوا للقرآن فهمًا وعملاً، وعرضوا جواهره السماوية على عقول البشر، فقد ملكوا كل شيء؛ لأن العقول من مادة السماء، ومادة السماء إذا تركزت في الأرض محال أن تطغى عليها شهوات النفس الترابية. والإنسان إذا أهمل فهم القرآن والتبصر فيه، وقد أحاط بما في الأرض علمًا؛ فليس من الله ولا من الوجود الحق في شيء، فحصر العقل في جزء صغير من الوجود يستخدمه في حياته المادية لا يصور الحقيقة، ولا يحقق معنى الحياة والسعادة؛ إذ الحياة الإنسانية مسبوقة بوجود لانهائي، وبعدها وجود لانهائي. ومن حق العقل أن يفكر طويلاً في ذلك الوجود اللانهائي، هذا لا يتم إلا بفهم القرآن، ومن أجل ذلك يقول الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 7) ويقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 64) . أيها السادة: إن لأهل القرآن وأنصاره مرتبتين: المرتبة الأولى في فهم معانيه الصحيحة وامتزاجها بالعقل والروح والنفس، فيشع منها النور والقوة بحيث يعملان عملهما في الوجود بقدر الطاقة البشرية، وهذه هي مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومرتبة الصديقين من أصحابه وأمته إلى يوم الدين. المرتبة الثانية - هي فهم معانيه فهمًا صحيحًا، وامتزاجها بالعقل، وبالنفس في أغلب أحوالها، وهذه هي مرتبة كبار العلماء والصالحين مع ما في كل من المرتبتين من المنازل المتفاوتة بتفاوت الاستعداد، وصفاء الجوهر. وإني أؤمن إيمانًا قويًّا بأن السيد رشيد قد تمت له المرتبة الثانية في أرقى منازلها، وأرجو أن يكون له نصيب من المرتبة الأولى. أيها السادة: إذا علمتم أن القرآن هو كلام الله، وأنه كتاب الوجود، تعلمون مقدار ما بذلته وتبذله العقول في استخراج جواهره منذ أنزل إلى اليوم، ولا يتم للعقل استقصاء كل ما فيه وتحديده بالدقة ما دام الوجود قائمًا، ولكن العقل يأخذ منه ما يستكمل به وجوده، وطمأنينته في الدنيا والآخرة على قدر فهمه. ومن هنا تعددت آراء المفسرين لاختلاف وجوه النظر؛ ولذلك كان تفسير القرآن في أكثر العصور فن علم وجدل، مع أن التفسير يجب أن يكون زبدًا مستخلصًا بالمقاييس العلمية الصحيحة المستمدة من الفن والبحث، كما أن التفسير الذي لا يعتمد على مقاييس العلم والعقل، لا يسمى على الحقيقة تفسيرًا للقرآن الكريم، ويجب أن يدخل في مقاييس العلم ما يستظهره العقل من أسرار الوجود بالدلائل القاطعة، وليس من التفسير مظاهر الحياة التي تعتمد على نزعات النفس في إنسانيتها الضعيفة المضطربة. وهذا هو ما وفق إليه الراحل الكريم في تفسيره للقرآن وفي علاجه للأبحاث الدينية، فقلما كان يتعرض السيد رشيد لبحث لا يتصل بالقرآن اتصالاً جوهريًّا إلا بقدر ما تمس إليه الحاجة. وكثيرًا ما كان يتعرض لأقوال المفسرين، وما يستدلون به، ولكنه لم يترك القرآن في المكان الذي تتجاذبه فيه الآراء كما فعل أكثر المفسرين، بل كان في تفسيره يستخلص القرآن للعقل مؤيدًا للغة وبالشواهد والأدلة من ظواهر الوجود. وأول من فتح هذا الطريق وعبَّده الأستاذ الإمام رضي الله عنه، وقد سار فيه تلميذه صاحب الذكرى شوطًا بعيدًا انتهى فيه إلى آخر سورة يوسف عليه الصلاة والسلام، وقد فسر من القرآن على هذا المنوال الحكيم اثني عشر جزءًا، وهي أصعب أجزاء القرآن فهمًا واستنباطًا، وكان آخر آية فسرها من سورة يوسف ومات على إثر تفسيره لها قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) . ولقد فاجأته المنية والمؤمنون الصادقون، والعلماء المخلصون المستعدون لفهم القرآن على وجهه وتذوق حلاوته وتلمس بعض وجوه إعجازه - هم وحدهم الذين يقدرون خسارة العلم والإسلام الفادحة بفقد صاحب المنار. وإذا كانت هذه هي منزلة السيد رشيد من تفسير القرآن الحكيم، وهو غاية الغايات والشغل الشاغل للملأ الأعلى في السماء وفي الأرض؛ فماذا يبتغي آل السيد رشيد له وأصحابه له من المنزلة الرفيعة؟ رحم الله السيد رشيدًا بقدر ما ضحى، وبذله من جهوده، وأفاض عليه من كرمه الواسع ما يفيضه على المخلصين من حفظة كتابه، وأسكنه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

كلمة الأستاذ عبد السميع البطل في حفلة تأبين الفقيد

الكاتب: عبد السميع البطل

_ فقيد الإسلام السيد محمد رشيد رضا ومدرسة دار الدعوة والإرشاد كلمة الأستاذ عبد السميع البطل في حفلة تأبين الفقيد إن طريقة الوعظ والإرشاد ليست من الصناعات التي يستطيع كل إنسان أن يزاولها في مهارة وحذق، ولكنها ملكة من الملكات التي قد يحسنها قليل العلم، ويتخلف عنها أكثر الناس تحصيلاً، وقد نشأ فقيدنا ونشأ معه الميل إلى وعظ العامة وإرشادهم، بما كان يتصدى له أولاً في صدر شبابه من قراءة الدروس في قريته القلمون من أعمال طرابلس الشام، ثم بما كان من إنشائه المنار ثانيًا، واستهدافه بالإجابة على الأسئلة التي كانت تنحدر إليه كالسيل من الشرق والغرب، في المسائل المنوعة، وجرأته وصراحته في تقديم النصيحة للملوك والأمراء وكبار الحكام والعلماء - إحياء لسنة السلف - مما جعله أندى العلماء صوتًا، وأبعد المصلحين صيتًا، وأسير المجددين ذكرًا، وأكثر الكتاب أثرًا. وقد قويت رغبته في أن يتولى هو نفسه تربية طائفة من الشبان يصنعون على عينه، يقوم بعضهم بواجب الدعوة إلى الإسلام، ورد شبهات المعترضين عليه، متسلحين بما يتسلح به أمثالهم من رجال الدعوة في الأمم الراقية، من الجمع بين علوم الدين، وما لا بد منه من علوم الدنيا، ويقوم الفريق الآخر بإرشاد المسلمين إلى ما هو أجدى عليهم في دينهم ودنياهم، مع خبرة بحال العصر، وما ينبغي أن يكون عليه المرشد من مسايرة الزمن. كانت هذه أمنية تعتلج بنفسه منذ كان يتردد وهو طالب بطرابلس على مكتبة المبشرين الأمريكيين، يقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم، ويجادل قسوسهم. وفي سنة 1327 كان الخلاف بين الترك والعرب مستمرًّا، فرأى أن يشخص إلى الآستانة ليقضي على عقارب الفتنة، متوسلاً إلى ذلك باتصاله بكبار الدولة هناك، وبما كان يكتبه من مقالات في جريدة (إقدام) وجريدة (كلمة الحق) ثم في جريدة الحضارة، ولشيء آخر شغفه حبًّا، وكان مستهامًا به صبا، وهو تأليف جماعة لإنشاء مدرسة للدعوة والإرشاد. اختار إمامنا أن تكون الآستانة مشرق ذلك النور، ومبعث هذا الإصلاح، وقبلة التأليف بين العرب والترك؛ ليكون المشروع بنجوة من مهابِّ السياسة وأعاصير الفتنة، وفي الآستانة سلخ عامًا كاملاً، يروج للمشروع، ويقنع به كبار المسئولين، فلقي أولاً ترحيبًا به ومعاضدة، وتقرر أن تكفله وزارة الأوقاف، وتألفت الجماعة من كبار رجال الدولة للعمل وإعداده في تفصيل واسع لا محل لبيانه هنا، ولكن بعض الأيدي كانت تعمل من وراء الستار للنهي عنه والنأي عنه، فقضي عليه وهو جنين، وعاد فقيدنا من الآستانة - كما كان يعود منها كل مصلح - ساخطًا ناقمًا، ولكنه لم ييئس من روح الله، فجدد السعي هنا بمصر، وألف الجماعة، واختير أعضاؤها من أهل الفضل والغيرة، ووضع لها قانونًا من أدق القوانين، وعلم بالأمر الخديوي عباس الثاني فأكبره، وأظهر رضاه عنه، وارتياحه له، وأمدته الأوقاف بمبلغ من المال، ووعدت بمضاعفته، وتبرع له كثيرون من ذوي الأريحية، وأجمع العقلاء على استحسانه - بله وجوبه - وفتحت المدرسة أبوابها في 12 من ربيع الأول سنة 1330 تيمنًا بعيد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان السيد وكيل الجماعة وناظر المدرسة، بل كان عقلها المفكر، وروحها المدبر. نجحت الفكرة إذًا بمصر، ولقيت معاضدة الأمير واستحسان العقلاء، ولكنها لم تنجُ من إرجاف المرجفين، وأذى المفسدين، فلبس لها بعض الجرائد جلد النمر، وترصدها دعاة النصرانية، وأنذرت القناصلُ دولَها عاقبتها، أن مدرسة أنشئت بمصر سيكون لها من الأثر في تنبيه المسلمين ما سيكون خطره عظيمًا. كانت المدرسة ملتقى الطلبة من جميع الأجناس الإسلامية، التقى فيها المصري والمغربي، والشامي والفلسطيني والعراقي، والتركي والداغستاني، والهندي والجاوي والسومطري. وكان يفضل الأجنبي لحاجة بلاده إلى المتعلمين أكثر. كان الطلبة فريقين، ففريق منتسب يحضر من الدروس ما يشاء، ويتخلف عما يشاء، وفريق يحتم عليه حضور الدروس كلها، ويبيت في المدرسة مكفي الحاجة من مطعم ومسكن وكتب، وكان لهذا الفريق نظام خاص يسلكه في معيشته وتربيته، منه أن يستيقظ طلبته قبيل الفجر للصلاة وتدبر القرآن، ويؤدوا الفرائض كلها في جماعة خلف إمام واحد، ويكثروا من التنفل في الصلاة، والصوم، ويروضوا نفوسهم على آداب الإسلام بقوة فيتحرجون من فعل خلاف الأوْلى، ومن ثبت عليه الكذب كان الطرد جزاءه، وكانت المدرسة في قصر شريف باشا بالمنيل على ضفة النيل الغربية عند قنطرة الملك الصالح فكان الطلبة لا ينزلون إلى مصر إلا بإذن كتابي من الفقيد، بعد أن يذكر طالب النزول كتابة سبب نزوله وموعد غدوه ورواحه، وكان يقول: (إن الذي يكثر الاختلاف إلى القاهرة تبطل الثقة به) لذلك كنا نظل الأسبوع والأسابيع لا نغادر جزيرة الروضة، وكان المجتمع بالأمس غيره اليوم، بل فوق ذلك كان يكلف كل طالب أن يحمل في جيبه مذكرة يدون فيها أعماله حسنها وسيئها؛ ليكون على نفسه حسيبًا، ولأجل ذلك كان لا بد أن يجتاز الطالب سنة تسمى السنة التمهيدية لاختبار أخلاقه وتزويده بالعلم والعمل، وكانت اللغة الفصحى هي لغة التخاطب كما كانت لغة الدرس، ومن وصاياه أن التزام الفصحى يومًا واحدًا خير من قراءة كتاب. مضى على إنشاء المدرسة ثلاث سنين إلا قليلاً، ثم اشتعلت نار الحرب الكبرى وكانت أيامها النحسات، فأُبعد الخديوي وكان لها عضدًا، فغُلت الأيدي إلى الأعناق، وجمدت الأكف عن العطاء، وأعطت الأوقاف قليلاً وأكدت، ثم شحت بالجباية واعتذرت. عندئذ اضطرت المدرسة أن تكتفي بمن فيها من الطلبة، ولم تقبل جديدًا، وألجأتها الضرورة الملحة أخيرًا ألا تلتزم ما كانت تلتزمه من نفقة المأكل والكتب، وظلت تجاهد في العنت في وناء وضعف سنتين، ثم ودعت الحياة تاركة آثارًا حسانًا وميراثًا عظيمًا ممن تربوا في أحضانها وعملوا جهدهم على تحقيق بعض أغراضها، وما أسف العقلاء على شيء أسفهم على حرمان الأمم الإسلامية من ثمرات هذه المدرسة التي كانت موضع الرجاء في انتياش المسلمين مما تهوكوا فيه من مفاسد البدع والخرافات والتقاليد والعادات؛ حتى لقد كان أستاذنا يقول: (لو أني كتبت تاريخًا للمدرسة لكان فضيحة للأمة كلها) يريد أن الأمة الإسلامية المنبثة في الشرق والغرب لم تحسن احتضان هذا العمل المجيد، والاضطلاع به في حين تنفق الأمم الأخرى ملايين الجنيهات على جماعات الدعاة بسخاء واغتباط. ولعلكم تحبون أن تعرفوا عمل السيد في المدرسة، ولقد كان فيها مَعقِد الأمل، وقطب الرحى، والقبلة التي تولى الوجوه شطرها، كان لدروسه أعظم الأثر في إصلاح النفوس، وتثقيف الألسن، كان يدرس التفسير، فتتجلى روح الإلهام الصادق، والبصيرة النيرة ويدرس الحديث والتوحيد والكلام وحِكم التشريع، وتعلم الإنشاء، ويمرن على الخطابة الارتجالية، ويبصرنا بالأساليب الصحيحة وما يهجنها من دخيل أو سوقي أو مبذول، أو وضع للمفردات في غير موضعها، وقرأ قدرًا من البلاغة، وكنا نطالع أمامه في مقالات العروة الوثقى. ولشد ما كانت دهشتنا أول العهد به حين سمعنا لأول مرة لغة فصيحة عالية الأسلوب مرتجلة، وغوصًا على معاني المفردات في دقة، والتقاطًا لفرائد البلاغة في دروس التفسير وغيرها، واستخراجًا لكوامن العبر من ثنايا الآيات البينات، بل لشد ما كان عجبنا حين كنا نراه يبكي في المواضع التي تستدر الدمع، والذين عاشروا السيد يعلمون أنه كان أسيفًا رقيق القلب، سخيًّا بالدمع سخاءه بالمال، وكان يقول، وكتب في (المنار والأزهر) أنه كان يقرأ وِرد سحر أول اشتغاله بالتصوف فإذا مر ببيت المنبهجة [1] : ودموع العين تسابقني ... تجري من جفونك كاللجج ولم يبك، تركه ولم يقرأه لئلا يكون كاذبًا فيخجل أمام ربه. كان السيد مغرمًا بالاستطراد الطويل في غير ملل، فبينما يكون موضوع الدرس تفسيرًا أو حديثًا، أو حكمة تشريع مثلاً، إذا به يحتال للدخول في باب السياسة أو الاجتماع أو تاريخ الفرق ومذاهب المبتدعين أو ما أشبه ذلك، فنخرج من الاستطراد بكليات عظيمة تزيدنا بصيرة وثقافة. وقد لا تعجب هذه الطريقة رجال التربية الحديثة، ويرونها معيبة بالمدرس، مضيعة للطالب؛ ولكن هذا يرجع فيما أرى إلى عدة أسباب؛ فهو قد قرأ كتب المتقدمين، وتغلغل فيها، وهضمها، وتمثلت فيه، فتأثر بها، وتلك كانت طريقتهم، وكان ريان من العلم شبعان، فكانت تتدافع المسائل في صدره فلا يستطيع لها كبحًا. وسبب ثالث كان أحيانًا ما يصرح به، وهو أنه قليل الثقة بدوام المدرسة، ويخشى أن يفوته شيء يريد أن يقوله فلا تواتيه الفرصة؛ لذلك كان يتلمس الاستطراد تلمسًا، وأذكر أن بعض إخواننا من كبار علماء الأزهر حملته مرة هذا الاستطرادات في مجلس معه - وكانت شفَتْ كثيرًا مما بنفسه - على أن يطلب إليه أن يقدم درسًا خاصًّا في بيته ليلة في الأسبوع ففعل، وكان يحضره كثير من أذكياء علماء الأزهر وأساتذة المدارس العالية والثانوية والابتدائية. ثم لعلكم تحبون أن تقفوا على شيء من حال طلبتها بعد أن آل أمرها إلى ما عرفتم، وأقول لكم: إن منهم المشتغل بالتربية والتعليم، والمشتغل بالصحافة والتحرير، والمشتغل بالوعظ والإرشاد، والمتصل بالملوك ورجال السياسة. وحسبكم أن تعلموا أن الناموس الخاص لجلالة ابن سعود أحدهم، بل حسبكم أن تعلموا أن زعيم القدس الكبير السيد أمين الحسيني ممن يتشرفون بالانتساب إليها. هذه لمحة خاطفة عن تلك المدرسة التي أصبحت كمنشئها في ذمة التاريخ، وهناك مدرسة الفقيد الكبرى التي عكس مناره من أشعتها على العالم أربعين سنة، تبوأ فيها بحق مقام الإمامة، وخلف ميراثًا عظيمًا يشرع للناس طرق الإصلاح، ويبصرهم بكتاب الله وهدى رسوله، وقد أصبح له تلاميذ ومريدون يعدون بالألوف، وصار له حزب قوي في الأزهر ممن قبضوا قبضة من أثره، وإنه لميراث عظيم، شغل فقيدنا حياته في جمعه وادخاره، وترك ذرية ضعافًا لا سند لهم إلا الله وإخلاصه، وأقول - والألم يحز في النفس - إن المنار قد مات بموت صاحبه أو كاد، ولا غرو فقد كان السيد أمة وحده في علمه، ودينه، وكفايته وصبره، والثقة به، والبذل في سبيل الله، ولسنا بواجدين من يملأ بعض فراغه في بعض ما نهدَ له، وفي العالم الإسلامي علماء يعدهم الناس بالألوف، فيالله للأمة الفقيرة. ولقد كان السيد جديدًا دائمًا، غير آسن، كما كان يتجلى ذلك في كتاباته وأحاديثه، اتصلت به ما يناهز ربع قرن اتصالاً وثيقًا، طالبًا وصديقًا؛ فما أذكر أني وردت شرعته يومًا - على كثرة الورود - إلا وصدرت بجديد في العلم أو الأدب أو شئون الحياة، أحسن الله عزاء الأمة فيه، وبوأه منازل الكرامة مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.

خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي

الكاتب: محمد أحمد العدوي

_ خطبة الأستاذ محمد أحمد العدوي الأستاذ بكلية أصول الدين بسم الله الرحمن الرحيم يرحم الله مالك بن أنس إذ يقول: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) . ولقد كانت هذه الكلمة دستور أستاذنا الراحل في الإصلاح، آمن به إيمانًا خالط قلبه، وتغلغل في نفسه. سلف هذه الأمة صلح بالعمل بدين الله، بعيدًا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين. البدع والمحدثات ومن أجل ذلك حارب البدع والمحدثات في دين الله؛ ليبقى للدين جماله، ويحفظ له عظمته وجلاله. وأي عاقل يرى ما عليه المسلمون وهم يزورون قبور الصالحين، من تعفير للوجوه، وتقبيل للأعتاب، وطواف حول المقاصير كما يطاف بالبيت الحرام، والتجاء إلى صاحب القبر في كشف الكروب، وهداية القلوب، والبركة في الرزق، وما إلى ذلك مما لا يتصل بالإسلام في قليل أو كثير؟ أي عاقل يرى ذلك ثم لا يندى جبينه لهذه البدع في دين التوحيد والفطرة؟ وهذه بدع الموالد أصبحت معرضًا من معارض الفسق، وسوقًا نافقة للتجارة في الأعراض وانتهاكًا لحرمة الدين، وهذه بدع الأذكار ومعها الطبول والمزامير والرقص والطرب، تصور الدين أمام الأجانب بصورة تتقزز منها النفوس، وتجعله إلى الهزل أقرب منه إلى الجد، وهذه بدع الدجالين من محترفي الطرق، يستغلون سذاجة الجماهير بضروب من التمويه والشعوذة: كأكل الثعابين، والنار، وطعن أنفسهم بالسلاح وما إلى ذلك! ولا تنسَ فعل الكلشني، وعمود الحسين، ومغارة المغاوري، وقبر أبي السعود الجارحي، ومغطس الطشطوشي، وصناديق النذور، التي لم يأذن بها الله، دع كتب أدعياء التصوف، وما شحنت به من أباطيل: كإيهام الناس أن هناك حقيقة تخالف الشريعة، ووحدة الوجود التي سرت إليهم من ديانات الهند الوثنية. فإذا جاهد الأستاذ في ذلك السبيل فإنما يجاهد لحماية دين الله من الشرك، وذرائع الشرك، وتطهيره من الجهالات، ولا غنى لمصلح ديني عن خوض هذه المعركة التي خرج منها الفقيد ظافرًا، فكان سيفًا من سيوف الله على رقاب المبتدعين والمضللين. دفع الشبهات عن الدين وكذلك كان من أهم أغراضه أن يدفع عن الإسلام الشبهات التي يوردها أعداؤه عليه، كما أفاض في دفع شبهات الماديين كنظرية دارون، وهناك قسم من الشبهات منشؤه الجهل بالإسلام وما انطوى عليه من حكم: كشبهتهم على توريث البنت نصف أخيها، وتعدد الزوجات، والرق في الإسلام، وقد تجلت عبقرية الأستاذ في هذه المسائل، فأبان حكمة الله العليا في هذا التشريع، ووضع رسالة سماها: (نداء للجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) ، وفيها تحقيق لكل هذه المسائل. وكذلك عني بدفع الشبه التي تعرض بسبب تعارض بين نظريات العلم والدين، وكبرى حسناته كتاب الوحي المحمدي، الذي ألفه لمناسبة شبهة لبعض الغربيين على الوحي، وهو خير مؤلَّف يدعى به إلى الإسلام، ويدحض شبهات الماديين المعطلين، قرظه علماء مستقلون، وغُرّتها تقريظ أستاذنا الأكبر المصلح العظيم الشيخ المراغي، يقول فيه: صديقي الجليل الأستاذ محمد رشيد رضا: أستطيع بعد أن فرغت من قراءة كتابكم (الوحي المحمدي) أن أقول: إنكم وفقتم لفتح جديد في الدعوة إلى الدين الإسلامي القويم، فقد عرضتم خلاصة من ينابيعه الصافية عرضًا قل أن يتيسر إلا لفرع من فروع الشجرة النبوية المباركة، وقد استطعتم أن توفقوا بين الدين والعلم توفيقًا لا يقوى عليه إلا العلماء المؤمنون، فجزاكم الله عن الإسلام أحسن ما يجازى به المجاهدون، ولكم مني تحية الإخاء، والسلام عليكم ورحمة الله. وكذلك عني الأستاذ بشرح المسائل التي أساء المسلمون فهمها، كمسألة القضاء والقدر، وله فيها تحقيقات علمية نفيسة تتفق وحكمة الله في تكاليف الإنسان وجزائه على الخير والشر، فما كتبه السيد في دفع الشبه التي منشؤها جهل أو تجاهل بالإسلام، أصل عظيم في الإصلاح الديني، ودعامة لا يستغني عنها عالم مصلح. إحياؤه سنة العلماء من أبرز صفات الفقيد إحياؤه سنة علماء الصدر الأول الذين كانوا يصدرون في فتاواهم عن كتاب ناطق، أو سنة ماضية، أو قياس على أحد هذين الأصلين، واهتدى بهديهم الأئمة الأربعة، فَعَبَّدُوا لمن بعدهم طريق الاستدلال، ولم يقنعوا بذلك، فنهوا عن التقليد في دين الله، وبالغوا في ذلك، وإن شئت فقل: وأسرفوا. نُقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه، وقيل له: إذا قلتَ قولاً وكتاب الله يخالفه، قال: اتركوا قولي لكتاب الله، قيل: إذا كان خبر الرسول صلى الله عليه وسلم يخالفه، فقال: اتركوا قولي لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه، قال: اتركوا قولي لقول الصحابة. ونقل مثل هذا أو ما هو أشد منه عن بقية الأئمة. نهى الأئمة عن التقليد؛ لأنهم أدرى الناس بمقدار ضرره على الدين، وأنه شلل يحول دون النشاط العلمي، وهو إلى ذلك كله امتهان لقيمة الحجة، وتعطيل لموهبة العقل، ويرحم الله من قال: (التقليد إبطال لفائدة العقل) . كانت هذه سنة العلماء؛ لأن الذي في كتب الأصول: (إن المقلد ليس معدودًا من أهل العلم) . ثم خلف من بعد الأئمة خلف أغلقوا باب الاستقلال في فهم الدين، وقصروه على طائفة يحصيها العد، وكأن القرآن الكريم والسنة المطهرة لا يصحان عندهم شريعة دائمة! ! ولما كان أستاذنا الراحل من أئمة الإصلاح الديني، لم يكن له بد من تحطيم السلاسل التي وضعت أمام ذلك الباب، وقد وضع كتابًا نافعًا سماه (الوحدة الإسلامية) على شكل محاورة بين مصلح ومقلد، وله في أوله كلمة جديرة أن تحفظ: (لا إصلاح إلا بدعوة، ولا دعوة إلا بحجة، ولا حجة مع التقليد) . لم يقف الأستاذ في إحياء هذه السنة عند ذلك الحد، بل كان دائمًا ينوه بشأن العلماء الذين لهم محنة وبلاء في ذلك السبيل كشيخ الإسلام ابن تيمية، الذي قال فيه أحد الأئمة: (ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أحدًا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أنفع لهما منه) وشى به العلماء لدى الملوك وولاة الأمور، ورموه بالإلحاد، فسجن أكثر من مرة، ومات سجينًا بدمشق. وكتلميذه ابن قيم الجوزية، كان على أخص أوصاف شيخه، امتحن في سبيل دعوته، وأوذي مرات، وحُبس مع شيخه بقلعة دمشق بعيد المحنة. فإذا كان للاستقلال السياسي شهداء يصرعون في ميادينه، فإن الاستقلال الديني العلمي له شهداء وشهداء، وفي مقدمتهم ابن تيمية وابن قيم الجوزية. أما إحياؤه لذكرى موقظ الشرق (السيد جمال الدين) و (والأستاذ الإمام) فحدث عنها ولا حرج؛ فقد أحيا سيرتهما قولاً وكتابة وعملاً، وكان أظهر شيء فيه شغفه بتلك السيرة حتى لا تكاد تجلس إليه مجلسًا بدون أن تسمع ذكرى للإماميين أو أحدهما، فإن المصلح هو الذي يعنى بسيرة المصلحين فهو يعتبر بحق محيي سيرة المصلحين، ورافع لواء المجددين على أساس كتاب الله تعالى وسنة خاتم النبيين. دراساته العميقة لقد عكف أستاذنا الراحل على دراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة، دراسة واسعة النطاق، فكان بذلك متمكنًا من علوم القرآن الكريم: كمعرفة المكي والمدني منه، وتاريخ المصاحف، وأوجه القراءات، وما صح من أسباب النزول، وما لم يصح، وما دخل على المفسرين من إسرائيليات على تفاوت بينهم في القلة والكثرة، حتى شيخهم ابن جرير فكان من أجل ذلك تفسير أستاذنا الراحل نسيجًا وحده في سلامته من الروايات الضعيفة في أسباب النزول، ومن الإسرائيليات التي شوهت جمال القرآن، كما عكف على دراسة علوم الحديث، ولا سيما علم تاريخ الرجال الذي عز في هذا العصر، فكان من السهل عليه الوقوف على درجة الحديث في سرعة مدهشة، وما أحوجنا إلى إمام له تلك الخبرة الواسعة كفقيدنا الراحل. أمراض المسلمين وكذلك كان من أهم أغراضه بحثه عن أمراض المسلمين الخُلقية والاجتماعية وفساد تربيتهم الدينية والدنيوية، فكنت تراه باحثًا منقبًا عن كل أولئك الأمراض، وطرق الوقاية منها، وهذا كتابه (الوحدة الإسلامية) يطلعك على كثير منها، وإن أخذ الدين من طريقه الصحيح، خير علاج لها، وقد أعانه على ذلك خبرته الواسعة، ورحلاته المتكررة، فمن رحلة إلى الهند، إلى رحلة للأستانة إلى رحلة لأوروبا، وذلك عدا رحلاته الثلاث إلى سورية التي اختير في آخرتها رئيسًا لأول مؤتمر عربي، وهو الذي نودي فيه بالأمير فيصل ملكًا على سورية، ثم رحلته إلى الحجاز مرتين، ولا شيء أعون للمصلح الديني من دراسته لأحوال المسلمين، دع أن دار المنار كانت دائمًا غاصة بالزائرين من كبار العلماء، فكان ذلك كله خير معين له على القيام بمهمته كمصلح ديني، فإذا دعا إلى الإصلاح، فإنما يدعو على بصيرة، وإذا وصف العلاج، فإنما يصفه بعد أن عرف المرض. إصلاح الأزهر هو المعهد الديني الذي مضى على تأسيسه عشرة قرون، كان فيها مشرق الثقافات الدينية والعربية، غير أنه قد طرأ على هذه الجامعة من أعراض الشيخوخة ما جعلها غير وافية بحاجيات العصر من تسليح طلابها بما يكبح جماح الملحدين، ويصد شبهات الماديين، والدعوة إلى الإسلام في المشرق والغرب، وإعداد طائفة لهذه الدعوة مزودة بالعلم والدين. ومن أجل ذلك كان في حاجة كبرى إلى إصلاح طرائق التعليم ومناهج الدراسة. وقد كان أول من أيقظ الأفكار لذلك الإصلاح السيد جمال الدين الأفغاني، حينما وفد على مصر في أواخر القرن الثالث عشر للهجرة، واستفاد منه بعض شبان الأزهر، وتولى السعي لذلك لإصلاح مريده الأكبر وخليفته (الأستاذ الإمام) ، وغرضه الأسمى تخريج نشء جديد من جميع الشعوب الإسلامية، جامع بين التقوى والأخلاق الفضلى، وبين العلم الاستقلالي المثمر لترقية اللغة وإحياء علوم الدين، والتمكن من الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه. ثم جاء الأستاذ المراغي وأمضى في الأزهر خمسة عشر شهرًا، شيخًا له ورئيسًا لمجلسه الأعلى، فكان محط الرجاء ومعقد الآمال، ورجل الساعة، وقام في ذلك الوقت القصير بعمل الجبابرة، ثم شاء الله أن يدع الأزهر قبيل أن يتم الإصلاح الذي أراده، فاضطرب الحال، واختل أمر القائمين عليه من رجال الإدارة، وروعت العلماء بما لم يروع به قطاع الطريق، وساعد على ذلك السياسة الدكتاتورية، حتى أذن الله أن يعود للسفينة ربانها، وللإصلاح رجله، فعاد إلى الأزهر أستاذنا (المراغي) موفور الكرامة، وضاء الجبين، ففتح لطلاب الإصلاح باب الأمل على مصراعيه. أما فقيدنا الراحل فقد كان خير نصير لكل أولئك المصلحين، كان نصيرًا للسيد جمال الدين، ونصيرًا للأستاذ الإمام، ونصيرًا أيُّ نصير للأستاذ المراغي، أبلى في سبيل هذه المناصرة بلاء حسنًا، وقام بأوفر نصيب في ذلك الجهاد. اقرأ مجلة المنار منذ أنشئت. ثم أقرأ كتاب (المنار والأزهر) الذي ألفه السيد في آخر حياته، وفيه أربعة وأربعون شاهدًا من دعوته الإصلاحية، إلى عشرة مقاصد اتبع الأزهر أكثرها، ومقدمة في ماضي الأزهر وحاضره ومستقبله، وجناية العهد الماضي عليه. تلك نواح لفقيد الإسلام والمسلمين في الإصلاح الديني. أسأل الله تعالى أن يعوض المسلمين فيه خيرًا، وأن يوفقهم للسير على نهجه وتقدير جهاده وبلائه، وأن يجزيه عن دينه كما يجزي المجاهدين الصابرين.

خطبة الأستاذ حبيب جاماتي

الكاتب: حبيب جاماتي

_ خطبة الأستاذ حبيب جاماتي على مقربة من مدينة طرابلس الشام قرية صغيرة تدعى القلمون، تشرف عليها قمم لبنان الشامخة، وتكشفها صخوره البارزة، وتنشر عليها أشجار الزيتون نفحات من عبيرها المنعش، ويخيل إليك أن القرية تزحف بيوتها وحدائقها، من سفح الجبل إلى شاطئ البحر، لكي تغتسل في مياهه الزرقاء، سعيدة بأن تنعم بكل ما يمكن أن تجود به الطبيعة على بلدة بالجبل والسفح والسهل والبحر. وإذا مررت بتلك القرية الجميلة السعيدة، وكنت غريبًا عن الديار، فإن جميع الذين يقابلونك في طريقك يمسكون بك ويلحون عليك بأن تحط الرحال، فتأخذ نصيبك من الراحة إن كنت متعبًا، أو تأخذ مؤنتك منها إن كنت قادمًا على تعب، ولا يسعك إلا أن تنزل على رغبتهم، حينذاك يسير بك القوم إلى بيت المشايخ، إلى بيت آل رضا، إلى بيت الفقيد الذي نحيي ذكراه. وكلمة (شيخ) ليست في لبنان لقبًا يطلق فقط على رجال الدين المسلمين، بل هي لقب وراثي، يطلق أيضًا على من بايعهم الشعب بالرياسة والزعامة، فلا فرق بين رجل الدين ورجل الدنيا، وبين المسلم والمسيحي، وبيت آل رضا من البيوتات القليلة في لبنان، التي تحمل أبناؤها لقب المشيخة مزدوجًا، أي أنهم من رجال العلم والإرشاد؛ ومن رجال الرياسة والزعامة. وفي قرية القلمون، ولد محمد رشيد رضا، من أسرة تنتسب إلى الأسرة النبوية الشريفة. فلا غرابة في أن يكون الراحل قد اصطبغ بصبغة ذلك الوسط، وأن يكون تلك الطبيعة التي ترعرع في أحضانها قد فرغت فيه الشيء الكثير مما أغدقته على بلدته، فجاء شامخ الرأس كجبال القلمون، صلبًا في عقيدته كصخورها، فياضًا في علمه كذلك البحر الزاخر الذي كان يجلس على شاطئه في ريعان شبابه، حتى إذا ما جاء إلى مصر، أخذ من فضائها الواسع الصافي سعة الصدر وصفاءه فلعبت السياسة دورها البشع، وأعاد التاريخ نفسه حقًّا فزحف على الدولة الفتية غزاة من الغرب، وهرع الأحرار المجاهدون للقاء المعتدين. وفي 24 يولية سنة 1919 كانت موقعة ميسلون، التي كتب فيها العرب بدمائهم الزكية صفحة جديدة من صفحات التاريخ الإسلامي المجيد، ولسان حالهم يقول: عش كريما أو مت عزيزًا ... تحت ظل القنا وخفق البنود وبعد أن دفن الاستقلال السوري في ميسلون إلى حين قفل السيد محمد رشيد رضا راجعًا إلى مصر، حيث استأنف جهاده المزدوج في سبيل الدين وفي سبيل الوطن، إلى أن توفي وهو في حوالي السبعين من عمره. أيها السادة: إن حياة الفقيد الذي اجتمعنا اليوم لإحياء ذكراه لسفر ضخم يصعب على مثلي أن يختصره لكم في سطور. فكل مرحلة من مراحل تلك الحياة الحافلة بالأعمال الجليلة، والجهاد المستمر جديرة بأن يقف المرء أمامها خاشعًا مفكرًا، وكل مرحلة من تلك المراحل سيتناولها أحد الخطباء الأجلاء بالبحث والتحليل، والخطب التي ستسمعونها هي الحلقات التي تتكون منها تلك السلسلة الناصعة المتماسكة التي نسميها حياة الإمام السيد محمد رشيد رضا. وإن أنسَ لا أنس ذلك اليوم من أيام أغسطس الماضي الذي سافرنا فيه معه إلى السويس في معية صاحب السمو الأمير سعود، كان السيد محمد رشيد في ذلك اليوم شديد الفرح، يكثر من الحركة والكلام والضحك، وكنا نتساءل قائلين: (ما سبب ذلك يا ترى؟) وما كنا ندري أنه - رحمه الله - يودعنا ويودع العلم، فقد توفي فجأة في الطريق، في ذلك اليوم، قبل أن يصل إلى القاهرة كما تعلمون. والآن أيها السادة، إن ما قلته عن حياة السيد الإمام محمد رشيد رضا ليس كل ما يجب أن يقال عن حياته، ولكنني أديت واجبًا عن نفسي وعن إخواني المسيحيين، نحو الراحل الكريم، ويشرفني أن يكون صوتي قد ارتفع في هذا المجمع الإسلامي الحافل، كما ترتفع الآن رنات الأجراس والنواقيس الشرقية العربية في الأقطار الشرقية العربية، فتمتزج بأصوات المؤذنين، داعية إلى التآخي، إلى التضامن، إلى التكاتف، إلى التعاون في سبيل القومية العربية، في سبيل الأوطان الذبيحة! ومن نيلها المبارك الوفي والوفاء بكل ما فيه من قدسية وروعة، فعاش طول حياته وفيًّا لدينه، وفيًّا لأساتذته وتلاميذه، وفيًّا لأهله وعشيرته وأصدقائه، وفيًّا لوطنه الأول والثاني. تلقى - رحمه الله علومه - في مدارس طرابلس والشام، وكان أشهر أساتذته الشيخ حسين الجسر، من كبار العلماء السوريين في ذلك العهد. وفي سنة 1897 نال شهادة العالمية، وقدم إلى مصر في تلك السنة، أي في شهر رجب عام 1315 هجرية، تحدو به الرغبة الملحة في لقاء الإمام محمد عبده رحمه الله. وصلات السيد رشيد رضا بالإمام معروفة مشهورة، وقد ظلت وثيقة لم تعتورها شائبة، إلى أن توفي الإمام في سنة 1905م. وكان المرحوم السيد رشيد رضا قد أنشأ (المنار) في شوال سنة 1315، أي في مارس 1898م. ومنذ أن وطأت قدماه أرض مصر إلى أن توفاه الله فيها، ظل يجاهد ويناضل في سبيل دينه، دون أن ينسى وطنه الأول: فقد عاد إلى سورية بعد الحرب العظمى مباشرة، ونظرًا إلى مكانته السامية في النفوس، انتخبه السوريون رئيسًا لمؤتمرهم الوطني، الذي اجتمع في دمشق سنة 1919، وقرروا إعلان استقلال سوريا كدولة عربية، ونادى بالمغفور له فيصل بن الحسين ملكًا على السوريين، وكان لآراء السيد محمد رشيد رضا ونصائحه وإرشاداته، فضل كبير في نجاح تلك الحركة المباركة. ولكن الأقدار لم تلبث أن قلبت لسورية المجاهدة الناهضة ظهر المجن.

قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ في تأبين السيد الإمام

الكاتب: إسماعيل الحافظ

_ قصيدة الشيخ إسماعيل الحافظ في تأبين السيد الإمام محمد رشيد رضا رحمه الله داعٍ إلى الحق غالت صوتَه النوبُ ... أصيب في فقده الإسلام والعرب وكوكب من سماء الفضل حين هوى ... هوى منار الهدى وانثالت الكرب وأصبح المجد مهجور الحمى وبكى ... من ثكله شرف الأعراق والنسب قضى الإمام فوجه الحق مكتئب ... مما دهاه وطرف الهدي منتحب والحزن مستعر النيران متصل ... والصبر منقطع الأوصال منقضب والزهد والرفد والإرشاد في ترحٍ ... والبر والدين والأخلاق والأدب ومعقل العلم والعرفان مضطرب ... يكاد من برحاء الهول ينقلب والشرق يندب والأقطار واجفة ... كأنما دب فيها الويل والحرب يا ناعي الحي حق ما رويت لنا ... أن الإمام حواه الترب أم كذب ويح الردى كيف أخبى نجمَه ومتى ... كن المنايا من الأفلاك تقترب كادت تضل عقول فيه من جزع ... تقول: هل مات أم دارت به الشهب أم راح يبغي سماء عن سماوته ... أم استسر فقامت دونه الحجب لا تنكروا رقدة الهادي الرشيد فقد ... أعيا وقد يستريح الدائب الدرب دعاه ومذ لبت الألباب دعوته ... هفا بها لمغاني قدسه الأرب والبدر مهما تناهى في تنقله ... في الفلك فهو إلى مغناه منقلب لئن طوت فضله أيدي الردى فطوت ... مساعيًا لم تزل تُرجى وتُرتقب فرُب ليل طواه كله نسك ... ورُب يوم قضاه كله قُرَب ورُب خافية الأعلام نائية ... يعيى بها الفكر إدراكًا ويضطرب ألقى عليها شعاعًا من بصيرته ... بدت به وهي في عين النهى كثب ورُب سنة هدى قد تكنفها ... وهمٌ ورانت على أنوارها الريب أعادها برزة للناس هادية ... كما انجلت عن سنا أقمارها السحب ورُب آيات تنزيل سرائرها ... ظلت زمانًا عن الألباب تحتجب سما إليها وعانى سترها فبدا ... للمستريبين من تفسيرها عجب يعنو لها العلم منقادًا ويأخذه ... من روعة الحق سلطان فيتئب وغارة في سبيل الله ظافرة ... يهفو لها المجد والإسلام والحسب قد شنها منه ماضي العزم ينجده ... من حزمه وحجاه جحفل لجب دارت على محور البرهان دورتها ... حتى تجلت وهو في أرجائها قطب ثم انثنى وهو مخفوض الجناح تقي ... والحق مرتفع الرايات منتصب في ذمة الله نفس ما ألم بها ... رضا لغير رضا الخلاق أو غضب وهمة ما نأى عن باعها أمل ... ولم يفتها من العلياء مطلب لهفي على القائم الهادي إذا خفيت ... معالم الحق أو ضنت به العصب ومن إذا نابَتِ الإسلامَ نازلة ... علا به الجد والإقدام والدأب وإن دجا الخطب واسودت جوانبه ... بدت لنا فيه من آرائه شهب القانت العف والأطماع دانية ... والمقدم الندب والأهوال تصطخب والمؤثر الجد يقضي ليله سهدًا ... فيه إذا جد بالمستهتر اللعب والقائل الصدق لا يدنو به رغب ... في قوله لا، ولا ينأى به رهب فما أطبت قلبه الدنيا بزخرفها ... ولا ثنى عزمه مال ولا نشب غايات مبدئه الإيمان في عمل ... وروح نهضته الإقدام والغلب سائل به الليل هل شقت غياهبه ... عن مجاهد مثله لله يحتسب وسائل العلم والعرفان: هل رفعت ... لمثله في ذرى عليائهما الرتب وهل شكا الوطن المحزون نكبته ... إلا ولباه ذاك المشفق الحدب يا صاحب القلم الكافي بفتكته ... يوم التناضل ما لم تكفه القضب إذا انبرى فهو طورًا في الحشا ضرم ... وإن جرى فهو حينًا في المها ضرب (أما وقتك ظبى الأقلام مشرعة) ... أما توافت لك الآثار والكتب أما إقالتك أيام محجلة ... يبلى المدى وهي في آثارها قشب لك المواقف يختال الزمان بها ... والباقيات على الأيام والخطب السائرات مسير النيرات هدى ... والساطعات وآفاق النهى كهب والخالدات فما إن فاتها زمن ... والدائبات فما إن مسها نصب والملقيات على سمع الورى عبرًا ... تمشي على ضوئها الأجيال والحقب منار هديك برهان يقوم على ... أشكله عمد الإصلاح والطنب وغيث تفسيرك المأثور سلسلة ... من منبع الوحي والإلهام ينسكب ذخران للدين والدنيا إذا جليا ... للناس حفهما الإعجاب والعجب قم وانظر الشرق يصغي السمع ملتمسًا ... هداهما وعيون الدهر ترتقب هيهات قد خمد النور الذي يرتقبوا ... وقد مضى ذلك العهد الذي طلبوا تبكيك أبناء عدنان وإخوتهم ... والمسلمون إذا مستهم النوب كنت الرجاء لهم إن عوزت عدد ... تحمي العقيدة والأخلاق أو أهب وكنت سيفا على الإلحاد ذا شطب ... من الجهاد على أفرنده ندب يبكون نعيك في تأليف وحدتهم ... تقيم في نظمها طورًا وتغترب ركبت في مبتغاهم كل سابقة ... واليوم بعدك لا سرج ولا قتب فدتك من عثرة الأيام شرذمة ... راموا علاك فما نالوا ولا قربوا جروا وراءك حتى حُزتها رتبًا ... أوفت سموًّا على هام السهمي انقلبوا مقصرين فلم يقضوا حياتهم ... كما قضيت، ولم تذهب كما ذهبوا ذهبت كالغيث ولَّى بعدما رُويتْ ... منه البطائح واهتزت به الهضب ذهبت برا بأوطان وفيت لها ... تكاد إثرك عن أوطانها تتب غادرتها وهي أوزاع ممزقة ... يعيث منتدب فيها ومغتصب تدعوك للنجدة الغراء رازحة ... يؤدها المضنيان الهم والوصب إذا رأت بعدك الآمال مخفقة ... طغى من الوجد في أحشائها لهب تؤم قبرك مثوى رحمة وهدى ... للبر في لحده مغنى ومضطرب كنز من الحكمة العلياء قد ضربت ... من الجلال على أركانه قبب يكاد حين تحييه ضمائرنا ... يصبو إليها صدى منه وينجذب إذا أطافت به أوحى لها مثلاً ... من الثبات وشملاً ليس ينشعب وإن شكَت خطبها كادت جوانبه ... تئن للخطب إشفاقًا وتنتحب يا أكمل الناس إيمانًا وأخلصهم ... ودًّا وأكرمهم جزمًا إذا انتسبوا من لي بأيامك اللاتي نعمت بها ... دهرًا يظللني من دوحها عذب أيام أرشف من صفو الرسائل أو ... نجوى الحديث كئوسًا ما بها لغب واهًا لها، قد مضت فاليوم لا رسل ... تفي أمانة نجوانا ولا كتب أحس أن نميز الماء في كبدي ... يحيله الحزن جمرًا فهو يلتهب وأن سوداء قلبي حين أذكرها ... تفور من مقلتي دمعًا وتنسرب سأحفظ العهد، فاحفظه، وأنثر من ... فيض الشؤون رثاءً ليس ينقضب ولو نظمت الثريا في رثائك ما ... قضيت للحق إلا بعض ما يجب ... ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل الحافظ * * * تاريخ هذا العدد الحق أننا طبعنا هذا العد في أوائل ربيع الأول سنة 1355 وأواخر شهر مايو سنة 1936؛ وذلك لنعوض للقراء ما فاتهم من أعداد لإكمال المجلد الخامس والثلاثين. * * * العدد القادم سنجعل العدد القادم خاصًّا ببحث إسلامي عظيم هو (المستشرقون والإسلام) ، وقد تولى تحريره حضرة النطاسي البارع الدكتور حسين الهراوي مفتش صحة مصر القديمة، وهو المسلم العالم الغيور. وسيصدر بعد هذا العدد بعشرة أيام، بإذن الله.

فقيد العرب والإسلام المرحوم السيد محمد رشيد رضا ـ 1

الكاتب: محيي الدين رضا

_ فقيد العرب والإسلام المرحوم السيد محمد رشيد رضا كلمة سريعة [1] بقلم ابن أخيه الحزين (1) سألَنا كثير من الأصدقاء والمحبين من مريدي فقيدنا الكبير أسئلة شتى، فرأيت أن أكتب ما يلي ردًّا على ما حضرني من تلك الأسئلة حتى يطلع عليه الجميع، ولا يزال القلب كسيرًا والحزن عامًّا، فمعذرة من القراء الكرام إذا وجدوا شيئًا غير ممحص، والله يتولانا برحمته ويحسن عافيتنا جميعًا، إنه خير مسئول وأكرم مجيب. كيف بُلِّغت الخبر؟ قرع باب مسكني في نحو الساعة الثالثة والنصف بعد ظهر يوم الخميس 22 أغسطس الماضي، وكنت ممددًا في سريري بعد ما تغديت ففتحته القرينة، وسرعان ما دخلت علي تقول: (قم حالاً وكلِّم عبده) فظننت أنها تقصد ابن عمي السيد عبد الغني رضا، فقلت: (ولماذا لم تدعيه للدخول عليَّ؟) . فقالت: (قم فكلمه) . فنهضت مسرعًا إلى الباب فوجدت عبده بواب دار المنار، فأخذتني رعشة الوجل؛ لأنه حضر في ساعة غير مألوف حضوره فيها، وقد سبق أن حضر في مثلها يوم أخبرني بوفاة جدتي. فقلت: (ماذا تريد يا عبده؟) . قال: (السيد عبد الغني عاوزك) ورأيت دموعه تترقرق في مقلتيه، وصوته يتهدج، فقلت له: (قل، أسرع، ما الذي حصل؟) . فقال: (مات السيد!) . وهنا انهمرت دموعه، وأصبت أنا بذهول، فدخلت غرفة النوم لألبس، فقالت القرينة: (ماذا حدث؟) . قلت: (مات عمي) . وصرت لا أعرف ماذا أصنع، فأردت التوضؤ، فصرت أبحث عن القبقاب وهو أمامي فلا أجده، وبعد ما توضأت صرت أنتقل في المنزل مفتشًا فيه عن الذي ألبس وأين أجد البذلة والحذاء وما إليهما، ولقد لقيت في ذلك عناء كبيرًا. وفي أثناء ذلك كانت القرينة قد فهمت من عبده أن الوفاة حدثت وهو عائد من السويس، وأنه لا يزال في مصر الجديدة. سرت في الشارع وأنا أحس أني على وشك السقوط أتهادى يمينًا وشمالاً. في دار المنار صعدت إلى الدور العلوي في المنزل فقابلت قرينة عمي وقلت لها: (نحن إخوتك وأولادك فصبِّري نفسك) . وأرسلت على إثر ذلك تلغرافات للسيد محمد شفيع نجل الفقيد - وكان لا يزال في سورية - بوجوب حضوره حالاً، وأخبرته الخبر، وأرسلت تلغرافًا لصهري محمد أفندي السيد بالإسماعيلية ليحضر للمساعدة في الأمر، وأرسلت رسولاً إلى الأستاذ عبد السميع أفندي البطل فسرعان ما حضر، وحضر صهري في الليل ومعه الصديق مصطفى أفندي إبراهيم أحمد، وانتشر الخبر بسرعة مدهشة في القطر المصري فحضر بعض الأصدقاء من طنطا وغيرها وانهالت علينا البرقيات. وفي الساعة 7.30 أذاع الراديو النعي في العالم كله، فقوبل الخبر بذهول ولم يستطع الناس تصديقه بسرعة فشرعوا يستفهمون تلفونيًّا من دار المنار. في مصر الجديدة عندما حضرت إلى دار المنار كان ابن عمي السيد عبد الغني لا يزال في مصر الجديدة متنقلاً ما بين الإسعاف والقسم؛ لإجراء اللازم بنقل جثمان الفقيد، وحضر فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار المصرية إلى دار المنار فجلس منتظرًا - وأمارات الحزن بادية عليه - وهمَّ بالذهاب إلى مصر الجديدة ولكننا لما اتصلنا تليفونيًّا بمصر الجديدة فهمنا أن كل الإجراءات تمت ولم يبق على الحضور إلا القليل من الزمن. وصول الجثمان جلسنا نتكلم في وقع المصيبة واستغراب ما حدث إلى أن وقفت أمام دار المنار سيارة من سيارات نقل الموتى، وحمل الناس نعشًا فيه جثمان ذلك العالم الكبير الذي طبقت شهرته العالم أجمع، فانهمرت الدموع من العيون، وكان يرافق النعش جمهور من المحبين وبمقدمتهم فضيلة السيد محمد الغنيمي التفتازاني - وكانت دموعه قد بللت لحيته وعيونه قد احمرت من شدة البكاء والنحيب - واشتد البكاء من جميع الحاضرين ولا سيما فضيلة المفتى. فضل التفتازاني وللسيد التفتازاتي أفضال كثيرة؛ فهو الذي حمل معظم المصاب على أكتافه، فقد أسرع إلى دار الإسعاف وإلى القسم وبذل مجهودًا عظيمًا في كل منهما، ولما وصل إلى دار المنار عمل كل ما في قدرته للحصول على الإذن من ورثة المرحوم الشيخ محمد عبده بدفن عمي بجواره ففاز، وسرعان ما أحضر التُّرَبية والحانوتية واتفق معهم على بناء التربة في الليل حسب الشريعة الإسلامية، وفاز أعظم فوز، وبالجملة فالسيد التفتازاني أسدى لصديقه الراحل أعظم خدمة بعد وفاته ولا يزال يعمل لخدمة أولاده بصدق وقوة مما يسجل له بمداد الشكر الجزيل، حفظه الله وأبقاه عونا للملهوف فهو أهل خير وفضل ومعدن معروف [2] . الأستاذ الطاهر وفي أثناء ذلك كانت حديقة الدار قد امتلأت بالكراسي وازدحمت بالزوار، وحضر الأستاذ محمد علي الطاهر على غير علم بالذي حصل، فظن نفسه أخطأ المنزل، ولمَّا أخبره بعضهم كاد يصعق وأخذ يقول: (لقد جئت لأزور رب الدار محدثًا نفسي أنه إذا قدَّم إليَّ الشاي فإنني سأعتذر عن شربه، وأنه على إثر ذلك سيقوم إلى الثلاجة فيحضر لي فاكهة من التي تعود أن يتعشى منها) . وبعد ذلك أخذ يحوقل ويتأسف، ثم انصرف إلى التليفون يخبر الذين يرى أنه يحسن إخبارهم بالفجيعة، فجزاه الله خيرًا. الميت المجهول! ! ومما يصح التنويه به هنا أن المرحوم كان يركب سيارة مع تركيين - في عودته من السويس - لا يجيدان العربية، وفي الطريق كان يحمل مصحفًا صغيرًا يتلو آيات الله طوال الطريق، إلى أن أحس بتعب فطلب من السائق أن يوقف السيارة فأوقفها، وقاء بعدما وضع المصحف في جيبه، واستسمح اللذين معه بالاضطجاع قليلاً؛ لأنه متعب فاضطجع، ولمَّا وصلت السيارة إلى مصر الجديدة حاولا إيقاظه فوجدا جسمه لا حياة فيه وكانت روحه صعدت إلى الملأ الأعلى فعاجلا به على الإسعاف، ثم ذهبا إلى دائرة البوليس فكتب البوليس محضرًا بوفاة (شخص مجهول) في أول الأمر ثم تدارك الخطأ. ماذا وُجد معه؟ وكتب البوليس محضرًا بالذي كان معه وسلموه إلى حسين رضوان الموظف في مطبعة المنار، وقد حضر وسلمني ما أمضى على تسلمه وهو محفظة فيها جنيه واحد ونظارتان ونظارة كبيرة مقرِّبة وعمامته ومصحف وفك أسنانه، ولم تصل يد البوليس إلى كيس نقوده ولا إلى قلمه ففقدا ولسنا ندري أين كان فقدهما؟ وقع المصيبة على حرمه ويظهر أنني كنت سريعًا في إخبار حرم عمي بالمصاب - وكنت أظنها علمت به من ابن عمي قبل وصولي - وكان غرضي أن أصبِّرها، وبعدما كلمتها بما قدَّمت نزلت لإرسال التلغرافات ولتدبير ما يلزم، فحضر إليَّ الخادم وقال: (إن الست أغمي عليها) فوقعت في مشكلتين، ولما صعدت وجدتها في حالة حزن شديد وبكاء وليس ثمة إغماء - والحمد لله - فهدأت نفسها بما حضرني من كلمات - وكانت عندها الغسالة وقد تركت الغسيل وهي تنتحب، وعلى إثر ذلك حضرت قرينتي فاشتد البكاء منهما فزجرت قرينتي وقلت لها: (يجب أن تتحملا المصيبة بصبر عملاً بوصايا الفقيد) وتركتهما ونزلت لعمل ما يلزم. سمو الأمير سعود وكان عمي - رحمه الله - قد دعا سمو الأمير سعود إلى دار المنار في مساء يوم الأربعاء 21 أغسطس الماضي لشرب شيء من المثلجات لما لم يتيسر أن يقبل الأمير دعوة للغداء أو العشاء لارتباطه بمواعيد سابقة. وقد خاطبه في ذلك عند سفره إلى أوربا ويوم حضر منها - وكان في طريقه إلى فلسطين والشرق العربي - فوعده بالقبول وترك التدبير لسيادة الشيخ فوزان السابق معتمد المملكة العربية السعودية في مصر. ولقد عني - رحمه الله - بإصلاح مكتبه ومدخل داره استعدادًا لاستقبال الأمير، وألحَّ على أولاده بسرعة الحضور من سورية لاستقبال الأمير؛ ولكن مرض ابنه المعتصم أخَّر حضورهم، وقد عاد من سورية قريبًا وهو في دور النقه، والحمد لله. وحب عمي لآل سعود يعرفه كل الذين يترددون على دار المنار، وحبه للأمير سعود عظيم جدًّا فقد كنت كلما أزوره يحدثني عن مقابلته للأمير وشغفه بأدبه وخلقه وحيائه وصلاحه وتقواه وجمال وجهه، وإذا سمعته يتحدث عن كل ذلك أحسست بأن لعابه يسيل متحركًا بالشهد ولا سيما إذا حدثك عن الحفاوة التي لقيها الأمير في أوربا وأجوبته لملوك أوربا ورؤساء جمهورياتها وكبار رجالها، وكيف كان يفاخر بالإسلام وما امتاز به من المزايا. يود الانفراد بالأمير وكان - رحمه الله - يود الانفراد بالأمير للتحدث معه في بعض الشؤون؛ ولكن الأمير اعتذر بضيق وقته وبأنه يود سرعة العودة لتغيير ثيابه والوضوء والصلاة، ثم هو يود حضور حفلة وفاء النيل تلبية لدعوة سعادة المحافظ، وعلى ذلك قال للسيد: (إذا بقيت مصممًا على السفر غدًا فتحضر إلى الذهبية في الساعة الرابعة صباحًا ونجلس معًا في تلك الساعة الهادئة، وسأرسل إليك سيارة خاصة) . لم يذق طعامًا وقد جرت عادة المرحوم أن يستيقظ قبل الفجر للتهجد ثم يصلي الصبح في أول وقته وينام بعد ذلك قليلاً؛ ولكنه في صباح الخميس انتظر السيارة بعد الصلاة فحضر الشيخ فوزان السابق فركب معه إلى الذهبية، وخرج ولم يذق طعامًا في داره. ولما اختلى بالأمير وأفضى إليه بما رآه لازمًا طلب منه الأمير بأن لا يسافر معه إلى السويس وطلب مثل ذلك من السيد محمد الغنيمي التفتازاني وألحَّ في طلبه حتى كاد - رحمه الله - يغضب منه؛ ولكن ذلك كله لم ينفع وركب السيارة إلى السويس، وفي السويس اختلى مع الأمير مرة ثانية مدة طويلة، وبعد تحرك الباخرة فضَّل الرجوع حالاً إلى عمله في دار المنار، وفعلاً ركب السيارة عائدًا فوصل إلى داره محمولاً على النعش - ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. استأذن القرينة ولا يفوتني أن أقول أنه أستأذن قرينته بالسفر فأذنت له في ذلك، ولو استأذن طبيبه الدكتور أحمد عيسى بك لما أذن له؛ لأنه يعلم أنه مصاب بتصلب الشرايين والروماتيزم وضعف القلب وكان قد نهاه عن إجهاد نفسه مدة طويلة؛ ولكنه سمح له بالعمل بعد ذلك، وأما السفر بالسيارة عن طريق السويس فإنه ما كان يأذن له به ولكن هكذا شاء الله ولا رادَّ لمشيئته. كيف قضى ليلته؟ ولما حضر إلى الدار جثة هامدة وأنزلناه من النعش في الدور العلوي، رأيته كأنه لا يزال حيًّا، ومدَّدناه في غرفة الاستقبال وكنت أظن أنه ربما يستيقظ قريبًا؛ لأن شكله لم يتغير مطلقًا، وفي الليل دعوت حضرتي الدكتورين الفاضلين الدكتور شهبندر والدكتور حسني أحمد لفحصه، ولمَّا فحصاه نصحا لنا بوضع الثلج حول جثته خشية الحر ورفع السجاجيد التي تحته وحوله، فصدعنا بالأمر حالاً، ويا سبحان الله، لقد كتب له أن يحاط بالثلج وهو الذي كان يحب الثلج في الشتاء. الديون باهظة ولقد تبين أن الديون التي عليه باهظة وكان الناس يظنون أنه غني جدًّا وكنت أنا أيضًا أظن فيه ذلك، ومجال الظن متسع فكتبه رائجة، وهذا كتاب (الوحي المحمدي) طبع ثلاث مرات في عام واحد ولقد نفد من طبعته الأخيرة نحو ألفي نسخة في زمن وجيز، وهكذا الحال في كتبه وكتب الأستاذ الإمام رحمهما الله. وإذا راجت الكتب فإن دخلها لا يستهان به؛ ولكن يظهر أن عدم توفقه في الإدارة وكثرة كرمه أفضى به إلى هذه الحالة، هذا إذا لم نقل غير ذلك. فاللهم وفقنا لوفاء دَينه، وألهم الذين له عليهم ديون وفاءها سريعًا. دعاء مستجاب ولقد أتم - رحمه الله - تفسير سورة يوسف إلى نهاية الآية 101 التي هي خاتمة القصة، وهي قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف - عليه السلام -: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِ

فقيد العرب والإسلام المرحوم السيد محمد رشيد رضا ـ 2

الكاتب: محيي الدين رضا

_ فقيد العرب والإسلام كان دائم العمل (2) إن كثيرين من شبان اليوم - وغير اليوم أيضًا - يكثرون من التحدث عن كثرة أعمالهم إذا كان للواحد منهم عمل منتظم في الحكومة أو في دائرة من الدوائر الأهلية، وقد لا يتجاوز عمل الواحد منهم ست ساعات يعمل فيها ببطء وتؤدة وهو يستطيع إنجاز عمله كله في نصف هذا المقدار من الزمن إذا أجهد نفسه قليلاً. وأما السيد رشيد فقد عرفته من عام 1907 وكنت مقيمًا في منزله إلى أواخر عام 1922، فكنت أدهش من عمله المتواصل: يستيقظ في الصباح مبكرًا جدًّا فيصلي الصبح حاضرًا ويكون قد تهجد قسمًا من الليل قبل حلول وقت الصلاة، ثم يستريح قليلاً وبعد ذلك يجلس في مكتبه فيقرأ ويكتب ويظل على ذلك إلى أن يحضر له الفطور فيجلس إلى المائدة، وفي أثناء الفطور تتاح له فرصة قراءة الصحف الصباحية وبعد ذلك يرجع إلى مكتبه إلى أن يحين وقت الغداء فيتغدى ثم يأوي إلى فراشه قليلاً، وبعد ذلك يصلي العصر ثم يذهب إلى مكتبه للعمل، وقد يستمر في عمله إلى ساعة متأخرة من الليل، وفي أثناء الليل يصحح كثيرًا من المسودات التي جمعت من مجلته (المنار) أو مؤلفاته المختلفة أو ما يطبع في مطبعة المنار من كتب النجديين أو ما شابهها مما يحتاج للدقة في المراجعة من جهة سند الأحاديث أو صحة النقل أو وجاهة الرأي. قلت: إنه ينام بعد صلاة الفجر والواقع أنه ينام أحيانًا، وأحيانًا يخرج إلى النزهة في تلك الساعة الهادئة، وكثيرًا ما يذهب إلى مسافات بعيدة جدًّا ويصل أحيانًا إلى الأهرام والناس نيام ثم يعود ماشيًا أو راكبًا، وقد اتخذ هذه الخطة ولا سيما عندما سكن بجوار كوبري الملك الصالح، ويسير في تلك الساعة حاسر الرأس وقد يكون الجو باردًا. وفي نزهته هذه يصطحب معه مصحفًا أو مسبحة فيتلو ما تيسر له من القرآن أو يسبح الله كثيرًا. ولقد اشتهرت فسحته هذه وجعلت كثيرين من أهل الأحياء المجاورة يقلدونه فيها. ولقد كان نشيطًا في عمله في مكتبه وفي نزهته وكان يسير بقوة يعجز عنها الشبان، وأذكر أنني كنت أسير معه أحيانًا - وهو في الكهولة وأنا في أول مراحل الشباب - فما كنت أستطيع السير بجواره، فكنت أسير وراءه بكل مشقة وعناء، ولو أنه - رحمه الله - نظم عمله ووظف من يريحه من قراءة المسودات واشتغل في الوقت الذي كان يشغله بالمسودات بالتأليف، لزاد عمله نحو النصف، ولكان محصوله العلمي أكثر مما خلَّفه، مع كثرته وعظيم فائدته العلمية وحسن تنظيمه وإتقانه وإبداعه. الإتقان في العمل وله ذوق مشهور في إتقان كل شيء، ويتجلى ذلك في مؤلفاته وحياته العامة والخاصة. وقراء مجلته المنار يعرفون له الفضل العظيم في وضع تلك الفهارس المتقنة للموضوعات والأعلام، ولم يقصر فهارسه المنظمة على المجلة، بل وضعها لتفسيره فوضع لكل جزء من التفسير فهارس منظمة تسهِّل على الباحث العثور على طلبته بسرعة. وعمل هذه الفهارس يأخذ قسمًا كبيرًا من وقته، لو تيسر له العثور على من يعملها له لوفر جزءًا من وقته. وأذكر أنني عندما كنت في داره في شارع درب الجماميز - وكنت لا أزال مراهقا - كنت أساعده في عمل تلك الفهارس مساعدة آلية، فقد كان - رحمه الله - يكتبها متتابعة وكنت أتسلمها منه وأقصها ثم أضع ظروفًا عليها حروف الهجاء فأضع في كل ظرف الموضوعات التي تدخل في حرفه، ثم أرتب كل حرف ترتيبًا منظمًا وألصقها مرتبة ثم نقدمها للطبع. وقبيل وفاته أراد أحد الأصدقاء عمل فهرس لمجلد المنار الأخير وعمله بالفعل؛ ولكنني سمعت المرحوم ينتقد عمله بأنه غير وافٍ بالموضوعات المهمة كلها؛ ولذلك لم يعتمد عليه فلم يطبع. هذا ولكثرة عمله كانت الفهارس تتأخر؛ لأنه ما كان يعتمد على أحد في عملها، وهذا يرجع إلى عظم دقته وإتقانه في عمله رحمه الله. ولم تقتصر دقته على أعماله العلمية، بل إنه كان يحب الإتقان والدقة في مأكله ومشربه وملبسه إلى درجة يعرفها كل من خالطه عن قرب أو بُعد، وأما إتقان مطبخه فذلك حديث الجميع، حتى إن السيد محمد الغنيمي التفتازاني طالما كان يتفكه بقوله: (إن الواجب على وزارة المعارف العمومية أن تعهد إلى بعثة من البنات بالتخصص في فن الطبخ في منزل السيد رشيد رضا) . وكان كرمه مضرب المثل - ولا يزال كذلك - في جميع البلدان الشرقية؛ فقد كان حريصًا على إضافة كل قادم إلى مصر، وأما أصدقاؤه فقد كانوا يذهبون إلى داره من غير كلفة؛ غير أنه في أواخر أيامه كان يواظب على صيام أيام مخصوصة منها الأيام البيض؛ ولذلك كان أصدقاؤه يعنون بمعرفة أيام صيامه حتى إذا ما حضروا استطاعوا أن يأكلوا معه فيشبعوا أجسامهم بطعامه وأنفسهم بعلمه ومعارفه. عطفه وكرمه ولا زلت أذكر عندما كنت يافعًا وكنت في داره بشارع درب الجماميز، وكان الوقت وقت شهر رمضان، فكان إذا أحس أن الوقت أشرف على الفجر ولم يبق مجال للأكل فكان يسرع إلى إيقاظي ويحضر لي اللحم المحمر وما أشبه، ويقف فوق رأسي يحثني على الأكل بسرعة، قالت مرة جدتي - والدته -: (إن محيي الدين يجزع من رمضان كثيرًا) فقال لها ضاحكًا: (الله يحفظك يا والدة، أنت سمينة تتغذين من شحوم جسمك، وأما هو فنحيف يحتاج للغذاء حتى يستطيع النهوض والعمل) . وكان كريمًا جدًّا بالمال ولا سيما في الأعياد والمواسم؛ فكان يعطيني في العيد ما لا يقل عن نصف جنيه ذهبًا - طبعًا عندما كنت صغيرًا - فلما كبرت صار ينفح أولادي بالنقود، وكنت أراه يعطي كثيرين من الشبان الشرقيين وطلاب العلم نقودًا، ولا زلت أذكر مرة أنه دفع لشاب عراقي جنيهًا ذهبًا في أيام الحرب وكان بائسًا، فامتنع عن الأخذ فألح بقوة، وقال له: (إنني لا أتصدق عليك، وإنما يمكنك أن تحسبه سلفة من محيي الدين، وعندما توسر ترده إليه) وبذلك أخذ الجنيه، وهو الآن محامٍ وكان موظفًا بالحكومة العراقية في بغداد. ولطالما مد إليه كثير من العظماء أيديهم فردها مملوءة، ولم يكن يذكر ذلك لأحد ما؛ وإنما سمعت هذا من الخادم الذي كان واسطة الدفع، وهنا أنقل للقراء كتابًا ورد إليَّ من الشيخ محمد بن سياد أمين مكتبة الحرم المكي، قال - حفظه الله -: عزيزي السيد محيي الدين: حزني على الأستاذ السيد مثل حزن الولد على الوالد، فإنا لله وإنا إليه راجعون. كان سمع نبأ وفاته - رحمه الله ورضي عنه - ليلة الجمعة التي قبض فيها في جدة في الراديو، وبلَّغنا الخبر الأخ محمد أفندي نصيف صباحًا بالتلفون فأحسست بالمصيبة ودب الحزن في نفسي، غير أني كابرت الناس فيه وأنكرت وقع ذلك الخبر وكذَّبت الخبر بادئ بدء، ثم جعلت أتمنى أن يكذب الناس معي هذا الخبر، وهيهات أن يفعل الناس ما تمنيته وقد أرغمتهم الحقيقة على الاعتراف بالواقع، فإذا هم يكتبون به في جرائدهم ويتحدثون في أنديتهم ويصلون على المرحوم في مساجدهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فأعظِم اللهم لنا الأجر وأحسن لنا العزاء وألهمنا السلوان يا سيد محيي الدين في هذا العالم الكبير والأستاذ الجليل والمرشد العظيم، وتغمده الله وأخاه الوالد المرحوم برحمته، وقابلهما برضوانه، وجعلهما في فسيح جناته. أذكره - رحمه الله - حين كان يمدني وأمثالي من طلبة العلم المنقطعين في أثناء الحرب العمومية بشيء من ماله الخاص، وكان - رحمه الله - يمثل بعمله الصالح هذا ما قيل في جده الأكبر صلى الله عليه وسلم: (إنك لتحمل الكل وتكسب المعدوم) وأذكره رضى الله عنه حين أنقذني من السجن بكفالته الشخصية - ونعمت - يوم اعتقلني الإنكليز في أوائل الحرب العمومية اعتقالاً سياسيًّا، ولولاه رضي الله عنه لامتد اعتقالي إلى أواخر الحرب كما وقع لكثيرين أمثالي، وكذلك كان يمثل بعمله الصالح هذا ما قيل في جده الأعظم صلى الله عليه وسلم (وتعين على نوائب الدهر) وكان - رحمه الله - يعمل حسبة لله لا عن إيعاز من أحد ولا عن مسألة وتعرض، فواحسرتاه على هذا البر المجسم الذي فقدناه وواحسرتاه، وكان - رحمه الله - ذا الجناحين يعلم علوم الدين ويفقه في أمور السياسة، وما أعظم فقر العالم الإسلامي إلى مثله وما أشد الخطر على الثغر الذي كان - رحمه الله - مرابطًا عليه يدافع عن بيضة الإسلام بعد فقدانه. * * * هذا ما كتبه عالم صوفي جليل، وهو يكشف لنا عن ناحية كانت مخفية من نواحي عظمة فقيدنا، وما إنشاء دار الدعوة والإرشاد إلا غرة في جبينه، رحمه الله؛ فقد جمعت طائفة من طلاب العلم من بلدان الشرق أحدثوا أثرًا محمودًا في النهضة الإسلامية العربية. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الحزين ... ... ... ... ... ... ... ... ... محيي الدين رضا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة

قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي

الكاتب: عبد الله عفيفي

_ قصيدة الأستاذ عبد الله عفيفي مكانك لا يلج بك العثار ... تراخى الليل وانطفأ (المنار) وغابت في مغاربها الدراري ... وحجب طلعةَ القمر السرار أردد في ديار الحي صوتي ... وقد أعيت فلم تجب الديار أطاف بأهلها الساقي فمالوا ... وأذَّن فيهم الحادي فساروا وفرَّق بينهم صدع الليالي ... وليس لصدعة الزمن انجبار أخِلاي الذين سروا تباعًا ... أما لليل بعدكم نهار برغمي أن يهز الشوق جسمي ... وقد عز المزار فلا مزار فراقد عالم كانت مناه ... أحالت نورها البيد القفار نعمر ما نعمر ثم نطوي ... وأهون ملبس ثوب معار ونسلك للغنيمة كل صوب ... ونخرج لا شعار ولا دثار رويدك يا زمان وما رويد ... تهاوى الدوح وانتهت الثمار ثوت بالكوكب الهادي العوادي ... وطال بكاتب (الوحي) السفار فوالهفاه هل بين المنايا ... وبين حماة هذا الدين ثار؟ * * * رشيد! وكنت إذ تدعي يلبي ... يراع فيضه نور ونار حسام من سيوف الحق تلقي ... إليه قيادها البيض القصار من الفردوس يسطع من شباه ... سنًا ينهل أو نقع يثار كريم لا يجور ولا يماري ... رشيد لا يحور ولا يحار تجرد للجهاد فلم ترعه ... كتائب للضلالة تستثار تلقاها بعزم أحوذي ... فلا وهن ولا قلب مطار فصال موفقًا ومضى حميدًا ... ولم يلحق به دنس وعار * * * رشيد تفجع الإسلام حزنًا ... وناحت يعرب وبكت نزار قوى قد كنتَ مِن أمضى شباها ... وكان لها بمغناك ازدهار إذا جئت (الإمام) فقل سلام ... من القوم الذين عليك ثاروا همو عرفوك بعد هوى مضل ... وهم بعد الثلاثين استناروا ومن تثبت شريعته تساوى ... لدعوته التلبث والبوار وأفضل مصلح رجل حلاه ... بلاء واصطبار وانتظار وما يخزى المجاهد أن يجازى ... بسوء إنما العار الفرار سلام يا محمد من وفي ... له من ذكرك النخب المدار

تعزية الجمعية السورية العربية

الكاتب: بسان رفائيل

_ تعزية الجمعية السورية العربية بسان رفائيل ولاية مندوسة الأرخنتين لقد شق على هذه الجمعية خبر وفاة العالم العلاَّمة الشيخ محمد رشيد رضا، فكان لهذا الخبر المشئوم أشد تأثير في نفوس كافة مناحيها؛ لما كان للفقيد من المنزلة السامية في عالم الثقافة والأدب العربي. إن هذه الخسارة أحدثت فراغًا قل أن يسد؛ نظرًا لعلو المقام الذي كان يتسنمه الفقيد بين أبناء أمته. بناء عليه فإن جمعيتنا هذه تقدم تعزيتها الحارة إلى كافة أبناء العرب في جميع الأقطار، وبقلوب ملؤها الأسى نشاطر عائلة الفقيد بهذا المصاب الفادح، سائلينه - تعالى - أن يعوض على الأمة العربية ما فقدت، ويسكن الراحل الكريم فسيح جنانه. ... ... ... ... ... ... ... رئيس الجمعية السورية العربية ... ... ... ... ... ... ... ... ... سان رفائيل ... ... ... ... ... ... ... (الأرجنتين)

مصاب المسلمين في أعظم علمائهم

الكاتب: محمد علي إبراهيم لقمان

_ مصاب المسلمين في أعظم علمائهم وأعقل حكمائهم أمات السيد رشيد؟ ! أقضى نحبه وتولى؟ ! أتزلزل ذلك الطود الراسخ؟ ! أطوى ذلك العَلم الشامخ؟ ! أيموت العلم وتتضاءل الحكمة؟ ! أتدري أيها الناعي من نعيت؟ أتعلم أنك تنعي حجة الإسلام وعلامة الزمان وفخر الأمة المحمدية بين الأنام، يا لهول المصاب، ويا لفداحة الخطب، فقد جار الزمان واستبد، وعبثت الأيام بهذه الأمة التي أناخت عليها الويلات بكلاكلها، أفي كل يوم تُمنى برُزْء جسيم وبموت رجل عظيم؟ ! أفي كل يوم نصاب في الصميم؟ ! أيها الدهر الخؤون، لقد جرت في حكمك اليوم واشتدت قسوتك، أطفأت سراجًا وهاجًا كان يهتدي به المسلمون في ظلمات هذه الحياة، ويسيرون على ضوئه في دياجي الليالي الحالكات، أتعمد إلى ذلك النور فتخمد أواره وتشاهد هذا الحال فتهتك أستاره؟ ‍‍! تولَّ أيها الموت، كيف تجاسرت على اختطاف تلك الروح الكبيرة والاقتراب من ذلك الجسم المتأجج بحب الإسلام؟ ! ألم يخيفك ذلك الاشتعال؟ ! ألم تقف ولهانًا حائرًا أمام تلك النفس التي تسيل جزعًا على تقطع المسلمين أوصالاً، فتنفث في كل طرفة عين من الحكم البالغة ما لو وعاه المسلمون لاستعادوا مجدهم الداثر وحظهم العاثر؟ ! ألم تستهوك تلك الحكم النيرات؟ ! ألم تتريث لتأخذ درسًا في الرحمة والإخلاص؟ ! ألم ترهبك تلك النفس التي كانت تغلي مراجلها في ذلك الصدر الفسيح الذي لم يتسع لغير الدين الصحيح فوعى أصوله وضبط فروعه؟ ! ألم تفزعك تلك الحشرجة وكلها نيران ألم وصدى أوصاب على تقهقر المسلمين وتأخرهم؟ ! بالله كيف استطعت أن تحمل تلك الروح وقد ناء بحملها العالم الإسلامي بأجمعه؟ ! تالله إني لم أكن يومًا لأشعر بفراغ في جانب المسلمين لا أرى من يسده، كما أشعر في هذه الساعة، وكل من يعرف إلى أي درك وصل المسلم إليه في الانحطاط الديني والأخلاقي والأدبي والسياسي، وكيف أضاع حيثيته ومركزه - يدرك أن السبب الجوهري في هذا التأخر المشين هو جهل المسلم بحقيقة دينه القويم , ويفهم أن العالم الإسلامي لم ينجب عالمًا دينيًّا منذ أربعين سنة يصل إلى درجة حجة الإسلام السيد محمد رشيد رضا، ولذا فلا بدع أن تتقرح الجفون حزنًا، وتسيل الدموع أودية على نبراس الفضائل، وسراج المعرفة ومنار السنة ونصير الحقيقة والصادع بالحق في وجه الباطل، وستثبت الأجيال القادمة من هو السيد رشيد رضا. لا أدري من أين أبدأ في سرد أعماله الخالدة، ولا ماذا أقول! وإني لفقير من المعاني وعاجز عن التعبير أن يوفى الفقيد العظيم حقه، غير أن الواجب يقضي على أن أقول كلمتي التي إن دلت على شيء فلا تدل سوى على تقديري لخسارة العالم الإسلامي بموت هذا العلامة القدير والحبر الجليل. ولا أستطيع أن أحدد أعظم عمل قام به الراحل الكريم وكل أعماله عظيمة، فالمنار مجلة العلم والدين والحكمة والأخلاق والإرشاد والسياسة والتاريخ والإصلاح والدفاع عن حقوق المسلمين المهضومة والأدب، مجلة كافحت تيارات الزمان واستمرت تفسر من القرآن ما أشكل على المسلمين من آياته، وتحمل من حِكمه وبيناته، وتنشر إعجازه وغريبه، وتقرر أحكامه التي وضعها الله لعباده، وتأتي بفصول من أحاديث القرون الغابرة للذكرى والاعتبار، كم استورى الناس زنادها فأورت، وطلبت الارتشاف من معينها فأروت، أفادت جميع المسلمين لا فرق بين العرب والهنود والإيرانيين والأتراك والجاويين والإفريقيين والإفرنج والصينيين، عرَّفتهم أصول دينهم، وأفهمتهم واجباتهم، وأنارت طرقهم، ومهَّدت لهم السبل للسير في نور الهداية، وذكَّرتهم بعظمة رجالهم، وترجمت حياة الكثيرين منهم فخدمت العالم الإسلامي من أول يوم صدورها إلى اليوم الذي أغمض الموت فيه عيني صاحبها، فمن لنا بمن يستمر في إصدارها. أليس الخطب - بربكم - جسيمًا؟ ! من سيدافع عن المسلمين إذا ما وصمه أعداؤه بالتعصب الذميم، ونسبوا إليه السخافات المرذولة والخرافات المشئومة؟ من سيحيي لنا ذكر عظماء المسلمين، ويحل مشاكلنا الدينية من غير أن يعتصم بمذهب دون مذهب ويتقيد برأي دون رأي؟ من هو المفتي اليوم وقد تولى رشيد وانقضت أيامه، وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر؟ لا أدري أأبكي موت رشيد أم أندب إيصاد أبواب المنار؟ فقد مات بموت السيد رشيد علمان، ورشيد عالم يتدفق علمًا كالسيل الجارف في اندفاعه من أعالي الجبال، وقد وعى كتاب الله وفهم أسراره، ودرس درسًا تحليليًّا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف صحيحها ونبذ غثها، فشرع يبحث عن أمراض المسلمين حتى شخصها وأخذ يصف لهم الأدوية، فمنهم من واظب على الدواء فشفاه الله، ومنهم من أهمل فأخزاه، كم ناضل وجاهد، كم جالد وكابد، وأخيرًا مات فقيرًا، لم يأخذ من هذه الدنيا الفانية سوى الذكر الخالد والعمل الصالح؛ ولكنه خلَّف للمسلمين تركة كبيرة وتراثًا ثمينًا ضخمًا؛ خلف لهم أعداد المنار لجميع ما مضى من سني حياتها، وخلَّف لهم تفسير القرآن، ذلك التفسير الذي اتبع الفقيد في أبحاثه القيمة فيه أساليب العلم الصحيح، فأثبت أن القرآن صالح لكل زمان ومكان، وما تفسير " عبده " إلا نتيجة البحث والتنقيب في معاجم العلوم وكتب المعارف واستنتاجات العلماء الدينيين في جميع العصور الماضية مقرونة بالآراء القويمة والأفكار السليمة، حذف منه الإسرائيليات، وأثبت المحمديات، وأحيا به سنة سيد المرسلين، فاستوجب من الله الرضوان وفسيح الجنان. يا ليت شعري، أي تلميذ في هذا الوجود أخلص لأستاذه كما أخلص السيد رشيد للشيخ محمد عبده؟ فلم تكن تخلو رسالة من رسالاته من نسبة الفضل فيها إلى الأستاذ الإمام حتى توج كل ذلك في تاريخ حياته في كتابه الضخم الذي سيطغى على الأيام ويجتازها إلى القرون القادمة شاهدًا إلى الأبد على مروءته النادرة واعترافه بالفضل والجميل، وأين التراجم التي عهدناها من ترجمة السيد رشيد لحياة أستاذه الإمام، فليست هذه الترجمة بتاريخ حياة فرد من أفراد الأمة؛ ولكنها خلاصة لتاريخ أمة تمثلت في شخص الشيخ محمد عبده، خاض فيها فقيدنا البحث وطرق المواضيع العلمية والأخلاقية، والفلسفية والدينية والتاريخية، وأتى في المقدمة بكلمة عن موقظ الشرق أستاذ أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني، وكأنه وضع للناس حديث النهضة الحديثة في الشروق، ورجالها وأسبابها وصورهم في شخص الرجل الذي لا يفتر عن ذكره، ولا يمل التفكير في آرائه الصائبة واستنتاجاته البقية ببقاء الزمان. ولقد كنت أقرأ هذا التاريخ يومًا في بربرة الصومال وعندي صديق يستمع، فوقفت فجأة وانحدرت دموع عيني كالوابل الهطل، بعد لحظة سألني الصديق عن سبب بكائي، فأجبته: (إنما بكيت كيف تصل يد الموت إلى عالم كهذا لا يستطيع الزمان أن يبقى حتى تنفذ مادته؟) اقرأ بربك كتابه (نداء الجنس اللطيف) فتعرف عظمة الفقيد؛ إذ أثبت ما للمرأة في الإسلام من مركز ومقام، وأفهم العالم أن الإسلام لا يهضم حقوقها بل جعل لها من حماية الرجل وحماية الشرع ما تستطيع أن تعيش معهما سعيدة موفورة الكرامة، يالك من كاتب قوي الحجة، سريع الخاطر، حاضر الذهن، لا تعيقك عن إثبات الحق البراهين المعقدة، تدلي بالآراء القوية والحقائق العقلية والنقلية حتى ترجع النفوس الظامئة إلى الحق وقد ارتوت بما أفهمتها من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والاستدلالات المنطقية التي لا تقبل الجدل ولا النقض، ولكن واهًا لك يا رشيد واهًا؛ فقد ذهبت وأخليت الديار، وأصبحت مع الأخيار في دار الأبرار، وأين نحن منك وقد بعد الدار وشط المزار، واأسفاه على ذلك الرجل العظيم، ذلك العلم الخفاق، فقد خَفَتَ ذلك الصوت الداوي الذي طالما رنَّ رنينه في الآفاق، فاستفز الأرواح بعد خمولها، وبث فيها نشاطًا وأوجد فيها حياة، ويشهد أبناء النيل أني في قولي لصادق، وتشهد الجزيرة العربية وتشهد جاوا والهند، ويشهد العالم الإسلامي بفضل عالم قلمه السيال طالما صر فوق الطروس، فحفز النفوس، وزلزل العروش وهذَّب المبادئ، وكوَّن الأخلاق، وطيب الأعمال وأرشد إلى حسن المآل. ولو لم يؤلف السيد رشيد إلا كتابه (الوحي المحمدي) لكفاه ذلك فخرًا واجبًا له إلى الأبد ذكرًا، ولكن مؤلفاته أكثر من أن تحصى وهي أكثر من كثير أو تذكر في كلمة تأبين كهذه أكثر كلماتها زفرات، وجل جملها أنات من قلب حزين يندب حظ المسلمين، ويعرف أنه كما اختفت جريدة المؤيد في مصر ستختفي المنار، وكما لم يقم أحد بديلاً عن عبد الكريم الريفي ولا عن محمد عبد الله حسن الصومالي، ولا عن المهدي، ولا عن عرابي باشا، ولا عن جمال الدين الأفغاني، ولا عن مصطفى كامل وسعد زغلول والشيخ محمد عبده، فكذا لن يقوم أحد مقام السيد رشيد رضا. ولست أقول: إن العالم الإسلامي لا يكتف رجالاً أعلامًا ونباريس أولي فهم وإدراك، ولكني أقول: إن النفوس متضائلة والأحلام حقيرة، وأنه لا يوجد رجل يضحي بنفسه في سبيل مبدئه الديني ويعرِّض صدره لسهام الانتقادات المُرة الكَرَّة تلو الكَرَّة كما فعل السيد رشيد رضا، ونحن في عدن كنا نستنير بمناره ونسترشد بعلمه، وطالما كتب - رحمه الله - المقالات وحبَّر الفتاوى لإرشادنا، ولا يسعنا إلا أن نستمطر الرحمات من لدن العلي الأعلى على روحه الطاهرة - آمين. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي إبراهيم لقمان ... ... ... ... ... ... ... رئيس نادي الإصلاح العربي بعدن

تعزية جمعية الرابطة العلوية

الكاتب: عبد الرحمن شهبندر

_ تعزية جمعية الرابطة العلوية في بتافيا بجاوة لقد انهلعت القلوب جزعًا وامتلأت الجوانح أسًى وحزنًا لمَّا أن بلغنا نعي صاحب السيادة العلاَّمة الكبير المرحوم السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار، فقد العالم الإسلامي فيه علاَّمته الكبير وحبره النحرير وحاميًا عظيمًا عن ذماره، وذائدًا عن حياض دينه وفناره، ومفخرة علمية كبرى بل تاج فخاره - رحمه الله رحمة الأبرار وأخلفه علينا بخير خلف - وعليه فلا عجب إذا اهتزت البلاد الإسلامية أسفًا وروعًا، وبكت الأفئدة والعيون جمعًا. ونقدم رقيق تعازينا في الفقيد لشعوب الإسلام والعرب عامةً، ونخصص عائلة الفقيد الشريفة المصونة بأرقها، راجين من المولى جل وعلا أن يمطر على ضريح الفقيد العظيم شآبيب رحمته ورضوانه، ويسكنه فسيح جناته، ويخلفه على العالم الإسلامي خلفًا صالحًا، ويلهم الجميع - لا سيما ذويه - الصبر والسلوان. ... ... ... ... ... ... عن الهيئة المركزية للرابطة العلوية ... ... ... ... ... ... ... ... الكاتب الأول ... ... ... ... ... ... السيد أحمد بن عبد الله السقاف

كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر في حفلة التأبين

الكاتب: عبد الرحمن شهبندر

_ كلمة الدكتور عبد الرحمن شهبندر في حفلة التأبين ابتدأت النهضة في سورية دينية كما ابتدأت في معظم الأقطار الأخرى؛ لسبب بديهي، وهو اعتقاد الناس أن بلاءهم من أنفسهم، فهم يخطئون ولكن دينهم الذي يقدسونه لا يخطئ، وهم ينحطون ولكن العقائد التي توارثوها عن أئمتهم لا تنحط، فلابد لهم - والحالة هذه - من أن يرجعوا إلى دينهم إذا أرادوا أن يعودوا سيرتهم الأولى من الرقي والنجاح، ففيه الكنوز المخبوءة التي تحقق لهم رغباتهم. وكانت الحلقة التي سارت أبعد شوط في هذا المضمار في سورية مؤلفة من الأساتذة المرحومين: الشيخ طاهر الجزائري، والسيد سليم البخاري، والشيخ عبد الرزاق البيطار والشيخ جمال الدين القاسمي والسيد علي مسلم وغيرهم، وكان من حظي ومن حظ الأستاذ محمد كرد علي أن نلتحق بهذه الحلقة المباركة، فكان يُطلق علينا للتشهير بنا أسماء مختلفة آخرها أننا (وهابية) وهي كلمة لم تعن في نظرنا يومئذ إلا ما تعنيه اليوم في كثير من الأوساط في أنها طريقة الرجوع إلى السلف والاعتماد على كتب المؤلفين أمثال ابن تيميه وابن القيم ومن حذا حذوهما من الأئمة. معرفتي بالسيد رشيد سماعًا: وفي تلك الغضون طلعت علينا من القاهرة مجلة (المنار) فعرفنا أن لنا في مصر إخوانًا ينطق بلسانهم الراحل الكريم، فكنا ننتظر وصولها بلهفة وشوق؛ لنطلع منها على أخبار الأستاذ الإمام محمد عبده وإخوانه السلفيين المجددين. ومع كل المقاومات التي لاقيناها في الدولة العثمانية ولاقاها إخواننا في مصر فلابد لنا من الاعتراف بأنها لم تكن شيئا مذكورًا بجانب ما لقيه رجال الإصلاح الديني في أوروبا، ولعل من أسباب ذلك أننا ليس عندنا (إكيروس) منظم له جيوشه وقواده ومصالحه الخاصة. أما معرفتي بالسيد رشيد عيانًا: فهي عقب الدستور العثماني في سنة 1908؛ فقد جاء سورية زائرًا بعد غيبة طويلة عنها، ودعي إلى إلقاء درس في الجامع الأموي فتآمر عليه الحاقدون على التجديد الديني والحرية والدستور، وتألبوا عليه بصورة كادت تنتهي بسفك الدماء، فما لفقوه واختلقوه عليه وزوروه أنهم نسبوا إليه تحليل بعض المحرمات وتحريم بعض المحللات، ولولا تدخل كبار الأحرار لكانت ثورة رجعية حمراء، وهذا درس بليغ يجب ألا ينساه من وضع الإصلاح الديني الاجتماعي نصب عينيه مثلكم أيها السادة؛ لأنه يدل دلالة واضحة كيف أن أعداء الإصلاح لا يتورعون عن الاختلاق والتزوير في سبيل مآربهم، وكيف أنهم يتذرعون بالدين للوصول إلى شهواتهم، وعلى كل حال فليس من الضرورة في شيء أن يكون أكثر الناس تشدقًا باسم الدين بأفواههم هم أقرب الناس إلى الله بقلوبهم. وعالج السيد رشيد رضا الشؤون السياسية في حياته، فكان في إبان الحكم العثماني من أنصار اللامركزية، وقارع الاستعمار مقارعة يشهد له بها كل من عرفه معرفة صادقة، وإن الخدمات الجلَّى التي قدمها في الموضوعات الدينية متعددة وجوهرية؛ فمنها سعيه المتواصل لإظهار الصلة القائمة بين المعقول والمنقول وأنهما حليفان لا يجوز أن يفترقا، ومنها نشر الأخبار الصحيحة عن أخلاق السلف الصالح التي كانت سبب عزته ومناعته، ونقص هذه الأخلاق في الخلف الحاضر، ومنها اهتمامه بالأخلاق الإيجابية - وهي الأمر بالمعروف - كما كان يهتم بالأخلاق السلبية؛ وهي النهي عن المنكر. ومتى عرفنا أن هناك تفاعلاً شديدًا بين العقائد الدينية والعقائد السياسية واتصالاً وثيقًا، أدركنا شأن الخدمات التي أداها السيد رشيد في النهضة العربية الوطنية، وستبقى مجلة المنار التي أنشأها بجده وغذاها بعقله وعقل أساتذته وإخوانه سجل النهضة الدينية الحديثة، وإذا كان الموت درجات: موت يفرح له الناس وموت لا يتأثر به أحد من الناس، فموت السيد رشيد رضا هو موت تهلع له قلوب الناس.

تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا

الكاتب: عبد الحميد كرامي

_ تأبين الإمام السيد محمد رشيد رضا بقلم سماحة السيد عبد الحميد كرامي زعيم طرابلس الشام بسم الله الرحمن الرحيم إذا كانت الأعمال مرآة تنعكس فيها صورة أصحابها. وإذا كانت الآثار تنطق بقيمة أربابها. وإذا كانت الصفات الحميدة والمبادئ السامية والعقيدة الثابتة والإيمان الصحيح تدلك على الرجل الموهوب صاحب الشخصية البارزة والعظمة الحقيقية - فإن فقيد الأمة العربية المرحوم الشيخ رشيد هو ذلك الرجل العظيم والموهوب الحكيم، وإني أستشهد من الوقائع بأمرين: أما الأول: فتلك الأبيات التي تركت دويًّا في جميع الأوساط، وقد نفثها صدر المجدد الكبير والفيلسوف الشهير الشيخ محمد عبده - رحمه الله - ومنها هذا البيت: فبارك على الإسلام وامنحه مرشدًا ... (رشيدًا) يضيء النهج والليل قائم فقالت جماعات إن الإمام يعني بالرشيد فقيد اليوم، وقالت جماعات إن الرشيد تعود الاشتقاق العقلي فهي فعل بمعنى الفاعل، وكيف ما كان الحال فإن الفقيد لو لم يكن ذلك الرجل لما تبادر إلى أذهان الجماعات أنه الرشيد المرجو! وأما الأمر الثاني: فهو آثار الفقيد وتآليفه وإظهاره التعاليم الإسلامية الحقة بمظهرها الصحيح ووقوفه المواقف المشرفة في سبيل العروبة والإسلام، فإذا ما كتب ففي عقيدة، وإذا جادل فليقنع أو ليقنع، فهو إذن رجل اجتمعت فيه مزايا الرجل وحلاَّها بغزارة العلم ونبالة الخلق وسمو المبدأ وشدة الإخلاص وأصالة الرأي حتى كاد يتهمه البعض بالشدة، وما ذلك إلا لعدم محاباته لأحد في ما يعتقد أنه حق. وقد امتاز الإمام الرشيد في ثقافته وعلمه، وتفوق بالوفاء والإخلاص، وكلكم يعرف أكثر مني كيف كان وفيًّا بارًّا أمينًا لأستاذه الشيخ الإمام محمد عبده على الأخص، فعنده يتلاقى العقل بالأدب ويجتمع المنطق وسداد الرأي، ويتفق العلم مع الدين، ويكفيه فخرًا أنه وضع حدًّا لما علق من الريب في أذهان الناشئين، ولكل ما كان يلفقه الفرنجة خاصة من أعداء الدين، وأن السيد - رحمه الله - قد عرف وهو غريب الدار في مصر أن يجعل الأمة المصرية الكريمة تجمع على حبه واحترامه وتقديره، وها هي حفلتكم اليوم ناطقة بذلك الاحترام، معلنة هذا التقدير الذي أذكره بالخير والفخر لمصر قلب العروبة النابض، ومصر المضيافة الآخذة بمن يهبط بها من رجال الأدب ورجال السياسة إلى الذروة العليا فتغذيهم وتقويهم وتلهمهم بما هو كامن فيها من سحر وقوة وجمال. وإذا كان أبناء العروبة والإسلام مدينين للفقيد العظيم بما ألف وكتب ونشر، فإن السيد - رحمه الله - مدين بعظمته لمصر الخالدة العاملة على تشجيع ذوي الرغبة في خدمة أمتهم وبلادهم بما قدمت له وبما نفحته به، ومدين أيضًا للعالم الإسلامي بما أحاطه به من رعاية وتقدير وبحسن استفادته من علمه وفضله. إن العروبة والإسلام المفجوعين بفيقدهما الخالد وبولدهم الأمين الأبر؛ ولكن تعزيتنا أيها السادة هي في بقاء رجالات مصر وكواكبها المنثورة في سماء العبقرية، فذلك يخفف عنا أعباء المصيبة بفقيدنا الذي نسأل الله له الرحمة الواسعة، والجنة اليانعة، كما نرجو للبلاد العربية جمعاء وحدتها الشاملة ولمصر استقلالها الكامل لتعيد مجدها الغابر وعزها الدابر، وفي ذلك أكبر عزاء وأفضل رجاء. والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحميد كرامي ... ... ... ... ... ... ... ... ... طرابلس الشام

عواطف ابن زيدان نحو فقيد الفضل والعرفان

الكاتب: عبد الرحمن بن زيدان

_ عواطف ابن زيدان نحو فقيد الفضل والعرفان لقد فقد الهدى أسمى فقيد ... بعصر ليس فيه سوى (رشيد) فماد لفقده الإسلام حزنًا ... وفقد (مناره) الزاهي المشيد وود (فؤاده) لو كان يُفدى ... فقيد بالطريف وبالتليد ولو يعطى سواد العين فيه ... ليرجع هان في حق الفقيد فقيد ما له خلف يضاهي ... جلالة علمه الهامي المديد إمام كان منه الشرع يُجلى ... ودين الله يسمو في صعود إمام كان للإسلام حصنًا ... حصينًا صار رمزًا للخلود إمام فاز بالقدح المعلَّى ... وحصل السبق والشأو البعيد إمام لا يجارى في المعالي ... وما له في المعارف من نديد لقد أحيا الأنام حياة علم ... وأرشدهم إلى القصد السعيد (بنبل) علومه الفياض روَّى ... عطاشًا في الصدور وفي الورود فأصبحت المذاهب منه ثكلى ... تقول لعينها بالدمع جودي وتعلن أنه قد كان فردًا ... يعز نظيره في ذا الوجود وأن له على الفقهاء طرًّا ... أيادي جددت خير العهود وأن له على الأفكار فضلاً ... يرد به أخا الفكر الشرود وأن له لدى العظماء ذكرًا ... يرجع مثل ترجيع النشيد إذا ذكرت ذوو الإصلاح يومًا ... فإن فقيدنا بيت القصيد رسا بثباته فوق الرواسي ... وفي وثباته حتف العنيد ولم يعبأ بما قد كان يلقى ... من الأزمات والدهر الشديد أيُجهل فضله في الناس يومًا ... وفضله ما عليه من مزيد وهل بعد الرشيد يطيب عيش ... ويغتر المميز بالوجود فآه ثم آه ثم آه ... على طود تغيَّب في اللحود ولكن لا مرد لحكم مولى ... مضى طبق المشيئة في العبيد وهل يجدي سوى التسليم عبدًا ... يفر لدى المصاب إلى السجود ويرجع عند ذاك إلى التأسي ... بمثل فقيدنا الركن العميد عليه رضا المهيمن ما تجلت ... على مثواه أنوار الشهود وفي دار النعيم يقر عينًا ... بما يرجوه من غانٍ مجيد ورحمة الله ربنا تُلقى عليه ... أتم مطارف الذكر الحميد ابن زيدان ... ... ... قاله وأمر بكتابته خديم العلم والتاريخ ... ... ... ... عبد الر حمن بن زيدان ... ... ... ... ... نقيب الأسرة المالكة في المغرب الأقصى ... ... ... ... عن مكساس في 25 رمضان عام 1354

وصف المقطم لحفلة التأبين

الكاتب: محرر جريدة المقطم

_ وصف المقطم لحفلة التأبين أقيمت أصيل أمس في دار جمعية الشبان المسلمين حفلة تأبين المرحوم السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار برئاسة فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر. وكان في مقدمة الذين شهدوا هذه الحفلة أصحاب الفضيلة الشيخ عبد المجيد اللبان والشيخ إبراهيم حمروش والشيخ علي سرور الزنكلوني والشيخ عبد الوهاب النجار وغيرهم من شيوخ الأزهر ورجال الدين. وحضر الحفلة أيضًا حضرات الشيخ فوزان السابق معتمد الحكومة السعودية وعبد القادر بك الكيلاني القائم بأعمال المفوضية العراقية وحمد الباسل باشا والدكتور نمر والسيد الثعالبي والوجيه ميشيل بك لطف الله وأنطون بك الجميل وخليل بك ثابت والدكتور خليل مشاقة والأساتذة خير الدين الزركلي وأسعد داغر وأمين سعيد وتوفيق بك هولو حيدر وغيرهم من أعيان السوريين واللبنانيين. وجلس على المنصة فضيلة الأستاذ الأكبر رئيس الحفلة ومهدي بك رفيع مشكي سكرتيرها العام، وبقية الخطباء مع آل الفقيد.

كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس

الكاتب: محمد أمين الحسيني

_ كلمة رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس بسم الله الرحمن الرحيم حضرة الوطني المفضال الأستاذ محمد علي الطاهر المحترم القاهرة - مصر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فقد تلقيت كتابكم الكريم المؤرخ في 24 رجب 1354 الموافق 22 أكتوبر سنة 1935، والمتضمن قيام فريق من إخواننا الأكارم بتأليف لجنة لتأبين فقيد الإسلام الكبير منشئ المنار المرحوم السيد محمد رشيد رضا. إني أشارككم في القيام بهذا الواجب اعترافًا بفضل الفقيد العظيم ومآثره الجليلة وجهاده المتواصل في سبيل الإسلام والعروبة. وأشكر لحضرتكم اهتمامكم في إقامة هذه الحفلة التأبينية الكبرى لإيفاء الفقيد الجليل حقه من الرثاء والتأبين، وتخليد ذكراه الحافلة بشتى المآثر والصفات. وأسأله - تعالى - أن يعوض الإسلام والمسلمين خير العوض، ويجزي الراحل الكريم على ما قدم وبذل خير الجزاء. وإنا لله وإنا إليه راجعون. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... رئيس المجلس الإسلامي الأعلى ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أمين الحسيني ... ... ... ... ... ... ... ... 8 شعبان سنة 1354

كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة

الكاتب: محمد لطفي جمعة

_ السيد رشيد رضا كلمة الأستاذ محمد لطفي جمعة كل من قرأ الجزء الأول من تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، تأليف المرحوم السيد محمد رشيد رضا ووصل إلى صفحة 791 لابد أن يكون اطلع على النبذة الآتية تحت عنوان (إحالة الأستاذ محمد عبده بعض المستفتين على مريده المؤلف) قال - رحمه الله -: (وأذكر من الأحياء المعروفين محمد لطفي جمعة كان كتب إلى الأستاذ الإمام وهو تلميذ في المدرسة الثانوية مكتوبات، وأنه حضر ولقي الأستاذ وأراد البحث معه في المسائل التي كانت تشغل باله وهو طالب ثانوي، وقد وجدت كتابين للطفي جمعة رأيت أن أنشرهما لما فيهما من الدلالة على بحثه في زمن التعليم في مسائل فلسفية وعلاقتها بالدين، ومعرفته بمكانة الأستاذ وفضله وإلهامه والرجوع إليه فيما يهم، ووصفه التعليم في المدارس الثانوية، وقد قابلته ولا أذكر ما دار بيننا بالتفصيل) وبرجوعي إلى الكتابين المذكورين رأيت تاريخهما 24 فبراير سنة 1904، وإذن تكون علاقتي بالمفتى الإمام وتلميذه الرشيد ترجع إلى 32 سنة، وفي الخطابين تصوير لخواطري في عهد الدراسة الثانوية، وفيهما بحث في الله والمادة والكون وخواطر في النفس البشرية وخلق آدم وحواء.. إلخ. وإذن وجب علي بوصفي من أسبق الأحياء إلى معرفته أن أفيه حقه من التأبين، وقد وقع حظي على موضوع علاقة المرحوم السيد رشيد بالمستشرقين وهو بحث غريب طريف؛ لأن السيد لم تكن له علاقة حقيقية بأحد من علماء المشرقيات إلا فيما يتعلق ببحثه أحيانًا نادرة في آرائهم، وكان يقر بعضًا منهم على النتائج الباهرة التي وصلوا إليها ولا سيما جولد زيهر في كتابته على السنة المحمدية، وأقول إن دراستي لمؤلفات معظم المستشرقين الذين كتبوا عن الإسلام والتقائي ببعضهم في أوربا ومصر جعلتني أكوِّن عقيدة ثابتة في أن الذين بحثوا في الإسلام منهم أثناء القرون الوسطى أمثال أديسون وباكون كانت تتأجج في صدورهم نيران الحقد أو الكراهية، واستمرت هذه النار في صدور بعض الذين بحثوا منهم في جانب كبير من أعوام العصر الحاضر وهم أهل تعصب وحقد على الإسلام، ثم استجد عهد ادعى فيه بعض المستشرقين التزام الحياد، وفيما كتبوه وقالوا إنهم خالو الغرض وبريئون من سوء النية ولم يعودوا يوجهون إلى الإسلام ونبيه شيئًا من الذي أثبته أسلافهم في كتبهم الخاطئة. وينبغي أن أقول إن المستشرقين الحسني النية أدوا أعظم خدمة للإسلام وألقوا بمؤلفاتهم وجهودهم أضواء جديدة على أصول الدين الإسلامي الذي قلب العالم رأسًا على عقب، وفي مقدمة هؤلاء نولدكه وسنوك هيرجرونيه وهما هولنديان ونيكولسون وإدوارد براون الإنجليزيان وجولد زيهر النمسوي وليون كايمي الإيطالي ورينان ودي سلمى الفرنسيان. أما الآخرون الذين لم يتوفر فيهم النية الحسنة ولا الغيرة الصادقة الواجبة على كل باحث علمي، فقد أتاح الله أقلامهم لنشر فضائل الإسلام على الرغم منهم وفي مقدمة هؤلاء مرغليوث الذي لطخ وجه العلم والتاريخ والأدب بكتابه في حياة النبي لما حشره فيه من الأكاذيب والباطل، ويسرني أن أذكر أن بعض المستشرقين أمثال هوبروسيرنجر وكايتاني قد سلكوا في النقد العلمي طرقًا تختلف جد الاختلاف عن طرق البحث عند علماء المسلمين فوصلوا إلى التسليم بصدق محمد وخلوص نيته، وإلى التأكيد بصحة استعداده للوحي فعمدوا إلى تفسير خفاياه ولكنهم عجزوا. أما المتأخرون من المستشرقين، فقد استخلصوا أصول العقيدة الإسلامية وبحثوا أطوار نشوئها وترقيها، وقالوا بأن بعض ما يعتقد المسلمون أنه منزل من الله لم يكن غير نتيجة تطور بطيء أو تفسير لمسائل غامضة لم تكن واضحة في فجر الإسلام، ونزعوا عن صورة النبي جميع ما أضيف إليها من الأساطير، والروايات التي بدلت حقيقتها أو شوهتها. ثم تناولوا بالنقد الدقيق أقوال النبي وأعماله وحركاته وسكناته، ووضعوا حدًّا فاصلاً بين ما أوحي إليه - وهو ثمرة الإلهام - وبين ما وصفوه بالمدارك التي نشأت في عقله على إثر اتصاله بالحياة اليومية، وبعد أن استن السنن واشترع القوانين ووضع القواعد لتسيير الدولة الضخمة التي أنشأها. فعلوا ذلك، وهم يظنون أنهم يفصلون العنصر الإلهي بمعناه الواسع عن العنصر الإنساني فقصروا العنصر الإلهي على أعمال لا تحتمل الشك ولا الجدل في نظرهم ورَدّ العنصر الإنساني إلى أعمال الدولة وفي أثناء حياة المرحوم الإستاذ الإمام كتب جبرييل هانوتو مقالاً في جريدة جورنال عن الإسلام فرد عليه المفتي ردًّا مفحمًا ألزمه الحجة وأرغمه على الاعتذار والتقلب في اعتذاره كالأفعى، ثم نقل الأستاذ فرح أنطون نبذًا من تاريخ ابن رشد من كتاب أرنست رينان ونسب فيها إلى الإسلام أنه ضيق الفطن حيال الفلسفة وأن غيره من الأديان أوسع صدرًا للحكمة، فانبرى الشيخ محمد عبده للرد على رينان بأدلة تاريخية، وبراهين محسوسة حتى أزال أثر ما نسب إلى رينان ومعظمه راجع إلى أخطاء في الترجمة وقع فيها الناقل بحكم العجلة وقلة الخبرة. ومن غرائب المصادفات أن السيد رشيد وفرح كانا من بلد واحد وصلا إلى مصر في يوم واحد. أما الموقعة الكبرى بين المرحوم السيد رشيد رضا المستشرقين فهي رده عليهم في درسهم للسيرة المحمدية وتفسير الوحي، وهو يسلم بأن علماء الإفرنج درسوا تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده على طريقتهم في النقد والتحليل، ودرسوا السيرة النبوية المحمدية وفلوها فليًا ونقشوها بالمناقيش وقرءوا القرآن بلغته وقرءوا ما ترجمه به أقوامهم، وكانوا على علم محيط بكتب العهدين القديم والجديد وتاريخ الأديان - ولا سيما الديانتين اليهودية والنصرانية - وبما كتبه المتعصبون للكنيسة من الافتراء على الإسلام والنبي والقرآن، فخرجوا من هذه الدروس كلها بالنتيجة الآتية: إن محمدًا كان سليم الفطرة، كامل العقل، كريم الخلق، صادق الحديث، عفيف النفس، قنوعًا بالقليل من الرزق، غير طموع بالمال ولا جنوح إلى الملك، ولم يعن بما كان يعنى به قومه من الفخر والمباراة في تحبير الخطب وقرض الشعر، وكان يمقت ما كانوا عليه من الشرك وخرافات الوثنية، ويحتقر ما يتنافسون فيه من الشهوات كالخمر والميسر وأكل المال بالباطل، وبهذا كله وبما ثبت بعد النبوة جزموا بأنه كان صادقًا فيما ادعاه بعد استكمال الأربعين من عمره من رؤية ملك الوحي وإقرائه القرآن وإنبائه بأنه رسول من الله لهداية قومه فسائر الناس. أما المستشرقون الماديون فرأيهم أن الوحي إلهام يفيض من نفس النبي الموحى إليه لا من الخارج، وليس فيه شيء جاء من عالم الغيب الذي وراء عالم المادة والطبيعة الذي يعرفه جميع الناس، فإن هذا شيء لم يثبت عندهم وجوده، وهذا التصوير الظاهر للوحي قد سرت شبهته في كثير من المسلمين المرتابين الذين يقلدون الماديين. وقد أخذ المرحوم السيد رشيد على عاتقه الرد على هؤلاء الماديين في الصفحة 788 من المجلد السادس من المنار سنة 1321، أي منذ أربع وثلاثين سنة، فردَّ على من شبهوا النبي محمدًا بالآنسة الريفية الجميلة جان دارك راعية الغنم بأنها لم تقم بدعوة إلى دين أو مذهب، وأنها كانت مصابة بنوبة عصبية قصيرة الزمن معروفة السبب وهو بغضها لأعداء وطنها الإنجليز وتعيينها قائدة لجيش ملكها وهجومها بعشرة آلاف جندي ضباطهم ملكيون على عسكر الإنجليز الذين كانوا يحاصرون أورليان فدفعتهم عنها حتى رفعوا الحصار في مدة أسبوع وذلك سنة 1429، ثم زالت خيالاتها الحماسية فهوجمت في السنة التالية 1430 فانكسرت وجرحت وأسرت وحوكمت وأحرقها رجال الكنيسة الذين قدسوها بعد ذلك بخمسمائة سنة بالتمام، فصارت سنة 1930 القديسة جان دارك. قال السيد جمال الدين الأفغاني لبعض مجادلي النصرانية: إنكم فصلتم قميصًا من رقاع العهد القديم وألبستموه للمسيح، عليه السلام. وقال رشيد رضا للمستشرقين الماديين: إنكم فصلتم قميصًا آخر مما فهمتم من تاريخ الإسلام لا من نصوصه وحاولتم خلعه على محمد. وألف السيد رشيد كتاب الوحي المحمدي ليرد على موتيه ودرمنجهم وأضرابهما فنفى أسطورة اجتماع النبي ببحيرا الراهب في مدينة بصرى بالشام الذي قيل إنه علَّم النبي. وأثبت بأن محمدًا لما خرج إلى الشام مع عمه كان عمره تسع سنين، وكل ما جاء فيها ضعيف الأسانيد إلا رواية الترمذي. وهذه ليس فيها اسم بحيرا وفيها غلط في المتن، وليس في شيء منها أن النبي سمع من بحيرا شيئًا من عقيدته أو دينه. وتناول مسألة ورقة بن نوفل أحد أقارب خديجة وحاول بعضهم إيهام القراء أن محمدًا أخذ عنه شيئًا من علم أهل الكتاب، والحقيقة أن ورقة كان عند بدء الوحي أعمى ولم ينشب أن مات، وتناول المرحوم هذه النقطة في تفسير آية: {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ} (الأعراف: 157) وإسلام سلمان الفارسي وغيره. ولكن نار العقيدة ونورها تشتعل وتضيء في صدر المرحوم عندما يرد على المستشرق الذي قال: إن محمدًا كان يجد في التحنث طمأنينة لنفسه فكان ينقطع كل رمضان طوال الشهر في غار حراء بجبل أبي قبيس. وهذه النجوم في ليالي الصيف في صحراء كثيرة البريق حتى ليحسب الإنسان أنه يسمع بصيص ضوئها وكأنه نغم نار موقدة. ومحمد في ريب من حكمة الناس ويريد أن يعرف الحق الخالص. قال جولد زيهر في كتاب (السنة المحمدية) المكتوب باللغة الألمانية والمترجم إلى معظم لغات أوروبا: ليس الإسلام سبب انحطاط الشعوب المتمسكة به، ولكن سبب انحطاطها ضعف عقولهم وأخلاقهم وخطأهم في فهم أحكام دينهم، فقد أخطأ المسلم في فهم معنى التوكل والقدر فوكَّل الأمور إلى الحوادث، وأخطأ علماؤهم في فهم ما جاء من أنهم خير أمة أخرجت للناس فظنوا الخير مقرونًا باسم الإسلام ولفظه لا بروحه ومعناه، وفي هذا مخالفة صريحة لأوامر الدين وأمثلة السنة المحمدية المفادة من أقوال النبي وأعماله. وكذلك أخطأ المسلم في فهم معنى الطاعة لأولي الأمر والانقياد لهم فسلم جميع أموره للحكام وتركهم يتصرفون في أموره، وظن أن الحكومة يمكنها القيام بجميع شؤونه بدون معاونته أو اشتراكه. وهذه العيوب وغيرها راجعة إلى طبائع الشعوب التي تدين بالإسلام وما ورثته من الأجيال الوثنية السابقة، وقد مرت بها اليهودية أو المسيحية وتركت بعض آثار فيها. وبالجملة فالأمة المنتسبة للإسلام وتكون منحطة أو مغلوبة ليست أمة مسلمة إلا لفظًا، وهي في الغالب وثنية تلبس ثوب الإسلام؛ لأن بحوثنا المستفيضة أثبتت لنا أن الإسلام يرفع شأن المنتسبين إليه ولا يمكن أن يخفضهم، بل تخفضهم أخلاقهم وعقولهم. كل مطلع على آداب الإفرنج يعلم أن علماء المشرقيات عنوا بغرس دوحة يانعة للعلوم العربية فلما أينعت استثمرها النابهون منهم أمثال: ديجوجيه، وجرِيمِه، ونولدكِه، وساسي، ورينان، وكايتاني، ونيكلسون وبراون وجلودزيهر ووينهاوزن وقد شادوا للعلوم الشرقية والآداب العربية مجدًا لا يدانيه في مجال التأليف إلا جلال مباحثهم، هؤلاء كلهم علماء انطوت مواهبهم العقلية على حذق النقاد ودقتهم، وقد أطاف كل منهم سجية تطيعه حول جميع الأمور من عال ودون حتى كشف لنفسه منها مبدأ. واتفق نولدكه، وليون كايتاني، ودى جوجيه، وويلهاوزن، وجولدزيهز ونيكلسون على صحة سير

كلمة المجاهدين السوريين في الصحراء بوادي السرحان

الكاتب: محمد عز الدين باشا الحلبي

_ كلمة المجاهدين السوريين في الصحراء بوادي السرحان أرسلها المجاهد الكبير سعادة محمد عز الدين باشا الحلبي من النبك حضرات أصحاب السعادة رئيس وأعضاء اللجنة الموقرة لتأبين الأستاذ الكبير المرحوم الإمام العلاَّمة السيد محمد رشيد رضا - القاهرة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإنا نشاطركم الأسى على رزء الفقيد العظيم العلاَّمة السيد محمد رشيد رضا رحمه الله، فلقد فقدنا به ركنًا عظيمًا من أركان العرب والإسلام، وعلمًا فذًّا من أعلام العلم والتقوى، وبطلاً مقدامًا من أبطال نهضتنا الذائدين عن حياضها والمتفانين في سبيل إعلاء شأنها ورفع كلمتها، وكيف لا يكون رزؤه عظيمًا وهو العلم المفرد بعلمه وصلاحه وإخلاصه لأمته ووطنه وهيهات أن يجود الزمان بمثله؟ ! إن الزمان به لبخيل. فلو يمكننا فداؤه لفديناه بالنفوس وبكل غالٍ ورخيص وبكل جبان لم يحذ حذوه في الجهاد الوطني الصحيح ولم يكن على غراره بعزة النفس وحب الحرية والكرامة، ولئن كرمته الأمة فإنما تكرم به البطولة والصدق والإخلاص. رحم الله الفقيد رحمة واسعة وجعل خلفه خير خلف السلف، وألهمنا جميل الصبر والسلوان، وحيّا الله القائمين بحفلة تأبينه من عظماء الأمة، وكرامها الشاعرين بشعوره الحي، وإنا لله وإنا إليه راجعون. ... ... ... ... ... عن النبك - وادي السرحان 7 و 1 و 936 ... ... ... ... ... باسم مجاهدي الصحراء وأحد أصدقاء الفقيد ... ... ... ... ... ... ... محمد عز الدين الحلبي

المستشرقون والإسلام

الكاتب: حسين الهراوي

_ المستشرقون والإسلام بقلم الدكتور حسين الهراوي مفتش صحة مصر القديمة بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم. من أحمد نسيم الشاعر إلى الدكتور حسين الهراوي: قف وقفة بين إجلال وإكبار ... واحمد دفاع طبيب الحي والدار جلى (حسين) بشوط راح ينهبه ... شأن الجواد إذا جلى بمضمار ما انفك يهدي إلى الإسلام منكره ... والحق أبلج لا يخفى بأنكار يقظان ما هدأت يومًا شقاشقه ... كالفحل يتبع تهدارًا بتهدار في كفه قلم لو شاء أترعه ... سم الأساود أو شهدًا لمشتار مرقق الحد مبري له جدل ... يرضي النبي ويرضي الخالق الباري يراعه كقناة الخط يرهبها ... سنان كل أصم الكعب خطار تجري على الطرس آيًا حين تقرأها ... يجرى دم الرشد بالبادي وبالقاري قويمة في ارتياد الحق أشرعها ... للأخذ بالحق لا للأخذ بالثار تدفع الصدق من حيزومها ضببًا ... دفع الخضارم تياراً بتيار من عترة برسول الله مشرقة ... ملء النواظر من زهر وأقمار الله أنزل في الأحزاب أنهم ... من أهل بيت كرام الخيم أطهار فما ارتضوا نزعات الإصر مأثمة ... ولا ارتدَوا بُرد آثام وأوزار ولا تقطع أمر الله بينهم ... ولا أصيب بنقص بعد إمرار أعظم بهم في مجال الدين من نفر ... مهاجرين ذوي عزم وأنصار قم يا حسين فأطفئ كل مشعلة ... من الضلال تلظى زندها الواري عجل لهم قطهم خزيًا إذا حسروا ... عن أوجه سفرت سوداء كالقار مدوا بأيد تخط البطل فاندحروا ... قهرًا أمام متين الأيد قهار لولاك لانغمست في الكفر ناشئة ... كادت تغل بجحاد وكفار سر في طريقك وادمغهم بمحرقة ... تبقي ندوبًا ذات آثار مستضعفون إذا ذلوا فإن قدروا ... جاءوا بمكر خفي الكيد كبار شريعة الله والمختار هازئة ... بمفترين على الإسلام أغرار مستشرقين أثاروا نقع حملتهم ... حتى كأنهم طلاب أوتار يخفون تحت ستار البحث كيدهم ... وهم على دين قسيسين أحبار قوم أحق بلبيس النعل مشركة ... ولبس منطقة شدت بزنار تعصب وأكاذيب ملفقة ... من مقذعين وقاح النقد أشرار ما بالهم نقدوا القرآن وانصرفوا ... في نقدهم عن أصاحيح وأسفار وأجهل الناس من يبني عقيدته ... على شفا جرف من زيغه هار وكيف تطلب منهم رشدة وهم ... في الدين عمي قلوب عمي أبصار إن أبصروا الخير أخفوه وإن ظفروا ... بالشر أبدوه في جهر وإسرار وللذين استباحوا البغي ساهرة ... مشبوهة الوقد من ناس وأحجار في كل يوم ترى منهم أخا خطل ... يقول أذعن غير مختار ضلت يراعته في نفس باطله ... كما يضل السرى في ظلمه الساري بشراه بالخزي في دنياه ممتطيًا ... متن الضلال وفي أخراه بالنار لا نضر الله دارًا بات ساكنها ... ولا سقاها حيا وطفاء مدرار إن كان للعلم تضليل وشعوذة ... فالعلم أقبح مدعاة إلى العار حسين هل لك في حمد يردده ... فم الزمان إذا أدلى بأخبار كأنه باقة في روضة أنف ... شتى الأزاهير من ورد ونوار جادت عليها العزالى فهي زاهرة ... وكل ناضرة الأكمام معطار قصيدة تضرب الدنيا بسنبكها ... فتنبه الذكر في بيد وأمصار أنَّى تسر تترك الآفاق مشرقة ... ككوكب مستفيض الضوء سيار ضعها بعروتك الوثقي معطرة ... كأنها وردة من ورد آذار حسبي بمدحك إعلاء وتزكية ... فبالشريف تعالى شعر مهيار جزاك ربك في آلائه نعمًا ... موصولة بعشي بعد إبكار أعدك الدين للجلى إذا اشتجرت ... إعداد ليث قوى الزند زآر دين من الله جلى كل واجبه ... يوم استهل بأضواء وأنوار كالشمس ما أشرقت بيضاء مسفرة ... تختال ما بين أشراق وأسفار وبعد فانظر إلى نفسي وما احتملت ... من حاسدين لأهل الفضل أغمار عمرت فيهم فضاعت مدة سلفت ... عددتها بينهم من شر أعماري صدوا عن الشدو آذانًا مصلمة ... ليست تصيخ لورق فوق أشجار إن أنكروك فلا تحزن فقد نكروا ... من قبل فضلك آياتي وأشعاري أحمد نسيم ((يتبع بمقال تالٍ))

الفصل الأول أسباب ونتائج

الكاتب: حسين الهراوي

_ الفصل الأول أسباب ونتائج يحدثنا التاريخ أن جزيرة العرب عامة ومكة خاصة، لم تكن قبل الإسلام مستعمرة لأحد، ولم يفتحها فاتح قط [1] ، وكان العرب مدى تاريخهم أحرارًا، وكذلك يحدثنا التاريخ أن العرب قبل الإسلام لم تكن لهم ثقافة، أو دور تعليم، ولم تكن لهم مدينة ولا تاريخ مكتوب غير ما كانت تتناقله الألسن راوية عن راوية، وتلك هي ثقافة الفطرة. ولم يكن للعرب هيئة اجتماعية، أو نظام حكومي بالمعنى الذي نفهمه الآن، وجل تفاخرهم كان بانتصار قبيلة على أخرى، أو بتحديها، فكانوا أشتاتا من القبائل لا تجمعهم إلا ميادين الحروب، أو أسواق التجارة، أو مواسم الحج. ومن البيِّن أنه لم تكن هناك أية فكرة أو ظن بينهم لجمع شتاتهم وتوحيد مجتمعهم قبل الإسلام. ومن وسط هذه القبائل المفككة أو من أسحق الأمكنة فيها سطعت أشعة الإسلام، وفي مدى عشرين عامًا من حياة النبي العربي الكريم صلى الله عليه وسلم، تكونت أمة تشعر بوجودها الأدبي وتقوم برسالتها في الأمم المجاورة، فتكتسح المعتقدات البالية، وتقضي على ملك الفرس والرومان وترثه. وليس لهذه النهضة الكبرى والثورة الفكرية العظمى سوى مصدر واحد هو القرآن، وأداة واحدة في تأدية الرسالة هي شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومهما يكن من الظروف التي ظهر فيها الإسلام، وأحوال العالم في ذلك الوقت، فإن ظهور الإسلام من أجدب وسط في العالم، ومن أوحش صحراء، ومن أبعد الأمكنة التي يظن أن العالم ينقذ على يدها - هذا كله يعد معجزة لا شك فيها. وإذا كانت النهضة العربية ومصدرها الإسلام وحده تعد آية، فإن اكتساحها للعالم والمعتقدات وتكوين دولة ترث الرومان والفرس في مدي ثمانين عامًا يعد سرًّا ليس من السهل أن يعود، ومن المستحيل أن تجد له مثلاً في التاريخ [2] ، خصوصًا إذا لاحظت أن هذه الثقافة الجديدة قد هضمت الدول كلها وطبعتها بطابع خاص هو الطابع الإسلامي. بل المثير للدهشة والعجب أن تظل هذه الثقافة إلى الآن راسخة ثابتة رغم العواصف التي واجهتها، والحروب التي عملت على فنائها. والتاريخ يحدثنا عن تنازع البقاء الدولي بين الشرق والغرب، ويصف لنا من الحوادث مدّها وجزرها، وكيف بسط الشرق سلطانه وساد، ثم كيف قاومه الغرب ورده واكتسحه أو كاد. وعلى الرغم من كل هذه التقلبات، فالإسلام دينًا وقانونًا وثقافة اجتماعية وأخلاقية، ثبت لكل هذه الموجات والعواصف والتقلبات ثبات الصخر على الشاطئ، فذهبت كلها كذهاب الزبد على سطح الماء. والواقع أن أعداء الإسلام لم تهدأ ثائرتهم، ولم يفت في عضدهم بقاء الإسلام قويًّا مكينًا على الرغم من الحروب والدسائس في البلاد الإسلامية التي أثاروها، بل كان ذلك مما زاد المسلمين يقينًا وثباتًا واستمساكًا بدينهم ومحافظة على يقينهم؛ لأن الإسلام يحفظ القومية، ويشعر الناس بواجبهم نحو أنفسهم، ويجمعهم في دائرة واحدة من العاطفة، ويوجههم كلهم إلى قبلة واحدة، هذه القبلة التي تفني إزاءها القوميات والشعبيات ويتساوى فيها الناس أجمعون من جميع الأجناس والأوساط. أضف إلى ذلك أن الإٍسلام هو أول مطلع للتفكير الحر، والتحلل من قيود التقاليد، وهو الذي يحث على الأسفار وجوب القفار والمشي في مناكب الأرض ابتغاء الرزق. وهو في تعاليمه ينافي الاستعمار، وينافي الخضوع لكائن مَن كان إلا للواحد الديان. وفضلاً عن ذلك فإن الإسلام عطف على الأديان الأخرى، وطبع الشعوب التي انتشر فيها بطابع آخر هو الطابع العربي. فترى معتنقي الأديان السابقة له والذين يعيشون في البلاد الإسلامية تجمعهم بالمسلمين رابطة الطابع واللغة، ويعطفون على الإسلام بداعي العروبة، والعروبة هي الطابع الثاني للإسلام لغير أهله - بما سنه من المعاملة الحسنة ومصاهرة أهل الأديان الأخرى وتقوية روابط الأسر، ونشر روح الوئام بين الجماعات؛ ولذلك اختلطت الأنساب وتنوسيت، ولكن الشائع في البلاد الإسلامية هو الأصل العربي، سواء كان الشخص مسلمًا أو غير مسلم. فأصبح المؤرخون في حيرة من تسمية هذا الامتزاج وتلك الثقافة، فطورًا يسمونها الإسلامية وطورًا يسمونها العربية. تلك حقيقة، وذلك واقع، ولم يخف عن الغرب، وليس في حاجة إلى دليل وليس من المستطاع انتزاع تلك العواطف من أفئدة الناس، وليس من الممكن استئصالها بحملة عسكرية، أو إنشاء محكمة تفتيش أندلسية جديدة لمحاربة آراء الناس ولغاتهم وضمائرهم وعلاقاتهم. فالمسألة كلها فكرية وعلمية، ومحاربتها يجب أن تكون على أسلوب نشأتها، ثقافة وغزوة فكر. من أجل هذا نشأ الاستشراق في بلاد الغرب، وأخذ جماعة من الغربيين يعكفون على لغات الشرق وتاريخه ودينه دراسة واستذكارًا وحفظًا وتحقيقًا وتغلغلاً في البحث. هذا هو منبع المستشرقين، وهذا هو مصدرهم، وتلك هي الغاية التي يعملون لها. والباحث في هذه الموضوعات لا يعدم موضوعًا جديدًا علميًّا، ولا يعدم كتابًا قيمًا مدونًا، يعيد نشره، ويحيي ذكره؛ ليصبغ نفسه بصبغة العالم البريء، ومنها اصطبغ اسم المستشرقين بصبغة علمية. غير أن النواحي الأخرى التي عكفوا عليها وهي غزوة الفكر الشرقي في قوميته ولغته ودينه كانت واضحة جلية في أعمالهم؛ لأنها الهدف الأول والغاية القصوى. والمستشرقون هم من أساتذة اللغات الشرقية في الجامعات، وطلبتهم من أبناء وطنهم، وهؤلاء الطلبة يعدون أنفسهم للعمل في المستعمرات في الشرق، وكان لابد من المحافظة على قومية هؤلاء الطلبة. ولابد للعناية بتربيتهم أن لا يكونوا أداة عطف على الشرق أو مصدرًا لإذاعة محاسن الإسلام، ولإدراك ذلك لابد من تصوير الشرق بصورة بشعة قبيحة في أخلاقه وعاداته وآرائه، ولابد من تصوير الإسلام في صورة منفِّرة، وأن يكون هؤلاء الطلبة حربًا على الشرق والإسلام. كما لابد من أن يقوم هؤلاء المستشرقون بدورهم في تغذية جمهور أممهم بمثل تلك التعاليم بنشر مؤلفات يصفون الشرق فيها بصورة مشوهة. ويصمون الإسلام بكل المخازى التي هو منها براء. ولذلك أصبحت الهوة بعيدة بين عواطف الغربيين والشرقيين، وأصبح التفاهم أبعد منالاً مما يجب. وقد تأثر الشرق نفسه بتلك الدعاية، وكأنه من هذا التجريح والتشنيع شعر بضعفه أمام الغرب، وألقى فريق من ضعفاء النفس سلاحهم، فاعتقد الشرقيون أنفسهم أن عاداتهم وأخلاقهم وقوميتهم وشعوبهم في مستوى أدبي وعقلي أقل من المستوى الأوربي، وأصبح الشرقيون لا يثفون بأنفسهم في التفكير ولا في العمل الحر ولا في إدارة الأعمال، وأصبحت تراهم إذا قرؤا في الجرائد أي جريمة عادية أو خبرًا صغيرًا ثاروا وقالوا إن ذلك مستحيل حدوثه في الغرب؛ ولذلك أخذوا يقلدون الغربيين في كل شيء؛ في المعنويات وفي الماديات. أما في المعنويات فقد شاهدنا اختلاط الألسن في الأسر والبيوت، ونبذ اللغة القومية في الطبقات المتفرنجة، وكذلك في الزي النسائي، واستحالت الأخلاق، وضاعت تلك المودة القويمة وصلة القربى، وأصبح الشخص ينظر إلى أسرته المصرية الصميمة من أعلى إلى أسفل، يحاول خدع نفسه بأنه غربي، وأنهم شرقيون، ورأينا تيارًا جارفًا من الأدب الغربي يكتسح التفكير الشرقي والقومية الشرقية، انتشرت القصة المعربة، وهي قصص لا تخرج عن معاني الحب الساقط، وألفاظ الخنا، وخيانة الزوجة، وتهوس الشباب، وسقوط المرأة التي يقابل الزوج زلتها بالعفو والصفح والغفران. كان هذا من أثر الدعاية أن العربية ينقصها أدب القصة، فملأ المعربون هذا الفراغ بقصص لا تلتئم والشرق الشرقي، ولا الغيرة الإسلامية، ولا الآداب القومية، ثم هجم جماعة المبشرين على معاقل الإسلام، مزودين بالمال والعلم والرجال، فأصبحنا نرى المخازي والإغراء والقبائح ترتكب باسم الأديان، وأصبحت الأسرة الإسلامية يقتنص بعض أفرادها بالمال، أو بالإغراء، أو الاستهواء، أو التنويم المغناطيسي باسم الدين. وترى ذلك متجليًا في دور التعليم الأجنبية، وفي المستشفيات الأجنبية التي تحمل على بابها بالخط العريض أنها بيئة ووكر للمبشرين في ثوب علمي شفاف. طرق لا يقرها عقل أو ذمة أو ضمير أو وجدان. أضف إلى ذلك أن كل بلد شرقي استعمر كان لابد له من طلائع تجوس الديار، وتستكشف الآثار، وتكتب التقارير. وكان لابد لهذا الجاسوس أن يلبس ثوب العالم بلغة البلاد، وأن يصطنع البحث العلمي. وفي حالة دخول الجيش الفاتح لابد لقيام صلة بين الأهالى والجيش المهاجم، والتاريخ يحدثنا أن هؤلاء كلهم من المستشرقين. أما في حالة السلم فلابد من وضع سياسة لمعاجلة هدم الإسلام وتفريق كلمة أهله، وإعداد النفوس لقبول التغييرات التي تدخلهم تحت النير. هذه مسائل علمية محضة، ويقوم بها المستشرقون. فلتغيير الدين يجب أن يقال إن الإسلام دين مخترع ملفق، ولهذا الرأي شيعة من المستشرقين، وللسخرية من الإسلام يجب مهاجمة شخصية النبي الكريم ولهذا أيضا شيعة من المستشرقين، ولتفكيك روابط العرب يجب أن يفهم الناس أن العربية الفصحي لا تصلح لشيء، وأنها لغة قديمة، وأن اللغات الدارجة أنفع منها. ولتفكيك روابط القومية والهيئة الاجتماعية الشرقية يجب أن يعتزي كل شعب إلى أصله؛ لأن العرب لم يكن لهم فضل في ثقافة أو تاريخ. ولإضعاف الروح القومية وقتل الاعتماد على النفس يجب أن يفهم الشرقي أنه غير مؤتمن الجانب، وأن الاختلاس غريزة فيه، وأن الشرف بعيد عنه، وأن بلاده وتربيته لا تصلح إلا للزراعة، وأن عقله غير مكون تكوينًا تجاريًّا، وهذا كله ليحتكروا التجارة والصناعة ويتركوا للبلاد المستعمرة العمل الزراعي الشاق الذي لا يدر إلا الخير القليل. * * * كل موضوع من الموضوعات التي ذكرناها تخصص لها فريق من المستشرقين، وقد أصبحنا نعرف وجهة تخصص كل واحد منهم، ويمكننا أن نعد أسماء المخصصين لكل موضوع من هذه الموضوعات كما سيمر بك في هذا الكتاب، وكل هذه الموضوعات ذات مرمى سيئ، وليست من الحقائق العلمية في شيء؛ ولذلك فإن هؤلاء الناس قد ألبسوا موضوعاتهم الثياب العلمية، غير أنه لم يتعرض لهم أحد بنقدها وإظهار ما فيها من غش وخداع وتلبيس، حتى إن كثيرًا من القراء قد خدعوا بها ودخلت الحيلة عليهم. ولذلك يجب تحرير الفكر الشرقي من تلك الغزوة التي طال أمدها وسئمنا تكرارها، ويجب أن نبرهن لهؤلاء الناس أنهم خادعون، وأن الأخلاق الغربية لم تبلغ إلى الآن المستوى الشرقي، وأن الزخرف البراق من المعاملة والطلاء الخارجي للمعاملات العادية لا يغير الواقع، فالبلاد الغربية كالبلاد الشرقية فيها أحط الأخلاق وأشنع الجرائم من كل نوع. وليس الفكر الشرقي بأقل في مستواه من الغربي، وإنما في استقلال المواهب نتيجة التربية الاستقلالية التي امتاز بها الغرب، ونتيجة لازمة للحرية الشخصية والمساعدة الحكومية التي حرمتها الشعوب الشرقية، إلا أن أول دعامة في تحرير الفكر الشرقي أن يعرف أسرار استعباده فيقف دونها حائلاً، ويطلع على الصواب فيستزيد من مناهله، ولا يقبل التغرير، وأن يواجه هؤلاء المستشرقين بحقيقتهم ويعلم أن بضاعتهم مغشوشة ولأغراض غير بريئة، وهي بضاعة زائفة صنعت في معامل التغرير؛ ولذلك عمدنا إلى الرد على بعض المستشرقين في هذا الكتاب، وجعلنا الرد في أسلوب علمي ليعرف القارئ الحقيقة. والذي دعانا إلى وض

الفصل الثاني محمد قبل البعث

الكاتب: حسين الهراوي

_ الفصل الثاني محمد قبل البعث من البيّن أن مجيء القرآن وأثره في النهضة الفكرية العالمية - كما رأيت - مسألة مدهشة حقًّا. وقيام شخص واحد هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة الناجحة التي اكتسحت العالم مسألة موجبة للحيرة ومعجزة بلا مراء. والمستشرقون يقفون أمام هذه الحقائق ذاهلين، ويحاولون الدخول إلى هذا الصرح العالي من باب التشكيك والتضليل، أو باب الاستنباط والقياس. والتاريخ يعلمنا ويعلمهم أن حياة العظماء لها طريق في البحث والدرس ولها طريق مألوف وهو الابتداء بدراسة الوسط الذي نبغ فيه الرجل العظيم والظروف المحيطة به، ثم دراسة طريقة انتزاعه للسلطة أو قيامه على قيادة الأمة. ثم يأتي بعد ذلك دور تكوين الشخصية وأثر الثقافة المحلية والعالمية في نفسه، وأثر هذه الثقافة في أعماله. وقد أرادوا أن يطبقوا كل هذه النظريات والمباحث على حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، كما يدرسون مثلاً حياة نابليون والإسكندر وغيرهما. وأول ما صادفهم من الخيبة والفشل أن الوسط الذي عاش فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان وسطًا فطريًّا ساذجًا؛ ولكن هناك في محيط ذلك الوسط وجد بعض النصارى واليهود. ووجدت ظروف بسيطة في حياته صلى الله عليه وسلم من سفره مرتين إلى الشام يمكن أن يبنوا عليهما القصور العالية من الأوهام. ولا بأس من أن يجعلوا من هاتين المسألتين - وجود نصارى ويهود في الحجاز وسفره إلى الشام مرتين ثانيًا - موضوعًا للتشكيك والتضليل. ولذلك نقتبس لك أسهل طريقة وأبسط تضليل من كتاب درمنجهام الذي نشر في السياسة الأسبوعية ورددنا عليه؛ لأنه كان أول مثار للبحث [1] : والواقع أن محمدًا منذ الساعة الأولى بل قبل أن ينزل عليه جبريل بالوحي كان أشد ما يكون نفورًا من الوثنية التي نشأ ونشأ أهله من قريش فيها، وأشد ميلاً لهذه المعاني الروحية التي يتحدث عنها النصارى واليهود من أهل الكتاب في أنحاء شبه جزيرة العرب ممن كان يتصل بهم في أثناء ذهابه إلى الشام وإلى اليمن في القوافل قبل أن يقوم بتجارة خديجة وبعد أن قام بها. وهذه المعاني الروحية في اتصالها بنفس محمد صلى الله عليه وسلم المتوثبة منذ صباها للكمال هي التي دفعته إلى تحنثه بغار حراء شهرًا أو أكثر من شهر. إن الله - تعالى - رضي للناس الإسلام دينًا مع بقاء الأديان السابقة للقرآن وحده مندمجة في هذا الكمال الروحي - أي الإسلام - اندماجًا أشار إليه القرآن في قصص أصحاب هذه الأديان وما جاءوا به من الحق من عند ربهم، وأشار إليه حين أراد أن يثبت محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمر ما جاءه كما جاء في سورة يونس: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ} (يونس: 94) . وفي هاتين الفقرتين ملخص لآراء المستشرقين الذين يظنون أنفسهم أهلاً للبحث والاستنتاج دون أن نرميهم بشيء من سوء النية. ولعل ذلك أهدأ أنواع ضلال المستشرقين. ولما تسربت هاتان الفقرتان في الصحافة المصرية وعلى أيدي باحثين مسلمين رأينا توضيح هذه الطريقة وإظهار ما فيها من خطأ في تطبيق ما يقال عن عظماء الغرب على حياة نبي عربي عاش في بيئته خاصة وفي محيط لا زال يتمسك بعادته وأخلاقه إلى اليوم. ولسنا نتهم هذا الرأي بأقل من أنه استنباط غير موفق ورأي خاطئ نتيجة الجهل والخطأ في الحكم. فأنت ترى من هاتين الفقرتين أن سيدنا محمدًا تعمّق في درس الأديان وتلقي مبادئها على الرهبان في سياحاته، وأن ذلك العلم هو الذي دفعه إلى التحنث. أما أنه خالط الرهبان وتشبع بمبادئ الأديان السابقة فذلك ظن ليس له من مؤيد، ولو أنه كان كذلك لكان في كل عمل من أعماله دليل على ذلك، وقد أحصى القرآن الكريم كل ما وجهه أعداء الإسلام وأعداء محمد صلى الله عليه وسلم له من التهم، ومنها الكذب والسحر والشعر وكل ما شئت من صنوف السب والشتم والتهكم والضرب بالحجارة والتحدي للقتال، كل هذا قيل ولكن واحدًا منهم لم يجرؤ أن يقول له إنك تعلمت هذا العلم على فلان، ولو كانت هذه الجملة قيلت لكنا على الأقل وجدنا عليها ردًّا في القرآن. ولو أن نفس محمد - عليه السلام - اعتنقت دينًا أو مالت لأي دين قبل الإسلام لوجدنا لذلك أثرًا واضحًا في الحديث، وقد سأله الناس كل أنواع الأسئلة بلا خجل، وكان يرد عليهم بالصدق والأمانة التي اشتهر بها، ولم يرد ما يؤيد هذا الزعم؛ ولذلك استنبطنا - وكنا محقين في هذا الاستنباط - أنه عليه السلام كان خالي الذهن من جميع الأديان، وأنه اشتق طريقًا في العبادة لنفسه كما سنبين ذلك في التحليل النفسي لحياته. أما الرحل والأسفار في التجارة أو مع عمه فقد كانت رحلته [2] الأولى مع عمه إلى الشام وهو ابن تسع سنين، ولم يكن هناك مجال ما لتلقي هذه العلوم فليس ثمة جامعات وليس للرهبان حلقات درس، كما أنه لم يكن يومذاك جماعة من المبشرين الذين نراهم اليوم يغررون بالناس، وكل ما حصل من الراهب بحيرا أن تنبأ لهذا الغلام بمستقبل ديني، وتوسم فيه استعدادًا خالصًا لهذه الرسالة الكبرى. والرحلة الثانية كانت وهو ابن خمس وعشرين من مكة إلى بصرى ومدة هذه الرحلة كانت ثلاثة أشهر. إذن فلنمش في هذا الطريق نفسه، ولنر ولنستنبط ما يمكن استنباطه، ولنتعرف عادات العرب وأخلاقهم. فأول ظاهرة خفيت عن المستشرقين من عادات العرب أن صغارهم لا يجالسون كبارهم، ولا يمكن شاب حديث السن أن يجلس في مجلس الكبار ولا يناقشهم، ولا يباح له أن يتحدث في مجالسهم. ولم يخبرنا التاريخ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم شذَّ عن هذه القاعدة، وهذا دليل على أن كبار الرهبان وغيرهم لم يكن لهم من وسيلة لقلب عقيدة هذا الفتى كما يفعل المبشرون من أذناب المستشرقين في هذه الأيام. وأما الرحلة نفسها فيجب أن نلم بعمل التاجر الذي تكون مهمته من نوع عمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والعادة الجارية في بلاد العرب إلى يومنا هذا هي أن يقوم التاجر ببضاعته حتى يصل إلى المدينة التي سيبيعها فيها. ثم يذهب إلى منزل وسيط التجارة فيمكث في منزله بضعة أيام حتى يصرفها الوسيط ويعطيه الثمن، ثم يعود قافلاً. فعمل التاجر في هذا السبيل ينحصر في المحافظة على التجارة في أثناء الطريق، ومساومة الوسيط، وحمل الثمن إلى أصحاب البضائع. والمسافة بين مكة وبصرى تقطع على ظهور الإبل في نحو أربعين يومًا ذهابًا ومثلها إيابًا، ومدة إقامة التاجر في بيت الوسيط هي المدة التي تبقى من ثلاثة الأشهر التي قضاها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في تلك الرحلة. فالوقت كله يقطع في الطريق وكانت رحلة واحدة، فأي عقل إنساني أو غير إنساني يمكنه أن يستنبط أن سيدنا محمدًا يمكنه أن يتعلم كل ما أتى به، أو كل العلوم التي وردت عنه في وقت كهذا؟ وأي سخف أدعى للسخرية من مثل هذا الاستنباط الملفق القائل أن سيدنا محمدًا في أسفاره تعلم من الأحبار. أضف إلى ذلك ما استنبطه فريدرك شولنهنس عندما جمع ديوان أمية بن أبي الصلت وطبعه سنة 1911 [3] ، وأظهر في مقدمة هذا الديوان مقدار ما بذله من الجهد في جمعه من كتب السير ومن شوارد أخبار الكتب، ورأى أن أمية هذا كان قد ترهّب ولبس المسوح ونظم قصصًا مصدرها التوراة والإنجيل، وكان يطمع في النبوة إذا أشيع وعرف أنه سيبعث نبي في زمنه. وبعد ذلك بعث محمد - عليه السلام - وأخفقت آمال أمية، فناوأ الإسلام وجاهر بعداوة نبيّه. ليس في الأمر غرابة فليس أمية بأول رجل في مكة أو بلاد العرب عرف شيئًا عن التوارة والإنجيل، وليس هو أول من عادى الإسلام والتوراة والإنجيل والقرآن بين أيدينا شاهد بذلك، وفي هذه الكتب توافق في بعض النواحي التاريخية واختلاف في نواحٍ أخرى؛ فليس من المستغرب أن يعرف شاعر عربي شيئًا عن التوراة والإنجيل وينظمه شعرًا؛ ولكن المستغرب حقًّا أن يقول شولنهنس هذا إن محمداً عليه السلام استقى تلك المعلومات من المصدر نفسه الذي استقى منه أمية. وليس أدل على الجهالة والتضليل في هذا القول، وعلى التعصب الأعمى وقلة الخبرة من أن القرآن ليس بقصصه؛ ولكن بأحكامه وبقانونه وبإعجازه، وبأثره الاجتماعي والفكري؛ فهل اجتمع كل هذا في أحد؟ كلا، ولكن مستشرقًا يظن نفسه في منزلة علمية يطلق لنفسه العنان ويصدر الأحكام، فيتلقفها طاعن من طاعن، ومبشر عن مستشرق للتشكيك في مصادر القرآن. ولو طاوعنا هؤلاء فيما زعموا، وبحثنا عن كل حكم من أحكام القرآن ومصدره ورأينا حكمًا منها من السند والآخر من الهند والآخر من فارس ومن مصر ومن أثينا وروما للزم لهذا النبي الكريم آلاف الأسفار والاشتغال بالجامعات عدة قرون قبل أن يأتي بكتاب لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. مثل هذا التفكير المزري يقول به المستشرقون وتهضم عقولهم أن محمدًا أتى بما أعجز الإنس والجن في سفره إلى الشام ثلاثة أشهر، منها ثمانون يومًا ذهابًا وإيابًا وعشرة إقامة. ولكنها طريقة من طرق التشكيك وضرب من الهوى لا نشك أن القارئ عرف مغزاه. ((يتبع بمقال تالٍ))

الفصل الثالث التحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث

الكاتب: حسين الهراوي

_ الفصل الثالث التحليل النفسي لحياة محمد قبل البعث نحن ننكر إنكارًا تامًّا أي أثر للأديان السابقة للإسلام في نفس سيدنا محمد، وسواء سمع بها ورآها أو خالط أهلها وتعرف بهم، فإن ذلك لم يترك في نفسه الشريفة أي أثر، ولم يعلق بذهنه من مبادئها وتعاليمها ما يجعله يفكر فيها، أو يفضل أحدها، أو يقلدها. وليس أدل على ذلك من أنه لم يرد في القرآن الكريم الذي أحصى كل التهم التي وجهها أعداء الإسلام لنبيه الكريم ما يؤيد هذا الزعم [1] . ومسألة التحنث في الغار، والطواف بالكعبة، وتوزيع الصدقات هي نوع التعبد الذي كان يتخذه عليه السلام قبل بعثه. فإذا قلنا: إن التحنث في الغار له ما يشبهه في الأديان الأخرى، فالطواف بالكعبة لا علاقة له بأي الدينين النصراني أو اليهودي الذي يتعمل جماعة المستشرفين الأسباب ويخترعون الوسائل للقول باقتباس الدين منهما. ولقد طبقنا حياته الشريفة على علم النفس الحديث لنتعرف أي سبب دعاه إلى هذا النوع من العبادة إذا صرفنا النظر عن العامل الإلهي الأكبر في توجيهه إلى هذه الوجهة. ولكي يمكن فهم هذا الموضوع سنقدم للقارئ مقدمة وجيزة في علم النفس والتحليل النفسي لكي يتفهم معنا تطبيق حياته على علمي النفس والوراثة. لقد قسم فرويد العقل ثلاث مناطق: 1 - العقل الظاهر أو الواعي أو منطقة الوعي. 2 - الذاكرة. 3 - العقل الباطني أو غير الواعي أو منطقة اللاوعي. فالعقل الظاهر أو منطقة الوعي تحتوي الأشياء التي يدركها العقل في وقت معلوم، وهي التي تهيمن على الإنسان في حالة صحوه وعلمه. والذاكرة تحوي الذكريات الماضية أو ما مر على الإنسان أو حفظه. والعقل الباطني يحوي الأشياء الممنوعة من الظهور بوساطة الرقيب العقلي، وفيها جميع الغرائز الموروثة ورغبات الإنسان التي تدفعه إلى رغباته المتعددة؛ ولكن يمنعها من الظهور قوة حاجزة تسمى بالرقيب؛ لأن كثيرًا من رغبات الإنسان لا تتفق والوسط الاجتماعي. والغرائز الموروثة في الإنسان تتجلى فيه من السنة الثانية من عمره بإظهار رغباته ككل الأطفال؛ ولكنه يجد المقاومة لتلك الرغبات من الوسط المحيط به والذي يختلف باختلاف السن والوسط. فإن الوالدين أو المربين والأساتذة هم الذين يتولون إرشاد الطفل في مدى سنيه الأولى وبذلك يبتدئ التصادم بين غريزته الاجتماعية والغرائز الأخرى كالبهيمية والأنانية، فبطبيعة الحال يصبح مضطرًّا - حبًّا في استمرار الألفة بينه وبين الجميع - إلى اتباع خطة مواجهة للواقع فيتنازل قهرًا عن الأشياء التي يريدها هو ويستهجنها الناس. ومن العناصر الأساسية لنظرية فرويد أن الرغائب والميول التي تقمع وتبعد إلى العقل الباطني أو غير الوعي لا تُمحى بل تبقي حية ولها أثرها في حياة الشخص، وتؤثر تأثيرًا واضحًا من مظاهر الوعي بطريق غير مباشر، فإذا كانت هذه الغرائز المقموعة سيئة أمكن تهذيبها بالقوة الدافعة المرافقة لتلك العناصر الفطرية التي في العقل الباطني، وتوجيهها إلى طريق نافع يساعد على تقدم الشخص، ويكون تأثيرها في الوعي نافعًا، هذا ما يحصل في الأحوال العادية، ولكن لنقص في التربية - وخصوصًا المنزلية - قد لا يحصل التهذيب في تلك القوة الدافعة، وقد تستعمل في الإضرار بالتطور العقلي من الطفولة إلى المراهقة، مثل ذلك إذا تعلق الطفل بوالديه - خصوصًا إذا كان وحيدًا - فيكبر وليس لديه أي اعتماد على النفس، وتكون النتيجة رسوخ هذا الميل عنده، فلا يقوى على احتمال صعوبات الحياة وحده، فإذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا أصابه الحنين وكانت عملية القمع - أو تخفيف لوعة فراقه - مسألة شاقة ومؤلمة؛ وذلك لأنه بعد أن تعود الاعتماد على والديه يرى نفسه قد كبر وأصبح في سن خاصة لا تتفق ومركزه وكرامته أن يكون عالة، ويتسبب عن ذلك ظهور أعراض مرضية في العقل الظاهر كالبكاء والحزن. وكذلك قد تصيب الشخص في حياته وهو صغير صدمات مؤلمة يضطر إلى قمعها في العقل الباطني؛ ولكنها تبقي فيه طول الحياة، وقد تظهر أعراضها في ظروف مختلفة؛ إذ لم يستطيع الرقيب قمعها تمامًا، فإذا فشل الرقيب في قمع هذه الصدمات تمامًا ظهرت بشكل أفكار تجول في خاطر الشخص، أو أعمال لا فائدة منها. هذه مقدمة سطحية جدًّا في علم النفس يمكنك أن تتفهم منها النتيجة الباهرة التي وصل إليها فرويد، وهي أهمية الغرائز في إحداث ظواهر عقلية خاصة في تصرفات الشخص في الحياة. وبنظرية العقل الباطني وأثره تفسر الأحلام وتحلل نفسية الأشخاص، ومهما يكن من تنافر الآراء بين علماء النفس فإن الجميع (فرويد وينج وأولر) يعترفون بأن العوامل الخلقية والوراثية لها كل الأثر في الأمراض النفسية وكفايات الشخص. أما قوانين الوراثة فلم يوضع لها إلى الآن حدود وقواعد ثابتة يمكن تطبيقها بسهولة، وهي وإن كانت تفسر لنا الأحوال النفسية التي بين أيدينا، إلا أن اختلاف طرق الوارثة في سلالة واحدة لا زال محتاجًا إلى تفسير وشرح؛ كأن يكون الأخوان الشقيقان مختلفين في الأخلاق. إلا أن ذلك لم يمنع المشتغلين بتأصيل الحيوان من تتبع سلالة الهجين وإمكانهم أن يستخلصوا منها بالتناسل سلالة نقية، فإنه من الممكن ومن الأمور العادية جدًّا أن تحصل على جواد عربي أصيل من أم وأب هجينين بتقوية الدم العربي في كل سلالة، وذلك بانتقاء الأقرب إلى الأصل الذي تريده. هذه مقدمة لبحث التحليل النفسي لحياة سيدنا محمد قبل البعث، وسترى أنه يستنبط منها أنه كان في ذاته وشخصيته وحدة كمال مستقلة، ولم يكن في نفسه أي أثر للأديان الأخرى، وأنه كان نسيجَ وحده. فقد رأيت مما شرحناه لك أن العوامل النفسية في العقل الباطني هي الغرائز النفسية الكامنة، أوالتي قمعت، وأن لها أكبر الأثر في تصرف الشخص. فلنطبق ذلك على حياته الشريفة: فسيدنا محمد كان يعيش في وسط عبادة الأوثان، أو ما تقدم الإسلام من الأديان، فكانت هذه هي القاعدة الأساسية في المجتمع الذي كان يعيش فيه، فإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد ورث في نفسه عوامل نفسية تحرضه على كراهيتها، كان له أن ينتقم أو يعبث بها، ولكن عمليات القمع بوساطة الرقيب العقلي وغريزة الاجتماع وآداب العشرة نهته أن يعادي الناس؛ فماذا كان شأنه مع نفسه؟ هذا ما سوف ننتظره من نتيجة التطبيق العلمي على ما أثر من حياته الشريفة في كتب السير المعتمدة. * * * الحمل والطفولة إن سلسلة نسبه الشريف تنتهي إلى إسماعيل وإبراهيم من جهة الوالدين وهو نسب معرق في النبوة والعمل على تطهير العقائد، وسئل النبي عن نفسه فقال: أنا دعوة أبي إبراهيم (ابن هشام ص 155) . ونسبه صلى الله عليه وسلم بانتهائه إلى إسماعيل وإبراهيم ونوح المعترف بنبوتهم من الأديان الأخرى يجعلنا نطبق قوانين النفس والوراثة الأخلاقية على شخصه الشريف، ولو كانت قوانين الوراثة واضحة تمامًا ومحدودة في حدود علمية تامة - لكان في تطبيقها أكبر لذة علمية، ولكن الناس يعرفون منها اليوم قوانين ونتائج لا شك في صحتها، فيقولون عن السبع أنه يموت عطشًا ولا يلغ من ماء ولغ فيه الكلب. وينقلون عن أبناء الملوك المعرقين قصصًا طويلة ونوادر عن الألفة واحترام النفس، فلا ننتظر من مثل ذلك النسب إلا وراثة غرائز أرقى من مجموع مستوى الناس، على الأقل مما كان يتجلى في آبائه وأجداده، فإنهم لم يشتهروا بالثروة والغنى ولقد ولد عليه السلام في إملاق؛ ولكن آباءه اشتهروا بالشرف والنخوة، وعرف عن أهله شدة المراس والصلابة فيما يعتقدونه حقًّا، ولم يرث عليه السلام من آبائه إلا شرف النفس، وهو ما نعبر عنه باللسان العلمي بالغرائز والإلهامات الراقية العالية. يدلنا على ذلك أخلاقه قبل البعث: وقار وحشمة، واحترام لنفسه، ولم يرتكب زلة أدبية مما كانت تبيحه عادات الجاهلية؛ فلم يسكر ولم ينهب ولم يقتل إلى غير ذلك مما كانوا يعدونه من ضروب الشهامة. وكانت أخص صفاته احترام النفس والغير؛ فلم يعتدِ على أحد ولم يُطلب عنده حق لغيره. كان هذا قبل النبوة وقبل أن توجد عداوات وحزازات، شهدت بها وفود أعدائه عند ملك الروم. وهذا أرقى أنواع الغرائز والإلهامات. ولنتمش قليلاً بعد ميلاده، فنراه ولد يتيم الأب، ولم يلتصق بأمه بل بعث به إلى الصحراء. مسألة غريبة في هذه الحياة الحافلة، فقد علمت أن الالتصاق بالوالدين فيه مضيعة للاعتماد على النفس، وفيه معنى من معاني الرخاوة في الطباع، وقد يكون في الالتصاق بأحدهما مفسدة للأخلاق. ولقد تيتم من أمه طفلاً، فلم يكن له أمل في الاعتماد على أحد من الناس اعتمادًا قد يقتل من عزمه، أو يفسد من طباعه. ولننظر إلى اليتم وأثره في النفس: أنا شخصيًّا جربت ذلك؛ فقد ولدت يتيم الأب وفي كفالة الأم، وقد أورثني ذلك عوامل نفسية مؤلمة، ما تحدثت بها إلا أمضني الحزن والألم. إن أول ما يشعر به اليتيم متى شبّ هو الإقرار بالواقع والاستسلام للقضاء والقدر، والرضا بما قسم له من نصيب محزن لفقدان عطف الآباء، والمرشد الخبير في أوقات حرجة من ظروف الحياة التي تحتاج إلى قرار حاسم من مطّلع خبير، ويكون الدافع النفسي موجهًا إلى الخضوع والوحدة، لا إلى حب السلطان والمظهر البراق، كما تتعود النفس الخشونة وعدم العطف، فلا يتعود اليتيم التدلل ولا المرح وهما أهم خواص الطفل في سن الصغر، وذلك كله نتيجة الإخفاق في إشباع رغبات الطفل، والفشل المتوالي في نوال كل شيء يطلبه أو يتطلع إليه. أضف إلى ذلك نوعًا من الشفقة المؤلمة، ونوعًا من العطف أقتل للنفس من العقاب الصارم، ذلك هو الحنان الذي يستجدى كأنه حسنة أو نافلة؛ إذ ترى قومًا يظنون أنفسهم على شيء من حسن الصفات يعطفون على اليتيم عطفًا هو أشبه بالصدقة منه بالعطف، ويشفعون عطفهم بالإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك ليتم الشخص. دُعيت مرة إلى مهرجان زواج وأنا غلام صغير، فوزعت الحلوى على الرجال والغلمان، وكان كل والد يحضر لنجله نصيبه من الحلوى، وخرجت من الاحتفال وليس معي غير دمعة تترقرق؛ فلم أصب من الحلوى قليلاً أو كثيرًا، ولم يلاحظ إخفاقي إنسان، فآليت على نفسي بعدها ألا أذهب إلى مهرجان [2] . وتوفيت إحدى قريباتنا وأنا غلام، وكانت تحبني لقرابتها من المرحوم والدي، وكنت في نحو العاشرة من عمري، فانسللت وحدي من المنزل لأمشي في جنازتها اعترافًا بهذا الحنان الذي كانت تظهره نحوي، وبكيت عليها كثيرًا؛ لأنها ما كانت تراني حتى تذكر والدي وتبكيه، وكانت هذه السيدة أصيبت بشلل، فكانت تهتز في بكائها إلى درجة أني كنت أشعر أن نوبة إغماء تعتريها، فإذا أفاقت قبلتني فيتبلل وجهي من دمعها. رأيت وفاء لها أن أسير في جنازتها وأن أشيعها إلى مقرها الأخير بتلك الدموع التي أرهقتها لذكرى أبي. ودفنت، ووقفت على قبرها أبكي، وكنت ألاحظ أن الناس ينصرفون في مركبات أعدت لهم ولم يدعني إنسان لمركبته، وبعد قليل - وكانت الشمس قد قاربت المغيب - وجدتني وحيدًا بين المقابر، لم يعرني أحد اهتمامه، ولم يسأل عني سائل. هناك عرفت أن لا نصير لي في الدنيا، ولا من يسأل عني، وضربت يدي إلى جيبي فوجدتني خالي الوفاض، فافترشت الأرض أنتظر ما قدره لي الله، لولا أن أسعفت بمُكارٍ له حمار أعرج، يسوقه أمامه وسط القبور، وهو يغني بصوت متهدج، فأوصلني إلى البيت على أجر اتفقنا عليه. بعد تلك الحادثة لم أكن أذهب

الفصل الرابع محمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث

الكاتب: حسين الهراوي

_ الفصل الرابع محمد صلى الله عليه وسلم وروح الاجتماع عند البعث رأيتَ في الفصل السابق أن دين محمد صلى الله عليه وسلم وتصرفاته قبل البعث كانت كلها من منبع الغرائز والإلهامات العالية. وقديمًا قال الحكماء: إن السر في عدم إنجابه ذكرًا أن أي ولد يخرج من صلبه كان محتومًا أن يكون في درجة من النقاء يصل بها إلى درجة النبوة، وموت أولاده الذكور كان قضاء وقدرًا؛ لأنه معد لتلك الرسالة العظمى التي ختمت به. ويقول لنا درمنجهام إن موت أبنائه قد زعزع عقيدة زوجته السيدة خديجة في الأصنام وأتى لنا بقصص كلها خرافية جديرة بأن نهملها [1] . والآن نقف وجهًا لوجه مع جماعة المستشرقين كلهم الذين كتبوا ويكتبون عن حياته كرجل عظيم، ونريد أن يتمشى معنا القارئ في هذا الفصل لنرى هل كان محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً عظيمًا فحسب أم نبيًّا ورسولاً؟ ولو وجدت عبقرية عظماء الرجال في عصره وفي بيئته كانت تقوم بما قام به أم لا؟ رأى الباحثون من المؤرخين أن العالم كان في وقت البعث في حالة انحلال أدبي وسياسي عمّ الكرة الأرضية. ففي الشرق كانت الصين والتبت تمزقهما الحروب الداخلية، والهند كانت في فوضى أخلاقية نتيجة انتشار المذهب البرهمي الذي يعد من أركانه هبة البنات الأبكار للآلهة وأن يقوم البرهمي في دور الآلهة في الاستمتاع بالعذارى مما لا يزال له أثر حتى اليوم، بهبة البنات للاستمتاع الديني في المعابد ويطلق عليهن اسم فتيات المعبد. وكان شمال غربي آسيا في حاله ركود وغموض، وشمال إفريقية في حالة يرثى لها من الظلم الفاضح على أيدي فلول الرومان التي فقدت سمعتها الأدبية ولم يبق منها بقية أنفاس تتردد كما تتردد آخر أنفاس المشرف على الموت. وكانت اليونان تعاني ما تعانيه بقية البلدان لتبعيتها للدولة البيزنطية التي كانت مشتبكة في حروب مع الفرس الذين كانت جنودهم تعيث في أرض الروم فسادًا حتى انحلت أمة الفرس نفسها. * * * ومن هذا يتضح لك أن العالم كان في غمرة انحلال أدبي وسياسي ومادي وأخلاقي ولا يمكن نجدته إلا بقوة خارقة تهديه سواء السبيل، على أن العالم لم يكن خاليًا من بذور الإصلاح فقد كانت اليهودية معروفة، والنصرانية لها بابوية روما، ومازال هذان الدينان منتشرين للآن كما توجد أنقاض المدنيتين اليونانية والرومانية. هنا نقف بالقارئ قليلاً لنستعرض الآراء التي يقول بها منكرو رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونتمشى معهم قليلاً في استنباطاتهم لنرى إذا كانت تهيئ لهم مثل تلك الدعوى. قال المستشرقون ومن لف لفهم: إن محمدًا كان على اتصال علمي بالأديان الأخرى، وإنه استقى معارفه ومعلوماته من سياحته في الشام وباحتكاكه بمن يحضرون إلى مكة للتجارة، وقد زاد الغامزون اللامزون بأنه يحسن القراءة والكتابة (مرجوليث) بدليل الآية الكريمة: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (العلق: 3) وادّعوا أن هذا اعتراف بأنه كان يعلمها، وأنه قرأ عن كل شيء. إن تصديق مثل هذا الكلام فيه كل العبث بالعقل البشري، أما سياحاته في الشام فقد سبق عنها الكلام في الفصلين السابقين. وهناك رأي آخر يقول به بعض المستشرقين وهو أن محمدًا كان يقتدي بموسى عليهما السلام، وأن دعوته كانت لحب السلطان. يقول هذا القول المستشرق مرجوليث في كتاب تاريخ العالم العام ونقول ردًّا على هذا: إن غرائزه وإلهاماته كانت واضحة تمام الوضوح، ولتصرفات الشخص في صغره دليل على غرائزه وميوله، ولم يكن في غرائزه - عليه السلام - ما يؤخذ منه حب السلطان وحب المال والتملك، أو غرائز الهدم والإفساد وحب الظهور وهي أظهر الغرائز في حياة الأطفال الذين يرجح أن يكون لهم شأن في المستقبل، بل بالعكس كانت غرائزه العاملة هي التواضع والوحدة ونفي الخلاف، ولم يعرف عنه أنه استغل سلطانه في الاستفادة المادية وهي أهم ما يطمح إليه العظماء. كذلك لم يشتهر بالشعر ولا بالدعاية لنفسه وهما أقوى المؤثرات في عصره وفي كل عصر مما كان يهيئ له أن يجمع حوله جماعة الأنصار يعد بها العدة للمستقبل الذي يتهيأ له لو أنه شخص ذو مطامع. هذان هما الرأيان السائدان في كتب المستشرقين، وهناك رأي ثالث يستنبطه بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة وهو أن محمدًا - عليه السلام - كان على علم قليل بالأديان السابقة، غير أنه رأى أن العالم محتاج للإصلاح المعنوي والنفسي، وأن لا وسيلة لإصلاح المجتمع إلا بهدم الخرافات والمعتقدات الزائفة فبدأ بالدعوة لهدم كل هذا. وإنك لتجد في هذا الرأي أثرًا واضحًا للثقافة والتعليم الراقي، فأصحاب هذا الرأي ما حكموا هذا الحكم إلا بعد الاطلاع على تاريخ العالم الذي لخصناه لك في أول هذا الفصل، ثم درسوا المعتقدات التي كانت شائعة في ذلك العهد وكذلك تعلموا الموازنة بين الأديان، ثم درسوا التاريخ السياسي والاقتصادي للأمم كلها حتى القرن العشرين؛ ولذلك كان هذا الاستنباط لا يعد استنباطًا بل يعد تقريرًا لما حصل ووليد الاطلاع على الأسباب والنتائج، وهو تفسير لسر الدعوة التي قام بهم الإسلام. فهل كان يتسنى لرجل عاش في الجاهلية الأولى أن يعلم كل ذلك على غير معلم في صحراء قاحلة؟ وهل من الممكن لعقل بشري أن يسع كل هذا التحصيل والإنتاج والتشريع وحده من غير معين من الأساتذة أو الجهابذة، مع ما علَّمنا علم النفس اليوم أن للعقل طاقة وللذاكرة احتمالات لا يمكن تجاوزها من غير أن يختل توازنها اختلالاً عصبيًّا. فأصحاب هذا الرأي يعرفون المقدمات والنتائج بأجمعها، فينسبون له - عليه السلام - قوة لا يتسنى لأحد من البشر إدراكها في ذلك الوقت الذي بدأ فيه الوحي، وهنا سر اختلال هذا المنطق وهذا الرأي؛ ففرق كبير بين أن تدرك الأمر من أوله وبين أن تعرفه بعد نهايته بأربعة عشر قرنًا، وأن تعرف أسباب نجاح الدعوة وتضيف إليها استنباطًا من عندك بعد أن تقرأ كل ذلك في كتاب واحد مأخوذ من آلاف المصادر. ولو أدت دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى نتيجة عكس ما أدت إليه لما عدم أصحاب هذا الرأي ألف حجة على خطئها وعدم ثقافة الداعي لها مما سنشرحه فيما بعد. وهنالك رأي أخير وهو - على ما فيه من تهاون - جدير بالذكر والتمحيص، وهذا رأي أصحاب الفلسفة الحرة أيضًا، وهو: أن ليس لعظماء الرجال حاجة إلى التعليم، وإن أكثر العظماء لم يكونوا من المثقفين، بل يكفي للنجاح فكر صافٍ، وقلب طاهر جبار، وعزيمة صادقة، وإخلاص حر عميق، وإيمان ثابت. وإنا لنقف برهة أمام هذا الرأي لنقلبه ونقف على كنهه؛ لأن نواحي عظمة الرجال متعددة، فإذا صدق هذا القول عن رجل سياسي يقيم ثورة، أو يهدم عرشًا، أو يفتتح دولة، أو يستأثر بسلطة - فإنه لا ينطبق على صاحب دين أساسه قوة الحجة وسلامة المنطق، ويتناول التاريخ القديم والحديث في زمنه فينفي ويثبت ويناقش ويجادل، ولابد لهذا كله من ثقافة واطلاع لا وسيلة للإلمام بهما. فإذا كانت الإلهامات والإخلاص والإيمان وحدها هي مصدر كل هذه المعلومات فإننا لا نشك أن مسافة الخلاف بين منكري النبوة والمؤمنين قد قربت إلى أدنى حد؛ لأن الإلهامات التي تتحدث بالغيب، وتعلم المجهول، وتحيط بتاريخ الأوائل والأواخر، وتنفي وتثبت بطريق القطع والصواب، هذه الإلهامات هي فيض من فيض الرحمن، ورسالة من الملأ الأعلى. وليس الصدق الصرف والإخلاص الحر والإيمان الثابت الذي لا يتحدث به صاحبه، ولا يكتسب به شيئًا من حطام الدنيا، بل احتمل مرارتها لهداية البشر وإنقاذ البشرية - ليس ذلك كله إلا مرتبة من مراتب النبوة. وهناك مسألة جديرة بالنظر والتفكير، وهي أن الإسلام ليس للزهد والآخرة فحسب، بل نظم أعمال الإنسان في الدنيا لتكون وسيلة إلى الآخرة، وشرّع من القوانين في الحياة المدنية ما ينظم الهيئة الاجتماعية وعلاقات الأفراد والأمم، وهذه ليست طريقة عظماء الرجال رجال الدول أو رجال السيف، بل المعروف عن كل عظيم أنه استعان بالأحكام العسكرية ليمنع حرية الناس في حدود القوانين التي يضعها لصالح الدولة أو الفكرة التي يقيمها، وهذا هو الأمر الشاذ في دعوة الإسلام فلقد كانت مبادئه عامة. ولننتقل الآن إلى مسألة أخرى جديرة بالنظر والبحث، وهي أننا لو فرضنا محمدًا صلى الله عليه وسلم رجلاً عظيمًا فحسب هل كان يتّبع تلك الخطة التي اتبعها في نشر دعوته؟ وهل كان ينتخب لها ذلك الوسط والزمن اللذين قام فيهما؟ وهل كان من صالحه أن يقوم بهذا النوع من الدعوة لله؟ لقد أجمع المؤرخون أن مكة كانت وثنية حقًّا، ولكن ما الضرر الذي يصيب العالم من عبادة الأوثان أو الأحجار ما دام ذلك لا يؤثر في حياتهم ومعاشهم، وهذه أمة اليابان مثلاً تغلغلت في الوثنية إلى العهد الحديث ومع ذلك طفرت إلى المجد طفرة واحدة، فالضرر الذي يحصل من عبادة الأوثان إن هو إلا ضرر في نوع من أنواع التفكير الصحيح، وإذا كان الدين هو معرفة حقيقة الله فقط من غير أن يكون وراء هذه الحقيقية مبادئ أخرى تنقذ البشرية من براثن الأوهام واستغلال العقول لتساوت جميع الأديان، وهناك أديان تكاد تلمس التوحيد ولكنها خالية من روح المنطق، فترى في هذه الأديان أن البقر معبود يقدس ويعد روثها بركة وتشرب أبوالها، في حين تعد فريقًا من الناس نجسًا لا يصح لمسه وتجعل هذا الفريق من الناس محكومًا عليه أن يعمل في الأقذار والأوساخ، فما الفائدة التي تعود على العالم من مثل هذا غير العبث بالإنسانية. وهناك بعض الفرق التي اخترعت لها مذاهب في الأديان السماوية ورجعت بالإنسان القهقرى إلى أنواع عبادة الأصنام والأشخاص، فيوزن صاحب المذهب بالذهب كل عام ويؤخذ هذا الذهب من أتباع مذهبه، ومن هذا يتضح لك أن التوحيد هو تحرير الفكر من كل شيء، ولنرجع إلى ما كان سائدًا في مكة: فالمهم والواضح أن اليهود - اتباع الدين الإلهي الأول - كانوا يستغلون أموال هؤلاء الوثنيين بالربا الفاحش إلى حد استعباد الناس، ودفعهم ببناتهم للبغاء تسديدًا للديون الباهظة التي جرها الربا الفاحش. وقد كانت حالة العرب الوثنيين من الفقر والإملاق والبؤس والتشريد مما يستوقف النظر العادي، وكانت مصيبتهم الاقتصادية والأدبية مما يبعث على التفكير في هدم اليهودية لا الوثنية، فإذا أضفت إلى ذلك أن مكة ليست بلدًا زراعيًّا بل وادٍ غير ذي زرع تكتنفه الجبال والصحاري، علمت أن كل أرزاق الناس كانت من التجارة ورعاية الماشية في الأماكن البعيدة. ومكة على حالها الآن أهون بكثير من مكة قبل الإسلام؛ فمورد مياهها الآن متوفر من (عين زبيدة) الذي جر إليها بعد الإسلام وكانت قبل بلقعًا جافًّا. وإذا عرفنا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان تاجرًا، فإن هناك مسألة لا بد أنه كان يعرفها، وهي أنه رأى بعينيه وسمع بأذنيه مصدر ألم الناس وفقرهم هذا الفقر الذي يقاسيه أهله وعشيرته من الربا والإملاق نتيجة طغيان أصحاب رؤوس الأموال من اليهود الذين استأثروا بتشريع القوانين بمكة، فأذلوا بهذا التشريع أعناق العرب، ودفعوهم دفعًا إلى استثمار أعراضهم في البغاء [2] . فالرجل العظيم الذي يوجد في مثل هذه الظروف لو كان غير محمد صلى الله عليه وسلم ونصب نفسه للدفاع عن المظلوم ونصرة الضعيف فإنه كان يتخذ طريقًا مباشرًا للقضاء على أصل الداء من منابته، والتاريخ يدلنا على أن عظماء الرجال الذين عا

الفصل الخامس التوحيد هو روح الحرية

الكاتب: حسين الهراوي

_ الفصل الخامس التوحيد هو روح الحرية كان بودي أن أجعل مقدمة البحث في التوحيد ملخصًا لنشأة فكرة الأديان في العالم وأن أتناول بالتحليل كل دور من أدوار التفكير الإنساني الأول على ثقافته الضئيلة ليعثر على سر الوجود، ويتفهم تلك القوة المسيطرة على العالم فتسير به على هذا النمط المحكم الذي أدهش عقل الإنسان منذ تكوينه إلى الآن. إلا أن هذا البحث يعد من قبيل المعلومات العامة في التاريخ القديم وكثير منها معروف، وفيه الدليل على أن فكرة الإنسان في وجود قوة أكبر من قوته تكاد تكون في قدمها وعهدها كعهد الإنسان على ظهر البسيطة، وأن العقل أدرك بفطرته أن هذه القوة موجودة، ولما أعيته الحيل في حسها ولمسها جهد أن يدركها من مظاهرها وأثرها في الحياة، فعبد النيل لأنه يقوت الشعب ويعود بالخير والبركات، وعبد النار لأنها مصدر قوة عظمى ويشعر بضررها فعبدها خوفًا منها، وعبد الحيوانات المائية كالتماسيح لأنه ظن أن الروح القوية أو روح القوة تحل فيها، وقدس الأبقار لأن في لبنها قوة له، ثم عبد أشخاص الأبطال في صور من تماثيلهم؛ لأنه رأى فيهم قوة إنسانية تفوق قوة الإنسان العادية، ثم فكر في أقوى المؤثرات في الكون فعبد الشمس وحدها. كان الإنسان في كل هذه الظروف يتلمس إيجاد سر الوجود، والعثور على معرفة الحقيقة لروح الحياة. يقول بعض المشتغلين بالفلسفة الحرة: إن الإنسان لم يبحث بغريزته عبثًا عن مصدر تلك القوة إلا لأنه ضعيف في كثير من أوقات حياته، وقليل الحيلة فيما ليس من قدرته، وقليل الإدراك لظواهر الطبيعة التي تبهر نفسه؛ فهو في حال المرض لا يقوى بنفسه على محاربة الداء، وفي حال الجدب لا يقدر على إنزال الماء من السماء، فلجأ من ضعفه أن يستمد العون من قوة أخرى تخيلها أنها أكبر منه سلطانًا على الوجود، ورمز لها بتماثيل يسجد بين يديها يستمد العون منها ولو تمشينا قليلاً مع هذه النظرية والفرض لخرجنا منها بنتيجة لا تقبل الشك، وهي اعتراف الإنسان اعترافًا صريحًا بعجزه منذ القدم إلى يومنا هذا في حل سر الوجود بعقله المطلق وفكره الشخصي مهما علت ثقافته ومهدت أمامه أسباب العلم. وهذه نتيجة هامة فليتذكرها القارئ؛ لأننا سنعود إليها فيما بعد، غير أننا نشير الآن إلى أن اعتراف الإنسان صراحة بعجزه وضعفه جعله ينظر إلى العالم نظرة فلسفية من غير أن يشعر، فقد اعتقد أنه لم يوجد لا ليكون ضعيفًا ذليلاً فتناهى في طلب الذل والتقشف والزهد والخنوع، فأخذ يتلمس طرق إرضاء خياله عن القوة المسيرة للعالم من طريق إذلال النفس وقتلها بأنواع شتى من التعذيب، ترى صورًا منها في الأديان القديمة التي ما زالت آثارها باقية حتى اليوم، كفقراء الهنود الذين يتعبدون بالجلوس على المسامير، أو رفع أيديهم إلى أعلى حتى تجف أو تتقدد، أو غرس شص من الحديد في ظهورهم، أو يعلقون على الأشجار، وقد تغالى الإنسان في زعمه هذا منذ القدم حتى قدم الدم الإنساني قربانًا لاستجلاب الرضا. وقد يقال: إن العالم تطور كثيرًا، ووجد فيه من العلماء والفلاسفة من أرشدوه إلى معرفة شيء عن النفس الإنسانية، ومع ذلك لا نشك أن فطرة الإنسان قد جعلته يفكر في القوة التي أوجدت هذه الكائنات، وكانت فكرة الدين جزءًا من عقلية الإنسان، ونرى ذلك متجليًا عند استكشاف (كورتس) لأمريكا الوسطى وتوغله في بلاد المكسيك لأول مرة؛ حيث حدثنا عن وجود ديانات فيهم لا تختلف كثيرًا عن ديانات العالم القديم، ووصف لنا المذابح البشرية قربانًا للآلهة مما يدل على أن فكرة الدين واحدة في العالم القديم والجديد متأصلة وجزء من تكوين الإنسان، وإن كان الطريق للعبادة مرسومًا على قدر تفهم الإنسان معنى الحياة كما يوحيه إليه ضعفه وعجزه، والتماس معرفة تلك القوة العظمى التي أوجدته وصيرت العالم بذلك النظام البديع الذي بهر نفسه. وإذا تتبعت تاريخ هذا التطور وجدت أنه حتى بعد ظهور أديان سماوية استمر تعذيب النفس واحتمال الأذى، وكانت منتشرة في أوربا في البلاد التي يفتحها المسلمون؛ حيث يحدثنا التاريخ أن بعض المتقشفين أخذوا يعذبون أنفسهم تقربًا لله بأنواع من العذاب كربط الساق حتى يتغنغر ويفسد ويتساقط منه الدود، وكعدم الاستحمام وعدم تغيير الملابس حتى تتساقط من نفسها، وكالجوع المستمر حتى الإشراف على الموت، أو غير ذلك من ضروب الاحتمال للآلام [1] . وفي كل ظرف من هذه الظروف نرى ظاهرة أخرى في تفكير الإنسان، وهي أن هناك واسطة بين الإنسان وتلك القوة القادرة التي تخيلها، فاستغل قديمًا جماعة الكهنة في مصر ذلك حتى نازعوا الملوك سلطانهم، وفي البلاد التي ما زالت في الوحشية الأولى أقامت أمثالهم مقام السحرة، أو غير ذلك مما يطول شرحه. وفي الهند نرى سلطان كهنة المنبوذين يكاد يشاطر الرجل رزقه، وأنهم يعيشون عالة على الناس من قبيل الاستهواء الديني. بعد هذه المقدمة الوجيزة لتاريخ فكرة الدين نعتذر عن عدم الإطالة؛ لأن هذا الموضوع من المعلومات العامة التي يستطيع الباحث أن يجدها في الكتب المتعلقة بهذا الموضوع، ولعله يستطيع إذا اطلع عليها أن يلم بها إلمامًا تامًّا، وأن يعرف أن التوحيد في الله كان معروفًا حتى قبل ظهور الإسلام؛ لأن هناك أديانًا سماوية سبقت، ولكن كبار عقول الفلاسفة حتى بعد ظهور الأديان أخذوا يتلمسون أسبابًا منطقية ليقنعوا أنفسهم بوجود خالق. ويطول بنا أيضًا شرح هذا، إلا أننا نشير إلى أنهم انقسموا ثلاث فرق: (1) فريق نظر إلى الأديان بفكره الفاحص فقط ثم اقتنع. (2) وفريق فرض الشك وأراد أن يقنع نفسه من طريق التشكيك في كل ما أمامه من الأديان. (3) وفريق ترك كل هذا وأراد أن يبحث عن سر الوجود بنفسه. فأما الفريق الذي اقتنع بنفسه ببحث الأديان التي أمامه فلا مناقشة لنا معه. وأما الفريق الذي أخذ يتشكك ليقنع نفسه من طريق الشك فعلى رأسه (ديكارت) وهذا مذهب أقل ما فيه أنه مبني على زعزعة المنطق، وأن الرجل يفرض نفسه مثلاً أعلى في الكمال العقلي فيريد أن يقنع نفسه بنفسه لا من طريق تفهم الشيء بذاته بل طريق التشكيك فيه، وهنا لابد أن تعترض الشخص أمور أكثر تعقيدًا من أن يحلها بنفسه، ولنضرب لك مثلاً: ديكارت نفسه لا يعرف شيئًا من العربية فلا يمكن أن يعرف إعجاز القرآن، وديكارت لا يعرف شيئًا من علم الفلك فلا يمكنه أن يفسر الآيات التي تعد إعجازًا في علم الفلك، كما توجد آيات أخرى تعد إعجازًا في الطب لا يمكنه فهمها. ومن عيوب العقل الإنساني أنه كثير الزهو بنفسه وإن الفيلسوف يظن نفسه بطلاً في كل شيء، مع أن دينًا كالدين الإسلامي تناول كل أنواع التفكير والتشريع، وهذا أكثر من أن يحكم عليه إنسان واحد. أما فريق الماديين فليس من موضوعنا مناقشتهم؛ لأننا نرى في القرآن إعجازًا يقنعهم، وأن الإسلام يتمشى مع العلم جنبنًا إلى جنب، وأن في آيات: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 2) و {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ} (الأنعام: 2) و {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) لأدلة إذا تفهمها هؤلاء الناس لخروا ساجدين، إلا أننا لا نتكلم في هذا البحث الآن؛ وإنما نقتصر على الإعجاز النفسي في الإسلام، على أننا نرى من وجهة أخرى أن الموضوعات العلمية الفنية تتمشى جنبًا إلى جنب مع الإسلام، فأول آية من آيات القرآن الكريم: {اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1 - 5) . فأنت ترى أن أول نداء للإسلام كان على دعامتين: الله والعلم، وترى كثيرًا من آيات القرآن أحالت على تعلم وتفهم دقائق الحياة وعناصرها، وتركت للعقل البشري حريته في البحث والاستقصاء، وتركت للفكر والسمع والبصر والأفئدة سبيلاً لمعرفة الله عن طريق العلم {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ... } (فصلت: 53) ولقد قامت الدعوة الإسلامية على مناقشة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان. والظاهرة الغريبة جدًّا أن الإسلام لم يجعل فاصلاً بين المرء وربه، وجعل الناس كلهم سواسية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13) {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} (آل عمران: 144) وهو إنسان كجميع الناس لولا أنه نبي كريم، وبهذا ترى أن التوحيد ضرب الحجر على العقول ضربة قاضية، وضرب استضعاف المرء لنفسه ضربة قاتلة، وساوى بين الناس جميعهم، كما هدم كل أساس للأفكار الخيالية في التقرب من الله بطريق تعذيب النفس (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق) كما ضرب الوساطة بين العبد وخالقه ضربة لا قيام لها. انظر وتأمل هذا النبي الكريم على جلاله وعظمته، وعلى مكانته عند الله والناس لما رأى رجلاً مقبلاً يرتعد رهبة قال - عليه السلام -: (خفّض عليك، أنا ابن امرأه كانت تأكل القديد بمكة) . في هذه الحادثة وحدها، وفي هذا الحديث وحده كل معاني الحرية وكل معاني المساواة وكل معاني حكمة الإسلام في الحرية الشخصية. ولنذكر لك أثر التوحيد في تكوين النفس، وكيف تطور الفكر الإنساني بمبدأ التوحيد، ونبتت عند الناس فكرة الحرية الشخصية والدينية منذ الساعة الأولى التي قرع سمع العالم هذا النداء الإسلامي. لقد كان طبيعيًّا أن تصادم هذه الدعوة الحرية - بكل معانيها - بالعقائد التقليدية التي سبقت الإسلام، وهي عبارة عن اعتراف الإنسان بضعفه اعترافًا صريحًا - كما تقدم - وإقراره بحدود ضيقة لعقله لفهم تلك القوة الهائلة المسيطرة على العالم، وعبادة البطولة والأبطال والقوة في رموز من التماثيل يستلهمها وقت الضيق، ويتقرب منها عند الحاجة، فقام نزاع شديد بين هذه التقاليد الموروثة في الجمود الفكري. ورأى الناس الدعوة الله والعلم عن طريق الفهم والحجة والبرهان والعقل، فنشبت معركة هائلة بين العقل والقوة، ومظاهر القوة مادية محصنة فلجأ المكذبون إلى إيذاء النبي وصحبه وإنزال العذاب بهم مما يشيب لهوله الولدان، بالضرب وبالحرق، والكي، بكل أنواع الوحشية. ذلك لأن عقول هؤلاء الناس لم تكن في أدمغتهم؛ ولكن في أيديهم وفي أدوات اعتداءاتهم، كما رباهم على ذلك هؤلاء الناس الذين استعلوا ضعفهم الفكري، فاستغلوا عواطفهم لاستدرار الأموال منهم. ولقد صبر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الأذى والعذاب، وهذا الصبر والثبات في موضعهما ضرب من ضروب تطور الفكر الإنساني من حال إلى حال؛ فالناس قبل الإسلام كانوا يحتملون العذاب تقربًا من الله، ويحتملون الأذى الفكري من غير فكرة معينة عن الله، ولكن إصرار المسلمين على عقيدتهم، واحتمالهم الآلام في سبيلها، هو دفاع عن حرية الرأي والعقيدة، دفاع عن حرية التفكير، دفاع عن الحرية بكامل معانيها، فصاروا يقبلون العذاب في مقاومة العادات والأخلاق الموروثة، وفي سبيل تحرير الفكر. وهناك ظاهرة غريبة أغرب مما يتصوره العقل، فقد مضت ثلاثة أعوام على دعوته صلى الله عليه وسلم ولم يتبعه إلا ثلاثة عشر شخصًا، وهذا يدلك على مقدار جمود الفكر في تلك الأيام، وإذا قست ذلك بما يحصل في زمننا هذا لوجدت فرقًا كبيرًا؛ فإن حرية التفكير الآن تجعل كثيرًا من الناس يعتنقون الم

الفصل السادس أثر التوحيد الاجتماعي

الكاتب: حسين الهراوي

_ الفصل السادس أثر التوحيد الاجتماعي لم يكن الفضل في مبادئ الإسلام لشخص معين، قد علمت أن محمدًا - عليه السلام - كان يضع نفسه موضع الإنسان، لا موضع صاحب السلطان، وكان وحده المثل الكامل في البذل وفي العدل؛ فلم يستغل يومًا مركزه ودعوته العظمى لنفسه ولا لشيء من حطام الدنيا، بل كانت دعوته خالصة لله ولتحرير الفكر، فلم يأخذ نصيبًا من غنيمة يزيد على نصيب سواه، ولم يدِّع لنفسه شيئًا خارقًا، ولم يقل أن صلته بالله - تعالى - تزيد على صلة العبد - وكلنا عبيد لله - ولم يفضل الناس إلا بأنه رسول الله، وهذه منزلة اختاره لها الله، سبحانه وتعالى. وكان أصحابه - عليه السلام - ينظرون إليه هذه النظرة أيضًا؛ ولذلك قال أبو بكر حين توفي - عليه السلام - ودهش الناس للخبر: (من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت) . وفي حياته - عليه السلام - لم يكن مستبدًّا برأيه في أمور الدنيا، بل كانت أمور المسلمين شورى، وكان أصحابه يختلفون معه في الرأي، والتاريخ يدلنا على أن سيدنا عمر اختلف في الرأي مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في نحو عشرين مسألة وعزز الوحي رأي عمر دون رأي رسول الله، أشهرها: مسائل قتل أسرى بدر، ومسألة الحجاب، ومسألة الخمر، ومسألة الاستغفار للمنافقين، إلى غير ذلك. هذه الحقيقة ترشدنا إلى مغزى كبير، وغاية كبرى من مغازي التوحيد والنظر إلي أن الإسلام لا يجعل سلطانًا على النفوس والعقول والأفهام إلا الله وحده، وما دون ذلك فالجميع سواء وآراء الناس كلهم قابلة للشورى والفحص ولو كان الرأي لرسول الله نفسه. وليس بعد ذلك وضوح لتقديس حرية الفكر، التي هي دعامة من الدعامات الأصلية في الإنسان وهذا هو أظهر معنى من معاني الإسلام. ولكن جماعة المستشرقين يعمدون إلى القاموس ويتفهمون منها معنى كلمة الإسلام، ويقولون عنه ما قال مرجوليث إن معناه (الذل والخضوع) ومع ذلك لا يقولون أنه استسلام لله، بل يقولون أنه الخضوع فقط. ولقد رأيت في فصل التوحيد أن المعنى الذي تعبر عنه كلمة الإسلام هو معنى تضيق به صفحات الكتب الضخمة، وأن له معني روحيًّا أو اجتماعيًّا كما سبق ذلك. ولذلك كان أول أثر من آثار توحيد الله وترك المعتقدات القديمة هذا التوحيد بين القلوب في قبائل العرب، وهذا التوحيد في الإخاء بين الشعوب المتفرقة، وهذه النهضة الكبرى التي جمعت الأمم كلها تحت طابع واحد حين افتتح العرب الأقطار وورثوا ملك الفرس والرومان. وإنك إذا تصفحت التاريخ لعلمت أن الأمم الفاتحة الغازية لا تخرج عن واحدة من ثلاث: 1 - أمة تتخذ الحرب صناعة وحرفة وموردًا للرزق كالأتراك الأقدمين في فتوحاتهم؛ فلا يعمرون ما يفتحون. 2 - أمة تجارية كالفينيقيين وإنجلترا تغزو الممالك لفتح أسواق لتجارتها. 3 - أمة تطلب السعة من الأرض لضيق أهلها بها؛ فتغزو البلاد طلبًا لمنفذ جديد يعيش أهلها فيه. وهناك من الأمم من يفتتح الممالك حبًّا في الفتح، كالإسكندر، ونابليون وأمثالهما، وهؤلاء تموت فتوحاتهم بموتهم. ولم يحدثنا التاريخ أن أمة من الأمم فتحت الممالك لأجل بث فكرة، أو نشر مبدأ غير العرب بعد الإسلام، فالعرب قاموا بفتوحاتهم لنشر المبدأ والفكر، وتعميم الوحدة البشرية. يتجلى لك ذلك من كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم للملوك والأكاسرة، ولم يكن في هذه الدعوة غير نشر فكرة التوحيد، ولم يكن - عليه السلام - من زخرف الدنيا بحيث يحاكي من كاتبهم في الأرستقراطية والعظمة؛ ولكنه كان يدعوهم دعوة ديمقراطية متواضعة. يقول مرجوليث: (إن الإسلام هو الدين الحربي) مشيرًا بذلك إلى الغزوات، وإلى مبدأ القتال في الفتح الإسلامي، وإلى تخيير الأمم غير الإسلامية بين القتل والجزية. وليست المسألة في غموض يدعو إلى كل هذا الغمز واللمز، فالجزية هي نوع من الزكاة على غير المسلم [1] ، والإسلام دين فيه كل معاني الديمقراطية الاشتراكية والحرب وسيلة. ليس من ينكر أن للجهل عقوبة، وليس من ينكر أن الجمود الفكري والاستسلام للتقاليد نوع من الرجعية العالمية، وليس لمستشرق أن يلوم الإسلام على هذا، وليس له أن يضع رأيه في كفة ميزان ورأي عقلاء العالم أجمع في الكفة الأخرى. فها نحن أولاء قد عرفنا أن دعوة الإسلام لله وللعلم، وليس في هذه الدعوة عار على الإنسانية. وقد رأيت أن الزكاة فرض على كل مسلم، فكيف يعيش غير المسلم في هذا الوسط من غير زكاة؟ وليس بيت مال المسلمين بمقصور على معاونة المسلم فحسب، بل وغير المسلم بلا قيد ولا شرط. وليس أدل على تفسير هذا المعني من مبادئ الإسلام التي شرحها النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون بعده، وقد رأينا من أعمالهم المساواة المطلقة بين المسلم وغير المسلم، وفي قصاص سيدنا عمر من ابنه لأجل حق امرأة مسيحية قبطية ألف دليل ودليل. وفي قوله رضي الله عنه: (متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا) كل مبادئ الإسلام من الحرية والإخاء والمساواة. وفي وصايا سيدنا علي للأشتر النخعي الذي ولاه على مصر ما يزيد الشرح ويجلي البيان، ولقد قال له: (اعلم يا مالك أني وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول من قبلك من عدل وجور، وإن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم.. . ولا تكونن عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق) . إلى قوله: (ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين، وأهل البؤس، والزمْنَى فإن في هذه الطبقة قانعًا ومعترًّا، واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسمًا من بيت مالك، وقسمًا من غلات صوافي الإسلام في كل بدل، فإن للأقصى منهم مثل ما للأدنى، وكلٌ قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذربتضييعك التافه لإحكامك بالنظر في الكثير المهم) . ومن هذا ترى أن الجزية والخراج هما تنظيم للإحسان، بلا فرق بين الأديان؛ لأنهم متساوون في نظر الإسلام من جهة الخلق، وليس جعل الإحسان قانونًا بعارٍ على الإنسانية، وقد رأينا أن استجداء الضمائر للإحسان أخفق ولم يثمر في كثير من البلاد المتمدنة، والارتكان على العاطفة الإنسانية وحدها لم يكف منذ هجر الناس مبادئ الإسلام إلى اليوم. ولعمري إنك لو اتخذت رسالة سيدنا علي هذه على حقيقتها لوجدتها تفسيرًا واضحًا للسياسة الإسلامية، ويكفي قوله لعامله: (إن الناس إما أخ له في الدين أو نظير له في الخلق) أن يعرف الناس جميعًا أن الإسلام لا يفرق بين الأديان في المعاملة، والأخص في الإحسان، والحق في بيت مال المسلمين. والتفسير النفسي لكل ذلك هو أن الإسلام يعامل الغرائز البشرية بميزان العقل والحكمة، والتشريع الأوروبي يعامل الناس بالتجارب والاختبار، ولم يهتد إلى الآن إلى أن الإسلام مبني على معرفة أدق بعلم النفس، فالله الذي خلق النفوس حدد عقوباتها وحدد معرفتها، إذا علمت ذلك فلا اعتراض، ومن يقل: إن هذا ليس من عند الله - فليأت ببرهانه المنطقي الذي لا شعوذة فيه، ويكفي أن مبدأ تحريم الربا أخذ الآن يتطور في أوربا الحديثة إلى شكل الإفلاس في الدفع بتغيير أسعار العملة وتخفيض قيمتها فلا يدفع المدين لدائنه شيئًا، ويكفي أن ألمانيا قللت من سعر عملتها إلى الصفر لتجمع ذهب العالم، ثم ألغت هذه العملة. وليس من المجهول أن عقوبة الجمود لازمة. فالتعليم إجباري في كل بلاد أوربا له قوانين تحميه، وعقوبة الحبس توقع على من لا يعلّم أولاده، وعقوبة السجن لمن يزوِّر في إيراده حتى لا يدفع ضريبة الدخل، وضرائب الدخل والربح أصبحت مبدأ أوربيًّا بعد أن قررها الإسلام بشكل أدق منذ أربعة عشر قرنًا في ركن من أركان الإسلام وهو الزكاة. فهذه المبادئ التي تتقدم إليها أوربا نتيجة الاختبار والتجارب هي المقررة في الشريعة الإسلامية، فطلب العلم فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، والنظام الاجتماعي في الشورى، والسياسة العامة في الأمن، والعلاقات الشخصية كلها من تعاليم القرآن. ولعل أبلغ رد على تعامل أوروبا بالربا - وهي المعاملة التي حاربها الإسلام وحكم عليها بالموت - هي تلك الظاهرة الغريبة التي تبدو في أوربا اليوم من قيام حكومات اشتراكية محضة تحرم الرأسمالية وجمع الثروة في أيدي فئة خاصة وهو سر تحريم الربا؛ لعدم استئثار فئة من الناس بالسلطة المالية والاستبداد بالعالم. فهناك لما وقعت أوروبا في الأزمة المالية التي تنبأ بها الإسلام من التعامل بالربا، لجأت أوروبا وأمريكا إلى طرق الحيلة بفصل العملة عن الذهب فهبط ثمن النقود، وأخذت تراود في دفع الفوائد بعد أن نقصت رأس المال تخلصًا من ذلك الكابوس الاقتصادي. أفليست بهذه الطريقة تتلمس طريقها في الظلام لتهتدي إلى طريق الخلاص، وشعاع واحد من أشعة الإسلام يجلو عن العالم ذلك الظلام الدامس وهو عدم التعامل بالربا، ثم انظر إلى الخراب الذي حل بمن استدانوا من المصارف المالية وبيعت أطيانهم بأبخس الأثمان، وما في ذلك من العبر. إن العالم يسير اليوم على نظام اقتصادي أصبح ثابتًا، وليس من السهل زعزعته بين يوم وليلة، ولكنه على أي حال نتيجة اعتماد الناس على تكفيرهم، ولكنهم أيضًا يلجئون إلى التخلص منه من طريق التجارب، وهم يقتربون نحو الحقيقة بخطوات وئيدة. ((يتبع بمقال تالٍ))

الفصل السابع تعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد

الكاتب: حسين الهراوي

_ الفصل السابع تعليقات المستشرقين على التوحيد وحياة محمد لقد رأيت في الفصول السابقة أثر التوحيد في تحرير الفكر، ومنع الوساطة بين الله وبين الإنسان، وأن من مبادئ الإسلام كفايته وقدرته العقلية على الفهم والمساواة بين الناس أجمعين، وتحديد العلاقة بين الناس، وواجب صاحب السلطان نحو رعيته، وواجب الرعية نحو الراعي، كما يتجلى في كتاب سيدنا علي كرم الله وجهه (وقد تقدمت نبذة منه) . هذه المبادئ لا ترضي المستشرقين، وليس من صالح الأمم الغربية أن يعرفها أهلها حتى لا يندفعوا أيضًا نحو تلك المبادئ، ومن هنا كان عمل المستشرقين مزدوجًا به تشويه الإسلام، وتنفير أوروبا وحمايتها منه. ولذلك رأينا من فلاسفة أوربا آراء أقل ما نقول فيها أنها عربدة في قالب مزخرف وجهل في ثوب منمق. فانظر إلى رينان في كتابه عن ابن رشد ومذهبه إذ يقول: (إن خواص النفس السامية - أي التي منها العرب - تتجلى في انسياق فطرتها إلى التوحيد من جهة الدين وإلى البساطة في اللغة والصناعة والفن والمدنية، أما النفس الآرية - التي منها أوربا - فيميزها ميل فطري إلى التعدد وانسجام التأليف) . وكثير من المستشرقين على هذا النمط المضحك من الاستنتاج ويريدون بذلك أن يقولوا إن دين العرب على قدر عقولهم. وليس أدل على عدم المنطق وإغفال الحقائق في هذا القول من أن العرب قبل الإسلام كانوا مشتركين غاية في الشرك، فكيف اتفق ذلك من ميولهم؟ ولماذا قاوموا الدعوة الإسلامية في مبدئها، وكيف وُصفوا في القرآن بقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} (يوسف: 106) . وكان من شرك الجاهلية أن تلبيتهم في حجهم كانت الشرك المجسم، فكانت قبيلة نزار تقول: لبيك لا شريك لك ... إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك (راجع كتاب الأصنام) ثم ارجع معنا إلى الفصل السابق من التوحيد، وتدبر معنا سر الوحدة العربية، وأن الإسلام طبع الأمم التي انتشر فيها بالطابع العربي وإن لم يكونوا من المسلمين، وليس أدل على العدل المطلق من أن يتكافأ الشخصان على تباين دينهما أمام الإسلام في القضاء، وأن لا يكون للمسلم ميزة على غيره كما سبق. هذه المسألة - وهي التوحيد في المعاملة، والتوحيد في النظر إلى الأجناس المختلفة في ظل الإسلام - لا ترضي جماعة المستشرقين؛ لأنهم طلائع التفريق وتشتيت الوحدات العربية والبلاد الإسلامية. فاستغلوا علومهم في البحث والتنقيب واختراع النظريات الملفقة والدعاوى المشعوذة، فهاجموا أسماء قواد المسلمين وعظماء الفاتحين وأخذوا ينسبونهم إلى غير العرب وغير الإسلام. وبذلك أصبحنا نقرأ من نفثات أقلام المستشرقين مباحث علمية عويصة - اقرأ واعجب - أن أهالي مراكش من البربر ما عرفوا الإسلام وما آمنوا به في يوم من الأيام، وأنهم لا زالوا غير مسلمين، وأن العرب الذين فتحوا الأندلس وغزوا فرنسا وإيطاليا كانوا مسيحيين، وأن طارق بن زياد القائد العظيم، والذي رفع منار الإسلام في الأندلس لم يكن عربيًّا، ولا مسلمًا ولكنه كان بربريًّا مسيحيًّا، وقد استعار جيرو هذه النظرية للإصلاح القانوني في مراكش (راجع تقرير لجنة العمل المغربي المقدم للمؤتمر الإسلامي ببيت المقدس صفحة 4) . وليس من غرضنا أن نتكلم في موضوع السياسة والاستعمار ولكن هذه النظريات ليس الغرض منها سوى تشتيت الأمم وتمزيقها وخلق عصبيات متعددة فيها مما أصبح مألوفًا لدى كل من له أقل إلمام أو اطلاع على تاريخ الاستعمار وطرق استثمار الخلافات في الجنس والدين. أما وحدة اللغة العربية فقد عمل الستشرقون كل ما يمكن عمله لتشويهها وإظهارها في مظهر أضعف لغات العالم، وأن اللغات واللهجات العامية خير منها استعمالا. وصار يعدها المستشرق بريغو اللغة اللاتينية للعربي، ويقول عنها في مقدمة كتابه الذي يدرسه الطلبة الفرنسيون باللغة العربية. إلى أن يقول: لا تظن أنني سأعلمك لغة القرآن؛ فهذه اللغة قد ماتت ولا يتكلم بها أحد فهي لاتينية العربي، وهي اللغة المستعملة في جنة محمد وسأحبب إليك دراستها في المستقبل إذا أردت أن تتذوق حلاوة الاجتماع بالحور العين. وبهذه الطريقة أصبح المستشرقون يناصبون اللغة العربية الفصحى العداء، فيتشككون في النثر الجاهلي والشعر الجاهلي، ويلقون الشك في كل شيء يتصل باللغة العربية، ولهم في ذلك مباحث أقرب للتهريج منها إلى العلم الصحيح، ولموسيه في ذلك آراء منقوضة وأفكار مردودة (راجع كتاب النثر الفني) . بقيت مسألة القرآن الكريم الذي هو الدعامة الثابتة التي عجز العالم عن التحرش بها والصخرة العظيمة التي إذا أراد أكبر مستشرق أن ينطحها تكسرت جمجمته قبل أن يصل إلى حرمها؛ ولذلك رأينا آراءهم في ذلك تهريجًا وشعوذة. هاك المستشرق مرجوليث أستاذ اللغة العربية بجامعة أكسفورد لم يترك نقيصة في العالم إلا نسبها لسيدنا محمد، ولم يترك فحشًا من القول إلا نسبه للقرآن، وإليك أمثلة من ذلك: قال في صحيفة 2364 من تاريخ العالم العام ما يأتي: (وإن كان محمد لم يترك تاريخًا مفصّلاً لحياته إلا أن في القرآن كل عواطفه وإحساسه، والقرآن كسجل تاريخي ليس مرتبًا حسب الحوادث والتاريخ) ثم يقول: (ربما كان الكثير منه مما لم يتذكره الرواة تمامًا عند روايته، وقد يكون بعضه دخيلاً في عصر متأخر، وبعضه مسلَّم به أنه في عصر الرسول ولو أنه نسب إليه خطأ) . ثم يستفرغ مرجوليث من فِيه كل أنواع المطاعن فيقول (من المشكوك فيه أننا لا نعلم اسم والد النبي؛ لأن لفظة عبد الله معناها في العهد الأخير الشخص المجهول وربما كان لها هذا المعنى عند إطلاقها على والد النبي وقصة يتمه التي وردت في القرآن لا يلزم أن نأخذ بها على معناها الأدبي. والعلاقة المفروضة بين أمه وبين أهل يثرب مسألة مشكوك فيها، كالقصص التي جعلت الإسكندر الأكبر فارسيًّا أو مصريًّا بالنسبة لوالدته) . إلى هذا الحد بلغ ذوق وأدب المستشرقين عند كلامهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحياء ليمنعني أن أذكر المعنى العادي الذي قصده مرجوليت من قوله (ابن عبد الله) نسبه إلى الأب المجهول، ومع ذلك يعجب بعض الناس بالمستشرقين وهم لا يعرفون من أمرهم شيئًا. وانتقدنا طريقة مرجوليث في هذا النوع من التهريج العلمي من غير سند أو دليل وإلقائه الكلام على عواهنه من غير إثبات، فهذا الخواجة قال إن القرآن ملفق، وقال إن سيدنا محمدًا على أبسط تعبير لا يُعرف له أب أو أم. ونشرنا هذا الرد في مجلة المعرفة، فأرسل مرجوليوث خطابًا يعلق فيه على ما قلنا هذا نصُّه [1] : (أما ما كتب الدكتور حسين الهراوي في ذمِّ المستشرقين، فلو كان ما أودع مقاله من الشخصيات تلق بالآداب، لم يكن ما يمنع من الخوض في الموضوع والتمييز بين الخطأ والصواب، أما المسائل التي ذكرها فلست أرى فائدة في مداخلتها؛ لأنها أقرب إلى منابر الخطباء منها إلى مجالس الأدباء) . * * * د. س مرجليوث وردًّا على ذلك نقول: إننا تناولنا من آراء مرجوليث مسألتين مما كتبه في تاريخ العالم العام في الفصل التاسع والثمانين: الأولى: أنه ذكر عن سيدنا محمد أنه مجهول الأب والأم. والثانية: قوله إن إعجاز أسلوب القرآن يفسَّر إما بأنه لا يمكن تقليده، أو الإخبار بأمور يمكن التحقق منها، ولم يكن للنبي وسيلة لمعرفتها، وأننا نعلم من القرآن أن كلاًّ من هذين الادعاءين - عندما أُذيع - لم يسلم من النقد، فالأمر الأول أن الذوق الكتابي يختلف كباقي الأذواق، وعن الأمر الثاني - لو أنه وُجدت وسيلة للتحقق من صدق النبي - فهذا يُفهم منه أنه أمكنه - بنفس هذه الوسيلة - معرفة الأمر الذي ذكره. وكذلك قال مرجوليث، إن محمداً اعترف في مبدأ رسالته بمعرفة القراءة والكتابة. ولنناقش مرجوليث الحساب في هذه المسائل التي يرى أن ردنا عليها فيما مضي أقرب إلى منابر الخطباء منه إلى مجلس الأدباء، أي بعبارة أخرى ليس له علاقة بالأدب العربي ولا بعلم من العلوم، فأما عن والد سيدنا محمد، فنحن ننكر على أدب أستاذ في جامعة أكسفورد أن يوجه مثل هذا الطعن في نبي يدين بدينه ملايين المسلمين، وأن يتفوَّه بتهمة تترفع أبسط قواعد الآداب الاجتماعية العامة عن أن توجهها لأقل الناس مركزًا. وثانيًا: إن مرجوليث لا يعرف شيئًا عن الأدب ولا الأدب العربي، وإلا لعلم أن العرب كان فيهم نسّابون ولو أنه تكلم أولاً عنهم وعن مصادر الشك في أقوالهم وتنسيبهم، لكان لنا أن نناقشه بالأدلة العلمية، أما وهو لم يذكر شيئًا من هذا فدليل على أنه لا يعرفه. وثالثًا: لأن جد محمد - عليه السلام - وعمه هما اللذان كفلاه صغيرًا، ولو كان مجهول الأب ما عرف له عم ولا جد، وهذا يدل على أن مرجوليث لا يعرف شيئًا من تاريخ سيدنا محمد، عليه السلام. ورابعًا: أن عصبية محمد - عليه السلام - حمته في مبدأ رسالته، ولو كان مجهول الأب ما كانت له عصبية. فإذا كان مرجوليث لا يصدق شيئًا من ذلك - ولابد أن يكون قرأه - فليقل لنا هو كيف يريد أن نصدق كلامه، وكيف أمكن وجود أشخاص تربطهم بالنبي الكريم صلات العصبية حتى بعد الإسلام، إذا كنا ننكر كل ذلك لأن مرجوليث قالها، إذن فعلى العقول السلام. ثم فليفسر لنا مرجوليث كيف مكَّنته نفسه، وكيف مكَّنه ضميره أن يقول هذا؟ وعلى أي المراجع الموثوق بها عوَّل في بحثه؟ فهو إما لا يعرف شيئًا مطلقًا، وإما يريد التشهير والتشنيع! وهذا ما لا يشرف الباحثين. ثم فليجبنا: أليست الأنساب والنسابون جزءًا من صميم التاريخ والأدب العربي أو هي ضروب من خطب المنابر؟ ! وإذا كانت ضروبًا من خطب المنابر فكيف حفظ التاريخ أنساب قومٍ لم يكن لهم مرتبته - عليه السلام - من الوجهة الاجتماعية والأثر الخالد. وكيف أمكن معرفة نسب والدته وزوجه خديجة؟ ثم كيف أمكن تنسيب شعراء مشهورين مثل امرئ القيس وغيره؟ أما القول في مسألة إعجاز أسلوب القرآن بأنها مسألة ذوق، فإني أرى أن مرجوليث - كما يُستدل من أسلوب خطابه - ذو أسلوب ملتوٍ ركيك يجعله آخر شخص يؤخذ برأيه في مسألة الذوق الكتابي، بعد أن تحدّى القرآن نفسه الناس كلهم بل الإنس والجن مجتمعين أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا، فلم يبق في نظر صاحبنا مرجوليث إلا نقد الأسلوب بميزان الأذواق التي تختلف دقة ورقة. ونحن معه على أن يكون الشرط الأساسي أن تكون هذه الأذواق سليمة تتفهم روح العربية. والمستشرقون هم أبعد الناس عن تفهُّم تلك الروح؛ ولهذا فإنهم ينشرون مؤلفاتهم باللغات الأجنبية وإن كانت بعض مقدمات الكتب التي طبعوها قد كتبت باللغة العربية، إلا أن الحكم على أساليبهم قد لا يرضيهم من الأدب الكتابي الفني. وإذا كان مرجوليث حصر إعجاز القرآن في الأسلوب والإخبار بالغيب، فقد فاته أن ضروب الإعجاز في القرآن كثيرة ومنوعة، وليس من موضوعه شرحها. على أننا نسائل أستاذ الأدب الأكبر! ما قوله دام فضله في أنواع الإعجاز العلمي التي أثبت العلم الحديث مدى صدقها، ونذكر منها على سبيل المثال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (الحجر: 22) و {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (العلق: 2) أي دور الحيوانات المنوية {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} (نوح: 14) وهي تتمشى مع العلم جنبًا إلى جنب. فهل كشف العلم عن إعجاز هذه الآيات إلا حديثًا؟ وهل كان الميكروسكوب (المجهر) وعل

الفصل الثامن حكاية فنسنك والمجمع اللغوي الملكي

الكاتب: حسين الهراوي

_ الفصل الثامن حكاية فنسنك والمجمع اللغوي الملكي سنوك هرجرونيه [1] هو رئيس أكاديمية هولندا، مكث سبعة عشر عامًا في جاوة مستشارًا للحكومة في الشئون الإسلامية، وقيل لنا أنه أتقن العربية وادَّعى الإسلام وفرَّ إلى مكة، ومكث فيها خمسة أشهر وكان يأتم به المسلمون في صلاتهم. وفنسنك تلميذه وساعده الأيمن الآن في هولندا، وفنسنك رئيس تحرير دائرة المعارف الإسلامية التي ملؤها الطعن الجارح في الإسلام، والحشو بأقذر المثالب، يحررها جماعة المستشرقين ومنهم مبشرون وقسس، وخصوصًا الأب لامانس، وتصور قسيسًا مبشرًا يكتب عن حياة سيدنا محمد، أو عن القرآن، أو التاريخ الإسلامي. وأي روح تملي عليه، وأي مبلغ من المال يأخذ أجرًا؟ ! ونحن نعرف الشيء الكثير عن المبشرين وطرقهم وأساليبهم، وطالما تمنيت هذا اليوم الذي أقابل فيه سنوك هذا أو فنسنك لأقول لهم رأيي فيهم في صراحة وجرأة، وليس الإسلام بخافٍ عن أحد، وليس القرآن بغريب في العالم، وليست العقول التي تفهم بمعدومة. إن عصابة فنسنك في تحرير دائرة المعارف الإسلامية تكتب على أسلوب القرون المتوسطة، وتفرض على الناس فرضًا أن تعلمهم كل شيء ضد الإسلام، وأن تشعوذ في التاريخ وتخترع أساليب التهريج، كما شرحناه لك في الفصول المتقدمة من هذا الكتاب. واسم فنسنك دائمًا يتردد على لساني، وأعتقد أن هذا الرجل قضى الشطر الأكبر من عمره يعمل على السخرية من الإسلام، ولم يفضح عمله إنسان، ولم ينتقد سلوك هرجرونيه. ولطائفة المستشرقين تلاميذ تعلموا في أوروبا وسرقوا مطاعنهم في الإسلام وروَّجوها باللغة العربية في أثواب مباحث علمية، فكان مقتي لهذه الفئة أشد من مقتي للخواجة فنسنك. وصدر المرسوم الملكي ووجدت فيه اسم فنسنك فنشرت في أهرام 11 من أكتوبر سنة 1933 المقال الآتي: لما اشتدت وطأة المبشرين في الإغواء والتضليل، وغزو عقل المسلمين بمختلف الطرق، عكفنا على دراسة شيء غير قليل من طرقهم ومؤلفاتهم، وخرجنا بنتيجة رسخت في عقيدتنا رسوخًا قويًّا، هي أن المستشرقين هم طلائع المبشرين، وأنهم هم الذين يمهدون السبيل لتشكيك المسلمين في عقائدهم، وأنهم هم الذين يمهدون للمبشرين سبيل الطعن في الإسلام وفي نبيِّه الكريم وأنهم هم الذين يزودونهم بأنواع شتى من الشعوذة العلمية باسم الاستنتاج التحليلي، وحرية الفكر، والمباحث العلمية الحرة. وخرجنا من كل مباحثنا هذه إلى أن المستشرقين يتعمدون - عند البحث في كل ما يختص بسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام - أن يلغموا استنتاجاتهم العلمية بآرائهم الشخصية على ما فيها من خطأ وما فيها من غرض بما تمليه عليهم روح الاستعمار ومقاومة الإسلام في شخصية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أو في القرآن نفسه. وقد قسَّمنا المستشرقين ثلاث فرق: قسم يختص بمباحث القرآن، وقسم يختص بمباحث سيدنا محمد، وقسم يختص بالتاريخ العربي الإسلامي. على أن من واجبنا أن ندرس كل مستشرق من جميع نواحيه، وندرس كل مؤلفاته، خصوصًا إذا كان ممن يبحثون في القرآن، أو حياة سيدنا محمد؛ لأن الخطأ اللفظي في كلمة عربية قد يجر إلى البحث في العقائد الإسلامية، وقد يكون له أثر شديد في الإسلام نفسه. ولقد فكرنا هذا التفكير عندما أردنا أن نباحث أحد المستشرقين أو أشباه المستشرقين، ورأيناه يقلب قواعد اللغة العربية رأسًا على عقب لكي يدخل شكًّا في الإسلام، وإليكم مثلاً من ذلك: كان أحدهم يدَّعي أن الأسماء لا بد أن يكون لها معنى. فقلنا له: إن الاسم ما دلَّ على مسمًّى وليس من الضروري أن يكون له معنى يُشتق منه أو أصل معروف، والمسألة بسيطة هكذا تعلمنا في المدارس الابتدائية، وهكذا تراها في القاموس. فأصرَّ على رأيه؛ ولكنه أعطانا مثلاً غريبًا هو أصل كلمة (حراء) وهو اسم الغار الذي تعبَّد فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فقلنا: لم يرد في اللغة العربية ما يجعلني أعرف مصدره أو معناه. فقال: إن (حراء) أصلها (هيرا) وهو لاتيني، ومعناه المقدس. قلت: إنني أعرف ما تريد أن تستنتج، إن (هيرا) - وهو الجبل المقدس- هو اسم أطلقه الرومان على هذا الجبل الذي تعبَّدوا فيه، فأنت تجعله في مكان (جبل الأوليمبيا) في اليونان، ويتأتى من هذا الاستنتاج أن محمدًا - عليه السلام - اتبع الأديان الأخرى، فأعطني الدليل المساوي على استنتاجك؛ لأنك تتكلم بلسان تحركه عواطف ضد الإسلام؛ فسكت. والحق أن عقلية هؤلاء المستشرقين وأشباههم مدهشة، فأي لفظة عربية لها مشابه في اللغات الأخرى قالوا إن العربية استعارتها، وإذن فما قولهم في لفظة (نبل ونبيل) التي توجد في كثير من اللغات، والعربية أيضًا بنفس المعنى. نقول: هذا مقدمة البحث الذي سنكتبه عن فنسنك، وهو الاسم الذي ورد في ضمن أعضاء المجمع اللغوي. وسنناقش رأيه الحساب؛ لأن استنتاجاته ستؤخذ علينا وقد أصبح عضوا رسميًّا علينا أن نحترم رأيه. قالت دائرة المعارف الإسلامية تحت لفظة إبراهيم: كان إسبرنجر أول من لاحظ أن شخصية إبراهيم كما وردت في القرآن مرت بعدة أطوار قبل أن تصبح في نهاية الأمر مؤسِّسة الكعبة. وجاء سنوك هرجرونيه بعد ذلك بزمن فتوسع في بسط هذه الدعوى، فقال: إن إبراهيم في أقدم ما نزل من الوحي (في الذاريات: آية 24 وما بعدها، الحجر: آية 5 وما بعدها، الصافات: آية 81 وما بعدها، الأنعام: آية 74 وما بعدها، هود: آية 72 وما بعدها، مريم: آية 42 وما بعدها، الأنبياء: آية 52 وما بعدها، العنكبوت: آية 15 وما بعدها) هو رسول من الله، أنذر قومه كما تنذر الرسل، ولم تذكر لإسماعيل صلة به. وإلى جانب هذا يشار إلى أن الله لم يرسل من قبل إلى العرب نذيرًا (السجدة آية 2، سبأ: آية 43، يس آية 5) ولم يذكر قط أن إبراهيم هو واضع البيت ولا أنه أول المسلمين. أما السور المدنية فالأمر فيها على غير ذلك، فإبراهيم يدعى حنيفًا مسلمًا. وهو واضع ملة إبراهيم، رفع مع إسماعيل قواعد البيت المحرم. (البقرة: آية 118 وما بعدها، آل عمران: آية 60.. إلخ) . وسر هذا الاختلاف أن محمدًا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء، فلم يكن بدٌّ من أن يلتمس غيرهم ناصرًا، هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لأبي العرب إبراهيم، وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليتصل بيهودية إبراهيم، تلك اليهودية التي كانت ممهدة للإسلام، ولما أخذت مكة تشغل جل تفكير الرسول أصبح إبراهيم أيضًا المشيِّد لبيت هذه المدنية المقدس. والذي يكون خالي الذهن عن المستشرقين وأعمالهم يظن لأول وهلة أن هذا بحث جليل مستفيض، استقصى أصحابه - إسبرنجر وسنوك وفنسنك - كل آيات القرآن واستخرجوا منها مواضع الضعف، ويخيل إلى الناظر في هذا الموضوع أن الإسلام قد زعزعت أركانه وأنهم اكتشفوا اكتشافًا من الخطورة بمكان حين يدَّعون أن محمدًا - عليه السلام - أراد استغلال اليهود ثم أخفق، ثم هداه ذكاؤه المسدد لشأن جديد لأبي العرب. أما اليهود، فقد سبق أن شرحنا مركزهم في الكلام عن الوسط والبيئة التي سبقت الإسلام، وأما هذه القائمة الكبيرة من الآيات التي تخدع الناظر إليها، فهي في نظرنا دليل على الضعف المطلق، وهم بهذا أشبه بما يفعل الممثلون؛ إذا وجدوا الرواية ضعيفة جعلوا المناظر أخَّاذة، وأكثروا من أشخاص الرواية ودفعوا بين الجماهير قومًا مأجورين للتصفيق. كل هذا فكرنا فيه قبل أن نتقدم لنقد هذا البحث؛ لأننا نعرف طريقة المستشرقين الملتوية وشعوذتهم العلمية. وما علينا إلا أن نراجع السور المكية جميعها، والسور المدنية جميعها ونوازن بينها لنعرف إذا كانت السور المدنية هي وحدها التي انفردت بذكر نسب سيدنا محمد إلى سيدنا إبراهيم بأبي البيت العتيق أو لا؟ وفيما إذا كانت الحقائق التاريخية التي في متناول يدنا تتفق مع استنباط فنسنك أم لا؟ وما غرضه في التعريض بسيدنا محمد إلى هذه الدرجة؟ علينا إذًا أن نراجع كل ذلك لنتمشى معه في بحثه، فإن كان ما قاله حقيقيًّا، كان لنا أن نبحث في استنباطه أيضًا وعن السبب في عدم ذكر تلك الصلة في السور المكية؛ إذ ربما كانت من المعترف بها ولا توجد مناسبة لتوكيدها في القرآن، أما إذا كان ما نقل من الآيات خطأ كان الرجل قد عثر من أول الطريق، فلنتركه في تلك الحفرة التي وقع فيها، ولننظر إليه كيف يجاهد في الخروج منها؟ ! ونحن لا يخامرنا شك في أن هذا الدين متين، وأن فنسنك وإسبرنجر وسنوك أقل علمًا بفهم روح القرآن، فضلاً عن نقده. إذن فلنسر في البحث على بركة الله. قال فنسنك: إنه لم تذكر في السور المكيَّة صلة لسيدنا إسماعيل بسيدنا إبراهيم. فهل هذا حقيقي؟ وذكر لنا سورة الأنعام بالنص، فهل هذا حقيقي؟ لقد ذكر الآية الرابعة والسبعين بالنص أيضًا، فانظر إلى الآية السادسة والثمانين حيث ذكر إسماعيل صراحة: {وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ} (الأنعام: 86) نعم إن أسماء الأنبياء وردت جملة؛ ولكن لكل واحد منهم نسبه المعروف، والمسألة الجديرة بالنظر هي لماذا حذف فنسنك رقم هذه الآية من تلك القائمة الطويلة التي استقصاها، مع أنها في نفس السورة التي ذكرها؟ الجواب سهل وهو أنها تهدم نظريته من أساسها؛ ولأن هذه الآية نسبت هؤلاء الأنبياء إلى إبراهيم ثم إلى نوح. ثم انظر إلى سورة إبراهيم وهي مكيَّة إلا آيتي 28 و29، وانظر إلى الآية 37 وما بعدها حيث يقول إبراهيم: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ} (إبراهيم: 37) إلى قوله تعالى {الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيل} (إبراهيم: 39) . إذن فقد ورد في السور المكية التي اعتمد عليها فنسنك أن إسماعيل هو ابن إبراهيم، وأن إبراهيم دعا ربه عند بيت الله المحرم، وقد ذُكر هذا البيت في السور المكية التي أنكر وجودها فنسنك. نحن لا ندهش من اكتشاف الحقيقة فما كنا نشك فيها؛ ولكننا ندهش أن قومًا ينتسبون للعلم ويخدعون الناس جهلاً أو تجاهلاً. المسألة الثانية: هل ورد في الآيات التي ذكرها فنسنك أن الإسلام دين قديم يمت إلى ملة إبراهيم؟ وإذا كانت هذه الحقيقة وردت، فلماذا لم يذكرها فنسنك؟ ارجع إلى نفس السور التي ذكرها فنسنك، ففي الذاريات في الآية 23 وما بعدها تجد حديث ضيف إبراهيم المكرمين يبشرونه بابنه، ويقصُّون عليه قصة لوط ومدينته، وفي الآية 35 يقول: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المُسْلِمِينَ} (الذاريات: 35 - 36) . إذن ففي هذه الآية اعتراف صريح أن الإسلام هو دين قديم وهو ملة إبراهيم؛ حيث يحدثه ضيفه عن بيت المسلمين. إذن فدعوى فنسنك كلها خطأ. واستنتاجه كله خطأ. المسألة الثالثة: يقول فنسنك إن آيات السجدة وسبأ ويس تشير إلى أن الله لم يرسل من قبل للعرب نذيرًا، ولم يذكر قط أن إبراهيم هو واضع البيت، ولا أنه أول المسلمين. يريد فنسنك أن يقول - بعبارة أخرى - إن التاريخ المأخوذ من الأناجيل هو الحقيقة، وإن إبراهيم لم يذهب إلى مكة، وإن هذه الدعوى لم تذكر في القرآن إلا بعد الهجرة إلى المدينة. وسياق هذه السورة من الآية 35 وما بعدها: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً وَاجْنُ

الفصل التاسع حكاية فنسنك

الكاتب: حسين الهراوي

_ الفصل التاسع حكاية فنسنك [1] (المقال الثاني) إذا قلبت أي كتاب اجتماعي أو عمراني باللغات الغربية يتكلم عن مصر أو الشرق أو الإسلام، وجدت أشياء لا يقرها عقل ولا يستسيغها المنطق، وليست من الحقيقة في شيء. ويوجه نظرك بصفة خاصة ما يوصف به الإسلام من الصفات التي لا تنبو عن قواعد الذوق السليم والحقيقة فحسب، بل إن الكُتَّاب الأوروبيين يصورون الإسلام بصورة بشعة قبيحة لا تكاد تقرؤها حتى يقشعر بدنك من هول ما تقرأ. فإذا كنت شرقيًّا صميمًا أولت ما يكتب في تلك الكتب الاجتماعية بأنه جهل من المؤلفين بأحوال الشرق وعاداته، وإذا كنت مسلمًا أسفت كثيرًا أن يوصف الإسلام بصورة بشعة بعيدة عن الواقع، وأسفت على أن الأوروبيين لا يعرفون شيئًا عن حقيقة الشرق بصفة عامة وعن الإسلام بصفة خاصة، فليس حقيقيًّا ما ذكره مارشال في كتابه (الزواج) أن الأم في مصر لا يباح لها أن ترى وجه ابنتها بعد سن الرابعة عشرة من أثر الحجاب في الإسلام. وليس صحيحًا ما جاء في هذا الكتاب أيضا من أن الفتاة الريفية المصرية يباح لها أن تعرِّي جسمها كله أمام الرجال، أما وجهها فلا يراه إنسان. وليس صحيحًا ما وصف به الحجاب، وما ذكره عن تعدد الزوجات كما جاء في كتاب (نسبت) عن الزواج والوراثة. وليس صحيحًا أن سيدنا محمد كان رجلاً شهوانيًّا محضًا، يشبع شهوات الشيخوخة بزواجه بالشابات، كما جاء في هذا الكتاب. فأول ما نلاحظه في تلك الآراء أنها مجرد تشنيع خالٍ من الحق ومن العدل، ويتجلى فيها سوء النية تجليًا لا يقبل تأويلاً أو تعليلاً، ولا يمكن الدفاع عنه. ومن محاسن الكتب الإفرنجية أنها تكتب المصادر التي اعتمدت عليها في إبداء رأيها، وتشير إلى المراجع التي استقت منها تلك المعلومات، وكنت أتتبع تلك المراجع فأجدها راجعة إلى بيئة واحدة هي جماعة المستشرقين. وفي الأدب الإفرنجي الحي كتب قيمة جدًّا تبحث في التاريخ العام والخاص، وتاريخ الأمم والنهضات العلمية. وهذه الكتب محترمة عند الأوروبيين، فكنت أطالع فأجد فرقًا كبيرًا فيما تكتب من التاريخ القديم أو الحديث بلباقة ودقة علمية؛ كوصف مصر القديمة وآثارها وسوريا وتاريخها، بل رأيت في تلك الكتب تاريخ بلدان ورسوم أماكن لا تستطيع أن تعرف موقعها على الخريطة ما لم ترجع إلى معجمات مطولة - وبين ما تكتب عن الإسلام ونبيه. فإذا تكلمت عن الإسلام والمسلمين، أو عن حياة سيدنا محمد أجد تحريفًا ظاهرًا وكذبًا واضحًا، وتهريجًا قبيحًا. وانظر إلى مرجوليث حيث يقول: (ربما كانت الطبيعة الجغرافية أو المناخ الإقليمي هو السبب في تأخر المسلمين، ولكن نظرية وجود رجل واحد - أي سيدنا محمد - يكون هو وحده الرسول بين الله والناس، ويكون هو وحده آخر طريق لهذه النظرية هي ثاني سبب لتأخر المسلمين) . فمرجوليث لا يقول هذا لإنهاض المسلمين؛ ولكنه يقول هذا تشنيعًا وهو الذي لم يترك نقيصة إلا ألصقها بالإسلام من غير سبب وها هو ذا كما ترى يتخيل نفسه على الأقل موزونًا أو معقولاً فيتكلم عن الإسلام؛ ولكي تفهم مقدار تحصيل مرجوليث هذا للغة العربية نأتي لك بالمثل الآتي الذي ساقه صديقنا الدكتور زكي مبارك: فقد تعرَّض مرجوليث لشرح هذه الأبيات: يقول لي الواشون كيف تحبها؟ ... فقلت لهم: بين المقصر والغالي ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... وقلت هوى لم يهوه قط أمثالي وكم من شفيق قال ما لك واجمًا ... فقلت أني مالي وتسألي مالي والشطرة الأخيرة من هذه الأبيات فيها خطأ كتابي فقط وصحته (فقلت ترى ما بي وتسأل عن حالي) ولكن مرجوليث العالم الضليع الذي ينتقد القرآن وأسلوبه ويتعرض للنبي صلى الله عليه وسلم ويحقق تاريخ آبائه فيقول: إنه ابن عبد الله، يعني الرجل المجهول، هذا العالم العلامة والحبر الفهَّامة يقول إن الشطر الأخير صحته: (فقلت أنا مالي وإن تسألي مالي) وليس هذا التصحيح هو المضحك وحده - وإن كان أشنع من الغلط الأول - ولكن المضحك حقًّا أن يكون المصحِّح أستاذ لغة عربية ويتعرض لأسلوب القرآن أو يدَّعي نقده! ! ولسنا في مقام الرد على أسباب وعوامل تأخر الأمم الإسلامية فلدى المستشرقين أنفسهم الأسباب. والظاهر أن المستشرقين جمعية دولية حتى إذا ألَّف مستشرق كتابًا أو كتيبًا ظهر في ثلاث لغات حيَّة دفعة واحدة، في فرنسا وإنجلترا وألمانيا مع أن طبع هذه الكتب قد يستنفد كل ثروة المستشرق في الطبع، والمدهش أنك ترى في مقدمة كل كتاب مستشرق قائمة بأسماء الذين عاونوه وساعدوه في البلدان الأخرى. وإني لأعلم أن المستشرقين تنقصهم في مباحثهم عن الإسلام الروح العلمية، وأن لهم في الاستقصاء طريقة لا تشرف العلم؛ وهي أنهم يفرضون فرضًا ثم يتلمسون الدليل عليه، فإذا وجدوا في القرآن ما يهدم نظريتهم تجاهلوه والتمسوا الآيات التي تتناسب والمعنى المراد، ولا مانع من بترها إذا اقتضى الحال، أو تحريف معناها - حسب الرغبة - فيخرج القارئ من كلامهم وهو يتهم الإسلام بالتلفيق - كما يقولون - كما سبق شرحه في كلام مرجوليث. بمثل تلك النواحي التي أسلفناها أصبحنا لا نقرأ للمستشرق شيئًا إلا ونحن نحرص على تفكيرنا، وأن نعنى بتعرف الغرض الذي يرمي إليه قبل أن نثق بما يكتب، وأن نقتفي أثره فيما يبحث وفي مستنداته؛ لأنه دائمًا يبتر الحقائق؛ فيقول: إن القرآن فيه آية لا تقربوا الصلاة. وسنعطيك مثلاً آخر فيما قال فنسنك تحت كلمة " كعبة " في دائرة المعارف الإسلامية، صفحة 587، النسخة الإنجليزية: (نحن لا نعلم شيئًا عن شعور محمد الشخصي في شبابه نحو الكعبة أو العبادات المكيَّة؛ ولكن المفروض أنه لم يشذ عن الجماعة) . (وإن ما ذُكر في سيرته عن هذه المسألة مدة وجوده في مكة لا يوثق من جهة القيمة التاريخية) . (وإن الآيات المكية لم تخبرنا شيئًا عن هذه العلاقات في تلك المرحلة الهامة من حياة النبي، على أنه لم يظهر حماسته في حادثة نحو الحرم المكي، وفي المرحلة الأولى بعد الهجرة كان محمد في شغل بمسألة أخرى مختلفة عن هذه جد الاختلاف؛ ولكن أخفقت العلاقات الطيبة المنتظرة مع اليهودية واليهود، وهناك حصل تغيير؛ حيث إنه - بعد مضي عام ونصف عام على الهجرة - ذكرت الكعبة، وذكر الحج في الوحي) . (وأول مظهر من مظاهر التغيير كان وجهة القبلة، فلا يتجه المؤمنون في صلاتهم إلى القدس، بل إلى الكعبة: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} (البقرة: 144) الآيات.... ومن الوجهة الأمرية فإن هذا التغيير في القبلة برر بأنه استئناف ملة إبراهيم، وهي - أي ملة إبراهيم - اخترعت خصيصًا لهذا الظرف السورة 129 - آية - و3 - 19 - كما بيَّن سنوك هرجرونيه) . (وقيل إن ملة إبراهيم هذه كان اليهود قد أخفوها ثم أظهرها محمد، ومن ثم أدمجت فيها عبادات مكة) . وبعد فقد انتهت الفقرة التي ننقلها من دائرة المعارف الإسلامية بقلم فنسنك، فلنتعرف أغراضها ومراميها وحقيقتها. وأول ما يعترضنا عند النظر إلى هذه الفقرة أن فنسنك رجل مقلد في السب والشتم والهجاء، وأن تقليده أعمى يقوده عكاز ضعيف من الاطلاع السطحي، والظاهر أنه في هذه المسألة يتبع آراء سنوك هرجرونيه، ويتلمس أدلة جديدة ليضيفها إلى أدلة أستاذه السخيفة. والمدهش أن هؤلاء المستشرقين يختلفون في كل شيء إلا في هجاء محمد عليه الصلاة والسلام. فهذا فنسنك يقول: إنه لا يعرف شيئًا من شعور محمد عليه الصلاة والسلام نحو الكعبة في شبابه وبعد رسالته إلا بعد الهجرة بعام ونصف عام، وإن ما لديه من تاريخ حياته - عليه الصلاة والسلام - لا يصح أن يؤخذ أساسًا تاريخيًّا. وزميل له في الاستشراق هو إميل درمنغام يزعم أن محمدًا كان يتعبد على مبادئ اليهودية أو النصرانية. ومرجوليث يقول ما قاله مالك في الخمر.

تصدير

الكاتب: محمد مصطفى المراغي

_ تصدير بقلم فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر كانت مجلة المنار مرجعًا من المراجع الإسلامية العالية، تُحل فيها مشاكل العقائد، والفقه، وتحيط بالمسائل الاجتماعية الإسلامية، وأخبار العالم الإسلامي وما فيه من أحداث، وأمراض، وعلل، وكان صاحبها السيد رشيد رضا - رحمه الله - رجلاً عالمًا عاملاً غيورًا مخلصًا للإسلام، محبًّا لكتاب الله وسنة رسوله وآثار السلف الصالح. وقف حياته لخدمة دينه والأمم الإسلامية، وكان شجاعًا في الحق، لا يهاب أحدًا، ولا يجامل، ولا يحابي. نشأ على هذا واستمر فيه إلى أن لقي ربه واحتجبت بعد ذلك مجلة المنار، فأحس العالم الإسلامي بفداحة الخطب وشدة وقع المصاب؛ فإنه لا يوجد - فيما أعلم الآن - ذلك الرجل الذي له من سعة الاطلاع، وحسن التدبير، وحكمة الرأي، وقوة الإدراك في السياسة الشرعية الإسلامية ما يضارع به المرحوم السيد رشيد. ذلك ماضٍ جليل نودعه من الفخر به والأسى عليه، والآن قد علمت أن الأستاذ حسن البنا يريد أن يبعث المنار ويعيده سيرته الأولى، فسرني هذا؛ فإن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه، يفهم الوسط الذي يعيش فيه، ويعرف مواضع الداء في جسم الأمة الإسلامية، ويفقه أسرار الإسلام، وقد اتصل بالناس اتصالاً وثيقًا على اختلاف طبقاتهم، وشغل نفسه بالإصلاح الديني والاجتماعي على الطريقة التي كان يرضاها سلف هذه الأمة. (وبعد) فإني أرجو للأستاذ البنا أن يكون على سيرة السيد رشيد رضا، وأن يلازمه التوفيق كما صاحب السيد رشيد رضا، والله هو المعين، عليه نتوكل، وبه نستعين. روائع من قطعة للرافعي - رحمه الله - في وصف الصحابة يفتحون مصر: إن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وإن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وإنهم جميعًا ينبعثون من حدود دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتها، وإذا سلوا السيف سلُّوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون… ولأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب، وواجبات العقل، والضمير الإسلامي في الرجل منهم يكون حاملاً سلاحًا يضرب صاحبه إذا همَّ بمخالفته.

في الميدان من جديد

الكاتب: حسن البنا

_ في الميدان من جديد بعونك اللهم وفي رعايتك وتحت لواء دعوتك المطهرة وفي ظل شريعتك القدسية وعلى هدي نبيك الكريم العظيم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تستأنف هذه المجلة (المنار) جهادها وتظهر في الميدان من جديد. رحمة الله ورضوانه ومغفرته (للسيد محمد رشيد رضا) منشئ المنار الأول ومشرق ضوئها في الوجود، فلقد كافح وجاهد في سبيل الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وجمع كلمة المسلمين وإصلاح شئونهم الروحية والمدنية والسياسية، وهي الأغراض التي وضعها أهدافًا لجهاده الطويل حتى جاءه أمر ربه بعد أن قضت المنار أربعين عامًا كانت فيها منار هداية ومنهج سداد. ولقد ترك السيد رشيد فراغه واسعًا فسيحًا وقضى وفي نفسه آمال جسام وشاهد قبل وفاته تطورًا جديدًا في حياة الأمة الإسلامية فاستبشر بهذا التطور الجديد وشام منه خيرًا وأمل فيه كثيرًا، وعزم على أن يساير هذا التطور بالمنار ودعوة المنار، وأن يجعل منها في عامها الجديد (الخامس والثلاثين) لسان صدق لجماعة جديرة (بالدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين) تخلف جماعة الدعوة والإرشاد وتقوم على الاستفادة بالظروف الجديدة التي تهيأ لها المسلمون في هذا العصر، وقد كتب - رحمه الله - في هذا المعنى في فاتحة هذا المجلد ما نصه: (سيكون المنار منذ هذا العام لسان جماعة للدعوة إلى الإسلام وجمع كلمة المسلمين، أنشئت لتخلف جماعة الدعوة والإرشاد في أعلى مقصديها أو فيما عدا التعليم الإسلامي المدرسي منه الذي ضاق زمان هذا العاجز عن السعي له وتولي النهوض به فتركه لمن يعده التوفيق الإلهي له من الذين يفقهون دعوة القرآن وتوحيده ووحدة أهله وجماعته، ولا يصلح له غيرهم …) . ثم ذكر بعد ذلك طرفًا من تاريخ مدرسة الدعوة والإرشاد وما لقيت من عقبات ومعاكسات انتهت بالقضاء على فكرتها الجليلة، ثم قال بعد ذلك: (وجملة القول إنني على هذه التجارب وما هو أوجع منها وألذع من أمر مشتركي المنار، وعلى ما أقرّ به من عجزي عن النهوض بالأعمال المالية الخاصة والعامة بالأولى، وعلى دخولي في سن الشيخوخة وضعفها لم أزدد إلا ثقة ورجاء بنجاح سعيي لأهم أصول الإصلاح الإسلامي وتجديد أمر الدين بما يظهره على الدين كله حتى تعم هدايته وحضارته جميع الأمم، ولم أيأس من قيام طائفة من المسلمين بذلك تصديقًا لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (لا يزال في أمته طائفة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى تقوم الساعة) رواه الشيخان في الصحيحين وغيرهما بألفاظ من عدة طرق. وهذه الطائفة كانت في القرون الأخيرة قليلة متفرقة، وإنني منذ سنتين أكتب عناوين خيار الرجال المتفرقين في الأقطار الذين أرجو أن يكونوا من أفرادها على اختلاف ألقابهم وصفاتهم وأعمالهم، لمخاطبتهم في الدعوة إلى العمل، وأرجو من كل من يرى من نفسه ارتياحًا إلى التعاون معهم على هذا التجديد والجهاد أن يكتب إلينا عنوانه وما هو مستند له من العمل معهم إلى أن ننشر دعوتهم الرسمية، وأهم ما يرجى من الخير لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا العصر الذي تقارب فيه البشر بعضهم من بعض فهو في تعارف هذه الطائفة القوامة على أمر الله وتعاونها على نشر الدعوة وجمع كلمة الأمة بعد وضع النظام لمركز الوحدة الذي يرجى أن تثق به، فهي لا ينقصها إلا هذا وقد طال تفكيري فيه وعسى أن أبشرها قريبًا بما يسرها منه. وأعجل بحمد الله - تعالى - أن تجدد لي على رأس هذه السنة ما كان لي ولشيخنا الأستاذ الإمام (قدس الله روحه) من الرجاء في مركز الأزهر، وهو الذي يعبر عنه في عرف عصرنا بشخصيته المعنوية، وهذا الرجاء الذي تجدد بتوسيد أمره إلى الشيخ محمد مصطفى المراغي عظيم. كان الأزهر كنزًا خفيًّا أو جوهرًا مجهولاً عند أهله وحكومته وعقلاء بلده، لم يفطن أحد قبل الأستاذ الإمام لإمكان إصلاح العالم الإسلامي كله به والاستيلاء على زعامة الشعوب الإسلامية في الدين والأدب والفقه بإصلاح التعليم العام فيه؛ ولكن تعليم الأستاذ الإمام - رحمه الله - وأفكاره هما اللذان أحدثا هذا الرجاء في طائفة من شيوخه والاستعداد في جمهور طلابه ولم يبق إلا الجد، ولله الحمد. انتهى. هكذا قضى السيد محمد رشيد حياته وفي نفسه هذه الآمال الجسام: أن يكون المنار بعد سنته هذه لسان حال جماعة للدعوة إلى الإسلام، وأن تتألف هذه الجماعة من ذوي العقل والدين والمكانة في الشعوب الإسلامية، وأن يشد الأزهر أزر هذه الجماعة وتشد أزره فيكون من تعاونهما الخير كله. ولقد كان السيد - رحمه الله - صادق العزم مخلص النية في آماله هذه فاستجابها الله له، وشاءت قدرته وتوفيقه أن تقوم على المنار (جماعة الإخوان المسلمين) وأن يصدره ويحرره نخبة من أعضائها، وأن ينطق بلسانها ويحمل للناس دعوتها. يا سبحان الله، إن جماعة الإخوان المسلمين هي الجماعة التي كان يتمناها السيد رشيد رحمه الله. ولقد كان يعرفها منذ نشأتها ولقد كان يثني عليها في مجالسه الخاصة ويرجو منها خيرًا كثيرًا، ولقد كان يهدي إليها مؤلفاته فيكتب عليها بخطه: من المؤلف إلى جماعة الإخوان المسلمين النافعة؛ ولكنه ما كان يعلم أن الله قد ادخر لهذه الجماعة أن تحمل عبئه وأن تتم ما بدأ به، وأن تتحقق فيها أمنية من أمانيه الإصلاحية وأمل من آماله الإسلامية، لقد تمنى السيد رشيد رضا في الجماعة التي اشترطها أن تقوم بأعلى مقصدي جماعة الدعوة والإرشاد أي ما عدا التعليم المدرسي، ثم رجا أن توفق الجماعة الجديدة لهذا أيضًا، وستحقق جماعة الإخوان المسلمين هذا الرجاء بتوفيق الله، فإن إصلاح التعليم المدرسي الرسمي من أخص مقاصدها وإن أثرها في طلاب الجامعة المصرية والمدارس المدنية من ثانوية وخصوصية لعظيم، وسنواصل الجهد حتى نصل إلى الغاية - إن شاء الله - ويصبح التعليم كله مركّزًا على أصول سليمة مستمدة من روح الإسلام وسماحة الإسلام وتعاليم الإسلام وحضارته ومجده، والله المستعان. ولقد أدرك الإخوان المسلمون منذ نشأتْ دعوتهم أهمية التواصل بين عقلاء المسلمين، فأخذوا يعملون لهذا وأصبح لهم - بحمد الله - عدد عظيم من كل قطر يعطف على فكرتهم ويؤيد دعوتهم، ولقد اقترح علينا أخونا المفضال السيد أنيس أفندي الشيخ من وجهاء بيروت أن نعمل ما عمله السيد رشيد فنجمع عناوين ذوى المكانة من عقلاء العالم الإسلامي ونتصل بهم ونكتب في جرائدنا عنهم حتى يتعرف بعضهم إلى بعض، والآن ننتهز هذه الفرصة فنوجه الرجاء الذي وجهه صاحب المنار من قبل إلى كل من يأنس من نفسه الغيرة على الإصلاح الإسلامي والاستعداد للعمل له من رجالات المسلمين أن يكتب إلينا عن الناحية التي يؤمل أن يعمل فيها، وحبذا لو تكرم فأضاف إلى ذلك إرسال صورته الشخصية وسنفرد لنشر هذه العنوانات والصور صحيفة خاصة بالمنار نسميها (صحيفة التعارف) بين أنصار الدعوة إلى الإسلام، حتى إذا تكامل جمع يعتمد عليه فكرنا في الطريقة المثلى لتبادل الآراء والأفكار. ولقد أدرك الإخوان كذلك منذ نشأت دعوتهم ما للأزهر من شخصية معنوية، وأنه أعظم القوى أثرًا في الإصلاح الإسلامي لو توجه إليه، فاعتبروا أنفسهم عونًا له في مهمته وتوثقت الروابط القوية بينهم وبين شيوخه وطلابه، وكان من هؤلاء الفضلاء ما بين علماء وطلبة طائفة كريمة لها أبلغ الأثر في نشر دعوة الإخوان وخدمة فكرتهم التي هي في الحقيقة أمل كل مسلم غيور وواجب كل مؤمن عاقل. وإننا لنرجو أن نكون أسعد حظًّا من صاحب المنار - رحمه الله - في حسن معاملة المشتركين فيها، فإن مال الدعوة مهما كثر قليل بالنسبة لنواحي نشاطها وتشعب أعمالها فليقدِّروا هذه الحقيقة وسيجدون ما ينفقون في هذه السبيل عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا. ستعود المنار - إن شاء الله - إلى الميدان تناصر الحق في كل مكان، وتقارع الباطل بالحجة والبرهان، وشعارها الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وجمع كلمة المسلمين والعمل للإصلاح الإسلامي في كل نواحيه الروحية والفكرية والسياسية والمدنية. ولقد كان للمنار خصوم وأصدقاء شأن كل دعوة إصلاحية، فأما أنصارها، فنرجو أن يجدوا في مسلكها الجديد ما يعزز صداقتهم لها وصلتهم بها، وأما خصومها فإن كانت خصومتهم للحق بالحق فإننا على استعداد تام للتفاهم معهم على أساس كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم والعمل لخدمة هذه الحنيفية السمحة. لم يكن الشيخ رشيد - رحمه الله - معصومًا لا يجوز عليه الخطأ فهو بشر يخطئ ويصيب، ولسنا ندعى لأنفسنا العصمة فنحن كذلك وما من أحد إلا ويؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، ولا نريد أن نعرف الحق بالرجال ولكننا نريد أن نعرف الرجال بالحق ومتى كان ذلك رأينا جميعًا ومتى كان شعارنا أن نرد التنازع إلى الله ورسوله كما أُمرنا، فقد اهتدينا ووصلنا إلى الحقيقة متحابين، وانقضت الخصومة وولى الباطل منهزمًا زهوقًا. على هذه القواعد ندعو الأمة والهيئات الإسلامية جميعًا إلى التعاون معنا، سائلين الله - تبارك وتعالى - أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، والله حسبنا ونعم الوكيل. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا * * * روائع (إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء. طبيعة تعمل في طبيعة، فليس يمضي غير بعيد حتى تخضر الدنيا وترمي ظلالها، وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الملفق ما يعد كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر ... شتان بين عمل وعمل وإن كان لون يشبه لونًا) . * * * الرافعي في وحي القلم (لا تكون خدمة الإنسانية إلا بذات عالية لا تبالي غير سموها. الأمة التي تبذل كل شيء وتستمسك بالحياة جبنًا وحرصًا لا تأخذ شيئًا، والتي تبذل أرواحها فقط تأخذ كل شيء) .

بين طائفتين من المؤمنين

الكاتب: حسن البنا

_ بين طائفتين من المؤمنين حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف سيدي الأستاذ محرر المنار الأغر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) : فلعلكم قرأتم ما دار من الحوار بين كتَّاب مجلة الإسلام ومجلة الهدي النبوي حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف، فما وجه الحق في هذا الخلاف؟ وهل يجوز شرعًا أن يتقاذف الفضلاء من المسلمين بهذه التهم على صفحات الجرائد السيارة، وأن تذاع مثل هذه البحوث على العامة؟ وهلا يمكن أن تعملوا على التوفيق بين الفريقين حتى تنصرف القوى إلى ما يعود على المسلمين بالخير؟ أفيدوا مأجورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حلمي نور الدين ... ... ... ... ... ... ... ... بتفتيش ري الجيزة بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه: (1) قرأت ما دار بين الكتاب الفضلاء على صفحات المجلتين المذكورتين وكثير من حضراتهم أصدقاء لنا، وكلهم يعمل لخدمة الدعوة الإسلامية ويرجو للمسلمين النهوض من كبوتهم والإقالة من عثرتهم مخلصًا من قلبه، والحق أني أنا شخصيًّا لا أفهم معنى لإثارة هذا الموضوع في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة والتآزر على إحياء تعاليم الإسلام في نفوس المسلمين. إن الفريقين مؤمنان أعمق الإيمان بأن ما جاء من هذه الآيات وما صح من الأحاديث التي تعرضت لصفات الباري عز وجل كلها حق لا جدال في صدقها ولا خلاف، فقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) و {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (الفتح: 10) و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} (القصص: 88) و {وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: 18) وكل ما نحا هذا المنحى من الآيات والأحاديث التي تثبت صحتها فنيًّا، كل ذلك موضع إيمان وتصديق وتسليم من الفريقين كليهما. الفريقان كذلك مؤمنان أعمق الإيمان بأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الشورى: 11) وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإِخلاص: 4) كل ذلك حق لا مرية فيه، فلا يشبه الباري أحدًا من خلقه في شيء من صفاته، ولا يشبهه أحد من هؤلاء الخلق كذلك. وحقيقة ثالثة يؤمن بها الفريقان أيضًا وهي أن ذات الباري - جل وعلا - وصفاته فوق متناول إدراك العقل البشري الصغير الذي يعجز عن معرفة حقائق ما حوله من عالم الحس فضلاً عن عالم الروح فضلاً عن الملأ الأعلى فضلاً عن ذات الله - جل وعلا - وصفاته. وأسوق هنا قول شارل ريشيه المدرس بجامعة الطب في فرنسا سابقًا في مقدمة كتاب (الظواهر النفسية) . (لماذا لا نصرخ بصوت جهوري أن كل العلم الذي نفخر به إلى هذا الحد ليس إلا إدراكًا لظواهر الأشياء، وأما حقائقها فتفلت منا ولا تقع تحت مداركنا. إن حواسنا من القصور والنقص على حال يكاد معها يفلت من شعورها الوجود كل الإفلات) . بل قول الله - تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين - {وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (الإسراء: 85) . هذه الحقائق المقررة والمسلَّم بها من الطرفين تجعل الخلاف لا معنى له، فماذا على كل منهما لو قال (استوى الله على عرشه استواء تعجز عقولنا عن إدراك حقيقته مع علمنا بأنه لن يكون كاستواء الخلق) وبذلك نرد علم الحقائق لله - تبارك وتعالى - ونُصيب بذلك الحق؛ لأن الحق هو أننا في هذا جهلاء أتم الجهل، وماذا علينا لو سلكنا هذه الطريقة في كل ما ورد على هذا النحو (فيد الله التي ذكرها في كتابه بأنها من صفاته تعذر عقولنا عن إدراك حقيقتها مع علمنا التام بأنها لن تكون كأيدينا) وهكذا. وقد أرشدنا الله - سبحانه وتعالى - إلى الواجب في مثل هذه المعاني، ووضع لنا أساس النظر فيها، فقال: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} (آل عمران: 7) فتأمل قوله - تعالى -: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (آل عمران: 7) لتعلم هل لنا أن نخوض ونفيض، أم أن الرسوخ في العلم أن نقول آمنا به كل من عند ربنا؟ استطراد: لقد أتى على المسلمين حين من الدهر في عصر الانتقال الأول حين نقلتهم حوادث السياسة والاجتماع من دور الجهاد العملي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين المهديين من بعده، حيث كان هم المسلم إذ ذاك أن يؤدي فريضة ربه ويراقب دخيلة نفسه ويقيم من نفسه حارسًا يحاسبه على كل عمله ثم يمضى في البلاد مجاهدًا في سبيل الله يعرض روحه على الموت في اليوم ألف مرة فلا يظفر إلا بالحياة العزيزة، وينشر لواء الله في العالمين حتى يدركه الأجل، فيودع الدنيا شهيدًا سعيدًا، حين انتقل المسلمون من هذا الدور إلى دور الاستمتاع بمظاهر دنياهم الجديدة، والإقبال على تنظيم ملكهم الواسع، والاستفادة من ثمار هذه الحضارات والمدن التي اتصلوا بها ودخلت عليهم آثارها من كل مكان عمرانية واجتماعية وثقافية وعلمية، فترجموا العلوم الأجنبية وتوسعوا في البحث فيها ومزجوا كثيرًا منها بتعاليم الدين السمحة السهلة، فسلكوا بدينهم مسلكًا فلسفيًّا قياسيًّا وقد جاءهم فطريًّا ربانيًّا نبويًّا فوق العلوم والفلسفات يخاطب الفطرة من غير وساطة ويجذب القلوب بما فيه من جمال وروحانية وصدق توجيه. في هذا الدور وفي وسط هذه المعمعة انقسم علماء الإسلام إلى معسكرين: معسكر يدعو إلى تطبيق نظريات الدين على نظريات الفلسفة والمزج بينهما، وبذلك يصطبغ الدين بآراء الفلاسفة، فيذهب عنه جلال النبوة وروعة الوحي وسماحة الفطرة، وتتقيد الفلسفة بقداسة الدين وجلال العقيدة فتنزل بذلك عن أخص خصائصها؛ وإنما الفلسفة تفكير دائم متواصل فيه الخطأ وفيه الصواب، وفيه الشك وفيه اليقين، والخطأ فيها سلم للإصابة والشك عندها باعث من بواعث الإيمان، وهذا المعسكر أطلق على نفسه أو أطلق الناس عليه ألقابًا كثيرة؛ فهم أهل الرأي وهم أهل القياس وهم النظار وهم المتكلمون على تفاوت بينهم في هذه الألقاب وفي مدى تطبيق هذه الآراء، ومعسكر يدعو إلى أن يظل الدين بعيدًا عن كل هذا يؤخذ من منابعه الأولى كتاب الله وسنة رسوله، ويرجع في بيانه وتفصيله إلى الطريقة التي فهمه عليها السلف الصالح - رضوان الله عليهم - وليتناول العقل بعد ذلك ما شاء من البحوث، ولتجر الفلسفة على أي غرار شاءت، وليخطئ العلماء الكونيون أو يصيبوا ولكن في ثوب نظري بحت، قياسي بحت، لا يتناول عقائد الناس ولا يمس عبادتهم ولا يقرب الحقائق الدينية المقررة المكفولة بتسليم العقل بأحقيتها وصدقها، وأطلق هذا المعسكر على نفسه أو أطلق الناس عليه أهل الحديث أو السلفيون أو أهل السنة أو أهل الأثر على تفاوت كذلك في هذه الألقاب وفي مدى الأخذ بهذه الفكرة، ولا شك أن الحق مع هؤلاء، ولا شك أن المسلمين لو سلكوا هذا السبيل ولم يشتغلوا بهذا الجدل ولم يصبغوا فطرة دينهم بهذه الصبغة ودرجوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكان لهم في ذلك الخير كل الخير، ولنجوا من انقسامات وفتن كانت من أهم الأسباب لزوال عظمتهم وتوزيع ملكهم ومجدهم، ولا شك أن كل عاقل يهمه أن يعود للإسلام مجده وعظمته الآن يدعو المسلمين إلى الأخذ بهذا الرأي وهو ما نعمل عليه، وندعو إليه، ونسأل الله المعونة فيه، وفتح مغاليق القلوب لفهمه وفقهه. كان الأخذ والرد والجذب والشد قويًّا عنيفًا بين الفريقين منذ نجم قرن هذا الخلاف، وأنت خبير بأن خلافًا كهذا في صدر الإسلام أو قريبًا منه - ولما يمض على المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم أكثر من قرن من الزمان، وهو يتصل بالعقيدة وهي أغلى ما يدافع عنه الإنسان - لابد أن يصحبه من مظاهر العنف الشيء الكثير وذلك ما كان؛ فقد تنابز الفريقان بالألقاب واشتد بينهما التخاصم حتى وصل إلى التكفير والزندقة، ورمى بعضهم بعضًا بأعظم ما يتصور من التهم، واستخدمت في ذلك الألفاظ المثيرة. فأهل الرأي والنظر جهمية معطلة مؤولون حشوية زنادقة لا يعرفون لهم ربًّا ولا يثبتون له صفة، وأهل الحديث والأثر مشبِّهون مجسمون جامدون متعصبون لا ينزهون الله ولا يقدرون عظمته قدرها ويضعونه في صفة خلقه. وأُلقيت إلى جانب ذلك عبارات شديدة، وأُلفت كتب، وانتصر كل فريق لرأيه، وبدت الحدة في كل ما قيل وما ألف؛ لأن تلك طبيعة الموقف ومقتضيات الخلاف. كان ذلك في هذا الدور الذي ذكرت لك، ثم نقلت إلينا نحن الآن بعض هذه الآثار والحال غير الحال، والموقف غير الموقف، والفرق غير الفرق. ليس فينا أهل رأي وأهل حديث، وأنا أعلم أن هذا الحكم قد يكون محل خلاف بيني وبين بعض القارئين، فها هم يرون فريقين ينتصر كل منهما لفريق، فما معنى هذا النفي؟ ولكني أؤكد لحضرات القراء أن طبيعة هذا العصر غير طبيعة العصر الذي شجر فيه هذا الخلاف بين المسلمين، وأن المشاكل والأفكار التي تشغلنا الآن غير تلك المشاكل والأفكار، وأن الخلاف في هذه المسائل محصور في نطاق لا يكاد يذكر في بعض المجالس وفي جدران بعض الهيئات، حتى الأزهر نفسه - وتلك مهمته - مشغول عن هذا الخلاف. الأمة الآن معسكرات مختلفة، لكل معسكر فكرته التي يدعو إليها وينادي بها، فهناك المعسكر الذي يدعو إلى الاندفاع وراء الأفكار والمظاهر الغربية في كل شيء، وهناك المعسكر الذي يثير المعنى القومي وحده في النفوس ويريد أن يجعله أساسًا للنهوض، وهناك المعسكر الذي يأخذ بأعناق الناس وجهودهم إلى المسائل السياسية البحتة التي يراد بها استقرار الحكم في الداخل وحفظ الكرامة في الخارج ولا يعنيه إلا هذا، وهناك معسكرات غير هذه، ومن وراء ذلك كله معسكر محمدي قرآني يهيب بكل هؤلاء إن الإسلام كفل لكم من السعادة والقوة كل ما تريدون فهلموا إليه. أريد أن أصل من هذا الاستطراد إلى نتيجتين: الأولى أننا ليس بيننا في حقيقة الأمر خلاف كالذي بين الفلاسفة والسلفيين في القديم فلا معنى للاحتجاج كذلك بما قال هؤلاء وأولئك، وأولى لنا جميعًا أن نترك ذلك الدور بما كتب فيه وما كان من أهله في ذمة التاريخ ونرجع جميعًا في ديننا إلى المعين الأصلي الذي ما زال وسيظل صافيًا نقيًّا، لا تكدره الحوادث، ولا ينال منه الزمن، ولا يزعزعه الخلاف، ذلك هو كتاب الله وسنه رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم. (والثانية) أن ننصرف - في صف مؤمن قوي موحد - إلى معالجة مشاكل عصرنا، ودعوة الناس إلى محاسن هذا الدين وجلاله، وتقوية معسكرنا معشر المنادين بالإسلام فوق كل المعسكرات حتى يكون له النفوذ الفكري والعملي، فيعود للإسلام ما كان له من هيمنة على الأرواح والأعمال. وبعد - فذلك رأيي أيها السائل في موضع الخلاف. 2 - أما هل يجوز للفريقين أن يتقاذفا بهذه التهم على صفحات الجرائد السيارة، وأن تذاع هذه البحوث على العامة - فذلك ما لا أقرهما عليه ولا أوافقهما فيه

نشأة المنار والحاجة إليه

الكاتب: عبد الله أمين

_ نشأة المنار والحاجة إليه للأستاذ عبد الله أمين المدرس بمدرسة المعلمين بعبد العزيز بالقاهرة (1) حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار. (2) حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار. (3) دعاة الإصلاح قبيل ظهور المنار. (4) صاحب المنار قبيل ظهور المنار. (5) البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره. (6) وجهة صاحب المنار في تحريره المنار. (7) بقاء البواعث على إصدار المنار. (8) المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها. (9) حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته. (10) محاولة لإحياء المنار. (11) محاولة جديدة لإحياء المنار مرة أخرى. * * * (1) حال العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار: كان العالم الإسلامي قبيل ظهور المنار لأربعين سنة هجرية خلت يهيم في ليل دامس وظلام طامس من الضعف والاضمحلال في حياته العلمية، والفنية، والأدبية وفي مرافقه الزراعية، والصناعية، والتجارية، وفي نظمه الاجتماعية والمنزلية والحكومية، وفي تقاليده وعاداته وآدابه، وفي أخلاقه وعقائده وشعائره الدينية، وكان يرسف في قيود الاستبداد وأغلال الاستعباد، وقد قطعت السياسة والمذاهب الدينية أواصر شعوبه فتفرقوا طرائق وتمزقوا حذائق، وبسط الأجانب عليهم سلطانهم الاقتصادي والأدبي والعلمي والفني والسياسي، وأصبحوا عبيداً أرقاء بعد أن كانوا سادة أعزاء. * * * (2) حال الدين الإسلامي قبيل ظهور المنار: وكان الدين الإسلامي نفسه مبتلى بشر المحن وأقساها: (1) منها البدع والخرافات والأوهام، والضلالات التي ابتدعها المسلمون بالاستحسان والاستقباح على مثال ما ورثوه عن آبائهم السابقين الأقدمين، فغيرت مظاهره، وحجبت أنواره، وكانت شرًّا عليه من كل شر؛ إذ نفَّرت منه كثيرًا من أنصاره وأعانت عليه كثيرًا من أعدائه. (2) ومنها مطاعن خصومه من السياسيين الذين حكموا عليه ظلمًا وعدوانًا بأنه دين تأخر وانحطاط لتأخر المسلمين واضمحلالهم، والحقيقة أنه دين قوة ورفعة وعزة، وما ابتلي المسلمون بالضعف والاضمحلال إلا لانحرافهم عنه وتنكبهم سبيله القويم وصراطه المستقيم. (3) ومنها حرب المبشرين بالمسيحية، الذين تؤيدهم دول الاستعمار العاتية القوية بساستها وبجنودها وبأموالها؛ لأن الإسلام - وهو دين سيادة وعزة - أكبر عائق لهم عن الاستعمار. (4) ومنها قعود علمائه حينئذ عن رد المطاعن والشبهات عنه، وعن تحريره من البدع والخرافات، بل ومشاركتهم العامة في كثير منها. (5) ومنها شبهات الملحدين الخارجين على الأديان، وهؤلاء منهم الجاهل الذي غلبته شهوته وشقوته وسئم قيود الدين وتكاليفه فأخذ يحاربه ليتخلص منه، ومنهم المفتون بأمور ظنية في العلوم يخيل إليه أنها لا تجتمع هي والدين، على حين أنها لو صارت يقينية ما زعزعت أركان الدين. * * * (3) دعاة الإصلاح قبل ظهور المنار: وفي هذا الظلام الحالك وفي إبان هذا النوم العميق الذي يشبه الموت تألق في سماء العالم الإسلامي قمر الإسلام المنير حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني، ثم ما لبث أن تلألأ بجانبه نجم الإسلام الثاقب الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المصري، وأخذا يجاهدان أعظم جهاد في حرب الاستبداد والمستبدين، والاستعمار والمستعمرين، والضلالات والمضلين، والغفلة والغافلين، ويهزان العالم بصوتيهما على المنابر وفي مجلة العروة الوثقى حتى انقشع الظلام، واستيقظ النيام، وذعر المستعمرون والمستبدون، وأيقنوا أن للإسلام نورًا لا يطفأ، وحمى لايوطأ، وحماة غلابين لا تلين لهم قناة، ولا تهزم لهم كتيبة: فإن نغلب فغلابون قدمًا ... وإن نغلب فغير مغلبينا * * * (4) صاحب المنار قبيل ظهور المنار: وكان السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه حينئذ عالمًا ناشئًا تقيًّا غيورًا متحمسًا شجاعاً حاد الذهن كثير العلم والأدب سليم الفطرة لم يبتل بما ابتلي به أمثاله من التورط في الضلال والخبل، بل نشأ محبًّا للإصلاح بصيرًا به وبالحاجة إليه، وأخذ يجول ويصول في ميدانه بسوريا جولات صادقات، وما بلغته دعوة الإمامين الحكيمين الإصلاحية إلا ملكت عليه قلبه وعقله جميعًا؛ إذ كانت هي ضالته المنشودة، فما أطاق بعدها صبرًا على السكوت، وأخذ ينظر يمينًا وشمالاً فلا يجد للعالم الإسلامي كله صحيفة إسلامية إصلاحية بعد مجلة العروة الوثقى. * * * (5) البواعث التي بعثت صاحبه على إصداره: فكانت كل هذه الأمور مجتمعة؛ وهي ما انتاب العالم الإسلامي من اضمحلال وما أصاب الإسلام من عدوان خصومه وخذلان أنصاره، وقيام الإمامين الحكيمين بالدعوة إلى الإصلاح، وما فطر عليه السيد الإمام صاحب المنار من الغيرة على الإسلام، وما تعلق به من حب الإصلاح، كانت هذه الأمور هي البواعث التي دفعت صاحب المنار إلى القدوم إلى مصر، وكانت تزدان حينئذ بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - قدس الله روحه ونور ضريحه - وكانت أكفل للحرية، وأخصب للدعوة، وأرحب صدرًا من سوريا وإلى إنشاء المنار فيها ومواظبته وجده واجتهاده في تحريره ونشره حوالي أربعين سنة هجرية لم تفتر له فيها همة، ولم تلن له فيها قناة، ولم ينثن له عزم حتى لقي ربه راضيًا مرضيًّا. * * * (6) وجهة صاحب المنار في تحريره المنار: ولما كان الاضمحلال الذي أحاط بالمسلمين من كل جانب وليد فساد أخلاقهم وعقائدهم، وكان فساد أخلاقهم وعقائدهم وليد انحرافهم عن أصل دينهم، وكان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، لما كان كل ذلك ما لبث جهد السيد الإمام محمد رشيد رضا رضي الله عنه أن انصرف كله إلى رد المسلمين إلى أصل دينهم لتصلح بذلك عقائدهم وأخلاقهم، وبصلاح عقائدهم وأخلاقهم تصلح كل أمورهم الدينية والدنيوية. وذلك الإصلاح لا يكون إلا بإشهار حرب عوان على الفساد والمفسدين، والبدع والمبتدعين، والإلحاد والملحدين، والمشتبهات والمشتبه عليهم، وسد أبوابها على المسلمين بالاعتماد في بيان أحكام الدين وفضائله على الكتاب والسنة، وعلى تأويل الأئمة المجتهدين، وعلى نقد ما خالف الكتاب والسنة من تأويلهم وتأويل غيرهم، وبما فتح الله له من أبواب الفهم السديد الصائب المنقطع النظير، فأبلى في هذه الحرب بلاءً عظيمًا ولبث يجاهد فيها كل هذا الزمن الطويل، ولقي فيها عنتًا وأذى كثيرين فما وهن ولا استكان، حتى استشهد في ميدان الجهاد بعد أن أصدر من المنار أربعًا وثلاثين مجلدة وجزءًا من المجلدة الخامسة والثلاثين وليس بجانبه صحيفة واحدة إسلامية إصلاحية تشد أزره وتشركه في أمره، وبعد أن انتصر على أعيان الابتداع والإلحاد والهدم، وبعد أن أصبح المنار أداة لا غنى عنها للدفاع عن الإسلام والمسلمين وحمياتهما من عدوان المعتدين. * * * (7) بقاء البواعث على إصدار المنار: فإذا كان الإمام السيد محمد رشيد صاحب المنار - رضى الله عنه وأرضاه - قد مات، فهل ماتت بموته الحاجة إلى المنار؟ هل ماتت البدع ومات المبتدعون؟ هل مات الإلحاد والملحدون؟ وهل ماتت المشتبهات ومات المشتبه عليهم؟ وهل ماتت الرذائل والمنكرات ومات أنصارهما؟ كلا. ما مات هؤلاء ولا هؤلاء، بل لا يزالون أحياء يحاربون الله ورسوله والإسلام والمسلمين، وما ماتت البدع والمنكرات وغيرها، بل لا تزال في تناسل وتكاثر ونماء وقوة، فلم يكن لدولة المنكر في أي عصر مضى من الأعوان الأقوياء الأعزاء المسخرين مثل ما لها الآن. أكان للخمر والملاهي من الأنصار ومن الموائد والأندية والحفلات والمنازل والدعاية الطويلة العريضة في الصحف على اختلاف ألوانها ومنازعها - إلا القليل النادر منها - مثل ما لها الآن؟ أكان تهتك النساء وفجورهن من مظاهر الخيالة والمسارح والشواطئ وغيرها مثل ما لها الآن؟ أكانت الصحف - إلا القليل منها - لا تصدر إلا إذا فخرت وتاهت بتحلية صدورها بصور العاريات الخليعات من النساء الفواجر؟ أكانت دور الخيالة تملأ الرحب من الأرض وتعرض فيها مثل ما يعرض الآن من مناظر مغرية بالفسق والفجور وارتكاب عظائم الأمور كما انتشرت الآن؟ أكانت الصحف تتبارى وتتنافس في الدعاية الطويلة العريضة للممثلات كما تفعل الآن؟ ألم يكن كل ذلك وما هو شر من ذلك آلاف المرات في حاجة إلى صحيفة كصحيفة المنار؟ * * * (8) المجلات الدينية التي يظن أنها تحل محل المنار ومنزلتها منه: ليس في العالم الإسلامي كله مجلة إصلاحية يظن أنها تحل محل مجلة المنار إلا مجلة الأزهر , وهذه - لسوء الحظ، قبل عهد مولانا الأستاذ الإمام المصلح الشيخ محمد مصطفى المراغي - كانت حربًا على المنار لا عونًا له، ثم هي الآن لا تغني عنه لأنهم مرآة صادقة لمعهد لا يزال في طور انتقال من عهد اضمحلال مضى عليه قرون إلى عهد قوة ورفعة بسعي مولانا الأستاذ الإمام المصلح الشيخ المراغي، فهي مجلة رسمية وفي عهد انتقال لا قبل لها بالحرية المطلقة التي لمجلة المنار المطلقة من كل قيد إلا قيود الكتاب والسنة، ولو قدر لمجلة الأزهر والمنار في عهدهم الحديث أن تكونا فرسَيْ رِهان في نصرة الإصلاح الديني والاجتماعي ما كانتا كبيرتين على العالم الإسلامي، بل ولا عشرات المجلات من نوعهما، فأهلاً وسهلاً بهما. * * * (9) المسئولون عن إصدار المنار: وإذن لم يكن العالم الإسلامي ولا الإسلام نفسه في غنى عن المنار، فإن المسئول عن إصداره وإحيائه هم أنصاره وأحباؤه، فقد أصبح أمانة في أعناقهم دون غيرهم من المسلمين، لا تبرأ ذمتهم منه إلا إذا أحسنوا القيام عليه وأصدروه، فإذا قام بذلك ولو واحد منهم فقد سقط عن الباقين لأنه من فروض الكفاية. وإن صاحب المنار ومناره فينا كرجل قوي البنية مفتول الساعدين حفر لنا بئرًا عذبًا ماؤها وليس لنا ما نستقي منه غيرها وبقى طوال حياته يخرج لنا ماءها بسواعده، أفإن مات طمسنا البئر، وحطمنا الدلاء، وأمسكنا عن الاستقاء حتى نموت عطشًا لأننا لا نجد فينا رجلاً مثله قوة جسم، وقوة إرادة، وعزيمة، أم يجب علينا حفظًا لحياتنا أن نحرص كل الحرص على سلامة البئر، وأن نتعاون على إخراج مائها والارتواء به؟ * * * (10) حياة المنار ولو نصف حياة خير من موته: يقول بعض الأنصار إن المنار مجلة ذاتية؛ حيت بحياة صاحبها الذي استقل بتحريرها حوالي أربعين سنة هجرية نسجها فيها على منواله، وصبغها بصبغته، وقدها على مثاله، فأصبحت لا تصلح لغيره ولا يصلح لها أحد من بعده، فلا بد أن تموت بموته ويجب أن ندعها تموت. وهذا ليس من المنطق السليم في شيء؛ إذ أن الحياة - ولو كانت ناقصة - خير من الموت، فإن الأطباء لا يمكن أن يدعوا إنسانًا فقد بعض أعضائه أو كُسِرَها يموت وفي إنقاذه أمل حتى ينقذوه ولو كانت حياته بعد ذلك شرًّا له ولآله من موته، فكيف ندع المنار صحيفة العالم الإسلامي يموت ونحن موقنون أن في حياته خيرًا محققًا لا لشيء إلا لأن هذا الخير دون ما كان له من الخير في حياة منشئه رضى الله عنه وأرضاه؟ كيف ندعه يموت على مرأى ومسمع من العالم الإسلامي وفيه من يستطيع أن يحييه، ولو بعض الحياة؟ كيف ندعه يموت وقد سن له صاحبه طريق الحياة من بعده؛ إذ فتح في العدد الأخير من المجلدة الرابعة والثلاثين - وهي آخر المجلدات - أبوابًا جديدة له، ودعا إلى الكتابة فيها أنصاره؟ وفي مصر وحدها مئات القادرين على الكتابة في هذه الأبواب بإتقان وإجادة. * * * (11) محاولة لإحياء المنار: لن يموت المنار ولن ينسى

موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

الكاتب: حسن البنا

_ موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم وواجب أصحاب الجلالة ملوك المسلمين وحكوماتهم نشبت الحرب الماضية والعالم الإسلامي كله منضوٍ تحت اللواء التركي، مستظل بظل الخلافة العثمانية، إلا بعض أجزاء اقتطعتها يد المطامع السياسية الغربية من قبل. كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني، ثم صارت بإعلان الحرب تحت الحماية، وخاضت البلاد العربية ميادين القتال إلى جانب الحلفاء تصديقًا لوعودهم وانخداعًا بالأماني المعسولة التي وضعوها أمام الأمة العربية. ولسنا بصدد اللوم أو العتاب أو تحديد مسئولية المخطئ والمصيب في هذا كله فقد ذهبت تلك الأيام بما كان فيها وصارت مواقف الرجال والأمم في ذمة التاريخ يحكم لها أو عليها. وانجلت تلك الحرب وويل للمغلوب، وغُلبت تركيا على أمرها، وسُلبت حق سيادتها على الولايات التابعة لها. وهنا نهضت الشعوب الإسلامية تجاهد وتكافح وتناضل وتطالب بحقها في الحياة العزيزة الحرة الكريمة. كانت ثورة الكماليين على أرض الأناضول، وانتهت بتكوين تركيا الحديثة هداها الله وألهمها الرشد. وكانت الثورة المصرية في وادي النيل، وانتهت بمعاهدة أغسطس 1936 التي حققت جزءًا ضئيلاً جدًّا من الأماني المصرية، ولازالت مصر تكافح لاستكمال الباقي. وكانت الثورة العراقية وانتهت بالمعاهدة العراقية الإنجليزية التي حققت كذلك جزءًا من الأماني العراقية، ومكَّنت العراق من السير سريعًا إلى استكمال ما بقي، واستولى الملك عبد العزيز آل سعود على الحجاز وضمَّه إلى نجد وكون منهما المملكة العربية السعودية. وكافحت سورية وناضلت، وكاد يتم بينها وبين فرنسا عهد وميثاق كالذي تم في مصر والعراق مثلاً، لولا أن فرنسا نكثت عهدها بعد أن وثقته وقلبت للسوريين ظهر المِجَنِّ ولا زالت في موقفها هذا إلى الآن. وتعقدت قضية فلسطين ونشبت فيها الثورات تباعًا، ولم يفلح ذهب اليهود ولا خداع الإنكليز في تضليل الشعب الباسل وصرفه عن أهدافه الحقة وعن المطالبة باستقلاله الكامل في أرض الآباء والأجداد التي رواها دم الصحابة الطاهر فأنبتت أولئك الأحفاد البررة. واستمرت طرابلس ثائرة على الحكم الإيطالي الظالم حتى قبض على المجاهد المؤمن السيد عمر المختار، وضُيق الخناق على المجاهدين فقتل من قتل ونفي من نفي، وانتهى كل ذلك بأن أعلنت إيطاليا تجنيس طرابلس بالجنسية الطليانية، وقذفتها بسيل من المهاجرين الطليان يلتهم الأخضر واليابس. وقامت ثورات في بعض جهات من هذا الوطن المتمرد على الظلم والجور، كان من أظهرها ثورة الريف المغربي بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم، وانتهت كلها بتشديد الضغط على خناق الأحرار والعاملين. هذا بسط موجز لموقف العالم الإسلام من نفسه، ومن غيره من الأمم التي ظلمته وتدخلت في شأنه واستبدت بأمره واغتصبت حقوقه إلى الآن. * * * اختل التوازن الأوربي وجرت الأحداث سراعًا تسابق الدقائق والساعات وتغير الأفكار والآراء والمواقف والاتجاهات. وانجلت تلك الغمرة عن وجود معسكرين قويين في أوروبا: معسكر المحور، ويضم ألمانيا وإيطاليا ومن لف لفهما من دويلات أوربا ومن ورائهما اليابان في الشرق، ومعسكر الدول الديمقراطية ويضم إنجلترا وفرنسا ومن تبعهما من دول أوروبا ومن ورائها أمريكا في القارة الجديدة. وحرب الدعاية والكتابة والتربص والأعصاب - كما يقولون - قائمة على أشدها بين الفريقين، وكل منهما يتودد إلى العالم العربي والإسلامي ويود أن يكسبه إلى جانبه، فذلك هو الذي يرجح إحدى الكفتين على الأخرى في آسيا وإفريقية على الأقل، وإذا رجحت الكفة في هاتين فقد رجحت في أوربة كذلك. إن دول الشرق الإسلامي قضت عليها الحوادث والظروف الماضية والحاضرة أن تتصل بالدول الديمقراطية وأن تكون إلى جانبها وأن يرتبط مستقبلها بمستقبل هذه إلى حد كبير، هذا الوضع - إلى جانب الخصومة القائمة بين المعسكرين في أوربا - كان يجب أن يجعل الدول الديمقراطية تسارع إلى اكتساب مودة العرب والمسلمين اكتسابًا نهائيًّا، وأن تسد الطريق على غيرها إلى ذلك الود، وذلك في وسعها ولا يكلفها عناء وعنتًا، بل لا يكلفها إلا أن تحق الحق وتعترف به لأهله، وتبطل الباطل وتقاوم الذين يريدونها عليه، فهل فعلت هذا؟ العجب أن الدولتين الديمقراطيتين إنجلترا وفرنسا فعلتا عكسه تمامًا، كأنهما تتحديان بذلك شعور العرب والمسلمين في كل أنحاء الأرض؛ فأما فرنسا فقد أساءت إلى سورية أبلغ الإساءة ففصلت عنها الإسكندرونة وقدمتها إلى تركيا رغم الصرخات العالية والاحتجاجات الكثيرة والأغلبية العربية في هذا اللواء، وتنكرت لسورية مرة أخرى فعدلت عن إبرام المعاهدة واستبدت بالأمر في داخلية البلاد استبدادًا أدَّى إلى استعفاء الوزارة عدة مرات، وتعذر قيامها بمهمة الحكم، ثم أدى أخيرًا إلى استقالة رئيس الجمهورية، وهذا نص استقالته التي رفعها لمجلس النواب السوري: إلى رياسة المجلس النيابي السوري الفخيمة: (منحنى مجلسكم الكريم ثقته وانتخبني في أول جلسة عقدها لرياسة الجمهورية على أثر عقد المعاهدة وإقامة الصلات بين فرنسا وسوريا على قواعد التحالف والمودة؛ وذلك لإدراك هذه الأمة الغاية الشريفة التي تسعى إليها من الاستقلال والسيادة القومية. وقد تعاقبت حكومات في سوريا وأخذت تبذل قصارى جهدها في سبيل إبرام العهد المقطوع والميثاق المعقود واثقة بأنه ينطوي على الخطة الوحيدة التي تعزز جانب الوطن السوري وترفع من شأنه، كما توثق الروابط بينه وبين الجمهورية الفرنسية حتى يسود علائقهما جو من الصفاء والإخلاص، وحتى تقوى هذه البلاد على مقابلة الأحداث وصد الأطماع؛ غير أن الجهود التي بذلت لم تسفر عن نتيجة برغم الوعود الرسمية الصادرة من رجال الوزارات التي تعاقبت في فرنسا منذ سنة 1936 إلى الآن، فذهبت ضياعًا تلك الآمال التي توجهنا بها إلى سياسة التحالف والتضامن، وشهدنا العودة إلى أساليب قديمة وتجارب جديدة تناقض ما تعاهدنا عليه ودخلنا الحكم على أساسه. على أن حوادث الماضي وقرائن الحاضر لا تترك مجالات للشك في أن هذه الخطط - التي يراد اتباعها واستئناف العمل بها - تؤدي إلى استمرار المشاكل والخلافات، كما أنها تضعف كيان هذه البلاد وتوهن قواها وتهدد استقلالها. ولذلك لا أرى بدًّا من الاستقالة من المنصب الذي عهدت إليَّ الآن في القيام به وتحمل أعبائه، راجيًا أن يكون في الأيام المقبلة ما يخفف عنها الآلام والعناء، وتحقق ما تصبو إليه من الكرامة والمجد) . وقد عرضت الاستقالة على المجلس فأقرها، ودعا الوزارة إلى الاجتماع، فاجتمعت وقررت القيام بأعباء الحكم؛ ولكن المندوب السامي تحدَّاها في هذا، فأصدر قرارًا بتدخل السلطة الفرنسية فورًا وتعطيل الدستور ومجلس الوزراء، وعين مجلسًا يتولى السلطة باسم فرنسا، وهذا نص قراره: (قد نشأ عن استقالة مجلس الوزراء ورئيس الجمهورية في سوريا فقدان تام للسلطة التنفيذية مما يجعل تدخل الدولة المنتدبة تدخلاً فوريًّا أمرًا لابد منه، وفي هذه الحالة ترى الدولة المنتدبة نفسها مضطرة إلى وقف تنفيذ الدستور فيما يتعلق بالسلطتين التنفيذية والتشريعية، والنظر في نظام مؤقت يمكن من إدارة البلاد إدارة منظمة طبيعية. بناء على ذلك قرر المفوض السامي أن يعهد في السلطة التنفيذية - تحت مراقبته - إلى مجلس مؤلف من مديري مختلف المصالح الوطنية برياسة مدير الداخلية، ويؤلف مجلس المديرين بقرار من المندوب السامي، ويجوز له أن يتخذ قرارات بتعيين الموظفين الملكيين، ويجوز له بناء على رأي المجلس أن يصدر مراسيم لها مفعول القوانين ولا سيما في الشئون المتعلقة بالميزانية، وتتخذ المراسيم التشريعية بعد موافقة المندوب السامي التي تجعلها نافذة) . هذا هو موقف فرنسا في سورية، فأما موقفها في بقية مستعمراتها الإسلامية فعلى ما كان عليه من عسف وجور ونفي للأحرار وتعذيب للوطنيين، وهؤلاء شباب المغرب وعلى رأسهم الآن محمد بن عبد الكريم لا زالوا في أعماق المنافي والسجون، وأما إنجلترا فقد أخذت تتلون كالحرباء في حل قضية فلسطين، وانتهى مجهودها وخداعها بإصدار الكتاب الأبيض الذي لم يُرض أحدًا من الأمم الإسلامية، حتى أن واحدة من الحكومات لم تشأ أن تتورط في التوسط لدى عرب فلسطين الباسلين لقبوله. ولم تكتفِ بهذا بل أخذت جنودها تهاجم اليمن وتحتل أرضًا يمانية بحتة كإقليم شبوه، وتدعى على لسان محطات الإذاعة فيها أنها ضمن منطقة عدن المحتلة، مما أدى إلى احتجاج جلالة الإمام لدى ملك إنجلترا احتجاجًا صارخًا هذا نصه: (من ملك اليمن الإمام يحيى إلى صاحب الجلالة الملك الإمبراطور جورج السادس المعظم بلندن. بعد تقديم وتأكيد الإخلاص والتعظيمات لذات عظمتكم، أعرض لجلالتكم تأثراتي العظيمة من إذاعات راديو لندن باللسان الرسمي الحكومي وادعائها أن شبوه ومناطقها داخلة في الأراضي العدنية المحتلة، مستندة في ذلك إلى معاهدة سنة 1940 (كذا من أصل البرقية) . وقد كنت خاطبت جلالتكم سابقًا بشأن شبوه ومناطقها كلها، وأنه لم يكن لأحد شأن فيها في أي وقت كان لا من قبل ولا من بعد، وكنت رجوت من عدالة جلالتكم طلب أوراق المخابرة الواقعة بشأنها من عدن للاطلاع على ما حدث من الوقائع بهذا الخصوص بين عدن واليمن، فإن ادعاء عدن بشبوه ومنطقتها مخالف لكل الوقائع، وعارٍ عن كل إثبات، فحكومتي مجبورة للاحتجاج، ولا يمكن لليمن السكوت عن عمل مغاير للحق ومخالف للصداقة بكل معنى. ومعلوم لجلالتكم أن شبوه ومنطقتها يمانية منذ خلق العالم إلى اليوم، وسيطرة اليمن لم تزل عليها ولا هي افترقت يومًا واحدًا عن أمها اليمن، وكل قرار غير شرعي بشأنها نرده بلا شك، ولم تتعهد اليمن لدولة ولا لشخص بأن تسلمه حقوقها وملكها، وهل يمكن - يا صاحب الجلالة - بيع أو إهداء أي أرض أو زراعة ممن لا يصح تصرفه فيها؟ ومن المعلوم أن العثمانيين وغيرهم لم يدخلوا شبوه ومنطقتها، فلم يتصرفوا بشيء فيها ومنها. وهل من المعقول والمقبول المطالبة بهدية تقدم من مالكها؟ ومن المعلوم أن جدنا الإمام الهادي هو الذي عمر الحصون قبل ألف سنة وأن سلفنا الإمام أقام في شبوه. فنحن متسلسلون في شبوه، وسكانها متعلقون بحكومتنا من جملة إخوانهم بني جابر. وفي سنة 1914 ابتدأت الحرب العامة وتحاربت إنجلترا مع العثمانيين، ولم يبق للدولة العثمانية وجود في العالم، وأما تركيا الحاضرة فلم تصل إلى اليمن وتعمل لليمن شيئًا، فهل يمكن - يا صاحب الجلالة - أن تجيز القوانين الشرعية والمدنية العالمية الاعتداء على بلاد دولة مستقلة واغتصابها؟ وهل يستطيع أي يمني كان أن يرضى بتسليم أرض أجداده التي حافظوا عليها إلى هذا اليوم بدمائهم وجهودهم؟ فأرجو من عدالتكم - يا صاحب الجلالة - أن تنظروا إلى الأمر بعين العدل، ومعلوم جلالتكم أن عرشكم العالي وحكومتكم الجليلة عقدا برضائها وطلبهما معاهدة الوداد والصداقة مع اليمن. وتصرح المادة الثالثة من هذه المعاهدة بأنه لا يجوز أن يتبدل أي حال بين عدن وبين اليمن إلا بالاتفاق بين الطرفين ورضائهما وموافقتهما بالطرق الودية، وأن تبقى الحالة التي كانت قائمة في تاريخ عقد المعاهدة نافذة المفعول، فهل - يا صاحب الجلالة - يرضى عدل

بين الشرق والغرب

الكاتب: محمد حبيب العبيدي

_ بين الشرق والغرب أيها الغرب إن للشرق شأنًا ... وعلى غابر الزمان العفاء هبَّ من نومه وكان خليقًا ... أن يجافي جفونه الإغفاء تلك صحف التاريخ تشهد أنَّا ... خير نسل أقلت الغبراء كم عمرنا الديار وهي خرابٌ ... وملأنا القفار وهي خلاء وركبنا البحار وهي طوام ... وألفنا الأسفار وهي عناء يوم لا دق بالحديد تراب ... لا ولا شق بالبخار الماء وملكنا بالسيف ملكًا جسامًا ... لم يشد قبل ركنه بناء أيها الشرق حدِّث الغرب عما ... أيقظت من سباتك الأرزاء وإليك الأبصار من كل قطر ... شاخصات وللأمور انتهاء أنسام الهوان دون المنايا؟ ... إنما الموت والهوان سواء ليس دار الهوان للحر دارًا ... إنما الحر داره الجوزاء قد تلونت يا زمان علينا ... فحنانيك أيها الحرباء قرع الدهر نابنا وقرعنا ... نحن والدهر لو درى أكفاء من تفانى في المجد نال بقاءً ... وطريق البقاء هذا الفناء ولقد آن أن يلم شتات ... وتسوى أرض ويعلو بناء ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد حبيب العبيدي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (بتصرف)

ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن

الكاتب: محمد أحمد جاد المولى

_ ما أحوجنا في هذا الزمان إلى هداية القرآن بقلم الأستاذ الكبير محمد أحمد جاد المولى بك كبيرمفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية قد وضح للمنصفين من العلماء والباحثين أن الله - سبحانه وتعالى - لم يخلق هذا الخلق عبثًا، ولم يتخذه لهوًا ولعبًا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} (الأنبياء: 16) ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقّ} (الحجر:85) ، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} (المؤمنون: 115) ، {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى} (القيامة: 36) ، {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: 56) . وسواء أريد بالعبادة ظاهرها، أم معرفة الله - كما ذهب ابن عباس رضي الله عنهما - فالمعرفة لا تكون بدون عبادة، والعبادة لا تكون بدون معرفة. لذلك كانت حاجة الناس إلى اهتداء بشريعة الذي فطرهم ضرورية وفوق حاجتهم إلى كل شيء. ألا ترى أن أكثر العالم يعيشون بغير طبيب؟ ! مثلاً: فأهل البدو كلهم، وأهل الكفور جميعهم، وعامة بني آدم لا يحتاجون إلى طبيب، وهم أصح أبدانًا وأقوى طباعًا ممن هو متقيد بالطبيب من أهل المدن الجامعة. ولقد فطر الله بني آدم على تناول ما ينفعهم واجتناب ما يضرهم، وجعل لكل قوم عادة وعرفًا في معالجة ما يهجم عليهم من الأدواء، حتى إن كثيرًا من أصول الطب إنما أخذت من عادات الناس وعرفهم وتجاربهم. أما الشريعة فقائمة على معرفة الإنسان مواقع رضا الله وسخطه في أعماله الاختيارية، ولا طريق لهذه المعرفة إلا الوحي المحض، بخلاف الطب فمبناه على تعرف المنافع والمضار التي للبدن وعليه، وأساسها التجارب والاختبار، وغاية ما يقدر في جهل تلك المنافع والمضار موت البدن وتعطيل الروح عنه، وأما ما يقدر عنه فقدان الشريعة ففساد النفس، وتنكبها الصراط السوي، وانغماسها في حمأة الرذائل؛ مما يودي بها وبالمجتمع الذي تعيش فيه، وشتان بين هذا وهلاك البدن بالموت. فالناس أحوج ما يكونون إلى معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والقيام به، والدعوة إليه، والصبر عليه، وجهاد من خرج عنه حتى يرجع إليه، وليس للعالم صلاح بدون ذلك ألبتة، ولا سبيل إلى الوصول إلى السعادة والفوز الأكبر إلا بالعبور على هذا الجسر، وتاريخ الأمم الإسلامية أيام اعتصامها بحبل الدين وتهاونها به، وما نراه في الأمم الغربية من الأمراض الاجتماعية والخلقية المستعصية - مع سبقها وعلو كعبها في شئون المادة - شاهد على ذلك. وما جاء به الرسول هو الكتاب الكريم والسنة الصحيحة، وذلك هو الإسلام وهو دين الله وشريعته في جميع الأمم منذ بدء الخلق حتى تقوم الساعة، وقد أخبر الله بذلك في غير موضع من القرآن {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (آل عمران: 19) فدين الإسلام هو دين الأولين والآخرين من النبيين والرسل، وقوله - تعالى -: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85) عام في كل زمان ومكان، فنوح وإبراهيم ويعقوب والأسباط وموسى وعيسى والحواريين كلهم دينهم الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له والاستسلام له ظاهرًا وباطنًا، وعدم الاستسلام لغيره، كما قد بيَّن ذلك القرآن، فدينهم كلهم واحد وإن تنوعت شرائعهم. قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاًَ} (المائدة: 48) . وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (الجاثية: 18-19) . ولقد جاء القرآن الكريم والسنة الصحيحة بشرائع الإسلام الظاهرة وحقائق الإيمان الباطلة، ففي مسلم عن عمر رضي الله عنه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان فقال: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت؛ والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره؛ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) . فمن لم يقم بشرائع الإسلام الظاهرة امتنع أن يحصل له حقائق الإيمان الباطنة، ومن حصلت له حقائق الإيمان الباطنة فلا بد أن يحصل له حقائق شرائع الإسلام الظاهرة، فإن القلب ملك والأعضاء جنوده؛ ومتى استقام الملك وصلح استقامت جنوده وصلحت. في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب) . وإن أصل الإيمان والتقوى الإيمان برسل الله أجمعين، وملاك ذلك الإيمان بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم؛ فالإيمان به يتضمن الإيمان بجميع كتب الله ورسله. وأصل الكفر والنفاق هو الكفر بالرسل وبما جاءوا به، وذلك يستوجب العذاب الأكبر. وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه لا يعذب أحدًا إلا بعد بلوغ الرسالة. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (الإسراء: 15) ، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} (القصص: 59) . فالقانون السماوي سبب السعادة، ومن الخطأ الاعتياض عنه بالقانون الأرضي الإنساني الذي لا يخلو - وإن توافقت عليه الآراء - من أغلاط وأخطاء، لا سيما إذا كان ممن لا علم عندهم بمعاني كتاب الله، وسنة نبيه الداعي إلى الله على بصيرة. حقًّا، إن الاعتياض عن القانون السماوي بالقانون الأرضي من أعظم أسباب المقت والحرمان، وأكبر موجبات العقوبة والخذلان؛ إذ هو اتخاذ لدين الله هزوًا ولهوًا ولعبًا، وتبديل النقمة بنعمة الله، والكفران بالشكران. وشرع دين لم يأذن به الله واتباع لغير سبيل المؤمنين مشاقة ومحادة ومحاربة وخيانة لله ورسوله، وعشو عن ذكر الرحمن، وإعراض عنه، إلى غير ذلك من المفاسد والمحاذير التي لا تدخل تحت الحساب ولا تضبطها أقلام الكتاب. قال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا} (الأنعام: 70) ، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ البَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القَرَارُ} (إبراهيم: 28-29) . {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21) {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} (النساء: 115) . {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الخِزْيُ العَظِيمُ} (التوبة: 63) ، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) . فإذا كان هذا حكم الباغين المحاربين الخارجين عن طاعة الإمام الذين شقوا عصا الجماعة؛ فما بالك بمن دعا الناس كافة عربًا وعجمًا، مؤمنهم وكافرهم، إلى قانون اخترعه هو أو غيره من جنس الخيالات الباطلة، فخرج هو - وأخرج به - عن طاعة الله وطاعة الرسول، وحاربهما وحادهما وشاقهما بمخالفه أمرهما؟ بلى وربك، فإنه رأس الفساد، وأم الشرور والخبائث، وما يعقله إلا العالمون. وقد وسم الله من خالف أحكامه واتبع غيرها في أحكامه وأعماله بالظلم والكفر والفسق، قال تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (الطلاق: 1) {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:229) ، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} (المائدة: 47) {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً} (النساء: 60-61) . قال أهل التحقيق من المفسرين: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه به فيما لا يعلمون أنه طاعة الله. فالقرآن يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله، وعدم تحكيم ما عداه إما تصريحًا وإما تلويحًا، وله جاهد من جاهد، ويجاهد من يجاهد من عباد الله المتقين من لدن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم تقوم الساعة. فقد صح عنه أنه قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا خلاف من خالفهم حتى يأتي أمر الله) فبتحكيم ما أنزل الله يقوم العدل، ويؤيد الملك، ويستقيم أمر المعاش والمعاد، وتكمل لهم الراحة والأمن والحرية التامة. ومن شك فيما تقدم فلينظر الفرق بين حال الإسلام في هذه القرون المتأخرة التي عطلت فيها حدود الشريعة وأحكامها وحاله في القرون المتقدمة التي ما كانت هي شيء أحفظ منها على أحكام الشريعة وأوعى لها فإنه واجد الفرق كما بين الثرى والثريا، وكما بين الأرض والسماء. ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم فتحوا ما فتحوا من الأقاليم، ونشروا الإسلام والإيمان والقرآن في نحو مائة سنة مع قلة عدد المسلمين وعددهم وضيق ذات يدهم، ونحن مع كثرة عددنا ووفرة عُددنا وهائل ثروتنا لا نزداد إلا ضعفًا وتقهقرًا وذلاًّ وحقارة في عيون الأعداء؛ وذلك لأن من ينصر الله يُمكِّن له في الأرض، ويمده بنصر من عنده. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7) وقد بين الذين ينصرون دينه بقوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ} (الحج: 41) .

تطور الإسلام

الكاتب: أديب غير معروف

_ تطور الإسلام لأديب غير معروف كان نشاط الإسلام الغريب مدعاة دهشة لعقول البشر منذ تلك الأيام الممعنة في الزمن، التي حملت لواءه من فرنسا إلى الصين , ولكن هذه الشعلة الروحية المتقدة ما لبثت أن أخذت تخمد على الأيام، حتى ظهر الإسلام في القرن الثامن عشر في حال من الاحتضار، فأخذ العلماء يلتمسون المعرفة في آفاق محدودة من الدين، لا كما نزل به القرآن وجاء به النبي صلى الله عليه وسلم، مشرقًا بالنور، سمحًا إلى أبعد الحدود، بل كما فهموه، هزيلاً ضيقًا، بل على أكثر ما يكون عليه الدين من الهزال والضيق حين يبدأ فيسمح لظل آدمي أن يقوم بين العقل البشري والله. إن الإسلام دين الفكرة المتحرر، الذي استطاع أن يطرد الخرافات الكهنوتية من البلدان التي استظلت بظله، انتهى إلى أن يكون هو نفسه مثقلاً بأنواع العبودية والخرافات. فرض الإسلام على معتنقه أن يطلب العلم من المهد إلى اللحد، ونقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فضل العلم أفضل من العبادة) ولكن هذا الفرض أهمل في عصور انحلال الثقافة العربية إهمالاً مخجلاً اطّرحت معه دراسة العلوم الطبيعية من زمان، فكان ذلك من أهم الأسباب لتأخر الإسلام في العصر الأخير. قال المستعرب الفرنسي الشهير (كازانوفا) : منذ أن خبت شعلة الثقافة العربية زمن الغزو العثماني، ومنذ أن أخذ الإسلام الأول تنقله ربقة (أرثوذكسية) متحرجة، ونحن ننظر إلى عقل العرب الحديث كشيء يختلف عن عقولنا، ونعتقد أن المسلمين ليسوا بقادرين على أن يفهموا فكرنا ويمثلوه، ناسين كلمة نبيهم الرائعة، التي كانت مصدر الهدى لحضارتهم الأولى، والتي تقول: (فضل العلم أفضل من العبادة) . إني لأتساءل: أي رئيس ديني، أو أي مبشر عظيم جرؤ في يوم أن يتلفظ هذا الكلام الجسور، الذي يكون (دستور الإيمان) لعالمنا الثقافي اليوم؟ في حين أن كلامًا كهذا كان يعد لزمن غير بعيد كفرًا عند الجمهرة الكبرى من العقول المثقفة، بل أستطيع أن أتساءل: أي أوربي في عصر محمد استطاع أن يفكر بإمكانية فظاعة كهذه؟ ! وعلى هذه فأصح البديهيات عن حرية الفكر، هذه البديهيات التي تدع وراءها أجرأ آراء (لوثر) و (كالفن) ، وأمثالهما، إنما فاه بها عربي من أهل القرن السابع، هو مؤسس ذلك الدين الذي يزعم كثير منا أنه منحط انحطاطًا لا يرجى له علاج، وفي الحق أن تذوق العلم، والتأملات الفكرية في شتى الميادين، وأن حب الفكر الإغريقي والإعجاب بمآثره، وهذا الفضول المُلِحّ لمعرفة ما في الطبيعة، والرغبة الجادّة في رفع النقاب عن هذه الطبيعة، كل أولئك كان يمثل المزايا الصحيحة للروح العربية، إن هؤلاء العرب العظام الذين فقناهم في الأربعة القرون الخالية كانوا الأساتذة الكبار للفكر الحديث قبل عصر النهضة) . بيد أن العلماء الذين كان عليهم أن يرعوا تعاليم الإسلام الصحيحة ما لبثوا مع الزمن أن وقفوا كل اهتمامهم على الفرعيات الصغرى من العبادات، فكانت بذلك مفارقة خطرة لعمود الشرع الأول، وكانت أن نشأت في البلدان الإسلامية رجعية متحرجة، وتعصب مخالف لروح الإسلام، وطغت على مراكز الثقافة العربية مدرسية متطرفة كالتي عرفت في القرون الوسطى، وبها طائفة من الخرافات الفارغة، فمد الجهل رواقًا على الطبقات الدنيا، فرغبت عن كل تجديد، وأصبح المجتمع الإسلامي فاسدًا على الجملة. إن روح الإسلام لا تعني على أي حال الاطمئنان إلى هذا الوضع الذي يسود العالم الإسلامي، أو القناعة به؛ لأن الجبر (أي الاعتقاد بالقضاء والقدر على أنهما إجبار) لا يؤلف قممها من العقيدة الدينية، أما العامة، فقد تملكتها - بسبب الجهل والعبودية السياسية فيما بعد - روح قناعة وتسليم تكفي لإحداث ركود عام، فكان بذلك سبب رئيسي من الأسباب التي عاقت التقدم السياسي والاقتصادي للدول الإسلامية. لقد تقدمت الدول النصرانية في ميدان الحياة المادية، كما تقدم المسلمون زمان كانوا يخضعون لتعاليم الشرع التي نادت بحرية الفكر، وحضَّت على طلب العلم، ودرس ما خلق الله. لقد أطرح الأوربيون الأصفاد الأكليركية والمدرسية الضيقة فكان تقدمهم في الحقل المادي مدعاة للدهشة بقدر ما كانت الفتوح المادية والروحية التي قام بها المسلمون الأولون. وضعف آخر عانى منه الإسلام كثيرًا في تاريخه، هو نفوذ الأوتوقراطية السياسية السيئ؛ فإن قيام الأوتوقراطية المستبدة على رأس الإسلام قد أضر به كثيرًا في الحقبة التي سبقت الحروب الصليبية بقليل؛ إذ كان جو الفساد الذي خلقته هذه الاوتوقراطية المستبدة عائقًا لنمو الإسلام، فتفسخت الأمصار الإسلامية إلى وحدات يسيطر عليها طغاة منهمكون في منازعاتهم وحربهم التي يستغل فيها الدين ويسخَّر لأغراض غريبة عنه، فما طال الزمان حتى كان الشرق المسلم غارقًا في ظلام عميق، ضيَّق من أفقه الثقافي، وانتهى به إلى عقم أدبي عام. وعامل هام آخر ساعد على تأخر المسلمين، هو نشوء شعور بالتسامي مزور قام على التبجح بالفتوح العظيمة، والتغني بمآثر الإسلام في العصور الأولى، وحمل المسلمين على أن ينظروا إلى المخترعات الحديثة التي ولدها العقل الغربي نظرة استحقار واستخفاف. إن المسلمين في عصور انحطاطهم لا يشبهون المسلمين الأول إلا قليلاً، فلم يعملوا بما قضته شريعتهم، ولا عنوا بتتبع سنن نبيهم، لقد قطع المسلمون شوطًا بعيدًا في الحقول العقلية، والسياسية، والاجتماعية، والأخلاقية أيام استمسكوا بأمر دينهم ونهيه، ولكنهم لما رغبوا عن حبلهم هذا المتين فقدوا روح البطولة وأسقط في يدهم، فأهملوا تثقيف أولادهم، كما أهملوا تثقيف بناتهم بخاصة، لقد ناءوا بهذه الحضارة وهذه الثقافة التي بناها أسلافهم بتأثير القرآن والتأسي الشريف بالنبي صلى الله عليه وسلم فما استطاعوا لها صونا، وضعفت روح التكتل، وأخذ التفسخ يظهر واضحًا. وكان الغزو المغولي في القرن الثالث عشر ضربة أخرى شديدة على الثقافة الإسلامية؛ إذ عطلت جيوش جنكيز خان أعظم مراكز العلم، وأودت بمعظم العلماء، كان كل ذلك في يوم كانت فيه الحدود الشرقية للإمبراطورية الإسلامية غير مصونة إلا قليلاً، وهنا نلاحظ أن فرضًا من فروض الشريعة قد نُسي أو أهمل، هو الجهاد، فانتهى الأمر أخيرًا إلى سقوط بقايا الإمبراطورية الإسلامية في أيدي دول الاستعمار الأوروبية. لقد عاقت الحروب الصليبية نمو الإسلام، في حين أن اكتشاف طريق الهند التجارية الشرقية، واكتشاف أميركا، مع ما دعا إليه من اتجاه التجارة العالمية ناحية الغرب، إلى جانب ازدهار الحركة الصناعية والمواصلات عبر المحيط، كل ذلك كسف أخيرًا عالم الإسلام، فما آذن الزمن بالقرن الثامن عشر حتى كان العالم الإسلامي غارقًا في سبات، بينا شهد القرن التاسع عشر سقوط الدول الإسلامية - الواحدة بعد الأخرى - في قبضة الدول الغربية المغيرة. ولكن السبات والركود ليسا من مبادئ الإسلام، إن هما إلا نتيجة لأحداث سياسية واقتصادية، وهكذا أخذت تقوم في ذلك الحين محاولات في الإصلاح الديني أظهرت واضحًا أن خلف الرماد حياة للإسلام صحيحة فذة، هذه الحركات الإصلاحية نشطت لإحياء مجد الإسلام الأول، وطمحت إلى إعادة الدين إلى شكله الصافي الخالص قبل أن تثقله المعتقدات الدخيلة والبدع المفسدة. وكان ابن تيمية في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي) العدو الأول لهذه البدع، ولكن أربعة قرون تصرمت قبل أن تؤتي آثاره أكلها يانعًا، ففي القرن الثامن عشر تأثر محمد بن عبد الوهاب من أهل نجد بدراسة مؤلفات ابن تيمية، فحاول كما حاول أستاذه من قبله أن يرجع للإسلام حيويته الأولى وصفاءه الأول، وأن يجتث الرذائل ويبطل البدع المخالفة لتعاليم الدين الفطرية، مجردًا حملته في سبيل هذا الإصلاح الديني حوالي سنة 1740، بعد أن حز في نفسه ما رآه من التفسخ الأخلاقي، وذيوع الخرافات بين المسلمين، وفي سبيل هذا بشر محمد بن عبد الوهاب بالرجوع إلى مصدري الإسلام الأولين كتاب الله وسنة رسوله. وقد عمل هذا المصلح الطهري - مؤسس الوهابية - كل ما في وسعه ليعيد للإسلام بساطته الشديدة الأولى، فكانت الحركة الوهابية في الواقع بشير الانتعاش للإسلام الحديث، ولا نستطيع هنا - بداعي ضيق المجال - أن نعرض بكلام مسهب لنمو هذه الحركة، إنما يكفي الذكر أنها نشأت في جزيرة العرب في ظل البيت السعودي، وانتشرت في نجد ثم في الحجاز زمنًا قصيرًا، تقلصت عنه بعده، إلى أن قام عبد العزيز بن سعود ببضع حملات ناجحات استعاد بها الحجاز، وضرب بسلطانه على القسم الأعظم من بلاد العرب. امتدت الحركة الوهابية إلى ما وراء الجزيرة، وعملت على إثارة حركات مشابهة مستوحاة منها في الهند وإفريقية وجزر الملاي، بل إن حركة السنوسي الشهيرة نفسها مدينة في منشئها للإيحاء الوهابي. ففي منتصف القرن التاسع عشر حمل السير سيد أحمد خان لواء حركة تحريرية إصلاحية في الهند، كان من ثمارها تأسيس جامعة إسلامية في عليكرة يتلقى فيها الطلاب - إلى جانب التربية الدينية - ثقافة عصرية عميقة، ولقد اتجه السير سيد علي في المسائل الفقهية اتجاهًا حديثًا، محاولاً أن يلائم بين حياة الشعوب الإسلامية وبين العصر الجديد، وأن يؤلف بين الثقافة والتقاليد الإسلامية، وبين الآراء الحديثة والعلم الحديث. وبعد وفاة السير سيد تعهد الحركة مولاي شيراغ علي، ومن بعده سيد أمير علي، الذي عبر عن آراء المجددين في كتابه المعروف: (روح الإسلام) ، وتطورت الحركة من بعده، جامعةً بين (العقلية) والتحرر، وكان لها ممثلها في شخص (س خودا بخش) صاحب كتاب (رسائل هندية وإسلامية) . ويجب أن نذكر بصدد هذه الحركة العمل الذي قام به حكيم أجمل خان، من دلهي، إذا وقف نفسه على تدريب الطلبة المتأخرين من الجامعة في عليكرة، وبعثهم إلى الخارج مبشرين، لينشروا بين شباب الطبقات المثقفة، ثقافة إسلامية حديثة مؤسسة - قبل كل شيء - على القرآن. أما أعظم مصلح في الهند الإسلامية غير مدافَع، فهو المرحوم السيد محمد إقبال الفيلسوف الشاعر الكبير، الذي ألفت آراؤه ومؤلفاته (مدرسة) من المفكرين الدينين والسياسيين في الهند، ومن أبرز آثاره كتابه الممتع عن (تجديد التفكير الديني في الإسلام) ، الذي كان يريد فيه كما يقول (أن يلبي ولو جزئيًّا هذه الرغبة الملحة في إيجاد شكل علمي للمعرفة الدينية عن تجديد طريقة الفلسفة الدينية الإسلامية على أساس من تقاليد الإسلام والتطورات الأخيرة في مختلف ميادين المعرفة الإنسانية) ، ولكي نقدم فكرة صادقة عن قيمة مؤلف السير محمد إقبال هذا لا نجد أفضل من أن نقتبس ههنا الفقرة التالية من مراجعة له بقلم عالم (غربي) ممتاز؛ لما فيها من (إشارة) إلى العلاقات الغربية الإسلامية: (إن العالم الغربي لا يعرف السير محمد إقبال - إذا استثنينا طبقة من الخاصة صغيرة - المعرفة التي يستحقها. قد لا يكون محمد إقبال مؤرخًا؛ ولكنه فيلسوف لاهوتي ديني من الطبقة الأولى، بعقل معجز جبار، إدراك هذه الحقيقة لم يكن بالسهل على الغرب - بسبب إسلامية إقبال - كما كان في شأن طاغور الشاعر الغامض، وغاندي الذكي الغريب. إن من الجميل أن يكتشف الغرب مسلمًا مجددًا حقًّا، هو في الأقل صنو لأعظم مفكري الغرب في كل ناحية. كم يكون من المؤسف أن

صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا

الكاتب: عبد السميع البطل

_ صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} (يس: 12) . مات السيد رشيد رضا، فمات بموته المنار، ونعاه الناعون مع نعيه، وأبَّنه المؤبنون في حفلة تأبينه، واقترن الأسى على حرمان المسلمين من المنار، بالأسى على منشئ المنار، وقد مضى أربع سنين خفت فيها ذلك الصوت المدوي الذي كان يملأ طباق الأرض، وخبا النور الذي كان يشع في الشرق والغرب، أربع سنين عسعس ليلها، وحار دليلها، ومل حذاقها، حتى إذا استيئس الركب، وظنوا أنهم قد أحيط بهم، لمع لهم نور (المنار) من مشرق جديد، يبدد الظُّلَم، ويكشف الغمم، ويشفي صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيط قلوبهم. ولقد طالما قال القائلون إن أعمال المسلمين يقضى عليها بالفشل، تموت بموت أصحابها فلا تحس لها وجودًا، ولا تسمع لها ركزًا، مات (المؤيد) بموت الشيخ علي يوسف، ومات أمين الرافعي فماتت (الأخبار) بموته، ومات السيد رشيد فوُدع المنار يوم وداعه، ومات صاحب (الأهرام) فهل أثر موته في انتشار الأهرام؟ ومات جورجي زيدان منشئ (الهلال) فلم يحُل موته دون ذيوعه واطراد نموه، ومات الدكتور صروف أحد أصحاب المقطم والمقتطف فلم يفتَّ الوهن في عضد شريكه، وظل في مده وفراهته. ألا فليطمئن هؤلاء بالاً، فقد شذت القاعدة، وانخرقت العادة، وانبعث (المنار) من مرقده، وعاد إلى الظهور وضَّاح المحيَّا، باسِم الثغر، يستأنف جهاده ويتمم رسالته، ويحتضنه جماعة الإخوان المسلمين المنبثين في العالم الإسلامي بحرارة إيمانهم، ودافع غيرتهم، متكئين على ماضي (المنار) المجيد وسمعته الغراء، مترسمين خطا منشئه العظيم في إخلاصه وبلائه، وصبره وأناته، مغترفين من فيض حكمته، مقتبسين من أنوار معارفه؛ فلقد كان - رحمة الله عليه- أمة وحده، وكان حجة من حجج الله على عباده، حتى لقد أتعب من بعده، وظل الفراغ شاغرًا فلم نجد من يسد مسده، وأحجم كل من تقدمنا إليهم في المعاونة على استمرار (المنار) ، معتذرين بعظم المسئولية، وعدم استكمال الأدوات، يستوي في ذلك علماء مصر الأعلام، وغيرهم من علماء الإسلام، وأذكر هنا كلمة المرحوم الشيخ حسين والي - من كبار علماء الأزهر المشهورين - التي قالها لنا أيام المأتم ونحن نتذاكر الأمر: (إيتوني برجل اجتمع فيه علم السيد رشيد وصلاحه، وإخلاصه، وصبره، وثقة العالم الإسلامي به، وأنا أضمن لكم استمرار المنار) . وقال نحو ذلك الأستاذ الكبير الشيخ عبد المجيد سليم مفتي الديار، وكان الذين يتمنون هذه الأمنية، إنما قصارى أمنيتهم أن يكون المنار الجديد صدى المنار القديم، حتى لا يسكت ذلك الصوت الصارخ، ولا تخلو الأرض من قائم لله بحجة. ولا شك أن المؤمنين سيفرحون بنصر الفكرة، وتحقيق الأمنية، وسيتقبلون المنار بقبول حسن، وسيرحبون بمبادئ الإسلام الصحيحة قبل أن تتناولها أيدي التحريف، وتلعب بها رياح التضليل، وسيحملهم ذلك الحرص على الرجوع إلى مجلدات المنار القديمة، بل الرياض النضيرة، يتفيئون ظلالها. ويقطفون ثمارها، وإن جناها لدانٍ، وإنه لمستساغ في اللها. ولما كان المنار الجديد سيعرف قراء جديدين، وستتناوله أيدٍ جديدة، وسينضم له أعضاء جدد، كان من المستحسن أن نقدم لهم ترجمة مختصرة عن صاحب المنار: نشأته، وإصلاحه، وآثاره، وسائر ما يتصل بذلك؛ لتكون نورًا بين يدي القراء، فإلى اللقاء. ... ... ... ... ... ... ... ... عبد السميع البطل

فلسفة النفاق المنافقون في فلسطين وحكمهم

الكاتب: أحد علماء الأزهر

_ فلسفة النفاق المنافقون في فلسطين وحكمهم بقلم أحد علماء الأزهر الفضلاء {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 138-139) . تنادى الناس في فلسطين إلى الدفاع عن أنفسهم، والذود عن بلادهم، والجهاد في سبيل الله، فنفر فريق بنفسه، وأعان فريق بماله، وساهم فريق بجهده، وقعد المخلفون. والمخلفون عن الأمة في كل زمان هم المنافقون فيها، يتخلفون عن جماعتها، ويخرجون على أمرها، ويقعدون عن نصرتها، ويعملون على خذلانها، ويتولون أعداءها؛ ذلك أن الإيمان لم يدخل قلوبهم، والإخلاص لا يجد سبيلاً إلى نفوسهم، والخير بعيد عنهم، والشر قريب منهم، فهم أعداء الله والناس وأعداء أنفسهم لو كانوا يعلمون {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (المنافقون: 4) هؤلاء المخلفون هم الثلمة التي ينشدها أعداء الأمة في صفوفها المتراصة، يبصرون منها عوراتها، ويستطلعون أخبارها، ويستكشفون أسرارها، وينفذون منها إلى معاقلها الحصينة، وحصونها الأمينة، وهم مطايا الاستعباد، ونذر السوء، وأبواق الشر، وعون العدو؛ ينال بهم ما لا يقدر على نيله بقضه وقضيضه، وعدته وعديده. لقد هب الناس جميعًا في فلسطين لدفع كارثة التهويد والاستعمار عن بلادهم، ورفع الظلم النازل بهم، ونفروا خفافًا وثقالاً، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، ولم يبق منهم من لم يساهم في هذا السبيل بنصيب كثير أو قليل، إلا أولئك المخلفون الخائنون، الذين طبع الله على قلوبهم، واستحوذ الشيطان على عقولهم، فانحازوا إلى العدو، وقعدوا عن نصرة بلادهم، وفرحوا بمقعدهم وراء العاملين المجاهدين من أمتهم، يتربصون بهم الدوائر، ويترقبون بهم النوائب، وإن تمسسهم حسنة تسؤهم، وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها، تقر أعينهم بما تفيض له أعين الناس بالدمع، وتُسر أنفسهم بما تذهب أنفس المؤمنين عليه حسرات، يرون - وقد أعمى الله بصائرهم، وأمات الفسق ضمائرهم - في ضعف أمتهم قوة لهم، وفي ذلها عزهم، فهم دومًا يسلكون سبيلاً غير سبيلها، وهم أبدًا يعملون مع عدوها. هذا هو حال أولئك المخلفين المنافقين في فلسطين اليوم، وكذلك حالهم في كل زمان، وكذلك يكونون في كل أمة، يدخلون في عدادها وهم أعداؤها، وينتمون إليها وليسوا منها، وكما في الحيوان والنبات طفيليات تعلق بجسمه وتلصق به فتأكل غذاءه، وتتنفس هواءه، وتزاحمه في معايشه، وتعوق نموه، فيؤدي ذلك إلى ضعفه ففنائه. كذلك في البشر طفيليون هم هؤلاء المنافقون، يعملون في الإنسان عمل ذلك الحيوان والنبات، حذوك النعل بالنعل. وكما يعمد صاحب البستان في تعهد نباته إلى المبادرة بإزالة هذه الطفيليات عنه، والمسارعة في إفنائها استبقاء له، وحفظًا لثمره، كذلك يفعل الناس بالمنافقين الخائنين منهم، يعمدون إلى إزالتهم، ويعملون على إبادتهم؛ كيما يحفظوا أممهم، وتسلم لهم نفوسهم وجهودهم. ولئن كان الناس منذ القديم يرون في أعمال هؤلاء أعظم الضرر وأسوأ الجريمة، ويعدون فعلتهم خيانة عظمى لا تعدلها أية خيانة، ويجعلون جزاءها الموت، فكذلك كان حكم الله عليهم، وكذلك كان قوله فيهم إذ يخاطب رسوله بشأنهم، فيقول: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً* سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: 60- 62) . فالله سبحانه حين ينذر هؤلاء بإغراء رسوله بهم، وبإخراجهم من البلاد فلا يجاورونه فيها، ولعنهم وطردهم من رحمته، فهو يطالب بتعقبهم داخل البلد وخارجها، وأخذهم أينما وجدوا، وأن يقتلوا تقتيلاً؛ ذلك أنهم حيث ما كانوا لا يدخرون وسعًا في أذية أمتهم، والكيد لقوتهم، وموالاة أعدائهم. وتلك سنة الله في الخائنين من خلقه من قبل ومن بعد، وذلك حكمه في كل زمان على المنافقين، وعلى الذين في قلوبهم مرض من فجور وفسق يصدهم عن رضاء الله، وصالح قومهم؛ حبًّا لذاتهم، واتباعًا لشهواتهم، وذلك حكمه أيضًا على الذين يرجفون حول المؤمنين، فيشيعون أخبارًا سيئة عنهم، ويقومون بالدعايات المضلة ضدهم؛ لإضعاف شأنهم وتوهين قواهم، وتثبيط عزائمهم كما يفعل الخائنون المنافقون في فلسطين اليوم. وما أشبه حال المنافقين اليوم حين أدلى كبيرهم بحديث لبعض الصحف المصرية، يقول فيه: (لو كنا نعلم أن هذه الثورة تقوم ضد الإنكليز واليهود لساهمنا فيها؛ ولكنها تقوم ضد العرب أنفسهم) . ما أشبه ذلك بحال المنافقين في عهد رسول الله فيهم {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} (آل عمران: 167) . بل ما أشبه هؤلاء الخائنين في فلسطين إذ تخلفوا عن المؤمنين في قتالهم وجهادهم، وقعدوا من ورائهم يعوقون الناس عن الجهاد بشتى الوسائل، ويخوفونهم بأس العدو وقوته، ما أشبههم بأسلافهم المنافقين الأولين، الذين يقول الله فيهم حين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله والمؤمنين: {فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لاَ تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَراًّ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (التوبة: 81-82) ، إلى أن يقول تعالى في الحكم عليهم: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة: 84-85) . وكما أصدر أحد أئمة النفاق بيانًا أسماه الناس (الورقة الصفراء) لما فيه من صفرة الخيانة، تودد فيه إلى اليهود، وتغنى بمحاسنهم، ورحب بهم أن يكونوا أصحاب البلاد، في حين يريد المؤمنون إخراجهم منها، ومَنَّاهم بانتصار حزبه - حزب الشيطان - لهم، وأغراهم بأن يكون عونهم ليشبع جشعه من أموالهم، فكذلك قال أسلافه المنافقون لليهود السالفين حين عمل المؤمنون على إخراجهم من المدينة، وكذلك وعدوهم ومنوهم، فقال الله فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوَهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} (الحشر: 11-12) . ذلك بعض ما يقوم به في فلسطين المنافقون الخائنون، الذين يتولى زعماؤهم بأنفسهم أكبر أعمال الخيانة لقومهم، والتجسس للعدو عليهم، والإغراء بالمجاهدين العاملين، والدلالة على معاقلهم ومواطنهم، والإرشاد إلى أماكن أسلحتهم وذخيرتهم، والمساعدة على قتلهم وتعذيبهم مع أولادهم ونسائهم، وهدم مساكنهم، وإتلاف مؤنهم وأموالهم، كما صنعوا في قرى بيت فجار، وكفر مالك، وحلحول، والمزرعة الشرقية، وبيت ريما، وغيرها من القرى والمدن العربية؛ يبتغون بذلك العزة عند العدو، ويطلبون الرفعة لديه {بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} (النساء: 138-139) . إن ما يقوم به هؤلاء المنافقون من فساد في الأرض وحرب لله ورسوله، فليأذنوا إذن بحرب من الله والمؤمنين {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة: 33) . ذلك حكم الله على المنافقين المخلفين الخائنين، وذلك قوله فيهم ومن أصدق من الله قولاً؟ ! ومن أحسن من الله حكمًا لقوم يوقنون؟ ! فليحذر المؤمنون في فلسطين هؤلاء المنافقين، ولينفذوا حكم الله فيهم، من غير أن تأخذهم بهم رأفة أو تعصمهم منهم صلة وقربى {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} (المجادلة: 20-22) .

كلمة الأستاذ الإمام في المنار

الكاتب: محمد عبده

_ كلمة الأستاذ الإمام في المنار وقد شكا المغفور له صاحبه من قلة الإقبال عليه الناس في عماية عن النافع، وفي انكباب على الضار، فلا تعجب إذا لم يشرعوا بالاشتراك في المنار، فإن الرغبة في المنار تقوى بقوة الميل إلى تغيير الحاضر بما هو أصلح للآجل، وأعونه على الخلاص من شر الغابر، ولا يزال ذلك الميل في الأغنياء قليلاً، والفقراء لا يستطيعون إلى البذل سبيلاً؛ ولكن ذلك لا يضعف الأمل في نجاح العمل.

المنار والإصلاح

الكاتب: عبد الظاهر أبو السمح

_ المنار والإصلاح بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ عبد الظاهر أبو السمح إمام الحرم المكي كانت مجلة المنار مجلة إصلاح إسلامي لا يجاريها في مضمارها مُجَارٍ، ولا يسبقها في حلبتها سابق، كانت تُعْنَى بتفسير القرآن الكريم وشرحه من السنة المحمدية على طريقة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه بالله؛ فبعد أن تُقَرِّر المعنى تفضِي بما في الآيات من العبر، مقارنةً بين ما كان عليه المسلمون الأولون وتمسكهم بالقرآن وعملهم به، وما عليه مسلمو هذا الزمان، مهيبةً بهم، منذرةً لهم، مبينةً ما يحدثه المبتدعون في الدين من البدع، مجليةً شُبه الضلال والملحدين من الأمة بالأدلة الواضحة والحجج الساطعة، وكان صاحبها أستاذنا العلاّمة السيد رشيد - رحمه الله - لا يخشى في الحق لومة لائم ولا سطوة حاكم، ولا يجامل صديقًا، ولا يصانع عدوًّا، ولا يرعى غنيًّا لغناه، ولا فقيرًا لفقره، وكانت خاتمته الحسنى ما علمه الخاص والعام مما انتهى إليه تفسيره {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 101) يا لها من خاتمة حسنى! وموقف جميل! لم يكن إلا بتوفيق من الله لعبد رضي الله عنه وتولاه، وأدخله في عباده الصالحين وأوليائه، ولما توفي السيد - رحمه الله - قلت وقال الناس معي: شعلة أطفئت وشمس توارت ... وكأن الحياة لمع سراب ووقف المنار , وتوارى عن الظهور وخلا الكرسي , ولم نجد من يملؤه بعده , ولا من يسد مسده ذبًّا عن الإسلام , ودرءًا لشبهات , وبيانًا لحقيقة الإسلام , حتى مضت ثلاث سنين أو أكثر ونحن ندعو الله أن يهب الإسلام مرشدًا رشيدًا يضيء النهج وليل الجهالات قاتم , وكأن الله سمع دعاءنا , فقيض لمجلة المنار من يبعثها بعثًا جديدًا، مصقعًا إذا خطب، مدرهًا إذا كتب، ذكي الفؤاد , قادرًا على حمل الأعباء، عالمًا ألمعيًّا وشجاعًا عبقريًّا , ذلك هو الأستاذ المرشد الجليل الشيخ حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين - حفظه الله، فنهنئه بهذا التوفيق، ونهنئ مجلة المنار وقراءها بتولي حضرته رياسة تحريرها , ونسأل الله له التوفيق والسداد والعون على القيام بها. وقد انتدبني حضرته للكتابة فيها بحسن ظنه، وما كنت لأخالفه، لولا أشغال كثيرة وأعمال متواصلة تستنفذ الوقت كله؛ ولكن لا بد من تلبية الطلب كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً بحول الله وقوته - وإن كنت مزجى البضاعة عاجز اليراعة، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وسيكون موضوع كتابتي - إن شاء الله - الكتاب والسنة، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... كتبه ... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو السمح

لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ـ 4

الكاتب: حسن البنا

_ لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ هذا سؤال طالما ردده المصلحون , وكثيرًا ما حاروا في الإجابة عنه وعظمت دهشتهم حين رأوا المسلمين ينحدرون إلى هوة الضعف والاستكانة مع كثرة عددهم وخصب أرضهم وتعدد وسائل النجاح عندهم. وقد أجاب على هذا السؤال عطوفة الأمير شكيب أرسلان في كتابه (لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم) إجابة شافية جامعة مانعة , وأبان بأنصع برهان وأقوى دليل أسباب نجاح المسلمين الأولين وفشل المسلمين الآخرين , وكشف عن سر تقدم الغربيين واليابانيين. والكتاب في بابه حجة دامغة، وصفحة مجيدة، وليس لمسلم غناء عنه، فنشكر لعطوفة الأمير عمله العظيم، ونحض جميع المسلمين على قراءة كتابه النافع، وهو يباع بمكتبة الحلبي بجوار المشهد الحسيني، وثمنه خمسة قروش.

اتجاه محمود في الشرق العربي

الكاتب: عيسى عبده

_ اتجاه محمود في الشرق العربي بقلم الأستاذ عيسى عبده المدرس بمدارس التجارة المصرية وعضو بعثة المعارف بمنشستر أرى في أيامنا هذه اتجاهًا طيبًا يتخذه بعض إخواننا في مصر وغيرها من البلاد العربية، وسيلتهم فيه البحث العلمي المستنير، وغايتهم خدمة السواد من أممنا العربية. هذا السواد هو من غير شك أولى الناس بجهودنا نبذلها في سبيل التخفيف عنهم اليوم، وإسعاد أبنائهم في الغد القريب، على أننا لا نزال في أول الطريق؛ فقد بدأنا بدراسة شئون العامة دراسة تمهد للإصلاح المرتجى، من ذلك ما يقوم به الأستاذ عمار بجامعة منشتستر، والدكتور الشافعي بجامعة فؤاد بالقاهرة، والبروفسور تود بجامعة بيروت، والمستر بتلر رئيس المكتب الدولي للعمل بجنيف، وكلهم تناول شئونًا شرقية أو مصرية بحتة. ولكن الناظر في الشئون الشرقية والعربية من نواحيها الاجتماعية يجد ظواهر مشتركة بين الأقطار جميعًا، وهذا أمر طبيعي في بلاد جميع بينها منذ ثلاثة عشر قرنًا أو تزيد وشائج لا تهن ولا تضعف، أساسها وحدة الدين واللغة، وبعض آثارها هذا الذي نرى من وحدة الألم والأمل، فمن وصف بعض هذه الأقطار فقد عرف عن بعض ما دام وصفه يتصل بالنظم الاجتماعية. وحديثنا اليوم يتناول فريقًا كبيرًا من سكان مصر، ولي منه غرضان: أولهما أن يكون دعوة إلى الشباب المثقف في الأقطار العربية كافة أن يقوم بعض القادرين منهم بمثل البحوث التي قام بها الغرب من زمن، والتي بدأتها مصر مؤخرًا. وثاني الغرضين أن أبين ما ينتظر منا - نحن المتعلمين - من مساهمة في حركة الإصلاح. حين درست أحوال العمال منذ عامين تقريبًا تكشفت أمور قد تغيب عن بعضنا، وقد يتجاهلها بعض آخر، سأذكر بعضها تزكية للدعوة التي أوجهها إلى كل عربي، فالحال في بلادنا كما قدمت واحدة. طبقة الأُجراء في مصر تشمل العامل الصناعي والعامل الزراعي ومن عداهما من الأُجراء، وتكوِّن الغالبية العظمى من الشعب، ولئن كانت البيانات التي اعتمدنا عليها في كلمتنا هذه قد جمعت من نحو (800) ثماني مائة أسرة من أسر العمال المقيمين في القاهرة، فإنها تعين على تكوين صورة صحيحة عن حال الأجير بوجه عام، مع تحفظ واحد هو أنها أشبه بالحال في المدائن دون القرى , فإذا أردنا أن نرى خلالها بيت العامل الزراعي وعيشه وجب أن نزيد من ألوانها القاتمة. حياة العامل: يبدأ الكثير من العمال في سن مبكرة هي الخامسة عشرة , هذا إذا تجاوزنا عما هو سائد في القرى من استغلال الأحداث في أعمال لا تتطلب جهدًا كبيرًا؛ ولكنها رغم بساطتها تعوق نموهم , وتفوت عليهم فرصة تحصيل المبادئ الأولية التي لا غنى عنها لأبسط طبقات الشعب, على أن هذه الحال تتبدل اليوم إلى ما هو خير منها فلنتركها جانبًا , ولنحصر القول فيمن تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر عامًا وستين عامًا , هؤلاء موزعون كما يلي: نسبة من لا تبلغ أعمارهم 20 عامًا من العمال 8 في المائة , ومن السكان 16 في المائة. ونسبة من لا تتراوح أعمارهم بين 20 و39: من العمال71 في المائة , ومن السكان 56 في المائة. ومن تتراوح أعمارهم بين 40 و 49: من العمال 16 في المائة، ومن السكان 18 في المائة. ومن تتراوح أعمارهم بين 50 و 59: من العمال 5 في المائة، ومن السكان 10 في المائة. أما الذين يتخطون الستين من بين العمال فلا يزيدون على اثنين من كل ألف , ونظيرهم من السكان خمسة من كل ألف , ولقد حسبت هذه النسب على عدد الذكور دون الإناث؛ فما يزال العرف في مصر والشرق يجري على أن كسب العيش من وظائف الرجال. لبعض هذه الأرقام دلالة قوية جدًّا , فنسبة الشباب الذي تتراوح سنه بين العشرين والأربعين والذي يستأثر به العمل أكبر من نظيرتها في سائر نواحي النشاط الاقتصادي، كوظائف الدولة والمهن الحرة؛ من أجل ذلك جاز لنا أن نقول : إن ما يصيبه هؤلاء من عيش ضنك له أسوأ الأثر في القوى الحيوية للشعب كله. انظروا إلى الباقين منهم بعد سن الخمسين في معترك الحياة، تجدوهم خمسة من كل مائة، إذن هذا العدد الضخم من الشبان الأجراء البالغين واحدًا وسبعين في المائة من عدد العمال , والذين تتراوح أسنانهم بين العشرين والأربعين عامًا يخرجون من ميدان العمل خلال الحلقة الخامسة من أعمارهم إلا عددًا منهم قليلاً , ولقد أثبت البحث أن عدد من يخرج منهم بالترقي إلى مصاف أرباب الأعمال، أو مستندًا إلى ثروة جمعها , أو إلى ولد قادر يكفيه مشقة العمل في سن متأخرة قليل جدًّا، وأنه أولى بالإغفال، وهكذا تبقى أسباب الخروج من العمل منحصرة في الموت والعجز. هذه الظاهرة المحزنة إنما هي نتيجة طبيعية لظروف العامل في حياته الخاصة، وسنرى أنه في حياته القصيرة يرزح تحت عبئين مرهقين من إجهاد وحرمان. تزايد السكان: ربما بدا غريبًا بعد هذا الذي قدمنا أن يتزايد عدد الطبقات العاملة رغم عوامل الفناء المحيطة بهم؛ ولكن للتزايد أسبابًا قوية؛ منها أن نسبة الزواج بين العمال تبلغ 76 في المائة، وهي للسكان عامة 66 في المائة، ويبكر العامل بالزواج حتى أن نسبة المتزوجين قبل سن الخامسة والعشرين تبلغ 10 في المائة، وهي نسبة عالية لسن مبكرة في طبقات أجورها لا تفي الفرد فضلاً عن الأسرة، وهنا يجدر أن نلاحظ ظاهرة تميز الشرق بصفة عامة عما عداه، تلك أن الزواج في معظم الحالات لا يكون نتيجة لحاجة الرجل إلى من يدبر شأنه أو يهيئ له حياة منزلية هادئة، فبين المتزوجين من العمال ستون في المائة يعولون قريبات لهم كوالدة أو عذارى وأرامل من ذوي القربى، وقد كان لهؤلاء العمال من قريباتهم غنى من ناحية الخدمة ودافع من ناحية النفقة على ألا يفكروا في الزواج في سن مبكرة، ولكنهم يفعلون بدافع ديني، وهذه حال لا يمكن أن تستتبع اللوم؛ وإنما تستحق العطف والتهذيب. أما عدد الأطفال فكثير، ولما كان الزواج مبكرًا، فالعمال تبعا لذلك آباء في سن مبكرة كذلك، فمثلاً بين العمال من سن العشرين نجد اثنين في المائة لكل منهما ولد أو ولدان، فإذا بلغ الوالد سن الخامسة والثلاثين كان عدد الأبناء كما يلي: من كل مائة من الآباء: عشرون لكل منهم ولد واحد وستة وعشرون لكل منهم ولدان وسبعة عشر لكل منهم ثلاثة أبناء وثمانية لكل منهم أربعة أبناء واحد له خمسة أبناء وواحد له ستة أبناء أو أكثر أما إذا تمشينا معهم إلى آخر العمر فطبيعي أن تتزايد النسب الأخيرة , فتصبح من كل مائة والد: أربعة وأربعون لكل منهم ثلاثة أبناء وأربعة وعشرون ... لكل منهم أربعة أبناء وعشرة لكل منهم خمسة أبناء أو أكثر كل هذا رغم ارتفاع نسبة الوفيات بينهم , واستئثارهم بموتى المواليد، ولولا هذان العاملان لتزايدوا بأسرع مما ترى رغم الظروف القاسية التي تحيط بهم. أشرنا فيما تقدم إلى أن 60 في المائة من أرباب الأسر يعولون إلى جانب أبنائهم وزوجاتهم أقارب لهم عاجزين عن الكسب , هؤلاء من طرحتهم أمواج الحياة صرعى جهاد ظالم يبعثون فيه بغير سلاح , آباء قضوا ربيع الحياة في خدمات لا تعود عليهم إلا بما يمسك الحياة , فإذا أقبلت سنو المشيب - وهذه تبكر لأمثالهم - أقعدهم العجز عن كل كسب , ونساء فقدن العائل بالموت أو بسواه، وورثن عنه البنين دون المال. هكذا ينشأ الجيل الجديد مرهقًا بتبعات ثقال تنوء بالعصبة أولي القوة , فيلتمس السلوى فيما يحط من قواه ولا يصلح له شأنه , ثم يدفع بولده جاهلاً هزيلاً إلى معترك الحياة وهو بعد في مقتبل العمر، عساه يلتقط بعض الفتات فيعين أسرته , وكذلك ينشأ نشأة أبيه , وإذا بالمأساة تتصل، وتتسق فصولاً من جديد , وقد تبدل اللاعب وما أسدل الستار. ساعات العمل: يندر أن تقل عن ثماني ساعات في كل يوم , ونسبة ذلك 1 على 3 في المائة من مجموع الحالات، وهي: ثماني ساعات في 15 في المائة من الحالات. وعشر ساعات في 70 في المائة. وأربع عشرة ساعة في 5 في المائة. وست عشرة ساعة في 10 في المائة. على أن من هذه الحالات الأخيرة ما يبلغ 17 وأكثر. الأجور: منخفضة جدًّا، تبدأ بقرش واحد في اليوم للأحداث في بعض الصناعات، وتزيد كلما تقدمت السن بنسبة لا تكاد تبلغ الثلث مما يجب أن تكون عليه الحال، ونتيجة ذلك أن تتزايد التبعات ولا تنمو الموارد بالدرجة الكافية. ولا يمنح العامل أجرًا عن يوم راحته , ولا مرضه، وأكثر الفئات شيوعًا هي فئة العشرة القروش والخمسة عشر؛ إذ يتقاضى أجورًا تقع بين هذين الحدين 30 في المائة من العمالة. وعقود الاستخدام كلها رهينة الظروف، وأكثرها عقد يومي يتجدد كلما تجددت الحاجة، ولهذا أثر سيئ. فالعامل لا يرتبط بجهة معينة , وكل خدماته موزعة بين الناس، ومجهوده السابق نَهْب الظروف المتقلبة من حوله، فإذا ما بلغ القمة من حياته أتقن عمله وشارف أجره رقمًا عاليًا - يبلغ ثلاثين قرشًا في ثلاث حالات من كل ألف، ويبلغ 25 قرشا في 22 حالة من كل ألف - لم يستطع أن يحافظ على ما وصل إليه من أجر عالٍ نسبيًّا؛ لأن رب العمل يتبدل، وقوى العامل تنحط مع الزمن، وله في كل يوم سوق أصولها منبتة؛ ولذلك نرى الأجور العالية التي ذكرنا لا تكون إلا ما بين العشرين والخامسة والأربعين من العمر، ثم تنحدر بعد ذلك، حتى إن أعلى الأجور لمن تبلغ أعمارهم 50 عامًا أو يتخطونها عشرون قرشًا. ولقد يلقى العامل من عنت رب العمل ضعفًا آخر، فيؤخر أجره ضمانًا لمواظبته، أو يؤخره حتى يتوافر لديه مال حاضر. المساكن: هذه الأنقاض التي يزدحم فيها العمال إنما تسمى مساكن من باب التجوز، ومن كانت حاله ما قدمت فأنى له المسكن الصحي؟ بحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أن إيجار المسكن يتراوح بين 30 قرشا و60 في معظم الحالات، وأن 35 في المائة من الأسر تسكن كل منها غرفة واحدة أو أقل من غرفة؛ إذ تشترك أسرتان أو أكثر في واحدة، وأن 65 في المائة من الأسر تسكن كل منها غرفتين أو أقل، أما الشمس والهواء والماء وسعة المسكن وأثاثه فلا محل لذكرها فضلاً عن بحثها. آثار هذه الحال: هي الآثار الطبيعية لمثلها؛ حياة قصيرة معتلة، وموت مبكر يخلف للأحياء أعباء تعجل بدورهم، وإنتاج يدوي ضعيف، ومقدرة فكرية أضعف. وأما المستوى الخلقي فتؤذيه هذه الحال أشد الإيذاء، وكيف تستقيم الحال في أسر لكل منها مخدع واحد يضم الزوجين وخمسة أبناء أو سبعة منهم شباب وفتيات؟ وكيف نرجو طيب الخصال إذا انعدمت أسباب الثقافة والتربية والتهذيب، وثقلت أعباء الحياة في وقت معًا؟ الذي أراه أن هذه الحال التي تعالج أخطر من أن نتناولها بالبحث النظري لنقف عند حد البحث، ربما جاز هذا إذا كان الباحث لا تربطه بهؤلاء الناس أواصر الأخوة وروابط أخرى لا تنفصم، أما وهم قومنا وإخواننا وأبناؤنا وآباؤنا فعلينا ما هو أجدى من القول والبحث؛ علينا أن لا نكتفي باقتراح رفع الأجور والموارد باقية على حالها، أو إدخال نظم التأمين والعامل لا يملك أسباب العيش الخشن فضلاً عن نفقات هذه النظم، علينا - نحن معاشر المتعلمين - واجبان أحب أن ننهض بهما اليوم راغبين، فهذا خير وأبقى، وهو أولى بنا من أن يضطر إليهما أبناؤنا في غد كارهين؛ فأما الأول: فهو أن ننزل عن بعض نعيمنا الشخصي في سبيل هؤلاء الذين طال حرمانهم صابرين. فمثلاً إذا زيدت الضرائب على دخلنا من أجلهم دفعنا مغتبطين، وإن لم تزد دعونا إلى هذا بما أوتينا من علم وبيان، وإن قلَّت رواتبنا من أجلهم كذلك قبلنا في غير ضيق ولا حرج. وأما واجبنا الث

ظهور المنار ودلالته

الكاتب: مصطفى أحمد الرفاعي اللبان

_ ظهور المنار ودلالته لما توفي المغفور له السيد محمد رشيد رضا صاحب المنار خشى المصلحون أن يذهب المنار بذهاب صاحبه , ويخبو ضياؤه الذي لبث ثلث قرن يشع على العالم الإسلامي علمًا , وثقافة , وفضلاً , وخيرًا , وبركة , ويضع العلامات في طريق الجهاد الإسلامي ليسلك المجاهدون على بصيرة وعلم ونور. وقد حدث ما خشي المصلحون , فإنه صدر من المنار بعد وفاة صاحبه بضعة أعداد , ثم توقف عن الصدور , وخفت صوته المعروف الذي كان يملأ آفاق الأرض , وخلا مكانه من الصف , وطويت أعلامه , وظن الناس أن لن يعود. وكنا نخاطب عنه محبي الإصلاح ليتعاونوا على إصداره , ويجتمعوا على إرجاعه سيرته الأولى؛ ولكنهم كانوا يعتذرون بأن هذا الأمر فوق طاقتهم , وأن قوتهم وحالهم لا يسمحان بتحقيق هذه الأمنية العزيزة المرجاة. وبينما الفضلاء في يأس من عودته؛ إذ تقدم رجل شاكي السلاح مدرع، قد جمع في نفسه المؤهلات الكافية لخدمة الإسلام والحق والإصلاح، تقدم هذا الرجل ورفع راية الإصلاح المناري , ونادى بأعلى صوته قائلاً: أيها الناس إني - على بركة الله وبتوفيق من الله - أخذت على عاتقي إصدار المنار الأغر؛ حتى لا يحرم المسلمون منه , ولا تنقطع عنهم فيوضاته , ولا ينضب معين إصلاحه. فتلفت الناس إلى المتكلم , فإذا هم يجدون الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين , والمصلح الذي وقف نفسه على نصرة الإسلام والمسلمين , فاطمأنت نفوسهم، وانشرحت صدورهم , وحمدوا الله - عز وجل - على فضله ونعمته وآلائه. وهكذا ظهر المنار بعد اختفاء , وأسفر بعد احتجاب , وكتب الله له الحياة على يد من لا يريد لقومه إلا الحياة. وإن لظهور المنار دلالة نحب أن نسجلها هنا بإيجاز , حتى يعرف القراء الحقائق , ويكونوا على بينة من الأمر , ولا تأخذهم الحيرة مما يشاهدون , أو يقرءون , أو يسمعون. لما توفي صاحب المنار - رحمه الله تعالى - حزن محبو الإصلاح وأصابتهم الحسرة على إغماد سيف كان يجاهد في سبيل الله ولا تأخذه في الحق لومة لائم؛ ولكن فريقًا آخر طرب وصفق وتبادل التهاني والتبريكات لزوال من كانوا يظنونه عدوًّا لهم؛ لأنه يحارب تخريفهم ودجلهم وجمودهم , وقد جهروا فيما بينهم بانقطاع المنار إلى الأبد , وأقاموا الحفلات لضعف أخلاقهم؛ فرجوع المنار يسر المصلحين المخلصين , ويكبت الشامتين الضعفاء اليقين. ومن المشهور عندنا أن العمل العظيم إنما يقوم به فرد , فإذا أفلت منه ذهب في طي النسيان , وهذا صحيح إلى حد ما؛ ولكن حظ المنار كان طيبًا فكتب الله له البقاء , ولما هوت رايته، كان هويها استنادًا وارتكازًا للراحة والاستجمام، تقدم فضيلة الأستاذ حسن البنا ورفعها على القمة ليراها الغادي والرائح، فعلم الجمهور أن عمل الفرد المخلص لا يضيع أبدًا , بل يقيض الله له من يحييه ويمده بما يعيد إليه الشباب ويقويه. وكنا نسمع من كثير من الناس أن دعوة صاحب المنار لا تتعدى أفرادًا معينين، ولا تصل إلى مدى يصح معه أن نقول بوجود الإصلاح في الأمة , ولكن الرغبة الملحة في إصدار المنار وقيام رئيس الإخوان المسلمين بهذا الإصدار يدل دلالة قوية على أن الإخوان - وهم ألوف كثيرة - يؤمنون بهذا الإصلاح ويفدونه بالأرواح، وإذا عرف القراء أن الإخوان جمهرتهم من الشباب المثقف، علم علم اليقين مقدار تغلغل الإصلاح الإسلامي العتيد في النفوس التي نرجيها لرفع شأن الأمة، والدفاع عن ذمارها، وإعلاء مكانها. هذه بعض أوجه الدلالة في ظهور المنار، يعلم منها أهمية العمل الذي أخذه على عاتقه الأستاذ الكبير رئيس الإخوان المسلمين. ونحن نقترح هنا ما يجب على القراء وعلماء المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ليؤدي المنار مهمته العليا النقية، ولينجح النجاح المرتقب له من كافة المؤمنين المخلصين. أما القراء، فالواجب عليهم أن يعاضدوه حسًّا ومعنًى , ويعاونوه بما في جهدهم ليصول في ميدان الجهاد ويجول، ويشتد عوده في مقاومة كل ما يلحق الأذى بالإسلام والمسلمين، ويرسل الجنود تلو الجنود تصرع أعداء الله، وتخذل الذين يريدون الإسلام بسوء. وأما العلماء المخلصون الذين أحبوا المنار وأشربوا في قلوبهم مبادئه السامية وطريقته المثلى، فعليهم أن يحبوا المنار بعطفهم، ويمدوه بآرائهم الصائبة، وأفكارهم المنيرة، ويستخدموا علمهم النافع في تقويته، وإنجاحه، وإكثار أركان حربه. ونحن نعلم أن محبي المنار الفضلاء الكاتبين منبثون في أنحاء العالم الإسلامي من الصين شرقًا إلى مراكش غربًا، ومن التركستان شمالاً إلى جنوب إفريقية جنوبًا، وهم - بتوفيق الله - في مكنتهم خدمة المنار الخدمة الجلى ليكون صحيفة الإسلام العالية في الدين، والاجتماع، وشتى ما يحتاج إليه المسلمون. ونعود فنهنئ فضيلة المرشد العام بما ندب نفسه إليه من خير وإصلاح، كتب الله له النجاح، وأمده بروح من عنده، وأعانه على الجهاد في سبيل الله، والله قوي عزيز. ... ... ... ... ... ... ... مصطفى أحمد الرفاعي اللبان ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة

تقريظ المطبوعات الجديدة

الكاتب: حسن البنا

_ تقريظ المطبوعات الجديدة كتاب الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني (وكتاب بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني) الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - إمام أئمة السنة حفظًا ورواية ودراية وفقهًا، وجرحًا وتعديلاً. ومسنده أوسع الأصول في الحديث وأعمها فائدة، والمسانيد موضوعة لحفاظ الحديث، يشق على غيرهم الاستفادة منها، وقد كان الناس في حاجة إلى من يرتب أحاديثه على أبواب كتب السنن؛ فوفق الله خادم السنة السنية الأستاذ الفاضل الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، فرتبه وسلك فيه سبيلاً لم يسبق إلى مثله. وقد جعله أربعين جزءًا، كل جزء أربعة أقسام، وعد أحاديث كل كتاب بالأرقام، واقتصر في السنة على اسم الصحابي، وقد صدر من الكتاب أحد عشر جزءًا في أربعة وأربعين قسمًا، بحرف مشكول. وذُيل بشرح وجيز يبدأ فيه بذكر السند، فتفسير غريب الحديث، فالضروري من معناه، فتخريجه. فنحث المهتدين بالسنة على المبادرة إلى اقتنائه، وثمن الجزء منه 12 قرشًا. * * * الدين والعقل (أو) برهان القرآن تأليف الأستاذ أحمد حافظ هداية في استنباط براهين عقائد الإسلام من القرآن الكريم، مثبتة بأحدث النظريات العلمية، يحتوي على مقدمة وسبعة أجزاء فيها نحو أربعمائة فصل، وقد قرظه كبار علماء العصر. فنحث الجميع على اقتنائه، وهو ثلاثة مجلدات، قيمة الاشتراك في المجلد الواحد 10 قروش قبل الطبع. وفي الكتاب جميعه 25 قرشًا. والثمن بعد الطبع 45 قرشًا، وترسل الاشتراكات باسم المؤلف بدار الرسالة شارع المبدولي رقم 34 بعابدين بمصر.

المنار منذ عشرين سنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار منذ عشرين سنة رجب سنة 1338 هـ عاقبة حرب المدنية الأوربية بقلم السيد محمد رشيد رضا رحمه الله كتبنا في أثناء هذه الحرب مقالات، بينا فيها أسبابها، وعللها، وحكمة الخالق فيها، وفظائعها، وشرورها، والمقابلة بينها وبين الحروب الإسلامية، التي امتازت بالرحمة وبجعل الحرب ضرورة تقدر بقدرها، وبتحريم القسوة والفظائع فيها، والمقابلة والمقارنة بين الدول المتحاربة في الاستعداد والمزايا، وصرحنا فيها بأن عاقبتها ستكون انفراد إحدى الدولتين الرئيسيتين في الحلفين الكبيرين الجرماني والإنكليزي - وهما: ألمانية، وإنكلترة - بالسيادة والعظمة في العالم، وفاقًا لقول الفيلسوف هربرت سبنسر الشهير للأستاذ الإمام: (إن ضعف الفضيلة، وتغلب الأفكار المادية في أوربة سيدفعان دولها إلى حرب عامة طامة؛ ليعلم أيها الأقوى ليسود العالم) . ومما بيناه في بعض تلك المقالات أن ألمانية أتقنت الاستعداد للحرب إتقانًا يمكنها من محاربة أوربة كلها، وأنها فاقت جميع الدول في السلاح والنظام، وأن أعداءها يفوقونها بالكثرة، التي تعد من أعظم أسباب الغلبة، كما قال الشاعر العربي: ولست بالأكثر منهم حصا ... وإنما العزة للكاثر وقد كان من أمر هذه المكاثرة أن إنكلترة ألبت على ألمانية أكثر دول الأرض في الشرق والغرب من العالمين القديم والجديد؛ وإنما كان ذلك بعلو كعبها على الألمان وغيرهم في الدهاء السياسي، الذي هو أدق علوم البشر وأصعب أعمالهم مركبًا وأوعرها مسلكًا، وقد قلت مرة لصاحب لي من الألمان المستشرقين كان يحاورني وأحاوره في المقارنة بين قومه وبين الإنكليز وما بينهما من المناظرات: (وإنني مقتنع بأنكم فقتم الإنكليز في جميع العلوم والفنون والأعمال حتى التجارة؛ إلا ما هو أهم من ذلك كله وأعظم، وهو السياسة، فإنني أرى أن الإنكليز يفوقونكم فيها) . فقال: (صدقت) . وقد ذكرتني هذه الكلمة التي قلتها منذ بضع سنين بكلمة في معناها قلتها منذ بضع عشرة سنة في مجلس بدار أحد أصدقائنا بمصر مات من حاضريه لطيف باشا سليم، وحسن باشا عاصم، وجرجي بك زيدان؛ وبقي صاحب الدار وأحد الباشوات. قال صاحب الدار في ذلك المجلس إنه بلغه أن ألمانية عقدت مع روسية محالفة سرية على إنكلترة، وسيترتب على هذه المحالفة إخراج الإنكليز من مصر، ومن الهند أيضًا. فقلت له: لا تغتر بهذا الخبر فإن إنكلترة كانت ولا تزال تضرب بعض الأمم ببعض، وتكون هي الرابحة، فهي - كما قال مسلم بن الوليد - كالسيل يحذف جلمودًا بجملون. إنني لم أصدق هذا الخبر في ذلك الوقت، ثم تبين في أثناء هذه الحرب مما اكتشف من أسرار القيصرية الروسية أن له أصلاً، وأن مشروع المحالفة وضع ثم عرض ما حال دون إتمامها، فإن كان هذا وقع بعد ذلك الزمن الذي أخبرنا فيه ذلك المخبر به فمن الجائز أن تكون مقدماته ووسائله قد سبقته بسنين، والذي نقصده من العبرة في هذه السياسة هو أن الإنكليز غلبوا ألمانية على روسية، فحالفوها على الترك والفرس، ثم جعلوها باتفاقهم مع حليفتها فرنسة فدية لهما في هذه الحرب، فكانت مصب نقمة ألمانية الحربية في ريعان قوتها، وعنفوان أسرتها، وكذلك تعبث الأمم العليمة الحكيمة بالأمم الجاهلة الخرقاء، فتجعلها فدية لها كما فعل الحلفاء بأمم أخرى، وكما فعل الألمان بالترك. وقد كان أعجب مظاهر قدرة إنكلترة السياسة تسخير دولة الولايات المتحدة الأمريكية لإنقاذها وإنقاذ حلفائها من جحيم الألمان العسكري بعد أن عجزت أوروبا كلها ومن ظاهرها من أمم آسيا وإفريقية وأمريكا الجنوبية عن فل حدهم وإيقاف طغيان مدهم، وهي الدولة التي جعلت من قواعد سياستها ترك مشاكل العالم القديم لأهله وعدم مشاركتهم في شيء منه. رقتها إنكلترا رقيتين استخرجت بهما حيتها من جحرها، وزحزحتها عن قاعدة سياستها، إحداهما دعوتها إلى إنقاذ حرية الأمم والشعوب من السيطرة الألمانية التي تهدد العالم بالاستعباد، والثانية دهاء اليهود ونفوذهم المالي في تلك البلاد؛ وقد وعدتهم إنكلترا بأن يكون جزاؤهم إعادة ملك إسرائيل إلى مملكة سليمان في الأرض المقدسة بالرغم من أنوف العرب أصحاب البلاد، ومن الملتين الإسلامية والنصرانية، وسكت لها على هذا الوعد أشد ذوي التحمس الديني من البروتستنت والكاثوليك حتى الجزويت منهم. وأما المسلمون فلم يصدهم ذلك عن مساعدتها على فتح البلاد المقدسة بالجيوش التي جهزوها باسم شريف مكة سليل الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحب الحجاز بقيادة بعض أبنائه؛ فهل كان باستطاعة أحد من دول الأرض أن يفعل مثل هذا أو يفكر في إمكانه؟ لا! ولكن الإنجليز فعلوا ما لم يكن يخطر في بال بشر، فاستردوا هذه البلاد وما حولها من المسلمين الذين غلبوا قلب الأسد ملك الإنجليز وسائر ملوك أوروبا في الحرب الصليبية بمساعدة الجيوش الإسلامية. طوَّع المستر لويد جورج وزير إنجلترا الأكبر هذه الدولة بالرقيتين اللتين ذكرتا، فجعلت ثروتها الكبيرة ومواردها الغزيرة وجنودها الكثيرة وقفًا على إنقاذ الحلفاء من ألمانيا، بل هاجمت ألمانيا بقوة أكبر وأعظم من كل هذه القوى - قوة الدعوة إلى الصلح المبني على اتفاق الأمم والشعوب على العدل العام والحرية الشاملة لجميع الأنام، وإبطال ما جرت عليه الدول القوية في العصور الخالية من المحالفات السرية على هضم حقوق الأمم المستضعفة، وغير ذلك من أصول الحق والعدل التي ما زال الأقوياء يهدمونها بمعاول القوة، ومنها وجوب حرية البحار، وجعل الإنجليز وغيرهم فيها سواء. قام الدكتور ولسن رئيس جمهورية الولايات يحارب ألمانيا بهذه القوة الأدبية المعززة لتلك القوى الحربية والمالية ففاه بتلك الخطب الطنانة الرنانة ووضع للصلح تلك القواعد الحذابة الخلابة، ففعلت في زمر الاشتراكيين والعمال الألمانيين فعل السحر، ولا سيما قاعدة حرية البحار في زمني الحرب والسلم، فخرجوا على حكومتهم السياسية، وثاروا في وجه قوتهم العسكرية وهي في أوج انتصارها، وذروة فخارها: أمرت أسطولها بأن يهاجم الأسطول البريطاني، فاعتصب بحارته وأبوا الامتثال، وهدد زعماء الاشتراكيين قواد الحرب باعتصاب جميع العمال، أو يطلب عقد الصلح على قواعد الرئيس (ولسن) العادلة؛ إذ هي أفضل من نصر عسكري يورث الأحقاد ويورث السياسة الجائرة؛ وإنما أسست جمعياتهم وتحزبت أحزابهم لمقاومتها، وقد سنحت لهم الفرصة فقالوا لا نضيعها، ولم يقنعهم القول بأن هذا خداع؛ لأن الأمريكيين غير متهمين بالكيد ولا بالأطماع، فاستمهلتهم الحكومة ريثما تسحب جيوشها وكراعها وذخائرها من قلب فرنسا فأمهلوها، وكان ما كان من أمر طلب الهدنة واشتراط الحلفاء فيها إضعاف جميع قوى الألمان الحربية في البر والبحر والجو؛ حتى لا يستطيعوا العود؛ فمن المنتصر؟ أميركا في الظاهر وإنجلترا في الباطن؛ بل المنتصر إنما هم رجال السياسة الإنجليزية وحدهم فهم الذين أقنعوا الولايات المتحدة بوجوب مؤازرة القضية المشتركة، فسقطت على يدها ألمانيا، وساعدهم على ذلك صلف الألمان وغرورهم واحتقارهم الولايات المتحدة. وهم الذين والوا شريف مكة فكان عاملاً قويًّا لسقوط الترك، وهم المتصدرون لإدارة دفة سياسة العالم بعد التهميد لها واقتحام ما يقوم أمام هذه الإدارة من العقبات. ومن ذلك إقناع الولايات المتحدة باسم خدمة الإنسانية وتأييد المدنية بالإشراف على تركيا، والنهوض بالجمهورية الأرمنية. ويتولون هم إدارة البلاد العربية من برقة إلى العراق فعمان ما خلا سوريا الشمالية فإن إدارتها جعلت لفرنسا تنفيذًا لمعاهدة سايكس - بيكو من جهة وحتى لا تؤوب فرنسا بصفقة المغبون وترضى من الغنيمة بالإياب من جهة أخرى، والبلاد الفارسية المتصلة ببلوخستان فالهند فالتبت. الإنكليز يحتلون سورية الجنوبية (فلسطين) ، ويعملون فيها عمل الحاكم المطلق، ويمهدون السبيل لمهاجرة الصهيونيين إليها ليكونوا حكامًا فيها تحت حمايتهم، ويحتلون العراق، ويعملون فيه عمل المالك بلا معارض، وقد أسسوا للسواحل الحجازية واليمنية محافظة سموها (محافظة البحر الأحمر) وأرسلوا بعثة إلى الإمام يحيى ولكنها أسرت قبل الوصول إليه، وأرسلوا بعثه أخرى إلى السيد الإدريسي للاتفاق معه، وعقدوا اتفاقًا مع حكومة إيران نُشر في الجرائد فشكت منه الصحافيون ورجال السياسة، واحتجوا بأنه مخالف لعهد (عصبة الأمم) ؛ إذ كانت المسألة السورية معلقة بأنواط تلك الوسائل المشار إليها، كما تحدث أولئك الرجال وتلك الجرائد بالمسألة المصرية وبما للمصريين من الحق في المطالبة باستقلالهم وحريتهم، ولم تفتر تلك الشقشقة حتى تم الاتفاق على العود إلى تنفيذ معاهدة سنة 1916. وقد ظهر رجحان السياسة الإنكليزية على السياسة الفرنسية في البلاد التي كانت تظن فرنسة أن سياستها فيها أرجح لما لها فيها من الصنائع والوسائل. فقد كان طلاب المساعدة الأمريكية فالإنجليزية من أهالي البلاد أضعاف طلاب المساعدة الفرنسية، فلم يبق لفرنسا بد من اللجأ إلى إرضاء إنجلترا والرضا منها بتنفيذ معاهدة سنة 1916 بمقابلة تصرفها المطلق في مصر وسائر بلاد العرب والعجم. جرى كل ما ذكر على طريقة السياسة الأوروبية المعروفة المألوفة من تصرف الأقوياء في الضعفاء والعلماء في الجهلاء، بعد أن ذهبت جعجعة خطب الرئيس (ولسون) في الهواء، وهو ما كنا نتوقعه من وراء هذا النصر، وتحدث به من كلمناه في عواقب الحرب، وخاصة إخواننا العرب المغرورين من السوريين والعراقيين، ولا غرابة في غرور أطفال أغرار في مهد السياسة والحركة العربية الحجازية في بدء ظهورها تكبرها في أعينهم بعض الجرائد. فإن قال قائل: إن كتاب الله قد أثبت أن العاقبة للمتقين، وقد فسر علماؤنا التقوى بأنها عبارة عن أداء المأمورات وترك المنهيات؛ فهل كان الإنكليز - بهذا المعنى - هم المتقون، حتى كانت عاقبة هذه الحروب لهم بنفوذ الكلمة وعلو المنزلة والتصرف في أرض الله الواسعة؟ نقول: إن قول الله تعالى لا ريب فيه، وإن كلام العلماء في تفسير التقوى صحيح، ولكنه مجمل؛ فمن فهم منه أن المراد بفعل المأمورات الوضوء والصلاة والصيام ولو على غير الوجه الذي شرعه الله تعالى، وإن ترك المنهيات خاص بترك الخمر والزنا والسرقة وما أشبه ذلك - فهو قصير النظر، ضعيف الفهم، التقوى أعم من ذلك، وهي تختلف باختلاف ما تطلب فيه ما بيناه في مواضع من تفسير المنار، ونبهنا أهل العصر إلى تقصير المفسرين وغيرهم من علمائنا في بيان ما في الكتاب والسنة من الأصول الاجتماعية ومسائل السياسة والعمران. فالتقوى المكررة في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا} (المائدة: 93) الآية غير التقوى في معاشرة النساء المكررة في سورة الطلاق، وغير التقوى في قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المائدة: 96) ، فلكل مقام خصوصية هي المقصود الأول من المعنى العام، والتقوى في قوله تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (الأعراف: 128) غير ما ذكر ك

دعوى علم الغيب ومنابذتها لأصول الإسلام

الكاتب: محمد علي بن حسين

_ دعوى علم الغيب ومنابذتها لأصول الإسلام لا ريب أنه قد جاءت آيات وأحاديث في إفراد الله - تعالى - وحده بعلم الغيب، وهي كثيرة، ونقتصر هنا في الآيات على ما في سورة الأنعام والنمل والجن، قال - تعالى -: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} (الأنعام: 59) {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: 65) {عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ} (الجن: 26 - 27) . ومن الأحاديث حديثي ابن عمر في البخاري، وعائشة في مسلم؛ فالذي في البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: (مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: عنده علم الساعة، وينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا، وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ، والذي في مسلم هو قول عائشة - رضي الله عنها -: (ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية) إلى أن قالت في بيان الثالثة: (ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله - تعالى - يقول: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} (النمل: 65)) . وقد بسط ابن العربي في أحكام القرآن القول في هذه المسألة أول سورة الأنعام، وحكم بكفر من ادعى علم واحدة من الثلاث المذكورة في كلام عائشة - رضي الله عنها -، وحكى ابن الحجاج في حاشيته على (صغير ميارة) الاتفاق على كفر من يقول إن الأنبياء يعلمون ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، ونقل ابن حجر في الإعلام بقواطع الإسلام، وابن عابدين في حاشية الدر المختار، وغيرهما من الفقهاء في المذاهب الأربعة كفر من ادعى علم الغيب. قال الشاطبي في الموافقات، جزء 4 صحيفة 84: (وقد تعاضدت الآيات والأخبار، وتكررت في أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهو يفيد صحة العموم من تلك الظواهر - حسب ما مر في باب العموم من هذا الكتاب -، فإذا كان كذلك خرج من سوى الأنبياء من أن يشتركوا مع الأنبياء - صلوات الله عليهم - في العلم بالمغيبات. قال بعض العلماء ويراد بعلم الأنبياء بالغيب ما كان عن طريق الوحي - كما لا يخفي -، وقد ذكر ابن قتيبة مبتدعي علم الغيب للمخلوق مع الحكم بكفرهم، فقال في رسالته الاختلاف في اللفظ غلت الرافضة في حب علي وفي علم الغيب للأئمة من ولده، وتلك الأقاويل التي جمعت إلى الكذب، والكفر إفراط الجهل والغباوة) . انتهي، صحيفة 47 باختصار على موضوع البحث. قلت: وقد سرت هذه البدعة في الرافضة إلى متأخري الصوفية، وقد ظهر شيخ جديد من الأكراد اسمه الشيخ نوري البرفكاني، أخذ يدعو الناس منذ خمسين سنة بلسانه وبكتب ألفها إلى قواعد وأصول تتنافى مع الروايات والأحاديث، بدعوى أنها كرامات، وسلك بذلك مسلك الغلاة من متفلسفة الصوفية؛ حيث جعلوا دعوى علم الغيب وما هو أفظع منها من قبيل الكرامة، وجهلوا أن شرط الكرامة ألا تصادم أساس الدين؛ ولذلك قيد النووي في بستان العارفين الكرامة بألا تؤدي إلى رفع أصل من أصول الدين، نقله ابن علان في شرح رياض الصالحين، مجلد 7، ص 361، وهو قول أبي إسحاق الشاطبي في الموافقات؛ حيث قال: (لا يصح أن تراع وتعتبر - أي الكرامة - إلا بشرط ألا تصدم حكمًا شرعيًّا؛ فإن ما يصدم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًّا ليس بحق في نفسه، بل هو إما خيال، أو وهم من إلقاء الشيطان) . ذكره في الجزء الثاني، ص 266. وقد كثرت الكتب التي تقرر هذه الدعاوى وتذيعها في الناس من مؤلفات المحدثين والقدامى من غلاة الرافضة ومتفلسفة الصوفية، وعم خطرها، وزاد شرها وضررها. وقد تداولتها الأيدي أكثر من تداول صحيح البخاري، وعمل بها الكثير من الناس في أكثر البلاد، على رغم ما فيها من الأحداث المبتدعة الهادمة للدين أصولاً وفروعًا؛ فمحت آثار الإيمان من قلوب العاملين بها إلا قليلاً ممن صانه الله وحماه وأبعده عنها؛ وذلك لغلبة الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسله. فالله الله يا أمة الإسلام، ويا علماء الدين أن تدعوا هذه الكتب من غير إنكار، وتحذير منها، وبيان لما فيها من الضلال البعيد، فضلاً عن أن تدافعوا عنها وتروموا بقاءها مندمجة في كتب الدين الإسلامي الحقيقي، فإنكم والذي لا رب غيره، إن تفعلوا ذلك لابد أن تستوجبوا مقت الله وغضبه، وأن تلاقوا الصغار والهوان في هذه الدار وتلك الدار، فنحن نطالب كافة العلماء أن يقوموا بما أوجب الله عليهم من إنكار تلك الكتب ونحوها من كل كتاب فيه مصادمة لكتاب الله في دعوى علم الغيب لغير الله وأنبيائه، ونحو ذلك من الأمور المبتدعة التي هدموا بها عماد الدين وقوامه. فإذا فعلوا ذلك، ونصروا الله ودينه، واغتاروا الله ولأنبيائه مما وقع في تلك الكتب من الإلحاد العظيم رجوا حينئذ نصر الله لهم، قال - تعالى -: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} (البقرة: 40) ، وقال - سبحانه وتعالى -: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) ، فإما أنهم يرجون النصر من غير نصر الله والغيرة على دينه، بل بمجرد المحافظة على الوحدة والوفاق بما يوجب خذلان الله، ومقته، وتسليطه الأعداء على المسلمين، فذلك غرور وأماني باطلة؛ لأن الله - تعالى - قد علق نصره بنصر العباد لدينه وأكد ذلك في غير ما آية، ومعلوم أن ما ربط الله به حصول المسببات عند تعاطي أسبابها لا يمكن تخلفها، فضلاً عن أن يوجد عكسها، وهو أن ينصر سبحانه وتعالى من يخذل دينه؛ فإن مفهوم مخالفة آية {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} (محمد: 7) إلا تنصروه لا ينصركم، وقد أشار إلى هذا المفهوم منطوق آية {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ} (آل عمران: 160) . وهذه الآية تدل على أن ما عدا نصر الله لا يكون سببًا لنصره هو سبحانه لعباده، وعلينا أن نتأمل في حالة النبي صلى الله عليه وسلم في أول مبعثه وما شجر بينه وبين قومه من الحروب والخلاف لأجل إقامة الدين وإزاحة البدع، وكيف جعل الله عاقبة ذلك النصر المبين، ثم من بعد ذلك لما حدث هجر العمل بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد لإعلاء كلمة الدين، كيف أن المسلمين من ذلك الحين لازالوا في انحطاط ورجوع إلى الوراء؛ وما ذلك إلا لأنهم وضعوا أسبابًا اخترعوها من قبل أنفسهم، وهي أن الوفاق وترك الجهاد وعدم إقامة أحكام الدين واستبدالها بالقانون الوضعي، كل ذلك يوجب لهم الراحة والاتحاد والوفاق وعدم الاضطراب، وهب أن ذلك يحصل لهم الراحة ونحوها مدة من الزمان استدراجًا ومكرًا في حياتهم الدنيا، فأني لهم الملخص والنجاة من يوم يجعل الولدان شيبًا. هذا ما رأيت إبداءه لإخواني المسلمين؛ لما رأيته من كثرة تطلبهم للوحدة والوفاق، ونفرتهم عما يوجب التفرق والشقاق ولو بإنكار أعظم المنكرات التي يترتب على إنكارها نصر الله نصرًا عزيزًا؛ وما ذلك إلا من عدم تمسكهم بالكتاب العزيز مشيًا منهم مع مبادئ النظر، وعدم التفاتهم إلى وعد الله عباده المؤمنين، فإن كنت غالطا فيما أبديته نصيحة لعامة المسلمين، فالمرجو من الإخوان إرجاعي إلى الصواب، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، والسلام عليكم - أيها المسلمون - ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد علي بن حسين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... العراق

وصف الدنيا

الكاتب: علي بن أبي طالب

_ وصف الدنيا وأحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة، وليست بدار نجعة، قد تزينت بغرورها، غرت بزينتها، هانت على ربها. فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرها، وحياتها بموتها. وحلوها بمرها، لم يصفها الله تعالى لأوليائه، ولم يضن بها على أعدائه، خيرها زهيد، وشرها عتيد، وجمعها ينفذ، وملكها يسلب. وعامرها يخرب، فما خير دار تنقض نقض البناء وعمر يفنى فيها فناء الزاد، ومدة تنقطع انقطاع السير؟ اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبكم، واسألوه من أداء حقه ما سألكم، وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعي بكم. إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتد حزنهم وإن فرحوا. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الإمام علي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... في نهج البلاغة

الشيخ محمد عبده ـ 1

الكاتب: عبد الحفيظ أبو السعود

_ الشيخ محمد عبده (1) الآن تعود (المنار) إلى الميدان بعد ما اختار الله مؤسسها السيد رشيد رضا إلى جواره في عنفوان جهاده، وفورة نتاجه - مع ما كان عليه من كبر السن وتقدم العمر - أحوج من نكون إليه في عصر اختلفت فيه المقاييس، وقلبت فيه الأوضاع - تعود قوية نشيطة، تزخر بالحياة، وتنبض بالحرارة، وتتدفق حيوية، وتفيض إيمانًا، على أيدي فتية الشباب من خيرة المسلمين متبعي السلف الصالح، قد وهبوا الله أنفسهم وأرواحهم خالصة لوجهه، مستبسلين في ميدان الجهاد، غير هيابين ولا وجلين، مولين وجوههم شطر كتابه العزيز، يذيعون تعاليمه ودعوته، دعوة القرآن الكريم، دعوة القوة والمجد والعز الإسلامي الذي لا يعرف الذل، ولا يلتقي والخور في قرن. وينتشرون قواعده التي عرفها الناس صالحة نافعة، وأسسه التي جربها العالم، وعرف أن فيها سعادته التي لا تعرف الشقاء، وهناءته التي لا يشوبها الآلم. أجل، تعود (المنار) إلى الميدان جادة لتواصل السعي، وتداوم الجهاد والكفاح الذي من أجله أنشئت، وفي سبيله عملت، وتحقق الغرض الذي طالما استشرف إليه المخلصون المؤمنون، حتى كانت مثلاً أعلى في الدفاع عن بيضة الدين، والذود عن حياته، وفي أسلوب يساير المدنية ولا يتعارض والعلم، ولا يضعف بجانبه فينزل على تعاليمه ونظرياته الدائمة التحول والتبديل والاضطراب، بل يجعل من نظرياته وآثار حضارته دليلاً على حكمة الله من خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس لو تفكروا وتحررت منهم العقول! تعود لترفع الراية وتحمل اللواء وتتقدم الصفوف، حيث التضحية التي لا تعرف جبنًا، والشجاعة التي لا تقل من صلابتها في الحق شدة، ولا يضعف من عزمها كارثة مهما تأزمت حلقاتها. وأعتقد أنه من الوفاء لرجل كان له أكبر نصيب في تأسيس (المنار) ، وهو الإمام الشيخ محمد عبده أن نخصه ببضع مقالات، نتناول فيها بالتحليل شخصيته مع بعض النواحي التي تعني قراء المنار، ونتبع دعوته بالنظر الدقيق؛ لننظر كيف أثرت هذه الدعوة في العالم الإسلامي، وكيف هزت صلد القلوب فألانتها، وغزت جامد الأفئدة فحركتها، وطرقت مقفل الآذان ففتحتها، وكيف وقف التاريخ يسجل لهذا الرجل في إنصاف وإعجاب. وإليك من تاريخ الإمام ما يحدثك عن نشأة المنار: جاء السيد رشيد رضا إلى مصر وقد وضع نصب عينيه صحبة الإمام، ثم إنشاء صحيفة إصلاحية ينشر فيها حكمته وخبرته، فوصل إلى الإسكندرية مساء الجمعة 8 رجب 1315 هـ، فأقام فيها أيامًا، ثم انتقل منها إلى طنطا، فالمنصورة، فدمياط، ثم عاد إلى طنطا، ومنها إلى القاهرة قبل الظهر من يوم 23 رجب، وفي ضحوة اليوم الثاني ذهب إلى زيارة الأستاذ الشيخ محمد عبده في داره بالناصرية، واستشار السيد أستاذه في إنشاء الصحيفة التي يريدها، وشاوره في تسميتها، وذكر له اسم (المنار) مع أسماء أخرى، فاختار الأستاذ الإمام اسم (المنار) ، ثم شرع السيد في تحريره، وكتب فاتحة العدد الأول بالقلم الرصاص في جامع الإسماعيلي المجاور لدار الأستاذ بالناصرية، وكان ذلك في منتصف شوال 1315 هـ وذهب بها إلى داره وعرضها عليه؛ فأعجب بها كل الإعجاب، ورضي كل ما ذكر فيها من المقاصد والأغراض إلا كلمة واحدة هي تعريف الأمة بحق الإمام وتعريف الإمام بحق الأمة. قال ما معناه: (إن المسلمين ليس لهم اليوم إمام إلا القرآن، وإن الكلام في الإمامة مثار فتنة يخشى ضرره، ولا يرجى نفعه الآن) ، فحذف السيد هذه الكلمة عن رأي أستاذه وإشارته. فهذا الرجل الذي عرف قيمة جهاده الخاص والعام، وسادت آراؤه بعد محاربة، وفشت نظرياته بعد مدافعة وإنكار، وطعن في دينه وإيمانه ويقينه، وحورب في غير هوادة، وتسمم الجو حوله؛ حتى سرت كراهيته في النفوس بفضل ما كان يذاع عنه ويلفق ضده. وإليك الأستاذ الشيخ مصطفي عبد الرازق يحدثك عن صورة من هذه الكراهية في مقدمته لكتاب (الإسلام والتجديد في مصر) : (وفي بعض سنوات الحرب شهدت الجامعة المصرية قبل ضمها إلى وزارة المعارف حفلة جمعت جمهرة من شباب العلم وخطب فيها طائفة من كبار الأدباء وكبار الأساتذة. وكان يجري على ألسنة الخطباء ذكر أئمة النهضة الحديثة في مصر في فروعها المختلفة من سياسية واجتماعية وعلمية؛ فتهتف الجموع، ويبلغ حماس الشباب أقصاه، حتى إذا جرى ذكر الشيخ محمد عبده خفت هنالك صوت الشباب، وفترت حدة الهاتفين. انصرفت يومئذ حسيرًا محزونًا، أكاد أتهم بقلة الوفاء بلدًا ينسى فيه فضل الشيخ محمد عبده بعد سنين؛ لكن عتبى على شبابنا كان ممزوجًا برحمة؛ لأنهم لم يعرفوا من أمر الرجل شيئًا يغريهم بأن يحبوه ويقدروه حق قدره. ولعل قصارى ما كان يعرف طلاب العلم في ذلك العهد في أمر الإمام أنه كان شيخًا مكروهًا هو وآراؤه من الشيوخ، كما يكره الشيوخ المنار وصاحب المنار تلميذ الإمام) . وأكتفي بهذه الصورة الآن؛ لأن بسط هذا العنصر له مكانه في الكلمات المقبلة - إن شاء الله - وكل ما أريد أن أخلص إليه أننا في حاجة قصوى إلى دراسة هؤلاء الذين استشهدوا في ميادين الجهاد، وراحوا ضحية بريئة لشهوات متضاربة وأغراض متناحرة، تفتك بالأمم، وتقوض الشعوب. ومحمد عبده عَلَم من أعلام هؤلاء المجاهدين؛ فجدير بنا أن نعني بآثاره، وأن نعرف قراء (المنار) حقيقة هذا الرجل؛ حتى يغيروا تلك الصور القديمة عنه، ويأخذوا عنه صورة صحيحة واضحة المعالم، بينة التقاطيع، صورة أعاهد الله ألا يكون للشهوة فيها إصبع، ولا لحظ النفس منها نصيب، وستكون صورة هذا الرجل أول صورة من صور كثيرة اعتزمت بمشيئة الله رسمها على صفحات (المنار) في عهده الجديد، وكل غايتي من هذه التراجم الإسلامية إنما هي القدوة الحسنة، وترسم خطى العاملين الذين لم يألوا جهدا في سبيل الدعوة إلى الله ورفعة دينه وإعلاء كلمته؛ ليجد النشء غذاءه النافع. جعل الله عملنا خالصًا لوجهه، إنه سميع مجيب. (يتبع) ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ أبو السعود

من كلام الإمام علي رضي الله عنه

الكاتب: علي بن أبي طالب

_ من كلام الإمام علي رضي الله عنه لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه، إذًا لخرجتم إلى الصعدات تبكون على أعمالكم، وتلتدمون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها، ولا خالف عليها، ولهعت كل امرئ نفسه لا يلتفت إلى غيرها؛ ولكنكم نسيتم ما ذكرتم، وأمنتم ما حذرتم؛ فتاه عنكم رأيكم، وتشتت عليكم أمركم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... نهج البلاغة

انتقاد المنار حول فتوى آيات الصفات وأحاديثها

الكاتب: حسن البنا

_ انتقاد المنار حول فتوى آيات الصفات وأحاديثها جاءنا من حضرة الفاضل صاحب التوقيع الخطاب التالي، ننشره مع رده فيما يلي: حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فإن احتجاب المنار بموت صاحبه - عليه رحمة الله تعالى - كان من دواعي أسف المسلمين جميعًا، بل حزنهم العميق، ولم يكن ذلك طبعًا لأنها مجلة إسلامية فقط، بل كان ذلك لما علمه قراء المنار من الميل مع الحق أينما كان، وعدم المبالاة بكائن من كان في سبيل كلمة الحق وبيانها وإيضاحها، ولا أظنك تجهل مواقف صاحب المنار - عليه رحمة الله - مع كثير من أخص أصدقائه؛ فإنه لم يكن يعرف إلا الحق ولو أغضب الحق صديقه أو جميع الناس، ولم نعهد فيه - رحمة الله عليه - مداهنة ولا محاباة، وبذلك كان للمنار وصاحبه تلك المنزلة التي تعرفونها في نفوس جميع أهل الملة المحمدية. فإذا كنتم تريدون السير بالمنار سيرته هذه فلا شك أنها - إن شاء الله تعالى - ستحيي حياتها الأولى، وإلا فاسم المنار وحده لا يغني شيئًا. لقد استفتاكم مستفت فيما شجر من الخلاف بين مجلتي الهدي النبوي والإسلام، فماذا افتيتم؟ إن رأي المنار في موضوع الخلاف بين المجلتين معروف مسطور في أعداد المنار السابقة، فهل نفهم من فتواكم هذه أن المنار يتنكر لماضيه، وينسى برنامجه؟ لقد قلتم يا سيدي الأستاذ إن كلتا المجلتين على الحق! ! ! ولا يعقل فيما نعلم أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ثم يقال أنهما جميعًا على الحق! لا، ليس هذا شأن المنار الذي عرفناه وبكيناه لما احتجب. نرجو أن تصارحونا بالحق في أي الجانبين هو كما عودنا صاحب المنار، إن كنتم تنصرون الحق لله وفي سبيل الله، والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قارئ * * * بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه ومن والاه، وبعد، فعلى حضرة القارئ المحترم السلام ورحمة الله عليكم وبركاته، وكنت أود أن يتكرم بإظهار اسمه حتى نتعارف في سبيل البحث عن الحقيقة، ولعله - وفقنا الله وإياه - رأى في ستر اسمه معاونة على خدمة الحق للحق، بدون نظر إلى الصلات الخاصة بين المتباحثين، فنحن نحسن الظن، ونشكر للأخ الفاضل خطابه، مؤكدين دعوتنا الأولى بجميع إخواننا في انتقاد ما يرونه مستحقًّا للانتقاد في المنار؛ حتى تتعاون الجهود على الوصول للحقيقة، ويسرنا أن نعلن أننا ننتهز مثل هذه الفرصة لنسلك بالنقد الأدبي مسلكًا نبيلاً لا هجر فيه، ولا إقذاف، ولا تجهيل، ولا تضليل؛ ولتكمل به أنفسنا، فإن الكمال لله وحده والعصمة لأنبيائه - صلوات الله وسلامه عليهم - ومن ادعى لنفسه الكمال أو ظن بها ذلك فهذا عين النقص، ونسأل الله ألا يحرمنا من يبصرنا بعيوبنا، ويحملنا على الصواب والسداد، وإلى الكاتب وإلى حضرات القراء الفضلاء رأينا فيما ورد في هذا الخطاب: (1) نسب إلينا الأستاذ الكاتب أننا صرحنا بأن كلتا المجلتين على حق، وبني على هذا أنه من غير المعقول أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر، ثم يقال أنهما جميعًا على الحق؛ وحضرته لهذا يرجو أن نصارح بالحق في أي الجهتين هو؟ ولا أدري من أين جاء حضرته بهذا التصريح الذي نسبه إلينا، إن كان قد جاء به من تصريحنا بأن الفريقين في نظرنا أصدقاء لنا وممن يتصدون للدعوة إلى الخير، فليس معني هذا تصويب رأي أحد منهما ولا كليهما في موضوع نزاع بعينه، والذي صرحنا به في موضوع الخلاف أن كلا الفريقين غير محق، وأن موضوع الخلاف من أساسه لا يصح أن يكون خلافًا، وليس بلازم أن يكون كل مختلفين أحدهما محق والآخر مبطل، بل قد يكونان مخطئين جميعًا هو ما صرحنا به بوضوح، فإن فريقًا تغالى في التأويل، وفريقًا تغالى في الجمود، ورأى السلف في ذلك - وهو رأي المنار الذي يشير إليه حضرة الكاتب، وهو رأينا الذي أوضحناه في مقالنا - أن مذهب السلف ترك الخوض في هذه المعاني، مع اعتقاد تنزيه الله- تبارك وتعالى - عن أمثالها المنسوبة لخلقه وإمرارها كما جاءت، وتفيوض علم حقائقها إلى الله، فمن فسر الاستواء بالاستيلاء فقد تورط في التأويل، وألزم نفسه غير ما ألزمه الله به، ومن فسره بالاستقرار فقد تورط في التشبيه، وأوهم سامعه جواز نسبة صفات المخلوفين إلى الخالق. فإن قال (هو استقرار يليق بجلاله) فهو إذن لم يأتِ بشيء، والأولى أن يقف عند النص، والحق في هذا وأمثاله أن يقال استوى استواء يليق بجلاله، مع اعتقادهم عدم المشابهة، وتفويض الحقيقة إلى الله، إلا أن تقوم قرينة لا تدفع تصرف اللفظ عن ظاهره، فنقف عند حدود هذا الصرف ولا نتجاوزه كما ذهب إليه السلف في معية الحق - تبارك وتعالى - بعلمه لا بذاته. تلك أمور فصلناها وقررناها، ولمنا الفريقين على أنهما طرقا بحوثًا كهذه بمثل الأسلوب الذي خاضوا به، فبها وبذلك حققنا رجاء الكاتب، وصارحناه بأن الحق ليس في أحد الجانبين، فأين القصور إذن؟ (2) هذا من حيث موضوع النزاع ورأي المنار فيه بالذات، وأظن أن فيما نقلنا في باب التفسير في هذه المعاني كفاية، ومن أراد الاستزادة زدناه؛ حتى يعلم أن المنار لا يتنكر لماضيه في الحق، ولا ينسى برنامجه من الصدع به، ولا يناقض نفسه في الصواب، وبقي بعد هذا أن نذكر حضرة الكاتب بعض ما فاته معرفته من برنامج المنار الذي سارت عليه في ماضيها ونريد أن نسير بها عليه في حاضرها: صرح صاحب المنار بقاعدة، وأسماها قاعدة المنار الذهبية، فقال: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه) ، فمواطن الخلاف يا سيدي يقدم فيها العذر على التجريح وسوء الظن، وذلك ما سنسير عليه - إن شاء الله -. وقد قضى صاحب المنار حياته وهو يصدع بالتحرر من الجمود، وينعى على أهل التقليد الأعمى الذين يقدمون أقوال الناس التي لم يقم عليها دليل على الأدلة الواضحة بغير برهان بين أيديهم، إلا أن هذا قول فلان وفلان، فهل يريدنا حضرة الكاتب على هذا التقليد الذي نعاه صاحب المنار على أهله؟ أم يريدنا متبعين للدليل والحق، ندور معه كيفما دار وإن خالفنا صاحب المنار؟ وأظن أن حضرة الكاتب يذكر أن الشافعي كان من خلصاء تلاميذ مالك - رضي الله عنهما - وكلاهما في جلالة قدره ورسوخه في علمه وتقواه لله بالمنزلة التي لا تتسامى إليها القوادح، ومع هذا فلم يمنع هذا الشافعي أن يخالف مالكًا، وأن يكون له رأيه ومذهبه. فنحن مع المنار وصاحبه - عليه رحمة الله ورضوانه - في الأصول الأساسية التي لا خلاف فيها في منهاج الإصلاح العام وخطته، وفيما وضح الحق فيه واستبان وجه عليه الدليل في الشئون التي فيها مجال للتفكير والنظر، ولا يمنعنا هذا من أن نخالف صاحب المنار - رحمه الله - في الأمور التي لم يقم عليها الدليل أن ينبهنا لما فاتنا، والله الموفق للصواب. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا

موقف العالم الإسلامي السياسي

الكاتب: حسن البنا

_ موقف العالم الإسلامي السياسي انتهت حرب الكلام بين الدول الأوربية المتناحرة، وتغيرت الأوضاع الدولية في أوروبا؛ فأخفق اتفاق إنجلترا وفرنسا مع روسيا، وحل محله ميثاق روسي ألماني، وكانت مفاجأة غير منتظرة وأمر أدهش له العالم أن يتفق الهر هتلر - وهو الذي بنى دعوته الأولى على مكافحة الشيوعية الروسية، وانطوى لها على أشد حالات الخصومة والبغض - مع زعماء هذه الشيوعية التي ندد بها ونال منها؛ ولكن القوم في أوروبا لا يعرفون إلا المصلحة المادية، وسرعان ما ينسون المبادئ والعقائد والأفكار مهما كانت سامية نبيلة، وتبع ذلك أن تشددت عزيمة ألمانيا فأقدمت على غزو بولونيا واجتياحها بالقوة المسلحة، وردت إنجلترا وفرنسا على ذلك بإعلان الحرب على ألمانيا، وسوق الجيوش إلى الميدان الغربي، حيث رابطت أمام خط سيجفريد الألماني، وكانت مفاجأة أخرى أن تقدمت روسيا بجيوشها تجتاح القسم المجاور لها من الأرض البولونية، وبذلك تم للجيوش الألمانية والروسية أن تقضي على استقلال بولونيا، وتتوزع فيما بينها أرضها، وتضطر حكومتها إلى الفرار حيث تألفت في باريس من جديد، ومهما كان من حلاف بين الروس والألمان على خط الحدود فإن الأمر الواقع الآن أن بولونيا قد قسمت مرة أخرى بين روسيا وألمانيا. والذي نحب أن نلفت إليه أنظار الشعوب الإسلامية أن بولونيا تضم ستين ألفًا من المسلمين، غالبيتهم في أنحاء فيلنو ونوجرديك، وقد أقاموا في بولونيا منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وكانت الجمهورية البولندية تسمح لهم بإقامة شعائر دينهم بتمام الحرية، فأخلصوا لها كل الإخلاص، وحاربوا في صفوفها واشترك عدد كبير من ضباطهم - وهم معروفون بالشجاعة والإقدام شأن المسلم المجاهد - في الحرب الأخيرة، ودافعوا كثيرًا عن المدينة المعدودة مركز الإسلام في بولندا، وفيها يقيم المفتي الحاج الدكتور يعقوب سليمان شينكيفتش. والآن وقد صار هذا القسم تحت حكم البلشفية الروسية، فهل تدع حكومة السوفيات المسلمين فيه يتمتعون بشعائر دينهم وحريتهم كما كانوا في عهد الحكومة البولونية؟ أم أنهم سيعملون على بلشفتهم ويحاربونهم في عقائدهم ويهدمون ما بقي لهم من مساجد ومعابد، كما فعلوا بهم ذلك من قبل حين اقتسمت روسيا وألمانيا بولندا في أواخر القرن الثامن عشر؟ من واجب الحكومات الإسلامية - وبخاصة الحكومة التركية التي هي على صلة بالروس، والتي هي أقرب حكومات المسلمين إلى بولندا - أن تتحرى ذلك، وأن تعمل على حماية هذه الجالية الإسلامية الشديدة المتمسكة بدينها القديم، ولا ندري هل تصغي حكومة تركيا إلى هذا النداء، أم تعتبره شأنًا إسلاميًّا خاصًّا يتنافى مع ما اختارته لنفسها من أن تكون حكومة (لا دينية) ؟ كان اجتياح بولندا سببًا في تخوف دول البلقان، وفي تردد تركيا بين المعسكرين المتخاصمين محور موسكو برلين تارة، ومحور فرنسا وإنجلترا تارة أخرى، ووقفت إيطاليا موقف المترقب المنتظر، ولم تحدد موقفها تحديدًا صريحًا بعد، وأخذت اليابان ترقب هي الأخرى مجرى الحوادث، وأعلنت أمريكا سخطها على عمل ألمانيا، ولم تعترف بالحالة الواقعة في بولندا الآن، واعتبرت الحكومة البولونية القائمة في فرنسا حكومة شرعية، واعترفت بها، وارتفعت صيحات بوجوب الصلح ووضع الحسام والاتفاق على ما يريح العالم من عناء الحرب، ولا ندرى ماذا ستلقاه هذه الدعوة من الإصغاء، وما سيكون لها من النجاح - وإن كان أغلب الظن أن هذه النفوس الظمأى الداوية بالأطماع والأهواء سوف لا يرويها إلا الدم المتفجر من البشرية الذبيحة. ذلك هو الموقف الدولي عامة، فما موقف العالم الإسلامي خاصة؟ ! لقد قدمنا أن العالم الإسلامي قضت عليه ظروف وأوضاع ان يرتبط بالدول التي تسمي نفسها ديمقراطية وهي إنجلترا وفرنسا ارتباطًا وثيقًا، وأن تشتبك مصالحه بمصالحها اشتباكًا قويًّا، وقد برهنت الحكومات والشعوب الإسلامية من جانبها أنها وفية لهذه المصالح، مقدرة للموقف تمام التقدير، منزهة عن العبث والكيد الرخيص والاستغلال الذي لا يتفق مع الشرف الدولي والنزاهة النبيلة، وأخذت الحكومات المتعاهدة مع إنجلترا كمصر والعراق تنفذ تعهداتها بكل إخلاص. ومع هذا كله فإلى الآن لم تقدم الدول الديمقراطية دليلاً واحدًا على تقديرها لهذا الموقف النبيل من الشعوب الإسلامية، واكتفت بأن تتناولها ببعض كلمات المديح والإطراء في الخطب والمقالات التي لا تقدم ولا تؤخر، فسوريا الجنوبية (فلسطين) لا تزال قضيتها حيث هي، لم يؤثر فيها تصريح المفتي الأكبر بالثناء على فرنسا، ولا كتابه للحاكم البريطاني، ولا تصريح المجاهدين أنفسهم بأنهم لن يطعنوا إنجلترا من الخلف، ولن يستغلوا اشتغالها بالحرب الأوربية في الاتفاق مع خصوصها أو التقرب إليهم، وكان أقل مقتضيات رد الجميل في مثل هذا الموقف أن تأمر الحكومة الإنجليزية حالاً بالإفراج عن المعتقلين، والتصريح بالعودة للمبعدين، والعفو الشامل عن المسجونين، وإعادة النظر في سياستها بالنسبة للحقوق العربية الواضحة. وسوريا الشمالية لا يزال الأمر فيها على ما كان عليه، ولم تظفر إلى الآن من فرنسا حتى بوعد منها أنها ستعود إلى الإنصاف والعدل، بل حوكم كثير من رجالاتها، وحكم عليهم بأحكام قاسية شديدة تقبلوها راضين هادئين. وسوريا الوسطى (لبنان) تغير فيها نظام الحكم تغيرًا تامًّا ولو إلي حين كما يقول المندوب الفرنسي، وأوقف دستورها، وحكمت حكمًا أجنبيًّا مباشرًا أو ما يقرب منه. وكان من واجب الدول الديمقراطية أن تنتهز هذه الفرصة فتعدل سياستها مع هذا القطر الشقيق وبخاصة فرنسا التي شهدت أن أول دم أهدر على أرضها وللدفاع عن حدودها أمام خط ماجينو إنما كان دم المسلمين العرب من المغاربة الجزائريين والسنغاليين. إن شعوب العالم الإسلامي قسمان، قسم تحت سلطان الحكم الأجنبي المباشر، وهذا لا يملك أمر نفسه ولا يستطيع أن يختط لنفسه طريقًا خاصة، فهو تحت رحمة الأقدار، ونسأل الله أن يتداركه بلطفه ورحمته. وقسم قد تحرر ولو بعض الحرية، فمن واجبه في هذه الظروف العصبية - حكومات وشعوبًا - أن يكون دائم اليقظة والتنبه للحوادث والمفآجات، فلا يتورط في خطوات وخصومات هو في غنًى عنها ولا تعود عليه بشيء، وليلتزم الحدود التي رسمتها له الاتفاقات والمعاهدات، وعليه أن ينتهز هذه الفرصة للإسراع في إعداد العدة وتقوية نفسه تقوية تنفعه في المستقبل وتحفظ عليه كيانه واستقلاله بعد أن تضع الحرب أوزارها، وعليه كذلك أن يكون مطمئنًا هادئًا، فإننا إن لم نستفد من هذه الحرب القائمة فلن نخسر فيها أكثر مما يخسر غيرنا، والصلح خير لنا، والحرب ليست بضارة بنا {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (البقرة: 216) . ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا

تعليق

الكاتب: حسن البنا

_ تعليق تحدث إلينا الأخ المفضال السيد عبد الرحمن عاصم وكيل المنار السابق ببعض ملاحظات حول العدد الماضي وقد ضاق عنها فكان هذا العدد، وسنتحدث عنها في العدد القادم - إن شاء الله.

السيد محمد رشيد رضا

الكاتب: عبد الرحمن عاصم

_ السيد محمد رشيد رضا بقلم وكيله وابن عمه السيد عبد الرحمن عاصم ولد السيد محمد رشيد رضا في 27 من جمادى الأولى سنة 1282، وتوفي في 23 من جمادى الأولى سنة 1354. وتربى تربية عالية، لم تتحكم في نفسه عادة من العادات السيئة المضرة كالتدخين وإدمان شرب القهوة والشاي، وَأَخَذَ أَخْذَ الإمام الغزالي بكتابه الإحياء من أول بدئه بطلب العلم. وراض نفسه عليه، واتخذ له خلوة بالغرقة المشرفة على البحر من جامع جده في قرية القلمون لدرس العلوم، والتعبد بالصلاة بتدبر القرآن الحكيم. وتصدى من ذلك الحين للوعظ والإرشاد بالحكمة والموعظة الحسنة، فالسيد رشيد طلب العلم بالإخلاص وتوجيه الإرادة ليكمل به نفسه، ويؤهلها للإصلاح الديني الاجتماعي، فكان من أشجع دعاة الإصلاح وأشدهم جرأة في مواطن الحق على الحكام والعلماء، غير هياب ولا وجن، ولولا أنه كان راسخًا في إيمانه، واثقًا بصحة علمه، ومخلصًا في وعظه وإرشاده لما تجرأ على نقد حكام الدولة العلية في العصر الحميدي والاتحادي، وقد أصابه أذى كثير منهم في والده وأسرته من بعد ما عرضوا عليه أوفى وأحسن ما تصبوا إليه نفوس طلاب الدنيا من رتب ومناصب وغيرها؛ ليسكت عنهم ويسخر قلمه في خدمتهم. هذا ولم يتهيب بريطانيا العظمى وطعن في تعسفها في حكم قومه وأهل ملته، وألبهم على مخالفتها بوسائل مختلفة، وحذرهم من مصادقتها لأنها خداعة مكارة وهو مقيم في مصر تحت سلطانها. ومن الأدلة على ذلك خطبته المشهورة أمام المرحوم أبي الثورة العربية الملك حسين في جموع (منى) ، سأذكر خبرها، وخطبته في دار وجيه من وجهاء (بيروت) في القاهرة في حفلة جمعت رجال السياسة العربية من أقطارها تحت ستار الترحيب بضباط عراقيين وسوريين قدموا إلى مصر؛ ليتقابل المجتمعون ويروجوا اتفاق سايكس بيكو على تقسيم بلاد العرب فيما بينهم؛ ولكن السيد رشيد عارض ذلك معارضة عنيفة حملت مستر كلايتن باشا فيما بعد - وكان كالحاكم بأمره بمصر- على معاتبة السيد رشيد على قوله في الإنجليز، ومما أجابه به السيد: (هل من العدل أن تمنع أمة ضعيفة من الدفاع عن نفسها إذا اعتدت عليها أمة قوية، كفوا عن الهجوم علينا لنكف عن الدفاع عن أنفسنا) . وكم حاول سمو الخديو السابق أن يفرق بين السيد رشيد والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده بالترغيب والترهيب لهذه مرة ولذاك مرة، ولم تنجح محاولاته عندهما، وكان جواب الأستاذ الإمام لبطرس باشا غالي الموفد من الخديو: (أحب أن تعلم ويعلم الخديو أنني أفضل أن أعيش أنا والسيد رشيد ههنا في رمل عين شمس على البقاء في منصب الإفتاء وعضوية مجلس إدارة الأزهر؛ لأن هذا الرجل متحد معي في العقيدة والفكر والرأي والخلق والعمل) ، وأجاب الأستاذ الإمام أيضا فضيلة المرحوم الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر على رسالته من الخديو: (كيف أرضى بإبعاد صاحب المنار وهو ترجمان أفكاري) . ومن كلام السيد رشيد للشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، جوابًا عن رسالته الخديوية: (ولكن لي غرضًا من تعظيم قدر (الشيخ محمد عبده) وتفضيله هو فوق فائدة انتشار المنار بكثير، وهو أن الإصلاح الإسلامي الذي أدعو إليه لا ينهض إلا بزعيم تثق به الأمة، ولا أعرف أحدًا أجدر منه أو يساويه في استحقاق هذه الزعامة) ، ولما لم تلن قناة السيد لسمو الخديو، أراد إخراجه من مصر، وبلغ ذلك رياض باشا الشهير، وخاطب السيد في هذا الشأن بقوله: (هل تغير شيئًا من خطة المنار؟) . قال السيد: (حاشا لله، ما كنت لأغير عملي النابع لعقيدتي وخلقي، وكل فضيلة لمصر عندي أنني أستطيع فيها خدمة ملتي وأمتي بما أعتقد أنه الحق النافع، فإذا زالت هذه الحرية منها فلا يحزني الخروج منها وأنا لا أملك فيها شيئاً) . قال الباشا للسيد: (كده أريدك) . هذا وقد ألف السيد كتابًا في نقد بعض أكابر علماء الأزهر سماه المنار والأزهر، والمال والرتب والوظائف عند الشيخ أبي الهدى والاتحاديين في الدولة العثمانية وعند الأزهر والخديوي والإنجليز بمصر، وقد حالوا صرف السيد عن خطته الإصلاحية بشتى طرق الإغراء بالمال والمناصب، وبترهيبه أيضًا بفنون الترهيب، وصبر على أذاهم، ولم يفتن بالمال، ولم يغتر بالرتب، ولم يرهبه الوعيد؛ لأنه كان مخلصًا في توجهه لخدمة أمته وملته. ومما عرف من صلابته وإخلاصه لقومه أن الإنجليز لما عرضوا عليه أن يكتب مقالات أسبوعية في صحيفة (الكواكب) التي أنشئت بالقاهرة لخداع العرب اعتذر في كتاب إلى نائب الملك ونجت باشا، جاء فيه: لو بذلتم لي المال، أو استللتم لساني، أو قطعتم أناملي على أن أقول أو أكتب ما يخالف ديني وكرامة قومي العرب، فإني لا أفعل. وجاء رد بالإعفاء من ذلك التكليف، واعتذر بأنه كان بخطأه كتكليف رئيس تحرير التيمس الكتابة بجريدة هزيلة. ولما عزم السيد على أداء فريضة الحج في أثناء الثورة العربية دعي إلى قصر عابدين، وقدم إليه رئيس الديون شكري باشا صرة نقود، قائلاً: (بلغ مولاي السلطان عزمكم على السفر إلى الحجاز، وأمرني أن أقدم هذه النقود إليكم) . أجاب السيد: (الحج على المستطيع، وقد تهيأت لأدائه بصحبة سيدتي الوالدة والشقيقة) . قال الباشا: (خذها ثمن دعاء) . أجاب السيد: (الدعاء لا يقوم بثمن، وسأدعو لمولاي السلطان، ولخاصة المسلمين وعامتهم بما يلهمني الله - عز وجل -) . قال الباشا: (خذها وتصدق بها، فإن الصدقة في الحجاز بعشرة أضعافها) . أجاب السيد: (ذلك صحيح؛ ولكنى أحتار فيمن أعطي القليل الذي أتصدق به وقصور الملوك والسلاطين مفتحة الأبواب للقصاد والوراد) . قال الباشا: (بما أعتذر إلى مولاي السلطان وعطايا الملوك لا ترد) . أجاب السيد: (أرجو أن تذكر لمولاى السلطان ما عرفه به الأستاذ الإمام من أني لا أقبل عطاء بدون مقابل) . ولما كان السيد على عرفات تحققت عنده صحة الإشاعة بأن الحجاج سيدعون في (منى) لمبايعة (الشريف) بالخلافة، فذهب إلى مخيم الشريف وذكر له ما بلغه، وذكَّره بوعيد الحديث (إذا بويع خليفتان ... ) ، فقال (الشريف) رحمه الله: (إن تلك المساعي من رغبات أحد أنجاله والأتباع) . ولما اجتمع الحجيج في (منى) ، وتهيأ العلماء والخطباء والشعراء لتهنئة (الشريف) بالعيد، جاء الشريف عبد الله والشيخ عبد الملك الخطيب باشا إلى السيد، وطلبا منه أن يقول كلمته. وكان (الشريف) يقف في المناسبات في أثناء الخطبة ويقول للسيد: (صدقت) . وبعد ذلك حضر إلى السيد من يقول له: (إن الخطبة ينقصها أن تكون مقدمة لدعوة الناس لمبايعة سيد الجميع بالخلافة) . ولكن السيد حول الحديث من سياسي إلى أدبي، وأجاب: (أخشى أن يقال لي عندئذ ما قيل لذلك الشاعر الذي وهب الكرى إلى العشاق، وهبت ما لا تملك إلى من لا يقبل) . وسأقص على القارئ الكريم نبذًا أخرى من رسائل السيد إلى بعض ملوك العرب؛ ليقف منها على مقدار صراحته في الحق، وإخلاصه في النصح، غير مداج ولا مراء، فمن ذلك قوله في كتاب إلى جلالة الملك عبد العزيز: (ولا أزال كذلك أجاهد معكم ما دمتم تجاهدون في سبيل الله وإعزاز دينه) ، وفي آخر (وموضع العبرة أن الله - تعالى - قد استخلفكم في الأرض التي فضلها على كل أرض لينظر كيف تعلمون) . ومن كتاب آخر (وقد عاهدناكم على أن نؤيدكم ونخدمكم في إقامة السنة، وهدم البدع، وإحياء الإسلام على منهاج السلف في أمور الدين ومستحدثات الفنون العصرية في أمور الحرب والعمران) . ومن أحسن ما كتب السيد الإمام إلى إمامي الجزيرة العربية صراحة وإخلاصًا في النصيحة، لما وقع الشقاق بين الحكومتين اليمنية والسعودية، قال - رحمه الله ورضي عنه -: (مهما يكن عليه أمر الحدود بين اليمن السعيدة والمملكة السعودية من حق سياسي أو جغرافي، فلا قيمة له تجاه الاتفاق والتحالف بين المملكتين، فكل منهما واسع الأطراف قابل لأضعاف ما هو عليه من العمران، فلا يعذر أحد منكما بتعريضه للخراب لأجل توسيع حدوده بحق أو باطل) . ثم قال يخاطب كلا من الإمامين: (إن جزيرة العرب هي تراث محمد رسول الله وخاتم النبيين للإسلام والمسلمين لا لعبد العزيز السعودي ولا ليحيى حميد الدين، فاختلافكما وتعاديكما يضيع الإسلام، ولئن ضاع في جزيرة العرب فلن تقوم له قائمة في غيرها، فيجب أن تتذكرا هذه التبعة، وتتقيا الله، وتحرصا على حسن الخاتمة) . وقد كان للإخلاص بهذه النصيحة وللوفد الذي أرسله السيد رشيد إلى الإمامين أثر طيب لديهما، وكان مولاي السيد يطلعني على رسائله تربية لي وتعليمًا، ولعلي أجد فيها حرفًا ناقصًا أو زائدًا لأصلحه، وإذا وجدت فيها ما يستحق المراجعة فإنه - رحمه الله - كان يسمعها ويمضيها إذا أقرها، وإن أنس لا أنسى أني وجدت شدة في خطاب منه إلى جلالة الملك عبد العزيز، وراجعته فيها، فغضب وقال لي: (يا عاصم أتريد أن تعلمني المداجاة والجبن؟ ! اقفل المكتوب وأرسله إلى البريد، واعلم أن مزيتي عند الملك إخلاصي، وصراحتي في النصيحة، ومزيته عندي أنه يقبل النصيحة) . والسيد الإمام ما كان ليترك فرصة تفوته بدون تذكير طيب نافع، ومن ذلك ما جاء في كتاب منه إلى المرحوم الملك غازي (.. . معتصمين بحبل الهداية الإسلامية التي اشتدت إليها في هذا العصر حاجة شعوب المدنية كلها؛ إذ هددت الأفكار المادية دولها بالانحلال والإباحة الإلحادية حضارتها بالزوال، ولم يبق لها منقذ إلا الهداية الروحية والجامعة بين المصالح الدينية والمدنية) ، وقال: (فإن تحرص على هداية دينك القويم، ولغة قومك، وحضارة أمتك، وشرف بيتك، وتضم إليها الفنون العصرية المرقية للزراعة والصناعة والتجارة والنظم المالية والقوى العسكرية تكن - إن شاء الله - من الملوك المجددين، الجامعين بين سيادة الدنيا وسعادة الدين) . كان - رحمه الله - مضيافًا مواسيًا بماله القليل أهل الحاج من الأسر المستورة، مساعدًا العاملين في سبيل أمته وقومه؛ فكم ساهم في نفقات الوفود والجمعيات والمؤتمرات العربية السياسية، ولولا الأزمة المالية التي أصابته مؤخرًا لكان رزقه كفافًا كافيًا لنفقاته؛ ولكن توفي - رحمه الله - وعليه أكثر من ألفي جنيه مصري، خلافًا لما كان يحسب كثير من الناس. نعم، خلف مؤلفاته ومطبوعاته وهي أكثر من دينه، بل هي ثروة علمية إصلاحية عظيمة، تركها السيد الإمام ذكرًا وشرفًا له ولقومه وأمته. كان السيد مشغول البال دائمًا بأمته، يفرح بما ينفعها، ويحزن لما يضرها، وكانت السيدة والدته تسأله إذا رأته مكتئبًا: (هل أحد من مسلمي الصين يشتكي من شيء؟) ، تريد أنه يكتئب إذا أصاب مكروه أحدًا من إخوته في الدين مهما بعدت داره، ولو في الصين. كان هم السيد المستولي على شعوره إصلاح شأن العرب والمسلمين بالتأليف والتعليم، وقد كتب في التفسير والفتاوى وسائر ضروب الإصلاح ما لم يسبق إليه في المقدار والفائدة، وكان - رحمه الله - يقول لي: (أخشى أن يحاسبني الله - عز وجل - على عمري فيما أنفقته وأكون مقصرًا فيما وجب علي بيانه من أسرار الشريعة وحكمها) ، وكان يأمرني أن أغنيه بقدر الإمكان عن مقابلة الزائرين؛ ليبقى منصرفًا إلى التأليف، وقد فرح فرحًا عظيمًا حين أتم أنفس كتبه تأليفًا وطبعًا، أعني به كتاب (الوحي المحمدي) . وأنشأ منذ ثلاثين سنة مدرسة دار الدعوة والإرشاد عملاً برأي الأستاذ الإمام في تعليم طائفة من مختلفي الأقطار العلوم الدينية مصفاة من الآراء والأهواء، وكذ

استحضار الأرواح

الكاتب: حسن البنا

_ (4) استحضار الأرواح جاءنا من الدكتور محمد سليمان المدرس بكلية الطب ما يأتي: حضرة الأستاذ الجليل رئيس تحرير المنار الغراء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد , فقد أكثر الناس القول في موضوع الأرواح ما بين نافٍ له ومثبت إياه، فما القول الحق في ذلك؟ وهل الأرواح التي ستحضر هي أرواح الموتى أنفسهم؟ وهل يصدق ما يأتي على لسانها من أقوال , أفيدونا مشكورين , والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... المخلص دكتور ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد سليمان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... القاهرة الجواب يتطلب الجواب على ما تقدم الكلام في عدة مباحث نلخصها فيما يلي: أولاً - كيف نشأت مباحث الاستحضار في الغرب: حدث في سنة 1846 الميلادية في قرية هيد سفيل من ولاية نيويورك بأمريكا أن أسرة رجل اسمه جون فوكس أزعجتها عدة طرقات كانت تحدث في البيت الذي تسكنه، فتجرأت مدام فوكس ذات يوم وسألت ذلك الفاعل المستتر قائلة هل أنت روح؟ واتفقت معه على أن يكون علامة الإيجاب طرقتين، وعلامة السلب طرقة واحدة، فأجابها بطرقتين ثم مازالت تسأله، وهو يجيب بواسطة الطرق، حتى علمت منه أنه روح ساكن كان بهذا البيت , فقام جار له، ودفنه فيه , ثم سلبه ماله , ولم تهتد الحكومة إليه , فأسرعت المرأة إلى إنذار البوليس والنيابة , فحضر رجالها وأخذوا كل حيطة , وتسمعوا الطرقات على طريقة صاحبة البيت , وفهموا منها ما فهمته , وعمدوا إلى الحفر في المكان الذي دلت عليه الروح فوجدوا جثة القتيل، وكان من أثر ذلك اهتداؤهم إلى القاتل. وظلت الروح بعد ذلك تزور بنتي جون فوكس هذا حتى أنستا بها , وحضرت أرواح أخرى ادعت أنها أرواح موتى آخرون , وتحسنت طريقة التفاهم بينهما وبين هذه الكائنات فصارت بالحروف الهجائية , وذلك بأن تقرأ إحدى الفتاتين الحروف الهجائية فتطرق الروح عند الحرف المراد كتابته طرقة فتكتب الفتاة الأخرى ذلك الحرف وهكذا , ثم تجمع الحروف المكتوبة وتقرأ. وقد رجت الروح الأختين في أن تعلنا أنها على استعداد لإشهاد الناس خوارق تثبت لهم وجود الأرواح في أكبر مكان للمحاضرات في نيويورك , فأبت البنتان ذلك خشية سوء القالة والاتهام بالشعوذة , وأصرت الروح على ذلك؛ لأنها تريد أن تنتهز هذه الفرصة لتثبت للناس صحة خلود النفس , وقالت إنها ما تجشمت الاستئناس بهما إلى هذا الحد إلا لهذه الغاية , وأنذرتهما بأنها لن تعود إليهما إن بقيتا على إصرارهما , فلم يسعهما أخيرًا إلا القبول , ولكنهما اشترطا أن يكون بدء العمل في الصالونات الكبيرة لبعض البيوت , ثم تتدرجان من ذلك إلى قاعة المحاضرات الكبرى , وتم ذلك فأخذت البنتان تحضران في بعض تلك الصالونات أمام جمهور من العلماء والمفكرين فتحدث خوارق عديدة رغمًا عن كل ما يتخذ من الاحتياطات , ثم أعلنتا التحضير في قاعة المحاضرات الكبرى , فشهد هذه الخوارق جم غفير من الناس , وكثر التحدث بها في كل مكان. وكان القاضي أدموندس رئيس مجلس الأعيان بأمريكا من أسرع الناس إلى بحث هذه الخوارق , فاعتقد صحتها وكتب فيها بحثًا مستفيضًا , فحملت عليه الجرائد حملة عنيفة , ففضل أن يستقيل ويخدم البحث على أن يبقى في وظيفته مقيدًا بتقاليدها , وكان من أكبر العاملين على نشر هذه المباحث. وتلاه الأستاذ (مابس) معلم علم الكيمياء بالمجمع العلمي , فانتهى أمره بتصديقها ونشر مباحثه على رءوس الأشهاد , وحذا حذوه الأستاذ (روبيرت هير) وأطال البحث والتنقيب , فظهر له صدق صاحبيه المتقدمين , فوضع كتابًا حافلاً أسماه (الأبحاث التجريبية على الظواهر النفسية) , وكان من أثر هذه الكتابات أن انتشرت الفكرة وتعدت أمريكا إلى غيرها من بلدان العالم الغربي. ثانياً - اختلاف الآراء في صحة هذه البحوث: كان طبيعيًّا أن تختلف آراء الناس في نتائج هذه البحوث , وأن يكون هناك المصدقون المتشيعون والمنكرون المتشككون، وكان طبيعيًّا أن تثير هذه الناحية حربًا كتابية وعلمية وذلك ما حدث فعلاً , وكان من المصدقين بصحة هذه البحوث وصدق نتائجها كثير من أعلام العلم الكوني في بلدان أمريكا وأوروبا المختلفة , وكثير منهم كتب كتابات في غاية من القوة والدقة التحليلية، مما يدل على اقتناع تام بما يقول , وكثير منهم ألف فيها الرسالات والكتب القيمة ولم يبالوا بما يتعرضون له من هزء المتقدمين وسخريتهم , وكثيرًا منهم كان ملحدًا صميمًا فعاد مؤمنًا بالحياة الروحية كل الإيمان، وهذه نماذج من كتابات هذا الفريق: (1) العالم الكيماوي (وليم كروكس) ، وقد ألف كتابًا دعاه (مباحث على الظواهر النفسانية) ، قال فيه: (بما أني متحقق من صحة هذه الحوادث، فمن الجبن الأدبي أن أرفض شهادتي لها بحجة أن كتاباتي قد استهزأ بها المنتقدون وغيرهم ممن لا يعلمون شيئًا في هذا الشأن، ولا يستطيعون بما علق بهم من الأوهام أن يحكموا عليها بأنفسهم، أما أنا فسأسرد بغاية الصراحة ما رأيته بعيني وحققته بالتجارب المتكررة) . (2) العالم الكبير (ألفرد روسل) ، وقد وضع في هذه المباحث كتابين: أحدهما (خوارق العصر الحاضر) ، والثاني (الدفاع عن الأسبرتزم) ، وقد قال في الأول ما نصه: (لقد كنت ملحدًا بحتًا مقتنعًا بمذهبي تمام الاقتناع، ولم يكن في ذهني محل للتصديق بحياة روحية، ولا يوجد عامل في هذا الكون كله غير المادة وقوتها؛ ولكني رأيت أن المشاهدات الحية لا تغالب؛ فإنها قهرتني , وأجبرتني على اعتبارها حقائق مثبتة قبل أن أعتقد نسبتها إلى الأرواح بمدة طويلة , ثم أخذت هذه المشاهدات مكانًا من عقلي شيئًا فشيئًا، ولم يكن ذلك بطريقة نظرية تصويرية، ولكن بتأثير المشاهدات التي كان يتلو بعضها بعضًا على صورة لا يمكن تعليلها بوسيلة أخرى) . (3) العالم الإيطالي الكبير (سيزارلومبروز) ، وقد رمى المصدقين بهذه المباحث بالجنون، وكتب عنهم فصولاً انتقادية في مؤلفاته، ثم عاد فبحث هذه الخوارق مع الأستاذ (كاميل فلامريون) الفرنسي، والأستاذ (شارل ريشييه) مدير الجريدة العلمية والمدرس بجامعة الطب الباريزية، ثم انتهى به الأمر إلى أن ألف كتابًا قال في مقدمته: (لم يكن أحد أشد مني عداء للاسبرتزم بحكم تربيتي العلمية وميولي النفسية , وكنت أعتبر من البديهيات العلمية أن كل قوة ليست إلا خاصة من الخواص المادية , وأن كل فكر وظيفة من الوظائف المخية، وكنت أهزأ دائمًا من الأخولة المتكلمة؛ ولكن غرامي بإظهار الحقيقة وتجلية الحوادث المشاهدة قد تغلب على عقيدتي العلمية) . وكثير غير هؤلاء لا يحصيهم العد درسوا هذه المباحث وتشيعوا لها من الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكان وغيرهم , وشايعهم على ذلك كثير من الكتاب والأدباء وأصحاب الصحف والمجلات التي اقتنعت بفكرتهم , وتأسست للدفاع عن هذا الرأي الصحف والمجلات الكثيرة في كل بلد من بلدان أوروبا وأمريكا , وقد انتدبت الجمعية الملكية بإنجلترا لجنة من ثلاثين عالمًا في الفنون المختلفة، عهد إليها بحث هذا الأمر، فعكفت على ذلك ثمانية عشر شهرًا، وعقدت للبحث والتجربة أربعين جلسة، ورفعت تقريرًا مطولاً في مجلد ضخم ترجم إلى أكثر اللغات، وقد جاء فيه: (عقدت هذه اللجنة اجتماعاتها في البيوت الخاصة بالأعضاء؛ لأجل نفي كل احتمال في إعداد آلات لإحداث هذه الظواهر أو أية وسيلة من أي نوع كانت، وقد تحاشت اللجنة أن تستخدم الوسطاء المشتغلين بهذه المهمة أو الذين يأخذون أجرًا على عملهم هذا؛ لأن واسطتنا كان أحد أعضاء اللجنة، وهو شخص جلل الاعتبار في الهيئة الاجتماعية ومتصف بالنزاهة التامة، وليس له غرض مادي يرمي إليه ولا أي مصلحة في غش اللجنة. كل تجربة من التجارب التي عملناها بما أمكن لمجموع عقولنا أن تتخيله من التحوطات عملت بصبر وثبات، وقد دبرت هذه التجارب في أحوال كثيرة الاختلاف، واستخدمنا لها كل المهارة الممكنة لأجل ابتكار وسائل تسمح لنا بتحقيق مشاهداتنا وإبعاد كل احتمال لغش أو توهم. وقد اكتفت اللجنة في تقريرها بذكر المشاهدات التي كانت مدركة بالحواس وحقيقتها مستندة إلى الدليل القاطع، وقد بدأ نحو أربعة أخماس اللجنة تجاربهم وهم في أشد درجات الإنكار لصحة هذه الظواهر، وكانوا مقتنعين أشد اقتناع بأنها كانت إما نتيجة التدليس أو التوهم، أو أنها تحدث بحركة غير اعتيادية للعضلات، ولم يتنازل هؤلاء الأعضاء المنكرون أشد الإنكار عن فروضهم هذه إلا بعد ظهور المشاهدات بوضوح لا تمكن مقاومته في شروط تنفي كل فرض من الفروض السابقة، وبعد تجارب وامتحانات مدققة مكررة، فاقتنعوا رغمًا منهم بأن هذه المشاهدات التي حدثت في خلال هذا البحث الطويل هي مشاهدات حقة لا غبار عليها) . ولقد سرى أثر هذه المباحث الغريبة إلى مصر، فتناولها كثير من الكتاب المعتنين بهذه الناحية بالبحث والكتابة والتجربة، وفي مقدمة هؤلاء الكاتب الأستاذ محمد فريد وجدي، الذي تحمس للفكرة أشد التحمس، ولا زالت كتبه أهم المراجع العربية للباحثين في هذا الشأن فيما نعلم، ومنهم كذلك الشيخ طنطاوى جوهري - رحمه الله -، والأستاذ أحمد فهمي أبو الخير، الذي مازال يوالي تجاربه الروحية بحماسة شديدة. ولقد كتب الأستاذ محمد فريد وجدي منذ شهر تقريبًا في جريدة الأهرام اليومية يسوق إلى القراء نبأ عناية جامعة كمبردج بهذه المباحث، واعتبارها علمًا رسميًّا مقررًا يدرس في الجامعة، وإنشاء قسم خاص بهذه المباحث يتقدم إليه من يشاء من الطلاب إلى شهر مايو من هذا العام 1940 الميلادية. وإلى جانب هذا الفريق المتحمس قام فريق ينكر صحة هذه الظواهر ويحملها على خداع الوسطاء، أو تدليس المجرمين، أو انخداع المشاهدين، أو غلبة الوهم والخيال، وقد نقل المقتطف في بعض مجلداته كلامًا في هذا عن بعض العلماء الأوربيين الكونيين كذلك، ومن هؤلاء: (1) الدكتور مرسير من أطباء الأمراض العقلية بمستشفى تشريح كروس ببلاد الإنكليز، وقد ألف كتابًا في الرد على السير أوليفرلودج فيما ذكره عن المباحث النفسية، وقال إن الاشتغال بهذه المباحث يؤدي إلى اختلال العقل، ويعرض أصحابه للجنون. (2) والدكتور (روبرتصن) مدير المستشفي الملكي بأدنبرج، الذي رمى المشتغلين بهذه المباحث بأن فيهم ضعفًا خلقيًّا في الإرادة يجعلهم مستعدين للتصديق بالاسبرتزم ومناجاة الأرواح وما كان هذا القبيل. ولكن المتتبع لهذه الحركة العلمية وخصوصًا بعد مضي هذا الزمن الطويل عليها وهي لا تزال تضم إلى جانبها كثيرًا من أساطين رجال العلم المادي حتى انتهى الأمر باعتبارها علمًا رسميًّا يدرس في جامعة محترمة كجامعة كمبردج، لا يسعه إلا أن يصدق بكثير من نتائج هذه البحوث، ويؤمن بوجود قوى روحية تظهر حقيقة للذين يزاولون هذه التجارب ويتعرفون عليها، وليس هناك من حرج عقلي أو ديني على المسلم أن يؤمن بوجود هذه القوة الروحية وظهورها للناس وتخاطبها معهم؛ فإن هذا الكون لا زال مملوءًا بالأسرار المادية والروحية التي لم يصل العقل الإنساني بعد إلى معرفة كنهها وحقيقة أمرها، وهذه الكشوف التي وصلنا إليها من أعجب العجائب التي لو ذكرت للناس من قبل لخيل إليهم أنها فوق المستحيل، وقد أصبحت الآن فيما بينهم أمورًا عادية صرفة. ولكن الذي يحتاج إلى إمعان النظر حقًّا هو الحكم على شخصية هذه القوى التي تدعى أنها أرواح الموتى، أ

الأحمدية (القاديانية واللاهورية)

الكاتب: حسن البنا

_ الأحمدية (القاديانية واللاهورية) سيدي الأستاذ محرر المنار الأغر، حفظه الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فقد طالعنا في بعض الجرائد الإسلامية مقالات حول طائفة القاديانية، وحول وجود بعض من ينتسبون إليها بالأزهر الشريف لطلب العلم، وأن فضيلة شيخ الأزهر قد ألف لجنة من بعض كبار العلماء للتحري عن مذهب هذه الطائفة , ولم نعلم نتيجة هذا التحقيق بعد، فنرجو التكرم ببيان موجز عن عقائد هذه الجماعة , وعن الفرق بين القاديانية والأحمدية، وعن نشأتهم، وعن واجب المسلمين إزائهم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمد فهمي أبو غدير ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كلية الحقوق الحمد لله، وصلى الله علي سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم: (1) رأس هؤلاء الجماعة رجل هندي اسمه غلام أحمد، ولد عام 1839م، ومات عام 1908 م بقاديان من أعمال بنجاب الهند، ادعى أنه المسيح الموعود به , وأن روح الله قد حلت فيه، وأنه المهدي المنتظر، وأنه أوحي إليه بكثير من اللغات ومنها الإنكليزية، وخلط ذلك بكثير من الدعاوى الفارغة التي تتناقض مع أصول الإسلام كل المناقضة، وقد وجدت السياسة الإنكليزية فيه مطية من مطاياها في التفريق بين الشعوب، وأغرته، وأمدته بالمال والجاه، حتى كان قضاة المحاكم الإنكليز يتساهلون معه في الأحكام في القضايا التي وقعت عليه وعلى أتباعه في جرائم كثيرة، وفي نظير هذه المساعدات من الدولة الإنكليزية أصدر هذا المدعي فتاوى صريحة بسقوط أحكام الجهاد، بل وصرح بأن من يرفع السيف في وجه إنجلترا آثم مرتكب لأكبر الجرائم، وقد وقعت بينه وبين علماء الهند الفضلاء مناظرات ومجادلات عدة، ووقعت بينه وبين صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا - رحمه الله - محاورات، وتناول السيد هذا الموضوع في كثير في أعداد المنار، وترى بعض هذه المقالات في الأجزاء الخامس، والسادس، والسابع من المجلد الحادي والثلاثين. وقد كان من عادات هذا المسيح المدعي أن يدعو مناظريه إلى المباهلة، وأن يجعل موت خصمه قبله دليلاً على انتصاره وبالعكس، وقد مات سنة 1905 بعد أن زعم قبل ذلك أن أجله قد انتهى، فمكث بعد هذا الزعم ثلاث سنوات، وقد بنى مقبرة بقاديان وادعى أن من دفن بها سيدخل الجنة بشرط أن يتبرع بربع ماله. وأبقى الله فضلاء العلماء الذين قاموا ببيان زيفه وغلطه، فما كانت هذه التمويهات لتكون دليلا ً على حق، أو هادمة لباطل، ولكنه الإفلاس من الدليل، وقد قام برياسة جماعته من بعده ابنه بشير محمود، ومقره الآن قاديان من البلاد الهندية، وتنسب الطائفة إلى أبيه فتسمى الطائفة الأحمدية. (2) وقد انقسمت هذه الطائفة الأحمدية إلى فريقين: فريق اعتقد النبوة لغلام أحمد وصدق بكل ما قاله، وهؤلاء هم أحمدية قاديان، ورئيسهم ابنه بشير، وفريق اعتقد فيه أنه مصلح مجدد، وأخذ ببعض مزاعمه دون البعض على حد اعترافهم وقولهم - والله أعلم بحقيقة ما يضمرون، وإن كانت كل أعمالهم تدل على أنه لا فرق بينهم وبين إخوانهم السابقين - وهؤلاء هم أحمدية لاهور، ولسانهم الناطق السير محمد علي صاحب ترجمة القرآن، وهو غير مولانا محمد علي رحمه الله. وكلام الفريقين بعيد عن أصول الدين؛ فإنه إذا كان غلام أحمد قد صرح بأنه نبي، وبأنه يوحى إليه، وصرح بغير ذلك من الطوام والفظائع، فهل يغني شيئًا عن اللاهوريين أن يقولوا إننا نعتقد أنه مجدد؟ وأي القولين يصدق الناس، قول المتبوع الذي يصرح بنبوة نفسه، أم قول التابعين الذين لا يبلغون به هذه المرتبة؟ لو كان هؤلاء صادقين لرجعوا إلى الحق، ولوافقوا جمهور أئمة المسلمين، ولبرءوا إلى الله من هذا الرجل براءة الذئب من دم ابن يعقوب. (3) والغريب في أمر هذه الجماعة أنها تلبس على المسلمين بأمرين: أولهما نشاطها في الدعوة إلى نحلتها بزعم أنها دعوة إلى الإسلام، وتشجيع الإنكليز وإغراؤهم من وراء ذلك، وإلا فلما لا يبرز هذا النشاط قويًّا إلا في بلاد الإنكليز وما يلحق بها؟ والثاني مجادلتهم للمبشرين وهدمهم لمزاعم دعاة النصرانية، وهم في هذا مهرة مجيدون، وهدم الباطل سهل ميسور، وهم يستغلون هذا الانتصار ليقولوا للمسلمين إننا أخلص الناس للإسلام، وها أنتم ترون كيف نهزم دعاة النصرانية، ويخفون عنهم أنهم إن هدموا عقائد النصرانية فهم لا يبنون عقائد إسلامية؛ ولكن عقائد خيالية لعل النصرانية خير منها، وفيما يلي نموذج من أقوال رئيس هذه الطائفة في كثير من المسائل، وفي إسقاط الجهاد وتحريم رفع السيف في وجه الإنكليز: (1) قال غلام أحمد في رده على صاحب المنار بكتاب أسماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) يذم العلماء لأنهم لم يؤمنوا بمسيحيته الموعودة، ويعلن أن رفع السيف على الإنكليز جرم عظيم: (وقد أمروا أن يتبعوا الحكم الذي هو نازل من السماء، ولا يتصدوا له بالمراد، فما أطاعوا أمر الله الودود، بل إذا ظهر فيهم المسيح الموعود فكفروا به كأنهم اليهود، وقد نزل ذلك الموعود عند طوفان الصليب، وعند تقليب الإسلام كل التقليب، فهل اتبع العلماء هذا المسيح؟ كلا، بل أكفروه وأظهروا الكفر القبيح، وأصروا على الأباطيل، وخدموا القسوس، فأخذهم القسوس، وشجوا الرءوس، وأذاقوهم ما يذيقون المحبوس فرأوا اليوم المنحوس. سيقول العلماء إن الدولة البريطانية أعانت القسوس، ونصرتهم بحيل تشابه الجبل الركين لينصروا المسلمين في جميع العالمين. والأمر ليس كذلك، والعلماء ليسوا بمعذورين، فإن الدولة ما نصرت القسوس بأموالها، ولا بجنود مقاتلين، وما أعطتهم حرية أكثر منكم ليرتاب من كان من المرتابين، بل أنشأت قانونًا سواء بيننا وبينهم، ولها حق عليكم لو كنتم شاكرين. أتريدون أن تسيئوا إلى قوم أحسنوا إليكم، والله لا يحب الكفارين الغامطين، ومن إحسانهم أنكم تعيشون بالأمن والأمان، وقد كنتم تخطفون من قبل هذه الدولة في هذه البلدان، وأما اليوم فلا يؤذيكم ذباب ولا بقة ولا أحد من الجيران، وإن ليلكم أقرب إلى الأمن من نهار قوم خلت قبل هذا الزمان، ومن الدولة حفظة عليكم لتعتصموا من اللصوص وأهل العدوان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ! وإنا رأينا من قبلها زمانًا موحشًا من دونه الحطمة، واليوم بجنتها عرضت علينا الجنة، نقطف من ثمارها، ونأوى إلى أشجارها؛ ولذلك قلت غير مرة إن الجهاد ورفع السيف عليهم ذنب عظيم، وكيف يؤذي المحسن من هو كريم؟ ! من آذى محسنه فهو لئيم) . هذا كلام المسيح الموعود عن طغاة الاستعمار المنكود، فهل يدافع الإنجليز عن أنفسهم في كل مكان بأكثر من هذا الهذيان، اللهم إن هذا هو البهتان، وانظر إليه كيف ينفي عن الإنجليز مساعدة المبشرين وهم أعضادهم في كل وقت، لا ينكرون ذلك ولا يخفون ما هنالك، بل يساعدونهم في كل حين بأوقاف المسلمين، وما أنباء التبشير في السودان الآن وفي غير السودان من قبل ببعيد عن هذا المسيح الموعود؛ ولكن الغرض يعمي ويصم. وقد نشرت مجلة الفتح الغراء في العدد 664 بتاريخ 10 جمادى الآخرة سنة 1358 استفتاء لعلماء الهند، جاء به كثير من أقوال هذا المدعي المكفرة، مثل قوله: (إني نبي، وأنا المخصوص بالنبوة في هذه الأمة) من كتاب حقيقة الوحي، ص 391 له. وقوله: (خاطبني الله بقوله: اسمع يا ولدي) من كتاب البشرى، ص 94 له. وقوله (كان المسيح متعودًا على الكذب والافتراء) من كتاب ضميمة أنجام آتهم، ص 17. وهكذا من هذه التخريفات وقد أفتى علماء الهند الفضلاء بكفره لهذه الأقوال الشائنة، وذيلت هذه الفتيا بتوقيعات كثير من الأفراد والطبقات العلمية في جميع بلاد الهند تقريبًا، وفي كثير من بلدان الإسلام. (4) أما حادثة الأزهر، فخلاصتها أن طالبين ألبانيين ممن ينتسبون إلى هذه الطائفة، اندرجا في سلك طلبة القسم العام، وتنبه لهما بعض اليقظين من الطلبة، فأبلغوا أمرهما إلى الجهات المختصة في الأزهر، فأُجري تحقيق بمعرفة شيخ القسم العام، ثم ألفت لجنة للكشف عن حقيقة هذا المذهب، وقد أمد بعض الغيورين هذه اللجنة بكثير من كتب هذه الطائفة، التي تصرح بضلالها ومِحالها. وكلمتنا لحضرات أصحاب الفضيلة علماء الأزهر الأجلاء - وعلى رأسهم فضيلة الأستاذ الأكبر - أن الأمر أهون من ذلك كله، والحق واضح بيِّن، ووجود هذين الطالبين بين الطلبة فيه خطر محقق، ذلك إلى أنهما يستخدمان نسبتهما للأزهر وحملهما لاسم طلب العلم فيه استخدامًا خبيثًا في تأييد نحلتهما الضالة الهدامة. وقد ذاع الأمر الآن في مصر وفي غير مصر من بلاد الإسلام، وعلى يد هذين الطالبين وأمثالهما ممن يشايعهما في ألبانيا ذاع السفور والتحلل من عقدة الإسلام، ورأي الأزهر رأي رسمي، يتخذه الناس حجة في كل أقطار العالم، فتبعة فتواه في هذا كبيرة عظيمة، ومسئوليته في هذا لا يعلم مداها إلا الله. نرجو أن تضع اللجنة نصب عينها هذه الحقائق، وأن تقذف هذه الفتنة بالحق الواضح فتدمغها، فإذا هي زاهقة، وأن تأخذ بالحزم فتقصي عن حرم الأزهر كل طالب لا خير فيه للإسلام، والله الهادي إلى سواء السبيل. * * * (في العدد القادم) ورد علينا سؤالان: أحدهما خاص باستحضار الأرواح، والثاني خاص بما قيل في خطيئة آدم عليه السلام، نرجئ الكلام فيهما إلى العدد القادم.

ماذا في إندونيسيا

الكاتب: جمعية الشبان الإندونيسيين والملايويين بالقاهرة

_ ماذا في إندونيسيا في أقصى الشرق، بين أمواج البحار المتلاطمة والجو المملوء بالأعاصير يسكن إخوان منكم مسلمون، يوحدون بالله وبرسوله وبالكتاب المبين. هؤلاء إخوانكم الإندونيسيون، الذين يبلغ عددهم في إحصاء سنة 1930 (59.143.775) نفس، منهم 85 % من المسلمين، وهناك أيضًا عدد من العرب يبلغ 52000. ومن ثلاثة قرون مضت من يوم أن دخل الهولنديون تلك البلاد وأمسكوا أَزِمَّة أمورها، واستولوا على جمع منابع حياتها الاقتصادية، وأخذوا يدسون سم الدسائس في تشتيت شمل الأهالي بوساطة الظلم والاستبداد والاستعانة بالمبشرين. * * * نتائج جهود المبشرين للمبشرين سلاح قوى وطرق عديدة في القيام بدعوتهم؛ ومن طرقهم فتح المدارس وإنشاء الجمعيات والكنائس والمستشفيات والملاجئ وتأليف كتب تدخل في مناهج التعليم في المدارس الحكومية. ذكر في البيان السنوي لسنة 1938 أن النصارى الكاثوليكيين قد نشروا دعوتهم واستولوا على معظم بقاع إندونيسيا، ولهم نفوذ في أربع عشرة مدينة كبيرة، ولهم من الأعضاء 489.400 نفس، ومن المدارس 1.404، وتلاميذها 129.208 ولهم قسس، والقائمون بأمر الدين يقدرون بنحو 3.592، ولهم جمعيات من كل طراز يبلغ عددها 23 جمعية، ومجلات عددها 42 مجلة بلغات مختلفة. وللبروتوستانت حركة عنيفة أيضًا، فقد ذكروا في بيانهم بعد مرور 40 عامًا من تاريخ حركتهم، أن عدد المنتمين إليهم قد زاد؛ ففي جزيرة جاوة بعد أن كان 15.000 صار 60.000، وفي بانك من 40.000 إلى 400.000، وفي نياس من 5.000 إلى 120.000، وفي تهاما 60.000، وفي الغانة الجديدة 70.000، وفي جزيرة تيمور من 3.000 إلى 150.000، فبلغ عددهم الآن 860.000 نفس. بينما هي لا تساعد، بل عاقت الطريق لكل مسلم يريد الخروج من وطنه لطلب العلم، فَلَكَمْ لاقى طلبة العلم الإندونيسيون المتاعب والويلات في سبيل الدين حينما أرادوا النزوح إلى مصر أو الحجاز. * * * كيف يُضْطَهَد الإسلام؟! تزرف الأعين دمًا إذا رأت تلك الحوادث الجسام التي تتمثل في نفوس طاهرة آمنة لا تؤذي أحدًا، بل هي لربها خالصة ولقانون الشريعة خاضعة. فهناك المسلمون أيها السادة - مع أغلبيتهم - مضطهدون، لا تزال حقوقهم مهضومة ضائعة؛ إذا ما جاءت أوقات الصلاة يحال بينهم وبين المساجد، وإذا ما تفوهوا بآيات الذكر الحكيم يحاسبون عليها، ولم يسمح لهم أن يقرأوا باب الجهاد في الفقه ولا الآيات الحاثة على ذلك، وما أكثر عدد الذين ذهبوا ضحية قضية الإسلام، ومنهم طالبان من مصر وهما الحاجان مختار لطفي وإلياس يعقوب، ولا تزال أسماؤهما مقيدة في سجل الأزهر كطالبين. هذا إلى أنهم يسدون الطريق في وجه كل مسلم يريد الخروج من وطنه لطلب العلم، فكم لاقى طلبة العلم الإندونيسيون المتاعب والويلات في سبيل الدين حينما أرادوا النزوح إلى مصر أو الحجاز. هناك جزيرة كبيرة وهي الغانة الجديدة قد ملئت بالمجاهدين المنفيين من الأبرار الأطهار، أدامهم الله للإسلام خيرًا، وجعلهم مثالاً يحتذى، فهذا المنفى هو مثال حي لتلك المظلمة، ألا ساء ما يعملون. * * * نظام الضرائب أنواع الضرائب في إندونيسيا كثيرة جدًّا؛ فهي حوالي خمسة عشر نوعًا: 1 - ضريبة الرأس: تفرض على كل شخص حي؛ غنيًّا كان أو معدمًا - بلغ السن القانونية، سواء أكان يكتسب أم لا، سيما من ينضم إلى الحكومة في خدمة والسعي لمصالحها، هذه الضريبة في غاية من الشدة تجبى رغم الأنوف، فمن لم يستطع دفعها يحبس مدة مع الأعمال الشاقة، فإذا ما نازع الحكومة أو وقف أمامها وقفة المستفهم يطرد من الرحمة، وينفى إلى إحدى الجزر البعيدة التي يسكنها آكلو لحوم البشر، ويباع في سبيل الضريبة كل ما يملكه المرء من منزل وأثاث، حتى أحيانًا يجرد من ثوبه الكمالي. 2 - ضريبة المشي: هي ضريبة لم يسمع ما يضارعها في أي أمة مضت؛ فهي تجبى من كل شخص بحجة إصلاح الطرق؛ حتى لا توجد فيها وعور تعطل حركة المشي والسير!! 3 - ضريبة الأطيان والأملاك: هذه مثلها كمثل الضريبة المفروضة على عامة الشعب في فرنسا قبل الثورة؛ ولكنها أسوأ حالاً من تلك، خصوصًا بعد تأسيس بنك التسيلف كالذي وجد في مصر في هذه الأيام وعلى طريقته أيضًا. 4 - ضريبة المواصلات: ضريبة لا بأس بها، ولو أنها ثقيلة العبء جدًّا لكثرة قيمتها، وقد تضايق منها العمال الذين يستعملون الدراجات في القيام بأعمالهم. 5 - ضريبة الذبائح: تفرض على كل ذبيحة تذبح، سواء كانت للأضحية أو العقيقة، وقدم المسلمون احتجاجًا طالبين إعفاءهم من ضريبة العقيقة فقط، وإلى الآن لم نسمع من أمرها شيئًا. * * * إدارة البلاد ومن جهة الإدارة؛ فيرأس إندونيسيا حاكم هولندي من طرف الحكومة العليا بهولندة ليمثلها في تلك البلاد، أما من جهة نظام الحكم السياسي؛ فهي مقسمة إلى قسمين، قسم مستقل استقلالاً داخليًّا، وهو سبعة بلاد (جكياكرتا وسوراكرتا في جزيرة جاوة، ودلي ولنجكت، وسروانج وأساهن في سومطرة، وكوتاي في بورنو) . ويحكم هذه البلاد سلاطين وطنيون؛ ولكن نفوذهم يسلب شيئًا فشيئًا وينمحي بالتدريج، حتى أصبحوا كصور متحركة، والقسم الآخر أكبر مساحة من سابقه، وهو يقدر 90 في المائة من مساحة البلاد، وهو مستعمر استعمارًا تامًّا. هؤلاء السلاطين وإن كانوا من الوطنيين إلا أنهم قد تشبعوا بروح العصاة فخرجوا عن إرادة الشعب، بل عكروا صفو دينهم بمعاكستهم إياهم في جميع منافذ الحياة العامة؛ لأنهم يخافون أن تضيع مراكزهم إذا تحققت رغبة الوطنيين في الاستقلال، ولا سيما إذا ما صارت إندونيسيا جمهورية كما ينبغي أن تكون. * * * المجلس النيابي في سنة 1918 لما طلب الإندونيسيون البرلمان في أثناء الحرب العظمى أنشئ مجلس نيابي إرضاء لخاطرهم، في هذا المجلس 60 عضوًا، منهم 30 من أبناء الجنس الأهلي، 20 منهم بالانتخاب، و10 بالتعيين، و25 من الهولنديين، و5 من الأقطار الشرقية كالعرب والصين. طريقة الوصول إلى عضوية هذا المجلس هي طريقة الانتخاب بوساطة المجالس البلدية التي تستعين بها الحكومة، وبعد هذا الانتخاب تختار منهم الحكومة نصيرها، ومنهم أيضًا من تعينهم الحكومة بمطلق إرادتها. وليس لهذا المجلس تصرف - وإن قل - بل هو عبارة عن مجلس استشاري لا أكثر. * * * طلب البرلمان لما تحرك العالم في هذه الأيام الأخيرة، وبدا في سماء السياسة الدولية ارتباك شديد، وخافت كل دولة على نفسها من الضياع وخصوصًا الصغيرة منها؛ فلذلك طلب الإندونيسيون من الحكومة الهولندية أن تمنحهم نوعًا جديدًا من الحكم فيه شيء من الحرية، حتى يتنفسوا الصعداء بعد تلك القرون العديدة التي لاقوا في أثنائها متاعب كثيرة بدون رحمة ولا شفقة. وجد الإندونيسيون أنهم بهذا البرلمان يمكنهم حل المشاكل الدينية التي طالما يسكت عنها فتكبر وتترعرع فتزيد الطين بلة، فاتحدت الآراء وكون أعضاء المجلس النيابي من أنفسهم كتلة توجهوا جميعًا بها لتحقيق هذا الغرض السامي؛ ففي يوم 23 ديسمبر سنة 1939 طلبت الجبهة الوطنية الإندونيسية المكونة من 24 حزبًا من الحكومة الهولندية عن طريق مجلس النواب الهولندي بمدينة لاهاي، أن تمنح الإندونيسيين (برلمان) ، فيه يتشاورون على أساس النظام الديمقراطي ويسهرون فيه على مصلحة البلاد، ولا سيما في الحالة الحاضرة مع، محافظتهم على الصداقة الودية للحكومة الهولندية. مثل هذا المطلب البسيط الذي يرجو ذلك الشعب الإسلامي أن يتحصل عليه لا تهتم به الحكومة الهولندية، فجاء على لسان وزير المستعمرات الرفض التام بدون حجة مقبولة. علمنا أن مصر زعيمة الإسلام ومنبع المدنية الشرقية، وساداتكم أكبر ممثلي الدين فيها، قد دافعتم عن الإسلام كثيرًا في مواقف مشرفة؛ فلذلك لا نحثكم على شيء، بل أنتم أدرى بما يجب أن تعملوه في مثل هذا الوقت ولهذه الأمة الشرقية المسلمة. ليس لنا غير أن نقدم لحضراتكم بعض المطالب، علكم توافقون عليها وتحبذونها: أولاً: تكوين جبهة إسلامية من جميع الجمعيات الإسلامية بمصر، ولو موقتة. ثانياً: إرسال عريضة إلى البرلمان الهولندي، وعريضة أخرى لعصبة الأمم، يطلب فيها النظر في تحقيق رغبة الإندونيسيين في البرلمان، وطلب محو منفى الغانة الجديدة، وإرجاع المنفيين من منفاهم. ثالثا: طلب تحرير العقول الإسلامية بفك القيود من مناهج التعليم في المدارس التي ما زالت الحكومة الهولندية تسيطر عليها السيطرة الكاملة. هذه المطالب مبنية على رغبة الشعب الإندونسي في الأيام الأخيرة. ونحن - أبناء إندونيسيا في مصر - كبيرو الأمل في أن يوفقكم الله في العمل لقضيتنا حتى يوفقنا جميعًا لخير الإسلام والمسلمين. إليكم هذا، مع شكر دائم، ودعاء مستمر. ... ... ... ... جمعية الشبان الإندونيسيين والملايويين بالقاهرة

المنار منذ عشرين سنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار منذ عشرين سنة (ربيع الأول سنة 1339) الاتحاد والاقتصاد بقلم السيد محمد رشيد رضا رحمه الله كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، ميزان سياسة الأمم ونظام الاجتماع، كثر في هذا العصر تشدق الخطباء بذكرهما وشرح الكُتَّاب لفوائدهما، ولمَّا يفقه الدهماء حقيقة معناهما، بل لمَّا يُحِط أكثر العلماء والزعماء منا خبرًا بهما؛ لأن فقه الحقائق وإحاطة الخبر لا يحصلان إلا بطول التجارب في الحوادث، والاصطلاء بنيران الكوارث، بعد تلقي الحكمة بالتعليم، والتربية على سلوك الصراط المستقيم. كنا منذ أنشأنا المنار في أواخر سنة 1315 للهجرة قد جعلنا أهم ما ندعو إليه القراء في مصر وسائر البلاد أن يجعلوا جُلَّ عنايتهم في إصلاح شئونهم بالتربية المالية التي تكوِّن أمة متحدة، والاقتصاد الذي تكون به الأمة غنية تتصرف بثروتها في القيام بمصالحها كما تشاء. بثثنا هذه الدعوة في (المؤيد) في ذلك العهد؛ إذ كنا نكتب فيه مقالات بإمضاء (م. ر) وبغير إمضاء، ثم أعدنا بثها في (الجريدة) في أول العهد بظهورها، في مقالة عنوانها (إلى أي شيء أنت يا مصر أحوج) نشرناها أيضًا في الجزء الثاني للمجلد العاشر من المنار، الذي صدر في صفر سنة 325، ونحمد الله - تعالى - أن رأينا في هذه السنين آيات الاتحاد في هذه البلاد العزيزة، ورأينا من نتائجه قرب الحصول على الاستقلال الذي نعتقد أنه لا ينال إلا به، بل نقول: إن الاتحاد بغير استقلال خير من الاستقلال بغير اتحاد؛ لأن الاتحاد يأتي بالاستقلال المفقود، وفقده يذهب بالاستقلال الموجود، فالواجب الآن على كل مصري أن يكون أحرص على تعزيز الاتحاد والتكافل الذي وقع منه على نيل الاستقلال الذي يرجى به ويتوقع؛ فإن الاتحاد إذا ثلم وانفصمت عروته قبل بدو صلاح ثمرته، نفضت الشجرة، أو خرجت الثمرة شيصًا لا غَنَاء فيها، وإذا انتكث فتله بعده، زال أثره بزواله، فإذًا لا استقلال ابتداء ولا بقاء إلا بالاتحاد. ثم ليعلم علم تدبر أنه لا قوام لاستقلال الأمم وحريتها إلا بالثروة، ولا ثروة إلا بالاقتصاد، وإن الاستقلال السياسي متوقف على الاستقلال الاقتصادي، ونحن مقصرون في سبيل هذا الاستقلال تقصيرًا إذا لم نبادر إلى تداركه كنا من الهالكين. إن للكسب والإنفاق علومًا وفنونًا اتسع نطاقها في هذا العصر اتساعًا عظيمًا؛ لأنها قطب الرحى لمدنية الأمم والشعوب وعزتها ورفاهتها وسيادتها، وقد برزت بها الأمم الشمالية الغربية فاستعمرت أو استعبدت بها الأمم الشرقية والجنوبية، حتى ظن كثير من القاصرين أن الشعوب والأجناس أو الأقاليم الغربية أعظم استعدادًا بطبيعة العرق وخاصية الجنس من الشعوب الشرقية، ويبطل هذا القول ما هو معلوم من أن اليهود أرقى أهل الأرض في جميع هذه العلوم والفنون والأعمال المترتبة عليها أينما وجدوا وحينما حلوا من أقطار الأرض، وهم شعب شرقي محافظ على نسبه ودمه، وكذلك الشعب الياباني في الشرق الأقصى قد جارى الغربيين فيها من عهد قريب. ولكن الأمر الغريب أن المسلمين في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا يزالون مقصرين في هذا المضمار، وبهذا التقصير أضاعت أكثر دولهم ملكها، وأمسى الباقي لها بين براثن الخطر، ويضيع أكثر أفرادهم ملكهم في البلاد التي يزاحمهم فيها غيرهم، فإن كان جل ثروة مصر وسورية والعراق لا يزال بيدهم فما ذلك من كسبهم بعلومهم وفنونهم، وإنما ذلك إرث رقبة الأرض تسلسل فيهم؛ لأنهم أكثر السكان المالكين لها، فهذه مصر أقدر البلاد العربية على اقتباس العلوم والفنون المالية وغيرها وأكثرها نفقة عليها، تراها مقصرة في هذا الاقتباس، فجميع من يعيش فيها من الشعوب الأوربية واليونانيين والسوريين يفوقون المصريين في العلوم والفنون المالية والاقتصادية، وفي إدارة المال بالتجارة وغيرها، وفي الاقتصاد وحفظ الثروة من التبذير والضياع، بل القبط من المصريين يفوقون المسلمين في ذلك عملاً، وثروتهم النسبية تفوق ثروة المسلمين، وأكثر أعمال الحكومة المالية في أيديهم وأيدي الأوربيين والسوريين، بل أكثر المسلمين يعتمدون على كتابهم في إدارة ثروتهم، على أن المسلمين أشد إسرافًا في الإنفاق وتبذيرًا للأموال منهم ومن سائر الشعوب التي نعرف أحوالها. من فطن لهذا من علماء الاقتصاد يعلله بادي الرأي بأن الدين الإٍسلامي هو السبب في الأمرين، وهذا التعليل يضاهي في البطلان تعليل من عساه يقول عن الدين المسيحي هو سبب ثراء نصارى الغرب وسعة عيشهم وشدة سطوتهم وجبروتهم، والحق أن كلًّا من النصارى والمسلمين مخالف لهدي دينه ونصوص كتابه في الأمرين؛ فالإنجيل يهدي إلى المبالغة في الزهد والقناعة والتواضع والخضوع لكل سلطان، وينص على أن الغني لا يدخل ملكوت السموات، والإسلام دين سيادة واقتصاد، وجمع بين مطالب الروح والجسد كما بينا ذلك وفصلناه مرارًا كثيرة، ومن نصوصه فيما نحن بصدده قوله - تعالى - في أوائل سورة النساء: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} (النساء: 5) ، أي جعل عليها مدار قيام مصالحكم ومرافقكم وحفظها وثباتها، وقوله في صفات المؤمنين من أواخر سورة الفرقان: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (الفرقان: 67) ونهى في وصايا سورة الإسراء عن المبالغة في قبض اليد وبسطها في الإنفاق، وعن التبذير وسمى المبذرين إخوان الشياطين، وهذه الوصايا هي أمهات أصول الدين وفضائله وآدابه، وهي تشمل الوصايا العشر التي في التوراة - ما عدا بطالة يوم السبت - وتزيد عليها، وفي السُّنة وصايا وأحكام كثيرة في ذلك. فالمسلمون مخالفون لدينهم فيما اعتادوا من الإسراف في النفقات، وهذا إذا كانت فيما أبيح لهم من الزينة والطيبات، فكيف إذا كانت في المحرمات، ولا سيما الفواحش الثلاث المفسدات للفطرة، المخربات للديار: السكر والزنا والقمار؟ وهم على هدمهم بذلك لدينهم يهدمون كل ما يبنى من صرح استقلالهم، وإنني لم أر ولم أسمع من أخبار البشر أن شعبًا منهم يعادي النقد الذي هو ميزان الأعمال والقوة في الاجتماع البشرى كالشعب المصري، فالمصري أسرع الناس بذلاً لما يصل إلى يده من النقد، فالمتمتعون بالزينة واللذات ينفقون في سبيلهما ما تصل إليه أيديهم من كسب وقرض ولو بالربا الفاحش، وغير المتمتعين يشترون بما تصل إليه أيديهم من كسب وقرض بالربا أرضًا أو عقارًا، ولا يبالي أكثر الفريقين أن يشتري الشيء بأضعاف ثمنه وإن استدان الثمن بالربا الفاحش؛ لأن النقد أحقر الأشياء في نظره؛ ولذلك ترى أكثر المصريين على سعة ثروتهم الزراعية مرهقين بالدين، فيجب على الزعماء والعلماء والخطباء وكتاب الصحف أن يتعاونوا على درء الخطر بوسيلتي العلم والعمل، وإلا ظل المنتجون منهم كالأجراء للأجانب؛ لأن جل ما ينتجون يتسرب إلى صناديق المسارب المالية وسائر المرابين وجيوب أصحاب الحانات والمواخير وموائد القمار وتجار عروض الزينة والترف، وبعبارة أخرى إن جل ثروة البلاد تخرج منها إلى البلاد الأجنبية. ومن الضروري أن يبادروا إلى تأليف جمعية اقتصادية يكون من أعمالها إرسال بعض الطلاب المستعدين إلى معاهد العلم في أوربة لأجل الإحصاء في علم الاقتصاد السياسي وسائر الفنون المالية والصناعات الضرورية ولا سيما الغزل والنسيج، ثم جعلهم معلمين لهذه الفنون والصناعات وعاملين بها، والاستقلال المنتظر يزيل - إن شاء الله - ما كان من الموانع دون مثل هذا العمل، وإنني رأيت في الهند معامل عظيمة للمنسوجات الأوربية - دع المنسوجات الوطنية الخاصة بأهل البلاد - وجميع عمال هذه المعامل من الوطنيين، إلا أنني رأيت في معمل كبير في بمباي رجلين من الإنكليز وظيفتهما اختيار نقوش النسيج. ويكون أهم أعمال هذه الجمعية وشعبها تعميم النقابات الزراعية في البلاد، وتأليف الشركات للمشروعات الاقتصادية المختلفة، ويكون منها السعي لإرشاد جمهور الأمة إلى الاقتصاد، وجعل ثروة البلاد قوة لها وضامنًا لاستقلالها بنفسها وحريتها في التصرف بثروتها.

أسرار البلاغة في علم البيان

الكاتب: حسن البنا

_ أسرار البلاغة في علم البيان أصدر (دار المنار) في هذه الأيام هذا الكتاب النفيس لمؤلفه الإمام (عبد القاهر الجرجاني) مطبوعًا طبعًا متقنًا على ورق جيد صقيل، والكتاب ومؤلفه غنيان عن التعريف، وقد وضع في وقت تحكمت دولة الألفاظ واستبدت على المعاني، وهو خير ما كتب في موضوعه عبارة وأسلوبًا وإيضاحًا للمسائل وبسطًا للدلائل، وقد امتاز بإرجاع الاصطلاحات الفنية إلى علم النفس وتأثير الكلام البليغ في العقل والقلب، وقد عني بتصحيحه عالما المعقول والمنقول المرحومان الشيخ (محمد عبده) والشيخ محمد محمود الشنقيطي، وعلق حواشيه المرحوم (السيد محمد رشيد رضا) . وثمن النسخة 25 قرشا.

في محيط الدعوات تحليل ومقارنة

الكاتب: محمد الغزالي

_ في محيط الدعوات تحليل ومقارنة العقل الباطن - حقيقة التدين الزائف - الصابئة قديمًا وحديثًا في نفوس البشر ركام كثيف من الغرائز المرسلة والنزعات المشبوبة والشهوات الجامحة، تأتلف جميعًا لتصوغ العمل الإنساني فيما تشاء له من قوالب، ولتلونه بما تحب له من صبغة. وليست النفس حين تتحرك لإدراك غاية قصدت إلى تحقيقها باذلة جهدًا يكلفها العنت أو يشعرها ألم السعي، ما دامت حرارة الرغبة تمدها بالوقود فتدفعها، وطلاب اللذة يحدوها مزخرفًا لها الغرض البعيد حتى تظفر به وتطمئن إلى مناله. ذلك هدى العقل الباطن وحده - كما اصطلح علماء النفس - حيث لا جديد في فطرة الإنسان العتيدة على ما ذرأها الله وقبلما تدركها قيود الدين فتكبح من جماحها، وتعاليمه فتهذب من ميولها، وأنظمته فتمحق من فوضاها وتكفكف تأبيها على الخير. ثم تسير بها وجهة أخرى، أو ذلك عمل الإنسان لذاته وتفانيه في عبادة هواه، ونسيانه المطلق لله الكريم، وانبعاثه في الدنيا كائنًا طياشًا أحمق، صفرًا من كل غاية يمجده الانتهاء إليها والاكتمال في جوارها {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} (الجاثية: 23) . هذا النفاذ البالغ إلى كل شيء، والذي تضحمل أمامه الحواجز وتذوب الأسيجة، وهذا الاندفاع العنيف الدائب يتعجل النهاية ويتجشم إدراكها، هو مرد السلوك كله عند كثير من علماء النفس، حتى قال (فرويد) مكتشف العقل الباطن: (إن العقل المفكر لا يقوم إلا بخدمة اللاشعور، ولا يمكن أن يستجيب لغير ندائه، ولا أن يستمع لغير أوامره) . قد يكون هذا القول صحيحًا على إطلاقه في كل نفس لم يزكها الإسلام، ولم تسمُ بها رسالة محمد صلى الله عليه وسلم {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} (الرعد: 19) . ولكنه قلما يصدق على النفس المسلمة التي يحرق إيمانها خبث العقل الباطن، حتى إذا أتى عليه استقام مع طبيعة النفس في مظهر ديني بحت. ألم يكن عمر بن الخطاب رضى الله عنه غضوبًا في جاهليته ثم في إسلامه؛ ولكن شتان ما بين غضب تستخفه الحمية الطائشة لأوهى الأسباب، وبين غضب غالٍ يثور لحق الله وإعلاء دينه وليلعن الكفر ويستذل أهله، والواقع أن جوهر النفس الأصيل يبقى كمًّا ويبقى كذلك كيفًا إن لم نحسب تغير البواعث وتغير الأهداف، وهو ما يتناوله الدين من أساسه وتجهد الرسالات كلها في تحقيقه. وقبل أن نقرر نصيب النفس المسلمة من هذا التغيير المنشود، نقف لحظة لنلمح خلالها النفس اليهودية والنفس المسيحية، ولنرى مقدار تأثر النفسين في حياتيهما بالدين. * * * لأمر ما كانت (النفس اليهودية) مرتعًا للدعوات المشينة والدسائس الساقطة، وكانت حياتهم بين الأمم التي رماها القدر بهم تشبه حياة الطفيليات التي تعيش على حساب الجسم لتسرق منه غذاءه وتمنع عنه نماءه، ويبدو أن نقمة الله التي حاقت بشعوب إسرائيل حرمتهم للأبد عناصر الحياة الإنسانية العالية رغم ما تزعمه هذه النفوس وتدعيه من علائق وثيقة بالله. ذكرت إحدى الصحف اليومية منذ شهور نبأ مظاهرة قام بها العمال اليهود في القدس، كانوا يهتفون في أثنائها طالبين الخبز، ويهددون - إن لم تجب مطالبهم - بترك اليهودية! ! قد يدعو إلى العجب أن يهون دين على أتباعه حتى يبيعوه برغيف؛ ولكن الأمر لا يستدعي دهشة، فاليهودي لا يحس بأنه منقاد لعقيدة مقدسة لها حرمتها ولها جلالها، وليس ثمة إلا لقب يورث يحمله وهو على أهبة تركه إن عارض شيئًا من متاع الدنيا الذي يجتذبه كل حين، وإذا كان الدين قد هزمه انفعال الجوع هنا، فقد انهزم من قبل أمام سورة الحقد المضطرم في نفوس آبائهم لما سألهم الأميون من العرب عن دين محمد، فزعم الأحبار المؤمنون! أن الوثنية خير منه {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} (النساء: 51) ولما جحدوا الرسالة الكريمة وقد استيقنتها أنفسهم {حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ} (البقرة: 109) كيف يستقيم سلطان الدين على نفوس من يعتنقونه إذا كانت هذه النفوس صريعة لكل نزوات الهوى وأعراض الحياة ومفاتن الرياسات الفارغة؟ وأي شيء مما يطلبه العقل الباطن قد منع عنه بل اقتصد في إجابته؟ وأين مكان التغير الذي يفرضه الدين حتمًا على دوافع العمل وغاياته ليكون عملاً دينيًّا لا شيء قط؟ * * * ولنهبط إلى أغوار النفس المسيحية لنسبرها، إنني في " شَبْرَا " أشهد كثيرًا من حفلات الصلاة أيام الآحاد، وكيف يثير القسيس انفعال المصلين بالترنيمات الحزينة والأنشدة الحنون، على حين ينعكس اللهب الخافت المسترسل من مئات الشموع على صدور التماثيل الخرساء الجامدة، وتردد جدران الكنيس أصداء جرسه الثائر الذي يطغى أحيانًا على هينمة الشمامسة وترجيع الجمهور المسحور. هذا النوع من السيطرة على النفس غير جديد، ولم تزل الغابات منذ آلاف السنين تدوي بطبول الكهنة وتعاويذ السحرة ممن يمثلون الديرة بين الزنوج الأغبياء، ولا تزال معابد الهنود حافلة بهذه المظاهر الأخاذة التي نقلها المسيحيون بأمانة بالغة إلى مذابحهم ومحاريبهم، ولكن ما جدوى هذا كله؟ ومتى كان الدين جوقة موسيقى وبضعة ألحان يندس بينها قليل أو كثير من التعاليم والوصايا التافهة؟ لذلك كانت النفس المسيحية في ساعات الكنائس غيرها في مواجهة شئون الحياة، عندما تبرز في حقيقتها المجردة وطبيعتها الأصيلة، وقد طاش سحر النواقيس والشموع وارتدت إنسانًا ضعيفًا تستبد به نوازعه القاسية، وهل يظن أن المرأة المسيحية جاهدت عواطفها كثيرًا عندما عرضت في مباريات الجمال، وكانت تود ألا تُعرض؟ أو أن الرجل المسيحي جاهد شهواته كثيرًا قبل أن يحتضن امرأة غيره في صالات الرقص، وكان يود أن يبتعد؟ إنما تحيا النفس المسيحية في جو طليق مما تريده من حرية تستبيح كل شيء، لا ظل فيها لرهبة ولا سلطان، وليست شهادة (كارل ماركس) للإسلام إلا ضربًا من التفكير الحر، ولا تخرصات (فولتير) إلا مثلاً للتقليد الأحمق، ولا كلمات (جبران) عن نبي العرب إلا فنًّا من الخيال السمج، ولا عدد (الشرق والإسلام) الذي أصدرته إدارة الهلال إلا مظهرًا للثقافة التي يتاجر بها الأدباء، وهؤلاء المسيحيون أبعد ما يكونون عن التقيد بغير حاجات نفوسهم، ورغائبها المادية والمعنوية، وقد رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، وغفلوا عما بعد ذلك من حقائق لو أنهم التفتوا إلى شيء منها لأثار في نفوسهم على الأقل ميلاً إلى التطلع والاكتشاف. فماذا يقول الإنسان مثلاً في بابا روما الذي زعموا أنه يعرف تقريبًا سبع لغات ليس بينها العربية؟ ! ما هذا النكوص عن البحث وراء الحقيقة، وأي معنى تردد في نفس الرجل فقعد به عن تعلم دين كان له مع دينه تاريخ رائع وهو الذي لم يكسل عن تعلم أدنى اللغات، ولكن لله سرًّا في تكوين بعض النفوس. لعل فيما سبق ما يفسر حكم القرآن الصارم على أهل الكتاب؛ حيث لم يعترف بهذه المراسيم التي تنسب النفس إلى الإيمان وهي منه خواء، فتحت أردية الكهنوت الفضفاضة وما تشعر به من زهد وعزوف تتوارى نفوس خطرة {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} (التوبة: 34) ولمَّا كان لزامًا على المسلمين أن لا يتركوا دين الله يلتبس بأهواء الناس؛ حتى لا يختلط كذب الأرض بوحي السماء وفي هذا ما لا يخفى من الإساءة إلى الدعوة الحقة وما يوقف انتشارها - أمر المسلمين بإعلان الحرب عليها حتى يكشفوا زيفها {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة: 29) وكذلك طرحت الفوارق الشكلية التي تميز الكتابيين عن الوثنيين، وأطلق أسم الكفر الصريح عليهم ليشمل الجميع على السواء {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ البَرِيَّةِ} (البينة: 6) . على أنها قلة من الناس تلك التي لا تزال تخلص للكنائس المسيحية على تفاوت مذاهبها، وليس بين مئات الملايين من سكان أوروبا وأمريكا إلا عدد يسير من المسيحيين الأقحاح يتعارفون على دينهم كما يتعارف اللصوص على كلمة السر، أما الكثرة العظمى منهم فقد ثارت على هذا (النفاق الديني) وآثرت أن تبقى بعيدة عنه، ولم تر أي حرج في أن تعيش مجاهرة بإلحادها، معلنة حقيقة طواياها. والحياة التي تجاهر بعداوتها للأديان - صحيحها وزائفها - ليست وليدة هذا العصر، بل هي متغلغلة في القدم {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} (الجاثية: 24) ولكنا لا نظن هذا النوع السافل من الحياة صادف الشيوع الذي وجده في القارتين المسيحيتين، وجدير بنا أن نطلق اسم (الصابئة) على هؤلاء الذين ارتضوا الحياة الدنيا فَحَسْب أقصى نهايات آلامهم وآمالهم، ونظموا شؤونهم وصِلاتهم ومشروعاتهم على ذلك الأساس، وفي الوضع اللغوي والاستعمال العرفي ما يبرر هذا الإطلاق. ولقد شهدت أوربا معركة عنيفة بين المسيحيين والصابئة منذ قرون تحت ستار النزاع بين العلم والدين، وانتهت المعركة بهزيمة ساحقة للمسيحية كانت بدء تقوض النظام الكنسي وانهيار سلطانه، ومن يومئذ لبس الصابئون ثياب العلماء وتقدموا في ميادين العلوم الطبيعية تقدمًا مشهودًا، وقبع القساوسة في الأديار لا يستطيعون مطلقًا المساهمة في الحياة العامة بنصيب طائل؛ ذلك أن العالم أنكر عليهم أكثر من معيشة الانزواء والوحدة والاعتزال، ولا ريب أن الصابئة هم رسل الحضارة الحديثة ومناصروها، وقادة العالم بها إلى سوء المصير، تلك الحضارة الغربية التي لم تعرف الدنيا شرًّا منها؛ فلقد كان خيرًا للناس أن يعيشوا في أكواخ تضاء بمشاعل الزيت وهم أطهار أبرار، من أن تفرقهم أضواء الكهرباء بين المسارح الضخمة والمراقص الفخمة، ولكان خيرًا للناس أن يسيروا على الأرض وهم أشراف من أن يطيروا في الهواء وهم لصوص، ولكان خيرًا للناس أن تستغرق أسفارهم الشهور الطويلة يقطعون مراحلها على أرجلهم أو على دوابهم وهم قانعون راضون، من أن يستخدموا هذه السيارات وغيرها من وسائل النقل وهم على اتصالهم الميسور تقطعهم المطامع وتباعد بينهم شر بعد. تلك لمحة عن حال الصابئة، وهم - كما ينبغي أن نعتقد - أخطر أعداء الإسلام وأشدهم شكيمة، وليس بنافع في تطهير الأرض منهم إلا جهاد تتمثل فيه عظمة الثورة الإسلامية الأولى وبطولتها وجراءتها، وإذا كانت النفوس غير المسلمة كما وصفنا مهما تقطع أمرها شيعًا ومهما تفرقت س

مشكلة المرأة في مصر

الكاتب: محمد المهدي

_ مشكلة المرأة في مصر ورد علينا هذا الخطاب من حضرة كاتبه الفاضل، ولأهمية الموضوع سنوالي الكتابة فيه ابتداء من العدد القادم، إن شاء الله. حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الفاضل رئيس تحرير مجلة المنار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فلقد سرنا وسر المسلمين كثيرًا أن توليتم إصدار مجلة المنار بعد أن توقفت حينًا بوفاة منشئها المرحوم السيد محمد رشيد رضا، ولا مشاحة في أنه لا غنى للمسلمين عن هذه المجلة التي ناضلت أعظم نضال عن دين الله تعالى، وأزاحت عن وجهه المنير حجبًا كثيفة من بدع وخرافات وأوهام وجهالات وتقاليد وعادات لا تمت به بصلة قريبة أو بعيدة، وإعادة إصدارها على يد فضيلتكم جعلنا نرقب عودة ذلك العهد الذي ازدهرت فيه أيما ازدهار، فجزاكم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء. والآن أوجه نظر فضيلتكم إلى مسألة اجتماعية خطيرة أصاب منها المسلمين شر عظيم، تلك هي: علاقة الرجل بالمرأة؛ فلقد ترتب على جهل الكثيرين من كل من الجنسين حقوقه وواجباته قِبل الآخر أن وقعنا في هذه الفوضى التي كادت تقضي على كيان الأسر، وتوقع البلاد في شر مستطير. ومن لا يبكي ويتحسر عندما يرى بوجه عام الرجال يقضون أوقات فراغهم في المقاهي وفي غشيان أمكنة اللهو والفجور، وقد هجروا منازلهم فلا يكادون يعودون إليها إلا للنوم، والنساء وقد أطلقن لأنفسهن العنان في إبداء زينتهن للرجال الأجانب فلا حجاب ولا حياء، وقد نسين واجباتهن نحو أزواجهن وأولادهن وبيوتهن، وصار القول قولهن في كل شيء والأمر أمرهن، قد يكون لكثير من الرجال والنساء بعض العذر لجهلهم أوامر دينهم، خصوصًا وقد انتشرت بين الناس آراء وأفكار في علاقة الرجل بالمرأة صادرة عن الملحدين، ينكرها الدين ويمجها العقل السليم. فأنا أدعوكم باسم الدين أن تبينوا للناس في أول عدد يصدر من مجلة المنار الغراء واجبات كل من الرجل والمرأة قِبل الآخر، وحقوق كل منهما بيانًا تفصيليًّا لا لبس فيه ولا خفاء، وبذلك تكونون أصبتم غرضين، أحدهما وضع حد للملحدين من هذه الناحية الدقيقة والوقوف في تيار دعايتهم الذي كاد يجرف الأخلاق والدين، وثانيهما تعريف المستعدين للإصلاح بواجبات دينهم وإقامة الحجة على الآخرين. إن الأمر جد خطير، ومن أحق من فضيلتكم - وقد تصديتم للدعوة إلى الدين- من بيان أوامر الله ورسوله في علاقة كل من الرجل والمرأة بالآخر؛ فقد ضج العقلاء بالشكوى من هذه الحال ولا مجيب، واستفحل الداء ولا طبيب، وعسى أن يساعد هذا البيان العقول والقلوب على حل مشكلة إحجام الشبان عن الزواج، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... محمد المهدي ... ... ... موظف متقاعد - شارع مدرسة ولي العهد بالعباسية

احتجاب المنار

الكاتب: حسن البنا

_ احتجاب المنار تأخر صدور المنار عن موعده هذه الشهور الماضية لأسباب رسمية كانت بيننا وبين وزارة الداخلية المصرية، وقد زالت والحمد لله، وها هي المنار تعود إلى الظهور لتقوم بواجبها في ميدان الدفاع عن الإسلام الحنيف والدعوة إليه. ولغلوِّ الورق غلوًّا عظيمًا وصل إلى أكثر من الضعف، اضطررنا إلى جعل العدد ثمانٍ وأربعين صفحة بدلاً من ثمانين، ونحن نأسف لهذا أسفًا شديدًا، ولكن للضرورة حكمها. وسيصدر العدد التاسع - إن شاء الله - في أوائل شهر جمادى الأولى، والعاشر في أوائل جمادى الثانية بحول الله وقوته، وبذلك يتم المجلد الخامس والثلاثون ويبدأ السادس والثلاثون، والله الموفق والمستعان.

المنار منذ عشرين سنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار منذ عشرين سنة ربيع الآخر سنة 1339 دعوة عرب الجزيرة إلى الوحدة والاتفاق بقلم السيد محمد رشيد رضا رحمه الله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران: 103 - 105) . ثبت في القرآن المجيد ثم في التواريخ التي دونها علماء العرب وغيرهم من الأمم قديمًا وحديثًا ومن العاديات (الآثار القديمة) التي اكتشفت في أقطار مختلفة، أن العرب من أقدم أمم الأرض حضارة وعمرانًا ورسلاً وشرائع، حتى أنهم استعمروا أقدم البلاد مدنية كمصر وسورية والعراق، فلهم في حضارة الفراعنة والفينيقيين والكلدانيين العرق الراسخ، والمجد الشامخ، فإن لم تكن تلك الأمم فروعًا منهم، فلها وشائج أرحام مشتبكة بهم من قبل أن يمزجها الإسلام بهم في الدين واللغة والنسب بألوف السنين. فمن ذلك ما حكاه في القرآن المجيد عن قوم عاد {إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ} (الفجر: 7 - 8) كقول نبيهم هود في مبانيهم وقوتهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} (الشعراء: 128 - 130) وقوله في نسلهم وزرعهم وضرعهم: {أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (الشعراء: 133 - 134) وبيانه لهم أن هذه النعم يزيدها الرجوع إلى الله بالإيمان وترك المعاصي نماء وقوة {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} (هود: 52) وما حكاه عن ثمود وقول رسولهم صالح لهم في تذكيره بنعم الله عليهم: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هود: 61) ، وقوله: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ} (الشعراء: 146 - 149) وما قصه لنا عن سبأ في سورتها كجناتهم عن اليمين والشمال، واتصالها بالقرى المباركة في أرض الشام، ونظام السير المقدر بالأوقات، وحفظ الأمن فيها بالعدل والنظام، وذلك قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} (سبأ: 18) وناهيكم بقصة ملكتهم مع نبي الله سليمان، وكونها أوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك في ذلك الزمان، مع القوة والحكم بالشورى دون الاستبداد. ومن ذلك ما أثبته الذين اكتشفوا آثار الكلدانيين في العراق وشريعة ملكهم حمورابي، من كون شريعتهم عربية ودولتهم عربية، وهذا الملك كان يسمى ملك البِرّ والسلام، وفي سفر التكوين من أسفار التوراة أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - أعطاه العشور؛ إذ كان من رعيته، وأنه بارك إبراهيم، فدل هذا على أن إبراهيم - صلى الله عليه وعلى آله - كان عربيًّا أيضًا. ومن ذلك ما اكتشفه أحمد بك كمال العالم الأثري المصري من امتزاج اللغة المصرية القديمة (الهيروغليفية) باللغة العربية الدال على أحد أمرين: إما أن العرب وقدماء المصريين من عرق واحد، وإما أن العرب قد استعمروا مصر وحكموا فيها قبل دولة الرعاة العربية المعروف خبرها في تاريخ مصر، فكان للغتهم الأثر الخالد في لغتها. هذا إلماع تاريخي وجيز لمدنية العرب وقوتهم وعمرانهم في التاريخ القديم منذ ألوف السنين، وإن في لغتهم الغنية الراقية الواسعة دلائل أخرى على ذلك متعددة المناهج، واضحة المسالك. قد ضعفت الأمة العربية بعد تلك القوة، وبدت بعد تلك الحضارة، وخرب معظم بلادها بعد ذلك العمران، وغلبت عليها الأمية، وكادت تعمها الجاهلية {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ} (الحج: 45) {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود: 117) ومر على الضعف قرون وتعاقبت عليه أجيال، حتى ظن الظانون أن هذه الأمة هرمت وقاربت الزوال، فلا تقوم لها قائمة ولا يتجدد لها شباب. ثم جاء الإسلام فجمع شملها بعد فرقة وشتات، وألف بين قلوب قبائلها وأفرادها بعد عداوة تأرثت بها الأضغان، وتحكمت فيها الثارات، وأخرجها من ظلمات الجاهلية والأمية إلى نور العلم والحكمة والنظام والمدنية، وجعل لها المكانة الأولى بين أمم الأرض في السيادة والرياسة، والكلمة العليا في الحكم والسياسة، فورثت ملك القياصرة والأكاسرة في الشرق، وامتد سلطانها في القرن الأول من حدود الهند إلى المحيط الغربي وهو آخر ما كان يُعرف من اليابسة في الغرب، وأحيت في هذه الممالك الواسعة العلوم والفنون، ورقت الصناعة والزراعة، وسلكت السبل الجديدة للتجارة، فسادت شريعتها جميع الشرائع، وعلت لغتها جميع اللغات، وفاقت آدابها جميع الآداب. ولكن حظ جزيرتها من هذا العمران كان قليلاً، ثم دب إليها الخراب وعاد أكثر أهلها إلى البداوة والأمية والجاهلية أو ما يقرب منها، بل صاروا دون الجاهلية في بعض الصفات والمزايا حتى اللغة؛ فأنى لبدو الجزيرة وحضرها في هذا العصر بما يقرب من تلك الملكة العليا في الفصاحة والبلاغة، التي جعلت لكتاب الله المعجز تلك المكانة من عقولهم وقلوبهم، حتى إن كان أحدهم ليسمع السورة أو الآية منه فيخر ساجدًا، وتتحول عقائده وأخلاقه وعاداته بهدايته إلى ضدها. عاد أهل الجزيرة إلى جاهلية؛ يضرب بعضهم رقاب بعض، بعد أن ألف الإسلام بينهم فكانوا بنعمة الله إخوانًا، ويرتزق قويهم بسلب ضعيفهم، بعد أن كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وفرقوا دينهم فصاروا شيعًا تُكفِّر كل شيعة منهم الأخرى أو تُفَسقها بعد تلك الوحدة العظيمة، جاهلين أو غافلين عن قول ربهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} (الأنعام: 159) وما في معناه من الآيات والأحاديث. إن هداية القرآن هي التي جمعت كلمة العرب على ما كان من تفرقهم وتعاديهم في الجاهلية، وهي التي جعلتهم أئمة الأمم في العلم والحكم والآداب والعدل، في إثر إخراجهم من تلك الأمية، وما أصابهم ما أصابهم بعد ذلك من التفرق والتعادي والجهل والفقر إلا بتركها، ولن تعود إليهم تلك النعم إلا بعودهم إليها {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) ولكن وحي شياطين التفريق قد زين بزخرف القول لكل فريق أن كل شيعة تجمعها رابطة مذهب فإنما الواجب عليها أن تعمل بقول علمائه وحكامه، ولا يجوز لها أن تهتدي بكتاب الله وسنة رسوله وإن اختلفوا في الرأي وتنازعوا في الأمر، خلافًا لقوله - عز وجل -: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (النساء: 59) وشُبهتها على هذه المخالفة إلى الاهتداء بكتاب الله المنزل فتح لباب الاجتهاد المقفل، فاختلفوا في أصل الاهتداء بالكتاب الذي أنزله الله - تعالى - لإزالة الاختلاف. من غُص داوى بشرب الماء غصته ... فكيف يفعل من قد غُص بالماء إن الله - تعالى - أرسل رسله لهداية خلقه {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (البقرة: 213) فكيف يؤخذ بقول العلماء والأمراء الذين يبغى بعضهم على بعض فيما تنازعوا واختلفوا فيه من الأمر إذا لم يرجعوا إلى الأصل الجامع، ويحكموه في الخلاف الواقع، وهو يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) ثم يعلل ذلك تعليلاً بقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء: 59) أي أحسن عاقبة ومآلاً من كل ما عداه، فكيف لا يكون خيرًا من اتباع أهوائهم في تحكيم آرائهم والرد إلى أقوال زعمائهم وعلمائهم؟ على أن هذا الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله وذلك الاهتداء بهما لا يستلزمان الاجتهاد الأصولي المطلق الذي أقفلوا بابه؛ فقد كان عوام السلف الصالح مهتدين بهما ولم يكن كل واحد منهم إمامًا مجتهدًا في استنباط جميع الأحكام، كأئمتهم المشهورين وعلماء الأعلام. نعم إن الشيخ محمد عبد الوهاب قد جدد دعوة الدين في بقاع نجد، فرجع الألوف بها عما كانوا عليه من الجاهلية والشرك، وكادت تنتشر دعوته في جميع جزيرة العرب التي يتعذر إصلاحها وجمع كلمتها بغير الدين، ولو تم ذلك لتجدد أمر الإسلام في جميع أقطار المسلمين؛ ولكن حال دون ذلك فتنتان: (أولاهما) مقاومة السياسة لها، والأخرى غلو الكثير من القائمين بها، فالأولى إذاعة الساسة في العالم كله أن هذه دعوة ابتداع في الدين، والغلاة أيدوا هذه الإذاعة بما اشتهر عنهم من الغلو، ولا سيما تكفير من عداهم من المسلمين، ولهذه التهمة أصل، وقد بينا الحقيقة في هذه المسألة من قبل، وغرضنا من الإلمام بذكرها الآن بيان استعداد العرب للصلاح والإصلاح بدعوة الإيمان إذا قام بها من يدعو إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما أمر القرآن، وتذكير الغلاة من المتدينة بأن لا يغلوا في دينهم، ولا يقولوا على الله إلا الحق، ولا يُحرِّموا ما لم يُحرِّم الله ورسوله بالنص أو اقتضاء النص، وأن يعذروا كل مخالف لهداية الدين بالتأول أو الجهل، ويعتمدوا في بث الدعوة على نشر العلم والعمل به على قاعدة {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: 185) وأن لا يكفروا أحدًا من أهل القبلة بذنب، وأن يفرقوا بين الكفر بشيء مما يجب الإيمان به عن جهل - وإن عدَّ بعضه الفقهاء كفرًا وردة - وكفر العناد وتكذيب الرسول الذي كان عليه مشركو الجاهلية في زمن البعثة، فإذا علموا هذا وعملوا به لا تلبث الدعوة أن تعم الجزيرة وغيرها، ويسقط كل من يعارضها حرصًا على الزعامة وحب الرياسة. هذا، وإن لما أصاب الجزيرة من الشقاق والشقاء سببًا أصيلاً - وراء الخلاف الديني - للبغي، وهو حب الرياسة وعلو بعض الزعماء على بعض، وسببين عارضين: وهما الجهل والفقر، وإزالة السببين العارضين من الأمور الكسبية القريبة ا

المرأة المسلمة ـ 1

الكاتب: حسن البنا

_ المرأة المسلمة كتب إليَّ كاتب فاضل يطلب أن أكتب عن المرأة وموقفها من الرجل، وموقف الرجل منها، ورأي الإسلام في ذلك، وحث الناس على التمسك به والنزول على حكمه. لست أجهل أهمية الكتابة في موضوع كهذا، ولا أهمية انتظام شأن المرأة في الأمة، فالمرأة نصف الشعب، بل هي النصف الذي يؤثر في حياته أبلغ التأثير؛ لأنه المدرسة الأولى التي تكون الأجيال وتصوغ الناشئة، وعلى الصورة التي يتلقاها الطفل من أمه يتوقف مصير الشعب واتجاه الأمة، وهي بعد ذلك المؤثر الأول في حياة الشباب والرجال على السواء. لست أجهل كل هذا، ولم يهمله الإسلام الحنيف وهو الذي جاء نورًا وهدى للناس، ينظم لهم كل شئون الحياة على أدق النظم وأفضل القواعد والنواميس، أجل لم يهمل الإسلام كل هذا، ولم يدع الناس يهيمون فيه في كل واد، بل بيَّن لهم الأمر بيانًا لا يدع زيادة لمستزيد. وليس المهم في الحقيقة أن نعرف رأي الإسلام في المرأة والرجل وعلاقتهما وواجب كل منهما نحو الآخر، فذلك أمر يكاد يكون معروفًا لكل الناس؛ ولكن المهم أن نسأل أنفسنا، هل نحن مستعدون للنزول على حكم الإسلام؟ الواقع أن هذه البلاد وغيرها من البلاد الإسلامية تتغشاها موجة ثائرة قاسية من حب التقليد الأوربي والانغماس فيه إلى الأذقان. ولا يكفي بعض الناس أن ينغمسوا هذا الانغماس في التقليد، بل هم يحاولون أن يخدعوا أنفسهم بأن يديروا أحكام الإسلام وفق هذه الأهواء الغربية والنظم الأوروبية، ويستغلوا سماحة هذا الدين ومرونة أحكامه استغلالاً سيئًا يخرجها عن صورتها الإسلامية إخراجًا كاملاً، ويجعلها نظمًا أخرى لا تتصل به بحال من الأحوال، ويهملون كل الإهمال روح التشريع الإسلامي وكثيرًا من النصوص التي لا تتفق مع أهوائهم. هذا خطر مضاعف في الحقيقة، فهم لم يكفهم أن يخالفوا حتى جاءوا يتلمسون المخارج القانونية لهذه المخالفة، ويصبغوها بصبغة الحِلّ والجواز، حتى لا يتوبوا منها ولا يقلعوا عنها يومًا من الأيام. فالمهم الآن أن ننظر إلى الأحكام الإسلامية نظرًا خاليًا من الهوى، وأن نعد أنفسنا ونهيئها لقبول أوامر الله - تعالى - ونواهيه، وبخاصة في هذا الأمر الذي يعتبر أساسيًّا وحيويًّا في نهضتنا الحاضرة. وعلى هذا الأساس لا بأس بأن نذكر الناس بما عرفوا وبما يجب أن يعرفوا من أحكام الإسلام في هذه الناحية. أولاً: الإسلام يرفع قيمة المرأة ويجعلها شريكة الرجل في الحقوق والواجبات، وهذه قضية مفروغ منها تقريبًا؛ فالإسلام قد أعلى منزلة المرأة ورفع قيمتها، واعتبرها أختًا للرجل وشريكة له في حياته، هي منه وهو منها: {بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ} (آل عمران: 195) وقد اعترف الإسلام للمرأة بحقوقها الشخصية كاملة، وبحقوقها المدنية كاملة كذلك، وبحقوقها السياسية كاملة أيضًا، وعاملها على أنها إنسان كامل الإنسانية له حق وعليه واجب، يُشكر إذا أدى واجباته، ويجب أن تصل إليه حقوقه، والقرآن والأحاديث فياضة بالنصوص التي تؤكد هذا المعنى وتوضحه. ثانيًا: التفريق بين الرجل والمرأة في الحقوق إنما جاء تبعًا لفوارق الطبيعة التي لا مناص منها بين الرجل والمرآة، وتبعًا لاختلاف المهمة التي يقوم بها كل منهما وصيانة للحقوق الممنوحة لكليهما. وقد يقال: إن الإسلام فرق بين الرجل والمرأة في كثير من الظروف والأحوال ولم يسوِّ بينهما تسوية كاملة، وذلك صحيح؛ ولكنه من جانب آخر يجب أن يلاحظ أنه إن انتقص من حق المرأة شيئًا في ناحية فإنه قد عوضها خيرًا منه في ناحية أخرى، أو يكون هذا الانتقاص لفائدتها وخيرها قبل أن يكون لشيء آخر، وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن تكوين المرأة الجسماني والروحي كتكوين الرجل سواء بسواء؟ وهل يستطيع أحد - كائنًا من كان - أن يدعي أن الدور الذي يجب أن تقوم به المرأة في الحياة هو الدور الذي يجب أن يقوم به الرجل ما دمنا نؤمن بأن هناك أمومة وأبوة؟ أعتقد أن الكونين مختلفين، وأن المهمتين مختلفتين كذلك، وأن هذا الاختلاف لابد أن يستتبع اختلافًا في نظم الحياة المتصلة بكل منهما، وهذا هو سر ما جاء في الإسلام من فوارق بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات. ثالثًا: بين المرأة والرجل تجاذب فطري قوي هو الأساس الأول للعلاقة بينهما، وإن الغاية منه قبل أن تكون المتعة وما إليها هي التعاون على حفظ النوع واحتمال متاعب الحياة. وقد أشار الإسلام إلى هذا الميل النفساني وزكاه، وصرفه عن المعنى الحيواني أجمل الصرف إلى معنى روحي يعظم غايته ويوضح المقصود منه، ويسمو به عن صورة الاستمتاع البحت إلى صورة التعاون التام، ولنسمع قول الله- تبارك وتعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21) . وعلى ضوء هذه الأصول الثابتة ننظر إلى ما وضع الإسلام من نظم وطرائق. ... ... ... حسن البنا ((يتبع بمقال تالٍ))

خطيئة آدم

الكاتب: حسن البنا

_ خطيئة آدم حضرة المحترم رئيس تحرير المنار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ... فأرجو التكرم بإيضاح معنى خطيئة آدم عليه السلام، وكيف يوسوس إليه الشيطان؟ وكيف يتفق ذلك مع العصمة؟ مع بيان توبته، وهل ما يقال من أنه أمر في الباطن ونهي في الظاهر صحيح؟ وهل جاءت هذه القصة في القرآن على سبيل التمثيل كما قال بعض المفسرين؟ وما معنى التمثيل عند من يقول به؟ أفيدونا، أثابكم الله، وغفر لنا ولكم. ... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود عسكر ... ... ... ... ... ... ... ... معلم بملجأ بنها قليوبية والجواب، والله أعلم: قص الله علينا في القرآن الكريم قصة آدم - عليه السلام - وأنه خلقه وسواه ونفخ فيه من روحه، وأسكنه هو وزوجته الجنة، ثم أمره ألا يأكل من الشجرة {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) فوسوس لهما الشيطان وخدعهما وأقسم لهما إنه لمن الناصحين، فاغترا بنصيحته، ونسي آدم ما عهد به إليه ربه، فأكلا من الشجرة - مع تحذير الله إياه من إبليس وجنوده - ثم علما ما كان من أمرهما فندما، وألهمها الله - تبارك وتعالى - صيغة التوبة، فقالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) فقبل الله توبتهما، ولم يؤاخذهما على هذا العصيان إلا بأن أنزلهما إلى الأرض حيث استعمراها ونسلا فيها، واستمرت الحرب سجالاً بين ذريتهما وبين الشيطان إلى يوم يبعثون؛ فمن تبع الشيطان فهو من الآثمين المعذبين، ومن حذره وخالفه فهو من المهتدين الناجين، وسيبرأ هذا الشيطان من أتباعه يوم الدين، ويكون بينه وبينهم ما قصَّه الله علينا من نبأه في سورة إبراهيم. {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} (إبراهيم: 22 - 23) . هذا مجمل ما قصه الله علينا في القرآن الكريم في مواضع عدة، ومنه تعلم: (1) أن خطيئة آدم - عليه السلام - هي حسن ظنه بوسوسة إبليس حتى أكل من الشجرة. (2) وأن توبته إنما كانت بإلهام الله - تبارك وتعالى - إياه أن يدعوه بما جاء في الآية الكريمة في سورة الأعراف: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، وقد كان عن هذه التوبة أن غفر الله له وتاب عليه، كما قال - تبارك وتعالى -: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه: 122) . أما كيف يوسوس له إبليس؟ فذلك لأن قبول النفس البشرية للوسوسة أمر جِبِلِّيّ خِلقي فيها، والوسوسة تصل إلى النفس الإنسانية وإن كان الشيطان بعيدًا عنها كما يصل الصوت البعيد على تموجات الهواء أو ما هو أرق منه؛ ولهذا لا تقدح الوسوسة نفسها في العصمة، فكل بني آدم قابلون لها معرضون إليها بأصل الخلقة، وإنما يعصم عن ذلك من عُصم منهم برعاية إلهية وحفظ رباني من الله - تبارك وتعالى - مع حسن الاحتراز ودوام اليقظة والبصر، وسد مداخل الشيطان إلى القلب وتضييق مجاريه، وشغل القلب بذكر الله - تبارك وتعالى - {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء: 65) . على أنه قد ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولا مانع من أن يكون إبليس قد دخل الجنة بعد أن طُرد منها، مخالفًا بهذا الدخول أمر الله - تبارك وتعالى - عاصيًا له، وما زال يزين له الأكل من الشجرة (ويفتله في الذروة والغارب، ويمنيه بمعسول الأماني، ويرفؤه بالقول اللين حتى تمكن من نفسه، وأنساه أنه عدوه الذي حذره الله منه أشد الحذر) . وأما كيف يعصي آدم وهو نبي، والأنبياء معصومون من الوقوع في الذنوب؟ فقد أجاب كثير من الناس عن ذلك بوجوه: الأول - أن يكون ذلك منه على سبيل النسيان، وسمي خطيئة أو معصية وغواية لعلو منزلته، وعظيم تقريب الله إياه وكبير فضله عليه، وكلما قرب العبد من ربه وعلت منزلته كلما كان ذلك أدعى إلى اليقظة وتمام التذكر والانتباه. وقد صرحت الآية بلفظ النسيان، ويؤيد هذا قراءة {فَنُسِّيَ} (طه: 115) بالتشديد على أن المراد فأنساه إبليس أمر الله - تبارك وتعالى. وبهذا قال بعض المفسرين، وإن كان الجمهور على أن " نسي " هنا بمعنى ترك لا بمعنى سها. والثاني - أنه تأول فيما فعل بأنه فهم أن المراد بالأمر والنهي الإرشاد فقط لا الإلزام، كما حمل الفقهاء الأمر بكتابة الدين على أنه أمر إرشاد لا أمر إيجاب ولا إثم في تركه، ويرد على هذا تصريح القرآن بالظلم المترتب على قربان الشجرة في الآية الكريمة {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: 35) . والثالث - أن ما حصل من الذنب صغيرة. ويرد على هذا أن القول بعدم عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الصغائر قول مرجوح، ويرد عليه كذلك تصريح القرآن الكريم بأن هذه المخالفة عصيان وغواية ترتب عليها عقاب وتوبة وإخراج من الجنة. والرابع - أن ذلك كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية. وإلى هذا ذهب أبو بكر بن فورك، قال: بدليل ما في آيات (طه) من ذكر المعصية قبل ذكر الاجتباء والهداية. وهو كلام حسن؛ لولا أن ورود الأمر والنهي من الله - تبارك وتعالى - لآدم بدون واسطة من أمارات النبوة ودلائلها، وقد كان ذلك قبل الأكل قطعًا، ومن جهة أخرى فإن النفس أمْيَل إلى أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - معصومون من المعصية على كل حال، وإن لم يكن ذلك رأي جمهور علماء العقائد وإن لم ينعقد الإجماع إلا على العصمة بعد النبوة. والخامس - أن الله - تبارك وتعالى - أمر آدم بعدم الأكل من شجرة وأراه إياها، فظن آدم أنه منهي عن هذه الشجرة بعينها لا بجنسها، فأكل من شجرة أخرى من جنسها ولم يأكل من التي انصبَّ عليها النهي بالذات، وهذا تأويل حسن وإن كان عليه مسحة التحايل. وهناك تصوير تطمئن إليه النفس، وذلك أن يقال إن حقيقة المعصية مخالفة أمر الله - تبارك وتعالى - قصدًا، وحقيقة الطاعة هي امتثال أمر الله - تبارك وتعالى - قصدًا كذلك، فمناط المؤاخذة أو المثوبة في الطاعة والمعصية النية والقصد، مصداق قوله - تبارك وتعالى -: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: 37) . ولا شك أن آدم - عليه السلام - حين أكل من الشجرة لم يكن يضمر معنى المخالفة ولم يكن يسر العصيان، بل لعله كان يتحرى بذلك المبالغة في طاعة الله - تبارك وتعالى - بأنه سيصير ملكًا خالدًا دائم الطاعة والعبادة لربه، وقد خدعه قسم إبليس له، فآخذه الله بهذا الانخداع مع سابق التحذير، وإلى هذا المعنى أشار ابن قتيبة، فقال: أكل إبليس من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخداعه إياه، والقسم له بالله إنه لمن الناصحين، حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذلك عن اعتقاد متقدم ونية صحيحة، ويؤيد ذلك أن آدم لم يتفطن إلى أنه أخطأ إلا بعد أن عاتبه ربه، كما قالت الآية الكريمة: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأعراف: 22) ، وحينئذ ألهمهما التوبة فجأرا إلى الله - تبارك وتعالى -: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: 23) ، وهذا المعنى واضح مفهوم في سياق الآيات كلها تقريبًا. وقد آخذه الله على هذا التأثر بوسوسة الشيطان وخداعه مؤاخذة شديدة حتى تاب عليه، على حد القاعدة المعروفة حسنات الأبرار سيئات المقربين. وما يقال من أنه أمر في الباطن ونهي في الظاهر كلام مردود، ولا دليل عليه، والأخذ به هدم للتكليف في الحقيقة، وقد جاء في كلام بعض الصوفية شيء من هذا في التفريق بين معصية الولي والفاسق، وأفضل ما قالوه في ذلك أن الولي لا يقصد المعصية ولا يفرح بها ولا يُصر عليها، وهذا كلام لا غبار عليه، وأما ما زاد عليه فغلو لم يقم عليه دليل. وأما القول بأن هذه القصة وردت في القرآن الكريم على سبيل التمثيل، فهو قول مردود كذلك، والآيات الكريمة صريحة فيما وردت له لا تحتمل التأويل، وإذا جاز لنا أن نتأول هذه الآيات مع صراحتها ووضوحها، فقد صار ذلك ذريعة للخروج بالقرآن كله عن معانيه الواضحة، وهذا مذهب لا يدع من نحلة الباطنية شيئًا، وليس هناك ما يقتضي العدول عن الظاهر. وقد ادعى بعض المتعلمين الذين تشربت نفوسهم المعارف والعلوم الإفرنجية، أن ظاهر هذه الآيات يصطدم بالنظريات العلمية الحديثة التي جاء بها (دارون) وأمثاله من علماء الحيوان والبحث في أصل الأنواع، وهذا كلام لا تدقيق فيه، ودعوى لا صحة لها؛ فإن دارون نفسه لم يدَّع أن الإنسان فرع عن غيره من الحيوان، سواء أكان هذا الحيوان قردًا أم غيره. كان دارون يدرك تمام الإدراك أن نظريته لا تفسر وجود الأنواع تفسيرًا نهائيًّا يُثلج الصدر، ويعترف بأن هناك عوامل خفية لا يعرفها اشتركت مع ناموس الانتخاب الطبيعي في تنويع الأحياء؛ فقد قال في كتابه أصل الأنواع: (أنا مقتنع بأن ناموس الانتخاب الطبيعي كان العامل الرئيسي لحدوث التنوعات في الأنواع؛ ولكنه لم يكن العامل الوحيد في إحداث ذلك التغير) فهو هنا يشير إلى أمرين هامين: الأول أن ناموس الانتخاب الطبيعي في رأيه السبب الرئيسي لحدوث التنوعات في الأنواع لا في حدوث الأنواع نفسها، والثاني أنه ليس الناموس الوحيد في ذلك. وقد كتب دارون إلى المستر هيات يقول له: (اسمح لي بأن أضيف إلى هذا بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان أصل الأنواع) فأين هذا من غلو قليلي العقول من جامدي مقلدة الفرنجة؟ على أن هذا ليس كل ما في الأمر؛ فقد هبَّ كثير من العلماء الغربيين يخطئون نظرية دارون تخطئة تامة وينتقضونها من أساسها، ويؤلفون في ذلك الكتب الضافية، ويدللون على ذلك بأدلة علمية يعتقدون صحتها كل الاعتقاد، وإليك بعض الشواهد من كلام هؤلاء الناس أنفسهم: (1) قال الأستاذ فون باير الألماني، وهو من أقطاب الفزيولوجيين والحفريين والبيولوجيين وأستاذ علم الأميريولوجيا (علم الأجنة) في كتاب أسماه (دحض المذهب الداروني) بالنص: (إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من القردة السبماتية هو بلا شك أدخل رأي في الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان، وجدير بأن ينقل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد، يستحيل أن يقوم دليل هذا الرأي) . (2) وقال الأستاذ

في محيط الدعوات ـ 2

الكاتب: محمد الغزالي

_ في محيط الدعوات (2) الكمال المزعوم - المذاهب العلمية السائدة - تقليد أعمى ولأمر ما وقف تقدم الإسلام، وانحصر النور الإلهي الكريم بين أقوام لا يقدرونه، ونام المسلمون في النور واستيقظ غيرهم في الظلام، ولم يكن بد لغير المسلمين من التفكير في قواعد تصح عليها أمورهم بعد أن اتضح قصور الأديان الباطلة وعدم غنائها في هذه الشئون، وبعد أن عجزت أيدي المسلمين عن التلويح بالضياء الهادي ليسترشد على شعاعه المدلجون الشاردون، وابتدأ التفكير الإنساني يخبط في تفهم الحقائق العليا ومدارج ارتقاء النفس، فخلق المجال خلقًا للفلسفة العملية، وصحيح أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى ينحدر تاريخ الفلسفة وينبت جذع الشجرة التي تطل الآن علينا فروعها. وحقًّا أنه إلى غير مواطن النبوات الأولى يمتد جذر الشجرة الفارعة، شجرة الفلسفة الحرة التي تظلل فروعها اليوم أكثر بقاع العالم، وسواء أكانت هذه الأغصان لعوسجة غليظة مؤذية أم لدوحة مورقة فينانة، فإن ما ينبغي أن نطمئن إليه هو قلة احتمال البشر قديمًا بتطبيق شيء مما وصلت إليه الفلسفة البعيدة عن روح الأديان تطبيقًا عامًّا شاملاً، بينما نجد اليوم - كأثر حقيقي لوقوف الإسلام في حدود أوطانه - أن بعض الآثار الفلسفية قد وجدت من الأشياع من يخلصون لها ويجاهدون لتحقيقها، ويؤسسون لها الحكومات القوية، وينادون بوجوب سيادتها في أنحاء العالمين، تلك المبادئ - وأكثرها نبت في أودية أوربا المقفرة إلا من أشواك الوثنية المسيحية - لها شأن عجيب؛ ذلك أنها ظهرت في بيئات أشد ما تكون حاجة إلى الحرية والانطلاق، وأبعد ما تكون تأثرًا بما عدا ذلك، فهي تسعى وراء ما تشعر بأن فيه طمأنينتها وسعادتها، وقلما يعنيها بعدئذ أن يوصف ما تظفر به بأنه حق أو باطل، منكر أو مألوف، إيمان أو إلحاد، وليس من شك في أن النضال الدموي المروع الذي سوَّد وجه أوربا عصورًا، له أثر بعيد في هذه الحالة. وفي هوجاء هذه الفتن الخبيثة، وفي مهب أعاصيرها التي لا تكاد إلى اليوم تهدأ لها ثائرة أو تؤمَن لها غائلة، قامت الماسونية والشيوعية والاشتراكية والديمقراطية.... . وغير ذلك، ومن ثم نادى أقوام - ممن ذاقوا مرارة الخصام بين المذاهب المختلفة - بوجوب الإخاء بين جميع المذاهب، أو لو كان إخاء بين الحق والباطل؟ هذا شيء لا يفكر فيه الماسون، وصاح أقوام ممن عضتهم البأساء والضراء بوجوب تقسيم كل شيء على الأمة، أو لو كان في ذلك الفوضى والإباحية؟ هذا شيء يستسيغه الشيوعيون. وكذلك أسس الفاشيون نظام النقابات أو دولة العمال، ووضع الديمقراطيون قواعد الحريات العامة للناس؛ كما يقولون. ولكن هل هناك غاية يخدع بريقها المسلم في ثنايا هذا الغموض والإيهام؟ كلا، إنما هو تهريج عالمي تمخض عنه حجاج العقل الإنساني أثناء شروده وجحوده، ولا ريب أن توفير حاجات الجسد مما تنادي به الضرورة، وتكثير أسباب المتع مما تتطلع إليه الرفاهية، ثم إشباع مطامع بعض النفوس الجياشة بحب التزعم، ثم ذلك التعاون في أي أشكاله بين شتى العناصر لنيل خير حياة دنيوية ممكنة، لا ريب أن كل هذا هو لباب المذاهب المتكبرة السائدة هناك، والتي تحاول أن تغزو ميادين الشرق المريض، بل إنها وجدت فعلاً طريقها إلى بعض النفوس المنحلة في هذه الديار، ولا عجب أن تلقى بعض النجاح المؤقت إذا كانت قد دعمتها الدراسات المجردة للفلسفة النفسية والخلقية، هذه الفلسفة التي ادعاها علماء تحرورا من قيود الأديان هزيلها وخطيرها، واستقامت آراءهم على أسس من تفكيرهم الخاص و (عقولهم الباطنة) أو الباطلة. وسنناقش الآن - في إيجاز - أهم المسائل التي قررت في علم النفس كمنهج للسلوك البشرى الفاضل، ثم نقفي على إثر ذلك بتحليل كامل للمقاييس الخلقية الموضوعة؛ إذ إن سر الحياة التي تسود اليوم كثيرًا من الطبقات الدعية في كل شيء إنما يرتد إلى هذه المناهج المصنوعة، وسوف تقر أعين المؤمنين إلى أن الإٍسلام وحده منهج الحق الواضح، وأنه بحسب المسلم الاعتصام بدينه ليستوى على صراط تندق دونه أعناق الشياطين {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} (الشورى: 53) . يرى علماء النفس أنه لكيما يستقيم سلوك الإنسان على نهج واضح ينبغي أن تكتمل عواطفه ثم تدور كلها في فلك، محوره (احترام الذات) تخضع فيه استعداداته الموروثة والمكتسبة إلى كل ما يسمو بكرامته كإنسان كامل، وعبارة الإنسانية الكاملة وضعها أناس ينظرون للحياة خلال عدسة سفسطائية تسخر من الحقائق، وما دمنا قد وصلنا إلى اعتبار الرأي الشخصي وتقريره أساسًا حرًّا لاكتساب الإنسانية الكاملة، فقد تنكبنا الحق وفقدنا معه الخير المنشود؛ ذلك أن من الناس من يقوِّم ذاته على أساس اعتناقها مبدءًا ديكتاتوريًّا، ومنهم من يقومها على أساس اعتناقها مبدءًا ديمقراطيًّا وكلا الرجلين قد حشد استعداداته الموروثة والمكتسبة لخدمة مذهبة وركزها عند غاية واحدة، وارتضى أن يموت دونها، فهل معنى هذا أن كليهما ظفر بالكمال الإنساني المزعوم، مع ما في نظريتهما إلى الدنيا من تناقض يؤكد بينهما الخصام، بل ينشب بينهما القتال. على أن لنا نحن المسلمين ما نلاحظه على هذه القضية النفسية التي تريد أن تخلق من أنانية الفرد مذهبًا عامًّا؛ فإن المسلم الذي محق ذاته في ذات الله ووزن نفسه بنصيبها من دينه يجب أن ينمي عواطفه كلها، ثم يسيرها في نظام يبتدئ وينتهي عند تمجيد الله، أما ما يقرر لنفسه هو من احترام وتزكية فهو فضل الله يضفيه على من شاء، والمسلم الذي يستشعر في قرارة نفسه كل معاني العبودية لمولاه العلي لا يأذن أبدًا لهذه النفس أن ينسب إليها مجدًا ويُشار إليها بأي ضرب من ضروب الكبر المفتعل، ونحن نحارب بهذا أناسًا معينين، فيهم الكافر وفيهم المؤمن المدخول العقيدة. أولئك قوم زعموا أن السمو بالنفس الإنسانية مستطاع في غير جوار الله، مستطاع في ظلال هذه العواطف المكتملة، فذهبوا يتلمسون الكمال المنشود في مبادئ يتوارث الناس احترامها وإكبار أصحابها، حتى إذا اصطبغت نفوسهم بما وهموه من فضل ومجد راحوا يقررون لها حقوقًا من التوقير والإعظام، وكان لزامًا على الناس أن يتقدموا إليهم بها، ثم يستقر هذا الضلال المبين، فإذا المفتونون أبعد ما يكونون عن الله، وإذا هم - على ما بهم من ثقة واعتداد - لا يقيم لهم الدين أي وزن، ولا ينزلهم أبدًا إلا في أمكنتهم من الرغام. لهؤلاء وأضرابهم نوع من السلطان المادي والمعنوي في هذه البلاد، وهم - كأقرانهم من الصابئة الغربية - ممثلو الحملة على الأديان ورسالتها الكريمة في الحياة، وإذا كان ضجيج القوم قد تعالى هنا وهناك وترددت أصواتهم في أنحاء كثيرة، فما تعدو هذه الصيحات في قيمتها نقيق الضفادع، وربما أطفأت أنفاسهم اللاهثة شموع الكنائس، ولكنهم - ولو استحالوا عواصف - لن يطفئوا للإسلام مشعلاً {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (الصف: 8) . ولا عجب، فالأمور التي توضع ألغامًا في بنيان المسيحية المتداعي لا يمكن مطلقًا أن تشعر بها دعائم الإسلام المكينة، وإذا كان صابئة الغرب قد قالوا ما قالوا فردد المقلدون الحمقى هنا ما قالوا من نظريات انفصال الدين عن السياسة وعن العلم وخرافة تآخي الأديان أو الدين لله والوطن للجميع، فإن مصير الفريقين سيختلف حتمًا، وهزيمة المسيحية هناك هي هزيمة الصابئة هنا تمامًا، ولقد أدرك المسلمون حقيقة دينهم غير منقوصة، وعلموا أن دينهم كما أنه هو دين النفس هو دين الدولة، بل إن الإسلام لم يتجه للفرد من حيث أنه (شخصية مستقلة منعزلة) وإنما اتجه إليه من حيث أنه (وحدة من مجموعة مؤلفة متناسقة) وإلى هذا يرجع السر في أن الخطاب الإلهي يرد دائمًا بطريق الجمع لا الإفراد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} (الحج: 77 - 78) ثم كيف يكون بين الإسلام وبين العلم عداء والعلم نفسه لم يصل إلى الدرجة التي بلغها من التقدم إلا في جو إسلامي خالص، إن العلم الطبيعي يعتمد على عنصرين خطيرين في جميع بحوثه وكشوفه هم الملاحظة والاستنتاج، وليس يوجد في الدنيا كتاب أوصى بالتدبر في ملكوت الله الرحيب واستطلاع بدائعه واستكناه روائعه كما أوصى القرآن {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} (الذاريات: 20 - 21) . ومهما أظهر المغرضون من عطف ماكر على استقلال العلم، فإنهم لن ينالوا من الإسلام أي نيل، كذلك ضل من يزعم أن الوطن ليس لله، أي غباوة هذه تحاول أن تنسب الشيء لغير صاحبه، بل لغير خالقه {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} (الأعراف: 128) {وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} (البقرة: 115) ولقد مهد هؤلاء لهذا الخطأ الفاضح بكلمة لم يفهموها، الدين لله حقًّا، ولكن ماذا بقي لله على زعمهم إذا كان للأوطان أول ما في الفؤاد وآخر ما في الفم؟ ! ماذا بقي لخالق الفؤاد وما يجول فيه، ولخالق اللسان وما ينطق به؟ ! كلا، الدين لله والوطن لله، ومصر ومن عليها فدى للإسلام وحده، و {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ} (النحل: 60) . إن الشيء الذي يبوء بأشد معاني الاحتقار والذي نجعله محيط عداوتنا الدائمة، هو هذا الضلال الوقح الذي يحاول - في غير ما حياء - أن ينتظم الإسلام - وهو دين الله الكريم - والمسيحية واليهودية في سلك واحد، فكيف يرتفع مبدأ من المبادئ ليضم إلى أحضانه هذه الأديان المختلفة المتئاخية (كذا) ويجمعها في صعيد واحد؟ ! حدث مرة أن كنت أتصفح إحدى المجلات الأسبوعية، فعثرت على تصريح سكرتير الماسون الأعظم - وهو رجل مسلم كما يشير إلى ذلك اسمه - قال: (إن قراراتهم التي تذاع لا يراد بها إلا خير المجتمع من الناحيتين الإنسانية والاجتماعية، دون تعرض للسياسة ولا للدين) ونحن نتساءل: كيف يجوز لمسلم أن يلقي كلامًا أو يصدر أعمالاً بعيدًا عن دينه وعن رعاية قيوده وحدوده كلها، إلا أن يكون مسلمًا يجهل الإسلام، أو منافقًا يبرأ منه دين الله؟ ! ونحن نتساءل كذلك: أي إخاء عجيب أوى إلى سلامه ووئامه أعضاء المحفل الماسوني المكرمين وفيهم أحد موظفي الأزهر وأحد أعيان اليهود؟ ! إنه إخاء فرض نفسه على حساب نكبة أحدهما في عقيدته، أو على الأصح على حساب تنازل المسلم عن دينه جملة. هناك ما لا يقل خطرًا عن الماسونية العالمية مسخًا للإيمان وتلويثًا للنفس المؤمنة وهبوطًا بمستواها الذي ينبغي أن تحتفظ به، ومن أمثلة ذلك جميع المبادئ التي تحمل لقبًا عالميًّا؛ فالرياضة العالمية، والثقافة العالمية، والديمقراطية العالمية، والأدب العالمي، والفن العالمي، والتمثيل العالمي.... إلخ مما يسير في ظلال معنى الإخاء الإنساني ووحدة البشرية، والكلمات التي أجاد الأوربيون صناعتها ودسها محترفو الاستعمار بيننا؛ لينالوا بها ما لا تناله مناش

براءة من القاديانية

الكاتب: حسن البنا

_ براءة من القاديانية كتبنا في الأعداد السابقة في فتاوى المنار عما وصل إلى علمنا عن طالبين ألبانيين أحمديين ينتسبان إلى القسم العام بالأزهر، وقلنا: إن من واجب المشيخة أن تتحرى أمرهما وأن تبادر بفصلهما؛ حتى لا تسري منهما عدوى الفكرة الخاطئة إلى غيرهما من الطلاب. ويسرنا الآن أن نقول: إن زميلتنا (الفتح) الغراء قد نشرت براءة لهذين الطالبين من المذهب القادياني، صرحا فيها بتوبتهما توبة نصوحًا ورجوعهما إلى عقيدة الإسلام الصحيحة، وبراءتهما كل البراءة من المذهب الأحمدي بقسميه اللاهوري والقادياني معًا. ولقد كان لأخينا الداعية المسلم الموفق محمد أفندي توفيق أحمد في إقناعها أثر صالح، فجزاه الله خيرًا. وسننشر نص هذه البراءة في العدد القادم، إن شاء الله.

الشيخ محمد عبده ـ 2

الكاتب: عبد الحفيظ أبو السعود

_ الشيخ محمد عبده [*] (2) عهد الطفولة في عام 1266 الهجري، الموافق 1849 الميلادي، نزل إلى الوجود مولود جديد، ارتفعت صيحاته وصرخاته معلنة قدومه إلى عالم الدنيا، ومبشرة باندراجه في صفوف الناس. ونفذت هذه الصيحات إلى مسامع الناس من أهل القرية فتناقلوا الخبر، وجاء الريفيون من هنا وهناك يهنئون الشيخ الوقور (عبده بن حسن خير الله) بهذا المولود الجديد، الذي أنار هذه القرية الصغيرة من قرى مديرية الغربية - كما يقولون - ويتمنون له من كل قلوبهم السعادة والهناءة؛ فهم يحبون هذا الوالد الكريم، الذي لا يعرف كرمه البخل، ولا يشوبه الحرص والشح، وكم كان تفاؤلهم عظيمًا عندما علموا أن اسمه (محمد) ؛ فهذا هو الاسم الحبيب لدى كل مسلم، والعزيز عند كل مؤمن، فخير الأسماء ما عُبد وحُمد. وامتلأت نفس الشيخ غبطة وهناءة وسرورًا، وراح يدعو الله أن ينظر إليه ويوفق وليده إلى خير السبيل وأقوم الطرق، وأن يجعل هذا الرضيع سيفًا من سيوفه المصلتة، ووليًّا من أوليائه المقربين، ناصراً للحق وأهله، خاذلاً للباطل وأعوانه. وذكر حينذاك كيف خرج هاربًا من قريته فرارًا من ظلم الحكام الأتراك واستبدادهم في مديرية البحيرة أواخر حكم محمد علي باشا الكبير، فعلت وجهه كهومة واكفهرارًا، وأنكر نفسه؛ إذ أنه تركي الأصل، نزلت أسرته بأرض البحيرة واستوطنتها حتى انطبعت بطابع الفلاحين المصريين، وأصبحت وكأنها منهم الجزء الذي لا يتجزأ، والصنو الذي لا يختلف عن صنوه، فكيف إذن يناله الظلم ممن يمت إليهم بصلة، ويرتبط بهم بوشيجة؟ هذا لعمر الله غريب وعجيب! ولكنه سرعان ما استبشر وانفرجت أسارير وجهه؛ إذ تذكر حرصه الشديد على أن يكون له نسل قوي سليم، وذرية صالحة تحمل اسمه مع الزمان، وولد يخلد اسمه في سجل الخالدين، ويكون له نعم الخلف ونعم الذكرى، فتمنى لو اتصل حبله بفتاة لها من المزايا الجميلة والصفات الحميدة ما يكون خليقًا أن ينحدر إلى ذلك المولود الجديد الذي ينحدر من أصلابه. (يتبع) ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ أبو السعود

انتقاد المنار

الكاتب: حسن البنا

_ انتقاد المنار حول ما نُشر في آيات الصفات وأحاديثها أيضًا جاءنا هذا الخطاب بتوقيع مبهم، ونحن نتسامح بنشره إيثارًا لتجلية الموضوع تجليةً تامةً - بحول الله وقوته - مع ردنا عليه: بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضيلة الشيح حسن البنا رئيس تحرير مجلة المنار: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد، فقد اطلعنا على ما نشر في العدد الأخير من المنار تحت عنوان نقد المنار، ردًّا على رسالة أحد القراء الكرام، وشجعنا ذلك على الكتابة إليكم في شيء من الصراحة. لما اطلعت على عدد المنار الذي بدأتم بإصداره وبادرنا إلى تصفحه، حاك في نفسي ما جاء في رسالة القارئ إليكم، وفهمت من كلامكم فيما بين المجلتين (الهدى والإسلام) من الخلاف نفس ما فهمه الناقد، ولعلي أخطأت الفهم أنا أيضًا، إلا أنكم في ذلك المقال لم تقولوا بخطأ المجلتين، ولم تشيروا إلا إلى إخلاصهما وجهادهما، وكان من العجب في رأينا ما ذكرتم في العدد الأخير من خطأ المجلتين فيما ذهبتا إليه. وبالرجوع إلى أقوال المجلتين ومقالات كتابهما ظننا أن حكمك بخطأ المجلتين يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما، فقد أجهدنا أنفسنا في مطالعة المجلتين فلم نعثر على عقيدة تفسير الاستواء بالاستقرار، كما لم يجزم الفريق الآخر بتأويل الاستواء إلى الاستيلاء وحده. فلعلكم تأثرتم في حكمكم هذا بما يقال ويشاع فقط، وهذا ما نرجو أن يكون المنار بعيدًا عنه. ولذلك نرى - إحقاقًا للحق ووضعًا للأمور في نصابها - أن ترجعوا إلى كلام المجلتين، وتحكموا عليهما بما تقولان لا بما يقول بعضهم على بعض، ولا بما يشاع عنهما بين العامة والدهماء. وملاحظة أخرى في العدد الأخير نحب أن تبينوا لنا حقيقتها، وهي ما نسبتموه لعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - في باب التفسير، ذلك الكلام العجيب الذي لا يشبه في أسلوبه ولا معانيه ما تواتر إلينا من كلامه رضي الله تعالى عنه، ففي أي ديوان من دواوين السنة المعتبرة عند المسلمين وجدتم هذا الخبر؟ أفيدونا رحمكم الله، وإن لم يوجد في شيء منها، فهل ترون أن أمثال هذه (الحواديت) التي ملئت بها بعض الكتب المجهولة الأصل مثل نهج البلاغة وغيره، تصلح للاحتجاج ولتقرير عقيدة إسلامية؟ وإني وإن كانت بيني وبين فضيلتكم معرفة، إلا أني أحب أن أكون - إلى حين - مستترًا والسلام عليكم ورحمة الله. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أحد قراء المنار ملاحظة: فاتنا أن نذكر لفضيلتكم أن خصوم الهدي النبوي اليوم هم بذواتهم وأقلامهم خصوم المنار وصاحبه، عليه رحمة الله. الجواب هذا الخطاب يتناول أمورًا أربعة: أولها - أننا في المقال الأول لم نقُل بخطأ المجلتين.. إلخ، ونحن نعتقد أن هذا المعنى إن لم يصدر في كلامنا تصريحًا فقد كان واضحًا كل الوضوح، ونحن نؤْثِر دائمًا أدب القول والكتابة وعفة اللسان والقلم، في عصر أغفل الكاتبون فيه هذا المعنى، وعلى كل حال فكلامنا في المقال الثاني قد أوضح ما أبهمه المقال الأول - إن كان ثمة إبهام - فلا نطيل القول في أمر قد وضح، والحمد لله. وثانيها - أن ما نسبناه إلى المجلتين يكاد يكون حكمًا على طائفتين غيرهما ... إلخ، ونحن نقول إن ما كتبناه هو ما فهمناه من مجموع ما كتب الكاتبون فيهما، فإذا لم يكن كذلك فليتكرم حضرة الكاتب علينا وعلى القراء ببيان ما فهم هو من كلام كل منهما، وبيان وجه الخلاف بينهما، وليؤيد ذلك بنصوص الكاتبين مستوفاة، وليحكم بينهما إن شاء ذلك، ونحن على استعداد لنشر ما يكتب، وللرد عليه إن كان فيه ما يستحق الرد، وموافقته إن كان مما نرى أنه الحق، على أن يكون هذا آخر ما نكتب في هذا الباب، نقول هذا ونستحسن لأنفسنا ولحضرة الكاتب وللقراء كذلك أن نغلق هذا الباب من الآن، وخصوصًا بعد أن انصرف الجانبان إلى ما هو أجدى وأنفع، وفيما كتبناه في بيان ما يجب أن يكون عليه المسلمون في هذا المعنى كفاية. وثالثها - استنكار ما نسبناه لأمير المؤمنين علي - كرم الله وجهه - في باب التفسير والتهكم عليه بهذا الأسلوب اللاذع، فغفر الله للكاتب سورة قلمه وعفا عنا وعنه، ونحب له أن يروض قلمه دائمًا على غير هذا الأسلوب؛ فهو أعف وأبر، ولو أن حضرته التفت إلى أننا إنما سقنا هذا الكلام للبيان والاستئناس لا للاحتجاج والاستدلال، وهذه واحدة، ونسبناه إلى نهج البلاغة ولم ننسبه إلى الإمام - كرم الله وجهه، وهذه الثانية، وعلقنا في حاشية المقال بما يستفاد منه أن نسبة هذا الكتاب موضع خلاف بين الأدباء، وهذه الثالثة. لو أن حضرته التفت إلى هذه النواحي الثلاث لأعفى نفسه وأعفانا من هذا التعليق القاسي الذي لا مبرر له. رابعها - يذكر الكاتب أن خصوم اليوم هم بذواتهم وأقلامهم خصومُ المنار وصاحبه - عليه رحمة الله -، يا سبحان الله! إن الزمن - يا أخي - يدور، والمدارك تتطور بدورانه، وإن تجارب الناس ودرجة معرفتهم بالأمور تزداد وتتسع يومًا عن يوم، وإن القلوب بيد الله يصرفها كيف شاء، وإن كثيرًا ممن حمل السيف أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوته كانوا بعد ذلك من أشد الناس حماسةً في مناصرتها وتفانيًا في محبته صلى الله عليه وسلم، وسبحان مَن أعز الإسلام بقاتل حمزة وجعله قاتل مسيلمة، وأين أنت من خالد وعكرمة، ولا تجعلني أقول لك أكثر من هذا، ففي مكان القول متسع؛ ولكن ما كل ما يُعرف يُقال، وجميع الناس متفقون على أن الحق لا يُعرف بالرجال، فهَبْهم لا زالوا في خصومتهم أفلا نتبع الحق إذا جاء على أيديهم، ونكون أول مَن يناصرهم فيه؟ إنني أعتقد أن ما يمر بنا من هذه الحوادث الجسام سيوحد الكلمة، وسيجمع الرأي، ويقرب شقة الخلاف، ويسوِّي صفوف العاملين للإسلام إن شاء الله، فاصبر إن وعد الله حق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا

السيد الكامل آل رضا رحمه الله

الكاتب: حسن البنا

_ السيد الكامل آل رضا رحمه الله لبى نداء ربه السيد الكامل آل رضا، رحمه الله، وهو عم السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار، ووالد صديقنا المفضال السيد عبد الرحمن عاصم رضا، نفع الله به، عن عمر مبارك قضاه في طاعة الله والمبادرة إلى الخيرات. وكان السيد رشيد - رحمه الله - يقول عنه إنه حجة الله على أهل هذا العصر؛ إذ كان - أفسح الله له في جنته - رغم كبر سنه وضعف بدنه حريصًا كل الحرص على المبادرة بالأعمال الصالحة، بعيدًا كل البعد عن كل ما يؤدي إلى الشبهة - فضلاً عن الحرام - لا نرى في مجلسه إلا ذكر الله وما والاه، والتذكير بالخير، والنصح لعباد الله، وقد ورث عنه هذه الخصال نجله المفضال السيد عبد الرحمن حفظه الله؛ فما علمنا عليه إلا خيرًا، ولا نزكي على الله أحدًا. وإنا لنتقدم بالتعزية إلى آل رضا، ألهمهم الله الصبر، وأجزل لهم الأجر، وعوضهم الخير، ونسأل الله للسيد الراحل المغفرة والرضوان. وقد حال احتجاب المنار عن أن يصدر هذا العزاء في حينه، ولعل صديقنا السيد عبد الرحمن عاصم يوافي قراء المنار بترجمة مفصلة لحياة السيد الوالد - عليه الرحمة - لتكون لنا وللقراء عظة وذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.

حكم الدخان والتنباك

الكاتب: حسن البنا

_ (6) حكم الدخان والتنباك.. إلخ الأستاذ رئيس تحرير المنار الأغر: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (وبعد) : فقد اختلف العلماء في حكم (شرب الدخان) ما بين محرِّم ومجوِّز؛ فما القول الحق في ذلك؟ وما دليل كل من الفريقين فيما ذهب إليه؟ أفتونا ولكم من الله المثوبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ... ... ... ... ... ... ... ... ... أنور الصناديقي ... ... ... ... ... ... ... ... ديروط المحطة قبلي الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله (وبعد) : فالدخان شجرة لم تُعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في القرون الإسلامية الأولى، ولم يُعرف استخدامها هذا الاستخدام تدخينًا أو مضغًا.. إلخ، والقاعدة العامة في المحدثات من هذه الأمور أن يُحكم عليها بآثارها ونتائجها؛ فما كان منها نافعًا استحب وطلب الانتفاع به، وما كان منها ضارًّا كُره وحُرِّم بقدر ضرره، وما جرى مجرى العادة ولم تعرف له فائدة ولا ضرر فهو على الإباحة الأصلية، وهذا وجه اختلاف العلماء في شرب الدخان. ومن الذين قالوا بحرمته من استدل بحديث أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مُسكر ومُفتر) قالوا: والدخان مفتر، فإن من شربه على غير اعتياد شعر بدوار وفتور، فهو حرام بالنص، ومن قال بالإباحة نازع في هذا الأثر، ولم يسلم مما ذهبوا إليه من أنه يحدث الفتور. وقد أورد صاحب (الروض النضير شرح المجموع الكبير) بحثًا طيبًا قد يتصل بهذا المعنى عند الكلام على أنواع المسكر في الجزء الثالث، كما أن للإمام الشوكاني فُتيا في هذه المسألة، ولعل من تمام الفائدة أن نذكر هذين البحثين، ثم نقف عليهما بما نرى أنه يتفق مع الحق في هذه المسألة: قال صاحب الروض النضير: (فائدة) قال في البدر التمام: وكذا يحرم ما أسكر وإن لم يكن مشروبًا كالحشيشة وغيرها. وقد جزم النووي وغيره، وصرح بذلك الإمام المهدي في الأزهار بأنها مسكرة، وجزم آخرون بأنها مخدرة وليست بمسكرة. قال ابن حجر: وهو مكابرة؛ لأنها تُحدث ما يُحدث الخمر من الطرب والنشوة، وإذا سلم عدم الإسكار فهي مفترة. وقد أخرج أبو دواد (أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر) . قال الخطابي: المفتر كل شراب يورث الفتور والخَدَر في الأعضاء. وحكى القرافي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، قال: ومن استحلها فقد كفر، قال: وإنما لم يتكلم فيها الأئمة الأربعة لأنها لم تكن في زمنهم؛ وإنما ظهرت في آخر المائة السادسة وأول المائة السابعة حين ظهرت دولة التنار. وذكر المازري قولاً أن النبات الذي فيه شدة مطربة يجب فيه الحد، وكذا ذكر ابن تيمية في كتاب السياسة أن الحد واجب في الحشيشة كالخمر، قال: لكن لما كانت جمادًا وليست شرابًا تنازع الفقهاء في نجاستها على ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره. وقال ابن البيطار -وإليه انتهت الرياسة في معرفة خواص النبات والأشجار -: إن الحشيشة - وتسمى القِنَّب - توجد في مصر مسكرة جدًّا إذا تناول الإنسان منها قدر درهم أو درهمين، ومَنْ أَكَثر منها أخرجته إلى حد الرعونة، وقد استعملها قوم فاختلت عقولهم، وأدى بهم الحال إلى الجنون، وربما قتلت. قال بعض العلماء: وفي أكلها مائة وعشرون مضرة دينية ودنيوية. وقبائح خصالها موجودة في الأفيون، بل وفيه زيادة مضار، وكذا قال ابن دقيق العيد في الجوزة إنها مسكرة. ونقله عنه المتأخرون من الحنفية والشافعية والمالكية واعتمدوه. وحكى القرافي عن بعض فقهاء عصره أنه فرق في إسكار الحشيشة بين كونها ورقًا أخضر فلا إسكار فيها بخلافها بعد التحميص فإنها تسكر، قال: والصواب أنه لا فرق؛ لأنها ملحقة بجوزة الطيب والزعفران والعنبر والأفيون والبنج، وهي من المسكرات والمخدرات. وذكر ذلك ابن القسطلاني في تكريم المعيشة، وقال الزركشي: إن هذه المذكورات تؤثر في متعاطيها المعنى الذي تدخله في حد السكران، فإنهم قالوا السكران الذي اختل كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم. وقال بعضهم: هو الذي لا يعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض، ثم نقل عن القرافي أنه خالف في ذلك. والأولى أن يقال: إن أريد بالإسكار تغطية العقل، فهذه كلها صادق عليها معنى الإسكار، وإن أريد بالإسكار تغطية العقل مع نشوة وطرب فهي خارجة عنه، فإن إسكار الخمر يتولد عنه النشوة والنشاط والطرب والعربدة والحمية، والسكران بالحشيشة وغيرها يكون فيه ضد ذلك، فيتقرر من ذلك أنها تحرم لمضرتها للعقل ودخولها في المفتر المنهي عنه، ولا يجب الحد على متعاطيها؛ لأن قياسها على الخمر قياس مع الفارق مع انتفاء ببعض أوصافه. اهـ. وقوله: (كالحشيشة وغيرها) يدخل فيه نوع من القات الموجود في بلاد اليمن والحبشة، يكون منه اختلاط العقل وتغيره، ومن بعضه خروج آكله عن حيز الاعتدال في طبيعته. وقد روي في ذلك حكايات، فما بلغ منه هذا التأثير حرم تناوله، ويؤدب من تعمده بعد علمه بالتحريم، وكذلك القدر المخرج عن الاعتدال أيضًا من الزعفران والأفيون والعريط وكل نبات مساوٍ لها في الصفة والتأثير، والله أعلم. وجاء في رسالة إرشاد السائل إلى أجوبة المسائل للشوكاني: السؤال الحادي عشر عن شجرة التنباك: هل يجوز استعمالها على الصفة التي يستعملها كثير من الناس الآن أم لا؟ أقول: الأصل الذي يشهد له القرآن الكريم والسنة المطهرة هو أن كل ما في الأرض حلال، ولا يحرم شيء من ذلك إلا بدليل خاص: كالمسكر، والسم القاتل، وما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه؛ وما لم يرد فيه دليل خاص فهو حلال استصحابًا للبراءة الأصلية وتمسكًا بالأدلة العامة كقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعا} (البقرة: 29) ، {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ} (الأنعام: 145) الآية. وهكذا الراجح عندي أن الأصل في جميع الحيوانات الحل، ولا يحرم شيء منها إلا بدليل يخصصه: كذي الناب من السباع، والمخلب من الطير، والكلب أو الخنزير، وسائر ما ورد فيه دليل يدل على تحريمه، إذا تقرر هذا علمت أن هذه الشجرة التي سماها بعض الناس التنباك وبعضهم التوتون، لم يأت فيها دليل يدل على تحريمها، وليست من جنس المسكرات ولا من السموم ولا من جنس ما يضر آجلاً أو عاجلاً، فمن زعم أنها حرام فعليه الدليل. ولا يفيد مجرد القال والقيل، وقد استدل بعض أهل العلم على حرمتها بقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ} (الأعراف: 157) وأدرج هذه الشجرة تحت الخبائث بمسلك من مسالك العلة المدونة في الأصول، وقد غلط في ذلك غلطًا بينًا، فإن كون هذه الشجرة من الخبائث هو محل النزاع، والاستدلال بالآية الكريمة على ذلك فيه شوب مصادرة على المطلوب، والاستخباث المذكور إن كان بالنسبة إلى من يستعملها ومن لا يستعملها فهو باطل. فإن من يستعملها هي عنده من الطيبات لا من المستخبثات، وإن كان بالنسبة إلى بعض هذا النوع الإنساني فقد وجد منهم من استخبث العسل وهو من أطيب الطيبات، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأكل الضب، وقال: أجدني أعافه؛ فأكله بعض الصحابة بمرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، ومن أنصف من نفسه وجد كثيرًا من الأمور التي أحلها الشارع من الحيوانات وغيرها أو كانت حلالاً بالبراءة الأصلية وعموم الأدلة، في هذا النوع الإنساني من يستخبث بعضها وفيهم من يستطيب ما يستخبثه غيره، فلو كان مجرد استخباث البعض مقتضيًا لتحريم ذلك الشيء عليه وعلى غيره لكان العسل ولحوم الإبل والبقر والدجاج من المحرمات؛ لأن في الناس من يستخبث ذلك ويعافه، واللازم باطل، فالملزوم مثله، فنقرر بهذا أن الاستدلال على تحريم التوتون لكون البعض يستخبثه غلطًا أو مغالطة. اهـ كلام الشوكاني في هذه المسألة. والمعروف أن الدخان يسبب أضرارًا صحية كثيرة نتيجة التسمم (النيكوتيني) ومن هذه الأضرار - كما قال الأطباء - ازدياد ضربات القلب وعدم انتظامها، وسوء الهضم، وتهييج الغشاء المخاطي للشعب الرئوية فيورث السعال المزمن وسوء حركة التنفس، فلا يمكن للشخص إجهاد نفسه من غير أن يعتريه الإنهاك، وضعف النظر عادة يكون من بعض هذه النتائج، وربما أدى إلى عمى جزئي، وكذلك تصاب الدورة الدموية بآفات أهمها سرعة حركة القلب وتصلب الشرايين، وقد يورث ذلك القلب ضعفًا مستمرًّا يؤدي إلى السكتة القلبية بغير ألم أو سابقة إنذار، وكما تحدث هذه الأضرار الصحية بالتدخين، تحدث كذلك بالمضغ، بل هي في المضغ أشد وأوضح؛ لشدة تأثير النيكوتين الذي يتخلف معظمه في الفم بالمضغ، وقد حدثت الوفاة لبعض الناس الذين مضغوه، وكذلك توفي رجل أراد تهريب الدخان (من الجمرك) بأن خبأه تحت ملابسه ملاصقًا لجلده، والتدخين يرفع ضغط الدم وينبه العصب الرئوي المعدي فيهبط القلب، وهذا هو سبب الأرق بعد الإكثار من التدخين. وهو بعد هذه الأضرار الصحية إسراف في المال بغير سبب، فهو إضاعة له وتبذير، وقد نُهينا عن التبذير وإضاعة المال، وقد أثبتت الإحصائيات أن المدخن ينفق في الدخان أربعة أمثال ما يصرفه في الملبس، وهو عبث فارغ لا فائدة ترجى من ورائه، والعاقل بله المؤمن ينزه نفسه عن أن يضيع وقته في العبث، فهو ضار ولا شك، وقد نفى الإسلام الضرر والضرار. وقد يقال: إن هذه الأضرار جميعًا إنما تحدث حين الإفراط لا حين الاعتدال فيه والتقليل منه، والجواب على ذلك أن يقال وأين ضمان الاعتدال، وقد أثبتت الإحصائيات الدقيقة أن الاعتدال نادر بين المدخنين، فسهولة تناول اللفافة وتحكم العادة وما يتخيله المدخن من لذة التدخين كل ذلك يجره إلى الإفراط، حتى أنه ليشعل اللفافة من الأخرى بشكل ميكانيكي من غير أن تكون في نفسه حاجة إلى التدخين، وكثير من المدخنين من هالته كثرة أعقاب اللفائف التي استهلكها بعد أن ينتهي من عمله أو وحدته. وإذا تقرر هذا فالذي يظهر لي أن تعاطي الدخان تدخينًا بأية كيفية أو مضغًا أو سعوطًا بأية كيفية كذلك: حلال بأصله - إذ الأصل في الأشياء الإباحة - حرام لغيره، وهو ما يترتب عليه من الأضرار، والقليل منه يلحق بالكثير سدًّا للذريعة ومنعًا للقدوة الفاسدة، وأما التداوي بتعاطيه فجائز بالقدر الذي يتم به الغرض، ومثله في هذا التنباك والقات وما جرى مجراها. ولهذا أنصح للمدخنين من المسلمين أن يقلعوا عن هذه العادة ولو بالتدريج، والذين لم يعتادوا هذه العادة أن يحذروها ما استطاعوا. ذلك ما ظهر لي في هذه المسالة، وأنا على استعداد للرجوع عنه إذا ما نبهت إلى غيره مما هو أولى بالاتباع، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل. * * * فائدة لغوية يطلق بعض الناس على (الدخان) الطباق، والمعروف لغةً أن الطباق نبات بري تتغذى به الظباء وأبقار الوحش، وقد ورد ذكره في شعر أبي العلاء، فهو يقول في وصف غانية وتشبيهها بالظباء: ومن العجائب أن حليك مثقل ... وعليك من سرق الحرير لفاق وصويحباتك بالفلاة ثيابها ... أوبارها وحليها الأرواق لم تنصفي غذيت أطيب مطعم ... وغذاؤهن الشث والطباق

المنار منذ عشرين سنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار منذ عشرين سنة (رجب سنة 1339) مختارات من الجرائد الغربية في حل المسألة الشرقية وتعليق بقلم السيد محمد رشيد رضا رحمه الله جاء في جريدة الباقري (الوطن) في 17 مايو سنة 1919: نهاية الدولة التركية - عدم عقد شروط صلح معها - تقسيم الولايات العثمانية تقسيم الدولة قالت النيويورك هرالد في عددها الصادر هذا الصباح: إن من المرجح عدم عقد شروط صلح مع تركيا - وإن كان ذلك غير مطابق للقواعد المرعية - لأن المؤتمر يفكر بكل اهتمام في هذا الأمر، مرتكنًا على أن تركيا لم يعد لها حكومة دولة حقيقة، وأنه لم يبق للعالم المدني إلا الانتفاع بتركيا الدولة العثمانية. ستنال اليونان أكبر جزء من تركية أوروبا، وأما الآستانة مع مضايق البحر فتتبع لعصبة الأمم تحت وصاية أمريكا، التي تعطى في هذا الإبان نفسه الوكالة على أرمينية إلى أن تصير هذه البلاد صالحة لأن تحكم نفسها بنفسها. ثم إن اليونان سيصيبها جزء ليس بقليل من آسيا الصغرى، وأما باقي ولايات هذه الجهة فتكون تحت وكالة فرنسا وإيطاليا بالنيابة عن عصبة الأمم في الأستانة. كان لدى الدول فرصة وحيدة لوضع تركيا تحت سيطرة دولية، ثم رؤي اتباع طريقة أخرى وهي تقسم البلاد وتجنيسها بجنسية الحكومات التي لها عليها حق الوكالة أو الوصاية لا حق التملك الحقيقي. إننا بتضحية تركيا وبتشريح هذه المملكة أوجدنا أوجهًا للنزاع وللشقاق بين دول أوربا في المستقبل؛ إذ أن الرجل المريض سينقل عدوى مرضه إلى أوروبا، ولأجل تعميم العدوى دخلت أيضًا أمريكا في المرسح، ولنا أن نتساءل ما شأن أمريكا في تركيا؟ ولماذا لم تكلَّف الدول صاحبة الشأن حماية مضايق البحر؟ هل تدخلنا في مراقبة ترعة بناما؟ إن الحل الوحيد هو عدم تخصيص الآستانة لدولة معينة من الدول، وإذا كان لا بد من وضع مراقبة على تركيا فليس ثمت أحسن طريقة من جعل هذه المراقبة دولية مشتركة، وكل طريقة أخرى تكون مخالفة للعدالة وللروح العصري والصوالح الأوربية في الشرق. * * * وجاء في جريدة الفيغارو في 18 مايو سنة 1919: الإرث العثماني بعد انكسار ألمانيا العسكري وانهزام دولتي تركيا والنمسا والمجر أصبحت هاتان الدولتان الأخيرتان مزعزعتي الأركان، وتولد عن ذلك مسألة من أصعب المسائل وأعقدها، ألا وهي تسوية الإرث العثماني. إن سقوط الدولتين المذكورتين أنقذ الشعوب التي ليس لها رغبة، ولم يعد لها صبر على احتمال نير الحكم الاستبدادي الذي رزحت تحته أجيالاً طويلة. فالذين تؤول إليهم تركة تركيا هم أولاً اليونان، الذين بعد أن تخلصوا من ذلك الملك الخائن انضموا إلى قضية الحلفاء، ثم الأرمن، الذين بسبب السياسة الخرقاء الموعز بها من عمال الألمان قاسوا أشد أنواع العذاب وأوشكوا أن ينقرضوا، ويليهم السوريون إلخ. وإنجلترا تأخذ بلاد العراق، وفرنسا تأخذ سوريا، أما العرب فقد قرر الحلفاء منحهم الاستقلال. * * * وراثة الخلافة إن انحلال تركيا أوجد مسألة أيلولة الخلافة، كما أنه وضع حدًّا لنهاية نفوذ فرنسا في الشرق - لقد كان عدة قرون أكبر نفوذ بسياستنا الودية مع تركيا، وقد حلت ألمانيا محلنا عندما أهملنا المحافظة على هذا النفوذ، وكان في إمكاننا استرجاع مكانتنا الأولى على إثر صولة النصر، إلا أننا لم نغتنم هذه الفرصة بل قبلنا تسوية مجحفة بمصالحنا - فما يكون نصيب فرنسا بالنسبة إلى البلاد المتسعة التي وضعت تحت وصاية إنجلترا وأمريكا؟ إن ما خصص لنا إنما هي سوريا بعد استثناء تليسيا وفلسطين منها، وحرمانها من البوغازين المهمين، أعني بهما ثغري إسكندرونة وحيفا. * * * وجاء في جريدة لافنير (المستقبل) في 18 مايو سنة 1919: تعديل الخريطة إعادة نظام النمسا وانحلال تركيا عزم المؤتمر فحص المسألة التركية، وقد بدأ هذا الفحص بإرسال مدرعات وجيوش دولية لاحتلال أزمير التي تقرر ضمها إلى اليونان، وتم ذلك فعلاً. تقرر أيضًا ضم سوريا إلى فرنسا - ولكن لم ينفذ هذا القرار - وجعْل العراق وفلسطين تابعتين لإنجلترا، وقد تم ذلك، ثم ينتظر إلحاق أضاليا وقونية بإيطاليا، والأستانة وأرمينية بأمريكا. أما التركي فإنه بحسب تخويل الشعوب حق تقرير مصيرها قد صار إزالته من الخريطة، والمأمول أن هذه المخالفة لمشروع عصبة الأمم لا تتم؛ لأنه ليس من حسن السياسة تحريك عواطف الوحدة الإسلامية في أنحاء العالم وإضرامها. فاليونان القاطنون في تركية أوربا سينضمون إلى دولتهم التي ستتسع كثيرًا على إثر هذا الانضمام، كما أن ولاية أزمير - حيث يكون العنصر اليوناني - ستنضم أيضا إلى دولة اليونان بناء على التوكيل المعطى لهذه الدولة، وبحسب الشروط المعينة لذلك. وأما مشروع إنشاء أرمينية الكبرى مع ضم أطنة ومرسين إليها ليكون لها منفذ على البحر المتوسط، فالمنظور أن أمريكا تكون الوصية على هذه البلاد كي تساعدها على ارتقائها ونموها، كما أنها ستكون على الراجح هي الوصية على الأستانة وعلى المضايق التابعة لها أيضًا، فإذا قبل الرئيس ويلسون هذه الوكالة باسم الشعب الأمريكي لا يكون قبوله نافذًا ونهائيًّا إلا بعد موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي عليه. وفرنسا تكون الوصية على سوريا بالنظر لعلاقتها القديمة بها؛ لكن لا بد أن تكون هذه الوصاية شاملة للبلاد السورية بأكملها وليس على سوريا مقسمة. ولا ريب في أن المخابرات التي جرت في ذلك كان فيها بعض التراخي من قبل فرنسا، لكن من الضروري أن تؤيد حقوقنا بكل حزم وعزم. بلاد الأناضول ستعطى لإيطاليا مع ميناء أضاليا، ثم إن فلسطين والعراق يكونان تحت مراقبة إنجلترا. هذا هو التقسيم الذي تم الاتفاق عليه بادئ بدء، وبقي في آسيا الصغرى جزء مأهول بسكان أتراك يحتوى على بروسة وأنقرة، وقد طلب من فرنسا حماية هذا الجزء؛ لأن بروسة - حيث يقيم السلطان - تكون عاصمة المملكة العثمانية الجديدة، ونتمنى أن لا يتبع الحلفاء سياسة التجزئة في آسيا الصغرى، والذي نراه هو أن تكون دولة تركيا المقبلة تحت إشراف مستشارين أوروباويين وبمعاونتهم. (المنار) هذا نموذج مما كان ينشر في جرائد الحلفاء منذ عامين بيانًا للرأي العام في بلادهم عقب الحرب التي كانوا فيها هم المنتصرين، وكان أكثر الناس من جميع الأمم يظنون أن ما تقوله هذه الجرائد هو القول الفصل الذي لا مرد له؛ لأنه صدى سياسة دولهم المنتصرة التي لها الدهر عبد والزمان غلام، وقد وضعوا المعاهدات لجعل تلك الأماني حقوقًا ثابتة؛ ولكن الزمان جاء بما لم يكن في حسبان أحد من الخطوب والمشكلات التي عجز جميع دعاة السياسة من حل عقدة واحدة من عقدها الكثيرة، وقد جف ريقهم من كثرة ما نفثوا فيها، ودميت أظفارهم من تكرار محاولتهم لها، فكان ذلك حجة بالغة على جهل المغرورين بالقوة والعظمة الباطلة، الذين يرتكسون في اليأس عند سماع كل صيحة هائلة: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} (الحشر: 2) . (المنار 1359) لم يقف الأمر عند حد هذه المشكلات، بل قامت الثورات في كل جهات العالم الإسلامي؛ فقد ثارت مصر، وثارت العراق، وثارت سورية، وثارت فلسطين ثوراتها المقدسة، وثارت المغرب مرات متتابعة، ولا زالت كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي تطلب الحرية والاستقلال بكل وسيلة، وستنتصر في النهاية، ولعل هذه الحرب الحالية هي المعول الذي يحطم من الشرق الإسلامي القيود والأغلال.

السيد الإمام محمد رشيد رضا ناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر

الكاتب: عبد الرحمن عاصم

_ السيد الإمام محمد رشيد رضا ناظر دار الدعوة والإرشاد بمصر بقلم وكيله وابن عمه السيد عبد الرحمن عاصم آل رضا أشهر رجال الإصلاح في العصر الحديث ثلاثة: حكيم الشرق السيد جمال الدين، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، والسيد الإمام محمد رشيد رضا، وغرضهم الذي سعوا له إصلاح أمتهم بما صلح به سلفهم، وقد كثر - والحمد لله - مؤيدوهم، ينقلون ما يؤثر عنهم، ويشيدون بهم وبأعمالهم، ويدعون إلى الاقتداء بهم في جميع المعاهد العلمية وغيرها. فأما السيد جمال الدين الأفغاني فكانت خطته الإصلاحية سياسية تبعًا لميله واستعداده، وأما الشيخ محمد عبده فكان همه الإصلاح والتجديد من طريق التربية والتعليم، وقد استفاد السيد رشيد مما ذهبا إليه، ومضى على سَننهما، وجمع بين خطتيهما، وبنى على أساسهما، فله رأي صائب في السياسة وأثر محمود فيها، فنبه الأفكار إلى معرفة حقوق الأمة، وأيقظ الهمم لأخذها، وسعى أيضًا لتجديد أمر هذه الأمة من طريق التعليم والوعظ والإرشاد والتربية الدينية التي هي قوام الفضائل، وصار بذلك أشهر من نار على علم. وإني مبين هنا جهاده في سبيل مدرسة دار الدعوة والإرشاد في مصر وفي الآستانة، ثم في مصر ثانية، وثمرته ونفعه، وقد صبر صبرًا جميلاً على ما لاقى من أذى الحاسدين والمارقين. وكانت مدرسة الدعوة والإرشاد هذه داخلية، تنفق على طلبتها الداخليين وتكفيهم كل شيء حتى الكتب والأدوات المدرسية، وكانت تعنى بتربيتهم على الفضيلة والنظام، وبمراقبة أخلاقهم وآدابهم، وفيها قسم خارجي يتعلم فيه الطلبة. والغرض منها تخريج طائفتين من العلماء، طائفة منهم للدعوة إلى الله والدفاع عن دين الله بحسب ما تقتضيه حال الزمان، وتعد الطائفة الثانية بالتربية والتعليم لإرشاد المسلمين وتعليمهم ما يرجى أن يقلل الفواحش والمنكرات والبدع والخرافات، وقد وعد صاحب السماحة السيد عبد الحميد البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية الذي كان رئيسًا لجماعة الدعوة والإرشاد، بأن يستعين بهؤلاء المرشدين على إصلاح الطرق، والتوسل بذلك إلى إرشاد أتباعها إلى حقيقة ما كان عليه سلف الأمة الصالح في عباداتهم وآدابهم. وكان نظام التعليم في المدرسة جامعًا بين حقائق الدين وحكمته وموافقته لما يقتضيه التطور الاجتماعي وسنن العمران، وبين ما يحتاج إليه علماء الدين من العلوم العصرية والكونية. وأول ما بدأ السيد رشيد رضي الله عنه نشر أفكاره الإصلاحية في التربية والتعليم أن وجَّه إلى الأزهر الشريف في سني مجلة المنار الأولى رسائل تتضمن أصول الإصلاح الذي يراه واجبًا، ومنها ما نحن بصدده وهو الوعظ والإرشاد والعلم والدعوة إلى الإسلام، وقد اقتنع الأزهر في السنين الأخيرة بها، وأخذت كلياته في تنفيذها على قدر كفاءة رجالها. وأما بدء السيد السعي لتأليف جماعة الدعوة والإرشاد فكان في مصر في عهد الوزير الأكبر المرحوم رياض باشا، واقتنع الباشا بصلاح المشروع، وأن يكون رئيسًا للجمعية، ولكن حالت أحوال دون تنفيذه. ثم قصد السيد إلى الأستانة سنة 1327 - وكانت تلقب بدار الخلافة ودار السعادة، بعد الانقلاب الدستوري الذي فرح به الأحرار، وبنوا عليه العلالي والقصور - ليؤسس فيها جمعية الوعظ والإرشاد. وقد استقبله رجال الانقلاب السياسي وشيخ الإسلام ووزراء الدولة أحسن استقبال، وشاركوه في تأسيس الجمعية وإنشاء دار الدعوة والإرشاد، وقرر مقدار المال، ووضعت القوانين والأنظمة، وبقي السيد في الأستانة سنة كاملة يعلل النفس بتحقيق الأمل وإنجاز الوعد وتنفيذ الأمر وإجرائه؛ ولكن لما تكشفت له الحقائق بالمراوغة والمخادعة عاد إلى مصر القاهرة، وإنما قصد السيد تنفيذ المشروع بكفالة الدولة العثمانية ليسهل تعميمه في العالم الإسلامي بدون ضغط أجنبي. ثم في سنة 1329 أسس السيد جمعية الدعوة والإرشاد ومدرستها الكلية دار الدعوة والإرشاد في مصر، وهو يراها أكبر همه ومن أعظم ما يتقرب به إلى ربه، كيف لا والأصلان اللذان سميت المدرسة باسميهما وقامت بهما هم أهم مقاصد الإسلام الكافلان لنشر هدايته، وتعميم دعوته، وإعادة مجده بالوعظ والإرشاد العام للمسلمين في مساجدهم ومجامعهم بالخطب، ونشر الرسائل المحتوية على ما يحتاج إليه من حسن المعاملة والمعاشرة وحفظ الصحة، وبالدعوة إلى الإسلام، وأخذت المدرسة في تربية طائفة من التلاميذ وإعدادهم لذلك الأمر العظيم، وهو أمر أوجبه الإسلام وقصر أهله عن نشر هدايته وعن الدعوة إليه والدفاع عنه، وقد أبدى بعض سفراء الحكومات تخوفًا من هذا المشروع لسمو الخديو عباس حلمي، وأجاب سمو الأمير أنه لا يُخشى منه شيء من الضرر، وأنه يضمن بشخصه كل تبعة. هذا ولا بد من التصريح بأن سمو الأمير عباس حلمي باشا خديو مصر طلب السيد رشيدًا إليه بعد عودة السيد من الأستانة، وطلب منه أن يشرع بتنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد في مصر؛ لأن سموه يرى أن وجود مدرسة الدعوة والإرشاد وجمعيتها في مصر سيقنع الدولة بإنشاء مثلها في الأستانة، ويمكن حينئذ توحيد المشروع في العاصمتين، وبذلك يصير تعميمه في البلاد أضمن وأوفى، ومعنى رغبة سمو الخديو هذه أن الأزهر الشريف لم يكن يغني المسلمين غناء مدرسة الدعوة والإرشاد في ذلك الحين. والذي حمل سمو الخديوي على ذلك حرصه على خدمة الإسلام وحسن ظنه بالسيد الإمام، وقد نقل عنه رئيس ديوانه المؤرخ الشهير أحمد شفيق باشا أن سموه قال: (إن السيد محمد رشيد هو لسان الإسلام في هذا العصر) ولذا صار كثير التحبيذ للمدرسة وزارها مشجعًا وهي في أول نشأتها، ثم أمر مدير الأوقاف أن يضع لها مبلغًا من المال ابتداء من سنتها الثانية، وأوصى أن تقرر الأوقاف في ميزانية السنين التي تليها كل ما يقدره مجلس إدارة المدرسة لنفقاتها. ثم سافر سمو الخديو إلى الآستانة، ووقعت الحرب العامة وكان من أمرها ما كان مما لا فائدة من ذكره الآن. واستمرت المدرسة عامرة بالتعليم بعد ذلك عامين آخرين، نضب في أثنائهما معين الإعانات من الأوقاف وأصحاب المروءات، وتحمل السيد من تلك النفقات وصبر عليها حتى عجزت ثروته عنها، وانقضت حياة التدريس فيها بعد أن كانت عامرة بها أربعة أعوام، ولكن آثارها الطيبة في نفوس طلابها ومن يتصل بهم لا تنقطع بِكَرّ الأعوام؛ لأنها مؤسسة على تقوى من الله ورضوان. هذه خلاصة تاريخ جهاد السيد في تأسيس المدرسة التي كانت موضع أمله في إصلاح المسلمين وإرجاعهم إلى ما كانوا فيه من عز وكرامة، ولم يهن ولم يصبه الملال، بل جدد سعيه - لتجديده حياة المدرسة - لدى عظمة السلطان حسين كامل، وكان وعده وهو أمير بالمساعدة المعنوية والمادية، وقال الأمير: (إنني طالما فكرت في هذا المشروع، وفي حاجة المسلمين إليه، وإنه لولا الموانع لكنت أشتغل وأعمل فيه بنفسي) وكان عظمة السلطان في مقدمة كبراء المسلمين الذين يجزمون بأن الإصلاح الإسلامي الديني والدنيوي يتوقف على العمل الذي يراد من دار الدعوة والإرشاد؛ ولكن شؤون السلطنة وغيرها حالت دون مساعدة السلطان حسين، رحمه الله وأحسن ثوابه. هذا ولشدة حرص السيد رشيد على نجاح دار الدعوة والإرشاد - لاعتقاده بأنها حاجة ماسة للإصلاح الإسلامي المنشود - وجه سعيه إلى حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد لعله يحقق غرضه، ومما كتب السيد في مذكرة قدمها إلى رئيس الديوان ليعرضها على جلالة الملك قوله - رحمه الله تعالى -: (ولما كنت أعلم بالدليل المؤيد والاختبار وشهادة عقلاء المسلمين أن هذه المدرسة ضرورية لخدمة الإسلام في هذا العصر، وأن مصر أولى بها من غيرها من أمصار الإسلام؛ لأنها في مقام القدوة لها وهي مرتبة لا يعقل أن ترضى مصر بالتخلي عنها، على أنها أحوج إليها من غيرها؛ فإنه لا يوجد قطر إسلامي فيه من الفوضى الدينية والأدبية في عامته مثل القطر المصري، فأكثر أفراد الطبقات العامة الدنيا ليسوا على شيء من الوازع الديني ولا الأدبي كما يعلم من كثرة الجنايات، ويستحلون كل منكر إذا غلب على ظنهم الأمن الحكومة، وهم عرضة لقبول كل دعوة إلى عصبية من عصبيات المدنية المادية، فمستقبل البلاد من هذه الجهة حالك الظلام، ولا عاصم من شرها كالدين إذا قام بهدايته مَن عَقَله واهتدى به فعلاً بتربية صالحة، ولا يُرجى مثل هذا لمن يتعلم العلم على أنه حرفة يعيش بها. وأما مدرسة دار الدعوة والإرشاد فإنها تربي تربية روحية أخلاقية؛ حتى يكون الباعث على الإرشاد من أعماق سائر طلابها ووجدان قلوبهم، لا يبتغون عليه أجرًا إلا من الله الذي فرضه عليهم، وهي على قلة زمن الدراسة فيها قد أخرجت أفرادًا من المصريين، والمغاربة، والهنود، والجاويين، والقوقاسيين، والشاميين، ومن الجزيرة، لا هَمَّ لهم من حياتهم إلا إرشاد المسلمين إلى حقيقة دينهم ومصالح معايشهم) . ومن أولئك الأفراد في تلاميذ دار الدعوة والإرشاد فضيلة أبي السمح الشيخ عبد الظاهر محمد الإمام والخطيب في بيت الله الحرام، ومنشئ مدرسة دار الحديث في مكة المكرمة، ومن علامات اعتزازه بالانتساب إلى دار الدعوة والإرشاد أنه عتب عليّ لما لم أذكر اسمه بين أسماء بعض تلاميذ السيد في مقالة سابقة عنه، رحمه الله. وقال إنه يفخر بأن السيد كان يخاطبه برسائله إليه (بولدنا الروحي) . ومن صفات الأستاذ أبي السمح أنه صالح في سيرته وأخلاقه، ومجيد تلاوة القرآن الكريم بخشوع يؤثر في سامعيه أحسن التأثير، ومجيد الخط أيضًا ولذا اختاره السيد أن يكون مراقبًا للطلبة في أخلاقهم والقيام بعباداتهم في الليل والنهار، ومعلمًا ترتيل القرآن الحكيم وتحسين الخط. وفي مقدمة الذين ينسبون إلى المدرسة ما عندهم من مزايا أخلاقية وفضائل نفسية حضرة الزعيم المجاهد مفتي الديار القدسية السيد أمين الحسيني، وكذلك المسلم العربي الكريم السيد يوسف ياسين، وإنْ أَنْسَ لا أنسى كلمة كتبها من بحرة وهو في معية جلالة ملك المملكة العربية السعودية منتظرين فتح جدة في أشد حرارة القيظ التي تكاد تغلي الأدمغة من شدتها، قال: (حينما يكاد يستولي علي الضعف ويصيبني الوهن كنت أتذكر درس التفسير للسيد في المدرسة، وكأني أسمع صوته ينفث في قلوبنا روح الفضيلة يقوي إرادتنا، ويربي أرواحنا، فتشتد عزيمتي وأنقض غبار الوهن عني) . والمجال يضيق عن ذكر كثيرين من المريدين، وقد سبق لي أن ذكرت طائفة منهم. وبذل السيد سعيه لتجديد عهد المدرسة أيضًا لدى ملجأ السلفيين حضرة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود، ولما لم يتيسر ذلك اقترح السيد على جلالته إيفاد طائفة من أبناء الشيوخ ليتفقهوا في الدين برعاية السيد وإشرافه، وكان من المتوقع أن يعمل بهذا الاقتراح. ولما قام مصطفى كمال باشا قومته - وكان موضع آمال المسلمين - أرسل إليه السيد كتابًا مع رسول، ومما رجَّى فيه أن يكون لمدرسة الدعوة والإرشاد من عنايته أوفر نصيب؛ لأنها أساس لكل ما يحتاج إليه المسلمون في هذا العصر من إصلاح، وإنما ذكرت هذا لاستيفاء أدوار المدرسة. والسيد - رضي الله عنه - كان لا يألو جهدًا في نشر أفكاره الإصلاحية بالتعليم كما ينشرها بالقلم، وكان يجتمع عليه في دار المنار كثيرون من خيرة المعلمين المربين من الأزهر والقضاء الشرعي ودار العلوم ومدارس المعلمين ونبهاء الم

من مشكاة النبوة

الكاتب: حسن البنا

_ من مشكاة النبوة عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} (المائدة: 78 - 81) ثم قال: كلا والله، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهُونَّ عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا، ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليلعنكم كما لعنهم) . رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن. عن أبي حميد عبد الرحمن بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: (استعمل النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم، وهذا أهدي إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل فيما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم، وهذا هدية أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا، والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله - تعالى - يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر، ثم رفع يديه حتى رؤي بياض إبطيه، فقال: (اللهم هل بلغت) (متفق عليه) .

في الإسراء والمعراج

الكاتب: أحمد محمد شاكر

_ في الإسراء والمعراج محاضرة فضيلة الأستاذ أبو الأشبال الشيخ محمد شاكر القاضي الشرعي بقاعة المحاضرات في جمعية الشبان المسلمين بسم الله الرحمن الرحيم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (الإسراء: 1) . أيها السادة: يجتمع حفلنا هذا المبارك الليلة إشادة بذكرى آية من أعظم آيات النبوة، اختص الله بها عبده محمدًا صلى الله عليه وسلم من دون سائر الأنبياء عليهم السلام، وأمره أن يصلي بهم في بيت المقدس، موطن النبوات الأولى، وأمرهم أن يقتدوا به، تشريفًا لقدره وتعظيمًا؛ ولذلك كان يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي) وإشارة إلى عموم بعثته، كما قال الله - تعالى - في كتابه الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28) وتعليمًا لأممهم وأتباعهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويقتدوا به كما اقتدى أئمتهم الأنبياء، ودخلت إمامتهم في إمامته إلى يوم القيامة، فهو إمام الأئمة، وهو الإمام الأعظم، فمن آمن به من أتباع الأنبياء فقد آمن بهم، ومن لم يؤمن به فلم يؤمن بواحد منهم، ومصداق ذلك قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81) . وقوله صلى الله عليه وسلم حين جاءه عمر بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه: (والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتبعني) . أيها السادة: إن الإسراء والمعراج حادثان من أبرز الحوادث في السيرة المحمدية الشريفة، وقد دُعيت لأن أتحدث إليكم في شأنهما، وما أراني أهلاً لهذا المقام الخطير، ولكني على ثقة من إغضائكم عن قصوري وتقصيري عفوًا منكم وفضلاً. والكلام في شأنهما يدور على أنحاء شتى من القول، أوقن أني عاجز عن الإحاطة بها واستيعابها، وحسبي أن أقصر قولي على النحو الذي أرجو أن يكون لي به علم، والذي أظن أنه لي به علم شيء من الاختصاص، وهو البحث في إثباتهما من الوجهة التاريخية، وأعني بذلك الوجهة الحديثية، إذ أن نسبة أي قول أو فعل إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما يدخل على المحدث، وهو الذي يرجع إليه في إثباته أو نفيه، بعد تحديد موضوعات العلوم وخصوص كل صنف من العلماء بما أحسنوه من العلم. والقواعد التي سار عليها علماء هذا الفن - فن الحديث - هي أصح القواعد للإثبات التاريخي وأعلاها وأدقها وإن أعرض عنها كثير من الناس وتحاموها بغير علم ولا بينة، بل إنا لنجد بعض الباحثين يعرضون لإثبات الأحاديث ونفيها بآرائهم وأهوائهم، ومهما رأوا من شيء نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان موافقاً لرأي ينصرونه فهو الحديث الصحيح عندهم وإن كان مكذوبًا موضوعًا، ومهما رأوا من حديث صحيح ثابت وكان مخالفًا لما تنصره أهواؤهم، فهو الحديث الضعيف أو المكذوب، وإن كان إسناده من أقوى الأسانيد وأصحها وأثبتها عند العارفين بها، ولعلهم لم يقرءوا طول حياتهم إسنادًا صحيحًا أو ضعيفًا، ولم يعلموا قليلاً ولا كثيرًا مما بذله علماء الحديث من الجهد في التحري والتوثق والتتبع لأحوال الرواية وألفاظ الأحاديث ومعانيها، وما ألفوا في ذلك من الدواوين الكبار والمعاجم الموسوعة من منتصف القرن الثاني للهجرة إلى أوائل القرن العاشر. أيها السادة: قد عني المسلمون بحفظ أسانيد شريعتهم من الكتاب والسنة بما لم تعنَ به أمة قبلهم؛ فحفظوا القرآن ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترًا، آية آية، كلمة كلمة، وحرفًا حرفًا، حفظًا في الصدور، وإثباتًا بالكتابة في المصاحف، حتى رووا أوجه نطقه بلهجات القبائل، ورووا طرق رسمه في الصحف، وألفوا في ذلك كتبًا؛ لو حدثتكم عن شيء منها لأخذكم العجب، ولعل بعضكم يكون أعلم بها مني، وحفظ المسلمون أيضًا عن نبيهم كل أقواله وأفعاله وأحواله، وهو المبلغ عن ربه والمبين لشرعه والمأمور بإقامة دينه، وكل أقواله وأفعاله بيان للقرآن. وهو الرسول المعصوم والأسوة الحسنة، اسمعوا قوله - تعالى - في صفته: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 - 4) وقوله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44) وقوله أيضًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21) . وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهته قريش، فذكر ذلك للرسول، فقال: (اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق) ففهم المسلمون من كل هذا أنه يجب عليهم أن يحفظوا عن رسولهم كل شيء، وقد فعلوا وأدوا الأمانة على وجهها، ورووا الأحاديث عنه، وبعضها متواتر، إما لفظًا ومعنى، وإما معنى فقط، وبعضها مشهور، وبعضها بالأسانيد الصحيحة الثابتة، مما يسمى على قواعد المصطلح الحديث الصحيح والحديث الحسن، ولم يحتجوا في دينهم بغير هذه الأنواع التي لا يعارض فيها إلا جاحد أو مكابر. وقد بين الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم هذه الأنواع في كتاب المِلَل والنِّحَل، وقال عن النوع الأخير - المسمى عند علماء المصطلح الآحاد - إنه هو ما رواه الثقة عن الثقة كذلك حتى يبلغ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبره ونسبه، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان، على أن أكثر ما جاء هذا المجيء فإنه منقول نقل الكوافّ، إما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - وإما إلى الصاحب، وإما إلى التابع، وإما إلى إمام أخذ عن التابع، يعرف ذلك من كان من أهل المعرفة بهذا الشأن، والحمد لرب العالمين. وهذا نقل خص الله - تعالى - به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها، وأبقاه عندهم غضًّا جديدًا حديثًا على قديم الدهور منذ أربعمائة وخمسين عامًا، في المشرق والمغرب والجنوب والشمال، يرحل في طلبه من لا يحصى عددهم إلا خالقهم إلى الآفاق البعيدة، ويواظب على تقييده، قد تولى الله - تعالى - حفظه عليهم - والحمد لله رب العالمين - فلا تفوتهم ذلة في كلمة فما فوقها في شيء من النقل إن وقعت لأحدهم، ولا يمكن فاسقًا أن يقحم فيه كلمة موضوعة ولله تعالى الشكر. أيها السادة: هذه صورة مصغرة، بل لمحة خاطفة على المجهود الهائل الذي بذل سلفنا الصالح - رضوان الله عليهم - للمحافظة على آثار نبيهم صلى الله عليه وسلم طاعة لما أمر به أصحابه في حجة الوداع (ألا فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع) . أفيجوز بعد ذلك لكل من ركب رأسه، وأعجبه عقله، ورضي عن نفسه، أن يقول هذا حديث صحيح وهذا حديث غير صحيح؟ أولا يعلم أنه حين يرد حديثًا صحيحًا - إما بنفي ثبوته وإما بتأويله عن غير وجهته - يرمي رجالاً من الثقات الأثبات والعلماء الحافظين بأنهم كاذبون أو جاهلون وهو لا يعرف شيئًا من أخبارهم ولا أحوالهم، وأنه يرميهم في دينهم وأمانتهم وصدقهم، وأنه حين يرضى عن حديث مفترى فيزعم أنه صحيح ثابت، يشارك من افتراه في فريته، ويدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين) . أيها السادة: أرجو أن تعذروني إذا أطلت القول في ذلك؛ فإنه بسبيل مما نعرض من إثبات حديث الإسراء والمعراج، ولأن الجراء من الناس استرسلوا في العبث بالسنة الشريفة عدوًا وبغيًا. فلم يكتفوا بتكذيب الرواة الثقات والأئمة الإثبات، بل زادوا عدوانًا وطغيانًا، اجترءوا على تكذيب بعض أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم رسله إلى من بعدهم، والأمناء على دينه وشريعته، وهم الذين أثنى الله عليهم في القرآن بما لم يثن على غيرهم من أصحاب الأنبياء، وهم السابقون المقربون، رضي الله عنهم ورضوا عنه. أيها السادة: إن حديث الإسراء والمعراج من الأحاديث الثابتة الصحيحة، وقد جاء بروايات كثيرة متواترة، منها المطول ومنها المختصر، ألفاظه مختلفة، وكلها تدل في مجموعها على صحة هذه الحادثة وعلى ثبوتها التاريخي، مما يسميه العلماء (التواتر المعنوي) وقد ورد من حديث أنس بن مالك، ومن حديث غيره من الصحابة، ونقل الحافظ ابن كثير في تفسيره (5 / 243) عن الحافظ ابن الخطاب عمر بن دحية أنه ذكره من حديث أنس، ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبي ابن كعب وعبد الرحمن بن قرظ وأبي حبة وابن ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة، وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم أجمعين، منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد. وإن لم تكن رواية بعضهم شرط الصحة فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الزنادقة والملحدون {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ} (التوبة: 32) فهؤلاء ستة وعشرون صحابيًّا رووا حديث الإسراء، وقد جمع الحافظ ابن كثير أكثر رواياتهم بأسانيدها في تفسيره (ج 5 ص 197 - 243) على معرفة مواطنها من كتب الحديث الصحاح الستة وغيرها، وسأحدثكم ببعض الروايات الصحيحة فيها. روينا بالإسناد الصحيح المتصل عن إمام المحدثين أبي عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل في مسنده قال: حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن سلمة حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُتيت بالبراق، وهو دابة أبيض، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، وقال جبريل: أصبت الفطرة. ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل: ومن أنت. قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل: ومن أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه. قال: ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى، فرحبا ودعوا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل. فقيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: وقد أرسل إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف

أسرار البلاغة في علم البيان

الكاتب: حسن البنا

_ أسرار البلاغة في علم البيان أصدرت (دار المنار) في هذه الأيام هذا الكتاب النفيس لمؤلفة الإمام (عبد القاهر الجرجاني) مطبوعًا طبعًا متقنًا على ورق جيد صقيل. والكتاب ومؤلفه غنيان عن التعريف. وقد وضع في وقت تحكمت دولة الألفاظ، واستبدت على المعاني، وهو خير ما كتب في موضوعه عبارة وأسلوبًا، وإيضاحًا للمسائل، وبسطًا للدلائل؛ وقد امتاز بإرجاع الاصطلاحات الفنية إلى علم النفس، وتأثير الكلام البليغ في العقل والقلب؛ وقد عني بتصحيحه عالما المعقول والمنقول المرحومان الشيخ (محمد عبده) والشيخ (محمد محمود الشنقيطي) ، وعلق حواشيه المرحوم (السيد محمد رشيد رضا) . وثمن النسخة 25 قرشًا.

حكم الصلاة في النعلين

الكاتب: حسن البنا

_ (7) حكم الصلاة في النعلين (هل يصح تأدية الصلاة في الأحذية ومعاملتها معاملة الخفين، وإن صح ذلك فما هي شروطه؟ وهل جميع المذاهب تجيزه؟ أفيدونا مشكورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) . ... ... ... ... ... ... ... ... إسماعيل محمد سالم ... ... ... ... ... ... ... ... ... شبين القناطر في هذا السؤال أمران: حكم الصلاة في النعلين، وحكم اعتبارهما خفين يجوز المسح عليهما. فأما عن الأمر الأول فالصلاة في النعلين الطاهرين جائزة بإجماع المذاهب لورود الأحاديث الصحيحة بذلك: (فعن أبي مسلمة سعيد بن يزيد قال: سألت أنسًا أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في نعليه؟ قال: نعم) (متفق عليه) وقد ورد ذلك في كثير من الأحاديث الصحيحة، وهل الصلاة في النعلين من العزائم والمستحبات، أم هي من الرخص والتيسيرات، أم هي من المباحات فقط؟ أقوال واردة لاختلاف الأدلة. وممن ذهب إلى الاستحباب: الهادوية، وروي عن عمر - رضي الله عنه - بإسناد ضعيف أنه كان يكره خلع النعال، ويشتد على الناس في ذلك، وكذا عن ابن مسعود، وقال ابن بطال: الصلاة في النعال والخفاف من الرخص - كما قال ابن دقيق العيد -: لا من المستحبات؛ لأن ذلك لا يدخل في المعنى المطلوب من الصلاة، وهو وإن كان من ملابس الزينة إلا أن ملامسة الأرض التي تكثر فيها النجاسات، قد تقصر عن هذه الرتبة، وقال القاضي عياض: الصلاة في النعلين رخصة مباحة؛ فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه - رضي الله عنهم - وذلك ما لم تعلم نجاسة النعل، وممن كان لا يصلي في النعلين عبد الله بن عمر وأبو موسى الأشعري. وكل هذا إذا كانتا طاهرتين أو لم تعلم النجاسة عليهما، أما إذا كانتا نجستين فالإجماع على خلعهما ما لم تطهرا؛ لما أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال: لم خلعتم نعالكم؟ فقالوا: يا رسول الله، رأيناك خلعت فخلعنا، قال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خبثًا، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه، فلينظر فيهما، فإن رأى بهما خبثًا فليمسحه بالأرض، ثم ليصل فيهما. وهل تطهران بالدلك بالأرض، أم لا بد من التطهير بالماء؟ في ذلك تفصيل قال القاضي عياض من المالكية: إن علمت النجاسة، وكانت متفقًا عليها لم يطهرها إلا الماء، وإن كانت مختلفًا فيها كأرواث الدواب وأبوالها ففي تطهيرها بالدلك بالتراب قولان: الإجزاء، وعدمه؛ وأطلق الأوزاعي والنووي إجزاء الدلك لحديث أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (إذا وطئ أحدكم الأذى بخفيه فطهورهما التراب) ويرى أبو حنيفة إجزاء الدلك إلا في البول ورطب الروث، ولا يرى الشافعي الإجزاء إلا بالغسل بالماء، وعند الحنابلة هذه الأقوال جميعًا. ومن متممات هذا البحث أن يلفت النظر إلى هذه الأمور: (1) إذا تعذر خلع النعلين لمانع قهري - كما يكون ذلك للضباط والجنود ومَن في حكمهم - فعلى المفتي أن ييسر الأمر عليهم، ويجيز لهم الصلاة في النعلين، ويحملهم على أيسر الأمور، وحسبهم الدلك بالأرض. (2) يلاحظ في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالنعال أن المسجد لم يكن فيه فراش حينذاك، وأن النجاسات المغلظة لم تكن قد أحاطت بحياة الناس هذه الإحاطة، وأن كثرة المشي في الرمال كفيلة بالتطهير، وأن الأمر لا يعدو أن يكون رخصة جائزة، فالتشبث بهذا المظهر - بحجة أنه إظهار سنة مهملة - فيه نظر، والأولى إيثار الخلع، وخصوصًا وقد تغيرت كل هذه الاعتبارات جميعًا، والله أعلم.

موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم

الكاتب: حسن البنا

_ موقف العالم الإسلامي السياسي اليوم عرضنا لهذا الموضوع في الجزء الخامس من هذا المجلد بعد ثبوت هذه الحرب الطاحنة بشهور قلائل، وقد جرت الحوادث مسرعة، وتطورت الأمور تطورًا عظيمًا، فقد فاجأت ألمانيا الدول المتحالفة باحتلال الدانيمرك، ثم بغزو النرويج وهولندا ولوكمسبرج وبلجيكا، والاستيلاء عليها بعد مقاومات لم تستغرق طويلاً من الوقت، ثم وجهت بعد ذلك قوتها إلى فرنسا، فهزمتها في أسابيع قليلة، واحتلت باريس مع قسم عظيم من الأراضي الفرنسية، واستقرت الحكومة الفرنسية في فيشى بعد سقوط باريس، وعقدت هدنة بين فرنسا وألمانيا، تخلت بها فرنسا عن حليفتها إنجلترا تخليًّا تامًّا. ومن عجائب القدر أن توقع شروط هذه الهدنة في نفس غابة دكا بيبان التي وقعت فيها شروط الهدنة السابقة بين الألمان المنهزمين والحلفاء المنتصرين، وأن يكون ذلك في عربة القطار ذاتها التي وقِّعت فيها شروط الهدنة السابقة، ولقد بين الماريشال بيتان رئيس الحكومة الفرنسية والقائد العام لجيوش فرنسا حينذاك عن أسباب انهيار فرنسا بكلمات قلائل، ولكنها عظيمة المرمى حقًّا، فقال: (لقد دمرت روح اللهو والملذّات ما شيدته روح التضحية) ثم خاطب الفرنسيين فقال: (أدعوكم إلى أن تهتموا بأخلاقكم قبل كل شيء) وكذلك يريهم الله آياته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، وكذلك يصدق قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (الأنعام : 123) . وبهذا التحول في شئون السياسة العالمية سقطت ثلاث دول من دول الاستعمار الكبرى وهي: فرنسا وبلجيكا وهولندا، إن فرنسا تبسط سلطانها على الهند الصينية وعلى سورية وعلى المغرب بأقسامه: تونس والجزائر ومراكش، وعلى المستعمرات الإفريقية الأخرى، ومعظم سكانها من المسلمين، وبانهزامها يكون لهذه الأمم الحق في تقرير مصيرها، ويكون من واجبها أن تعمل لذلك، ومن واجب العالم الإسلامي كله أن يساعدها على التحرير وعلى أن تنال حقوقها التي طال عليها الأمد، وأن هولندا تحكم أكثر من سبعين مليون من المسلمين في أندونسيا وما يجاورها، ومن حق هؤلاء - وقد أصبحت هولندا نفسها محتلة - أن يتحرروا وأن ينالوا حقوقهم، ومن واجبهم أن يعملوا لذلك، ومن واجب العالم الإسلامي أن يعينهم على العمل، ولقد أخذت اليابان تتطلع إلى هذه الأجزاء من الممالك الإسلامية في آسيا، وأخذت ألمانيا وإيطاليا تمهدان للاستيلاء على ما يمكن الاستيلاء عليه من ذلك في سورية، وفي المغرب الأقصى، وتطلعت أسبانيا من جانبها إلى اقتطاع ما يمكن اقتطاعه من جسم المغرب الذي اغتصبته فرنسا لتحل محلها فيه. هذه أماني باطلة، وهذا ظلم لا بد أن تكون له عاقبه، فعلى هذه الدول أن تفكر في أساس جديد حقًّا يصلح لإقامة سلام إنساني، ولن يكون هذا إلا بالعدل والإنصاف، ومنح الشعوب حريتها واستقلالها ومعاملتها بروح التعاون على خير الإنسانية كلها، ومن واجبنا نحن المسلمين أن نعمل لذلك ما استطعنا. ثم دخلت إيطاليا ميدان القتال وقد قاربت فرنسا الهزيمة وإيطاليا تجاور مصر قلب العالم الإسلامي في إفريقية، وبذلك وقع الالتحام بين القوات الإيطالية والإنجليزية على الحدود المصرية، وتوغل الإيطاليون فعلاً في أرض مصر حتى وصلوا إلى سيدي براني، وعسكرت قواتهم هناك، وأخذوا يهددون البلدان والمدن المصرية بالغارات الجوية في كثير من الأحيان. وبدا لإيطاليا أن تنذر اليونان باحتلال أرضها، فقاومت اليونان ووقعت الحرب، فعم وحمي وطيسها، ونحن نكتب هذه الكلمات والمعارك على أشدها بين القوات اليونانية والإيطالية في ميدان كوريتزا بألبانيا وأبيدوس وغيرها، ولا تزال القوات اليونانية صامدة للغزاة صمودًا باسلاً أخلف ظن إيطاليا التي ما كانت تقدر أنها ستلقى هذه المقاومة على ما يظهر، ولقد شدت إنجلترا ظهر اليونان، وأمدتها ببعض المساعدات من الطائرات والرجال، وانتهزت الفرصة السانحة فأخذت تغير على الأسطول الإيطالي والسواحل الإيطالية وتلحق بها أضرارًا جمة. ولقد بدا لألمانيا من قبلُ أن تُحدِث انقلابًا في رومانيا، فتم لها ما أرادت، وخلع الملك كارول، وتنازل لابنه الملك ميشيل عن العرش، وطبقت النظم النازية في شئون الحكومة تحت رياسة الجنرال أنتونسكو رئيس حزب الحرس الحديدي النازي المبادئ، وتولت أمر الجيش الروماني بعثة عسكرية ألمانية، وبذلك انتقل مسرح الحوادث إلى البلقان. وفي هذه الأثناء وقعت اليابان مع ألمانيا وإيطاليا تحالفًا عسكريًّا كان الرد عليه من جانب إنجلترا فتح طريق بورما، الذي تستمد منه الصين حاجتها من الذخائر والأسلحة، ووقعت الانتخابات الأمريكية لرياسة جمهورية الولايات المتحدة، ففاز بها الرئيس روزفلت للمرة الثالثة، وكان لذلك مغزاه في تقرير المساعدات لإنجلترا. هذه هي الصورة الموجزة المجملة للحوادث التي مرت بالناس خلال هذه الفترة، وهي حوادث غيرت وستغير أوضاع الأمم وأنواع الحكومات والدول، وعجيب أو طبيعي أن يكون العالم الإسلامي كله إلى الجمود أقرب منه إلى الحركة والعمل. فأما أن ذلك عجيب فلأن كل شيء في الحياة الآن يتغير ويتجدد ويتبدل ويترقب، وأما أنه طبيعي فلأن المسلمين حرموا التفكير، أو بعبارة أدق حرية العمل لأنفسهم زمنًا طويلاً، ولا زالت القيود الثقيلة التي وضعها الغرب في أيديهم وأعناقهم شديدة الوطأة ضيقة الحلقات، ولكن واجبهم المُلِحّ الآن أن يعملوا على تحطيم هذه القيود، وأن يجدُّوا فيما فيه خيرهم وسعادتهم. إن مصر والعراق واليمن والحجاز وإيران والأفغان وتركيا وفلسطين وسورية والهند والمغرب وغيرها كلها في موقف المترقب المنتظر، ولا يدري كثير منها عن موقف الآخر شيئًا، ولقد قالوا إن هناك سعيًا جديًّا لإنشاء وحدة عربية بين العراق والحجاز واليمن ومصر وسورية وفلسطين تعمل على استنقاذ هذه البلاد جميعًا، وتوحيد خطتها أمام الخطر الداهم الذي يهدد الجميع، ولكنا لم نر بعد بوادر سعي جدي لهذه الغاية، وقيل إن هناك تفكيرًا في تكوين وحدة عربية تركية تشمل هذه الدول، ومنها تركيا وإيران والأفغان، ويضم إليها بقية البلدان الإسلامية، فتعود بذلك الجامعة الإسلامية من جديد، ولم نر كذلك بوادر سعي جدي كذلك. لعل من خير العالم الإسلامي الآن أن يقف وقفته هذه حتى يتبين له وجه العمل المنتج المثمر النافع، ولا غضاضة في الانتظار ما لم نستبن الطريق؛ ولكن من واجبه مع هذا أن يستعد كل شعب من شعوبه بأسرع وأقوى ما يمكن لمواجهة الأحداث الطارئة، وليست منه ببعيد، ومن واجبه كذلك أن يتواصل ويتحد، فقد انتهى عهد الدويلات الصغيرة، ولم يبق صالحًا للبقاء إلا الإمبراطوريات العظيمة بعددها وعددها ومبادئها، وحق قول الشاعر العربي القديم: (وإنما العز للكاثر) ومن واجبه كذلك أن يقدر نعمة الله عليه بنظام الإسلام الحنيف ومناهجه في إصلاح المجتمع، ومن واجب العالم الإسلامي الآن أن تقدر كل أمة من أممه هذه الحقائق فتهب لتأسيس نهضة جديدة، يكون شعارها النظام الإسلامي الاجتماعي في الداخل والتحرر من كل سلطان أجنبي في الخارج، والتعاون التام بين الأمم الإسلامية في جميع أنحاء الأرض، فإلى أمراء المسلمين وملوكهم وزعمائهم وإلى الشعوب الإسلامية يوجه القول، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المنار منذ عشرين سنة

الكاتب: محمد رشيد رضا

_ المنار منذ عشرين سنة آخر رمضان سنة 1339 الحقائق الجلية في المسألة العربية من مقال: للعبرة والتاريخ للسيد محمد رشيد رضا رحمه الله نصيحتنا للإنكليز والفرنسيس ومذكرتنا للويد جورج: نصحنا للإنكليز قولاً وكتابة فيما نعتقد أن فيه الخير لنا ولهم وللإنسانية، وكان آخر تلك النصائح مذكرة أرسلناها إلى مستر لويد جورج رئيس الوزارة البريطانية منذ سنتين كاملتين، بينَّا له فيها أن ما كنا نصحنا به لرجالهم بمصر قد ظهر صدقه، وأن ما جروا عليه مع حكومتهم في المسألة العربية مخالفًا له كان هو الخطأ بما وقع في العراق وسورية ومصر والهند، وأن إنجلترا ستكون هي المغبونة بقسمة تراث العالم الإسلامي بين الحلفاء بعداوة الشرق وحسد الغرب لها، وأن عداوة أكثر من ثلاثمائة مليون من المسلمين احتقارًا لهم بضعفهم ليس من العقل والحكمة؛ لأنهم لا يكونون أضعف من ميكروبات الأمراض والأوبئة، وأنهم سيكوِّنون به اتحادًا إسلاميًّا يساعدهم فيه الروس والألمان يكون خصمًا لهم في زمن هم مستهدفون فيه لعداوة أكثر شعوب أوربا، وأن الخير لأمتهم في تأسيس الصداقة بينها وبين العالم الإسلامي باستقلال الشعوب العربية (وفي مقدمتها الشعب المصري) والتركية والفارسية جميعًا. ونصحنا لرجال فرنسا في بيروت بمثل ذلك بعد أن ذكرنا لهم ملخصه، ولم نطلب منهم إلا استقلال سوريا، وربح صداقة الأمة العربية كلها بذلك، واتقاء ما يقع عليهم من الغبن بعداوتها، ومنه أن سوريا لا تسلم لهم في المستقبل، وقد قال لنا موسيو ربيردوكيه سكرتير الجنرال غورو إن هذا الرأي جيد، وهو من الممكنات دون الخيالات، ولكنه يحتاج إلى تمحيص وتفصيل بين عقلاء الفريقين بكثرة البحث، ولا سيما في طريقة تنفيذه في الحال الحاضرة. الشريف فيصل في عهده الأخير بسورية [1] : ونصحنا للشريف الأكبر كما تقدم - ثم لنجله الأمير فيصل - فأما الأول فله خلق مطبوع معروف، فسهل على مخاطبه أن يعلم ما يقبله ويجازي عليه، وما لا يمكن أن يقبله، وأما الثاني فقلما يُعرف له رأي مستقر أو يثق مختبره بأنه أقنعه بشيء، وإن كان غير المختبر له يظن أنه أقنعه بكل شيء؛ للين عريكته، ولطف معاشرته، وكثرة مواتاته، وقلة معارضته، وكراهته مواجهة أحد بما يكره إلا إذا غلبه الغضب، وهو سريع الفيئة بعد الغضب، وقد عاشرته زهاء نصف سنة كنت ألفاه في أكثر أيامها، ولم أقف له على عقيدة راسخة في السياسة إلا استحالة إخراج فرنسا وإنجلترا من البلاد العربية الآن، ووجوب العمل مع إحداهما وخدمة البلاد بمساعدتها في ظل وصايتها، والاستعانة بموادتها على تخفيف وطأتها، على أنه لا يصرح بهذا تصريحًا جليًّا، وهذه نظرية كل من واتوا الأجانب هذا الطور، الذي نحن فيه كحقي بك العظم وداود بك عمون، فلا أرى فرقًا بينهما وبين الأمير فيصل والأمير عبد الله، وإن كان أتباع الأميرين يعدون هذين من الخائنين لأمتهم ووطنهم والأميرين من المحررين لها، ولعلنا نكتب مقالاً في ترجمة الشريف فيصل وسيرته في سوريا يجعل حقيقته ماثلة لكل قارئ. جاء الأمير فيصل سوريا من فرنسا (في 23 ربيع الآخر سنة 1338) ، 14 يناير (سنة 1920) وهو يعتقد أنه باتفاقه مع كليمنصو على قبول الوصاية الفرنسية مع تخفيف شروطها قد خدم سوريا أجل خدمة؛ ولكنه لم يستطع أن يقنع حزبه الخاص بذلك، وهو الذي عمل له كل شيء، وحاول أن يؤلف حزبًا من المحافظين يستعين به على ذلك، وكان ذلك حزب عبد الرحمن بك اليوسف الفرنسي النزعة، الذي سمي بالحزب الوطني؛ ولكنه لم يستطع مساعدته والاستعانة به بعد أن تعرف إليه وتنكر لحزبه، وظل سلطان الحزب الأول عليه أقوى من سلطانه على الحزب على ما أوقع فيه من الشقاق، فالحزب هو الذي منعه من العودة إلى أوربا، وحمله على قبول إعلان استقلال سوريا، وجعله ملكًا عليها، وأرضاه بجعل ملكها إرثًا في ذريته، وبجعل الراية الحجازية راية لسوريا، مع زيادة نجم أبيض في الزاوية الحمراء التي هي رمز علم شرفاء مكة فيها، وجعل القواعد التي بنى عليها المؤتمر السوري إعلان الاستقلال قائمة على أساس الاعتراف بأنه قد حارب الترك من قبل والده مع جيوش الحلفاء لأجل تحرير البلاد العربية وتحقيق استقلالها الذي كان ينشده أحرارها، وأرادوا أن يكون هذا حجة على الحلفاء؛ ولذلك عززوه بتصريحات وزراء الحلفاء التي كانوا يفوهون بها في أيام الحرب كما تقدم بيانه من قبل، وقد كان الواضعون لقرار المؤتمر من أعضاء حزب الاستقلال السوري قد عرفوا الحقائق في هذه الشئون؛ إذ زالت تلك الظلل والغواشي التي كانت تحجبها عن أبصارهم، ثم عرفوا كل أحد بعد رفض الحلفاء التصديق على الاستقلال وما كان من أعمالهم العسكرية والإدارية في سوريا الجنوبية والشمالية، يدل على ذلك ما كان يلقى في المؤتمر السوري العام بدمشق من الخطب في إنكار تلك الأعمال والطعن فيها، وما كان بين المؤتمر وبين الملك فيصل ووزارتيه مما علم به بعد. ولقد علم الذين قاموا بدعوة إعلان الاستقلال وتهيئة أسبابها ومقدماتها بعد ممارسة الحوادث أن فيصلاً قائد الحلفاء موكول إليه حفظ الأمن في المنطقة الشرقية إلى أن يفرغوا من إبرام ما يريدون من أمر مستقبل البلاد، وأنه قوة رسمية ومالية، فإن الإنكليز كانوا يدفعون له راتبًا، وكانوا يعطونه حصة المنطقة الشرقية من جمرك حيفا، وصار الفرنسيس يعطونه مثل ذلك من جمرك بيروت بعد الموادة، وقطعوه عند المحادة، وأنه يائس من الاستقلال التام الناجز وإن كان أولى من غيره بحبه، وأنه لين سلس، كان في أول العهد يسير في البلاد كما يشاء البريطانيون، ثم جاءها أخيرًا من فرنسا يدعو إلى الاتفاق مع الفرنسيس، فأرادوا أن يستفيدوا بما أوتي من قوة وضعف بما أرادوا من اغتنام فرصة الحرية التي نالتها المنطقة الشرقية باسمه وتحت قيادته بإعلان الاستقلال التام لسوريا المتحدة بجميع مناطقها؛ ليجعلوا الحلفاء تجاه أمر واقع بصفة مسالمة لهم، معترفة بفضلهم وملكية قائد من قواد حلفهم، فإن ساعد القدر على قبولهم ذلك فهو المراد وإلا فإن حال البلاد معهم بعده لا يخشى أن يكون شرًّا مما كان قبله، وذلك أنهم حينئذ ينفذون الاستعمار الذي سموه انتدابًا بالقوة العسكرية، فيكون وجودهم فيها مخالفًا للحقوق الطبيعية والأساسية ولمعاهدة الصلح الكبرى وما فيها من عهد عصبة الأمم المصرح فيه بأن البلاد المشروط في استقلالها قبول الانتداب يجب أن يكون لأهلها الحق الأول في اختيار الدول المنتدبة وشكل الحكومة التي ترضاه، وبهذا يكونون غاصبين، ويكون للبلاد الحق الذي لا يرد في معارضتهم عند كل فرصة ممكنة، وأما إذا قبل الانتداب باختياره فإنه يكون قد قتل نفسه بيده. مجمل ما كان بعد إعلان الاستقلال: أعلن الاستقلال بصفة نادرة المثال، وبلغ أمر إعلانه للدول فجعله الخلفاء محلًّا للنظر وكان جواب إنجلترا لفيصل أنها تعترف له بصفته حاكمًا على رأس حكومة مستقلة؛ لكن يجب أن تقرر الصفة الرسمية في مؤتمر رسمي، ودعته إلى حضور مؤتمر (سان ريمو) فتردد أولاً؛ لأن الرأي العام لم يرتح إلى سفره، وفي مقدمته المؤتمر السوري الذي كان يلح عليه بوجوب الاستعداد للدفاع عن البلاد وتؤيده جميع الأحزاب، ثم اقتنع الأكثرون باستحسان السفر بعد إلحاح إنجلترا به وقد طلب من الجنرال غورو في 8 يوليو (تموز) تعيين سفينة تقله إلى أوربا، فأجابه بأنه يجب عليه قبل سفره أن يجيبه إلى مطالب طلبها منه، من أهمها: إباحة استعمال الخط الحديدي من رياق إلى حلب لنقل الجنود الفرنسية والذخائر الحربية، وأنذره أنه إذا سافر قبل تنفيذ هذه المطالب من طريق آخر فإن فرنسا تكون حرة في أعمالها، ولم يقبل تفويض النظر فيها إلى لجنة مختلطة من العرب والفرنسيس والإنجليز حسب الاتفاق مع الرئيس (كليمانصو) . إنذار الجنرال غورو للملك فيصل: ثم أرسل إليه الجنرال غورو في 14 يوليو إنذاره المعروف، الذي صرح فيه بمطالبه الخمسة، وهي: الاعتراف بالوصاية الفرنسية على سوريا بلا شرط ولا قيد، وتسليم الخط الحديدي المذكور آنفًا للسلطة العسكرية الفرنسية، وإلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية وجعل عدد الجيش المتطوع كما كان في العام الماضي، وتسريح سائر الجنود ومعاقبة المجرمين المؤسسين للعصابات والمحرضين على فرنسا، وقبول ورق البنك السوري الذي أسسته فرنسا بجعله نقدًا وطنيًّا رسميًّا، وجعل آخر موعد لإجابة هذه المطالب نصف الليل الذي ينتهي به اليوم 18 من الشهر. لم يكن في وسع الملك فيصل المبادرة إلى إجابة المطالب؛ لأن المؤتمر السوري العام والأحزاب السياسية كلها كانت غير راضية منه ولا من حكومته لعدم قيامها معه بما يجب من الاستعداد لحفظ الاستقلال والدفاع عنه؛ ولذا اضطروه إلى إسقاط وزارة علي باشا الركابي، ثم رأوا أن وزارة هاشم بك الأناسي التي خلفتها لم تكن أقوى منها فحاولوا إسقاطها، ولما شعروا بهذا الإنذار الذي أعقبه الضعف والإهمال وسوء الإدارة اشتد هياجهم وسخطهم، وسرى الهياج إلى سائر طبقات الأهالي الذين اندفعوا إلى الاستعداد للدفاع عن البلد، وصاروا يطعنون في الملك فيصل جهرًا، ويتحدثون بالإيقاع به حتى أنه وضع من كان لديه من الجند الحجازي حول داره لحمايتها، وسعى إلى الجنرال غورو ملتمسًا منه تعديل مطالبه فأبى. وفي غرة ذي القعدة - 17 يوليو كتب إلي رئيس الوزارة بأن الملك يرغب أن ألقاه مع جميع أعضاء المؤتمر في داره مساء، فأجبنا الطلب وقابلناه مع وزرائه، فشرح لنا الحرج الذي وصلت إليه حال البلاد، وتهيج العوام بغير عقل، وخذلان إنجلترا له حتى لا يرجو منها أقل مساعدة، كما أبرق إليه محمد بك رستم من لندن، وأن للحكومة حججًا على الجنرال غورو لا تستطيع الإدلاء بها في أوربا، وله عليها حجج بعضها حق وبعضها باطل ينشرها حيث شاء. ثم طلب من الأعضاء أن يكتب إليه كل منهم برأيه على حدة في كتب مختومة، وعاهدهم على أنه يعمل بها ولا يُطلع أحدًا عليها، فانصرفوا وهو يحسب أن سيكتبون، ولكنهم لم يكتبوا إليه، وعدوا اقتراحه خداعًا يريد أن يحتج به على قبوله للمطالب الفرنسية، ويجعل التبعة على المؤتمر. ثم إن المؤتمر عقد في (3 من ذي القعدة 19 يوليو - تموز) اجتماعًا سريًّا غير رسمي، تبارى فيه الخطباء في الطعن في الحكومة؛ لاعتقادهم أنها قررت التسليم بمطالب الجنرال غورو، ثم عقدوا جلسة رسمية اكتظ مكان المستمعين بحاضريها من الوجهاء ورؤساء الأحزاب وأعضائها، وقرروا فيها بالإجمال أن قرار المؤتمر التاريخي المتضمن لاستقلال سوريا ووحدتها ورفض الهجرة الصهيونية وملكية فيصل قرار واحد إذا نقض بعضه نقض كله، وأن كل حكومة تقبل الوصاية لا تكون حكومة شرعية، وأنه لا يعتد بمعاهدة لا يقبلها المؤتمر وقد طبع هذا القرار ونشر في العاصمة. وفي اليوم التالي (4 من ذي القعدة 20 يوليو) أصدر أمره بتأجيل عقد المؤتمر شهرين؛ لأن المجالس النيابية تقفل في مثل هذه الحال الحربية، وقد قرأ وزير الحربية الأمر على منبر المؤتمر، وكان معه رئيس الوزارة، وانصرفا واجمين ممتقعين. وكان بعض الأعضاء يريد عدم امتثال هذا الأمر فأقنعتهم بأن هذا خير للمؤتمر، وأني سررت به، ولولاه لاقترحت على الأعضاء أن يقرروا ذلك من تلقاء أنفسهم؛ ذلك بأن دمشق كانت في أ

المرأة المسلمة ـ 2

الكاتب: حسن البنا

_ المرأة المسلمة (2) أشرت في الكلمة السابقة إلى أصول ثلاثة قررها الإسلام في شأن المرأة: (1) فهو يرفع منزلتها، ويجعلها من الرجل وشريكة له في الحقوق والواجبات الإنسانية العامة. (2) وهو إذا فرق بينهما في شيء من هذا فإنما ذلك نزولاً على حكم الخصائص التي يمتاز بها كل منهما عن الآخر في تكوينه وفي مهمته. (3) وأنه ييسير للغريزة الجنسية بين الرجل والمرأة تيسيرًا حكيمًا، فيصرفها إلى النافع، ويضع لها الحواجز حتى لا تتعدى إلى الضار. هذه هي الأصول التي راعاها الإسلام وقررها في نظرته إلى المرأة، وعلى أساسها جاء تشريعه الحكيم كافلاً للتعاون العام بين الجنسين بحيث يستفيد كل منهما من الآخر ويعينه على شئون الحياة. والكلام على المرأة في المجتمع في نظر الإسلام يتلخص في هذه النقط: أولاً: يرى الإسلام وجوب تهذيب خلق المرأة، وتربيتها على الفضائل والكمالات النفسانية منذ النشأة، ويحث الآباء وأولياء أمور الفتيات على هذا، ويعدهم عليه الثواب الجزيل من الله، ويتوعدهم بالعقوبة إن قصروا. وفي الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6) . وفي الحديث الصحيح: (كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) أخرجه الشيخان من حديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم له بنتان فيحسن إليهما ما صحبتاه أو صحبهما إلا أدخلتاه الجنة) رواه ابن ماجة بسند صحيح وابن حبان في صحيحه. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن فله الجنة) رواه الترمذي واللفظ له وأبو داود، إلا أنه قال: (فأدبهن وأحسن إليهن وزوجهن فله الجنة) . ومن حسن التأديب أن يعلمهن ما لا غنى لهن عنه من لوازم مهمتهن: كالقراءة، والكتابة، والحساب، والدين، وتاريخ السلف الصالح، رجالاً ونساء، وتدبير المنزل، والشئون الصحية، ومبادئ التربية، وسياسة الأطفال، وكل ما تحتاج إليه الأم في تنظيم بيتها ورعاية أطفالها. وفي حديث البخاري رضي الله عنه: (نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) وكان كثير من نساء السلف على جانب عظيم من العلم والفضل والفقه في دين الله تبارك وتعالى. أما المقالات في غير ذلك من العلوم التي لا حاجة للمرأة بها فعبث لا طائل تحته، فليست المرأة في حاجة إليه، وخير لها أن تصرف وقتها في النافع المفيد. ليست المرأة في حاجة إلى التبحر في اللغات المختلفة. وليست في حاجة إلى الدراسات الفنية الخاصة، فستعلم عن قريب أن المرأة للمنزل أولاً وأخيرًا. وليست المرأة في حاجة إلى التبحر ودراسة الحقوق والقوانين، وحسبها أن تعلم من ذلك ما يحتاج إليه عامة الناس. كان أبو العلاء المعري يوصي بالنساء فيقول: علموهن الغزل والنسج والرُّد ... ن وخلوا كتابة وقراءة فصلاة الفتاة بالحمد والإخلا ... ص تجزئ عن يونس وبراءة ونحن لا نريد أن نقف عند هذا الحد، ولا نريد ما يريد أولئك الغالون المفرطون في تحميل المرأة ما لا حاجة لها به من أنواع الدراسات، ولكنا نقول: علموا المرأة ما هي في حاجة إليه بحكم مهمتها ووظيفتها التي خلقها الله لها: تدبير المنزل، ورعاية الطفل. ثانيًا: التفريق بين المرأة وبين الرجل: يرى الإسلام في الاختلاط بين المرأة والرجل خطرًا محققًا، فهو يباعد بينهما إلا بالزواج؛ ولهذا فإن المجتمع الإسلامي مجتمع انفرادي لا مجتمع مشترك. سيقول دعاة الاختلاط: إن في ذلك حرمانًا للجنسين من لذة الاجتماع وحلاوة الأنس التي يجدها كل منهما في سكونه للآخر، والتي توجِد شعورًا يستتبع كثيرًا من الآداب الاجتماعية من الرقة وحسن المعاشرة ولطف الحديث ودماثة الطباع.. إلخ. وسيقولون: إن هذه المباعدة بين الجنسين ستجعل كلاًّ منهما مشوقًا أبدًا إلى الآخر؛ ولكن الاتصال بينها يقلل من التفكير في هذا الشأن، ويجعله أمرًا عاديًّا في النفوس (وأحب شيء إلى الإنسان ما مُنع) وما ملكته اليد زهدته النفس. كذا يقولون ويفتن بقولهم كثير من الشبان، ولا سيما وهي فكرة توافق أهواء النفوس وتساير شهواتها، ونحن نقول لهؤلاء مع أننا نسلم بما ذكرتم في الأمر الأول نقول لكم: إن ما يعقب لذة الاجتماع بحلاوة الإنس من ضياع الأعراض وخبث الطوايا وفساد النفوس وتهدم البيوت وشقاء الأمر وبلاء الجريمة، وما يستلزمه هذا الاختلاط من طراوة في الأخلاق ولين في الرجولة لا يقف عند حد الرقة، بل هو يتجاوز ذلك إلى حد الخنوثة والرخاوة، وكل ذلك ملموس لا يماري فيه إلا مكابر. كل هذه الآثار السيئة التي تترتب على الاختلاط تربو ألف مرة على ما ينتظر منه من فوائد، وإذا تعارضت المصلحة والمفسدة فدرء المفسدة أولى، ولا سيما إذا كانت المصلحة لا تعد شيئًا بجانب هذا الفساد. وأما الأمر الثاني فغير صحيح، وإنما يزيد الاختلاط قوة الميل، وقديمًا قيل إن الطعام يقوي شهوة النهم، والرجل يعيش مع امرأته دهرًا، ويجد الميل إليها يتجدد في نفسه؛ فما باله لا تكون صلته بها مذهبة لميله إليها، والمرأة التي تخالط الرجال تفتن في إبداء ضروب زينتها، ولا يرضيها إلا أن تثير في نفوسهم الإعجاب بها، وهذا أيضًا أثر اقتصادي من أسوأ الآثار التي يعقبها الاختلاط، وهو الإسراف في الزينة والتبرج المؤدي إلى الإفلاس والخراب والفقر. لهذا نحن نصرح بأن المجتمع الإسلامي مجتمع فردي لا زوجي، وأن للرجال مجتمعاتهم وللنساء مجتمعاتهن. ولقد أباح الإسلام للمرأة شهود العيد وحضور الجماعة والخروج في القتال عند الضرورة الماسة، ولكنه وقف عند هذا الحد واشترط له شروطًا شديدة من البعد عن كل مظاهر الزينة، ومن ستر الجسم، ومن إحاطة الثياب به فلا تصف ولا تشف. ومن عدم الخلوة بأجنبي مهما كانت الظروف، وهكذا. إن من أكبر الكبائر في الإسلام أن يخلو الرجل بامرأة ليست بذات محرم له، ولقد أخذ الإسلام السبيل على الجنسين في هذا الاختلاط أخذًا قويًّا محكمًا. فالستر في الملابس أدب من آدابه. وتحريم الخلوة بالأجنبي حكم من أحكامه. وغض الطرف واجب من واجباته. والعكوف في المنازل للمرأة حتى في الصلاة شعيرة من شعائره. والبعد عن الإغراء بالقول والإشارة وكل مظاهر الزينة، وبخاصة عند الخروج - حد من حدوده. كل ذلك إنما يراد به أن يسلم الرجل من فتنة المرأة وهي أحب الفتن إلى نفسه، وأن تسلم المرأة من فتنة الرجل وهي أقرب الفتن إلى قلبها، والآيات الكريمة والأحاديث المطهرة تنطق بذلك. بقول الله - تبارك وتعالى - في سورة النور: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور: 30- 31) . وفي سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} (الأحزاب: 59) . إلى آيات أخرى كثيرة. وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني عن ربه عز وجل -: (النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه) رواه الطبراني والحاكم من حديث حذيفة. وعن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتغضن أبصاركم ولتحفظن فروجكم أو ليكسفن الله وجوهكم) رواه الطبراني. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صباح إلا وملكان يناديان: ويل للرجال من النساء، وويل للنساء من الرجال) رواه ابن ماجة والحاكم. وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والدخول على النساء) فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: (الحمو الموت) رواه البخاري ومسلم والترمذي، والمراد بدخول الأحماء على المرأة: الخلوة بها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان) . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم) رواه البخاري ومسلم. وعن معقل بن يسار قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له) رواه الطبراني والبيهقي، ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح، كذا قال الحافظ المنذري. وروي عن أبي إمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياك والخلوة بالنساء، والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا دخل الشيطان بينهما. ولأن يزحم رجل خنزيرًا متلطخًا بطين أو حمأة خير له من أن يزحم منكبيه منكب امرأة لا تحل له) رواه الطبراني. وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا، يعني زانية) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح، ورواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، ولفظهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية وكل عين زانية) أي كل عين نظرت إليها نظرة إعجاب واستحسان. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطبراني، وعنده: (أن امرأة مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلدة قوسًا، فقال: لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يلبس لبسة المرأة والمرأة تلبس لبسة الرجل) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم. وعن ا

إلى الأخ الأستاذ السيد عبد الرحمن عاصم

الكاتب: حسن البنا

_ إلى الأخ الأستاذ السيد عبد الرحمن عاصم من تحرير المنار السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فلا يسع تحرير المنار إلا شكركم أجزل الشكر على موالاتكم إياه بإرشاداتكم القيمة كرجلٍ خبر مهمة تحرير المنار زهرة عمره. ويطلب إليكم مع هذا الشكر أمورًا أنتم خير من يعمل على إجابتها: أولاً: مواصلة هذه الإرشادات والكتابات النافعة المفيدة. ثانيًا: مراجعة هذه الأعداد التي صدرت، وإبداء ملاحظاتكم عنها جملة؛ لتُنشر- إن شاء الله - في أول عدد من السنة السادسة والثلاثين وما يليه. ثالثًا: موافاتنا بترجمة السيد الوالد، رحمه الله. ونعتذر إليكم لضياع ما بعثتم به من ذلك لظرف قاهر، والسلام عليكم ورحمة الله.

بيان الحكومة المصرية عن سياستها الداخلية والخارجية بدار النيابة

الكاتب: حسن البنا

_ بيان الحكومة المصرية عن سياستها الداخلية والخارجية بدار النيابة ووفاة رئيس مجلس الوزراء المصري حسن صبري باشا كان يوم الخميس الرابع عشر من شهر شوال موعدًا لافتتاح دار النيابة، فاجتمع النواب والشيوخ، وأخذ رئيس الحكومة يلقي بيانه عن سياستها الداخلية والخارجية أمامهم وبين يدي (الملك) وفجأة أغمي عليه، وأسلم الروح بعد قليل، وتوفي مأسوفًا عليه من جميع عارفيه. ولقد كان (حسن صبري باشا) معروفًا بالتمسك بأهداب الدين الحنيف، حريصًا على أداء فرائضه، لم يتهاون بأمر الصلاة، ولم يتذوق طعم الخمر، ولم يصرف أوقاته فيما يصرفها فيه كثير من المترفين في هذا العصر، وكان معروفًا بالصراحة وصفاء النفس، لا يضمر لأحد كيدًا، ولا يحقد على أحد، فنسأل الله تعالى له الرحمة والمغفرة. وفيما يلي بيان الحكومة المصرية المعروف بخطبة العرش، وقد أتم إلقاءه رئيس مجلس الشيوخ. * * * خطاب العرش حضرات الشيوخ، حضرات النواب: أحييكم أجمل تحية، ونسأل الله لكم في مهمتكم توفيقًا تزداد به الأمة قوة، وتعتز به اتحادًا يكفل خير الوطن واستقلاله وأمنه وسلامته. حضرات الشيوخ، حضرات النواب: لقد وقفت مصر من الحرب التي تستعر نارها، ويمتد لهبها الآن غربًا وشرقًا موقفًا أرادته الأناة، واقتضه الحكمة، وأدى إليه الحرص الأكيد على سلامة البلاد والوفاء بالعهد، فنفذت معاهدة الصداقة والتحالف مع بريطانيا العظمى بنصها وروحها تنفيذ إخلاص وصدق، وعملت على أن تكون علاقاتها مع سائر الدول في غير ما أثرت فيه الحرب علاقات مودة وصفاء، وأقامت تنظر إلى تطورات الحوادث بعين اليقظة، واثقة بنفسها، مطمئنة إلى حليفتها، حريصة على سيادتها واستقلالها، محتاطة لدرء كل ما يمسها، عاملة على أن تظل - رغم تقلب الأحوال الدولية - آمنة محتفظة بكيانها. ولا تزال هذه السياسة التي أقررتموها خلال الدورة البرلمانية السابقة، والتي اتجهت إليها إرادة الأمة سياسة حكومتي، وهي عظيمة الرجاء في أن تؤتي هذه السياسة خير ثمراتها، وأن يتم لمصر بفضلها كل ما ترجوه، وتصبو إليه. وقد رأت حكومتي أن معالجة ما نشأ عن الحرب من اضطراب في شؤون البلاد الاقتصادية خير كفيل بنجاح هذه السياسة، فواجهت الحالة بكل ما استطاعت من وسائل، وأَلْفَتْ في حليفة مصر العظمى العون الصادق على ما أرادت، واتفقت معها على شراء محصول القطن الجديد، ونظمت معها السوق المالية، وبذلك استقرت المعاملات، فلم يكن للتقلبات - التي حدثت في الخارج - كبير الأثر في مصر. واتجهت حكومتي إلى صيانة الاقتصاد الأهلي، وتشجيع الإنتاج الداخلي في شتى نواحيه، فكان من أثر ذلك كله أن عادت دورة التعامل في أنحاء البلاد على نحو اطمأن الجميع إليه، وزاد في طمأنينتهم ما أبدته حكومتي من حرص على تموين البلاد بكل ما هو ضروري لها في الظروف الاستثنائية الحاضرة. ولم تصرف ظروف الحرب حكومتي عن العمل لاستكمال استقلال البلاد، ولا عن اضطلاعها بأعباء الاصطلاح فيها، فلقد أقر البرلمان في الدورة الماضية الاتفاق الذي ألغى صندوق الدين، كما عاون الحكومة بتأييده لها فيما نهضت به من أعباء الإصلاح في حدود طاقة الخزينة التي تأثرت تأثرًا محسوسًا بالأحوال العالمية الحاضرة. تجري الحكومة في المستقبل على الخطة العملية التي جرت عليها حتى الآن، وهي واثقة من معاونتكم وتأييدكم؛ كي يتصل الإصلاح بمرافق الدولة كلها، وتظل البلاد آمنة مطمئنة في هذا الدور الدقيق من تاريخ العالم. حضرات الشيوخ، حضرات النواب: لقد كانت الحكمة رائد الأمة المصرية في جميع أحوالها، وكان حرصها على استقلال الوطن واستمساكها به واتحادها في سبيله أمنع سياج له وأعز ذائد عنه، وأنتم ممثلو الأمة، أولتكم ثقتها، وحملتكم أمانتها، فانهضوا بالأمانة، وحققوا الثقة؛ عاملين بحكمة الأمة وحرصها؛ حتى يستقيم ميزان العدل والأمن والطمأنينة في البلاد. لقد وفت مصر بعهودها، وحافظت على طيب العلاقات مع سائر الدول في الخارج، فتخطت البلاد خلال الشهور التي انقضت منذ كانت الحرب الحاضرة أدق الظروف وأعصب الأوقات. ولي عظيم الرجاء في أن تظل الحكمة رائدنا، وأن يصبح العزم الصادق عدتنا. حفظ الله وطننا العزيز بعنايته، وشمله برعايته، ووفقنا جميعًا في خدمته؛ ليعز جانبه، وتعلو كلمته، إنه سميع مجيب. وقد أسندت مقاليد الحكومة المصرية إلى صاحب الدولة حسين سري باشا، فشكل الوزارة، وقد ألقت في دار النيابة بيانًا لم يخرج عن سابقه، وفيما يلي نصه: بيان الوزارة في البرلمان ألقى صاحب الدولة حسين سري باشا رئيس الوزراء في مجلس الشيوخ والنواب مساء الإثنين 25 نوفمبر البيان الخاص بسياسة الوزارة، وهذا نصه: حضرات النواب المحترمين: استطاعت الوزارة السابقة أن تتغلب على دقة الأحوال التي تحيط بنا، وعلى الظروف العصيبة التي يجتازها العالم وتجتازها بلادنا؛ لأنها اعتمدت في رسم السياسة التي أدت إلى هذه الغاية، والتي حازت إقراركم وتأييدكم، على ما اختص به شعب مصر المجيد من أناة ووفاء وصدق عزم، وعلى ما أخذتم به حضراتكم في هذا المجلس من حكمة وبعد نظر وحسن تقدير. ثم كانت الوطنية المصرية - التي أثبتت على الأيام سموها وقوتها - خير كفيل بتعاون أبناء الأمة وأحزابها جميعًا (خارج البرلمان وداخله) تعاونًا صادقًا في توجيه البلاد إلى ما يحقق مصلحتها ويحمي سلامتها واستقلالها. وإني لأرجو أن توافق الوزارة التي أتشرف برياستها في تنفيذ سياسة الوزارة السابقة، كما رسمت في خطاب العرش الذي تُلي على حضراتكم، فهذا الخطاب برنامجنا، وهو البيان الذي نقدمه إليكم، آملين معاونتكم لنا على تنفيذه، فلا تزال دقة الأحوال الدولية تقتضينا اليقظة والحزم، ولا تزال سلامة الوطن بحاجة إلى وحدة الأمة واجتماع كلمتها. سدد الله خطانا، وألهمنا جميعًا الحكمة والرشاد. ونحن نسأل الله أن يلهم حكومات الشعوب الإسلامية في هذه الظروف الدقيقة رشدها، وأن يوفقها لخير البلاد والعباد.

من كلام الإمام علي في نهج البلاغة

الكاتب: حسن البنا

_ من كلام الإمام علي في نهج البلاغة اعلموا عباد الله، أن عليكم رصَدًا من أنفسكم، وعيونًا من جوارحكم، وحفاظ صدق يحفظون أعمالكم وعدد أنفاسكم، لا تستركم منهم ظلمة داجٍ، ولا يكِنَّكم منهم باب ذو رتاج، وإن غدًا من اليوم قريب. يذهب اليوم بما فيه، ويجيء الغد لاحقًا به، فكأن كل امرئ منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته ومخط حفرته، فيا له من بيت وحدة، ومنزل وحشة، ومفرد غربة، وكأن الصيحة قد أتتكم، والساعة قد غشيتكم، وبرزتم لفصل القضاء، قد زاحت عنكم الأباطيل، واضمحلَّت عنكم العلل، واستحقت بكم الحقائق، وصدرت بكم الأمور مصادرها، فاتعظوا بالعبر، واعتبروا بالغير، وانتفعوا بالنذر.

§1/1